التفسير البسيط

الواحدي

الملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحَسن عَلي بن أحمَد بن محمَّد الواحدي (ت 468 هـ) الدراسة - التحقيق مقدمة المصنف - سورة الفاتحة تحقيق د. محمَّد بن صالح بن عبد الله الفوزان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الأول

_______ قال معد الكتاب للشاملة: تنبيه: وقع في ترقيم حواشي هذه الطبعة تغيير وتبديل كثير جدا، ولعله من الطباعة، وقد قمنا بتعديله قدر الإمكان، وذلك بمراجعة المصادر المعزو إليها.

جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي، محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج 1) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 22703 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج 1)

مقدمة معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور/ سليمان بن عبد الله أبا الخيل

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور/ سليمان بن عبد الله أبا الخيل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين أما بعد: فقد دأبت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- على دعم الجامعات السعودية، لتقوم بدورها الرائد في خدمة هذا البلد على أفضل صورة وأرقاها، ولتنافس الجامعات العالمية بجهودها وأعمالها المتميزة، ودعمه -رعاه الله- لجامعة الإِمام محمد بن سعود يذكر بأسطر من نور، ويسجل بمداد من ذهب. والجامعة تسعى بكل طاقاتها وإمكاناتها لتحقق هذه الأهداف السامية ومنها خدمة البحث العلمي، ونشر العلم والمعرفة على أوسع مجال، وأكثره نفعاً، في مختلف مناحي الحياة. وقد زخرت الجامعة بأعمال علمية كبيرة في مجالات كثيرة من تخصصاتها العلمية المختلفة، ومن هذه الأعمال تحقيق كتاب (البسيط في التفسير للإمام الواحدي) وقد حقِّق في الجامعة في خمس عشرة رسالة، وهو من الأعمال الكبيرة، فبعد الطباعة وصلت أجزاؤه إلى خمسة وعشرين جزءاً مع الفهارس، وتجاوزت صفحاته أربعة عشر ألفاً، مما دل على ضخامة العمل وصعوبة نشره. وقد كوَّنت لجنة لمتابعة ما بدئ به من هذا العمل برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور عبد العزيز بن سطَّام بن عبد العزيز آل سعود لما أعرفه عن سموَّه من جدٍّ ونشاط وعلميَّةٍ متميَّزةٍ، وحرصٍ على العلمِ، مع اهتمامه البالغ بنشر هذا الكتاب، وقد قام بهذه المسؤولية خير قيام، وبذل من جهده ووقته وفكره وخبرته، بل وماله ما سدَّد العمل، وأنجزه بوقتٍ قياسيٍّ، وجعل هذا الكتاب يخرج بهذه الصورة الرائعة والثوب - أ -

القشيب، والحلة الجميلة، شكلاً ومضموناً، فجزاه الله خيراً على جهوده المتواصلة، وأعماله الخيرة، فمثله في علمه وخلقه أهل لكل خير. كما أنَّني كلّفت الأستاذ الدكتور تركي بن سهو العتيبي صاحب الخبرة الطويلة والعمق العلمي والمعرفي والإتقان المعروف -عميد البحث العلمي السابق- بأن يكون نائباً للرئيس، لمعرفتي أنه هو الذي قد بدأ هذا المشروع قبل ثلاث سنوات من نهاية مدَّته الأخيرة التي انتهت في نهاية شهر ربيع الآخر من عام 1427 هـ، ولأنه من أعرف الناس بالكتاب ومراحل طباعته، وبالشروط التي اشترطت لإخراجه ولخبرته في هذا المجال، وقد قبل مشكوراً بالأمر وأسهم إسهاماً كبيراً في متابعته ليرى النور. أما هذا الكتاب فهو التفسير البسيط للإمام أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي المتوفى سنة 464هـ، فهو من علماء القرن الخامس، وكتابه هذا من أشهر كتب التفسير بالمأثور، وهو واحد من كتبه الثلاثة في التفسير؛ البسيط وهو هذا الكتاب الذي أقدِّم له وهو أكبر تفاسيره وأقدمها تأليفاً، واسمه دليل على مراد مصنفه منه، وكتابه الثاني الوسيط، واسمه دل على أنه بين البسيط والمختصر، والثالث كتاب الوجيز. هذا العمل العلمي الكبير يعدُّ بحقٍّ مفخرة من مفاخر الجامعة التي سعت إلى تحقيقه أولاً، ثم وفّق الله سبحانه وتعالى إلى إخراجه، فهو عملٌ علميٌّ ضخم أفنى فيه الباحثون سنين مهمة من أعمارهم لو قيست برأس المال المعرفي لوجدت أن متوسط سنوات إعداد كل رسالة ثلاث سنوات علماً بأن إعداد بعض هذه الرسائل قد تجاوز ثلاث سنوات من تاريخ التسجيل حتى المناقشة، ومنها ما أنجز في حدود السنتين، وليست هناك رسالة تتم في أقل من هذا، فهذا الكتاب بذل فيه ما يزيد على ثلاثين سنة عملٍ، واستغرقت الطباعة والإخراج ما زاد على خمس سنوات، إن الجهود الكبيرة التىِ بذلت وتبذل لهي عنوان كبير على قيمة هذا العمل، وهذا فضل الله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء. - ب -

وفي الختام أشكر رئيس اللجنة التي قامت على إخراج هذا العمل العلمي الكبير صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور/ عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز، وسعادة نائبه الأستاذ الدكتور/ تركي بن سهو العتيبي والعاملين معهم في اللجنة على ما قدموه من خدمة عظيمة لكتاب الله، ولهذا الكتاب الأصيل، ولطلاب العلم والباحثين في كل مكان. وأخيراً أسجَّل شكري وتقديري للأخوة الباحثين أصحاب الرسائل الجامعية الذين قاموا بالتحقيق، ونالوا به درجاتهم العلمية، وأشكر المراجعين والمصححين الذين قاموا على أعمال الطباعة والإخراج، ولكلِّ من قدَّم جهداً في نشر هذا العمل الموسوعي. وفي الختام أحمد الله أن قيَّض لهذا البلد الطاهر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وصاحب السمو الملكي، الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الذين يحرصون على العلم النافع والعمل الصالح، فلم يدخروا وسعاً في دعم البحث العلمي وتشجيعه ونشره، وخدمة الإِسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أ. د. سليمان بن عبد الله أبا الخيل مدير جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية - جـ -

مقدمة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز آل سعود

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز آل سعود الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، أما بعد: فمن نعم الله الكثيرة أن هيَّأ سبل السعي إلى طلب العلم وتحصيله، وذلَّلَ طرقه، وفتح آفاقاً من المعرفة كثيرة، ينهل منها أهل العلم وطلابه في مجال من مجالاته المختلفة. ومن خير الأعمال التي تبذل فيها الأوقات نشر الكتب ولا سيما كتب العلوم الشرعية في مختلف تخصصاتها، وجميع ما يتصل بنشرها وتوزيعها، ودون شكٍّ أن من أشرف العلوم ما كان متَّصلاً بكتاب الله سبحانه وتعالى، تفسيراً وقراءات وإعراباً وتوجيهاً، ومنها هذا المشروع الكبير المتصل بتفسير كتاب الله وإعرابه، فقد سجَّل خمسة عشر طالباً من قسم القرآن وعلومه رسائلهم لنيل درجة الدكتوراه في كتاب التفسير البسيط للواحدي، وهو يستحقُّ كل هذا العدد الكبير من الرسائل لكونه من كتب التفسير والإعراب الواسعة، وكما نصَّ على هذا مؤلفه فوافقت حقيقته واقع الكتاب، وجاءت هذه الرسائل لتلبي الحاجة الملحة للعمل في هذا السفر الكبير، وقد بذل المحققون جهوداً كبيرة في إخراج رسائلهم التي أمضوا في إعدادها سنوات مهمة من أعمارهم لينالوا الدرجات العلمية التي سجلوا الكتاب من أجل الحصول عليها، وقد حصلوا عليها بفضل الله سبحانه وتعالى، وبقي هذا العمل حبيس الأدراج حتى قيَّضَ له الأخ الزميل الدكتور تركي بن سهو العتيبي عميد البحث العلمي السابق ليبذل جهده لإخراج الكتاب مع إدراكه أن هناك عقبات كثيرة تحول دون نشره، ومن أصعبها تعدد الرسائل في هذا الكتاب، وتباعد الباحثين، وضخامة العمل، ولزوم إخراجه كاملاً في وقت واحدٍ. - هـ -

وبدأ العمل في الكتاب منذ ست سنوات، وكان عملاً متواصلاً لا ينفك البتة، مما جعل اللجنة المشكلة تبذل جهوداً متواصلة لإخراجه وطباعته، ومحاولة توحيد عمل المحققين، والسعي لتوحيد الإخراج، ليكون الكتاب كله على نسق متقارب. وقد أخذت اللجنة العلمية على عاتقها تطبيق ملحوظات الفاحصين على جميع الرسائل، من خلال المراجعين الذين كلفوا بالمراجعة والتصحيح والتدقيق، كما قررت اللجنة أن تدوِّن أسماء الباحثين على الأجزاء التي حقّقوها، وبذلت خطوات علمية وعملية حيث قامت اللجان بمقابلة النص كاملاً على إحدى النسخ الخطية للتأكد من خلوه من الأسقاط، والالتزام برسم المصحف، والضبط بالشكل للمشكل من الكلمات، أو ما يستدعي السياق ضبطه، ورفع الإبهام عن النصِّ، والتخلص من تراجم المشهورين، ومحاولة عدم تكرار التخريج للنصوص، وعدم تكرار توثيق الشواهد ما أمكن، إلا ما دعت الحاجة إلى تكراره، وبعد هذا كلِّه الإشراف على الفهرسة العلمية الكاملة لهذا الكتاب. هذا جهد استمر من منتصف عام 1425 هـ، حتى الآن، وبعد جهود متواصلة، ومتابعة متلاحقة خرج هذا العمل الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملاً صالحاً مقبولاً، وأن يجزي الباحثين أصحاب الرسائل كل خير. وأخيراً أشكر الله سبحانه وتعالى على ما أعان ويسر وتمَّم، وأثني بالشكر والعرفان لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية على ما أولوه للعلم والمعرفة من عناية ورعاية واهتمام، وما قدموه وما يقدمونه للجامعات السعودية من جهود مباركة. - و -

وأشكر معالي مدير الجامعة الأخ الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل اهتمامه بهذا الكتاب، ومباركته هذا التوجه وتأييده له، وحرصه الشديد على الإسراع بنشره، وتأكيده الدائم بأن الجامعة ستدعم هذا المشروع بكلِّ ما تستطيع. وأسجِّل عرفاني وتقديري لأعضاء اللجنة جميعاً على صبرهم وتحملهم هذا العمل، مع مشاغلهم الكثيرة، وبذلهم جهوداً متواصلة من غير كللٍ ولا مللٍ، كان العمل متواصلاً طيلة هذه السنوات، وقد ظنَّ الكثيرون بأن العمل توقَّف، لكنه لم يتوقف بحمد الله، لكن رغبة في الإنجاز حرص أعضاء اللجنة على العمل الدائم بصمتٍ تامٍّ حتى يتحقَّق إنجازه وقد تمَّ بفضل الله سبحانه وتعالى. وأشكر كذلك لجان المتابعة والمراجعين، وجميع من ضرب مع اللجنة بسهم في العمل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز آل سعود - ز -

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمدَ لله، نَحْمده، ونَستعينه، ونستغفره، ونعوذُ بالله مِنْ شرورِ أنفسنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فإن أجل ما صرفت فيه الأعمار، وقضيت فيه الأيام، الاشتغال بكتاب الله جل وعلا، قراءة وتعلُّماً وتعليماً وتفسيراً، فهو الحجة البالغة والصراط المستقيم، وه و"كتابه الدالُّ عليه لمن أراد معرفته، وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول، فلا يغلق إذا أغلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تُقْلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر

فيه تأملاً وتفكيرًا زادتْ هداية وتبصيرًا، وكلما بَجَسَتْ (¬1) مَعينه فجّر لها ينابيع الحكمة تفجيرًا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها (¬2)، وحياة القلوب.، ولذة النفوس" (¬3). ولذلك عكف العلماء على مائدة القرآن منذ نزوله، تلاوةً وحفظاً، وتدبراً واستنباطاً، وتفسيراً وبياناً، وتأليفاً وبحثًا عن أسراره وعجائبه التي لا تنفد ولا تنقضي، لذلك تعددت الدراسات حول القرآن؛ فمنهم من عُني بقراءاته وعللها، ومنهم من عُني بغريبه ومعانيه، ومنهم من عني بإعرابه وبلاغته، ومنهم من عني بأحكامه وتشريعاته، ومنهم من عني بمشكله ومتشابهه، ومنهم من عُني بأسباب نزوله وناسخه ومنسوخه، وقد استأثر التفسير بالنصيب الأوفى من هذِه الدراسات، حيث أُلفت في هذا الباب كتبٌ عديدة ومصنفاتٌ عجيبة، ما بين مطيل متوسع، ومختصر موجز، ومتوسط مقتصد. وممن وفقهم الله لذلك العلامة المفسّر اللغوي: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، حيث ألف في التفسير فأكثر ولوّن، وبسط وأوجز، وجمع وحقق، وزيَّن ونمَّق، واشتهر بين الناس بمصنفاته في التفسير، وسارت بها الركبان، وتداولها شُداة العلم، وأفادوا منها، وأثنوا عليها غاية الثناء، وذلك أنه كما قال عن نفسه: "وأظنني لم آلُ جهداً في إحكام أصول هذا العلم، على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سنو عمري، على قلة ¬

_ (¬1) بجست: فجرت. ينظر: "اللسان" 1/ 212. (¬2) جواها: الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن، والجوى السل وتطاول المرض. انظر: "اللسان" 2/ 7304. (¬3) "مدارج السالكين" 1/ 3.

أعدادها، فقد وفق الله تعالى، وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من معادنه". فجاءت مؤلفاته مليئة بالفوائد، جامعة للعلوم والمعاني، حسنة في الألفاظ والمباني. ومع قناعة أبي الحسن الواحدي بأن الأول لم يترك للآخر شيئاً، إلا أنه اعتذر لنفسه بقوله: "إن المتأخر بلطيف حيلته، ودقيق فطنته، يلتقط الدرر، ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدر الكعاب (¬1)، يروق (¬2) المتأملين، ويؤنق (¬3) الناظرين، فيستحق به في الأولى حمد الحامدين، وفي العقبي ثواب رب العالمين". وكان -رحمه الله- تحدثه نفسه أن يعلق في تفسير القرآن فِقَراً (¬4) في الكشف عن غوامض معانيه، ونكتاً في الإشارة إلى علل القراءات فيه، في ورقات يصغر حجمها، ويكثر غُنْمها، والأيام تَمْطله بصروفها، على اختلاف صنوفها، إلى أن شدد عليه خناق التقاضي قوم لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قَرُوْنَتُه بعد الإباء، وذلت صعوبته بعد النفرة والالتواء. قال: "وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه وحسن تيسيره، حتى أبرزه كالقمر انجاب سحابه، والزلال صفا متنه واطرد حُبابه، يؤدي إلى المتأمل نُضرة الكلم العِذاب، ورونق الذهب ¬

_ (¬1) الكعاب: الجارية التي نهد ثديها. ينظر "اللسان" 7/ 3888. (¬2) يروق: يعجب. ينظر: "اللسان" 3/ 1779. (¬3) يؤنق: يعجب. ينظر: "اللسان" 1/ 153. (¬4) الفِقَر: خرزات الظهر، الواحدة: فِقْرة. والفِقْرة: جملة من كلام، أو جزء من موضوع. ينظر: "تهذيب اللغة" 9/ 117، "والمعجم الوسيط" 2/ 697.

المذاب، سألكٌ نهج الإعجاز في الإيجاز، مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، خالٍ عما يكسب المستفيد مَلالة، ويتصور عند المتصفح إطالة، لا يدع لمن تأمله حازة في صدره، حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين إلى نور العلم وثَلَج اليقين". ولما كان الكتاب بهذه المثابة، ومؤلفه بهذه المنزلة، فقد ظل الكتاب مغموراً محبوساً بين المخطوطات في خزائن كتب التراث في الخافقين، حتى قيض الله له من ينفض عنه الغبار، وهم مجموعة من الأساتذة الافاضل، نالوا بها درجة الدكتوراه وهم: 1 - الدكتور/ محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان. من أول الكتاب إلى آخر الآية رقم 74 من سورة البقرة. 2 - الدكتور/ محمد بن عبد العزيز الخضيري. من آية 75 حتى آية من سورة البقرة إلى آخر السورغ 3 - الدكتور/ أحمد بن محمد بن صالح الحمادي. سورة آل عمران كلها. 4 - الدكتور/ محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد. من أول سورة النساء إلى آخر سورة المائدة. 5 - الدكتور/ محمد بن منصور الفايز. من أول سورة الأنعام إلى آخر سورة الأعراف. 6 - الدكتور/ إبراهيم بن علي الحسن. من أول سورة الأنفال إلى آخر سورة يونس. 7 - الدكتور/ عبيد الله بن إبراهيم الريس. من أول سورة هود إلى آخر سورة الرعد.

8 - الدكتور/ عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي. من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الإسراء. 9 - الدكتور/ عبد العزيز بن محمد اليحيى. من أول سورة الكهف إلى آخر سورة طه. 10 - الدكتور/ عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ. من أول سورة الأنبياء إلى آخر سورة النور. 11 - الدكتور/ سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين. من أول سورة الفرقان إلى آخر سورة الروم. 12 - الدكتور/ محمد بن عبد الله بن سايح الطيار. من أول سورة لقمان إلى آخر سورة (ص). 13 - الدكتور/ علي بن عمر السحيباني. من أرل سورة الزمر إلى آخر سورة الحجرات. 15 - الدكتور/ فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري. من أول سورة (ق) إلى آخر سورة القلم. 15 - الدكتورة/ نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان. من أول سورة الحاقة إلى آخر الكتاب. فجزاهم الله خير الجزاء

أهمية هذا الكتاب وسبب اختياره

أهمية هذا الكتاب وسبب اختياره: يُبَيِّن أهمية هذا الكتاب ما للمؤلف من مكانة علمية عالية وما لكتابه "البسيط" من قيمة علمية كبيرة، فقد برز الواحدي في علوم كثيرة كالتفسير والعربية وتصدر للتدريس في زمانه، يقول الحافظ الذهبي عنه: "الإِمام، العلامة، الأستاذ ... صاحب التفسير، وإمام علماء التأويل ... كان طويل الباع في العربية .. تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه" (¬1). وقد أثنا عليه وأشاد بمؤلفاته كثيرٌ من العلماء (¬2). فالواحدي قد بلغ مرتبة الإمامة في كثير من العلوم الشرعية. أما كتابه "البسيط" فإن له قيمة علمية كبيرة في مجال التفسير التحليلي للآيات بذكر معاني المفردات وما يتعلق بها من حيث اللغة والنحو، والعناية بالقراءات وبيان أوجهها وعللها، وسياق الأقوال والأوجه في التفسير مع الموازنة بينها أو الترجيح في كثير من الأحيان، وذكر أسباب النزول واستنباط ما تدل عليه الآيات من أحكام، فهذا الكتاب يعتبر من التفاسير الجامعة. من جهة أخري فإن "البسيط" قد امتاز بمراجعه الأصيلة في التفسير والعربية، كما أنه يعتبر مصدراً مهماً لنصوص كثيرة من كتب مفقودة كـ"المصادر" للفراء و"نظم القرآن" للجرجاني وبعض كتب ابن الأنباري، ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 18/ 339 - 341. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ص 387، و"إنباه الرواة" 2/ 223، "ومعجم الأدباء" 12/ 258، و"وفيات الأعيان" 3/ 303، و"إشارة التعيين" ص 209، و"طبقات الشافعية الكبرى" 3/ 289، هـ 29، و"البداية والنهاية" 12/ 121، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 394.

وغيرها، حيث اعتمد الواحدي كثيراً على هؤلاء في تفسيره، وكان حسن الانتقاء للنقول، وإجادة الربط بين الكلام ولو كان من مصادر متعددة. ومن أهمية هذا التفسير أن الواحدي تصدى فيه للرد على الفرق الضالة -خاصة القدرية- كلما سنحت له فرصة، فيبين بُعد منهجهم عن الصواب، ومجانبتهم لما دلت عليه الآيات القرآنية والسنة المطهرة. كما يعتبر "البسيط" مصدراً أصيلاً قديماً من تفاسير القرن الخامس الهجري نقل منه كثير ممن جاء بعده من المفسرين، وكذلك غزارة مادة "البسيط" العلمية وتنوعها، ففيه مادة لغوية ونحوية، وفيه كثير من الأقوال والآثار التي لم يعثر عليها في كتب التفسير الأخري. كما أن الواحدي يتصف بدقة البحث للمسائل وتحريرها وحسن ترجيحها مما جعل كثيراً من المفسرين يتبنى آراءه ويستشهد بها في مواطن الخلاف. كما يعتبر "البسيط" من كتب التفسير الكبيرة الجامعة لمختلف العلوم، وكذلك المكانة العلمية البارزة لمؤلف هذا الكتاب وهو الإِمام الواحدي فهو من كبار العلماء بالتفسير والعربية. صحيح أن المؤلف -رحمه الله- وقع فيما أُخذ عليه، وانتُقِد بسببه، لكن تلك المآخذ لا تقلل كثيراً من شأن الكتاب، ولا تطمس محاسنه ومزاياه؛ ولهذا فإن المكتبة القرآنية بحاجة إلى نشر هذا الكتاب محققًا، لتعم به الفائدة، ويكثر به النفع، وأسأل الله أن يوفقنا إلى إبراز هذا وإخراجه بالصورة التي تليق به.

خطة العمل

خطة العمل: يتكون هذا الكتاب من: مقدمة، وقسمين، وفهارس. المقدمة: أشرنا فيها إلى أهمية الكتاب المحقق، وسبب اختياره. القسم الأول: الدراسة: وتنقسم إلى فصلين: الفصل الأول: التعريف بالمؤلف. وفيه مبحثان: المبحث الأول: التعريف بالمؤلف. وفيه تسعة مطالب: المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وأسرته. المطلب الثاني: ولادته ووفاته. المطلب الثالث: موطنه. المطلب الرابع: طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها. المطلب الخامس: عقيدته ومذهبه. المطلب السادس: شيوخه وتلاميذه مع تعريف لكل واحد منهم. المطلب السابع: مؤلفاته. المطلب الثامن: مكانته. المطلب التاسع: أقوال العلماء فيه، وما كتبه العلماء عن الواحدي ثناءً أو نقداً له، والصواب من ذلك. المبحث الثاني: الأوضاع السياسية في عصر الواحدي، وأثرها على

الناحية العلمية. الفصل الثاني: دراسة عن كتاب "البسيط". وفيه عشرة مباحث: المبحث الأول: اسم الكتاب. المبحث الثاني: ثبوت نسبة الكتاب للوحدي. المبحث الثالث: الباعث على إنشائه. المبحث الرابع: تاريخ البدء فيه والانتهاء منه. المبحث الخامس: مصادر الواحدي في "البسيط"، ثم التعريف بهذِه المصادر وطريقته في الأخذ منها، وما هي المادة التي أخذها. المبحث السادس: منهج الواحدي في البسيط. وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: منهجه إجمالاً كما وصفه في مقدمة كتابه. المطلب الثاني: منهجه تفصيلاً. وفيه تسع مسائل: المسألة الأولى: منهجه في تفسير القرآن بالقرآن. المسألة الثانية: منهجه في تفسير القرآن بالسنة. المسألة الثالثة: منهجه في تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين. المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات. المسألة الخامسة: منهجه في القراءات. المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن. 1 - أسباب النزول. 2 - الوقف والابتداء.

3 - الناسخ والمنسوخ. 4 - الربط بين الآيات. المسألة السابعة: منهجه في مسائل العقيدة، والرد على الفرق. المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية. المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها. المطلب الثالث: مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة. المبحث السابع: قيمة البسيط العلمية. المبحث الثامن: أثر الواحدي فيمن بعده من خلال كتابه "البسيط" وفيه ذكرت أهم الذين تأثروا بتفسير "البسيط" وأفادوا منه، فمن المفسرين: 1 - الفخر الرازي في تفسيره: "مفاتيح الغيب". 2 - أبو حيان في تفسيره: "البحر المحيط". 3 - السمين الحلبي في تفسيره: "الدر المصون". 4 - الجمل في تفسيره: "الفتوحات الإلهية". 5 - الألوسي في تفسيره: "روح المعاني". ومن المؤلفين في علوم القرآن: 1 - الزركشي في "البرهان". 2 - السيوطي في "الإتقان". ومن الفقهاء: الطحطاوي في "حاشية على المراقي"، والنووي في "المجموع شرح المهذب"، والخطيب في "مغني المحتاج"، والشوكاني في "نيل الأوطار"، والصنعاني في "سبل السلام". ومن شرح الحديث: النووي في "شرح مسلم"، والحافظ في

"الفتح"، وبدر العيني في "عمدة القاري"، والسيوطي في "تنوير الحوالك"، وشرح "سنن النسائي"، والمناوي في "فيض القدير". المبحث التاسع: منهج تحقيق الكتاب المبحث العاشر: النسخ الخطية لتفسير البسيط. القسم الثاني: تحقيق نص الكتاب. الفهارس: تم عمل فهارس متنوعة، تذليلاً للبحث في الكتاب، وتيسيراً على الباحثين وهي كالتالي: 1 - فهرس الآيات التي ورد بها أسباب نزول. 2 - فهرس الأحاديث. 3 - فهرس الآثار. 4 - فهرس الأعلام المترجم لهم. 5 - فهرس الأبيات الشعرية. 6 - فهرس الكلمات اللغوية. 7 - فهرس الكلمات النحوية. 8 - فهرس البلدان والمواضع. 9 - فهرس الطوائف والفرق والقبائل. 10 - فهرس المصادر والمراجع. 11 - فهرس المحتويات.

المبحث الأول التعريف بالواحدي حياته وآثاره

المبحث الأول التعريف بالواحدي حياته وآثاره وفيه تسعة مطالب: المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وأسرته. المطلب الثاني: ولادته ووفاته. المطلب الثالث: طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها. المطلب الرابع: موطنه. المطلب الخامس: عقيدته ومذهبه. المطلب السادس: شيوخه وتلاميذه مع تعريف لكل واحد منهم. المطلب السابع: مؤلفاته. المطلب الثامن: مكانته. المطلب التاسع: أقوال أهل العلم فيه، وما كتبه العلماء عن الواحدي ثناءً أو نقداً له، والصواب من ذلك.

المطلب الأول اسمه ونسبه، وكنيته، وأسرته

المطلب الأول اسمه ونسبه، وكنيته، وأسرته أولاً: اسمه ونسبه: هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري الشافعي. هذا نسبه في أكثر المصادر التي وردت فيها ترجمته (¬1). وزاد بعضهم في نسبه فذكر "متويه" أحد أجداده ونسبه له، فقال ابن خلكان (¬2): "المتُّوي" وقال ابن الأثير (¬3): "المتويي". أما ابن كثير فقال في نسبه: "علي بن حسن بن أحمد بن بويه الواحدي" (¬4). ولم يذكر أحد غيره أن اسم أبيه "حسن" بل أجمعت المصادر على أنه "أحمد" فلعله تصحيف. وقعت كنيته "أبو الحسن" مكان اسم أبيه. أما قوله: "ابن بويه" فلعلها كذلك تصحيف "متويه" (¬5). و"الواحدي" بفتح الواو، وبعد الألف حاء مهملة مكسورة، وهذه ¬

_ (¬1) انظم: "دمية القصر وعصرة أهل العصر" للباخرزي 2/ 1017، و"معجم الأدباء" 12/ 257، و"إنباه الروة" 2/ 223، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 339، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 3/ 289، والإسنوي 2/ 538، و"غاية النهاية في طبقات القراء" 1/ 523، و"النجوم الزاهرة" 5/ 104، و"بغية الوعاة" 12/ 145، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص 66، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 394، و"إشارة التعيين" ص 209. (¬2) انظر: "وفيات الأعيان" 3/ 303، 304 (¬3) انظر: "اللباب" 3/ 163. (¬4) "البداية والنهاية" 12/ 114. (¬5) انظر: الواحدي ومنهجه في التفسير، د/ جودة محمد، ص 56.

ثانيا: كنيته

النسبة إلى الواحد بن الدين (¬1) بن مهرة، ذكره ابن خلكان عن أبي أحمد العسكري. وقال أبو الفداء: "الواحدي"، نسبة إلى الواحد بن ميسرة (¬2). و"بنو مهرة" قبيلة عربية مشهورة ترجع إلى قضاعة (¬3). وشهرته بالواحدي هي المعروفة المذكورة في المصادر. أما "المتوي" فنسبة إلى "مَتُّويه" بفتح الميم والتاء المشددة المضمومة، أحد أجداده المنسوب له، قاله ابن خلكان (¬4)، وذكر هذا النسب السمعاني (¬5) فقال: "المتويي"، ولم يذكر الواحدي ضمن من ذكر فيمن نسب لهذا الجد، وتعقبه ابن الأثير (¬6) فذكر الواحدي ونسبه إلى هذا الجد، فقال: "المتوبي". و"النيسابوري" نسبة إلى موطنه "نيسابور" كما سبق. ثانيًا: كنيته: يكنى "أبا الحسن" على هذا أكثر المصادر، سوى القفطي في "إنباه الرواة" فإنه قال: "الحسين" (¬7). ولعله تصحيف عن "الحسن" وهذا يحصل كثيراً في كتب التراجم بين اسم "الحسن" و"الحسين". ¬

_ (¬1) كذا في "وفيات الأعيان " بتحقيق د/ إحسان عباس حيث قال في الحاشة: كذا في المسودة، وفي التصحيف ص 506 "الدثن"، "وفيات الأعيان" 3/ 304. وفي الأعلام "الديل" 4/ 255، واختاره مؤلف "الواحدي وبمنهجه في التفسير" ص 58. (¬2) "المختصر في أخبار البشر" 2/ 219. (¬3) انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 440، 485. (¬4) انظر: "وفيات الأعيان" 3/ 304 (¬5) انظر: "الأنساب" 12/ 82. (¬6) انظر: "اللباب" 3/ 163. (¬7) انظر. "إنباه الرواة" 2/ 223.

ثالثا: أسرته

ثالثًا: أسرته: لم تذكر المصادر شيئاً كثيراً عن أسرة الواحدي، وكل ما قيل عنها: أن أباه يعد من التجار (¬1)، فالواحدي نشأ في أسرة ذات يسار، وهذا يهيئ لطالب العلم التفرغ له، فلا ينشغل بطلب قوته غالباً. ومما ذكر عن أسرته أن له أخوين: أحدهما: عبد الرحمن، ذكره في "المنتخب من السياق" فقال: عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن علي بن متُّويه الواحدي، أبو القاسم، مستور صالح، أخو الإِمام علي الواحدي، الأكبر منه، وأصلهم من ساوة من أولاد التجار سمع من الزيادي وابن يوسف ومن بعدهم من أصحاب الأصم، وعقد له مجلس الإملاء في الجامع المنيعي .. وتوفي يوم الأربعاء غرة شهر ربيع الآخر سنة سبع وثمانين وأربعمائة، روى عنه أبو الحسن (¬2). والثاني: سعيد، قال في المنتخب: "سعيد بن أحمد بن محمد السمسار، أبو بكر الواحدي، أخو الإِمام المفسر علي الواحدي، شيخ ثقة مستور عفيف كان يحترف السمسرة سمع من أصحاب الأصم" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معجم الأدباء" 12/ 257، و"طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 289، و"طبقات الشافعية" للأسنوي 2/ 539، و"النجوم الزاهرة" 5/ 104، وغيرها من الكتب التي ترجمت له. (¬2) "المنتخب من السياق" لتاريخ نيسابور ل 91 ب، وترجم له في "سير أعلام النبلاء" 18/ 342، وانظر "معجم الأدباء" 12/ 258، و"طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 189، و"النجوم الزاهرة" 5/ 104. (¬3) "المنتخب من السياق" ل 68 أ، و"أسباب النزول" للواحدي، مقدمة السيد أحمد صقر ص 5 وذكر اسمه "سعد".

المطلب الثاني

المطلب الثاني ولادته لم يذكر أحد ممن ترجم للواحدي تاريخ ميلاده، وهذا واقع في تراجم أغلب العلماء، ذلك أن العالم حين ولادته لم يظهر له نبوغ يذكر، ولا أثر يستحق التسجيل، وربما كان لبعض الأسر دور في تسجيل تاريخ ميلاد أبنائهم. والواحدي لم ينص أحد على تاريخ ميلاده، وإنما ذكر تاريخ وفاته. وفاته: توفي أبو الحسن الواحدي سنة 468 في جمادى الآخرة بنيسابور (¬1)، بعد مرض ألم به طويل (¬2)، خلافاً لما ذكره بعضهم (¬3) من أن مرضه لم يدم طويلاً. وذكر بعضهم (¬4) قولاً: إنه توفي سنة 469 ثم رجح الأول وقد ذكروا أنه شاخ (¬5) وكان عند وفاته من أبناء السبعين (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر مثلاً: "المنتخب من السياق" ص 387، و"معجم الأدباء" 11/ 258 و"إنباه الرواة" 2/ 224، و"وفيات الأعيان" 3/ 304. (¬2) ينظر: المراجع السابقة، و"المختصر في أخبار البشر" 2/ 192، و"تاريخ ابن الوردي" 1/ 387، و"طبقات الشافعية" للإسنوي 2/ 539. (¬3) وهو القفطي في "إنباه الرواة" 2/ 224 وقد تكون كلمة (غير) مقحمة في قوله: ومرض مرضة غير طويلة، واكتفى ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 114 بقوله: وقد مرض مدة. (¬4) هو ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" 5/ 104 (¬5) ينظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 342. (¬6) تقدم ذكر ذلك.

المطلب الثالث موطنه

المطلب الثالث موطنه أصل الواحدي من "ساوة" كما قال ذلك ياقوت وغيره (¬1)، ولكن أسرته انتقلت منها واستقرت في "نيسابور" حيث ولد الواحدي وتوفي فيها (¬2)، و"نيسابور" إحدى مدن "خراسان" الهامة. فهو خراساني نيسابوري. أما "ساوة" فقد قال عنها ياقوت: "مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط .. وبقربها مدينة يقال لها "آوة" فـ"ساوة" سنية شافعية، و"آوة" أهلها شيعة إمامية وبينهما نحو فرسخين، ولا يزال يقع بينهما عصبية .. " (¬3) ولا نقف عندها كثيراً حيث تركتها أسرة الواحدي قبل ولادته (¬4)، فأثرها على حياته قليل. أما "خراسان" وهو الإقليم الذي عاش الواحدي في إحدى مدنه، فهو منطقة واسعة قال ياقوت في بيان حدودها: "خراسان: بلاد واسعة أول حدودها مما يلي العراق "أزاذوار" قصبة جوين "وبيهق"، وآخر حدودها مما يلي الهند "طخارستان" و"غزنة" و"سجستان" و"كرمان"، وليس ذلك منها، إنما هو أطراف حدودها" (¬5). وفي خراسان أمهات البلاد منها: بلخ ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" 12/ 257، و"طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 289، و"شذرات الذهب" 3/ 330. (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) "معجم البلدان" 3/ 179. (¬4) انظر: "شذرات الذهب" 3/ 330. (¬5) "معجم البلدان" 2/ 350.

ونيسابور وبوشنج ومرو وهراة وطالقان وغيرها (¬1)، فتحت خراسان في أيام عثمان -رضي الله عنه- بإمارة عبد الله بن عامر بن كريز (¬2). وقد وصف المقدسي إقليم خراسان فقال: "اعلم أن لهذا الإقليم فضائل تنسب إلى هذا الجانب ويشركه في أكثرها جانب هيطل" (¬3)، إلا أن هذا لما كان أقدم في الاختطاط والفتح في الإِسلام، وأقرب إلى أقاليم العرب خص بالذكر وعرف عند النسبة، يحكى عن ابن قتيبة أنه قال: "أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة .. " قال: "ويقال: إن محمد بن (¬4) عبد الله قال لدعاته: أما الكوفة وسوادها فشيعة علي، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية صادقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية، وطاعة بني أمية وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر ¬

_ (¬1) انظر: "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي ص 395، و"معجم البلدان" 2/ 350. (¬2) انظر: "معجم البلدان" 2/ 350. (¬3) بلاد ما وراء نهر جيحون، يقال نزلها هيطل بن عالم بن سام بن نوح فسميت به. انظر: "معجم البلدان" 2/ 350. (¬4) كذا ورد اسمه عند المقدسي، ولعله تصحيف من النساخ، وإنما هو محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس، داعية العباسيين، انظر: "معجم البلدان" 2/ 352، و"تاريخ الإِسلام السياسي" 2/ 12، وقد وقع د/ جودة محمد مهدي صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" في وهم فاحش، حيث نقل مقاطع من كلام المقدسي وأضاف الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال في الحاشية: "لم يذكر المقدسي لفظ السيادة، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ذكر اسمه الشريف فأضفت ذلك بين الأقوال وفاء بحق ذكر اسمه الشريف". انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص 49، فجعل كلام محمد بن علي داعية العباسيين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق". وقال المقدسي (¬1): " .. واعلم أن هذا الجانب في الحقيقة خراسان وهو أجل الجانبين لأن به المصر الأعظم وأهله أظرف وأحلم وبالخير والشر أعلم إلا أقاليم العرب ورسومهم أقرب .. " (¬2). وكانت خراسان موطن العلم والعلماء قال ياقوت (¬3): " .. فأما العلم فهم فرسانه وساداته وأعيانه، ومن أين لغيرهم مثل محمد بن إسماعيل البخاري (¬4)، ¬

_ (¬1) محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء، المقدسي، ولقال له: البشاري، رحالة جغرافي، ولد في القدس عام 336، تعاطى التجارة وتجشم أسفاراً تعرف من خلالها على أحوال البلاد، وصنف كتابه: "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم". توفي نحو سنة 380 هـ ينظر: "أحسن التقاسيم" ص 43، "الأعلام" 5/ 312. (¬2) "أحسن التقاسيم" ص 293، 294 (¬3) هو شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس والمولد، الحموي المولى، البغدادي الدار، ولد سنة 574هـ، له تآليف كثيرة، منها: "معجم البلدان"، و"معجم الأدباء" وغيرها، توفي سنة 626. ينظر: "وفيات الأعيان" 6/ 127 - 139، و"سير أعلام النبلاء" 22/ 312. (¬4) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث، الإِمام الكبير، صاحب "الصحيح"، ولد سنة 194 وله تآليف غير "الصحيح"، منها "التاريخ الكبير" و"الأدب المفرد" و"الضعفاء" وغيرها، مات سنة 256. ينظر: "سير أعلام النبلاء" 12/ 391، و"تهذيب التهذيب" 9/ 47.

ومثل مسلم بن الحجاج (¬1)، وأبي عيسى الترمذي (¬2)، وإسحاق بن راهويه (¬3)، وأحمد بن حنبل وأبي حامد الغزالي (¬4)، والجويني إمام الحرمين (¬5) والحاكم ¬

_ (¬1) هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري أبو الحسين: الإِمام الحافظ صاحب "الصحيح"، ولد بنيسابور عام 204 ورحل في طلب الحديث، وألف الصحيح، وبه اشتهر، ومن كتبه: "المسند الكبير"، و"الجامع"، و"التمييز"، وغيرها، توفي سنة 261 ينظر: "تاريخ بغداد" 13/ 100 و"سير أعلام النبلاء" 12/ 557. (¬2) محمد بن عيسى بن سورة بن موسى السلمي الترمذي، أبو عيسى، أحد أئمة الحديث وحفاظه، صاحب "السنن" المشهورة، ولد سنة 209 وهو تلميذ البخاري، وقد رحل في طلب الحديث من كتبه: "الشمائل" و"التاريخ" و"العلل"، مات سنة 279. ينظر: "سير أعلام النبلاء" 13/ 270، و"تهذيب التهذيب" 9/ 387. (¬3) هو إسحاق بن إبراهيم التميمي المروزي أبو يعقوب، عالم خراسان في عصره، قال فيه الخطيب: "اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد" روى عنه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم توفي سنة 238. ينظر: "الجرح والتعديل" 2/ 209، و"السير" 11/ 358. (¬4) محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد فيلسوف متصوف فقيه أصولي ولد سنة 450 بخراسان، رحل إلى نيسابور وغيرها في طلب العلم، من كتبه: "إحياء علوم الدين"، و"المستصفى"، و"تهافت الفلاسفة"، توفي، سنة 505. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 463، و"سير أعلام النبلاء" 19/ 322. (¬5) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي، إمام الحرمين، من فقهاء الشافعية ولد في جوين من نواحي نيسابور عام 419، ورجل وجاور بمكة سنين وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس ثم عاد إلى نيسابور قبنى له نظام الملك المدرسة النظامية فيها من كتبه: "غياث الأمم" و"الإرشاد" و"الورقات"، توفي عام 478. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 287، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 468.

أبي عبد الله النيسابوري (¬1) وغيرهم من أهل الحديث والفقه، ومثل الأزهري (¬2) والجوهري (¬3) وعبد الله بن المبارك .. " (¬4) هذا عن خراسان. أما "نيسابور" موطن الواحدي وبلده، فهي كما وصفها ياقوت حين قال: "نيسابور" بفتح أوله والعامة يسمونه: "نشاوور" وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها .. " (¬5). واختلف في سبب تسميتها بذلك، فقيل: إنها سميت بذلك لأن سابور ¬

_ (¬1) محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم الضبي الشهير بالحاكم ويعرف بابن البَيِّع أبو عبد الله من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه ولد سنة 321 في نيسابور، رحل في طلب العلم، وبرع، وولي قضاء نيسابور، من كتبه: "المستدرك على الصحيحين" و"المدخل" و"معرفة علوم الحديث". توفي سنة 405. ينظر: "تاريخ بغداد" 5/ 473، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 162. (¬2) هو: أبو منصور محمد بن أحمد بن الأظهر بن طلبة الأزهري الهروي، العلامه اللغوي الشافعي، صاحب: "تهذيب اللغة" المشهور، توفي سنة 370 هـ ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 63، و"بغية الوعاة" 1/ 19، و"السير" 16/ 315. (¬3) إمام اللغة، أبو نصر إسماعيل بن حمّاد التركي الأُتراري، صاحب "الصحاح" واحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وفي الخط المنسوب، توفي بنيسابور سنة 393. ينظر: "السير" 17/ 80، و"إنباه الرواة" 1/ 229. (¬4) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم التميمي، المروزي، أبو عبد الرحمن، الإِمام الحافظ شيخ الإِسلام المجاهد التاجر، محدث فقيه زاهد، ولد سنة 118 من مصنفاته: "الجهاد" وهو أول من صنف فيه، وله "الزهد"، ومات سنة 181. ينظر: "تذكرة الحفاظ" 1/ 253، و"حلية الأولياء" 8/ 162. (¬5) "معجم البلدان" 5/ 331.

مر بها، وفيها قصب كثير، فقال: يصلح أن يكون ههنا مدينة، فسميت نيسابور وقيل: إن سابور خرج من مملكته لقول المنجمين فخرجوا يطلبونه فبلغوا "نيسابور" فقالوا: نيست سابور، أي ليس سابور (¬1). قال ياقوت: " .. وأكثر شرب أهل نيسابور من قنى تجري تحت الأرض ينزل إليها في سراديب مهيأة لذلك، فيوجد الماء تحت الأرض، ليس صادق الحلاوة، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات .. " (¬2). وذكر ياقوت أنها فتحت أيام عثمان -رضي الله عنه - وقد فتحها الأمير عبد الله بن كريز في سنة 30 هـ صلحا وبنى بها جامعا. وقيل: فتحت أيام عمر -رضي الله عنه - على يد الأحنف بن قيس، وانتقضت أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن كريز ففتحها ثانية (¬3). ومما يجدر ذكره أن نيسابور أصابها ما أصاب الدولة الإِسلامية في العهد الثاني للعباسيين فتقلبت بين السامانيين والغزنويين والسلاجقة فكانت تحت ولاية السامانيين، فحاول محمود الغزنوي أخذها سنة (388 هـ) فاحتلها ولكن لما علم بمسير الأمير منصور بن نوح إليه سار عنها وتركها، ثم عاد إليها سنة (389هـ) واحتلها (¬4)، وبقيت تحت الدولة الغزنوية إلى سنة (432هـ) حيث احتلها السلاجقة. قال ابن الأثير عن حادثة احتلال السلاجقة لها: " .. وسار طغرلبك إلى نيسابور وملكها ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين وأول سنة اثنتين ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق. (¬4) انظر: "الكامل في التاريخ" 7/ 190، 196.

وثلاثين ونهب أصحابه الناس .. وكان العيارون قد عظم ضررهم واشتد أمرهم وزادت البلية بهم على أهل نيسابور فهم ينهبون الأموال ويقتلون النفوس ويرتكبون الفروج الحرام .. فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون وكفوا عما كانوا يفعلون وسكن الناس واطمأنوا .. " (¬1) وحصلت لها بلية أخري على يد الغز سنة (548 هـ)، ثم خربت مرة أخري على يد التتر سنة (618 هـ) (¬2). أما العلم بها فهو كما قال عنها ياقوت في كلامه السابق: "معدن الفضلاء ومنبع العلماء .. " وقد اشتهرت بمدارسها العامرة، وذكر السبكي بعض مدارسها، وذلك لما تحدث عن المدارس في عهد "نظام الملك" فذكر منها المدرسة "البيهقية" و"السعدية" بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود، ومدرسة بناها أبو إسماعيل بن علي الاستراباذى الواعظ، ومدرسة "أبي إسحاق الإسفراييني" ثم بني "نظام الملك" المدرسة "النظامية" بها (¬3)، هذا شيء عن المدارس وبيوت العلم التي قامت بنيسابور، فتخرج فيها فحول العلماء. وقد ألف في أسماء علماء نيسابور ومشايخها كتب، وأول من كتب في هذا "الإِمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم" المتوفى سنة (405 هـ)، قال السمعاني: "والمنتسب إليها جماعة لا يحصون وقد جمع الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ البيع، تاريخ علمائها في ثمان ¬

_ (¬1) "الكامل في التاريخ" 8/ 26. (¬2) انظر: "معجم البلدان" 5/ 332. (¬3) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 137.

مجلدات .. " (¬1) وذيَّله عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، المتوفى سنة (529 هـ) في كتاب اسمه "السباق في ذيل تاريخ نيسابور" (¬2)، وذكر الثعالبي (ت 429 هـ) في "يتيمة الدهر" باباً في ذكر النيسابوريين، وباباً آخر في ذكر الطارئين على نيسابور من بلاد شتى (¬3). ومن مشاهير العلماء المنسوبين لنيسابور، الإِمام مسلم بن الحجاج، مؤلف "الصحيح"، ومنهم: "أبو بكر عبد الله بن محمد النيسابوري الشافعي، مولى أبان بن عثمان" توفي سنة (324 هـ) (¬4)، وسيأتي ذكر عدد منهم في شيوخ الواحدي وتلامذته. ومما ينبغي ذكره عن نيسابور وبلاد خراسان عامة أوضاع الفرق والطوائف والتعصب فيها، وقد وصف المقدسي ذلك فقال عن خراسان عامة: "وبه يهود كثيرة ونصارى قليلة، وأصناف المجوس، وليس فيه مجذومون، ولا يعرفون الجذام، وأولاد علي -رضي الله عنه - فيه على غاية الرفعة، ولا تري به هاشميا إلا غريبا ومذاهبهم مستقيمة غير أن الخوارج "بسجستان" ونواحي "هراة" و"كروخ" و"استربيان" كثيرة، وللمعتزلة بنيسابور ظهور بلا غلبة، وللشيعة والكرامية بها جلبة، والغلبة في الإقليم أصحاب أبي حنيفة، إلا في كورة "الشاش" و"إيلاق" و"طوس" و"نسا" و"أبيورد" و"طراز" و"ضنغاج" وسواد "بخارى" و"سنج" و"الدَّنْدَانَقَان" و"أسفراين" و"جويان" فإنهم شفعوية كلهم والعمل في هذه المواضع على مذهبهم .. و"نيسابور"- ¬

_ (¬1) "الأنساب" 13/ 235. (¬2) انظر: "كشف الظنون" 2/ 1011. (¬3) انظر: "يتيمة الدهر" الباب التاسع والعاشر 4/ 441 - 520 (¬4) انظر: "اللباب" 3/ 341.

أيضًا - شفعوية .. وأهل ترمذ جهمية، وأهل "الرقة" شيعة، وأهل "غندر" قدرية .. " (¬1). هذا الوصف من المقدسي يصور لنا حالة تلك البلاد التي عاش بها الواحدي فهي معدن العلم والعلماء وهي مع ذلك موطن اضطراب وتقلبات سياسية، ومواطن الفرق والصراع بينها، وما حصلت تلك المحن على تلك البلاد وعلى الأمة جميعها إلا بسبب ظهور المعاصي والتفرق في الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ص 323.

المطلب الرابع طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها

المطلب الرابع طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها لقد نشأ الواحدي في تلك المدينة العامرة بالعلم والعلماء نيسابورَ، مع سعة الرزق التي هيأت له أسباب التحصيل والطلب، وكان الكُتَّاب (¬1) هو المدرسة الابتدائية التي تلقا فيها أبو الحسن الواحديُّ تعليمه، حيث دخل كتاب الشيخ أبي عمرو سعيد بن هبة الله البسطامي (¬2). ثم شرع في السماع من العلماء، والأخذ عنهم، حيث سمع من شيخه أبي طاهر محمد بن محمد بن مَحْمِش الزيادي (¬3) محدث نيسابور وفقيهها، وكان ذلك عام (409) (¬4) فيكون سماعه منه، وهو في الثانية عشرة من عمره تقريباً، أو فوق ذلك بقليل. ثم انضم الواحدي إلا دار السُّنة -وهي مدرسة يدرِّس فيها كبار العلماء والمحدثين- ليتلقى العلم عن أجلَّة علمائها، وكان منهم: القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري في سنة (410) وهذا وما قبله يدلان على شغف الواحدي بالعلم ولزوم حلق العلماء منذ نعومة أظفاره، ومَيْعة (¬5) صباه (¬6). ولعل الواحدي رحمه الله أحب أن يتقن علوم الآلة التي يتوصل بها إلى فهم القرآن والسنة، قبل أن يخوض في علوم المقاصد، ليكون على ¬

_ (¬1) الكتاب -كرمان-: موضع تعليم الكتاب، وجمعه كتاتيب، "الصحاح" للجوهري 1/ 208. (¬2) ينظر: "دمية القصر" للباخرزي 2/ 1018 وتأتي ترجمته لاحقًا في مبحث شيوخه. (¬3) المصدر السابق. (¬4) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 387 و"الوجيز" 1/ 86. (¬5) ميعة الصبا: أوله. (¬6) ينظر: "أسباب النزول" ص 244

فهم تام بها، ومعرفة بحقائقها، يحدث عن ذلك فيقول: "وأما النحو فإني لما كنت في مَيعة صباي، وشرخ شبيبتي، وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد الضرير رحمه الله ... ولعله تفرَّس فيّ وتوسم أثر الخير لديّ فتجرد لتخريجي وصرف وَكْده (¬1) إلى تأديبي، ... وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل .. " (¬2). ولم يقض نهمته من علم اللغة والأدب اللذين لا يستغنى عنهما في فهم النصوص، يقول الواحدي: "ولئن استغنى علم عن الأدب فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن: الأدب ومعرفة اللغة العربية" (¬3)، فانقطع لتعلم اللغة على شيخ اللغة في وقته: أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، حيث لازمه ملازمة الظل لصاحبه، يدخل عليه عند طلوع الشمس، ويخرج من عنده غروبها، يسمع ويعلق ويبحث، ويذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأ عليه كثيراً من دواوين الشعر وكتب اللغة، قال: ولم أغب عن زيارته يوماً من الأيام إلى أن حال بيننا الحمام (¬4). ثم لما توفي الشيخ أبو الفضل العروضي عام (416) تنقل الواحدي في مساجد البلد ومدارسه، بين العلماء والعلوم (¬5)، يحدثنا أبو الحسن الواحدي عن تلقيه للقرآن ولعلم القراءات، فيقول: "وأما القرآن وقراءات ¬

_ (¬1) الوكد: القصد. (¬2) مقدمة "البسيط" ص 420 - 421. (¬3) مقدمة "البسيط" ص 410. (¬4) مقدمة "البسيط" ص 417 - 419. (¬5) ينظر: "الوسيط" للواحدي 1/ 301، 2/ 32، 223، 3/ 71.

أهل الأمصار، واختيارات الأئمة، فإني اختلفت أولاً إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي -رحمه الله (¬1) - وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ: أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران -رحمه الله (¬2) - ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد ابن محمد الحيري، وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي -رحمهما الله (¬3) - فقرأت عليهما وأخذت من كل منهما حظّاً وافراً بعون الله وحسن توفيقه. وقرات على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي (¬4) عنه، وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج (¬5) في "المعاني" (¬6). ¬

_ (¬1) تأتي ترجمته لاحقاً في مبحث شيوخه. (¬2) هو أحمد بن الحسين بن مهران أبو بكر الأصبهاني ثم النيسابوري، إمام عصره في القراءات، كان ثقة محققاً عابداً صنف في القراءات مصنفات منها: "الغاية"، و"الشامل"، و"المبسوط" وغيرها توفي سنة 381، ينظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 347، و"غاية النهاية" 1/ 49. (¬3) تأتي ترجمتهما لاحقاً في مبحث شيوخه. (¬4) هو: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي، ويعرف بالفسوي نسبة إلى فسا، واحد زمانه في علم العربية، أخذ عن الزجاج وابن السراج، وطوف بلاد الشام، كان أعلم من المبرد، كان معتزلياً، وقد ذكر الدكتور حسن فرهود في مقدمة "الإيضاح" أكثر من 30 كتاباً للفارسي، توفي سنة 377 هـ. ينظر: "بغية الوعاة" 1/ 496 - 497، و"إنباه الرواة" 1/ 308 - 310، و"معجم الأدباء" 7/ 232 - 261. (¬5) هو: إبراهيم بن محمد بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج النحوي، صاحب كتاب "معاني القرآن" كان من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد، وله مؤلفات حسان في الأدب، توفي سنة 311هـ، أو نحوها. ينظر: "السير" 14/ 360، و"إنباه الرواة" 1/ 1904 (¬6) "مقدمة البسيط" ص (432).

لقد كانت كل تلك الدراسات تهيئة من الواحدي لنفسه، وتدرجاً للوصول إلى علوم المقاصد، وهذا يظهر من حديثه عن نفسه في آخر تفسيره "البسيط"، حين قال: "وقد كنت تعبت دهراً طويلاً، من عنفوان صباي إلى تناهي أيام شبيبتي في إحكام مقدمات هذا العلم" (¬1). كما يظهر لنا من خلال حديث الواحدي مع شيخه أبي الفضل العروضي حين قال: "وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة حتى عاتبني شيخي -رحمه الله- يوماً من الأيام، وقال: إنك لم تبق ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز، تقرأه على هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقاصي البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار؟ يعني: الأستاذ الإِمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله (¬2) - فقلت يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب لم أَرْمِ في غرض التفسير عن كثب .. " (¬3). ولقد رضي عن جهده في هذا الباب حين قال: "وأظنني لم آل جهداً في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سِنُو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من معادنه" (¬4). ثم تفرغ من بعد ذلك -تبعًا-، لخطته، ومنهجيته التي ارتضاها لنفسه، وإنفاذاً لوصية شيخه - للقراءة على الإِمام: أبي إسحاق أحمد بن حمد بن ¬

_ (¬1) "تفسير البسيط" 5/ 337 ب من نسخة عاطف أفندي. (¬2) ستأتي ترجمته لاحقاً في مبحث شيوخه. (¬3) مقدمة "البسيط" ص 419. (¬4) مقدمة "البسيط" ص 417.

رحلاته

إبراهيم الثعلبي، وقرأ عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، وتفسيره الكبير "الكشف والبيان" وكتابه "الكامل في علم القرآن" وغيرها، ولشدة ملازمته إياه عرف في الأوساط العلمية آنذاك بتلميذ الثعلبي. رحلاته: ولقد رحل الواحدي. بعد ذلك في طلب العلم، يبحث عن أساطينه فيتلقى عنهم، وقد عبر عن تلك الرحلات بقوله: " .. ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال الخطب ومل الناظر .. " (¬1). ولم تذكر المصادر البلاد التي رحل إليها الواحدي، ولكن صرح هو في بعض رواياته بمكان التلقي، فمثلا قال في "أسباب النزول": "قال الشيخ: أشهد بالله لقد أخبرنا أبو الحارث محمد بن عبد الرحيم الحافظ بجرجان قال: أشهد بالله لقد أخبرنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزاز .. " (¬2). فهذا يدل على أنه رحل إلى جرجان (¬3) وأخذ عن شيوخها. العلوم التي برز فيها: لقد تنوعت مشارب الواحدي العلمية، وتعددت، وأخذ من كل فن بطرف، ذلك لأن من خصائص العلوم الشرعية أنها مترابطة، فبعضها غايات وبعضها وسائل كاللغة والأصول ونحوهما، ولابد لمن أراد تعلم الغايات أن يدرس الوسائل، فالمفسر مثلاً: يلزمه معرفة السنة حتى يميز بها بين ما صح ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط" ص 425. (¬2) "أسباب النزول" ص 425. (¬3) جرجان: مدينة عظيمة بين طبرستان وخراسان. انظر "معجم البلدان" 2/ 119.

وما ليس كذلك، كما أن فهم اللفظ القرآني متوقف على معرفة اللغة والنحو وأصول كلام العرب، ولا بد أن يعرف القراءات وعلوم القرآن وهكذا. ولقد كان ذلك دافعاً قوياً للواحدي ليحكم الأصول كما قال في مقدمة كتابه "البسيط": " ... وأظنني لم آل جهدًا في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا ويسعه سنو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى، وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه وأخذته من معادنه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، رحمه الله .. " (¬1). وتحدث بعد ذلك عن أخذه النحو والقراءات والتفسير. ويؤكد كلامه بقوله: " .. ولئن استغنى علم عن الأدب فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن: الأدب، ومعرفة اللغة العربية .. " (¬2). وكان للواحدي مشاركة في سائر العلوم. ففي السنة أخذ عن كبار المحدثين وأدرك الإسناد العالي (¬3)، وقال عنه ابن تغري بردي: "كان إماماً عالماً بارعاً محدثاً" (¬4)، وكتابه "أسباب النزول" يشهد بمكانته في هذا الفن. على أنه لم يصل فيها إلى المستوى الذي وصل إليه في اللغة والتفسير، ولهذا روى بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند الحديث عن منهجه في التفسير في كتابه "البسيط". أما الفقه فيعتبر أحد أعلام مذهب الإِمام الشافعي وتوجد ترجمته في ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط" ص 417. (¬2) مقدمة "البسيط" ص 410. (¬3) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114 أ، و"إنباه الرواة" 2/ 123. (¬4) انظر: "النجوم الزاهرة" 5/ 104.

جميع كتب تراجم طبقات علماء الشافعية (¬1)، وله آراء فقهية ذكرها في "البسيط" معتمدة في مذهبهم، نقل منها النووي في "المجموع شرح المهذب" (¬2). ومع هذه المشاركات من الواحدي في السنة والفقه فقد برز في علوم "التفسير" و"النحو"، "واللغة" وشهر بها وصار من أعلامها. وصفه بعض المترجمين له بإمامته فيها، قال في "المنتخب من السياق": "الإِمام المصنف المفسر النحوي" (¬3)، وقال ابن خلكان: "كان أستاذ عصره في النحو والتفسير" (¬4)، وقال القفطي: "الإِمام المصنف المفسر النحوي .. " (¬5)، وقال أبو الفداء: "وكان أستاذ عصره في النحو والتفسير" (¬6). وقال الأسنوي: "كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما شاعرًا، وأستاذ عصره في التفسير .. " (¬7)، وقال الفيروزابادي: "الإِمام المفسر النحوي اللغوي .. " (¬8). أما عن إمامته في علم التفسير فيشهد بذلك كتبه الثلاثة في التفسير "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" ويأتي الحديث عنها في مؤلفاته، وأكبرها "البسيط"، كذلك كتابه "أسباب النزول"، وقد ترجم له السيوطي والداودي ¬

_ (¬1) ترجم له السبكي 3/ 289، والأسنوي 2/ 538، وابن قاضي شهبة 1/ 256. (¬2) انظر: "المجموع شرح المهذب" 3/ 371 - 373. (¬3) "المنتخب من السياق" ل 114 أ، وانظر "معجم الأدباء" 258/ 12. (¬4) "وفيات الأعيان" 3/ 303. (¬5) "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬6) تاريخ أبي الفداء" 2/ 192. (¬7) "طبقات الشافعية" للأسنوي 2/ 539. (¬8) "البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" ص 146.

في "طبقات المفسرين" (¬1). أما عن إمامته في النحو واللغة فإن الواحدي قد تحدث عن ذلك في مقدمة "البسيط" وبين سبب اتجاهه للنحو واللغة حيث إن معرفة ذلك هو طريق لمعرفة كلام الله وتفسيره فيقول: "فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب فإنهما عمدتاه .. " (¬2). ويعتبر النحو واللغة من علم الوسائل الواجبة فيقول: " .. فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب .. " (¬3)، ثم يقول "فإن من جهل لسان العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها جهل جمل علم الكتاب .. " (¬4). لقد أدرك الواحدي منذ صغره أهمية اللغة والنحو والأدب لفهم كتاب الله والتصدي لتفسيره؛ لأن هذا الكتاب منزل بلسان عربي مبين، فلا بد لمن رام فهم معانيه أو تصدى لتفسيره أن يكون متضلعاً من هذه اللغة التي نزل بها. فكان ذلك دافعاً قوياً له أن يتجه إلى بحار اللغة ليغرف منها. يقول الباخرزي عنه: "وقد خبط ما عند أئمة الأدب من أصول كلام العرب خبط عصا الراعي فروع الغَرَب (¬5)، وألقى الدلاء في بحارهم حتى نزفها، ومد البنان إلى ثمارهم إلا أن قطفها" (¬6). وقد تحدث الواحدي عن مقدار ما بذل في هذا المجال فيذكر تتلمذه ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات المفسرين" للسيوطي ص 66، وللداودي 1/ 394 (¬2) مقدمة "البسيط" ص 395. (¬3) مقدمة "البسيط" ص 398. (¬4) مقدمة "البسيط" ص 398. (¬5) نوع من الشجر. (¬6) "دمية القصر" 2/ 1018.

في اللغة على العروضي (¬1) فيقول: "وكنت لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها أسمع، وأقرأ، وأعلق، وأحفظ، وأبحث، وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة" (¬2)، ويذكر تتلمذه في النحو على "أبي الحسن الضرير" (¬3)، فيقول: "وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل .. " (¬4)، كذلك تتلمذ على "أبي الحسن عمران بن موسى المغربي" (¬5) يقول: "ولقد صحبته مدة مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده .. " (¬6). ولقد تضلع الواحدي في علم اللغة والنحو ومما يشهد لذلك كتابه الذي بين أيدينا "البسيط" فلقد بسط فيه من المسائل النحوية ما عُدّ خروجاً عن منهج التفسير، من كثرة ما حواه الكتاب من المسائل النحوية، قال السيوطي وهو يتكلم عن طبقات المفسرين: "فالنحوي تراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في "البسيط" وأبي حيان في "البحر" و"النهر" (¬7). قال القفطي: "وصنف التفسير الكبير وسماه "البسيط" وأكثر فيه من ¬

_ (¬1) هو أبو الفضل أحمد بن محمد العروضي أحد شيوخ الواحدي، تأتي ترجمته. (¬2) مقدمة "البسيط" ص 419. (¬3) مقدمة "البسيط" ص 420. (¬4) مقدمة "البسيط" ص 420 - 421. (¬5) وأبو الحسن علي بن محمد الضرير أحد شيوخ الواحدي، تأتي ترجمته. (¬6) أحد شيوخ الواحدي، يأتي ذكره في شيوخه. (¬7) "الإتقان" 2/ 243.

الواحدي والشعر

الإعراب والشواهد واللغة ومن رآه علم مقدار ما عنده من علم العربية .. " (¬1) ويأتي مزيد بسط لهذِه المسألة -إن شاء الله - عند دراسة الكتاب. كما تشهد مؤلفاته الأخرى بتضلعه في علم اللغة والنحو فله في هذه الميادين عدة كتب منها "شرح ديوان المتنبي" و"الإغراب في الإعراب" و"شرح أسماء الله الحسنى" و"تفسير أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -" و"شرح قصيدة للنابغة الذبياني" ويأتي الحديث عنها -إن شاء الله- مع مؤلفاته. الواحدي والشعر: ليس غريباً على الواحدي الذي تضلع في علم اللغة والأدب والنحو، وقرأ دواوين الشعر وأكثر منها حتى عاتبه شيخه العروضي كما حكى عنه فقال: "حتى عاتبني شيخي - رحمه الله - يوماً من الأيام وقال: إنك لم تبق ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه" (¬2)، ليس غريباً عليه أن تتفتح قريحته بالقريض، خصوصاً وأن الموهبة والملكة كان يتمتع بهما منذ الصغر، فلقد بدأت محاولة نظم القريض وهو في الكتاب حيث أنشد للباخرزي وهو في الكتاب قوله: إنَّ الربيعَ بحسنِه وبهائِه ... يحكيهِما خطُّ الرئيسِ أبي عُمرْ فكأنَّه في الدَّرج (¬3) يرقُم كاتبًا ... أَولى (¬4) لِطاف بنانِه فتْقَ الزهرْ خطٌّ غدا ملءَ العيونِ ملاحةٌ ... متنزَّهاً لِلَّحْظِ قيداً للبصرْ ¬

_ (¬1) "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬2) مقدمة "البسيط" ص 419. (¬3) ما يكتب فيه. القاموس "درج" ص 204 (¬4) الولي: المطر بعد المطر. القاموس "ولى" ص 1732.

أخزَتْ نقوشَ الصِّينِ بدعَةُ صُنعهِ ... فتَعطَّلت ورقومَ مَوشِيِّ الحِبَرْ (¬1) قال الذهبي: "له شعر رائق" (¬2)، وقال الأسنوي: "كان فقيهاً إماما في النحو واللغة وغيرهما شاعراً .. " (¬3). وقد أنشد ياقوت شيئاً من شعره ومنه قوله: أَيا قَادِماً مِنْ طُوسَ أَهْلاً وَمَرْحَباً ... بَقيِتَ عَلَى الأَيَّامِ مَا هَبَّتِ الصِّبا لعَمْرِي لَئِنْ أَحْياَ قُدُومُك مُدْنَفاً ... بِحُبِّكَ صَبّاً في هَوَاكَ مُعَذَّبَا الأبيات. وقوله: تَشَوَّهت الدُّنْياَ وَأَبْدَت عَوَارَهَا ... وَضَاقَتْ عَليَّ الأَرْضُ بِالرُحْبِ وَالسَّعَهْ وَأَظلَمَ في عَيْنِي ضِيَاءُ نَهَارِهَا ... لِتَوْدِيع مَنْ قَدْ بَانَ عَنِّي بِأَرْبَعَهْ فؤَادِي وَعَيْشِي وَالمَسرّة والكرى ... فَإنْ عَادَ عَادَ الكُلُّ والأُنْسُ والدَّعَهْ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "دمية القصر" 2/ 259 (طبعة دار العروبة بالكويت 1405 هـ)، و"إنباه الرواة" 2/ 224. (¬2) "سير أعلام النبلاء" 18/ 341. (¬3) "طبقات الشافعية" 2/ 539. (¬4) "معجم الأدباء" 12/ 261 - 262.

المطلب الخامس مذهبه وعقيدته

المطلب الخامس مذهبه وعقيدته: مذهبه: لقد كان سائدًا في موطن الواحدي نيسابور مذهب الشافعي في الفقه، ومذهب الأشعرية (¬1) في العقيدة، وكانت هناك علاقة وثيقة بين المذهبين في نهاية القرن الرابع وأول الخامس، وهو العصر الذي عاش فيه الواحدي، وسبب تلك العلاقة والارتباط أن حاملي عقيدة الأشعرية معظمهم من الشافعية، خصوصاً في المشرق الإِسلامي، خلافاً لما كان ¬

_ (¬1) الأشعرية نسبة لأبي الحسن، علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري ولد سنة 260، وكان في أول أمره على مذهب المعتزلة، ثم تركه وتحول إلى هذا المذهب الذي ينسب إليه، ووقع الخلاف بين العلماء في رجوعه إلى مذهب السلف بعد ذلك، ومن كتبه: "اللمع"، و"مقالات الإِسلاميين"، و"الإبانة عن أصول الديانة"، توفي عام 324. والمنتسبون إليه يُسمون: الأشعرية والأشاعرة، أو أن الأشعرية تطلق على المذهب، والأشاعرة على المنتسبين إليه، ومن أهم أصولهم: أن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية، ولا فرق بينه وبين توحيد الألوهية، والإيمان عندهم هو التصديق، وكلام الله تعالى معنى واحد أزلي، ويفرقون بين اللفظ والمعنى، ويقولون بالكسب في القدر، ويجمعون على إثبات سبع صفات، ويؤولون ما عداها، والسبع هي: الحياة والقدرة والعلم والإرادة والكلام والسمع والبصر، ومنهم من يضيف إلى السبع: اليد فقط، ويزيد بعضهم: البقاء، ومنهم من يتوقف في نفي ما سوى السبع، وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها. ينظر: "الملل والنحل" للشهرستاني 1/ 94 - 97 و"مجموع الفتاوى" 6/ 358 و"معتقد الإِمام الأشعري" للأشقر ص 17 و"الرسالة التدمرية" ص 31، 179، 185، و"الأشاعرة" لمحمود صبحي. وينظر في ترجمة أبي الحسن الأشعري: "تاريخ بغداد" 11/ 346، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 85، و"طبقات الفقهاء الشافعية" لابن كثير 1/ 210، والمراجع السابقة.

عليه الحنفية في تلك البلاد إذ أغلبهم ماتريدية (¬1)، بينما غلب على الحنابلة في بغداد التمسك بمذهب السلف (¬2). تلك هي البيئة التي عاشها الواحدي، والغالب أن الإنسان لا يكاد ينفك عما عهد الناس عليه، وما كان سائدًا في بيئته، ومن ثم فإن الواحدي -رحمه الله- كان شافعياً أشعرياً بغير خلاف بين كافة مترجميه، فكونه شافعياً أظهر من أن يُشهر، ويدل له أمور: منها: تلقيب بعض مترجميه له بالشافعي، كالذهبي وابن العماد (¬3). ومنها: أن كتب طبقات الشافعية قد عدته ضمن علمائهم (¬4). ومنها: أن كتب الفقه الشافعي كانت تنقل أقواله مبينة أنه من أصحابهم (¬5). ¬

_ (¬1) نسبة للماتريدي محمد بن محمد بن محمود، أبي منصور الماتريدي السمرقندي، والماتريدي نسبة إلى (ماتريد) محلة قرب سمرقند، يلقب بإمام الهدى وإمام المتكلمين، وهو معاصر للأشعري، ومذهبه قريب من مذهبه، وهو في الفقه على مذهب أبي حنيفة، من كتبه: "تأويلات أهل السنة"، وكتاب "التوحيد"، وكتاب "المقالات"، توفي سنة 333 على الأرجح. ينظر في ترجمته: "الجواهر المضية" للقرشي 3/ 360 ومفتاح السعادة لطاش كبري زاده 2/ 96، 151 وكتاب "الماتريدية" للحربي ص 93 وما بعدها. وينظر في الفرق بين الأشعرية والماتريدية: "تاريخ المذاهب الإِسلامية" لأبي زهرة 1/ 195 - 210 وكتاب "نشأة الأشعرية وتطورها" لجلال موسى: 307 وكتاب "الماتريدية دراسة وتقويماً" لأحمد الحربي ص 133. (¬2) ينظر: "التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإِسلامي" ص 128. (¬3) ينظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 339 و"شذرات الذهب" 3/ 330. (¬4) ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 5/ 240، و"طبقات الشافعية" للإسنوي 2/ 538 و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 277 وغيرهم. (¬5) ينظر: "روضة الطالبين" للنووي 10/ 227 و"المجموع" له 3/ 371 وقال في "الأذكار" ص 239: قال الإِمام أبو الحسن الواحدي من أصحابنا.

عقيدته

ومنها: أنه يقول في كثير من المواضع في تفسيره هذا: وقال أصحابنا، يعني بهم الشافعية (¬1). ومنها: أنه يقتصر في الغالب على قول الشافعي، ويُعْنى بذكره، من بين المذاهب (¬2). عقيدته: وأما أشعريته: فهي واضحة من خلال كتبه، فالمتتبع لمواضع الاختلاف بين أهل السنة والأشاعرة، أو بين المعتزلة والأشاعرة، يجده يقرر بكل وضوح عقيدة الأشاعرة، ولا غرو فهي العقيدة الغالبة على أهل بلده، وفي أشياخه أعلام كبار من حملة لواء العقيدة الأشعرية، ممن قرروا قواعده وأصّلوا أصوله، كأبي إسحاق الإسفراييني (¬3) الذي أخذ عند عامة شيوخ نيسابور الأصول وعلم الكلام (¬4)، وعبد القاهر البغدادي (¬5) الذي يعَدّ -كذلك- من أئمة الشافعية الأشاعرة والمبرزين فيهم (¬6). ولعلي أضرب أمثلة من خلال تفسيريه "البسيط" و"الوسيط" تدل على، ذلك وتؤكده: 1 - فعند قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] قال: "قال أصحابنا: حقيقة الواحد في وصف الباري سبحانه ¬

_ (¬1) ينظر: مبحث منهجه في آيات الأحكام. (¬2) ينظر: مبحث منهجه في آيات الأحكام. (¬3) ينظر ترجمته في مبحث شيوخه. (¬4) ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 257. وينظر ترجمة أبي إسحاق في مبحث شيوخه. (¬5) ستأتي ترجمته لاحقاً في مبحث شيوخه. (¬6) انظر ترجمته في مبحث شيوخه.

أنه واحد لا قسيم له في ذاته ولا بعض له في وجوده بخلاف الجملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازًا كقوله: دار واحدة، وشخص واحد، وعبَّر بعض أصحابنا عن التوحيد فقال: هو نفي الشريك والقسيم والشبيه فالله واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في إثبات المصنوعات وواحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا يشبه الخلق فيها .. " (¬1). ويقول أيضاً: وعند متكلمي أصحابنا: أن الإله من له الإلهية، والإلهيه القدرة على اختراع الأعيان .. " (¬2) وهذا الذي قرره الواحدي هنا هو قول متكلمي الأشاعرة (¬3)، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن التوحيد عند المتكلمين: " .. حتى يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع" (¬4)، ثم قال بعد ذلك: "وليس المراد بـ"الإله" هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن "الإلهية" هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أنه لا إلله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه، بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد فهو إله بمعنى: مألوه، لا إله بمعنا آله .. " (¬5). ثم قال في موضع آخر (¬6): وكثير من أهل الكلام يقول: التوحيد له ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" (3/ 459). (¬2) انظر: "البسيط" عند تفسير البسملة 1/ 463. (¬3) ينظر: "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي ص 45، "نهاية الإقدام" للشهرستاني ص 90. (¬4) "الرسالة التدمرية" ص 180. (¬5) "الرسالة التدمرية" ص 185، 186. (¬6) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله النميري الحراني الدمشقي أبو العباس، شيخ الإِسلام ولد بحران سنة 661 طلب العلم وتبحر وفاق أهل عصره =

ثلاث معان -ثم ذكر ما قرره الواحدي- ثم قال: وهذا المعنى الذي تتناوله هذه العبارة، فيها ما يوافق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول، وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل التوحيد الذي أمَرَ به أمْرٌ يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى، فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل، وكتم الحق، وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً بل ولا مؤمناً، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله بمعنى: المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى: القادر على الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى: القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا هو أخص وصف الإله، وجَعَل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه، لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله. فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كلِّ شيء، وكانوا مع هذا مشركين" (¬1). كما أنه سار على مذهب الأشعرية في باب: صفا الله وذلك عند ¬

_ = وألف فأكثر وأبدع، ومن كتبه: "منهاج السنة"، و"تلبيس الجهمية"، وجمعت فتاواه ورسائله مراراً. مات في سجن القلعة بدمشق فخرجت دمشق كلها في جنازته سنة 728، وألفت في سيرته كتب. ينظر: "البداية والنهاية" 14/ 135 و"الدرر الكامنة" 1/ 144. (¬1) "درء تعارض العقل والنقل" 1/ 225، وينظر: أيضاً 3/ 98 - 102 و"الرسالة التدمرية" ص 185 - 186.

تعرضه لها من خلال الآيات التي وردت فيها، فيؤوِّلها، ومذهب السلف في ذلك أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الصفات وما أثبته له رسوله دون تأويل أو تحريف أو تعطيل، ولا يلزم من إثباتهم للصفات أي لازم باطل: من تشبيه الله بخلقه أو غير ذلك، فكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء فكذلك صفاته. 2 - فمن الآيات التي تعرض لها قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]. ذكر الواحدي في تفسيرها وجهين: أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف، أن يأتيهم عذاب الله، أو أمر الله، أو آيات الله، فجعل مجيء الآيات والعذاب مجيئاً له، تفخيماً لشأن العذاب، وتعظيماً له. والثاني: المعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من العذاب والحساب، فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم .. (¬1). وهذا منه -رحمه الله- تأويل وصرف للفظ عن ظاهره، مخالف لما كان عليه السلف الصالح من إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات، من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، وذلك جرياً على مذهب الأشاعرة في تأويك الصفات الخبرية. 3 - وفي قوله تعالى: {وَهُوَ العَلىُّ العَظِيُم} [البقرة: 255] قال: فمعنى العلو في صفة الله تعالى: اقتداره وقهره واستحقاقه صفات المدح (¬2). وهذا مخالف لمذهب السلف الذين يثبتون العلو لله بكل أنواعه. ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" 4/ 100، 101. (¬2) المصدر السابق 4/ 371.

علو الذات وعلو القدر، وعلو القهر. وعلو ذاته ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف وبالفطرة والعقل (¬1)، وليس هذا موضع بسط الأدلة في ذلك. 4 - وقال أيضًا في "تفسير البسيط": قال النحويون: وذكر اليد في قوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] تحقيق للإضافة، وإن كانت الكتابة لا تقع إلا باليد، وقد أُكدّت الإضافة بذكر اليد فيما لا يُرادُ باليد فيه الجارحة، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]. ومعناه: مما تولينا عمله، ولما توليت خلقه. والأصل في هذا: أنه قد يضاف الفعل إلى الفاعل وغير الفاعل له، كقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] والمراد بذلك: أنه يأمر بالذبح فَيُمتثل أمره. فلما كان الفعلُ قد يُضاف إلى غير الفاعل أُكِّدَت الإضافة بذكر اليد؛ ليتحقق وينتفي الاحتمال، ثم استعمل هذا التأكيد أيضاً في فعل الله تعالى وإن لم يجز في وصفه يد الجارحة؛ لأن المراد بذكر اليد تحقيق الإضافة على ما بيّنا (¬2). اهـ. 5 - وقال أيضًا عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]. نقل أقوال بعض العلماء في ذلك ثم قال: " .. والأصل في الاستواء الاستقامة وإنما قيل للقصد إلى الشيء استواء؛ لأن الاستواء يسمى قصدا .. "، ثم قال: "وأما استوى بمعنى ¬

_ (¬1) ينظر: "الفتاوى" 16/ 119، 123، 358 و"مختصر الصواعق المرسلة" للموصلي 1/ 75 و"شرح الواسطية" ص 304 (¬2) انظر: "البسيط" 3/ 92، 93.

استولى فقد يكون، وكأنه يقول: استوت له الأمور فاستولى ثم وضع "استوى" موضع "استولى" ... ". ويظهر رأيه وهو يتحدث عن آخر الآية {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيقول: "وقيل إنه لما ذكر ما يدل على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بوصفه بالعلم .. " (¬1). ومذهب السلف في هذا إثبات الاستواء لله على وجه يليق بجلاله فهو مستو على عرشه بائن من خلقه، عال عليهم بذاته علوا يليق بجلاله، ولا يلزم من هذا أي لازم باطل مما يلزم لاستواء البشر ليس كمثله شيء (¬2). والحاصل أن هذا منهجه في تفسيره، كلما مر بآية من آيات العقائد تبع عقيدةَ الأشاعرة، ولينظر زيادة على ذلك ما قرره في الآيات التالية: 1 - {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] حيث أوَّل صفة الرحمة (¬3). 2 - وقوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] حيث أوَّل صفة الغضب لله (¬4). 3 - وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] حيث فسر الإيمان بالتصديق على طريقة الأشاعرة (¬5). 4 - وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" 2/ 300، 301. (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية 5/ 144، 208، و"شرح الطحاوية" ص 218، و"التدمرية" ص 81. (¬3) "تفسير الوسيط" 1/ 65. (¬4) "تفسير الوسط" 1/ 70. (¬5) "تفسير الوسيط" 1/ 79 و 2/ 535

17] حيث فسر الآية على طريقة الأشاعرة القائلين بالكسب في باب القدر (¬1). 5 - وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] حيث أوّل الاستواء بالاستيلاء والاقتدار ونفوذ السلطان (¬2). 6 - وقوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] حيث أوّل اليد بالقدرة (¬3). 7 - وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22] حيث أوّل المجيء، بمجيء أمره وقضائه (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير البسيط" تفسير سورة الأنفال. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 3. (¬3) "تفسير الوسيط" 3/ 593 (¬4) "تفسير الوسيط" 4/ 484

المطلب السادس شيوخه وتلاميذه

المطلب السادس شيوخه وتلاميِذه شيوخه: عاش الواحدي في نيسابور معدن الفضلاء ومنبع العلماء، كما قال عنها ياقوت (¬1). وتنقل في أرجاء العالم الإِسلامي يتبع معين العلم، ويلقي الدلاء في بحار علماء اللغة والنحو والأدب والتفسير وقد أدرك الإسناد (¬2)، وقرأ الحديث على المشايخ، لهذا كثر شيوخه وعز حصرهم، قال الواحدي متحدثاً عن ذلك: "ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال الخطب ومل الناظر .. " (¬3). وأذكر -إن شاء الله- بعض شيوخه، وأقرب مصدر لذلك الواحدي نفسه حيثما ذكر في مقدمة كتابه "البسيط" بعض شيوخه الذين أخذ عنهم فأتحدث عنهم أولاً، ثم أعقبهم بذكر بعض الشيوخ الذين وردت تراجمهم في بعض المصادر التي ترجمت له، أو ثبت أخذه عنهم بأي طريق. أولاً: شيوخه الذين ذكرهم في مقدمة كتابه "البسيط": 1 - الشيخ أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي المعروف بـ"الصَّفَّار" الشافعي (334 - 416 هـ) (¬4)، قال الثعالبي: "إمام في ¬

_ (¬1) انظر: "معجم الأدباء" 1/ 5. (¬2) انظر: "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬3) مقدمة " البسيط" ص 495. (¬4) انظر: "معجم الأدباء" 4/ 261، و"إنباه الرواة" 1/ 154

الأدب خنق التسعين في خدمة الكتب وأنفق عمره على مطالعة العلوم وتدريس متأدبي نيسابور .. " (¬1)، وقد أخذ عنه الواحدي اللغة حيث قال: "أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي -رحمه الله-، وكان قد خَنَّق (¬2) التسعين في خدمة الأدب وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروي عنهم كأبي منصور الأزهري، روى عنه كتاب "التهذيب" .. " (¬3)، ثم قال: "وكنت قد لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة .. " (¬4). وقد ورد ذكر أبي الفضل العروضي في "البسيط"، حيث روى عنه في مواضع عن الأزهري من كتاب "تهذيب اللغة" و"التهذيب" أحد مصادره الهامة، ويأتي ذكر ذلك عند الكلام على مصادره. 2 - علي بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله القُهُنْدزي (¬5) الضرير، أبو الحسن، نحوي أديب، قرأ عليه الأئمة وتخرجوا به (¬6)، أخذ عنه الواحدي ¬

_ (¬1) "تتمة يتيمة الدهر" 5/ 205. (¬2) أي كاد يبلغها، انظر القاموس المحيط "خنق" ص 1138. (¬3) انظر: مقدمة "البسيط" للمؤلف. (¬4) انظر: مقدمة "البسيط" للمؤلف. (¬5) قال السمعاني: "القهندزي" بضم القاف والهاء وسكون النون والدال المهملة وفي آخرها الزاي، وهذه النسبة إلا قُهندز بلاد شتى، وهي المدينة الداخلة المسورة. "الأنساب" 10/ 523. والمقصود هنا قهندز نيسابور. (¬6) انظر: "معجم الأدباء" 15/ 57، و"إنباه الرواة" 2/ 310، و"نكْت الهِمْيان في نكت العُميان" للصفدي ص 215، و"بغية الوعاة" 2/ 186.

النحو حيث قال: "وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير -رحمه الله- وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه وأعلمهم بمضايق طرق العربية ودقائقها، ولعله تفرَّس فيّ وتوسم أثر الخير لديّ فتجرد لتخريجي وصرف وَكْده (¬1) إلى تأديبي .. " (¬2)، ثم قال: " ... وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريباً من مائة جزء في المسائل المشكلة .. " (¬3). 3 - أبو الحسن عمران بن موسى المغربي، ذكره الواحدي مع شيوخه فقال: "ثم ورد علينا الشيخ الإِمام أبو الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي وكان واحد عصره وباقعة دهره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده" (¬4)، ذكره السيوطي ناقلاً عن السياق فقال: "شيخ فاضل نحوي كبير كثير الحفظ قدم نيسابور وأفاد واستفاد، وطاف البلاد، ولقي الكبار وله اتنظم الفائق، وكان من أفاضل العصر، مات قريباً من الخمسمائة" (¬5)، وذكر السيد أحمد صقر في مقدمة "أسباب النزول" أن وفاته سنة 430 هـ (¬6) ولم أصل إلى ما اعتمد عليه في ذلك. ¬

_ (¬1) اي: مراده وقصده "اللسان" "وكد" 3/ 467. (¬2) مقدمة "البسيط" ص 420. (¬3) المصدر السابق ص 421. (¬4) المصدر السابق ص 421. (¬5) "بغية الوعاة" 2/ 233. (¬6) مقدمة "أسباب النزول" ص 10، ونقل صاحب "الواحدي ومنهجه في التفسير" عن =

4 - أبو القاسم علي بن أحمد البستي وهو أحد شيوخه في القراءات ما ذكر ذلك فقال: "وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني أختلفت أولاً إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي -رحمه الله- وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران (¬1) ... " (¬2). ذكره الذهبي فيمن أخذ عن ابن مهران فقال: " .. وأبو القاسم علي بن أحمد البستي شيخ الواحدي .. " (¬3) ونحوه قال ابن الجزري، وذكره في ترجمة الواحدي ضمن شيوخه في القراءات (¬4). 5 - أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم المقرئ الزعفراني الحيري قال في المنتخب من السياق: "شيخ كبير ثقة صالح كثير السماع كثير الحديث والشيوخ عالم بالقرآن مقصود في علم القراءات سمع بنيسابور والعراق والحجاز .. قال أبو الحسن: قرأت من خط أبي صالح الحافظ أنه تغير بعض التغير في آخر أمره، وحكى عن بعض الثقات أنه خلط في بعض ¬

_ = "النجوم الزاهرة" أنه أثبت وفاته سنة 430 هـ وعاد فأثبتها في وفيات سنة 458 هـ ظنا منه أنه المترجم له، والذي في "النجوم الزاهرة": "موسى بن عيسى بن أبي حاج الفاسي المقرئ الإِمام أبو عمران الفاسي الدار الغَفَجُوميّ البربري المالكي" ويظهر أنه شخص غيره لاختلاف الاسم. انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص 67، و"النجوم الزاهرة" 5/ 30، 77. (¬1) هو أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري المقرئ، صاحب كتاب "الغاية في القراءات العشر" ويأتي ذكره في "حاشية البسيط" ص 231. (¬2) انظر: مقدمة "البسيط" ص 421 - 422. (¬3) "معرفة القراء الكبار" 1/ 280. (¬4) انظر: "غاية النهاية" 1/ 50، 523.

مسموعاته، والله أعلم به توفي في جماد الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة .. " (¬1). وذكره الذهبي في "المشتبه" (¬2) وقال: "أبو عثمان سعيد بن محمد الحيري عن أبي عمرو بن مطر، وعنه الواحدي" وذكره الذهبي فيمن أخذ عن ابن مهران (¬3)، وكذا ابن الجزري (¬4)، وقد أخذ عنه الواحدي القراءات فقال: "وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت أولاً إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي .. ". ثم قال بعد ذلك: " .. ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي -رحمهما الله- وكانا قد انتهت إليهما الرئاسة في هذا العلم وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ، وكثرة التلامذة، وغزارة العلوم، وارتفاع الأسانيد، والوثوق فيها، فقرأت عليهما وأخذت من كل منهما حظّاً وافراً بعون الله وحسن توفيقه". وخص أبا عثمان سعيد بن محمد، فقال: "وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي (¬5) عنه، وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج في "المعاني" (¬6) روايته عن ابن مقسم ¬

_ (¬1) "المنتخب من السياق" ل 67 ب. (¬2) "المتشبه" 1/ 186. (¬3) انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 280. (¬4) انظر: "غاية النهاية" 1/ 55. (¬5) هو أبو علي الفارسي. انظر ترجمته في مصادر الواحدي وأسماء كتبه في حاشية مقدمة "البسيط". (¬6) المراد كتاب الزجاج المشهور "معاني القرآن" والتعريف بالزجاج وكتابه يأتي في مصادر الواحدي.

عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير" (¬1). وبهذا يتضح مكانة أبي عثمان سعيد ابن محمد الحيري في شيوخ الواحدي، ومقدار ما أخذ عنه من العلم، ولقد صرح بروايته عنه في مواضع من "البسيط"، قال في مقدمة "البسيط": " .. وقرأت على الأستاذ سعيد بن محمد المقرئ فقلت: حدثكم طلحة بن محمد الشاهد ببغداد .. " (¬2). وفي تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قال: "وأقرأني سعيد بن محمد الحيري رحمه الله عن أبي الحسن بن مقسم .. ". 6 - أبو الحسن علي بن محمد الفارسي، ذكره الواحدي مع سعيد بن محمد الحيري كما سبق وذكر أخذه عنه، تكلم عنه ابن الجزري فقال: "إمام مقرئ حاذق أخذ القراءات عرضاً وسماعاً عن أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران روى القراءات عنه عرضاً وسماعاً أحمد بن أبي عمر صاحب كتاب "الإيضاح" (¬3)، توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (¬4). 7 - أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المفسر صاحب التفسير المشهور بـ"الكشف والبيان" توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، ذكره ياقوت في "معجم الأدباء" فيما نقله عن "السياق لتاريخ نيسابور" وقال: سمع منه الواحدي التفسير (¬5). ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط " ص 422 - 424 (¬2) "مقدمة البسيط" ص 409. (¬3) "غاية النهاية" 1/ 572. (¬4) انظر: "المنتخب من السياق" ل 112أ، وستأتي ترجمته في مصادر الواحدي. (¬5) "معجم الأدباء" 5/ 36 - 38، وانظر "وفيات الأعيان" 1/ 79، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 394، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص 66.

قال ابن الأثير يقال له: "الثعلبي والثعالبي" (¬1). وكانت له منزلة خاصة لدى الواحدي تحدث عنه فقال: " .. ثم فرغت للأستاذ الإِمام أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله- وكان حبر العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم .. "، ثم ذكر كتابه في التفسير وبالغ في مدحه، ويأتي التعريف به في مصادر الواحدي في تفسيره، حيث إنه أحد مصادره الهامة. قرأ عليه من مصنفاته كثيراً فقال: " .. وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء وتفسيره الكبير، وكتابه المعنون بـ (الكامل في علم القرآن) (¬2). وقد أكثر الواحدي النقل من "الكشف والبيان"، ويلاحظ أنه لم يذكر اسمه ولم يعز له إلا عندما يروي عنه بالسند ومن أمثلة ذلك، قال في مقدمة "البسيط": "ولقد أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم -رحمه الله- قال أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن .. " (¬3)، وقال في موضع آخر: "ولقد سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم يقول: سمعت الحسن بن محمد يقول .. " (¬4). هؤلاء هم الشيوخ الذين ذكرهم الواحدي في مقدمة تفسيره "البسيط" وللواحدي شيوخ غيرهم كثر. قال: " .. ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال ¬

_ (¬1) "اللباب" 1/ 238. (¬2) انظر: مقدمة "البسيط" ص 495. (¬3) انظر: "البسيط" ص 398. (¬4) انظر: "البسيط" ص 410.

الخطب ومل الناظر" (¬1). وقد ذكر بعض من ترجم للواحدي عددًا من شيوخه ومنهم: 8 - الشيخ الإِمام أبو عمر سعيد بن هبة الله الموفق البسطامي، قال في "المنتخب من السياق": "من سلالة الإمامة والذي انتهى إليه أمر الزعامة لأصحاب الشافعي، رُبّي في حجر الرئاسة، وغذي بلبان الإمامة ... توفي عصر يوم عرفة سنة اثنين وخمسمائة" (¬2). وقد تلقى عنه الواحدي في الكُتَّاب حيث اجتمع هو والباخرزي في كُتَّابه كما ذكر ذلك الباخرزي في "دمية القصر" (¬3) ويظهر أن الإِمام أبا عمر قد عُمِّر طويلاً. 9 - الإِمام محمد بن محمد بن مَحْمِش بن علي بن أيوب أبو طاهر، المعروف بالزيادي، سمي بذلك لأنه كان يسكن ميدان زياد بن عبد الرحمن. إمام أصحاب الحديث بخراسان وفقيههم ومفتيهم توفي سنة عشر وأربعمائة أخذ عن كبار المشايخ كأبي بكر بن القطان وغيره (¬4)، وأخذ الواحدي عنه، ذكر ذلك صاحب "السياق" (¬5)، والسبكي (¬6)، والذهبي (¬7)، ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط" ص 425. (¬2) "المنتخب من السياق" ل 70 أ. (¬3) انفر: "دمية القصر" 2/ 1018. (¬4) انظر: "المنتخب من السياق" ل 2 ب، وانظر "الأنساب" 6/ 360، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 276. (¬5) انظر: "المنتخب من السياق " ل 114أ. (¬6) انظر: "طبقات الشافعية" 3/ 289. (¬7) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 340، و"العبر" 2/ 324.

والسيوطي (¬1)، والداودي (¬2)، وغيرهم. 10 - الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن جعفر الكَنْجَرُوذِي (¬3) أبو سعد، مسند خراسان، له معرفة بالطب والفروسية وأدب السلاح، استجمع فنون العلم وأدرك المشايخ الكبار كأبي بكر بن مهران وغيره، توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة (¬4)، ذكر أخذ الواحدي عنه عبد الغافر في "السياق" (¬5). 11 - الإِمام محمد بن أحمد بن جعفر المُولْقَابَاذِي أبو حسان المُزَكِّي مسند نيسابور وأحد الثقات، كان إليه التزكية بنيسابور، حدث عن جماعة منهم الصِّبْغِي، توفي سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة (¬6)، ذكر أخذ الواحدي عنه عبد الغافر في "السياق" (¬7)، والذهبي (¬8). 12 - الإِمام أبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحَرَشِيُّ الحيريُّ النيسابوري مسند خراسان، قلد قضاء نيسابور مدة، حدَّث عن أبي العباس ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات المفسرين" ص 66. (¬2) انظر: "طبقات المفسرين" 1/ 3904 (¬3) قال السمعاني: "الكنجروذي" بفتح الكاف وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء بعدها واو وفي آخرها الذال المعجمة، هذه النسبة إلا كَنْجَرُوذ، وهي قرية على باب نيسابور. "الأنساب" 11/ 155. (¬4) انظر: "المنتخب من السياق" ل 10 أ، و"الأنساب" 11/ 155، و"إنباه الرواة" 3/ 165، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 101. (¬5) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114أ. (¬6) انظر: "المنتخب من السياق" ل 7 أ، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 596، و"العبر" 2/ 267. (¬7) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114 أ. (¬8) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 340، وفيه محمد بن إبراهيم المُزَكيِّ.

الأصم وغيره (325 - 421 هـ) مات وله ست وتسعون سنة (¬1)، ذكر أخذ الواحدي عنه، الذهبي (¬2)، والسبكي (¬3)، والسيوطي (¬4)، والداودي (¬5)، وابن العماد (¬6). 13 - الشيخ الجليل المحدث عبد الرحمن بن حمدان بن محمد بن نصرويه النَّصرُويي (¬7) النيسابوري، رحل إلى بلاد كثيرة فسمع في الحجاز والعراق، وأخذ عن كبار المشايخ كأبي بكر القطيعي وغيره، مات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة (¬8). ذكر في المنتخب من السياق أخذ الواحدي عنه (¬9)، وكذا الذهبي (¬10)، والسبكي (¬11). 14 - الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمد، النَّصْرَابَاذِي (¬12) الواعظ ¬

_ (¬1) انظر: "المنتخب من السياق" ل 22/، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 356، و"الأنساب" 4/ 122، 327. (¬2) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 340، و"العبر" 2/ 324. (¬3) انظر: "طبقات الشافعية" 3/ 289. (¬4) انظر: "طبقات المفسرين" ص 66. (¬5) انظر: "طبقات المفسرين" 1/ 394. (¬6) انظر: "شذرات الذهب" 3/ 329. (¬7) بفتح النون وسكون الصاد وضم الراء في آخرها ياء تحتها نقطتان، نسبة إلى نَصْرُوَيه، جد المنتسب إليه."اللباب" 3/ 311. (¬8) انظر: "المنتخب من السياق" ل 89 ب، والأنساب 13/ 109، و"اللباب" 3/ 311، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 553، و"العبر" 2/ 268. (¬9) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114أ. (¬10) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 340. (¬11) انظر: "طبقات الشافعية" 3/ 290. (¬12) "النصراباذي" بفتح النون وسكون الصاد وفتح الراء المهملتين وسكون الألفين وبينهما الباء الموحدة وفي آخرها الذال المعجمة، هذه النسبة إلى محلة بنيسابور، من أعالي البلد. انظر: "الأنساب" 13/ 107.

أبو إبراهيم، أبوه شيخ خراسان وخلف أبيه في ذلك، سمع الكثير في خراسان ونيسابور والجبل والعراق والحجاز وروى عن أبي بكر القطيعي وغيره، توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة (¬1)، ذكر أخذ الواحدي عنه، صاحب "المنتخب من السياق" (¬2)، والذهبي (¬3)، والسبكي (¬4). 15 - الشيخ عمر بن أحمد بن محمد بن مسرور النيسابوري، أبو حفص مسند خراسان سمع من جماعة منهم الحافظ أبو أحمد الحاكم وغيره، كان كثير العبادة، عاش تسعين سنة، وتوفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة (¬5). ذُكر في "المنتخب" ممن أخذ عنه الواحدي (¬6). 16 - عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد الفارسي ثم النيسابوري، سمع من الخطابي وغيره، وكان من المعمرين، ولد سنة نيف وخمسين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة بنيسابور وهو جد عبد الغافر بن إسماعيل، صاحب "السياق" (¬7)، وذُكر في "المنتخب من السياق" أنه من مشايخ الواحدي (¬8). 17 - الإِمام المحدث الواعظ إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد ¬

_ (¬1) انظر. "المنتخب من السياق" ل 38 أ، و"الأنساب" 13/ 107. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114أ. (¬3) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 380. (¬4) "طبقات الشافعية" 3/ 289. (¬5) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 10، و"العبر" 2/ 292. (¬6) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114أ. (¬7) انظر: "المنتخب من السياق" 106أ، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 19، و"العبر" 2/ 324. (¬8) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114أ.

الصابوني أبو عثمان كان أبوه من كبار الواعظين بنيسابور فَفُتِك به من أجل التعصب، فتولى مهمة الوعظ بعد أبيه وعمره عشر سنوات، وكان يحضر مجلسه كبار الأئمة مثل أبي إسحاق الإسفراييني وأبو بكر بن فورك، وكان صاحب عبادة وعفة، وكان من أئمة الأثر، له مصنف في السنة واعتقاد السلف (373 - 449 هـ) (¬1). ذُكر في "المنتخب" من مشايخ الواحدي (¬2). 18 - أبو سعد محمد بن علي بن أحمد الحيري الخفاف، أخذ عن أبي عمرو بن مطر وأخذ عنه الواحدي. ذكر ذلك الذهبي (¬3). 19 - أبو عثمان سعيد بن العباس بن محمد بن علي القرشي الهروي، الإِمام المسند العدل، كان من سروات الرجال بهراة (¬4)، وتخرج به أئمة، ت 433 هـ (¬5). 20 - إبراهيم من محمد أبو إسحاق الإسفراييني، أحد أئمة الشافعية، يمانع حد الاجتهاد؛ لتبحره في العلوم، واستجماعه شروط الإمامة في العلوم، عقد له مجلس الإملاء بعد أبي طاهر الزيادي سنة 410 هـ، وحضر دروسه الحفاظ والمشايخ وأهل العلم، وأملى سنين، ت 418 (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المنتخب من السياق" ل 38 ب، و"تتمة يتيمة الدهر" 5/ 316، و"الأنساب" 8/ 247، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 40. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114أ. (¬3) انظر: "المشتبه" 1/ 186. (¬4) هراه: مدينة عظيمة من أمهات مدن خُراسان، وكان فيها بساتين كثيرة ومياه غزيرة وخيرات، وكانت مليئة بالعلماء وأهل الفضل. انظر: "معجم البلدان" 5/ 396. (¬5) انظر: "الأنساب" 4/ 470، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 552، "شذرات الذهب" 3/ 250، وقد أخذ عنه الواحدي في تفسير الآية (3) من سورة النساء. (¬6) انظر: "المنتخب من السياق" 120 - 121، "طبقات الشافعية" لابن الصلاح =

وقد تتلمذ عليه الواحدي وقال في "الوسيط" (¬1): حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني إملاء في مسجد عقيل سنة سبع عشرة وأربعمائة. 21 - أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحارث التميمي أبو بكر الأصبهاني النيسابوري، إمام ثقة مقرئ نحوي محدث زاهد ت 430 هـ، وله 81 سنة (¬2) أخذ عنه الواحدي (¬3). 22 - عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي، أبو منصور البغدادي، من كبار أئمة الشافعية، عظيم القدر، متقن في علوم كثيرة، درَّس في سبعة عشر نوعاً من العلوم، ورد نيسابور مع أبيه، وأنفق أمواله على طلبه العلم حتى افتقر، من تصانيفه المشهورة: "الفرق بين الفرق" ت 429 هـ (¬4). 23 - المفضل بن إسماعيل بن شيخ الإِسلام أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني، عالم جرجان ومفتيها، كان مضرب المثل في الذكاء؛ فقد حفظ القرآن وجملة من الفقه وهو ابن سبع سنين، ثم رحل به أبوه فأكثر من سماع ¬

_ = 1/ 312، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي 2/ 169، "طبقات الشافعية" 4/ 256، "سير أعلام النبلاء" 17/ 353. (¬1) "الوسيط" 2/ 223 تحقيق: عادل عبد الموجود وزملائه. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ص 89، "إنباه الرواة" 1/ 165، و"اللباب" 1/ 330، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 538، و"شذرات الذهب" 3/ 245. (¬3) روى عن الواحدي في "البسيط"، "الوسيط" 1/ 70، 386، 410، 443، "أسباب النزول" ص 7، 24، 27، 45. (¬4) انظر: "طبقات الفقهاء الشافعية" لابن كثير 1/ 397، "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 5/ 136، والأسنوي 1/ 96.

تلاميذه

الحفاظ ت 431 هـ (¬1). وقد رحل إليه الواحدي، وسمع منه في بلده كما قال في "الوسيط": حدثنا الشيخ أبو معمر اليفضل بن إسماعيل إملاء بجرجان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (¬2). وقال في "أسباب النزول": حدثنا أبو معمر بن إسماعيل إملاء بجرجان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (¬3). هؤلاء أبرز شيوخ الواحدي الذين ذُكر أنه أخذ عنهم، أو ورد ذكرهم في المصادر التي ترجمت له، ولو أردنا تتبع أسماء الشيوخ الذين أخذ الرواية عنهم في كتبه، كـ"أسباب النزول" أو"الوسيط" لطال الأمر ومل الناظر، كما قال ذلك الواحدي (¬4). تلاميذه: إن هذا العلم ميراث النبوة، يأخذه كل جيل عمن سبقه ويسلمه لمن بعده، والواحدي أحد العلماء المشاهير جلس إلى كبار الشيوخ وأخذ عنهم حتى صار إماما، وقعد للإفادة والتدريس، فقصده الطلاب، وصار له تلامذة كثيرون. قال في "معجم الأدباء" ناقلا عن "السياق": " .. وقعد للإفادة والتدريس سنين وتخرج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرؤوا عليه، وبلغوا ¬

_ (¬1) انظر: "العبر" 2/ 266، "سير أعلام النبلاء" 17/ 518، "طبقات السبكي" 5/ 331. (¬2) "الوسيط" 1/ 290. (¬3) "أسباب النزول" ص 454، "الوسيط" 1/ 279، 2/ 51. (¬4) انظر مقدمة "البسيط" للمؤلف.

محل الإفادة .. " (¬1). وقال القفطي: " .. وسار الناس إلى علمه واستفادوا من فوائده .. " (¬2). وقال الذهبي: "تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه .. " (¬3) ولقد مدحه الباخرزي (¬4) قائلاً: يشتغل بما يَعْنيه، وإن كان استهدافه للمختلفة إليه يُعنّيه. وهذا يدل على عناية الواحدي بقاصديه، والناهلين من علمه، تعليمًا وتربية وإفادة وتخرجًا (¬5). وأذكر بعض تلاميذه الذين ورد ذكرهم في ترجمة الواحدي أو ذُكر في تراجمهم أنهم أخذوا عنه منهم: 1 - عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخُواري (¬6)، أبو محمد، كان إماماً مفتياً متواضعاً، سمع جماعة منهم أبو بكر البيهقي وغيره، توفي سنة ثلاث أو أربع وثلاثين وخمسمائة (¬7)، وذكر أخذه عن الواحدي السمعاني ¬

_ (¬1) "معجم الأدباء" 12/ 259، وانظر "روضات الجنات" 5/ 244 (¬2) "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬3) "سير أعلام النبلاء" 18/ 341. (¬4) علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي أبو الحسن: أديب من الشعراء الكتاب من أهل باخرز من نواحي نيسابور، وتعلم بها وبنيسابور وقام برحلة واسعة في بلاد فارس والعراق اشتهر بكتابه "دمية القصر" وعصره أهل العصر، مات مقتول سنة 467 هـ ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 360، "شذرات الذهب" 3/ 327. (¬5) انظر: "دمية القصر" 2/ 1017. (¬6) "الخواري" بضم الخاء المنقوطة والراء بعد الواو والألف. هذه النسبة إلى خوار الري، وقرية ببيهق، والمذكور من الأخيرة. انظر: "الأنساب" 5/ 215. (¬7) انظر: "المنتخب من السياق" ل 108 أ، و"الأنساب" 5/ 215، و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 343.

في "الأنساب" (¬1)، والسبكي (¬2)، والسيوطي (¬3)، والداودي (¬4). وقال الذهبي: إنه أكبر تلاميذه (¬5). 2 - أبو نصر محمد بن عبد الله الأَرْغياني (¬6) الرَّاوَنِيرِيِ (¬7) الفقيه الشافعي، مفتي نيسابور، تفقه على أبي المعالي الجويني، وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة (¬8)، وقد ورد أخذه عن الواحدي عند السمعاني في "الأنساب" وابن خلكان والسبكي (¬9). 3 - أبو العباس عمر بن عبد الله الأَرْغياَني الراونيري، أخو أبي نصر السابق وكان أكبر منه بعشر سنين ونيف، كان شيخاً صالحًا سمع من جماعة منهم الواحدي وهو من رواة "أسباب النزول" للواحدي، قا ل السمعاني: سمعت منه "أسباب النزول"، توفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائة (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" 5/ 215. (¬2) انظر: "طبقات الشافعية" 3/ 290، 4/ 243. (¬3) انظر: "طبقات المفسرين" ص 67. (¬4) انظر: "طبقات المفسرين" 1/ 394 (¬5) "سير أعلام النبلاء" 18/ 340. (¬6) الأرغياني: بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها، نسبة إلى "أرغيان" ناحية من نواحي نيسابور بها عدة قرى. انظر: "الأنساب" 1/ 167. (¬7) "الراونيري" بفتح الراء والنون المكسورة بعد الألف والواو، والياء المنقوطة من تحتها، وفي آخرها الراء الأخرى، نسبة إلى إحدى قرى "أرغيان" الأنساب 6/ 52. (¬8) انظر: "الأنساب" 6/ 52، و"وفيات الأعيان" 4/ 221، و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 70. (¬9) انظر المراجع السابقة. (¬10) انظر: "الأنساب" 6/ 53، و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 287، ومقدمة "أسباب النزول"، إعداد السيد أحمد صقر ص 34.

4 - أبو بكر يحيى بن عبد الرحيم بن محمد المقرئ المقبري اللبيكي من أهل نيسابور (438 - 522 هـ)، سمع من أبي حفص بن مسرور والصابوني، والبيهقي وغيرهم، قال السمعاني: "وسمعت منه حضورا سنة تسع وخمسمائة وأجاز لي جميع مسموعاته ومن جملتها التفاسير الثلاثة عن الإِمام علي بن أحمد الواحدي "الوسيط بين المقبوض والبسيط"، و"الوجيز" و"تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -"، قال: بروايتي عنه" (¬1). 5 - أحمد بن محمد بن أحمد الميداني (¬2) النيسابوري، أديب فاضل، عالم باللغة والأمثال، صنف كتاب "مجمع الأمثال" وغيره، وتوفي سنة ثماني عشرة وخمسمائة بنيسابور، تخصص بصحبة أبي الحسن الواحدي وقرأ عليه (¬3). 6 - أبو الحسن علي بن سهل بن العباس المفسر النيسابوري، نشأ في طلب العلم، سمع من أبي عثمان الصابوني، وأبي القاسم القشيري، وتوفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة (¬4). قال في "المنتخب": من تلامذة الواحدي (¬5). وقال في "روضات الجنات" في ترجمة الواحدي: "ومن جملة أهل ¬

_ (¬1) "التحبير في المعجم الكبير" للسمعاني 2/ 377. (¬2) سمي الميداني لأنه سكن بأعلى ميدان زياد بن عبد الرحمن بنيسابور. انظر: "الأنساب" 12/ 520. (¬3) انظر: "إنباه الرواة" 1/ 156، و"معجم الأدباء" 5/ 45، و"وفيات الأعيان" 1/ 148. (¬4) انظر: "المنتخب من السياق" ل116 أ، و"طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 299. (¬5) "المنتخب" ل 116 أ.

نيسابور سمي هذا الرجل وتلميذه الفاضل أبو الحسن علي بن سهل بن العباس المفسر النيسابوري" (¬1). 7 - يوسف بن علي بن جبارة الهذلي، أبو القاسم، الإِمام المقرئ من وجوه القراء، وصفه عبد الغافر بقوله: الضرير، قال ابن الجزري يحتمل أنه عمي في آخر عمره. كثير الرحلة في طلب القراءات، قال: "وجملة من لقيت في هذا العلم ثلاثمائة وخمسة وستون شيخاً من آخر المغرب إلى باب "فرغانة" يميناً وشمالاً وجبلاً وبحراً ولو علمت أحداً تقدم علي في هذه الطبقة في جميع بلاد الإِسلام لقصدته .. ". ألف كتاب "الكامل" وذكر فيه شيوخه، مات سنة خمس وستين وأربعمائة، عدَّ ابن الجزري جميع شيوخه وذكر منهم الواحدي (¬2). 8 - محمد بن الفضل بن أحمد الفُراوي، أبو العباس الصاعدي، أحد العلماء الكبار، اجتمع فيه علو الإسناد، وموفور العلم وحسن الخلق، وقد وصفه الذهبي بقوله: الشيخ الإِمام، الفقيه المفتي، مسند خراسان، فقيه الحرم (¬3). وهو معدود في تلاميذ الواحدي وممن روى كتابه "الوجيز" (¬4). ¬

_ (¬1) "روضات الجنات" 5/ 245. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ل 144ب، و"غاية النهاية" 1/ 523، 2/ 397 - 401. (¬3) انظر: "سير أعلام النبلاء" 19/ 615، "تبيين كذب المفتري" ص 324، "العبر" 2/ 438، "طبقات السبكي" 6/ 166. (¬4) انظر: "الوجيز" 1/ 20، 85.

9 - عبد الكريم بن علي بن أحمد بن محمد الخشنامي (¬1)، أبو نصر الأديب، إمام سليم الجانب من المختلفة إلى الإِمام الواحدي كتب تصانيفه وقرأ عليه، ت 492 هـ (¬2). 10 - الحسين بن محمد بن محمود بن سورة أبو سعيد سبط شيخ الإِسلام أبي عثمان الصابوني، فاضل عالم، سمع الكثير من مشايخ عصره وسمع من الواحدي التفسير وغيره توفي كهلاً ت 506 هـ (¬3). 11 - محمد بن أحمد الماهياني أبو الفضل المروزي، إمام فاضل زاهد ورع حسن السيرة جميل الأخلاق فقيه شافعي، مبرز عارف بالمذهب رحال أدرك الأئمة الكبار وتفقه عليهم وسمع الحديث من الواحدي وغيره توفي سنة 525 هـ من نحو 90 سنة. قال السمعاني: سمع الحديث من الواحدي وسمعت منه جميع التفسير المعروف بـ"الوسيط" للواحدي (¬4). 12 - عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد الفارسي أبو الحسن، كان إماماً في الحديث والعربية، سمع من جدّه لأمه أبي القاسم القشيري، وتفقه على أبي المعالي الجويني، ورحل في طلب العلم، ثم رجع إلى نيسابور وولي الخطابة بها، وأملى في مسجد عقيل، وصنف كتباً ¬

_ (¬1) الخشنامي، بضم الخاء وسكون الشين وفتح النون نسبة إلى جده خشنام، انظر: "أنساب" 2/ 372، "اللباب" 1/ 447. (¬2) "المنتخب من السياق" ص 336. (¬3) المصدر السابق ص 204 (¬4) انظر: "الأنساب" 5/ 183، "المنتخب من السياق" ص 73، "طبقات الشافعية" لابن الصلاح/80، و"اللباب" لابن الأثير 3/ 157، "طبقات الشافعية" للأسنوي 2/ 424.

عدة، منها: "المفهم بشرح غريب صحيح مسلم"، و"السياق لتاريخ نيسابور" و"مجمع الغرائب في غريب الحديث". ت (529) بنيسابور، وكانت ولادته سنه 451 هـ في شهر ربيع الآخر (¬1). قال في "السياق": قد أجازني بجميع مسموعاته ومصنفاته (¬2). 13 - أبو إسماعيل بن أبي صالح، المؤذن الشافعي، كان إماماً في الأصول والفقه، وهو ممن تتلمذ على يد الإِمام الواحدي، ت 532 (¬3). 14 - إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروروذي، قرأ الوسيط على الإِمام الواحدي، ولد في ذي القعدة سنة 453، وكان أحد الأئمة المسلمين، ومن كبار العلماء، قتل في فتنة خوارزم شاه سنة 533 هـ (¬4). 15 - أحمد بن طاهر بن سعيد الميهيي (¬5) الخراساني الصوفي، شيخ صالح، رحل كثيراً في طلب العلم، ت 549 هـ. قال الذهبي: له إجازة من المفسر أبي الحسن الواحدي روى بها تفاسير (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تذكرة الحفاظ" 4/ 1275، و"وفيات الأعيان" 3/ 225، "التحبير في معجم الكبير" 1/ 507، "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 313. (¬2) "المنتخب من السياق" ص 387. (¬3) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" 7/ 44، "العبر" 2/ 441، "تذكرة الحفاظ" للذهبي 4/ 1277. (¬4) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 199، "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" تحقيق صفوان داودي 1/ 20. (¬5) نسبة إلى قرية ميهنة وهي من قرى خابران، بين أبيورد وسرخس. انظر: "معجم البلدان" 5/ 247. (¬6) انظر: "سير أعلام النبلاء" 20/ 196، 197.

المطلب السابع مؤلفاته

المطلب السابع مؤلفاته: الناظر في حياة أبي الحسن الواحدي يجد أنه قد انقطع للعلم منذ نشأته، وقد هيأ الله له أسباب التحصيل، فأدرك حظّاً وافراً من العلم، واتجهت أنظار الطالبين إليه، وكثر المستفيدون حوله، القابسون من نور علمه، ولذا كان لزاماً أن تلبى حاجة الناس بتصنيف المصنفات والتي يقرؤها الطلاب على شيخهم، ومن ثم ينقلونها إلى طلابهم وبلادهم، ليعم النفع، وليبقى العلم قد اجتمعت له أسباب الدوام من التلقي والتدوين، والسماع والكتاب. وقد ألّف الإِمام أبو الحسن كتباً، طار صيتها، واشتهر ذكرها، وتداولها الناس، وتلقاها أهل العلم بالقبول والاستحسان. قال ابن خلكان (¬1): ورزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها، وذكرها المدرسون في دروسهم (¬2). وقد قال تلميذه عبد الغافر: أحسن كل الإحسان في البحث والتنقير (¬3). ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي، أبو العباس، المؤرخ الأديب صاحب أشهر كتاب في التراجم وهو "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، ولد في إربل سنة 608، تولى القضاء بمصر ثم بالشام، وولي التدريس في دمشق، توفي سنة 681. ينظر: "مقدمة وفيات الأعيان"، و"النجوم الزاهرة" 7/ 353. (¬2) "وفيات الأعيان" 3/ 303. (¬3) نشله عن عبد الغافر ياقوت في "معجم الأدباء" 12/ 259.

القسم الأول: ما يقطع بنسبته إليه.

وقال الفيروزابادي (¬1): ومصنفاته كثيرة مشهورة. وبما أن الواحدي برع في علمي التفسير واللغة فإن غالب تصانيفه تحوم حول هذين العلمين. وفيما يلي ثبت بأسماء مؤلفاته المنسوبة إليه مع بيان المطبوع منها والمخطوط وقد قسمتها إلى قسمين: القسم الأول: ما يقطع بنسبته إليه. القسم الثاني: ما لا يقطع بنسبته إليه، وإليك البيان. القسم الأول: المؤلفات التي يقطع بنسبتها للواحدي. أولاً: كتبه المعروفة: وهي التي وصلت إلينا منها ما طبع ومنها ما لا يزال مخطوطًا: وهي المؤلفات التي ذكرها الواحدي في كتبه، أو ذكرها العلماء الأثبات سواء في تراجمهم له، أو كتبهم نقلاً عنها. 1 - " البسيط": وهو أكبر كتبه في التفسير ويعدّ مع كتابيه الآخرين "الوسيط" و"الوجيز" -وكلها في التفسير- أشهر كتبه، بل أصبحت علماً عليه، ¬

_ (¬1) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم، أبو طاهر، مجد الدين، الشيرازي الفيروزابادي، من أئمة اللغة والأدب، ولد سنة 729، رحل في طلب العلم حتى استقر به المقام في زبيد وتولى قضاءها، وأكرمه ملكها الأشرف، ومن أشهر كتبه: "القاموس المحيط"، وله "بصائر ذوي التمييز"، وغيرها. توفي سنة 817 ينظر: "البدر الطالع" 2/ 280، و"الضوء اللامع" 10/ 79.

2 - "الوسيط"

فيقال: الواحدي صاحب "البسيط" و"والوسيط" و"الوجيز" في، التفسير، ولا يترجم له أحد إلا ويذكر كتبه الثلاثة فذكرها القفطي (¬1)، وياقوت (¬2)، وابن خلكان (¬3) وقال: منها أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة، ومثله قال الذهبي (¬4)، وذكرها ابن كثير (¬5) والسبكي (¬6) وغيرهم (¬7). و"البسيط" أول هذه الكتب وأكبرها، بل هو أصلها كما سيأتي، قال عنه القفطي: "وصنف التفسير الكبير وسماه "البسيط" وأكثر فيه من الإعراب والشواهد واللغة، ومن رآه علم مقدار ما عنده من علم العربية .. " (¬8). وذكر ابن قاضي شهبة (¬9) وابن العماد (¬10): أنه يقع في ستة عشر مجلدًا. 2 - " الوسيط": وهو في التفسير، والكتاب يعتبر وسطًا بين "البسيط" و"الوجيز" ولهذا قال في مقدمته: " ... وقديماً كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط ينحط عن درجة "البسيط" الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة ¬

_ (¬1) انظر: "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬2) انظر: "معجم الأدباء" 12/ 159. (¬3) انظر: "وفيات الأعيان" 3/ 303. (¬4) انظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 340. (¬5) انظر: "البداية والنهاية" 12/ 114 (¬6) انظر: "طبقات الشافعية" 3/ 290. (¬7) كابن الأثير في "الكامل" 8/ 123، والأسنوي في "طبقات الشافعية" 2/ 539، وابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" 1/ 257، وابن العماد في "الشذرات" 3/ 330، وطاش كبرى زاده في "مفتاح السعادة" 2/ 66. (¬8) "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬9) انظر: "طبقات الشافعية" 1/ 257. (¬10) انظر: "شذرات الذهب" 3/ 330.

"الوجيز" الذي اقتصر فيه على الإقلال" (¬1). قال القفطي: "وهو مختار من "البسيط" -أيضًا- غاية في بابه" (¬2)، والحقيقة أن ما في الكتاب من مسائل لغوية ونحوية وتفسيرية مختصر من "البسيط" ويزيد عن "البسيط" في الإكثار من الرواية، وسيأتي مزيد من الإيضاح عن الفرق بين الكتابين عند الحديث عن "البسيط". ويظهر أن هذا الكتاب نال الشهرة أكثر من "البسيط" ولهذا كثرت مخطوطاته (¬3)، وطبع الجزء الأول من الكتاب ويشمل من أول القرآن إلى نهاية سورة "البقرة" بتحقيق: "محمد حسن أبو العزم الزفيتي"، طبعته "لجنة إحياء التراث" التابعة لوزارة الأوقاف المصرية، كما قام قسم القرآن بتحقيقه في رسائل علمية، وتم إنجاز أغلبه، نأمل أن تتبنى الجامعة طباعة هذا الجهد العلمي حتى يخرج متكاملاً. 3 - "الوجيز"، وهذا الكتاب كاسمه وجيز في التفسير. قال القفطي: "وهو عجيب" (¬4). وقال الواحدي في مقدمته: "فإني كنت قد ابتدأت بإبداع كتاب في التفسير لم أسبق إلى مثله وطال علي الأمر في ذلك لشرائط تقلدتها ¬

_ (¬1) مقدمة "الوسيط" 1/ 6 تحقيق محمد حسن أبو العزم الزفيتي. (¬2) "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬3) ذكر الزفيتي أنه اعتمد على ثلاث نسخ في تحقيق الكتاب: نسخة دار الكتب المصرية (887 تفسير)، ونسخة أخرى بدار الكتب المصرية رقم (271)، ونسخة ثالثة بمعهد المخطوطات في القاهرة رقم (292 تفسير) مصور عن أحمد الثالث بإستانبول. (¬4) "إنباه الرواة" 2/ 223.

3 - "تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -"

ومواجب لحق النصيحة لكتاب الله تحملتها، ثم استعجلني قبل إتمامه والتفصي عما لزمني من عهدة إحكامه نفر متقاصرو الرغبات منخفضو الدرجات، أولو البضائع المزجاة إلى إيجاز كتاب في التفسير يقرب على من يتناوله ويسهل على من يتأمله من أوجز ما عمل في بابه وأعظم عائدة على متحفظيه .. " (¬1)، وقد وفي بذلك فخرج الكتاب موجزًا، وقد طبع في مصر سنة 1305 هـ على هامش تفسير "مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد" للشيخ محمد نووي الجاوي، ويقع الكتاب في جزأين ولو طبع مستقلاً لم يتجاور أربعمائة صفحة تقريبًا، والكتاب بحاجة إلى طباعة محققة خصوصاً مع كثرة مخطوطاته، وقد اعتمده السيوطي (¬2) في تكملته للتفسير المشهور بـ"تفسير الجلالين" (¬3)، وقد طبع أكثر من مرة. 3 - " تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -": ذكره ياقوت (¬4)، والذهبي (¬5) ¬

_ (¬1) "مقدمة الوجيز" 1/ 2 "على هامش تفسير مراح لبيد". (¬2) هو الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال السيوطي أبو بكر، صاحب التصانيف المشهورة، ولد عام 849 وتوفي عام 911: ينظر "حسن المحاضرة" 1/ 335. (¬3) ينظر "بغية الوعاة" 1/ 401، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 101. (¬4) سبقت ترجمته ص 29. (¬5) هو شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، أبو عبد الله، المؤرخ، المحدث، الناقد، ولد في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ، وكان من أسرة تركمانية الأصل، سمع من علماء دمشق وحلب ونابلس، ومكة، توفي بدمشق ليلة الاثنين ثالث من ذي القعدة سنة 748 هـ، ودفن بمقبرة الباب الصغير. من أشهر مصنفاته -رحمه الله-: "تاريخ الإِسلام الكبير"، و"سير أعلام النبلاء"، =

والسبكي (¬1) والداودي (¬2) والسمعاني (¬3)، وذكره ابن القاضي شهبة (¬4)، وابن العماد (¬5)، بعنوان: ¬

_ = "طبقات الحفاظ"، "ميزان الاعتدال" وغيرها من مصنفاته رحمه الله تعالى. ينظر ترجمته في "طبقات الشافعية" للأسنوي 1/ 98، "طبقات الشافعية" للسبكي 5/ 216 - 226. (¬1) هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، أبو نصر، القاضي المؤرخ الفقيه الشافعي، ولد بالقاهرة سنة 727، وانتقل إلى الشام وتولى قضاءها، ثم عزل، وجرت عليه محن لم تجر على قاض مثله. من كتبه: "طبقات الشافعية الكبرى"، و"ومعيد النعم ومبيد النقم"، و"جمع الجوامع". توفي بالطاعون سنة 771. ينظر: "الدرر الكامنة" 2/ 425 و"مقدمة طبقات الشافعية". (¬2) هو محمد بن علي بن أحمد، شمس الدين الداودي المالكي، محدث مصري، من تلاميذ السيوطي. من كتبه: "طبقات المفسرين" و"ذيل طبقات الشافعية" للسبكي و"ترجمة الحافظ السيوطي"، توفي سنة 945. ينظر: "شذرات الذهب" 8/ 264، و"الأعلام" 6/ 291. (¬3) هو عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبو سعد، مؤرخ رحالة، ولد بمرو سنة 506، رحل في طلب العلم، من كتبه: "الأنساب"، و"أدب الإملاء الاستملاء" توفي بمرو سنة 562. ينظر: "طبقات الشافعية" 4/ 259 و"وفيات الأعيان" 1/ 301. (¬4) هو أحمد بن محمد بن عمر بن محمد، تقي ابن قاضي شهبة الدمشقي، أبو بكر، عالماً بالفرائض، جلس للتدريس بالجامع الأموي مدة، وكان كريم النفس كثير "الإحسان" ولد في رجب سنة 737هـ وتوفي سنة 790هـ ومن مؤلفاته: "الفرائض" وغيرها من المؤلفات. ينظر: "شذرات الذهب" 6/ 312، 313. (¬5) هو عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد، العكري الدمشقي، أبو الفلاح، فقيه، أديب، أخباري، حنبلي المذهب، ولد في الصالحية بدمشق في =

4 - "أسباب النزول"

تفسير أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 4 - " أسباب النزول": وهو من أشهر ما صنف في هذا الفن (¬2) ومن أول الكتب التي وردت إلينا شيه. وفيه يذكر سبب النزول من حديث أو أثر مسنداً، وقد يذكره بدون سند. ولتوسعه وشهرته بني عليه الحافظ ابن حجر (¬3) كتابه المشهور في أسباب النزول المسمى: "العجاب في بيان الأسباب" واختصره أبو إسحاق الجعبري (¬4) (ت ¬

_ = 8 رجب (1032 هـ)، وأقام في القاهرة مدة طويلة، وتوفي بمكة في 16 من ذي القعدة (1089هـ) من تصانيفه رحمه الله:- "شذرات الذهب"، و"بغية أولي النهى في شرح المنتهى" وغيرها من تصانيفه رحمه الله. ينظر ترجمته: "معجم المؤلفين" 2/ 67. (¬1) ينظر: "معجم الأدباء" 12/ 259، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 341، و"طبقات الشافعية" 5/ 241، و"طبقات المفسرين" للداوودي 1/ 395، و"التحبير في المعجم الكبير" 2/ 377. وذكره ابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" 1/ 278، باسم تفسير أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتبعه ابن العماد في "شذرات الذهب" 3/ 330، ورجح ذلك جودة المهدي في كتابه الواحدي ومنهجه في التفسير ص 96، بحجة أنه لم يرد في ثبت تفاسير الواحدي هذا الاسم، ولم تنوه به التراجم في سياق إنتاجه التفسيري. وهذا غير صحيح كما تبيّن عند مراجعة المصادر التي ترجمته. (¬2) انظر: "البرهان" 1/ 22، و"الإتقان" 1/ 38، و"كشف الظنون" 1/ 76. (¬3) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين، ابن حجر، من أئمة الحديث والفقه والرجال والتاريخ، وإذا أطلق الحافظ لم يرد به غيره، ولد بالقاهرة سنة 773، رحل في طلب العلم، وتولى القضاء في مصر مرات، وكتبه كثيرة اشتهرت في حياته، منها "فتح الباري" وهو أجلها و"تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" وغيرها. توفي سنة 852. ينظر: "الضوء اللامع" 2/ 36، و"البدر الطالع" 1/ 87. (¬4) هو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري، أبو إسحاق، عالم بالقراءات، =

4 - "قتلى القرآن"

732هـ) فحذف أسانيده، وقد طبع الكتاب طبعات كثيرة (¬1). 5 - " قتلى القرآن": ذكره الحافظ ابن رجب (¬2) في لطائف المعارف ناقلاً عنه (¬3). 6 - " فضائل القرآن": ذكره حاجي خليفة (¬4) عند ذكره للمصنفات في علم فضائل القرآن ¬

_ = من فقهاء الشافعية، ولد بقلعة جعبر على نهر الفرات سنة 640، وتلقى العلم ببغداد، واستقر بالخليل إلى أن مات، من كتبه: شرح الشاطبية "كنز المعاني شرح حرز الأماني". توفي سنة 732. ينظر: "الدرر الكامنة" 1/ 50، و"غاية النهاية" 1/ 21. (¬1) طبع كتاب "أسباب النزول" عدة طبعات أولها سنة 1316 هـ بالقاهرة، على هامشه "الناسخ والمنسوخ" لأبي القاسم بن هبة الله بن سلامة. ثم أعيد طبعه سنة 1379 هـ في مطبعة الحلبي، ثم طبع سنة 1395 هـ في بيروت دار الكتب العلمية، ثم طبع بتحقيق "السيد أحمد صقر" سنة 1389 هـ صدر عن دار الجديد، ثم خرجت طبعة أخرى بتحقيق السيد أحمد صقر عن دار القبلة سنة 1404هـ، وطبعة بتحقيق عصام الحميدان من إصدار دار الإصلاح. (¬2) عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي أبو الفرج زين الدين، محدث فقيه إمام، ولد ببغداد ونشأ وتوفي في دمشق، من كتبه: "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، و"جامع العلوم والحكم"، توفي سنة 795. ينظر: "شذرات الذهب" 6/ 339، و"الدرر الكامنة" 2/ 321. (¬3) "لطائف المعارف" ص 358، وذكر باسم (مقاتل القرآن) في مقدمة "أسباب النزول" للسيد أحمد صقر ص 21 وفي كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص 94. (¬4) هو مصطفى بن عبد الله كاتب حلبي، المعروف بالحاج خليفة: مؤرخ بحاثة، تركي الأصل مستعرب، ولد سنة 1017 في القسطنطينية، تولى أعمالاً كتابية في الجيش العثماني، انقطع للتدريس آخر عمره من كتبه: "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" وهو أفضل ما كتب في فنه توفي سنة 1067 ينظر: مقدمة كشف الظنون و"الإعلام" 7/ 236.

6 - "مسند التفسير"

قائلاً: ولأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة 468 مختصر فيه، أخذ شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي (¬1) أربعين حديثا منه (¬2). 7 - " مسند التفسير": أشار إليه الواحدي في "الوسيط" حيث قال: وحديث انشقاق القمر رواه جماعة من الصحابة ... روينا عن جميعهم ذلك في مسند التفسير (¬3)، وقال في مقدمة "الوسيط" أيضاً: وقد سبق لي قبل هذا الكتاب -بتوفيق الله وحسن تيسيره- مجموعات ثلاث في هذا العلم: معاني التفسير، ومسند التفسير، ومختصر التفسير (¬4). وعلى صراحة هاتين الإحالتين من الواحدي لم يشر أحد ممن ترجم له إلى هذا الكتاب ضمن ثبت كتبه، ويحتمل أن يكون المقصود به كتاب تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - المتقدم ذكره. 8 - " نفي التحريف عن القرآن الشريف": ذكره أكثر من ترجم له (¬5). ¬

_ (¬1) هو شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن علي بن خمارويه بن طولون الدمشقي الحنفي، مؤرخ عالم بالتراجم والفقه ولد سنة 880، له مشاركة في فنون متعددة وكتبه كثيرة منها: "ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر" و"الغرف العلية في تراجم متأخري الحنفية". توفي سنة 953. ينظر "الكواكب السائرة" 2/ 52، و"شذرات الذهب" 8/ 298. (¬2) "كشف الظنون" 2/ 1277، ولعله الموجود في مكتبة كوبرلي بتركيا مجموعة ر قم (1631) باسم فضائل السور، ينظر: فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلي 2/ 395. (¬3) "الوسيط" 4/ 207. (¬4) "الوسيط" 1/ 55. (¬5) ينظر: "معجم الأدباء" 12/ 259، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 341، و"طبقات =

8 - "شرح ديوان المتنبي"

9 - " شرح ديوان المتنبي" (¬1): ذكره أكثر من ترجم له، قد أثنى عليه العلماء قال فيه ابن خلكان: "وليس في شروحه مع كثرتها مثله" (¬2) وقال القفطي: وهو غاية في بابه (¬3)، وقال حاجي خليفة بعد أن ذكر أربعين شرحًا لديوان المتنبي: فأجلها نفعاً وأكثرها فائدة: شرح الإِمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي (¬4). والكتاب مطبوع متداول (¬5). 10 - " الإغراب في الإعراب": ذكره بهذا الاسم أكثر من ترجم له (¬6)، بينما سماه السبكي: الإعراب في علم الإعراب (¬7)، وسماه السيوطي: الإغراب في علم ¬

_ = الشافعية" 5/ 241، و"الفلاكة والمفلوكون" للدلجي ص 153، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 278، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص 79 وغيرهم. (¬1) هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب المتنبي الشاعر الحكيم، علم في باب الشعر والأدب، ولد بالكوفة سنة 303 ونشأ بالشام، تنقل في البادية يطلب العربية وقال الشعر صبياً، ثم تنبأ فتبعه خلق فسجن فتاب، أشهر أعماله: "ديوانه"، قتل سنة 354 وقد كُتب في سيرته كتب كثيرة. ينظر: "معاهد التنصيص" 1/ 27 و"وفيات الأعيان" 1/ 36. (¬2) "وفيات الأعيان" 3/ 303. (¬3) "إنباه الرواة" 2/ 232. (¬4) "كشف الظنون" 1/ 809. (¬5) طبع عام 1271 في الهند طبعة حجرية ثم طبع بعناية فريدرخ ديتريصي في برلين عام 1276 ثم صورته دار المثنى ببغداد. ينظر: "معجم المطبوعات" 2/ 1616. (¬6) ينظر: "معجم الأدباء" 12/ 259، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 341 و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 278 و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 395 و"شذرات الذهب" 3/ 303. (¬7) "طبقات الشافعية" 5/ 241.

10 - "التحبير في شرح أسماء الله تعالى الحسنى"

الإعراب (¬1)، وسماه في موطن آخر: الإعراب عن الإعراب (¬2). 11 - " التحبير في شرح أسماء الله تعالى الحسنى": ذكره أكثر من ترجم له (¬3) مع اختلافات يسيرة في الاسم (¬4). 12 - " الدعوات": ذكره أكثر من ترجم له (¬5). 13 - " المغازي": ذكره أكثر من ترجم له (¬6). القسم الثاني: المؤلفات التي لا يقطع بنسبتها للواحدي ثمة مؤلفات لا يقطع بنسبتها للواحدي: إما لأنها وردت على طرة بعض المخطوطات، أو في فهارس خزائن الكتب، لكن لم يذكرها أحد ممن ترجموا للواحدي ضمن ثبت كتبه، ¬

_ (¬1) "بغية الوعاة" 2/ 145. (¬2) "طبقات المفسرين" ص 79. (¬3) "وفيات الأعيان" 3/ 303، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي 31/ 259، و"طبقات الشافعية" 5/ 241، و"البداية والنهاية" 12/ 241، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص 79، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 278. (¬4) بعضهم قال: "التجيز في شرح الأسماء الحسنى" وبعضهم قال: "التحبير في الأسماء الحسنى"، وبعضهم سماه: "شرح الأسماء الحسنى"، وأما ابن قاضي شهبة فقال: "التنجيز بدلاً من التحبير" وهو تصحيف. (¬5) ينظر: "معجم الأدباء" 12/ 259، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 341 و"طبقات الشافعية" 5/ 241، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 278 و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 395 و"شذرات الذهب" 3/ 303. (¬6) ينظر: المراجع السابقة. وسماه السمعاني في "الأنساب" 3/ 479 "طراز المغازي".

1 و 2 - "معاني التفسير"، و"مختصر التفسير"

فضلاً عن الواحدي نفسه، إذ لا يعرف عنه أنه نسبها إلا نفسه، أو عدها ضمن كتبه. وإما لتوهم أن تكون له، وليست كذلك، وإما أن يذكر واحد من كتبه باسم مغاير للمشهور فيظن أنهما كتابان، والحقيقة أنهما اسمان لكتاب واحد. وهذا بيان لجميع ذلك. 1 و 2 - "معاني التفسير"، و"مختصر التفسير": ذكر الواحدي في مقدمة تفسيره الوسيط هذين الاسمين، ووقع الخلاف بين الباحثين هل مراده بهما كتابان آخران غير البسيط والوجيز، أو أنهما اسمان لذينك الكتابين على عادة بعض المؤلفين في تعديد أسماء الكتاب الواحد، ولإيضاح الأمر أسوق عبارته في مقدمة الوسيط، حيث يقول: "وقد سبق لي قبل هذا الكتاب -بتوفيق الله وحسن تيسيره- مجموعات ثلاث في هذا العلم: "فمعاني التفسير" و"مسند التفسير" و"مختصر التفسير"، وقديماً كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط، ينحط عن درجة البسيط، الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة الوجيز الذي اقتصر فيه على الإقلال" (¬1) فأخذ بعض الباحثين من هذا النص الصريح أن هذين اسمان لكتابين غير البسيط والوجيز، وعدهما ضمن كتبه (¬2)، والظاهر - أنهما اسمان للكتابين نفسيهما ويدل لذلك: أ- أنهما لو كانا كتابين مستقلين لقال: وقد سبق لي مجموعات خمس، خاصة وأنه صرح في آخر كلامه الآنف الذكر باسم: البسيط والوجيز. ¬

_ (¬1) "الوسيط" 1/ 50. (¬2) ذكر ذلك د/جودة المهدي في كتابه الواحدي ومنهجه في التفسير ص 92.

3 - "الحاوي لجميع المعاني"

ب- جاء في نهاية الجزء الثالث من النسخة الأزهرية ما نصه: آخر الجزء الثالث من كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط للإمام أبي الحسن علي الواحدي -رحمه الله- ومثله جاء في نهاية الجزء الثاني من نسخة جستربتي. ج- لم يذكرهما أحد ممن ترجم للواحدي على أنهما كتابان مستقلان، غير ذينك الكتابين. 3 - " الحاوي لجميع المعاني": ورد هذا الكتاب منسوباً إلى الواحدي في فهارس بعض خزائن الكتب (¬1) بيد أن حاجي خليفة بين أن هذا الاسم يراد به كتبه الثلاثة في التفسير، فقال: تفسير الواحدي ثلاثة: البسيط والوسيط والوجيز، وتسمى هذه الثلاثة: الحاوي لجميع المعاني (¬2). وقال أيضاً: الحاوي لجميع المعاني، وهو اسم البسيط والوسيط والوجيز للواحدي (¬3). وما ذكره حاجي أظهر؛ لأنه لو كان كتاباً مستقلاً لذكره المترجمون للواحدي، خصوصاً وأنه كتاب كبير يصعب تجاهله ونسيانه، لكن الجزم بذلك يتوقف على الاطلاع على تلك النسخ في خزائن الكتب، ودراستها، والتحقق منها. 4 - " جامع البيان في تفسير القرآن": ¬

_ (¬1) كالمكتبة الآصفية بحيدر اباد بالهند برقم (124) ومكتبة أصفهان العامة بإيران برقم (2693) وخزانة قاسم الرجب ببغداد برقم (340) وعنوانها الحاوي في تفسير القرآن، والخزانه الحسينية بالقصر الملكي بالرباط، برقم (5551). ينظر: "الفهرس الشامل للتراث العربي الإِسلامي" 1/ 113، 114. (¬2) "كشف الظنون" 1/ 629. (¬3) "كشف الظنون" 1/ 629.

5 و 6 - "رسالة في البسملة"، و"حاشية على شرح البسملة"

ورد هذا الكتاب منسوباً للواحدي في إحدى خزائن الكتب (¬1)، ولم يذكره أحد ممن ترجموا للواحدي. 5 و 6 - "رسالة في البسملة"، و"حاشية على شرح البسملة": ورد هذان العنوانان في فهرس المكتبة الخالدية بالقدس (¬2)، ولم يذكرهما أحد ممن ترجم للواحدي. 7 - " رسالة في شرف علم التفسير": ذكرها الدكتور جودة المهدي (¬3)، وأشار إلى وجودها مخطوطة في دار الكتب المصرية (¬4) ولم يذكرها أحد ممن ترجم للواحدي. 8 - " شرح معلقة النابغة الذبياني" (¬5)، أو"شرح قصيدة النابغة": ورد في فهارس بعض خزائن الكتب (¬6)، ولم يذكره أحد ممن ترجموا للواحدي. ¬

_ (¬1) وهي مكتبة مراد ملا الوطنية تحت رقم (191). ينظر: "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي" 1/ 131. (¬2) برقم (48) و (49)، ينظر: الفهرس الشامل 1/ 114. (¬3) الواحدي ومنهجه في التفسير ص 95. (¬4) برقم 220 مجاميع. (¬5) هو: الذبياني أبو أمامة زياد بن معاوية بن ضباب، من الطبقة الأولى، من فحول شعراء الجاهلية، كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ ويفاضل بينهم. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 56، و"جمهرة أشعار العرب" 1/ 303 (¬6) منه نسخة في مكتبة الأكاديمية العلمية بجامعة ليدن بهولندا برقم (106/ 2)، ونسخة أخرى في مكتبة حسين علي محفوظ بالكاظمية، ونسخة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد برقم (1894/ 2) ونسخة في مكتبة جامعة الملك سعود ضمن مجموع (214 - 223) برقم (838/ 2) ينظر: تاريخ التراث العربي (مج 2، جـ2/ 9) ومجلة المخطوطات 6/ 47 و"مخطوطات الأدب في المتحف العراقي" ص 386.

9 - "الوسيط في الأمثال"

9 - " الوسيط في الأمثال": حققه الدكتور عفيف محمد عبد الرحمن (¬1)، ونسبه إلى الواحدي معتمداً على نسخة وحيدة، وجدها في الخزانة العامة في الرباط بالمغرب (¬2)، وقد بذل المحقق جهدًا في إثبات نسبة الكتاب إلى الواحدي، واستدل على ذلك بورود أسماء من كتبه في ثنايا الكتاب ثم ذكرها (¬3)، ولا يعرف منها شيء تصح نسبته إليه، والذي يظهر أن الكتاب لا تصح نسبته إلى الواحدي، لعدم وجود دليل صحيح صريح، يدل على صحة نسبة الكتاب إليه، ولا ذكر أحد ممن ترجموا له هذا الاسم في ثبت كتبه، ولا أحال هو عليه في ثنايا مؤلفاته، ولم يجد المحقق إلا نسخة واحدة اعتمد عليها. ويزاد على ذلك أنه في الكتاب استشهد ببيت للأخطل (¬4) ثم قال: "هكذا رواه الشيخ أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي (¬5)، وقرأت ديوانه على الفصيحي (¬6) في سنة إحدى وتسعين ... " والفصيحي هذا توفي سنة 510 أو ¬

_ (¬1) نشرته مؤسسة دار الكتب الثقافية بالكويت 1395هـ (¬2) برقم (102ت) كتبت في القرن السادس الهجري. (¬3) منها: "البسيط في الأمثال"، و"الوجيز في الأمثال"، و"المترجم المنيح في شرح الكتاب الفصيح"، و"نزهة الأنفس" وغيرها. (¬4) هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبي النصراني، أحد شعراء زمانه، كان معاصراً لجرير والفرزدق، مهاجياً لهما، مدح خلفاء بني أمية فأكثر. قيل: إنه توفي سنة 90 هـ ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 298 و"سير أعلام النبلاء" 4/ 589. (¬5) هو أبو زكريا، يحيى بن علي بن محمد الشيباني، المعروف بالخطيب التبريزي، أحد أئمة اللغة والنحو والأدب، توفي عام 502 هـ. ينظر: "معجم الأدباء" 20/ 25 و"سير أعلام النبلاء" 19/ 269. (¬6) هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الفصيحي لقب بذلك لكثرة دراسته كتاب الفصيح لثعلب، درس في النظامية ببغداد، وكان يظهر التشيع فعزل عن التدريس. =

10 - "الناسخ والمنسوخ"

(516)، وكانت القراءة سنة (491)، والواحدي توفي سنة (468) بلا خلاف فكيف يكون هذا؟ 10 - " الناسخ والمنسوخ": نسبه إليه محقق الوجيز (¬1)، وذكر أن الزركشي نقل منه في كتاب البرهان (¬2)، والحقيقة أن النقل كان عن الواحدي من تفسيره البسيط، عند قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] ولا تشير عبارة الزركشي إلى كتاب بهذا الاسم، ولم ينسبه إليه أحد ممن ترجم له. 11 - " بانت سعاد": ذكره: الدكتور عفيف محمد عبد الرحمن في مقدمته على الوسيط في الأمثال، وقال: منها نسخة في جستربتي كتب في القرن التاسع الهجري (¬3)، ولم يذكر مترجمو الواحدي شيئاً عنه، ولم أجده في فهرس الكتب المختارة من جستربتي المترجم. 12 - " منظومة في الوعظ": ورد هذا الكتاب منسوباً للواحدي في إحدى خزائن الكتب (¬4)، ولم يذكره له من ترجموه. ¬

_ = ينظر: "معجم الأدباء" 15/ 66 و"إنباه الرواة" 2/ 306. (¬1) "مقدمة الوجيز" لصفوان داودي 1/ 36. (¬2) "البرهان" 2/ 41 ونص كلامه: "وقسمه -أي النسخ- الواحدي أيضاً إلى نسخ ما ليس بثابت التلاوة كعشر رضعات، قال نسخ ما هو ثابت .... ". (¬3) "الوسيط في الأمثال"، مقدمة المحقق ص 14. (¬4) ضمن مخطوطات جامعة الملك سعود برقم (2429/ 6/م)

13 - "إيضاح الناسخ والمنسوخ في القرآن". 14 - "البيان لأسباب نزول القرآن". 15 - "البسيط في الأمثال". 16 - "الوجيز في الأمثال". 17 - "المترجم المنيح في شرح كتاب الفصيح". 18 - "نزهة الأنفس"، أو"زينة الأنفس". 19 - "الحاوي في شرح المقصورة الدريدية". هذا الكتب السبعة عدها الدكتور عفيف محمد عبد الرحمن في تحقيقه الوسيط في الأمثال - من كتب الواحدي، واستدل بورودها في ثنايا الوسيط على صحة نسبة الوسيط إلى الواحدي، وقال: "إنها حقًّا له" (¬1). ولكن الصحيح أن شيئاً منها لا تثبت نسبته إلى الواحدي، ولا ذكره آحد ممن ترجموا له، فكيف تكون ثابتة له حقًّا. وبما أن الوسيط على الصحيح لا يثبت، ولم يقم دليل على نسبته للواحدي، فما استنبط منه من كتب، وما أحال إليه كاتب الوسيط من مؤلفاته ليست من مصنفات الواحدي. ¬

_ (¬1) مقدمة "الوسيط في الأمثال" ص 20 وينظر: ص 240 أيضاً.

المطلب الثامن: مكانته

المطلب الثامن: مكانته الواحدي كغيره من العلماء المشهورين، الذين لهم مصنفات، ولهما آراء وأقوال اجتهدوا فيها، أصابوا في بعضها وجانبهم الصواب في البعض الآخر. وهذه طبيعة الإنسان فهو عرضة للخطأ، والكمال لله وحده، لذا فإن المكانة التي وصل إليها المؤلف في العلم والأدب تتجلى من خلال الأمور الآتية: 1 - كثرة شيوخه الذين أخذ عنهم العلم، وتلقى منهم الحكمة والأدب، وطول باعهم، وعلو إسنادهم، وشهرتهم، وتلقي الأمة لهم بالقبول، وقد تقدم ذكر طرف منهم. 2 - كثرة تلاميذه والآخذين عنه، وما ذاك إلا لما كان عليه أبو الحسن الواحدي من علو الكتب في العلم، وتقدم المنزلة، وتنوع المعارف، وقد سبق التعريف ببعضهم. 3 - كتبه التي تشهد له بالتمكن والبسطة في العلم، وسعة المعرفة، حيث تداولها العلماء، وسارت بين الناس مسير الشمس، وشرَّقت بها الركبان وغرَّبت، وتنافس الطلاب على نسخها واقتنائها. 4 - ثناء أهل العلم المعاصرين واللاحقين، وتتابعهم على تزكيته ومدحه، والإشادة بجهوده، والتعريف بفضله وبيان تميزه، حتى قال فيه أحد معاصريه: قد جمع العالم في واحد ... عالمنا المعروف بالواحدي (¬1) ¬

_ (¬1) نقل ذلك الحسن بن المظفر النيسابوري المتوفى سنة 442 هـ، -وهو معاصر للواحدي- كما في "معجم الأدباء" لياقوت الحموي 11/ 260.

المطلب التاسع

المطلب التاسع أقوال العلماء فيه، وما كتبه العلماء عن الواحدي ثناءً أو نقداً له، والصواب من ذلك. ولقد تناول العلماء الواحدي بالمدح والثناء لما له من المكانة العلمية ولما تركه من أثر لمن بعده، من مصنفات قيمة، ولم يسلم الواحدي من بعض الأخطاء التي تناولها العلماء من بعده بالبيان والنقد. وأذكر بعضا من أقوال العلماء في الجانبين: أما في جانب المدح والثناء عليه فقد أثنى عليه أكثر الذين ترجموا له بعبارات تدل على إمامته، وعلى مقدار ما وصل إليه من مكانة علمية عالية. 1 - قال عبد الغافر صاحب السياق وهو من أقدم من كتب عن الواحدي: "الإِمام المصنف المفسر النحوي، أستاذ عصره وواحد دهره وكان حقيقاً بكل احترام وإعظام" (¬1). 2 - أما الذهبي إمام علماء التاريخ والرجال والتراجم والسير فقد مدحه بقوله: الإِمام، العلامة الأستاذ، إمام علماء التأويل، المفسر أحد من برع في العلم، وأنه كان رأساً في العربية واللغات، طويل الباع في علم اللغة، وأنه واحد عصره في التفسير. وقال عنه -أيضًا -: "تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه .. " (¬2). ¬

_ (¬1) "المنتخب من السياق" (387)، "معجم الأدباء" 12/ 258 - 260. (¬2) ينظر: "سير أعلام النبلاء" 18/ 339 - 341، و"تاريخ الإِسلام" 31/ 258 - 259، و"العبر" 2/ 324.

3 - وأثنى عليه ابن الأثير بأنه: إمام مفسر مشهور (¬1). 4 - وقال فيه الباخرزي صاحبه: مشتغل بما يعنيه، وإن كان استهدافه للمختلفة إليه يُعَنِّيه، وقد خبط ما عند أئمة الأدب من أصول كلام العرب خبْطَ عصا الراعي فروع الغَرَب، وألقَى الدلاء في بحارهم حتى نزفها، ومد البنان إلى ثمارهم إلا أن قطفها، وله في علم القرآن، وشرح غوامض الأشعار تصنيفات، بيديه لأَعِنَّتِها تصريفات (¬2). 5 - ومدحه كل من: الوزير القفطي وابن خلكان والسبكي والإسنوي (¬3) وابن الجزري (¬4) بأنه واحد عصره في التفسير، بعد أن وصفوه بأنه الإِمام العلامة الكبير البارع في العلم، المصنف المفسر النحوي اللغوي، الأصولى الفقيه، صاحب الإسناد العالي، الشاعر، لذا تجد هذه العبارات تتردد في كتب الذين ترجموا له (¬5). ¬

_ (¬1) "الكامل" 8/ 123، و"اللباب" 3/ 163. (¬2) "دمية القصر" 2/ 1017. (¬3) عبد الرحيم بن الحسين بن علي جمال الدين، الإسنوي، إمام مبرز في الفقه والأصول والعربية، انتهت إليه رياسة الشافعية بمصر، من مؤلفاته: "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول"، و"نهاية السول في شرح منهاج الوصول". توفي سنة 772. ينظر: "الدرر الكامنة" 2/ 463 و"البدر الطالع" 1/ 352. (¬4) هو أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري إمام القراء في عصره، ولد بدمشق سنة 751 ثم اشتغل بجمع القراءات وإقرائها ودرس وأفتى وتولى القضاء ومن كتبه النشر في القراءات العشر، وغاية النهاية، وغيرها توفي سنة 833. ينظر: "مقدمة النشر"، و"الضوء اللامع" 9/ 255 طبعة دار مكتبة الحياة. (¬5) ينظر: "إنباه الرواة" 2/ 223، و"وفيات الأعيان" 3/ 303 و"طبقات الشافعية" 5/ 240 و"طبقات الشافعية" للإسنوي 2/ 539، و"غاية النهاية" 1/ 523.

المآخذ عليه

المآخذ عليه: تلك هي عبارات الأئمة في الثناء على الإِمام الواحدي لكن الكمال في البشر عزيز، ومن ذا الذي ترضى سجاياه ... كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وقد قيل: من ذا الذي ماساء قط ... ومن له الحسنى فقط ومن هنا فإن الواحدي لم يسلم من انتقاداتٍ وجهت إليه من بعض العلماء في ثلاث قضايا، إليك خلاصتها: الأول: عدم السلامة من البدع، ذكرها شيخ الإِسلام ابن تيمية. الثانية: ضعف البضاعة في علم الحديث، ذكرها ابن الجوزي وشيخ الإِسلام ابن تيمية والكتاني (¬1)، وأشار إليها ابن الصلاح (¬2). الثالثة: غمز الأئمة المتقدمين، ذكرها تلميذه عبد الغافر الفارسي، وأبو سعد السمعاني (¬3). وسيتبين بعد البحث والمناقشة صحة النقد في الأوليين دون الثالثة: ¬

_ (¬1) أحمد بن جعفر بن إدريس أبو العباس الكتاني، من علماء القرويين، ولد بفاس سنة 1293، كان واسع المعرفة بالحديث له 70 كتاباً ورسالة، توفي بفاس سنة 1340. ينظر: "الأعلام" للزركلي 1/ 108. (¬2) عثمان بن عبد الرحمن صلاح الدين بن عثمان بن موسى الشهرزوري الكردي، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح حدث فقيه شافعي ولد سنة 577 ومن كتبه: معرفة أنواع علم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، ولاه الملك الأشرف التدريس بدار الحديث في دمشق وتوفي فيها سنة 643. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 312 و"طبقات الشافعية" 5/ 137. (¬3) سبقت ترجمته ص 81.

القضية الأولى: عدم السلامة من البدع، والبعد عن اتباع منهج السلف في الاعتقاد.

وإليك البيان. القضية الأولى: عدم السلامة من البدع، والبعد عن اتباع منهج السلف في الاعتقاد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطبَ ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف" (¬1). وفي موضع آخر قال: وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدًا لغيره (¬2). وقال في منهاج السنة النبوية: والبغوي (¬3) اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي والواحدي، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه، والواحدي أعلم بالعربية من هذا وهذا، والبغوي أتبع للسنة منهما (¬4). والناظر في كتب الواحدي يجد أنه على مذهب الأشاعرة في الاعتقاد وقد تقدم بيان ذلك وتفصيله في مبحث عقيدته. القضية الثانية: ضعف البضاعة في علم الحديث معرفة الحديث وسماعه وروايته شيء، والدراية به وتمييز صحيحه من ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" 13/ 354. (¬2) "مجموع الفتاوى" 13/ 386. (¬3) هو الحسين بن مسعود بن محمَّد الفراء أو ابن الفراء، أبو محمَّد، ويلقب بمحيي السنة، البغوي، فقيه شافعي محدث مفسر، نسبته إلا بغا من قرى خراسان، من كتبه: تفسيره "معالم التنزيل" و"شرح السنة"، و"مصباح السنة"، توفي سنة 510 وقيل 516. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 145، ومقدمة تفسيره. (¬4) "منهاج السنة" 7/ 312.

سقيمه شيء آخر، وقد كان أبو الحسن الواحدي راويًا كثير السماع، من أصحاب الأسانيد العالية (¬1)، بيد أنه كان ضعيف العناية في علم الحديث، ينقل الضعيف والموضوع منها في كتبه دون بيان أو تنبيه؛ ولذا قال ابن الجوزي: وقد فرَّق هذا الحديث -يعني الحديث الموضوع في فضائل سور القرآن سورة سورة- أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره فذكر عند كل سورة ما يخصها، وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك، ولا أعجب منهما، لأنهما ليسا من أهل الحديث (¬2). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهؤلاء -يعني الثعلبي والواحدي وأمثالهما- من عادتهم يروون ما رواه غيرهم، وكثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف؟، ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر، لأن وظيفتهم النقل لما نقل، أو حكاية أقوال الناس، وإن كان كثير من هذا وهذا باطلاً، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها، ولكن لا يطردون هذا ولا يلتزمونه (¬3). ويقول الكتاني: ولم يكن له -أي الواحدي- ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما -وخصوصًا الثعلبي- أحاديث موضوعة وقصص باطلة (¬4). وعندما ناقش كثير من العلماء بطلان حديث فضائل القرآن سورةً ¬

_ (¬1) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 387 و"النجوم الزاهرة" 5/ 104، و"إشارة التعيين" ص 209. (¬2) "الموضوعات" 1/ 239. (¬3) "منهاج السنة" 7/ 177. (¬4) "الرسالة المستطرفة" ص 59.

القضية الثالثة: غمزه الأئمة المتقدمين

سورةً أشاروا إلى من رووه في كتبهم من المفسرين، وبينوا خطأهم في ذكره وعدم بيان أمره (¬1)، قال ابن الصلاح: "ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم" (¬2). القضية الثالثة: غمزه الأئمة المتقدمين ليس في كتب الواحدي التي بين أيدينا، ولا في كلامه ما يدل على اتصافه بهذه التهمة، كما أني لم أر من أهل العلم من انتقد الواحدي بذلك عدا اثنين: أولهما: تلميذه عبد الغافر الفارسي. والثاني: أبو سعد السمعاني فيما نقله عنه الذهبي. أما الأول فأبهم ولم يبين حيث قال: " .... وكان حقيقًا بكل احترام وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرائه على الأئمة المتقدمين، وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بما فيهم، عفا الله عنا وعنه" (¬3). وأما الثاني: ففي كلامه ما يدل عل نوع الغمز والمعني به، حيث نقل عنه الذهبي أنه قال: وكان -أي الواحدي- حقيقًا بكل احترام وإعظام، لكن كان فيه بسط اللسان في الأئمة المتقدمين، حتى سمعت أبا بكر أحمد بن محمد بن بشار بنيسابور مذاكرة يقول: "كان علي بن أحمد الواحدي يقول: صنف أبو عبد الرحمن السلمي (¬4) كتاب "حقائق التفسير" ¬

_ (¬1) ينظر: "مجموع الفتاوى" 13/ 354 و"منهاج السنة النبوية" 7/ 12، 311، 434، و"تدريب الراوي" للسيوطي 1/ 289. (¬2) "مقدمة علوم الحديث " لابن الصلاح ص 48. (¬3) نقله عنه ياقوت في "معجم الأدباء" 12/ 260. (¬4) هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي، شيخ الصوفية في زمنه،=

ولو قال: إن ذلك تفسير للقرآن لكفر به" (¬1). قال الذهبي بعد هذا: صدق والله (¬2). وقال في موضع آخر: الواحدي معذور مأجور (¬3). إن هذه التهمة الموجهة لأبي الحسن الواحدي إن كانت بسبب كلمته تلك فما أصاب من أتهمه، ولقد عاد نقده عليه، وحارت التهمة إليه، فهذا الذهبي يعد تلك الكلمة منقبة للواحدي فيقول: "وقد قال الواحدي كلمة تدل على حسن نقيته". وذلك أن جماعة من الأئمة انتقدوا أبا عبد الرحمن السلمي في كتابه هذا، وبينوا غلطه فيما فعل، وحذروا من كتابه ومنهجه. فهذا ابن الجوزي يقول: وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم -أي الصوفية- الذي أكثره هذيان لا يحل نحو مجلدين سماها: حقائق التفسير .. ، ثم ذكر ابن الجوزي أمثلة مما جاء في الكتاب منها: " .. قالوا: إنما سميت فاتحة الكتاب لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا، فإن تأدبت بذلك وإلا حُرمت لطائف ما بعد ... "، "وقال في قوله: {وَإِن يَأتُوكُم أُسَرَى} [البقرة: 85]. "قال أبو عثمان: غرقى في الذنوب، ¬

_ = له تصانيف كثيرة بلغت المائة أو أكثر، كتب الحديث بنيسابور وغيرها من البلاد، وهو حافظ زاهد لكن ليس بعمدة في الرواية، توفي سنة 412، ينظر: "المنتخب من السياق" ص 19 و"لسان الميزان" 5/ 140. (¬1) "تاريخ الإسلام" 31/ 260. وينظر "سير أعلام النبلاء" 18/ 342، و"طبقات الشافعية" 5/ 241. (¬2) "تاريخ الإسلام" 31/ 260. (¬3) "سير أعلام النبلاء" 18/ 342.

وقال الواسطي: غرقى في رؤية أفعالهم، وقال الجنيد: أسارى في أسباب الدنيا تغدوهم إلى قطع العلائق .. ". {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]: "النفس .. ". "وقال في قوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 42]: قال الحسين: لا مكر أبين من مكر الحق بعباده حيث أوهمهم أن لهم سبيلا إليه بحال .... "، قال ابن الجوزي: "ومن تأمل معنا هذا علم أنه كفر محض، لأنه يشير إلى أنه كالهزء واللعب، ولكن الحسين هذا هو الحلاج وهذا يليق بذاك ... "، ثم قال - بعد أن ذكر مثالا آخر: "وجميع الكتاب من هذا الجنس ولقد هممت أن أثبت منه هاهنا كثيرا فرأيت أن الزمان يضيع في كتابه شيء بين الكفر والخطأ والهذيان .. " (¬1). هذا كلام ابن الجوزي عن "حقائق التفسير" فماذا قال غيره، قال ابن تيمية في "منهاج السنة": "وكذلك جعفر الصادق قد كُذِب عليه من الأكاذيب ما لا يعلمه إلا الله ... وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية، كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "حقائق التفسير" فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده، وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئًا من هذه الأقوال والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز" (¬2). وتكلم عنه كذلك في الفتاوى حين سئل عن كلام الواحدي في "حقائق التفسير" فأجاب بالتفصيل والشرح، وتكلم عن كتاب السلمي بنحو ¬

_ (¬1) "تلبيس إبليس" 1/ 403 وما بعدها. (¬2) "منهاح السنة النحوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" 4/ 146.

ما ذكر في "منهاج السنة" تركت نقله خشية الإطالة (¬1). وقال الذهبي في ذلك: "ألف حقائق التفسير فأتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنية نسأل الله العافية" (¬2). وقال: "وفي "حقائق تفسيره" أشياء لا تسوغ أصلا، عدها بعض الأئمة من زندقة الباطنية، وعدها بعضهم عرفانا وحقيقة، نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى .. " (¬3)، وقال: "وحقائقه قرمطة وما أظنه يتعمد الكذب، بلى يروي عن محمد بن عبد الله الرازي الصوفي أباطيل وعن غيره .. " (¬4). بل نجد السبكي -وهو ممن نافح عن السلمي وحاول أن يدفع أقوال الذهبي (¬5) - يقول: وكتاب "حقائق التفسير" المشار إليه قد كثر الكلام فيه من قبل أنه أقتصر فيه على ذكر تأويلات ومحال للصوفية ينبو عنها ظاهر اللفظ" (¬6). وبعد: فماذا سيقول الواحدي غير هذا في مثل هذا الكلام، وقد وافقه في ذلك أئمة وأعلام، ولقد أصاب الذهبي فإنه لما ذكر كلام الواحدي في السلمي قال: "فهو معذور" (¬7)، وقال في موضع آخر: "قلت: الواحدي معذور مأجور .. " (¬8)، ويتضح بهذا أن المقولة على الواحدي: أن فيه بسط اللسان في الأئمة لا تقوم لها حجة ولا مستند. ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" 13/ 231، 240، 242. (¬2) "تذكرة الحفاظ" للذهبي 3/ 1046. (¬3) "سير أعلام النبلاء" 17/ 252. (¬4) "سير أعلام النبلاء" 17/ 255. (¬5) انظر كلامه في "طبقات الشافعية" 3/ 62. (¬6) "طبقات الشافعية" 3/ 62. (¬7) "سير أعلام النبلاء" 18/ 341. (¬8) "سير أعلام النبلاء" 18/ 342.

ولقد حاول مؤلف "الواحدي ومنهجه في التفسير" أن يدافع عن أبي عبد الرحمن السلمي، بل يدافع عن منهج الصوفية في التفسير، وأصدر حكمه على الواحدي بقوله: "والواحدي متجن في حكمه -أيضا- لأن أبا عبد الرحمن لم يدع أن الظاهر غير مراد. ومن ثم كان موقف الواحدي من التفسير الصوفي من المآخذ التي تؤخذ عليه ... " (¬1). أقول بل هي من المآثر التي تحتسب له، كيف وقد وافقه جهابذة من العلماء ممن يتحرون في منهجنهم مسلك السلف الصالح من هذه الأمة. وإذا تبينت حقيقة كتاب السلمي بذلك فما على الواحدي في كلامه من معتب، وكلامه فيه إنما هو بحق وعدل، وهو عين النصح لكتاب الله عز وجل، لا يسع الواحدي ولا غيره أن يكتم ما علمه من ذلك الكتاب، إبراءً للذمة ونصحًا للأمة، وقد قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]. ¬

_ (¬1) الواحدي ومنهجه في التفسير ص 400.

المبحث الثاني الأوضاع السياسية في عصر المؤلف وأثرها على الناحية العلمية

المبحث الثاني الأوضاع السياسية في عصر المؤلف وأثرها على الناحية العلمية إن للأوضاع السياسية التي تحيط بالعالم أكبر الأثر على حياته، وعلى نوع التربية التي تشكل أنماط حياته، وعلى الأفكار والعقائد السائدة في عصره، ومن ثم على حصيلته وإنتاجه العلمي، لهذا لا بد قبل دراسة منهج أي عالم من العلماء من التعرف على الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في عصره. لقد عاش المؤلف في القرن الخامس الهجري (395 هـ تقريباً - 468 هـ) ولهذه الفترة سمة خاصة في تاريخ الخلافة العباسية .. لذلك نجد كثيراً من الدارسين لها يقسمونها إلا قسمين (¬1): العصر العباسي الأول، والعصر العباسي الثاني. فإذا كانت أبرز سمات العصر العباسي الأول: القوة والاستقرار والتقدم الحضاري بشتى أنواعه كما تظهر ذلك الدراسات عنه، فما هي سمات العصر العباسي الثاني؟ لا أستطيع أن ألم بذلك في هذا المختصر، وإنما أبرز أهم السمات وخصوصا ما يمس البيئة القريبة من المؤلف. إن السمة الرئيسية للعصر العباسي الثاني هي: ضعف الدولة العباسية وتفككها الذي ترتب عليه تفرق وحدة الأمة، وقد أدرك المؤلف ثلاثة من خلفاء بنى العباس وهم: 1 - القادر بالله: أبو العباس، أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدي بالله ¬

_ (¬1) كما فعل الدكتور حسن إبراهيم حسن في "تاريخ الإسلام السياسي" الجزء الثاني والثالث.

العباسي (¬1) وكانت ولايته من عام 381 إلى عام 422 وقد أدرك المؤلف من خلافته قرابة الثلاثين عاماً. 2 - القائم بأمر الله: عبد الله بن الخليفة القادر بالله (¬2) وكانت ولايته من وفاة أبيه 422 إلى سنة 467. وقد أدرك المؤلف من خلافته قرابة الأربعين عاماً. 3 - المقتدي بأمر الله: أبو القاسم عبد الله بن محمد، حفيد القائم بأمر الله (¬3)، وكانت ولايته من عام 467 إلى عام 487 ولم يدرك المؤلف من خلافته إلا عاماً واحداً. وفي عصر هؤلاء ضعف أمر الخليفة، ولم يكن له إلا ذكر اسمه في الخطبة، ونقش اسمه على السكة، وإنما الدولة وتصريف الأمور بيد الدويلات الحاكمة المستحوذة التي تملك القوة والنفوذ، وكانت تلك أهم سمات ذلك العصر، فالتفرق سائد، والتناحر قائم (¬4). ¬

_ (¬1) ولد رحمه الله سنة 336، كان ديناً عالماً وقوراً، يحب الخير وأهله، ويأمر به، ويبغض الشر وأهله، وكان حسن الاعتقاد، وصنف كتاباً فيه، وكان من أحسن الخلفاء سيرة، وأطولهم مدة في الخلافة توفي سنة 422. ينظر: "تاريخ بغداد" 4/ 37 و"المنتظم" 7/ 160 و"الكامل" 7/ 354 و"سير أعلام النبلاء" 15/ 127. (¬2) ولد -رحمه الله- سنة 391، وكان ديناً ورعاً متصدقاً، له يد في الكتابة والأدب، وفيه عدل وسماحة، وإحسان إلى الناس، وهو من خير بني العباس ديناً واعتقاداً ودولة. توفي سنة 467. ينظر: "تاريخ بغداد" 9/ 399، و"المنتظم" 8/ 295 و"الكامل" 8/ 120، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 138. (¬3) ولد -رحمه الله- سنة 448، وتولى الخلافة بعهد من جده، وكان حسن السيرة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، أمر بنفي الخواطىء والمغنيات من بغداد، وكان فيه ديانة وقوة وعلو همة، وهو من نجباء بني العباس. توفي سنة 487. ينظر: "المنتظم" 8/ 291، و"الكامل" 8/ 170، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 318. (¬4) تعدّ هذِه الفترة جزءاً من العصر العباسي الثاني، والذي يمتد من عام 247 إلى =

أهم مظاهر هذا العصر

أهم مظاهر هذا العصر أولاً: تعدد الخلافة: لقد ظلت عاصمة الدولة في القرون الثلاثة الأولى واحدة هي: المدينة أو دمشق أو بغداد، وهي المركز الذي تصدر منه التوجيهات والأوامر ولا يستطيع أحد من الولاة مخالفتها، ولا شك أن هذا مصدر قوة الأمة إذ إن قوتها في وحدتها، لكن في هذِه الفترة اختلفت الأمور عما سبقها فأصبح هناك عدد من الخلفاء، فبالإضافة للخليفة العباسي في بغداد وجد خليفة في الأندلس حيث تلقب عبد الرحمن الناصر الأموي (300 - 350 هـ) بأمير المؤمنين (¬1) لما رأى ضعف الخليفة العباسي في بغداد. ¬

_ = سقوط الدولة 656. ومن أهم ما يميز هذِه المرحلة: 1 - ضعف الخلفاء، وسيطرة العسكريين على مركز الخلافة. 2 - نشوء دويلات كثيرة، نتيجة بروز قادة استقلوا عن مناطقهم، واعترف بهم الخليفة. 3 - ظهور نتائج الحضارة الإسلامية السابقة لهذا العصر، على شكل علوم وعمران ورفاهية وترف. 4 - قيام حركات ادعاء النسب الهاشمي والحركات الباطنية. 5 - الغزو الصليبي لبلاد المسلمين. 6 - الغزو المغولي، والقضاء على الخلافة العباسية عام 656. ينظر: "الدولة العباسية" لمحمود شاكر 7/ 42 وما بعدها (¬1) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، أبو المطرف الأموي المرواني وُلد سنة سبع وسبعين ومائتين، قتل أبوه وهو ابن عشرين يومًا، وولي الخلافة بعد جده بحضرة جماعة من أعمامه فلم يعترض عليه معترض واستمر له الأمر وقام ببناء مدينة الزهراء في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وافتتح سبعين حصنًا ثم توفي سنة خمسين وثلاثمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 8/ 365 (62)، "البداية والنهاية" 11/ 238.

ثانيا: ظهور دول إقليمية

وكَذلك لقب عبيد الله المهدي الفاطمي بأمير المؤمنين (296 - 322 هـ) وكانت دولة الفاطميين في مصر والمغرب (¬1). ثانياً: ظهور دول إقليمية: على الرغم من أن الخليفة العباسي في بغداد كانت رقعة خلافته أوسع الرقع، إلا أنه ليس له من الخلافة إلا الاسم، وإنما تدار أمور الدولة بيد أمراء إقليميين، وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الأمراء إلى إنشاء دولة داخل الخلافة وإخضاع الخليفة العباسي لنفوذهم (¬2) كما فعل البويهيون والسلاجقة، وهذِه لمحة موجزة عن ثلاث من تلك الدول؛ لأنها من أكبر الدول الإقليمية التي ظهرت في هذه المرحله من العهد العباسي؛ ولقربها من بيئة المؤلف التي نتحدث عنها: 1 - البويهيون (¬3): وهم من الروافض الغالين، وقد اختلف في أصلهم ونسبهم كما ذكر ¬

_ (¬1) انظر: "البداية والنهاية" 11/ 179، و"تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن ابراهيم حسن 3/ 161. (¬2) انظر: "البداية والنهاية" 11/ 212، و"تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم حسن 3/ 28، و"التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي" للدكتور عبد المجيد أبو الفتوح ص 18، 19. (¬3) تنسب هذِه الدولة إلى أبناء بويه بن فناخسرو الديلمي الثلاثة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسن أحمد، وقد التحق هؤلاء الإخوة في جيش الديلم، وترقَّوا حتى أصبحوا من قواد الجيش، وعظم شأنهم، حتى تملكوا بلاد فارس وهمدان والري وأصبهان وغيرها، بدأ نفوذهم عام 320، وأسسوا دولة منفصلة عن الدولة العباسية، واكتمل سلطانهم عل مساحة شاسعة من أملاك الدولة العباسية، وطلبوا من الخليفة العباسي الاعتراف بهم، فتم لهم ذلك، ثم كاتب قواد بغداد معز الدولة، وطلبوا منه =

ذلك ابن الأثير (¬1)، وابن كثير (¬2). وقد بدأ أمرهم يظهر في سنة (321 هـ) واشتهر منهم ثلاثة إخوة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن ومعز الدولة أبو الحسن أحمد أولاد أبي شجاع بن بويه، وكان بداية قيام دولتهم بدخول معز الدولة أحمد بن الحسن بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. كان البويهيون من الشيعة المتعصبة فلما دخل معز الدولة بغداد قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وعيَّن المطيع لله بدلا منه، قال ابن كثير: وضعف أمر الخلافة جداً حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير -أيضاً- إنما يكون له كاتب على إقطاعه، وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة، لأن بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد .. (¬3). ¬

_ = المسير إليهم، فدخل بغداد عام 334، وقابله الخليفة المستكفي، وخلع عليه، ولقبه، ولقب أخويه، وأصبح لبني بويه بعد ذلك مطلق التصرف في العراق. وفي عهد عضد الدولة بن ركن الدولة بلغوا أقصى درجات السلطان، وبعد وفاته دبت الحروب بين أبنائه الثلاثة، واستمرت بين أخلافهم، حتى دمرتهم جميعًا، وكانت نهايتهم على يد السلاجقة سنة 447. وبنو بويه شيعة حاقدون متعصبون، أتوا بأفعال منكرة، وطامات عجيبة. ينظر: "الكامل" لابن الأثير 6/ 230، و"العبر" 2/ 13، 46، 289، و"البداية والنهاية" 11/ 177، و"تاريخ الإسلام السياسي" 3/ 36 - 37. (¬1) "الكامل في التاريخ" 6/ 230. (¬2) "البداية والنهاية" 11/ 173، وانظر "تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم 3/ 39. (¬3) "البداية والنهاية" 11/ 212.

2 - دولة العبيديين

وبقيمت دولتهم إلى أن سقطت على أيدي السلاجقة سنة (447 هـ) وهم من أهل السنة فقضوا على دولة بني بويه (¬1) الرافضية، وخلص الله بهم الأمة من شر البويهيين. وكان للرافضة في عهدهم صولة وقوة. ذكر ابن كثير أنه في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة كتبت الروافض على أبواب المساجد لعن بعض الصحابة. قال: وبلغ ذلك معز الدولة ولم ينكره، .. قبحه الله وقبح شيعته .. (¬2). وهذا في المشرق، فأما المغرب فبرز فيه حدثان: الأول: قيام دولة العبيديين (¬3) التي ادعت الخلافة وناوأت الخلافة ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم 3/ 67، 68. (¬2) "البداية والنهاية" 11/ 240. (¬3) مؤسس الدولة عبيد الله بن محمد المهدي وإليه تنسب الدولة، وكان أبوه قد نشر الدعوة الفاطمية في بلاد اليمن ومصر والمغرب وغيرهما، وواصل الابن طريق والده، ووسع نفوذه حتى قبض عليه اليسع بن مدرار أمير سلجماسة وسجنه، ثم واصل قائده أبو عبد الله الشيعي طريقه، حتى أزال دولة الأغالبة سنة (296)، ثم سار إلى سلجماسة، فهرب حاكمها، فأطلق عبيد الله المهدي، وبايعوه، وتلقب بخليفة المسلمين، وهكذا استطاع القضاء على ملك الأغالبة، وآل رستم، والأدارسة، ودان له الشمال الإفريقي، واتخذ القيروان عاصمة ملكه، وفي سنة (358) تمكن القائد الفاطمي جوهر الصقلي من الاستيلاء على مصر سلماً، وبنى القاهرة والجامع الأزهر، ثم اتخذ المعز لدين الله الفاطمي القاهرة عاصمة لبلاده، سنة 362، وامتدت بلادهم في فترة ازدهارهم، من نهر العاصي بالشام إلى حدود مراكش، ومن السودان إلى آسيا الصغرى، وقضى عليهم صلاح الدين الأيوبي، ومات العاضد آخر حكامهم سنة 567، وقد ادعى عبيد الله المهدي أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق، والمحققون على أنه دعي، بل كان جده مجوسياً، وكان هو =

العباسية، وكادت تقضي عليها بعد أن زاحمتها في مواقع نفوذها، وانتسبت ظلماً وزوراً لآل البيت، ونسل فاطمة الزهراء، وتسمت بالدولة الفاطمية، وانبث دعاتها في أطراف البلاد، واستمالوا أمراء البلدان، حتى خطب لهم بالإضافة إلى مصر والمغرب في بلاد كثيرة، كاليمن والشام والحجاز وفي أجزاء من العراق، بل خطب لهم في دار الخلافة (بغداد)، سنة (450) عاماً كاملاً (¬1). الثاني: زوال دولة الأمويين في الأندلس عام (422) (¬2) وظهور ما ¬

_ = باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة دولة الإسلام، أعدم العلماء ليغوي الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه، فأباحوا الخمور والفروج، وأشاعوا الرفض، كما ذكر الباقلاني. وقال القاضي عياض: أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة، وقال الذهبي: كان العبيديون على ملة الإسلام شرًّا من التتر. ولم يعدَّهم السيوطي في تاريخ الخلفاء لعدم صحة إمامتهم. انظر: "سير أعلام النبلاء" 15/ 141 (65)، و"البداية والنهاية" لابن كثير 11/ 266. (¬1) وكان ذلك في فتنة البساسيري عام 450، ينظر في تفاصيل ذلك: "تاريخ بغداد" 9/ 499 و"المنتظم" 8/ 190 و"الكامل" 8/ 82 و"البداية والنهاية" 12/ 76. (¬2) هي أول دولة تنفصل عن جسم العالم الإسلامي، أسسها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، فر من العباسيين، ودخل الأندلس فلقب بالداخل، استتب له الأمر عام 138، بعد معارك حامية مع يوسف الفهري، وأرسل له أبو جعفر المنصور عدة جيوش للقضاء عليه، فلم يتمكن، ولقبه: صقر قريش إعجاباً به، ثم حاول المهدي قتاله فلم يفلح، فتركوه وشأنه، ومات سنة 172، ومن أبرز حكامها: عبد الرحمن الناصر (الثالث)، حكم من 300 - 350، وكانت له انتصارات عظيمة على ممالك النصارى، وفي عام 366 آل الأمر إلى الحاجب المنصور العامري، لضعف بني أمية، وكان قوياً، غزا خمسين مرة، ولم يهزم قط، وهابه ملوك أوروبا، ثم توفي عام 392، فتولى ابنه عبد الملك، وكان كأبيه، ثم أخوه عبد الرحمن، وكان ضعيفاً، فقتل عام 399، ثم عادت السلطة لبني أمية، =

3 - الطوائف

يسمى بـ (دول الطوائف) (¬1)، فمنهم من انحاز إلى العباسيين، ومنهم من بقي على ولاء الأمويين، مع زوال ملكهم وذهاب دولتهم. قال الذهبي (¬2): "وفي الأربع مائة وبعدها كانت الأندلس تغلي ¬

_ = وكانوا ضعفاء متناحرين، فسقطوا عام 422، وتفككت دولهم إلى إمارات الطوائف. ينظر: "في الأدب الأندلسي" لجودت الركابي ص 21 و"موجز التاريخ الإسلامي" للعسيري ص 184. (¬1) بعد ضعف الأمويين واستبداد العامريين بالسلطة، بدأ أمراء الطوائف يستقلون بالإمارات التي يحكمونها، فعُرفوا بملوك الطوائف، وانقسموا أكثر من (20 دويلة)، وقد امتلأ عهد ملوك الطوائف بالفوض والفتن، وأهم تلك الدويلات: الدولة الزيرية في (غرناطة) (403 - 483)، والدولة الحمودية في (قرطبة ومالقة) (405 - 407)، وهم شيعة، والدولة الهودية في (سرقسطة) (410 - 536)، والدولة العبادية في (إشبيلية) (414 - 484)، وهي أشهر تلك الدول وأقواها، وكانت تلك الدول متناحرة، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن استنجد بالنصارى على إخوانه، ودامت مائة سنة، وقد استطاع ملوك الأسبان أن يجمعوا كلمتهم، فأخذوا يبتلعون تلك الإمارات واحدة واحدة، حتى بلغوا أعظمها وهي إشبيلية، فطلب حاكمها المعتمد بن عباد النجدة من يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين في المغرب، الذي قدم فهزم النصارى في موقعة الزلاقة، عام 479، ووحد الأندلس تحت حكم المرابطين. ينظر: "في الأدب الأندلسي" لجودت الركابي 23 - 25 و"موجز التاريخ الإسلامي" ص 228. (¬2) هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين، ولد سنة 673 من أسرة تركمانية الأصل، وولاؤها لبني تميم، تلميذ الحافظ المزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، له مؤلفات كثيرة في الحديث والتاريخ والرجال، مثل: "تاريخ الإسلام"، و"سير أعلام النبلاء" و"تذكرة الحفاظ"، وغيرها، توفي سنة 748. ينظر: "طبقات الشافعية" 9/ 100 و"مقدمة سير أعلام النبلاء".

1 - الدولة الغزنوية

بالحروب والقتال على الملك" (¬1) وتظاهر ملوك تلك الدول بمظاهر الخلفاء، وتلقبوا بألقابهم، وفيهم قال الشاعر (¬2): مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيب معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد وكان تفرقهم وتقاتلهم وبغي بعضهم على بعض مطمعاً للنصارى المجاورين لهم، الذين رأوا الفرصة سانحة في ظل غياب الخلافة، وتفرق الدولة، خصوصاً بعد أن استعان بهم بعض أولئك الملوك على إخوانهم، فانقض النصارى على تلك الدول، وأسقطوها واحدة تلو الأخرى، وجرى للإسلام والمسلمين على أيديهم ما يجل عن الوصف، ويندى له جبين الحر. 1 - الدولة الغزنوية: كانت خراسان وبلاد ما وراء النهر تحت حكم الدولة السامانية (¬3) ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 15/ 177. (¬2) هو أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، ينظر: ديوانه ص 59، وقيل: هما لشاعر الأندلس: محمد بن عمار. ينظر: "نفح الطيب" 1/ 213. (¬3) تنسب لـ"سامان خداه" وهو فارسي، أسلم على يد أسد بن عبد الله القسري، والي خراسان في أواخر عهد الأمويين، واشتهر من السامانيين: نصر بن أحمد، الذي ولاه الخليفة المعتمد سائر بلاد ما وراء النهر، ومن ثم تأسست الدولة السامانية، ثم توفي سنة 279، خلفه أخوه إسماعيل الذي استطاع أن يضم إلى سلطانه بلاد خراسان وغيرها، وقد بقي الملك في أبناء إسماعيل، حتى زالت دولتهم سنة 389، على يد الغزنويين في خراسان، وعلى يد أيلك خان ملك الترك في بلاد ما وراء النهر. ينظر: "تاريخ بخاري" للنرشخي ص 105، و"المنتظم" 7/ 202، و"الكامل" 6/ 3 و"العبر" 2/ 173، و"تاريخ الإسلام السياسي" 3/ 71 - 82.

التي قال فيها ابن الأثير (¬1): وكانت دولتهم قد انتشرت، وطبقت كثيراً من الأرض، من حدود حلوان إلى بلاد الترك بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدول سيرة وعدلاً، وكانت نهايتها عام (389) على يد الدولة الغزنوية، التي بدأ ظهورها عام (351)، على يد (ألْبتِكِين)، أحد موالي الدولة السامانية الآنفة الذكر، حيث استولى هذا المولى على غزنة وبعض أعمالها، وأقام إمارة مستقلة عن الدولة السامانية، وقد حاربه السامانيون ليردوا ما معه إلى ملكهم، لكنه تغلب على جيشهم، بيد أنه لم يُمَكن، حيث توفي عام (352) ولم يوطد ملكه، فخلفه ابنه الذي ثار عليه أهل غزنة، فاستعان بالسامانيين الذين أمدوه بجيش تمكن به من استرداد غزنة، وحكمها باسم السامانيين، ثم لم يلبث أن توفي، فورثه أحد موالي أبيه (¬2) الى أن آل الأمر عام (366) إلى رجل يقال له: "سُبُكْتِكين" مولى تركي لـ"ألبتكين" الآنف الذكر، وكان تابعاً للسامانيين بالاسم، قال ابن الأثير: "وكان عادلاً خيراً كثير الجهاد، ذا مروءة تامة وحسن عهد (¬3). وقال الذهبي: وكان فيه عدل وشجاعة، ونبل مع عسف، وكونه كَرَّاميًا (¬4). ¬

_ (¬1) علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري أبو الحسن، عز الدين بن الأثير، المؤرخ الإمام الأريب، ولد عام (555)، من كتبه: "الكامل في التاريخ" و"أسد الغابة في معرفة الصحابة"، و"اللباب" توفي سنة (630). ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 347، و"طبقات الشافعية" 5/ 127. (¬2) ينظر: "الكامل" 7/ 5 و"تاريخ الإسلام السياسي" 3/ 85 و"تاريخ الإسلام في جنوب آسيا في العصر التركي" ص 37 - 39. (¬3) "الكامل" 7/ 188. (¬4) "سير أعلام النبلاء" 15/ 500. والكرامية: هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرَّام =

ثم جرت بين سُبكْتكين وملوك الهند حروب عظيمة، استولى على إثرها على أجزاء من بلادهم، وفرض عليهم الجزية، ولنفوذه وقوة سلطانه استعان به السامانيون عام (384) للقضاء على بعض القواد الذين ثاروا عليهم بنيسابور وغيرها، فتمكن من إعادتها إليهم، ولأجل ذلك ولَّوه خراسان، وسموه: ناصر الدولة (¬1). وفي عام (387) توفي سُبُكْتكين، وخلفه ابن ضعيف التدبير، يقال له إسماعيل، وفي عام (388) خرج عليه أخوه محمود (¬2)، وهو أكبر منه، فدار بينهما قتال، حتى آل الأمر إليه. واستقر ملك الغزنويين لـ"محمود"، الذي تمكن أيضاً من سحق جيش السامانيين، واستولى على خراسان، واستقر ملكه بها، وأزال عنها اسم السامانية، وخطب للخليفة القادر بالله، ولقبه الخليفةُ "يمين الدولة وأمين الملة"، وخلع عليه خِلَع السلطنة (¬3). ¬

_ = أصله من سجستان، جاور خمس سنين ثم ورد نيسابور، أحدث مذهباً تبعه عليه عالم لا يحصون بنيسابور وهراة ونواحيها، ومذهبه هذا مشهور في التشبيهه والتجسيم. ينظر: "الملل والنحل" 1/ 108 و"الفرق بين الفرق" ص 131. (¬1) ينظر: "تاريخ العتبي" 1/ 58 - 89، و"الكامل" 7/ 85 - 87. (¬2) هو السلطان المجاهد فاتح الهند، أبو القاسم محمود بن سبكتكين، ولد سنة 361، وتملك سنة 388، وكان ديناً كثير الغزو، وفتوحه مشهورة، وكان مائلاً إلى السنة، إلا أنه كان كراميًّا، كما كان إلباً على الرافضة والإسماعيلية والجهمية والمعتزلة والمشبهة وعامة المبتدعة، وقتل منهم جماعة، ونفى آخرين، وأمر بلعنهم على المنابر. توفي سنة 421، بعد مرض. ينظر: "المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور" ص 446، و"المنتظم" 8/ 52، و"الكامل" 7/ 246، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 483 - 495. (¬3) ينظر: "تاريخ العتبي" 1/ 317 و"الكامل" 7/ 196 و"سير أعلام النبلاء" 17/ 485.

2 - الدولة السلجوقية

وقد اتسعت الدولة الغزنوية في عهد محمود، ووفقه الله في فتح بلاد واسعة، وفرض على نفسه غزو الهند كل سنة، وأقام فيها بدلاً عن بيوت الأصنام مساجدَ الإسلام، وعن مشاهد البهتان معاهد التوحيد والإيمان (¬1). ولم يزل كذلك -رحمه الله- حتى توفي سنة (421)، وتولى بعده الملكَ ابنه محمد الذي لم يدم ملكه إلا أشهراً (¬2)، إذ قبض عليه أخوه "مسعود" (¬3)، وتمكَّن من الملك، وتابع غزوَ الهند، ودانت له ممالك كثيرة، وجرت له مع السلاجقة حروب حتى هزموه بعد اضطراب جنده، وأخذوا منه خراسان سنة (431)، فأقام بغزنة، وقتل في طريقه إلى الهند عام (432) (¬4). وقد بقيت الدولة الغزنوية فني غزنة وأعمالها والهند إلى أن زالت دولتهم عام (543) كما ذكر ابن الأثير -رحمه الله- (¬5). 2 - الدولة السلجوقية: تنسب هذه الدولة إلى سلجوق بن دقاق، أحد رؤساء الأتراك، وكان قائدا لجيش ملك الترك، فأُغري بقتل سلجوق، فلجأ مع من أطاعه إلى دار ¬

_ (¬1) ينظر: "تاريخ العتبي" 1/ 317 و"المنتظم" 8/ 53. (¬2) ينظر: "الكامل" 7/ 346. (¬3) هو السلطان الناصر لدين الله ظهير خليفة الله مسعود، كان كريماً شجاعاً، كثير البر والإحسان، وكان ملكه عظيماً فسيحاً، وعمر كثيراً من المساجد، وصنف في دولته ومناقبه: "تاريخ أبي الفضل البيهقي"، وهو مطبوع، وقد مات مقتولاً عام 432. ينظر: "الكامل" 8/ 27 و"سير أعلام النبلاء" 17/ 495 و"البداية والنهاية" (¬4) ينظر: "المنتظم" 8/ 107 و"الكامل" 8/ 26. (¬5) ينظر. "الكامل" 9/ 35 وقد قيل: إن زوالها عام (582).

الإسلام، وازداد حاله علواً، وأقام بنواحي "جَنْد"، وأدام غزو الكفار، ثم خلفه ابنه ميكائيل، الذي استشهد في بعض بلاد الكفار، وخلف ثلاثة من الولد، فأطاعهم عشائرهم، وهم الذين قامت على أيديهم الدولة (¬1)، أشهرهم: "طغرلبك محمد" (¬2)، وهو الذي هزم جيش الدولة الغزنوية سنة (431)، وسار طغرلبك إلى نيسابور فدخلها، واستولى السلاجقة حينئذٍ على بلاد خراسان، وأخذوها من الغزنويين، ثم واصلوا زحفهم حتى أستولوا على أكثر بلاد فارس، وطردوا عنها بني بويه، وعندما استنجد الخليفة القائم بأمر الله بطغرلبك -كما تقدم- سار إليه ودخل بغداد سنة (447)، وأزال دولة بني بويه، وحوى نفوذ السلاجقة بغداد والعراق أيضاً (¬3). وفي سنة (455) توفي طغرلبك، وخلفه ابن أخيه: ألب أرسلان (¬4)، ¬

_ (¬1) ينظر: "الكامل" لابن الأثير 8/ 21، و"البداية والنهاية" 12/ 48، و"تاريخ الإسلام السياسي" 4/ 1 - 2. (¬2) هو السلطان ركن الدولة أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني السلجوقي، وطغْرلْبك: اسم علم تركي مركب من: (طغرل) وهو اسم بلغة الترك لطائر معروف عندهم و (بك) معناه الأمير، أول الملوك السلجوقية، وكان كريماً محافظاً على الصلوات، وفيه عدل مشوب بقسوة توفي سنة 455. ينظر: "المنتظم" 8/ 233 و"فيات الأعيان" 5/ 63 و"سير أعلام النبلاء" 18/ 101. (¬3) ينظر: "الكامل" 8/ 21 - 26 و"البداية والنهاية" 12/ 48 و"السلوك لمعرفة دول الملوك" للمقريزي 1/ 30 - 41. (¬4) هو عضد الدولة، الملقب بسلطان العالم، أبو شجاع محمد بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق، ملك بعد عمه، كان في آخر دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد ونصر الدين، وكان كريماً رحيماً توفي مقتولاً سنة 465. ينظر: "المنتظم" 8/ 276، "الكامل" 8/ 112 و"العبر" 2/ 318.

الذي عظمت مملكته، ومكن له، واتسعت رقعة بلاده، وأكثر الغزو والحروب، حتى خافت منه الدول، ورهب جانبه الملوك (¬1)، وكان من أعظم ما حصل في عهده وقعة "ملاذكرد" عام (463)، حين سار ملك النصارى في نحو مائتي ألف مقاتل، وعدةٍ عظيمة، عازماً على أن يبيد الإسلام وأهله، فالتقاه ألب أرسلان في جيش، وهم قريب من عشرين الفاً، فصبروا، ونصر الله جنده، وأعز عباده المؤمنين، ومكنهم من رقاب النصارى، وأسر ملكهم (¬2). قال ابن الجوزي (¬3): وهذا الفتح في الإسلام كان عجباً لا نظير له، فإن القوم اجتمعوا ليزيلوا الإسلام وأهله، وكان ملك الروم قد حدثته نفسه بالمسير إلى السلطان ولو إلى الري، وأقطع البطارقة البلاد الإسلامية، وقال لمن أقطعه بغداد: لا تتعرض لذلك الشيخ الصالح فإنه صديقنا -يعني الخليفة- وكانت البطارقة تقول: لابد أن نشتوَ بالري ونصيف بالعراق، ونأخذ في عودنا بلاد الشام (¬4). وقد وفِّق بالوزير الصالح: نظام الملك أبي علي الحسن بن علي ¬

_ (¬1) ينظر: "وفيات الأعيان" 4/ 161، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 416. (¬2) ينظر: "المنتظم" 8/ 260 و"الكامل" 8/ 109 و"العبر" 2/ 313، و"البداية والنهاية" 12/ 100. (¬3) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، أبو الفرج، إمام محدث فقيه حنبلي واعظ الإسلام، مشهور بكثرة التصنيف، ولد ببغداد سنة 508، ومن تصانيفه: "زاد المسير"، و"المنتظم"، و"تلبيس إبليس"، توفي سنة 597. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 279، و"مفتاح السعادة" 1/ 207. (¬4) "المنتظم" 8/ 264.

وقفة تأمل

الطوسي (¬1) الذي وزر لألب أرسلان وابنه من بعده. وفي عام (465) قُتل ألب أرسلان، وخلفه ابنه مَلكشاه (¬2) الذي اتسع ملكه اتساعاً عظيماً، ودام ملكه عشرين عاماً، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه الروم الجزية .... وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل. وفي عام (485) مات ملكشاه، ووهن بموته أمر السلاجقة، "وانحلت الدولة، ووقع السيف" (¬3). وقفة تأمل: عند التأمل في هذه الصراعات السياسية والتقلبات الواضحة سواء على المحيط العام، أو محيط نيسابور، بشكل خاص، لا نرى أثراً واضحاً على حياة الناس الخاصة، ولذا نجد أن المؤلف عاش غالب أيام شبابه في عهد محمود الغزنوي، السلطان الذي اشتهر بعدله وفضله وقوته وحبه للعلم ¬

_ (¬1) ولد بطوس عام 408 حفظ القرآن وله إحدى عشرة سنة، واشتغل بالعلوم حتى حصل طرفاً صالحاً، وكان شافعياً أشعرياً، تنقلت به الأحوال في الكتابة والدواوين، حتى وزر لألب أرسلان، ثم لابنه 29 سنة، وكان سائساً خبيراً متديناً، عامر المجلس بالعلماء، خفف المظالم، ورفق بالرعية، وبنى كثيراً من المدارس والوقوف، وكانت تسمى المدارس النظامية، قتل سنة 485 على يد أحد الباطنية. ينظر: "المنتظم" 9/ 64 - 68 و"الكامل" 8/ 162 و"سير أعلام النبلاء" 19/ 94. (¬2) هو أبو الفتح جلال الدولة بن السلطان ألب أرسلان، كان حسن السيرة محسناً إلى الرعية، وكان يلقب بالسلطان العادل توفي سنة 485، وقيل: إنه مات مسموماً. ينظر: "المنتظم" 9/ 69 - 74 و"الكامل" 8/ 163 و"سير أعلام النبلاء" 19/ 54 و"البداية والنهاية" 12/ 142. (¬3) ينظر: "الكامل" 8/ 162.

أثر هذه السياسة على الناحية العلمية

والعلماء ومذهبه الشافعي ومعتمده الكرّامي، كما أنه أدرك في كهولته ونضجه عهد طغرلبك وألب أرسلان وابنه ملكشاه السلجوقيين، خصوصاً أنه لقي من وزيري الأخيرين: نظام الملك -والذي كان شافعي المذهب، أشعري العقيدة- وأخيه (¬1) كل إعزاز وإكرام (¬2)، ولا شك أن هذا له أثره الواضح على شخصيته المؤلف، تعلماً واستفادة وإفادة. أثر هذه السياسة على الناحية العلمية: تبين مما سبق ذكره أن العصر الذي نشأ فيه الواحدي غير مستقر من الناحية السياسية ففيه ظهر ضعف الخلافة العباسية وكان عهد قيام دول وسقوط أخرى، فهل كان لهذا الاضطراب السياسي أثر على الناحية العلمية؟ على العكس من ذلك فقد نشطت الحركة العلمية، حيث اندفعت هذه الدول في تشجيع العلم وأهله، إما بدافع المنافسة، أو بدافع حب الحاكم للعلم والعلماء كما هي حالة محمود بن سبكتكين الغزنوي (¬3)، ونظام الملك (¬4) وزير ألب أرسلان وابنه ملكشاه. كما كان لوجود الفرق ونشاطها من شيعة ومعتزلة وأشعرية وصوفية ¬

_ (¬1) هو ابو القاسم عبد الله بن علي بن إسحاق الطوسي أخو الوزير نظام الملك، سمع الحديث، وكان عفيفاً نزيهاً، كثير فعل الخير توفي سنة (499). (¬2) ينظر: "معجم الأدباء" لياقوت 12/ 260 نقلاً عن كتاب "السياق لتاريخ نيسابور" لعبد الغافر الفارسي تلميذ المؤلف. (¬3) انظر: "البداية النهاية" 12/ 30. (¬4) انظر: "البداية والنهاية" 12/ 140.

أولا: ازدهار المساجد

وغيرهم دور كبير في تنشيط الناحية العلمية. إذ ذهبت كل فرقة تكتب وتؤصل وتدافع عن مبادئها وترد على الفرق الأخرى (¬1). أولاً: ازدهار المساجد: لاشك أن المسجد هو المدرسة الأولى التي علم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وتخرج فيها الرعيل الأول، ففيه تعقد حلق العلم، ويلتقي العلماء وطلاب العلم، وإذا اعتني بالمسجد فإنه لا يخلو من مكتبة عامرة، ورباط لطلاب العلم المغتربين، وهذا ما كان موجوداً في عصر المؤلف، ففي غزنة بنى السلطان محمود بن سبكتكين جامعاً مشهوراً، وأضاف إليه مدرسة عامرة وخزانة كتب نفيسة (¬2). وفي نيسابور اشتهر مسجد عقيل (¬3)، "وكان مجمعاً لأهل العلم وفيه خزائن الكتب الموقوفة" (¬4)، وكان من أعظم منافع نيسابور وكذلك مسجد المطرز، والجامع المنيعي (¬5). واجتماع مثل هذه المراكز في بلد يضفي على الحركة العلمية قوة ونشاطاً، ويزيد من فرص الاستفادة لطالب العلم، حيث يتعدد الشيوخ والعلماء القائمون على هذه المدارس، وتتنوع الطرائق والأساليب التي تقدم للطلبة، فيكون انتفاعهم كبيراً، واستفادتهم واضحة. ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ الإسلام السياسي" 3/ 375، 4/ 420. (¬2) ينظر: "تاريخ العتبي" 2/ 299. (¬3) ينظر: "المنتخب من السياق" 39، 120، 360، 493. (¬4) "الكامل" 9/ 74. (¬5) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 56 و 73.

ثانيا: بناء المدارس والعناية بها

ثانياً: بناء المدارس والعناية بها: تعد المدارس المعاقلَ الكبرى للتعليم، وتخريج العلماء، وحفظ الدين، وكانت عناية الناس بها في القرنين الرابع والخامس عظيمة، بل كانت إحدى الميزات الكبرى لهذين القرنين. وتقدم أن السلطان محموداً لما بنى جامع غزنة ألحق به مدرسة عظيمة، كانت موئلاً للعلماء وطلاب العلم، مع إجراء الأموال على المنقطعين والغرباء من طلاب العلم (¬1). وبنى السلطان: ألب أرسلان ببغداد مدارس أنفق عليها أموالاً عظيمة (¬2)، واشتهر في تلك الفترة التي مر بها المؤلف المدارس النظامية، المنسوبة للوزير نظام الملك وقد بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل، ويقال: إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة (¬3). وأما نيسابور فقد كان لها قصب السبق في هذا الميدان وحظيت ¬

_ (¬1) ينظر: "تاريخ العتبي" 2/ 299. (¬2) ينظر: "شذرات الذهب" 3/ 319. (¬3) ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 313 وآثار البلاد للقزويني ص 412. وحكى سبب بناء هذه المدارس: أن السلطان ألب أرسلان دخل نيسابور فمر على باب مسجد فرأى جماعة من الفقهاء على حال رثة، فسأل وزيره نظام الملك عنهم، فأخبره بحالهم وفقرهم، فلان قلب السلطان لهم، فاقترح عليه الوزير أن يبني لهم داراً، ويجري عليهم أرزاقاً، فأذن له السلطان، فأمر نظام الملك ببناء المدارس في جميع مملكة السلطان، وأن يصرف عشر مال السلطان في بناء المدارس.

بنصيب وافر من المدارس المشهورة، قال المقريزي (¬1): "وأول من حُفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهلُ نيسابور" (¬2). ومن مدارسها المشهورة: 1 - مدرسة أبي إسحاق الإسفرايني (¬3)، وهي مدرسة لم يبن قبلها بنيسابور مثلها (¬4). 2 - مدرسة الصبغي المعروفة باسم دار السنة (¬5). 3 - المدرسة السعيدية، بناها الأمير نَصْر بن سبكتكين (¬6)، ووقف عليها الأوقاف (¬7). 4 - المدرسة البَيْهقِية (¬8). ¬

_ (¬1) هو أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني تقي الدين المقريزي: مؤرخ الديار المصرية ولد سنة 766 وولي الحسبة والإمامة والخطابة في القاهرة مرات، من كتبه: "المواعظ والآثار بذكر الخطط والآثار"، والمشهور "بخطط المقريزي"، وله أكثر من مائتي مجلد كبار، توفي سنة 845. ينظر: "البدر الطالع" 1/ 79، و"الإعلام" 1/ 177. (¬2) "الخطط" 2/ 363. (¬3) سبقت ترجمته في مبحث شيوخ الواحدي. (¬4) "طبقات الشافعية" 4/ 314 نقلاً عن "تاريخ نيسابور" للحاكم وهو تاريخ مفقود. (¬5) "المنتخب من السياق" ص 16. (¬6) هو الأمير العالم نصر بن ناصر الدين سبكتكين، ولي نيسابور عام 390، وسمع المشايخ، وصحب الأئمة، واستفاد منهم، وأحسن الولاية وعاد إلى غزنة، وتوفي بها سنة 412 ينظر: "المنتخب من السياق" ص 463. (¬7) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 464 و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 314 و"الخطط" للمقريزي 2/ 363. (¬8) ينظر: المراجع السابقة.

ثالثا: انتشار المكتبات وخزائن الكتب

5 - مدرسة أبي بكر البسْتي الفقيه (¬1). 6 - مدرسة أبي سعد الإستراباذي (¬2). 7 - مدرسة إسماعيل الصابوني (¬3). وغير ذلك من المدارس التي ذكرها عبد الغافر الفارسي مثل: مدرسة الثعالبي، ومدرسة السيوري، ومدرسة المشطبي، ومدرسة الصعلوكي، ومدرسة الخفاف، ومدرسة ابن صاعد، ومدرسة الشحامي، ومدرسة القشيريين، ومدرسة سرهنك وغيرها (¬4). ثالثاً: انتشار المكتبات وخزائن الكتب: المكتبات وخزائن الكتب هي جنات طلاب العلم، ورياض أفكارهم، ومحل استمتاعهم، ففيها يحققون المسائل ويفتقونها، ويطَّلعون على الدلائل ويحررونها، ويوثقون الفوائد، ويتوسعون في البحث، ولذا حرص الكبار على إنشائها، وتزويد المساجد والمدارس ودور العلم ومعاهد التعليم بها، إذ تصبح تلك المعاهد بلا مكتبات ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن عبيد الله من كبار أئمة نيسابور، ومن كبار فقهاء أصحاب الشافعية والمناظرين بنيسابور، توفي سنة 429. ينظر: "المنتخب من السياق" ص 93 و"طبقات الشافعية" 4/ 80. (¬2) هو إسماعيل بن علي بن المثنى، أبو سعد، الصوفي العنبري، روى عنه الخطيب وغيره، مات سنة 448، ينظر: "المنتخب من السياق" ص 130 و"تاريخ بغداد" 6/ 315. (¬3) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 59 و 275، وترجمة الصابوني سبقت في مبحث شيوخ المؤلف. (¬4) ينظر: "المنتخب من السياق" ص51، 58، 63، 66، 106، 107، 347، سبقت ترجمة عبد الغافر في مبحث تلاميذه.

مشلولة، قليلة الطلاب والرواد. ففي بغداد أنشأ الوزير: سابور بن أردشير (¬1) سنة (383) دار الكتب، سماها: دار العلم، وشملت أكثر من عشرة آلاف مجلد (¬2) وفي البصرة داران للكتب (¬3). وفي فيروزاباد بنى الوزير أبو منصور بن منافيه (¬4) داراً للكتب، وقفها على طلاب العلم، جمع فيها تسعة عشر ألف مجلد. وفي غزنة ألحق السلطان محمود بن سبكتكين بجامعه الذي بناه مدرسة: ملأَ بيوتها بالكتب (¬5). وأما في نيسابور فقد أُلحق بمسجد عقيل -المتقدم ذكره- خزائنُ كتب وقفها العلماء (¬6)، وكذا كانت المدرسة البيهقية (¬7). ¬

_ (¬1) هو أبو نصر، سابور بن أردشير، وزير لبهاء الدولة بن بويه، وكان كاتباً سديداً، مهيباً، عفيفاً عن الأموال مات سنة 416. ينظر: "المنتظم" 8/ 22 و"الكامل" 7/ 324 و"السير" 17/ 387. (¬2) ينظر: "المنتظم" 7/ 172. (¬3) إحداهما: وقفت قبل عضد الدولة بن بويه، فقال: هذه مكرمة سبقنا إليها، وهي أول دار وقفت في الإسلام، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 138، عنها: لم ير في الإسلام مثلها. وقد نهبت الأعراب كلتا الدارين في فتنة البصرة سنة (483) ينظر: "الكامل" 8/ 153. (¬4) هو أبو منصور بهرام بن منافيه، وهو الملقب بالعادل، وزير الملك أبي كاليجار البويهي، ولد بكازرون سنة 366، وكان حسن السيرة، فضلاً، نزيهاً توفي سنة (433)، ينظر: "الكامل" 8/ 32، و"البداية والنهاية" 12/ 49. (¬5) ينظر: "تاريخ العتبي" 2/ 300. (¬6) ينظر: "الكامل" 9/ 74. (¬7) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 18.

رابعا: تقدير السلاطين ووزرائهم للعلم والعلماء

ومدرسة الصابوني (¬1) وغيرهما. ولما أنشأ الوزير نظام الملك المدارس النظامية ألحق بكل واحدة خزانةَ كتب (¬2). رابعاً: تقدير السلاطين ووزرائهم للعلم والعلماء: لا يخفى أن أعظم عوامل رواج سوق العلم: هو تشجيع السلاطين وتحفيز الدول، وقيامها بإكرام العلماء وتقديرهم، وقضاء حوائجهم، وتبويئهم المكان اللائق، والمكانة المرموقة، مما يرغب الناس إلى دفع أولادهم إلى معاهد العلم، وتفريغهم لطلبه، والحرص عليه وقد حظي ذلك العصر بخلفاء ووزراء كانوا إما: من العلماء، أو من المحبين للعلم المشاركين فيه، فالخليفة القادر بالله يعد من فقهاء الشافعية، وله تصانيف (¬3)، والقائم بأمر الله يعد من العلماء الأدباء الكتاب البلغاء (¬4). والسلطان محمود بن سبكتكين كان عنده علم ومعرفة، وحب للعلم وأهله، وتقريب لهم، ومجلسه على الدوام عامر بهم على اختلاف فنونهم، وصنفت له التصانيف (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 146. (¬2) ينظر: "مختصر زبدة النصر ونخبة العصر" للبنداوي ص 57 و"الكامل" 8/ 143. (¬3) ينظر: "طبقات الشافعية" لابن الصلاح 1/ 324، و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي ص 417. (¬4) ينظر: "الكامل" 8/ 120 و"البداية والنهاية" 12/ 110. (¬5) ينظر: "المنتخب من السياق" ص 446.

وسار ابنه السلطان مسعود سيرته (¬1). وكانت الدولة السلجوقية مشهورة بتكريم العلماء ومحبتهم، حتى "أصبح كل واحد من العلماء بفضل تشجيع سلطان من سلاطين السلاجقة محطَّاً لأنظار العالمين" (¬2). وأما الوزير نظام الملك، فقد كان عالماً مغرماً بالعلم وأهله، وقد بقيت جهوده وآثاره في ذلك شامة في جبين التاريخ الإسلامي، يقول أبو الوفاء بن عقيل (¬3) في الثناء عليه: "بنى المدارس، ووقَّف الوقوف، ونَعَش من العلم وأهله ما كان خاملاً مهملاً في أيام من قبله" (¬4) ويصفه العماد الأصفهاني (¬5) قائلاً: "ولم يزل بابه مجمعَ الفضلاء وملجأ العلماء، وكان نافذاً بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، ويسأل عن تصرفاته وخبرته ومعرفته، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاّه، ومن رآه مستحقاً لرفع قدره رفعه وأعلاه، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له من جدواه حتى ¬

_ (¬1) ينظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي 17/ 495، و"البداية والنهاية" 12/ 28. (¬2) "راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية" للراوندي ص 72. (¬3) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي أبو الوفاء، شيخ الحنابلة في زمانه ببغداد عالم متقن ولد سنة 431، وله مصنفات أكبرها كتاب "الفنون"، قال الذهبي: لم يصنف في الدنيا أكبر منه، وله كتاب الجدل على طريقة الفقهاء، توفي سنة (513). ينظر: "شذرات الذهب" 4/ 35 و"الذيل على طبقات الحنابلة" 1/ 171. (¬4) "المنتخب" ص 146. (¬5) محمد بن محمد صفي الدين ابن نفيس الدين حامد بن ألُهْ، أبو عبد الله عماد الدين الكاتب الأصبهاني، عالم بالأدب من كبار الكتاب ولد في أصبهان سنة 519، له كتب كثير، وله ديوان رسائل وديوان شعر، توفي سنة 597. ينظر: "وفيات الأعيان" 2/ 74، "مرآة الزمان" 8/ 504.

خامسا: نشاط بعض الفرق

ينقطع إلى إفادة العلم ونشره، وتدريس الفضل وذكره، وربما سيَّره إلى إقليم خال من العلم، ليُحْلِيَ به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت باطله" (¬1). ومن أشهر أعماله: تلك المدارس التي بناها، وأدرَّ عليها الأرزاق، وأثثها بما تحتاج إليه، كما تقدم. ولأجل ذلك أطبق المؤرخون وأصحاب التراجم على الإشادة بما قام به هذا الوزير في هذا الباب (¬2). خامساً: نشاط بعض الفرق: كثير من الفرق نشأت في أخريات القرن الأول والقرنين الثاني والثالث، وحظُّها من الشيوع والانتشار بقدر حظها من دعم الدول، واقتناع المتنفذين، ودعم السلاطين، ولذا بمجرد زوال تلك القوة الداعمة يحصل للفرقة الذبول أو الانحصار في بلد معين، أو طائفة أو جماعة محددة. وقد كان لوجود دولة العبيديين الباطنية، ودولة البويهيين الرافضية أثر كبير على نشاط كثير من الفرق المناوئة للسنة، إذ ضَعْفُ أهلِ السنة في الجملة فسحةٌ واضحة للفرق الضالة، كي تنفذ إلى عقول الناس، وتسيرهم على النحو الذي تريد. وقد بين المقريزي أن التشيع قوي بدولة بني بويه، وكذا فشا الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وذهب إليه جماعة من الفقهاء، وقوي مع ذلك أمر الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب، وجهروا بمذهب ¬

_ (¬1) "زبدة النصْرة" للعماد الأصفهاني، "اختصار البُنْداري" ص 57. (¬2) ينظر: "الكامل" 8/ 162، و"سير أعلام النبلاء" 19/ 94 و"طبقات الشافعية" 4/ 309.

سادسا: المناظرات العلمية بين أرباب المذاهب

الإسماعيلية، وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها عام (358)، وانتشرت مذاهب الرافضة في عامة الأقطار، قال المقريزي: "واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرَّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة، وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم يبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار إلا وفيه طوائف كثيرة مما ذكرنا" (¬1). هذا الواقع دعا أهل السنة وعلماء الملة -جرياً على سنة التدافع- للوقوف بقوة في وجه هذا المد البدعي الطاغي، ببيان الحق ورد الباطل ودفع الشبه، وفضح الفرق، وكشف عوارها (¬2)، وهذا كما لا يخفى له أثره الواضح في إثراء الحياة العلمية تأليفاً وتدريساً، وكشفاً للحال، وتتبعاً للحقائق. سادساً: المناظرات العلمية بين أرباب المذاهب: مما كان سائداً في ذلك العصر: المناظراتُ التي كانت تعقد بين العلماء، يبين كل واحد منهم قوله، ويذكر دليله، ويفنِّد حجة خصمه، وقد ¬

_ (¬1) ينظر: "الخطط" للمقريزي 2/ 357. (¬2) من العلماء الذين صنفوا في ذلك: معمر بن زياد الأصبهاني (ت 418)، وأبو عمر الطلمنكي (ت 429)، وأبو نصر السجزي (ت 444) وأبو عمرو الداني (ت 444) وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي (ت 447) وأبو عثمان الصابوني (ت 449) وأبو عمر بن عبد البر (ت 463) وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني (ت 471) وغيرهم. ومن الأشاعرة: أبو بكر الباقلاني (ت 403) وأبو إسحاق الإسفراييني (ت 418) وأبو منصور البغدادي (ت 429).

وقفة

تكون بين أتباع الفرق المختلفة، وكانت هذِه المناظرات تعقد عند السلاطين أحياناً، أو في المساجد ودور العلم في أكثر الأحيان، وفي نيسابور كانت هناك مجالس للنظر تعقد فيها المناظرات، وخاصة العلماء القادمين عليها (¬1). ومن العادة الجارية: أن طلاب العلم يحرصون على حضور تلك المجالس، لمعرفة الحق عند اختلاف الأقوال، والعلم بأقدار الرجال، والموازنة بين المختلفين، وقد يكون للانتصار لأحد القولين، حيث يجتهد المتناظران في إظهار صحة قولهم، وقوة دليله، وضعف ما يقابله (¬2). وقفة: لاشك أن هذه الأسباب وغيرها كان لها أثر واضح في ثراء الحالة العلمية التي تنطبع تبعاً على شخصيات الأفراد من طلاب العلم والعلماء، حيث تهيئ بمجموعها جواً علمياً يدفع الطالب للاستزادة، ويعينه على الفهم، وينوع معارفه، ويشبع رغباته وميوله. وما من شك، أن أثر ذلك كله قد انطبع على مترجمنا الإمام الواحدي، ومن يطالع مؤلفاته، ويقرأ ترجمته، يدرك ظهور ذلك التنوع المعرفي، والتعدد الثقافي والعلمي الذي اصطبغ به الواحدي. ¬

_ (¬1) ينظر: "المنتخب من السياق" ل 51، 86، 90، 96، 442، 461. (¬2) ذكر السبكي في طبقات الشافعية جملة من هذه المناظرات في تراجم عدد من العلماء. ينظر على سبيل المثال؛/ 246، 237 و 5/ 36، 209.

الفصل الثاني دراسة عن كتاب البسيط

الفصل الثاني دراسة عن كتاب البسيط وفيه تسعة مباحث: المبحث الأول: اسم الكتاب. المبحث الثاني: ثبوت نسبة الكتاب للمؤلف. المبحث الثالث: الباعث على إنشائه. المبحث الرابع: تاريخ البدء فيه والانتهاء منه. المبحث الخامس: مصادر المؤلف في البسيط، ثم التعريف بهذه المصادر وطريقته في الأخذ منها، وما هي المادة التي أخذها. المبحث السادس: منهج المؤلف في البسيط. وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: منهجه إجمالاً كما وصفه في مقدمة كتابه. المطلب الثاني: منهجه تفصيلاً. وفيه تسع مسائل: المسألة الأول: منهجه في تفسير القرآن بالقرآن. المسألة الثانية: منهجه في تفسير القرآن بالسنة. المسألة الثالثة: منهجه في تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين. المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات. المسألة الخامسة: منهجه في القراءات وعللها.

المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن. وفيها أربعة مطالب: 1 - أسباب النزول. 2 - الوقف والابتداء. 3 - الناسخ والمنسوخ. 4 - الربط بين الآيات. المسألة السابعة: منهجه في مسائل العقيدة، والرد على الفرق. المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية. المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها. وفيها خمسة مطالب: 1 - الجانب اللغوي. 2 - الجانب النحوي. 3 - الجانب البلاغي. 4 - الشواهد الشعرية. 5 - الجانب الفقهي. المطلب الثالث: مقارنة بين تفاسير المؤلف الثلاثة. المبحث السابع: قيمة الكتاب العلمية. المبحث الثامن: أثر الواحدي فيمن بعده من العلماء من خلال كتابه البسيط. المبحث التاسع: النسخ المخطوطة الموجودة للبسيط. المبحث العاشر: منهج العمل في تحقيق البسيط.

المبحث الأول اسم الكتاب

المبحث الأول اسم الكتاب اسم الكتاب "البسيط" ذكر ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه "الوسيط" حيث قال: "وقديمًا كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط، ينحط عن درجة "البسيط" الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة "الوجيز" الذي اقتصر فيه على الإقلال .... " (¬1). كما ورد اسم الكتاب "البسيط" في جميع المصادر التي ذكرته (¬2)، ووصفه القفطي بـ"الكبير" قال: صنف التفسير الكبير وسماه "البسيط" .. (¬3)، وقد وردت كلمة "الكبير" على عناوين بعض مخطوطات البسيط ففي الجزء الثالث والخامس من النسخة الأزهرية كتب "البسيط وهو التفسير الكبير" (¬4)، فلعل هذه الصفة التي ذكرها القفطي ومن جاء بعده، قصد بها بيان أنه أكبر كتبه في التفسير. كذلك نجد على الجزء الثاني والثالث من مخطوطة "جستربتي" (¬5) كتب عليها: هذا كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط للإمام الواحدي ¬

_ (¬1) "الوسيط" 1/ 6. (¬2) انظر: "معجم الأدباء" 12/ 159، و"وفيات الأعيان" 3/ 303، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 340، و"البداية والنهاية" 12/ 114، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 3/ 290، وغيرها من المصادر التي ترجمت للواحدي. (¬3) "إنباه الرواة" 2/ 223. (¬4) هذه النسخة محفوظة في رواق المغاربة في الأزهرية رقم (303) ومنها ميكروفيلم في جامعة الإمام رقم (8049)، (8051). (¬5) يوجد ميكروفيلم لها في جامعة الإمام رقم (3731) ورقم (3732).

وفي آخر الجزء الثاني كتب: آخر الجزء الثاني من كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط، تصنيف الشيخ الإمام الواحدي، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ووافق الفراغ منه يوم الخميس في آخر شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة، كتبه الضعيف الراجي المحتاج إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن الحسن القروني. وقد سبق الكلام على هذا عند الحديث عن مؤلفاته بما يغني عن إعادته هنا.

المبحث الثاني ثبوت نسبة الكتاب للواحدي

المبحث الثاني ثبوت نسبة الكتاب للواحدي أما عن قضية ثبوت نسبة الكتاب للمؤلف، فهي من القضايا التي تصل إلى حد التواتر، لم يحصل فيها شك أو لبس يحتاج إلى بحث واستدلال، فالمؤلف يذكر كتابه "البسيط" في مقدمة "الوسيط" فيقول: "وقديما كنت أطالب بإملاء كتاب وسيط ينحط عن درجة "البسيط" الذي تجر فيه أذيال الأقوال وارتفع عن مرتبة الوجيز الذي اقتصر فيه على الإقلال لمؤلف" (¬1)، والمترجمون له بعده ينسبون الكتاب له بإجماع، ولم يرد قول بخلاف ذلك، وقد ارتبط اسم المؤلف بكتبه الثلاثة في التفسير "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" فيقال: الواحدي صاحب التفاسير الثلاثة "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" (¬2). ويضاف إليها أيضاً: أن العلماء الذين أفادوا من البسيط بالنقل والإحالة (¬3) تتطابق نقولاتهم مع ما هو موجود في البسيط، كما سيأتي في مبحث قيمة الكتاب العلمية، وقد نقل ياقوت في ترجمته للمؤلف بعض مقدمة البسيط وهي بنصها في هذا الكتاب (¬4)، هذا كله، بالإضافة إلى أنه لم يقل أحد من أهل العلم بخلاف ذلك، بل إن من المسلَّمات ارتباط ¬

_ (¬1) مقدمة "الوسيط" 1/ 6. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114، و"وفيات الأعيان" 3/ 304، و"إنباه الرواة" 2/ 224، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 340، و"طبقات الشافعية" الكبرى 3/ 290. (¬3) كالنووي والرازي وابن القيم والزركشي -رحم الله الجميع-. (¬4) "معجم الأدباء" 12/ 262 - 270.

المؤلف بتفاسيره الثلاثة وعلى رأسها كتابه هذا. وقد تقدم ذكر ذلك (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: مبحث مؤلفاته.

المبحث الثالث الباعث على إنشاء البسيط

المبحث الثالث الباعث على إنشاء البسيط صرح المؤلف بالباعث له على تأليف هذا الكتاب وهو تلبية طلب قوم ألحوا عليه من أهل العلم، وافق رغبة قديمة حاضرة عنده، حيث قال في مقدمة هذا التفسير: فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أُعلق لمعاني إعراب القرآن وتفسيره فِقَراً (¬1) في الكشف عن غوامض معانيه، ونُكَتاً في الإشارة إلى علل القراءات فيه، في ورقات يصغُر حجمها ويكثر غُنمها، والأيام تمطلني بصروفها على اختلاف صنوفها، إلا أن شدد عليّ خناق التقاضي قوم لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قرونتي (¬2) بعد الإباء، وذلت صعوبتي بعد النفرة والالتواء (¬3). ¬

_ (¬1) الفِقَر: خرزات الظهر، جمع فِقْرة، ويراد بها: جملة من كلام، أو جزء من موضوع، أو شطر من بيت شعر. ينظر: "المعجم الوسيط" 2/ 679. (¬2) قال في "الصحاح": يقال: أَسْمَحت قَرِيْنُه، وقَرُونُه، وقَرُونَته وقرينَتُه أي: ذلت نفسه، وتابعته على الأمر. "الصحاح"، (قرن)، 6/ 2182. (¬3) مقدمة "البسيط" ص 393 - 394.

المبحث الرابع تاريخ البدء في البسيط والانتهاء منه

المبحث الرابع تاريخ البدء في البسيط والانتهاء منه يظهر من مقدمته التي ساقها في الوسيط: أن البسيط هو أول كتبه الثلاثة تأليفاً (¬1)، وهو أكبرها بلا شك، لكنه لم يبين لنا تاريخ الابتداء بكتابته، وأما الانتهاء منه فقد صرح به في ختام كتابه البسيط، حيث قال: وقد يسر الله -وله الحمد لحسن توفيق - تحرير هذا الكتاب الذي لم يسبق إلى مثله في هذا الباب ... بعد تراخي المهلة، وتطاول المدة، من يوم افتتاحه إلى يوم اختتامه ... وذلك عصر يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة (¬2). ¬

_ (¬1) "الوسيط" 1/ 50 وقد سقت العبارة في مبحث مؤلفاته. (¬2) "البسيط" مجلدة لوحة 209 ب من النسخة الأزهرية.

المبحث الخامس مصادر المؤلف في كتابه "البسيط"

المبحث الخامس مصادر المؤلف في كتابه "البسيط" تلقى المؤلف عن فحول أئمة اللغة والنحو والتفسير ومعاني القرآن، والقراءات، لذلك كثرت مصادره في تفسيره، وقد أفاد من تلك المصادر كثيراً ونقل منها بالمعنى حيناً وبالنص أحياناً: بالعزو حينا وبدون عزو أحيانا، أخذ عن بعض تلك المصادر فأكثر، وهناك مصادر أخذ منها بإقلال، وسيكون الحديث في هذا المبحث عن تلك المصادر، وعن طريقته في الأخذ منها. وقد ذكر المؤلف بعض تلك المصادر في مقدمة كتابه، وهناك مصادر أفاد منها ولم يرد ذكرها في مقدمته. ولقد تنوعت المادة التي أخذها من كل مصدر، فمثلا نجده قد أخذ من "الحجة" لأبي علي الفارسي مسائل لغوية ونحوية بجانب القراءات وتوجيهها، وأفاد من الثعلبي في التفسير واللغة والنحو وهكذا بقية المصادر. وفيما يلي بيان لتلك المصادر ومعرفة مدى استفادة الواحدي منها: وهي قسمان: القسم الأول: المصادر الرئيسة. القسم الثاني: المصادر الثانوية.

القسم الأول المصادر الرئيسة

القسم الأول المصادر الرئيسة أولاً: التفسير: وهي مرتبة تاريخيًا: أولاً: تفسير ابن عباس (¬1) -رضي الله عنه- (ت 68) هـ مكانة ابن عباس في تفسير القرآن: تتبين مكانة ابن عباس في التفسير، من قول تلميذه مجاهد إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور، ومن قول علي -رضي الله عنه- يثني عليه في تفسيره: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، ومن قول ابن عمر: ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه في فهم ما اشكل عليهم من كتاب الله، فكثيرًا ما توجه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عز عليهم فهمه من كتاب الله تعالى. ففي قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أي الأجلين قضى موسى؟ أقضى ثماني سنين أو أتم عشرًا؟ ولما لم يقف على رأي يمم شطر ابن عباس، الذي هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه وفىِ هذا يروي الطبري في تفسيره، عن سعيد بن جبير قال: قال يهودي بالكوفة -وأنا أتجهز للحج: إني ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، أبو العباس، العالم الرباني، الفقيه، حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان يسمى الحبر والبحر لسعة علمه، وقد دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل والحكمة، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين في شعب أبي طالب، وهو أحد العبادلة الأربعة، وهو أحد المكثرين من الصحابة، توفي بالطائف سنة (68) هـ. ينظر: "الإصابة" 4/ 141، و"تقريب التهذيب" ص 251.

أراك رجلاً تتبع العلم، فأخبرني أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب -يعني ابن عباس- فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، وقال سعيد: فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته فقال: صدق وما أنزل على موسى، هذا والله العالم. اهـ (¬1). وهذا عمر -رضي الله عنه- يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جوابًا مرضيًا رجع إلى ابن عباس فسأله عنها، وكان يثق بتفسيره، وفي هذا يروي الطبري أن عمر سأل الناس عن هذِه الآية يعني {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266] الآية. فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها شيئًا، فتلفت إليه فقال: تحول ههنا، لم تحقر نفسك؟! قال: هذا مثل ضربه الله -عز وجل-، فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتا إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه (¬2). وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى: {إِذَا جَاَءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1] وجوابه بالجواب المشهور عنه يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفي المعاني التي يشير إليها القرآن، ولا يدركها الا ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 20/ 43. (¬2) "تفسير ابن جرير" 3/ 47.

منهج ابن عباس في التفسير

من نفحه الله بنفحة من روحه، وكثيرًا ما ظهر ابن عباس في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الملهم الذي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علي -رضي الله عنه-، الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذِه المدرسة بمكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجابًا وتقديرًا، إلا درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر. وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير (¬1). منهج ابن عباس في التفسير: كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن. وكان -رضي الله عنه- يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أُجملت في القرآن وفُصلت في التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا ¬

_ (¬1) "الإتقان" 2/ 183.

رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم

يقبله ولا يأخذ به. رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم: كان ابن عباس -رضي الله عنه- يرجع في فهم معاني الألفاظ الغريبة التي وردت في القرآن إلى الشعر الجاهلي، وكان غيره من الصحابة يسلك هذا الطريق في فهم غريب القرآن ويحض على الرجوع إلى الشعر العربي القديم؛ ليستعان به على فهم معاني الألفاظ القرآنية الغريبة، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى في الآية (47) من سورة النحل {أَوْ يَأخُذَهُم عَلَى تَخَوُّفٍ} فيقوم له شيخ من هذيل فيقول له: هذِه لغتنا، التخوف: التنقص، فيقول له عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعاره؟ فيقول له: نعم، ويروا قول الشاعر: تخوف الرحل منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن فيقول عمر -رضي الله عنه- لأصحابه: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم (¬1). غير أن ابن عباس، امتاز بهذه الناحية واشتهر بها أكثر من غيره، فكثيرًا ما كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر، وقد روي عنه الشيء الكثير من ذلك، وأوعب ما روي عنه مسائل نافع بن الأزرق وأجوبته عنها، وقد بلغت مائتي مسألة، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء"، وأخرج الطبراني بعضها الآخر في "معجمه الكبير"، وقد ذكر ¬

_ (¬1) القصة في "الموافقات" 2/ 88 وليس فيها ما يعارض ما جاء عن عمر من أنه لما سأل عن الأب رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر؛ لأن الآية التي معنا يتوقف فهم معناها على معرفة معنى التخوف؛ بخلاف الآية الأخرى، فإن المعنى الذي يراد منها لا يتوقف على معرفة معنى الأب.

السيوطي في "الإتقان" بسنده مبدأ هذا الحوار الذي كان بين نافع وابن عباس، وسرد مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس عنها، فقال: بينا عبدالله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقه من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالا: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 37] قال: العزون: حلق الرفاق، قال: هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: فجاؤوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا؟ قال أخبرني عن قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. قال: الوسيلة: الحاجة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول: إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي إلى آخر المسائل وأجوبتها (¬1)، وهي تدل على قوة ابن عباس في معرفته بلغة العرب، وإلمامه بغريبها، إلى حد لم يصل إليه غيره، مما جعله - بحق إمام التفسير في عهد الصحابة، ومرجع المفسرين في الأعصر التالية للعصر الذي وجد فيه، وزعيم هذِه الناحية من التفسير على الخصوص، حتى لقد قيل في شأنه: إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية ¬

_ (¬1) "الإتقان" 1/ 120.

لتفسير القرآن (¬1). هذا وقد بين لنا ابن عباس -رضي الله عنه-، مبلغ الحاجة إلى هذه الناحية في التفسير، وحض عليها من أراد أن يتعرف غريب القرآن، فقد روى أبو بكر ابن الأنباري عنه أنه قال: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه (¬2). وروى ابن الأنباري عنه أيضاً أنه قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب (¬3). فابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى رأي عمر في ضرورة الرجوع إلى الشعر الجاهلي، للاستعانة به على فهم غريب القرآن، بل وكان أكثر الصحابة إلمامًا بهذِه الناحية وتطبيقًا لها. وقد استمرت هذه الطريقة إلى عهد التابعين ومن يليهم، إلى أن حدثت خصومة بين متورعي الفقهاء وأهل اللغة، فأنكروا عليهم هذه الطريقة، وقالوا: إن فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن (¬4)، وقالوا: كيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن وهو مذموم في القرآن والحديث. والحق أن هذه الخصومة التي جدّت في الأجيال المتأخرة لم تقم على أساس، فالأمر ليس كما يزعمه أصحاب هذا الرأي، من جعل الشعر أصلاً للقرآن، بل هو في الواقع، بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر؛ ¬

_ (¬1) "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" ص (69). (¬2) "الإتقان" 1/ 119. (¬3) المصدر السابق. (¬4) ومن هؤلاء الإمام النيسابوري صاحب التفسير المشهور، فقد صرح بذلك في مقدمة "تفسيره" 1/ 6.

1 - الرواية المنسوبة إلى عطاء بن أبي رباح

لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلنَهُ قُرءَانًا عَرَبيًّا} [الزخرف: 3]. وقال {بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مبِينٍ} [الشعراء: 195] ولهذا لم يتحرج المفسرون إلى يومنا هذا من الرجوع إلى الشعر الجاهلي للاستشهاد به على المعنى الذي يذهبون إليه في فهم كلام الله تعالى (¬1). لقد صرح المؤلف في مقدمة البسيط باعتماده على تفسير ابن عباس، حيث قال: وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصّاً. وقد التزم المؤلف هذا الشرط في كتابه، فنجده يصدر كل آية حين تفسيرها بقول ابن عباس بغض النظر عن صحة تلك الرواية أو ضعفها، إذ لم يكن من شأن الواحدي العناية بهذا الجانب، كما بينت في المآخذ عليه، وهذا يؤكد ما ذكر عنه في هذا الباب، ففي مواطن قليلة يعتمد رواية علي بن أبي طلحة، الذي يميزه الواحدي بقوله: (الوالبي). 1 - الرواية المنسوبة إلى عطاء بن أبي رباح (¬2): وقد استوعبت هذه الرواية تفسير القرآن كما يبدو من البسيط وهي رواية مكذوبة يرويها موسى بن عبد الرحمن الصنعاني (¬3)، عن عطاء، عن ¬

_ (¬1) نقلا عن كتاب "التفسير والمفسرون" 1/ 69. (¬2) هو: عطاء بن أبي رباح بن أسلم المكي القرشي مولاهم، أبو محمد، كان ثقة فقيها عالما كثير الحديث، روى عن أبي هريرة وابن عباس وجابر، وغيرهم، انتهت إليه فتوى أهل مكة، وكان أعلم الناس بالمناسك ومن أجل تلاميذ ابن عباس. توفي سنة (114) هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 6/ 463، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 78، و"تهذيب التهذيب" 7/ 174. (¬3) هو: موسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعاني قال ابن حبان: دجال، وضع على ابن =

ابن عباس. قال ابن حبان (¬1): وضع على ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس كتابًا في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل بن سليمان وألزقه بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يحدث عن ابن عباس، ولم يحدث به ابن عباس، ولا عطاء سمعه، ولا ابن جريج سمع من عطاء، وإنما سمع ابن جريج من عطاء الخراساني عن ابن عباس في التفسير أحرفًا شبيهًا بجزء، وعطاء لم يسمع من ابن عباس شيئًا ولا رواه ولا تحل الرواية عن هذا الشيخ ولا النظر في كتابه إلا على سبيل الاعتبار (¬2). قال الحافظ ابن حجر (¬3): ومن التفاسير الواهية لوهاء رواتها، التفسير الذي جمعه موسى بن ¬

_ = جريج عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير. وقال الذهبي: دجال. اهـ. وقال ابن عدي منكر الحديث يروي أباطيل، يعرف بأبي محمد المفسر قال ابن حجر: معروف ليس بثقة. انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 211، و"ديوان الضعفاء والمتروكين" ص 311، و"لسان الميزان" 6/ 124، "الكشف الحثيث" 1/ 263. (¬1) هو: الحافظ العلامة محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم البستي التميمي. كان من أوعية العلم في الفقه والحديث واللغة والوعظ عاقلاً ثقة نبيلاً ذا تصانيف عجيبة، توفي سنة 354 هـ. انظر: "البداية والنهاية" 11/ 295، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي 3/ 920، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص 375. (¬2) "المجروحين" لابن حبان 2/ 242. (¬3) تقدمت ترجمته ص 82.

عبد الرحمن الثقفي الصنعاني، وهو قدر مجلدين يسنده إلى ابن جريج (¬1) عن عطاء عن ابن عباس، وقد نسب أبو حاتم (¬2) موسى هذا إلى وضع الحديث، ورواه عن موسى: عبد الغني بن سعيد الثقفي (¬3) وهو ضعيف (¬4). وقد صرح المؤلف في أول كتابه "أسباب النزول" (¬5) بإسناده إلى هذه الرواية وهي من طريق الطبراني (¬6)، والطبراني روى قطعة من هذا التفسير ¬

_ (¬1) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد، فقيه الحرم المكي، إمام أهل الحجاز في عصره، ثقة جليل القدر كثير الحديث جدًا، ولد بمكة سنة 80 هـ قال الذهبي: ثقة لكنه يدلس. توفي رحمه الله سنة 150هـ. ينظر ترجمته: "سير أعلام النبلاء" 6/ 325، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 359. (¬2) هو: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي، الغطفاني، الرازي، أبو حاتم، محدث حافظ، أحد أئمة الجرح والتعديل، ولد في الري، وتنقل في العراق والشام ومصر وبلاد الروم، وبرع في المتن والإسناد وجمع وصنف وجرح وعدل وصحح وعلل، من أقران البخاري ومسلم، توفي ببغداد في شعبان سنة 277، ومن مصنفاته "طبقات التابعين" و"تفسير القرآن". انظر ترجمته: "سير أعلام النبلاء" 9/ 55 - 59، "التقريب" (465)، "الأعلام" 6/ 27. (¬3) عبد الغني بن سعيد الثقفي، ضعفه ابن يونس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مصري يروي عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن هشام بن عروة، قال ابن حجر: ابن يونس أعلم به. توفي سنة (229). ينظر: "الثقات" لابن حبان 8/ 424، و"لسان الميزان" 4/ 45. (¬4) "العجاب في بيان الأسباب" 1/ 220. وينظر: "الدر المنثور" 8/ 700. (¬5) "أسباب النزول" ص 33. (¬6) أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مُطَير اللخمي الشامي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة الإمام المحدث الحافظ الرحالة ولد سنة 260 وله تصانيف كثيرة، ومات سنة 360. ينظر: "تذكرة الحفاظ" 3/ 912 و"سير أعلام النبلاء" 16/ 119.

2 - رواية الكلبي

في معجمه الكبير، في تفسير الآيات في شأن الإفك (¬1)، عن شيخه: بكر بن سهل الدمياطي (¬2)، عن عبد الغني بن سعيد الثقفي، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وعند مقارنته بما نقله المؤلف في البسيط من رواية عطاء، عن ابن عباس نجدها مطابقة لرواية الطبراني، مما يدل على أن طريق رواية الواحدي عن عطاء هو ذاك الطريق الواهي الضعيف. وهذه الرواية لا توجد الآن، ولا تكاد تذكر عند أهل الرواية ولا يذكرها إلا الثعلبي أو المؤلف، أو من ينقل عنهما، كالبغوي وابن الجوزي والرازي (¬3) وغيرهم. والأمثلة على نقل المؤلف من هذه الرواية أكثر من أن تحصى، بل يندر أن نجد آية لا يذكر فيها شيئًا منها. 2 - رواية الكلبي (¬4): وهي رواية الكلبي عن ابن عباس، وهي مكذوبة، وقد أخرج عن ابن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" 23/ 130 - 161. (¬2) بكر بن سهل بن إسماعيل بن نافع، أبو محمد الهاشمي مولاهم الدمياطي، المفسر المقرئ ولد سنة 196، ضعفه النسائي مات بدمياط سنة 289. ينظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 345 و"سير أعلام النبلاء" 13/ 425. (¬3) هو أبو عبد الله. محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن التميمي البكري الرازي، فخر الدين والمعروف بابن الخطيب، المولود سنة 544، مفسر متكلم واعظ على مذهب الأشعري، وقيل: إنه رجع في آخر عمره عن مذهب الأشعري. ومن أهم مصنفاته: "التفسير الكبير" المسمى، "مفاتيح الغيب". توفي سنة 606. ينظر: "وفيات الأعيان" 2/ 265 و"شذارت الذهب" 5/ 201. (¬4) هو: أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي، النسابة المفسر، متهم بالكذب ورمي بالرفض، قال: يحيى ابن معين ضعيف. توفي سنة 146هـ =

عباس تفسيرًا كثيرًا عن أبي صالح (¬1) عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب، روى البخاري بسنده عن سفيان الثوري (¬2) قال: قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب. وقال البخاري (¬3): أبو النضر الكلبي تركه يحيى بن سعيد (¬4) وابن ¬

_ = ينظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 101، و"الضعفاء الصغير" ص 101 تحقيق محمود زايد ط 1 دار الوعي كلاهما للبخاري، "تهذيب الكمال" 25/ 250، "التقريب" 1/ 479. (¬1) هو: باذان، ولقال باذام، ولقال: ذكوان، أبو صالح مولى أم هانئ، مفسر ومن رواة الأخبار، روى عن مولاته وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم إلا أنه ضعيف. وقال ابن حبان: يحدث عن ابن عباس ولم يسمع، وروى عن الكلبي، قال حبيب بن أبي ثابت: كنا نسمي أبا صالح باذام دروغزن، وكان الشعبي يمر به فيأخذ بأذنه ويقول: ويحك كيف تفسر القرآن وأنت لا تحسن أن تقرأ، وتركه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي. توفي سنة 120هـ تقريبا. ينظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 302، "التاريخ الكبير" 2/ 144، "الجرح والتعديل" 3/ 441، "سير أعلام النبلاء" 5/ 37 - 38، و"تقريب التهذيب" ص 120. (¬2) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفي الفقيه، الإمام الحافظ المجتهد سيد أهل زمانه علمًا وعملاً، ولد سنة 97هـ روى له الجماعة توفي سنة 161هـ بالبصرة. ينظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 371، و"حلية الأولياء" 6/ 356. (¬3) "التاريخ الكبير" 1/ 101 و"الضعفاء الصغير" ص 101 تحقيق محمود زايد ط 1 دار الوعي كلاهما للبخاري. (¬4) هو يحي بن سعيد بن فروخ التميمي مولاهم البصري القطان أبو سعيد، الإمام الحافظ المحدث، الثقة المتقن، أمير المؤمنين في الحديث، أخرج حديثه الجماعة، روى عنه أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم من الأئمة وكان من سادات أهل البصرة وقرائهم، ولد سنة 120 وتوفي سنة 198. ينظر في ترجمته: "طبقات ابن سعد" 7/ 293 و"سير أعلام النبلاء" 9/ 175.

3 - تفسير تنوير المقباس

مهدي (¬1). وقال أبو حاتم: الناس مجمعون على ترك حديثه، وهو ذاهب الحديث لا يشتغل به. قال ابن حجر: ومن روايات الضعفاء عن ابن عباس: التفسير المنسوب لأبي النضر محمد بن السائب الكلبي، فإنه يرويه عن أبي صالح، وهو مولى أم هانئ، عن ابن عباس. والكلبي اتهموه بالكذب، وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه: كل شيء حدثتكم عن أبي صالح كذب (¬2). وقال السيوطي: وأوهى طرقه -يعني تفسير ابن عباس- طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير (¬3)، فهي سلسلة الكذب، وكثيراً ما يخرج منها الثعلبي والواحدي (¬4). 3 - تفسير تنوير المقباس: وقد نسب هذا التفسير إلى ابن عباس وقد طبع في مصر مرارًا باسم ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن أبو سعيد العنبري الإمام المحدث الكبير ولد سنة 135 وخرج الجماعة حديثه توفي سنة 198 بالبصرة. ينظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 297، و"حلية الأولياء" 9/ 3. (¬2) "العجاب في بيان الأسباب" 1/ 209. (¬3) محمد بن مروان السدي الكوفي، وهو السدي الصغير أحد المتروكين، قال الذهبي: تركوه واتهمه بعضهم بالكذب، وهو صاحب الكلبي. قال البخاري: سكتوا عنه وهو مولى الخطابيين ولا يكتب حديثه البتة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال أحمد: أدركته وقد كبر فتركته. ينظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 32، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 265. (¬4) "الإتقان" 2/ 189.

"تنوير المقباس في تفسير ابن عباس". جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشافعي (¬1)، صاحب "القاموس المحيط"، وقال الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه الماتع "التفسير والمفسرون": وقد اطلعت على هذا التفسير، فوجدت جامعه يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية عن ابن عباس بهذا السند أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمود بن محمد الرازي، قال: أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروي، قال: أخبرنا علي بن إسحاق السمرقندي، عن محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وعند تفسير أول البقرة، وجدته يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا علي بن إسحاق السمرقندي عن محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وفي مبدأ كل سورة يقول: وبإسناده عن ابن عباس. .. وهكذا يظهر لنا جليًا، أن جميع ما روي عن ابن عباس في هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدي الصغير، عن محمد بن السائب ¬

_ (¬1) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم، الفيروزآبادي الشافعي، أبو طاهر، ولد شي كازورن من أعمال شيراز سنة 729 هـ، ونشأ بها، وانتقل إلى شيراز وأخذ الأدب واللغة عن والده وغيره من علماء شيراز، ورحل إلى العراق ومصر والشام واليمن وغيرها من البلاد وأخذ عن علمائها، وتولى قضاء اليمن كله، وجاور مكة والمدينة وتوفي سنة 817 هـ. من تصانيفه: "القاموس المحيط"، "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، "فتح الباري بالسيل الفسيح الجاري في شرح صحيح البخاري" وغيرها من التصانيف. ينظر: "الضوء اللامع" للسخاوي 10/ 76 - 79، "بغية الوعاة" ص 117 - 118، "شذرات الذهب" لابن عماد 10/ 126 - 131.

4 - رواية الضحاك

الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وقد عرفنا مبلغ رواية السدي الصغير عن الكلبي فيما تقدم. وحسبنا في التعقيب على هذا ما روي من طريق ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث (¬1). وهذا الخبر إن صح عن الشافعي يدلنا على مقدار ما كان عليه الوضّاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفاسير المنسوبة إلى ابن عباس، وليس أدل على ذلك، من أنك تلمس التناقض ظاهرًا بين أقوال في التفسير نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه. إن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئًا من قيمته العلمية في الغالب، وإنما الشيء الذي لا قيمة له فيه، هو نسبته إلى ابن عباس (¬2). 4 - رواية الضحاك: أمَّا طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي (¬3) عن ابن عباس فهي غير ¬

_ (¬1) "الإتقان" 2/ 189. (¬2) "التفسير والمفسرون" 1/ 82. (¬3) الضحاك بن مزاحم الهلالي البلخي، أبو القاسم أو أبو محمد الخُراساني، قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة سعيد بن جبير، الضحاك بن مزاحم، مجاهد بن جبر، وعكرمة. قال ابن حبان: من زعم أنه رأى ابن عباس فقد وهم. وقال ابن عدي: عُرِف بالتفسير، وأما روايته عن ابن عباس وأبي هريرة وجميع من روى عنهم ففي ذلك كله نظر وإنما اشتهر بالتفسير. وثقه أحمد، وابن معين وأبو زرعة، وضعفه يحيى بن سعيد، اختلف في سنة وفاته فقيل 105 هـ أو 106 هـ. ينظر: "التاريخ الكبير" 4/ 332، "الثقات" لابن حبان 6/ 480، "الكامل في الضعفاء" 4/ 95، "التقريب" 1/ 280.

مرضية؛ لأنه وإن وثقه نفر فطريقه إلى ابن عباس منقطعة؛ لأنه روى عنه ولم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة (¬1)، عن أبي روق (¬2)، عن الضحاك، فضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة كثيرًا ابن جرير وابن أبي حاتم. وإن كان من رواية جويبر (¬3) عن الضحاك فأشد ضعفًا؛ لأن جويبر شديد الضعف متروك. ولم يخرج ابن جرير ولا ابن أبي حاتم من هذه الطريق شيئًا، إنما خرجها ابن مردويه (¬4)، وأبو الشيخ أبو محمد عبد الله ¬

_ (¬1) هو: بشر بن عمارة الخثعمي الكوفي، روى عن: الأحوص بن حكيم، وإدريس بن سنان ابن بنت وهب بن منبه، وأبي روق عطية بن الحارث الهمداني، وروى عنه: أحمد بن موسى، وجبارة بن مغلس الحماني، والحسن بن عبد الرحمن، وزكريا بن عدي، وغيرهم. قال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث، قال عنه البخاري: تعرف وتنكر، وذكره النسائي في "الضعفاء" قال ابن حبان: يخطئ حتى يخرج عن حد الاحتجاج. ينظر: "التاريخ الكبير" 2/ 80 و"الضعفاء" للنسائي ص 6، "المجروحين" لابن حبان 1/ 188. (¬2) أبو روق عطية بن الحارث الهمذاني، صاحب التفسير، صدوق من الطبقة الخامسة. ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 382 رقم (2122)، "التقريب" 2/ 24 رقم (215). (¬3) جويبر بن سعيد الأزدي، يقال له جابر، وجويبر لقب، أبو القاسم البلخي، صاحب الضحاك، راوي التفسير، ضعيف جداً، ضعفه علي ويحيى بن سعيد. وقال أحمد: لا يشتغل بحديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي وعلي بن الجنيد والدارقنطني: متروك. ينظر: "التهذيب" 1/ 31 رقم (83)، و"الكاشف" 1/ 5 رقم (801). (¬4) أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فُورك الأصبهاني صاحب التفسير الكبير، محدث أصبهان ولد سنة 323 هـ من مصنفاته: "التاريخ"، و"المستخرج على صحيح البخاري" توفي سنة 410 هـ ينظر: "تاريخ أصبهان" 1/ 168، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 208.

5 - رواية العوفي

ابن حيان (¬1)، كما أفاده السيوطي (¬2). 5 - رواية العوفي (¬3): فضعيفة، فقد كان يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً، قال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبو سعيد، قال الذهبي: يعني يوهم أنه الخدري، وهذه الطريقة أخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم كثيرًا. 6 - رواية السدي الكبير: يروي إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير (¬4)، تارة عن أبي ¬

_ (¬1) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ، الإمام الحافظ محدث أصبهان، صاحب التصانيف ولد سنة 274 هـ، من مؤلفاته: "كتاب السنة "، و"العظمة"، وكتاب "السنن"، توفي سنة 369 هـ. ينظر: "تذكرة الحفاظ" 3/ 945، و"سير أعلام النبلاء" 16/ 276. (¬2) "الإتقان" 2/ 189. (¬3) عطية بن سعد بن جنادة الجدلي العوفي الكوفي، أبو الحسن، كان من غلاة الشيعة. قال أحمد: ضعيف. وقال أبو زرعة: لين. وقال أبو حاتم: ضعيف وأبو نضرة أحب إلي منه توفي سنة 111هـ. ينظر: "الميزان" 3/ 79 و"تهذيب التهذيب" 2/ 294، 7/ 224، و"تاريخ بغداد" 5/ 332 و"الجرح والتعديل" 3/ 48 رقم (215)، و"لسان الميزان" 5/ 174، "تقريب التهذيب" 1/ 678. (¬4) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة المعروف بالسدي الكبير، أبو محمد الكوفي، صاحب التفسير والمغازي، كان إماما عارفا بالوقائع وأيام الناس، وتفسيره أثني عليه، قال ابن معين: ضعيف، ولينه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. قال عنه ابن حجر: صدوق يهم، رمي بالتشيع، توفي سنة 127هـ. ينظر: "الجرح والتعديل" 2/ 184، و"تقريب التهذيب" ص 108، و"طبقات ابن سعد" 6/ 323.

7 - رواية الوالبي

مالك (¬1)، وتارة عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسماعيل السدي مختلف فيه، وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة، وهو تابعي شيعي. وقال السيوطي: روى عن السدي الأئمة مثل الثوري وشعبة، لكن التفسير الذي جمعه رواه أسباط بن نصر (¬2)، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي (¬3). وابن جرير يورد في تفسيره كثيرًا من تفسير السدي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، ولم يخرج منه ابن أبي حاتم شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد (¬4). 7 - رواية الوالبي (¬5): وهي من أحسن الطرق عن ابن عباس، وهو صدوق، ولكنه لم يلق ¬

_ (¬1) غزوان الغفاري أبو مالك الكوفي مشهور بكنيته ثقة من الثالثة روى عنه أصحاب السنن ينظر: "تقريب التهذيب" ص 442. (¬2) أسباط بن نصر الهمداني، أبو يوسف، ويقال أبو نصر الكوفي، روى عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وجابر بن يزيد الجعفي، والحكم بن عبد الملك، وسماك بن حرب وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن المفضل الحفري، وإسحاق بن منصور السلولي، والحسن بن بشر البجلي وغيرهم. قال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعف أسباط بن نصر، وقال: أحاديثه عامته سقط مقلوب الأسانيد. وقال النسائي: ليس بالقوي. روي له الجماعة إلا البخاري معلقًا. ينظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 261، "التاريخ الكبير" 2/ 53 (1656)، "الجرح والتعديل" 2/ 332 (1261)، "الميزان" 1/ 35. (¬3) "الإتقان" 2/ 188. (¬4) "التفسير والمفسرون" 1/ 79، "تفسير ابن عباس" للدكتور الحميدي 1/ 27 - 28. (¬5) هو: علي بن أبي طلحة مولى بني العباس، واسم أبيه سالم بن مخارق الهاشمي، =

ابن عباس، وإنما أخذ تفسيره من مجاهد (¬1)، وله صحيفة في هذا التفسير أخرج منها البخاري كثيراً في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس، وأكثر منها ابن جرير في تفسيره. وقال الإمام أحمد: "بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل فيها رجل إل مصر قاصداً ما كان كثيراً" (¬2). وقد طعن بعض العلماء في تفسير علي بن أبي طلحة بأنه منقطع، حيث لم يسمع من ابن عباس، وقال الحافظ ابن حجر -راداً على ذلك-: "بعد أن عُرِفت الواسطة وهو ثقة، فلا ضير في ذلك" (¬3). وكثيرًا ما اعتمد على هذه الطريقة ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح. ومسلم وأصحاب السنن يحتجون بعلي بن أبي طلحة. ¬

_ = أبو الحسن ويقال أبو محمد، وأصله من الجزيرة، وانتقل إلى حمص، وهو صدوق كثير الإرسال. مات سنة 143هـ. ينظر: "التاريخ الكبير" 6/ 281، "تهذيب الكمال" 20/ 490، "الكاشف" 2/ 41، "تهذيب التهذيب" 7/ 339. (¬1) هو: أبو الحجاج، مجاهد بن جبر المكي، تابعي جليل، مقرئ مفسر، حافظ ثقة، سمع من عدد من الصحابة، ولازم ابن عباس وقرأ عليه القرآن، وتلقى عنه التفسير، وكان أحد أوعية العلم، توفي سنة 103هـ. ينظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 466، و"التاريخ الكبير" 7/ 411، "الحلية" لأبي نعيم 3/ 279، و"معرفة القراء الكبار" للذهبي 1/ 66، "تهذيب التهذيب" 7/ 339. (¬2) "الإتقان" 2/ 188 وينظر: تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة، للدكتور عبد العزيز الحميدي 1/ 25. (¬3) المصدر السابق.

8 - طريق قيس بن مسلم الكوفي،

8 - طريق قيس بن مسلم الكوفي (¬1)، عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين، وكثيرًا ما يخرج منها الفريابي والحاكم في "مستدركه". 9 - طريق بن إسحاق (¬2) صاحب السير، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد ابن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهي طريق جيدة وإسنادها حسن، وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرًا، وأخرج الطبراني منها في "معجمه الكبير". 10 - طريق عبد الملك بن جريج (¬3)، عن ابن عباس، وهي تحتاج الى ¬

_ (¬1) لعله قيس بن مسلم الجدلي الكوفي، أبو عمرو، الإمام المحدث الثقة، وثقه أحمد وقال مرة: متقن للحديث لا تبالي إذا أخذت عنه حديثه. قال أبو داود: كان مرجئًا. وقال ابن عيينة: كانوا يقولون: ما رفع قيس رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا تعظيمًا لله توفي سنة 120 هـ. ينظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 317، "طبقات خليفة" ص 160 "التاريخ الكبير" 5/ 154، "تهذيب الكمال" 24/ 81. (¬2) محمد بن إسحاق بن يسار، العلامة الحافظ الأخباري، وقيل أبو عبد الله القرشي المطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة النبوية، ولد سنة 80 هـ، وثقه يحيى ابن معين. وقال أحمد: حسن الحديث. وقال الذهبي: وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأشياء، منها: تشيعه، ونسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه. ينظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 321، "الكامل" لابن عدي 3/ 25، "سير أعلام النبلاء" 7/ 33. (¬3) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الأمام العلامة، الحافظ شيخ الحرم، أبو الوليد القرشي الأموي، المكي صاحب التصانيف أول من دون العلم بمكة. توفي رحمه الله سنة 150هـ. =

دقة في البحث، ليعرف الصحيح منها والسقيم، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم، فلم يتميز في روايته الصحيح من غيره، وقد روى عن ابن جريج هذا جماعة كثيرة، منهم بكر بن سهل الدمياطي، عن عبد الغني بن سعيد، عن موسى بن محمد، عن ابن جريج عن ابن عباس، ورواية بكر بن سهل أطول الروايات عن ابن جريج وفيها نظر. ومنهم محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن ابن عباس، روى ثلاثة أجزاء كبار ومنهم الحجاج بن محمد عن ابن جريج، روى جزءًا وهو صحيح متفق عليه. ولأجل هذا الاختلاف بين الطرق المأثورة عن ابن عباس فقد افترق المفسرون تجاه تفسيره إلى ثلاث فرق (¬1): الأولى: أخذت بكل ما روي عنه، فوقعوا في كثير من المرويات الضعيفة والموضوعة، وعلى رأس القائمة في هذا الاتجاه: الثعلبي والمؤلف، وتبعهم على ذلك من اعتمد على تفاسيرهم وأكثر النقل عنهم. والثانية: اقتصروا على رواية الصحيح دون غيره، لكنهم لم يرووا عنه إلا القليل، ومن أبرز هؤلاء: الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحهما. والثالثة: تجنبوا الأحاديث الموضوعة؛ لشهرة رواتها من الكذابين، ولكنهم خلطوا بين الروايات الصحيحة والضعيفة، وهؤلاء هم أكثر المفسرين الذين اهتموا بنقل تفسير الصحابة والتابعين، كالإمام ابن جرير ¬

_ = ينظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 491، "تاريخ الإسلام" 6/ 96، "سير أعلام النبلاء" 6/ 325. (¬1) ينظر هذا التفصيل في كتاب تفسير ابن عباس للدكتور الحميدي 1/ 27 - 28.

وابن أبي حاتم (¬1)، وكذلك الذين رووا بعض تفسير ابن عباس من علماء السنة: كعبد الرزاق الصنعاني (¬2)، والإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، والبيهقي (¬3). ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي، أبو محمد، اشتهر بابن أبي حاتم، الأمام المحدث الأصولي الفقيه، المفسر الناقد، ولد سنة 240 هـ، تلقى العلم عن أبيه وغيره من علماء الري ثم انتقل إلى مكة المكرمة وسمع من مشايخها ثم رحل السواحل والشام ومصر وأصبهان، ثم رجع إلى الري يدرس ويصنف ويؤلف إلى أن وافته المنية سنة (327) عن عمر 87 عامًا. من تصانيفه: "تفسير القرآن الكريم"، "الجرح والتعديل"، "الرد على الجهمية"، "مناقب الشافعي"، "المسند"، "كتاب الضعفاء". ينظر: "الأنساب" للسمعاني 4/ 287، "سير أعلام النبلاء" 13/ 246، "تذكرة الحفاظ" 3/ 839. (¬2) عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الحميري، مولاهم الحميري، أحد الحفاظ الثقات المشهورين المتفق على تخريج حديثه، ولد سنة 126هـ روى له الجماعة، قدم الشام تاجرًا، وسمع الأوزاعي وسعيد بن جبير ومحمد بن راشد المكحولي وإسماعيل بن عياش، وغيرهم، توفي سنة 211 هـ عن خمس وثمانين عامًا، وكان فيه تشيع. من أهم تصانيفه: "المصنف" "تفسير عبد الرزاق". ينظر ترجمته: "التاريخ الكبير" 6/ 230، "التاريخ الصغير" 2/ 320، "الثقات" لابن حبان 8/ 412، "تهذيب الكمال" 18/ 52، "طبقات المدلسين" 1/ 34. (¬3) الفقيه الأصولي، الحافظ الورع واحد زمانه في الحفظ والإتقان: أبو بكر أحمد بن الحسن بن علي بن يونس، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة، ولد سنة 384هـ في شعبان، وتلقى العلم عن علماء خُراسان ونيسابور، وانتقل إلى بغداد والكوفة، والحجاز وغيرها من البلاد، توفي رحمه الله في عاشر جمادى الأولى من سنة (458 هـ) في نيسابور ونقل في تابوت إلى بيهق ودفن بها. ومن تصانيفه: "السنن الكبرى"، و"معرفة السنن والآثار"، و"شعب الأيمان". ينظر: "الأنساب" للسمعاني 2/ 381، "الكامل" لابن الأثير 8/ 104، "طبقات الشافعية" 4/ 9، "تذكرة الحفاظ" 3/ 1132.

11 - ثانيا: تفسير مقاتل بن سليمان (ت 150) هـ

قال الدكتور الحميدي: وقد نقل كثير من المفسرين المتأخرين هذِه الروايات من غير تمييز بينها، وأحياناً ينقلونها بغير إسناد، إلا أن بعضهم يبين ضعف الروايات أحياناً، إذا كان الموضوع مهماً، كآيات العقائد والأحكام، كالحافظ ابن كثير (¬1) (¬2). 11 - ثانيًا: تفسير مقاتل بن سليمان (ت 150) هـ: اعتمد المؤلف طريق مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني (¬3)، وهو المفسر الذي ينسب إلى الشافعي أنه قال فيه: "إن الناس عيال عليه في ¬

_ (¬1) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي، الإمام المحدث المفسر المؤرخ، صاحب التفسير المشهور، أخذ العلم عن ابن تيمية والمزي وهو من أقران الذهبي وابن القيم،. توفي رحمه الله سنة 774 هـ. من مصنفاته: "البداية والنهاية"، "تفسير القرآن العظيم"، "الباعث الحثيث"، وغيرها من العلوم النافعة أسكنه الله فسيح جناته. ينظر: "تذكرة الحفاظ" 4/ 1508، "الدرر الكامنة" 1/ 399. (¬2) "تفسير ابن عباس في الكتب الستة" للدكتور الحميدي 1/ 28. (¬3) أبو الحسن، كبير المفسرين مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخُراساني، البلخي، مفسر، متكلم، مشارك في القراءات واللغة. قال ابن عيينة: قلت لمقاتل: زعموا أنك لم تسمع من الضحاك. قال كان يغلق عليّ وعليه باب. فقلت في نفسي: أجل باب المدينة. وقال وكيع: كان كذابًا. قال البخاري: مقاتل لا شيء البتة. وقال الذهبي: أجمعوا على تركه. مات سنة 150هـ. من مصنفاته: "التفسير الكبير"، "الرد على القدرية"، "الوجوه والنظائر في القراءات"، "الأقسام واللغات"، و"الآيات المتشابهات". ينظر: "طبقات بن سعد" 7/ 373، "التاريخ الصغير" 2/ 227، "الجرح والتعديل" 8/ 254 - 355، "تهذيب الكمال" 28/ 434 - 451، "سير أعلام النبلاء" 7/ 201 - 202، "معجم المؤلفين" 3/ 905 - 906.

التفسير" (¬1) ومع ذلك فقد ضعفوه، وقالوا: إنه يروي عن مجاهد وعن الضحاك ولم يسمع منهما. وقد كذبه غير واحد، ولم يوثقه أحد، واشتهر عنه التجسيم والتشبيه (¬2)، وتكلم عنه السيوطي فقال: "إن الكلبي يفضل عليه، لما في مقاتل من المذاهب الرديئة" (¬3). وقد سئل وكيع عن تفسير مقاتل؟ فقال: "لا تنظروا فيه"، فقال السائل: ما أصنع به؟ قال: ادفنه -يعني التفسير (¬4) -، وقال أحمد بن حنبل: لا يعجبني أن أروي عن مقاتل بن سليمان شيئًا (¬5). وبالجملة فإن من استحسن تفسير مقاتل كان يضعفه ويقول "ما أحسن تفسيره لو كان ثقة" (¬6). ولاعتماد المؤلف هذا الطريق تردد اسم مقاتل كثيرًا في البسيط مما يدل على أنه من مصادره الرئيسة التي أفاد منها، وأغلب نقولاته عنه كانت مع العزو؛ تارة بنصه وتارة بالمعنى والتصرف في العبارة، ويبدو أن الواحدي نقل عن مقاتل بواسطة شيخه الثعلبي؛ تبيَّن ذلك بأمرين: 1 - اختلاف عبارة الواحدي المنسوبة لمقاتل عن تفسير مقاتل وتطابقها مع عبارة الثعلبي. 2 - عدم وجود القول أحيانًا في تفسير مقاتل ووروده بنصه في تفسير ¬

_ (¬1) "وفيات الأعيان" 2/ 767. (¬2) "إيثار الحق" ص 159. (¬3) "الإتقان" 3/ 189. (¬4) "تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 111. (¬5) المصدر السابق. (¬6) "التفسير معالم حياته - منهجه اليوم" ص 9.

الثعلبي منسوبًا لمقاتل. وقد يصعب ضرب الأمثلة؛ لكثرة استشهاده بآراء مقاتل. وهناك مشكلة يجدر الإشارة إليها، وهي الالتباس بين مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان في التفسير، وذلك عند إطلاق الواحدي اسم مقاتل دون تحديد من هو؟ ومع أنه من خلال الاستقراء ظهر أنه يقصد عند الإطلاق مقاتل بن سليمان، إلا أنه يقصد به أحيانًا ابن حيان، وما أدري لعل بعض النصوص التي ذكرت أنها وردت في تفسير مقاتل بمعناه أن تكون قد وردت في تفسير مقاتل بن حيان بنصه، ولم أستطع التحقق من ذلك؛ لأن تفسيره مفقود -حسب علمي- وكذلك ما يرد في تفسير الثعلبي ولا يكون في تفسير مقاتل بن سليمان فلعله يكون من تفسير مقاتل بن حيان وأبهمه الثعلبي، خاصة وأن تفسيره من مصادر الثعلبي -كما ذكر في مقدمته- ومن أمثلة ذلك: عند قوله تعالى: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] أطلق اسم مقاتل وهو ابن حيان، فقال: وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم. فمقاتل هنا هو ابن حيان، حيث وردت هذه العبارة بنصها منسوبة إليه في: "تفسير الثعلبي" (7/ 156ب)، و"البغوي" 3/ 37، و"ابن الجوزي" 5/ 365 أما في تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 194 أ) فعبارته، قال: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم. ومثله عند قوله تعالى ميه {وءاتَينَهُ فِى الدُّنيَا حَسَنَةً} [النحل: 122] قال: وقال مقاتل: يعني الصلوات عليه مقرونًا بالصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو قول المتشهد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، فهلذا الخبر نسب إلى مقاتل بن حيان في تفسير البغوي وابن

ثانيا: تفسير الطبري

الجوزي، ولم أجده في تفسير مقاتل بن سليمان. وعند قوله تعالى: {وَرَزَقْنَهُم مِّنَ الطَّيِّباتِ} [الإسراء: 70] قال: وقال مقاتل: السمن والزُّبد والحلاوي، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم، وهذا القول بنصه في تفسير الثعلبي (7/ 144 أ) ولم يرد في تفسير مقاتل بن سليمان، فلعله من تفسير مقاتل بن حبان. ثانيًا: تفسير الطبري (¬1) أو جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبري (224) (¬2). التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه: يعد تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع ¬

_ (¬1) طبع هذا التفسير طبعات عدة، أشهرها طبعة البابي الحلبي بمصر، وأفضلها التي حققها العلامة أحمد شاكر وأخوه محمود لكنها لم تكتمل. (¬2) هو الإمام العلم الفرد القدوة الحافظ صاحب التصانيف المشهورة، أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب من أهل آمل طبرستان أكثر التطواف وسمع كبار المشايخ، ولد سنة 224 هـ وكان من أفراد الدهر علمًا وذكاءً، وقل أن ترى العيون مثله. قال الخطيب: كان ابن جرير أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظًا لكتاب الله عارفًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني فقيهًا بالأحكام عالمًا بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها عارفًا بأقاويل الصحابة والتابعين الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم وله تصانيف حسان كثيرة وتفرد بمسائل حفظت عنه. توفي رحمه الله سنة 310 هـ. ومن تصانيفه: "تاريخ الأمم والملوك"، و"جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، و"تهذيب الآثار"، و"اختلاف الفقهاء". ينظر: "تاريخ بغداد" 2/ 162، "تاريخ دمشق" 52/ 188، "معجم الأدباء" 18/ 90، "وفيات الأعيان" 4/ 191، "تذكرة الحفاظ" 2/ 710.

الأول عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يعتبر مرجعًا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي؛ نظرًا لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض ترجيحًا يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق. ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يعد مفقودًا لا وجود له، ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير (حائل) الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن قريب، فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور (¬1). ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في "تفسير ابن جرير"، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غني عنه لطالب التفسير، فقد قال السيوطي -رضي الله عنه-: وكتابه - يعني تفسير محمد بن جرير- أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين (¬2). وقال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري (¬3) وقال أبو حامد الإسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حت يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا (¬4). ¬

_ (¬1) "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" ص 86. (¬2) "الإتقان" 2/ 190. (¬3) المرجع السابق. (¬4) "معجم الأدباء" 18/ 42.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير ابن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير (¬1) والكلبي" (¬2). ويذكر صاحب "لسان الميزان": أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال: "نظرت فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير" فابن خزيمة ما شهد هذه الشهادة إلا بعد أن اطلع على ما في هذا التفسير من علم واسع غزير. هذا وقد كتب (نولدكه) في سنة 1860م بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: "لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تمامًا، وكان مثل "تاريخه الكبير" مرجعًا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم" (¬3). ويظهر مما بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، ثم اختصره مؤلفه إلى هذا القدر الذي هو عليه الآن، كما أن كتابه في التاريخ ظفر بمثل هذا البسط والاختصار، فابن السبكي يذكر في "طبقاته الكبرى" (¬4) "أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ربما تفنى ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل؛ ولعله ابن سليمان، وهو مقاتل بن سليمان بن بشير، وهو متهم بالكذب. (¬2) "فتاوى ابن تيمية" 2/ 192. (¬3) "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" ص 85. (¬4) 2/ 137.

طريقة ابن جرير في "تفسيره"

الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال إنا لله، ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر التفسير" اهـ. هذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذي له الأولية بين كتب التفسير، أولية زمنية، وأولية من ناحية الفن والصناعة. أما أوليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا، وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شيء منها، اللهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدده. وأما أوليته من ناحية الفن والصناعة؛ فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتابًا له قيمته ومكانته. ونريد أن نعرض هنا لطريقة ابن جرير في "تفسيره" بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد في بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعًا مهمًّا من مراجع المفسرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول: طريقة ابن جرير في "تفسيره": تتجلى طريقة ابن جرير في "تفسيره" بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا في القراءة شوطًا بعيدًا، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن يفسر الآية من القرآن يقول: "القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا" ثم يفسر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم في هذه الآية، وإذا كان في الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض

إنكاره على من يفسر بمجرد الرأي

لكل ما قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه في ذلك عن الصحابة أو التابعين. ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار. إنكاره على من يفسر بمجرد الرأي: ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأي المستقلين في التفكير، ولا يزال يشدد في ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين، والمنقول عنهم نقلاً صحيحًا مستفيضًا، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح، فمثلاً عند ما تكلم عن قوله تعالى في الآية (49) من سورة يوسف: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف مع توجيهه للأقوال وتعرضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على من يفسر القرآن برأيه، وبدون اعتماد منه على شيء إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقول ما نصه " ... وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله {وَفِيهِ يَعصِرُونَ} إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصر التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي: صاديًا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود أي: المقهور، ومن قول لبيد: فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافًا بغير معصر

وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين (¬1). وكثيرًا ما يقف ابن جرير مثل هذا الموقف حيال ما يروي عن مجاهد أو الضحاك أو غيرهما ممن يروون عن ابن عباس. فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (65) من سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} يقول ما نصه: حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارًا" اهـ، ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول ما نصه: "وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف ... " إلخ (¬2). ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (229) من سورة البقرة أيضًا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تجده يروي عن الضحاك في معنى هذه الآية: أن من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون، ثم يقول: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع؛ لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر فيقال تلك حدود الله، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة والذي لا يكون له فيه الرجعة، دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة. اهـ (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 22/ 138. (¬2) "تفسير ابن جرير" 22/ 138. (¬3) "تفسير ابن جرير" 22/ 138.

موقفه من الأسانيد

وهكذا نجد ابن جرير في غير موضع من تفسيره، ينبري للرد على مثل هذِه الآراء التي لا تستند إلا على مجرد الرأي أو محض اللغة. موقفه من الأسانيد: ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف؛ لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانًا موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل من رجال الإسناد، ويجرح من يجرح منهم، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] يقول ما نصه: "روى عن عكرمة في ذلك -يعني في ضم سين سدًا وفتحها- ما حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّد، وما كان من صنع الله فهو السُّد. ثم يعقب على هذا السند فيقول: "وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب هارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه". اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" جـ 16 ص 13.

تقديره للإجماع

تقديره للإجماع: كذلك نجد ابن جرير في تفسيره يقدر إجماع الأمة، ويعطيه سلطانًا كبيرًا في اختيار ما يذهب إليه من التفسير، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (230) من سورة البقرة {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقول ما نصه: "فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره)؟ النكاح الذي هو جماع؟ أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قيل كلاهما: "وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجًا نكاح تزويج ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول؛ لإجماع الأمة جميعًا، فإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أن تأويل قوله: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، نكاحًا صحيحًا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها، فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعًا على أن ذلك معناه" (¬1). موقفه من القراءات: كذلك نجد ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيرًا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" جـ 2، ص 290 - 291.

موقفه من الإسرائيليات

توجيه رأيه بالأسباب، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (81) من سورة الأنبياء {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} يذكر أن عامة قراء الأمصار قرؤوا (الريح) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (الريح) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه. ولقد يرجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتا إنهم ليقولون عنه: إنه ألف فيها مؤلفًا خاصًا في ثمانية عشر مجلدًا، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور (¬1)، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته. موقفه من الإسرائيليات: ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن جريج والسدي، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى. ومن الأسانيد التي تسترعي النظر هذا الإسناد: حدثني ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبي عتاب ... رجل من تغلب كان نصرانيًا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه في الدين، وكان فيما ذكر، أنه كان نصرانيًا أربعين سنة ثم عمِّر في الإسلام أربعين سنة. يذكر ابن جرير هذا الإسناد، ويروي لهذا الرجل النصراني الأصل ¬

_ (¬1) "معجم الأدباء" جـ 18، ص 45.

انصرافه عما لا فائدة فيه

خبرًا عن آخر أنبياء بن إسرائيل، عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (7) من سورة الإسراء {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء: 7] (¬1). كما نراه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية يسوق هذا الإسناد: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان رجلاً من أهل مصر، اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح ... إلخ (¬2). وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع الى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة. وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيرًا من هذِه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التي اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلي، على أن ابن جرير -كما قدمنا- قد ذكر لنا السند بتمامه في كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات. انصرافه عما لا فائدة فيه: ومما يلفت النظر في تفسير ابن جرير أن مؤلفه لا يهتم فيه -كما يهتم ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 15/ 33 - 34. (¬2) "تفسير ابن جرير" 16/ 14.

غيره من المفسرين- بالأمور التي لا تعني ولا تقيد، فنراه مثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في سورة المائدة: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآيات [المائدة: 112، 113، 114] إلى قوله: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} يعرض لذكر ما ورد من الروايات في نوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء .. ثم يعقب على هذا بقوله "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكًا وخبزًا، وجائز أن يكون ثمرًا من الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به وإذا أقرّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل" اهـ (¬1). كما نراه عند تفسير قوله تعالى في الآية (20) من سورة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}، يعرض لمحاولات قدماء المفسرين في تحديد عدد الدراهم، هل هي عشرون؟ أو اثنان وعشرون؟ أو أربعون؟ ... إلى آخر ما ذكره من الروايات ... ثم يعقب على ذلك كله بقوله: "والصواب من القول أن يقال: إن الله -تعالى ذكره- أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحدد مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعين، وأقل من ذلك وأكثر وأي ذلك كان فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضُرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه" (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 7/ 88. (¬2) "تفسير ابن جرير" 12/ 13.

احتكامه إلى المعروف من كلام العرب

احتكامه إلى المعروف من كلام العرب: وثمة أمر آخر سلكه ابن جرير في كتابه، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعًا موثوقًا به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض الأقوال على بعض. فمثلاً عند تفسيره لقوله تعال في الآية (40) من سورة هود {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40] الآية نراه يعرض لذكر الروايات عن السلف في معنى لفظ التنور، فيروي لنا قول من قال: إن التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول من قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح، وقول من قال إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها، وقول من قال: إنه عبارة عما يختبز فيه ... ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله "وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله {اَلتَنُّوُر} قول من قال: التنور: الذي يختبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلى أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها، وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به .. " اهـ (¬1). رجوعه إلى الشعر القديم: كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشعر القديم بشكل واسع، متبعًا في هذا ما أثاره ابن عباس في ذلك، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (22) من سورة البقرة {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} يقول ما ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 12/ 25.

اهتمامه بالمذاهب النحوية

نصه: قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان ابن ثابت: أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء يعني بقوله: (ولست له بند) لست له بمثل ولا عدل، وكل شيء كان نظيرًا لشيء وشبيهًا فهو له ند" (¬1) ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السلف ... اهتمامه بالمذاهب النحوية: كذلك نجد ابن جرير يتعرض كثيرًا لمذاهب النحويين من البصريين والكوفيين في النحو والصرف، ويوجه الأقوال، تارة على المذهب البصري وأخرى على المذهب الكوفي، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (18) من سورة إبراهيم {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} يقول ما نصه "اختلف أهل العربية في رافع (مَّثَلُ) فقال بعض نحوي البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نقص عليكم مثل الذين كفروا، ثم أقبل يفسره كما قال: مثل الجنة .. وهذا كثير. وقال بعض نحوي الكوفيين: إنما المثل للأعمال، ولكن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه، ومعنى الكلام: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد ... إلخ (¬2). وهكذا يكثر ابن جرير في مناسبات متعددة من الاحتكام إلى ما هو معروف من لغة العرب، ومن الرجوع إلى الشعر القديم ليستشهد به على ما ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 1/ 125. (¬2) المصدر السابق.

معالجته للأحكام الفقهية

يقول، ومن التعرض للمذاهب النحوية عندما تمس الحاجة، مما جعل الكتاب يحتوي على جملة كبيرة من المعالجات اللغوية والنحوية التي أكسبت الكتاب شهرة عظيمة. والحق أن ما قدمه لنا ابن جرير في تفسيره من البحوث اللغوية المتعددة والتي تعتبر كنزًا ثمينًا ومرجعًا مهمًا في بابها، أمر يرجع إلى ما كان عليه صاحبنا من المعرفة الواسعة بعلوم اللغة وأشعار العرب، معرفة لا تقل عن معرفته بالدين والتاريخ. ونرى أن ننبه هنا إلى أن هذه البحوث اللغوية التي عالجها ابن جرير في تفسيره لم تكن أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما كانت وسيلة للتفسير، على معنى أنه يتوصل بذلك إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، كما يحاول بذلك -أحيانًا- أن يوفق بين ما صح عن السلف وبين المعارف اللغوية بحيث يزيل ما يتوهم من التناقض بينهما. معالجته للأحكام الفقهية: كذلك نجد في هذا التفسير آثارًا للأحكام الفقهية، يعالج فيها ابن جرير أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك كله برأي يختاره لنفسه، ويرجحه بالأدلة العلمية القيمة، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (8) من سورة النحل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} نجده يعرض لأقوال العلماء في حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ويذكر قول كل قائل بسنده .. وأخيرًا يختار قول من قال: إن الآية لا تدل على حرمة شيء من ذلك، ووجه اختياره هذا فقال ما نصه: "والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني -وهو أن الآية لا تدل على الحرمة- وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره: (لِتَرْكَبُوهَا) دلالة على أنها لا تصلح -إذ كانت للركوب- للأكل. لكان في قوله: {فِيهَا

خوضه في مسائل الكلام

دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] دلالة على أنها لا تصلح -إذ كانت للأكل والدفء- للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال (لِتَرْكَبُوهَا) جائز حلال غير حرام. إلا بما نص على تحريمه، أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء، وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى البغال بما قد بينا في كتابنا كتاب "الأطعمة" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع؛ إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن لا وجه لقول من استدل بهذه الآية على تحريم لحم الفرس" اهـ (¬1). خوضه في مسائل الكلام: ولا يفوتنا أن ننبه على ما نلحظه في هذا التفسير الكبير، من تعرض صاحبه لبعض النواحي الكلامية عند كثير من آيات القرآن، مما يشهد له بأنه كان عالمًا ممتازًا في أمور العقيدة، فهو إذا ما طبق أصول العقائد على ما يتفق مع الآية أفاد في تطبيقه. وإذا ناقش بعض الآراء الكلامية أجاد في مناقشته. وهو في جدله الكلامي وتطبيقه ومناقشته موافق لأهل السنة في آرائهم، ويظهر ذلك جليًا في رده على القدرية في مسألة الاختيار. فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في آخر سورة الفاتحة آية (7) {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} نراه يقول ما نصه: "وقد ظن بعض أهل ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 14/ 58 - 67.

الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال بقوله {وَلَا الضَّالِّينَ} وإضافة الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصف به اليهود أنهم مغضوب عليهم، دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية، جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكون كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب فالحق فيه أن يكون مضافًا إلى مسبّبه. ولو وجب ذلك بإضافة الجري إلى الفلك، ولوجب أن يكون خطأ قول القائل: تحركت الشجرة إذا حركتها الرياح، واضطربت الأرض إذا حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب. وفي قوله جل ثناؤه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} {يونس: 22} ان كان جريها بإجراء غيرِها إياها، ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ}، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى تصحيحًا لما ادعى المنكرون أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجلها وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عز ذكره نصًّا في آي كثيرة من تنزيله: أنه المضل الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره، ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه وإن كان مسبّبه غير الذي وجد منه أحيانًا وأحيانًا إلى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره، فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويوجده الله جل ثناؤه عينًا منشأة، بل ذلك أحرى أن

يضاف إلى مكتسبه كسبًا له بالقوة منه عليه، والاختيار منه له، وإلى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرًا" (¬1). وكثيرًا ما نجد ابن جرير يتصدى للرد على المعتزلة في كثير من آرائهم الاعتقادية، فنراه مثلاً يجادلهم مجادلة حادة في تفسيرهم العقلي التنزيهي للآيات التي تثبت رؤية الله عند أهل السنة، كما نراه يذهب إلى ما ذهب إليه السلف من عدم صرف آيات الصفات عن ظاهرها مع المعارضة لفكرة التجسيم والتشبيه، والرد على أولئك الذين يشبهون الله بالإنسان (¬2). وهكذا نجد ابن جرير لم يقف موقفًا بعيدًا عن مسائل النزاع التي تدور حول العقيدة في عصره، بل نراه يشارك في هذا المجال من الجدل الكلامي بنصيب لا يستهان به، مع حرصه كل الحرص على أن يحتفظ بسنيته ضد وجوه النظر التي لا تتفق وتعاليم أهل السنة. وبعد .. فإن ما جمعه ابن جرير في كتابه من أقوال المفسرين الذي تقدموا عليه وما نقله لنا عن مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود ومدرسة علي بن أبي طالب ومدرسة أبي بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدي وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور، كما أن ما جاء في الكتاب من إعراب وتوجيهات لغوية واستنباطات في نواح متعددة وترجيح لبعض ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 1/ 64. (¬2) انظر ما كتبه على قوله تعالى في الآية (64) من سورة المائدة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} الآية جـ 6 ص 193وما بعدها، وما كتبه على قوله تعالى في الآية (67) من سورة الزمر {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 24/ 16 وما بعدها.

الأقوال على بعض، كان نقطة التحول في التفسير، ونواة لما وجد بعد من التفسير بالرأي كما كان مظهرًا من مظاهر الروح العلمية السائدة في هذا العصر الذي يعيش فيه ابن جرير. والحق أن شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية جعلت تفسيره مرجعًا مهمًّا من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولغوية وعلمية قيمة فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة. وعلى الإجمال فخير ما وصف به هذا الكتاب ما نقله الداودي عن أبي محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني في "تاريخه" حيث قال: "فتم من كتبه -يعني محمد بن جرير- كتاب تفسير القرآن، وجوده، وبين فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخه، ومشكله وغريبه، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص، وأخبار الأمة والقيامة، وغير ذلك مما حواه من الحكم والعجائب كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة، وإلى أبي جاد، فلو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد وعجيب مستفيض لفعل اهـ (¬1). هذا وقد جاء في "معجم الأدباء" جـ 18 ص 64 - 65 وصف مسهب لتفسير ابن جرير، جاء في آخره ما نصه " ... وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود ¬

_ (¬1) "طبقات المفسرين" للداودي ص 23.

طريقًا، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حيان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يدخل في كتابه شيئًا عن كتاب محمد بن السائب الكلبي، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدي؛ لأنهم عنده أظناء والله أعلم. وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي، وعن ابنه هشام، وعن محمد بن عمر الواقدي، وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلى عنهم وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي، ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء، ومن كتاب أبي الحسن الأخفش، كتاب أبي علي قطرب؛ وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كان هؤلاء هم المتكلمون في المعاني، وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئًا من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه. اهـ. كما نجد في "معجم الأدباء" أيضا قبل ذلك بقليل، ما يدل على أن الطبري أتم تفسيره هذا في سبع سنوات، إملاء على أصحابه، فقد جاء في الجزء18 ص 42 عن أبي بكر بن بالويه أنه قال "قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق -يعني بن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنه؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ... إلخ". وبعد فأحسب أني قد أفضت في الكلام عن هذا التفسير، وتوسعت في الحديث عنه، وأقول: إن السرَّ في ذلك هو أن الكتاب يعتبر المرجع الأول والأهم للتفسير بالمأثور، وتلك ميزة لا نعرفها لغيره من كتب التفسير

بالرواية (¬1). لذلك ذاعت شهرة تفسير ابن جرير في الآفاق وأصبح مضرب المثل في غزارة المادة واستقامة المنهج قال السيوطي في "الإتقان" بعد أن ساق أسماء جماعة من المفسرين بالمأثور قبل الطبري: وبعدهم ابن جرير الطبري، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها .... إلخ. ثم قال: فإن قلت: فأي التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أن يعول عليه؟ قلت: تفسير الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري، الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلف مثله. قال النووي في "تهذيبه": كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله (¬2). ولا يزال العلماء ينهلون من هذا التفسير العظيم، وقلما تجد كتاب تفسير يخلو من أقوال ابن جرير الطبري. ولقد استفاد الواحدي في كتابه "البسيط" من ابن جرير ويظهر ذلك من كثرة النقول والآثار عن السلف في التفسير، كما نقل عنه في المسائل اللغوية، والقراءات وغير ذلك، ومما يلحظ أن الواحدي كثيرًا ما يورد أقوال الطبري ويناقشها، ولعل من أسباب ذلك اختلاف المنهج الذي يسلكه الطبري في التفسير عن منهج الواحدي، فبينما يعتمد ابن جرير منهج السلف والاعتماد على الآثار في التفسير، ولا يأخذ بأقوال المتكلمين في باب العقائد، نجد الواحدي بخلاف ذلك، حيث يعتمد التفسير بالرأي ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير والمفسرون" 1/ 205 - 224. (¬2) كتاب "الإتقان في علوم القرآن" 2/ 160 طبعة الميمنية سنة 1317 هـ.

أكثر، ويأخذ بأقوال المتكلمين في باب العقائد. ومن الأمثلة على إفادة الواحدي من الطبري ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3] ذكر القراءات في {مَالِكِ} وقال: واحتج محمد بن جرير لهذِه القراءة فقال: إن الله نبه على أنه مالكهم بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَحَمل قوله: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على وصف زائد أحسن" (¬1)، ثم قال في موضع آخر: " ... ومن نصر هذه القراءة -يريد القراءة بمالك- أجاب ابن جرير بأن قال: ما ذكرت لا يرجح قراءة (ملك) لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة قد تقدمها العام، وذكر بعده الخاص كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1 - 2] وقوِله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ثم قال: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] في أمثال كثيرة لهذا". ومثال آخر للواحدي الناقد الفاحص للأقوال المميز لها، نقل عن ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة: 10]. قال: وقال ابن جرير: معناه: في اعتقاداتهم مرض، أي: شك وشبه، فاستغنى بذكر القلوب عن ذكر الاعتقادات؛ لأن محلها القلوب كقولهم: "يا خيل الله اركبي". ثم قال الواحدي: "وليس الأمر على ما قال؛ لأن الشك في القلب على الحقيقة فأي فائدة لتقدير الاعتقاد هاهنا، ولأن الشك ينافي الاعتقاد وهم ليسوا معتقدين إذا كانوا شاكين" (¬2). وما نقلناه على سبيل المثال لا على الحصر؛ لأن البسيط مليء ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" تفسير الفاتحة الآية: 3، الطبري1/ 150، نقله الواحدي بمعناه. (¬2) انظر: "البسيط" تفسير البقرة، آية: 10، الطبري 1/ 278 نقل المؤلف كلامه بتصرف.

ثالثا: "الكشف والبيان" للثعلبي

بأقوال الطبري سواء كان النقل مباشرة أو عن طريق شيخه. ثالثًا: "الكشف والبيان" (¬1) للثعلبي (¬2): يعتبر "الكشف والبيان" أو "تفسير الثعلبي" من المصادر الرئيسة عند الواحدي، كيف وأن الثعلبي شيخ الواحدي وأخذ عنه التفسير، وذكر الواحدي في مقدمة البسيط في أثناء حديثه عن شيخه العروضي الذي قال له: " ... أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقاصي البلاد وتتركه أنت على قرب ما ببيننا من الجوار يعنى الأستاذ الإمام "أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله .. " (¬3) ثم يقول: " ... ثم فرغت للأستاذ الإمام أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله-، وكان حبر العلماء بل بحرهم ونجم الفضلاء بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بـ"الكشف والبيان عن تفسير القرآن" الذي رفعت به ¬

_ (¬1) كان الكتاب لا يزال مخطوطًا وقت إعداد معظم رسائل هذا الكتاب، وقد طبع بعدها طبعة تجارية رديئة، وحُقق في نحو عشرين رسالة جامعية في جامعة أم القرى، وهو قيد التنسيق والإخراج في دار الفلاح بالفيوم على غرار هذا الكتاب. (¬2) هو الإمام الحافظ العلامة، شيخ المفسرين أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ويقال: الثعالبي لقب لا نسب، كان أوحد زمانه في علم التفسير الكبير، قال الذهبي: وكان حافظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة من أهل نيسابور له اشتغال بالتاريخ توفى رحمه الله سنة 427 هـ من مصنفاته: "الكشف والبيان عن تفسير القرآن"، و"العرائس في قصص الأنبياء" و"ربيع المذكرين". ينظر ترجمته في: "معجم الأدباء" 5/ 36، 37، و"وفيات الأعيان" 1/ 79، 80، "العبر" 3/ 16، "تذكرة الحفاظ" 3/ 109، "طبقات" للسبكي 4/ 58، 59، "طبقات المفسرين" ص 5. (¬3) "مقدمة البسيط" ص 419.

التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه

المطايا في السهل والأوعار وسارت به الفلك في البحار وهب هبوب الرياح في الأقطار: وسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر وأصفقت عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم ... " إلى أن قال: " ... وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء و"تفسيره الكبير" وكتابه المعنون بـ"الكامل في علم القرآن" وغيرهما (¬1). التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه: ألقى مؤلف هذا التفسير ضوءًا عليه في مقدمته، وأوضح فيها عن منهجه وطريقته التي سلكها فيه، فذكر أولاً اختلافه منذ الصغر إلى العلماء، واجتهاده في الاقتباس من علم التفسير الذي هو أساس الدين ورأس العلوم الشرعية، ومواصلته ظلام الليل بضوء الصباح بعزم أكيد وجهد جهيد، حتى رزقه الله ما عرف به الحق من الباطل، والمفضول من الفاضل، والحديث من القديم، والبدعة من السنة، والحجة من الشبهة، وظهر له أن المصنفين في تفسير القرآن فرق على طرق مختلفة: فرقة أهل البدع والأهواء، وعد منهم الجبائي والرماني. وفرقة من ألفوا فأحسنوا، إلى أنهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين، وعد منهم أبا بكر القفال. وفرقة اقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون الدراية والنقد، وعد منهم أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. وفرقة حذفت الإسناد الذي هو الركن والعماد، ونقلت من الصحف ¬

_ (¬1) "مقدمة البسيط" ص 425.

والدفاتر، وحررت على هوى الخواطر، وذكرت الغث والسمين؛ والواهي والمتين، قال: وليسوا في عداد العلماء، فصنت الكتاب عن ذكرهم. وفرقة حازوا قصب السبق، في جودة التصنيف والحذق، غير أنهم طولوا في كتبهم بالمعادات؛ وكثرة الطرق والروايات، وعد منهم ابن جرير الطبري. وفرقة جردت التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال والحرام، والحل عن الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السلف الماضين، مثل مجاهد والسدي والكلبي. ثم بين أنه لم يعثر في كتب من تقدمه على كتاب جامع مهذب يعتمد ... ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه في إخراج كتاب في تفسير القرآن وإجابته لمطلوبهم، رعاية منه لحقوقهم، وتقربًا به إلى الله ... ثم قال: فاستخرت الله تعالى في تصنيف كتاب، شامل، مهذب، ملخص، مفهوم، منظوم، مستخرج من زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات. سوى ما التقطته من التعليقات والأجزاء المتفرقات، وتلقفته عن أقوام من المشايخ الأثبات، وهم قريب من ثلاثمائة شيخ، نسقته بأبلغ ما قدرت عليه من الإيجاز والترتيب. ثم قال: وخرجت فيه الكلام على أربعة عشر نحوًا: البسائط والمقدمات، والعدد والتنزلات، والقصص والنزولات، والوجوه والقراءات، والعلل والاحتجاجات، والعربية واللغات، والإعراب والموازنات، والتفسير والتأويلات، والمعاني والجهات، والغوامض والمشكلات، والأحكام والفقهيات، والحكم والإشارات، والفضائل والكرامات، والأخبار والمتعلقات، أدرجتها في أثناء الكتاب بحذف

الأبواب، وسميته: كتاب "الكشف والبيان عن تفسير القرآن" .. ثم ذكر في أول الكتاب أسانيده إلى من يروي عنهم التفسير من علماء السلف، واكتفى بذلك عن ذكرها أثناء الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره - وهي كثيرة- وكتب الغريب والمشكل والقراءات، ثم ذكر بابًا في فضل القرآن وأهله، وبابًا في معنى التفسير والتأويل، ثم شرع في التفسير. عثرت على هذا التفسير بمكتبة الأزهر فوجدته مخطوطًا غير كامل، وجدت منه أربع مجلدات ضخام (الأول والثاني والثالث والرابع). والرابع ينتهي عند أواخر سورة الفرقان، وباقي الكتاب مفقود لم أعثر عليه بحال. قرأت في هذا التفسير فوجدته يفسر القرآن بما جاء عن السلف، مع اختصاره للأسانيد، اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب، ولاحظت عليه أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (90) من سورة البقرة: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية نجده يتوسع في الكلام على نعم وبئس ويفيض في ذلك (¬1). كما أنه يعرض لشرح الكلمات اللغوية وأصولها وتصاريفها، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (171) من سورة البقرة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً} الآية نجده يحلل كلمة {يَنْعِقُ} هو تحليلاً دقيقًا ويصرفها على وجوهها كلها (¬2). ¬

_ (¬1) 1/ 83 - 84 (¬2) 1/ 123.

ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (173) من السورة نفسها {فَمَنِ اَضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلَا عَادٍ} الآية نجده يحلل لفظ البغي ويتكلم عن أصل المادة بتوسع (¬1): ومما لاحظته على هذا التفسير أنه يتوسع في الكلام عن الأحكام الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام، فتراه يذكر الأقوال والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها، إلى درجة أنه يخرج عما يراد من الآية، انظر إليه عندما يعرض لقوله تعالى في الآية (11) من سورة النساء {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية تجده يفيض في الكلام عما يفعل بتركة الميت بعد موته، ثم يذكر جملة الورثة والسهام المحددة، ومن فرضه الربع، ومن فرضه الثمن، والثلثان، والثلث، والسدس ... وهكذا، ثم يعرض لنصيب الجد والجدة والجدات، ثم يقول بعد هذا: فصل في بساط الآية، وفيه يتكلم عن نظام الميراث عند الجاهلية وقبل مبعث الرسول (¬2). وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (24) من سورة النساء {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} تجده قد توسع في نكاح المتعة وتعرض لأقوال العلماء، وذكر أدلتهم بتوسع ظاهر (¬3). وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (31) من سورة النساء {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية تجده يقول: " (فصل) في أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر، مجموعة من الكتاب والسنة، مقرونة بالدليل والحجة" .. ثم يسردها جميعًا ويذكر أدلتها ¬

_ (¬1) 2/ 125. (¬2) 1/ 91. (¬3) 2/ 102 - 104.

على وجه التفصيل (¬1). وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (43) من سورة النساء {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الآية تجده يعرض لأقوال السلف في معنى اللمس والملامسة ... ثم يقول: واختلف الفقهاء في حكم الآية على خمسة مذاهب، ويتوسع على الخصوص في بيان مذهب الشافعي ويسرد أدلته، ويذكر تفصيل كيفية الملامسة عنده، كما يعرض لأقوال العلماء في التيمم ومذاهبهم وأدلتهم بتوسع ظاهر عندما يتكلم عن قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2). وهكذا يتطرق الكتاب إلى نواح علمية متعددة، في إكثار وتطويل يكاد يخرج به عن دائرة التفسير بالمأثور. ثم إن هناك ناحية أخرى يمتاز بها هذا التفسير، هي التوسع إلى حد كبير في ذكر الإسرائيليات بدون أن يتعقب شيئًا من ذلك أو ينبه على ما فيه رغم استبعاده وغرابته، وقد قرأت فيه قصصًا إسرائيليًا نهاية في الغرابة. ويظهر لنا أن الثعلبي كان مولعًا بالأخبار والقصص الى درجة كبيرة؛ بدليل أنه ألف كتابًا يشتمل على قصص الأنبياء، ولو أنك رجعت إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية [10]، من سورة الكهف: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} الآية. لوجدته يروي عن السدي ووهب وغيرهما كلامًا طويلًا في أسماء أصحاب الكهف، وعددهم، وسبب خروجهم إليه، ولوجدته يروي ¬

_ (¬1) 2/ 110 - 112. (¬2) 2/ 125 - 136.

عن كعب الأحبار، ما جرى لهم مع الكلب حين تبعهم إلى الغار، ولعجبت حين تراه يروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من ربه رؤية أصحاب الكهف فأجابه الله بأنه لن يراهم في دار الدنيا، وأمره بأن يبعث لهم أربعة من خيار أصحابه ليبلغوهم رسالته ... إلى آخر القصة التي لا يكاد العقل يصدقها (¬1). ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف أيضًا و {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية تجده قد أطال وذكر كلامًا لا يمكن أن يقبل بحال؛ لأنه أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة (¬2). ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى: في الآية (27) من سورة مريم {فَأَتتَ به قَومَهَا تَحمِلُه} الآية تجده يروي عن السدي ووهب وغيرهما قصصًا كثيرًا، وأخبارًا في نهاية الغرابة والبعد (¬3). ثم إن الثعلبي لم يتحر الصحة في كل ما ينقل من تفاسير السلف، بل نجده -كما لاحظنا عليه وكما قال السيوطي في "الإتقان" (¬4) - يكثر من الرواية عن السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة في فضائل القرآن سورة سورة، فروى في نهاية كل سورة حديثًا في فضلها منسوبًا إلى أبي بن كعب، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسنة الشيعة فسود بها كتابه دون أن يشير الى ¬

_ (¬1) 4/ 121 - 125. (¬2) 4/ 140 - 143. (¬3) 4/ 147 - 149. (¬4) 2/ 189.

وضعها واختلاقها. وفي هذا ما يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها. هذا .. وإن الثعلبي قد جر على نفسه وعلى تفسيره بسبب هذه الكثرة من الإسرائيليات، وعدم الدقة في اختيار الأحاديث، اللوم المرير والنقد اللاذع من بعض العلماء الذين لاحظوا هذا العيب على تفسيره، فقال ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير: (¬1) والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، وقال أيضًا في مجموع الفتاوى (¬2): وقد سئل عن بعض كتب التفسير وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره وتفسيره وتفسير الواحدي البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها. اهـ ومن يقرأ تفسير الثعلبي يعلم أن ابن تيمية لم يتقول عليه، ولم يصفه إلا بما هو فيه. وقال الكتاني في الرسالة المستطرفة (¬3) عند الكلام عن الواحدي المفسر ولم يكن له ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما -وخصوصًا الثعلبي- أحاديث موضوعة وقصص باطلة اهـ. والحق أن الثعلبي رجل قليل البضاعة في الحديث؛ بل ولا أكون ¬

_ (¬1) ص 19. (¬2) 2/ 193. (¬3) ص 59.

قاسيًا عليه إذا قلت إنه لا يستطيع أن يميز الحديث الموضوع من غير الموضوع وإلا لما روى في تفسيره أحاديث الشيعة الموضوعة على علي، وأهل البيت، وغيرها من الأحاديث التي اشتهر وضعها، وحذر العلماء من روايتها. والعجب أن الثعلبي بعد هذا كله يعيب كل كتب التفسير أو معظمها، حتى كتاب محمد بن جرير الطبري الذي شهد له خلق كثير. وليته إذ ادعى في مقدمة تفسيره أنه لم يعثر في كتب من تقدمه من المفسرين على كتاب جامع مهذب يعتمد، أخرج لنا كتابه خاليًا مما عاب عليه المفسرين ... ليته فعل ذلك ... إذًا لكان قد أراحنا وأراح الناس من هذا الخلط والخبط الذي لا يخلو منه موضع من كتابه (¬1). أخذ الواحدي عن الثعلبي كثيرًا من الآثار المروية عن السلف في التفسير خصوصًا أقوال ابن عباس، وغيره كمجاهد وعبد الرحمن بن زيد، كما أخذ عنه أقوال الكلبي ومقاتل، والحسين بن الفضل وغيرهم، كما أخذ عنه بعض الإسرائيليات. كما أنه ينقل قول الثعلبي في تفسير الآية وغالبا ما يذكره بعد قوله قال المفسرون. ومما يثير العجب أنه مع عظم تقدير الواحدي لشيخه الثعلبي وإعجابه به، كما يظهر في كلامه السابق على الرغم من ذلك وعلى الرغم من كثرة ما نقل عنه فإنه لا يذكره إلى نادرًا. من أمثلة نقله عن الثعلبي من كلام السلف قوله في تفسير قوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير والمفسرون" 3/ 232 - 234.

{ذَلِكَ الكتَابُ} [البقرة: 2] وروى عن ابن عباس أنه قال: معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أني أوحيه إليك. وقال يمان بن رباب: ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ... (¬1). ومثال للإسرائيليات التي انتقلت للبسيط من تفسير الثعلبي ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآية [البقرة: 30] قال: قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجن الأرض، فغبروا دهرًا طويلًا في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث إليهم جندًا من الملائكة يقال لهم الجن رأسهم إبليس، وهم خُزَّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة، فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن عن وجوهها إلى شعوب الجبال وجزائر البحور، وسكنوا الأرض، وكانوا أخف الملائكة عبادة، لأن أهل السماء الدنيا أخف عبادة من الذين فوقهم ... الخ. ونقل مثل هذا طويلا بنصه عن الثعلبي (¬2). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 18] روى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: يريد أن عن يمين العرش نهرًا من نور، مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل فيه كل سحر فيغتسل فيزداد نورًا إلى نوره وجمالًا إلى جماله، وعظمًا إلى عظمه، ثم ينتفض، فيخلق الله من كل نفضة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفًا البيت المعمور، وفي ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" [البقرة: 2]، الثعلبي 1/ 39 ب. (¬2) انظر: "البسيط" [البقرة: 30].

الكعبة سبعون ألفًا، لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقد ورد بنصه في تفسير الثعلبي وكما ينقل الواحدي عن الثعلبي آثار السلف والإسرائيليات والقضايا التفسيرية، فإنه ينقلِ عنه مسائل لغوية أو نحوية، مثال ذلك في تفسير قوله تعال: {وَمِمَّا رزَقنَاهُم يُنفِقُونَ} [البقرة: 3] قال: "ومعنى الإنفاق في اللغة إخراج المال من اليد، ومن هذا يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، والنفق سرب له مخلص إلى مكان آخر يخرج منه، والنافقاء من جحرة اليربوع: هو الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى .... فيظهر أن الواحدي اعتمد في هذا التحليل للفظ "الإنفاق" على الثعلبي لتطابق عبارته مع الثعلبي (¬1). ومثال آخر في جانب النحو واللغة: ما ذكره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال الواحدي: {وَعَشْرًا} بلفظ التأنيث، وأراد الأيام، وإنما كان كذلك تغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعن في التاريخ وغيره، وذلك أن ابتداء الشهر يكون بالليل، فلما كانت الليالي الأوائل؛ غلبت لأن الأوائل أقوى من الثواني (¬2). فهذا منقول من تفسير الثعلبي دون عزو. ومن أمثلة ذلك في جانب الأحكام الفقهية: قول الواحدي في تفسير آيات الصيام: "والمرض الذي يبيح الإفطار هو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةَ في علته زيادةً لا يحتمله، والأصل فيه: أنه إذا أجهده الصوم أفطر". ¬

_ (¬1) انظر: الثعلبي 1/ 47 أ، ب. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 159 أ.

ويمكن أن نسجل هنا مقارنة بين "الكشف والبيان" للثعلبي و"البسيط" للواحدي في النقاط الآتية

وحدُّ السَّفَرِ الذي يبيح الإفطار: ستة عشر فرسخا (¬1) فصاعدًا. والإفطار رخصة من الله للمسافر، فمَنْ أَفْطَرَ فبرخصة الله أخذ، ومن صام ففرضه أدى، على هذا عامة الفقهاء. فهذا النص منقول من تفسير الثعلبي دون عزو إليه، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا تحصى؛ لأن تفسير الثعلبي كالعمود الفقري وعمود الخيمة بالنسبة لتفسير البسيط. ويمكن أن نسجل هنا مقارنة بين "الكشف والبيان" للثعلبي و"البسيط" للواحدي في النقاط الآتية: 1 - يعتبر تفسير الثعلبي من تفاسير الرواية المسندة، حيث يروي كثيرًا من الأحاديث والآثار والأخبار والأشعار بسنده، بينما لا نجد هذا في البسيط إلا قليلًا. وغالب ما فيه من المرويات مأخوذ من تفسير شيخه. 2 - بسط الواحدي البحث في مجال اللغة والقراءات تدقيقًا وتحقيقًا ومناقشة وتوجيهًا، بينما نجد هذين الجانبين في تفسير الثعلبي على نحو مختصر، وكأن كتاب الواحدي استدراك على كتاب شيخه في هذين الجانبين. 3 - أكثر الثعلبي في كتابه من الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد تقدم أنه ذكر الحديث الموضوع في فضائل السور، وهذا مما أخذ عليه، قال ابن الجوزي عن تفسير "الكشف والبيان": "ليس فيه ما يعاب به، إلى ما ضمنه من الأحاديث الواهية التي هي في الضعف متناهية، ¬

_ (¬1) الفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربعة وعشرون أصبعا معتدلة، أي: أن طول الفرسخ حوالي 6 ك. ينظر: "المجموع شرح المهذب" 4/ 190، و"القاموس" ص 329، و"المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري" ص 904.

خصوصًا أوائل السور" (¬1). ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: لقد أجمع أهل العلم بالحديث أنه روى طائفة من الأحاديث الموضوعة، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة، وأمثال ذلك، ولهذا يقال: "هو كحاطب ليل" (¬2). ويقول أيضا "والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع" (¬3). ويقول في موضع آخر: الثعلبي والواحدي وأمثالهما، هؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم، وكثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف؟ ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر، لأن وظيفتهم النقل لما نُقل، أو حكاية أقوال الناس، وإن كان كثير من هذا وهذا باطلًا، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها، ولكن لا يطردون هذا ولا يلتزمون (¬4). بينما نجد أن الواحدي لقلة الرواية في تفسيره هذا نسبة إلى تفسير شيخه قد تجاوز كثيرًا من المرويات السقيمة والإسرائيليات، ولم يعرج عليها، وإن كان لم يسلم منها، ومما يحمد له أنه لم يذكر حديث فضائل السور الموضوع في البسيط، لكنه ذكره في الوسيط. ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" 4/ 283، وينظر: "مقدمة التحقيق" لتفسير الثعلبي "الكشف والبيان" 1/ 200. (¬2) "منهاج السنة النبوية" 4/ 4، وينظر أيضًا 4/ 82. (¬3) "مجموع الفتاوى" 13/ 354 (¬4) "منهاج السنة" 4/ 84.

4 - بين الثعلبي رحمه الله في مقدمة تفسيره أسانيده إلى أئمة التفسير، الذين شهروا بالتفسير كابن عباس وابن مسعود ومجاهد (¬1). بينما لم يذكر الواحدي هذه الأسانيد في مقدمة كتابه وإنما ذكر بعضًا منها مفرقًا في ثنايا كتابه. 5 - ذكر الثعلبي في مقدمته أنه بنى كتابه على أربعة عشر أساسًا وعد منها: الحِكم والإشارات، يعني: التفسير الإشاري (¬2)، وقد نقل شيئًا من ذلك في كتابه من كتاب شيخه أبي عبد الرحمن السلمي، الذي قال عنه الثعلبي: قرأته كله على مصنفه أبي عبد الرحمن السلمي، فأمر لي به (¬3) كما أفاد من كتب أخرى في هذا الباب: كتفسير القرآن العظيم لسهل التستري (¬4)، لكن الثعلبي لم يتابع شيخه السلمي فيما أخطأ فيه، وانتُقد بسببه، وصان تفسيره من التأويلات الرمزية التي تخالف اللغة العربية (¬5). بينما لم يلتفت الواحدي إلى شيء من ذلك، وعرفنا موقفه من تفسير السلمي فيما تقدم. ¬

_ (¬1) ينظر: مقدمة تفسير الثعلبي 1/ 245 - 327 تحقيق د. خالد العنزي. (¬2) وهو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة. انظر "التفسير والمفسرون" 2/ 352. (¬3) مقدمة "تفسير الثعلبي" 1/ 331 تحقيق: د. العنزي. (¬4) هو سهل بن عبد الله التستري، الصوفي الزاهد، صحب ذا النون المصري، له كلمات نافعة ومواعظ حسنة وقدم راسخ في الطريق كما قال الذهبي. توفي سنة 283. ينظر: "حلية الأولياء" 10/ 189، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 330. (¬5) ينظر: الثعلبي ودراسة كتابه: "الكشف والبيان" 2/ 616 ومقدمة التحقيق لتفسير الثعلبي 1/ 140 للدكتور العنزي.

ثانيا: علم القراءات

ثانيًا: علم القراءات: " الحجة للقراء السبعة" (¬1) لأبي علي الفارسي (¬2): وما ألف أبو علي كتاب الحجة للقراء السبعة، إلاَّ ليستدل ويحتج للقراءات وتوثيقها وتوجيهها، والتماس الدليل لقراءة كل قارئ من القراء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، إما بالاستناد إلى قاعدة مشهورة في العربية، أو بالتماس علة خفية بعيدة الإدراك يحاول اقتناصها، أو توليدها أو الاعتماد على القياس وحشد النظائر ومقارنة المثيل بالمثيل وهو ممَّا برع فيه أبو على الفارسي. وكان أبو على الفارسي يسوق لكل أسلوب من أساليب احتجاجه الآيات القرآنية، والشعر الصالح للاحتجاج، والحديث النبوي، والأمثال ¬

_ (¬1) اسم الكتاب "الحجة للقراء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد" طبع الكتاب بتحقيق: بدر الدين قهوجي، وبشير حويجاتي، ومراجعة: عبد العزيز رباح، وأحمد الدقاق، في دار المأمون بدمشق. (¬2) هو: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسي الفسوي، أبو علي، نحوي، صرفي، عالم بارع بالعربية والقراءات، ولد ببلدة فسا، وقدم بغداد، سمع الحديث، وبرع في علم النحو وانفرد به، وقصده الناس من الأقطار، وعلت منزلته في العربية، وقدم حلب سنة 341، فأقام عند سيف الدولة فأكرمه وأحسن نزله ثم رجع إلى فارس وصحب عضد الدولة ابن بويه، وتقدم عنده فعلمه النحو، وروى القراءة عرضًا عن أبي بكر بن مجاهد، وعرضًا عن الملك بن بكران، وانتهت إليه رئاسة النحو. قال الذهبي: كان فيه اعتزال، توفى سنة 377 في ربيع الأول. من مصنفاته: "الحجة للقراء السبعة"، "التذكرة"، "التكملة والإيضاح". ينظر: "تاريخ بغداد" 7/ 275 - 276، "وفيات الأعيان" 1/ 163 - 164، "سير أعلام النبلاء" 16/ 379.

العربية، ولغات العرب ولهجاتها، وأقوال أئمة العربية وعلى رأسهم سيبويه الذي انتثرت عبارات كتابه في حجته. وطريقته في ذلك طريقة المتن والشرح، فهو يعرض أولًا نص ابن مجاهد في عرضه لاختلاف القراء في كل حرف من الحروف، مصرحًا باسمه أو مغفلًا له مكتفيًا بقوله: اختلفوا ... ثم يعقبه بقول شيخه ابن السراج وذلك في القسم الذي شرع في تفسيره من الفاتحة وسورة البقرة. أو بكلامه هو بقوله: قال أبو علي. ولعل أبرز ما يتميز به أسلوب أبي علي هو ظاهرة الاستطراد والانطلاق بعيدًا عن أصل الموضوع المطروق حتى يكاد ينسي أخره أوله، فهو ينتقل بالقارئ من الكلام على الحرف والخلاف فيه والاحتجاج له إلى تفسير الآية، فيغوص في الأعماق فيستخرج من كنوز المعاني ودرر الحقائق ما ينتزع إعجاب العلماء بسعة عقله ونفاذ فكره، أو يتناول الكلمة وما يتفرع عنها من معان وما تدل عليه من دلالات فيتناولها معنًى معنًى مبينًا له مع شواهده ثم يتجاوزه إلى الحديث عن الوجوه الإعرابية أو العلل الصرفية، ويناقش جميع ذلك ويحشد له الشواهد والأدلة، فيشبعه ولا يترك بعده زيادة لمستزيد، وهو أشبه ما يكون بالنبع الغزير المتدفق في الأرض المستوية، ينبثق فيشق دروبًا لنفسه في كل مكان قبل أن يأخذ مجراه. ثم ذكر الواحدي صلته بكتب أبي علي الفارسي عمومًا في مقدمته حينما قال: ... وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي عنه .. (¬1). ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط" للمؤلف.

وذكر صلته بكتاب الحجة بصفة خاصة حينما قال: وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل الأمصار دون تسمية القراء، واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي، الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه .. (¬1). ولقد اعتمد الواحدي اعتمادًا كبيرًا على كتاب "الحجة" في توجيه القراءات، ونقل عنه وأطال، ولعله اكتفى بتلك الإحالة التي ذكرها في المقدمة حين قال: .. واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي على الحسن بن أحمد الفارسي ... ولهذا لم يعز له إلاَّ قليلًا مع أنه في أكثر المواضع ينقل كلام أبي علي بنصه، وقد يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا. على أنه مما ينبغي ذكره أن أبا علي لمَّا أطال في كتابه على هذا النسق جعل الكتاب صعب العبارة، لا يستطيع الإفادة منه إلا القليل. ذكر هذا تلميذه ابن جني حينما قال: "وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب "الحجة في قراءة السبعة" فأغمضه وأطال حتى منع كثيرًا -ممن يدعي العربية فضلا عن القَرَأة- منه، وأجفاهم عنه" (¬2). وبنقل الواحدي عن الحجة وإطالته في ذلك، وقع في كتابه شيء من الغموض وصعوبة العبارة، تلاحظ ذلك وأنت تقرأ في حجج القراءات عند الواحدي أو في بعض المباحث اللغوية والنحوية. وأمثلة ما نقله عن "الحجة" كثيرة ففي كل موضع تكلم فيه عن ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) "المحتسب" 1/ 236، وانظر مقدمة المحققين على كتاب "الحجة" ص 26، طبعة دار المأمون.

القراءات نقل فيه عن أبي علي. من ذلك في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ذكر القراءات فيها، ثم ذكر الاحتجاج لها، ونقل في ذلك عن الحجة بدون عزو قال: "قال محمد بن السري: الملك الذي يملك الكثير من الأشياء ويشارك غيره من الناس بالحكم عليه في ملكه ... " (¬1) وأخذ بعد ذلك عن أبي علي بتصرف. ومثال آخر في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيهِمءَأَنذَزتَهُم} الآية [البقرة: 6] نقل في الاحتجاج للقراءات في "أأنذرتهم" قريبًا من "عشر صفحات" (¬2). على أن أخذ الواحدي من "الحجة" لم يقتصر على الاحتجاج للقراءات، حيث إن أبا علي في "الحجة" يستقصي ويتتبع المسائل ويخرج عن مجال الاحتجاج للقراءات إلى بيان أصول بعض الكلمات، أو الوجه التفسيري للآية فنقل عنه الواحدي في ذلك كثيرًا. ومن أمثلة ذلك في قوله تعالى: {هُدًى للْمُتَّقِين} [البقرة: 2] قال: "وقال أناس من النحويين: إنه قد تُجْرى الأسماء التي ليست بمصادر مُجْرى المصادر، فيقولون: جلس جلسة، وركب ركبة، ويقولون: عجبت من دهنك لحيتك وينشدون: وبعد عطائك المائةَ الرَّتاعا ... فَيُجرى مُجْرى الإعطاء ..... إلخ (¬3). فهذا -مع كلام بعده- نقله عن الحجة بتصرف يسير في العبارة. ونص ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" تفسير الفاتحة [الآية: 4] (¬2) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة [الآية: 6]. (¬3) "البسيط" عند تفسير الآية: [2].

ثالثا: معاني القرآن

كلام أبي علي في "الحجة": " .. ويقويه أن ناسا من النحويين يزعمون أنه قد يجري الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: "عجبت من دهنك لحيتك .. الخ" (¬1). ونقل عنه في موضع آخر مع عزو الكلام إليه فقال في تفسير قوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَك} [البقرة: 30] قال: "قال أبو علي الفارسي: معنى نقدس لك: ننزهك عن السوء، فلا ننسبه إليك، و"اللام" فيه على حدها في قوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] لأن المعنى تنزيهه، وليس المعنى أنه ينزه شيء من أجله ... الخ" (¬2). ثالثًا: معاني القرآن: 1 - " معاني القرآن" (¬3) للفراء أبي زكريا يحي بن زياد (¬4): ¬

_ (¬1) " الحجة" 1/ 182. (¬2) "البسيط" عند تفسير الآية: [30]. (¬3) ذكر ثعلب: كان السبب في إملاء كتاب الفراء في المعاني أن عُمَر بن بُكير كان من أصحابه، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولًا أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلت. فقال الفراء لأصحابه: أجتمعوا حتى أمل عليكم كتابًا في القرآن. هذا وقد أملى الفراء كتابه من حفظه في سنتين من رمضان 202 إلى 204. وقد طبع بتحقيق الأستاذان محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي. (¬4) هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي، المعروف بالفراء الديلمي أبو زكريا، مولاهم الكوفي صاحب التصانيف سكن بغداد وأملى بها كتاب "معاني القرآن" وغير ذلك. ولد سنة (144) هـ. قال ابن الأنباري: كان يقال للفراء أمير المؤمنين في النحو. وقال ثعلب: لولا الفراء لما كانت عربية لأنه خلصها وضبطها، ولولا الفراء =

لقد ألف الفراء كتابه "معاني القرآن" وحشد فيه من المسائل النحوية والصرفية واللغوية، ومذاهب العرب وتوجيه القراءات وتفسير القرآن من وجهة عربية لإبراز مذهبه الكوفي في علوم العربية. وقد أفاد الواحدي من كتاب "معاني القرآن" ونقل عنه كثيرًا إما بالعزو إليه فيقول: قال الفراء، ومن أمثلة ذلك تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] عن معنى "ذلك" قال: قال الفراء: وإنما يجوز "ذلك" بمعنى "هذا" لما مضى وقرب وقت تقضيه، أو تقضي ذكره، فأما الموجود الحاضر فلا يقال فيه "ذلك" .... إلخ " (¬1). وربما نقل عنه بالسند كما في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قال: "أخبرني أبو سعيد بن أبي عمرو النيسابوري -رحمه الله- ثنا محمد بن يعقوب المعقلي ابنا محمد بن الجهم (¬2) (¬3)، عن الفراء قال: الاستواء في كلام العرب على جهتين، إحداهما: أن يستوي ¬

_ = لسقطت العربية لأنه كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب. توفي رحمه الله سنة 257 بطريق مكة عن عمر ثلاث وستين سنة. من مصنفاته: "الحدود"، "معاني القرآن"، "الوقف والابتداء"، "المصادر". ينظر ترجمته: "وفيات الأعيان" 2/ 301 - 354، "معجم الأدباء" 20/ 9 - 14، "أخبار النحويين البصريين" ص 51، "تذكرة الحفاظ" 1/ 338. (¬1) انظر: "البسيط" عند تفسير الآية [2]، "معاني القرآن" 1/ 10. (¬2) هو: محمد بن الجهم السِّمرِّي، أبو عبد الله راوي كتاب "معاني القرآن" للفراء. ينظر ترجمته: "تاريخ بغداد" 2/ 161، "الإكمال" 4/ 529، "غاية النهاية في طبقات" 1/ 327، "سير أعلام النبلاء" 13/ 163، "تذكرة الحفاظ" 2/ 314. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 14، "البسيط" عند الآية [29].

2 - "معاني القرآن" للزجاج

الرجل وينتهي شبابه وقوته، ويستوي من اعوجاج ... الخ" (¬1). وقد ينقل عنه بدون عزو كما في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] قال: "وقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} ينعطف على قوله: {وَإِذ قُلتمُ يَامُوسَى} [البقرة: 55]، {وَإِذ فَرَقْنَا} [البقرة: 50] والذكر مضمر فيها كأنه قال: "واذكروا إذ قتلتم"، ولهذا لم يأت لـ"إذ" بجواب. ومثله قوله: {وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صاَلِحًا} [هود: 61] وليس شيء قبله تراه ناصبا لصالح، فعلم بذكر النبي، وبالرسل إليه أن فيه إضمار "أرسلنا". ومثله قوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 76]، {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء: 87] وهذا يجرى على مثال ما قال في سورة "ص" {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} {ص: 45} ثم ذكر الذين من بعدهم بغير "واذكر" لأن معناه متفق، فجاز ذلك ..... " (¬2). ويتضح من هذه النصوص أنه ينقل عن الفراء في المسائل النحوية واللغوية والقضايا التفسيرية وغيرها. 2 - " معاني القرآن" (¬3) للزجاج (¬4): ذكر المؤلف صلته بـ"معاني القرآن" للزجاج في مقدمة البسيط في أثناء ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 25، "البسيط" الموضع السابق. (¬2) "البسيط" ص 1077، والكلام في "معاني القرآن" للفراء مع اختلاف يسير في العبارة 1/ 35. (¬3) طبع الكتاب بتحقيق د/ عبد الجليل شلبي، المطابع الأميرية، القاهرة، خرج منه مجلدان، ثم طبع كاملا في "عالم الكتب" بلبنان في خمسة أجزاء. (¬4) هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل. كان في أول حياته يحترف خراطة الزجاج فسمي الزجاج، عالم بالنحو واللغة ذو دين وفضل وحسن اعتقاد، أخذ العلم عن المبرد وثعلب وغيرهم، ومن أشهر تلامذته: أبو علي الفارسي والجوهري وغيرهم. =

منهج الزجاج في "معاني القرآن"

كلامه عن شيخه سعيد بن محمد الحيري قال: " ... وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج في "المعاني" روايته عن ابن مقسم (¬1) عنه وسمع بقراءتي الخلق الكثير .... " (¬2). منهج الزجاج في "معاني القرآن": وطريقته أنه يحلل بعض ألفاظ الآية من الناحية الاشتقاقية ثم يذكر إعراب الآية ويناقش النحويين، ويورد قراءات اللغويين وهي قراءات شاذة غالبا، كما يورد القراءات المشهورة ويبين المعنى على كل، وقد يقف عن الحروف فيشرحها (¬3). وقد اعتمد الواحدي على كتاب "معاني القرآن" اعتمادًا كبيرًا، وأفاد منه كثيرًا، ولا يفسر آية إلا وينقل غالبا عن الزجاج فيها قائلًا: قال أبو إسحاق، أو قال الزجاج. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {رَبِّ العَالَمِينَ} ¬

_ = ومن مصنفاته: "معاني القرآن"، "الاشتقاق"، "العروض"، "مختصر النحو"، "ما تكلمت به العرب على لفظ فعلت وأفعلت"، وغيرهما من المصنفات النافعة. ينظر: "تاريخ بغداد" 6/ 89 - 93، "معجم الأدباء" 1/ 130 - 151، و"الأنساب" 6/ 273، و"إنباه الرواة" 1/ 194 - 200. (¬1) ابن مقسم: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم العَطار أبو بكر البغدادي، إمام نحوي مقرئ له مؤلفات جليلة في التفسير ومعاني القرآن وله اختيار في القراءة تكلم فيها بعض العلماء توفي سنة 354 وله 89 سنة، انظر: "إنباه الرواة" 3/ 100، و"معجم الأدباء" 18/ 150، و"غاية النهاية" 3/ 123، و"لسان الميزان" 5/ 130، و"طبقات المفسرين" للداوودي 2/ 131. (¬2) انظر: مقدمة "البسيط" ص 424. (¬3) انظر مقدمة د/ شلبي على معاني القرآن.

[الفاتحة: 1] قال: "قال أبو إسحاق: وإنما لم يستعمل الواحد من لفظه، لأن "العالم" اسم لأشياء مختلفة، فإن جعل لواحد منها أسم من لفظه صار جمعا لأشياء متفقة" (¬1). وفي سورة يونس في تفسير قوله تعال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [يونس: 23] قال: "قال أبو إسحاق متاع الحياة الدنيا يقرأ بالرفع والنصب فالرفع من جهتين .. الخ" (¬2). وربما نقل عنه بالسند كما في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الآية [البقرة: 29] فقال: "أقرأني سعيد بن محمد الحيري -رحمه الله- عن أبي الحسن بن مقسم وأبي علي الفارسي عن الزجاج قال: قال قوم في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} عمد وقصد إلى السماء، كما تقول فرغ الأمير من بلد كذا ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه، قال: وقول ابن عباس: "ثم استوى إلى السماء" أي صعد، معناه: صعد أمره إلى السماء انتهى كلامه (¬3). وقد ينقل عنه ولا يعزو له، وهذا كثير، مثال ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] قال: " .. فإن قيل: فما أنكرت أن يكون جواب هل رجل في الدار؟ قيل: معن "لا رجل في الدار" عمهم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه وكذلك: "هل من رجل في الدار"؟ استفهام عن ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" تفسير الفاتحة الآية [2]. (¬2) "البسيط" 3/ ل 11 ب "النسخة الأزهرية". (¬3) انظر: "البسيط" [البقرة: 29]، وانظر كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 74، 75، والنص أقرب إلى ما في "تهذيب اللغة" 13/ 125.

رابعا: اللغة

الواحد وأكثر منه ... الخ" (¬1). فهذا التساؤل وجوابه والكلام بعده وقبله أخذه عن "معاني القرآن" للزجاج (¬2)، وهو يتصرف في كلام الزجاج حين ينقل عنه سواء كان بعزو أو بدون عزو. ومما يلحظ من النصوص السابقة وغيرها بالتتبع نجده لا ينقل عن الزجاج القضايا النحوية واللغوية فقط بل ينقل عنه في القضايا التفسيرية وغيرها أيضًا. رابعًا: اللغة: 1 - " تهذيب اللغة" (¬3) لأبي منصور الأزهري (¬4): يعتبر "تهذيب اللغة" من أهم وأضخم المعاجم اللغوية، وقد تميز عما ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" عند تفسير سورة البقرة الآية [2]. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، 32. (¬3) طبع الكتاب محققًا أول مرة، من قبل جماعة مختارة من المحققين والمراجعين بالتعاون مع العلامة عبد السلام هارون، وصنع له فهرسًا يسر الانتفاع به، وصدر عن: الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة 1964 - 1967 في ستة عشر مجلدًا. ثم قام الأستاذ رياض زكي قاسم بترتيبه ألفبائيًّا. وصدر عن دار المعرفة 2001 في أربعة مجلدات. (¬4) هو: أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر، الهروي، العلامة، الشافعي، وشهرته الأزهري وهي نسبة إلى أزهر أحد أجداده، ولد سنة 282 هـ، وكان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة ثبتًا دينًا، وقع في الأسر عند عودته من الحج، وذلك في فتنة القرامطة، وأقام في الأسر حوالي عشرين عامًا، ثم تخلص ودخل بغداد، وقد استفاد من القوم الذين وقع في سهمهم، وكانوا في عامتهم أعرابًا بداة، وقد ألف كتابه التهذيب بعد بلوغه السبعين، ثم دخل بغداد وأخذ عن كبار شيوخها ثم عاد إلى هراة ليأخذ عن شيوخها. توفي الأزهري سنة 370 وعن عمر تسعين عامًا. =

مصادر التهذيب

سبقه بوفرة مادته اللغوية، وكثرة المصادر التي أفاد منها، فهو موثق المادة فصيحها؛ وقد صرح في مقدمته بأنه لم يودع كتابه إلى ما صح له سماعًا من العرب أو رواية عن ثقة أو حكاية عن خط ذي معرفة ثاقبة اقترنت إليها معرفته. و"التهذيبُ" عُمدة لما ظهر بعده من المعجمات، فصاحب "لسان العرب" يقول: "لم أجد في كتب اللغة أجمل من "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري ... "، ويضيف في مكان آخر، في مقدمته: "وأنا مع ذلك لا أدّعي فيه دعوى فأقول شافهت أو سمعت، أو فعلت وصنعت، أو شددت أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت؛ فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهريّ وابن سِيدَه لقائل مقالًا، ولم يخليا فيه لأحد مجالًا، فإنّهما عيَّنا في كتابيهما عمّن رويا، وبرهنا عمّا حويا، ونشرا في خطيهما ما طويا. ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وأتيا بالمقاصد ووفيا". مصادر التهذيب: استنفد الأزهري في "معجمه" علم من كتبوا قبله، ورحل إلى البادية سعيًا وراء المشافهة والسماع من أفواه العرب الخلّص، واستقصى في تتبّع ما حصّل من علوم العربية والاستشهاد بشواهد أشعارها المعروفة ¬

_ = من مصنفاته: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، "علل القراءات"، "الرد على الليث"، "تفسير إصلاح المنطق". انظر: "معجم الأباء" 17/ 164 - 167، و"وفيات الأعيان" 4/ 334، و"نزهة الألباء في طبقاث الأدباء" ص (237) و"سير أعلام النبلاء" 16/ 315.

بفصاحتها، التي احتجّ بها أهل المعرفة. كما استفاد من إقامته سنوات طويلة في الأسر؛ فقد اختلط بأقوام عامتهم من هوازن، واختلط بهم أصرامٌ من تميم وأسد، ممّن نشؤوا في البادية "يتتبّعون مساقط الغيث أيام النُّجَع، ويرجعون إلى أعداد المياه، ويرعَون النَّعَم، ويعيشون بألبانها، ويتكلّمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في منطقهم لحنٌ أو خطأ فاحش ... ، وكنّا نتشتّى الدَّهْناء (¬1)، ونتربَّع الصّمّان (¬2)، ونتقيّظ السِّتارَين (¬3). واستفدتُ من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظًا جمّة ونوادر كثيرة .. ". وفي مقدمة الأزهري ذكرٌ وافٍ لطبقات أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في تصنيف تهذيبه، وهم خمس طبقات، من أبرزهم: أبو عمرو بن العلاء (¬4)، ¬

_ (¬1) الدَّهْناء: الأرض واسعة في بادية العرب، في ديار بني تميم، وقيل هي سبعة أجبل من الرمل، وقيل هي في بادية البصرة في ديار بني سعد. "وفيات الأعيان" 4/ 336. (¬2) الصّمّان: جبل أحمر ينقاد ثلاث ليال، وليس له ارتفاع، يجاور الدهناء، وقيل إنه قرب رمال عالج، وبينه وبين البصرة تسعة أيام. "وفيات الأعيان" 4/ 336. (¬3) السِّتاران تثنية ستار. وهما واديان في ديار بني سعد، يقال لهما: سورة. "وفيات الأعيان" 4/ 336، وقال ياقوت في "معجم البلدان" (ستار): "والستارات في ديار بني ربيعة: واديان يقال لهما السَّوْدَة، يقال لأحدهما الستار الأغبر وللآخر الستار الجابريّ، وفيهما عيون فَوَّارة تسقي نخيلًا كثيرة ... ، وهي من الأحساء على ثلاثة أميال .. ". (¬4) هو أبو عمرو بن العلاء، بن عمار بن عبد الله المازني، النحوي المقرئ. اختُلف في اسمه على أحد وعشرين قولًا. مات سنة أربع -وقيل تسع- وخمسين ومئة. انظر: "إنباه الرواة" 4/ 125، و"معجم الأدباء" 3/ 345، و"بغية الوعاة" 2/ 231.

وخلف الأحمر (¬1)، والمفضّل الضَّبِّيّ (¬2)، وأبو زيد الأنصاري (¬3)، وأبو عمرو الشيباني (¬4)، وأبو عبيدة معمر بن المثنى (¬5)، والأصمعي (¬6)، والكسائي (¬7)، والنضر بن شميل (¬8)، والفرّاء (¬9)، وسيبويه (¬10)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬11)، واللّحياني (¬12)، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني (¬13)، وأبو حاتم ¬

_ (¬1) هو أبو محرز خلَف بن حيّان المعروف بخلف الأحمر. "مات في حدود الثمانية ومائة" "بغية الوعاة" 1/ 554. (¬2) هو أبو عبد الرحمن، المفضّل بن محمد الضَبَي. توفي نحو 178 هـ. (¬3) هو أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري. توفي سنة 214 هـ. (¬4) هو أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني. توفي سنة 206 من خلافة المأمون، وقيل سنة 210 هـ "نزهة الألباء" ص 96. (¬5) في سنة وفاته خلاف؛ فقد قال الصولي: توفي سنة 207 هـ وقال مظفّر بن يحيى: توفي سنة 209 هـ، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وقيل: توفي بالبصرة سنة 213هـ وله ثمان وتسعون سنة في خلافة المأمون "نزهة الألباء" ص 111. (¬6) هو أبو بكر عبد الملك بن قُرَيْب. توفي سنة 213 هـ وقيل سنة 217 هـ في خلافة المأمون. "نزهة الألباء" ص 123. (¬7) هو أبو الحسن علي بن حمزة. ستأتي ترجمته. (¬8) توفي النّضر سنة ثلاث -أو أربع- ومائتين في خلافة المأمون. "نزهة الألباء" ص 88. (¬9) سبق ترجمته. (¬10) هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، ستأتي ترجمته، توفي سنة 188هـ، وقيل 194هـ، والأول أشبه؛ لأنه مات قبل الكسائي. "نزهة الألباء" ص 66. (¬11) ستأتي ترجمته. (¬12) هو أبو الحسن علي بن المبارك، وقيل: ابن حازم. توفي سنة 220 هـ "نزهة الألباء" ص 176، "بغية الوعاة" 2/ 185، "نشأة النحو". محمد الطنطاوي ص 102. (¬13) راية أبيه (أبي عمرو الشيباني). توفي عمرو سنة 231 هـ.

السجستانيّ (¬1)، وابن السِّكِّيت (¬2)، وثعلب (¬3)، والمبرّد (¬4)، والزّجَّاج (¬5). وهو حين ينقل عمّن سبقه قد يصرّح باسم المرجع الذي نقل عنه وقد لا يصرّح لكن المادة الموثقة بأسانيدها، المعزوّة إلى القائل تغلب على مواده. وينبغي، هنا، أن نشير إلى أن الأزهري حين ينقل عن كتاب "العين" فإنّما ينقل عنه بعبارة "قال الليث" لأنه كان يرى أن كتاب "العين" من صنيع الليث (¬6)، فقد أملاه الخليل بن أحمد على الليث بعد تلقفه إيّاه عن فِيهِ، وهو منهج صدر عن شكّ سيطر على الأزهري، مفاده التجريح بالمعجمات التي سبقته وعاصرته، ولما لم يستطع مهاجمة الخليل نفسه تبنّى فكَرة نسبة "العين" إلى الليث ليستطيع تجريحه. وهو على الرغم من موقفه الملتبس من الخليل، كثير الانتفاع من "العين"، فأثر منهج الخليل بادٍ في "تهذيب اللغة"، وكذلك الإفادة الكثيرة من ¬

_ (¬1) هو أبو حاتم سهل بن محمد. توفي سنة 250 هـ، وقيل سنة 255 هـ "نزهة الألباء" (191). (¬2) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السِّكِّيت. توفي سنة 243 هـ، وقيل: 244، وقيل: 246 هـ. "نزهة الألباء" 179. (¬3) هو: أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني، أبو العباس ثعلب، شيخ اللغة العربية، إمام الكوفيين، حفظ كتب الفراء، ولازم ابن الأعرابي توفي سنة 291 هـ. (¬4) هو: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، ستأتي ترجمته. (¬5) سبق ترجمته في نفس هذه المقدمة. (¬6) هو الليث بن المظفّر، هكذا أسماء الأزهري. وقال في "بغية الوعاة" 2/ 270: الليث بن نصر بن يسار الخراسانيّ. وقال غيره: الليث بن رافع بن نصر بن يَسار. ولم تؤرخ وفاته.

منهج الأزهري في "تهذيب اللغة"

مادة "العين" المروية أو المدوّنة، مباشرة، أو عن طريق "الجمهرة" لابن دريد. منهج الأزهري في "تهذيب اللغة": رتّب الأزهري مواد تهذيبه على مخارج الحروف، متبعًا منهج كتاب "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد حاكاه في تقاليب الكلمة والأبنية. ويصرّح في مقدمته بهذا المنهج وتلك المحاكاة بقوله: "ولم أرَ خلافًا بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أول كتاب "العين"، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، وأن ابن المظفر أكمل الكتاب عليه بعد تلقّفه إيّاه عن فيه. وعلمت أنه لا يتقدّم أحد الخليل فيما أسسّه ورسمه، فرأيت أن أحكيه بعينة لتتأمّله وتردّد فكرك فيه، وتستفيد منه ما بك الحاجةُ إليه، ثمّ أتبعه بما قاله بعض النحويين، ممّا يزيد في بيانه وإيضاحه". والمنهج المذكور يتّضح في النظام الآتي: 1 - ترتيب الأبجدية العربية ترتيبًا صوتيًّا، يبدأ بأقصى مخارج الحروف في الحلق وأدخلها، وهو العين، ثم ما قرب مخرجه منها الأرفع فالأرفع، حتى يأتي على آخر الحروف، وهو الياء، وهذا انتظامها: ع ح هـ خ غ/ ق ك/ ج ش ض/ ص س ز/ ط د ت/ ظ ذ ث/ ر ل ن/ ف ب م/ وا ي. 2 - ترتيب الأبنية ترتيبًا تصاعديًّا يبدأ بالثنائي فالثلاثي فالرباعي فالخماسي. أ- أمّا الثنائي فتبدأ أبوابه من الحرف الأول وهو العين وما يليها، وهو الحاء، ثمّ العين مع الهاء، فالعين مع الخاء، حتى يأتي على آخر الحروف. ب- يقلّب الثنائي، إن أمكنه قلبه؛ نحو: عق = قع.

ج- أبواب الثلاثي الصحيح. يبدأ بالعين مع الحاء وما يثلّثهما بترتيب الحروف، ثمّ العين مع الهاء، ثم مع الخاء والغين، حتى يأتي على آخر الحروف. د- يقلِّب كلّ مادة ثلاثية بذكر الصور الست الممكنة في مكان واحد؛ نحو: هقم - همق - قهم - قمه - مهق - مقه. ويشير إلى المستعمل منها والمهمل، فيقول في تقاليب هقم: "مستعملات"، ويقول في تقاليب هكد: هكد - كهد - كده - دهك: مستعملة. أهمل الليث هكد. ويقول في هكس: استُعمل من وجوهه: سَهَك. ويقول في: هكز "اهمله الليث". هـ- ثم أبواب الثلاثي المعتلّ، وهو ما فيه حرفان صحيحان وحرف علّة واحد. وهي تجري على النظام السابق، مع إلحاق المهموز بالمعتل بالألف. و- اللفيف، فمن لفيف حرف الهاء: هاه - أوه - هيه - إيه - هيأ - هوأ - هأي - وهوه - يهيأ - وهي - أيه - هوى - هوي. ز- الرباعي، فالخماسي. يشار هنا إلى أن الأزهري رتّب الرباعي على ابوابه، ولم يفعل ذلك في الخماسي. ح- أدرج المعتل في آخر الكتاب (¬1). ولقد ذكر الواحدي صلته بكتاب تهذيب اللغة، حيث كان الأزهري من شيوخ العروضي أحد شيوخ الواحدي. ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" طبعة دار المعرفة، بتحقيق د. رياض زكي قاسم.

الطريقة الأولى

يقول الواحدي في مقدمة كتابه "البسيط" عن شيخه العروضي: " ... وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروى عنهم، كأبي منصور الأزهري روى عنه كتاب "التهذيب" وغيره من الكتب ... " (¬1). ثم يقول: " ... وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة ... " (¬2) ولا بد أن يكون كتاب "التهذيب" في طليعة تلك الكتب. لقد أفاد الواحدي من كتاب "تهذيب اللغة" كثيرًا، ويعتبر مصدرًا هامًا له في مجال اللغة واشتقاق الكلمات، حيث إن شرح الكلمات القرآنية وبيان أصولها واشتقاقها وما فيها من غريب يأخذ حيزًا كبيرًا في تفسير الواحدي يبدأ به كل آية، وقد اعتمد في أكثر ذلك على كتاب "تهذيب اللغة" وله ثلاث طرق في إفادته من الكتاب: الطريقة الأولى: أن ينقل بالسند عن طريق أبي الفضل العروضي مثال ذلك أنه قال -أثناء تفسير لفظ الجلالة "الله"-: "أخبرني أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله العروضي-رحمه الله- قال: أبنا أبو منصور أحمد بن محمد الأزهري، أبنا أبو الفضل المنذري قال: سألت أبا الهيثم خالد بن يزيد الرازي عن اشتقاق اسم "الله" في اللغة، فقال "الله" أصله "إلاه" قال جل ذكره: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] ... الخ (¬3)). وكلام أبي الهيثم قد ورد في "التهذيب" ضمن كلام طويل مع اختلاف ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة "البسيط" ص 418. (¬2) انظر مقدمة "البسيط" ص 419. (¬3) انظر: "البسيط" للمؤلف في تفسير الفاتحة.

الطريقة الثانية

يسير في العبارة. قال الأزهري: "وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم الله في اللغة فقال: " ... " (¬1). وقد أخذ الواحدي عن الأزهري من هذا الطريق في مواضع من كتابه فعند تفسير لفظ "الناس" وبيان أصلها في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية [البقرة: 8]، قال: "فقد أقرأني العروضي قال: أقرأني الأزهري، قال أخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه سأل عن "الناس" ما أصله، قال أصله "أناس" .. الخ" (¬2). الطريقة الثانية: أن ينقل عن الأزهري بدون سند ويعزو إليه، وهذا أكثر من الطريقة الأولى، قال عند تفسير "المرض" في قوله: {فِى قُلُوبِهِم مرضٌ} الآية [البقرة: 10]، قال: "وقال الأزهري: أخبرني المنذري عن بعض أصحابه قال: المرض: إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال: والمرض الظلمة وأنشد .. الخ". ومثال آخر عن تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدنى أَلَأ تَعُولُوا} [النساء: 3] قال - ناقلًا كلام الأزهري دفاعا عن الشافعي-: "قال الأزهري وهذا يدل على أن الشافعي لم يخطئ من جهة اللغة، لأن الكسائي ثقة مأمون، قال: والمعروف من كلام العرب عال الرجل يعول إذا جار ومال، وأعال إذا كثر عياله" (¬3). وبالطريقة الثالثة: أن يفيد منه بدون عزو، وهذه أكثر الطرق، وقل أن تجد في تفسير "البسيط" كلامًا في اللغة إلى وقد أفاد الواحدي من ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 6/ 423. (¬2) انظر: "البسيط" 3/ 194 [البقرة: 8]، و"التهذيب" مادة: (أنس) 13/ 88. (¬3) "البسيط" ل 228 من المخطوطة الأزهرية، و"التهذيب" مادة: (عال) 3/ 194.

"التهذيب" إما بنصه أو بمعناه، ولو تتبعت هذا الجزء المحقق لأدركت ذلك، وأوضح مثال على ذلك مقدمة الكتاب فقد نقل الواحدي فيها كلامًا بنصه عن مقدمة "تهذيب اللغة" بدون عزو قال في المقدمة: "والله تعالى ذكره أنزل كتابه على قوم عرب أولي بيان فاضل وفهم بارع، أنزله جل ذكره بلسانهم، وصيغة كلامهم الذي نشئوا عليه وجبلوا على النطق به، فتدربوا به يعرفون وجوه خطابه ويفهمون فنون نظامه ... إلخ" (¬1)، وهذا الكلام بنصه في مقدمة "تهذيب اللغة" (¬2). ومثال آخر عند تفسيره "مالك" في قوله تعالى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قال: "ويقال: ما تمالك فلان أن فعل كذا، أي: لم يستطع أن يضبط نفسه وقال: فلا تَمالُكَ عن أرض لها عَمَدُوا وملاك الأمر ما يضبط به الأمر، يقال: "القلب ملاك الجسد ... " (¬3) فهذا الكلام نقله عن "التهذيب" مع التصرف اليسير في العبارة. وربما نقل عن الأزهريِ ذاكرًا شيوخ الأزهري ولم يذكره هو، قال في تفسير قوله تعالى: {هُدًى لّلِمُتقِينَ} [البقرة: 2] "الحراني عن ابن السكيت يقال: اتقاه بحقه يتقيه، وتقاه يتقيه وأنشد عن الأصمعي .. " (¬4)، ونص الكلام في التهذيب: "وأخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال .. ثم ذكره .. " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة البسيط، وفروق النص بعد المقارنة مع "التهذيب". (¬2) انظر: مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 4. (¬3) "البسيط" 1/ 509، وانظر "التهذيب" (ملك) 10/ 271. (¬4) "البسيط" عند تفسير الآية {هدى للمتقين}. (¬5) "تهذيب اللغة" "تقى" 9/ 257.

القسم الثاني من المصادر: المصادر الثانوية.

وبهذه الأمثلة يتضح مدى إفادة الواحدي من كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري. القسم الثاني من المصادر: المصادر الثانوية. وهي أقل من الأولى في اعتماد المؤلف عليها. 1 - " الكتاب" (¬1) لسيبويه (¬2): لقد ألف سيبويه كتابه في علم النحو ومسائله ومقاييسه وعلله، وهو لا نظير له في بابه، وقد اعتمد المؤلف عليه ونقل منه مسائل في النحو أو الصرف، وتارة ينقل بواسطته مثل "تفسير الثعلبي"، و"معاني القرآن وإعرابه"، أو كتاب "الحجة" لأبي على الفارسي، أو "تهذيب اللغة". ¬

_ (¬1) علم على اسم كتاب سيبويه في النحو، قال السيرافي: وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علمًا عند النحويين، فكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب، فيعلم أنه كتاب سيبويه، ولأهميته في بابه كان أحد النحاة يختمه كل خمسة عشر يومًا. وطبع الكتاب عدة طبعات أشهرها طبعة مكتبة الخانجي بالقاهرة الكتاب فى أربعة مجلدات والخامس فهارس، بتحقيق الأستاذ: عبد السلام هارون. (¬2) أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر، الفارسي، ثم البصري إمام النحو وحجة العرب، أخذ النحو والأدب عن الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش وعيسى بن عمر، وورد بغداد وناظر بها الكسائي بحضور سعيد الأخفش والفراء، وتعصبوا عليه، ثم وصله يحيى بعشرة ألف، فسار إلى بلاد فارس، فاتفق موته بشيراز فيما قيل قيل: عاش اثنتين وثلاثين سنة، وقيل أربعين سنة توفي رحمه الله سنة 180هـ على الأصح. ينظر: "المعارف" لابن قتيبة ص 237، "مراتب النحويين" لأبي الطيب ص 65، "تاريخ بغداد" 12/ 195، "نزهة الألباء" لابن الأنباري ص 81 - 82، "سير أعلام النبلاء" 8/ 351.

ومن أمثلة نقله بواسطة

وعند عرضه لأقوال سيبويه تارة يذكر قوله وتارة يحكي مذهبه، ومن أمثلة ذلك عند قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] بَيّن مذهب سيبويه في زيادة (من) فقال: قال أبو عبيدة: (من) زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب. وعند قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [إبراهيم: 18] ذكر مذهب سيبويه في رفع (مثلُ) فقال: اختلفوا في الرفع للمثل، فقال الزجاج: هو مرفوع على معنى: وفيما يتلى عليكم، وهذا مذهب سيبويه. وعند قوله تعالى: {حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] قال: وقال سيبويه: المسنون المصوَّر على صورة ومثال، من سُنّة الوَجْه، وهي صورته. فهذا القول لم أجده في الكتاب، وورد بنصه في تفسير الثعلبي (2/ 148 أ). وعند قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] قال: قال الخليل وسيبويه: أجمعون توكيد بعد توكيد. وقد ورد هذا الكلام بنصه في "معاني القرآن وإعرابه". وعند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] قال: قال سيبويه: معنا سبحان الله: براءة الله من السوء. وقد ورد كلامه هذا بنصه في "الكتاب" وفي "تهذيب اللغة"، فيحتمل أنه نقله من "التهذيب"؛ لأنه من مصادره الرئيسية. ومن أمثلة نقله بواسطة: 1 - قول الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} [الشعراء: 198، 199] قال الواحدي: "قال أبو علي الفارسي: أعجم صفة، كأحمر؛ لأنه قد وُصف به في النكرة .. والذي قلنا

من أن الأعجمين جمع أعجمي هو قول سيبويه؛ وقد نص عليه ... فال سيبويه في الباب المترجم: هذا بابٌ من الجمع بالواو والنون، وتكسير الاسم. سألت الخليل عن قولهم: الأَشْعَروُن؛ فقال: إنما أَلحقوا الواو والنون وحذفوا ياء الإضافة كما كَسَّروا فقالوا: الأشاعر، والأشاعث، والمَسَامِعة، فلما كَسَّروا مِسْمَعًا والأشعث حين أرادوا معنى بني مِسْمَع وبني الأشعث، أَلحقوا الواو والنون، فكذلك الأعجمون ... انتهت الحكاية عن أبي علي. "الإغفال فيما أغفله الزجاج" 2/ 213. 2 - قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] قال الواحدي: "وقال النحاس: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً} ليس بوقف؛ لأنه لم يأت بجواب (إذا) وجواب (إذا) على قول الخليل وسيبويه: {أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: خرجتم. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] تقديره عنده: قنطوا. والقول ما قال النحاس". قول سيبويه ذكره النحاس، "القطع والائتناف" 2/ 532. 3 - قول الله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} [القصص: 82 - 82] قال الواحدي: "قال سيبويه في هذه الكلمة: سألت عنها الخليل فزعم أنها: وَيْ، مفصولة من كأن، وأن القوم تنبهوا، فقالوا: وَيْ، متندمين على ما سلف منهم، وكل من تندّم أو ندم فإظهار ندامته أن يقول: وَيْ ". "الكتاب" 2/ 154، بمعناه. وذكره بنصه الزجاج 4/ 156.

2 - كتب الكسائي

2 - كتب الكسائي (¬1): نقل الواحدي عن الكسائي جملة من الآراء والاختيارات اللغوية والنحوية، وغالبها نقلت -فيما يبدو- بواسطة بعض ما تقدم من المصادر، كتهذيب اللغة، وتفسير الثعلبي، وبعض النصوص ليست فيها، ولعلها من كثاب "معاني القرآن" للكسائي (¬2)، وهو من المفقودات، وهو من روايات شيخه الثعلبي كما صرح به في تفسيره (¬3). 3 - " المصادر" للفراء (¬4): " المصادر" للفراء من الكتب المفقودة، وقد صرح الواحدي -رحمه الله- عدة مرات بالنقل عنه، ويلاحظ أن معظم النقولات عن هذا الكتاب هي في أبنية الكلمات وأصولها واشتقاقها، وقد وردت إحالات كثيرة إلى الفراء لم أقف عليها في المعاني، وأغلب الظن أنها من هذا الكتاب لِمَا بين هذه النصوص من التشابه، ومن أمثلة ما نقله: قول الواحدي: والقِصَاص مصدر؛ لأنه فعال من المفاعلة. ¬

_ (¬1) هو: أبو الحسن علي بن أحمد بن حمزة بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي أحد القراء السبعة وكان إمامًا في النحو واللغة والقراءات. روى عن أبي بكر بن عباس وحمزة الزيات وغيرهم، أخذ عنه القراء أبي عبيد والفراء وغيرهما له مصنفات منها "معاني القرآن"، و"مختصر النحو"، و"كتاب القراءات" توفىِ سنة 189 بالري. ينظر: "وفيات الأعيان" 3/ 295، "الفهرست" ص 97، "تاريخ بغداد" 11/ 403. (¬2) ذكر هذا الكتاب: القفطي في "إنباه الرواة" 2/ 257 والذهبي في "سير أعلام النبلاء" 9/ 133. (¬3) تفسير الثعلبي 1/ 338 - 339. (¬4) سبق ترجمته.

4 - "مجاز القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثنى

قال الفراء في كتاب المصادر: قاصَصته قَصَصًا، وأَقْصَصْتُه: إذا أقدته من أخيه إِقْصَاصًا، ويقال: قَصَصْتُ أثره قُصًّا وقَصًّا، وقَصَصْتُ عليه الحديثَ قُصًّا، عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. وعند قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] قال: وقال الفراء في المصادر: يقال للرجل دَفَيْت فأنت تدفأ دَفْأ ساكنة الفاء مفتوحة الدال، ودِفاءً بالكسر والمد، وزاد غيرُه دَفاءًة ودَفاءً. وعند قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] قال: وقال الفراء في المصادر: ما كان طريّا ولقد طري يطرأ طراءً ممدود وطراوةً، كما يقال: شقي يشقى شقاءً وشقاوةً. وعند قوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] قال: وقال الفراء في المصادر: أغسق الليل إغساقًا وغسق غسوقًا. 4 - " مجاز القرآن" (¬1) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (¬2): ¬

_ (¬1) طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور فؤاد سزكين في مجلدين، تحت إشراف مؤسسة الرسالة. (¬2) هو العلامة البحر، أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي، مولاهم، البصري، النحوي، صاحب التصانيف، ولد سنة 110 هـ، في الليلة التي توفي فيها الحسن البصري. روى عن: هشام بن عروة، ورؤبة بن العجاج، وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم، وروى عنه: علي بن المديني، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وغيرهم. وتذكر كتب التراجم أنه من الخوارج توفي سنة 209 هـ. من مصنفاته: "معاني القرآن"، "نقائص جرير والفرزدق"، "مقاتل الفرسان"، "أخبار قضاة البصرة".

ألف أبو عبيدة هذا الكتاب في تفسير القرآن، ويعد أول كتاب مطبوع من كتب غريب القرآن (¬1)، وله أسماء متعددة (¬2)، ويعد أكثر كتب الغريب استشهادًا بالشعر (¬3)، وقد فسر غريبَ القرآن باللغة مقتصرًا عليها في الغالب (¬4) ولم يخضع أبو عبيدة في مجازه لأي من المدرستين البصرية والكوفية ولم يتقيد بتلك القيود التي كانت تضعها تلك المدرستان لفهم النصوص العربية. ويجدر الإشارة هنا أن معنى المجاز عند أبي عبيدة يختلف كل الاختلاف عن المعنى الذي حدده علماء البلاغة، فالمجاز عند أبي عبيدة عبارة عن الطريق التي يسلكها القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة (¬5). وقد نقل الواحدي -رحمه الله- عن أبي عبيدة من مجازه دون الإشارة إلى الكتاب، واكتفى بقوله: قال أبو عبيدة، أما المجالات التي نقل عنها ¬

_ (¬1) يقول الدكتور: مساعد الطيار في "التفسير اللغوي" ص 334: بل لا يبعد أن يكون أول كتاب للغويين يتعلق بتفسير القرآن نظرًا للحملة الاستنكارية التي قامت عليه، مما يدل على أنه بدع في التأليف في هذا المجال. (¬2) منها: "غريب القرآن"، و"معاني القرآن"، و"إعراب القرآن"، وقد عدت هذه الأسماء كتبًا مختلفة والظاهر أنها أوصاف لهذا الكتاب، وأشهر أسمائه: "مجاز القرآن"، ولم يسمه أبو عبيدة بذلك لكنه اللفظ الذي يكثر دورانه في كتابه. ينظر: "التفسير اللغوي" ص 335. (¬3) بلغت شواهده 952 ينظر: ترقيم المحقق للشواهد. (¬4) وهذا أحد أهم أسباب انتقاد العلماء له، ووقوعه في الخطأ. ينظر: "التفسير اللغوي" ص 347. (¬5) انظر: مقدمة "مجاز القرآن"، لفؤاد سزكين 1/ 9 وما بعدها.

وقد ينقل عن أبي عبيدة بواسطة ومثاله.

فمتنوعة؛ إذ لم يقتصر على اللغة، بل شملت -كذلك- التفسير والصرف والشواهد الشعرية وغيرها، ومن أمثلة ذلك: عند قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9] نقل عنه تفسير الآية، فقال: وقال أبو عبيدة: مجاز هذا مجاز المَثَل، ومعناه: كفوا عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به، قال: ويقال ردّ يده في فمه، أي: أمسك ولم يجب. وعند قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] نقل عنه شاهدًا شعريًّا على أن جَنَّبْتُه وجَنَبْتُه واحد، فقال: وأنشد أبو عبيدة لأُميَة بن الأَسْكَر: وتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقًا عليه ... وتَجْنُبُه قلائِصنا الصِّعابا وعند قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ} [إبراهيم: 43] نقل عنه معنى الغريب، فقال: وأما تفسير الإهطاع فقال أبو عبيدة: هو الإسراع. وعند قوله تعالى: {فًتزلَّ قَدَم بغَدَ ثبُوتِهَا} [النحل: 94] نقل عنه معنًى بلاغيًّا، فقال: قال أبو عبيدة: وزليل القدم مثل لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في وَرْطَة بعد سلامة. وعند قوله تعالى: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] نقل عنه قضية صرفية، فقال: وقال أبو عبيدة: ضَيْق تخفيف ضَيِّق: مثل مَيِّت، يقال: أمر ضَيْق وضَيّق. وقد ينقل عن أبي عبيدة بواسطة ومثاله. قول الله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] قال الواحدي: "قال أبو علي: قال

5 - "معاني القرآن" للأخفش

أبو عبيدة: جناحا الرجل: يداه". "الحجة للقراء السبعة" 5/ 414، بنصه، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 104: {جَنَاحَكَ} أي: يدك. وقد ينسب الواحدي القول لأبي عبيدة، وهو غير موجود في المجاز، مثاله: قول الله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]. قال الواحدي: "قال أبو عبيدة: الأوثان: كل ما كان منحوتًا من خشب أو حجر، والصنم ما كان من ذهب أو فضة أو نحاس". 5 - " معاني القرآن" (¬1) للأخفش (¬2): يعتبر كتاب "معاني القرآن، من أوائل الكتب المؤلفة في بيان معاني ¬

_ (¬1) طبع الكتاب بتحقيق الدكتور/ فائز فارس في مجلدين، وبتحقيق عبد الأمير الورد في مجلدين. وبتحقيق هدى قراعة في مجلدين. (¬2) هو: أبو الحسن، سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، البلخي، المعروف بالأخفش، نحوي، لغوي، عروضي، روى عن هشام بن عروة، والكلبي، وعمرو بن عبيد، وأخذ عن الخليل، ولزم سيبويه حتى برع وكان من أسنان سيبويه، بل أكبر. قال أبو حاتم السجستاني: كان الأخفش قدريًّا رجل سوء، وكتابه في معاني القرآن صويلح، وفيه أشياء في القدر. توفي سنة 215 هـ. من مصنفاته: كتاب "الأوسط في النحو"، "معاني القرآن"، "الاشتقاق"، "العروض"، "المقاييس في النحو". ينظر: "مراتب النحويين" ص 106، "أخبار النحويين البصريين" ص 50 - 51، "إنباه الرواة" 2/ 36، "وفيات الأعيان" 2/ 380، "سير أعلام النبلاء" 10/ 206، "معجم الأدباء" 1/ 868.

مثال النقل مباشرة

القرآن (¬1)، لكنه قصره في الغالب على النحو مبرزًا مذهبه البصري، وليس فيه من المعاني إلا النزر اليسير (¬2)، ولعل السر في ذلك أنه أفرد المعاني في كاب آخر في "غريب القرآن" (¬3)، ويعتبر الأخفش من العلماء الذين اهتموا بالنحو دون اللغة (¬4)، ولذلك أخذ عنه الواحدي كثيرًا من مسائل النحو، أحيانًا يكون النقل مباشرة وتارة يكون بواسطة. مثال النقل مباشرة: تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] قال: وقال الأخفش: الخِطْء: الإثم وهو ما أصابه متعمدًا والخطأ غير المتعمد. ويقال من هذا: أخطأ يُخْطِئُ. قال الله تعالى: {وَلَيسَ عَلَيكم جُنَاحٌ فِيمَآ أَخطَأتُم بِهِء وَلكن مَّا تَعَمَّدَت قُلوبُكم} [الأحزاب: 5] واسم الفاعل من هذا: مخطئ، فأمّا خطيئة فاسم الفاعل منه: خاطئٌ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] (¬5). ¬

_ (¬1) يدل لذلك: ما ورد عنه أنه ألف كتابه تلبية لطلب الكسائي ثم جعله الكسائي إمامًا وعمل عليه كتابًا في المعاني، وعمل الفراء كتابه فى المعانى عليهما. ينظر: "إنباه الرواة" 2/ 37 و"إشارة التعيين" ص 132. (¬2) يؤكد ذلك ذكره لبعض الأبواب النحوية عند بعض الآيات كباب الإضافة 1/ 39 و"باب اسم الفاعل" 1/ 44 و"باب إضافة أسماء الزمان إلى الفعل" 1/ 45. (¬3) اعتمد الثعلبي على هذا الكتاب وذكر ذلك فى مقدمة "تفسيره". (¬4) ينظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص 73. (¬5) قال أبو حاتم كما في "تهذيب اللغة" 9/ 20: ولم يكن عالمًا بكلام العرب، وكان عالمًا بقياس النحو. وقد ورد ما يدل على علمه باللغة كما في "طبقات النحويين" ص 74 لكنه في باب النحو أبصر.

ومن أمثلة النقل بواسطة

نقل عنه في النحو: عند قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116] فقال: واختلفوا في وجه انتصاب الكذب؛ فقال الأخفش: جعل (ما تصف) اسمًا للفعل؛ كأنه قال: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. ورد بنصه في معانيه. ونقل عنه في "الغريب": عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] قال: قال الأخفش: المُبْصرةُ: البَيِّنة؛ كما تقول الموضِحَة والُمبَيِّنَة. ورد بنصه في معانيه. ومن أمثلة النقل بواسطة: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74] قال الواحدي: "وحكى أبو علي الفارسي، عن الأخفش قال: الإمام هاهنا جمع: آمّ فاعل من: أمَّ يُجمع على: فِعَال، نحو: صَاحب، وصِحَاب". قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58] قال الواحدي: "قال الأخفش: قرأ الأعمش: {لَنُثوِيَنَّهم مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا} قال: ولا يعجبني ذلك؛ لأنك لا تقول: أثويته الدار" لم أجده عند الأخفش في "المعاني"، لكن ذكر أبو علي أن أبا الحسن قال: قرأ الأعمش. "الحجة للقراء السبعة" 5/ 440. قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] قال الواحدي: "وقال أبو إسحاق: المعنى: فاسأل عنه خبيرًا. وهو مذهب الأخفش، وجماعة جعلوا الباء، بمعنى عن، كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}

6 - كتب أبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224)

[المعارج: 1]. لم أجده في كتابه "المعاني" 2/ 642، عند هذه الآية. ونسبه له النحاس، "القطع والائتناف" 2/ 486. 6 - كتب أبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224) (¬1): لأبي عبيد كتب كثيرة في اللغة والقراءات وفي فنون أخرى من العلم، وقد أفاد الواحدي من كتبه، فمن ذلك: كتاب "الناسخ والمنسوخ في كتاب الله العزيز" (¬2)، حيث نقل منه الواحدي في مواضع من تفسيره، يعزو أحيانًا، ويغفل أخرى. وأما في اللغة فالغالب أنه ينقل أقواله عن طريق تهذيب اللغة للأزهري، وأما توجيه القراءة فقد يكون من كتابه الذي ألفه في القراءات، وهو مفقود (¬3). 7 - " تأويل مشكل القرآن" (¬4) لعبد الله بن مسلم بن قتيبة (¬5): ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ المجتهد، ذو الفنون، أبو عبيد، القاسم بن سلام بن عبد الله، ولد سنة 150هـ، أخذ العلم عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي وغيرهم، وقرأ القرآن على الكسائي، وإسماعيل بن جعفر، وشجاع بن أبي نصر، صنف التصانيف المؤنقة التي سارت بها الركبان. توفي رحمه الله سنة 222 هـ بمكة. من مصنفاته: "غريب المصنف"، "الأمثال السائرة"، "الناسخ والمنسوخ"، "القراءات"، و"الأيمان والنذور". ينظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" 10/ 490، "معجم المؤلفين" 2/ 642. (¬2) طبع بتحقيق محمد المديفر في مجلد. (¬3) ذكر هذا الكتاب الداودي في "طبقات المفسرين" 2/ 36. (¬4) قامت دار التراث بطبعه، وحققه السيد أحمد صقر. (¬5) العلامة الكبير، ذو الفنون، أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، الكاتب، صاحب التصانيف، نزل بغداد وجمع وبعد صيته، وولي قضاء =

تكلم ابن قتيبة على السبب الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب، فقال ص (17): وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون، ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا: {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول؛ فحرفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله؛ ثم قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة في اللحن، وفساد النظم، والاختلاف. وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمرة والحدَثَ الغِرَّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور ... فأحببت أن انضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيّرة، والبراهين البينة، وأكشف للناس ما يلبسون، فألفتُ هذا الكتاب جامعًا لتأويل مشكل القرآن؛ مستنبطًا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملًا ما أعلم فيه مقالًا لإمام مطلع على لغات العرب؛ لأري المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل، ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير، إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته، وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وزدت في الألفاظ ونقصت، وقدمت وأخرت، ¬

_ = دينور، ولد سنة 213 هـ في أواخر خلافة المأمون. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة دينًا فاضلًا. توفي رحمه الله سنة 276 هـ من مصنفاته: "غريب القرآن"، "أدب الكاتب"، "عيون الأخبار"، "طبقات الشعراء"، "المعارف"، "جامع الفقه". ينظر ترجمته: "طبقات النحويين" ص (116)، "تاريخ بغداد" 10/ 170، "إنباه الرواة" 2/ 143، "وفيات الأعيان" 3/ 42، "سير أعلام النبلاء" 13/ 296.

8 - "تفسير غريب القرآن". وهو أيضا لابن قتيبة

وضربت لذلك الأمثال والأشكال حتى يستوي في فهمه السامعون. ثم فسر معنى المتشابه والمشكل. وأصل التشابه أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر والمعنيان مختلفان ... ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمر؛ إذا أشبه غيره فلم تكد تفرق بينهما. وشبهت علي إذ لبَّست الحق بالباطل. ثم يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره (¬1). وكتاب "تأويل مشكل القرآن" كتاب فريد تحدث فيه عن موقف علماء الكلام من أهل الحديث وما تحدثوا عنهم به من شتى التهم والمثالب؛ وعرض بالنقد لما ذهب إليه النظام من اعتراضه على أبي بكر وعمر وعلي، وطعنه على ابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة. ونقد كذلك ثمامة بن الأشرس، ومحمد بن الجهم البرمكي، والجاحظ، وأبا الهذيل العلاف، وغيرهم؛ وعرض لأهل الرأي، وأبان عن منابذتهم للكتاب والسنة، وأدار الجزء الأكبر من كتابه على الأحاديث التي ادعي عليها التناقض والاختلاف ومخالفة القرآن؛ والأحاديث التي زعموا أن النظر يدفعها، وحجة العقل تدمغها؛ فكشف عن معانيها التي صرفهم عن فقهها الهوى الجموح، ولفتهم عن وجه الحق فيها إلحاد الضمائر والقلوب والعقول (¬2). 8 - " تفسير غريب القرآن" (¬3). وهو أيضًا لابن قتيبة: قال ابن قتيبة في مقدمة "الغريب": نفتتح كتابنا هذا بذكر أسمائه ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة "تأويل مشكل القرآن" ص 77 - 78. (¬2) انظر: مقدمة "تأويل مشكل القرآن" ص 24 - 25. (¬3) طبع الكتاب بتحقيق السيد أحمد صقر.

الحسنى وصفاته العلى؛ فنخبر بتأويلهما واشتقاقهما، ونتبع ذلك ألفاظًا كثر تردادها في الكتاب لم نر بعض السور أولى بها من بعض، ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن دون تأويل مشكله؛ إذ كنا قد أفردنا للمشكل كتابًا جامعًا كافيًا بحمد الله. وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا أن نختصر ونكمل، وأن نوضح ونجمل؛ وألا نستشهد على اللفظ المبتذل، ولا نكثر الدلالة على الحرف المستعمل، وألا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد. فإنا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث لاحتجنا أن نأتي بتفسير السلف، رحمة الله عليهم، ولو أتينا بتلك الألفاظ لكان كتابنا كسائر الكتب التي ألفها نقلة الحديث .. (¬1). ولقد اعتمد الواحدي في كتابه على ابن قتيبة دون أن يصرح بكتبه التي نقل عنها. وقد ظهر أن أغلب النقولات كانت من كتابيه: "تفسير غريب القرآن"، و"تأويل مشكل القرآن"، وكان النقل من الأول أكثر، ويتميز النقل من المشكل بالإطالة مع التصرف والاختصار وأحيانًا بنصه، في حين ينقل عن الغريب كلمات يسيرة معظمها في "الغريب" - على اسمه- وقد ينقل عنه بعض الردود والتعليلات. ومن أمثلة ذلك: عند قوله تعالى: {مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] قال: وقال ابن قتيبة: المسنون المتغير الرائحة. نقله عن الغريب بنصه. وعند قوله تعالى: {وَقَضَينَآ إِليهِ} [الحجر: 66] قال: وقال ابن ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة "غريب القرآن" ص 3.

قتيبة: أي أخبرناه. نقله عن الغريب بلفظه. وعند قوله تعالى: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79] نقل عنه تعليل تسمية الطريق إمامًا، فقال: وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريد. نقله عن الغريب بنصه. وعند قوله تعالى: {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] نقل عنه رده على أبي عبيدة في قوله: "يريد بشرًا ذا رِئَةٍ" فقال: قال ابن قتيبة: "ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المُسْتَكْرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه، قال مجاهد في قوله: {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي: مخدوعًا؛ لأن السحر حيلة وخديعة". نقله عن الغريب. وعند قوله تعالى: {سُجَّدًا للهِ} [النحل: 48] نقل في معنى السجود نقلًا طويلًا عن "المشكل" مع التصرف والاختصار، فقال: وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا فقال: أصل السجود التّطَأْطُؤ والميل، يقال: سجد البعير واسجد إذا طأطأ رأسَه لِيُرْكَب، وسجد النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، ثم قد يُستعارُ السجودُ فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذل، ومن الأمثال المبتذلة: اسْجُدْ للقرد في زمانه، يراد اخضع للئيم في دولته، ولا يُراد معنى سجود الصلاة، والشمس والظل خَلقان مُسخَّران لأَنْ يعَاقِبَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه بغير فصْلٍ، فالظلُّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يَعُمُّ الأرضَ، كما تَعُمُّها ظلمةُ الليل، ثم تطلُع الشمسُ فتَعُمُّ الأرضَ إلى بما سترته الشُّخُوصُ، فإذا سَتَرَ الشخصُ شيئًا عاد الظلُ، فرجوعُ الظلِّ بعد أن كان شمسًا ودورانُه من جانب إلى جانب هو سُجُودُه؛ لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتَّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل سجود، وكذلك قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] أي: يستسلِمَان لله بالتسخير.

9 - كتب المبرد (ت 285 هـ)

وعند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] قال: وقال ابن قتيبة: "أي إمامًا يَقْتَدِي به الناس؛ لأنه ومن اتبعه أُمَّة، فَسُمِّي أُمَّة؛ لأنه سبب الاجتماع"، هذا وجه قول من قال: أُمَّةً: معلمًا للخير، ومن قال: أُمَّة: أي مؤمنًا وحده؛ "فلأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون مِثْلُه في أُمَّة، ومن هذا يقال: فلان أُمَّةٌ وحْدَه، أي: هو يقوم مقام أمة". فهذان نقلان اقتبسهما عن المشكل بنصه. 9 - كتب المبرد (ت 285 هـ) (¬1): للمبرد مؤلفات كثيرة تربو على الخمسين (¬2)، معظمها في الأدب واللغة والنحو والقرآن، وقد نسب الواحدي إلى المبرد أقوالًا في اللغة خاصة لم أقف عليها في كتبه المطبوعة (¬3). وتعتبر أقوال المبرد وآراؤه أحد المصادر الهامة لتفسير الواحدي وهي في اغلب المواضع يتم نقلها عن طريق مصادره السابقة كـ"الحجة" و "سر صناعة الإعراب"، وفي القليل ينقل عن كتب المبرد مباشرة خصوصًا "المقتضب" ففي تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوَأ اوَّلَ كاَفِر به} [البقرة: 41] ¬

_ (¬1) هو: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد كان على قدر كبير من العلم وغزارة الأدب وكثرة الحفظ، له كتب من أشهرها "المقتضب" في النحو، و"الكامل" في الأدب، مات سنة 286 هـ. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي ص 101، و"تاريخ بغداد" 3/ 380، و"نزهة الألباء" ص 164 و"إنباه الرواة" 3/ 241. (¬2) انظر: مقدمة كتاب: "الكامل" للمبرد 1/ 14. (¬3) منها: "الكامل"، و"المقتضب"، و"ما اتفق لفظه واختلف معناه"، و"التعازي والمراثي".

عن "أول" قال: " .. وقال المبرد في كتاب "المقتضب" أول: يكون على ضربين: يكون اسما، ويكون نعتا موصولا به "من كذا" .. الخ". وكتاب "معاني القرآن" (¬1)، وهو كتاب لم يصل إلينا، وقد وقفنا على نص واحد طويل نقله بواسطة التهذيب، ومن أمثلة ذلك: عند قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قال: وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب. وعند قوله تعالى: {خَشيَةَ الإنفَاقِ} [الإسراء: 100] قال: قال المبرد: المعروف في الإنفاق أنه إخراج المال عن اليد، فإن كان قد روي في اللغة معنى الإعدام فهو كما قال أبو عبيدة، والا فمعنى الكلام في الآية: خشية أن يستفرغكم الإنفاق ويجحف بكم، فيكون الكلام من باب حذف المضاف على تقدير: خشية ضرر الإنفاق وما أشبهه. وعند قوله تعالى: {جِئنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] قال: وقال المبرد: الأكثر عند العرب أن اللفيف إنما يقال للمختلطين من كل شكل، وكل شيء خلطته بشيء فقد لففته، ومنه قيل لففتَ الجيوشَ إذا ضربت بعضها ببعض، والتفت الزحوف. وقد يكون النقل من كتابي "المقتضب" و"الكامل"، مثاله: قوله الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27، 28] قال الواحدي: "قال المبرد: قولهم: يا فل أقبل، ليس بترخيم فلان؛ ولو كان ¬

_ (¬1) ذكر المترجمون له هذا الكتاب في "مؤلفاته". انظر: "إنباه الرواة" 3/ 251، "طبقات المفسرين" للداودي 2/ 271.

10 - "نظم القرآن" لأبي علي الجرجاني

كذلك قيل: يا فلا أقبل. ومما يزيده وضوحًا قولهم للأنثى: يا فلة أقبلي. قال: ولكنها كلمة على حدة. قال: وقد تستعمل في غير النداء، كقوله: في لَجَّةٍ أمْسكْ فلانًا عن فُلِ "المقتضب" 4/ 237، ولم أجد قول المبرد عند الأزهري. 2 - قول الله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قال الواحدي: "قال المبرد: وهذا قول أبي زيد في هذه الآية قال: أعناقهم: جماعاتهم". "المقتضب" 4/ 199، ونسبه لأبي زيد الأنصاري. ولم أجده في "تهذيب اللغة". 3 - قول الله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] قال الواحدي: "قال المبرد: فلان يقص أثر الجيش أي: يتبعه متعرفًا". "الكامل" للمبرد 2/ 1018. 10 - " نظم القرآن" (¬1) لأبي علي الجرجاني (¬2): أفاد الواحدي من كتاب "نظم القرآن" ونقل عنه كثيرًا، خصوصًا عند ¬

_ (¬1) كتاب: "نظم القرآن" مفقود، وهو يقع في مجلدين -كما ذكر السهمي- والظاهر أنه كان معروفًا لدى العلماء كالعلم، وقد قام مكي بتأليف كتاب للرد عليه -في أربعة أجزاء- سماه: "انتخاب نظم القرآن للجرجاني وإصلاح غلطه"، وقد ذكر خبر كتاب مكي هذا القفطي في ترجمة مكي، وذكره الزركشي في "البرهان" ونقل عنه بعض النصوص. انظر: "تاريخ جرجان" للسهمي ص 187، "إنباه الرواة" 3/ 316، "البرهان" 2/ 92. (¬2) الجرجانيون الذين كُنُّوا بأبي علي، وذكر أنهم ألفوا في "نظم القرآن" آثنان: الأول: هو أبو علي، الحسن بن علي بن نصر الطوسىِ الجرجاني، الإمام الحافظ المجوِّد، سمع محمد بن يحيى وأحمد بن الأزهر، وروى عنه إسحاق بن محمد =

الحديث عن نظم الآيات ونقل عنه مسائل في اللغة والنحو، ومن أمثلة ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ¬

_ = الكيساني، وابن سلمة القطان، له تصانيف حسان، ذكر الداودي أن له كتاب "نظم القرآن"، توفي سنة 308هـ، وقيل:312 هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" 14/ 287، "طبقات الحفاظ" 3/ 787، "لسان الميزان" 2/ 232، "طبقات المفسرين" للداوودي 1/ 141. والثاني: هو أبو علي، الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، قال السهمي: "كان مسكنه بجرجان بباب الخندق ... ، له من التصانيف عدة؛ منها في "نظم القرآن" مجلدان، وكان رحمه الله من أهل السنة، روى عن العباس بن يحيى العقيلي، وروى عنه أبو النصر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي". انظر: "تاريخ جرجان" للسهمي ص (187)، "الأنساب" 2/ 40، "مقدمة تفسير الثعلبي" 1/ 10 ب. والراجح أن الذي كان ينقل عنه الواحدي هو الثاني؛ لأن الثعلبي ذكر في مقدمة تفسيره أن من مصادره: كتاب "النظم"، لنفس الرجل، قال: قرأ علينا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب بلفظه، قال: قرأت على أبي النصر محمد بن محمد بن يوسف بـ"طوس"، قال: قرأت على أبي علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، وأغلب الظن أن الواحدي استفاد من هذا المصدر عن طريق شيخه الثعلبي. ومما يؤكد أنه هو صاحب النظم الوارد في "البسيط"، أن ابن القيم أورد بعض النقولات في كتابه: "الروح" 2/ 547 - 560 ونسبها للجرجاني، وقد صرح في ص 559 أنه الحسن بن يحيى الجرجاني، وأسلوب هذه النقولات يتفق مع ما ينقله الواحدي عن صاحب "النظم"، بل إن الكلام الذي نقله ابن القيم عنه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ورد بنصه في "البسيط". انظر: "الروح" 2/ 547، "البسيط"، تح: الفايز 3/ 910.

بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] قال: " .. وقال أبو علي الجرجاني: نظم الآية: "فأتوا بسورة من مثله" من دون الله "وادعوا شهداءكم" أي من مثل القرآن من غير الله ... قال: ومثل هذا قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. ونظمه: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من دون الله وادعوا من استطعتم من الناس". وقال في سورة "يونس" في تفسير قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] "قال صاحب النظم: وأن هاهنا زائدة". وفي تفسير سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان: 1، 2] "وقال صاحب النظم: لولا أن قوله: {إِنَّا أَنزَلنَهُ} هو صفة للقرآن الذي أقسم به وأخبر عنه، لاحتمل أن يكون جوابا للقسم، ولكن ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه". التوفيق بين الآيات المتشابهات وإزالة الإشكال: عند قوله تعالى {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] وفق بين هذه الآية وآية الشعراء: {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208]، قال: قال صاحب النظم: والفرق بينهما أن دخول الواو يقلب حال ما بعدها إلى الابتداء، وخروجها منه يدل على أن ما بعدها في موضع حال، اعتبارًا بقولك: ما أهلكنا من قرية إلا ظالمًا أهلها، فيكون نصبًا على الحال، فإذا دخلت الواو قلت: إلا وأهلها ظالمون، فقلبت الواو الحالَ إلى أن جعلتها مبتدأة، فانقلبت رفعًا عن النصب، وهذا فرق من حيث اللفظ، والمعنى واحد أثبتَّ الواو أو حذفتَها. إيراد المسائل النحوية: عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر: 12] قال: واختلفوا في المُكنّى في قوله: {نسْلُكُهُ}،

فذكر أقوالًا مأثورة ثم قال: قال صاحب النظم: الهاء كناية عن الاستهزاء ودلَّ عليه الفعل؛ كقولهم: من كذب كان شرًّا له، والفعل يدل على المصدر؛ كقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] أي: الشكر، فأضمره لدلالة الفعل عليه. نقل معنى "الغريب": عند قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} [الحجر: 66] قال: وقال صاحب النظم: أي: فرغنا منه؛ كقوله: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} [يونس: 71] وقد مرّ. إزالة الإشكال النحوي عن الآية وبيان معناها: عند قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر: 90] قال: قال صاحب "النظم" المعنى: إني أنذرتكم ما أنزلناه على المقتسمين، وتكون الكاف زائدة. اختيار الوقف وتوجيهه: عند قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] بين أن الوقف إما على {خَلَقَهَا}، وإما على {خَلَقَهَا لَكُمْ}، ثم ذكر اختيار صاحب "النظم"، فقال: قال صاحب النظم: أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: {خَلَقَهَا}؛ لقوله في النسق على ما قبلها: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6]. نقل اللطائف البلاغية: عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النحل: 33] قال: قال صاحب النظم: إنهم لا ينتظرون ذلك على الحقيقة؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله، كيف ينتظرون أمره؟! ولن لمّا كان امتناعهم من الدخول في الإيمان موجبًا عليهم إتيان أمر الله والملائكة بما قدّر عليهم من العذاب، وكان عاقبة أمرهم إلى ذلك، أضيف ذلك إليهم على المجاز والسعة، وجعل مجيء ذلك انتظارًا منهم له؛ فكأنه -عز وجل- قال: هل يكون مدة إقامتهم على كفرهم إلى مقدار إيقاعي بهم وإنزالي العذاب

عليهم؟ وهذا كما قلنا في لام العاقبة في مواضع، لمّا كانت العاقبة تؤدي إلى ذلك جُعل سببًا له وإن لم يكن في الحقيقة كذلك؛ كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّ} [القصص: 8] وقد مرّ. ثم عقب الواحدي بقوله: وهذا الذي ذكره صاحب النظم وجه جيد في هذه الآية لم يذكره في نظيرها في سورة البقرة والأنعام. توجيه حروف المعاني: عند قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71] قال: وقال صاحب النظم: معنى الفاء في قوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} حتى؛ لأن التأويل: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك، فقوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} صفة لما تَقَدَّمه من الخبر لا جوابٌ له؛ ولو كان جوابًا له لكان قد أوجب أن يكون المولى والعبيد في ذلك سواء، وهو -عز وجل- إنما أراد أنهم لا يستوون في الملك. وهذا قول جيد انفرد به صاحب النظم، وانظر الأقوال الأخرى التي ذكرتها في التعليق على الآية في التحقيق. ذكر المناسبات وتوجيه المعنى: عند قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل: 59] قال: وقال صاحب النظم: قوله: {أَيُمْسِكُهُ} متصل في النظم بقوله: {وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] والكظيم بمعنى الكاظم، ومعنى الكظم: ستر الشيء في القلب وترك إظهاره، ومنه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران 134] والتأويل: وهو كاظم {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي: أن هذا المعنى في قلبه من شدة الغَمّ وهو يكظمه ولا يظهره.

11 - كتب أبي بكر ابن الأنباري

11 - كتب أبي بكر ابن الأنباري: تعدّ كتب أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (¬1) من المصادر الرئيسة، وقد أفاد الواحدي منه كثيرا فكانت أقوال ابن الأنباري في "معاني القرآن" واللغة والنحو مصدرًا رئيسا من أهم مصادره في تفسيره، وكلامه ينال إعجاب الواحدي فيشيد به، أخذ عنه في المسائل النحوية واللغوية والقضايا التفسيرية وخصوصا فيما يتعلق بمشكل القرآن أو النكات والفوائد. نقل عنه كثيرا ولم أجد مما نسبه إليه في كتب ابن الأنباري التي وصلت إلينا سوى نتف يسيرة في كتاب "الزاهر" (¬2). ولابن الأنباري كتاب في "المشكل في معاني القرآن" وصل فيه إلى {طه} أملاه في سنين كثيرة، و"رسالة المشكل" رفى فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني، ولم يصلا إلينا (¬3)، ولعل السبب في عدم وصول مثل هذه الكتب ما ذكره الخطيب البغدادي: من أنه كان يملي، ولم يكن يكتب (¬4). ويترجح عندي أن الواحدي اعتمد على هذين الكتابين فيما أفاده عن ابن الأنباري، لأن أغلب ما نقل عنه يتعلق بمشكل القرآن، ولتصريحه بالرد ¬

_ (¬1) هو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري، أبو بكر البغدادي إمام ثقة لغوي نحوي مفسر أديب حافظ برز في فنون من العلم وهو من أعلم الناس باللغة والأدب، ومن أحفظ نحاة الكوفة، توفى سنة 327 هـ. انظر: "إشارة التعيين" ص 335، و"البلغة" ص 212، و"بغية الوعاة" 1/ 212، و"طبقات المفسرين" للداودي 2/ 227. (¬2) كتاب "الزاهر" يذكر فيه الأقوال المأثورة والأمثال ويشرحها. طبع الكتاب في مجلدين بتحقيق د/ حاتم صالح الضامن. (¬3) انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 184، و"معجم الأدباء" 18/ 312. (¬4) انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 184.

على ابن قتيبة أحيانًا نقلًا عن ابن الأنباري. والكلام الذي نستطيع أن نرجعه إلى ابن الأنباري، هو ما صرح الواحدي فيه بنقله عنه. ويغلب على ظني أن هناك مواضع كثيرة نقل فيها عنه بدون عزو، لشبه العبارة بكلام ابن الأنباري، ولأنه اتضح لي أن الواحدي ينقل عن مصادره بعزو، وأحيانا بدون عزو. وأذكر بعض الأمثلة لأخذ الواحدي عن ابن الأنباري ففي تفسير "البسملة" قال: "قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار سألت أبا العباس، لِمَ جمع بين الرحمن الرحيم (¬1)؟. فقال: لأن الرحمن عبراني، فأتى معه الرحيم العربي واحتج بقول جرير .... الخ". وفي تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ اَلَّذِى اَستَوقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] قال: "وقال ابن الأنباري: "الذي" في هذه الآية واحد في معنى الجمع، وليس على ما ذكره ابن قتيبة، لأن "الذي" في البيت الذي احتج به جمع واحده "اللذ"، و"الذي" في الآية واحد في اللفظ لا واحد له، ولكن المراد منه الجمع". ومثال آخر يوضح مدى إفادة الواحدي من ابن الأنباري ما ذكر في تفسير قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [يونس: 4] قال: "فإن قيل: لم أفرد المؤمنين بالقسط دون غيرهم وهو يجزي الكافر -أيضا- بالقسط؟ قال ابن الأنباري: "لو جمع الله الصنفين بالقسط لم يتبين ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم، ففصلهم عن المؤمنين، ليبين ما يجزيهم به ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الأولى "الرحمن والرحيم" كما في "الزاهر" 1/ 53.

12 - أبو القاسم الزجاجي

مما هو عدل غير جور؛ فلهذا خص المؤمنين بالقسط وأفرد الكافرين بخبر يرجع إلى تأويله بزيادة الإبانة .. " (¬1). 12 - أبو القاسم الزجاجي (¬2): أخذ الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي خصوصًا في المسائل اللغوية والنحوية ونقل عنه مقاطع طويلة، ولم أستطع أن أهتدي إلى الكتاب الذي نقل عنه بعد أن اطلعت على جميع كتبه المطبوعة، فلعل الواحدي أخذ عن مصدر مفقود أو عن كتاب غير كتب الزجاجي يعتني بذكر أقواله، أو عن طريق أحد شيوخه مشافهة. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عن معنى الإيمان في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قال: " ... على أن أبا القاسم الزجاجي شرح معنى الإيمان بما هو أظهر مما ذكره الأزهري، وهو انه قال: معنى التصديق في الإيمان لا يعرف من طريق اللغة إلا بالاعتبار والنظر، لأن حقيقته ليست للتصديق، ألا ترى أنك إذا صدقت إنسانًا فيما يخبرك به، لا تقول آمنت به؟ لكنك إذا نظرت في موضوع هذه الكلمة وصرفته حق التصريف ظهر لك من باطنها معنًى يرجع إلى التصديق ... إلخ ". ¬

_ (¬1) "البسيط" 3/ 3 أ "النسخة الأزهرية". (¬2) أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي، النهاوندي، لقب الزجاجي، نسبة إلى شيخه إبراهيم بن السري أبي إسحاق لملازمته له، نحوي، لغوي أصله في نهاوند، وولد بها، وسكن بغداد، أخذ عن الزجاج وابن دريد ونفطويه وأبي الحسن الأخفش، سكن طبرية ودمشق وتوفي بها سنة 337 هـ. ومن تصانيفه: "الجمل الكبرى في النحو"، "اللامات في اللغة"، "شرح مقدمة أدب الكاتب"، وكتاب "اشتقاق أسماء الله"، وغيرها. ينظر: "إنباه الرواة" 2/ 160، و"وفيات الأعيان" 3/ 136، "بغية الوعاة" 2/ 77.

13 - كتب أبي جعفر النحاس

ومثال آخر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} الآية [البقرة: 46] قال: "وذكر أبو القاسم الزجاجي حقيقة الظن في اللغة، فقال: هو اعتقاد الشيء على طريقة التقدير والحدس فإن أصاب فيما ظن صار يقينا، وإن لم يصب كان مخطئا في تقديره، ولهذا ذكر أهل اللغة هذه اللفظة في باب الأضداد .. الخ" (¬1). 13 - كتب أبي جعفر النحاس (¬2): أفاد الواحدي في "البسيط" من كتب أبي جعفر النحاس في مواضع متعددة خصوصًا من كتاب "القطع والائتناف" (¬3)، وهو "الوقف والابتداء"، ومن أمثلة ذلك. 1 - قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] قال الواحدي: "وقال النحاس: {إِذَا دَعَاكُم دَعوَةً} ليس بوقف؛ لأنه لم يأت بجواب "إذا" وجواب "إذا" على قول الخليل وسيبويه: {أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: خرجتم. ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" عند تفسير الآية: [46]. (¬2) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي، النحاس، النحوي، المصري، وعرف با بن النحاس، وعرف بالصفار، نحوي، لغوي، مفسر، أديب، فقيه، رحل إلى بغداد وأخذ عن المبرد والأخفش ونفطويه والزجاج وغيرهم، ثم رجع إلى مصر وأقام بها إلى أن توفى سنة 338 هـ. من مصنفاته: "إعراب القرآن"، "معاني القرآن"، "الناسخ والمنسوخ"، و"الكافي في النحو". ينظر: "وفيات الأعيان" 1/ 35، "معجم الأدباء" 4/ 224، "سير أعلام النبلاء" 10/ 99. (¬3) انظر: "البسيط" تفسير سورة الدخان.

14 - "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني"

وكذا قال سيبويه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] تقديره عنده: قنطوا. والقول ما قال النحاس. "القطع والائتناف" 2/ 532. 2 - قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] قال الواحدي: "وكان علي بن سليمان يذهب إلى أن الكناية في {بِهِ} تعود إلى السؤال. وقوله: {فَاسْأَلْ} يدل على السؤال. والمعنى: فاسأل عالمًا بسؤالك. "القطع والائتناف" 2/ 486. 3 - في سورة الدخان {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان: 1 - 2] قال: "قال النحاس: يجوز أن يجعل جواب القسم: "إنا أنزلناه حم" فيكون تمام الكلام عند قوله "المبين" وان جعلمت جواب القسم "إنا أنزلناه" أتصل بالكلام الأول" (¬1). 14 - " الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" (¬2) لأبي علي الفارسي، وفي هذا الكتاب تعقب أبو علي الفارسي (¬3) كتاب أبي إسحاق الزجاج "معاني القرآن وإعرابه" في مسائل ذكرها الزجاج. وقد أطال أبو علي في كثير منها وتوسع طويلًا وسلك منهجًا قريبًا من منهجه في "الحجة" في إيراد المسائل اللغوية والنحوية والصرفية، وقد أفاد الواحدي من "الإغفال" في مسائل كثيرة، بعضها بالعزو، وبعضها بدون عزو. ¬

_ (¬1) "البسيط" 5/ 13 أ "النسخة الأزهرية". انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 654. (¬2) حقق محمد حسن محمد إسماعيل الكتاب في رسالة علمية لنيل الماجستير في كلية الآداب جامعة عين شمس بالقاهرة، ولم تطبع بعد. (¬3) سبق ترجمته.

ومن أمثلة ذلك في لفظ الجلالة "الله" نقل عن الإغفال طويلا بدون عزو حيث قال: "وقوله "الله" أما أصل هذه الكلمة فقد حكى أصحاب سيبويه عنه فيه قولين: أحدهما قال: كان أصل هذا الاسم "إلاها" ففاؤها "همزة"، وعينها " لام" و"الألف" ألف فِعَال الزائدة، واللام "هاء" ... إلخ (¬1)، وأخذ عنه في ذلك صفحات عديدة، أكثره بنصه وقد يتصرف بالعبارة أحيانا ويقدم بعض الكلام على بعض. ونص كلام أبي علي في "الإغفال": "فأما قولنا: "الله" فقد حمله سيبويه على ضربين: أحدهما: أن يكون أصل الاسم "إلاه" ففاء الكلمة على هذا "همزة" وعينها "لام" والألف "ألف" فِعَال الزائدة و"اللام" هاء .. الخ (¬2). وفي آخر الموضوع نقل عنه كلامًا طويلًا حول الإمالة في لفظ الجلالة "الله" ولم أجده عند أحد غير أبي علي (¬3) سوا ما نقله عنه ابن سيده في المخصص والواحدي في "البسيط". ومثال آخر في قوله تعال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] نقل عنه كلامًا طويلًا مع عزوه له. فقال: "أبو علي: والظرف نوع من أنواع المفعولات المنتصبة عن تمام الكلام، وهو زمان أو مكان .. " (¬4). ¬

_ (¬1) "البسيط" تفسير البسملة. (¬2) "الإغفال" ص 11. ونقل ابن سيده كلام أبىِ علي بنصه مع عزوه له في "المخصص" 17/ 136 - 151. (¬3) انظر: الإغفال ص 47. (¬4) انظر: "البسيط" عند تفسير سورة البقرة الآية [48]، و"الإغفال" ص 174 "رسالة ماجستير".

15 - المسائل الحلبيات لأبي علي الفارسي

واستمر ينقل عنه في الظروف كلامًا لا علاقة له بالتفسير، وبمثل هذا النهج نقل عنه كلامًا طويلا حول "الآن" (¬1). ومثال آخر في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ...} الآية [النساء: 3] ذكر كلام أبي إسحاق الزجاج ثم قال: "هذا كلام أبي إسحاق وقد أخطأ في موضعين من هذا الفصل أصلحهما (¬2) أبو علي وذكر معنى العدل فقال: اعلم أن العدل ضرب من الاشتقاق فكل معدول مشتق، وليس كل مشتق معدولًا .... الخ" (¬3). 15 - المسائل الحلبيات (¬4) لأبي علي الفارسي: وقد أفاد منه الواحدي ونقل عنه قليلا وذكرته هنا لمناسبة ذكر كتب أبي علي الفارسي، أخذ عنه في تفسير "الناس" في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] قال: "وذكر أبو علي في المسائل الحلبيات أن الكسائي قال: إن "الأناس" لغة و"الناس" لغة أخرى، وكأنه يذهب إلى أن "الفاء" محذوف من الناس كما يذهب إليه سيبويه والدلالة على أنهما من لفظ واحد، وليسا من كلمتين مختلفتين أنهم قالوا: "الأناس" في المعنى الذي قالوا فيه "الناس" .. إلخ (¬5). وبالرجوع ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة [71]، و"الإغفال" ص 1. (¬2) كتاب أبي علي "الإغفال" يسمى "المسائل المصلحة" حيث ورد هذا الاسم في أول الكتاب. انظر "الإغفال" ص 1. (¬3) "البسيط" تفسير سورة النساء [3]. (¬4) طبع كتاب "المسائل الحلبيات" بتحقيق د/ حسن هنداوي في مجلد. (¬5) "البسط" تفسير سورة البقرة [8].

16 - الإيضاح العضدي

للمسائل الحلبيات، نجد الواحدي نقل كلام أبي علي بالمعنى (¬1). 16 - الإيضاح العضدي: ذكر أبو علي في هذا الكتاب مباحث في النحو والصرف، والعضدي: نسبة للسلطان عضد الدولة، أبي شجاع، فَنَّاخُسْرُو، صاحب العراق وفارس، قال الذهبي في ترجمة عضد الدولة: وله صنف أبو علي كتابي: "الإيضاح"، "والتكملة" (¬2). {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] قال الواحدي: "قال أبو علي: إذا اجتمع في باب: كان، معرفة ونكرة فالذي يُجعل اسم كان منهما: المعرفة، كما كان المبتدأ: المعرفة، والنكرة: الخبر ... ذكر هذا في كتاب "الإيضاح" ونحو هذا ذكر في كتاب "الحجة". 17 - كتاب "سر صناعة الإعراب" (¬3) لأبي الفتح عثمان بن جني (¬4): تكلم ابن جني في هذا الكتاب عن أحكام "حروف المعجم" وأحوالها ومواقعها في كلام العرب. ¬

_ (¬1) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 166 - 170. (¬2) "سير أعلام النبلاء" 16/ 249. (¬3) طبع الكتاب في مجلدين بتحقيق د/ حسن هنداوي. (¬4) هو: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف البديعة في الأدب والنحو، صحب أبا علي الفارسي طويلاً واستوطن بغداد، وتوفي سنة 372 هـ من مصنفاته: "الخصائص"، "سر صناعة الإعراب"، "المصنف في شرح تصريف المازني"، و"الفسر في شرح ديوان المتنبي". ينظر: "تاريخ بغداد" 11/ 311، و"إنباه الرواة" 2/ 335، و"معجم الأدباء" 12/ 81، و"وفيات الأعيان" 3/ 246.

منهج ابن جني في كتابه

منهج ابن جني في كتابه: " كان بين أيدي الناس ترتيبان للحروف: أحدهما ترتيبها بحسب المخارج، وهو الترتيب الذي بنى عليه أصحاب المعجمات مصنفاتهم في اللغة، كالخليل في كتاب العين، والأزهري في "تهذيب اللغة"، والثاني ترتيبها على النحو التالي: (أ. ب. ت. ث. ج. ح. خ. د. ذ. ر. ز. س. ش. ص. ض. ط. ظ. ع. غ. ف. ق. ك. ل. م. ن. هـ. و. لا. ي) وهو الذي كان مشهورًا بأيدي الناس في حياة ابن جني، وهو الترتيب الذي آثره، فبوّب كتابه بحسبه. وقد عقد أبو الفتح لكل حرف من هذه الحروف بابًا تناول فيه الحرف على النحو التالي: فهو يبدأ أولًا بذكر صفة الحرف من حيث الجهر أو الهمس، ويبين استعماله في الكلام من حيث الأصالة، والبدل، والزيادة، ويتلوه بالتمثيل لأصالته من حيث وقوعه فاء الكلمة، وعينها، ولامها، فيذكر لكل وقع مثالين أحدهما اسم والآخر فعل. ما عدا باب الهمزة فقد زاد فيه عن المثالين، ويعقبه بذكر الحروف التي أبدل هذا الحرف منها، ويفصل القول في كل منها، وبعد ذلك يعرض مواضع زيادته. وفي مطلع باب الهمزة شرح معنى الأصالة والبدل والزيادة، فقال: "اعلم أن الهمزة حرف مجهور، وهو في الكلام على ثلاثة أضرب: أصل، وبدل، وزائد. ومعنى قولنا أصل: أن يكون الحرف فاء الفعل أو عينه أو لامه. والبدل: أن يقام حرف مقام حرف، إما ضرورة، وإما استحسانًا وصنعة. فإذا كانت أصلًا وقعت فاء وعينًا ولامًا. فالفاء نحو أَنْف وأُذُن وإبرة وأَخَذ وأَمرَ. والعين نحو فأس ورأس وجُؤْنة وذئب وسأل وجأَرَ. واللام نحو قُرْء وخَطَأ

ونَبَأ وهدأَ واستبرأَ واستدفأَ" (¬1). وقال في باب التاء: "التاء حرف مهموس، يستعمل في الكلام على ثلاثة أضرب: أصلًا وبدلًا وزائدًا. فإذا كانت أصلًا وقعت فاء وعينًا ولامًا، فالفاء نحو تَمْر وتَنَأَ، والعين نحو فِتْر وقتلَ، واللام نحو فَخْت ونَحَتَ. وأما إبدالها فقد أبدلت من ستة أحرف هن: الواو، والياء، والسين والصاد والطاء، والدال. إبدالها من الواو: قد أبدلت التاء من الواو فاء إبدالًا صالحًا ... " (¬2). وأما زيادة الحرف فتارة يكتفي بذكر الأماكن التي يكون فيها زائدًا مع التمثيل، كقوله في زيادة التاء: "وأما الزيادة فقد زيدت التاء أولًا في نحو تَأْلَب وتِجْفاف .. وزيدت ثانية في نحو افتقار وافتقر ... وزيدت أيضًا رابعة في سَنْبَتة .. وزيدت أيضًا خامسة في نحو ملكوت وجبروت ... وسادسة في نحو عنكبوت وتَرْنَموت ... وقد زيدت في أوائل الأفعال الماضية للمطاوعة، كقولك كسّرته فتكسّر .. وتزاد في أوائل المضارعة لخطاب المذكر نحو أنت تقوم وتقعد .. " (¬3). وتارة يبدأ بوضع المقاييس التي يستدل بها على زيادة الحرف، كقوله في زيادة الهمزة: "اعلم أن موضع زيادة الهمزة أن تقع في أول بنات الثلاثة، فمتى رأيت ثلاثة أحرف أصولًا وفي أولها همزة، فاقض بزيادة الهمزة عرفت الاشتقاق في تلك اللفظة أو جهلته، حتى تقوم الدلالة على ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" ص 69. (¬2) "سر صناعة الإعراب" ص 145. (¬3) "سر صناعة الإعراب" ص 157 - 159.

كون الهمزة أصلًا، وذلك نحو أحمر وأصفر ... " (¬1). فإذا جُهل الاشتقاق لجأَ أبو الفتح إلى القياس للحكم على أصالة الحرف أو زيادته، من ذلك قوله في التاء والنون: "واعلم أن للتاء ميزانًا وقانونًا يعرف به من طريق القياس كونها أصلًا أو زائدة، فإذا عدمت الاشتقاق في كلمة فيها تاء أو نون، فإن حالهما فيما أذكره لك سواء: فانظر إلى التاء أو النون، فإن كان المثال الذي هما فيه أو إحداهما على زنة الأصول بهما فاقض بأنهما أصلان، وإن لم يكن المثال الذي هما فيه بهما أو بإحداهما على زنة الأصول فاقض بأنهما زائدتان .. " (¬2). وبعد أن يفرغ من الحديث عن زيادة الحرف يشير إلى حذفه إن كان الحذف قد وقع فيه، كقوله في الهمزة: "وقد حذفت الهمزة فاء نحو ويلِمِّه، وناس، والله في أحد قولي سيبويه. ولامًا في جا يجي، وسا يسو. وحذفت عينًا في أريت وتصرفه" (¬3). هذا إذا كان الحرف يستعمل في الكلام أصلًا وبدلًا وزائدًا، فإذا كان لا يقع إلا أصلًا كالخاء، اكتفى بذكر ذلك فيه، وعرض ما اختلف فيه مما قد يظن أنه يدخل في باب الإبدال (¬4). وكذا إذا كان الحرف لا يستعمل إلا أصلًا وبدلًا كالجيم (¬5)، ومثله الحرف الذي يستعمل أصلًا وزائدًا ليس غير كالسين (¬6). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" ص 107. (¬2) "سر صناعة الإعراب" ص 167. (¬3) "سر صناعة الإعراب" ص 118. (¬4) "سر صناعة الإعراب" ص 183 - 184. (¬5) "سر صناعة الإعراب" ص 175 - 178. (¬6) "سر صناعة الإعراب" ص 197.

هذه هي القضايا الأساسية التي كررها المؤلف في كل حرف، فهي العمود الفقري لكل باب من أبواب الكتاب، وأمّا ما عداها من المسائل فإنما استطرد إليها استطرادًا، أو ذكرها إيضاحًا لمشكل، أو لأن لها علاقة وإن كانت بعيدة ببعض المباحث الأساسية. نخلص من هذا إلى القول: إن مادة الكتاب الأصلية هي الإعلال والإبدال والزيادة والحذف، وهذه أهم مباحث علم التصريف (¬1). ولقد استفاد الواحدي من كتاب "سر صناعة الإعراب" كتيرًا في المسائل النحوية خصوصًا عن الحروف ومعانيها، والغالب أنه ينقل عنه بدون عزو، وقد يعزو له أحيانًا قائلًا: قال أبو الفتح الموصلي، بدون ذكر اسم كتابه الذي أخذ عنه. ومن أمثلة نقله عنه بدون عزو ما افتتح به كتابه عند الكلام عن "الباء" في تفسير: "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: "اختلفت عبارة النحويين في تسمية هذه "الباء" الجارة، فسموها مرة: حرف إلصاق، ومرة حرف استعانة، ومرة حرف إضافة، وكل هذا صحيح من قولهم. أما الإلصاق: فنحو قولك تمسكت بزيد، وذلك أنك ألصقت محل قدوتك به، وبما اتصل به، فقد صح إذن معنى الإلصاق ... " (¬2) نقل عنه مع التصرف في كلام ابن جني بالتقديم والتأخير والحذف، وأذكر بعض كلام ابن جني لمقارنته مع نقل الواحدي قال ابن جني: ¬

_ (¬1) وانظر: مقدمة "سر صناعة الإعراب" ص 33 - 41. (¬2) انظر: تفسير الفاتحة من "البسيط".

"واعلم أنهم قد سموا هذه "الباء" في نحو قولهم: "مررت بزيد" و "ظفرت ببكر" مما تتصل فيه الأسماء بالأفعال، مرة حرف إلصاق، ومرة حرف استعانة، ومرة حرف إضافة، وكل ذلك صحيح من قولهم .. الخ (¬1). وقال الواحدي: وأما قول النحويين "الباء والكاف واللام" الزوائد، فإنما قالوا فيهن إنهن زوائد، لأنهن لما كن على حرف واحد، وقللن غاية القلة واختلطن بما بعدهن، خشي عليهن لقلتهن وامتزاجهن بما يدخلن عليه أن يظن بهن أنهن بعضه وأحد أجزائه، فوسموهن بالزيادة، ليعلموا من حالهن أنهن لسن من أنفس ما وصلن به .. (¬2). وقال ابن جني: "فأما قول النحويين: الباء والكاف واللام الزوائل يعنون نحو بزيد ولزيد، فإنما قالوا فيهن إنهن زوائد لما أذكره لك، وذلك أنهن لما كن على حرف واحد، وقللن غاية القلة، واختلطن بما بعدهن خشي عليهن لقلتهن وامتزاجهن بما يدخلن عليه أن يظن بهن أنهن بعضه أو أحد أجزائه فوسموهن بالزيادة لذلك، ليعلموا من حالهن أنهن لسن من أنفس ما وصلن به .. " (¬3). وبمثل ذلك تعامل الواحدي مع كتاب أبي الفتح بن جني في مواضع كثيرة من كتابه ينقل عنه بتصرف ولا يعزو له. انظر الكلام على "ال" في تفسير {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1] نقل عنه صفحات كثيرة ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 122. (¬2) "البسيط" تفسير الفاتحة. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 120.

بتصرف. (¬1) وفي تفسير {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] عند الكلام على "إيا" قال: "اختلفت مذاهب النحويين في هذا الحرف، وأنا ذاكر لك منها ما يحتمله هذا الكتاب، ذهب الخليل إلى أن "إيا" اسم مضمر مضاف إلى "الكاف"، وهذا مذهب أبي عثمان. وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن: أنه أسم مفرد مضمر يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين، وأن "الكاف" في "إياك" كالكاف في "ذلك" في أنه دلالة على الخطاب فقط مجردة من كونها علامة للضمير، ولا يجيز أبو الحسن فيما يحكى عنه: "إياك وإيا زيد" و"إياي وإيا الباطل". وقال سيبويه: حدثني من لا أتهم .. إلخ (¬2). ونص كلام أبي الفتح: "فهذِه مسألة لطيفة عنت لنا في أثناء هذا الفصل، نحن نشرحها ونذكر خلاف العلماء فيها، ونخبر بالصواب عندنا من أمرها إن شاء الله وهي قوله عز اسمه {إِيَّاكَ نَعبُد} وما كان مثله. أخبرني أبو علي عن أبي بكر محمد بن السري عن أبي العباس محمد بن يزيد: أن الخليل يذهب إلى أن "إيا" اسم مضمر مضاف إلى الكاف، وحكى عن المازني مثل هذا القول المحكي عن الخليل في أنه مضمر مضاف. قال: وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن الأخفش، وأبو إسحاق عن أبي العباس غير منسوب إلى الأخفش: أنه اسم مفرد مضمر ¬

_ (¬1) "البسيط" تفسير الفاتحة الآية: [2]. (¬2) "البسيط" تفسير الفاتحة الآية: [5].

بتغير آخره كما لتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين ... إلى أن قال: ولا يجيز أبو الحسن فيما حكي عنه: "إياك وإيا زيد، وإياي وإيا الباطل" انتهت الحكاية عن أبي علي. وقال سيبويه: "حدثني من لا أتهم عن الخليل .. الخ (¬1). وبعد أن نقل الواحدي عن أبي الفتح ابن جني كلامًا طويلًا في هذا قال: " .. وهذا الذي ذكرنا كلام أبي علي وأبي الفتح" (¬2). ومن أمثلة أخذه عنه بدون عزو -وهي كثيرة- ما ذكره في حروف التهجي عند تفسير قوله تعالى: {الم} [البقرة: 1] (¬3) وكذلك عن "الفاء" في تفسير قوله تعالى: {فَاَتَّقُواْ ألنَّارَ} [البقرة: 24] (¬4). هذه أهم مصادر الواحدي التي تم التعرف عليها. وفي تفسيره "البسيط" حشد كبير من أقوال الصحابة ومن بعدهم من التابعين في مجال التفسير وكذا أقوال أئمة اللغة والنحو، ونجد الواحدي في الغالب ينقل هذه الأقوال عن طريق هذه المصادر. ففي مجال التفسير ذكر أقوال ابن عباس كثيرًا، بل إن منهجه يقوم على ذكر قول ابن عباس في الآية ما وجد له قولًا فيها، كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه (¬5)، كما ذكر أقوال ابن مسعود، وأبيّ بن كعب. ومن التابعين ومن بعدهم ذكر أقوال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 312. (¬2) تفسير الفاتحة الآية [5]. (¬3) "البسيط" [البقرة: 1]. (¬4) "البسيط" [البقرة: 24]. (¬5) انظر: "البسيط" ذكر ذلك في المقدمة.

وعكرمة، وأبي الحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغيرهم. وفي الغالب أنه يأخذ أقوال هؤلاء عن طريق تفسير الثعلبي أو الطبري. وممن ذكر قوله في مجال التفسير "الحسين بن الفضل" (¬1)، ينقل أقواله في الغالب من طريق الثعلبي. من أمثلة ذلك عن تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] قال: " .. وقال الحسين بن الفضل: رد الكناية إلى الاستعانة؛ لأن "استعينوا" يدل على المصدر .. " (¬2). وقول الحسين ذكره الثعلبي في تفسيره. كذا الحال بالنسبة لأئمة النحو، نجد اسم "سيبويه" يتردد كثيرًا في "البسيط" وفي جميع المواضع التي اطلعت عليها لم أجده نقل عن الكتاب مباشرة، وإنما عن طريق أحد المصادر السابقة، من أمثلة ذلك: أنه ذكر قوله سيبويه في "الباء" من طريق "سر صناعة الإعراب"، وذكر قوله في "أراب" عن طريق "الحجة" لأبي علي الفارسي، وهكذا. ومثل هذا يقال عن بقية أئمة النحو الذين نقل عنهم كثيرًا كالخليل، وابن كيسان وأبي الحسن الأخفش، وأبي العباس ثعلب وغيرهم. وكما ذكر أقوال أئمة اللغة عن طريق "تهذيب اللغة" للأزهري مثل أبي عبيد القاسم بن سلام، وابن السكيت، والأصمعي، وأبي حاتم، واللحياني ¬

_ (¬1) هو: الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري، المفسر، الأديب، إمام عصره في "معاني القران"، صاحب فنون وتعبد، توفي وهو ابن مائة وأربع سنين في سنة 282 هـ. انظر: "العبر في خبر من غبر" 1/ 99، "الوافي بالوفيات" 4/ 281، "طبقات المفسرين" 1/ 7، "سير أعلام النبلاء" 13/ 414 (¬2) انظر: "البسيط" [البقرة: 45].

منهج الواحدي في النقول من مصادره

ابن الأعرابي وغيرهم. مثال واحد يوضح ذلك، نقل قول أبي عبيد في معنى "الصلاة" لغة، وكذا معنى "الفلاح" وكلام أبي عبيد موجود في كتابه "غريب الحديث" لكن النص أقرب إلى ما ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة"، كما نقل كلامًا قبله وبعده من "التهذيب" يؤكد أن النقل منه. منهج الواحدي في النقول من مصادره: لقد استفاد الواحدي من تلك المصادر كثيرًا، وكانت النقول سمة بارزة في تفسيره. لكن ما طريقة الواحدي في النقل هل هو مجرد ناقل، أو له جهد فيما ينقله؟ الحقيقة أن هذه النقول تبرز ما يتمتع به الواحدي من مهارة فائقة في حسن انتقاء وجودة الربط بين الكلام، كما أن نقاشه للأقوال والترجيح بينهما، يظهر قوة عقلية وملكة علمية تدل على أصالته في ذلك، وقد عبر الواحدي عن هذا النهج في مقدمة كتابه حين قال: " ... ولم يترك الأول للآخر شيئا غير أن المتأخر بلطيف حيلته ودقيق فطنته، يلتقط الدرر ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدور الكعاب، يروق المتأملين ويؤنق الناظرين .... " (¬1). وأذكر بعض الأمثلة توضح ذلك: في تفسير قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ...} [البقرة: 6] نقل كلامًا بنصه لأبي علي الفارسي من الحجة عن الهمزة في "أأنذرتهم". فقال: "لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر ... " إلى أن قال: "فكل استفهام تسوية ¬

_ (¬1) انظر مقدمة المؤلف.

وإن لم يكن كل تسوية استفهامًا" (¬1). وانتقل من كلام أبي علي مباشرة إلى كلام لأبي إسحاق الزجاج رابطًا الكلام ببعضه فقال: "وحرر أبو إسحاق هذا الفصل فقال: إنما دخلت ألف الاستفهام، وأم التي هي للاستفهام، والكلام خبر لمعنى التسوية .. الخ" (¬2). وفي تفسير قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] نقل كلامًا للفراء عن "كان" ومنه: " .. قال: وكان الخليل يقول: كَيْنُونَة "فَيْعُولَة" وهي في الأصل "كَيْوَنُونَة" التقت "ياء" و"واو" والأولى منها ساكنة فصيرتا "ياء" مشدّدة مثل ما قالوا: "الْهَيِّن" ثم خففوها فقالوا: "كَيْنُونة" كما قالوا: هَين لَيْن، قال الفراء: فقد ذهب مذهبًا، إلا أن القول عندي هو الأول. قال: ويضمر هاهنا "قد"، والتقدير: "وقد كنتم أمواتًا" (¬3) ... فربط بين كلام الفراء عن "كان" وهو منقول عن "تهذيب اللغة" ولم يرد هذا الكلام في تفسير الآية، تم ربط به مباشرة في قوله " .. قال: يضمر هاهنا "قد" .. " وهذا الكلام ذكره الفراء في "معاني القرآن" (¬4) فجمع بين النصين من "التهذيب" و"معاني القرآن"، وأحسن الربط بينهما، وكأنه من موضع واحد. ومع حسن سبك الكلام يناقش الأقوال ويوجهها، ويرجع ما يراه صوابًا ويرد ما كان بخلاف ذلك. ففي تفسير "البسملة" في قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} نقل كلام أبي العباس ثعلب من طريق ابن الأنباري حيث يرى ثعلب أن "الرحمن" اسم عبراني، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {قَالُوا وَمَا ¬

_ (¬1) "البسيط" سورة البقرة: 6. (¬2) انظر: "البسيط" [البقرة: 6]. (¬3) "البسيط" انظر هذا الكلام عند تفسير قوله تعالى {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 24.

الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] (¬1) فيرد عليه الواحدي مبينًا أن الآية لا تقوم دليلًا على مطلوبه فيقول: "وأما ما احتج به أبو العباس من قوله تعالى: {وَمَا الرَّحْمَنُ} فهو سؤال عن الصفة، ولذلك قالوا: "وما الرحمن" ولم يقولوا: ومن، والقوم جهلوا صفته، والاسم كان معلوما لهم في الجملة" (¬2). مثال آخر يدل على ما يتمتع به من ملكة علمية تُمَكِّنه من نقاش كلام فطاحل العلماء، ما مر بنا قريبا من مناقشته لكلام الطبري (¬3) قائلًا: "وليس الأمر على ما قال، لأن الشك في القلب على الحقيقة، فأي فائدة لتقدير الاعتقاد هاهنا، ولأن الشك ينافي الاعتقاد، وهم ليسوا معتقدين إذا كانوا شاكين" (¬4). ومثال ثالث في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ...} [البقرة: 27] ذكر وجهين للزجاج في المراد بالعهد (¬5)، ثم قال: "والوجه الأول أصحهما، من قبل أن الله لا يحتج عليهم بما لا يعرفون؛ لأنه بمنزلة ما لم يكن إذا كانوا لا يشعرون به ولا لهم دلالة عليه، والثاني مع هذا صحيح، لأنهم عرفوا ذلك العهد بخبر الصادق فكان كما لو كانوا يشعرون به، وهذا الوجه هو قول ابن عباس .. " (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" عند تفسير قوله تعالى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة الآية 3]. (¬2) انظر: المصدر السابق. (¬3) انظر: كلام الطبري من هذِه الدراسة. (¬4) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9]. (¬5) الوجهان: الأول: ما أخذه على النبيين ألا يكفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم يوم الميثاق. انظر: "البسيط" عند قوله تعالى {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 27]. (¬6) انظر: المصدر السابق.

وقد ينقل كلام غيره في النقاش والترجيح، مثال ذلك أنه في أثناء الكلام عن "الواو والياء والألف" التي تلحق التثنية والجمع، نقل كلامًا طويلًا عن أبي الفتح ابن جني ومما نقله قول أبي علي الفارسي ثم قال بعده: "وهذا استدلال من أبي علي في نهاية الحسن وصحة المذهب وسداد الطريقة" (¬1). وهذا التوجيه من كلام أبي الفتح بنصه (¬2). ومثال آخر حينما تحدث عن "إياك" في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ذكر أقوال العلماء في ذلك ومنه كلام الخليل والزجاج ناقلًا عن أبي الفتح ابن جني، ومما نقله مناقشة أبي الفتح لكلام الخليل، وكلام الزجاج وفيه يقول: " ... أما قول الخليل: أن "إيا" اسم مضمر مضاف فظاهر الفساد، وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر فلا سبيل إلى إضافته .. " (¬3). ثم يقول: " .. وأما قول من قال: "إياك" بكماله الاسم فليس بقوي .. الخ" (¬4). ثم يقول: " .. وأما قول أبي إسحاق: إن "إيا" اسم مظهر خص بالإضافة إلى المضمر ففاسد -أيضا- وليست "إيا" بمظهر كما زعم الخ" (¬5). وكل هذه المناقشات من كلام أبي الفتح بن جني من "سر صناعة الإعراب" (¬6). ¬

_ (¬1) "البسيط" ص (659). (¬2) "البسيط" ص (303). (¬3) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق. (¬6) انظر: حاشية "البسيط" في المواضع السابقة.

بعض الملحوظات على نقل الواحدي

بعض الملحوظات على نقل الواحدي: مع كثرة النقول في تفسير "البسيط" وقع الواحدي في بعض الملحوظات، ويحصل ذلك عندما يختصر النص أو ينقل بعضه ويترك بعضًا، فيكون لما ذكر ارتباط بما ترك، أو يستبدل كلمة أو جملة بأخرى تغير المعنى. وهذه بعض الأمثلة توضح ذلك: في تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] نقل نصًّا عن "تهذيب اللغة" ولم يعزه له فقال: "وقال الأخفش: الحمد لله الشكر لله، قال: والحمد -أيضا- الثناء، وكأن الشكر لا يكون إلا ثناء ليد أوليته ... الخ" (¬1). وفي "التهذيب" كلام الأخفش ينتهي عند "الحمد -أيضا- الثناء" وبدل قوله: "وكأن الشكر لا يكون ... الخ"، "قلت: الشكر ... " فهو من كلام الأزهري كما صرح بذلك صاحب "اللسان" فقال: قال الأزهري: "والشكر لا يكون ... الخ" ولما أبدل الواحدي "قلت" بـ"كان" صار الكلام جزءًا من كلام الأخفش، أو من كلام الواحدي (¬2). مثال آخر في قوله تعال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قال: "وزعم الأخفش أن من العرب من يؤنث الهدى" (¬3) وكلام الأخفش في "الحجة": "وقال أبو الحسن: زعموا أن من العرب من يؤنث الهدى" (¬4) فالأخفش ¬

_ (¬1) "البسيط" عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. (¬2) انظر التعليق على النص في حاشية "البسيط" عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. (¬3) "البسيط" [البقرة: 2]. (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 179، وانظر حاشية "البسيط" [البقرة: 2].

ناقل للزعم وجعله هو الزاعم. ومثال آخر: نقل كلام أبي الفتح في "أل" ومنه قوله: "ومذهب الخليل في هذا أن "أل" حرف التعريف بمنزلة "قد" في الأفعال ... واحتج لهذا المذهب بفصلين، أحدهما: أن العرب قطعت "أل" في أنصاف الأبيات نحو قول عبيد: يا خليلي اربعا واستخبرا الـ ... منزل الدراس من أهل الحلال مثل سحق البرد عفى بعدك الـ ... قطر مغناه وتأويب الشمال قال: فلو كانت اللام وحدها حرف التعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها ... " (¬1) فتصرف الواحدي في كلام أبي الفتح وصيَّر الكلام كأنه بنصه للخليل خصوصًا عند قوله: "واحتج لهذا المذهب بفصلين" وقوله: "قال: فلو كانت اللام ... " وأذكر نص كلام أبي الفتح ليظهر الفرق بين النصين. "وذهب الخليل إلى أن "أل" حرف تعريف بمنزلة "قد" في الأفعال وأن الهمزة واللام جميعًا للتعريف ... ويقوي هذا المذهب قطع "أل" في أنصاف الأبيات نحو قول عبيد: ياخليلي ........ ... .................... وهذه قطعة لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتًا يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلى بيتًا واحدًا من جملتها، ولو كانت اللام وحدها حرف التعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها ... " (¬2). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: ¬

_ (¬1) "البسيط" [البقرة: 2]. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 1/ 333.

48] قال: "قال أصحاب المعاني: ليس معنى: "لا يقبل الشفاعة" أن هناك شفاعة لا تقبل، وإنما المعنى لا يكون شفاعة فيكون لها قبول .. الخ" (¬1). فالواحدي نقل هذا عن أبي علي الفارسي من الحجة (¬2)، ونسبه لأهل المعاني ولم يذكره أحد من أهل المعاني الذين اشتهر أخذه عنهم كالفراء والأخفش والزجاج. ثم إن في هذا الكلام محذورًا حيث ظاهره نفي الشفاعة، وهذا قول المعتزلة، ولم ينقده في هذا الموضع كدأبه في نقد آراء المعتزلة، وان كان قد ذكر القول الصحيح في معنى الآية في موضع آخر فقال في آخر تفسيرها: " ... والآية وإن عمت في نفي الشفاعة فمعناها الخصوص فيمن مات على الكفر بدلالة الأخبار الصحيحة في الشفاعة، وقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .. " (¬3). ¬

_ (¬1) "البسيط" [البقرة: 48]. (¬2) "الحجة" 2/ 46، 47. (¬3) "البسيط" [البقرة: 48].

المبحث السادس: منهج الواحدي في تفسيره وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: منهجه إجمالًا كما وصفه في مقدمة كتابه المطلب الثاني: منهجه تفصيلًا وفيه تسع مسائل. المطلب الثالث: مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة.

المبحث السادس منهج الواحدي في كتابه "البسيط"

المبحث السادس منهج الواحدي في كتابه "البسيط" المطلب الأول: مقدمة الكتاب ومنهجه إجمالًا: افتتح الواحدي كتابه بمقدمة طويلة أشتملت على مسائل هامة، حيث بين فيها سبب تأليفه الكتاب، ثم تحدث بإفاضة عن أهمية علم اللغة والنحو والأدب لتفسير القرآن الكريم، وذكر أنه لابد للمفسر أن يتمكن فيها، قبل تعرضه لتفسير كتاب الله، ثم تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلوم في شتى المجالات، ثم تحدث بعد ذلك عن منهجه في كتابه إجمالًا. ولما حوته تلك المقدمة من قضايا هامة تنم عن شيء من شخصية الواحدي العلمية كانت مرجعًا لكل من أراد التعرف على الواحدي أو التعريف به، فنقل منها بعض العلماء عند تعريفهم بالواحدي، كما فعل "ياقوت" في معجم الأدباء (¬1)، ومن المعاصرين "أحمد صقر" في مقدمته على "أسباب النزول" (¬2). وقد سبق ذكر مقاطع منها عند الحديث عن العلوم التي برز فيها، وعند الحديث عن شيوخ الواحدي، وكذا عند الحديث عن مصادره في كتابه، والآن أستعرض جوانب أخرى في المقدمة لم يسبق الحديث عنها. ذكر في أولها الموضوعات الأساسية للكتاب فقال: "وبعد، فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أعلق لمعاني إعراب القرآن وتفسيره فِقَرًا في الكشف عن غوامض معانيه، ونُكَتًا في الإشارة إلى علل القراءات فيه في ورقات يصغر ¬

_ (¬1) انظر: "معجم الأدباء" 12/ 262 - 270. (¬2) انظر: "أسباب النزول" ص 11 وما بعدها.

حجمها ويكثر غُنْمها .. ". وقد كان الواحدي موفقًا في تحديد الموضوعات الرئيسة التي ركز عليها في تفسيره، لكن عبارته توحي بالاختصار والإيجاز، والواقع بخلاف ذلك، فقد تعدى في بعض المواضع حدود الإطالة إلى الإملال بذكر مسائل لا علاقة لها بالتفسير. وإذا كان السبب الرئيس للتأليف -كما أفصح عنه- رغبته في الكشف عن غوامض معاني القرآن الكريم، فهناك سبب آخر دعاه للتأليف ذكره قائلا: " .. والأيام تمطلني بصروفها على اختلاف صنوفها إلى أن شدد علي خناق التقاضي قومٌ لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قرونتي بعد الإباء .. "، ثم يقول: " .. هؤلاء شكوا إليّ غلظ حجم المصنفات في التفسير، وأن الواحدة منها تستغرق العمر كتابتها ويستنزف الروح سماعها وقراءتها، ثم صاحبها بعد أن أنفق العمر على تحصيلها، ليس يحظى منها بطائل تعظم عائدته، وتعود عليه فائدته". أبرز الواحدي أن من أسباب تأليفه الكتاب ما شكوا إليه من غلظ حجم المصنفات في التفسير أقول: لقد جاء كتابه "البسيط" غليظ الحجم فوقع فيما نقده على غيره. ثم تحدث الواحدي بعد ذلك عن أصول هامة لابد لمن رام تفسير كتاب الله أن يلم بها، فذكر النحو والأدب والبلاغة وأهميتها للمفسر فقال: "فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب، فإنهما عمدتاه وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب فيما تحويه من الاستعارات الباهرة، والأمثال النادرة، والتشبيهات البديعة، والملاحن الغريبة .. " ويستطرد طويلًا في بيان أهمية ذلك لتفسير القرآن، خصوصًا في

عصره، وذلك لأن الصحابة الذين نزل القرآن فيهم، كانوا عربًا أولي بيان فاضل، وقد بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحتاجون من مجمل الكتاب فيقول: "فاستغنوا بذلك عما نحن إليه محتاجون من معرفة لغات العرب .. "، ثم يبين أن المفسر يحتاج مع تعلم اللغة، إلى السنن المبينة لمجمل الكتاب فيقول -ناقلًا عن مقدمة "تهذيب اللغة"-: "فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب، ثم السنن المبينة لمجمل التنزيل الموضحة للتأويل، لتنتفي عنا الشبه التي دخلت على كثير من رؤساء أهل الزيغ والإلحاد، ثم على رؤوس ذوي الأهواء والبدع، الذين تأولوا بآرائهم المدخولة فأخطأوا، وتكلموا في كتاب الله -عز وجل- بلكنتهم العجمية دون معرفة ثاقبة فضلوا وأضلوا .. " (¬1) فبين بهذا أهمية اللغة والسنة لبيان القرآن، وخطر التصدي لتفسيره دون المعرفة الثاقبة بهما. ثم ذكر حث السلف على تعلم اللغة وترغيبهم في ذلك فقال: "وقد كان الأكابر من السلف يحثون على تعلم لغة العرب، ويرغبون فيها لما يعلمون من فضائلها وفرط الحاجة إليها .. "، ثم أورد بعض الأحاديث والآثار في بيان قيمة الأدب والحث على تعلمه وتعلم اللغة، وختم حديثه عن أهمية اللغة والأدب للتفسير فقال: "وكيف يتأتى لمن جهل لسان العرب أن يعرف تفسير كتاب جعل معجزة -في فصاحة ألفاظه وبعد أغراضه- لخاتم النبيين وسيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله الطيبين- في زمان أهلُه يتحلون بالفصاحة ويتحدون بحسن الخطاب وشرف العبارة، وإن مثل من طلب ذلك مثل من شهد الهيجاء بلا سلاح، ورام أن يصعد الهواء بلا جناح". ¬

_ (¬1) وقد نقله الواحدي عن مقدمة "تهذيب اللغة" بدون عزو.

ثم يقرر قضية هامة وهي أن من جهل لسان العرب وأصول كلامهم ليس مرشحًا للتعرض لتفسير كتاب الله، حتى وإن قرأ كتب التفسير، لأنه مقلد لهم في ذلك غير مدرك لمعاني كتاب الله فيقول: " ... ثم وإن طال تأمله مصنفات المفسرين وتتبعه أقوال أهل التفسير من المتقدمين والمتأخرين فوقف على معاني ما أودعوه كتبهم وعرف ألفاظهم التي عبروا بها عن معاني القرآن لم يكن إلا مقلدًا لهم فيما حكوه وعارفًا معاني قول مجاهد، ومقاتل، وقتادة، والسدي وغيرهم، دون معنى قول الله عز وجل. ألا ترى أن واحدًا ممن لم يتدرب بلغة العرب لو سمع قول امرئ القيس: دِيمَةٌ هَطْلاَءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّ فسأل عن معناه: فقيل له: إنه يصف مطرًا سحابه هاطل، كان عارفًا معنى هذا البيت من طريق التقليد، ولا يكون عارفا معنى قول امرئ القيس ما لم يعرف تفسير كل حرف على حدته ... ". ويستمر يعرض الأمثلة والشواهد حول هذه القضية لينتهي إلى القول: "وإنما ذكرت هذه الأمثلة لتعرف أن من تأمل مصنفات المفسرين ووقف على معاني أقوالهم لم يقف على معاني كلام الله دون الوقوف على أصول اللغة والنحو". ثم يذكر طبقات المصنفين في تفسيره، ولكنه آثر الاختصار فيها، لأنه كما قال: "الاشتغال بما يعنينا أولى من بيان درجتهم والكشف عن نقصهم ومزيتهم". وينتهي إلى القول: "ولم يترك الأول للآخر شيئًا، غير أن المتأخر بلطيف حيلته ودقيق فطنته يلتقط الدرر ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدر الكعاب .. ". ولقد كان الواحدي صادقًا في مقالته، وكان كتابه تعبيرًا عن ذلك

وصف الكتاب ومنهجه فيه كما عرضه في المقدمة

فعمل فيه على لقط الدرر وجمع الغرر ونظمها كالعقد، وقد سبق إيضاح هذه المسألة عند ذكر مصادره في كتابه. بعد ذلك يذكر الواحدي شيوخه ومصادره التي استقى منها فيقول: "وأظنني لم آل جهدًا في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سِنُو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى وله الحمد، حتى أقتبست كل ما أحتجت إليه في هذا الباب من مظانه وأخذته من معادنه .. "، ثم أخذ في سرد شيوخه وتحدث عن الكتب التي قرأها وأطال وقد سبق نقل مقاطع طويلة منه عند الحديث عن شيوخه وكذا عند ذكر مصادره فلا أطيل بذكرها هنا. وصف الكتاب ومنهجه فيه كما عرضه في المقدمة: وفي نهاية المقدمة يصف الواحدي كتابه الذي عزم على جمعه، ومنهجه فيه فيقول: "وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه وحسن تيسيره ... سالك نهج الإعجاز في الإيجاز، مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، خال عما يكسب المستفيد ملالة ويتصور عند المتصفح إطالة، ولا يدع لمن تأمله حازَّة في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين إلى نور العلم وثَلَج اليقين ... ". فهل كتاب الواحدي كما وصفه هنا؟ لقد درج الكثير من المؤلفين على وصف كتابهم في مقدماتهم التي يكتبونها أولًا وربما بالغ بعضهم في ذلك، وقد يكون المؤلف صادقًا مع نفسه فيما قال؛ لأنه لو علم خللا في كتابه لأصلحه، ونعود إلى كتاب الواحدي فأقول: إن كتابه بحق كما وصفه، سوى ما ادعاه من سلوكه نهج

منهج الواحدي في كتابه إجمالا

الإيجاز، فواقع الكتاب لا يطابق ما شرطه على نفسه في المقدمة، فإنه استطرد في كتابه إلى مباحث لغوية ونحوية خارجة عن إطار التفسير، ويأتي مزيد من الإيضاح لذلك، عندما نعرض لتفصيل منهجه في الجوانب اللغوية والنحوية. ثم يقول الواحدي عن كتابه: " ... هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضا في صنعة الأدب والنحو مهتديًا بطرق الحِجَاج، قَارِحًا في سلوك المنهاج فأما الجَذَع المُزْجَى من المُقْتَبِسِين والرَّيِّض الكَزُّ من المبتدئين فإنه مع هذا الكتاب كمزاولٍ غَلَقًا ضاع عنه المفتاح ومتخبط في ظلماء ليل خانه المصباح ... ". لقد كان الواحدي صادقا في وصف كتابه، حيث يوجد فيه مسائل لغوية ونحوية يعسر على القارئ فهمها إلى بعد تأمل طويل، وأكثر تلك المواضع استطرادات لا علاقة لها بالتفسير. منهج الواحدي في كتابه إجمالا: ذكر الواحدي منهجه في كتابه إجمالًا قائلًا: "وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصًّا، ثم بقول من هو قدوة في هذا العلم من الصحابة وأتباعهم مع التوفيق بين قولهم ولفظ الآية. فأما الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ ولا تساعده العبارة فمما لم أضيع الوقت بذكره. وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل الأمصار دون تسمية القراء، واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه". فذكر أن منهجه انه يبتدئ كل آية بقول ابن عباس ما وجد له نصا. وهنا لابد من إيضاح أمرين:

الأمر الأول: أنه يبدأ الآية غالبًا بتحليل ألفاظها وبيان أصولها اللغوية واشتقاقها، وما فيها من قضايا نحوية ويطيل في ذلك، فقد أخذت هذه المباحث حيزًا كبيرًا في الكتاب، ثم يذكر ما قيل في تفسير الآية ويبدأ ذلك بقوله: "أما التفسير" هذا في الغالب، وقد يذكر قول ابن عباس أولًا ثم يذكر تحليل ألفاظ الآية. الأمر الثاني: أنه في الغالب يبدأ بقول ابن عباس، وقد يذكر قول غيره ثم يذكر قوله بعد ذلك. مثال ذلك في تفسير قوله تعال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قال: "قال الضحاك وقتادة: الدين: الجزاء يعني يوم يدين الله العباد بأعمالهم .. وقال ابن عباس والسدي ومقاتل في معنى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: قاضي يوم الحساب .. " (¬1). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] ذكر قول مجاهد ثم ذكر بعده قول ابن عباس (¬2). وذكر أن من منهجه التوفيق بين قول السلف ولفظ الآية، وهذه سمة بارزة في تفسير "البسيط"، حيث نجده دائمًا يحرص على بيان مدلول لفظ الآية على كل قول يذكره لأحد من الصحابة، أو من بعدهم، وُيظْهَر بذلك أحتمال ألفاظ الآية لهذِه الأقوال وقد يحاول أن يجمع بينها ويبين أنها تلتقي في النهاية حول معنىً واحد. ثم ذكر أن من منهجه أنه لا يذكر الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول، ولقد كان عند شرطه في الجملة، سوى بعض الإسرائيليات التي دخلت عليه من طريق شيخه "الثعلبي" ويأتي الحديث عن ذلك قريبًا إن شاء الله. ¬

_ (¬1) "البسيط" [الفاتحة: 4]. (¬2) انظر "البسيط" [الفاتحة: 4].

المطلب الثاني: منهجه في كتابه مفصلا

وذكر أن من منهجه أنه يذكر القراءات السبع دون تسمية القراء، وفي هذا الجانب يركز على توجيه القراءات ويتوسع في ذلك، ويذكر ذلك في الغالب بعد تحليل ألفاظ الآية. وذكر ما فيها من مسائل نحوية، وقبل دخوله في ذكر أقوال السلف والمفسرين في الآية. وفي أثناء تفسير الآية قد يتعرض لما فيها من أحكام، وقد يذكر مسائل في الوقف والابتداء، والربط بين الآيات، كما يذكر فيها سبب النزول، ولا يكثر في كل ذلك، ويأتي إيضاح هذه الأمور بالأمثلة عند ذكر منهجه مفصلًا إن شاء الله. المطلب الثاني: منهجه في كتابه مفصلًا: أولًا: تفسير القرآن بالقرآن: يعتبر القرآن الكريم هو المصدر الأول للتفسير، فما أجمل في موضع قد يرد مفصلًا في موضع آخر، وما أبهم في مكان قد يرد مبينًا في مكان آخر وهكذا. وقد يعتمد الواحدي على هذا المصدر في تفسيره فكثيرًا ما يورد آية لتفسير آية وقد يورد الآيات الكثيرة للاستشهاد، خصوصًا في المسائل النحوية واللغوية. ومن أمثلة إيراد الآية لتفسير آية أخرى ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أورد الأقوال في "العالمين" فذكر قول الحسن وقتادة في تفسير العالم: إنه جميع المخلوقات قال: "يدل على هذا القول من التنزيل قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23، 24]. فسر العالمين بجميع

المخلوقات" (¬1). ثم قال: "وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هم الجن والأنس، اختاره أبو الهيثم والأزهري، واحتجوا بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] .. وقال الحسين بن فضل وأبو معاذ النحوي: هم بنو آدم لقوله {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] .. " (¬2). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ذكر الأقوال فيها ومنها: "وقيل: هم الذين ذكرهم الله في قوله سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الآية .. (¬3). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] قال: "والكناية في مثله تعود إلى "ما" في قوله: {مِّمَّا نَزَّلنَا} ودليل هذا التأويل قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] وقوله: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] كذلك يريد به مثل القرآن ... " (¬4) والأمثلة على هذا كثيرة. ويكثر من الاستشهاد بالآيات في المسائل النحوية واللغوية التي يتعرض لها أو ينقلها غيره. مثال ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 51] قال (¬5): ¬

_ (¬1) "البسيط" [الفاتحة: 2]. (¬2) "البسيط" [الفاتحة: 2]. (¬3) "البسيط" [الفاتحة: 7]. (¬4) "البسيط" [البقرة: 23]. (¬5) ناقلًا عن الحجة بدون عزو. انظر حاشية "البسيط" عند قوله {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}.

المسألة الثاني: تفسير القرآن بالسنة والأثر

وأما "اتخذ" فإنه على ضربين، أحدهما: أن يتعدى إلى مفعول واحد. والثاني: أن يتعدى إلى مفعولين. فأما تعديه إلى واحد فكقوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] و {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان: 3]، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17]، وأما تعديه إلى مفعولين، فإن الثاني منهما هو الأول في المعنى كقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16، المنافقون: 2]، وقال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110] .... " (¬1). ب- تفسير القرآن بالسنة والأثر: يعتبر كتاب "البسيط" للواحدي أقرب إلى كتب التفسير بالدراية منه إلى التفسير بالرواية، حيث أكثر فيه من المباحث اللغوية والنحوية وتوجيه القراءات والنكات التفسيرية والفوائد حول الآيات، وأقلّ من الرواية خصوصًا الحديث، أما الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم فهي أكثر من الحديث، بخلاف كتاب "البسيط" الذي أكثر فيه من الرواية. وقد أدرك الواحدي الإسناد، كما قال صاحب "المنتخب من السياق" في أثناء ترجمة الواحدي: "أدرك الإسناد العالي" (¬2). وكانت له بعض المشاركة في خدمة السنة تظهر من خلال كتابيه "أسباب النزول" و"الوسيط" في التفسير. ولكن مع ذلك فبضاعة الواحدي في السنة ليست مرضية عند بعض ¬

_ (¬1) "البسيط" [البقرة: 51]. (¬2) "المنتخب من السياق" ل 114/ أ.

العلماء، فوجهت إليه الانتقادات في هذا الجانب، ذكرت طرفًا منها فيما سبق عند الحديث عن "أقوال العلماء فيه". ومن تلك الأقوال ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية قال: " .. وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم ... " (¬1)، وقال في موضع آخر: "وأما "الواحدي" فإنه تلميذ الثعلبي وهو أخبر منه بالعربية لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره، وتفسيره وتفسير الواحدي "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها" (¬2). وأخذ بهذا القول الكتاني فقال: " ... ولم يكن له ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث بل في تفسيريهما وخصوصًا الثعلبي أحاديث موضوعة وقصص باطلة ... " (¬3). كما نقل الزركشي في "البرهان" عن ابن الصلاح اعتراضه على الواحدي في إيراده حديث فضائل السور فيقول: "قال ابن الصلاح: ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره (¬4) من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم" ثم يعتذر الزركشي عن الواحدي قائلًا: "قلت: وكذلك الثعلبي، لكنهم ذكروه بإسناد فاللوم عليهم يقل بخلاف من ذكره بلا إسناد وجزم به كالزمخشري ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" 13/ 354 (¬2) "مجموع فتاوى ابن تيمية" 13/ 386. (¬3) "الرسالة المستطرفة" ص (59). (¬4) أي حديث فضائل السور.

فإن خطأه أشد" (¬1). والأحاديث في "الوسيط" قليلة في الجملة وذكر الواحدي بعضها بسنده مثال ذلك ما أخرجه في مقدمة البسيط قال: "ولقد أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم رحمه الله قال: أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن، ثنا أبو الحسن أحمد بن الخضر بن أبان، ثنا أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف، ثنا نصر بن على الجهضمي، ثنا عامر بن أبي عامر، ثنا أيوب بن موسى القرشي عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نحل والد ولده نحلة أفضل من أدب حسن" (¬2). وقد حكم الأئمة على هذا الحديث بالضعف والإرسال. ومثال آخر ما ذكره في تفسير الفاتحة في معنى "الحمد" قال: "وقد أخبرنا الحسين بن أبي عبد الله الفسوي -رضي الله عنه- أبنا أحمد بن محمد الفقيه، أبنا محمد بن هاشم، عن الدَّبَري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحمد رأس الشكر، وما شكر الله عبد لا يحمده" (¬3). والحديث ضعيف كما قال ذلك بعض العلماء (¬4). والبعض الآخر من الأحاديث ذكرها بدون سند ولم يحكم عليها بشيء وأكثرها وردت للاستدلال بها في المسائل اللغوية، أوردها اللغويون في كتبهم ونقلها الواحدي عنهم. ¬

_ (¬1) "البرهان" 1/ 432. (¬2) "مقدمة البسيط" للمؤلف. (¬3) "البسيط" عند تفسيره قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]. (¬4) انظر: "حاشية البسيط" عند التعليق على قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2].

من أمثلة ذلك في تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ذكر معاني الدين: الحساب فقال: "وقيل: في قوله: "الكيس من دان نفسه"، أي: حاسبها" (¬1) فاستشهد بالحديث على أن الدين يأتي بمعنى الحساب، والكلام مع الاستشهاد بالحديث نقله عن "تهذيب اللغة" للأزهري (¬2). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] تكلم عن أصل معنى الخدع والخداع، ثم قال: "ومنه الحديث "يكون قبل خروج الدجال سنون خداعة" .. " (¬3) والحديث مع ما قبله وما بعده مما ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (¬4). ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] تكلم عن لفظ "النبي" وعن أصله، وقال: ... وأما ما روي في الحديث من أن بعضهم قال: يا نبيء الله فقال: لست بنبيء الله ولكن نبي الله" فإن أهل النقل ضعفوا إسناد الحديث ... ، والحديث مع التعليق عليه منقول عن "الحجة" لأبي علي الفارسي (¬5). وقد استشهد صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" بالكلام السابق عن السند على أن الواحدي قد يتعرض لنقد الحديث (¬6)، ولم ينتبه إلى أن كلام الواحدي مع قبله وما بعده منقول عن أبي علي الفارسي. ¬

_ (¬1) "البسيط" [الفاتحة: 4]. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" "دان" 14/ 182. (¬3) "البسيط" [البقرة: 9]. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" "خدْع" 1/ 159. (¬5) انظر: "الحجة" لابن علي 2/ 92. (¬6) انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص 325 - 326.

المسألة الثالثة: تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين

المسألة الثالثة: تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين: أعلم الناس بالتفسير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم أصحابه رضوان الله عليهم، ثم التابعون، وذلك لأنهم شاهدوا أحوال التنزيل أو عاصروا من شاهدها؛ ولأنهم أعلم باللغة التي نزل بها القرآن؛، ولأنهم أعرف بأحوال من نزل فيهم القرآن؛ ولأنهم أبعد عن البدع وأسلم القرون من الضلالات. وقد ظهر في "تفسير البسيط" جليًا الاعتماد على أقوال الصحابة والتابعين في التفسير والاعتناء بها، وتقديمها على غيرها، بل صرح بذلك في مقدمة "تفسيره" قائلًا: "وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصًّا، ثم بقول من هو قدوة في هذا العلم من الصحابة وأتباعهم، مع التوفيق بين قولهم ولفظ الآية". ويمكن إجمال منهجه في هذا الباب في النقاط التالية: أولًا: يفصل في ذكر أسماء المفسرين من الصحابة والتابعين، وأحيانًا يجملهم تحت قوله: قال المفسرون، أو أهل التفسير. ومن أمثلة التفصيل: ما ذكره عند قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] قال الواحدي: واختلف المفسرون في معنى الخطيئة ها هنا، فقال ابن عباس والضحاك وأبو وائل وأبو العالية والربيع وابن زيد: هي الشرك يموت عليه الإنسان. ومن أمثلة الإجمال: ما ذكره عند قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} [البقرة: 90] قال: قال المفسرون: البَغْيُ هاهُنا بمعنى: الحَسَد. ثانيًا: لا يذكر السند في غالب الأحيان إليهم، وقد أسند قليلًا من الآثار، وذكر طرفًا من الإسناد في مواضع، ويقتصر في الغالب على الراوي

عن الصحابي أو التابعي، خصوصًا إذا رُوي عنه أكثر من قول في الآية. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] فقال: وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية الكلبي: قالت كفار قريش: يا محمد صف وانسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص، وهذه الآية. وقال جويبر (¬1)، عن الضحاك، عن ابن عباس: كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنمًا، يعبدونها من دون الله، فبين الله سبحانه لهم أنه واحد، فأنزل هذه. ثالثًا: تنوّع طريقته في عرض الأقوال وذكر القائلين بها، فتارة يذكر كل قول على حدة، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فقال: وأما التفسير: فقال مجاهد: (ومن تطوع خيرًا) بالطواف بهما، وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضًا. وقال مقاتل والكلبي: ومن تطوع خيرًا فزاد في الطواف بعد الواجب. ومنهم: من حمل هذا النوع على العمرة، وهو قول ابن زيد، وكان يرى العمرة غير واجبة. وقال الحسن: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} يعني به: الدين كله، أي: فعل غير المفترض عليه، من طواف وصلاة وزكاة وكل نوع من أنواع الطاعات. وهذا أحسن هذِه الأقاويل؛ لأن قوله (ومن تطوع خيرًا) صيغته تدل على العموم. ¬

_ (¬1) سبق ترجمته.

المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات

وتارة يذكر القول، ثم يذكر القائلين به، دون أن يذكر ألفاظهم، أو يذكر ألفاظهم بعد ذلك. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] فقال: قال قتادةُ والربيع ومقاتل: عنى الله بهذه الآية: اليهود والنصارى، .. وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء: المراد به المؤمنون. رابعًا: يرجح بين الأقوال في بعض الأحيان كما في المثال قبل السابق عند قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. وقد يجمع بينها، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] قال: أكثر المفسرين على أن المراد بهذا: الولد، أي: اطلبوا بالمباشرة ما قضى الله لكم من الولد. وقال قتادة: يعنى الرخصةَ التي كتبتُ لكم، وقال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء: يعني: ليلةَ القدر، وكل هذا مما تحتمله الآية. المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات: الإسرائيليات: هي الأخبار المروية عن أهل الكتاب من يهود أو نصارى، وسميت (إسرائيليات) تغليبًا، لأن أكثرها من أخبار بني إسرائيل أو من كتبهم (¬1). وقد بين الحافظ ابن كثير في مقدمة "تفسيره" الموقف الصحيح منها، بعد ذكره لحديث: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ¬

_ (¬1) ينظر في الإسرائيليات: "التفسير والمفسرون" للذهبي 1/ 165 و"الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" للدكتور محمد أبو شهبة ص 21، و"الإسرائيليات" للدكتور: رمزي نعناعة ص 71.

ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬1) فقال -رحمه الله-: ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك (¬2). وقال في موطن آخر -بعد ذكره لبعض أخبارهم-: وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتُري في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديثُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل برقم (3461). (¬2) "تفسير ابن كثير" ص 12. (¬3) "تفسير ابن كثير" ص 1609.

ومن أمثلة ذلك

ويقول الشيخ أحمد محمد شاكر (¬1) معلقًا على كلام ابن كثير: إن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه شيء، وذكر ذلك في تفسير القرآن، وجعله قولًا أو رواية في معنى الآيات، أو في تعيين ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما أجمل فيها شيء آخر، لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مبين لمعنى قول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل، وحاشا لله ولكتابه من ذلك (¬2). لقد وعد الواحدي رحمه الله في مقدمة كتابه باجتناب مثل ذلك فقال: فأما الأقوال الفاسدة، والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ، ولا تساعده العبارة فمما لم أعبأ به، ولم أضيع الوقت بذكره (¬3). ولكنه رحمه الله وقع فيما وعد بتركه، وضيّع الوقت -رحمه الله- بذكره، وتابع بعض من سبقه وفي مقدمتهم شيخه الثعلبي، الذي ملأ كتابه من تلك المرويات والقصص التي لا زمام لها ولا خطام، ولا ينتفع بها في فهم القرآن، ولا فائدة فيها تعود إلى أمر ديني، كما أسلف ابن كثير، دون تنبيه من الواحدي أو تعليق. ومن أمثلة ذلك: 1 - ما ذكره من الإسرائيليات في كيفية وسوسة إبليس لآدم وهو في ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، أزهري محدث مفسر قاض، ولد سنة 1309 هـ بالقاهرة، من أكبر محققي التراث، حقق "مسند الإمام أحمد" و"سنن الترمذي" و"تفسير الطبري" ولم يتم شيئًا منها، وحقق "الرسالة" للشافعي واختصر "تفسير ابن كثير" ولم يتمه، قال الزركلي: ولم يخلف مثله في علم الحديث بمصر. ينظر: "الأعلام" 1/ 253 و"معجم المؤلفين" 13/ 368. (¬2) "عمدة التفسير" 1/ 15. (¬3) انظر: مقدمة المؤلف.

الجنة. 2 - القصة الطويلة التي ذكرها عند قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 248] قال رحمه الله: (وقال لهم نبيهم إنَّ آيةَ ملكه أن يأتيكم التابوت) الآية: قال أصحاب الأخبار: إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتًا فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، فكان في بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكَلَّم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصرة، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العَمَالقة، فغلبوهم على التابوت، وسلبوه فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت دعا النبي ربه، فنزل بالقوم الذين غلبوا بني إسرائيل على التابوت داء بسببه، وذلك أنهم كانوا قد أخذوا التابوت فجعلوه في موضع غائطهم وبولهم، وكل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير، حتى تنبهوا أن ذلك لاستخفافهم بالتابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا به منزل طالوت، فلما رأوا التابوتَ عند طالوت، علموا أن ذلك أمارة ملكه عليهم، فذلك قوله: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الآية (¬1) .. إلى آخر ما ذكره. ¬

_ (¬1) تنظر القصة بطولها في: "تفسير الطبري" 5/ 318، و"تاريخ الأمم والملوك" 1/ 469، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1358 - 1362، و"تفسير البغوي" 1/ 298 - 299، و"البحر المحيط" 2/ 261.

المسألة الخامسة منهجه في عرض القراءات

وقد وجدت بالتتبع أنه ينقل ذلك كله من تفسير شيخه مع الاختصار والتصرف. بيد أنه -رحمه الله- لا يعلق على ذلك بما يدل على الإنكار أو المخالفة. المسألة الخامسة منهجه في عرض القراءات: ذِكْرُ القراءات والاحتجاج لها البواعث الرئيسة للواحدي لتأليف هذا التفسير حيث يقول في مقدمته: "فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أعلق لمعاني إعراب القرآن وتفسيره فِقَرًا في الكشف عن غوامض معانيه، ونكتًا في الإشارة إلى علل القراءات فيه في ورقات يصغر حجمها ويكثر غنمها ... ". فجعل الإشارة إلى علل القراءات هدفًا هامًا يقابل الكشف عن غوامض التنزيل. فلا غرو أن نرى الواحدي يتوسع في بحث القراءات في تفسيره حتى تأخذ حيزًا كبيرًا وخصوصًا في مجال الاحتجاج لها. وقد ذكر الواحدي منهجه في عرض القراءات وتوجيهها في المقدمة فقال: "وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل الأمصار، دون تسمية القراء واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي، الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه". فهذا المنهج الذي ذكره يقوم على: 1 - أنه اعتمد ذكر علل القراءات، وليس الهدف ذكر القراءات نفسها. 2 - أنه يذكر القراءات السبع دون غيرها. 3 - أنه لا يسمي القراء. 4 - اعتمد في أكثر ما ذكر على كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، هذا منهجه في القراءات حسب ما ذكره في مقدمة كتابه. فلندرس هذا المنهج لنرى مدى التزامه به.

فأقول: بالنسبة للأمر الأول، وهو أنه اعتمد ذكر علل القراءات، فإنه التزم ذلك غالبًا، والقارئ لكتاب "البسيط" يلحظ في كلامه على القراءات أنه يعتمد كثيرًا ذكر علل القراءات وتوجيهها أكثر مما يعتمد ذكر القراءات نفسها، بل قد أطال في هذا الجانب إلى حد يعتبر خروجًا عن القدر اللازم في كتاب "التفسير". لقد ألف أبو علي الفارسي كتابًا مستقلًا للاحتجاج للقراءات وذكر فيه من وجوه اللغة والنحو والتصريف ما عده المتخصصون خروجًا عن القدر اللازم، ومما أضفى على الكتاب شيئًا من صعوبة العبارة والغموض، قال أبو الفتح بن جني -تلميذ أبي علي الفارسي-: وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب "الحجة في قراءة السبعة" فأغمضه وأطال حتى منع كثيرًا -ممن يدعي العربية فضلًا عن القَرَاءة- منه وأجفاهم عنه (¬1). هذا مع أن كتاب أبي علي مؤلَّف أصلًا للاحتجاج للقراءات. فما الظن بكتاب تفسير ينقل فيه تلك المباحث الطويلة. ليت الواحدي -مع قدرته البارعة على انتقاء النصوص وحسن سبكها- اختصر تلك المباحث بعبارة أكثر إيجازًا حتى يفيد القارئ، ويخرج به عن الملالة كما شرط ذلك على نفسه في مقدمة كتابه. إذًا فجانب توجيه القراءات في كتاب "البسيط" قد توسع فيه الواحدي وأطال كثيرًا واعتمد في أغلبها، إن لم يكن في كلها على كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، فما يقال عن كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي يسري على كتاب "البسيط" في مجال توجيه القراءات. ¬

_ (¬1) "المحتسب" 1/ 236.

وقد تعرض د/ جودة محمد محمد المهدي في كتابه "الواحدي ومنهجه في التفسير" لتوجيه القراءات عند الواحدي، ووصفه بأنه من فرسان حلبة توجيه القراءات، ونعى على العلماء الذين كتبوا في هذا أنهم لم يعدوا الواحدي مع الجهابذة كالفارسي ومكي (¬1). وقد اختار نصًّا طويلًا من "البسيط" حول توجيهه القراءات، واستنتج منه منهج الواحدي في توجيه القراءات وبنى عليه مقالته السابقة. ولم يرجع ذلك النص لمصدره وهو الحجة ليعرف أن الواحدي نقله بنصه، والواحدي صرح في مقدمة كتابه انه أعتمد في مجال القراءات على "الحجة"، ولو أجرى د/ جودة دراسة توثيقية للنصوص التي بنا عليها دراسته لمنهج الواحدي في القراءات أو في غيرها لكان له رأي آخر. إن المشكلة أن بعض الدارسين لمناهج العلماء يقوم بنقل نص العالم الذي يقوم بدراسة منهجه، ويجري الدراسة على ذلك النص قبل أن يسبق ذلك بدراسة توثيقية، ليعرف أن تلك الأفكار لذلك العالم بالأصالة أم هو ناقل بالمعنى أو ناقل بالنص كما هو الحال مع الواحدي؟ إن غالب كلام الواحدي في مجال الاحتجاج للقراءات منقول بنصه من "الحجة" لأبي علي. فهل تصح بعد ذلك تلك الصفة التي أطلقها د/ جودة علي الواحدي؟. أعود فأذكر أمثلة توضح أن الواحدي اعتمد ذكر توجيه القراءات أكثر مما اعتمد ذكر القراءات نفسها كما توضح الأمثلة مدى إطالته في هذا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الواحدي، ومنهجه في التفسير" ص 296. (¬2) أكتفي هنا بالإشارة إلى الآية لطول الكلام، ويمكن للقارئ أن يرجع إلى النص ويرى المقارنة بين كلام أبي علي والواحدي، كما هو مثبت في الحواشي.

منها ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ذكر القراءات في "مالك" ثم دخل في ذكر الاحتجاجِ لكل قراءة بما يطول ذكره. ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] ذكر إن في "يؤمنون" قراءتين، ثم دخل في احتجاج طويل لكل قراءة. كذلك عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ذكر أن في "أأنذرتهم" وجهين في القراءة ثم دخل في ذكر الاحتجاج لكل وجه بما يطول ذكره هنا. الأمر الثاني: الذي ذكره الواحدي في منهجه في القراءات هو أنه يعتمد ذكر القراءات السبع دون غيرها. اعتمد هذا الأمر في الغالب، حيث إنه عول كثيرًا على كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، وأبو علي الفارسي اعتمد في كتابه ذكر القراءات السبع التي ذكرها ابن مجاهد في كتابه "السبعة" لذلك كان ما أخذه الواحدي عن "الحجة" مقتصرًا على القراءات السبع، وهو أغلب ما ذكره في مجال القراءات في "البسيط"، على أنه ذكر قراءات غير سبعية أيضًا، وهي في أغلبها قراءات شاذة مما يذكره اللغويون في كتبهم، وربما كان فيها قراءة عشرية، ومصدره فيها -غالبًا- "معاني القرآن" للفراء، و"معاني القرآن" للزجاج، وربما أخذ من غيرهما. فمن المواضع التي اعتمد عليها غير "الحجة" في ذكر القراءات، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] قال: والأجود في نعمتي فتح الياء، وكل "ياء" كانت من

المتكلم ففيها لغتان الإرسال والفتح. فإذا لقيها ألف ولام اختارت العرب اللغة التي حركت فيها الياء وكرهوا الأخرى .. وقال: وقال الزجاج: اختير فتح الياء مع اللام لالتقاء الساكنين ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين والاختيار الفتح .... ففي النص الأول ينقل عن الفراء بدون عزو، ثم ينقل عن الزجاج والكلام عن القراءات في "ياءات الإضافة" وهذه الطريقة في عرض القراءات ليست طريقة أئمة القراء في كتبهم، وإنما هي طريقة اللغويين ومن سار على نهجهم فهم يذكرون القراءات المتواترة وغيرها ويتكلمون عنها من الناحية اللغوية والنحوية، ولا ينظرون للسند. فانظر إلى قوله: الأجود في نعمتي فتح الياء .. بينما أجمع القراء العشرة على فتح "الياء" في قوله: {نِعْمَتِيَ الَّتِي} في مواضعها الثلاثة في البقرة، وقرأ بتسكينها الحسن (¬1) وابن محيصن فهي قراءة شاذة عند علماء أهل الفن. ومثال آخر لقراءة شاذة نقلها الفراء في قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] قال: اللون: مرفوع لأنك لم ترد أن تجعل "ما" صلة فتقول: يبين لنا لونها، وقد قرئ بها شاذًا وهو صواب .. فالقراءة الثابتة بالرفع، والقراءة بالنصب شاذة من ناحية سندها، ونجد الفراء ذهب إلى تصويبها من ناحية قواعد اللغة، وتبعه الواحدي على ذلك، ولعل مرادهم لو ثبتت القراءة بها. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر" 2/ 162، و"القراءات الشاذة" للقاضي ص 23، وانظر: "حاشية البسيط" في الموضع المذكور.

وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك

الأمر الثالث: الذي ذكره الواحدي في منهجه في القراءات هو عدم تسمية القراء فهل التزم الواحدي هذا المنهج؟ الواقع أن الواحدي لم يلتزم نلك، فانه يسمي القراء أحيانًا وأحيانًا لا يسميهم. ولإيضاح هذا الأمر نعود إلى كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، الذي اعتمد عليه الواحدي كثيرًا في ذكر القراءات والاحتجاج لها، حيث ذكر أبو علي منهجه في مقدمة كتابه، وقال: إنه يذكر أولًا ما ذكره ابن مجاهد في كتابه "السبعة" ثم يتبعه بالاحتجاج (¬1) لها، وابن مجاهد قد سمى صاحب القراء عند ذكر قراءتهم، وأبو علي تبعه على ذلك، وعند الاحتجاج قد يسمي صاحب القراءة، وقد لا يسميه اكتفاء بما ذكره أولًا، والواحدي نقل عن أبي علي في مجال الاحتجاج دون ذكر القراءات التي أخذها أبو علي من كلام ابن مجاهد، ولهذا تبعه الواحدي في تسمية القراء وعدم تسميتهم. وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ذكر القراءات في "يؤمنون" فقال: وفي قوله {يُؤْمِنُونَ} قراءتان تحقيق الهمزة وتليينها فمن حقق فحجته .. فلم يسم القراء، كذلك أبو علي في الحجة قال: فأما حجة من قرأ {يُؤْمِنُونَ} بتحقيق الهمزة .. الخ (¬2) فلم يسم اكتفاء بما ذكره أولًا (¬3). ومن الأمثلة على تسميته للقراء: عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة "الحجة" 1/ 6. (¬2) "الحجة" 1/ 238. (¬3) انظر: "الحجة" 1/ 214.

كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ذكر القراءات في {أَأَنْذَرْتَهُمْ} ومنه قوله: وأما أبو عمرو فكان يلين الثانية ويجعل بينهما مدة .. ، وتبع في ذلك أبا علي حيث قال: وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفف الهمزة الثانية مع الفصل بينهما بألف، وهو الثبت عن أبي عمرو عندنا .. (¬1). ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] ذكر القراءات في قوله تعالى: {هُوَ} ومما قاله: كان أبو عمرو والكسائي يخففان {وَهُوَ} "فهو" ويسكنان الهاء مع الواو والفاء واللام .. " (¬2). ومثال آخر عند تفسيره قوله تعال: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ذكر القراءات في إني ومنه قوله: "وفتح أبو عمرو وابن كثير "الياء" في قوله {إِنِّي أَعْلَمُ} [البقرة: 30] {وَإِنِّي أَرَى} [الأنفال: 48، يوسف: 43، الصافات: 102] عند الهمزة المفتوحة، وزاد أبو عمرو عند الهمزة المكسورة مثل: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس: 72، هود: 29، سبأ: 47] وزاد نافع عند المضمومة مثل: {عَذَابِي أُصِيبُ} [الأعراف: 156] {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ} [المائدة: 115]، {إِنِّي أُرِيدُ} [المائدة: 29، القصص: 27] .. " (¬3). الأمر الرابع: في منهج الواحدي في القراءات قوله: "واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه" هذا أمر واضح في كتابه، حيث اعتمد على كتاب ¬

_ (¬1) "الحجة" 1/ 284، 285. (¬2) "البسيط" ص 677. (¬3) "البسيط" ص 709.

المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن

أبي علي في أغلب ما ذكر في مجال القراءات سوى نزر يسير أخذه عن طريق الفراء أو الزجاج أو غيرهما. والواحدي يأخذ من كتاب أبي علي بالنص، وربما تصرف في عبارته وقد يعزو له، والغالب أنه ينقل عنه بدون عزو، ولعله اكتفى بهذه الإحالة في المقدمة. وسبق ذكر ذلك عند الحديث عن مصادره. وخلاصة القول في منهج الواحدي في القراءات: أنه اعتمد ذكر القراءات السبع في الغالب، وربما ذكر غيرها على طريقة اللغويين والنحويين، وبذل جهده في الاحتجاج للقراءات أكثر من تقرير القراءات، وأنه قد يسمي القراء وقد لا يسميهم فلم يلتزم ما ذكره في مقدمته، وكان كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي المصدر الرئيس في هذا المجال. المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن: كان الواحدي أستاذ عصره في التفسير، كذا قال عنه العلماء الذين ترجموا له (¬1)، ولم يصل إل تلك المكانة إلى لأنه كان متأهلًا لذلك، بمعرفة العلوم التي تعينه على كشف غوامض التنزيل، ومن أهمها علوم القرآن الكريم، وأنواع علوم القرآن كثيرة واسعة، وكان للواحدي مشاركة فوية في هذا المجال، حيث صنف في ذلك كتبًا كثيرة منها ما وصل إلينا "أسباب النزول" ومنها كتب لم تصل إلينا مثل: "مختصر فضائل القرآن" و"نفي التحريف عن القرآن الشريف". وبجانب هذه الكتب كانت له آراء في علوم القرآن ضمنها كتابه "البسيط" وهي كثيرة منها: ¬

_ (¬1) انظر: "معجم الأدباء" 12/ 258، و"وفيات الأعيان" 3/ 303، و"إنباه الرواة" 2/ 223.

1 - في أسباب النزول

1 - في أسباب النزول: هذا أكثر ميادين علوم القرآن التي شارك فيها الإمام الواحدي، حيث أخرج فيه مؤلفا مستقلا يعتبر من أول ما كتب في ذلك، وقد نال الشهرة حتى عد أبرز ما كتب في هذا الفن، وكان لهذا أثره الواضح على مؤلفاته في التفسير، ومنها "تفسير البسيط" حيث أعطى هذا الجانب عناية جيدة، فنراه يذكر سبب نزول الآية -عند تعرضه لتفسيرها- إن وجد لها سببا للنزول. مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] قال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... وقال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، وقال الربيع: نزلت في قادة الأحزاب يوم بدر .... ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219] قال: "نزلت في سؤال عمرو بن الجموح .. " (¬1). وعند تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] قال: قال أهل التفسير: أتت امرأة عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويسترجعها يضارها بذلك، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة فذكرت ذلك عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .. (¬2). ¬

_ (¬1) "البسيط" 1/ ل 133، من النسخة الأزهرية. (¬2) "البسيط" 1/ ل 139، من النسخة الأزهرية.

2 - الوقف والابتداء

2 - الوقف والابتداء: أحد علوم القرآن الهامة وبه يعرف كيف أداء القرآن، وبه تتضح معاني الآيات (¬1). قال الزركشي: "وهذا الفن معرفته تحتاج إلى علوم كثيرة، قال أبو بكر ابن مجاهد: لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص، وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن .. (¬2). كان للواحدي عناية بهذا العلم يظهر ذلك من خلال تفسيره "البسيط" حيث يذكر الوقف في مواضع من كتابه، من ذلك عند تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] فبعد أن فسر قوله (وعلى سمعهم) قال: وتم الكلام هاهنا، ثم قال: "وعلى أبصارهم غشاوة" .. (¬3). وعند تفسير قوله تعالى: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} الآية [البقرة: 71] قال ناقلًا عن ابن الأنباري: قال ابن الأنباري: غلط أبو حاتم في هذا؛ لأنه قال: الوقف جيد على قوله {ذَلُولٌ} ثم يبتدأ بـ {تُثِيرُ الأرَضَ} وقال: إن الله وصف هذه البقرة بما لا يعرفه الناس وصفا لغيرها من البقر، فجعلها تثير الأرض ولا تسقي الحرث على خلاف ما نشاهده من بقرنا. وقد أبطل الفراء وغيره من كبار النحويين هذا الوقف .. وفي سورة "يونس" عند تفسير قوله تعال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2] قال: .. تم الكلام عند قوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثم ابتدأ فقال: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان" 1/ 342. (¬2) "البرهان" 1/ 343. (¬3) "البسيط" ص 485.

3 - الناسخ والمنسوخ

هَذَا} ... (¬1). 3 - الناسخ والمنسوخ: وهو من العلوم الهامة للمفسر، "قال الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلى بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ" (¬2). وقد أعطى الواحدي هذا الفن عناية خاصة في تفسيره "البسيط" تكلم عنه بإفاضة فذكر تعريفه وأنواعه والخلاف في بعضها، وكأنه يتكلم في كتاب خاص بعلوم القرآن، وذلك عند تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] عرض أولًا لتعريف النسخ في اللغة والاصطلاح ناقلًا عن الأئمة فقال: "قال الزجاج: النسخ في اللغة: إبطال شيء وإقامة آخر مقامه، والعرب تقول نسخت الشمس الظل. والمعنى: أذهبت الظل وحلت محله، وقال غيره: تناسخ الأزمنة والقرن بعد القرن هو مضي الأول ومجيء الثاني بعده يخلفه في محله ... ثم قال ويجوز النسخ إلى بدل وإلى غير بدل ... " وفصَّل في ذلك، ثم ذكر أنواع النسخ في القرآن فقال: .. ثم النسخ في القرآن على ضروب: منها ما يكون حكمه مرفوعًا وخطه مثبت .. (¬3)، وذكر الأنواع وضرب الأمثال لها، ثم ذكر حكم الفرق بين النسخ والترك، ثم ذكر الخلاف في نسخ القرآن بالسنة (¬4). ولا يكتفي بهذا البسط لمباحث النسخ، بل يأخذ في التطبيق العملي، فلا يمر بتفسير آية ناسخة أو منسوخة ألا يقف عندها ويذكر ما قيل فيها، مثال ¬

_ (¬1) "البسيط" 3/ ل 2، من النسخة الأزهرية. (¬2) "البرهان" 2/ 29. (¬3) "البسيط" 1/ ل 78. (¬4) انظر: "البسيط" 1/ ل 78.

4 - الربط بين الآيات

ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية [البقرة: 240] تكلم عن سبب نزول الآية، ثم ذكر عدة المتوفى عنها في أول الإسلام، وهو ما ذكر في هذه الآية، وقال: .. ثم ورد النسخ على هذه الآية من وجهين: أحدهما: أن العدة صارت مقدرة بأربعة أشهر وعشر، وقد تقدمت الآية (¬1) الناسخة، والوجه الثاني: أن الميراث ثبت لها وسقطت نفقة العدة .. (¬2). 4 - الربط بين الآيات: وهو أحد أنواع علوم القران، قال الزركشي: "وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم وفوائده غزيرة" (¬3)، ثم نقل عن عز الدين بن عبد السلام قوله: .. ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر. قال: ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك .. (¬4). وقد أورد الواحدي هذا النوع في تفسيره حيث يذكر الارتباط بين الآيات ولا يتكلف ذلك بل يذكره بين الآيات التي يوجد بينها تناسب من وجهه. مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. (¬2) "البسيط" 1/ ل 147، النسخة الأزهرية. (¬3) "البرهان" 1/ 36. (¬4) "البرهان" 1/ 37.

المسألة السابعة: منهجه في تقرير مسائل العقيدة، والرد على الفرق

أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6] ربط الآية بما بعدها فقال: .. ثم ذكر الله تعالى سبب تركهم الإيمان فقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...} الآية .. ومثال آخر: ذكر فيه الارتباط بين قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الآية [البقرة: 23] وبين ما قبلها من الآيات وهي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وكذا الآية بعدها. فقال: "قال المفسرون: ومعنى الآية أن الله تعالى لما احتج عليهم في إثبات توحيده احتج عليهم - أيضًا- في إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بما قطع عذرهم فقال: وإن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد عليه الصلاة والسلام وقلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا فأتوا بسورة من مثله .... من هذه الأمثلة نلحظ كيف يورد الربط في ثنايا التفسير بدون تكلف ولا يعنون له بقوله: ارتباط الآية أو نحو ذلك، فيأتي سلسًا لا تمحل فيه. هذه بعض علوم القرآن التي وردت في تفسير "البسيط". المسألة السابعة: منهجه في تقرير مسائل العقيدة، والرد على الفرق: درس الواحدي العقيدة على أصول الأشعرية، حيث نشأ في بيئة نيسابور التي يسود فيها معتقد الأشعري (¬1)، لذا فهو أشعري المعتقد، وعلى هذا النهج سار في تقرير مسائل العقيدة في تفسيره "البسيط" بل كان من المنافحين عن أصول الأشعرية. ومن المعلوم أن منهجهم كسائر المتكلمين يقوم على تقرير العقيدة على أسس عقلية. وهذا النهج غير مرضي عند علماء ¬

_ (¬1) انظر: مبحث عقيدته من هذِه الدراسة.

السلف، الذين رأوا أن الطريقة الصحيحة في تقرير العقيدة الأخذ بما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده، والتابعون لهم بإحسان، وذلك باتباع النص وعدم الدخول في طرق كلامية، وإن اضطر بعض المتأخرين منهم لاستعمال الجدل العقلي للرد على المخالفين، لا في تقرير أصول العقيدة (¬1). وقد سبق أن ذكرت بعض الأمثلة من تفسير الواحدي "البسيط" للتدليل على مذهبه العقائدي (¬2)، وأذكر هنا أمثلة أخرى تؤكد هذِه الحقيقة وتوضح بجلاء كيف استعمل الطرق الكلامية في تقرير العقيدة في تفسيره. من ذلك أنه عندما تعرض في تفسير البسملة للاسم هل هو المسمى أو غيره، فذكر الأقوال في ذلك ثم قال: ... والثاني -وهو الصحيح-: أن الاسم هو المسمى، كقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فلو كان الاسم غير المسمى وجب أن يكون المأمور بطاعته غير الله وغير الرسول .. وما قرره ورجحه في هذه المسألة هو قول الأشاعرة فيها، والصواب ما قرره علماء السلف من أنه لا يقال: الاسم هو المسمى ولا غيره على الإطلاق، وإنما يكون الاسم هو المسمى تارة، وقد يراد به اللفظ الدال عليه تارة أخرى. ومثال آخر في مسألة "الإيمان" قرر أن معنى الإيمان: هو التصديق فقال: .. والقول في معنى الإيمان ما قاله الأزهري ... (¬3)، إذا عدنا إلى ما ¬

_ (¬1) انظر: ما كتبه ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" ص 222 - 223. (¬2) انظر: مبحث عقيدته من هذِه الدراسة. (¬3) "البسيط" ص 429.

نقله الواحدي عن الأزهري وجدناه يقول: قال الأزهري: اتفق العلماء أن "الإيمان" معناه: التصديق كقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي بمصدق ... (¬1) والقول: إن الإيمان مجرد التصديق هو المشهور عند الأشاعرة، ولهم قول آخر كقول السلف وهو: أن الإيمان قول وعمل (¬2). فأخذ الواحدي في هذه المسألة بمشهور قول الأشاعرة فيها. ومثال آخر في حقيقة التوحيد ومعنى الوحدانية لله، قرر هذه المسألة على طريقة المتكلمين من الأشاعرة فيقول: "وقال أصحابنا حقيقة الواحد في وصف الباري سبحانه أنه واحد لا قسيم له في ذاته، ولا بعض له في وجوده بخلاف الجملة الحاملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازًا كقولهم: دار واحدة وشخص واحد، ولهذا قال أصحابنا: التوحيد هو نفي الشرك والقسيم والشريك والشبيه فالله -سبحانه وتعالى- واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في إثبات المصنوعات وواحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا يشبه الخلق فيها ... (¬3). فهذِه الأنواع التي أثبتوها في معنى التوحيد فيها ألفاظ مبهمة محتملة، ولو كان كل ذلك حقًا، فالإقرار به لم يخرج المشركين من دائرة الشرك التي وصفهم الله بها، ولابد من الإقرار بتوحيد الإلهية (¬4). في باب صفات الله سلك فيها كذلك مسلك الأشعرية؛ حيث يؤول ¬

_ (¬1) "البسيط" ص 427. (¬2) ذكره ابن تيمية في "الإيمان الأوسط" ص 51. (¬3) "البسيط" 1/ 100، من "النسخة الأزهرية". (¬4) انظر: "رد ابن تيمية في الرسالة التدمرية" ص 179 - 185. وانظر: ص 54 - 55 من هذه الدراسة حيث سبق ذكر للواحدي ونقل بعض كلام ابن تيمية في الرد عليه.

الرد على الفرق

جميع الصفات التي وردت في القرآن الكريم، عدا الصفات السبع التي يثبتها الأشاعرة؛ لأن العقل دل عليها كما يقولون (¬1). وسبق ذكر أمثلة لهذا عند ذكر عقيدته، فلا داعي للإطالة بذكر أمثلة أخرى، وهي مسألة واضحة. هذا في جانب تقرير العقيدة. الرد على الفرق: أما بالنسبة للرد على الفرق، فكان للواحدي في ذلك اليد الطولي، خصوصًا المعتزلة والقدرية الذين كانت لهم صولة وجولة في تلك الحقب التي عاشها الواحدي. وقف الواحدي في وجوههم يقابل الحجة بالحجة، ويقوم بالرد عليهم في كل موضع يكون محل شبهة لهم؛ حيث يستدلون بالنص القرآني على تقرير عقائدهم ومبادئهم. من أمثلة عند تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] ذكر المعنى المراد بختم الله على قلوب الكفار، ثم قال: ... فأما قول من قال معنى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} حكم الله بكفرهم فغير صحيح؛ لأن أحدنا يحكم بكفر الكافر، ولا يقال ختم على قلبه، والقول الذي رده هنا هو قول المعتزلة. ثم يسمي القدرية ويذكر قولهم ويرد عليهم فيقول: وذهب بعض المتأولين من القدرية إلى أن معنى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وسمها سمة تدل على أن فيها الكفر لتعرفهم الملائكة بتلك السمة وتفرق بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشرع. قال: والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في ¬

_ (¬1) انظر: "الرسالة التدمرية" ص 33.

قلب المطبوع على قلبه. ثم ينقض عليهم ناقضًا حجتهم معتمدًا على اللغة التي نزل بها القرآن؛ ليبين بطلان مأخذهم من اللغة فيقول: وهذا باطل؛ لأن الختم في اللغة ليس هو الإعلام، ولا يقال ختمت على الشيء بمعنى أعلمت عليه، ومن حمل الختم على الإعلام فقد تشهى على أهل اللغة، وجر كلامهم إلى موافقة عقيدته. وفي موضع آخر يرد على المعتزلة والقدرية دون تسميتهم، وذلك في تفسير قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] يقول: ولا يجوز أن يكون معنى الإضلال الحكم والتسمية؛ لأن أحدنا إذا حكم بضلالة إنسان لا يقال: أضله، وهذا لا يعرفه أهل اللغة (¬1). ومثال آخر يرد فيه المعتزلة دون تسميتهم عند تفسير قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] يقول: "والمراد بقوله: {الْجَنَّةَ} جنة الخلد من قبل أن التعريف فيها بالألف واللام يجعلها كالعلم على جنة الخلد، فلا يجوز العدول عنها بغير دلالة، ألا ترى أنك لو قلت: نسأل الله الجنة، لم يكن ذلك إلى جنة الخلد. فيقرر أنها جنة الخلد، ويرد على من قال غير ذلك بدون تصريح بالقائل ولا بمقالته. ومشهور مذهب المعتزلة أنها جنة في الدنيا (¬2)، فهو يرد عليهم تلك المقالة. ¬

_ (¬1) وإلى نحو هذا ذهب الزمخشري ورد عليه صاحب "الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال". انظر: "الكشاف" ومعه "الإنصاف" 1/ 267. (¬2) ذكره الثعلبي 1/ 60 أ، وابن عطية 1/ 128، والقرطبي 1/ 302.

المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية

ومن خلال استقراء تلك الردود، يتضح الأسلوب الجدلي العقلي الذي يستعمله فيقابل الحجة بالحجة، كما يعتمد على اللغة في بيان ضعف مستمسك الخصم من الاستدلال بالآية على مذهبه. وكان علماء المعتزلة من كبار أئمة اللغة فحاولوا تطويع النصوص القرآنية من الناحية اللغوية لتقرير أصولهم، فأتاهم الواحدي من الباب الذي ولجوا منه، وبيَّن في كل مسألة تعرض لها أن اللغة لا تدل على ما أرادوا. ومن خلال تلك النصوص نجد ردود الواحدي متجهة إلى المعتزلة والقدرية، ولم نر له ردًّا على أحد سواهم؛ ذلك لأن المعركة الكلامية كانت قائمة على أشدها في تلك الفترة بين الأشاعرة من جانب، وبين المعتزلة والقدرية (¬1) من جانب آخر. على أن الشيعة كانت لهم صولات في تلك الفترة خصوصًا في عهد البويهيين، وقد عاصر الواحدي تلك الحقبة، ومع ذلك لم نجد له أي كلام عن الشيعة ولا مجرد ذكر لهم. المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية: قد قدمت في ترجمة أبي الحسن الواحدي رحمه الله أنه كان من علماء الشافعية، وأدلة ذلك أظهر من أن تذكر، والناظر في تفسيره يدرك ذلك بأدنى تأمل، حيث إنه -رحمه الله- يقدم أقوال الشافعية، ويستدل لها، ويرجحها، ويقتصر على مذهب الشافعي في كثير من المواطن، فلا يكاد يذكر معه غيره إلا لمامًا. ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه د/ عبد المجيد أبو الفتوح بدوي في كتابه: "التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي" ص 29 - 32.

ويمكن أن أسجل الملاحظات التالية في منهجه هنا

ويمكن أن أسجل الملاحظات التالية في منهجه هنا: 1 - يعرض الواحدي للأحكام بصورة مختصرة، دون توغل في ذكر الفروع والمسائل التي لا صلة للآية بها إلى نادرًا، في الوقت الذي يطيل فيه إطالة بالغة عند توجيه القراءات، وذكر مسائل اللغة والنحو، ونحو ذلك، كما أسلفت. 2 - يقتصر الواحدي في عرض الأحكام على مذهب الشافعي، ويحتج لمذهبهم، وقلما يذكر معه غيره، وقد يورد خلاف الحنفية، ولعل سبب ذلك: كون مذهبهم مشهورًا في المشرق الإسلامي، أما مذهب مالك فنادرًا ما يتعرض له، وأندر منه مذهب الإمام أحمد، ولعله لعدم اشتهارهما في المشرق حينذاك. ومن أمثلة ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] قال: .. قال ابن عباس في هذه الآية: جعلهن الله للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصح أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وهذا مذهب الشافعي رحمه الله .. وعند أبي حنيفة: إذا أحرم بالحج في غير أشهر الحج كره ذلك، وُيجزيه. 3 - قد يورد الحكم المستنبط من الآية مجردًا دون قائل، أو مخالف، وعند التحقيق يكون على مذهب الشافعية. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال الواحدي: في قوله: (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سَقَطَ القود؛ لأن شيئًا من الدمِ قد بطل بعفو البعض، والله تعالى قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}. 4 - قد يفرد المسألة أو الحكم بفصل مستقل، وذلك قليل. ومن

أمثلته: إفراد أحكام التأمين بفصل بعد تفسير الفاتحة. 5 - قد يذكر مذاهب الصحابة والتابعين ويسميهم تفصيلًا، وهو قليل في جملة الكتاب. ومثال ذلك: ذكره لأقوال الصحابة في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قال: وقوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ}: قال ابن عباس وأكثر أهل التأويل: معناه: فليصم ما شهد منه؛ لأنه إن سافر في حال الشهر كان له الإفطار، وذهب طائفة على أنه إذا شهد أول الشهر مقيمًا ثم سافر لم يحل له الإفطار، وهو قول النخعي والسدي وابن سيرين ومذهب جماعة. قد يتوسع في ذكر الأحكام، ويفصل في ذلك تفصيلًا بينًا، وهو قليل أيضًا في جملة الكتاب. ومن أمثلة ذلك: قوله: ولأهل التأويل في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] طريقان: أحدهما: وهو قول ابن عباس في رواية عطاء: غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم، وهذا قول مجاهد وسعيد بن جُبَير والضحاك والكلبي، قالوا: غير قاطع للطريق، ولا مفارق للأئمة، مشاق للأمة. وعلى هذا التأويل كل من عصى بسفره لم يحل له أكل الميتة عند الضرورة، لأنه باغ عاد، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، قال: إن الإباحة إعانة له على فساده وظلمه، ولكن يتوب ويستبيح. والثاني: إن هذا البغي والعدوان يرجعان إلى الأكل، ومعناه: غير آكلها تلذُّذًا من غير اضطرار، (ولا عاد) ولا مجاوز ما يدفع به عن نفسه الجوع، وهذا قول السدي.

وقال الحسن وقتادة والربيع وابن زيد: غير باغ بأكله من غير اضطرار، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها. وعلى طريقة هؤلاء يُباح للعاصي بسفره تناول الميتة عند الضرورة، وهو مذهب أهل العراق. والتأويل الأول أولى من حيث اللفظ والمعنى. أما اللفظ: فرجوع البغي والعدوان إلى حال المضطر أولى من رجوعهما إلى أكله، وهو المفهوم من اللفظ؛ لأنه لم يسبق للأكل ذكر حتى يكون البغي والعدوان صفة له، راجعًا إليه، ومثله من الكلام أن يقال: قد حرم الأمير ركوب الخيل، ولبس السلاح، فمن أحوج غير فارٍّ ولا ذاهبٍ فلا حرج عليه، فالذي يسبق إلى الوهم من هذا، ويليق باللفظ، أن معناه: غير فار بنفسه ولا ذاهب، وأن الفرار والذهاب يعود إلى نفس المضطر، لا إلى شيء سواه. وَوِزان التأويل الثاني من هذا الكلام: أن يكون المعنى: غير فار بسلاحه، ولا ذاهب به. وأما من حيث المعنى: فإن نفس المؤمن يعاف الميتة والدم، ويستقذرهما استقذارًا يمنعه من أكلهما؛ ولهذا لا يقام الحد على آكلهما؛ لأنه لم يحتج في الزجر عنهما إلى الحد، لا كالخمر فإن لها دواعي من النفس، وإذا كان كذلك فليس يتجاوز أحدٌ في أكل الميتة قدر التشبع عند الضرورة، ولا يتعدى الحلال الذي معه، فيأكلها تلذذًا من غير أن يَرِدَ بهذا نهي، وإن جاز ورود النهي تأكيدًا، فلهذين الوجهين قلنا إن التأويل الأول أولى. 7 - وجدت بالتتبع أنه ينقل غالب الأحكام من تفسير شيخه الثعلبي،

ويتابعه في الإطالة والاختصار والتفصيل والإجمال وذكر الخلاف والمخالفين ولكن على عادته -رحمه الله- بالتصرف والاختصار والتقديم والتأخير. 8 - أما المسائل الأصولية فقليلة جدًّا في هذا التفسير، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره من معنى النسخ وأقسامه عند تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]. قال رحمه الله: النسخ له معنيان: أحدهما: تحويلُ الكتاب من حيث هو إلى نسخة أخرى، يقال: نسخت الكتاب، أي: كتبت منه نسخة أخرى، ثم يقال: نَسَخْتُ منه نسخة، وإن لم تحوله من مكتوب إلى غيره، كأنك كتبته عن حفظك، ومن هذا قوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] يجوز أن يكون معناه: ننسخ، كقوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14] أي: يسخرون، ويجوز أن يكون معناه: نستدعي ذلك، وهو أمر الملائكة بكتابته. وعلى الوجهين جميعًا هو كتابة لا من نسخة، فعلا هذا المعنى: القرآن كله منسوخ؛ لأنه نُسِخَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- من أمِّ الكتاب فأنزل عليه. والثاني: هو رفعُ الحكم وإبطالهُ، ثم يجوز النسخ إلى بدل وإلى غير بدل. فالذي إلى بدل قولهم: نَسَختِ الشمسُ الظلَّ، فالظلُّ يزول ويبطل، والشمس تكون بدلًا عنه. والذي إلى غير بدل قولهم: نَسَختِ الريحُ الأثرَ، أي: أبطلتها وأزالتها.

وهذا المعنى هو المراد بالآية. ثم النسخ في القرآن على ضروب: .. إلى آخر ما ذكر. وقد عني رحمه الله بذكر الإجماع لكنه متساهل في حكايته ونقله. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] قال: وإجماع أهل التفسير أن السيئةَ ها هُنا الشرك (¬1)، وأنّ الآية وردت في اليهود (¬2)، وقد قيل: إنها عامة في جميع الكفار. اهـ والصحيح: أن هذا قول أكثر السلف، والقول الآخر: أن السيئة هي كبائر الذنوب التي توعد الله عليها بالنار، والخطيئة هي الكفر، وممن قال به الحسن والسدي. ومن أمثلته أيضًا: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] قال: "وقد اجتمعت العلماء على نسخ هذه الآية" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الإجماع ذكره الواحدي -أيضا- في "الوسيط" 1/ 164، وينظر: كتاب "الإجماع في التفسير" ص 177. (¬2) ذكر الإجماع على أنها في اليهود الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 162 قال: "والإجماع أن هذا لليهود خاصة؛ لأنه -عز وجل- في ذكرهم"، والطبري لم يذكر سوى ذلك، وكأن المؤلف نقض الإجماع بقوله وقد قيل. (¬3) تابع المؤلف -رحمه الله- الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 249 في هذا الإجماع، وسيأتي في كلامه ما يدل على نقض هذا الإجماع، وممن ذكر الخلاف في الآية فأطنب: الإمام الطبري في "تفسيره" 3/ 387، ولو قال -رحمه الله-: أجمع العلماء على نسخ حكم هذه الآية في القريب الوارث لكان مقاربا، وهذا ما ذكره بعد عدة أسطر.

المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها

ومن أمثلته أيضًا: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] قال: وإجماعُ المفسرين على أن المراد بهذا الصيام صيام شهر رمضان (¬1). المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها: يعد هذا الجانب أبرز الجوانب في تفسير الواحدي، وأوضحها للقارئ، حتى إنه ليعد أحد المراجع في هذا الفن، وسوف نتحدث في هذا الموضوع من خلال أربعة جوانب وهي: 1 - الجانب اللغوي: للجانب اللغوي أهمية خاصة بالنسبة لتفسير "البسيط" ذلك لما حواه هذا الكتاب من مادة لغوية كثيرة، أثار ذلك انتباه بعض العلماء منهم الزركشي الذي اعتبر كتاب "البسيط" من كتب التفسير التي غلب عليها الطابع اللغوي، حيث كثر فيها الغريب، فيقول وهو يتحدث عن التفسير: وقد أكثر الناس فيه من الموضوعات، ما بين مختصر ومبسوط وكلهم يقتصر ¬

_ (¬1) حكى الواحدي هذا الإجماع في "تفسيره الوسيط" 1/ 272، ولا يسلم له؛ لورود الخلاف؛ حيث يرى جماعة أن المراد صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيامها وصيام عاشوراء، على خلاف بين القائلين بذلك، وبه قال قتادة وعطاء، وروي عن ابن عباس. وقد بين الحافظ في "فتح الباري" 8/ 178 أن الناس اختلفوا في التشبيه الذي دلت عليه الكاف، هل هو على الحقيقة، فيكون صيام رمضان قد كتب على الذين من قبلنا؟ أو المراد: مطلق الصيام دون وقته وقدره؟ قولان، والثاني قول الجمهور. وينظر في ذكر الخلاف: "تفسير الطبري" 3/ 414، و"المحرر الوجيز" 1/ 250، و"النكت والعيون" 1/ 273، و"الإجماع في التفسير" ص 199 - 200.

على الفن الذي يغلب عليه، فالزجاج والواحدي في "البسيط" يغلب عليهما الغريب .. " (¬1). وذلك البعد اللغوي في الكتاب "البسيط" ليس غريبًا على شخصية الواحدي العلمية والتي استجليناها فيما سبق (¬2)، حيث أدرك منذ نشأته الأولى أهمية اللغة لتفسير كتاب الله، فصرف همته لذلك، حتى إذا نضجت فيه تلك الملكة، أبرزها في كتابه "البسيط". يقول في مقدمة كتابه "البسيط" مبينًا أهمية اللغة لفهم القرآن وتفسيره: "والله تعالى ذكره، أنزل كتابه على قوم عرب، أولي بيان فاضل، وفهم بارع، أنزله -جل ذكره- بلسانهم، وصيغة كلامهم الذي نشأوا عليه .. يعرفون وجوه خطابه، ويفهمون فنون نظامه، ولا يحتاجون إلى تعلم مشكله وغريب ألفاظه حاجة المولدين الناشئين مع من لا يعلم لسان العرب حتى يعلمه .. وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- للمخاطبين من أصحابه -رضي الله عنهم- ما عسى بهم الحاجة من معرفة بيان مجمل الكتاب، وغامضه ومتشابهه، وجميع وجوهه التي لا غنى بهم وبالأمة عنه. فاستغنوا بذلك عما نحن إليه اليوم محتاجون من معرفة لغات العرب واختلافها والتبحر فيها، الاجتهاد في تعلم وجوه العربية الصحيحة التي بها نزل الكتاب وورد البيان" (¬3). ويقول: "وقد كان الأكابر من السلف يحثون على تعلم لغة العرب، ويرغبون فيها لما يعلمون من فضلها وفرط الحاجة إليها، في معرفة ما في ¬

_ (¬1) "البرهان" 1/ 13. (¬2) انظر ما سبق من الحديث عن العلوم التي برز فيها. (¬3) مقدمة "البسيط" للمؤلف، والنص نقله الواحدي عن مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 4.

الكتاب، ثم في السنن والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغريبة والمخاطبات العربية، فإن من جهل لسان العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها جهل جمل علم الكتاب" (¬1). ويقول: "وكيف يتأتى لمن جهل لسان العرب أن يعرف تفسير كتاب جعل معجزة في فصاحة ألفاظه وبعد أغراضه -لخاتم النبيين وسيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله الطيبين- في زمان أهله يتحلون بالفصاحة، ويتحدون بحسن الخطاب وشرف العبارة، وإن مثل من طلب ذلك مثل من شهد الهيجاء بلا سلاح، ورام أن يصعد الهواء بلا جناح" (¬2). ومن هذه النصوص وغيرها مما قال في مقدمة كتابه التي تركتها - خشية الإطالة- ندرك مدى اهتمام الواحدي باللغة، ومن ثم انصرفت همته لها تعلمًا وتأليفًا فجاء كتابه "البسيط" أحد كتب التفسير التي غلب عليها الطابع اللغوي كما قال الزركشي. لقد أصاب الزركشي فيما قال، فإن الواحدي إن كان قد أجاد في شرح اللفظة القرآنية بيان أصلها في اللغة، وربط ذلك بتفسير الآية، فإنه قد توسع في بعض المباحث اللغوية حتى عد ذلك خروجًا عن نهج التفسير، بل وعن النهج الذي شرطه على نفسه في مقدمة كتابه. والمنهج اللغوي الذي سلكه الواحدي في تفسيره "البسيط" يقوم على بيان أصول الألفاظ القرآنية واشتقاقها وتصاريفها وما فيها من فروق لغوية مع الاعتناء بالألفاظ الغريبة وبيان مدلولاتها، ومن ثم ربط ذلك بتفسير ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط" للمؤلف، وهو منقول عن مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 5، انظر التعليق على "حاشية البسيط". (¬2) مقدمة "البسيط".

الآية فيطوع المباحث اللغوية لخدمة التفسير، ويوجه الأقوال ويرجع بعضها على بعض بما يملك من ملكه لغوية مصقولة. ويبدأ تفسيره -في الغالب- بتحليل ألفاظ الآية وبيان أصولها واشتقاقها وشرح غريبها. ولقد اعتمد الواحدي كثيرًا على كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري في جانب اللغة كما أفاد كذلك من كتاب "الحجة" و"الإغفال" لأبي علي الفارسي و"معاني القرآن" للفراء وللزجاج، وأقوال ابن الانباري، وهذه أهم مصادره في اللغة. ومن الأمثلة على مدى عنايته في الجانب اللغوي، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. تكلم عن أصل "مالك" في اللغة وعن تصريفها فقال: المالك في اللغة الفاعل من الملك، يقال: مَلَك فلان الشيء يَمْلِكه مُلْكًا ومِلْكًا ومَلْكًا ومَلَكة ومَمْلَكة ومَمْلُكة، ويقال: إنه لحسن المَلْكة والمِلْك، وأصل: المُلْك والمِلْك راجع إلى معنىً واحد، وهو الربط والشد فمالك الشيء من ربطه لنفسه، ومُلْكُه ما يختص به وَشُدَّ بعقد يخرج به عن أن يكون مباحًا لغيره .. ، ويستمر في شرح طويل لهذِه اللفظة. ثم يأتي إلي لفظ "الدين" في الآية رابطًا بين شرح اللفظة وبين الاستدلال بالقرآن والنقل عن السلف في معناها فيقول: "الدين" قال الضحاك وقتادة: الدين: الجزاء، يعني يوم يدين الله العباد بأعمالهم، تقول العرب دنته بما فعل أي جازيته، ومنه قوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53]، أي مجزيون، وقال: واعلم وأيقن أن ملكك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان

أي: تجزى بما تفعل. ويقوي هذا التفسير قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} [غافر: 17] وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28]. قال ابن عباس والسدي ومقاتل: معنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قاضي يوم الحساب، واختار أبو عبيد هذا القول .. ثم قال: وللدين معان كثيرة في اللغة، وكل موضع انتهينا إليه من القرآن ذكرنا ما فيه. وعند تفسير قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] قال عن "العذاب": أصل العذاب في كلام العرب من العذب وهو المنع يقال: عَذَبْتُه عَذْبًا أي: منعته منعًا، فعَذَبَ عُذُوبًا أي: أمتنع، ومنه يقال: للفرس إذا قام في المعلف ولم يتناول العلف وامتنع عنه: عَذُوب وعَاذِب، ومنه الماء العَذْب؛ لأنه يمنع العطش، فسمَّي العذاب عذابًا؛ لأنه يعذبُ المعاقب عن معاودة ما عوقب عليه، ويَعْذُب غيره من ارتكاب مثله. وعند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} الآية [البقرة: 49] يتكلم عن لفظ "آل" عن أصله وعن اشتقاقه في اللغة فيقول: اختلف أهل العربية في الآل، واشتقاقه من اللغة، وأصله. فقال جماعة: أصله من الأول، بمعنى الرجوع، فآل الرجل كأنه شيعته الذين يؤولون إليه ويؤول إليهم .. ثم يذكر أشياء تشبه بآل الرجل فيقول: .. هذا معنى الآل في اللغة، ثم شُبِّه بآل الرجل أشياء تسمى بهذا الاسم وإن لم يوجد فيه معنى الأول، كعضد الخيمة تسمى: "آلًا" تشبيهًا بآل الإنسان، وآل البعير ألواحه .. ". ثم ينقل كلامًا طويلًا عن أبي الفتح الموصلي عن أصل "آل" وما حصل عليها من إبدال وتغيير في بنية الكلمة.

2 - الجانب النحوي

واهتمام الواحدي بالاشتقاق اللغوي بارز في جميع المباحث اللغوية التي طرقها، ومن الأمثلة التي توضح ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الآية [البقرة: 58] ذكر اللغات في القرية ثم قال: وقال أصحاب الاشتقاق: اشتقاق القرية من قريت أي: جمعت، والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء، والْقَرِيُّ: مسيل يجتمع الماء إليه، ويقال لبيت النمل: قرية؛ لأنه يجمع النمل .. 2 - الجانب النحوي: أدرك الواحدي منذ اتجاهه إلى التحصيل أهمية النحو والأدب في تفسير القرآن وأنهما عمدتاه فيقول: "فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب فإنهما عمدتاه ... " ويقول: "وقل من تقدم في علم من العلوم إلا بمعرفة الأدب ومقاييس العربية والنحو" لذلك اتجه إلى النحو فجلس إلى الشيوخ يقرأ جوامع النحو والتصريف. يقول: "وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير -رحمه الله-، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية ودقائقها، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبًا من مائة جزء في المسائل المشكلة، ثم ورد علينا الشيخ الإمام أبو الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي، وكان واحد عصره وباقعة دهره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده". لقد استوعب من مسائل النحو ما جعله يعد في مصاف أئمة هذا

الشأن، والمستحق لقب "النحوي" الذي أطلقه عليه أكثر الذين ترجموا (¬1) له، وفي مقدمتهم صاحب السياق الذي قال: الإمام المصنف المفسر النحوي. (¬2)، ويقول ابن خلكان: كان أستاذ عصره في النحو والتفسير (¬3). وقد أفرغ في كتابه "البسيط" كثيرًا مما جمعه ووعاه من مسائل النحو ودقائقه وفروعه حتى أصبح الكتاب أقرب إلى موسوعة نحوية منه إلى كتاب تفسير. يقول السيوطي وهو يتحدث عن أنواع الذين صنفوا في التفسير: فالنحوي تراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقل فواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في "البسيط" وأبي حيان في "البحر" و"النهر" ... (¬4). وأقول: إن السيوطي مصيب فيما قال، حيث أثقل الواحدي كتابه "البسيط" بمسائل نحوية لا علاقة لها بالتفسير إطلاقًا، وإنما يقوده إليها الاستطراد وشغفه بذلك العلم. وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك: المثال الأول هو: ما افتتح الواحدي به كتابه فعند تفسير "البسملة" أول عبارة بدأ بها قوله: اختلفت عبارة النحويين في تسمية هذه الباء الجارة .. الخ، ثم استطرد في صفحات يذكر أقوال النحويين وخلافاتهم عن "الباء" وعن بعض حروف الجر كـ "اللام" و"الكاف" وقد نقل هذا الموضوع من كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني ولم يعزه له. ¬

_ (¬1) انظر: "معجم الأدباء"، و"إنباه الرواة" 2/ 223، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" ص 146. (¬2) انظر: "المنتخب من السياق" ل 114 (¬3) "وفيات الأعيان" 3/ 303. (¬4) "الإتقان" 2/ 243.

مذهبه النحوي

وعند تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] ذكر الأقوال في: "من" في قوله: {مِنْ مِثْلِهِ} وهذا متعلق بتفسير الآية. ثم ذكر أوجه "من" عمومًا، فقال: قال النحويون: "من" يكون على أربعة أوجه .. وأخذ يذكرها ويمثل لها. ثم قال بعده مباشرة: وهاهنا فصل يحتاج إليه في كثير من المواقع ذكرته هاهنا وهو: أن الحروف عند النحويين لا يليق بها الزيادة ولا الحذف .. الخ، ثم أخذ في شرح طويل في شرح هذِه المسألة، فما مناسبة هذا الفصل لتفسير الآية؟ إن مكانه كتب النحو لا كتب التفسير، وهذا الفصل بكامله وبنصه قد نقله عن كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني (¬1) بدون عزو. وعند تفسير قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] تحدث عن "بين" وأخذ عن أبي علي الفارسي من كتاب "الإغفال" كلاما طويلًا عن "بين" ومنه: "قال أبو علي: اعلم أن "بين" اسم يستعمل على ضربين: مصدر وظرف .. الخ، واستمر في سرد طويل في صفحات. ومثله ما كتبه عن "الآن" ناقلا عن الفراء وأبي علي الفارسي. إن حشو كتب التفسير بمثل هذه المباحث الطويلة يبعد القارئ عن تفسير القرآن ويطيل الكتاب، ويجلب الملل للقارئ. رحم الله الواحدي. مذهبه النحوي: هناك مدرستان نحويتان شهرتا وهما "مدرسة البصرة" و"مدرسة ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" [البقرة: 23]، والتعليق على النص.

الكوفة" ولكل من المدرستين قواعد وأصول تخالف المدرسة الأخرى، كما أن لكل واحدة منهما علماء عرفوا بذلك فمن أشهر رجال مدرسة البصرة الخليل بن أحمد، وسيبويه، والمازني، وقطرب، والمبرد، والزجاج، والزجاجي، وأبو علي الفارسي، وغيرهم (¬1). ومن أشهر رجال مدرسة الكوفة: الفراء، الكسائي، وثعلب، وأبو بكر بن الأنباري (¬2). ونشأت بعد ذلك مدرسة ثالثة من جراء الخلط بين أصول المدرستين وهي ما عرفت بالمدرسة "البغدادية" ومن رجالها ابن كيسان وابن السراج (¬3) وعد بعضهم منها "أبا الفتح بن جني" وعده بعضهم بصريًّا (¬4). فمن أي المدارس الثلاث يمكن أن يعتبر الواحدي؟ للإجابة عن هذا السؤال نعود إلى المادة النحوية التي ذكرها الواحدي في كتابه "البسيط" فنراه قد نقل عن أئمة المدارس الثلاث فأخذ عن الزجاج والفارسي والمبرد والزجاجي وغيرهم من مدرسة البصرة. وأخذ عن الفراء وابن الأنباري وثعلب من مدرسة الكوفة. كما نقل آراء ابن كيسان وابن السراج وأخذ عن أبي الفتح بن جني، ومن ثم نراه قد نقل من قواعد المدارس الثلاث في كتابه. ¬

_ (¬1) انظر طبقاتهم كما ذكرها الزبيدي في كتابه "طبقات النحويين واللغويين" ص 21 - 121، انظر: "تاريخ النحو" ص 34. (¬2) انظر طبقاتهم كما ذكرها الزبيدي في كتابه "طبقات النحويين واللغويين" ص 125 - 154، وانظر: "تاريخ النحو" ص 41. (¬3) انظر: "تاريخ النحو" ص 93، 94. (¬4) وبه أخذ محمد النجار في مقدمته على "الخصائص" لابن جني 1/ 45.

المسائل النحوية التي يعنى بها في "البسيط"

كما نلاحظ أنه يذكر قول الكوفيين والبصريين في المسألة الواحدة وربما رجح قول أهل البصرة أو قول أهل الكوفة. مثال على ذلك: لما تعرض لتفسير "الاسم" في تفسير "البسملة" ذكر أقوال الطرفيين ثم قال: قالوا: ولا يصح مذهب الكوفيين في هذا الحرف، لأنه لا يعرف شيء حذفت منه فاء الفعل فدخلت عليه ألف الوصل كالعدة والزنة .... بينما نراه في موضع آخر يأخذ بقول الكوفيين، ولا يذكر قول البصريين أصلًا فعند تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] قال: أصل "لكن" لا، ك، إن، "لا" للنفي و"الكاف" للخطاب و"إن" للإثبات، فحذفت الهمزة استخفافًا. فما قرره في "لكن" هو رأى الكوفيين أما أهل البصرة فيرون أنها بسيطة غير مركبة (¬1). ولعل هذا مما أفاده من ابن الأنباري وهو كوفي كما سبق. نصل من هذا إلى أن الواحدي أفاد في كتابه عن أئمة النحو من بصريين وكوفيين، يختار من أقوالهم ما يراه إلى الصواب أقرب ولا يلتزم مدرسة بعينها، لكن نقوله عن البصريين أكثر، لأن أغلب الأئمة الذين أخذ عنهم من مشايخ البصرة كالفارسي والزجاج والزجاجي، وابن جني عند بعضهم، والله أعلم بالصواب. المسائل النحوية التي يُعْنَى بها في "البسيط": لقد طرق الواحدي في كتابه أغلب مسائل النحو، ولا تأتي مناسبة في تفسيره لمسألة نحوية إلا وتعرض لها سواء كانت تتعلق بالتصريف أو ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين" 1/ 209.

بإعراب الكلمة أو غير ذلك، وسبق ذكر نماذج لعنايته بتصريف الكلمة وأصولها في منهجه اللغوي، ونلحظ من مجموع المسائل النحوية التي تعرض لها عنايته بأمرين هامين وهما: إعراب القرآن، والأدوات والحروف. أما بالنسبة للأمر الأول وهو إعراب القرآن، فإن له أهمية كبرى فبالإعراب يتبين المعنى ويتضح، وبه يوقف على أغراض المتكلم، وقد ألفت في إعراب القرآن كتب كثيرة منها كتاب "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب و"إملاء ما من به الرحمن" لأبي البقاء العكبري وغيرها (¬1). وقد أولى الواحدي هذا الجانب عناية كبيرة لما له من أثر في وضوح معاني الآيات، ومن الأمثلة على ذلك في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] قال: وموضع "لا ريب" رفع بالابتداء عند سيبويه لأنه بمنزلة "خمسة عشر" إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع في قوله: لا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلا أَبُ ومن نصب المعطوف فهو عطف على اللفظ .. وقوله "فيه" يجوز أن تجعله خبرًا للابتداء الذي هو "لا ريب" ويجوز أن تجعله صفة لقوله: "لا ريب"، وإذا جعلته صفة أضمرت الخبر، كأنه قيل: لا ريب فيه واقع أو كائن ... الخ. وعند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] قال: و"سواء" في الآية رفع بالابتداء ويقوم "أأنذرتهم ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان" 1/ 301.

أم لم تنذرهم" مقام الخبر في المعنى، كأنه بمنزلة قولك: "سواء عليهم الإنذار وتركه" لا في الإعراب، لأنك إذا قدرت هذا التقدير في الإعراب صار "سواء عليهم" خبرًا مقدمًا، والجملة في موضع رفع بأنها خبر "إن" ويجوز أن يكون خبر "إن" قوله: "لا يؤمنون" كأنه قيل: إن الذين كفروا لا يؤمنون سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ... إلخ". ونلحظ ربط الإعراب بمحاولة إيضاح المعنى على جميع الوجوه. والاستفادة من إعراب القرآن للكشف عن معاني الآية ظاهرة في تفسير الواحدي، يتضح ذلك من الأمثلة السابقة، وأذكر مثالا آخر يوضح هذا الأمر أكثر، عند تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] قال: "وفي نصب قوله: "مثلًا" وجوه، أحدها: الحال، لأنه جاء بعد تمام الكلام، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا مبينا. والثاني: التمييز والتفسير للمبهم وهو "هذا" كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا من الأمثال. والثالث: القطع كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا المثل، إلى أنه لما جاء نكرة نصب على القطع عن إتباع المعرفة، وهذا مذهب الفراء وأحمد بن يحيى. الأمر الثاني: عناية بالأدوات والحروف. ودراسة الحروف من مسائل النحو الهامة حيث ألفت فيها كتب مستقلة (¬1)، لأن معانيها تختلف بحسب ¬

_ (¬1) منها كتاب "الأزهية في علم الحروف" لعلي بن محمد الهروي، و "حروف المعاني" للزجاجي، و"رصف المباني في شرح حروف المعاني" للمالقي، و"مغني اللبيب" لابن هشام.

موقعها من الكلام، ولذلك لابد للمفسر من معرفة ذلك (¬1)، وعناية الواحدي بها بارزة في تفسير "البسيط" فلا يمر شيء من الحروف والأدوات إلا ويبسط القول فيها عن تركيبها، وعن استعمالها، واختلاف مدلولاتها بحسب الاستعمال. ومن الأمثلة على ذلك ما سبق قريبا عن "الباء" و"من" و"بين" و"الآن"، ومن الأمثلة الأخرى ما ذكره عن "لم" و"لن" عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] قال: "لم" حرف يجزم الفعل المضارع، ويقع بعدها بمعنى الماضي كما يقع الماضي بعد حرف الجزاء بمعنى الاستقبال، ولهذه المشابهة بينها وبين حروف الجزاء اختير الجزم بـ"لم" .. ثم قال: وأما "لن" فهي حرف قائم بنفسه، وضع لنفي الفعل المستقبل، ونصبه للفعل كنصب "أن" وليس ما بعد "لن" بصلة لها، لأن "لن يفعل" نفي سيفعل، وتعمل ما بعدها فيما قبلها كقولك زيدًا لن أضرب ... واستمر في بيان أقوال النحويين في أصل "لن". وقد اعتمد الواحدي في المسائل النحوية كثيرًا على كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني، و"معاني القرآن" للفراء وللزجاج، وكتاب "الإغفال" و"الحجة" لأبي علي الفارسي، وعلى أقوال ابن الأنباري. وكان اعتماده على كتاب "سر صناعة الإعراب" كبيرًا نقل منه مسائل طويلة بنصها، وعندما قام صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" بدراسة الجانب النحوي في التفسير عند الواحدي اختار نصين من "البسيط" أحدهما عن "الباء"، والثاني عن "أل" وبنى عليهما دراسته لمنهجه النحوي، وكأن الكلام للواحدي، مع أن هذين النصين منقولان بطولهما من ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان" 1/ 175.

3 - الجوانب البلاغية

كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني، ودور الواحدي هو حسن الانتقاء والعرض، (¬1) وسبق الإشارة لمثل هذا قريبًا عند الحديث عن منهج الواحدي في عرض القراءات. 3 - الجوانب البلاغية: علم البلاغة من أجل علوم العربية قدرًا، إذ به تعرف دقائق اللغة وسر الفصاحة فيها، وبه يعرف بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم، فلا غنى للمفسر عنه، يقول الزركشي: "وهذا العلم أعظم أركان المفسر فإنه لابد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز من الحقيقة والمجاز وتأليف النظم وأن يؤاخي بين الموارد ويعتمد ما سيق له الكلام حتى لا يتنافر وغير ذلك .. وقال الزمخشري: من حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليمًا من القادح، وإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل .. " (¬2). ولقد كان الواحدي سباقًا في ذلك حيث جعل "البلاغة" أحد القواعد الهامة لتفسير كتاب الله، فيقول: فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب -فإنهما عمدتاه- وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب فيما تحويه من الاستعارات الباهرة والأمثال النادرة والتشبيهات البديعية، والملاحن الغريبة، والدلالة باللفظ اليسير على المعنى الكثير مما لا يوجد مثله في سائر اللغات. ¬

_ (¬1) انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص 237 - 241. (¬2) "البرهان" 1/ 311.

فجعل البلاغة مع النحو والأدب طريقًا إلى معرفة تفسير كلام الله، وذكر بعض أنواع البلاغة كالاستعارة والتشبيه والإيجاز وغير ذلك مما يدخل تحت قوله "والملاحن الغريبة". وقد دأب في كتابه "البسيط" على محاولة إظهار إعجاز القرآن بما حوى من فصاحة في الأسلوب وبلاغة في التركيب، وكان هذا النهج واضحًا في تناوله لمفردات الآيات وتركيبها، وما اعتماده كتاب "نظم القرآن" لأبي علي الجرجاني مصدرًا مهّمًا في تفسيره إلا دلالة قوية على ذلك. كما أفاد من كتب ابن الأنباري حول تفسير مشكل القرآن شيئًا من الصور البلاغية. ونأخذ أمثلة من كتابه لننظر مدى إثرائه في هذا الجانب. من ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قال: -ناقلًا عن ابن الأنباري-: "قال أبو بكر: وقوله {إِيَّاكَ} بعد قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] رجوع من الغيبة إلى الخطاب، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، وهو نوع من البلاغة والتصرف في الكلام، ومثل قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ثم قال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 22] .. فذكر أحد أنواع علم المعاني التي يسميها البلاغيون "الالتفات". وعند تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} الآية [البقرة: 7] ذكر نوعًا آخر من أنواع البلاغة -ناقلًا كذلك عن ابن الأنباري- قال: وقال ابن الأنباري: أراد وعلى مواضع سمعهم، فحذف المضاف، كما تقول العرب: تكلم المجلس، وهم يريدون أهله، وحذف المضاف كثير في التنزيل والكلام .. وهذا النوع يسميه علماء البلاغة: "مجازًا عقليًّا"

ويذكر هذا النوع كذلك عند تفسير قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] قال: ومعنى قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، أي: ما ربحوا في تجارتهم، وأضاف الربح إلى التجارة؛ لأن الربح يكون فيها، وهذا كلام العرب يقولون: ربح بيعك، وخسر بيعك، ونام ليلك، وخاب سعيك ... إلخ). ويتحدث عن التشبيه وهو أحد أنواع علم البيان، فيعرفه ويذكر أهميته لما فيه من حسن البيان وقرب الاستدلال، لذلك كثر في القرآن، فيقول عند تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] قال المبرد: ... والمثل من الكلام: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، فمعنى قولهم: مثل بين يديه إذا انتصب، معناه: أشبه الصورة المنتصبة بين يديه ... والأمثال أصل كبير في بيان الأشياء؛ لأن الشيء يعرف بشبهه ونظيره، والأمثال تخرج ما يخفى تصوره إلى ما يظهر تصوره، والمثل بيان ظاهر على أن الثاني مثل الأول، والأمثال متداولة سائرة في البلاد، وفيها حكم عجيبة وفوائد كثيرة، وقد ذكر الله تعالى الأمثال في غير موضع من كتابه لما فيها من حسن البيان وقرب الاستدلال، والمقصود بالمثل البيان عن الحال الممثل، وحقيقته ما جعل من القول كالعلم للتشبيه بحال الأول ... ثم يدخل في بيان تطبيقي على الآية، موضحًا التشبيه فيها بذكر المشبه والمشبه به ووجه الشبه مع قرن ذلك بتفسير الآية، فيقول: فأما التفسير فقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل والسدي: يقول: مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء بها واستدفأ ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي

4 - الشواهد الشعرية

مظلمًا خائفًا متحيرًا، كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها، واعتزوا بعزها وأمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وبقوا في العذاب والنقمة، وهذا القول اختيار الزجاج ... وعلى ما قاله أبو إسحاق: التمثيل وقع بين تجملهم بالإسلام وبين النار التي يستضاء بها ... واستمر في ذكر الأقوال في الآية مبرزًا أركان التشبيه فيها. 4 - الشواهد الشعرية: لقد تضلع الواحدي من علوم اللغة والأدب، ذلك لأنه أدرك أنها طريق تفسير كتاب الله تعالى، الذي نزل بلغة عربية فصيحة، وكان الواحدي حريصًا في تفسيره على توثيق جميع الأقوال والآراء والمعاني التي يذكرها بالأدلة، اتباعًا للمنهج العلمي الأصيل، فلا يترك قولا في التفسير أو اللغة أو النحو أو البلاغة إلا ويحاول الاستدلال له إما بآية من القرآن أو حديث من السنة، أو أثر عن السلف أو بيت من أشعار العرب، وسبق الحديث عن منهجه في الاستدلال بالقرآن والسنة ولأثر، وكان مما عرف عن المنهج الواحدي هناك أنه لا يستدل بالقرآن والسنة والأثر على مسائل التفسير فقط، بل وعلى مسائل اللغة والنحو. وأما استشهاده بالشعر، فهو مجال الحديث الآن، ومما ينبغي استحضاره الآن تلك الهمة التي بذلها الواحدي لدراسة الأدب، والشعر بالدرجة الأولى. وقد ذكرت هذا في أكثر من موضع، ويكفي هنا أن نستعيد ما قاله الواحدي عن معاتبة شيخه العروضي له: .. حتى عاتبني شيخي -رحمه الله- يومًا من الأيام وقال: إنك لم تبق ديوانًا من الشعر إلى قضيت حقه أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز ... فقلت يا أبت إنما أتدرج

بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب لم أرم في غرض التفسير عن كثب .. (¬1). فيدل هذا النص من كلام الواحدي على مقدار ما بذل في سبيل تحصيل الأدب وكم من دواوين الشعر قرأها واستوعب ما فيها، وأنه يرى أن ذلك طريق لتفسير كتاب الله. وقبل كلامه هذا ساق الآثار عن السلف في بيان مكانة الشعر العربي في تفسير القرآن فيروي عن سعيد بن المسيب قصة عمر -رضي الله عنه- وهو على المنبر وفيها يقول عمر: يا أيها الناس: عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ويروي بسنده عن ابن عباس قال: إذا قرأ أحدكم شيئًا من القرآن فلم يدر ما تفسيره فليلتمسه في الشعر فإنه ديوان العرب. وبسنده عن ابن عباس: أنه كان يسأل عن الشيء من عربية القرآن فينشد الشعر. ألا يدل سياق الواحدي لتلك الآثار في مقدمة كتابه "البسيط" على ما كان يراه من مكانة هامة للشعر العربي في تفسير القرآن؟ ثم إن الواحدي قد حاول قول الشعر من صغره حتى تكونت لديه ملكة شعرية وقد عده بعضهم شاعرًا (¬2)، تلك الملكة مكنته من اختيار أجزل الشعر وأرصنه للاستشهاد به على مسائل اللغة والنحو وغيرهما. وقد حوى كتاب "البسيط" المئات من الشواهد الشعرية مما يقل مثله في كتب التفسير الأخرى. وأكثر الشواهد الشعرية جاءت في المسائل اللغوية، أو النحوية، أو ¬

_ (¬1) مقدمة "البسيط". (¬2) قال ذلك الأسنوي، انظر ما سبق.

البلاغية وقد يؤيد بها رأيًا في التفسير. فمن أمثلة الشواهد الشعرية في المسائل اللغوية: عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] ذكر معنى "الحكيم" وتصريفها وما تأتي عليه من المعاني فقال: ومعنى الحكيم هو المحكم للأشياء صرف من مفعل إلى فعيل كسميع في قوله: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَاعِي السَّمِيع (¬1) قال ابن المظفر: ... والحكم القضاء بالعدل -أيضًا- قال النابغة: واحْكُم كَحُكْم فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ ... إلى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ ... قال الأصمعي: أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، ومنه سميت حَكَمَةُ اللجام، لأنها ترد الدابة قال: ومنه قول لبيد: أحْكَمَ الجِنْثِىُّ مِنْ عَوْراتِها ... كُلَّ حِرْباءٍ إذا أُكْرِهَ صَلّ قال الأزهري: والعرب تقول حَكَمْتُ وأَحْكَمْتُ وحَكَّمْتُ بمعنى: رَدَدْت ومنعت .. ومنه قول لبيد: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُو سُفَهَاءَكُم وعند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] تكلم عن معنى الظلم، وعن أصله ومنه قوله: ... قال أبو عبيد: ويقال لذلك: اللبن المظلوم والظليم وأنشد شمر: وَقَائِلةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلى العَكِدِ الظَّلِيمُ وقال الفراء: ظَلَم الوادي إذا بلغ الماء منه موضعًا لم يكن ناله فيما ¬

_ (¬1) تخريج الأبيات ونسبتها لقائليها وشرح غريبها موجود في حواشي "البسيط".

خلا وأنشد: يَكَادُ يَطْلُعُ ظُلْمًا ثُمَّ يَمْنَعُهُ ... عَنِ الشَّواهِقِ فَالْوَادِي بهِ شَرِقُ وقال ابن السكيت في قول النابغة: والنُّؤيُ كَالحَوْضِ بالْمِظْلُومَةِ الجَلَدِ يعني: بالمظلومة أرضا في برية حوَّضوا فيها حوضًا سقوا فيه إبلهم، وليست بموضع تحويض، قال: وأصل: الظُّلْم وضع الشيء غير (¬1) موضعه، قال: ومنه قول ابن المقبل: هُرْتُ الشَّقَاشِقِ ظَلَّامُونَ للجُزُرِ وظلم الجزور أنهم نحروها من غير مرض فوضعوا النحر في غير موضعه. وقول زهير: وَيُظْلمُ أَحْيَانًا فَيَنْظَلِمُ فهذا الحشد الكبير من الأبيات الشعرية عند شرح مفردة واحدة من مفردات القرآن وهي "الظلم" يدل على مقدار ما حوى البسيط من الشواهد الشعرية. ومن الأمثلة على الشواهد الشعرية علىِ المسائل النحوية ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] وتكلم عن (لا) فقال: .. والذين يجوزون زيادة لا يقولون: إنما تجوز إذا تقدمه نفي كقوله: مَا كَان يَرْضَى رَسُولُ الله دينَهَمُ ... والطَّيِّبانِ أبوُ بَكْرِ وَلَا عُمَرُ وليس كذلك فقد جاء زيادتها في الإيجاب كما جاء في النفي، قال ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة": "في غير موضعه" "تهذيب اللغة" "ظلم" 14/ 384.

ساعدة الهذلي: أَفَعَنْكِ لاَ بَرْق كَأَنَّ وَميِضَه ... غَابٌ تَشَيِّمَه ضِرَامٌ مُثْقَبُ وأنشد أبو عبيدة: وَيَلْحَيْنَنِي في اللَّهْو أَلَّا أُحِبَّهُ ... وَللَّهْو دَاعٍ دَائِبٌ غير غافل ومن الشواهد الشعرية في مسائل بلاغية ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فذكر من البلاغة فيها: الالتفات وذلك بالرجوع من الغيبة إلى الخطاب حيث جاءت الآية بعد قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وقال: إن هذا نوع من البلاغة، وهو كثير في كلام العرب وذكر أبياتًا شواهد على ذلك فقال: وقال الأعشى: عِنْدَهُ البِرُّ والتُّقَى وَأَسَا الصَّدْ ... عِ وَحَمْلٌ لمُضْلِع الأثَقْالِ وَوَفَاءٌ إذَا أَجرتَ فَمَا غَرَّ ... تْ حِبَالٌ وَصَلْتَها بِحِبَالِ وأنشد أبو عبيدة: يَا لهْفَ نَفْسِي كَانَ جِدَّةُ خَالِد ... وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للِتُّرَابِ الأَعْفَرِ وقال كثير: أَسيِئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ" وعند تفسير قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ذكر المجاز فيها وقال: إن هذا كثير في كلام العرب ثم قال: " .. وقال جرير: وَأَعْوَرَ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ ... فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ومراده بهما الموصوف من نبهان".

المطلب الثالث مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة

المطلب الثالث مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة إن المتأمل لعناوين هذه التفاسير (البسيط، الوسيط، الوجيز) ليدرك الفرق الجوهري بينها، ويعلم أنها درجات متفاوتة في الطول والقصر، والبسط والإيجاز. ويمكن أن أستعرض أهم الفروق بين هذِه التفاسير في النقاط التالية: 1 - أن البسيط أوسعها بحثًا، وأكثرها مسائل، وفيه من التدقيق والتحقيق والإطناب ما ليس في الآخرين، ثم يأتي من بعده الوسيط، ثم من بعدهما الوجيز. يوضح ذلك قول المؤلف في مقدمة "الوسيط": وقديمًا كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط، ينحط عن درجة "البسيط" الذي تنجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة "الوجيز" الذي اقتصر فيه على الإقلال، بتصنيف ما رُسِم من تفسير، أعفيه من التطويل والإكثار، وأسلمه من خلل الوجازة والاختصار، وآتي به على النمط الأوسط، والقصد الأقوم، حسنة بين السيئتين، ومنزلة بين المنزلتين، لا إقلال، ولا إملال (¬1). ويقول في مقدمة "الوجيز": ... فإني كنت قد ابتدأت بإبداع كتاب لم أسبق إلى مثله، وطال عليَّ الأمر في ذلك ... ثم استعجلني قبل إتمامه والتقصي عما لزمني من عهدة إحكامه نفر متقاصرو الرغبات، منخفضو الدرجات، أولو البضاعة المزجاة، على إيجاز كتاب في التفسير، يقرب على من تناوله، ويسهل على من تأمله، من أوجز ما عمل في بابه، وأعظمه فائدة على متحفظيه ¬

_ (¬1) "الوسيط" 1/ 50.

وأصحابه، وهذا كتاب أنا نازل فيه إلى درجة أهل زماننا، تعجيلًا لمنفعتهم، وتحصيلًا للمثوبة في إفادتهم، بما تمنوه طويلًا، فلم يغن عنهم أحد فتيلًا، وتارك ما سوى قول واحد معتمد لابن عباس -رحمه الله- أو من هو في مثل درجته، كما يترجم عن اللفظ العويص بأسهل منه (¬1). 2 - أن الأقوال في البسيط مذكورة بتمامها، واختلاف وجوهها مع الاستدلال والترجيح أحيانًا، بينما اختصر ذلك في الوسيط، واقتصر في الوجيز على قول واحد معتمد لابن عباس -رضي الله عنه- أو من هو في مثل درجته. 3 - يظهر من النصوص السابقة أن المادة العلمية في الوسيط إجمالًا منتقاة من البسيط، ولذا قال القفطي: وهو مختار من البسيط (¬2). 4 - استطرد الواحدي بوضوح في البحوث اللغوية والنحوية، في الوقت الذي جاءت على نحو مختصر كاف في الوسيط، أما في الوجيز فلم يعرِّج عليها. 5 - يلاحظ أن الوسيط تميز عن الآخرين في جانب الرواية، فهو يذكر فيه أحاديث وآثارًا، ويسوق أسانيد كثير منها، لا يذكرها ألبتة في الوجيز، ويُقل منها في البسيط. 6 - كما أنه في الوسيط أيضًا يفتتح كل سورة بما ورد في فضلها ولا يشير إلى ذلك في تفسيريه الآخرين، وحديث فضائل السور المشهور إنما ذكره في الوسيط فقط، وهو حديث موضوع كما لا يخفى، وقد تقدم ذكر ذلك. ¬

_ (¬1) "الوجيز" 1/ 87. (¬2) "إنباه الرواة" 2/ 223.

ومن الأمثلة التي تبين الفرق بين هذه التفاسير الثلاثة

7 - اعتنى الواحدي في البسيط بتوجيه القراءات وتعليلها، واستطرد في ذلك إلى الغاية القصوى، وضمن كتابه خلاصة الحجة لأبي علي الفارسي، بينما نجده مقلا في الوسيط بشكل واضح، وأما الوجيز فلا يكاد يذكر شيئًا من ذلك إلا نادرًا. 8 - أما من حيث ترتيب تأليف هذه التفاسير، فإنه قد يفهم من النصين السابقين أنه بدأ بالبسيط، وقبل إتمامه ألف الوجيز ليحقق رغبة من قصرت همتهم، ثم ألف الوسيط الذي صرح بأنه ألفه بعد البسيط. ومن الأمثلة التي تبين الفرق بين هذِه التفاسير الثلاثة: ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فقد فسره في البسيط بقوله: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، الصفا: جمع صفاة، وهي الحجارة، قال أبو العباس: الصفا: كل حجر لا يخلطه غيره، من طين أو تراب يتصل به، واشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص. والمروة: واحدة المرو، وهي حجارة بيض براقة، يكون فيها النار. قال الأعشى: وتُوَلي الأرضَ خُفَّا ذابلًا ... فإذا ما صادف المَروَ رَضَحْ وهما اسمان لجبلين معروفين بمكة. وشعائر الله: واحدتها شعيرة، قال المفسرون وأهل اللغة جميعًا: شعائر الله: متعبداته التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا، وهي كل ما كان من مشعر أو موقف أو مسعى أو منحر، وهي من قولهم: شعرت،

أيَ: علمت، وهي كلها معلومات، وهذا قول الزجاج، واختياره. ويحتمل أن تكون "الشعائر" مشتقة من الإشعار، الذي هو الإعلام على الشيء، ومنه: الشعائر: بمعنى العلامة؛ ولهذا تسمى الهدايا شعائر؛ لأنها تشعر بحديدة في سنامها من جانبها الأيمن حت يخرج الدم، قال الكميت: شَعَائرَ قُربانٍ بهم يُتَقَرَّبُ ويحتمل أن يكون من الإعلام بالشيء، وبه قال مجاهد في قوله (من شعائر الله)، قال: يعني: من الخبر الذي أخبركم عنه، كأنه إعلام من الله عباده أمر الصفا والمروة. وقوله تعالى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} قال الليث: أصل الحج في اللغة: زيارة شيء تعظمه. وقال يعقوب والزجاج: أصل الحج: القصد، وكل من قصد شيئًا فقد حجه. وقال كثير من أهل اللغة: أصل الحج: إطالة الاختلاف إلى الشيء. واختار ابن جرير هذا القول، قال: لأن الحاج يأتي البيت قبل التعريف، ثم يعود إليه للطواف يوم النحر، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصَّدَر، فلتكرارِهِ العودَ إليه مرةً بعد أخرى قيل له: حاج، وكلهم احتجوا بقول المخبل القريعي: يحجُّون سِبَّ الزِّبرِقان المُزَعْفَرا وقال سيبويه: ويقال: حَجَّ حِجًا، كقولهم: ذكر ذِكرًا. وقال الفراء: الحَج والحِج لغتان، يقال: حَجَجْتُ حِجّة للمرة الواحدة، لم يأت عن العرب غيره. ولو قيل: "حَجَّة" بالفتح كما قالوا: مَرَرتُ به مَرة، كان صوابًا، مثل: مددته مدةً، وقددته قدةً، هذا كلامه. فأما قولهم: حُجٌّ، وهم

يريدون: جمع الحاج، فقد يمكن أن يكونوا سموا بالمصدر، وتقديره: ذوو حج، قاله أبو علي، قال: وأنشد أبو زيد: وكأن عافية النسور عليهم ... حُجُّ بأسفلِ ذي المَجَاز نُزُولُ وقوله تعالى: {أَوِ اَعْتَمَرَ} قال الزجاج: قصد، وقال غيره: زار، قال أعشى باهلة: وراكبٌ جاء من تثليث معتمرُ قال الأزهري: وقد يقال: الاعتمار: القصد، وأنشد للعجاج: لقد سما ابن مَعْمَرٍ حينَ اعْتَمَر ... مَغْزى بعيدًا من بعيدٍ وضَبَر يعنى: حين قصد مغزى بعيدًا. وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَليْهِ} الجناح: الإثم، وأصله: من الجنوح، الذي هو الميل، يقال: جَنَحَ: مال، ومنه قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] وقيل للأضلاع: جوانح؛ لاعوجاجها، قال ابن دريد: معنى (لا جناح عليكم) أي: لا ميل إلى مأثم. وجناح الطائر من هذا؛ لأنه يميل في أحد شقيه، ليس على مستوى خلقته، فمعنى الجناح: الميل عن الحق. وقال أبو علي الجرجاني: معنى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أينما ذكر في القرآن: لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء، هذا هو الأصل، ثم صار معناه: لا حرج عليه، ولا ذنب عليه. قال ابن عباس: كان على الصفا صنم، وعلى المروة صنم، وكان أهل الجاهلية يطوفون بينهما، ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما؛ لأجل الصنمين؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية، منبها لهم على أن الطواف بالصفا والمروة لا تبعة فيه عليهم، وأنه

طاعة لله تعالى، وغير تعظيم للصنمين. فالآية تدل بظاهرها على إباحة ما كرهوه، ولكن السنة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس كتب عليكم السعي فاسعوا" وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. والواجب أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، ويسعى بينهما سعيًا، فيكون مصيره من الصفا إلى المروة شوطًا من السبع، وعوده من المروة إلى الصفا شوطًا ثانيًا، فإن بدأ بالمروة إلى الصفا لم يحسب هذا الشوط؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دنا من الصفا في حجته قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدأوا بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت، ثم مشى حتى إذا تصوبت قدماه في الوادي سعى. وقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فيه وجهان من القراءة: أحدهما: (تَطَوَّع) على "تَفَعَّل" ماضيًا، وهذه القراءة تحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون موضع (تطوع) جزما، وتجعل "من" للجزاء، وتكون الفاء مع ما بعدها من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم، والفعل الذي هو (تطوع) على لفظ المثال الماضي، والمراد به المستقبل، كقولك: إن أتيتني أتيتك. الثاني: أن لا تجعل "من" للجزاء، ولكن تكون بمنزلة "الذي" وتكون مبتدأ به، ولا موضع حينئذ للفعل الذي هو "تطوع"، والفاء مع ما بعدها في موضع رفع، من حيث كان خبر المبتدأ الموصول، والمعنى فيه معنى الجزاء؛ لأن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة آذنت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول، كقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] "وما": مبتدأ موصول، والفاء مع ما بعدها

جواب له، وفيه معنى للجزاء؛ لأن تقديره: ما ثبت بكم من نعمة، أو مادام بكم من نعمة فمن ابتداء الله إياكم بها، فسبب ثبات النعمة ابتداؤه [ذلك] كما أن استحقاق الأجر إنما هو من أجل الإنفاق في قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274] وعلى هذا كل ما في القرآن من هذا الضرب، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} إلى قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10] وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} [البقرة: 126] و {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] و {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ونذكر هذه المسألة مشروحة عند قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة: 274]. الوجه الثاني من القراءة: (يَطَّوَّعْ) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع إلى أن التاء أدغم في الطاء لتقاربهما، وهذا حسن؛ لأن المعنى على الاستقبال، والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته، فتوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلى أن اللفظ إذا كان وافق المعنى كان أحسن. وأما التفسير: فقال مجاهد: (ومن تطوع خيرًا) بالطواف بهما، وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضًا. وقال مقاتل والكلبي: ومن تطوع خيرًا فزاد في الطواف بعد الواجب. ومنهم: من حمل هذا النوع على العمرة، وهو قول ابن زيد، وكان يرى العمرة غير واجبة. وقال الحسن: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} يعني به: الدين كله، أي: فعل غير المفرَض عليه، من طواف وصلاة وزكاة ونوع من أنواع الطاعات. وهذا

وقال في "تفسير الوسيط"

أحسن هذه الأقاويل؛ لأن قوله (ومن تطوع خيرًا) صيغته تدل على العموم. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي: مجازٍ بعمله، {عَلِيمٌ} بنيته. قال أهل المعاني: وحقيقة الشاكر في اللغة: هو المظهر للإنعام عليه، والله تعالى لا تلحقه المنافع والمضار، فالشاكر في وصفه مجاز، ومعناه: المجازي على الطاعة بالثواب، إلى أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد، مظاهرة في الإحسان إليهم، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245] وهو تعالى لا يستقرض من عوز؛ ولكنه تلطفٌ في الاستدعاء. كأنه قيل: من الذي يعمل عمل المقرض، بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم في وقت فقره وحاجته. وقال في "تفسير الوسيط": قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: هما جبلان معروفان بمكة. و {شَعَائِرِ اللَّهِ}: متعبداته، التي أشعرها الله، أي جعلها أعلامًا لنا، وهي كل ما كان من موقف أو مسعى أو منحر. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} أصل الحج في اللغة: زيارة شيء تعظمه. قال الزجاج: أهل الحج: القصد، وكل من قصد شيئًا فقد حجه. وقوله: {أَوِ اعْتَمَرَ} قال الزجاج: أي: قصد، وقال غيره: زاره. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أي: لا إثم عليه ولا حرج ولا ذنب {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. أخبرنا منصور بن عبد الوهاب البزار، أخبرنا محمد بن أحمد بن سنان، أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم عن أنس بن مالك. قال: كانوا يمسكون عن الطواف بين الصفا والمروة، وكانا من شعائر الجاهلية، وكنا نتقي الطواف

بهما، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ...} الآية. رواه البخاري عن أحمد بن محمد، عن عبد الله، عن عاصم. أخبرني سعيد بن العباس القرشي، أخبرنا العباس بن المفضل النضروي، أخبرنا أحمد بن نجدة، حدثني سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، عن داود، عن الشعبي، قال: كان لأهل الجاهلية صنمان يقال لأحدهما يساف والآخر نائلة، وكان يساف على الصفا، وكان نائلة على المروة، وكانوا إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوهما فلما جاء الإسلام، قالوا: غنما كان أهل الجاهلية يطوفون بينهما لمكان هذين الصنمين وليسا من شعائر الحج، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فجعلهما الله من شعائر الحج. والآية بظاهرها تدل على إباحة ما كرهوه، ولكن السنة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس كتب عليكم السعي فاسعوا"، وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وقوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) قال الحسن: يعني به الدين كله، والمعنى فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة ونوع من الطاعة. وقرأ حمزة (ومن يطَّوَّعْ) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع إلا أن التاء أدغمت في الطاء لمقاربتهما، وهذا حسن لأن المعنى على الاستقبال، والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته، فتوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان وفق المعنى كان أحسن. وقوله: (فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ) أي: مجاز له بعمله، ومعنى الشاكر في

وقال في الوجيز

وصف الله: المجازي على الطاعة بالثواب (¬1)، (عَلِيمٌ) بنية المتطوع (¬2). وقال في الوجيز: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) وهم جبلان معروفان بمكة (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي: متعبداته (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) زاره معظمًا له (أَوِ اعْتَمَرَ) قصد البيت للزيارة (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) فلا إثم عليه (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) بالجبلين، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما، فكره المسلمون الطواف بينهما، فانزل الله تعالى هذه الآية. (وَمَن تطَوَّعَ خَيرًا) فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة وطاعة (فَإِن اللهَ شَاكِرٌ) مجاز له بعمله (عَلِيمٌ) بنيته (¬3). ¬

_ (¬1) بينَّا في التعليق على البسيط التفسير الصحيح لمعنى اسم الله (الشاكر). (¬2) "التفسير الوسيط" 1/ 241 - 243. (¬3) "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" ص 140 - 141.

المبحث السابع قيمة الكتاب العلمية

المبحث السابع قيمة الكتاب العلمية بعد هذه الدراسة حول كتاب "البسيط" ومعرفة منهج الواحدي فيه أقف وقفة سريعة لاستجماع أطراف الحديث، ومحاولة تحديد المكانة العلمية لكتاب "البسيط" في المكتبة التفسيرية، وأين موقعه فيها، من خلال ما أضافه من معاني جديدة كما أذكر بعض الملاحظات التي توصلت إليها أئناء دراستي لهذا الكتاب فأقول: يحتل تفسير "البسيط" مكانة علمية عالية في المكتبة القرآنية، ويعتبر مرجعًا هامًّا للمتخصصين في التفسير. ومع ما له من أهمية بقي هذا الكتاب إلى هذا الوقت حبيسًا لم يخرج إلى المكتبة، مما منع الدارسين أو الباحثين من الإفادة منه. على أنني أرى أن الكتاب لا يستطيع الإفادة منه إلى العلماء وطلبة العلم الذين تكونت لديهم الملكة التي تعينهم على فهم بحوثه اللغوية والنحوية العميقة، أما عامة القراء فهم مع هذا الكتاب كما وصفهم الواحدي "كمحاول غلقًا ضاع منه المفتاح". تلك المكانة التي أرى أن الكتاب حَرِيٌّ بها تعود إلى الأمور الآتية: أولًا: ما حواه الكتاب من ثراء علمي خصوصًا في مجال اللغة والنحو، حيث انطلق الواحدي في كتابه واضعًا نصب عينيه أن اللغة والنحو والأدب ركائز أساسية لتفسير كتاب الله، فبعد أن تضلع من تلك الركائز راح يسخرها لخدمة التفسير، وذلك بإيضاح اللفظة القرآنية وبيان أصلها، وذكر الشواهد على ذلك كما ربط الوجه التفسيري بالإعراب وذكر الأوجه

البلاغية في النظم القرآني، فخرج الكتاب موسوعة جمعت التفسير مع فروع اللغة وسخرت الثاني لخدمة الأول، صحيح أن الواحدي انساق وراء بعض تلك المسائل إلى حد يعتبر خروجًا عن مجال التفسير، ومع ذلك يبقى الكتاب ذا عطاء سيال في مجال التفسير بالدراية الذي يعتمد اللغة والنحو من الأسس لفهم النص القرآني. ثانيًا: عنايته بالفوائد والنكات التفسيرية، وهذا من الجوانب الهامة، خصوصًا إذا ارتبط ذلك بحسن العرض وجمال الأسلوب، كما هو الحال في تفسير الواحدي، فكثيرًا ما يتصيد تلك الفوائد فيوردها، وربما ذكرها على صيغة سؤال أو إشكال، فيجيب عنه بما يشفي ويقنع. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] قال: وقوله في وصف الكافرين "لا يشعرون" أبلغ في الذم من وصفهم بأنهم لا يعلمون، لأن البهيمة قد تشعر من حيث تحس (¬1) فكأنهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم ... وعند تفسير قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] قال: فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}؟ قيل: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، الأن الله تعالى قد قال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14]. أو أنهم لم يفصحوا بهذا القول وإنما أتوا بما يفهم عنهم بالمعنى، ولا يقوم به حجة توجب الحكم من جهة المشاهدة ... ¬

_ (¬1) في نسخة (ب): "لا تحس".

وعند تفسير قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] قال: وقد يبقى في هذه الآية سؤال لم نجد أحدًا ممن تكلم في تفسير القرآن ولا في معانيه تعرض له، وهو من مهم ما يسأل عنه. وذلك أن يقال: في أين علمت الملائكة لما خبرها آدم -عليه السلام- بتلك الأسماء صحة قوله ومطابقة الأسماء للمسميات؟ وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء، ولم تعترف بفقد العلم. والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ومطابقتها للمسميات، ولولا ذلك لم يكن لقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] معنى. ثم أجاب عن هذا السؤال بما يطول ذكره هنا. وفي سورة "يونس" عند تفسير قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4] قال: "فإن قيل لم أفرد المؤمنين بالقسط دون غيرهم وهو يجزي الكافر أيضًا بالقسط؟ قال ابن الأنباري: لو جمع الله الصنفين بالقسط لم يتبين ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم، ففصلهم عن المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو عدل غير جور، فلهذا خص المؤمنين بالقسط، وأفرد الكافرين بخبر يرجع إلي تأويله بزيادة الإبانة" (¬1). ثالثًا: يعتبر تفسير "البسيط" مرجعًا هامًّا لنصوص كثيرة من كتب مفقودة حيث اعتمد الواحدي على مصادر عدة، ونقل عنها كثيرًا، ومنها كتاب "نظم القرآن" لأبي علي الجرجاني، وإلى اليوم يعد هذا الكتاب مفقودًا، وقد نقل عنه الواحدي كثيرًا، فأصبح مرجعًا لكثير من أقواله، ¬

_ (¬1) "البسيط" 3/ ل 3، النسخة الأزهرية.

المآخذ على تفسير البسيط

وكذا الحال لأقوال ابن الأنباري، حيث نقل عنه كثيرًا، وترجح لي أن أغلب تلك النقول من كتابين هما "المشكل في معاني القرآن" و"رسالة المشكل" التي رد فيها على ابن قتيبة، وهذان الكتابان مفقودان كذلك، فيكون تفسير "البسيط" مرجعًا لهذِه النصوص المنقولة منهما. المآخذ على تفسير البسيط: ومع هذه المكانة التي رأيناها لتفسير الواحدي "البسيط" فإنه لا يخلو من بعض الملحوظات، سنة الله في خلقه، فالكمال المطلق لله سبحانه أما البشر فهم عرضة للخطأ والنسيان وكما قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه وقد تعرفت على بعض الملحوظات أثناء مصاحبتي لهذا الكتاب قراءة وتحقيقًا. فإن أصبت فذلك بتوفيق الله، وإن أخطأت فمن نفسي، وحسبي أني مجتهد في طلب الحق. وقد نبهت إلي بعض تلك الملحوظات في أماكنها، وسأجملها هاهنا مع ذكر ملحوظات لم ترد فيما سبق وهي: أولًا: آراؤه في قضايا العقيدة التي سلك فيها نهج المتكلمين من الأشاعرة وخالف فيها طريقة السلف وقد سار على هذا النهج في جميع مباحث العقيدة التي تكلم عنها في مسائل التوحيد والإيمان والصفات (¬1) وغيرها. وهذا المأخذ قد سجله عليه شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: ... ¬

_ (¬1) انظر: "مبحث عقيدته"، و"منهجه في تقرير مسائل العقيدة" من هذه الدراسة.

والواحدي صاحبه (¬1) كان أبصر منه بالعربية، ولكن أبعد عن السلامة واتباع السلف (¬2). ثانيًا: وجود بعض الإسرائيليات، التي هي داء أكثر كتب التفسير، وقع فيها الواحدي متأثرًا بشيخه الثعلبي، على الرغم من قوله في مقدمة كتابه: "فأما الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ ولا تساعده العبارة فمما لم أعبأ به، ولم أضيع الوقت بذكره" وروايته لها كانت سببًا في توجيه النقد له من بعض العلماء كما سبق (¬3). ثالثًا: الإطالة والاستطراد في بعض المباحث اللغوية والنحوية التي لا علاقة لها بالتفسير، وهذا يحمل الكتاب مسائل تبعده عن موضوعه الأصلي وهو تفسير كتاب الله، وتجلب الملل للقارئ، وقد وجه بعض العلماء هذه الملحوظة إلى كتاب "البسيط"، فالزركشي يعده مما غلب عليه الغريب حيث يقول: " .. وقد أكثر الناس فيه -أي التفسير- من الموضوعات، ما بين مختصر ومبسوط، وكلهم يقتصر على الفن الذي يغلب عليه، فالزجاج والواحدي في "البسيط" يغلب عليهما الغريب .. " (¬4). والسيوطي يعده ممن غلب عليه النحو فيقول: " .. فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في "البسيط" .. " (¬5). ¬

_ (¬1) أي الثعلبي لأن الكلام عنه. (¬2) مقدمة في التفسير ضمن "مجموع الفتاوي" 13/ 354. (¬3) في نسخة (ب): (لا تحس). انظر مبحث "أقوال العلماء فيه"، "مبحث تفسير القرآن بالسنة" من هذه الدراسة. (¬4) "البرهان" 1/ 13. (¬5) "الإتقان" 2/ 243.

وذكر هذا المأخذ مر في أكثر من موضوع مع ذكر أمثلة له، كما في منهجه في عرض القراءات، والجانب اللغوي، والنحوي في تفسيره. رابعًا: كثرة النقول من الجوانب الواضحة في كتاب "البسيط" ومنها نقول كثيرة لم يعزها، سبق ذكر أمثلة لها عند الحديث عن مصادره. وقد يجاب عن ذلك بأن هذا نهج متبع عند العلماء الأوائل ولا ينكر بعضهم على بعض فيه. وفي نظري أن هذِه المسألة بحاجة إلى دراسة أكثر قبل إصدار حكم فيها، وبالنسبة لهذا الموضوع عند الواحدي نلحظ أمرين: الأول: أن جميع مصادره الرئيسة التي نقل عنها موثقة بالعزو، فمثلًا الأزهري في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة" ذكر مصادره وسنده إليها وطريقته بالعزو واصطلاحاته في ذلك. وهذا أبو علي الفارسي في كتابه "الحجة" و"الإغفال" من خلال تتبعي لهما أجده يعزو كل الأقوال التي نقلها، والواحدي نقل عنهما بدون عزو. الأمر الثاني: نرى الواحدي ينقل عن الأزهري، أو عن أبي علي، أو عن غيرهما، فيعزو أحيانًا ولا يعزو أحيانًا، بل نجده في الموضع الواحد ينقل كلامًا عن الأزهري، أو عن أبي علي، أو عن غيرهما، بدون عزو في أول النقل، وفي أثنائه يعزو الكلام قائلًا: قال الأزهري أو قال أبو علي، ثم يذكر بقية كلام من نقل عنه، وهذا يوهم القارئ أن أول الكلام ليس من قول من ذكر بعد، وفي كتابه أمثلة كثيرة على هذا، منها ما ذكر عند تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] نقل عن "الحجة" كلام ابن السراج ولم يعز له أول الكلام وعزا آخره فأوهم القارئ

بأن ما سبق ليس لابن السراج (¬1). خامسًا: وردت في كتاب "البسيط" ألفاظ لا تتناسب مع مكانة القرآن الكريم، الذي شهد الله له بأنه أعلى درجات الفصاحة، وتحدى المشركين بذلك، ومن تلك الألفاظ التي قالها الواحدي أو نقلها عن غيره، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} الآية [البقرة: 17] قال: وكان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره؛ ليشاكل جواب "لما" معنى هذه القصة. ولكن لما كان إطفاء النار مثلًا لإذهاب نورهم أقيم ذهاب النور مقام الإطفاء وجعل جواب "لما" اختصارًا وإيجازًا، وهذا طريق حسن في الآية. فأي نظم نضعه أصلًا ونقيس كلام الله عليه ونقرر أنه يجب أن يكون على كذا، ثم قال: وهذا طريق حسن في الآية. وقد يلمح منه أن هناك ما هو أحسن منه. ربما يكون الواحدي ناقلًا عن صاحب "نظم القرآن" وعلى كلا الأمرين فهذا الكلام لا يليق أن يقال وصفًا لكلام رب العالمين. وعند تفسير قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] قال: .. وكان حقه أن يقول: فقال: أعوذ بالله، لأنه عطف على ما قبله. قال الفراء: وهذا في القرآن كثير بغير "الفاء" وذلك أنه جواب يستغنى أوله عن آخره بالوقفة عليه، فكان حسن السكوت يجوز به طرح الفاء. سادسًا: يذكر الواحدي أسماء شيوخه أو من ينقل عنهم بغير الأسماء ¬

_ (¬1) انظر: المقابلة بين النصين في "البسيط" و"الحجة" عند قوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ..}.

المشهورة لهم، وربما ذكر الشيخ بأكثر من اسم، وهذا ما يسميه علماء الحديث بتدليس الشيوخ، وهو أقل أنواع التدليس (¬1) خطورة، مثال ذلك: سعيد بن محمد الحيري، ذكره مرة بهذا الاسم فقال: سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحيري .. الخ، ومرة قال: وقرأت على الأستاذ سعيد بن محمد المقرئ .. ، وأبو علي الفارسي ذكره مرة فقال: وروى لنا كتب أبي علي الفسوي .. ، ثم يقول في موضع آخر: " .. واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه .. ويقول: "وقد أخبرنا أبو الحسين بن أبي عبد الله الفسوي -رضي الله عنه- أبنا أحمد بن محمد الفقيه .. " (¬2)، وأبو الحسين بن أبي عبد الله الفسوي هو شيخه عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي، فذكره بكنيته، وذر أباه بكنيته ونسبه إلى قريته "فسا" فأغمض اسمه وأما أحمد بن محمد الفقيه فهو أحمد بن محمد الخطابي البستي ولم أجد من لقبه بـ"الفقيه" غيره. هذا مع أن كتاب "البسيط" لا يكثر فيه الرواية، وربما يكون هذا الأمر أوضح في كتبه التي أكثر فيها من ذكر الأسانيد مثل "أسباب النزول" و "الوسيط" ولا شك أن هذا كان سببًا في عدم معرفة بعض شيوخه حيث يذكرهم بأسماء لا يعرفون بها. ¬

_ (¬1) انظر: "تدريب الراوي" 1/ 228. (¬2) "البسيط" ص 276.

المبحث الثامن أثر الواحدي فيمن بعده من العلماء من خلال كتابه "البسيط"

المبحث الثامن أثر الواحدي فيمن بعده من العلماء من خلال كتابه "البسيط" إن مقدار الأثر الذي يكون للعالم أو لكتبه فيمن يأتي بعده من المؤلفين يدل على مدى الأصالة والقوة العلمية له، وأنه أصبح إمامًا في الفن الذي ترك فيه ذلك الأثر. إن للواحدي أثرًا لا ينكر في مدرسة التفسير، ونجد اسمه يتردد في بعض كتب التفسير بعده. وأكثر كتب الواحدي شهرة هو "أسباب النزول" هذا الكتاب طار ذكره في الآفاق، وأفاد منه أكثر المفسرين بعد الواحدي، ونجد أغلب المفسرين الذين ورد ذكر الواحدي في كتبهم إنما نقلوا عنه أسباب النزول، وكان هذا الكتاب أسرع كتبه طباعة وأوسعها انتشارًا، يليه في المنزلة كتبه الثلاثة في التفسير "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز". إن كتب الواحدي في التفسير لا تقل أهمية عن كتب التفسير المشهورة كـ"الكشاف" للزمخشري، و"تفسير الرازي" و"القرطبي" و"البحر المحيط" ومع ذلك تأخرت طباعتها سوى "الوجيز" الذي طبع قبل مدّة. وقد ترددت أسماء كتب الواحدي في التفسير في مؤلفات العلماء بعده، خصوصًا كتاب "البسيط" فنرصد ذلك الأثر الذي تركه هذا الكتاب، إليك بيانًا بأسماء عدد الأئمة الذين استفادوا من البسيط سواء في التفسير وعلوم القرآن أم في غيرهما من علوم الشريعة.

أ- في مجال التفسير

أ- في مجال التفسير: 1 - الفخر الرازي (¬1) وتفسيره مفاتيح الغيب: إن أكثر المفسرين تأثرًا واستفادة من كتاب "البسيط" للواحدي هو "الفخر الرازي" في تفسيره "مفاتيح الغيب" حيث نقل عن الواحدي كثيرًا من أقواله مؤيدًا ومعجبًا بها، وربما نقل عنه وناقشه ورد عليه قوله، وكثيرًا ما ينص على اسم "البسيط"، وقد ينقل عنه ولا يسمي كتابه، بل ربما نقل عنه بدون عزو. وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] قال الرازي: قال الواحدي: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذِه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم (¬2)، ثم يرد الرازي قول الواحدي ويبين ضعفه كما يرى فيقول: واعلم أن هذا التفسير ضعيف، لأن قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة، فأما أن هذا القول قيل أو ما قيل، فليس في الآية دلالة عليه، فان ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه ... (¬3). ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الرحمن محمد بن عمر بن حسين الرازي، المفسر الأصولي، شافعي المذهب، له تصانيف كثيرة، مات سنة 606 هـ. انظر ترجمته في "النجوم الزاهرة" 6/ 197، و"طبقات المفسرين" للداودي 2/ 215. (¬2) "تفسير الرازي" 5/ 202، انظر كلام الواحدي في "البسيط" 1/ ل 125، من النسخة الأزهرية. (¬3) الرازي 5/ 202.

وعند تفسير قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ...} [الإسراء: 78] قال الرازي: "اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى: دلوك الشمس على قولين: أحدهما: أن دلوكها غروبها، وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة، فنقل الواحدي في "البسيط" عن علي أنه قال: دلوك الشمس: غروبها ... والقول الثاني: أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه. الحجة الأولى: روى الواحدي في "البسيط" عن جابر أنه قال: طعم عندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا حين دلكت الشمس .. " (¬1). وقال الرازي في موضع آخر من تفسير الآية: "المسألة الثالثة: قال الواحدي اللام في قوله {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لام الأجل والسبب .. " (¬2). فانظر إلى تردد اسم الواحدي في تفسير "الرازي" في تفسير آية واحدة ثلاث مرات. قال د/ علي محمد العماري في كتابه "الإمام فخر الدين الرازي، حياته وآثاره": والرازي كثير النقل عن الواحدي بصورة واضحة وربما نص على بعض كتبه عند النقل عنه .. والرازي قد يناقش ما ينقله هذا العالم الكبير عن رواة اللغة .. (¬3). بل إن تأثر الرازي بالواحدي أبعد من ذلك، فلا ينحصر في المواضع ¬

_ (¬1) "تفسير الرازي" 21/ 25. انظر كلام الواحدي في "البسيط" 3/ ل 168 من نسخة "جستربتي". (¬2) الرازي 21/ 26. (¬3) الإمام فخر الدين الرازي للدكتور علي محمد حسن العماري ص 141.

التي ذكر فيها اسم الواحدي، بل نجد روح التفسير "البسيط" سارية في مواضع كثيرة من "تفسير الرازي": فينقل عنه بتصرف ولا يذكر اسمه، ولقد لمست هذا من خلال مصاحبتي لجزء من "البسيط" ومقارنته مع تفسير "الرازي" وأذكر مثالاً يدل على هذا. قال الواحدي عند تفسير قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] "وقد يبقى في هذِه الآية سؤال لم نجد أحدًا ممن تكلم في تفسير القرآن ولا في معانيه تعرض له، وهو من مهم ما يسأل عنه، وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة لما أخبرها آدم عليه السلام بتلك الأسماء صحة قوله، ومطابقة الأسماء للمسميات، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء، ولم تعترف بفقد العلم. والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ومطابقتها للمسميات، ولولا ذلك لم يكن لقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] معنى؟ ". ثم يجيب الواحدي عن هذا السؤال، بما يطول ذكره هنا. ويأتي الرازي بعد ذلك ويذكر هذا السؤال مع تصرف في العبارة فيقول: .. وأيضًا فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك، فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ اسمًا لكل واحد من تلك المسميات، واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين .. (¬1)، ويجيب عنه بنحو إجابة الواحدي، ¬

_ (¬1) "تفسير الرازي" 2/ 177.

2 - أبو حيان من خلال تفسيره "البحر المحيط"

ولم أر من المفسرين فيما اطلعت عليه من تعرض له سوى "الواحدي" و"الرازي" مما يرجح أن الرازي أخذ ذلك السؤال من الواحدي، والأمثلة على هذا كثيرة توضح مدى تأثر الرازي بكتاب "البسيط" للواحدي. 2 - أبو حيان من خلال تفسيره "البحر المحيط": وقد استفاد أبو حيان (¬1) في تفسيره "البحر المحيط" من "البسيط" للواحدي، ولم يذكر "البسيط" باسمه ولكن الكلام الذي ذكره موجود فيه، وإفادته منه تأتي بدرجة أقل بكثير من الرازي، ويبدو أن "الرازي" كان واسطة بين أبي حيان وبين "الوسيط"؛ حيث نجد أغلب النصوص التي نسبها للواحدي موجودة في تفسير الرازي وإلى عبارته أقرب، بل ربما صرح باسم الرازي كطريق له إلى "الواحدي". ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] قال أبو حيان في "البحر": .. وقال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم، وذلك أنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألوا الرجعة وردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد .. (¬2) نجد الرازي ذكر القول بنصه فقال: قال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة ... ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو حيان النحوي محمد بن يوسف الغرناطي الأندلسي، أثير الدين، من كبار العلماء بالعربية والتفسير، توفي سنة 745 هـ. انظر: "نكت الهميان" ص 28، و"غاية النهاية" 2/ 285. (¬2) "البحر المحيط" 4/ 104.

3 - السمين الحلبي في تفسيره "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون"

إلخ (¬1)، أما الواحدي فيقول في "البسيط": وهذه الآية من الأدلة الظاهرة على تكذيب القدرية وذلك أن الله تعالى أخبر عن قول جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ... (¬2)، فيظهر من هذا أن أبا حيان نقل كلام الواحدي عن الرازي، حيث تابع في ذكر "المعتزلة" بدل "القدرية" والمعنى واحد. ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28] قال أبو حيان: ... وقال الواحدي: التزييل والتزيل والمزايلة: التمييز والتفريق ... (¬3)، وكلام الواحدي ذكره الرازي (¬4) قبل أبي حيان. ويظهر أنه أخذه عنه لتشابه عبارتيهما. ولأبي حيان كتاب في النحو هو "ارتشاف الضرب في لسان العرب" اعتمد فيه كثيرًا على البسيط للواحدي (¬5). 3 - السمين الحلبي (¬6) في تفسيره "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون": واستفاد السمين في تفسيره من الواحدي، وتكرر ذكر اسمه ولم ¬

_ (¬1) "الرازي" 12/ 194. (¬2) "البسيط" 2/ ل 95، من نسخة "جستربتي". (¬3) "البحر المحيط" 5/ 152. (¬4) "الرازي" 17/ 83. انظر: "البسيط" 3/ ل 6، من نسخة "جستربتي". (¬5) انظر: "كشف الظنون" 1/ 61، و"أبو حيان النحوي" للدكتورة خديجة الحديثي ص (135). (¬6) شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، المعروف بالسمين الحلبي، نشأ في حلب ورحل إلى مصر وبها توفى ست وخمسين وسبعمائة، انظر: "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 101، "حسن المحاضرة" 1/ 536، و"بغية الوعاة" 1/ 402.

يصرح بكتابه الذي أخذ عنه، لكن نجد جميع الأقوال التي نقلها عنه موجودة في "البسيط" مما يدل على أنه أخذها عنه. من أمثلة ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] ذكر السمين الأقوال في وزن "لمثوبة" ومنه قوله: ... وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول فهي مصدر، نقل ذلك الواحدي (¬1). وفي سورة المائدة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] تكلم السمين عن موقع جملة {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} وذكر أوجه الإعراب المحتملة فيها ... ومما قاله: ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل وهو مما لا ينقم، ذكر في مقابلته فسقهم وهو مما ينقم ... ، وذكر أقوالا كثيرة ثم قال: "وهذا هو مجموع ما أجاب به الزمخشري والواحدي" (¬2)، وفي موضع آخر قال: ... ويدل على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب "النظم" ... (¬3). وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية [المائدة: 67] قال السمين: .. وقال الواحدي: أي: إن يترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، لأن تركه البعض ¬

_ (¬1) "الدر المصون" 2/ 50 وانظر كلام الواحدي في "البسيط" 1/ ل 77 "الأزهرية". (¬2) "الدر المصون" 4/ 320، انظر "البسيط" 2/ ل 63 "نسخة جستربتي". (¬3) "الدر المصون" 4/ 321، انظر "البسيط" 2/ ل 63 "نسخة جستربتي".

4 - المفسر سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل في تفسيره "الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية"

محبط لإبلاغ ما بلغ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في أنه يستحق العقوبة من ربه، وحاشا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكتم شيئًا مما أوحي إليه ... (¬1). وفي سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] ذكر السمين الأقوال في {بَيَاتًا} ومنه قوله: وقال الواحدي قوله: بياتا: أي ليلًا. وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفًا لولا أن يقال: أراد تفسير المعنى (¬2). 4 - المفسر سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل (¬3) في تفسيره "الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية": لقد كان كتاب "الدر المصون" للسمين الحلبي مصدرًا رئيسًا للجمل في تفسيره، نقل عنه كثيرًا، وصدر عنه، وقد وردت عنده المصادر التي أخذ منها السمين، ومنها تفسير الواحدي، فنراه يتكرر في "الفتوحات الإلهية" في المواضع التي ورد فيها في "الدر المصون" للسمين. وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك، في آية البقرة وهي قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 103] قال الجمل وهو يتكلم عن "المثوبة"، ... وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول فهي مصدر، نقل ذلك الواحدي (¬4)، ¬

_ (¬1) "الدر المصون" 4/ 352. انظر "البسيط" 2/ ل 66 "نسخة جستربتي". (¬2) "الدر المصون" 5/ 250. انظر "البسيط" 2/ ل 139 "نسخة جستربتي". (¬3) هو سليمان بن عمر العجيلي المصري، الأزهري، الشافعي، فقيه مفسر ولد وتوفى قي مصر سنة 1204 هـ انظر: "هدية العارفين" 1/ 406، و"معجم المؤلفين" 4/ 271، و"الأعلام" 3/ 131. (¬4) "الفتوحات الإلهية" 1/ 89، 90.

5 - الألوسي في تفسير "روح المعاني"

راجع كلام السمين السابق تجده بنصه. وعند تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} الآية [الأعراف: 4] قال الجمل: وقال الواحدي: قوله (بياتًا) أي: ليلًا، وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفًا لولا أن يقال أراد تفسير المعنى. اهـ سمين .. (¬1)، فنجد الجمل يصرح بنقله قول الواحدي من طريق السمين الحلبي. 5 - الألوسي (¬2) في تفسير "روح المعاني": وأفاد الألوسي في تفسيره "روح المعاني" من كتاب "البسيط" للواحدي وقد اكتفى بذكر "الواحدي" دون ذكر الكتاب الذي أخذ منه، وبمقارنة النصوص وجدت أكثرها في "البسيط". من أمثلة ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة: 4] قال الألوسي في تفسير "اليقين": ... وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال، فلا يوصف به البديهي، ولا علم الله تعالى (¬3). يقول الواحدي في "البسيط": واليقين هو العلم الذي يحصل بعد الاستدلال ونظر لغموض المنظور فيه أو إشكاله على الناظر ... ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، ولأن علمه لم يحصل عن نظر واستدلال (¬4). ¬

_ (¬1) "الفتوحات الإلهية" 2/ 121. (¬2) هو شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي، مفسر محدث، أديب، ولد وتوفي في بغداد. توفي سنة (1270 هـ) انظر: "الأعلام" 7/ 176. (¬3) "روح المعاني" 1/ 122. (¬4) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].

ب- في علوم القرآن

عند تفسير قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] قال الألوسي: ... وذكر الواحدي أن "عدل" الشيء بالفتح والكسر مثله، وأنشد قول كعب بن مالك: صبَرْنَا لا نَرى للهِ عَدْلًا ... عَلى مَا نَابَنَا مُتَوَكِّلِينَا" (¬1) قال الواحدي في "البسيط": عدل الشيء وعدله: مثله، قال الله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] أي ما يمثله من الصيام، وقال كعب بن مالك: صبَرْنَا لا نَرى للهِ عَدْلًا ... عَلى مَا نَابَنَا مُتَوَكِّلِينَا" (¬2) وعند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} الآية [المائدة: 107] قال الألوسي: "وقال الواحدي: روي عن عمر -رضي الله عنه- ربه أنه قال: هذه الآية ما في السورة من الأحكام" (¬3)، والرواية عن عمر عند الواحدي في "البسيط" (¬4). وبهذه الأمثلة نرى الألوسي قد أخذ في تفسيره عن الواحدي في مجال اللغة والعقيدة والأثر. هؤلاء من أشهر المفسرين الذين أفادوا من الواحدي وتأثروا بكتابه "البسيط"، وبهذا نرى المدى الذي تركه كتاب البسيط في المفسرين بعده. ب- في علوم القرآن: لم يقتصر أثر الواحدي على المفسرين بعده فقط، بل نجد كتاب ¬

_ (¬1) "روح المعاني" 1/ 251. (¬2) انظر: "البسيط" عند تفسير قوله تعالى: {واتقوا يومًا ...} [البقرة: 43]. (¬3) "روح المعاني" 7/ 53. (¬4) انظر: "البسيط" 2/ل 84، "نسخة جستربتي".

1 - بدر الدين الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"

"البسيط" مصدرًا هامًا للمؤلفين في علوم القرآن الكريم ومنهم: 1 - بدر الدين الزركشي (¬1) في كتابه "البرهان في علوم القرآن": أفاد الزركشي في كتابه من الواحدي كثيرًا، ونص على كتاب "البسيط" في مواضع، وربما نقل عنه ولم يذكر "البسيط"، وهذه النقول بالتتبع نجدها في "البسيط". من أمثلة ذلك في النوع السابع: في "أسرار الفواتح والسور" قال الزركشي: ... وقال الواحدي في "البسيط" في أول سورة يوسف: لا يعد شيء منها آية إلا في "طه"، وسره أن جميعها لا يشاكل ما بعده من رؤوس الآي، فلهذا لم يعد آية بخلاف طه فإنها تشاكل ما بعدها (¬2). ذكر قول الواحدي بمعناه (¬3). وفي موضوع بيان معنى الآية يقول الزركشي: "قال الواحدي: وبعض أصحابنا يجوز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية، لولا أن التوقيف ورد بما هي عليه الآن" (¬4)، وقول الواحدي في معنى الآية بنصه في "البسيط" (¬5). وفي النوع السابع والأربعين "الكلام على المفردات من الأدوات" قال الزركشي: -أثناء كلامه عن "لكن"-: وقال صاحب "البسيط" إذا وقع ¬

_ (¬1) هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، من أعلام الفقه والحديث والتفسير وأصول الدين، وتوفي بمصر سنة أربع وتسعين وسبعمائة. انظر "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" للسيوطي 1/ 437. (¬2) "البرهان في علوم القرآن" 1/ 171. (¬3) انظر: "البسيط" 3/ ل 56، نسخة "جستربتي". (¬4) "البرهان في علوم القرآن" 1/ 267. (¬5) "البسيط" ص 796.

2 - جلال الدين السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"

بعدها جملة فهي للعطف، أو حرف ابتداء، قولان، كقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} [النساء: 166] قال: وتظهر فائدة الخلاف في جواز الوقف على ما قبلها، فعلى العطف لا يجوز وعلى كونها حرف ابتداء يجوز. قال: وإذا دخل عليها الواو انتقل العطف إليها، وتجردت للاستدراك" (¬1). وهكذا نجد اسم الواحدي يتردد كثيرًا في "البرهان" (¬2) مما يدل على مدى إفادته من كتاب "البسيط". 2 - جلال الدين السيوطي (¬3) في كتابه "الإتقان في علوم القرآن": أفاد السيوطي في كتابه "الإتقان" من "البسيط" للواحدي، ونقل عنه في مواضع متعددة. قد يذكر الواحدي باسمه فيقول: قال الواحدي، أو يقول: قال صاحب "البسيط". وربما يكون في أكثر المواضع ناقلًا عن الزركشي. ومن أمثلة ذلك عند الكلام معنى الآية قال: قال الواحدي وبعض أصحابنا قال: يجوز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية لولا أن التوقيف ورد بما هي الآن" (¬4). ¬

_ (¬1) "البرهان في علوم القرآن" 4/ 390. (¬2) انظر: "البرهان" 1/ 291، 2/ 39، 14، 147، 278، 288، 409، 435، 3/ 161، 187، 279، 370، 474، 4/ 338. (¬3) هو الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن كمال السيوطي، أبو بكر، صاحب التصانيف المشهورة، ولادته ووفاته في مصر سنة (849 - 911 هـ) انظر: "حسن المحاضرة" 1/ 335. (¬4) "الإتقان" 1/ 88.

جـ- في كتب الفقه

مثال آخر في "النوع الأربعين" في معرفة "الأدوات" قال السيوطي: لكن مشددة النون، حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ومعناه الاستدراك، وفسر بأن تنسب لما بعدها حكمًا مخالفًا لحكم ما قبله، ولذلك لابد أن يتقدمها كلام مخالف لما بعدها أو مناقض له نحو: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]، وقد ترد للتوكيد مجردًا عن الاستدراك، قاله صاحب "البسيط" (¬1). جـ- في كتب الفقه: لم يقتصر أثر الواحدي فيمن بعده من خلال كتابه "البسيط" على المفسرين والمؤلفين في علوم القرآن، بل نجد بعض فقهاء الشافعية ينقلون من "البسيط" ويعتبرونه مصدرًا لهم، فهذا الإمام النووي (¬2) رحمه الله، في كتابه "المجموع شرح المهذب" -وهو من أكبر كتب الفقه الشافعي- ينقل كلام الواحدي وينص على "البسيط". يقول في مقدمة الكتاب وهو يشرح لفظ الذكر: قال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر الأديب الشافعي: أصل الذكر في اللغة: التنبه على الشيء، وإذا ذكرته فقد تنبهت عليه، ومن ذكرك شيئًا فقد نبهك عليه، وليس من لازمه أن يكون بعد نسيان. قال: ومعنى الذكر حضور المعنى في النفس، ويكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة بهما، وهو أفضل الذكر، ويليه ذكر القلب، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) "الإتقان" 1/ 224، "البسيط" 1/ ل 75، من النسخة الأزهرية (¬2) هو الإمام يحيى بن شرف النووي الشافعي، أبو زكريا، محيي الدين، علامة بالفقه والحديث. ولادته ووفاته (631 - 676 هـ) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 5/ 165، و"النجوم الزاهرة" 7/ 278. (¬3) "المجموع شرح المهذب" 1/ 74.

ذكر الواحدي هذا في "البسيط" عند تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] قال: أصل الذكر في اللغة التنبه على الشيء ومن ذكرك شيئا فقد نبهك عليه ... الخ (¬1). وفي موضع آخر ذكر النووي حكم التأمين بعد الفاتحة وقال: "قال أصحابنا: ويسن التأمين لكل من فرغ من الفاتحة، سواء كان في الصلاة أو خارجها، قال الواحدي: لكنه في الصلاة أشد استحبابًا (¬2). وفي موضع آخر قال: ذكر أصحابنا أو جماعة منهم: أن لا يصل لفظة آمين بقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بل بسكتة لطيفة جدًا ... وممن نص على استحباب هذه السكتة القاضي حسين في تعليقه، وأبو الحسن الواحدي في "البسيط" (¬3). وقد قرر هذه الأحكام الواحدي في "البسيط" في آخر تفسير الفاتحة. بهذا ندرك تلك المكانة العالية التي تبوأها الواحدي ومؤلفاته خصوصًا كتاب "البسيط" حتى أصبح مرجعًا لبعض علماء التفسير وعلوم القرآن، ينقلون أقواله في مجال التفسير، أو اللغة، أو علوم القرآن، أو الأحكام. ¬

_ (¬1) "البسيط" 1/ ل 97، من النسخة الأزهرية. (¬2) "المجموع شرح المهذب" 3/ 371. (¬3) "المجموع شرح المهذب" 3/ 373.

- الطحطاوي (¬1) في "حاشية المراقي" 2/ 256: بعد ما حكى الأقوال في آمين، قال: وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة فيها، ولو مد مع التشديد كان مخطئا في المذاهب الأربعة، وهو من لحن العوام. ولا تفسد به الصلاة عند الثاني لوجوده في القرآن وعليه الفتوى ... إلخ. وذكر صاحب "مغنى المحتاج" 1/ 155: قول الواحدي في آمين مع المد لغة ثالثة وهي الإمالة، وحكى التشديد مع القصر، أي قاصدين إليك وأنت أكرم أن لا تجيب من قصدك .. - نقل الشوكاني (¬2) في "نيل الأوطار" 1/ 393. اختلاف العلماء في تحديد الصلاة الوسطى، قال: القول الثاني: أنها الظهر، نقله الواحدي عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي، الفقيه الحنفي، توفي 1231 هـ، من تصانيفه: "الحواشي على الدر"، "شرح مراقي الفلاح". ينظر: ترجمته في "أعيان القرن الثالث عشر" ص 73، 74، "معجم الأدباء" 1/ 20، "الأعلام" 1/ 245. (¬2) محمد بن علي بن محمد الشوكاني ثم الصنعاني، الإمام المحدث، الفقيه، الأصولي، المفسر، المؤرخ ولد سنة 1173 هـ، وولي القضاء، توفي سنة 1250 هـ من مصنفاته: "إرشاد الفحول"، "فتح القدير" "السيل الجرار"، "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع".

د- ومن شراح الحديث

قال الصنعاني (¬1) في "سبل السلام" 1/ 193: قال الواحدي: إن كان الانتصار لأجل الدين فهو محمود وإن كان لأجل النفس فهو مباح لا يحمد عليه. د- ومن شراح الحديث: 1 - ابن حجر (¬2) في "فتح الباري": نقل العلامة ابن حجر عن الواحدي في مواضع من "فتح الباري" أحيانًا بالنص على أنه من تفسيره، وأحيانًا من غير نص. أ- قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": قوله "لو كنت متخذًا خليلًا" زاد في حديث أبي سعيد: غير ربي، وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا، وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي الخلة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد من الناس، وأما ما روي عن أبي بن كعب قال: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلا وقد أتخذ من أمته خليلًا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله ¬

_ (¬1) هو: محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني ثم الصنعاني، يعرف بالأمير، محدث، فقيه، أصولي، مجتهد من أئمة اليمن، ولد سنة 1059 بكحلان ثم انتقل إلى صنعاء، وأخذ عن علمائها ثم رحل إلى مكة وأخذ عن علمائها ثم المدينة وبرع في العلوم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد، توفي سنة 1182 هـ. من مصنفاته: "سبل السلام"، "تطهير الاعتقاد"، "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد". ينظر: "البدر الطالع" 2/ 133 - 139، "فهرس الفهارس" 1/ 287. (¬2) هو أحمد بن علي العسقلاني، الإمام الحافظ المحدث، له مصنفات عظيمة من أشهرها "فتح الباري" توفي سنة 852. ينظر: "شذرات الذهب" 7/ 27، "النجوم الزاهرة" 15/ 902.

2 - العيني في "عمدة القاري" 1/ 66 - 67.

أتخذني خليلًا" أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده (¬1)، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم كما قدمته أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" فإن ثبت حديث أبي أمكن أن يجمع بينهما، بأنه لما برئ من ذلك تواضعًا لربه وإعظامًا له، أذن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم لما رأى من تشوفه إليه، وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، أشار إلى ذلك المحب الطبري، وقد روي من حديث أبي أمامة نحو حديث أبي بن كعب دون التقييد بالخمس، أخرجه الواحدي في "تفسيره"، والخبران واهيان والله أعلم (¬2). 2 - العيني (¬3) في "عمدة القاري" 1/ 66 - 67. نقل في تفسير قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] عن الواحدي أنه قال: (أخبرنا محمد بن الحسن الحافظ، قال حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن صالح، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمد بن عباد بن ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح مسلم" 4/ 1855 كتاب "فضائل الصحابة". (¬2) "الفتح" 7/ 23، وانظر أيضًا "الفتح" 3/ 409، 5/ 35، 8/ 197. (¬3) هو العلامة بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى العيني، قاضي القضاة ولد في رمضان سنة (762) هـ. وتفقه بها ثم قدم حلب، وأخذ بها عن الجمال يوسف الملطي، ثم قدم القاهرة فأخذ عن مشايخها وبرع في الفنون، وولي حسبة القاهرة، ونظر الأحباس، وقضاء الحنفية، وله عدة مصنفات منها: "شرح البخاري"، "معاني الأخبار في أسامي رجال شرح معاني الآثار للطحاوي"، "شرح الشواهد الكبرى" ومختصره. وتوفي في ذي الحجة 855 هـ. ينظر: "نظم العقيان في أعيان الأعيان" للسيوطي 1/ 60، "إكمال الكمال" 6/ 371.

3 - السيوطي في "تنوير الحوالك" 1/ 59

جعفر المخزومي أنه سمع بعض العلماء يقول: كان أول ما أنزل الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1: 5] قال هذا صدر ما أنزل على رسول الله يوم حراء ثم أنزل آخرها ..). 3 - السيوطي (¬1) في "تنوير الحوالك" 1/ 59: قال: وأورد الواحدي في "أسباب النزول" هذا الحديث عند ذكر آية النساء ... 4 - المناوي (¬2) في "فيض القدير" 2/ 90: عندما تكلم على استقبال القبلة ونقل رأي النووي قال: قال الواحدي القبلة الوجهة وهي الفعلة من المقابلة وأصل القبلة لغة: الحالة التي يقابل الشخص غيره عليها لكنها الآن صارت كالعلم للجهة التي تستقبل في الصلاة، وقال الهروي: سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله. ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته. (¬2) هو: محمد بن عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي، القاهري، من كبار العلماء بالدين والفنون. انزوى للبحث والتصنيف، وكان قليل الطعام كثير السهر، فمرض وضعفت أطرافه، فجعل ولده تاج الدين محمد يستملي من تأليفه، ولد سنة 952 هـ وتوفي 1031 هـ من تصانيفه: "فيض القدير". ينظر: "الأعلام" 6/ 204، "معجم المؤلفين" 3/ 410.

المبحث التاسع النسخ المخطوطة الموجودة للبسيط التي تم التعرف عليها

المبحث التاسع النسخ المخطوطة الموجودة للبسيط التي تم التعرف عليها يوجد للبسيط عدد من النسخ المخطوطة في مكتبات العالم على أن انتشار نسخ البسيط لم تصل إلى كثرة انتشار "الوسيط" و"الوجيز" ولعل ذلك يرجع إلى طول الكتاب، وصعوبة مادته، ومن ثم صعوبة نسخه وتداوله، وهذه الإشارة إلى النسخ التي تم التعرف عليها وهي: 1 - نسخة محفوظة بالمكتبة الأزهرية بالقاهرة "رواق المغاربة" رقم (303) "تفسير". الموجود منها: الجزء الأول والثالث والرابع والخامس، والثاني مفقود. كتبت هذه النسخة سنة 636 هـ، خطها: جيد، مسطراتها: 29 سطرًا تقريبًا، وقفت هذه النسخة على طلبة العلم المجاورين برواق المغاربة، ونص الوصية بذلك مثبت على وجه كل جزء، ونصه: "وقف وحبس، وتصدق لوجه الله تعالى بجميع هذا الجزء من تفسير الإمام الواحدي، المكرم الأمير عبد الرحمن كتخدا على طلبة العلم المجاورين برواق المغاربة، تقبل الله صنيعه وشكر مسعاه {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، تحريرًا في الرابع والعشرين من رجب الفرد في شهور سنة 1176 هـ الفقير إلى الله أبو الحسن ابن عمر خادم العلم بالأزهر" وعلى هوامشها تعليقات من الكاتب، يصدر كل تعليق بـ قوله: "ش ك" أي شرح من الكتاب، وبالتتبع وجدت هذه التعليقات منقولة بنصها من "الكشاف" وقد أثبت أمثلة منها في هوامش الجزء المحقق. الجزء الأول: أول الكتاب إلى منتصف سورة "النساء" ويقع في

(248) لوحة في بعض أوراقه تآكل. لهذا الجزء صورة "ميكروفيلم" في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رقم (4048) أولها غير واضح والمقروء يبدأ من لوحة (19). الجزء الثاني: مفقود. الجزء الثالث: يبدأ من أول سورة "يونس" إلى آخر سورة "الأنبياء" يقع في (254) لوحة، به خرم من أثناء سورة "يونس"، بأوراقه تآكل من السوس، وبعض ترقيع أضاع قليلًا من الكلمات، له نسخة "ميكروفيلم" في جامعة الإمام تحت رقم (8049). الجزء الرابع: يبدأ من أول سورة "الحج" إلى آخر "الشورى" عدد أوراقه (252) لوحة بينما كتب على ظاهره (245) ورقة، سليم من التلف والسوس، سوى ما أصاب كعب التجليد، له صورة "ميكروفيلم" في جامعة الإمام رقم (8050). الجزء الخامس: من أول سورة "الزخرف" إلى آخر القرآن الكريم يقع (209) لوحة في آخره: "والله أعلم بالصواب هذا آخر الكتاب. ثم قال الشيخ المفسر -رحمه الله- في نسخته الأصل: وقد يسر الله تعالى وله الحمد لحسن توفيقه تحرير هذا الكتاب الذي لم يسبق إلى مثله في هذا الباب ... والحمد لله فوق حمد العارفين، وفوق شكر الواصفين وصلواته وتحياته على المبعوث بالبيان الساطع والبرهان اللامع والقرآن الكريم والكتاب الحكيم، محمد النبي وعلى أصحابه أجمعين آمين، يا رب العالمين، وذلك لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة والحمد لله". ونظرًا لكون هذِه النسخة من أتم النسخ وأوثقها وأوضحها وأقدمها تاريخًا اعتمدت عليها وجعلتها أصلًا ورمزت لها بالرمز (أ).

2 - نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (¬1) (53) تفسير، موجود منها ستة أجزاء تحتوي على أكثر القرآن، جميعها بخط عادي كتبها "محمد الشيمي" كتبت سنة (1270 هـ). الجزء الأول: من أول الكتاب إلى آخره سورة البقرة يقع في (304) لوحات. الجزء الثاني: من أول سورة "آل عمران" إلى قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89] يقع في (133) لوحة. الجزء الثالث: مفقود. الجزء الرابع: من سورة "يونس" إلى آخر سورة "النحل" يقع في (280) لوحة. الجزء الخامس: من سورة "الإسراء" وينتهي إلى آخر "الأنبياء" يقع في (243) لوحة. الجزء السادس: من أول سورة "الحج" إلى آخر سورة "السجدة" ويقع في (239) لوحة. الجزء السابع: من أول "الأحزاب" إلى آخر سورة "الشورى" ويقع في (159) لوحة. وبهذا الجزء ينتهي الموجود من هذه النسخة، ويوجد لها نسخة مصورة في معهد إحياء المخطوطات العربية في القاهرة تحت رقم (56 - 61) (¬2). وقد اعتمدنا على هذه النسخة ورمزنا لها بالرمز (جـ). 3 - الجزء الأول من نسخة محفوظة في الأوقاف بالأستانة رقم ¬

_ (¬1) انظر: "فهرس الكبخانة الخديوية" 1/ 133، 134، و"فهرس الكتب العربية الموجودة في دار الكتب" إلى سنة (1921 هـ) 1/ 35. (¬2) انظر: "فهرس المخطوطات المصورة بالمعهد" 1/ 24، 25.

(1571) له صورة في معهد إحياء المخطوطات العربية بالقاهرة رقم (62) (¬1). يقع هذا الجزء في (248) لوحة مسطرته (19) سطرًا تقريبًا، خطه جيد واضح، يقدر أنها كتبت في القرن الثامن. يبدأ من أول الكتاب، إلى قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} الآية [البقرة: 117] اعتمدنا على هذه النسخة ورمزنا لها بالحرف (ب) (¬2). 4 - جزء من نسخة مخروم الأول، وأول ما فيه من سورة "مريم" قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3] وينتهي إلى آخر سورة "الحج" مكتوب بقلم عادى يقع في (262) ورقة محفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (121) (¬3). 5 - الجزء الأول والثاني من نسخة محفوظة بالجامع الكبير بصنعاء. الجزء الأول: يقع في (413) ورقة مسطرته (24 - 16) تقريبًا، خطه قديم، مبتور أوله، سقط منه مقدمة الكتاب وسورة "الفاتحة" وأول البقرة. ¬

_ (¬1) انظر: "فهرس المخطوطات المصورة بالمعهد" 1/ 25. (¬2) في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية يوجد نسخة كتب عليها: "الجزء الأول من "البسيط" كتب سنة 565 رقم (1282) وتحت هذا العنوان مصورة في معهد المخطوطات برقم (63) انظر فهرس التيمورية 1/ 13، فهرس معهد المخطوطات بالقاهرة 1/ 25، تصفحت هذِه النسخة فتبين لي أنها ليست من "البسيط" وإنما هي "الجزء الأول من تفسير الثعلبي" اطلع على هذه النسخة صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" وقال: "اطلعت عليها فوجدت فيها اضطرابا في النسخ ... إلخ" ص 87. (¬3) انظر: "فهرس الكتبخانة الخديوية" 1/ 134، و"فهرس دار الكتب المصرية فهرس الكتب" إلى سنة 1921 م 1/ 35.

الموجود من وسط "البقرة" إلى أثناء سورة "النساء". محفوظ تحت رقم (51). الجزء الثاني: يقع في (448) ورقة، يبدأ من أول سورة "براءة" إلى سورة "الرعد" خطه قديم محفوظ تحت رقم (54) (¬1). 6 - الجزء الثاني والثالث من نسخة محفوظة في مكتبة "جستربتي" كتب عليهما: هذا كتاب "معاني التفسير" المسمى "البسيط"، خطهما جيد مشكول بعض كلماته. الجزء الثاني: يقع في (243) ورقة، يبدأ من أثناء سورة "النساء" وينتهي بأول سورة "يونس" كتب في آخره: "آخر الجزء الثاني من كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط تصنيف الإمام الواحدي والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ووافق الفراغ منه في يوم الخميس في آخر شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة، كتبه الضعيف الراجي المحتاج إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن الحسن القروني" مصور ميكروفيلم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت رقم (3731) وفي الفليم عدم وضوح في بعض الصفحات. الجزء الثالث: يقع في (237) ورقة، يبدأ من سورة "يونس" قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} الآية [يونس: 4] أول تفسير الآية في الجزء الثاني وآخرها في الجزء الثالث، له "ميكروفيلم" في جامعة الإمام محمد ¬

_ (¬1) انظر: "فهرس كتب الخزانة المتوكلية العامرة بالجامع الكبير في صنعاء" ص 13.

بن سعود الإسلامية تحت رقم (3736) وكتب عليه "الجزء الثاني". 7 - الجزء الثالث: من نسخة مصورة في جامعة الإمام تحت رقم (5105) تقع في (293) ورقة [31 س] كتب على الوجه الأول "الجزء الثالث من البسيط" تأليف أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي. سورة المائدة والأنعام والأعراف. سبعة أحزاب، وعليه عدة تملكات أكثرها غير واضح، وفي آخره: "تمت المجلدة الثالثة بحمد الله وجميل صنعه يتلوها في الرابعة إن شاء الله سورة "الأنفال" ذي الحجة لشهور سنة ست وستمائة هجرية، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين .. بقلم الفقير إلى الله عثمان بصليق الشافعي". 8 - الجزء السابع من نسخة قديمة، ويبدأ من أول سورة "الحج" إلى آخر سورة "القصص" فيه خرم وتلف كثير أضر بالكتاب ضررًا بالغًا، خطه نسخ معتاد، كتبه محمد بن عبد المحسن الأنصاري سنة (627 هـ) عدد أوراقه (237) ورقة، 19 س، محفوظ في دار الكتب الظاهرية تحت رقم (7023) (¬1). 9 - في فهرس نوادر المخطوطات العربية في تركيا ذكر الجزء الثاني من كتاب معاني التفسير، قال: لعله البسيط، في مكتبة اسكيليب رقم (1030) يبدأ من قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} الآية [البقرة: 127] إلى آخر البقرة. نسخ سنة (616 هـ) يقع في (226) ورقة، عليه قيد سماع سنة (617 هـ) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية" "علوم القرآن" ص 166. (¬2) "فهرس نوادر المخطوطات العربية في تركيا" 3/ 57.

المبحث العاشر منهج العمل في تحقيق "البسيط"

المبحث العاشر منهج العمل في تحقيق "البسيط" سار الباحثون في التحقيق حسب المنهج التالي: 1 - طريقة النص المختار من بين النسخ، لكون النسخ الموجودة لا ترقى واحدة منهن أن تكون أصلًا يعتمد عليه. 2 - ذكر الباحثون الفروق بين النسخ الخطية، عدا الألفاظ التي لا أثر للخلاف فيها، مثل: "تعالى" و"عز وجل". 3 - قابل الباحثون بين الكتاب ومصادره المهمة كتفسير الثعلبي و"معاني القرآن" للزجاج، و"الحجة للقراء السبعة" للفارسي. 4 - عزا الباحثون الآيات المستشهد بها إلى مواضعها من القرآن الكريم عقب ذكرها مباشرة، وجعلنا ذلك في الأصل بين معقوفتين للتسهيل والتقليل من حواشي الكتاب. 5 - وثق الباحثون القراءات من المصدر الأساسي للمؤلف وهو كتاب "السبعة" لابن مجاهد، وذكروا من قرأ بها إذا لم يكن المؤلف ذكر ذلك. 6 - لما كانت النسخ الخطية التي بين يدي الباحثين قد ذكر فيها التفسير سردًا دون أن تذكر الآية أو الآيات قبل تفسيرها على العادة الجارية في كتب التفسير، فإننا قد قمنا بكتابة الآيات قبل تفسيرها؛ وذلك لكونه أوضح في قراءة التفسير، وأجمع للآيات المفرقة لمن أراد مراجعتها. 7 - لقد أكثر الواحدي من النقل، بعزو وبغير عزو في الغالب، الأمر الذي حمل الباحثين على تتبع هذه النقول في مصادرها التي تعرفوا عليها، وأشاروا إلى الفروق الهامة في الهوامش، لما لذلك من الأهمية في توثيق

النص من مصدره، وبيان ما استغلق من الجمل والكلمات، والتعرف على طريقة الواحدي ومنهجه في التصرف في النص المنقول، وقد ترتب على ذلك تكرار أسماء بعض الكتب في الصفحة الواحدة، ولعل ما قصد الباحثون إليه من فائدة يساعد على تجاوز ما يلاحظ من تكرار. 8 - خرج الباحثون الأحاديث من مصادرها الأصلية، فإن كان في الصحيحين اكتفوا غالبًا بالإحالة عليهما، وإن كان في غيرهما ذكروا من خرجه، وأتبعوا بحكم الأئمة عليه صحة وضعفًا. 9 - خرج الباحثون آثار الصحابة والتابعين من أهم مصادر التفسير المسند، وإذا لم يجدوها في التفاسير المسندة عزوها إلى كتب التفسير الآخرى. 10 - شرحوا ألفاظ الواحدي الغريبة من أمهات كتب اللغة، وضبطوا من ألفاظه ما يحتاج إلى ضبط، حتى يسهل قراءتها. 11 - عرّفوا بالأعلام من العلماء والشعراء وغيرهم، ولم يستثنوا إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- والأئمة الأربعة. 12 - علقوا على المسائل العقائدية، والتفسيرية، والنحوية، واللغوية بما يلزم لإيضاح قول، أو بيان قوته، أو ضعفه، وحاولوا الإقلال من ذلك في مجال النحو واللغة -إلا ما لابد منه- حتى لا يثقل الكتاب بمسائل نحوية ولغوية زيادة على ما فيه. 13 - حرص الباحثون كثيرًا على ذكر المصادر في الهوامش حسب ترتيبها التاريخي سوى المصدر الذي يغلب على الظن أن الواحدي نقل عنه فيقدمونه، ولو كان ما بعده أسبق منه.

وبعد، فإننا نشكر المولى سبحانه وتعالى أن وفقنا لإتمام هذا العمل ونحن لا ندير لهذا العمل الكمال، وإن كنا نسعى إليه، فهذا متعذر في واقع البشر كما قال المزني: لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتابًا صحيحًا غير كتابه - على هذا الوجه، فله الحمد كله، وله الشكر كله، لا نحصي ثناء عليه إنه كما أثنى على نفسه، والحمد لله رب العالمين. * * *

نماذج من النسخ الخطية للكتاب

نماذج من النسخ الخطية للكتاب الصفحة الأولى من المجلد الخامس من النسخة الأزهرية

أول سورة يوسف من النسخة الأزهرية

الصفحة الأخيرة من الكتاب من النسخة الأزهرية

نهاية نسخة دار الكتب المصرية

عنوان النسخة اليمنية

بداية سورة التوبة من النسخة اليمنية

نهاية نسخة جستوبتي

بداية تفسير سورة المائدة من نسخة جامعة الإمام

صفحة من نسخة عاطف أفندي بتركيا

صفحة من نسخة شهيد علي

صفحة أخرى من نسخة شهيد علي

صفحة من نسخة جامعة استانبول

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي المتوفى سنة 468 هـ النص المحقق

مقدمة المُصنِّف

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) الحمد لله القادر، العليم الفاطر، الحكيم المتصف (¬2) بالعلم الشامل والطول الكامل، الذي أحصى كل شيء عددا، وأحاط بكل شيء علما، فلا يخفى عليه الشاهد والغيب، ولا يشوب (¬3) علمه الشك والريب، يعلم العلن والإسرار والجهر والإضمار، والمشكل والجلي، والبادي والخفي، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] ويعلم قول الحكل (¬4)، (لو أن ذرة ... تساود (¬5) أخرى لم يفته سوادها). فسبحانه من عالم لا بفكرة واجتهاد، وضمير فؤاد (¬6)، و (¬7) بصير لا بحدقة وسواد، وعزيز لا بعدة وعتاد، وقائل لا بلسان ولهاة، وصانع لا بآلة ¬

_ (¬1) في (ب): كلمة غير مقروءة بعد البسملة لعلها (هو حسبي). (¬2) (المتصف): مكانها بياض في (ج). (¬3) في (ب): (ولا يسري عليه). (¬4) في (ب): (الخطر). (الحكل): العجم من الطيور والبهائم، وقيل: ما لا نطق له كالنمل وغيره، انظر: "الصحاح" 4/ 1672، و"مجمل اللغة" 1/ 246 مادة (حكل). (¬5) في (ب): (مساود). والسواد: السرار، تقول: ساودته مساودة وسوادًا، أي: ساررته وأصله إدناء سوادك من سواده وهو الشخص. انظر: "الصحاح" (سود): 2/ 492، "مجمل اللغة" 2/ 477، "اللسان" (حكل): 4/ 2142. (¬6) في (ج): (وارد). (¬7) (الواو): ساقطة من (ب).

وأداة، ومريد (¬1) لا بتوطين نفس، ومتكلم لا بنغمة وجرس، ومدبر لا بمشاورة، ومقدر لا بمداورة، تعالى عن الأنداد والأشكال والأشباه والأمثال، واستحق (¬2) أوصاف الكمال، واستأثر (¬3) بنعوت الجلال (¬4). بعث في الأميين رسولًا من أوسطهم نسبًا، وأشرفهم حسبًا، وأحسنهم أدبًا، وأشهرهم أمًّا وأبًا، يتلو عليهم آياته، ويعارض أباطيلهم ببيناته، حتى انكشطت غشاوة الشك عن وجه اليقين، وتفرَّت دياجي الكفر عن عمود الدين، أنزل عليه نورًا مبينًا، ووحيًا مستبينًا، أنقذ به من الضلالة، وهدى به من حيرة الجهالة، والناس على شرف بوار (¬5)، والخلق على شفا نار (¬6)، وجعله قرآنًا عربيًا فرفع به من شأن لغتهم، وأزرى (¬7) نظمه (¬8) بنظومهم وبلاغتهم، ولما تحداهم عجزوا عن معارضته (¬9)، وهم لُدّ (¬10) بلغاء، وقصروا ¬

_ (¬1) في (ب): (موتد). (¬2) (استحق): بياض في (ج). (¬3) (استأثر): غير واضح في (ب). (¬4) ما ذكره عن نفي مشابهة الله لخلقه صحيح، لكن ليس من منهج السلف تكلف مثل هذِه العبارات في النفي. قال ابن تيمية: (الله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل .. إلخ). "التدمرية" ص 8. (¬5) البوار: الهلاك. انظر: "تهذيب اللغة": (بار): 1/ 254، "الصحاح" 2/ 589. (¬6) (نار): غير واضحة في (ب). (¬7) أزرى بالشيء: حقّره وهوّنه واستخفَّ به. انظر: اللسان (زرى): 14/ 356 (ط دار صادر). (¬8) قوله (أزرى نظمه): غير واضح في (ب). (¬9) قوله (معارضته): عليها طمس في (ب). (¬10) في "تهذيب اللغة": الألد: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه، يقال: رجل ألدّ، وامرأة لدّاء، وقوم لُدّ. "التهذيب" (لَدَّ) 4/ 3254، وانظر: "اللسان" 7/ 4020.

عن الإتيان بمثله وهم لسن (¬1) فصحاء، فبهرت معجزته، وظهرت دلالته صلى الله عليه وعلى آله صلاة تنمو أبدًا، وتتصل مددًا ما تناوب (¬2) الصباح والمساء، وانطبق على الأرض السماء. وبعد: فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أعلق لمعاني (¬3) إعراب القرآن وتفسيره: فِقَرًا (¬4) في الكشف عن غوامض معانيه، ونُكتًا (¬5) في الإشارة إلى علل القراءات فيه، في ورقات يصغر حجمها ويكثر غنمها، والأيام تمطلني بصروفها على اختلاف صنوفها، إلى أن شدد علي خناق التقاضي قوم لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قرونتي (¬6) بعد الإباء، وذلت ¬

_ (¬1) في (ب): (ليس). (¬2) في (أ)، (ج): (وتتناوب)، وأثبت ما في (ب): لأنه أصح في السياق. (¬3) في (ب): (معاني)، وفي (أ): مطموسة. (¬4) في (ب): (وفِقْرًا): بزيادة واو مع سكون القاف. في "تهذيب اللغة" (الفقر: خرزات الظهر، الواحدة فقرة 3/ 3 فقر)، وفي "الصحاح" (أجود بيت في القصيدة يسمى فقرة تشبيها بفقرة الظهر)، 2/ 782، وفي "اللسان": الفقرة: العلم من جبل أو هدف ونحوه، 6/ 3447، وفي "المعجم الوسيط": الفقرة: جملة من كلام، أو جزء من موضوع، أو شطر من بيت شعر، 2/ 697. (¬5) النكتة: كالنقطة، وهي شبه وقرة في العين وشبه وسخ في المرآة، ونكتة سوداء في شيء صاف، انظر: "تهذيب اللغة" (نكت): 4/ 3658، "الصحاح" 1/ 269، "اللسان" 2/ 100، قال في "المعجم الوسيط": النكتة: المسألة العلمية الدقيقة يتوصل إليها بدقة وإنعام فكر، 2/ 959. (¬6) في (ب): (عروسى) بدون نقط. (القرونة) النفس، في "الصحاح" يقال: أسمحت قرينه وقرونه وقرونته وقرينته، أي: ذلت نفسه وتابعته على الأمر. "الصحاح" (قرن) 6/ 2182، وانظر: "اللسان" 6/ 3612.

صعوبتي بعد النفرة (¬1) والالتواء (¬2)، وذلك لتوفر دواعي أهل زماننا على الجهل، وظهور رغباتهم عن العلم، الذي فيه شرف الدين والدنيا، وعز الآخرة والأولى، فقل من ترى (¬3) من المتحلين بعقوده وقلائده، ومنتحلي غرره وفوائده (إلا متشبعًا (¬4)، كلابس ثوبي زور) (¬5)، يبرق، وبروقه غير صادقة، ويرعد وسماؤه غير وادقة، اللهم إلا نفرًا يقل عددهم عند الإحصاء، وتكثر فضائلهم على الحصر والاستقصاء، غير أنهم الأكثرون وإن قلوا، ومواضع الأنس (¬6) حيث حلوا؛ لأن العلم وإن أصبح في الناس مجفوًّا (¬7)، وأظهروا عنه نفرة ونُبوًّا (¬8)، ¬

_ (¬1) (النفرة): فيها طمس في (أ). (¬2) في (ج): (والأرتاء). (¬3) في (ب): (نرى): بالنون. (¬4) المتشبع: المتزين بأكثر مما عنده بالباطل، كالذي يظهر أنه شبعان وليس كذلك. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 346، "الصحاح" (شبع) 3/ 1234، "اللسان" 4/ 2187. (¬5) ورد نحوه في حديث، أخرج البخاري بسنده عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (5219) كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل. وأخرجه مسلم (2129) كتاب اللباس عن عائشة، و (2130) في أسماء بنحوه. وأخرجه أحمد في "المسند" عن عائشة وعن أسماء 6/ 167، 345، 353. وأبو داود عن أسماء (4997) كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعط. والترمذي عن جابر بلفظ آخر. (2034) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه. (¬6) في (ب): (الالبنن). (¬7) (مجفوا): فيها طمس في (أ)، ومكانها بياض في (ج). (¬8) في (ج): (بتوا)، وفي (ب): غير منقوطة. يقال: نبا بصره نبوا: كلَّ، ونبا السهم عن الهدف: قصر. "القاموس" (نبا) ص 1336.

فحرمته لا تضاع (¬1)، وسوامه (¬2) لا تراع، ولن يخلو (¬3) الشيء الفاضل (¬4) في جنسه عن (¬5) عزته في نفسه، وإن قل من يعتامه (¬6) وعز من يطلبه ويستامه. هؤلاء شكوا إليَّ: غلظ حجم المصنفات في التفسير، وإن الواحدة منها تستغرق (¬7) العمر كتابتها، ويستنزف الروح سماعها وقراءتها، ثم صاحبها بعد أن أنفق العمر على تحصيلها، ليس يحظى منها بطائل تعظم عائدته، وتعود عليه فائدته. فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب فإنهما عمدتاه، وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب (¬8) فيما تحويه (¬9) من الاستعارات الباهرة، والأمثال النادرة، والتشبيهات (¬10) البديعة، والملاحن (¬11) الغريبة، والدلالة باللفظ اليسير على المعنى الكثير، مما لا يوجد مثله في سائر اللغات. ¬

_ (¬1) لا تضاع. الضياع: الإهمال، ضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعا: هلك. انظر: "الصحاح" (ضيع): 3/ 1252، "اللسان" 5/ 2625. (¬2) السوام: كل ما رعى من المال في الفلوات إذا خلي يرعى حيث شاء. "اللسان" (سوم): 12/ 311، "القاموس" ص 1124. (¬3) في (ج): (يحسو). (¬4) (الفاضل): ساقط من (ج). (¬5) في (ج): (من). (¬6) في (ب): (يقبانه). (اعتام يعتام) إذا اختار وأخذ. انظر: "اللسان" (عيم): 5/ 3195، "القاموس" ص 1142. (¬7) في (ب): (يستغرق). (¬8) في (ب): (العزب). (¬9) في (أ): (يحويه)، في (ب)، (ج): غير منقوطة. (¬10) في (ب): (التشبهات). (¬11) يدخل تحت قوله (الملاحن) بعض أنواع البلاغة كالكناية والتعريض، واللحن: صرف الكلام عن التصريح إلى التعريض لغرض صحيح، يقول الراغب الأصفهاني:=

وقد أعفى أهل زماننا أنفسهم عن كد التعب في طلب الأدب، فقد هوت (¬1) دولته إلى الحضيض، وصار يرنو (¬2) بالطرف الغضيض، وها هو قد خوى (¬3) نجمه وصَوَّح (¬4) نبته، وذوى (¬5) عوده، وخرَّ عموده (¬6). وإذا ضاع الأدب ضاع ما يحتاج في تفسيره إليه، ويعول في معرفته عليه، وهو علم (¬7) القرآن العربي، المنزل بلسان العرب ولغتهم، المنظوم بألفاظهم في مخاطبتهم. والله تعالى ذكره أنزل كتابه (¬8) (على قوم عرب أولي (¬9) بيان فاضل، وفهم بارع. ¬

_ = (اللحن: صرف الكلام عن سننه الجاري عليه، إما بإزالة الإعراب، أو التصحيف وهو المذموم، وذلك أكثر استعمالا. وإما بإزالته عن التصريح، وصرفه بمعناه إلى التعريض، ونحوه، وهو محمود عند أكثر الأدباء من حيث البلاغة ... وإياها قصد بقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]). "مفردات الراغب" ص 449، انظر: "اللسان" (لحن) 7/ 4013. (¬1) في (ج): (موت). (¬2) في (ج): (يرانق). رنا يرنو رنوا: إذا أدام النظر. انظر: "الصحاح" (رنا) 6/ 2363، وانظر: "مجمل اللغة" 2/ 400، "اللسان" 3/ 1747. (¬3) في (ب): (جوى). (¬4) رسمت في (أ): (تصوح) ثم صوبت في الهامش بـ (صوح)، وفي (ب): (صوح)، وفي (ج): (تصوح). قال في "اللسان" تصوح البقل وصوح: تم ينبسه. "اللسان" (صوح) 4/ 2521، وانظر: "القاموس" ص 230. (¬5) في (ب): (دوى). (¬6) (وخر عموده): ساقط من (ج). (¬7) في (ب): (وهو في علم القرآن). (¬8) الكلام من هنا منقول من مقدمة "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 27 - 28. (¬9) في (ب)، (ج): (أولى)، وفي (أ): فيها طمس وكأنها (أولو).

أنزله جل ذكره بلسانهم، وصيغة (¬1) كلامهم الذي نشؤوا (¬2) عليه، وجبلوا على النطق به فتدربوا (¬3) به، يعرفون وجوه خطابه ويفهمون فنون نظامه، ولا يحتاجون إلى تعلم مشكله وغريب ألفاظه حاجة المولدين الناشئين مع من لا يعلم لسان العرب حتى يعلمه، ولا يفهم ضروبه وأمثاله وأساسه (¬4) وطرقه حتى يفهمها. وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - للمخاطبين من أصحابه رضي الله عنهم (¬5) - ما عسى (¬6) بهم الحاجة [إليه] (¬7) من معرفة (¬8) بيان مجمل الكتاب وغامضه ومتشابهه وجميع وجوهه، التي لا غنى بهم وبالأمة عنه. فاستغنوا بذلك عما نحن إليه اليوم (¬9) محتاجون من معرفة لغات العرب واختلافها والتبحر فيها، والاجتهاد في تعلم وجوه العربية الصحيحة التي بها نزل الكتاب وورد البيان. فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب، ثم السنن المبينة لمجمل التنزيل، الموضحة للتأويل؛ لتنتفي عنا الشبه ¬

_ (¬1) في (ب): (وضعة). (¬2) في "تهذيب اللغة" (نشئوا) 1/ 27. (¬3) في (ب): (فتدر توابه). (¬4) في "التهذيب" (وأساليبه) 1/ 28. (¬5) (عنهم): ساقط من (ج). (¬6) في (أ): (أما عسر بهم الحاجة)، وفي (ب): (ما عسر)، وفي (ج): (أما عسى بهم) وفي "تهذيب اللغة" (وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - للمخاطبين من أصحابه رضي الله عنهم ما عسى الحاجة إليه من معرفة بيان لمجمل الكتاب وغامضه .. وفي "حاشية التهذيب" في (م) (ما عسى الحاجة به إليه) 1/ 4. (¬7) (إليه): إضافة من "تهذيب اللغة" لضرورتها لصحة السياق. (¬8) (معرفة): غير واضح في (ب). (¬9) (اليوم): غير موجود في مقدمة "التهذيب" 1/ 28.

التي دخلت على كثير من رؤساء أهل الزيغ والإلحاد، ثم على رؤوس ذوي الأهواء والبدع، الذين تأولوا بآرائهم المدخولة فأخطؤوا (¬1)، وتكلموا في كتاب الله عز وجل بلكنتهم العجمية دون معرفة ثاقبة، فضلوا وأضلوا، نعوذ بالله (¬2) من الخذلان، وإياه نسأل التوفيق والصواب (¬3) (¬4). وقد كان الأكابر من السلف يحثون على تعلم لغة العرب، ويرغبون فيها لما يعلمون من (¬5) فضلها وفرط الحاجة إليها (في معرفة ما في الكتاب، ثم في (¬6) السنن والآثار، وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين، من الألفاظ الغريبة والمخاطبات العربية (¬7)، فإن من جهل لسان (¬8) العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها، وجهل جمل (¬9) علم الكتاب) (¬10). ولقد أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (¬11) رحمه الله قال: أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن (¬12)، ¬

_ (¬1) (فأخطأوا): ساقط من (ب). (¬2) (نعوذ بالله). ساقط من (ج). (¬3) في (ج): (التوفيق للصواب). (¬4) انتهى من مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 27 - 28. (¬5) (من): ساقط من (ج). (¬6) (في): ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (العربية). (¬8) في "تهذيب اللغة" (جهل سعة لسان العرب) 1/ 29. (¬9) في (ب): (حمل). (¬10) بنصه من مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 29. (¬11) هو الثعلبي، سبقت ترجمته مع شيوخه. (¬12) هو أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب بن أيوب النيسابوري، المفسر إمام في معاني القرآن، وكان أديبًا، عارفا بالمغاري، سمع عن جماعة منهم =

ثنا (¬1) أبو الحسن أحمد بن الخضر بن أبان (¬2)، ثنا أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف (¬3) ثنا نصر بن علي الجهضمي (¬4)، ثنا عامر بن أبي عامر (¬5)، ثنا أيوب ¬

_ = الأصم، صنف القراءات والتفسير والآداب، قال الذهبي: تكلم فيه الحاكم، مات سنة ست وأربعمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 17/ 237، "العبر" 2/ 212، "طبقات المفسرين" للداوادي 1/ 144، و"تفسير السيوطي" ص 35. (¬1) (ثنا): ساقط من (ج): في جميع السند. (¬2) هو الحافظ أبو الحسن أحمد بن الخضر بن أحمد النيسابوري الشافعي، مات سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. انظر: "طبقات الشافعية" 3/ 14، "سير أعلام النبلاء" 15/ 501. (¬3) الإمام الحافظ أبو عمرو أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخفاف، سمع عن جماعة منهم إسحاق بن راهويه وعمرو بن زرارة، وحدث عن جماعة، اشتهر بالحفظ، كانت وفاته في شعبان سنة تسع وتسعين ومائتين من أبناء الثمانين. انظر: "سير أعلام النبلاء" 13/ 560 - 563، "تذكرة الحفاظ" 2/ 654 - 656، "البداية والنهاية" 11/ 117. (¬4) نصر بن علي بن نصر بن علي بن صبهان الأزدي الجهضمي. أبو عمرو البصري، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه فقال: ما به بأس، ورضيه، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن نصر، فقال: ثقة. مات سنة خمسين ومائتين في ربيع الآخر، وعليه الأكثر، وقيل سنة إحدى وخمسين. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 466، "تاريخ بغداد" 13/ 287، "سير أعلام النبلاء" 12/ 133، "تذكرة الحفاظ" 2/ 519، "تهذيب التهذيب" 4/ 219. (¬5) عامر بن أبي عامر: هو عامر بن صالح بن رستم المزني، مولاهم ابن أبي عامر الخزاز، قال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: في حديثه بعض النكرة، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: ليس به بأس. قال العقيلي: لا يتابع على حديثه عن أيوب بن موسى. انظر: "الميزان" 3/ 74 (4082)، "تهذيب التهذيب" 2/ 266.

ابن موسى القرشي (¬1)، عن أبيه (¬2)، عن جده (¬3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نحل والد ولده نحلة (¬4) أفضل من أدب حسن" (¬5). ¬

_ (¬1) أيوب بن موسى: هو أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي، روى عن جماعة، منهم جده سعيد بن العاص ولم يدركه، وعن أبيه موسى بن عمرو ابن سعيد، ثقة. انظر: "تهذيب الكمال" 3/ 494، "معرفة الثقات" للحجلي 1/ 241، "تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين ص 31، "ذكر أسماء التابعين" للذهبي 1/ 68. (¬2) أبوه: موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي المكي، روى عن أبيه، وروى عنه ابنه أيوب. انظر. "الجرح والتعديل" 8/ 155، "تهذيب التهذيب" 4/ 185. (¬3) عن جده: قال ابن حجر: يحتمل أن يعود ضمير الجد على أيوب، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يعود على موسى، فيكون من مسند سعيد بن العاص، والحديث مع ذلك مرسل. انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 27. - عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميه المدني المعروف بـ (الأشدق): وهو الأصغر و (عمرو بن سعيد بن العاص) الأكبر صحابي وزعم بعضهم أن له رؤية، والصحيح أنه ليس له رؤية، قتله عبد الملك بن مروان، بعد أن طلب الخلافة سنة تسع وستين، وقيل: سبعين. انظر. "الطبقات الكبرى" لابن سعد 5/ 237، "تهذيب التهذيب" 3/ 272. - وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، قتل أبوه يوم بدر كافرا قال ابن سعد: قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسعيد ابن تسع سنين، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وعن عمر وعثمان وعائشة وعنه ابناه عمرو ويحيى وغيرهم، مات بالمدينة، ودفن بالبقيع سنة (58 هـ) وقيل: (57 هـ)، وقيل: (59 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 5/ 30 - 35، "تهذيب التهذيب" 2/ 27. (¬4) نحل: أعطى والنحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. انظر: "اللسان" (نحل) 7/ 4369. (¬5) أخرجه الترمذي بنحوه (1952) كتاب البر، باب ما جاء في أدب الولد من طريق نصر بن علي، عن عامر بن أبي عامر الخزاز، وقال. هذا حديث غريب لا نعرفه إلا =

وروي عن سعيد بن المسيب (¬1) أنه قال: بينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر، فقال: يا أيها الناس: ما تقولون في قول الله عز وجل: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]؟ فسكت الناس، فقام شيخ فقال: يا أمير المؤمنين: هذِه لغتنا بني هذيل، التخوف: التنقص، قال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي (¬2) يصف ناقة: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا صُلْبًا ... كما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (¬3) ¬

_ = من حديث عامر بن أبي عامر الخزاز، وأيوب بن موسى: هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص، وهذا عندي حديث مرسل. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأدب وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي وقال: بل مرسل ضعيف، ففي إسناده عامر بن صالح الخزاز: واهٍ. "المستدرك" 4/ 263، وسبق كلام ابن حجر حيث قال: إنه مرسل. انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 27. (¬1) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ، القرشي المخزومي، تابعي مشهور، اشتهر بالعلم والزهد والورع، روى عن جمع من الصحابة، وروى عنه جمع منهم الزهري وقتادة، وثقه الأئمة كأحمد وابن أبي حاتم، وتكلموا في سماعه من عمر، توفي سنة أربع وتسعين، وقيل: غير ذلك. انظر: "طبقات ابن سعد" 9/ 115 - 143، "تهذيب التهذيب" 2/ 43 - 45. (¬2) هو عامر بن الحليس، من بني سهل بن هذيل، شاعر جاهلي، وقيل: أدرك الإسلام امتاز شعره بالحكم وقوة السبك. انظر: "الشعر والشعراء" 446 - 448، "الإصابة" 4/ 165، "الخزانة" 8/ 209. (¬3) (التخوف) التنقص شيئًا فشيئًا، و (التامك) السنام المرتفع، و (النبعة) واحدة النجع وهو شجر تتخذ منه القسي، و (السفن) مبرد الحديد الذي ينحت به الخشب. يقول: تنقص رحلها سنامها المرتفع، كما تنقص المبرد عود النبع. واختلف في نسبة البيت، فنسبه بعضهم لأبي كبير كما عند الواحدي هنا، ونسبه الأزهري لابن مقبل، ونسبه الجوهري لذي الرمة، ونسبه بعضهم لزهير، وقيل: لعبد الله بن عجلان، وقيل: لابن مزاحم الثمالي. =

فقال عمر رضي الله عنه: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم (¬1). وفيما كتب إلى محمد بن عبد العزيز المروزي (¬2) بخط يده، أن محمد بن الحسين الحدادي (¬3) أخبرهم عن محمد بن (¬4) يحيى (¬5)، قال: ¬

_ = ورد البيت في "تفسير الطبري"، 14/ 113، "تهذيب اللغة" (خاف) 1/ 966، (سفن) 2/ 1708، "الصحاح" (خوف) 4/ 1359، "أمالي القالي" 2/ 112، "الكشاف" 2/ 411، "تفسير القرطبي" 10/ 110، "تفسير الرازي" 20/ 39، "اللسان" (خوف) 3/ 1292، (سفن) 4/ 2032، "مشاهد الإنصاف شرح شواهد الكشاف" ص 130. (¬1) في حاشية نسخة (أ) قال الكاتب: أخذ الواحدي الحكاية من تفسير شيخه الثعلبي من سورة النحل. وقد ذكر هذه الحكاية عدد من المفسرين. انظر: "الكشاف" 2/ 411، "تفسير الرازي" 20/ 39، "تفسير القرطبي" 10/ 110. (¬2) لم أصل إلى شيخ الواحدي محمد بن عبد العزيز المروزي. (¬3) في جميع النسخ محمد بن الحسن، والصحيح: محمد بن الحسين كما جاء في "أسباب النزول" للواحدي ص 23 وهو محمد بن الحسين بن محمد بن مهران المروري الحدادي، أبو الفضل و (الحدادي) نسبة إلى عمل الحديد، قال عنه الحاكم: كان شيخ أهل مرو في الحديث والفقه والتصوف والفتيا، مات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. انظر. "الأنساب" 4/ 80، "سير أعلام النبلاء" 16/ 470، "المشتبه" 1/ 144، "اللباب" 1/ 346. (¬4) (بن): ساقط من (جـ). (¬5) لم أعرف من المراد، فنهاك محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري الذهلي شيخ البخاري، فإنه روى عن إسحاق بن راهويه، توفي سنة سبع وخمسين ومائتين. انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 415، "تهذيب الكمال" 26/ 617 (5686)، "تهذيب التهذيب" 3/ 728. ومحمد بن يحيى بن خالد، أبو يحيى، المروزي، المعروف بالشعراني، قدم نيسابور وحدث ببغداد عن إسحاق بن راهويه، ذكره في "تهذيب الكمال" للتمييز، وليس من =

أبنا (¬1) إسحاق ابن إبراهيم الحنظلي (¬2)، أبنا (¬3) وكيع (¬4)، عن أسامة ابن ¬

_ = رجال الستة، ولم يذكر أحد تاريخ وفاته. انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 424، "تهذيب الكمال" 26/ 633، "تهذيب التهذيب" 3/ 730. وقد ورد هذا السند في "أسباب النزول" ص 143 قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز، أن محمد بن الحسين أخبرهم، عن محمد بن يحيى بن يزيد، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم. ولم أجد محمد بن يحيى بن يزيد، ولم يذكر ممن روى عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه. (¬1) (أبنا) ساقط من (جـ)، وفي (ب): (أنا) وهذا الصواب في رمز (أخبرنا): وبعضهم استعمل (أبنا): ولم يستحسنه المحدثون. انظر: "تدريب الراوي" 2/ 87. (¬2) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي، المعروف بابن راهويه المروزي، أحد الأئمة، روى عن ابن المبارك وابن عيينة وابن علية، وجرير وعبد الرزاق وغيرهم، روى عنه بقية بن الوليد، ويحيى بن آدم، وعنه الجماعة سوى ابن ماجه، وثقه الأئمة، قال أبو حاتم: مثل إسحاق يسأل عنه! إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، ولد سنة 161، وقيل 166 هـ، ومات سنة 238 هـ وقيل: 237 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 345، "الجرح والتعديل" 2/ 209، "ميزان الاعتدال" 1/ 182 - 183، "تهذيب التهذيب" 1/ 112، "حلية الأولياء" 9/ 234. (¬3) في (ج): (ثنا)، وفي (ب): (أنا). (¬4) وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، الكوفي الحافظ، أحد الأئمة الأعلام روى عن أبيه، هشام بن عروة، والأعمش، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، وأسامة بن زيد الليثي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وخلق كثير، روى عنه أبناؤه، وشيخه سفيان، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وغيرهم، قال أحمد: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم منه، ولا أشبه بأهل النسك منه، قال ابن المديني: كان وكيع يلحن، وقال: كان فيه تشيع قليل، مات سنة ست وتسعين ومائة. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 37 - 39، "تهذيب التهذيب" 4/ 311، "ميزان الاعتدال" 6/ 9 - 10.

زيد (¬1)، عن عكرمة (¬2)، عن ابن عباس قاد: إذا قرأ (¬3) أحدكم شيئًا من القرآن فلم يدر ما تفسيره، فليلتمسه في الشعر، فإنه ديوان العرب (¬4). وبهذا الإسناد (¬5)، وعن إسحاق (¬6)، أبنا (¬7) وهب بن جرير (¬8)، ¬

_ (¬1) أسامة بن زيد الليثي مولاهم، المدني، روى عن أبان بن صالح، وأبيه، وسعيد المقبري، وسعيد بن المسيب، وابن كيسان، وجماعه كثير، وروى عنه الثوري، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، وغيرهم، عن أحمد: ليس بشيء، وعن يحيى بن معين: ثقة صالح، وضعفه يحيى بن سعيد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي. ليس بالقوي. انظر: "تهذيب الكمال" 2/ 347 - 350، "تهذيب التهذيب" 1/ 108، "الجرح والتعديل" 2/ 284 - 285. (¬2) أبو عبد الله، عِكْرِمة بن عبد الله البربري، ثم المدني، الهاشمي بالولاء، مولى ابن عباس. أحد أوعية العلم، تكلم فيه لرأيه لا لحفظه، فاتهم برأي الخوارج، وقد وثقه جماعة، واعتمده البخاري، وأما مسلم فتجنبه، وروى له مقرونًا بغيره، روى عن مولاه وعائشة وأبي هريرة، وغيرهم، وأفتى في حياة ابن عباس، قال عنه ابن حجر: (ثقة ثبت عالم بالتفسير): توفي بالمدينة سنة خمس ومائة، وقيل: ست، وقيل: سبع. انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 13 - 17، "تهذيب التهذيب" 3/ 134 - 138. انظر: "صفة الصفوة" 2/ 73، "تذكرة الحفاظ" 1/ 95. (¬3) في (ب): (قرئ). (¬4) ذكره ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 62، والزركشي في البرهان" 1/ 293، والسيوطي في "الإتقان" 2/ 67، "المزهر" 2/ 302. (¬5) أي: الإسناد السابق محمد بن عبد العرير المروزي أن محمد بن الحسين الحدادي أخبرهم عن محمد بن يحيى، عن إسحاق. (¬6) ابن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه. (¬7) في (ب). (أنا)، وفي (ج): (ابن). (¬8) في (ب): (حرند). وهب بن جرير بن حازم بن زيد، أو ابن يزيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي بصري، حافظ، روى عن أبيه، وعكرمة، وشعبة، وغيرهم وعنه أحمد بن =

ثنا (¬1) أبي (¬2) قال: سمعت الزبير بن خريت (¬3)، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يسأل عن الشيء من عربية القرآن فينشد الشعر (¬4). سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحيري (¬5)، سمعت القاضي أبا ¬

_ = حنبل، وابن المديني، وابن معين، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: بصري ثقة، كان عفان يتكلم فيه، وقال النسائي: ليس به بأس. مات سنة ست ومائتين. انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 350، "الجرح والتعديل" 9/ 28، "تهذيب التهذيب" 4/ 329. (¬1) في (ج): (ابن). (¬2) أبوه جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي البصري، عده بعضهم من صغار التابعين، روى عن الحسن، وابن سيرين، وأبي الطفيل ورجاء العطاردي، وقتادة، وغيرهم. وعنه ابنه وهب، وابن المبارك، وغيرهم، عن ابن معين: ثقة، وعنه: ليس به بأس، وقال العجلي: ثقة، النسائي: ليس به بأس، أبو حاتم: صدوق صالح، ابن عدي: مستقيم الحديث صالح إلا روايته عن قتادة، أحمد: كثير الغلط، البخاري: ربما يهم في الشيء. مات سنة (175 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 504 - 505، "تهذيب التهذيب" 1/ 294 - 296، "ميزان الاعتدال" 1/ 392 - 393. (¬3) في (ب): (خزثت). الزبير بن الخريت البصري، روى عن نعيم بن أبي هند، وعكرمة، وغيرهم، وعنه جرير بن حازم، وغيره، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وله في مسلم حديث واحد. انظر: "تهذيب التهذيب" 1/ 624، "الجرح والتعديل" 3/ 581. (¬4) أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": كان ابن عباس إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد شعرًا من أشعارهم. كتاب الأدب، الرخصة في الشعر 5/ 278 (26040)، وكتاب فضائل القرآن، وما فسر بالشعر من القرآن 6/ 123 (29974)، وذكره الرازي في "الزينة" 1/ 127 عن أبي عبيدة، عن ابن عباس، والسيوطي في "الإتقان" 2/ 67 من طريق أبي عبيد. وأخرج نحوه ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 62. (¬5) في جميع النسخ (الجيري): بالمعجمة والصحيح الحيري بالحاء المهملة، سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.

الحسن علي بن القاسم (¬1)، وأبا إسحاق إبراهيم بن الحسن بن بشر (¬2)، وأبا القاسم جعفر بن عبد الله الفناكي (¬3)، الرازيين بالري، قالوا: سمعنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (¬4) قال: أخبرني أبي (¬5)، ثنا (¬6) حرملة بن ¬

_ (¬1) هو القاضي علي بن القاسم بن العباس بن الفضل بن شاذان، أبو الحسن، القاضي، الرازي، سمع عبد الرحمن بن أبي حاتم، وغيره، توفي بالري في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. نقل الخطيب عن العتيقي: توثيقه. "تاريخ بغداد" 12/ 53. (¬2) لم أصل إليه. (¬3) في (ب): (العتاكي). هو أبو القاسم جعفر بن عبد الله بن يعقوب بن الفناكي الرازي، سمع من عبد الرحمن بن أبي حاتم، موصوف بالعدالة وحسن الديانة، روى عنه هبة الله اللالكائي، وغيره، توفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 430، 431، "العبر" 2/ 163. (¬4) هو الإمام الحافظ ابن الإمام الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، يكنى أبا محمد، ولد سنة أربعين ومائتين، أو إحدى وأربعين، سمع من أبيه، وأبي سعيد الأشج، وأبي زرعة، وجماعة كثيرين، روى عنه ابن عدي، وأبو الشيخ ابن حيان، وأبو أحمد الحاكم، له كتاب "الجرح والتعديل" أثنى عليه العلماء، توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري. انظر: "سير أعلام النبلاء" 13/ 263 - 269، "تذكرة الحفاظ" 3/ 829 - 832، "الميزان" 3/ 301 - 302، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 285 - 287. (¬5) الإمام الحافظ الناقد شيخ المحدثين، أبو حاتم الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني، كان من بحور العلم، برع في المتن والإسناد، "ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وهو من طبقة البخاري، سمع عبيد الله بن موسى، والأصمعي، وأبا نعيم، وخلقًا كثيرًا، روى عنه ابنه عبد الرحمن، وإبراهيم الحربي، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، مات في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين. انظر: "تاريخ بغداد" 2/ 73 - 77، "الجرح والتعديل" 1/ 349 - 368، "سير أعلام النبلاء" 13/ 247 - 262. (¬6) (ثنا): ساقط من (ج).

يحيى (¬1)، قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: أصحاب العربية جن الإنس. وسمعته (¬2) يقول: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب (¬3)، يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى النحوي (¬4) قال: قال عبد الملك بن مروان (¬5): تعلموا العربية فإنها المروءة الظاهرة (¬6). ¬

_ (¬1) هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي، أبو حفص المصري، صاحب الإمام الشافعي، روى عن الشافعي وابن وهب وغيرهم، وروى عنه مسلم، وابن ماجه، وأبو حاتم، وغيرهم. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال محمد بن عبد الله الفرهاداني: هو ضعيف، قال ابن عدي: وقد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير، فلم أجد فيه ما يوجب التضعيف من أجله، وثقه ابن معين وأحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات". توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 273، "تهذيب الكمال" 5/ 548 - 552، "تهذيب التهذيب" 1/ 372، "الميزان" 1/ 472. (¬2) أي: سمعت أبا عثمان الحيري. (¬3) محمد بن أحمد بن يعقوب، أبو عبد الله الوزيري، حدث عن ثعلب وغيره، مات سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" 1/ 375. ومما يظهر أن الحيري قد عمَّر حيث توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، ومحمد بن أحمد توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، أو كان بينهما واسطة. (¬4) هو أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بـ (ثعلب): تقدمت ترجمته. (¬5) عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أمية، توفي سنة ست وثمانين. انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 5/ 223 - 235، "سير أعلام النبلاء" 4/ 246 - 249. (¬6) لم أجده عن عبد الملك بن مروان، وذكره ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" بسنده عن الكسائي عن ابن أبي الدنيا. "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 45، وبمعناه عن سلمة بن عبد الملك 1/ 47، والزجاجي في "الإيضاح في علل النحو" ص 95 عن الزجاج، عن المبرد، عن بعض السلف: عليكم بالعربية فإنها المروءة الظاهرة، وهي كلام الله عز وجل وأنبيائه وملائكته.

وقل من تقدم في علم من العلوم إلا بمعرفة الأدب، ومقاييس العربية، والنحو، وما حدثت البدع والأهواء المضلة إلا من الجهل بلغة العرب. سمعت الشيخ أحمد بن أبي منصور المقرئ (¬1) رحمه الله يقول: سمعت الحسن بن محمد المكتب (¬2) يقول: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد الخياط (¬3) يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي (¬4) يقول: سمعت الربيع بن سليمان (¬5) يقول (¬6): سمعت الشافعي يقول: عامة من تزندق (¬7) بالعراق لجهلهم بالعربية ¬

_ (¬1) لم أعرفه. (¬2) لم أعرفه. (¬3) لم أعرفه. (¬4) الحافظ الحجة، أبو نعيم الجرجاني، الاستراباذي، سمع من جماعة منهم الربيع بن سليمان. قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين، وقال الخطيب: كان أحد الأئمة ومن الحفاظ لشرائع الدين مع صدق وتيقظ وورع. توفي في آخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 428، "طبقات الشافعية الكبرى" 3/ 335، "تذكرة الحفاظ" 3/ 816. (¬5) الربيع بن سليمان المرادي، مولاهم، المصري المؤذن، صاحب الشافعي، وراوية كتبه عنه، روى عن جماعة منهم ابن وهب، وعنه جماعة منهم أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو نعيم عبد الملك الجرجاني، قال النسائي: لا بأس به، وقال ابن يونس: كان ثقة، وقال ابن أبي حاتم: صدوق ثقة، وسئل عنه أبو حاتم فقال: صدوق، مات سنة سبع ومائتين. انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" 2/ 132، "تهذيب التهذيب" 1/ 593. (¬6) (يقول): ساقط من (أ)، (ج). (¬7) الزنديق: يطلقه أكثر العلماء على من بدل دينه أو أحدث فيه، وقد سمى الإمام أحمد القائلين بتناقض القرآن (زنادقة): وألف رسالة أسماها: "الرد على الزنادقة والجهمية". وقالوا: إنها ليست من كلام العرب، وإنما هي فارسي معرب. انظر: "تهذيب اللغة" (زندق) 2/ 1563، "اللسان" (زندق) 3/ 1871.

ولغات العرب (¬1). وقرأت على الأستاذ سعيد بن محمد المقرئ (¬2) فقلت: حدثكم طلحة بن محمد الشاهد (¬3) ببغداد (¬4)، قال: سمعت أبا بكر بن دريد (¬5)، قال: قال ابن أخي الأصمعي (¬6): عن الأصمعي (¬7): تعلموا النحو، فإن بني إسرائيل كفرت ¬

_ (¬1) ذكر الرازي في "الزينة" 1/ 17 عن أبي عبيد، سمعت الأصمعي، سمعت الخليل، سمعت أيوب السختياني، يقول: عامة من تزندق بالعراق لقلة علمهم بالعربية. (¬2) هو أبو عثمان سعيد بن محمد الحيري المقرئ، أحد شيوخ الواحدي. (¬3) طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، أبو القاسم، حدث عن جماعة، منهم محمد بن العباس اليزيدي، وأبو القاسم البغوي، وأبو بكر بن مجاهد، وغيرهم، حدث عنه الأزهري، وأبو محمد الخلال وغيرهما، كان سيئ الحال في الحديث، وكان يذهب إلى الاعتزال ويدعو إليه، قال الأزهري: ضعيف في روايته ومذهبه، مات سنة ثمانين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 351، "معرفة القراء الكبار" 1/ 344 (¬4) في (ض): (بغداد). (¬5) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، صاحب كتاب "الجمهرة"، كان من أكابر علماء العربية، وكان شاعرًا، من ذلك مقصورته المشهورة، أخذ عن أبي حاتم، والرياشي، وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي، قال الدارقطني: تكلموا فيه. توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" 2/ 195، "نزهة الألباء" ص 191 - 194، "وفيات الأعيان" 4/ 323 - 329. (¬6) هو عبد الرحمن بن عبد الله ابن أخي الأصمعي، يكنى: أبا محمد، وقيل: يكنى أبا الحسن، روى عن عمه، وكان إذا أكثر أنكر عليه، وربما كذبه. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ص 180، "إنباه الرواة" 2/ 161. (¬7) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، صاحب النحو واللغة والغريب والأخبار، وكان عالما بالشعر، صدوقا في الحديث، أخذ عن عبد الله بن عوف، وشعبة، وحماد بن سلمة، والخليل. أخذ عنه ابن أخيه عبد الرحمن، وأبو عبيد بن =

بكلمة، قال الله لعيسى: (أنت نبيِّي وأنا ولَّدتك) فخففوها (¬1). ولئن استغنى علم عن الأدب، [فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن الأدب] (¬2) ومعرفة اللغة العربية، ولا تكاد تجد ذلك متأتيا لمن لم يمرن عليها، ولم يتدرب (¬3) بها. ولقد سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم (¬4)، يقول: سمعت الحسن بن محمد (¬5)، يقول: سمعت أبا عبد الله (¬6) الميداني (¬7) الخطيب بزوزن (¬8) يقول: سمعت محمد بن جمعة الحافظ (¬9) يقول: سمعت يحيى بن سليمان بن نضلة ¬

_ = القاسم، وأبو حاتم، وغيرهم، وثقه ابن معين والشافعي، توفي سنة ست عشرة ومائتين، وعمره إحدى وتسعين. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ص 167 - 174، "نزهة الألباء" ص 90 - 100، "وفيات الأعيان" 3/ 170 - 176. (¬1) ذكره الحافظ ابن حبان البستي، ولفظه قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم القاضي يقول: سمعت ابن أخي الأصمعي يقول: سمعت عمي يقول: تعلموا النحو فإن بني إسرائيل كفروا بكلمة واحدة كانت مشددة فخففوها قال: (يا عيسى إني ولَّدْتك): فقرأوا (يا عيسى إني وَلَدْتُك): مخففًا فكفروا. "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" ص 268. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) (يتدرب): غير واضحة في (ب). (¬4) هو شيخه (الثعلبي) انظر ترجمته في شيوخ المصنف. (¬5) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب، سبقت ترجمته. (¬6) في (ج): (عبد الرحمن). (¬7) لم أعرفه. (¬8) (زوزن): بضم أوله وقد يفتح، كورة واسعة بين نيسابور وهراة، ويحسبونها في أعمال نيسابور، كانت تعرف بالبصرة الصغرى، لكثرة من أخرجت من الفضلاء وأهل العلم. "معجم البلدان" 3/ 158. و (كورة): كل صقع يشمل عدة قرى، ولابد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها. "معجم البلدان" لياقوت 1/ 36. (¬9) لم أعرفه.

المديني (¬1) يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: لا أوتى برجل غير عالم (¬2) بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا (¬3). وكيف يتأتى لمن جهل لسان العرب أن يعرف تفسير كتاب جعل معجزة في فصاحة ألفاظه، وبعد أغراضه لخاتم النبيين وسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله الطيبين في زمان أهله يتحلون بالفصاحة، ويتحدون بحسن الخطاب وشرف العبارة، وإن مثل من طلب ذلك مثل من شهد الهيجاء بلا سلاح، ورام أن يصعد الهواء (¬4) بلا جناح. ثم وإن طال تأمله مصنفات المفسرين، وتتبعه أقوال أهل التفسير من المتقدمين والمتأخرين، فوقف على معاني ما أودعوه كتبهم، وعرف ألفاظهم التي عبروا بها عن معاني القرآن، لم يكن إلا مقلدا (¬5) لهم فيما حكوه، وعارفًا معاني قول مجاهد، ومقاتل، وقتادة (¬6)، والسدي (¬7)، وغيرهم ¬

_ (¬1) يحيى بن سليمان بن نضلة الخزاعي المدني، روى عن مالك، وسليمان بن بلال وغيرهما، قال ابن خراش: لا يسوى شيئًا، وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي وسألته عنه، فقال: شيخ حدث أياما ثم توفي. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 154، "الميزان" 6/ 57. (¬2) (عالم): مكرر في (ب). (¬3) ذكره الزركشي في "البرهان" عن يحيى بن سليمان بن نضلة عن مالك، 1/ 292. (¬4) في (ب): (السماء). (¬5) في (أ)، (ج): (مخلدا)، وأثبت ما في (ب): لأنه الصحيح. (¬6) قتادة بن دعامة السدوسي البصري، كان ضريرا، اشتهر بالحفظ، أثنى عليه الأئمة كأحمد بن حنبل، ومعمر، والزهري وغيرهم، مات بواسط بالطاعون سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل: سنة سبع عشرة. انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 7/ 133، "تذكرة الحفاظ" 1/ 122، "الميزان" 4/ 305، "طبقات المفسرين" للداودي 2/ 47 - 48. (¬7) إسماعيل بن أبي كريمة السدي، وهو المعروف بالسدي الكبير، قرشي بالولاء، (السدي): بضم السين، نسبة إلى السدة، وهي الباب، لأنه كان يجلس إلى سدة =

دون معنى قول الله عز وجل. ألا ترى أن واحدا ممن لم يتدرب بلغة العرب لو سمع قول امرئ القيس (¬1): دِيمةٌ هَطْلاَءُ فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّ (¬2) فسأل عن معناه، فقيل له: إنه يصف مطرا سحابه (¬3) هاطل، كان عارفا معنى هذا البيت من طريق التقليد، ولا يكون عارفًا معنى قول امرئ القيس ما ¬

_ = الجامع بالكوفة، وهو تابعي سمع أنسا، وثقه أحمد وضعفه بعضهم كابن معين، ومال أحمد شاكر في "حاشية الطبري": إلى توثيقه، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة تسع وعشرين. انظر: "تهذيب الكمال" 3/ 132 - 138، "الجرح والتعديل" 2/ 184، "طبقات المفسرين" 1/ 110، "حاشية الطبري" 1/ 157 (ط. شاكر). هذا هو السدي الكبير، أما السدي الصغير فهو محمد بن مروان، متروك الحديث، ضعفه كثير من الأئمة، انظر ترجمته في: "الميزان" 5/ 157، "طبقات المفسرين" 2/ 255، 265. (¬1) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، الشاعر الجاهلي المشهور، يقال له: (ذو القُرُوح)، و (المَلِك الضِّلِّيل)، يُعَدُّ شيخ الشعراء وأميرهم في الجاهلية، ومن الطبقة الأولى من شعرائهم الفحول. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 51، "الشعر والشعراء" ص 49، "الخزانة" 1/ 329، "شرح شواهد المغني" 1/ 21. (¬2) (الديمة) المطر الدائم، (هطلاء) كثيرة المطر، (الوطف) الدنو من الأرض. (طبق الأرض): أي تطبق الأرض وتعمها، (تحرى): تتعمد المكان وتثبت فيه، (تدر) يكثر مطرها. ورد البيت في "تهذيب اللغة" في مواضع (هطل) 4/ 3769، و (طبق) 3/ 2164، "وطف" 4/ 3911، و (دام) 2/ 1135، "الصحاح" (طبق) 4/ 1512، و (هطل) 5/ 1850، "اللسان" (وطف) 8/ 4868، و (طبق) 5/ 2637، و (هطل) 8/ 4675، (دوم) 3/ 1457، و"ديوان امرئ القيس" ص 78. (¬3) في (ب): (سحابة).

لم يعرف تفسير كل حرف على حدته، وما وضع له ذلك اللفظ. وكذلك قوله: وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلَّا لِتَضرِبِي ... بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ (¬1) معنى هذا البيت أنه يقول لامرأة: ما بكيت إلى لتأخذي بمجامع قلبي، فمن (¬2) عرف هذا فقد عرف معنى البيت، لكنه إنما عرفه من قول من عبر عن مراد الشاعر بهذا لا من قول الشاعر. ودون أن تعرف وضع ألفاظه، والمراد بكل حرف منه: خرط القتاد (¬3). وعلى هذا النحو جميع كلام العرب، مثل قولهم: (أبى الحقين العذرة) (¬4) يضرب لمن يعتذر، وظاهر حاله يكذبه، ومعرفة هذا المعنى لا ¬

_ (¬1) (ذرفت) دمعت، (الأعشار): القطع والكسور، يقول: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا مكسرا، ولم تبكي لأنك مظلومة، واختار الأزهري في معنى البيت ما ذكره أحمد بن يحيى، وهو: أن المراد (بسهميك) سهمي قداح الميسر، ويكون المعنى: أنها ضربت بسهامها على قلبه فخرج لها السهمان المعلى والرقيب، إذا فاز الرجل بهما غلب على الجزور كلها، فهي غلبته على قلبه كله. ورد البيت في "التهذيب" (عشر) 3/ 2447، و (قتل) 3/ 2884، "معجم مقاييس اللغة" (عشر) 4/ 326، و (قتل) 5/ 57، "المخصص" 5/ 53، "مجمل اللغة" (عشر) 3/ 670، و (قتل) 3/ 743، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس ص 16، "اللسان" (قتل) 6/ 3530، "ديوان امرئ القيس" ص 114. (¬2) في (ب): (لمن). (¬3) في المثل (دونه خرط القتاد): والقتاد شجر له شوك، والخرط: أن تمر يدك على القتادة من أعلاها إلى أسفلها حتى ينثر شوكها، والمثل يضرب للأمر الشاق. انظر: "المستقصى في أمثال العرب" 2/ 82، و 3/ 342 (قتد). (¬4) الحقين: اللبن المحقون، العذرة: العذر. المثل في قوم اعتذروا إلى ضيف ولهم لبن، فقال: لا يسوغ اللبن معذرتكم. وقيل: المثل في رجل حقن إهالة (الودك المذاب) وزعم لضيف أنها سمن، فلما صبها جعل يعتذر فقال الضيف: أبي الحقين العذرة. =

تفيدك معرفة هذِه (¬1) الألفاظ. وكقولهم (¬2): (فلان لا يقعقع (¬3) له بالشنان (¬4) ولا تقرع (¬5) له العصا (¬6) و (أنا جذيلها المحكك) (¬7) في أمثال لهذا كثيرة. وكذلك آيات القرآن التي (¬8) فسرها الصحابة والتابعون، إنما فسروها بذكر معناها المقصود، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ¬

_ = والمثل يضرب لمن يعتذر وليس له عذر. انظر: "جمهرة الأمثال" لأبي هلال رقم المثل (12)، 1/ 28، "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري 1/ 31 رقم (92)، "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 69 رقم (160). (¬1) في (ب): (بهذِه). (¬2) في (ب): (لقولهم). (¬3) في (ج): (قعقع). (¬4) في (ب): (باللسان). (¬5) في جميع النسخ (تقزع): وهو تصحيف. (¬6) قوله: (لا يقعقع له بالشنان): يضرب للرجل الشهم الصعب، أي لا يهدد ولا يفزع، وقد تمثل به الحجاج على منبر الكوفة، و (الشنان): جمع شن وهي القربة اليابسة، و (القعقعة): صوت الشيء الصلب على مثله. انظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 412، "المستقصى" 2/ 274، "الصحاح" (شنن) 5/ 2146، "اللسان" (شنن) 4/ 2344. وقوله: (ولا تقرع له العصا): قال في "مجمع الأمثال" 2/ 241: (لا تقرع له العصا، ولا تقلقل له الحصا): يضرب للمحنك المجرب، وانظر: "تهذيب اللغة" (قرع) 3/ 2938، "اللسان" (قرع) 6/ 3595. (¬7) ورد نص المثل في كتب الأمثال: (أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب). الجذيل: تصغير (الجذل)، وهو خشبة تحتك بها الإبل الجربى، والعذيق: تصغير (العذق): بفتح العين وهو النخلة، والمرجب: الذي جعل له ما يعتمد عليه، وهذا تصغير لتفخيم وتلطيف المحل. والمثل يضرب للمستشفى برأيه. وقد قاله الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه. انظر: "مجمع الأمثال" 1/ 52 رقم (125)، "المستقصى" 1/ 377 رقم (1618). (¬8) في (ج): (الذي).

بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] قال قتادة: إذا قيل له: مهلًا مهلًا (¬1)، ازداد إقدامًا على المعصية (¬2). فمن أين لك أن تعرف هذا (¬3) المعنى من لفظ الآية؟ إلى بعد الجهد وطول التفكر. وكذلك قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]. قال السدي: يعظم أولياءه في صدوركم (¬4). فانظر، هل يمكنك أن تفرغ هذا المعنى في قالب (¬5) هذِه الألفاظ إلى بعد التعب في معرفة ما ذكره أرباب النحو؟ وكذلك قوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71] تدبر هل تعرف صحة هذِه الألفاظ واستواء نظمها مما ذكره المفسرون؟ وهل يحسن أن يقال: من قام فإنه يقوم، ومن ركب فإنه يركب (¬6)؟ وعلى هذا ¬

_ (¬1) (مهلا): ساقطة من (ب). (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 303، و"تفسير القرطبي" 3/ 19، ولم أجده في غيرهما عن قتادة فيما اطلعت عليه، والله أعلم. (¬3) في (ب): (بهذا). (¬4) ذكره الطبري في "تفسيره" 4/ 184، والبغوي 2/ 139، ونحوه في "تفسير القرطبي" عن ابن عباس وذكر عن السدي قولا آخر 4/ 282. (¬5) في (ج): (قال). (¬6) لا يحسن أن يقال: من قام فإنه يقوم، لأنه تكرار لا معنى له. انظر: "تفسير القرطبي" 13/ 79. أما الآية فقد ذكر المفسرون في معنى التوبة في الآية الثانية أقوالا منها: قال ابن عباس: من آمن من أهل مكة ولم يكن قتل وزنى .. فهي توبة عن غير الذنوب المذكورة في الآية، من القتل والزنى، وقيل. الأولى فيمن تاب من المشركين، والثانية فيمن تاب من المسلمين، وقيل: المراد تأكيد أن التوبة لا تنفع إلا بالعمل الصالح، فيتوب متابا، أي: حق التوبة، وقيل: من صدقت توبته يوفقه الله للاستمرار عليها، وفي الآية أقوال أخرى. انظر: "تفسير البغوي" 19/ 97 - 98، "زاد المسير" 8/ 106، "تفسير القرطبي" 13/ 79.

أكثر آيات القرآن وكلام العرب. وإنما ذكرت هذِه الأمثلة لتعرف أن من تأمل مصنفات المفسرين، ووقف على معاني أقوالهم، لم يقف على معاني كلام الله دون الوقوف على أصول اللغة والنحو. والمعنيون (¬1) بالتصنيف في هذا العلم طبقات: فالصحابة الذين نزل فيهم القرآن شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل؛ لأنهم أهل اللغة الذين نشأوا عليها كما وصفناهم قبل. وأما التابعون والسلف الصالحون فإنهم لم يتصنعوا في جمع ما جمعوا، ولم يتكلفوا في تتبع الخفايا من الزوايا. وأرباب المعاني (¬2) اقتصروا على الإعراب، وبيان نهج الخطاب. وللمتأخرين مراتب ودرجات، وأغراض في التصنيف متفاوتات، والاشتغال بما يعنينا أولى من بيان درجتهم، والكشف عن نقصهم ومزيتهم (¬3)، وقل من تراه يعنى بسوق اللفظ على التفسير، وإفراغه في قوالب المعاني، حتى يأتي به متسقا من غير ترجح، ومطردا من غير تخاذل (¬4). وعلى هذا فلم يبقوا في القوس منزعًا (¬5)، ولم يترك الأول للآخر شيئًا، ¬

_ (¬1) في (ب): (المعتنون). (¬2) يريد المتكلمين على المعاني من جهة اللغة والنحو، كالفراء والزجاج والأخفش في كتبهم في معاني القرآن وغيرهم، قال في "البرهان": (قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله .. وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني: الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا). "البرهان" 2/ 146 - 147، "الإتقان" 4/ 243، وانظر: "الوسيط" و"حاشيته" 1/ 65. (¬3) في (ب): (ومرتبتهم). (¬4) في (ب): (تجادل). (¬5) لعله يقصد بهذا السابقين دون المتأخرين، وبه يزول ما قد يوحي به ظاهر سياق العبارة من تناقض.

غير أن المتأخر بلطيف حيلته (¬1)، ودقيق (¬2) فطنته، يلتقط الدرر ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدر الكعاب (¬3)، يروق المتأملين (¬4)، ويؤنق الناظرين (¬5)، فيستحق به في الأولى حمد الحامدين، وفي العقبى ثواب رب العالمين. وأظنني لم آل جهدًا في إحكام أصول هذا العلم، على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سنو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من (¬6) معادنه. أما (اللغة): فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبدالله بن يوسف العروضي (¬7) (¬8) رحمه الله، وكان قد خنق التسعين (¬9) في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار، وقرأ عليهم وروى عنهم كأبي منصور الأزهري (¬10)، روى عنه كتاب "التهذيب" (¬11) وغيره من الكتب، وأدرك أبا ¬

_ (¬1) في (ب): (جبلته). (¬2) في (ج): (رقيق). (¬3) الكاعب: الجارية إذا نهد ثديها، وجمعها كواعب، كما قال الله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 33] وعن ثعلب: كعاب. انظر: "اللسان" (كعب) 7/ 3888. (¬4) الروق: الإعجاب، أي: يعجب المتأملين. انظر: "تهذيب اللغة" (راق) 2/ 1329، "اللسان" (روق): 3/ 1780. (¬5) الأنق: الإعجاب بالشيء، قد آنقني الشيء ويؤنقني إيناقًا، وإنه لأنيق مؤنق، لكل شيء أعجبك حسنه. "تهذيب اللغة" (أنق) 1/ 219، "اللسان" (أنق) 1/ 153. (¬6) في (ب): (في). (¬7) في (ج): (المعروضي). (¬8) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي. (¬9) (خنق التسعين): كاد يبلغها، انظر: "القاموس المحيط" (خنق): ص 881. (¬10) سبقت ترجمته عند الحديث عن مصادر الواحدي في "البسيط". (¬11) هو كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري، سبق ذكره في مصادر الواحدي في "البسيط".

العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي (¬1)، وأبا نصر طاهر بن محمد الوزيري، وأبا الحسين (¬2) الرخجي (¬3)، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة. وسمع أبا العباس الأصم (¬4)، وروى عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكر ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن عبيد، أبو القاسم الأسدي، من أهل همذان، تكلموا فيه، قال الخطيب البغدادي: قال صالح: سمعت القاسم بن أبي صالح. نص عليه بالكذب مع دخوله في أعمال الظلمة، توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 292، "سير أعلام النبلاء" 16/ 15، "ميزان الاعتدال" 3/ 270. (¬2) في (أ): (الحسن)، وفي (ب)، (ج): محتملة والتصحيح حسب ما في "يتيمة الدهر" 4/ 479، "الأنساب" 6/ 98. (¬3) في (ب): (الراحمي). وهو أبو الحسين عيسى بن حامد بن بشر بن عيسى الرخجي، القاضي، يعرف بابن بنت القنبيطي، سمع من جماعة، منهم: محمد بن جرير الطبري، توفي في ذي الحجة سنة ثمان وستين وثلاثمائة، و (الرخجي): بضم الراء وفتح الخاء المعجمة المشددة وفي آخرها الجيم نسبة إلى (الرخجية): قرية قريبة من بغداد، وقيل: إن المذكور ينسب لقبيلة يقال لها: (الرخج): والأول أقرب. انظر: "يتيمة الدهر" 4/ 479، "تاريخ بغداد" 11/ 178، "الأنساب" 6/ 98. (¬4) هو الإمام المحدث محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان، الأموي مولاهم، أبو العباس، النيسابوري، الأصم، أصابه الصمم بعد رحلته ثم استحكم حتى كان لا يسمع نهيق الحمار، رحل مع أبيه إلى الآفاق، سمع العدد الكبير من العلماء، طال عمره، وبعد صيته، وتزاحم عليه الطلبة، لم يختلف في صدقه وصحة سماعاته، توفي في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة ست وأربعين وثلاثمائة. انظر: "الأنساب" 1/ 294، "سير أعلام النبلاء" 15/ 452 - 460، "تذكرة الحفاظ" 3/ 860 - 864، "العبر" 2/ 74 - 75.

الخوارزمي (¬1) على درسه عند (¬2) غيبته. وله المصنفات الكبار، والاستدراكات على الفحول من علماء اللغة والنحو. وكنت قد لازمته سنين، أدخل عليه عند طلوع الشمس، وأخرج لغروبها، أسمع، وأقرأ، وأعلق، وأحفظ، وأبحث، وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين، وكتب اللغة، حتى عاتبني شيخي رحمه الله يوما من الأيام وقال: إنك لم تبق ديوانا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز؟! يقرؤه علي هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقاصي البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار، يعني: الأستاذ الإمام (أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي) رحمه الله. فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب، لم أرم في غرض التفسير عن كثب، ثم لم أغبَّ (¬3) زيارته يومًا من الأيام إلى أن حال بيننا قدر الحمام. وأما (النحو) فإني لما كنت في مَيْعَةِ (¬4) صباي، وشَرْخِ شبيبتي (¬5)، وقعت ¬

_ (¬1) هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي، شاعر أديب، كان أوحد عصره في حفظ اللغة والشعر، رحل إلى عدة بلاد واستوطن نيسابور، توفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. انظر: "يتيمة الدهر" 4/ 223 - 276، "الأنساب" 5/ 194، "بغية الوعاة" 1/ 125. (¬2) (عند): ساقط من (ب). (¬3) الغب: من ورد الماء، أن تشرب يوما، وتدع يوما، ومن الحمى أن تأخذ يوما وتدع يوما، والمراد: لم أترك زيارته يوما من الأيام. انظر: "اللسان" (غبب) 6/ 3204. (¬4) ميعة الشباب أوله وأنشطه. انظر: "تهذيب اللغة" (ماع) 4/ 3327، "اللسان" (ميع) 7/ 4309. (¬5) شرخ الشباب قوته ونضارته. انظر: "الصحاح" (شرخ) 1/ 424، "اللسان" (شرخ) 4/ 2229.

إلى الشيخ: (أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير (¬1)) رحمه الله، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق (¬2) طوق العربية ودقائقها، ولعله تفرس فيَّ، وتوسم (¬3) أثر الخير لدي، فتجرد (¬4) لتخريجي، وصرف وكده (¬5) إلى تأديبي، ولم يذخر (¬6) عني شيئا من مكنون ما عنده، حتى استأثرني بأفلاذه (¬7)، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه. وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبًا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه (¬8) أكثر مصنفاته، في النحو والعروض والعلل، وخصني بكتابه الكبير في علل القراءات المرتبة في كتاب "الغاية" لابن (¬9) مهران. ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي. (¬2) في (ب): (بمضاق). (¬3) (وتوسم): ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (متجرد). (¬5) في (ب): (فكره). (وكده)، أي قصده. قال في "تهذيب اللغة" وكد فلان أمره يكده وكدا إذا مارسه وقصده. "التهذيب" (وكد) 4/ 3943. وانظر: "الصحاح" (وكد) 2/ 553، "اللسان" (وكد): 3/ 467. (¬6) ذخر الشيء يذخره ذخرا: اختاره لنفسه وأبقاه لوقت الحاجة، انظر: "اللسان" (ذخر) 3/ 1490، "المعجم الوسيط" (ذخر): 1/ 309. (¬7) في (ب): (بأولاده). الأفلاذ جمع، مفرده: فلذة، والمراد: لب الشيء وخالصه، كما في الحديث في أشراط الساعة: "تلقي الأرض بأفلاذها" المراد: كنوزها، وفي قصة بدر: هذِه قريش قد رمتكم بأفلاذ كبدها أي صميم قريش ولبها وأشرافها. انظر: "تهذيب اللغة" (فلذ) 3/ 2827، "اللسان" (فلذ) 6/ 3460. (¬8) في (ب): (عنه). (¬9) كتاب "الغاية في القراءات العشر" لأبي بكر الحسين بن مهران النيسابوري ت 381 هـ جمع فيه القراءات العشر، مع ذكر قراءة اختيارية انفرد بها عن سهل بن محمد أبي حاتم السجستاني، وذكر في مقدمة كتابه أسانيده لكل قراءة، طبع الكتاب بتحقيق =

ثم ورد علينا الشيخ الإمام أبو الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي (¬1)، وكان واحد عصره، وباقعة (¬2) دهره (¬3) في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة مقامه عندنا، حتى استنزفت غرر (¬4) ما عنده. وأما (القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة)، فإني اختلفت (¬5) أولا إلى الأستاذ (أبي القاسم علي بن أحمد البستي (¬6)) رحمه الله، وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ (أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران (¬7)) رحمه الله. ثم ذهبت إلى الإمامين (أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري) و (أبي ¬

_ = (محمد غياث الجنباز). وله شروح منها: شرح لأبي الحسين علي بن محمد بن إبراهيم القهندزي، له نسخة مخطوطة بالتيمورية (1/ 282) الموجود نصف الكتاب، ولعل هذا الشرح هو المراد بقوله: كتابه الكبير في علل القراءات، ولم يذكر أحد ممن ترجم للقهندزي أن له كتابا باسم "علل القراءات". (¬1) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي. (¬2) الباقعة: الرجل الداهية. انظر: "تهذيب اللغة" (بقع) 1/ 285. (¬3) في (ب): (واحد دهره وباقعة عصره). (¬4) من (ب): وفي غيرها: (غزر). (¬5) يقال: اختلف إلى المكان إذا تردد. "المعجم الوسيط" (خلف) 1/ 251. (¬6) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي. (¬7) هو أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري المقرئ، له عدة كتب في القراءات، وفي بعض علوم القرآن، من أشهرها كتاب "الغاية" الذي سبق ذكره، توفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. انظر ترجمته في "معجم الأدباء" 1/ 344 - 346، "معرفة القراء الكبار" 1/ 347، "غاية النهاية" 1/ 49، "العبر" 2/ 157.

الحسن علي بن محمد الفارسي) (¬1) -رحمهما الله-، وكانا قد انتهت إليهما الرئاسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن، ورؤية المشايخ، وكثرة التلامذة، وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد، والوثوق فيها، فقرأت عليهما، وأخذت من كل واحد منهما حظا وافرا بعون الله وحسن توفيقه. وقرأت على الأستاذ (سعيد) مصنفات ابن مهران (¬2)، وروى لنا كتب أبي ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي. (¬2) لابن مهران مصنفات كثيرة أغلبها في القراءات وعلوم القرآن منها: 1 - "الغاية في القراءات العشر". 2 - "المبسوط في القراءات العشر". 3 - "القراءات السبع". 4 - "قراءة أبي عمرو". 5 - "غرائب القرآن". 6 - "وقوف القرآن". 7 - "الانفراد". 8 - "شرح المعجم". 9 - "شرح التحقيق". 10 - "اختلاف عدد السور". 11 - "رءوس الآيات". 12 - "الوقف والابتداء". 13 - "قراءة عبد الله بن عمر". 14 - "علل كتاب المبسوط". 15 - "آيات القرآن". 16 - "الاتفاق والانفراد". 17 - "المقطع والمبادئ".

علي (¬1) الفسوي (¬2) عنه. ¬

_ 18 - "الشامل في القراءات". 19 - "سجود القرآن". 20 - "طبقات القراء". انظر: "معجم الأدباء" 1/ 345، "تاريخ التراث" لسزكين 1/ 46، "معرفة القراء الكبار" 1/ 347 - 348، "كشف الظنون" 2/ 1025، "الأعلام" للزركلي 1/ 115، "معجم المؤلفين" 1/ 130. (¬1) (علي): ساقط من (ب). (¬2) هو أبو علي الفارسي سبقت ترجمته، أما كتبه فذكر له ياقوت في "معجم الأدباء" ستة وعشرين كتابا منها: 1 - "كتاب الإيضاح". 2 - "التكملة". 3 - "الحجة". 4 - "المسائل الحلبيات". 5 - "المسائل البغدادية". 6 - "المسائل الشيرازنة". 7 - "المسائل القصرية". 8 - "المسائل المنثورة". 9 - "المسائل الدمشقية". 10 - "المسائل البصريات". 11 - "المسائل المشكلة". 12 - "المسائل الكرمانية". 13 - "الإيضاح الشعري". 14 - "الإيضاح النحوي". وغيرها. وقد ذكر الدكتور (حسن شاذلي فرهود): أن لأبي علي ثلاثة وثلاثين مصنفا، انظر مقدمة تحقيق كتاب "التكملة" ص 3.

وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج في المعاني (¬1) روايته عن ابن مقسم (¬2) عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير. ثم فرغت للأستاذ الإمام "أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي" رحمه الله، وكان حبر العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء (¬3) بل (¬4) بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بـ"الكشف والبيان عن تفسير القرآن" (¬5)، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار: وسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر (¬6) وأصفقت (¬7) عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقروا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أنه كان منقطع ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، سبق ذكره عند الحديث عن مصادر الواحدي في "البسيط"، وكتابه في (المعاني): وهو "معاني القرآن وإعرابه" وهو أشهر كتب الزجاج، اعتمد عليه الواحدي في كتابه "البسيط"، انظر مصادر الواحدي. (¬2) هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم البغدادي العطار، تقدمت ترجمته. (¬3) في (ب): (الفضائل). (¬4) (بل): سقط من (ب). (¬5) وهو "تفسير الثعلبي" المشهور، أحد مصادر الواحدي الهامة كما سبق، ولم يكن قد طُبع بعد عند إعداد عدد من الرسائل المشاركة في تحقيق هذا التفسير. (¬6) لم أجده. (¬7) اجتمعت على الاعتراف بفضله، يقال: أصفق القوم على كذا: أطبقوا عليه واجتمعوا. انظر: "تهذيب اللغة" (صفق) 2/ 2029، "اللسان" (صفق) 4/ 2463.

القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته؛ ليستدل بها على أنه كان بحرًا (¬1) لا ينزف، وغمرًا (¬2) لا يسبر (¬3). وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، وتفسيره الكبير، وكتابه المعنون بـ"الكامل في علم القرآن" (¬4) وغيرهما. ولو أثبت (¬5) المشايخ الذين أدركتهم، واقتبست عنهم هذا العلم، من مشايخ (نيسابور) وسائر البلاد التي (¬6) وطئتها، طال الخطب ومل الناظر. وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه وحسن تيسيره، حتى أبرزه كالقمر انجاب سحابه، والزلال صفا (¬7) متنه (¬8) واطرد (¬9) حبابه (¬10)، يؤدي إلى المتأمل (¬11) نضرة الكلم (¬12) العذاب، ورونق ¬

_ (¬1) في (ب): (بحر). (¬2) في (ب): (غمر). في "تهذيب اللغة" (الغمر) الماء الكثير، ويقال: رجل غمر الخلق، أي: واسع الخلق، وهو غمر الرداء: إذا كان كثير المعروف واسعه. "تهذيب اللغة" (غمر) 3/ 2693، "اللسان" (غمر) 6/ 3293. (¬3) في (ب): (يسير). كان الواحدي شديد الإعجاب بشيخه فبالغ في وصفه. انظر ما سبق عند الحديث عن شيوخه، وكذا في مصادره في "البسيط". (¬4) لم أجد أحدصا ممن ترجم للثعلبي ذكر هذا الكتاب، ولعله فيما ضاع من التراث. (¬5) في (ب): (أتيت). (¬6) في (ج): (الذي). (¬7) في (ب): (والزلال صفائه واطراد ..). (¬8) متن كل شيء ما ظهر منه. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3338، "اللسان" (من) 7/ 4130. (¬9) اطرد: تتابع. انظر: "التهذيب" (طرد) 3/ 2175، "اللسان" (طرد) 5/ 2651. (¬10) حبابه: نفاخاته وفقاقيعه التي تطفو كأنها القوارير، أو الطرائق التي في الماء، كأنها الوشي، وهو الموج يتبع بعضه بعضا. انظر: "تهذيب اللغة" (حب) 1/ 716، "اللسان" (حبب) 2/ 742. (¬11) في (ب): (التأمل). (¬12) (الكلم): جمع كلمة. انظر: "اللسان" (كلم) 7/ 3921.

الذهب المذاب، سالك نهج الإعجاز في الإيجاز، مشتمل على ما نقمت (¬1) على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، خال عما يكسب المستفيد ملالة، ويتصور (¬2) عند المتصفح إطالة، لا يدع لمن تأمله حازة (¬3) في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين (¬4)، إلى نور العلم وثلج (¬5) اليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضًا في صنعة الأدب والنحو، مهتديا بطرق الحجاج، قارحا (¬6) في سلوك المنهاج. فأما الجذع (¬7) المزجى (¬8) من المقتبسين، والريض (¬9) ¬

_ (¬1) قال الجوهري: نقصت على الرجل أنقم بالكسر: إذا عتبت عليه، وقال الكسائي: ونقمت: بالكسر، لغة. ونقمت الأمر ونقمته: إذا كرهته. انظر: "الصحاح" (نقم) 5/ 2045، "اللسان" (نقم) 8/ 4531. (¬2) في (ب): (ويتصفح). (¬3) في (ب): (حارة)، وكذا ورد في "معجم الأدباء" 12/ 268 فيما نقله من مقدمة "البسيط" للواحدي، و (الحزازة) وجع في القلب من غيظ ونحوه، ويقال: (حزاز) بالتشديد والمراد كل ما حز في القلب وحك. انظر: "التهذيب" (حز) 1/ 802، "اللسان" (حزز) 2/ 856، وحارة الصدر ما يحصل فيه من الحرارة من العطش والحزن والهم. انظر: "اللسان" (حرر) 2/ 827، فاللفظان متقاربان في المعنى. (¬4) في (ب): (التحمير). (¬5) ثلج النفس: اطمئنانها. انظر: "التهذيب" (ثلج) 1/ 500. (¬6) القرح: هو الذي نبت نابه، والمراد قوي واشتد. انظر: "تهذيب اللغة" (قرح) 3/ 2918، "اللسان" (قرح) 6/ 3571. (¬7) الجذع من الدواب والأنعام: قبل أن يثني بسنة، ويختلف في أسنان الإبل والخيل والبقر والشاء. والمراد: حدث السن الذي في أول إدراكه. "تهذيب اللغة" (جذع) 1/ 566. (¬8) (المزجى) القليل غير التام، انظر: "اللسان" (زجى) 2/ 1511، والمراد الناشئ المبتدئ قليل البضاعة في العلم. وقد جاءت الكلمة في "معجم الأدباء" (المرخى) 12/ 269، والمراد ليس به قوة. (¬9) (الريض): من الدواب الذي لم يقبل الرياضة ولم يمهر السير، ولم يذل لراكبه فهي لم تذلل بعد، وكذا غلام ريض، والمراد المبتدئ، الذي لم يتمرن بعد. انظر: "التهذيب" (راض): 2/ 1319، "اللسان" (روض) 32/ 1775.

الكز (¬1) من المبتدئين فإنه مع هذا الكتاب كمزاول (¬2) غلقا ضاع عنه المفتاح، ومتخبط في ظلماء ليل خانه المصباح: يحاول فتق غيم وهو يأبى (¬3) ... كعنين يريد نكاح بكر (¬4) وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصًّا (¬5)، ثم بقول من هو قدوة في هذا العلم من الصحابة وأتباعهم، مع التوفيق بين قولهم ولفظ الآية. فأما الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ ولا تساعده العبارة فمما لم أعبأ به، ولم أضيع الوقت بذكره. وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل (¬6) الأمصار، دون تسمية القراء (¬7)، واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (¬8) الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري (¬9) عنه. ¬

_ (¬1) من الكزازة وهي اليبس والصلابة، والمراد أنه لم يتدرب ولم يلن بعد. انظر: "التهذيب" (كز) 4/ 3138، "اللسان" (كزز) 7/ 3869. (¬2) في (ج): (كمزوال). (¬3) في (ب): (يأتي). (¬4) لم أجده. (¬5) سبق بيان منهجه في "البسيط" ص 116. وفيه أنه يبدأ أولا بشرح الكلمات وبيان أصولها واشتقاقها في اللغة، ويذكر الأوجه النحوية، ثم يدخل في تفسير الآية قائلا: أما التفسير، فيبدأ بذكر قول ابن عباس في الغالب، وقد يذكر قول غيره قبله. (¬6) (أهل): ساقط من (ب). (¬7) وقد يسمي القراء. انظر منهجه في "ذكر القراءات". (¬8) هو كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، وقد اعتمد عليه كثيرا، فهو أحد مصادره الهامة. انظر ما سبق في مصادر الواحدي. (¬9) في (ج) (الجيري): بالجيم. والصحيح بالحاء أحد شيوخه كما سبق.

وكل ينفق مما رزقه الله، ويعمل على مقدار ما وفقه الله، ومتى يبلغ ضعف (¬1) سعينا وقاصر جهدنا نهاية ما لا (¬2) يتناهى؟ وهذا سهل بن عبد الله (¬3) يقول: لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه؛ لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أن ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه. وكلام الله غير مخلوق، ولا يبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة. ثم إن هذا الكتاب عجالة الوقت وقبسة العجلان، وتذكرة يستصحبها المرء حيثما حل وارتحل، وإن أُنسئ الأجل وأُرخي الطِّوَل (¬4)، وأنظرني الليل والنهار، حتى يتلفع بالمشيب العذار (¬5)، أردفته بكتاب (أنضجه) (¬6) بنار الروية، وأردده ¬

_ (¬1) في (ج): (ومتى يبلغ سعى ضعف سعينا ..). (¬2) في (ب): (ما لم). (¬3) هو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أحد أئمة الصوفية، لقي ذا النون المصري، توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين ومائتين. انظر: "طبقات الصوفية" للسلمي ص 206، "حلية الأولياء" 10/ 189، "وفيات الأعيان" 2/ 429، "البداية والنهاية" 11/ 74. (¬4) الطول: هو الحبل الطويل جدا، ويطلق على الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه. قال طرفة: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخي وثنياه باليد والمراد: أخر العمر ومد فيه. انظر: "تهذيب اللغة" (طال) 3/ 2156، "اللسان" (طول) 5/ 2725. (¬5) قال الأزهري: يقال: تلفع الرجل بالمشيب إذا شمله الشيب. "تهذيب اللغة" (لفع): 4/ 3280، وانظر: "المخصص" لابن سيده 15/ 77. و (العذار) عذار الرجل: شعره النابت في موضع العذار، والعذاران: جانبا اللحية؛ لأن ذلك موضع العذار من الدابة. انظر: "اللسان" (عذر) 5/ 2854. (¬6) في (ب): (أفصحه).

على راووق (¬1) الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته ولطائف ما جمعته (¬2). وعلى الله (¬3) المعول في تيسير ما رمت، وله الحمد كلما قعدت أو قمت. [والله الموفق للصواب] (¬4). * * * ¬

_ (¬1) في "التهذيب" عن أبي عبيد: الراووق: المصفاة، وعن الليث: ناجود الشراب الذي يروق به فيصفى "التهذيب" 2/ 1328، انظر: "اللسان" (روق) 3/ 1779، وفي "معجم الأدباء": (رواق الفكرة). (¬2) هل ألف هذا الكتاب؟ وما هو؟. لقد انتهى الواحدي من تأليف "البسيط" سنة ست وأربعين وأربعمائة، ثم ألف بعده "الوسيط" فهل هو المراد؟ أو كتاب غيره ألفه ولم يصل إلينا، وأنه كان يرغب ذلك ولم يتحقق له. الله أعلم. (¬3) (الله): لفظ الجلالة غير موجود في (ب). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة

1

فاتحة الكتاب قوله عز وجل (¬1): {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اختلفت عبارة النحويين في تسمية هذِه الباء الجارة، فسموها مرة: حرف إلصاق، ومرة: حرف استعانة، ومرة: حرف إضافة، وكل هذا صحيح من قولهم (¬2). أما الإلصاق: فنحو قولك: تمسكت بزيد، وذلك أنك ألصقت محل قدرتك به، وبما اتصل به، فقد صح إذن معنى الإلصاق (¬3). وأما الاستعانة: فقولك: ضربت بالسيف، وكتبت بالقلم، وبريت بالمدية، أي: استعنت بهذِه الأدوات على هذِه الأفعال. وأما الإضافة: فقولك: مررت بزيد، أضفت مرورك إلى زيد بالباء (¬4). وأما قول النحويين (¬5): (الباء والكاف واللام الزوائد) فإنما قالوا فيهن: ¬

_ (¬1) قوله (عز وجل) ساقط من (ج). (¬2) نقل الواحدي الكلام عن (الباء) من كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح ابن جني 1/ 122 بالنص في الغالب، وقد يتصرف بالعبارة أحيانا. وللباء معان كثيرة أوصلها المزني إلى واحد وعشرين معنى. انظر: "الحروف" للمزني ص 54، "حروف المعاني" للزجاجي ص 47، 86، 87، "مغني اللبيب" 1/ 101، "البحر المحيط" 1/ 14. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 123، وفيه (ألصقت محل قدرتك أو ما اتصل بمحل قدرتك به أو بما اتصل به ..). وسمى سيبويه هذا المعنى: إلزاقا واختلاطا "الكتاب" 4/ 217، قال ابن هشام: وهو معنى لا يفارقها، ولهذا لم يذكر سيبويه غيره. "مغني اللبيب" 1/ 101، ولكن نجد سيبويه ذكر معنى الإضافة في "الكتاب" 1/ 421. (¬4) "سر صناعة الإعراب" 1/ 123، انظر: "الكتاب" 1/ 121، "المقتضب" 1/ 177، "مغني اللبيب" 1/ 101، "البحر المحيط" 1/ 14. (¬5) "سر صناعة الإعراب" 1/ 120.

إنهن زوائد، لأنهن لما كن على حرف واحد، وقللن غاية القلة، واختلطن بما بعدهن خشي عليهن لقلتهن وامتزاجهن بما يدخلن عليه أن يظن بهن أنهن بعضه وأحد أجزائه، فوسموهن بالزيادة، ليعلموا (¬1) من حالهن أنهن لسن من أنفس ما وصلن به. ألا ترى أن (اليوم تنساه) لا باء فيه، ولا كاف (¬2). وحذاق النحويين لا يسمونها زوائد، بل يقولون في الباء واللام: إنهما حرفا إضافة (¬3)، وفي الكاف يقولون: حرف جر (¬4). وهذِه حروف أدوات عاملة (¬5)، تجر ما تدخل عليه من الأسماء نحو: من وعن وفي (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (لتعلموا). (¬2) (اليوم تنساه) جملة يستعملها النحويون تجمع الحروف الزوائد وهي عشرة حروف، والمراد أن (الباء) و (الكاف) ليستا من الحروف الزوائد. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 120، "التبصرة والتذكرة" للصيمري 2/ 788. (¬3) عند أبي الفتح: (فأما حذاق أصحابنا فلا يسمونها بذلك، يقولون في الباء واللام أنهما حرفا إضافة). "سر صناعة الإعراب" 1/ 121، وهذا قول سيبويه. انظر: "الكتاب" 1/ 421، وانظر: "المقتضب" 1/ 183، 4/ 136 - 143، ووسمها ابن هشام في "مغني اللبيب" بالزيادة 1/ 106. (¬4) انظر: "الكتاب" 4/ 217، "المقتضب" 4/ 140، "مغني اللبيب" 1/ 176 - 179. (¬5) في (ب): (عاملات). (¬6) قوله: (وهذِه حروف أدوات ..) ليس من كلام أبي الفتح والنص في "سر صناعة الإعراب": (وهذا موضع لابد فيه من ذكر العلة التي لها صارت حروف الإضافة هذِه جارة .. إلى أن قال: إنما جرت الأسماء ..) 1/ 123. وعن عمل حروف الجر، وهل هي حروف أو أسماء؟. انظر: "الكتاب" 1/ 419 - 420، "المقتضب" 4/ 136، "الأصول في النحو" لابن السراج 1/ 408. قال الصيمري في "التبصرة والتذكرة": الحروف تنقسم قسمين: أحدهما يستعمل حرفا وغير حرف، والآخر يكون حرفا لا غير. فأما=

وإنما جرت (¬1) الأسماء من قبل أن الأفعال التي قبلها ضعفت عن وصولها وإفضائها إلى الأسماء التي بعدها نحو قولك: (عجبت، ومررت، وذهبت) لو قلت: عجبت زيدًا، ومررت جعفرًا، وذهبت محمدًا، لم يجز كما بجوز ضربت زيدًا؛ لضعف هذِه الأفعال في العرف (¬2) والعادة (¬3) والاستعمال، فلما قصرت هذِه الأفعال عن الوصول إلى الأسماء رفدت بحرف الإضافة، فجعلت موصلة (¬4) لها إليها، فقالوا: عجبت من زيد، ونظرت إلى محمد (¬5)، فلما احتاجت هذِه الأفعال إلى هذِه الحروف لتوصلها إلى بعض الأسماء جعلت تلك الحروف جارة، وأعملت هي في الأسماء (¬6). ولم يفض إلى الأسماء النصب الذي يأتي من الأفعال؛ لأنهم أرادوا أن يجعلوا بين الفعل الواصل بنفسه وبين الفعل الواصل بغيره فرقًا، ولما هجروا لفظ النصب لما ذكرنا، لم يبق إلى الرفع والجر. فأما الرفع فقد استولى عليه ¬

_ = ما يستعمل حرفا وغير حرف فنحو (على) و (عن) و (كاف التشبيه) و (منذ) و (مذ) فهذِه تكون حروفا في حال، وأسماء في أخرى .. وأما ما لا يستعمل إلا حرفا في هذا الباب: فالباء الزائدة .. واللام الزائدة .. و (من) و (إلى) و (في) و (رب) و (حتى) إذا كانت غاية. "التبصرة والتذكرة" 1/ 282 - 285. (¬1) في (ج): (وإنما تدخل جرت). (¬2) في (ج): (القرن). (¬3) في (أ)، (ج): (في الاستعمال) وفي "سر صناعة الإعراب" (لضعف هذِه الأفعال في العرف والعاة والاستعمال عن إفضائها إلى هذِه الأسماء ..) 1/ 124. (¬4) في (ج): (موصولة). (¬5) في "سر صناعة الإعراب": (نظرت إلى عمرو) 1/ 124. (¬6) هذا مذهب البصريين في سبب تسميتها حروف جر، أما الكوفيون فيسمونها حروف خفض، قالوا: لانخفاض الحنك الأسفل عند النطق به، انظر: "الإيضاح في علل النحو" ص 93.

الفاعل، فلم يبق إذا غير الجر، فعدلوا إليه ضرورة (¬1) [و] (¬2) الجار والمجرور جميعا في موضع نصب (¬3)، ألا ترى أنهم عطفوا عليه بالنصب (¬4) فقالوا: مررت بزيد ومحمدا، ونظرت إلى عمرو وخالدا، وعلى هذا (¬5) ما أنشده سيبويه: مُعَاويَ إِنَّناَ بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالجِبَالِ ولَا الحَدِيدَا (¬6) ¬

_ (¬1) من "سر صناعة الإعراب" 1/ 124، 125، مع اختصار بعض الجمل. (¬2) الواو ساقطة من (ب). (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 130، وانظر: "المقتضب" 4/ 33، قال النحاس عند قوله {بسم الله}: (موضع الباء وما بعدها عند الفراء نصب، وعند البصريين رفع، وقال الكسائي: الباء لا موضع لها من الإعراب). "إعراب القرآن" 1/ 116، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 4. (¬4) هذا أحد وجهين ذكرهما أبو الفتح للدلالة على صحة دعوى أن الفعل إذا أوصله حرف جر إلى الاسم، فإن الجار والمجرور في موضع نصب بالفعل الذي قبلهما. "سر صناعة الإعراب" 1/ 130. (¬5) (على هذا) مكرر في (ب). (¬6) البيت لـ (عقيبة الأسدي) ونسبه بعضهم لعبد الله بن الزبير، ومعنى (أسجح) سهل علينا حتى نصبر، فلسنا بجبال ولا حديد. والبيت من شواهد سيبويه، استشهد به في مواضع من كتابه 1/ 67، 2/ 291، 2/ 344، 3/ 91، وورد في "المقتضب" 2/ 337، 4/ 112، 4/ 371، "جمل الزجاجي" ص 54، "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 22، 300، "مغني اللبيب" 2/ 477، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 440، "الإنصاف" ص 284، "شرح المفصل" 2/ 109، 4/ 9. والشاهد فيه: نصب الحديد، وعطفه على موضع الباء، وقد أنكر بعضهم على سيبويه استشهاده بالبيت، ورووه مجرورًا، ورد ذلك السيرافي وقال: إن البيت جاء بروايتين. انظر: "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 22، 300، "الخزانة" 2/ 260 - 264.

عطف الحديد على موضع بالجبال (¬1)، ولهذا قال سيبويه: (إنك إذا قلت: مررت بزيد [فكأنك قلت: مررت زيدا) (¬2)، تريد (¬3) بذلك أنه لولا الباء الجارة لانتصب زيد، وعلى ذلك أجازوا مررت بزيد] (¬4) الظريفَ، تنصبه على موضع (بزيد) (¬5). (وجميع (¬6) الحروف المفردة التي تقع في أوائل الكلم حكمها الفتح أبدًا. نحو (واو) العطف و (فائه) و (همزة) الاستفهام و (لام) الابتداء. فأما (الباء) في (بزيد) فإنما كسرت لمضارعتها (اللام) الجارة (¬7) في قولك: (المال لزيد) وسنذكر العلة في كسر اللام في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] إن شاء الله (¬8) ووجه المضارعة بينهما اجتماعهما في الجر ولزوم كل واحد منهما الحرفية (¬9)، وليست كذلك (كاف التشبيه)؛ لأنها قد تكون ¬

_ (¬1) في (ب): (الجبال). (¬2) انظر: "الكتاب" 1/ 92، والنص من "سر صناعة الإعراب" 1/ 131. (¬3) في "سر صناعة الإعراب" (يريد) وهذا أقرب، فأبو الفتح يقول: يريد سيبويه. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬5) بنصه من "سر صناعة الإعراب" 1/ 144. (¬6) بنصه عن أبي الفتح من "سر صناعة الإعراب" 1/ 144. (¬7) قال الثعلبي العلة في كسرها أن (الباء) حرف ناقص ممال، والإمالة من دلائل الكسرة. "تفسير الثعلبي" 1/ 15. (¬8) في "سر صناعة الإعراب" وسنذكر العلة في كسر (اللام) في موضعها ... ، 1/ 144، وقد تكلم الواحدي عن العلة في كسر (اللام) عند الكلام عن اللام الجارة في لفظ الجلالة في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ونقل في ذلك عن أبي الفتح ابن جني. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 3، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 116، "تفسير الثعلبي" 1/ 15/ ب، "المشكل" لمكي 1/ 5، "الكشاف" 1/ 23.

اسما في بعض المواضع). فأما المتعلق به (الباء) في قوله {بِسْمِ اللَّهِ} فإنه محذوف، ويستغنى عن إظهارها لدلالة الحال عليه، وهو معنى الابتداء، كأنه قيل (بدأت بسم الله) (¬1) (وأبدأ بسم الله) والحال تبين أنك مبتدئ فاستغنيت عن ذكره (¬2). وحذفت الألف من بسم الله؛ لأنها وقعت (¬3) في موضع معروف، لا يجهل القارئ معناها، فاستخف طرحها؛ لأن من شأن العرب الإيجاز إذا عرف المعنى، وأثبتت في قوله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74، 96، الحاقة: 52] لأن هذا لا يكثر كثرة (بسم الله) ألا ترى أنك تقول: (بسم الله) عند ابتداء كل شيء (¬4). ولا تحذف الألف إذا أضيف (الاسم) إلى غير (¬5) الله، ولا مع غير الباء من الحروف، فتقول: لاسم الله حلاوة في القلوب، وليس اسم كاسم الله، فتثبت الألف مع اللام والكاف (¬6). هذا في سقوطها في الكتابة، وأما سقوطها ¬

_ (¬1) في (ب): (إعراب باسم بالله). (¬2) قال الطبري: أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: (بسم الله)، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. ومفهوم أنه مريد بذلك: (أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم). "تفسير الطبري" 1/ 50، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 1، "الوسيط" للواحدي 1/ 14، "الكشاف" 1/ 26، "لباب التفسير" للكرماني 1/ 26 (رسالة دكتوراه). (¬3) في (ب): (وقفت). (¬4) أخذه عن "معاني القرآن" للفراء، مع اختلاف يسير في اللفظ ص 36، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 117، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 3. (¬5) في (ص): (لغير). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 2، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 3، "المشكل" لمكي 1/ 5، "تفسير ابن عطية" 1/ 84، "الكشاف" 1/ 35.

في اللفظ، فلأنها (¬1) للوصل، وقد استغنى عنها بالباء (¬2). فأما معنى: (الاسم) واشتقاقه ومأخذه من اللغة، فقد كثر فيها الاختلاف، فقال (¬3) نحويو (¬4) الكوفة: (الاسم) مشتق من السمة، وهي العلامة، كالعدة والزنة من (الوزن) و (الوعد)، كذلك (السمة) من (الوسم) (¬5)، ومن هذا قال أبو العباس (ثعلب): الاسم وسم وسمة توضع على الشيء يعرف به (¬6). وقال مشيخة البصرة: (الاسم) مشتق من السمو، لأنه يعلو المسمى، فالاسم: ما علا وظهر (¬7)، فصار علما للدلالة على ما تحته من المعنى (¬8). وقال بعضهم: العلة في اشتقاقه من السمو أن الكلام ثلاثة: اسم ¬

_ (¬1) في (ب): (ولا منها). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 1، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 147، "إعراب القرآن" للنحاس 117. (¬3) في (ب): (فقالوا). (¬4) (نحويو) مكانها بياض في (ب). (¬5) حذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس، والأصل في اسم (وسم) فحذفت الفاء التي هي (الواو) من (وسم). انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 2، "تفسير ابن عطية" 1/ 84، "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 4، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 32، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة"، وفيه (الاسم رسم وسمة ..)، (سما) 2/ 1748، "اللسان" (سما) 4/ 2109، "الإنصاف" ص 4. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 2، "تهذيب اللغة" للأزهري (سما) 2/ 1748، "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 255، "الإنصاف" ص 5، "تفسير ابن عطية" 1/ 84، "الكشاف" 1/ 34، 35، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6. (¬8) هذا قول الزجاج، وفيه إشارة إلى أن الاسم هو المسمى، انظر: "معاني القرآن" 1/ 2، "الإنصاف" ص 5.

وفعل وحرف، فالاسم يصح أن يكون خبرا ويخبر عنه، والفعل يكون خبرا ولا يخبر عنه، والحرف لا يكون خبرا ولا يخبر عنه، فلما كان للاسم مزية على النوعين الآخرين وجب أن يشتق مما (¬1) ينبئ عن هذِه المزية، فاشتق من السمو ليدل على علوه وارتفاعه (¬2). وعند المتكلمين أنه اشتق من السمو؛ لأنه سما عن حد العدم إلى الوجود (¬3). وقالوا: أصله سِمْو (¬4)، وجمعه (أسماء) مثل قنو وأقناء (¬5) وحنو وأحناء فحذفت الواو استثقالًا (¬6) (¬7)، ولم تحذف من نظائره؛ لأنها لم تكثر (¬8) كثرته، ثم سكنوا السين استخفافًا لكثرة ما تجري على لسانهم، واجتلبت ألف الوصل ليمكن الابتداء به، وكان هذا أخف عليهم من ترك الحرف متحركا، لأن الألف تسقط في الإدراج، وكان إثبات الحرف الذي يسقط كثيرا أخف من حركة السين التي (¬9) تلزم أبدا (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب): (عما). (¬2) انظر: "الإيضاح في علل النحو" ص 49، "الإنصاف" ص 6. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 16/ ب. (¬4) أو (سمو) بالضم. انظر: "المقتضب" 1/ 229، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6. (¬5) في (ب): (فتو أفتاء). (¬6) في (ب): (استقلالا). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 2، "اشتقاق أسماء الله" ص 255، "المنصف" 1/ 60. (¬8) في (ب): (تكن). (¬9) في (ب): (الذي). (¬10) انظر: "اشتقاق أسماء الله" ص 256، 257، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 117، "الكشاف" 1/ 34، قال الزمخشري: (ومنهم من لم يزدها، أي: الألف، واستغنى عنها بتحريك الساكن فقال: (سم) و (سم).

قالوا: و (¬1) لا يصح مذهب الكوفيين في هذا الحرف، لأنه لا يعرف شيء حذفت منه فاء الفعل، فدخلت عليه ألف الوصل كالعدة والزنة. وأيضا فلو كان من الوسم لكان تصغيره (وسيما)، كما يقول: (وعيدة) و (وصيلة) في تصغير: صلة وعدة (¬2). وأما معنى (الاسم) ففيه مذهبان (¬3): ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ج). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 2، "اشتقاق أسماء الله" ص 255 - 257، "المخصص" 17/ 134، "تفسير ابن عطية" 1/ 84، "الإنصاف" لابن الأنباري وقد ذكر خمسة وجوه في (بيان فساد مذهب الكوفيين) ص 4، "تهذيب اللغة" (سما) 2/ 1747. (¬3) ذكر الرازي وابن كثير فيه ثلاثة مذاهب وهي: 1 - الاسم نفس المسمى وغير التسمية. 2 - الاسم غير المسمى ونفس التسمية. 3 - الاسم غير المسمى وغير التسمية. "التفسير الكبير" للرازي 1/ 108، "تفسير ابن كثير" 1/ 20، وقد كثر الخوض في هذِه المسألة، وجعل بعضهم كثرة الحديث فيها من باب العبث الذي لا طائل تحته. انظر: "تفسير الرازي" 1/ 109. قال الطبري: (وليس هذا هو الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهو المسمى أم غيره، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتابة، وإنما هذا موضع من مواضع الإنابة عن الاسم المضاف إلى الله، أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية؟ ..) ثم أخذ ابن جرير يرد على أبي عبيدة قوله: إن الاسم هو المسمى بتقريع مرير. وقد علق الأستاذ (محمود شاكر) على كلام الطبري بكلام جيد. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 188 - 122. (تحقيق محمود شاكر) كما تكلم عن هذا ابن عطية في تفسير "المحرر الوجيز" 1/ 85. وقد أوضح العلامة ابن أبي العز في شرح "العقيدة الطحاوية" المنهج الصحيح في هذا حيث قال: قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك. فهذا المراد به المسمى=

أحدهما: أنه بمعنى التسمية (¬1)، وعلى هذا قول القائل: بسم الله: أي: بتسمية الله أفتتح تيمنا وتبركا. والثاني وهو الصحيح: أن الاسم هو المسمى (¬2) كقوله (¬3) تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فلو كان الاسم غير المسمى وجب أن يكون المأمور بطاعته غير الله وغير الرسول، وإذا قال القائل: رأيت زيدا، وجب أن يكون لم ير شخص زيد. وسئل أحمد بن يحيى (¬4) عن الاسم أهو المسمى أو غيره؟ فقال: قال أبو عبيدة: الاسم هو المسمى (¬5)، وقال سيبويه: الاسم غير المسمى. قيل ¬

_ = نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره، لما في لفظ الغير من الإجمال ..)، "شرح الطحاوية" ص 82. وقد ذكر ابن عطية في "تفسيره" أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال: ليس به ولا غيره، قال ابن عطية: يريد دائما في كل موضع 1/ 89. (¬1) قال الرازي: قالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، 1/ 108، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 20. (¬2) وبه أخذ شيخه الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان" 1/ 16/ أ، وقرره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 16، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 2. وقد رد الطبري هذا القول كما سبق، كما رد عليه ابن جني في كتابه "الخصائص" حيث أبان في (باب في إضافة الاسم إلى المسمى، والمسمى إلى الاسم) قال: (فيه دليل نحوي غير مدفوع يدل على فساد قول من ذهب إلى أن الاسم هو المسمى). "الخصائص" 3/ 24، والصحيح هنا أنه لا يقال: الاسم هو المسمى ولا غيره، بل قد يكون هو المسمى في موضع وغيره في موضع آخر، كما سبق في بيان كلام ابن أبي العز في "شرح الطحاولة". (¬3) في (ب): (لقوله). (¬4) المعروف بـ (ثعلب). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 16.

له: فما قولك؟ فقال: ليس لي فيه قول (¬1). وإذا كان الاسم هو المسمى فمعنى قول القائل: (بسم الله) أي بالله، ومعناه بالله أفعل، أي بتوفيقه، أو بالله تكونت الموجودات، أو ما أشبه هذا من الإضمار (¬2). وأدخل الاسم ليكون فرقا بين اليمين والتيمن (¬3). وأكثر ما يستعمل الاسم يستعمل بمعنى التسمية (¬4)، وإذا استعمل بمعنى التسمية فهو كلمة تدل على المعنى دلالة الإشارة دون دلالة الإفادة (¬5)، وذلك أنك إذا قلت: زيد (¬6)، فكأنك قلت: هذا، وإذا قلت: الرجل، فكأنك قلت: ذاك. ودلالة الإفادة هو ما أفاد السامع معنى، كقولك: قام وذهب (¬7)، ووزن (الاسم) يصلح أن يكون (فِعْل)، ويصلح فيه (فُعْل) (¬8) لأنهم أنشدوا: ¬

_ (¬1) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (سما) 2/ 1747، "اللسان" 4/ 2107. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 1/ 16/ أ. (¬3) ذلك أن قولك (بالله) يمين، وقولك: (باسم الله) تيمن. انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 16/ أ. (¬4) سبق قريبًا اختيار الواحدي أن الاسم هو المسمى وليس بمعنى التسمية. (¬5) قال ابن سيده في "المخصص": (والاسم كلمة تدل على المسمى دلالة الإشارة دون الإفادة .. الخ بنصه) 17/ 134. والإشارة عند الأصوليين: دلالة اللفظ على المعنى من غير سياق الكلام له مثل قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ففي قوله {له} إشارة إلى أن النسب للأب. انظر: "التعريفات" للجرجاني ص 27، "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي 1/ 750. (¬6) في (ب): (زيدًا). (¬7) في "المخصص" بعد هذا الكلام: (.. فأما الأول -يريد دلالة الإشارة- فإنما الغرض فيه أن تشير إليه ليتنبه عليه ..) 17/ 134. (¬8) انظر: "المقتضب" 1/ 229، "المخصص" 17/ 135.

باسم الذي في كل سورة سمه (¬1) بالكسر والضم وقوله (¬2): أما أصل هذِه الكلمة (¬3)، فقد حكى أصحاب سيبويه عنه فيه (¬4) قولين: أحدهما: قال: كان أصل هذا الاسم إلاها (¬5)، ففاؤها (همزة)، وعينها (لام)، و (الألف) ألف فعال الزائدة، واللام (هاء)، ثم حذف (الفاء) حذفا ¬

_ (¬1) أنشده أبو زيد. قال: قال رجل زعموا أنه من كلب: أَرْسَلَ فِيَهِا بَازِلا يُقرِّمه ... وَهْو بِهَا يَنْحو طَرِيقًا يَعْلَمْه باسم الذي في كل سورة سِمُهْ "نوادر أبي زيد" ص 461، 462. ومعنى الرجز: يقول أرسل الراعي في الإبل للضراب بعيرا في التاسعة من عمره محجوزًا عن العمل ليقوى على الضِرَاب، أرسله باسم الله الذي يُذكر اسمه في كل سورة. ورد البيت في "المقتضب" 1/ 229، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 1، "تهذيب اللغة" (سما) 2/ 1747، "المنصف" 1/ 16، "المخصص" 17/ 135، "الإنصاف" 1/ 12، "اللسان" (سما) 4/ 2107. (¬2) أي: قول الله عز وجل. (¬3) تكلم أبو علىِ الفارسي عن أصل لفظ الجلالة (الله) وأطال في كتابه "الإغفال" متعقبا الزجاج فيما ذكره في "معاني القرآن" ونقل عنه الواحدي ذلك مع تصرف يسير في العبارة، ولم يعزه له، ونقل كلام أبي علي ابن سيده في "المخصص" وعزاه له. "الإغفال" ص 4 - 49 (محقق رسالة ماجستير)، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 5، "المخصص" 17/ 136 - 151. (¬4) في "الإغفال" ص 11: فقد حمله سيبويه على ضربين، "المخصص" 17/ 138، وذكر الزجاج فيه أربعة أقوال، أحدها: أنه غير مشتق، وعن الخليل: أن أصله (ولاه) من الوله والتحير، وقولان مثل قولي سيبويه. "اشتقاق أسماء الله" ص 23. (¬5) "الكتاب" 2/ 195.

لا على التخفيف القياسي في مثل قولك: (الخب) (¬1) في (الخبء)، و (ضو) في (ضَوْء)، لأنه لو كان كذلك (¬2) لما لزم أن يكون منها عوض؛ لأنها إذا حذفت على حد التخفيف كانت ملقاةً في اللفظ مبقاةً في النية، ومعاملةً معاملة المثبتة غير المحذوفة، يدلك على ذلك تركهم (الياء) مصححة في قولهم (جَيْأَل) (¬3) إذا خففوا قالوا: جَيَل، ولو كانت محذوفة في التقدير كما أنها محذوفة في اللفظ للزم قلب (الياء) (ألفا) ولما كانت (الياء) في نية السكون (¬4) لم تقلب. ويدل عليه (¬5) أيضًا تثبيتهم (¬6) (للواو) في (نُوْي) إذا خفف (نُؤي) (¬7)، ولولا نية الهمزة لقلبت (ياء) وأدغمت (¬8) كما فعل في (مَرْمِيٍّ) وبابه (¬9). وفي تعويضهم من همزة (إلاه) ما يدل على أن حذفها ليس على حد ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (بالحاء) المهملة في الموضعين. و (الخبء) ما خبِّئ، سمي بالمصدر، انظر: "اللسان" (خبأ) 2/ 1085. (¬2) أي: على التخفيف القياسي، اختصر الواحدي كلام الفارسي، حيث افترض أن سائلا يسأل لماذا كان على هذا التقدير؟ ولم يكن على التخفيف، فأجاب عنه بما محصله ما ذكر. انظر: "الإغفال" ص 11. (¬3) (الجَيْأَل) الضبع. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (جيل) 1/ 499. (¬4) أي على نية بقائها ساكنة كما كانت قبل التخفيف (جَيْأَل). (¬5) ترك بعض حجج الفارسي. انظر: "الإغفال" ص 12. (¬6) في "المخصص" (تبينهم) 17/ 138. (¬7) في (ج): (بدون همز). (¬8) في (ب): (أودعت). (¬9) في (ب): (ربابه) وباب مَرْمِي هو كل كلمة التقت فيها الواو والياء والأولى منهما ساكنة، تقلب فيها (الواو) (ياء) وتدغم في (الياء). انظر: "أوضح المسالك" ص 310.

القياس (¬1)، وذلك العوض هو (الألف واللام)، والدلالة على أنها عوض استجازتهم قطع الهمزة الموصولة الداخلة على (لام التعريف) في (القسم (¬2) و (النداء) مثل: أَفَأَللهِ لَتَفْعَلَنَّ، ويا أَللهُ اغفر لي (¬3). فلو كانت غير عوض لم تثبت كما لم تثبت في غير هذا الاسم، ولما اختص هذا الاسم بقطع الهمزة فيه عَلِمنا أن ذلك لمعنى ليس في غيره، وهو كونها عوضا من المحذوف الذي هو (الفاء). ألا ترى أنك إذا أثبت الهمزة في (الإله) لم تكن (الألف واللام) فيه على حدهما في قولنا: (الله) لأن قطع همزة الوصل لا يجوز في (الإله)، كما جاز في قولنا: (الله) لأنهما ليسا بعوض من شيء (¬4). القول الثاني: في أصل هذِه الكلمة: أن أصله (لَاهٌ) ووزنه على هذا (فَعْلٌ) (¬5) (اللام) فاء الفعل، و (الألف) منقلبة عن الحرف الذي هو العين، و (الهاء) لام، والذي دلّه (¬6) على ذلك قول بعضهم: (لَهْيَ أبوك) بمعنى: لله أبوك، قال سيبويه: فقلب العين وجعل اللام ساكنة، وهو (الهاء) (¬7) إذا صارت ¬

_ (¬1) أورد كلام أبي علي مختصرا. انظر: "الإغفال" ص 12، 13. (¬2) في (ج): (القيم). (¬3) انظر: "الكتاب" 2/ 195. (¬4) قوله: (ألا ترى .. إلى شيء) ورد في "الإغفال" في موضع آخر بعيدا عما قبله. وانظر: "الإغفال" ص 35، "المخصص" 17/ 146. (¬5) "الإغفال" ص 26، "المخصص" 17/ 143، "اشتقاق أسماء الله" ص 27. (¬6) أي سيبويه فهذا قوله الثاني، قال في "الإغفال": (فأما القول الآخر الذي قاله سيبويه في اسم الله تعالى فهو أن الاسم أصله (لاه) .. والذي دله على ذلك أن بعضهم يقول: (لَهْيَ أبوك)، ... "الإغفال" ص 26، وانظر: "الكتاب" 3/ 498. (¬7) في (ج): (الاها).

مكان العين، كما كانت العين ساكنة في (لاه) (¬1)، وترك آخر الاسم مفتوحًا كما تركوا آخر (أين) مفتوحًا (¬2)، وإنما فعلوا ذلك به حيث غيروه لكثرته في كلامهم، فغيروا إعرابه كما غيروه (¬3). فالألف -على هذا القول- في الاسم منقلبة عن (الياء) لظهورها في موضع (اللام) المقلوبة إلى موضع (العين) وهي في (¬4) القول الأول زائدة لفعال غير منقلبة عن شيء. واللفظتان على هذا مختلفتان، وان كان في كل واحدة منهما بعض حروف الأخرى (¬5). وحكى أبو بكر محمد بن السري (¬6) أن أبا العباس محمد بن يزيد، اختار القول الثاني (¬7) من القولين اللذين ذكرهما سيبويه. وأما اشتقاق هذا الاسم من اللغة فذهبت طائفة منهم الخليل (¬8)، وابن ¬

_ (¬1) قوله (لاه) زيادة ليست في "الإغفال" ولا في "الكتاب". (¬2) مبنية على الفتح، انظر: "المسائل الحلبيات" ص 103. (¬3) انتهى كلام سيبويه، "الكتاب" 3/ 498، "الإغفال" ص 26، "المخصص" 17/ 143، "المسائل الحلبيات" للفارسي ص101، "المسائل البصريات" للفارسي 2/ 909. (¬4) في (ب): (من). (¬5) انظر بقية كلام أبي علي الفارسي في "الإغفال" ص 26 وما بعدها. (¬6) في "الإغفال" (أبو بكر بن السراج) ص 34، وفي "المخصص" (أبو بكر) 17/ 145. وابن السراج: هو أبو بكر محمد بن السري بن السراج النحوي. (¬7) في (ب): (الأول) ولم يرد لفظ (الأول) أو (الثاني) في "الإغفال" وإنما فيه (اختار في هذا الاسم أن يكون أصله لاها ....) وهذا هو القول الثاني لسببويه. "الإغفال" ص 34، "المخصص" 17/ 145، وقد أورد المبرد في "المقتضب" القول الأول لسيبويه 4/ 240، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 25، "الخزانة" 2/ 266، 267. (¬8) هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، البصري، صاحب العربية والعروض (100 - 175 هـ). انظر ترجمته في: "معجم الأدباء" 3/ 300، "طبقات النحويين =

كيسان (¬1) وأبو بكر القفال (¬2)، والحسين (¬3) بن الفضل (¬4) إلى أنه ليس بمشتق، وأنه اسم تفرد به الباري سبحانه وتعالى، يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يشركه فيه أحد، قال الله عز وجل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] (¬5) وأما الذين قالوا: إنه مشتق فاختلفوا، فذهب عُظْمُ أهل اللغة إلى أن معناه المستحق للعبادة، وذو العبادة الذي إليه تُوَجَّه، وبها يُقْصَد (¬6). ورُويَ عن ابن عباس أنه كان يقرأ (ويذرك وإِلاهَتَك) [الأعراف: 127] ¬

_ = واللغويين" للزبيدي ص 47، "إنباه الرواة" 1/ 376، "وفيات الأعيان" 2/ 244، ومقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 32، "إشارة التعيين" ص 114. (¬1) هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن كيسان، النحوي، كان يجمع بين المذهبين البصري والكوفي، وإلى مذهب البصريين أميل، توفي سنة تسع وتسعين ومائتين. انظر ترجمته في "طبقات النحويين" للزبيدي ص 139، "تاريخ بغداد" 1/ 335، "إنباه الرواة" 3/ 57. (¬2) هو محمد بن علي بن إسماعيل، أبو بكر الشاشي القفال، أحد أعلام المذهب الشافعي، يتكرر ذكره في التفسير والحديث والأصول والكلام، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة على الصحيح. انظر ترجمته في "الأنساب" 7/ 244، "وفيات الأعيان" 4/ 200، "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 148. (¬3) في (ب): (الحسن). (¬4) الحسين بن الفضل، هو أبو علي الحسين بن الفضل بن عمير البجَلِي الكوفي ثم النيسابوري، المفسر، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. انظر ترجمته في: "العبر" 1/ 406، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 159. (¬5) انظر: "تفسير أسماء الله" للزجاجي، وانظر: "اشتقاق اسماء الله" للزجاجي: ص 28 "تفسير الثعلبي" 1/ 18 أ "الزينة" 2/ 12. (¬6) انظر: "الإغفال" ص 5، "المخصص" 17/ 136، "تفسير الثعلبي" 1/ 18/ أ، "تفسير أسماء الله" ص 26، "اشتقاق أسماء الله" ص 3023، "تهذيب اللغة" (الله) 1/ 189.

قال معناه: عبادتك (¬1). وقال أبو زيد (¬2): تَأله الرجل إذا نسك (¬3)، وأنشد: سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ (¬4) مِنْ تَأَلُّهِي (¬5) وقد سَمَّت (¬6) العرب الشمس لما عبدت (إِلاهَةَ)، و (الإلاهة) قال عتيبة بن الحارث اليربوعي (¬7): ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد، من طرق، 1/ 84، 9/ 25 - 26، وذكره ابن خالويه في "الشواذ" ص 50، وابن جني في "المحتسب" وعزاه كذلك إلى علي وابن مسعود وأنس بن مالك وعلقمة الجحدري والتيمي وأبي طالوت وأبي رجاء، 1/ 256، والفارسي في "الإغفال" ص 5، وانظر: "المخصص" 17/ 136، "تفسير الماوردي" 2/ 248، "تهذيب اللغة" (الله) 1/ 190، "البحر" 4/ 367. (¬2) هو سعيد بن أوس بن ثابت، أبو زيد الأنصاري، صاحب النحو واللغة، مات سنة خمس عشرة ومائتين. انظر ترجمته في مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 34 - 35، "تاريخ بغداد" 9/ 77، "طبقات النحويين واللغويين" ص 165، "إنباه الرواة" 2/ 30. (¬3) "الإغفال" ص 6، "المخصص" 17/ 136. (¬4) في (ج): (استرحبن). (¬5) البيت لرؤبة وقبله: لله دَرُّ الغَانِيَاتِ المُدَّهِ. (المُدَّه) جمع مَادِه، بمعنى المادح، يقول: إن هؤلاء سبحن: وقلن إنا لله وإنا إليه راجعون، يقلنها حسرة كيف تنسك وهجر الدنيا. ورد البيت في "الطبري" 1/ 54، "الإغفال" ص 6، "المخصص" 17/ 136، "المحتسب" 1/ 256، "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 26، "اشتقاق أسماء الله" ص 24، "التهذيب" (الله) 1/ 189، "شرح المفصل" 1/ 3، "زاد المسير" 1/ 9، وابن عطية 1/ 57، "تفسير الثعلبي" 1/ 18/ أ، "ديوان رؤبة" ص 165. (¬6) في (ج): (سمعت). (¬7) نسبه الطبري لبنت عتيبة 9/ 26، ونسبه بعضهم لـ (مية) وهو اسمها وكذا (أم البنين) وقيل: لنائحة عتيبة، والأقرب أنه لبنت عتيبة ترثي أباها حين قتله (بنو أسد) يوم (خَوّ) مع أبيات أخرى ذكرها في "معجم البلدان" 5/ 18.

تَرَوَّحْنَا مِنَ اللعْبَاءِ أَرْضًا ... وأَعْجَلْنَا الإلاَهَةَ أَنْ تَؤُوبَا (¬1) وإنما سموها الإلاَهَة على نحو تعظيمهم لها وعبادتهم إياها كفرا. وعلى ذلك نهاهم الله وأمرهم بالتوجه في العبادة إليه في قوله جل وعلا: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} [فصلت: 37] [فصلت: 37] الآية (¬2)، وكذلك أيضًا كانوا يدعون معبوداتهم من الأصنام والأوثان (آلهة)، وهي جمع (إلاه) (¬3) كإزار وآزرة، وإناء وآنية. قال الله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] وهي أصنام كان يعبدها (¬4) قوم فرعون معه (¬5)، وعلى هذا قال قائلهم: كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رِيَاحٍ ... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ (¬6) الكُبارُ (¬7) ¬

_ (¬1) (اللعباء) مكان بين الربذة وأرض بني سليم، وقيل: غير ذلك، وقوله: (أرضا) يروى (عصرا) ويروى (قصرا) أي: عشيا. ورد البيت في الطبري 9/ 26، "الإغفال" ص 8، 9، "المخصص" 17/ 137، "تهذيب اللغة" (الله) 1/ 190، "معجم ما استعجم" 4/ 1156، "معجم البلدان" 5/ 18، "تفسير الثعلبي" 1/ 18 ب، "المحتسب" 2/ 123، "اللسان" (لعب) 7/ 4041. (¬2) انظر: "الإغفال" ص 9. (¬3) في (ب): (الإله). (¬4) في (ب): (كانوا يعبدوها). (¬5) انظر: "الإغفال" ص 10، 11، "تهذيب اللغة" 1/ 190. (¬6) في (ب): (لأهه) (¬7) من قصيدة للأعشى، قالها فيما كان بينه وبين بني جحدر، و (أبو رياح) رجل من بني ضبيعة، قتل جارا لبني سعد بن ثعلبة، فسألوه الدية، فحلف لا يفعل، ثم قُتِل بعد حلفته، و (لاهه): الهه، (الكبار): العظيم، ويروى (بحلفة) ويروى (كدعوة). انظر: "ديوان الأعشى" ص 72، "الجمهرة" 1/ 327، "اشتقاق أسماء الله" ص 27، "تفسير الثعلبي" 1/ 17 ب، "الزينة" 2/ 18، "معاني القرآن" للفراء 1/ 207، والقرطبي 4/ 53، "اللسان" (أله) 1/ 116، و (لوه) 7/ 4107، "شرح المفصل" 1/ 3، "الخزانة" 7/ 176.

يريد: الصنم، وهذا البيت حجة للقول الثاني (¬1) من قول سيبويه. قالوا: وهو (¬2) اسم حدث، ثم جرى صفة للقديم سبحانه، ونظير هذا قولنا: (السلام)، والسلام من سَلَّم كالكلامِ من كَلَّم، والمعنى ذو السلام، أي: يُسَلم من عذابه من يشاء من عباده، كما أن المعنى في الأول أن العبادة تجب له (¬3)، فهذا وجه، وهو طريقة أهل اللغة (¬4). وأخبرني أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله العروضي -رحمه الله- قال: أبنا (¬5) أبو منصور أحمد بن محمد الأزهري (¬6)، أبنا (¬7) أبو الفضل المنذري (¬8)، قال: سألت أبا الهيثم خالد بن يزيد الرازي، عن اشتقاق اسم (الله) في اللغة، فقال (الله) أصله (إلاه)، قال الله جل ذكره: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] ولا يكون إلهًا حتى يكون معبودًا، وحتى يكون لعابده (¬9) خالقًا، ورازقًا، ومدبرًا، وعليه مقتدرًا، فمن لم يكن كذلك فليس بإله، وإن عَبِدَ ظلما، بل هو مخلوق (¬10) ومتعبد، ¬

_ (¬1) وهو أن أصل (الله): (لاه). (¬2) في (ب): (وهم). (¬3) بنصه في "الإغفال" ص 6، "المخصص" عن "الإغفال" 17/ 136. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 189، "معجم مقاييس اللغة" (أله) 1/ 127، "الصحاح" (أله) 6/ 2223، "اللسان" (أله) 1/ 114. (¬5) (أبنا) ساقط من (ج). (¬6) صاحب "تهذيب اللغة" سبقت ترجمته. (¬7) في (ج): (أن). (¬8) هو محمد بن أبي جعفر المنذري اللغوي (أبو الفضل) يروي عن أبي العباس ثعلب، وأبي الهيثم الرازي، روى عنه الأزهري كثيرًا. انظر مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 30، 41، "اللباب" 3/ 262. (¬9) في (ب): (لعباده). (¬10) في (ب): (وهو مخلوق).

قال: وأصل (إلاه) (ولاه) فقلبت الواو همزة، كما قالوا: للوشاح: إشاح، ولِلْوِجَاح: إِجَاح (¬1)، ومعنى وِلاه: أن الخلق يَوْلَهون إليه في حوائجهم، ويضرعون إليه فيما ينوبهم، ويفزعون إليه في كل ما يصيبهم كما يَوْلَه كل طفل إلى أمه (¬2). وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه مشتق من أَلِهْت في الشيء آلَهُ إلها إذا تحيرت فيه (¬3). وتسمى المفازة ميلها. وقال الأعشى (¬4): وَبَهْمَاءَ تِيهٍ تَأْلهَ العَيْنُ وَسْطَهَا ... وَتَلْقَى بِهَا بَيْضَ النَّعَام تَرَائِكَا (¬5) ¬

_ (¬1) يقال ليس دونه وِجاح، ووَجاح، ووُجاح، وأجاح، إجاح: أي: ستر "اللسان" (وجح) 8/ 4769. (¬2) كلام أبي الهيثم ورد في "التهذيب" ضمن كلام طويل له قال الأزهري: (وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم الله في اللغة فقال ..) ثم ذكره، "التهذيب" (الله والإله) 1/ 189، وانظر: "اللسان" (أله) 1/ 114. (¬3) ذكره الثعلبي 1/ 18 أ. (¬4) هو أبو بَصير، ميمون بن قيس، من فحول شعراء الجاهلية، ويدعى (الأعشى الكبير) تمييزًا له عن غيره ممن سمي (الأعشى)، أدرك الإسلام آخر عمره، وعزم على الدخول فيه، فصدته قريش في قصة مشهورة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 154، "معاهد التنصيص" 1/ 196، "خزانة الأدب" 1/ 175. (¬5) في (ج): (برائكا). البيت في وصف صحراء مطموسة المعالم، (ترائكا) متروكة، ورواية الشطر الأول في الديوان: وَيَهْمَاءَ قَفْرٍ تَخْرُجْ العَيْنَ وَسْطَهَا. وعليه فلا شاهد في البيت هنا. (الديوان) ص 130، والثعلبي بعد أن ذكر قول أبي عمرو ابن العلاء استشهد بقول زهير: =

ومعناه: أن العقول تتحير في كنه صفته وعظمته (¬1). وعند متكلمي أصحابنا (¬2): أن الإله من الإلَهية، والإلَهِية القدرة على اختراع الأعيان (¬3). وقد أشار أبو الهيثم إلى هذا فيما ذكر، قالوا: وانما سَمَّت العرب معبوداتهم آلهة (¬4)؛ لأنهم اعتقدوا فيها صفة التعظيم، واستحقاق هذا الاسم فأصابوا في الجملة، وأخطؤوا في التعيين. والإمالة في اسم الله تعالى جائزة في قياس العرب (¬5)، والدليل على ¬

_ = وَبَيْدَاء تِيهٍ تَألْهُ العَيْنُ وَسْطَهَا ... مُخَفَّقةٍ غَبْرَاءَ صَرْمَاءَ سَمْلَقِ الثعلبي 1/ 18 أ، وكذا في "الزينة" 2/ 19. (¬1) الثعلبي 1/ 18 ب، وانظر: "الزينة" 2/ 19. (¬2) هم المتكلمون من الأشاعرة، الذين تكلموا في العقائد بالطرق العقلية. انظر: "درء تعارض العقل والنقل" 1/ 28، 38، "الرسالة التدمرية" لابن تيمية ص 147. (¬3) هذا التفسير لمعنى الإلَهية هو منهج المتكلمين، وعند أهل السنة هو المستحق للعبادة. قال ابن تيمية: (وليس المراد بـ) بالإله (هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين .. بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبده فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى آله ..)، "الرسالة التدمرية" ص 186. (¬4) مرَّ كلام أبي الهيثم قريبا، وليس فيه دليل على أن الإلهية: القدرة على الاختراع، بل يدل على المعنى الثاني وهو أن الإلهية؛ استحقاق العبادة، وقوله: (لأنهم اعتقدوا فيها صفة التعظيم ..). ليس من كلام أبي الهيثم، انظر: "تهذيب اللغة" أله 1/ 189. (¬5) الكلام عن إمالة (الألف) من لفظ الجلالة نقله عن أبي علي الفارسي من "الإغفال" ص 46، قال الفارسي: (فأما الإمالة في الألف من اسم الله تعالى فجائزة في قياس العربية، والدليل على جوازها ..). ونقل ابن سيده كلام الفارسي. "المخصص" 17/ 150. ومعنى الإمالة: هو تقريب الألف نحو الياء والفتحة التي قبلها نحو الكسرة وهناك ثلاث علل للإمالة: هي الكسرة، وما أميل ليدل بالإمالة على أصله، والإمالة لإمالة بعده. انظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 1/ 168، 170.

جوازها أن هذِه (الألف) لا تخلو من أن تكون زائدة لفِعَال كالتي (¬1) في (إزار) و (عِمَاد)، أو تكون عين الفعل. فإن كانت زائدة جازت فيها الإمالة من وجهين: أحدهما: أن الهمزة المحذوفة كانت مكسورة، وكسرها يوجب الإمالة في الألف، كما أن الكسرة في (عماد) توجب إمالة ألفه. فإن قلت: كيف تمال الألف من أجل الكسرة في الهمزة وهي محذوفة؟ فالقول فيها إنها وإن كانت محذوفة، موجبة للإمالة (¬2)، كما كانت توجبها قبل الحذف؛ لأنها -وإن كانت محذوفة- فهي من الكلمة، ونظير ذلك ما حكاه سيبويه من أن بعضهم يميل الألف في: مَادٍّ (¬3) وَشَاذٍّ، للكسرة المنوية (¬4) في عين الفعل عند ترك الإدغام، وإن لم يكن في لفظ الكلمة كسرة (¬5)، كذلك الألف في اسم الله، تجوز إمالتها وإن لم تكن الكسرة ملفوظا بها. والوجه الثاني: (لام) (¬6) الفعل منجرة، فتجوز الإمالة لانجرارها. وإن كانت الألف عينا ليست (¬7) بزائدة جازت إمالتها، وحسنت فيها إذ كان ¬

_ (¬1) في (جـ): (كالذي). (¬2) في (أ)، (ج): (الإمالة) وما في (ب) موافق لـ"الإغفال" ص 47. (¬3) في (أ)، (ب)، (ج): (صاد) بالصاد، وصححت الكلمة على ما ورد في "الإغفال" ص 48، "المخصص" 17/ 150، ووردت كذلك عند سيبويه (جاد وماد) 7/ 132، ولا تصح بالصاد؛ لأن الإمالة تمنع بعد (الصاد) لأنه حرف مستعمل. انظر: "الكتاب" 4/ 128. (¬4) في (ب): (المنونة). (¬5) حكى كلام الفارسي بالمعنى، انظر: "الإغفال" ص 48، "الكتاب" 4/ 122، 132، "المخصص" 17/ 150. (¬6) في "الإغفال" (وتجوز إمالتها من جهة أخرى، وهي أن لام الفعل منجرة ..) ص 48. (¬7) في (ب): (ليس).

انقلابها عن الياء (¬1) بدلالة قولهم: (لَهْيَ أبوك (¬2)) وظهور الياء لما قلبت إلى موضع السلام (¬3). وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. معنى الرحمة في صفة الله تعالى: إرادته الخير والنعمة بأهله، وهي صفة ذات، وفي صفة أحدنا تكون رقة قلب وشفقة (¬4). قال أبو بكر محمد بن القاسم بن (¬5) بشار: سألت أبا العباس (¬6) لم جمع بين الرحمن والرحيم؟ فقال: لأن الرحمن عبراني فأتى معه الرحيم العربي، واحتج بقول جرير (¬7): ¬

_ (¬1) في (ب): (الباء) وكذا قوله: (وظهور الباء). (¬2) مرت هذِه الصيغة قريبا وهي بمعنى (لله أبوك) انظر ص 252. (¬3) انتهى عن "الإغفال" لأبي علي الفارسي، وقال بعده: (فإن ثبتت بها قراءة فهذِه جهة جوازها) ص 49، وانظر: "المخصص" 17/ 151. (¬4) الرحمة صفة من صفات الله تعالى، نثبتها له تعالى، كما أثبتها لنفسه، ولا يلزم من إثباتها مشابهة صفة المخلوقين، ولا نؤولها بإرادة الخير كما فعل الواحدي هنا. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 58 - 59، (الرسالة التدمرية) لابن تيمية ص 23، 30. (¬5) هو أبو بكر بن الأنباري، سبقت ترجمته عند الحديث عن مصادر الواحدي. (¬6) هو أبو العباس ثعلب كما صرح بذلك الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 42، وانظر: "الزاهر" 1/ 153، "تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383، "الزينة" 2/ 25، "الاشتقاق" لابن دريد ص 58، ووهم القرطبي فقال: زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب "الزاهر" 1/ 104، وإنما هو ثعلب كما سبق وليس أبا العباس المبرد. (¬7) هو أبو حَرْزَة، جرير بن عطية بن حذيفة من بني كليب بن يربوع، أحد فحول الشعراء في صدر الإسلام، توفي سنة عشر ومائة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 304، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 297، "الخزانة" 1/ 75.

أو تَتْرُكُونَ إِلَى القَسَّيْنِ (¬1) هِجْرَتَكُم ... وَمَسْحَهُمْ صُلْبَهُمْ رَحَمَانَ قُرْبَانَا (¬2) فأنكر عليه بعض الناس (¬3)، وقال: لم تزل العرب تعرف الرحمن وتذكره في أشعارها، واحتج بقول الشاعر: أَلاَ ضَرَبَت تِلْكَ الفَتَاة (¬4) هَجِيَنَهَا ... أَلاَ قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَميِنَهَا (¬5) فقال (¬6): إن جمهور العرب كانوا لا يعرفون "الرحمن" في الجاهلية، ¬

_ (¬1) في (ج): (القيز). (¬2) البيت من قصيدة له يهجو فيها الأخطل وهو نصراني، فحكى في البيت قول النصارى، ولهذا نصب (رحمن): (قربانا) أي قائلين ذلك، ويروى البيت (هل تتركن)، (مسحكم) وفي "الزينة" (رخمن) بالمعجمة وهو بمعنى: الحاء. انظر: "الزينة" 2/ 25، "الزاهر" 1/ 153، "اشتقاق أسماء الله" ص 43، "تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383، "تفسير الماوردي" 1/ 52 "تفسير القرطبي" 1/ 91، "اللسان" (رحم) 3/ 1612. (¬3) ممن أنكر ذلك الطبري في "تفسيره" حيث قال: (وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف (الرحمن) ولم يكن ذلك في لغتها ...) 1/ 57، والزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 42، وابن سيده في "المخصص" 17/ 151 وغيرهم. (¬4) في (ب): (الفتاو). (¬5) لم يعرف له قائل وقد ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 58، وابن سيده في "المخصص" 17/ 152، وقال محمد محمود التركزي الشنقيطي في تعليقه على "المخصص": إن البيت من صنع بعض الرجال الذين يحبون إيجاد الشواهد المعدومة لدعاويهم. ورد عليه ذلك محمود شاكر في حاشيته على الطبري 1/ 131، وذكره ابن دريد في "الاشتقاق"، وقال: (وقد روي بيت في الجاهلية، ولم ينقله الثقات وهو للشنفرى: لَقَدْ لَطَمَتْ تَلِكَ الفَتَاةُ هَجِينَهَا ... أَلاَ بَتَرَ الرَّحْمَنُ رَبَّي يَمِينَهَا "الاشتقاق" ص 58، ورواية هذا البيت تختلف قليلا عن البيت المستشهد به، وانظر (اشتقاق أسماء الله) ص 82، (تفسير الماوردي) 1/ 52. (¬6) أي ثعلب، ولم أجده، ولعله في كتب ابن الأنباري المفقودة، وأورد نحوه الطبري في =

الدليل على هذا أنهم لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكره قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رجلًا باليمامة (¬1)، وذلك قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] وإنما يذكر بعض الشعراء الرحمن في الجاهلية، إذ (¬2) لقنه (¬3) من أهل الكتاب، أو أخذه عن بعض من قرأ الكتب كأمية بن أبي الصلت (¬4) وزيد بن (¬5) عمرو، وورقة بن نوفل (¬6)، ولا تجعل هذا حجة على ما عليه أكثرهم. ومراد أبي العباس أن الرحمن يتكلم به بالعبرانية (¬7)، وتتكلم به العرب، فلما لم يخلص في كلامهم، ولم ينفردوا به دون غيرهم، أتى (¬8) بعده بالرحيم ¬

_ = "تفسيره" 1/ 58، وانظر: "الاشتقاق" ص 58، والماوردي في "تفسيره" 1/ 52، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 104. (¬1) انظر الطبري فىِ "تفسيره" 19/ 29، والقرطبي في "تفسيره" 13/ 64. (¬2) في (ج): (إذا). (¬3) في (ب): (لقيته) (¬4) واسمه عبد الله بن ربيعة بن عوف الثقفي، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره فقال: "آمن شعره وكفر قلبه" وكان يخبر أن نبيا يخرج قد أظل زمانه، فلما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر به حسدا، ومات كافرا سنة ثمان أو تسع. انظر: "الشعر والشعراء" ص 300، "طبقات فحول الشعراء" ص 101، "الاشتقاق" ص 143، "الخزانة" 1/ 247. (¬5) زيد بن عمرو بن نفيل، والد سعيد بن زيد أحد العشرة، مات قبل المبعث. انظر: "الإصابة" 1/ 569، "تجريد أسماء الصحابة" 1/ 200. (¬6) هو ورقة بن نوفل بن أسد، ابن عم خديجة رضي الله عنها، قال ابن منده: اختلف في إسلامه، والأظهر أنه مات قبل الرسالة، وبعد النبوة وكذا قال الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" 2/ 128، وانظر: "الإصابة" 3/ 633، "الخزانة" 3/ 391. (¬7) في (ج): (بالعبراني). (¬8) في (ب): (أوتى).

الذي لا يكون إلى عربيا، ولا يلتبس بلغة غيرهم (¬1). والصحيح أنه مشتق من الرحمة، وأنه اسم عربي لوجود هذا البناء في كلامهم، كاللهفان والندمان والغضبان (¬2). قال الليث: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان، اشتقاقهما (¬3) من الرحمة (¬4). وقال أبو عبيدة: هما صفتان لله تعالى، معناهما ذو الرحمة (¬5). وأما ما احتج به أبو العباس من قوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] فهو سؤال عن الصفة، ولذلك قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ}، ولم يقولوا: ومن، والقوم جهلوا ¬

_ (¬1) لعل هذا من قول ابن الأنباري، لأن كلام الواحدي بعد هذا يدل على ذلك، لأنه رجح أن أصله عربي، وأنه مشتق، وأورد بعض الردود على أبي العباس كما سيأتي. قال الزجاجي رادا على من قال: إن أصله غير عربي ... الرحمن معروف (الاشتقاق) والتصريف في كلام العرب، والأعجمي لا معنى له في كلام العرب ولا تصريف "اشتقاق أسماء الله" ص 42. وقول أبي العباس: إنه أورد (الرحيم) لأنها تعرفه العرب، مع (الرحمن) الذي يلتبس بكلام غيرهم. فكأنه جعلهما بمعنى واحد. وجمهور العلماء على أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر، وأن (الرحمن) عربي، وانما الكلام لم قدم (الرحمن) على (الرحيم)؟ وأجاب عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 58 - 59، ويرد قريبا في كلام الواحدي. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 55، "اشتقاق أسماء الله" ص 38، "المخصص" 1/ 151. (¬3) في (ب): (اشتقاقهم). (¬4) "تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 21، "تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383، والنص من "التهذيب"، وقد رد الطبري على أبي عبيدة قوله وأغلظ له حيث قال: (وقد زعم بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير أن (الرحمن) مجازه: ذو الرحمة ..) الطبري في "تفسيره" 1/ 58.

صفته، والاسم كان معلوما لهم في الجملة (¬1). وقيل: هذا على جهة ترك التعظيم منهم. واختلفوا في أن أي الاسمين من هذين أشد مبالغة، فقال قوم: الرحمن أشد مبالغة من الرحيم، كالعلام من العليم، ولهذا قيل: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر، ورحمته في الآخرة اختصت بالمؤمنين (¬2). فإن قيل: على هذا كان الرحمن أشد مبالغة، فلم بدئ بذكره (¬3)؟ وإنما يبدأ في نحو هذا بالأقل ثم يتبع (¬4) الأكثر كقولهم: (فلان جواد يعطي العشرات والمئين (¬5) والألوف). والجواب: أنه بدئ (¬6) بذكر الرحمن، لأنه صار كالعلم، إذ كان لا يوصف به (¬7) إلا الله عز وجل، وحكم الأعلام وما كان من الأسماء أعرف أن يبدأ به، ثم يتبع (¬8) الأنكر، وما كان في التعريف أنقص. هذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين، فجاء هذا على منهاج كلام العرب (¬9). ¬

_ (¬1) وجعله الطبري من إنكار العناد والمكابرة، وإن كانوا عالمين بصحته، وليس ذلك منهم إنكارا لهذا الاسم، الطبري في "تفسيره" 1/ 57 - 58، وقال ابن عطية: وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له، لا على نفس اللفظة 1/ 93، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 23، والقرطبي في "تفسيره" 13/ 67. (¬2) انظر الطبري في "تفسيره" 1/ 55، "تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383، "المخصص" 17/ 151، "معاني القرآن" للزجاج 58، "اشتقاق أسماء الله" ص 40. (¬3) هذا التساؤل والإجابة عنه بنصه في "المخصص" 17/ 151. (¬4) في (ج): (تتبع). (¬5) في (أ)، (ج): (الماتين) وفي (ب): (المايتين) وما أثبت من "المخصص". (¬6) في (ب): (بدأ). (¬7) (به) ساقط من (ج). (¬8) في (ج): (تتبع). (¬9) إلى هنا بنصه في "المخصص" 17/ 151، وإلى نحوه ذهب الطبري في "تفسيره" =

وقال وكيع: الرحيم أشد مبالغة؛ لأنه ينبئ عن رحمته في الدنيا والآخرة ورحمة الرحمانية في الدنيا دون الآخرة (¬1). وقال آخرون: إنهما بمعنى واحد كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجيء بهما للتأكيد والإشباع، كقولهم: جادٌّ ومُجِدُّ (¬2)، وقول طَرْفَه (¬3): مَتَى أَدْنُ مِنْه يَنْأَ مِنِّي (¬4) وَيَبْعُدِ (¬5) ¬

_ = 1/ 58، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" ص 40، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 92. (¬1) لم أجده، عن وكيع فيما اطلعت عليه، والله أعلم. قال ابن كثير: وقد زعم بعضهم أن (الرحيم) أشد مبالغة من (الرحمن)، ثم رد هذا القول ابن كثير في "تفسيره" 1/ 23، وعند جمهور العلماء أن (الرحمن) أشد مبالغة من (الرحيم) وأن (الرحمن) أعم فهو في الدنيا والآخرة ولجميع الخلق، و (الرحيم) خاص بالمؤمنين. انظر الطبري في "تفسيره" 1/ 55، "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 29، "المخصص" 17/ 151، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 19 أ، والماوردي في "تفسيره" 1/ 52 - 53، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 91، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 105، 106، "الدر" 1/ 29، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 22 - 23. (¬2) هذا قول أبي عبيدة، ونسبه ابن الأنباري كذلك لقطرب، وبهذا النص مع الشواهد ذكره الثعلبي، أما أبو عبيدة فذكر شواهد غيرها، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 21، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 19 أ، "الزاهر" 1/ 153، "تفسير أسماء الله" ص 29، "اشتقاق أسماء الله" ص 38، 39، وقد رد الطبري على أبي عبيدة، وأغلظ له الرد، وسبق ذكر بعض كلامه. انظر: "تفسيره" 1/ 58. (¬3) هو الشاعر الجاهلي المشهور، عُدَّ بعد امرئ القيس في الشعر، واسمه (عمرو) ولقب بـ (طَرْفَه) وأحد الطرفاء لبيت قاله، قتل وهو ابن ست وعشرين سنة، وقيل: ابن عشرين. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 103، "الخزانة" 2/ 419. (¬4) في (ب): (عنى). (¬5) صدره: مَالِي أَرَانِي وابْنَ عَمِّي مَالِكًا والبيت من معلقة طرفة المشهورة، يتحدث عما كان بينه وبين ابن عمه (مالك) من =

وقول عدي (¬1): وأَلْفى قَولَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا (¬2) في أمثال لهذا، وروي عن ابن عباس أنه قال. الرحمن الرحيم، اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر (¬3). ¬

_ = جفوة وخصام، (ينأ عني) و (يبعد) معناهما واحد، وإنما جاء بهما لأن اللفظين مختلفان، والمعنى يبعد ثم يبعد بعد ذلك، وقيل: ينأ: بالفعل، ويبعد: بالنفس لشدة بغضه لي. أورد البيت الثعلبي في "تفسيره" 1/ 19 أ، وانظر: "ديوان طرفة" ص 34 تحقيق وتحليل د. علي الجندي. (¬1) عدي بن زيد بن حماد، من بني امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم شاعر فصيح، من شعراء الجاهلية، وكان نصرانيا، قتله النعمان بن المنذر ملك الحيرة. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 130، "معاهد التنصيص" 1/ 325، "الخزانة" 1/ 381. (¬2) من قصيدة قالها عدي بن زيد، في قصة طويلة مشهورة بين الزَّباء وجذيمة وردت في كتب التاريخ والأدب وصدر البيت: وَقدَّدَت الأَدِيَم لِرَاهِشيْه ... .. .. .. .. ويروي (قدمت) و (الراهش) عرق في باطن الذراع و (المين) بمعنى: الكذب، ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء 1/ 37، "الشعر والشعراء" ص 132، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 175، "تفسير الثعلبي" 1/ 19 أ، 73 أ، "أمالي المرتضى" 2/ 258، "المستقصى" 1/ 243، "مغني اللبيب" 2/ 357، "الهمع" 5/ 226، "معاهد التنصيص" 1/ 310، "اللسان" (مين) 7/ 4311، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 399، "الدر المصون" 1/ 358. والشاهد (كذبا ومَيْنا) فأكد الكذب بالمين وهو بمعناه. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 19 ب، وابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 152، والأزهري في "تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 92، وابن كثير عن القرطبي في "تفسيره" 1/ 22، وقد أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما عن ابن عباس، قال: (الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف =

قال الحسين (¬1) بن الفضل: غلط الراوي؛ لأن الرقة في صفة الباري لا تصح. وإنما هما أسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر (¬2). يدل على هذا ما روي في الخبر: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي (¬3) على الرفق مالا يعطي على العنف" (¬4)، وسمعت من يقول (¬5): معنى قول ابن عباس (اسمان رقيقان) أي يدلان فينا على الرقة. وقال بعضهم: الرحمن خاص اللفظ عام المعنى، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى (¬6). ¬

_ = عليه) في سنده ضعف. انظر الطبري 1/ 57، "تفسير ابن أبي حاتم" (رسالة دكتوراه) 1/ 148، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 23، "المفسر عبد الله بن عباس والمروي عنه" (رسالة ماجستير) 1/ 130. (¬1) في (ب): (الحسن). (¬2) ذكره القرطبي، وذكر نحوه عن الخطابي 1/ 92، وذكره ابن كثير في "تفسيره" في القرطبي 1/ 22. (¬3) (الواو) ساقطة من (ب). (¬4) أخرجه مسلم (2593) كتاب البر، باب: فضل الرفق، وأبو داود (4807) كتاب الأدب، باب: في الرفق، وأحمد في "مسنده" عن علي 1/ 112، وعن عبد الله بن مغفل 4/ 87، وأخرج البخاري عن عائشة وفيه: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (6927) كتاب استتابة المرتدين، باب: إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) في (ج): (تقول). (¬6) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 19/ أ. ومعنى أن (الرحمن) خاص اللفظ لأنه لا يطلق إلا على الله، عام المعنى؛ لأنه لجميع الخلق في الدنيا والآخرة، و (الرحيم) عام اللفظ لأنه يطلق على الله بما يليق به، ويطلق على غيره بما يليق به، وخاص المعنى: لأنه خاص بالمؤمنين، أو بالآخرة. انظر الطبري في "تفسيره" 1/ 56 - 58، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 22 - 23.

2

تفسير الفاتحة 2 - قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. قال ابن عباس: يعني الشكر لله، وهو أن صنع إلى خلقه فحمدوه (¬1). وقال الأخفش: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: الشكر لله (¬2)، قال: والحمد (¬3) -أيضًا- الثناء، [وكأن (¬4) الشكر لا يكون إلى ثناء ليد أوليتها (¬5)، والحمد قد يكون شكرا للصنيعة، ويكون ابتداء الثناء (¬6) على الرجل، فحمد الله الثناء] (¬7) ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 24 ب، وأخرج الطبري عن ابن عباس بمعناه، دون قوله (وهو أن صنع إلى خلقه فحمدوه) قال شاكر: إسناده ضعيف. الطبري في "تفسيره" 1/ 135 وبمثل رواية الطبري أخرجه ابن أبي حاتم، قال المحقق: سنده ضعيف 1/ 150، وانظر: "الدر" 1/ 34 - 35، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 24 - 25. (¬2) في (ج): (والحمد لله) ومثله في "اللسان". (¬3) نص كلام الأخفش في "تهذيب اللغة" (حمد) 1/ 913، وفيه (قال الأخفش {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشكر لله، قال والحمد أيضًا: الثناء)، وانظر: "اللسان" (حمد) 2/ 987، وفي "معاني القرآن" للأخفش ذكر اللغات فيها ولم يذكر المعنى 1/ 155، والنص في "اللسان". (¬4) في (ب): (فكأن)، وفي "التهذيب" مكانها (قلت ...) فهو من كلام الأزهري، ونص عليه في "اللسان" قال: قال الأزهري: الشكر لا يكون ... "اللسان" (حمد) 2/ 987، فكيف تصحف عند الواحدي، فصار كأنه من كلامه، أو من كلام الأخفش. (¬5) في (ب): (أولاها). (¬6) في "التهذيب" "اللسان" (للثناء). (¬7) مابين المعقوفتين ساقط من (ج).

عليه والشكر لنعمه (¬1). وقال أبو بكر (¬2): قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يحتمل أن يكون هذا إخبارًا أخبر الله تعالى به، والفائدة فيه أنه يبين (¬3) أن حقيقة الحمد له، وتحصيل كل الحمد له (¬4) لا لغيره، وذلك أنا (¬5) نرى بني الدنيا ينعم (¬6) بعضهم على بعض، فيحمده على إنعامه، فيكون حقيقة الحمد في ذلك لله، إذ هو الذي أنعم على الذي أنعم بما أنعم به، ورزقه إياه، وهو الذي وفق المعطي للعطية، وأجراها على يديه، فكان حقيقة الإنعام من الله تعالى، ومكافأة المنعَم عليه بالشكر (¬7) والحمد راجعة إليه جل اسمه (¬8). وعلى هذا فقد حُكِي أن ابن التوءم (¬9) كان يقول: إنما يجب أن يشكر ¬

_ (¬1) انتهى من "التهذيب" (حمد) 1/ 913، مع اختلاف يسير في العبارة، وانظر: "اللسان" (حمد) 2/ 987. (¬2) هو ابن الأنباري، وقد نقل عنه الواحدي في هذا الموضع كثيرا، ولم أجده في كتبه الموجودة، ولعله ضمن كتبه المفقودة كـ "المشكل في معاني القرآن"، انظر الدراسة. (¬3) في (ب): (أن بين) وفي (ج): (أنه بين). (¬4) في (ب): (لله). (¬5) في (ب): (أنه). (¬6) في (ب): (يُنَعَّم) بالتشديد. (¬7) في (ب): (الشكر). (¬8) انظر: "الوسيط" للواحدي 1/ 17، "تفسير الثعلبي" 1/ 24/ ب، 25/ أ، "الزاهر" 2/ 84، "تفسير الطبري" 1/ 59، "تفسير ابن عطية" 1/ 99 - 100، "تفسير الماوردي" 1/ 53، "تفسير البغوي" 1/ 52، "القرطبي" 1/ 114 - 115، "الكشاف" 1/ 46، 47. (¬9) ابن التوءم لم أجد له ترجمة، وكلامه أورده ابن قتيبة في عيون الأخبار أوسع مما ذكره الواحدي هنا. "عيون الأخبار" 3/ 191، قال ابن قتيبة: (قال ابن التوءم: كل من كان جوده يرجع إليه ولولا رجوعه إليه لما جاد عليك .. وإنما يوصف بالجود في الحقيقة، ويشكر على النفع في حجة العقل، الذي إن جاد عليك فلك جاد ..).

من إن جاد عليك فلك جاد، وإن (¬1) نفعك فنفعك أراد، من غير أن يرجع إليه من جوده بشيء (¬2) من المنافع على جهة من الجهات، وهو الله (¬3) وحده لا شريك له. ألا (¬4) ترى أن عطية الرجل لصاحبه لا تخلو من أن تكون لله أو لغيره فإن كانت (¬5) لله فثوابها على الله، فلا (¬6) معنى للشكر، وإن كانت (¬7) لغير الله فلا تخلو من أن تكون لطلب المجازاة، أو حب المكافأة، وهذِه تجارة معروفة، والتاجر لا يشكر على تجارته، وجر المنفعة إلى نفسه، وإما أن تكون لخوف يده أو لسانه، أو رجاء نصرته أو (¬8) معونته، ولا معنى لشكر من هذِه إحدى أحواله، وإما أن تكون (¬9) للرقة والرحمة، ولما يجد في قلبه من الألم، ومن جاد على هذا (¬10) السبيل، فإنما داوى نفسه من دائها، وخفف عنها ثقل برحائها (¬11). فأما من مدحه بشار (¬12) بن برد بقوله: ¬

_ (¬1) (إن نفعك) ليس في "عيون الأخبار" 3/ 191. (¬2) في (ب): (شيء) بسقوط الباء وما في (أ)، (ج) موافق لما في "عيون الأخبار". (¬3) في (ب): (اله). (¬4) بعد قوله: (وحده لا شريك له) كلام لابن التوءم تركه هنا، انظر: "عيون الأخبار" 3/ 191. (¬5) في (ب): (كان). (¬6) في (ب): (ولا معنى). (¬7) في (ب): (كان). (¬8) في (ب): (ومعونته). (¬9) في (ب): (يكون). (¬10) في (ب): (ومن حاد عن هذا). (¬11) إلى هنا ما ذكره ابن قتيبة عن ابن التوءم مع اختلاف في بعض العبارات، انظر: "عيون الأخبار" 3/ 191. (¬12) هو بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء، وأصله من (طخارستان)، أشعر الشعراء المولدين، نشأ بالبصرة، ومات سنة سبع أو ثمان وستين ومائة. انظر ترجمته في: =

لَيْسَ (¬1) يُعْطِيكَ لِلرَّجَاء ولِلْخَوْ ... فِ ولكن يَلَذُّ طَعْمَ العَطَاءِ (¬2) فأي معنى لشكر (¬3) من يعطي لاجتلاب لذته، ويجيب (¬4) داعي رأفته. قال أبو بكر: ويحتمل أن يكون هذا ثناء أثنى به على نفسه، علم عباده في أول كتابه ثناء (¬5) عليه، وشكرا (¬6) له، يكتسبون بقوله وتلاوته أكمل الثواب وأعظم الأجر، لطفا بهم، وحسن نظر لهم، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي قولوا: يا معشر الناس ما إذا قلتموه علت منزلتكم [وارتفعت درجتكم بقوله] (¬7) عند ربكم، فيضمر القول هاهنا كما أضمر في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] معناه يقولون: ما نعبدهم (¬8). ثم إذا قال القائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقد (¬9) أثنى على الله تعالى، فيكون ¬

_ = "الشعر والشعراء" ص 511، "طبقات الشعراء" لابن المعتز ص 21، "البيان والتبيين" 1/ 65، "خزانة الأدب" 3/ 230. (¬1) في (ج): (لئن). (¬2) من قصيدة قالها بشار يمدح عقبة بن سلم، ويروى (ولا الخوف) بدل (وللخوف) انظر: "ديوانه" ص 14، "طبقات الشعراء" لابن المعتز ص 30، "عيون الأخبار" لابن قتيبة 1/ 164، "شرح ديوان المتنبي" للعكبري 4/ 279. (¬3) في (ب): (فإن معنى الشكر). (¬4) في (ب): (ويحبب). (¬5) في (ب): (الثناء). (¬6) في (ب): (والشكرا). (¬7) مابين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) انظر: "الوسيط" 1/ 17، ونحوه في "تفسير الطبري" 1/ 60، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 23 ب، "تفسير أبي الليث" 1/ 79، "ابن عطية" 1/ 100، "القرطبي" 1/ 118. (¬9) في (ب): (قد).

بذلك متعرضًا لثواب الله، ومن أثنى على واحد فقد تعرض لإحسانه وثوابه. يدل على صحة هذا أن بعض العلماء، سئل عن تفسير الحديث المروي: "أفضل الدعاء سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلى الله، والله أكبر" (¬1) فقيل له: ما في هذا من (¬2) الدعاء؟ وإنما الدعاء: (اللهم اغفر لنا، وافعل بنا). فقال للسائل: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن (¬3) جدعان: كَرِيمٌ لاَ يُغَيِّرُهُ صبَاحٌ ... عَنِ الخُلُقِ الجَمِيلِ وَلاَ مَسَاءُ إِذاَ أَثْنى عَلَيْهِ المَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ (¬4) ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن ماجه عن سمرة بلفظ: "أربع أفضل الكلام لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلى الله، والله أكبر" "سنن ابن ماجه" (3811) كتاب الأدب، باب: فضل التسبيح، ونحوه عند أحمد في "المسند" 5/ 20، وذكره البخاري معلقا (الفتح) 11/ 566، وأخرج ابن ماجه عن جابر: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" "سنن ابن ماجه" كتاب الأدب، باب: فضل الحامدين، قال العجلوني في "كشف الخفاء": رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححاه 1/ 152، وانظر: "فيض القدير" 1/ 601. (¬2) (من) ساقطة من (ب). (¬3) عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، لهذا مدحه أمية بن أبي الصلت، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة. انظر ترجمته وبعض أخباره في "المحبر" ص 138، "السيرة" لابن هشام 1/ 144، "الخزانة" 8/ 366، "الأعلام" 4/ 76. (¬4) تروى الأبيات بروايات أخرى منها: (خليل) بدل (كريم)، و (السنى) بدل (الجميل) و (عليك) بدل (عليه). انظر: "ديوان أمية بن أبي الصلت" ص 254، "المحبر" ص 138، "طبقات فحول الشعراء" للجمحي 1/ 265، "ديوان الحماسة" 2/ 372، "العمدة" لابن رشيق 2/ 158.

فهذا مخلوق اجتزأ من مسألة مخلوق مثله بالثناء عليه، فكيف يحتاج العبد مع ثنائه على ربه أن يسمي له حوائجه؟. قال (¬1): وإنما اختير (الحمد) على الشكر للمبالغة والعموم، وذلك أن الشكر لا يكون إلى مكافأة لنعمة سبقت إليك وأيضًا، فإنه لا يشكر أحد على ما فيه من الأوصاف الجميلة، وليس كذلك الحمد، فإنه يقع ابتداء قبل الصنيعة، ويقع على الأوصاف المحمودة فهو أبلغ وأعم وأجمع (¬2). قال الشاعر: يَا أَيُّهَا المَائِحُ دَلْوى دُونكا ... إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونكا (¬3) ¬

_ (¬1) أبو بكر ابن الأنباري. (¬2) انظر: "الزاهر" 2/ 84، 85، وفيه تكلم ابن الأنباري عن الفرق بين الحمد والشكر بنحو هذا، وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين، انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 3، "تفسير أبي الليث" 1/ 79، "تفسير الثعلبي" 1/ 24/ ب، "تفسير الماوردي" 153، وانظر: "تهذيب اللغة" (حمد) 1/ 913، "اشتقاق أسماء الله" ص 90، وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد، واستدل على هذا بصحة قول القائل: (الحمد لله شكرا). "تفسير الطبري" 1/ 60، وهذا قول المبرد، كما قال القرطبي في "تفسيره" 1/ 116، ونسبة في "اللسان" للحياني. "اللسان" (حمد) 2/ 987، وقد تكلم العلماء في نقض ما قاله الطبري ورده، منهم ابن عطية في "تفسيره" 1/ 99، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 116، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 201. قال محمود شاكر في حاشية "تفسير الطبري": والذي قاله الطبري أقوى حجة وأعرق عربية من الذين ناقضوه. (¬3) نسبه الأكثر لراجز جاهلي من بني أسد بن عمرو بن تميم، ونسبه بعضهم لجارية في مازن، وقيل: روته وليس لها، ونسبه بعضهم لرؤبة. و (المائح) الرجل في جوف البئر يملأ الدلاء. ورد الرجز في "معاني القرآن" للفراء 1/ 260، "الزاهر" 2/ 85، "أمالي الزجاجي" ص 237، "أمالي القالي" 2/ 244، "الإنصاف" ص 187، "مغني اللبيب" 2/ 609، 618، "شرح شذور الذهب" ص 485، "شرح المفصل" 1/ 117، "الخزانة" 6/ 200.

فترجم بالثناء (¬1) والتمجيد (¬2) عن الحمد، فدل هذا على عموم الحمد. وقد أخبرنا أبو الحسين بن أبي عبد الله الفسوي (¬3) -رضي الله عنه-، أنبا (¬4) أحمد بن محمد الفقيه (¬5)، أبنا محمد بن هاشم (¬6)، عن الدَّبَرِي (¬7)، عن عبد الرزاق (¬8)، ¬

_ (¬1) ورد الثناء والتمجيد في بيت آخر لم يورده الواحدي هنا وهو قوله: يُثْنُون خَيْرًا ويَمُجِّدُوَنَكاَ أورد ابن الأنباري في "الزاهر" 2/ 85، وأنظر المصادر السابقة. (¬2) في (أ)، (ج): التحميد، وما في (ب) أصح؛ لأنه أراد: الثناء والتمجيد الذين وردا في البيت الثالث الذي لم يذكره. (¬3) أحد شيوخ الواحدي: عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي أبو الحسين، حدث عن أبي سليمان الخطابي بغريب الحديث سبق ذكره في، وانظر المنتخب من السياق 106، "سير أعلام النبلاء" 18/ 19. (¬4) في (ب): (أنا) وفي (ج): (أن) في الموضعين. (¬5) هو أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الشافعي، وقيل: اسمه: حمد، له مصنفات منها "غريب الحديث" "ت 388 هـ"، انظر ترجمته في "الأنساب" 5/ 158، 159، "إنباه الرواة" 1/ 125، "تذكرة الحفاظ" 3/ 1018. (¬6) محمد بن هاشم أحد شيوخ الخطابي، روى عنه في "غريب الحديث" كثيرا، ولم أجد له ترجمة، حتى إن محقق "غريب الحديث" ترجم لجميع شيوخ الخطابي، ولم يذكر محمد بن هاشم مع كثرة روايته عنه، ولعله لم يجد له ذكرا. والله أعلم. (¬7) أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدَّبَرِي و (الدَّبَرِي) بفتح الدال والباء نسبة إلى (الدَّبَر) قرية من قرى صنعاء، راوية عبد الرزاق، (ت 285 هـ). انظر ترجمته في "اللباب" 1/ 489، "ميزان الاعتدال" 1/ 181، "سير أعلام النبلاء" 13/ 416. (¬8) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ، عالم اليمن، أبو بكر الحصيري بالولاء. حدث عن جماعة منهم الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وحدث عنه أحمد بن حنبل، وابن راهويه، وابن معين، وابن المديني وجماعة (ت 211 هـ) وانظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 5/ 548، "سير أعلام النبلاء" 9/ 568، "ميزان الاعتدال" 3/ 323.

عن مَعْمر (¬1)، عن قتادة، عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبدًا لا يحمده) (¬2). قال أحمد (¬3) على إثر هذا الحديث: الحمد نوع والشكر جنس (¬4)، وكل حمد شكر (¬5)، وليس كل شكر حمدا. وهو على ثلاث منازل: شكر القلب، وهو الاعتقاد بأن الله ولي النعم، قال الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وشكر اللسان وهو إظهار النعمة بالذكر لها، والثناء على مسديها، قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وهو رأس الشكر المذكور في الحديث. وشكر العمل، وهو (¬6) إدآب النفس بالطاعة. ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ مَعْمَر بن راشد، أبو عروة، الأزدي بالولاء البصري، نزيل اليمن، حدث عن قتادة، والزهري وعمرو بن دينار، وهمام بن منبه وجماعة، وعنه السفيانان، وابن المبارك، وعبد الرزاق بن همام (ت 153 هـ)، انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 546، "الجرح والتعديل" 8/ 255، "سير أعلام النبلاء" 7/ 5. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 424 (19574) كتاب الجامع، باب: شكر الطعام، وذكره الخطابي في "غريب الحديث" 1/ 345، 346، وذكره السيوطي في "الجامع الصغير" ورمز له بالحسن، انظر: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" 3/ 418، وقال الألباني: في "ضعيف الجامع" 3/ 411 (2790): ضعيف. (¬3) هو أحمد بن محمد الخطابي البستي، سبقت ترجمته. قال في "غريب الحديث" بعد أن ذكر الحديث. وقال أبو سليمان: الحمد نوع .. 1/ 346. (¬4) الجنس: كلي دال على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب (ماهو). والنوع: كلي دال على كثيرين متفقين في الحقيقة واقع في جواب (ما هو). انظر: "التعريفات" للجرجاني ص 78، 247، "المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" للآمدي ص 73. (¬5) في (ج): (شكرا). (¬6) في (ب): (وهو شكر اداب).

قال الله سبحانه (¬1): {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (¬2) [سبأ: 13]. وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه، فقيل: يا رسول الله أليس قد غفر الله (¬3) لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" (¬4). وقد جمع الشاعر أنواعه الثلاثة فقال: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّى ثَلاَثَةً ... يَدِي وَلِسَانِي والضمِيرَ المُحَجَّبَا (¬5) (¬6) وبين الحمد والشكر فرق واضح (¬7)، يظهر بالنقيض؛ لأن نقيض الشكر الكفر، ونقيض الحمد الذم (¬8)، فهذا ما في معنى الحمد والشكر. ¬

_ (¬1) في (ج): (تعالى). (¬2) في (ب): (الى) تصحيف. (¬3) لفظ الجلالة غير موجود في (ب). (¬4) متفق عليه من حديث المغيرة وعائشة، حديث المغيرة رواه البخاري (1130) كتاب: التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل، ومسلم (2819) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والإجتهاد في العبادة، وحديث عائشة رواه البخاري (4837) كتاب التفسير، باب: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}، ومسلم (2820) كتاب صفة الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة. (¬5) يقول: إن نعمتكم علي أفادتكم مني يدي ولساني وجناني فهي وأعمالها لكم. ورد البيت بدون عزو في "غريب الحديث" للخطابي 1/ 346، " الكشاف" 1/ 47، "الفائق" 1/ 314، "الدر المصون" 1/ 36، وانظر: "مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف" ص 7. (¬6) انتهى من "غريب الحديث" للخطابي 1/ 346، وانظر: "الكشاف" 1/ 47. (¬7) سبق بيان خلاف العلماء في ذلك، وأن قول الأكثر على أن بينهما فرقا وقال الطبري ومعه طائفة: إنهما بمعنى واحد، انظر ص 275. (¬8) انظر: "الزينة" 2/ 112، "تهذيب اللغة" (حمد) 1/ 913، "اللسان" (حمد) 2/ 987.

ولا بد من ذكر طرف من مذهب النحويين في (الألف واللام) اللتين للتعريف وحكمهما. ومذهب (¬1) الخليل في هذا أن (ال) حرف التعريف، بمنزلة (قد (¬2)) في الأفعال، فإن الهمزة واللام جميعا (¬3) للتعريف، وحكي عنه أنه كان يسميها (أل) كقولنا: (قد)، وأنه لم يكن يقول: (الألف (¬4) واللام) كما لا يقول في (قد) القاف والدال. واحتج لهذا المذهب بفصلين (¬5) (¬6): أحدهما: أن العرب قد قطعت (أل) في أنصاف الأبيات، نحو قول عبيد (¬7): يا خَلِيلَيَّ ارْبَعَا واستَخبِرَا الـ ... مَنْزِلَ الدّارِس مِنَ أَهْلِ الحِلاَل مِثْلَ سَحْقِ البُرْدِ عَفَّى بَعْدَكَ الـ ... قَطْرُ مَغْنَاهُ وتَأْوِيبُ الشَّمَالِ (¬8) ¬

_ (¬1) الكلام عن (أل) نقله الواحدي عن أبي الفتح بن جني من كتاب "سر صناعة الإعراب" وأذكر الفروق الهامة بين عبارة الواحدي وعبارة ابن جني في موضعه إن شاء الله. قال ابن جني: (وذهب الخليل إلى أن (أل) حرف التعريف بمنزلة (قد) ..) 1/ 333. (¬2) انظر مذهب الخليل في "الكتاب" 3/ 324. (¬3) عند أبي الفتح: (إن الهمزة واللام جميعهما ..) 1/ 333. (¬4) انظر: "الكتاب" 3/ 325. (¬5) في (ج): (بفضلين). (¬6) عند أبي الفتح: (ويقول هذا المذهب قطع (أل) في أنصاف الأبيات، نحو قول عبيد ..) 1/ 333. (¬7) هو عبيد بن الأبرص بن جُشْم، من بني أسد، يعد من فحول شعراء الجاهلية، قيل: إنه عمر طويلا. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 161، "طبقات فحول الشعرء" ص 58، "خزانة الأدب" 2/ 215. (¬8) قوله: (اربعا) أقيما، (الحلاَل): جمع حال أي نازل، أو جمع حِلَّة وهو جماعة البيوت، (سحق البرد) الثوب البالي، (عفى) غطى، (القطر): المطر، (مغناه) المغنى: المنزل الذي غنى به أهله ثم ظعنوا، (التأويب) الرجوع وتردد هبوبها. وردت الأبيات وفي "ديوان عبيد" ص 115، "المنصف" 1/ 333، "شرح المفصل" 9/ 17، "الخزانة" =

قال (¬1): فلو كانت اللام وحدها حرف التعريف؛ لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها، لاسيما واللام ساكنة، والساكن لا ينوي به الانفصال (¬2). فصار قطعهم وهم يريدون الاسم بعدها كقطع النابغة (¬3) (قد) في قوله: أَفِدَ (¬4) التَّرحُّلُ (¬5) غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لمَّا تَزُلْ بِرِحَالِهَا (¬6) وَكَأَنْ قَدِ (¬7) ¬

_ = 7/ 198. والشاهد فيه فصل (أل) في البيتين، استدل به الخليل على أن (أل) جميعها حرف التعريف، ولو كانت اللام وحدها للتعريف لما جاز فصلها. (¬1) من القائل؟ ظاهر كلام الواحدي أن القائل الخليل، لأنه هو المذكور قبله، والواقع أن الكلام لأبي الفتح ابن جني، حيث قال بعد الأبيات: (وهذِه قطعة لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتا يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلى بيتا واحدا من جملتها، ولو كانت اللام وحدها حرف التعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها .. "سر صناعة الإعراب" 1/ 333. (¬2) بعده كلام لأبي الفتح تركه الواحدي. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 333. (¬3) في (ب): (لقطع التابعه). والنابغة: هو زياد بن معاوية الذبياني، أحد شعراء الجاهلية المشهورين، توفي في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 83، "طبقات فحول الشعراء" 1/ 51. "جمهرة أنساب العرب" ص 253، "الخزانة" 2/ 135. (¬4) في (ب): (أرف) وفي (جـ): (أفر) وفي نسخة من "سر صناعة الإعراب" (أزف) 1/ 334. (¬5) في (ب): (الترجيل). (¬6) في (ب): (برجالها) وعند أبي الفتح (برحالنا) وفي الحاشية: في (ش): (برحالها)، والأكثر في رواية البيت (برحالنا). (¬7) من قصيدة قالها النابغة في (المتجردة) امرأة النعمان بن المنذر (أفد الترحل): أي دنا الرحيل وقرب. و (الركاب): الإبل. و (كأن قد): (أي: زالت لقرب وقت زوالها ودنوه. انظر: "ديوان النابغة الذيباني" ص 89، "الخصائص" 2/ 361، 3/ 131، "مغنى اللبيب" 1/ 171، 2/ 342، "شرح المفصل" 8/ 5، 110، 148، 9/ 18، 52، "الأزهية" ص 211، "شرح ابن عقيل" 1/ 19، "الهمع" 2/ 188، 4/ 315، "الخزانة" 1/ 70، 7/ 197.

ألا ترى أن التقدير: (كأن قد زالت)، فقطع (قد) من الفعل كقطع (ال) من الاسم. وإذا (¬1) كان (ال) عند الخليل حرفا واحدا، فقد ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة، كقاف (قد) وباء (بل)، إلى أنه لما كثر استعمالهم لهذا الحرف عرف موضعه، فحذفت همزته، كما حذفوا: (لم يَكُ) و (ولا أَدْرِ) (¬2). والفصل (¬3) الثاني (¬4): أنهم قد أثبتوا هذِه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل، نحو قوله {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} (¬5) [يونس: 59] و {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143]، ولم (¬6) تر همزة وصل تثبت في نحو هذا، فهذا يؤكد أن همزة (أل) ليست بهمزة وصل وأنها مع اللام كقد. ومذهب الجمهور (¬7) في هذا أن اللام وحدها هي حرف التعريف، وأن ¬

_ (¬1) ترك بعض كلام أبي الفتح. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 334. (¬2) والقياس فيهما: لم يكن (و) لا أدري (لكن لما كثر في الاستعمال حذفت النون في الأول والياء من الثاني، قال أبو الفتح: وحذفها شاذ انظر: "المنصف" 2/ 227. (¬3) في (ج): (الفضل). (¬4) نص كلام أبي الفتح: (ويؤكد هذا القول عندك أيضا: أنهم قد أثبتوا ... الخ)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 334. (¬5) في (ب) تصحيف في الآية، حيث حذف (أذن) وكرر (لكم). (¬6) عند أبي الفتح: (... ونحو قولهم في القسم (أفألله) و (لا ها ألله ذا) ولم نر همزة الوصل تثبت في نحو هذا .... الخ)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 335. (¬7) عند أبي الفتح: (وأما ما يدل على أن اللام وحدها هي حرف التعريف، وأن الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها، فهو إيصالهم جر الجار إلى ما بعد حرف التعريف ....) "سر صناعة الإعراب" 1/ 335. قال في "شرح المفصل": (واللام هي حرف التعريف وحدها، والهمزة وصلة إلى النطق بها ساكنة، هذا مذهب سيبويه، وعليه أكثر البصريين والكوفيين ما عدا الخليل ....)، 9/ 17، وانظر: "الخزانة" 7/ 198 - 199.

الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها، والدليل على هذا (¬1) إيصالهم حرف الجار إلى ما بعد حرف التعريف نحو قولهم: (عجبت من الرجل) و (مررت بالغلام) فنفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف يدل على أن حرف التعريف غير فاصل عندهم بين الجار والمجرور، وإنما كان كذلك لأنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرفه؛ لأنه على حرف واحد، ولاسيما ساكن، ولو كان حرف التعريف في نية الانفصال كـ (¬2) (قد) لما جاز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف. وأيضا فإن (¬3) حرف التعريف نقيض التنوين، لأن التنوين دليل التنكير، كما أن هذا (¬4) دليل التعريف، فكما (¬5) أن التنوين في [آخر الاسم حرف واحد، كذلك حرف التعريف في] (¬6) أوله ينبغي أن يكون حرفا واحدا. فأما ما احتج به الخليل من قطع (أل) عن الحرف الذي بعده في الشعر فقد يقطعون (¬7) في المصراع الأول بعض الكلمة وما هو منها أصل، ويأتون بالبقية في أول المصراع الثاني، كما قال: ¬

_ (¬1) أي على مذهب الجمهور وهو أن حرف التعريف (اللام) وحدها. (¬2) عند أبي الفتح: (... ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كـ (قد) و (هل) لما جاز الفصل به بين الجار والمجرور به ....) ثم أخذ يشرح ولفصل في هذا في كلام طويل تركه الواحدي، ثم قال: (... وكذلك لو كان حرف التعريف في نية الانفصال لما جاز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف، وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرفه ...) 1/ 336، 337. (¬3) قال أبو الفتح: (.. ويزيدك تأنيسا بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين ..) 1/ 337. (¬4) أي حرف التعريف. (¬5) في (ج): (وكما). (¬6) ما بين المعقوفتين ساقط من (ج). (¬7) في (ب): (يقطعونه).

يَا نَفْسِ أَكْلًا واضْطِجَا ... عًا نَفْسِ لَسْتِ بِخَالِدَه (¬1) وهو كثير، وإذا جاز ذلك في أَنْفُسِ الكَلِم، ولم يدل على انفصال بعض الكلمة من بعض، فغير منكر أيضًا أن تفصل (لام المعرفة) في الأول (¬2). وأما ما احتج به من قطع الهمزة في نحو: {آللَّهُ} (¬3) فإنما جاز ذلك لمخافة التباس الاستفهام بالخبر (¬4). وإنما جعل حرف التعريف حرفا واحدا؛ لأنهم أرادوا خلطه (¬5) بما بعده، فجعلوه على حرف واحد؛ ليضعف عن (¬6) انفصاله مما بعده، فيعلم بذلك أنهم قد (¬7) اعتزموا (¬8) على خلطه به، ولهذا سكنوه، لأنه أبلغ فيما قصدوا، لأن الساكن أضعف من المتحرك، وأشد حاجة وافتقارا إلى ما يتصل به (¬9). ¬

_ (¬1) نسب البيت لكثير عزة، وليس في "ديوانه". انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 340، "شرح المفصل" 9/ 19، "الخزانة" 7/ 202، وانظر: "معجم الشواهد العربية" لعبد السلام هارون 1/ 99. والشاهد فيه: أنه فصل الكلمة بين مصراعي البيت، وأورده ردا على ما ذهب إليه الخليل من أن قطع (أل) في المصراع الأول دليل على أن (الألف واللام) أداة تعريف، وليس اللام وحدها. (¬2) أي: المصراع الأول من البيت، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 340. (¬3) أي قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59]. (¬4) يلحظ أن الكلام من قوله: (فأما ما احتج به الخليل ....) إلى قوله: (بالخبر) ليس بهذا السياق والترتيب عند أبي الفتح، وانما تصرف فيه الواحدي. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 337، 340، انظر: "الخزانة" 7/ 201، 202. (¬5) في (ب): (خالطه). (¬6) في (أ)، (جـ): (على)، وما في (ب) موافق لـ"سر صناعة الإعراب" 1/ 346. (¬7) (قد) ساقط من (ج). (¬8) في (أ)، (ج): (اعترفوا)، وما في (ب) موافق لـ"سر صناعة الإعراب" 1/ 346. (¬9) من قوله (وإنما جعل حرف التعريف) ملخص من "سر صناعة الإعراب" 1/ 346.

وإنما اختاروا (¬1) (اللام) دون سائر حروف المعجم؛ لأنهم أرادوا إدغام حرف التعريف فيما بعده؛ لأن الحرف المدغم أضعف من الحرف الساكن غير المدغم؛ ليكون إدغامه دليلا على شدة اتصاله، فلما آثروا إدغامه فيما بعده اعتبروا حروف المعجم، فلم يجدوا فيها حرفا أشد مشاركة لأكثر الحروف من (اللام) فعدلوا إليها؛ لأنها تجاور أكثر حروف الفم (¬2) التي هي معظم الحروف، وليصلوا بذلك إلى الإدغام المترجم عما عزموه (¬3) من شدة وصل التعريف بما عرفه (¬4) (¬5)، ولو جاؤوا بغير (اللام) للتعريف لما أمكنهم أن يكثر (¬6) إدغامها، كما أمكنهم ذلك مع (اللام)، فإدغامهم إياها مع ثلاثة (¬7) عشر حرفا، وهي: (التاء، والثاء، والدال، والذال، والراء، والزاي، والسين، والشين، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والنون) وذلك قولهم التمر، والثَّرِيد، والدِّبْس، والذَّوْق (¬8)، والرُّطَب، والزُّبْد، والسَّفَرْجَل، والشَّعِير، والصَّيْر، والصَّنَاب (¬9)، ¬

_ (¬1) عند أبي الفتح (وأما لم اختاروا له اللام دون سائر حروف المعجم؟ فالجواب عنه أنهم إنما أرادوا ....) 1/ 346، قوله (له) أي: للتعريف. (¬2) في (ب): (المعجم) والمراد بحروف الفم التي مخارجها في الفم. (¬3) في (ج): (عرضوه) وعند أبي الفتح (اعتزموه) 1/ 347. (¬4) في (ب): (عرقوه). (¬5) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 347، وفي كلام أبي الفتح زيادة عما هنا. (¬6) في (ب): (يكثروا). (¬7) في (ب): (ثلاث). والرابع عشر اللام نفسها. ومثلها الليل (¬8) عند أبي الفتح: (الذرق)، وفي حاشيته: (ب): (الذوق). الذرق: نبات كالفسفسة، تُسميه الحاضرة: الحندقوقى. انظر: "تهذيب اللغة" (ذرق) 2/ 1280. (¬9) في (ج): (الضباب) وفي (ب): (الضناب) وعند أبي الفتح: (والصَّناب والضَّرْو) 1/ 347، وهو الصواب؛ لأنه تمثيل للصاد ثم للضاد. الصِّير: هو الشق، كما في الحديث: "من اطلع من صير باب"، والصير: الماء يحضره الناس، والصِّير: السمكات =

والطَّبِيخ، والظُّلْم (¬1)، والنَّبِق، يدلك على (¬2) ما ذكرنا أنك (¬3) تجد (اللام) ساكنة وهي لغير التعريف مظهرة غير مدغمة مع أكثر هذِه الحروف، وذلك نحو: (التقت) (¬4)، و (هل ثم أحد) (¬5)، و (الْزَمْ (¬6) بِه) و (أَلْسِنَة) هذا هو الكلام في (اللام) (¬7). فأما الكلام في (الهمزة) الداخلة على هذِه (اللام): فاعلم أن (الهمزة) (¬8) (إنما جيء بها توصلا إلى النطق بالساكن الذي بعدها، إذ لم ¬

_ = المملوحة التي تعمل منها الصحناة. انظر: "تهذيب اللغة" (صير) 2/ 2075، "اللسان" (صير) 4/ 2535، الصَّنَاب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب. انظر: "تهذيب الغة" (صنب) 2/ 2062، "اللسان" (صنب) 4/ 2504. الضِّرو والضَّرو: (شجر طيب الريح يستاك به، ويجعل ورقه في العطر. "اللسان" ضرا 14/ 483. (¬1) عند أبي الفتح (الظبي)، وفي الحاشية: (ل): (الظئر) 1/ 347. (¬2) اختصر الواحدي كلام أبي الفتح ونص كلامه: (.. ويدلك على إيثارهم الإدغام للام التعريف لما قصدوا من الإبانة عن غرضهم، أنك لا تجد لام التعريف مع واحد من هذِه الأحرف الثلاثة عشر إلا مدغمًا في جميع اللغات، ولا يجوز إظهارها ولا إخفاؤها معهن ما دامت للتعريف البتة، وأنك قد تجد اللام إذا كانت ساكنة وهي لغير التعريف مظهرة .. الخ)، 1/ 347. (¬3) في (ب): (أنا). (¬4) في (ب): (السقب) وعند أبي الفتح (التفت). (¬5) في (ب): (أخذ). (¬6) في (ج): (ولزم به): (وعند أبي الفتح (أُلْزِمَ به) وفي الحاشية ل (إِلْزَمْ به)، 1/ 348. (¬7) إلى هنا ما أخذ الواحدي من كتاب أبي الفتح "سر صناعة الإعراب" حرف اللام 1/ 333 - 348. (¬8) انتقل الواحدي إلى موضع آخر من نفس كتاب "سر صناعة الإعراب" 1/ 112 قال =

يمكن (¬1) الابتداء به، وكان حكم هذِه (الهمزة) أن تكون ساكنة، لأنها حرف جاء لمعنى، ولا حظ له في الإعراب. وهي في أول الحرف كالهاء التي لبيان الحركة (¬2) في آخر الحرف. نحو (وازيداه) و (واعمراه) فكما أن تلك ساكنة فكذلك كان ينبغي في الألف (¬3) أن تكون ساكنة (¬4)، إلا أنها (¬5) حركت لأجل الساكن الذي بعدها، ولم يجز أن يحرك ما بعدها لأجلها من قبل أنك لو فعلت ذلك لبقيت هي عليك (¬6) أيضًا في أول الكلمة ساكنة، وكان يحتاج لسكونها إلى حرف قبلها محرك يقع به (¬7) الابتداء. وإنما اختاروا الهمزة لوقوع الابتداء (¬8) بها (¬9)؛ لأنهم أرادوا حرفا يتبلغ به في الابتداء، ويحذف في الوصل للاستغناء عنه بما قبله، فجعلوه الهمزة؛ لأن العادة فيها في أكثر الأحوال حذفها للتخفيف، وهي مع ذلك أصل، ¬

_ = أبو الفتح: (واعلم أن هذِه الهمزة إنما جيء بها توصلا إلى النطق بالساكن ....)، وسأذكر الفروق الهامة بين كلام أبي الفتح وكلام الواحدي في مواضعها. (¬1) في (ب): (يكن) وعند أبي الفتح (لما لم يمكن) 1/ 112. (¬2) عند أبي الفتح (.. الحركة بعد الألف في آخر الحرف ..) 1/ 112. (¬3) أي: الهمزة التي جيء بها للتوصل إلى النطق بالساكن. (¬4) انظر: "سر صناعهَ الإعراب" 1/ 113، اختصر الواحدي بعض الكلام، وتصرف في بعض العبارات. (¬5) في (ب): (إنها) بكسر الهمزة. (¬6) (عليك): ليست في كلام أبي الفتح. (¬7) في (أ)، (ج): (يقع به الابتداء به) وعند أبي الفتح (يقع الابتداء به)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 113. (¬8) هذا جواب تساؤل افترضه أبو الفتح، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 113. (¬9) في (أ)، (ب)، (ج): (به) وصححتها على حسب ما عند أبي الفتح في "سر صناعة الإعراب" 1/ 113.

فكيف بها إذا كانت زائدة، ألا تراهم حذفوها في نحو: (خذ) و (مر) (¬1) و (وَيْلُمِّه) (¬2) وفي قول الشاعر: وَكَانَ حَاملُكُمْ مِنَّا وَرَافِدُكُمْ ... وَحَامِلُ المِينَ بَعْد المِينَ والْأَلَفِ (¬3) أراد المئين، فحذف الهمزة، وأراد (الألف) فحرك اللام ضرورة (¬4). وقالوا: (ذن (¬5) لا أفعل) فحذفوا همزة (إذن) (¬6) ولو أنهم جعلوا مكان الهمزة غيرها لم يمكن حذفه؛ لأنه لم يحذف غيرها من الحروف كما حذفت هي، وكانت (الهمزة) بالزيادة في الابتداء أولى من سائر الحروف؛ لأنهم شرطوا على أنفسهم حرفا يحذف عند الغنى (¬7) عنه، وذلك في أكثر أحواله؛ لأن الوصل أكثر من الابتداء والقطع، ولم يجدوا حرفا يطرد فيه الحذف ¬

_ (¬1) أصلها: (أُؤخُذُ) و (أؤْمُر) فلما اجتمعت همزتان وكثر استعمال الكلمة حذفت الهمزة الأصلية فزال الساكن، فاستغني عن الهمزة الزائدة. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 112. (¬2) الأصل فيها: (وَيْلٌ لِأُمِّه) فحذف التنوين فالتقت لام ويل ولام الخفض فأسكنت الأولى وأدغمت الثانية ثم حذفت الهمزة، ثم خفف بحذف أحد اللامين، فمنهم من جعل المحذوفة (لام) الخفض وأبقى (لام) ويل وأبقى لام الخفض مكسورة، ومنهم في جعل المحذوفة (لام) ويل على أصلها مضمومة، ففيها الوجهان. انظر: "المسائل الحلبيات" للفارسي ص 43، "الكتاب" 3/ 5، "سر صناعة الإعراب" 1/ 113، 235، "الخزانة" 3/ 275، 276. (¬3) ورد البيت غير منسوب في "سر صناعة الإعراب" 1/ 114، "الخصائص" 2/ 334، "اللسان" (ألف) 1/ 107، و (مأى) 7/ 4124. (¬4) وقيل: أراد: (الآلاف) فحذف للضرورة، قاله في "اللسان" 9/ 9. (¬5) في (ب): (اذن). (¬6) "سر صناعة الإعراب" بتصرف 1/ 113، 114. (¬7) في حاشية "سر صناعة الإعراب": (ب) و (ش): (الغناء).

اطراده في الهمزة، فأتوا بها دون غيرها من سائر حروف المعجم. والأصل في جميع (ألفات الوصل) أن تبدأ بالكسر؛ لأنها إنما دخلت وصلة إلى النطق بالساكن (¬1)، وقد ذكرنا أن حقها كان في الأصل السكون، فلما كان حقها السكون ودخلت على الساكن حركت بالكسرة تشبيها بحركة الساكن إذا لقيه ساكن، لأن تحريك أحد الساكنين في سائر المواضع إنما هو أيضًا ليتصل به إلى النطق بالساكن الآخر (¬2). وإنما فتحت مع (لام التعريف) لأن (اللام) حرف، فجعلوا حركة الهمزة معها فتحة؛ لتخالف حركتها في الأسماء والأفعال (¬3) (¬4). و (لام التعريف) تقع (¬5) في الكلام في أربعة مواضع (¬6) وهي: 1 - تعريف الواحد بعهد، نحو قولك لمن كنت معه في ذكر رجل: (قد وافى الرجل) أي: الرجل الذي كنا في حديثه وذكره. 2 - وتعريف الواحد بغير عهد نحو قولك لمن لم تره قط ولا ذكرته: (يا أيها الرجل أقبل) فهذا تعريف لم يتقدمه ذكر ولا عهد. ¬

_ (¬1) في (ج) كلام مقدم في غير موضعه ونص العبارة (بالساكن الآخر وإنما فتحت مع لام التعريف لأن اللام حرف فجعلوا حركة الهمزة معها فتحة لتخالف، وقد ذكرنا ...). وشطب الناسخ كلمة (والآخر) و (لتخالف) وهما أول ونهاية الكلام المكرر فلعله تنبه له بعد كتابته. (¬2) أخذه بمعناه من "سر صناعة الإعراب" 1/ 112، 113. (¬3) حيث تكون مكسورة أو مضمومة مع الأسماء والأفعال. (¬4) بنصه من "سر صناعة الإعراب" 1/ 117. (¬5) في (ب): (تقطع). (¬6) مواضع لام التعريف، أخذه كذلك عن أبي الفتح بن جني من "سر صناعة الإعراب" (حرف اللام) 1/ 350، مع إعادة ترتيب الكلام والتصرف اليسير في العبارة.

3 - الثالث: تعريف الجنس، نحو قولك: (العسل حلو والخل حامض) فهذا التعريف لا يجوز أن يكون عن إحاطة بجميع الجنس ولا مشاهدة له؛ لأن ذلك متعذر، وإنما معناه: أن كل واحد من هذا الجنس المعروف بالعقول دون حاسة المشاهدة (¬1). 4 - الرابع: أن تكون زائدة، نحو قوله: (الآن، ولام الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، ولام اللات والعزى) وسنذكر كل واحد من هذِه الحروف إذا انتهينا إليه إن شاء (¬2) الله. فأما قوله: (الحمد) فـ (اللام) فيه تحتمل (¬3): أن تكون للجنس، أي جميع المحامد له؛ لأنه الموصوف بصفات الكمال في نعوته وأفعاله الحميدة (¬4)، وتحتمل: أن تكون للعهد، أي: الحمد الذي حمد به نفسه ¬

_ (¬1) في الكلام عدم وضوح، حيث إن قوله: (وإنما معناه أن كل واحد من هذا الجنس ... الخ) يعود على مثال لم يذكره الواحدي، ونص عبارة أبي الفتح: (الثالث: نحو قولك الملك أفضل من الإنسان، والعسل حلو، والخل حامض، وأهلك الناس الدينار والدرهم، فهذا التعريف لا يجوز أن يكون عن إحاطة بجميع الجنس ... الخ). ثم يقول: (... وإنما معناه أن كل واحد من هذا الجنس المعروف بالعقول دون حاسة المشاهدة أفضل من كل واحد من هذا الجنس الآخر، وأن كل جزء من العسل الشائع في الدنيا حلو، وكل جزء من الخل الذي لا تمكن مشاهدة جميعه حامض). "سر صناعة الإعراب" 1/ 350. (¬2) قوله: (وسنذكر كل واحد من هذِه الحروف إذا انتهينا إليه ...) من كلام الواحدي، أما أبو الفتح فتكلم عنها في نفس الموضع، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 350 وما بعدها، ليت الواحدي لم يثقل الكتاب بهذِه النقول التي مكانها كتب النحو المطولة. (¬3) في (ج): (يحتمل). (¬4) وعليه أكثر المفسرين، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 60، "تفسير ابن عطية" 1/ 99، "الكشاف" 1/ 49، "تفسير القرطبي" 1/ 116، "تفسير ابن كثير" 1/ 25، "البحر" 1/ 18.

وحمده به أولياؤه (¬1). ورفعه على معنى قولوا: (الحمد لله) على ما حكينا عن ابن الأنباري (¬2)، ويجوز أن يكون ابتداء، وخبره فيما بعده (¬3). وقوله تعالى: {لِلَّهِ}: هذِه (اللام) تسمى لام الإضافة (¬4)، ولها في الإضافة معنيان (¬5): أحدهما: الملك نحو: (المال لزيد). والآخر: الاستحقاق (¬6) نحو: (الجُلُّ (¬7) للدابة) أي: استحقته ولابسته، وكذلك (الباب للدار). وهذِه الجارة مكسورة مع المظهر، ومفتوحة مع المضمر، وإنما كسرت مع المظهر وكان من حقها الفتح؛ لأنا ذكرنا أن هذِه الحروف التي تستعمل على واحدة حقها الفتح (¬8)، وكسرت مع المظهر للفرق ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 1/ 220، وأبو حيان في "البحر" 1/ 18. (¬2) سبق كلام ابن الأنباري ص 271، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 61. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 119، "البيان في غريب القرآن" 1/ 34، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 8، "الكشاف" 1/ 47، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 5. (¬4) الكلام عن (اللام) نقله عن كتاب "سر صناعة الإعراب" 1/ 325، قال أبو الفتح: (فأما العاملة فلام الجر، وذلك قولك: المال لزيد، والغلام لعمرو. وموضعها في الكلام الإضافة، ولها في الإضافة معنيان: أحدهما الملك ..). (¬5) ذكر الرازي لها ثلاثة معان في "تفسيره" 1/ 22، وانظر: "البحر" 1/ 18. (¬6) عند أبي الفتح (الاستحقاق والملابسة) 1/ 325. (¬7) (الجُلُّ): واحد جِلاَل الدواب، الذي تلبسه لتصان به. انظر: "الصحاح" (جلل) 4/ 1658، "اللسان" (جلل) 2/ 664. (¬8) ذكره الواحدي عند الحديث عن (الباء) في تفسير (بسم الله) ناقلا عن أبي الفتح من هذا الموضع. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 325.

بينها (¬1) وبين (لام الابتداء) وذلك قولك في الملك: (إن زيدا لهذا) أي: في ملكه، و (إن زيدا لهذا) أي: هو (¬2) هو، فلو فتحت في الموضعين لالتبس (¬3) معنى (¬4) الملك بمعنى الابتداء. وإنما كسرت الجارة وتركت (لام الابتداء) بحالها مفتوحة (¬5)؛ لأن أول أحوال (¬6) الاسم هو الابتداء، وإنما يدخل الناصب والجار والرافع على المبتدأ (¬7) فلما كان المبتدأ متقدما في المرتبة، وكان فتح هذِه اللام هو الأول المتقدم من حالتها (¬8)، جعل الفتح الذي هو أول مع الابتداء الذي هو أول، ولما كان الكسر فيها إنما هو ثان غير أول، جعل مع الذي هو تبع للابتداء، هذا هو القياس (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (بينهما). (¬2) عند أبي الفتح (أي هو هذا) 1/ 326. (¬3) في (ج): (للا لا لتبس). (¬4) في (ج): (بمعنى). (¬5) هذا مضمون سؤال أثاره أبو الفتح حيث قال: (وهنا زيادة ما علمتها لأحد من أصحابنا، وهي أن يقال: إذا كان الفرق بين (اللام) الجارة و (لام) الابتداء واجبا لما ذكرته من المعنيين، فلم كسرت الجارة وتركت لام الابتداء بحالها مفتوحة؟. فالجواب عن هذا أن يقال: إن أول أحوال الاسم هو الابتداء ....) الخ 1/ 328. (¬6) في (ب): (الأحوال). (¬7) في (ب): (الابتداء). نص كلام أبي الفتح: (وإنما يدخل الرافع أو الناصب سوى الابتداء والجار على المبتدأ وفي حاشيته: في ب (الناصب والرافع)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 328 تأمل الفرق بينهما. (¬8) عند أبي الفتح (حاليها) 1/ 328. (¬9) انتهى من "سر صناعة الإعراب" 1/ 328.

وقوله تعالى {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: (الرب) في اللغة له معنيان (¬1): أحدهما: أن يكون معناه من الرب بمعنى التربية. قال الأصمعي: (رب فلان الصنيعة يَرُبُّها رَبًّا إذا أتمها وأصلحها) قال: ويقال: فلان رَبَّ نِحْيَهُ يَرُبُّه رَبًّا (¬2) إذا جعل فيه الرُّبَّ ومتَّنَهُ به، وهي (¬3) نِحْيٌ مَرْبُوب (¬4) وهذا -أيضًا- عائد إلى معنى التربية والإصلاح. قال الشاعر: فَإِنْ كُنْتِ مِنِّي أَوْ تُرِيدِين صُحْبَتِي (¬5) ... فَكُونِي لَهُ كَالسَّمْنِ (¬6) رُبَّتْ لَهُ الأَدَم (¬7) ¬

_ (¬1) ذكر ابن الأنباري أن الرب ثلاثة أقسام: السيد المطاع، والمالك، والمصلح. "الزاهر" 1/ 575. ونحوه عند ابن جرير ثم قال: "وقد يتصرف معنى (الرب) في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذِه الوجوه الثلاثة ...) "تفسير الطبري" 1/ 62، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، "المخصص" 17/ 154، "معجم مقاييس اللغة" (رب) 2/ 381، "الزينة" 2/ 27، "اللسان" (ربب) 1/ 404. (¬2) (ربا) ساقط من (ب). (¬3) في "تهذيب اللغة" (وهو نحى مربوب). (¬4) انظر قولي الأصمعي في "تهذيب اللغة" (رب) 2/ 1336. (¬5) في (ب): (تريدن نصيحتي). (¬6) في (ب)، (ج): (كالشمس). (¬7) البيت لعمرو بن شأس، كان له ابن يقال له (عرار) من أمة سوداء، وكانت امرأته تؤذيه وتستخف به، فقال قصيدة يخاطبها، ومنها هذا البيت، يقول: إن كنت تريدين مودتي، فأحسني إليه كما تستصلحين وعاء السمن حتى لا يفسد عليك، و (الأَدَم) جمع أَدِيم: الجلد المدبوغ، و (الرُّبُّ): خلاصة التمر بعد طبخه وعصره. ورد البيت في "شعر عمرو" ص 71، "الشعر والشعراء" ص 274، "طبقات الشعراء" للجمحي ص 80، "أمالي القالي" 2/ 189، "اشتقاق أسماء الله" ص 33، "الصحاح" (ربب) 1/ 131، "اللسان" (ربب) 3/ 1550.

وتقول: رَبَّ الشيء يَرُبُّه ربوبًا فهو رَبٌّ، مثل: (بَرّ وَطَبّ (¬1)) (¬2)، إذا تممه وأصلحه، قال الشاعر: يَرُبُّ الذِّي يَأْتِي مِنَ الخَيْرِ أَنَّهُ ... إذَا فَعَلَ المَعْرُوفَ زَادَ وَتَمَّمَا (¬3) فالمعنى (¬4) على هذا أنه يربي الخلق ويغذوهم (¬5) بما ينعم عليهم (¬6). الثاني: أن يكون الرب بمعنى المالك، يقال: رب الشيء إذا ملكه، ورببت (¬7) فلانا، أي: كنت فوقه (¬8). ومنه قول صفوان بن أمية (¬9): لأن يَرُبَّنِي رجل من قريش أحب إِلي من أن يَرُبَّنِي رجل من هوازن (¬10) يعني: أن يكون ربًا فوقي، وسيدًا يملكني. وكل ¬

_ (¬1) يقال: (رجل طب) أي: عالم. انظر: "الصحاح" (طبب) 1/ 171. (¬2) ذكر الثعلبي نحوه قال: (تقول العرب: رَبَّ يَرُبُّ رَبَابَةً ورُبُوبًا فهو رَبٌّ مثل بَرٌّ وَطبٌّ) "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، وانظر: "الزاهر" 1/ 576، "الصحاح" (ربب) 1/ 130، "الوسيط" للواحدي 1/ 17. (¬3) ورد البيت بدون عزو في "الزاهر" 1/ 576، "تهذيب اللغة" (رب) 2/ 1336، "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، "الوسيط" للواحدي 1/ 17، "اللسان" (ربب) 3/ 1547، ورواية البيت في غير الثعلبي (من العرف) بدل (من الخير)، (سئل) بدل (فعل). (¬4) في (ب): (والمعنى). (¬5) في (ب): (ويعددهم). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 119. (¬7) في (ب): (بيت). (¬8) انظر: "الزينة" 2/ 27، "تهذيب اللغة" (رب) 2/ 1336، "اللسان" (ربب) 3/ 1546. (¬9) صفوان بن أمية بن خلف الجمحي القرشي، أسلم بعد الفتح، وروى أحاديث وشهد اليرموك، توفي سنة إحدى وأربعين. انظر ترجمته في "الإصابة" 2/ 187، "تجريد أسماء الصحابة" 1/ 266، "سير أعلام النبلاء" 2/ 562، "طبقات ابن سعد" 5/ 449. (¬10) ذكره الأزهري في "التهذيب"، وفيه: أن صفوان كان يرد بذلك على أبي سفيان. =

من ملك شيئا فهو ربّه (¬1)، يقال: هو ربّ الدار وربّ الضيعة (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل (¬3): "أَرَبُّ إِبلٍ أنت أم رَبُّ غنم؟ " (¬4)، وقال النابغة: فَإِنْ تَكُ رَبَّ أَذْوَادٍ بِحُزْوى ... أَصَابُوا مِنْ لِقَاحِكَ مَا أَصَابُوا (¬5) ثم (السيد) يسمى ربًّا وإن لم يكن مالكا على الحقيقة (¬6)، قال الله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]. وقال الأعشى (¬7): وَأَهْلَكْنَ يَوْمًا رَبَّ كِنْدَةَ وابْنَه (¬8). ¬

_ = "التهذيب" (رب) 2/ 1336، وذكره ابن هشام في "السيرة"، وذكر عن ابن إسحاق أنه كان يرد به على (جبلة بن الحنبل) وقال ابن هشام (كلدة بن الحنبل) "السيرة" لابن هشام 4/ 72 - 73. (¬1) في (ب): (رب). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (رب) 2/ 1336، " الزينة" 2/ 27، "اشتقاق أسماء الله" ص 32. (¬3) (لرجل) ساقط من (أ). (¬4) أخرجه أحمد في (مسنده) عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصعد في النظر وصوَّب وقال: "أَرَبُّ إبل .... " الحديث 4/ 136، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 25/ ب، والرازي في "الزينة" 2/ 29. (¬5) رواية البيت في "الديوان": فَإِنْ تَكُنِ الفَوَارِسُ يَوْمَ حِسْي ... أَصَابُوا مِنْ لِقَائِكَ مَا أَصَابُوا "الديوان" ص 84، ونحو رواية الديوان في "مجاز القرآن" 1/ 311، "الزاهر" 1/ 575، "الزينة" 2/ 27، وبمثل رواية الواحدي ورد في "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، ولعله أخذه عنه، و (حُزْوى) بضم الحاء موضع بنجد، انظر: "معجم البلدان" 2/ 255. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، "مجاز القرآن" 1/ 311، "الزينة" 2/ 27. (¬7) تبع الواحدي شيخه الثعلبي فنسب البيت للأعشى، والبيت للبيد كما نسبه الطبري وغيره في "ديوانه" كما سيأتي. (¬8) شطره الثاني: وَرَبَّ مَعَدًّ بَيْنَ خَبْتٍ وَعَرْعَرِ. (رب كندة): ملكهم حجر أبو امرئ القيس، و (رب معد): ملكهم حذيفة بن بدر، (خبت): الأصل فيه المطمئن من الأرض ويطلق على عدة أماكن، و (عرعر) اسم =

أي: سيدها. والله تعالى ربُّ كل شيء أي: مالكه، وهو السيد على الحقيقة. وقال بعض أهل اللغة: المعنى الثاني راجع إلى الأول الذي هو بمعنى التربية (¬1) وقيل للمالك: (رب) لأنه يرب مملوكه، ويملك تربيته وتنشئته، والسيد رب لأنه مالك. فأما ما يذهب إليه المتكلمون أنه لم يزل ربًّا (¬2)، وأن هذا من صفة الذات، وقولهم: إن معناه الثابت الدائم، من قولهم: (ربُّ بالمكان) إذا أقام به (¬3). فهذا لا يعرفه أهل اللغة، وليس يصح ربَّ (¬4) بمعنى: أقام (¬5)، وأربَّ بمعنى: أقام صحيح (¬6)، فان أمكن بناء (¬7) هذا الاسم من الإرباب صح قولهم. ¬

_ = مكان. انظر البيت في "شرح ديوان لبيد" ص 55، "تفسير الطبري" 1/ 62، "الزينة" 2/ 27، "الزاهر" 1/ 576، "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب. (¬1) انظر: "معجم مقاييس اللغة" (رب) 2/ 381، 382. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 26/ أ. (¬3) ذكره الثعلبي عن الحسين بن الفضل في "تفسيره" 1/ 25/ ب. (¬4) في (ب): (في رب). (¬5) بل ورد عند بعض أهل اللغة (رب) بمعنى: أقام، قال ابن دريد في "الجمهرة" (... رب بالمكان وأرب به إذا أقام به) 1/ 28، وانظر: "الاشتقاق" له ص 536، وفي "اللسان": رب بالمكان وأرب: لزمه. "اللسان" (ربب) 3/ 1548، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 25/ ب. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (رب) 2/ 1339، "الصحاح" (ربب) 1/ 132، "اللسان" (ربب) 3/ 1548. (¬7) في (ب): (بنى).

وقوله تعالى: {الْعَالَمِينَ}: هو جمع (عالم) على وزن (فَاعَل) (¬1)، كما قالوا: خَاتَم (¬2)، وطَابَع، ودَانَق (¬3)، وقَالَب (¬4)، واختلفوا في اشتقاقه على وجهين: فمنهم من قال: اشتقاقه من (العَلَم) و (العلامة)، وذلك أن كل مخلوق دلالة وعلامة على وجود صانعه (¬5)، فالعالم اسم عام لجميع المخلوقات، يدل على هذا قول الناس: (العالم محدث) يريدون به جميع المخلوقات، وهذا قول الحسن (¬6) ومجاهد وقتادة (¬7) في تفسير العالم: إنه جميع المخلوقات. ولدل على هذا القول من التنزيل قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23، 24] فسر (¬8) العالمين بجميع المخلوقات. ومنهم من قال: إنه مشتق من العِلْم (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (علم) 3/ 2554. (¬2) الخاتم: ما يوضع على الطينة التي على الكتاب، وتكون علامة على أنه لم يفتح، والطابع بمعناه، انظر. "تهذيب اللغة" (ختم) 1/ 983، و (طبع) 3/ 2161. (¬3) (الدانق) بفتح النون وكسرها: سدس الدرهم، انظر: "اللسان" (دنق) 3/ 1433. (¬4) (القالب) بفتح اللام وكسرها، الشيء الذي يفرغ فيه الجواهر، ليكون مثالا لما يصاغ منها، "اللسان" (قلب) 6/ 3715. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 26/ ب، وانظر: "معجم مقاييس اللغة" (علم) 4/ 110. (¬6) هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، مولى الأنصار، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي سنة عشر ومائة من الهجرة، كان غزير العلم بكتاب الله تعالى. ورعًا زاهدًا فصيحا. انظر ترجمته في "حلية الأولياء" 2/ 131، "طبقات القراء" لابن الجزري 1/ 235، "تذكرة الحفاظ" 1/ 71، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 150. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 26/ ب وذكره الطبري عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. "تفسير الطبري" 1/ 63، وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 27. (¬8) في (ب): (فيفسر). (¬9) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 26/ ب.

فالعالمون على هذا هم من يعقل، قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هم الجن والإنس (¬1). واختاره أبو الهيثم (¬2) والأزهري (¬3)، واحتجوا بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وإنما بعث محمد نذيرا للجن والإنس (¬4). وقال الحسين بن الفضل وأبو معاذ (¬5) النحوي: هم بنو آدم (¬6)، لقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)} [الشعراء: 165]. وقال الفراء (¬7) وأبو عبيدة: هو عبارة عما يعقل، وهو أربع أمم: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري بسنده. قال شاكر: إسناه حسن. "تفسير الطبري" 1/ 144 (ط. شاكر)، وابن أبي حاتم. وقال المحقق: (إسناده ضعيف)، "تفسير ابن أبي حاتم" رسالة دكتوراه 1/ 154، والحاكم في "المستدرك"، وقال بعده: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند. ووافقه الذهبي، "المستدرك"، كتاب التفسير تفسير سورة الفاتحة 2/ 258، وانظر: "الدر المنثور" 1/ 36. (¬2) انظر: الثعلبي 1/ 26/ أ. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (علم) 3/ 2554. (¬4) "التهذيب" (علم) 3/ 2554. (¬5) أبو معاذ النحوي المقرئ اللغوي، له عناية باللغة والقراءات. انظر مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 44، "إنباه الرواة" 179. (¬6) قال الثعلبي في "تفسيره" (قال أبو معاذ النحوي: هم بنو آدم .. وقال الحسين بن الفضل: (العالمون): الناس واحتج بقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} "تفسير الثعلبي" 1/ 26/ أ. (¬7) أبو زكرياء يحي بن زياد الديلمي الفراء، كان أبرع أهل الكوفة في النحو، له كتب من أشهرها معاني القرآن، توفي سنة سبع ومائتين. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي ص 131، "تاريخ بغداد" 14/ 149، "اللباب" 2/ 414، "إنباه الرواة" 4/ 1.

الملائكة والإنس والجن والشياطين، ولا يقال للبهائم: عالم (¬1). وقد ذكر الله تعالى {الْعَالَمِينَ} وأراد به أهل عصر واحد، وهو قوله لبني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] يعني عالمي زمانهم (¬2). وهذِه الأقوال صحيحة على أصل من يجعله مشتقًّا من العِلْم، والذين صححوا هذِه الطريقة قالوا في جواب موسى لفرعون: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (¬3): إنه لم يشتغل بتفسير العالمين، وإنما أراد تعريفه على وجه أظهر من الأول (¬4)، ليصير الخصم مبهوتًا. وأبو إسحاق (¬5) اختار الطريقة الأولى، وقال: معنى العالمين: كل ما خلق الله. قال: وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} كقوله {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] (¬6). والعالم على كلا (¬7) الأصلين: اسم للجمع (¬8)، ولا واحد له من لفظه، ¬

_ (¬1) بنصه في "تفسير الثعلبي" 1/ 26/ ب. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 264، "التصاريف" المنسوب ليحيى بن سلام ص 266، "إصلاح الوجوه والنظائر" للدامغاني ص 331. (¬3) يشير بهذا إلى ما سبق في قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24] حيث استدل بالآيتين من قال: إن العالمين: جميع المخلوقات. (¬4) هو ما ورد في الآيات قبلها حين توجه موسى إلى فرعون بقوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]. (¬5) الزجاج. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 8. (¬7) في (ج): (كل). (¬8) في (ج): (جمع).

كالأنام والرهط والجيش (¬1). قال أبو إسحاق: وإنما لم يستعمل الواحد من لفظه؛ لأن (العالم) اسم لأشياء مختلفة، فإن جعل لواحد منها اسم من لفظه صار جمعا لأشياء متفقة (¬2). وهذا النوع من الجمع (¬3) يسمى (السالم) لسلامة لفظ الواحد فيه، ويجمع على الواو والياء (¬4). واختلف النحويون في (الواو والياء والألف) اللواتي تلحق التثنية والجمع (¬5)، فمذهب سيبويه فيها أنها حروف إعراب بمنزلة (الدال) من زيد (¬6). والدليل على ذلك (¬7): أن الذي أوجب للواحد المتمكن نحو: (زيد ورجل) حرف الإعراب، هو (¬8) موجود في التثنية والجمع (¬9)، وهو التمكن، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 62، "تفسير الثعلبي" 1/ 26/ أ. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 8، ذكر كلامه بتصرف. (¬3) أي: (العالمين) جمع (عالم)، انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 8. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 162، "شرح ابن عقيل" 1/ 63. (¬5) نقل الواحدي في هذا الموضوع عن أبي الفتح ابن جني من "سر صناعة الإعراب" بعضه بنصه، وبعضه بمعناه. 2/ 695، ومثل هذا المبحث مكانه كتب النحو لا كتب التفسير. (¬6) انظر: "الكتاب" 1/ 17، 18. (¬7) أي ما ذهب إليه سيبويه، انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 696. (¬8) في (أ)، (ج): (فهو) وما في (ب) موافق لما في "سر صناعة الإعراب" 2/ 696. (¬9) لم يرد في كلام أبي الفتح ذكر للجمع، وإنما الحديث عن المثنى، وأضاف الواحدي كلمة (الجمع) لكلامه في جميع المواضع؛ لأن حكمهما واحد. انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 696.

فكما أن الواحد المعرب المتمكن يحتاج إلى حرف إعراب، فكذلك الاسم المثنى والمجموع إذا كان معربا متمكنا احتاج إلى حرف إعراب، وإذا كان كذلك فقولنا: (الزيدان والزيدون) (¬1) لا يخلو حرف الإعراب، إما أن يكون ما قبل الألف والواو، أو هما، أو ما بعدهما. ويفسد أن تكون (الدال) من زيد هي حرف الإعراب في التثنية؛ لأنها قد كانت في الواحد حرف الإعراب، وقد انقلبت عن الواحد الذي هو الأصل إلى التثنية التي هي فرع، كما تقول في (قائمة) لما انقلبت عن المذكر (¬2) الذي هو الأصل إلى المؤنث الذي هو الفرع، بطل أن تكون (الميم) التي كانت (¬3) في المذكر حرف إعراب أن تكون (¬4) في المؤنث حرف إعراب، وصار حرف الإعراب علم التأنيث وهو (الهاء) (¬5) فكذلك ينبغي أن يكون علم التثنية والجمع (¬6) هو حرف الإعراب (¬7). ولا يجوز أن يكون ما بعد الألف والواو حرف إعراب، وهو (النون) لأنها حرف صحيح يتحمل (¬8) الحركة، فلو كانت ¬

_ (¬1) عند أبي الفتح: (الزيدان والعمران، والرجلان والغلامان) 2/ 697، فهي أمثلة على المثنى وليس للجمع ذكر. (¬2) وهو (قائم)، انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 697. (¬3) في (ب): (الذي كان). (¬4) في (ب): (يكون). (¬5) في كلمة (قائمة)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 697. (¬6) (الجمع) زيادة من الواحدي على كلام أبي الفتح، 2/ 697. (¬7) تكلم أبو الفتح بعد هذا عن المقارنة بين المثنى وجمع التكسير، ولماذا لا تكون (الدال) من (الزيدان) حرف إعراب كما في المفرد؟ مثل (فرس) فالسين حرف إعراب و (أفراس) السين حرف إعراب وهو جمع تكسير. انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 697 - 698. (¬8) في (ب): (محمل).

حرف إعراب لوجب أن تعربه (¬1) في الرفع والنصب والخفض (¬2)، كما تعرب (الدال) من زيد، وكما تقول: هؤلاء غلمان، ورأيت غلمانا، ومررت بغلمان (¬3). وهذا الذي ذكرنا من مذهب سيبويه، مذهب أبي إسحاق وابن كيسان، وأبي بكر، وأبي علي (¬4). وإذا ثبت أن هذِه الحروف حروف إعراب (¬5) فلا إعراب في لفظها استثقالا للحركات فيها، ولا تقدير إعراب فيها -أيضًا- كما يقدر في الأسماء المقصورة المعربة نية الإعراب، ألا ترى أنك إذا قلت: هذا فتى، ففي الألف تقدير ضمة، وإذا قلت: رأيت فتى، ففي الألف تقدير فتحة، وإذا قلت: مررت بفتى، ففي الألف تقدير كسرة، وهو لا يرى (¬6) أنك إذا قلت: هذان الزيدان، أن في الألف تقدير ضمة، ولا إذا قلت: مررت بالزيدين، وضربت ¬

_ (¬1) في (ب): (تعرفه). (¬2) قال أبو الفتح: تقول: (قام الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 699. (¬3) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 699 وما بعدها من الصفحات فقد أطال أبو الفتح بن جني الشرح حول هذِه المسألة. (¬4) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 695، قال أبو الفتح: (.. وهو قول أبي إسحاق، وابن كيسان، وأبي بكر، وأبي علي ..). (¬5) قال أبو الفتح: (واعلم أن سيبويه يرى أن (الألف) في التثنية كما أنه ليس في لفظها إعراب، فكذلك لا تقدير إعراب فيها كما يقدر في الأسماء المقصورة المعربة نية الإعراب، ألا ترى أنك .. الخ) "سر صناعة الإعراب" 2/ 706. (¬6) في (ب): (لا ترى). والمراد (سيبويه) كما هو في النص السابق الذي نقلناه عن أبي الفتح 2/ 706.

الزيدين، ففي الياء تقدير كسرة ولا فتحة (¬1). قال أبو علي: (¬2) يدلك على أنه ليس في حرف الإعراب من التثنية والجمع تقدير حركة في المعنى، صحة (الياء) في الجر والنصب في قولك: (مررت برجلين) و (ضربت رجلين)، ولو كان في (الياء) منهما (¬3) تقدير حركة، لوجب أن تقلب ألفا كرحى وفتى، ألا ترى أن (الياء) إذا انفتح ما قبلها وكانت في تقدير حركة وجب أن تقلب ألفا (¬4). وهذا استدلال من أبي علي في نهاية الحسن، وصحة المذهب وسداد الطريقة (¬5). ودخلت النون فيهما عوضا من الحركة والتنوين، وذلك أن من شرط التثنية، والجمع -الذي على حد التثنية- أن يكون (¬6) له علامة مزيدة على لفظ الواحد، والواحد فيه حركة وتنوين، فكان حق العلامة أن تدخل على لفظ الواحد، ثم تلحقها الحركة والتنوين، فلما وجب أن يدخل التنوين ¬

_ (¬1) في "سر صناعة الإعراب" (أن في الياء ..) وفي حاشيته: في (ش): (ففي) ويظهر أن الواحدي أخذ عن هذِه النسخة، والصحيح ما أثبت في أصل "سر صناعة الإعراب" 2/ 706. (¬2) عند أبي الفتح: (قال أبو علي: ويدل على صحة ما قال سيبويه من أنه ليس في حرف الإعراب من التثنية تقدير حركة في المعنى -كما أن ذلك ليس موجودا في اللفظ- صحة (الياء) في الجر والنصب ...) فلم يرد في كلامه لفظ الجمع، انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 706. (¬3) في (ب): (منها). (¬4) لم أجده فيما اطلعت عليه من كتب أبي علي الفارسي، ولعل أبا الفتح أخذه من أبي علي مشافهة حيث قال: (وهذا أيضًا من لطيف ما حصلته عنه فافهمه). "سر صناعة الإعراب" 2/ 707. (¬5) بنصه من "سر صناعة الإعراب" 2/ 706. (¬6) في (ب): (تكون).

والحركة في التثنية والجمع، ثم عرض ما يمنع من دخولهما، وجب أن يعوض (¬1) منهما، وقد بينا أن الحركة إنما أسقطت استثقالا، والتنوين وجب إسقاطه لأنه ساكن، وهذِه الحروف سواكن ولم يمكن إسقاط هذِه الحروف لأنها علامات، ولا تحريكها للثقل، ولا تحريك التنوين؛ لأنه يخرج عن حكم العلامة ويصير نونا لازمة، فلم يبق إلا إسقاطه، فلما دخلت النون دخلت ساكنة؛ لأنه لا حظ لها من الإعراب فاجتمع ساكنان، فحركت نون التثنية بالكسرة ونون الجمع بالفتحة فرقا بينهما (¬2). وكانت نون التثنية أولى بالكسرة لأن قبلها (ألفا) وهي خفيفة والكسرة ثقيلة (¬3)، فاعتدلا، وقبل نون الجمع (واو (¬4)) وهي ثقيلة ففتحوا النون ليعتدل الأمر. فإن قلت: إنك تكسر النون مع (الياء) في النصب والجر، فهلا هربت إلى الفتحة لمكان (الياء) كما هربت إلى الفتحة لمكانها في (أين وكيف)؟. والجواب: أن (الياء) في التثنية ليست بلازمة كلزومها في (أين) لأن الأصل هو الرفع، والنصب والجر فرعان عليه، فأجروا الباب على حكم الرفع الذي هو الأصل (¬5)، وصارت النون أولى بالزيادة من بين سائر الحروف، لشبهها بحروف المد. وسترى وجه الشبه بينهما فيما يمر بك من الكتاب إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في (ج): (يعرض). (¬2) أخذه بمعناه من "سر صناعة الإعراب" 2/ 448 - 449. (¬3) في (ب): (ثقيلا). (¬4) عند أبي الفتح: (وقبل نون الجمع (واو) أو (ياء)) 2/ 488. (¬5) انتهى ما نقله عن أبي الفتح ابن جني من كتاب "سر صناعة الإعراب" ملخصا قال أبو الفتح (فهذِه حال نون التثنية والجمع الذي على حد التثنية ولم يتقص أحد من أصحابنا القول عليها هذا التقصي، ولا علمته أشبعه هذا الإشباع) 2/ 487 - 489.

4

4 - قوله تعالى: {مَالِكِ (¬1) يَوْمِ الدِّينِ}. المالك في اللغة: (الفاعل) من الملك، يقال: ملك فلان الشيء يملِكُه مُلكا ومِلكا ومَلْكا ومَلَكة (¬2) ومَمْلَكة ومَمْلَكة (¬3)، ويقال: إنه لحسن الملْكَة (¬4) والمِلْك. وأصل المُلك والمِلك راجع إلى معنى واحد، وهو الربط والشد، فمالك الشيء من ربطه لنفسه وملكه ما يختص به، وشد بعقد يخرج به عن أن يكون مباحا لغيره، وملك القوم من غلبهم وربط أمرهم (¬5). ومن هذا يقال: ملكت العجين أي شددت عجنه، وقول أوس بن حجر (¬6): فملك بالليط الذي تحت قشرها ... كغِرْقيء بَيضٍ كنه القَيضُ من عَلِ (¬7) ¬

_ (¬1) في (ج): (ملك). (¬2) في (ب): (وملكا). (¬3) ذكره الأزهري عن اللحياني: "التهذيب" (ملك) 4/ 3449، وانظر: "المحكم" (ملك) 7/ 45. (¬4) (المَلكة) بفتح الميم كذا ضبط في "التهذيب"، وفي حاشيته: وضبط في (ل) بكسر وتسكين اللام. "التهذيب" (ملك) 4/ 3449، وفي "المحكم" بالكسر 7/ 45. (¬5) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 13، 17، "المخصص" لابن سيده 17/ 157، "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 30، "اشتقاق أسماء لله" للزجاجي ص 43، 44. (¬6) أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها، وأحد شعراء تميم، انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 114، "الخزانة" 4/ 379، "معاهد التنصيص" 1/ 132. (¬7) قوله (ملك): شدد، و (الليط): القشر، و (القيض): القشر الغليظ فوق البيضة، و (الغرقىء): القشر الرقيق للبيضة، وهو يصف قوسا يقول: إنه قواه وذلك حين قشره فترك القشر الرقيق ليقويه به. ورد البيت في "ديوان أوس" ص 97، "الحجة" للفارسي 1/ 17، "تهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3450، " الخصائص" 2/ 363، 3/ 172، "اشتقاق أسماء الله" ص 46، "الصحاح" (ملك) 4/ 1610، "المحكم" (ملك) 7/ 46، "اللسان" (ملك) 7/ 4268، "الخزانة" 2/ 396.

ملك: شدد. وقول قيس بن الخطيم (¬1): ملكت بها كفي فأنهرت فتقها (¬2) أي: شددت بالطعنة كفي (¬3). ويقال: ما تمالك فلان أن فعل كذا، أي لم يستطع أن يضبط نفسه (¬4). وقال (¬5): فلا تمالك (¬6) عن أرض لها عمدوا (¬7) وملاك (¬8) الأمر: ما يضبط به الأمر، يقال: القلب (¬9) ملاك الجسد (¬10). ¬

_ (¬1) هو قيس بن الخطيم بن عدي بن الخزرج، شاعر فارس، لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات كافرا، ترجمته في "طبقات فحول الشعراء" 91/ 92، "الإصابة" 3/ 281، "الخزانة" 7/ 34. (¬2) من قصيدة لقيس قالها حين أصاب بثأره من قاتلي أبيه وجده، والشطر الثاني: يرى قائم من خلفها ما وراءها يقول: شددت بهذِه الطعنة كفى ووسعت خرقها، حتى يرى القائم من دونها الشيء وراءها. انظر: "ديوان قيس" ص 8، "تهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3450، "الصحاح" 4/ 1609، "المحكم" 7/ 46، "تاج العروس" 13/ 653، "اللسان" 7/ 4268، (المعاني الكبير) 2/ 978، 983، "الحجة" للفارسي 1/ 13، 17، "الخزانة" 7/ 35. (¬3) في (ب): (لفى). (¬4) "تهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3450، "اللسان" (ملك) 7/ 4268. (¬5) في (ج): (ويقال). (¬6) (تمالُك) بضم اللام في "تهذيب اللغة" وفي الحاشية: (جـ)، (ل) بفتح اللام، "تهذيب اللغة" 10/ 271، وبالفتح في "اللسان" 10/ 494. (¬7) ورد في "التهذيب" (ملك) 10/ 271، غير منسوب، وكذا في "اللسان" (ملك) 10/ 494. (¬8) في (ب): (ملال). (¬9) في (ج): (الا القلب). (¬10) في (ج): (الجساد). ذكر الأزهري عن الليث نحوه. "التهذيب" (ملك) 4/ 2450، وانظر: "المحكم" 7/ 46، "اللسان" (ملك) 7/ 4268.

وأبو مالك: كنية الكبر والسن، كني به لأنه يغلب الإنسان ويشده عما يريد، فلا ينبسط انبساط الشاب (¬1). قال: أبا مالك إن الغواني هجرنني ... أبا مالك إني أظنك دائبا (¬2) ويقال للرجل إذا تزوج: ملك فلان، يملك ملكا؛ لأنه شد عقد النكاح. وأملك إملاكا إذا زوج (¬3). وفي هذا الحرف قراءتان (مالك) و (ملك) (¬4). فمن قرأ (ملك) قال: الملك أشمل وأتم؛ لأنه قد (¬5) يكون مالك (¬6) ولا ملك له، ولا يكون مَلِك إلى وله مُلك، ولأنه لا يقال: مالك على الإطلاق، حتى يضاف إلى شيء، ويقال: ملك على الإطلاق (¬7). واحتج محمد بن جرير (¬8) لهذِه القراءة فقال: إن الله نبه على أنه مالكهم بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فحمل قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على وصف زائد ¬

_ (¬1) نحوه في "التهذيب" عن ابن الأعرابي 4/ 3451، وانظر: "اللسان" (ملك) 7/ 4269. (¬2) أورده الأزهري بدون نسبه في "التهذيب" (ملك) 4/ 3451 و (أبا) 1/ 104، "اللسان" (ملك) 7/ 4269، وكذا الزمخشري في "أساس البلاغة" (ملك) 2/ 401. (¬3) "التهذيب" (ملك) 4/ 3449، وانظر: "اللسان" (ملك) 7/ 4268. (¬4) قراءة عاصم والكسائي (مالك) وبقية السبعة (ملك)، انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 104، "الحجة" للفارسي 1/ 7، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 77، "الكشف" لمكي 1/ 25. (¬5) (قد) غير واضحة في (أ)، وفي (ب): (لا يكون). (¬6) في (ج): (مالكا) وعليه تعتبر (يكون) ناقصة. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 65، "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 9، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 77 - 79، "الكشف" 1/ 26. (¬8) هو الإمام المفسر محمد بن جرير الطبري، سبقت ترجمته في الدراسة.

أحسن (¬1). وقال محمد بن السري: الملك (¬2) الذي يملك الكثير من الأشياء، ويشارك غيره من الناس بالحكم عليه في ملكه (¬3)، وأنه لا يتصرف فيه إلا بما يطلقه له الملك ومع ذلك أن الملك يملك على الناس أمورهم، فلا يستحق اسم الملك حتى يجتمع له ملك هذا كله، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا. ويقوي هذِه القراءة من التنزيل قوله {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ} (¬4)، وقوله {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23]، و {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2]، و {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، ولم يقل: (لمن المِلْك) (¬5). وأكثر أهل اللغة اختاروا (مالك) أبو عبيدة، وأبو حاتم (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 150، نقل كلامه بمعناه، وابن جرير يرجح قراءة (ملك). (¬2) كلام ابن السري ورد في "الحجة" لأبي علي الفارسي ضمن كلام طويل له في ترجيح قراءة (ملك) حيث قال الفارسي: (قال أبو بكر محمد بن السري الاختيار عندي (ملك يوم الدين) والحجة في ذلك .. فالملك الذي يملك الكثير من الأشياء .. الخ)، "الحجة" 1/ 13، 14. (¬3) في "الحجة" (.. ويشارك غيره من الناس، بأنه يشاركه في ملكه بالحكم عليه فيه ...). (¬4) طه: 114، والمؤمنون: 116. (¬5) قال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي: كان أبو عبيد يختار (ملك يوم الدين) على (مالك) وذلك أن الله عز وجل قال: {لمن الملك} ولم يقل: (لمن المِلك). وذلك أن الملك مصدر الملك، والملك مصدر المالك. وخطأه أبو حاتم السجستاني في ذلك، فقال: أظنه احتج على نفسه ولم يشعر، لأن معنى (لمن الملك) يعني من يملك الملك ...) كتاب "الزينة" 2/ 100، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 26، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 78. (¬6) أبو حاتم هو: سهل بن محمد الجشمي السجستاني. نزيل البصرة وعالمها، من أئمة =

والأصمعي، والأخفش، وأبو العباس (¬1)، وقالوا: إنه أجمع وأوسع، لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال: ملك كل شيء، إنما يقال: ملك الناس (¬2)، قالوا: ولا يكون مالك الشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملك الشيء وهو لا يملكه كقولهم: (ملك العرب والعجم)، ولأنه يجمع الفعل والاسم (¬3)، ولأن معنى الآية أنه يملك الحكم يوم الدين بين خلقه دون غيره، فالوصف يكون مالكا (¬4). واحتج أبو العباس لهذِه القراءة فقال: (مالك يوم الدين) معناه يملك إقامة يوم الدين، على معنى يملك أن يأتي به، وإذا كان المعنى على هذا فالوجه (مالك) لا (ملك) (¬5). ومما يقوي هذِه القراءة من التنزيل قوله {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] فقولك: الأمر له، وهو مالك الأمر بمعنى، ألا ترى أن لام الجر ¬

_ = اللغة والشعر، والنحو إلى أنه لم يكن فيه حاذقًا، تلقى على أبي زيد، وأبي عبيدة والأصمعي، توفي سنة (255 هـ). انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 43، "أخبار النحويين" للسيرافي 102، "إنباه الرواة" 2/ 58. (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 28/ أ، "الزينة" 1/ 100، 101، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 160، "التهذيب" (ملك) 4/ 3449. (¬2) فـ (مالك) أعم وأشمل. انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 79، "تفسير الثعلبي" 1/ 28/ أ. (¬3) ذلك أن (مالكا) يجمع لفظ الاسم ومعنى الفعل فلذلك يعمل (فاعل) فينصب كما ينصب الفعل. انظر: "الكشف" لمكي 1/ 26. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 12، 15، 16، "الكشف" 1/ 25، 26. (¬5) ذكر الأزهري نحوه عن المنذري عن أبي العباس. "التهذيب" (ملك) 4/ 3449، وانظر: "الحجة" 1/ 15.

معناها (¬1) الملك (¬2). ومن نصر هذِه القراءة أجاب (¬3) ابن جرير بأن قال: ما ذكرت لا يرجح قراءة ملك؛ لأن في التنزيل أشياء على هذِه الصورة قد تقدمها العام وذكر بعده الخاص، كقوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1 - 2]. وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، ثم قال: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]. في أمثال كثيرة لهذا (¬4). فمن قرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فقد أضاف اسم الفاعل إلى الظرف وحذف المفعول من الكلام للدلالة (¬5) عليه، تقديره: مالك يوم الدين الأحكام، لأن القديم سبحانه ينفرد في ذلك اليوم بالحكم. فأما الدنيا فإنه يحكم فيها -أيضًا- الولاة والقضاة (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (معناه). (¬2) بنصه في "الحجة" 1/ 19. (¬3) أي من نصر قراءة (مالك) أجاب على دعوى ابن جرير السابقة -وهي قوله: (إن الله نبه على أنه مالكهم بقوله: {رب العالمين} فحمل قوله: {ملك يوم الدين} على وصف زائد أحسن). والكلام في "الحجة" ليس فيه ذكر لابن جرير حيث قال: (قال أبو علي: وأما ما حكاه أبو بكر ابن السري عن بعض من اختار القراءة بملك .. فإنه لا يرجع قراءة ملك على مالك، لأن في التنزيل أشياء على هذِه الصورة ..) 1/ 18. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 1/ 18، 19. (¬5) في (ب). (الدلالة). (¬6) في "الحجة" لأبي علي: (فإنه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة عليه، وإن هذا المحذوف قد جاء مثبتا في قوله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] فتقديره: (مالك يوم الدين الأحكام). وحسن هذا الاختصاص لتفرد القديم سبحانه في ذلك اليوم بالحكم ..)، "الحجة" 1/ 34.

وعلى ما ذكره أبو العباس، الآية تكون من باب حذف المضاف (¬1)، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو كثير في الكلام، وسترى منه مالا يحصى كثرة. وأما إعراب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فالجر في القراءتين (¬2). وهو صفة الاسم، مجرور (¬3)، والصفات تجري على موصوفاتها إذا لم تقطع عنها (¬4) بمدح أو ذم. وأما العامل فيها، فزعم الأخفش أبو الحسن أن الوصف يجري على ما قبله، وليس معه لفظ يعمل فيه (¬5)، إنما يعمل فيه كونه نعتا (¬6)، وذلك الذي يرفعه وينصبه ويجره، كما أن المبتدأ (¬7) إنما يرفعه الابتداء (¬8)، وإنما الابتداء معنى عمل (¬9) فيه، وليس لفظا، فكذلك هذا (¬10). وقوله تعالى: {الدِّينِ} قال الضحاك (¬11) وقتادة: (الدين) الجزاء، يعني ¬

_ (¬1) يعني بقوله فيما سبق (يملك إقامة يوم الدين ...) فحذف المضاف وهو (إقامة) وأقام المضاف إليه وهو (يوم الدين) مقامة. انظر: "تهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3449، ورد ابن جرير هذا القول، انظر: "تفسيره" 1/ 67. (¬2) "الحجة" لأبي علي 1/ 40. (¬3) وهو لفظ الجلالة في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. (¬4) في "الحجة": (والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح ...)، "الحجة" 10/ 40. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 160. (¬6) في "الحجة": (وليس معه لفظ عمل فيه، إنما فيه أنه نعت ..)، 1/ 40. (¬7) في (ب): (المبتدى). (¬8) في "الحجة" لأبي علي: (كما أن المبتدأ إنما رفعه الابتداء ..) 1/ 40. (¬9) (عمل) ساقط من (ب). (¬10) انتهى من "الحجة"، 1/ 40. (¬11) هو الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو محمد، من أوعية العلم، وكان مفسرا حدث عن =

يوم يدين الله العباد بأعمالهم (¬1). تقول العرب: دنته بما فعل أي جازيته (¬2). ومنه قوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} (¬3) [الصافات: 53] أي مجزيون. وقال: واعلم وأيقن أن ملكك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان (¬4) أي تجزى بما تفعل. ويقوي هذا التفسير قوله {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} [غافر: 17]. وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28]. وقال ابن عباس، والسدي، ومقاتل (¬5)، في معنى قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: قاضي يوم الحساب (¬6)، ¬

_ = عدد من الصحابة، قال بعضهم: لم يلق ابن عباس، في وفاته أقوال قيل: (102 هـ) وقيل (105 هـ)، وقيل: (106 هـ). انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 6/ 300، "طبقات خليفة" ص 568، 322، "سير أعلام النبلاء" 4/ 598. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 28/ ب، وأخرجه الطبري في "تفسيره" عن قتادة، وأخرج نحوه عن ابن عباس وابن جريج 1/ 68، وقول قتادة ذكره السيوطي في "الدر" وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. "الدر" 1/ 39. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 38. (¬3) وقد وردت الآية في جميع النسخ {إنا لمدينون} وكذا عند الثعلبي في "تفسير" 1/ 28/ ب. (¬4) نسبه بعضهم إلى يزيد بن الصعق الكلابي، وبعضهم: إلى خويلد بن نوفل الكلابي، وقال في (الخزانة): قال بعض الكلابين، والبيت مع بيتين قبله، قالهما يخاطب الحارث بن أبي شمر الغساني حين اغتصب ابنته. ورد البيت في "تفسير الطبري" 1/ 68، "الكامل" 1/ 328، "المخصص" 17/ 155، "اللسان" (دين) 3/ 1468، "التاج" 18/ 215، "الخزانة" 10/ 91. (¬5) (مقاتل) ساقط من ب. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 28/ ب، وقد أخرج الطبري عن ابن عباس: يوم الدين: يوم حساب الخلائق. "تفسير الطبري" 1/ 68، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" =

5

واختار أبو عبيد هذا القول (¬1). ومن الدين بمعنى الحساب قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] أي: ذلك الحساب (¬2) الصحيح، والعدد المستوي (¬3). وقيل في قوله: "الكيس من دان نفسه (¬4) ": أي حاسبها. وخص هذا اليوم بأنه مالكه، تعظيما لشأنه وتهويلا لأمره، كقوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} [العاديات: 11] وهو خبير سائر الأيام. وللدين معان كثيرة في اللغة (¬5)، وكل موضع انتهينا إليه من القرآن ذكرنا ما فيه. 5 - قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬6). اختلفت (¬7) مذاهب النحويين في هذا الحرف، وأنا ذاكر لك هنا منها ما يحتمله هذا الكتاب (¬8). ذهب الخليل ¬

_ = 1/ 157 (رسالة دكتوراه)، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 453، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي ص 295. (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 439. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 28/ ب، وفسر الطبري (الدين) في آية التوبة ويوسف بأنه الدين القويم المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وفي آية الروم فسره: بالمستقيم، ثم قال: وقد وجه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب، (تفسير الطبري) 10/ 126، 12/ 220، 20/ 42، انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 454. (¬3) "تهذيب اللغة" (دان) 2/ 1136. (¬4) الحديث أخرجه الترمذي عن شداد بن أوس، وقال: حديث حسن. الترمذي (2459)، أبواب صفة القيامة، وابن ماجه (4260) كتاب: الزهد، باب: ذكر الموت، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 122، وهو بنصه في "تهذيب اللغة" (دان) 2/ 1136. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (دان) 2/ 1136، "معجم مقاييس اللغة" (دين) 2/ 319، "إصلاح الوجوه والنواظر" للدامغاني ص 178، "نزهة الأعين النوظر في علم الوجوه والنظائر" ص 295. (¬6) في (ج): (نحبد) تصحيف. (¬7) في (ب): (اختلف). (¬8) ما ذكره الواحدي عن (إياك) نقله عن أبي الفتح ابن جني من كتاب "سر صناعة الإعراب" =

إلى أن (إيا) اسم مضمر، مضاف إلى (الكاف) وهذا -أيضًا- مذهب أبي عثمان (¬1). وحكى أبو بكر (¬2) عن أبي العباس (¬3) عن أبي الحسن (¬4) أنه اسم مفرد مضمر يتغير آخره كما تتغير (¬5) أواخر المضمرات، لاختلاف أعداد المضمرين، وأن الكاف في (إياك) كالكاف التي في (ذلك) في أنه دلالة على الخطاب فقط، مجردة من كونها علامة للضمير، ولا يجيز أبو الحسن فيما يحكى عنه: (إياك وإيا زيد) و (إياي وإيا الباطل) (¬6). وقال سيبويه: حدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: إذا ¬

_ = مع تصرف يسير في العبارة، وأبو الفتح اعتمد على أبي علي الفارسي، وصرح بنقله عنه، وكلام الفارسي موجود في "الإغفال" قال أبو الفتح: (وهذِه مسألة لطيفة عنت لنا في أثناء هذا الفصل، نحن نشرحها ونذكر خلاف العلماء فيها، ونخبر بالصواب عندنا من أمرها إن شاء الله وهي قوله عز اسمه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وما كان مثله. أخبرني أبو علي، عن أبي بكر محمد بن السري، عن أبي العباس محمد بن يزيد: أن الخليل يذهب إلى أن (إيا) اسم مضمر مضاف إلى الكاف ...)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 312، وانظر: "الإغفال" ص 52 (رسالة ماجستير). (¬1) هو أبو عثمان بكر بن محمد المازني الشيباني، النحوي المشهور، أستاذ أبى العباس المبرد، اختلف في سنة وفاته فقيل: (236 هـ)، وقيل: (248 هـ)، وقيل: غير ذلك. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" ص 87، "تاريخ بغداد" 7/ 93، "إنباه الرواة" 1/ 246، "معجم الأدباء" 2/ 345، "نزهة الألباء" ص 140. (¬2) هو محمد بن السري كما في "سر صناعة الإعراب" 1/ 312. (¬3) المبرد، "سر صناعة الإعراب" 1/ 312. (¬4) في (ب): (الخير). (¬5) في (ب): (يتغير). (¬6) في (ج): (الباصل).

بلغ الرجل ستين فإياه وإيا الشواب (¬1). وحكى ابن كيسان عن بعض النحويين أنه قال: (إياك) بكمالها: اسم. قال: وقال بعضهم: (الياء والكاف والهاء) هي الأسماء، و (إيا) عماد لها؛ لأنها لا تقوم بأنفسها (¬2). وقال أبو إسحاق: (الكاف) في (إياك) في موضع جر بإضافة (¬3) (إيا) إليها، إلى أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات. (¬4) وليس يصح من هذِه الأقوال إلا قول أبي الحسن (¬5). أما قول الخليل: إن (إيا) اسم مضمر مضاف فظاهر الفساد؛ وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر فلا سبيل إلى إضافة؛ لأن الغرض في الإضافة التعريف والتخصيص، والمضمر على نهاية الاختصاص فلا حاجة به إلى الإضافة، فهذا يفسد قول الخليل والمازني جميعا (¬6). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 313. وانظر قول سيبويه في "الكتاب" 1/ 279 (تحقيق عبد السلام هارون)، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 11، "اللسان" (إيا) 1/ 187. (¬2) انظر بقية كلام ابن كيسان في "سر صناعة الإعراب" 1/ 313. (¬3) في (ب): (اضافة). (¬4) "سر صناعة الإعراب" 1/ 313، وانظر نص قول الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 10، 11. قال الزجاج: (.. و (أيا) اسم للمضمر المنصوب إلى أنه يضاف إلى سائر المضمرات ..). (¬5) قال أبو الفتح: (وتأملنا هذِه الأقوال على اختلافها والاعتدال لكل قول منها، فلم نجد فيها ما يصح مع الفحص والتنقيب غير قول أبي الحسن الأخفش ..)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 314. (¬6) "سر صناعة الإعراب" 1/ 315.

وحكاية سيبويه في إضافة (¬1) (إيا (¬2)) ليس سبيل مثله -مع قلته- أن يعترض به على السماع والقياس جميعا، ألا ترى أنه لم يسمع منهم: (إياك وإيا الباطل). وأما قول من قال: (إياك) بكماله اسم، فليس (¬3) بقوي، وذلك أن (إياك) في أن فتحة الكاف تفيد خطاب المذكر، وكسرتها تفيد خطاب المؤنث، بمنزلة (أنت) في أن الاسم هو الهمزة والنون، والتاء (¬4) المفتوحة تفيد خطاب المذكر، والمكسورة خطاب (¬5) المؤنث، فكما أن ما قبل التاء في (أنت) هو الاسم، والتاء حرف خطاب، كذلك (إيا) هو الاسم، والكاف حرف خطاب (¬6). وأما من قال: إن (الكاف والهاء والياء) (¬7) هي الأسماء و (إيا) عماد لها لقلتها، فغير مرضي أيضا وذلك أن (إيا) في أنه (¬8) ضمير منفصل بمنزلة (أنت وأنا ونحن، وهو وهي) في أن هذِه مضمرات منفصلة، كما أن (أنا وأنت) ونحوهما مخالف للفظ المرفوع المتصل نحو (التاء) في قمت، و (النون) في ¬

_ (¬1) عند أبي الفتح: (فأما ما حكاه سيبويه عنه (أي عن الخليل) من قولهم: فإياه وإيا الشواب، فليس سبيل مثله -مع قلته- أن يعترض به على السماع ... الخ)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 315. (¬2) في (ب): (إيا إليها) زيادة (إليها). (¬3) في (ب): (فليست). (¬4) في (ب): (الياء) تصحيف. (¬5) عند أبي الفتح: (تفيد خطاب ..)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 315. (¬6) فلا يكون (إياك) بكماله اسم. (¬7) عند أبي الفتح: (وأما من قال: إن (الكاف والهاء والياء) في إياك وإياه وإياي هي الأسماء وأن (إيا) إنما عمدت بها هذِه الأسماء لقلتها فغير مرضي أيضا) "سر صناعة الإعراب" 1/ 315. (¬8) في (ب): (ايه).

قمنا، و (الألف) في قاما، و (الواو) في قاموا، بل هي ألفاظ أخر (¬1) غير ألفاظ الضمير المتصل، وليس شيء منها معمودًا به شيء من الضمير المتصل بل هو قائم بنفسه، فكذلك (إيا) مضمر (¬2) منفصل، ليس معمودًا به غيره، كما أن (التاء) في (أنت) وإن كانت بلفظة (التاء) في (قمت)، فليست اسما مثلها (¬3)، بل الاسم قبلها وهو (أن)، وهي بعده للخطاب، وليست (¬4) (أن) عمادا للتاء (¬5)، فكذلك (إيا) هي الاسم، وما بعدها يفيد الخطاب تارة، والغيبة تارة، والتكلم (¬6) أخرى، وهذا محض القياس. وأما قول أبي إسحاق: وإن (إيا) اسم مظهر، خص بالإضافة إلى المضمر (¬7) ففاسد أيضًا وليست (إيا) بمظهر كما زعم، والدليل على أن (إيا) ليست باسم مظهر اقتصارهم به على ضرب واحد من الإعراب، وهو النصب، كما اقتصروا بـ (أنا وأنت) على ضرب واحد من الإعراب، وهو الرفع (¬8)، ¬

_ (¬1) في (أ): (أخرى) وما في (ب)، (ج) موافق لما عند أبي الفتح، 1/ 316. (¬2) عند أبي الفتح: (اسم مضمر منفصل) وفي الحاشية: (اسم) سقط من (ش)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 316. (¬3) فالتاء في (قمت) ضمير، وفي (أنت) التاء للخطاب و (الاسم) أن. (¬4) في (ب): (ليس). (¬5) في (ب): (التاء). (¬6) في ب، (ج): (والمتكلم) وعند أبي الفتح (التكلم) وفي الحاشية (ل)، (ب): (المتكلم) "سر صناعة الإعراب" 1/ 316. (¬7) "سر صناعة الإعراب" 1/ 316، وانظر رأي أبي إسحاق في "معاني القرآن" 1/ 10، 11. (¬8) عند أبي الفتح: (... وهو الرفع، فكما أن (أنا وأنت وهو ونحن) وما أشبه ذلك أسماء مضمرة، فكذلك (إيا) اسم مضمر لاقتصارهم به على ضرب واحد من الإعراب، وهو النصب، ولم نعلم اسما مظهرا ... الخ) 1/ 316.

ولم نعلم اسمًا مظهرًا اقتصر به على النصب ألبتة، إلا ما كان ظرفا (¬1)، وليس (إيا) بظرف، فقد صح بما أوردناه سقوط هذِه الأقوال، ولم يبق قول يجب اعتقاده، ويلزم الدخول تحته غير قول أبي الحسن: إن (إيا) مضمر، وإن (الكاف) بعده ليست اسمًا، وإنما هي للخطاب، بمنزلة (كاف) ذلك، وأرأيتك (¬2) وأبصرك زيدا، وليسك عمرا (¬3)، والنجاءك (¬4). فإن قيل: إذا كانت (الكاف) في إياك ليست اسمًا فكيف تقولون في (الهاء) و (الياء) في (إياه وإياي)؟ (¬5). قلنا: هما مثل الكاف، وإنما اختلف ما بعد (إيا) لاختلاف أعداد المضمرين وأحوالهم من الحضور والمغيب، ولسنا (¬6) نجد حالا سوغت هذا المعنى للكاف، وانكفت غير (¬7) (الهاء والياء) (¬8). وقد وجدنا غير (الكاف) ¬

_ (¬1) قال أبو الفتح: (ولم نعلم اسما مظهرا اقتصر به على النصب البتة إلى ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية وذلك نحو: ذات مرة، وبعيدات بين، وذا صباح وما جرى مجراهن، شيئا من المصادر نحو: سبحان الله ... الخ)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 316. (¬2) في (ج): (ولرايتك). (¬3) في (ب): (عمروا). وقوله (ليسك عمرا) أي: (ليس عمرا) والكاف لتوكيد الخطاب، وكذا أبصرك زيدا، أى أبصر زيدا. انظر "سر صناعة الإعراب" 1/ 309. (¬4) (النجاءك): إذا أردت: انج، انظر: "تهذيب اللغة" (نجا) 4/ 3509، "سر صناعة الإعراب" 1/ 308. (¬5) في "سر صناعة الإعراب" (... فكيف يصنع أبو الحسن بقولهم: إياه وإياي ...) 1/ 317. (¬6) في (ج): (ولنا). (¬7) (غير) كنا في جميع النسخ، وعند أبي الفتح (عن) وهو الصحيح. "سر صناعة الإعراب" 1/ 317. (¬8) فكما كانت (الكاف) حرف خطاب في (إياك) تكون (الهاء) في (إياه) و (الياء) في (إياي) حرفين، ولا مسوغ لاختلافهما عن (الكاف).

لحقه من سلب الاسمية وإخلاصه للحرفية (¬1) ما لحق (الكاف)، وهي (التاء) في أنت و (الألف) في قول من قال: قاما أخواك (¬2)، و (الواو) في: قاموا إخوتك، و (النون) في: قمن الهندات، ألا ترى أن من قال: (أخواك قاما) كانت الألف عنده علامة الضمير والتثنية، وإذا قال: (قاما أخواكا) كانت الألف مخلصة للدلالة على التثنية مجردة من مذهب الاسمية، لامتناع تقدم المضمر (¬3)، وخلو (¬4) الفعل من علم الضمير بارتفاع الاسم الظاهر بعده، وكذلك الجمع والتأنيث على هذا القياس (¬5)، فلا ينكر أيضا أن تكون (الهاء) و (الياء) في ضربه وضربني على معنى الاسمية، فإذا قلت: (إياه) و (إياي) تجردتا من معنى الاسمية، وخلصتا (¬6) لدلالة الحرفية، فاعرف هذا، فإنه من لطيف ما تضمنه هذا الفصل (¬7)، وهذا الذي ذكرنا كلام أبي علي وأبي الفتح (¬8). واعلم: أن الضمير ينقسم إلى ثلاثة أقسام (¬9): ظاهر منفصل، وظاهر ¬

_ (¬1) في (ب): (ولا خلاصة للحرفة). (¬2) في (ج): (أخوك). (¬3) في (ب): (الضمير). (¬4) في (ج): (خلق). (¬5) فصل أبو الفتح هذا بالأمثلة، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 318. (¬6) في (ب): (واخلصا). (¬7) قال أبو الفتح: (... فاعرف هذا، فإنه من لطيف ما تضمنه هذا الفصل وبه كان أبو علي رحمه الله ينتصر لمذهب أبي الحسن ويذب عنه، ولا غاية في جودة الحجاج بعده)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 318. (¬8) انتهى ما نقله عن أبي الفتح من "سر صناعة الإعراب" 1/ 312 - 318، وانظر: "الإغفال" ص 50 - 57. (¬9) هذا البحث لا علاقهَ له بتفسير الآية، ومكانه كتب النحو واللغة، وجرى الواحدي في =

متصل، ومستكن، وهو على ثلاثة (¬1) أوجه: ضمير المرفوع، وضمير المنصوب، وضمير المجرور، وكل واحد منها على وجهين: متصل ومنفصل، إلا ضمير المجرور، فإنه متصل، ولا منفصل له. أما ضمير المرفوع المتصل فنحو (تاء) فعلت وفعلت، وتثنيتهما، وجمعهما وتأنيثهما. وأما ضمير المرفوع المنفصل فنحو (أنا وأنت وهو) وتثنيتها وجمعها، وتأنيثها (¬2). وأما ضمير المنصوب المتصل فنحو (ياء) ضربني، و (كاف) ضربك و (هاء) ضربه (¬3)، وتثنيتها وجمعها وتأنيثها (¬4). وأما ضمير المجرور المتصل فنحو (ياء) بي، و (كاف) بك و (هاء) به، ولا منفصل له. وأما المستكن فهو ما كان مستكنا في الفعل كقولك: قعد، وقام، فالضمير (¬5) مستفاد من الفعل وإن لم يصرح به، لأن الفعل لا يقوم إلا بفاعل. واعلم: أن (إيا) مبنية على السكون؛ لأن فيها شبه الحرف، فهي مثل (أنت، وأنا، وهو) وهذِه كلها مبنية لشبه الحرف، والألف في آخرها غير ¬

_ = هذا على منهج شيخه الثعلبي حيث ذكر أقسام الضمير في هذا الموضع 1/ 129/ أ، وانظر أقسام الضمير في باب: الكنايات في (أصول النحو) لابن السرج 2/ 114، (التبصرة والتذكرة) للصيمري 1/ 493 - 511. (¬1) في (ب): (ثلاثة أنواع أوجه) وكلمة (أنواع) جاءت في الجانب فلعلها شر من الكاتب (¬2) في (ج): (وتثنيتهما وجمعهما وتأنيثهما). (¬3) في (ب): (ضربته). (¬4) (تأنيثها) سقط من (ب). (¬5) في (ب): (والضمير).

منقلبة مثل ألف (لا) و (ما) و (حتى) و (كلا) (¬1). قال أبو الفتح: وحكى لي حاك عن أبي إسحاق قال (¬2): سمعته يقول وقد سئل عن معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ما تأويله؟ فقال: حقيقتك نعبد، قال: واشتقاقه من الآية، وهي العلامة، قال (¬3): وهذا القول عندي من أبي إسحاق غير مرضي، وذلك أن جميع (¬4) الأسماء المضمرة مبني غير مشتق نحو: (أنا وأنت وهو وهي) وقد قامت الدلالة على كون (إيا) اسما مضمرًا (¬5)، فيجب أن لا يكون مشتقا (¬6). فإن قلت: فما مثال (إيا) من الفعل؟ فإن المضمر لا ينبغي أن يمثل؛ لأنه غير مشتق ولا متصرف (¬7). وقال صاحب "النظم" (¬8): معنى (إيا) الاختصاص، وقول القائل: (إياك ضربت) يعني: أن الضرب اختص بك وأردتك به، ولهذا وضعت العرب ¬

_ (¬1) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 655، 656. (¬2) في "سر صناعة الإعراب": (أراه قال لي: سمعته ....) 2/ 656. (¬3) قال: المراد أبو الفتح. انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 656. (¬4) في (ب): (جمع). (¬5) وهو ما تقدم مما قرره الواحدي نقلا عن أبي الفتح ابن جني. (¬6) انظر بقية كلام أبي الفتح في "سر صناعة الإعراب" 2/ 656، وانظر (المحتسب) 1/ 40. (¬7) ترك الواحدي بقية كلام أبي الفتح، فلم يرد جواب السؤال واضحا، قال أبو الفتح بعد هذا: (ولكنك إن تكلفت ذلك على تبيين حاله لو كان مما يصح تمثيله، لاحتمل أن يكون من ألفاظ مختلفة، وعلى أمثلة مختلفة فالألفاظ ثلاثة: أحدها: أن يكون من لفظ (أويت)، والآخر: من لفظ الآية، والآخر: من تركيب (أوو ...)، ثم أخذ في تفصيل ذلك في كلام طويل. انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 656 - 664. (¬8) هو أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني، وكتابه هو "نظم القرآن" سبق الحديث عنه وعن كتابه في مصادر الواحدي في "البسيط"، وذكرت هناك: أن كتاب "نظم القرآن" مفقود، وقد نقل عنه الواحدي كثيرا.

(إياك) في موضع التحذير لما فيه من تأويل الاختصاص، فقالوا: إياك والأسد، أي: احفظ نفسك واحذر الأسد، ومنه قول الشاعر: فإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر (¬1) وربما قالوا: إياك الأسد، بلا (واو)، قال (¬2) الشاعر: عليك القصد فاقصده برفق ... وإياك المحاين أن تحينا (¬3) فمن حذف (الواو)، فمعناه احذر على نفسك الأسد، وصن (¬4) نفسك منه. وهذا الضمير (¬5) يستعمل مقدما ولا يستعمل مؤخرا، إلى أن يفصل بينه وبين الفعل، فيقال: ما عنيت إلا إياك. قال أبو بكر (¬6): وقوله: {إِيَّاكَ} بعد (¬7) قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬8) ¬

_ (¬1) ينسب البيت للطفيل الغنوي، وهو في (ديوانه) ص 102، قال المحقق: وهو قريب من شعر الطفيل، وينسب لمضرس بن ربعي الفقعسي، وكل المصادر روت البيت (فهياك) بدل (فإياك) وهو الشاهد عندهم حيث أبدل الهمزة هاء. ورد البيت في "المحتسب" 1/ 40، ("الإنصاف") 1/ 215، "ديوان الطفيل الغنوي" ص 102، "اللسان" (هيا) 8/ 4743، "الكشاف" 1/ 62، والقرطبي 1/ 127. (¬2) في (ب): (وقال). (¬3) أنشد الفراء شطره الثاني ولم ينسبه "معاني القرآن" 1/ 166، وكذا المزني في "معاني الحروف" ص 102، وابن قتيبة في (أدب الكاتب) ص 322 وشطره الأول عنده: ألا أبلغ أبا عمرو رسولا وقوله: المحاين: المهالك، تحين: تهلك أو يأتي حينها ووقتها. (¬4) في (ج): (أوصن). (¬5) أي ضمير (إيا). (¬6) ابن الأنباري، انظر: "زاد المسير" 1/ 14. (¬7) في (ب): (إياك نعبد قوله) وفي (ج) سقطت (بعد). (¬8) في (ب): (مالك).

[الفاتحة: 4] رجوع من الغيبة إلى الخطاب، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، وهو نوع من البلاغة والتصرف في الكلام (¬1)، ومثله قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ثم قال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 22] وقال الأعشى: عنده البر والتقى وأسا الصد ... ع وحمل لمضلع الأثقال ووفاء (¬2) إذا أجرت فما غر ... ت حبال وصلتها بحبال (¬3) وأنشد أبو عبيدة (¬4): يا لهف نفسي كان جدة خالد ... وبياض وجهك للتراب الأعفر (¬5) وقال كثير (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 1/ 14، "مجاز القرآن" 1/ 23، والطبري 1/ 67، وابن عطية 1/ 104، "الكشاف" 1/ 62، والرازي 1/ 252. (¬2) في (ج): (ووحاء). (¬3) البيتان من قصيدة للأعشى يمدح الأسود بن المنذر، وليس البيتان متواليين في القصيدة، وإنما بينهما أبيات، وفي "الديوان" ورد (الحزم) بدل (البر) و (الصرع) بدل (الصدع). قوله: (التقي) أي: الحذر، (أسا): دواء. انظر: "الديوان" ص 166 - 167، ولم أجدهما في غيره. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 24. (¬5) البيت لأبي كبير الهذلي، يرثي صديقا له اسمه خالد (جدة) يعني: شبابه، (الأعفر) يقول: دفن في أرض ترابها أعفر: أي: أبيض. ورد البيت في "مجاز القرآن" 1/ 24، "شرح أشعار الهذليين" للسكري 3/ 1081، والطبري 1/ 67، "أمالي ابن الشجري" 1/ 117، وابن عطية 1/ 104. (¬6) هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة من خزاعة، كان أحد العشاق المشهورين، وصاحبته (عزة) وهي من ضمرة، وإليها ينسب، كان كثير رافضيا توفي في اليوم الذي توفي فيه عكرمة مولى ابن عباس. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 334، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 534، "الخزانة" 5/ 221.

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت (¬1) وقوله تعالى: {نَعْبُدُ} معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع والتذلل، وهو جنس من الخضوع، لا يستحقه إلى الله عز وجل، وهو خضوع ليس فوقه خضوع، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه، ويقال: طريق معبد، إذا كان مذللا موطوءا (¬2) بالأقدام (¬3)، وهو في شعر طرفة (¬4). وقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال أبو بكر: وإنما كرر (إياك) للتوكيد، كما تقول: بين زيد وبين عمرو خصومة، فتعيد (بين) (¬5). قال: ولأن كل واحد من الفعلين يطلب مفعولا على حدته، ولو أخر المكنيان (¬6) إلى ¬

_ (¬1) من قصيدة لكثير في ذكر (عزة) قوله (مقلية) من القلي وهو البغض، (تقلت) تبغضت، ورد البيت في "الشعر والشعراء" ص 343، "ديوان كثير" ص 101، نشر دار الثقافة بيروت، "أمالي ابن الشجري" 1/ 49، 118، "المحكم" 3/ 144، "الخزانة" 5/ 219. (¬2) في (ب): (بوطوا). (¬3) ذكر هذِه المعاني الثعلبي في "تفسيره الكشاف" 1/ 29/ ب، وانظر الطبري 1/ 69. (¬4) أراد أبيات طرفة التي ذكرها الثعلبي بعد الكلام السابق وهي: قال طرفة: تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد وقوله: إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد انظر الثعلبي 1/ 29/ ب، والطبري 1/ 69، "الأضداد" لابن الأنباري ص 35. (¬5) ذكر نحوه الثعلبي 1/ 29/ ب وذكره ابن جرير ثم رده قال: (وقد ظن من لم ينعم النظر أن إعادة (إياك) مع (نستعين) بعد تقدمها في قوله: {إياك نعبد} بمعنى قول عدي بن زيد: وجاعل الشمس مصرًا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا وذكر بيتا آخر .. ثم قال: وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ إياك أن تكون مكررة مع كل فعل .. الخ). الطبري 1/ 71. (¬6) يعني: الضميرين.

موضعهما بعد الفعل لقيل: (نعبدك ونستعينك) فلما كان كل واحد من الفعلين يقع على (الكاف) (¬1) في تأخرها وقع على (إياك) في تقدمه (¬2). والقول هو الأول (¬3)؛ لأن العرب إذا جمعت فعلين واقعين اكتفت بوقوع أحدهما من وقوع الآخر، فيقولون: قد أكرمتك وألطفت (¬4). قال الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] أراد (وما قلاك) فاكتفى بوقوع الأول من وقوع الثاني (¬5). ويقال: لم قدم ذكر العبادة على المعونة، وإنما المعونة بها تكون العبادة؟ والجواب: أن الواو عند النحويين لا توجب ترتيبا (¬6)، وإنما هي للجمع (¬7)، يدل على ذلك أنه لو اتفقت الأسماء لم ¬

_ (¬1) في (ج): (الكائن). (¬2) ذكر نحوه ابن جرير 1/ 71. قال أبو حيان: كرر (إياك) ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين، وكل منهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه ...)، "البحر المحيط" 1/ 25. وقال أبو السعود: (تكرير الضمير المنصوب للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة)، أبو السعود 1/ 17، وانظر ابن كثير 1/ 28. (¬3) أي كرر للتوكيد، واختار ابن جرير الثاني 1/ 71. (¬4) قال ابن جرير: إن الأفصح إعادة الضمير مع كل فعل اتصل به، فيقال: (اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك) .. وإن كان ترك الإعادة جائزا. انظر الطبري 1/ 71. (¬5) قال أبو حيان: حذف المفعول اختصارا في (قلى) إذ يعلم أنه ضمير المخاطب وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. "البحر المحيط" 8/ 485، وقال الرازي في حذف الكاف وجوه: 1 - اكتفاء بالكاف في (ودعك)، ولأن رؤوس الآيات بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف. 2 - الإطلاق، أنه ما قلاك، ولا أحدا من أصحابك، ولا أحدا ممن أحبك. الرازي 31/ 209، وانظر القرطبي 20/ 94. (¬6) انظر: "الكتاب" 3/ 42، "سر صناعة الإعراب" 2/ 632. (¬7) وعليه فتقديم الخبر عن العبادة وتأخير مسألة طلب المعونة، ليس من باب الترتيب، واختار الطبري هذا قال: (.. كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه ... ثم قال: =

6

نحتج (¬1) إليها، لا تقول: قام زيد وزيد، ولكن قام الزيدان. فكما لا يوجب (قام الزيدان) ترتيبا، كذلك لا يوجب قام زيد وعمرو ترتيبا، وسنقضي حق الواو، والكلام فيها في موضع آخر إن شاء الله. 6 - قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال الأصمعي: هداه في الدين يهديه هدى (¬2)، وهداه يهديه هداية، إذا دله على الطريق (¬3). وأصل الهداية في اللغة: الدلالة. وهوادي الخيل والوحش التي تتقدم للدلالة (¬4). قال عبيد (¬5) يذكر الخيل (¬6): وغداة صبحن الجفار عوابسا (¬7) ... تهدى أوائلهن شُعثٌ شزَّبُ (¬8) ¬

_ = وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ....). الطبري 1/ 70. وقال ابن كثير 1/ 28: (قدم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن العبادة له هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم). وللرازي في هذا التقديم تعليلات يطول ذكرها. انظر (تفسيره) 1/ 254. (¬1) في (ج): (يحتج). (¬2) في (ج): (هدي). (¬3) "تهذيب اللغة" (هدى) 4/ 3737، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 73، "اللسان" (هدى) 8/ 4639. (¬4) ذكر نحوه الأزهري عن الأصمعي. "التهذيب" (هدى) 4/ 3738، وانظر: "الصحاح" (هدى) 6/ 2534، "معجم مقاييس اللغة" (هدى) 6/ 42. (¬5) كذا في "تهذيب اللغة"، وفي الهامش، في المنسوخة: أبو عبيد 6/ 383، والصحيح (عبيد) فالبيت لعبيد بن الأبرص. (¬6) في (ج): (الخليل). (¬7) في (ج): (عواسا). (¬8) يذكر الخيل: صبحن الجفار: أتينه صبحا و (الجفار): موضع، (شعث): المغبرة =

هذا هو الأصل، ثم سمي كل متقدم هاديا وإن لم يتقدم للدلالة (¬1). ومنه: كأن دماء الهاديات بنحره (¬2) يريد أوائل الوحش ومتقدماتها. وتسمى العنق هادية لتقدمها على البدن، ويقال: أقبلت هوادي الخيل إذا بدت أعناقها؛ لأنها أول شيء من أجسادها (¬3). وقول طرفة: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه (¬4) قدمه (¬5) أي: حيث تقودها قود الدليل. وسمى الأعشى العصا هاديا (¬6) في قوله: إذا كان هادي الفتى في البلاد ... صدر القناة أطاع الأميرا (¬7) ¬

_ = المتلبدة الشعر، (شزب): ضمر، انظر: "ديوان عبيد" ص 7، "تهذيب اللغة" (هدى) 4/ 3739، "اللسان" (هدى) 8/ 4641، "التاج" (هدى) 20/ 333. (¬1) انظر: "التهذيب" (هدى) 4/ 3739، "اللسان" (هدى) 8/ 4641. (¬2) في (ب): (منجره) وفي (ج): (ينحر). والبيت لامرئ القيس وعجزه: ... ... ... ... ... عصارة حناء بشيب مرجل شبه دم الوحش بنحر هذا الفرس بعصارة الحناء على الشيب، ورد البيت في "ديوانه" ص 121، "الصحاح" (هدى) 6/ 2534، "اللسان" (هدى) 8/ 4641، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس ص 39. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (هدى) 4/ 3738، "اللسان" (هدى) 8/ 4640. (¬4) في (ب): (فما ساقه). (¬5) في (ج): (قدميه). ورد البيت في الطبري 1/ 73، "الصحاح" (هدى) 6/ 2534، "اللسان" 8/ 4641، "التاج" 20/ 333، "العقد الفريد" 5/ 479، "أمالي ابن الشجري" 2/ 262، "الهمع" 3/ 207، "الدرر اللوامع" 1/ 181، "الخزانة" 7/ 19. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (هدى) 4/ 3739. (¬7) في (ج): (الأمير). قوله (صدر القناة): أعلى العصا التي يقبض عليها، لأنه أعمى، =

إما لأنها تتقدمه، وإما لأنها تدله على الطريق، والتقدم في هذا راجع إلى (¬1) الهداية، لأن من دلك (¬2) على الطريق تقدمك، ثم سمي المتقدم هاديا وإن لم يدل (¬3). والفعل من (الهدى) (¬4) يتعدى إلى مفعولين، ويتعدى إلى الثاني بأحد حرفي جر (إلى) و (اللام (¬5)) كقوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬6) [الصافات: 23]، وقوله: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22]، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقوله: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35]. ومثل هذا في التعدي (¬7) (الإيحاء) (¬8) قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 5]. وقد يحذف حرف الجر من المفعول الثاني في (الهدى) فيصل الفعل إليه بغير حرف جر (¬9). كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. ومعناه: دلنا عليه، واسلك بنا فيه (¬10). ¬

_ = (الأمير) الذي يأمره ويقوده، ورد البيت في "ديوان الأعشى" ص 87، "تهذيب اللغة" (هدى) 4/ 3739، "اللسان" 8/ 4641، "التاج" 20/ 331، "المحتسب" 1/ 126، 290. (¬1) في (ب): (إلى المعونة الهداية). (¬2) في (ج): (ذلل). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (هدى) 4/ 3739، "اللسان" 8/ 4641. (¬4) في (ب): (الهادي). (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 123، "الكشاف" 1/ 66 - 67، "البحر المحيط" 1/ 25، (تفسير أبي السعود) 1/ 17. (¬6) في (ج): (فاهدهم) تصحيف. (¬7) أي: التعدي بأحد حرفي الجر (إلى) و (اللام). (¬8) في (ب): (بالإيحا). (¬9) انظر: ابن كثير، 1/ 29، "البحر المحيط" 1/ 25. (¬10) قال ابن جرير: معنى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} في هذا الموضع، وفقنا =

ويقال: ما معنى سؤال المسلمين الهداية في قولهم: (اهدنا) وهم مهتدون؟ والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه قد تعرض للعارف شبه ينتقل بها إلى الجهل، فيحسن أن يسأل اللطيفة التي يتمسك معها بالمعرفة (¬1)، ولا ينتقل إلى الجهالة. والثاني: أنهم لما كانوا لا يعلمون ما يكون منهم في المستأنف، حسن أن يسألوا الهداية على (¬2) وجه التثبيت لما هم عليه من الحق، وقد تستعمل الهداية لا من الضلالة كما قال الحطيئة لعمر رضي الله عنه: فلا تُعْجِلَنِّي هداك المليكُ ... فإنَّ لكلِّ مَقَامٍ مَقَالا (¬3) لم يرد من ضلالتك؛ لأنه لو أراد ذلك قد هجاه، ولكنه على معنى التوفيق و (¬4) التثبيت (¬5). وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يحمل على سؤال الهداية ابتداء فيما ¬

_ = للثبات عليه. وضعف أن يكون المعنى: زدنا هدى، أو: أسلكنا طريق الجنة والمعاد. الطبري 1/ 71 - 72، وانظر: ابن كثير 1/ 29. (¬1) انظر: "الكشاف" 1/ 67. (¬2) في (ب): (جهة). (¬3) ورد البيت في الطبري 1/ 72، "الكامل" 2/ 199، "المقتضب" 3/ 224، (الهمع) 3/ 110، "اللسان" (حنن) 2/ 1030، ورواية الطبري (ولا تعجلني) وبقية المصادر (تحنن علي). (¬4) في (ب)، (ج): (أو). (¬5) وهذا هو المعنى الذي ارتضاه الطبري 1/ 72، وذكره الزجاج في "المعاني" ص 12، والماوردي 1/ 58، والبغوي 1/ 54، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 15، والرازي 1/ 357، وقد ذكر الماوردي وابن الجوزي والرازي معاني أخرى.

يستقبل؛ لأن الهداية عرض لا يبقى، فهو يسأل أن (¬1) يخلق له أمثالها (¬2). وقال بعضهم: هذا سؤال، واستنجاز لما وعدوا به في قوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]. وقوله تعالى: {الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6] (¬3)، فيه لغات قد قرئ بها: السين، والصاد، والزاي، وإشمام (¬4) الصاد الزاي (¬5). فمن قرأ بالسين فإنه يقول: هو أصل الكلمة؛ لأنه من الاستراط بمعنى: الابتلاع (¬6)، فالسراط يسترط السابلة (¬7). ولو لزم لغة من يجمعها صادا مع (الطاء (¬8)) لم يعلم (¬9) ما أصل الكلمة (¬10). ويقول من يقرأ بالصاد: إنها أخف ¬

_ (¬1) في (ب): (فهم يسألون أن يخلق لهم). (¬2) في (ج): (مثلها). ما ذكره مبني على مذهب أصحابه الأشاعرة: أن العرض لا يبقى زمانين، والهداية عرض فهي عندهم لا تبقى في الزمان الثاني، فهو يسأل أن تجدد له الهداية، وهذا مذهب رده جماهير العلماء. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 5/ 216، 6/ 41، 16/ 275. (¬3) في (ج): (صراط). (¬4) الإشمام: هو إطباق الشفتين عقب تسكين الحرف المرفوع، والمراد هنا بإشمام الصاد الزاي هو خلط لفظ الصاد بالزاي. انظر: "الكشف" 1/ 122، (البدور الزاهرة) ص 15. (¬5) روي عن ابن كثير: بالسين والصاد، وروي عن أبي عمرو: السين والصاد، والزاي والمضارعة بين الزاي والصاد. وحمزة: يشم بين الصاد والزاي. وبقية السبعة بالصاد. انظر (السبعة) لابن مجاهد ص 105، 106، "الحجة" لأبي علي 1/ 49، (الكشف) لمكي 1/ 34. (¬6) يقال: استراط الطعام: إذا ابتلعه. انظر: "تهذيب اللغة" (سرط) 4/ 1993. (¬7) السراط: الطريق، و (السابلة) المارة يسترطهم لكثرة مرورهم به. انظر: "اللسان" (سرط) 4/ 1993. (¬8) في (ج): (الظاء). (¬9) في (ب): (ما يعلم). (¬10) ذكره أبو علي في "الحجة" عن أبي بكر محمد بن السري 1/ 49، وانظر: "حجة =

على اللسان، لأن (الصاد) حرف مطبق كـ (الطاء) فيتقاربان ويحسنان في السمع، والسين حرف مهموس فهو أبعد من الطاء (¬1). ويقول من قرأ بالزاي: أبدلت منها حرفًا مجهورًا (¬2) حتى يشبه (الطاء) في الجهر، ورمت الخفة، ويحتج بقول العرب: (زقر) في (صقر) (¬3). ويقول من قرأ بالمضارعة (¬4): رمت الخفة، ولم أجعلها (زايا) خالصة، ولا (صادا) خالصة، فيلتبس أصل الكلمة بأحدهما (¬5). قال ابن السراج (¬6): الاختيار (الصاد) للخفة والحسن في السمع، وهو غير ملتبس، لأن (السين) كأنها مهملة في الاستعمال مع (¬7) (الطاء) عند من (الصاد) لغته، ومع ذلك فهي قراءة الأكثر. وأما (الزاي) الخالصة فليست (¬8) بمعروفة (¬9)، ولست أحب أن تحمل القراءة على هذِه اللغة. وأما المضارعة (¬10) فهو تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على ¬

_ = القراءات" لابن زنجلة ص 80، "الحجة" لابن خالويه ص 62، "الكشف" 1/ 34. (¬1) بنصه في "الحجة" 1/ 49، 50، وانظر المراجع السابقة. (¬2) أي: أبدلت من (الصاد) حرفا مجهورا وهو (الزاي). (¬3) في (ب): (زفر في صفر) وفي "الحجة": (صقر) و (سقر) و (زقر)، 1/ 50. (¬4) بين الزاي والصاد. (¬5) بنصه من "الحجة" 1/ 50، وانظر: "الكشف" 1/ 34، 35. (¬6) هو أبو بكر محمد السري، المعروف بابن السراج، وكلامه في "الحجة" 1/ 50. (¬7) (مع) غير واضحة في (ب). (¬8) في (ج): (فليت). (¬9) كلام ابن السراج في "الحجة": (وأما الزاي فأحسب الأصمعي لم يضبط عن أبي عمرو؛ لأن الأصمعي كان غير نحوي، ولست أحب أن تحمل القراءة على هذِه اللغة، وأحسب أنه سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة للزاي فتوهمها زايا)، "الحجة" 1/ 51. (¬10) كلام ابن السراج في "الحجة": (وأما القراءة بالمضارعة التي بين (الزاي) و (الصاد) =

اللسان؛ لأنه إنما استعمل في هذِه الحال فقط، وليس هو حرفا تبنى عليه الكلمة، ولا هو من حروف المعجم. وقال صاحب "الحجة" (¬1): الحجة لمن قرأ بالصاد: أن (¬2) السين مضارعة لما أجمعوا على رفضه من كلامهم، ألا ترى أنهم تركوا إمالة (واقد) ونحوه كراهة أن يصعدوا بالمستعلي بعد التسفل (¬3) بالإمالة. فكذلك يكره (¬4) أن يتسفل (¬5) بالسين (¬6) ثم يتصعد (¬7) بالطاء في (سراط)، وإذا كانوا قد أبدلوا من (السين) (الصاد) مع القاف في: (صقت وصويق) (¬8) ليجعلوها في استعلاء (القاف) (¬9)، فلأن يبدلوا منها (الصاد) مع (الطاء) ¬

_ = فعدلت عن القراءة بها؛ لأنه تكلف حرف بين حرفين). "الحجة" 1/ 51. (¬1) هو أبو علي الفارسي. وكتابه "الحجة للقراء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد" وهو مصدر رئيس للواحدي خصوصا في القراءات. انظر: مصادر الواحدي ص 78، انظر كلام الفارسي في "الحجة" 1/ 51. (¬2) في "الحجة": (أن القراءة بالسين مضارعة ...)، 1/ 51. (¬3) في (ب): (السفل). (¬4) في "الحجة": (يكره على هذا أن يستفل ..)، "الحجة" 1/ 51. (¬5) في (ب): (يستقل). (¬6) (بالسين) غير موجود في "الحجة" 1/ 51. (¬7) لأن (السين) حرف منخفض، و (الطاء) من حروف الاستعلاء والتصعد. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 62. (¬8) في (ب): (صفه وصديق). أصل صقت: (سقت) و (صويق): (سويق). انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 212. (السويق) ما يتخذ من الحنطة والشعير. ويقال: السويق: المقل الحتى، والسويق: السبق الفتي، والسويق: الخمر. "اللسان" (سوق) 4/ 2156. (¬9) في "الحجة" (.. في استعلاء (القاف) مع بعد (القاف) من (السين) وقرب (الطاء) منها، فإن يبدلوا منها الصاد ...)، "الحجة" 1/ 52.

أجدر (¬1) من حيث كانت (الصاد) إلى (الطاء) أقرب منه إلى (القاف) (¬2). ألا ترى أنهما جميعا من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا (¬3). وأن (¬4) من يقول: (صويق) و (صقت)، إذا قال: (قست وقست) (¬5) لم يبدل (الصاد) من (¬6) (السين)، لأنه الآن ينحدر بعد الإصعاد، وهذا يستخف ولا يستثقل كما استثقل عكسه. واحتجاجهم بأن (السين) هو الأصل، قلنا: قد يترك ما هو الأصل في كلامهم إلى ما ليس بأصل؛ طلبا لاتفاق الصوتين (¬7). ألا تراهم قالوا: (شنباء)، و (من بكر) (¬8) فلم يبينوا (¬9) (النون) التي هي الأصل في ¬

_ (¬1) في (ب): (فصدر). (¬2) (منه إلى القاف) ليست في "الحجة" 1/ 52. (¬3) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 52. (¬4) قال أبو علي: (ويدلك على أن حسن إبدال (الصاد) من (السين) في (سراط) لما ذكرت لك: من كراهة التصعد بعد التسفل، أن من يقول: صويق وصقت ... الخ). "الحجة" 1/ 52. (¬5) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة": (قست وقسوت) 1/ 52. وهذا هو الصواب. (¬6) في "الحجة" (منها) بدل (من السين). (¬7) من قوله: (واحتجاجهم إلى قوله (الصوتين) ملخص كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 1/ 52، 53. (¬8) في (ب): (شبنا) و (من نكر) وفي "الحجة": (شمباء) و (مم بك) وفي الحاشية: في ط (شنباء ومن بك). قال سيبويه: (... فجعلوا ما هو من موضع ما وافقها في الصوت بمنزلة ما قرب من أقرب الحروف منها في الموضع، ولم يجعلوا (النون): (باء) لبعدها في المخرج، وأنها ليست فيها غنة. ولكنهم أبدلوا من مكانها أشبه الحروف بالنون وهي الميم وذلك قولهم: (ممبك)، يريدون: (من بك). و (شمباء) و (عمبر) يريدون: (شنباء) و (عنبرا). انظر: "الكتاب" 4/ 453 تحقيق: عبد السلام هارون. "سر صناعة الإعراب" 1/ 421. (¬9) في (ب): (يثبتوا).

(الشنب) (¬1)، و (من عامر) (¬2)؟ لما أرادوا أن يوفقوا بين الصوتين (¬3). فكما تركوا الأصل ههنا طلبًا للمشاكلة، كذلك يترك الأصل في (صراط) (¬4) فتترك السين (¬5) ويختار إبدال الصاد من السين. وأما القراءة (بالزاي) فليس بالوجه، وذلك أن من قال في: (أصدرت): (أزدرت) وفي (القصد): (القزد) (¬6) فأبدل (¬7) من (الصاد الزاي)، فإنه إذا تحركت (الصاد) في نحو (¬8) (صدرت) و (قصدت (¬9)) لم يبدل، فإذا لم يبدلوا (الصاد) (زايا) إذا تحركت مع (الدال)، وكانت (الطاء) في (الصراط) مثل الدال في (القصد) (¬10) في الجهر (¬11)، فكذلك ينبغي ألا يبدل من (السين) (الزاي) في (سراط)، من أجل (الطاء)، لأنها قد تحركت ¬

_ (¬1) الشنب (البرد والعذوبة في الفم). "اللسان" (شنب) 4/ 2336. (¬2) في (ب): (غامر). يريد أن النون أصل في (الشنب) و (ومن عامر) ومع ذلك أبدلوها ميما في (شنباء) و (من بكر). أما (من عامر) فإن النون فيه يجب إظهارها. (¬3) ترك المؤلف بعض كلام أبي علي. انظر: "الحجة" 1/ 53. (¬4) في "الحجة" (سراط) بالسين، 1/ 53، وهو الأقرب. (¬5) (فتترك السين) ليس في "الحجة"، 1/ 53. (¬6) في (أ)، (ج): (الفصد، الفرد) وفي (ب): (القصد، الفرد) وما أثبت من "الحجة" 1/ 53. وعند سيبويه: (الفصد: الفزد)، "الكتاب" 4/ 478. (¬7) في (ب): (وأبدل). (¬8) في (ب): (نحمد). (¬9) في (أ): (فصدت) وفي "الحجة" (صدقت) 1/ 53، وفي "الكتاب" (صدقت) 4/ 478. (¬10) في (أ)، (ج): (الفصد) وما في (ب) موافق لما في "الحجة"، 1/ 53. (¬11) في "الحجة" (في حكم الجهر)، 1/ 53.

كما تحركت في (قصدت) (¬1) مع أن بينهما في (سراط) حاجزين (¬2). ومما يحتج (¬3) من أخلص (الصاد (¬4)) على من ضارع بها (الزاي (¬5)) أن يقول: إن الحرف قد أعل مرة بالقلب، فلا تستقيم المضارعة؛ لأنها إعلال آخر، وقد رأيتهم كرهوا الإعلال في الحرفين إذا تواليا، فإذا لم يوالوا بين إعلالين في حرفين مفترقين (¬6)، فألا (¬7) يوالوا بين إعلالين في حرف واحد أجدر (¬8). مثاله (¬9) أنهم حذفوا النون من نحو (بلعنبر) و (بلحرث (¬10))، ولم ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (فصدت) وما في (ب) هو الموافق لما في "الحجة"، 1/ 54. وانظر: "الكتاب" 4/ 478. (¬2) وهما (الراء والألف)، انظر: "الكتاب" 478/ 4. وانظر بقية كلام أبي علي في "الحجة"، 1/ 54، 55. (¬3) كذا في جميع النسخ وفي "الحجة" (ومما يحتج به من أخلص الصاد ...)، 1/ 56. (¬4) في (ج): (الضاد). (¬5) تكلم أبو علي قبل هذا على الحجة من (ضارع الصاد بالزاي) ولم ينقل الواحدي كلامه في ذلك. انظر: "الحجة" 1/ 55. (¬6) في (ب): (متفرقين). (¬7) في (ب): (بأن). (¬8) الإعلالان هنا: إبدال السين صادا، ثم مضارعة الصاد بالزاي. (¬9) في "الحجة": (ويقوي ذلك أنهم ....)، 1/ 56. (¬10) قال سيبويه: (ومن الشاذ قولهم: في (بني العنبر) و (بني الحارث): بلعنبر وبلحارث، بحذف النون)، "الكتاب" 4/ 484. بنو العنبر: قبيلة تنسب إلى العنبر بن عمرو بن تميم. وانظر: "اللباب" لابن الأثير 2/ 360، "اللسان" (عنبر)، 5/ 3120. و (بلحرث) لبني الحرث بن كعب. قال في "اللسان": وهذا من شواذ الإدغام؛ لأن النون واللام قريبا المخرج .. وكذلك يفعلون بكل قبيلة تظهر فيها لام المعرفة. "اللسان" (حرث)، 2/ 821.

يحذفوا من (بني النجار) (¬1) مع توالي النونات حيث كانت (اللام) قد أعلت بالقلب (لئلا يتوالى إعلالان: [الحذف والقلب] (¬2)، وإن كانا من كلمتين مفترقتين (¬3)، فإذا كره في هذا النحو، كان توالي إعلالين في حرف واحد أبعد (¬4). قوله تعالى: {الْمُسْتَقِيمَ}: (الاستقامة) في اللغة: الاستواء، يقال: قام إذا استوى منتصبا، وأقامه: إذا سواه، وقاومه إذا ساواه في القوة. وقيمة الشيء ما يساويه من ثمنه، ومعنى الاستقامة استمرار الشيء في جهة واحدة (¬5). وأما تفسير {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فروى علي وابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصراط المستقيم: كتاب الله عز وجل" (¬6). ¬

_ (¬1) بنو النجار قبيلة من (الخزرج) تنسب إلى النجار واسمه (تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. انظر (اللباب) 3/ 298. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في ب، (ج): (متفرقتين). (¬4) في (ج): (بعد). (¬5) "تهذيب اللغة" (قام) 3/ 2865، وانظر: "اللسان" (قوم)، 6/ 3782. (¬6) حديث علي رضي الله عنه بهذا اللفظ: أخرجه الثعلبي بسنده 1/ 30/ ب، وبنحوه أخرجه الطبري، وقال شاكر: إسناده ضعيف جدا 1/ 171 (ط. شاكر)، وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره"، قال المحقق: ضعيف جدا 1/ 159، وهو جزء من حديث فضائل القرآن الطويل الذي أخرجه الترمذي في: أبواب فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل القرآن، قال الترمذي بعده: هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال. الترمذي (2906)، وأخرجه الدارمي في (سننه) كتاب فضائل القرآن، باب: فضل من قرأ القرآن 4/ 2098 (3374)، وذكره ابن كثير في كتابه "فضائل القرآن" ص 44 - 46، ونقل كلام الترمذي عليه، ثم قال: (وقصارى هذا =

وقال جابر ومقاتل: (هو الإسلام) (¬1). وعن أبي العالية الرياحي (¬2)، قال: هو طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه من بعده أبي بكر وعمر) (¬3). ¬

_ = الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 40 - 41. أما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه الطبري موقوفًا على ابن مسعود وكذا الثعلبي 1/ 30/ ب، والحاكم في "المستدرك" 1/ 258، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والأنباري، والحاكم، والبيهقي في "شعب الإيمان". "الدر" 1/ 40، وذكره الشوكاني في "فتح القدير" 1/ 37. ولم يذكروا رفعه، وكلام ابن كثير السابق حول حديث علي يدل على أنه مرفوع، انظر: "فضائل القرآن" ص 44/ 46. (¬1) قول جابر ذكره الثعلبي بسنده 1/ 30/ أ، والطبري: قال شاكر: موقوف على جابر وإسناده صحيح، 1/ 173، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. "المستدرك" 2/ 259، وذكره السيوطي في "الدر" ونسبه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والمحاملي في "أماليه"، والحاكم. "الدر" 1/ 14، 15. وقول مقاتل ذكره الثعلبي بدون سند 1/ 30/ أ، والبغوي 1/ 41. (¬2) رفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي، بصري مقرئ فقيه، سمع من عداد من الصحابة، مات سنة تسعين أو ثلاث وتسعين. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 284، "غاية النهاية" 1/ 284، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 178، "معرفة القراء" 1/ 49. (¬3) ذكره الثعلبي 1/ 31/ أ، والأثر أخرجه الطبري بسنده، قال شاكر: شيخ الطبري لا أعرف من هو، ولعل فيه تحريفا، ووثق بقية رجاله الطبري 1/ 175، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، قال المحقق: إسناده حسن. (رسالة دكتوراه) 1/ 160. وذكره السيوطي في، "الدر" ونسبه لعبد بن حميد، وابن جريج، وابن أبي حاتم، وابن عدي، =

7

وقال بكر بن عبد الله المزني (¬1): رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فسألته عن الصراط المستقيم، فقال: "سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (¬2). قال أهل المعاني: إنما وصف الدين الحق (¬3) بأنه الصراط المستقيم؛ لأنه يؤدي إلى الغرض المطلوب من رضاء الله تعالى والخلود في النعيم المقيم، كما أن الصراط المستقيم يؤديك إلى مقصودك (¬4). 7 - قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ}: (صراط) بدل من (الصراط) ¬

_ = وابن عساكر. "الدر" 1/ 15. وذكره ابن كثير في "التفسير" 1/ 56. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" بسنده عن أبي العالية عن ابن عباس. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، "المستدرك" 1/ 259. (¬1) هو بكر بن عبد الله المزني، بصري تابعي ثقة، كثير الحديث، حجة، توفي سنة ست ومائة، وقيل: سنة ثمان ومائة. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 209، "ذكر أسماء التابعين" 1/ 81، "تاريخ الثقات" 1/ 251، "تهذيب التهذيب" 1/ 244. (¬2) (بعدي) ساقط من (ج). والأثر ذكره الثعلبي في (تفسيره) 1/ 31/ أ، والبغوي 1/ 54. وهذِه الأقوال يصدق بعضها بعضا وتجتمع، قال الطبري: والذي هو أولى بتأويل هذِه الآية: وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم؛ لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء فقد وفق للإسلام واتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم) 1/ 74، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 122، "فتح القدير" 1/ 38. (¬3) في (أ)، (ج): (والحق) زيادة (واو) وأثبت ما في (ب)، لأنه أصح. (¬4) في (ب): (مقصدك). انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 121، قال الطبري: (وإنما وصفه الله بالاستقامة؛ لأنه صواب لا خطأ فيه، وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سماه مستقيما لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويل لتأويل جميع أهل التفسير خلاف، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه)، 1/ 75.

الأول (¬1)، وهو بدل الشيء من نفسه في المعنى (¬2)؛ لأن {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هو {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بعينه، وهو كقولك: جاءني أبوك زيد، فزيد هو الأب بعينه، وهو من بدل (المعرفة من المعرفة)، وللبدل باب معروف يذكر فيه وجوهه (¬3). وقوله: {الَّذِينَ} النحويون يسمون (الذي والتي) وتثنيتهما، وجمعهما: الأسماء الموصولة، والأسماء النواقص، والأسماء المبهمة، وذلك لأنها (¬4) أسماء لا تتم إلا بصلاتها، إما من مبتدأ وخبر (¬5)، أو فعل وفاعل، أو ظرف، أو شرط وجزاء (¬6) كقولك: جاءني الذي أبوه منطلق، والذي قام أبوه، والذي عندك، والذي إن تأته يأتك. ولا بد أن يكون في صلة (الذي) ضمير يرجع (¬7) إليه، وإلا فسد الكلام (¬8). و (الذين) لا يظهر فيه ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 164، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 124، "تفسير ابن عطية" 1/ 121، "البيان في غريب القرآن" 1/ 39، "الكشاف" 1/ 68، وقال الزجاج: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صفة لقوله {الصراط المستقيم}، "معاني القرآن" 1/ 12. (¬2) "البيان" 1/ 39، "الكشاف" 1/ 68. (¬3) مكانه كتب (النحو). (¬4) في (ب): (أنها). (¬5) في (ب): (مبتداء لخير). (¬6) انظر: "الأصول في النحو" لابن السراج 2/ 266، "شرح جمل الزجاجي" لابن عصفور 1/ 179، "التبصرة والتذكرة" للصيمري 1/ 517. (¬7) في (ب): (ترجع). (¬8) ويسمى (العائد) انظر: "الأصول في النحو" 2/ 266، "شرح جمل الزجاجي" 1/ 181، 182، "أوضح المسالك" ص 31، "شرح ابن عقيل" 1/ 153، ومحل مثل هذِه المباحث كتب النحو.

الإعراب (¬1)، تقول (¬2) في الرفع والنصب والجر: (الذين) وكذلك (الذي) وإنما منع الإعراب؛ لأن الإعراب إنما يكون في أواخر الأسماء، و (الذين) من المبهمات لا تتم إلا بصلاتها، فلذلك منعت الإعراب (¬3). فإن قيل فلم أعربته في التثنية؟. قيل: إن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى، فإذا ثنيته بطل شبه الحرف؛ لأن حروف المعاني لا تثنى (¬4). فإن قيل: فلم منعته الإعراب في الجمع؟ قيل: الجمع الذي ليس على حد (¬5) التثنية كالواحد، ألا ترى أنك تقول في جمع (¬6) هذا: هؤلاء، فتجعله اسما واحدا للجمع (¬7). فكذلك قوله (¬8): {الَّذِينَ} إنما هو اسم لجمع، فبنيته كما بنيت (¬9) الواحد، ونظير (الذي) (هذا)، فإنك لا تعربه ثم تعرب (هذين) ثم تترك الإعراب في (هؤلاء) (¬10). ¬

_ (¬1) في (ج): (إعراب). (¬2) من قوله (تقول ...) اختلف الخط في نسخة (ب) وفي هامشها تنبيه على ذلك. (¬3) من قوله (والذين لا يظهر فيه الإعراب ....) وكذا الكلام الآتي بعده أخذه عن الزجاج بتصرف يسير في العبارة. "معاني القرآن" 1/ 34. (¬4) أخذ الزجاج بقول الكوفيين أن تثنية (اللذين) تثنية حقيقية وأنه معرب، وعند البصريين أن تثنيته ليست على حد تثنية (زيد) و (عمرو) فهي صيغة مرتجلة على حد التثنية فهي تثنية لفظية لا معنوية. انظر: ("الإنصاف") ص 539، "البيان في غريب القرآن" 1/ 39. (¬5) في (ب): (جمع). (¬6) في (ب): (الجمع). (¬7) في (ب): (للجميع). (¬8) في (ب): (قول). (¬9) في (ب): (فثنيته كما ثنيت). (¬10) عن "معاني القرآن" للزجاج، 1/ 34.

قال أبو إسحاق: وأصل (الذي)، (لذ) على وزن (عم)، كذلك قال سيبويه والخليل والأخفش (¬1). وأما الألف واللام فيه (¬2)، فقال أبو الفتح الموصلي (¬3): (الألف واللام) في (الذي) و (التي) وبابهما (¬4) زيادة، ويدل على زيادتهما وجود أسماء موصولة مثلها معراة من (الألف واللام)، وهي مع ذلك معرفة، وتلك: (من) و (ما) و (أي) (¬5). ويدل على ما قلنا: أن (الذي) إنما تعرفه (¬6) بصلته دون (اللام) التي فيه، فبان أن (¬7) (اللام) زائدة، إلى أنها (¬8) زيادة لازمة لا يجوز (¬9) حذفها (¬10). فإن قيل: وما كانت الحاجة إلى زيادة (اللام) (¬11) حتى إنها لما زيدت ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج، 1/ 34، وهذا قول جمهور البصريين، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 121، ("الإنصاف") ص 535. (¬2) أي: في (الذي). (¬3) هو أبو الفتح عثمان بن جني سبقت ترجمته في الدراسة. نقل الواحدي عنه من كتاب "سر صناعة الإعراب" 1/ 353. (¬4) في (ج): (وبائهما). (¬5) مثل أبو الفتح لـ (من وما وأي) ثم قال: (فتعرف هذِه الأسماء التي هي أخوات الذي والتي بغير اللام، وحصول ذلك لها بما تبعها من صلاتها دون اللام يدل على أن (الذي) إنما تعرفه ...)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 353. (¬6) في (ب): (يعرفه). (¬7) عند أبي الفتح (وأن اللام ..)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 353. (¬8) في (ب): (أن زيادتها). (¬9) في (أ)، (ج): (تجوز) وأثبت ما في (ب)، لمناسبته للسياق. (¬10) (لا يجوز حذفها) ليست عند أبي الفتح، 1/ 353. (¬11) عند أبي الفتح (في الذي والتي ونحوها)، 1/ 353.

لزمت؟ قيل: إن (الذي) (¬1) إنما وقع في الكلام توصلا إلى وصف المعارف بالجمل، وذلك أن الجمل نكرات. ألا ترى أنها تجري أوصافا على النكرات، نحو (¬2): مررت برجل أبوه زيد، ونظرت إلى غلام قامت أخته. فلما أريد مثل هذا في المعرفة لم يمكن أن يقول (¬3): مررت بزيد أبوه كريم، على أن تكون الجملة وصفا لزيد (¬4)، ولم يمكن (¬5) إذا أرادوا وصف المعرفة بالجمل أن يدخلوا اللام على الجملة، لأن اللام من خواص الأسماء، فجاؤوا بـ (الذي) متوصلين به إلى وصف المعارف بالجمل، وجعلوا (¬6) الجملة التي كانت صفة للنكرة صلة لـ (الذي) فقالوا: مررت بزيد الذي أبوه منطلق، فألزموا (اللام) هذا الموضع لما أرادوا التعريف للوصف، ليعلموا أن الجملة قد صارت وصفا لمعرفة (¬7)). (¬8) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (الذين) واخترت ما في (ب) لأنه موافق لما عند أبي الفتح، وعبارته: (والجواب: أن (الذي) إنما وقع ... الخ)، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 353. (¬2) عند أبي الفتح: (في نحو قولك ...)، 1/ 353. (¬3) (يقول) في جميع النسخ، وعند أبي الفتح (تقول) 1/ 353. وهذا أصوب. (¬4) حذف الواحدي بعض كلام أبي الفتح ونصه: (... وصفا لزيد، لأنه قد ثبت أن الجملة نكرة، ومحال أن توصف المعرفة بالنكرة، فجرى هذا في الامتناع مجرى امتناعهم أن يقولوا: مررت بزيد كريم، على الوصف، فإذا كان الوصف جملة نحو: مررت برجل أبوه كريم، لم يمكن إذا أرادوا وصف المعرفة بنحو ذلك أن يدخلوا اللام على الجملة ....)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 353 - 354. (¬5) في (ب): (يكن). (¬6) في (ب): (فجعلوا). (¬7) في (ب): (للمعرفه). (¬8) إلى هنا ما نقله عن أبي الفتح. "سر صناعة الإعراب" 1/ 354.

وبيان ما ذكرنا (¬1) من الآية أن معنى قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صراط القوم الذين أنعمت عليهم، ولو أريد وصف القوم (بأنعمت عليهم) لم يسهل، لأنه يصلح وصفا للنكرة (¬2)، فيصح في الكلام أن يقول: (¬3) (صراط قوم أنعمت عليهم) فلا يصلح أن يكون وصفا للمعرفة، فلما أريد ذلك (¬4) توصلوا إلى ذلك بـ (الذي). جاءوا (¬5) بالحرف الذي وضع للتعريف (¬6)، فأولوه (الذي) (¬7) ليحصل لهم بذلك لفظ التعريف الذي قصدوه، ويطابق اللفظ المعنى الذي حاولوه (¬8). وقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، إنعام الله تعالى: مَنُّه (¬9) وعطاؤه، و (النعمة) بالكسر اسم من أنعم الله عليه إنعاما ونعمة، أقيم الاسم مقام الإنعام، كما يقال: أنفق إنفاقا ونفقة (¬10). ¬

_ (¬1) هذا من كلام أبي الحسن الواحدي يبين فيه ما سبق ذكره عن (الألف واللام) في الاسم الموصول على لفظ الآية وهي قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فيربط إيراد هذِه المسألة النحوية بتفسير الآية. (¬2) و (القوم) معرفة. (¬3) في (ج): (تقول). (¬4) أي: وصف المعرفة. (¬5) الكلام من هنا لأبي الفتح، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 354. (¬6) وهو (اللام) كما في "سر صناعة الإعراب" 1/ 354. (¬7) (فأولوه الذي) ساقط من (ب). (¬8) انظر بقية كلام أبي الفتح في "سر صناعة الإعراب" 1/ 354، وانظر: "أصول النحو" لابن السراج 1/ 261، 262. (¬9) في (ب): (منته). (¬10) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" مادة (نعم) 4/ 3615.

وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ} يجوز كسر (الهاء) فيه وضمه (¬1). فمن كسر فلأن الياء أخت الكسرة وبعضها، على معنى أنها تتولد من الكسرة، ألا ترى أن (الياء) كسرة مشبعة، كما أن (الواو) ضمة مشبعة، والألف فتحة مشبعة، وإذا كان كذلك فلو انكسر ما قبل (الهاء) وجب كسرها نحو: (بهم) و (من دونهم) وكذلك (عليهم وفيهم) وذلك أن إتباع (الياء) التي هي أخت الكسرة بالكسرة أولى من إتباعه بالضمة، لثقل الانتقال من الكسرة إلى الضمة. ألا ترى أنه ليس في كلامهم (فِعُل)، ولأن هذِه (الهاء) في (عليهم) هي التي في (عليه) وفي (عليه) كسر، لأن الأصل كان (عليهو (¬2)) كقولك (¬3) ضربته (¬4). زعم (¬5) سيبويه أن (¬6) (الواو) زيدت على (الهاء) في المذكر، كما زيدت (الألف) في (¬7) المؤنث ليستويا في باب الزيادة. ¬

_ (¬1) قرأ حمزة ويعقوب من العشرة (عليهم) بضم الهاء وقرأ الباقون (عليهم) بكسر الهاء مع اختلافهم في الميم، والأكثر بسكونها. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 108، 109، "الغاية" لابن مهران ص 77، "الحجة" للفارسي 1/ 57، "التيسير" ص 40، 41، "الإقناع" 2/ 595، "النشر" 1/ 272، "إتحاف فضلاء البشر" ص 123. (¬2) في (ب): (علهو) وفي (ج): (عليه وكقولك). (¬3) في (ب): (كقوله). (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 59، 60، 61، "حجة القراءات" لابن زنجله ص 82. (¬5) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 13، وانظر: "الكتاب" 4/ 189. (¬6) في (ب): (إلى أن) بزيادة (إلى). (¬7) في (ب): (على). وفي "معاني القرآن" 1/ 13 للزجاج: (... كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: ضربتها ومررت بها ...).

قال الزجاج: و (¬1) القول في هذِه (الواو (¬2)) أنها زيدت لخفاء (الهاء)، وذلك أن (الهاء) تخرج من أقصى الحلق (¬3)، و (الواو) حرف مد ولين، تخرج (¬4) من طرف الشفتين (¬5)، فإذا زيدت (الواو) بعد (الهاء) أخرجتها من الخفاء، وتسقط في (¬6) الوقف، كما تسقط الضمة والكسرة، ولأنها (واو (¬7) وصل) فلو ثبتت لالتبس (¬8) بالأصل. فإذا قلت: مررت به، قلبت (¬9) الواو (ياء) لانكسار ما قبلها (¬10) أعني (الباء) (¬11)، و (الهاء) لا يعتد به حاجزا حصينا ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) في "معاني القرآن" 1/ 13 للزجاج: (والقول في هذِه (الواو) عند أصحاب سيبويه والخليل أنها إنما زيدت لخفاء (الهاء) ...) 1/ 13. (¬3) انظر: "الكتاب" 4/ 433، "سر صناعة الإعراب" 1/ 46. (¬4) في (ب): (يخرج). (¬5) في "معاني القرآن": (.. و (الواو) بعد (الهاء) أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة، فلهذا زيدت، وتسقط في الوقف ...) 1/ 13. وانظر: "الكتاب" 4/ 433، "سر صناعة الإعراب" 1/ 48. (¬6) في (ب): (من). (¬7) في "معاني القرآن": (كما تسقط الضمة والكسرة في قولك: أتاني زيد، ومررت بزيد، إلا أنها (واو وصل)، فلا تثبت؛ لئلا يلتبس الوصل بالأصل ...)، وفي الهامش: عبارة ك: (.... ولأنها واو (وصل) ...) كما عند المؤلف ولعله أصوب. (¬8) في (ب): (لالتبست). وهذا أحسن للسياق. (¬9) في "المعاني": (فإذا قلت: مررت بهو يا فتى، فإن شئت قلت: مررت بهي، فقلبت الواو ياء ...)، 1/ 13. (¬10) في (ج): (بما قبلها). (¬11) (الباء) كذا في جميع النسخ. وفي "معاني القرآن": (أعني (الياء) المنكسرة. فإن قال قائل: بين الكسرة والواو (الهاء)، قيل: (الهاء) ليست بحاجز حصين، فكأن ... الخ 1/ 13 ولعل ما في "المعاني" خطأ مطبعي.

لخفائه، فكأن (¬1) الكسرة تلي (الواو)، ولو كانت (الهاء) حاجزا حصينا ما زيدت (الواو) عليها. وبهذه (¬2) العلة كسرت الهاء في (عليه) وكان الأصل (عليهو) (¬3) فقلبت (¬4) الواو (ياء) (¬5) للياء التي قبلها ثم حذفت (¬6) لسكونها، وسكون الياء قبل الهاء، والهاء ليس بحاجز، فإذا كسر في (عليه) أقر على الكسر في (عليهم) إذ (¬7) كانت العلة واحدة (¬8). ومن ضم (الهاء) فقال: كان الأصل (عليهو) فحذفت الواو لسكونها وسكون (الياء) وبقيت الضمة لتدل على الواو (¬9). وأما حمزة (¬10) فإنه يقرأ: (عليهم) و (إليهم) و (لديهم) بالضم في هذِه الثلاثة (¬11) وحجته (¬12): أن هذِه الحروف إن وليهن ظاهر صارت (ياءاتهن) ¬

_ (¬1) في (ج): (وكان). (¬2) في (ب): (وهذِه). (¬3) في (ب): (علهو). (¬4) في (ج): (فقلبت الواو بالياء). (¬5) فتكون (عليهى) انظر: "معاني القرآن" 1/ 14. (¬6) في (ب): (حذف). (¬7) في (ج): (اذا). (¬8) انتهى ما نقله من الزجاج، وآخر كلامه نقله بمعناه. انظر: "معاني القرآن" 1/ 13، 14. (¬9) ذكره الزجاج، انظر: "معاني القرآن" 1/ 14، "الحجة" لأبي علي 1/ 60، "حجة القراءات" ص 81، "الحجة" لابن خالويه ص 63، "الكشف" لمكي 1/ 35. (¬10) هو حمزة بن حبيب بن عمارة، الكوفي، التيمي بالولاء، وقيل: من صميمهم، الزيات أحد القراء السبعة (80 - 156 هـ)، انظر ترجمته في "معرفة القراء الكبار" 1/ 111، "غاية النهاية" 1/ 261. (¬11) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 108، "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 57. (¬12) ما سبق إنما هو حجة لحمزة في قراءته بالضم نقله الواحدي عن الزجاج، ثم نقل مزيدا =

ألفات، نحو: على زيد، وإلى عمرو، ولدى بكر (¬1)، ولا يجوز كسر (الهاء) إذا كان قبلها ألف (¬2)، فلما كان الأصل في هذِه (الياءات) الألف اعتبره حمزة فيها الأصل (¬3) دون الرسم والخط (¬4). فإن قيل: ينقض هذا بالواحد والتثنية (¬5)؟ قلنا: لا ينقض، لأنه أراد أن يخالف بين بناء الواحد والتثنية، وبين بناء الجمع، وذلك أن الجمع يخالفهما في البناء في أكثر الأمر، ألا ترى أنك تقول: رجل ورجلان، وحمار وحماران، ثم تقول في الجمع: رجال وحمر، فاتفق بناء الواحد والتثنية، وخالف بناء الجمع بناءها، فلهذا ضم الهاء في (عليهم ولديهم وإليهم (¬6)) ولم يضم في (عليه وعليهما). وأما من (¬7) ضم من القراء كل هاء قبلها (ياء) ساكنة نحو: فيهم ¬

_ = من الاحتجاج لقراءته بالضم من "الحجة" لأبي علي، حيث قال: (وحجة من قرأ (عليهم) -وهو قول حمزة- أنهم قالوا: ضم الهاء هو الأصل، وذلك أنها إذا انفردت من حروف تتصل بها قيل: (هم فعلوا). والواو هي القراءة القديمة، ولغة قريش، وأهل الحجاز، ومن حولهم من فصحاء اليمن. قالوا: وأما خص حمزة هذِه الحروف الثلاثة بالضم -، وهي: (عليهم) و (إليهم) و (لديهم) - لأنهن إن أولاهن ظاهرا صارت ... الخ ما ذكره المؤلف عنه. "الحجة" 1/ 60، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 35. (¬1) في (ب): (آل زيد وآل عمر وكذا بكر) تصحيف. (¬2) انظر: "الحجة"، 1/ 60. (¬3) فضم الهاء، ولم يكسرها. (¬4) انظر: "الحجة"، 1/ 83. (¬5) فلم يحصل الضم في الواحد والتثنية فيقال: عليه وعليهما بالكسر، كما سيأتي. (¬6) في (ب): (عليهم وإليهم ولديهم). (¬7) في (ب): (في).

ويأتيهم (¬1)، فحجته إجماعهم على ضمها إذا كان قبلها حرف ساكن سوى الياء، نحو (عنهم ومنهم) فكذلك الياء. هذا هو الكلام في (الهاء). فأما (الميم) فأهل (¬2) الحجاز يضمون (ميم) كل جمع حتى يلحقوا بها (واوا) (¬3) في اللفظ (¬4)، وحجتهم: أن أصلها أن تكون مقرونة (بواو) في اللفظ والخط، لأن أكثر جموع المذكورين بالواو في الفعل (¬5) والاسم، نحو: فعلوا (¬6) (¬7) ويفعلون ومسلمون وصالحون، فعاملوا المكني معاملة الأسماء الظاهرة المجموعة و (¬8) الأفعال من إلحاق الواو بها (¬9). والدليل على أن الأصل فيه ما ذكرنا، إجماعهم على إثبات الواو في اللفظ بعد الميم عند اتصاله بالمكني (¬10)، كقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] و {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} [هود: 92]. ¬

_ (¬1) وهي قراءة يعقوب من العشرة، انظر: "الغاية" ص 77، "النشر" 1/ 272، "إتحاف فضلاء البشر" ص 123، وهذا مخالف لنهج المؤلف في القراءات حيث ذكر قراءة عشرية، وعادته أن يذكر السبع فقط. (¬2) في (ج): (فإن أهل). (¬3) في (ب): (واو) بدون تنوين. (¬4) قراءة ابن كثير: يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 108، "الحجة" 1/ 57، "الكشف" 1/ 39. (¬5) في (ج): (في الاسم والفعل). (¬6) في (ب): (يفعلوا). (¬7) (الواو) ساقطة من (ج). (¬8) (الواو) ساقطة من (ب). (¬9) انظر: "الحجة" 1/ 104، 133، "الكشف" 1/ 39، "حجة القراءات" ص 81، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 13، 14، "المحتسب" 1/ 44، "البيان" 1/ 39. (¬10) انظر: "الحجة" 1/ 106، "حجة القراءات" ص 81.

وأما من أسكن الميم (¬1)، فحجته: خط المصاحف، وذلك أن هذِه الواوات حذفت من الخط اقتصارًا على الميم، واكتفاءً بها من علامة الجمع كما حذفت ياء الإضافة من الأسماء والأفعال اقتصارا على الكسرة والنون التي قبلها (¬2). وقال ابن السراج (¬3): إنما أسكنوا لأنه قد أمن اللبس، إذ كانت (الألف) في التثنية قد دلت على الاثنين، ولا (ميم) في الواحد، فلما لزمت (الميم) الجمع حذفوا (الواو) وأسكنوا (الميم) طلبا للتخفيف، إذ كان لا يشكل (¬4). وروى ورش (¬5) عن نافع (¬6) ضم الميم ووصلها بواو إذا (¬7) استقبلها ¬

_ (¬1) وعليه أكثر القراء كما سبق، وانظر: "الكشف" 1/ 40. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 14، "الحجة" 1/ 80، 82، "الحجة" لابن خالويه ص 63، "الكشف" 1/ 40. (¬3) هو أبو بكر محمد بن السري سبقت ترجمته في الدراسة، وقد نقل عنه أبو علي في "الحجة" كثيرا، لأنه أول من بدأ في بيان حجج القراءات السبع التي جاءت في كتاب ابن مجاهد. ولم يتم الكتاب، وألف أبو علي كتاب "الحجة" وأتم ما شرع به ابن السراج وضمن أبو علي كتابه كلام ابن السراج. انظر مقدمة "الحجة" ص 7. (¬4) "الحجة" 1/ 59، 60. (¬5) هو عثمان بن سعيد القبطي، مولى آل الزبير بن العوام، كنيته: أبو سعيد، وقيل غير ذلك. أحد القراء المشهورين، وأشهر رواة نافع، أحد السبعة ولادته ووفاته (110 - 197 هـ). انظر ترجمته في "معرفة القراء الكبار" 1/ 152، "غاية النهاية" 1/ 502. (¬6) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء، كنيته أبو رويم، وقيل غير ذلك. أحد القراء السبعة الذين اعتمدهم ابن مجاهد في كتابه، مات سنة تسع وستين ومائة، وقيل غير ذلك، وانظر ترجمته في "معرفة القراء" 1/ 107، "غاية النهاية" 2/ 330. (¬7) في (ب): (وإذا).

همزة (¬1)، ومذهبه حذف الهمزة ونقل حركتها [إلى الساكن قبلها، فلما احتاج إلى تحريك الميم حركها (¬2)] (¬3) بالحركة التي كانت لها في الأصل وهي (الضمة)، فلما أشبع ضمتها تولدت منها (واو)، فاحتاج إلى مدها لاستقبال الهمزة إياها (¬4). وأيضا فإنه لو نقل فتحة الهمزة إلى ميم الجمع عند استقبال الهمزة المفتوحة نحو: {عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ} (¬5) [البقرة: 6] وما أشبهه، لأشبه التثنية، فلما مدها عند الهمزة المفتوحة ولم ينقل حركتها إليها مخافة الالتباس فعل ذلك به عند الهمزة المضمومة والمكسورة؛ لئلا يختلف الطريق عليه (¬6). وكان حمزة والكسائي يضمان (¬7) (الهاء) و (الميم) عند ألف الوصل (¬8) نحو: {عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة: 61] و {إِإِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14] و {مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ} [القصص: 23] وحجتهما أنه لما احتيج إلى تحريك (الميم) لالتقاء الساكنين كان تحريكها بحركة الأصل، وهي الضم أولى (¬9)، ثم أتبعت الهاء ¬

_ (¬1) قراءة نافع كسر الهاء، وأما الميم فالمشهور عنه الإسكان، وروى عنه الضم وروى ورش عن نافع أن الميم إذا لقيها همزة ألحق بها واوا. انظر: "السبعة" ص 108، 109، "الحجة" للفارسي 1/ 58، "الكشف" 1/ 39. (¬2) في (ج): (حركتها). (¬3) مابين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) انظر: "الحجة" للفارسي 1/ 107، "الكشف" 1/ 39. (¬5) ووردت الآية في (ب) {عليهم أنذرتهم أم لم} وهو تصحيف. (¬6) في (ب): (إليه). (¬7) في (ج): (يضمون). (¬8) في (ج): (لوصل). (¬9) في (ب): (أولا).

ضمة الميم استثقالًا للخروج من الكسر إلى الضم (¬1). وكان أبو عمرو (¬2) يكسرها عند ألف الوصل؛ لأنه يكسر الميم على أصل تحريك الساكن بالكسر إذا لقيه ساكن آخر، ويكسر الهاء بتبع الكسر لثقل الضم بعد الكسر (¬3). وأما من كسر (الهاء) وضم (الميم) عند ألف الوصل (¬4)، فإنه يقول: لما احتجت إلى حركة الميم رددته إلى أصله، فضممت وتركت الهاء على كسرها، لأنه لم تأت ضرورة تحوج (¬5) إلى ردها إلى الأصل (¬6). فأما التفسير: فقال ابن عباس: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]: هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا نعم الله عز وجل (¬7). وقال عكرمة: أنعمت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 82، "الكشف" 1/ 37، قال أبو علي الفارسي في "الحجة" (تحريك حمزة الميم في (عليهم ولديهم وإليهم) خاصة بالضم مستقيم حسن، وذلك أنه يضم (الهاء) في هذِه الأحرف ولا يكسرها فإذا ضمها لم يكن في تحريك الميم إلى الضم ولم يجز الكسر ..)، ثم أخذ يحتج لموافقة الكسائي له في ذلك، "الحجة" 1/ 117، 118. (¬2) زبان بن العلاء، أحد السبعة سبقت ترجمته. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 1/ 110، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 82. (¬4) وهي قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر. انظر: "السبعة" ص 108، 109، "الحجة" لأبي علي 1/ 58. (¬5) في (ج): (تخرج). (¬6) انظر: "الحجة" لأبي علي 1/ 108، "حجة القراءات" ص 82. (¬7) ذكره الثعلبي في "الكشف" 1/ 31/ ب، وذكره ابن عطية في "تفسيره" وقال: حكاه مكي وغيره عن فرقة من المفسرين، وقال ابن عباس: أصحاب موسى قبل أن يبدلوا. "تفسير ابن عطية" 1/ 122، وانظر: "لباب التفاسير" للكرماني 1/ 98 (رسالة دكتوراه). (¬8) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 31/ ب.

وقيل: هم الذين ذكرهم الله في قوله (¬1) سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]. وقال ابن جرير: في الآية اختصار، معناه: صراط الذين أنعمت عليهم بالهداية إلى الصراط. والعرب تحذف من الكلام إذا كان في الباقي دليل عليه (¬2). وستمر بك أشباه لهذا كثيرة. وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (غير) (¬3) ينخفض على ضربين (¬4): على البدل من (الذين)، ويستقيم أن يكون صفة (الذين). و (غير) نكرة، وجاز (¬5) أن يقع هاهنا صفة لـ (الذين)، لأن الذين هاهنا ليس بمقصود قصدهم (¬6)، فهو بمنزلة قولك: إني لأمرُّ بالرجل مثلك فأكرمه. ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" ولم يعزه لأحد 1/ 31/ ب، وذكر الطبري بسنده عن ابن عباس: يقول: (طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك). "تفسير الطبري" 1/ 76، (قال شاكر: الخبر ضعيف الإسناد) "تفسير الطبري" 1/ 178، أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 31، وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 42، قال ابن عطية في "تفسيره": هو قول ابن عباس وجمهور المفسرين 1/ 121، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 129. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 76. وذكر الواحدي كلام ابن جرير بالمعنى. (¬3) قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي (غير) بخفض (الراء). وروي عن ابن كثير النصب والرفع. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 111، "الحجة" للفارسي 1/ 142، "البحر المحيط" 1/ 29. (¬4) ذكره أبو علي في "الحجة" عن أبي بكر بن السراج، حيث قال: (قال أبو بكر في "الحجة" في الجر: إنهم قالوا: ينخفض على ضربين ..)، والكلام كله بنصه في "الحجة" 1/ 142، وانظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 112. (¬5) في (ج): (ويجوز). (¬6) أي: لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم، لأن (الذين) مع كونه معرفة فهو قريب من النكرة =

ويجوز (النصب) على ضربين: على الحال، والاستثناء (¬1)، أما الاستثناء: فكأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، وهو (¬2) استثناء الشيء من غير جنسه، وحق (غير) في الاستثناء النصب إذا كان ما بعد (إلا) منصوبا (¬3). وأما الحال: فكأنك قلت: (صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم). قال ابن السراج (¬4): ويجوز عندي النصب على (¬5) (أعنى). وقد حكي عن الخليل نحو هذا، أنه أجازه على وجه (¬6) القطع من الأول، كما يجيء المدح. ولمن نصب أن يقول (¬7): (غير) نكرة وكرهت أن أصف بها المعرفة. ¬

_ = لأنه عام. انظر؛ "معاني القرآن" للفراء 1/ 7، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 16، "البحر" 1/ 29. (¬1) نسب ابن مجاهد (القول بالنصب على الاستثناء) إلى الأخفش، وقال: هذا غلط. ابن مجاهد ص 112، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 125، "البحر" 1/ 29. (¬2) قوله: (وهو استثناء الشيء ... إلى قوله إذا كان ما بعد (إلا) منصوبا) ليس من كلام ابن السراج وما قبله وما بعده كله لابن السراج، انظر: "الحجة" 1/ 142. (¬3) انظر: "الأصول" لابن السراج 1/ 284، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 125، "البحر" 1/ 29. (¬4) هذا وما قبله بنصه مما نسبه أبو علي الفارسي في "الحجة"، لأبي بكر محمد بن سهل بن السراج، فالكلام كله لابن السراج، نقل الواحدي أوله بدون عزو ثم عزا آخره له، وهذا يلاحظ على منهج الواحدي في العزو. انظر: "الحجة" 1/ 142، 143. (¬5) في "الحجة": (قال: ويجوز عندي النصب أيضا على (أعني) ....) فذكر: (أيضا) لأنه عطفه على كلام قبله، ذكر فيه وجوها أخرى للنصب. انظر 1/ 143. (¬6) في "الحجة": (.. على وجه الصفة والقطع من الأول ...) 1/ 143. (¬7) في "الحجة": (.. ومما يحتج به لمن يفتح أن يقال: (غير) تكره، فكره أن يوصف به المعرفة) 1/ 143.

والاختيار الكسر (¬1). ولا يلزم وصف المعرفة بالنكرة؛ لأن حكم كل مضاف إلى معرفة (¬2) أن يكون معرفة، وإنما تنكرت (غير) و (مثل) مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شيء يرى سوى المخاطب هو غيره (¬3)، وكذلك إذا قال: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى، يجوز أن يكون مثله في خلقه، وخلقه، وفي جاهه، وفي نسبه، وفي علمه، فإنما صارا (¬4) نكرتين من أجل المعنى. فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد، وأردت إثباته ونفي ضده، وعلم السامع (¬5) ذلك الضد فوصفته بـ (غير) وأضفت (غير (¬6)) إلى ضده، فهو معرفة، وذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون، فغير السكون معرفة، وهو (¬7) الحركة، فكأنك كررت الحركة تأكيدا. وكذلك قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فغير المغضوب عليهم، هم الذين أنعم عليهم، لأن من أنعم عليه بالإيمان، فهو غير مغضوب عليه، فهو مساو له في معرفته، ومتى كانت (غير) بهذِه الصفة، وقصد هذا ¬

_ (¬1) هذا من كلام أبي بكر بن السراج واختياره حيث قال: (والاختيار الذي لا خفاء به الكسر، ألا ترى أن ابن كثير قد اختلف عنه ...) وقد اختصر الواحدي كلام ابن السراج. انظر: "الحجة" 1/ 143. (¬2) في (ب): (معرفته). (¬3) في "الحجة": (فكل شيء ترى سوى المخاطب فهو غيره) وفي الهامش: ط: (تراه)، انظر: "الحجة" 1/ 143. (¬4) أي: (غير) و (مثل). (¬5) في "الحجة": (... وعلم ذلك السامع فوصفته بغير ....)، 1/ 144. (¬6) في (أ): (غيرا). (¬7) في "الحجة" (وهي) 1/ 144.

القصد فهي معرفة (¬1). وكذلك لو عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب لقيل فيه (¬2): قد جاء مثلك، لكان معرفة، إذا أردت المعروف بشبهك (¬3)، والمعرفة والنكرة بمعانيهما (¬4). ومن جعل (غير) بدلا استغنى عن هذا الاحتجاج (¬5)، لأن النكرة قد تبدل من المعرفة)، انتهى كلام ابن السراج (¬6). قال صاحب (¬7) "الحجة": أما الخفض في (¬8) (غير) فعلى البدل أو الصفة، والفصل بين البدل والصفة في قول سيبويه (¬9) إن البدل في تقدير تكرير العامل، بدلالة (¬10) حرف الجر في قوله سبحانه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ¬

_ (¬1) في "الحجة": (.. فالذين أنعم عليهم لا عقيب لهم إلا المغضوب عليهم، فكل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه، وكل من لم يغضب عليه فقد أنعم عليه. فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم، فهو مساو له في معرفته. هذا الذي يسبق إلى أفئدة الناس وعليه كرمهم. فمتى كانت (غير) بهذِه الصفة وقصد بها هذا القصد، فهي معرفة ...) فالواحدي نقل كلام ابن السراج بتصرف واختصار. انظر: "الحجة" 1/ 144. (¬2) في (أ)، (ج): (منه) وما في (ب) موافق لما في "الحجة" 1/ 144. (¬3) في (ج): (يشبهك). (¬4) جاء في "الحجة" بعده: (فكل شيء خلص لك بعينه من سائر أمته فهو معرفة ...)، 1/ 144. (¬5) في ب: (الاحتياج). (¬6) في (ب): (ابن الشهاب السراج) تصحيف. وفي "الحجة": (انتهت الحكاية عن أبي بكر) 1/ 144. (¬7) أبو علي الفارسي، "الحجة" 1/ 145. (¬8) في (ب): (من غير). (¬9) نص كلام أبي علي (.. والفصل بين البدل في تقدير تكرير العامل، وليس كالصفة ولكن كأنه في التقدير من جملتين بدلالة تكرير حرف الجر ... الخ)، فلم يرد ذكر قوله: (في قول سيبويه) وقد ورد ذكر سيبويه في كلام أبي علي بعد هذا الموضع. انظر: "الحجة" 1/ 145، "الكتاب" 2/ 14، 386. (¬10) في (ج): (بدلال).

مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (¬1) فهو يفارق الصفة من هذا الوجه (¬2). وأيضًا (¬3) فإن النكرة تبدل من المعرفة، والمظهر من المضمر (¬4)، وهذا مما لا يجوز في الصفة، لا يجوز وصف المعرفة بالنكره، ولا وصف المضمر بالظاهر (¬5). وكما أعيدت اللام الجارة في البدل (¬6)، فكذلك يكون العامل الناصب (¬7) والرافع في تقدير التكرير. ويشترك البدل مع الصفة في أن كل واحد منهما تبيين (¬8) للأول (¬9). ¬

_ (¬1) الشاهد من الآية: قوله (لمن آمن) فهو بدل من (الذين استضعفوا) بإعادة حرف الجر وهي (اللام) بدل البعض من الكل، لأن في المستضعفين من ليس بمؤمن، هذا على عود الضمير في (منهم) إلى (الذين استضعفوا) فإن عاد الضمير إلى (قومه) كان بدل كل من المستضعفين، انظر: "فتح القدير" 2/ 321. (¬2) قوله: (فهو يفارق الصفة من هذا الوجه) ليس في "الحجة" 1/ 145، والوجه المراد هو ما ذكره: من أن البدل في تقدير تكرير العامل. (¬3) نص كلام أبي علي في "الحجة" قال بعد أن ذكر الآية (.... وبدلالة بدل النكرة من المعرفة)، 1/ 145. (¬4) في (ب): (المظهر). (¬5) قوله: (لا يجوز وصف المعرفة بالنكرة، ولا وصف المضمر بالمظهر) ليس في "الحجة" 1/ 145. (¬6) في "الحجة" (في الاسم) 1/ 145. (¬7) في "الحجة" (الرافع أو الناصب) 1/ 145. (¬8) في (ب): (يبين). (¬9) ذكر كلام أبي علي بمعناه انظر: "الحجة" 1/ 145.

فمن جعل (¬1) (غير) في الآية (¬2) بدلا، كان تأويله بيِّنًا، وذلك أنه لا يخلو من أن يجعل (غير (¬3)) معرفة (¬4) أو نكرة. فإن جعله معرفة فبدل المعرفة من المعرفة سائغ (¬5)، وإن جعله نكرة فبدل النكرة من المعرفة مشهور (¬6). وأما من قدر (غير) صفة و (الذين (¬7) فإنما جاز أن يصف (الذين) بـ (غير) (¬8) من حيث لم يكن (الذين) مقصودا قصدهم (¬9). فصار مشابها للنكرة، من حيث اجتمع معه في أنه لم يرد به شيء معين. ونظير ذلك مما دخله (الألف واللام)، فلم يختص بدخولهما عليه (¬10)، ¬

_ (¬1) انتقل إلى موضع آخر في "الحجة" 1/ 149. (¬2) أي: قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم}. (¬3) في "الحجة" (غيرا). (¬4) في (ب): (معرفة في الآية بدل أو نكره). (¬5) في (ب): (شائع)، وفي "الحجة" (سائغ مستقيم كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7،6]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] 1/ 149. (¬6) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 149. (¬7) أي: في قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. (¬8) كلام أبي علي: (وأما من قدر (غير) صفة لـ (الذين)، وقدره معرفة لما ذكره أبو بكر - يريد ابن السراج كما نقل كلامه فيما سبق- فإن وصفه لـ (الذين) بـ (غير) كوصفه له بالصفات المخصوصة، وقد حمله سيبويه على أنه وصف. ومن لم يذهب بـ (غير) هذا المذهب، ولم يجعله مخصوصا استجاز أن يصف (الذين) بـ (غير) من حيث لم يكن الذين مقصودا قصدهم ..)، 1/ 153، فاختصر الواحدي كلام أبي علي فقارن بينهما. (¬9) أي: لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم. (¬10) أي: لم يختص بواحد بعينه وإنما عرفته (ال) تعريف جنس. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 350.

لما لم يكن مقصودا قصده (¬1)، قولهم: قد أمر (¬2) بالرجل مثلك فيكرمني (¬3)، فوصف الرجل بمثلك لما لم يكن معينا (¬4). ومما (¬5) جاء (غير) فيه صفة (¬6) قوله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] فمن رفع (غير) (¬7) كان وصفا للقاعدين، والقاعدون غير مقصود قصدهم (¬8)، كما كان قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} كذلك. والتقدير: لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحاء، والمجاهدون (¬9). وأما من نصب (غير) على الاستثناء، فإن الفراء ينكر جواز (¬10) ذلك، ¬

_ (¬1) أي: ما دخله (الألف واللام) لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم، فلم يختص بدخول (الألف واللام) عليه. (¬2) في (ج): (أصر). (¬3) في "الحجة" (.. فيكرمني، عند سيبويه، فوصف الرجل ..)، "الحجة" 1/ 154. وانظر: "الكتاب" 2/ 13، وتعليق عبد السلام هارون عليه. (¬4) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 154 وما بعدها. (¬5) في (ب): (وما غير). أورد أبو علي الآية، بعد أن تكلم عن نصب (غير) بالاستثناء. وخرج الآية على الوجهين الرفع والنصب. انظر: "الحجة" 1/ 160. (¬6) في (ج): (لا يستوي المؤمنون القاعدون من المؤمنين) تصحيف في الآية. (¬7) كذا وردت بالنصب في جميع النسخ "الحجة" 1/ 160. (¬8) أي: لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم، وإنما المراد من اتصف بهذِه الصفة وهي القعود عن الجهاد وهو غير ذي ضرر. (¬9) في (ب): (المجاهدين). (¬10) أنكر الفراء ذلك رادا على أبي عبيدة فيما ادعاه: أن (غير) في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بمعنى (سوى) وأن (لا) في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} صلة. انظر كلام الفراء في "معاني القرآن" 1/ 8، وكذلك رد عليه الطبري ناقلا عن الفراء، انظر: "تفسير الطبري" =

وقال: لو كان (غير) هاهنا منصوبا على الاستثناء كان بمعنى (سوى) فلم يجز أن يعطف عليه بقوله: (ولا (¬1)) لأن (لا) نفي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد، ولا يجوز في الكلام استثناء يعطف عليه بجحد، كما تقول: [رأيت القوم إلا زيدا ولا عمرا، وإنما يعطف الجحد على الجحد، كما تقول:] (¬2) ما قام أبوك ولا أخوك (¬3). ومن أجاز (¬4) الاستثناء فإنه يقول: لا يمتنع دخول (لا) (¬5) بعد الحرف العاطف (¬6) لأن الاستثناء يشبه النفي، ألا ترى أن قولك: جاءني القوم إلا زيدا، بمنزلة قولك: جاءني القوم لا زيد. فيجوز أن تعطف (¬7) بـ (لا) حملا على المعنى، ويجوز أن تجعلها زيادة في هذا الوجه (¬8)، كما تجعلها زيادة في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (¬9) [فاطر: 22]. ¬

_ = 1/ 81، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 25. وأما أبو علي فيأخذ بقول أبي عبيدة كما سيأتي كلامه، ومنه قوله: (ومن جعل (غير) استثناء لم يمتنع على قوله دخول لا بعد الحرف العاطف ...) "الحجة" 1/ 163. (¬1) يريد قوله {وَلَا الضَّالِّينَ}. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 8، والطبري 1/ 79، 190. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 79. (¬4) هذا من كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 163. (¬5) في (ب): (إلا) تصحيف. (¬6) كما في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ}. (¬7) في (ب): (يعطف) وفي "الحجة": (أن تدخل "لا") 1/ 163. (¬8) هذا رأي أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 25، دافع عنه أبو علي في وجه المنكرين له كالفراء. انظر: "الحجة" 1/ 163. (¬9) استدل أبو علي بالآية على أن (لا) زائدة، وهذا ليس بالاتفاق فهناك من يقول ليست زائدة. انظر: "تفسير الطبري" 22/ 129.

وإذا جاز دخول (لا) (¬1) مع الاستثناء لهذين الوجهين (¬2) فلا وجه لقول من أنكره (¬3). وكذلك (¬4) يجوز زيادة (لا) في قول من جعل (غير) حالا أو صفة أو بدلا. وقد دخلت (لا) زائدة في مواضع كثيرة في التنزيل وغيره، من ذلك قوله (¬5): {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية [الحديد: 29]. والذين يجوزون زيادة (لا) يقولون: إنما تجوز إذا تقدمه نفي (¬6) كقوله: ما كان يرضى رسول الله دينهم ... والطيبان أبو بكر ولا عمر (¬7) وليس الأمر كذلك (¬8) فقد جاء زيادتهما في الإيجاب كما في النفي، قال ¬

_ (¬1) في (ب): (الا) تصحيف. (¬2) والوجهان هما: 1 - أن الاستثناء يشبه النفي، فتدخل (لا) حملا على المعنى. 2 - جعلها زيادة، انظر: "الحجة" 1/ 163. (¬3) ممن أنكره الفراء. (¬4) في (ب): (ولذلك). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 137، "الكتاب" 1/ 390. (¬6) هذا قول الفراء. انظر: "معاني القرآن" 1/ 8، وكذا الطبري انظر: "تفسيره" 1/ 81. وقوله: (الذين يجوزون زيادة (لا) ... مع البيت بعده) لم يرد في كلام أبي علي الفارسي. انظر: "الحجة" 1/ 163، 164. (¬7) البيت لجرير يهجو الأخطل، وقد استشهد الفراء بالبيت على جواز زيادة (لا) إذا تقدمها نفي. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 8، وورد البيت في "تفسير الطبري" 1/ 82، "الأضداد" لابن الأنباري ص 215، "نقائض جرير والأخطل" ص 174، "ديوان جرير" ص 201. (¬8) هذا رأي الواحدي كما هو رأي أبي عبيدة وأبي علي الفارسي حيث اتفقوا على جواز زيادة (لا) في الإيجاب. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 25 - 27، "الحجة" 1/ 164، والكلام منقول منها.

ساعدة الهذلي (¬1): أفعنك لا برق كأن وميضه ... غابٌ تشيَّمَه (¬2) ضِرامٌ مثقَبُ (¬3) وأنشد أبو عبيدة: ويلحينني في اللهو ألا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل (¬4) وقال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} (¬5) [الأعراف: 12]، وفي الأخرى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75] وهذا الحرف (¬6) -أعني: (لا) - يدخل (¬7) في النكرة على وجهين: أحدهما: أن يكون (¬8) زائدًا كما ذكرنا في بيت الهذلي (¬9). ¬

_ (¬1) هو ساعدة بن جؤية الهذلي، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم، وليست له صحبة. انظر ترجمته في "شرح أشعار الهذليين" للسكري 3/ 1097، "الإصابة" 2/ 4، "الخزانة" 3/ 86. (¬2) في (ب): (تسنمه) بالسين والنون، وفي (أ): (تشنيمه) على الروايتين، وقد وردت في "الحجة" (تسنمه) كما في (ب)، وأكثر المصادر (تشيمه). (¬3) قوله (أفعنك): عن ناحيتك، و (لا) زائدة، (تشيمه) أي: دخل في، و (الضرام): النار في الحطب الدقيق. ورد البيت في "شرح أشعار الهذليين" للسكري 3/ 1103، "الأضداد" لابن الأنباري ص 213، "الحجة" لأبي علي 1/ 164، "المخصص" 14/ 65، "اللسان" (شيم) 4/ 2380، "البحر المحيط" 4/ 273. (¬4) البيت للأحوص، ومعنى قوله: (ويلحينني): يعذلنني، ورد البيت في "شعر الأحوص" ص 179، "جاز القرآن" 1/ 26، و"تفسير الطبري" 1/ 81، "الكامل" 1/ 80، "الأضداد" لابن الأنباري ص 214، "الحجة" لأبي علي 1/ 164. (¬5) في (ب): (أن تسجد). (¬6) من "الحجة" 1/ 166. (¬7) في (أ)، (ج): (تدخل) وفي "الحجة" (يدخل) 1/ 166. (¬8) في (ب): (تكون) بالتاء، وفي "الحجة" (يكون) 1/ 166. (¬9) بيت الهذلي قوله: ويلحينني في اللهو ألا أحبه. البيت. وفي "الحجة": (كما مر في بيت =

والآخر: أن يكون (¬1) غير زائد، فإذا لم يكن زائدا كان على ضربين: أحدهما: أن يكون (لا) مع الاسم بمنزلة اسم واحد نحو: خمسة عشر (¬2)، وذلك نحو قولهم: (غضب من لا شيء، وجئت بلا مال) فـ (لا) مع الاسم المنكور في موضع جر بمنزلة خمسة عشر (¬3). والآخر: ألا تعمل (¬4) (لا) في اللفظ، ويراد بها معنى النفي، فيكون صورتها صورة الزيادة، ومعنى النفي فيه مع ذلك صحيح، وذلك كقول النابغة: أمسى ببلدة لا عمٍّ ولا خالِ (¬5) وقال الشماخ (¬6): ¬

_ = جرير) وبيت جرير الذي يعنيه هو قوله: ما بال جهلك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين انظر: "الحجة" 1/ 164، 166. (¬1) في (ب): (بالتاء) في كل المواضع، وكذا في "الحجة": (أن تكون غير زائده، فإذا لم تكن زائدة ..) 1/ 166. (¬2) انظر: "الكتاب" 2/ 276. (¬3) (عشر) ساقط من (ب)، (ج). (¬4) في (ب): (يعمل). (¬5) البيت للنابغة الذبياني يرثي أخاه وصدره: بعد ابن عاتكة الثاوي لدى أبوى ... ... ... ... ... و (عاتكة): أمه، و (أبوى): اسم موضع، انظر: "ديوان النابغة" ص 151، "الحجة" لأبي علي 1/ 167، "الخزانة" 4/ 50، "معجم البلدان" 1/ 80. (¬6) اسمه معقل بن ضرار الغطفاني، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وله صحبة، شهد وقعة القادسية، وتوفي في زمن عثمان رضي الله عنهما. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 195، "طبقات فحول الشعراء" 1/ 132، "الخزانة" 3/ 196.

إذا ما أدلجت وصفت يداها ... لها إدلاج ليلة لا هجوع (¬1) وقال صاحب "النظم" (¬2): دخلت (لا) في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} لمعنى من المعاني، وهو أنها منعت من ميل الوهم إلى غير ما نظم عليه الكلام، وذلك أن قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} معطوف على قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وفي (غير) تأويل جحد، فدخلت (لا) على الضالين، ليعلم أنها معطوفة على (غير)، ولو لم تدخل (لا) لاحتمل أن يكون قوله: (والضالين) منسوقا (¬3) على قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم والضالين}، فلما احتمل ذلك أدخل فيه (لا) ليحسم هذا الوهم (¬4)، وهو كما قال: ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر (¬5) أدخل (لا) (¬6) في قوله: (ولا عمر)؛ لأنه لو لم يدخل لاحتمل أن يكون انقطاع القصة عند تمام قوله: (ما كان يرضى رسول الله فعلهم)، ثم ابتدأ كلاما آخر على معنى المبتدأ وخبره، فيكون معناه حينئذ: (و (¬7) الطيبان أبو ¬

_ (¬1) (الإدلاج): السير من الليل، (وصفت يداها): أي أجادت السير. وصف الناقة في سيرها وجدها في السير، (ليلة لا هجوع): لا نوم فيها. ورد البيت في "ديوان الشماخ" ص 226، "الحجة" لأبي علي 1/ 168، وفي مادة (وصف) في "الصحاح" 4/ 1439، "أساس البلاغة" 2/ 511، "اللسان" 8/ 4850، " التاج" 12/ 523، وفي "الخزانة" 4/ 50. وبهذا البيت انتهى ما نقله عن "الحجة" 1/ 168. (¬2) هو أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني، سبق الحديث عنه في مصادر الواحدي. (¬3) في (ب): (مسبوقا). (¬4) انظر: "البحر المحيط" 1/ 29. (¬5) البيت لجرير يهجو الأخطل، وسبق تخريجه قريبا، والرواية هناك (دينهم) بدل (فعلهم). (¬6) (لا) ساقط من (ب). (¬7) (الواو) مكررة في (جـ).

بكر وعمر) أي: أنهما هما الطيبان دون غيرهما. فلما دخلت (لا) علم أن عمر داخل في المعنى الذي أضيف إلى (¬1) رسول الله من أنه لا يرضى فعلهم على تأويل، ولا يرضى -أيضا- فعلهم الطيبان أبو بكر وعمر (¬2). وأما معنى (الغضب) من الله تعالى فهو إرادة العقوبة، وتسمى العقوبة غضبا على التوسع (¬3). وإنما لم يقل (المغضوبين) كما قال: (ولا الضالين) لأن كل فعل تعدى إلى المفعول بحرف الجر فإن جمعه وتثنيته وتأنيثه في المكنى المتصل بحرف الجر (¬4)، كقولك (¬5): المأخوذ منه، والمأخوذ منهما، والمأخوذ منهم، والمأخوذ منهن. وكذلك تقول في: الممرور (¬6) به، والمقعود (¬7) عليه، والمتوجه (¬8) إليه وما أشبهها (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (ان). (¬2) قوله: (وعمر) ساقط من (ب). (¬3) بل نثبت الغضب لله كما أثبته لنفسه، ولا نؤوله بإرادة العقوبة، ومنهج السلف إثبات الصفات لله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه، ولا يلزم من ثبوتها مشابهة الخلق. انظر: "الرسالة التدمرية" ص 31 - 33، "تفسير الطبري" 1/ 189. (¬4) فلم يجمع فيقال (المغضوبين) لأنه لا يتعدى إلا بحرف الجر، فتعدى إلى الضمير بحرف الجر، وظهر جمعه في الضمير في قوله (عليهم). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 125، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 13، "البيان في غريب القرآن" 1/ 41. (¬5) في (ب): (كقوله). (¬6) في (ب): (المروية) وفي (ج): (الممسدوريه). (¬7) في ب (المفعور). (¬8) في (ص): (التوجه). (¬9) في (ب): (وما أشبههما). ما أشبهها مما فعله لازم يتعدى لمفعوله بحرف الجر، فإن جمعه وتثنيته في الضمير بعده المتصل بحرف الجر.

والعلة فيه أن تمام الاسم عند ذكر المكنى، علامة التثنية والجمع والتأنيث تلحق (¬1) آخر الأسماء عند تمامها. وقال النحويون: هذا وأمثاله بمنزلة الفعل المقدم، نحو قولك: (ضرب أخواك، وضرب إخوتك) (¬2). و (عليهم) في الموضع رفع، لأنه بمنزلة اسم ما لم يسم فاعله (¬3). وقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} أصل الضلال في اللغة الغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن إذا غاب، وضل الكافر: غاب عن المحجة (¬4). ومن هذا قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] أي: غبنا فيها بالموت وصرنا ترابا وعظاما فضللنا في الأرض، ولم يتبين (¬5) شيء من خلقنا، ويقال: أضللت الشيء إذا غيبته، [وأضللت الميت إذا غيبته] (¬6) في التراب ودفنته (¬7). وقال المخبل (¬8): ¬

_ (¬1) في (ب): (بجلق). (¬2) فتلحق علامة التثنية والجمع آخر الفاعل عند تقدم الفعل عليه. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 125، "المشكل" لمكي 1/ 13، "البيان" 1/ 41. (¬4) ذكره الأزهري عن أبي عمرو. "تهذيب اللغة" (ضل) 3/ 2130، وانظر: "اللسان" (ضلل) 5/ 4604، وفي "اللسان" ضل الكافر إذا غاب عن الحجة، وكذا في "التهذيب". (¬5) في (ب): (نبين). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (ب). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (ضل) 3/ 2130، "تأويل مشكل القرآن" ص 457، "معجم مقاييس اللغة" (ضل) 3/ 356، "اللسان" (ضلل) 5/ 4602. (¬8) المخبل: المجنون، وبه لقب الشاعر، واسمه ربيع بن ربيعة بن عوف، شاعر مخضرم، أدرك الإسلام، توفي في خلافة عمر أو عثمان رضي الله عنهما انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 269، "طبقات فحول الشعراء" ص 61، "الإصابة" 1/ 491، "الخزانة" 6/ 93.

أضلت بنو قيس بن سعد عميدها ... وفارسها في الدهر قيس بن عاصم (¬1) فالضال هو الغائب عن الحق الزائغ عن الرشد، ويقال: ضَل يضِل، وضَل يضل لغتان، وضلِلنا وضلَلنا (¬2). فأما التفسير فروى عدي بن حاتم (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: اليهود، {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: النصارى (¬4). وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بوادي القرى (¬5) على فرسه (¬6)، [فسأله ¬

_ (¬1) ورد البيت في "تهذيب اللغة" (ضل) 11/ 465، "اللسان" (ضلل) 4604، وقيس بن عاصم: هو قيس بن عاصم بن سنان بن خال بن منقر، سيد قومه ورد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هذا سيد أهل الوبر". انظر: "الخزانة" 8/ 102. (¬2) انظر: "معجم مقاييس اللغة" (ضل) 3/ 356، "اللسان" (ضلل) 5/ 2601، "القاموس" ص 1024. (¬3) عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، الأمير الشريف، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالجود، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وسط سنة تسع فأكرمه، له أحاديث، في وفاته أقوال، أشهرها سنة سبع وستين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 1/ 189، "جمهرة أنساب العرب" ص 402، "طبقات ابن سعد" 6/ 22، "الإصابة" 2/ 468، "سير أعلام النبلاء" 3/ 162. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 82 بسنده من طرق، قال أحمد شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري": إسناده صحيح، الطبري 1/ 185، 186، وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده في "تفسيره" 1/ 31، وقال: لا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافا. "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 163، وأخرجه الثعلبي بسنده في "تفسيره" 1/ 32/ ب، وهو جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي في "سننه" (2953) أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة الفاتحة، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 378. (¬5) واد بين المدينة والشام من أعمال المدينة كئير القرى، فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع عنوة، ثم صولحوا على الجزية. انظر: "معجم البلدان" 5/ 345. (¬6) في (ب): (قرينه).

رجل (¬1)] من بلقين (¬2) فقال: يا رسول (¬3) الله، من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال: "المغضوب عليهم" وأشار إلى اليهود، فقال: من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ قال: "الضالون" وأشار إلى النصارى (¬4). قال المفسرون: وتصديق هذا حكم الله عز وجل بالغضب على اليهود (¬5) في قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] وحكمه على النصارى بالضلال في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 77] الآية، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وغيرهم (¬6). وهذا التفسير يوافق في ظاهر اللفظ قراءة من قرأ (غير) بالنصب على ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (ب). (¬2) كذا جاءت في "تفسير الثعلبي" 1/ 33/ أ، و"تفسير الطبري" (من بني القين) قال في "الصحاح": يقال لبني القين من بني أسد: (بلقين). "الصحاح" (قين) 6/ 2185. (¬3) في (ب): (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) ذكره الثعلبي بسنده في "تفسيره" 1/ 33/ أ، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 80 بروايات مختلفة بعضها مرسلة وبعضها متصلة بإسناد صحيح. وانظر: "تفسير الطبري" مع تحقيق محمود شاكر 1/ 186، 187. وأخرجه أحمد في "مسنده" 5/ 77، وذكره ابن كثير موصولا في "تفسيره" 1/ 32، وانظر: "الدر" 1/ 42. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 79، 81، و"تفسير الثعلبي" 1/ 33/ أ، و"تفسير ابن عطية" 1/ 126، و"تفسير البغوي" 1/ 55، و"الكشاف" 1/ 71، و"تفسير القرطبي" 1/ 130، و"تفسير وابن كثير" 1/ 32. (¬6) انظر أقوالهم في "تفسير الطبري" 1/ 80، 83، و"تفسير ابن عطية" 1/ 126، و"تفسير ابن كثير" 1/ 32، "الدر" 1/ 42 - 43. قال ابن أبي حاتم بعد أن ذكر قول ابن عباس: لا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافا. "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 31، وللرازي أقوال في تفسير المغضوب عليهم والضالين، تخالف ما ورد بالنص، وما عليه جمهور المفسرين، انظر: "تفسيره" 1/ 261.

معنى الاستثناء (¬1)، [كأنه استثنى] (¬2) اليهود والنصارى من الذين أنعم عليهم، وكأن المسلمين (¬3) سألوا أن يهديهم طريق المنعم عليهم لا طريق اليهود والنصارى. وهذِه قراءة شاذة (¬4). وتصحيح هذا التفسير على القراءة المعروفة هو أن (¬5) المعنى: اهدنا صراط المنعم عليهم، الذين لم تغضب (¬6) عليهم ولم يضلوا (¬7). فلما وصفوا ¬

_ (¬1) قراءة (غير) بالنصب مروية عن ابن كثير، انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 112، "الحجة" لأبي علي 1/ 142، قال في "البحر": وهي قراءة عمر وابن مسعود وعلي وعبد الله بن الزبير. "البحر" 1/ 29، واختلف في تخريجها، فيرى الزجاج والأخفش وبعض البصريين: أنه منصوب على الاستثناء، ونصره أبو علي الفارسي في "الحجة"، ومنعه الفراء، والأرجح: أنها حال من الضمير في (عليهم). انظر: "تفسير الطبري" 1/ 78، "الحجة" 1/ 142، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 166، والفراء 1/ 8، والزجاج 1/ 16، "البحر" 1/ 29. (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (ب). (¬3) في (أ)، (ج): (المسلمون). (¬4) ممن قال بشذوذها الطبري حيث قال: (وقد يجوز نصب (غير) في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء ..) "تفسير الطبري" 1/ 78، وكذلك عدها عبد الفتاح القاضي من الشواذ، حيث ذكرها في كتابه "القراءات الشاذة" ص 19. وقراءة النصب مروية عن ابن كثير. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 112، "الحجة" لأبي علي 142، وقال في "الكشاف": (وهي قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير، "الكشاف" 1/ 71، وانظر: "البحر" 1/ 29. وأنكر بعضهم أن تكون منصوبة على الاستثناء، ورجحوا نصبها على الحال وعلى هذا حملها الطبري، انظر: "تفسيره" 1/ 78، وانظر: "الكشاف" 1/ 71، و"تفسير ابن كثير" 1/ 31. (¬5) (أن) ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (يغضب). (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 78، و"تفسير ابن كثير" 1/ 31.

بنفي الغضب عليهم والضلال كان في ضمن ذلك (¬1) إثباتهما لغيرهم، كما تقول في الكلام: أنا غير كاذب، يجوز أن تريد بنفي الكذب عنك إثباته لغيرك ممن تخاطبه، وفي هذا حجة للقائلين بالمفهوم وفحوى الخطاب (¬2). ثم من المغضوب عليهم؟ ومن الضالون؟ (¬3) قد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره المفسرون (¬4). * * * ¬

_ (¬1) (ذلك) ساقط من (ب). (¬2) في (ج): (فحو). والخطاب عند الأصوليين منطوق ومفهوم، والمفهوم قسمان: مفهوم موافقة، وهو ما كان المسكوت عنه موافقا للمنطوق في الحكم ويسمى: فحوى الخطاب ولحن الخطاب، وهو حجة عند الأكثر. ومفهوم مخالفة: وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم ويسمى دليل الخطاب، وهو أقسام، وفيه خلاف. انظر: "المختصر في أصول الفقه" لابن اللحام ص 132. (¬3) في (ب): (فقد). (¬4) سبق بيان ذلك.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِير البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468هـ) من أول سورة البقرة إلى آية (66) تحقيق د. محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثاني

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468هـ) من أول سورة البقرة إلى آية (66) تحقيق د. محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثاني

جامعة الإِمام محمد بن سعود إلاسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي, محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان, الرياض1430هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 22703 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ) [2]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

سورة البقرة

سورة البقرة

1

تفسير (¬1) سورة البقرة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - قوله عزّ وجلّ {الم}: إجماع النحويين أن (¬2) هذه الحروف ما دامت حروف هجاء غير معطوفة، ولا موقعة موقع الأسماء، أنها سواكن الأواخر في الإدراج والوقف، وذلك قولك (¬3): (ألف (¬4)، با تا ثا) إلى آخرها، وذلك أنها أسماء الحروف الملفوظة بها في صيغ الكلم، بمنزلة أسماء الأعداد، نحو: ثلاثة، أربعة، خمسة. ولا تجد لها رافعاً، ولا ناصباً، ولا جاراً، وإذا (¬5) جرت مجرى الحروف لم يجز تصريفها، ولا اشتقاقها (¬6)، ¬

_ (¬1) (تفسير) ساقط من (ب). (¬2) من هذا الموضع نقل المؤلف هذا الكلام من كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح عثمان بن جني، فصل: في تصريف حروف المعجم واشتقاقها وجمعها. قال: اعلم أن هذِه الحروف مادامت حروف هجاء غير معطوفة ولا ... الخ 2/ 781 - 784. (¬3) في (ب): (قوله). (¬4) في (أ)، (ج): (أ) وما في (ب) موافق لـ "سر صناعة الإعراب" 2/ 781 (¬5) في (ب): فإذا. (¬6) في (ج): (اشقاقها).

ولا تثنيتها, ولا جمعها، كما أن الحروف كذلك. ويدلك (¬1) على كونها بمنزلة (هل، وبل، وقد، وحتى، وسوف) أنك (¬2) تجد فيها ما هو على حرفين الثاني منهما ألف نحو: (با، تا، طا) ولا تجد (¬3) في الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني منهما حرف لين، إنما ذلك في الحروف نحو: (ما، ولا، ويا (¬4)، وأو، ولو، وكي، وأي) فلا تزال (¬5) هذِه الحروف هكذا مبنية غير معربة؛ لأنها أصوات بمنزلة: (صه) (¬6)، و (مه) (¬7)، و (غاق) (¬8)، و (إيه) (¬9). حتى توقعها مواقع الأسماء فتعربها حينئذٍ كما تفعل بالأسماء، وذلك قولك (¬10): أول الجيم (جيم) وآخر الصاد (دال) وأوسط الكاف (ألف) وكتبتُ جيمًا حسنةً (¬11). ¬

_ (¬1) في (ب): (وبذلك). (¬2) في (ب): (أنها). (¬3) في (ب): (ولا يجوز). (¬4) (ويا) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (فلا يزال)، وفي (ج): (فلا تنال). (¬6) اسم فعل بمعنى: اسكت. انظر "المقتضب" 3/ 202، "سر صناعة الإعراب" 2/ 494، 600. (¬7) اسم فعل بمعنى. اكفف. انظر المصدرين السابقين. (¬8) في (ب): (عاقه). و (غاق) حكايته لصوت الغراب. انظر "الكتاب" 3/ 302، "المقتضب" 3/ 180، "سر صناعة الإعراب" 2/ 494. (¬9) اسم فعل. تقول: إيه يا فتى: إذا أردت أن يزيدك من الحديث. انظر "المقتضب" 3/ 25، "سر صناعة الإعراب" 2/ 494. (¬10) في (ب): (قول). (¬11) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 782، وانظر: "المقتضب" 1/ 371.

وكذلك العطف (¬1)، لأنه نظير التثنية، فتقول: ما هجاء بكر؟ فيقول المجيب: (باء، وكاف، وراء) فيعرب، لأنه قد عطف، فإن لم يعطف بني، فقال: (باء، كاف، را). ونظير هذِه الحروف في أنها موقوفة غير موصولة، أسماء العدد نحو ثلاثة وأربعة (¬2). وإذا أخبرت عن حروف الهجاء، أو أسماء الأعداد فقد أخرجتها بذلك عن حيز الأصوات، وأدخلتها في جملة الأسماء المتمكنة (¬3)، فاستحقت أن تعرب للإخبار عنها، فإنه لا معنى [للحرفية فيها إذا] (¬4) زال إدارة الحكاية بها، فدخل بذلك في حد [المتمكنات، وخرج] (¬5) من باب الأصوات. وكذلك العدد إذا أردت به معدودًا، ولم ترد به العدد وحده دون المعدود أعربت كقولك (¬6): ثمانية ضعف أربعة، وسبعة أكثر من أربعة بثلاثة، فأعربت هذه الأسماء ولم تصرفها لاجتماع التأنيث والتعريف فيها، ألا ترى أن (¬7) (ثلاثة) عدد معروف القدر، وأنه أكثر من اثنين بواحد، وكذلك سائر الأعداد (¬8). ¬

_ (¬1) عند أبي الفتح (العاطف) 2/ 782. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 2/ 782، وانظر "معاني القرآن" للأخفش1/ 168، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 21، (الأصول في النحو) لابن السراج 2/ 139. (¬3) غير واضح في (ب). (المتمكن) هو الاسم الذي يتغير آخره بتغير العوامل، ولم يشبه الحرف، انظر "معجم المصطلحات النحوية" ص 213. (¬4) ما بين المعقوفين غير واضح في (ب). (¬5) ما بين المعقوفين غير واضح في (ب). (¬6) في (ب): (كقوله). (¬7) في (ج): (أنك). (¬8) "سر صناعة الإعراب" 2/ 783، وانظر: "الكتاب" 3/ 264 - 266، "الأصول في النحو" 2/ 139.

وأنشدوا قول أبي النجم (¬1): أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخطّ رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لامَ الف (¬2) كأنه قال (¬3): (لام ألف) إلا أنه ألقى حركة (الهمزة) على (الميم) للوزن ولم يعرب (¬4). قال أبو إسحاق (¬5): وهذه الحروف ليست كالحروف (¬6) المتمكنة، والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب، وإنما هي تقطيع الاسم ¬

_ (¬1) هو الفضل بن قدامة بن عجل، كان ينزل الكوفة، أحد رجاز الإسلام المتقدمين من الطبقة التاسعة. انظر "الشعر والشعراء" ص400، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 737، "الخزانة" 1/ 103. (¬2) معنى الأبيات: كان لأبي النجم صديق يسقيه الخمر، فينصرف من عنده ثملًا. لا يملك نفسه، مثل الخرف وهو الذي فسد عقله من الكبر، وكان يتمايل فتخط رجلاه في الطريق ما يشبه: لام ألف، أو أنه تارة يمشي معوجاً فتخط رجلاه ما يشبه: اللام، وتارة يمشي مستقيماً فتخط رجلاه خطأ مستقيما يشبه: الألف. والأبيات في "ديوان أبي النجم" ص 141، وهي عند أبي عبيدة في "المجاز" 1/ 28 والمبرد في "المقتضب" 1/ 237، 3/ 357، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 22، و"المخصص" 14/ 95،17/ 53، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 651، و"الخزانة" 1/ 99 - 102، والبيت الثالث عند سيبويه 3/ 266. (¬3) (قال) ساقط من (ج). (¬4) في (ب) (يعرف). أي أنها ساكنة، لم يجر عليها الإعراب، وعلى هذا استشهد بها سيبويه، ومكان إيراد هذِه الأبيات بعد ذكر وجه البناء، كما هو عند سيبويه والزجاج وغيرهما. ولابن جني توجيه آخر للأبيات غير ما ذكر، رده البغدادي في (الخزانة). انظر "سر صناعة الإعراب" 2/ 652، (الخزانة) 1/ 99. (¬5) هو الزجاج. انظر "معاني القرآن" 1/ 22، نقل عنه بتصرف. (¬6) في "معاني القرآن": (.. ليست تجري مجرى الأسماء المتمكنة، والأفعال المضارعة ..) 1/ 22، فقوله هنا (ليست كالحروف المتمكنة) لعله تصحيف.

المؤلف الذي لا يجب الإعراب إلا مع كماله (¬1)، فقولك: (جعفر) لا يعرب منه حرف دون تكميل الاسم. فأما قول الشاعر: كافاً وميمَين وسينًا طاسما (¬2) فإنما أعرب لأنه أجرى الحروف مجرى الأسماء. وقال يزيد بن الحكم (¬3): إذا اجتمعوا على ألف وياء (¬4) ... وواو هاج بينهم جدال (¬5) ¬

_ (¬1) في (ب): (كمالها) وفي (ج): (طاسما). (¬2) (ب): (كاسما). الرجز استشهد به سيبويه 3/ 260، وابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" ص 450، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 23، والأزهري في "التهذيب" 1/ 91، وابن سيده في "المخصص" 17/ 49، "اللسان" 1/ 16. والشاهد عندهم أنه ذكر (طاسما) وهي صفة (للسين) فذكره، ولو أنثه لجاز ذلك. واستشهد به ابن جني في "سر صناعة الإعراب" على أنه أعرب الحروف وأجراها مجرى الأسماء، كما عند المؤلف هنا 2/ 782. ولم ينسب البيت أحد. ومعنى البيت. أنه يشبه آثار الديار بحروف الكتاب. والطاسم: الدارس. وقد روى (طامسا) انظر: "الكتاب" 3/ 260 (مع هامش عبد السلام هارون). (¬3) هو يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي البصري، من فصحاء الشعراء، وقد على سليمان بن عبد الملك فوصله وأكرمه. وكان قد عُيِّن لإمرة فارس. انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 4/ 2/ 257، "سير أعلام النبلاء" 4/ 519، "الخزانة" 1/ 113. (¬4) في (ب): (وباء). (¬5) أورده المبرد في "المقتضب" 1/ 236، قال: قال رجل من الأعراب يذم النحويين إذ سمع خصومتهم فيه: إذا اجتمعوا على ألف وباء ... وتاء هاج بينهم قتال وأورده في 4/ 43، وقافيته (جدال) وأورده الزجاج في "المعاني" 1/ 23، ونصه: إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء لاح بينهمُ جدال ونسبه لزيد بن الحكم، وأورده ابن سيده في "المخصص" 14/ 95، وابن جني في =

فأعرب لأنه أدخل حرف العطف، وجعلها في حكم الأسماء. ويجوز (¬1) تأنيث هذه الحروف وتذكيرها، فمن أنث فلمعنى [الكلمة. ومن ذكر فلمعنى] (¬2) الحرف (¬3). ولا محل لها من الإعراب لأنها حكايات وضعت على هذه الحروف، ولم تجر مجرى الأسماء المتمكنة، ولا الأفعال المضارعة، وإنما هي كقولهم: (غاق يا فتى) إذا حكوا صوت الغراب، فهذه الحروف وإن كانت إشارات إلى معان فلا موضع لها من الإعراب (¬4). ومن قال: إنها أسماء للسور (¬5) والقرآن، قال: محلها رفع (¬6)، كأنه ¬

_ = "سر صناعة الإعراب" 2/ 782، والبغدادي في "الخزانة" 1/ 110, 113.والبيت آخر ما نقله عن الزجاج بتصرف. انظر: "معاني القرآن" 1/ 22، 23. (¬1) في (ب): (وبجو). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 22، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص 449، 450، "المخصص" 17/ 49. (¬4) انظر: "الكتاب" 3/ 266، "المقتضب" 1/ 236 - 238، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 22، "سر صناعة الإعراب" 2/ 781، 782. قال السمين الحلبي: في إعراب الحروف المتقطعة في أوائل السور ثلاثة أقوال: إحداها: أنها أسماء حروف التهجي لا محل لها من الإعراب، وهو أصحها، والثاني: أنها معربة بمعنى أنها صالحة للإعراب، وإنما فات شرط وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري، والثالث: أنها موقوفة لا معربة ولا مبنية. "الدر المصون" 1/ 79. (¬5) في (ب): (اسما للسورة)، و (جـ): (لسور). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 90، و"ابن عطية" 1/ 96، "البحر المحيط" 1/ 141، "البيان في غريب القرآن" 1/ 43، و"القرطبي" 1/ 157، "الدر المصون" 1/ 81 قال الزمخشري: ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن تكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعددة. "الكشاف" 1/ 107، 108، ونحوه قال الرازي 2/ 12.

قيل: هذه ألم، كما تقول: هذا زيد، أو يكون رفعًا على الابتداء، وخبره {ذَلِكَ اَلكِتَابُ} كما تقول (¬1): زيد ذلك الرجل، ويحتمل أن يكون رفعًا على أنه خبر مقدم، كأنه قال: ذلك الكتاب الذي وعدتك (¬2) أن أنزله إليك (¬3) {الم} (¬4). فأما التفسير: فقد كثر اختلاف الناس في هذه الحروف المقطعة وأشباهها في القرآن. فذهب قوم إلى أن الله لم يجعل لأحد سبيلا إلى إدراك معانيها، وأنها مما استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل (¬5) علمها إلى الله تعالى (¬6). وعن الشعبي (¬7) أنه قال: لله في كل كتاب سر، وسره في القرآن ¬

_ (¬1) في (أ): (يقول) وأثبت ما في (ب، جـ) لأنه أنسب للسياق. (¬2) في (ب): (وعد بك). (¬3) في (ج): (عليك). (¬4) ذكر الواحدي بعض الأوجه في إعراب الحروف المقطعة في أوائل السور وهناك أوجه أخرى، فقيل: إنها في محل نصب بتقدير: أقرأ (ألم)، وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها قسم أقسم الله بها. انظر ابن عطية 1/ 141، "البحر المحيط" 1/ 35، "البيان في غريب القرآن" 1/ 43، والقرطبي 1/ 136، "الدر المصون" 1/ 81. (¬5) في (ب): (وبكل). (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف" 1/ 37/ أ. انظر الطبري 1/ 88، "تفسير أبي الليث" 1/ 87، وذكره ابن عطية ونسبه للشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين 1/ 138، وذكره في "البحر المحيط"، ومال إليه. 1/ 35، والقرطبي 1/ 154، وقال: روي عن أبي بكر وعلي، وابن كثير1/ 38. (¬7) هو عامر بن شراحيل بن عبد، تابعي شهر بالرواية والحفظ، ولد ونشأ بالكوفة. والشعبي نسبة إلى (شعب) بطن من همدان، مات سنة خمس ومائة، وقيل: غير ذلك، انظر: "تاريخ بغداد" 12/ 227، "حلية الأولياء" 4/ 310.

حروف التهجي (¬1). ومثل هذا روي عن أبي بكر الصديق وعلي (¬2) رضي الله عنهما. والأكثرون من أهل التفسير تكلموا في معاني هذه الحروف واستنبطوا لها وجوها من التأويل (¬3)، وقالوا: لا يجوز أن يلغى شيء من كتاب الله تعالى، لأنه قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]. فيروى عن ابن عباس في {الم} ثلاثة أوجه (¬4): أحدها: أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف، أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد الكتاب الذي عند الله، لا شك فيه (¬5). ¬

_ (¬1) قال الواحدي في "الوسيط" 1/ 25، قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داود: إن لكل كتاب سرا وإن سر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما سوى ذلك. وبهذا اللفظ ذكره السيوطي في (الدر) وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ، ابن حبان في "التفسير". "الدر" 1/ 56، وذكره الطبري ولم يعزه لأحد 1/ 88، وذكره أبو الليث عن الشعبي1/ 87، والزجاج في "المعاني" 1/ 19، وانظر: القرطبي 1/ 133، 134. وقد روي عن الشعبي أنه فسرها: بأنها من أسماء الله. كما في الطبري 1/ 87، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 33، وذكره الأزهري في "التهذيب" 1/ 90. (¬2) انظر أقوالهم في "تفسير الثعلبي" 1/ 40/ أ، و"القرطبي" 1/ 134، و"ابن كثير" 1/ 38. روي عن علي: أنها اسم الله الأعظم. انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 87، و"ابن عطية" 1/ 138، و"ابن كثير" 1/ 39. (¬3) انظر: الطبري 1/ 86 - 93، و"ابن عطية" 1/ 140، و"البحر المحيط" 1/ 35، و"القرطبي" 1/ 155. (¬4) انظر. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 19، 20، "تهذيب اللغة" 1/ 88. (¬5) بهذا اللفظ ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 19، والأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 88، وأبو الليث ونسبه للكلبي1/ 87. وأخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وذكره السيوطي في "الدر" =

وهذا الوجه من تفسير ابن عباس اختيار (¬1) الأخفش، لأنه قال: أقسم الله تعالى بهذه الحروف لشرفها (¬2) وفضلها (¬3)، لأنها (¬4) مباني كتبه المنزلة بالألسنة (¬5) المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله عزّ وجلّ ويوحدونه، فكأنه (¬6) أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه وكلامه لا ريب فيه (¬7). الوجه الثاني: أن هذه الحروف وإن كانت متفرقة في النزول، فإذا ألّفت ضربًا من التأليف كانت (¬8) اسمًا لله، وإن كنا لا نقف على تأويلها، فـ (ألف، لام، را)، و (حم)، و (ن) (¬9) اسمه: الرحمن (¬10). إلا أنا لا نقف ¬

_ = وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات". "الدر" 1/ 54، وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 138، وابن كثير 1/ 39، وروي عن عكرمة أنها قسم. انظر: الطبري 1/ 207وابن أبي حاتم 1/ 170. (¬1) في (ب): (اختاره). (¬2) في (ب): (وشرفها). (¬3) في (ب): (وفضّلها). (¬4) في (ب): (أنها). (¬5) في (ب): (بالألسن). (¬6) في (ب): (وكأنه). (¬7) كلام الأخفش ذكره الثعلبي 1/ 40 ب، ولم أجده في "معاني القرآن" للأخفش. (¬8) في (ب). (كان). (¬9) في (ب): (كألف لام حاميم نون). (¬10) في "معاني القرآن" للزجاج (الر)، و (حم)، و (نون) اسم للرحمن، مقطع في اللفظ موصول في المعنى 1/ 20، ونحوه في "تهذيب اللغة" 1/ 88، وقد أخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قوله: (ألم) و (حم) و (ن) قال اسم مقطع. وفي سنده (الباهلي) قال شاكر: لم أقف له على ترجمة. انظر الطبري مع تحقيق شاكر 1/ 207، وأخرجه ابن أبي حاتم، وفي سنده الباهلي قال محققه: لم أقف له على =

على كيفية نظمها. قال سعيد بن جبير (¬1): لو أحسن الناس تأليفها لعلموا (¬2) اسم الله الأعظم (¬3). الوجه الثالث عنه (¬4): {الم}: أنا الله أعلم، و {الر} (¬5): أنا الله أرى، و {المص} [الأعراف: 1]: أنا الله أعلم وأفصل (¬6)، و {المر} [الرعد: 1]: أنا الله أعلم وأرى (¬7). وهذا الوجه اختيار الزجاج. ¬

_ = ترجمة. "تفسير ابن أبي حاتم" مع الهامش 1/ 168 رسالة دكتوراه. وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه. "الدر" 1/ 54 انظر ابن عطية 1/ 138. (¬1) هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي بالولاء، كان من سادات التابعين علمًا وفضلًا وورعًا وفقهًا، قتله الحجاج سنة خمس وتسعين. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" 1/ 76، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 188. (¬2) في (ب): (تعلموا). (¬3) ذكره الثعلبي بدون سند. 1/ 40 أ، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 34. (¬4) أي عن ابن عباس. (¬5) في (ب): (الرا). (¬6) في (ب): (وأفضل). (¬7) ذكره الزجاج بنصه حيث قال: والثالث عنه: ثم ذكره 1/ 20، وفي تهذيب القول الثالث: (الم) معناه: أنا الله أعلم وأرى 15/ 677، وأخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس: (الم) قال: أنا الله أعلم. الطبري 1/ 88، وأخرجه ابن أبي حاتم بنحو رواية ابن جرير. قال المحقق: في سنده عطاء وشريك، اختلطا وساء حفظهما. (تفسير ابن أبي حاتم) 1/ 32، وأخرجه أبو جعفر النحاس في "القطع والائتناف" قال: (الم) أنا الله أعلم. و (المر) قال أنا الله أرى، و (المص) قال أنا الله أفصل. ص 111، وذكره السيوطي في "الدر" بمثل رواية ابن جرير وعزاه إلى وكيع وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس 1/ 54.

قال: المختار: ما روي عن ابن عباس وهو أن معنى: (الم) أنا الله أعلم، وأن كل حرف منها له تفسير (¬1). قال: والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو (¬2) فيها، وأنشد: قلت لها قفي فقالت قاف (¬3) ... ................ فنطق (¬4) - بقاف- فقط، يريد قالت: أقف (¬5). وقال الفراء: معنى هذه الحروف [المقطعة في أوائل السور: أن هذه الحروف] (¬6) ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك، لأن قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] وعد من الله تعالى أن ينزل عليه كتابا، فلما أنزل عليه القرآن قال: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} الذي وعدتك أن أقرئكه فلا تنسى، فاكتفى من حروف (أ، ب، ت، ث) بـ {الم}، و {المص}، وأشباه ذلك؛ لأن هذه الحروف لما ¬

_ (¬1) في (المعاني): (تفسيره) 1/ 24. (¬2) (هو) ساقط من (ب). (¬3) البيت بتمامه في (المعاني): قلنا لها قفي قالت: قاف ... لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف "معاني القرآن" 1/ 24 ومثله عند الطبري 1/ 90، وكذا في "الخصائص" 1/ 30، 80، 426، 2/ 361، وهو في (تأويل مشكل القرآن) وفيه (... قالت لي: قاف ...) ص 308، وورد في "معاني القرآن" للفراء3/ 75، "اللسان" (وقف) 8/ 4898، "البحر المحيط" 1/ 35. والرجز للوليد بن عقبة خرج يريد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لما طلبه حين شهد عليه عنده أنه يشرب الخمر، فخرج الوليد مع بعض رفقته ونزل يسوق الإبل بهم ويرتجز بأبيات منها المذكورة هنا. (¬4) في (ج). (تنطق). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 24. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

كانت موضوعة للكتاب معروفة، كان الحرفان (¬1) والثلاثة منها يدل على الجمع، والعرب تعبر ببعض الشيء عن كله. كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اُرْكَعُواْ لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] أي: صلوا لا يصلون، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَت يَدَاكَ} [الحج: 10] وقال الشاعر: لما رأيت أنها في حُطِّي ... أخذتُ منها بقرونٍ شُمْطِ (¬2) فعبر بفظة (حطى) عن جميع حروف (أبجد) (¬3). وهذا القول اختيار الحسن (¬4) بن محمد بن نصر الجرجاني (¬5)، فإنه ¬

_ (¬1) في (ج): (الجرفان) بالجيم. (¬2) الأبيات لبعض بني أسد، وسماه بعضهم بأبي القماقم الأسدي، يتحدث عن امرأة لا يرضى خلقها، حاول إصلاحها فلم تنقد له، كأنها تستمر في أول تعلمها كالصبي الذي لا يعدو في تعلمه حروف الهجاء. و (القرون الشمط). خصل الشعر المختلط فيه السواد والبياض. والأبيات عند الفراء: لما رأيت أمرها في حُطِّي ... وفَنَكَتْ في كذب ولَطِّ أخذتُ منها بقرون شمط ... ولم يزل ضربي لها ومَعْطِي حتى علا الرأس دم يغُطِّي "معاني القرآن" للفراء 1/ 369، وذكر منها في "تأويل مشكل القرآن" البيتين اللذين ذكرهما الواحدي ص 30، وكذا الثعلبي 1/ 41، وذكر الطبري الأبيات مثل ما عند الفراء مع اختلاف يسير 1/ 89، ووردت في "كنز الحفاظ في كتاب تهذيب الألفاظ" ص 447، "أمالي القالي" 2/ 200، "تفسير السجاوندي" ص 24. (¬3) الكلام الذي نسبه للفراء لم أجده بهذا النص في "معاني القرآن"، وللفراء كلام بمعناه 1/ 368، 2/ 3، وذكر الثعلبي قريبا مما ذكر الواحدي هنا، قال بعده: هذا قول المبرد وجماعة من أهل (المعاني). الثعلبي 1/ 40/ ب، 41/ أوذكر الواحدي في "البسيط" نحو الكلام الذي نسبه للفراء، وعزاه لابن الأنباري. انظر "الوسيط" 1/ 26. (¬4) في (ب): (الحسين). (¬5) هو الحسن بن محمد أو ابن يحيى بن نصر الجرجاني، أبو علي، صاحب "نظم القرآن" نقل عنه الواحدي كثيرا، انظر ما تقدم في مصادر الواحدي في تفسيره.

قال: {الم} مبتدأ مرصد لخبر (¬1)، أو لأن يبنى عليه خبر، أي: أن هذه الحروف التي منها (الم) الكتاب الذي (¬2) وعدتك إنزاله عليك، فتكون هذه الحروف الثلاثة اسما لجميع الحروف المعجمة، كما يستدل ببعض الشيء على كله، يقول الرجل: قرأت (نون) و (صاد) و (حم) (¬3) وهو لا يريد (¬4) هذه الحروف بعينها، وإنما يريد كلّ ما اتصل به مما (¬5) بعده. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬6) وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقاتل اليهود والنصارى، وهم يقولون: لا إله إلا الله، [وهو أراد (لا إله إلا الله)] (¬7) وما اتصل بها من أسبابها، فجعل (لا إله إلا ¬

_ (¬1) في (ب): (بخير). (¬2) في (ب): (التي). (¬3) في (ب): (ص) و (حم) و (نون). (¬4) في (ب): (لا يريد به). (¬5) (مما) ساقط من (ب). (¬6) الحديث بلفظ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... الحديث). عن أبي هريرة: قال السيوطي: متواتر: "فيض القدير" 2/ 238، وكذا قال الألباني. انظر "الأحاديث الصحيحة" 1/ 691 (407). والحديث أخرجه البخاري (1399) كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، "الفتح" 3/ 262، و"كتاب استتابة المرتدين" باب (قتل من أبى قبول الفرائض) 12/ 275، وكتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" باب "الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" 13/ 250، ومسلم 20، 21 كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأبو داود (1556) كتاب الزكاة، والترمذي (2607) كتاب الإيمان، باب: أمرت أن أقاتل الناس .. ، والنسائي 5/ 14 كتاب الزكاة، باب: مانع الزكاة. وأحمد في "المسند" 1/ 19، 35, 48, 2/ 423, 528. والأحاديث بنحو لفظه كثيرة عن ابن عمر وأنس وغيرهم. (¬7) مابين المعقوفين ساقط من (ب).

الله) اسماً لجميع الإيمان. وعلى هذا قوله: {وذلك} مبتدأ ثان و {الكتاب} (¬1) خبره، وهما جميعا خبر للمبتدأ الأول (¬2)، لأنهما صارا قصة وشأنا، مثل قولك: (زيد أبوه قائم) و (عمرو وجهه حسن). وزعم قطرب (¬3): أن هذه الحروف المقطعة ذكرت في القرآن لتدل على أن هذا القرآن المؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي مقدورة للمشركين في تخاطبهم، فلولا أنه من عند الله نزل وأنه معجز في نفسه، وإلا وهلا جئتم بمثله لأنكم (¬4) متمكنون من المخاطبة بهذه الحروف. (¬5) وحكي عنه- أيضا- قول آخر، وهو أنه قال (¬6): يجوز أن يكون لما لغا القوم في القرآن فلم يتفهموه (¬7) حين قالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ (¬8) وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] أنزل الله سبحانه هذه الحروف المقطعة، ولم ¬

_ (¬1) في (ج): (بالكتاب). (¬2) انظر "تفسير الثعلبي" 1/ 42/ ب، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16، وابن عطية 1/ 143، "البحر" 1/ 36. (¬3) هو محمد بن المستنير المعروف بـ (قطرب) أحد العلماء المشهورين بالنحو واللغة، أخذ عن سيبويه، مات سنة ست ومائتين. انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" ص 99، "تاريخ بغداد" 3/ 298، "معجم الأدباء" 19/ 52، "إنباه الرواة" 3/ 219، "المزهر" 2/ 405. (¬4) في (ب): (وأنتم). (¬5) ذكر المؤلف قول قطرب بمعناه، وتصرفه في اللفظ أخل به، انظر نص قوله في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 19، "تهذيب اللغة" 1/ 89، "اللسان" 1/ 15. (¬6) (قال) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (يتفهموا). (¬8) في (ب): (القول) تصحيف في الآية.

تجر لهم عادة بسماع مثلها حتى إذا سكتوا واستمعوا إلى ذلك، هجم القرآن أسماعهم وقرع (¬1) المعاني آذانهم، فيكون في إنزال هذه الحروف (¬2) المقطعة نوع من المبالغة في الدعوة وتأكيد (¬3) للحجة عليهم (¬4). ويروى عن الحسن أنه قال: {الم} وسائر حروف التهجي في القرآن أسماء للسور (¬5). فعلى هذا إذا قال القائل (¬6): قرأت (المص) عرف السامع أنه قرأ السورة المخصوصة التي افتتحت بـ (المص) كما أنه إذا قال: لقيت عمرا، علم السامع أنه يريد شخصاً معلومًا عنده. ويجوز أن يكون {الم} اسما للسورة المفتتحة بها، ثم لا تعرف تلك السورة بعينها ما لم يقرن بـ {الم} لفظ آخر، فيقال: سورة {الم ذَلِكَ}، ¬

_ (¬1) في (ب): (وقرعت). (¬2) هذا آخر وجه (أ) من لوحة (39) في نسخة (ب) وفي أسفل الصفحة في الهامش كتب بخط مختلف: (هذا آخر الاختلاف وليس في هذِه النسخة غيره). (¬3) في (ب) (وتأكيداً). (¬4) انظر نص كلام قطرب في: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 24، "تهذيب اللغة" 1/ 89، "اللسان" 1/ 11، "تفسير أبي الليث" 1/ 87، وذكره الطبري ولم يعزه 1/ 89، وذكره الرازي ونسبه لابن روق وقطرب 2/ 6، ومال إليه 2/ 11. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 26، وأبو حيان في "البحر" 1/ 34، وأورد الطبري هذا القول ونسبه لزيد بن أسلم 1/ 206، وكذا الثعلبي 1/ 40/ أ، وابن عطية 1/ 138، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 21، وأبو حيان في (البحر) 1/ 34، والسيوطي في "الدر" 1/ 55. (¬6) نقل عن الطبري بتصرف. انظر الطبري 1/ 90.

وسورة (الم الله) (¬1)، لأنه وقع الاشتراك، ولا يمنع احتياجهم (¬2) إلى ذكر القرينة أن يكون ذلك اسما له في الأصل. ألا ترى أنه إذا قال: رأيت زيدا، والسامع عرف (¬3) رجلين اسمهما زيد، فيقول: أيما (¬4) زيد؟ فيقول: الأزدي أو (¬5) التميمي (¬6). فلا يمنع هذا أن يكون (زيد) اسما (¬7) في الأصل لذلك الشخص، وإن (¬8) لم يحصل به التمييز حتى ذكر معه النسبة (¬9) عند وقوع الاشتراك، ويجوز تسمية الشيء ببعضه، أو بما هو من جملة معناه، كالقصائد التي تسمى بما افتتحت به كقولهم: (لخولة أطلال)، و (قفا نبك)، و (أما صحا) (¬10). وقول الحسن (¬11) هذا مختار عند النحويين، من قبل أن الأسماء ¬

_ (¬1) عند الطبري (.. قرأت (الم البقرة). وفي آل عمران: قرأت (الم آل عمران) و (الم ذلك الكتاب) و (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) الطبري 1/ 90. (¬2) في (ب). (احتاجهم). (¬3) (عرف) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (أبا). (¬5) في (ب): (و). (¬6) انظر الطبري 1/ 90، وانظر "تأويل المشكل" لابن قتيبة ص 300. (¬7) في (ب): (زيدا في الأصل). (¬8) في (ب): (فإن). (¬9) في (ب). (التشبه). (¬10) قوله: (لخولة أطلال) مطلع معلقة طرفة بن العبد. انظر "شرح القصائد المشهورات" للنحاس ص 53. و (قفا نبك) مطلع معلقة امرئ القيس. انظر "شرح القصائد" ص 3. وقوله "أما صحا" لم أعثر عليها فيما قرأت. (¬11) وهو أن الحروف المقطعة أسماء للسور، وهذا القول نسبه أكثر المفسرين لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه. انظر ما سبق ص 389.

الأعلام منقولة عن معانيها للتفرقة بين المسميات (¬1)، ونقلت هاهنا حروف المعجم إلى التسمية. وقد جاء نظير ذلك (¬2) في أسماء العرب، قالوا: (أوس بن حارثة بن لأم الطائي) (¬3). ولا خلاف بينهم أن لك أن تسمي بحروف المعجم كما أن لك أن تسمي بالجمل (¬4) كقولهم (¬5): (تأبط شرًّا (¬6))، و (ذرّى حبًّا (¬7))، قال الشاعر: إن لها لَرَكَبًا (¬8) إرزَبَّا (¬9) ... كأنه جبهةُ ذرّى حَبَّا (¬10) ¬

_ (¬1) انظر "شرح المفصل" 1/ 29. (¬2) في (ب): (ذاك). (¬3) ذكره ابن دريد قال: أوس بن حارثة بن لأم، رأس طييء، عاش مائتي سنة. وفسر (لأم) فقال: (اللأم) السهم المريش إذا استوت قذذه. (الاشتقاق) ص 382، 383. وانظر مادة (لأم) في "اللسان" 7/ 3976، "القاموس" ص1156. وقد أورد الواحدى الاسم على أن المراد (لام) الحرف، نقل فأصبح علمًا على اسم معين، وعلى ما ذكر ابن دريد لا شاهد فيه للواحدي. (¬4) تحكى الجملة على حالها فتصبح علمًا للمسمى انظر "الكتاب" 3/ 326 "المقتضب" 4/ 9، "شرح المفصل" 1/ 28. (¬5) في (ب): (كقولك). (¬6) في (ب): (سابط). قيل: سمي بذلك لأنه تأبط حية. انظر (شرح المفصل) 1/ 28. (¬7) دي (ب): (وروا حبا). وذرى حبا: اسم رجل. انظر: "الكتاب" 3/ 326، "المقتضب" 4/ 9، "شرح المفصل" 1/ 28، و"اللسان" (حبب) 1/ 296. (¬8) في (ب). (الركبا). (¬9) في (ج). (اردبا). (¬10) نسبه سيبويه لرجل من بني طهية. يروى (مركبا) و (مركنا) وهو منبت المعانة =

فكل (¬1) كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق، فمن ذلك (زيد (¬2)) لما لم يرد به معنى الزيادة، لم يكن إلا منقولا (¬3). وكذلك جميع الأسماء الأعلام ولو سميت رجلا: (ب ت ث)، [لقلت (هذا ب ت ث)] (¬4)، ورأيت: (ب ت ث) فحكيت هذا القول كان جائزا. وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين (¬5). ¬

_ = و (الإرزب) الضخم شبهه بجبهة ذلك الرجل المسمى (ذرى حبا). ورد البيت في "الكتاب" 3/ 326، "المقتضب" 4/ 9، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 391، "اللسان" (حبب) 2/ 746، و (رزب) 3/ 1634، و"شرح المفصل" 1/ 28. (¬1) في (ب): (كل). (¬2) (زيد) ساقط من (ب). (¬3) انظر: "شرح المفصل" 1/ 30. (¬4) مابين المعقوفتين ساقط من (ب). (¬5) بهذا النصر ذكره الثعلبي في "تفسيره" بدون نسبه 1/ 40 أ، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" بسنده عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: في قوله (الم) قال: (هذِه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا، دارت فيها الألسن كلها. ليس منها حرف ...) الخ الأثر كما عند المؤلف هنا. قال المحقق: رجال هذا الإسناد يحتج بروايتهم، لكن أبا العالية يرسل كثيراً، ورواية أبي جعفر الرازي عن أنس مضطربة والمتن في بعض ألفاظه نكارة. "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 168 (رسالة دكتوراه). وأخرجه ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس، بنفس اللفظ1/ 88، وذكره ابن كثير في " تفسيره" عن أبي العالية، وتكلم فيه من جهة معناه. ابن كثير 1/ 41، وذكره =

فالاختلاف في هذه الحروف كما ترى، وقد ذكرت عيون أقاويل أهل (¬1) التأويل. وليس يبعد أن يقال: إن جميع ما ذكر من هذه التأويلات كلها مرادة بهذه الحروف مودعة فيها، ولا تنافي في هذه الأقوال، لأنه ليس كون هذه الحروف مفاتح أسماء الله تعالى بمانع أن تكون (¬2) مما (¬3) أقسم الله بها، ولا أن يشير بها إلى مدة قوم وآجال أناس عرف الله نبيه عليه السلام ذلك على الخصوص (¬4). ¬

_ = السيوطي في "الدر" وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. "الدر" 1/ 56، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 34. (¬1) في (ب): (هذا). (¬2) في (ب): (يكون). (¬3) في (ب). (ما). (¬4) وإلى نحو هذا مال ابن جرير حيث قال: (والصواب من القول عندي في تأويل مفاتيح السور، التي هي حروف المعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة، ولم يصل بعضها ببعض -فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف- لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد، كما قال الربيع بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة، دون ما زاد عليها. والصواب في تأويل ذلك عندي: أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيره فيه .... الخ. واستثنى بعض الأقوال لضعفها. انظر الطبري 1/ 93، وانظر "تأويل المشكل" لابن قتيبة ص 299، 300، وقد ذكر ابن كثير كلام الطبري، ولم يرضه، ثم ذكر أقوالاً أخرى وبين ضعفها ثم قال: وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذِه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذِه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في "تفسيره" عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في "كشافه" ونصره أتم نصر، واليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، =

2

فإن قيل: كيف كتبوا في المصحف هذه الحروف موصولة، والهجاء منقطع لا يتصل بعضه ببعض؟ قلنا: لأنه لم يقصد به الهجاء، إنما هي حروف اجتمعت يراد بكل حرف منها معنى، فهي وإن كانت في صورة الهجاء فإن تحتها معاني، فكانت من هذا الوجه في معنى الكلمات الموصولة (¬1). فإن قيل: فلم قطعت {حم عسق} ولم تقطع {كهيعص}. قلنا: لأن (حم) قد ذكرت في أوائل سور أخرى، فقطعت مما (¬2) بعدها، لأن هذه السور كغيرها (¬3) مما افتتح بـ (حم) (¬4). هذا هو الكلام في الحروف المقطعة في هذه السورة. (¬5) فأما في سائر السور فسنأتي على بيانها إن شاء الله. 2 - وقوله تعالى: {ذَالِكَ اَلكِتَبُ}. قال أبو الهيثم (¬6): (ذا) اسم كل ¬

_ = شيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية. ابن كثير 1/ 40. (¬1) هذا السؤال والإجابة عليه ذكره ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" ص 479، وانظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 109، "البرهان في علوم القرآن" 1/ 431. (¬2) في (ب): (ما). (¬3) في (ب): (لغيرها). (¬4) ذكره ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" ص 479، والنحاس في "القطع والائتناف" ص 109، والزركشي في "البرهان" 1/ 431. (¬5) أي في سورة (البقرة) (الم). (¬6) قول أبي الهيثم ذكره الأزهري في (التهذيب) في مواضع متعددة أخذ الواحدي منه بالاختصار وجمعه مع بعضه. قال الأزهري: أخبرني المنذرى عن أبي الهيثم أنه قال: ذا اسم كل مشار إليه ..) "التهذيب" (ذا) 2/ 1258.

مشار إليه يراه المتكلم والمخاطب كقولك: ذا الرجل، وذا الفرس، فإذا (¬1) بعد المشار إليه زادوا (كافا) فقالوا: ذاك (¬2) الرجل، وهذه (الكاف) ليست في موضع نصب ولا خفض (¬3) ولا رفع، إنما أشبهت كاف (أخاك) و (عصاك) فتوهم السامع أنها في موضع خفض (¬4)، فلما دخل فيها هذا اللبس زادوا (لاما) فقالوا: ذلك أخوك (¬5)، فإن اللام إذا دخلت ذهبت بمعنى الإضافة. و (ذا) مبني (¬6)، نصبه وخفضه ورفعه سواء، لأن فيه معنى الإشارة إلى معرفة فكأنه قد تضمن معنى من الحروف (¬7). وهذا الذي ذكره ¬

_ (¬1) قال الأزهري: قال أبو الهيثم فيما أخبرني عنه المنذري: (إذا بعد المشار إليه من المخاطب، وكان المخاطب بعيدا ممن يشار إليه، (زادوا) (كافا) فقالوا. ذاك أخوك ..) "التهذيب" تفسير (ذاك وذلك) 2/ 1258. (¬2) في (ج): (ذلك). (¬3) في "التهذيب": (ليست في موضع خفض ولا نصب، إنما أشبهت ..) 2/ 1258. (¬4) في "التهذيب": (فتوهم السامعون أن قول القائل: ذاك أخوك كأنها في موضع خفض لاشباهها (كاف)، (أخاك). وليس ذلك كذلك، إنما تلك (كاف) ضمت إلى (ذا) لبعد (ذا) من المخاطب، فلما دخل ...) "التهذيب" 2/ 1258. (¬5) في "التهذيب": (وفي الجماعة: أولئك اخوتك). مراتب المشار اليه عند بعضهم اثنتان: الأولى: القربى ويشار لها بذا. الثانية: البعدى سواء كان البعد قليلاً أو كثيرًا ويشار لها بذاك. وعلى هذا الرأي زيدت اللام لرفع اللبس، كما ذكر الواحدي، أو لتأكيد بعد المشار إليه. أما عند الجمهور فمراتب المشار إليه ثلاث: قريب يشار له بذا، ومتوسط يشار له بذاك، وبعيد ويشار له بذلك، وعلى هذا: اللام لبعد المشار اليه، وليست لرفع اللبس. انظر "حاشية الصبان" 1/ 139، 142. (¬6) في (ب): (مبين). (¬7) هذا الكلام عن أبي الهيثم بمعناه، "التهذيب" 2/ 1258.

أبو الهيثم في ذلك، إجماع من النحويين (¬1). وقال الزجاج (¬2): كسرت (اللام) في (ذلك) لالتقاء الساكنين (¬3)، قال: ولم يذكر الكوفيون كسرة هذه (اللام). قال أبو الفتح الموصلي (¬4): (اللام) قد تزاد في الكلمة مبنية (¬5) معها، غير مفارقة لها، كقولهم: (ذلك) و (ألالك) (¬6)، و (هنالك) و (عبدل) (¬7)، و (زيدل) (¬8)، و (فيشله) (¬9). والذي يدل على زيادة (اللام) في هذه الحروف قولهم: (ذاك) (¬10) بمعنى: ¬

_ (¬1) انظر "التهذيب" حيث نقل الأزهري عن بعض الأئمة2/ 1258 - 1259، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30. (¬2) قول الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 31، إلا قوله: (قال: ولم يذكر الكوفيون ... إلخ)، ونقله الأزهري في "التهذيب"، 15/ 34، 35. (¬3) المراد بالساكنين: (الألف) من (ذا) واللام التي بعدها. انظر "المعاني" للزجاج 1/ 31. (¬4) كلام أبي الفتح في "سر صناعة الإعراب" 1/ 321، وقد تصرف المؤلف فيه، ونقله بالمعنى مع الاختصار. قال أبو الفتح: (وإذا كانت اللام زائدة فهي على ضربين: أحدهما: أن تزاد في الكلمة مبنية معها غير مفارقة لها، والآخر أن تزاد فيها لمعنى، ولا تكون من صيغة الكلمة ....). (¬5) في (ب): (مبينة). (¬6) كذا في (أ)، وفي (ب)، (ج): (إلا لك) وفي "سر صناعة الإعراب" (أولا لك) 1/ 321. وهذا هو الصواب، ولعل ما أثبت في النسخ اختلاف في الرسم. (¬7) في (ب): (عندك). (¬8) في (ب): (زيدك). (¬9) في (ج): (فشيله). في "اللسان": (الفيشلة) كالفيشه، واللام فيها عند بعضهم زائدة، وقيل اللام أصل. والفيشة: أعلى الهامة، أو الكمرة، أو الذكر المنتفخ. "اللسان" (فيش) 6/ 3499. (¬10) في (ب): (ذلك).

(ذلك)، و (أولئك) بمعنى: (ألالك) (¬1)، و (هناك) بمعنى: (هنالك)، ومعنى (عبدل) كمعنى (عبد) (¬2)، ومعنى: (زيدل) كمعنى: (زيد) (¬3)، ومعنى: (فيشلة) كمعنى (¬4): (فيشة) (¬5). وأما (¬6) (الكاف) فهي في (ذاك)، و (ذلك)، و (تلك)، و (تانك) (¬7)، و (ذانك)، و (أولئك) حرف يفيد الخطاب، وليست باسم (¬8). والدليل (¬9) على ذلك ثبوت النون [في (ذانك، وتانك) ولو كانت اسما لوجب حذف النون] (¬10) قبلها، وجرها بالإضافة، كما تقول: غلاماك وصاحباك. والعرب قد تزيد (الكاف) للخطاب كقولهم: (النجاءك) أي: انج، ولو كانت (¬11) (الكاف) اسما لما جازت إضافة ما فيه (الألف واللام) ¬

_ (¬1) كذا في (أ) وفي (ب)، (ج) (بدون تشكيل)، وفي "سر صناعة الإعراب" (أولالك) وهو الصواب، وانظر التعليق في الصفحة قبلها. (¬2) في (ب): (ومعنى عندك كمعنى عند). (¬3) في (ب): (ومعنى زيد كمعنى زيدك). (¬4) في (ب): (بمعنى). (¬5) انظر. "سر صناعة الإعراب" 1/ 322، (معنى الفيشة) مر قريبا. (¬6) الكلام عن (الكاف) أخذه المؤلف عن أبي الفتح من موضع آخر 1/ 309، بتصرف واختصار. (¬7) في (ب): (تاتك). (¬8) انظر: "الأصول في النحو" 2/ 127. (¬9) "سر صناعة الإعراب" 1/ 315. (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬11) "سر صناعة الإعراب" 1/ 309 - 310.

إليهما (¬1)، وكذلك قولهم: أبصرك زيدا. ولا يجوز أن تكون (الكاف) اسما لأن هذا الفعل لا يتعدى إلى ضمير المأمور (¬2)، ألا ترى أنك لا تقول: أضربك، ولا أقتلك، إذا أمرته بضرب نفسه وقتله إياها (¬3). وزاد غيره بيانا فقال: (الكاف) في (ذلك) حرف، وفي (غلامك) وأشباهه اسم، الدليل على هذا أنك تؤكد (الكاف) في غلامك، كما تؤكد الاسم، فتقول: جاءني غلامك نفسك، ولا تؤكد (الكاف) في ذلك، فلا يجوز أن تقول: ذلك نفسك، على معنى تأكيد (الكاف) بالنفس (¬4). قوله تعالى: {الْكِتَابُ} يقال: كتب يكتب كتابًا وكَتْبًا وكتابةً. و (الكتاب) أيضا اسم لما كتب، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، وهو كثير (¬5). وأصل (الكتب) في اللغة جمعك بين الشيئين، يقال: اكتب بغلتك، وهو أن يضم بين شفريها بحلقة (¬6)، ومن ذلك سميت (الكتيبة) لأنها تكتبت واجتمعت (¬7). ويقال: كتبت السقاء أكتبه كَتْبًا إذا خرزته (¬8). وهي الكُتْبة وجمعها ¬

_ (¬1) انظر "الكتاب" 1/ 245. (¬2) عند أبي الفتح: (لا يجوز أن تكون (الكاف) اسما لأن هذا الفعل لا يتعدى إلى ضمير المأمور به ..) 1/ 311. (¬3) انظر كلام أبي الفتح 1/ 310، 311. (¬4) ذكره سيبويه. انظر: "الكتاب" 1/ 245، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30، "تهذيب اللغة" (ذاك) 2/ 1259. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (كتب) 4/ 3597، "معجم مقاييس اللغة" (كتب) 5/ 158، "الكشف" للثعلبي 1/ 42/ب. (¬6) في (ب): (لحلقة). (¬7) في (ب): (فاجتمعت). ذكره الأزهري عن شمر، "تهذيب اللغة" 4/ 3097. (¬8) في (ب): (جررته). ذكره الأزهري عن أبي عبيد عن أبي زيد. "التهذيب" (كتب) 2/ 2079.

كُتَب للخروز (¬1). ومنه قيل: كتبت الكتاب، لأنه يجمع حرفا إلى حرف (¬2). فأما التفسير فقوله (¬3): {ذلك} يجوز أن يكون بمعنى: (هذا) عند كثير من المفسرين وأهل المعاني (¬4). قال الفراء: وإنما يجوز (ذلك) بمعنى: (هذا) لما مضى، وقرب وقت تقضيه، أو تقضي ذكره، فأما الموجود الحاضر (¬5) فلا يقال فيه (ذلك) (¬6) مثاله أنك تقول (¬7): قد قدم فلان، فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وبلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه (هذا)، لأنه قرب من جوابه (¬8)، فصار كالحاضر الذي تشير (¬9) إليه، وصلحت (ذلك) لانقضائه، والمنقضي ¬

_ (¬1) في (ب): (للحزور). الأزهري عن الليث، "التهذيب" 2/ 2079. (¬2) الأزهري عن شمر 2/ 2079. (¬3) في (ب). (وقوله). (¬4) انظر: الطبري 1/ 96، "معاني القرآن" للفراء 1/ 10، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29، ونسب القول فيه للأخفش وأبي عبيدة، و"مجاز القرآن" 1/ 28، وابن عطية 1/ 141. (¬5) الموجود الحاضر لا يقال فيه (ذلك) لأنك تراه بعينه، بل تشير له بهذا، الدالة على الحاضر في الذهن. انظر "معاني القرآن" للفراء1/ 11. (¬6) في (ج): (ذاك). (¬7) في "معاني القرآن" للفراء: (يصلح (ذلك) من جهتين، وتصلح فيه (هذا) من جهة، فأما أحد الوجهين من (ذاك) فعلى معنى: هذِه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. والآخر أن يكون (ذلك) على معنى يصلح فيه (هذا) لأن قوله: (هذا) و (ذلك) يصلحان في كل كلام، إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان ... الخ.) 1/ 10. (¬8) في (ب): (حركه). (¬9) في (ب): (يشير).

كالغائب (¬1). وتقول: أنفقت ثلاثة وثلاثة، فذلك ستة، وإن شئت قلت: فهذا ستة، وقد قال الله عز وجل: {فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 23] تْم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26]، وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (¬2) [الأنبياء: 105]، ثم قال: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا} [الأنبياء: 106] (¬3). وقال محمد بن جرير: أشار بقوله: {ذلك} إلى ما تقدم ومضى من قوله: {الم} لأن كل ما تقضى (¬4) وقرب تقضيه من الأخبار فهو في حكم الحاضر، كالرجل يحدث الرجل الحديث، فيقول السامع: (إن ذلك لكما (¬5) قلت)، و (هذا والله كما قلت)، فيخبر مرة عنه بمعنى الغائب (¬6)، إذا كان قد تقضى، ومرة بالحاضر لقرب جوابه من كلامه، كأنه غير متقض (¬7)، فكذلك لما ذكر الله سبحانه {الم} التي ذكرنا تصرفها في وجوهها من المعاني، قال: يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك: الكتاب، [فحسن وضع (ذلك) في موضع (هذا) (¬8) وروى عن ابن عباس أنه قال: ¬

_ (¬1) وقال الفراء (.. ولو كان شيئًا قائمًا يُرى لم يجز مكان (ذلك)، (هذا) ولا مكان (هذا)، (ذلك) ..) "معاني القرآن" 1/ 10، وقد نقل الواحدي كلامه بتصرف. (¬2) في (ج) تصحيف في الآية (من بعد ما الذكر). (¬3) الكلام بنصه في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30. وانظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 11. (¬4) في (ب). (ما يقضى). في الطبري: (لأن كل ما تقضى بقرب تقضيه ..) وفي الحاشية في المطبوعة (وقرب تقضيه) يريد: أن ذكر ما نقضى، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه. (تفسير الطبري) 1/ 96. (¬5) في (ب): (كما). (¬6) أي إذا أشار إليه بـ (ذلك) وبمعنى الحاضر إذا أشار إليه بـ (هذا). (¬7) في (ب). (مقتض) وفي الطبري: (منقض). (¬8) "تفسير الطبري" 1/ 96، وذكر المؤلف كلام الطبري بتصرف واختصار، واختار=

معنا ذلك الكتاب] (¬1) الذي أخبرتك أنى أوحيه (¬2) إليك (¬3). وقال يمان بن رباب (¬4): ذلك (¬5) الكتاب الذي ذكرته في التوراة (¬6) والإنجيل (¬7). وهذان القولان (¬8) متقاربان، والأول (¬9) اختيار ابن الانباري، ¬

_ = الطبري هذا القول وهو: أن (ذلك) بمعنى (هذا) 1/ 96، ورجحه ابن كثير، وقال: ذكره ابن جريج عن ابن عباس، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسدي، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، وابن جريج 1/ 42. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (أوجه). (¬3) ذكره الثعلبي عن أبي الضحى عن ابن عباس1/ 43/أ، وذكره أبو الليث في "تفسيره" ولم يسنده لأحد 1/ 89، وانظر "البحر المحيط" 1/ 36، والقرطبي 1/ 137، "زاد المسير" 1/ 23. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذا الكتاب. الطبري 1/ 96. (¬4) (يمان بن رباب) مكانه بياض في (ب)، وفي (أ): (رياب) بالياء و (رباب) بالباء في (ج) وهو عند الثعلبي 1/ 43 أ، ولم أجد (يمان بن رباب) ولا (رياب) سوى ما ذكره البغدادي في "هدية العارفين" قال: (اليمان بن رباب البصري من رءوساء الخوارج، له: "إثبات إمامة أبي بكر الصديق". و"أحكام المؤمنين".) ولم يذكر سنة وفاته. "هدية العارفين" 1/ 735، فلا أدرى هل هو المذكور، أو شخص غيره؟ والله أعلم. (¬5) في (ب): (كل). (¬6) في (ج): (التوريه). (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" بعد قول ابن عباس السابق، "تفسير الثعلبي" 1/ 43أ، وذكر الزجاج بمعناه ولم ينسبه 1/ 39، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 23، القرطبي 1/ 137، وأبو حيان في "البحر" ونسبه لابن رئاب 1/ 36. (¬8) أي: قول ابن عباس وقول يمان بن رباب. (¬9) أي قول ابن عباس: ذلك الكتاب الذي أخبرتك أني أوحيه إليك.

والثاني (¬1) اختيار الزجاج (¬2). أما ابن الانباري فقال: إنما قال عز (¬3) ذكره: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، فأشار إلى غائب، لأنه (¬4) أراد هذه الكلمات يا محمد: ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، لأن الله تعالى لما أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، كان عليه السلام واثقا بوعد الله إياه، فلما أنزل عليه {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1, 2]. دله على (¬5) الوعد المتقدم (¬6). وقال الزجاج: القرآن، ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى (¬7). فجعل {الم} بمعنى القرآن، لأنه من القرآن فهو قرآن. والمراد بالكتاب هاهنا: القرآن في (¬8) قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد والضحاك، ومقاتل (¬9). ¬

_ (¬1) وهو قول يمان: ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29. (¬3) في (ب): (عن). (¬4) في (ب): (كأنه). (¬5) في (ب): (ذله الوعد). (¬6) ذكر نحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 23، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 137 - 138. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29. (¬8) في (ب): (فهو في). (¬9) ذكره الثعلبي فىِ "تفسيره" 1/ 43 ب، وذكر ابن أبي حاتم قول الحسن، وابن عباس 1/ 34، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 96، و"ابن كثير" 1/ 42.

والمراد به المفعول (¬1)، كقولهم: الخلق، يريدون: المخلوق (¬2)، لا الحدث الذي هو اختراع وإبداع. وهذا (¬3) أرجح عندي من قول من قال: إنه سمي به لما فرض فيه (¬4)، وأوجب العمل به (¬5)، ألا ترى أن جميع التنزيل مكتوب، وليس كله فروضًا، وإذا كان كذلك كان العام (¬6) الشامل [بجميع المسمى أولى مما كان بخلاف ذلك. فإن جعلت {الم} متعلقا بما بعده، فهو ابتداء، وخبره] (¬7) {ذلك}، والكتاب تفسير وبيان (¬8) للمشار إليه (¬9). ويصح أن ¬

_ (¬1) أي: المكتوب. انظر الثعلبي 1/ 42/ ب. (¬2) في ج (الخلوق)، وهذا المعنى ذكره الثعلبي 1/ 42 ب. (¬3) في (أ)، (ج): (قال: وهذا أرجح .. إلخ) واخترت ما في (ب) لأني لم أجد لوجود (قال) معنى. فكلام الزجاج قد انتهى، وما بعده أخذه عن الثعلبي بمعناه ولم يصرح باسمه، وليس الكلام بعد (قال) في "تفسيره"، ولم يكن من نهج الواحدي أن يفتتح قوله هو بـ (قال) لذلك اعتبرتها زيادة في (أ)، (ج). (¬4) في (ب): (به). (¬5) أي أن المراد بالكتاب: المكتوب، بمعنى المفعول، أرجح ممن قال: إنه سمي كتابا لما فرض فيه، وأوجب العمل به، فإن الكتاب يطلق على معان كثيرة منها: الفرض، والأمر، والجعل. انظر "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 11، "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" لأبي بكر محمد بن عزيز السجستاني 1/ 461 رسالة ماجستير، "تهذيب اللغة" (كتب) 4/ 3097، "تفسير الرازي" 2/ 14، والقرطبي 1/ 138. (¬6) أي أن الكتاب بمعنى المكتوب. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) أي: عطف بيان، أو بدل. انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 35، "إعراب القرآن" للنحاس1/ 128، "تفسير ابن عطية" 1/ 143. (¬9) (إليه) ساقط من (ج).

يقال: {الم} ابتداء، {وذلك} ابتداء آخر، و {الكتاب} خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول. وإن (¬1) جعلت {الم} منقطعًا مما بعده، فـ {ذلك} ابتداء، وخبره {هُدًى} (¬2). وقوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ}. الريب: الشك يقال: رابني فلن يريبني أي: علمت من الريبة، وأرابني (¬3) أوهمنيها ولم يحققها (¬4)، وقال: أَخُوكَ الذي إنْ رِبْتَهُ قَالَ إنَّمَا ... أرَابَ وإنْ عَاتَبْتَهُ (¬5) لاَنَ جَانِبُه (¬6) أراد أنه (¬7) مع اليقين بالريبة يتوهمها (¬8) منك، جريا على حكم ¬

_ (¬1) في (ب): (فإن). (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 42 ب، وانظر "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 1/ 484، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 30 - 33، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 128، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 17،15، وقد ذكر الواحدي بعض الوجوه في إعراب (الم. ذلك الكتاب). (¬3) في (ب): (فأرابني). (¬4) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 31، والأزهري، وقال: وأنشد أبو زيد ثم ذكر البيت. "تهذيب اللغة" (راب) 2/ 1306 - 1307. (¬5) في (ب): (عاينته). (¬6) نسب البيت للفرزدق، ولم أجده في "ديوانه"، ونسب للمتلمس، ولبشار، وهو الصحيح، حيث ورد في "ديوانه" من قصيدة يمدح بها عمر بن هبيرة قوله: (أراب) كذا ورد في جميع النسخ، وفي "الديوان" وغيره من المصادر (اربت) ومعناه: أخوك الذي إن ربته بريبة قال: أنا الذي أربت، أي: أنا صاحب الريبة، وروي (أربت) بفتح التاء، أي: أوجبت له الريبة. وقوله: (عاتبته) كذا وردت عند الزجاج، وفي المصادر الأخرى (لاينته) بمعنى: عاتبته، انظر "ديوان بشار" ص 44، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، "تهذيب اللغة" (راب) 2/ 1306 - 1307، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789. (¬7) في (ب): (به). (¬8) في (ب): (سموهمها).

المودة، هذا قول جمهور أهل اللغة (¬1). وقال سيبويه: (أراب) الرجل أي: صار صاحب ريبة. كما قالوا: ألام أي: استحق أن يلام (¬2). وأما (رابني) فمعناه: جعل في ريبة (¬3)، كما تقول: قطعت النخل، أي: أوصلت إليه القطع، واستعملته فيه (¬4). وقال أبو زيد (¬5): قد رابني من فلان أمر رأيته منه رَيْبًا، إذا كنت مستيقنا منه بالريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فيه، إذا ظننته من غير أن تستيقنه (¬6). وقوم على أن: (راب) و (أراب) بمعنى واحد (¬7)، وينشدون قول الهذلي (¬8): ¬

_ (¬1) انظر: "التهذيب" (راب) 2/ 1306 - 1307، "معجم مقاييس اللغة" (ريب) 2/ 463، "الصحاح" (ريب) 1/ 141، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789. (¬2) في (ب) (تلام). (¬3) في "الكتاب" (وأما رابني فإنه يقول: جعل لي ريبة ..) 4/ 60. (¬4) "الكتاب" 4/ 60، والنص في "الحجة" لأبي علي1/ 179. (¬5) في (ب) (يزيد). وأبو زيد هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، صاحب النحو واللغة، توفي سنة خمس عشرة ومائتين. انظر "طبقات النحويين واللغويين" ص156، "تاريخ بغداد" 9/ 77، "إبناه الرواة" 2/ 30. (¬6) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 179، ونحوه عند الأزهري قال: هذا قول أبي زيد (راب) 15/ 252، ولم أجده في "نوادر أبي زيد". (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (راب) 2/ 1306 - 1307، "الصحاح" (ريب) 1/ 141، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789. (¬8) في ج (الهزلي). و (الهذلي) هو خالد بن زهير الهذلي أحد شعراء الهذليين المشهورين عشق امرأة كان يأتيها أبو ذؤيب الهذلي خاله، وجرت بينهما أشعار في ذلك منها، "بيت الشاهد" وقتل خالد بسبب تلك المرأة في قصة طويلة. انظر "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 207، "الخزانة" للبغدادي 5/ 76 - 86.

كأنَّما أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ (¬1) والحذاق (¬2) على الفرق بينهما، كما أخبرتك، قال الأزهري: والقول في (راب وأراب) قول أبي زيد (¬3). وموضح (ريب) نصب (¬4)، قال سيبويه: (لا) تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب (إن) إلا أنها تنصب بغير تنوين (¬5). وإنما شبه (لا) بـ (إن)، لأن (إن) للتحقيق في الإثبات، و (لا) في النفي، فلما كان (لا) تقتضي (¬6) تحقيق النفي، كما تقتضي (إن) تحقيق الإثبات أجري مجراه. وزعم سيبويه أنها مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد (¬7)؛ لأنها جواب لما يكون بمنزلة شيء واحد، ولذلك لم ينون وبني على الفتحة، كأنها جواب قول ¬

_ (¬1) البيت من رجز لخالد بن زهير، يخاطب أبا ذؤيب، ويروى (كأنني) والأبيات في أشعار الهذليين: ياقوم ما بال أبي ذؤيب ... يمس رأسي ويشم ثوبي كأنني أتوته بريب انظر "شرح أشعار الهذليين" 1/ 207، "الحجة" لأبي على 1/ 180، "تهذيب اللغة" (أتى) 1/ 116 - 117، "المخصص" 12/ 303، 14/ 24، 28، "الصحاح" 1/ 141، "اللسان" (ريب) 3/ 1788 - 1789، "الخزانة" 5/ 84. (¬2) في (ب): (فالحلاف). (¬3) في "التهذيب" (قول أبي زيد أحسن) 2/ 1306. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16. (¬5) أي مبنى على الفتح لأن (لا) نافية للجنس، "الكتاب" 2/ 274، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، والعبارة للزجاج، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16. (¬6) في (ب): (يقتضي). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، "الكتاب" 2/ 274، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 128.

القائل: هل من رجل في الدار؟، فـ (من) مع رجل كشيء واحد. فإن قيل: فما (¬1) أنكرت أن يكون جواب هل رجل في الدار؟ قيل: معنى (لا رجل في الدار)، عمهم (¬2) النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل، ولا أكثر منه، وكذلك (هل من رجل في الدار) استفهام عن الواحد وأكثر منه. فإن قلت: (هل رجل في الدار) أو (لا رجلٌ في الدار)، جاز أن يكون في الدار رجلان، لأنك إنما أخبرت أنه ليس فيها واحد، فيجوز أن يكون فيها أكثر منه، فإذا قلت: (لا رجلَ في الدار)، فهو نفي عام، وكذلك {لا رَيْبَ فِيهِ} (¬3) وموضع {لا رَيْبَ} رفع بالابتداء عند سيبويه، لأنه بمنزلة خمسة (¬4) عشر (¬5)، إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع في قوله: لا أُمَّ لي إنْ (¬6) كان ذَاكَ ولا أَبُ (¬7) ¬

_ (¬1) في (ب): (مما). (¬2) في "المعاني" للزجاج (عموم) 1/ 32، ولعله أصوب. (¬3) الكلام للزجاج، انظر "المعاني" 1/ 32، وانظر "الكتاب" 2/ 274 - 276، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 129. (¬4) في (ب): (خمس). (¬5) قال سيبويه: (لا وما عملت فيه في موضع ابتداء) "الكتاب" 2/ 275، 284، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 16. (¬6) في (ب): (وان). (¬7) اختلف في نسبة البيت، فقيل: لضمرة بن ضمرة، وقيل: لهمام بن مرة، وقيل: لبعض مذحج، وقيل: لزرافة الباهلي، وقيل: لهني بن أحمر، وفيه أقوال أخرى. قيل: إن هذا الشاعر كان بارًّا بأمه، وكان له أخ تؤثره عليه، فقال هذِه الأبيات، والشطر الأول: هذا وجدكم الصغار بعينه والشاهد فيه: رفع الاسم الثاني مع فتح الأول، إما بإلغاء الثانية ورفع ما بعدها بالعطف=

ومن نصب المعطوف (¬1) فهو عاطف على اللفظ (¬2). وسنستقصي الكلام في هذا عند قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ (197)} [البقرة: 197]، إن شاء الله. وقوله تعالى: {فِيهِ}. يجوز (¬3): أن تجعله خبرا للابتداء الذي هو {لَا رَيْبَ} ويجوز: أن تجعله صفة لقوله {لَا رَيْبَ}، وإذا جعلته صفة أضمرت الخبر، كأنه قيل: لا ريب فيه واقع أو كائن، فإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا من وجهين: أحدهما: بكونه خبرًا (¬4) للمبتدأ (¬5). والثاني: من حيث كان خبر إن رفعا (¬6)، وقد ذكرنا أن (لا) بمنزلة (إن). ¬

_ = على محل الأولى مع اسمها، فخبرهما واحد، وعلى هذا استشهد به الواحدي. وهناك تقدير آخر: وهو أن تكون الثانية عاملة عمل ليس، فيكون لكل واحدة خبر يخصها. انظر "الخزانة" 2/ 38 - 41، وقد ورد البيت عند سيبويه 2/ 292، وفي "المقتضب" 4/ 371، "شرح المفضل" 2/ 115، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص54، "الحجة" لأبي علي 1/ 190، "الهمع" 5/ 288، "اللسان" (حيس) 2/ 1069. (¬1) في (ب): (العطوف). (¬2) انظر "الكتاب" 2/ 291، 292، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 31، 265، "المشكل" لمكي1/ 16، "الدر المصون" للسمين1/ 80، "شرح المفصل" لابن يعيش 2/ 109. (¬3) أخذه عن أبي علي الفارسي، "الحجة" 1/ 189. (¬4) في (ب): (خبر). (¬5) في "الحجة" (وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ ....) 1/ 189، فيكون خبر لـ (لا) مع اسمها، حيث أنهما في محل رفع مبتدأ. (¬6) في "الحجة": (.. وعلى قول أبي الحسن موضعه رفع من حيث كان خبر (إن) =

وإن جعلت (فيه) صفة، ولم تجعله خبرا، كان موضعه نصبا في قول من وصف على اللفظ (¬1)، [كما عطف (¬2) على اللفظ] (¬3) في قوله: فلا أبَ وابْنًا مِثْلُ مَرْوانَ (¬4) ومن وصفه على الموضع (¬5)، كما عطف على الموضع في قوله: لا أمَّ لي إنْ كان ذَاكَ ولا أَبُ (¬6) كان موضعه على هذا رفعا (¬7). وفي قوله: {فِيهِ}: قراءتان، إشباع (الهاء) حتى تلحق به (ياء) وكذلك في (الهاء) المضمومة (¬8) مثل (منهو) و (عنهو)، وهو مذهب ابن كثير (¬9). ¬

_ = رفعا ..) 1/ 189، فجعل (لا) بمنزلة (إن) وجعل خبرها مرفوعا مثل خبر (إن). (¬1) يقول: إن جعلت (فيه) صفة جاز فيها النصب على الوصف للفظ اسم (لا) وهو (ريب) كما عطف عليه بالنصب في قول الشاعر: (فلا أب وابنا ...) وجاز رفع الصفة على موضع (لا ريب) كما عطف عليه بالرفع كما سبق. (¬2) في (ج) (ثم أعطف). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) في (أ)، ج (مثل مر) والجملة ساقطة من ب. والبيت من شواهد سيبويه، وهو: لا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا يقول لا أب وابنا مثل مروان ابن الحكم وابنه عبد الملك، لشهرتهما صارا كاللابسين لرداء المجد، والشاهد عطف (ابن) مع تنوينه على لفظ اسم (لا). انظر "الكتاب" 2/ 285، "الحجة" 1/ 189، "شرح المفصل" 2/ 110، "المقتضب" 4/ 372، "الهمع" 5/ 287. (¬5) في (ج) (ومن وصف على اللفظ الموضع). (¬6) مر تخريج البيت قريبًا. انظر ص 39. (¬7) في ج (رفع). (¬8) في (أ)، (ج) (المضموم). (¬9) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 132، "الحجة" 1/ 177. وابن كثير هو عبد الله =

والباقون يقتصرون على الضمة والكسرة (¬1). وأصل (الهاء) في {فيه} الضم، لأن الأصل (فيهو) كما ذكرنا في (عليهو) ثم كسرت (الهاء) للعلة التي ذكرنا في (عليهم) (¬2) فمن اقتصر على الضمة والكسرة قال: إن (الهاء) حرف خفي (¬3)، فإذا اكتنفها (¬4) ساكنان من حروف اللين صار كأن الساكنين قد التقيا (¬5)؛ لخفاء (الهاء)، وأنهم لم يعتدّوا بها حاجزًا (¬6) للخفاء في مواضع. ألا ترى أن من قال: (رُدُّ)، فأتبع الضمة الضمة، فإذا وصل الفعل بضمير (¬7) المؤنث قال: (ردَّها)، فلم يتبع الضم الضم، كما كان يتبع قبل، لأنه جعله بمنزلة (رُدَّا) وفي (رُدَّا) لا يمكن إتباع الضم الضم، وفي (رُدَّها) (¬8) ¬

_ = أبو معبد العطار الداري الفارسي الأصل، إمام أهل مكة في القراءة، من التابعين، أحد السبعة الذين أثبت ابن مجاهد قراءتهم في كتابه. (45 - 120)، انظر ترجمته في "معرفة القراء الكبار" 1/ 86، "غاية النهاية" 1/ 443. (¬1) انظر: "السبعة" ص131،130، "الحجة" 1/ 175 - 177، "الكشف" لمكي 1/ 42. (¬2) إشارة إلى ما سبق في الفاتحة في القراءات في قوله (عليهم) وانظر العلة التي ذكرها أبو علي في "الحجة" 1/ 207. (¬3) نقل المؤلف من "الحجة"، قال أبو علي: (ومما يحسن الحذف هاهنا -مع ما ذكرنا من اجتماع المتشابهة- أن (الهاء) حرف خفي ..... إلخ) "الحجة" 1/ 209. (¬4) في (ج): (فإذا كثفها). (¬5) في (ب). (التقتا). (¬6) كلمة (حاجزا) ليست عند أبي علي1/ 209. (¬7) في (ب): (لضمير). (¬8) عبارة أبي علي: (.. بمنزلة (ردَّا)، فكما لم يعتد بها هاهنا، وجعلت الدال في حكم الملازقة للألف، كذلك إذا لم يعتد بها في نحو: فيهي ..) "الحجة" 1/ 209.

جعلت الدال (¬1) في حكم الملازمة للألف، إذ (¬2) لم يعتد بها حاجزا، كذلك إذا لم يعتد بها في نحو (فيهي)، و (عصاهو)، و (خذوهو) صار كأن الساكنين قد التقيا. ولهذه العلة -أيضًا- حذف حرف اللين بعد (الهاء) من حذف، وإن كان الساكن الذي قبلها ليس من حروف اللين نحو: (منه) و (عنه) (¬3). ومثل (الهاء) (¬4) في أنه (¬5) لما كان حرفا خفيًّا لم يعتدوا به حاجزًا (النون)، وذلك في قولهم: (هو (¬6) ابن عمي دِنْيا) (¬7) و (قِنْيَة) (¬8)، لما كانت (النون) خفية صارت (الواو) كأنها وليت الكسرة، فقلبتها كما قلبتها في ¬

_ (¬1) في (ب): (الدار). (¬2) في (ب): (إذا). (¬3) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 209. (¬4) "الحجة" 1/ 210، والمعنى: مثل الهاء النون في كونه حرفا خفيا لا يعتد به حاجزا. (¬5) في (ب): (إيه). (¬6) في (ب): (هط). (¬7) يقال: هو ابن عمه دُنْيَا مقصور، ودِنْيَةً ودِنْياً منون وغير منون، إذا كان ابن عمه لَحَّا أي أقرب من غيره ويقال ذلك في ابن العمة وابن الخال والخالة. انقلبت فيها (الواو)، (ياء) لمجاورة الكسرة، ولأن (النون) حاجز ضعيف. انظر "تهذيب اللغة" (دنا) 2/ 1233، و"اللسان" (دنا) 3/ 1436. (¬8) في "الحجة": (وفي قولهم: "هو ابن عمي دنيا" وفي "غنية") 1/ 210، والقنية والقنوة بكسر القاف وضمها بالياء وبالواو: الكسبة، وهي كل ما اكتسبه الإنسان لنفسه ولم يعده للتجارة، وإذا كانت واوية الأصل فقد جرى فيها القلب، وعلى هذا سار أبو علي وتبعه الواحدي، ومنهم من قال أصلها يائية فلا تغيير فيها. انظر: "الحجة" 1/ 210، "تهذيب اللغة" (قنا) 3/ 3050، "مقاييس اللغة" 5/ 29، "سر صناعة الإعراب" 2/ 736، "اللسان" (قنا) 6/ 2759.

(غازية)، و (محنية) (¬1)، ولو كان مكان (النون) (¬2) حرف غيره لم يكن فيما بعده القلب، نحو: (جرو) و (عدوة) (¬3). فهذا (¬4) مثل (الهاء) في أنه للخفاء لم يعتد به حاجزا (¬5). وأما ابن كثير: فإنه يتبع هذه (الهاء) في الوصل (الواو) و (الياء) (¬6) ويسوى بين حروف اللين وبين (¬7) غيرها من الحروف، إذا (¬8) وقعت قبل (الهاء) وحجته: أن (الهاء) وإن كانت خفية (¬9) فليس يخرجها (¬10) ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لاخفاء فيها، نحو: (الدال) و (الصاد) و (الهاء). و (النون) عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الدال والصاد (¬11)، وإذا ¬

_ (¬1) الحنو: الاعوجاج، و (المحنية). منحنى الوادي. انظر "اللسان" (حنا) 2/ 1034 - 1035. وأصل (غازية): (غازوة) و (محنية): (محنوة) قلبت الواو فيهما ياء للكسرة قبلها. انظر "سر صناعة الإعراب" 2/ 587، 588. (¬2) (النون) ساقط من (ب). (¬3) (العدوة): صلابة من شاطئ الوادي. انظر "معجم مقاييس اللغة" (عدو) 4/ 252. (¬4) أي (النون) في مثل (دنيا) و (قنية). (¬5) "الحجة" 1/ 210. (¬6) قال أبو علي في "الحجة": (الحجة لابن كثير في إتباعه هذِه (الهاء) في الوصل (الواو) أو (الياء) وتسويته بين حروف اللين وبين غيرها من الحروف إذا وقعت قبل (الهاء) من حجته أن (الهاء) وإن كانت خفية ... إلخ) 1/ 211. (¬7) (بين) ساقط من (ب). (¬8) في (ب): (وإذا). (¬9) في (ب): (خفيفة). (¬10) في (ب): (مخرجها). (¬11) عبارة أبي علي في "الحجة": (.. من حروف المعجم التي لا خفاء فيها - نحو: =

كان كذلك كان حجزها [بين الساكنين كحجز] (¬1) غيرها (¬2). وقوله تعالى {هُدًى}: قال سيبويه: قلّما (¬3) يكون ما ضم أوله من المصدر إلا منقوصًا، لأن (فُعَل) لا تكاد (¬4) تراه مصدرًا من غير بنات (¬5) (الياء) و (الواو) (¬6) كالهُدى والسُّرى، والنُّهى (¬7)، والتُّقَى، والقِرى، والقِلَى (¬8)، وقالوا: كِسْوَة، ورِشْوَة، وجِذْوَة، وصُوَّة (¬9)، وإذا (¬10) جمعوا جمعوها على (فِعَل) ¬

_ = الراء والضاد -وإن كان في الراء تكرير وفي الضاد استطالة- وإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها .. إلخ). "الحجة" 1/ 211. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬2) "الحجة"1/ 211، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 42، 43. (¬3) (قل) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (لا يكاد). (¬5) في (ب): (من غير أن تران). (¬6) (غير بنات الواو والياء، أي: الصحيح اللام، فـ (فُعَل) لا يكون مصدرا في الصحيح اللام إلا قليلا، والمعتل يجري مجرى الصحيح. انظر "الحجة" 1/ 180، وانظر كلام سيبويه في "الكتاب" 4/ 46. (¬7) (النهى) ساقط من (ب). (¬8) في "الحجة": (قالوا: هَدَيْته هُدى ولم يكن هذا في غير (هدى)، وذلك لأن (الفِعَل) لا يكون مصدراً في هديته، فصار (هُدى) عوضا منه، قالوا: قريته قِرى وقليته قِلَى فأشركوا بينهما في هذا ..) 1/ 181 فأشركوا بين (فُعَل) و (فِعَل) انظر "الكتاب" 4/ 46. (¬9) (الصوة) جماعة السباع، والحجر يكون علامة في الطريق، ومختلف الريح وصوت الصدى، وما غلظ وارتفع من الأرض. انظر "اللسان" (صوى) 14/ 471، "القاموس" ص 1304. (¬10) في (ب): (فإذا).

و (فُعَل)، ومنهم من يضم في الواحد ويكسر في الجمع (¬1)، ويجوز (¬2) الكسر في واحده، والضم في الجمع (¬3)، وهذا مما يدلك على اشتراكهما. وقال أناس من النحويين (¬4): إنه قد تجرى الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: جلس جلسة، وركب ركبة، ويقولون: عجبت من دهنك لحيتك (¬5)، وينشدون: وبعد عطائك المائة الرتاعا (¬6) فيجري (¬7) مجرى الإعطاء، وقال لبيد (¬8): ¬

_ (¬1) فيقولون: رشوة ورشا. انظر: "الكتاب" 4/ 46. (¬2) في (ب): (ونحوه). (¬3) في أ (الجميع). مثال المكسور في الواحد والمضموم في الجمع: (رشوة ورشا) "الكتاب" 4/ 46. (¬4) في "الحجة". (ويقويه -أيضًا- أن ناسًا من النحويين يزعمون أنه قد يجري الأسماء التي ليست لمصادر ... إلخ) 1/ 182. (¬5) قوله. (جلسة) و (ركبة) و (دهن) ليست مصادر وأجريت مجرى المصادر. (¬6) البيت من قصيدة للقطامي يمدح بها زفر بن الحارث الكلابي، وصدر البيت: أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي يقول: لا أكفر معروفك بعد أن أطلقتني من الأسر، وأعطيتني مائة من الإبل الرتاع أي الراعية، ورد البيت في "الشعر والشعراء" ص 483، "الحجة" 1/ 182، "الخصائص" 2/ 221، "شرح المفصل" 1/ 20، "شرح شذور الذهب" ص 491، "الهمع" 3/ 103، "الخزانة" 8/ 136، والشاهد: إعمال العطاء على أنه بمعنى الإعطاء. (¬7) في (ب): (فتجرى) وفي "الحجة": (فيجرونه مجرى الإعطاء) 1/ 182. (¬8) هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن كلاب العامري، كان من شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني كلاب، مات بالكوفة في خلافة معاوية، وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة. انظر: "الشعر والشعراء" ص167، "طبقات ابن سعد" 6/ 33، "الإصابة" 3/ 326، "الخزانة" 2/ 246.

بَادَرْتُ حَاجَتَها (¬1) الدَّجَاج (¬2) وفسروه على حاجتي (¬3) إليها (¬4)، فأضيف إلى المفعول كما يضاف المصدر إليه، فعند هؤلاء (الهُدى والسُّرى والتُّقَى) أسماء أجريت مجرى المصادر (¬5)، وليست مصادر (¬6) حقيقة. وزعم الأخفش: أن من العرب (¬7) من يؤنث الهدى (¬8). ومعنى الهدى: البيان، لأنه قد قوبل به الضلال في قوله عز وجل {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]، [أي من قبل هداه] (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (باكرت حنامها). (¬2) البيت من معلقة لبيد وتمامه: بادرتُ حاجَتها الدجاجَ بسحرة ... لِأُعَلَّ منها حين هبّ نيامُها ويروى (باكرت) يذكر الخمر يقول: سابقت صياح الدجاج لحاجتي إليها، لِأُعَلَّ منها: أي أسقي منها مرة بعد مرة، حين هب نيامها، انظر "شرح ديوان لبيد" ص 315، "الحجة" 1/ 182، "المعاني الكبير" 1/ 453، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس1/ 163، "اللسان" (بكر) 1/ 332، "الخزانة" 3/ 104. (¬3) (حاجتي) ساقط من (ب). (¬4) في "الحجة". (وفسروه على باكرت حاجتي إليها ..) وروايته للبيت (باكرت) 1/ 183. (¬5) فتضاف للمفعول كما يضاف المصدر إليه. انظر "الحجة" 1/ 183. (¬6) في (ج): (مصاد). (¬7) هم بنو أسد. انظر (المذكر والمؤنث) للفراء ص 87. (¬8) في "الحجة": وقال أبو الحسن: زعموا أن من العرب من يؤنث الهدى. "الحجة" 1/ 183، وانظر: "معاني القرآن" للاخفش 1/ 179. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) والكلام أخذه عن أبي علي في "الحجة" 1/ 186، وانظر: "الطبري" 1/ 98، "معاني الزجاج" 1/ 33، "تفسير أبي الليث" 1/ 90.

وقوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ}. الاتقاء في اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بترسه، أي: جعل الترس حاجزا بينه وبينه، واتقاه بحقه، إذا وفاه (¬1)، فجعل الإعطاء وقاية بينه وبين خصمه عن نيله إياه بيده أو لسانه، ومنه (التقية في الدين) بجعل ما يظهره حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه (¬2)، ومنه الحديث: كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أقربنا إلى العدو (¬3). فالمتقي هو الذي يتحرز بطاعته عن العقوبة، ويجعل اجتنابه عما نهى، وفعله ما (¬4) أمر، حاجزًا بينه وبين العقوبة التي توعد (¬5) بها العصاة. وكان (اتقى) (¬6) في الأصل (اوْتقى) (¬7) لأنه (افتعل) (¬8) من الوقاية، وأصل هذا الباب بالواو (¬9)، كالاتزان (¬10) من الوزن، والاتضاح من ¬

_ (¬1) في (ب): (وقاه). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (تقي)، (وقى) 1/ 44، "الصحاح" (وقى) 6/ 2527، "اللسان" (وقى) 8/ 4902، (لباب التفاسير) للكرماني 1/ 111، (رسالة دكتوراه). (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" في قصة غزوة حنين وفيه: (... قال البراء: كنا والله إذا أحمر البأس نتقى به وإن الشجاع منا للذي يحاذى به، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مسلم 1776/ 79، كتاب الجهاد، غزوة حنين، وذكره البيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 135. (¬4) في (ب): (عما أمر) تصحيف. (¬5) في (ب): (يدعو). (¬6) في (ب): (من في). (¬7) بكسر الهمزة وسكون الواو. (¬8) في (ج): (لا افتعل). (¬9) في (ج): (من الواو). (¬10) في (ب): (كالا يزان).

الوضوح، إلا أن الواو صارت (ياء) لانكسار ما قبلها وهي ساكنة، ثم اندغمت (الياء) في (تاء) (¬1) الافتعال بعدما صارت (تاء)، فتولدت التشديدة لذلك (¬2). وقال أبو الفتح الموصلي (¬3): إن (افْتَعَل) إذا كانت فاؤه (واوا)، فإن (واوه) تقلب (¬4) (تاء)، وتدغم في (تاء) (افْتَعَل) مثل (اتَّعد) (¬5) و (اتَّلج) (اتَّصف). والعلة في قلب هذه الواو (تاء)، أنهم لو لم يقلبوها (تاء) لوجب أن يقلبوها إذا انكسر ما قبلها (ياء)، فيقولوا: (¬6) (ايتقى) (¬7) وإذا (¬8) انضم ما قبلها ردت إلى (الواو) فقالوا: (مُوتَق) (¬9)، وإذا انفتح ما قبلها قلبت (ألفا)، فقالوا: (ياتقي) (¬10)، فلما (¬11) كانوا لو لم يقلبوها (تاء) صائرين من قلبها (¬12) مرة (ياء) ومرة (ألفا)، ومرة (واوا)، أرادوا أن يقلبوها حرفا جلدا ¬

_ (¬1) في (ب): (مما). (¬2) انظر. "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444، "الصحاح" (وقى) 6/ 2526، "سر صناعة الإعراب" 1/ 147. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 147. (¬4) في (ج): (تقلب الفاتا). (¬5) في (ب): (ما اتعد). (¬6) في جميع النسخ (فيقولون). وفي "سر صناعة الإعراب" (فيقولوا) وفي الحاشية قال: في ل (فيقولون) 1/ 147. (¬7) عند أبي الفتح فيقولوا: (أيتزن، ايتعد، ايتلج) 1/ 147، فلم يرد لفظ (أيتقى). (¬8) في (ج): (إذا) مكررة. (¬9) عند أبي الفتح (مُوتَعِد) و (مُوتَزِن) و (مُوتَلج) 1/ 147. (¬10) عند أبي الفتح: يَا تَعِدُ، ويَا تَزِنُ، ويَا تَلِجُ 1/ 148. (¬11) في (ج): (فكانوا). (¬12) في جميع النسخ (قبلها): والتصحيح من "سر صناعة الإعراب" 1/ 148.

تغير أحوال ما قبله، وهو باق بحاله، وكانت (التاء) (¬1) قريبة المخرج من (الواو)، لأنها من أصول الثنايا، والواو من الشفة، فأبدلوها (تاء) وأدغموها في لفظ ما بعدها وهو (التاء) وقالوا: اتقى (¬2)، وقد فعلوا هذا أيضًا في (الياء) وأجروها مجرى (الواو) فقالوا في (افتعل) من اليسر: أتسر (¬3)، ومن اليبس: اتبس (¬4)، لهذه العلة (¬5). وإدغام (الياء) في (التاء) على هذه الجهة، إنما يجوز إذا كانت (¬6) في كلمة واحدة، فإذا التقتا من كلمتين لم يجز الإدغام، نحو قولك: (في تبيانه)، و (في تمثاله)، وذلك أنه (¬7) لو أجرى (¬8) الكلام هاهنا على الإدغام، أشبه الألف واللام. هذا هو الأصل، ثم صارت التاء لازمة حتى صارت كالأصلية (¬9)، لأنه لا يجوز إظهار (¬10) هذا الإدغام في حال (¬11). ¬

_ (¬1) في (ب): (الباء). (¬2) في (ب): (أتقا) وعند أبي الفتح (أتعد، واتزن) 1/ 148. (¬3) في (ب): (السر). (¬4) في (ج): (التبس). (¬5) عند أبي الفتح: (.. وذلك لأنهم كرهوا انقلابها (واوا) متى انضم ما قبلها في نحو: (موتبس) وألفا في (يا تبس)، فأجروها مجرى الواو فقالوا: اتَّبَس وأتَّسَر. ومن العرب من لا يبدلهما (تاء) ويجري عليهما من القلب ماتنكبه الآخرون فيقول: إيتَعد أيتَزن ايتبس ... واللغة الأولى أكثر وأقيس ...)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 148، وانظر "المنصف" 1/ 222، 228. (¬6) كذا ورد في جميع النسخ ولعل الأولى (إذا كانتا). (¬7) (أنه) ساقط من (ج). (¬8) في (ب): (أجرا). (¬9) في (ب): (كالا مطيه). (¬10) في (ب): (إظهارها). (¬11) انظر "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444.

وقد بني على هذا الإدغام أسماء كثيرة، وهي: التُّخَمَة والتُّجَاه (¬1)، والتُّرَاث، والتّقوى، والتُّكْلَان، والتُّكَلَة، والتُّؤَدَة، والتُّهمَة (¬2). الحراني (¬3) عن ابن السكيت (¬4) يقال: اتَّقَاه بِحَقِّه يَتَّقِيه، وتَقَاهُ يَتَّقِيه، وأنشد عن الأصمعي (¬5) قال: أنشدني عيسى بن عمر (¬6): جَلَاهَا الصَّيْقَلُونَ فَأخْلَصوهَا ... خِفَافاً كُلُّهَا يَتَّقِي بِأَثْرِ (¬7) ¬

_ (¬1) في (ب): (التحافه). (¬2) انظر: "الكتاب" 4/ 332. (¬3) أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني اللغوي، لغوي صدوق، أخذ عن ابن السكيت، ونقل عنه الأزهري في "التهذيب" من طريق المنذري، توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 13/ 536، "إنباه الرواه" 2/ 115، "سير أعلام النبلاء"13/ 536. (¬4) أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، النحوي اللغوي، كان موثقا بروايته، مات سنة أربع وأربعين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 14/ 273، "وفيات الأعيان" 6/ 395، "إنباه الرواة" 4/ 50، "معجم الأدباء" 20/ 50. (¬5) في "التهذيب": (وأخبرني المنذري، عن الحراني، عن ابن السكيت، قال: يقال: اتقاه ... الخ. وأنشد ثم ذكر بيتين غير ما ذكر المؤلف، ثم قال: وقال الأصمعي: أنشدني عيسى بن عمر) (التهذيب) (تقى) 1/ 444، وانظر كلام ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص 24. (¬6) ورد اسمه في "التهذيب": (عيسى بن عمرو) وهو تصحيف، والصحيح (ابن عمر) وهو عيسى بن عمر البصري الثقفي المقرئ النحوي، كان في طبقة أبي عمرو بن العلاء، وعنه أخذ الخليل، توفي سنة تسع وأربعين ومائة. انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" ص 40، "نزهة الألباء" ص 28، "إنباه الرواة" 2/ 374، "معجم الأدباء" 4/ 519، "وفيات الأعيان" 3/ 486. (¬7) البيت لخفاف بن ندبة، يذكر السيف. والصيقلون: جمع صيقل وهو شحاذ السيوف =

أي: كلها يستقبلك بفرنده (¬1). وقال أوس بن حجر: تَقَاكَ بِكَعْب وَاحِدٍ وَتَلَذُّهُ ... يَدَاكَ إذَا مَا هُزَّ بالكَفِّ يَعْسِلُ (¬2) أي اتقاك، ومعناه: جعل بينك وبينه كعبا واحدا (¬3)، يصف رمحا، يقول (¬4):كأنه كعب واحد، إذا هززته اهتز (¬5) كله. وقال أبو سعيد السكري (¬6): تقاك: وليك منه كعب. قال: ويقال: إبلك (¬7) اتقت كبارها بصغارها، أي جعلت الصغار مما ¬

_ = وجلاؤها، يقول: جلوا تلك السيوف حتى إذا انظر الناظر إليها اتصل شعاعها بعينه فلم يتمكن من النظر إليها، فكلها يستقبلك بفرنده، و (يتقى) مخفف (يتقى) وهذا مكان الشاهد من البيت. ورد البيت في (إصلاح المنطق) ص 23، "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444، "الصحاح" (وقى) 6/ 2527، "معجم مقاييس اللغة" (أثر) 1/ 56، "الخصائص" 2/ 286، "اللسان" (أثر) 1/ 26، (وقى) 8/ 4902. (¬1) في (ج): (بفيرنده). (إصلاح المنطق) ص 4، "التهذيب" (تقى) 1/ 444. (¬2) يصف رمحاً يقول: اتقاك برمح تلذه يداك: أي لا يثقلهما، إذا هز بالكف يعسل أي. يضطرب ويهتز. ورد البيت في "إصلاح المنطق" ص 24، "الخصائص" 2/ 286، "الصحاح" (عسل) 5/ 1765، (وقى) 5/ 2527، "المحكم" 1/ 170، "اللسان" (عسل) 5/ 2946، (وقى) 15/ 403، (أساس البلاغة) (كعب) 2/ 312، "الحجة" لأبي علي3/ 28. (¬3) (واحدا) ساقط من (ب). (¬4) في (ب). (يقال). (¬5) في (ب): (يهتر) في (ج): (كأنه يقول كأنه كعب). (¬6) هو الحسن بن الحسين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العلاء بن أبي صفرة بن المهلب بن أبي صفرة السكري النحوي، كان ثقة دينا صادقا، انتشر عنه من كتب الأدب شيء كثير (212 - 275 هـ). انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 7/ 296، "معجم الأدباء" 2/ 478، "إنباه الرواة" 1/ 291، "نزهة الألباء" ص 160. (¬7) في (ب): (ابنك).

يليك (¬1) ووقت أنفسها بها. وقوله: (تقاك) تقديره (¬2) (تَعَلَكَ) (¬3) والأصل: (اتَقَاك)، فحذف (فاء) الفعل المدغمة، فسقطت همزة الوصل المجتلبة لسكونها (¬4). وقولهم في المضارع (يتقى) تقديره (يَتَعِل) (¬5). قال الأزهري: اتَّقَى كان في الأصل (اوْتَقَى) فأدغمت الواو في التاء وشددت فقيل (اتَّقَى) ثم حذفوا ألف الوصل، والواو التي انقلبت تاء، فقيل: تَقَى يَتَقِى، بمعنى (¬6): استقبل الشيء بالشيء وتوقاه. قال السكري: وتَقَى يَتَقِى بفتح (التاء) شاذ جدا، لأنه لا يقال: تَضح بمعنى اتَّضح (¬7)، ولا تَزَن بمعنى اتَّزَن (¬8). قال (¬9) الأزهري: وإذا قالوا: تَقِيَ يَتْقَى (¬10) فالمعنى: أنه صار تقيا (¬11). ¬

_ (¬1) في (ب): (للصفار ما يليك). (¬2) في (ج): (تقريره). (¬3) في (ب): (تعلل). (¬4) في "الحجة" لأبي علي: (... وأعللتها بالحذف كما أعللتها بالقلب، وليس ذلك بالمطرد وقولهم في المضارع ... إلخ) 3/ 29. (¬5) انظر قول السكري في "الحجة" لأبي علي3/ 29. (¬6) في "التهذيب" (بمعنى: توقي). "التهذيب" (تقى) 1/ 444. (¬7) في (ب): (بفتح معنى الفتح). (¬8) انظر "اللسان" (وقى) 8/ 4902. (¬9) (قال) ساقط من (أ) و (ج). (¬10) في (ب): (تقى يقي). (¬11) "تهذيب اللغة" (تقى) 1/ 444.

والمراد بالمتقين في هذه الآية: المؤمنون، كذلك قال أهل التفسير في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي: للمؤمنين (¬1)، كأنه قال: القرآن بيان وهدى لمن اتقى الشرك، فخص المؤمنين بأن الكتاب بيان لهم دون الكفار الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب، فأما من آمن ولم يجتنب الكبائر، فهو داخل في جملة المتقين (¬2) أيضًا لأنه آمن بموجب الكتاب، واتقى الشرك. وقيل: إن الكتاب بيان بنفسه ودلالة على الحق، ولكنه أضافه إلى المؤمنين خصوصا، لانتفاعهم به، والكافر لو تأمل القرآن لوجده بيانا، فهو في كونه بيانا في نفسه لا يتخصص بقوم دون قوم، ولكنه أضيف إلى المؤمنين على الخصوص لانتفاعهم به دون الكفار (¬3) كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، وكان - صلى الله عليه وسلم - منذرا لمن يخشى ولمن لم يخش. وقال ابن الأنباري: معناه: هدى للمتقين والكافرين، فاكتفى بأحد (¬4) الفريقين من (¬5) الآخر، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: ¬

_ (¬1) ذكر ابن جرير بسنده عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (للمتقين): هم المؤمنون، 1/ 100، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 42/ أ. (¬2) رجح ابن جرير: أن المراد عموم التقوى، ولا تخص معنى دون معنى، ثم قال: فقد تبين إذا فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو. الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق، لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين ... الخ. "تفسير الطبري" 1/ 101، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 90، وابن عطية 1/ 144 (¬3) ذكره أبو الليث في "تفسيره" 1/ 90، ونحوه في القرطبي 1/ 140 - 141، "زاد المسير" 1/ 24. (¬4) في (ب): (بإحدى). (¬5) في (ب): (عن).

81] وقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] أراد وأخرى غير قائمة (¬1). وقال أبو ذؤيب (¬2): فَمَا أَدْرى أَرُشْدٌ طِلابُهَا (¬3) (وأراد: أم غيّ). والدليل على هذا: أنه قال في موضع آخر: {هُدًى لِّلنَّاسَ} (¬4) فجعله هدى للناس عاما، على أنه ليس في الإخبار أنه {هُدًى للِمُتَّقِينَ} ما يدل على أنه ليس هدى لغيرهم. فأما إعراب {هُدًى} فقال أبو إسحاق (¬5): موضعه نصب من وجهين: ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه لابن الأنباري 1/ 24. (¬2) هو خويلد بن خالد الهذلي، شاعر مجيد مخضرم، أدرك الإسلام وقدم المدينة عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم، توفي في غزوة افريقية مع ابن الزبير، انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 435، "الاستيعاب" 4/ 65، "معجم الأدباء" 3/ 306، "الخزانة" 1/ 422. (¬3) جزء من بيت لأبي ذؤيب الهذلي، من الطويل. وتمامه: عصاني إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدرى أرشد طلابها يقول: إن قلبه عصاه فلا يقبل منه، فيذهب إليها قلبه سفها، فأنا اتبع ما يأمرني به، فما أدرى أرشد أم غي. ويروى البيت (عصيت إليها القلب ...). ورد البيت عند الفراء في "معاني القرآن" 1/ 230، وابن قتيبة في "المشكل" ص 215، والسكري في "شرح أشعار الهذليين" 1/ 43، وابن هشام في "مغني اللبيب" 1/ 14، 43، 2/ 628، والبغدادي في "خزانة الأدب" 11/ 251 (¬4) سورة آل عمران: 4، كما ورد هذا في ذكر الكتاب الذي أنزل على موسى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 33.

أحدهما: أن يكون منصوبا على الحال من قولك: القرآن ذلك الكتاب هدى، فيكون حالا من الكتاب، كأنك قلت: هاديا؛ لأن (هدى) جاء بعد تمام الكلام، والعامل فيه يكون معنى الإشارة في ذلك (¬1). والثاني: أن يكون منصوبا على الحال من (الهاء) في قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} كأنك قلت: لا شك فيه هاديا، والعامل فيه معنى ريب (¬2). والفراء يسمي الحال هاهنا: قطعا (¬3)، لأنه قال (¬4): تجعل {الكتاب} خبرا لـ {ذلك} وتنصب {هدى} (¬5) على القطع، لأن {هدى} نكرة اتصلت بمعرفة، والنكرة لا تكون دليلا على معرفة. قال: وإن شئت قطعته (¬6) من الهاء التي (¬7) في {فيه}، كأنك قلت: لا شك فيه هاديا. قال أبو إسحاق (¬8): ويجوز أن يكون موضعه رفعا من جهات: إحداها: أن يكون (¬9) خبرا بعد خبر، كأنه قال: (ذلك الكتاب هدى)، أي قد جمع أنه الكتاب الموعود، وأنه هدى، كما تقول: هذا حلو ¬

_ (¬1) من قوله: فيكون حالا من الكتاب ... إلى (في ذلك) ليس في "المعاني" 1/ 33. (¬2) ذكر قول الزجاج بمعناه 1/ 33، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180، "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري1/ 16، "مشكل إعراب القرآن" المكي 1/ 17. (¬3) وبهذا أخذ الكوفيون. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 130. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 45، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 99، وقد رد الطبري على الفراء قوله. (¬5) (هدى) ساقط من (أ) و (ج) وثابت في (ب)، "معاني القرآن" للفراء 1/ 12. (¬6) عبارة الفراء: (وإن شئت نصبت (هدى) على القطع من الهاء التي في (فيه) ...) 1/ 12. (¬7) في (ب): (إلى). (¬8) "معاني القرآن" 1/ 33. (¬9) في (ب): (تكون).

حامض، أي قد جمع الطعمين (¬1). ويجوز: أن يكون رفعا على إضمار (هو) كأنه لما تم الكلام قيل: هو هدى (¬2). ويجوز: أن يكون الوقف على قولك (¬3): {لَا رَيْبَ}، [أي: ذلك الكتاب لا ريب] (¬4) ولا شك (¬5)، كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا، لأن (لا شك) بمعنى: حق، ثم قيل (¬6) بعد (فيه هدى) (¬7). فإن قيل: كيف قال: {لَا رَيْبَ فِيهِ} (¬8)، وقد ارتاب فيه المرتابون؟ قيل: معناه أنه حق في نفسه وصدق، وإن ارتاب المبطلون (¬9)، كما (¬10) قال الشاعر: ¬

_ (¬1) تعقب أبو علي الفارسي الزجاج في هذا وقال: فالقول في هذا على هذا الوجه مشكل ... ثم شرح وجه إشكاله. انظر: "الحجة" 1/ 198. (¬2) عبارة الزجاج: (.. كأنه لما تم الكلام فقيل: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} قيل: هو هدى) 1/ 33. (¬3) في (ج): (قوله). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) عبارة الزجاج كما في المطبوع: (ويجوز أن يكون رفعه على قولك: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا ... إلخ) فلعل وجود (فيه) في المطبوع تصحيف. والله أعلم. انظر "المعاني" 1/ 33. (¬6) (قيل) ساقط من (ب). (¬7) انتهى كلام الزجاج. أنظر "المعاني" 1/ 33، وانظر "معاني القرآن" للفراء ص 44، "تفسير الطبري" 1/ 99، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 129 - 130، "المشكل" لمكي1/ 17، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 11. (¬8) (فيه) ساقط من (ب). (¬9) ذكره بمعناه أبو الليث 1/ 90، وابن الجوزي في "زاد المسير" واستشهد بالبيت 1/ 24. (¬10) (كما) ساقط من (ب).

3

ليس في الحق يا أُمَيمةَ (¬1) رَيْبٌ ... إنَّما الرَّيْبُ ما يَقُول الكَذُوبُ (¬2) فنفى الريب عن الحق، وإن كان المتقاصر في العلم يرتاب (¬3). ويجوز: أن يكون خبرا في معنى النهي (¬4)، ومعناه: لا ترتابوا (¬5)، كقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ (¬6) وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬7) [البقرة: 197]. 3 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}. قال الزجاج (¬8): موضع {الَّذِين} جر، تبعا {لِلْمُتَّقِينَ}، ويجوز أن يكون موضعه (¬9) رفعا على المدح، كأنه لما قيل: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، قيل: من هم؟ فقيك: هم {الَّذِينَ}، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على المدح، كأنه قيل: أذكر (¬10) الذين (¬11). ¬

_ (¬1) في (ب): (أمية). (¬2) البيت لعبد الله بن الزبعرى ورد في الماوردي 1/ 67، رسالة دكتوراة "زاد المسير" 1/ 24، والقرطبي1/ 138، "البحر المحيط" 1/ 33، "الدر المصون" 1/ 86. (¬3) أي فالاعتبار لمن كان معه من الأدلة ما لو تأمله المنصف المحق لم يرتب فيه، ولا اعتبار لمن وجد منه الريب، لأنه لم ينظر حق النظر. "الفتوحات الإلهية" 1/ 11. (¬4) في (ب): (الأمر). (¬5) في (ب): (لا يرتابوا). (¬6) في (ب) لفظ (ولا فسوق) مكرر. (¬7) ذكر هذا الكلام ابن الجوزي في "زاد المسير"، ونسبه للخليل، وابن الأنباري 10/ 23، وقد أجاب الواحدي عن السؤال بجوابين، وهناك جواب ثالث: وهو أنه مخصوص والمعنى (لا ريب فيه عند المؤمنين)، والجواب الأول أحسنها. ذكر ذلك الجمل في "الفتوحات الإلهية" 1/ 11. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 33. (¬9) في "معاني القرآن" (موضعهم) قال المحقق: وهو ناظر فيه إلى معنى الكلمة 1/ 33. (¬10) في (ب): (اذكروا) مكررة. (¬11) انتهى من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 33، 34، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 131، "الإملاء" للعكبري 1/ 11.

وقوله تعالى: {يُؤمِنوُنَ} قال الأزهري: اتفق العلماء أن (الإيمان) معناه: التصديق، كقوله (¬1): {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]. أي: بمصدق. ومعنى التصديق: هو اعتقاد السامع صدق (¬2) المخبر فيما يخبر، وأصله في اللغة: الطمأنينة إلى الشيء، من قولهم: أمن يأمن أمنا، إذا اطمأن وزال (¬3) الخوف عنه. وآمنت فلانا، إذا جعلته يطمئن وتسكن نفسه. وآمن بالله ورسوله إذا صدقهما واثقا (¬4) بذلك مطمئنا إليه. ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة": (اتفق العلياء من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه: التصديق، وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} "تهذيب اللغة" (أمن) 1/ 210. وقد اعترض بعض العلماء على دعوى الإجماع على أن الإيمان معناه في اللغة التصديق. قال ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية": (وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، بمنع الترادف بين التصديق والإيمان، وهب أنه يصح في موضع فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا؟) "شرح الطحاوية" ص 321. وقال ابن تيمية في معرض رده على من ادعى إجماع أهل اللغة على أن الإيمان معناه التصديق، قال: (... قوله إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، فيقال له: من نقل هذا الإجماع ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟ ...) ثم ذكر وجوها كثيرة في رد هذِه الدعوى. انظر كتاب الإيمان ضمن "مجموع الفتاوى" 7/ 123 - 130. وعلى فرض أن معنى الإيمان في اللغة (التصديق) فإن الشارع استعمله في معنى اصطلاحي خاص، كما استعمل الصلاة والزكاة في معان شرعية خاصة زائدة على المعنى اللغوي. انظر. "مجموع الفتاوى" 7/ 298. (¬2) في (ب): (مع صدق). (¬3) في (ب): (وزوال). (¬4) في (ب): (واقي).

قال الأزهري: وإنما قلت: إن المؤمن معناه: المصدق، لأن الإيمان مآخوذ من الأمانة، والله يتولى علم السرائر ونية العقد (¬1)، وجعل تصديقه أمانة ائتمن كل من أسلم على (¬2) تلك الأمانة، فمن (¬3) صدق بقلبه فقد أدى الأمانة، ومن كان قلبه على خلاف ما يظهره بلسانه فقد خان، والله حسيبه. وإنما قيل للمصدق: مؤمن، وقد آمن؛ لأنه دخل في أداء الأمانة التي ائتمنه الله عليها (¬4). وأنشد ابن الأنباري على أن (آمن) معناه: صدّق (¬5) قول الشاعر: وَمِنْ قَبْلُ آمنَّا وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا ... يُصلُون للأوْثَانِ قَبْلُ مُحَمَّدَا (¬6) معناه: من قبل آمنا محمدا، [أي صدقنا محمدا] (¬7) فمحمدا منصوب بمعنى التصديق (¬8). قال أبو علي الفارسي (¬9): ويجوز من حيث قياس اللغة، أن يكون (آمن) [صار ذا أمن] (¬10)، مثل: أجدب، وأعاه (¬11)، أي: صار ذا عاهة في ¬

_ (¬1) في (ب): (العبد). (¬2) في (ب): (عن). (¬3) في (ب): (فقد). (¬4) نقل كلام الأزهري بمعناه، انظر "التهذيب" (أمن) 1/ 211. (¬5) "تهذيب اللغة" (أمن) 1/ 211، وانظر "الزاهر" 1/ 203. (¬6) البيت أنشده ابن الأنباري في "الزاهر" بدون عزو 1/ 203، وكذلك الأزهري في "التهذيب"، (أمن) 1/ 212، "اللسان" (أمن) 1/ 142. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) و (ج). (¬8) انظر كلام ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 202، 203. (¬9) "الحجة" 1/ 220. (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) وفي (ج) (ذا أمر). (¬11) في "الحجة": (أجرب، وأقطف، وأعاه) 1/ 220.

ماله، فكذلك (آمن) صار ذا (أمن) في نفسه وماله بإظهار الشهادتين، كقولهم: أسلم، أي: صار ذا سلم، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال والدم (¬1). والقول في معنى الإيمان: ما قاله الأزهري (¬2). على أن أبا القاسم الزجاجي شرح معنى الإيمان بما هو أظهر مما ذكره الأزهري، وهو أنه قال (¬3): معنى التصديق في الإيمان لا يعرف من طريق اللغة إلا بالاعتبار والنظر، لأن حقيقته ليست للتصديق، ألا ترى أنك إذا صدقت إنسانا فيما يخبرك به، لا تقول: آمنت به، لكنك إذا نظرت في موضوع (¬4) هذه الكلمة وصرّفته حق التصريف، ظهر لك من باطنها معنى يرجع إلى التصديق (¬5). ¬

_ (¬1) انتهى ما نقله عن "الحجة" لأبي علي 1/ 220، وانظر بقية كلام أبي علي ص 226 حيث أفاد أن الإيمان بمعنى التصديق ليس على إطلاقه في كل موضع. (¬2) أي بمعنى التصديق، فإن أراد المعنى اللغوي، فقد سبق ذكر اعتراض بعض العلماء عليه، وإن أراد المعنى اللغوي والشرعي فهذا مردود، فإن معنى الإيمان عند السلف: تصديق القلب ونطق (اللسان)، وعمل الجوارح. ولو قلنا: إن الإيمان في اللغة التصديق، فإن الشارع استعمله في معنى أوسع من ذلك، كما استعمل الصلاة والزكاة وغيرها من المصطلحات الشرعية التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي خاص، أو أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ص314 - 332، "مجموع الفتاوى" 7/ 170، 287، 298. (¬3) لم أجده فيما اطلعت عليه من كتب الزجاجي والله أعلم. (¬4) في (ب): (موضع). (¬5) إذا حقيقة الإيمان في أصلها ليست للتصديق فقط، وإن كان التصديق أحد معانيها، =

وذلك أن (آمن) أَفْعَل، من (أَمِنَ)، والواحد إذا قال: آمنت بالله. [فإن (آمنت) فعل متعد، ومعناه: آمنت نفسي، أي: جعلتها في أمان الله بتصديقي (¬1) إياه، لأن الأمن من عذاب الله لا يحصل إلا بتصديقه، فإذا صدقه فقد آمن نفسه (¬2)، فصار التصديق إيمانا للعبد، وجاز أن يعبر عن الإيمان بالتصديق، لأن أحدهما سبب للآخر (¬3). و (الباء) في قولك: (آمنت بالله)] (¬4) ليست (باء) التعدية، إنما هي (باء) الإلصاق التي يسميها (¬5) النحويون (باء) الاستعانة (¬6)، كما تقول: قطعت القلم بالسكين. ¬

_ = كما ذكر: أنك إذا صدقت إنسانا فيما يخبرك به لا تقول: آمنت، وبهذا استدل من قال. إن الإيمان والتصديق ليسا مترادفين على الإطلاق. قال شارح الطحاوية: (ومما يدل على عدم الترادف، أنه يقال للمُخْبَر إذا صدَّق: صدقه، ولا يقال: آمنه، ولا آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]. {فَمَآءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِيَّهُ مِّن قَومِهِ عَلىَ خَوْفٍ} [يونس:83]. وقال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمُخْبَر به، والثاني للمُخْبِر ..) "شرح الطحاوية" ص321، وانظر: "مجموع الفتاوى" 7/ 290. (¬1) في (ب): (تصديقي). (¬2) في (ب). (آمن من نفسه). (¬3) في (ب): (الآخر). (¬4) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬5) في (ب): (يسموها). (¬6) سماها شارح الطحاوية باء التعدية، لكن هناك فرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالمعدى بالباء للمخبر به، وباللام للمخبر. انظر: "شرح الطحاوية" ص 321، "مجموع الفتاوى" 7/ 288.

كذلك وقع إيمان النفس من العذاب بتصديق الله، وحذف المفعول من قولهم: (آمنت بالله) لدلالة المعنى عليه، كقولهم: حمل فلان على العدو، أي: سلاحه أو نفسه، هذا هو الأصل في الإيمان، ثم جعل الإيمان بمعنى التصديق في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: بمصدق (¬1)، ولم يقل: (بنا) لأنه أريد ها هنا التصديق الخالص، لا إيمان بالنفس من العذاب، كما أريد ذلك في قولهم: (آمنت بالله) وأما الفرق بين الإيمان والإسلام فسنذكره عند قوله: {قُل لم تُؤمِنُواْ وَلَكن قُولُوا أسلمَنَا} (¬2) [الحجرات: 14] إن شاء الله. وسمي أحدهما (¬3) باسم الآخر (¬4) مجازا وتوسعا، كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) قال الفارسي: (وأما قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فليس المعنى على: ما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين عندك؛ لأن الأنبياء لا تكذب الصادقين، ولكن المعنى: ما أنت واثقا، ولا غير خائف الكذب في قولنا ... فمؤمن هنا من آمن، أي صار ذا أمن أو صار ذا ثقة ...). "الحجة" 1/ 226، 227، ونحو هذا قال ابن تيمية في الآية، إنها بمعنى: أي بمقر لنا ومصدق لنا، لأنهم أخبروه عن غائب ...). "الإيمان الأوسط" ص 71. (¬2) في (ب): {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}. (¬3) أي: الإيمان والإسلام. (¬4) ذكره أبو علىِ الفارسي، انظر: "الحجة" 1/ 220. قال ابن كثير -رادا على من قال ذلك- عند تفسير قوله تعالى: {فأَخرَجنا مَن كاَنَ فِيهَا مِنَ المُؤمنِينَ (35) فما وَجدنَا} الآية قال: (احتج بهذِه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين، وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم، ولا ينعكس، فاتفق الإسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال)، "ابن كثير" 4/ 2498. ط. دار الفكر.

{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَاَ} الآية [الذاريات: 35, 36]. وفي بعض القراءات {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] بكسر الألف (¬1)، بمعنى الشهادة باللسان (¬2). وفي قوله {يُؤمِنُونَ} قراءتان، تحقيق الهمزة وتليينها (¬3). فمن حقق، فحجته (¬4): أن الألف في (آمن) لا تخلو إما أن تكون زائدة، أو منقلبة، فلا (¬5) يجوز أن تكون زائدة، لأنها لو كانت كذلك لكان (فَاعَل) [ولو كان (فَاعَل)،] (¬6) كان مضارعه (يُفَاعِل) فلما كان مضارعه (يؤمن) دل على أنها غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة، ولا يخلو أنقلابها من أن يكون عن: (الواو) أو عن (الياء) أو عن (الهمزة)، ولا يجوز أن تكون منقلبة عن (الواو)، لأنها في موضع سكون، [وإذا كانت في موضع سكون] (¬7) وجب تصحيحها، وبمثل هذه الدلالة لا يجوز انقلابها ¬

_ (¬1) قراءة الجمهور بالفتح، وبالكسر قراءة الحسن. انظر: "المحتسب" 2/ 315، 322، "البحر" 8/ 271، "القراءات الشاذة" للقاضي ص 72. (¬2) في (ب): (اللسان). انظر: "الحجة" 1/ 222. (¬3) قرأ ورش عن نافع، وأبو عمرو (يومنون) بغير همز، وبقية السبعة يهمزون. انظر "الحجة" لأبي علي1/ 214، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 84. (¬4) نقله عن "الحجة" لأبي علي، قال في "الحجة": (الإعراب: لا تخلو الألف في (آمن) من أن تكون زائدة، أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلا. فلا يجوز أن تكون زائدة لأنها ...) 1/ 235. (¬5) في (ب): (ولا يجوز). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

عن (الياء)، فإذا (¬1) لم يجز انقلابها عن (الواو) ولا عن (الياء) ثبت أنها منقلبة عن (الهمزة)، وإنما انقلبت عنها ألفا لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح، كما أنها إذا خففت في: (بأس) و (رأس) (¬2) و (فأس) انقلبت عنها ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها (¬3)، كذلك قلبت في نحو: (آمن) و (آتى) (¬4)، وفي الأسماء: نحو (آدر) (¬5) و (آدم)، و (آخر) إلا أن الانقلاب هاهنا لزمها لاجتماع الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة لزم الثانية منهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة، نحو: (آمن) و (اوتمن) و (ايذن) (¬6)، و (ايتنا) (¬7). فمن حقق (¬8) (الهمز) في {يؤمنون} فلأنه إنما ترك (الهمز) من (أومن) لاجتماع الهمزتين، كما أن تركها في (آمن) كذلك (¬9)، فلما زال اجتماعها مع سائر الحروف المضارعة سوى (¬10) الهمزة، رد (¬11) الكلمة إلى ¬

_ (¬1) في (ب): (وإذا). (¬2) في (ج): (ووأس). (¬3) بنصه في "الحجة" 1/ 235، وانظر "الكتاب" 3/ 543. (¬4) في جميع النسخ (ااتى) ورسمتها حسب ما في "الحجة" 1/ 235. (¬5) الآدر: وهو المنتفخ الخصية. انظر: "اللسان" (أدر) 1/ 44. (¬6) (ائذن) مكانها بياض في (ب). (¬7) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 236، وما بعده نقله من موضع آخر 1/ 238 حيث قال أبو علي: (أما حجة من قرأ (يؤمنون) بتحقيق الهمز، فلأنه إنما ترك الهمز في (أومن) لاجتماع الهمزتين ...)، 1/ 238، 239. (¬8) في (ج): (خفف). (¬9) في (أ)، (ج): (لذلك) واخترت ما في ب، لأنه أصح وموافق ما في "الحجة" 1/ 238. (¬10) في (ب): (سرى). (¬11) في (ب): (ورد).

الأصل فهمز؛ لأن الهمز من (الأمن) و (الأمنة) فاء الفعل. ومما (¬1) يقوي الهمزة (¬2) أن من تركها إنما يقلبها (واوا) (¬3) ساكنة وما قبلها متحرك بالضم، و (الواو) الساكنة إذا انضم ما قبلها فقد استجازوا قلبها (¬4) همزة. يدل (¬5) على هذا، ما ذكره المازني عن الأخفش، قال (¬6): كان أبو حية النميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة نحو: (مؤسى) (¬7) وأشباهه. وتقدير ذلك: أن الحركة لما كانت تلي الواو من (مؤسى) (¬8) صارت كأنها عليها، والواو إذا تحركت بالضمة أبدل منها الهمزة. وإذا جاز إبدال (الهمزة) من (الواو الساكنة) التي قبلها ضمة، واجتلابها وإن لم تكن من الكلمة، فالهمزة التي هي أصل في الكلمة أولى بالتحقيق، وأن لا يبدل منها الواو. وحجة من لم يهمز (¬9): أن هذه الهمزة قد لزمها البدل في مثالين من ¬

_ (¬1) في (ب): (وما). (¬2) في (ج): (أن الهمزة أن من تركها). (¬3) في (ب): (واو). (¬4) في (ب): (قبلها). (¬5) في (ب): (نيل). (¬6) في "الحجة": (قال محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان، قال: أخبرني الأخفش قال: كان أبو حية النميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وينشد: لَحُبَّ المُؤقِدَانِ إلى مُؤْسَى وتقدير ذلك أن الحركة ... إلخ) 1/ 239. (¬7) (موسى) غير مهموزة في جميع النسخ، وهمزتها كما في "الحجة" 1/ 139. (¬8) انظر التعليق السابق. (¬9) "الحجة" 1/ 240.

الفعل المضارع والماضي، نحو (¬1): (آمن) و (أُومِنَ)، والمضارع نحو: (أُومِنُ) ولم يجز تحقيقها في هذه المواضع، وهذا القلب الذي يلزمنا (¬2) في المثالين إعلال لها، والإعلال إذا لزم مثالا أتبع سائر الأمثلة العارية من موجب الإعلال كإعلالهم: (يقوم)، و (لقام)، و (يُكْرِم) (¬3) من أجل (أُكْرِمُ) (¬4) و (أَعِدُ) (لِيَعِد) (¬5)، فوجب على هذا أن يختار (¬6) ترك الهمزة في {يؤمنون}، ليتبع قولهم {يؤمنون} في الإعلال المثالين الآخرين (¬7)، لا على التخفيف القياسي (¬8) نحو: (جونة) في (جؤنة) (¬9)، و (بوس) في (بؤس) (¬10). ¬

_ (¬1) في "الحجة" (فالماضي نحو: ..) 1/ 240. (¬2) في "الحجة" (يلزمها) 1/ 240. (¬3) في (ب): (يلزم). (¬4) أصل (أُكْرِم) (أُؤكْرِمُ) مضارع (أَكْرَمَ)، ثم حذفت الهمزة في (أُؤَكْرِم) لاجتماع الهمزتين، ثم حملت الياء في (يُكرم) على الهمزة في (أكرم) فحذفت الهمزة معه مثل حذفها مع (أُكْرِم) ليتفق الباب. انظر "سر صناعة الإعراب" 1/ 385. (¬5) لأن الواو في (يَعِد) حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة، وحملت الهمزة في (أعد) على ذلك، وحذفت الواو معها حتى لا يختلف الباب. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 385. (¬6) في (ج): (تختاريتك). (¬7) أي الإعلال في الماضي نحو (آمن)، والمضارع (أُومِنُ). (¬8) أي أن حذف الهمزة في (يؤمنون) إعلال لا تخفيف قياسي. والتخفيف القياسي ما ذكره سيبويه بقوله: (وإن كان ما قبلها مضموماً -أي الهمزة- فأردت أن تخفف، أبدلت مكانها واوا، وذلك قولك في (الجؤنة) و (البؤس) و (المؤمن): الجونة والبوس والمومن) "الكتاب" 3/ 543. (¬9) في (ب): (جونة). و (الجؤنة): سليلة مستديرة مغشاة بجلد، يستعملها العطار ظرفا للطيب. انظر: "تهذيب اللغة" (جون) 1/ 6893. (¬10) إلى هنا انتهى ما نقله الواحدي عن "الحجة" 1/ 240.

وأيضًا فإن (¬1) حرف المضارعة المضموم صادف حرفا منقلبا ألف قبل أن يلحقه حرف المضارعة، فلما ولي المضموم من حرف المضارعة، انقلب ذلك الألف واوا، وأي (¬2) مرضع للهمزة (¬3) هاهنا. وقوله تعالى: {بِالْغَيْبِ} (¬4) الغيب: مصدر غاب يغيب غيبا، وكل (¬5) ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب (¬6)، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (¬7) والعرب تسمى (¬8) المطمئن من الأرض: الغيب (¬9)، لأنه غاب عن الأبصار. ومه قول لبيد: وَتَسمَّعَت رِزَّ الأَنِيس فرَاعَها ... عَن ظَهْرِ (¬10) غَيْبٍ والأنيسُ سَقَامُها (¬11) ¬

_ (¬1) في (ب) سقط وتصحيف فالنص فيها: (وأيضًا، قال في حرف المضارعة انقلب ذلك الألف صادق حرفاً). (¬2) (الواو) ساقطة من (ب). (¬3) في (ب): (للهمز). (¬4) في (ب): (الغيب) تصحيف. (¬5) في (ب): (وكلما) (¬6) انظر: " تفسير الطبري" 1/ 102، و"ابن عطية" 1/ 146، و"تفسير القرطبي" 1/ 142. (¬7) هذا جزء من آية وردت في مواضع وهي: 73 من الأنعام، و 94 و 105 من التوبة و 9 من الرعد, و 92 من المؤمنون، و 6 من السجدة و 46 من الزمر، و 22 من الحشر، و 8 من الجمعة، و 18 من التغابن. (¬8) (تسمى) ساقط من (ج). (¬9) "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2616. (¬10) في (ج): (صهر). (¬11) البيت في "ديوان لبيد"، وروايتة: (وتوجست رز ..) ويروى: (.. ركز الأنيس) =

قال شمر (¬1): وكل مكان لا يدرى ما فيه فهو غيب، وكذلك الموضع الذي لا يدرى ما وراءه وجمعه غيوب (¬2)، ومنه قوله: وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم (¬3) الغلام وراء الغيب بالحجر (¬4) وقال أبو زيد: يقال: بدا غَيَّبَان العود، إذا بدت عروقه التي تغيبت في الأرض لحفر السيل (¬5). والمراد بالغيب المذكور هاهنا: ما غاب علمه (¬6) وعن الحس ¬

_ = وهو يصف بقر الوحش، والرز والركز: الصوت الخفي، عن ظهر غيب: من وراء حجاب، وقوله: والأنيس سقامها: لأنهم يصيدونها فهم داؤها. انظر "شرح ديوان لبيد" ص 311، وهو في "المخصص" لابن سيده 2/ 137. بمثل رواية الديوان، وبدل (راعها) (رابها). وفي "البحر المحيط" 6/ 198. (¬1) هو شمر بن حمدويه الهروي، اللغوي الأديب، لقي أبا عبيدة، وابن الأعرابي، والأصمعي والفراء وغيرهم، ألف كتابا كبيرا في اللغة على حروف المعجم، وفقد بعده، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين. انظر: "إنباه الرواة" 2/ 77، "معجم الأدباء" 3/ 410، "إشارة التعيين" ص141. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2621. (¬3) في (ب): (دم). (¬4) البيت لابن مقبل. (الوجيب): تحرك القلب تحت الأبهر، و (اللدم): الضرب، و (الغيب): ما كان بينك وبينه حجاب، يقول: إن للقلب صوتا يسمعه ولا يراه، كما يسمع صوت الحجر الذي يرمى به الصبي ولا يراه. ورد البيت في "تهذيب اللغة" (بهر) 1/ 401، "الصحاح" (بهر) 2/ 598، "معجم مقاييس اللغة" (لدم) 5/ 243, "الزاهر" 1/ 398، 552، "أساس البلاغة" (لدم) 2/ 338، و"اللسان" (بهر) 1/ 370، (لدم) 4/ 3255. (¬5) لم أجده في "نوادر أبي زيد"، وذكره الأزهري نحوه ولم ينسجه لأبي زيد. "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2616. (¬6) في (ب): (محله).

والضرورة (¬1) مما يدرك بالدليل (¬2)، ولذلك (¬3) استوجبوا حسن الثناء بالإيمان بالغيب، لأنه تصديق بما أخبروا به مما لا يعلم حسا وضرورة، ويكون العلم به مكتسبا، فيدخل (¬4) في جملة هذا ما أخبر عنه الرسول عليه السلام من أمر الجنة والنار والوعد وغير ذلك (¬5). قال أبو العالية في قوله: {يُؤمِنوُنَ بِالغيَب} قال: يؤمنون بالله (¬6)، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه (¬7)، وبالبعث بعد (¬8) الموت (¬9). وكأن هذا إجمال ما فصل في قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 285] ¬

_ (¬1) قال البيضاوي: والمراد به: الخفي الذي لا يدركه الحس، ولا يقتضيه بديهة العقل 1/ 7. (¬2) الغيب قسمان. قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، وقسم نص عليه دليل كوجود الخالق سبحانه، واليوم الآخر، وغير ذلك من أمور الغيب، وهو المراد هنا، أي: يستدلون عليه فيؤمنوا به. انظر البيضاوي 1/ 7، والرازي 2/ 23. (¬3) في (ب): (وكذلك). (¬4) في (ج): (يدخل). (¬5) انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 35. (¬6) في (ب): (به). (¬7) (الواو) ساقطة من (ب). (¬8) في (ب): (هذا). (¬9) ذكره الثعلبي بسنده عن الربيع عن أبي العالية 1/ 46 أ، وأخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس. قال شاكر: لعل ذكر: عن أبي العالية سقط من الإسناد من نسخ الطبري، لثبوته عند الناقلين عنه. الطبري 1/ 237 (ط. شاكر)، وأخرجه ابن أبي حاتم في (تفسيره) 1/ 36، وذكره ابن كثير 1/ 44، "الدر" 1/ 60.

وقال عطاء (¬1): من آمن بالله آمن بالغيب (¬2). وكذلك روى أبو العباس عن ابن الأعرابي (¬3) في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال (¬4): يؤمنون بالله. قال (¬5): والغيب- أيضًا- ما غاب عن العيون وإن كان محصلا في القلوب (¬6). قال أبو إسحاق: وكل ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو غيب. (¬7). هذا طريق المفسرين في معنى (الغيب). ولأهل المعاني فيه طريق آخر (¬8)، وهو أن معنى قوله: {يُؤِمنوُنَ ¬

_ (¬1) هو عطاء بن أبي رباح، المكي، القرشي مولاهم، روى عن عدد من الصحابة، كان ثقة فقيهًا عالمًا، توفي سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة. انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 5/ 467، "سير أعلام النبلاء" 5/ 78، "تهذيب التهذيب" 3/ 101. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح، قال المحقق: رجال إسناده ثقات ابنِ أبي حاتم 1/ 178 (رسالة دكتوراه). وأخرجه الثعلبي بسنده عن عطاء قال: {الًذِين يُؤمنوُنَ بِالغيبِ} قال: هو الله عز وجل من آمن بالله فقد آمن بالغيب. الثعلبي في 1/ 46 ب، وذكره ابن كثير 1/ 181. (¬3) هو محمد بن زياد الأعرابي، مولى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان راوية للأشعار نحويا، كثير الحفظ، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" ص 195، "إنباه الرواة" 3/ 128، "نزهة الألباء" ص 119. (¬4) في (ب): (ملا). (¬5) (قال) ساقط من (ب). (¬6) "تهذيب اللغة" (غاب) 3/ 2616. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 35. (¬8) ما ذكره قال به عدد من المفسرين، ولم أجد أحدا من أهل المعاني فيما اطلعت عليه قال به، بل كلام الزجاج السابق بخلافه وهو أحد أهل المعاني، فلا وجه لتخصيص أهل المعاني بالذكر.

بِالغَيْبِ} أي: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين (¬1) الذين يقولون إذا خلوا إلى شياطينهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، ويقوي هذا الوجه قوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: 12]، وقوله: {من خشي الرحمن بالغيب} [ق:33]، والجار والمجرور هاهنا في موضع (الحال)، أي: يؤمنون غائبين عن مراءاة الناس، لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد. وقوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: أي: يديمونها (¬2)، ويحافظون عليها، ويقال: قام الشيء إذا دام وثبت، وأقامه إذا أدامه (¬3)، والذي يدل على أن قيام الشيء إنما يعنى به دوامه وثباته (¬4) ما أنشده أبو زيد: إنِّي إذَا لم يُنْدِ حَلْقاً رِيقُه ... وَرَكَدَ السَّبُّ فَقَامَتْ سُوقُهْ (¬5) والراكد: الدائم الثابت (¬6)، ومن ثم قيل: ماء راكد، وماء دائم. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عطية 1/ 145، والزمخشري في "الكشاف" 1/ 128، والرازي 2/ 27، وابن كثير 1/ 44، والبيضاوي 1/ 7. (¬2) أنظر: "تفسير أبي الليث" قال: يقيمون الصلاة يحافظون على الصلوات، وقد قيل: معنى يقيمون أي: يديمون الصلاة، 1/ 980. وذكره ابن الجوزي وعزاه لابن كيسان، "زاد المسير" 1/ 25. (¬3) في (ب): (دام). (¬4) انظر. "التهذيب" (قام) 3/ 2864، "اللسان" (قوم) 6/ 3782. (¬5) أبيات من الرجز أنشدها أبو زيد في "النوادر" مع أبيات أخرى ولم يعزها، "النوادر" ص 169، وذكر ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" البيت الثاني (وركد السب .. إلخ) مع بيت آخر ص355، وكذا ورد البيت الثاني في "المخصص" 17/ 21. (¬6) في "غريب الحديث" لأبي عبيد: الدائم الراكد الساكن، 1/ 137، وانظر: "تهذيب اللغة" (دام) 2/ 1134، (الزاهر) 2/ 372.

ومن هذا يقال: أقام القوم سوقهم إذا أداموها وواظبوا (¬1) عليها (¬2). قال أبو علي الفارسي: وهذا التفسير أشبه من أن يفسر بـ (يتمونها) (¬3). وأما (الصلاة) فمعناها في اللغة: الدعاء (¬4)، ومنه الحديث: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل" (¬5) قال أبو عبيد: قوله: "فليصل" أي: فليدع له بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل (¬6). قال الأعشى: ¬

_ (¬1) في (ب): (ووضبوا). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 104. (¬3) وبهذا أخذ الزجاج حيث قال: معناه يتمون الصلاة، كما قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. "المعاني" 1/ 35. وقال ابن جرير: إقامتها. أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها، على ما فرضت عليهم 1/ 104، وانظر ابن كثير 1/ 45. (¬4) أنظر: الطبري 1/ 104، "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049. (¬5) الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة (14312) في كتاب النكاح، باب: الأمر بإجابة الدعوة دون قوله (إلى طعام)، وأبو داود بمثل رواية مسلم (2460) في كتاب الصوم، باب. في الصائم يدعى إلى وليمة، وأخرج (3736) في كتاب الأطعمة، باب: ما جاء في إجابة الدعوة، نحوه عن ابن عمر. وأخرجه الترمذي (7980) في كتاب الصيام، باب: ما جاء في إجابة الدعوة دون قوله: (فإن كان مفطرا فليطعم) في لفظه (إلى طعام)، وأحمد في "مسنده" 2/ 507, 2/ 489 دون قوله (فإن كان مفطرا فليطعم). (¬6) في "غريب الحديث": (قال: قوله: فليصل ... قال أبو عبيد: كل داع فهو مصل) في الهامش: قالا: أي ابن علية ويزيد. أنظر "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 110. فالكلام الأول نقله أبو عبيد، والمؤلف هنا نقل من الأزهري وتابعه في نسبة النص لأبي عبيد، "التهذيب" (صلى) 2/ 2049.

عَلَيْكِ مثل الذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضي ... نَومًا (¬1) فإنَّ لِجَنْبِ المرءِ مُضْطَجعا (¬2) وقال أبو العباس في قوله: وصَلَّى عَلى دَنِّهَا وارْتَسَمْ (¬3) قال: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد (¬4). هذا معنى الصلاة في اللغة، ثم ضمت إليها هيئات وأركان سميت بمجموعها صلاة، هذا مذهب الأكثرين. وقال الزجاج (¬5): الأصل في الصلاة اللزوم، يقال: قد صلى ¬

_ (¬1) في (ب): (يوما) وهي رواية للبيت. (¬2) البيت في "ديوان الأعشى" ص 106، وهو من قصيدة يمدح بها (هوذة بن علي الحنفي) ويروى: (يوما) بدل (نوما) ذكره أبو عبيدة في "المجاز"، وقال: فمن رفع (مثل) جعله. عليك مثل الذي قلت لي ودعوت لي به، ومن نصبه جعله. أمرا، يقول: عليك بالترحم والدعاء لي، وذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 214، وابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 139، وأبو بكر بن عزيز في "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" 2/ 539 رسالة ماجستير، وأبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 111، والأزهري في "التهذيب" (صلى) 2/ 2049، وورد في "الدر المصون" 1/ 92 و"القرطبي" 1/ 146، و"ابن كثير" 1/ 46، "البحر المحيط" 1/ 38. (¬3) البيت للأعشى من قصيدة يمدح به قيس بن معد يكرب، وصدره: قابلها الريح في دنها يصف الخمر، صلى: دعا، ارتسم: كبَّر ودعا وتعوَّذ مخافة أن يجدها فسدت، فتبور تجارته. انظر: "ديوان الأعشى" ص 196، "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 111 والطبري 1/ 104، "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049، وابن كثير 1/ 46. (¬4) "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 215.

واصطلى (¬1): إذا لزم، ومن هذا من يصلى في النار أي: يلزم، قال: والقول عندي هذا؛ لأن الصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزومه، وألزم ما أمر به من العبادات (¬2). ومن اختار هذه الطريقة (¬3) قال: معنى قولهم للداعي إذا دعا: (صلى) معناه: أنه لزم الدعاء لشدة حاجته إلى الإجابة. و (الصَّلَوَان) من الفرس، العظمان اللذان في العجز (¬4)، والواحد: (صلا)، سميا للزوم كل واحد منهما الآخر (¬5)، والمُصَلِّي: الذي يأتي في أثر السابق من هذا، لأنه يأتي ورأسه مع ذلك المكان من السابق (¬6)، ومنه حديث علي - رضي الله عنه -: (سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر) (¬7). وقوله تعالى: {وَمِمَّا رزَقنَهُم}. يقال: رَزَق الله الخلق رَزْقا ورِزْقا، ¬

_ (¬1) في (أ) و (ج): (واصطلا) وفي (المعاني) (يقال: صلى وأصلى واصطلى ...) 1/ 215، ونص المؤلف في "التهذيب" فلعله نقل منه، 2/ 2049. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج، دون قوله: (وألزم ما أمرت به من العبادات) 1/ 215، وذكره في "تهذيب اللغة" 2/ 2049. (¬3) أي: أن الصلاة بمعنى اللزوم. (¬4) انظر. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 215، "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2049، "مجمل اللغة" (صلى) 2/ 538. (¬5) في (ب): (للآخر). (¬6) المراجع السابقة. (¬7) أخرجه أحمد في "المسند": (عن علي -رضي الله عنه- قال: سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء) "المسند" 1/ 112، 124، 132، 147. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 6/ 130، وذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 142، والأزهري في "تهذيب اللغة" (صلى) 2/ 2050.

4

فالرَّزْقُ بالفتح: هو المصدر الحقيقي، والرِّزْق: الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر (¬1)، وكل ما انتفع به العبد هو رزقه، من مال وولد وغيره. وقوله تعالى: {يُنفِقُونَ} معنى الإنفاق في اللغة: إخراج المال من اليد. ومن هذا يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه، فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها (¬2)، والنفق (¬3) سرب له مخلص إلى مكان آخر يخرج منه (¬4)، والنافقاء من جحرة اليربوع: وهو الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى، ومنه المنافق، لخروجه عن الإيمان بما ينطوي عليه من الكفر (¬5). والمراد بالإنفاق هاهنا: إنفاق فيما يكون طاعة فرضا أو نفلا؛ لأن الله تعالى مدحهم بهذا الإنفاق (¬6). 4 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}. قال مجاهد: الآيات الأربع من أول هذه السورة نزلت في جميع المؤمنين (¬7) سواء كانوا من العرب، أو من أهل الكتاب. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (رزق) 2/ 1401. (¬2) ذكره الثعلبي 1/ 47 أ، ب. وانظر. "تهذيب اللغة" (نفق) 4/ 3634. (¬3) في (ب): (النعفق). (¬4) في (ب): (منه إذا)، وعند الثعلبي (يخرج إليه) 1/ 47 ب، وهو في "التهذيب" دون قوله: (يخرج منه نفق) 4/ 3635. (¬5) انظر: "التهذيب" (نفق) 4/ 3635. (¬6) ذكر الطبري نحوه، 1/ 105. (¬7) الأثر عن مجاهد أخرجه الطبري 1/ 103، وذكره الثعلبي 1/ 47ب، وابن كثير، وقال: قاله مجاهد، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة 1/ 46.

فعلى هذا القول (الواو) في قوله {وَالَّذِينَ} لتعديد صفاتهم، فهو عطف صفة على صفة، والموصوف واحد (¬1)، كما قال: إلى الملكِ القَرْم وابنِ (¬2) الهُمام ... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدحَمْ (¬3) ولم يرد إلا شخصا واحدا. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح، وابن مسعود في رواية مرة (¬4): (إن آيتين من أول السورة نزلتا في مؤمني العرب، والآيتان بعدهما نزلتا في مؤمني أهل الكتاب)، لأنه لم يكن للعرب كتاب كانوا مؤمنين به قبل محمد ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 1/ 107، و"ابن كثير" 1/ 46، "الكشاف" 1/ 133، 135. (¬2) في (ج): (بن). (¬3) البيت غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء1/ 105، و"الثعلبي" 1/ 73 أ، "الكشاف" 1/ 133، و"القرطبي" 1/ 328، وابن كثير 1/ 46، "خزانة الأدب" 1/ 451 , 5/ 107 ,6/ 91، "البحر" 1/ 202، "الدر المصون" 1/ 97. القرم: الفحل المكرم الذي لا يحمل عليه، ويسمى السيد من الناس قرما، والهُمام: من أسماء الملوك، لعظم همتهم، أو لأنه إذا هم بأمر فعله، والكتيبة. الجيش، المزدحم. المعركة، لأنها موضع المزاحمة والمدافعة. (¬4) ذكره ابن جرير بسنده من طريق السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/ 105 - 106، وانظر ابن كثير 1/ 46. وأبو صالح هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، اسمه (باذان) تابعي وثقه أكثرهم. انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 2/ 431، "تهذيب التهذيب" 1/ 211. ومُرَّة هو مُرَّة بن شراحيل الهمداني الكوفي، من كبار التابعين ثقة. انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 8/ 366، "تهذيب التهذيب" 4/ 48. وقد تكلم أحمد شاكر كلامًا جيدًا وأطال حول هذا الإسناد في حاشية الطبري 1/ 156 - 159 (ط. شاكر). أفاد فيه أن للسدي كتابا في التفسير جمع فيه مفرق =

- صلى الله عليه وسلم - (¬1). فعلى هذا (الواو) (¬2) لعطف مؤمني أهل الكتاب على مؤمني العرب (¬3). وقوله تعالى: {إِليْكَ} الأصل في (إليك) و (عليك): (إلاك) و (علاك)، كما تقول: إلى زيد، وعلى زيد، إلا أن (الألف) غيرت مع الضمير (¬4)، وأبدلت (ياء) ليفصل بين (الألف) التي في آخر المتمكنة مثل: القفا والعصا، وبين الألف في أواخر غير المتمكنة [التي] (¬5) الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن (إلى) و (على) و (لدى) (¬6) لا تنفرد من الإضافة (¬7). وقوله تعالى: {هُمْ يُوقِنُونَ}. دخلت (هم) توكيدًا، يسميه الكوفيون: عمادا، والبصريون: فصلاً (¬8). ¬

_ = هذِه التفاسير عن الصحابة الذين ذكرهم، ذكر في أوله هذِه الأسانيد، "تفسيره" من أوائل الكتب التي ألفت في هذا وهو من طبقةِ عالية من طبقة شيوخ مالك. (¬1) ذكره ابن جرير واستدل على هذا بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. وذكر قولا ثالثا. أن الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة. وقد رجح أن الآيتين من أول السورة في مؤمني العرب، والآيتين بعدهما في مؤمني أهل الكتاب. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 102، 106، 107. ورجَّح ابن كثير في "تفسيره" قول مجاهد 1/ 47. (¬2) (الواو) ساقطة من (ب). (¬3) انظر: "الكشاف" 1/ 135. (¬4) في (ب): (المضمر) ومثله عند الزجاج في "المعاني" 1/ 37. (¬5) في جميع النسخ (إلى) وفي "معاني القرآن" للزجاج (التي) والكلام بنصه منقول منه 1/ 37. (¬6) في (ب): (لدن). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج1/ 37. (¬8) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 47 ب، ويجوز: في (هم) أن تكون ابتداءً ثانيًا =

و {يُوقِنُونَ} أصله (يُيْقِنون)، لأنه (يُفْعِلون) من اليَقين، فلما سكنت (الياء) وانضم ما قبلها صارت (واوا) (¬1)، كما صارت (الواو) (ياء) لكسرة ما قبلها (¬2) في قولك: إيثاق وإيشال (¬3) وميثاق وميعاد. واليقين: هو العلم الذي يحصل بعد (¬4) استدلال ونظر، لغموض المنظور (¬5) فيه أو لإشكاله على الناظر (¬6)، يقوي ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] ولذلك (¬7) لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، لأن علمه لم يحصل عن نظر واستدلال (¬8). ¬

_ = للتوكيد و (المفلحون) خبره، والجملة خبر (أولئك) ويجوز: أن يكون (هم) عمادًا، أو فصلاً. انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 37، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 133. (¬1) انظر: "الكتاب" 4/ 338، "سر صناعة الإعراب" 2/ 584، وقال العكبري: (أصله (يؤيقنون) لأن ماضيه (أيقن) والأصل أن يؤتى في المضارع بحروف الماضي، إلا أن الهمزة حذفت لما ذكرنا في (يؤمنون) وأبدلت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها) (الإملاء) 1/ 13. (¬2) مع سكون (الياء) انظر "الكتاب" 4/ 335، "سر صناعة الإعراب" 2/ 732. (¬3) في (ب): (اسياق) ولم أجدها فيما اطلعت عليه من كتب اللغة. (¬4) في (ب): (به). (¬5) في (ب): (المقصود). (¬6) قال ابن عطية: (اليقين أعلى درجات العلم وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه) 1/ 149، وعرفه الراغب فقال: (هو سكون الفهم مع ثبات الحكم) مفردات الراغب ص 552. وانظر كتاب "معرفة أسماء نطق بها القرآن" 2/ 618 (رسالة ماجستير)، "تفسير الرازي" 2/ 32، 35. (¬7) في (ب): (وكذلك). (¬8) انظر: "تفسير الرازي" 2/ 32. ومذهب السلف: أن الله لا يوصف بذلك لعدم ورود النص به.

5

ويقال: أَيْقَن بالأمر واسْتَيْقَن وتَيَقَّن كله واحد. ويقال في الثلاثي: يَقِنَ يَيْقَن يَقَناً فهو يَقِنٌ، واليَقِنُ: اليَقِين (¬1). وقوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. تخصيص بعد التعميم على قول مجاهد (¬2)، لأن الإيقان بالآخرة داخل في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} على التفسير الأول في (¬3) (الغيب) (¬4) ومثل هذا قوله: {الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1، 2] عمَّ بقوله: {خَلَقَ} جميع المخلوقات، ثم خص بعد. 5 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} الآية. (أولاء) كلمة معناها الكناية عن جماعة، وهي لا تعرب لأنها اسم الإشارة، وكسرت الهمزة فيها لالتقاء الساكنين (¬5)، قال الله تعالى: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه: 84] ودخلت الكاف للمخاطبة كما ذكرنا في قوله (ذلك)، وفيه ثلاث لغات: (أولئك) و (أولاك) و (أولالك) (¬6). قال الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 5/ 220، "تهذيب اللغة" (يقن) 4/ 49983، "اللسان" (يقن) 98/ 4964. (¬2) هو ما سبق من قوله: إن الآيات الأربع في جميع المؤمنين. انظر ص 445. (¬3) التفسير الأول للغيب هو ما ذكره عن أبي العالية. يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وبالبعث بعد الموت. (¬4) في (أ)، (ب): (للغيب). (¬5) انظر. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 37. (¬6) انظر: "الأصول في النحو" 2/ 128، "سر صناعة الإعراب" 1/ 322، "تهذيب اللغة" 1/ 74، "المنصف" 1/ 165، 166، 3/ 26، "تفسير القرطبي" 1/ 157 "الدر المصون" 1/ 102.

أولئك قومي لم يكونوا أُشابةً ... وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أولالكا (¬1) وقال آخر: أولاكَ بنو (¬2) خير وشرٍّ كليهما (¬3) ... جميعًا ومعروفٍ ألمَّ ومُنكرِ (¬4) فمن قال: (أولاك) قال: (هؤلا) مقصورًا (¬5)، قال أوس بن حجر: لعمرك إنّا والأحاليف هؤلا ... لَفي فتنةٍ أظفارُها لم تُقَلَّمِ (¬6) ¬

_ (¬1) نسب أبو زيد البيت في "النوادر" لأخي الكلحبة وروايته له. ألم تك قد جربت ما الفقر والغنى ... ولا يعظ الضليل إلا ألالكا "نوادر أبي زيد" ص 438، ومثل ذلك في "الخزانة" 1/ 394، بينما نسبه في "شرح المفصل" للأعشى وروايته له مثل ما ورد عند الواحدي "شرح المفصل"، 10/ 6 ويروى البيت عند أكثر النحاة (أولالك قومي ...) بدل (أولئك)، و (الأشابة) بضم الهمزة: الجمع المختلط من هنا وهناك، والضليل: الضال، يصف قومه بالصفاء والنصح، ورد البيت كذلك في "المنصف" 1/ 166، 3/ 26، "الهمع" 1/ 216، و"تفسير القرطبي" 1/ 158 "الدر المصون" 1/ 102. (¬2) في جميع النسخ (بني) والتصحيح حسب المصادر التي ورد فيها البيت. (¬3) في (ب): (كلاهما) وفي (ج): (كله هما). (¬4) في (ج): (وينكر). البيت لمسافع بن حذيفة العبسي، شاعر جاهلي، قوله (أولاك) مبتدأ و (بنو) خبر المبتدأ، أراد أنهم ملازمون لفعل الخير والشر مع الأصدقاء والأعداء، و (معروف) و (منكر) معطوف على خير، وهما أخص من الخير والشر، و (ألم). نزل. انظر. "الخزانة" 1/ 171 وانظر: "حاشية يس على التصريح" 2/ 124، (مطبوع في هامش التصريح)، "الحماسة بشرح المرزوقي" 2/ 990. (¬5) انظر: "الأصول في النحو" 2/ 127. (¬6) رواية البيت (حقبة) بدل (فتنة) يقول: نحن في حرب، والأظفار: كناية عن السلاح. انظر: "ديوان أوس" ص120، "المعاني الكبير" 2/ 898، "الخزانة" 3/ 17، 7/ 18.

وكتبت (¬1) الواو في {أُولَئِكَ} لئلا يشتبه في الكتابة بـ (إليك) وأشار بقوله: (أولئك) إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة (¬2). ومحله رفع بالاستئناف (¬3). وقوله تعالى: {عَلَى هُدًى} معنى: (على) كمعنى: (فوق) (¬4). وهي (¬5) تكون: اسما وحرفا (¬6)، يقول: عليه مال (¬7)، فهذا حرف، وكأنه شيء اعتلاه. وقول الشاعر: غَدَتْ مِنْ عليه تنفُضُ الطَّلَّ بعدما ... رأتْ حاجبَ الشمسِ استوى فترفَّعا (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب): (يشبه في الكناية إليك). انظر: "البحر المحيط" 1/ 43. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 106، وابن "تفسير كثير" 1/ 47. (¬3) في محل {أُولَئِكَ} من الإعراب أقوال وهي: أنها مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، والجملة إما مستأنفة، أو خبر عن قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} الأولى أو الثانية، ويجوز. أن تكون {أُولَئِكَ} وحدها خبراً عن {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} الأولى أو الثانية، ويجوز: أن يكون {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، و {أُولَئِكَ} بدل أو بيان. انظر "الدر المصون" 1/ 102. (¬4) تكون بمعنى (فوق) إذا كانت اسما. انظر: "الكتاب" 1/ 268، "مغني اللبيب" 1/ 145. (¬5) في (ب): (وهو). (¬6) وإذا كانت حرفا فلها عدة معان. انظر: "مغني اللبيب" 1/ 143. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة": (على) 3/ 2559. (¬8) نسبه أبو زيد في "النوادر" لبعض القشيريين، ونسب في "اللسان" ليزيد ابن الطثرية، يقول: غدت الظبية من فوقه. والشاهد فيه (من عليه) استعمل (على) اسما بمعنى: فوق لما دخل عليها حرف الجر (من). ورد البيت في "نوادر أبي زيد" ص 453، "المقتضب" 2/ 320، 3/ 53، "الأزهية" ص 194، "اللسان" (علا) 5/ 3092، "شرح المفصل" 8/ 38.

فهذا اسم لدخول (من) عليها (¬1)، كأنه قال: غدت تنفض الطل من فوقه. وقوله تعالى: {هُمُ اَلمُفلِحُونَ}. (هم) دخلت فصلا (¬2)، وإن شئت كان تكريرا للاسم، كما تقول: زيد هو العالم، ترفع (¬3) (زيدا (¬4)) بالابتداء، و (هو) ابتداء ثان، و (العالم) خبر له (¬5)، وهما جميعا خبر لزيد، وكذلك قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وإن شئت جعلت (هو) فصلا، وترفع (زيدا)، و (العالم) على الابتداء والخبر، والفصل هو الذي يسميه (¬6) الكوفيون عماداً. قال سيبويه (¬7): دخل الفصل في قوله: {تَجِدُوهُ عنِدَ اللهِ هُوَ خَيراً} [المزمل:20]. وفي قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} (¬8) [آل عمران: 180]. وفي قوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 1/ 268، "مغني اللبيب" 1/ 145، "شرح المفصل" 8/ 38. (¬2) نقله الواحدي عن الزجاج بتصرف يسير. انظر: "معاني القرآن" 1/ 37. (¬3) مكانها بياض في (ب). (¬4) في (ب): (زيد). (¬5) أي خبر هو. انظر: "معاني القرآن" 1/ 37. (¬6) في (أ): (تسمية) وما في (ب، ج) أصح في السياق. (¬7) في "معاني القرآن": (وسيبويه يقول: إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم، نحو: كان زيد هو العالم، وظننت زيدا هو العالم. وقال سيبويه. دخل الفصل في قوله عز وجل .. إلخ)، وقوله: (وسيبويه يقول ... إلى: وظننت زيدا هو العالم (ليس موجودا في بعض مخطوطات المعاني. انظر: حاشية "معاني القرآن" 1/ 38، وانظر كلام سيبويه في "الكتاب" 2/ 389 - 395. (¬8) سقط (لهم) من (أ)، (ب)، والآية (180) من آل عمران.

الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وفي قوله: {إِن كاَنَ هَذَا هُوَ اَلحَقَّ مِن عِندِكَ} [الأنفال:32]. وذكر أن [هذا] (¬1) بمنزلة (ما) (¬2) اللغو (¬3) في قوله: {فبَمَا رحمَةٍ} [آل عمران: 159]. وقوله {الْمُفْلِحُونَ} قال أبو عبيد (¬4): أصل الفلاح: البقاء (¬5)، وأنشد للأضبط (¬6) بن قريع (¬7) السعدي: لِكلِّ هَمِّ من الهموم سَعَةْ ... والمُسْيُ والصبحُ لا فلاحَ مَعَهْ (¬8) يقول: ليس مع كر الليل والنهار بقاء. ومنه قول عَبِيد (¬9): ¬

_ (¬1) قوله: ذكر، أي. سيبويه، وقوله: (هذا) كذا وردت في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن" للزجاج (هو) وهو الصواب. (¬2) في (ج): (وذان هذا بمنزلة ها). (¬3) "معاني القرآن" 1/ 38، كلام سيبويه في "الكتاب" 2/ 391، ولم يذكر سيبويه الآية. (¬4) في (ب) (أبو عبيدة) وهو خطأ. وكلام أبي عبيد في "غريب الحديث" 4/ 38، وانظر "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826. (¬5) في (ب) (التقى). (¬6) في (ب)، (ج). (وأنضد الأضبط) وما في (أ) موافق لـ"تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، وعبارة "غريب الحديث": قال الأضبط ... ، 2/ 183. (¬7) في (ب): (فيع). وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد، السعدي شاعر جاهلي قديم. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 242، "الخزانة" 11/ 455. (¬8) البيت في "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 183، "الزاهر" 1/ 31، "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، و"تفسير الثعلبي" 1/ 69/أ، "اللسان" 6/ 3458، "تفسير ابن عطية" 1/ 150، و"تفسير القرطبي" 1/ 158، "الدر المصون" 1/ 104 "الخزانة" 11/ 452، وقد ذكره في "الشعر والشعراء" ونصه: ياقوم من عاذرى من الخدعة ... والمسى .......... إلخ 1/ 390 (¬9) هو عبيد بن الأبرص كما في "غريب الحديث" 4/ 183.

أفلِحْ بما شئتَ فقد يُبلَغ بالـ ... ـضَّعف (¬1) وقد يُخْدَعُ الأريبُ (¬2) يقول: عش بما (¬3) شئت من عقل أو حمق، فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل. قال: وإنما قيل لأهل الجنة: مفلحون، لفوزهم ببقاء الأبد، ومن هذا يقال للسحور (¬4): الفلح والفلاح، أي: أن (¬5) به بقاء الصوم (¬6). الحراني عن ابن السكيت (¬7) الفلح والفلاح: البقاء، وأنشد لعدي بن زيد: ثم بعد الفلاح والرشد والإ ... مَّة وارَتْهمُ هناك القبورُ (¬8) وقال الأعشى: ¬

_ (¬1) في (ب): (بالضغت). (¬2) البيت يروى (يدرك) بدل (يبلغ) و (يخدع) بالتشديد، وهو في "غريب الحديث" 2/ 183، 200، "ديوان عبيد" ص14، و"تفسير الطبري" 1/ 108، (مجاز القرآن) 1/ 30، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 39، "الزاهر" 1/ 132، وفيه (يفلح) بدل يبلغ، "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، "اللسان" (فلح) 6/ 3458، وفيه (بالنوك) بدل (بالضعف)، و"تفسير القرطبي" 1/ 158، "الدر المصون" 1/ 104. (¬3) في (ب): (ما). (¬4) في (ب): (السحور). (¬5) في (ب): (اذ به). (¬6) انتهى كلام أبي عبيد، "غريب الحديث" 2/ 183، وانظر: "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826. (¬7) "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، وفيه بيت الأعشى مقدم على بيت عدي. (¬8) من قصيدة لعدي بن زيد، ذكرها ابن قتيبة في "الشعر والشعراء"، وتعتبر من غرر شعره، ويروى (الملك) بدل (الرشد) و (الإمه) بكسر الهمزة: غضارة العيش والنعمة. انظر "الشعر والشعراء" ص130، "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، "اللسان" (فلح) 6/ 3458.

ولَئن كُنَّا كقومٍ (¬1) هلكوا ... ما لِحَيٍّ يا لَقومٍ مِنْ فَلَحْ (¬2) وقال لبيد: نَحُلّ بلاداً كلُّها (¬3) حُلَّ قبلنا ... ونرجو الفلاحَ بعد عادٍ وحِمْيَرِ (¬4) هذا معنى الفلاح في اللغة. ثم يقال لكل من ظفر ببغيته وأصاب خيرا: أفلح (¬5)، وقال (¬6) لبيد: اعْقِلي إن كنت لمّا تَعْقِلي ... ولقد أفلحَ مَنْ كان عَقَلْ (¬7) يعني: ظفر بحاجته ووصل إلى بغيته (¬8)، وهو راجع إلى معنى البقاء، لأن البقاء هو سبب إدراك البغية ونيل المطلوب. فمعنى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} أي: هم الذين أدركوا البغية، ووجدوا ¬

_ (¬1) في (ب): (القوم). (¬2) البيت في (غريب الحديث) للخطابي1/ 523، "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، "اللسان" (فلح) 6/ 3458، (الصحاح) (فلح) 1/ 392، "ديوان الأعشى" ص 38، وفيه (أو لئن)، (يا لقومي) وهو من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي، ومعنى (فلح): بقاء. (¬3) في (ب): (حلها). (¬4) البيت في ديوان لبيد (مع شرحه) ص 57، "مجاز القرآن" 1/ 30، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 39، والطبري 1/ 108، والثعلبي 1/ 47/ب، والقرطبي 1/ 158، وابن عطية 1/ 150، (زاد المسير) 1/ 27، "الدر المصون" 1/ 104. (¬5) انظر "تفسير الطبري" 1/ 108، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 39. (¬6) في (ب): (وقال). (¬7) "ديوان لبيد مع شرحه" ص 177، "مجاز القرآن" 1/ 31، و"تفسير الطبري" 1/ 180، و"تفسير أبن عطية" 1/ 104، "الزاهر" 1/ 131، وقوله: (أعقلي) يخاطب عاذلته، أو نفسه. (¬8) في (ب): (ببغيته). انظر: "تفسير الطبري" 1/ 108، "مجاز القرآن" 1/ 31.

6

البقاء في الدار الآخرة في النعيم المقيم (¬1). وحكم لهم بالفلاح ولم يصلوا بعد إلى الجنة، لأن المعنى أنهم يصلون إلى البغية والبقاء بكونهم على الهدى، أو كأنهم قد وصلوا للثقة بالموعود لهم. وقيل: هم على هدى في الحال، وهم المفلحون في المآل. 6 - قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُوا} الآية. {إِنَّ} الثقيلة تكون منصوبة الألف وتكون مكسورة الألف. فإذا (¬2) كانت مبتدأة ليس قبلها شيء تعتمد (¬3) عليه، أو جاءت بعدها (لام) مؤكدة يعتمد عليه (¬4) أو جاءت بعد القول وما تصرف (¬5) منه، وكانت حكاية: كسرت الألف، وفيما سوى ذلك تنصب (¬6). ومعناها في الكلام: التوكيد، وهي التي تنصب الأسماء وترفع الأخبار، وإنما نصبت ورفعت، لأنها تشبه بالفعل، وشبهها أنها لا تلي الأفعال ولا تعمل فيها، وأنها يذكر بعدها الاسم والخبر، كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول، إلا أنه قدم المفعول فيها ليفصل بين ما يشبه بالفعل وليس لفظه لفظ الفعل (¬7)، وبين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظ الفعل، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 108، "تفسير أبي الليث" 1/ 91، و"تفسير القرطبي" 1/ 159، و"تفسير ابن عطية" 1/ 150. (¬2) في (ب): (وإذا). (¬3) في (ب)، (ج): (يعتمد) وهو موافق لـ"تهذيب اللغة" 1/ 222، والكلام منقول منه. (¬4) (عليه) في جميع النسخ. وفي "تهذيب اللغة" (عليها) 1/ 222. (¬5) في (ب): (يصرف). (¬6) في (ب). (ينصب) وفي "تهذيب اللغة" (تنصب الألف). والكلام بنصه ذكره الأزهري عن الليث عن الخليل، سوى قوله: أو جاءت بعد القول فذكره عن الفراء. "تهذيب اللغة" (أن) 1/ 222، وانظر مواضع فتح وكسر همزة (إن) في "الكتاب" 3/ 134 وما بعدها، "الأصول في النحو" 1/ 262 وما بعدها. (¬7) من هنا بدأ سقط لوحة كاملة من (ب).

نحو (كان) وبابه (¬1). وقوله تعالى: {كَفَرُوا} معنى الكفر في اللغة: التغطية. أقرأني أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي (¬2) -رحمه الله- قال: أخبرني الأزهري، عن المنذري، عن الحراني، عن ابن السكيت قال: إذا لبس الرجل فوق درعه ثوباً فهو كافر، وقد كفر فوق درعه، وكل ما غطى شيئاً فقد كفره. ومنه قيل لليل: كافر، لأنه ستر بظلمته وغطى، وأنشد لثعلبة بن صُعَير المازني (¬3): فتذكّرا ثَقَلًا رثيداً بعدما ... ألقت ذكاءُ يمينَها في كافرِ (¬4) أي: الليل. ومنه يسمى الكافر كافراً، لأنه ستر نعم الله. ¬

_ (¬1) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 40، وانظر: "الأصول في النحو" 1/ 23، "الإيضاح في علل النحو" ص 135، "الإنصاف" ص 153 - 155. (¬2) شيخ الواحدي، تقدمت ترجيته مع شيوخه. (¬3) هو ثعلبة بن صعير بن خزاعي المازني، شاعر جاهلي قديم، قال الأصمعي: لو قال ثعلبة بن صعير مثل قصيدته خمساً كان فحلاً، انظر "فحولة الشعراء" الأصمعي ص 12، "الأعلام" للزركلي 2/ 99. (¬4) البيت من قصيدة له، ذكرها المفضل الضبي في "المفضليات" ص 128 - 131، والبيت في "إصلاح المنطق" ص 49، 339، وفي "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 1/ 332، 2/ 679، "أمالي القالي" 2/ 145، "الصحاح" (كفر) 2/ 808، "مقاييس اللغة" (كفر) 5/ 191، "المخصص" 6/ 78 , 9/ 19،7/ 17، "اللسان" (رثد) 3/ 15981، و (كفر) 7/ 3899، و (ذكا) 3/ 1510، و"تفسير ابن عطية" 1/ 151، و"تفسير القرطبي" 1/ 159، و"تفسير الطبري" 1/ 110، "الدر المصون" 1/ 107. وفي هذا البيت يذكر الظليم والنعامة، والثقل: بيضهما، والرثد: المتاع المرثود، وذكاء. الشمس، أي بدأت في المغيب، والكافر: الليل.

ويقال: رماد مكفور، أي: سَفَت عليه الريح التراب حتى وارته، قال الراجز: قد درسَتْ (¬1) غير رمادٍ مكفورْ ... مكتئبِ اللون مَريحٍ ممطورْ (¬2) وقال آخر (¬3): فوردَتْ قبلَ انبلاجِ (¬4) الفَجْرِ ... وابنُ ذُكاءٍ كامنٌ فى كَفْرِ (¬5) أي: فيما يواريه من سواد الليل، وقد كفر الرجل متاعه [أي:] (¬6) أوعاه في وعاء (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج): (رزشت). (¬2) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، وقيل: لأبي مهدي. وقبله: هل تعرف الدار بأعلى ذى القور؟ يقول: درست معالم الدار إلا رماداً مكفوراً، أي: سفت عليه الريح، والأبيات في "إصلاح المنطق" ص 340، وفي "التهذيب" (كفر) 4/ 3162، "الصحاح" (كفر) 2/ 807، "المخصص" 6/ 78، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 2/ 679، "مقاييس اللغة" (كفر) 10/ 198، "اللسان" (كفر) 7/ 3900. وكلهم رووه (مروح ممطور) سوى (المخصص) فنصه مثل رواية المؤلف هنا. (¬3) هو حميد الأرقط. (¬4) في (ج): (ابلاج). (¬5) قال ابن السكيت. ويروى: (في كفر) وهما لغتان. وابن ذكاء: يعني الصبح، "إصلاح المنطق" ص 340، وانظر: "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، ورد البيت كذلك في "الصحاح" (كفر) 7/ 3900، "المخصص" 6/ 78، "المشوف المعلم" 2/ 679، "اللسان" (كفر) 7/ 3900، و"تفسير القرطبي" 1/ 160، "الدر المصون" 1/ 106. (¬6) في (أ)، (ج): (إلى)، وفي "إصلاح المنطق"، "التهذيب": (أي) وهو الصحيح. "الإصلاح" ص 340، "التهذيب" (كفر) 4/ 3162. (¬7) انتهى كلام ابن السكيت وهو في "الإصلاح" ص 339،340، "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3162، ونص الواحدي من "التهذيب".

وقال ابن المظفر (¬1): سمي الكافر: كافراً، لأن الكفر غطى قلبه كله. قال الأزهري: وهذا يحتاج إلى إيضاح. وهو: أن (الكفر) في اللغة: التغطية، فالكافر معناه: ذو الكفر، ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السلاح: كافر، وهو الذي غطاه السلاح. ومثله: رجل كاس أي: ذو كسوة، وناعل: ذو نعل (¬2). وقول ابن (¬3) السكيت في معنى الكافر أبين وأصح (¬4). والنعمة التي أنعم الله على العبد فكفرها (¬5) الكافر، أي: سترها، هي الهدى والآيات التي أبانت لذوي التمييز أن الله واحد لا شريك له، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر النعمة، أي: سترها وغطاها. ويجوز أن يقال: إن الكافر لما دعاه الله إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة أوجبها له إذا أجابه إلى ما دعاه إليه، فإذا لم (¬6) يجب كان كافرا لتلك النعمة، أي: مغطيا لها، مكذبًا بها، حاجبا لها عنه (¬7). قال شمر: قال بعض أهل العربية (¬8): الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقي ربه بشيء من ذلك ¬

_ (¬1) هو الليث. انظر: "التهذيب" (كفر) 4/ 3161، ومقدمة "التهذيب" 1/ 47. (¬2) في (التهذيب) بدل (فاعل: ذو نعل)، وماء دافق: ذو دفق 4/ 3161. (¬3) في (ج): (بن). (¬4) قال الأزهري: قلت: وما قاله ابن السكيت بيِّن صحيح، 4/ 3161. (¬5) في "التهذيب": (والنعم التي سترها الكافر هي الآيات التي أبانت لذي التمييز .. إلخ) 4/ 3162. (¬6) في "التهذيب": (.. فقد دعاه إلى نعمة ينعم بها عليه إذا قبلها، فلما رد ما دعاه إليه من توحيده كان كافرا نعمة الله ..)، 4/ 3161. (¬7) "التهذيب" (كفر) 4/ 3160، وقد تصرف الواحدي في نقل كلام الأزهري. (¬8) في "التهذيب" (قال شمر: قال بعض أهل العلم)، 4/ 3160.

لم يغفر له. فأما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد. وكذلك روي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6]، أي: الذين كفروا بتوحيد الله. وأما كفر الجحود: فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس، وكفر أمية بن أبي الصلت (¬1)، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، يعني: كفر الجحود. وأما كفر المعاندة: فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب حيث يقول: ولقد علمتُ بأنّ (¬2) دين محمد ... من خير أديان البرية دينا (¬3) لولا الملامةُ أو حِذارُ مسَبّةٍ ... لوجدتَني سمحاً (¬4) بذاك متينا (¬5) ¬

_ (¬1) شاعر جاهلي أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفر به حسدًا، كان له شعر جيد، وكان يخبر أن نبيًّا قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر به حسداً، ولما أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره قال: "آمن لسانه وكفر قلبه". وسبقت ترجمته، وانظر: "الخزانة" 1/ 249. (¬2) في (ج): (أن). (¬3) إلى هنا ينتهي السقط من (ب). (¬4) في (ب): (سحا). (¬5) كذا جاءت الأبيات في "التهذيب" 4/ 3160، "اللسان" (كفر) 7/ 3898، و"تفسير البغوي" 1/ 64، وفي "تفسير النسفي" 1/ 50، (ضمن مجموعة من التفاسير) وفيها (سمحا بذلك مبينا) وفي "تفسير القرطبي" (بقينا) 6/ 406. وذكرها المؤلف في "أسباب النزول" بمثل روايته لها هنا. ص 210.

وأما كفر النفاق: فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه. قال (¬1): والكفر -أيضا- يكون بمعنى: البراءة، كقول الله عز وجل خبرًا عن الشيطان {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ} [إبراهيم: 22]، أي تبرأت (¬2). ويقال: كفر كفراً وكفوراً، كما يقال: شكر شكراً وشكوراً (¬3) قال الله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:89]. وقوله تعالى: {سَوَآءُ عَلَيهِم}. السواء (¬4)، والعدل، والوسط، والقصد، والنصف: ألفاظ متقاربة في المعنى. يقال للعدل: السواء، قال زهير (¬5). أرُوني (¬6) خُطَّةً لا خَسْفَ فيها ... يُسَوِّي (¬7) بيننا فيها السَّوَاءُ (¬8) ¬

_ (¬1) أي: شمر. "التهذيب" 4/ 3160. (¬2) كلام شمر جميعه في "تهذيب اللغة" (كفر) 4/ 3160، "اللسان" (كفر) 7/ 3898، وانظر أنواع الكفر في "التصاريف" المنسوب ليحيى بن سلام ص 104، 105، و"النسفي" 1/ 50 (ضمن مجموعة من التفاسير). (¬3) "الحجة" لأبي علي1/ 245، وانظر "تهذيب اللغة" 4/ 3160. (¬4) الكلام في "الحجة" بنصه 1/ 245. وانظر "التصاريف" ص 111، 112، "تهذيب اللغة" 2/ 1795، "الصحاح" (سوا) 6/ 2384. (¬5) هو زهير بن أبي سلمى، أحد فحول شعراء الجاهلية، توفي قبل المبعث بسنة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 69، "الخزانة" 2/ 332. (¬6) في "الحجة" (أرونا) وفي الهامش في ط (أرني) 1/ 246. (¬7) في (ب): (يسوا). (¬8) رواية البيت في الديوان: أرونا سنة لا عيب فيها. يقول: أرونا سنة لا عيب فيها ولا ظلم، تسوى بيننا بالحق، "ديوان زهير" ص 84، "الحجة" 1/ 246، "تهذيب اللغة" "لفيف السين" 2/ 1795، "البحر" 1/ 347، "الدر المصون" 1/ 108.

وأنشد أبو زيد لعنترة (¬1): أبَينا فلا نُعطي السَّواءَ عدوَّنا ... قيامًا بأعضاد السَّراءِ المُعَطَّفِ (¬2) و (السواء): وسط الشيء، ومنه قوله: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} (¬3) [الصافات: 55]. و (سواء) مأخوذ من الاستواء والتساوي، وهو الاعتدال (¬4)، قال الشاعر: وليلٍ يقولُ المرءُ من ظلماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها (¬5) أي: معتدلة في البصر والإدراك. وقالوا: سِيٌّ بمعنى: سواء، كما قالوا: قِيّ وقَواء (¬6)، ولا يثنى (سواء) كما ثني (سيان) وإن كانوا قد جمعوه جمع التكسير في قولهم: ¬

_ (¬1) هو عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، كان شاعرًا، وكان أشجع أهل زمانه وأجودهم. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 149، "طبقات فحول الشعراء" 1/ 152، "الخزانة" 1/ 128. (¬2) البيت من قصيدة قالها عنترة يوم (عرار) يخاطب فيها بني حنيفة، قوله: السواء: الصلح، أعضاد: جمع عضد، وهو القوس، والسراء: شجر يتخذ منه القسي، المعطف: المعوج، انظر. "ديوان عنترة" ص 52، "نوادر أبي زيد" ص 377، "الحجة" 1/ 246. (¬3) كلمة (في) في الآية ساقط من (أ). (¬4) "الأضداد" لابن الأنباري ص 43. (¬5) البيت للأعشى كما في "ديوانه" ص 68، وفيه: "يقول القوم" سواء بصيرات .. " وهو في "الأضداد" لابن الأنباري ص 43، وفيه "يقول القوم"، "الطبري" 1/ 111، "البحر المحيط" 1/ 47، "القرطبي" 1/ 160، "الدر المصون" 1/ 107. (¬6) (القي) بالكسر والتشديد (فعل) من القوا (وهي الأرض القفر) "اللسان" (قوا) 6/ 3789، انظر: "الصحاح" 6/ 2470، "مقاييس اللغة" (قوي) 5/ 37.

(سواسية) (¬1). قال أبو الهيثم (¬2): يقال فلان وفلان سواء (¬3)، أي: متساويان، وقوم سواء، لأنه مصدر، لا يثنى ولا يجمع. قال الله عز وجل: {لَيسُواْ سَوَآء} [آل عمران: 113] أي: ليسوا مستوين (¬4)، وإذا قلت: سواء عليّ، احتجت أن تترجم عنه بشيئين، كقولك: سواء حرمتني أو أعطيتني. وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية (سواء) (¬5). قال أبو علي الفارسي: لم يصب ابن (¬6) السجستاني في ذلك، لأن الأخفش وأبا عمر الجرمي (¬7) زعما (¬8) أن ذلك لا يثنى، كأنهم استغنوا بتثنية (سي) (¬9) عن تثنية (سواء)، كما استغنوا عن (ودع)، بـ (ترك) (¬10). وأنشد أبو زيد: ¬

_ (¬1) في (ج): (سواء سييه). الكلام في "الحجة" لأبي علي 1/ 246، 247. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1793. (¬3) في "التهذيب": (فلان وفلان سواعد، أي: متساويان) وهو تصحيف 2/ 1795. (¬4) في (ب): (مستويين). (¬5) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 268. (¬6) في (ب): (لم يصف ممن). (¬7) هو صالح بن إسحاق، أبو عمر الجرمي، النحوي، بصري، قدم بغداد، لقي الفراء، وأخذ عن الأخفش وأبي عبيدة والأصمعي، وكان ذا دين وورع، توفى سنة خمس وعشرين ومائتين. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 9/ 313، "طبقات النحويين واللغويين" ص 174، (إنباه الرواة) 2/ 80، "وفيات الأعيان" 2/ 485. (¬8) في (ب): (زعموا). (¬9) في (ب): (بتثنيته شي). (¬10) في (ب) (بكرا). "الحجة" 1/ 268، وما بعده في "الحجة" في موضع آخر.

هلاّ، (¬1) كوصل ابن عمّارٍ تُواصلني ... ليس الرجالُ وإن سُوُّوا بأسواءِ (¬2) فـ (أسواء): ليس يخلو من (¬3) أن يكون جمع (سي) [أو (سواء) فإن كان جمع (سي)] (¬4) فهو كـ (مثل) و (أمثال) و (نقض) و (أنقاض)، وإن كان جمع (سواء) فهو كقولهم في النعت (¬5): جواد وأجواد، وفي الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه، وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا من جمعه على سواسية (¬6). وقوله تعالى: {ءَأَنذَرتَهُم} (¬7). الإنذار: إعلام مع تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذراً (¬8). وأنذرت يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: {فَقُل أَنذَرتُكُم صعِقَةً} [فصلت: 13] وقوله: {إِنَّا أَنذَرناكم عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] ويقال: أنذرتُه فنَذِرَ، أي: علم بموضع الخوف (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (مهلا). (¬2) أنشده أبو زيد في (النوادر) قال: (وقال رافع بن هريم، وأدرك الإسلام، ثم ذكر البيت وبيتين قبله، "النوادر" ص 282، وانظر: "الحجة" 1/ 247، "اللسان" (سوا) 4/ 2160. (¬3) (من) ساقطة من (ب). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في "الحجة": (وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم: جواد وأجواد ..)، 1/ 247. (¬6) انتهى من "الحجة" 1/ 247، 248. (¬7) في (أ) رسمت: (آنذرتهم). (¬8) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 253، وانظر (تفسير أبي الليث) 1/ 92، "تفسير الثعلبي" 1/ 48/أ. (¬9) "الحجة" 1/ 253، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 أ.

و (النذر) ما يجعله الإنسان على نفسه إن سلم مما يخافه (¬1). وقد جاء: النذير والنذر مصدرين كالإنذار (¬2)، فجاء المصدر على: (فعيل) و (فعل). وفي القرآن {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (¬3) وفيه {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]. وقيل في قوله: {نَذِيَرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36]: إنه مصدر في موضع الحال من قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 35]، كما تقول (¬4): جاء (¬5) ركضاً. فتجعل المصدر حالاً (¬6). وجعل (نذير) أيضًا مصدراً في قوله: {وَجَآءكُمُ اَلنذِير} [فاطر: 37] إذا فسر بأنه الشيب (¬7). ¬

_ (¬1) تعريف النذر اصطلاحًا: التزام قربة غير لازمة في أصل الشرع، بلفظ يشعر بذلك، انظر: "الروض المربع مع حاشية ابن قاسم" 7/ 496، "التعريفات" للجرجاني ص240، و"فقه السنة" 2/ 22. (¬2) في "الحجة": (وقالوا: النذير والنذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل ..) 1/ 254. (¬3) جزء من آية في الحج: 44، وسبأ: 45، وفاطر:26، والملك: 18. (¬4) (تقول) ساقط من (ب). (¬5) في (ج): (أجاء). (¬6) في "الحجة": (فأما قوله تعالى: {نَذِيَرًا لِلْبَشَرِ} فقد قيل فيه قولان: أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة والآخر: أن يكون حالا من قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} فإذا جعل (نذيرا) حالا مما في (قم) فإن (النذير) اسم فاعل بمعنى المنذر .. وإن جعلته حالا من قوله: {لَإِحْدَى الْكُبَرِ} فليس يخلو الحال أن يكون من المضاف أومن المضاف إليه .. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون (نذيرا) مصدرا، والمصدر يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاؤوا ركضًا، كما تقول: جاء ركضًا ..) 1/ 255. (¬7) في "الحجة". (.. فمن قال: إن النذير النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرًا كالإنذار)، "الحجة" 1/ 255.

وفي قوله: {ءَأَنذَرتَهُم} وجهان من القراءة (¬1) تحقيق الهمزتين، وتليين الثانية (¬2). فمن حققهما (¬3) فحجته (¬4): أن الهمزة حرف من حروف الحلق، فجاز أن يجتمع مع مثله كسائر الحروف الحلقية، نحو: فَهَّ (¬5) وفَهِهْتُ، وكَعَّ (¬6) وكَعَعْتُ، كذلك حكم الهمزة. ومما يقوّي ذلك قولهم: (رَأّس) (¬7) وسأّل، (تذأَّبت الريح) (¬8)، و (رأيت (¬9) الرجل). وكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع (¬10). ¬

_ (¬1) (من القراءة) ساقط من (ب). (¬2) بالتحقيق قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر. "السبعة" لابن مجاهد ص 137، "الكشف عن وجوه القراءات" 1/ 73. وبتليين الثانية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. "السبعة" لابن مجاهد ص 137، "الكشف" 1/ 73 قال في (السبعة). من قول أبي عمرو أنه يدخل بين الهمزتين ألفا. (¬3) في (ب): (حققها) وفي (ج): (حقق). (¬4) "الحجة" 1/ 274. (¬5) الفهّ: الكليل اللسان العيي، وفه عن الشيء: نسيه، وقد فهه كفرح. عيي. انظر: "اللسان" (فهه) 6/ 3481، "القاموس" (فهه) ص 1251. (¬6) الكع. الضعيف العاجز، وكع الوجه: رقيقه، وكع يكع: جبن وضعف. انظر. "اللسان" (كعع) 8/ 312، "القاموس" (كع) ص 759. (¬7) وهو الذي يبيع الرؤوس. إصلاح المنطق ص 148. (¬8) (تذأبت الريح) إذا جاءت مرة من هاهنا، ومرة من هاهنا. "إصلاح المنطق" ص 144، " اللسان" (ذأب) 3/ 1479. (¬9) رأيته: إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. انظر: "القاموس" ص 1285. (¬10) "الحجة" 1/ 275، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 73.

وحجة من خفف (¬1) الثانية: أن القرب قد رفضت جمعهما (¬2) في مواضع من كلامهم، من ذلك أنهما (¬3) لما اجتمعتا في (آدم) و (آدر) و (آخر) ألزموا جميعا الثانية البدل (¬4) ولم يحققوها. ولما كسروا وحقروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة مالا أصل له في الهمزة فقالوا: أواخر وأويخر (¬5)، فأبدلوا منها (الواو)، كما أبدلوها مما هو ألفط لا يناسب (¬6) الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب، وفي هذا دلالة بينة على رفضهم اجتماعهما. ألا تراهم لم يرجعوها (¬7) في التحقير والتكسير، كما رجعوا (الواو) في: ميقات وميعاد (¬8)، و (الياء) في: موسر (¬9)، في قولهم: مواقيت ومياسير، وفي ذلك دلالة بينة على رفضهم لجمعها (¬10). ومن ذلك أيضا أنا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما ¬

_ (¬1) في (ب): (حقق). (¬2) في (ب): (جمعها). (¬3) في "الحجة" (أنهم لما اجتمعتا ...)، 1/ 275. (¬4) أبدلوا مكانها الألف، انظر "الكتاب" 3/ 552. (¬5) وقالوا في آدم: أوادم في الجمع، وفي التصغير: أويدم. انظر "الكتاب" 3/ 552. (¬6) في (أ): (تناسب) وما في (ب)، (ج) موافق لما في "الحجة" 1/ 276. (¬7) في (ب): (يرجعوا لها). (¬8) (وميعاد) ساقط من (ب). (¬9) في (ب): (مولس) (¬10) (لجمعها) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة" (لجمعهما) 1/ 276، وهذا هو الصحيح أي: جمع الهمزتين.

وجدنا في سائر أخوات الهمزة من الحلقية كقولهم: مهاه (¬1)، فهّ (¬2)، و {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2]، و (مح) (¬3) و (ألح) و (مخ) (¬4). فإذا لم يجمعوا بين الهمزتين في المواضع (¬5) التي جمع فيها بين أخواتها (¬6)، دل ذلك على رفضهم (¬7) لجمعها (¬8). ومن ذلك (¬9) أنهم ألزموا باب (رزيئة) و (خطيئة) (¬10) القلب (¬11) في الجمع، لما يؤدي اجتماع الهمزتين، فقالوا: (خطايا) و (رزايا) (¬12)، فلو ¬

_ (¬1) المهه والمهاه. النضارة والحسن، وقيل: الشيء الحقير اليسير، والهاء فيها لا تصير تاء، إلا إذا أردت بالمهاة. البقرة. انظر: "اللسان" (مهه) 7/ 4290. (¬2) في (أ): (فة) وفي "الحجة" (فه) بدون نقط وهو الصحيح 1/ 276، فه عن الشيء: إذا نسيه، والفه: اللسان العيى. "اللسان" (فهه) 6/ 3481. (¬3) (مح): المح: الثوب الخلق، مح: أخلق. "اللسان" (محح) 7/ 4143. (¬4) في (أ): (مح) وفي (ب)، (ج) بدون نقط أو تشكيل. وفي "الحجة" (مخ) 1/ 276. (¬5) في "الحجة": (الموضع) 1/ 276. (¬6) في "الحجة": (وكررت) 1/ 276، أي جمع بين حروف الحلق وكررت (¬7) في (ب). (بعصهم). (¬8) في "الحجة": (لجمعهما) 1/ 276 أي الهمزتين. (¬9) انظر بقية كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 277. (¬10) في (ج): (ذربه) و (خطئه). (¬11) في "الحجة": (.. عما يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا ...) 1/ 277. (¬12) قال المازني: (اعلم أنك إذا جمعت (خطيئة) و (رزيئة) على (فعائل) قلت: (خطايا) و (رزايا) وما أشبه هذا مما لامه همزة في الأصل، لأنك همزت ياء (خطيئة) و (رزيئة) في الجمع كما همزت ياء (قبيلة) و (سفينة) حين قلت: (قبائل) و (سفائن) وموضع اللام من (خطيئة) مهموز فاجتمع همزتان، فقلبت الثانية ياء، لاجتماع الهمزتين فصارت (خطائى) ثم أبدلت مكان الياء ألفاء ... فصارت (خطاءا) وتقديرها: (خطاءا) والهمزة قريبة المخرج من الألف فكأنك جمعت =

كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنه لو كان لتحرك العينات في نحو: (قال) و (باع) مجاز، ما ألزموها القلب (¬1). فإن قيل: فقد حكى عن بعضهم: (خطائئ) بتحقيق الهمزتين (¬2)؟ قيل: هذا يجري مجرى الأصول المرفوضة (¬3) نحو: ............. ضننوا (¬4) ........... والأظلل (¬5) ولا يعتد بذلك (¬6). ¬

_ = بين ثلاث ألفات فلما كان كذلك أبدلوا من الهمزة (ياء) فصار (خطايا)، "المنصف" 2/ 54, 55. (¬1) (القلب) ساقط من (ب). (¬2) انظر "المقتضب" 1/ 159، "المنصف" 2/ 57، "سر صناعة الإعراب" 1/ 71، قال ابن جني: حكاه أبو زيد. (¬3) قال أبو الفتح ابن جني: شاذ لا يقاس عليه. "سر صناعة الإعراب" 1/ 72. (¬4) جزء من بيت كما في "الحجة" 1/ 277 وتمامه: مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا أراد. ضنوا، فأظهر التضعيف لضرورة الشعر. انظر "الكتاب" 1/ 29، 3/ 535، "النوادر" لأبي زيد ص 230، "المقتضب" 1/ 142، 253، "المنصف" 1/ 339 "اللسان" (ضنن) 5/ 2614، "ظلل" 5/ 2756. (¬5) المراد بالأظلل ما ورد في قول الراجز: تشكو الوجى من أظلل وأظلل ففك الإدغام في (أظلل) ضرورة، والبيت للعجاج، وبعضهم نسبه لأبي النجم. وهو في "ديوان العجاج" ص 155، "الكتاب" 3/ 535، "النوادر" ص 230، "المقتضب" 1/ 252،3/ 354، "الخصائص" 1/ 161، 3/ 87، "المنصف" 1/ 339 "اللسان" (ظلل) 4/ 2756، و (ملل) 7/ 4271، وقوله (تشكو): أي: الإبل و (الوجى): الحفى، الأظلل: باطن الخف. (¬6) "الحجة" 1/ 277، 278.

ومن ذلك أيضا أنهم إذا بنوا اسم فاعل من (¬1) (ناء) و (شاء) [و (جاء) (¬2) قالوا: (شاءٍ) (¬3)] و (ناءٍ) (¬4)، فرفضوا الجمع بينهما ورفضوه في هذا الطرف كما رفضوه أولا في: (آدم) و (آخر) (¬5). ومن ذلك أيضًا أن من قال: هذا فرجّ، وهو يجعلّ، فضاعف (¬6) في الوقف حرصاً على البيان، في يضاعف نحو: (البناء) (¬7)، و (الرشاء)، لكنه رفض (¬8) هذا الضرب (¬9) من الوقف، وما كان يحرص عليه من البيان لما كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه من اجتماع الهمزتين (¬10). وإذا كان الأمر على هذا (¬11)، فالجمع في: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} (¬12) أقبح من الجمع في كلمتين منفصلتين، نحو: قرأ أبوك، ورشاء أخيك، لأن الهمزة ¬

_ (¬1) في (ب): (على من) زيادة (على). (¬2) في "الحجة" (ناء وساء وشاء). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (تا). وترك التمثيل لاسم الفاعل من (جاء) وهو: (جاء) والأصل فيها (شائئ) و (جائئ) و (نائئ) فلما التقت همزتان أبدلت الثانية (ياء) ثم عوملت مثل (قاض). انظر: "المنصف" 2/ 52. (¬5) انظر بقية كلام أبي علي في: "الحجة" 1/ 278. (¬6) في (ب): (تضاعف). (¬7) في "الحجة" (النبأ). (¬8) في (ب): (نفض). (¬9) في (ب): (الصوت). (¬10) "الحجة" 1/ 279. (¬11) أي: رفض اجتماع الهمزتين. قال أبو علي بعد سياق تلك الحجج، (فهذِه الأشياء تدل على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم. فأما جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح ....) 1/ 280. (¬12) في (أ)، (ب): (أنذرتهم) بهمزة واحدة، وما في (ج) موافق لما في "الحجة".

الأولى من {أَأَنْذَرْتَهُمْ} تنزل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد (¬1)، ألا ترى أنهم قالوا (¬2): لهو ولهي، فخففوا كما خففوا: عضدا (¬3)، فكذلك الهمزة الأولى، لما لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر (¬4). فأما إذا كانتا (¬5) من كلمتين، فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا (¬6)، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يرد ويعض، لا يكون فيها (¬7) إلا الإدغام. ولو كانا منفصلين نحو: (يد داود)، لكنت (¬8) في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق الهمزتين في: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} (¬9) -وما أشبهه- أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين. ومما يقوي ترك الجمع بين الهمزتين: أنهم قالوا في جمع (ذؤابة): ذوائب، فأبدلوا (¬10) من الهمزة التي هي عين (¬11) (واوا) في التكسير كراهة ¬

_ (¬1) في (ب): (منفرد). (¬2) في (ب): (إذا قالوا). (¬3) أصلها: (عضد). (¬4) في (ب): (آخرها). (¬5) أي: (الهمزتان) (¬6) قال سيبويه: (وأعلم أن الهمزتين إذا التقتا وكانت كل واحدة منهما من كلمة فإن أهل التحقيق يخففون إحداهما ويستثقلون تحقيقهما ...)، "الكتاب" 3/ 548. (¬7) في "الحجة" (فيهما) 1/ 280. (¬8) في (ب): (الكنت). (¬9) في جميع النسخ (أنذرتهم) بهمزة واحدة والتصحيح من "الحجة" 1/ 281. (¬10) في (ب): (وأبدلوا). (¬11) في (ب): (غير).

للهمزتين مع فصل حرف بينهما. فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما، فأن (¬1) يكرهوهما غير مفصول بينهما بشيء أجدر (¬2). وأيضاً فإنهم كرهوا (¬3) الهمزة المفردة حتى قلبوها أو حذفوها، وذلك إجماعهم (¬4) في (¬5) (يرى) (¬6) على حذف الهمزة (¬7)، فلما كرهوا ذلك في الإفراد وجب أن لا يجوز في المتكرر (¬8) إلا التغيير. وإذا كان الجمع بينهما في [البعد على هذا، فالجمع بينهما في] (¬9): (أئمة) (¬10) أبعد، لأن الهمزتين لا تفارقان الكلمة (¬11)، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره، فلما كانت أشد لزومًا للكلمة كان التحقيق ¬

_ (¬1) في (ب): (وإن). (¬2) في (ب): (واحد). "الحجة" لأبي علي 1/ 281. (¬3) الضمير يعود على من يقول بتخفيف الهمزة، قال في "الحجة": (من ذلك أن الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة، كرهها أهل التخفيف، حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا، يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في: (يرى) ..)، 1/ 279. (¬4) أي. أهل التخفيف والتحقيق. انظر كلام أبي علي السابق. (¬5) (في) ساقطة من (ج). (¬6) في (ب): (ترى). (¬7) (يرى) مضارع (رأى) اتفق أهل تحقيق الهمزة، وتخفيفها، على حذفها على التخفيف. انظر "الكتاب" 3/ 546، "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص 83، "سر صناعة الإعراب" 1/ 76. (¬8) أي: الهمزة المكررة. "الحجة" 1/ 279. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬10) في (أ): (أأيمة) وفي (ب)، (ج): (أئمة) ومثله في "الحجة" 1/ 281. (¬11) في (ب): (الضمة).

فيها أبعد (¬1). وأما أبو عمرو فكان يلين الثانية ويجعل بينهما مدة (¬2). وحجته: أنه وإن خفف الثانية بأن جعلها بين الألف والهمز، فذلك لا يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف؛ ألا ترى أنها إذا كانت مخففة في الوزن مثلها إذا كانت محققة (¬3)، فلولا ذلك لم يتزن (¬4) قوله (¬5): .... آأنتَ (¬6) زيد الأراقم (¬7) ¬

_ (¬1) يشير إلى أن التحقيق في (أئمة) أبعد، لأن الهمزتين لا تفارقان الكلمة، بينما الهمزة الأولى في (أأنذرتهم) همزة استفهام قد تسقط، فهي كالمنفصلة، ومع ذلك كرهوا تحقيقها. وبعد هذا الاحتجاج الطويل لمن يرى تخفيف الهمزة الثانية الذي نقله الواحدي عن أبي علي من كتاب "الحجة"، والذي هو مذهب أكثر النحويين وعليه أكثر العرب، كما قال سيبويه: (فليس من كلام العرب أن تلتقى همزتان فتحققا ...) انظر "الكتاب" 3/ 548، 549، وانظر "المقتضب" 1/ 158، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41 - 45، مع ذلك فقراءة التحقيق قراءة سبعية متواترة من حيث السند، ولها حجتها من اللغة. انظر "الكشف" لمكي1/ 73، ولا يقال فيها ما قال أبو الفتح عثمان بن جني: قراءة أهل الكوفة أئمة شاذة عندنا. "سر صناعة الإعراب" 1/ 72 وإن كان يريد من الناحية اللغوية. (¬2) انظر "السبعة" ص 136، "الحجة" لأبي علي 1/ 385، "الكتاب" 3/ 551، قال في "الكشف": وهو مذهب أبي عمرو، وقالون عن نافع، وهشام عن عامر 1/ 74. (¬3) في (ب) , (ج): (مخففة). (¬4) في (ب): (تبرز). (¬5) أي: لو لم تكن الهمزة المخففة بزنة المحققة لا نكسر وزن الشعر. انظر "الكتاب" 3/ 550، "الحجة" 1/ 385. (¬6) في (ب) (أنت). (¬7) الكلام بنصه في "الحجة"، قال: (.. ولولا ذلك لم يتزن قوله: أأن رأت رجلاً =

لأنه يجتمع (¬1) ثلاث سواكن، وإذا كان كذلك فتجعل (¬2) بينهما (مدة)، لئلا تكون جامعاً بين الهمزتين. وقوله تعالى: {ءَأَنذَرتَهُم}: لفظه لفظ الاستفهام (¬3)، ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولك: ما أبالي (¬4) أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت (¬5) أم أدبرت. وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا، لأن فيه التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا استفهمت فقلت: أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنك (¬6) إذا أخبرت (¬7) فقلت. سواء عليّ أقعدت أم قمت، فقد سويت الأمرين ¬

_ = أعشى "الحجة" 1/ 285، 286. فاستشهد أبو علي ببيت الأعشى، وهو شاهد سيبويه على هذِه المسألة انظر "الكتاب" 3/ 550. أما الواحدي فاستشهد ببيت ذي الرمة، الذي استشهد به الثعلبي في (تفسيره) ونصه: تطاللت فاستشرفته فعرفته ... فقلت له: آأنت زيد الأراقم وروايته في "ديوان ذي الرمة"، وفي "الحجة" وغيرهما (زيد الأرانب). نظر "تفسير الثعلبي" 1/ 48/ أ، "الحجة" 1/ 279، "تهذيب اللغة" (اجتماع الهمزتين) 1/ 73، "اللسان" (حرف الهمزة) 1/ 18، "ديوان ذى الرمة" 3/ 1849. (¬1) في (ب): (لأنه كان تجتمع) مثله في "الحجة": (لأنه كان يجتمع فيه ساكنان) 1/ 286، وقصد الواحدي بثلاثة سواكن هي: السكون الذي في مدة الهمزة الأولى وسكون الثانية على الاحتمال الممنوع، وسكون النون. (¬2) في (ب): (يجعل)، (ويكون) بالياء في الموضعين. (¬3) من قوله: وقوله تعالى {ءَأَنذَرْتَهُم} .. نقله من "الحجة" بنصه، 1/ 264. (¬4) في (ب): (لا أبالي). (¬5) في (ب): (أقبلت). (¬6) في (ب): (أنت). (¬7) في (ب): (اختبرت).

عليك، فلما عمتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام، فكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما (¬1). وحرر أبو إسحاق هذا الفصل فقال (¬2): إنما (¬3) دخلت ألف الاستفهام وأم التي هي للاستفهام (¬4)، والكلام خبر، لمعنى التسوية، والتسوية آلتها (¬5) الاستفهام وأم. تقول من ذلك (¬6): أزيد في الدار أم عمرو؟ فإنما دخلت الألف وأم، لأن علمك (¬7) قد استوى في زيد وعمرو، وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة، ولكنك استدعيت (¬8) أن يبين (¬9) لك الذي علمت ويلخص (¬10) لك علمه من غيره، ولهذا تقول (¬11). قد علمت أزيد في الدار أم عمرو، وإنما تريد أن تسوي عند من تخبره العام الذي قد خلص ¬

_ (¬1) انتهى ما نقله عن أبي علي من "الحجة" 1/ 264، 265، ونحوه قال أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 31 وانظر. الطبري 1/ 111، وابن عطية 1/ 154 - 155. (¬2) في "معاني القرآن" 1/ 41. (¬3) في (ب): (إذا). (¬4) في (ب): (الاستفهام). (¬5) في "معاني القرآن": (والكلام خبر فإنما وقع ذلك لمعنى التسوية، والتسوية آلتها (ألف) الاستفهام و (أم)، تقول: أزيد في الدار أم عمر.). 1/ 41. (¬6) في (ب): (في ذلك) وفي (ج) (يقول). (¬7) في (ب): (عليك). (¬8) في "المعاني": (أردت) 1/ 41. (¬9) في (ب): (تبين). (¬10) كذا رسمت في (أ)، (ج)، وفي (ب) (ويلحظ) وفي "المعاني" (ويخلص) وهو الأصوب. (¬11) في (ج): (يقول).

عندك (¬1). ولا يجوز هاهنا (أو) مكان (أم) لأن (أم) للتسوية بين الشيئين، و (أو) إنما هي لأحد شيئين (¬2)، يدلك (¬3) على هذا أن (أم) (¬4) تكون مع الألف بتأويل (أي) فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فكأنك قلت: أيهما (¬5) عندك، [وإذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ لم يكن على معنى: أيهما عندك (¬6)]، هذا اختلاف الجواب، لأنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فجوابه: زيد أو عمرو (¬7)، وكذلك في (أي) جوابه أن يذكر أحد الاسمين بعينه، فأما إذا قلت: أزيد عندك أو عمرو؟ فجوابه: نعم أو لا، فهذا فرق بينهما واضح (¬8). ومثل هذه الآية قوله (¬9): {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] و {سَوَاءٌ} في الآية رفع بالابتداء، ويقوم {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} مقام الخبر في المعنى، كأنه بمنزلة قولك: (سواء عليهم الإنذار وتركه) لا ¬

_ (¬1) انتهى كلام الزجاج 1/ 41، وانظر الطبري 1/ 111. (¬2) انظر: "الحجة" 1/ 265، 266، "مغني اللبيب" 1/ 43. (¬3) في (ب): (فذلك). (¬4) في (ب): (لم). (¬5) في (ب): (أنهما). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (ونحوا به زيدا وعمرا). (¬8) انظر: "الكتاب" 3/ 169، 170، 171، "مغني اللبيب" 1/ 42. (¬9) انظر: "الحجة" 1/ 271.

في الإعراب، لأنك إذا قدرت هذا التقدير في الإعراب صار {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} خبراً مقدَّمًا (¬1). والجملة في موضع رفع، بأنها (¬2) خبر {إن} (¬3). ويجوز أن يكون خبر {إن} قوله: {لَا يؤْمِنُونَ} كأنه قيل: (إن الذين كفروا لا يؤمنون سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم). فيكون قوله: {سَوَآءٌ عَلَيهمءَأَنذَرتَهُم} جملة معترضة بين الاسم والخبر، وجاز ذلك، لأنه تأكيد لامتناعهم عن الإيمان (¬4)، ولو كان كلاماً أجنبياً لم يجز اعتراضه بينهما، وسترى لهذا (¬5) نظائر. ومعنى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِم} أي: معتدل متساو، و {سَوَآءٌ} اسم مشتق من التساوي. يقول: هما عندي سواء، ومنه قوله {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، يعني: أعلمهم (¬6) حتى يستوي علمك وعلمهم (¬7). و {سَوَآءٌ اَلْجَحِيمِ} [الصافات:55] وسطه، لاستواء مقادير نواحيه إليه. ¬

_ (¬1) قال أبو علي. (.. فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا .. وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون خبرا لأنه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام ..)، "الحجة" 1/ 269، (¬2) في (ب): (بأن). (¬3) "الحجة"، 1/ 268، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41. (¬4) "الحجة" 1/ 268، 269، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 41، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 134، "المشكل" لمكي 1/ 20، "الدر المصون" للسمين الحلبي 1/ 105. (¬5) في (ب): (لها). (¬6) في (أ)، (ج): (علمهم). وأثبت ما في (ب)، لأنه المناسب للسياق. (¬7) ذكره الطبري 10/ 27، وانظر: "الثعلبي" 1/ 48 أ.

وقول القائل: (سواك وسواءك) (¬1) أي (¬2): من هو في مكانك بدلا منك لاستوائه (¬3) في مكانك. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة (¬4) على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول اختيار ابن جرير، قال: لأن الله تعالى إنما ذكر هؤلاء عقيب مؤمني أهل الكتاب، فذكر بعد مؤمنيهم كافريهم، والكلام بعضه لبعض تبع (¬5). وقال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة (¬6) من أهل بيته (¬7). وقال الربيع: نزلت في قادة الأحزاب يوم بدر (¬8)، وكذلك الآية التي بعدها. ¬

_ (¬1) في (أ): (سواؤك) و (ب): (سواك) و (ج): (سوائك)، والتصحيح من "الحجة" 1/ 250، 251، وانظر "الأضداد" لابن الأنباري ص 40، وقد سبق كلام الواحدي عن (سواء) في أول تفسير الآية. (¬2) (أي) ساقطة من (ب). (¬3) في (ب): (لاستوائك). (¬4) ذكره الطبري 1/ 108، وابن أبي حاتم 1/ 186 - 187 وذكره الثعلبي عن الكلبي 1/ 47 ب، ومثله أبو الليث 1/ 92، والبغوي 1/ 64، وانظر ابن كثير 1/ 48. (¬5) "تفسير الطبري" 1/ 109. (¬6) في (ب): (وحمته). (¬7) ذكره الثعلبي1/ 47 ب. (¬8) أخرجه الطبري بسنده عن الربيع 1/ 109، وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية 1/ 40، وفي حاشيته: قال المحقق: في سنده اضطراب وذكره ابن كثير، قال: قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ثم ذكره، 1/ 48. وذكره السيوطي في "الدر" عن أبي العالية ونسبه إلى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، 1/ 65، وهو عند ابن جرير عن الربيع بن أنس ولم يوصله لأبي العالية كما سبق.

7

قال أبو العالية: لم يسلم منهم إلا رجلان، وكانا مغموصاً عليهما في دينهما (¬1)، أحدهما: أبو سفيان (¬2)، والأخر: الحكم بن أبي العاص (¬3). ثم ذكر الله تعالى سبب تركهم الإيمان فقال: 7 - {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم} الآية. (الختم) في اللغة بمعنى: الطبع، والخاتم: الفاعل. وأصله من آخر الشيء (¬4)، ومنه قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]، قال ابن مسعود: عاقبته (¬5) طعم المسك (¬6) وروي ¬

_ (¬1) هذِه الزيادة عن أبي العالية، ذكرها النحاس في "القطع والائتناف" ص 116، والسيوطي في "الدر" ولفظه: (ولم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان أبو سفيان، والحكم بن أبي العاص)، ولم ترد عند ابن جرير ولا ابن أبي حاتم، كما أن قوله (وكان مغموصاً عليهما في دينهما) لم يذكرها السيوطي. "الدر" 1/ 65. (¬2) أبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، رأس قريش وقائدهم في يوم الأحزاب، أسلم يوم الفتح، كان من دهاة العرب، توفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين. انظر ترجمته في "الإصابة" 2/ 178 - 179، "سير أعلام النبلاء" 2/ 105 - 107. (¬3) الحكم بن أبي العاص بن أمية، ابن عم أبي سفيان، من مسلمة الفتح، وله نصيب من الصحبة، نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، وأقدمه للمدينة عثمان - رضي الله عنه - مات سنة إحدى وثلاثين. انظر ترجمته في: "الإصابة" 1/ 345، "سير أعلام النبلاء" 2/ 107، "الجرح والتعديل" 3/ 120. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ختم) 1/ 983 - 984، وفيه: خاتم كل شيء: آخره. (¬5) في (ج): (عاقبه). (¬6) ذكره الأزهري في "التهذيب" (ختم) 1/ 984، وأخرج الطبري عن ابن مسعود في تفسير الآية: قال: (خلطه مسك) وعنه: (طعمه وريحه) وأخرج عن إبراهيم، والحسن: عاقبته مسك. الطبري 30/ 106، 107، وفي "الدر": أخرج سعيد بن منصور، وهناد؛ وابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في "البعث"، عن ابن مسعود، وفيه: (يجدون عاقبتها طعم المسك)، 6/ 544.

عن الحسن: مقطعه مسك (¬1). و {رَّحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25]: له ختام، أي عاقبه، قاله أبو عبيد (¬2)، ومنه: خاتم النبيين، أي آخرهم (¬3). قال الليث: وخاتمة السورة: آخرها، وخاتم كل شيء: آخره (¬4). ومنه ختم القرآن، لأنه حال الفراغ من قراءته، وختم الكتاب عند طيه والفراغ منه (¬5). وقيل في قول ابن مقبل (¬6) يصف الخمر: بالفُلْفُلِ الجَوْنِ والرُّمَّانِ مَخْتومُ (¬7) ¬

_ (¬1) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" 1/ 292. (¬2) لعل المراد أبو عبيدة كما في "الحجة" حيث قال: (وأظن أبا عبيدة اعتبر ما روي عن الحسن في تفسير الآية، لأنه قال في قوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}: له ختام، أي: عاقبة ختامه مسك، أي: عاقبته، وأنشد لابن مقبل ... فتأول الختام على العاقبة، ليس على الختم الذي هو الطبع، وهذا قول الحسن، مقطعه مسك)، "الحجة" 1/ 292، وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 290. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 344، "التهذيب" (ختم) 1/ 984. (¬4) ذكره الأزهري عن الليث، "تهذيب اللغة" (ختم) 1/ 984. (¬5) انظر: "العين" 4/ 242، "الصحاح" (ختم) 5/ 1908، "معجم مقاييس اللغة" (ختم) 2/ 245. (¬6) هو: الشاعر تميم بن أبي بن مقبل العجلاني، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وبلغ مائة وعشرين سنة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 297، "الإصابة" 1/ 187، "الخزانة" 1/ 231. (¬7) صدره في "الحجة": مما يفتق في الحانوت ناطفها وورد صدره في "ديوانه": صرف ترقرق في الناجود ناطلها يفتق: يشق، الحانوت: دكان الخمار، ناطفها: النطف سيلان الماء، الجون: يطلق على الأبيض والأسود، وقوله (ترقرق): تترقرق أي: تتلألأ، الناجون: =

أي لآخرها طعم الفلفل والرمان. قال الأزهري: أصل الختم: التغطية، وختم البذر (¬1) في الأرض إذا غطاه (¬2). وقال أبو إسحاق: معنى: ختم وطبع (¬3) في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء، والاستيثاق منه بأن لا يدخله شيء، كما قال: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وكذلك قوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (¬4) هذا كلام أبي إسحاق. واعلم أن الختم على الوعاء يمنع (¬5) الدخول فيه والخروج منه، كذلك الختم على قلوب الكفار يمنع دخول الإيمان فيها وخروج الكفر منها، وإنما يكون ذلك بأن يخلق الله الكفر فيها (¬6)، ويصدهم عن الهدى، ¬

_ = راووق الخمر الذي يصفي به، الناطل: مكيال الخمر. انظر: "الحجة" 1/ 292، 294، "ديوان ابن مقبل" ص 268، "المخصص" 2/ 149. (¬1) في (ب): (النذر). (¬2) "التهذيب" (ختم) 1/ 985، وفيه: (ختم البذر: تغطية). (¬3) في (ب): (تطبع). (¬4) جاءت في عدة آيات في التوبة {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93]، وفي النحل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108]، وفي محمد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]. والآية وردت في "تهذيب اللغة" ضمن كلام أبي إسحاق، "التهذيب" (ختم) 1/ 984، ويظهر أن الواحدي نقل كلام الزجاج عنه، وفي "معاني القرآن" للزجاج ورد مكانها: (طبع عليها بكفرهم) ووضع المحقق لها رقم (النساء:155)، وسياق آية النساء: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. انظر "معاني القرآن" للزجاج1/ 46. (¬5) في (ب): (ممنع). (¬6) قال ابن كثير: (.. ختم على قلوبهم، وحال بينهم وبين الهدى، جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل، وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن، وليس بقبيح ...)، =

ولا (¬1) يدخل الإيمان في قلوبهم كما قال: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]. فأما قول من قال: معنى {خَتَمَ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِهِم}: حكم الله بكفرهم (¬2)، فغير صحيح، لأن أحدنا يحكم بكفر الكافر، ولا يقال (¬3): ختم على قلبه. وذهب بعض المتأولين من القدرية إلى أن معنى {ختم الله على قلوبهم}: وسمها سمة (¬4) تدل (¬5) على أن فيها الكفر، لتعرفهم الملائكة بتلك السمة، وتفرق (¬6) بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشرع (¬7). قال: والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع ¬

_ = 1/ 49، وأما ما عبر به الواحدي من قوله: (بأن يخلق الله الكفر فيها ..) المعنى صحيح، فإن الله خالق كل شيء من الطاعات والكفر والمعاصي، لكن السلف لم يستعملوا هذا اللفظ تأدبا مع الله تعالى كما قال: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، فلم ينسب الشر إليه، مع أنه خالقه ونسب إليه الخير. (¬1) في (ب): (فلا يدخل). ولعله أولى. (¬2) ذكره الفارسي في "الحجة" 1/ 309، والثعلبي 1/ 48 ب، وهذا قول المعتزلة ذكره القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، أحد علمائهم في كتابه "متشابه القرآن" 1/ 51، 52 تحقيق عدنان زرزور. وانظر "الكشاف" للزمخشري 1/ 157 - 162، وانظر رد الأسكندري عليه في "الحاشية"، "البحر المحيط" 1/ 48. (¬3) في (ب): (ولان يقال). (¬4) في (ج): (وسمة). (¬5) في (ب): (يدل). (¬6) في (ب): (يفرق) (¬7) في (ب): (السرح) وفي (ج): (الشرح).

على قلبه (¬1). وهذا باطل, لأن الختم في اللغة ليس هو الإعلام، ولا يقال: ختمت على الشيء بمعنى: أعلمت عليه ومن حمل الختم على الإعلام فقد تشهى على أهل اللغة، وجر كلامهم إلى موافقة عقيدته. وقوله تعالى {عَلىَ قُلُوبِهِم}. قال الليث: القلب مضغة من الفؤاد، معلقة بالنياط (¬2). وكأنه أخص من الفؤاد، ولذلك (¬3) قالوا: أصبت حبة قلبه، وسويداء قلبه. وقيل: القلوب والأفئدة: قريبان من السواء (¬4). وقال بعضهم: سمي القلب قلبا لتقلبه (¬5)، وأنشد: ما سمي القلب (¬6) إلا من تقلبه ... والرأي (¬7) يصرف بالإنسان أطوارا (¬8) وقوله تعالى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. وحد السمع، لأنه مصدر، والمصادر ¬

_ = وهذا قول ثانٍ للمعتزلة. انظرة "متشابه القرآن" للهمذاني 1/ 51، 52، "البحر المحيط" 1/ 48. (¬1) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" عن قوم من المتأولين، 1/ 301. (¬2) "تهذيب اللغة" (قلب) 3/ 3026. (¬3) في (ب): (وكذلك). (¬4) في (ب): (العوا). (¬5) "تهذيب اللغة" (قلب) 3/ 3026. (¬6) في (ج): (ما سمي القلب قلبا إلا من ..). (¬7) في (ب): (الذي). (¬8) البيت في "التهذيب" (قلب) 3/ 3026، وكذا "اللسان" (قلب) 6/ 3714، بهذا النص، وورد في القرطبي 1/ 163، و"الدر المصون" 1/ 114، "روح المعاني" 1/ 135، شطره الثاني: =

لا تثنى ولا تجمع، [لأن المصدر ينبئ عن الفعل، فهو بمنزلة الفعل، والفعل لا يثنى ولا يجمع (¬1)] (¬2). وقال ابن الأنباري: أراد (¬3): وعلى مواضع سمعهم، فحذف المضاف، كما تقول العرب: تكلم المجلس، وهم يريدون أهله، وحذف المضاف كثير في التنزيل والكلام (¬4). وقيل: اكتفى من الجمع بالواحد (¬5)، كما قال الراعي (¬6): بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب (¬7) ¬

_ = فاحذر على القلب من قلب وتحويل غير منسوب في جميع المصادر. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 47، "تهذيب اللغة" (سمع) 2/ 1756، والثعلبي 1/ 48/ب، "تفسير أبي الليث" 1/ 93، "زاد المسير" 1/ 28، والقرطبي 1/ 165. وقيل: وحد السمع، لأن المسموع واحد وهو الصوت، وقرئ شاذا {وعلى أسماعهم}. انظر. "الفتوحات الإلهية" 1/ 15. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في جميع النسخ (أرادوا على) زيادة ألف بعد الواو والصحيح حذفها. (¬4) لم أجده منسوبا لابن الأنباري. وورد بمعناه في "تفسير أبي الليث" 1/ 93، والقرطبي 1/ 166، "تهذيب اللغة" (سمع) 2/ 1757. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 47، والثعلبي 1/ 48 ب، و"تفسير أبي الليث" 1/ 93، و"تهذيب اللغة" (سمع) ص 1757. (¬6) كذا نسبه الثعلبي 1/ 48 ب، والبيت لعلقمة بن عبدة الفحل كما في "الكتاب" وغيره. (¬7) البيت لعلقمة بن عبدة الفحل، قاله يصف طريقاً شاقًّا، قطعه لممدوحه. الحسرى: جمع حسير، والحسير: البعير المعيب يتركه أصحابه فيموت، وابيضت عظامه لما أكلت السباع والطير ما عليه من لحم، صليب: يابس لم يدبغ. الشاهد (جلدها) مفرد أريد به الجمع، أي: جلودها. =

وقال الله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، وهو كثير جدًّا. وقال سيبويه (¬1): توحيد السمع يدل على الجمع، لأنه توسط جمعين، كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48]. وتم الكلام (¬2) ههنا (¬3). ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} الأبصار جمع البصر، والبصر العين، إلا أنه مذكر، ويقال: تبصرت الشيء بمعنى رمقته (¬4)، ومنه قول زهير: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... ............. البيت (¬5) ¬

_ = انظر: "الكتاب" 1/ 209، و"معاني القرآن" للزجاج1/ 47، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 ب، والقرطبي 1/ 165، "الخزانة" 7/ 559، وفيها: (به جيف الحسرى ..)، "الدر المصون" 1/ 114، والرازي 2/ 53، وفيه: (الحيدى) بدل (الحسرى). (¬1) انظر. "الكتاب" 1/ 209، والنص من الثعلبي 1/ 48/ب. (¬2) في (ج): (السلام). (¬3) انظر. "معاني القرآن" للفراء1/ 13، "مجاز القرآن" 1/ 13 "تفسير الطبري" 113 - 114، "تفسير الثعلبي" 1/ 48/ ب، وذكر النحاس عن الأخفش سعيد، ويعقوب: أن وقف على (قلوبهم) كان أيضا تاما، وتعقبه النحاس فقال: (إذا وقف على (قلوبهم) وقدره بمعنى: وختم على سمعهم لم يكن الوقت على قلوبهم تماماً، لآن الثاني معطوف على الأول، وإن قدر الختم على القلوب خاصة فهو (تام) ..)، "القطع والائتناف" ص 116. (¬4) "تهذيب اللغة" (بصر) 1/ 340. (¬5) وتمامه كما في الديوان: تحملن بالعليا من فوق جرثم "ديوان زهير" ص 9. =

والغشاوة الغطاء (¬1)، ويقال للجلدة التي على الولد: غشاوة، ومنه غشى على المريض إذا دير به، لأنه لبسةٌ من حال المرض، ومنه غاشية السرج (¬2). وفيه ثلاث لغات: ضم الغين وفتحها وكسرها (¬3). والأفصح الكسر، لأن كل ما كان مشتملاً على شيء فهو مبني على (فعالة) كالعمامة والقلادة والعصابة. وكذلك أسماء الصناعات، لأن معنى الصناعة الاشتمال على (¬4) كل ما فيها، نحو: الخياطة والقصارة، وكذلك كل من استولى، فاسم ما استولى عليه الفعالة نحو: الخلافة والإمارة (¬5). قال أبو علي الفارسي: ولم أسمع منه فعلاً متصرفا بالواو، ولامه (ياء) لأنك تقول: غشي يغشى، والغشيان وغشيته أي: ألبسته وسترته، والغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت، في أن (الواو) كأنها بدل من (الياء) إذ (¬6) لم يصرف منه فعل بالواو كما لم يصرف من الجباوة (¬7). ¬

_ = الظعائن: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج تحمل على الإبل، بالعلياء: الأرض المرتفعة، جرثم: ماء معين. (¬1) في (ب): (والعطاء). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (غشى) 3/ 2668، "اللسان" (غشى) 6/ 3261. (¬3) ذكره في "الحجة"، قال: روى لنا عن الكسائي وعن غيره 1/ 31، وانظر: "اللسان" 6/ 3261. (¬4) (على) ساقطة من (ب). (¬5) في (ج): (الامارمه). والكلام بنصه في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 48، وانظر "تهذيب اللغة" (غشى) 3/ 2668، و"اللسان" (غشى) 6/ 3261 .. (¬6) في (أ)، (ج): (إذا) وفي (ب) و"الحجة": (إذ). وهو الأولى لصحة السياق. (¬7) في (ب): (الجباره). انظر كلام أبي علي في "الحجة" 1/ 300، نقله الواحدي بتصرف، قال ابن فارس (غشى): الغين والشين والحرف المعتل، أصل صحيح =

والأشهر في القراءة رفع الغشاوة (¬1)، لأنها لم تحمل على (ختم)، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، فلما (¬2) لم تحمل في هذه على (ختم) كذلك لا تحمل هاهنا (¬3)، وبقطعها عن ختم فتكون مرفوعة (¬4) بعلى (¬5). وقرأ المفضل (¬6) {غِشَاوَةٌ} بالنصب (¬7). وله وجهان: ¬

_ = يدل على تغطية شيء بشيء. "معجم مقاييس اللغة" 1/ 425. قال السمين الحلبي بعد أن ذكر كلام أبي علي: وظاهر عبارته أن الواو بدل من الياء، فالياء أصل؛ بدليل تصرف الفعل منها دون مادة الواو، والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين: غ ش و، غ ش ى، ثم تصرفوا في إحدى المادتين واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى، وهذا أقرب من ادعاء قلب الواو ياء من غير سبب ..)، "الدر المصون" 1/ 116. (¬1) قرأ السبعة كلهم برفع الغشاوة، إلا ما روى المفضل الضبي، عن عاصم أنه قرأ بالنصب. انظر "الحجة" لأبي علي 1/ 291، 312، وقال الطبري: إن قراءة الرفع هي الصحيحة، والنصب شاذة، 1/ 262، ونحوه قال أبو الليث في "تفسيره" 1/ 93. (¬2) في "الحجة": (فكما) 1/ 309. (¬3) في "الحجة" (كذلك لا تحمل في هذِه التي في مسألتنا) 1/ 309. (¬4) فى (ب): (فتكون من موسه بعلى). (¬5) في "الحجة": (ملها على (ختم) قطعها عنه وإذا قطعها عن (ختم) كانت مرفوعة إما بالظرف، وإما بالابتداء، "الحجة" 1/ 309. قال مكي: (غشاوة: رفع بالابتداء، والخبر. وعلى أبصارهم)، (المشكل) 1/ 20، وقال العكبري: (وعلى قول الأخفش (غشاوة) مرفوع بالجار كارتفاع الفاعل بالفعل)، "الإملاء" 1/ 15. (¬6) هو المفضل بن محمد الضبي الكوفي، إمام مقرئ، نحوي، إخباري، أخذ القراءة عن عاصم، ومات سنة ثمان وستين ومائة. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 13/ 121، "الأنساب" 8/ 385، "إنباه الرواة" 3/ 298، "غاية النهاية" 2/ 307. (¬7) قال ابن مجاهد: "قرأوا كلهم (غشاوة) في (البقرة) رفعا وبالألف، إلا أن المفضل =

أحدهما (¬1): أن تحمل على الفعل، كأنه قال: وختم على قلبه غشاوة، أي: بغشاوة فلما حذف الحرف وصل الفعل، ومعنى ختم عليه بغشاوة: مثل جعل على بصره غشاوة. ألا ترى أنه إذا ختمها بالغشاوة فقد جعلها فيها، والدليل على جواز حمل غشاوة على ختم هذا الظاهر قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل: 108]، وطبع في المعنى كختم، وقد حملت الأبصار على (طبع)، فكذلك (¬2) تحمل (¬3) على (ختم) (¬4). والوجه الثاني: ما قاله الفراء (¬5)، وهو أنه نصبها بإضمار (وجعل)، كقوله في الجاثية: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]. والكلام إذا اجتمع ودل أوله على آخره حسن الإضمار، كقولك: أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس، فـ (بنى) لا يقع على العبيد (¬6) وإلاماء، واللباس فبنى لا يقع على العبيد والإماء ولكنه (¬7)، صفات اليسار، فحسن الإضمار لما عرف، ومثله كثير. والذي لا يحسن من الإضمار (¬8) ما يشتبه ولا يعرف المعنى، كقولك: ضربت فلانًا وفلانًا، ¬

_ = ابن محمد الضبي روى عن عاصم (وعلى أبصارهم غشاوة) نصبا"، "السبعة" ص 141، "معاني القرآن" للفراء1/ 13، "الحجة" 1/ 291 "زاد المسير" 1/ 28. (¬1) في (ج): (أحدها). (¬2) (فكذلك) ساقطة من (ب). (¬3) في (ب): (حمل). (¬4) بنصه في "الحجة"،1/ 309، 310. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 13، 14، ونقله بتصرف يسير. (¬6) في (ب) (العبد). (¬7) في (ب): (لكن). (¬8) في (ب): (لا يشتبه).

وأنت تريد بالثاني: قتلت، لأنه ليس هاهنا دليل، وكذلك قولك: قد أعتقت يساراً أمس وآخر اليوم، وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم، فهذا لا يجوز، لأنه مختلف (¬1). قال الزجاج في هذه الآية: إنهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون، ولكن لم يستعملوا (¬2) هذه الحواس استعمالاً يجدي عليهم، فصاروا كمن لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر (¬3). وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. (العذاب): كل ما يُعَنَي الإنسان ويشق عليه، وذكرت اشتقاقه عند قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]. و (العظيم) فعيل من العظم، ومعنى العظم: هو كثرة المقدار في الجثة (¬4)، ثم استعير ذلك في الصفات، فقيل: كلام عظيم، [وأمر عظيم، أي: عظيم (¬5)] القدر، يريدون به المبالغة في وصفه، ومن هذا الباب العظام، لأنها من (¬6) أكبر ما ركب منه البدن، فالعظم في الأصل الزيادة على المقدار (¬7)، ثم ينقسم إلى عظم الأجسام، وعظم الشأن (¬8)، وهو ¬

_ (¬1) انتهى ما نقله عن الفراء، انظر "المعاني" 1/ 14. (¬2) في (ب): (لا يسمعوا). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 47. (¬4) في (ب): (الجنة). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) (من) ساقطة من (ب). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (عظم) 3/ 2488، "معجم المقاييس" (عظم) 4/ 355، "اللسان" (عظم) 5/ 3004. (¬8) في (ب): "اللسان".

8

منقول إلى عظم الشأن (¬1) من عظم الجثة، وكثر استعماله حتى صار حقيقة في الموضعين (¬2). ومعنى وصف العذاب بالعظم، هو المواصلة بين أجزاء الآلام بحيث لا تتخللها (¬3) فرجة، أو إحداث ألم في كل جزء، أو (¬4) يخلق ألما أشد من ألم. 8 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية. روى ثعلب عن سلمه (¬5) عن الفراء (¬6) قال: يكون (¬7) (من) ابتداء غاية، ويكون بعضًا، ويكون صلة، قال الله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61]. المعنى: مثقال ذرة (¬8). قال أبو عبيد (¬9): والعرب تضع (من) مواضع (مذ) يقال: ما رأيته من [سنة، أي:] (¬10) مذ سنة. قال زهير: ¬

_ (¬1) في (ب): "اللسان". (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 2/ 54. (¬3) في (ب): (لا محللها). (¬4) في (ب): (جزوو أو يحلو). (¬5) هو سلمة بن عاصم النحوي، روى عن الفراء، كان أديبا فاضلا، سمع منه ثعلب كتاب "لمعاني" للفراء، توفي بعد السبعين ومائتين. انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" ص 137، "معجم الأدباء" 3/ 391، "إنباه الرواة" 2/ 56، "غاية النهاية" 1/ 311. (¬6) في "تهذيب اللغة" (سلمه عن الفراء ثم ذكره بنصه). "التهذيب" (من) 4/ 3453. (¬7) في "التهذيب": (تكون) في المواضع الثلاثة. (¬8) في "التهذيب": (أي: ما يعزب عن علمه من مثقال ذرة) 4/ 3453. (¬9) "تهذيب اللغة" (من) 4/ 3454. (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

أقوين من حجج ومن شهر (¬1) أي: مذ حجج (¬2). ويكون (¬3) (من) بمعنى البدل، كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} [الزخرف: 60]. معناه: بدلكم (¬4)، وسنذكره في موضعه. (¬5) وأما الأصل [في (الناس) (¬6)] فقد أقرأني العروضي قال: أقرأني الأزهري قال (¬7): (أخبرني المنذري عن أبي الهيثم (¬8) أنه سأله (¬9) عن (الناس) (¬10) ما أصله؟ ¬

_ (¬1) مطلع قصيدة لزهير يمدح هرم بن سنان وصدره: لمن الديار بقنة الحجر القنة: أعلى الجبل، الحجر: بكسر الحاء منازل ثمود، ويروى بالفتح موضع باليمامة، أقوين: أقفرت، الحجج: بكسر الحاء جمع حجة وهي السنة، ومن شهر: واحد الشهور، ويروى ومن دهر. ورد البيت في "تهذيب اللغة" (من) 4/ 3454، "الجمل المنسوب" للخليل ص 161، "الجمل" للزجاجي ص 139، "مغني اللبيب" 1/ 335، "الهمع" 3/ 226، "شرح المفصل" 4/ 293،8/ 11، "الإنصاف" ص 315، "الخزانة" 9/ 439، "شرح ديوان زهير" ص 86. (¬2) أي: مذ حجج ومذ شهر. (¬3) في "التهذيب": (من) 4/ 3454. (¬4) في (ب): (بدله). (¬5) عند أبي عبيد وتكون (من) بمعنى: اللام الزائدة. انظر بقية كلامه في "التهذيب" (من) 4/ 3454، وذكر ابن هشام في "مغني اللبيب": أن (من) تأتي على خمسة عشر وجها، 1/ 318. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) (التهذيب) (أنس) 1/ 216. (¬8) في (ب) (أبي القاسم). (¬9) في (ج) (سأل). (¬10) (عن الناس) ساقط من (ب).

قال: أصله أناس (¬1)، والألف فيه أصلية، ثم زيدت عليه اللام التي نزاد مع الألف للتعريف (¬2)، وأصل تلك اللام سكون أبدا (¬3)، فصار (الأناس) ثم كثر في الكلام، وكانت الهمزة واسطة فاستثقلوها (¬4) فتركوها (¬5)، ثم أدغموا اللام في النون فقالوا: الناس، فلما طرحوا الألف واللام قالوا: (ناس) (¬6). وقد استعمله الشاعر على الأصل فقال: إن المنايا يَطّلعـ ... ـنَ على الأناس الآمنينا (¬7) قال الأزهري: وهذا قول حذاق (¬8) النحويين (¬9). و (الناس) لفظ وضع ¬

_ (¬1) في (التهذيب): (فقال أصله (الأناس)، لأن أصله (أناس) فالألف فيه أصلية .....) 1/ 217. (¬2) في (ب): (التعريف). (¬3) في "التهذيب" (وأصل تلك اللام سكون أبدا إلا في أحرف قليلة، مثل: الاسم والابن، وما أشبهها من الألفات الوصلية، فلما زادوهما على أناس صار الاسم: الأناس. ...) 1/ 217. (¬4) في (ب): (فاستقلوها). (¬5) في "التهذيب": (..... فتركوها وصار باقي الاسم (ألناس) بتحريك اللام في الضمة، فلما تحركت اللام والنون أدغموا اللام في النون ...) 1/ 217. (¬6) في "التهذيب": (فلما طرحوا الألف واللام ابتداء والاسم فقالوا: قال ناس من الناس. انتهى كلام أبي الهيثم في "التهذيب"، وقول الواحدي: وقد استعمله الشاعر ... الخ مع البيت ليس في "التهذيب" 1/ 217. (¬7) البيت لذي جدن الحميري، ورد في "مجالس العلماء" للزجاجي ص 70، "الخزانة" 2/ 280، "الخصائص" 3/ 151، "تفسير البيضاوي" 1/ 99، "الدر المصون" 1/ 119، "اللسان" (نوس) 8/ 4575. (¬8) في (ب): (خلاف). (¬9) في "التهذيب": (قلت: وهذا الذي قاله أبو الهيثم تعليل النحويين) وفي الهامش في (ج) (قول حذاق النحويين)، "التهذيب" 1/ 217.

للجمع، ولا واحد له من لفظه (¬1)، كالقوم والرهط والجيش، واختلفوا في تصغيره، فقيل: (أنيس) و (نويس). فمن قال: (أنيس) وهو قول أكثر النحويين (¬2)، دل على (¬3) أن أصله (أناس) لثبوت الهمزة في التصغير. ومن قال: نويس، جعل اشتقاق الناس من (النوس) وهو الاضطراب والحركة (¬4) يقال ناس ينوس إذا تذبذب وتحرك، وأناس إذا حرك (¬5). ومنه قول المرأة في حديث أم زرع: (أناس من حلي أذني) (¬6). ¬

_ (¬1) قال الطبري: (في الناس وجهان: أحدهما: أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه، وإنما واحدهم (إنسان) وواحدتهم (إنسانة). والوجه الأخر: أن يكون أصله (أناس) أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان ...) 1/ 116، وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 158 - 159، (البحر) 1/ 52 (الدر المصون) 1/ 118. (¬2) قال سيبويه: (ليس من العرب أحد إلا ويقول: نويس)، انظر "الكتاب" 3/ 457، وانظر "المسائل الحلبيات" لأبي علي الفارسي ص 171، 172. (¬3) (دل على) مطموس في (ب). (¬4) (الحركة) ساقطة من (ب). (¬5) في (ب): (إذ بريدت). (¬6) في (ب): (أرلى). قطعة من حديث طويل، فقد أخرج البخاري بسنده عن عائشة، قالت (جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً ...)، وفيه: (قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع أناس من حلي أذني .....). أخرجه البخاري (5189) كتاب النكاح، باب: حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم (2448) كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة، قال ابن حجر اختلف في رفعه ووقفه، ثم ذكر الخلاف في ذلك، وقال: (قلت: المرفوع منه في الصحيحين: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) وباقيه من قول عائشة، وجاء خارج الصحيحين مرفوعا كله ...). (الفتح) 9/ 255 - 257. وقد =

قال (¬1): وسمي الناس ناسًا، لأن من (¬2) شأنهم الحركة على الاختيار العقلي، والواو في التصغير يدل على هذا الاشتقاق، وواحد الناس: إنسان، لا من لفظه. وكان في الأصل (إنسيان)، وهو فعليان، والألف فيه (فاء) الفعل، ومثله في الكلام (حرصيان) وهو الجلد الذي يلي الجلد الأعلى من (¬3) الحيوان، ورجل حذريان، إذا كان حذرا، وإنما قلنا: إن أصله إنسيان، لأن العرب لم تختلف في تصغيره على أنيسيان (¬4). قال الأزهري (¬5): وأصل الإنس، والإنسان، والناس، من آنس يؤنس (¬6) إذا أبصر، لأنهم يؤنسون، أي: يبصرون، كما قيل للجن: جن، لأنهم مجتنّون، لا يؤنسون أي: لا يبصرون (¬7). وقد روي عن ابن عباس أنه ¬

_ = ذكر علماء اللغة وغريب الحديث أجزاء من الحديث، لما فيه من الألفاظ، فذكره أبو عبيد في "غريب الحديث"، 1/ 364 - 376، وورد في "الفائق" 3/ 48، 49، وذكر قطعة منه الأزهري في "التهذيب" 3/ 2451، وذكره السيوطي من طرق كثيرة في "المزهر" 2/ 449. (¬1) المراد الأزهري فبعد كلامه السابق الذي ذكره الواحدي وهو قوله: (قلت: وهذا الذي قاله أبو الهيثم تعليل النحويين ... قال: وإنسان في الأصل: إنسيان وهو فعليان من الإنس ... إلخ) وما بينهما ليس في "التهذيب". انظر "التهذيب" 1/ 216. (¬2) في (ب): (معنى). (¬3) في (ج): (بين). (¬4) انظر "تهذيب اللغة" (أنس) 1/ 216، وانظر "الكتاب" 3/ 486. (¬5) "تهذيب اللغة" (أنس). (¬6) في "التهذيب" (قلت: واصل الإنس والأنس والإنسان من الإيناس وهو الإبصار)، وفي الهامش في (ج) (وأصل الإنسان والناس من أنس يؤنس إذا أبصر)، 216 - 217. (¬7) انتهى كلام الأزهري. انظر: "التهذيب" 1/ 216 - 217.

قال: عهد الله سبحانه إلى آدم فنسي فسمي إنساناً (¬1) وإن صح هذا فالهمزة تكون زائدة (¬2). وذكر أبو علي في "المسائل الحلبية" (¬3): أن الكسائي قال: إن الأناس (¬4) لغة، والناس لغة أخرى (¬5)، كأنه يذهب إلى أن (الفاء) محذوف من الناس، كما يذهب إليه سيبويه (¬6)، والدلالة على أنهما من لفظ واحد، وليسا من كلمتين مختلفتين أنهم قالوا: (الأناس) في المعنى الذي قالوا فيه (الناس) وقالوا: الإنس والأنس والإنسي والأناسي (¬7)، وإذا كان كذلك ثبت أن الهمزة (فاء) الفعل، وأن الألف من (أناس) زائدة (¬8)، وأن (فاء) الفعل من الناس هي الهمزة المحذوفة، وهذا من مبادئ التصريف وأوائله (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 49 أ، والقرطبي 1/ 168. (¬2) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 171، والقرطبي 1/ 168، "الدر المصون" 1/ 119 ,120. (¬3) في (ب): (الجلسه). "المسائل الحلبيات" أحد كتب أبي علي المشهورة، طبع بتحقيق د/ حسن هنداوي، وقد نقل الواحدي كلام أبي علي بمعناه. انظر: "المسائل الحلبيات" ص 168 - 173. (¬4) في (ب): (الإنسان). (¬5) لم أجد هذا القول للكسائي في "المسائل الحلبيات". انظر: "المسائل الحلبيات" ص168 - 173، وانظر "تهذيب اللغة" (أنس) 1/ 216 - 217. (¬6) انظر "الكتاب" 2/ 196. (¬7) قوله: (وقالوا: الإنس والأنس والأنسي والأناسي) ليس فىِ "الحلبيات"، انظر ص 168 - 173. (¬8) في (ب): (فائده). (¬9) في (ج): (وأوئله). أنظر: "المسائل الحلبيات" ص 168.

ولو جاز لقائل أن (¬1) يقول: إن (ناسا) لسقوط الهمزة منه ليس من لفظ أناس، للزمه أن يقول: [قولهم (ويل أمه (¬2)) إذا حذفت الهمزة منه: ليست التي في (أمه) وأن يقول (¬3)]: (عدة) ليس من الوعد، لسقوط الواو منه التي هي (فاء) (¬4). وقوله تعالى: {مَن يَقُولُ}. روى سلمة، عن الفراء، عن الكسائي (¬5) قال: {مِنَ} يكون اسماً، ويكون شرطاً ويكون معرفة، ويكون نكرة، ويكون للواحد والاثنين (¬6) وللجميع، ويكون (¬7) للإنس (¬8) والملائكة والجن (¬9)، وهذه الوجوه كلها موجودة في التنزيل (¬10)، ستمر بك مشروحة ¬

_ (¬1) (أن) ساقطة من (ب). (¬2) إذا حذفت الهمزة منه يصير (ويلمه) الأصل فيها (ويل لأمه) أدغمت (لام) ويل في الجارة في (لأمه) ثم حذفت (لام) ويل لكثرة الاستعمال ثم حذفت الهمزة. انظر "المسائل الحلبيات" ص 43. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) في (ج): (فاء العمل). (¬5) في "التهذيب" سلمة عن الفراء عن الكسائي قال: (من) تكون اسما، وتكون جحدا، وتكون استفهاما، وتكون شرطا، وتكون معرفة، وتكون نكرة، وتكون للواحد، وتكون للأثنين، وتكون خصوصا، وتكون للأناس، والملائكة والجن وتكون للبهائم إذا خلطت بغيرها. "التهذيب" (من) 4/ 3453، وذكر في "مغني اللبيب" أن (من) تأتي على خمسة أوجه 1/ 327. (¬6) في (ب): وللأثنين. (¬7) في (ب): (تكون). (¬8) في (أ)، (ج): (الأنس). (¬9) في (ب): (للملائكة وللجن). (¬10) في "التهذيب" (قلت: هذِه الوجوه التي ذكرها الكسائي موجودة فىِ الكتاب ...)، ثم ذكر الأزهري أمثلة لها من القرآن. "التهذيب" 4/ 3453.

إن شاء الله. وإعرابها: الوقف (¬1)، لأنها لا تتم إلا بصلة، فلا يكون الإعراب في (¬2) بعض الاسم (¬3). وقوله تعالى: {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (اليوم) مقداره من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، وجمعه: أيام، وكان الأصل (أيوام) واجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما الأخرى بالسكون، فأدغمت (¬4). والآخر: نقيض المتقدم (¬5)، يعني باليوم الآخر: يوم القيامة، ويسمى (¬6) آخراً، لأنه (¬7) بعد أيام الدنيا، وقيل: لأنه (¬8) آخر يوم ليس بعده ليلة، والأيام إنما تتميز بالليالي (¬9)، فإذا لم يكن بعده ليل لم يكن بعده يوم على الحقيقة (¬10). وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. دخلت (الباء) مؤكدة لمعنى النفي، لأنك إذا قلت: (ما زيد أخوك) فلم يسمع السامع (ما) ظن أنك موجب، ¬

_ (¬1) أي: السكون. (¬2) في (ب): (من). (¬3) قال الزجاج في (المعاني): (لأنها لا تكون اسما تاما في الخبر إلا بصلة، فلا يكون الإعراب في بعض الاسم)، 1/ 49. (¬4) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" وفيه: (وجعلوا الياء هي الغالبة) أي: غلبوا (الياء) فقلبوا (الواو) (ياء) وأدغموها في (الياء). انظر "تهذيب اللغة" (يوم)، 4/ 3990. (¬5) ذكره الأزهري عن الليث. "التهذيب" (أخر) 1/ 131. (¬6) في (ب): (وسمى). (¬7) في (ب): (إلا أنه). (¬8) في (ب): (أنه). (¬9) قال الطبري: فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للآخرة، ولا فناء ولا زوال؟ قيل: إن اليوم عند العرب، إنما سمي يوما بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم، فيوم القيامة يوم لا ليل بعده .... 1/ 117. (¬10) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 159.

9

فإذا قلت: (ما زيد بأخيك) (¬1)، علم السامع أنك تنفي، وإن لم يسمع (ما) (¬2). وجمع في قوله: {وَمَا هُمْ} بعد التوحيد في {مَنْ يَقُولُ} لأن لفظ (¬3) (من) يصلح للواحد وللجميع (¬4). قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في المنافقين (¬5) حين أظهروا كلمة الإيمان وأسرّوا الكفر (¬6). فأخبر الله سبحانه أنهم يقولون: إنا مؤمنون، ويظهرون كلمة الإيمان، ثم نفى عنهم الإيمان فقال {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فدل أن حقيقة الإيمان ليس الإقرار فقط (¬7). 9 - قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية. {يُخَادِعُونَ}: يفاعلون من الخدع والخداع. واختلف أهل اللغة في أصل الخداع، فقال قوم: (¬8) أصله من إخفاء ¬

_ (¬1) في (ب): (أخيك). (¬2) ذكره الزجاج بنصه، دون قوله. وإن لم يسمع (ما)، "معاني القرآن" 1/ 50. (¬3) (لفظ) ساقط من (ب). (¬4) (من) لها لفظ ومعنى، فلفظها مفرد مذكر، ومعناها يصلح للجمع وغيره، فيجوز مراعاة اللفظ فيعود الضمير مفردا، ويجوز مراعاة المعنى فيعود الضمير جمعا. انظر"الدر المصون" 1/ 121. (¬5) في (ب): (للمنافقين). (¬6) قال الطبري: أجمع جميع أهل التأويل على أن الآية نزلت في قوم من أهل النفاق. الطبري 1/ 268، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 49، "تفسير أبي الليث" 1/ 94، وابن عطية1/ 159، وابن كثير 1/ 50. (¬7) قال الطبري: (وفي هذِه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره ...)، 1/ 117، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 94، وابن عطية 1/ 159. (¬8) فيه طمس في (ب).

الشيء (¬1)، قال الليث (¬2): أخدعت الشيء، أي أخفيته، قال: (¬3) ومن أمثال العرب (أخدَعُ من ضبِّ حرشتَه) (¬4)، وهو من قولك: خدع مني (¬5) فلان، إذا توارى ولم يظهر (¬6). والضبّ (¬7) إذا أروَحَ ريحَ الإنسان خَدَع (¬8) في جحره (¬9) فلم يخرج. وقال أبو العميثل (¬10): خدع (¬11) الضب إذا (¬12) دخل في ¬

_ (¬1) انظر "العين" 1/ 133، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 161، "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 993. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 49 ب، "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 993. (¬3) (قال ومن) فيه طمس في (ب). (¬4) في (أ)، (ج) (جرشته). الخدع: التواري، وخَدْعُ الضب إنما يكون من شدة حذره، وصفة خدعه أنه يعمد بذنبه باب جحره ليضرب به من يعتدى عليه، فيجئ المحترش: أي المعتدى فيخرج الضب ذنبه إلى نصف الجحر، فإن دخل عليه شيء ضربه، وإلا بقى في جحره. وقد ورد المثل (أخدع من ضب)، انظر "المستقصى في أمثال العرب" 1/ 92، 95، "مجمع الأمثال" 1/ 260، "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994. (¬5) (منى) غير واضح في (ب). (¬6) انتهى كلام الليث. "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994. (¬7) في (ب) (والضب). (¬8) (خدع) غير واضح في (ب). (¬9) في (ب) (حجر) وفي (ج) (حجره). (¬10) في (ج) (العميثك). وأبو العميثل أعرابي، اسمه: عبد الله بن خالد، مولى جعفر ابن سليمان، كان يؤدب ولد عبد الله بن طاهر بخراسان، وكان يفخم كلامه ويعربه. توفي سنة أربعين ومائتين. انظر ترجمته في "إنباه الرواة" 4/ 143، "وفيات الأعيان" 3/ 89. (¬11) في (ب) (أجدع). (¬12) (أذا دخل) غير واضح في (ب).

وجاره (¬1). ومنه قول الأعرابي لعمر -رضي الله عنه- يصف قحوط المطر: خدعت الضباب وجاعت الأعراب (¬2). ويقال: خدع خير (¬3) الرجل، أي: قل وخفي. وخدعت الضبع في وجارها، وخدع الثعلب إذا أخذ في الروغان (¬4). قال (¬5) الليث: والأخدعان: عرقان في صفحتي العنق قد خفيا وبطنا (¬6). وطريق خدوع وخادع، إذا كان يبين (¬7) مرة ويخفى أخرى (¬8)، ومنه قول الطرماح (¬9): ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994، وفيه: (إذا دخل في وجاره ملتويا)، والوجار بكسر الواو وفتحها: جحر الضب وغيره. (¬2) ذكره الأزهري. "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994، وهو في "الفائق" 1/ 256، وفي "النهاية في غريب الحديث" 2/ 14. (¬3) في (أ)، (ج): (خبر) وفي (ب) بدون نقط، وفي "التهذيب" (خدع خير الرجل أي: قل) 1/ 158. (¬4) "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994. (¬5) (قال) ساقط من (أ)، (ج). (¬6) "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994، وانظر (العين) 1/ 133. (¬7) في (أ)، (ج): (يتبين) وما في (ب) موافق لما في "تهذيب اللغة". (¬8) ذكره الأزهري في "التهذيب"، وأنشد بعده بيتا غير بيت الطرماح الذي ذكره المؤلف هنا. انظر: " التهذيب" (خدع) 1/ 994، (العين) (خدع) 1/ 132. (¬9) الطرماح بن حكيم الطائي، والطرماح بكسر الطاء والراء المهملتين، شاعر إسلامي في الدولة المروانية، ولد ونشأ بالشام، ثم انتقل إلى الكوفة، واعتنق مذهب الشراة من الخوارج. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 388، "الخزانة" 8/ 74.

خَادِعَةُ المسلَكِ أرْصَادُهَا ... تُمسي (¬1) وُكُوَنًا فَوْقَ آرَامِهَا (¬2) قال أبو عبيد: قال أبو زيد: خدعته خِدْعا بكسر الخاء وخديعة، وأنشد قول رؤبة (¬3): فَقَدْ أُدَاهى (¬4) خِدْعَ من تَخَدَّعَا (¬5) وأجاز غيره (خَدْعا) بالفتح (¬6). وعلى هذا الأصل (¬7) معنى قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أي: يظهرون غير ما في نفوسهم، ليدرؤوا عنهم أحكام الكفار في ظاهر الشريعة من القتل والجزية وغيرهما. ولما كان القوم عملوا (¬8) عمل المخادع [قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ ¬

_ (¬1) في (ب): (بمسى). (¬2) البيت من قصيدة للطرماح، يمدح المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقوله: (خادعة المسلك): تخدع سالكها فلا يهتدي، و (الأرصاد): القوم يرصدون الطرق من المرتفعات، وكون: جالسون، من الوكن وهو موقع الطائر، (الآرام): (الأعلام)، ورد البيت في "العين" (خدع) 1/ 132، "اللسان" (خدع) 2/ 113، "ديوان الطرماح" ص 453. (¬3) هو الراجز المشهور ابن الراجز، رؤبة بن العجاج من بني مالك بن سعد بن مناة بن تميم، كان أكثر شعرا من أبيه وأفصح، كان مقيما بالبصرة، ولحق الدولة العباسية كبيرا، ومات بالبادية سنة خمس وأربعين ومائة. انظر "الشعر والشعراء" ص 392، "تهذيب التهذيب" 1/ 993، "الخزانة" 1/ 89. (¬4) في (ب): (أوداهى). (¬5) ورد الرجز في (ديوان رؤبة) ص 88، "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 993، "اللسان" (خدع) 2/ 1112. (¬6) "التهذيب" (خدع) 1/ 993، "اللسان" (خدع) 2/ 112. (¬7) وهو أن الخداع من إخفاء الشيء. (¬8) (عملوا) ساقطة من (ب).

اللَّهَ} أي: يعملون عمل المخادع، ليس أن خداعهم يخفى على الله (¬1). وقال آخرون: أصل الخداع والخدع من الفساد (¬2) روى ثعلب عن ابن الأعرابي (¬3) قال: الخادع (¬4):] الفاسد من الطعام وغيره، وأنشد قوله: ................. .... إذا الرِّيقُ خَدَعْ (¬5) قال ابن الأعرابي: خدع الريق أي: فسد (¬6) ومنه الحديث: "يكون قبل خروج الدجال سنون خداعة" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر (تفسير الطبري) 1/ 119، وابن كثير 1/ 51. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 49 أ، وانظر. "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994، "الحجة" 1/ 313، والقرطبي في "تفسير" 1/ 170. (¬3) "الحجة" 1/ 313، وفي "التهذيب" روى ابن الأنباري عن ثعلب عن ابن الأعرابي ثم ذكره، 1/ 994. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكرى، يصف ثغر امرأة وتمامه: أبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خَدَعْ البيت ورد في "الحجة" 1/ 313، "التهذيب" (خدع) 1/ 994، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 49 أ، (معجم مقاييس اللغة) (خدع) 2/ 161، "الصحاح" (خدع) 3/ 1202، "اللسان" (خدع) 2/ 1113، "زاد المسير" 1/ 30، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 170، "الدر المصون" 1/ 125. (¬6) قال في (الصحاح): خدع الريق، أي: يبس، ثم ذكر البيت وقال: لأنه يغلظ وقت السحر فييبس وينتن. "الصحاح" (خدع) 3/ 1202. (¬7) بهذا اللفظ ذكره الخطابي في "غريب الحديث" 1/ 530، والازهري في "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994، وابن الجوزي في "غريب الحديث" 1/ 267، وابن الأثير في "النهاية" 2/ 14. وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة: "سيأتي على الناس سنوات خداعات ... "، ابن ماجه (4036) كتاب الفتن، باب: شدة الزمان، وأخرجه أحمد في "المسند" ولفظه: "ستأتي على الناس سنون خداعة ... " الحديث، 2/ 291، =

قال شمر: هي الفواسد، قال: ويقال: السوق خادعة، إذا لم يقدر على الشيء إلا بغلاء فهي فاسدة (¬1). وعلى هذا الأصل (¬2)، قال [ابن] (¬3) الأنباري: معنى قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} وتأويله (¬4): يفسدون (¬5) ما يظهرون من الإيمان بما يضمرون من الكفر. فإن قيل: المفاعلة تكون بين اثنين، والله تعالى يجل عن أن يشاركهم في الخدع، فما وجه قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}؟ والجواب عن هذا من وجوه: قال محمد بن القاسم (¬6): إن الخداع منهم يقع بالاختيال (¬7) والمكر، ومن الله تعالى بأن يظهر ويعجل لهم من الأموال والأولاد ما يدخر (¬8)، ويؤخر (¬9) خلافه، فأشبه هذا فعلهم (¬10)، ¬

_ = 338، وأخرجه عن أنس بلفظ "إن أمام الدجال سنين خداعة .. " الحديث، 3/ 220، وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) عن عوف بن مالك: (يكون أمام الدجال سنون خوادع ...)، قال: رواه الطبراني بأسانيد، وفي أحسنها ابن اسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" 7/ 330، وانظر: "المطالب العالية" 18/ 426. (¬1) "تهذيب اللغة" (خدع) 1/ 994. (¬2) أي: أن أصل الخداع من الفساد. (¬3) في (أ)، (ب): قال لي الأنباري، وفي (ج): (قال لي ابن الأنباري) وصححت العبارة على ما في "التهذيب" حيث قال: (قال أبو بكر) 1/ 994. (¬4) في (أ): (معنى تأويله)، وفي (ج) (معنى قوله) وأثبت ما في (ب) لأنه الأنسب. (¬5) في (أ)، (ج): (تفسدون)، وما في (ب) موافق لما في "تهذيب اللغة" وفيه: (قال أبو بكر: فتأويل قوله: (يخادعون الله) يفسدون .. الخ. (خدع) 1/ 994. (¬6) هو أبو بكر بن الأنباري. (¬7) في (ب): (بالاحتيال) ولعلها أولى. (¬8) في (أ)، (ج): (ما يذخر). (¬9) (ويؤخر) ساقط من (ب). (¬10) في (ب): (فعله).

إذ (¬1) كانوا يظهرون الإيمان بالله (¬2) ورسوله، ويضمرون خلاف (¬3) ما يظهرون، والله عز وجل يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ويستر من عذاب الآخرة، فجمع الفعلان لتشابههما من هذه الجهة (¬4). وهذا الذي قاله محمد بن القاسم مطرد (¬5) على الأصلين (¬6)، أما الإخفاء فقد ذكره (¬7)، وأما الفساد، فكما أنهم يفسدون ما يظهرون من الإيماد بما يضمرون، كذلك الله تعالى أفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما ¬

_ (¬1) في (ب): (إذا). (¬2) (بالله) مكرر في (ج). (¬3) في (ج): (خلافه). (¬4) وإلى هذا المعنى مال الطبري حيث قال رادًّا على أبي عبيدة في دعواه. أن (يخادع) بمعنى يخدع (قال: (قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب: إن ذلك الحرف جاء بهذِه الصورة أعني (يخادع) بصورة (يفاعل)، وهو بمعنى (يفعل) في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب نظير قولهم: قاتلك الله، بمعنى قتلك الله)، ثم ذكر رأيه: وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من (التفاعل) الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يعرف من معنى (يفاعل ومفاعل) في كل كلام العرب. وذلك أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه -على ما تقدم وصفه- والله تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده، كالذي أخبر في قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، "تفسيرالطبري" 1/ 119، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 65. (¬5) في (ب): (مطردا). (¬6) المرأد بالأصلين في الخداع، هل هو من الفساد أو من الإخفاء؟ (¬7) حيث قال: ويضمرون خلاف ما يظهرون والله عز وجل يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ويستر من عذاب الآخرة.

أصارهم إليه من عذاب الآخرة (¬1). وقيل: يخادعون الله، أي: (يخدعون)، قال اللحياني (¬2) وأبو عبيدة: خادعت الرجل بمعنى خدعته، والمفاعلة كثيرًا ما تقع من الواحد، كالمعافاة والمعاقبة وطارقت النعل، ومعناه على هذا: يقدرون في أنفسهم أنهم يخدعون الله (¬3). وقال الحسن: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أي: نبيه، لأن الله بعث نبيه (¬4) بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] فعلى هذا من خادعه فقد خادع الله، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] أي أولياءه، وعلى (¬5) هذا التأويل (المخادعة) أيضًا من الواحد (¬6). ¬

_ (¬1) هذا من قول أبي بكر محمد بن القاسم بن الأنباري كذلك، وقد سبق أن نقل المؤلف جزءًا منه، وانظر بقيته في "التهذيب" (خدع) 2/ 1112. (¬2) هو علي بن حازم اللحياني، لغوي معروف، عاصر الفراء وتصدر في أيامه. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" ص 195، "إنباه الرواة" 2/ 255، "معجم الأدباء" 14/ 106. (¬3) انظر كلام اللحياني في: "التهذيب" (خدع) 1/ 994، وكلام أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ص 31 ونحو هذا المعنى ذكر الزجاج في "المعاني" 1/ 50، وسبق ذكر رد الطبري على أبي عبيدة، انظر "تفسير الطبري" 1/ 119، "تفسير البغوي" 1/ 65. (¬4) (نبيه) ساقط من (ب). (¬5) (الواو) ساقطة من (ب). (¬6) ذكره أبو علي في "الحجة"، حيث قال: قال بعض المتأولين أظنه الحسن، ثم ذكره، ووجه هذا القول، كما نقل المؤلف هنا، 1/ 314، 315، ونسب القول للحسن ابن عطية 1/ 163، والبغوي 1/ 65، والقرطبي 1/ 170، وذكره ابن الجوزي ونسبه للزجاج. "زاد المسير" 1/ 29.

وقيل: إن ذكر الله ههنا تحسين وتزيين لافتتاح الكلام، والقصد (¬1) بالمخادعة الذين آمنوا (¬2)، فصار كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. وقوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}. قرئ بوجهين (¬3). فمن قرأ بالألف قال: هو من المفاعلة التي تقع (¬4) من الواحد كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} فلما وقع الاتفاق على الألف في قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أجري الثاني ¬

_ (¬1) في (ب): (الفصل). (¬2) ذكره الثعلبي 1/ 49 ب، وفي الأقوال الثلاثة الأخيرة، محاولة تأويل الآية، لنفي الخداع عن الله، وقد انتصر لبعضها أبو علي الفارسي في "الحجة" 1/ 314 - 316. كما انتصر لها الزمخشري في "الكشاف" وذكر في تفسير الآية وجوها أخرى قريبة منها في المعنى، وقد رد عليه صاحب "الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال". ومما قاله في رده: (.. ومع ذلك يمنع أن ينسب الخداع إلى الله تعالى لما يوهم ظاهره من أنه يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم هذا هو الموهم منه في الاطلاق، ولكن حيث أطلقه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم، علمنا أن المراد منه أنه فعل معهم فعلا سماه خداعا مقابلة ومشاكلة ... هذا معتقد أهل السنة في هذِه الآية وأمثالها، لا كالزمخشري وشيعته الذين يزعمون أنهم يوحدون فيجحدون وينزهون فيشركون والله الموفق للحق. "الكشاف" 1/ 171. و"الإنصاف" بهامشه. وقد ذكرت فيما سبق قريبا رد الطبري على أبي عبيدة، وذكرت القول الذى ارتضاه في معنى الآية. (¬3) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (يخادعون)، (وما يخادعون) بالألف والياء المضمومة. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (يخادعون) (وما يخدعون) بفتح الياء من غير ألف. أنظر "السبعة" ص 141، "الحجة" لأبي علي 1/ 313،312، "الكشف" 1/ 224. (¬4) في (ب): (تضع).

على (¬1) الأول طلبا للتشاكل، وقد أجري على التشاكل ما لا يصح (¬2) في المعنى كقوله: فَنَجْهَلَ فوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا (¬3) وقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬4) [البقرة: 194] فلأن يجرى للتشاكل ما يصح في المعنى أولى (¬5). وأيضا فإنهم كانوا يخادعون أنفسهم بالتسويف والتشكيك إذ (¬6) نازعتهم دواعي الإيمان، ودعتهم خواطر الحق، كانوا يقابلون (¬7) ذلك بالجحد والتكذيب وترك النظر، والخاطران في قلب واحد إذا كانا يتعارضان جعلا بمنزلة نفسين (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب): (أجزى الثاني عن الأول). (¬2) عبارة أبي علي في "الحجة": (وإذا كانوا قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في المعنى على الحقيقة، فأن يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو: ألا لا يجهلن ...) 1/ 315, 316. (¬3) عجز بيت من معلقة عمرو بن كلثوم وصدره: ألا لا يجهلن أحد علينا والشاهد فيه: أنه جعل انتصاره جهلا طلبا للمشاكلة، وتسمية للفعل الثاني بالفعل الأول المسبب له. انظر: "الحجة" 1/ 316، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس 2/ 125، "البحر المحيط" 1/ 57. (¬4) والشاهد فيها: أنه سمى القصاص عدوانا، من باب التشاكل اللفظي. (¬5) في (ب) (أولا) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 315، 316، وانظر "الكشف عن وجوه القراءات" 1/ 225، "البحر المحيط" 1/ 57. (¬6) في (ب): (إذا) ولعله أصوب. (¬7) في (أ)، (ج): (يقاتلون). (¬8) في (ب): (تفسير). انظر: "الحجة" 1/ 317، "البحر المحيط" 1/ 57.

ألا ترى الكميت (¬1) قال (¬2) في ذكر حمار أراد الورود (¬3): تذكر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسَيه كذي الهَجْمة الأَبِلْ (¬4) فجعل ما يكون من ورود الماء (¬5) أو ترك الورود والتمييل (¬6) بينهما بمنزلة نفسين، وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ: {قَالَ اعْلَمْ أَنَ اَللَّهَ عَلىَ كلِّ شئٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] بالجزم (¬7)، فنزل نفسه عند الخاطر الذي يخطر له عند نظره منزلة مناظر له (¬8). ¬

_ (¬1) في "الحجة": (ألا ترى الكميت أو غيره ..)، 1/ 317، وفي "اللسان" نسبه للكميت (أبل) 1/ 10. والكميت. هو الكميت بن زيد بن الأخنس من بني أسد، كوفي شاعر، مقدم، عالم بلغات العرب، كان متشيعا (60 - 126هـ). انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 385، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 318، "الخزانة" 1/ 144. (¬2) في (ب) (ألا ترى الكميت في ذلك ذكر حمار). (¬3) في (أ)، (ج) (في ذكر حمار أباد الورود). (¬4) يؤامر: يشاور الهجمة: القطعة من الإبل، والأبل: على وزن (فَعِل) بفتح الفاء وكسر العين من صيغ المبالغة، وهو من حذق مصلحة الإبل، ورد البيت في "الحجة" 1/ 317 "تفسير ابن عطية" 1/ 161، "اللسان" (أبل) 1/ 10، "البحر المحيط" 1/ 57، فيه (البهجة) والبيت نسبه بعضهم للكميت كما فعل الواحدي، أما أبو علي في "الحجة" فقال: للكميت أو غيره، وهو في "شعر الكميت" جمع داود سلوم ص 396. (¬5) في (ب): (للماء). (¬6) في (ب): (التمثيل) ومثله فى "الحجة" 1/ 318. (¬7) وهي قراءة حمزة والكسائي: (اعلم) ألف وصل وسكون الميم (فعل أمر)، وقراءة ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر: (أعلم) بقطع الألف وضم الميم، (فعل مضارع). انظر "السبعة" لابن مجاهد ص 189، "الكشف" 1/ 312. (¬8) الكلام في "الحجة"1/ 318، وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 312.

ومن قرأ {يَخْدَعُونَ} قال: إن فَعَلَ [أولى بفعل] (¬1) الواحد من (فاعَلَ) من حيث كان أخص به، وكان أليق من (فاعَل) الذي هو لأكثر الأمر (¬2) أن يكون لفاعلين (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (¬4). معناه أنهم راموا الخداع فلم يخدعوا الله ولا المؤمنين، وما خدعوا إلا أنفسهم؛ لأن وبال خداعهم عاد عليهم، وهذا كقولك: قاتل فلان فلانا فما قتل إلا نفسه، أي: رام قتل صاحبه فلم يتمكن وعاد وبال فعله إليه، كذلك المنافقون في الحقيقة إنما يخدعون أنفسهم (¬5)، لأن الله سبحانه يطلع نبيه -عليه الصلاة والسلام- على أسرارهم ونفاقهم (¬6)، فيفتضحون في الدنيا، ويستوجبون العقاب (¬7) في العقبى (¬8). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ جاءت الجملة: (أن فعل أو لن يفعل الواحد ..) فصححتها على عبارة "الحجة"، لأن المؤلف نقل الكلام منه. انظر: "الحجة" 1/ 317. (¬2) في (أ)، (ج): الأكثر إلا من أن يكون ..)، وعبارة "الحجة" (الذي في أكثر الأمر أن يكون لفاعلين) وهي أوضح 1/ 317. وانظر: "الكشف" لمكي 1/ 224. (¬3) رجح ابن جرير قراءة {وما يخدعون} بدون ألف، وقال: هي أولى بالصحة من قراءة من قرأ {وما يخادعون}، 1/ 120، وكذا مكي حيث قال: وقراءة من قرأ بغير ألف أقوى في نفسي. ثم ذكر حججه على ذلك، وقال: والقراءة الأخري حسنة ..) وقال: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن وهو أن (خادع) و (خدع) بمعنى واحد في اللغة. "الكشف" 1/ 225، 227. (¬4) على قراءة نافع وأبن كثير وأبي عمرو. (¬5) "تفسير الطبري" 1/ 119، وانظر "تفسير القرطبي" 1/ 171، "زاد المسير" 1/ 30، "تفسير ابن كثير" 1/ 51. (¬6) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 95. (¬7) في (ب): (العذاب). (¬8) انظر: "زاد المسير" 1/ 30، "تفسير البغوي" 1/ 66.

وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}. النفس: تستعمل (¬1) في اللغة على معان: النفس: عين الشيء وذاته (¬2). والنفس: بمعنى الروح، يقولون: خرجت نفسه، إذا فارقه الروح (¬3). والنفس: بمعنى الدم، يقال: هذا ليس له نفس سائلة، وذلك أنه لما كان قوام البدن بالدم سمي الدم باسم الروح الذي هو النفس (¬4)، ومنه يقال: نفست المرأة (¬5): إذا حاضت (¬6). وقال ابن الأنباري: سميت النفس نفسا لتولد النفس منها، كما سموا الروح روحا؛ لأن الروح موجود به (¬7). وسنذكر (¬8) معاني النفس بأبلغ من هذا عند قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (¬9) [الزمر: 42]. إن شاء الله. وفي قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (¬10) تحقيق أن المخادعة وقعت بهم لا بغيرهم، كما تقول: رأيت نفس الشيء، أخبرت أن الرؤية وقعت عليه لا على مثاله (¬11). ¬

_ (¬1) في (ج): (مستعمل). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (نفس) 4/ 3630، "الصحاح" (نفس) 3/ 984. (¬3) انطر المراجع السابقة. (¬4) في (ب) (اليقين). (¬5) في أ (للمرأة) وما في (ب، ج) موافق لما في "تهذيب اللغة". (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (نفس) 4/ 3631، "الصحاح" (نفس) 3/ 984، وللنفس معان أخرى منها: الجسد، والعين وغير ذلك. انظر: "الصحاح" (نفس) 3/ 984، "مقاييس اللغة" (نفس) 5/ 460. (¬7) "الزاهر" لابن الأنباري 2/ 386، وانظر "تهذيب اللغة" (نفس) 4/ 3629. (¬8) في (ب): (وسنذكره). (¬9) لفظ الجلالة، ليس في (ج). (¬10) على قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. (¬11) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 119 - 120، "البحر المحيط" 1/ 58، "الدر المصون" 1/ 127، 128.

وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ما يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم، وأن وبال خداعهم يعود إليهم، وفي هذا دليل على أنهم كانوا جهالاً بالله سبحانه وبدينه. و (الشِّعْر): العلم، وهو في الأصل (شِعْرَة) (¬1) كالفطنة والدِّرية (¬2)، وقالوا: ليت شعري، فحذفوا (التاء) مع الإضافة للكثرة، وقد قالوا: ذهب بعذرتها، [وهو أبو عذرها (¬3)] (¬4) وكأن شعرت من الشعار، وهو ما يلي الجسد، وكأن شعرت به، علمت علم حسّ (¬5). قال الفرزدق (¬6): ¬

_ (¬1) وقوله: (وهو في الأصل شعرة ... إلخ) من كلام أبي علي الفارسي أورده ابن سيده في "المخصص" قال (قال أبو علي: .. فأما شعرت فمصدره: شعرة، بكسر الأول كالفطنة والدرية. وقالوا: ليت شعري ... إلخ) "المخصص" 3/ 32، وانظر: "الصحاح" (شعر) 2/ 699، "مقاييس اللغة" 3/ 194، "اللسان" 4/ 2273، "القاموس" ص 416. (¬2) في (ب): (الدربة) بالباء الموحدة ن وكذا ورد عند ابن فارس في "المقاييس" 3/ 194. وعند سيبويه 4/ 44، وابن سيده في "المخصص" 3/ 32، (الدرية) كما هنا. (¬3) قال سيبويه: (هذا باب ما تجيء فيه الفعلة تريد بها ضربا من الفعل)، ثم قال: (.. وقد تجيء الفعلة لا يراد بها هذا المعنى وذلك نحو: الشدة، والشعرة، والدرية .. وقالوا: ليت شعري في هذا الموضع، استخفافا، لأنه كثر في كلامهم، كما قالوا: ذهب بعذرتها، وقالوا: هو أبو عذرها لأن هذا أكثر ...)، "الكتاب" 4/ 44، وانظر "الصحاح" (شعره) 2/ 699، "اللسان" 4/ 409. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (حسن). (¬6) هو الشاعر المشهور همام بن غالب بن صعصعة بن تميم البصري، مات سنة عشر ومائة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 310، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 298، "الخزانة" 1/ 217.

لَبِسْنَ (¬1) الفِرِنْدَ الخُسْرُوَانِي فَوْقَهُ ... مَشَاعِرَ مِنْ خَزِّ العِرَاقِ المُفَوَّفُ (¬2) أراد: لبسن الفرند الخسرواني مشاعر فوقه المفوف من خز العراق، أي جعلنها الشعار. فالشعر ضرب من العلم مخصوص، وكل مشعور به معلوم، وليس كل معلوم مشعورا (¬3) به، ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى (¬4). وقوله في وصف الكافرين {لَا يَشْعُرُونَ} أبلغ في الذم من وصفهم بأنهم لا يعلمون؛ لأن البهيمة قد تشعر من حيث تحس (¬5)، فكأنهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم، وعلى هذا قال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] ولم يقل: (ولكن لا تعلمون) لأن المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى بأنهم أحياء علموا أنهم أحياء، ¬

_ (¬1) في (ب): (ليبس). (¬2) البيت في "ديوان الفرزدق" وفيه (دونه) بدل (فوقه) 2/ 24، "المخصص" 3/ 32، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" للفارسي ص 299، "جمهرة أشعار العرب" ص 314، وفيه (الفريد) بدل (الفراند)، و (خزي) بدل (من خز)، و (الفراند): يطلق على وشى السيف، وعلى السيف نفسه، وعلى الورد الأحمر، وقال في "اللسان" (فرند): دخيل معرب اسم ثوب، "اللسان" (فرند) 6/ 3405، و (الفريد): قلائد اللؤلؤ، و (الخسرواني): الذي يشتري بالمال الكثير، ولا تحسب فيه خسارة، و (المشاعر). الثياب التي يلي البدن، و (المفوف): المُوَشَّى. (¬3) فبينهما عموم وخصوص مطلق. (¬4) في "المخصص": (... ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى كما لم يجز في وصفه (دوى)، وكان قوله تعالى في وصف الكافرين ...).، 3/ 32. (¬5) في (ب): (لا تحس). وفي "المخصص": (.. من حيث كانت تحس ..)،3/ 32.

10

فلا يجوز أن ينفي الله العلم عنهم بحياتهم، إذ (¬1) كانوا [قد علموا ذلك بإخباره إياهم. ولكن يجوز أن يقال: [(ولكن لا)] (¬2) تشعرون (¬3)، لأنه ليس كل ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسونه بحواسهم، فلما كانوا لا يعلمون بحواسهم حياته (¬4)، وإن كانوا قد علموه بإخبار الله إياهم وجب أن يقال: {لَا يَشْعُرُونَ} (¬5). 10 - قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: قال أبو بكر بن الأنباري (¬6): أصل المرض في اللغة: الفساد، ومرض فلان، فسد جسمه، وتغيرت حالته، وكذلك مرضت الأرض معناه (¬7) تغيرت وفسدت (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (إذا). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (أ)، (ب) يشعرون (بالياء) وما في (ج) موافق لـ"المخصص" 3/ 32. وهو الوارد في الآية، وهو ما أثبته. (¬4) في "المخصص" (حياتهم) 3/ 32، والمراد الشهداء. (¬5) في (المخصص) (لا تشعرون). انتهى ما نقله الواحدي من كلام أبي علي. انظر "المخصص" 3/ 32. (¬6) انظر: "الزاهر" 1/ 585، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 171، "تفسير النسفي" 1/ 18، "البحر اليحيط" 1/ 53. قال ابن فارس: (الميم والراء والضاد) أصل صحيح يدل على ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة في أي شيء كان، ..) , "مقاييس اللغة" (مرض) 5/ 311، "تهذيب اللغة" (مرض) 4/ 3378. (¬7) (معناه) مكرر في (ب). (¬8) في "التهذيب" (أرض مريضة، إذا ضاقت بأهلها، وأرض مريضة: إذا كثر بها الهرج والفتن والقتل "تهذيب اللغة" مرض) 12/ 35.

قالت ليلى الأخيلية (¬1): إذا هبط الحَجَّاج أرضًا مريضةً ... تتبَّع أقصى (¬2) دائها فشفاها (¬3) أرادت: أرضا فاسدة. وقال آخر: ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت (¬4) وقال غيره: أصل المرض الضعف، يقال (¬5): مرَّض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه، ولم يبالغ، و [عين] (¬6) مريضة النظر أي (¬7): فاترة ضعيفة، وريح مريضة إذا ضعف هبوبها، وعلى هذا تفسير (¬8) قول المحدث: رَاحَتْ لأربعك الرياح مريضة (¬9) ¬

_ (¬1) هي ليلى بنت الأخيل من عقيل بن كعب، أشعر النساء، لا يقدم عليها غير الخنساء، رثت عثمان -رضي الله عنه- ودخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت. انظر ترجمتها في: "الشعر والشعراء" ص 291، "الأعلام" 5/ 249. (¬2) في (ب): (دهاء). (¬3) ورد البيت في "الزاهر" 1/ 560، 586، "أساس البلاغة" (مرض) 2/ 379، "جواهر البلاغة" للهاشمي ص 315. (¬4) البيت من قصيدة لسليمان بن قَنَّة يرثي الحسين بن علي -رضي الله عنه- وردت في "الاستيعاب" 1/ 444، "سير أعلام النبلاء" 3/ 319، "والبداية والنهاية" 8/ 211، والقصيدة في حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي، دون البيت المستشهد به هنا 2/ 961. (¬5) في (ب): (فقال يقال). (¬6) في (أ)، (ج): (غير) وفي (ب) (عن) والصواب (عين) قال الثعلبي: (المرض في العين: فتورالنظر) "تفسير الثعلبي" 1/ 50 أ، وانظر "الصحاح" (مرض) 3/ 1106 "البحر المحيط" 1/ 53. (¬7) (أي) ساقطة من (ب). (¬8) في (ب): (يفسر). (¬9) لم أعثر عليه ولم أعرف قائله فيما اطلعت عليه والله أعلم.

أي: لينة ضعيفة حتى لا تعفوها. ثعلب عن ابن الأعرابي (¬1): أصل المرض: النقصان. بدن مريض: ناقص القوة. و (¬2) قلب مريض: ناقص الدين، ومَرَّض (¬3) في حاجتي إذا نقصت حركته فيها. وقال الأزهري: أخبرني المنذري، عن بعض أصحابه قال: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال: والمرض: الظلمة، وأنشد (¬4): ولَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ ناحيةٍ ... فما يُضيءُ لها شَمْسٌ ولا قَمَرُ (¬5) هذا (¬6) هو الكلام في أصل المرض ومعناه في اللغة، ثم الشك والجهل (¬7) والحيرة في القلب كلها تعود إلى هذه الأصول. ¬

_ (¬1) في "التهذيب" ثعلب عن ابن الأعرابي .. ثم ذكره، "تهذيب اللغة" (مرض) 4/ 3378. (¬2) (الواو) ساقطة من (ب). (¬3) في "التهذيب": (مرض فلان في حاجتى) 4/ 3378. (¬4) في "التهذيب": (وأنشد أبو العباس)، 4/ 3378، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر" قال: أنشدنا أبو العباس 1/ 585. (¬5) البيت لأبي حية النميري ولفظه في "التهذيب" (فلا يضيء) 4/ 3778، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 585 والكرماني في "لباب التفسير" 1/ 126 (رسالة دكتوراه)، وورد في "اللسان" (مرض) 7/ 4180، "البحر المحيط" 1/ 35، "الدر المصون" 1/ 129. (¬6) (هذا) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (والجهل هذا والحيرة) وفي ج (والحيرة والجهل).

قال ابن عباس في قلوبهم مرض: أي شك ونفاق (¬1)، وهو قول ابن مسعود والحسن وقتادة (¬2) وجميع أهل التأويل. وقال ابن جرير (¬3): معناه في اعتقاداتهم مرض، أي: شك وشبه، فاستغنى بذكر القلوب عن ذكر الاعتقادات؛ لأن محلها القلوب كقولهم: (يا خيل الله اركبي) (¬4). وليس الأمر على ما قال؛ لأن الشك في القلب على الحقيقة، فأي فائدة لتقدير الاعتقاد ههنا؛ ولأن الشك ينافي الاعتقاد، وهم ليسوا ¬

_ (¬1) أخرج ابن جرير بسنده عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (في قلوبهم مرض) أي شك وأخرج بسنده عن الضحاك عن ابن عباس قال: المرض: النفاق، "تفسير الطبري" 1/ 280، وأخرجهما ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 43، وانظر "تفسير ابن كثير" 1/ 52، "الدر" 1/ 67 - 68. (¬2) انظر أقوالهم والآثار عنهم في: "تفسير الطبري" 1/ 122، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 43 - 44، "تفسير ابن كثير" 1/ 52، "الدر" 1/ 67 - 68. (¬3) "تفسير الطبري" 1/ 122، نقل الواحدي كلامه بتصرف. (¬4) قوله: (كقولهم: يا خيل الله اركبي) ذكره ابن الأنباري في "الزاهر"، قال ومعناه. فرسان خيل الله اركبوا وابشروا بالجنة. "الزاهر" 2/ 100، ومنه الحديث (يا خيل الله اركبي) ذكره ابن الأثير في "النهاية" 2/ 94، وذكره السيوطي في "الدرر المنتثرة"، وعزاه للعسكري في "الأمثال"، "الدرر المنتثرة" ص 144 (463)، وذكره العجلوني في "كشف الخفاء" وعزاه لأبي الشيخ في "الناسخ والمنسوخ"، وللعسكري ولابن عائذ في "المغازي" وغيرهم. انظر "كشف الخفاء" 2/ 379، 380، وقد رجعت إلى "جمهرة الأمثال" للعسكري ولم أجده، وترجم أبو داود في "سننه" (باب في النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي) كتاب (الجهاد) وساق حديث سمرة بن جندب: أما بعد: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمى خيلنا خيل الله (2560)، "سنن أبي داوود" 3/ 55 معه "معالم السنن".

معتقدين (¬1) إذا كانوا شاكّين (¬2). وقوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اَللَّهُ مَرَضًا}. يقال: زاد يزيد زيادة وزيدا (¬3)، أنشد أبو زيد: كذلك زَيْدُ المَرْءِ بعدَ انتِقَاصِه (¬4) وقال ذو الإصبع (¬5): وأنتمُ معشرٌ زَيْدٌ على مائة ... فأجمِعُوا أمركم طُرًّا فكيدوني (¬6) كأنه (¬7) قال: معشر زيادة على مائة (¬8). وهو (¬9) فعل يتعدى إلى ¬

_ (¬1) في (ب): (بمعتقدين). (¬2) وفيما قاله الواحدي وجاهة وقوة. (¬3) "الحجة" لأبي علي 1/ 322. (¬4) أنشده أبو زيد مع ثلاثة أبيات قبله ونسبها لحسان السعدي ورواية أبي زيد له مع عجزه: كذلك زيد المرء ثم انتقاصه ... وتكراره في إثره بعد ما مضى "النوادر" ص 358 وأنشد الأبيات المرتضى في "أماليه" ونسبها لبعض شعراء طيى والشطر الأخير عنده: (يعود إلى مثل الذي كان قد بدا) 1/ 416. وهو في "الحجة" وفيه (ثم) بدل (بعد) وفي الحاشية في ط (بعد) مكان (ثم) 1/ 322، ويظهر أن نسخة (ط) هي التي اعتمد المؤلف عليها. (¬5) هو حرثان بن محرث ذو الإصبع العدواني شاعر جاهلي معمر عاش ثلاثمائة سنة انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 473، "الخزانة" 5/ 284. (¬6) البيت ضمن قصيدة لذى الإصبع العدواني في "المفضليات" ص 161، وفيه بدل (طرا)، (كلا) ووردت في ص 163، وفيه (شتى)، وهي في "الأمالي" لأبي علي القالي1/ 256، وفي "شرح المفصل" لابن يعيش 1/ 30. (¬7) في (ب): (كان). (¬8) في (ب): (على مائة فأجمعوا). (¬9) أي: (زاد).

مفعولين كما قال: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (¬1) [الكهف: 13] وقال: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا} (¬2) [النحل: 88]. وكان حمزة يميل (زاد) في جميع القرآن (¬3) كأنه أراد أن يدل بالإمالة على أن العين (¬4) (ياء) [ليحافظ] (¬5) على الحرف الذي هو أصل، كما أنهم قالوا في جمع أبيض وأعين: بيض وعين، فأبدلوا (¬6) من الضمة كسرة، لأن جمع (أَفْعَل) (¬7) (فُعْل) لتصح (¬8) (الياء) ولا تنقلب إلى (الواو) (¬9) فكما حوفظ على تصحيح (¬10) (الياء) في هذه الحروف كذلك حوفظ على (الياء) ¬

_ (¬1) في (ب): (تعدى) تصحيف والآية من سورة الكهف: 13. (¬2) الكلام نقله عن "الحجة" لأبي علي1/ 322. (¬3) قال ابن مجاهد: (قرأ حمزة [وحده] {فَزَادَهُمُ اللَّهُ} بكسر الزاي [المراد الإمالة] وكذلك (شاء) و (جاء) و (خاب) و (طاب) و (ضاق) و (خاف) و (حاق) ... ثم قال. وكان ابن عامر يكسر من ذلك كله ثلاثة أحرف: (فزادهم) و (شاء) و (جاء)، "السبعة" لابن مجاهد ص 141، 142، وذكر نحوه مكي، وقال: ووافقه ابن ذكوان في (جاء) و (شاء) حيث وقعا وعلى إمالة (زاد) في أول سورة البقرة خاصة. "الكشف" 1/ 174، وانظر: "الحجة" لأبي علي 1/ 320. (¬4) في (ب): (المعين). (¬5) في جميع النسخ (لتحافظ) بالتاء، وكتبتها بالياء حسب ما ورد في "الحجة" والكلام منقول منه وهو الصحيح، انظر "الحجة"1/ 326، 327. (¬6) في (أ)، جـ، (فأبدوا) وأثبت ما في (ب). (¬7) في (ب): (أفضل). (¬8) في (ب): (النصح). (¬9) جمع (أبيض) على القياس (بوض) فأبدلوا ضمة (الباء) كسرة حتى لا تقلب الياء واوا. (¬10) في (ب): (الصحيح).

في (زاد) بإمالة الألف نحوها (¬1) يدلك على ذلك: أن الذين أمالوا نحو: (زاد) (¬2) و (زاغ) و (خاب) و (طاب) (¬3) لم يميلوا نحو (عاذ، وعاد) ولا (بابا) ولا (مالا) ولا ما أشبه ذلك مما العين منه (واو) حيث لم تكن في الكلمة (¬4) (ياء) ولا (كسرة) فتنحى الألف بالإمالة نحوهما. ومما يقوي الإمالة في (زاد) ونحوه: أنه اجتمع فيه أمران كل واحد يوجب الإمالة: أحدهما: ما ذكرنا (¬5) والثاني: لحَاقُ الكسرة أول فَعَلْتَ (¬6)، وكل واحدة من هاتين الحالتين توجب الإمالة بانفرادها (¬7). ومعنى قوله. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أى: شكًّا على شكٍّ وفسادَا على فساد (¬8). وهذا يدل على أن كفرهم كان مخلوقًا لله تعالى (¬9)؛ لأنه لو لم ¬

_ (¬1) نحو (الياء). (¬2) أي ما كان أصل العين فيه ياء. (¬3) في "الحجة": (زاد وباع وناب وعاب) 1/ 327. (¬4) (في الكلمة) ساقط من (ب). (¬5) وهو أن تمال الألف ليعلم أنها من الياء،. "الحجة" 1/ 328. (¬6) كذا ورد في "الحجة" 1/ 328 والمراد أن الحرف الأول من فعل زاد يكون مكسورا إذ أسند هذا الفعل إلى تاء المتكلم أو المخاطب أو المخاطبة فتقول: زدتُ، زِدتَ، زِدتِ انظر "الكشف" 1/ 174. (¬7) الكلام بتصرف يسير من "الحجة" 1/ 327، 328. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 122 - 123، و"تفسير البغوي" 1/ 66، "تفسير ابن كثير" 1/ 52. (¬9) المعنى صحيح فإن الله خالق كل شيء من الطاعات والكفر لكن السلف لم يستعملوا هذا اللفظ تأدبا مع الله تعالى انظر التعليق السابق عند تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلىَ قُلوُبِهِم} [البقرة: 7].

يخلق مرض (¬1) قلوبهم ما زادهم المرض ثانياً، وهو كقوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]. قال أبو إسحاق (¬2): المرض (¬3) في القلب يصلح لكل ما خرج به الإنسان عن الصحة في الدين (¬4). وقوله تعالى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (¬5) أي بما أنزل من القرآن، فشكّوا فيه كما شكّوا في الذي قبله كقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} الآية [التوبة: 124]. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ}. أصل العذاب في كلام العرب: من العذب، وهو المنع؛ يقال: عَذَبتَه عَذْبًا أي منعتَه مَنْعَا، فعَذَبَ عُذوبًا أي امتنع (¬6)، ومنه يقال للفرس إذا قام في المِعْلف ولم يتناول العلف وامتنع عنه: عَذُوبٌ وعَاذِبٌ، ومنه الماء العَذْب؛ لأنه يمنع العطش (¬7). فسمي العذاب عذابًا؛ لأنه يَعْذُبُ المعاقب عن معاودة ما عوقب عليه، ويعذب ¬

_ (¬1) في (ب): (سمرص). (¬2) هو الزجاج. (¬3) (المرض) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (على). (¬5) كلام الزجاج: (وقوله: {فَزَادهمُ الله مَرَضًا} فيه جوابان قال بعضهم زادهم الله بكفرهم كما قال عز وجل: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] وقال بعض أهل اللغة: فزادهم الله بما أنزل عليهم من القرآن ...)، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 51. (¬6) انظر. "تهذيب اللغة" (عذب) 3/ 2365، "تفسير الدر المصون" 1/ 178 "تفسير البيضاوي" 1/ 10. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (عذب) 3/ 2364، "الصحاح" (عذب) 1/ 178، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 ب، "الكشاف" 1/ 164.

غيره (¬1) من أرتكاب مثله (¬2). وقوله تعالى: {أَلِيمٌ} الأليم بمعنى المؤلم (¬3) كالسميع: بمعنى المسمع (¬4)، وقال ذو الرمة (¬5): وترفع (¬6) من صدور شَمَرْدَلاتٍ ... يصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ (¬7) أليمُ (¬8) وقال عمرو (¬9): ¬

_ (¬1) في (ب): (في). (¬2) انظر: "مقاييس اللغة" (عذب) 4/ 260، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 ب، "الكشاف" 1/ 165، "تفسير البيضاوي" 1/ 10، "تفسير القرطبي" 1/ 172. (¬3) انظر. "تفسير الطبري" 1/ 123، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 51، "تفسير أبي الليث" 1/ 95. (¬4) في (أ)، (ج) (السمع) وأثبت ما في (ب). (¬5) هو غيلان بن عقبة من بني صعب بن مالك بن عدي بن عبد مناة، و (الرُّمَّة) بضم الراء وتشديد الميم: قطعة من الحبل الخلق، قيل إن مية لقبته بذلك، شاعر إسلامي عاصر جرير والفرزدق. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 350، "وفيات الأعيان" 4/ 11، "الخزانة" 1/ 106. (¬6) كذا في (أ)، (ج) وفي (ب) محتملة ونحوه في "تفسير الطبري" وما عداه من المصادر فيها: (نرفع). (¬7) في (ب) (هجم). (¬8) قوله: الشمردلات الإبل الحسان الجميلة الخلق، يصك: يضرب، وهج أليم: شدة الحرارة، البيت في "ديوانه" 2/ 677، "مجاز القرآن" 1/ 32 و"تفسير الطبري" 1/ 123، وفيه (يصد) بدل (يصك)، "تفسير القرطبي" 1/ 198، و"الدر المصون" 1/ 130. (¬9) هو عمرو بن معد يكرب، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع أو عشر، فأسلم، فارس مشهور، له وقائع في الجاهلية والإسلام، انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 235، "الإصابة" 3/ 18، "الخزانة" 2/ 444.

أَمِنْ ريحانة الدَّاعي السَّميع (¬1) أي: المسمع. ومعنى العذاب الأليم (¬2): الذي يخلص وجعه إلى قلوبهم. "قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. (ما) في تأويل المصدر (¬3) كأنه قيل: بكونهم مكذبين وبتكذيبهم. وسنذكر القول في ذلك عند قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة:28]، إن شاء الله. وحقيقة الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو به، وقد يستعار لفظ الكذب فيما ليس بكذب في الحقيقة (¬4)، كقول الأخطل (¬5): ¬

_ (¬1) تمامه: يؤرقني وأصحابي هجوع وريحانة: أخت عمرو، وكان الصمة أبو دريد قد غزا بني زبيد وسباها، وغزاهم عمرو مرارًا ولم يقدر عليها، وقيل: ريحانة امرأة أراد أن يتزوجها فهو يشبب بها. البيت في "الشعر والشعراء" ص 235، و"تفسير الطبري" 1/ 123، "معاني القرآن" للزجاج1/ 51، و"تفسير الثعلبي" 1/ 50 أ، و"تفسير ابن عطية" 1/ 165، "الأصمعيات" ص 172، "البحر المحيط" 1/ 59. (¬2) في (ب): (هو العذاب الذي ...). (¬3) هذا على قول من يجعل لـ (كان) مصدرًا ومن لا يجيز ذلك يجعل ما بمعنى الذي وسيأتي للمسألة مزيد إيضاح عند قوله {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة:28]، وقد ذكر المذهبين الطبري في "تفسيره" 1/ 123، وأبو حيان في "البحر" 1/ 60 والسمين الحلبي في "الدر المصون" 1/ 130. (¬4) قال أبو حيان: والكذب له محامل في لسان العرب، أحدها: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه. والثاني: الإخبار بالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق. والثالث: الخطأ. الرابع: البطول. الخامس: الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور. "البحر المحيط" 1/ 60، وانظر: "الكشاف" 1/ 178، "الدر المصون" 1/ 132. (¬5) هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة التغلبي، الشاعر المشهور كان نصرانيًّا =

كَذَبتكَ عينُك أَمْ رَأَيتَ بواسطٍ (¬1) كأنها لما أوهمته خلاف الحقيقة كانت بمنزلة ما كذبته (¬2). وقرأ أهل الكوفة (¬3) {يَكْذِبُونَ} بالتخفيف من الكذب، وهو أشبه بما قبله وبما بعده؛ لأن قبله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] وهذا كذب منهم، وبعده قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] وهذا يدل على كذبهم في دعوى الإيمان. وأيضا فإن قوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} لا يخلو إما أن يراد به المنافقون، أو المشركون، أو الفريقان جميعاً. فإن أراد المنافقين فقد (¬4) قال فيهم: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1]. وإن كانوا المشركين فقد قال: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 90 - 91]. وإن كانوا الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا بالكذب الذي يلزم (¬5) أن يكون فعله (يكذبون) بالتخفيف. ¬

_ = ومات على ذلك، مدح بني أمية وكان مقدما عندهم. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 319، "الخزانة" 1/ 459. (¬1) البيت مطلع قصيدة للأخطل يهجو بها جريرا وقوله (كذبتك عينك): أي خيل إليك، وواسط: مكان بين البصرة والكوفة. البيت من شواهد سيبويه 3/ 174. وورد في "المقتضب" 3/ 295، "تهذيب اللغة" (الكذب) 4/ 3114، "مغنى اللبيب" 1/ 45. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (كذب) 4/ 3114. (¬3) عاصم وحمزة والكسائي انظر "السبعة" لابن مجاهد ص 143، "الحجة" لأبي علي 1/ 329، "الكشف" لمكي1/ 227، و"تفسير الطبري" 1/ 121 - 123. (¬4) في (أ)، (ج): (وقد) وأثبت ما في (ب) ومثله في "الحجة" 1/ 338. (¬5) في (ب): (يلتزم).

11

ومن شدد (¬1) فلكثرة ما في القرآن مما يدل على التثقيل (¬2) كقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [الأنعام: 34] وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} [يونس: 41] ونحوها من الآيات (¬3). 11 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} الآية. موضع (إذا) من الإعراب نصب لأنه اسم للوقت كأنك قلت: (وحين قيل لهم) أو (ويوم قيل لهم) إلا أنها تشبه حرف الجزاء (¬4) وسيأتي الكلام في (إذ) و (إذا) بعد هذا إن شاء الله. وكان الكسائي يُشِمّ {قِيلَ} (¬5) وأخواتها (¬6) (الضم)، ليدل بذلك على أنه كان في الأصل (فُعِل) (¬7)، كما أنهم قالوا: أنت تغزُين، فألزموا الزاي إشمام الضمة، و (زين) من (تغزين) بمنزلة: (قيل). ومن قال (قُيل) بإشمام ¬

_ (¬1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر "السبعة" لابن مجاهد ص 43. (¬2) في (أ)، (ج): (الثقيل) وأثبت ما في (ب) ومثله في "الحجة" 1/ 338. (¬3) أخذه عن "الحجة" لأبي علي، بتصرف 1/ 337. وانظر "الكشف" لمكي 1/ 228، وقد رجح مكي قراءة (التشديد) ورجح الطبري قراءة (التخفيف) 1/ 123. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 137، "البيان" 1/ 55، 56، "الدر المصون" 1/ 132. (¬5) وروي عن هشام مثل الكسائي، وعن نافع وابن عامر الإشمام في بعض أخوات (قيل) دونها. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 143، "الحجة" 1/ 340، "الكشف" لمكي 1/ 229. (¬6) في (أ)، (ج): وأخواته. وأثبت ما في (ب). والمراد بأخواتها: سيء وسيق وحيل وجيء وغيض والسادس قيل فهي ستة أفعال معتلة العين. انظر: "الكشف" لمكي 1/ 229 والإشمام سبق تعريفه. (¬7) فعل: مبني للمجهول.

الضم قال: (بُيع) أو (اختُير) و (انقُيد) (¬1) بالإشمام؛ لأنها بمنزلة واحدة. وأما من (¬2) حرك الفاء بالكسر ولم يشم الضمة، قال (¬3): هذا كان في الأصل (قُوِلَ) فنقلت كسرة الواو إلى القاف، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فصارت (ياء) فلزم كسر القاف وصار الأصل هذا (¬4). قال المفسرون: ومعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ويقال: أفسد الشيء يفسده إفساداً، ومفعول الإفساد محذوف (¬6) على معنى: (لا تفسدوا أنفسكم بالكفر، أو (¬7) الناس بالتعويق عن الإيمان)، على ما ذكره المفسرون. وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. (¬8) (نحن) تدل على جماعة. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج) رسمت أن قيد وفي (ب) إن قيل والصحيح ما أثبت كما في "الحجة" قال: (... ألا ترى من قال: قيل وبيع، قال: اختير وانقيد فأشم ما بعد الخاء والنون لما كان بمنزلة: قيل وبيع ...) 1/ 346، وانظر: "الكشف" 1/ 230. (¬2) وهم ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة هؤلاء كسروا أوائل (قيل) وأخواتها ونافع وابن عامر وافقاهم في بعضها ومنها (قيل)، انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 143، 144، "الحجة" 1/ 340 - 341، "الكشف" 1/ 229. (¬3) في (ب): (كان). (¬4) انظر: "الحجة" 1/ 349 - 350 "الكشف" 1/ 230. (¬5) انظر. "تفسير الطبري" 1/ 125، "تفسير أبي الليث" 1/ 96، "تفسير الثعلبي" 1/ 50 ب، "تفسير ابن كثير" 1/ 53، و"تفسير البغوي" 1/ 66، "تفسير الخازن" 1/ 58. (¬6) في (ب): (محذوف). (¬7) في (ب): (بالواو). (¬8) في (ج): (قالوا إنما نحن مصلحون).

وجماعة المضمرين تدل عليهم (الميم أو (¬1) الواو)، نحو (¬2): فعلوا وأنتم، [فـ (الواو)] (¬3) من جنس الضمة. وحركت نحن (بالضم)؛ لأن الضم من الواو (¬4). وهو جمع (أنا) (¬5) من غير لفظها (¬6). وقال بعضهم. ضم آخرها تشبيهاً بالغاية، نحو: قبلُ وبعدُ (¬7)، ووجه الشبه بينهما (¬8) ذكرنا في قوله: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25]. وقال قوم: كان أصلها (نَحُنْ) (¬9) ثم فعل بها ما فعل بـ (قط) لتشبه أخواتها (¬10)، وأصل (قط): (قطط)، والقياس عند الإدغام يوجب نقل ضمة العين إلى اللام، دلالة على حركة العين في الأصل. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للزجاج (الميم والواو) 1/ 54. (¬2) في (ب): (ونحن). (¬3) في (أ)، (ب)، (ج): (قالوا ومن) والتصحيح من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 55. (¬4) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 54. وانظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 241. (¬5) في (ب): (أناس). (¬6) "الأضداد" لابن الأنباري ص 184، "تهذيب اللغة" (أنا) 1/ 213. (¬7) ذكره النحاس ونسبه لمحمد بن يزيد، "إعراب القرآن" للنحاس1/ 138 - 139، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 24. (¬8) (بينهما) ساقط من (ب) وفي ج (بينهم). (¬9) في (أ): (نَحْنُ) وفي ب، ج غير مشكولة والصحيح (نَحُنْ) كما في "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 138 - 139، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 25، وفي (نحن) نقلت الضمة إلى (النون) وسكنت (الحاء). (¬10) أخوات (قط): (قبل) و (بعد) و (حسب) لأنها غاية مثلهن: انظر "تهذيب اللغة" (قط) 3/ 2991، "الكتاب" 3/ 276.

12

ومعنى الآية: يظهرون أنهم مصلحون، كما أنهم يقولون: آمنا، وهم كاذبون. ويحتمل أنهم قالوا: إنما نحن مصلحون، أي: الذي نحن عليه هو صلاح عند أنفسنا (¬1). والتأويل: إنما نحن مصلحون أنفسنا أو الناس، على ما ذكرنا في قوله: {لَا تُفْسِدُوا} لأن الإصلاح واقع، ولا بد له من مفعول، وقولهم: فلان مصلح، يراد أنه مصلح لأعماله وأموره. 12 - وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}. رد الله عليهم قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} و (ألا) كلمة يستفتح (¬2) بها الخطاب (¬3). قال الكسائي: وهي تنبيه، ويكون بعدها أمر أو نهي أو إخبار، نحو قولك: ألا قم، ألا لا تقم، ألا إن زيدا قد قام (¬4). وقال النحاة: أصلها (لا) دخلت عليها ألف (¬5) الاستفهام (¬6) والألف إذا دخلت على الجحد (¬7) ¬

_ (¬1) ذكر القولين الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 52، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 126 - 127، "زاد المسير" 1/ 32، "تفسير البغوي" 1/ 67. (¬2) في (أ) (تستفتح). (¬3) انظر "معاني الحروف" للرماني ص 113، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 57، "البحر المحيط" 1/ 62، "الدر المصون" 1/ 139. (¬4) ذكره الأزهري عن سلمة عن الفراء عن الكسائي "تهذيب اللغة" (ألا) 15/ 422. (¬5) في ج (همزة). (¬6) انظر: "الكتاب" 2/ 307، "الجمل في النحو" للزجاجي ص 240، "الكشاف" 1/ 180، واختار أبو حيان. أنه حرف بسيط غير مركب ورد على الزمخشري في ذلك، "البحر" 1/ 61، وأخذ يقول أبي حيان السمين الحلبي في "الدر المصون" 1/ 139. (¬7) أي النفي.

أخرجته إلى معنى التقرير (¬1) والتحقيق (¬2) نحو: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} [القيامة: 40]، ثم كثر (ألا) في الكلام فصار تنبيها ليتحقق السامع ما بعده، فمعنى الأصل فيه موجود وهو التحقيق كما بينا. وقد يكون للعرض والتحضيض (¬3)، كقولهم: ألا تنزل عندنا. وقال الزجاج: (ألا) كلمة يبتدأ بها، ينبه بها المخاطب توكيدا، يدل على صحة ما بعدها. ذكر هذا في آخر سورة: (حم السجدة) (¬4). وقوله تعالى: {هُمُ} إن شئت جعلته تأكيدا (¬5)، وإن شئت جعلته ابتداء، و (المفسدون) خبره، وجعلتهما خبر (إن) (¬6). ودخلت الألف واللام في (المفسدين) للجنس، كأنه جعلهم جنس المفسدين تعظيماً لفسادهم، كأنه لا يعتد بفساد غيرهم مع فسادهم، وكل فساد يصغر في جنب فسادهم، ¬

_ (¬1) في (ج): (التقدير). (¬2) انظر: "الكشاف" 1/ 180. (¬3) العرض: هو الطلب بلين ورفق، والتحضيض: هو الطلب بحث وإزعاج، والمثال المذكور للعرض. و (ألا) تأتي على أوجه أخرى، انظر "حروف المعاني" للرماني ص113، "الأزهية" ص163، "تهذيب اللغة" (ألا) 1/ 178، "مغني اللبيب" 1/ 68. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 392 (ط: عالم الكتب). (¬5) في (ج) (توكيد). وهو توكيد للضمير في أنهم فيكون في محل نصب. انظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 139، "تفسير ابن عطية" 1/ 168، "الدر المصون" 1/ 139. (¬6) ويجوز وجه ثالث. وهو أن يكون (هم) فصلا ويسميه الكوفيون (عمادا) فلا موضع له من الإعراب انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 53، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 178، "تفسير ابن عطية" 1/ 167 - 168، "الدر المصون" 1/ 139.

حتى كان المفسد في الحقيقة هم دون غيرهم، وإن كان غيرهم قد يفسد (¬1). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}. أصل {لكن}، (لا، ك، إن)، (لا) للنفي و (الكاف) للخطاب و (إن) للإثبات. فحذفت الهمزة استخفافا (¬2). ومعناها: استدراك (¬3) بإيجاب بعد نفي (¬4)، أو نفي بعد إيجاب (¬5)، فإذا قيل: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ (¬6) الْمُفْسِدُونَ} سبق إلى الوهم أنهم يفعلون (¬7) ذلك من حيث يشعرون. فقال: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬8). وكذلك (¬9) إذا قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] أوهم ذلك استبهام صفاته، فقال: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}، [والمعنى: ¬

_ (¬1) ولهذا جاء في هذِه الجملة عدة مؤكدات منها: الاستفتاح، والتنبيه والتأكيد بإنّ وبضمير الفصل، وتعريف الخبر. انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 168، "الكشاف" 1/ 181 "الدر المصون" 1/ 139. (¬2) في (ب): (استحقاقا). والقول الذي حكاه الواحدي هو رأي الكوفيين أما البصريون فيرون أنها بسيطة غير مركبة. انظر "الإنصاف" ص 171 - 178، "مغني اللبيب" 1/ 291. (¬3) في (ب): (استدرك). (¬4) في (ب): (بعد بعد). (¬5) قال النحويون: (لكن) لا يتدارك بها بعد إياب إلا إذا وقع بعدها جملة، كما سيأتي في كلام المبرد الذي نقله المؤلف. انظر "الكتاب" 1/ 435، 4/ 232، "المقتضب" 1/ 12، "معاني الحروف" للرماني ص 133، "حروف المعاني" للزجاج ص 15، 33. (¬6) (هم) ساقطة من (ب). (¬7) في (ب): (يضلون). (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 127، "تفسير ابن عطية" 1/ 168، "الدر المصون" 1/ 140. (¬9) في (ب): (لذلك).

ولكن كان (¬1) رسول الله] (¬2)، فهذا استدراك (¬3) لا يجاب بعد نفي. وقال المبرد: (لكن) من حروف العطف، وهي للاستدراك (¬4) بعد النفي، ولا يجوز أن يدخل بعد واجب (¬5)، إلا لترك قصة إلى قصة تامة [نحو قولك: جاءني زيد لكن عبد الله لم يأت، وما جاءني زيد لكن عمرو (¬6). وفي الآية أتت بعد الإيجاب لترك قصة إلى قصة (¬7) تامة] (¬8)، وهو قوله: {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}. فأما التشديد والتخفيف في {لكن} استعماله (¬9) بالواو وبغير الواو، فقد ذكرناها عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]. ومعنى قوله: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: لا يعلمون أنهم مفسدون، بل يحسبون أنهم مصلحون. وقيل: ولكن لا يعلمون ما عقوبة فعلهم وما يحل بهم، وذلك أن مفعول العلم محذوف فيحتمل القولين (¬10). ¬

_ (¬1) قال في "تهذيب اللغة": (.. فإنك أضمرت كان بعد: (ولكن) فنصب بها ..) "تهذيب اللغة" (لكن) 4/ 3294. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (اشتراك). (¬4) في (ب): (استدراك). (¬5) أي موجب والمراد غير منفي. (¬6) "المقتضب" 1/ 12. (¬7) أي جملة تامة إلى جملة تامة. (¬8) ما بين المعقوقين ساقط من (ب). (¬9) في (ب): (استعمال). (¬10) وهناك قول ثالث: أنهم يعلمون الفساد سرا ويظهرون الصلاح، وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 168، "تفسير البغوي" 1/ 66، "زاد المسير" 1/ 33، "تفسير القرطبي" 1/ 177 - 178.

13

13 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}. المراد بالناس في هذه الآية أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا به، في قول الجميع (¬1). و (الألف واللام) فيه للمعرفة (¬2)؛ لأن أولئك كانوا معروفين عند المخاطبين بهذا (¬3). وقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}. (الألف) في أنؤمن استفهام [معناه: الجحد والإنكار (¬4)، لا نفعل كما فعلوا، وسيأتي وقوع الاستفهام، (¬5) موقع الجحد مشروحاً بعد هذا. والسفهاء: الجهال (¬6) الذين قلت عقولهم، جمع (السفيه) ومصدره: (السَّفَه والسَّفَاه والسَّفَاهَةُ) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر أبو الليث من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. أن المراد بالآية اليهود، والناس: عبد الله بن سلام وأصحابه. "تفسير أبي الليث" 1/ 96. والمشهور: أن الآية خطاب للمنافقين، والمراد بالناس، أصحاب محمد كما ذكر المؤلف. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 127 - 128، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 46، "تفسير ابن عطية" 1/ 168 - 169، "تفسير ابن كثير" 1/ 54. (¬2) أي العهد الخارجي العلمي، أو (الألف واللام) للجنس، والمراد الكاملون في الإنسانية، انظر "الفتوحات الإلهية" 1/ 18، 19. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 127 - 128. (¬4) انظر: "الوسيط" للمؤلف 1/ 42، "الكشاف" 1/ 182، "تفسير البيضاوي" 1/ 9، "الدر المصون" 1/ 134. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬6) في (أ)، (ج): (الححال الحهال) معناها غير واضح فلعل أحد النساخ كتب الجهال وطمسها فنقلت وما في (ب) يوافق عبارة المؤلف في "الوسيط": (السفهاء: الجهال الذين قلت عقولهم)، 1/ 42. (¬7) انظر. "اللسان" (سفه) 4/ 2032.

قال أهل اللغة (¬1): معنى السفه: الخفة، والسفيه: الخفيف العقل، ومن هذا قيل: تسفهت (¬2) الرياح الشيء، إذا حركته واستخفته. وقال: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا (¬3) مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ (¬4) ويقال: ناقة سفيهة الزمام، إذا كانت خفيفة السير، ومنه قول ذي الرمة: ........ سفيهٍ جديلُها (¬5) ولهذا المعنى سمى الله تعالى الصبيان والنساء: السفهاء في قوله {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] لجهلهم وخفة عقلهم (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (سفه) 2/ 1709. (¬2) في (ب): (سفهت). (¬3) في (ب): (من). (¬4) البيت لذي الرمة يصف نسوة، جعل النساء في اهتزازهن في المشي بمنزلة الرماح، تستخفها الرياح فتزعزعها، والنواسم: الرياح الضعيفة في أول هبوبها. البيت في "الديوان" 2/ 754، وفيه (رويدا) بدل (مشين)، "الكتاب" 1/ 52، 65، "المقتضب" 4/ 197، "تهذيب اللغة" (سفه) 2/ 1710، "معجم مقاييس اللغة" (سفه) 3/ 79، "اللسان" (سفه) 4/ 2034، (الخصائص) لابن جني 2/ 417، "تفسير ابن عطية" 1/ 169، "تفسير القرطبي" 1/ 178. (¬5) جزء من بيت وتمامه: وأبيض موشيَّ القميص نصبته ... على خصر مِقْلاتِ سَفِيهٍ جَدِيلُهَا أبيض: يعني السيف، نصبته على خصر مقلات: ناقة لا يعيش لها ولد، فهو أصلب لها، والجديل: الزمام، والمراد أن الناقة نشيطة، انظر: "ديوان ذي الرمة" 2/ 922، "تهذيب اللغة" (سفه) 2/ 1710، وفيها (سفيهة) بدل (سفيه)، "معجم مقاييس اللغة" (سفه) 3/ 79، "اللسان" 4/ 2034. وبهذا انتهى ما نقله من "تهذيب اللغة" (سفه) 2/ 1171. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (سفه) 2/ 1171.

14

وعنوا بالسفهاء أصحاب محمد (¬1) - صلى الله عليه وسلم - و (الألف واللام) فيها (¬2) مثلهما في (الناس) (¬3). فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة (¬4) بقولهم: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ قيل: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم، لا عند المؤمنين؛ لأن الله تعالى قد قال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14]. أو (¬5) أنهم لم يفصحوا بهذا القول، وإنما أتوا بما يفهم عنهم به هذا المعنى، ولا يقوم به حجة توجب الحكم من جهة المشاهدة، كقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، وهو خلاف الإفصاح (¬6). 14 - قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا}. قال المفسرون: يعني: أبا بكر -رضي الله عنه- وأصحابه (¬7). و (لقوا) في الأصل (لقيوا) فاستثقلت الضمة على ¬

_ (¬1) ذكرها ابن جرير عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 128، "تفسير ابن كثير" 1/ 54. (¬2) (فيها) غير واضحة في (ب). (¬3) يريد ما سبق في قوله: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} حيث قال: الألف واللام للمعرفة لأن أولئك كانوا معروفين عند المخاطبين بهذا. (¬4) في (أ)، (ج): (المجاهدة) وما في (ب) موافق لما في "الوسيط" 1/ 43 وهو ما أثبته. (¬5) في (ب): (وأنهم). (¬6) انظر. "تفسير ابن عطية" 1/ 169، و"تفسير القرطبي" 1/ 178. (¬7) لعل المؤلف هنا يثير إلى الأثر الطويل الذي أخرجه في (أسباب النزول) بسنده عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والذي ورد فيه قصة لقاء عبد الله بن أبي ومعه طائفة من أصحابه بأبي بكر ومعه نفر من الصحابة .. الأثر. "أسباب النزول" للواحدي ص 25. وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 51 أ، وأورده =

(الياء)، فحذفت ونقلت ضمتها إلى القاف (¬1). الحراني عن ابن السكيت: لَقِيتُه لقَاءً ولِقْيَاناً ولُقِيًّا (¬2) ولُقًى (¬3). الليث: وكل شيء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه من الأشياء كلها (¬4). وقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}. يقال: خَلاَ المكان يَخْلُو (¬5) خَلَاءً وهو خَلاَء (¬6) وخَالٍ (¬7)، وخَلَوْتُ بفلان، أَخْلُو به خَلْوَةً وَخَلاَءً (¬8)، ¬

_ = السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 69، وذكره في "لباب النقول" وقال: هذا الإسناد واهٍ جداً فإن السدي الصغير كذاب وكذا الكلبي وأبو صالح ضعيف ص 17. وفي "تفسير الطبري"، عن ابن عباس المراد: أصحاب محمد، 1/ 129 - 130، وانظر "تفسير ابن كثير" 1/ 54. (¬1) في "الكشف" للثعلبي (فاشتقلت الضمة على (الياء) فنقلت إلى القاف، وسكنت، و (الواو) ساكنة فحذفت لاجتماعها) 1/ 51 أ، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 169، "تفسير القرطبي" 1/ 179. (¬2) (ولقيا) ساقط من (ب). (¬3) "تهذيب اللغة" (لقى) 4/ 3290، وانظر كلام ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص 311. قال أبو حيان: (سمع لـ (لقى) أربعة عشر مصدرًا)، "البحر" 1/ 62، "الدر المصون" 1/ 144. (¬4) "تهذيب اللغة" (لقى) 4/ 3290. (¬5) في (أ)، (ج): (مخلو) وأثبت ما في (ب). (¬6) في (ب): (يخلو خلاوة وخلاء). (¬7) في "التهذيب" قال الليث: خلا المكان والشيء يَخْلُو خُلْوَّا وخَلاَءً وأَخْلَى إذا لم يكن فيه أحد ولا شيء فيه، وهو خال. "التهذيب" (خلا) 1/ 1073، وانظر "اللسان" (خلا) 2/ 1254، "القاموس" (خلا) ص 1280. (¬8) ذكره الأزهري عن اللحياني. "التهذيب" (خلا) 1/ 1073.

ويقال: خَلَا به وخَلَا معه وخَلَا إليه بمعنى واحد (¬1). وقال النضر (¬2): (إلى) هاهنا بمعنى: (مع) (¬3) كقوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] و {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬4) [آل عمران: 52، الصف: 14]، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] (¬5). وقال النحويون: معنى الآية: إذا انصرفوا من لقاء المؤمنين إلى شياطينهم، فدخلت (إلى) لدلالة (¬6) الكلام على معنى الابتداء (¬7) والانتهاء؛ لأن أول لقائهم للمؤمنين ثم للشياطين، فكأنه (¬8) قال: وإذا خلوا من المؤمنين وانصرفوا (¬9) إلى شياطينهم. وهذا أحسن من إخراج ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 51 أ، "تهذيب اللغة" (خلا) 1/ 1073، "اللسان" (خلا) 2/ 1254، "القاموس" ص 1280. (¬2) هو النضر بن شميل بن خَرَشة بن يزيد التميمي، من أهل مرو، كان صاحب غريب وشعر، ورواية للحديث، من أصحاب الخليل بن أحمد، توفي سنة ثلاث ومائتين. انظر ترجمته في: "إنباه الرواة" 3/ 348، "نزهة الألباء" ص 73، "وفيات الأعيان" 5/ 397، "إشارة إلى التعيين" ص 364. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 51 أ، وذكره الجوهري ولم ينسبه للنضر. "الصحاح" (خلا) 6/ 2330، "اللسان" (خلا) 2/ 1254، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 131. (¬4) وردت في سورة آل عمران: 52 قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} الآية. وفي سورة الصف: 14 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} الآية. (¬5) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 571. (¬6) في (أ)، (ج) (الدلالة) وأثبت ما في (ب). (¬7) في (ب): (الابتدار الانتهاء). (¬8) في (ب): (فكانوا). (¬9) في (ب): (فانصرفوا).

(إلى) عن حدها (¬1). والشيطان كل متمرد عات من الجن والإنس (¬2)، قال الله تعالى. {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. واختلفوا في اشتقاقه: فقال الليث: الشيطان فَيْعَال من شَطَن أي: بعد، يقال: نَوى شَطُون (¬3) وشَطَنَت (¬4) الدار، أي: بعدت، ويقال: شَيْطَن (¬5) الرجل وتَشَيْطَن (¬6) إذا صار (¬7) كالشيطان وفعل فعله. وقال رؤبة: ¬

_ (¬1) (خلا) تتعدى بـ (إلى) وبـ (الباء) فإذا عديت بـ (إلى) كان معناها الانفراد في حاجة خاصة، وإذا عديت بـ (الباء) كان لها معنيان: أحدهما: ما سبق، والآخر: بمعنى السخرية به، فتعديتها بـ (إلى) أفصح، لأنه يخلو من الالتباس. وبعضهم يجعل (إلى) في الآية بمعنى (مع)، وبعضهم يجعلها بمعنى (الباء)، وهذان ضعيفان عند بعض العلماء؛ لأن الحروف لا يجوز تحويلها عن معانيها إلا بحجة، وبعضهم قال: ضُمِّن (خلا) معنى (ذهبوا) و (انصرفوا) وهذا قول الكوفيين، وقد رجحه الواحدي والطبري وكثير من المفسرين؛ لأنه يُبقي (إلى) على معناها. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 131، و"تفسير أبن عطية" 1/ 174، "الدر المصون" 1/ 145، "مغني اللبيب" 1/ 75. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 32، "تفسير الطبري" 1/ 49، "تفسير الثعلبي" 1/ 15 ب. (¬3) النوى: الدار، ويطلق على التحول من مكان إلى آخر. "اللسان" (نوى) 15/ 347. والكلام لأبي عبيد أدخله المؤلف في كلام الليث، قال في "التهذيب" (أبو عبيد: نوى شطون: أي بعيدة شَاطَّة، وقال الليث: غزوة شطون: أي بعيدة، وشَطَنَت الدار شُطُونا، إذا بعدت ...). "التهذيب" (شطن) 2/ 1877. (¬4) في (ب): (وشطين الداري) ولفظ الداري بخط مخالف كبير. (¬5) في (ب): (شيطان). (¬6) في (ب): (شيطن). (¬7) في (ب): (صاب).

شَافٍ لِبَغْي الكَلْبِ المُشَيْطِنِ (¬1) فمعنى الشيطان: البعيد من الجنة. وقال قوم: الشيطان فعلان من شاط يشيط إذا هلك واحترق، بوزن: هَيْمَان وعَيْمَان (¬2)، من هام وعام (¬3) وقال الأعشى: وقد يشيط على أرماحنا البطل (¬4) قال أبو علي: هو (فَيْعَال) من شَطَن (¬5) مثل: البَيْطَار والغَيْدَاق (¬6). وليس بفَعْلَان من قوله: وقد يَشِيُط البيت. ¬

_ (¬1) ورد الرجز في "ديوان رؤبة" ص165، "تهذيب اللغة" (شطن) 2/ 1877، "اللسان" (شطن) 4/ 2264، "البحر المحيط" 1/ 62. وبهذا انتهى كلام الليث. "تهذيب اللغة" (شطن) 2/ 1877، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 49، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 83، "الحجة" لأبي علي2/ 22، "تفسير ابن عطية" 1/ 76، "تفسير الثعلبي" 1/ 51 ب، وقال أبو حيان: وهو قول البصريين. "البحر المحيط" 1/ 62، "الدر المصون" 1/ 10. (¬2) في (ب) (عثمان) وفي "التهذيب" (غيمان) 2/ 1877. (¬3) الكلام بنصه في "التهذيب" (شطن) 2/ 1878، ونسب أبو حيان القول للكوفيين. "البحر" 1/ 62، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 49، "الحجة" 2/ 22، "تفسير ابن عطية" 1/ 76. (¬4) صدره: قد نخضب العير من مكنون فائله العير: حمار الوحش، الفائل: عرق يجرى من الجوف إلى الفخذ، ومكنون الفائل: الدم، يشيط: يهلك. انظر (ديوان الأعشى) ص 149، "الحجة" لأبي علي 2/ 22، "شرح المفصل" 5/ 64، "البحر المحيط" 1/ 62، "تفسير القرطبي" 1/ 79. (¬5) في (ب): (شيطن). (¬6) (الغيداق) الكريم، وولد الضب، والطويل من الخيل. "القاموس" ص 914. و (البيطار): الخياط. "القاموس" ص 352.

لأن سيبويه قد حكى: (شيطن) (¬1) وهو (فَيْعَل) لا (فَعْلَن)، لأنا لا نعلم أن (¬2) هذا الوزن جاء في كلامهم (¬3). ومثل (فَيْعَل) بَيْطَر وَهَيْنَم (¬4)، والحجة القاطعة قول أمية: أيُّمَا شاطنٍ عصاهُ عكاهُ ... ثُمَّ يُلْقَى في السِّجْنِ والأكْبَالِ (¬5) فكما أن (شاطناً) فاعل، والنون لام، كذلك (شَيْطان) فَيْعَال، ولا بكون (فَعْلَان) من يَشِيط (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب) (شيطان). (¬2) في (ب) (لأن). (¬3) نص كلام أبي علي في "الحجة": (ألا ترى أن سيبويه حكى: شَيْطَنتُه فَتَشَيْطَن، فلو كان من يَشِيطُ لكان شَيْطَنَتُه (فَعْلَنْتُه)، وفي أنا لا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم ما يدلك أنه. (فَيْعَلْتُه)، مثل: بَيْطَرتُه ومثل: هَيْنَم. وفي قول أمية أيضا دلالة عليه، وهو قوله: ...) 2/ 22. وانظر كلام سيبويه في "الكتاب" 3/ 217، 218. (¬4) الهينمة: (الصوت الخفي) "القاموس" ص1172. (¬5) البيت لأمية بن أبي الصلت يذكر سليمان -عليه السلام- يقول: أيما شيطان عصى سليمان، عكاه: شده بالأكبال، وهي القيود ثم يلقى في السجن. انظر "تفسير الطبري" 1/ 49، "الحجة" 2/ 22، "التهذيب" (شطن) 2/ 1878، (إعراب ثلاثين سورة) لابن خالويه ص 7، "تفسير ابن عطية" 1/ 76، "زاد المسير" 1/ 34، و"تفسير القرطبي" 1/ 79، "البحر المحيط" 1/ 62، "اللسان" (شطن) 4/ 2265، "الدر المصون" 1/ 10. (¬6) انتهى ما نقله عن أبي علي من "الحجة" 1/ 22، وقد نصر جمهور العلماء هذا الرأي وأن شيطان (فَيْعَال) من شَطن، منهم ابن جرير في "تفسيره" 1/ 49، والأزهري في "تهذيب اللغة" (شطن) 2/ 1878، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 760. قال السمين الحلبي: قال جمهورهم: هو مشتق من شَطَن يَشْطُن، أي بعد. "الدر المصون" 1/ 10.

15

قال أبو إسحاق: ومعنى الشيطان: الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس (¬1). قال ابن عباس: أراد بشياطينهم كبراءهم وقادتهم (¬2). وقوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ}. (مع) كلمة تضم الشيء إلى الشيء، ونصبها كنصب الظروف؛ لأن تأويل قولك: (أنا معك): أنا مستقر معك، كما تقول: أنا خلفك (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. (الهُزْءُ): السخرية، يقول: هَزِئَ به يَهْزَأُ (¬4) وتَهَزَّأ به واسْتَهْزَأَ به (¬5)، وهو أن يظهر غير ما يضمر استصغارا وعبثا (¬6). 15 - قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}. قال ابن عباس: (هو (¬7) أنهم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 83. (¬2) أخرج ابن جرير بسنده عن السدي خبرا ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما شياطينهم: فهم رؤوسهم في الكفر. وأخرج نحوه عن قتادة ومجاهد وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 130، وأخرج هذِه الآثار ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 47 - 48، وانظر "الدر" 1/ 69 - 70. (¬3) في (ب): (جعلك). انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 54، "تهذيب اللغة" (مع) 4/ 3417، "مغني اللبيب"1/ 333. (¬4) في (ب): (هزاته يهزئ). (¬5) ذكره الأزهري عن الليث. "التهذيب" (هزأ) 4/ 3755، "الصحاح" (هزأ) 1/ 84. (¬6) انظر: "الكشاف" 1/ 186، و"تفسير الرازي" 2/ 69، "لباب التفاسير" للكرماني 1/ 134 (رسالة دكتوراه). (¬7) (هو أنهم) ساقط من (ب).

كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة) (¬1). فشبه هذا من الله بالاستهزاء والمكر؛ لأنه غيب عنهم غير ما أظهر لهم، كالمستهزئ منا يظهر أمرا يضمر غيره. (¬2). وقال ابن الأنباري: الاستهزاء من الله جل وعز مخالف الاستهزاء من المخلوقين؛ لأن استهزاءه أن يستدرجهم من حيث لا يعلمون (¬3). وقال جماعة أهل المعاني: معنى الله يستهزئ بهم: يجازيهم (¬4) جزاء استهزائهم، فسمى الجزاء باسم المجازى عليه، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] ومنه قول عمرو: فنجهل فوق جهل الجاهلينا (¬5) وهذا هو الاختيار (¬6)؛ ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا النص منسوبا إلى ابن عباس، وذكره القرطبي في "تفسيره" ولم ينسبه 1/ 181. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 134، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 55، و"تفسير الثعلبي" 1/ 52 أ، و"تفسير ابن عطية" 1/ 177، "زاد المسير" 1/ 36، و"تفسير الرازي" 2/ 70، وقد ضعف الرازي هذا وقال: لأن الله أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 36. (¬4) (يجازيهم) ساقط من (أ)، (ج). (¬5) البيت لعمرو بن كلثوم وصدره: ألا لا يجهلن أحد علينا وقد سبق تخريجه عند تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}. (¬6) هذا القول ذكره الطبري ورده كما سيأتي، وذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 56، وأبو الليث في "تفسيره" 1/ 97، و"تفسير ابن عطية" 1/ 177، و"تفسير =

لأنه (¬1) حمل الكلام على المزاوجة، ولأنه أظهر وأشكل بما جاء من نظائره في القرآن، وكل ذلك على المجاز الذي يحسن في الاستعمال للمبالغة في البيان والتصرف في الكلام. وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. أصل (المد) في اللغة: الزيادة، والمد: الجذب (¬2): لأنه سبب الزيادة في الطول. ¬

_ = ابن الجوزي" 1/ 36، و"تفسير الثعلبي" 1/ 47 ب، و"تفسير القرطبي" 1/ 185، وغيرهم من المفسرين. وصرح الواحدي باختياره له، وفي هذا القول تفسير للسخرية بالمجاز، وتأويل لها، ورده ابن جرير، ورجح أن المراد: أن الله يستهزئ بهم حقيقة، ولا يلزم لها اللوازم الباطلة، حيث قال: (وإذا كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، ... ثم قال: وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة، فنافون عن الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها ...) "تفسير الطبري" 1/ 133. وإلى هذا المعنى أشار ابن تيمية -رحمه الله- حيت قال: (وكذلك ما ادعوه أنه مجاز في القرآن، كلفظ (المكر) و (الاستهزاء) و (السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذِه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له، وأما إذا فعلت بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلًا ... إلى أن قال: ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلا يستحق هذا الاسم، كما روي عن ابن عباس: أنه يُفْتح لهم باب إلى الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق ... ثم ذكر قولًا عن الحسن البصري بمعناه ... وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة، وقيل: هو تجهيلهم وتخطيئهم فيما فعلوه، وهذا كله حق، وهو استهزاء بهم حقيقة)، "مجموع الفتاوى" 7/ 111، 112. وما يقال في هذا يقال عند قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} وما قيل هناك يقال هنا. (¬1) في (ب): (لأن). (¬2) انظر. "اللسان" (مدد) 7/ 4156، "القاموس" ص 318.

قال الفراء: والشيء إذا مَدَّ الشَّيءَ كان زيادة فيه. تقول: دجلة تَمُدُّ بئارنا (¬1) وأنهارنا، أي: يزيد فيها (¬2). (والمادة) كل شيء يكون مددا (¬3) لغيره (¬4). و (المُدَّةُ) (¬5) الأوقات المتزايدة إلى غاية، ومنه مد الله في عمرك (¬6). الأصمعي: امتد النهر ومد إذا امتلأ بالزيادة، ومده نهر آخر (¬7). ابن المظفر (¬8): وادي كذا يمد في نهر كذا. أي: يزيد فيه (¬9) وأنشد (¬10): سَيْلٌ أَتِيٌّ مَدَّهُ أَتيُّ (¬11) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج) (بيارنا) وما في (ب) موافق لـ "معاني القرآن" للفراء 2/ 329. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 329، وانظر "التهذيب" (مد) 4/ 3361. وقد نقل المؤلف كلام الفراء بتصرف. (¬3) في "التهذيب": (مدادا). (¬4) ذكره الأزهري عن الليث. "التهذيب" (مد) 4/ 3361. (¬5) في (أ)، (ج): (المد)، وأثبت ما في (ب). (¬6) انظر "تهذيب اللغة" (مد) 4/ 3361، "الصحاح" (مدد) 2/ 537. (¬7) "تهذيب اللغة" (مد) 4/ 3361. (¬8) هو الليث بن المظفر، ويقال له. الليث بن نصر، صاحب الخليل، ينقل الواحدي كلامه كثيرًا من طريق "تهذيب اللغة". انظر مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 47، "إنباه الرواة" 3/ 42. (¬9) في (أ)، (ج): (يزيده)، وما في (ب) موافق لما في "تهذيب اللغة" وهو ما أثبته. (¬10) الكلام في "التهذيب" ويظهر أنه من كلام الأصمعي حيث عطفه عليه، ولم يرد ذكر الليث في هذا الموضع. "التهذيب" (مد) 4/ 3361، وأنظر: "اللسان" (مدد) 3/ 397. (¬11) البيت منسوب للعجاج، وهو في "التهذيب" (مد) 4/ 3361، "الصحاح" (مدد) 2/ 537، "اللسان" (مدد) 7/ 4157، وقد نسبه للعجاج وأنشد بعده: =

والمدّ: أن (¬1) يمُدّ الرجلُ الرجلَ (¬2) في غيّه (¬3). قال أهل التفسير في قوله {يَمُدُّهُمْ}: أي يمهلهم (¬4) ويطول في أعمارهم ومدتهم (¬5). و (الطغيان): مصدر كالرجحان والكفران والعدوان (¬6). قال الليث: [والطُّغْوَان لغة فيه] (¬7) والفعل: طَغَوْت وطَغَيْتُ، ومعناه مجاوزة القدر، وكل شيء جاوز القدر فقد طغى، كما طغى الماء على قوم نوح. قال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 12] وطغت الصيحة على ثمود (¬8)، ¬

_ = غِبَّ سَمَاءٍ فَهْوَ رَقَرَاقِيُّ وفي "ديوان العجاج": مَاءٌ قَريٍّ مَدَهُ قَرِيُّ ... غِبَّ سَمَاءٍ فَهْوَ رَقَرَاقِيُّ القَري: المسيل، الرقراقِي: المُتَرَقْرِق الذي يتكفأ. (الديوان) ص 318. (¬1) في (ب): (والمداد يمد). (¬2) في (ب): (للرجل). (¬3) ذكره في "التهذيب" عن ابن أبي حاتم عن الأصمعي (مد) 4/ 3361. (¬4) في (ب): (يهملهم) تصحيف. (¬5) اختلف العلماء في {يَمُدُّهُمْ} هل هي من المد بمعنى الإمهال والتطويل فىِ العمر. أو من المدد بمعنى: الزيادة. وقد رجح هذا الطبري حيث قال: وأولى الأقوال بالصواب أن يكون بمعنى: يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم. "تفسير الطبري" 1/ 135، وانظر: "تفسير أبن عطية" 1/ 177 - 178، "الكشاف" 1/ 188، و"تفسير القرطبي" 1/ 182. (¬6) "الحجة" لأبي علي 1/ 366. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬8) انتهى كلام الليث وقد نقله المؤلف بتصرف، "تهذيب اللغة" 3/ 2196، "العين" 4/ 435.

فقيل فيهم: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (¬1). وقيل لفرعون: {إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] (¬2) أي أسرف حيث ادعى الربوبية (¬3). فأما الطغوى والطاغية والطاغوت فهي مذكورة في مواضعها مشروحة. وكان الكسائي يميل {طُغْيَانِهِمْ} في رواية أبي عمر (¬4) ونصير (¬5) (¬6). وذلك لأن (¬7) الألف قد اكتنفها شيئان كل واحد منهما يجلب الإمالة [وهما، الياء التي قبلها، والكسرة التي بعدها. فإن قلت: إن أول الكلمة حرف [مستعل] (¬8) مضموم، وكل واحد من هذين يمنع الإمالة] (¬9). قيل: إن المستعلي تراخى عن الألف بحرفين فلم يمنع الإمالة. ¬

_ (¬1) كتبت في جميع النسخ (أهلكوا) وسياق الآية: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}. (¬2) (طغى) ساقط من (ب). (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 52 ب. (¬4) هو حفص بن عمر عبد العزيز المقرئ النحوي البغدادي الضرير، قرأ عن الكسائي ويحيى اليزيدي، توفي سنة ست وأربعين ومائتين. انظر ترجمته في "معرفة القراء الكبار" 1/ 191، "غاية النهاية" 1/ 255. (¬5) ونصير ساقط من (ب). ونصير هو: نصير بن أبي نصر الرازي ثم البغدادي النحوي، أبو المنذر، صاحب الكسائي، مات في حدود الأربعين ومائتين. انظر ترجمته في: "معرفة القراء الكبار" 1/ 213، "غاية النهاية" 1/ 255. (¬6) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 144، "الحجة" لأبي علي1/ 365، "الكشف" لمكي 1/ 171. (¬7) في (ب): (أن). (¬8) في (ب): (مستعمل) وصححت الكلمة من "الحجة" 1/ 368. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). الكلام في "الحجة" مع الاختصار 1/ 367، 368، وانظر: "الكشف" 1/ 171.

16

وقوله تعالى: {يَعْمَهُونَ}. قال أهل اللغة: (الْعَمِه والعَامِه) الذي يتردد متحيراً لا يهتدي لطريقه ومذهبه، ومعنى (¬1) {يَعْمَهُونَ}: يتحيرون، وقد عَمِه يَعْمَه عَمَهاً فهو عَمِه إذا حار عن الحق (¬2). قال أهل المعاني: قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} كالتفسير لقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لأن معناه يطول أعمارهم ومدتهم ليتحيروا في طغيانهم وكفرهم، مكراً (¬3) بهم، وهم يحسبون أن ذلك مسارعة لهم في الخيرات، ولا يشعرون أنه عقوبة لهم في الحقيقة (¬4). 16 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} الآية. حقيقة الاشتراء: الاستبدال، وكل اشتراء استبدال، وليس كل استبدال اشتراء، ووضع الاشتراء موضع الاستبدال هاهنا، لأنه أدل على الرغبة (¬5)، وذلك أن المشتري للشيء (¬6) محتاج إليه راغب فيه، فهو أبلغ من لفظ الأصل مع ما فيه من حسن التصرف في الكلام، والرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له وبائعاً للآخر، وإن لم يكن ثم شراء ولا بيع ظاهر (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (معي). (¬2) "تهذيب اللغة" (عمه) 3/ 2575، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 56، "تفسير الثعلبي" 1/ 48 ب. (¬3) في (ب): (ومكرا). (¬4) هذا على أن (يمدهم) من المد بمعنى الإمهال والتطويل، وقد سبق بيان ذلك عند قوله {وَيَمُدُّهُمْ}، وأنظر "تفسير الطبري" 1/ 135، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 56، "الكشاف" 1/ 188. (¬5) في (أ): (الرعية). (¬6) في (ب): (التي). (¬7) انظر. "تفسير الطبري" 1/ 138، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 57، "الأضداد" لابن الأنباري ص 72، "تفسير ابن عطية" 1/ 180، و"تفسير القرطبي" 1/ 183، =

قال ابن عباس في هذه الآية: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى (¬1). قال أهل المعاني: هؤلاء المنافقون لم يكونوا على الهدى قط، لكنهم (¬2) لما تركوا الواجب عليهم من الهدى، واستبدلوا به الضلالة قيل في صفتهم: اشتروا الضلالة بالهدى (¬3). وأصل {اشْتَرَوُا} اشتريوا، فلما تحركت (الياء) وانفتح ما قبلها صارت (ألفا)، فاجتمع ساكنان، فحذفت (الألف) (¬4) فصار (اشتروا) ساكنة ¬

_ = و"تفسير البيضاوي" 1/ 11، "تفسير الخازن" 1/ 63، (ضمن مجموعة من التفاسير)، "الدر المصون" 1/ 135. (¬1) أخرج ابن جرير بسنده عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. "تفسير الطبري" 1/ 137، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن السدي 1/ 50، وانظر. "تفسير ابن كثير" 1/ 56. (¬2) في (ب): (ولكنهم). (¬3) للعلماء في معنى الآية أقوال ذكرها ابن جرير في "تفسيره" وهي: منهم من قال إن معنى اشتروا استحبوا كما قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، فالمعنى اختاروا الضلالة على الهدى. ومنهم من قال: إنهم كانوا مؤمنين وكفروا، ولو كان الأمر على ذلك لكان هؤلاء تركوا الإيمان واستبدلوا به الكفر، وهو المفهوم من معاني الشراء والبيع، ولكن دلائل الآيات في نعوتهم دالة على أنهم لم يكونوا مؤمنين قط، إنما أظهروا الإيمان كذباً. ومنهم من قال: المراد أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، فكل كافر مستبدل بالإيمان كفرا، وهذا ما اختاره ابن جرير وهو أختيار أكثر المفسرين. انظر "تفسير الطبري" 1/ 137 - 139، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 57، "تفسير ابن عطية" 1/ 180، و"تفسير القرطبي" 1/ 182 - 183، و"تفسير ابن كثير" 1/ 56. (¬4) لأن حذفها أولى لأن الواو دخلت لمعنى والألف لم تدخل لمعنى "البيان" لابن الأنباري 1/ 58.

(الواو) (¬1). وسقطت همزة الوصل من الضلالة للدرج، فالتقت الواو الساكنة مع الساكن المبدل من لام المعرفة، فحركت الأولى بالضم (¬2). واختلفوا في العلة الموجبة لضم الواو (¬3) في {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} فقال أكثر النحويين: إن واوات الجمع كلها (¬4) تحرك بالضم نحو: {لَتُبلَوُنَّ} [آل عمران: 186] و {لَتَرَوُنَّ} [التكاثر: 6]. وقالوا: مُصْطَفَوُ الله؛ لأن الضم أدل على الجمع وأشكل به، وهذه الواو للجمع فحرك بما هو أدل على الجمع (¬5). ألا ترى أن (¬6) الواو في (أو) أو (لو) لما لم تكن للجمع لم تحرك بالضم، بل حركت بالكسر، فقرئ (¬7) {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} [الجن: 16] (¬8). ¬

_ (¬1) قيل في إعلالها: استثقلت الضمة على الياء فحذفت تخفيفا، فاجتمع ساكنان: الياء والواو. فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وما ذكره المؤلف أولى. انظر: "البيان" لابن الأنباري 1/ 58، "تفسير ابن عطية" 1/ 179، "الدر المصون" 1/ 152. (¬2) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 369. (¬3) اتفقوا على أن (الواو) في (اشتروا) تحرك لالتقاء الساكنين، ثم اختلفوا لماذا اختبر الضم على الكسر؟ انظر: "الحجة" 1/ 369. (¬4) في (ب): (كأنها). (¬5) "الحجة" لأبي علي 1/ 369، وانظر: "الكتاب" 4/ 155، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 55، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 204، "تفسير الثعلبي" 1/ 49 أ، "البيان" لابن الأنباري 1/ 58، "تفسير ابن عطية" 1/ 179. (¬6) (أن) ساقطة من (ب). (¬7) في (ب): (فقرا) (¬8) قراءة الجمهور بالكسر، وقرئ في الشاذ بضم الواو، روى عن الأعمش وابن وثاب. انظر: "البحر المحيط" 8/ 352.

وقد أجازوا الكسر (¬1) في {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} تشبيهاً بمثل: {لَوِ اسْتَطَعْنَا} [التوبة: 42] و {أَلَّوِ اسْتَقَامُوا}. وأجازوا (¬2) الضم (¬3) في {لَوِ اسْتَطَعْنَا} تشبيها بواو الجمع (¬4). وقال ناس: إن (¬5) (الواو) ضمت ههنا لأنه فاعل في المعنى (¬6) فجعلت حركة التقاء الساكنين فيه كحركة الإعراب. وهذا لا يستقيم، لأنهم كسرو (الياء) في قولهم: (أخْشَيِ الله يا امرأة) والياء فاعلة في المعنى (¬7). وقوم كسروا الواو في مسألتنا (¬8) وفي قوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] (¬9) فلو كان كما ذكروا (¬10)، لم يجز الاختلاف (¬11) ¬

_ (¬1) قراءة الجمهور بالضم، وبالكسر قراءة شاذة، قرأ بها يحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق. انظر: "الحجة" 1/ 370، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 204، "تفسير ابن عطية" 1/ 179، و"تفسير القرطبي" 1/ 182، "الدر المصون" 1/ 151. (¬2) في (أ)، (ج): (وجازوا) وأثبت ما في (ب). (¬3) وهي قراءة شاذة حيث قرأ بالضم الأعمش وزيد بن علي، انظر "البحر" 5/ 46. (¬4) انتهى من "الحجة" لأبي علي 1/ 369. (¬5) (إن) ساقطة من (ب). (¬6) في (ب): (بالمعنى). (¬7) (المعنى) ساقط من (ب). أي: وسع كونها فاعلا في المعنى لم تحرك بالضم، انظر "الحجة" لأبي علي 1/ 371، "الكتاب" 4/ 155، "الدر المصون" 1/ 151. (¬8) المراد قوله: (اشتروا) وقد سبق بيان أن قراءة الكسر شاذة. (¬9) قال أبو حيان: قرأ يحيى بن يعمر: (ولا تَنْسَوِ الفضل) بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين تشبيها للواو التي هي (ضمير) بواو (لو) في قوله تعالى: {لَوِ اسْتَطَعْنَا}، كما شبهوا واو (لو) بـ (واو) الضمير فضموها. "البحر" 2/ 238. (¬10) ما ذكروه: هو أن (الواو) ضمت لأنها فاعل في المعنى. (¬11) أي لم يجز الاختلاف في حركة الواو هل هي بالضم أو بالكسر.

فيه كما لم يجز (¬1) في حركة الإعراب (¬2). وقال الفراء: إنهم إنما حركوا (الواو) هاهنا بالحركة التي كانت تجب للام الفعل من الضمة (¬3). قال أبو علي (¬4): الذي ذهب إليه الفراء هو أن الحركة في (الواو) ليست لالتقاء الساكنين كما يذهب إليه سيبويه وأصحابه (¬5). ولا يستقيم ما ذهب إليه؛ لأنا رأينا الحركات إنما تلقى على الحروف التي تكون قبل الحرف الذي ينقل منه، ولا ينقل إلى ما بعد الحروف المنقولة منها الحركة، كما تقول في: (بِعت)، و (قُلت)، و (خِفت)، و (مِست) (¬6)، و (ظِلْت)، و (أَحَسْت) (¬7)، و (أَصَمّ) (¬8)، و (أَعَدّ)، و (أَخِلَة). وكذلك نقل ¬

_ (¬1) (يجز) ساقط من (ج). (¬2) ذكره أبو علي في "الحجة" 1/ 372. (¬3) ذكره أبو علي قال: حكاه أحمد بن يحيى عن الفراء. "الحجة" 1/ 372. (¬4) "الحجة" 1/ 372، وما قبله كله من كلام أبي علي وقد اعتمد الواحدي في هذا المبحث على "الحجة". (¬5) انظر: "الكتاب" 4/ 155. (¬6) الميس: التبختر، ماس يَميِس مَيْسا ومَيَسَانا: تبختر واختال. انظر. "اللسان" (مَيَس) 6/ 224، "القاموس" (مَيَس) ص 576. (¬7) أصلها: أحسست، حذفت السين الثانية، وهي بمعنى: علمت. انظر. "تهذيب اللغة" (حس) 1/ 817، "اللسان" (حسس) 2/ 871. في هذِه الكلمات نقلت حركة العين إلى الفاء، ولم تنقل إلى ما بعدها. انظر: "الحجة" 1/ 372، 373. ولكن نلحظ فيما سبق عند الكلام على (نحن) أنه ورد في أحد الأقوال: إن حركة الضمة نقلت من الحاء إلى النون. (¬8) في (أ): (أضم) وكذا في (ج) بدون شكل، وما في (ب) موافق لما في "الحجة".

حركات الهمز في التخفيف نحو: (جَيَل) (¬1) و (المرَة) (¬2). وكذلك قولهم: (قَاضُون)، و (غَازُون)، و (مُشْتَرُون)، ونحو ذلك، فإذا كان الأمر على ما وصفنا، ولم نجد في هذه الأصول شيئا على ما (¬3) ادعاه، ثبت (¬4) فساد ما ذهب إليه لدفع (¬5) الأصول ذلك، وقوله (¬6) يوجب أن ضمة الياء في (اشتريوا) نقل إلى الواو (¬7) بعد الياء، وإنما ينقل حيث ينقل إلى ما قبل المنقول منه لا إلى ما بعده كما بينا (¬8). وأيضا فإنه لو كان كما ذكر، لوجب أن يتحرك الحرف الذي نقلت إليه (¬9)، التقى مع الساكن أو لم يلتق (¬10)، ألا ترى أن سائر ما نقلت إليه الحركة مما ذكرنا، يتحرك (¬11) بالحركة ¬

_ (¬1) في (ج): (جل). و (جيل) أصلها جَيْأَل، ولكن خففت بحذف الهمزة في اللفظ، مبقاة في النية، ونقلوا حركة الهمزة إلى الياء. والجيأل: الضبع، والضخم من كل شيء. انظر. "اللسان" (جأل) 1/ 259، "القاموس" (جأل) ص 974. (¬2) (المَرَة) أصلها (المرأة) خففت الكلمة بحذف الهمزة، ونقلت حركتها إلى الراء، بعضهم قال: تخفيف قياسي مطرد، وبعضهم قال: غير مطرد. "اللسان" (مرأ) 7/ 4166. (¬3) (ما) ساقطة من (ب). (¬4) في (أ)، (ج) (وثبت) زيادة واو. (¬5) في (ب) (لرفع). (¬6) في (أ)، (ج) (وقوله تعالى)، وفي (أ) كتبت بخط كبير. (¬7) في (ب) (الياء). (¬8) قوله (ذلك وقوله يوجب .... إلى قوله: لا إلى ما بعده كما بينا) ليس في "الحجة". انظر: "الحجة" 1/ 373. (¬9) عبارة أبي علي: (فلو كانت حركة نقل كما قال، لوجب أن يتحرك الحرف الذي نقلت إليه بها، التقى مع ساكن، أو لم يلتق ...) "الحجة" 1/ 374. (¬10) في (ب): (يليق). (¬11) في (ب): (لتحرك).

المنقولة إليه، فلما لم تتحرك الواو في {اشْتَرَوُا} إلا عند التقاء ساكن، ثبت أن حركتها حركة الحروف الساكنة الملتقية (¬1) مع سواكن أخر (¬2). قال أبو أسحاق: من أبدل واو (¬3) {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} همزة، غالط؛ لأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا لزمت ضمتها، نحو: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (¬4) [المرسلات: 11] وكذلك: (أَدْؤُرٌ) (¬5) فيمن همزها، والضمة هاهنا إنما هي لالتقاء الساكنين فلا يلزم (¬6). وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}. (الربح) الزيادة على أصل المال (¬7). و (التجارة) تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء (¬8). يقال: تَجَرَ الرجل يَتْجُر تِجَارَة فهو تَاجِر (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (المتلقية). (¬2) في (أ): (آخر) وفي (ب)، (ج)، بدون همز، وما أثبت موافق لما في "الحجة". بهذا انتهى رد أبي علي على الفراء، وقد اختصر الواحدي بعض كلامه. انظر "الحجة" 1/ 372 - 374. (¬3) نص كلام الزجاج: (فأما من يبدل من الضمة همزة فيقول: (اشترؤ الضلالة) فغالط ...)، "معاني القرآن" 1/ 57. (¬4) قال الزجاج: الأصل وقتت 1/ 57. (¬5) قال الزجاج: وكذلك (أَدْؤر) إنما أصلها (أَدْوُر) 1/ 57. (¬6) انتهى كلام الزجاج. انظر "معاني القرآن" 1/ 57، وقوله: (فلا يلزم) ليس من كلام الزجاج، والمعنى: أن ضمة (اشتروا) إنما هي لالتقاء الساكنين فليست ضمة لازمة، فلا تقلب الواو المضمومة همزة، لعدم لزوم الضمة فيها. (¬7) انظر: "لباب التفسير" 1/ 142، "البحر" 1/ 63، "الدر المصون" 1/ 154، "تفسير أبي السعود" 1/ 49. (¬8) انظر: "مفردات الراغب" ص 73، وانظر المصادر السابقة. (¬9) انظر: "مجمل اللغة" (تجر) 1/ 49، "مقاييس اللغة" 1/ 341، "مفردات الراغب" ص 73، وقالوا: ليس في كلام العرب تاء بعدها جيم إلا هذا اللفظ.

قال الشاعر: قَدْ تَجَرَتْ في سُوقِنَا عَقْرَبٌ ... لا مَرْحَبًا بالعَقْرَبِ التَّاجِرَه (¬1) ومعنى قوله {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي ما ربحوا في تجارتهم، وأضاف الربح إلى التجارة، لأن الربح يكون فيها، وهذا كلام العرب يقولون: ربح بيعك وخسر بيعك (¬2)، ونام ليلك، وخاب سعيك، قال الله تعالى {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] أي مكرهم فيهما. وقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21] وإنما العزيمة للرجال في الأمر (¬3). وقال جرير: وأعْوَر مِنْ نَبْهَان أمَّا نَهاره ... فَأعْمَى وأمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ (¬4) فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار، ومراده بهما الموصوف ¬

_ (¬1) البيت للفضل بن عباس بن أبي لهب، وكان (عقرب بن أبي عقرب) رجل من تجار المدينة، مشهور بالمطل حتى قيل: (هو أمطل من عقرب) فعامله الفضل، فمطله فقال قصيدة يهجوه بها مطلعها هذا البيت المذكور، وردت القصيدة في "الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة" 1/ 98، "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 281، "المستقصى في أمثال العرب" 1/ 33، "مجمع الأمثال" 1/ 260، "اللسان" (عقرب) 5/ 3039. (¬2) (خسر بيعك) ساقط من (ب). (¬3) انظر "تفسير الطبري" 1/ 139، "معاني القرآن" للفراء 1/ 14، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 207، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 58، "تأويل مشكل القرآن" ص 138، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 42، "زاد المسير" 1/ 38. (¬4) من قصيدة له هجا فيها النبهاني، وكان قد هجا جريرا، ورد البيت في "الطبرى" 1/ 140، "ديوان جرير" ص 203.

17

من نبهان (¬1). قال الفراء: وهذا إنما يجوز إذا عرف الكلام ولم يشكل، فإذا أشكل لم يجز، كما لو قال: خسر عبدك، وأراد أن يجعل العبد تجارة يربح فيه، أو يوضع (¬2)، لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح، فلا يعرف معناه إذا ربح (¬3) من معناه إذا كان مَتْجُورًا (¬4) فيه (¬5). 17 - قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآية. قال أبو عبيد عن الفراء: يقال (¬6): مَثَل ومِثْل وشَبَه وشِبْه بمعنى واحد (¬7). وقال الليث: المثل: الشيء الذي يضرب (¬8) مثلا لشيء، فيجعل مثله (¬9). وقال المبرد (¬10): (المثل): مأخوذ من المثال، والمثل من الكلام: قول سائر نشبه (¬11) به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، فمعنى قولهم: (مثل بين يديه) إذا انتصب، معناه: أشبه الصورة المنتصبة بين يديه، ¬

_ (¬1) ذكره " الطبري" في "تفسيره" 1/ 140. (¬2) أي: يخسر فيه. (¬3) في "معاني القرآن" للفراء: (إذا ربح هو) 1/ 15. (¬4) في (ب): (متجوزا). (¬5) نقل كلام الفراء بمعناه انظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 15. (¬6) في (ب): (ويقال). (¬7) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬8) في (ب): (لا يضرب) و (ج) (ضرب). (¬9) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬10) أورد الميداني كلام المبرد في "مجمع الأمثال" 1/ 7. (¬11) في "مجمع الأمثال" (يشبه به).

والأماثل: الأفاضل. و (هذا أمثل من ذاك) (¬1)، أي: أشبه بما له (¬2) الفضل. والِمثَال: القصاص لتسوية (¬3) الحالتين، وتشبيه حال المقتص منه بحال الأول، والامتثال: الاقتصاص من هذا. و (الأمثال) (¬4): أصل كبير في بيان الأشياء، لأن الشيء يعرف بشبهه ونظيره. [و (الأمثال): يخرج ما يخفى تصوره إلى ما يظهر تصوره، و (المثل): بيان ظاهر على أن الثاني مثل الأول] (¬5). و (الأمثال): متداولة سائرة في البلاد، وفيها حكم عجيبة وفوائد كثيرة، وقد ذكر الله تعالى الأمثال في غير موضع من كتابه، لما (¬6) فيها من حسن البيان وقرب الاستدلال. والمقصود بالمثل: البيان عن حال الممثل (¬7). وحقيقته: ما جعل من القول كالعلم للتشبيه بحال الأول، مثال ذلك قول كعب بن زهير (¬8): ¬

_ (¬1) في (ب): (ذلك). وفي "مجمع الأمثال": (فلان أمثل من فلان) 1/ 7. (¬2) في "مجمع الأمثال" (أشبه بما له [من] الفضل) 1/ 7، ويظهر أن (من) مضافة من المحقق لاستقامة المعنى. (¬3) في (أ) (لتشويه). وقوله: (المثال القصاص لتسوية الحالتين) ليس في "مجمع الأمثال" 1/ 7. (¬4) في (ب): (الامتثال). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (التي فيها). (¬7) في (ب): (الممتثل). (¬8) هو كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، شاعر مشهور، وصحابي معروف، قدم على رسول الله صلى الله عيه وسلم وأسلم وأنشده قصيدته المشهورة (بانت سعاد). انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 890، "الإصابة" 3/ 295.

كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَنا (¬1) مَثَلاً ... وَمَا مَوَاعِيدُهُ إلاَّ الأَبَاطِيلُ (¬2) فمواعيد عرقوب علم (¬3) في كل ما لا يصح من المواعيد (¬4). وورد المثل في معان كثيرة في التنزيل، فَذِكْرُ كل واحد في موضعه، إن شاء الله. وذُكِر لفظ (المثل) لأن المراد تشبيه الحالة بالحالة، وذكرنا أن لفظ المثل (¬5) قد صار كالعلم للتشبيه بحال الأول، ولو قيل {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} لم يُعرف ما الغرض من التشبيه، فإذا ذكر لفظ المثل عُلم أن المراد تشبيه الحال بالحال (¬6). و {اسْتَوْقَدَ} بمعنى: أوقد (¬7) في قول أكثر أهل اللغة (¬8). وقال بعضهم: استوقد، معناه: استدعى بالنار الضياء (¬9)، والأول ¬

_ (¬1) في (ب): (لها) وهي رواية للبيت. (¬2) بيت من قصيدة كعب (بانت سعاد) المشهورة التي قالها أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاه بردته، و (عرقوب): اسم رجل مشهور بخلف الوعد فيضرب به المثل، فيقال: (مواعيد عرقوب)، أورد القصيدة ابن هشام في "السيرة" 4/ 152، وأورد بعضها ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" ص 80، وورد البيت المستشهد به في "الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة" 1/ 177، "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 7. (¬3) في (ج): (مثالا). (¬4) انتهى كلام المبرد، وقد ذكره الميداني في مقدمة "مجمع الأمثال" واختصر بعضه، 1/ 7. (¬5) في (ب): (الملك). (¬6) انظر: "الطبري" 1/ 140، "معاني القرآن" للفراء 1/ 15، "الكشاف" 1/ 197. (¬7) (أوقد) ساقط من (ب). (¬8) فعلى هذا (السين) و (التاء) زائدتان: انظر "معاني القرآن" للأخفش 1/ 208، "تأويل مشكل القرآن" ص 362، "تفسير الطبري" 1/ 143، "تفسير ابن عطية" 1/ 183، "زاد المسير" 1/ 39، "القرطبي" 1/ 183، "البحر" 1/ 75. (¬9) وقيل: المراد طلب من غيره أن يوقد له. انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 184، "زاد =

الصحيح (¬1). و (النار) من النور (¬2)، وجمعها نيران (¬3)، والنار تستعار لكل شدة، فيقال: أوقد نار الفتنة، وألقى بينهم نارا: إذا ألقى عداوة. و (أضاء) يكون واقعا ومطاوعا (¬4)، يقال: أَضَاءَ الشيء بنفسه، وأضاءه غيره (¬5). وقال أبو عبيد: أَضَاءَت النار، وأَضَاءَها غيرها (¬6). والنار تضيء في نفسها، وتضيء غيرها من الأشياء، قال الشاعر: أَضاءتْ لهم أَحَسابُهُم وَوُجُوههم ... دُجَى الليْلِ حتَّى نَظَّم الجَزْعَ ثَاقِبُهْ (¬7) ¬

_ = المسير" 1/ 39. وقيل: طلب الوقود وسعى في تحصيله، وهو سطوع النار وأرتفاع لهبها. انظر: "تفسير البيضاوي" 1/ 11، "تفسير أبي السعود" 1/ 50، وانظر. "البحر" 1/ 78. (¬1) وهو اختيار الأخفش وابن جرير وغيرهم كما سبق. (¬2) وبعضهم جعلها مشتقة من نار ينور إذا نفر، لأن فيها حركة واضطرابا، والنور مشتق منها. ذكره الزمخشري في "الكشاف" 1/ 197، انظر: "معجم مقاييس اللغة" (نور) 5/ 368. (¬3) انظر "تهذيب اللغة" (نار) 4/ 3479، وفي "القرطبي" جمعها (نور وأنوار ونيران)، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 184. (¬4) الفعل الواقع هو المتعدي إلى مفعول به أو أكثر. والمطاوعة: هي قبول فاعل فعل أثر فاعل فعل آخر يلتقيان في الاشتقاق، مثل: أدبته فتأدب، فالتأدب أثر التأديب. انظر (معجم المصطلحات النحوية والصرفية) ص 141، 245. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 35 أ، ب، "الصحاح" (ضوأ) 1/ 60، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 184، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 185، "زاد المسير" 1/ 39، "الكشاف" 1/ 198. (¬6) "تهذيب اللغة" (ضاء) 3/ 2077. (¬7) في (أ)، (ج) (ناقبه) بالنون وما في (ب) موافق لجميع المصادر. والبيت نسبه بعضهم لأبي الطمحان القيني، وبعضهم للقيط بن زرارة، يقول: إن أحسابهم =

ويقال: ضَاءَت النار، وأضاءت، لغتان (¬1)، وأضاء السبيل إذا وضح، وكل ما وضح فقد أضاء، وأضاءت الشمس وأضاء القمر (¬2). والذي في الآية واقع (¬3). وقوله تعالى: {مَا حَوْلَهُ}. محل (ما) منصوب بوقوع الإضاءة عليه، و (حوله) نصب على الظرف (¬4). والعرب تقول: رأيت الناس حَوْلَه، وحَوْلَيْه، وحَوَالَهُ، وحَوَالَيْهِ. فَحَوَالَهُ وُحْدَان حَوَالَيْه، وَحَوْلَيْه تَثْنِيةُ حَوْلَه وينشد: مَاءٌ رَوَاهٌ ونَصيٌّ حَوْلَيَه (¬5) ومما ينشد على لسان البهائم أن الضب ¬

_ = طاهرة زكية، فدجى الليل تنكشف من نور أحسابهم، حتى إن ثاقب الضوء يسهل نظم الجزع لناظمه، ورد البيت في "الكامل" 3/ 129، "الحماسة بشرح المرزوقي" 4/ 1598، "أمالي المرتضى" 1/ 257، "الشعر والشعراء" ص 475، "الصناعتين" ص 360، "خزانة الأدب" 8/ 95، "اللسان" (خضض) 2/ 1186، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 185. (¬1) انظر "الصحاح" (ضوأ) 1/ 60، "تهذيب اللغة" (ضاء) 3/ 2077، "اللسان" (ضوأ) 5/ 2618. (¬2) انظر: "القرطبي" في: "تفسيره" 1/ 185، "زاد المسير" 1/ 39. (¬3) أي متعد، وقيل: لازم، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 184، "الكشاف" 1/ 198، "زاد المسير" 1/ 39، "البحر المحيط" 1/ 78، "الدر المصون" 1/ 160. (¬4) هذا على أن (أضاء) متعد، فإن كان لازما، فالفاعل ضمير النار، و (ما) زائدة، وأجاز الزمخشري: أن تكون موصولة فاعله، وحوله منصوب على الظرفية. انظر (إعراب القرآن) للنحاس 1/ 143، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 21، "تفسير ابن عطية" 1/ 184، "الكشاف" 1/ 198، "البحر المحيط" 1/ 178، "الدر المصون" 1/ 160. (¬5) الرِجز للزَّفَيَان السعدي، يروى البيت (حَوْلَيَه) و (حَولِيه) و (حَوْلَيْهْ) ورد البيت عند أبي زيد ص331، وفي "التهذيب" (حال) 1/ 710، "الخصائص" 1/ 332، وليس في "كلام العرب" لابن خالويه ص 41، "اللسان" (روى) 2/ 1055. قال محقق "نوادر أبي زيد": المثبت هنا رواية أبي زيد والبصريين على أنه من الرجز وهي =

قال لِلْحِسْل (¬1): أهَدَمُوا بَيْتَكَ لا أبَالَكا ... وأنا أمْشِي (¬2) الدَّأَلَى حَوَالَكَا (¬3) و (النور) ضد الظلمة، ويقال: نار الشيء وأنار واستنار بمعنى واحد، وأنار الشيء (¬4) أي أوضحه (¬5) ومنه الحديث: (فرض عمر بن الخطاب (¬6) -رضي الله عنه- فريضة فأنارها زيد بن ثابت) (¬7). فأما التفسير: فقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل والسدي: يقول: مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة (¬8) مظلمة في مفازة فاستضاء بها واستدفأ، ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف وأمن، فبينما ¬

_ = (حَوْلَيَهْ) وأما رواية الكوفيين للأبيات فعلى أنها من السريع (حَوْلَيْهْ ...)، ص 331. (¬1) في (ب): (للحسك) والحِسْل: ولد الضب. "تهذيب اللغة" (حسل) 4/ 303. (¬2) في (ب): (استي). (¬3) الرجز من "شواهد سيبويه" 1/ 351، وهو في "الكامل" 2/ 198، "المخصص" 13/ 226، "أمالي الزجاجي" ص130، "همع الهوامع" 1/ 135، "اللسان" (حول) 2/ 1055 الدألي. مشية فيها تثاقل، وهو من تكاذيب الأعراب يزعمون أنه من قول الضب لولده أيام كانت الأشياء تتكلم. (¬4) في (ب): (للشيء). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (نار) 4/ 3482. (¬6) (بن الخطاب) سقط من (ب). (¬7) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ولفظه: (فرض عمر بن الخطاب للجد ثم أنارها زيد بن ثابت)، أي: نورها وأوضحها "تهذيب اللغة" (نار) 4/ 3479، ونحوه عند ابن الجوزي في "غريب الحديث" 2/ 440، وعند ابن الأثير في "النهاية" 5/ 125. وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" بسنده عن الزهري نحوه ولفظه: (إنما هذِه فرائض عمر، ولكن زيدا أثارها بعده وفشت عنه)، "المصنف" 10/ 266، 267 رقم (19060) و (19061)، ونحوه في "كنز العمال" عن عبد الرزاق 11/ 62. (¬8) في (ب): (ليل).

هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها، واعتزوا بعزها، وأمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم (¬1) وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وبقوا في العذاب والنقمة (¬2). وهذا القول اختيار الزجاج، لأنه قال: هذا المثل ضربه الله للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء (¬3) بها المستوقد (¬4). وعلى ما قاله أبو إسحاق: التمثيل وقع بين تجملهم (¬5) بالإسلام، وبين النار التي (¬6) يستضاء بها. وقال غيره: معنى الآية: مثل استضاءتهم (¬7) بكلمة الإيمان كمثل استضاءة الموقد بالنار. فالتمثيل وقع بين الاستضاءتين، وحذف الاستضاءة، لأنه مضاف فأقيم المضاف إليه مقامه (¬8). وهذا قول الفراء، لأنه قال: شبههم وهم جماعة بالذي استوقد نارًا ¬

_ (¬1) في (ب): (واورثوهم). (¬2) ذكره "الطبري" 1/ 143 - 144، من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس، وعن قتادة والضحاك ورجحه. وذكره ابن أبي حاتم 1/ 50 عن ابن عباس. وذكره ابن كثير عن قتادة. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 58، "الدر المصون" 1/ 32. (¬3) في (أ)، (ج): (تستضيء)، وأثبت ما في (ب) لمناسبته للسياق. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 58. (¬5) في (ب): (تحكمهم). (¬6) في (ب): (الذي). (¬7) في (ب) (استضابهم). (¬8) ذكره "الطبري" 1/ 141.

وهو واحد؛ لأنه تشبيه (¬1) للفعل بالفعل، لا للذوات (¬2) بالذوات، ومحل هذا قوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] يعني كدوران عين الذي يغشى عليه، وكقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، يعني إلا كخلق وكبعث نفس واحدة. قال: ولو أراد تشبيه الذوات لقال: (كالذين)، كما قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون 40] وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] وعلى هذا {الَّذِي} في قوله: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ} واحد (¬3). وقوله تعالى بعد هذا: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}. قال الزجاج: معناه والله أعلم إطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عز وجل من كفرهم، ويجوز أن يكون ذهب الله بنورهم في الآخرة، لأن الله عز وجل قد جعل للمؤمنين في الآخرة نورا، وسلب الكافرين ذلك النور، وهو قوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (¬4) [الحديد: 13]. ومثل هذا قال الفراء، فقال: إنما قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} لأن المعنى ذهب إلى المنافقين (¬5). ¬

_ (¬1) في (ب) (وهو لا تشبيه). (¬2) في (ب) (للذات). (¬3) انظر كلام الفراء في: "معاني القرآن" 1/ 15، نقله الواحدي بمعناه، وانظر "الطبري" في تفسيره 1/ 141. (¬4) كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 59. (¬5) قال الفراء بعد هذا: (... فجمع لذلك، ولو وحد لكان صوابًا ...) "معاني القرآن" 1/ 15. ومعنى كلام الفراء: أن المعنى انصرف إلى المنافقين، وليس للذي استوقد نارًا، ولو كان المعنى له لقال: بنوره. وقول الفراء (لو وحد لكان صوابًا) =

فعلى قول هذين (¬1) النور كان للمنافقين فأذهبه الله، والكناية راجعة إليهم (¬2). وكان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ (¬3): (فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره) ليشاكل جواب (لما) معنى هذه القصة (¬4). ولكن لما كان إطفاء النار مثلا لإذهاب نورهم، أقيم ذهاب النور مقام الإطفاء، وجعل جواب (لما) (¬5) اختصارا وإيجازا، وهذا طريق حسن في الآية. وفيها طريق آخر: وهو أن {الَّذِي} في قوله: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ¬

_ = أسلوب لا يتناسب مع كلام الله، لأن ما قال الله هو الصواب لا غيره. (¬1) أي: قول الزجاج والفراء. (¬2) وإلى هذا ذهب "الطبري" وغيره. والمعنى عند "الطبري": فلما أضاءت ما حوله: ذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي قاله منافقا في حياته، ثم في يوم القيامة أنطفأ ذلك النور، وقال: الهاء والميم في (بنورهم) عائد على (الهاء والميم) في قوله: (مثلهم). "الطبري" في "تفسيره" 1/ 145، وبعضهم قال: (الهاء والميم) تعود على (الذي). انظر "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 183. (¬3) (أن يكون اللفظ) ساقط من (ب). (¬4) هذا التعبير لا يناسب مقام كتاب الله، وإن كان للعبارة وجه من الاحتمال، لكن الأولى استعمال الألفاظ والأساليب التي تليق بكلام الله الذي هو في قمة الفصاحة والبلاغة، والله سبحانه قال {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وهذا أبلغ مما ذكر الواحدي في قوله: (أطفأ الله ناره) فالنار إذا انطفأت يمكن إيقادها، ولكن إذا ذهب نورها وسلب فلا فائدة فيها. وكذا قوله: (وهذا طريق حسن في الآية) وهل هناك أحسن مما تكلم الله به؟!. (¬5) للعلماء في جواب (لما) قولان: أحدهما: أنه محذوف تقديره (خمدت وانطفأت) وهذا رأي "الطبري" في "تفسيره" 1/ 145، والزمخشري في "الكشاف" 1/ 198، وقد انتصرا لهذا الوجه ورجحاه. ورد أبو حيان قول الزمخشري، وقال: لا ينبغي آن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ولا أن يزاد فيه، بل يكون الشرح طبق المشروح =

المراد به الجماعة. وهو مذهب ابن قتيبة (¬1) وابن الأنباري. أما ابن قتيبة فقال: {الَّذِي} قد يأتي مؤديا عن الجمع (¬2)، واحتج بقول الشاعر: وإنَّ الذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُم ... هُمُ القَوْمُ كُل القَوْمِ يا أُمَّ خَالِد (¬3) ويقال في الواحد: (اللذ) وفي التثنية: (اللذا) وهو لغة لبعض العرب قد وردت في الأشعار (¬4). ¬

_ = من غير زيادة عليه ولا نقص منه ...)، انظر "البحر المحيط" 1/ 79، وانظر "القرطبي" في "تفسييره" 1/ 129، و"الدر المصون" 1/ 162. (¬1) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، النحوي اللغوي، سكن بغداد، له المصنفات المشهورة (223 - 276 هـ) انظر "طبقات النحويين واللغويين" ص183، "إنباه الرواة" 2/ 143، "تاريخ بغداد" 10/ 170، "وفيات الأعيان" 3/ 42. (¬2) انظر "تأويل مشكل القرآن" ص 361، وانظر "الكشاف" 1/ 196، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 20. (¬3) البيت للأشهب بن رميلة، وهو من "شواهد سيبويه"، استشهد به على حذف النون من (الذين) عند طول الصلة. "الكتاب" 1/ 187، وكذا في "المقتضب" 4/ 146، وفي "تأويل مشكل القرآن" ص 361، "تفسير الطبري" 1/ 141، "المنصف" 1/ 67، "زاد المسير" 1/ 40، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 129، (الخزانة) 6/ 25، (شرح المفصل) 3/ 154 - 155، (همع الهوامع) 1/ 68،4/ 380، "الدر المصون" 1/ 157، "مغني اللبيب" 1/ 194، "البحر المحيط" 1/ 76، "معجم البلدان" 4/ 272، قال ياقوت: فَلْج: واد بين البصرة وحمى ضرية، وقيل: طريق تأخذ من طريق البصرة إلى اليمامة. وقعت فيه الوقعة التي يصفها الشاعر، هم القوم كل القوم: أي الكاملون في قوميتهم. فاعلمي ذلك وابكي عليهم يا أم خالد. (¬4) في (الذي) لغات منها: إثبات الياء، وحذفها مع بقاء الكسرة، وحذف الياء مع إسكان الذال، وتشديد الياء مكسورة، ومضمومة. انظر "البحر المحيط" 1/ 74، =

وقال ابن الأنباري: (الذي) في هذه الآية، واحد في معنى الجمع (¬1)، وليس على ما ذكره ابن قتيبة، لأن (الذي) في البيت الذي احتج به جمع واحد (اللذ)، والذي في الآية واحد في اللفظ لا (¬2) واحد له، ولكن المراد منه الجمع (¬3). وجاز أن يوضع (الذي) موضع (الذين) لأنه مبهم يحتمل الوجوه في مثل (¬4) قول الناس: (أوصي بمالي للذي (¬5) غزا وحج) معناه: للغازين والحاجين. [ومثله: (من) و (ما) (¬6). ووحد الفعل في (استوقد) لأن (الذي) وإن أريد به الجمع فهو موضوع للواحد (¬7). فهذا ¬

_ = "الدر المصون" 1/ 159، وقال: (قال بعضهم: وقولهم: هذِه لغات ليس جيدًا؛ لأن هذِه لم ترد إلا ضرورة، فلا ينبغي أن تسمى لغات) 1/ 159، وانظر (شرح المفصل) 3/ 154. (¬1) ذكر نحوه الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 209، وانظر "زاد المسير" 1/ 39، "الدر المصون" 1/ 156. (¬2) في (ج) (في اللفظ واحد له) وفي (أ)، صححت في الهامش بإضافة (لا). (¬3) وقد رد على ابن قتيبة "الطبري" حيث قال: (وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة: أن (الذي) في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بمعنى (الذين) كما قال جل ثناؤه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]. وكما قال الشاعر: فإن الذي ... البيت (ثم قال: (وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين (الذي) في الآيتين والبيت .... وغير جائز لأحد نقل الكلمة التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى، إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها). "تفسير الطبري" 1/ 141، وانظر "البحر" 1/ 77، "الدر المصون" 1/ 157. (¬4) (مثل) ساقط من (ب). (¬5) في (ب) الذي. (¬6) انظر "البحر" 1/ 74. (¬7) فأعاد الضمير في استوقد إلى لفظ الذي انظر "الدر المصون" 1/ 157.

18

الاختلاف بينهما (¬1) في لفظ (الذي) واتفقا أن المراد به الجمع] (¬2). وعلى هذا القول، الكناية في قوله: {بِنُورِهِم} راجعة إلى المستوقدين (¬3)، وهو جواب (فلما) في الظاهر والمعنى جميعا (¬4). وإنما قال: بنورهم والمذكور في أول الآية النار، لأن النار شيئان، النور والحرارة، والنور هاهنا كان أجدى (¬5) المنفعتين (¬6). وذكر صاحب النظم في الآية طريقة ثالثة، وهو أنه قال: العلة في توحيد {الَّذِي} (¬7) وجمع الكناية في قوله: {بِنُورِهِم} أن المستوقد كان واحداً من جماعة تولى الاستيقاد لهم، وكانت الكناية في الاستيقاد عنه خصوصا دون أصحابه لتوليه ذلك دونهم، فلما ذهب الضوء، رجع ذهابه عليهم جميعا، فرجع الخبر إلى جماعتهم لما عموا به. 18 - قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. (الصم): جمع الأصم، وهو الذي به صمم، وهو انسداد الأذن، ويقال: رمح أصم: إذا لم يكن ¬

_ (¬1) بين أبي قتيبة وابن الأنباري. (¬2) ما بين المعقوفين فيه سقط وتقديم وتأخير في (ب). (¬3) وقيل يعود على معنى الذي انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 182، "الدر المصون" 1/ 163. (¬4) وهذا بخلاف قول الفراء والزجاج فإنه جواب فلما حسب الظاهر فقط لأن المعنى على قوليهما راجع إلى المنافقين لا إلى المستوقدين ولهذا ادعى البعض أن جواب لما محذوف وهو طفئت أو خمدت كما مر قريبا وهو قول "الطبري" والزمخشري انظر "الطبري" في "تفسيره" 1/ 143، "الكشاف" 1/ 198. (¬5) في (ج) أحدى. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 53 ب، وانظر "تفسير البيضاوي" 1/ 11، وأبي السعود في "تفسيره" 1/ 50، والقاسمي في "تفسيره" 2/ 62. (¬7) الذي ساقطة من (ب).

أجوف، وصخرة صماء: إذا كانت صلبة، والصمام ما يسد (¬1) به رأس القارورة، هذا أصله في اللغة (¬2). ولما كان الانسداد يؤدي إلى الشدة والصلابة قيل للصخرة الشديدة: صماء. وارتفع (صم) على الاستئناف، كأنه لما تم الكلام الأول استأنف فقال: صم، أي: هم صم (¬3). وقال أبو إسحاق (¬4): كأنه قال: هؤلاء الذين قصتهم ما مضى (صم) (¬5). ويجوز الاستئناف قبل تمام القصة، كقوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابً} [النبأ: 36]، ثم قال: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬6) وقال أيضا {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} (¬7) [التوبة: 112] ثم قال: ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج) (يشد) بالشين، وما في (ب) موافق لما في كتب اللغة وهو ما أثبته، (¬2) انظر "تهذيب اللغة" (صم) 2/ 2058، "الصحاح" (صمم) 5/ 1967، "مقاييس اللغة" (صمم) 3/ 278، "مفردات الراغب" ص 286، (تفسير "القرطبي") 1/ 185. (¬3) قال ابن جرير: (... يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين. فأما أحد وجهي الرفع: فعلى الاستئناف لما فيه من الذم ... والوجه الآخر: على نية التكرار من (أولئك) ... فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف ... والقراءه التي هي القراءة، الرفع دون النصب ...) "تفسير الطبري" 1/ 146. (¬4) الزجاج. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 59، نقل كلام الزجاج بمعناه. (¬6) قال الفراء: (ولو تم الكلام ولم تكن آية، لجاز أيضا الاستئناف، قال تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} (الرحمن) يرفع ويخفض في الإعراب وليس الذي قبله بآخر آية). "معاني القرآن" 1/ 16. وما ذكره الواحدي يتم على قراءة الرفع في (رب) وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو. انظر "السبعة" ص 669، "القطع والاستئناف" للنحاس ص 759، "الغاية" ص 286. (¬7) (وأموالهم) ساقط من (أ)، (ج).

{التَّائِبُونَ} [التوبة:113] (¬1). وقال النابغة: تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها ... لستَّةِ أعوامٍ وَذَا العَامُ سَابِع (¬2) ثم قال: (رماد) (¬3) فاستأنف، ولم يبدل (¬4). قال أهل المعاني: وإنما وصفهم الله تعالى بالصم (¬5) لتركهم قبول ما يسمعون، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل على ما يسمعه: أصم. قال الشاعر: أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ (¬6) و (بكم) عن الخير، فلا (¬7) يقولونه، و (عمي)، لأنهم في تركهم ما ¬

_ (¬1) ذكره الفراء حيث قال: فأما ما جاء في رؤوس الآيات مستأنفا فكثير، من ذلك - ثم ذكره "معاني القرآن" 1/ 16. (¬2) البيت للنابغة الذبياني يمدح النعمان، ومعنى توهمت: أي لم يعرفها إلا توهما لخفاء معالمها، آيات: علامات للدار وما بقى من آثارها، لستة أعوام: أي بعد ستة أعوام ثم قال بعده: رَمَادٌ كَكُحل العَيْنِ لأيًا أُبِينُهُ ... ونؤى كجذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ ومعنى لأيا أبينه: أي أتبينه بصعوبة لخفائه. البيت من "شواهد سيبويه" 2/ 86، "المقتضب" 4/ 322، وهو في "ديوان النابغة" ص 53، "مجاز القرآن" ص 33. (¬3) أي: في البيت الذي بعد سبق ذكره. (¬4) ذكره أبو عبيدة. انظر: "مجاز القرآن" ص 33. (¬5) في (ب): (بالصم). (¬6) ورد هذا الرجز في "تهذيب اللغة" (صمم) 2/ 2058، "اللسان" (صمم) 4/ 2500، "شرح الحماسة" للمرزوقي 3/ 1450، "الكشاف" 1/ 204، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 186. جميعها بدون نسبة، ومعناه: هو أصم عما لا يليق به، معرض عما ساءه مع أنه يملك السمع. (¬7) في (أ)، (ج) (ولا) وما في (ب) أولى لصحة المعنى.

19

يبصرون من الهداية بمنزلة العمى (¬1). وقوله تعالى: {لَا يَرْجِعُونَ} أي إلى الإسلام، أو عن الجهل والعمى (¬2). قال محمد بن جرير: هذه الآية معناها التقديم والتأخير، والتقدير (وما كانوا مهتدين صم بكم ...) الآية، {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي} [البقرة: 17]، {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]، مثل آخر عطف على الأول. قال: لأن قوله {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] في الآخرة، إذا قلنا: إنه وصف المنافقين (¬3)، والخبر بأنهم صم بكم في الدنيا، فلهذا قلنا: إن هذا على التقَديم والتأخير (¬4). وقال غيره: يجوز أن يعترض ذكر حالهم في الدنيا بعد وصف حالهم في الآخرة. 19 - قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ}. {أَوْ} دخلت هاهنا للإباحة (¬5)، لا للشك (¬6)، ومعناه أن التمثيل مباح لكم، إن مثلتموهم بالذي استوقد نارا، فهو مثلهم، [أو بأصحاب الصيب فهو مثلهم] (¬7)، أو بهما جميعا فهما مثلاهم (¬8)، كما تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، إن (¬9) جالست ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" 1/ 146، (تفسير أبي الليث) 1/ 99، والبغوي في "تفسيره" 1/ 69، (تفسير أبي الليث) 1/ 54 أ، "البحر" 1/ 81، 82. (¬2) انظر "الطبري" في "تفسيره" 1/ 146، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 54 أ. (¬3) في (ج) (للمنافقين). (¬4) ذكر كلام ابن جرير بمعناه انظر (تفسيره) 1/ 146. (¬5) وقيل: للتخيير، انظر "تفسير أبي الليث" 1/ 99، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 189، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 186، "الدر المصون" 1/ 167، "الكشاف" 1/ 213. (¬6) ذكر السمين الحلبي أحد الأقوال فيها: أنها للشك. "الدر المصون" 1/ 167. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) في (ج) (مثالهم). (¬9) في (ب) (إذا).

أحدهما فأنت مطيع، [وإن جمعتهما فأنت مطيع] (¬1). ومثله قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، هذا قول جميع أصحاب المعاني (¬2). وقال ابن الأنباري: {أو} دخلت للتمييز والتفصيل (¬3)، المعنى بعضهم يشبهون الذي استوقد نارا، وبعضهم يشبهون أصحاب الصيب. ومثله قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] [معناه: قال بعضهم: كونوا هودا، وهم اليهود، وقال بعضهم: كونوا نصارى] (¬4)، وهم النصارى، فدخلت (أو) لمعنى التفصيل، ومثله قوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] معناه (¬5): فجاء (¬6) بعض أهلها بأسنا بياتًا، وجاء بعض أهلها في وقت القيلولة (¬7). وقيل: إن (أو) هاهنا بمعنى الواو (¬8)، كقول جرير: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) بل قول بعضهم، وما ذكره الواحدي هو كلام الزجاج. انظر "معاني القران" 1/ 62، 129، وانظر "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 60، ونسب الثعلبي لأهل (المعاني) أنها بمعنى (الواو) 1/ 54 أ. (¬3) في (ب) (فالتفضيل). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) قوله: ({أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}: معناه ...) ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (وجاء). (¬7) ذكره المرتضى في "أماليه" 2/ 54, 55، ولم ينسب لأبن الأنباري، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 42، وذكره السمين الحلبي، وقال: وهو الأظهر، "الدر المصون" 1/ 167. (¬8) في (ب) (بمعنى الواحد). وهو قول "الطبري" في "تفسيره" 1/ 149، وذكره أبو الليث في "تفسيره" 1/ 99، والفراء في "تفسيره" 1/ 17، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 54 أ، =

نَال الخِلاَفَة أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أتى رَبَه مُوسَى عَلَى قَدَرِ (¬1) وقال توبة (¬2): وقَد زَعَمَتْ سَلْمَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا (¬3) قال النحويون: المعنى أو كأصحاب صيب (¬4)، فحذف المضاف ¬

_ = "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 186، والسمين في "الدر المصون" 1/ 167. وقد رد ابن عطية على "الطبري" قوله (إنها بمعنى: الواو) وقال: (وهذِه عجمة). انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 189. قلت: كيف تكون عجمة وقد قال به جمهور من المفسرين، وهو أحد (المعاني) التي تأتي (أو) عليها. انظر "تأويل مشكل القرآن" ص 543، "الأضداد" لابن الأنباري ص 279، "زاد المسير" 1/ 42، "مغنى اللبيب" 1/ 61. والقول إن (أو) تأتي بمعنى (الواو) هو مذهب الكوفيين، أما البصريون فيمنعون ذلك. انظر "الإنصاف" ص 383. وخلاصة الأقوال في (أو) في الآية هي: 1 - أنها للشك بمعنى أن الناظر يشك في تشبيههم. 2 - أو للتخيير. 3 - أنها للتفصيل. 4 - بمعنى الواو. 5 - بمعنى بل. (¬1) البيت لجرير من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز، انظر (الديوان) ص 211، وفيه: (إذا كانت له قدرا) فلا شاهد فيه هنا، وورد البيت في "الطبري" في "تفسيره" 1/ 149، (الأضداد) لابن الأنباري ص 279، "أمالي المرتضى" 2/ 57، "تفسير السجاوندي" 1/ 32 (مخطوط)، "همع الهوامع" 1/ 167، "مغني اللبيب" 1/ 62، "الدر المصون" 1/ 167. (¬2) هو توبة بن الحُمَيِّر من بني عقيل بن كعب، وكان شاعرا لصا، أحد العشاق، صاحب ليلى. انظر: "الشعر والشعراء" ص 289. (¬3) رواية البيت المشهورة (وقد زعمت ليلى ...) فهو يذكر محبوبته ليلى الأخيلية. انظر "أمالي المرتضى" 2/ 57، و"الطبري" في "تفسيره" 1/ 149، "الأضداد" لابن الأنباري ص 279، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 54 أ، "أمالي القالي" 1/ 88، 131، "همع الهوامع" 5/ 248، "مغني اللبيب" 1/ 61. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 60، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 60، =

لدلالة باقي الكلام عليه (¬1) وهو قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ}. و (الصيب) من المطر: الشديد، من قولهم: صاب يصوب، إذا نزل من علو إلى أسفل (¬2). قال: تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاء يَصُوبُ (¬3) وأصله (صَيْوِب) (¬4) فسبقت الياء الواو [بالسكون، فصيرتا (ياء مشددة) كما قالوا: سيِّد وميِّت وهيِّن، وهو أصل مطرد في الياء والواو] (¬5) إذا (¬6) ¬

_ = وقال الفراء: (أو كمثل صيب) "معاني القرآن" 1/ 17، ونحوه ذكر "الطبري" في "تفسيره" 1/ 149. (¬1) لأن الواو في (يجعلون) تدل على المضاف المقدر وهو (أصحاب) فهو وإن حذف فمعناه باق فيجوز أن يعود عليه الضمير. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 60، و"الطبري" في "تفسيره" 1/ 148، (غريب القرآن) لابن قتيبة 1/ 25، "غريب القرآن" لليزيدي ص 65. (¬3) عجز بيت وشطره الأول: فَلَسْتَ لإنْسِيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ نسبه بعضهم لعلقمة بن الفحل، يمدح الحارث بن جبلة، وقيل: لرجل من عبد القيس جاهلي، يمدح بعض الملوك، قاله أبو عبيدة، وقيل: لأبي وجزة السعدي يمدح عبد الله بن الزبير. ورد البيت في "الكتاب" 4/ 380، و"الطبري" في "تفسيره" 1/ 148، "المفضليات" ص 394، "مجاز القرآن" ص 33، "المنصف" 2/ 102، "الجمل" للزجاجي ص 47، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 28، "تفسير ابن عطية" 1/ 189، "الاشتقاق" لابن دريد ص 26، "اللسان" (صوب) 1/ 2519، و (ألك) 1/ 111، "الدر المصون" 1/ 168. (¬4) في (ب): (صيبوب). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (وإذا).

اجتمعتا وإحداهما (¬1) ساكنة، تقدمت الواو وتأخرت (¬2)، فالمتأخرة كما ذكرنا، والمتقدمة كقولهم: (لويت يده (¬3) ليّا). هذا مذهب البصريين (¬4). وعند الكوفيين: أن أصله (صييب) (¬5) على وزن (فَعِيل)، فاستثقلت (¬6) الكسرة على الياء فسكنت، وأدغمت إحداهما في الأخرى، وحركت إلى الكسرة. وقوله تعالى: {مِنَ السَّمَاءِ}. قال [الزجاج] (¬7): السماء في اللغة: يقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء، ومن هذا قيل للسحاب: سماء، لأنها عالية (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (وأحديهما). (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب (أو تأخرت) والله أعلم. (¬3) في (أ)، (ب): (مده ليا). أصل (ليّا) (لويا) فقلبت الواو ياء وإدغمت في الياء، انظر "سر صناعة الإعراب" 2/ 585. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 54 ب، و"الطبري" في "تفسيره" 1/ 148، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 143 - 144، "الإملاء" 1/ 22، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 189، "الإنصاف" ص 639. (¬5) في (أ)، (ب): (صيب) وما في (ج) موافق لما عند الثعلبي، وهو ما أثبته. وقيل: أصله عندهم (صوِيب) وردَّ بأنه لو كان كذلك لصحت (الواو) كما تصح في (طويل). انظر "إعراب القرآن" للنحاس1/ 143 - 144، "الإملاء" 1/ 22، "الإنصاف" ص 639، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 189، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 186. (¬6) في (ب): (فاستقلت). (¬7) في جميع النسخ (الرجال) والصحيح (الزجاج) كما في "تهذيب اللغة" (سما) 2/ 1747. (¬8) انظر كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 75، "التهذيب" (سما) 2/ 1748، والنص من "التهذيب".

الأزهري: و (السماء) عند العرب مؤنثة، لأنها جمع (سماءة) (¬1)، و (السماءة) أصلها سَمَاوَة فاعلم. وإذا ذكرت العرب السماء عنوا بها السقف (¬2). وأما (الرعد)، فقال ابن عباس: الرعد ملك يسوق السحاب، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه (¬3). وكذلك قال مجاهد وطاووس (¬4) وعكرمة وأصحاب ابن عباس: إن الرعد ملك يسوق السحاب، والرعد الذي هو الصوت سمي باسمه (¬5). ¬

_ (¬1) في "التهذيب" (وسبق الجمع الوحدان فيها) 2/ 1747. (¬2) "تهذيب اللغة" (سما) 2/ 1748. (¬3) في (ج): (بحاديه). ذكره "الطبري" بسنده عن الضحاك، وعن السدي عن أبي مالك، وعن مجاهد، وعن شهر بن حوشب، وكلهم عن ابن عباس. انظر "الطبري" في "تفسيره" 1/ 150 - 151، وقد أخرج أبن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعا في سؤال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه: (ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب) قال المحقق. إسناده حسن. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 221 (رسالة دكتوراه)، وأخرجه أحمد في "مسنده"، قال أحمد شاكر: (إسناده صحيح). انظر: "مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر" 4/ 161 ح (3483)، وذكر الحديث الشوكاني في "فتح القدير" وقال: في إسناده مقال. "فتح القدير" 1/ 77. (¬4) هو أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني، من أبناء الفرس، أحد أعلام التابعين، ومن كبار أصحاب ابن عباس، توفي سنة خمس ومائة، وقيل: ست. انظر ترجمته في: (وفيات الأعيان) 2/ 509، "سير أعلام النبلاء" 5/ 38، "تهذيب التهذيب" 2/ 235، "غاية النهاية" 1/ 341. (¬5) انظر الروايات عنهم في "الطبري" في "تفسيره" 1/ 150 - 151، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 55 أ، "زاد المسير" 1/ 43، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 189، والبغوي في "تفسيره" 1/ 69، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 217، (فتح القدير) 1/ 77.

وكتب ابن عباس إلى أبي (¬1) الجَلْد يسأله عن الرعد، فقال: هو ريح يختنق تحت السماء وفوق السحاب (¬2). وسئل علي -رضي الله عنه- عن الرعد، فقال: ملك، وعن البرق، فقال: مخاريق بأيدى الملائكة من حديد (¬3). وسئل وهب بن منبه (¬4) عن الرعد، فقال: الله أعلم (¬5). ويقال: برقت السماء ورعدت، ومنه يقال: برق الرجل ورعد، إذا تهدد وأوعد (¬6). وأبرق وأرعد - أيضا في قول أبي عبيدة، وأنكره الأصمعي. ¬

_ (¬1) في (ب): (أبي الخلد) هو أبو الجَلْد بفتح الجيم وسكون اللام، جيلان بن أبي فروة الأسدي البصري، وجِيلان بكسر الجيم، وثقه أحمد. انظر "الجرح والتعديل" 2/ 547، "طبقات ابن سعد" 7/ 222. (¬2) أخرجه "الطبري" من طرق في "تفسيره" 1/ 152، وأبن أبي حاتم، وقال المحقق إسناده حسن "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 222. (¬3) أخرجه "الطبري" بروايتين، إحداهما عن الرعد، والأخرى عن البرق، "الطبري" 1/ 151 - 152، وأخرج ابن أبي حاتم عنه في (البرق) في "تفسيره" 1/ 55، ونحوه في الثعلبي في "تفسيره" 1/ 55 أ، وانظر "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 187 - 188. (¬4) أبو عبد الله، وهب بن منبه اليماني، صاحب القصص والأخبار، كانت له معرفة بأخبار الأوائل والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وثقه أكثرهم، وضعفه عمرو بن علي الفلاس. توفي سنة عشر ومائة. وقيل: ست عشرة، وبينهما أقوال. انظر "طبقات ابن سعد" 5/ 543، "حلية الأولياء" 4/ 23، "وفيات الأعيان" 6/ 35، "تهذيب التهذيب" 4/ 332. (¬5) مما أحسن هذا الجواب!، والله لم يكلف الأمة بعلمه، لاسيما أن مثل هذا لا يثبت إلا بنص صحيح صريح، أو بدلالة حسية جازمة، والعلم به لا يتعلق به حكم من الأحكام، والله أخبر أن الرعد يسبح بحمده، وهو دلالة على عظمة الخالق سبحانه. (¬6) ذكره الأزهري عن الأصمعي. "التهذيب" (برق) 1/ 315، وانظر "مقاييس اللغة" (برق) 1/ 223.

وكلهم يقول: أبرقنا وأرعدنا بمكان كذا، أي رأينا البرق والرعد (¬1). والبارق السحاب ذو البرق، وكذلك البارقة (¬2). وأما (الصواعق)، فهي جمع صاعقة، والصاعقة والصعقة: الصيحة يغشى منها على من يسمعها أو يموت (¬3). قال الله عز وجل: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] يعني أصوات الرعد، ويقال لها: الصواقع (¬4) أيضا ومنه قول الأخطل: كَأنَّمَا كانُوا غُرَاباً وَاقِعا ... فَطارَ لمَّا أبْصَرَ الصَّوَاقِعا (¬5) ويقال: أصعقته الصيحة، أي: قتلته. وأنشد الفراء: أُحادَ وَمثنى أصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُه (¬6) ¬

_ (¬1) "التهذيب" (برق) 1/ 315، "معجم مقاييس اللغة" 1/ 223. (¬2) "تهذيب اللغة" (برق) 9/ 132، "معجم مقاييس اللغة" 1/ 222. (¬3) وقيل: الصاعقة قطعة من نار تسقط بأثر الرعد، لا تأتي على شيء إلا أحرقته. انظر "اللسان" (صعق) 4/ 2450. (¬4) بتقديم القاف على العين. (¬5) أنشده الأزهري في "تهذيب اللغة" (صعق) 2/ 1018، وورد في "اللسان" (صقع) 4/ 2471، وفي شعر الأخطل ورد شطره الأول ص 310. نقله من "تهذيب اللغة" (صعق) 2/ 1018. (¬6) البيت لابن مقبل، يصف فرساً بشدة الصهيل، وأن صهيله يقتل الذباب، وهي النعرات: ذباب يسقط على الدواب، واللبان: الصدر. وشطر البيت الأول: تَرى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِه انظر: "أمالي المرتضى" 2/ 191، "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" 2/ 778، "تهذيب اللغة" (صعق) 2/ 2018، "الصحاح" (صعق) 4/ 1507، "اللسان" (صعق) 4/ 2450، "همع الهوامع" 1/ 83، "القرطبي" 1/ 190، "ديوان ابن مقبل" ص 252.

أي قتلها صوته. ويقال للرعد والبرق إذا [قتلا] (¬1) إنسانا: أصابته صاعقة، وقال لبيد يرثي أخاه أَرْبَد (¬2): فَجَّعَنِي الرَّعْدُ والصَوَاعِقُ بالْـ ... ـفَارِس يَوْمَ الكَرِيَهةِ النَّجُدِ (¬3) أراد بالصواعق صوت الرعد، يدل على هذا قوله (¬4) عز وجل: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} ولا يسدّون الآذان إلا من شدة صوت الرعد (¬5). وقال آخرون: الصاعقة: كل عذاب مهلك (¬6). وقيل: الصاعقة: الصوت الشديد من الرعد، يسقط معها قطعة نار (¬7). فأما معنى الآية، فقال المفسرون: إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلًا آخر، وشبههم بأصحاب مطر. وأراد بالمطر: القرآن (¬8)، ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (قتل) وأثبت ما في "تهذيب اللغة" 2/ 2018. (¬2) (أرْبَد) أخوه لأمه، وهو ابن عمه، وكانت قد أصابته صاعقة، لما دعا عليه الرسول صلى الله عيه وسلم انظر "الشعر والشعراء" ص 169، "سيرة ابن هشام" 2/ 236، "الخزانة" 2/ 250، 3/ 81. (¬3) البيت للبيد يرثي أخاه وقد أصابته صاعقة، انظر "التهذيب" (صعق) 2/ 2018، "اللسان" (صعق) 4/ 2450، "شرح ديوان لبيد" ص 158. (¬4) في (ب): (قول الله). (¬5) "تهذيب اللغة" (صعق) 2/ 2018. (¬6) "اللسان" (صعق) 4/ 2450. (¬7) "الصحاح" (صعق) 4/ 1506، "اللسان" 4/ 2450، "تفسير ابن عطية" 1/ 191 - 192. (¬8) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 100، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 192، وبعضهم قال: الإسلام، انظر "الكشاف" 1/ 209، وأما ابن جرير فقال: (فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلمات التي هي فيه =

وشبهه (¬1) بالمطر لما فيه من حياة القلوب، وعنى بالظلمات: ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك وبيان الفتن والأهوال، فشبهها بما في المطر من الظلمات، وشبه ما خوفوا به من الوعيد وذكر النار بما في المطر من الرعد، وشبه حجج القرآن وما فيه من البيان والنور والشفاء والهدى بما في المطر من البرق. وشبه جعل المنافقين أصابعهم في آذانهم لكيلا يسمعوا (¬2) القرآن مخافة ميل القلب إلى القرآن فيؤدي ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك عندهم كفر، والكفر موت (¬3)، أو لكيلا يسمعوا ما ينزل من القرآن بما فيه افتضاحهم بجعل (¬4) الذي في هذا المطر أصابعه في أذنه. وتلخيص معناه: أن أصحاب الصيب إذا اشتد (¬5) عليهم وقع الصاعقة وصوت الرعد خافوا على أنفسهم الهلاك، فسدّوا آذانهم بأصابعهم، كذلك هؤلاء المنافقين يسدّون آذانهم للمعنيين اللذين ذكرنا. ¬

_ = لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلب. وأما الرعد والصواعق، فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه ...) "الطبري" في "تفسيره" 1/ 156. (¬1) في (ب): (وشبه). (¬2) في (أ)، (ج): (يسمعون). (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 56 أ. (¬4) قوله: (بجعل الذي في هذا المطر ... إلخ) متعلق بقوله: (وشبه جعل المنافقين ... إلخ) وقد ضعف هذا المعنى ابن جرير ورجح أن المراد بجعل أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات فيتقون بما يبدون بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتقي الخائف أصوات الرعد بتصيير أصابعه في أذنيه. "الطبري" 1/ 157. (¬5) في (ب): (استدعاهم).

وأمال الكسائي: {فِي آذَانِهِمْ} (¬1). قال أبو علي: (وهي حسنة لمكان كسرة (¬2) الإعراب (¬3) في النون (¬4)، كما جازت في مررت ببابه (¬5). ونصب {حَذَرَ الْمَوْتِ} لأنه مفعول له (¬6). قال الزجاج: وليس نصبه لسقوط اللام، وإنما نصبه أنه في تأويل المصدر، كأنه (¬7) قال: يحذرون حذرا (¬8)، لأن جعل الأصابع في الآذان يدل على الحذر، كما قال: وَأَغْفِر عَوْرَاءَ الكَرِيِم ادِّخَارَهُ (¬9) ¬

_ (¬1) رواية أبي عمر الدوري ونصير بن يوسف النحوي عن الكسائي، وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه، وبقية (السبعة) على الفتح. انظر "السبعة" لابن مجاهد ص 144، "الحجة" 1/ 365، "الكشف" 1/ 171. (¬2) في (الحجة) (كثرة) ولعله خطأ مطبعي. (¬3) في (ب): (الأعراف). (¬4) فهو يميل الألف نحو الياء لمكان الكسرة بعدها التي على النون. انظر "الكشف" 1/ 171. (¬5) في (ب): (سانه)، "الحجة" 1/ 368. (¬6) (له) ساقطة من (ج). انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 63، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 144، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 61. (¬7) في (أ)، (ج) (لأنه) وما في (ب) أصح في السياق، وموافق لما في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 63. (¬8) الزجاج يرى أنه منصوب على أنه مفعول لأجله، حيث قال: (وإنما نصبت (حذر الموت) لأنه مفعول له، والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت ...)، ثم قال: (... كأنه قال يحذرون حذرا ...). وهذا التقدير لا يتناسب مع الكلام الأول، لأنه في الأخير مفعول مطلق. انظر "معاني القرآن" 1/ 63. (¬9) صدر بيت لحاتم الطائي وعجزه: =

المعنى لادخاره. قوله: أغفر عوراء الكريم، معناه: أدخر الكريم (¬1). وقال الفراء: نصبه على التفسير كقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] وكقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}. يقال: أُحِيط بفلان، إذا دنا هلاكه، وهو (¬2) محاط به، قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بثَمَرِهِ} [الكهف: 42]، أي: أصابه ما أهلكه وأفسده (¬3). والإحاطة تستعمل بمعنى العلم (¬4) كقوله: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] أي: لم يشذ عن علمه شيء. ويستعمل بمعنى القدرة، كأن قدرته أحاطت بهم (¬5)، فلا محيص (¬6) لهم عنه. وجاء في التفسير أن معناه: والله مهلكهم وجامعهم في النار (¬7). دليله ¬

_ = وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيم تَكَرُّمَا ومعنى قوله عوراء: الكلمة القبيحة أو الفعلة، ادخاره: إبقاء عليه. ورد البيت في "نوادر أبي زيد" ص 355، وسيبويه 1/ 368، "المقتضب" 2/ 347 "الكامل" 1/ 291، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 63، "الجمل" للزجاجي ص 319، "شرح المفصل" 2/ 54، "الخزانة" 3/ 122، "ديوانه" ص 81، وفيه (اصطناعه) بدل (ادخاره) وهي رواية عند أبي زيد، "الكشاف" 1/ 218. (¬1) انتهى من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 63. (¬2) في "التهذيب" (فهو محاط به). (¬3) "تهذيب اللغة" (حاط) 1/ 707. (¬4) انظر "الصحاح" (حوط) 3/ 1121، والبغوي في "تفسيره" 1/ 70. (¬5) انظر "تفسير الثعلبي" 1/ 55 أ، و"الطبري" في تفسيره 1/ 158. (¬6) في (ب) (له). (¬7) ذكره "الطبري" عن مجاهد انظر "الطبري" في "تفسيره" 1/ 158، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 55 أ، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 193، في تفسيره والبغوي 1/ 70، (أضواء البيان) 1/ 114.

20

قوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي تهلكوا (¬1) جميعاً. وأمال أبو عمرو والكسائي (الكافرين) (¬2) في جميع القرآن: لأن الكسرة لزمت الراء بعد الفاء المكسورة، والراء بما فيها من التكرير يجرى مجرى الحرفين المكسورين، وكلما كثرت الكسرات حسنت الإمالة، ولا يميلان نحو (¬3): {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] وذلك لأن كسرة الراء غير لازمة (¬4) لزومها في (الكافرين) (¬5). 20 - قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ} [البقرة: 20]. (كاد) موضوع عند العرب لمقاربة (¬6) الفعل (¬7)، فإذا نفيت (¬8) في اللفظ كان في المعنى إثباتا، وإذا أثبت كان نفيًا (¬9)، بيانه أنك تقول: كاد يضربني، فهذا إثبات في اللفظ نفي للضرب (¬10)، لأن معناه قرب من الضرب ولم يضرب، وإذا قلت: ما ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج) (يهلكوا)، وفي (ب) (تهلكوا) وكذا في الثعلبي في "تفسيره" 1/ 55 أ. (¬2) وذلك إذا كان جمعا في موضع نصب أو خفض، أما إذا كان مفردا أو جمعا في موضع رفع لم يمل، وبهذا قرأ أبو عمرو، والكسائي في رواية أبي عمر الدوري ونصير بن يوسف. انظر "السبعة" ص147، "الحجة" 1/ 379، "الكشف" 1/ 173. وبهذا قرأ قتيبة ورويس، وورش بين بين، والبقية على الفتح للكاف. انظر "الغاية" ص 91، "وتحبير التيسير" للجزري ص 70، 71. (¬3) وهو المفرد المجرور. انظر "الحجة" 1/ 389، "الكشف" 1/ 197. (¬4) لأنها كسرة إعراب فتتغير. (¬5) "الحجة" لأبي علي 1/ 389، وانظر "الحجة" لابن خالويه ص 73، "الكشف" 1/ 197. (¬6) في (ب): (لمفارقه). (¬7) انظر "تهذيب اللغة" (كاد) 4/ 3076، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 29، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 61، "حروف المعاني" للزجاجي ص 67. (¬8) في (ب): (بقيت). (¬9) في (ب): (بقى). (¬10) في (ب): (في الضرب).

كاد يفعل كذا، فهذا نفي في اللفظ، إثبات في المعنى، لأنه قرب من ترك الفعل، وقد فعله بعد بطء (¬1). قال ابن الأنباري: (قال اللغويون: كدت أفعل، معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل، معناه: فعلت بعد إبطاء (¬2) هذا معنى (كاد)، وقد تستعمل (¬3) بغير هذا المعنى (¬4)، وسنذكر ذلك عند قوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]. وذكر أبو بكر بإسناده أن ذا الرمة الشاعر قدم الكوفة فأنشد [بالكُناسة] (¬5) وهو على راحلته قصيدته (الحائية)، فلما انتهى إلى قوله: إِذَا غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسيِسُ الهَوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَح (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 29، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 61، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 22، وذكر السمين الحلبي: أنها إذا كانت منفية انتفى خبرها بطريق الأولى. انظر "الدر المصون" 1/ 176. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (كاد) 10/ 329. (¬3) في (أ)، (ب) (يستعمل) وأثبت ما في (ج). (¬4) (المعنى) ساقط من (ب). قال ابن الأنباري: (وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى: ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بـ (أكاد)، انظر "التهذيب" 4/ 3077، وهو بقية كلامه الذي نقل الواحدي بعضه. وفي "الخزانة": (قال صاحب اللباب: وإذا دخل النفي على (كاد) فهو كسائر الأفعال على الصحيح، وقيل. يكون للإثبات، وقيل: يكون في الماضي دون المستقبل ...)، "الخزانة" 9/ 309. (¬5) في (أ)، (ج): (ما الكناسة) وهي ساقطة من (ب) والصحيح (بالكناسة) كما في "أمالي المرتضى" "الخزانة" كما سيأتي. و (الكناسة) بضم أوله محلة معروفة بالكوفة، كان بنو أسد وبنو تميم يطرحون فيها كناستهم. انظر "معجم ما استعجم" 4/ 1136، "معجم البلدان" 4/ 481. (¬6) قوله (النأي): البعد، (رسيس الهوى): مسه، ورد البيت في (ديوان ذي الرمة) =

قال له عبد الله بن شبرمة (¬1): فقد برح يا ذا الرمة! ففكر ساعة ثم قال: ........ لَمْ أَجِدْ رسيِسَ ... الهَوى مِنْ حُبِّ مَيَّهَ يَبْرَحُ (¬2) ومعنى الآية: يكاد ما في القرآن من الحجج تخطف (¬3) قلوبهم من شدة إزعاجها (¬4) إلى النظر في أمر دينهم (¬5). وقال ابن عباس في رواية مقاتل والضحاك: معناه: يكاد الإيمان يدخل في قلوبهم (¬6). ¬

_ = وفيه (لم أجد) وفي (أمالي المرتضى) 1/ 332، "زاد المسير" 1/ 45، "الدر المصون" 1/ 176، "الخزانة" 9/ 309، "شرح المفصل" لابن يعيش 7/ 124. (¬1) هو عبد الله بن شبرمة بن حسان الضبي الكوفي، أبو شبرمة، كان شاعراً فقيهاً ثقة (72 - 144هـ). انظر (طبقات ابن خياط) ص 283، (الجرح والتعديل) 5/ 82، (تهذيب التهذيب) 2/ 351. (¬2) وردت القصة مسندة في "أمالي المرتضى" 1/ 332، "الخزانة" 1/ 311، ويستشهد العلماء بهذا البيت على أن النفي إذ دخل على (كاد) تكون في الماضي للإثبات، وفي المستقبل كالأفعال، وبعضهم قال: كالأفعال في الماضي والمستقبل، وقيل: تكون للإثبات في الماضي والمستقبل. انظر: "الخزانة" 9/ 39، "شرح المفصل" 7/ 125. (¬3) في (ج): (بخطف). (¬4) في (ب) (ازعاجها لهم). (¬5) ذكر هذا المعنى في "الوسيط" وقال: من تمام التمثيل 1/ 52، وفي "الوجيز" 1/ 6. قال ابن عطية: تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل (البرق) في المثل: الزجر والوعيد، قال: يكاد ذلك يصيبهم. "تفسير ابن عطية" 1/ 194، ونحوه في "تفسير القرطبي" 1/ 192. (¬6) لم أجد هذِه الرواية عن ابن عباس، وفي "الطبري" عن الضحاك عن ابن عباس. قال: يلتمع أبصارهم ولما يفعل 1/ 158، "وتفسير ابن أبي حاتم" 1/ 57، =

وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}. {أَضَاءَ} هاهنا إن كان متعديا فالمفعول محذوف، وكأنه قيل: كلما أضاء لهم الطريق، ويجوز أن يكون لازما بمعنى (ضاء) (¬1). قال ابن عباس: يقول: إذا قرئ عليهم شيء من القرآن مما يحبون صدقوا، وإذا سمعوا شيئاً من شرائع النبي صلى الله عليه وسلم مما يكرهون وقفوا عنه، وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (¬2). وقال قتادة: هو المنافق إذا كثر ماله وأصاب رخاء وعافية قال للمسلمين: أنا معكم وعلى دينكم، وإذا أصابته النوائب قام متحيرا؛ لأنه لا يحتسب أجرها (¬3). كأصحاب الصيب إذا أضاء لهم البرق فأبصروا الطريق مشوا، فإذا عادت الظلمة وقفوا متحيرين. ومثله قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]. وقيل: شبه الغنيمة بالبرق، يقول (¬4): الطمع في الغنيمة يزعج قلوبهم، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ}: أي كثرت الغنائم ¬

_ = "الدر" 1/ 73، وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 57. (¬1) انظر "معاني القرآن" للفراء1/ 18، "تفسير ابن عطية" 1/ 194، "وتفسير القرطبي" 1/ 193. (¬2) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس والسدي، "زاد المسير" 1/ 46، وأبو حيان في "البحر" 1/ 91، وذكر ابن عطية عن ابن عباس نحوه 1/ 195، وكذا "القرطبي" 1/ 193. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 56 أ، وأخرجه "الطبري" في "تفسيره" 1/ 155، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى عبد بن حميد وابن جرير 1/ 72، وقد ورد نحوه عن ابن عباس. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 154، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 59، "الدر" 1/ 72. (¬4) في (ب): (لقول).

وأصابوا الخير، {مَشَوْا فِيهِ}: أي رضوا به، {وَإِذَا (¬1) أَظْلَمَ عَلَيْهِم}: قلت (¬2) الغنيمة وكانت بدلها الهزيمة، (قاموا): اعتلوا وقعدوا عن نصرة الرسول (¬3). وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}. خص هاتين الجارحتين لما تقدم ذكرهما في قوله: {آذَانِهِمْ} و {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} فيقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} عقوبة لهم على نفاقهم، فليحذروا عاجل عقوبة الله وآجله، فإن الله على كل شيء قدير من ذلك (¬4). وقيل: ولو شاء الله لذهب بأسماعهم الظاهرة، وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة، حتى صاروا صُمًّا عُمْيًا (¬5). وكان حمزة يسكت على الياء في {شَيْءٍ} (¬6) قبل الهمزة سكتة خفيفة، ثم يهمز (¬7). وذلك (¬8) أنه أراد بتلك الوقيفة [في صورة لا يجوز فيها ¬

_ (¬1) في (ب): (فإذا). (¬2) في (ب): (فله). (¬3) ذكر نحوه "الطبري"، إلا أنه قال: (جعل البرق لإيمانهم مثلا، وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءته لهم: أن يروا ما يعجبهم في عاجل الدنيا ....)، "تفسير الطبري" 1/ 158، وانظر: "تفسير الخازن" 1/ 71، 72، "البحر" 1/ 91. (¬4) ذكره "الطبري" في "تفسيره" 1/ 159، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 195. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 56 ب، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 101، و"تفسير البغوي" 1/ 71. (¬6) من قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وكذلك يفعل بكل حرف سكن قبل الهمزة. (¬7) انظر: "السبعة" ص 148، "الحجة" لأبي علي 1/ 391، "الحجة" لابن خالويه ص72، "الكشف" 1/ 234، "التيسير" ص 62. (¬8) في (ب): (من ذلك).

21

معها إلا التحقيق لأن] (¬1) الهمزة قد صارت بالوقيفة مضارعة للمبتدأ بها والمبتدأ بها لا يجوز تخفيفها (¬2). 21 - قوله تعالى: {يَأَيُّهَا اَلنَّاسُ أعبُدُواْ رَبَّكُمُ} الآية. (يا) حرف ينادي به (¬3)، ولا تكاد تجد في كلام العرب حرفاً تألف مع اسم فكانا جملة كاملة سوى حرف النداء. و (أي) (¬4) اسم مبهم مبني على الضم، لأنه منادى مفرد، و {النَّاسُ} صفة لأي لازمة، تقول: يا أيها الرجل أقبل، ولا يجوز (¬5): يا الرجل، لأن (يا) تنبيه بمنزلة التعريف في الرجل، فلا يجمع بين (يا) وبين الألف واللام (¬6). و (ها) لازمة لأي (¬7)، وهي عوض من الإضافة في (أي) لأن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ، ج)، وفي (أ) أراد بتلك الوقيفة تحقيق الهمزة، قد صارت ... ، والعبارة غير واضحة، ونص كلام أبي علي في (الحجة) (أنه أراد بهذِه الوقيفة التي وقفها تحقيق الهمزة وتبيينها، فجعل الهمزة بهذِه الوقيفة التي وقفها قبلها على صورة لا يجوز فيها معها إلا التحقيق، لأن الهمزة قد صارت بالوقيفة مضارعة للمبتدأ بها ....)، "الحجة" 1/ 391. (¬2) في (ب): (تحقيقها). الكلام لأبي علي كما في "الحجة" 1/ 391، ويريد حمزة بهذا أن يحقق الهمزة وينطق بها صحيحة، وبقية السبعة على عدم الوقف، لأنه لا يوقف على بعض الاسم دون الإتيان على آخره، ولذلك فالإعراب في آخر الاسم. انظر "الحجة" لابن خالويه ص 72. (¬3) قال أبو حيان: زعم بعضهم: أنها اسم فعل معناها (أنادي). "البحر" 1/ 92، وانظر "الدر المصون" 1/ 184. (¬4) نقله من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 64. (¬5) في (أ)، (ج): (لا يجوز) بسقوط الواو. (¬6) انظر: "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 23. (¬7) في "المعاني" (للتنبيه) 1/ 64.

الأصل في (أي) أن تكون (¬1) مضافة في الاستفهام والخبر. والمازني يجيز (¬2) في (يا أيها الرجل) النصب في (الرجل) ولا يوافقه على هذا غيره (¬3). قال أبو إسحاق: وقوله قياس؛ لأن موضوع المنادى المفرد نصب، فحمل (¬4) صفته على موضعه، وهذا في غير (¬5) (يا أيها الرجل) جائز عند جميع النحويين، نحو قولك: (يا زيد الظريفُ والظريفَ) (¬6) والنحويون غيره (¬7) لا يقولون في هذا إلا الرفع، والعرب لغتها في هذا الرفع، لأن المنادي في الحقيقة (الرجل) و (أي) وصلة له (¬8). وذلك أنهم لما أرادوا نداء ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (يكون) وما في (ب) أصح للسياق. (¬2) في (أ)، (ج): (تخير) واخترت ما في (ب) لأنه أصح وموافق لما في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 64. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 64، وحذف الواحدي بعض كلام الزجاج ونص عبارة الزجاج: (وزعم سيبويه عن الخليل أن المنادي المفرد مبني، وصفته مرفوعة رفعاً صحيحاً لأن النداء يطرد في كل اسم مفرد، فلما كانت البنية مطردة في المفرد خاصة، شبه المرفوع فرفعت صفته، والمازني يجيز في (يا أيها الرجل) النصب في (الرجل) ولم يقل بهذا القول أحد من البصريين غيره). وانظر "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 62 "الإملاء" 1/ 23، قال العبكري -بعد أن ذكر قول المازني-: وهو ضعيف. وقد رد الزجاج نفسه هذا القول في موضوع آخر فقال: (فهذا مطروح مرذول). انظر "معاني القرآن" 1/ 211. (¬4) في "المعاني" (فحملت) وفي الهامش: (في الأصل) (فحمل) أي: (المازني) "معاني القرآن" 1/ 64. (¬5) في (ب): (غيره). (¬6) (الظريف) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (في غيره). والمعنى: النحويون غير المازني. (¬8) انتهى كلام الزجاج. "معاني القرآن" 1/ 64، 65، نقله بتصرف.

ما فيه لام التعريف، ولم يمكنهم أن يباشروه بـ (يا) لما فيها من التعريف والإشارة توصلوا إلى ذلك بإدخال (أي) بينهما فقالوا: يا أيها الرجل، والمقصود بالنداء هو الرجل، و (أي) وصلة له (¬1). ولأن (أيا) وإن كان اسما منادى مفردا فهو ناقص، والنصب بالحمل على الموضوع إنما يجوز بعد تمام الاسم (¬2). و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} عموم في كل مكلف من مؤمن وكافر (¬3). ويروى عن الحسن وعلقمة (¬4). أن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب أهل مكة، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب أهل المدينة (¬5). ¬

_ (¬1) (له) ساقطة من (ب). (¬2) وعليه فلا يجوز النصب (للناس) حملا على الموضع كما سبق، انظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 147، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 62، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 23، "البحر المحيط" 1/ 94، "الدر المصون" 1/ 185. (¬3) انظر "تفسير الطبري" 1/ 160، "تفسير الثعلبي" 1/ 65 ب، "تفسير أبي الليث" 1/ 101. (¬4) الإمام الحافظ، أبو شبل، علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، لازم ابن مسعود حتى رأس في العلم، وحدث عن عدد من الصحابة، اختلف في سنة وفاته. فقيل سنة إحدى وستين وقيل: خمس وستين، وقيل: غير ذلك. انظر "تاريخ بغداد" 13/ 296، "حلية الأولياء" 2/ 68، "سير أعلام النبلاء" 4/ 53. (¬5) أخرجه الواحدي بسنده في كتابه "أسباب نزول القرآن" عن علقمة، ص 26، وذكره في (الوسيط) 1/ 53، وذكره السيوطي في "الدر" وغزاه لأبي عبيد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن الضريس وابن المنذر، وأبي الشيخ أبن حيان في "التفسير". وورد في "الدر" نحوه عن ابن مسعود، والضحاك، وميمون بن مهران، وعروة وعكرمة. "الدر" 1/ 73، وذكره الثعلبي في "تفسيره" عن ابن عباس 1/ 56، وابن عطية عن مجاهد، وقال: وقد يجيء في المدني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وأما {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فصحيح. "تفسير ابن عطية" 1/ 179، ونحوه قال "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 194، وانظر "البرهان" 1/ 189 - 190.

وقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي اخضعوا له بالطاعة، ولا يجوز ذلك إلا لمالك الأعيان (¬1). وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ}. (الخلق): ابتداع شيء لم يسبق إليه (¬2). وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه (¬3). والعرب تقول: خلقت الأديم إذا قدرته (¬4). لتقطع منه مزادة أو قِرْبةً أو خُفًّا (¬5). قال زهير: وَلَأنْتَ تَفْرِي (¬6) ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْري (¬7) وقيل للمقدر: خالق على الاستعارة لا على استحقاق اسم الخلق، وذلك أن المقدر إنما يقدر ليفعل، فسمى الفعل باسم التقدير، كما يسمى الشيء باسم الشيء إذا كان معه أو من سببه، فالخلق الحقيقي هو خلق الله الذي أبتدع ما خلق وأنشأ ما أراد على غير مثال، وخلق غيره [قياس وتشبيه وافتراء ومحاكاة وتقدير على قدر قدرة غيره، فخلق الله ذاتي وخلق ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 1/ 160، "تفسير ابن عطية" 1/ 197، "تفسير القرطبي" 1/ 194. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (خلق) 1/ 1093. (¬3) انظر: كتاب "الزينة" 2/ 52، "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" 1/ 101، 102، (رسالة ماجستير). (¬4) في (ب): (قدته). (¬5) "تهذيب اللغة" (خلق)، 1/ 1093. (¬6) في (ب): (تقوى). (¬7) في (ب): (لا يقوى). ورد البيت في "الكتاب" 4/ 185، "الزاهر" 1/ 184، "الجمهرة" 2/ 240، "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 36، "اشتقاق أسماء الله" ص 166، "إعراب ثلاثين سورة" ص 45، "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 292، "تأويل مشكل القرآن" ص 507، "تهذيب اللغة" (خلق) 1/ 1093، "معجم مقاييس اللغة" (خلق) 2/ 214، (فرى) 4/ 497، "البحر" 1/ 93، "القرطبي" 1/ 195، "ديوان زهير" ص 94. ومعناه: أنت مضاء العزيمة، وغيرك ليس بماضي العزم.

غيره] (¬1) على سبيل الاستعارة والتقدير (¬2). ومعنى الآية: أن الله تعالى احتج على العرب بأنه خالقهم وخالق من قبلهم، لأنهم كانوا مُقِرّين بأنه خالقهم، والدليل على ذلك قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فقيل لهم: إذ (¬3) كنتم معترفين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام، فإن عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوقين من الأصنام (¬4). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قال ابن الأنباري: (لعل) يكون (¬5): ترجياً، ويكون بمعنى: (كي)، ويكون: ظناً كقولك: لعلي أحج العام، معناه: أظنني سأحج (¬6). وقال يونس (¬7): (لعل) يأتي في كلام العرب بمعنى: (كي)، من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬2) انظر: كتاب "الزينة" 2/ 53،52، "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" 1/ 101، 102، "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 35، "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 166، "معجم مقاييس اللغة" (خلق) 2/ 214، "الجمهرة" (خ ق ل) 1/ 619، "تهذيب اللغة"، خلق1/ 1093، "مفردات الراغب" ص 157. (¬3) كذا وردت في جميع النسخ، ولعلها (إذا). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 160، "القرطبي" 1/ 195. (¬5) في (ب): (تكون) في المواضع الثلاثة. (¬6) ذكره الأزهري حيث قال: (وأثبت عن ابن الأنباري ...) ثم ذكر لها خمسة وجوه، ذكر الواحدي منها ثلاثة، والرابع: بمعنى: (عسى)، والخاص: بمعنى: (الاستفهام)، "تهذيب اللغة" (عل) 3/ 2553. (¬7) ذكره الأزهري بسنده قال: (أخبرني المنذري عن الحسين بن فهم أن محمد بن سلام أخبره عن يونس ..)، "تهذيب اللغة" (عل) 3/ 2553. ويونس: هو يونس بن حبيب أو عبد الرحمن الضبي بالولاء، كان النحو يغلب عليه، أخذ عن أبي عمرو بن =

ذلك (¬1) قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2) و {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬3) ويقول (¬4): (أعرني دابتك لعلي أركبها) بمعنى (كي). قال (¬5): وتقول (¬6): انطلق بنا لعلنا نتحدث، أي: كي نتحدث (¬7). ومثل هذا قال قطرب في (لعل) (¬8). وقال سيبويه: (لعل) كلمة ترجية وتطميع للمخاطبين (¬9). أي كونوا على رجاء وطمع أن تتقوا بعبادتكم عقوبة الله أن تحل بكم (¬10)، كما قال ¬

_ = العلاء وحماد بن سلمة، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي ص 51، "إنباه الرواة" 4/ 68، "وفيات الأعيان" 7/ 244، "معجم الأدباء" 2/ 64. (¬1) في (ب): (من قولك). (¬2) الآية:21، 179،63، 183 من سورة البقرة، و171 من سورة الأعراف. وفي "تهذيب اللغة" (لعلهم يتقون). (¬3) (لعلهم يذكرون) جزء من آية في الأعراف: 26، 130، وفي الأنفال: 57. وفي (ب): (لعلكم تذكرون) وكذا في "تهذيب اللغة"، وهي جزء من آية في الأنعام: 152، والأعراف: 57 والنحل: 90، والنور:1، 27، والذاريات 49. (¬4) كذا وردت في (أ)، (ج)، وفي (ب) بدون نقط، وفي "تهذيب اللغة" (كقولك) والأولى (تقول). (¬5) (قال) ساقط من (ب). (¬6) في (أ)، (ج): (ويقول) وأثبت ما في (ب). (¬7) آخر ما نقله الواحدي من كلام يونس، وانظر بقية كلامه في "تهذيب اللغة" (عل) 3/ 2553، وانظر معاني (لعل) في "الأزهية في علم الحروف" للهوري ص 217، "مغني اللبيب" 1/ 287. (¬8) قال أبو حيان لا تكون بمعنى (كي) خلافا لقطرب وابن كيسان. "البحر" 1/ 93، (¬9) في "الكتاب": فإذا قلت: (لعل) فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهابه 2/ 148، وقال: (لعل وعسى طمع واشفاق) 4/ 233. وانظر "تفسير الثعلبي" 1/ 56 ب. (¬10) فتكون لعل على بابها للترجي، كما هو رأي سيبويه، وبعض المفسرين يقول: إذا =

22

في قصة فرعون {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما (¬1)، والله عز وجل من وراء ذلك وعالم بما يؤول إليه أمره. 22 - قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}: (الأرض): التي عليها الناس، وجمعها: (أَرَضُون) (¬2) و (أَرَضَات) (¬3)، وحكي: (أُرُوض) (¬4). فإن قيل: الجمع بالواو والنون [إنما هو لأسماء الأعلام، فما بالهم جمعوا الأرض بالواو والنون؟] (¬5). قيل: إن الأرض اسم مؤنث، ¬

_ = جاءت من الله فهي واجبة. انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 56ب، "وتفسير ابن عطية" 1/ 179، قال السيين الحلبي: إذا وردت في كلام الله فللناس فيها ثلاثة أقوال. أحدها: أنها على بابها من الترجي والطمع، قاله سيبويه، الثاني: للتعليل، قاله قطرب و"الطبري" وغيرهما، والثالث. أنها للتعرض للشيء، وإليه مال المهدوي وأبو البقاء. "الدر المصون" 1/ 189، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 161، (الإملاء) 1/ 23. (¬1) ذكره "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 195، وذكر ابن هشام في "مغني اللبيب": أن بعضهم جعل من معاني "لعل" التعليل كالأخفش والكسائي، وحملوا عليه قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ومن لم يثبت لها معنى "التعليل" يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين، أي: اذهبا على رجائكما، 1/ 288. (¬2) كذا ورد عند سيبويه، انظر "الكتاب" 3/ 599، "المذكر والمؤنث" لابن الأنبارى ص 188، "تهذيب اللغة" (أرض) 1/ 148، وقال ابن سيده في "المخصص": عن أبي حنيفة: (أرض) و (أَرْضُون) بالتخفيف و (أَرَضُون) بالتثقيل، (المخصص) 10/ 67. (¬3) ذكره سيبويه وغيره، انظر "الكتاب" 3/ 599، قال ابن الأنباري (يجوز في القياس: أرضات ولم يسمع) "المذكر والمؤنث" ص 188. (¬4) جمع تكسير، انظر "المخصص" 10/ 67 , "تهذيب اللغة" (أرض) 1/ 148. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). وقد نقل الواحدي هذا السؤال والإجابة عنه من كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح ابن جني 2/ 613.

وقد كان القياس في كل اسم مؤنث أن يقع فيه الفرق بينه وبين المذكر نحو: قائم وقائمة، وطريف وطريفة، وغير ذلك. فأما ما تركت (¬1) فيه العلامة من المؤنث، فإنما ذلك اختصار لحقه، لاعتمادهم في الدلالة على تأنيثه على ما يليه من الكلام قبله وبعده، نحو: (هذه مِلْحٌ (¬2) طيبة)، و (كانت لهم عرس مباركة)، فلما كان الأمر في المذكر والمؤنث على ما ذكرنا، وكانت (الأرض) مؤنثة، وكأنّ فيها (هاء) مرادة، وكأنّ تقديرها: (أَرْضَة) فلما حذفت (الهاء) التي كان القياس يوجبها، عوضوا منها الجمع بالواو والنون. فقالوا: (أَرَضُون) (¬3). وإذا أدخل شيء مما (¬4) ليس مذكراً عاقلًا في هذا النوع من الجمع، فهو حظ ناله، وفضيلة خص بها (¬5)، ولهذا نظائر كالسنين وعضين، ونذكرها في مواضعها إن شاء الله. وفتحوا (الراء) (¬6) في (أَرَضِين) ليدخل الكلمة ضرب من التكسير، استيحاشا من أن يوفوه لفظ التصحيح من جميع الوجوه، ومعنى التصحيح هو أنهم إنما جمعوا بالواو والنون الأسماء التي هم بها معنيون، ولتصحيح ألفاظها لفرط اهتمامهم بها مؤثرون، كيلا يقع في واحده إشكال، ألا ترى ¬

_ (¬1) في (ب): (تركب). (¬2) في (أ)، (ج): (صلح) وفي "سر صناعة الإعراب" (ريح) وفي الحاشية قال: في (ل) و (ش): (ملح)، 2/ 614. وهذا يوافق ما في (ب). (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 614، وانظر: "الكتاب" 3/ 599 "المخصص" 10/ 67، 68 و 17/ 4 "اللسان" (أرض) 1/ 61. (¬4) في (ب): (ما). (¬5) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 63. (¬6) "سر صناعة الإعراب" 2/ 614، وقال بعضهم: ربما سكنت فقيل: (أرضون)، انظر "الصحاح" (أرض) 3/ 1063، "المخصص" 10/ 67.

أن (¬1) مثال جمع التصحيح لا يعترض الشك في واحده (¬2). فإن قيل: إنما. يعوض من المحذوف إذا كان أصلا، فكيف جاز التعويض من الزائد، و (هاء التأنيث) زائدة؟ قيل: إن العرب قد [أجرت] (¬3) (هاء التأنيث) مجرى (¬4) لام الفعل في أماكن (¬5)، منها أنهم قالوا: (عَرْقُوة) (¬6)، و (تَرْقُوَة) (¬7)، فصححوا الواو، فلولا أن (الهاء) في هذه الحال في تقدير الاتصال والحرف الأصلي لوجب أن تقلب (¬8) (الواو)، لأنها كانت تقدر ¬

_ (¬1) في (ب): (أن من مثال). (¬2) انظر. "الكتاب" 3/ 598 - 600، "المخصص" 10/ 68، 17/ 4، "الصحاح" (أرض) 3/ 1063، "اللسان" (أرض) 1/ 61. (¬3) في (أ)، (ج): (أحرها) وفي (ب): (أخرت) والصحيح ما أثبت كما في "سر صناعة الإعراب"، 2/ 614. (¬4) في (ب): (لا مجرى). (¬5) اختصر الواحدي كلام أبي الفتح وترك بعض الوجوه، قال أبو الفتح: (فالجواب: أن العرب قد أجرت (هاء التأنيث) مجرى لام الفعل في أماكن: منها: أنهم حقروا ما كان من المؤنث على أربعة أحرف، نحو: (عقرب) و (عناق) ... وذلك قولهم: (عقيرب) .... ومنها: أنهم قد عاقبوا بين هاء التأنيث وبين اللام، وذلك نحو قولهم: (بُرَّة وبراً) و (لُفَة ولُفَى) ...). ومنها: أن الهاء وإن كانت أبدا في تقدير الانفصال فإن العرب قد أحلتها -أيضا- محل (اللام) وما هو الأصل أو جار مجرى الأصل وذلك نحو قولهم: (ترقوة)، و (عرقوة) ... ، "سر صناعة الإعراب" 2/ 614 - 616، وذكر الواحدي في جوابة على السؤال الوجه الأخير فقط. (¬6) (الْعَرْقُوة) خشبة معروضة على الدلو. انظر "اللسان" (عرق) 5/ 2908. (¬7) (ترقوة) ساقط من (ب). والترقوة واحدة الترقوقان، وهما العظمان المشرفان بين تغرة النحر والعاتق، تكون للناس وغيرهم، ولا يقال (ترقوة) بالضم. انظر "اللسان" (ترق) 10/ 32. (¬8) في (أ)، (ج): (يقلب) وما في (ب) موافق لـ "سر صناعة الإعراب" 2/ 616.

طرفا (¬1)، وتقلب (¬2) (ياء) كما تقلب في نحو: (أَحْقٍ) جمع (حَقْو) (¬3) و (أَدْلٍ) (¬4) و [(أَجْرٍ) (¬5)]. فـ (الهاء) هاهنا كالراء (¬6) في (منصور)، والطاء في (عَضْرَفوطْ) (¬7) لتصحيح (¬8) الواو قبلها. وقوله تعالى: {فِرَاشًا} الأرض فراش الأنام على معنى أنها فرشت لهم، أي (¬9): بسطت، وهذا كقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)} [نوح: 19] والمعنى أنه لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن (¬10) الاستقرار ¬

_ (¬1) في (ج): (حرفا). (¬2) (وتقلب) ساقط من (ج). (¬3) (الحَقْوُ) بفتح الحاء وكسرها: الكشح، ومعقد الأزار، والخصر والجمع (أحْقٍ) و (أَحقَاء) و (حِقِى) و (حقا). انظر: "اللسان" (حقا) ص 948. (¬4) جمع (دلو)، انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 616. (¬5) في جميع النسخ (أحر) بالحاء، والتصحيح من "سر صناعة الإعراب" 2/ 616، و (أَجْرٍ): جمع جرو وهو الصغير من كل شيء. انظر "اللسان" (جراً) 1/ 609. (¬6) أى كما صحت (الواو) قبل (الهاء) في (تَرْقُوة) و (عَرْقُوة) لأنها في تقدير الاتصال، وأجروها مجرى (الراء) و (الطاء) في (منصور) و (عضرفوط) فصحت الواو قبل الراء والطاء، فكما جاز أن تشبه (هاء التأنيث) في هذا باللام الأصلية، جاز أن تجرى الهاء المقدرة في أرض مجرى اللام الأصلية، فيعوض من حذفها في (أرض) أن يجمع بالواو والنون في (أرضون). "سر صناعة الإعراب" 2/ 616. (¬7) (الْعَضْرَفُوط) دويبة بيضاء ناعمة، أو ذكر العظاء. انظر "اللسان" (عضرط) 5/ 2986. (¬8) في (أ)، (ج): (التصحيح) وعبارة أبي الفتح: (... وقد أجروا (الهاء) في (ترقوة) ... مجرى (الراء) في (منصور) و (الطاء) في (عضرفوط) فصحت (الواو) قبلها كما صحت قبل الراء والطاء ...)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 616. (¬9) في (ب): (لهم أنبسطت). (¬10) في (أ): (لم يكن) وفي (ب): (ولا يمكن).

عليها (¬1). وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. الأزهري: أصل الماء (مَاهَ) بوزن (قَاه) (¬2)، [فثقلت] (¬3) (الهاء) مع الساكن قبلها، فقلبوا الهاء مدة فقالوا: ماء (¬4). قال الليث: والمدة في (الماء) خَلَفٌ (¬5) من (هاء) محذوفة، ويدل على أن الأصل في الماء (الهاء): التصغير، والتصريف، والجمع، فالتصغير (مُوَيْه) (¬6) ويقال: هذه مُوَيْهَة عذبة (¬7). وقال (¬8) الأصمعي: مَاهَت البئر، وهي تَمَاه [وتَمُوه مَوْهاً إذا كثر ماؤها (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 161 - 162، "تفسير ابن عطية" 1/ 198، "تفسير القرطبي" 1/ 197. (¬2) في (أ)، (ج) (فاة)، وفي "تهذيب اللغة" (تاه) 1/ 423، وفي "اللسان" (قاه) "اللسان" (موه) 7/ 4302. وهو موافق لما في (ب) وهو ما أثبته. (¬3) في (أ)، (ب)، (ج) (فنقلت) وصححت العبارة على ما في "تهذيب اللغة" (الماء) 15/ 648. (¬4) "تهذيب اللغة" (الماء) 4/ 3320، وانظر "الصحاح" (موه) 4/ 2250، "اللسان" (موه) 7/ 4302 (المنصف) 4/ 3320. (¬5) في (ب) (خلف خلف هاء). (¬6) انتهى كلام الليث نقله الواحدي بمعناه. انظر "تهذيب اللغة" 15/ 648، وانظر "الصحاح" 6/ 2250، "اللسان" 13/ 543. (¬7) من كلام الأزهري، انظر "تهذيب اللغة" 15/ 648. (¬8) في (ب): (قال) سقطت الواو. (¬9) في "تهذيب اللغة": (قال الأصمعي: ماهت البئر تَمُوه وتَمَاه موها إذا كثر ماؤها)، "تهذيب اللغة" (ماه) 4/ 3331، وانظر "الصحاح" (موه) 6/ 2250، "اللسان" (موه) 7/ 4302.

ابن بزرج (¬1): مَوَهَت السماء، أي: سالت (¬2) ماءً كثيرًا. ومَاهَت البئر] (¬3)، وأماهت في كثرة مائها، وهي تَمَاه وتَمُوه. ويقولون في حفر البئر: أَمْهَى وأَمَاه (¬4). قال الليث: وأَماهت الأرض إذا ظهر فيها النَّزُّ (¬5). والنسبة إلى الماء (ماهِيٌّ) (¬6)، وغيره (¬7) يقول: مَائِيٌّ (¬8). وجمع الماء: (مياه) و (أمواه) (¬9)، قال الشاعر: سَقَى اللهُ أَمْوَاهاً عَرَفْتُ مَكَانها ... جُرَاباً ومَلْكُوماً وبَذَّرَ والْغَمْرَا (¬10) ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن بزرج اللغوي، كان حافظا للغريب والنوادر، نقل عنه الأزهري في "تهذيب اللغة". انظر مقدمة "تهذيب اللغة"، "إنباه الرواة" 2/ 161. (¬2) في "التهذيب" و"اللسان": (أسالت). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ، ج). (¬4) "تهذيب اللغة" (ماه) 4/ 3331، "اللسان" (موه) 7/ 4302. (¬5) "تهذيب اللغة" (ماه)،4/ 3331وانظر "الصحاح" (موه) 6/ 2250، "اللسان" (موه) 7/ 4302. (¬6) نسب الواحدي الكلام لليث، وهو في "التهذيب" إما من كلام ابن الأعرابي أو من كلام الأزهري. انظر: "تهذيب اللغة" (ماه) ص 333، "اللسان" (موه) 7/ 4302. (¬7) أي: عند غير الليث. (¬8) في (ب) (ما هي). قال الجوهري: والنسبة للماء: (مَائِيٌّ) وإن شئت (مَاوِيٌّ) عند قول من يقول (عَطَاوِيٌّ)، "الصحاح" 6/ 2251، "اللسان" 7/ 4302. (¬9) انظر. "تهذيب اللغة" (ماه) 4/ 3331، قال الجوهري: بجمع على (أمواه) في القلة، و (مياه) في الكثرة. "الصحاح" 6/ 2250، وذكره في "اللسان" وقال: وحكى ابن جني في جمعه (أمواء) 7/ 4302. (¬10) البيت لكثير عزة ورد في (ديوانه) مع أبيات مفردة ص 503، وأورده عبد السلام هارون في حاشية "الكتاب"، لأنه ورد في بعض نسخ "الكتاب"، ولم يرد في الأصل. انظر "الكتاب" 3/ 207، 208، "المنصف" 3/ 150، 3/ 121، "شرح =

فإن قيل: كيف قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}، والماء ينزل من السحاب؟ قيل: هذا من باب حذف المضاف، والتقدير: من نحو السماء (¬1)، كقول الشاعر: أَمِنْكِ بَرْقٌ أَبِيتُ (¬2) اللَّيْلَ أَرْقُبُهُ ... كَأنَّه في عِرَاضِ الشَّأْمِ مِصْباحُ (¬3) أي: من نَاحِيَتِك، ومثله كثير. وإن جعلت السماء بمعنى (السحاب) (¬4) لم يكن من باب حذف المضاف. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}. الثمرات: جمع (الثمرة) وهي حمل الشجرة (¬5) في الأصل، ثم صارت اسمًا لكل (¬6) ما ينتفع به، مما هو زيادة على أصل المال (¬7). ¬

_ = المفصل" 1/ 61، "الخزانة" 2/ 355، "السيرة" لابن هشام 1/ 159. جراباً وما بعده: أسماء أماكن، ذكر ياقوت جرابا وقال: اسم ماء وقيل: بئر قديمة بمكة، وأورد بيت كثير. (معجم البلدان) 2/ 116، وذكر (مَلْكُوما) وقال: اسم ماء بمكة، وأورد البيت 5/ 194، وذكر (بَذَّرَ) وقال: اسم بئر بمكة لبني عبد الدار، وأورد البيت 1/ 361، و (الغمر) بئر قديمة بمكة. "معجم البلدان" 4/ 211. (¬1) ذكره في "الوسيط"، 1/ 55، وانظر: "تفسير أبي السعود" 1/ 61. (¬2) في (ب): (أربك). (¬3) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، قوله: (أمنك برق) أي: من نحو منزلك، من الشق الذي أنت به، (عراض الشأم) نواحيها. انظر "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 167، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" الفارسي ص 364. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 56 ب، "تفسير ابن عطية" 199، "تفسير البيضاوي" 1/ 14، والخازن 1/ 76، "تفسير أبي السعود" 1/ 61، "الفتوحات الإلهية" 1/ 26. (¬5) ذكره الأزهري عن الليث وغيره، "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 497. (¬6) في (ج): (اسما لما ينتفع به). (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط"، وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 199.

يقال: لبن مُثْمِر (¬1) إذا ظهر زبده (¬2)، وقال النضر (¬3): هو [الثَّمِير] (¬4)، وذلك إذا [مُخِض] (¬5) اللبن فرئي عليه أمثال الحَصَف في الجلد ثم يجتمع فيصير زبداً. وقد ثَمَّر السقاء وأَثْمَر. وإن لبنك لحسن الثَّمَر (¬6). ويقال: ثمر الله مالك، وعقل مثمر، إذا كان يهدي صاحبه إلى الرشد (¬7). فالثمرة تستعمل فيما ينتفع به ويستمتع مما هو فرع لأصل (¬8). قال المفسرون في معنى الثمرات في هذه الآية: أراد جميع ما ينتفع به مما يخرج من الأرض (¬9). وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}. روى شمر عن الأخفش قال: (الند) الضد والشبه. أي: لا تجعلوا (¬10) لله أضدادا وأشباها، وفلان نِدُّ فلان ونَدِيدُه ونَدِيدَتُه أي: مثله وشبهه (¬11). ¬

_ (¬1) في (ب): (مثمراً). (¬2) ذكر الأزهري نحوه عن الأصمعي "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 497، وانظر: "اللسان" (ثمر) 1/ 503. (¬3) في (أ)، (ج). (النصر) والمراد النضر بن شميل. (¬4) في (أ)، (ج): (التميز)، وفي (ب): (التميير) والصحيح (الثمير) كما في "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 497. (¬5) في (أ)، (ج): (محص) وفي (ب): (محض)، و (مخض) في " التهذيب". (¬6) انظر كلام النضر في "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 497. وانظر: "الصحاح" (ثمر) 2/ 606، "اللسان" (ثمر) 4/ 108. (¬7) "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 497. (¬8) قال ابن فارس: (الثاء والميم والراء أصل واحد)، وهو شيء يتولد عن شيء متجمعا، ثم يحمل عليه غيره استعارة، "مقاييس اللغة" (ثمر) 1/ 388. (¬9) انظر "الطبري" 1/ 162، "تفسير ابن عطية" 1/ 199، "تفسير القرطبي" 1/ 198. (¬10) في (ب): (جعلوا). (¬11) في (ب): (شبههه).

وأنشد للبيد (¬1): لِكَيْمَا (¬2) يكُون السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي ... فَأَشتمَ (¬3) أقَوْاماً عُمُوماً (¬4) عَمَاعِمَا (¬5) وقال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا خالفك فأردت وجها تذهب فيه ونازعك في ضده، فأراد بخلاف الوجه الذي تريد، وهو مستقل من ذلك مثل ما [تستقل] (¬6) به: فلان نِدِّي ونَدِيدِي. قال حسان: أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْركُمَا الفِدَاءُ (¬7) ¬

_ (¬1) في (ب): (وقال لبيد). (¬2) في (ب): (لكي لا يكون) وهي رواية في البيت. (¬3) في (ب): (فاستمر)، وفي "تهذيب اللغة" (واجعل) وفي حاشيته: في (د)، (ج) (أشتم) 4/ 3540. (¬4) في (ب): (عمواما). (¬5) البيت من قصيدة قالها لما دعاه عامر بن الطفيل لينافر علقمة بن علاثة، و (السندري): شاعر معروف وهو ابن عيساء، ينسب لأمه، (العموم): جمع العم، و (العماعم): الجماعات. انظر "شرح ديوان لبيد" ص 286 "تهذيب اللغة" (ند) 4/ 3540، "الصحاح" (ندد) 2/ 543، "الأضداد" لابن الأنباري ص 24، "الأضداد" أبي حاتم ص 74 "اللسان" (ندد) 3/ 420 "مقاييس اللغة" (ند) 5/ 355، "تفسير القرطبي" 1/ 199. وكلام الأخفش في "تهذيب اللغة" (ند) 4/ 3540 نقله الواحدي بتصرف، وانظر "اللسان" (ندد) 7/ 3482. (¬6) في جميع النسخ (يستقل) وفي "تهذيب اللغة" (تستقل) وهو الصواب، "تهذيب اللغة" 4/ 3540. (¬7) البيت من قصيدة يهجو بها سفيان بن الحارث قبل فتح مكة، انظر "ديوانه" ص 76، "تهذيب اللغة" (ند) 4/ 3540 "الأضداد" لابن الأنباري ص 24، "الأضداد" لأبي حاتم ص 74، "مجاز القرآن" ص 34، "تفسير الطبري" 1/ 1063 "تفسير القرطبي" 1/ 198، "اللسان" (ندد) 7/ 3482.

أي لست له بمثل في شيء من معانيه (¬1). فحقيقة (النِّد) المثل المناوئ، وأصله من قولهم: (ندّ) إذا نفر، ولهذا يقال للضد: ند، ثم استعمل في المثل وإن لم يكن هناك مخالفة (¬2). قال جرير: أتَيْماً يَجْعَلُونَ إليَّ نِدّاً ... وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ (¬3) أي مثل. قال ابن عباس، والسدي فيما ذكره عن ابن مسعود: معناه لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال [تطيعونهم] (¬4) في معصية الله (¬5). وقال ابن زيد: الأنداد الآلهة (¬6) التي جعلوها معه (¬7). وقال أبو إسحاق: هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأن الله خالقهم، فقيل ¬

_ (¬1) انتهى ما نقله عن أبي الهيثم. انظر: "تهذيب اللغة" (ندد) 4/ 3540، "اللسان" 7/ 3482. (¬2) انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 24، "مجاز القرآن" ص 34، "الأضداد" للصاغاني ص 246، قال أبو حاتم: (زعم قوم أن بعض العرب يجعل (الضد) مثل (الند) ويقول: هو يضادني، ولا أعرف أنا ذلك ..) (الأضداد) لأبي حاتم السجستاني ص 75. (¬3) قاله يهجو تيما. انظر: "ديوان جرير" ص 129، "الأضداد" لابن الأنباري ص 24، "الأضداد" لأبي حاتم ص 73، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 66، "ومجالس العلماء" للزجاجي ص 114، "تفسير الثعلبي" 1/ 56 ب (¬4) في (أ)، (ج): (يطيعونهم)، وفي (ب): (تضيعونهم). (¬5) أخرجه "الطبري" بسنده عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "تفسير الطبري" 1/ 163، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 65 ب، وانظر: "الدر المنثور" 1/ 76. (¬6) في (ب): (الآله). (¬7) أخرجه "الطبري" في "تفسيره" 1/ 163، "زاد المسير" 1/ 49، والمراد عموم الأنداد والشركاء مع الله من الرجال أو الحجارة أو غير ذلك.

23

لهم: لا تجعلوا لله (¬1) أمثالًا وأنتم تعلمون [أنهم لا يخلقون والله الخالق (¬2). قال ابن (¬3) الأنباري: قوله: {وَأَنتُم تَعلَمُونَ}، (¬4) لا تتنافى مع قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] لأن هذا العلم الذي وصفهم به في هذه الآية لا يزيل عنهم الجهل؛ لأنه أراد: وأنتم تعلمون أن الأنداد التي تعبدونها لم ترفع لكم السماء ولم تمهد تحتكم (¬5) الأرض، ولم ترزقكم رزقا. فعبدة الأصنام وغيرهم يتساوى علمهم في هذا المعنى، وإنما وصفهم الله جل ذكره بهذا العلم لتتأكد الحجة عليهم إذا اشتغلوا (¬6) بشىء (¬7) يعلمون (¬8) أن الحق فى سواه (¬9). 23 - وقوله (¬10) تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية. قال النحويون: (إن) دخلت هاهنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أَنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب في خطابهم، كقولك: (إن كنت إنساناً فافعل كذا)، وأنت تعلم أنه إنسان، و (إن كنت ابني فاعطف علي) فالله تعالى خاطبهم على عادة ¬

_ (¬1) (لله) لفظ الجلالة غير موجود في (ب). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 65. (¬3) (ابن) ساقط من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ج): (لكم). (¬6) في (ب): (اشغلوا). (¬7) في (ج): (في شيء). (¬8) في (ب): (يعلموا). (¬9) نحو هذا المعنى ذكر "الطبري" عن ابن عباس وقتادة، ورجحه. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 163. وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 199، "زاد المسير" 1/ 49. (¬10) في (ج): (قوله) بسقوط الواو.

خطابهم فيما بينهم (¬1). وقيل: هو بمعنى (إذ) (¬2) قال أبو زيد: وتجيء (¬3) (إن) بمعنى (إذ) نحو قوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، وقوله {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ونحوهما (¬4). قال الأعشى: وسمعتَ حَلْفتَها التي حلفتْ ... إن كان سمعُك غيرَ ذي وَقْرِ (¬5) وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}. زعم أبو عبيدة أن (السورة) (¬6) مشتقة ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي نحوه، فربما نقله عن الواحدي، وربما نقله عن ابن الأنباري وهو الأقرب، حيث إنه كثيراً ما ينقل عنه، فيكون من كلام ابن الأنباري، انظر: "زاد المسير" 1/ 49. (¬2) ذكره الثعلبي مع الأدلة من الآيات وبيت الأعشى. "تفسير الثعلبي" 1/ 57 أ، وانظر: "تهذيب اللغة" (إن) 1/ 224. (¬3) في (أ)، (ج) (يجيء)، وأثبت ما في (ب) لأنه أنسب للسياق وموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬4) قول أبي زيد في "تهذيب اللغة"، (إن) 1/ 224، وانظر: "زاد المسير" 1/ 49، "الدر المصون" 1/ 197. والقول: إنَّ (إنْ) تأتي بمعنى (إذ) قول الكوفيين، أما البصريون فمنعوا مجيئها بمعنى (إذ).انظر: "الإنصاف" ص50. (¬5) البيت عند الثعلبي 1/ 57 أ، "الوسيط" للواحدي 1/ 57 منسوب للأعشى، ولم أجده في (ديوانه)، وهو في "الإنصاف" ص 502. غير منسوب، وذكره عبد السلام هارون في "معجم الشواهد العربية" ص 187، ولم ينسبه. (الحلفة): واحدة الحلف وهو القسم. (الوقر): ثقل السمع. والشاهد فيه عند الواحدي، وعند الكوفيين ورود (إنْ) بمعنى (إذ). (¬6) في (ج): (للسورة).

من سورة البناء، وأن السورة عرق من عروق (¬1) الحائط، ويجمع سُوَراً وكذلك (الصورة) (¬2) تجمع (صوراً). واحتج بقوله: سِرْتُ إِلَيْهِ في أَعَالي السُّور (¬3) وأقرأني العروضي، قال: أقرأني الأزهري، قال (¬4): أخبرني المنذري، عن أبي الهيثم أنه رد على أبي عبيدة قوله، وقال: إنما يجمع (¬5) (فُعْلَة) على (فُعْل)، بسكون العين، إذا سبق الجمعَ الواحدُ، مثل: صوفة وصوف، وسورة البناء وسورٌ (¬6)، والسور جمع سبق وحدانه (¬7)، قال الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد:13]. والسُّور عند العرب حائط المدينة، وهو أشرف الحيطان، وشبه الله ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" (أعراق) 2/ 1593. وكذا "اللسان" 4/ 2147. (¬2) في (ج): (وكذلك قوله الصورة). (¬3) الرجز للعجاج، ورد في "المجاز" لأبي عبيدة 1/ 5، وقبله: فرب ذي سرادق محور "ديوان العجاج": ص 224. رقم القصيدة (19)، وفي "الكتاب" 4/ 51، "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 26، "تفسير الطبري" 1/ 46، "تهذيب اللغة" (سار) 2/ 1592، "اللسان" (سور) 4/ 2147، "الزاهر" 1/ 526. والسرادق: ما أحاط بالشيء من بناء أو خباء أو غيره، وسرت: من سار الحائط يسوره وتسوره، أي: تسلق. وكلام أبي عبيدة بنصه في "التهذيب" "سار" 2/ 1593. وانظر "مجاز القرآن" 1/ 3، 4، 43، "اللسان" (سور) 4/ 2147. (الزاهر) 1/ 170. "تفسير ابن عطية" 1/ 70. (¬4) في "تهذيب اللغة": وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم: أنه رد على أبي عبيدة قوله ... الخ كلام أبي الهيثم. "التهذيب" (سار) 2/ 1593. وفي "اللسان" (سور) 4/ 2147. (¬5) في "التهذيب": (تجمع) وكذا في "اللسان". (¬6) في "اللسان" (وسُوْرُهُ). (¬7) في (التهذيب) (فالسورة جمع سبق وُحْدَانَه في هذا الموضع جمعه) 2/ 1593.

تعالى الحائط الذي حجز بين أهل النار وأهل الجنة بأشرف حائط عرفناه في الدنيا، وهو اسم واحد لشيء (¬1) واحد، إلا أنا إذا أردنا أن نعرف (¬2) العِرْقَ (¬3) منه قلنا: سورة، كما تقول: التمر، وهو اسم جامع للجنس، فإذا أردنا أن نعرف الواحدة من التمر قلنا: تمرة، وكل منزلة رفيعة فهي سورة، مأخوذة من سورة البناء ومنه قول النابغة: ألم تر أنَّ الله أعطاك سورةً ... ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذبُ (¬4) وجمعها (سُوْرٌ) (¬5) أي: رِفَعٌ. أما سورة القرآن، فإن الله تعالى جمعها على: (سُوَر) مثل: غُرْفَة وغُرَفُ، ورُتْبَة ورُتَب، وزُلفَة وزُلَف، فدل على أنه لم يجمعها كما قال (¬6)، ولم يجعلها من سُورِ (¬7) البناء، لأنها لو كانت منه لقال: (بعشرِ سُوْر) ولم ¬

_ (¬1) في (ب): (كشيء). (¬2) في (أ)، (ج): (يعرف) واخترت ما في (ب)، لأنه أصح، وموافق لما في "تهذيب اللغة" 2/ 1593. (¬3) كذا في جميع النسخ، "اللسان" 4/ 2148. وفي "تهذيب اللغة" (الفرق) 2/ 1593. (¬4) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح النعمان، ويعتذر إليه. وقوله (السورة): المنزلة الرفيعة، (والملك بتذبذب): يتعلق ويضطرب، يريد أن منازل الملوك دون منزلته. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 4. "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 26. "تفسير الطبري" 1/ 46. "المصون في الأدب" للعسكري: ص 150، 151. "التهذيب" (سار) 2/ 1593. "اللسان" (سور) 4/ 2148. "تفسير ابن عطية" 1/ 201. "ديوان النابغة": ص 28. "الزاهر" 1/ 171. (¬5) في (أ): (سِوَر) وفي (ب): (سواري رفع). (¬6) قوله: (فدل على أنه لم يجمعها كما قال) ليس في "تهذيب اللغة" ولا "اللسان"، والمعنى لم يجمعها (سُوْرٌ) بالسكون كما قال أبو عبيدة. (¬7) في (ب): (سورة).

يقل: {سُوَرٍ} [هود: 13] (¬1) والقراء مجمعون على {سُوَرٍ}. وكذلك أجمعوا على قراءة (سُورٍ) (¬2) في قوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد: 13]. فدل هذا على تمييز (سُورَةٍ) من سُوَرِ (¬3) القرآن عن (سُوْرَة) من سُوْرِ البناء. وكأن أبا عبيدة أراد أن [يؤيد] (¬4) قوله في (الصور) أنه جمع (صورة) (¬5)، وكان ينكر أن (الصور) قرن خلقه الله للنفخ فيه، ونذكر (¬6) قوله ذلك والرد عليه إذا أتينا على ذكر (الصور) إن شاء الله. قال أبو الهيثم: والسورة (¬7) من سور [القرآن] (¬8) عندنا: قطعة من القرآن، سبق وُحْدانُها جَمْعَها، كما أن الغرفة (¬9) سابقة للغرف. وأنزل الله القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء، وجعله مفصلاً، وبيّن كل سورة بخاتمتها وبادئتها، وميزها من التي تليها (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (بسُوَر) وأثبت ما في (ب)، وفي "تهذيب اللغة" (بعشر سُوَرٍ) "تهذيب اللغة" 2/ 1593. (¬2) في (ب): (بسوره). (¬3) في (ب): (سوره). (¬4) في جميع النسخ (يريد) والتصحيح من "تهذيب اللغة" 2/ 1593. "اللسان" 4/ 2148. (¬5) في "تهذيب اللغة" (فأخطأ في الصور والسور، وحرَّف (كلام العرب) عن صيغته ... إلخ). انظر "تهذيب اللغة" (سار) 2/ 1593. "اللسان" (سور) 4/ 2184. (¬6) في (ب) (ويذكر). (¬7) في (ب) (السور). (¬8) (القرآن) غير موجود في جميع النسخ، والتصحيح من "تهذيب اللغة" 2/ 1593، "اللسان" 4/ 2148. (¬9) في (ب) (المعرفة). (¬10) انتهى كلام أبي الهيثم، "تهذيب اللغة" (سار) 2/ 1594، "اللسان" (سور) 4/ 2148.

قال الأزهري: وكأن أبا الهيثم جعل السورة من سور القرآن من سؤرة الشراب، وهي بقيته، إلا أنها لما كثرت في الكلام ترك فيها الهمز (¬1). قال (¬2): وأخبرني المنذري، عن أبي العباس، عن ابن الأعرابي قال: (السورة) الرفعة وبها سميت السورة من القرآن، أي رفعة وخير (¬3)، فأرى ابن الأعرابي وافق قوله قول أبي عبيدة (¬4). قال: (¬5) والبصريون يجمعون (الصورة) و (السورة) وما أشبههما (¬6) على (صُوَر وصُوْر)، و (سُوَر وسُوْر) ولا يميزون بين ما سبق جمعه وحدانه وبين ما سبق وحدانه جمعه، والذي حكاه أبو الهيثم هو قول (¬7) الفراء. ¬

_ (¬1) في "التهذيب": (.. جعل السورة من سور القرآن من أسأرت سؤرا، أي: أفضلت فضلا، إلا أنها لما كثرت في الكلام وفي كتاب الله ترك فيها الهمز أي السورة كما ترك في (الملك) وأصله (ملْأَك) وفي (النبي) وأصله الهمز، وكان أبو الهيثم طَوَّل الكلام فيهما رداً على أبي عبيدة، فاختصرت منه مجامع مقاصده، وربما غيرت بعض ألفاظه، والمعنى معناه). "تهذيب اللغة" (سار) 2/ 1594. "اللسان" 4/ 2148. وانظر: "الزاهر" 1/ 171. (¬2) أي: الأزهري. (¬3) ونحوه عند "الطبري" فإنه قال: (والسورة بغير همز: المنزلة من منازل الارتفاع). انظر: "تفسيره" 1/ 46. وقد ذكر هذين المعنيين للسورة ابن قتيبة في "غريب القرآن": 1/ 26. وانظر: "الزاهر" 1/ 171. "البرهان في علوم القرآن" 1/ 263، 264. "الإتقان" 1/ 186. "تفسير ابن كثير" 1/ 64. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1594. "اللسان" 4/ 2148. (¬5) أي الأزهري. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1594، وربما أوهم صنيع الواحدي أن الكلام لابن الأعرابي. (¬6) في (أ) و (ج): (وما أشبهها). (¬7) في "التهذيب": (والذي حكاه أبو الهيثم هو قول الكوفيين، وهو يقول به إن شاء الله) "تهذيب اللغة" 2/ 1594. "اللسان"4/ 2148.

وخص هذا القدر من القرآن بتسمية (سورة)، لأنه أقل قطعة وقع به التحدي [على قول أبي الهيثم، وعلى قول أبي عبيدة، لأنه أقل ما وقع به التحدي] (¬1)، فهي شرف للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث إنها معجزة له. وقيل: سميت سورة، لأن من حفظها وعلمها حصل له شرف (¬2). وقيل: لأن كل سورة بمنزلة درجة رفيعة ومنزل عال، يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن (¬3). فإن قيل: فما (¬4) الفائدة في تفصيل القرآن على السور؟ قيل: فيه فوائد كثيرة، منها: أن القارئ إذا خرج من سورة إلى سورة كان أنشط لقراءته وأحلى في نفسه. ومنها: أن تخصيص كل سورة بقدر مخصوص كاختصاص القصائد. ومنها: أن الإنسان قد يضعف أو يكسل عن حفظ الجميع فيحفظ سورة تامة فربما كان ذلك سبباً يدعوه إلى حفظ غيرها (¬5). قال المفسرون: ومعنى الآية: أن الله تعالى لما احتج عليهم [في إثبات توحيده احتج عليهم] (¬6) -أيضا- في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه ¬

_ (¬1) مابين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) انظر: "الزاهر" 1/ 171. "الدر المصون" 1/ 201. (¬3) وهذا القول كأنه يرجع إلى قول أبي عبيدة وابن الأعرابي، وفي معنى السورة أقوال أخرى. انظر: "الزاهر" 1/ 171، "جمهرة اللغة" 2/ 722، "تفسير الطبري" 1/ 46، وابن عطية 1/ 70، "تفسير ابن كثير" 1/ 64، "البرهان" 1/ 263، 264، "الكشاف" 1/ 239. (¬4) في (ب): (ما). (¬5) وذكر بعض العلماء حكماً أخرى لتفصيل القرآن إلى سور، وكلها حكم وفوائد مستنبطة، والله أعلم بحكمة ذلك. انظر: "الكشاف" 1/ 240 - 241، "البرهان" 1/ 264 - 265. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

وسلم بما قطع عذرهم، فقال: وإن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد عليه الصلاة (¬1) والسلام، وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، أي من مثل القرآن (¬2). والكناية (¬3) في (مثله) تعود إلى (ما) قوله: {مِمَّا نَزَّلْنَا} (¬4). ودليل هذا التأويل قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]. وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (¬5)، وقوله: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] كل ذلك يريد به مثل القرآن، ومعناه: فأتوا بسورة مثل ما أتى به محمد في الإعجاز وحسن النظم والإخبار عما كان وما يكون، على جهة الابتداء دون الاحتذاء، وتعلم الكتب ودراسة الأخبار. و (من) يكون للتبعيض (¬6) على هذا القول، لأن التحدي في هذه الآية وقع ببعض القرآن، وهو السورة. ويحتمل أن تكون للتجنيس (¬7)، أي: من ¬

_ (¬1) (الصلاة) ساقطة من (ب). (¬2) ذكر نحوه "الطبري" عن قتادة ومجاهد، وذكر قولاً آخر، وهو: (من مثله) من مثل محمد من البشر، لأن محمداً بشراً مثلكم، ورجح القول الأول "الطبري" 1/ 165. وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 66، والثعلبي 1/ 57 أ، وذكر أبو الليث أن الخطاب في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ} لليهود، و (من مثله): من التوراة. (تفسير أبي الليث) 1/ 102، انظر: "القرطبي" 1/ 200. (¬3) في (ب): (فالكناية). (¬4) وعلى القول الثاني: تعود على (عبدنا) ذكره ابن الأنباري في (البيان في غريب إعراب القرآن) 1/ 64. وقال "القرطبي": (وقيل: يعود على التوراة والإنجيل). انظر "القرطبي" 1/ 200. (¬5) في (أ) و (ج): {مِنْ مِثْلِهِ} تصحيف في الآية. والآية: 38، من سورة يونس. (¬6) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 202. (¬7) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 202، "زاد المسير" 1/ 50، "الدر المصون" 1/ 200.

جنس هذا الكتاب كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}. [الحج:30] وقيل: (من) هنا صلة (¬1)، معناه (¬2): فأتوا بسورة مثل القرآن، كقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] أي: أبصارهم، وقال النابغة: وَمَا أُحَاشِي مِنَ الأقْوَامِ مِنْ أَحَدٍ (¬3) أي: أحداً. قال النحويون: (مِنْ)، يكون على أربعة أوجه: أحدها: ابتداء الغاية، وهو أصلها (¬4)، كقولك: سرت (¬5) من الكوفة إلى البصرة. والثاني: التبعيض، كقولك: خذ من الثياب ثوباً. ¬

_ (¬1) في (ج): (من ههنا زائدة صلة). القول إنها صلة ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 57 أ، وبعضهم يسميها (زائدة) قاله ابن الأنباري ونسبه للأخفش، انظر "البيان" 1/ 64، "تفسير ابن عطية" 1/ 202، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 24. وفيه وجه آخر: أن تكون لابتداء الغاية، إذا كان الضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، انظر "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 24، "الدر المصون" 1/ 200. (¬2) في (ب): (معناها). (¬3) البيت للنابغة من المعلقة التي يمدح بها النعمان، ويعتذر إليه، وصدره: ولا أَرى فَاعِلاً في النَّاس يُشْبِهُهُ يقول: لا أرى فاعلاً يفعل الخير يشبهه، والضمير للنعمان، وما أحاشي من أحد أي: لا أستثني أحداً. و (من) زائدة، وهذا وجه الاستشهاد عند الواحدي. وقد ورد في بعض المصادر (ولا أحاشي) ورد البيت في "الديوان": ص 12، و"جمل الزجاجي": ص 233، "الإنصاف" 1/ 241، "مغني اللبيب" 1/ 121، "شرح المفصل" 2/ 85، 8/ 48 - 49، "الخزانة" 3/ 403، "همع الهوامع" 3/ 288، شاهد رقم (918). (¬4) قال ابن هشام: (هو أصلها، حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه)، "مغني اللبيب" 1/ 318. (¬5) في (ب): (سرق).

والثالث: التجنيس، كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. والرابع: الزيادة، كقولك: ما أتاني من أحد (¬1) وهاهنا فصل يحاج إليه في كثير من المواضع، وذكرته هاهنا (¬2)، وهو (أن الحروف عند النحويين لا يليق بها الزيادة ولا الحذف، وأن أعدل أحوالها (¬3) أن تستعمل غير مزيدة ولا محذوفة، فأما (¬4) امتناع حذفها، فمن قبل أن الغرض في هذه الحروف إنما هو الاختصار، ألا ترى أنك إذا قلت: (ما قام زيد) فقد نابت (ما) عن (أنفي)، وإذا قلت: (هل قام زيد)؟ نابت (هل) عن (أستفهم) (¬5)، فوقوع الحرف مقام الفعل وفاعله غاية الاختصار، فلو ذهب (¬6) بحذف الحرف تخفيفا، لأفرطت في الإيجاز، لأن اختصار المختصر إجحاف (¬7) به. وأما وجه ضعف زيادتها، فلأن الغرض (¬8) ¬

_ (¬1) سبق أن ذكر الواحدي لـ (من) خمسة معان نقلها عن "تهذيب اللغة"، وانظر "التهذيب" (من) 4/ 3453، وقد ذكر الهروي المعاني الأربعة التي ذكرها الواحدي. انظر "الأزهية في علم الحروف": ص 224 - 225، وذكر بعض هذِه المعاني ابن الأنباري في (الأضداد): ص 152، أما ابن هشام في "مغني اللبيب" فذكر لـ (من) خمسة عشر وجها 1/ 318. (¬2) هذا الفصل منقول بنصه من "سر صناعة الإعراب" لابن جني. قال: (اعلم أن الحروف لا يليق بها الزيادة ولا الحذف .. إلخ) 1/ 269. (¬3) في (ب): (أحولها). (¬4) عند أبي الفتح بن جني (فأما وجه القياس في امتناع حذفها ...) 1/ 269. (¬5) في (ج): (استفهام). (¬6) عند أبي الفتح بن جني (فلو ذهبت تحذف ..) 1/ 269. وهو الأنسب للسياق. (¬7) في (ج): (حجازيه). (¬8) عند أبي الفتح (فمن قبل أن الغرض في الحروف الاختصار ...) "سر صناعة الإعراب" 1/ 269.

في الحروف الاختصار كما ذكرنا (¬1)، فلو ذهبت تزيدها لنقضت الغرض الذي قصدته، لأنك كنت تصير من الزيادة إلى ضد ما قصدته من الاختصار (¬2)، ولولا (¬3) أن في الحرف إذا زيد ضرباً من التوكيد لما جازت زيادته البتة، كما أنه لولا قوة العلم بمكانه لما جاز حذفه البتة (¬4)، وإذا كان الأمر كذلك فقد علمنا من هذا أنا (¬5) متى رأيناهم قد (¬6) زادوا فقد أرادوا غاية التوكيد (¬7)، كما أنا إذا رأيناهم قد حذفوا حرفاً فقد أرادوا غاية الاختصار، ولولا ذلك الذي أجمعوا عليه واعتزموه (¬8)، لما استجازوا زيادة ما الغرض فيه الإيجاز، وحذف (¬9) ما وضعه على نهاية الاختصار) (¬10). ¬

_ (¬1) قال أبو الفتح (كما قد منا) "سر صناعة الإعراب" 1/ 269. (¬2) قال أبو الفتح بعده: (فاعرف هذا، فأن أبا علي حكاه عن الشيخ أبي بكر -يريد ابن سراج - رحمهما الله-، وهو نهاية في معناه، ولولا أن الحرف إذا زيد ... إلخ) "سر صناعة الإعراب" 1/ 270. (¬3) في (ب): (ولو). (¬4) عند أبي الفتح: (لما جاز حذفه البتة، فإنما جاز فيه الحذف والزيادة من حيث أريتك، على ما به من ضعف القياس، وإذا كان الأمر كذلك ..) "سر صناعة الإعراب" 1/ 270. (¬5) عند أبي الفتح (أننا)، 1/ 270. (¬6) في (ب): (فقد). (¬7) في (ب): (للتوكيد). (¬8) في (ب): (واعترفوه). (¬9) عند أبي الفتح (ولا حذف) وفي الحاشية (لا) سقطت من (ب، ل، ش) "سر صناعة الإعراب" 1/ 270. لعل الواحدي اعتمد على إحدى هذِه النسخ. (¬10) انتهى ما نقله من "سر صناعة الإعراب" 1/ 269 - 270.

فإن قيل على هذا، فهل للقرآن مثل حتى يقال: ائت بمثله؟. قيل: أما في مقدور الله فنعم، وأما في مقدور البشر فلا، ولذلك (¬1) صح أنه معجز والذي وقع به التحدي هو هذا النظم المخصوص والقراءة المعهودة، وهي مخلوقة (¬2)، وما كان منظوماً مؤلفاً، فمن الواجب أن يكون له في قدرة الله ¬

_ (¬1) في (ب): (وكذلك). (¬2) هذا الكلام فيه إيهام وإشكال، حيث إن قوله: (والقراءة المعهودة، وهي مخلوقة) في احتمالان: أحدهما: أن يكون قوله: (والقراءة المعهودة مخلوقة) مستأنف -وهي كالجملة المعترضة- وعلى هذا الاحتمال: إن قصد بالقراءة. المقروء فهو باطل، لأن معناه القول بخلق القرآن، وإن قصد بالقراءة صوت القارئ فقوله: (وهي مخلوقة) صحيح، لكن إطلاق هذِه العبارة بدعة لم يستعملها السلف. وكان يمكن حمل كلام الواحدي على هذا، لولا قوله فيما بعد: (وما كان منظوما مؤلفا فمن الواجب أن يكون له في قدرة الله أمثال (فكأنه أراد الخلق، بينما الكلام صفة لله تعالى، والله يتكلم إذا شاء متى شاء. ثانيهما: أن يكون قوله: (والقراءة المعهودة) معطوف على قوله: (النظم المخصوص) فيكون قوله: (وهي مخلوقة) راجع إلى النظم والقراءة، وهذا على رأي الأشاعرة الذين يقولون بقدم الكلام النفسي، أما القرآن المتلو فهو عندهم حادث مخلوق، ولذلك صرح الإيجي في (المواقف) بأنهم يوافقون المعتزلة في أنه مخلوق قال: (قالت المعتزلة: أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ، أو جبريل أو النبي، وهو حادث ..) ثم قال: (ونحن لا ننكره) وقال: (فاعلم أن ما يقوله المعتزلة وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة فنحن نقول به، ولا نزل بيننا وبينهم في ذلك ...) "المواقف": ص 293 - 294. وجمهور المفسرين وفي مقدمتهم ابن جرير على أن المراد: من مثله في (البيان)، لأنه نزل بلسان عربي مبين، فكلام العرب له مثل في معنى العربية، وأما المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين فلا مثل له من ذلك الوجه، ولا =

أمثال، ولو لم يكن له مثل مقدور، لم يصح التحدي به، ألا ترى أن [التحدي لأن يأتوا بمثل القديم محال. لأنه لا مثل له. ويجوز أن] (¬1) يكون (¬2) الكناية في مثله يعود إلى قوله: {عَلَى عَبْدِنَا} وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: فأتوا بسورة من رجل أميّ، لا يحسن الخط والكتابة ولم يدرس الكتب (¬3). وقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ}. (الشهداء): جمع شهيد والشهيد يجوز أن يكون بمعنى: مشاهد كالجليس والشريب (¬4) والأكيل والشريك، ويجوز أن يكون بمعنى: شاهد كالعليم (¬5) والعالم، والقدير القادر، ويجوز أن يكون بمعنى: مشهود فعيل بمعنى مفعول، والشهود: الحضور، ومنه قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185] أي حضر، والمشاهد للشيء: الحاضر عنده، وسمي الشاهد شاهداً: لأنه يخبر عما شاهد (¬6) ¬

_ = نظير ولا شبيه. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 165، "تفسير ابن عطية" 1/ 201 - 202، والنسفي في "تفسيره" 1/ 28، والبيضاوي في "تفسيره" 1/ 15، والخازن "تفسيره"1/ 89 ضمن مجموعة من التفاسير. (¬1) مابين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (تكون). (¬3) سبق ذكر هذا القول انظر الهامش: 2/ 241. والقول الأول هو قول جمهور المفسرين. انظر "الطبري" 1/ 165. وابن كثير في "تفسيره" 1/ 63. (¬4) في (أ) و (ج): (السريب)، وفي "الوسيط" للواحدي (الشريب) 1/ 59. (¬5) في (ب): (كالعلم). (¬6) انظر. "تفسير الطبري" 1/ 167. "تهذيب اللغة" (شهد) 2/ 1942. "معجم مقاييس اللغة" (شهد) 3/ 221. "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي: ص 132. "مفردات الراغب" ص 268. "اللسان" (شهد) 4/ 2348.

وسيأتي بيان معنى: الشهيد الذي قتل في سبيل الله، والشهادة على الشيء فيما بعد (¬1). فأما التفسير، فقال ابن عباس: (شهداءكم) يعني: أعوانكم وأنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم (¬2). فعل هذا القول (الشهيد) بمعنى: المشاهد (¬3)، وسمى أعوانهم شهداء، لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة (¬4)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق (¬5)، لأنه قال في تفسيره: ادعوا من رجوتم معونته (¬6). و (الدعاء) على هذا القول بمعنى: الاستعانة، والعرب كثيراً ما تستعمل (الدعاء) في معنى الاستعانة، وذلك أن الإنسان إذا إستعان بغيره دعاه (¬7)، فلما كان في الاستعانة يحتاج إلى الدعاء، سمى الاستعانة دعاء (¬8). من ذلك قول الشاعر: ¬

_ (¬1) ذكر معنى الشهيد عند تفسير قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، "البسيط" 1/ ل 209 من "النسخة الأزهرية". (¬2) أخرجه ابن جرير بسنده عن ابن عباس في "تفسيره" 1/ 166. وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 64. وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 77. وانظر "زاد المسير" 1/ 51. "تفسير ابن عطية" 1/ 202 - 203. (¬3) في (ب): (الشاهد). (¬4) انظر "الطبري" في "تفسيره" 1/ 166، "تفسير ابن عطية" 1/ 203، (غريب القرآن) لابن قتيبة: 1/ 26، "زاد المسير" 1/ 51. (¬5) أي: الزجاج. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 66. (¬7) في (ب): (وعاه). (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 57 أ، وأبي الليث في "تفسيره" 1/ 102. "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 200. "زاد المسير" 1/ 50.

دَعَوْتُ بني قَيْس إليَّ فَشَمَّرَتْ ... خَنَاذِيذُ مِنْ سَعْدٍ طِوَالُ السَّواعِدِ (¬1) أي استعنت بهم. ألا تراه يقول: فَشَمَّرَتْ. وقالت امرأة من طيء: دَعَا دَعْوَةً يَوْمَ الشَّرى يَالَ مَالِكٍ ... ومَنْ لا يُجِبْ عِنْدَ الحَفِيظَة يُكْلَمِ (¬2) أي استعان بهم فلم ينصروه. وقال الفراء: يريد (آلهتهم)، يقول: استغيثوا بهم، وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين، معناه استغث (¬3) بالمسلمين (¬4). ¬

_ (¬1) ورد البيت في "ديوان الحماسة" بشرح المرزوقي، وعزاه لبعض بنى فقعس 2/ 498، وورد في "البيان والتبيين"، وقال: قال القيسي، 2/ 11، وفي "الحيوان" وقال: قول بعض القيسيين من قيس بن ثعلبة 1/ 134، ومعنى البيت: يقول استغثت بهؤلاء القوم، فهب رجال لنصرتي كأنهم فحول، و (الخناذيذ): الكرام من الخيل، استعارها للكرام من الرجال. (¬2) ورد البيت في "ديوان الحماسة" بشرح المرزوقي 1/ 211، "معجم ما استعجم من البلدان" 3/ 785، "معجم البلدان" 3/ 330، وكلهم نسبوه لامرأة من طيئ. قيل: هي بنت بهدل بن قرفة الطائي، أحد لصوص العرب في زمن عبد الملك بن مروان. و (الشرى): مكان وقعت فيه الوقعة المذكورة، و (الحفيظة) الخصلة التي يحفظ الإنسان عندها أي يغضب. و (يكلم): يقتل أو يغلب. (¬3) في (أ) و (ج): (استغيث) وأثبت ما في (ب) لأنه أصوب، ومثله ورد في "معاني القرآن" للفراء. (¬4) في (ب): (بالمسلمين فمعناه). وبهذا انتهى كلام الفراء. انظر: "معاني القرآن" 1/ 19.

فالدعاء هاهنا بمعنى الاستغاثة (¬1) والاستعانة قريب من السواء، وعلى هذا (شهيد) بمعنى مشهود، وآلهتهم كانت مشهودة لهم، لأنهم كانوا يشهدونها ويحضرونها. وروى عن مجاهد والقرظي (¬2) في قوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} أي: ناسا يشهدون لكم على صدق (¬3) ما قلتم وما تأتون به من معارضة للقرآن (¬4). فإن قيل: كان يمكنهم أن يعارضوه بما هو دونه في الفصاحة ثم يأتوا بقوم يشهدون لهم بالباطل أنه مثل القرآن. قيل: إن الله سبحانه أعجز الخلق عن الإتيان بمثل القرآن، وصرفهم أيضًا عن (¬5) الشهادة على ما هو باطل وفاسد بأنه مثل القرآن، ألا ترى أنه لم يوجد منهم هذا (¬6)، ¬

_ (¬1) وممن قال الدعاء هاهنا بمعنى الاستغاثة: ابن قتيبة في "غريب القرآن": ص 26، وانظر: "الطبري" في "تفسيره" 1/ 167، "زاد المسير" 1/ 49. (¬2) هو محمد بن كعب القرظي، تابعي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بالتفسير، سقط عليه سقف المسجد فمات سنة مائة وثمان، وقيل: سنة سبع عشرة، وقيل: سنة عشرين ومائة. انظر "تهذيب التهذيب" 3/ 684، "غاية النهاية في طبقات القراء" 2/ 233. (¬3) (صدق) ساقط من (ج). (¬4) ذكره الثعلبي في (تفسيره) 1/ 57 أ، والرواية عن مجاهد أخرجها "الطبري" من عدة طرق 1/ 167، وابن أبي حاتم 1/ 64، وذكرها ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 51، وابن كثير 1/ 63. (¬5) في (ب): (على). (¬6) عبارة الواحدي فيها إيهام حيث قال: (أعجز الخلق عن الإتيان بمثل القرآن ...) ثم عطف عليه وقال: (وصرفهم -أيضاً- عن الشهادة على ما هو باطل)، فقوله (أعجز) إن كان بمعنى: (تحدي) فصحيح، وإن كان بمعنى (منع) فباطل، إذ حقيقة =

ولو أمكنهم ذلك (¬1) لفعلوا، ولا ترى للقرآن معارضة بوجه سواء كان فصيحاً أو ركيكاً، إلا شهد المخالف والموافق (¬2) بركاكته. وعلى هذا القول (¬3) (شهيد) بمعنى: شاهد. وقوله تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. (دون) يرد في الكلام على معان كثيرة (¬4)، يكون بمعنى: (قبل) كقولك: دون النهر قتال. ودون قتل الأسد أهوال، وقمت دون فلان، إذا نضحت عنه (¬5)، ومنه قول ¬

_ = ذلك القول بالصرفة، وهو قول النظام من المعتزلة حيث قال: إن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، ولكن عاقهم أمر خارجي، وهذا القول مردود عند جماهير العلماء، انظر: "البرهان" 2/ 93 - 94، "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن": ص 53. (¬1) (ذلك) ساقط من (ج). (¬2) (الموافق) ساقط من (ب). (¬3) أي قول المجاهد: ادعوا ناسا يشهدون لكم. وقد ضعف ابن جرير هذا القول، وقال. لا وجه له، وقال: إن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف، أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهل نفاق، فأهل الإيمان من المحال أن يدعي الكفار أنهم لهم شهداء، فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم؟ انظر. "تفسير الطبري" 1/ 167. (¬4) ذكر هذِه (المعاني) مفصلة الأزهري حيث قال: لـ (دون) تسعة معان، ثم أخذ في شرحها كما نقل المؤلف هنا، انظر: "التهذيب" 2/ 1249، وانظر: "البرهان" 4/ 275، "الإتقان" 2/ 235، "اللسان" (دون) 3/ 1460. قال السمين الحلبيّ: (دون) من ظروف الأمكنة، ولا تتصرف على المشهور إلا بالجر بـ (من)، وزعم الأخفش أنها متصرفة .. وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ... وأما (دون) التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات .. وليست مما نحن فيه. "الدر المصون" 1/ 202. (¬5) "تهذيب اللغة" (دون) 2/ 1249.

الحارثي (¬1): ......... وأنَّى تَخَلَّصَتْ ... إليَّ وبابُ السَّجْنِ دُونِيَ مُغْلَقُ (¬2) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "المقتول دون ماله شهيد" (¬3). ويكون (دون) بمعنى: (وراء)، كقولك: (هو أمير على ما دون جَيْحُون) (¬4)، أي على ما وراءه (¬5). ويكون بمعنى: (تحت)، يقال: هو ¬

_ (¬1) في (ج): (الحاوي). والحارثي هو جعفر بن علبة، بضم العين، ينتهي نسبه إلى كعب ابن الحارث، شاعر غزل مقل، عاش في الدولة الأموية وأدرك العباسية. انظر: "الخزانة" 10/ 310. (¬2) البيت من قصيدة لجعفر بن علبة وصدره: عَجِبْتُ لمسْرَاها وأنَّى تَخَلَّصَتْ يقول: عجبت من سير هذا الخيال إلي مع أن باب السجن موثق بيني وبينها. أورد القصيدة أبو تمام في "ديوان الحماسة" 1/ 51 - 52، بشرح المرزوقي، والبغدادي في "الخزانة" 10/ 307. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو "من قتل دون ماله فهو شهيد" البخاري في كتاب المظالم، باب من قتل دون ماله، حديث رقم (2480). ومسلم (141) كتاب الإيمان، باب: هدر دم من قصد أخذ مال غيره بغير حق. وأخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 221 - 223. مع بعض الاختلاف في لفظه، وأبو داود عن سعيد بن زيد بنحو لفظ البخاري ومسلم، (4772) كتاب السنة، باب قتال اللصوص، والترمذي عن سعيد بن زيد وعبد الله بن عمرو (1419) (أبواب الديات)، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، والنسائي عن عبد الله بن عمرو في كتاب تحريم الدم، باب من قتل دون ماله 7/ 114، وابن ماجه عن سعيد بن زيد وعن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة بلفظ آخر، في (2580) كتاب الحدود، باب من قتل دون ماله فهو شهيد). (¬4) (جيحون) نهر عظيم في خراسان. انظر: "معجم البلدان" 2/ 196. (¬5) "التهذيب" 2/ 1249، "اللسان" 3/ 1460.

دونه، أي تحته (¬1). ويكون بمعنى: (غير)، يقال: هذا دون ما ذكرت، أي غيره، قال الله تعالى {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82] يريد غير الغوص من البناء وغيره، والذي في هذه الآية بمعنى: غير (¬2). ويكون (دون) بمعنى: (خذ) وهو بمعنى الإغراء، يقال: دونك زيدا، أي خذه (¬3)، قال الشاعر: يَا أيَّها المَائِحُ دَلْوِي دُوَنكَا (¬4) ويكون بمعنى: (الوعيد)، كقولك: دونك فتمرس بي (¬5). قال الشاعر: فَدُوَنُكما فَمَا قَيْسٌ بِشَحْمٍ ... لمُخْتَلِس وَلاَ فقعٍ بِقَاع (¬6) ويكون (دون) بمعنى: (القريب)، يقال: اُدن دونك، أي اقترب (¬7)، قال زهير بن جناب (¬8): ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1249. "اللسان" 3/ 1460. (¬2) في "تهذيب اللغة": عن الفراء: (.... ودون ذلك الغوص يريد سوى الغوص، من البناء ..)، (التهذيب) 2/ 1249، انظر "اللسان" 3/ 1460. (¬3) "تهذيب اللغة" تكون بمعنى الأمر دونك الدرهم أن خذه وفي الإغراء دونك زيداً أي الزم زيدًا في حفظه. (¬4) سبق البيت وتخريجه: الفاتحة: 2، والشاهد فيه هنا: أنه استعمل (دون) بمعنى خذ، أي خذ دلوي، انظر: "مغني اللبيب" 2/ 618،609، "الخزانة" 6/ 200. (¬5) في "التهذيب": (الوعيد كقولك: دونك صراعي، ودونك فتمرس بي)، 2/ 1249، "اللسان" دون 3/ 1460. (¬6) لم أعثر عليه، ولم أعرف قائله. (¬7) ذكره الأزهري عن شمر عن أبن الأعرابي، "تهذيب اللغة" 2/ 1249، وانظر "اللسان" 3/ 1460. (¬8) في (ب): (حباب)، وفي "تهذيب اللغة" (خباب) 2/ 1249، ومثله في "اللسان" =

وَإِنْ عِفْتَ هذا فَادْنُ دُوَنكَ إنَّني ... قَلِيلُ الغِرَارِ والشَّرِيجُ شِعَارِي (¬1) (الشريج) القوس، وقول الأعشى: يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ دُونِي ... (¬2) قال أبو الهيثم: أي: فيما بيني وبينه من المكان، يقال: اُدن دونك، أي: اقترب مني فيما بيني وبينك (¬3). ويكون (دون) بمعنى: (الخسيس) من قولهم: رجل دون، أي خسيس، ولم يصرّف فعله (¬4). ويكون بمعنى: (أقل من ذا) (¬5)، كقولك: يكفيني (¬6) دون هذا. فأما قوله في هذه الآية: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي غير الله (¬7)، كما يقال: ما دون الله مخلوق، يريد: وادعوا من اتخذتموه معاونين من غير الله على ¬

_ = 3/ 1460. وهو زهير بن جناب الكلبي شاعر جاهلي قديم، من المعمرين، انظر ترجمته في: "الشعراء والشعراء" 17/ 240. "طبقات الشعراء" للجمحي: ص 37. (¬1) ورد البيت في "تهذيب اللغة" (دون) 2/ 1249، "اللسان" (دون) 3/ 1460، وقوله: (الغرار): النوم، و (الشريج): القوس. (¬2) البيت من قصيدة للأعشى يهجو يزيد بن مسهر الشيباني، والبيت: يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم انظر. "ديوانه": ص 178، "تهذيب اللغة" (دون) 2/ 1249، "اللسان" (دون) 3/ 1460. (¬3) "تهذيب اللغة" (دون) 2/ 1249، "اللسان" 3/ 1460. (¬4) ذكر الأزهري نحوه عن الفراء وعن الأصمعي، "تهذيب اللغة" (دون) 2/ 1249، وانظر: "اللسان" 3/ 1460. (¬5) ذكره الأزهري عن سلمة عن الفراء، "تهذيب اللغة" 2/ 1249، "اللسان" 3/ 1460. (¬6) في (ب): (يلقني). (¬7) انظر: "الطبري" 1/ 167، "القرطبي" 1/ 200، "الدر المصون" 1/ 201.

تفسير ابن عباس (¬1). وعلى قول الفراء (¬2) يقول: ادعوا من اتخذتم إلها من دونه. وعلى (¬3) قول القرظي ومجاهد، يقول: ادعوا من يشهد لكم دون الله، فإن الله تعالى لا يشهد (¬4) لكم بالصدق، كما يشهد لمحمد، فاطلبوا غيره شهداء إن كنتم صادقين في أن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه، وأنه ليس من عند الله، وفي قولكم: لو أردنا لأتينا بمثله (¬5). وقال أبو علي الجرجاني (¬6): نظم الآية: فأتوا بسورة من مثله من دون الله وادعوا شهداءكم، أي من مثل القرآن من غير الله، يريد أن محمدا يأتي بالقرآن من عند الله، فأتوا أنتم إن استطعتم بمثل القرآن من غير الله. قال. ومثل هذا قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬7) [هود: 13]، ونظمه: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من دون الله، وادعوا من استطعتم من الناس، معنى (ادعوا): استعينوا. ¬

_ (¬1) وهو أن المراد بـ (شهدائكم) أنصاركم وأعوانكم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم كما سبق: 2/ 247. (¬2) قول الفراء: (شهدائكم) آلهتكم سبق في 2/ 248، وانظر: "معاني القرآن" 1/ 19، "الدر المصون" 1/ 201. (¬3) الواو ساقطة من (أ) و (ج)، وانظر قول القرظي ومجاهد: 2/ 249. (¬4) في (ج): (لا شهد). (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي"1/ 57 أ، و"تفسير الطبري" 1/ 167، "الدر المصون" 1/ 201. (¬6) هو أبو علي الجرجاني صاحب "نظم القرآن"، وكتابه مفقود. (¬7) قوله: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} ساقط من (ب).

24

24 - قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} الآية. (لم) حرف يجزم الفعل المضارع، ويقع بعدها بمعنى الماضي، كما يقع الماضي بعد حرف (¬1) الجزاء بمعنى الاستقبال، ولهذه المشابهة بينها وبين حروف الجزاء اختير الجزم بـ (لم) (¬2) وإنما جزمت حروف الشرط والجزاء، لأنها تقتضي جملتين كقولك: (إن تضرب أضرب) فلطول ما يقتضيه الشرط والجزاء (¬3) اختير الجزم، لأنه حذف وتخفيف. وأما (لن) (¬4) فهي حرف قائم بنفسه، وضع لنفس الفعل المستقبل، ونصبه للفعل كنصب (أن). وليس ما بعد (لن) بصلة لها (¬5)، لأن (لن يفعل) (¬6) نفى سيفعل، وتُعْمِل ما بعدها فيما (¬7) قبلها، كقولك: (زيدا لن أضرب) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ج): (حروف). (¬2) ذهب الزجاج إلى أنها جزمت الفعل بعدها، لأنها نقلته من المستقبل إلى الماضي، ولأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم. انظر "معاني القرآن" 1/ 66 - 67، ونحوه قال الليث فيما نقل عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" (لم) 4/ 3294، وكذا الرماني في "معاني الحروف": ص 100. وقد رد أبو علي الفارسي قول الزجاج وأطال في بيان عدم صحته. انظر. "الإغفال". ص 95 - 101. (¬3) (الجزاء) ساقط (ب). (¬4) في (ب): (لم). (¬5) فلا تؤول معه بمصدر كما تؤول (أن) وما بعدها بمصدر. (¬6) (لن) ساقطة من (ب). (¬7) في (ب): (فما). (¬8) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 134 - 135، وانظر: "تهذيب اللغة" (لن) 4/ 3303، "معاني الحروف" للرماني: ص 100، "البحر المحيط" 1/ 102، "الدر المصون" 1/ 203.

وروى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عنه أنه (¬1) قال: الأصل في (لن) (¬2)، (لا أن) ولكنها حذفت تخفيفا (¬3). وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد، ولو كان كذلك لم يجز (زيدا لن أضرب) لأن ما بعد (أن) لا يعمل فيما قبلها، لأن ذلك يؤدي إلى تقديم الصلة على الموصول (¬4). وللخليل أن ينفصل من هذا بأن يقول: الحروف إذا ركبت خرجت عما كانت عليه، ألا ترى أن (هل) أصلها الاستفهام، ولا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، لو قلت (¬5): (زيدا هل ضربت) لم يجز، فإذا زِيدَ (¬6) على (هل) (لا)، ودخلها (¬7) معنى التحضيض، جاز أن يتقدم ما بعدها عليها، كقولك: (زيدا هلا ضربت) (¬8) إلا أن قول الخليل ضعيف في الجملة من ¬

_ (¬1) كذا قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 134، وفي "الكتاب" (أما الخليل فزعم أنها (لا أن (..)، 3/ 5، وانظر: "المسائل الحلبيات": ص 45، "معاني الحروف" للرماني: ص 100، "تهذيب اللغة" (لن) 4/ 3303. (¬2) في (ب): (أن). (¬3) حذفت الهمزة استخفافا، ثم حذفت الألف من (لا) لالتقاء الساكنين فصارت الكلمة على حرفين، "المسائل الحلبيات": ص 45. (¬4) انظر رد سيبويه على الخليل في "الكتاب" 3/ 5، وانظر "معاني القرآن" الزجاج 1/ 134 - 135، "المسائل الحلبيات": ص 45، "معاني الحروف" للرماني: ص100، والرأي المشهور فيها كما عند سيبويه وغيره أنها حرف بسيط ثنائي غير مركب، انظر: "البحر" 1/ 102، "الدر المصون" 1/ 204. (¬5) (قلت) ساقطة من (ب). (¬6) (فإذا زيد) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (ولا دخلها). (¬8) ذكر هذا الدفاع عن قول الخليل الرماني في "معاني الحروف": ص 100، ونحوه قال أبو علي في "المسائل الحلبيات": ص 46.

وجه آخر، وهو أن اللفظ متى جاء على صيغة (¬1) ما، وأمكن استعمال معناه لم يجز أن يعدل عن ظاهره (¬2) إلى غيره من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، فلما وجدنا (لن) (¬3) معناها مفهوم بنفس لفظها، لم يجز أن يدعى أن (¬4) أصلها شيء آخر من غير حجة قاطعة، ولا ضرورة (¬5). ومعنى الآية: فإن لم تفعلوا فيما مضى، ولن تفعلوا فيما يستقبل أبدا (¬6). وقوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} كلام (¬7) معترض بين الشرط والجواب (¬8). وقد يقع الاعتراض بين الشرط والجواب كهذا، وبين المبتدأ والخبر كقولك: (زيد فافهم ما أقول رجل صدق) وبين اسم (إن) وخبرها، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ} الآية [الكهف: 30]. فقوله: (إنا لا نضيع) اعتراض، والخبر: (أولئك). وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ}. أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم، وإنما قيل لهم هذا بعد أن ثبتت الحجة عليهم في التوحيد ¬

_ (¬1) في (ب): (صفة). (¬2) في (ب): (ظاهر). (¬3) في (ب): (إن). (¬4) (أن) ساقطة من (ج). (¬5) فتكون (لن) حرف نفي بسيط ثنائي غير مركب، ولا يعدل بها عن هذا الأصل إلا بدليل، انظر: "البحر" 1/ 102. (¬6) ذكره الثعلبي 1/ 57ب، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 167، "تفسير أبي الليث" 1/ 103، "تفسير ابن عطية" 1/ 203، "زاد المسير" 1/ 51، "تفسير القرطبي" 1/ 201. (¬7) في (ب): (الكلام). (¬8) انظر: "الكشاف" 1/ 247، "البحر" 1/ 107، "الدر المصون" 1/ 203.

وصدق محمد صلى الله عليه وسلم (¬1). و (الفاء) في قوله: {فَإِنْ لَمْ} للعطف، وفي قوله: {فَاَتَّقُواْ} للإتباع دون العطف (¬2). وإنما (¬3) اختاروا (الفاء) من قبل أن الجزاء سبيله أن يقع ثاني الشرط، وليس في جميع حروف العطف حرف يوجد هذا المعنى فيه سوى (الفاء). فدخلت (الفاء) في جواب الشرط توصلا إلى المجازاة بالجملة المركبة من المبتدأ والخبر، والكلام (¬4) الذي يجوز أن يبتدأ به نحو: الأمر والنهي (¬5)، فالجملة (¬6) نحو قولك: (إن تحسن إليّ فالله يكافئك) لولا ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 1/ 168. (¬2) ذكر أبو الفتح بن جني أن الفاء إذا وقعت في أوائل الكلم، وهي ليست من أصل الكلمة، فإنها على ثلاثة أضرب: ضرب تكون للعطف والإتباع جميعًا، وضرب تكون فيه للإتباع مجردا من العطف، وضرب تكون فيه زائدة، انظر "سر صناعة الإعراب" 2/ 251. وتكون للإتباع دون العطف إذا وقعت في جواب الشرط، كما في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا}، انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 149، "الدر المصون" 1/ 203. (¬3) الكلام عن الفاء إذا وقعت في جواب الشرط، نقله الواحدي عن كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني، قال أبو الفتح: (... وإنما اختاروا الفاء هنا من قبل أن الجزاء سبيله أن يقع ثاني الشرط ... فإن قيل: وما كانت الحاجة إلى الفاء في جواب الشرط؟ فالجواب: أنه إنما دخلت الفاء في جواب الشرط توصلا إلى (المجازاة ..)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 252. (¬4) في "سر صناعة الإعراب": (.. أو الكلام ..) وفي هامشه في (ل) و (ش): (والكلام) 1/ 253. (¬5) قوله: (نحو: الأمر والنهي)، ليست عند أبي الفتح 1/ 253. (¬6) في (ب): الجملة.

(الفاء) لم يرتبط أول الكلام بآخره (¬1). ومن ذلك قولك (¬2): (إن يقم فاضربه) فالجملة التي هي: (اضربه) جملة أمرية، وكذلك: (إن (¬3) يقعد فلا تضربه) جملة (¬4) نهيية، وكل واحدة (¬5) من الجملتين يجوز أن يبتدأ بهما (¬6)، فلما كان الابتداء بها يصح وقوعه في الكلام، احتاجوا إلى (الفاء) ليدلوا على أن مثالي الأمر والنهي ليسا على ما يعتد (¬7) في الكلام (¬8) من وجودهما مبتدأين غير معقودين بما قبلهما (¬9). وقوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ}. قال ابن السكيت: (الوقود) بالضم، المصدر يقال: وَقَدت النار، تَقِدُ (¬10) وُقُوداً (¬11). ويقال: ما أجود هذا الوَقُود للحطب (¬12). ¬

_ (¬1) اختصار كلام أبي الفتح، انظر "سر صناعة الإعراب" 1/ 253. (¬2) (قولك) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (إن تفعل). (¬4) عند أبي الفتح (فقولك لا تضربه جملة نهيية) 1/ 253. (¬5) في (ب): (واحد). (¬6) في (ب): (بها) ومثله عند أبي الفتح 1/ 253. (¬7) عند أبي الفتح: (يعهد). (¬8) في (ب): (ليسا على ما بعد بما قبلهما في الكلام). (¬9) انتهى نقل الواحدي من أبي الفتح من كتاب "سر صناعة الإعراب" 1/ 252 - 253. (¬10) في (ج): (يقد) وفي (أ) غير منقوط. وأثبت ما في (ب). (¬11) في (ب): (وقود). (¬12) في (ب): (الحطب). "إصلاح المنطق": ص 332، والنص من "تهذيب اللغة" (وقد) 4/ 3929.

وقال غيره (¬1): وَقَدَت النار، تَقد وَقُوداً (¬2) وَوُقُوداً، وكأن الوقود اسم وضع موضع المصدر. [فالضم: المصدر] (¬3)، والفتح (¬4): الاسم، ويجوز أن يكون مصدراً (¬5). و (الحجارة) جمع حجر، وليس بقياس، ولكنهم قالوه كما قالوا: جمل وجِمَالة، وذكر وذِكَارة، والقياس أحجار (¬6). وجاء في التفسير أن (¬7) الحجارة هاهنا: حجارة الكبريت، عن ابن عباس وغيره (¬8). ¬

_ (¬1) في (التهذيب) (ويقال: وقدت ..)، "التهذيب" 4/ 3929. (¬2) من قوله: (ويقال: ما أجود هذا الوقود ... إلى قوله: تقد وقودا) مكرر في (أ) و (ج). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) في (ب) (وانفتح). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ص 67، "تهذيب اللغة" 4/ 3929، و"الطبري" 1/ 169، والثعلبي 1/ 57 ب. (¬6) ذكر الأزهري نحوه عن الليث. "تهذيب اللغة" (حجر) 1/ 746، "اللسان" (حجر) 2/ 781. (¬7) (أن) ساقط من (ب). (¬8) أخرجه "الطبري" بسنده عن ابن مسعود وابن عباس وابن جريج 1/ 168 - 169، وذكره ابن أبي حاتم عن مجاهد والسدي وعمرو بن دينار، 1/ 64/ 65، وانظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 20، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 67، "تفسير الثعلبي" 1/ 57 ب. ذكر الثعلبي في الحجارة قولا آخر، وهو أن المراد بها: الأصنام، ودليله قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، وذكره بعض المفسرين، انظر "الكشاف" 1/ 252، "القرطبي" 1/ 252، "الدر" 1/ 78. قال الزمخشري رادًا على من قال: إنها حجارة الكبريت: (وهو تخصيص بغير دليل، وذهاب عما هو المعنى =

فهي (¬1) أشد لاتقاد النار. وقيل: ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار، لأنها لا تأكل الحجارة إلا كانت فظيعة (¬2). وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ} لا يدل (¬3) على أنها غير مخلوقة بأن الناس لم (¬4) يدخلوها بعد، لأنها متقدة (¬5) بغير الناس، فإذا دخلها الناس صاروا وقودها، وفي قوله: {أُعِدَّتْ} أوضح دلالة على وجودها، لأن المعدوم لا يسمى مُعَدَّا (¬6). وإنما قال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وإن (¬7) كان العصاة من المسلمين ¬

_ = الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل ...) "الكشاف" 1/ 252، وإليه مال الشنقيطي في "أضواء البيان"1/ 117. أما ابن كثير فمال للقول الأول، وقال في معرض رده على الرازي: (وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولاسيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ..) "تفسير ابن كثير" 1/ 64. (¬1) في (ب) و (ج): (وهي). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 57 ب، "الكشاف" 1/ 252، والرازي 1/ 122. (¬3) في (ج): (لا تدل). (¬4) في (ج): (لا). (¬5) في (أ) و (ج) (متقد)، وأثبت ما في (ب)، لأنه أنسب للسياق. (¬6) ذكره الثعلبي 1/ 57 ب، وهذا منهج أهل السنة وهو: أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وذهب بعض المبتدعة من المعتزلة والجهمية إلى أنهما لم تخلقا بعد، وأنهما ستخلقان، انظر. "تفسير ابن عطية" 1/ 204 - 205. "لقرطبي" 1/ 203. وابن كثير 1/ 66. والبيضاوي 1/ 16. "البحر" 1/ 108. (¬7) في (ب): (فإن).

25

يدخلونها، لأن الكافرين يخلدون فيها دون المؤمنين، وكأن النار ليست للمؤمنين لقلة كونهم فيها إذا قيس بالخلود (¬1). وإنما لم يقل: (أعدت لكم) وإن كان المخاطبون كفارا، لأنه علم أن فيهم من يؤمن. ولما ذكر جزاء الكافرين لتكذيبهم (¬2) ذكر جزاء المؤمنين لتصديقهم فقال عز من قائل: 25 - {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. و (التبشير) إيراد الخبر السارّ الذي يظهر (¬3) السرور في بشرة المخبر، ثم كثر استعماله حتى صار بمنزلة الإخبار، واستعمل في نقيضه كقوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬4) إلا أنه (¬5) فيما يسرّ أكثر (¬6)، ونظيره قول الشاعر: بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنِ في النَّدى ... بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلاَمَتِي وِعِتَابِي (¬7) ¬

_ (¬1) انظر. "تفسير ابن عطية" 1/ 204 - 205. "القرطبي" 1/ 203. "البحر" 1/ 109. (¬2) قوله: (ذكر جزاء الكافرين لتكذيبهم) مكرر في (أ). (¬3) في (ب) (يظهر أثر السرور). (¬4) طرف من آية في آل عمران: 21، والتوبة: 34، والانشقاق: 24. (¬5) (إلا أنه) ساقط من (ب). (¬6) انظر "تفسير الطبري" 1/ 169، "الزاهر" 2/ 135، "تهذيب اللغة" (بشر) 1/ 338، "تفسير ابن عطية" 1/ 206، "زاد المسير" 1/ 52، "القرطبي" 1/ 204، "مفردات الراغب": ص 47 - 48. (¬7) البيت لضَمْرة بن ضَمْرة مع أبيات أخرى قالها يخاطب امرأته لما لامته على البذل، بكرت: عجلت، بعد وهن: بعد النوم، الندى: السخاء، بسل عليك: حرام عليك. ورد البيت في "النوادر" لأبي زيد: ص 143، "أمالي القالي" 2/ 279، "الزاهر" =

بكر: أصله من البكور بالصباح، ثم كثر حتى قيل لكل من عجل (بكر) فكذلك صح أن يقول: بعد وهن. وقال قوم: أصله فيما يسر ويغم سواء، إذا (¬1) كان قد (¬2) يظهر في بشرة الوجه أثر الغم كما يظهر أثر السرور (¬3). وقوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: الفعلات أو الأعمال، فالموصوف بها محذوف. قال ابن عباس: عملوا الطاعات فيما بينهم وبين ربهم (¬4). وقوله تعالى: {أنَّ لَهُمْ} موضع (أن) نصب، معناه: بشرهم بأن لهم فلما سقطت (الباء) وصل الفعل إلى (أن) فنصب (¬5). ¬

_ = 1/ 452، "أضداد ابن الأنباري": ص 63، "أضداد السجستاني": ص104، والشاهد فيه هنا: (بكر) أصله من البكور بالصباح ثم استعمل في كل من عجل، كذلك (البشارة)، توسع فيه واستعمل في نقيض الخبر السار. (¬1) (إذا) كذا ورد في جميع النسخ، ولعل الأولى (إذ). (¬2) (قد) ساقطة من (ب). (¬3) انظر "الزاهر" 2/ 135. وقال ابن فارس: وربما حمل عليه غيره من الشر، وأظن ذلك جنسا من التبكيت، فأما إذا أطلق الكلام إطلاقا فالبشارة بالخير والنذارة بغيره، "مقاييس اللغة" (بشر) 1/ 251. وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 206. وانظر "الكشاف" 1/ 254، وقال أبو حيان: (وظاهر كلام الزمخشري أنه لا يكون إلا في الخير ... وهو محجوج بالنقل)، "البحر" 1/ 109. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" وذكر أقوالا أخرى عن عثمان وعلي ومعاذ بن جبل وسهل ابن عبد الله 1/ 57 ب، 58 أ، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 103. (¬5) ذكر الزجاج في "معاني القرآن"1/ 68. وفيه (فنصبت) وذكر قولا آخر وهو أنه يجوز أن، تكون (أن) في موضع خفض، إن سقطت الباء. انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 207، "القرطبي" 1/ 205، "البحر" 1/ 112.

وقوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. (جنات) (¬1) جمع جنة، وهي الحديقة ذات الشجر، سميت جنة لكثرة شجرها ونباتها (¬2). يقال: جنت الرياض جنوناً، إذا اعتمّ نبتها حتى غطى الأرض (¬3)، قال (¬4): وَجْنَّ الخَازِبازِ بِه جُنُونَا (¬5) جعل بعضهم (الخَازِبَازِ) نبتاً، وجنونه التفافه (¬6). ويقال لكل ما ستر: قد جنّ وأجنّ، ومنه جنون الليل، والجَنَانُ والجَنِينُ والْجَنَنُ (¬7). وقوله تعالى: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: من تحت أشجارها ومساكنها (¬8)، ¬

_ (¬1) (جنات) ساقطة من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 58 أ، "تفسير ابن عطية" 1/ 207، "القرطبي" 1/ 205. (¬3) "تهذيب اللغة" (جن) 1/ 673، وانظر "الصحاح" (جنن) 5/ 2093، "اللسان" (جنن) 2/ 701. (¬4) (وقال) مكانها بياض في (أ) وساقط من (ج). (¬5) البيت لابن أحمر وصدره: تَفَقَّأ فَوْقَه القَلَعُ السَّوَارِي ويروى (تَفَقَّع) و (تكسر فوقها) وهو يصف روضة، و (القلع): السحاب، ورد البيت في "تهذيب اللغة" (خزب) 1/ 1020، و (فقأ) 3/ 2811، و (جن) 1/ 673، (الآن) 1/ 98، وفي "الصحاح" (جن) 5/ 2093، وفي "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 438، وفي "اللسان" (جنن) 2/ 705، و (قلع) 6/ 3724. (¬6) وقال بعضهم: هو (ذباب) وجنونه كثرة ترنمه في طيرانه. انظر: "تهذيب اللغة" (جن) 1/ 673، "الصحاح" (جنن) 5/ 2093. (¬7) (الجَنَان): روعُ القلب، و (الجنين): الولد في الرحم، و (الجنَنُ): القبر، انظر "تهذيب اللغة" (جن) 1/ 673. (¬8) انظر: "الطبري" 1/ 170، والثعلبي1/ 58 أ، وابن عطية 1/ 207، "زاد المسير" 1/ 52.

والنهر لا يجري (¬1)، وإنما يجري الماء فيه، ويستعمل الجري فيه توسعاً، لأنه موضع الجري (¬2). وجاء في الحديث: "أنهار الجنة تجري في غير أخدود" (¬3) وعلى هذا فالجري في النهر على ظاهره. وقوله تعالى: {كُلَّمَا}. (كل) (¬4): حرف جملة، ضم إلى (ما) الجزاء، فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة على الظرف (¬5). {رُزِقوُاْ} أي: أطعموا (¬6). {مِن ثَمَرَةٍ} (من) صلة (¬7) أي: ثمرة (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (تجري). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 58 أ، وابن عطية 1/ 207 - 208، "القرطبي" 1/ 205. (¬3) بهذا اللفظ ذكره الثعلبي قال: جاء في الحديث: "أنهار الجنة تجري في غير أخدود" "تفسير الثعلبي" 1/ 58 أ. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" موقوفاً على مسروق ولفظه. "أنهار الجنة في غير أخدود .. "، مصنف ابن أبي شيبة، كتاب "الجنة" 7/ 53 - 54، وكذا أخرجه "الطبري" موقوفاً على مسروق ولفظه: (... وماؤها يجري في غير أخدود) 1/ 170، وذكره. "القرطبي" قال: (روي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد) "تفسير القرطبي" 1/ 206. وقال ابن كثير 1/ 67: جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود. وذكره السيوطي في "الدر" عن مسروق، وعزاه لابن المبارك، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في "البعث"، "الدر" 1/ 82. (¬4) (كل) ساقط من (ب). (¬5) أنظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 151، "إملاء ما من به الرحمن": ص 23، "البيان في غريب إعراب القرآن": ص 62، "الدر المصون" 1/ 179. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 58 أ. (¬7) في (ب): (طلة). (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 58 أ.

ويجوز أن يكون للتبعيض، لأنهم إنما يرزقون بعض ثمار الجنة (¬1). وقوله تعالى: {قَالُواْ هَذَا اَلَّذِى رُزِقنَا مِن قَبل}. (¬2) لتشابه ما يؤتون به، ولم يريدوا بقولهم: (هذا الذي رزقنا من قبل) نفس ما أكلوه، ولكن أرادوا: هذا من نوع ما رزقنا من قبل (¬3)، كما يقول الرجل: فلان قد أعد لك الطبيخ والشواء، فيقول: هذا طعامي في منزلي كل يوم، يريد هذا الجنس (¬4). و (قبل) يبنى على الضم في مثل هذا الموضع، لأنها تضمنت معنيين، أحدهما: معناها في ذاتها، وهو السبق (¬5). والآخر: معنى ما بعدها، لأن التأويل: هذا الذي رزقنا من قبله، فهو وإن لم يضف ففيه معنى الإضافة (¬6)، فلما أدت عن معنيين قويت فحملت ¬

_ (¬1) المشهور أن (من) في هذا، وفي قوله: (من قبل) لابتداء الغاية، وقيل: للبيان. انظر: "الكشاف" 1/ 260، "البحر" 1/ 114، "الدر المصون" 1/ 215. (¬2) (قالوا) ساقط (ب). (¬3) ذكر ابن جرير في قوله: (هذا الذي رزقنا من قبل) قولين: أحدهما: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. ورجح هذا القول، لأن أول رزق في الجنة لم يسبقه شيء. الثاني: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا. انظر "تفسير الطبري" 1/ 171 - 172، وانظر "القرطبي" 1/ 206، "البحر" 1/ 114. (¬4) ذكره "الطبري" في جواب سؤال أورده وهو قوله: فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رزقنا من قبل، والذي رزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه؟ وكيت يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟ ثم أجاب عنه بنحو ما ذكر الواحدي هنا، "الطبري" 1/ 172. (¬5) بنيت على الضم لأنها غاية، انظر "معاني القرآن" للفراء 2/ 320، والزجاج 4/ 176، "تهذيب اللغة" (قبل) 3/ 2875، "تفسير الثعلبي" 1/ 58 أ، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 151، "البحر" 1/ 114. (¬6) انظر المراجع السابقة.

أثقل الحركات (¬1)، وكذلك قوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، تأويله: من قبل كل شيء وبعده (¬2). وهذا مذهب الفراء (¬3) والمبرد (¬4)، واختيار ابن الأنباري، لأنه قال: العرب إذا وجدت الحرف مؤدياً عن معنيين ألزموه الضم، كقولهم (¬5): (نحن)، ألزموه الضم (¬6)، لأنه يؤدي معنى التثنية والجمع، وكذلك (قط) يؤدي عن زمانين كقوله: ما رأيته قط، معناه من أول أوقاتي (¬7) إلى الساعة، وسمعت أبا الحسن (¬8) الضرير النحوي -رحمه الله- يقول: إنما بني على الضم دون غيره من الحركات، لأنه لما أعرب (¬9) عند الإضافة نحو: (قبلك ومن قبلك) بالنصب والخفض لم يبق عند الإفراد والبناء إلا الضم فبني عليه (¬10)، وهذا معنى قول الزجاج، لأنه يقول: ضم (قبل) لأنها غاية كان ¬

_ (¬1) وهي الضمة، وقال الزجاج: وإنما بنيتا على الضم -أي قبل وبعد- لأن إعرابهما في الإضافة النصب والخفض ... فلما عدلا عن بابهما حركا بغير الحركتين اللتين كانتا تدخلان عليهما بحق الإعراب، "معاني القرآن" 4/ 176. (¬2) انظر. "معاني القرآن" للفراء 2/ 319، والزجاج 4/ 176، "القرطبي" 1/ 206. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 319، 320. (¬4) انظر: "المقتضب" 3/ 174، 175. (¬5) في (ب): (كقوله). (¬6) انظر ما سبق عن (نحن) في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]: 2/ 158 - 159. (¬7) في (أ) و (ج): (أوتاتي). (¬8) أحد شيوخ الواحدي في النحو، وقد تقدمت ترجمته في الكلام عن شيوخه. (¬9) في (ب): (أعرف). (¬10) وهو قول الزجاج في "معاني القرآن" 4/ 176، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 151.

يدخلها بحق الإعراب الفتح والكسر، فلما عدلت عن بابها بنيت على ما لم يكن (¬1) يدخلها بحق الإعراب، وانما عدلت لأن أصلها الإضافة فجعلت مفردة تنبئ (¬2) عن الإضافة (¬3). وقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. أي بعضها يشبه بعضاً في اللون والصورة مختلفاً في الطعم، وذلك أبلغ في باب الإعجاب وأدل على الحكمة، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وجماعة من الصحابة (¬4). وقال الحسن وقتادة وابن جريج: متشابها في الفضل، خيار كله لا رذال (¬5) فيه (¬6). كما يؤتى الرجل بأثواب ليختار منها، فإذا قلبها (¬7) قال: لا أدري أيها ¬

_ (¬1) (يكن) سقط من (ب). (¬2) في (ب) و (ج): (تبنى). (¬3) انظر كلام الزجاج في "معاني القرآن" 4/ 176، نقله الواحدي بمعناه. (¬4) أخرجه "الطبري" بسنده عن طريق السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن أبن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الثوري، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد 1/ 173، وذكر ابن أبي حاتم نحوه عن أبي العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي 1/ 67، وذكره الثعلبي عن ابن عباس ومجاهد والسدي 1/ 58 ب، وانظر: "الدر" 1/ 83، ابن كثير 1/ 67، "زاد المسير" 1/ 53، وأخرج ابن جرير عن مجاهد: (متشابهاً) في اللون والطعم 1/ 173. (¬5) عند "الطبري" (لا رذل) 1/ 172. (¬6) أخرجه "الطبري" بسنده عن الحسن وقتادة وابن جريج، 1/ 172 - 173. وابن أبي حاتم عن قتادة 1/ 67، والثعلبي عن الحسن وقتادة 1/ 58 ب، وانظر (الدر) 1/ 83، "زاد المسير" 1/ 53، والبغوي 1/ 74. (¬7) في (ب): (قبلها).

آخذ لأن كلها حسن مختار (¬1)، كما قال الشاعر: مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تقل (¬2) لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري (¬3) أي هم متشابهون في الفضل (¬4). قال ابن الأنباري: وقول ابن عباس أدل على حكمة الله عز وجل ونفاذ قدرته، لأنا إذا وجدنا رُمَّاناً يؤدي عن (¬5) طعم الكمثرى والتفاح والسفرجل كان أبدع وأغرب من أن لا يؤدي إلا عن طعمه المعروف له (¬6). وقال بعض أهل المعاني: في الآية تقديم وتأخير في المعنى أي: وأتوا به متشابها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل (¬7). وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}. (الأزواج) جمع زوج وزوجة، وشكل كل شيء: زوجه (¬8). وقوله تعالى: {مُطَهَّرُةٌ} أي: من ¬

_ (¬1) ذكره ابن الأنباري مع البيت في "الأضداد": ص 387. (¬2) في (ب) (تقول). (¬3) ذكره المبرد في "الكامل" مع أبيات أخرى، ونسبه لعبيد بن العرندس يصف قوما نزل بهم ضيفاً، "الكامل" 1/ 78، 79. وأنشده ابن الأنباري في "الأضداد": ص 387، وهو في شواهد "الكشاف"، ونسبه لعبيد بن الأبرص قال: وقيل: العرندس: ص 57، والصحيح: العرندس كما قال المبرد، وليس في ديوان عبيد بن الأبرص. (¬4) "الأضداد" لابن الأنباري: ص 387. (¬5) في (ب): (من). (¬6) (الأضداد) لابن الأنباري. ص 386، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 68، "زاد المسير" 1/ 53. (¬7) لم أجد من قال به فيما اطلعت عليه. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 175، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 69، (الأضداد) لابن الأنباري: ص 374، "تهذيب اللغة" (زاج) 2/ 1574.

26

كل أذى وقذر ممّا (¬1) في نساء الدنيا (¬2). وقيل: عن مساوئ الأخلاق (¬3)، لما فيهمنّ من حسن التبعل، ودل على هذا قوله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة:36 - 37]. وقيل: من آفات الشيب والهرم (¬4). ويقال: إنه أراد زوجاتهم من الآدميات، ويقال: أراد من الحور العين (¬5). {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأن تمام النعمة بالخلود والبقاء فيها، كما أن التنغيص (¬6) بالزوال والفناء (¬7). 26 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} الآية. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين قالوا: الله أجل وأعلى من (¬8) أن يضرب الأمثال فأنزل الله هذه الآية (¬9). ¬

_ (¬1) من (ب)، وفي غيرها: (مما). (¬2) ذكر ابن جرير عن عدد من الصحابة ومن بعدهم 1/ 175 - 176. وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 69، (تفسير أبي الليث) 1/ 104، "تفسير الثعلبي" 1/ 58 ب، وابن عطية 1/ 210. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 69، "تفسير أبي الليث" 1/ 104، والثعلبي 1/ 58 ب، "الكشاف" 1/ 262. (¬4) والأولى أن يراد بها ما يعم كل طهارة، كما قال الزجاج: إن (مطهرة) أبلغ من (طاهرة) لأن (مطهرة) للتكثير 1/ 69. وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 210. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 58 ب. (¬6) في (ب): (التبعيض). (¬7) انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 68. (¬8) (من) ساقط من (ب). (¬9) ذكره الواحدي في "أسباب النزول": ص 26، وأخرجه "الطبري" بسنده عن ابن عباس =

وقال (¬1) الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية (¬2) قال أهل المعاني: قوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} خرج على لفظهم (¬3)، حيث قالوا: إن الله يستحي (¬4) أن يضرب المثل بالذباب والعنكبوت (¬5)، كقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13] لما قالوا: إنه سحر مفترى (¬6). ¬

_ = ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 177، وأخرجه أبن أبي حاتم عن السدي 1/ 68، وذكره ابن كثير 1/ 68، وذكره السيوطي في "الدر" عن ابن مسعود وناس من الصحابة 1/ 88. (¬1) (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) ذكره الواحدي في "أسباب النزول": ص 26 - 27، وذكره ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن": ص 44 ولم ينسبه، وكذا الثعلبي بنحوه 1/ 59 أ. وأخرج ابن جرير عن قتادة وفيه: قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ... إلخ، 1/ 177 - 178، ونحوه عند ابن أبي حاتم، وقال: روي نحوه عن الحسن 1/ 69. قال السيوطي في "لباب النقول" بعد أن ذكر قول قتادة: (وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية، وما أوردناه عن قتادة والحسن حكاه عنهما الواحدي بلا إسناد بلفظ: (قالت اليهود) وهو أنسب، "لباب النقول": ص 13، وانظر: ابن كثير 1/ 68، "زاد المسير" 1/ 54، "الكشاف" 1/ 236، "البحر" 1/ 120. (¬3) أي: لفظ اليهود أو المشركين الذين قالوا ذلك. (¬4) في (ب): (لا يستحيي). (¬5) ذكره الزمخشري في "الكشاف"، وجعله من باب (القابلة) "الكشاف" 1/ 236، " البحر" 1/ 121، 122. (¬6) ورد هذا فيما حكاه الله من رد قوم موسى في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} [القصص:36].

وقال بعضهم: معنى (¬1) قوله: {لَا يَسْتَحْيِي} هو أن الذي يستحيا منه ما يكون قبيحا في نفسه، ويكون لفعله عيب في فعله فأخبر الله سبحانه أن ضرب المثل منه ببعوضة فما فوقها ليس بقبيح ولا نقص ولا عيب، حتى يستحيا منه، فوضع: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَستَحِى أَن يَضرِبَ مَثَلاً} موضع ذلك، كأنه قيل: إن ما يضربه الله من المثل بالبعوض (¬2) لا يستحيا منه (¬3)، لأن حقيقة الاستحياء في وصفه لا يجوز، لأنه يخاف عيبا، ويستحيل في وصفه أن يحذر نقصًا (¬4). وقيل: معنى: {لَا يَسْتَحْيِي}: لا يترك، لأن أحدنا إذا استحيا من شيء تركه (¬5)، ومعناه أن الله لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها إذا علم أن فيه عبرة لمن اعتبر، وحجة على من جحد (¬6). وقيل: معناه (لا ¬

_ (¬1) (معنى) ساقط من (ب). (¬2) في (أ) و (ج): (بالتعرض) وما في (ب) هو الصحيح. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 59 أ. (¬4) ومن أجل هذا أول معنى الآية، وجميع الوجوه التي أوردها في تفسير الآية تأويل، وهذا وافق نهج المتكلمين في باب الصفات، الذين يستعملون تلك المقدمات العقلية لنفي بعض الصفات. أما السلف فإنهم يعتصمون بالنص في الإثبات والنفي، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله أثبتوه وما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله نفوه. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية": ص 178، "الرسالة التدمرية". ص 70، والأولى في معنى الآية ما ذكره "الطبري" قال: (.. معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين البعوضة إلى ما فوق البعوضة). "الطبري" 1/ 178 - 179، وقد نقل الواحدي عن "الطبري" قولاً آخر وادعى أن اختاره والأمر بخلاف ذلك كما سيأتي. (¬5) ذكره ابن عطية 1/ 212، "القرطبي" 1/ 242، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 54، والزمخشري (الكشاف) 1/ 263. (¬6) في (ب) (حجه).

يخشى) والخشية والاستحياء يقوم أحدهما مقام الآخر كقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، أي تستحي (¬1) الناس] (¬2) والله أحق أن تستحيي (¬3) منه، وهذا اختيار محمد بن جرير (¬4). قال أهل اللغة: أصل الاستحياء من الحياة (¬5)، واستحيا الرجل لقوة الحياة فيه (¬6)، لشدة علمه بمواقع العيب (¬7)، فالحياء من قوة الحس ولطفه (¬8) ¬

_ (¬1) (تستحي) يتعدى بنفسه وبالجار وعداه الواحدي بنفسه، وهي عبارة "الطبري": (وتستحي الناس، والله أحق أن تستحيه ..) 1/ 179، انظر "البحر" 1/ 121. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (يستحيا منه). (¬4) لقد وهم الواحدي في زعمه أن هذا اختيار "الطبري"، وتبعه على هذا الوهم أبو حيان في "البحر" 1/ 121. قال "الطبري": (وأما تأويل قوله: (إن الله لا يستحي) فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى (إن الله لا يستحي): أن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً ... فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء ...). قال محمود شاكر: (... إن لفظ "الطبري" دال على أنه لم يحقق معناه ولم يرضه، ولم ينصره ...) 1/ 402، 403 (ط. شاكر). ثم قال محمود شاكر في موضع آخر: (هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال: إن الاستحياء بمعنى الخشية، لا ما أخذ به "الطبري"، "تفسير الطبري" صريح، بيّن في آخر الآية) 1/ 404. ونجد "الطبري" يقول في آخر الآية: (فقد تبين إذا بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة) 1/ 179. فلم نر "الطبري" يؤول (الاستحياء) بـ (الخشية) والله أعلم. (¬5) في (أ)، (ب): (الحيوة). (¬6) في (ب): (واستحيا الرجل لقلة الحياة، واستحيا الرجل لقوة الحياة فيه ...). (¬7) في (ب): (الغيب). (¬8) في (ب): (ولفظه).

وقوة الحياة (¬1) (¬2). وقوله تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} الضرب في المثل مستعار، ومعناه (¬3) التسيير للمثل، والجعل لها (¬4) يسير في البلاد (¬5)، وذكرنا معنى المثل مستقصى فيما (¬6) تقدم (¬7). وقوله تعالى: {مَا بَعُوضَةً}. النصب في بعوضة من جهتين (¬8)، أحدهما: أن تكون (ما) زائدة، كأنه قال: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا، ومثلا بعوضة، و (ما) زائدة مؤكدة كقوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] فـ (ما) في التوكيد بمنزلة (حق) إلا أنه لا إعراب لها. ¬

_ (¬1) في (أ): (الحيوة). (¬2) قال ابن فارس: (الحاء والياء والحرف المعتل أصلان: أحدهما خلاف الموت، والآخر الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة) "مقاييس اللغة" (حي) 2/ 122، وانظر "تهذيب اللغة" (حي) 1/ 954، "الصحاح" (حيا) 6/ 2324، "اللسان" 2/ 1080، "مفردات الراغب": ص140، "التاج" (حي) 19/ 359، "الكشاف" 1/ 263. (¬3) في (ب): (ومعناه السير للمثل). (¬4) كذا ورد في جميع النسخ ولعل الصواب (له). (¬5) قال "الطبري": (يبين ويصف)، 1/ 179، وذكر ابن الجوزي عن ابن عباس: أن يذكر شبها. "زاد المسير" 1/ 54، وقيل ومعنى يضرب: يذكر، أو يصير. انظر. "تفسير ابن عطية" 1/ 212 - 213، "القرطبي" 1/ 208، "البحر" 1/ 122. (¬6) في (ب): (مما). (¬7) عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآية [البقرة:17]، انظر: ص 186 - 188. (¬8) ذكره الزجاج قال: (فأما إعراب (بعوضة) فالنصب من جهتين في قولنا وذكر بعض النحويين جهة ثالثة، فأما أجود هذِه الجهات فأن تكون (ما) زائدة مؤكدة ..) "معاني القرآن" 1/ 70.

والخافض والناصب يتعداها إلى ما بعدها، ومعناها التوكيد فقط (¬1). فإذا جعلت (ما) زائدة نصبت بعوضة على أنها المفعول الثاني (ليضرب) (¬2)، لأن (يضرب) [هاهنا معناه: يجعل. هذا هو الاختيار عند البصريين (¬3). الوجه الثاني: أن تكون (ما)] (¬4) نكرة (¬5) بمنزلة شيء، فيكون المعنى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً شيئاً من الأشياء، ثم أبدل بعوضة من شيء (¬6)، فقال: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وهذا (¬7) قول الفراء (¬8). وقال الكسائي: معناه: أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 70، وقد ذكره الفراء و"الطبري" واختارا غيره كما سيأتي، انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 21، و"الطبري" 1/ 179 - 180، وانظر الثعلبي 1/ 59 أ، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 65، "الإملاء" 1/ 16، "الكشاف" 1/ 264. (¬2) في (ب): (كيضرب). (¬3) انظر: "الطبري" 1/ 180، "معاني القرآن" للفراء 1/ 21. وفيه وجه آخر: وهو أن (بعوضة) بدل من (المثل)، انظر الثعلبي 1/ 59 أ، "الإملاء" 1/ 26، "البيان" 1/ 65، "الكشاف" 1/ 264، "تفسير ابن عطية" 1/ 152، قاله الزجاج 1/ 71. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (ذكره). (¬6) في (أ)، (ج): (شيئاً). (¬7) في (ب): (فهذا). (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 22، والقول الذي اختاره الفراء القول الآتي الذي نسبه الواحدي للكسائي، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 70، و"الطبري" 1/ 180، والثعلبي 1/ 59 أ.

ثم حذف (بين) و (إلى) ونصب بعوضة بإسقاط الخافض. وفي (¬1) كلام العرب: (مطرنا ما زُبَالَة فالثعلبية) بمعنى ما بين زُبَالَة إلى الثعلبية (¬2)، ويقولون: (له عشرون ما ناقة فجملا) أي ما بين ناقة وجمل، وهو (¬3) أحسن الناس ما قَرْناً فقَدَماً (¬4). وأنكر المبرد هذين القولين فقال: أما قول الفراء: إنه يجعل (ما) اسما تاما، وينصب بعوضة بدلا منه (¬5)، فإن القول في ذاك ما قال الخليل وسيبويه، قالا جميعاً: إن (من) و (ما) يكونان (¬6) نكرتين، فيلزمهما الصفة كلزوم الصلة (¬7) إذا كانا معرفتين، تقول (¬8): مررت بمن صالحٍ، أي: بإنسان ¬

_ (¬1) (والواو) ساقطة من (ب). (¬2) (زبالة) و (الثعلبية) موضوعان معروفان من المنازل في الطريق بين الكوفة ومكة. انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 341،2/ 693، "معجم البلدان" 2/ 78، 3/ 129. (¬3) في "معاني القرآن" للفراء (وهي) 1/ 22، وكذا في "الطبري" 1/ 180. (¬4) المعنى: ما بين القرن والقدم. ورد الكلام في "معاني القرآن" للفراء ولم ينسبه للكسائي 1/ 22، وذكره "الطبري" ولم يعزه، وعزاه محمود شاكر في حاشية "الطبري" للفراء 1/ 405، وفي الآية وجه آخر ذكره بعض المفسرين: وهو أن تكون (ما) بمعنى (الذي) و (بعوضة) مرفوع، لأنه خبر مبتدأ مقدر، أي: الذي هو بعوضة، وأنكر الزجاج هذا الوجه، لأنه لم يثبت قراءة، وإن كان صحيحاً في الإعراب. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 71. أما "الطبري" فاختار هذا الوجه، ولكن على نصب (بعوضة) وذكر لنصبها وجهين ... انظر "تفسير الطبري" 1/ 179، وانظر: "البيان" 1/ 66، وابن عطية 1/ 213. (¬5) الفراء لم يرجح هذا القول، وإنما رجح القول الذي نسبه الواحدي للكسائي حيث قال: (الوجه الثالث: -وهو أحبها إليَّ- فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين البعوضة إلى ما فوقها ..)، "معاني القرآن" 1/ 22. (¬6) (يكونان) ساقطة من (ج). (¬7) في (ب): (الصفة). (¬8) في (أ)، (ج): (يقول).

صالح. ومررت بما حسنٍ، أي بشيء حسن. فلا يكونان نكرتين إلا بوصفهما. كما لا يكونان (¬1) معرفتين إلا بصلتهما (¬2). والفراء جعل (ما) وحدها اسما (¬3)، لأن البعوضة ليست بصفة. وقال سيبويه (¬4) في قوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] يجوز أن يكون (ما) نكرة، أي هذا شيء لدي عتيد، ويجوز أن يكون في معنى (الذي) (¬5). وأما قول الكسائي: (ما بين كذا إلى كذا) (¬6) فإنما يحكى هذا الكلام عن أعرابي وحده، وإن صح فوجهه غير ما ذكر، وهو أن يكون (ما) صلة، فيكون الكلام: (مطرنا (¬7) زبالة فالثعلبية) كما تقول: أتيت الكوفة فالبصرة. ولو كان معناه (ما بين)، لم يكن المطر بزبالة ولا الثعلبية، لأن ما بينهما غيرهما، وإضمار (بين) فبعيد جداً. و (البعوض) صغار البق، الواحدة بعوضة، وذلك لأنها كبعض البق في الصغر (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (يكونان) بسقوط (لا). (¬2) انظر: "الكتاب" 2/ 105 - 107. (¬3) الفراء اختار غير هذا القول كما سبق، وانظر: "معاني القرآن" 1/ 22. (¬4) (سيبويه) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "الكتاب" 2/ 106. (¬6) هذا الكلام في "معاني القرآن" ولم يعزه للكسائي، عزا إليه كلاما بمعناه قال: (قال الكسائي سمعت أعرابيًّا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سَرارِك، يريد ما بين إهلالك إلى سرارك ... وحكا الكسائي عن بعض العرب: الشَّنَقُ ما خمسا إلى خمس وعشرين، يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين. والشَّنَقُ: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل ..)، "معاني القرآن" للفراء 1/ 22، 23. (¬7) في (ب) (فيكون) (الكلام مثل ما زبالة). (¬8) انظر: "الصحاح" (بعض) 3/ 1066، "زاد المسير" 1/ 55، "القرطبي" 1/ 209، ورجح الدميري: أن البعوض غير البق، انظر: "حياة الحيوان" 1/ 179.

وقوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} يعني ما هو أكبر منها، لأن البعوض نهاية في الصغر (¬1). قال ابن عباس: يعني الذباب والعنكبوت (¬2)، وهما فوق البعوض. [وقيل: أراد بما فوق البعوض] (¬3) الفيل، وذلك أن الله تعالى خلق للبعوضة من الأعضاء مثل ما خلق للفيل (¬4) على عظمه، وزاد للبعوض جناحين، ففي ضربه المثل به أعظم عبرة وأتم دلالة على كمال قدرته وتمام حكمته. وقال بعضهم: فما فوقها، يعني في الصغر، يريد فما هو أصغر منها (¬5)، لأنه يقال: فلان فوق فلان في الحقارة والدناءة. واختار قوم هذا (¬6)، لأن الغرض المطلوب هاهنا الصغر. فإن قيل: إذا كانت البعوضة هي النهاية في الصغر، فلا معنى في (¬7) (فما فوقها) في الصغر، قيل: ليس الأمر على ما قلتم، لأن ما دون ¬

_ (¬1) ذكره الفراء ورجحه، انظر "معاني القرآن" 1/ 20. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 71، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 215، "تفسير الطبري" 1/ 180، أبي الليث 1/ 104، والثعلبي 1/ 59 أ، "الكاشف" 1/ 265. (¬2) ذكر الثعلبي 1/ 59 أ، وأبو الليث 1/ 104، وابن قتيبة في "غريب القرآن" ولم يعزه لابن عباس: ص 27. (¬3) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬4) في (ب): (الفيل). (¬5) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 20، والزجاج في "المعاني" 1/ 71، والأخفش في "المعاني" 1/ 215، و"الطبري" 1/ 180، وضعفه، وذكره أبو الليث 1/ 104، وأبو عبيده في "المجاز" 1/ 35، وابن قتيبة في "المشكل": ص 27، وابن الأنباري في "الأضداد": ص 250، والزمخشري في "الكشاف" 1/ 265. (¬6) كأبي عبيدة في "المجاز" 1/ 35، وابن قتيبة في "المشكل": ص 27. (¬7) في (ب): (فلا معنى فيما).

البعوضة في الصغر متوهم معقول، وإن لم ير، كما قال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات: 65] [الصافات: 65] فالمشبه به معقول وإن لم ير، وكما قال الشاعر: وَمَسْنُونةٌ زُرْقٌ كَأنْيَابِ أغْوَالِ (¬1) ولم ير ناب الغول. ويؤكد هذا التأويل قول أبي عبيدة في هذه الآية وهو أنه (¬2) قال: (فما فوقها) يعني: فما دونها (¬3). و (فوق) من الأضداد، لأنه لا فوق (¬4) إلا ويصلح أن يكون دون، لأن من فوقك (¬5) يصلح أن يكون دون غيرك فذلك فوق (¬6) من وجه ودون من وجه (¬7). وإذا كان (فوق) بمعنى ¬

_ (¬1) عجز بيت لامرئ القيس وصدره: أيقْتُلُنِي والمشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي المشرفي: السيف، (مسنونة زرق): سهام محددة الأزجه صافية، شبهها بأنياب الأغوال، تشنيعا ومبالغة في الوصف، والأغوال: الشياطين، وقيل: الحيات. انظر "ديوان امرئ القيس": ص 125، "تهذيب اللغة" (غال) 8/ 193، "المخصص" 8/ 11، "اللسان" (غول) 6/ 3318، "البحر المحيط" 2/ 304. (¬2) في (ب): (أن). (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 35. (¬4) في (ب): (لا فرق). (¬5) في (ب): (فوق الصلح). (¬6) (فوق) ساقط من (ب). (¬7) انظر: "الأضداد" لأبي حاتم: ص101، ولابن الأنباري: ص 250، وقد ذكر عن قطرب: (أن فوق تكن بمعنى: (دون) مع الوصف، كقول العرب: إنه لقليل وفوق القليل، ولا تكون بمعنى: (دون) مع الأسماء، كقول العرب: هذِه نملة وفوق النملة ...) ورد أقوال المفسرين الذين قالوا: إن (فوقا) في الآية بمعنى (دون)، وغلّطه ابن الأنباري في هذا ورد عليه. والأقرب أن (فوق) في الآية تكون بمعنى: أعظم، وبمعنى: دون، وهذا هو اختيار ابن الأنباري، وانظر: "المشكل" لابن قتيبة: ص 27، "البحر" 1/ 123، وابن كثير 1/ 69.

(دون) كان المعنى (فما دونها) أي: ما هو أصغر منها. وقد استشهد على استحسان ضرب المثل بالحقير [في] (¬1) كلام العرب بقول الفرزدق: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبوُتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى (¬2) عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ (¬3) وبقوله أيضاً: وَهَل شَيءٌ يَكُوُن أذَل بَيتَاً (¬4) ... مِنَ اليَرْبُوعِ يَحْتَفِرُ التُّرَابَا (¬5) وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ}. مدحهم الله بعلمهم أن المثل وقع في (¬6) حقه (¬7) وذم الكافرين بإعراضهم عن طريق الاستدلال وإنكارهم ما هو صواب وحكمة. وقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. قال أبو إسحاق: (ماذا) يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً، ويكون موضعها نصباً، المعنى: ¬

_ (¬1) (في) إضافة من "الوسيط" للواحدي 1/ 66، لاستقامة السياق. (¬2) في (ب): (ومعن). (¬3) استشهد الواحدي بالبيت في "الوسيط" 1/ 66، وهو في "ديوان الفرزدق" 2/ 155، من قصيدة طويلة ضمن نقائضه مع جرير. (¬4) (بيتا) ساقط من (ب). (¬5) استشهد الواحدي بالبيت في "الوسيط" 1/ 66، وهو في "ديوان الفرزدق" 1/ 103. (¬6) (في) ساقط من (ب). (¬7) قال "الطبري": يعرفون أن المثل الذي ضربه الله، لما ضربه له مثل، ثم ذكر عن الربيع وقتادة أن هذا المثل الحق من ربهم، وأنه كلام الله 1/ 181، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 71/ "تفسير الثعلبي" 1/ 59 أ.

أي شيء أراد الله بهذا مثلًا؟ ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما) بمنزلة (الذي) فيكون المعنى: ما الذي أراده (¬1) الله بهذا مثلا؟ فيكون (ما) رفعاً بالابتداء و (ذا) في معنى الذي وهو خبر الابتداء، انتهى كلامه (¬2). وفائدة الوجهين يتبين في الجواب، فإنك إن جعلته اسمًا واحداً كان جوابه منصوبًا، وإن جعلت (ما) ابتداء و (ذا) خبره كان الجواب مرفوعا، مثاله أنَّ قائلا لو (¬3) قال لك: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ قلت: البيانَ لحال (¬4) الذي ضرب له المثل، لأنك أبدلته من (ماذا) وهو نصب. وفي الوجه الثاني قلت: البيانُ بالرفع؛ لأن (ذا) محله رفع بخبر الابتداء (¬5). وجاء في القرآن بالتقديرين (¬6) جميعًا في قوله: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30]، و {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] فعلى النصب كأنه قيل: أي شيء أنزل ربكم (¬7)؟، وعلى الرفع (¬8): أي شيء الذي (¬9) أنزله (¬10) ¬

_ (¬1) في (ب): (أرا د). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 42، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 32، "البيان" 1/ 66، "الإملاء" 1/ 26 , وقد ذكر النحويون أن (ماذا) تأتي في ستة أوجه، لكن يجوز في الآية وجهان ذكرهما المؤلف , انظر مغنى اللبيب 1/ 300 "البحر" 1/ 124، و"الدر المصون" 1/ 223. (¬3) (لو) ساقطة من (ب). (¬4) في (أ)، (ج): (الحال) أتنبت ما في (ب) لمناسبته للسياق. (¬5) انظر: "الكتاب" 2/ 417، 418، "الكشاف" 1/ 266, "البحر" 1/ 124,. (¬6) في (ب): (التقدير). (¬7) وعليه جاءت الآية الأولى: (قالوا خيرا). (¬8) وعليه جاءت الآية الثانية: (قالوا أساطير الأولين) انظر "الكتاب" 2/ 417. (¬9) (الذي) ساقط من (ب). (¬10) في (ج): (أنزل).

ربكم؟ واستشهد سيبويه (¬1) في الرفع بقول الشاعر: ألا تسألانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أمْ ضَلالٌ وَبَاطِلُ (¬2) وبقولهم: (عَمَّاذَا تَسْأَل) على أنهما بمنزلة اسم واحد ولو لم يكن كذلك لقالوا: (عم ذا تسأل) (¬3) وذكرنا هذه المسألة بأبلغ من هذا في الشرح، عند قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]. وفي نصب قوله: {مَثَلًا} وجوه، أحدها: الحال (¬4)، لأنه جاء بعد تمام الكلام كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا مبينا. والثاني: التمييز والتفسير للمبهم (¬5)، وهو (هذا) كأنه قيل ماذا أراد الله بهذا من ¬

_ (¬1) "الكتاب" 1/ 417. (¬2) البيت مطلع قصيدة للبيد بن ربيعة، يرثي بها النعمان بن المنذر. النحب: النذر، يقول: ألا تسألان رجلًا مجتهداً في أمر الدنيا والسعي خلفها، كأنه أوجب على نفسه نذرا في ذلك، فهو يجري لقضاء ذلك النذر، أم هو ضلال وباطل من أمره. ورد البيت عند سيبوبه 2/ 417، "معاني القرآن" للفراء1/ 139، (المعاني الكبير) 3/ 1201، "جمل الزجاجي" ص 349، "المخصص" 14/ 103، "مغني اللبيب" 1/ 300، "شرح المفصل" 3/ 149، 4/ 23، "الخزانة" 2/ 252، 6/ 145، "الدر المصون" 1/ 229 (ديوان لبيد) ص 254، والشاهد (أنحب) حيث جاء مرفوعًا فدل على أن (ذا) في معني (الذي). (¬3) (عم ذا تسأل) بحذف ألف (ما) لأن (ما) إذا كانت استفهاما ودخل عليها حرف الجر حذفت ألفها، فلما ثبتت الألف دل على أنها مركبة مع (ذا)، انظر: "الكتاب" 2/ 418، "شرح المفصل" 3/ 150. (¬4) اختلف في صاحب الحال، فقيل: اسم الإشارة، وقيل لفظ الجلالة (الله)، انظر "تفسير الثعلبي" 1/ 418، "المشكل" لمكي 1/ 231، وبن عطية 1/ 213، "البيان" 1/ 67، "البحر" 1/ 125، "الدر المصون" 1/ 231. (¬5) في (ب) (للمتهم).

الأمثال (¬1). والثالث: القطع، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا المثل (¬2)؟ إلا أنه لما جاء نكرة (¬3) نصب على القطع عن إتباع المعرفة، وهذا مذهب الفراء وأحمد بن يحيى (¬4)، ومعناه: إن الذين كفروا يقولون: أي فائدة في ضرب المثل بهذا؟ فأضلهم الله سبحانه فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} (¬5) أي: أراد الله بهذا المثل أن يضل به كثيرًا من الكافرين، وذلك (¬6) أنهم ينكرونه ويكذبونه. ويهدي به كثيرًا من المؤمنين، لأنهم يعرفونه ويصدقون به (¬7). قال (¬8) الأزهري: (والإضلال) في كلام العرب ضد الهداية والإرشاد، يقال (¬9): أضللت فلانا، إذا وجهته للضلال عن الطريق فلم (¬10) ترشده، وإياه أراد لبيد بقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "المشكل" لمكي1/ 33، وابن عطية 1/ 213، "البيان" 1/ 67، "الإملاء" 1/ 26، "البحر" 1/ 125، "الدر المصون" 1/ 231. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 154، والثعلبي 1/ 95 أ، "البحر" 1/ 125، وقال أبو حيان: إن هذا مذهب الكوفيين، والمراد بالقطع: أنه يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع، وقال: وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال، ولم يثبت البصريون النصب على القطع، انظر: "الدر المصون" 1/ 231. (¬3) في (ب): (ذكره). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 154، "البحر" 1/ 125. (¬5) قوله: (يهدي به كثيرا) ساقط من (أ)، (ج). (¬6) في (ب): (وكذلك). (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 59 ب. (¬8) في (ب): (كذلك قال الأزهري). (¬9) في (ب): (يقول). (¬10) قوله: (فلم ترشده) ليس في "تهذيب اللغة".

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهْتَدى ... نَاعِمَ البَالِ ومَنْ شَاءَ أَضَل (¬1) قال لبيد هذا في الجاهلية، فوافق قوله التنزيل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2) (¬3) (¬4). ولا يجوز أن يكون معنى الإضلال: الحكم والتسمية، لأن أحدنا إذا حكم بضلالة (¬5) إنسان لا يقال: أضله، وهذا لا يعرفه أهل اللغة (¬6). وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}. قال الليث: (الفسق) الترك لأمر الله، ومثله (الفسوق) (¬7). قال أبو عبيدة: وأصله في اللغة الجور ¬

_ (¬1) البيت ورد في "تهذيب اللغة" (ضل) 3/ 2130، "اللسان" (ضلل) 5/ 2601، "ديوان لبيد مع شرحه" ص 174، "الوسيط" للواحدي 1/ 67. (¬2) في (ب): (تضل وتهدي). (¬3) جزء من آية في النحل: 93، وسورة فاطر آية: 8 (¬4) "تهذيب اللغة" (ضل) 3/ 2130، وانظر: "اللسان" (ضلل) 5/ 2601. (¬5) في (ب): (بضلال). (¬6) يرد بهذا على المعتزلة الذين قالوا: إن الله لا يخلق الضلال، ومعناه الإضلال عندهم هنا: الحكم أو التسمية، أو أنه من إسناد الفعل إلى السبب كما قال الزمخشري في "الكشاف" 1/ 267. وعند أهل السنة: أن الله خالق العباد وخالق أفعالهم، انظر "تفسير أبي الليث" 1/ 105، وابن عطية 1/ 216 - 217، "الإنصاف" فيما تضمنه "الكشاف" من الاعتزال حاشية على "الكشاف" 1/ 267، "القرطبي" 1/ 209 - 210. قال ابن كثير: قال السدي في "تفسيره": عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: (يضل به كثيرا) يعني به المنافقين (ويهدي به كثيرا) يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم .. ويهدي به بمعنى: المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم ..) ابن كثير 1/ 69 - 70. (¬7) "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788.

27

والميل عن الطاعة، يقال: (فسق) إذا جار. وأنشد (¬1): فواسِقًا عَنْ قَصْدِهِ (¬2) جَوَائِرا (¬3) وقال الفراء (الفسق) (¬4) الخروج عن الطاعة، قال: والعرب تقول: فسقت الرطبة من قشرها، لخروجها منه، وكأن الفأرة إنما سميت (فويسقة) لخروجها من جحرها على الناس (¬5). وقال أبو العباس: (الفسوق) الخروج (¬6). وقال أبو الهيثم: وقد يكون الفسوق شركًا، ويكون إثمًا (¬7). والذي أريد به هاهنا الكفر (¬8) لقوله (¬9) تعالى: 27 - {الَّذِينَ ينَقُضُونَ}. (والذين) من صفة الفاسقين. و (النقض) في ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 406، "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، والخص من "التهذيب". (¬2) في (ب): (أمره) وهي رواية وردت في "اللسان" (فسق) 6/ 3414. (¬3) البيت لرؤبة كما في "مجاز القرآن" وقبله: يهوِين في نَجد وغورًا غائرا يصف إبلا منعدلة عن قصد نجد ورد البيت في "مجاز القرآن" 1/ 406، وفيه (قصدها) بدل (قصده) ومثله عند "الطبري" 15/ 261، وبمثل رواية الواحدي ورد في "الزاهر" 1/ 218، "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، "اللسان" 6/ 3414، "القرطبي" 1/ 210. (¬4) (الفسق) ساقط من (ب) (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 147، وفيه قوله: (ففسق عن أمر ربه) أي: خرج عن طاعة ربه، والعرب تقول: .. ونحوه في "التهذيب" (فسق). (¬6) "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2778. (¬7) في "التهذيب" وقال أبو الهيثم: الفسوق يكون الشرك ويكون الإثم (فسق) 3/ 2789، وانظر: "اللسان" (فسق) 6/ 3414. (¬8) انظر: "الطبري" 1/ 182، و"ابن كثير" 1/ 70، "زاد المسير" 1/ 56، و"القرطبي" 1/ 210. (¬9) في (ب): (كقوله).

اللغة: الهدم، وإفساد ما أبرمته من حبل أو بناء (¬1)، و (نقيض الشيء) (¬2): ما ينقضه (¬3) اي: يهدمه ويرفع حكمه (¬4). والمناقضة في الشعر أن (¬5) يقول الشاعر قصيدة، فينقض عليه شاعر آخر حتى يجيء بغير ما قال، والاسم النقيضة (¬6) ويجمع على النقائض، ولهذا المعنى قالوا: نقائض (¬7) جرير والفرزدق (¬8). وقوله تعالى: {عَهْدَ اللَّهِ}. (العهد) في اللغة يكون لأشياء مختلفة (¬9)، والذي أريد به هاهنا الوصية (¬10) والأمر من قولهم: عهد الخليفة إلى فلان كذا وكذا، أي (¬11): أمره. ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الأزهري عن الليث، "تهذيب اللغة" (نقض) 4/ 3648، وانظر "اللسان" (نقض) 8/ 4524. (¬2) في (أ): (نقيض). (¬3) في (أ) و (ج): (ما تنقضه) وما في (ب) أصح، وموافق لما في "الوسيط" 1/ 68. (¬4) النقض: لغة: هو الكسر، وفي الاصطلاح: بيان تخلف الحكم المدعي عليه ثبوته أو نفيه عن دليل المعلل الدال عليه في بعض الصور. انظر "التعريفات" للجرجاني ص 245. والتناقض: (اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي لذاته أن يكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة) انظر: "تيسير القواعد المنطقية شرح الرسالة الشمسية" 1/ 169. (¬5) في (ب): (الشعر أو يقول ...). (¬6) في (ب): (النقضة). (¬7) في (ب): (أنقاض). (¬8) ذكره الأزهري في "التهذيب" عن الليث (نقض) 8/ 364، انظر "اللسان" (نقض) 8/ 4524. (¬9) ذكر الأزهري عن أبي عبيد أن العهد يكون في أشياء مختلفة ثم ذكرها، انظر: "التهذيب" (عهد) 3/ 32607. (¬10) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 217. (¬11) في (ب): (أدا).

60] أي ألم آمركم (¬1). والعهد أيضًا (¬2) العقد الذي يتوثق به لما بعد (¬3). وذكر أبو إسحاق للعهد (¬4) المذكور في هذه الآية وجهين (¬5) أحدهما: ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ} [آل عمران: 81]. وقال (¬6): يجوز أن يكون عهد الله الذي أخذه من بين آدم من ظهورهم يوم الميثاق حين قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ثم جحدوا ونقضوا ذلك العهد في حال كمال عقولهم. والوجه الأول أصحهما، من قبل أن الله لا يحتج عليهم بما لا يعرفون، لأنه بمنزلة ما لم يكن إذا كانوا لا يشعرون به، ولا لهم دلالة عليه. والثاني مع هذه صحيح، لأنهم (¬7) عرفوا ذلك العهد بخبر الصادق، فكان كما لو كانوا يشعرون به (¬8). ¬

_ (¬1) أنظر: "تهذيب اللغة" (عهد) 3/ 2607. (¬2) في (ج): (أيضم). (¬3) انظر: "التهذيب" (عهد) 3/ 2607، "مفردات الراغب" ص 350. (¬4) في (ب): (العهد). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 73، 72، وقد ذكر ثلاثة أوجه، وجهان ذكرهما المؤلف هنا، والثالث حين قال: وقال قوم: إن عهد الله: هو الاستدلال على توحيده، وأن كل مميز يعلم أن الله خالق، فعليه الإيمان به، ثم قال: والقولان الأولان في القرآن ما يصدق تفسيرهما. وذكر "الطبري" هذِه الوجوه وغيرها. (¬6) هذا هو الوجه الثاني. (¬7) في (أ)، (ج): (لأنه) وأثبت ما في (ب) لأنه أصح في السياق. (¬8) وبهذا يستدرك الواحدي على كلامه السابق عن العهد الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرج ذرية آدم من ظهره، فهذا العهد ثابت بالخبر الصحيح، أخرجه "الطبري" في (تفسيره)، وجمع محمود شاكر طرقه وانتهى إلى الأخذ بما قرره =

وهذا (¬1) الوجه هو قول ابن عباس ذكره في قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] في سورة الرعد، قال: يريد الذي (¬2) عهد إليهم في صلب آدم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬3). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}. (من) صلة لأجل التأكيد (¬4). والميثاق: ما وقع التوثيق (¬5) به، كما أن الميقات ما وقع التوقيت به، ومواقيت الحج من ذلك، لأنه وقع توقيت الإحرام ببلوغها. والكتاب أو ¬

_ = أحمد شاكر من تصحيح الحديث انظر: "الطبري" 13/ 223 ,222. قال ابن الجوزي: (ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد، فقد ثبت بخبر الصادق فيجب الإيمان به) "زاد المسير" 1/ 56. ويبقى السؤال هل الميثاق المأخوذ عليهم هو العهد المراد بهذِه الآية أم لا؟ رجح ابن جرير: أن المراد بالعهد في هذِه الآية العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل في التوراة من الإقرار بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بما جاء به وتبيين نبوته. انظر: "الطبري" 1/ 182 - 183. ورجح القرطبي وغيره. أنها عامة والعهد هو وصية الله تعالى إلى خلقه وأمره إياهم بطاعته وطاعة رسله، ونقضهم للعهد ترك ذلك. انظر: "القرطبي" 1/ 210، ابن كثير 1/ 70. (¬1) في (أ)، (ج): (هذِه) وأثبت ما في (ب) لأنه أصح في السياق. (¬2) في (ب): (الذين). (¬3) سورة الأعراف: 172. الأثر عن ابن عباس ذكره الواحدي في "الوسيط" قال (وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء) "الوسيط" 1/ 68. ولم أجد الأثر عن ابن عباس في هذا المعنى في آية (البقرة) ولا في آية (الرعد) وقد وردت آثار عن ابن عباس من طريق عطاء في الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم أوردها "الطبري" في تفسير قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وليس في الآثار ذكر أنه هو العهد المراد بآية البقرة أو الرعد. انظر: "تفسير الطبري" 9/ 110 - 118. (¬4) وقيل: لابتداء الغاية، انظر: "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 27، "زاد المسير" 1/ 56، "البحر" 1/ 127، قال أبو حيان: إن القول إنها زائدة بعيد. (¬5) في (ب): (للتوثيق).

الكلام الذي يستوثق به: ميثاق، الوقت الذي يعقد به الوعد: ميعاد (¬1)، وكذلك المصداق (¬2) ما انعقد الصدق به (¬3). و (الياء) في الميثاق منقلبة عن الواو (¬4). وقال الفراء: يقال في جمع الميثاق: مياثق ومواثق، قال (¬5): حِمىً لاَ يُحَلُّ الدَّهْرَ إلَّا بِإذْنِنَا ... وَلَا نَسْأَلُ الأَقْواَمَ عَقْدَ المَيَاثِقِ (¬6) والكناية في الميثاق يجوز أن تكون (¬7) عائدة على الله، [أي: من بعد ميثاق الله ذلك العهد، بما أكد من إيجابه عليهم. ويجوز أن تعود على العهد] (¬8)، أي: من بعد ميثاق العهد وتوكده (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): (من معاد). (¬2) في (ب): (الصداق). (¬3) انظر. "الوسيط" 1/ 69، و"الطبري" 1/ 184، "تهذيب اللغة" (وثق) 4/ 3834، "الكشاف" 2/ 268، "البحر" 1/ 127، "القرطبي" 1/ 211. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 59 ب، "القرطبي" 1/ 211. (¬5) قول الفراء أورده الأزهري في "تهذيب اللغة"، قال: وأنشد في لغة (الياء)، أي (مياثق) "التهذيب" (وثق) 4/ 3834، وانظر "اللسان" (وثق) 8/ 4764. (¬6) البيت لعياض بن درة الطائي، وقيل: عياض بن أم درة، يصف قومه بالمنعة والقوة يقول: لنا حمى لا يحله احد إلا بإذننا، ولا نسأل أحدا عقد ميثاق حماية. ورد البيت في "تهذيب اللغة" (وثق) 4/ 3834، "إصلاح المنطق" ص 138، "الخصائص" 3/ 175، "اللسان" (وثق) 8/ 4764، "شرح المفصل" 5/ 221، وأورد أبو زيد البيت على رواية (المواثق) وقال عن راوية المياثق: إنها شاذة: انظر "النوادر" ص 271. (¬7) في (أ)، (ج): (يكون) واخترت ما في (ب) لأنه أصح في السياق. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (أ، ج) والزيادة في (ب) يقتضيها السياق وقد وردت في "الوسيط" 1/ 69. (¬9) انظر "الطبري" 1/ 184، وابن عطية 1/ 218، "زاد المسير" 1/ 56، "الإملاء" 1/ 27، "الكشاف" 1/ 268.

وقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 25] يعني الأرحام (¬1)، وذلك أنّ قريشاً قطعوا رحم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعاداة معه (¬2). وقيل: هو الإيمان بجميع الرسل والكتب، وهو نوع من الصلة، لأنهم قالوا: {نُؤمِنُ بِبَعضٍ وَنَكفُرُ بِبَعضٍ} [النساء: 150] فقطعوا. وهذا الوجه هو قول ابن عباس ذكره في الآية التي في (الرعد) (¬3)، وقال: المؤمن لا يفرق [بين أحد من رسله فوصلوا (¬4). قال الزجاج: وموضع {أَنْ يُوصَلَ} خفض على، (¬5) البدل من (الهاء) المعنى: ما أمر الله أن يوصل (¬6). {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي، وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (¬7). وقوله تعالى: {أُوْلئِكَ هُمُ الخاَسِرُونَ}. أصل الخسران في التجارة ¬

_ (¬1) رجح "الطبري" هذا القول 1/ 185، وانظر الثعلبي 1/ 555 ب، "تفسير أبي الليث" 1/ 105، "زاد المسير" 1/ 57، وابن كثير 1/ 70. (¬2) وهي عامة لكل قاطع لما أمر الله بوصله، انظر: "الطبري" 1/ 185. (¬3) وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. (¬4) وصلوا بينهم الإيمان بجميع الرسل. انظر: "الوسيط" 1/ 69. والرواية عن ابن عباس ذكرها أبو الليث من طريق الضحاك وعطاء، في آية (البقرة) ولم أجد أحدًا - فيما اطلعت عليه- ذكرها في الرعد، الظر: "الطبري" 13/ 139 - 140، وقد ذكر الثعلبي1/ 59 ب، والبغوي 1/ 77، كلام ابن عباس بمعناه ولم ينسباه. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) انتهي كلام الزجاج، "معاني القرآن" 1/ 73، وفيه (بأن يوصل). (¬7) انظر: "الطبري" 1/ 185، والثعلبي 1/ 59 ب.

28

أن يبتاع الرجل شيئًا فيوضع من رأس ماله (¬1)، وهي الوضيعة فيه، والمصدر: الخسارة والخسر، وصفقة (¬2) خاسرة غير مربحة، هذا هو الأصل (¬3)، ثم قيل لكل صائر إلى مكروه: خاسر، لنقصان حظه من الخير، والقوم نقصوا (¬4) بكفرهم راحة أنفسهم التي كانت لهم لو آمنوا، فاستحقوا العقوبة وفاتتهم المثوبة (¬5). 28 - قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} الآية. قال النحويون: (كيف) في الأصل سؤال عن الحال، لأن جوابه يكون بالحال، وهي منتظمة جميع الأحوال (¬6). ونظيرها في الاستفهام (كم) لأنها تنتظم جميع الأعداد و (ما) (¬7) وهي تنتظم جميع الأجناس، و (أين) وهي تنتظم جميع الأماكن، و (متى) [وهي تنظم جميع الأزمان، و (من)] (¬8) وهي تنتظم جميع ما يعقل (¬9). قال الزجاج: تأويل (كيف) هاهنا استفهام في معنى التعجب، وهذا ¬

_ (¬1) في (ب): (المال). (¬2) في (ب): (وصفقته). (¬3) انظر: "الطبري" 1/ 185، "التهذيب" (خسر) 1/ 1028، "مفردات الراغب" 147. (¬4) في (ب): (نقضوا). (¬5) انظر: "الطبري" 1/ 185، والثعلبي 1/ 59 ب، "القرطبي" 1/ 212. (¬6) انظر: "الكتاب" 4/ 233، "المقتضب" 3/ 289، 63، "حروف المعاني" للزجاجي ص 35، 59، وقد ذكر الزجاجي أنها تقع في ثلاثة مواضع: تقع بمنزلة (كما)، واستفهاما عن حال، وبمعنى التعجب واستشهد على هذا المعنى بالآية {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}، وانظر: "البرهان" 4/ 330، "مغني اللبيب" 1/ 204. (¬7) (و) ساقطة من (ب). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬9) انظر: "الكتاب" 4/ 233، "المقتضب" 3/ 63، 289.

التعجب إنما هو للخلق والمؤمنين، أي اعجبوا من هؤلاء كيف [يكفرون] (¬1) وثبتت حجة الله عليهم (¬2). وقال الفراء: هذا على وجه التعجب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض، أي: ويحكم كيف تكفرون؟ وهو كقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} (¬3) [التكوير: 26]. وقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}. قال النحويون: (كان) تقع (¬4) في الكلام على وجوه: تامة وناقصة وزائدة (¬5). فالتامة: هي المكتفية باسمها دون خبرهما كقولك: كان القتال، أي وقع وحدث. والناقصة: هي التي لا تتم دون خبرها كقولك: كان زيد أميرا. والزائدة: هي التي تكون (¬6) دخولها في الكلام كخروجها (¬7). كقوله: {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29] (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (تكفرون) وفي (ب) غير منقوطة، والتصحيح من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 47. (¬2) في (ب): (عليكم). انتهى من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 47، انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 59ب، وابن عطية 1/ 220، وبمعناه كلام الفراء الآتي بعده. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 23، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 190. (¬4) في (أ): (يقع) وما في (ب، ج) أنسب للسياق. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (كان) 4/ 3083 - 3084. وذكر الهروي وجهاً رابعاً وهو: أن تكون (كان) مضمرا فيها اسمها (ضمير الشأن) وبعد كان جملة من مبتدأ وخبر مرفوعين. انظر: "الأزهية في علم الحروف" ص 179. (¬6) كذا في جميع النسخ الأولى (يكون). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (كان) 10/ 377، و"الأزهية في علم الحروف" ص183، و"مغني اللبيب" 2/ 559. (¬8) وقد ذكر الأزهري عن ثعلب: أن للعلماء في الآية قولين: منهم من قال: (كان) =

و (كان) التي لها خبر تتصرف (¬1) تصرف الفعل، وليست بفعل على الحقيقة، إنما تدل (¬2) على الزمان وتدخل على الابتداء والخبر كقولك: زيد مسرور، [فإذا قلت كان زيد مسرورا، فكأنك قلت: زيد مسرور] (¬3) فيما مضى من الزمان (¬4). ويقال في مصدره الكَوْن والكَيْنُونَة (¬5). قال الفراء: [تقول] (¬6) في ذوات (الياء): الطَّيْرُوَرة والحَيْدوَدة (¬7) والزَّيْغُوغَة فيما لا يحصى من هذا الضرب. فأما ذوات (الواو) مثل: قلت ورضت، فإنهم لا يقولون ذلك فيه، وقد أتى عنهم في أربعة أحرف منها: الكَيُنونَة من (كُنْتُ) والدَّيْمُومَة من (دُمْتُ) والْهَيْعُوعَة من (الْهُوَاع) (¬8)، ¬

_ = صلة أي، زائدة، وهذا ما أخذ به المؤلف هنا، ومنهم من قال (كان) هنا غير زائدة، وهو قول الفراء. انظر: "تهذيب اللغة" (كان) 4/ 3084. وجعلها المبرد زائدة مؤكدة. انظر: "المقتضب" 4/ 417. وقد قال ابن هشام: إن وجه الزيادة في (كان) هو أضعف الوجوه. انظر: "مغني اللبيب" 2/ 559. (¬1) في (أ)، (ج): (ينصرف) واخترت ما في (ب)، لمناسبته للسياق. (¬2) في (أ)، (ج): (يدل) واخترت ما في (ب)، لمناسبته للسياق. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) انظر: "الإيضاح العضدي" للفارسي 1/ 95، "الأضداد" لابن الأنباري ص 65، "الأزهية في علم الحروف" ص183، "مغني اللبيب" 2/ 559. (833). (¬5) ذكره الازهري وقال: و (الْكَيْنَونَة) أحسن. "التهذيب" 4/ 3084. (¬6) في (أ)، (ج) (يقول) وفي (ب) بدون نقط والعبارة كما في "التهذيب": قال الفراء: (العرب تقول ذوات الياء ... إلخ)، "التهذيب": 4/ 3083. (¬7) في (ب) (الحيرورة)، وفي "التهذيب" (الحيدودة) وهذا الأقرب؛ لأنه قال: الطيرورة من طرت والحيدودة من حدت. "التهذيب" 4/ 3083. (¬8) الهوع بالفتح والضم: سوء الحرص وشدته، والعداوة، وهاع: قاء من غير تكلف، =

والسَّيْدُودَة من (سُدْتُ) وكان ينبغي أن يكون (كونونة) ولكنها لما قلت في مصادر (الواو) وكثرت في مصادر (الياء) [ألحقوها بالذي هو أكثر مجيئًا منها، إذ كانت الواو والياء] (¬1) متقاربي المخرج. قال: وكان الخليل يقول: كَيْنُونَة (فَيْعَلُولَة)، وهي الأصل (كَيْوَنُونَة) (¬2) التقت (ياء) و (واو)، والأولى منهما ساكنة فصيرتا [ياء] (¬3) مشددة (¬4)، مثل ما قالوا: الهَيِّن، ثم خففوها، فقالوا: (كَيْنُونَة)، كما قالوا: هَيْن لَيْن. قال الفراء: وقد ذهب مذهبا، إلا أن القول عندي هو الأول (¬5). قال: ويضمر (¬6) هاهنا (قد) والتقدير (¬7): (وقد كنتم أمواتا) ولولا إضمار (قد) لم يجز مثله في الكلام. وكذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ ¬

_ = والاسم (الهَوْع) و (الهُواع) و (الهَيْعُوعة)، انظر "القاموس" (الهوع) ص 777. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (في الاكونونه). (¬3) (ياء) ساقطة من جميع النسخ، والتصحيح من "تهذيب اللغة" 4/ 3084. (¬4) فصارت (كَينُونَة) انظر "اللسان" (كون) 7/ 3959. (¬5) انتهى كلام الفراء كما في "التهذيب" بنصه، 4/ 3084 (كان). وانظر "اللسان" (كون) 7/ 3959، وفيه عن ابن بري نحو كلام الخليل، وما بعد هذا من كلام الفراء لا ارتباط له بما سبق حيث الكلام السابق ورد بتهذيب اللغة ولعله أخذه عن كتاب المصادر للفراء وما بعده من كتاب "معاني القرآن" كما سيأتي. (¬6) في (ب): (ويضم). (¬7) في "معاني القرآن" (وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} المعنى والله أعلم وقد كنتم، ولولا إضمار (قد) ... إلخ) 1/ 24.

دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} (¬1) [يوسف: 27] المعنى: (فقد كذبت). وقولك للرجل: أصبحت كثر مالك، لا يجوز إلا وأنت تريد: قد كثر مالك، لأنهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأول، والحال لا يكون في الفعل إلا بإضمار (قد) أو بإظهارها (¬2). وحكى الكسائي: أصبحت [(¬3) نظرت إلى (ذات التنانير) يريد: قد نظرت، وذات التنانير) موضع (¬4). وتقدير الآية: كيف تكفرون وحالكم أنكم كنتم أمواتا. ومثل هذا قال الزجاج: فإنه قال: ومعنى (كنتم): وقد كنتم وهذه الواو، (واو الحال) (¬5). قال أبو الفتح: إنما احتيج إلى إضمار (قد) لأن (قد) تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: (قد قامت الصلاة) قبل حال قيامها، وعلى هذا قول الشاعر: ¬

_ (¬1) الواو في قوله {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} ساقطة من (ب) وكذا وردت الآية في "معاني القرآن" 1/ 24. (¬2) انتهى ما نقله عن الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 24، وما ذكره الفراء يقرر القاعدة التي عند الجمهور وهي أن الجملة الفعلية، إذا كان فعلها ماض ووقعت حالا لابد من (قد) ظاهرة أو مقدرة، وبهذا قال "الطبري" في "تفسيره" 1/ 190، والزجاج في "المعاني" 1/ 74، الثعلبي 1/ 59 ب، أبو حيان في "البحر" 1/ 130 وغيرهم. (¬3) من هنا يبدأ سقط لوحة كاملة في نسخة (ب). (¬4) (التنانير) جمع (تنور) وهو واد ذو شجر يقع بين الكوفة وبلاد غطفان، انظر "معجم ما استعجم" 1/ 320، "معجم البلدان" 2/ 47. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 74.

أُمَّ صَبِيٍّ قَدْ حَبَا (¬1) أَوْ دَارجِ (¬2) فكأنه قال: حابٍ (¬3) أو دارج (¬4). ومثل هذه الآية قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] على معنى: قد حصرت (¬5). فأما أحكام واو الحال فإنها مذكورة عند قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} [آل عمران: 154]. وقوله تعالى: {أَمْوَاتًا} قال ابن عباس في رواية الضحاك: أراد (¬6): وكنتم تراباً ردّهم إلى أبيهم آدم (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج): (جا). (¬2) الرجز لجندب بن عمرو يعرض بامرأة الشماخ في قصة أوردها البغدادي في "الخزانة" 4/ 238، وهي في "ديوان الشماخ" ص 353، و (أم صبي): هي امرأة الشماخ، ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء 1/ 214، "سر صناعة الإعراب" 2/ 641، "الخزانة" 4/ 238، "ديوان الشماخ" ص 363، "اللسان" (درج) 3/ 1353، "أوضح المسالك" ص193. (¬3) في (أ) و (ج): (حباب) وما في (ب) موافق لما في "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح. (¬4) قال في "اللسان": وجاز له ذلك؛ لأن (قد) تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه أو تكاد. "اللسان" (درج) 3/ 1351. (¬5) انتهى ما نقله المؤلف -بتصرف- من كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح ابن جني 2/ 641. (¬6) في (أ): (أرادوا)، وما في (ب، ج) هو الصحيح. (¬7) الأثر عن ابن عباس أخرجه "الطبري" من طريق الضحاك عن ابن عباس، 1/ 187، وكذا ابن أبي حاتم 1/ 73، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، (الدر) 1/ 89، وذكره ابن كثير عن الضحاك عن ابن عباس ثم قال: وهكذا روى السدي بسنده عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، وعن أبي العالية، والحسن، =

29

وقال في رواية عطاء والكلبي: وكنتم نطفا، وكل ما فارق الجسد من نطفة أو شعر فهو ميت (¬1) {فَأَحْيَاكُمْ} في الأرحام بأن خلقكم بشرا، وجعل فيكم الحياة {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في الدنيا {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تردون فيفعل بكم ما يشاء مما سبق علمه وحكمه (¬2). 29 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية قال المفسرون لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم خلق السموات والأرض، ليدل بذلك على أن إعادة الحياة فيهم وقد خلقهم أولاً ليس بأكثر من خلقه السموات والأرض وما فيهما (¬3). ¬

_ = ومجاهد، وقتادة، وأبي صالح والضحاك وعطاء. ابن كثير 1/ 71 - 72، انظر "الوسيط" 1/ 70. (¬1) وبهذا النص ذكره الفراء في "معاني القرآن" ولم ينسبه لأحد، 1/ 25، والذي ورد عن ابن عباس من طريق عطاء: كنتم أمواتا فأحياكم في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم، أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 73، وأخرج نحوه ابن جرير 1/ 189، وذكره السيوطي في "الدر" ونسبه إلى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. "الدر" 1/ 89، وذكره ابن كثير 1/ 71، وانظر: "تحقيق المروي عن ابن عباس" في سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران 1/ 189 (رسالة ماجستير إعداد محمد العبد القادر). قال "الطبري" -بعد أن ذكر نحو هذا التفسير-: (وهذا قول ووجه من التأويل، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضى للقرآن تأويلهم، ثم قال: وأولى ما ذكرنا من الأقوال: القول الذي ذكرنا عن ابن عباس وابن مسعود: من أن معنى قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} أموات الذكر خمولًا في أصلاب أبائكم نطفا، لا تعرفون ولا تذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ...) 1/ 189. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 59 ب. (¬3) ذكره أبو الليث عن الكلبي 1/ 309، والآية فيها دلائل نعمه عليهم مما يوجب عليهم شكره، ودلائل توحيده، انظر: "الطبري" 1/ 190، وابن كثير 1/ 72.

وقوله تعالى: {لَكُمْ} أي: لأجلكم، فما في الأرض مخلوق لهم بعضها للانتفاع، وبعضها للاعتبار (¬1)، فإن السباع والعقارب والحيات، وكل ما يؤذي ويضر فيها منفعة للمكلفين وجهة ما فيها من العبرة والإرهاب؛ لأنه إذا رئي (¬2) طرف من المتوعد به كان أبلغ في الزجر عن المعصية وأدعى إلى التمسك بالطاعة، كما أنه إذا قدم طرف من الموعود به كانت النفس إليه (¬3) أشوق، وعليه (¬4) أحرص، والأصل في ذلك أن الخبر لا يقوم مقام المشاهدة فيما يصل إلى القلب ويبلغ إلى النفس (¬5). وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}. أخبرني أبو سعيد بن أبي عمرو النيسابوري (¬6) رحمه الله ثنا محمد بن يعقوب المعقلي (¬7) أبنا (¬8) محمد ابن (¬9) الجهم عن الفراء قال: (الاستواء) في كلام العرب على جهتين، ¬

_ (¬1) في (أ): (الاعتبار)، وما في (ب)، (ج) أصح. (¬2) في (أ)، (ج): (أرى)، وأثبت ما في (ب) لأنه أنسب للسياق. (¬3) في (ج): (عليه). (¬4) في (ج): (إليه). (¬5) وفي خلق هذِه الأشياء التي ذكر حكم كثيرة، منها ما علم للبشر، ومنها ما لم يعلم، وما ذكره بعض هذِه الحكم. انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 223، "الكشاف" 1/ 170، "زاد المسير" 1/ 58، "القرطبي" 1/ 216. (¬6) هو أبو سعيد، محمد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي، بن أبي عمرو النيسابوري، سمع من الأصم وأكثر عنه، كان ثقةً مأمونًا، مات في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 17/ 350، "شذرات الذهب" 3/ 220. (¬7) هو الإمام المحدث محمد بن يعقوب المعقلي المعروف بالأصم، تقدمت ترجمته في المقدمة. (¬8) في (ج): (ثنا). (¬9) هو محمد بن الجهم السمري، أبو عبد الله، الكاتب، تلميذ الفراء وراوية كتبه، =

إحداهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، (¬1) ويستوي من اعوجاج، وهذان وجهان، ووجه ثالث أن يقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى عليّ وإليّ [يشاتمني] (¬2) على معنى أقبل عليّ وإليّ، فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (¬3). وأقرأني العروضي، عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري، قال: سئل أحمد بن يحيى عن (الاستواء) في صفة الله، فقال: الاستواء الإقبال على الشيء (¬4). وأقرأني سعيد بن محمد الحيري (¬5) رحمه الله عن أبي الحسن بن مقسم وأبي علي الفارسي عن الزجاج قال: قال قوم في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: عمد وقصد إلى السماء، كما تقول: فرغ الأمير من بلد كذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه. قال: وقول ابن عباس: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي صعد، معناه صعد أمره إلى السماء (¬6)، انتهى ¬

_ = كان من أئمة العربية العارفين بها، قال الدارقطني: ثقة، مات سنة سبع وسبعين ومائتين. انظر تاريخ بغداد 2/ 161، "معجم الأدباء" 18/ 109، "سير أعلام النبلاء" 31/ 163. (¬1) في "معاني القرآن" للفراء (أو) وهو أصح 1/ 25، وانظر "تهذيب اللغة" 2/ 1794. (¬2) في (أ)، (ج): (يكلمين) غير واضحة المعنى، والتصحيح من "معاني القرآن"، ومن "تهذيب اللغة" 2/ 1794. (¬3) انتهى ما نقله عن الفراء، وفي "معاني القرآن" قال: (وقال ابن عباس {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} صعد .. وكل كلام في كلام العرب جائزٌ، انظر: "معاني القرآن" 1/ 25، "تهذيب اللغة" (لفيف السين) 2/ 1794. (¬4) "تهذيب اللغة" (لفيف السين) 2/ 1794. (¬5) أحد شيوخ الواحدي مضت ترجمته. (¬6) هذا تأويل وصرف لكلام ابن عباس.

كلامه (¬1)] (¬2). وحكى أهل اللغة أن العرب تقول: كان الأمير يدبر أهل الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز، أي: تحول فعله وتدبيره إليهم (¬3). والأصل في (الاستواء) الاستقامة (¬4)، وإنما قيل للقصد إلى الشيء ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 75، 75، "تهذيب اللغة" (لفيف السين) 2/ 1794، ونص عبارة الواحدي أقرب إلى عبارة "التهذيب". (¬2) نهاية السقط من نسخة (ب). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 218، "تفسير الطبري" 1/ 191، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 74. وكل هذِه "المعاني" التي ذكرها من باب التأويل، والمنهج السوي أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، فهو سبحانه مستو على عرشه عال على خلقه، ولا يلزم لهذا أي لازم باطل مما يلزم لاستواء المخلوقين. قال الأشعري في "الإبانة عن أصول الديانة": (وإن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وقد قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] ..) ثم قال: (.. وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحروية: إن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، إنه استولى وملك وقهر، وإن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم ..) "الإبانة عن أصول الديانة" ص 81، انظر "شرح العقيدة الطحاوية" ص 343، "الرسالة التدمرية" ص 81، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 5/ 95، 144،136. (¬4) الاستواء في (كلام العرب) يأتي على وجوه كما مر قريبا في كلام الفراء ومن تلك الوجوه ما ذكره عن ابن عباس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: صعد، ثم قال: (وكل في (كلام العرب) جائز) انظر "معاني القرآن" للفراء1/ 25، "تفسير الطبري" 1/ 191، "تهذيب اللغة" (لفيف السين) 2/ 1794.

استواء لأن الاستواء يسمى قصدًا، يقال: أمر قاصد وعلى قصد، إذا كان على استواء واستقامة، فلما سمي الاستواء قصدًا، سمي القصد استواء، وإن لم يكن المراد بالقصد الاستقامة، ظنًّا منهم أن كليهما سواء لما اجتمعا في التسمية في موضع، هذا تعليل ذكره بعض أصحاب المعاني (¬1) لتسميتهم القصد: استواءً وإن كانت اللغة لا تعلل. وأما استوى بمعنى: استولى، فقد يكون، وكأنه يقول: (استوت له الأمور فاستولى) (¬2)، ثم وضع (استوى) موضع (استولى) (¬3). وقال الأخفش: استوى (¬4) أي: علا، تقول (¬5): استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (أهل المعاني). (¬2) في (ب): (واستولى). (¬3) قال أبو الحسن الأشعري في (الإبانة): (... فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها، لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء .... لأنه قادر على الأشياء مستول عليها .. لم يجز أن يكون الاستواء على العرش: الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها ...) "الإبانة عن أصول الديانة" ص 49. وذكر ابن تيمية اثني عشر وجها في الرد على من فسر {اسْتَوَى} معنى (استولى) ومن تلك الوجوه: أنه لم يرد عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم، بل تفسير حدث من المبتدعة بعدهم. ثم هو ضعيف لغة. انظر: "مجموع الفتاوى" 5/ 144 - 149. (¬4) في (ب): (يقول: أي علا). (¬5) في (ب): (يقول) وفي "تهذيب اللغة" (وتقول) 2/ 1794. (¬6) انظر كلام الأخفش في "تهذيب اللغة" (لفيف السين) 2/ 1794.

وهذا القول اختيار محمد بن جرير قال: ومعناه (¬1) ارتفع ارتفاع ملك وسطان، لا ارتفاع انتقال وزوال (¬2)، وإنما هو ارتفاع تدبيره وحكمه وسلطانه، وهذا قريب من قول ابن عباس وتوجيه الزجاج لقوله (¬3). وقوله تعالى {فَسَوَّاهُنَّ}. حقيقة (التسوية) الجعل على الاستواء، يقال سويت الشيئين فاستويا، والفرق بينه وبين التقويم أن التسوية قد تكون بالحكم أن الشيئين يستويان، والتقويم لا يكون بالحكم، وإنما يكون ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) رجح ابن جرير: أن الاستواء بمعنى العلو، فقال -بعد أن ذكر الأقوال في الاستواء-: (وأولى المعاني) بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات. والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه!، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: (استوى) أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له فكذلك، فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا، لقول أهل الحق فيه مخالفا ....) "الطبري" 1/ 192. ونرى في سياق كلام الطبري أنه رجح في معنى (الاستواء) ما قال به السلف ثم أخذ يحاور المؤوّلين، ومن باب إلزام الحجة لهم قال: (قل: علا عليها علو ملك وسلطان ...) ولا شك أن هذِه العبارة ليس من نهج السلف في الإثبات والله أعلم. (¬3) قول ابن عباس: إنه بمعنى صعد، كما ذكر الفراء 1/ 25، وإنما أوله الزجاج بمعنى: يصعد أمره. انظر. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 75.

بالفعل (¬1). وجمع الكناية (¬2) في {فَسَوَّاهُنَّ} لأنه أراد بلفظ (السماء) جميع السموات كقولهم: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، يراد الجمع (¬3)، وكثيراً ما يذكر الواحد والمراد به الجمع، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77] وقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16]. وكما أنشده (¬4) قطرب: أَلاَ إِنَّ جِيرَانِي العَشِيَّة رَائِحٌ ... دَعَتْهُمْ دَوَاعٍ مِنْ هَوى وَمنَادِحُ (¬5) ويجوز أن يراد بالسماء جمع سماة أو سماوة، على ما ذكرنا قبل (¬6). وجائز أن تعود الكناية على أجزاء السماء ونواحيها (¬7). وقوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}. (السبع) عدد المؤنث، والسبعة ¬

_ (¬1) قال ابن جرير: {فَسَوَّاهُنَّ} يعني هيأهن وخلقهن ودبرهن وقومهن، والتسوية في (كلام العرب): التقويم والإصلاح والتوطئة ففسر (التسوية) بالاستقامة، انظر "الطبري" 1/ 192، وانظر: "الكشاف" 1/ 271. (¬2) الكناية: الضمير. (¬3) ذكره الزجاج عن الأخفش، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 75، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 217، "معانىِ القرآن" للفراء 1/ 25، وذكر هذا الرأي "الطبري"، وأختار غيره كما يأتي 1/ 193. (¬4) في (ب): (أنشد). (¬5) البيت لحيان بن جُلْبَة المحاربي، جاهلي ذكره أبو زيد في "نوادره" مع بيت بعده ص 444، وكذا البكري في "معجم ما استعجم" 1/ 137، والسيوطي في "همع الهوامع" 6/ 119. (¬6) ذكره عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} البقرة: 19، ص 547، وقد ذكر هذا الرأي "الطبري" واختاره 1/ 192، والزجاج 1/ 75. (¬7) فجمع باعتبار تعدد أجزائها ونواحيها، انظر "الطبري" 1/ 193.

للمذكر، وجاء التذكير والتأنيث في هذا على خلاف الأصل، لأنهم لما (¬1) وضعوا العدد في أول أمره قبل أن يعلق على معنى تحته وأكثر من العدد، قالوا: أربعة خمسة، ثم أرادوا بعد ذلك (¬2) تعليقه على المعدود، وكان المذكر هو الأول جعلوا الأول للأول، والثاني للثاني (¬3). ولهذا علل كثيرة يذكر (¬4) في غير هذا الكتاب (¬5). وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. أي من كفرهم ونفاقهم وكتمهم وصفك يا محمد. وقيل: إنه لما ذكر ما يدل على القدرة والاستيلاء (¬6) وصل (¬7) ذلك بوصفه بالعلم، إذ به يصح الفعل المحكم المتقن. وقيل: هو (¬8) بكل شي عليم من الخلق والتسوية (¬9). والآية لا تدل على أنه خلق السماء بعد الأرض، إنما تدل على أنه ¬

_ (¬1) (لما) ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (تعليقه بعد ذلك). (¬3) الأول في العدد (ثلاثة) وفي المعدود المذكر، والثاني في العدد (ثلاثة) وفي المعدود المؤنث. (¬4) (يذكر) ساقط من (ب)، والأولى للسياق تذكر. (¬5) اختلف النحويون في علة ذلك على أقوال كثيرة، انظر بعض هذِه العلل في "جمل الزجاجي" ص 125، "وشرح جمل الزجاجي" لابن عصفور 2/ 30. (¬6) هذا من التأويل، بل (الاستواء العلو). (¬7) في (ب): (وصف). (¬8) في (ب): (وهو). (¬9) والأولى عموم ذلك، فالذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض، وسوى السموات السبع فأحكمهن واستوى على عرشه، لا يخفى عليه منكم شيء، انظر. "الطبري" 1/ 195، "تفسير أبي الليث" 1/ 107، "الكشاف" 1/ 271، "القرطبي" 1/ 223.

جعلها سبعًا بعد ما خلق الأرض، وقد كانت السماء قبل ذلك مخلوقة، كما قال أهل التفسير: إنها كانت قبل دخانًا (¬1). وكان أبو عمرو والكسائي يخففان (وهو)، (فهو) ويسكنان (الهاء) مع الواو والفاء واللام (¬2). وذلك أنهما يجعلان هذه الحروف كأنها من نفس الكلمة، لما (¬3) لم يكن لها إذا (¬4) أفردت معنى، فأشبهت في حال دخولها الكلمة ما كان من نفسها (¬5). وإذ كان كذلك خففت (الهاء) كما خففت (العينات) (¬6) في (سَبُع) ¬

_ (¬1) في هذِه المسألة نزاع بين المفسرين، وقول الجمهور على أن الله خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء، لكن دحو الأرض كان بعد خلق السماء. وجمع "القرطبي" بين الأقوال بأن الدخان الذي خلقت منه السماء خلق أولا، ثم الأرض ثم سويت السماء من ذلك الدخان ثم دحيت الأرض بعد ذلك، وعلى هذا يدل كلام الواحدي، انظر. "تفسير الطبري" 1/ 193 - 195، "تفسير أبي الليث" 1/ 107، "زاد المسير" 1/ 58، "الكشاف" 1/ 271، "القرطبي" 1/ 219 - 221، و"ابن كثير" 1/ 72 - 73. (¬2) الهاء إذا سبقت بالواو أو الفاء أو اللام أو ثم (وهو، فهو، ولهو، وثم، هو) فابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة يقرؤون بتحريك الهاء في ذلك كله، والكسائي بتخفيف ذلك وإسكان الهاء، وأبو عمرو يسكنها في القرآن ماعدا قوله تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [القصص: 61]، فيضم الهاء، وعن نافع روايتان التثقيل والتخفيف، انظر "السبعة" لابن مجاهد ص 151، "الحجة" لأبي علي 1/ 406، "الكشف" 1/ 234، "التيسير" ص 72، "النشر" 2/ 209. (¬3) في (ب): (مما لم). (¬4) في (ب): (إذ). (¬5) في (ب): (تقسيمها). (¬6) في (ب): (العينان).

و (عَضُد) (¬1) ونحوهما، ولا يخففان (¬2) {ثُمَّ هُوَ} [القصص: 61] لأنه لا يستقيم أن يجعل (ثم) بمنزلة (الفاء) وما كان على حرف. والحرف الواحد قل يجعل كأنه من نفس الكلمة (¬3)، وذلك قولهم: (لعمري وَرَعَمْلِي) فقلبوه مع اللام، واللام زائدة (¬4). ومثل تخفيفهم (¬5) (لَهْو) قولهم: (أَرَاك مُنْتَفْخاً) (¬6) لما كان (تَفِخًا) (¬7)، مثل [كَتِف] (¬8) خفف، وكذلك قراءة من قرأ (¬9) {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52]، لما كان (تَقِه) (¬10)، مثل (كتف) خفف. ومثل ذلك ما أنشده الخليل: أَلاَ رُبَّ مَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدهُ أَبَوَانِ (¬11) ¬

_ (¬1) فيقال: (سَبْع) و (عَضْد) بتسكين العين. انظر: "الحجة" 1/ 407، "الكشف" لمكي 1/ 234. (¬2) قوله: (ولا يخففان) يعود على الكسائي وأبي عمرو، والصحيح (ولا يخفف أبو عمرو، أما الكسائي فإنه يخفف (ثم هو) انظر: "الحجة" 1/ 407 - 409، فلعل العبارة تصحيف، أو وهم من المؤلف. (¬3) إذا اتصل بالكلمة بخلاف (ثم)، انظر: "الحجة" 1/ 408. (¬4) فجعلوا اللام كأنها من بنية الكلمة، وأبدلوها مكان (الراء). (¬5) في (ب): (تحقيقهم). (¬6) في (ب): (مستحقا). (¬7) الأصل في (تفخا) كسر الفاء، وخففت في (مُنْتَفْخاً) بالإسكان. (¬8) في جميع النسخ (كيف) والتصحيح من "الحجة" 1/ 408، و (كتف) يخفف في لغة بإسكان الوسط فيقال. (كَتْف). (¬9) وهي قراءة حفص عن عاصم (ويَتَّقْه)، انظر "السبعة" ص 408، "الكشف" 2/ 140. (¬10) أي أنه شبه (تقه) (كتف) حيث خفف الثاني بالإسكان. (¬11) البيت لعمرو الجنبي، ونسبه سيبويه لرجل من أزد السراة، والمولود الذي ليس له =

لما كان (يلد)، مثل (كتف) (¬1) خفف، ثم حرك الدال لالتقاء الساكنين، لأنه (¬2) كان يجب أن يسكن علامة للجزم، فهذه الأشياء متصلة، وقوله: (فهو وهو ولهو) في حكمها، وليس كذلك (ثم هو) (¬3) ألا ترى أن (ثم) منفصل من (هو) (¬4) لإمكان الوقف عليها وإفرادها مما بعدها، وليست الكلم التي على حرف واحد كذلك. ولمن (¬5) خفف (ثم هو) أن يقول (¬6): إن (ثم) مثل الفاء والواو واللام في أنهن لسن (¬7) من الكلمة، كما أن (ثم) ليس منها، وقد جعلوا المنفصل بمنزلة المتصل في أشياء، ألا ترى أنهم أدغموا (¬8) نحو (يدْ دّاود) و (وجَعَلْ (¬9) لَّك) كما أدغموا (رَدَّ) (¬10) و (عَدَّ)، ¬

_ = أب هو عيسى عليه السلام، والذي لم يلده أبوان هو آدم. والشاهد في البيت (يَلْدَه) أراد لم يلده بسكون الدال، فلما التقى ساكنان اللام والدال حرك الدال بحركة أقرب متحرك منها وهو الياء ففتحها. ورد البيت في "الكتاب" 2/ 266، "الكامل" 3/ 177، "الحجة" 1/ 66،409، "التكملة" ص 7، "المخصص" 14/ 221، 17/ 63، "الخصائص" 2/ 333، "شرح المفصل" 4/ 48، 9/ 123، 126، "مغنى اللبيب" 1/ 135، "الهمع" 1/ 186، "الخزانة" 2/ 381. (¬1) في (أ)، (ج). (كيف) وأثبت ما في (ب) لأنه الصواب وموافق لما في "الحجة". (¬2) في (ب): (لا كان). (¬3) في (ب): (هوى). (¬4) في (أ)، (ج): (من ها ولا مكان) وأثبت ما في (ب) لأنه هو الصحيح وموافق لما في "الحجة" 1/ 409. (¬5) في (ج): (ولم). ومن خفف هو الكسائي: انظر: "الحجة" 1/ 409. (¬6) في (ج): (تقول). (¬7) في (ب): (ليس). (¬8) في (ب): (أقدموا). (¬9) فأدغموا الدال من (يد) في دال (داود) وهما في كلمتين منفصلتين وكذا (جعل لك). (¬10) وهما في كلمة واحدة.

ومثل هذا قول امرئ القيس: فَالْيَومَ أَشْرَبْ غَيْرَ (¬1) مُسْتَحْقِبِ (¬2) فـ (رَبْ غَيْ) (¬3) مثل: (سبع)، وقد أسكن. وأنشد أبو زيد على هذ: قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا دَقِيقًا (¬4) ¬

_ (¬1) (غير) ساقطة من (ج) (¬2) البيت لامرئ القيس وتمامه: إِثْمًا مِنَ الله وَلَاَ واغِل قاله بعد أن أدرك ثأره في أبيه، وكان قد نذر لا يشرب الخمر، فلما أدرك ثأره رأى أنه تحلل من نذره، والمستحقب: المتكسب، وأصل الاستحقاب حمل الشيء في الحقيبة، والواغل: الداخل على القوم يشربون ولم يدع. والبيت من "شواهد سيبويه" 4/ 204، "الحجة" 1/ 117/، 410، 2/ 80، "نوادر أبي زيد" ص187، "الخصائص" 1/ 74، 2/ 317، 340، 3/ 96، "شرح المفصل" 1/ 48، "الهمع" 1/ 187، "الخزانة" 1/ 152، 3/ 463، 4/ 106، 484، 8/ 339، وفي "ديوان امرئ القيس" ص 122، برواية (أسقى) بدل أشرب، وعليه فلا شاهد فيه، وبهذا أخذ المبرد، ولكنه في "الديوان" ص 134، برواية (أَشربْ) والشاهد فيه عند النحويين، تسكين الحرف في أشرب، وحذف الضمة. (¬3) في (ب): (على)، وفي "الحجة" فـ (رب غ) أي أنه جعل آخر كلمة (أشرب) مع أول كلية (غير) مثل كلمة واحد كـ (سبع) فأسكن. (¬4) الرجز لرجل من كندة يقال له: (العُذَاِفِر الكندي) وبعده: وهَات بُرَّ البَخْسِ أَوْ دَقِيقَا وفي جميع المصادر (سويقا) بدل (دقيقًا)، أورده أبو زيد في "النوادر" ص 170، وفي "الحجة" لأبي على1/ 67، 410، "التكملة" ص 8، "الخصائص" 2/ 340، 3/ 96، "المنصف" 2/ 237، "اللسان" (بخس) 6/ 25. وبهذا البيت ينتهي ما نقله الواحدي في هذا الموضع من (الحجة) أبي علي الفارس بتصرف 1/ 407، 410، وانظر: "الحجة في القراءات" لابن خالويه ص 73، "الكشف" لمكي 1/ 234، 235.

30

30 - قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ}. قال النحاة: (إذ) و (إذا) [حرفا توقيت، (إذ) للماضي و (إذا)] (¬1) لما يستقبل (¬2). قال المبرد: إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه المضي نحو قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ} [الأنفال:30]، {وَإِذْ تَقُولُ} [الأحزاب:37] يريد: وإذ مكر، وإذ قلت. وإذا جاء (إذا) (¬3) مع الماضي كان معناه الاستقبال (¬4) كقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} [النازعات:34] و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] أي يجيء (¬5). فإن قيل: إذا كانت (إذ) لما مضى (¬6)، فكيف جاز (¬7) {وَإِذ قَالَ اللهُ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) قال الثعلبي (إذ وإذا حرفا توقيت، إلا أن (إذ) للماضي و (إذا) للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر) "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ، وذكر نحوه ابن الأنباري في (الأضداد) ص 118، وكذا الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 137، وقال سيبويه: (إذا لما يستقبل من الدهر ... وهي ظرف ... وتكون إذ مثلها، "الكتاب" 4/ 232، وانظر: "مغني اللبيب" 1/ 80، 87. (¬3) في (ب): (إذ). (¬4) في (ب) كان معناه الاستقبال في (المعنى وفي اللفظ)، وهذِه الزيادة غير موجودة في (أ)، (ج). ولا في "تفسير الثعلبي" الذي نقل الواحدي عنه. (¬5) في (أ)، (ج). (تجئ) وفي (ب) بدون إعجام، والتصحيح من "تفسير الثعلبي"، انظر كلام المبرد في "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 223، ولم أجده بهذا النص فيما اطلعت عليه من كتب المبرد، انظر: "المقتضب" 2/ 52 - 57، 76، 77، 176، 178، "تهذيب اللغة" 1/ 137، "الأضداد" لابن الأنباري ص 118. (¬6) سبق قريبًا أن (إذ)، قد تأتي للمستقبل إذا شهر المعنى، ذكر هذا ابن الأنباري واستشهد بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 110] انظر "الأضداد" ص 118. (¬7) في (ب): (جاد).

يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116] , {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47]؟. والجواب أن هذا خرج على تقدير الاستقبال في المعنى، وفي اللفظ على صورة المضي (¬1)، لأن ما تحقق كونه فهو بمنزلة ما قد كان، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف:44]، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50] وأشباهه (¬2). وقال أبو عبيدة: (إذ) هاهنا (¬3) زائدة، معناه: وقال ربك للملائكة (¬4). وأنكر الزجاج وغيره هذا القول (¬5)، وقالوا (¬6): إن الحرف إذا أفاد ¬

_ (¬1) من قوله: (على صورة المضي ..). وما بعده إلى نهاية تفسير لفظ (الملائكة) ورد مكررا في جميع النسخ الثلاث التي اعتمدت عليها، وقد علق الناسخ في نسخة (أ) على أول الكلام المكرر كلمة (مكرر) بينما الناسخ في (ج) أدخل كلمة (مكرر) وسط الكلام، وكأنه ظن أنها جزء من السياق. وبعد التمحيص للكلام المكرر وجدت في أوله بعض الفروقات اليسيرة أما في تفسير لفظ: (الملائكة) ففيه اختلاف كبير، وهو ملخص مما قبله بإتقان، ويظهر لي أن المؤلف أضرب عن كلامه السابق وأعاده مرة أخرى، ونقله النساخ على وضعه، وقد أثبت الكلام على حسب ما ورد في المخطوطات بدون تصرف في الأصل وعلقت على الفروق في مواضعها. (¬2) انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 119، "تهذيب اللغة" 1/ 137. (¬3) في المكرر (في هذا الموضع). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 36، "تفسير الثعلبي" 1/ 59 ب، و"الطبري" في "تفسيره" 1/ 195، وبنحو قول أبي عبيدة قال ابن قتيبة، انظر: "غريب القرآن" ص 45. (¬5) قال الزجاج في رده على أبي عبيدة (هذا إقدام من أبي عبيدة، لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق و (إذ) معناها الوقت، وهي اسم، فكيف يكون لغوا ...)، "معاني القرآن" 1/ 75، وممن أنكر على أبي عبيدة النحاس في "إعراب القرآن"، 1/ 156، و"الطبري" في "تفسيره" 1/ 195. (¬6) في المكرر (وهو أن الحرف إذا كان مفيدًا معنى ...)، وفي (ب) (مقيد).

معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه، قالوا: وفي الآية محذوف معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك (¬1). وقال أبو إسحاق (¬2): إن الله جل ذكره ذكر خلق الناس في هذه الآية فكأنه قال: ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة (¬3). وأكثر المفسرين (¬4) على أن كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فالذكر فيه مضمر (¬5). وأما (¬6) (الملائكة) فقال سيبويه (¬7): واحدها ملك، وأصله مَلْأَك، مهموز، حذف همزه لكثرة الاستعمال، وأنشد: فَلَسْتَ لإنْسِيٍّ ولكن لمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السِّماء يَصُوبُ (¬8) وتابعه على هذا القول أكثر أهل العلم (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 59 ب، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 196. (¬2) في المكرر (الزجاج). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 76. (¬4) في (ب): (المفسرون) وفي المكرر (وعند غيره من المفسرين ...). (¬5) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 107، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 240، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 224. (¬6) (الواو) ساقطة من (ب). (¬7) انظر كلام سيبويه في (الكتاب) 4/ 379. (¬8) البيت لعلقمة الفحل، وقيل: لرجل من عبد القيس جاهلي، وقيل لأبي وجزة السعدي، وقد سبق تخريجه عند تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] ص 572. (¬9) أصلها (ملْأك)، يحذفون الهمزة منه، وينقلون حركتها إلى اللام وكانت مسكنة في حال همز الاسم. فإذا جمع الاسم ردوا الهمزة على الأصل فقالوا: (ملائكة)، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 197، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 60 أ، "مجاز القرآن" 1/ 35، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 80، "تهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3449، =

إلا أن المحدثين من البصريين ذكروا أن هذا من باب القلب (¬1) فقالوا: نقل همزة (الأَلُوك)، وهو (فاء) إلى عينه، وقدموا العين، فقالوا: (لؤُوك) (¬2) وبنوا (الْمَلْأَك) منه، وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا لـ (مَلْأَك) (¬3) أصلاً يردّونه إليه. وكان ادعاء القلب في الكلمة أولى عندهم من إهمال أصل (الْمَلْأَك) إذ علموا أن (المَفْعَل) (¬4) وما يجري مجراه مما زيد في أوله ميم لابد له (¬5) من أصل ثلاثي يرد إليه، ولم يمكن رد (الْمَلأَك) إلى (لَأَكَ) لأنه مهمل لم ينطق به (¬6) فردوه إلى (أَلَك) لما (¬7) وجدوا في الكلام: (الْمألَك) (¬8)، و (الْمَأْلُك) و (الْمَاْلُكة) في معنى ¬

_ = و (ألك) 1/ 184، "الكشاف" 1/ 371. وذكر أبو البركات ابن الأنباري الأقوال في أصل (ملك) وهي: 1 - الملائكة جمع (ملك) على أصله في الهمز بعد القلب وهو (مَلْأَك) وأصل (مَلْأَك): (مَأْلكَ) لأنه من أَلكَ إذا أرسل، ووزنه على الأصل (مَفْعَل) فنقلت العين إلى موضع الفاء فصار (مَلْأكًا). 2 - أنه مشتق من (لَأَك) إذأ أرسل، فاللام (فاء) والهمز (عين) ولا قلب فيه. 3 - أنه مشتق من (مَلَكْت)، الميم أصلية ووزنه (فَعَلٌ) انظر "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 70. (¬1) أي قلب المكان. (¬2) في (ب): (لؤك). (¬3) في (ب): (الملاك). (¬4) في (ج): (الفعل). (¬5) (له) ساقط من (ب). (¬6) قال مكي: قال أبو عبيد: هو مشتق -أي: ملك- من (لأك) إذا أرسل، فالهمزة عين ولا قلب فيه، انظر (مشكل إعراب القرآن) 1/ 36، وقد أورد صاحب "اللسان" مادة (لأك) وتكلم عنها، ولم يذكر أنها مهملة، انظر "اللسان" (لأك) 7/ 3975. (¬7) (لما) ساقطة من (أ)، (ج)، والسياق يقتضيها. (¬8) في (ب): (المألكه).

الرسالة (¬1). ومعنى (أَلكَ) في اللغة: علك، يقال الخيل تَأْلُك اللجم، بمعنى: تعلُك، والرسالة سميت (أَلُوكا) لأن الإنسان يَأْلُكُها، ويدير الكلام في فيه، كما يَأْلُك الفرس اللجام (¬2). فعلى هذا (ملك) وزنه (مَفَل) (¬3)، وكان في الأصل (¬4) (مَعْفَل)، لأنه مَلْأَك، هو مقلوب من (¬5) (مأْلَك)، وأوردوا أن يكون مفعلًا من (الألوك)، إلا أنهم قلبوا كما ذكرنا (¬6). هذا قول عامة أهل اللغة والنحو في هذا الحرف (¬7). وذهب بعض (¬8) المتأخرين من أصحاب أبي علي الفارسي وهو أبو القاسم الزجاجي إلى خلاف ما ذهب إليه هؤلاء فقال: قول من يقول: إن تركيب ملك من (م، ل، ك) أولى من قول من يقول: إنه (مَفْعَل) (¬9) من ¬

_ (¬1) انظر "غريب القرآن"، لابن قتيبة 1/ 37، "الزينة" لأبي حاتم الرازي 2/ 160، 161، "الزاهر" 2/ 267، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 36، "مفردات الراغب" ص 21، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 70، "اللسان" (ألك) 1/ 110. (¬2) ذكره الأزهري عن الليث، انظر: "تهذيب اللغة" (ألك) 1/ 184، وانظر "اللسان" (ألك) 1/ 110. (¬3) بل الصواب وزنه (مَعَل) لأن المحذوف فاء الكلمة وهي الهمزة، انظر "البيان" 1/ 70. (¬4) (في الأصل) ساقط من (ب). (¬5) في (ج): (عن). (¬6) انظر: "المحكم" (ل أك) 7/ 69، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 36، "البيان في غريب إعراب القرآن"، 1/ 70. (¬7) في (ب): (الحروف). (¬8) في (ب): (ذهب المتأخرون). (¬9) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 36، "البيان" 1/ 70، وقد رد ابن سيده القول =

(الْأَلُوك) مقلوبًا، لأن (المَفْعَل) لا يكون حامل الرسالة، وهم يقولون: إنما قيل: (ملك) لحمله الرسالة، والذي يصلح من الأبنية له (فَاعِل) أو (فَعُول) (¬1) أو (فَعِيل) أو (مُفْعَل) فأما (مَفْعَل) فإنه يصلح أن يكون موضعًا أو مصدرًا. وما يتركب من (م، ل، ك) هو في كلامهم الاستيلاء على الشيء وإجادته وإنعامه كملك الشيء وملك العجين، وإملاكه هو إنعام عجنه، ولا يصل إلى ذلك إلا بالاستيلاء عليه، وإملاك الرجل أن يجعله مالكًا لعقد النكاح، وكل شيء مكنت غيرك منه وجعلته له فقد أملكته (¬2) إياه وملكته، وجميع ما يتركب من هذه الحروف راجع إلى ما ذكرنا، وهذا قد مر ذكره في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. فـ (الْمَلكَ) (¬3) اسم الجنس يقع على الواحد والجمع (¬4)، ويدل على ¬

_ = بأن الميم أصلية في (ملك)، انظر "المحكم" 7/ 47، 69، وانظر "اللسان" (لَأَك) 7/ 3975. والرد على هذا القول يرد في الكلام المكرر فيقول: (وقال بعض المتأخرين أصله (مَلك) كما هو الآن، وهو بمعنى المملوك ... فخالف بهذا القول جميع أهل اللغة، واحتج على ما ذهب إليه بما يطول ذكره) فلعل الواحدي أضرب عن كلامه الأول واعتمد الأخير. وهذا ولأبي القاسم الزجاجي قول يخالف هذا، قال في كتاب "اشتقاق أسماء الله": (وأما (الملك) واحد الملائكة، فليس من هذا، لأن ذاك أصله الهمز؛ لأن أصله (مَلْأَك) مَفْعَل من الأَلُوك وهي الرسالة ... فكان سبيله أن يقال: مَأْلَك، ثم قلب فقيل: (مَلْأَك) ثم استعمل بطرح الهمزة ....)، "اشتقاق أسماء الله" ص 45 وقول الزجاجي هذا يوافق الجمهور ويخالف ما نقل الواحدي عنه. (¬1) في (ب): (مَفْعُول). (¬2) في (ب): (أمكنته). (¬3) في (ب): (والملك). (¬4) من جعل (مَلَك) هو الأصل فهو مفرد جمعه (فعائلة) وهو جمع شاذ كما قال العكبري في (الإملاء) 1/ 28، وقال أبو البركات ابن الأنباري: (مجيء هذا =

ذلك قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] وهو (فَعَل) في معنى مَفْعول، كالنشر والنقض والخبط. والله تعالى ذكره وإن كان قد ملك كل الخلق، فإنه أجرى هذه اللفظة على الجنس، لأنه (¬1) وصفهم فقال: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 16] وبهذه الصفة يجب أن يكون (¬2) كُلٌّ مملوكاً (¬3)، فلما وجد فيهم (¬4) المعنى الذي يجب أن يكون عليه المملوك من الطاعة سماهم (الملك)، ومثل هذا الاختصاص كثير نحو: (ناقة الله) و (بيت الله). قال (¬5): وذكر ابن دريد في الجمهرة فقال: (ويجمع (الْملَكُ) أمْلاَكًا وَملاَئِك) (¬6)، وهذا قد أزال (¬7) الخلاف لأن (أَفْعَالاً)، لا يجوز أن يكون جمع ما في أوله ميم زائدة. وحكى أبو القاسم الآمدي (¬8) عن علي بن سليمان الأخفش (¬9) أنه ¬

_ = الوزن في الجمع يدل على فساد قول من جعل (ملكاً) على وزن (فَعَل) لأن فَعَلاً لا يجوز أن يجمع فعائلة ...)، "البيان" 1/ 71. (¬1) في (ب): (لأنهم). (¬2) (يكون) ساقطة من (ج). (¬3) في الأصل (مملوك) والتصحيح من المحقق. (¬4) في (ب): (منهم). (¬5) أي الزجاجي. (¬6) "جمهرة اللغة" 2/ 981. (¬7) في (ب): (ارال). (¬8) هو الحسن بن بشر الآمدي البصري المنشأ، إمام في الأدب، قدم بغداد وأخذ عن الحسن بن علي بن سليمان الأخفش، والزجاج، وابن دريد، وفاتهم سنة سبعين وثلاثمائة، انظر ترجمته في: "إنباه الرواة" 1/ 285، "معجم الأدباء" 2/ 469، "بغية الوعاة" 1/ 500. (¬9) هو علي بن سليمان بن الفضل، أبو الحسن، المعروف (د) (الأخفش الصغير) =

قال: جمع الملك: أَمْلَاك (¬1). وحكي عن العرب (مالك الموت) في (ملك الموت) فلولا أنهم عرفوا أن الأصل فيه (م ل ك) ما عبروا عن (ملَك) بمالك. قال رويشد بن حنظلة (¬2): غَدَا مالِكٌ يَبْغِي نِسَائِي كَأَنَّمَا ... نِسَائِي لسَهْمَيْ مَالِكٍ غَرَضَانِ فَيَارَبِّ فَاتْرُكْ لِي جُهَيْمةَ (¬3) أَعْصُراً ... فَمَالِكُ مَوْتٍ بِالْفِرَاقِ دَهَانِي (¬4) ¬

_ = سمع من ثعلب والمبرد، كان ثقة، توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة، انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 11/ 433، "إنباه الرواة" 2/ 276، "معجم الأدباء" 4/ 126. (¬1) انظر كلام الأخفش في "الزينة" 2/ 162. (¬2) خطأ الأكثرون هذا الشاعر، قال ابن سيده: (ورأيت في بعض الأشعار: مالك الموت في ملك الموت ...) ثم ذكر البيت، ثم قال: (وهذا عندي خطأ، وقد يجوز أن يكون من جفاء الأعراب وجهلهم، لأن ملك الموت مخفف عن (مَلْأك) ...) "المحكم" 7/ 47. وقال في موضع آخر: (فإنه ظن ملك الموت من (م ل ك) فصاغ (مالكا) من ذلك، وهو غلط منه، وقد غلط بذلك في غير موضع من شعره ... وذلك أنه رآهم يقولون: (ملك) بغير همز، وهم يريدون: (مَلْأَك) فتوهم أن الميم أصل، وأن مثال ملك (فَعَل): كَفَلَك، وسَمَك، وإنما مثال (ملك): (مَفَل) والعين محذوفة ألزمت التخفيف إلا الشاذ .. ومثل غلط رويشد كثير في شعر الأعراب الجفاة) "المحكم" 7/ 69. وعقد ابن جني في "الخصائص" بابا في أغلاط العرب، وذكر أبيات رويشد، ثم قال: (وحقيقة لفظه غلط وفساد ..)، "الخصائص" 3/ 273، 274، انظر: "اللسان" (لأك) 7/ 3975. وروشيد بن حنظلة لم أجد له ترجمة. (¬3) في (ب): (جهينة) وهي رواية في البيت. (¬4) ورد البيتان في "المحكم" 7/ 47،7/ 69، "الخصائص" 2/ 72، 3/ 273، "اللسان" (لأك) 7/ 3975.

وهذا الشاعر ماتت نساؤه (¬1) وأطال التزوج فلم تلبث (¬2) عنده واحدة، فهذا كما ترى سمى المَلَك: (مَالِكاً)، وأما البيت الذي أُنشد في (الْمَلْأَك) (¬3) فليس فيه حجة قاطعة فإنه شاعر (¬4) واحد، ولم يسمع (الْمَلْأَك) إلا في ذلك البيت الواحد، ولعله همز ما ليس أصله الهمز كما قالوا: (رمح يَزْأَنِيَّ) (¬5) فزادوا الهمز، وقالوا: (حَلَّأْتُ (¬6) السَّويق) وليس أصله الهمز، ومثله كثير. وأما الجمع فالملائك (فعائل) كالجمائل في جمع الجمل (¬7). ويجوز أن يكون الملائك (مفاعلا)، وإن كان الواحد (فَعَلاً)، لأن باب الجمع ليس بمطرد ولا مقيس، ألا ترى أنهم قالوا في جمع القبح (¬8): ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (نساه) وأثبت ما في (ب) لأنه الأولى. (¬2) في (ج): (يلبث). (¬3) في (ب): (الملك) والبيت هو ما احتج به سيبويه وغيره من أهل اللغة والنحو وهو قول علقمة الفحل أو غيره: فَلَسْتَ لِإنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ. وقد سبق آنفاً. (¬4) في (أ)، (ج): (لا شاعر) واخترت ما في (ب) لأنه أصح في السياق. (¬5) (يَزْأَنِيّ) نسبة إلى ذي يزن من ملوك حمير نسبت الرماح له لأنه أول من عملت له، والأصل (يَزَنِيُّ) و (أزَنِي) وبعضهم زاد الهمزة فقال: (يَزْأَنِي) انظر "اللسان" (يزن) 8/ 4956. (¬6) الأصل (حَلَّيْت السويق) أي جعلته حلوا وهمزه شاذ، انظر "سر صناعة الإعراب" 1/ 90، 420، "اللسان" (حلا) 2/ 983. (¬7) قوله (في جمع الجمل) ساقط من (ب). وقوله: (فعائل) هذا عند من يرى أن (الميم) في (ملك) أصلية، أما على قول الجمهور فجمعه (معافله) أو (مفاعلة)، انظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 36، 37. (¬8) في (ب): (الفتح: مفاتح).

مقابح، وفي جمع الحسن: محاسن، وفي جمع الشبه: مشابه، وفي جمع العزف وهو اللهو معازف، وقالوا: أطعمني مطايب الجزور، لجمع (¬1) طيب، وهذا باب واسع (¬2). والأمر فيه عند المحققين أن كل لفظة من هذه الألفاظ التي وردت في الجمع مخالفة للقياس هي موضوعة للجمع من غير أن كُسِّر (¬3) عليها الواحد، فالمحاسن لفظة نابت (¬4) عن جمع الحسن، وكذلك (¬5) أشباهها، هذا كلامه وهو طويل وقد (¬6) اختصرته (¬7). وحكي عن النضر بن شميل، أنه قال في الملك: إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه وهو مما فات (¬8) علمه، فهذا الذي ذكرنا طرف من الكلام في أصل هذا الحرف (¬9) على مقدار ما يليق بهذا الكتاب (على (¬10) صورة ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (لجميع) واخترت ما في (ب) لأنه أصح في السياق. (¬2) في (ب): (وهذا جمع واجب يتبع). (¬3) أي: جمع تكسير. (¬4) في (ب): (ثابت). (¬5) في (ب): (وذلك). (¬6) في (ب): (وهو). (¬7) يريد كلام أبي القاسم الزجاجي وسيأتي في المكرر إشارة له بقوله: (وقال بعض المتأخرين أصله (ملك) كما هو الآن ... فخالف بهذا القول جميع أهل اللغة، واحتج على ما ذهب إليه بما يطول ذكره) ولعل الواحدي ترك ذكر كلام الزجاجي مفصلا واكتفى عن ذلك بالإشارة إليه. (¬8) في (أ)، (ج): (مات) وما في (ب) موافق لما عند الثعلبي فقد نقل عنه الواحدي كلام النضر والتعليق عليه. "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ. (¬9) في (ب): (هذِه الحروف). (¬10) قوله: (على صورة الماضي) .. من هنا إلى قوله: (واحتج على ما ذهب إليه بما =

المضي، لأن ما تحقق كونه، فهو بمنزلة ما قد كان، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} (¬1) وأشباهه. وقال أبو عبيدة (إذ) في هذا الموضع (¬2) زائدة. معناه: وقال ربك للملائكة. وأنكر الزجاج وغيره هذا القول، وهو (¬3) أن الحرف إذا كان مفيداً (¬4) معنى صحيحاً لم يجز إلغاؤه، قالوا: وفي الآية محذوف معناه: واذكر يا محمد إذ قال لربك. وقال الزجاج (¬5): إن الله جل ذكره ذكر خلق الناس (¬6) في هذه الآية فكأنه قال: ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وعند غيره من المفسرين (¬7): أن كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فالذكر فيه مضمر. و (الملائكة) (¬8): الرسل واحدها مَلَك وأصله (مَأْلَك) وجمعها ¬

_ = يطول ذكره) مكرر مع ما سبق، ولعل الواحدي لم يرض عن كلامه الأول فأعرض عنه ثم أعاد الكتاب فيه، غير أن النساخ أثبتوا كل ما كتبه، انظر التنبيه السابق ص 312. (¬1) سورة الأعراف: 44. وفي كلامه المكرر السابق أورد آيتين قال: (كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} ...) (¬2) هناك في المكرر قال: (هاهنا). (¬3) كذا ورد في جميع النسخ وفي الموضع السابق: (وقالوا: إن الحرف ...). (¬4) في (ب): (مقيدًا). (¬5) في كلامه المكرر السابق (أبو إسحاق). (¬6) في (ب): (السموات). (¬7) في الكلام المكرر: (وأكثر المفسرين). وتخريج الأقوال والتعليق عليها ذكر في الكلام السابق فلا أطيل بإعادته. (¬8) تفسير لفظ (الملائكة) هنا مختلف عما سبق وأكثر اختصار منه.

(مآلِك) (¬1) ووزنه من الفعل (مَفْعَل) والهمزة فاء الفعل، واللام عينه ثم أخرت الهمزة بالقلب (¬2)، تأخيرهم للعين من (القوس) في جمعها حيث قالوا: (قُسِيّ) (¬3) وقالوا: (شَمْأَل وشَأْمَل) (¬4) كذلك هاهنا قلبت الهمزة. ثم خفف (¬5) بالحذف فقيل: ملك وأصله من المأْلُكة والمَأْلَكَة (¬6) والألوك وهي: الرسالة، ويقال: ألِكْني (¬7) إليه، أي: كن رسولي، وبلغ إليه رسالتي. قال لبيد: وغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ (¬8) ¬

_ (¬1) (مآلك) جمع (مألك) على أصله قبل التغيير. قال الطبري: ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا، ولكنهم يجمعون: (ملائك وملائكة) "تفسير الطبري" 1/ 198، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 36. (¬2) ويسمى قلبًا مكانيًا، انظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 36. (¬3) قال في "اللسان": (قُسي) و (قِسي) كلاهما على القلب عن (قُووس) وإن كان (قُووس) لم يستعمل استغنوا بقسيِّ عنه، فلم يأت إلا مقلوبا ...) "اللسان" (قوس) 6/ 3773. (¬4) في (أ) (شئمال وشأمل)، والصحيح ما أثبت كما في (ب) و (ج)، ومثله عند "الطبري"، وهو على القلب المكاني. انظر "تفسير الطبري" 1/ 198. (¬5) في (ج): (خففت). (¬6) (والمألكة) ساقطة من (ب). (¬7) في (ب): (اللي). (¬8) ورد البيت في (ديوان لبيد) مع شرحه: ص 178، "تفسير الطبري" 1/ 198، "المعاني الكبير" 1/ 410، 3/ 1238، "الزاهر" 2/ 267، "المحكم" (أَلك) 7/ 68، "الخصائص" 3/ 275، "المنصف" 2/ 104، "تفسير القرطبي" 1/ 224، "الدر المصون" 1/ 250، "إملاء ما مَنَّ به الرحمن" 1/ 27، "اللسان" (ألك) 1/ 110. يقول (أرسلت هذا الغلام أمُّه برسالة فأعطيناه ما طلب).

وسميت الرسالة أَلوُكا، لأنه يؤلك في الفم، مشتقّاً (¬1) من قول العرب: الفرس يألك (¬2) اللجام ويعضه بمعنى يمضغ الحديدة (¬3). ذكره الليث، قال: والمعروف: يَلُوك (¬4). وقال عبد بني الحسحاس (¬5): أَلِكني إليْهَا عَمْرَكَ اللهُ يَا فَتَى ... بآيةِ (¬6) مَا جَاءَتْ إليْنَا تَهَادِيَا (¬7) وقال آخر، فردّ الملك إلى الأصل (¬8): فَلَسْتَ لإنسيٍّ ولكن لمَلأَكٍ (¬9) ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (¬10) ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعل الأولى (مشتق). (¬2) في (ب): (تألك، وتعضه، وتمضع) بالتأنيث في المواضع الثلاثة. (¬3) في (ب)، (ج): (الحديد). (¬4) "تهذيب اللغة" (ألك) 1/ 184. (¬5) هو سحيم عبد بني الحسحاس، أدرك الجاهلية والإسلام، ولا يعرف له صحبة، كان أسود شديد السواد وبنو الحسحاس: من بني أسد بن خزيمة. انظر ترجمته في: "الشعر والشعراء" ص 258، "الخزانة" 2/ 102. (¬6) في (أ)، (ج): (كآية) وما في (ب) تفسير موافق لجميع المصادر التي ورد فيها البيت. (¬7) ورد البيت في (ديوان سحيم): ص 19، و"الطبري" 1/ 198، "الخصائص" 3/ 274، "معجم مقاييس اللغة" 1/ 133، "مجمل اللغة" (ألك) 1/ 102، أساس البلاغة (ألك): ص 8، "الخزانة" 2/ 104. قوله: ألكني إليها: بلغها عني رسالة، والآية: العلامة، والتهادي: التمايل في المشي. (¬8) قوله: (فرد الملك إلى الأصل) ورد في (ب) بعد البيت وهذا أولى، والمعنى رد الملك إلى أصله وهو (ملأك). (¬9) في (أ) و (ج): (لها لا ك) وهو تصحيف يخالف رواية البيت المشهورة. (¬10) سبق تخريج البيت.

وأصله مألك (¬1) فقلب الهمزة كما قالوا: شاك في شائك، ولاث في لائث (¬2). ويقال في الجمع الملائكة والملائك، قال كثير: كَمَا قَدْ عَمَمْتَ المؤْمِنِينَ بِنَائِلٍ ... أَبَا (¬3) خَالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلاَئِكُ (¬4) هذا قول الجمهور من أهل اللغة (¬5). وقال النضر بن شميل في الملك: إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه، وهو مما فات (¬6) علمه. وقال بعض المتأخرين (¬7): أصله ملك كما (¬8) هو الآن وهو بمعنى ¬

_ (¬1) (مألك) قلبت الهمزة قلبًا مكانيًا، فوضعت مكان العين، ونقلت العين إلى الفاء وهي (اللام) فصار (ملأك) ثم خفف بحذف الهمزة، انظر (البيان في غريب إعراب القرآن) 1/ 70. (¬2) انظر: "الكتاب" 3/ 466، 4/ 378، "سر صناعة الإعراب" 1/ 307. (¬3) في (ب): (اخالد). (¬4) ورد البيت في "المنصف" 2/ 103، "البحر" 1/ 127، "الدر المصون" 1/ 251، غير منسوب فيها كلها. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3449، (ألك) 1/ 184، "تفسير الطبري" 1/ 197، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 80، "مجاز القرآن" 1/ 35، "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ، "الكشاف" 1/ 371. (¬6) في (ج): (من مات عليه) وكلام النضر ورد في "تفسير الثعلبي" قال: وهو مما فات عليه 1/ 60 أ. وقد سبق كلام النضر. وانظر التعليق عليه. (¬7) هو أبو القاسم الزجاجي ذكره فيما سبق قال: (وذهب بعض المتأخرين من أصحاب أبىِ علي الفارسي، وهو أبو القاسم الزجاجي ...). والتعليق عليه هناك، حيث إن للزجاجي قولاً آخر يوافق الجمهور. (¬8) (كما) ساقطة من (أ) و (ج) والسياق يقتضيها.

المملوك يذهب (¬1) فيه إلى أنه لله بمنزلة العبد لغيره، فهو (فَعَل) بمعنى مفعول كالنقض (¬2) والخبط، فخالف بهذا القول جميع أهل اللغة واحتج على ما ذهب إليه بما يطول ذكره (¬3). و (الخليفة) الذي يخلف الذاهب أي يجيء بعده، ويقال للسلطان: خليفة لأنه يخلف من قبله، يقال: خلف فلان مكان فلان، يخلف [إذا كان في مكانه (¬4). اللحياني: خلف فلان فلانا في أهله وفي مكانه يخلفه، (¬5) خلافة حسنة، وكذلك (¬6) قيل: أوصى له بالخلافة، ويقال: خلفني ربي في أهلي وولد في أحسن الخلافة (¬7). وأصل الخليفة خليف بغير هاء، لأنه (فَعِيل) بمعنى: (فاعل)، كالعليم والسميع، فدخلت (الهاء) للمبالغة بهذا الوصف، كما قالوا: راوية (¬8) وعلاَّمة (¬9). وقال ابن السكيت: أما الخليفة فإنه وقع للرجال خاصة، وإن كان (¬10) فيه (الهاء)، ألا ترى أنهم قد جمعوه (خلفاء) كما ¬

_ (¬1) (يذهب) ساقطة من (ب). (¬2) في (ب): (بالنقض). (¬3) وقد سبق ذكر احتجاجه مفصلاً في الكلام السابق. (¬4) أنظر: "تفسير الطبري" 1/ 199، "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في "تهذيب اللغة" (ولذلك) 1/ 1089. (¬7) "تهذيب اللغة" (خلف) 1/ 1089. (¬8) وفي (ج): (رواية). (¬9) انظر: "الزاهر" لابن الأنباري 2/ 241، "الصحاح" (خلف) 4/ 1356، "اللسان" (خلف) 2/ 1235. (¬10) (كان) ساقط من (ب).

يجمع فعيل. هذا فيمن ذَكَّر واستعمل المعنى، ومن أنث لتأنيث اللفظ قال في الجمع: (خلائف) (¬1). وقد ورد التنزيل بها، قال الله تعالى: {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، وقال: {خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} (¬2) ويجوز تأنيث الخليفة على اللفظ كما قال: أَبُوك خَلِيفَةٌ وَلَدَتْه أُخْرى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الكَمَالُ (¬3) قال ابن عباس وابن مسعود وابن زيد (¬4): أراد بالخليفة آدم عليه السلام جعله خليفة لنفسه، يحكم بالحق في أرضه (¬5). وروي عن ابن عباس أنه قال: ¬

_ (¬1) انظر كلام ابن السكيت في "تهذيب اللغة" (خلف) 1/ 1090، وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: ص 565، "الزاهر" 2/ 242 (¬2) سورة يونس: 14، وفي فاطر: 39. (¬3) البيت استشهد به الفراء في "معاني القرآن" 1/ 208، ولم ينسبه، وورد في "الزاهر" 2/ 242، "والمذكر والمؤنث" لابن الأنباري: ص 565، ونسبه لـ (نُصيب) قال المحقق: ليس في شعره، وورد في "تهذيب اللغة" (خلف) 1/ 1090، "الصحاح" 4/ 1356، "اللسان" 2/ 1235، كلهم قالوا: أنشد الفراء. والشاهد فيه: قوله: (أخرى) فأنث لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن تقول: ولده آخر. قاله الفراء. (¬4) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، بالولاء، مدني روى عن أبيه زيد بن أسلم، ضعيف. مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 5/ 233، "تهذيب التهذيب" 2/ 507، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 271. (¬5) ورد ضمن آثار رويت عن ابن عباس وابن مسعود وابن زيد ذكرها الطبري في "تفسيره" بسنده، وقد علق الأستاذ محمود شاكر على هذِه الآثار بكلام طويل، محصلته أن الطبري استدل بهذِه الآثار لبيان معنى لفظ (خليفة) وتحقيق معناه، ولم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه، وقد رجح الطبري: أن المراد بالخلافة خلافة قرن منهم قرنًا غيرهم، وأن الذي يفسد ويسفك الدماء غير آدم. وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 451 - 453، وذكر نحوه ابن كثير في "تفسيره" 1/ 75 وساق الآثار على هذا.

جعله خليفة عن الملائكة الذين كانوا سكان الأرض بعد الجن (¬1). قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض، وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن (¬2) الأرض، فغبروا دهراً طويلاً في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث إليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن ورأسهم إبليس، وهم خزان الجنان، اشتق لهم اسم من الجنة، فهبطوا إلى الأرض، وطردوا الجن عن وجوهها إلى شعوب الجبال، وجزائر البحور، وسكنوا الأرض، وكانوا أخف الملائكة عبادة، لأن أهل السماء الدنيا أخف عبادة من الذين فوقهم، وكذلك أهل كل سماء، وهؤلاء الملائكة لما صاروا سكان الأرض خفف الله عليهم العبادة، وخلقت الملائكة كلها من نور غير هذا الحي (¬3) الذين يقال لهم: الجن (¬4)، فأحبوا (¬5) البقاء في الأرض. ¬

_ (¬1) أخرج "الطبري" نحوه من طريق الضحاك عن ابن عباس، وقال شاكر: في إسناده ضعف. "تفسير الطبري" 1/ 450، وذكره ابن كثير من طريق ابن جرير "تفسير ابن كثير" 1/ 75، وأخرج الحاكم في مستدركه نحوه عن مجاهد عن ابن عباس، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. "المستدرك" 2/ 261. (¬2) (الجن) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (الجن). (¬4) في "تفسير الطبري": (الحن) بالمهملة. قال شاكر في هامش "الطبري": في المطبوعة في موضعين (الجن) بالجيم وهو خطأ، يدل عليه سياق الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن .. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة ..) "تفسير الطبري" 1/ 455 (ط. شاكر). (¬5) في (ب): (واحبوا).

كان الله تعالى قد أعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنان، وكان يعبد الله عز وجل تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة، فأعجب بنفسه، وتداخله الكبر، فاطلع الله على ما انطوى عليه في الكبر، فقال له ولجنده: إني جاعل في الأرض خليفة (¬1). وإخبار (¬2) الله تعالى الملائكة بهذا يكون على جهة البشارة لهم بمكان آدم كما جرت به سنته بالبشارة بالأنبياء قبل خلقهم وقبل إرسالهم (¬3). ولا يكون ذلك (¬4) على جهة المشاورة معهم (¬5)، لامتناع ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" قال: (وقال المفسرون ... ثم ذكره)، "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ، ب، ولعل الواحدي نقل عنه. وإن مما أخذ على الثعلبي في "تفسيره" أنه حاطبُ ليل جمع فيه الضعاف والإسرائيليات، ولقد تأثر الواحدي به ونقل عنه في، بعض المواضع. وحول ما أورده الواحدي هنا ورد أثر عن ابن عباس، أخرجه الطبري، قال شاكر في تعليقه عليه. (.. لم يروه لاعتماد صحته، بل رواه لبيان أن قول الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إنما هو خطاب فيه لفظ العموم للملائكة ..) "تفسير الطبري" 1/ 201. وأورد الأثر ابن كثير وقال: (هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يُرْوى به تفسير مشهور)، "تفسير ابن كثير" 1/ 76. ومثل هذِه القضايا يجب الاعتماد فيها على النص من الكتاب، أو من السنة الصحيحة، وهي من المواطن التي كثر النقل فيها عن الإسرائيليات، وليت كتب التفسير صينت عن مثل هذِه القصص والروايات. (¬2) في (ب): (واختار). (¬3) أنظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 74. (¬4) في (أ)، (ج): (على ذلك جهة) وأثبت ما في (ب)، لأنه أصح لاستقامة السياق. (¬5) أورد ابن أبي حاتم في "تفسيره" أثرًا منكرا عن السدي، وفيه: (فاستشار الملائكة في خلق آدم) قال المحقق: هذا خبر منكر، انظر "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 76. وأورده ابن كثير في تفسير، وقال: وهذِه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار =

المشاورة في وصفه، لوجوب كونه عالماً لا يخفى عليه شيء. وقوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}. قال الفراء (¬1): أراد: فقالوا فحذف فاء النسق كقول الشاعر: لمَّا رَأَيْتُ نَبَطاً أَنْصَارَا شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِي الإزَارَا كُنْتُ لَهْمْ مِنْ النَّصَارى جَارَا (¬2) أي: فكنت لهم. واختلفوا (¬3) في قول الملائكة: (أتجعل فيها) على أي وجه حصل منهم هذا: فروي أن الذين قالوا هذا عشرة آلاف من الملائكة، فأرسل الله (¬4) عليهم نارا فأحرقتهم (¬5). وقال بعض أهل المعاني: فيه إضمار واختصار، معناه: أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء؟ أم تجعل فيها من لا يفسد فيها] (¬6) ولا يسفك الدماء؟ كقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9]، يعني ¬

_ = ففيها تساهل، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن. "تفسير ابن كثير" 1/ 75. عبارة الحسن وقتادة: إني فاعل، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 205. (¬1) أنظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 44، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 60 ب. (¬2) أنشد الفراء الرجز ونسبه لبعض الأعراب "معاني القرآن" 1/ 44، وأورده "الطبري" في "تفسيره" 1/ 318، والثعلبي 1/ 60 ب، وهو في "الزاهر" 1/ 225، "تفسير الماوردي" 1/ 132، "تفسير القرطبي" 1/ 369، "الدر المصون" 1/ 407. (¬3) في (ب): (فاختلوا). (¬4) لفظ الجلالة غير موجود في (ب). (¬5) هذا الكلام ورد في رواية منكرة غريبة أخرجها ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن يحيى بن أبي كثير عن أبيه. قال المحقق: (منكر غريب)، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 78. وذكرها ابن كثير عن ابن أبي حاتم، وقال: (إسرائيلي منكر)، "تفسير ابن كثير" 1/ 76. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

كمن هو غير قانت (¬1)، وكقول أبي ذؤيب: عَصَيْتُ إليْها القَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا (¬2) أراد: أرشد (¬3) أم غي، وعلى هذا فالملائكة أرادوا بالاستفهام أن يخبروا بما لا يعلمون، ولم يذهبوا إلى الإنكار والاعتراض (¬4)، فقال الله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬5)، لم يطلعهم على صفة أولاد آدم. ولم يبين لهم أنه يريد أن يخلق من يفسد أو لا يفسد (¬6). وقيل: لما قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أشكل على الملائكة أن الخليفة ممن يكون، قالوا: يا ربنا أتجعل في الأرض خليفة كما كان بنو الجان مفسدين؟ أم تجعل خليفة من الملائكة؟ فإنا نسبح بحمدك، فلم يطلعهم الله على ذلك، فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي (¬7): أن فيهم المطيع والعاصي جميعاً (¬8). ¬

_ (¬1) هذا المعنى ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 60 ب. (¬2) سبق ذكر البيت وتخريجه وشرحه في: 2/ 55. (¬3) في (ب): (رشد). (¬4) في (أ): (ولاعتراض). (¬5) ذكر نحوه الطبري ورجحه. انظر: "تفسير الطبرى" 1/ 209 وهو قريب من قول الزجاج الآتي ذكره، انظر: "معاني القرآن" 1/ 76، وانظر. "زاد المسير" 1/ 60، "تفسير القرطبي" 1/ 135. (¬6) رجح الطبري أن الله أطلع الملائكة على ما يكون من ولد آدم، لأن ذلك يفهم من السياق، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 210. (¬7) في (ب): (إذ فيهم). (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 209، "تفسير الثعلبي" 1/ 60 ب، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 76، "تفسير القرطبي" 1/ 235.

وقال الزجاج حكاية عن غيره: المعنى في هذا هو (¬1): أن الله أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، أن الخليفة (¬2) فرقة من بني آدم [تسفك] (¬3) الدماء، وأن الله أذن للملائكة أن يسألوه عن ذلك، وكان (¬4) إعلامه إياهم هذا زيادة في التثبيت (¬5) في نفوسهم أنه يعلم الغيب، وكأنهم قالوا: أتخلق (¬6) فيها قوماً يسفكون الدماء ويعصونك، وإنما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح، ويقدسوا كما نقدس، ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم، لأن الله تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون (¬7). فإن قيل: فأين إخبار الله بذلك للملائكة فإنا لا نراه في القرآن؟ قيل: هو محذوف مكتفى بدلالة الكلام عليه، كأنه قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) يكون من ولده إفساد (¬8) في الأرض، وسفك للدماء (¬9)، فحذف هذا اكتفاء (¬10) بما دل عليه من جواب الملائكة، كما ¬

_ (¬1) (هو) ساقط من (ب). ولفظ الزجاج: (وقال قوم: المعنى فيه غير هذا وهو أن الله .. إلخ) والزجاج ذكر قبل هذا القول الذي يرتضيه، وسيورده الواحدي فيما بعد، كما سيأتي، انظر: "معاني القرآن" 1/ 76. (¬2) كذا في جميع النسخ وفي "معاني القرآن" (بالقاف) في الموضعين. (¬3) في (أ) و (ج): (يسفك)، و (ب) غير معجم، وفي "معاني القرآن" (تسفك) 1/ 76. (¬4) (الواو) ساقطة من (ج). (¬5) في (أ) و (ج): (التثبت)، وما في (ب) موافق لما في "معاني القرآن" 1/ 76. (¬6) في النسخ: (الخلق)، تحريف، والصواب ما أثبتنا من "معاني القرآن". (¬7) انتهى كلام الزجاج، انظر: "المعاني": ص 77. (¬8) (إفساد) مكرر في (أ) و (ج). (¬9) في (ب): (الدماء). (¬10) في (أ) و (ج): (اكتفى) وأثبت ما في (ب)، لأنه هو الأصوب.

قال الشنفرى (¬1): فَلَا تَدْفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ ولكن خَامِري أُمَّ عَامِرِ (¬2) أراد: ولكن دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها: خامري أم عامر، فحذف (¬3). قال الزجاج: ويجوز أن يكون هذا القول من الملائكة على وجه استعلام وجه الحكمة، لا على الإنكار. معناه: كيف تجعل في الأرض من يفسد ويسفك الدماء ونحن نسبحك الآن إذ أجليناهم (¬4) وصرنا سكانها، فأخبِرْنا (¬5) وجه الحكمة فيه (¬6). ¬

_ (¬1) الشنفرى: شاعر جاهلي من الأزد، والشنفرى اسمه، وقيل: لقبه ومعناه: العظيم الشفة، انظر: "الخزانة" 3/ 343، "الأعلام" 5/ 85. (¬2) البيت قاله الشنفرى الأزدي في قصة طويلة انظر تفاصيلها في "الخزانة" 3/ 344 - 348، ويروى البيت (لا تقتلوني)، (إن قبري)، (ولكن أبشري) وفي "ذيل الأمالي" (لا تقتلوني)، (إن قتلي). وأم عامر: كنية الضبع و (خامري) أي استتري، يريد دنو الضبع مستخفية ملازمة لمكانها حتى تخالط القتيل فتصيب منه. والمعنى: يقول لا تدفنوني بعد قتلي واتركوني للتي يقال لها (أم عامر). ورد البيت في "تفسير الطبري" 1/ 210، "الحماسة بشرح المرزوقي" 2/ 487، "الشعر والشعراء" ص 31، "ذيل الأمالي" للقالي 3/ 36، "الخزانة" 3/ 327. (¬3) السؤال الذي ذكره الواحدي والإجابة عنه، ورد عند الطبري في "تفسيره" 1/ 210. (¬4) في (ب): (اخليناهم). (¬5) في (ب): (فأضرها). (¬6) نقل الواحدي كلام الزجاج بمعناه، ومنه قوله: (روي أن خلقًا يقال لهم: (الجان) كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء. فبعث الله ملائكته فأجلتهم من الأرض، وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد الجان .. إلخ) وهذا يوضح قول الواحدي: (ونحن نسبحك الآن إذ أجليناهم وصرنا سكانها). "معاني القرآن" للزجاج 1/ 76.

وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن الله تعالى لما اطلع على كبر إبليس قال للملائكة الذين كانوا معه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالت (¬1) الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيهما كما فعل (¬2) بنو الجان، قاسوا بالشاهد على الغائب (¬3)، فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من كبر إبليس واغتراره بفعله، ثم لما ظهر من أمر إبليس ما ظهر وعجزت هؤلاء الملائكة عن (¬4) الإخبار عن أسماء الأشياء اعترفوا بالعجز، وقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (¬5) ومع وضوح هذه الأقوال فإن ظاهر الخطاب يدل على أنه شق على الملائكة خلق الخليفة لأنهم لما سكنوا (¬6) الأرض خفت عنهم العبادة كما ذكرنا، فخافوا أن يردوا إلى السماء فتثقل عليهم العبادة فلهذا شق عليهم خلق الخليقة (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (فقال). (¬2) في (ب): (فعلوا). (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 60 ب. (¬4) في (ب): (من). (¬5) ورد نحوه في رواية طويلة عن ابن عباس ساقها "الطبري" في "تفسيره"، وعلق عليها بأن الرواية أفادت أن القائل ذلك خاص من الملائكة وليس كلهم. وقد أخذ محمود شاكر من تعليق الطبري: أن الطبري لم يروه لاعتماد سنده وإنما لبيان أن الخطاب لبعض الملائكة، وأن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} لم يكن عن علم بالغيب عرفوه، بل كان ظنا ظنوه). انظر: "تفسير الطبري" 1/ 455 - 458، "تفسير أبي الليث" 1/ 108، "الدر المصون" 1/ 45. (¬6) في (ب): (اسكنوا). (¬7) اعتمد الواحدي في هذا على ما ذكره شيخه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 60 ب. وورد نحوه عند أبي الليث في "تفسيره" 1/ 108. وهذا لا يتناسب مع منزلة الملائكة =

وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. معنى التسبيح: تنزيه الله من كل سوء، وقد يكون بمعنى الصلاة، ويقال: سبح لله (¬1) أي صلى لله (¬2). قال الحسن: معناه: يقول سبحان الله وبحمده (¬3). قال الأزهري (¬4): أجمع المفسرون وأهل المعاني: أن معنى (¬5) تسبيح الله، تنزيه الله وتبرئته عن السوء. قال: وأصل التسبيح (¬6) في اللغة، التبعيد من قولك: سبحت في الأرض، إذا تباعدت فيها، ومن هذا قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، فكل من أثنى على الله وبعّده من السوء، فقد سبح له (¬7) ونزهه. وقال بعض أهل المعاني: معنى قوله: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نتكلم بالحمد لك، والنطق بالحمد لله تسبيح له، كما قال: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5] وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] أي: ¬

_ = وما ذكره الله عنهم بقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. والأرجح في معنى الآية: أن الملائكة قالت ذلك على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 221. (¬1) في (ب): (الله). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 221، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 77، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 236، "زاد المسير" 1/ 61. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 60 ب. (¬4) "تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1609. نقل كلامه بتصرف. (¬5) في (ب): (على أن المعنى). وقوله: (أجمع المفسرون وأهل المعاني) ليس في "تهذيب اللغة". (¬6) (التسبيح) ساقط من (ج). (¬7) في (ب): (فقد سبح الله).

احمده، ويكون حمد الحامد لله تسبيحا له، لأن معنى الحمد لله: الثناء عليه والشكر له، وهذا تنزيه له واعتراف بأنه أهل لأن ينزه (¬1)، ويعظم، ويثنى عليه (¬2). ومعنى قول القائل (سبحان الله): براءة الله من السوء (¬3) وتنزيهه، وكثر لفظ (سبحان الله) في كلامهم، سيما عند التعجب، حتى صار كلمة للتعجب، قال الأعشى: أَقُولُ لمّا (¬4) جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ (¬5) عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ج): (ينزهه). (¬2) نحوه في "تفسير الطبري" 1/ 211، "زاد المسير" 1/ 61، "تفسير القرطبي" 1/ 237. (¬3) انظر: "الكتاب" 1/ 324، "تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1609. (¬4) في (ج): (لمن). (¬5) (من) ساقطة من (ب). (¬6) البيت للأعشى ضمن قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة العامري، ويمدح عامر بن الطفيل، لما تنازعا في الجاهلية على الرياسة في بني كلاب. وقد مات عامر مشركًا، وأسلم علقمة، ولهذا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية القصيدة. يقول: أقول لما جاءني فخر علقمة على عامر: (سبحان من علقمة الفاخر)، أي أتعجب، سبحان الله منه، كذا خرجه بعضهم، وبهذا المعنى استشهد الواحدي به، وخرجه ابن فارس: بمعنى: ما أبعده، وبعضهم قال معنى (سبحان) في البيت: البراءة والتنزيه، وللراغب في "مفرداته" أقوال أخرى: ص 221. ورد البيت في "الكتاب" 1/ 324، "مجاز القرآن" 1/ 36، "المقتضب" في "تفسيره" 3/ 218، "مقاييس اللغة" (سبح) 3/ 125، "الزاهر" 1/ 144، و"الطبري" 1/ 211، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 78، "مفردات الراغب": ص 221، "الخصائص" 2/ 197، 435، "شرح المفصل" لابن يعيش 1/ 37، 120، "الديوان": ص 93.

أي تعجب منه. ونحو هذا قال الزجاج في معنى: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} قال: نبرئك من السوء (¬1). ويأتي بقية القول في معنى (سبحان) (¬2) عند قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32]. وقوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} (¬3). أي: نطهرك وننزهك عما لا يليق بك من النقص. و (اللام)، فيه صلة (¬4). و (التقديس): التطهير، والقدس: الطهارة، والبيت المقدس: المطهر (¬5). قال الزجاج: ومن هذا قيل للسطل: قدس، لأنه يتقدس منه، أي يتطهر (¬6). قال غيره (¬7): والقُداس هو (¬8) الجمان (¬9) من فضة، لأنه أبيض نقي. قال الشاعر في وصف الدموع: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ص 77. (¬2) في (ج) (سبحانا). (¬3) (الواو) ساقطة من (ب). (¬4) ذكره الثعلبي 1/ 61 أ، وأجاز العكبري في (اللام) أن تكون بمعنى: لأجلك، أو زائدة أو تكون معدية للفعل مثل الباء، "الإملاء" 1/ 28. (¬5) انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 78، "تهذيب اللغة" (قدس) 3/ 2900، "تفسير الثعلبي" 1/ 61 أ. (¬6) "شرح أسماء الله الحسنى" للزجاج: ص 30، وانظر "تهذيب اللغة" 3/ 2900، "اللسان" (قدس) 6/ 3549. (¬7) هو الليث كما في "تهذيب اللغة" (قدس) 3/ 2900. (¬8) (هو) ساقط من (ب). (¬9) في (ب): (الجمال). والجمان: حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ، وقيل: خرز يُبَيَّض بماء الفضة. "اللسان" (جمن) 2/ 689.

كَنَظْمِ قُدَاسٍ سَلْكُهُ مُتَقَطِّعُ (¬1) قال أبو علي الفارسي: معنى نقدس لك: ننزهك عن السوء، فلا (¬2) ننسبه إليك، و (اللام) فيه على حدها في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] لأن المعنى تنزيهه، وليس المعنى أن ينزه شيء من أجله. فأما قولهم: (بيت المقدس) وقول الراجز: الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ القَادِسِ (¬3) يدل على أن الفعل قد استعمل من التقديس، بحذف الزيادة، فإذا كان كذلك، لم يخل (المَقْدِس) من أن يكون مصدرا أو مكانا، فإن كان مصدرا كان كقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} (¬4) ونحوه من المصادر، والتي (¬5) جاءت على هذا المثال. وإن كان مكاناً، فالمعنى: بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره على إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، كما جاء ¬

_ (¬1) صدره كما في "اللسان": تَحَدَّرَ دَمْعُ العَيْنِ مِنْهَا فَخِلْتُه يصف تحدر دمعة العين بنظم القُدَاس إذا انقطع سلكه، والبيت غير منسوب، ذكره الأزهري في "التهذيب" (قدس) 3/ 2900، والجوهري في "الصحاح" (قدس) 3/ 961، وابن فارس في "مجمل اللغة" (قدس) 1/ 745، "مقاييس اللغة" (قدس) 5/ 64، وورد في "اللسان" (قدس) 6/ 3550. (¬2) في (ب): (ولا). (¬3) ورد في "الحجة" لأبي علي بدون نسبة "الحجة" 2/ 152. ولم أجده في غيرها. (¬4) سورة الأنعام: 60، ويونس: 4. وفي (الحجة): (كقوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ})، (الحجة) 2/ 152. وهي جزء من آية في سورة آل عمران: 55، والعنكبوت: 8، ولقمان: 15. (¬5) (والتي) كذا وردت في جميع النسخ والأولى حذف الواو كما في "الحجة" 2/ 152.

{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} (¬1) [البقرة: 125]. انتهى كلامه (¬2). فعلى قول أبي علي (اللام) في (لك) صلة (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى: (نقدس لك) أي نطهر أنفسنا لك. قال: ومن هذا: البيت المقدس، أي: البيت المطهر، وبيت المقدس أي بيت المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب (¬4). فعلى هذا (اللام) لام أجل (¬5)، أي نطهر لأجلك قلوبنا من الشرك، وأبداننا من المعصية. وقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. قال ابن عباس: يعني من إضمار إبليس العزم على المعصية، وما اطلع عليه من كبره (¬6). وقال ابن مسعود: {مَا لَا تَعْلَمُونَ} مما يؤول إليه أمر إبليس (¬7). ¬

_ (¬1) في الآيه تصحيف في (ب): (طهر) بدون (ألف)، وفي (ج): (طهري) (¬2) أي كلام أبي علي، نقله بتصرف، انظر: "الحجة" 2/ 151، 152. (¬3) وهو قول الثعلبي كما مر قريبًا وذكر العكبري فيها أقوالًا أخرى، انظر: "الإملاء" ص 706، تعليق رقم 5. (¬4) انظر كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 78، ليس فيه قوله: (البيت المقدس) أي (البيت المطهر). (¬5) وبه أخذ العكبري، انظر: ص 706، تعليق 5، وانظر "الإملاء" "تفسير الطبري" 1/ 211، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 231. (¬6) أخرجه "الطبري" بسنده من طريق الضحاك، "تفسير الطبري" 1/ 212، وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 232، "الدر" 1/ 95، "زاد المسير" 1/ 61. (¬7) أخرجه "الطبري" من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود، وعن أبي صالح عن ابن عباس 1/ 212، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه 1/ 79، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 232.

وقال قتادة (¬1): {أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أنه يكون في أولاد آدم من هو من أهل الطاعة. وقال الزجاج: معناه أبتلي من تظنون أنه مطيع فيؤديه الابتلاء إلى المعصية، ومن تظنون أنه عاص فيؤديه إلى الطاعة (¬2). وقيل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من تفضيل آدم عليكم، وما أتعبدكم به من السجود له، وأفضله به عليكم من تعليمي الأسماء، وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: ليخلق ربنا ما يشاء، فلن يخلق خلقاً أفضل ولا أكرم عليه منا (¬3). وفتح أبو عمرو وابن كثير (الياء) في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ} [البقرة: 30]، {إِنِّي أَرَى} (¬4) عند الهمزة المفتوحة. وزاد أبو عمرو عند الهمزة المكسورة، مثل: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} (¬5). وزاد نافع عند المضمومة، مثل: {عَذَابِي أُصِيبُ} [الأعراف: 156]، {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ} [المائدة: 115]، {إِنِّي أُرِيدُ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري بسنده عن سعيد عن قتادة. "تفسير الطبري" 1/ 213، وأخرجه ابن أبي حاتم 1/ 79 - 80، قال المحقق: ضعيف، ولكن أخرجه "الطبري" من طريق آخر 1/ 284، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 74، وانظر ابن عطية 1/ 233، "الدر" 1/ 96، "زاد المسير" 1/ 62. (¬2) ذكر كلام الزجاج بمعناه. انظر: "معاني القرآن" 1/ 77، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 62. (¬3) لم أجد هذا القول فيما اطلعت عليه من كتب التفسير، والله أعلم. (¬4) سورة الأنفال: 48، وسورة يوسف: 43، وسورة الصافات:102. (¬5) سورة يونس: 72، سورة هود: 29، وسورة سبأ: 47. (¬6) (إني) ساقط من (ب). سورة المائدة: 29، والقصص: 27. =

وحجتهم في ذلك (¬1) أن هذه (الياء) أصلها الحركة، لأنها بإزاء الكاف للمخاطب، فكما فتحت الكاف، كذلك تفتح (الياء). فإن قيل: إن الحركة في حروف اللين مكروهة؟ قيل: الفتحة من بينها (¬2) لا تكره، وإن كرهت الضمة والكسرة، ألا ترى أن (القاضي) ونحوه يحرك بالفتح (¬3)، كما يحرك (¬4) سائر الحروف التي لا لين لها (¬5)، ألا ترى أن (غواشي) (¬6) تجري في النصب مجرى ¬

_ = اختلف القراء في حكم (ياء المتكلم)، فقرأ بعضهم بفتحها، وبعضهم بتسكينها، ولهم أصول في ذلك، ولكنها لا تطرد في كل موضع، لهذا نجد من ذكر أصولهم في (ياء المتكلم) يقول: ونذكر ما شذ عن هذا في موضعه. فعند أبي عمرو: كل ياء مكسور ما قبلها، إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مكسورة يفتحها. أما ابن كثير فيوافقه في بعضها، ويخالفه في بعضها فيسكنها. أما نافع فإنه يفتح هذِه الياء إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، وقد اختلف في بعض هذِه الحروف عنه. أما بقية (السبعة): وهم حمزة، والكسائي، وعاصم، وابن عامر، فأصلهم فيها الإسكان، وروي عنهم مواضع بالفتح. والياء في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ} قرأ بفتحها في الوصل أبو عمرو وابن كثير ونافع من (السبعة). انظر: "السبعة" لابن مجاهد: ص 152، "الحجة" لأبي علي 1/ 411، "الكشف" لمكي 1/ 324، "تحبير التيسير": ص 79، "البدور الزاهرة": ص 28. (¬1) أي حجة من قرأ بالفتح، والكلام منقول من "الحجة" بتصرف 1/ 414. (¬2) (بينها) ساقطة من (ج). (¬3) أي أن الاسم الذي آخره (ياء) مكسور ما قبلها لا يدخله جر ولا رفع لثقل ذلك، يدخله الفتح، ولذلك بني على الفتح، انظر "المقتضب" 4/ 248. (¬4) في (ج): (تحرك). (¬5) في (ج): (فيها) وهذا موافق لما في "الحجة" 1/ 414. (¬6) كذا في جميع النسخ وفي "الحجة": (.. أن الياء في (غواش) ..) 1/ 414، قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41].

مساجد ونحوه (¬1) من الصحيح. وقد اتفقوا أيضًا على تحركها بالفتح، إذا سكن ما قبلها، نحو بشراي (¬2) وغلامي وقاضيّ، ورأيت غلاميّ (¬3)، فاجتماعهم على تحريكها بالفتح (¬4) في هذا النحو يدل على أن ذلك أصلها إذا تحرك ما قبلها (¬5). وأما (¬6) من أسكن هذه (الياءات) فحجته أن الفتحة مع (الياء) قد كرهت في (¬7) الكلام، كما كرهت الحركتان (¬8) الأخريان فيها، ألا ترى أنهم قد أسكنوها في الكلام في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة، كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين (¬9)، وذلك قولهم: (قالي قلا) (¬10)، ¬

_ (¬1) في (ج): (ونحوها). والمراد أن (الياء) تثبت في (غواش) في حالة النصب، انظر: "الحجة" 1/ 414. (¬2) (ب): (براى). (¬3) الياء في (قاضي) ورأيت غلامي (مشددة) والأولى منهما ساكنة فتفتح (الياء) الثانية انظر: "الكتاب" 3/ 414، 4/ 187. (¬4) في (ب): (نحو في هذا النحو). (¬5) انتهى من بيان حجة من قرأ بفتح الياء في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ} والكلام من "الحجة" بتصرف 1/ 414. وانظر: "الحجة" لابن خالويه: ص 74، "الكشف" لمكي 1/ 324، "البيان" لابن الأنباري 1/ 720. (¬6) في (ب): (وإنما من). (¬7) في (ب): (بالكلام). (¬8) في (ب): (الحركات). والحركات: هما الضمة والكسرة. (¬9) في (أ) و (ج): (الأخرين) وأثبت ما في (ب) لأنه أصح وموافق لما في "الحجة" 1/ 415. (¬10) (قالي قلا) اسم مدينة بأرمينة، سميت باسم امرأة ملكتهم وبنت تلك المدينة وإليها ينسب بعض العلماء كالقالي، انظر: "معجم البلدان" 4/ 299.

و (بادي بدا) (¬1)، و (معد يكرب) (¬2) و (حيري (¬3) دهر) (¬4). و (الياء) في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر أول الاسمين، نحو: (حضر موت) و (بعلبك) وقد أسكنت كما أسكنت في الجر (¬5) والرفع (¬6). ومما يؤكد الإسكان فيها أنها مشابهة (¬7) للألف، والألف تسكن (¬8) في الأحوال الثلاث (¬9)، كذلك (الياء) تسكن. والدليل على شبه (الياء) الألف قربها منها في المخرج، وإبدالهم إياها منها في نحو (طائيٍّ) و (حاريٍّ) في ¬

_ (¬1) قال الجوهري: أفعل ذاك بادئ بدء، وبادي بديٍّ، أي أولا، وأصله الهمزة، وإنما ترك لكثرة الاستعمال ... ، وهما اسمان جعلا اسما واحدا مثل: معد يكرب، وقالي قلا. "الصحاح" (بدا) 6/ 2279، وانظر: "اللسان" (بدا) 1/ 234. (¬2) في (أ)، (ج): (معدي). (¬3) في (ب): (حرى). (¬4) ومنه قول العرب (لا أفعل ذلك حيري دهر). أي: أبداً. انظر "الكتاب" 3/ 307. (¬5) في (ب): (الخبر). (¬6) يقول: إن الأسماء المركبة مثل (قالي قلا) مما آخر الاسم الأول (ياء) فالياء تسكن، لأنها في وسط الاسم، ولأنها لو كانت معربة بالجر أو الرفع سكنت، كما تقول: (مررت بالقاضي). وكان ينبغي في هذِه الياء أن تفتح، كما فتح آخر الاسم الأول من المركب نحو (حضرموت) والذي جعل الاسمان فيه كاسم واحد، لأن الحركة تستثقل عليه، والفتح أخف الحركات، ولما ثقلت الفتحة على الياء لم يبق بعد الفتح إلا السكون. انظر: "الكتاب" 3/ 304، 305، "المقتضب" 4/ 21، "البيان" 1/ 72. (¬7) في (ب): (متشابهه). (¬8) في (أ): (سكن) وفي (ب): (يسكن) وما في (ج) أصح في السياق وموافق لما في "الحجة" 1/ 416. (¬9) في (ب): (السبت).

النسب (¬1) إلى (طيئ) (¬2) و (الحيرة) وقوله: لَنَضْرِبَنْ بِسَيْفِنَا قَفَيْكَا (¬3) كثر إسكان (الياء) في (¬4) موضع النصب في الشعر لهذه المشابهة (¬5)، حتى ذهب بعضهم إلى استجازته في الكلام (¬6). فأما حجة أبي عمرو حيث لم يفتح عند المضمومة، وفتح عند المفتوحة والمكسورة (¬7)، هي: أن الهمزة قد فتحت لها (¬8) ما لم يكن يفتح ¬

_ (¬1) في (ب): (النسبة). (¬2) قال سيبويه: ولا أراهم قالوا: طائي إلا فرارا من (طيئي) وكان القياس (طيئي) ولكنهم جعلوا الألف مكان الياء. "الكتاب" 3/ 371. (¬3) البيت لأعرابي، ونسبه أبو زيد لراجز من حمير، يخاطب به عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- وقبله: يَابنَ الزُّبَيْرِطَالَمَا عَصَيْكَا ... وَطَالَمَا عَنَّيْتَنَا إِلَيْكَا لَنَضْرِبَنْ بِسَيْفِنَا قَفَيْكَا والشاهد (قفيكا) حيث أبدل الألف ياء مع الإضافة للضمير، والأصل قفاكا، وبعضهم يجعله من ضرورة الشعر. وردت الأبيات في "النوادر": ص 347، "الحجة" 1/ 416، "المسائل العسكرية" لأبي علي ص 158، "أمالي الزجاجي": ص 236، "المحكم" 6/ 354، "سر صناعة الإعراب" 1/ 285، "الخزانة" 4/ 428. (¬4) (في) ساقطة من (ب). (¬5) أي مشابهة الياء للألف. (¬6) انتهى ما نقله المؤلف عن "الحجة" لأبي علي 1/ 415 - 417. في حجة من أسكن الياء في قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ} وانظر "الحجة" لابن خالويه: ص 74. (¬7) مر بنا أن أبا عمرو يفتح (الياء) إذا وقع بعدها همزة مفتوحة أو مكسورة، ويسكنها إذا وقع بعدها همزة مضمومة. (¬8) في (ب): (قد فتحت لما لم تكن تفتح)، وفي "الحجة" (فتح لها ما لم يكن يفتح ..) 1/ 417. وهو الصواب.

لو لم تجاور الهمزة، ألا ترى أنهم فتحوا نحو: (يقرأ ويبرأ) ولولا الهمزة لم يفتح شيء من ذلك. فإذا فتحت لها ما لم (¬1) يفتح إذا لم تجاور (¬2) الهمزة، فأن يفتح لها ما قد يفتح مع غيرها أحرى. والمفتوحة والمكسورة (¬3) سيّان (¬4) في إتباع (الياء) لها في التحريك بالفتح، ألا ترى أنهم قد غيروا للهمزة (¬5) المكسورة الحرف (¬6) الذي قبلها، فقالوا: (الضِّئين) (¬7) في جمع [الضَّائِن] (¬8)، و (صأى صِئِيَّا (¬9) ولم يفعلوا ذلك في (رؤوف) وكذلك لم تفتح (الياء) قبل الهمزة المضمومة (¬10) كما ¬

_ (¬1) في (ب): (ما لا يفتتح) ومثله في "الحجة" 1/ 417. (¬2) في (ب): (يجاوز)، وفي "الحجة": (يجاور) 1/ 417. (¬3) في (ب): (من المكسورة). (¬4) في (أ): (شيان) وفي (ب): (سان) وأثبت ما في (ج)، لأنه أصوب وموافق للحجة 1/ 417. (¬5) في (ب): (الهمزة). (¬6) في (ب): (للحرف). (¬7) في (أ)، (ب) (الصيئن) وأثبت ما في (ج)، لأنه هو الصواب وموافق لما في (الحجة) 1/ 417. (¬8) في جميع النسخ (الضان) وفي (الحجة) (الضائن)، قال في "الصحاح": (الضائن) خلاف الماعز والجمع (الضأن) وقد يجمع على (ضئين) "الصحاح" (ضائن) 6/ 2153. (¬9) في (أ). (صآ. صئيا) وفي (ب): (صاصا) وفي (ج): (صاصيا) وفي (الحجة): (صأي، صئيا)، "الحجة" 1/ 417. و (الصِّئي) مثلثة: صوت الفرخ، والفيل والخنزير والفأر كلها تَصْأَى صِئِيّاً، انظر: "تهذيب اللغة" (صآ) 2/ 1955، "القاموس" (صأي): ص 1301. (¬10) كما في قوله تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} [الأعراف: 156].

فتحت قبل المفتوحة والمكسورة (¬1). فإن قيل: إن ما ذكرته من التغيير للهمزة المفتوحة والمكسورة إنما جاز في المتصل نحو (يقرأ) و (يبرأ) و (الضَّئين) و (الضَّئِي) (¬2)، وما فعله أبو عمرو من فتح (الياء) مع المفتوحة والمكسورة منفصل. قيل: شبه (¬3) المنفصل بالمتصل. وقد ذكرنا أشياء من هذا في الحجة لمن خفف: (وهو ولهو) (¬4). ومن قال: إنه فتح (الياء) مع الهمزة، لتتبين (¬5) (الياء) معها، لأنها خفية، كما بينوا (النون) مع حرف الحلق، وأخفوها مع غيرها، فإن هذه العلة لا تستقيم (¬6)، لأنه (¬7) يلزمه تحريك (الياء) مع الهمزة المضمومة لأن [النون تُبَيَّن مع الهمزة المضمومة كما تُبَيَّن مع المفتوحة والمكسورة، وأيضا ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) (الضئي) كذا وردت في (أ، ج) وكذا في "الحجة" 1/ 418، وفي (ب): (الضبي) ولم أعرف المراد به، والمعروف (ضأي): دق جسمه. انظر "تهذيب اللغة" (ضأي) 3/ 2083، "اللسان" (ضأي) 4/ 2542، "القاموس": ص1304. ولعل المراد (الصئي) كما سبق أن مثل بها مع (الضئين). (¬3) في (أ)، (ج): (نشبه) وفي "الحجة": (يشبه) 1/ 418، وأثبت ما في (ب)، لأنه أولى بالسياق. (¬4) في (أ)، (ج): (وهو وهو) وأثبت ما فىِ (ب). وعبارة أبي علي في (الحجة): (قد ذكرنا منها أشياء في هذا "الكتاب" 1/ 418، وقد سبق هذا في: 2/ 306 - 309. (¬5) في (أ)، (ج): (ليتبين) وما في (ب) أولى، وموافق لما في "الحجة" 1/ 418. (¬6) في (أ) (يستقيم). وعبارة أبي علي في (الحجة): (فإنا لا نرى أن أبا عمرو اعتبر هذا الذى سلكه هذا القائل، ولو كان كذلك لحرك (الياء) ... إلخ) 1/ 418. (¬7) في (ب): (لا يلزمه).

31

فإن] (¬1) النون تُبيَّن (¬2) مع سائر حروف الحلق [، ولسنا نعلم أبا عمرو يفتح (الياء) مع سائر حروف الحلق.] (¬3) فإن قلت: فإن الهمزة قد تفتح (¬4) لها ما قبلها وإن كانت مضمومة، نحو: (يقرأ) في موضع الرفع، فهلا فتح (الياء) في {عَذَابِي أُصِيبُ} [الأعراف: 156]. قلنا: الضمة إذا كانت للإعراب (¬5) لم يكن في حكم الضمة عندهم، ألا ترى أنهم قد (¬6) قالوا: نَمِرٌ وكَتِفٌ، ونحو ذلك في الرفع، ورفضوا الضمة مع الكسرة في كلامهم (¬7) فلم يجئ فيه (فُعِل) (¬8). 31 - وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} الآية. قال ابن عباس والحسن وقتادة: لما قال الله عز وجل للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالوا فيما بينهم: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أفضل ولا أكرم عليه منا، وإن كان خيرًا منا فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) في (أ)، (ج): (يتبين) وما في (ب) موافق للحجة. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). وبهذا ينتهي الجزء الأول من "الحجة"، وقوله: (فإن قلت ..) أول الجزء الثاني. (¬4) في (ب): (يفتح). (¬5) في (أ)، (ج): (الإعراب) وما في (ب) هو الصحيح وموافق للحجة 2/ 5. (¬6) (ق) ساقطة من (ب). (¬7) إذا لم تكن الضمة للإعراب، أما الضمة في (نمر وكتف) فهي للإعراب، فلم يمنعوا مجيء الكسرة قبلها. (¬8) هذا آخر ما نقله الواحدي عن كتاب "الحجة" لابن علي الفارسي في حجة أبي عمرو في فتح (ياء المتكلم) إذا لقيت همزة مفتوحة أو مكسورة، وتسكينها إذا لقيت همزة مضمومة. انظر: "الحجة" 1/ 417، 2/ 5.

فلما أعجبوا بعلمهم، فضل الله عز وجل آدم عليهم بالعلم فعلمه الأسماء كلها (¬1). ووجه تعليمه آدم: أن خلق في قلبه علماً بالأسماء على سبيل الابتداء، وألهمه (¬2) العلم بها (¬3). وأما (آدم) فقال ابن عباس: إنما سمي آدم، لأنه خلق من أديم الأرض (¬4). ومثل هذا قال أهل اللغة فيما حكا الزجاج عنهم، قال: يقول أهل اللغة في آدم: إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خلق من تراب، وأديم ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي، وقال: وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة، "تفسير الثعلبي" 1/ 61 ب. وأخرج الطبري في "تفسيره" نحوه عن قتادة والحسن 1/ 256. وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن قتادة والحسن نحوه 1/ 77. وانظر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 76، "الدر" 1/ 101. (¬2) في (ب): (بالقاء). (¬3) (التعبير بـ (خلق) يوحي بما يذهب إليه الأشاعرة من القول بأزلية الصفات، ونفي ما يتعلق منها بمشيئة الله، ونفي أن الله متصف بالصفات الفعلية فيتكلم إذا شاء متى شاء، ويعلم عباده متى شاء. والله سبحانه أخبر أنه علم آدم الأسماء، فما المخول لتأويل ذلك بالخلق أو بالإلهام، قال ابن عطية. تعليم آدم عند قوم إلهام علمه ضرورة. وقال قوم: تعليم بقول، إما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه ...) "تفسير ابن عطية" 1/ 233. قال أبو حيان -بعد أن ذكر الأقوال في هذا-: (أظهرها أن الباري تعالى هو المعلم لا بواسطة ولا إلهام) "البحر" 1/ 145. وهذا هو الموافق لنص الآية. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" قال شاكر: إسناده صحيح 1/ 480 (ط. شاكر)، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" بسند صحيح، كذا قال المحقق 1/ 297، وذكره السيوطي في "الدر"، وعزاه إلى الفريابي، وابن سعد، وابن جرير وابن حاتم، والحاكم، والبيهقي في "الأسماء والصفات". انظر: "الدر" 1/ 100.

الأرض: وجهها (¬1) [قال الليث: أديم كل شيء ظاهر جلده، وأدمة الأرض وجهها] (¬2) والأُدمة لون مشبه بلون التراب (¬3). أبو عبيد عن الفراء قال: الأُدمة في الناس شُرْبة من سواد، وفي الإبل والظباء بياض، يقال: ظبية (¬4) أدماء، ولم أسمع (¬5) أحدا يقول للذكر من الظباء: آدم، ولو قيل، كان قياسا (¬6). وقال ذو الرمة: مِنَ المؤْلِفَاتِ الرَّمْلَ أَدْمَاءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتْنِهَا يَتَوَضَّحُ (¬7) وقال الأعشى في الناقة: فَقُلْتُ لَهُ هذه هَاتِهَا ... بِأَدْمَاءَ في حَبْلِ مُقْتَادِهَا (¬8) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 80، وانظر "تهذيب اللغة" (أدم) 1/ 134. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) ونحوه قال الزجاج، انظر "تهذيب اللغة" (أدم) 1/ 134، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 80. (¬4) في (ب): (صبية). (¬5) في (ب): (يسمع). (¬6) الكلام في "تهذيب اللغة" منسوب لليث، وكلام أبي عبيد عن الفراء قال: الأدمة: الوسيلة إلى الشيء، يقال: فلان أدمتي إليك أي: وسيلتي. "التهذيب" (أدم) 1/ 134. (¬7) المُؤْلِفَات: التي اتخذت الرمال إلفا، يتوضح: يبرق، والبيت في وصف الظباء. ورد في "الكامل" 2/ 303. "تهذيب اللغة" (أدم) 1/ 134، "مقاييس اللغة" (ألف) 1/ 131، "اللسان" (أدم) 1/ 46، "ديوان ذي الرمة" 2/ 1197. (¬8) قاله يخاطب خمارًا، يقول: هات الخمر بناقة برمتها، والأدماء: الناقة صادقة البياض سوداء الأشفار. ورد البيت في "التهذيب" (رم) 2/ 1474، "مقاييس اللغة" (رم) 2/ 379، "اللسان" (رمم) 3/ 1736، "ديوان الأعشى": ص 58، وفيه (فقلنا) بدل (فقلت).

وقال النضر بن شميل: سمي آدم، لأنه كان أبيض اللون (¬1). واختلف في هذه الأسماء التي علمها الله آدم، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة (¬2). وظاهر اللفظ يدل على هذا، وعلى أنه علمه جميع اللغات، لأنه قال: الأسماء كلها، فيما وقع عليه الاسم بأي لغة كان داخل تحت هذا الإطلاق (¬3)، على أنه قد قال جماعة من أهل التأويل: إن الله تعالى علم آدم ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 63 أ، "تفسير القرطبي" 1/ 240، "زاد المسير" 1/ 62، والراجح: أن آدم مشتق من (أديم الأرض) كما هو قول ابن عباس، وقول أئمة اللغة كما سبق. انظر: "الطبري" 1/ 214، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 80، "تهذيب اللغة" 1/ 134، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 240. (¬2) انظر أقوالهم في "تفسير الطبري" 1/ 215 - 217، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 80، والثعلبي 1/ 62 أ، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 234، "تفسير ابن كثير" 1/ 78. (¬3) وهذا ما رجحه ابن كثير حيث قال: (والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن عباس: حتى الفسوة والفسية، يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر ..) واستدل ابن كثير على هذا بالحديث الذي أخرجه البخاري وفيه: "فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء .. " "تفسير ابن كثير" 1/ 78. أما ابن جرير "الطبري" فرجح أن المراد: أسماء ذريته وأسماء الملائكة دون أساء سائر أجناس الخلق، واستدل على هذا بقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} وبأن العرب لا تكاد تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، أما إذا كنت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوى من ذكر فإنها تكنى عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنون فتقول: (عرضهن) أو (عرضها)، انظر "تفسير الطبري" 1/ 216. وقد رد ابن كثير هذا الاحتجاج وقال: ليس بلازم، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. ابن كثير في "تفسيره" 1/ 78، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 108 - 109، "البيان" 1/ 72، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 241 - 242.

جميع اللغات، ثم إن أولاده تكلم كل واحد منهم بلغة [أخرى، فلما تفرقوا في البلاد اختص كل فرقة منهم بلغة] (¬1)، فاللغات كلها إنما سمعت من آدم وأخذت عنه (¬2). وقال الزجاجي في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}: الأسماء (¬3) على كثرتها عشرة أقسام (¬4)، فمنها: أسماء الأشخاص التي نسميها الأعيان نحو: الشجر والجبل والأرض والمدر. ومنها: أسماء المعاني، وهي (¬5) أسماء الحوادث، ويسميها (¬6) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). حول هذا المعنى انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 234 - 235، والبغوي في "تفسيره" 1/ 80، "القرطبي" في "تفسيره" 1/ 242 - 243، "البحر" 1/ 145. (¬2) هذا على قول من يرى أن أصل اللغة وحي لا اصطلاح، وقد أطال ابن جني في كتاب "الخصائص" بحث هذِه المسألة، ورجح أنها (وحي)، "الخصائص" 1/ 40 - 47. (¬3) (الأسماء) ساقط من (ب). (¬4) لم أجد هذا الكلام بهذا النص فيما اطلعت عليه من كتب الزجاجي، وهذا التقسيم اجتهادي، وللزجاجي تقسيم للأسماء غير هذا، قال في كتاب (اشتقاق أسماء الله)، (.... فالأسماء تنقسم أولا قسمين معرفة ونكرة ... هذا أول انقسام الأسماء، ثم تتنوع بعد ذلك فتصير ستين نوعا ...) ثم دخل في تفصيل هذِه التقسيمات، وقال في موضع آخر (... وقد ذكرنا أنواع الأسماء الستين في شرح كتاب الجمل مفسرة ...) قال المحقق: لم يرد كتاب شرح الجمل ضمن كتب الزجاجي المعروفة، ولعل المراد به (الجمل الكبرى)، انظر: "شرح أسماء الله": ص 267 - 274. وذكر الثعلبي في "تفسيره" أن أقسام الاسم ثمانية ثم ذكرها، "تفسير الثعلبي" 1/ 63 أ. (¬5) في (ب): (وهو). (¬6) في (أ) و (ج): (وتسميتها).

النحويون المصادر، لأن الأفعال تصدر عنها، وذلك نحو: الضرب والقتل. ومنها: أسماء الألقاب، نحو: زيد وعمرو فيمن يعقل، وفيما لا يعقل نحو: يحموم وسكاب وداحس (¬1)، أسماء أفراس الأعراب، أجريت عليها لقبا لا لمعنى، وهذا القسم (¬2) غير الأول الذي هو من أسماء الأشخاص لأن أسماء الأشخاص لا يخلو من أن تكون جارية على مسمياتها لمعنى، لولا ذلك ما أجريت عليها، وزيد لم يسم زيدا لمعنى فيه (¬3)، لأنه كان يجوز أن يسمى (¬4) بكرا وخالدا. ومنها: أسماء الأزمنة، كاليوم والليلة، والساعة وغد، وأمس. ومنها: أسماء الأمكنة، وهي الجهات الست، نحو: قدام وخلف وفوق وتحت ويمنة ويسرة. ومنها: أسماء الفاعلين نحو: الضارب والقاتل والآكل والشارب. ومنها: أسماء المفعولين نحو: المضروب والمقتول. ومنها: أسماء الحلي والشيات نحو: الأحمر والأصفر والأعرج والأحدب وما يجري مجراها. ومنها: أسماء المكاني (¬5) والمضمرات نحو: أنا ونحن (¬6)، وأنت، ¬

_ (¬1) في (ب): (وداحسن). (¬2) في (ب): (الأسمر). (¬3) (فيه) ساقط من (ب). (¬4) (أن يسمى) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (العاني). (¬6) (نحن) ساقطة من (ب).

وهو وهي وهم (¬1) وهن، وهذا وذاك وأولئك وهؤلاء. والقسم العاشر خاص للعرب وهو أسماء الأفعال نحو قولهم: (صه) هو اسم موضوع لقولك (¬2): (اسكت)، و (هيهات) لقولك: (¬3) (ما أبعد)، و (مهلا) موضوع لقولك: (أمهل) وهذا الجنس قليل. وكل هذه الأسماء، [قصد واضع اللغة فيها إلى أن يجريها على مسمياتها لمعان يتضمنها، إلا (¬4) أسماء] (¬5) الألقاب نحو: زيد وعمرو، فإن قولنا: (زيد) وإن كان مأخوذا من الزيادة فليس بحاو على مسماه لهذا المعنى، وليس فيه إلا تعريف شخص من شخص. ولما صدقت العناية ببعض الأسماء دون بعض، أدرك معاني بعضها وموضوعه وحقيقته ومجازه وأصله وفرعه، وما لم يصدق (¬6) العناية به أو قل التصرف فيه صار كالجامد الذي لا يعرف له أصل، ولا يخلو من أن يكون له معنى صحيح، لذلك المعنى ما سمي (¬7) به، وإن لم يدركه الناس. وقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}. يقال (¬8): عرضت المتاع ¬

_ (¬1) (هم) ساقطة من (ب). (¬2) في (ب): (كقولك سلت). (¬3) في (ب): (موضوع كقولك). (¬4) في (أ): (الأسماء). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (تصدق). (¬7) العبارة فيها غموض، ولعل فيها سقط أو زيادة، ولو حذفنا (ما) لاستقام المعنى. (¬8) في (ب): (فقال).

على البيع عرضا، وكذلك عرض الجند والكتاب. ومعنى العرض في اللغة: الإظهار، ومنه عرض الجارية وعرض الجند (¬1). الليث: ويقال: أعرض الشيء أي: بدا وظهر، وأنشد: إِذَا أَعْرَضَت (¬2) دَاوِيَّةٌ (¬3) مُدْلَهِمَّةٌ (¬4) أي بدت (¬5). وقال الفراء في قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100]، أي أبرزناها حتى رأوها. قالوا (¬6): ولو جعلت الفعل لها زدت ألفا، فقلت: أعرضت، أي (¬7): استبانت وظهرت (¬8). فجاء من هذا ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (عرض) 1/ 2396، 2398، 2402، "الصحاح" (عرض) 3/ 1082. (¬2) في (ب)، (ج) (عرضت). (¬3) في (ب): (دويه). (¬4) تمامه. وغَرَّدَ حَادِيَها فَرَيْنَ بِهَا فِلْقَا نسبه في "الصحاح" إلى (سويد بن كرُاع العكلي)، قال: و (كرع) اسم أمه، واسم أبيه عمير و (الداوية): الفلاة الواسعة، والفلق: بالكسر الداهية والأمر العجب، ورد في "تهذيب اللغة" (عرض) 1/ 2398، "الصحاح" (فلق) 4/ 1544، "اللسان" (غرد) 6/ 3232، و (عرض) 5/ 2886. (¬5) الكلام في "تهذيب اللغة" منسوب لشمر وليس لليث. "التهذيب" (عرض) 1/ 2398، وفي "اللسان" (عرض) 5/ 2886، غير منسوب. (¬6) كذا في جميع النسخ (قالوا) والصحيح (قال) كما في "تهذيب اللغة" 1/ 2398. (¬7) في (ب): (على أي). (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 160، و"تهذيب للغة" (عرض) 1/ 2398، والعبارة نقلها الواحدي عن (التهذيب)، انظر "الصحاح" (عرض) 3/ 1084.

أنه يقال: عرضت الشيء فأعرض، أي أظهرته فظهر، وأعرض بوجهه أي أزاله عن جهة الظهور، وعرض بالشيء، حرفه من جهة الظهور (¬1). فإن قيل: فلم قال: {عَرَضَهُمْ} فجمع الكناية وهي عائدة على (¬2) الأسماء؟ فالجواب ما قال مقاتل: وهو أن الله تعالى خلق كل شيء، الحيوان والجماد ثم علم آدم أسماءها، ثم عرض تلك الشخوص الموجودات على الملائكة (¬3). وكنى عن الشخوص والمسميات [بقوله: {هُمْ} لأن فيها ما يعقل من الجن والإنس والملائكة، فالعرض يعود إلى المسميات] (¬4) لا إلى الأسماء (¬5). وقال ابن زيد: علمه أسماء ذريته (¬6)، وعلى هذا العرض يعود إلى الذرية. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" (عرض) 3/ 1082 - 1084، "معجم مقاييس اللغة" (عرض) 4/ 272. (¬2) في (ب): (إلى) (¬3) ذكر قول مقاتل الثعلبي في "تفسيره" 1/ 62 أ. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) ذكر نحوه الزجاج في "المعاني" 1/ 78، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 216 - 217، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 78. وقد قيل: إن الضمير (هم) يعود على الأسماء لا على المسميات. انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 235 - 236، "القرطبي" 1/ 241. (¬6) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 216، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 62 أ، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 78، والسيوطي في "الدر" 1/ 101، والشوكاني في "فتح القدير" 1/ 103.

وقوله تعالى: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي}. أمر تعجيز (¬1)، كقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أراد الله تعالى أن يبين عجزهم (¬2)، وذلك أن الملائكة أخبروا عن شيء لم يخلق لهم العلم به، وقالوا شيئاً بظن (¬3) منهم وحسبان، فخلق سبحانه لآدم (¬4) العلم بالأسماء (¬5) دونهم تفضيلاً له، ثم استخبرهم عن ذلك، أراد كيف تدعون علم ما لم يكن بعد، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون (¬6). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. أي: إن صدقتم أن الخليفة الذي أجعله في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء قاله ابن عباس، [وناس من الصحابة] (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 62 أ، والخازن 1/ 102، وأكثر المفسرين على أنه للتقرير والتوقيف، كما قال الطبري: إنه مثل عتاب الله لنبيه نوح. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 219، "ابن عطية" 1/ 236، "القرطبي" 1/ 243. (¬2) قال الطبري: (وقد زعم بعض نحويي أهل البصرة أن قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لم يكن ذلك لأن الملائكة ادعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب ... كما يقول الرجل للرجل: (أنبئني بهذا إذ كنت تعلم) وهو يعلم أنه لا يعلم ...) ثم أخذ يرد عليه. "تفسير الطبري" 1/ 219. (¬3) في (أ): (يظن)، وفي (ب): (نظن) وأثبت ما في (ج)، لأنه أصح. (¬4) في (ج): (العد لادم). (¬5) انظر التعليق السابق على ما ذكر الواحدي في معنى تعليم الله آدم، وأنه بمعنى خلق به العلم بذلك: ص 348. (¬6) انظرت "تفسير الطبري" 1/ 218، و"تفسير ابن كثير" 1/ 79. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). والرواية عن ابن عباس، وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أخرجها الطبري بسنده، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 218، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 62 أ، و"تفسير ابن كثير" 1/ 79، "الدر" 1/ 101.

32

وقال الحسن: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم وأفضل منه، وكذلك قال قتادة (¬1). 32 - فقالت الملائكة إقراراً بالعجز واعتذاراً: {سُبْحَانَكَ} (¬2). قال ابن عباس: تنزيهاً لك وتعظيماً عن أن يعلم الغيب أحد (¬3) سواك (¬4). وقيل: تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك في حكمك وتدبيرك (¬5). وهو منصوب على المصدر عند الخليل والفراء، إذا قلت: (سبحان الله) (¬6) فكأنك قلت: سبّحتُ الله تسبيحاً، فجعل السبحان موضع التسبيح، كما تقول: كفرت عن يميني تكفيراً، ثم يجعل الكفران في موضع التكفير فتقول: كفَّرت عن يميني كُفراناً (¬7). وقد ينوب الاسم عن المصدر وتقول (¬8): كلمته كلاماً، وسلم سلاماً، قال الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. وقال سيبويه: يقال: سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً بمعنى واحد، ¬

_ (¬1) ذكر قوليهما الطبري في "تفسيره" 1/ 218، و"تفسير الثعلبي" 1/ 62 أ، و"تفسير ابن كثير" 1/ 79، "الدر" 1/ 101. (¬2) في (ج): (قالوا سبحانك). (¬3) في (ب): (أحدا). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" من طريق الضحاك عن ابن عباس 1/ 221، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه لابن جرير 1/ 101. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 62 أ. (¬6) عبارة الفراء: (سبحانك) منصوب على المصدر، كأنك قلت: سبحت لله تسبيحا ..) "الزاهر" 1/ 145. (¬7) كلام الفراء في "الزاهر" 1/ 145، وقول الخليل في "تفسير الثعلبي" 1/ 62 أ، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 160، "البيان" 1/ 72، "الإملاء" 1/ 29. (¬8) في (ج): (ويقوله).

فالمصدر: تسبيح، وسبحان اسم يقوم مقام المصدر. قال: وقال أبو الخطاب الكبير (¬1): سبحان الله، كقولك: براءةَ الله من السوء، ومنه قول الأعشى: سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ (¬2) أي براءةً منه (¬3). وقال النضر: رأيت في المنام كأن إنساناً فسر لي سبحان الله، قال: أما ترى الفرس يسبح، يريد السرعة، سبحان الله: السرعة إليه (¬4). وقد ذكرنا معنى التسبيح عند قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} (¬5). وقوله تعالى: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}. قال المفسرون وأهل المعاني: هذا اعتراف (عن) (¬6) الملائكة بالعجز عن علم ما لم يعلموه فكأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا (¬7)، وليس هذا مما علمتنا [في ¬

_ (¬1) هو عبد الحميد بن عبد المجيد، أبو الخطاب، الأخفش الكبير النحوي، شيخ سيبويه في النحو، انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي: ص 40، "إنباه الرواة" 2/ 157، "بغية الوعاة" 2/ 74. (¬2) البيت سبق تخريجه في تفسير قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]: 2/ 336. (¬3) انظر كلام سيبويه في "الكتاب" 1/ 322 - 1/ 324، "تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1609، والنص من "التهذيب". (¬4) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 2610. (¬5) سورة البقرة: 30، انظر: 2/ 335 - 337. (¬6) (عن) في جميع النسخ ولو كانت (من) كان أولى. (¬7) انظر "تفسير الطبري" 1/ 220، "البحر المحيط" 1/ 147، "ابن كثير" 1/ 79، " البيضاوي" 1/ 21.

الكلام مختصرًا] (¬1). ولو قالوا: (لا علم لنا بهذا) كان جواباً، ولكن لا يكون متضمناً تعظيم الله والاعتراف بأن جميع علمهم من عنده. وقيل: إنه تلطّف في طلب علم ما لم يعلموه، وتوبة عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} من غير علم لهم بذلك، نبههم الله تعالى بعجزهم عن أسماء الموجودات على أن من جهلها فهو أجهل بأحكام الغائبات، وفي هذا التنبيه إشارة إلى نهيهم عن الحكم لأنفسهم بالطاعة، فإنه لا علم لهم بالعواقب، فإن أمر العواقب (¬2) مستور، ففيه تنبيه عن (¬3) خطئهم في الأمرين جميعا. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ}. أي العالم غير المعلم (¬4). (الحكيم) (¬5) في خلقك الخليقة، ومعنى: (الحكيم) هو المحكم للأشياء (¬6) صرف من (مُفْعل) إلى (فَعِيل) كالسميع في قوله: أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي (¬7) السَّمِيعُ (¬8) ¬

_ (¬1) قوله: (في الكلام مختصرًا) كذا وردت في النسخ الثلاث، وفيها تصحيف، والعبارة في "الوسيط" (فجاء الكلام مختصرًا) وفي الحاشية: في (ب): (فجاء في الكلام)، "الوسيط" 1/ 79. (¬2) قوله (فإن أمر العواقب) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (على) وهو أولى. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 221. (¬5) (الحكيم) مكرر في (ب). (¬6) في (ب): (الأشياء). (¬7) في (أ)، (ب) (الراعي) وهذا خلاف المشهور في البيت. (¬8) البيت لعمرو بن معد يكرب، وقد سبق تخريجه عند تفسير قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10]: 2/ 154.

و (الأليم) بمعنى: المؤلم (¬1). قال ابن المظفر (¬2): والحُكم: العِلم (¬3)، قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. أي: العلم، والحكم: القضاء بالعدل أيضا. قال النابغة: وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ ... إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ (¬4) فالوصف لله تعالى بأنه (حكيم) يجوز أن يكون بمعنى: محكم كما ذكرنا، ويجوز أن يكون بمعنى: حاكم، كالقدير والقادر، والعليم والعالم، ويكون معناه العالم أو الذي يحكم بالعدل ويقضي به (¬5). ¬

_ (¬1) يريد أن (حكيم) بمعنى: محكم مثل (أليم) بمعنى مؤلم كذا قال الثعلبي في "تفسيره" 1/ 62 أ. وانظر: "شرح أسماء الله" للزجاج: ص 52، "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي: ص 60. (¬2) هو الليث. انظر كلامه في "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 885 (¬3) في "تهذيب اللغة": (العلم والفقه). (¬4) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح فيها النعمان، ويعتذر إليه مما بلغه عنه فيما وشي إليه به. وقد ألحقت بالمعلقات السبع لما فيها من الجودة. يقال: احكم، أي: كن حكيمًا في أمرك مصيبًا في الرأي وهذا هو المعنى المشهور في البيت ذكره الأزهري في "التهذيب" عن ابن السكيت، واستشهد الليث به على أن معنى (احكم) من القضاء بالعدل. كحكم فتاة الحي إذ أصابت ووضعت الأمر موضعه حينما نظرت إلى الحمام فاحصتها ولم تخطئ في عددها. ويروى (سراع) و (شراع) بالشين، وهي الواردة للماء. والثمد: الماء القليل، ورد البيت في "التهذيب" (حكم) 1/ 885، "الصحاح" (حكم) 5/ 1902، "اللسان" (حكم) 2/ 951، "ديوان النابغة" ص 14. (¬5) (به) ساقط من (ب). بهذا المعنى أخذ الطبري في "تفسيره" 1/ 221، وانظر =

قال الأصمعي: أصل الحكومة: رَدُّ الرجل عن الظلم، ومنه سُمِّيت حَكَمَةُ اللجام، لأنها تَرَدُّ الدابة، قال (¬1) ومنه قول لبيد: أَحْكَمَ الجِنْثِيَّ مِنْ عَوْرَاتِهَا (¬2) ... كُلُّ حِرْبَاءٍ إِذَا أُكْرِهَ (¬3) صَلّ (¬4) والجِنْثِيُّ: السيف، أي: رد السيف عن عورات (¬5) الدرع، وهي: فُرَجها، كل حِرْبَاء: وهو المسمار الذي يُسَمَّر به حلقها. هذه رواية الأصمعي (¬6). قال الأزهري: والعرب تقول: حَكَمْتُ وأَحْكَمْتُ وحَكَّمْتُ بمعنى: رَدَدْتُ ومَنَعْتُ، ومن هذا قيل للحاكم: حاكم، لأنه يمنع الظالم من الظلم (¬7). ¬

_ = "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 885، "اشتقاق أسماء الله" ص60. (¬1) (قال) ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (عوارتها). (¬3) في (ب): (احكم ضل). (¬4) للبيت روايتان: نصب (الجنثي) ورفع (كل) -وهي رواية الأصمعي التي ذكرها الأزهري- فيكون المراد بالجنثي السيف، وأَحْكَمَ بمعنى: منع ورد، فلم يصل السيف، ومنعه الحرباء، والعورات: الفتوق واحدها عورة، والحِرْبَاء: المسمار في حلق (الدرع)، إذا أكره ليدخل في الحلق سمعت له صليلا. والرواية الثانية: رفع (الجنثي) ونصب (كل) فيكون المراد بالجنثي: الحداد أو الزراد، ويكون أحكم من الإحكام للصنعة، كذا خرَّجه ابن قتيبة في "المعاني الكبير" 2/ 1030، وانظر "التهذيب" (حكم) 1/ 885، "اللسان" (صلل) 4/ 2486، و (حكم) 2/ 951، "شرح ديوان لبيد": ص 192. (¬5) في (ب): (عوارت). (¬6) انظر كلام الأصمعي في "التهذيب" (حكم) 1/ 885. (¬7) "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 885.

وقال جرير: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ (¬1) يقول: امنعوهم من التعرض (¬2). وروي عن النخعي أنه قال: حَكِّم اليَتِيم كما تُحَكَم ولدك (¬3). قال أبو عبيد: يقول: امنعه من الفساد، قال: وكل من منعته من شيء فقد حَكّمْتَه وأَحْكَمْتَه (¬4)، وأنشد بيت جرير (¬5). والحِكْمَة: هي العلم الذي يمنع [صاحبه] (¬6) من الجهل، والحاكم الذي يمنع من الجور، وكل عمل مُحَكَم (¬7) فقد منع من الفساد (¬8). ¬

_ (¬1) تمامه: إني أخاف عليكم أن أغضبا ورد البيت في "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 885. وفيه (بني حنيفة) "الكامل" 3/ 26، وفيه (نهنهوا) بدل (أحكموا)، أي أزجروا، "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 421، "الزاهر" 1/ 503، "مجمل اللغة" (حكم) 1/ 246، "اشتقاق أسماء الله": ص 61، "الصحاح" (حكم) 5/ 1902، و"تفسير الثعلبي" 1/ 62 ب، و"تفسير القرطبي" 1/ 246، "الدر المصون" 1/ 268، "الخزانة" 9/ 236. (¬2) "التهذيب" (حكم) 1/ 885. (¬3) ذكره أبو عبيد قال: حدثنيه ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم. "غريب الحديث" 2/ 421، "تهذيب اللغة" 1/ 885. (¬4) المراجع السابقة. (¬5) أي: أبني حنيفة .. البيت. (¬6) (صاحبه) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (متحكم). (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 885. "الصحاح" (حكم) 5/ 1901. "المجمل" (حكم) 1/ 246. "اللسان" (حكم) 2/ 951.

33

33 - قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}. قال المفسرون: لما ظهر عجز الملائكة، قال الله عز وجل: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} فسمى كل شيء باسمه، وألحق كل شيء بجنسه {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي: أخبرهم بتسمياتهم قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} (¬1). وفي الآية اختصار، معناه: فلما أنبأهم بأسمائهم، تحقق عندهم أن الله يعلم من العواقب ما لا يعلمون، فلما علموا ذلك (¬2)، قال الله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} و (لم) حرف نفي وصل بألف الاستفهام، فصار بمعنى الإيجاب والتقرير (¬3)، كقول جرير: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا (¬4) وفيه أيضًا معنى التوبيخ (¬5) لهم على ما سلف من خطاهم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر الطبري في "تفسيره" 1/ 221، والبغوي في "تفسيره" 1/ 80، والخازن "في تفسيره" 1/ 103، وأبي السعود "في تفسيره" 1/ 86. (¬2) وما ذكره مفهوم من السياق. (¬3) انظر: "الوسيط" للمؤلف 1/ 80، "معاني القرآن" للأخفش1/ 219، "البحر" 1/ 150، "الدر المصون" 1/ 270، "شرح المفصل" 8/ 123، "مغني اللبيب" 1/ 17. (¬4) البيت من قصيدة لجرير يمدح عبد الملك بن مروان وعجزه: وَأَنْدى العَالمِينَ بُطُونَ رَاح أندى: أكثرهم جوداً، الراح: جمع راحة وهي الكف، ورد البيت في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 219، وفي (الخصائص) 2/ 643، 3/ 269، "المصون في الأدب": ص 21، "شرح المفصل" 8/ 123، "مغني اللبيب" 1/ 17، و"شرح ديوان جرير" ص 74. (¬5) (التوبيخ) ساقط من (ب). (¬6) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب (من خطئهم) أو (من أخطائهم). انظر معنى الآية في "تفسير الطبري" 1/ 221.

وقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. (الغيب) مصدر مضاف إلى المفعول (¬1) على الاتساع، وحذف حرف الجر، لأنك تقول: غبت في الأرض، وغبت ببلد كذا، فتعديه بحرف الجر، فحذف الحرف وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى، نحو: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] و {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24] وكقولك: (أعجبني منك دخول الدار). وفيه أيضا مضاف مقدر، والمعنى: إني أعلم ذوي غيب السموات والأرض ما غاب فيها [عنكم، ومثله على هذا التقدير قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) أي: له ما غاب فيها] (¬3) ملكاً وخلقاً. ويجوز أن يكون له علم ما غاب (¬4) فيها، فيكون المضاف محذوفاً. وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. أي: أعلم سرّكم وعلانيتكم، لا يخفى علي شيء من أموركم (¬5). وقال ابن عباس: ما تبدون من قولكم: (أتجعل فيها من يفسد فيها)، (وما كنتم تكتمون) من إضمار إبليس الكفر (¬6). وعلى هذا التأويل قال: (تكتمون) بلفظ الجمع، وإن كان المراد به ¬

_ (¬1) في (ب): (المفعول به). (¬2) سورة هود: 132، وسورة النحل: 77. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 214. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 222، و"تفسير ابن كثير" 1/ 80 (¬6) أخرجه ابن جرير بسنده من طريق السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في "تفسيره" 1/ 222، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 80، "الدر" 1/ 101.

إبليس، لأن الخطاب للجماعة، وهو من جملتهم (¬1). وقال الحسن وقتادة في قوله: {مَا تُبْدُونَ} كقول ابن عباس، (وما تكتمون) يعني قولهم: لن يخلق (¬2) خلقاً أفضل ولا أعلم منا (¬3). وقد يبقى في هذه الآية سؤال لم يجد (¬4) أحداً ممن تكلم في تفسير القرآن ولا في معانيه تعرض [له] (¬5)، وهو من مهم ما يسأل عنه (¬6). وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة لما خبرها (¬7) آدم عليه السلام بتلك الأسماء صحة قوله، ومطابقة الأسماء المسميات؟ وهي لم تكن (¬8) عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء، ولم تعترف بفقد العلم. والكلام يقضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء، علموا صحتها ومطابقتها للمسميات (¬9)، ولولا ذلك لم يكن لقوله (¬10): {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ ¬

_ (¬1) انظر الطبري في "تفسيره" 1/ 222، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 241. (¬2) في (ب): (لن يخلق الله ..). (¬3) ذكره الثعلبي 1/ 62 ب، وأخرجه الطبري عنهما 1/ 222، وابن أبي حاتم 1/ 82، وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 102، و"ابن كثير" 1/ 80. (¬4) كذا في جميع النسخ، والمعنى: لم يتعرض أحد لهذا السؤال. (¬5) (له) ساقطة من (ب). (¬6) بل إن في هذا السؤال شيئاً من التكلف، ولا فائدة كبيرة من معرفة جوابه، ولا ينبني عليه حكم، وقد ذكر الرازي هذا السؤال والإجابة عنه بنحو ما ذكر الواحدي هنا فلعله نقل عنه 2/ 177. (¬7) في (ب): (حرها). (¬8) في (أ): (يكن) وما في (ب) و (ج) أصح في السياق. (¬9) يمكن أن يعلموا صحتها بمجرد إخبار آدم عليه السلام بالأسماء، وإقرار الله له على ذلك، وعلى هذا فلا داعي لتحمل الإجابة عن هذا السؤال. (¬10) في (ب): (كقوله).

غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معنى. والجواب: أنه (¬1) غير ممتنع أن تكون الملائكة في الأول غير عارفين بتلك الأسماء فلما أنبأهم آدم عليه السلام بها، خلق الله تعالى (¬2) لهم في الحال العلم الضروري بصحتها ومطابقتها للمسميات، إما من طريق، أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تمييزه (¬3) واختصاصه (¬4). ووجه آخر: وهو أنه لا يمتنع أن تكون للملائكة لغات مختلفة، فكل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيرها، فلما أراد الله تعالى التنبيه على فضيلة آدم، علمه (¬5) تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها علم كل فريق (¬6) مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل فريق وإذا أخبر كل قبيل صاحبه علم بذلك من لغة غيره ما علمه من لغته (¬7)، وهذا الجواب يقتضي أن يكون معنى قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} أي: ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء. ¬

_ (¬1) في (ب): (له). (¬2) انظر التعليق السابق على ما ذكر الواحدي عن معنى تعليم الله آدم، وأنه بمعنى: خلق له العلم بذلك: 2/ 348. (¬3) في (ب): (تميزه) وهو الأصوب. (¬4) قال الرازي: (.. ولا يمتنع أن يقال: إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء، ما استدلوا به على صدق آدم). (¬5) في (ب): (علمهم). (¬6) في (أ): (فريق منهم). (¬7) هذا من التكلف الذي لا دليل عليه.

34

34 - قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الآية. (إذ) في موضع نصب نسقاً على (إذ) (¬1) التي قبلها (¬2). وقوله: {قُلْنَا} [هو من خطاب الأكابر والعظماء، يقول الواحد منهم: فعلنا وقلنا، لعلمه بأن أتباعه يفعلون] (¬3) كفعله، ويجرون على مثل أمره، فأخبر الله تعالى عن نفسه على الجمع، لأنه ملك الملوك، وكل من في السموات والأرض له خلقاً (¬4) وملكاً (¬5). وعلى هذا خوطب في الجواب في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] معناه: يا رب ارجعني، فلما أخبر جل اسمه (¬6) عن نفسه [بالجمع خوطب بمثل ذلك (¬7). وقوله: {لِلْمَلَائِكَةِ} اختلفوا في] (¬8) الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم من هم؟ فقال بعضهم: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): (إذا) وهو خطأ. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 180، و"تفسير الطبري" 1/ 224، و"تفسير ابن عطية" 1/ 243، وقال مكي: منصوب بفعل مقدر (اذكر) مثل (إذ) قلبها. انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 35. وقيل: زائدة، قاله أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 37، وضعفه أبو حيان. انظر: "البحر" 1/ 152، "الدر المصون" 1/ 271. (¬3) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬4) في (أ): (خلفاء) وما في (ب)، (ج) أصح. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 38، والقرطبي 1/ 248، (البحر) 1/ 152. (¬6) (جل اسمه) ساقط من (ب). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 21. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬9) ورد هذا ضمن الخبر الطويل عن ابن عباس، الذي أخرجه الطبري، وهو ضعيف =

وقال بعضهم: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، لأنه قال: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، وفي هذا (¬1) تأكيد للعموم، وتحقيق له (¬2). وقوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} أصل السجود في اللغة الخضوع والتذلل، وكل من ذل وخضع لما أمر به فقد سجد، ومنه قوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48] أي: خُضَّعاً مسخرة (¬3) لما سخرت له، وسجود كل موات في القرآن، طاعته لما سخر له (¬4). وقال أبو عبيدة: عين ساجدة إذا كانت فاترة، والسُّجَّد من النساء الفاترات الأعين، ونخلة ساجدة إذا مالت لكثرة حملها (¬5). ومنه قول الشاعر: ¬

_ = الإسناد، كما ذكر ذلك شاكر في تعليقه، انظر: "الطبري" 1/ 224. وذكره ابن أبي حاتم بسنده عن أبي العالية، قال محقق "الكتاب": إسناده ضعيف، والخبر لم أقف عليه، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 83، وانظر القرطبي في "تفسيره" 1/ 248، والرازي في "تفسيره" 2/ 138، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 80. (¬1) (هذا) ساقط من (ب). (¬2) وهذا هو الأرجح، انظر: في "تفسير الطبري" 1/ 224، وفي "تفسيرالرازي" 2/ 238، وقد ذكر وجوها كثيرة في ترجيح هذا القول وانظر: "تفسيرالقرطبي" 1/ 248، ورجحه ابن كثير في "تفسيره" 1/ 80. (¬3) في "تهذيب اللغة": (مسخرة) 2/ 1650. (¬4) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (سجد) 2/ 1630، وانظر "اللسان" (سجد) 4/ 1940 (¬5) قال الأزهري: (روى ابن هاني لأبي عبيدة .. ثم ذكره دون قوله: (والسجد من النساء الفاترات الأعين) "تهذيب اللغة" (سجد) 2/ 1630.

تَرى الأُكْمَ (¬1) فِيِه سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ (¬2) أي ذليلة خاضعة. قال الأعشى: مَنْ يَرَ هَوْذَةَ يَسْجُدْ غَيرَ مُتَّئِبٍ (¬3) ... إِذَا تَعَمَّمَ (¬4) فَوْقَ الرَّأْسِ أَوْ وَضَعَا (¬5) أي يخضع له ويتذلل. وأنشد ابن الأنباري لابن مقبل: ثُمَّ نَوَّمَنْ وَنِمْنَا سَاعَةً ... خُشَّعَ الطَّرْفِ سُجُوداً لِلْخُطَم (¬6) ¬

_ (¬1) في (ب): (الالم). (¬2) البيت لزيد الخيل وصدره: بِجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَرَاتِه ويروى: بجيش، البلق: جمع أبلق، وهو الفرس المحجل، الحجرات: الناحية، الأكم: جمع أكمة، وهي تل أشد ارتفاعا مما حوله ودون الجبل. يصف كثرة هذا الجيش وأن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر. ورد البيت في الطبري في "تفسيره" 1/ 365، "المعاني الكبير" 2/ 890، و"الأضداد" لابن الأنباري: ص 295، و"الزاهر" 1/ 141، "معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" 2/ 542، و"تأويل مشكل القرآن": ص 417، و"الصحاح" (سجد) 2/ 483، و"اللسان" 4/ 1940، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 248، والبيضاوي في "تفسيره" 1/ 21، "البحر المحيط" 1/ 51، "الدر المصون" 1/ 274. (¬3) في (ب): (منيب). (¬4) في (أ)، (ج): (تعم) وما في (ب) هو الصحيح، ومثله ورد في "المخصص" 13/ 107. (¬5) البيت من قصيدة طويلة للأعشى يمدح (هوذة بن علي الحنفي) ويروى البيت (من يلق) بدل (من ير) و (تعصب فوق التاج) بدل (تعمم فوق الرأس). وقوله: (غير متئب): أي لا يستحي أن يسجد لطلعته المهيبة وفد تعمم فوق الرأس، أو وضع الإكليل. ورد البيت في ديوان الأعشى: ص 108، "المخصص" 13/ 107. (¬6) قوله: (نوَّمن) أي الإبل نومت. الخطم: جمع خطام، وهو الحبل الذي يقاد به =

يعني الإبل، فسجودها خضوعها. ويقال -أيضا-: (أسجد) بهذا (¬1) المعنى: أي طأطأ رأسه وانحنى (¬2). هذا أصل السجود في اللغة، ثم قيل لكل من وضع جبهته على الأرض: سجد، لأنه غاية الخضوع (¬3). وإذا ابتدأت بقوله: {اسْجُدُوا} ضممت الألف (¬4)، والألف (¬5) لا حظ لها من الإعراب، وإنما أدخلت ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، فكان حظها الكسر، لأن (¬6) بعدها ساكنا، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسرة، وليس في كلامهم مثل (فِعُل)، ولا مثل (إفْعُل) (¬7). واختلفوا في كيفية سجود الملائكة لآدم فقال جماعة: كان سجود الملائكة لآدم على جهة التكريم، فكان ذلك تكريماً لآدم وطاعةً لله ¬

_ = البعير. ورد البيت في (ذيل ديوان ابن مقبل) مع القصائد المنسوبة له، وليست في "الديوان": ص403. وورد في "أساس البلاغة" (نوّم): 2/ 483. (¬1) في (ب): (بها). (¬2) في "تهذيب اللغة": أبو عبيد عن أبي عمرو: أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه وانحنى. "تهذيب اللغة" (سجد) 2/ 1630، وانظر: "مقاييس اللغة" (سجد) 3/ 133. (¬3) "تهذيب اللغة" (سجد) 2/ 1630، "الصحاح" (سجد) 2/ 483، "اللسان" (سجد) 4/ 1940. (¬4) إذا ابتدأت بهمزة الوصل أخذت حركة الحرف الثالث، انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 81. (¬5) (والألف) ساقط من (ج). (¬6) في (ج): (لان ما بعدها). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 81، "تفسير الثعلبي" 1/ 60 أ، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 163.

سبحانه، ولم يكن عبادة لآدم (¬1). وحكى (¬2) ابن الأنباري عن الفراء وجماعة من الأئمة أن سجود الملائكة لآدم كان تحية ولم يكن عبادة، وكان ذلك سجود تعظيم وتسليم وتحية، لا سجود صلاة وعبادة، وكان ذلك تحية الناس وتعظيم بعضهم بعضا (¬3)، ولم يكن وضع الوجه على الأرض، إنما كان الانحناء والتكفير (¬4)، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام (¬5). وقيل: كان سجود على الحقيقة (¬6)، جعل آدم قبلة لهم، والسجود لله ¬

_ (¬1) هذا قول جمهور المفسرين، قالوا: إنه سجود حقيقي ولكنه ليس سجود عبادة، فالتكريم لآدم، والعبادة والطاعة لله. ذكره الطبري في "تفسيره"، وروى في ذلك أثرا عن قتادة، ولم يذكر غير هذا القول. انظر "تفسير الطبري" 1/ 229، وذكره ابن كثير في "تفسيره" ورجحه، ضعف ما عداه 1/ 81، وكذا الرازي في "تفسيره" 1/ 212، وانظر "زاد المسير" 1/ 64، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 248. (¬2) (الواو) ساقطة من (ج). (¬3) قوله (وكان ذلك تحية الناس ...) هل كان قبل آدم ناس؟ أم هو تجاوز في العبارة؟ (¬4) التكفير: هو أن يضع الرجل يده أو يديه على صدره وطأطأ برأسه، وهو كالتحية عند أهل "الكتاب"، انظر: "اللسان" (كفر) 7/ 3897. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره"، ولم يعزه 1/ 63 أ. وذكره الرازي في "تفسيره" وضعفه، وقال: (السجود لاشك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك، لأن الأصل عدم التغيير، فإن قيل: السجود عبادة، والعبادة لغير الله لا تجوز، قلنا: لا نسلم أنه عبادة وبيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيدا كالقول ...). "تفسير الرازي" 2/ 213، وضعفه ابن كثير في "تفسيره" 1/ 83، وانظر القرطبي في "تفسيره" 1/ 250، و"زاد المسير" 1/ 64. (¬6) في (ب): (بالحقيقة).

عز وجل (¬1)، إلا أن هذا ضعيف، لأنه لو كان، لقيل: اسجدوا إلى آدم. وقال أبي بن كعب: معناه: أقروا لآدم أنه خير وأكرم عليّ منكم، واخضعوا له وكونوا تحت أمره (¬2)، وهذا المعنى موافق لأصل اللغة. وقوله: {لِآدَمَ} حقه الكسر، إلا أنه لا يجري (¬3) ما كان من هذا الباب نحو: الأحمر (¬4) والأصفر في معرفة ولا نكرة، لاجتماع علتين فيه في حال نكرته، وهو وزن الفعل، وكونه صفة، فإن سميت به لم تصرفه في حال المعرفة أيضا للتعريف، ووزن الفعل، فإن نكرته لم تنصرف (¬5) -أيضا - عند سيبويه (¬6)، [وانصرف عند الأخفش (¬7). وحجة سيبويه] (¬8) أنه قبل أن يسمى به اسم وإن كان صفة، فقد كان في حال (¬9) التنكير قبل التسمية به [غير منصرف، فإذا سميت به فحكم الصفة لم يرتفع عنه، ويصير التسمية به] (¬10) كالعارية، فإذا نكِّر عاد إلى ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 63 أ. والرازي وضعفه في "تفسيره" 2/ 212، 213. وابن كثير وضعفه كذلك 1/ 83. و"تفسير القرطبي" 1/ 250. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 59 أ. (¬3) أي: يمنع من الصرف. (¬4) أى وزن (أفعل). (¬5) (تنصرف) كذا في (أ، ج)، وفي (ب): (بدون إعجام)، والأولى (ينصرف). (¬6) انظر "الكتاب" 3/ 193،198، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 81، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 38. (¬7) انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 81، و"الكتاب" 3/ 198 (الهامش)، "المقتضب" 3/ 312، 377، وقد نصر المبرد رأي الأخفش ورجحه. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬9) في (ب): (كل). (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

موضع قد (¬1) كان فيه لا ينصرف (¬2). والدليل على صحة ذلك، إجماع النحويين على قولهم: مررت بنسوة أربع، فيصرفون (أربعا)، لأنه اسم استعمل وصفا، ولو راعوا فيه حكم الصفة لم ينصرف في هذه الحال، لأنه على وزن الفعل وهو صفة، فلما نفوا حكم الاسم فيه وإن استعملوه صفة، كذلك أحمر وبابه وإن استعمل اسما (¬3)، فحكم الصفة باق فيه، لأنه صفة لا اسم. وأما الأخفش فإنه يقول: إذا سمي به زال حكم الصفة فلا ينصرف في المعرفة للتعريف ووزن الفعل، فإذا نكرته بقيت علة واحدة، وهو وزن الفعل فينصرف (¬4). وهذا فاسد، لأن حكم الصفة مراعى، وإن سمي به كما أن حكم الاسم مراعى في (أربع) وإن وصف به (¬5). وقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ}. قال أكثر أهل اللغة والتفسير: سمي إبليس بهذا الاسم، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي أيس، والمبلس المكتئب الحزين الآيس (¬6)، وفي القرآن {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. قال يونس وأبو عبيدة: يقال للذي يسكت عند انقطاع حجته، ولا يكون عنده جواب: قد أبلس (¬7). ¬

_ (¬1) (قد) ساقطة من (ب). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 81 (¬3) انظر: "المقتضب" 3/ 312، "الكتاب" 3/ 194. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 81، "المقتضب" 3/ 312. (¬5) انظر رد المبرد على ذلك في المسائل التي رد بها المبرد على سيبويه كما نقله عضيمة في هامش "المقتضب" 3/ 312. (¬6) "تهذيب اللغة" (بلس) 1/ 384، و"تفسير الطبري" 1/ 224. (¬7) "تهذيب اللغة" (بلس) 1/ 384.

قال العجاج (¬1): يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رسْماً مُكْرَسَا قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وأبلسا (¬2) أي: لم يحر إليَّ جواباً لكآبته. فقيل: إن إبليس سمي بهذا الاسم، لأنه لما أويس من رحمة الله أبلس يأسا (¬3). ومثل هذا الوزن من العربية (الإجْفِيل) اسم للظليم (¬4)، يقال: أجفل الظليم فهو مجفل وإجفيل (¬5)، وكذلك الإغريض (¬6) والإضريج (¬7)، في أشباه لهذا (¬8). ¬

_ (¬1) هو الراجز المشهور عبد الله بن رؤبة، لقي أبا هريرة وسمع منه أحاديث. انظر "الشعر والشعراء" ص 392، "طبقات فحول الشعراء" للجمحي 2/ 753. (¬2) المكرس: الذي صار فيه الكرس. وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار، أبلسا: أي سكت لكآبته. ورد الرجز في "ديوان العجاج". ص 132، "معاني القرآن" للفراء 1/ 335، و"مجاز القرآن" 1/ 192، و"الزينة" 2/ 192، والطبري في "تفسيره" 1/ 224، و"الكامل" 2/ 191، و"تهذيب اللغة" (بلس) 1/ 384، و"الصحاح" 3/ 909، و"مقاييس اللغة" 5/ 169، و"اللسان" 1/ 343، و"تفسير ابن عطية" 1/ 244. (¬3) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 384، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 224، "غريب القرآن" لابن قتيبة: 1/ 37، و"زاد المسير" 1/ 65. (¬4) الظليم: الذكر من النعام، "القاموس" (ظلم): ص 1464. (¬5) "تهديب اللغة" (جفل) 1/ 622. (¬6) الإغريض: الطلع، ويقال لكل أبيض طري، انظر: "الصحاح" (غرض) 3/ 1094. (¬7) (الإضريج) بالجيم: صبغ أحمر، ونوع من الأكسية، ومن الخيل الجواد. انظر: "تهذيب اللغة" (ضرج) 3/ 2106، "الصحاح" 1/ 326، "اللسان" 5/ 2570. (¬8) انظر: "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 30، "الدر المصون" 1/ 276.

وروى أبو روق (¬1) عن الضحاك عن ابن عباس قال: إنما سمي إبليس، لأن الله أبلسه من الخير، أي: أيأسه (¬2). وهذا متعد كما ترى، ورواه الليث -أيضا- متعديا فقال: لأنه أُبلِس من رحمة الله أي: أُويس (¬3)، فحصل من هذا أنه عربي مشتق، وأن الإبلاس واقع ومطاوع (¬4). قال أبو بكر بن الأنباري: لا يجوز أن يكون مشتقا من (أبلس)، لأنه لو كان كذلك لجرى، [ألا ترى أن (إسحاق) إذا كان عربيا مأخوذا من أسحقه الله إسحاقا يجري، فيقال: قام إسحاق، ورأيت إسحاقاً (¬5). فلو كان إبليس من (أَبلس) أو (أُبلس) لجرى] (¬6) كما يجرى إكليل وبابه، وترك تنوينه ¬

_ (¬1) هو عطية بن الحارث الهمداني أبو روق، ورى عن الشعبي والضحاك، قال أبو حاتم: ليس به بأس، وقال ابن معين: صالح، انظر "الجرح والتعديل" 6/ 382، "تهذيب التهذيب" 3/ 114، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 386. (¬2) أخرجه الطبري بسنده، وفيه ضعف، انظر "تفسير الطبري" 1/ 509. (مع تحقيق محمود شاكر)، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، قال المحقق: ضعيف الإسناد 1/ 294، وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 102. وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري. (¬3) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (بلس) 1/ 384، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 63 ب، وانظر "العين" 7/ 262، ولم أجده منسوبًا لليث. (¬4) (الواو) ساقطة من (ب). اختلف الذين قالوا: إنه مشتق هل هو مشتق من (أبلس) إذا انقطع ولم تكن له حجة، أو من الإبلاس وهو اليأس، ذكر هذا الرازي في كتاب "الزينة" 1/ 192، 193. (¬5) انظر: "المقتضب" 3/ 326. (¬6) مابين المعقوفين ساقط من (ب).

في القرآن يدل على أنه أعجمي معرفة، والأعجمي لا يعرف له اشتقاق (¬1). وقال محمد بن جرير: إنما منع صرفه وإن (¬2) كان عربيًّا استثقالًا، لأنه لما قل نظيره في كلام العرب شبهوه بالأسماء الأعجمية كإسحاق لم يصرف، وهو من أسحقه الله، و (أيوب) من: (آب يؤوب) (¬3)، نظيره قيوم، من قام يقوم. وهذا الذي قال (¬4) ابن جرير: يبطل بباب (إفْعِيل) فإنه مصروف كله إلا إبليس (¬5). وأما (¬6) أيوب وإسحاق، فمن لم يصرفهما لم (¬7) يجعلهما مشتقين (¬8). ¬

_ (¬1) هذا الكلام بمعناه في "الأضداد" لابن الأنباري: ص 336، وبنحوه قال أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 38، والزجاج في "المعاني" 1/ 82، والثعلبي 1/ 63 ب، وذكر هذا القول مكي في "المشكل" 1/ 37، وابن عطية 1/ 246، وابن الأنباري أبو البركات في "البيان" ورجحه 1/ 74، على أن مكيا وغيره ذكروا عن أبي عبيدة أنه قال: إنه مشتق، وهذا خلاف قوله في "المجاز". وقد أجاب الذين قالوا: إنه مشتق بأنه منع من الصرف لأنه أشبه الأسماء الأعجمية لعدم نظيره في الأسماء العربية كما سيأتي في كلام ابن جرير، انظر: "البحر" 1/ 151، و"الدر المصون" 1/ 276. (¬2) في (ب): (فان). (¬3) انتهى كلام ابن جرير بمعناه 1/ 228، وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 246. (¬4) في (ب): (قاله) وهو أصوب. (¬5) في (ج): (ابلس). انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 37، "البيان" 1/ 74، "البحر المحيط" 1/ 151، "الدر المصون" 1/ 276. (¬6) في (ب): (فأما). (¬7) في (ب): (يصرفها لم يجعلها). (¬8) انظر: "المقتضب" 3/ 326، "أصول النحو" لابن السراج 2/ 94.

والاختيار في هذا الحرف أنه غير مشتق، لإجماع النحويين على أنه منع الصرف للعجمة والمعرفة، فلو جعلناه مشتقّاً بطلت العجمة ووجب صرفه (¬1) واختلفوا في أن إبليس هل هو مستثنى من الملائكة أو (¬2) لا؟ فروى مجاهد وطاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية ملكاً من الملائكة، اسمه (عزازيل)، وكان من سكان الأرض وعمارها، وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون: (الجن)، ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادا ولا أكثر علمًا منه. فلما تكبر على الله عز وجل وأبى السجود لآدم وعصاه، لعنه وجعله شيطاناً مريداً، وسماه: إبليس (¬3). وعلى هذا القول أيضا ابن مسعود، وابن المسيب، وابن جريج، وقتادة، وابن جرير (¬4)، وقالوا: إنه استثني من جنس المستثنى منه، وكان إبليس من جملة الملائكة ¬

_ (¬1) بهذا أخذ أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 38، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 82، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 63 ب، وابن الأنباري في "البيان" 1/ 74، والعكبري في "الإملاء" 1/ 30، والسمين في "الدر المصون" 1/ 276. وعلى قول ابن جرير ومن معه لا يلزم صرفه، ولو كان مشتقًّا، لأنه لا سمي له فاستثقل. انظر "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ص 23، و"تفسير الطبري" 1/ 228، و"تفسير ابن عطية" 1/ 246، و"تفسير القرطبي" 1/ 251. (¬2) في (ب): (أم لا). (¬3) أخرجه الطبري بسنده عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن عطاء عن طاوس أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس. "تفسير الطبري" 1/ 224، وكذلك أخرجه ابن الأنباري بسنده عن طاوس أو عن مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس. "الأضداد": ص 334. وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 84، و"تفسير ابن كثير" 1/ 8. (¬4) انظر أقوالهم في "تفسير الطبري" 1/ 224.

الذين أمروا بالسجود. وهؤلاء أولوا قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] أي: كان من قبيل من الملائكة، يقال لهم: الجن (¬1)، سموا جناً لاستتارهم عن الناس. قال الأعشى يذكر سليمان ابن داود عليه السلام: وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ (¬2) فجعل الملائكة جنّاً (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" عن قتادة 1/ 225. قال ابن كثير في "تفسيره" بعد أن نقل الآثار في هذا عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الآية [الكهف: 50]. قال: وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل، لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة ... إلخ) انظر "ابن كثير" 3/ 100. (¬2) ورد البيت في "تفسير الطبري" 1/ 225، "الزاهر" 2/ 334، و"الأضداد" لابن الأنباري: ص 335، و"الغريب" لابن قتيبة: ص21، و"الزينة" 2/ 176، و"معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن" 1/ 195، و"اللسان" (جنن) 1/ 751، وفي "تفسير القرطبي" 1/ 251، و"خزانة الأدب" 6/ 176. (¬3) وهذا ما رجحه ابن جرير الطبري في "تفسيره"، وابن عطية في "تفسيره" والبغوي في "تفسيره"، وغيرهم، وهو أن إبليس كان من الملائكة أو من طائفة منهم يقال لهم: الجن. قال الطبري في "تفسيره" بعد أن ذكر الأقوال في هذِه المسألة: (وهذِه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها، ذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى. فخلق بعضا من نور، وبعضا من نار وبعضا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته، وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم ... وقال: وأما خبر الله عنه أنه (من الجن) لغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جنّاً كما قد ذكرنا في شعر الأعشى -فيكون إبليس والملائكة =

وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: إنما قيل لإبليس: الجني، لأنه كان من خزنة الجنة (¬1). وقال الزجاج وابن الأنباري: معنى قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي كان (¬2) ضالّاً كما أن الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل الملائكة كانوا ضُلَّالاً، فلما فعل إبليس مثل فعلهم أدخل في جملتهم كما (¬3) قال الله سبحانه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (¬4) [التوبة: 67]. فعلى قول هؤلاء هو مستثنى من الملائكة، وهو استثناء الجنس من الجنس. وقال عبد الرحمن بن زيد، وشهر بن حوشب (¬5): ما كان إبليس من الملائكة قط (¬6). ¬

_ = منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم، في "تفسيرالطبري" 1/ 227، وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري: ص 334، وفي "تفسيرابن عطية" 1/ 246، وفي "تفسيرالبغوي" 1/ 82، و"البحر" 1/ 153، وفي "تفسير القرطبي" 1/ 251، فعلى هذا القول: الاستثناء متصل. (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" عن ابن جريج عن ابن عباس، وعن أبي صالح عنه، وعن الضحاك عنه. الطبري في "تفسيره" 1/ 525. (¬2) في (ب): (أي صار). (¬3) (كما) ساقطة من (ب). (¬4) قول ابن الأنباري في "الأضداد" ص337، وقد ذكر هذا توجيهًا لمعنى الآية على قول من قال: إن إبليس من الملائكة وكذا الزجاج في "المعاني" 1/ 82 ويلحظ هنا أن الزجاج يرجح القول الآخر حيث قال لما ذكر القول الثاني: وهذا القول هو الذي نختاره، لأن إبليس كان من الجن كما قال الله عز وجل. (¬5) هو شهر بن حوشب الأشعري الشامي، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن روى عن أبي هريرة وعائشة وأم سلمة وأم حبيبة وغيرهم، اختلف في سنة وفاته، فقيل: مائة، وقيل غير ذلك، انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 182، "غاية النهاية" 1/ 329. (¬6) أقوالهم في الطبري في "تفسيره" 1/ 227، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 246، =

وروى عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من (¬1) الملائكة قط، طرفة عين (¬2). وهؤلاء قالوا: إنه استثني من الملائكة، وليس منهم، لأنه أمر بالسجود كما أمروا، فخالف وأطاعوا، فاستثني من فعلهم (¬3)، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا (¬4) كقول (¬5) العرب: ارتحل العسكر إلا الأثقال، وسار الناس إلَّا الخيام (¬6). وقال سعيد بن المسيب. إن إبليس سبي من الجن حين اقتتلوا (¬7) الملائكة، وكان صغيرا فنشأ بين الملائكة (¬8). وهذا اختيار الحسين بن ¬

_ = والقرطبي في "تفسيره" 1/ 251، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 81، "البحر" 1/ 153. (¬1) (من الملائكة) ساقط من (ج). (¬2) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 227، وابن الأنباري في "الأضداد": ص 337، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 246، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 251، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 81، "البحر" 1/ 153. (¬3) "الأضداد" لابن الأنباري: ص 337، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 82، وقد مال إلى نحو هذا ابن كثير في "تفسيره" 1/ 81. (¬4) انظر "المشكل" لمكي 1/ 37، "البيان" 1/ 74، "البحر" 1/ 153. (¬5) في (أ)، (ج): (لقول)، وقوله (منقطعا) ساقط من (ب). (¬6) قال أبن الأنباري: (... ونصب على الاستثناء وهو من غير جنسهم. كما تقول العرب: سار الناس إلا الأثقال، وارتحل أهل العسكر إلا الأبنية والخيام)، "الأضداد" لابن الأنباري: ص 337. (¬7) هكذا في جميع النسخ وهذا على لغة (أكلوني البراغيث). (¬8) أخرج نحوه ابن جرير عن شهر بن حوشب وسعد بن مسعود 1/ 227، وذكره ابن عطية والقرطبي، وقالا: حكاه الطبري عن ابن مسعود، وظاهر كلامهما أنه عبد الله ابن مسعود، ولم يرووه عنه، وإنما عن سعد بن مسعود ولعل القرطبي نقل ذلك عن ابن عطية. انظر. "تفسير ابن عطية" 1/ 246، و"تفسير القرطبي" 1/ 251، وذكره ابن كثير عن سعد بن مسعود، "تفسير ابن كثير" 1/ 81، ولم أجده عن، سعيد فيما اطلعت عليه.

الفضل. وإليه ذهبت المعتزلة (¬1). وقوله (¬2) تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}. هما بمعنى واحد، وكرر للتأكيد (¬3)، وحقيقة الاستكبار: الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه (¬4). وقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. أي وصار (¬5)،. كقوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43]. وقال الأكثرون معناه: وكان في سابق علم الله من الكافرين (¬6). ¬

_ (¬1) أي: إلى أن إبليس ليس من الملائكة. انظر: "تفسير الرازي" 1/ 213. قال الزمخشري: إنه كان جنيا واحد بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلبوا عليه في قوله: "فسجدوا". "الكشاف" 1/ 273. (¬2) في (ب): (وكان). (¬3) (أبى) امتنع عن السجود، و (استكبر) تكبر وتعاظم في نفسه فهو من أفعال القلوب، والإباء: الامتناع من السجود، والامتناع نابع من الكبر. انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 248، "البحر" 1/ 153، وأبي السعود في "تفسيره" 1/ 85. (¬4) ذكر الأزهري عن ابن الأنباري: الاستكبار: الامتناع عن قبول الحق معاندة وتكبرا. "التهذيب" (كبر) 4/ 3090، "مفردات الراغب": ص 421. (¬5) في (ب): (وصار من الكافرين). هذا هو القول الأول أن (كان) بمعنى: صار، انظر. "تفسير أبي الليث" 1/ 110، و"تفسيرالثعلبي" 1/ 64 أ، و"تفسير ابن عطية" 1/ 248، و"زاد المسير" 1/ 65، و"تفسير القرطبي" 1/ 252، و"البحر" 1/ 154، وفي "تفسير ابن كثير" 1/ 81، قال ابن عطية بعد أن ذكر هذا القول: قال ابن فورك: وهذا خطأ ترده الأصول، ونقل هذا القرطبي وابن كثير. (¬6) قول جمهور المفسرين على أن (كان) على بابها، انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 110، و"الثعلبي" 1/ 64 أ، و"ابن عطية" 1/ 248، و"القرطبي" 1/ 252، و"زاد المسير" 1/ 65، و"ابن كثير" 1/ 81، "البحر" 1/ 321. قال ابن جرير: (ومعنى قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: أنه كان حين أبى السجود من الكافرين حينئذ). "تفسير الطبري" 1/ 228.

35

وقيل: كان من الجن الذين كانوا قبله (¬1) على مذهب من جعله منهم (¬2). فإن قيل: كيف جمع، ولم يكن في ذلك الوقت كافر غير إبليس (¬3)؟ فيقال: إن الله سبحانه علم أنه يكون (¬4) بعد إبليس كافرون، كقول إبراهيم (¬5) {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 56] معناه: أنه علم (¬6) أنه سيكون بعده من يشهد على قومه بمثل شهادته (¬7). وقيل: كان من القوم الذين إذا فعل واحد منهم مثل فعله كان مثله (¬8). وعلى ما قاله سعيد بن المسيب (¬9)، لا يتوجه هذا السؤال. 35 - قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} الآية. (اسكن ¬

_ (¬1) (قبله) ساقطة من (ب). (¬2) انظر "تفسير الثعلبي" 1/ 64 أ، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 248، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 252، "البحر" 1/ 154. (¬3) يرد هذا السؤال على قول من قال: إن إبليس أول كافر. ولم يسبقه كفر، أما عند من قال: إنه سبقه كفار وهم الجن سكان الأرض. فلا يرد أصلا، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 248، و"تفسير القرطبي" 1/ 255، و"تفسير الرازي" 2/ 237، و"البحر" 1/ 154. (¬4) في (ب): (سيكون). (¬5) في (ب): (إبراهيم عليه السلام). (¬6) في (ب): (عالم). (¬7) انظر: "تفسير الرازي" 2/ 238. (¬8) ذكره الرازي في "تفسيره" 2/ 238. (¬9) قول سعيد الذي سبق: هو: أن إبليس سبي من الجن فنشأ بين الملائكة. فعلى هذا القول يتوجه أنه ليس أول كافر كما سبق.

الجنة) (¬1) أي: اتخذها مأوى ومنزلا (¬2)، وليس معناه: استقر في مكانك ولا تتحرك، وهذا اللفظ مشترك، يقال: أسكنه، أي: أزال حركته، وأسكنه مكان كذا (¬3)، أي جعله مأوى ومنزلا له، والأول الأصل، قالوا (¬4): ومنه السكين (¬5)، لأنه الآلة التي تسكن حركة الحيوان (¬6). وقوله: (أنت) تأكيد للضمير الذي في الفعل (¬7)، وإنما أكد به ليحسن العطف عليه، فإن العرب لا تكاد تعطف إلا على ظاهر، يقولون: اخرج أنت وزيد، ولا يكادون يقولون: اخرج وزيد، إلا في الضرورة (¬8)، ومثله قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24]. وقوله: {وَزَوْجُكَ} لفظه مذكر، ومعناه مؤنث، وذلك أن الإضافة تلزم هذا الاسم في أكثر الكلام، وكانت مبينة (¬9) له فكان (¬10) طرح الهاء أخف مع الاستغناء بدلالة الإضافة. ¬

_ (¬1) في (ب): (معنى اسكن الجنة). (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 249، و"القرطبى" 1/ 255، "البحر" 1/ 155. (¬3) في (أ): (وكذا) وفي (ج)، كتبت ثم شطبت والصحيح حذفها. (¬4) (قالوا) ساقط من (ج). (¬5) في (ب): (التسكين). (¬6) انظر: "التهذيب" (سكن) 2/ 1723، "مقاييس اللغة" (سكن) 3/ 88، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 255، "البحر" 1/ 155. (¬7) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 163، و"تفسير ابن عطية" 1/ 249، و"تفسير القرطبي" 1/ 256، "البحر" 1/ 156. (¬8) مذهب البصريين أنه لا يجوز العطف إلا في الضرورة، وأجاز الكوفيون ذلك. انظر "الإنصاف" ص 380، "البحر" 1/ 156. (¬9) في (ج): (مبنية). (¬10) في (ب): (وكان).

وكان الأصمعي يؤثر ترك (¬1) الهاء في الزوجة، ويرى أن أكثر كلام العرب عليه. والكسائي على خلاف ذلك (¬2)، والاختيار ما قاله الأصمعي، لأن القرآن كله عليه (¬3). والمراد بقوله: {الْجَنَّةَ} جنة الخلد من قبل أن التعريف فيها بالألف واللام يجعلها كالعلم على جنة الخلد، فلا يجوز العدول عنها بغير دلالة، ألا ترى أنك لو قلت: نسأل الله الجنة، لم يكن ذلك إلا جنة الخلد (¬4). وقوله تعالى: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} (¬5). (الرّغَد) و (الرَّغْد): سعة المعيشة، ¬

_ (¬1) (ترك) ساقطة من (ب). (¬2) في (أ)، (ج): (ذكر) وما في (ب) هو الصحيح. وانظر اختلافهم في "اللسان" (زوج) 3/ 1885، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 257. (¬3) قال الفراء (الزوج) يقع على المرأة والرجل. هذا قول أهل الحجاز. قال عز وجل {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]. وأهل نجد يقولون: (زوجة) وهو أكثر من (زوج) والأول أفصح عند العلماء). (المذكر والمؤنث): ص 95، وانظر (المذكر والمؤنث) لابن الأنباري: ص 503، "تفسير الطبري" 1/ 229. ومما جاء على (زوجة) قول عمار في شأن عائشة (إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة). وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 249، وقال القرطبي: (وقد جاء في صحيح مسلم لفظ (زوجة) في حديث أنس وفيه يا فلان هذِه زوجتي فلانة). "تفسير القرطبي" 1/ 256. (¬4) وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين، وفيه الرد على من قال: إنها جنة في الدنيا وهو قول المعتزلة والقدرية. انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 64 ب، و"تفسير ابن عطية" 1/ 249، و"تفسير القرطبي" 1/ 258، و"تفسير ابن كثير" 1/ 84. قال ابن الجوزي وقيل: جنة عدن، "زاد المسير" 1/ 66. (¬5) في (ج): (فكلا) تصحيف.

يقال: عيش رَغَدٌ ورَغْدٌ. ورَغِدَ عيشهم أي: اتسع (¬1)، قال (¬2) امرؤ القيس: بَيْنَما المَرْءُ تَرَاهُ نَاعِماً ... يَأْمَنُ الأحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ (¬3) وقال ابن دريد: عيش رَاغِد ورَغَد ورَغِيد، والرَّغِيدَة: الزبدة، ويقال: أَرْغَد القوم إذا وقعوا في عيش رغد (¬4). الليث: (الرغد): أن يأكل ما شاء إذا شاء حيث شاء (¬5). وقوله تعالى: {حَيْثُ شِئْتُمَا}. (حيث) بني على الضم تشبيها بالغاية، نحو: (قبل) و (بعد) وذلك أنه منع الإضافة إلى الاسم المفرد كما منعت الغاية الإضافية، فبني لأجل الشبه على الضم بالغاية (¬6)، ونذكر الكلام في هذا بأبلغ من هذا الشرح عند قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" (رغد) 2/ 475، "تهذيب اللغة" 2/ 1433، "مقاييس اللغة" 2/ 417، "تفسير الطبري" 1/ 230،، "اللسان" 3/ 1680. (¬2) في (ب): (وقال). (¬3) ورد البيت منسوبًا لامرئ القيس في الطبري 1/ 230، وفي "الوسيط" للمؤلف 1/ 83، و"تفسير ابن عطية" 1/ 251، و"البحر" 1/ 155، و"الدر المصون" 1/ 281، قال محمود شاكر في حاشية الطبري: لم أجده فيما جمع من شعر امرئ القيس، وقد بحثت في (الديوان) فلم أجده. (¬4) "الجمهرة" 2/ 633. (¬5) لم أجده عن الليث، انظر: "العين" (رغد) 4/ 392، و"تهذيب اللغة" (رغد) 2/ 1433، و"الصحاح" (رغد) 2/ 475، و"اللسان" (رغد) 3/ 1680. (¬6) وقد ذكر سيبويه فيها وجها آخر وهو الفتح وقال الكسائي: الضم لغة قيس وكنانة، والفتح لغة بني تميم، وقال: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب، ويقال: حوث. انظر: "الكتاب" 3/ 286، و"إعراب القرآن" للنحاس1/ 163، و"تهذيب اللغة" (حيث) 1/ 949، "تفسير ابن عطية" 1/ 251، وقد ذكر الواحدي هذِه الوجوه عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]. كما وعد هنا.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}. قيل معناه: لا تقرباها بالأكل، لأن آدم عصى بالأكل منها، لا بأن قربها (¬1). وقيل: إن النهي عن الأكل داخل في قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} فهو نهي بأبلغ لفظ يكون (¬2). وقيل: قربَ فلانٌ أهلَه قربانًا، أي [غشيها] (¬3) وما قرِبْتُ هذا الأمر ولا قَرَبتُه قُرْبَاناً وقُرْباً (¬4). و (الشجرة) في اللغة: ما لها ساق يبقى في الشتاء، و (النجم) ما ليس على ساق، ومنه قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (¬5) [الرحمن: 6]. وسميت شجرة لتشابك أغصانها (¬6)، وتداخل بعضها في بعض، والشجرة تعم النخلة والتينة والكرمة وغيرها (¬7)، واليقطين قد سمي شجراً في قوله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات: 146]. ¬

_ (¬1) وبهذا قال الزجاج في "المعاني" 1/ 83، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 252، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 66، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 265. (¬2) ذكره ابن عطية في "تفسيره" 1/ 252، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 265، وبه أخذ أبو حيان في "البحر" 1/ 158. (¬3) في (أ)، (ج): (عيشها)، وفي (ب): (ان عشيها)، والتصحيح من "تهذيب اللغة" 3/ 2914. (¬4) ذكره الأزهري في الليث. "التهذيب" (قرب) 3/ 2914. "اللسان" (قرب) 6/ 3566. (¬5) قيل إن المراد بالنجم في الآية نجم السماء، والأرجح أنه مالا ساق له من الشجر، انظر: "تفسير الطبري" 27/ 116، و"القرطبي" 17/ 154. (¬6) في (أ)، (ج): (أعضائها)، وما في (ب) هو الصحيح. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 231، "التهذيب" (شجر) 2/ 1830، "تفسير ابن عطية" 1/ 252، "مفردات الراغب" ص 256، و"تفسير القرطبي" 1/ 266، و"تفسير الرازي" 1/ 6.

قال الحسين بن الفضل: إن آدم نهي عن أكل الشجرة فعصى بذوقها، وهو دون الأكل، فدل على أن الذي نهي عن شرب المسكر يعصي بشرب اليسير منه قدر ما يقع عليه اسم الذوق. واختلفوا في الشجرة التي نهي آدم عنها، فقال ابن عباس، وعطية، ووهب، وقتادة: إنها السنبلة، قال وهب: وكانت الحبة منها ككلية البقر، ألين من الزبد، وأحلى من العسل (¬1). وقال ابن مسعود والسدي: هي الكرم (¬2). وقال ابن جريج (¬3): إنها التين (¬4). وقال محمد بن (¬5) جرير والحسين بن الفضل: إن الله سبحانه أخبر أنه نهى آدم عن أكل شجرة ما، ولم ينصب لنا دلالة عليها بعينها، فنحن نعلم ¬

_ (¬1) أقوالهم في الطبري في "تفسيره" 1/ 231 - 232، و"ابن أبي حاتم" 1/ 86، و"الثعلبي" 1/ 64 ب. (¬2) وروى هذا عن ابن عباس وسعيد بن جرير والشعبي وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 232، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 86، و"تفسير الثعلبي" 1/ 64 ب. (¬3) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أحد العلماء المشهورين، ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل. توفي سنة تسع وأربعين ومائة، انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 400، "وفيات الأعيان" 3/ 163. (¬4) "تفسير الطبري" 1/ 232، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 86. وفي اسم الشجرة أقوال كثيرة غير هذه. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 86 - 87، والثعلبي 1/ 60 ب، "تفسير ابن عطية" 1/ 252، "زاد المسير" 1/ 66، "التعريف والإعلام" للسهيلي: ص 19، "غرر التبيان في مبهمات القرآن": ص 39، رسالة ماجستير، "مفحمات الأقران في مبهمات القرآن" للسيوطي ص 12. (¬5) (محمد) ساقط من (ب).

أنه كان منهياً عن أكل شجرة ما، وليس علينا من الجهل بتفصيله شيء (¬1). واختلفوا في كيفية أكل آدم من الشجرة. فقال بعضهم: [انهى] (¬2) نهي عن جنس من الشجرة، ونص له على واحد بعينه، فتأول أن التحريم في واحدة بعينها فأكل من جنسها (¬3). وقال بعضهم: إنه نسي الوجوب وحمل النهي فيه على التنزيه، وإن كان فيه ما يدل على أنه للتحريم، وهو اقترانه بذكر الوعيد في قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬4). وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما يستثني ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها، فأكل (¬5). ورُدّ هذا على سعيد بأن قيل: لو كان الأمر على ما وصف لم يكن عاصياً، والله تعالى، أخبر عنه بالعصيان (¬6)، ¬

_ (¬1) ومما قاله الطبري (.. وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به)، "تفسير الطبري" 1/ 232. وبهذا قال أكثر المفسرين، إن الإطالة في هذا من التكلف الذي لا فائدة فيه، ولكفينا ما ذكر الله في كتابه: أنه نهى آدم عن أكل الشجرة، وأن آدم عصى ربه وأكل منها، ثم تاب عليه. انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 252، و"تفسير الرازي" 3/ 5. و"تفسير ابن كثير" 1/ 84. (¬2) كذا في جميع النسخ ولعلها (إنه). (¬3) انظر "تفسير الثعلبي" 1/ 64 ب، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 18، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 260، "زاد المسير" 1/ 68. (¬4) انظر "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 18، و"زاد المسير" 1/ 68، ورجع الرازي أن النهي للتنزيه، وقال: إن كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء -عليهم السلام- كان أولى، وأجاب عن أدلة الذين قالوا: إنه للتحريم. انظر "تفسير الرازي" 3/ 5. (¬5) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 237، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 65 أ، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 18، والقرطبي 1/ 260. (¬6) وقد رده ابن العربي ردَّا قويًّا حيث قال: (أما القول بأن آدم أكلها سكران ففاسد نقلا وعقلا: أما النقل: فلأن هذا لم يصح بحال، وقد نقل عن ابن عباس أن =

وفي الجملة كان ذلك الأكل معصية من آدم، ولكنه كان قبل النبوة. وقوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}. قال الفراء: إن شئت جعلت (فتكونا) جواباً نصباً، لأنه جواب النهي بالفاء. وإن شئت عطفته على أول الكلام، فكان جزماً مثل قول امرئ القيس (¬1): فَقُلْتُ لَهُ صَوِّب ولا تُجْهِدَنَّه ... فَيُذْرِكَ (¬2) مِنْ أُخْرى القَطَاةِ فَتزْلَقِ (¬3) ¬

_ = الشجرة التي نهي عنها الكرم، فكيف ينهى عنها ويوقعه الشيطان فيها، وقد وصف الله خمر الجنة بأنها لا غول فيها، فكيف توصف بغير صفتها التي أخبر الله تعالى عنها. وأما العقل: فلأن الأنبياء بعد النبوة منزهون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم "أحكام القرآن" 1/ 19. وأقول: لا داعي لكل هذه التوجيهات لفعل آدم -عليه السلام- بل الأولى أن نجيب بما قال الله عنه: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121 - 122]. (¬1) كذا منسوبًا إلى امرئ القيس في أكثر المصادر، ونسبه سيبويه إلى (عمرو ابن عمار الطائي) قال عبد السلام هارون معلقا على نسبته إلى امرئ القيس: ليس في "ديوانه". قلت: هو في "ديوانه" ص 106. (¬2) في (أ)، (ج): (فيدرك) بالدال، وفي (ب): (فتدرك)، وكلاهما تصحيف. (¬3) يروى (فيدنك) كذا عند سيبويه. يقول مخاطبًا للغلام الذي سبق ذكره في الأبيات قبله: صوب الفرس ولا تجهده، لا تحمله على العدو فيصرعك، يقال: أذراه عن فرسه: إذا صرعه وألقاه، والقطاة من الفرس: موضع الردف. انظر: "ديوان امرئ القيس" ص 174، "الكتاب" 3/ 101، "معاني القرآن" للفراء 1/ 26، و"تفسير الطبري" 1/ 234، "اللسان" (ذرا) 3/ 1491، "الخزانة" 8/ 526، "الدر المصون" 1/ 286، "البحر" 1/ 159. والشاهد عند سيبويه: جزم (فيدنك) حملا على النهي، ولو أمكنه النصب بالفاء على جواب النهي لجاز.

فجزم (¬1)، ومعناه: كأنه تكرير النهي. ومعنى الفاء والنصب جزاء (¬2)، أي لا تفعل هذا فيفعل بك، فلما عطف حرف على غير ما يشاكله، وكان في أوله حادث لا يصلح في الثاني نصب (¬3). وقال الزجاج: إنما نصب بإضمار (أن) (¬4). ومثله (¬5) مما نصب بالفاء قوله: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ} [طه: 81] {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61]، (¬6). وما كان من نهي (¬7) ففيه الوجهان، ولا يجوز الرفع إلا أن تريد الاستئناف ولا تجعله جواباً، كقولك: لا تركبْ إلى فلان ¬

_ (¬1) (جزم) ساقط من (ج). (¬2) في "المعاني" للفراء: (ومعنى الجواب والنصب لا تفعل هذا فيفعل بك مجازاة، فلما عطف حرف .. إلخ) 1/ 27. (¬3) انتهى ما نقله عن الفراء، ويعود للنقل منه بعد كلام الزجاج. "معاني القرآن" 1/ 26، 27، وما ذكره هو مذهب الكوفيين في الفعل المضارع الواقع بعد الفاء في جواب: الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض. ينصب بالخلاف، أي أن الجواب مخالف لما قبله. انظر: "الإنصاف" 2/ 557، "الدر المصون" 1/ 286، ونصر هذا القول الطبري في "تفسيره" 1/ 234. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 83. وقال: نصبه عند سيبويه والخليل بإضمار (أن). وما ذكر هو مذهب البصريين كما في "الإنصاف" 2/ 557، 558، وبهذا قال الأخفش في "المعاني" 1/ 222، وانظر: "الدر المصون" 1/ 286، وقد رد هذا القول الطبري في "تفسيره" 1/ 234. (¬5) هذا عود على كلام الفراء. (¬6) والآيتان وردتا ضمن كلام الفراء. (¬7) في "معاني القرآن" للفراء: (وما كان من نفي ففيه ما في هذا (يريد ما في النهي) ولا يجوز الرفع في أحد الوجهين (النفي والنهي) إلا أن تريد الاستئناف .. إلخ) "معاني القرآن" للفراء 1/ 27.

فيركبُ إليك، يريد (¬1) لا تركب إليه فإنه سيركب إليك. قال الأعشى (¬2): ألمْ تَسْأَلِ الرَّبْعَ القَدِيَم فَيَنْطِقُ ... وهَلْ تُخْبِرَنْكَ اليَومَ بَيْدَاءُ سَمْلَقُ (¬3) أراد ألم تسأل الربع، فإنه يخبرك عن أهله (¬4). وقوله تعالى: {مِنَ الظَّالِمِينَ}. يقال: ظَلَمَه يَظْلِمُه ظُلمًا، فالظلم مصدر حقيقي، والظلم الاسم يقوم مقام المصدر. ومن أمثال (¬5) العرب: (من أشبه أباه فما ظلم). قال الأصمعي: أي ما وضع الشبه غير موضعه (¬6). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (يريد) وبالتاء جاء في "معاني القرآن" للفراء 1/ 27. (¬2) البيت لجميل بن معمر العذري، كما في "الخزانة" 8/ 526. وفي "ديوانه": ص 145. وكذا نسبه أكثرهم، ولم أجد من نسبه للأعشى، ولعله اشتبه عند الواحدي بقول الأعشى: وإن أمرا أسرى أليك ودونه ... من الأرض موماة وبيداء سملق (¬3) يروى البيت (القواء) مكان (القديم)، معنى الربع: الدار بعينها حيثما كانت. والقواء: القفر، وكذا البيداء، والسملق: الأرض المستوية، أو الجرداء لا شجر فيها، يقول: وقد تخيل القواء ناطقا، ألا تسأله، ثم نفى ذلك عنه وحقق أنه لا يجيب سائله لعدم القاطنين به. ورد البيت في "الكتاب" 3/ 37، "معاني القرآن" للفراء 1/ 27، "الجمل" للزجاجي: ص 194، "شرح المفصل" 7/ 36، "همع الهوامع" 4/ 122، 5/ 235، وشرح "شذرات الذهب": ص 367، "الخزانة" 8/ 524، "مغني اللبيب" 1/ 168، "ديوان جميل ": ص 70. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 27. (¬5) ذكره الأزهري عن الليث. "تهذيب اللغة" 3/ 2248، وانظر: "لسان العرب" (ظلم) 5/ 2757. (¬6) ويجوز أن يكون المعنى: فما ظلم الأب: أي لم يظلم حين وضع زرعه حيث أدى إليه الشبه، انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري 2/ 244، "الوسيط" في الأمثال =

وقال أحمد بن يحيى وأبو الهيثم: يقال: ظلمت السّقاء، وظلمت اللبن إذا شربته أو سقيته قبل إدراكه وإخراج زبدته (¬1). وقال ابن السكيت: ظلمت وطبي (¬2) للقوم بهذا المعنى (¬3). قال أبو عبيد: ويقال لذلك اللبن المظلوم والظليم (¬4)، وأنشد شمر: وقَائِلةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكِدِ الظَّليِمُ (¬5) وقال الفراء: ظلم الوادي إذا بلغ الماء منه موضعاً لم يكن ناله فيما خلا، وأنشد: يَكَاد يَطْلُعُ ظُلْماً ثُمَّ يَمْنَعُه ... عَنِ الشَّوَاهِقِ فَالوَادِي بِهِ شَرِقُ (¬6) قال: ويقال: هو أظلم من حية، لأنها تأتي الجحر لم تحفره ¬

_ = للمؤلف ص 155، "المستقصي" 2/ 352، "مجمع الأمثال" 2/ 300، "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2248، "اللسان" (ظلم) 5/ 2757. (¬1) في "تهذيب اللغة": أخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى وعن أبي الهيثم أنهما قالا: ثم ذكره 3/ 2249، "اللسان" (ظلم) 5/ 2758. (¬2) الوطب: سقاء اللبن. انظر (القاموس) (وطب): ص 142. (¬3) انظر "إصلاح المنطق": ص 352، "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2249، "اللسان" (ظلم) 5/ 2758. (¬4) في "التهذيب": المظلوم والظليمة، 3/ 2249، وكذا "اللسان" (ظلم) 5/ 2757. (¬5) البيت غير منسوب في "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2249، وكذا في "الصحاح" 5/ 1978، "مقاييس اللغة" 3/ 469، "اللسان" 5/ 2757، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 264، والعكد: أصل (اللسان). (¬6) البيت في "معاني القرآن" للفراء1/ 397، "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2249، "اللسان" 5/ 2758، غير منسوب.

فتسكنه (¬1). وقال ابن السكيت في قول النابغة: والنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بِالمظْلُومَةِ الجَلَدِ (¬2) يعني بالمظلومة أرضاً في برية حوّضوا فيها حوضاً سقوا فيه إبلهم، وليست بموضوع تحويض. قال: وأصل الظلم، وضع الشيء غير (¬3) موضعه، قال: ومنه قول ابن مقبل: هُرْتُ الشَّقَاشِقِ ظَلَّامُونَ للجُزُرِ (¬4) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 397، "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2249، وانظر "الصحاح" (ظلم) 5/ 1978، "اللسان" (ظلم) 5/ 2758. (¬2) عجز بيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر وصدره: إلاَّ أَوَاريُ لَأْيًا ما أُبَيِّنُهَا الأواري: محابس الخيل، وتروى (الأواري) بالرفع على البدل، وبالنصب على الاستثناء، لأياً: بطئا، والمعنى أبينها بعد لأي لتغير معالمها، والنُّؤْي: حاجز حول الخباء يمنع عنه الماء، والمظلومة: أرض حفر فيها الحوض لغير إقامة، فظلمت لذلك، والجلد: الصلبة. ورد البيت في "الكتاب" 2/ 321، "معاني القرآن" للفراء 1/ 288، 480، "تفسير الطبري" 1/ 234، "المقتضب" 4/ 414، "التهذيب" "ظلم" 3/ 2249، "الجمل" للزجاجي ص 236، "الإنصاف" ص 234، "الأزهية في علم الحروف" 80، "الهمع" 3/ 250، 255، "شرح المفصل" 2/ 80، "الخزانة" 4/ 121، "الدر المصون" 1/ 286، "ديوان النابغة": ص 9. (¬3) في "تهذيب اللغة" (في غير) 3/ 2249. (¬4) وصدره: عَادَ الأذِلَّةُ في دَارٍ وَكَان بِهَا قوله: هرت الشقاشق: أي: ماهرون في الخطابة والكلام، تقول العرب للخطيب الجهير الصوت الماهر بالكلام: هو أهرت الشِّقْشِقَة. والشِّقْشِقَة: لحمة كالرئة يخرجها البعير الفحل من فيه عند هياجه. =

وظلم الجزور أنهم نحروها من غير مرض، فوضعوا النحر في غير موضعه (¬1). وقول زهير: ... وَيُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَنْظَلِمُ (¬2) أي يطلب منه في غير موضع الطلب (¬3). ومعنى قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي من العاصين الذين وضعوا الأمر غير موضعه (¬4). والعاصي ظالم لوضعه أمر الله في غير موضعه، ووضعه المعصية حيث يجب أن يطيع. وقال بعضهم: معنى (¬5) قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي (¬6): الباخسين ¬

_ = ورد البيت في "ديوان ابن مقبل": ص 81، "التهذيب" (ظلم) 3/ 2249، "اللسان" (هرت) 8/ 4647، "شقق" 4/ 2300، (ظلم) 1/ 2758. "الصحاح" (ظلم) 3/ 1978، "جمهرة اللغة" 1/ 138، "مقاييس اللغة" (ظلم) 3/ 469، و"تفسير القرطبي" 1/ 264، "أمالي القالي" 2/ 101. (¬1) انتهى كلام ابن السكيت ملخصًا من "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2249. ولم أجده في "إصلاح المنطق". (¬2) جزء من بيت، وصدره: هُوَ الجَوَادُ الذِي يُعْطِيكَ نَائلَهُ ... عَفْواَ وَيُظلَمُ .............. ويروى (هذا الجواد)، (فيطلم) و (فيظلم) والبيت قاله زهير في مدح هرم بن سنان ورد في "الكتاب" 4/ 468، "تهذيب اللغة" (ظلم) 1/ 2250، "الصحاح" (ظلم) 5/ 1977، "مقاييس اللغة" (ظلم) 3/ 469، "اللسان" (ظلم) 5/ 2759، "شرح المفصل" 10/ 47، "شرح ديوان زهير" ص 152. (¬3) في "تهذيب اللغة" 1/ 2250 (ظلم): (وقال الأصمعي في قول زهير ..). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 234. (¬5) (معنى قوله) ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (أي من).

36

حقوقكما (¬1)، والظلم قد يكون بمعنى بخس الحق (¬2)، قال الله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي: لم تنقص. ومنه يقال: ظلمه حقه، أي: نقصه (¬3). وقال الفراء في قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬4) أي: ما نقصونا شيئاً بما فعلوا ولكن نقصوا حظ أنفسهم (¬5). 36 - وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} الآية. قال أبو علي الفارسي (¬6): {فَأَزَلَّهُمَا} يحتمل تأويلين: أحدهما: كسبهما الزلة (¬7) وحملهما عليها. والآخر: أن يكون (أزل) من (زلّ) الذي يراد به عثر (¬8). فالدلالة (¬9) على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من تزيينه لهما (¬10) تناوُلَ ما حظر عليهما جنسه، بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 111، و"الثعلبي" 1/ 64 ب، و"البيضاوي" 1/ 22، و"النسفي" 1/ 38. (¬2) (الحق) ساقط من (ب). (¬3) انظر: "التهذيب" (ظلم) 3/ 2248، "معاني القرآن" للفراء 1/ 397، "اللسان" (ظلم) 5/ 2757. (¬4) سورة البقرة: 57، سورة الأعراف: 160. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 397، "تهذيب اللغة" (ظلم) 3/ 2248. (¬6) "الحجة" 2/ 17. (¬7) أي كان سببًا لهما لكسب الخطيئة التي عاقبهما الله عليها، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 234. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" (زل) 2/ 1550، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 83، (¬9) في (ب): (بالدلالة). (¬10) في (ب): (إنما).

[الأعراف: 20] الآية. وقد نسب كسب الإنسان الزلة إلى الشيطان (¬1)، كقوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155]، و (استزلّ) و (أزلَّ) واحد، كقولهم: استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما (¬2) أن استزلهم من الزلة، والمعنى فيه كسبهم الزلة، وكذلك قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} (¬3). وقوله تعالى: {عَنْهَا} على هذا التأويل يكون بمعنى (عليها) والكناية تعود إلى (الزلة) (¬4) وإن لم يجر لها ذكر، لأن المصدر والاسم يدل عليهما الفعل، فقوله: (أزلهما) يدل على: (الزلة) فكان معناه حملهما (¬5) على الزلة، ويجوز أن يقع (¬6) (عن) موقع (على) و (على) موقع (عن) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 234، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 37، "العمدة في الغريب" لمكي ص 73، فإبليس سبب ارتكابهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة، والله هو خالق الإنسان وخالق فعله. (¬2) في (ب): (وكما). (¬3) انتهى ما نقله المؤلف من "الحجة" عن الوجه الأول، ويعود مرة أخرى ينقل منه الوجه الثاني، "الحجة" 2/ 18. (¬4) ذكر جمهور المفسرين أن الكناية تعود على واحد من أمور: (1) الشجرة، (2) الجنة، (3) الطاعة، (4) الحالة التي هما عليها، (5) السماء، وهو بعيد، وأقربها: إما للشجرة فتكون (عن) للسبب، أو للجنة وهذا متعين على قراءة حمزة (أزالهما)، انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 46 ب، و"ابن عطية" 1/ 254، "الكشاف" 1/ 273، "زاد المسير" 1/ 67، "البحر" 1/ 162، و"تفسير ابن كثير" 1/ 85، "الدر المصون" 1/ 288. (¬5) في (ب): (حملها). (¬6) في (ب): (تقع). (¬7) انظر: "الأزهية في علم الحروف" ص 276، 279، "حروف المعاني" ص 79.

قال ذو الإصبع: لَاهِ ابن عَمِّكَ (¬1) مَا أَفْضَلْتَ فِي حَسَبٍ ... عَنِّي وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي (¬2) (عني) معنى (عليّ). [وقال آخر، فجعل (علي) بمعنى: (عني)] (¬3): إِذَا رَضِيَتْ عَليّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا (¬4) والوجه الآخر (¬5): أن يكون (أزلهما) من زل عن المكان إذا عثر ولم يثبت عليه، يقال: زلت قدمه زَلَلاً وزَليِلًا، إذا لم تثبت (¬6) قال لبيد: ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (عمتك). (¬2) لاه: أراد الله فحذف لام الجر ولام التعريف، يقول: لم بفضل علي في الحسب، ولا انت دياني: مالك أمري، فتخزوني: تقهرني. ورد البيت في "المفضليات" ص160،162، "الخصائص" 2/ 288. "الأزهية" ص 279 "حروف المعاني" ص 79 "مجالس العلماء" للزجاجي ص 71، و"شرح جمل الزجاجي" لابن عصفور 1/ 483، "أمالي المرتضى" 1/ 252، "الإنصاف" ص 335، "مغني اللبيب" 1/ 147، "الخزانة" 7/ 173، "اللسان" (دين) 3/ 1469، (عنن) 5/ 3143، (لوه) 7/ 4107. (¬3) ما بين المعقوقين ساقط من (ب). والمثبت في (أ)، (ج)، وغير مستقيم والأولى أن يؤخر قوله: (فجعل (عليّ) بمعنى (عني) بعد البيت. (¬4) البيت لقُحَيف العُقَيْلِي، ورد في "النوادر" ص 481، "الكامل" 2/ 190، 3/ 98، "الخصائص" 2/ 311، 389، "المخصص" 14/ 65، 17/ 164، "الأزهية" ص 277، "الهمع" 4/ 176، "اللسان" (رضى) 3/ 1663، "الخزانة"10/ 132. (¬5) (الحجة) 2/ 18. (¬6) قوله: ويقال: زلت قدمه ..) وبيت لبيد ليس في "الحجة"، انظر: "تهذيب اللغة" (زل) 2/ 1550.

لَوْ يَقُومُ الفِيلُ أَوْ فَيَّالُهُ ... زَلَّ عَنْ مِثْلِ مَقَاسِي وَزَحَل (¬1) ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا} فَكما أن خروجه عن الموضع الذي كان فيه انتقال منه إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزليله (¬2). وقرأ حمزة: (فأزالهما) (¬3). وحجته أن قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] أمر لهما بالثبات، وتأويله: (اثبتا) فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال الذي هو خلافه. وفي الآية على هذا التقدير إضمار، كقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء:63] أي: فضرب فانفلق، ومثله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، أي: فحلق ففدية. ونُسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه وتسويله فلما كان ذلك منه بسبب، أسند الفعل إليه، كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] لما كان الرمي بتقوية الله وإرادته وخلقه نسبه إلى نفسه. ومما يقوي هذه القراءة قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا} وأخرجهما في المعنى قريب من (فأزالهما) (¬4). ¬

_ (¬1) وقوله: (أو فياله): هو صاحب الفيل الذي يسوسه، زحل: زل، يقول: لو يقوم الفيل أو صاحبه زل عن مكاني، قيل: هذا البيت مما عيب على لبيد، لظنه القوة الهائلة في صاحب الفيل، انظر: "ديوان لبيد" مع شرحه ص 194. (¬2) "الحجة" لأبي علي2/ 18. (¬3) "السبعة" لابن مجاهد ص 154، "الحجة" لأبي علي 2/ 14، "النشر" 2/ 211، "البدور الزاهرة" ص 30. (¬4) في (ب): (فأزلهما). "الحجة" لأبي علي 2/ 15، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 94، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي1/ 236، "الحجة" لابن خالويه ص 74.

فإن قيل: على هذه القراءة يكون قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا} تكريرا (¬1)؟ قيل: إنه (¬2) لا يكون تكريراً لا فائدة فيه، ألا ترى أنه يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما ولا يخرجهما مما كانا فيه من الرغد والرفاهية، وإذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد، على أن التكرير في مثل هذا الموضع لتفخيم القصة ليس بمكروه بل هو مستحب، كقول القائل: أزلت نعمته وأخرجته من ملكه، غلظت عقوبته (¬3). وقوله تعالى: {مِمَّا كَانَا فِيهِ}. أي: من الطاعة إلى المعصية. وقيل: من الرتبة والمنزلة (¬4). وقيل: من الرفاهية ولين العيش (¬5). واختلفوا في كيفية وسوسة إبليس ووصوله (¬6) إلى آدم: فقال الأكثرون ومنهم ابن عباس ووهب: إن الحية أدخلت إبليس الجنة (¬7) حتى قال لآدم {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، فأبى أن يقبل منه، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، فاغترّا (¬8) وما كانا يظنان أنّ أحداً ¬

_ (¬1) أورد هذا السؤال والإجابة عنه أبو علي في "الحجة"، ونقله الواحدي هنا بنصه، وممن قال إن فيها تكريرا الطبري في "تفسيره"، حيث احتج بذلك على ترجيح قراءة عامة القراء، "تفسير الطبري" 1/ 235. (¬2) في (ب): (لأنه). (¬3) "الحجة" لأبي علي 2/ 16. (¬4) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 256، والقرطبي 1/ 266. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 239، و"أبي الليث" 1/ 111، و"ابن عطية" 1/ 256، "البغوي" 1/ 83، "ابن كثير" 1/ 85، ويمكن حمل الآية على القولين الأخيرين. (¬6) الواو ساقطة من (ب) (¬7) في (ب): (إلى الجنة). (¬8) في (ب)، (ج): (فاغتروا).

يحلف بالله كاذبًا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها (¬1). وقال الحسن: إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان من الجنة (¬2). ¬

_ (¬1) هذا لفظ رواية ابن عباس، وبمعناه رواية وهب وقد أخرجهما الطبري 1/ 240، ذكر رواية ابن عباس: الليث في "تفسيره" 1/ 111، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 65 أ، و"البغوي" 1/ 83، و"ابن عطية" 1/ 256، و"القرطبي" 1/ 266. (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 63، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 67. وهناك قول ثالث: أنه دخل الجنة في صورة حية، وهذا يرجع لأصول القول الأول، وقول رابع ذكره ابن جرير الطبري عن ابن إسحاق وهو: أنه وصل إليهما بطرق الوسوسة، وأنه يخلص إلى ابن آدم في حال نومه ويقظته، ولدعوه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة، وأيد قوله بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال، "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". كذا ذكر الطبري عن ابن إسحاق، ثم رد قوله ورجح أن الشيطان كلم آدم مشافهة لا وسوسة كما قال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، ثم قال: (فالقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبر الله جل ثناؤه، وممكن أن يكون وصل على ذلك بنحو الذي قاله المتأولون بل ذلك إن شاء الله كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك)، "تفسير الطبري" 1/ 240، قال ابن عطية 1/ 256: القول: أنه أغواهما مشافهة قول جمهور العلماء، ومثله قال القرطبي 1/ 266. وإذا نظرنا إلى حال الروايات في كيفية دخول إبليس الجنة وقصة الحية مع إبليس وجدناها أخبارًا إسرائيلية كما قال ذلك ابن كثير في "تفسيره" 1/ 85، وقال "الرازي" بعد ذكره للقول الأول: واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه. الرازي 3/ 15، قلت: الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن إبليس أزل آدم وكان سببًا في إخراجه من الجنة كما قال {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}. وكيف حصل ذلك، هل بالمشافهة وما طريق المشافهة، أو بالوسوسة؟ كل هذا من علم الغيب الذي لا يثبت إلا بالخبر عن الله سبحانه، أو رسوله، ولا خبر في ذلك يعتمد عليه، ولا ينبني على العلم به كبير فائدة فلا داعي للانشغال بمثله.

وقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. (الهبوط) النزول من علو إلى سفل، وهو ضد الصعود (¬1)، وهو خطاب لآدم، وحواء، والحية، وإبليس (¬2) على قول من يقول: إن إبليس أدخلته الحية الجنة (¬3). وقال أبو إسحاق: كان إبليس أهبط أولاً، لأنه قال: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]، وأهبط آدم وحواء بعد ذلك، فجمع الخبر للنبي -عليه [الصلاة] (¬4) والسلام لأنهم اجتمعوا في الهبوط وإن اختلف بهم الوقت (¬5). وقال ابن الأنباري: مذهب الفراء أن {اهْبِطُوا} خطاب لآدم وحواء وذريتهما لأن الأب يدل على الذرية إذ كانوا منه (¬6). وقيل: إنه خطاب لآم وحواء. والعرب تخاطب الاثنين بالجمع، لأن التثنية أول الجمع، ومثله من التنزيل قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78]، يريد حكم داود وسليمان، وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (هبط) 4/ 2706، "تفسير ابن عطية" 1/ 257، و"القرطبي" 1/ 272، "زاد المسير" 1/ 68. (¬2) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأبي صالح، والسدي، ومجاهد، انظر "تفسير الطبري" 1/ 240، "تفسير وابن أبي حاتم" من طريق السدي عن ابن عباس 1/ 88 - 89، وذكره أبو الليث في "تفسيره" 1/ 112، و"الثعلبي" 1/ 61 أ، و"ابن عطية" عن السدي 1/ 257، وانظر: "التعريف والإعلام" للسهيلي ص 19، "غرر التبيان" ص 201، و"زاد المسير" 1/ 68. (¬3) وهي روايات إسرائيلية كما قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 85، انظر ما سبق. (¬4) (الصلاة): ساقط من جميع النسخ. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج ص 48. (¬6) "معاني القرآن" للفراء: (قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضًا: آدم وإبليس، وقال (اهبطوا) يعنيه ويعني ذريته فكأنه خاطبهم) 1/ 31.

[النساء:11]، أراد أخوين (¬1). وقوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. بعض الشيء طائفة منه (¬2). وأنكر الأصمعي وأبو حاتم إدخال (الألف واللام) في بعض وكل وقالا: إنهما معرفتان بغير الألف واللام، [والعرب لا تدخل فيهما الألف واللام] (¬3)، قال الله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] (¬4). والنحويون مجمعون على جواز إدخال الألف واللام عليهما (¬5). وسنذكر ما قيل في (بعض) عند قوله {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] إن شاء الله. و (العدو) اسم جامع للواحد والجميع وللذكر والأنثى، إذا جعلته في مذهب الاسم والمصدر فإن جعلته نعتاً محضاً ثنيت وجمعت وأنثت (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر قول ابن الأنباري ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 68. (¬2) انظر "تهذيب اللغة" (بعض) 1/ 359، "اللسان" (بعض) 1/ 312. (¬3) مابين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) انظر كلام الأصمعي وأبي حاتم في "تهذيب اللغة" وقال أبو حاتم: ولا تقول العرب (الكل ولا البعض) وقد استعمله الناس حتى سيبوبه والأخفش في كتبهما لقلة علمهما بهذا النحو فاجتنب ذلك فإنه ليس من كلام العرب "التهذيب" (بعض) 1/ 491، و"اللسان" (بعض) 7/ 119. (¬5) ورد في "اللسان" بعد كلام أبي حاتم منسوباً للأزهري، ولم أجده في "تهذيب اللغة"، ولعله سقط من المطبوع، وفي "اللسان" عن ابن سيده: (استعمل الزجاجي بعضا بالألف واللام)، "اللسان" (بعض) 1/ 312. (¬6) في "التهذيب": (وقال أبو عمر: .. و (العداوة) اسم عام من (العدو) يقال: عدو بيِّن العداوة وهو عدو، وهما عدو، وهن عدو، وهذا إذا جعلته في مذهب الاسم والمصدر. فإذا جعلته نعتا محضا قلت: هو عدوك، وهي عدوتك، وهم أعداؤك، وهن عدواتك، "تهذيب اللغة" (عدا) 3/ 2347.

ومنه قول عمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: (أي عدوات أنفسهن) (¬1). قال المفسرون: وأراد بهذه العداوة التي بين آدم وحواء والحية، وبين ذرية آدم من المؤمنين وبين إبليس، فإبليس عدو المؤمنين من ولد آدم، وعداوته لهم كفر، والمؤمنون (¬2) أعداء إبليس، وعداوتهم له إيمان (¬3). وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (¬4) سئل عن قتل الحيات، فقال: "خلقتهن (¬5) والإنسان كل واحد منهما عدو لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدغته أوجعته فاقتلها حيث وجدتها" (¬6). ¬

_ (¬1) قطعة من حديث طويل في قصة دخول عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش، وفيه: (أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أخرجه البخاري عن سعد بن أبي وقاص (3294) كتاب (بدء الخلق) باب (صفة إبليس وجنوده)، وفي (3683) كتاب (فضائل الصحابة) باب (مناقب عمر)، وفي (6085) كتاب (الأدب) باب (التبسم والضحك)، ومسلم (2389) كتاب (الفضائل) باب: (فضائل عمر) "شرح النووي"، وأحمد في "المسند" 1/ 182. (¬2) في (أ)، (ج): (المؤمنين) وأثبت ما في (ب) لأنه هو الصواب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 84، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 235. (¬4) (أنه) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (خلقت هي والإنسان)، وهذا يوافق ما في الطبري، ومجمع الزوائد كما سيأتي. وهو الصواب. (¬6) أخرجه الطبري بسنده في "تفسيره" 1/ 538، وهو في "مجمع الزوائد" ولفظه: (خلقت هي والإنسان سواء فإن رأته أفزعته ..) الحديث بمثل رواية الطبري قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه (جابر) غير مسمى، والظاهر أنه الجعفي، وثقة الثوري وشعبة، وضعفه الأئمة أحمد وغيره، 4/ 45 و (جابر) من رجال الطبري كذلك، وذكر الحديث السيوطي في "الدر" وعزاه إلى الطبري في "تفسيره" 1/ 108.

وروى ابن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما سالمناهن (¬1) منذ حاربناهن، فمن ترك شيئا منهن خيفةً فليس منا" (¬2) وأراد النبي صلى الله عليه وسلم بالمحاربة قصة آدم وإدخالها إبليس الجنة (¬3). وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}. موضع قرار أحياءً وأمواتاً (¬4). ¬

_ (¬1) (هن) ساقطة من (ب). (¬2) أخرجه الطبري بسنده، قال شاكر: (إسناده جيد والحديث مروي بأسانيد أخر صحاح)، "تفسير الطبري" 1/ 537، وأخرجه أبو داود (5248) كتاب (الأدب) باب (في قتل الحيات) عن أبي هريرة، وأخرج نحوه عن ابن مسعود (5249) وابن عباس "سنن أبي داود" معه "معالم السنن" (5250)، وأخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 247, 432, 520، وأخرجه نحوه عن ابن عباس 1/ 320، وقد حكم شاكر على أسانيد أبي داود وأحمد بأنها صحيحة كما في تحقيقه على الطبري. (¬3) قال الطبري: (وأحسب أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة) 1/ 240 - 241، قال العظيم آبادي شارح سنن أبي داود: (منذ حاربناهن) أي منذ وقع بيننا وبينهن الحرب، فإن المحاربة والمعاداة بين الحية والإنسان جبلية، لأن كلا منهما مجبول على طلب قتل الآخر، وقيل: أراد العداوة التي بينها وبين آدم عليه السلام ما يقال: إن إبليس قصد دخول الجنة فمنعت الخزنة فأدخلته الحية في فيها ...) عون المعبود 14/ 109. وفي هامش سنن أبي داود قال يحيى بن أيوب: سئل أحمد بن صالح عن تفسير قوله: (ما سالمنا هن منذ حاربناهن) متى كانت العداوة؟ قال: حين أخرج آدم من الجنة، قال الله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123]، قال هم قالوا: آدم وحواء، وإبليس والحية، قال: والذي صح: أنهم الثلاثة فقط، بإسقاط الحية، سنن أبي داود "معه معالم السنن" 5/ 410. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 241، و"ابن عطية" 1/ 258.

(ومتاع) المتاع: ما تمتعت به، أي شيء كان، فكل ما حصل التمتع به فهو متاع من زينة أو لذة أو عمر أو مال (¬1). ومعنى التمتع: التلذذ (¬2)، والمتعة أيضا من (¬3) المتاع، وجمعها مُتعَ (¬4). قال الأعشى: حَتَّى إِذَا ذَرَّ قَرْنُ الشَّمْسِ صَبَّحهَا ... زَوَالُ نَبْهَانَ يَبْغِي أَهْلَهُ مُتَعَا (¬5) أي يبغيهم صيداً يتمتعون به، ويأتي الكلام في متعة المطلقة (¬6) ومتعة الحج (¬7) مستقصى إن شاء الله. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 242، و"ابن عطية" 1/ 258. (¬2) قال ابن فارس (الميم والتاء والعين) أصل صحيح يدل على منفعة وامتداد مدة في خير .... وذهب من أهل التحقيق بعضهم إلى أن الأصل في الباب (التلذذ) ... وذهب منهم آخر إلى أن الأصل الامتداد والارتفاع ... (معجم مقاييس اللغة) (متع) 2/ 293، 294. (¬3) في (ب): (مثل). (¬4) قال الليث: ومنهم من يقول: متعة، وجمعها (متع)، "تهذيب اللغة" (متع) 4/ 3337. (¬5) البيت للأعشى يصف صائدا، ويروى (ذؤال) و (من آل) و (ذوآل) بدل (زوال) وفي جميع النسخ (زوال) ولعلها تصحيف، ويروى (صحبه) بدل (أهله) وهوله: ذر قرن الشمس: أول ما يشرق منها، وذؤال: ذأل: أسرع ومشى في خفة، والذؤال: الصائد، متعا: جمع متعة: يعني يطلب لهم زادا وطعاما، ورد البيت في "تهذيب اللغة" (متع) 4/ 3337، "اللسان" (متع) 7/ 4129، (ديوان الأعشى) ص108. (¬6) عند قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} الآية [البقرة: 236]. (¬7) عند قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية [البقرة: 196].

قال المفسرون: قلنا (¬1) في الأرض متاع من حيث الاستقرار عليها، والاغتذاء بما تنبتها (¬2) من الثمار والأقوات (¬3). وقوله تعالى: {إِلَى حِينٍ}. (الحين) وقت من الزمان، يصلح للأوقات كلها طالت أو قصرت (¬4)، ويجمع على (الأحيان) ثم يجمع (الأحيان) أحايين (¬5). قال الليث: وَحيَّنْتَ الشيء، جعلته له حِينًا (¬6). والمراد بالحين هاهنا فيما ذكره أهل التفسير: (حين الموت) (¬7). وقيل: إلى قيام الساعة (¬8). وإنما قال (¬9): (إلى حين) إشارة إلى أن الدنيا دار زوال (¬10). ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وفي "الوسيط" (فلنا) بالفاء 1/ 86، وهذا أولى. (¬2) في (ج): (ينبتها). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 242. (¬4) ذكره الأزهري عن الزجاج، "تهذيب اللغة" (حين) 1/ 714، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 84، "اللسان" (حين) 2/ 1073. (¬5) ذكره الازهري عن الليث، "تهذيب اللغة" 1/ 714، انظر: "اللسان" (حين) 2/ 1074. (¬6) المراجع السابقة. (¬7) ذكره ابن جرير في "تفسيره" عن ابن عباس والسدي 1/ 242، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 65 أ، وأبو الليث في "تفسيره" 1/ 112، والزجاج في "المعاني" 1/ 84، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 259. (¬8) ذكره ابن جرير في "تفسيره" عن مجاهد 1/ 242، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 84، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 259. (¬9) في (ب): (قيل). (¬10) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 259، و"تفسير القرطبي" 1/ 275.

37

37 - قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} الآية. (التلقي) في اللغة معناه: الاستقبال، [منه الحديث: (أنه نهى عن تلقي الركبان (¬1) قالوا: معناه: الاستقبال (¬2)]. والليث يقول: خرجنا نتلقى الحاج، أي نستقبلهم (¬3). وفي حديث آخر "لا تتلقوا الركبان والأجلاب" (¬4). وهذا معنى التلقي في اللغة (¬5)، وأصله ¬

_ (¬1) حديث النهي عن تلقي الركبان، أخرجه البخاري عن أبي هريرة رقم (2150) كتاب (البيوع) باب (النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم ..). وأخرج البخاري عن ابن عباس رقم (2158) باب (هل يبيع حاضر لباد)، وعن أبي هريرة رقم (2162) باب (النهي عن تلقي الركبان، وعن ابن عباس (2274) كتاب (الإجارة) باب (أجر السمسرة)، وأخرجه مسلم عن ابن عباس (1521) كتاب (البيوع) باب: (تحريم بيع الحاضر للباد). وأخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 368، 2/ 42. وأخرجه النسائي في كتاب (البيوع) 7/ 256، 257. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج) وأثبته من (ب). (¬3) في (أ): (يستقبلهم)، وما في (ب)، (ج) أصح. والكلام لم أجده منسوبًا لليث، انظر: "تهذيب اللغة" (لقى) 4/ 3291، و (العين) (لقو) 5/ 212 و (لقى) 5/ 215، "اللسان" (لقا) 7/ 4067. (¬4) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" بسنده، "تهذيب اللغة" (لقى) 4/ 3291، وسبق تخريج حديث النهي عن تلقي الركبان. وأخرج مسلم عن أبي هريرة: (أنه نهى أن يتلقى الجلب) رقم (1519) كتاب (البيوع) باب: (تحريم تلقي الجلب). وأخرجه النسائي في كتاب (البيوع) 7/ 257، واخرجه أبو داود رقم (3437) (البيوع) باب (التلقي). وأخرجه الدارمي (البيوع) 3/ 1671 (2608). وأخرجه أحمد في "المسند" بلفظ (الأجلاب) 2/ 284، 410. وأخرجه ابن ماجه في (البيوع) رقم (2178) باب: النهي عن تلقي الجلب. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (لقى) 4/ 3291، "الصحاح" (لقي) 6/ 2484، "اللسان" (لقا) 7/ 4066.

أنه (تَفَعُّل) (¬1) من اللقاء، فالتلقي معناه: التعرض للقاء الشيء، ولما كان الاستقبال للشيء تعرض للقائه قيل له: (تلقٍّ) (¬2). ويقال لَقَّيْتُه الشيء فَتَلَقَّى، أي عرضته لأن يراه فتعرض له، فَلَقَّيْتُه من (لقى) مثل: رَأيْتُه من (يري)، ومنه قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35] ثم صار التلقي بمعنى الأخذ، لأن الإنسان إنما يستقبل ما يحرص عليه، فكل كلام استقبلته فأنت مريد أخذه، وإلا أعرضت عنه (¬3). وجميع أهل اللغة والمعاني فسروا (التلقي) هاهنا بالأخذ والقبول (¬4)، ومنه الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتلقى الوحي من جبريل) (¬5) أي يتقبله ويأخذه (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (يفعل). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 242 - 243. (¬3) (عنه) ساقطة من (ب). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (لقي) 4/ 3291، والطبري فىِ "تفسيره" 1/ 242 - 243، (تفسير أبي الليث) 1/ 112، "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 38، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 260. ومنهم من فسر تلقي آدم للكلمات: بأنه تعلمها ودعا بها، انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 85، "تهذيب اللغة" 4/ 3291. (¬5) بهذا النص ذكره ابن قتيبة في "غريب القرآن" 1/ 38. وبهذا المعنى أخرج أحمد في "مسنده" بسنده عن ابن عباس: أن أبيا قال لعمر يا أمير المؤمنين إني تلقيت القرآن ممن تلقاه، وقال عفان: ممن يتلقاه من جبريل عليه السلام وهو رطب، "المسند" 5/ 117، وعفان أحد رواة الحديث والأحاديث بمعناه في البخاري رقم (5044) كتاب (فضائل القرآن) باب (الترتيل في القراءة)، ونحوه في مسلم رقم (448) كتاب الصلاة، باب: الاستماع للقراءة. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 38.

الأصمعي: تلقت الرحم ماء الفحل، إذا قبلته وارْتَجَّت عليه (¬1). فمعنى قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي: أخذها عنه وتلقنها (¬2). والرجل يُلَقَّى الكلام فيتلقاه، أي يُلَقَّنه فَيَتَلقَّنه (¬3). وبعض الناس يقولون: تلقى هاهنا: تلقن فجعل النون (ياء) كما قالوا تَظَنَّى من الظن (¬4)، وذلك غلط لأن النون إنما يجوز إبدالها بالياء إذا اجتمع نونان، وكذلك هذا الباب إذا اجتمع حرفان من جنس واحد جاز إبدال الثاني بالياء. كقول العجاج: تَقَضِّي البَازِي إِذَا (¬5) البَازِي كَسَره (¬6) بمعنى تقضض، فأما إذا لم يجتمع (¬7) حرفان، فلا يجوز الإبدال، لا يجوز أن تقول: تقبى بمعنى تقبل، وهذا ظاهر (¬8). وتفسير التلقي (¬9) بالتلقن ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (لقي) 4/ 3291، "اللسان" (لقا) 7/ 4066. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 242 - 243، "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 38، "تفسير ابن عطية" 1/ 260، "تهذيب اللغة" (لقى) 4/ 3291. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (لقي) 4/ 3291، "اللسان" (لقا) 7/ 4066. (¬4) في "تفسير القرطبي": (تظني من تطنن) 1/ 276، وكذا في "البحر" 1/ 165. (¬5) (إذا البازى) ساقط من (ب). (¬6) من أرجوزة يمدح فيها عمر بن عبيد الله بن معمر، يقول: انقض انقاض البَازِي ضم جناحيه، فهو في سرعته سرعة انقاض البَازي إذا كسر، أي ضم جناحيه، وهذا أسرع ما يكون في انقضاضه، ورد البيت في "الخصائص" 2/ 90، "همع الهوامع" 5/ 340، "اللسان" (قضض) 6/ 3661، "المشوف المعلم" 2/ 646، "ديوان العجاج" ص 28. (¬7) في (أ)، (ج): (تجتمع) والصحيح بالياء. (¬8) انظر: "تفسير القرطبي" 1/ 276، "البحر" 1/ 165، "الدر المصون" 1/ 295. (¬9) في (ب): (الثاني).

جائز صحيح (¬1) كما بينا، فأما أن يكون التلقي من لفظ التلقن فلا. و (الكلمات): جمع الكلمة، والكلمة تقع على الكثير والقليل، وتقع على الحرف الواحد من الهجاء. قال ابن الأعرابي: يقال: لفلان كلمة شاعرة، أي: قصيدة، وقالوا (¬2): قال امرؤ القيس في كلمته أي: قصيدته، وقال قس (¬3) في قصدته، يعنون خطبته (¬4). وتجمع (الكلمة)، (كَلِمًا) (¬5)، قال رؤبة (¬6): لَا يَسْمَعُ (¬7) الرَّكْبُ بها رَجْعَ الكِلَم (¬8) وتميم تقول: (كِلْمَة)، وفي الجمع (كِلَم). وأما استعمال الكلمة في القليل فإن سيبويه [قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد، فأما الكلام فإن سيبويه] (¬9) ¬

_ (¬1) (صحيح) ساقط من (ب). (¬2) (قالوا) ساقط من (ب). (¬3) هو قس بن ساعدة بن جدامة بن زفر الإيادي، الخطيب البليغ، سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - حكمته، ومات قبل البعثة، انظر ترجمته في "الإصابة" 3/ 279، "الخزانة" 2/ 89 (¬4) عن "الحجة" لأبي علي بتصرف 2/ 31، وانظر: "تهذيب اللغة" (كلم) 4/ 3180 (¬5) في (ب): (كما). قال الجوهري (الكلم لا يكون أقل من ثلاث من كلمات, لأنه جمع كلمة، "الصحاح" (كلم) 5/ 2043. (¬6) مكان البيت بعد قوله: (تميم تقول: (كِلْمَة) وفي الجمع (كِلَمُ) لأنه شاهد على هذه اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" (كلم) 4/ 3180، "اللسان" (كلم) 7/ 3922 (¬7) في (أ)، (ج): (تسمع)، وفي (ب) غير منقوط وضبطته مثل "التهذيب" وغيره. (¬8) ورد البيت في ملحق ديوان رؤبة مع الأبيات المنسوبة له وليست في "ديوانه" ص 182، وفي "تهذيب اللغة" (هنم) 4/ 3807، و (كلم) 4/ 3180, وفي "اللسان" (كلم) 7/ 3922. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

استعمله فيما كان مؤلفًا من هذه الكَلِم (¬1)، فالحرف الواحد لا يكون كلامًا، ولهذا لا يقطع (¬2) الحرف الواحد الصلاة. واختلف القراء في هذه الآية، فقرأ ابن كثير (آدم) بالنصب، (كلمات) بالرفع (¬3)، وحجته في ذلك: أن الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أضرب، منها: ما يجوز أن يكون الفاعل له مفعولا به، ويجوز أن يكون المفعول به فاعلا له (¬4) نحو اكْرَمَ بِشْرٌ بكرا، وشتم زيد عمرًا، وضرب عبد الله زيدًا. ومنها: ما لا يكون [فيه] (¬5) المفعول فاعلًا له، نحو: دققت الثوب، وأكلت الخبز. ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى كإسناده إلى المفعول به، [وذلك] (¬6) نحو: أَصَبْت (¬7) وَنِلْت وتَلَقَّيْتُ، تقول: نالني خير (¬8) ونلت خيراً، وأصابني خير وأصبت خيراً. قال الله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 2/ 32، وانظر "الصحاح" (كلم) 5/ 2023. (¬2) (لا) ساقطة من (ب). (¬3) قرأ ابن كثير وحده بنصب (آدم) ورفع (كلمات) وبقية العشرة برفع (آدم) ونصب (كلمات)، انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 154، "التبصرة" ص 250، "النشر" 2/ 211، "الإقناع" لابن الباذش 2/ 597، "البدور الزاهرة" ص30. (¬4) في "الحجة": (منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولًا به، ومنها ما يجوز أن يكون المفعول به فاعلًا له)، 2/ 40، وما عند الواحدي هو صحيح. (¬5) (فيه) ساقطة من (ب)، (ج)، وثابت في (أ)، "الحجة" 1/ 40. (¬6) (وذلك) ساقط من (ب) (¬7) في (ب): (أصب). (¬8) في (ب): (خيرًا) في كل المواضع الأربعة بالنصب.

الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] وفي قراءة عبد الله (¬1) {الظَّالِمُونَ} (¬2). وتقول: لقيت زيدا، وتلقاني وتلقيته، قال: إِذَا أَنْتَ لَمْ تُعْرِضْ عَنِ الفُحْشِ واْلخَنَا ... أَصَبْتَ حَلِيمًا أَوْ أَصَابَكَ جَاهِلُ (¬3) قال الله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} (¬4) [آل عمران: 40] وقال: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}، [مريم:8] وإذا كانت معاني هذه الأفعال على ما ذكرنا (¬5)، فنصب ابن كثير (آدم) ورفعه (الكلمات) في المعنى (¬6) كقول من رفع (آدم) ونصب الكلمات (¬7)، وحجة من رفع (آدم) ونصب ¬

_ (¬1) ذكر قراءة ابن مسعود الطبري في "تفسيره" 1/ 532. والفراء في "المعاني" 1/ 28. وانظر. "الكشاف" 1/ 309. "البحر" 1/ 377. (¬2) الاستشهاد بهذه القراءة ورد في "الحجة" في غير هذا الموضوع فنقله الواحدي بين هذه الأمثلة. انظر: "الحجة" 2/ 41، 42. (¬3) البيت ينسب لزهير، وينسب لابنه كعب كذا قال ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" ص 77. وورد البيت في "الحجة" 2/ 41. "المخصص" 15/ 161. وفي "ديوان زهير بن أبي سلمى" وراوية: (إذا أنت لم تقصر عن الجهل.) من قصيدة في سنان ابن أبي حارثة المُري، "ديوان زهير" مع شرحه ص 300، وورد في "ديوان كعب بن زهير مع قصائد لكعب لم تذكر في ديوانه" ص 257. (¬4) في (أ): (قد) سقطت الواو من الآية، وكذا من الآية التي تليها. (¬5) من أن بعض الأفعال المتعدية إسنادها إلى الفاعل في المعنى كإسنادها إلى المفعول به. (¬6) أي أن قراءة ابن كثير في المعنى كقراءة الجمهور. (¬7) بنصه من "الحجة" لأبي علي 2/ 40، 41، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 94، "الحجة" لابن خالويه ص 75. أما مكي فقال في توجيه قراءة ابن كثير: (علَّه من نصب (آدم) ورفع (الكلمات) أنه جعل (الكلمات) استنقذت (آدم) بتوفيق الله له لقوله إياها الدعاء بها فتاب الله عليه .. فهي الفاعلة وهو المُسْتَنْقَذ بها ..)، "الكشف" 1/ 237.

(الكلمات) (¬1) قوله (¬2): {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور: 15]، فأسند الفعل إلى المخاطبين، والمفعول به كلام يُتَلَقَّى (¬3)، كما أن الذي تَلَقَّى آدم كلام يتلقى، فكما أسند الفعل إلى المخاطبين، فجعل التلقي لهم، كذلك يلزم أن يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التلقي له (¬4) دون الكلمات (¬5). ومعنى التلقي للكلمات هو أن الله تعالى ألهم (¬6) آدم حتى اعترف بذنبه، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية [الأعراف: 23]، فهذه الآية هي المعنية بالكلمات في قول الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد (¬7)، وأخذ آدم ¬

_ (¬1) وهي قراءة العشرة عدا ابن كثير كما سبق. (¬2) في "الحجة": (ومن حجة من رفع أن عليه الأكثر، ومما يشهد للرفع قوله ..) 2/ 41. (¬3) في (ج): (تلقى). (¬4) (له) ساقط من (ج). (¬5) (الحجة) لأبي علي 2/ 41، 42، وقال مكي: وعلة من قرأ برفع (آدم) ونصب (الكلمات) أنه جعل (آدم) هو الذي تلقى الكلمات، لأنه هو قبلها ودعا بها، وعمل بها، فتاب الله عليه، فهو الفاعل لقبول الكلمات ...) "الكشف" 1/ 237، وانظر "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 95، "الحجة" لابن خالويه ص 75. (¬6) وكذا قال أبو الليث في "تفسيره" 1/ 112، وقال ابن قتيبة: كأن الله أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده، "غريب القرآن" ص 38، وقال ابن جرير: (... كأنه استقبله، فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه وأخبره ..)، "تفسير الطبري" 1/ 242 - 243، فهو وحي، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 260 - 261، و"زاد المسير" 1/ 69. (¬7) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" عن مجاهد وقتادة وابن زيد والحسن وأبي العالية 1/ 243 - 244، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن مجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخرساني، والربيع 1/ 90 - 91، وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" بسنده عن ابن عباس قال: وكذلك قال مجاهد والحسن 1/ 66 أ، وانظر: "زاد المسير" 1/ 69، و"تفسير ابن كثير" 1/ 86 - 87. ورجح ابن جرير هذا القول، قال: (والذي يدل عليه كتاب الله أن =

من الله إلهامه إياه، حتى أخذ بإلهامه. وقال ابن عباس: الكلمات هي: أن آدم قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك لي غضبك؟ قال: بلى، قال ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بشؤم معصيتك، قال يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم قال: فهو الكلمات (¬1). قال أبو إسحاق: وفي الآية تعريف للمذنب، كف السبيل إلى التنصل من الذنوب، وأنه لا ينفع إلا الاعتراف (¬2). ¬

_ = الكلمات التي تلقاهن آدم من ربه هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصلا بقيلها إلى ربه، معترفا بذنبه، وهو قوله {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وليس ما قاله من خالف قولنا هذا -من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قول لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم ..) "تفسير الطبري" 1/ 244. (¬1) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس بنحوه من عدة طرق، وأخرج نحوه عن أبي العالية والسدي في "تفسيره" 1/ 243، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن ابن عباس نحوه، قال المحقق: في سنده ضعف وانقطاع 1/ 311، وأخرج الحاكم في "مستدركه" عن ابن عباس نحوه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، "المستدرك" 2/ 545، وذكر الثعلبي 1/ 65 ب، وذكره ابن كثير في "تفسيره"، وفي الهامش قال المحقق: (سنده حسن من أجل الحسن بن عطية .. وهذا الأثر كغيره من الآثار المتلقاة عن أهل الكتاب التي لا يجوز الاعتماد عليها في تفسير كتاب الله) 1/ 149. ذكر الواحدي أشهر الأقوال في المراد بالكلمات، وفيها أقوال أخرى، انظر: "تفسير ابن جرير" 1/ 243 - 244، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 90 - 91، و"الثعلبي" 1/ 65 ب، و"ابن عطية" 1/ 261، "زاد المسير" 1/ 69، و"تفسير ابن كثير" 1/ 87، و"الرازي" 3/ 19. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 85

وسئل بعض السلف عما يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبوه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] وما قاله (¬1) موسى: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وما قاله (¬2) يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬3) [الأنبياء: 87]، وما قالته الملكة: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] (¬4). وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ}. معنى التوبة في اللغة: الرجوع. وفي الشريعة: رجوع العبد من المعصية إلى الطاعة (¬5)، فالعبد يتوب إلى الله والله يتوب عليه، أي يرجع عليه (¬6) بالمغفرة، [والعبد تواب إلى الله أي راجع إليه بالندم، والله تواب يعود عليه بالكرم] (¬7) والعبد تواب إلى الله بالسؤال، والله تواب عليه بالنوال (¬8). فمعنى قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي عاد عليه بالمغفرة (¬9)، ولا يحتاج إلى ¬

_ (¬1) في (ب): (وما قال). (¬2) في (ج): (وما قال). (¬3) قوله (لا إله إلا أنت) ساقط من (ب). (¬4) الأثر أورده أبو حيان في البحر 1/ 165. (¬5) التوبة في الشرع: ترك الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة على عدم العودة إليه، وتدارك ما أمكنه من عمل الصالحات، فهذه أركان التوبة وشرائطها، (مفردات الراغب) ص 76، وانظر: "شرح أسماء الله" للزجاج ص 61، "تهذيب اللغة" (تاب) 1/ 416 - 417، "تفسير الطبري" 1/ 246، و"ابن عطية" 1/ 261 - 262، و"القرطبي" 1/ 277 - 278، "زاد المسير" 1/ 70، "البحر" 1/ 166. (¬6) في (ب): (إليه). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) ذكر الأزهري نحوه عن الليث، "تهذيب اللغة" (تاب) 1/ 416 - 417. (¬9) (تاب عليه) أي وفقه للتوبة وقبلها منه، وعاد عليه بالمغفرة، انظر: "تفسير الطبري" =

38

ذكر المغفرة، لأن هذا اللفظ وضع لرجوع العبد إلى الله بالطاعة والندم ورجوع الله عليه بالعفو والمغفرة، وكما لا يحتاج (¬1) إذا قلت: تاب الله عليه، أن تقول بالندم أو بالطاعة، فكذلك لا تحتاج في قولك: (تاب الله عليه) إلى شيء آخر (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬3). أي يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه. 38 - وقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} الآية. إعادة الأمر بالهبوط يحتمل وجهين، أحدهما: أنه أراد بالأول هبوطاً من الجنة إلى السماء. وبالثاني هبوطًا من السماء إلى الأرض (¬4)، والثاني: أنه كرر للتأكيد (¬5). ¬

_ = 1/ 246، و"تفسير ابن عطية" 1/ 262، "زاد المسير" 1/ 70، و"تفسير ابن كثير" 1/ 87. (¬1) في (ب): (يحتاج) في الموضعين. (¬2) انظر: "تفسير البيضاوي" 1/ 22، و"النسفي" و"الرازي" 3/ 22. (¬3) (إنه) ساقط من (ب). (¬4) ذكره ابن عطية عن النقاش في "تفسيره" 1/ 262 - 263، و"القرطبي" 1/ 279، "البحر" 1/ 167، وضعف أبو حيان هذا الوجه: لأن الله قال في الهبوط الأول: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ولم يحصل الاستقرار على هذا القول إلا بالهبوط الثاني فكان يمبغي أن يذكر الاستقرار فيه، وقال في الهبوط الثاني: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا}، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة. (¬5) المراجع السابقة، وذكر الماوردي وجهًا ثالثًا: وهو أنه كرر الهبوط، لأنه علق بكل واحد منهما حكما غير الحكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيانه الهدى، "تفسير الماوردي" 1/ 262.

وقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ}. قال أبو إسحاق (¬1): (إما) في [هذا] (¬2) الموضع بمعنى حرف الشرط والجزاء، إلا أن الجزاء إذا جاء معها (¬3) (النون الثقيلة) لزمتها (ما) (¬4) وإنما يلزمها لأجل التأكيد، وكذلك دخل (النون) في الشرط لأجل التأكيد. وجواب الجزاء في (الفاء) مع الشرط الثاني وجوابه، وهما جملة جواب للشرط في (إما) (¬5). فعلى هذا أصل (إما) (إن) التي للشرط، ألحق بها ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 86. (¬2) (هذا) ساقط من (ب). ولفظ الزجاج في "المعاني": (إعراب (إما) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاء ...) 1/ 86. (¬3) في "معاني القرآن" (معه) 1/ 86، وهو الأولى. (¬4) (ما) ساقطة من (ب). والزجاج بهذا يرى أن فعل الشرط الواقع بعد (إن) الشرطية المؤكدة بـ (ما) يجب تأكيده بالنون، وهذا ما يوضح معنى قوله: (إلا أن الجزاء إذا جاء معها النون الثقيلة لزمتها (ما)، أي أن (إن) الشرطية إذا اتصل فعل الشرط معها بـ (نون التوكيد) وجب زيادة (ما) معها، وبهذا قال المبرد، قال السمين: ليس في كلامهما ما يدل على لزوم (النون) غاية ما فيه أنهما شرطا في صحة تأكيده بالنون زيادة (ما) "الدر المصون" 1/ 300، 301، وقال سيبويه والفارسي وطائفة: لا يلزم تأكيده، وسيأتي رد الفارسي على الزجاج، انظر: "المقتضب" 3/ 13، "تفسير ابن عطية" 1/ 262 - 263، "البحر" 1/ 167. (¬5) في "معاني القرآن": (وجواب الشرط في (الفاء) مع الشرط الثاني وجوابه وهو {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} وجواب {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 86 وما أخذ به الزجاج في جواب الشرط: هو قول سيبويه كما ذكر ابن عطية وقال: وحكي عن الكسائي أن قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جواب الشرطين جميعا ..) قال ابن عطية: (حكي هذا وفيه نظر ..) "تفسير ابن عطية" 1/ 264، وقيل جواب الشرط الأول محذوف تقديره: فإما يأتينكم مني هدى فاتبعوه وقوله: {فَمَنْ تَبِعَ} جملة مستقلة، قال السمين: وهو بعيد، انظر: "الدر المصون" 1/ 301.

(ما) (¬1) التأكيد (¬2). قال أبو بكر بن السراج: الشرط وجوابه نظير المبتدأ والخبر، إذ كان الشرط لا يتم إلا بجوابه، ولك أن تجعل خبر المبتدأ جملة، هي أيضا مبتدأ وخبر، نحو قولك: (زيد أبوه منطلق) كذلك في الشرط (¬3) لك أن تجيبه بجملة (¬4) هي جزاء وجواب، نحو قولك: (إن تأتني فمن يكرمني أكرمه) كذلك قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} لآية (¬5). وهذا الذي ذكره ابن السراج بيان ما أجمله أبو إسحاق. قال أبو علي (¬6): قول أبي إسحاق: (الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة أو (¬7) الخفيفة لزمه (ما) (¬8) يوهم (¬9) أن (ما) لزم لدخول (النون)، وأن سبب لحاق (ما) لحاق (النون). والأمر بعكس ذلك وخلافه، لأن السبب الذي دخلت (النون) الشرط ¬

_ (¬1) (ما) ساقطة من (أ)، (ج)، وأثبتها كما في (ب) لاقتضاء السياق لها. (¬2) قوله: (التأكيد) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب (للتأكيد)، انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 39،"البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 76. (¬3) (لك) ساقطة من (ب). (¬4) (بجملة) ساقط من (ب). (¬5) كلمة (الآية) ساقطة من (ب) لم أقف على كلام ابن السراج بهذا النص، ولكن انظر معناه في كتابه "الأصول في النحو" 2/ 158. (¬6) ورد كلام أبي علي في كتاب "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" متعقبا فيه الزجاج وقد نقل عنه الواحدي طويلا، انظر: "الإغفال" ص 103 - 113. (¬7) في (ب): (والخفيفة) بالواو ومثله في "الإغفال" ص 104. (¬8) في (ب): (أن). (¬9) في "الإغفال": (نوهم) ص 104.

في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} و {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26]، {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ} [الإسراء: 28] ونحو ذلك عند النحويين إنما هو لحاق (ما) أول الفعل بعد (إن) فلذلك صار موضعا للنونين (¬1)، بعد أن لم يكن لهما موضعا. وإنما كان كذلك عند سيبويه (¬2) وأصحابه لمشابهة فعل الشرط، بلحاق (ما) به بعد (إن)، الفعل المقسم عليه. وجهة المشابهة: أن (ما) (¬3) حرف تأكيد كما أن (اللام) (¬4) تكون تأكيداً، والفعل وقع بعد (ما) كما (¬5) وقع في القسم بعد (اللام). فلما شابهت (اللام) في ذلك، لزم الفعل مع (ما) (¬6) في الشرط (النون)، كما لزمته (¬7) في (ليفعلن)، فسبب (¬8) لحاق (النون) دخول (ما) على ما يذهب إليه النحويون (¬9). قال أبو إسحاق: وفتح ما قبل النون {يَأْتِيَنَّكُمْ} ¬

_ (¬1) أي: نون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الخفيفة. (¬2) انظر: "الكتاب" 3/ 514, 515. (¬3) (ما) ساقطة من (ب). (¬4) أي لام القسم في مثل (لتفعلن). قال سيبوبه: (... ومن مواضعها أي نون التوكيد حروف الجزاء إذا وقعت بينها وبين الفعل (ما) للتوكيد، وذلك لأنهم شبهوا (ما) بـ (اللام) التي في (لتفعلن) لما وقع التوكيد قبل الفعل ألزموا (النون) آخره كما ألزموا هذه (اللام) ..) "الكتاب" 3/ 514، 515. (¬5) في (ب): (كان). (¬6) في (ب): (لزم الفعل معها في الشرط). (¬7) في (ب): (لزمه). (¬8) في (ج): (بسبب). (¬9) "الإغفال" ص 104، وانظر: "الكتاب" 3/ 515.

لسكونه (¬1)، وسكون النون الأولى. قال أبو علي: لا يخلو (¬2) حركة (الياء) بالفتح من أن يكون لالتقاء الساكنين، كما ذكر أبو إسحاق، أو يكون حركة بنى الفعل عليها، لانضمام الحرف إليه. فلو كانت الحركة بالفتح لالتقاء الساكنين في {يَأْتِيَنَّكُمْ} ونحوه لما حرك به في (هل تضربن) (¬3) و (هل تذهبن) (¬4) ونحوه من الصحيح. ألا ترى أن الساكنين لا يلتقيان في هذا كما يلتقيان في المعتل، والتحرك بالفتح مع (¬5) ذلك لازم له، ولو كانت الحركة لالتقاء الساكنين ما لزمت هنا. وفي تحرك هذا الضرب بالفتح أعني: (الصحيح) (¬6) ما يدل على أن المتحرك بالفتح في: {يَأْتِيَنَّكُمْ} ونحوه للبناء، دون التقاء الساكنين، فثبت ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": السكون الياء وسكون النون الأولى) "معاني القرآن" 1/ 86 يذكر الزجاج هنا أن الفعل المؤكد بنون التوكيد في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} يفتح ما قبل النون لتفادي التقاء ساكنين (الياء) التي هي آخر الفعل، والنون الأولى من نون التوكيد المشددة. وهذا التعليل غير كاف عند بعض النحويين، بل يرون أن الفعل المضارع الذي لم يتصل بضمير رفع ساكن إذا أكد بالنون اعتبر معها مركبا وبني على الفتح، وبهذا اعترض أبو علي على الزجاج كما في كلامه الآتي الذي نقله الواحدي عن "الإغفال" ص 114. (¬2) في (ب): (لا تخلوا) (أن تكون) (أو تكون) بالتاء في المواضع الثلاثة ومثله في "الإغفال" ص 114، وهذا أولى. (¬3) في (ج): (هل تضربين). (¬4) في (ج): (هل تكرهين). (¬5) في (ب): (من ذلك). (¬6) في "الإغفال": (أعني: الذي لا ساكنين فيه ... إلخ) ص 115.

بهذا فساد قوله. ويدل أيضًا على فساد قولِه قولُهم: (قُولَنَّ) و (بيعنَّ) ولا تخلو (¬1) اللام في: (قولن) من أن تكون (¬2) محركة لالتقاء الساكنين [أو لبناء الفعل مع الحرف بالفتح، فالذي يفسد القول بأنها محركة لالتقاء (¬3) الساكنين] (¬4) ردك العين في: (قولن) و (بيعنَّ)، ألا ترى أن (اللام لو كانت حركتها (¬5) للساكنين لم يلزم رد العين، كما أن حركتها لما كانت في: (قل الحق) و (بع الثوب) لالتقاء الساكنين لم يلزم رد العين فيه، فردنا للعين (¬6) في: (قولن) ونحوه وحذفنا لها في: (قل الحق) دليل بَيِّن أن الحركة في (قولن) لبناء الفعل مع الحرف على الفتح، إذ لو كانت لالتقاء الساكنين ما رُدَّت العين كما لم ترد في (قل الحق) (¬7)، وإنما لم ترد في (قل الحق) (¬8) لأن النية بحركتها السكون، وما تحرك لها من الساكن الثاني غير لازم (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): (يخلو). (¬2) من (ب): وفي غيرها: (يكون). (¬3) في "الإغفال": (محركة للساكنين) ص 116. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج) وأثبته من (ب) وهو ثابت في "الإغفال" ص 115 وصحة السياق تقتضيه. (¬5) في (ج): (لو كانت لالتقاء الساكنين). (¬6) في (ب): (العين). (¬7) في "الإغفال": .. (كما لم ترد في (قل الحق) لما كانت الحركة فيه لالتقاء الساكنين، وإنما لم ترد (العين) المحذوفة للساكنين من (قل) ونحوه، وإن تحركت اللام، لأن النية بحركتها ... إلخ) "الإغفال" ص 116. (¬8) قوله: (قل الحق) ساقط من (ب). (¬9) انتهى ما نقله عن "الإغفال"، بتصرف يسير في بعض الكلمات، وانظر بقية كلام أبي علي في "الإغفال" ص 116 - 119.

ومعنى قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي: فإن يأتكم مني شريعة ورسول وبيان ودعوة (¬1). {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي: قبل أمري واتبع ما آمر به، فلا خوف عليه في الآخرة ولا حزن (¬2). والخطاب لآدم وحواء وذريتهما (¬3)، أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة ويجازيهم بالجنة عليها، وبالنار على تركها، وأن هذا الابتلاء وقع عند الهبوط إلى الأرض (¬4). وقوله تعالى: {هُدَايَ} فتحت (الياء) فيه (¬5)، لأنها أتت بعد ساكن، وأصلها الحركة التي هي الفتح، والأصل أن تقول: (غلامي) فتفتح (¬6) (الياء)، لأنها حرف في موضع اسم مضمر (¬7) منع الإعراب فألزم الحركة، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 246، "تفسير أبي الليث" 1/ 113، "تفسير ابن عطية" 1/ 263 - 264، "تفسير ابن كثير" 1/ 87 - 88. (¬2) قوله: (ولا هم يحزنون) قال الطبري: (ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلفوا بعد وفاتهم في الدنيا) الطبري في "تفسيره" 1/ 247، وبهذا قال أكثر المفسرين، انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 113، و"تفسير ابن كثير" في 1/ 88، وذكر ابن عطية في معنى الآية وجها آخر: أي لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيه 1/ 2658، والأولى عموم الآية. والله أعلم. (¬3) ذكره ابن جرير، وذكر وجها آخر: وهو أن الخطاب لمن أهبط من السماء وهم آدم وحواء وإبليس ورجح هذا الوجه، انظر: "الطبري" 1/ 246، ورجحه ابن عطية في "تفسيره" 1/ 262، وبه قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 87. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 85 (¬5) من "معاني القرآن" للزجاج بتصرف 1/ 86، 87. (¬6) في (ج): (بفتح) ومثله في "معاني القرآن" 1/ 87. (¬7) أي أن (الياء) ضمير جاء على حرف واحد فيأخذ حكم الحرف في أنه يفتح إذا جاء بعد ساكن، "معاني القرآن" 1/ 87.

كما ذكرنا في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] فيمن (¬1) فتح (الياء). وحذف الحركة (¬2) جائز لأن (الياء) من حروف المد واللين، وفي {هُدَايَ} سكن ما قبلها، ولم (¬3) يكن بد من تحريكها، فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح (¬4). وروى ابن الأنباري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} قال (¬5): وهي لغة طيئ (¬6)، يقولون: هذه عصيَّ ورحَيَّ (¬7). وقرأ ابن أبي إسحاق (¬8): {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} (¬9) [طه: 18] وقال أبو ذؤيب: ¬

_ (¬1) في (ج): (فمن). (¬2) في (ب): (الياء). (¬3) في (ب): (فلم). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 87. (¬5) في (ب): (وقال). (¬6) لغة هذيل، انظر: "المحتسب" 1/ 76، و"تفسير ابن عطية" 1/ 264، و"تفسير القرطبي" 1/ 280. (¬7) ذكر هذه القراءة ابن جني في "المحتسب" قال: (قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي الطفيل، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى ابن عمر الثقفي (هُدَيَّ) ..) "المحتسب" 1/ 76 ونحوه في "البحر المحيط" 1/ 169، وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 87، "البيان" 1/ 76، و"تفسير ابن عطية" 1/ 264، و"تفسير القرطبي" 1/ 280. (¬8) هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي النحوي البصري، أخذ القراءة عن يحيى بن يعمر ويعمر ونصر بن عاصم، وتوفي سنة تسع وعشرين ومائة، انظر: "غاية النهاية" 1/ 410. (¬9) (هي) ساقطة من (ب).

تَرَكُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَواهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ (¬1) وقال آخر (¬2): يُطَوَّفُ بِي عِكَبٌّ (¬3) فِي مَعَدٍّ ... وَيَطْعَنُ بِالصُّمُلَّةِ فِي قَفَيَّا فَإِنْ لَمْ تَثْأَرُوا لِي مِنْ عِكَبٍّ ... فَلَا أَرْوَيْتُم أبَدًا صَدَيَّا (¬4) وقال أبو دواد (¬5): ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة قالها أبو ذؤيب يرثي بنيه، حيث ذهبوا للجهاد، وكان هواه أن يقيموا معه، وأن يموت قبلهم، قوله: فَتُخُرِّمُوا: أخذوا واحدًا واحدًا، تخرمتهم المنية، ولكل جنب مصرع: أي كل إنسان يموت، انظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 7، "المحتسب" 1/ 76، "المفضليات" ص 421، "شرح المفصل" 3/ 33، "تفسير ابن عطية" 1/ 264، و"تفسير القرطبي" 1/ 280، "البحر" 1/ 169. والراوية للبيت في المصادر كلها (سبقوا) بدل (تركوا). (¬2) البيتان للمُنَخَّل اليَشْكري، وقال في "الصحاح": (المتَنخِّل اليَشْكُري)، وفي الهامش: اسم اليَشُكري (المنخل) وأما (المنتخل) فهو الهذلي، "الصحاح" 1/ 188، وكان من قصة المُنخل (أنه كان بينه وبين المتجردة امرأة النعمان بن المنذر علاقة ولما علم النعمان دفعه إلى سجانه واسمه (عِكب) فقيده وعذبه. (¬3) في (ب): (كعب) في الموضعين. (¬4) يروي البيت: (تثأران) و (فلا رَوَّيْتُما) وقوله: (صَدَيَّا): الصدى في زعم الجاهلية طائر يصيح إذا لم يتأر بالمقتول، وقيل هو اسم ماد والصملة هي العصا. وشاهد (صديا) و (قفيا) حيث استعملهما على لغة هذيل، الأبيات في "المحتسب" 1/ 76، "الخصائص" 1/ 177، "شرح المفصل" 3/ 188، "ترتيب الإصلاح" 1/ 185، والبيت الأول في "الصحاح" (عكب) 1/ 188، "اللسان" (عكب) 5/ 3054. (¬5) هو أبو دواد الإيادي، وكان قد جاور هلال بن كعب من تميم، فلعب غلام له مع غلمان الحي في غدير فغطسوه في الماء ومات، فعزم أبو دواد على مفارقتهم وذم جوارهم، وحاولوا إرضاءه فقال البيت وبيتًا قبله.

39

فَأَبْلُونِي بَلِيَّتكُم (¬1) لَعَلِّي ... أُصالِحُكُم وأَسْتَدْرِجْ نَوَيَّا (¬2) قال الفراء: وإنما فعلت طيئ هذا لأن العرب اعتادت كسر ما قبل (ياء) (¬3) الإضافة نحو قولهم: (غلامِيَ) و (دارِيَ) فلما قالوا: (رحاي) (¬4) و (عصاي) طلبوا من الألف ذلك الكسر فقلبوها (ياء) وأدغموها في (ياء) الإضافة، فجعلوا بدل كسرة ما قبل (ياء) الإضافة قلب الألف (ياء)، إذ (¬5) كانت الألف لا يكسر (¬6) ما قبلها، ولا تكسر هي (¬7). 39 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الآية. الآيات جمع آية، ومعنى الآية في اللغة: العلامة (¬8)، ومنه قوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا ¬

_ (¬1) في (ج): (بليكم). (¬2) قوله: فأبلوني: يقال: أبلاه إذا صنع به جميلا، والبلية: الاسم، وقيل: البلية: الناقة تربط على قبر صاحبها بدون طعام ولا شراب حتى تموت، ونَوَيَّا: يريد (نَوَاي) وهي النية، والمراد الوجه الذي يقصد، انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 88، "تأويل مشكل القرآن" ص 56، "الخصائص" 1/ 176، 2/ 341، 424، "مغني اللبيب" 2/ 423، 477، "اللسان" (علل) 50/ 3082. (¬3) (ياء) ساقطة من (ج). (¬4) في (ج): (راحاي). (¬5) في (ب): (إذا). (¬6) في (أ)، (ج): (لا تكسر). (¬7) لم أجده للفراء، وذكر ابن جني عن أبي علي نحوه في تخريج لغة هذيل، انظر "المحتسب" 1/ 76، وذكر النحاس هذه العلة عن الخليل وسيبويه، "إعراب القرآن" 1/ 166، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 236، والزجاج في "تفسيره" 1/ 78. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 47، "معجم مقاييس اللغة" (أبي) 1/ 168، "الزاهر" 1/ 172، "مفردات الراغب" ص 33، "اللسان" (أيا) 1/ 185، و"فوائد في مشكل القرآن" ص 68، "البرهان في علوم القرآن" 1/ 266.

وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة: 114] أي علامة منك لإجابتك دعاءنا، فكل آية من الكتاب علامة ودلالة على المضمون فيها. وقال أبو عبيدة: معنى الآية: أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها، وانقطاعه من الذي بعدها (¬1). ثعلب عن ابن الأعرابي: الآية العلامة (¬2). الليث: الآية العلامة، والآية من آيات القرآن، والجميع: الآي (¬3)، ولم يزد على هذا. فالآية بمعنى العلامة في اللغة صحيحة (¬4). قال الأحوص (¬5): أَمِنْ رَسْمِ آيَاتٍ عَفَوْنَ وَمَنْزِلٍ ... قَدِيمٍ تُعَفِّيهِ (¬6) الأَعاَصِيرُ مُحْوِلِ (¬7) ¬

_ (¬1) في "المجاز" لأبي عبيدة. (إنما سميت آية لأنها كلام متصل إلى انقطاعه، انقطاع معناه قصة ثم قصة (1/ 5) وانظر: "الزاهر" 1/ 172. (¬2) لم أجده عن ابن الأعرابي، ويظهر أن الواحدي نقل الكلام وما بعده من "تهذيب اللغة"، ولم أجد بحث (آية) في المطبوع من "تهذيب اللغة"، انظر: "الغربيين" للهروي 1/ 116، 117، "اللسان" (أيا) 1/ 185. (¬3) في "الصحاح" جمع الآية: آي وآياي، آيات، "الصحاح" (أيا) 6/ 2275، انظر: "اللسان" (أيا) 1/ 185، وقيل: آياي جمع الجمع. (¬4) انظر: "الصحاح" (أيا) 6/ 2275، "مقاييس اللغة" (أي) 1/ 168، "مفردات الراغب" ص 33، "اللسان" (أيا) 1/ 185. (¬5) هو الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت، لشعره رونق وحلاوة أكثر في الغزل، وكان يشبب بنساء أشراف المدينة، فنفاه سليمان بن عبد الملك إلى (دهلك)، انظر: "الشعر والشعراء" ص 345، "الخزانة" 2/ 16. (¬6) في (ج): (يعفيه). (¬7) ورد البيت في "الزاهر" 1/ 172، ولم أجده في شعر الأحوص جمع (عادل سليمان جمال)، والمُحْوِل: المنزل الذي رحل عنه أهله وتغير حاله، انظر: "اللسان" (حول) 2/ 1060.

قال ابن السكيت (¬1) وحكاه لنا أبو عمرو (¬2) يقال (¬3): خرج القوم بآيتهم، أي بجماعتهم، لم يدعوا وراءهم شيئا (¬4)، وقال بُرْج بن مُسْهِر (¬5): خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مْثِلُنَا ... بآِيَتِناَ نُزْجِي اللِّقَاحَ المطَافِلاَ (¬6) معناه: خرجنا بجماعتنا. فعلى هذا القول معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص (¬7). وبعض أصحابنا (¬8) يجوّز على هذا القول أن يسمَّى أقل من الآية آية، ¬

_ (¬1) "إصلاح المنطق" ص 304، وانظر: "الزاهر" 1/ 173، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 34، "زاد المسير" 1/ 71. (¬2) هو أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني، جاور بني شيبان في الكوفة ونسب اليهم، شهر بالغريب، أخذ عنه ابن السكيت، انظر ترجمته في: مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 33، "طبقات النحويين واللغويين" ص 194. (¬3) في (ب): (فقال). (¬4) ذكر البغدادي في "الخزانة": أن علي بن حمزة البصري رد قول ابن السكيت واستشهاده بكلام أبي عمرو الشيباني، ورجح أن الآية: العلامة، انظر: "الخزانة" 6/ 515. (¬5) في (ج): (مرج بن شهر). وهو البرج بن مُسْهِر بن جلاس الطائي شاعر معمر. قال ابن دريد. وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، انظر: "الاشتقاق" لابن دريد ص 382، "الأعلام" 2/ 47. (¬6) قوله: نزجي: نسوق، واللقاح: النوق ذوات اللبن، والمطافل: النوق معها أولادها. ورد البيت في "إصلاح المنطق" ص 304، "الزاهر" 1/ 172، "مقاييس اللغة" (أي) 1/ 169، "تفسير القرطبي" 1/ 57، "زاد المسير" 1/ 71، (الخزانة) 6/ 515، "اللسان" (أيا) 1/ 185، "الدر المصون" 1/ 308. (¬7) سبق ذكر رد علي بن حمزة البصري على هذا القول، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 34، "الزاهر" 1/ 172، "اللسان" (أيا) 1/ 185. (¬8) أي من علماء الشافعية.

لولا أن التوقيف ورد بما هي الآن معدودة آيات (¬1). قال ابن الأنباري: وفي الآية قول ثالث: وهو أن تكون (¬2) سميت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها إذا قرأها يستدل على مباينتها (¬3) كلام المخلوقين، ويعلم أن العالم يعجزون عن التكلم بمثلها، فتكون الآية العجب من قولهم: (فلان آية من الآيات) أي عجب من العجائب (¬4) فهذا هو القول في معنى الآية. فأما وزنها من (¬5) الفعل، فقال الفراء (¬6): إنما تركت العرب همز (ياء) آية، كما يهمزون كل (ياء) بعد الألف ساكنة نحو: قائل وغائب (¬7) وبابه، ¬

_ (¬1) أنظر: "البرهان في علوم القرآن" 1/ 267، "الإتقان" 1/ 230. قال الزمخشري: (هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور) "الكشاف" 1/ 105. (¬2) في (أ)، (ج): (يكون) واخترت ما في (ب) لأنه هو الصواب موافق لكلام ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 173. (¬3) في (أ): (مبانيتها) وما في (ب)، (ج) هو الصواب وموافق لما في "الزاهر". (¬4) "الزاهر" 1/ 173، وانظر: "زاد المسير" 1/ 72. وخلاصة القول في معنى الآية: أنها تطلق في اللغة على: 1 - المعجزة، 2 - العلامة، 3 - العبرة، 4 - الأمر العجيب، 5 - الجماعة، 6 - البرهان والدليل. (¬5) (من) ساقطة من (ج). (¬6) كلام الفراء ورده على الكسائي ذكره ابن منظور في "لسان العرب" عن كتاب (المصادر) للفراء، ولعله نقله عن "تهذيب اللغة"، ولم أجد مبحث (آية) في المطبوع من "تهذيب اللغة"، انظر: "اللسان" (ايا) 1/ 185. (والآية) وزنها من الفعل - عند الفراء: (فَعْلَة) وعند الخليل (فَعَلَة) أصلها (أَيَيَة)، وعند الكسائي (فَاعِلَة)، أنظر: "الزاهر" 1/ 342، "تفسير ابن عطية" 1/ 71 - 72، "المفردات في غريب القرآن" ص 33، "فوائد في تأويل المشكل" ص 68، "البرهان" 1/ 266، "الدر المصون" 1/ 308، "الخزانة" 6/ 517، وقد ذكر في أصلها ستة وجوه. (¬7) (قائل وغائب) مكانها بياض في (ج).

لأنها كانت فيما يرى (¬1) (أَيَّة) على وزن (فَعْلَة) فثقل عليهم التشديد فأبدلوه ألفا، لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا: أَيْمَا [في (أَمَّا)، وكما فعلوا بدينار وقيراط لما استثقلوا التشديد أبدلوا من الحرف الأول (ياء) لانكسار ما قبله. (¬2) وقال] (¬3) الكسائي: آية [وزنها (فَاعِلَة)، أصلها آيِيَة، فنقصت (¬4)]. الكسائي يقول: استثقلت الكسرة على الياء الأولى فسكنت، ثم حذفت لاجتماع الساكنين (¬5)، هذا معنى قوله: (فنقصت). قال الفراء: ولو كانت (آية) فَاعِلَة ما صغروها (¬6) أيَيَّة، لأن (فاعلة) تصغّر (فُوَيْعِلَة). فقال الكسائي: قد صغروا: عاتكة وفاطمة عُتَيكة وفُطَيْمة، فالآية مثلها. فقال الفراء: العرب لا تصغر (فاعلة) (فُعَيلة) إلا أن يكون اسماً في مذهب (فلانة) فيقولون هذه فُطَيْمة قد جاءت، إذا كان (¬7) اسمها (¬8)، فلو ¬

_ (¬1) في (ج): (ترى). (¬2) (دينار) و (قيراط) أصلهما (دَنَّار) و (قَرَّاط) فاستثقلوا التشديد فأبدلوا من الحرف الأول (ياء) لانكسار ما قبله فصار: دينار وقيراط. انظر "الزاهر" 1/ 173، "الصحاح" (أيا) 6/ 2275. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) انظر (الزاهر) 1/ 342. (¬6) في (أ): (ما صنعوها) وما في (ب)، (ج) هو الصحيح، وفي "اللسان" (ما صغرها). (¬7) في (ب): (كانت). (¬8) في "اللسان" (اسما) 1/ 185.

قلت: (هذه فَاطِمة ابنها) ثم صغرتها لم يجز الا فويطمة (¬1)، ومثل: (هذا صُلَيْح قد جاء)، لرجل اسمه صالح، ولو قال قائل: كيف بُنَيُّك (¬2)؟ قلت: صويلح ولم يجز صليح لأنه ليس باسم له. وكذلك رجل اسمه أسود يقول: هذا سويد [قد جاء، لأنه فلان، فإن كان نعتًا قلت: (أُسَيْد) و (أُسَيْوِيد) ولا يجوز هذا رجل سُوَيد] (¬3). والفرق بين الحالين أن في الاسم العلم روعي التخفيف [فصغر تصغير الترخيم] (¬4). وفي النعت صُغِّر على الأصل، فعلى قول الفراء آيات (¬5) وزنها (فَعْلات)، وعلى قول الكسائى وزنها (فَاعِلات) (¬6). ومعنى آيات الله في هذه الآية: دلائله، ويدخل فيها كتبه التي أنزلها على أنبيائه (¬7). فإن قيل: لم دخلت الفاء في سورة الحج: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬8) [الحج: 57]، وسقطت هاهنا؟ قيل: إنما دخل فيه "الفاء" من خبر الذي وأخواته مشبه (¬9) بالجزاء، ¬

_ (¬1) في "اللسان" (فإذا قلت هذه فُطَيْمة ابنها، يعني فاطمته من الرضاع لم يجز)، "اللسان" (أيا) 1/ 185. (¬2) في "اللسان" (بنتك). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ، ج)، وأثبته من (ب)، لأن صحة السياق تقتضيه. (¬4) في (ج): (الرخيم). وما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) (آيات) ساقطة من (ب). (¬6) في (ب): (علامات). (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 253 - 254، "تفسير أبي الليث" 1/ 114، "البحر المحيط" 1/ 170. (¬8) في (ب): (أولئك)، تصحيف. (¬9) في (ج): (شبه).

40

وما لم يكن (¬1) فيه (الفاء) فعلى أصل الخبر مثال ذلك من الكلام أن تقول: (مالي فهو لك) [على أن يكون (ما) بمعنى (الذي) ولو أردت واحد الأموال لم يجز دخول الفاء، كما لا تقول: غلامي فهو لك، (¬2)، وهذه المسألة (¬3) يأتي بيانها في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله. 40 - قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}. الكلام في (الابن) وأصله يذكر عند قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} (¬4). و (إسرائيل) هو يعقوب (¬5) عليه السلام ولا يتصرف لاجتماع العجمة والمعرفة (¬6)، وكل اسم اجتمعتا فيه وزاد على ثلاثة أحرف لم ينصرف عند أحد من النحويين (¬7). وذكر في التفسير وجوه في اشتقاق هذا الاسم (¬8)، والأصح عند أهل ¬

_ (¬1) في (ب): (تكن) (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) انظر شرح هذه المسألة في "سر صناعة الأعراب" 1/ 258. (¬4) سورة البقرة: 49، وقد تكلم عن (ابن) هناك وتوسع في البحث. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 254، و"تفسير ابن عطية" 1/ 267، "زاد المسير" 1/ 72. (¬6) أي: العلمية. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 88، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 167، "المشكل" لمكي 1/ 41، "الإملاء" 1/ 33، "الدر المصون" 1/ 310. (¬8) من هذه الوجوه: أنه مركب من (إسرا) وهو العبد، و (إيل) اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وقيل معنا: "إسرا" صفوة، و"إيل" الله تعالى، ومعناه صفوة الله، وفيه وجوه أخرى ذكرها أبو حيان في "البحر" 1/ 171، وقال بعدها: (وهذه أقاويل ضعاف)، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 248 - 249، و"تفسير الثعلبي" 1/ 66 ب، "التعريف والأعلام" للسهيلي ص20 و"تفسير القرطبي" 1/ 281 - 282.

اللغة: أنه أعجمي لا اشتقاق له. وقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}. أراد نعمي (¬1)، فأوقع الواحد موقع الجماعة (¬2)، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} (¬3). وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر، وأنجاهم من فرعون، وظلل عليهم الغمام إلى سائر ما أنعم الله به عليهم (¬4)، وهو في قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} الآية [المائدة: 20]. وأراد بقوله: {عَلَيْكُمْ} أي على آبائكم وأسلافكم، وجعلها عليهم لأن النعمة على آبائهم نعمة عليهم، ومثله في الكلام كثير، يفاخر الرجل الرجل فيقول هزمناكم يوم ذي قار، بمعنى (¬5): هزم آباؤنا آباءكم (¬6). قال الفرزدق: وَبَيْتَانِ: بَيْتُ اللهِ نَحْنُ وُلاَتُهُ ... وَبَيْتٌ بأعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ (¬7) ¬

_ (¬1) في (ج): (أراد بالنعمة: نعمي) (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 67 أ، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 267، و"تفسير البغوي" 1/ 66، و"تفسير القرطبي" 1/ 282، "زاد المسير" 1/ 72. (¬3) سورة إبراهيم: 34، والنحل: 18. (¬4) انظر "تفسير الطبري" 1/ 249، و"تفسير الثعلبي" 1/ 67 أ، قال ابن عطية - بعد أن ذكر الأقوال في المراد بالنعمة: (وهذه الأقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن) 1/ 267. (¬5) في (أ)، (ج): (معناه) (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 90، و"تفسير القرطبي" 1/ 282، و"تفسير الثعلبي" 1/ 67 أ، و"تفسير ابن عطية" 1/ 167، "زاد المسير" 1/ 73. (¬7) البيت في "ديوان الفرزدق" 2/ 32، "معجم البلدان" 1/ 293، وإيلياء: بيت المقدس.

يريد أن آباءه في القديم كانوا يلونهما، لا أنه كان يليه. وقال آخر: إِذا افْتَخَرَتْ يَوْمًا تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا (¬1) ... فَخَارًا عَلَى مَا أَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ فَأَنْتُم بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُم ... عُرُوشَ الذِينَ اسْتَرْهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ (¬2) أراد آباؤكم فعلوا ذلك، لأن المخاطبين بهذا البيت كانوا بعد ذي قار بدهر طويل. فإن قيل: هذه النعم التي أنعم الله بها على اليهود هم (¬3) أبداً يذكرونها ويفخرون بها، فلم ذُكِّروا ما لم ينسوه؟ قيل: المراد بقوله: (اذكروا) اشكروا، وذكر النعمة شكرها، واذا لم يشكروها (¬4) حق شكرها، فكأنهم نسوها وإن أكثروا ذكرها (¬5). وقال ابن الأنباري: أراد اذكروا ما أنعمت عليكم (¬6) فيما استودعتكم ¬

_ (¬1) في (ج): (نفوسها) (¬2) البيتان لأبي تمام، وقوله: "ذي قار" يوم من أيام العرب، كان لهم على الفرس، وحاجب: هو ابن زرارة بن عدس، كان أرهن سيفه لكسرى، انظر: "ديوان أبي تمام مع شرحه" 1/ 109، "معجم البلدن" 4/ 294. (¬3) (هم) ساقطة من (ب). (¬4) في (ب): (يشكرها). (¬5) انظر: "الكشاف" 1/ 275، "زاد المسير" 1/ 73، "تفسير البيضاوي" 1/ 23، "تفسير الخازن" 1/ 112، "تفسير النسفي" 1/ 40، "تفسير القرطبي" 1/ 282. (¬6) في (ب): (أنعمت به عليكم).

من علم التوراة وبينت لكم من صفة محمد، وألزمتكم من تصديقه واتباعه (¬1)، فلما بعث - صلى الله عليه وسلم - ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة (¬2). والأجود في {نِعْمَتِيَ الَّتِي} فتح الياء (¬3)، وكل (ياء) كانت من المتكلم ففيها (¬4) لغتان: الإرسال (¬5) والفتح، فإذا لقيها ألف (¬6) ولام اختارت العرب اللغة التي حركت فيها الياء، وكرهوا الأخرى، لأن اللام ساكنة (¬7) فلو لم يفتحوا لأشبه (¬8) أن تكون النعمة مجرورة على غير الإضافة (¬9)، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما (¬10)، لأنه أدل على الأصل وأشكل بما يلزم في ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي وعزاه لابن عباس، "زاد المسير" 1/ 73، وانظر "تفسير القرطبي" 1/ 282. (¬2) في (ب): (النعم). (¬3) أجمع القراء العشرة على فتح (الياء) في قوله تعالى: {نِعْمَتِيَ الَّتِي} في مواضعها الثلاثة في البقرة، وقرأ بتسكينها الحسن وابن محيصن، انظر: "الإقناع" 1/ 542، "النشر" 2/ 162، "البدور الزاهرة" ص 30، "القراءات الشاذة" للقاضي ص 23، وقد سبق ذكر أصول القراء في ياءات الإضافة عند قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ} [البقرة: 30] ص 341. (¬4) في (ب): (فيه). (¬5) قوله: (الإرسال) أي: تسكينها ثم حذفها لالتقاء الساكنين، وفي "معاني القرآن" للفراء: (وأما نصب الياء من (نعمتي) فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسال والسكون والفتح، 1/ 29. (¬6) (ألف) ساقط من (ب). (¬7) في "معاني القرآن" للفراء: (لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتي التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة) 1/ 29. (¬8) في (ب): (الا شبه). (¬9) المراد: أن الياء من (نعمتي) لو سكنت لحذفت لالتقاء الساكنين فتبقى النعمة مجرورة من دون إضافة للياء فيقال (نعمت). (¬10) في (ب): (وأبينها).

الاستئناف من فتح ألف الوصل (¬1). وقد يجوز إسكانها مع الألف واللام أيضا كقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] قرئ بإرسال (الياء) وبنصبها (¬2)، وإنما اختير الإرسال هاهنا لأن الاختيار ألا تثبت (¬3) (ياء) الإضافة في النداء نحو قولك: (يا غلام أقبل) وإذا لم تثبت لم يكن سبيل إلى التحريك. فأما قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 17، 18] الاختيار هاهنا الإرسال (¬4)، لأن (الياء) لا تثبت في الفواصل، وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} آخر الآية (¬5). قال الزجاج: اختير فتح الياء مع اللام لالتقاء الساكنين، ويجوز أن تحذف (¬6) الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين، والاختيار الفتح، فأما قوله: {أَخِي (30) اشْدُدْ} [طه: 30، 31] فلم يكثر القراء فتح هذه الياء (¬7)، وأكثرهم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 29، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 238، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 89، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 167، "تفسير ابن عطية" 1/ 167. (¬2) في (ب): (ونصها). قرأ بسكون الياء حمزة والكسائي وأبو عمرو، ويعقوب وخلف، والبقية بالفتح، انظر: "التيسير" ص 66، "الإقناع" 1/ 541، "النشر" 2/ 170. (¬3) (أ)، (ج): (يثبت) في المواضع الثلاثة واثبت ما في (ب)، لأنه أنسب للسياق. (¬4) قال الداني: (تفرد أبو شعيب بفتح الياء وإثباتها في الوقف ساكنة وحذفها الباقون في الحالين) يريد بقية السبعة ورواتهم، "التيسير" ص 67، وانظر "النشر" 2/ 189. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 29. (¬6) في (أ)، (ج): (يحذف) وأثبتها بالتاء كما في (ب) و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 81. (¬7) قوله تعالى: (أخي اشدد) قرأ بفتح الياء أبو عمرو وابن كثير والبقية على إسكانها، انظر: "التيسير" ص 67، "النشر" 2/ 171، 323.

يفتحها مع الألف واللام، ولعمري إن لام المعرفة أكثر استعمالا، ولكني أقول: فتح الياء هاهنا كفتحه (¬1) مع اللام، لأن اجتماع الساكنين مع اللام وغيرها واحد. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. أبو عبيد عن الكسائي وأبي عبيدة: وفيت بالعهد وأوفيت به سواء (¬2). وقال شمر: يقال: وَفَى وأَوفْى، فمن قال: (وَفَى) فإنه يقول تَمَّ، كقولك: وَفَى لنا فلان، أي: تَمَّ لنا قوله ولم يغدر، وَوَفَى هذا الطعامُ قفيزا (¬3) أى: تم. قال: ومن قال: (أَوْفَى) فمعناه: أوفاني حقه، أي: أتمه ولم ينقص منه شيئا، وكذلك أَوْفَى الكيل أي أتمه ولم ينقص منه شيئا (¬4). وقال أبو الهيثم فيما رد على شمر: الذي قال شمر (¬5) في (وَفَى) و (أَوْفَى): باطل، إنما يقال: أَوْفَيْت بالعهد ووفيت بالعهد، وكل شيء في كتاب الله من هذا ¬

_ (¬1) في (ج): (الفتحة مع اللام) وفي (ب): (لفتحة اللام)، وقد نقل الواحدي كلام الزجاج بتصرف، يقول الزجاج: (ولعمري إن اللام المعرفة أكثر في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار (أخِيَ اشدد) بفتح الياء لالتقاء الساكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد ..) "معاني القرآن" 1/ 89. (¬2) "تهذيب اللغة" (وفا) 4/ 3923 - 3924، وانظر: "اللسان" (وفي) 8/ 5885. (¬3) في (أ)، (ج): (قفيز)، (ب): (فقيرا) (¬4) "تهذيب اللغة" (وفا) 4/ 3924، وانظر: "اللسان" (وفى) 8/ 5885. وقوله: (وكذلك أوفى الكيل ..) غير موجود في "التهذيب" ضمن كلام شمر ومثبت في "اللسان" مع كلامه. (¬5) قوله: (الذي قال شمر) ساقط من (ب).

فهو بالألف قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (¬1) [البقرة: 40] (¬2) وقال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (¬3). وقال الشاعر (¬4) في الجمع بين اللغتين: أَمَّا ابنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِه ... كَمَا وَفَى بِقِلاَصِ النَّجْمِ حَادِيهَا (¬5) قال ابن عباس: هذا العهد هو أن الله عز وجل (¬6) عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له: محمد، فمن تبعه كان له أجران اثنان، أجر باتباعه موسى وإيمانه بالتوراة، وأجر باتباعه محمدًا وإيمانه بالقرآن، ومن كفر به تكاملت أوزاره، وكانت النار جزاءه (¬7)، فقال الله جل وعز (¬8): أوفوا بعهدي في محمد، أوف بعهدكم وأدخلكم الجنة (¬9). ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (أ، ج). (¬2) في "التهذيب" مكان الآية قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وفي "اللسان" آية البقرة. (¬3) كلام أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" (وفا) 15/ 886، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 91، و"اللسان" (وفى) 8/ 4884. (¬4) هو طفيل الغنوي. (¬5) في "الكامل" (بيض) بدل (طوق) وعند الزجاج (عوف) وهو رجل شهر بالوفاء، وقلاص النجوم: هي كما تزعم العرب، أن الدبران جاء خاطبا للثريا وساق مهرها كواكبا صغارا تسمى القلاص، انظر (الكامل) 2/ 187، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 91، "الخصائص" 1/ 370، 3/ 316، "شرح المفصل" 1/ 42، "اللسان" (وفى) 8/ 4884، "زاد المسير" 1/ 73، "تفسير القرطبي" 6/ 32، "الدر المصون" 1/ 312. (¬6) في (ب): (جل وعلى). (¬7) في (ب): (جزاؤه). (¬8) في (ب)، (ج): (عز وجل). (¬9) ذكره الرازي في "تفسيره" عن ابن عباس 3/ 35، وابن كثير في "تفسيره" ولم يعزه =

وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}. موضع (إياي) نصب بإضمار فعل (¬1) تفسيره (¬2) المذكور بعده (¬3) كأنه قيل: (إياي فارهبوا (¬4) فارهبون) ولكنه يستغني عنه بما يفسره فلا يظهر، وإن صح أنه مقدر، ولا يجوز أن يعمل فيه المذكور، لأنه مشغول بضمير (¬5). وحذفت (الياء) من {فَارْهَبُونِ} لأنها فاصلة أي رأس آية، ليكون النظم على لفظ متسق، وسمى أهل اللغة أواخر الآي الفواصل، وأواخِر الأبيات (¬6) القوافي (¬7). ومعناه: فخافوني في نقض العهد (¬8). ¬

_ = 1/ 88، وذكر نحوه الثعلبي في "تفسيره" عن الكلبي 1/ 67 ب، وأخرجه ابن جرير بسنده عن ابن عباس ونحوه، وليس فيه قوله: فمن تبعه كان له أجران .. ، الطبري في "تفسيره" 1/ 250، وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره" بنحو رواية الطبري 1/ 96، انظر: " الدر" 1/ 124. (¬1) قال مكي: هذا هو الاختيار لأنه أمر، ويجوز: أنا فارهبون على الابتداء والخبر، "المشكل" 1/ 42، وانظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 167. (¬2) في (ب): (يفسره) وهو أولى. (¬3) في (ج): (بعهده). (¬4) في (ب): (فارهبون). (¬5) في (ب): (بضميره) وهو أصح. الضمير هو (الياء) التي حذفت لأنها رأس آية، انظر. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 33، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 246، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 167، "المشكل" لمكي 1/ 42، "الإملاء" 1/ 90. (¬6) في (ب): (الايات). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 90، وانظر "اللسان" (فصل) 6/ 3424، وبعضهم فرق بين رأس الآية والفاصلة، فكل رأس آية فاصلة ولا عكس. انظر "المكتفي في الوقف والابتداء" ص140، "البرهان" 1/ 53، "الإتقان" 2/ 284، "الفاصلة في القرآن" لمحمد الحسناوي ص 26. (¬8) "تفسير الثعلبي" 1/ 67 ب، وانظر: "الطبري" 1/ 251، "زاد المسير" 1/ 73.

41

41 - قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}. أي موافقًا للتوراة في التوحيد والنبوة (¬1)، وهو حال من الهاء المحذوفة من (أنزلت) كأنه قيل أنزلته مصدقا (¬2). و (¬3) قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}. قال الليث: الأول والأولى: بمنزلة (أَفْعَل) و (فُعْلَى)، وجمع الأول: أولون، وجمع أولى: أوليات. (¬4). قال الأزهري: وقد جمع (أَوَّل) على أُول، مثل أَكْبَر وكُبر، وكذلك الأُولَى، ومنهم من شدد الواو مجموعا من (أَوَّل) (¬5). واختلفوا في وزنه وتأليفه (¬6). فذكر الليث فيه وجهين: أحدهما: أن تأليفه من: (همزة) و (واو) و (لام)، وعلى هذا ينبغي أن يكون (أَفْعَل) منه (أَأْوَل) بهمزتين (¬7)، لأنك لو ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 251، "تفسير الثعلبي" 1/ 68 أ. (¬2) ذكره الطبري وعبر عن الحال بقوله: قطع من الهاء المتروكة في (أنزلته) من ذكر (ما) 1/ 252، وذكره مكي وقال: وإن شئت جعلته حالا من (ما) في (بما) "المشكل" 1/ 42، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 269، "الإملاء" 1/ 33، "البحر المحيط" 1/ 177. (¬3) (الواو) ساقطة من (ب). (¬4) "تهذيب اللغة" (أول) 1/ 230، "اللسان" (وأل) 8/ 4747، وقوله: (وجمع أول: أولون) سقط من "التهذيب"، وهو في "اللسان" ضمن كلام الليث. (¬5) "تهذيب اللغة" (أول) 1/ 230، "اللسان" (وأل) 8/ 4747، وفيه: (ومنهم من شدد الواو من (أوَّل) مجموعًا. (¬6) (تأليفه) ساقط من (ب). (¬7) في ج: (همزتين).

بنيت (¬1) (أَفْعَل) من (آب يؤوب) قلت: (أَأْوَب)، ثم قلبت إحدى (¬2) الهمزتين واوا، ثم أدغمت في الواو الأخرى (¬3)، وهذا الوجه اختيار الأزهري، قال: إنه (أَفْعَل) من: (آل يَؤول) و (أُولَى) فُعْلى منه، قال وأراه قول سيبويه (¬4)، وكأنه من قولهم: (آل يؤول) إذا نجا وسبق، ومثله: (وَأَل يئل) (¬5) بمعناه، فمعنى (الأول) السابق الذي هو الابتداء. الوجه الثاني (¬6): أن أصل تأسيسه: واوان ولام، وأدغم إحدى الواوين في الأخرى وشدد، والهمزة فيه ألف (أفعل) (¬7). وقال ابن دريد: (أَوَّل) فَوْعَل، قال: وكان في الأصل: (وَوْوَل) (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب): (ثنيت). (¬2) في (ج): (أحد). (¬3) قال مكي: (أَوَّل) اسم لم ينطق منه بفعل عند سيبويه ووزنه (أَفْعَل) فاؤه واو، وعينه واو، ولذلك لم يستعمل منه فعل لاجتماع الواوات. وقال الكوفيون: هو أفعل من (وَأَل) إذا لجأ فأصله (أَوْأل)، ثم خففت الهمزة بأن أبدل منها واو وأدغمت الأولى فيها ... وقيل: إن (أول) أَفْعَل من (آل يَؤُل) فأصله: أأْول، ثم قلب فردت الفاء في موضع (العين)، فصار (أَوْأَل) فصنع به من التخفيف والبدل والإدغام ما صنع بالقول الأول، فوزنه بعد القلب (أعفل)، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 42، 43، وانظر: "البيان" 1/ 78. (¬4) قال سيبويه: (وأما (أَوَّل) فهو أَفْعَل، يدل على ذلك قولهم: هو أول منه ومررت بأوَّلَ منك، والأولى) "الكتاب" 3/ 195. (¬5) في (ب): (آل) بسقوط الواو. (¬6) عند الليث. (¬7) كلام الليث والأزهري في "تهذيب اللغة" (أول) 1/ 231، "اللسان" (وأل) 8/ 4747، وعبارة المؤلف أقرب إلى "اللسان"، وهذا راجع إلى تقارب نسخة ابن منظور التي اعتمد عليها مع نسخة الواحدي، والله أعلم. (¬8) في (ب): (وَوَّل) وكذا في الجمهرة، وما في (أ، ج) ورد على الأصل بفك الإدغام.

فقلبت الواو الأولى همز وأدغمت إحدى الواوين في الأخرى، فقيل: أول (¬1). وقال المبرد في كتاب "المقتضب": أول يكون على ضربين: يكون اسماً، ويكون نعتاً [موصولاً به (من كذا). فأما كونه نعتاً] (¬2)، فكقولك: هذا رجل أوَّلُ منك مجيئاً، كما تقول أحسن منك وجهاً، وجاءني زيد أَوَّلَ من مجيئك، كما تقول: أسبق من مجيئك، وجئتك أَوَّلَ من أمس. وأما كونه اسماً فقولك: ما تركت أَوَّلاً ولا آخرًا كما تقول: ما تركت له قديماً ولا حديثاً، وعلى أي الوجهين سميت به رجلاً انصرف في النكره، لأنه في باب الأسماء بمنزلة (أَفْكَل)، وفي باب النعوت بمنزلة (أَحْمَر) (¬3). قال الفراء: ووحد الكافر، وقبله جمع، وذلك من كلام العرب فصيح جائز، إذا جاء في الاسم المشتق من الفعل كالفاعل والمفعول به، يريدون (¬4) به: ولا تكونوا أول من يكفر به، فيحذف (¬5) (من) ويقوم الاسم المشتق من الفعل مقامها (¬6)، فيؤدي عن مثل ما أدت (من) عنه من التأنيث والجمع، وهو ¬

_ (¬1) "الجمهرة" 2/ 1177، والنص من "تهذيب اللغة" (أول) 1/ 232. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) "المقتضب" 3/ 340، "التهذيب" (أول) 1/ 232، "اللسان" (وأل) 8/ 4748. قال محمد عضيمة في حاشية "المقتضب": (والخلاصة أن أول لها استعمالات ثلاثة: - تكون أفعل تفضيل ذكرت معها (من) أو حذفت، على أن تقدرها في الكلام فتمنع من الصرف. - وتكون اسمًا منصرفًا وذلك عند حذف (من) وعدم تقديرها. - وتكون ظرفًا منصوبًا أو مبنيا على الضم كالغايات. "المقتضب" 3/ 34. (¬4) في "المعاني": (يراد به) 1/ 32. (¬5) في "المعاني": (فتحذف). (¬6) في "المعاني": (ويقوم الفعل مقامها).

في لفظ توحيد، ولا يجوز في مثله من الكلام: (أنتم أَفْضَلُ رجل)، ولا (أنتما خير رجل)؛ لأن الرجل يثني ويجمع ويفرد، فيعرف واحده من جمعه، واسم الفاعل قد يكون لـ (من) فيؤدي عنه (¬1)، وهو موحد، ألا ترى أنك تقول: الجيش [مقبل، والجند منهزم، فتوحد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش] (¬2) رجال، والجند رجال. وقد قال الشاعر: وإِذَا هُمُ (¬3) طَعِمُوا فَأَلْأمُ طَاعِمٍ ... وَإِذَا هُمُ (¬4) جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ (¬5) فجمعه وتوحيده جائز حسن (¬6). وقال البصريون في هذا: معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر، أو أول حزب، أو أول قبيل كافر، ثم حذف المنعوت، وأقيم نعته مقامه، (¬7) وهذا قول المبرد. ¬

_ (¬1) عبارة الفراء في "المعاني": (و (القائم) قد يكون لشيء، ولـ (من) فيؤدي عنهما وهو موحد) 1/ 33. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (وهو اطعموا). (¬4) في (ب): (هموا). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 33، وورد البيت مع بيتين قبله في (نوادر أبي زيد)، وقال: قال رجل جاهلي، ص 434، وذكره الطبري 1/ 252، وابن عطية 1/ 270، "الدر المصون" 1/ 318. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 33، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 252، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 168، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 92، "تفسير ابن عطية" 1/ 670. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 29، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 168، "المشكل" لمكي 1/ 43، "تفسير ابن عطية" 1/ 199، "البحر المحيط" 1/ 177، =

وقوله (به) (¬1) الأظهر أن الكناية عائدة (¬2) إلى (ما) في قوله: (بما أنزلت) وهو القرآن (¬3). ويجوز أن يعود إلى (ما) في قوله: {لِمَا مَعَكُمْ} والمراد به التوراة، وذلك أنهم إذا (¬4) كتموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كتابهم، فقد كفروا بكتابهم، كما أن من كتم آية من القرآن فقد كفر به (¬5). وإذا قلنا: الكناية تعود إلى القرآن، كان المعنى: ولا تكونوا أول كافر بالقرآن من أهل الكتاب لأن قريشاً كفرت قبلهم بمكة (¬6) وحكي عن أبي العالية أنه قال: الكناية تعود إلى محمد - صلى الله ¬

_ = وقال ابن عطية: (وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال: (ولا تكونوا أول كافرين به) 1/ 199، ونحوه قال أبو حيان في "البحر" 1/ 177. (¬1) في (ب): (والأظهر). (¬2) في (ج): (عائد). (¬3) ذكره الطبري في "تفسيره" ورجحه 1/ 251، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 92، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 74، "تفسير القرطبي" 1/ 283، وأبو حيان في "البحر" 1/ 178، ورجحه وضعف الأقوال الأخرى. (¬4) (إذا) ساقط من (ب). (¬5) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 92، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 269، "زاد المسير" 1/ 74، و"القرطبي" 1/ 283، و"البحر" 1/ 178، وضعفه ابن جرير، وقال: لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر في (به) على (ما) التي في قوله: (لما معكم) لأن ذلك، وإن كان محتملاً ظاهر الكلام، فإنه بعيد، مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل ... إلخ. "تفسير الطبري" 1/ 251. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 252، و"تفسير أبي الليث" 1/ 1114، و"تفسير ابن عطية" 1/ 269، و"تفسير البغوي" 1/ 87، و"تفسير القرطبي" 1/ 283، "البحر المحيط" 1/ 177، "تفسير ابن كثير" 1/ 89.

عليه وسلم (¬1). وإنما قيل لهم: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} لأن الخطاب لعلماء اليهود، فإذا كفروا كفر معهم الأتباع (¬2). فإن قيل: ما في (¬3) (أن تكونوا أول كافر به) من العظم، على ثان كافر؟ قيل: إنهم إذا كانوا أئمة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم (¬4). قال الزجاج: اللغة القُدمى فتح الكاف من (كافر) والإمالة في الكاف -أيضا- جيد (¬5)، لأن (فاعلاً) إذا سلم من حروف الإطباق، والحروف المستعلية كانت الإمالة فيه سائغة إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة تميم (¬6)، وحروف الإطباق (الطاء والظاء والصاد الضاد) فلا تجوز الإمالة (¬7) في ظالم وطالب وضابط وصابر، وحروف الاستعلاء (الخاء، ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 252، "تفسير أبي الليث" 1/ 114، وتفسير ابن عطية في "تفسيره" 1/ 271، و"تفسير القرطبي" 1/ 283، وكذا أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 178. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 92، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 114، و"تفسير الثعلبي" 1/ 68 أ، و"تفسير البغوي" 1/ 87. (¬3) في (ج): (ما في قوله: وأن تكونوا) ولعله أولى. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 68 أ، و"تفسير البغوي" 1/ 87، "زاد المسير" 1/ 47، و"تفسير الرازي" 1/ 42، "البحر المحيط" 1/ 178. (¬5) قال ابن الجزري في "النشر": (انفرد صاحب المبهج عن أبي عثمان الضرير عن الدوري بإمالة (أول كافر به) فخالف سائر الرواة ..) "النشر" 2/ 66. وقال عبد الفتاح القاضي: (لا إمالة لأحد في {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} "البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة" ص 31. (¬6) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 168. (¬7) في (ب): (الا في).

والغين، والقاف) (¬1) لأنها من أعلى الحنك واللهاة، فلا تجوز الإمالة في: غافل وخادم وقاهر (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}. أي: ببيان صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته عرضاً يسيراً من الدنيا، وذلك أن رؤساء (¬3) اليهود كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامهم، فخافوا إن هم بينوا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرئاسة، فاختاروا الدنيا على الآخرة (¬4). قال أبو علي: المعنى (¬5) (ذا ثمن) فهو من باب حذف المضاف، لأنه إنما يشتري ما هو ذو ثمن لا الثمن (¬6). ويجوز أن يكون معنى الاشتراء ¬

_ (¬1) ذكر سيبويه حروف الاستعلاء سبعة حروف هي المذكورة هنا، وأربعة منها فيها مع استعلائها إطباق، و (الخاء)، و (الغين)، و (القاف) لا إطباق فيها مع أستعلائها، "الكتاب" 4/ 128، "سر صناعة الأعراب" 1/ 61، 62. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 93، نقل الواحدي كلامه بتصرف. (¬3) في (ج): (راسا). (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 68 أ، ونحوه ذكر الطبري 1/ 253، وأبو الليث 1/ 114. قال ابن كثير 1/ 89: (يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية ..)، وقد ذكر ابن عطية أقوالا في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات، 1/ 171 - 172، وكذا أبو حيان في "البحر" 1/ 178. (¬5) (المعنى) ساقط من (ب). (¬6) قال الفراء: (وكل ما كان في القرآن من هذا قد نصب فيه الثمن وأدخلت الباء في المبيوع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين ولا يكونان ثمنا معلوما مثل الدنانير والدراهم .. فإن جئت إلى (الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن ..) "معاني القرآن" 1/ 30، ومعنى كلامه: أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمنا ومثمنا، انظر: "البحر" 1/ 178، "الدر المصون" 1/ 319.

42

الاستبدال، فيكون المعنى: ولا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا فيستغنى عن تقدير المضاف (¬1). و (القليل) نقيض (¬2) الكثير، قَلَّ الشيء يَقِلُّ قِلَّة (¬3). {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} فاخشون في أمر محمد، لا ما يفوتكم من الرئاسة (¬4). 42 - قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} الآية. يقال: لَبَسْتُ الأمر أَلْبِسُه لَبْساً، إذا خلطته وشبهته (¬5). وقال ابن دريد: لَبَسْتُ الأمر ولَبَّستُه، إذا عميتُه، ومنه {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، ويقال: في أمره لُبْسَة أي ليس بواضح (¬6). قال ابن السكيت يقال (في أمره لَبْسٌ، أي: اختلاط) (¬7). و (اللباس) ما واريت به جسدك. هذا هو الأصل في اللباس (¬8)، ثم ¬

_ (¬1) انظر: "البحر" 1/ 178، "الدر المصون" 1/ 319. (¬2) في "اللسان": (القلة خلاف الكثرة) "اللسان" (قل) 6/ 3726. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (قلل) 3/ 3036، "اللسان" (قل) 6/ 3726. (¬4) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 68 أ، ونحوه عند أبي الليث في "تفسيره" 1/ 114، وقال ابن جرير: (فاتقون) في بيعكم آياتي بالخسيس من الثمن وشرائكم بها القليل من العرض، وكفركم بما أنزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيّ أن أحل بكم ما أحللت بأسلافكم ..) 1/ 254، وانظر: "تفسيرابن كثير" 1/ 89. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (لبس) 4/ 3228، "اللسان" (لبس) 7/ 3986. (¬6) (الجمهرة) 1/ 289. (¬7) "إصلاح المنطق" ص 11، وانظر: "تهذيب اللغة" (لبس) 4/ 3228، والنص من "التهذيب". (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" (لبس) 4/ 3228، "مجمل اللغة" (لبس) 3/ 801، "اللسان" (لبس) 7/ 3986.

يقال: لَبِسْتُ فلاناً، أي استمتعت به (¬1). قال: وَحُقَّة مِسْكٍ مِنْ نَسَاءٍ لَبِسْتُها ... شَبَابِي وَكَأسٍ بَاكَرَتْنِي شَمُولُهَا (¬2) وفي فلان مَلْبَس، إذا كان فيه مستمتع (¬3). قال امرؤ القيس: أَلَا إن بَعْدَ الفَقِرْ لِلْمَرْءِ قِنْوَةً ... وَبَعْدَ المشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا (¬4) و (الباطل) الذاهب الزائل، يقال: بطل الشيء يبطل بُطُولًا وبُطْلَانًا، و (البُطْل) - أيضًا مثل الباطل، وأبطل الشيء جعله باطلا، وأبطل فلان جاء بالكذب وادعى باطلا (¬5). ومعنى الآية: لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم، من تغيير صفته وتبديل نعته (¬6). ¬

_ (¬1) في "التهذيب": لَبِسْت امرأة: أي: تمتعت بها زمانا، ولَبِسْت قوما، أي: تمليت بهم دهرا. (لبس) 4/ 3228. (¬2) البيت لعبد الله بن عجلان النهدي في "الحماسة بشرح المرزوقي" 3/ 1259، "الكامل" 2/ 292. (¬3) في (ب): (مستمع). انظر: "المجمل" "لبس" 3/ 808، "مقاييس اللغة" (لبس) 5/ 230، "اللسان" (لبس) 7/ 3986. (¬4) يقول بعد الشدة رخاء، وبعد الشيب عمر ومستمتع، وهذا مثل ضربه لنفسه، و (الْقِنْيِة: ما اقتنيت من شىِء فاتخذته أصل مال. والْمَلْبَس: المستمتع والمنتفع، وفي "الديوان" وأكثر المصادر (بعد العدم) بدل (الفقر)، انظر: "ديوان امرئ القيس" ص 87، "تهذيب اللغة" (لبس) 4/ 3229، "مجمل اللغة" 3/ 801، "مقاييس اللغة" 5/ 230، "اللسان" 7/ 3987، و"القرطبي" 1/ 290. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (بطل) 1/ 350، "اللسان" 1/ 302، و"القرطبي" 1/ 341. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 68 ب، انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 98، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 49، و"ابن عطية" 1/ 272، و"القرطبي" 1/ 291.

قال مقاتل: إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضا لِيُصَدَّقوا في ذلك، فقال الله عز وجل: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ} الذي تُقرّون به وتبينونه {بِالْبَاطِلِ}، يعني بما (¬1) تكتمونه، فالحق بيانهم والباطل كتمانهم (¬2). وقوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}. قال الفراء (¬3): إن شئت جعلت {وَتَكْتُمُوا} في موضع جزم بالعطف (¬4)، وإن شئت جعلتها في موضع نصب (¬5) على (الصرف)، ومثله (¬6): {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا} [البقرة: 188]، وقوله تعالى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا} [الأنفال: 27]، ومعنى (الصرف) أن تأتي (¬7) بالواو معطوفاً (¬8) على كلام في أوله حادث لا تستقيم (¬9) إعادتها في ¬

_ (¬1) (بما) ساقط من (أ)، (ج)، وأثبها من (ب) لأن السياق يقتضيها، وهي ثابتة في (تفسير الثعلبي) 1/ 68 أ. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 68 أ، وذكره أبو الليث ولم يعزه لمقاتل 1/ 338. وفي الآية أقوال أخرى منها: قيل: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} اليهودية والنصرانية بالإسلام، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 255، و"ابن أبي حاتم" 1/ 98، و"ابن عطية" 1/ 273. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 33. (¬4) قوله: (بالعطف)، أي على (تلبسوا). (¬5) قوله: في موضع نصب على (الصرف) وباضمار أن على رأى البصريين كما سيأتي. (¬6) في (ج): (ومثله قوله) (¬7) في (أ)، (ج): (يأتي). وما في (ب) أصح في السياق وموافق لما في "معاني القرآن" 1/ 34. (¬8) في "المعاني": (معطوفة). (¬9) في (ب)، (ج): (لا يستقيم).

المعطوف (¬1)، كقوله: لَاتَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَه (¬2) ألا ترى أنه لا يجوز إعادة (لا) في و (تأتي)، ولذلك سمي صرفا إذ (¬3) كان معطوفا (¬4) ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي فيما (¬5) قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب وهي معطوفة على مرفوع، قولهم: لو تُرِكْتَ والأسدَ لأكلك (¬6)، ولو خُلِّيتَ ورَأْيَك لضللت، لما لم يحسن في ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 255، وقد عرف أبو البركات ابن الأنباري الصرف عند الكوفيين: بأنه ما كان الثاني مخالفا لأول، ولا يحسن معه تكرار العامل الذي ورد مع الأول، "الإنصاف" 1/ 556. (¬2) صدر بيت وعجزه: عَارٌ عَلَيْكَ إِذا فَعَلْتَ عَظِيمُ وقد اختلف في نسبته، فنسبه سيبويه للأخطل، ونسبه بعضهم لأبي الأسود الدؤلي، ونسبه بعضهم إلى المتوكل الكناني، وبعضهم إلى حسان، وبعضهم إلى الطرماح بن حكيم، وإلى سابق البربري، والبيت ورد في أغلب كتب النحو. ورد في "الكتاب" 1/ 42، و"المقتضب" 2/ 25، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 34، والطبري 1/ 255، و"الإيضاح العضدي" 1/ 314، و"الجمل" للزجاجي ص 187، و"الأزهية" ص 234، و"الرصف" ص 486، و"شرح المفصل" 7/ 24، و"الخزانة" 8/ 564، و"شرح شذور الذهب" ص 360، و"مغني اللبيب" 2/ 316، و"أدب الدنيا والدين" ص 39، و"شرح ابن عقيل" ص 233، و"أوضح المسالك" 4/ 181، وغيرها كثير. (¬3) في (ب): (إذا). (¬4) في (ج): (مطوفا). (¬5) كذا في جميع النسخ وفي "معاني القرآن" للفراء (الحادث الذي قبله) 1/ 34. (¬6) في (ج): (لا كان).

الثاني أن تقول (¬1): لو تركت وترك (¬2) رأيك، تهيبوا أن يعطفوا حرفا لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله، على الذي قبله، فنصبوا (¬3). ومذهب البصريين أن جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار (أن) كأنه قيل: لا يكن منكم لبس للحق وأن تكتموه (¬4). وقوله: {وَأَنتُم تَعْلَمُونَ}. أكثر المفسرين على أن المعنى: وأنتم تعلمون أنه الحق، أنه نبي مرسل قد أنزل عليكم ذكره في كتابكم، فليس بمشتبه عليكم شيء من أمره ونسبه، وعلى هذا إنما كفروا لأنهم جحدوا نبوته فلم ينفعهم علمهم (¬5). والأمة اجتمعت (¬6) على أن جاحد النبوة كافر، فإذا علموا بقلوبهم، ولم يكن لنا سبيل إلى أن نعلم أنهم علموا (¬7)، وظهر منهم جحود، أجمعنا على أنهم كفار. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (يقول وما في (ب) أولى وموافق لما في "المعاني" 1/ 34. (¬2) في (ج): (ويترك). (¬3) انتهى من "معاني القرآن" للفراء1/ 33، 34، بتصرف، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 255. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 94، وانظر تفاصيل الخلاف في هذه المسألة في "الإنصاف" ص 442، وقد ذكر قولاً ثالثاً لأبي عمر الجرمي، وهو أن (الواو) هي الناصبة بنفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 179. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 256، و"تفسير ابن كثير" 1/ 90، و"القرطبي" 1/ 291، "البحر" 1/ 180. (¬6) في (ب): (اجتمعت). (¬7) حتى ولو علمنا أنهم علموا فكفرهم كفر عناد، انظر: "تفسير القرطبي" 1/ 291.

43

وقال الزجاج في قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرة أنكم تلبسون الحق (¬1). 43 - قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. الزكاة (¬2): تطهير للمال وإصلاح له، وتثمير ونماء، كل ذلك قد قيل (¬3). والأظهر أن أصلها من الزيادة، يقال: زكا الزرع يزكو زكاء، ممدود وكل شيء يزداد فهو يزكو زكاء (¬4). قال النابغة (¬5): وَمَا أَخَّرْتَ مِنْ دُنْيَاكَ نَقْصٌ ... وَإِن قَدَّمْتَ عَادَ (¬6) لَكَ الزَّكاءُ (¬7) أراد بالزكاء الزيادة، وهو حرف ممدود، فإذا قصر فقيل: (زكا) فمعناه الزوج (¬8). والعرب تقول للفرد: خسا، وللزوجين (¬9) اثنين: زكا، قيل لهما: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 94، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 155، "الكشاف" 1/ 277، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 90، وقال: ويجوز أن يكون المعنى: (وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس، من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار). (¬2) (الزكاة) ساقط من (ب)، (ج). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1542، و"تفسير الطبري" 1/ 257، "اللسان" (زكا) 3/ 1849. (¬4) "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1542، وانظر: "الزاهر" 2/ 187. (¬5) هو نابغة بني شيبان، انظر: "الزاهر" 2/ 187. (¬6) في (ج): (كان اعاد). (¬7) ورد البيت في "الزاهر" 2/ 187، "شمس العلوم" 2/ 223. (¬8) "الزاهر" 2/ 187، وانظر: "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1543. (¬9) في (ب): (للزوج).

زكا، لأن الاثنين أكثر (¬1) من الواحد (¬2)، قال الشاعر: إِذا نَحْنُ في تِعْدَادِ خَصْلِكَ لَمْ نَقُلْ ... خَسَا وَزَكا أَعْيَيْن مِنَّا المُعَدِّدَا (¬3) و (الزكاة): الصلاح (¬4)، وأصله أيضا من زيادة الخير، يقال: رجل زَكِيٌّ أي زائد الخير (¬5) من قوم أزكياء، وَزكَّى القاضي الشهود إذا بين زيادتهم في الخير، وسمي ما يخرجه من المال للمساكين بإيجاب الشرع زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه وتوفره وتقيه الآفات (¬6). وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. أصل الركوع في اللغة الانحناء، وكل شيء ينكب لوجهه وتمس ركبته الأرض أو لا تمسها بعد أن يخفض (¬7) رأسه فهو راكع، ويقال للشيخ إذا انحنى (¬8) من الكبر: قد ركع (¬9). قال لبيد: ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1542. (¬2) "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1542، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 257، "اللسان" (زكا) 3/ 1849. (¬3) في (ب): (المعواد). ورد البيت في "الزاهر" 2/ 187، وفي شعر الكميت جمع دواد سلوم 1/ 162، وفيه: (إذا نحن في تكرار وصفك ...). (¬4) "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1542. (¬5) في (أ): (الخبر) وما في (ب)، (ج) هو الصواب. (¬6) (الآفات) ساقط من (ب). انظر (الزاهر) 2/ 187، وانظر الطبري 1/ 257. (¬7) في (ج): (ينخفض). (¬8) في (ب): (حنا). (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" (ركع) 1/ 1462، "الزاهر" 1/ 140، "مقاييس اللغة" (ركع) 2/ 434، "اللسان" (ركع) 3/ 1719.

أَدِبُّ كَأَني كُلَّماَ قُمْتُ رَاكِعُ (¬1) فالراكع: المنحني في قول لبيد. وقال (¬2) آخر: وَلَكِنِّي أَنُصُّ العِيَس تَدمَى ... أَظلتها (¬3) وَترْكَعُ بِالْحُزُون (¬4) أي تنكب لوجوهها. قال المفسرون: معناه (¬5)، وصلوا مع المصلين محمد وأصحابه، فعبر بالركوع عن جميع الصلاة،، إذ كان ركناً من أركانها، كما عبر باليد عن الجسد (¬6) في قوله {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]. ¬

_ (¬1) عجز بيت صدره: أُخَبِّرُ أَخْبَارَ القُرُونِ التِي مَضَتْ ورد في "الزاهر" 1/ 140، "تهذيب اللغة" (ركع) 1/ 1462، و"تفسير الثعلبي" 1/ 68 ب، "المجمل" (ركع) 2/ 397، "مقاييس اللغة" 2/ 435، و"تفسير ابن عطية" 1/ 275، و"القرطبي" 1/ 293، "ديوان لبيد" مع شرحه ص 171. (¬2) في (ج): (وقا). (¬3) في (ج): (اضلعها). (¬4) البيت للطرماح، ويروى: وَلَكِنيِّ أَسِيرُ العَنْسَ يَدْمَى ... أَظَلاَّها ................ العيس: الإبل، الأَظَل: باطن مَنْسم الناقة والبعير، ويدمى أظلاها من شدة السير، الحزون: جمع حزن، ما غلظ من الأرض في ارتفاع وخشونة، فهي تعثر وتقع في الحزون: فقال: تركع على التشبيه، انظر: "العين" 1/ 227، "الأضداد" لابن الأنباري ص 296، "ديوان الطرماح" ص 532. (¬5) (معناه) سقط من (ب). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 68، انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 115، و"ابن عطية" 1/ 274، و"البغوي" 1/ 88، "زاد المسير" 1/ 75، و"القرطبي" 1/ 293.

44

وقيل: إنما عبر بالركوع عن الصلاة، لأنه أول ما يشاهد مما يدل على أن الإنسان في صلاة، وإنما قال: (واركعوا) بعد قوله: (وأقيموا الصلاة) وكان الركوع داخلا في الصلاة، لأنه أراد الحث على إقامة الصلاة جماعة (¬1). وقيل: لأنه لم يكن في دين اليهود ولا في صلاتهم ركوع، فذكر ما اختص بشريعة الإسلام، والآية خطاب لليهود (¬2). 44 - قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الآية. نزلت في علماء اليهود، لأنهم كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه، ولا يؤمنون (¬3). و (الألف) للاستفهام (¬4)، ومعناه: التوبيخ والتهديد (¬5)، كأنه قيل لهم: أنتم على هذه الطريقة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 275، و"الكشاف" 1/ 277، و"تفسير البغوي" 1/ 88 (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 274 - 275، "الكشاف" 1/ 277، و"تفسير البغوي" 1/ 88، "زاد المسير" 1/ 75، و"تفسير القرطبي" 1/ 293. وفسر الطبري الركوع: بالخضوع لله بالطاعة فهو أمر لبني إسرائيل بالخضوع لله بالطاعة 1/ 257، وذكر نحوه الزمخشري 1/ 277. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 68 ب، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ص 27، وذكره السيوطي في "لباب النقول" ص 19، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 74. وأخرج الطبري بمعناه عن ابن عباس "تفسير الطبري" 1/ 258، وفي الآية النهي عن أمرهم الناس بطا عة الله وهم يعصونه، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 257 - 258، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 95. (¬4) في (ج): (الاستفهام). (¬5) في (ب): (التقرير). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 94، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 275، "الكشاف" 1/ 277، و"القرطبي" 1/ 311.

والمراد بالبر: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (¬1). و (النسيان) هاهنا بمعنى الترك (¬2) من قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ويأتي بسط الكلام في النسيان ووجوهه عند قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 67] (¬3) إن شاء الله. وقال أبو إسحاق: معنى الآية أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم، ويتركون هم التمسك به، لأن جحدهم النبي - صلى الله عليه وسلم- هو تركهم التمسك (¬4). فالبر على هذا القول: التمسك بالتوراة. وقال بعضهم: إن اليهود كانوا يأمرون الناس بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، فلما ظهر كفروا به (¬5)، فذلك قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الآية. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}. أي: تقرؤون التوراة، وفيها صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- ونعته (¬6). {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنه حق فتتبعونه (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن جرير عن ابن عباس "تفسير الطبري" 1/ 258، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 75، وقيل: البر: أمرهم أتباعهم بالتمسك بالتوراة، وقيل: أمرهم ببذل الصدقة وهم لا يفعلون. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 95، "تفسير ابن عطية" 1/ 275، "زاد المسير" 1/ 75، "تفسير ابن كثير" 1/ 91. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 259، و"تفسير ابن عطية" 1/ 275، "زاد المسير" 1/ 75. (¬3) انظر: "البسيط" 1/ ل 237 (من نسخة إستانبول). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 95، وفيه (التمسك به ..). (¬5) ذكره الرازي، وقال هو اختيار أبي مسلم "تفسير الرازي" 3/ 46. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 68 ب، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 259، و"تفسير البغوي" 1/ 88. (¬7) في (ج): (فتبيعونه).

وأصل التلاوة من قولهم: تلاه يتلوه، إذا تبعه، والتلاوة اتباع الحروف (¬1). ويقال: عقَل الرجل يعقِل عقلاً، إذا كان عاقلًا (¬2)، وعقل الإنسان هو تمييزه الذي به فارق جميع الحيوان، سمي عقلاً لأنه يعقله أي يمنعه عن التورط (¬3) في الهلكة، كما يعقل العقال البعير عن ركوب رأسه. ومن هذا سميت الدية عقلاً لأنها إذا وصلت إلى ولي المقتول عقلته عن قتل (¬4) الجاني، أي منعته (¬5). وقال الأصمعي: عقَل الظبي يعقِل عُقُولًا، إذا امتنع، ومنه سمى الوَعِل عاقلاً، والحصن مَعْقِلًا. وعَقَلَ الدواءُ بطنَه إذا أمسكه بعد استطلاقه (¬6). فأصل هذا الحرف من المنع، ثم لما كان الإنسان يعرف الشيء بعقله، سمي العلم عقلاً في (¬7) بعض المواضع، فيقال عقلت كذا، أي علمته (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (تلا) 1/ 445 - 446، "مفردات الراغب" ص 75، "تفسير القرطبي" 1/ 315. (¬2) ذكره الأزهري عن أبي عبيد عن الأصمعي، "تهذيب اللغة" (عقل) 3/ 2525. (¬3) في (ب): (التوريط). (¬4) في (ب): (عقل). (¬5) "تهذيب اللغة" (عقل) 1/ 2524، وانظر: "اللسان" (عقل) 5/ 3047. (¬6) "تهذيب اللغة" (عقل) 1/ 2525، وانظر: "مقاييس اللغة" (عقل) 4/ 72، "اللسان" (عقل) 5/ 3046. (¬7) في (ب): (وفي). (¬8) انظر: "مقاييس اللغة" 4/ 69.

44

44 - قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية. قال أبو عبيد (¬1): أصل الصبر الحبس، وكل من حبس شيئا فقد صبره، ومنه الحديث في رجل أمسك رجلا وقتله آخر، فقال: (اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر) (¬2) أي: احبسوا الذي حبسه حتى يموت، ومنه قيل للرجل يُقدَّم فتضرب (¬3) عنقه: قُتل صبراً، يعني أنه أُمسِكَ على الموت، وكذلك لو حبسَ رجل (¬4) نفسه على شيء يريده قال: صبرتُ نفسي. قال عنترة: فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبَانِ تَطَلَّعُ (¬5) ومن هذا (يمين الصبر) وهو أن يحبس على اليمين حتى حلف بها (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (أبو عبيدة). والصحيح: أبو عبيد، انظر: "غريب الحديث" 1/ 155. (¬2) الحديث ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" بدون سند، وفي الهامش قال المحقق: زاد في (ر). قال سمعت عبد الله بن المبارك يحدثه عن إسماعيل بن أميه يرفعه. "غريب الحديث" 1/ 155، وذكره الثعلبي 1/ 69 أ، والأزهري في "تهذيب اللغة" عن أبي عبيد 2/ 1972، وهو في "الفائق" 2/ 276، "النهاية في غريب الحديث" 3/ 8، "غريب الحديث" لابن الجوزي 1/ 578، وذكره في "كنز العمال" عن أبي عبيدة عن إسماعيل بن أمية مرسلا، 15/ 10. (¬3) في (ج): (فيضرب) وكذا في "الغريب" لأبي عبيد. (¬4) في (ب): (رجلا). (¬5) يقول: صبرت عارفة: أي حبست نفسًا عارفة لذلك، أي نفسه، والعارفة الصابرة، ترسو: أي تثبت وتستقر، تطلع: تطلع نفس الجبان إلى حلقه من الفزع والخوف، البيت في "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 155، "تهذيب اللغة" (صبر) 2/ 1972، "مقاييس اللغة" (صبر) 3/ 329، و"تفسير الثعلبي" 1/ 69 أ، "اللسان" (صبر) 4/ 2391، و (عرف) 5/ 2899، و"تفسير القرطبي" 1/ 317، "فتح القدير" 1/ 124، "ديوان عنترة" ص 264. (¬6) انتهى كلام أبي عبيد، "غريب الحديث" 1/ 155، "تهذيب اللغة" (صبر) 2/ 1972.

ومعنى الآية: استعينوا بالصبر على أداء الفرائض واجتناب المحارم واحتمال الأذى وجهاد العدو وعلى المصائب والصلاة (¬1)، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم، ويقال لشهر رمضان شهر الصبر، وللصائم صابر (¬2). وقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}. قال الحسن والضحاك: ثقيلة (¬3). والأصل في ذلك أن ما يكبر (¬4) يثقل على الإنسان حمله. فقيل لكل ما يصعب على النفس -وإن لم يكن من جهة الحمل-: يكبر عليها، كقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. وقوله: (وإنها) ولم يقل: (وإنهما) بعد ذكر الصبر والصلاة، لأنه كنى عن الأغلب والأفضل والأهم (¬5)، وهو الصلاة، كقوله: {وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) قال الثعلبي: واستعينوا على ما يستقبلكم من أنواع البلايا, وقيل: على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض , وبالصلاة على تحميص الذنوب "تفسير الثعلبى" 1/ 68 ب, وعند الطبري الاستعانة تكون بالصبر والصلاة, 1/ 259, وانظر: "معانى القرآن" للزجاج 1/ 95, "تفسير ابن عطية" 1/ 276, و"البغوي" 1/ 89, "زاد المسير" 1/ 75, و"ابن كثير" 1/ 92 - 93. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 259, "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 38, "تفسير الثعلبي" 1/ 69 أ، و" تفسير ابن عطية" 1/ 277, و"تفسير البغوي" 1/ 89, و"تفسير ابن كثير" 1/ 92. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 261, عن الضحاك في "تفسيره" 1/ 261, وذكره ابن الجوزى عن الحسن والضحاك, "زاد المسير" 1/ 76, وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 278, "تفسير القرطبي" 1/ 318. (¬4) في (أ) , (ج): (ماما يكبر) وأثبت ما في (ب) , لأنه هو الصواب. (¬5) في (ج): (الأعم).

يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] (¬1)، وقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، هذا قول المُؤَرِّج (¬2). وقال الأخفش (¬3): الكناية راجعة إلى كل واحد منهما، أراد وإن كل خصلة منها لكبيرة، كقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]، أراد كل واحد منهما قال الشاعر (¬4): والْمُسْيُ والصُّبْحُ (¬5) لاَ فَلَاحَ مَعَهْ (¬6) وقيل: رد الهاء إلى الصلاة، لأن الصبر داخل في الصلاة، كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، لأن رضى الرسول داخل في رضى الله تعالى (¬7). وقال حسان: إِنَ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعْرِ الأَسْـ ... ـوَدِ ما لم يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا (¬8) ¬

_ (¬1) في الآية رد الكناية إلى الفضة، لأنها أعم وأغلب. "تفسير الثعلبي" 1/ 69 أ. (¬2) كلام المؤرج أورده الثعلبي في "تفسيره" 1/ 69/ أ. المؤرج هو أبو فَيْد مؤرِّج بن عمرو بن الحارث بن ثور السدوسي النحوي البصري، أخذ عن الخليل، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، انظر ترجمته في: "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي ص 75، "تاريخ بغداد" 13/ 258، "وفيات الأعيان" 5/ 304، "إنباه الرواة" 3/ 327. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 252، "تفسير الثعلبي" 1/ 69 أ. (¬4) هو الأضبط بن قريع السعدي. (¬5) في (ج): (الصباح). (¬6) سبق البيت وتخريجه في تفسير قوله تعالى: {هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] ص 84، والشاهد قوله: (معه) والمراد: "معهما". (¬7) فلم يقل (يرضوهما) الثعلبي 1/ 69 أ. (¬8) قوله: شرخ الشباب: أوله، ما لم يعاص: أي ما لم يُعْصْ. ورد البيت في "تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، "تهذيب اللغة" (شرح) 2/ 1851، "تأويل المشكل" ص 288، "مجاز القرآن" 1/ 258، "اللسان" (شرخ) 4/ 2229،=

ولم يقل: يعاصيا، لأن الشَّعر الأسود داخل في الشباب (¬1). وقال الحسين بن الفضل: رد الكناية إلى الاستعانة، لأن (استعينوا) يدل على المصدر (¬2). والأصل في هذا وأمثاله أن العرب تذكر شيئين، ثم تخبر عن أيهما شاءت، فتكتفي بالخبر عن أحدهما عن الثاني، لأن فيه دلالة على الثاني (¬3) كقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]، وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] وقول الشاعر: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ (¬4) ¬

_ = "مقاييس اللغة" 3/ 269، "تفسير القرطبي" 1/ 319، "فتح القدير" 1/ 124، "البحر" 1/ 185، "الدر المصون" 1/ 331، "ديوان حسان" ص252. (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 69 أ، ب، "تأويل مشكل القرآن" ص 288، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 79، و"القرطبي" 1/ 319، "البحر" 1/ 185، "الدر المصون" 1/ 330. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، "تفسير البغوي" 1/ 89، وانظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 79، و"تفسير القرطبي" 1/ 319. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 39، "تأويل مشكل القرآن" ص 288، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 79. (¬4) اختلف في نسبة هذا البيت، فنسب لقيس بن الخَطِيم، وهو في ملحقات "ديوانه" ص173، ونسبه في "الخزانة" 4/ 275، لعمرو بن امرئ القيس، وكذا في "جمهرة أشعار العرب" ص 237، ونسبه في "الإنصاف" ص 85 إلى درهم بن زيد الأنصاري، وورد البيت في "الكتاب" 1/ 75، "مجاز القرآن" 1/ 39، "شرح أبيات سيبويه" لابن السيرافي 1/ 279، "المقتضب" 3/ 112، "تهذيب اللغة" =

45

45 - وقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}. أصل الخشوع في اللغة: السكون (¬1)، قال الله تعالى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108]، أي سكنت، ويقال: جدار خاشع، إذا تداعى واستوى مع الأرض (¬2). قال النابغة: وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ (¬3) ومنه الحديث (كانت الكعبة خُشعة على الماء) (¬4) أي: ساكنة، وهذا ¬

_ = 3/ 3003، "اللسان" (فجر) 6/ 3351، و (قعد) 6/ 3686، "مغنى اللبيب" 2/ 622، "الهمع" 5/ 140، (معاهد التنصيص) 1/ 189، "تفسير القرطبي" 8/ 127، "شرح ابن عقيل" 1/ 244. (¬1) انظر "تهذيب اللغة" (خشع) 1/ 1034، قال ابن فارس "الخاء والشين والعين" أصل واحد يدل على التطامن ... وهو قريب من الخضوع) 2/ 128. ونحوه قال الطبري: (أصل الخشوع: التواضع والتذلل والاستكانة) "تفسير الطبري" 1/ 261. (¬2) "تهذيب اللغة" (خشع) 1/ 1034. (¬3) من قصيدة للنابغة الذيباني يمدح النعمان وصدره: رَماَدٌ كَكُحِل العين لَأْياً أُبِينُه يقول من الآيات التي عرف بها الدار (رماد ككحل العين، لَاْياً أبينه (أي بصعوبة بطء أتبينه، و (النُّؤْيُّ): حاجز حول البيت لئلا يدخله الماء، و (الْجِذْم): أصل الشيء (أثلم): تثلم: تهدم، و (الخاشع): المطمئن اللاصق بالأرض، ورد البيت في "تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، "التهذيب" (خشع) 1/ 1034، "اللسان" (خشع) 2/ 1166، والقرطبي 1/ 320، "ديوان النابغة" ص 53. (¬4) أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" بسنده عن عطاء عن ابن عباس، في رواية طويلة عن خلق الأرض وفيها (.. فبعث الله ريحًا هفافة فصفقت الماء فأبرز خشفة في موضع هذا البيت ..) قال المحقق: (حشفة) في جميع الأصول "الأعلام"، ورواها ابن ظهيرة عن عمر بن شبة (خشعة) "أخبار مكة" 1/ 32. أخرجه الخطابي من طريق الأزرقي بنحوه، "غريب الحديث" 2/ 496، وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 1034، وابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" 2/ 35.

أصله في اللغة. ثم استعمل في أشياء تعود (¬1) إلى هذا الأصل، فقيل: خشعت الأرض، إذا لم تمطر، فلم تهتز (¬2) بالنبات، قال الله تعالى: {تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} (¬3) [فصلت: 39]. وخشع السنام، إذا ذهب شحمه وتطأطأ شرفه. وخشعت الأبصار، إذا سكنت ونظرت في الأرض من غير التفات. وقيل: للمطيع (¬4) المخبت: خاشع، لسكونه إلى الطاعة (¬5). قال المفسرون وأصحاب المعاني: إن (¬6) جميع العبادات داخلة تحت قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} لأنه أراد الصبر عليها (¬7)، ولكن خصت الصلاة بالذكر تخصيصا وتفضيلا (¬8)، كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقوله {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. ¬

_ (¬1) في (ج): (يعود). (¬2) في (ب): (فتهتز). (¬3) وقد ورد سياق الآية في (أ)، (ج) (وترى) وهو تصحيف في الآية، وفي "تهذيب اللغة" وردت آية الحج: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1034، والواحدي نقل كلام عنه. (¬4) في (ج): (للماصع). (¬5) "تهذيب اللغة" (خشع) 1/ 1034، وانظر: "مقاييس اللغة" (خشع) 2/ 182، "اللسان" (خشع) 2/ 1166. (¬6) (إن) ساقطة من (ب). (¬7) أكثر المفسرين على أن المراد الاستعانة بالصلاة مع الصبر، لا الاستعانة بالصبر عليها، وقد تقدم الكلام على ذلك، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 260، "تفسير ابن عطية" 1/ 278، "الكشاف" 1/ 277، و"القرطبي" 1/ 317. (¬8) خصت الصلاة بالاستعانة بها من بين سائر العبادات لفضلها ولما يتلى فيها، انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 95، و"القرطبي" 1/ 317.

وعلى قول من يقول: الصبر هو الصوم (¬1)، فإنما خص الصوم والصلاة، لأن القوم إنما كان يمنعهم عن الإسلام الشره وخوف ذهاب مأكلتهم (¬2) وحب الرئاسة وخوف زوالها، فأمروا بالصوم الذي يذهب الشره (¬3)، وبالصلاة التي تورث الخشوع وتنفي الكبر والشرف (¬4). وأريد بالصلاة الصلاة التي معها الإيمان بحمد صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تكبر (¬5) على (¬6) الكفار (¬7). وعند أكثر أهل العلم أن الآية خطاب لأهل الكتاب (¬8)، وهو مع ذلك أدب لجميع العباد (¬9). وقال بعضهم: يرجع هذا القول إلى خطاب المسلمين فأمروا أن يستعينوا على ما يطلبونه من رضا الله وثوابه ونيل (¬10) جنته بالصبر على أداء فرائضه، والقول الأول أظهر (¬11). ¬

_ (¬1) هو قول مجاهد كما سبق. (¬2) في (ب): (مآكلهم) ولعله أولى. (¬3) في (ج): (الشر). (¬4) (الشرف) كذا جاءت في جميع النسخ ولعل المراد حب الرئاسة والشرف المذموم. انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 65، "تفسير ابن عطية" 1/ 278، "زاد المسير" 1/ 75، و"تفسير الرازي" 3/ 49. (¬5) في (أ): (تكفر) وما في (ب، ج) هو المثبت وهو الصواب. (¬6) في (ب): (عن). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 95. (¬8) انظر: "الطبري" 1/ 261، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 95، "زاد المسير" 1/ 75، "تفسير الرازي" 3/ 48، "تفسير الخازن" 1/ 118، و"ابن كثير" 1/ 93. (¬9) قال ابن كثير: (الظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم) 1/ 93. (¬10) في (ج): (قبل). (¬11) انظر: "تفسير الرازي" 3/ 48، و"تفسير الخازن" 1/ 118، "البحر" 1/ 185.

46

46 - وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} الآية. أبو عبيد (¬1) عن أبي عبيدة قال: (الظن) يقين وشك (¬2)، وأنشد: ظَنِّي بِهِمْ كَعَسَى وَهُمْ بِتَنوُفَةٍ ... يَتَنَازَعُونَ جَوَانِبَ الأَمْيَالِ (¬3) البيت لابن مقبل، وفسر الظن فيه بالوجهين، فقال: أبو عبيدة يقول: اليقين فيهم كعسى، وعسى شك (¬4). وقال شمر عن أبي عمرو الشيباني: معناه ما يظن بهم من الخير فهو واجب، وعسى من الله واجب (¬5). والعرب تقول لليقين: ظن، وللشك: ظن (¬6)، لأن في الظن طرفا (¬7) ¬

_ (¬1) في (ب): (أبو عبيدة). (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 39، "التهذيب" (ظن) 3/ 2253، "الأضداد" لابن الأنباري ص14، والأصمعي ص 34، والسجستاني ص 77، وابن السكيت ص 188، والصغاني ص 238 (ضمن ثلاثة كتب في الأضداد). (¬3) يروى البيت (ظن) و (ظنوا) بدل (ظني) وفي "الجمهرة": (عهدي بهم) في موضع: (ظني بهم) وفي عدد من المصادر "جوائز الأمثال" وفي "الجمهرة" (جوائب) ويروى (سوائر). ولم أجد رواية (جوانب الأميال) والتنوفة: الفلاة، يتنازعون، يتجاذبون، جوائز الأمثال: (الأمثال السائرة) في البلاد، وبمعناه: (جوائب الأمثال) من جاب يجوب. ورد البيت في "الأضداد" لابن الأنباري ص 23، "الأضداد" للأصمعي ص 35، والسجستاني ص 95، وابن السكيت ص 188، "تهذيب اللغة" (ظن) 3/ 2253، "اللسان" 2/ 724 (جوز)، و5/ 2762 (ظن)، و5/ 2950 (عسا)، "الجمهرة" 1/ 154، 2/ 935، "الخزانة" 9/ 333. (¬4) "تهذيب اللغة" (ظن) 3/ 2253. (¬5) "تهذيب اللغة" (ظن) 3/ 2253، وانظر: "الأضداد" لابن السكيت ص 188, "الخزانة" 9/ 313. (¬6) قوله: (وللشك ظن) ساقط من (ب). (¬7) في (ج): (طرف).

من اليقين (¬1). قال الله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة: 20]، وقال: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]، وقال (¬2): {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا} [البقرة: 230] كل هذا بمعنى اليقين (¬3). وقال دريد بن (¬4) الصمة: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بَأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ (¬5) أي: أيقنوا. وحكى الزجاج عن بعض أهل اللغة: أن الظن يقع في معنى العلم [الذي لم تشاهده، وإن كان قد قام في نفسك حقيقة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 262. (¬2) في (أ)، (ج): (وان ظنا) بسقوط (قال). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 262، "تهذيب اللغة" (ظن) 3/ 2253، "الأضداد" لابن الأنباري ص 14. (¬4) (بن) ساقط من (ج). ودريد: مصغر: أدرد واسمه معاوية بن الحارث من هوازن، كان شجاعا شاعرًا فحلًا، قتل في حنين مشركًا. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 504، "الخزانة" 11/ 118. (¬5) ظنوا: أيقنوا، و (المدجج): التام السلاح، سَرَاتُهم: خيارهم وأشرافهم، الفارسي المسرد: الدروع. ورد البيت في "تفسير الطبري" 1/ 262. "المجاز" 1/ 40، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 96، و"تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، "الأصمعيات" ص 199، "الأضداد" لابن الأنباري ص 14، "الجمل" للزجاجي ص 199، "جمهرة أشعار العرب" ص211، "اللسان" (ظن) 5/ 2762، "شرح المفصل" 7/ 81، "الخزانة" 11/ 279، و"تفسير القرطبي" 1/ 321، "فتح القدير" 1/ 125، "ديوان دريد" ص 47. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 96. وقال: وهذا مذهب، إِلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا. قال أبو إسحاق: وهذا سمعته من إسماعيل بن إسحاق القاضي -رحمه الله- رواه عن زيد بن أسلم.

وقال أبو عباس: إذا كانت براهين العلم] (¬1) أكثر من اعتراضات الشك، كان الظن يقينًا وعلمًا. وإذا كانت اعتراضات الشك أكثر من اعتراضات اليقين كان الظن كذباً. وإذا كانت اعتراضات اليقين واعتراضات الشك سواء كان ذلك ظنا، أي: كان الظن شكا (¬2). وقال الليث: الظن يكون (¬3) اسما ومصدرا، تقول: ظننت ظنا، هذا مصدر، وتقول (¬4): ظني به حسن، وما هذه الظنون، لما صيرته اسمًا جمعته، كقول النابغة (¬5): أَتَيتُك عَارِيًا خَلَقًا ثِيَابِي ... عَلَى خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ (¬6) وحدُّ الظن: الشك الذي يرجح (¬7) فيه أحد النقيضين على الآخر، الظن: اليقين، لأنه يقوي أحد النقيضين بعد الشك حتى يصير إلى اليقين (¬8)، وقد أفصح عن ذلك أوس بن حجر في قوله: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج)، والعبارة في (أ): (أن الظن يقع في معنى العلم أكثر من ..) وفي (ج): (يقع في معنى العلم اعتراضات العلم .... (وعدم استقامة السياق يدل على المحذوف، وما في "معاني القرآن" للزجاج يدل على ما ذكر، 1/ 96. (¬2) ذكره ابن الأنباري في (الأضداد) مع اختلاف العبارة ص 16. (¬3) في (ج): (يكو). (¬4) في (أ)، (ج): (يقول) مع سقوط الواو. (¬5) هو الذبياني. (¬6) ورد البيت في "الشعر والشعراء" ص 84، وفي "تهذيب اللغة" (عرا) 3/ 2373، وفيه (على عجل) بدل (خوف)، وورد الشطر الأول في "اللسان" (عرا) 5/ 298، وهو في "ديوان النابغة" ص 73، وفيه (فجئتك). (¬7) في (ب): (ترحح). (¬8) انظر: "الوجوه والنظائر" لابن الجوزي ص 424.

الأَلمَعِيُّ الذِي يَظُنُ لَكَ الظَّـ ... ـنَّ كَمَنْ قَدْ رَأى وَقَدْ سَمِعَا (¬1) وذكر أبو القاسم الزجاجي حقيقة (¬2) الظن في اللغة، فقال: هو اعتقاد الشيء على طريقة التقدير والحدس، فإن أصاب فيما ظن صار يقينا، وإن لم يصب كان مخطئا في تقديره، ولهذا ذكر أهل اللغة هذه اللفظة في باب الأضداد، فقالوا: الظن: يقين وشك (¬3)، لأنه وضع لمعنى بالاعتبار يؤول (¬4) إلى أحدهما، كما يقال: الظن يخطئ ويصيب، فإن أصاب الظان فيما اعتقد وقدر، عبر عن ذلك باليقين؛ وإن (¬5) لم يصب كان ظنه شكًّا (¬6). وسئل أبو عمرو بن العلاء عن الظن، فقال: النظر في المطلوب بضرب من الأمارة، بمعنى أن الأمارة لما كانت مترددة بين يقين وشك، فتقرب (¬7) ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة لأوس بن حجر يرثي بها فضالة بن كلدة، ويروي البيت (كأن) بدل (كمن)، وقوله: (الألمعي): المتوقد ذكاء. ورد البيت في (الخصائص) 2/ 112، "المصون في الأدب" ص 123، (عيون الأخبار) 1/ 91، "معاهد التنصيص" 1/ 128، "ديوان أوس" ص 53. (¬2) في (ج): (وحقيقة) (¬3) انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 14، "الأضداد" لقطرب ص 71، "الأضداد" للأصمعي ص 34، وللسجستاني ص 76، ولابن السكيت ص 188، (والثلاثة الأخيرة ضمن ثلاثة كتب في الأضداد) "تهذيب اللغة" (ظن) 3/ 2253، "اللسان" (ظن) 5/ 2762. (¬4) في (ج): (يوو). (¬5) في (أ)، (ج): (فإن)، وأثبت ما في (ب) لأنه أولى في السياق (¬6) انظر: "غريب الحديث" للخطابي 3/ 26، "اللسان" (ظن) 5/ 2762. (¬7) في (أ): (فنفرت)، وفي (ج): (فيقرب) وأثبت ما في (ب).

تارة (¬1) من طرف الشك وتارة من طرف اليقين صار (¬2) أهل اللغة يفسرونه بهما (¬3). وقال الأخفش في قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}: إنما استعمل الظن بمعنى العلم في هذا الموضع لأمرين: أحدهما: أنه تنبيه أن علم أكثر الناس بالله في الدنيا، بالإضافة إلى علمه به في الآخرة كالظن في جنب العلم. والثاني. أن العلم الحقيقي في الدنيا بأمور الآخرة لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين. (والملاقاة) و (اللقاء) يحتمل معاني العيان والاجتماع والمحاذاة، والمصير (¬4). كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7]، أي المصير إلينا، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، أي مجتمع معكم وصائر إليكم. قال ابن عباس: يريد الذين يستيقنون أنهم مبعوثون، وأنهم محاسبون، وأنهم راجعون إلى الله سبحانه (¬5). و (اللقاء) و (الملاقاة) حيث ذكر في القرآن يحمله المفسرون على ¬

_ (¬1) (تارة) ساقط من (ب). (¬2) قوله: (اليقين صار) ساقط من (ب). (¬3) انظر: "مفردات الراغب" ص 317. (¬4) انظر: "مقاييس اللغة" (لقى) 5/ 261، "الفائق" 3/ 325، "مفردات الراغب" ص 453، "اللسان" (لقا) 7/ 4064. (¬5) أورده الواحدي في "الوسيط" عن ابن عباس، ولم أجده عند غيره فيما اطلعت عليه والله أعلم، وبمعناه عن السدي وابن جريج، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 263، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 103.

البعث والمصير إلى الله كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7]، وقوله: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10]، {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21]. ولا يمكن حمل الملاقاة في هذه الآية على المعاينة والرؤية (¬1)، لأن أحداً لا يستيقن (¬2) أنه يرى ربه ويعاينه، بل كل واحد منا يرجو ذلك من فضل الله أن يرزقه. وقد فسر الظن هاهنا بمعنى اليقين (¬3) فيحمل اللقاء على ما فسره ابن عباس (¬4)، ورحمة الله (¬5). وقال أبو علي: معنى قوله: {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} ملاقو ثواب ربهم (¬6)، ¬

_ (¬1) قال بعض المفسرين: إن المراد بالملاقاة في الآية: الرؤية. انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، و"تفسير ابن عطية" 1/ 279، و"تفسير البغوي" 1/ 95، "لباب التفسير" للكرماني 1/ 227، "البحر" 1/ 186. (¬2) في (ج): (الاستيقان). (¬3) وعلى هذا أكثر المفسرين، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 263، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 103، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 96، و"تفسير الثعلبي" 1/ 69/ ب، و"تفسير ابن عطية" 1/ 279، و"تفسير ابن كثير" 1/ 93. (¬4) أي: أن المراد به البعث والرجعة إلى الله والجزاء على ما عملوا. انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 116، و"ابن عطية" 1/ 279، و"البغوي" 1/ 69، و"ابن كثير" 1/ 93، "البحر" 1/ 186. (¬5) لفظ الجلالة غير موجود في (ب). (¬6) ذكر هذا التقدير بعض المفسرين كابن عطية في "تفسيره" 1/ 279، و"تفسير القرطبي" 1/ 321، وأبو حيان في "البحر" 1/ 186، وإن كانت الآية محتملة له، فالأولى عدم صرفها عن ظاهرها كما قال أبو حيان، وقد قالت المعتزلة بنفي رؤية الله تعالى في الآخرة. وقالوا: لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية وأولوا الآية على أن المراد: ملاقو ثواب ربهم، كما قال الزمخشري في "الكشاف" 1/ 278، فإن قصد بتأويل الآية على هذا نفي الرؤية فهو مردود، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 279، "تفسير الرازي" 3/ 51، "البحر" 1/ 186.

خلاف من وصف (¬1) بقوله: {لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264]، وقوله: {إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]، ومثله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223]، أي: ملاَقو جزائه إن ثوابا، وإن عقابا. وأراد (ملاقون ربهم) لأنه فيما يستقبل فتثبت (¬2) النون (¬3)، لأنك تقول: هو ضارب زيدا، إذا كان فيما يستقبل؛ وإذا كان قد مضى حذفت التنوين (¬4) لا غير، ويجوز حذفه أيضا وإن كان لما يستقبل، كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬5) و {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} [الدخان: 15] و {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: 33] نصبت (¬6) (وأهلك) على تقدير النون (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (من وصفه). والمعنى: يقول: إن المذكورين في قوله: {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} لهم ثواب يلقونه، أما الذين ذكرهم الله بقوله: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} فليس لهم ثواب يلقونه. (¬2) في (ب): (فيثبت). (¬3) اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي يضاف لما بعده وتحذف النون، وإذا كان بمعنى الاستقبال أو الحال فعند البصريين لا يضاف، ولهذا قالوا هنا: إن النون حذفت تخفيفا، ثم تتمكن به الإضافة، وهي إضافة غير محضة. أما عند الكوفيين فيجوز إضافته ولو كان بمعنى الاستقبال، انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 254، و"تفسير الطبري" 3/ 263، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 97، "تفسير ابن عطية" 1/ 280. (¬4) في (ب): (النون). (¬5) آل عمران: 185، والأنبياء: 35، والعنكبوت: 57. (¬6) في (ب): (نصب). (¬7) أي على تقدير أن النون لم تحذف للإضافة، وأهلك منصوب بالعطف على الكاف في (منجوك)، وقيل: أهلك منصوب بفعل مقدر، أي وننجي أهلك، وهذا عند من جعل الكاف في موضع جرّ، انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 255، "البحر" 1/ 151.

وإنما كان كذلك (¬1) لأن الفعل الماضي لم يشابه (¬2) الاسم، ولذلك (¬3) بني، فالاسم الذي (¬4) بمعناه وجب أيضًا أن لا يزال عن أصله، وأصل الأسماء أن تعمل إلا جرّاً، فبقى اسم الفاعل إذا أريد به الماضي على أصله، وإذا أريد به الحال والاستقبال حمل على المضارع لما (¬5) بينهما من الشبه، وجاز الجر به إذا أريد به الاستقبال وإن استقرت مشابهته للفعل، لأنه لم يخرج عن حكم الاسمية، لأجل (¬6) كونه اسما جاز أن يجر ما بعده، ولأجل ما بينه وبين المضارع من الشبه جاز أن ينصب (¬7). وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. أي يصدقون بالبعث ولا يكذبون. ومعنى (إليه): إلى أمره وإحيائه ومسألته (¬8)، لأنهم لم يخرجوا عن قبضته قط، وملكته ومثله قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] أراد إلى أمر ربك (¬9)، والمعنى في الجملة إنهم يقرون بالنشأة الثانية، ¬

_ (¬1) قوله: وإنما كان كذلك .. الخ هذا تعليل لإضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي، وعدم، إضافته إذا كان بمعنى الحال والاستقبال. (¬2) في (ب): (يشابهه). (¬3) في (ب): (كذلك). (¬4) أي اسم الفاعل الذي بمعنى الماضي. (¬5) في (أ)، (ج): (إلى) وأثبت ما في (ب)، لأنه الصواب. (¬6) في (ب): ولاجله. (¬7) هذا التعليل على مذهب الكوفيين، أما البصريون فيقولون: تحذف النون أو التنوين منه استثقالاً، وهو مراد، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 263، و"ابن عطية" 1/ 280. (¬8) وقيل: الضمير يرجع إلى الله تعالى. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 264، و"تفسير ابن عطية" 1/ 280، "البيان" 1/ 80، و"القرطبي" 1/ 321، "البحر" 1/ 187. (¬9) قال ابن جرير: (ألم تر يا محمد كيف مد ربك الظل) 19/ 18، وقال البغوي: (ألم تر إلى مد ربك الظل) 6/ 86.

47

فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه (¬1). وقال بعض أهل العلم: معنى الرجوع هاهنا العود (¬2) إلى الحال الأولى، فمعنى: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أنهم يرجعون إلى أن لا يكون لهم مالك سواه، يملك نفعهم وضرهم كما كانوا في بدء (¬3) الخلق، لأنهم في أيام حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم (¬4). 47 - قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. (التفضيل) نقيض التسوية، يقال: فضله إذا أعطاه الزيادة، وفضله إذا حكم له بالزيادة في الفضل. و (التفضل) لبس المفضل من الثوب، وهو ما يتخفف به الإنسان في بيته، ورجل فُضُل متفضل (¬5)، ومنه: ...... إِلَّا لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ (¬6) ¬

_ (¬1) أخرج ابن جرير عن أبي العالية: قال: (يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة) قال ابن جرير: (وقال آخرون: أنهم إليه يرجعون بموتهم) 1/ 264، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 280، و"القرطبي" 1/ 321. (¬2) في (ب): (إلى العود). (¬3) في (ب): (بدو) وقد وردت هكذا في "لباب التفسير" للكرماني 1/ 228. (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 3/ 51، "لباب التفسير" للكرماني 1/ 228، "البحر" 1/ 187. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (فضل) 3/ 2801، "الصحاح" (فضل) / 1791، "اللسان" (فضل) 6/ 3429 - 3430، "مفردات الراغب" 318. (¬6) جزء من بيت لامرئ القيس يقول: فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَتْ لَنَوْمٍ ثِيَابَهَا ... لَدى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ (نضت): نزعت، (المتفضل): اللابس ثوبًا واحدًا. البيت في "تهذيب اللغة" (نضا) 4/ 3589، "اللسان" (نضا) 7/ 4457، "أوضح المسالك" ص 105،"شرح شذور الذهب" ص 286، "الهمع" 3/ 123، 4/ 94، "الخزانة" 10/ 130، "ديوان امرئ القيس" ص 114.

48

وذلك أن ذلك الثوب فضل على سائر الثياب التي تصان وتدخر. وهذا التفضيل (¬1) هو ما ذكر في قوله {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} الآية [المائدة:20]. وأراد بـ (العالمين) عالمي زمانهم (¬2)، والخطاب للموجودين منهم في ذلك الوقت والمراد به سلفهم، ولكن في تفضيل الآباء شرفا للأبناء، ولذلك قال لهم: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬3). 48 - قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي} الآية. لا تجزي معناه: لا تقضي ولا يغني (¬4)، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بن نِيَار (¬5): (ولا تجزي عن أحد بعدك) (¬6)، معناه: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 3/ 52، و"ابن كثير" 1/ 94. (¬2) ذكره ابن جرير عن قتادة وأبي العالية ومجاهد وابن زيد، وقال ابن جرير: أخرج مخرج العموم ويراد به الخصوص 1/ 264 - 265، وكذا قال ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 38، وانظر. "تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، وابن عطية 1/ 281، و"تفسير القرطبي" 1/ 321، "زاد المسير" 1/ 76، و"تفسير ابن كثير" 1/ 94. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 264، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 97، "تفسير ابن عطية" 1/ 281. (¬4) كذا في (أ)، (ج) وفي (ب) بدون إعجمام، وفي "الوسيط": (لا يقضي ولا يغني) وفي الحاشية قال: في (أ)، (ب): (لا تقضي ولا تعني) 1/ 99، وفي "تفسير الطبري": (لا تقضي ولا تغني)،1/ 266، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 69 ب، "تهذيب اللغة" (جزى) 1/ 601. (¬5) هو أبو بُردة بن نِيَار بن عمرو الأنصاري، من حلفاء الأوس، صحابي جليل شهد العقبة وبدرا والمشاهد النبوية الأخرى، توفي سنة اثنتين وأربعين، انظر "طبقات ابن سعد" 3/ 451، "الإصابة" 4/ 18، 3/ 596، "سير أعلام النبلاء" 2/ 35. (¬6) قطعة من حديث في قصة أبي بردة بن نِيَار، حينما ذبح قبل صلاة العيد، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالجذعة المعزى. أخرجه البخاري في عدة =

ولا تقضي (¬1)، ومنه أيضا ما روي (أن رجلا كان يداين للناس، وكان له كاتب ومتجاز، وكان يقول له: إذا رأيت الرجل معسرا فأنظره، فغفر الله له (¬2)، فالمتجازي: المتقاضي (¬3). ومنه الجزية، لأن معناها في كلام العرب: الخراج المجعول على الذمي، سمي جزية لأنها قضاء منه (¬4). قال أهل (¬5) العربية: وأصل هذا الحرف من الجزاء الذي هو ¬

_ = مواضع، فأورده (955) كتاب (العيدين) باب (الأكل يوم النحر). و (965) باب (الخطبة بعد العيد)، و (968) باب: (التبكير إلى العيد)، و (983) باب (كلام الإمام والناس في خطبة العيد). و (5545) كتاب (الأضاحي) باب (سنة الأضحية)، و (5556) باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ضح بالجذع من المعز)، و (5560) باب (الذبح بعد الصلاة). و (5563) باب (من ذبح قبل صلاة وأعاد). أخرجه مسلم من عدة طرق (1961) كتاب الأضاحي، وأخرجه أبو داود (2800) كتاب: (الأضاحي) باب (ما يجوز من السن في الضحايا)، وأحمد في "مسنده" 4/ 282، 298، 303 كلهم عن البراء. (¬1) ذكره أبو عبيد عن الأصمعي. "غريب الحديث" 1/ 43، وانظر: "تهذيب اللغة" (جزى) 1/ 601. (¬2) الحديث بهذا النص ذكره أبو عبيد في الغريب قال: (ومنه حديث يروى عن عبيد ابن عمير: (أن رجلا كان يداين الناس ..) الحديث. "غريب الحديث" 1/ 43. ولم أجده بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" (2078) كتاب البيوع باب (من أنظر معسرًا)، وأخرج مسلم (1562) كتاب (البيع)، باب (فضل إنظار المعسر). ذكره الألباني في "صحيح الجامع الصغير" "وزيادته" (4454). (¬3) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 43، "الصحاح" (جزى) 6/ 2302. (¬4) "تهذيب اللغة" (جزى) 1/ 602. (¬5) في (ب): (وقال) و (أهل) ساقط.

المكافأة، ومقابلة الشيء بالشيء، فيجزي بمعنى: يكفى، لأنه يقابل فيه الشىء بمقداره (¬1). ومعنى (لا تجزي نفس عن نفس) أي لا يقابل مكروهها بشيء يدرؤه عنها (¬2). وموضع (لا تجزي) نصب، لأنه صفة ليوم (¬3). والعائد على اليوم محذوف من الآية، واختلف النحويون فيه، فقال الفراء (¬4): التأويل: (لا تجزي فيه نفس عن نفس) ثم حذفت الصفة (¬5)، ومثله قوله: {وَأَنذِرْهُم يَوْمَ ¬

_ (¬1) قال الأزهري: (وبعض الفقهاء يقول: أجزى عنك بمعنى جزى، أي: قضى. وأهل اللغة يقولون: أجزأ بالهمز، وهو عندهم بمعنى: كفى "تهذيب اللغة" (جزى) 1/ 601، وانظر: "الصحاح" (جزى) 6/ 2302، "اللسان" (جزى) 2/ 621، قال الطبري في "تفسيره": (وأصل (الجزاء) في (كلام العرب): القضاء والتعويض .. ، وقال قوم من أهل العلم بلغة العرب: (يقال: أجزيت عنه كذا): إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته. وقال آخرون منهم: بل (جزيت عنك): قضيت عنك، و (أجزيت): كفيت، وقال آخرون منهم: (بل هما بمعنى واحد ..) وزعم آخرون أن (جزى) بلا همز: قضى. و (أجزأ) بالهمز: كافأ. "تفسير الطبري" 1/ 226، وانظر. "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 38 - 39. (¬2) قال ابن جرير في "تفسيره": (واتقوا يومًا لا تقضي نفس عن نفس شيئًا ولا تغني عنها عنى) الطبري في "تفسيره" 1/ 266، و"تفسير أبي الليث" 1/ 116، و"تفسير الثعلبي" 1/ 69ب، و"تفسير ابن عطية" 1/ 282، و"تفسير البغوي" 1/ 90، و"تفسير الرازي" 3/ 54، و"تفسير ابن كثير" 1/ 95. (¬3) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 44، "البيان" 1/ 80، "الإملاء" 1/ 35، وقال النحاس: قوله: (لا تجزى) في موضع نصب عند البصريين على نعت لليوم، وعند الكوفيين صلة. "إعراب القرآن" 1/ 171. (¬4) انظر "معاني القرآن" الفراء 1/ 31. (¬5) مراده بالصفة حرف الجر، كما هو في اصطلاح الكوفيين، وهو هنا (في) المتصل =

الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} [غافر: 18] والمعنى: ما للظالمين فيه من حميم (¬1)، وكذلك قوله: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41] أي: فيه، وهذا أيضا مذهب سيبويه (¬2). وكان الكسائي لا يجيز إضمار الصفة، ويقول: إن المحذوف هاهنا (¬3) (الهاء) وتقديره كأنك قلت: (واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس) فجعل اليوم مفعولا على السعة، ثم ألقيت الهاء، كما تقول: رأيت رجلاً أحبّ، تريد (أحبه) (¬4) وينشد على هذا (¬5): قَدْ صبَّحَتْ صَبحَهَا السَّلاَمُ ... بِكَبِدٍ خَاَلطَهَا السَّنَامُ في ساعة يُحَبُّهَا الطَعَامُ (¬6) ¬

_ = بالضمير العائد على اليوم. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 31، "الحجة" لأبي علي 2/ 44، 45. (¬1) انظر: "الحجة" 2/ 45. (¬2) وهو مذهب البصريين وجماعة من الكوفيين، انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 89، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 171، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 258، "المشكل" لمكي 1/ 44، "تفسير ابن عطية" 1/ 282، "البحر" 1/ 189، 190، قال أبو حيان. والوجهان يعني تقديره: لا تجزى فيه ولا تجزيه، جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج، انظر: "تفسير القرطبي" 1/ 321 - 322. (¬3) في (ج): (هنا). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 32، والزجاج 1/ 98، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 171، "تفسير الطبري" 1/ 265، و"البيان" 1/ 80، و"تفسير القرطبي" 1/ 321، "البحر" 1/ 190. (¬5) في (ب): (على هذا قال). (¬6) الرجز لم ينسب، والرواية في جميع المصادر (سنام)، ومعنى: (صبحت): أتت بالصبوح، واستعمله في الطعام الذي أتته به مجازا، ويدعوا لها بالخير: (صبحها السلام)، لأنها أتته به على حاجة شديدة للطعام. ورد الزجر في "معاني القرآن" =

يعني يُحَبُّ فيها، فجعل الظرف مفعولا على السعة، وهذا أيضا مذهب الأخفش (¬1). قال الكسائي: ولو أجزت إضمار الصفة هاهنا لأجزت: أنت الذي كلمت، وأنا أريد: كلمت فيه، وهذا رجل قصدت، وأنا أريد: إليه، وهذا رجل أرغب، وأنا أريد: فيه، ولم يجز إضمار حرف الصفة في هذه المواضع كذلك في الآية (¬2). قال الفراء والزجاج وجماعة النحويين: لا يلزم ما ذكره الكسائي، لأن الصفة مع الظروف جائزة الحذف، ألا ترى أنك تقول: أتيتك يوم الخميس [وفي يوم الخميس] (¬3) فيكون المعنى واحد، وإذا قلت: كلمتك، كان غير معنى كلمت فيك، فلما اختلف المعنى مع الأسماء التي لا تكون ظروفا لم يجز إضمار الصفة معها. و (اليوم) من أسماء الزمان، وأسماء الزمان يكون فيها ما لا يكون في غيرها (¬4). قال أبو علي (¬5): الظروف نوع من أنواع المفعولات المنتصبة عن ¬

_ = للفراء 1/ 32، و"تفسير الطبري" 1/ 265، "الكامل" 1/ 34، "الحجة" لأبي علي 2/ 45، "المخصص" 12/ 243، 14/ 75. (¬1) مذهب الأخفش جواز الوجهين كما سبق، انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 258 - 260. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 260، و"معاني الفراء" 1/ 32، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 171، و"تفسير القرطبي" 1/ 321، و"البحر" 1/ 190. (¬3) (وفي يوم الخميس) ساقط من (أ)، (ج) والواو من قوله: (وفي) ساقطة من (ب) وثوبتها يقتضيه السياق، الجملة بهذا النص في "معاني القرآن" للفراء 1/ 32. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 32، و"معاني الأخفش" 1/ 260، و"معاني الزجاج" 1/ 99. (¬5) نقل الواحدي عن "الإغفال" ص 174 (رسالة ماجستير).

تمام الكلام، وهو زمان أو مكان (¬1). فأما أسماء الزمان: فالفعل يتعدى إلى مختصه ومبهمه ومعرفته ونكرته وكل نوع منه، كما يتعدى إلى المصدر، وكل ضرب منه. وإنما كان كذلك لاجتماعهما (¬2) في دلالة الفعل عليهما. ألا ترى أن في لفظ (¬3) الفعل دلالة على الزمان كما أن في لفظه دلالة على الحدث. وأما أسماء المكان فإن الفعل يتعدى إلى المبهم منها بغير حرف الجر دون (¬4) المختص (¬5). ومعنى المبهم منها ما كان شائعاً ولم يكن له حدود معلومة نحو: خلف وقدام وسائر الجهات الست، وعند. ألا ترى أنه لا حدود لهذه المسميات تقف عندها، كما للمسجد والسوق (¬6) والبيت وبغداد والبصرة، تقول: (قمت خلفك) فتعدي إليه الفعل، و (قمت في المسجد)، ولا تقول: (قمت المسجد)، وإنما كان كذلك لأن الفعل لا يدل على ظروف المكان ¬

_ (¬1) في "الإغفال": (أو مشبه بهما) ص 174. (¬2) في (أ)، (ج): (لاجتماعها) وأثبت ما في (ب) لأنه أصوب وموافق لما في "الإغفال" ص 174. (¬3) في (ب) تكرار ونصها: (ألا ترى أن لفظ الفعل دلالة الفعل عليهما ألا ترى أن في لفظ الفعل دلالة على الزمان ..). (¬4) (دون) ساقط من (ب). (¬5) ذكر كلام أبي علي بمعناه. "الإغفال" ص 175، وانظر: "الكتاب" 1/ 412 - 417. (¬6) نص كلام أبي علي: (.. ألا ترى أنه لا حدود لهذه المسميات تقف عندها فتحصرها بها، كما تحصر بها المختصة منها نحو: المسجد والسوق ..) "الإغفال" ص 174، وكلامه أوضح من عبارة الواحدي.

بلفظه وإنما يدل عليها بالمعنى كما يدل على المفعول، والمفعول إذا تعدى الفعل إليه بحرف جر لا يجوز حذف حرف الجر منه إلا أن يسمع ذلك من العرب (¬1). ألا ترى أنك تقول: مررت بزيد، ولا يجوز أن تقول: مررت زيداً (¬2)، فكذلك كان القياس في جميع ظروف المكان أن يتعدى الفعل إليها (¬3) بحرف الجر، إلا أن المبهمة جاز حذف الجر منها، لأنها قد أشبهت ظروف الزمان، وذلك أنه ليس لها خلق (¬4) كما أن الزمان لا خلقة له، فباين ظروف المكان بعضها بعضا (¬5). فالخلف والقدام وهذه المبهمة يجوز أن تنقلب كلها فيصير الخلف قداما، والقدام خلفا، كما يجوز أن ينقلب ظرف (¬6) الزمان فيصير اليوم أمس. فلما شبهت المبهمة من ظروف المكان بظروف الزمان عَدَّوْا إليها الفعل من غير توسط حرف الجر. وأما المختصة كالدار والبيت والمسجد ¬

_ (¬1) "الإغفال" ص 174 - 175، نقل كلامه بالمعنى. (¬2) في (ب): (مزيدا). (¬3) (اليها) ساقط من (ب). (¬4) أي ليس لها مدلول محسوس وحيز وهيئة، إنما مدلولها معنوي، كالقدام والخلف، وهذه العبارة لم ترد في "الإغفال". (¬5) في (أ)، (ج): (بعضها بعضها) وأثبت ما في (ب)، لأنه أصوب، المراد أن ظروف المكان تختلف، فظروف المكان غير المختصة لها حكم ظروف الزمان، بخلاف ظروف المكان المختصة غير المبهمة فلا يتعدى الفعل إليها إلا بحرف الجر. (¬6) في (ب): (تنقلب ظروف).

فلها خلق (¬1) كزيد وعمرو، ألا ترى أنه لا يسمى كل بقعة مسجدا ولا دارا، فلما جرت هذه الظروف مجرى زيد وعمرو، وجب أن لا يعدى الفعل إليها إلا (¬2) بحرف جر، فأما قولهم: (ذهبت الشام) يريدون إلى الشام، فهو شاذ عند سيبويه، وقولهم: (دخلت البيت) فهو - أيضا شاذ عنده (¬3). وهو عند أصحابه مفعول به، لأنه ظرف صير مفعولا، فهو عندهم بمنزلة: هدمت البيت (¬4). قال أبو علي (¬5): والجائز عندي من هذه الأقاويل التي قيلت في الآية قول من قال: إن (اليوم) جعل (¬6) مفعول (تجزي) على السعة، كقول الشاعر: وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ (¬7) سُلَيْماً وَعَامِرًا (¬8) ¬

_ (¬1) في (ج): (حلف). (¬2) في (ب): (اليها لا). (¬3) انظر: "الكتاب" 1/ 414. (¬4) انظر: "الإغفال" ص 175 - 176، نقل الكلام بمعناه. (¬5) "الإغفال" ص 176. (¬6) (جعل) ساقط من (ب). (¬7) في (ج): (شهدنا). (¬8) البيت لم يرد ضمن كلام أبي علي في هذا الموضع، وإنما ورد في كلام أبي إسحاق الزجاج، الذي نقله أبو علي، واستدرك عليه، انظر: "الإغفال" ص 172، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 98، والبيت من (شواهد سيبويه) 1/ 178، وورد في "المقتضب" 3/ 105، "الكامل" 1/ 33، "مغني اللبيب" 2/ 503، "شرح المفصل" 2/ 46، "همع الهوامع" 3/ 166، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 321، وقد نسبه سيبويه لرجل من بني عامر، وعجزه: قَلِيلٍ سِوى الطَّعْنِ النِّهَال نَوَافِلُه

ثم حذفت (الهاء) من الصفة كما تحذف من الصلة، وحذف (الهاء) من الصفة كحذفها (¬1) من الصلة، وذلك أن الصفة تخصص الموصوف كما أن الصلة تخصص الموصول، ومرتبتها أن تكون بعد الموصوف، كما أن مرتبة الصلة (¬2) كذلك، وتتضمن الصفة ذكرا من موصوفها كما تتضمنه الصلة من موصولها، فشدة مشابهتهما على (¬3) ما تراه. وقد كثر مجيء الصلة محذوفاً منها العائد، كقولك: (الذي رأيت زيد) والصفة كالصلة على ما ذكرنا من المشابهة، وإذا [قال] (¬4) كذلك حسن الحذف منها حسنه من الصلة. فإن قال قائل: إذا جاز حذف الضمير المتصل من الصفة في نحو قولك: (هذا رجل ضربت)، و (الناس رجلان: رجل أكرمت ورجل أهنت) فلم لا يجوز حذف الجار والمجرور من حيث جاز حذف الهاء؟ قيل: إنما ¬

_ = ويروي البيت (يوما) و (يوم) مجرور برب المحذوفة، وسُلَيْم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان، وقليل: مجرورة صفة ليوم، والنِّهال: المرتوية بالدم، والنوافل: الغنائم. والشاهد فيه نصب ضمير العائد على (يوم) بالفعل على التشبيه بالمفعول به اتساعًا ومجازًا. (¬1) في (أ)، (ب): (لحذفها) وأثبت ما في (ب)، لأنه هو الصواب، وأقرب إلى عبارة أبي علي في "الإغفال" ونص كلامه: (والجائز عندي من هذه الأقاويل التي قيلت في الآية قول من قال: إن اليوم جعل مفعولًا على السعة ثم حذفت الهاء من الصفة، كما تحذف من الصلة، لأن حذفها منها في الكثرة والقياس كحذفها منها. أما القياس فلأن الصفة تخصص الموصوف ..) ص 176. (¬2) في (ج): (كما أن الصلة تكون كذلك). (¬3) في (ج): (مشابهتها كما تراه). (¬4) كذا وردت في جميع النسخ، وهو تصحيف والنص في "الإغفال" (فإذا كان كذلك) ص 177، وهذا هو الصواب.

جاز حذف الضمير المتصل من الصفة (¬1) لمشابهتها الصلة، وقد كثر حذف ذلك في الصلة وحسن، فلما كثر ذلك في الصلة وشابهتها الصفة شبهت بها أيضًا في حذف الضمير منها. ولا اختلاف بين الجميع (¬2) في أن الضمير إذا خرج عن الفعل إلى الحرف فلم يتصل به لم يحذف من الصلة، فمن قال: (الذي ضربت زيد) لم يقل: (الذي رغبت زيد)، ولا (الذي مررت زيد) (¬3)، إذا أراد (فيه) و (به) وإذا لم يجز ذلك في الأصل الذي هو الصلة المشبه به الصفة، كان في الصفة أبعد من الجواز (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}. قبول الشيء: تلقيه، والأخذ به، وخلاف الإعراض عنه (¬5). اللحياني: يقال (¬6): قبلت الشيء أَقْبلَه قَبُولاً وقُبُولاً، وعلى فلان قَبُول، أي تقبله العين (¬7)، ومثل ذلك قال ابن الأعرابي (¬8). وقوله: {شَفَاعَةٌ} قال المبرد وثعلب: الشفاعة: كلام الشفيع الملك (¬9) في حاجة يسألها لغيره (¬10). وهو من الشفع الذي هو خلاف ¬

_ (¬1) في (ب): (الصلة). (¬2) في (ب): (الجمع). وفي "الإغفال": (.. بين الجميع من البصريين ..) ص 178. (¬3) في (ج): (زيدا). (¬4) أنتهى ما نقله عن أبي علي الفارسي من كتاب "الإغفال" ص 174 - 178. (رسالة ماجستير) وقد نقل الواحدي كلام أبي علي بتصرف. (¬5) بنصه في "الحجة" لأبي علي 2/ 46. (¬6) في (ب): (يقول). (¬7) في (ج): (ليس). (¬8) "تهذيب اللغة" (قبل) 3/ 2875. (¬9) كذا في جميع النسخ، وفي "تهذيب اللغة"، و"اللسان": (للملك). (¬10) "تهذيب اللغة" (شفع) 2/ 1897، وانظر: "اللسان" (شفع) 4/ 2289.

الوتر، وكأنه سؤال من الشفيع يشفع سؤال المشفوع له (¬1). قال أحمد بن يحيى: الشفعة (¬2) من هذا، ومعناها في اللغة كالزيادة، وهو أن يُشَفِّعَك فيما تطلب (¬3) حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده (¬4) وتشفعه بها، أي أنه كان وترا فضم إليه ما زاده وشفعه به (¬5). ومن هذا يقال: شاة (¬6) شافع، إذا كان معها ولدها (¬7). قال أصحاب المعاني: ليس معنى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أن هناك (¬8) شفاعة لا تقبل، وإنما المعنى لا يكون (¬9) شفاعة فيكون لها قبول، كما أن قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، معناه: لا يكون منهم سؤال فيكون إلحاف (¬10)، ويقول امرؤ القيس: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 267، "تهذيب اللغة" (شفع) 2/ 1898، "اللسان" (شفع) 4/ 2289. (¬2) في (ج): (الشفاعة). (¬3) في (ج): (يطلب). (¬4) في (ج): (فتزيده بها). (¬5) "تهذيب اللغة" (شفع) 2/ 1898، وفيه: (قال المنذري وسمعت أبا العباس وسئل عن اشتقاق الشفعة في اللغة فقال: الشفعة: الزيادة ..)، وانظر: "اللسان" (شفع) 4/ 2290. (¬6) قوله: (يقال شاة) ساقط من (ب). (¬7) ذكره أبو عبيدة في "غريب الحديث" 1/ 257، وذكره عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" (شفع) 2/ 1898. (¬8) في (ب): (وأن هناك). (¬9) في (ب): (تكون) ومثله في "الحجة" لأبي علي 2/ 47. (¬10) نقله عن أبي علي من "الحجة" 2/ 46، 47، - ولم أجده عن أحد من أهل (المعاني) فيما اطلعت عليه وظاهر كلام أبي علي نفي أصل الشفاعة، حيث قال =

عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدى لِمَنَارِه ... إِذَا سَافَهُ العَوْدُ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرَا (¬1) أي ليس هناك (منار) فيكون اهتداء، وكقوله أيضًا-: وَلاَ تَرى الضَّبَّ بهَا يَنْجَحِرْ (¬2) أي ليس هناك (ضب) فيكون منه (¬3) انجحار. ¬

_ = بعده فأما قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم: 26]، فالمعنى لا تغني شفاعتهم أن لو شفعوا، ليس أن هناك شفاعة مثبتة ..) "الحجة" 2/ 48. ونفى أصل الشفاعة هو مذهب المعتزلة، كما قرره الزمخشري في "الكشاف" في تفسير هذه الآية، ورد عليه أحمد بن محمد بن المنير في كتاب "الإنصاف" في "حاشية الكشاف" 1/ 278. ومعنى الآية عند الجمهور: أنه وإن كان ظاهرها العموم فهي مخصوصة بمن مات على كفره غير تائب. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 268، و"تفسير البغوي" 1/ 900، و"تفسير ابن كثير" 1/ 95. ولم ينبه الواحدي على كلام أبي علي الموهم لنفي الشفاعة، مع أن الواحدي ذكر المعنى الصحيح في الآية في موضع آخر كما سيأتي. (¬1) يروي البيت في جميع المصادر (بمناره) وفي "ديوان امرئ القيس" (النباطي) بدل (الديافي) قوله (على لاَحِبٍ): اللاحب الطريق البين الذي لحبتته الحوافر، ثم يستعمل لكل طريق بين وخفي، و (لا يهتدي لمناره): ليس فيه علم ولا منار يهتدى به، (سافه العَوْد) أي شمه المسن النجائب، (جرجرا): صوت ورغاء الإبل. ورد البيت في "تهذيب اللغة" (لحف) 2/ 1598، (ساف) 2/ 1132، (داف) "الحجة" 2/ 47، "شرح أشعار الهذليين" 1/ 36، "الخصائص" 3/ 165، 321، "مقاييس اللغة" 2/ 318، "اللسان" (ديف) 3/ 1466، (سوف) 4/ 2153، "الخزانة" 10/ 258، "ديوان امرئ القيس" ص 64. (¬2) عجز بيت نسبه بعضهم لعمرو بن أحمر وصدره: لاَ يُفْزِعُ الأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا يقول ليس ثم هول تفزع منه الأرنب، وليس هناك ضب فيكون منه انجحار. ورد البيت في "شرح أشعار الهذليين" 1/ 36، "الخصائص" 3/ 146، 321، "الحجة" لأبي علي 2/ 47. (¬3) في (ب): (هناك).

وقرئ قوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} بالياء والتاء (¬1)، فمن قرأ بالتاء قال: الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث، فيلزم أن يلحق المسند (¬2) أيضا علامة التأنيث، ليؤذن لحاق العلامة (¬3) بتأنيث الاسم. ومما يقوي هذا أن كثيرا من العرب إذا أسند الفعل إلى المثنى أو المجموع ألحقوه علامة التثنية والجمع (¬4)، كقوله: أُلْفِيَتَا عَيْنَاكَ عِنْدَ القَفَا (¬5) وقول آخر: ... يَعْصِرْنَ السَّلِيَط أَقَارِبُهْ (¬6) ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع بالياء، وروى الوجهان عن عاصم. انظر "السبعة" ص 155، "الحجة" 2/ 43، "التيسير" ص 73. (¬2) في (ج): (بالمسند). (¬3) في (ب): (علامة لحاق). (¬4) هذا على اللغة المعروفة بلغة (أكلوني البراغيث) وهي لغة قليلة مشهورة. انظر: "الأشموني مع حاشية الصبان" 2/ 47 - 48. (¬5) شطر البيت من قصيدة لعمرو بن ملقط، أوردها أبو زيد، وعجزه: أوْلَى فَأوْلَى لَكَ ذَا وَاقِيَةْ وأورد صاحب "الخزانة" وشرحها. قوله: (اولى لك): كلمة وعيد وتهديد، و (الواقية): مصدرها بمعنى الوقاية، يصفه بالهروب، ويقول أنت ذو وقاية من عينك عند فرارك تحترس بهما، ولكثرة تلفتك حينئذٍ، صارت عيناك كأنهما في قفاك. انظر: "النوادر" ص 268، "الحجة" 2/ 51، "مجمل اللغة" 1/ 483، "الخزانة" 9/ 31. والشاهد لحاق ألف التثنية في قوله: (الفيتا). (¬6) قطعة من بيت من قصيدة للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء الضبي، وتمامه: ولكن دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِخَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيَط أقَارِبُهْ يقول: هو قروي من (دياف) قرية بالشام يعتمل لإقامة عيشه، وليس كما عليه =

فكما ألحقوا هاتين العلامتين لتؤذنا بالتثنية والجمع، كذلك ألحقت علامة التأنيث الفعل لتؤذن بما في الاسم منه، وكان لحاق هذه العلامة أولى من لحاق علامتي التثنية والجمع، للزوم علامة التأنيث (¬1) الاسم، وانتقاء لزوم هاتين العلامتين الاسم، لأنه إذا وحد (¬2) زالت علامة التثنية والجمع. ولا يتوهم سقوط الهاء من الشفاعة (¬3)، وبحسب لزوم المعنى تلزم (¬4) علامته (¬5). ومن قرأ بالياء، فلأن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي، وإذا كان كذلك حمل على المعنى فذكّر، ألا ترى أن الشفاعة (¬6) والتشفع بمنزلة (¬7)، كما أن الموعظة والوعظ، والصيحة والصوت كذلك، وقد قال: {فَمَن ¬

_ = العرب من الانتجاع والحرب، و"السليط": الزيت. ورد البيت في "الكتاب" 2/ 40، "وشرح أبياته للسيرافي" 1/ 491، "الخصائص" 2/ 194، "الحجة" 1/ 132، 2/ 52، "الخزانة" 5/ 163، 234، 235، 237، 239، 7/ 346، 446، 11/ 373، "شرح المفصل" 3/ 89، 7/ 7، "الهمع" 2/ 257، "اللسان" (سلط) 4/ 2065، (ديف) 3/ 1466، "ديوان الفرزدق" 1/ 46. والشاهد: لحاق نون الجمع في قوله (يعصرن). (¬1) في (ج): (الفعل الاسم). (¬2) في (ب): (وجدو). (¬3) فإذا لزمت علامة التأنيث في الاسم يحسن إلحاقه الفعل. "الحجة" 2/ 52. (¬4) (أ)، (ج): (يلزم)، وما في (ب) موافق للحجة. (¬5) من "الحجة" لأبي علي بنصه 2/ 51، 52، وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص 76، "الحجة" لابن زنجلة ص 95، "الكشف" لمكي 1/ 238. (¬6) في (ب): (الشفيع). (¬7) أي: أن تأنيث الشفاعة ليس حقيقيًّا، فلفظ (الشفاعة) وهو مؤنث مثل لفظ (التشفع) وهو مذكر. انظر: "الحجة" لابن زنجلة ص 95.

جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275]، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] فكما لم يُلحق (¬1) العلامة هاهنا كذلك يحسن أن لا تُلحق (¬2) في هذه الآية. ومما يقوي التذكير أنه فصل بين الفعل والاسم، والتذكير يحسن مع الفصل كما حكي من قولهم: (حضر القاضي اليوم (¬3) امرأة)، فإذا جاء التذكير في (¬4) الحقيقي مع الفصل فغيره أجدر بذلك (¬5). قال أبو علي (¬6): فأما ما قاله أحمد بن يحيى من أن التذكير أجود، لقول ابن مسعود (ذَكِّروُا القرآن) (¬7) لا يجوز حمله على تذكير التأنيث، لأنه ¬

_ (¬1) في "الحجة": (لم تلحق) 2/ 52. وهو الأولى. (¬2) في (أ)، (ب): (يلحق) وأثبت ما في (ج)، لأنه أصوب وموافق لما في "الحجة". (¬3) (اليوم) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (يحسن في الحقيقي). (¬5) كذا بنصه من "الحجة" 2/ 52، 53، وذكر هذه الحجج ابن خالويه ص 76 وابن زنجلة ص 95، ومكي في "الكشف" 1/ 238، وذكر مكي أربع علل وهي داخلة فيما ذكر أبو علي، والرابعة ما روي عن ابن مسعود: ذكروا القرآن. وهذه العلة ذكرها أبو علي، ثم ردها كما سيأتي. (¬6) (الحجة) لأبي علي 2/ 53. (¬7) ذكره مكي في "الكشف" قال: ذكر أبو عبيد عن ابن مسعود أنه قال (ذَكِّروا القرآن، وإذا اختلفتم ... إلخ فاجعلوها ياء)، وذكر أن هذه اللفظة: وإذا اختلفتم .. إلخ رواية عن ابن عباس. "الكشف" 1/ 238، وذكر ابن خالويه: وإذا اختلفتم .. إلخ عن ابن مسعود. "الحجة" ص 76. وذكره في (الفائق) بلفظ في الحديث (القرآن ذكر فذكروه) ولم يعزه. "الفائق" 2/ 13، وفي "النهاية في غريب الحديث" قال: وفيه: (القرآن ذكر فذكروه) أي أنه جليل خطير فأجلوه. "النهاية في غريب الحديث" 2/ 163.

لا يخلو إما أن أراد تذكير (¬1) التأنيث الحقيقي أو غير الحقيقي (¬2). ولا يجوز أن يريد تذكير الذي هو غير الحقيقي، لأن ذلك قد جاء في القرآن ما لا يحصى كثرة، كقوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} (¬3) [الأنعام: 32] و {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} [الحج: 72]، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)} [القيامة: 29]، و {قَالَتْ رُسُلُهُمْ} [إبراهيم: 10]، و {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، و {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] فإذا (¬4) كان هذا النحو على الكثرة التي تراها، فلا يجوز أن يريد هذا. وإذا لم يجز أن يريد هذا كان إرادة تذكير التأنيث الحقيقي أبعد، كقوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35]، وقوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ} [القصص: 11]. فإن قلت: إنما يريد: [إذا] (¬5) احتمل الشيء التذكير والتأنيث، فاستعملوا التذكير وغلبوه. قيل هذا أيضا لا يستقيم، ألا ترى أن فيما تلونا {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} و {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} فأنث مع جواز التذكير فيه، يدل على ذلك في الأخرى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، وقوله: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} ¬

_ (¬1) في (ب): (أراد بتذكير). (¬2) نص كلام أبي علي في "الحجة": (لا يخلو من أن يريد به التذكير الذي هو خلاف التأنيث، أو يريد معنى غير ذلك. فإن أراد به خلاف التأنيث فليس يخلو من أن يريد: ذكروا فيه التأنيث الذي هو غير حقيقي أو التأنيث الذي هو حقيقي .. 2/ 53. (¬3) في (ج): (والدار) وهي آية الأعراف: 169. (¬4) في (ب): (وإذا). (¬5) (إذا) ساقطة من كل النسخ وأثبتها كما في "الحجة" لاقتضاء السياق لها والنص في "الحجة": (فإن قلت: إنما يريد: إذا احتمل) 2/ 54.

[يس: 80] ولم يقل الخضر (¬1) أو الخضراء، فهذه المواضع يعلم منها أن ما ذكر ليس بمراد ولا مذهب، فإذا لم يصح أن يريد به تذكير التأنيث كان معنى غيره. فمما (¬2) يجوز أن يصرف إليه، أنه يريد به الموعظة والدعاء إليه كما قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [ق: 45] إلا أنه (¬3) حذف الجار (¬4). أو (¬5) أراد: ذكروا الناس القرآن، أي: ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه (¬6). ويمكن أن يكون المعنى قوله: (ذكروا القرآن) لا تجحدوه ولا تنكروه (¬7)، كما أنكره من قال: {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (¬8) لإطلاقهم عليه لفظ التأنيث فهؤلاء لم يُذَكِّروه لكنهم أنثوه بإطلاقهم التأنيث، وما كان مؤنث (¬9) اللفظ عليه، وهذا كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117]، فإناث جمع أنثى، وإنما يعني به ما اتخذوه آلهة، كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (والخضراء) وأثبت ما في (ب) لأنه أولى، وفي "الحجة": (الخضر ولا الخضراء) 2/ 45. (¬2) في (ب): (فما لا يجوز). (¬3) في (ب): (أن). (¬4) وهذا قريب من المعنى الذي ذكره ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" قال: وفيه القرآن ذَكَر فذكروه (أي: أنه جليل خطير فأجلّوه) 2/ 163. (¬5) في (ب): (وأراد). (¬6) وهذا المعنى (ذكروا الناس القرآن، أي: ابعثوهم على حفظه) غير موجود في "الحجة"، ولعله سقط من المطبوع لأن الكلام يدل عليه، 2/ 55. (¬7) في (ب): (لا يجحدوه ولا ينكروه). (¬8) الأنعام: 25، والأنفال: 31، والنحل: 24، والمؤمنون: 83، والفرقان: 5، والنمل: 68، الأحقاف: 17، والقلم: 15، والمطففين: 13. (¬9) في (أ)، (ج): (يؤنث) وأثبت ما في (ب)، لأنه أولى، والنص فى "الحجة": (.. لكنهم أنثوه بإطلاقهم التأنيث على ما كان مؤنث اللفظ كقوله ..) 2/ 55.

اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19, 20] وقال (¬1) العجاج: وكُلُّ أُنثَى حمَلَتْ أَحجَارَا (¬2) فسماها أنثى لتأنيثهم لفظها. وكذلك قول الفرزدق: وَكُنَّا إذَا الجَبَّار صَعَّر خَدَّه ... ضَرَبْنَاهُ دونَ الأنْثَيَيْنِ علَى الكَرْدِ (¬3) أراد بالأنثيين الأذنين (¬4). قلت: أطال أبو علي الكلام في تأويل قول ¬

_ (¬1) في (ب) (قال) بسقوط الواو. (¬2) الرجز في (الحجة) وقبله: أَوْرَدَ حُذًّا تَسْبِقُ الأَبْصَاراَ. وليسا متتاليين في (الديوان) , بل بينهما أبيات وفيها يصف المنجنيق والْحُذْ: السهام البُترْ, وكل انثى: يعنى المنجنيق, يقول: يُرْمي بالمنجنيق فيخرج الحجر من بطن الجلد, كما يبقر بطن الحامل عن الولد. ورد في "الحجة" 2/ 55, "المخصص" 13/ 189, "اللسان" (حجر) 2/ 785, "ديوان العجاج" ص 416. (¬3) رواية البيت في "ديوان الفرزدق" وبعض المصادر: وكُنَّا إذا القيسي نب عتوده ... ضربناه فوق ............... "ديوان الفرزدق" 1/ 178, وله بيت آخر: وَكُنَّا إِذَا القيسى صَعَّر خَدَهُ ... ضَرَبْنَاهُ حَتَّى تَسْتَقِيمَ الأَخادِعُ "الديوان" 1/ 420, ويظهر انه حصل خلط بين البيتين فكثرت الرواية فيهما. قال ابن قتيبه في "المعاني الكبير": ويروي لذي الرمة. وقوله: نب عَتُودُه: تكبر, والعَتُودُ: الجدي الذى بلغ السفاد, صعر خده: أماله كبرا. الأنثيان: شحمتا الأذن, والكَرْد: أصل العنق. انظر: "المعانى الكبير" 2/ 994, "الحجة" 2/ 56, "جمهرة اللغة" 3/ 1322, "إعراب ثلاثين سورة" ص 277,"المخصص" 1/ 82, 5/ 190, 16/ 203, "المجمل" (أنث) 1/ 104, "اللسان" 7/ 4317, (نبب) 1/ 146 (أنث) , 7/ 3849 (كرد) , 7/ 3961 (كون). (¬4) انتهى ما نقله عن أبي علي من "الحجة" 2/ 53 - 56.

ابن مسعود، وهو ما ذهب إليه أحمد بن يحيى (¬1)، وأراد ابن مسعود أنه إذا احتمل اللفظ التأنيث والتذكير، ولا يحتاج في التذكير إلى تغيير الخط ومخالفة المصحف فَذَكِّر، كقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} لست تحتاج إلى مخالفة الخط في التذكير، ويدل على أنه أراد هذا، وأن أصحاب عبد الله من قراء (¬2) الكوفة كحمزة والكسائي ذهبوا إلى هذا، فقرؤوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، كقوله: (يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم) (¬3) (¬4) [النور: 24]، و {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} (¬5) (¬6) [آل عمران: 154] وأشباههما بالتذكير هذا الذي ذكرنا كله في التأنيث غير الحقيقي. وأما الحقيقي: فهو ما يكون منه النسل، ويقبح في مؤنثه لفظ التذكير (¬7)، لو قلت: قام جاريتك ونحر ناقتك، كان قبيحا، وهو جائز على ¬

_ (¬1) أي: أن المراد بكلام ابن مسعود، التذكير الذي هو خلاف التأنيث، وبهذا أخذ ابن خالويه في "الحجة" ص 76، ومكي في "الكشف" 1/ 238، ومما يرجع هذا ما ورد في الرواية عن ابن مسعود: (فإذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوه بالياء). (¬2) في (ب): (قر). (¬3) قرأ حمزة والكسائي (بالياء)، وبقية السبعة (بالتاء). انظر: "السبعة" 454، و"الكشف" على 2/ 135، "والتسير" ص 161. (¬4) في (ج): (تشهد)، وفي (أ)، (ب): (يشهد) على قراءة حمزة والكسائي. (¬5) قرأ حمزة والكسائي (بالتاء) وبقية السبعة (بالياء). انظر: "السبعة" ص 217، و"الكشف" 1/ 630 و"التسير" ص 91. (¬6) في (ج): (تغشى) بالتاء على قراءة حمزة والكسائي. (¬7) نقل الواحدي عن الزجاج من "معاني القرآن"، والنص في "المعاني": (وأما ما يعقل ويكون منه النسل والولادة نحو امرأة ورجل، وناقة وجمل فيصح في مؤنثه لفظ التذكير، ولو قلت قام جارتك، ونحر ناقتك كان قبيحًا ..) إلخ. والبقية بنصه. "المعاني" 1/ 99. وقد تصرف الواحدي في عبارة الزجاج. وقوله: (ويقبح في مؤنثه لفظ التذكير) أي: فإنه يقبح في مؤنثه ...

قبحه، لأن الناقة والجارية تدلان على معنى التأنيث، فاجتزئ بلفظهما عن تأنيث الفعل (¬1). فأما الأسماء التي تقع للمذكرين (¬2) لو سميت بها مؤنثا فلا، بد فيها من علم التأنيث، لأن الكلام للفائدة والقصد (¬3) به الإبانة (¬4)، فلو سميت امرأة بقاسم لم يجز أن تقول: جاءني قاسم، فلا يعلم أمذكرا عنيت أم مؤنثا، وليس إلى حذف هذه التاء -إذا كانت فارقة (¬5) بين معنيين- سبيل، كما أنه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول: قد قام، إلا أن تقول: قاما (¬6)، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية (¬7) هاهنا (¬8). وقوله تعالى: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. عَدْلُ (¬9) الشيء وعِدْله: مثله (¬10)، قال الله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، أي: ما ¬

_ (¬1) المشهور عند النحويين أن المؤنث الحقيقي الذي لم يفصل عن فعله بفاصل يجب تأنيث الفعل له. انظر: (شرح ابن عقيل) 2/ 88. (¬2) في "المعاني" للزجاج: (للمذكرين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من علم التأنيث ..) 1/ 100، وعبارة الواحدي أوضح. (¬3) في (ب): (القصيدة). (¬4) في (ج): (الاباله). (¬5) في (ج): (ذار قعين). (¬6) في (ب): (قد قاما). (¬7) في (ج): (التثنية والجمع ههنا). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 100. (¬9) (عدل) ساقط من (ب). (¬10) (العَدْل)، و (العِدْل) بمعنى المثل ومعناهما سواء، وقال الفراء: (العِدْل): المثل، (والعَدْل): ما عادل الشيء من غير جنسه. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 320، و"تفسير الطبري" 1/ 269، "تهذيب اللغة" (عدل) 3/ 2358، "ومعاني الزجاج" 2/ 229.

يماثله (¬1) من الصيام (¬2)، قال كعب بن مالك (¬3): صَبَرْنَا (¬4) لاَنَرى لله عَدْلاً ... عَلَى مَانَابنَا مُتَوَكِّلِينَا (¬5) أي: لا نرى له مثلا. وذكر (¬6) في التفسير أن العدل هاهنا: (الفداء) (¬7)، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، قال يونس: العدل الفداء (¬8) [وسمي الفداء] (¬9) عدلا، أنه يعادل المفدي ويماثله، وأصل هذا الباب المساواة والمماثلة. ¬

_ (¬1) في (ج): (ماماثله). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 229. (¬3) هو كعب بن مالك بن أبي كعب، الأنصاري الخزرجي، شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأحد الثلاثة الذين خلفوا، فتاب الله عليه، ومات سنة خمسين، وقيل: سنة أربعين، وقيل: غير ذلك، انظر: "الاستيعاب" 3/ 286، حاشية على "الإصابة"، "سير أعلام النبلاء" 2/ 523، "الجرح والتعديل" 7/ 160، "تهذيب التهذيب" 3/ 471. (¬4) في (ج): (الا ترى). (¬5) أورد الواحدي البيت فى "الوسيط" 1/ 100، وهو من قصيدة لكعب يرد بها على ضرار بن الخطاب بن مرداس، يوم الخندق؛ أورد ابن هشام القصيدتين في "السيرة" 3/ 277. (¬6) (وذكر) ساقط من (ب). (¬7) ذكره الطبري 1/ 268 - 269، وابن أبي حاتم 1/ 105، وابن قتيبة في "الغريب" ص 39، والثعلبي 1/ 70 أ، والبغوي 1/ 90، وابن كثير 1/ 95. وذكر ابن أبي حاتم عن علي وعمير بن هانئ: المراد: التطوع والفريضة، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 105، و"ابن كثير" 1/ 95. (¬8) ذكره الأزهري، قال: أخبرني ابن فهم عن محمد بن سلام عن يونس. "تهذيب اللغة" (عدل) 3/ 2358. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).

يقال: فلان يعدل فلانا، أي يساويه، ويقال: ما يعدلك عندنا شيء، [أي ما يقع عندنا شيء] (¬1) موقعك، ولا يساويك. والعِدْل: اسم حِمْل معدول [يحصل] (¬2) أي: مسوى به (¬3). ونذكر ما قيل في العَدْل، والْعِدْل عند قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] إن شاء الله. وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. قال المفسرون: أي ولا هم يمنعون من عذاب الله (¬4). ومعنى (النصر) في اللغة: المعونة (¬5)، وبينهما فرق، وهو أن المعونة قد تكون على صناعة النصرة لا تكون إلا مع منازعة. وانتصر بمعنى: انتقم، معناه بلغ حال النصرة (¬6). قال المفسرون: نزلت (¬7) الآية في اليهود، وذلك أنهم كانوا يقولون: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) كذا في جميع النسخ (يحصل) والصواب (يحمل) كما في "التهذيب" (عدل) 3/ 2358. (¬3) "تهذيب اللغة" (عدل) 3/ 2358، وانظر: "الطبري" 1/ 269، "اللسان" (عدل) 5/ 2839. (¬4) ذكره الثعلبي 1/ 70 أ، والبغوي 1/ 90، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 77، وقال الطبري: لا ينصرهم ناصر ولا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، 1/ 269، ونحوه ذكر ابن كثير 1/ 95. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (نصر) 4/ 3584، "الجمهرة" 2/ 744، "اللسان" (نصر) 7/ 4439. (¬6) انظر: "اللسان" (نصر) 7/ 4439. (¬7) في (ب): (هذه الآية).

49

يشفع لنا آباؤنا الأنبياء، فآيسهم الله عن ذلك (¬1). والآية وإن عمت في نفي (¬2) الشفاعة فمعناها الخصوص فيمن (¬3) مات على الكفر، بدلالة الأخبار الصحيحة في الشفاعة (¬4)، وقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقوله: {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم: 26] (¬5). 49 - قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} الآية. (نجيناكم): أصله على النجوة، وهي ما ارتفع واتسع من الأرض، ثم يسمى (¬6) كل فائز ناجيا، كأنه خرج من الضيق والشدة إلى الرخاء والراحة، ومنه قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92]، أي نلقيك على نجوة (¬7). وقوله تعالى: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (¬8). اختلف أهل العربية في (الآل)، ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 269، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 70 أ، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 98. (¬2) (نفى) ساقط من (ب). (¬3) في (أ)، (ج): (فمن) وأثبت ما في (ب)، لأنه الصواب. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 268، و"تفسير أبي الليث" 1/ 116، و"تفسير أبن عطية" 1/ 283، و"تفسير البغوي" 1/ 90، "زاد المسير" 1/ 76، وهذا قول أهل السنة والجماعة في الشفاعة، بخلاف قول المعتزلة الذين ينفون الشفاعة، وقد نقل الواحدي قولهم فيما سبق وعزاه لأهل "المعاني". (¬5) وفي (ج): {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} وهذه آية: 23 من يس. (¬6) في (ب): (سمى). (¬7) "تفسير الثعلبي" 1/ 70 أ، انظر: "تهذيب اللغة" (نجا) 4/ 3510، و"تفسير القرطبي" 1/ 325. (¬8) في (ب): (وقوله: لال (اختلف ..).

واشتقاقه من اللغة، وأصله. فقال جماعة: أصله (¬1) من (¬2) الأَوْل بمعنى الرجوع، فال الرجل كأنه شيعته الذين يؤولون إليه ويؤول إليهم، ومن هذا سمى السراب (آلا)، لأنه يتردد كأنه يرجع بعضه إلى بعض كالماء، وآل الرجل: شخصه، لأنه يتردد معه لا يفارقه، والآلة: الحالة (¬3) في قول الخنساء (¬4): سأَحْمِلُ نَفْسِي عَلَى آلَةٍ ... فَإِمَّا عَلَيْهَا وَإِمَّا لَهَا (¬5) لأنها تنقلب فتعود تارة إلى إنسان وتذهب تارة، هذا معنى الآل في اللغة. ثم شبه بآل الرجل أشياء تسمى بهذا الاسم وإن لم فيه معنى الأول، كعمد الخيمة (¬6) تسمى آلا، تشبيها بآل الإنسان. وآل البعير: ألواحه (¬7)، ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (وأصله) بزيادة واو، وأثبت ما في (ب)، لأنه أصح في السياق. (¬2) (من) مكررة في (ج). (¬3) انظر: "التهذيب" (آل) 1/ 185، "مقاييس اللغة" (أَوَل) 1/ 159 - 161، "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" ص 122، "اللسان" 1/ 175. (¬4) في (ج): (الخنسى الخنسا). والخنساء هي: تُماضر: بضم التاء وكسر الضاد، بنت عمرو بن الشريد بن سليم، قدمت على الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم، وأسلمت معهم. شاعرة مشهور، استحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - شعرها، وانظر ترجمتها في "الشعر والشعراء" ص213، "الإصابة" 4/ 287. (¬5) من قصيدة من غرر مراثيها في أخيها معاوية، وقيل: في رثاء صخر، وقولها: على آلة: على حالة وعلى خطة، فإما ظفرت وإما هلكت، انظر: "شرح ديوان الخنساء" ص 84، "مقاييس اللغة" (أول) 1/ 162. (¬6) انظر: "مقاييس اللغة" (أول) 1/ 161، "اللسان" (أول) 1/ 174 - 175. (¬7) في (أ)، (ج): (الوجه) وأثبت ما في (ب) لأنه موافق لما في كتب اللغة. قال ابن فارس: آل البعير ألواحه وما أشرف من أقطار جسمه "مقاييس اللغة" (أول) 1/ 161، وانظر: "اللسان" (أول) 1/ 173.

وقال (¬1) الشاعر: تَعَلَّمْتُ با جاد (¬2) وآلَ مُرَامِرٍ ... وَسَوَّدْتُ أَثْوابِي وَلَسْتُ بِكَاتِبِ (¬3) ومرامر رجل وضع الهجاء، فسمى حروف الهجاء آل مرامر. ويقال للحواميم آل حم، ومنه قول الكميت: وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ (¬4) حم آيةً ... فَأَوَّلَهَا (¬5) مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ (¬6) فعلى قول هؤلاء (¬7) تصغير الآل (أُويَلْ)، حكاه الفراء عن الكسائي (¬8)، وكان أصله همزتان، فعوضت من أحدهما مدة. ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) كذا في جميع النسخ، ومثله في "معاني القرآن" للفراء1/ 369، وفي "اللسان" (باجادا) 7/ 4178. (¬3) مرامر بن مرة رجل من طيئ، قيل: إنه أول من وضع الهجاء، وآل: حروف الهجاء، لأنه شهر بها أو لأنه سمى أولاد الثمانية بأسماء جملها. ذكر البيت الفراء في "معاني القرآن"، وقال: أنشدني الحارثي 1/ 369، وهو في "اللسان" (مرر) 7/ 4178. (¬4) كذا في جميع النسخ، وفي بعض المصادر، (حميم). (¬5) في (ب): (بأولها) والرواية المشهورة للبيت (تأولها). (¬6) البيت في ذكر بني هاشم، وكان الكميت متشيعا، يقول: وجدنا في سور (آل حميم) وهي التي أولها (حم) والآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، يقول: من تأول هذه الآية لم يسعه إلا التشيع لآل البيت، على تقية، أو على غير تقية، والمعرب: المعلن لما في نفسه، انظر: "الكتاب" 3/ 257، "المقتضب" 1/ 238، 3/ 356، "الحجة" لابن خالوية ص312، "تهذيب اللغة" (عرب) 3/ 2379، (طسن) 3/ 2192، "المخصص" 17/ 37، "اللسان": (عرب) 5/ 2865، (حمم) 2/ 1006، ولم أجده في شعر الكميت. (¬7) أي: على قول الذين قالوا: أصله (من آل يؤول أولاً) من الرجوع. (¬8) "تهذيب اللغة" (آل) 15/ 438، "المشكل" لمكي 1/ 46، و"الدر المصون" 1/ 341.

وقال أبو الفتح الموصلي (آل) (¬1) أصله: أهل، ثم أبدلت الهاء همزة، كما قيل: هَنَرْتُ الثوب (¬2) وأنَرْتُه، وإياك وهِيَّاك. فصار: (أَأْل) فلما توالت الهمزتان، أبدلت الثانية ألفا، كما قالوا: آدم وآخر، وفي الفعل: آمن ونحوه. فالألف في (آل) (¬3) بدل من بدل (¬4) من الأصل (¬5)، فجرت في ذلك مجرى التاء في القسم، فلذلك لا يستعمل (آل) في كل موضع يستعمل فيه (أهل) فلا يقال: انصرف إلى آلك، كما يقال: انصرف إلى أهلك، وكذلك لا يقال: آلك والليل، كما يقال أهلك والليل، وغير ذلك مما يطول ذكره. بل خصوا بالآل الأشرف والأخص دون الشائع الأعم، حتى لا يقال إلا في نحو قولهم القراء آل الله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد (¬6)، {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 28]، وكذلك ما أنشده أبو العباس للفرزدق: ¬

_ (¬1) في (ب): (ان). أخذ كلام أبي الفتح من "سر صناعة الأعراب" 1/ 101. (¬2) في (ب): (هيرت الثوب وايرته). قوله. (هنرت الثوب وأنزته وإياك وهياك) وردت في "سر صناعة الأعراب" 2/ 551 عند كلامه عن إبدال الهاء من الهمزة ومعنى (هنرت الثوب): جعلت له علما، ثم قلبوا الهاء همزة فقالوا: أنرت الثوب. انظر: "تهذيب اللغة" (آل) 15/ 438، "البيان" 1/ 37. (¬3) في (ج): (الال). (¬4) (بدل من) ساقط من (ب). (¬5) الألف في (آل) بدل من الهمزة، والهمزة بدل من الهاء والهاء أصل. انظر "سر صناعة الأعراب" 1/ 101. وذهب أبو جعفر النحاس إلى أن (الألف) في (آل) بدل من الهاء مباشرة، انظر: "إعراب القرآن" 1/ 172 - 1732. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 265، و"تفسير الطبري" 1/ 37.

نَجَوْتَ وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْكَ (¬1) طَلاَقَةً ... سِوى رَبِذِ (¬2) التَّقْرِيبِ مِنْ آلِ أَعْوَجَا (¬3) لأن أعوج فيهم فرس (¬4) مشهوَر، فلذلك قال: آل أعوج، ولا يقال: آل الخياط كما يقال: أهل الخياط، ولا آل الإسكاف (¬5) كما يقال: أهل الإسكاف. كما أن التاء في القسم لما كانت بدلا من بدل (¬6) وكانت فرع الفرع اختصت بأشرف الأسماء وأشهرها، وهو الله (¬7) عز اسمه. ولا يجوز أن يكون، ألف (آل) بدلا من الهاء، لأن الهاء لم تقلب ألفا في غير هذا الموضع، فيقاس (¬8) هذا عليه، وإنما تقلب الهاء همزة (¬9) كما ذكرنا (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب): (ومن يمن على). (¬2) في (ب) (زبد). (¬3) في "الديوان": (خرجت) بدل (نجوت) ومعنى (الرَّبِذ): المشي الخفيف، (التقريب): ضرب من السير يقارب فيه الخطو، (أعوج): فرس مشهور. ورد البيت في "سر صناعة الأعراب" 1/ 102، "ديوان الفرزدق" 1/ 117. (¬4) في (ب): (فرش). (¬5) (الإسكاف) نوع من الصناع، واسم لموضعين بنواحي النهروان من عمل بغداد. انظر: "القاموس" (سكف) ص 820، "معجم البلدان" 1/ 181. (¬6) قال أبو الفتح (.. فجرت في ذلك مجرى التاء في القسم، لأنها بدل من الواو فيه، والواو بدل من الباء ..) "سر صناعة الأعراب" 1/ 102. (¬7) لفظ الجلالة غير موجود في (ب). (¬8) في (ب): (فقياس). (¬9) ذكر أبو الفتح قلب الهاء همزة في "سر صناعة الأعراب" 2/ 551، ونقل الواحدي عنه بعض الجمل في هذا الموضع. (¬10) هذا آخر ما نقله المؤلف عن أبي الفتح بتصرف، "سر صناعة الأعراب" 1/ 100 - 102 والخلاصة أن في (آل) ثلاثة أقوال: 1 - أصله (أهل) أبدلت الهاء همزة، ثم أبدلت الهمزة ألفًا. =

وهذا الذي ذكره أبو الفتح مذهب البصريين، ويقولون في التصغير: (أُهَيْل) (¬1) بالهاء. فمعنى (آل فرعون) أتباعه وأهل دينه (¬2). (وفرعون) اسم لملوك العمالقة، كما يقال لملك الروم: (قيصر)، ولملك الفرس: (كسرى) ولملك الترك (خاقان) (¬3). وقال بعض أهل اللغة: فرعون بلغة القبط، وهو التمساح (¬4)، ويقال: تفرعن الرجل إذا تشبه بفرعون في سوء أفعاله (¬5). وقوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ}. (السوم) أن تُجشّم (¬6) إنساناً مشقةً وسوءاً أو ظلماً (¬7). وقال شمر: ساموهم سوء العذاب، أي: أرادوهم به. ¬

_ = 2 - أصله: (أهل) ثم قلبت الهاء ألفا من دون قلبها همزة وهو قول النحاس كما سبق. 3 - وقيل: أصله: (أأول) من (آل يؤل). انظر "البيان" 1/ 81، "الإملاء" 1/ 35، "الدر المصون" 1/ 341. (¬1) وقيل: يصغر على (أُوَيْل) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 270، "سر صناعة الأعراب" 1/ 105، "تهذيب اللغة" 15/ 438، "البيان" 1/ 81. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 270، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 100. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 270، "الكشاف" 1/ 279، "القرطبي" 1/ 327. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2777، (الرباعي من حرف العين)، قال السهيلي عن المسعودي ولا يعرف له تفسير بالعربية. "التعريف والأعلام" ص 21، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 327. (¬5) انظر: "الصحاح" (فرعن) 6/ 2177، "الكشاف" 1/ 279. (¬6) في (ج): (شجبتم). (¬7) ذكره الأزهري عن الليث، وفيه (.. أو سوءا ..) "تهذيب اللغة" (سام) 2/ 1600، "اللسان" (سوم) 4/ 2158.

وقيل: عرضوا عليهم من السوم الذي هو عرض السلعة على البيع (¬1). وقال أبو عبيدة: يسومونكم: يولونكم، يقال: سُمْته الذل، أي: أوليته إياه (¬2). و {سُوءَ العَذَابِ}: ما ساءهم، والسوء اسم جامع للآفات والدواء (¬3). والزجاج وغيره: سوء العذاب: شديد العذاب (¬4)، وقد فسره بقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَائَكُمْ}. وأصل الذبح في اللغة: الشق (¬5)، ومنه: فَأْرَةَ مِسْكٍ ذُبِحتْ فِي سُكِّ (¬6) وقال الهذلي (¬7): ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سام) 2/ 1600، "اللسان" (سوم) 4/ 2157. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 40، "تفسير الغريب" لابن قتيبة ص 48. (¬3) ذكره الأزهري عن الليث. "التهذيب" (ساء) 2/ 1583، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 271. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 100، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 70 أ، و"تفسير أبي الليث" 1/ 117، و"العمدة في غريب القرآن" لمكي ص 75. قال الطبري: وقد قال بعضهم: أشد العذاب، ولو كان ذلك معناه لقيل أسوأ العذاب. "الطبري" 1/ 271. (¬5) "تهذيب اللغة" (ذبح) 2/ 1267، "اللسان" (ذبح) 3/ 1488. (¬6) بيت من الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، وقبله: كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ يصف طيب رائحة فم امرأة. و (الفك): عظم الحنك. (فأرة المسك): الأناء الذي يكون به المسك شبه بالفأرة، (ذبحت): شقت. (في سك): نوع من الطيب. ورد في "التهذيب" (ذبح) 2/ 1268، "المخصص" 11/ 200، 13/ 39، "اللسان" (ذبح) 3/ 1486، "شرح المفصل" 4/ 138، 8/ 91، "الخزانة" 7/ 468. (¬7) هو أبو ذؤيب.

نَامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَيْلَ مُشُتَجِراً (¬1) ... كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ (¬2) أي: مشقوق. والذُبَاح والذُّبَّاح بالتخفيف والتشديد تشقق (¬3) في الرجل (¬4). ومن هذا سمى الكوكب: (سعدٌ الذَّابح)، لأنه يطلع في وقت يحدث فيه الشقاق في الرجل لأجل البرد (¬5)، ولهذا تقول العرب: إذا طلع الذابح انجحر النابح. وسمي فري الأوداج ذبحاً، لأنه نوع شقّ، والتفعيل على التكثير (¬6). و (الأبناء) جمع ابن. قال الزجاج: وأصله: بَنَا (¬7) أو بِنْوٌ، فهو يصلح ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (مستجراً) بالسين، و (فيه) والتصحيح من مصادر التخريج. (¬2) (الخلي): الذي ليس به هم. و (المشتجر): الذي قد شجر نفسه ووضع يده تحت خده ورأسه لا ينام من الهم، و (الشجر): ملتقى اللحيين، و (الصاب): شجر يخرج منه سائل مثل اللبن، إذا أصاب (العين) أحرقها، (مذبوح): مشقوق. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 120، "تهذيب اللغة" (ذبح) 2/ 1268، "اللسان" (ذبح) 3/ 1488، "شرح المفصل" 10/ 124، "الخزانة" 3/ 143. (¬3) في (أ): (تشق) و (ج): (شق)، وأثبت ما في (ب)، لأنه أصوب، وموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬4) انظر: "التهذيب" (ذبح) 2/ 1268، "اللسان" (ذبح) 3/ 1487. (¬5) في "التهذيب": (سمي ذابحًا لأن بحذائه كوكبًا صغيرًا كأنه قد ذبحه) 2/ 1269، "الصحاح" (ذبح) 2/ 44. (¬6) انظر "اللسان" (ذبح) 3/ 1485. (¬7) في "معاني القرآن" للزجاج: (والأصل كأنه إنما جمع بني وبنو ..) 1/ 101. وفي "القاموس": أصله: (بَنَى أو بَنَوٌ) "القاموس" (بنى) ص 1264.

أن يكون (فِعْل)، وبَنَا أصله يكون بَنَوَ (¬1)، وإنما صارت ألفا، لأنها سكنت لتحرك ما قبلها ثم جرتها الفتحة التي قبلها فصيرتها ألفا، ومثله: قفا ورحا. قال: فالذين قالوا: (بنون) كأنهم جمعوا (بَنا) والذين قالوا: (أبناء) كأنه جمع (بِنْوُ)، مثل: حِنْو وأحناء وقِنْو وأقناء (¬2). قال أبو علي (¬3) لا يجوز في (ابن) أن يكون وزنه (فِعْلا) لأنه لا دلالة ¬

_ (¬1) كذا ورد في (أ)، (ج)، وفي (ب): (وقال الزجاج: وأصله. بنا أو بنو فهو يصلح أن يكون فعل)، ويصلح أن يكون أصله بنو ...). ونص كلام الزجاج في (المعاني): (و (أبناءكم) جمع ابن، والأصل كأنه إنما جمع بني وبنو، ويقال: ابن بين البنوة، فهي تصلح أن تكون (فَعَل) و (فِعْل) كأن أصله بِناية، والذين قالوا: (بنون) كأنهم جمعوا (بنا) وبنون، فأبناء جمع (فَعَل) و (فِعْل) ..) 1/ 101. وقال الأزهري في "تهذيب اللغة": (وقال الزجاج (ابن) كان في الأصل: (بِنوٌ) أو (بَنَوٌ) .. ويحتمل أن يكون أصله: (بَنَيَا) ..) "تهذيب اللغة" (بنى) 1/ 396، وانظر: "الإغفال" ص 187، "المخصص" 13/ 192. وفي "الأشموني مع الصبان": أما ابن فأصله: بَنَوٌ، كقلم حذفت لامه تخفيفًا وسكن أوله وأتي بالهمز توصلًا وتعويضًا، ودليل فتح فائه قولهم في جمعه: بَنُون، وفي النسب: بَنَوِي بفتحها فيهما .. ودليل كون لامه (واوا) لا (ياء) ثلاثة أمور: أحدها: أن الغالب على ما حذف لامه الواو لا الياء. ثانيها: أنهم قالوا في مؤنثه: بنت فأبدلوها (التاء) من اللام، وإبدال التاء من الواو أكثر من إبدالها من الياء. ثالثها: قولهم: البنوة. ونقل ابن الشجري في "أماليه" أن بعضهم ذهب إلى أن المحذوف (ياء) واشتقه من بنى بامرأته يبني، لأن الابن مسبب عن بناء الأب بالأم. وهذا يدل على أن (الابن) لامه (ياء) .. وأجاز الزجاج الوجهين. انظر: "الأشموني مع حاشية الصبان" 4/ 275. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 101، نقل كلامه بتصرف، انظر التعليق السابق. (¬3) "الإغفال" ص 189، نقل الواحدي عنه طويلا، وكلام أبي علي نقله ابن سيده في "المخصص" 13/ 192.

على أن الفاء منه مكسورة، بل الدليل قد قام على أن الفاء مفتوحة، وذلك قولهم: (بَنُون) فلو كان أصله: (بِنْوٌ) لأن (أَفْعال) لا تختص بجمع (فِعْل) (¬1) بل تكون (¬2) -أيضا- جمعا لـ (فُعْل) و (فَعَل) و (فِعَل) و (فَعُل) (¬3)، و (فَعِل) نحو: بُرْد (¬4) وأَبْراد، وقَتَبٍ (¬5)، وأَقْتَاب، وعِنَب وأَعْنَاب وعَضُد وأَعْضَاد، ونَمِر وأَنْمَار، فيلزمه أن يجيز في أصله هذه الأبنية، لأنها تجمع على (أَفْعَال) كما يجمع (فِعْل)، فليس (أَفْعَال) بدليل على أن (ابن) أصله فِعْل). فأما العين فالدليل على أنها مفتوحة أيضا قولهم في جمعه (أبناء) (¬6)، و (أَفْعَال) بابه أن يكون لـ (فَعَل) (¬7) نحو: جَبَل. وليس يجب أن يعدل بالشيء عن أصله وبابه حتى يقوم دليل يسوغ ذلك، ولم نعلم شيئا دل على أن العين ساكنة من (ابن) وعلمنا أنه ينبغي أن تكون متحركة لقولهم: (أَفْعَال) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (تفتح)، وفي (الحاشية) في (ج): (يفتح) ص 189. (¬2) (فعل) ساقط من (ج). (¬3) (فعل) ساقط من (أ)، (ج) وأثبتهما كما في (ب)، والأمثلة بعدها تدل على ثبوتها، ولم ترد هذه الأوزان في كلام أبي علي وإنما ذكر بعضها قال: (.. لزمه أن يجيز في بنائه: (فعلا) و (فعلا) وغير ذلك ..) "الإغفال" ص 189. (¬4) البرد، بالضم: ثوب مخطط، جمعه أَبْراد، وأَبْردُ. "القاموس المحيط" (برد) ص 267. (¬5) القَتَبَ، والقِتْبُ: إكاف البعير. "اللسان" (قتب) 3/ 2881. (¬6) على وزن (أَفْعَال). (¬7) في (ب): (الفعل). (¬8) اختصر بعض كلام أبي علي، انظر: "الإغفال" ص 191.

ولا دلالة في قولهم: (بنت) على أن (ابنا) وزنه (فِعْل) لأن (بنتا) من (ابن) ليست كصعبة من صعب، فيحكم بأن (الفاء) من ابن مكسورة كما كان (¬1) في بنت مكسورة، لأن هذا البناء أعني: بناء (بنت) صيغ للتأنيث على غير بناء التذكير، فهو كحمراء من أحمر، غُيِّر بناء التأنيث عما كان يجب أن يكون عليه في أصل التذكير، وأبدل من الواو تاء، وألحق الاسم بِنِكْس (¬2) وجذْع وما أشبه ذلك. فأما بنات في جمع بنت فهو مما يدل على ما قلنا من أصل الفاء من (ابن) الفتح، وَرُدَّ في الجمع إلى أصل بناء المذكر، كما رد (أخت) إلى أصل بناء المذكر، فقيل: أخوات، لأن أصل المذكر من كل واحد منهما (فَعَل)، فكما ردوا الحرف الأصلي في جمع (الأخت) وهو الواو فقالوا: (أخوات)، كذلك ردت الحركة التي كانت في أصل بناء المذكر في (ابن)، وقالوا: بنات (¬3). قال أبو علي: والمحذوف من (ابن) (الواو) دون (الياء) (¬4)، الدليل على ذلك: أن المحذوف إذا أريد أن يعلم ما هو؟ نظر في التثنية أو ¬

_ (¬1) في (ب): (أن). (¬2) النِّكْس: السهم الضعيف، الذي يَنْكَّس، أو ينكسر فُوقُه فيجعل أعلاه أسفله، والنِّكسْ الرجل الضعيف، وأصله المنِّكسْ من السهام. "اللسان" (نكس) 8/ 4541. (¬3) "الإغفال" ص193 - 195. (بتصرف واختصار)، وانظر: "المخصص" 13/ 193. (¬4) في "الإغفال": (فأما قوله -أي الزجاج- في اللام المحذوفة من (ابن) إنه يحتمل عنده أن يكون واوًا أو ياءً، وأنهما عنده متساويان في الحذف، فليس الأمر -عندي- كما قال، والمحذوف (الواو) دون (الياء) ..) "الإغفال" ص 195، وانظر "المخصص" 13/ 195.

الجمع (¬1)، أو فعل مأخوذ من ذلك اللفظ، أو جمعه المكسر، فإن وُجد في أحد ذلك واو أو ياء، حكم أن المحذوف هو ما يظهر في أحد هذه الأشياء. كما حكمت بـ (إخوة) أن المحذوف من (أخ) واو (¬2)، وبـ (غدوت) أن المحذوف من (غد) واو، وبـ (دَمَيَان) أن المحذوف من (دم) ياء، وبـ (يدين) أن المحذوف من (يد) ياء. وليس في (الابن) (¬3) شيء يستدل به على أن المحذوف (ياء) أو (واو)، فوجب أن يحمل على نظيره، ونظيره (أخت)، لأنه صفة ألحقت في التأنيث بـ (قُفْل) (¬4)، كما ألحقت (بنت) بـ (عِدْل). والمحذوف من (أخت) الواو لقولهم: (إخوة) (¬5) كذلك ينبغي أن يكون المحذوف من (بنت) الواو. وأيضًا فإن التاء في (بنت) ليست علامة للتأنيث (¬6)، وإنما هي بدل من اللام، لأنها لو كانت علامة للتأنيث لانفتح ما قبلها، كما ينفتح ما قبلها في غير هذا الموضع، نحو: طلحة وحمزة وتمرة، فلما لم تنفتح (¬7) علمنا أنه بدل، وإبدال التاء من الواو كثير، كالتاء في أخت، وكذلك في كلتا (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ب): (والجمع). (¬2) (واو) ساقطة من (ب). (¬3) في (ب): (بن). (¬4) في "الإغفال" (فُعْل) ص 196، وفي "المخصص" (قُفل) 13/ 195. (¬5) استدل بجمع التكسير على أن المحذوف من (أخت) واو. (¬6) في "الإغفال": (وهذه التاء لا تخلو من أن تكون بدلا من لام الفعل، أو علامة للتأنيث، فلو كانت علامة للتأنيث لا نفتح ما قبلها ..) ص 197. (¬7) في (ب): (يفتح). (¬8) الأصل فيهما (كِلْوَا) انظر: "صناعة الإعراب" 1/ 149.

وكذلك مثّله سيبويه (¬1) بِشَرْوى. ونذكر الكلام في (كلتا) إذا انتهينا إليه إن شاء الله. فإن قيل: لو كان الأمر على ما قلتم، لقيل في جمع الأخت والبنت: أختات وبنتات، فلما حذفوا التاء في الجمع دل أنها للتأنيث، وكذلك حذفهم إياها عند النسبة إليها يدل على أنها للتأنيث، كما قالوا: طلحات وطلحي. قلنا: هذا البناء الذي وقع [إلحاق] (¬2) التاء (¬3) فيه، وإنما وقع في بناء المؤنث دون بناء المذكر، فصار البناء في الموضعين لذلك، لا لأنه للتأنيث، وغُيِّر البناء في هذين الموضعين وَرُدَّ إلى التذكير من حيث حذفت علامة (¬4) التأنيث في هذين الموضعين، لأن الصيغة قامت مقام العلامة، فكما غُيِّرت (¬5) ما فيه علامة بحذفها، كذلك غُيِّرت هذه الصيغة بردها إلى المذكر، وإذ (¬6) كانت الصيغة قد قامت مقام العلامة، فمن حيث وجب أن يقال: طَلْحَات وطَلْحِيّ، وجب أن يقال: أَخوَات وأَخَوَيّ. ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 3/ 364، وانظر: "الإغفال" ص 198، "المخصص" 13/ 195، 196. (¬2) في (أ): (الحاق) بدون إعجام، وفي ب، ج (الحاو) وفي "الإغفال" (والجواب أن هذه التاء للإلحاق كما قلنا، والدليل ما قدمنا، وإنما حذف في الإضافة وهذا الضرب من الجمع لأن هذا البناء الذي وقع الإلحاق فيه، وإنما وقع في بناء المؤنث دون المذكر ..) ص 199، "المخصص" 13/ 196. (¬3) في (ج): (التاء). (¬4) في "الإغفال": (علامات) ص 199، "المخصص" 13/ 196. (¬5) في "الإغفال": (غير) ص 199، ومثله في "المخصص" 13/ 196 (¬6) في (ب): (إذا).

وتعقب أبو الفتح هذه المسألة (¬1) وزاد بياناً فقال: قد أبدلت التاء من الواو (لاماً) في: أخت وبنت، وأصلهما أخوة وبِنْوَة، فنقلوا، ووزنهما (¬2): (فَعَل) إلى (فُعْل) و (فِعل) وألحقوهما بالتاء (¬3) المبدلة من لامهما (¬4) بوزن (قُفْل) و (حِلْس)، فقالوا: أخت وبنت، وليست التاء فيهما بعلامة التأنيث كما يظن من لا خبرة له بهذا الشأن، لسكون ما قبلها، هكذا مذهب سيبويه، وهو الصحيح، وقد نص عليه في باب مالا ينصرف، فقال: لو سميت بهما رجلا لصرفتهما معرفة، ولو كانت للتأنيث لما أنصرف الاسم (¬5). وعلامة التأنيث في الأخت والبنت صيغتهما (¬6) وهو بناؤهما على ¬

_ (¬1) تكلم أبو الفتح ابن جني عن هذه المسألة في كتاب "سر صناعة الأعراب" أثناء كلامه عن إبدال التاء من الواو، وقد تصرف الواحدي في كلامه واستل منه ما يناسب هذا المبحث. انظر: "سر صناعة الأعراب" 1/ 149. (¬2) في (ب): (ووزنها). هكذا ورد في جميع النسخ، وفيه غموض، والنص في "سر صناعة الأعراب" (.. فنقلوا أخوة وبنوة، ووزنهما (فَعَلٌ) إلى (فُعْل) و (فِعْل) ..) "سر صناعة الأعراب" 1/ 149. (¬3) في (ب): (المبدلة). (¬4) في (ب): (لامها) وهو الثابت في صلب "سر صناعة الأعراب"، وفي الحاشية (ب) (لامهما) "سر صناعة الأعراب" 1/ 149. (¬5) انظر: "الكتاب" 3/ 221، 361 - 364، "سر صناعة الأعراب" 1/ 149. (¬6) هذا جواب سؤال أثاره أبو الفتح قال: (فإن قيل: فما علامة التأنيث في أخت وبنت؟) فأجاب عنه بما نقله الواحدي هنا. انظر: "سر صناعة الأعراب" 1/ 150.

(فُعْل) و (فِعْل) وأصلهما (فَعَل) وإبدال الواو فيهما لاما، وهذا عمل اختص به المؤنث، لأنه لم يوجد إلا في هذين وفي كلتا (¬1)، ويدل أيضا على إقامتهم (البنت) (¬2) مقام ما فيه (¬3) العلامة الصريحة، وتعاقبهما على الكلمة الواحدة، وذلك نحو: ابنة وبنت، فالصيغة في (بنت) قامت مقام (الهاء) في ابنة، فكما أن (الهاء) علم تأنيث لا محالة، وكذلك صيغة (بنت) علم تأنيث لا محالة، وليس (ابن) من (بنت)، كصعب من صعبة (¬4)، إنما نظير صعبة من صعب ابنة من ابن. ويدل على أن (ابن) (¬5) و (أخ) (فَعَل) مفتوحة، جمعهم إياهما على أَفْعَال نحو أبناء وآخاء، حكى سيبويه (¬6) (آخاء) عن يونس. قال أبو إسحاق: والأخفش يختار أن يكون المحذوف من ابن (الواو). قال (¬7): والبُنُوَّة (¬8) ليس بشاهد قاطع للواو، لأنهم يقولون: الفُتُوَّة، ¬

_ (¬1) قوله: (لأنه لم يوجد في هذين وفي كلتا) ليس من كلام أبي الفتح في "سر صناعة الأعراب" 1/ 150. (¬2) في "سر صناعة الإعراب" (إقامتهم إياه مقام ..) 1/ 150. (¬3) في (ب): (ما في). (¬4) في "سر صناعة الإعراب": (وليس بنت من ابن كصعبة من صعب ..) "سر صناعة الإعراب" 1/ 150. (¬5) كذا في جميع النسخ، وفي "سر صناعة الإعراب" (أن أخا وابنا) وفي الحاشية: (في ش: أن أخ وابن) 1/ 150. (¬6) "الكتاب" 3/ 363، "سر صناعة الإعراب" 1/ 150. (¬7) أي أبو إسحاق. (¬8) في (أ) , (ج): (البنُو) وأثبت ما في (ب) لأنه موافق لما في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 102.

والتثنية (¬1): فتيان، فابن يجوز أن يكون المحذوف منه (الواو) (¬2) و (الياء)، وهما عندنا متساويان. وأبو علي ينكر أن يكون المحذوف الياء دون الواو (¬3)، وقد دل فيما ذكرنا من كلامه أن المحذوف هو الواو. فأما إدخال ألف الوصل في (ابن)، فإنما أدخلت كما أدخلت في الاسم، وقد فرغنا منه في أول الكتاب (¬4). قوله تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائَكُمْ}. (يستحيون) يستفعلون من الحياة، ومعناه: يَسْتَبْقُونهن (¬5)، ولا يقتلونهن (¬6)، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" (¬7). واسم النساء يقع على الكبار والصغار، وذلك أنهم كانوا يستبقون البنات (¬8) لا يقتلونهن. ¬

_ (¬1) (والواو) ساقطة من (ب). (¬2) في "معاني للزجاج": (الواو) أو (الياء) 1/ 102. (¬3) قال أبو علي: (ما أعلم الأخفش نص على هذه المسألة، أن الاختيار عنده أن يكون (الواو)، وأنه يجيز أن المحذوف الياء ..) "الإغفال" ص 202 - 203. (¬4) انظر ما سبق في أول تفسير الفاتحة. (¬5) في (ب): (يستبقوهن). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 372، و"الثعلبي" 1/ 70 ب، "زاد المسير" 1/ 78، وذكر الطبري عن أبي العالية وضعفه: (يستحيون) يسترقون. "الطبري" 1/ 372. (¬7) أخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب، وفيه (استبقوا) بدل (استحيوا) انظر: "سنن أبي داود" 2670 كتاب (الجهاد)، باب (في قتل النساء)، والترمذي (1583) أبواب (السير) باب (ما جاء في النزول عن الحكم) وفيه: الشرخ: الغلمان الذين لم ينبتوا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. عارضه الأحوزي وأخرجه أحمد في "مسنده" 5/ 12، 20. ورمز السيوطي له بالصحة في "الجامع الصغير". انظر: "فيض القدير شرح الجامع" 2/ 76. (¬8) في (ب): (جميع البنات).

وقيل: سمى البنات نساء على تقدير أنهن يكن نساء، وقيل: جمع الكبار والصغار بلفظ النساء، لأنهم كانوا يستبقون جميع (¬1) الإناث، فجرى اللفظ على التغليب كما يطلق الرجال على الذكور وإن كان فيهم صغار (¬2). فإن قيل: فما في استحياء النساء من سوء العذاب؟ قيل: إن استحياء النساء على ما كانوا يعملون بهن أشد في المحنة من قتلهن، لأنهن يستعبدن وينكحن على الاسترقاق، والاستبقاء للإذلال استبقاء محنة (¬3). قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. البلاء: اسم ممدود من البلو، وهو الاختبار والتجربة (¬4). يقال: بَلاَه يَبْلُوه بَلْواً إذا جَرَّبَه، وَبَلاَه يَبْلُوهُ بَلْواً إذا ابتلاه الله ببلاء (¬5). قال أبو الهيثم: البلاء يكون حسنا ويكون سيئا، وأصله: المحنة، والله عز وجل يبلو عباده بالصنيع الحسن، ليمتحن شكرهم عليه، ويبلوهم بالبلوى الذي يكرهون، ليمتحن صبرهم، فقيل للحسن: بلاء، وللسيئ: بلاء (¬6) لأن أصلهما: المحنة، ومنه قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} ¬

_ (¬1) (جميع) ساقط من (ب). (¬2) واختار هذا الوجه ابن جرير في "تفسيره" 1/ 274، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 286، " القرطبي" 1/ 330، "البحر" 1/ 164. (¬3) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 286، "زاد المسير" 1/ 78، "الرازي" 1/ 68، "البحر" 1/ 19. (¬4) انظر: "التهذيب" (بلا) 1/ 379، "اللسان" (بلا) 1/ 355. (¬5) ذكره الأزهري عن الأصمعي. "التهذيب" (بلا) 1/ 379. (¬6) ذكره الهروي عن أبي الهيثم، ولفظه: (يبلو عبده) بلفظ المفرد "الغريبين" 1/ 209، 210، وذكره القرطبي في "تفسيره" عن الهروي 1/ 330.

[الأعراف: 168]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬1) [الأنبياء: 35]، وقال في الخير: بلاه الله، وأبلاه (¬2). قال زهير: (¬3) جَزى اللهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُم ... وَأَبلاَهُمَا خَيْرَ البَلاَءِ الذي يَبْلُو (¬4) أي: صنع بهما خير الصنيع الذي يبلو به عباده (¬5). قال الليث: ويقال من الشر أيضا يُبْلِيه إِبْلاَء (¬6). والذي في هذه الآية يحتمل الوجيهن، فإن حملته على الشدة، كان معناه: في أستحياء البنات للخدمة وذبح البنين بلاء ومحنة (¬7). وهو قول ابن ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ب) (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 275، "الصحاح" (بلا) 6/ 2285. (¬3) في (ج): (زهير بن جناب). (¬4) من قصيدة لزهير يمدح سناد بن أبي حارثة ويروى بالديوان (رأى الله) ورد البيت في: "معانى القرآن" للزجاج 1/ 102، "التهذيب" (بلا) 1/ 379، "الصحاح" (بلا) 6/ 2285, "اللسان" (بلا) 1/ 355, "الخصائص" 1/ 137, و"القرطبي" 1/ 330, و"الرازي" 3/ 70, و"ابن كثير" 1/ 96, "الدر المصون" 1/ 348, "فتح القدير" 1/ 131, "شرح ديوان زهير" ص 109. (¬5) "تهذيب اللغة" (بلا) 1/ 379. (¬6) في "تهذيب اللغة" عن الليث: (الله يبلى العبد بلاءً حسنًا, ويبليه بلاءً سيئًا, (بلا) 1/ 379, قال الطبري: الأكثر في الشر أن يقال: (بلوته أبلوه بلاء) وفي الخير: (أَبْلَيْته أُبْلِيه إِبْلاَءً وبَلاَءً). (¬7) ذكره أبو الليث في "تفسيره" 1/ 117, وابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 348, و"الثعلبي" 1/ 70 ب, و"الكشاف" 1/ 279, و"البغوي" 1/ 91, "زاد المسير" 1/ 78, و"الرازي" 3/ 70, و"القرطبي" 1/ 330, ونسبة للجمهور, و"ابن كثير" 1/ 97, و"البيضاوي" 1/ 25, و"النسفي" 1/ 43, و"الخازن" 1/ 121.

50

عباس من رواية عطاء والكلبي (¬1). وإن حملته على النعمة، كان المعنى: وفي (¬2) تنجيتكم من هذه المحن نعمة عظيمة، وهو قول مجاهد والسدي (¬3)، ومثل هذا في احتمال الوجهين، قوله في قصة إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]. 50 - قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} وذلك (¬4) أن الله تعالى فرق ¬

_ (¬1) أخرج الطبري في "تفسيره" بسنده عن عكرمة عن ابن عباس نحوه 1/ 272، ولم أجده من طريق عطاء والكلبي. (¬2) (الواو) ساقطة من (ب). (¬3) ذكره ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعن السدي، وعن مجاهد، وعن ابن جريح. "تفسير الطبري" 2/ 274، و"ابن أبي حاتم" 1/ 106، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 102، وابن قتيبة في "الغريب" ص 40، ورجح هذا القول الرازي في "تفسيره" 3/ 70. انظر: "تفسير القرطبي" 1/ 330، و"ابن كثير" 1/ 96. (¬4) في هوامش نسخة (أ) زيادة من الكاتب صدرها بقوله (ش من ك) أي شرح من الكاتب، وهي في جميع المواضيع منقولة بنصها من "الكشاف" للزمخشري، وأثبت ما ذكره في هذا الموضع للاطلاع والفائدة: (ش من ك. فرقنا: فصلنا بين بعضه وبعض، حتى صار فيه مسالك لكم، وقرئ (فرَّقنا) بمعنى: فصلنا. يقال: فرق بين الشيئين، وفرق بين الأشياء، لأن المسالك كانت اثني عشر، على عدد الأسباط. وأما (بكم) ففيه أوجه: أن يراد كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما. وأن يراد فرقناه بسببكم، وبسبب إنجائكم. وأن يكون في موضع الحال، بمعنى: فرقناه ملتبسا بكم كقوله: تدوس بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا أي: تدرسها ونحن راكبوها. انتهى تعليق الكاتب، والكلام بنصه في "الكشاف" 1/ 280.

البحر اثني عشر طريقا، حتى خاض بنو إسرائيل، وكان (¬1) ذلك فرقا بهم، لأنهم كانوا حشو البحر، والماء منفصل بعضه عن بعض، وهم يمرون فيما بينه (¬2). وأما (البحر) فقال الليث: سمي بحراً لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه، ويقال: استبحر فلان في العلم، إذا اتسع فيه، وتبحر الراعي في رعي كثير، وتبحر فلان في المال (¬3). وقال غيره: سمي البحر بحراً، لأنه شق في الأرض، والبحر: الشق (¬4)، ومنه البحِيرَة (¬5). ¬

_ = قوله: وقرئ (فرَّقنا): بها قرأ الزهري، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 288، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 330، "البحر" 1/ 197. - وقوله: (تدوس بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا): البيت للمتنبي، وصدره: فَمَرَّتْ غَيْرَ نَافِرَةٍ عَلَيْهِم و (التريبا): لغة في التراب. انظر: "ديوان المتنبي شرح العكبري" 1/ 138، "الكشاف" 1/ 506، "البحر" 1/ 127، "الدر المصون" 1/ 349. (¬1) (كان) ساقط من (ج). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 275، و"أبي الليث" 1/ 117، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 103، و"تفسير ابن عطية" 1/ 228. (¬3) "تهذيب اللغة" (بحر) 1/ 282. (¬4) ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" (بحر) 1/ 282. (¬5) قال الأزهري: قال أبو إسحاق النحوي: وأثبت ما روينا عن أهل اللغة في البَحِيرَة: أنها الناقة، كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أي: شقوها، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل، والذبح، ولا تُحَلَّأ عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المُعْيي المنقطع به لم يركبها. "تهذيب اللغة" (بحر) 1/ 282، وانظر: "اللسان" (بحر) 1/ 215.

أبو عبيد، عن الأموي (¬1): أن البحر: هو الملح (¬2)، ويقال: أبحر الماء، أي صار ملحا (¬3). قال نُصَيْب (¬4): وَقَدْ عَادَ مَاءُ الأَرْضِ بَحْراً فَرَدَّنِي ... إِلَى مَرَضِى أَنْ أَبْحَرَ المَشْربُ العَذْبُ (¬5) وقوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}. ولم يذكر غرق فرعون نفسه، لأنه قد ذكره في مواضع كقوله: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103]. ويجوز أن يريد بآل فرعون نفسه (¬6)، وبيان هذا (¬7) يذكر عند قوله: {مِمَّا ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، القرشي، الأموي، كان متمكنا في علم النحو واللغة، وكان ثقة، حكى عنه أبو عبيد كثيرا، مات بعد سنة ثلاث ومائتين. انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 470، "الأنساب" 1/ 350، "إنباه الرواة" 2/ 120. (¬2) في (ب): (إن الماء البحر) وفي "تهذيب اللغة": (والماء البحر هو الملح) 1/ 282. (¬3) "تهذيب اللغة" (بحر) 1/ 282، وانظر: "الغريبين" 1/ 134. (¬4) هو نُصَيب بن رباح مولى عبد العزيز بن مروان، شاعر من فحول الشعراء الإسلاميين، انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص260، "معجم الأدباء" 19/ 228. (¬5) ورد البيت في "تهذيب اللغة" (بحر) 1/ 282، "الصحاح" (بحر) 2/ 585، "مقاييس اللغة" (بحر) 1/ 215، "الغريبين" 1/ 134، "مفردات الراغب" ص 37، "اللسان" (بحر) 1/ 215، "فتح القدير" 1/ 132، وفي أكثر المصادر: (فزادني) بدل: (فردني). (¬6) في (ب): (عن نفسه). أو يدخل معهم، ووجوده معهم مستقر ومعلوم. انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 117، "زاد المسير" 1/ 78، "البحر" 1/ 198. (¬7) أي أنه يطلق (آل فرعون) ويراد به نفسه كما في (آل موسى).

51

تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، إن شاء الله. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}. وذلك أنهم لما خرجوا من (¬1) البحر رأوا انطباق البحر على فرعون وقومه. وقال محمد بن جرير: (وأنتم تنظرون) إلى فرق الله البحر وإنجائكم من عدوكم (¬2). 51 - قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الآية. يقال: وَعَدْتُه وَعْدَا وعِدَةً (¬3) وَموْعِداً وَموْعِدةً (¬4)، قال الله: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]، وقال: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]. ويقال: وعدني الخير والشر (¬5)، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [طه: 86] {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72]. فأما الإيعاد فهو في التهديد. قال الشاعر: أَوْعَدَنِي بِالسِّجْنِ والْأَداَهِمِ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ب): (عن). (¬2) وهذا على تفسير (النظر) هنا بالمشاهدة، وقد قال بعضهم: إنه بمعنى العلم، كالفراء ورد عليه ابن جرير هذا. انظر: "الطبري" 1/ 278، "معاني القرآن" للفراء 1/ 36، "تفسير أبي الليث" 1/ 118، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 103. (¬3) في (أ): (وعدء) وأثبت ما في (ب)، (ج) لأنه الصواب. (¬4) الكلام عن لفظ (وعد) واشتقاقه واستعمالاته نقله عن "الحجة" لأبي علي 2/ 56، وانظر: "تهذيب اللغة" (وعد) 4/ 3915، "اللسان" 8/ 4871. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (وعد) 4/ 3915. (¬6) في (ب): (الاداهمى). البيت لعُدَيْل بن الفَرْخ، وبعده: رِجْلِي وَرِجْلِي شثنة المْنَاَسِمِ الأداهم: جمع أدهم، وهو القيد، شثنة: غليظة، المناسم: طرف خف البعير استعارة للإنسان. ورد البيت في "الحجة" لأبي علي 2/ 57، وفي كتب اللغة مادة =

والوعيد كالإيعاد، قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] وأكثر ما يستعمل الإيعاد بالباء (¬1)، فيقال: أوعدته بالشر، ويجوز أن تقول (¬2) أوعدته، من غير ذكر الشر، ولا يكون إلا في الشر (¬3). والميعاد من: الوعد (¬4) [لأنه لم يرد في الخير (¬5)، ولذلك قلنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، (¬6) ويجوز أن يخلف الوعيد فيكون ذلك منه كرما (¬7). و (الوعد) (¬8) يتعدى إلى مفعولين، ويجوز أن يقتصر على أحدهما كأعطيت، وليس كظننت، قال الله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه: 80]، فـ (جانب) مفعول ثان، ولا يكون ظرفا لاختصاصه (¬9)، والتقدير: ¬

_ = (وعد) في "تهذيب اللغة" 4/ 3915، "الصحاح" 2/ 551، "المحكم" 2/ 137، "مقاييس اللغة" 3/ 134، "اللسان"، 8/ 4871، وفي "معاني القرآن" للفراء 1/ 197، "الحروف" لابن السكيت ص 97، "الهمع" 5/ 217، "شرح المفصل" 3/ 70، "شرح ابن عقيل" 3/ 251، "الخزانة" 5/ 188، "شرح شذور الذهب" ص 524. (¬1) في (ب)، (ج): (بالياء). (¬2) في (أ)، (ج) (يقول) ما في (ب) أنسب للسياق. (¬3) ذكره أبو علي عن أحمد بن يحيى، "الحجة" 2/ 57، وانظر "تهذيب اللغة" (وعد) 4/ 3915. (¬4) في (ب): (الوعيد). (¬5) في (أ): (الخبر) وما في (ب)، (ج) هو الصواب. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) اختصر كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 2/ 57، 58، وسياق أبي علي أوضح. (¬8) في (ب): (الوعيد) وفي "الحجة": (وعدت) فعل يتعدى إلى مفعولين ...) 2/ 59. (¬9) ولا يسمى ظرفًا في اصطلاح النحويين، وانما يسمى اسم مكان فقط، لأن =

وعدناكم إتيانه أو مكثًا (¬1) فيه. [وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة: 9] (¬2) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] (¬3) فإن الفعل لم يعد منه (¬4) إلى مفعول ثان، وقوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} و {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسير للوعد وتبيين له كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فقوله: {لِلذَّكَرِ} تبيين للوصية، وليس بمفعول ثان، وقوله (¬5): {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [طه: 86] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون انتصاب الوعد بالمصدر. ويجوز أن يكون انتصابه بأنه المفعول الثاني. وسمي الموعود به وعدا (¬6)، كما سمي المخلوق خلقاً. ¬

_ = الظرف الاصطلاحي: هو الذي يتضمن معنى: لفظا أو تقريرا، فالوعد وقع على الجانب ولم يقع فيه، بمعنى الموعد به هو الجانب نفسه لا شيء آخر يكون فيه، وهذا يسمى مفعولا به ولا يسمى ظرفا على الراجح. انظر: "الأشموني مع حاشية الصبان" 2/ 126. والظرف المختص من المكان ماله صورة وحدود محصورة نحو الدار والمسجد، والظرف غير المختص من المكان وهو المبهم، ما ليس كذلك نحو الجهات الست. انظر: "حاشية الصبان على الأشموني" 2/ 129، "وحاشية الخضري على شرح ابن عقيل" 1/ 198. (¬1) في (ج): (سكنا). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) (منكم) سقط من (أ)، (ج). (¬4) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة" (فيه) 2/ 60. (¬5) في "الحجة": وأما قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ} ..) 2/ 60. (¬6) في "الحجة": (الوعد) 2/ 60.

وقوله (¬1): {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] فـ {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} في موضح نصب بأنه المفعول الثاني و {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل منه، والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين أو ملكها (¬2). فأما قوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (¬3) فتعلق (الأربعين) بالوعد على أنه المفعول الثاني لا بالظرف، لأن الوعد لم يكن في جميع الأربعين كلها، ولا في بعضها، وإنما الوعد تقضي الأربعين، والتقدير: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة أو تتمة أربعين ليلة، فحذفت المضاف، كما تقول: اليوم خمسة عشر من (¬4) الشهر، أي تمامه (¬5). ويكون في الكلام محذوف به يتم (¬6) المعنى، كأنه قال: وعدناه انقضاء أربعين ليلة للتكلم (¬7) معه، أو لإيتائه التوراة أو ما أشبه هذا. ¬

_ (¬1) في "الحجة": (وأما قوله: ..) 2/ 61. (¬2) "الحجة" 2/ 61. (¬3) في (ب): (وعدنا). (¬4) في (ج): (ض). (¬5) "الحجة" 2/ 64، 65، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 264، "المشكل" لمكي 1/ 47، "الإملاء" 1/ 36، "البحر" 1/ 199، وقد ذكر الطبري هذا القول، ثم رده، ورجح: أن الأربعين كلها داخلة في الميعاد، قال: (وقد زعم بعض نحويي البصرة: أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أي رأس الأربعين ....). ثم قال: (وذلك خلاف ما جاءت الرواية عن أهل التأويل، وخلاف ظاهر التلاوة ..) الطبري 1/ 280. ونحوه قال ابن عطية: (وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد) "تفسير ابن عطية" 1/ 292، وانظر: "القرطبي" 1/ 337. (¬6) في (ب): (تم). (¬7) في (ب): (للمتكلم).

واختلف القراء في قوله تعالى: {وَاعَدْنَا} فقرأ أكثرهم (¬1) بالألف من المواعدة، لأن ما كان من موسى من قبول الوعد والتحري لإنجازه والوفاء به يقوم مقام الوعد، وإذا كان كذلك حسن القراءة بـ (واعدنا) لثبات التواعد من الفاعلين، كما قال: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (¬2) [البقرة: 235] و-أيضا- فإن المفاعلة قد تقع من الواحد كسافر، وعافاه الله (¬3)، وقد مر (¬4). وقرأ أبو عمرو (¬5) (وعدنا) لكثرة ما جاء في القرآن من هذا القبيل بغير ألف، كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} (¬6)، {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [طه: 86]، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 7]، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22]، {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ} [الفتح: 20]، فرد المختلف في إلى المتفق عليه (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ أبو عمرو بغير ألف ووافقه من العشرة أبو جعفر ويعقوب, والباقون بالألف انظر: "السبعة" ص 155, "الحجة" لأبي علي 2/ 56, "التيسير" ص73, "التبصرة" ص25, "الغاية" ص 101, "النشر" 2/ 212, "تحبير التيسير" ص87. (¬2) (لكن) ساقط من (أ) و (ج) تصحيف في الآية. (¬3) قال أبو علي: (.. فإذا كان الوعد من الله سبحانه, ولم يكن من موسى, كان من هذا الباب) "الحجة" 2/ 67. (¬4) مر في تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] , وانظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 66, "حجة القراءات" لابن زنجلة: ص96, "الحجة" لابن خالويه: ص77, "الكشف" لمكي 1/ 240. (¬5) في (ب): (أبو عمر). (¬6) المائدة:9, والنور: 55, والفتح:29. (¬7) "الحجة" لأبي علي 2/ 67. وقال ابن زنجلة: وحجة أن المواعدة إنما تكون بين الآدميين. "حجة القراءات": ص96, انظر: "الحجة" لابن خالويه: ص77, =

وأما (أربعين) فقال أبو الفتح الموصلي (¬1): إن العقود من (عشرين) إلى (تسعين) كأن (عشرين) جمع (عِشْر)، و (ثلاثين) جمع (ثلاث)، و (أربعين) جمع (أربع). وليس الأمر كذلك؛ لأن (العِشْر) غير معروف إلا في أظماء الإبل (¬2)، ولو كان (ثلاثون) جمع (ثلاثة) (¬3) لوجب أن يستعمل في (تسعة) وفي (اثني عشر) وفي كل عدد الواحد من تثليثها (ثلاث) (¬4). وكذلك القول في (أربعين) و (خمسين) إلى (التسعين) فقد ثبت بهذا أن (أربعين) ليس جمع (أربع) وكذلك سائر العقود، ولكنه جار مجرى (فلسطين) و (قِنَّسْرين) (¬5) في أنه اسم واحد لهذا العدد المخصوص (¬6)، ¬

_ = "الكشف" لمكي 1/ 239، قال الطبري: (.. والصواب عندنا في ذلك من القول: أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القَرَأة، وليس في القراءة بأحدهما إبطال معنى الأخرى ..) ثم رد على من قال: إنما تكون المواعدة بين البشر. "تفسير الطبري" 1/ 279. (¬1) "سر صناعة الأعراب" 2/ 626. (¬2) (العِشْر) بكسر العين خاص بورود الإبل اليوم العاشر أو التاسع. انظر: "القاموس" (عشر): ص 440. (¬3) في "سر صناعة الأعراب": (ثلاث) 2/ 626 (¬4) في "سر صناعة الأعراب": (.. لوجب أن يستعمل في (تسعة) وفي (اثني عشر) وفي (خمسة عشر) وكذلك إلى (سبعة) ولجاز أن يتجاوز به إلى ما فوق الثلاثين من الأعداد التي الواحد من تثليثها فوق العشرة ..) 2/ 626. (¬5) (قِنَّسْرين) بكسر أوله وفتح ثانيه وتشديده، مدينة بالشام. انظر: "معجم البلدان" 4/ 403. (¬6) نص عبارة أبي الفتح: (فقد ثبت بهذا أن (ثلاثين) ليس جمع (ثلاث) وأن (أربعين) ليس جمع (أربع)، ولكنه جرى مجرى (فلسطين) في أن اعتقد له واحد مقدر وإن لم يجر به استعمال فكأن (ثلاثين) جمع (ثلاث) و (ثلاث) جماعة فكأنه قد كان ينبغي أن تكون فيه (الهاء) ..) "سر صناعة الأعراب" 2/ 626.

ولكنه أشبه في الظاهر أنه جمع (أربع) ولو اعتقد له واحد مفرد وإن لم يجز به استعمال كان (أربعا)، (أربع) جماعة فكأنه قد كان ينبغي أن يكون فيه (الهاء) فعوض من ذلك (¬1) الجمع بالواو والنون، وعاد الأمر فيه إلى قصة (أرض) و (¬2) (أرضون) (¬3)، وقد ذكرنا الكلام فيه (¬4). وقال غيره: إنما جمعوا (¬5) بالواو والنون، لأنه يقع على ما يعقل وعلى ما لا يعقل، وإذا اجتمعا فالذي يعقل أولى بالغلبة، فجمعوه جمع ما يعقل. وقوله تعالى: {لَيْلَةً} (¬6) ولم يقل: (يوما) لأن عدد الشهور (¬7) يحسب من لياليها، وشهور العرب وضعت على سير القمر، والهلال يهل بالليل (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (هذا). (¬2) (الواو) ساقطة من (ب). (¬3) انتهى ما نقله عن أبي الفتح ابن جني الموصلي بتصرف. انظر: "سر صناعة الأعراب" 2/ 626، 627. ورأي أبي الفتح أن (أربعين) يجري مجرى جمع المذكر السالم فيعرب بالحروف، وهذا قول بعض النحويين، ومنهم في قال: يعرب بالحركات. انظر: "المقتضب" 3/ 332، "الخزانة" 8/ 67، "الدر المصون" 1/ 353. (¬4) (فيه) ساقط من (ج). والكلام في: (أرض) و (أرضون) ذكره في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]. (¬5) في (ب): (واجمعوا). (¬6) (ليلة) ساقط من (ج). (¬7) في (ج): (الشهر). (¬8) "تفسير الثعلبي" 1/ 70 ب. وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 291، "تفسير البغوي" 1/ 94، "زاد المسير" 1/ 80، "تفسير القرطبي" 1/ 337.

وقوله (¬1) تعالى: {ثُمَّ أتَّخَذتُمُ العِجلَ}. يقال: اتّخذ يتّخذ، وتَخِذَ يتخذ (¬2)، قال الله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] (¬3). قال الشاعر (¬4): وقد تخِذَتْ رجلي إلى جنب غَرزها ... نسيفاً كأُفحوص (¬5) القطاة المطرِّقِ (¬6) و (تخذ) (¬7) من (اتخذ) مثل تقي من اتقى وقد مرّ (¬8). ¬

_ (¬1) في (ج): (له تعالى). (¬2) (يتخذ) بسكون التاء، وفتح الخاء، كذا في "تهذيب اللغة" (أخذ) 7/ 530، "مجالس العلماء" للزجاجي: ص 333، "اللسان" (أخذ) 3/ 374، وانظر "الحجة" لأبي علي 2/ 68. (¬3) الكهف: 77، والاستشهاد بالآية ورد في "الحجة" على قراءة أبي عمرو وابن كثير (لتخذت) كما هنا. انظر "الحجة" 2/ 68، "السبعة" لابن مجاهد ص 396، "تهذيب اللغة" (أخذ) 1/ 129. (¬4) هو الممزق العبدي، واسمه شأس بن نهار. (¬5) في (ج): (كما نحوص). (¬6) قوله: غرزها: الغرز للناقة مثل الحزام للفرس، و (النسيف): أثر ركض الرجل بجبني البعير، و (الأفحوص): المبيض، و (المطرِّق): وصف للقطاة، إذا حان خروج بيضها. ورد البيت في "الحجة" 2/ 68، "الأصمعيات" ص165، "تهذيب اللغة" (نسف) 4/ 3562، "الخصائص" 2/ 287، "مجالس العلماء" للزجاجي ص 333، "المخصص" 1/ 21، 8/ 125، 12/ 272، 16/ 97، 134، 17/ 22، "التكملة": ص117، "اللسان" (حدب) 2/ 796، و (فحص) 6/ 3356، و (طرق) 5/ 2666، و (نسف) 7/ 4411. (¬7) قال أبو علي: (اتخذ): افتعل، فعلت منه: تخذت ..) ولم أعلم (تخذت) تعدى إلا إلى مفعول واحد. "الحجة" 2/ 68. قال ابن عطية: (اتخذ وزنه: افتعل من الأخذ، وقال أبو علي: هو من تخذ لا من أخذ 1/ 216، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 338 - 339، "الدر المصون" 1/ 354. (¬8) مر في تفسير قوله تعالى: {هُدًى للِمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

وأما (اتخذ) فإنه على ضربين (¬1): أحدهما: أن يتعدى إلى مفعول واحد. والثاني: أن يتعدى إلى مفعولين. فأما تعديه إلى واحد فكقوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] و {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان: 3] (¬2)، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17]. وأما تعديه إلى مفعولين، فإن الثاني منهما هو الأول في المعنى، كقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (¬3) وقال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110]. ونظير (اتخذت) في تعديه إلى مفعول واحد مرة، وإلى مفعولين: (الجعل) (¬4) قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] أي: خلقهما (¬5)، فإذا تعدى إلى مفعولين كان الثاني الأول في المعنى، قال: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} ¬

_ (¬1) نقله من "الحجة" لأبي علي 2/ 68. وانظر: "البحر" 1/ 200، "الدر المصون" 1/ 354. (¬2) وفي "الحجة" ذكر قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم:81] [يس: 74]. (¬3) المجادلة: 16، المنافقون: 2. (¬4) في (ب): (أنجعل) وفي "الحجة": (جعلت) 2/ 69. (¬5) في (ب): (خلقها). والمؤلف يشير بقوله (خلقها) إلى أن (جعل) التي تتعدى إلى مفعول واحد هي التي بمعنى: خلق، أو أوجب، أو وجب، وهي تتعدى إلى مفعول واحد بنفسها. وإلى الثاني بحرف الجر. وأما التي تتعدى إلى مفعولين فهي التي بمعنى: (اعتقد) و (صير). انظر: "الأشموني مع حاشية الصبان" 2/ 23.

[يونس: 87]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 41]. فأما قوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 51] وقوله: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54]، {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الأعراف: 152]، فالتقدير في هذا كله: (اتخذوه إلها) فحذف المفعول الثاني (¬1). الدليل على ذلك أنه لو كان على ظاهره، لكان من صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال، استحق الغضب من الله (¬2)، لقوله: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} [الأعراف: 152]. و (الاتخاذ) أصله: (اأتخاذ) (¬3)، فلما التقى الهمزة التي هي الفاء مع همزة الوصل لينت فصارت (ياء) لانكسار ما قبلها، فأدغمت في (تاء) (¬4) الافتعال كقولهم: اتسروا الجزور (¬5)، وإنما هو من الميسر واليسر (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (لي الثاني). (¬2) تابع الواحدي أبا علي في قوله: (.. أنه لو كان على ظاهره، لكان من صاغ عجلًا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال، استحق الغضب من الله)، وكأن فاعل ذلك لا يستحق العقوبة على تصوير المجسمات من ذوات الأرواح، الذي هو محرم عند جمهور العلماء، وإنما وقع الخلاف بينهم في الصور غير المجسمة. أما أبو علي فلا يرى تحريم ذلك كله، ويحمل الأحاديث الواردة في وعيد المصورين على المشبهة -حسب زعمه- قال في "الحجة" 2/ 71: (.. قيل: يعذب المصورون، يكون على من صور الله تصوير الأجسام، وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التي لا توجب العلم). وقد تعقبه ابن حجر ورد عليه قوله، انظر: "فتح الباري" 10/ 384. (¬3) (اأتخاد) ساقط من (ب)، وفي (ج): (اتخاذ). (¬4) في (ب): (ياء). (¬5) اتسروا الجزور: إذا نحروها واقتسموها. (القاموس) (يسر): ص 500. (¬6) أورد أبو علي هذا القول ورده، لأن أصله عنده (تخذ) لا (اخذ). انظر: "الحجة" 2/ 71، "تفسير ابن عطية" 1/ 292، "تفسير القرطبي" 1/ 339، "الدر المصون" 1/ 354.

وباب (الاتخاذ) يجوز أنه يكون أصله الواو كالاتزان والاتقاء و (¬1) الاتضاح؛ لأن الأخذ، قد جاء فيه لغتان (¬2)، كما قالوا: أكدت ووكدت، وأوصدت وآصدت (¬3)، وقد مر هذا مشروحاً في قوله: {هُدًى لِلمُتَّقِينَ} [البقرة:2] (¬4). واختلف القراء في هذا الحرف، فقرأ بعضهم بالإظهار (¬5)؛ لأن (الذال) ليس من مخرج (التاء) (¬6) إنما هي من مخرج (الظاء)، و (الثاء) فتفاوت ما بينهما إذ كان لكل واحد من الذال والتاء مخرج غير مخرج الآخر (¬7). وأما من (¬8) أدغم فحجته: أن هذين الحرفين لما تقاربا فاجتمعا في أنهما (¬9) من طرف اللسان وأصول الثنايا، حسن الإدغام، لقرب حيز كل واحد منهما من الحيز (¬10) الآخر. ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ج) (¬2) ذكره أبو علي في "الحجة" حيث قال: (أخذ) قد جاء فيه لغتان في (الفاء): الواو والهمز، كما جاء: آكدت ووكدت ..) "الحجة" 2/ 73، 74. (¬3) في (ب): (ووصدت). (¬4) البقرة: 2. (¬5) قرأ بالإظهار ابن كثير وعاصم في رواية حفص, انظر "السبعة":ص155, "الحجة" لأبي علي 2/ 67, "التيسير": ص 44. (¬6) في "الحجة" (ليس من مخرج التاء والطاء) 2/ 75. (¬7) "الحجة" لأبي علي 2/ 75. وانظر:"الحجة" لابن خالويه: ص77."الكشف" لمكي 1/ 160. (¬8) قرأ بالإدغام بقية السبعة عدا ابن كثير وعاصم في رواية حفص, انظر"السبعة" ص 155, "الحجة" لأبي علي 2/ 67, "التيسير": ص 44, "الكشف" 1/ 160. (¬9) في (ب): (فاجتمع أنها). (¬10) في (ب): (حيز). "الحجة" لأبي علي 2/ 75. وانظر: "الحجة" لابن خالوية: ص 77, "الكشف" 1/ 160, وقال مكي: إنهما (اعتدلا في القوة والضعف).

فأما معنى الآية: فإن الله تعالى نبههم بهذه الآية على أن كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل (¬1)، وأراد به كفر سلفهم، وخاطبهم بهذا على ما بينا قبل (¬2). قال المفسرون: إن الله تعالى لما أنجى موسى وبني إسرائيل وأغرق فرعون، وآمن بنو إسرائيل من عدوهم ودخلوا مصر، لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ممهدة، فواعد الله موسى أن يؤتيه الكتاب، فيه بيان ما يأتون (¬3) وما يذرون، وأمره أن يصوم ثلاثين يوماً، فصامه وصالاً، ولم يطعم شيئاً، فتغيرت رائحة فمه، فعمد إلى لحاء شجرة فمضغها، فأوحى الله إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، وأمره أن يصل بها عشراً، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وخرج موسى من بين (¬4) بني إسرائيل تلك الأيام، فاتخذ السامري عجلاً، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم وإله موسى، فافتتن بالعجل ثمانية آلاف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه (¬5)، وسنذكر طرفاً من هذه القصة في موضعها (¬6)، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 281، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 104. (¬2) يريد ما سبق في تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]، فجعل النعمة على آبائهم نعمة عليهم، وهذا يجري في (كلام العرب) كثيرًا. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 97، 104. (¬3) في (ج): (ما يؤتون). (¬4) (بين) ساقط من (ج). (¬5) بنحو هذا السياق ذكره الثعلبي في "تفسيره" دون قوله: (وأمره أن يصوم ثلاثين يومًا ..) 1/ 71 أ، وأخرج الطبري في "تفسيره" مقاطع منه في عدة آثار 1/ 283، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 294، "تفسير البغوي" 1/ 95، "ابن كثير" 1/ 98. (¬6) في (ب): (موضها).

52

وقوله تعالى: {وَأَنتُم ظَالِمُونَ} أي: ضارون لأنفسكم، وواضعون العبادة في غير موضعها (¬1). وقيل: وأنتم ظالمون اليوم بمخالفة محمد صلى الله عليه وسلم (¬2). 52 - قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} قال الليث: كل من استحق عقوبة فتركته (¬3) فقد عفوت عنه (¬4). فكأن معنى العفو عنده: الترك، ومنه قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، أي ترك (¬5). وقال ابن الأنباري: أصل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار، إذا درستها ومحتها، فعفت تعفو عفوا، لفظ (¬6) اللازم والمتعدى سواء (¬7) إلا في المصدر (¬8). فعفو الله ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 71 ب، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 284. و"تفسير البغوي" 1/ 95، و"لباب التفسير" 1/ 239، و"تفسير الرازي" 3/ 76، "البحر المحيط" 1/ 201، و"تفسير البيضاوي" 1/ 25، و"تفسير النسفي" 1/ 43، و"تفسير الخازن" 1/ 125. (¬2) لم أجد من ذكر هذا القول -فيما اطلعت عليه- ومعناه يرجع للقول الأول، والله أعلم. (¬3) في (ب): (فتركة عنه) وفي "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 2489. (¬4) "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 2489. وانظر: "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 62، "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 134. (¬5) وقيل: إن معنى (فمن عفي): فمن فضل له فضل، انظر "تفسير الطبري" 1/ 107 - 109، وانظر كلام الأزهري على الآية في "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 226. (¬6) في (ب): (اللفظ). (¬7) "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 2489، "اللسان" (عفا) 5/ 3018، وانظر "الأضداد" لابن الأنباري: ص 86، "الزاهر" 1/ 535. (¬8) قوله: (إلا في المصدر) لم يرد ضمن كلام ابن الأنباري في "تهذيب اللغة"، قال الأزهري وقرأت بخط شمر لأبي زيد: عفا الله عن العبد عفوا، وعفت الرياح الأثر عفاء، فعفا الأثر عفوا "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 2489.

تعالى: محوه الذنوب عن العبيد (¬1). وقال بعض أصحاب المعاني: العفو في اللغة: ما فضل عن الكفاية، وسهلت النفس ببذله (¬2) ومنه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ العَفوَ} (¬3) [البقرة: 219] أي: ما فضل عن (¬4) القوت، ثم كثر ذلك وطال ترداده حتى صار على التدريج والتراخي: الصفح (¬5) عن الشيء والإعراض عن المؤاخذة به. قال المفسرون: والمراد بالعفو في هذه الآية: قبوله التوبة من عبدة العجل، وأمره برفع السيف عنهم (¬6). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد عبادة العجل (¬7). وإنما وحد والخطاب (¬8) للجميع، لاتصال الخطاب بذا وهو مبهم، فمرة يجمع على الأصل في مخاطبة الجميع، ومرة يوحد على مشاكلة اللفظ، إذا (¬9) كان لفظ المبهم على الواحد، وإن كان معناه على الجمع (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 134، "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 2489. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (عفا) 3/ 2491. (¬3) الواو ساقطة من (أ)، (ج). (¬4) في (ب): (من). (¬5) في (ب): (والصفح). (¬6) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 353. و"تفسير الثعلبي" 1/ 72 أ، وقال ابن جرير: المراد بالعفو: ترك معاجلتهم بالعقوبة، "تفسير الطبري" 1/ 284. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 284، "تفسير الثعلبي" 1/ 72 أ، "تفسير القرطبي" 1/ 338. (¬8) في (ب): (وجد الخطاب). (¬9) في (أ)، (ج): (إذ)، وأثبت ما في (ب) لأنه أنسب للسياق. (¬10) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 286.

53

وقوله تعالى: {لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ} إنما ذكرت هاهنا وفي سائر المواضع من القرآن نحو {ولَعَلَّكُم تَهتَدُونَ} [البقرة:53] والله عز وجل يعلم أيشكرون أم لا، على ما يفعل (¬1) العباد ويتخاطبون به، أي: أن هذا يرجى به الشكر (¬2)، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (¬3). ومعنى الشكر في اللغة: عرفان الإحسان ونشره، وهو الشكور (¬4) أيضًا (¬5). وقال بعض أهل اللغة: معنى الشكر إظهار النعمة بالاعتراف بها، ومن هذا يقال: دابة شكور (¬6)، إذا أظهرت السمن فوق (¬7) ما يعلف (¬8). وقد ذكرنا أقسام الشكر في ابتداء الفاتحة. وأما معنى الشكور في وصف الله تعالى فمذكور وفي موضعه. 53 - قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الآية. الفرقان: مصدر فرَقت بين الشيئين أفرُق فَرْقًا وفُرْقانًا، كالرجحان والنقصان، هذا هو ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (يعقل)، وما في (ج) أولى، وموافق لما في "معاني القرآن" للزجاج، والكلام منقول منه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 105، وأكثر المفسرين على أن (لعل) تفيد الإيجاب، وقيل: هي بمعنى (كي). انظر: "تفسير الطبري" 1/ 161، 1/ 284، "تفسير ابن عطية" 1/ 296، "تفسير القرطبي" 1/ 336. (¬3) ذكر الوجوه التي تأتي عليها (لعل) في تفسير قوله {لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. (¬4) في (ب): (الشكر). (¬5) ذكره الأزهري عن الليث. "تهذيب اللغة" (شكر) 2/ 1911، وانظر: "اللسان" (شكر) 4/ 2305. (¬6) في (ب): (شكورا). (¬7) في (ب): (من الثمن فوق ما علفت). (¬8) انظر: "التهذيب" (شكر) 2/ 1911، "اللسان" 4/ 2306، "تفسير الثعلبي" 1/ 72.

الأصل (¬1). ثم يسمى كل فارق: فرقانًا، كتسميتهم الفاعل بالمصدر، كما سمى كتاب الله الفرقان لفصله بحججه وأدلته بين المحقّ والمبطل، وسمى الله تعالى يوم بدر: يوم الفرقان في قوله {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، لأنه فرق في ذلك اليوم بين الحق والباطل، فكان ذلك اليوم يوم الفرقان (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، أي: يفرق بينكم وبين ذنوبكم، أو بينكم وبين ما تخافون (¬3). فأما (¬4) معنى الفرقان في هذه الآية: فقال مجاهد: هو بمعنى الكتاب، وهما شيء واحد (¬5). وهو اختيار الفراء (¬6). قال: العرب تكرر الشيء إذا اختلفت (¬7) ألفاظه، قال عدي بن زيد: ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" (فرق) 4/ 1540، "اللسان" (فرق) 6/ 3399. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 43، 44، 1/ 285 "معاني القرآن" للزجاج 2/ 461، "تهذيب اللغة" (فرق) 3/ 2779، "الصحاح" (فرق) 4/ 1541، "اللسان" (فرق) 6/ 3399. (¬3) ذكر الطبري في المراد بالفرقان ثلاثة أقوال: مخرجها، أو نجاة، أو فصلا، 13/ 488. (¬4) في (ب): (وأما). (¬5) ذكره الطبري في "تفسيره" عن مجاهد وعن ابن عباس وأبي العالية ورجحه 2/ 70، 71، وكذا "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 350، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 225، "تفسير الثعلبي" 1/ 73 أ، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 216، والبغوي في "تفسيره" 1/ 73، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 81، "تفسير ابن كثير" 1/ 97. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 أ، وذكر الفراء في المراد بالفرقان عدة أقوال، والقول المذكور هنا أحد الأقوال. انظر "معاني القرآن" 1/ 37. (¬7) في (ب): (اختلف).

وأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَينَا (¬1) وقال عنترة: أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَمِ (¬2) وارتضى الزجاج هذا القول، قال (¬3): لأن الله تعالى ذكر لموسى الفرقان في غير هذا الموضع وهو قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48]. فعلى هذا الفرقان هو الكتاب، والكتاب هو الفرقان، ولكن ذكر بلفظين مختلفين نحو ما ذكرنا. قال الزجاج: ويجوز أن يريد بالفرقان انفراق البحر (¬4)، وهو من عظيم الآيات، كأنه قيل: آتيناه فرق البحر وهذا قول يمان بن رباب (¬5). وقال ابن عباس: أراد بالفرقان النصر على الأعداء (¬6)، لأن الله عز وجل ¬

_ (¬1) سبق البيت وتخريجه، والشاهد هنا قوله: (كذبًا ومينًا) فعطف المين على الكذب، وهو بمعناه. (¬2) البيت من معلقة عنترة المشهورة وصدره: حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ (الطلل): ما شخص من الدار من وتد وغيره، (تقادم): طال عهده بأهله فتغير، (أقوى): خلا من أهله، ورد البيت في "تهذيب اللغة" (شرع) 2/ 1857، "اللسان" (شرع) 4/ 2238، "تفسير الثعلبي" 1/ 73 أ، "تفسير القرطبي" 1/ 341، "الدر المصون" 1/ 358، "فتح القدير" 1/ 135، و"ديوان عنترة" ص 189. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 105. (¬4) لم أجد هذا القول في "معاني القرآن" للزجاج، وممن نسبه للزجاج ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 81، وهذا القول ذكره الفراء في "المعاني" 1/ 37، وأبو الليث في "تفسيره" 1/ 354، انظر: "تفسير ابن عطية" ونسبه لابن زيد 1/ 295, "تفسير القرطبي" 1/ 341. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 أ، والبغوي في "تفسيره" 1/ 73. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" عن ابن =

نصر (¬1) موسى وقومه. وقال حسان يذكر ذلك، يخاطب (¬2) النبي -صلى الله عليه وسلم -: فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتاكَ (¬3) مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (¬4) فعلى هذا سمى نصره على فرعون وقومه فرقانًا؛ لأن في ذلك فرقًا بين الحق والباطل. وقال الكسائي: الفرقان نعت للكتاب، يريد: وإذا آتينا موسى الكتاب الفرقان، أي (¬5): الفارق بين الحلال والحرام، ثم زيدت الواو كما تزاد في النعوت فيقال: فلان حسن وطويل وسخي (¬6)، وأنشد: إِلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحَم (¬7) وقال قطرب: أراد بالفرقان: القرآن، وفي الآية إضمار معناه: وإذ آتينا موسى الكتاب ومحمدا الفرقان، لعلكم تهتدون بهذين الكتابين، فترك ¬

_ = عباس وابن زيد 1/ 81، وذكر الطبري نحوه عن ابن زيد 1/ 285، وذكره أبو الليث في "تفسيره" ولم يعزه 1/ 354، وكذا ابن عطية في "تفسيره" 1/ 295. (¬1) (نصر) ساقط من (ب). (¬2) في (ج): (مخاطب). (¬3) في (ب): (ما أتاك الله ما أتاك). (¬4) البيت ليس لحسان وإنما هو لعبد الله بن رواحة كما في ديوانه ص 159، وكذلك ورد في "طبقات ابن سعد" 3/ 528، "سيرة ابن هشام" 3/ 428، "سير أعلام النبلاء" 1/ 234، و"الاستيعاب" 3/ 35، "الدر المصون" 1/ 591، "البحر المحيط" 2/ 311، 227، 6/ 84. (¬5) في (أ): (أن) وفي (ج): (إذ). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 أ، وانظر "تفسير البغوي" 1/ 73، "الكشاف" 1/ 281، وذكره أبو حيان في البحر، وقال: هو ضعيف 1/ 202، وذكر الفراء نحوه ولم يعزه للكسائي، "معاني القرآن" 1/ 37. (¬7) سبق البيت وتخريجه في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}.

54

أحد الاسمين (¬1)، كقوله: تَرَاهُ كَأَنَّ اللهَ يَجْدَعُ أَنْفَهُ ... وَعَيْنَيْهِ إِنْ مَوْلاَهُ ثَابَ لَهُ وَفْرُ (¬2) أراد ويفقأ عينيه، فاكتفى بـ (يجدع) من يفقأ (¬3). قال ابن الأنباري: هذا البيت لا يشاكل ما احتج به؛ لأن الشاعر اكتفى بفعل من فعل، وعلى ما ذكر في الآية اكتفى من اسم باسم (¬4)، ولكنه يصح قول قطرب عندي من وجه آخر، وهو (¬5) أنه لما ذكر الفرقان وهو اسم للقرآن، دل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فحذف اتكالًا على علم المخاطبين (¬6). 54 - وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} يعني (¬7) الذين عبدوا العجل. (يا قوم) نداء مضاف حذفت منه الياء، لأن النداء باب حذف، ألا ¬

_ (¬1) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 أ، وذكره الزجاج في "المعاني" 1/ 104، 105، وهو قول للفراء كما في المعاني 1/ 37، وانظر: "أمالي المرتضى" 2/ 259، "تفسير ابن عطية" 1/ 296، "زاد المسير" 1/ 81، "البحر المحيط" 1/ 202. (¬2) البيت ينسب إلى خالد بن الطيفان، ونسبه بعضهم إلى الزبرقان بن بدر، ورد البيت في "الزاهر" 1/ 119، و"أمالي المرتضى" 2/ 259، 375، "تفسير الثعلبي" 1/ 73 أ، "الخصائص" 2/ 431، "الإنصاف" 1/ 406، "اللسان" (جدع) 1/ 567. والوفر: المال الكثير الوافر. (¬3) في (ج): (فاكتفى يجدع من تفقأ). (¬4) في (ب)، (ج): (باسم من اسم). وقول ابن الأنباري ذكره المرتضى في "أماليه" 2/ 260. (¬5) (وهو) ساقط من (ب). (¬6) ذكر المرتضى في أماليه نحوه ردا على قول ابن الأنباري السابق. "أمالي المرتضى" 2/ 260. (¬7) بعد سياق الآية كاملة في (ب) كما هو النهج في هذه النسخة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} يعني ...

ترى أنه يحذف فيه (¬1) التنوين، ويحذف بعض الاسم للترخيم (¬2) والمنادى إذا أضفته إلى نفسك (¬3) جاز فيه ثلاث لغات (¬4) حذف الياء، وإثباتها (¬5) وفتحها (¬6)، فحذف الياء كقوله: {يَا قَوْمِ} والإثبات كقوله: {يَا عِبَادِ (¬7) فَاتَّقُونِ} (¬8) [الزمر: 16] والفتح كقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] على قراءة من فتح (¬9) الياء. والأجود الحذف والاجتزاء بالكسرة (¬10)، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في الموضع (¬11) الذي يكون (¬12) الياء ¬

_ (¬1) في (ج): (منه). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 105، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 226. (¬3) أي: إلى ياء المتكلم. (¬4) انظر: "الكتاب" 2/ 209، وذكر الزجاج في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم أربع لغات، انظر: "معاني القرآن" 1/ 105، وذكر النحاس لست لغات، "إعراب القرآن" 1/ 226، وكذا أبو حيان في البحر 1/ 106، "السمين في الدر" 1/ 359، وهذا في غير القرآن. (¬5) يعني إثباتها ساكنة. (¬6) في (ب): (وحذفها). (¬7) قراءة جمهور القراء حذف الياء منها، وقرأ بالإثبات رويس وروح. انظر: "النشر" 2/ 364، "وتحبير التيسير" ص 174. (¬8) في (ج): (عباد) وهي قراءة السبعة. (¬9) في (ب): (حذف). قرأ بالفتح نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم، وأبو جعفر من العشرة والبقية على الإسكان في الوقف، وحذفها في الوصل. انظر: "التيسير" ص 190، "تحبير التيسير" ص 174. (¬10) قال الزجاج: فأما في القرآن فالكسر وحذف الياء لأنه أجود الأوجه، وهو إجماع القراء 1/ 105، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 175، "البحر المحيط" 1/ 206. (¬11) في (ب): (المواضع). (¬12) في (ب): (تكون).

فيه أصلاً، وكما أنشده (¬1) سيبويه: وَطِرْتُ بِمُنْصُلِي (¬2) فِي يَعْمَلاَتٍ ... دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّريِحَا (¬3) يريد: الأيدي (¬4). وأنشد أيضًا: وَأخُو الغَوَانِ مَتى يَشَأْ يَصْرِمْنَهُ ... وَيَكُنَّ أَعْدَاءً بُعَيْدَ وِدَادِ (¬5) يريد: الغواني فاجتزأ بالكسرة من الياء، والنداء بهذا أولى لأنه باب حذف. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي نقصتم حظ أنفسكم باتخادكم العجل إلها (¬6)، فحذف أحد المفعولين، وقد مضى بيانه (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (أنشد). (¬2) في (أ)، (ج) (لمنصلي) وما في (ب) موافق لرواية البيت في أكثر المصادر. (¬3) البيت غير منسوب في "الكتاب"، ونسبه في اللسان لمضرس بن ربعي. (المنصل): السيف، و (اليعملات): جمع يعملة، وهي الناقة القوية على العمل و (السريح): جلود أو خرق تشد على أخفاف الناقة إذا حفيت من شدة السير، ورد البيت في "الكتاب" 1/ 27، 4/ 190, "المنصف" 2/ 73, "الخصائص" 2/ 269. 3/ 133, "الإنصاف" 2/ 429, "الخزانة" 1/ 242, "اللسان" (جزز) 1/ 615, و (خبط) 1039, و (ثمن) 1/ 59 و (يدى) 8/ 4951. (¬4) فحذف (الياء) لضرورة الشعر وبقيت الكسرة تدل عليها. انظر:"الكتاب" 1/ 27. (¬5) في (ب): (واداد). البيت للأعشى (قيس من ميمون) وفيه يصف النساء بالغدر وقلة الوفاء والصبر, يقول: من كان مشغوفًا بهن مواصلاً لهن, إذا تعرض لما يسبب صرمهن سارعن إليه لتغير أخلاقهن. البيت من شواهد سيبويه 1/ 28, وورد في "المنصف" 2/ 73, "الإنصاف" ص 329, ص 419, و"الهمع" 5/ 344, "الخزانة" 1/ 242, "اللسان" (غنا) 6/ 3310, وديوان لأعشى ص 51. (¬6) انظر: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 ب, والبغوي في "تفسيره" 1/ 73. (¬7) مضى في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51].

{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} خالقكم، يقال: برأ الله الخلق، أي: خلقهم (¬1)، وكان أبو عمرو يختلس حركة الهمزة في بارئكم كأنه مخفف الحركة ويقربها من الجزم (¬2)، وحجته في ذلك: أن الحركات على ضربين (¬3): حركة بناء، وحركة إعراب، فحركة البناء يجوز تخفيفه، وذلك نحو: سَبُع وإِبِل وضُرِبَ وعَلِمَ. يقول (¬4) في التخفيف: سَبْع وفَخْذٌ وعَلْم وضُرْب، وقد خفف من كلمتين على هذا المثال تشبيها للمنفصل (¬5) بالمتصل، وذلك نحوما أنشده أبو زيد: قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا دَقِيقَا (¬6) [فَنُزِّل] (¬7) مثل كتف، ولا خلاف في تجويز إسكان حركة البناء عند ¬

_ (¬1) انظر: "غريب القرآن" للزبيدي 1/ 70، والطبري في "تفسيره" 2/ 78، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 106، "تفسير الثعلبي" 1/ 73 ب. (¬2) هذا على رواية العراقيين عنه بالاختلاس، وروي عنه إسكان الهمزة، وبقية السبعة على كسر الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف، انظر "السبعة" ص 155، و"الحجة" لأبي على 2/ 76، "التيسير" ص 73، "الكشف" 1/ 240. (¬3) أخذه عن "الحجة" 2/ 78. قال أبو علي: (حروف المعجم على ضربين: ساكن ومتحرك، والساكن على ضربين: أحدهما: ما أصله في الاستعمال السكون .. ، والآخر: ما أصله الحركة في الاستعمال فيسكن عنها، وما كان أصله الحركة يسكن على ضربين: أحدهما أن تكون حركته حركة بناء، والآخر: أن تكون حركته حركة إعراب ..) وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 97، "الحجة" لابن خالويه ص 78، "الكشف" 1/ 241. (¬4) في "الحجة" (يقول من يخفف) 2/ 79. (¬5) أي: شبهوا المنفصل في كلمتين بالمتصل في كلمة. (¬6) الرجز لرجل من كندة يقال له: (العذافر الكندي) وسبق تخريجه في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ بكل شَىءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]. (¬7) في جميع النسخ (فترك) وفي "الحجة" (فنزل) وهذا أقرب، والمعنى: أن (اشتر) =

النحويين. وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها، فمن النحويين من يقول: إن إسكانها لا يجوز، لأنها علم الإعراب، وسيبويه يجوز ذلك (¬1)، ولا يفصل بين القبيلين (¬2) في الشعر. وقد روي ذلك عن العرب، وإذا جاءت الرواية لم ترد بالقياس (¬3)، فمما أنشده في ذلك قوله (¬4): وَقَدْ بَدَا (¬5) هَنْكِ مِنَ المِئْزَرِ (¬6) وقوله: فَالْيَوْمُ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ (¬7) .. البيت. ¬

_ = سكن آخره ونزل منزلة المتصل مثل (كتف) انظر "الحجة" 2/ 79، و"النوادر" لأبي زيد ص170، "الخصائص" 1/ 73 - 75. (¬1) انظر: "الكتاب" 4/ 203، وانظر: "الخصائص" 1/ 73 - 75. (¬2) في (ب): (القبيلتين). (¬3) وكأنه يشير إلى رد أبي العباس المبرد لهذه المسألة، انظر: "الخصائص" 1/ 75، "تفسير ابن عطية" 1/ 297، "الخزانة" 4/ 484. (¬4) (قوله) ساقط من (ب). (¬5) في (ب). (زيد). (¬6) البيت للأقيشر الأسدي وصدره: رُحْتِ وَفِي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا قاله يخاطب زوجته حين لامته لما شرب الخمر وبدت عورته، وقوله: (ما فيهما): من الاضطراب، و (الهن) كناية عن كل ما يقبح ذكره، وهو هنا كناية عن (الفرج). البيت من شواهد سيبويه 4/ 203، وفي "الحجة" لأبي علي 2/ 80، "الخصائص" 1/ 74، 3/ 95، و"الهمع" 1/ 187، "شرح المفصل" 1/ 48، "الخزانة" 4/ 484، 485، 8/ 351، "تفسير ابن عطية"1/ 298. (¬7) سبق تخريجه.

وقول جرير: سِيرُوا بَنِي الْعَمِّ فَالْأَهْوَازُ (¬1) مَنْزِلُكُمْ ... وَنَهْرُ تِيرَى وَلَا تَعْرِفْكُمُ (¬2) الْعَرَبُ (¬3) وجاز إسكان حركة الإعراب كما جاز إسكان (¬4) حركة البناء في نحو ما ذكرنا. والذي ذهب إليه أبو عمرو هو إسكان حركة الإعراب (¬5). فأما من زعم أن حذف هذه الحركة لا يجوز من حيث كانت عَلَمًا للإعراب، فليس قوله بمستقيم، وذلك أن حركات (¬6) الإعراب قد تحذف لأشياء (¬7)، ألا ترى أنها تحذف للوقف، وتحذف من الأسماء والأفعال ¬

_ (¬1) في (ج): (فالهواني). (¬2) في (أ)، (ج): (لايعرفكم) وما في (ب) موافق للحجة، والمصادر الأخرى التي ورد فيها البيت. (¬3) (الأهواز): مكان معروف في بلاد الفرس، وهو اسم للكورة بأسرها، ثم غلب على سوقها الذي أصبح مدينة يعينها، وفي الأهواز (نهر تيرى) المذكور في البيت. انظر "معجم البلدان" 1/ 284، 5/ 319، ورد البيت في "الحجة" 2/ 80، "الخصائص" 1/ 74، 2/ 317، "المخصص" 15/ 188، "تفسير ابن عطية" 1/ 298، "معجم البلدان" 5/ 319، "الخزانة" 4/ 484، "ديوان جرير" ص 45. والشاهد (ولا تعرفكم) بالضم فأسكن الشاعر مضطرًّا. انظر "الخصائص" 1/ 74، 2/ 317. (¬4) (إسكان) ساقط من (ب). وعبارة أبي علي: (وجاز إسكان حركة الإعراب، كما جاز تحريك إسكان البناء ...) "الحجة" 2/ 81. (¬5) أو اختلاسها كما سبق، قال أبو علي: (ذهب سيبويه إلى أن أبا عمرو اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك، فمن روى عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو، فلعله سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانًا 2/ 84، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 107، "الحجة" لابن خالويه ص 78. (¬6) في (ب) (حركة). (¬7) في (ب) (الأشياء).

المعتلة. فإذا جاز حذفها في هذه المواضع، جاز حذفها فيما ذهب إليه سيبويه، وهو التشبيه بحركة البناء، والجامع بينهما أنهما جميعا زائدتان، وأن حركة الإعراب قد تسقط في الوقف والاعتلال، كما تسقط التي للبناء للتخفيف. واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب يستعملون في الضمة والكسرة منهما على ضربين: أحدهما: الإشباع والتمطيط، والآخر: اللاختلاس والتخفيف. وهذا الاختلاس والتخفيف، إنما يكون في الضمة والكسرة، وأما الفتحة (¬1) فليس فيها إلا الإشباع ولم تخفف الفتحة بالاختلاس، كما لم تخفف بالحذف (¬2) من نحو: جَمَل وجَبَل، كما حذف (¬3) من نحو: سَبُع وكَتِف، وكما (¬4) لم يحذفوا الألف في الفواصل من حيث حذفت الياء والواومنها، نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4]. وكما لم يبدل الأكثر من التنوين الياء والواوفي الجر والرفع كما أبدلوا (¬5) منه في النصب، فهذا الاختلاس وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط وأخفى، فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك، وعلى هذا حمل سيبويه قول أبي عمرو {إِلَى بَارِئِكُمْ} فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها، فهو بزنة حرف متحرك (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب) (فأما الضمة). (¬2) في (أ)، (ج) (بالمحذوف) وما في (ب) أولى، وموافق لما في "الحجة" 2/ 83. (¬3) في "الحجة" (خفف) وهو أولى. (¬4) (الواو) ساقطة من (ب). (¬5) في "الحجة": (كما أبدلوا الألف في النصب) 2/ 83. (¬6) انتهى من "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 78 - 83. مع التصرف اليسير باختصار بعض المواضع.

وفي الآية إضمار واختصار، كأنه لما قال لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} قالوا: كيف؟ فقال (¬1): {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬2). قال أبو العباس: أصل القتل: إماتة الحركة (¬3). ومنه يقال: قتلت الخمر إذا (¬4) مزجتها بالماء، لأنك كسرت شدتها، كأنك قتلت حركتها، قال حسان: إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا قُتِلَتْ ... قُتِلَتْ فَهَاتِهَا (¬5) لَمْ تُقْتَلِ (¬6) وتقول (¬7): قتلته علما: إذا أتقنته وتحققته، وذلك أنك أزلت اضطرابه في نفسك. وقلب مُقَتَّل: إذا ذلل بالعشق (¬8)، ومنه قوله: ...... أَعْشَارِ (¬9) قَلْبٍ مُقَتَّلِ (¬10) ¬

_ (¬1) في (ب) (قال). (¬2) انظر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 73. (¬3) نحوه في "التهذيب" عن الليث (قتل) 3/ 2884، انظر "الصحاح" (قتل) 5/ 1797، "اللسان" (قتل) 6/ 3528. (¬4) في (ج) (اوا). (¬5) في (أ)، (ج) (نهاتها) وما في (ب) موافق لنا في ديوان حسان، والمصادر الأخرى التي ذكر فيها البيت. (¬6) ورد البيت في الصحاح (قتل) 5/ 1797، "اللسان" 6/ 3530، "ديوان حسان" ص 181، "الخزانة" 4/ 385، 390. (¬7) في (ج): (ويقول). (¬8) انظر " التهذيب" (قتل) 3/ 2884، "الصحاح" (قتل) 5/ 1797، 1798، "المحكم" (قتل) 6/ 204, 205. (¬9) في (ب): (في أعشار). (¬10) البيت لامرئ القيس، وسبق تخريجه وشرحه في مقدمة المؤلف.

وكذلك المُقَتَّل من الدواب: المذلل بكثرة العمل (¬1). قال زهير. كَأَنَّ عيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مَن النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً (¬2) سُحُقَا (¬3) [قوله: جنة سُحُقا قال أبو علي (¬4): أراد نخيل جنة, لأن السحق يكون من صفة النخيل لا من صفة الجنة, وهي التي بسقت فطالت] (¬5). ومعنى قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: ليقتل البريء المجرم (¬6) , وجاز هذا؛ لأن من قتل أخاه أباه (¬7) وجاره وحليفه (¬8) فكأنه قتل نفسه، ومنه ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (قتل) 1/ 2884. "المحكم" (قتل) 6/ 205. (¬2) في (ب): (جنها). (¬3) قوله: (غربي) الغرب: الدلو الكبير من جلد ثور وجمعه غروب, و (المقتلة): التي ذللت بكثرة العمل, لأنها ماهرة تخرج الدلو ملأى فتسيل من نواحيها, (الجنة) البستان, وأراد النخل. (السحق): الواحد (سحوق) النخلة التي ذهبت جريدتها, وطالت, ورد البيت في المجمل (جنن) 1/ 175, "مقاييس اللغة" 1/ 421, "المخصص" 11/ 111,"اللسان" (سحق) 4/ 1956, و (قتل) 6/ 3530. و (جنن) 2/ 705. (¬4) انظر: "المخصص" 11/ 111. (¬5) مابين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73ب, وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 355. والبغوي في "تفسيره" 1/ 73, الخازن في "تفسيره" 1/ 126, وقيل: ليقتل بعضكم بعضا, انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبه ص 49. والطبري 2/ 73, "معاني القرآن" للزجاج 1/ 108, "الكشاف" 1/ 281, "زاد المسير" 1/ 82, "البحر" 1/ 207. ابن كثير في "تفسيره" 1/ 98. (¬7) (وأباه) ساقط من (ب). (¬8) في (ج): (خليفه).

قوله: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (¬1) [البقرة: 191] أي: قتلوا منكم بعضكم الذين هم كأنفسكم (¬2). وقال بعض أهل المعاني: معنى (فاقتلوا أنفسكم) أي: استسلموا للقتل، فجعل استسلامهم للقتل قتلًا منهم لأنفسهم على التوسع (¬3)، فعلى هذا لا تحتاج إلى تأويل الأنفس. وقوله تعالي: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي: توبتكم خير لكم عند بارئكم من إقامتكم على عبادة العجل (¬4)، والإشارة في ذلك تعود إلى القتل (¬5)، وهو توبتهم، وقيل (¬6): معناه: توبتكم خير لكم، أي فعل خير، لأنه يثيبكم عليه، وليس "خير" على طريق المبالغة والتفضيل (¬7)، وذلك أن ¬

_ (¬1) كذا في (أ) (قتلوكم) بغير ألف، وهي قراءة حمزة والكسائي، وفي (ب)، (ج) (قاتلوكم) بالألف على قراءة بقية السبعة. انظر "السبعة" لابن مجاهد ص 179. (¬2) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 152، "تفسير أبي الليث" 1/ 355، "تفسير الرازي" 3/ 81. (¬3) ذكره الماوردي عن أبي إسحاق 1/ 327، وكذا الرازي في "تفسيره" 3/ 82، وأبو حيان في البحر 1/ 207. (¬4) أو المعنى (توبتكم) خير لكم من إقامتكم على المعصية، ولو سلمتم من القتل. انظر "تفسير الطبري" 1/ 209، "تفسير أبي الليث" 1/ 355، والنسفي في "تفسيره" 1/ 126، "البحر المحيط" 1/ 209، "الدر المصون" 1/ 366. (¬5) وقيل: تعود إلى التوبة، وقيل: إلى القتل والتوبة، فأوقع المفرد موقع التثنية. انظر "تفسير الثعلبي" 1/ 73 ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 73، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 83، "زاد المسير" 1/ 82، "البحر المحيط" 1/ 209، "الدر المصون" 1/ 366. (¬6) (وقيل) ساقط من (ب). (¬7) انظر: "البحر المحيط" 1/ 209.

55

خيرًا يستعمل بمعنيين: أحدهما: التفضيل، وقال: فلان خير من فلان، أي أفضل، وهذا يحتاج معه إلى من. والثاني: بمعنى الفاضل، يقال أردت خيرا، أو فعلت خيرا (¬1). قال ابن عباس: أبي الله عز وجل أن يقبل توبة عبدة العجل إلا بالحال التي كره من لم يعبد العجل، وذلك أنهم كرهوا أن يقاتلوا عبدة العجل على عبادة العجل فجعل الله توبتهم أن يقتلهم هؤلاء الذين كرهوا قتالهم (¬2)، والقصة فى ذلك معروفه مشهورة. وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} في الآية اختصار، تقديره: ففعلتم ما أمرتم به (¬3)، فتاب عليكم (¬4). 55 - قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال ابن عباس: حتى نراه علانية (¬5)، وقال قتادة: عيانا (¬6). وقد تكون الرؤية غير جهرة كالرؤية في النوم (¬7)، وكرؤية القلب، فإذا قيل (¬8): رآه ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 1/ 209، "الدر المصون" 1/ 366. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 73 ب، وذكره الطبري في "تفسيره" عن السدي 1/ 286، "تفسير الماوردي" عن جريج 1/ 327. (¬3) في (ب): (فعلتم ذلك). (¬4) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 74 أ، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 288، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 299، والبغوي في "تفسيره" 1/ 74، "البحر المحيط" 1/ 209. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 81, وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 355, وذكره القرطبي في "تفسيره" 1/ 136, "تفسير ابن كثير" 1/ 170, والسيوطي في الدر 1/ 70. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 289, وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 356. (¬7) بياض في (ب). (¬8) في (ب) (قال).

جهرة، لم يكن إلا على رؤية العين على التحقيق دون التخييل (¬1). قال أهل اللغة: معنى قوله: جهرةً أي غير مستتر عنَّا بشيء، وأصل الجهر في اللغة: الكشف والإظهار، يقال: جهرت البئر، إذا كشفت الطين عن الماء ليظهر الماء (¬2)، قال: إِذَا وَرَدْنَا آجِنًا جَهَرْنَاه ... أَو خَالِيًا مِنْ أَهْلِهِ عَمَرْنَاهْ (¬3) أبو زيد يقال: جهرت بالقول أجهر به، إذا أعلنته، وجاهرني فلان جِهَارًا أي (¬4) عَالَنَنِي، والجهر: العلانية (¬5). والجَهَارَةُ: ظهور الجَمَال (¬6) وأنكشافه ببياض اللون (¬7)، قال الأعشى: وَسَبَتْكَ حِيَنَ تَبَسَّمتْ ... بَيْنَ الأَرِيكَةِ والسِّتَارَهْ بِقَوَامِهَا الحَسَنِ الَّذِي .. جَمَعَ المَدَادَةَ (¬8) والجَهَارَةْ (¬9) ¬

_ (¬1) انظر "الغريب" لابن قتيبة ص 49، "تفسير البغوي" 1/ 74، "البحر المحيط" 1/ 210، "تفسير القرطبي" 1/ 344 - 345. (¬2) انظر "معاني القرآن" للأخفش 1/ 267، "تهذيب اللغة" (جهر) 1/ 676، "مقاييس اللغة" (جهر) 1/ 487، "الصحاح" (جهر) 2/ 618. (¬3) الرجز ذكره أبو زيد في "النوادر"، قال: أنشدتني شماء، وهي أعرابية فصيحة من بني كلاب. تقول: إنهم من كثرتهم نزفوا مياه الآبار الآجنة من كثرة المكث، وعمروا المكان الخالي. "نوادر أبي زيد" ص 574)، والبيتان في "تهذيب اللغة" (جهر) 1/ 676، "الصحاح" (جهر) 2/ 618، "اللسان" (جهر) 2/ 711. (¬4) (أي) ساقط من (ب). (¬5) "تهذيب اللغة" (جهر) 1/ 677. (¬6) في (ج): (الحال). (¬7) في (ب): (المال). انظر: "الصحاح" (جهر) 2/ 619، "اللسان" 2/ 711. (¬8) في (ب)، (ج): (المدارة). (¬9) قوله: (الأريكة): سرير منجد مزين، و (المداد): طول القامة، والبيتان من قصيدة =

فالجهرة في هذه الآية: فعلة من الجهر، وهو مصدر يراد به المفعول (¬1). وقوله تعالى: {فَأَخَذَتكُمُ الصَّاعِقَةُ} يعني ما تصعقون منه، أي: تموتون، لأنه قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56]. وقال مقاتل: الصاعقة: الموت (¬2)، ومضى الكلام في الصاعقة (¬3). قال المفسرون: إن الله تعالى أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه (¬4) من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلًا من خيارهم، وخرج بهم إلى طور سيناء، وسمعوا كلام الله، وكان موسى إذا ¬

_ = للأعشى يهجو بها شيبان بن شهاب، انظر ديوانه ص 153، والبيت الأول في "الزاهر" 1/ 562، "الخزانة" 3/ 311، وروايته في "الزاهر": (وسبتك يوم تزينت). (¬1) قوله: (يراد به المفعول) لم أجده فيما اطلعت عليه-، قال القرطبي: (جهرة: مصدر في موضع الحال) "تفسير القرطبي" 1/ 345، وانظر "فتح القدير" 1/ 137، وفي "الفتوحات الإلهية" قال: (إنه مفعول مطلق، لأن الجهرة نوع من مطلق الرؤية فيلاقي عامله في المعنى) 1/ 55. والجهرة: قد تكون من صفات الرؤية، فهو مصدر من جهر أي: عيانا، ويحتمل: أن تكون من صفة الرائين، أي ذوي جهرة, أو مجاهرين بالرؤية، ويحتمل: أن تكون راجعة إلى معنى القول أو القائلين، أي قولا جهرة أو جاهرين بذلك. انظر: "البحر المحيط" 1/ 210، 211. (¬2) أخرج ابن جرير عن قتادة والربيع نحوه 2/ 82، وكذا "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 356، وانظر "الدر" 1/ 70. بعضهم فسر الصاعقة: بالموت، وبعضهم قال: هي سبب الموت، ثم اختلفوا فيها: هل هي نار أو صيحة أو جنود من السماء. انظر "تفسير الرازي" 3/ 86. (¬3) عند تفسير آية 19 من سورة البقرة. (¬4) (إليه) ساقط من (ج).

كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم (¬1) أن ينظر إليه، ويغشاه عمود من غمام. فلما فرغ موسى وانكشف الغمام (¬2)، قالوا له: لن نؤمن لك، أي: لن نصدقك، حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة، وهي نار جاءت (¬3) من السماء فأحرقتهم (¬4) جميعًا. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يريد نظر بعضهم إلى بعض عند نزول الصاعقة (¬5)، قاله (¬6) ابن زيد. وإنما أخذتهم الصاعقة؛ لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يريهم ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز لهم اقتراح المعجزات عليهم، فلهذا (¬7) عاقبهم ¬

_ (¬1) في (ب): (بني اسرائيل). (¬2) (الغمام) ساقط من (ب). (¬3) (جاءت) ساقط من (ب). (¬4) في (أ)، (ج): (فأحرقهم) وما في (ب) أولى للسياق، وموافق لما عند الثعلبي في "تفسيره"، والكلام أخذه ملخصا عن الثعلبي في "تفسيره" 1/ 74 أ، وأخرج الطبري نحوه عن محمد ابن إسحاق وعن السدي 1/ 291 - 292. ثم قال الطبري في "تفسيره" بعد أن ذكر بعض الآثار: (فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم لموسى تقوم به حجة فيسلم له، وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه ..) 1/ 89، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 293، "تفسير ابن عطية" 1/ 301، "تفسير ابن كثير" 1/ 99. (¬5) ذكره الطبري ولم يعزه 1/ 290، وانظر "تفسير البغوي" 1/ 74، "زاد المسير" 1/ 83، "تفسير القرطبي" 1/ 345، "تفسير ابن كثير" 1/ 99. (¬6) في (ب) (قال). (¬7) في (ج) (فهكذا).

56

الله (¬1)، ولما كان سؤال موسى إيمانًا منه وتصديقًا واشتياقًا لم يعاقب عليه، وهؤلاء سألوه (¬2) شاكّين منكرين متعنتين فعوقبوا عليه. وقال بعضهم: إن أصحاب موسى اعتقدوا إحالة الرؤية (¬3) على الله فعلقوا إيمانهم على الرؤية (¬4): ومرادهم: لن نؤمن لك قط، كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فلهذا عاقبهم الله عليه. وهذه الآية تتضمن التوبيخ لهم على مخالفة الرسول عليه السلام مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم [موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة، والتحذير لهم أن ينزل بهم كما نزل بأسلافهم] (¬5). 56 - قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآية. البعث في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإرسال كقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} (¬6) [الأعراف: 103, يونس:75]. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الرازي" 3/ 86، "تفسير القرطبي" 1/ 344، و"تفسير النسفي" 1/ 128، "البحر المحيط" 1/ 211، 212. (¬2) في (ب): (يسألوه). (¬3) في (ج): (الرؤيا). (¬4) المعتزلة هي التي تقول بإحالة الرؤية وقد تمسكوا بمثل هذه الآية. قال الزمخشري: (وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادهم القول وعرفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال ...) "الكشاف" 1/ 282، ورد عليه صاحب "الإنصاف" في حاشية على "الكشاف" بما أبطل زعمه، كما رد عليه الرازي في "تفسيره" 3/ 85، وانظر "تفسير القرطبي" 1/ 344 - 345، "البحر المحيط" 1/ 211. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). انظر "تفسير الطبري" 1/ 290، "تفسير الرازي" 3/ 83. (¬6) في (ب) (من بعد) تصحيف في الآية.

والثاني: إثارة بارك أو قاعد، يقال: بعثت البعير عن مبركه، وبعثت النائم، ونشر الميت: بعث، لأنه كبعث النائم، وذلك إثارته عن مكانه (¬1). قال قتادة: بعثهم الله ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم (¬2)، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، ولكنه كان ذلك الموت عقوبة لهم على ما قالوا. وقال ابن الأنباري: كل موت حصل البعث بعده في الدنيا كهذا، وكقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ (¬3) مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] يكون حكمه حكم النوم، ويجري مجرى موت النائم؛ لأن الله تعالى أثبت للخلق الإماتة في دار الدنيا مرة واحدة (¬4)، وهوقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬5) [الجاثية: 26]. قال الزجاج: والآية احتجاج على مشركي العرب الذين كفروا بالبعث، واحتج النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحياء من بعث بعد موته في الدنيا فيما يوافقه اليهود والنصارى (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (بعث) 1/ 354، وانظر "اللسان" (بعث) 1/ 307. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 292، وابن أبي حاتم 1/ 358، وانظر "تفسير الثعلبي" 1/ 74 ب، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 352، والبغوي 1/ 75، "تفسير ابن كثير" 1/ 100، "الدر المنثور" 1/ 136. (¬3) لفظ الجلالة غير موجود في (ب) تصحيف. (¬4) قول جمهور المفسرين أنه موت حقيقي، لكنها غير الموتة التي كتبت عليهم في الدنيا، انظر "تفسير الطبري" 1/ 291، "تفسير الثعلبي" 1/ 74 ب، قال ابن العربي: ميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها، انظر "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 228، "زاد المسير" 1/ 85، "تفسير القرطبي" 1/ 345 - 346، 3/ 231، "تفسير الرازي" 3/ 86. (¬5) في (أ) (يبعثكم) تصحيف. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 109، نقله بمعناه.

57

وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نعمة البعث (¬1)، وقيل: تأويله: لعلكم تؤمنون؛ لأن الشكر من فعل المؤمنين وصفاتهم، وأظهر الآيات الموجبة للإيمان بعثهم بعد موتهم. 57 - قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} الآية. معناه: سترناكم عن الشمس بالغمام (¬2). والظل (¬3) في اللغة، معناه الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل (¬4) فلان، أي: ستره، وظل الشجرة: سترها، ويقال لظلمة (¬5) الليل: ظل (¬6)، لأنها تستر الأشياء (¬7). ومنه قوله (¬8): {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]. قال ذوالرمة: قَدْ أَعْسِفُ النَّازِحَ الْمَجْهُولَ (¬9) مَعْسِفُهُ ... فِي ظِلِّ أَخْضَرَ يَدْعُو هَامَهُ الْبُومُ (¬10) ¬

_ (¬1) أي: البعث بعد موتهم بالصاعقة. انظر "تفسير الطبري" 1/ 291، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 109، "تفسير أبي الليث" 1/ 357، "الكشاف" 1/ 283، "تفسير القرطبي" 1/ 345، و"تفسير البيضاوي" 1/ 26، و"تفسير النسفي" 1/ 128، "البحر المحيط" 1/ 213. (¬2) انظر "تفسير أبي الليث" 1/ 357، "تفسير الثعلبي" 1/ 74 ب، و"تفسير البغوي" 1/ 75، "تفسير القرطبي" 1/ 346. (¬3) في (ب): (الظلل). (¬4) في (ب): (ظلل). (¬5) في (ب): (الظلمة). (¬6) في (ج): (سترطل). (¬7) انظر "تهذيب اللغة" (ظل) 3/ 2246، "الصحاح" (ظل) 5/ 1755، "مقاييس اللغة" (ظل) 13/ 461. (¬8) (قوله) ساقط من (ب). (¬9) في (ب): (المعسوف). (¬10) ورد في "مفردات الراغب": (المجهود) بدل (المجهول)، وفي "الديوان" وبعض =

يريد بالأخضر (¬1): الليل. قال الفراء: والظلة: ما سترك من فوق، ويقال: أظل يومنا، إذا كان ذا سحاب، لأنه يستر الشمس (¬2). الغمام جمع غمامة، وهي السحاب سمي غمامًا لأنه يغمّ السماء أي: يسترها، وكل ما ستر شيئًا فقد غمّه (¬3)، قال الحطيئة: إذَا غِبْتَ عَنَّا (¬4) غَابَ عنَّا ربيِعُنَا ... ونُسْقَى (¬5) الْغَمَامَ الْغُرَّ حِينَ تَؤُوبُ (¬6) قال شمر: يجوز أن يسمى غمامًا لتغمغمه (¬7)، وهو صوته (¬8). وقيل: ¬

_ = المصادر (في ظل أغضف)، وقوله: (أَعْسِف): آخذ في غير هدى، و (النازح): الْخَرْقُ البعيدة، وهي الأرض القفر الواسعة، (في ظل أخضر) في ستر ليل أسود، (يدعو هامه البوم): يتجاوب هامه وبومه، والهام ذكر البوم. ورد البيت في "التهذيب" (خضر) 1/ 1046، "الصحاح" (ظلل) 5/ 1755، و (هيم) 5/ 2063، "مقاييس اللغة" (بوم) 1/ 223، (ظلل) 3/ 461، و (عسف) 4/ 311، و (غضف) 426، "الأضداد" لابن الأنباري ص 348، "مفردات الراغب" ص 150، و"شرح العكبري لديوان المتنبي" 2/ 153، "الخزانة" 7/ 100، "اللسان" (خضر) 2/ 1185، و (عسف) 5/ 2943، و (ظلل) 5/ 2754، و (هوم) 8/ 2724، و"ديوان ذي الرمة" 1/ 401. (¬1) في (ب)، (ج): (الأخضر) بسقوط الباء. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (ظل) 3/ 2246، "اللسان" (ظلل) 5/ 2754. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 392، "تفسير الثعلبي" 1/ 74 ب، "مفردات الراغب" ص 365، "تفسير القرطبي" 1/ 346، "اللسان" (غمم) 6/ 3303. (¬4) (عنا) ساقطة من (ب). (¬5) في (ب): (تسقى). (¬6) قاله الحطيئة يمدح سعيد بن العاص بن أمية، ورد في "اللسان" (غمم) 6/ 3303، وفي "ديوان الحطيئة" ص 248. (¬7) في (ب): (لتغممه). (¬8) في (ج): (صونه).

سمي غمامًا، لأنه يغمّ الماء في جوفه، أي: يستره. قال المفسرون: هذا كان حين أبوا على موسى دخول بلقاء (¬1) مدينة الجبارين فتاهوا في الأرض ثم ندموا على ذلك (¬2). وكانت العزيمة (¬3) من الله أن يحبسهم في التيه، فلما ندموا لطف الله لهم (¬4) بالغمام والمن والسلوى كرامة لهم ومعجزة لنبيهم. والمن: الصحيح أنه التَّرَنْجَبِين (¬5)، وكان كالعسل الجامس (¬6) حلاوة، كان يقع على ¬

_ (¬1) (البلقاء) كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، وفيها قرى كثيرة ومزارع، قال ياقوت: ومن البلقاء قرية الجبارين. "معجم البلدان" 1/ 489، وذكر ابن جرير في هذه الآية عن السدي أنها (أريحا). وفي القرية التي أمروا بدخولها خلاف يأتي في الآية بعدها. (¬2) انظر "تفسير الطبري" 1/ 269، "تفسير أبي الليث" 1/ 357، "الثعلبي" 1/ 74 ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 75، "تفسير القرطبي" 1/ 406. (¬3) هكذا في جميع النسخ، وهذا اللفظ فيه تجوز، إذ لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه من الصفات الذاتية الفعلية، ثم نحن لا نعرف ما هي إرادة الله ببني إسرائيل. والله أعلم. (¬4) في (ب): (بهم). (¬5) ذكره الطبري 1/ 293، والزجاج في المعاني 2/ 109، والأزهري في "التهذيب" (منن) 4/ 3459، وقال ابن قتيبة (الطرنْجبين)، "غريب القرآن" ص 49، وقال الجوهري. شيء حلو كالطَّرَنْجَبِيَن، الصحاح (منن) 6/ 2207، وقد قيل في المن: أقوال كثيرة ذكر الطبري في "تفسيره" بعضها، منها: قيل: إنه شراب مثل العسل، وقيل: هو العسل وقيل: الخبز الرقائق، وقيل: الزنجبيل، وقيل: هو ما يسقط على الشجر، انظر الآثار في الطبري 1/ 293 - 295 وانظر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 74 ب، "زاد المسير" 1/ 84، وقال ابن كثير بعد أن ذكر الأقوال: (والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم: أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد ..) ابن كثير 1/ 101/ 102. (¬6) الجامس: الجامد. "اللسان" (جمس) 2/ 677، وفي "تهذيب اللغة" (الحامس) =

أشجارهم (¬1) بالأسحار عفوًا بلا علاج منهم، ولا مقاساة مشقة (¬2)، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الكمأة من المن" (¬3). قال أبو عبيدة (¬4): إنما شبهها بالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل؛ لأنه كان ينزل عليهم عفوا بلا علاج، إنما يصبحون وهو بأفنيتهم فيتناولونه، وكذلك الكمأة لا مؤنة فيه ببذر ولا سقى. قال أبو إسحاق: جملة المن ما يمن الله به مما لا تعب فيه ولا نصب (¬5)، ¬

_ = بالحاء، (من) 4/ 3459، وكذا في "اللسان" (منن) 7/ 4279. وفي "الوسيط" (الجامس) 1/ 112. (¬1) في (أ)، (ج): (أسحارهم) وما في (ب) هو الصواب. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" عن الليث من 4/ 3459، وانظر "اللسان" (منن) 7/ 4279. (¬3) الحديث أخرجه البخاري (4478) كتاب (التفسير) تفسير سورة البقرة باب {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" الفتح (4639)، وفي تفسير سورة الأعراف، باب {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (5708) كتاب (الطب) باب (المن شفاء للعين)، وأخرجه مسلم (2049) كتاب (الأشربة) (فضل الكمأة) عن سعيد بن زيد من عدة طرق، والترمذي (2066)، (2067)، (2068) أبواب (الطب) باب (الكمأة والعجوة) عن أبي سعيد وجابر وسعيد بن زيد وأبي هريرة. عارضة الأحوذي بشرح الترمذي، وابن ماجة في كتاب الطب باب الكمأه والعجوة عن أبي سعيد وجابر وسعيد بن زيد وأبي هريرة وأحمد في مسندة عن سعيد بن زيد 1/ 187، 188، وعن أبي هريرة 2/ 301، 305، 325، 356، 357، 421، 488، 490، 511، وقد جمع طرقه ابن كثير في "تفسيره". (¬4) في (أ)، (ج): (أبو عبيد) والكلام لأبي عبيدة كما في "تهذيب اللغة" (من) 4/ 3459. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 110، وانظر "تهذيب اللغة" (من) 4/ 3459.

وأما السلوى فقال المفسرون: إنه طائر كالسمانى (¬1). قال الليث: الواحدة سلواة (¬2) وأنشد: كَمَا انْتَفَضَ السَّلْواَةُ مِنْ بَلَلِ (¬3) الْقَطْرِ (¬4) وهذا قول أكثرهم. وقال بعضهم: السلوى: العسل بلغة كنانة (¬5)، ومثله قال أبو عبيدة (¬6) وأنشد لخالد بن زهير الهذلي: وَقَاسَمَها (¬7) بالله جَهْدًا لَأَنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا (¬8) ¬

_ (¬1) في (أ) (السمان). ذكره ابن جرير عن ابن عباس، والسدي، وقتادة، ومجاهد، ووهب، وابن زيد، والربيع بن أنس، وعامر، والضحاك. الطبري في "تفسيره" 1/ 293 - 295، نحوه في "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 365، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 110، "تفسير الثعلبي" 1/ 75 أ، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 305. (¬2) "تهذيب اللغة" (سلا) 2/ 1726، وانظر "اللسان" (سلا) 4/ 2085، وقال الأخفش: لم يسمع له بواحد، وهو شبيه أن يكون واحده (سلوى) مثل جماعته. "معاني القرآن" للأخفش 1/ 268، وكذا قال الفراء انظر "معاني القرآن"1/ 38. (¬3) في (ج): (تلك). (¬4) صدره: وَإنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ. وورد في "تهذيب اللغة" (سلا) 2/ 1726، "اللسان" (سلا) 4/ 2085، والوسيط للمؤلف 1/ 112، "تفسير القرطبي" 1/ 408، "البحر المحيط" 1/ 205، "الدر المصون" 1/ 307، وهو غير منسوب في هذه المصادر. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" عن المؤرج السدوسي 1/ 75 أ، وعن ابن الأعرابي: السلوى: طائر، وهو في غير القرآن: العسل، ونحوه عن ابن الأنباري "التهذيب" (سلا) 2/ 1726. (¬6) في (ب) (أبو عبيدة). وكلام أبي عبيد في "تهذيب اللغة" (سلا) 2/ 1726، وانظر "اللسان" (سلا) 4/ 2085. (¬7) في (ب): (وقاسمهما). (¬8) البيت من قصيدة لخالد بن زهير يخاطب أبا ذؤيب الهذلي، في قصة حصلت بينهما =

قال أبو علي الفارسي: قرئ على أبي إسحاق في مصنف القاسم (¬1): السلوى: العسل، مع بيت خالد بن زهير. فقال لنا أبو إسحاق: السلوى طائر، وغلط خالد بن زهير، وظن أنه العسل (¬2)، قال أبو علي: والذي عندي في ذلك: أن السلوى كأنه ما يسلي عن غيره لفضيلة [فيه، من فرط طيبه، أو قلة علاج ومعاناة، العسل (¬3) لا يمتنع أن يسمى سلوى لجمعه الأمرين كما يسمى الطائر] (¬4) الذي كان يسقط مع المن به. قلت: والسلوى بمعنى العسل صحيح في اللغة (¬5)، وإن أنكره أبو إسحاق، ولكن الذي في ¬

_ = حول امرأة كانا يترددان عليها، ذكرها السكري في "شرح أشعار الهذليين". و (السلوى) هاهنا: العسل، و (الشور): أخذ العسل من مكانه. ورد البيت في "شرح أشعار الهذليين" 1/ 215، "تهذيب اللغة" (سلا) 2/ 1726، "تفسير الطبري" 8/ 141، "الصحاح" (سلا) 6/ 2381، "تفسير الثعلبي" 1/ 75 أ، "المخصص" 5/ 15، 14/ 241، "اللسان" (سلا) 4/ 2086، "تفسير القرطبي" 1/ 347، "البحر المحيط" 1/ 205، 4/ 279، "الدر المصون" 1/ 370، "فتح القدير" 1/ 138، "الخزانة" 5/ 82، "زاد المسير" 1/ 84. (¬1) في (ب): (بالقسيم). والقاسم: هو أبو عبيد القاسم بن سلام، وكتابه هو (الغريب المصنف) من أجل كتب اللغة. انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص 201، "إنباه الرواة" 3/ 14. (¬2) وقد غلط كذلك ابن عطية في "تفسيره" 1/ 306، وانظر "تفسير القرطبي" 1/ 348. (¬3) كذا ورد في (ب)، ولعل الصواب (والعسل ..). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬5) ونحوه قال القرطبي في "تفسيره" في معرض رده على ابن عطية في تخطئته للهذلي: (وما ادعاه من الإجماع لا يصح، وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل ... وقال الجوهري: السلوى: العسل، وذكر بيت الهذلي ...) القرطبي 1/ 347 - 348، وقد مر قريبًا كلام المؤرج وأبي عبيد أنه بمعنى: العسل، انظر "الصحاح" (سلا) 6/ 2381.

الآية المراد به الطائر، لإجماع أهل التفسير عليه. قال أبو العالية ومقاتل: بعث الله عز وجل سحابة فمطرت (¬1) السمانى في عرض ميل، وقدر طول رمح في السماء، بعضه على بعض (¬2). وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} أي: وقلنا لهم (¬3): كلوا من طيبات، أي: حلالات (¬4)، فالطيب: الحلال، لأنه طاب، والحرام يكون خبيثًا، وأصل الطيب: الطاهر، فسمى الحلال طيبًا، لأنه طاهر لم يتدنس بكونه حرامًا (¬5). {وَمَا ظَلَمُوَنا}: بإبائهم على موسى دخول هذه القرية، ولكنهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التيه، فكانوا إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم حيث ارتحلوا منذ أربعين سنة (¬6). ¬

_ (¬1) قوله: (سحابة فمطرت) ساقط من (ب). (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 75 ب، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 75، "البحر المحيط" 1/ 214. (¬3) انظر "تفسير الطبري"، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 306، "تفسير القرطبي" 1/ 348. (¬4) في (ب). (حلالا). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 110، "تفسير أبي الليث" 1/ 395، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 306، والبغوي في "تفسيره" 1/ 75، ورجح ابن جرير أن المعنى: كلوا من شهيات الذي رزقناكموه، قال: (لأنه وصف ما كان فيه القوم من هنئ العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك بـ (الطيب) الذي هو بمعنى اللذة أحرى من وصفه بأنه حلال مباح). (¬6) نحوه في "البحر المحيط" 1/ 215، وجمهور المفسرين على عموم المعنى، قالوا: وما ظلمونا بفعلهم المعصية وعدم شكرهم تلك النعم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. انظر "تفسير الطبري"، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 306، "الكشاف" 1/ 283، "زاد المسير" 1/ 48، "تفسير القرطبي" 1/ 348، والبيضاوي 1/ 26، والنسفي في "تفسيره" 1/ 129، "تفسير ابن كثير" 1/ 104.

58

وقال جماعة من المفسرين: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: كلوا من الوجه الذي أمرتم وأحل لكم، وذلك أنهم نهوا أن يدخروا لغد، لأن الله تعالى كان يجدد لهم كل يوم من المن والسلوى إلا يوم السبت، فكانوا يأخذون يوم الجمعة ما يكفيهم، فتعدّوا وادخروا وقدّدوا وملّحوا، فعصوا فقال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمُوَنا} أي: ما نقصونا بالمعصية، ولكن نقصوا حظ أنفسهم باستيجابهم عذابي (¬1). وقيل: معناه: وما ضرّونا ولم يَعُد ضرر ظلمهم (¬2) إلينا وإنما عاد إليهم. وابن عباس في رواية عطاء جعل قوله تعالى: [{وَمَا ظَلَمُوَنا} إخبارا عن الموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قال:] (¬3) {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يريد حيث كذبوا نبيي وكفروا نعمتي، وخالفوا ما أنزلت في التوراة والإنجيل، ونقضوا عهدي (¬4). 58 - وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الآية. قال الليث: هي القَرْيَةُ، والقِرْيَة لغتان (¬5)، المكسورة يمانية، ومن ثم اجتمعوا في جمعها على القُرَى، فحملوها على لغة من يقول: كسْوه وكُسَى (¬6). وقال غيره (¬7): القَرْية بالفتح لا غير، وكسرها خطأ، وجمعها قُرَى ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 75 أ، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 360، و"البغوي " 1/ 75، "البحر المحيط" 1/ 215، و"الخازن" 1/ 129. (¬2) في (ج): (طالمهم). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) لم أجده عن ابن عباس فيما اطلعت عليه، والله أعلم. (¬5) (لغتان) ساقط من (ب). (¬6) "تهذيب اللغة" (قرا) 3/ 3911، وانظر "جمهرة أمثال العرب" 2/ 411، "اللسان" 6/ 3617. (¬7) في (ب): (عكرمة).

جاءت نادرة (¬1). ابن السكيت: ما كان من جمع فَعْلَة من الياء والواو على فِعَال كان ممدودًا مثل رَكوةَ ورِكَاء وشَكْوَة وشِكَاء، ولم يسمع في شيء من هذا القصر إلا كَوَّة وكُوًى وقَرْيَة وقُرى جاءتا على غير قياس (¬2). وقال أصحاب الاشتقاق: اشتقاق القرية من قريت، أي جمعت، والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء، والقَرِيّ: مسيل يجتمع الماء إليه (¬3)، ويقال لبيت النمل: قرية، لأنه يجمع النمل (¬4). قال: كَأَنَّ قُرَى نَمْلٍ عَلَى سَرَوَاتِهَا ... يُلَبِّدُهَا (¬5) فِي لَيْلِ سَارِيَةٍ قَطْرُ (¬6) فالقرية تجمع أهلها، ومنه يقال للظهر: القرى، لأنه مجتمع (¬7) القوى. قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما خرجوا من التيه، قال الله (¬8) لهم ادخلوا هذه القرية (¬9). ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب اللغة" (قرا) 3/ 3911، "اللسان" 6/ 3617. (¬2) قال الأزهري: أخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت ثم ذكره، "تهذيب اللغة" (قرا) 3/ 3911، وانظر "اللسان" (قرأ) 6/ 3617. (¬3) انظر "الزاهر" 2/ 107، "جمهرة أمثال العرب" 2/ 411، "تهذيب اللغة" (قرأ) 3/ 3911، "مقاييس اللغة" (قرى) 5/ 78، "المحكم" 6/ 307. (¬4) قال ابن سيده: قرية النمل: ما تجمعه من التراب، "المحكم" 6/ 307، وانظر "اللسان" (قرأ) 6/ 3617. والبيت الذي ذكره يؤيد قول ابن سيده. (¬5) في (ج): (يلرها). (¬6) لم أعثر عليه، ولم أعرف قائله. (¬7) في (ب): (مجتمع)، وفي (ج) (يجمع). (¬8) في (ج): (قالهم الله). (¬9) انظر "تفسير أبي الليث" 1/ 361، "تفسير الثعلبي" 1/ 75ب، "تفسير ابن عطية" 1/ 306، "زاد المسير" 1/ 84، "تفسير ابن كثير" 1/ 104.

قال ابن عباس: هي أريحا (¬1). وقال ابن كيسان: هي الشام (¬2). وقال قتادة والسدي والربيع: هي بيت المقدس (¬3). وقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} هي فِعْلَةٌ من الحَطّ، وضع الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال: حط الحمل عن الدابة، والسيل يحط الحجر عن الجبل (¬4)، قال (¬5): كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ (¬6) السَّيْلُ مِنْ عَلِ (¬7) ¬

_ (¬1) ذكره الطبري عن ابن زيد 1/ 299، وأبو الليث عن الكلبي 1/ 360، قال ابن كثير بعد أن ذكره عن ابن عباس وابن زيد: (وهذا بعيد، لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس)، 1/ 177. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 75 أ، والبغوي في "تفسيره" 1/ 76. (¬3) ذكره الطبري في "تفسيره" عنهم 1/ 299 وابن أبي حاتم في "تفسيره"1/ 368، وذكره الثعلبي في "تفسيره" عن مجاهد 1/ 75 ب. قال ابن عطية: هي بيت المقدس، في قول الجمهور 1/ 306، وانظر "زاد المسير" 1/ 84، "تفسير القرطبي" 1/ 349، "البحر المحيط" 1/ 220، "تفسير ابن كثير" 1/ 104. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 300، "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853، "مقاييس اللغة" 2/ 13، "مفردات الراغب" ص 122، "اللسان" (حطط) 2/ 914. (¬5) هو امرؤ القيس. (¬6) (حطه) ساقط من (ب). (¬7) صدره: مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبر معًا. يصف الفرس يقول: إذا أردت الكر والفر على العدو فهو كذلك، والمقبل: هو المكر، والمدبر: هو المفر، ثم وصف سرعته وصلابته بالجلمود الساقط من علو، والبيت من الشواهد العربية والنحوية ورد في "الكتاب" 4/ 227، وشرح أبياته للسيرافي 2/ 339، "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853، "المخصص" 13/ 202، =

ويقال في الدعاء: حط الله عنك وزرك، أي وضعه عنك، فالحِطّة من الحَطّ مثل الرِّدّة من الرَّدّ، يجوز أن يكون اسمًا، ويجوز أن يكون مصدرًا (¬1). قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير في قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي مغفرة، فقالوا: حنطة (¬2). وقال مقاتل: إنهم أصابوا خطيئة بإبائهم على موسى دخول الأرض التي فيها الجبارون، فأراد الله أن يغفرها لهم، فقيل لهم. قولوا حطة. قال أبو إسحاقا معناه: قولوا: مسألتنا حطة، أي: حط ذنوبنا عنا، ¬

_ = "اللسان" (حطط) 7/ 914. (علا) 15/ 84، "شرح المفصل" 4/ 89، "شرح شذور الذهب" ص 107، "مغني اللبيب" 1/ 155، و"الهمع" 3/ 196، "الخزانة" 2/ 397، 3/ 158 ,242، 6/ 506، "ديوان امرئ القيس" ص 11. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 300، "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853، "اللسان" (حطط) 2/ 914. قال أبو عبيدة: هي مصدر من حط عنا ذنوبنا. "المجاز" 1/ 41، وعلى حاشية (أ) إضافة من الكتاب، صدرها بـ (ش ك)، أي شرح من الكاتب وأذكرها للفائدة (حطة: فِعْلة من الحط، كالجلسة والركبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطة، أو أمرك حطة، والأصل: النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات كقوله: صبر جميل فكلانا مبتلى. والأصل: صبرًا علي، أصبر صبرًا، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب على الأصل، وقيل معناه: أمرنا حطة، أي: أن نحط في هذه القرية ونستقيم فيها، وهل يجوز أن ينصب (حطة في قراءة من نصبها بقولوا، على معنى: قولوا هذه الكلمة؟ فالجواب. لا يبعده والأجود أن ينصب بإضمار فعلها، وينتصب محل ذلك المضمر بقولوا وقُرئ (يُغفر لكم خطاياكم) على البناء للمفعول بالياء والتاء) وهو منقول بنصه من "الكشاف" 1/ 283. (¬2) أخرجه الطبري 1/ 300، 303، 304، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 372، والحاكم في المستدرك وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي 2/ 262، وانظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 178، "تفسير القرطبي" 1/ 350، "تفسير ابن كثير" 1/ 105، والرواية بنصها في "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853.

والقراءة بالرفع على هذا التأويل. قال: ولو قرئت حطة (¬1) كان وجهًا في العربية، كأنه قيل لهم: قولوا (¬2): احطط عنا ذنوبنا حطة (¬3). وقال الليث: بلغنا أن بني إسرائيل حيث قيل لهم: وقولوا حطة، إنما قيل لهم ذلك حتى يستحِطّوا بها أوزارهم فَتُحَطَّ عنهم (¬4). وقال عكرمة: وقولوا حطة، أي: كلمة يحط (¬5) بها عنكم خطاياكم، وهي: لا إله إلا الله، لأنها تحط الذنوب (¬6). قال الفراء: فإن يك كذلك فينبغي أن يكون حطة منصوبة (¬7) في القراءة، لأنك (¬8) تقول: قلت: لا إله إلا الله، فيقول السامع: قلت كلمة صالحة، وإنما يكون الرفع والحكاية إذا صلح قبلها إضمار، فإذا لم يصلح ¬

_ (¬1) قراءة النصب شاذة، وهي قراءة ابن أبي عبلة. انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 307، "الكشاف" 1/ 283، "البحر المحيط" 1/ 222. (¬2) (قولوا) ساقط من (ب). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 110، وانظر "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853. (¬4) "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853. (¬5) في (ب): (تحط). (¬6) أخرج الطبري في "تفسيره" لسنده عن عكرمة: قال قولوا: (لا إله إلا الله) 1/ 301، 300، ونحوه في "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 382، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى عبد بن حميد والطبري في "تفسيره" وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 285. (¬7) نص كلام الفراء: قال: (وبلغني أن ابن عباس قال: أمروا أن يقولوا: نستغفر الله، فإن يك كذلك فينبغي أن تكون (حطة) منصوبة ...) "المعاني" 1/ 38. قال الطبري في "تفسيره": (وأما على تأويل قول عكرمة فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في (حطة) ...) ثم قال: (وفي إجماع القراءة على رفع (الحطة) بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: (وقولوا حطة) ...) 2/ 108. (¬8) (لأنك) ساقط من (ب).

كان منصوبًا، كما تقول (¬1): قلت كلاما حسنا (¬2). وقوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} [الكهف:22] هو رفع، لأن قبله ضمير أسمائهم، المعنى: هم ثلاثة، وقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] أي: ولا تقولوا الآلهة ثلاثة (¬3). وقال ابن الأنباري: إذا جاء بعد القول حرف مفرد يجوز أن يكون نعتا للقول نصبت كقولك: قلت حقا؛ لأنه يحسن أن يقال: قلت قولا حقا، وكذلك: قلت صوابًا وقلت خطأ، وإذا جاء حرف مفرد لا يجوز أن يكون نعتًا للقول رفعت، كقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} معناه: سيقولون هم ثلاثة، ولا وجه للنصب (¬4). وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} (¬5) فحوى الكلام، وإجماع القراء على رفعها، دليل على أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها (¬6). فإن كانوا لم يؤمروا بهذه اللفظة ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج) (يقول) وما في (ب). موافق لما في معاني القرآن 1/ 38، وهو الأنسب للسياق. (¬2) في المعاني: (وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمار ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة، كان منصوباً بالقول كقولك: مررت بزيد، ثم تجعل هذا كلمة، فتقول: قلت كلامًا حسنًا ...) 1/ 38. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 39. (¬4) انظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 38، "تفسير الطبري" 1/ 301. (¬5) في (ب) (وقولوا). (¬6) ذكر الطبري في الوجه الذي رفعت من أجله (حطة) عدة أقوال: فقيل: رفعت على معنى: (قولوا) ليكن منك حطة لذنوبنا. وقيل: هي كلمة مرفوعة أمروا بقولها كذلك، وهذان القولان لنحويي البصرة. وقيل: رفعت بتقدير: هذه حطة. وقيل: رفعت بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة فتكون حطة خبر (ما) ونسب هذين القولين لنحويي الكوفة. الطبري في "تفسيره" 1/ 300، وانظر "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 41، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 178، و"تفسير الغريب" لابن قتيبة ص 50، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 48.

بعينها فنصبها جائز على معنى: قولوا قولًا حاطًّا لذنوبكم. ويجوز نصبها أيضًا وإن كانوا قد أمروا بها على معنى: وقولوا: احطط عنا يا ربنا ذنوبنا حطة (¬1)، كقراءة من قرأ {قَالُوا مَعْذِرَةً} (¬2) [الأعراف: 164] بالنصب. وإذا جاء بعد القول جملة من الكلام، لم يكن للقول فيها عمل، كقولك: قلت: عبد الله عالم، فهو عامل (¬3) في موضع الجملة؛ لأنها مجعولة في موضع الكلام، ولو قلت: قلت (¬4) كلاما، نصبت. وسنذكر بيانا لهذا زائدا عند قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] إن شاء الله. والأصح والذي عليه الجمهور: أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها، وقد روي لنا عن الأزهري (¬5)، عن المنذري عن ابن فهم (¬6)، عن محمد بن سلام (¬7)، عن يونس قال: ¬

_ (¬1) انظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 38، والأخفش 1/ 269، والزجاج 1/ 110. (¬2) قراءة حفص عن عاصم بالنصب وبقية السبعة بالرفع، انظر "السبعة" لابن مجاهد ص 296، و"التيسير" ص 144. (¬3) في (ب): (عالم). (¬4) (قلت) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (الزهري). (¬6) هو الحافظ العلامة، أبو علي الحسين بن محمد بن فهم بن محرز البغدادي، روى عن محمد بن سلام وغيره، قال الدارقطني: ليس بالقوي، وفاته سنة تسع وثمانين ومائتين. انظر "تاريخ بغداد" 8/ 92، "سير أعلام النبلاء" 13/ 427، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 680. (¬7) هو محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم، أبو عبد الله الجمحي، البصري، مولى قدامة بن مظعون، كان من أهل اللغة والأدب، روى عنه الجم الغفير، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. انظر "طبقات اللغويين والنحويين" ص 180، "تاريخ بغداد" 5/ 327، "إنباه الرواة" 3/ 143.

قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} (¬1) هذه حكاية، هكذا أمروا (¬2). وقوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ} (¬3) يعني بابًا من أبوابها (¬4). {سُجَّدًا}: قال ابن عباس: ركعا (¬5)، وهو شدة الانحناء، والمعنى: منحنين متواضعين (¬6). قال مجاهد: هو باب حطة من بيت المقدس، طوطئ لهم الباب؛ ليخفضوا رؤوسهم، فلم يخفضوا ولم يركعوا، ودخلوا متزحفين على استاههم (¬7). قال الحسين بن الفضل: لو لم يسجدوا لذكر الله ذلك منهم وذمهم به ¬

_ (¬1) (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) "تهذيب اللغة" (حط) 1/ 853، وذكره الأخفش عن يونس في "معاني القرآن" 1/ 270، ونحوه عند أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 41، وذكر هذا القول الطبري في "تفسيره" 1/ 301، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 362. (¬3) في (ب): (سجدا). (¬4) أي: أبواب القرية. انظر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 75 ب. (¬5) أخرجه الطبري 1/ 300، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 370، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. "المستدرك" 2/ 262، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى ابن جرير، والحاكم وابن أبي حاتم ووكيع والفريابي، وعبد بن حميد وابن المنذر. "الدر" 1/ 138. (¬6) انظر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 75 ب، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 307. (¬7) في (ب): (أستاتهم). أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 300، 325، وانظر "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 375، "تفسير الثعلبي" 1/ 75 ب، "الدر المنثور" 1/ 138. وقد ورد عن ابن عباس نحوه في روايات كثيرة، انظر "تفسير الطبري" 1/ 304. كما ورد بهذا المعنى حديث مرفوع عن أبي هريرة، أخرجه البخاري، انظر: "الفتح" 8/ 164، و"تفسير الطبري" 1/ 138.

كما ذمهم بتبديل الكلمة لما قالوا خلاف ما أمروا به (¬1). والله أعلم. وقوله تعالى: {نَغْفِرْ (¬2) لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} أصل الغفر: الستر والتغطية، وغفر الله ذنوبه، أي: سترها، كل شيء سترته قد غفرته. والمغفر يكون تحت بيضة الحديد يغفر الرأس (¬3). قال ابن شميل: هي حلق تجعل أسفل البيضة تسبغ على العنق فتقيه، وربما جعل من ديباج وخز أسفل البيضة. الأصمعي: غفر الرجل متاعه يغفر غفرًا: إذا أوعاه. ويقال: اصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ أي: أغطى له (¬4). والغفارة: خرقة تستر رأس المرأة تقي بها الخمار من الدهن (¬5)، وكل ثوب يغطى به شيء فهو غفارة، ومنه غفارة البزيون (¬6) يغشى بها الرحال (¬7). ¬

_ (¬1) قول الحسين لم أجده فيما اطلعت عليه، والله أعلم. والحديث الصحيح، والآثار ترد قوله، ففي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قيل: لبني إسرائيل: (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) فدخلوا يزحفون على استاههم، فبدلوا"، وقالوا: حطة حبة في شعرة. "الفتح" 8/ 164، وكذا الآثار عن ابن عباس ومجاهد في هذا المعنى كلها ترد قول الحسين بن الفضل. انظر "تفسير الطبري" 1/ 301. (¬2) بالياء على قراءة نافع، انظر: "السبعة" ص 157. (¬3) "تهذيب اللغة" (غفر) 3/ 2679، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 302، "الزاهر" 1/ 192، "الصحاح" (غفر) 2/ 770، "مقاييس اللغة" (غفر) 4/ 385، "اللسان" (غفر) 6/ 3272. (¬4) كلام ابن شميل والأصمعي ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (غفر) 3/ 2679، وانظر: "الزاهر" 1/ 109. (¬5) ذكره الأزهري عن أبي عبيد عن أبي الوليد الكلابي "تهذيب اللغة" (غفر) 3/ 2679. (¬6) (البزيون) كذا ورد في "تهذيب اللغة" 3/ 2679، وفي "اللسان" (الزنون) 1/ 277 - 278، وقال في "الصحاح" (البزيون) بالضم السندس (بزن) 5/ 2078، وأورد صاحب اللسان 1/ 278 كلام الجوهري ثم قال: وقال ابن بري: هو رقيق الديباج. (¬7) في (ب): (الرجال). والكلام ذكره الأزهري عن أبي عبيد عن الأموي. "تهذيب اللغة" (غفر) 3/ 2679، وانظر: "اللسان" (غفر) 6/ 3274.

وأجمع القراء على إظهار الراء عند اللام، إلا ما روى عن أبي عمرو من إدغامه الراء عند اللام (¬1). قال الزجاج: وهوخطأ فاحش، وأحسب الذين رووا (¬2) عن أبي عمرو غالطين (¬3)، ولا يدغم الراء في اللام إذا قلت: مر لي بشيء؛ لأن الراء حرف مكرر، ولا يدغم الزائد في الناقص (¬4) للإخلال به، فأما اللام فيجوز إدغامه في الراء، ولو أدغمت الراء في اللام لذهب التكرير من الراء وهذا إجماع النحويين (¬5). وقال أبو الفتح الموصلي: الراء لما فيها من التكرير لا يجوز إدغامها فيما يليها من الحروف؛ لأن إدغامها في غيرها يسلبها ما فيها من التكرير. ¬

_ (¬1) نقل بعضهم عن أبي عمرو إدغام الراء بدون اختلاف، بعضهم نقل عنه باختلاف. انظر "السبعة" ص 121، "التيسير" ص 44، "الكشف" 1/ 157، "النشر" 2/ 12. (¬2) في (ب): (رووا ذلك) والزيادة ليست في المعاني للزجاج 1/ 400. (¬3) وعلى نهجه سار الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قال: (فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء؛ ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأً فاحشًا، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين؛ لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو) "الكشاف" 1/ 407، وانطر: "البيان" 1/ 83، ومذهب سيبويه وأصحابه: أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام كما في "الكتاب" 4/ 448، "الكشف" 1/ 157. لكن هذا لا يلزم منه رد قراءة سبعية، وهي مسألة خلافية، فقد ذكر أبو حيان في "البحر" أن الكسائي والفراء أجازا ذلك وحكياه سماعًا، وقد تصدى أبو حيان للرد على الزمخشري وأجاد في ذلك، انظر: "البحر المحيط" 2/ 361، 362، وانظر تعليق عضيمة على "المقتضب"1/ 347. (¬4) قوله: (ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به) ليس في "المعاني" 1/ 400. (¬5) انظر كلام الزجاج في "المعاني" 1/ 400. عند تفسير قوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.

وأما قراءة أبي عمرو {نَغْفِرْ لَكُمْ} (¬1) بإدغام الراء في اللام فمدفوع عندنا [وغير معروف عند أصحابنا، وإنما هو شيء رواه القراء، ولا قوة له في القياس (¬2). والخطايا: جمع خطيئة (¬3)] (¬4) وهي (¬5) الذنب على عمد قال أبو الهيثم: يقال: خطئ: ما صنعه عمدا، وهو الذنب، وأخطأ: ما صنعه خطأ غير عمد (¬6). ويأتي بيان هذا مشروحًا عند قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (¬7). قال الزجاج: الأصل في خطايا كان خطايؤ (¬8) مثل خطائع، لأنها جمع خطيئة، فأبدل من هذه الياء همزة؛ فصارت ¬

_ (¬1) البقرة: 58، الأعراف: 161، وفي "سر صناعة الإعراب": {يَغْفِرْ لَكُمْ} بدون واو، جزء من آية في الأحقاف: 31، الصف: 12، ونوح: 4. (¬2) "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح ابن جني 1/ 193، والرواية إذا ثبتت فهي أقوى من القياس، وانظر التعليق السابق على كلام الزجاج. (¬3) ذهب بعض الكوفيين إلى أنه: جمع (خطية) دون همز، واختاره الطبري 1/ 302، وانظر "تفسير ابن عطية" 1/ 308، "تفسير القرطبي" 1/ 353، 354. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬5) في (ب): (وهو). (¬6) نص الكلام في "التهذيب" (خطئت) لما صنعه عمدا وهو الذنب، (أخطأت) لما صنعه خطأ غير عمد. "تهذيب اللغة" (خطئ) 1/ 1061، وانظر "اللسان" (خطأ) 1/ 1061. (¬7) البقرة: 81، وهناك بيَّن الواحدي الفرق بين (أخطأ) و (خطئ). (¬8) كذا وردت في (أ)، (ج) وفي (ب): (كل خطاييا) وهو خطأ، وفي "معاني القرآن" للزجاج رسمت (خطائِى) وكلامه يدل على أن المراد خطائئ، فلم يذكر أصل الكلمة خَطَايئ كما في "تهذيب اللغة"، انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 111، "تهذيب اللغة" (خطئ) 1/ 1060 - 1061.

[خطائئ] (¬1) مثل خطاعع. قلت: وإنما أبدلت هذه (¬2) الياء همزة، لأن هذه الياء إذا وقعت في الجمع صارت همزة، مثل: ترائب وسحائب، وعلة ذلك نذكرها في قراءة من قرأ: معائش (¬3) بالهمزة (¬4). رجعنا إلى كلام الزجاج: فاجتمعت همزتان، فقلبت الثانية ياء فصار خَطَائِي مثل خَطَاعِي ثم قلبت الياء والكسرة إلى الفتحة والألف، فصار خَطاءَا، مثل خَطاعا (¬5) فأبدلت الهمزة ياء، لوقوعها بين ألفين، وإنما أبدلت الهمزة حين وقعت بين ألفين؛ لأن الهمزة مجانسة للألفات، فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، فأبدلت الهمزة ياء فصارت خَطايَا (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (خطايو) وفي (ب): (خطاي) وما أثبت هو المثبت في "تهذيب اللغة" 1/ 1060 - 1061، وقريب مما في (ب)، وفي "اللسان" (خطائي). "اللسان" (خطأ) 2/ 1193. (¬2) في (ج): (همزة). (¬3) الأعراف: 10، والحجر: 20. (¬4) الجمهور على القراءة بالياء، وقرأ الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة عن نافع، وابن عامر في رواية بالهمز، والقياس القراءة بدون همز، لأن الياء التي في المفرد إذا كانت أصلا فلا تهمز مثل معايش وإذا كانت زائدة همزت مثل: صحيفة وصحائف، قال أبو حيان: لكن رواه ثقات فوجب قبوله. انظر "البحر المحيط" 4/ 271، وانظر هذه المسألة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 373، والزجاج 2/ 353، "تفسير ابن عطية" 1/ 309. (¬5) في "تهذيب اللغة" (خطاءى) مثل (خطئ) 1/ 1061، والمثبت هنا مثل ما في "معاني القرآن" 1/ 111، وكذا في "اللسان" 1/ 1193. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 111، والنص من "لتهذيب" (خطئ) 1/ 1061، "اللسان" (خطأ) 2/ 1193، وانظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 179، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 309، و"البيان" 1/ 84 والقرطبي في "تفسيره" 1/ 353.

59

وقوله تعالى: {سَنَزِيدُ اَلمُحسِنِينَ} أي: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحسانا وثوابا (¬1). 59 - قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} الآية. (التبديل) معناه: التغيير إلى بدل، وذكرناه مستقصى عند قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]، والمعنى: أنهم غيروا تلك الكلمة التي أمروا بها، وقالوا بدل حطة: حنطة، وهذا (¬2) قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والمفسرين (¬3). وقال أبو إسحاق: حرفوا وقالوا كلمة غير هذه التي أمروا بها، وجملة ما قالوا إنه أمر عظيم سماهم الله به فاسقين (¬4). وقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}. أظهر الكناية هاهنا تأكيدا (¬5)، وكنىَّ في سورة الأعراف فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف: 162]. والعرب تظهر الكنايات توكيدًا، قال: ¬

_ (¬1) وقيل: المراد العموم من أهل الخطيئة وغيرهم فمن كان محسنا زيد في إحسانه ومن كان مخطئا غفر له خطيئته. انظر "تفسير الطبري" 1/ 302، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 309، "البحر المحيط" 1/ 224. (¬2) في (ب): (وهو). (¬3) انظر الآثار عنهم في الطبري في "تفسيره" 1/ 302 - 305، وكذا في "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 375، ولم يرد عندهما عن سعيد، انظر "زاد المسير" 1/ 86، "تفسير ابن كثير" 1/ 106. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 110. (¬5) قال الزمخشري: (وفي تكرير (الذين ظلموا) زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم، وقد جاء في سورة الأعراف بالإضمار)، "الكشاف" 1/ 283، وانظر "تفسير القرطبي" 1/ 354، "الدر المصون" 1/ 381.

لَا (¬1) أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيْءٌ ... نَغَّص الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيَرا (¬2) أراد لا أرى الموت يسبقه شيء، فأظهر الكناية. وأنشد ابن الأنباري: فَيَارَبَّ لَيْلَى أَنْتَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْتَ الَّذِي فِي رَحْمَةِ اللهِ أَطْمَعُ (¬3) أراد في رحمته أطمع، فأظهر الهاء. والرجز: العذاب (¬4)، [قال رؤبة] (¬5): كَمْ رَامَنَا مِنْ ذِي عَدِيدٍ مُبْرِ (¬6) حَتَّى وَقَمْنَا كَيْدَهُ بِالرِّجْزِ (¬7) ¬

_ (¬1) في (ج): (ألا ترى). (¬2) البيت نسب لعدي بن زيد، ونسبه بعضهم لسواد بن عدي، وبعضهم لأمية بن أبي الصلت. وهو من "شواهد سيبويه" 1/ 62، وانظر "شرح شواهد سيبويه" للسيرافي 1/ 125، "الخصائص" 3/ 53، "الإملاء" 1/ 45، "تفسير القرطبي" 1/ 355، "مغني اللبيب" 2/ 500، "الخزانة" 1/ 378، 379، 6/ 90، 11/ 366، "اللسان" (نغص) 8/ 4488، "الدر المصون" 1/ 381، "فتح القدير" 1/ 141. (¬3) ورد البيت في "همع الهوامع" 1/ 301، و"الدر اللوامع على همع الهوامع" و"شرح شواهد المغني" للسيوطي: قال: قيل: إنه لمجنون ليلى، وبحثت عنه في شعر مجنون ليلى، الذي جمعه عبد الستار أحمد فرج، ولم أجده، والله أعلم. (¬4) انظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 70، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 43، "العمدة في غريب القرآن" لمكي ص 76. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬6) في (ج): (رجز). (¬7) الرجز ورد في "الزاهر" 2/ 214، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 111، وورد الثاني في "تهذيب اللغة"، وبعده بيت آخر (جرز) 1/ 580، وكذا في "اللسان" (جزر) =

وقال الله تعالى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134]، أي العذاب، ثم يسمى كيد الشيطان رجزًا لأنه سبب العذاب، قال الله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} (¬1) [الأنفال: 11]. وقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، قيل: إنه عبادة الأوثان؛ لأنه سبب العذاب (¬2). قال أهل اللغة: وأصل الرجز في اللغة: تتابع الحركات، ومن ذلك قولهم: ناقة رجزاء إذا كانت قوائمها ترتعد عند قيامها، ومن هذا رجز الشعر؛ لأنه أقصر أبيات الشعر، فالانتقال من بيت إلى بيت سريع (¬3). أو؛ لأن الرجز في الشعر متحرك وساكن ثم متحرك وسكن في كل أجزائه، فهو كالرعدة في رجل الناقة تتحرك ثم تسكن وتستمر (¬4) على ذلك (¬5). فحقيقة معنى الرجز: أنه العذاب المقلقل لشدته (¬6) قلقلة شديدة متتابعة (¬7). ¬

_ = 1/ 597، وفي "زاد المسير" 1/ 86، "البحر المحيط" 1/ 218، وفي ديوان رؤبة ص 64. ومعنى (مبزي) أي: متفاخر، (وقمنا): رددنا كيده. (¬1) في (أ)، (ج): (وليذهب) تصحيف. (¬2) انظر "الوسيط" 1/ 115، "مفردات الراغب" ص 188. (¬3) ذكره الأزهري عن الليث. "تهذيب" (رجز) 2/ 1356، وانظر: "مفردات الراغب" ص 187. (¬4) في (ج): (ويستمر). (¬5) انظر: "اللسان" (رجز) 3/ 1588. (¬6) في (ب): (لشدة). (¬7) قال الأزهري: (قال أبو إسحاق: ومعنى الرجز في العذاب. وهو العذاب المقلقل ...) "التهذيب" (رجز) 2/ 1365 "اللسان" (رجز) 3/ 1588.

60

قال الضحاك: أرسل الله عليهم ظلمةً وطاعونًا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفًا، عقوبة لهم بتبديلهم ما أمروا (¬1) به. 60 - قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى} الآية قال المفسرون: عطش بنو إسرائيل في التيه، فقالوا: يا موسى، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى فأوحى الله عز وجل إليه أن اضرب بعصاك الحجر (¬2). قال ابن عباس: كان حجرًا خفيفًا مربعًا مثل رأس الرجل، أمر أن يحمله، فكان يضعه في مِخْلاَته (¬3)، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه (¬4)، فعلى هذا الألف واللام فيه للتعريف (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ولم يعزه 1/ 75 ب، وكذا البغوي في "تفسيره" 1/ 76، ولم أجده منسوبا للضحاك فيما اطلعت عليه، والله أعلم. قال ابن جرير بعد أن ذكر الآثار في معنى الآية: (وقد دللنا على أن تأويل (الرجز) العذاب، وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء، وجائز أن يكون طاعونًا، وجائز أن يكون غيره، ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، أي الأصناف ذلك كان) الطبري في "تفسيره" 1/ 306، وانظر "البحر المحيط" 1/ 225. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 76 أ، وانظر "تفسير أبي الليث" 1/ 364، وورد بهذا المعنى آثار عن السلف ساقها ابن جرير في "تفسيره" 1/ 306 - 307. (¬3) الْمِخْلاة: ما يوضع فيه الشيء، سميت بذلك لأنه يوضع بها الحشيش الذي يختلى من الربيع، أي: يحش. "اللسان" (خلا) 2/ 1258. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 76 أ، والبغوي 1/ 77، ونحوه عند الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس 1/ 307، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 377، "تفسير أبي الليث" ولم يعزه، وانظر: "زاد المسير" 1/ 87، "تفسير ابن كثير" 1/ 107. (¬5) أي: أن (ال) للعهد، فهو حجر معهود لدى موسى. انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 76 أ، "الكشاف" 1/ 284، "البحر المحيط" 1/ 277.

وقال وهب: كان موسى عليه السلام يقرع لهم أقرب (¬1) حجر من عرض الحجارة بعصاه، فينفجر عيونا لكل سبط عين (¬2)، والألف واللام على هذا للجنس (¬3). وقوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ} معناه: فضرب فانفجرت، وعرف بقوله: {فَانْفَجَرَتْ} أنه قد ضرب، ومثله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] قال الفراء: ومثله في الكلام: أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، والمعنى: فاتجرت فاكتسبت (¬4). ومعنى انفجرت: انشقت (¬5)، والانفجار: الانشقاق، وأصل الفجر في اللغة: الشق، وفَجْرُ السِّكْر: بَثْقُه (¬6). وسمي فجر النهار لانصداعه، أو (¬7) لشقه ظلمة الليل، ويقال انفجر الصبح، إذا سال ضوؤه في سواد ¬

_ (¬1) (أقرب) ساقط من (ج). (¬2) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 76 ب، والبغوي 1/ 77، وذكره الزمخشري عن الحسن، في "الكشاف" 1/ 284، وفي "البحر" عن وهب والحسن 1/ 227، وانظر "زاد المسير" 1/ 78. (¬3) في (ب): (الجنس). ذكره الزمخشري، وقال. وهذا أظهر في "الحجة" وأبين في القدرة، "الكشاف" 1/ 284، وانظر "البحر المحيط" 1/ 227، "تفسير ابن كثير" 1/ 107. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 40، وقوله: (معناه) إلخ من كلام الفراء. وانظر "تفسير الطبري" 1/ 306، "زاد المسير" 1/ 78، والبيان 1/ 85. (¬5) وقيل: سالت، وقيل: هي بمعنى انبجست فهما بمعنى واحد، وقيل: الانشقاق أوسع من الانبجاس. انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 312، "القرطبي" 1/ 358، و"تفسير النسفي" 1/ 131، و"الخازن" 1/ 131، "البحر المحيط" 1/ 228. (¬6) في (ب، ج): (شقه). (السِّكْر): ما يُسد به النهر ونحوه، انظر: "اللسان" (سكر) 4/ 2047 - 2549. (¬7) في (ب): (ولشقه) بالواو.

الليل، كانفجار الماء في النهر، ويقال: فَجَرَ وأَفْجَرَ ينبوعا من ماء، أي: شقه وأخرجه. قال الليث: والْمَفْجَر الموضع الذي يُفْجَر منه (¬1). ابن الأعرابي: تَفَجَّر الرجل بعطائه، ورجل ذو فَجَر، وأتيناه فأفجرناه، أي: وجدناه فاجرًا، أي: معطيا (¬2). قال ابن مقبل: إذَا الرِّفاقُ أَنَاخُوا حَوْلَ مَنْزِلِهِ ... حَلُّوا بِذِي فَجَرَاتٍ زَنْدُهُ وَارِي (¬3) أي برجل كثير العطايا، كأنه يتشقق بما عنده فيجود ولا يمسك كتفجر الماء. والفجور الذي هو المعصية من هذا، لأن الفاجر شقّ أمر الله أو شقّ العصا بخروجه إلى الفسق (¬4). وقوله تعالى: {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} قال الليث: اثنان (¬5) اسمان قرينان، لا يُفْرَدان لا يقال لأحدهما: اثن، كما أن الثلاثة (¬6) أسماء مقترنة لا تفرق (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (فجر) 3/ 2743 - 2744، "الصحاح" (فجر) 2/ 778، "المحكم" (فجر) 7/ 275، "اللسان" (فجر) 6/ 3351 - 3353. (¬2) "تهذيب اللغة" (فجر) 3/ 2743 - 2744، وانظر المراجع السابقة. (¬3) ورد البيت في "ديوان ابن مقبل" ص 116، و"العمدة في صناعة الشعر" لابن رشيق 2/ 180. قوله: (الرفاق): يريد الرفقة المسافرين معه، (ذو فجرات): أي ذو عطايا، يتفجر بالسخاء، (زنده واري): كناية عن الكرم والنجدة. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (فجر) 3/ 2743 - 2744، "المحكم" (فجر) 7/ 276. (¬5) (اثنان) ساقط من (ب). (¬6) في (ج): (ثلاثه). (¬7) في (أ)، (ج): (يفرق) بالياء، وأثبت ما في (ب) لأنه أنسب للسياق، ومثله ورد في "تهذيب اللغة" (اثنى) 1/ 508.

يقال في التأنيث: اثنتان ولا يفردان (¬1). والألف في اثنى واثنتى (¬2) ألف وصل، لا تظهر في اللفظ. والأصل فيها (¬3): ثَنَيٌ (¬4)، وربما قالوا للاثنتين: الثنتان (¬5)، كما قالوا: هي ابنة فلان، وهي بنته، والألف في الابنة ألف وصل أيضا فإن جاءت هذه الألف مقطوعة في الشعر (¬6) فهو شاذ كما قال: إِذَا جَاوَزَ الإثْنَيْنِ سِرٌّ فإنَّهُ ... بِنَثٍّ وَتَكْثِير الْوُشَاةِ قَمِينُ (¬7) ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" (ولا تفردان). (¬2) في (ب): (اثنتا)، وفي "تهذيب اللغة" (اثنين) و (اثنتين) 1/ 508. (¬3) (فيها) كذا في جميع النسخ، وفي "تهذيب اللغة" (فيهما). (¬4) (ثنى) كذا ورد في "تهذيب اللغة" 1/ 508، وكذا في "اللسان" (ثنى) 1/ 515، وفي القاموس: (وأصله: (ثِنْيٌ) لجمعهم إياه على أثناء). القاموس (ثني) ص 1267. (¬5) في (ب): (الثنيان). (ثنتان) بحذف ألف الوصل، لأنها إنما اجتلبت لسكون الثاء، فلما تحركت، سقطت، وتاؤه مبدلة من ياء، لأنه من ثنيت. انظر القاموس (ثنى) ص 1267. (¬6) في (أ)، (ج): (شعر) وما في (ب) موافق لما في "تهذيب اللغة"، وهو ما أثبته. (¬7) البيت لقيس بن الخطيم، ونسبه في "الكامل" إلى جميل بن معمر، والصحيح أنه لقيس. ويروى البيت: إِذَا ضَيَّع الإثنَانِ سِرًّا فَإنَّهُ ... بِنَشْر وَتَضْيِيع الْوُشَاةِ قَمِينُ وقوله: (بِنَثّ): (النَّثُ) بالنون والثاء: مصدر نَثَّ الحديث، أي: أفشاه و (قمين): حقيق، ورد البيت في "نوادر أبي زيد" ص 525، "الكامل" 2/ 313، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 195، و"حماسة البحتري" ص 147، "تهذيب اللغة" (قمن) 3/ 349، و (ثني) 1/ 508، "الصحاح" (ثنى) 6/ 2295، "اللسان" (نثث) 7/ 4339، و (قمن) 6/ 3745، و (ثنى) 1/ 512، "شرح المفصل" 9/ 19، 137، والهمع 6/ 224، وديوان قيس بن الخطيم ص 105. والشاهد قطع همزة (الإثنين) وهذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وبعضهم يرويه (إذا جاوز الخلين) ليتخلصوا من هذه الضرورة.

انتهى كلامه (¬1). والعلة في إدخال ألف الوصل في اثنين واثنتين كالعلة في إدخالها في (الاسم)، وقد ذكرنا (¬2). وأصل هذا الحرف في اللغة من الثني وهو ضم واحد إلى واحد، والثني الاسم. ويقال: ثِنْيُ الثوب لما كف من أطرافه، وأصل الثَّني في جميع (¬3) أبنيته: الكف (¬4) والرج والعطف والطي والحنو، وكلها متقارب. وكل شيء عطفته فقد ثنيته، ومنه قوله تعالى: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود:5] أي يحنونها ويطوون (¬5) ما فيها، ليسروا عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وَثِنْيَا الحبل: طرفاه، واحده ثِنْى (¬7)، وقال طرفة: ........... وَثِنْيَاه بِالْيَدِ (¬8) ¬

_ (¬1) أي كلام الليث، والكلام الآتي بعده كذلك لليث كما سيأتي. انظر "تهذيب اللغة" (ثنى) 15/ 142، "اللسان" (ثنى) 1/ 512، ونحوه في "الصحاح" 6/ 2295. (¬2) ذكره عند شرح (الاسم) في البسملة حيث قال: (واجتلبت ألف الوصل ليمكن الابتداء به) إلخ. (¬3) في (ب): (جمع). (¬4) بهذا انتهى كلام الليث كما في "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 508. (¬5) في (ب): (يطيون). (¬6) انظر "معاني القرآن" للفراء 2/ 3، "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 504. (¬7) "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 505، وانظر "اللسان" (ثنى) 1/ 515. (¬8) جزء من بيت معلقة طرفة وتمامه: لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأ الْفَتَى ... لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ وقوله (الطِّوَل): الحبل، ورد البيت في "شرح القصائد المشهورات" للنحاس ص 84، "المعاني الكبير" 3/ 1207، "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 505، و"المجمل" (طول) 2/ 590، (مهى) 3/ 817، "المخصص" 15/ 82، "مقاييس اللغة" (طول) 3/ 434، و (مهى) 5/ 279، "اللسان" (طول) 5/ 2727، و (ثنى) 1/ 516، و (مها) 7/ 4292.

أراد الطرف المثني في الرسغ، فلما انثنى جعله ثنيين، أي لأنه عقد بعقدين، ويقال: حلف (¬1) فلان يمينا ليس فيها ثُنْيَا ولا (¬2) ثَنوْىَ ولا ثَنِيَّة ولا مَثْنَوِيَّة ولا استثناء، كله واحد، لأن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد ما قاله بمشيئة الله غيره، وصرفه (¬3)، والحبل إذا عطفته وصرفته فقد جعلته ثنيين (¬4). وأثناء الحية: مطاويها، جمع ثِنْي، وما كان من نَضْد هذه الحروف فهو من هذا المعنى، ولا يمكن ذكر الجميع (¬5). وقوله تعالى: {عَشْرَةَ} العَشْر عدد المؤنث، والعَشَرَةُ عدد المذكر، تقول: عَشْرُ نسوة وعَشَرَةُ رجال، فإذا جاوزت ذلك قلت في المؤنث: إحدى عَشَرَة، ومن العرب من يكسر الشين فيقول: عَشِرة، ومنهم من يُسَكن الشين فيقول: إحدى عَشْرة. وكذلك اثنتي (¬6) عَشَرة واثنتي عَشِرَة واثنتي عشْرة، ثلاث لغات (¬7)، ¬

_ (¬1) في (ب): (خلف). (¬2) في (ب): (ليس فيها ثنوا ولا ثنيا). (¬3) "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 505، غير قوله: (وصرفه)، وكذا ورد في "اللسان" 1/ 516. (¬4) في (ب): (ثنتين). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 505 "الصحاح" (ثنى) 6/ 2293، "مقاييس اللغة" 1/ 391، "اللسان" (ثنى) 1/ 516. (¬6) في (أ)، (ج): (اثنتا) في المواضع الثلاثة، وما في (ب) موافق لما في "تهذيب اللغة"، وهو الصواب. (¬7) انتهى ملخصًا من كلام الليث كما في "تهذيب اللغة" (عشر) 3/ 2445، وانظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 112، "اللسان" (عشر) 5/ 2952، والكسر لغة تميم، والإسكان لغة أهل الحجاز، انظر "معاني القرآن" للأخفش 1/ 271، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180.

والقراءة (¬1) بسكون الشين (¬2). فمن فتح الشين فهو أصل البناء، ومن سكن تحرى التخفيف، ثم دخلت الكسرة على مذهب من يكسر ذهابًا إلى أن الساكن يحرك بالكسر (¬3). قال ابن الأنباري: تقول في المؤنث: إحدى عَشْرَة جارية، واثنتا عَشْرَة، قال: وبنو تميم يكسرون الشين (¬4)، فهما لغتان وقرأ بهما القراء. قال: وأهل اللغة والنحو لا يعرفون عَشَرة بفتح مع النيف، قال: وروي عن الأعمش (¬5) أنه قرأ: اثنتا (¬6) عَشَرة بفتح الشين (¬7)، وأهل اللغة لا يعرفونه (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: (ومن العرب) إلى قوله: (والقراءة) فيه تقديم وتأخير وتكرار في (ج). (¬2) القراءة بالسكون قراءة جمهور القراء، وقرأ مجاهد، وطلحة، وعيسى، ويحيى بن وثاب، وابن أبي ليلى، ويزيد بكسر الشين، ورواية عن أبي عمرو والمشهور عنه الإسكان، وقرأ ابن الفضل الأنصاري والأعمش بفتح الشين. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180، "تفسير ابن عطية" 1/ 312 - 313، "تفسير القرطبي" 1/ 358، "البحر المحيط" 1/ 229. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 76 ب، "المخصص" 17/ 102. (¬4) قوله: (وبنو تميم يكسرون الشين، أي مع المؤنث، أما مع المذكر فالشين مفتوحة، وقد تسكن عين (عشرة) لتوالي الحركات). انظر "الأشموني مع الصبان" 4/ 76. (¬5) هو الإمام سليمان بن مهران، أبو محمد الأسدي الكاهلي بالولاء، أصله من أعمال الري، أقرأ الناس، ونشر العلم دهرا طويلا، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 342، "تاريخ بغداد" 9/ 23، "معرفة القراء الكبار" 1/ 78، "غاية النهاية" 1/ 315. (¬6) في (ب): (ثنتى) تصحيف. (¬7) ذكر ابن الأنباري القراءة بسنده عن الأعمش وعن العباس بن الفضل الأنصاري. المذكر والمؤنث ص 1/ 315. (¬8) انتهى كلام ابن الأنباري ملخصًا من "المذكر والمؤنث" ص 632، 633، انظر: =

والعشرة اسم موضوع (¬1) لهذا العدد المخصوص، وانتصابها في هذه الآية يجعلها مع اثنتي اسما واحدا، فلما جعلا اسما واحدا، منعا الإعراب والتنوين (¬2). قال أبو إسحاق: وذلك أن معنى قولك: اثنتا عشرة: اثنتان وعشرة، فلما حذفت الواو، وهي مرادة، تضمن الاسمان معنى الواو، وكل اسم تضمن معنى حرف بني كما تبنى (¬3) الحروف، ولم يك أحدهما بالبناء أولى من الآخر، إذ كانت الواو تدخل ما بعدها في حكم ما قبلها، فصار تعلق الاسمين بالواو تعلقا واحدا، فاستحقا البناء، ووجب أن يبنيا على حركة، ¬

_ = "المخصص" 17/ 102، "اللسان" 5/ 2952. قال ابن عطية عن لغة الفتح: وهي لغة ضعيفة 1/ 313، وانظر: "الكشاف" 1/ 284. و"الإملاء" 1/ 39، وقد مر كلام الليث قريبًا. (¬1) في (ج): (موضوع). (¬2) ظاهر كلام الواحدي أن (اثنتى) مبني. قال أبو حيان: وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن (اثنا) و (اثنتا) مع عشر مبنى، ولم يجعل الانقلاب دليل الإعراب. "البحر" 1/ 229. وما ذهب إليه الواحدي وابن درستويه مخالف لقول جمهور العلماء حيث قالوا: إن (اثنتي عشر) معرب من بين سائر الأعداد من أحد عشر إلى تسعة عشر، وأما (عشر) فهي مبنية، واختلفوا في علة بنائها. انظر "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص 308 - 323، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص631، "المخصص" 14/ 91، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 312. قال الصبان في "حاشية الأشموني": وما ذكروه من إعراب صدر اثني عشر واثنتي عشرة هو الصحيح. والقول ببنائه مردود باختلافه باختلاف العوامل، وذلك علامة إعرابه. انظر: "حاشية الصبان على الأشموني" 4/ 68، 69. (¬3) في (ج): (يبني).

لأن لهما (¬1) قبل حال البناء حال إعراب، والاسم إذا كان معربا ثم دخلت عليه علة أوجبت له البناء، وجب أن يبنى على حركة، وجعلُ الاسمين اسمًا واحدًا مستثقل (¬2)، فاختير له أخف الحركات (¬3). وأدخلت الهاء في (عشرة) مع النيف لما جعلا اسما واحدا في عدد المؤنث، وإن لم يدخل دون النيف، لأنهما لما صارا اسما واحدا ثبتت الهاء في (عشرة) علامة للتأنيث فإنك تقول: ثلاث عشرة، وأربع عشرة (¬4) إلى عشرين، فتدخل علامة التأنيث في عشرة (¬5). فإن قيل: قد قلتم: إن اثنتي عشرة، وإحدى عشرة اسمان جعلا اسما واحدا، والاسم الواحد لا يكون فيه علامتان للتأنيث. قلنا: اثنتا (¬6) عشرة اسمان من وجه، واسم واحد من وجه، فكونهما اسمًا واحدًا هو (¬7) أن الواقع تحتهما عدد مخصص متميز عن (¬8) غيره، ¬

_ (¬1) في (ج): (لها). (¬2) في (ب): (مستقل). (¬3) وأخف الحركات الفتحة. هذا الكلام لم أجده عن أبي إسحاق، وقد ذكر نحوه أبو علي الفارسي، وابن الأنباري، وابن سيده. وكلامهم جميعا عن العدد من (أحد عشر إلى تسعة عشر غير اثني عشر، لأن صدرها معرب كما سبق، بينما نجد الواحدي جعل الكلام عليها. انظر: "المسائل الحلبيات" ص 208 - 323، وانظر "المذكر والمؤنث" ص 632، "المخصص" 14/ 91، 17/ 100، 101. (¬4) في (ج): (عشر). (¬5) انظر "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص 645، "المخصص" 17/ 101. (¬6) في (ب): (اثنتى). (¬7) في (ب): (وهو). (¬8) في (ب): (من).

فيهما كأحد عشر، ووجه كونهما اسمين، هو أنهما لو (¬1) كانا اسما واحدا لحذفت الألف من (اثنتا) إذ إعراب الاسم يكون في آخره لا في حشوه، فلما (¬2) ثبتت الألف، وكانت علامة للإعراب (¬3)، دل أنه اسم دون عشرة فوجب الحكم عليهما بأنهما اسمان من هذا الوجه، وإذا كان كذلك، جاز إدخال علامة التأنيث على كل واحد منهما، وأما إحدى عشرة فلم يجتمع فيهما علامتا تأنيث من جنس واحد، وإذا اختلف الجنسان جاز اجتماعهما كالياء في حبليات مع التاء (¬4). فإن قيل: لم حذفت نون التثنية من اثنتا (¬5) عشرة، ولا إضافة هاهنا لأنكم جعلتموهما (¬6) اسمًا واحدًا؟ قيل: نون التثنية في الأصل (¬7) عوض من التنوين، والتنوين للتمكن، وما عرض فيه من معنى البناء أزال التمكن فزال علمه، ولم تحذف الألف وإن كانت دلالة إعراب (¬8) لأنها علم التثنية، ¬

_ (¬1) في (ب): (لما كانا). (¬2) في (ب): (فإذا). (¬3) وهذا يخالف ما ذكره فيما سبق أنه مبني. (¬4) انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 312، "حاشية الصبان على الأشموني" 4/ 68. (¬5) في (ب): (اثنتى) وهو أولى، لأنه مثنى مجرور. (¬6) في (ج): (جعلتموها). (¬7) في (ب): (أصل). (¬8) اختلف النحويون في ألف التثنية، فذهب سيبويه إلى أن الألف حرف إعراب، وأن الياء في الجر والنصب حرف إعراب كذلك، ولا تقدير إعراب فيها وإلى هذا ذهب جماعة، منهم أبو إسحاق وابن كيسان وأبو علي. وقال أبو الحسن: إن الألف ليست حرف إعراب، ولا هي إعراب وانما هي دليل إعراب. انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 695.

فلو حذفت لبطلت، فللضرورة أبقيت، ولا ضرورة في النون (¬1)، فهذا طرف من الكلام في علل الحساب احتجنا إليه، وهو باب طويل. وقوله تعالى: {عَيْنًا} انتصب على التمييز، قال أبو إسحاق: جميع ما ينتصب على التمييز في العدد على معنى دخول التنوين (¬2)، وذلك أن حذف التنوين من اثنتا عشرة إنما كان للبناء فصار حكمه مراعى حتى انتصب ما بعده على تقدير تنوينه، ولم يحذف التنوين للإضافة حتى يبطل حكمه. وإذا (¬3) كان كذلك انتصب ما بعده انتصاب قولك: هوضارب زيدا وقاتل عمرا، وحكي عن أحمد بن يحيى أنه قال: إنما انتصب المعدود لوقوعه موقع المصدر، فأجري عليه إعرابه، بيان ذلك: أن قولك: أحد عشر رجلا في موضع معدود عددًا، فأحد (¬4) عشر في موضع معدود، إذ هو العدد الذي يعدّ، ورجلًا في موضع قولك: عددًا. قال أبو إسحاق: وإنما وجب أن يكون التمييز بواحد، لأنك إذا ذكرت العدد فقد أثبت (¬5) بمقداره المعدود (¬6)، وإنما يجب عليك تبيين ¬

_ (¬1) قال أبو علي الفارسي: (ومن الدليل على أن (عشرا) من (اثنى عشر) ليس كسائر هذه الأعداد، أنها عاقبت النون فلم تجتمع معه، فلما عاقبتها علم أنها بدل منها، إذ ليس هنا إضافة توجب حذف النون لها، فهذه النون إنما تحذف للإضافة) "المسائل الحلبيات" ص 308، وانظر: "المخصص" 14/ 91. (¬2) نص كلام الزجاج: (و (عينا) نصب على التمييز، وجميع ما نصب على التمييز في العدد على معنى دخول التنوين، وإن لم يذكر في (عشرة)، لأن التنوين حذف هاهنا مع الإعراب)، "معاني القرآن" 1/ 112. (¬3) في (ب): (فإذا). (¬4) في (ب). (فإحدى). (¬5) في (ب): (اتبت). (¬6) في (ب): (المعدوده).

النوع، والواحد المنكور يدل على النوع. وهو أخف من لفظ المعرفة ولفظ الجمع، فلهذا وجب استعماله (¬1). قال (¬2): وجملة قول الناس: عشرون درهما: عشرون (¬3) من الدراهم، فحذف هذا التطويل، وأقيم الواحد المنكور مقامه. وإنما وجب أن يكون الأصل: عشرون من الدراهم، لأن العشرين (¬4) بعض الدراهم، فيجب أن يكون المذكور بعدها لفظ الجمع حتى يصح معنى التبعيض، ولو قدرت أن الأصل: الواحد لاستحال، ألا ترى أنك إذا قدرت الكلام بقولك: عشرون من درهم جاز أن يتوهم أن العشرين بعض الدرهم، فلذلك قلنا: إن الأصل: عشرون من الدراهم، ثم حذف لما ذكرنا من طلب الخفة (¬5). وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أراد كل أناس منهم، فحذف للعلم (¬6). والمشرب يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون موضعا (¬7). ¬

_ (¬1) لم أجده عند أبي إسحاق، وبمعناه عند ابن سيده في "المخصص" 17/ 101. (¬2) في معاني القرآن: (ومعنى قول الناس: عندي عشرون درهمًا، معناه: عندي عشرون من الدراهم .. إلخ) 1/ 113، ذكر الواحدي كلامه بمعناه. (¬3) (عشرون) ساقط من (ب). (¬4) في (ج): (عشرين). (¬5) في (أ): (الحقه). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 306. (¬7) إما أن يكون نفس المشروب فيكون مصدرًا واقعًا موقع المفعول به، أو موضع الشرب. انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 76 ب، "تفسير ابن عطية" 1/ 313، "البحر المحيط" 1/ 229، "الدر المصون" 1/ 387.

قال الفراء وأبو روق: كان في ذلك الحجر اثنتا عشرة حفرة، [فكانوا إذا نزلوا وضعوا الحجر وجاء كل سبط إلى حفرته] (¬1) فحفروا الجداول إلى أهلها، فذلك قوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (¬2). وقوله تعالى: {كُلُوا} أي وقلنا لهم: {كُلُوا} من المن والسلوى. {وَاشْرَبُوا} من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ولا مؤونة (¬3). {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ} (¬4) القراء كلهم قرؤوه بفتح الثاء من عَثِيَ يَعْثَى عُثُوًّا، وهو أشد الفساد. وفيه لغتان أخريان: عَثَا يَعْثُو مثل سما يسمو، قال ذلك الأخفش وغيره (¬5). وَعَاث يَعِيثُ، ولو قرئ بهذا (¬6) لقيل (¬7): ولا تَعِيثُوا، قال ذلك ابن الأنباري. وقال الفراء في كتاب "المصادر": قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا} مصدره ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) انظر كلام الفراء في "معاني القرآن" 1/ 41، وكلام أبي روق فىِ "تفسير الثعلبي" 1/ 76 أ، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 307. (¬3) الثعلبي1/ 77 أ، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 308، و"تفسير أبي الليث" 1/ 367، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 313. (¬4) في (ب): {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. (¬5) الكلام بنصه في "تهذيب اللغة" (عثا) 3/ 2325، وانظر "معاني القرآن" للأخفش 1/ 272، والطبري 1/ 308، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 113، "تفسير الثعلبي" 1/ 77 أ. (¬6) أي على لغة (عاث يعيث). وفي "تهذيب اللغة" (.. وفيه لغتان أخريان لم يقرأ بواحدة منهما، عثا يعثو، مثل: سما يسمو، قال ذلك الأخفش وغيره، ولو جازت القراءة بهذه اللغة لقرئ (ولا تَعْثُوا) ولكن القراءة سنة، ولا يقرأ إلا بما قرأ به القراء. واللغة الثالثة عَاثَ يَعِيث) "تهذيب اللغة" (عثا) 3/ 2325، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 308. (¬7) في (ج): (القيل).

61

عثًا مقصور، ومن قال عَثَوْتُ، قال: عُثُوًّا (¬1)، ومن قال: عَاث يَعِيث، قال في المصدر: عَيْثًا وعُيُوثًا ومَعاثًا وعَيثانًا (¬2). قال ابن الرقاع (¬3) في اللغة الثانية: لَوْلاَ الْحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسيَ قَدْ عَثَا ... فِيهِ الْمَشِيبُ لَزُرْتُ أَمَّ الْهَيْثَمِ (¬4) وقال كثير في اللغة الثالثة: وَذِفْرَى كَكَاهِلِ ذِيخِ الْخَلِيفِ ... أَصاَبَ فَرِيقَةَ لَيْلٍ فَعَاثَا (¬5) 61 - قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} قال ¬

_ (¬1) عند الطبري: (عَثَوْت أَعْثُو) 1/ 308. (¬2) في (ب): (عيثاثا). ذكر الطبري في "تفسيره" هذه المصادر 1/ 308، وانظر: "تهذيب اللغة" (عثا)، و (عاث) 3/ 2263، "المحكم" 2/ 165، 242، "تفسير الثعلبي" 1/ 77 أ، "اللسان" (عيث) 5/ 3184، و (عثا) 5/ 2811. (¬3) هو عدي بن الرقاع، من (عاملة) حي من قضاعة، كان شاعراً مجيداً مدح خلفاء بني أمية، انظر ترجمته في: "طبقات فحول الشعراء" للجمحي 2/ 699، "الشعر والشعراء" 410. (¬4) يروى (أم القاسم) بدل (أم الهيثم) ورد البيت في "الشعر والشعراء" 2/ 411، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 41، "الكامل"، وفيه (عسا) بدل (عثا) فلا شاهد فيه، "تفسير الثعلبي" 1/ 77 أ، "تهذيب اللغة" (عثا) 3/ 2326، و"أمالي المرتضى" 1/ 511، "اللسان" (عثا) 5/ 2811، "زاد المسير" 1/ 87، "البحر المحيط" 1/ 219. (¬5) (الذِّفْرَى): العظم الشاخص خلف الأذن، (الذِّيخ): ذكر الضباع، (الْخَليف). الطريق بين الجبلين، ويروى مكانه: (الرفيض): وهو قطعة من الجبل، (فريقة ليل): هي الغنم الضالة. ورد البيت في "المعاني الكبير" 1/ 214، "تهذيب اللغة" (عاث) 3/ 2263، و (فرق) 3/ 2778، و"مجمل اللغة" (فرق) 3/ 718، "مقاييس اللغة" 4/ 494، "اللسان" (عيث) 5/ 3784، و (خلف) 2/ 1242، و (فرق) 6/ 3400، و"شعر كثير" ص 250.

سعيد بن المسيب: ملّوا عيشهم (¬1). وقال قتادة: ذكر القوم عيشًا كان لهم بمصر، فقالوا لموسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} الآية (¬2)، و (الطعام): اسم جامع لما يؤكل، وإنما قالوا: طعام واحد، وكان طعامهم المن والسلوى، لأنهم كانوا يأكلون المن (¬3) بالسلوى فكان طعامًا واحدًا كالخبيص، لون واحد وإن اتخذ من أطعمة شتى (¬4). قال ابن زيد: كان (¬5) طعامهم المن، وشرابهم السلوى، فكانوا يجمعون بينهما فيأكلونه طعاما واحدا (¬6). وقال أصحاب المعاني: لما كان غذاؤهم في كل يوم لا يتغير، قيل: طعام واحد، كما يقال لمن يدوم على الصوم والصلاة: هو على أمر واحد، لملازمته لذلك لا يتغير عنه (¬7). ¬

_ (¬1) لم أجده عن سعيد فيما اطلعت عليه، وأخرج الطبري نحوه عن قتادة "تفسير الطبري" 1/ 309، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 381. (¬2) أخرجه الطبري 1/ 309، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 381، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى عبد بن حميد وابن جرير 1/ 289. (¬3) في (ب): (والسلوى). (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 77 أ، "تفسير ابن عطية" 1/ 314، و"البغوي" 1/ 78، "زاد المسير" 1/ 88، "القرطبي" 1/ 360، "البحر المحيط" 1/ 232. (¬5) (كان) ساقط من (ب). (¬6) أخرجه ابن جرير 1/ 310، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 77 أ، والبغوي في "تفسيره" 1/ 78، وأبو حيان في "البحر" 1/ 232. والقول بأن السلوى شراب يخالف ما عليه جمهور المفسرين. (¬7) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 314، "الكشاف" 1/ 284، "تفسير الرازي" 3/ 99، "القرطبي" 1/ 360، "ابن كثير" 1/ 107، "البحر المحيط" 1/ 232.

وقوله تعالى: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} معنى الدعاء: الطلب (¬1) ممن يملك النفع والضر. وقال ابن السراج: أصله النداء وإنما قال للمسألة: دعاء؛ لأن السائل يقول: يا رب، فينادي ربه عز وجل (¬2). وجاء الدعاء بلفظ الماضي تفاؤلا (¬3) بأن (¬4) ذلك قد كان، كقولك: أحسن الله جزاءه (¬5). وقوله تعالى: {يُخْرِجْ لَنَا} المعنى سَلْه وقل له: أَخرِجْ (¬6) يُخْرِجْ، وكذلك قوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، المعنى لهم: قولوا (¬7) التي هي أحسن يقولوا. ومثله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا (¬8) يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]، أي قل لهم: أقيموا يقيموا، فجعل هذه كلها بمنزلة جواب الأمر، لأن قبله: ادع وقل (¬9). وقوله تعالى: {مِنْ بَقْلِهَا} البقل: كل نبات لا يبقى له ساق إذا رعته ¬

_ (¬1) (الطلب) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (دعاء) 1/ 1188، "اللسان" (دعا) 3/ 1385. (¬3) في (ب): (مقالا) وفي (ج): (نقالا). (¬4) في (ج): (باذن). (¬5) في (ج): (جزاء). (¬6) في (أ)، (ج): (ويخرج) زيادة (واو) والأصوب حذفها كما في (ب)، ومثله في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 113. (¬7) في (ج): (يقولوا). (¬8) (الذين آمنوا) سقط من (أ)، (ج). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 114، وقوله (يخرج) مجزوم. قال بعضهم: بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء، وقيل: بنفس الأمر، وقيل مجزوم بلام الطلب المضمره أي: ليخرج. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180، "تفسير ابن عطية" 1/ 314، "تفسير القرطبي" 1/ 361، "البحر المحيط" 1/ 232.

الماشية (¬1). وأما (الفوم): فقد اختلف أهل اللغة فيه، فقال الفراء: الفوم فيما يذكرون لغة قديمة، وهي الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا، قال: وقال بعضهم: سمحت العرب من أهل اللغة يقولون: فَوَّموا لنا بالتشديد يريدون: اختبزوا. وقال أُحَيْحَة بن الجُلاح (¬2): قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ ... قَدِمَ (¬3) الْمَدِينَةَ فِي زِرَاعَةِ فُومِ (¬4) قال الفراء: وهي في قراءة عبد الله: (وثومها) بالثاء، وكأنه أشبه المعنيين بالصواب؛ لأنه مع ما (¬5) يشاكله من العدس والبصل، والعرب تبدل الفاء ثاء فيقول: جدث وجدف، ووقع في عَاثُورشَرًّ وعَافُورشَرًّ والْمَغَافِير (¬6) والْمَغَاثِير (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر الأزهري عن الليث (بقل) 9/ 171، وقال ابن عطية: البقل كل ما تنبته الأرض من النجم 1/ 315، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 361. (¬2) في (ب): (الحلاج). هو أُحَيْحَة بن الجلاح بن الحُرَيْش بن الأوس، كان سيد الأوس في الجاهلية وكان شاعرا. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد ص 441، "الخزانة" 3/ 357. (¬3) في (ج): (قد قدم). (¬4) نسب البيت بعضهم إلى أبي محجن الثقفي، والبيت برواية الثعلبي والطبري: قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا واحدًا ... وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ انظر: "تفسير الطبري" 1/ 311، "تفسير الثعلبي" 1/ 77 أ، "تفسير ابن عطية" 1/ 315، و"الهمع" 2/ 240، "اللسان" (فوم) 6/ 3491، "تفسير القرطبي" 1/ 362، "تفسير ابن كثير" 1/ 108، "البحر المحيط" 1/ 219، "فتح القدير" 1/ 144. (¬5) (ما) ساقط من (ب). (¬6) المغافير شيء حلو يشبه العسل. انظر: "اللسان" (غفر) 6/ 3276. (¬7) انتهى كلام الفراء، ولم يرد عنده بيت ابن الْجُلَّاح، معاني القرآن 1/ 41، وانظر =

فذكر الفراء قولين في الفوم، واختار الثاني، وهو أنه بمعنى الثوم (¬1) الذي يذكر مع البصل، وهذا القول أيضا اختيار الكسائي (¬2). وقال الزجاج: الفوم: الحنطة، ويقال: الحبوب، لا اختلاف بين أهل اللغة أن الفوم: الحنطة. قال: وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم. قال: ومن قال: الفوم هاهنا: الثوم (¬3) فإن هذا لا يعرف، ومحال أن يطلب القوم طعاما لا بر فيه، وهو أصل الغذاء (¬4). وقال اللحياني: هو الفوم والثوم (¬5)، للحنطة (¬6). [الأزهري: وقراءة ابن مسعود إن صح بالثاء، فمعنى الفوم وهو الحنطة.] (¬7). وقال ابن دريد: أزد السراة يسمون السنبل فُومًا (¬8). وهذا القول اختيار ¬

_ = "تفسير الطبري" 10/ 312، وقد نقل كلام الفراء، ولم يعزه له، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 315، "تفسير ابن كثير" 1/ 107. (¬1) قال ابن قتيبة: وهذا أعجب الأقاويل إليّ. "تفسير غريب القرآن" ص 1/ 44. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 77 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 89. (¬3) وهذا اختيار الفراء والكسائي كما سبق. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 115، والنص من "تهذيب اللغة" (فام) 3/ 2727، وذكره الطبري في "تفسيره" عن بعض السلف 3108، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 77 أ، "تفسير ابن عطية" 1/ 315، "زاد المسير" 1/ 88. (¬5) في (ب): (الفوم). (¬6) في (ب): (الحنطة). كلام اللحياني في "تهذيب اللغة" (فام) 3/ 272. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). ونص كلام الأزهري في "تهذيب اللغة": وإن كان يقرأ ابن مسعود بالثاء فمعناه: الفوم، وهو الحنطة "التهذيب" (فام) 1/ 2727. (¬8) "جمهرة أمثال العرب" 3/ 160، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 41، وفى "اللسان" (أزد الشراة) (فوم) 60/ 3491.

المبرد. ومفعول (يخرج) محذوف من الكلام، تقديره: يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها شيئا (¬1). ومثله مما حذف (¬2) منه المفعول قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]، أي: ناسًا أو فريقًا. وقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} [البقرة: 61] يحتمل أن يكون {أَدْنَى} أفعل من الدنو، ومعناه: أتستبدلون الذي هو أقرب وأسهل متناولا، يشارككم في وجدانه (¬3) كل أحد بالرفيع الجليل الذي خصكم الله وبين الأثرة لكم به على جميع الناس (¬4). ويجوز أن يكون معنى الدنو في قرب القيمة (¬5)، يقول: أتستبدلون الذي هو أقرب في القيمة (¬6)، أي أقل قيمة، أو أدنى في الطعم واللذة، أي أقل لذة وأبشع طعما بالذي هو خير في الطعم واللذة والقيمة (¬7). ويجوز أن يكون أفعل من الدناءة، وترك همزه؛ لأن ¬

_ (¬1) أي أن مفعول يخرج محذوف، تقديره: (شيئا) وهذا قول الطبري في "تفسيره" 1/ 310، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 180، وغيرهما. وذهب الأخفش ومكي إلى أن (من) زائدة، والمفعول (ما) انظر "معاني القرآن" للأخفش 1/ 282، و"المشكل" 1/ 49، وقولهما مردود عند كثير من المفسرين؛ لأنه يخالف مذهب سيبويه. أن (من) لا تزاد في الموجب، أي المثبت. انظر: "الكتاب"1/ 38، "تفسير ابن عطية" 1/ 316، و"البيان" 1/ 85، 86، "البحر المحيط" 1/ 232. (¬2) في (ب): (ومنه مما يحذف). (¬3) في (ب): (وجدنه). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 312، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 115، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 181. (¬5) و (¬6) في (ب): (القيامة). (¬7) وهذا القول راجع لمعنى القول السابق فجمع بين المعنيين الزجاج حيث قال: فمعناه أقرب وأقل قيمة 1/ 115. والخلاصة في معنى (أدنى) قولان: أحدهما: =

العرب تقول: إنه لَدَنيٌّ يُدَنّي في الأمور، غير مهموز، أي: يتتبع خسيسها وأصاغرها، على أنه قد حكى الفراء (¬1) عن زهير الفرقبي (¬2) أنه يقرأ (أدنأ) بالهمز (¬3)، وهذا قول الفراء: إن معنى أدنى من الدناءة (¬4). والأول (¬5) اختيار الزجاج (¬6). وقال بعض النحويين: (أدنى) هاهنا بمعنى أدون، أي: أوضع وأخس، فقدمت النون وحولت الواو ألفا (¬7)، وهذا خطأ، فقد أجمعوا على ¬

_ = أنه من الدنو بغير همز، وهذا الدنو يدخل فيه عدة معان، فهو دنو في القيمة، واللذة، والكلفة، والحل، وامتثال الأمر، وغير ذلك مما ذكره المفسرون. انظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 181، "تفسير الثعلبي" 1/ 77 ب، "تفسير ابن عطية" 1/ 316 "الكشاف" 1/ 285، "البحر المحيط" 1/ 234، والقول الثاني: أنه من الدناءة بالهمزة، وهو ما سيأتي ذكره. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 42، والكلام قبله كله عن الفراء وذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 312، ولم يعزه له، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 77 ب، "الكشاف" 1/ 285، "البحر" 1/ 233. (¬2) في (ب): (الفريقي). زهير الفرقبي أحد القراء، نحوي، ويعرف بالكسائي، له اختيار في القراءة يروى عنه، عاش في زمن عاصم. انظر: "غاية النهاية" 1/ 295. (¬3) في (ب): (بالهمزة). وهذه القراءة من الشواذ. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 42، وهو قول الطبري في "تفسيره" 1/ 312، وذكره الزجاج في "المعاني" 1/ 115، وذكره النحاس واختار غيره 1/ 181، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 316، "تفسير القرطبي" 1/ 364، "البحر المحيط" 1/ 234. (¬5) (الواو) ساقطة من (ب). (¬6) اختيار الزجاج: أن (أدنى) غير مهموز بمعنى الذي هو أقرب وأقل قيمة. "المعاني" 1/ 115. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 77 ب، وانظر: "المشكل" لمكي 1/ 50، "تفسير ابن عطية" 1/ 237، و"البيان" 1/ 86، و"الإملاء" ص 39، "تفسير القرطبي" =

أنه لا يشتق فعل (¬1) من دون إذا كان بمعنى أخس كقولهم: فلان دونك في الشرف. قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} جائز أن يكون هذا من كلام موسى لهم (¬2)، وجائز أن يكون من قول الله تعالى لهم، ويكون في الآية إضمار كأنه قال: فدعا موسى فاستجبنا له، وقلنا لهم: اهبطوا مصرا أمن الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار، ولهذا نون مصر، (¬3) لأنه لم يرد بلدة بعينها (¬4)، وجائز أن يكون أراد مصر بعينها، وصرفها لخفتها وقلة حروفها (¬5). قال الزجاج: صرف؛ لأنه مذكر سمي به مذكر (¬6)، فهو مثل جُمْل ¬

_ = 1/ 364، "البحر المحيط" 1/ 234، "الدر المصون" 1/ 395، و"الفتوحات الإلهية" 1/ 60. وقوله: (وحولت الواو ألفًا) أي لما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. (¬1) (فعل) هكذا في جميع النسخ، ولعلها (أفعل) قال أبو البركات ابن الأنباري: (ولا يجوز أن يكون (أدنى) أفعل من الدناءة؛ لأن ذلك يوجب أن يكون مهموزاً) "البيان" 1/ 87. (¬2) انظر: "تفسير البيضاوي" 1/ 27، و"الخازن" 1/ 133. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) والنص فيها: (.. اهبطوا مصرًا أي انزلوا مصرا لأنه لم يرد ..). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 314 - 315، "معاني القرآن" للفراء 1/ 43، وللأخفش 1/ 273، وللزجاج 1/ 115، "تفسير أبي الليث" 1/ 369، "تفسير الثعلبي" 1/ 77 ب، "تفسير ابن عطية" 1/ 238، "البحر المحيط" 1/ 234. (¬5) انظر المراجع السابقة. (¬6) قوله: (سمى به مذكر) ساقط من (ب). وبهذا انتهى ما نقله عن الزجاج. "معاني القرآن" 1/ 116.

ودَعْد وهند في جواز إجرائها (¬1). والفراء يختار ترك الإجراء، ويفرق بين هذا وبين أسماء النساء، قال: إنها (¬2) إذا خفت وكانت على (¬3) ثلاثة أحرف، أوسطها ساكن، انصرفت، لأنها تكثر بها التسمية فتخف لكثرتها، واسم البلد لا يكاد يكثر. فاجعل (¬4) الألف التي في مصرا ألفا يوقف عليها، فإذا وصلت لم تنون كما كتبوا: سلاسلا (¬5) وقواريرا (¬6) بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيها (¬7). ويختار قراءة من قرأ مصر بغير تنوين (¬8)، وهي قرآءة مهجورة (¬9)، ¬

_ (¬1) الإجراء: هو الصرف في اصطلاح الكوفيين، فالجاري: المنصرف، وغير الجاري: الممنوع من الصرف. وقوله: (جُمّل ودعد وهند) صرفت لأنها على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن. فصرفت لخفتها وإلا فهي مؤنثة. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 42، و"البيان" 1/ 87. (¬2) أي: أسماء النساء، كما هي عبارة الفراء في "المعاني" 1/ 42. (¬3) (على) ساقط من (ج). (¬4) في المعاني للفراء: (.. فإن شئت جعلت الألف التي في (مصرا) ألفًا يوقف عليها ...) وإن شئت جعلت (مصر) غير المصر التي تعرف ..) 1/ 43. (¬5) من (ب)، وفي غيرها: (سلاسل)، آية: 4 من سورة الإنسان. (¬6) في (أ): (قرارير)، آية: 15، 16 من سورة الإنسان. (¬7) في المعاني: (فيهما) أي: (سلاسلا) و (قواريرا). أما (سلاسلا) فقرأ نافع والكسائي وأبو بكر وهشام ورويس في رواية بالتنوين، ووقفوا بالألف عوضا منها، والباقون بغير تنوين. وأما (قواريرا) فقرأ نافع والكسائي وأبو بكر، بالتنوين ووقفوا عليها بالألف في الموضعين، ووافقهم ابن كثير في الأول، والباقون بغير تنوين مع إختلاف في الوقف. انظر "التيسير" ص 217، انظر "النشر" 4/ 395. (¬8) حيث قال: (والوجه الأول أحب إليّ) لأنها في قراءة عبد الله اهبطوا مصر (بغير ألف ..) "معاني القرآن" للفراء 1/ 234. (¬9) قال الطبري: ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز =

والوجه ما ذكرنا قبل، أنه صرف لخفته (¬1). وقال الكسائي: العرب الفصحاء (¬2) لا يبالون أن يجروا مالا يجري، ولا يرون به بأسا، ولولا أن ذلك مستقيم لهم ما جاز لهم أن يجروه في الشعر، فلا تهابن أن تجري شيئا مما لا يجري أبدا، إلا قولهم: أَفْعَلَ منك فإنه مما لم أسمع العرب تجريه في شعر ولا في (¬3) غيره. والمصر في اللغة: الحاجز بين الشيئين (¬4). قال عدي بن زيد (¬5): وَجَعَلَ الشَمْسَ مِصْرًا لاَخَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْل قَدْ فَصَلاَ (¬6) ¬

_ = الاعتراض به على "الحجة" 2/ 136، والقراءة بغير تنوين قراءة الحسن، وطلحة، والأعمش، وأبان بن تغلب، وهي كذلك في مصحف أبي، وعبد الله، وبعض مصاحف عثمان، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 318 - 319، "تفسير القرطبي" 1/ 365، "البحر المحيط" 1/ 234. (¬1) قال النحاس: وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه والفراء، "إعراب القرآن" 1/ 182، وكذا رده أبو حيان. انظر: "البحر المحيط" 1/ 235، وقد ذكر ابن جرير الطبري الحجج لمن رأى أن المراد مصر من الأمصار، ولمن قال: إنها مصر المعروفة، وتوقف في ترجيح قول على الآخر، 1/ 314. أما ابن كثير فرجح أن المراد مصر من الأمصار، 1/ 109، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 235. (¬2) بياض في (ب). (¬3) (في) ساقط من (ب). وكلام الكسائي أورده النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 182. (¬4) ذكر الأزهري عن الليث. "تهذيب اللغة" (مصر) 4/ 3406، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 78 أ، "تفسير القرطبي" 1/ 366. (¬5) نسبه بعضهم لأمية بن أبي الصلت، وبعضهم لعدى. (¬6) يروي البيت (جاعل) ورد في "تهذيب اللغة" (مصر) 4/ 3406، "الصحاح" (مصر) 2/ 817، "المخصص" 13/ 164، "اللسان" (مصر) 7/ 5/ 42، "تفسير الثعلبي" =

أي: حدًّا، ومُصُور الدار: حدودها، فالمصر: القطعة التي بانت بعمارتها عما سواها وانتهت إليه البرية (¬1). وقوله تعالى: {وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} أي: ألزموها إلزامًا لا تبرح عنهم، يقال: ضرب عليه (¬2) كذا، إذا ألزمه، وأصله من ضرب الشيء على الشيء، كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه، فيقال (¬3) لكل من ألزم شيئا: ضرب عليه، يقال: ضرب فلان على عبده ضريبة، وضرب السلطان على التجار (¬4) ضريبة أي ألزمهم (¬5). ويقال للشيء الدائم: ضربة لازم ولازب (¬6). ومنه قول النابغة: و (¬7) لاَ يَحْسِبُون الشَّرَّ ضَرْبَةَ لاَزَبِ (¬8) والذلة: الذل. ¬

_ = 1/ 78 أ، "مفردات الراغب" ص 469، "زاد المسير" 1/ 89، "تفسير القرطبي"، "البحر المحيط" 1/ 220، "الدر المصون" 1/ 396. (¬1) (البرية) ساقط من (أ)، (ج). انظر: "تهذيب اللغة" (مصر) 4/ 3405 - 3406، "تفسير الثعلبي" 1/ 78 أ، "القرطبي" 1/ 366، "اللسان" (مصر) 7/ 4215. (¬2) في (ب): (عليهم). (¬3) في (ب): (أن يقال). (¬4) في (ب): (التجارة). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 315، "تفسير الثعلبي" 1/ 78 أ، "تفسير ابن عطية" 1/ 319، "تفسير القرطبى" 1/ 366. (¬6) قال ابن الأنباري: ما هذا بضربة لازب، أي ما هو بضربة سيف لازب، واللازب: اللازم. انظر: "الزاهر" 1/ 609، "تهذيب اللغة" (لزب) 4/ 3258، "اللسان" (لزب) 7/ 4025 - 4026. (¬7) (الواو) ساقطة من (ب). (¬8) شطره الأول: =

أبو عبيد عن الكسائي: فرس ذلول بيّن (¬1) الذِّلّ، وهو ضد الصعوبة، ورجل ذليل بيّن الذِّلّة والذُّلّ (¬2). والمسكنة مفعلة من السكون، قال الليث: المسكنة مصدر فِعْل المِسْكين، وإذا اشتقوا منه فعلا قالوا: تَمَسْكَن إذا صار مِسْكِينًا (¬3). قال ابن الأنباري: المسكنة الأمور التي تسكن صاحبها وتمنعه من الحركة ومن هذا أخذ المسكين، توهمًا أن الميم من أصل الكلمة، كما قالوا: تمكن من المكان، وهو مفعل من الكون، ويقال: تسكن الرجل وتمسكن إذا ظهرت (¬4) عليه أمور المساكين وتشبه بهم. كما يقال: تدرع وتمدرع، إذا لبس المدرعة (¬5). فأما معنى الآية، فإن جماعة من المفسرين قالوا: في هذا ما دل على أن قوله: {وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} (¬6) إخبار عمن كانوا (¬7) في عصر موسى. وبعضهم قال: ما يدل على أن ضرب الذلة حصل على من كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = وَلاَ يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لاَ شَرَّ بَعْدَهُ ورد البيت في "الزاهر" 1/ 609، "تهذيب اللغة" (لزب) 7/ 4026، "المخصص" 12/ 68، "مقاييس اللغة" (لزب) 5/ 245، "اللسان" (لزب) 7/ 4026، و"ديوان النابغة الذيباني" ص 33. (¬1) في "تهذيب اللغة" (من) وليس فيه قوله: (وهو ضد الصعوبة). (¬2) "تهذيب اللغة" (ذل) 2/ 1290، وانظر: "اللسان" (ذلل) 3/ 1513 - 1514. (¬3) "تهذيب اللغة" (سكن) 2/ 1724 - 1725، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 315، "اللسان" (سكن) 2054 - 2057. (¬4) في (ب): (ظهر). (¬5) انظر: "الزاهر" 1/ 224، و"تهذيب اللغة" (سكن) 2/ 1723 - 1725، و"الصحاح" (سكن) 5/ 2137، و"اللسان" (سكن) 4/ 2054 - 2057. (¬6) في (ج): (والمسكنة). (¬7) في (ب): (كان).

قال كثير من المفسرين: ضربت عليهم يومئذ الذلة والمسكنة، وهو أثر البؤس وزي الفقر، وذلك لعلم الله فيهم أنهم سيقتلون النبيين ويفعلون ويفعلون، ثم أعقابهم يتوارثون ذلك الذل والمسكنة، وهذا قول الكلبي (¬1). وإلى هذا القول مال ابن الأنباري، لأنه قال: قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} (¬2) منسوق على محذوف، دل الكلام عليه، وتلخيصه: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، فهبطوا فعثوا وأفسدوا، وضربت عليهم الذلة، فلما عرف معنى المراد حذف، وجرى مجرى الظاهر في حسن العطف عليه وقال الحسن وقتادة: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون (¬3). وقال عطاء بن السائب (¬4): هو [الْكُسْتِيج] (¬5) وزي اليهودية، والمسكنة ¬

_ (¬1) ذكر أبو الليث عن الكلبي: يعني الرجل من اليهود وإن كان غنيا، يكون عليه زي الفقراء. "تفسير أبي الليث" 1/ 370، وانظر: "تفسير الرازي" 3/ 102، "البحر المحيط" 1/ 236. والكلبي هو محمد بن السائب، ضعفوه، واتهمه بعضهم بالكذب، توفي سنة ست وأربعين ومائة، انظر: "تهذيب التهذيب" 3/ 569، "طبقات المفسرين" للداودي 2/ 149. (¬2) في (ج): (والمسكنة). (¬3) ذكره الطبري بسنده عنهما 1/ 315، وكذا "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 385، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 369، "تفسير ابن عطية" 1/ 319، "تفسير القرطبي" 1/ 366، "تفسير ابن كثير" 1/ 109. (¬4) هو الإمام الحافظ، أبو السائب، كان من كبار العلماء، ولكنه ساء حفظه قليلاً آخر عمره، مات سنة ثلاثين مائة "طبقات ابن سعد" 6/ 338، و"طبقات خليفة" ص 164، "سير أعلام النبلاء" 6/ 110. (¬5) في (أ)، (ج): (الكستينح) وفي (ب): (الكستينج)، وما أثبته هو الصواب وهو الوارد عند الواحدي في "الوسيط" 1/ 118، والبغوي 1/ 78، وفي غيرهما. =

زي الفقر، فترى المثري منهم يتبأس مخافة أن يضاعف عليه الجزية (¬1). وهذا يدل على أن هذا الضرب وهذا الأثر حصل على المتأخرين منهم، لأنهم قبل الإسلام لم يعطوا الجزية ولم يوسموا (¬2) بالغيار (¬3). فإن قيل: نحن نرى اليهودي يملك المال الواسع، والفاخر من الثياب، والرفيع من العقار، ومن ملك بعض هذا لم يكن مسكينا. قيل: الذلة الجزية، والمسكنة فقر القلب والنفس، وغير ظاهر آثارهما، ولا يوجد يهودي غني النفس (¬4). ويجوز أن يكون هذا من العموم الذي أريد به الخصوص. وقوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي: رجعوا (¬5) في قول الفراء (¬6). ¬

_ = قال في "القاموس": الْكُسْتِيج بالضم: خيط غليظ يشده الذميّ فوق ثيابه دون الزنار، مُعَرَّبُ: كُسْتِي. القاموس ص 1328. (¬1) ذكره الثعلبي1/ 78 أ، والبغوي 1/ 78، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 236. (¬2) في (ب): (يرسموا). (¬3) ذكره الرازي 2/ 102، وقال أبو حيان: المضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله الجمهور، "البحر" 1/ 236. وقيل: لا يلزم هذا فإنهم أذلوا قبل المسلمين، فقد ذكر ابن كثير عن الحسن قال: أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 109. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 78 أ، "تفسير البغوي" 1/ 78/، "تفسير ابن عطية" 1/ 319، "تفسير القرطبي" 1/ 366، "البحر المحيط" 1/ 236. (¬5) في (ب): (ارجعوا). (¬6) لم أجده للفراء، وبه قال الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 973، وابن قتيبة في "الغريب" ص 51 وهو قول الكسائي كما سيأتي.

وقال الكسائي: انصرفوا به (¬1)، ولا يكون أبدا باؤوا إلا بشيء إما بخير وإما بشر، يقال: بَاءَ يَبُوءُ بَوْءًا [وَبَوَاءً] (¬2) ولا يكون باء بمعنى مطلق الانصراف (¬3). قال ابن الأنباري: وجاء في الحديث: "باء طلحة بالجنة" (¬4) أي: انصرف بها. وقال أبو عبيدة: باؤوا بغضب: احتملوه (¬5)، ونحو ذلك قال الزجاج في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90]. قال: باؤوا في اللغة: احتملوا، يقال: قد بؤت بهذا الذنب أي: احتملته (¬6). ومنه قوله. {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]. ¬

_ (¬1) في تفسير الثعلبي: (رجعوا في قول الكسائي وغيره) 1/ 78 أ، ونحوه في الماوردي 1/ 346، وكذا في البحر 1/ 220. قال النحاس في "شرح القصائد المشهورات": (والكسائي يذهب إلى أن (بؤت) من باء يبوء إذا رجع) ص170. (¬2) في (أ)، (ج): (بووا وبَوْا) وفي (ب): (بَاء يبؤا بوءا وبؤا) وفي "معاني القرآن" للفراء (بَاء بإثم يَبُوءُ بَوْءًا) 1/ 60، وفي الطبري: (بَاءَ فلان بذنبه يَبُوءُ به بَوْأً وَبَواءً) 1/ 316، ونحو ذلك في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 273، "تهذيب اللغة" (باء) 1/ 246 - 248. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 306. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وفي "مسند أحمد" وغيره: (عن الزبير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يومئذٍ "أوجب طلحة"، حين صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع .. الحديث)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال: الحديث في "سيرة ابن هشام" عن ابن إسحاق، ورواه ابن سعد مختصرًا، والترمذي مطولًا. "مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر" 3/ 1417. وانظر: "الترمذي مع عارضة الأحوذي" 13/ 178، وانظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 35، "طبقات ابن سعد" 3/ 218. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 42. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 148.

واختلف أصحاب الاشتقاق في أصل هذا الحرف: فمذهب أبي العباس أنه من الباءة والمباءة، وهو منزل القوم حيث (¬1) يتبوؤون (¬2). فمعنى باء بالذنب: أي نزل منزلة المذنبين، وباؤوا بغضب أي نزلوا منزلة من يلحقهم الغضب، ومن هذا يقال: أبأت فلانًا بفلان، إذا قبلته به، كأنك جعلته (¬3) في منزلته وفي محله، وفلان بواء بفلان من هذا، والكلام يتصرف فيقع بعضه محمولا على بعض، هذا هو الأصل، ثم يفسر: باء بالشيء إذا احتمله ورجع به وانصرف به، وأقرّ به. وهذه كلها معان ترجع إلى أصل واحد، وهو الحلول في ذلك المحل (¬4). قال الفرزدق لمعاوية: فَلَو كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي جَاهِليَّةٍ ... لَبُؤْتَ بِهِ أَوغَصَّ بِالْمَاءِ شَارِبُه (¬5) ¬

_ (¬1) في (ج): (حين). (¬2) ذكر الأزهري عن الليث نحوه، وكذا عن الأصمعي وأبي زيد وغيرهم، "تهذيب اللغة" (باء) 1/ 246 - 248. وذكر الماوردي عن أبي العباس المبرد: أن أصل ذلك المنزلة. ومعناه: أنهم نزلوا منزلة غضب من الله. "تفسير الماوردي" 1/ 344 انظر: "الصحاح" (بوأ) 1/ 37، "اللسان" (بوأ) 1/ 380 - 382. (¬3) في (ج): (وجعلته). (¬4) ذكر ابن فارس في "مقاييس اللغة": أن (بَوَأ) الباء والواو والهمزة أصلان: أحدهما: الرجوع إلى الشيء، والثاني: تساوي الشيئين 1/ 312. وانظر. "تفسير الطبري" 1/ 316، "الماوردي" 1/ 344، "تهذيب اللغة" (باء) 15/ 594 - 596. (¬5) يروي هذا البيت بروايات مختلفة منها (شَنِئْتَ) بدل (لبؤت) وعليها فلا شاهد فيه هنا، ورواية الديوان: =

أي لأقررت (¬1) به، كأنه قال: حللت محل المقر به (¬2)، وقال لبيد: أَنْكَرْتُ بَاطِلَهَا وبُؤْتُ بِحَقِّهَا ... عِنْدِي وَلم تَفْخَرْ عَلىَّ كِرَامُهَا (¬3) وقوله تعالى: {تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]. تأويله: تحل محل من اجتمعت عليه العقوبتان بأن لم يتقبل قربانك وقتلتني (¬4). وعند الزجاج أن أصل هذا الحرف من التسوية (¬5). تقول العرب: هم في هذا الأمر بواء، أي: سواء. وبوأت الرمح نحو الفارس: سويته، وبوأت ¬

_ = وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأمْرُ فِي غَيْرِ مُلْكِكُمُ ... لَأَدَّيْتَهُ أَوْ غَصَّ بَالْمَاءِ شَارِبُه انظر: "الكامل" 2/ 232، "التهذيب" (شنأ) 2/ 1941، و"مجمل اللغة" (شنو) 2/ 513، "اللسان" (شنأ) 4/ 2336، "ديوان الفرزدق" 1/ 53. (¬1) (به) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "الكامل" 2/ 232. (¬3) البيت متعلق ببيت قبله، وقوله: (أنكرت باطلها) أي: رددته و (بؤت بحقها): رجعت، أو اعترفت وأقررت. انظر: "شرح ديوان لبيد" ص 318، و"شرح القصائد المشهورات" ص 170، "الصحاح" (بوأ) 1/ 38، "اللسان" (بوأ) 1/ 37، "الخزانة" 5/ 518، 9/ 16، "الدر المصون" 1/ 398. (¬4) قال الزجاج: ترجع إلى الله بإثمي وإثمك .. "معاني القرآن" 2/ 182، وانظر. "تفسير الطبري" 6/ 192 - 193. (¬5) لم أجده عن الزجاج فيما اطلعت عليه، والله أعلم، والذي قاله الزجاج في "المعاني" عند تفسير قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90]. قال: (معنى باءوا في اللغة: احتملوا، يقال: قد بؤت بهذا الذنب: أي تحملته، "معاني القرآن" 1/ 148، وعند تفسير قوله تعالى {تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، قال. أي ترجع إلى الله بإثمي وإثمك. "معاني القرآن" 1/ 182 و (بواء) بمعنى: سواء ذكره الماوردي 1/ 345، وذكره الأزهري عن أبي العباس وأبي عبيدة والأخفش. انظر: "تهذيب اللغة" (باء) 1/ 246 - 248، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 220.

فلانًا منزلًا (¬1): أي سويته (¬2) له، وقد باءت دماء القوم: إذا استوت، وباء فلان بالذنب: إذا احتمله واستوى عليه. وفي حديث عبادة بن الصامت قال: (جعل الله الأنفال إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقسمها بينهم عن بواء) (¬3) أي (¬4) عن سواء بينهم في القسم. فمعنى {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} كأنهم استوى عليهم الغضب من الله (¬5). ومعنى غضب الله: ذمه إياهم وإنزال العقوبة بهم، لا كعارض يحل بالمخلوقين (¬6). وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} (ذلك) إشارة إلى ضرب الذلة (¬7) والمسكنة والغضب (¬8)، ومعنى {يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد الحكمة التي أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (منزل). (¬2) في الصحاح: (بَوَّأْت للرجل منزلا، وبَوَّاتُه منزلا بمعنى، أي: هيأته ومكنت له فيه "الصحاح" (بوأ) 1/ 37، وانظر: "تهذيب اللغة" (باء) 1/ 247. (¬3) الحديث أخرجه أحمد 5/ 322، وابن ماجه (2852)، وذكره الماوردي في "تفسيره" 1/ 345. (¬4) (أي) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 1/ 345، "البحر المحيط" 1/ 220، 236. (¬6) هذا تأويل لصفة الغضب التي أثبتها الله لنفسه، فيجب أن نثبتها له كما أثبتها لنفسه، ولا يلزم لها أي لازم باطل كأن تكون كالعارض الذي يحل بالمخلوقين. (¬7) في (ج): (الذل). (¬8) انظر "تفسير الطبري" 1/ 316، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 320. (¬9) ذكر المؤلف في "الوسيط" 1/ 119، ولم أجده عند غيره فيما اطلعت عليه، والله أعلم.

وقال غيره: أي بصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآية الرجم (¬1). وقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال الفراء: إنما ألزمهم الله القتل ولم يقتلوا، لأن الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود تولوا أولئك الذين قتلوا، فسماهم الله قتلة (¬2)، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] فألزمهم الكفر بتوليهم الكفار. ويعني بالنبيين من قتلهم اليهود مثل: زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الأنبياء (¬3). وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو صفة للقتل، كأنه قيل: قتلًا بغير حق، يعني بالظلم (¬4). قال ابن الأنباري: معناه: ويقتلون النبيين من غير جرم وذنوب أتوها توجب دماءهم، وتلزمهم أن يمحوا من ديوان النبوة لأجلها، ولا يجوز أن يقتل نبي بحقٍّ أبدًا (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 1/ 78 أ، والبغوي 1/ 78، وأبو حيان في البحر 1/ 236. والأولى عموم الآية لأن كفر اليهود إنما جاء من كفرهم بالتوراة وتحريفها، ومن ثم كفرهم بمحمد وما جاء به فهو عام. انظر "تفسير الطبري" 1/ 316 - 317، "تفسير أبي الليث" 1/ 370، "البحر المحيط"1/ 236، "تفسير ابن كثير" 1/ 109. (¬2) انتهى ما نقله من كلام الفراء انظر: "المعاني" 1/ 16. (¬3) انظر: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 78 ب. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 1/ 347، و"تفسير البغوي" 1/ 78، "زاد المسير" 1/ 90، "البحر المحيط" 1/ 237. (¬5) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 322، و"تفسير البغوي"1/ 78، و"زاد المسير" 1/ 90، و"الكشاف" 1/ 285، و"تفسير القرطبي" 1/ 368، و"البحر المحيط" 1/ 237، و"روح المعاني" 1/ 276.

وقيل: قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تأكيد، لأن قتل النبي لا يكون إلا بغير حق، فهو كقوله: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه} وأمثاله (¬1). وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} قال الأخفش: ما والفعل بمنزلة المصدر، أي: ذلك الكفر والقتل بعصيانهم (¬2). يعني أن الكفر والقتل حصلا منهم بعصيانهم ما أمروا به وتركهم الطاعة (¬3)، لأن نفس الكفر والقتل هو العصيان، فالعصيان هو الكفر، والكفر هو العصيان، وكل واحد منهما موجب للآخر في هذا الموضع، وإن لم يكن العصيان كفرا في مواضع. ويجوز أن يكون المعنى: ذلك حصل بشؤم عصيانهم، فحذف المضاف (¬4). وعلى هذا التأويل يتوجه قول من خص العصيان والاعتداء بعصيانهم الله في السبت، واعتدائهم فيه، فإن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى هذا (¬5)، ومنهم من لم يخص وقال: ذلك (¬6) بركوبهم المعاصي، وتجاوزهم أمري، ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 1/ 90، "البحر المحيط" 1/ 237. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 276، نقل قوله بمعناه. وانظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 182، "تفسير القرطبي" 1/ 368. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 317. (¬4) أو يكون العصيان والتمادي فيه جرهم إلى القتل والكفر، فإن صغار الذنوب سبب يؤدي للكبائر، ذكره البيضاوي في "تفسيره" 1/ 27. والنسفي في "تفسيره" 1/ 134، وأبو حيان في "البحر" 1/ 237. (¬5) بل هو قول بعضهم. انظر: الكشاف 1/ 285، والنسفي في "تفسيره" 1/ 134، "البحر المحيط" 1/ 237. (¬6) (ذلك) ساقط من (ب).

وارتكابهم محارمي (¬1). قلت: وهذه (¬2) الأخبار التي أخبر الله (¬3) عن اليهود ووصفهم بها ليست تشملهم كلهم مذ كانوا إلى عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل بعضهم انقرضوا قبل هذه الأحداث، وبعضهم اتصف ببعض هذه الأوصاف دون بعض، وبعضهم رضي بما أتى به الآخرون من هذه الجرائم فكانوا (¬4) شركاءهم (¬5) في الإثم، ولكن الله تعالى أضاف هذه الأوصاف إلى اليهود، وهو يريد الجانين والذين تولوهم كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، وكلهم لم يقل ذلك. فأما (النبي) فأكثر العرب على ترك همزه (¬6). قال (¬7) أبو عبيدة: ¬

_ (¬1) وعليه أكثر المفسرين، انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 78 ب، و"تفسير الطبري" 1/ 317، و"تفسير أبي الليث" 1/ 372، و"الكشاف" 1/ 285، و"تفسير البغوي" 1/ 78، و"تفسير ابن كثير" 1/ 109. (¬2) في (أ)، (ج): (وهذا) وأثبت ما في (ب) لأنه أنسب للسياق. (¬3) في (ب): (أخبر الله به). (¬4) في (ب): (وكانوا). (¬5) في (ب): (شركاؤهم). (¬6) أكثر علماء اللغة على أن أصل (النبي) مهموز من أنبأ عن الله، فتركت العرب همزه على طريق البدل لا على طريق التخفيف. ومنهم من يرى أنه غير مهموز الأصل، وإنما هو من النباوة، وهي الرفعة، الأول قول سيبويه. انظر: "الكتاب" 3/ 555، و"إصلاح المنطق" ص 158، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 274، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 117، و"الحجة" لأبي علي1/ 88، و"الإغفال" ص204، و"اشتقاق أسماء الله" ص 293، "تهذيب اللغة" (نبا) 4/ 3490، "تفسير الطبري" 1/ 316 - 317، "الزاهر" 2/ 119، وفيه اختار ابن الأنباري أن أصله غير مهموز. (¬7) في (ب): (وقال).

اجتمعت العرب على حذف الهمزة من أربعة أحرف من النبي والذرية والخابية والبرية وأصلها (¬1) الهمزة (¬2). وأما اشتقاقه فقال الزجاج وعدة معه: اشتقاقه (¬3) من نَبَّأَ وأَنْبَأَ، أي: أخبر، فترك همزه لكثرة الاستعمال. ويجوز أن يكون من نَبَا يَنْبُو، إذا ارتفع، فيكون فعيلا من الرفعة (¬4). وقال ابن السكيت: النبي هو من أنبأ عن الله، فترك همزه، قال: وإن أخذته من النَّبْوَةَ والنَّبَاوَةِ، وهي الارتفاع من الأرض، أي أنه شرف (¬5) سائر الخلق، فأصله غير الهمز (¬6)، وأنشد قول أوس بن حجر: ¬

_ (¬1) في (ب): (أصلها) بحذف الواو. (¬2) في (ج): (الهمز). وكلام أبي عبيدة أورده ابن السكيت في "إصلاح المنطق" عنه عن يونس "إصلاح المنطق" ص 159، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" ص 295. (¬3) في (ب): (مشتق). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 117، وانظر: "تهذيب اللغة" (نبا) 4/ 3490، قال أبو القاسم الزجاجي: (اعلم أن للعلماء في اشتقاق (النبي) قولين: أما سيبويه في حكايته عن الخليل فيذهب إلى أنه مهموز الأصل من أنبأ عن الله، أي: أخبر، وهو مذهب أكثر أهل اللغة، فتركت العرب همزه لا على طريق التخفيف، لكن على طريق الإبدال ...) ثم ذكر الفرق بين التخفيف والإبدال وبَيَّن أن ما ترك عن طريق الإبدال لا يجوز همزه إلا عند من لا يرى البدل. قال: (والقول الآخر مذهب جماعة من أهل اللغة، وهو رأى أبي عمرو بن العلاء قالوا: ليس بمهموز الأصل وإنما هو من النباوة وهي الرفعة. "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 293، 294. (¬5) في "إصلاح المنطق": (أي شرف على سائر الخلق) ص 158، وانظر: تهذيب اللغة 4/ 3490. (¬6) الكلام بهذا النص في "تهذيب اللغة" (نبا) 3490، وورد في "إصلاح المنطق" عن الفراء، وقال ابن السكيت بعده: وأنشد هو أي الفراء وأبو عمرو ثم ذكر بيتًا غير بيت أوس. "إصلاح المنطق" ص 158.

لَأَصْبَحَ رَتْمًا (¬1) دُقَاقَ الْحَصَى ... مَكَانَ النَّبَيِّ مِنَ الْكَاثِبِ (¬2) قال: النبي: المكان المرتفع. قال أبو علي فيما استدرك على أبي إسحاق (¬3): النبي اشتقاقه من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه، وهذا مذهب سيبويه (¬4). ولا يجوز أن يكون مشتقا من النبأ الذي هو الخبر والنجاوة التي هي الرفعة بأن يحتمل الأمرين (¬5)؛ وذلك لأن العرب كلهم ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (رقما)، وما في (ب) موافق للمصادر التي ورد بها البيت. (¬2) في جميع النسخ (الكاتب) بالتاء وهذا مخالف لجميع المصادر. و (الرتم): الدق والكسر، (دُقَاقَ الحصى): دقيق الحصى، و (النبي) المكان المرتفع و (الكاثب): الرمل المجتمع. ورد البيت في "إصلاح المنطق" ص 58، "جمهرة أمثال العرب" 2/ 13، "الزاهر" 2/ 119/ "تهذيب اللغة" (كثب) 4/ 3103، و (رتم) 2/ 1358، و (ثرم) 2/ 1360، و (نبا) 4/ 3490، "الصحاح" (نبا) 6/ 2501، و"مجمل اللغة" (رتم) 2/ 498، (كثب) 7/ 3826، "مقاييس اللغة" (كثب) 5/ 163، و (نبو) 5/ 385، "اللسان" (كثب) 7/ 3826، و (رتم) 3/ 1578، و (نبا) 15/ 302، "تفسير القرطبي" 1/ 367، "الدر المصون" 1/ 402. (¬3) وذلك في كتاب (الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني) ص 205، نقل عنه الواحدي بتصرف، وداخل بين كلام أبي علي في "الإغفال" وكلامه في "الحجة". وكلام أبي علي بنصه في "المخصص" 12/ 321. (¬4) نص كلام أبي علي في "الإغفال": (لا يخلو قولهم: (النبي) من أن يكون مأخوذا من (النبأ) أو من النبوة التي هي ارتفاع أو يكون مأخوذا منهما. فحمل (اللام) مرة على أنه ياء منقلبة عن الواو، ومرة على أنها همزة كسنة وعضا، فلا يجوز أن يكون مأخوذًا من النبوة، لأن س يبويه حكى أن جميع العرب يقولون. تنبأ مسيلمة ..) "الإغفال" ص 205. وانظر كلام سيبويه في "الكتاب" 3/ 460، 555. (¬5) قال أبو علي: (.. ولا يجوز أيضا أن تكون لامه على وجهين: مرة ياء منقلبة عن =

يقولون (¬1): تَنَبَّأَ مُسَيلمة بالهمز ويقولون في تحقير النبوة: كان مسيلمة نُبُوَّتُه نُبَيِّئةَ سِوء (¬2)، فلو كان يحتمل الأمرين جميعا ما اجمعوا على الهمز في فعله وتحقيره. فإن قيل (¬3): فإن المازني أنشد على أن (النبي) من النباوة قول بعضهم: مَحْضَ الضَّرِيبَة فَي الْبَيْتِ الَّذِي وُضِعَتْ ... فِيهِ النَّبَاوَةُ حُلْوًا غَيْرَ مَمْذُوقِ (¬4) قيل: أراد: في البيت الذي وضعت فيه الرفعة، وليس كل رفعة [نبوءة] (¬5)، وقد يكون في البيت رفعة ليست (¬6) [بنبوءة] (¬7)، والمخبر عن الله المبلغ عنه إذا أخذ اسمه من النبأ (¬8) كان أخص به وأشد مطابقة للمعنى ¬

_ = الواو، ومرة همزة ..) "الإغفال" ص 206. (¬1) (يقولون) ساقط من (ب). (¬2) السياق أقرب إلى كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 89، وانظر: "الإغفال" ص206،209، "الخصائص" 12/ 322، و"الكتاب" 3/ 460. (¬3) قوله: (فإن قيل فإن المازني ... إلخ) لم يرد في "الإغفال"، وإنما ورد في "الحجة" 2/ 88. (¬4) ورد البيت في "الحجة" لأبي علي بدون نسبة 2/ 88، وأورده ابن سيده في "المخصص" ونسبه لابن همام 12/ 323. وقوله: (محض الضريبة) المحض من كل شيء: الخالص. و (الضريبة): الطبيعة والسجية. انظر: "الصحاح" (ضرب) 1/ 169، "اللسان" (محض) 6/ 414. (¬5) في (أ)، (ب): (نبوة) وفي ج: (نبوه)، والتصحيح من "الحجة" 2/ 90. (¬6) في (ب): (ليس). (¬7) في (أ)، (ب): (بنبوة) وفي ج: (بنبوة)، والتصحيح من "الحجة" 2/ 90. (¬8) في جميع النسخ (النبا) بدون همز، والتصحيح من "الحجة" 2/ 90.

المقصود، ولأن النبوة ليس من الارتفاع المحمود، ألا ترى أنه لا يمدح به (¬1) كما يمدح بالرفعة (¬2). فإن (¬3) قلت: فلم لا يستدل بقولهم: أنبياء (¬4) على جواز الأمرين (¬5). لأنهم جمعوا ما كان أصله غير (¬6) الهمز على أفعلاء نحو: غنى وأغنياء وتقى وأتقياء، فيحتمل (¬7) على هذا أن النبي أصله غير الهمز، [ويحتمل أن أصله الهمز] (¬8) فترك همزه، وجمع (¬9) على أفعلاء، تشبيها بما أصله غير الهمز. قيل: ما ذكرته لا يدل على تجويز الأمرين، لأن (أنبياء) إنما جاء لأن البدل من الهمز لزم في (نبي) فصار في لزوم البدل له كقولهم: عيد وأعياد فكما أن أعيادا لا يدل على أن عيدا من الياء، لكونه من عود الشيء، كذلك لا يدل (أنبياء) على أنه من النباوة، ولكن لما لزم البدل جعل بمنزلة: تقي وأتقياء وصفي وأصفياء ونحو ذلك، وصار (¬10) كالبرية والخابية، ونحو ذلك ¬

_ (¬1) (به) ساقط من (ب). (¬2) من قوله: (ولأن النبوة ...) إلى قوله: (كما يمدح بالرفعة) ليس في "الحجة" ولا في "الإغفال". (¬3) في (ب): (قال قلت). (¬4) أي: بالجمع. انظر: "الإغفال" ص 207، و"الحجة" 2/ 90. (¬5) الأمران هما: كون اللام همزة، أو حرف لين. انظر "الإغفال" ص 207. (¬6) أي أن أفعلاء جمع في أكثر الأمر لمعتل اللام. انظر "الإغفال" ص 207. (¬7) في (ب): (فيحمل). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬9) قوله (ويحتمل ...) إلى (فترك همزه وجمع)، مكرر في (ب) بعد قوله: (بما أصله غير الهمز). (¬10) في (ب): (فصار).

مما لزم الهمزة فيه حرف اللين بدلا من الهمزة، وما دل على أنه من الهمز قائم لم يعترض عليه (¬1) شيء. وقد جمعوه أيضا نُبَآء (¬2) على فُعَلاَء (¬3)، مثل ظريف وظرفاء. قال العباس بن مرداس (¬4): يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ (¬5) إِنَّكَ مُرسَلٌ ... بِالحَقِّ خَيْرُ هُدَى الْإِلَهِ هُدَاكَا (¬6) وكأنه جمعه على أصل اللغة، ولما لزم البدل في نبي صار قول من حقق الهمز كرد الشيء إلى الأصل المرفوض استعماله نحو: وَذَرَ ووَدَعَ فمن ثم كان الأكثر فيه التخفيف. واستردأ سيبويه تحقيق: النبيء والبرية (¬7)، ¬

_ (¬1) في "الحجة": (لم يعترض فيه شيء) وبعده: (فصار قول من حقق الهمزة في النبي كرد الشيء إلى الأصل المرفوض استعماله ..) 2/ 90. (¬2) في (أ)، (ج): (نبآا) وفي (ب): (نبا)، وما أثبته يوافق ما في "الحجة" 2/ 90. (¬3) في (ج): (أفعلاء). (¬4) هو العباس بن مرداس بن أبي عامر بن سليم، وأمه الخنساء، الصحابية الشاعرة المشهورة، أسلم العباس قبل فتح مكة بيسير، وكان من المؤلفة قلوبهم. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص أ 50، "الخزانة" 1/ 152. (¬5) في (أ)، (ج) (النبآا) وفي (ب) (البنا). (¬6) رواية شطره الثاني في أكثر المصادر: بِالخَيْر كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا ورد البيت في "الكتاب" 3/ 460، "سيرة ابن هشام" 4/ 95، "المقتضب" 1/ 162، 2/ 210، و"جمهرة اللغة" 3/ 212، "الصحاح" (نبأ) 1/ 75، و"الحجة" لابن زنجله ص 99، و"الحجة" لأبي علي 2/ 90، "تفسير الطبري" 1/ 317، "اللسان" (نبأ) 4/ 4315، "تفسير القرطبي" 1/ 367. (¬7) انظر: "الكتاب" 3/ 555، وقوله (البريه) هكذا في جميع النسخ، ولو قال (البريئة) كان أولى. انظر "الحجة" 2/ 91.

لأن الغالب في استعمالهما التخفيف على وجه البدل. ومن زعم أن البرية من البرا (¬1) كان غالطا، لأنه لوكان كذلك لم يجز همزه بحال، وهي مهموزة في لغة أهل الحجاز، فتحقيقهم لها يدل على أنها من برأ الله الخلق. فأما حجة من همز (النبي) أن يقول: هو أصل الكلمة، وليس مثل (عيد) الذي قد ألزم البدل، ألا ترى أن ناسًا من أهل الحجاز قد حققوا الهمز في الكلام، ولم يبدلوه، فإذا كان الهمز أصل الكلمة وأتى به قوم في كلامهم على أصله لم يكن مثل: وَذَرَ ووَدع ونحوهما مما رفض في استعمالهم (¬2) واطرح. وأما ما روي في الحديث من أن بعضهم قال: يا نبيء الله، فقال: لست بنبيء الله، ولكن نبيّ الله، فإن أهل النقل ضعفوا إسناد الحديث (¬3). ومما يقوي (¬4) تضعيفه أن (¬5) من مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (¬6): ¬

_ (¬1) (البرا): التراب، انظر "الحجة" 2/ 91. (¬2) في "الحجة": (لم يكن كماضي "يدع" ونحوه مما رفض استعماله واطرح) 2/ 91. (¬3) في "الحجة": (فأظن أن من أهل النقل من ضعف إسناد الحديث ..)، 2/ 92. والحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن أبي ذر، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: بل منكر لم يصح. قال النسائي: حمران ليس بثقة، وقال أبو داود: رافضي، روى عن موسى بن عبيدة، وهو واه، ولم يثبت أيضا عنه عن نافع، عن ابن عمر قال: ما همز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء، وإنما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم. "المستدرك"، كتاب (التفسير) 2/ 231، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر" 2/ 120، وأبو القاسم الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 294، وأعله بالإرسال، وانظر: "البيان" 1/ 88، و"النهاية" 5/ 3. (¬4) في (ج): (ومما يقوى هذا الحديث تضعيفه). (¬5) في (ب): (من أن). (¬6) (بقوله) ساقط من (ب).

يَا خَاتَمَ النُّبَآءَ (¬1) ......... لم يؤثَر فيه إنكار عليه، ولو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد، وأيضا فلم نعلم (¬2) أنه عليه السلام أنكر على الناس أن يتكلموا بلغاتهم. وأما من أبدل ولم يحقق فإنه يقول: مجيء الجمع في التنزيل على أنبياء يدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل (¬3)، وإذا لزم البدل ضعف التحقيق (¬4). وقال الكسائي: النبي بغير همز، معناه في اللغة: الطريق، والأنبياء طرق الهدى (¬5). وعلى هذا سمّي الرسول نبيًّا لاهتداء الخلق به. واختار ابن الأنباري هذا القول، وقال (¬6): سمي النبيّ نبيًّا لبيان أمره ووضح خبره، أخذ من النبي وهو عندهم الطريق (¬7). ¬

_ (¬1) البيت للعباس بن مرداس وقد مرَّ قريبًا. (¬2) في (ب): (يعلم). (¬3) (البدل) ساقط من (ب). (¬4) انتهى ما نقله عن "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 88 - 92، وانظر: "الإغفال" ص 204، 210، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 294، 295، "المخصص" 12/ 321 - 323. (¬5) "تهذيب اللغة" (نبا) 4/ 1489، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 78 ب، و"تفسير الطبري" 1/ 317، "البحر المحيط" 1/ 220. (¬6) "الزاهر" 2/ 119، وظاهر كلامه أنه يرجع غيره حيث قال: النبي معناه في كلام العرب الرفيع الشأن .. ثم قال: ويجوز أن يكون النبي سمي نبيا لبيان أمره .... إلخ). (¬7) رد أبو القاسم الزجاجي على ابن الأنباري قوله: إن النبي من أسماء الطريق، كما نقل ذلك ياقوت في (معجم البلدان)، قال ياقوت: (وقال أبو بكر بن الأنباري في "الزاهر" في قول القطامي: لَمَّا وَرَدن نَبِيَّا ... البيت =

62

وأنشد للقُطامي (¬1): لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا ... مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ السَّيْح مُنْسحِلُ (¬2) 62 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية (¬3) قال ¬

_ = إن النبي في هذا البيت هو الطريق، وقد رد عليه ذلك أبو القاسم الزجاجي فقال: (كيف يكون ذلك من أسماء الطريق وهو يقول: لما وردن نبيًا، وقد كانت قبل وروده على طريق، فكأنه قال: لما وردن طريقا، وهذا لا معنى له إلا أن يكون أراد طريقًا بعينه في مكان مخصوص، فيرجع إلى أنه اسم مكان بعينه ..) "معجم البلدان" 5/ 259. (¬1) القطامي: هو عمير بن شييم التغلبي، كان نصرانيًّا فأسلم، فأسلم، وعده الجمحي في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام، انظر: "طبقات الشعراء" للجمحي ص 179، "الشعر والشعراء" 483، "الخزانة" 2/ 370. (¬2) قوله: (استتب): استقام وتبين واطرد، و (نبي): مكان معين في ديار تغلب، (مُسْحَنْفِر): صفة لطريق واسع ممتد (السيح): ضرب من البرود أو العباء مخطط. (مُنْسَحل): مكشوط، وصف الطريق بذلك وأنه لكثرة المرور به صار واضحا. ورد البيت في "الزاهر" 2/ 119، "تفسير الطبري" 2/ 141، "تفسير ابن عطية" 1/ 241، و"معجم البلدان" 5/ 259، "اللسان" (نبا) 7/ 4333، "البحر المحيط" 1/ 220، "الدر المصون" 1/ 402. (¬3) في هامش نسخة (أ) تعليق صدره الكاتب برمز (ش ك) أي شرح من الكاتب، والكلام بنصه منقول عن "الكشاف" 1/ 285، وأثبته هنا للفائدة: (ش ك {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}: بألسنتهم من غير مواطأة القلوب، وهم المنافقون، {وَالَّذِينَ هَادُوا}: والذين تهودوا، يقال: هاد يهود، وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد، والجمع هود، {وَالنَّصَارَى}: وهم جمع نصران، يقال: رجل نصران وامرأة نصرانة، قال: كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ. و (الياء) في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح - عليه السلام -. {وَالصَّابِئِينَ}: وهو من صبأ، إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ آمَنَ}: من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في ملة الإسلام دخولا أصيلا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ}: الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم.

الليث: الهَوْد: التوبة، وقوله عز وجل: {إِنَّا هُدْنَا} [الأعراف:156] أي: تُبْنا (¬1). وقال غيره: هاد في اللغة معناه: مال. يقال: هَادَ يَهُود هِيَادَةً وَهَوْدًا (¬2). قال امرؤ القيس. قدْ عَلِمتْ سلْمَى وَجَارَاتُهَا ... أَنِّي مِنَ النَّاسِ لَهَا هَائِدُ (¬3) أي: إليها مائل. وقال المبرد في قوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي ملنا إليك، ويقال لمن تاب: هاد، لأن من تاب عن شيء مال عنه. فأما اليهود، فقال الليث: سُمّوا يهودًا شتقاقًا من هادوا، أي تابو امن (¬4) عبادة العجل (¬5). فعلى هذا القول لزمهم الاسم في ذلك الوقت. وقال غيره: سموا بذلك لأنهم مالوا عن دين الإسلام وعن دين موسى (¬6). وعلى هذا إنما سموا يهودا بعد أنبيائهم. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (هاد) 4/ 3689. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 78 ب، وليس فيه (هيادة) ونحوه عند الماوردي وفيه (هيادا) "تفسير الماوردى" 1/ 373، 1/ 349، وانظر. "تفسير أبي الليث" 1/ 373، و"تفسير البغوي" 1/ 79. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 78 ب، ولم أجده في ديوانه. (¬4) في (ب): (عن). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (هاد) 4/ 3689، وذكر هذا المعنى أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 42، والطبري في "تفسيره" 1/ 317، و"معاني الزجاج" 1/ 118، "تفسير الثعلبي" 1/ 78 ب. (¬6) ذكر هذا المعنى الثعلبي في "تفسيره" 1/ 78 ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 89، ونحوه عند أبي الليث 1/ 373.

وقال ابن الأعرابي: يقال: هاد إذا رجع من خير إلى شر أو (¬1) من شر إلى خير (¬2). سمي اليهود بذلك لتخليطهم، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم. وحكي عن أبي (¬3) عمرو بن العلاء أنه قال: سميت اليهود لأنهم يتهودون أي: يتحركون عند قراءة التوراة (¬4) ويقولون: إن السماوات والأرض تحركت حين أتى الله موسى التوارة. وعلى هذا، التهود (¬5) تفعل من الهيد بمعنى الحركة، يقال: هِدْتُه هيدًا، كأنك تحركه ثم تصلحه (¬6)، ومنه الحديث: أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد: يا رسول الله: هِدْه، فقال: " عرش كعرش موسى" (¬7)، أي: حركه بالهدم (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (ومن) بالواو. (¬2) ذكره الأزهري عن ثعلب عن ابن الأعرابي، "تهذيب اللغة" (هاد) 4/ 3690، وانظر: "اللسان" (هود) 8/ 4718. (¬3) في (ج): (ابن). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 79 أ، والبغوي في "تفسيره" 1/ 79. (¬5) في (ب): (اليهود). (¬6) ذكره الأزهري عن الليث، "تهذيب اللغة" (هاد) 4/ 3689، انظر "الصحاح" (هيد) 2/ 558، "مقاييس اللغة" (هيد) 6/ 23، "اللسان" (هيد) 8/ 4734. (¬7) بهذا النص ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" 3/ 171، 4/ 452، وكذا الأزهري في "تهذيب اللغة" (هاد) 4/ 3691. وقد أخرج البيهقي بسنده عن سالم بن عطية، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عرش الناس كعرش موسى". يعني أنه يكره الطاق حوالي المسجد. "السنن الكبرى" كتاب (الصلاة) باب (كيفية بناء المسجد) 2/ 439، وقد أورده صاحب "كنز العمال" عن البيهقي. وقال: مرسل. "كنز العمال" 3/ 393، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" بلفظ: "ليس بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى" ورمز له بالتضعيف. "فيض القدير شرح الجامع الصغير" 5/ 365. وهو في "الفائق" 4/ 122، "اللسان" (هيد) 8/ 4834. (¬8) قال أبو عبيد: (كان سفيان بن عيينة فيما بلغني عنه يقول: معنى هده: أصلحه، =

وقيل: اليهود (¬1) معرب من يهوذا بن يعقوب، عُرِّب يهوذا إلى يهود (¬2) ثم نسب الواحد إليه فقيل: يهودي، ثم حذف الياء في الجمع فقيل يهود، وكل جمع منسوب إلى جنس فهو بإسقاط ياء النسبة، كقولهم: زنجي وزنج ورومي وروم (¬3). هذا هو الكلام في أصل هذا الحرف. ثم يقال: هاد إذا دخل في اليهودية كقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} (¬4) [الأنعام: 146]، أي: دخلوا في دين اليهودية (¬5)، والذي في هذه الآية بهذا المعنى، ويقال أيضا (تهوّد) إذا تشبه بهم ودخل في دينهم، كما يقال: تقيّس وتمضّر وتنزّر، وَ (هَوَّد) إذا (¬6) دعا إلى اليهودية (¬7)، ومنه الحديث: حتى يكون أبواه يهودانه (¬8). ¬

_ = وهذا معنى الحديث الآخر كما قال سفيان، ولكنه إصلاح بعد هدم الأول ..) "غريب الحديث" 4/ 452. (¬1) في (ج): (يهود). (¬2) انظر: "العين" 4/ 76، "تفسير الماوردي" 1/ 349، و"معرفة أسماء نطق بها القرآن" لابن السجستاني وقال: ليس بشيء 1/ 385، "المحكم" 4/ 297، وقال: ليس هذا بقوي. (¬3) انظر: "الصحاح" (هود) 2/ 557. (¬4) (حرمنا) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (هاد) 4/ 3689. (¬6) في (ب): (ادعا). (¬7) في "المحكم": (هَوَّد الرجل) حوله إلى ملة اليهودية 4/ 297. وفي "تهذيب اللغة": ذكر الحديث. "فأبواه يهودانه .. " وقال: معناه: أنهما يعلمانه دين اليهودية ويدخلانه فيه، (هاد) 4/ 3689. (¬8) الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة ولفظه: (.. فأبواه يهودانه .. الحديث)، أخرجه البخاري (1358)، (1359) كتاب (الجنائز) باب (إذا أسلم =

قوله تعالى: {النَّصَارَى} اختلفوا في تسميتهم بهذا الاسم، فقال الزهري (¬1): سموا نصارى، لأن الحواريين (¬2) قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52, والصف: 14] (¬3) حين قال لهم عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، واختار ابن الأنباري هذا القول، وقال: إنهم كانوا نُصَّار عيسى (¬4). فعلى هذا، هذا الاسم مشتق من النصر والنصرة، وواحدهم: نَصَرْان كقولهم: ندمان وندامى، ونصران وناصر بمعنى، كما يقال: صديان وصادٍ للعطشان (¬5)، قال الشاعر يصف الحرباء: ¬

_ = الصبي فمات هل يصلي عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟) الفتح (1385)، وباب (ما قيل في أولاد المشركين)، (4775) كتاب (التفسير) تفسير سورة (الروم)، باب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله (6599) وفي كتاب (القدر) باب (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ومسلم (2658) كتاب (القدر) كل مولود يولد على الفطرة، "مسلم بشرح النووي" وأبو داود (24141) في كتاب: السنة، باب (في ذراري المشركين) ح (2138) والترمذي كتاب (أبواب القدر) باب (ما جاء كل مولود يولد على الفطرة) وأحمد في مواضع من "المسند" منها 2/ 233. (¬1) هو أبو بكر محمد بن مسلم الزهري، أحد أعلام التابعين، فقيه محدث، رأى عشرة من الصحابة، وروى عنه جمع من الأئمة، توفي سنة أربع وعشرين ومائة. انظر ترجمته في "حلية الأولياء" 3/ 360، "وفيات الأعيان" 4/ 177، "تهذيب التهذيب" 3/ 696. (¬2) في (ب): (الحواريون). (¬3) قول الزهري ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 79 أ، وانظر. "تفسير الطبري" 1/ 318، و"تفسير أبي الليث"1/ 373، "تفسير الماوردي" 1/ 351، انظر. "تفسير ابن عطية" 1/ 327، "الكشاف" 1/ 285. (¬4) "الزاهر" 2/ 225. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 317، "الزاهر" 2/ 225، "تفسير الثعلبي" 1/ 79 أ، "تفسير الماوردي" 1/ 350، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 327، "الكشاف" 1/ 285.

تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعَشِيُّ مُحَنِّفًا ... وُيُضْحِي لَدَيْهِ وَهْو نَصْرَانُ شَامِسُ (¬1) وقال آخر (¬2): كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ (¬3) ثم زيدت ياء النسبة فقيل: نصراني. وقد جاء في كلام العرب النصارى، وأرادوا به الأنصار، لا هؤلاء الذين يعرفون بهذا الاسم (¬4)، أنشد الفراء: ¬

_ (¬1) لم أعثر على قائله، ويروى: (زار) بدل (دار) وفي "الزاهر" (تراه ويضحي وهو ...). قوله: (مُحنَّفا). تحنف: صار إلى الحنيفية، والمراد أنه مستقبل القبلة، (شامس) مستقبل الشمس كما يستقبلها نصراني، فحذف الياء. ورد البيت في الطبري في "تفسيره" 1/ 318، "الزاهر" 2/ 225، "الأضداد" لابن الأنباري ص 181، "تفسير الثعلبي" 1/ 79 أ، "تفسير الماوردي" 1/ 350، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 327، "تفسير القرطبي" 1/ 369، "البحر المحيط" 1/ 238، "الدر المصون" 1/ 406، "فتح القدير" 1/ 148. (¬2) هو أبو الأخزر الحماني. (¬3) عجز بيت وصدره: فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأَسُهَا يصف ناقتين أصابهما الإعياء، وانحنتا فطأطأتا رأسيهما، فشبه إسجادهما بسجود النصرانية فحذف الياء. البيت من شواهد سيبويه 3/ 256، 411، وانظر: شرح شواهده للنحاس ص 178، و"تفسير الطبري" 1/ 318، "الزاهر" 1/ 141، 2/ 225، "الإنصاف" ص 357، "المخصص" 17/ 44، "تهذيب اللغة" (نصر) 4/ 3584، "اللسان" (نصر) 5/ 211، "تفسير ابن عطية" 1/ 245، "تفسير القرطبي" 1/ 433، "البحر المحيط" 1/ 238، "الدر المصون" 1/ 406، "فتح القدير" 1/ 148. (¬4) انظر: "الزاهر" 2/ 225، و"تفسير الطبري" 1/ 318.

لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصارَا ... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا كُنْتُ لَهَا (¬1) مِنَ النَّصارَى جَارَا (¬2) فجمع بين الأنصار والنصارى على التوفيق بين معنييهم. وقال الزجاج: ويجوز أن يكون واحد النصارى نَصْرِيٌّ، مثل بَعِيرٌ مَهْرِي وإبل مَهَارى (¬3). وهذا قول مقاتل (¬4)، وزعم أنهم سموا نصارى لاعتزائهم إلى قرية يقال لها نصرة (¬5). وقوله تعالى: {وَالصَّابِئِينَ} قال أبو زيد: صبأ الرجل فى دينه يَصْبَأ صُبُوءًا. [إذا كان صابئا (¬6). وهو الخارج من دين إلى دين، ومنه صبا النجم وأصبأ] (¬7) إذا ظهر كأنه خرج من بين التي لم تطلع (¬8)، قال الشاعر، أنشده ابن السكيت: ¬

_ (¬1) يروى (لهم). (¬2) سبق تخريج الأبيات ص 324. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 119، وانظر: "الزاهر" 2/ 225، و"تفسير الماوردي" 1/ 350، "تفسير الثعلبي" 1/ 79 أ، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 245. (¬4) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 79 أ. (¬5) في الطبري وغيره (ناصرة)، وأخرجه عن ابن عباس وقتادة، 1/ 318، وانظر "الزاهر" 2/ 225، "تفسير أبي الليث" 1/ 373، "تفسير الماوردي" 1/ 351. قال ياقوت: (النَّاصِرة) فاعلة من النصر قرية بينها وبين طبرية ثلاثة عشر ميلًا، فيها كان مولد المسيح عليه السلام ومنها اشتق اسم النصارى معجم البلدان 5/ 251. (¬6) ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" (صبا) 2/ 1966، وأبو علي في "الحجة" 2/ 94. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) "إصلاح المنطق" ص 157، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 119، "تهذيب اللغة" (صبا) 2/ 1966، و"الحجة" 2/ 94.

وَأَصْبَأَ النَّجْمُ فِي غَبْراَء كَاسِفَةٍ ... كَأَنَّهُ بَائِسٌ (¬1) مُجْتَابُ أَخْلاَقِ (¬2) وَصبَأَ نابه إذا خرج، يَصْبَأُ صُبُوءًا (¬3). وقال (¬4) أبو زيد (¬5): صَبَأَتْ عليهم تَصْبَأُ صَبْأً وصُبُوءًا، إذا طلعت عليهم (¬6). [وكأن] (¬7) معنى الصابئ التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه منتقل إلى سواها، والدين الذي فارقوه هو (¬8) تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم وتعظيمها (¬9). وقال أبو إسحاق في قوله: {وَالصَّابِئِينَ} معناه: الخارجين من دين إلى (¬10) دين، يقال: صَبَأَ فلان يَصْبَأُ، إذا خرج من دينه (¬11). قال الليث: وكان يقال للرجل إذا أسلم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صبأ، عنوا: أنه خرج من دين إلى دين (¬12). ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (ياسر) وكذا في (أ) وصحح في الهامش. (¬2) ورد البيت في "إصلاح المنطق" ص 157، "المخصص" 9/ 34، "اللسان" (صبأ) 4/ 2385. وقوله (غبراء) الغبراء: الأرض و (مجتاب أخلاق) لابس ثياب خلقة بالية. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج1/ 119، "تهذيب اللغة" (صبا) 2/ 1966. (¬4) (الواو) ساقط من (ج). (¬5) في (ب): (ابن). (¬6) "الحجة" 2/ 94. (¬7) في جميع النسخ (وكان) والتصحيح من "الحجة" 2/ 94. (¬8) في (ب): (وهو). (¬9) "الحجة" 2/ 94. (¬10) (إلى دين) ساقط من (ب). (¬11) "معاني القرآن" للزجاج1/ 119، "تهذيب اللغة" (صبا) 2/ 1966، والنص منه. (¬12) "تهذيب اللغة" (صبا) 2/ 2966.

وفي قوله: {وَالصَّابِئِينَ} قراءتان (¬1): التحقيق والتخفيف (¬2)، فمن حقق فهو الأصل (¬3). ومن خفف ولم يهمز لم يخل من أحد أمرين: إما أن يجعله من صبا يصبو إذا مال، ومنه قول الشاعر: صَبَوْتَ أَبَا ذِئْبٍ (¬4) وَأَنْتَ كَبِيرُ (¬5) وقال آخر: إِلىَ هِنْدٍ صبَا قَلْبِي ... وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبِي (¬6) أو (¬7) يجعله على ترك الهمزة من صبأ (¬8). قال أبو علي: فلا يسهل أن يأخذه (¬9) من صبا إلى كذا، لأنه يصبو الإنسان إلى الدين، ولا يكون منه تدين مع صبوه إليه، فإذا بعد هذا، وكان ¬

_ (¬1) (قراءتان) ساقط من (ج). (¬2) قرأ نافع بغير همز، وبقية السبعة بالهمز. انظر "السبعة" ص 158، و"الحجة" لأبي علي2/ 94، و"التيسير" ص 74. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 95، وعلى هذا تكون لام الكلمة همزة من (صبأ) إذا خرج عن دينه. انظر: "الحجة" لابن زنجلة ص 100، ولابن خالويه ص 81، "تفسير الثعلبي" 1/ 79 أ. (¬4) في (ب): (تأديب). (¬5) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: دِيَارُ التِي قَالَتْ غَدَاةَ لَقِيتُهَا ورد في "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 65، و"الحجة" لأبي علي 2/ 69. (¬6) ورد في "العقد الفريد" 5/ 484، "اللسان" (صبا) 4/ 2385، ونسبه لزيد بن ضبة. (¬7) في (ب): (إذا). (¬8) أي: أن أصله الهمز فترك الهمز، "الحجة" لأبي علي 2/ 95، 96، و"الحجة" لابن زنجلة ص 100، "الحجة" لابن خالويه ص 81. (¬9) قال أبو علي: (.. أو تجعله على قلب الهمزة، فلا يسهل أن تأخذه من صبا إلى كذا ..) 2/ 96.

الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه ومتدينين به، لم يستقم أن يكون إلا من صبأ الذي معناه: انتقال من دينهم الذي شرع لهم [إلى آخر لم يشرع لهم] (¬1) فيكون الصابون (¬2) إذًا على ترك الهمز، وترك الهمز على هذا الحد (¬3) لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، ويجيزه غيره، فهو على قول من أجاز ذلك، وأبو زيد ممن أجازه، فقال: من (¬4) قرأ الصابون قلب الهمزة التي هي لامٌ ياءً، ونقل الضمة التي كانت تلزم أن تكون على اللام إلى العين فسكنت الياء فحذفها لالتقاء الساكنين، هي والواو التي للجمع، وحذف كسرة عين فاعل فحركها بالضمة المنقولة (¬5) إليها كقولهم: [خِفْتُ] (¬6) و: حُبَّ بِهَا (¬7) ........... ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (الصابيون)، وفي (ج): (الصابون). (¬3) في "الحجة": (.. فيكون (الصابون) إذا على قلب الهمزة، وقلب الهمز على هذا الحد لا يجيزه سيبويه ..) 2/ 96. (¬4) نسب الواحدي الكلام لأبي زيد وظاهر كلام أبي علي في "الحجة" غير ذلك، حيث قال في "الحجة": (.. وممن أجازه أبو زيد ....) ثم ذكر كلامًا لأبي زيد، ولسيبويه والخليل ولأبي الحسن، ثم قال: (.. ومن قلب الهمزة التي هي (لاَمٌ، يَاءً)، فقال: (الصابون) نقل الضمة التي كانت تلزم ..) فالكلام لأبي علي، والله أعلم. انظر: "الحجة" 2/ 96، 97. (¬5) في (ب): (المنقول). (¬6) في (أ): (خفت) ثم طمست وكتب فوقها (حسب) وفي (ب): (حفت) وفي (ج): (حسب حفت وحسب ..) وما أثبت هنا موافق للحجة 2/ 97 والكلام عنه بنصه. (¬7) جزء من بيت للأخطل في وصف الخمرة وتمامه: فّقُلْتُ اقْتُلُوهَا عَنْكُم بِمِزَاجِهَا ... وَحُبَّ بِهَا مَقْتُولةَ حين تُقْتَلُ قتل الخمر: مزجها بالماء حتى تذهب حدتها. ورد البيت في "إصلاح المنطق" =

و ........... حُسْن ذَا أَدَبَا (¬1) فنقلوا الحركة من العين إلى الفاء، وحذفوا الحركة التي كانت للفاء في الأصل وحركوها بالحركة المنقولة، هذا في الصابون (¬2). فأما (الصابين) (¬3) فقياس نقل الحركة أن تحذف (¬4) كسرة عين فاعل وتنقل إليها الكسرة التي كانت تكون للام، ألا ترى أن الضمة منقولة إليها بلا إشكال، وإن شئت قلت: لا أنقل حركة اللام التي هي الكسرة كما نقلت حركتها التي هي الضمة؛ لأني لو لم أنقل الحركة التي هي الضمة، وقررت (¬5) الكسرة لم تصح واو الجميع، فليس الكسرة مع الياء كالكسرة مع ¬

_ = ص 35، و"الحجة" لأبي علي2/ 97، 98، و"المشوف المعلم" 2/ 743، "شرح المفصل" 7/ 129، 141، "الخزانة" 9/ 429، 430، "اللسان" (قتل) 6/ 3530. والشاهد (حب بها) يروي بالفتح والضم، فإذا نقلت حركة العين إلى الفاء بعد حرف حركتها صار (حب) بالضم، وإن حذفت حركة العين صار بالفتح. (¬1) جزء من بيت لسهم بن حنظلة الغنوي وتمامه: لَمْ يَمْنَع النَّاسُ مِنِّي مَا أَردْتُ وَمَا ... أُعْطِيهِمُ مَا أَرَادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا يقول. إنه يمنع الناس مما يريدون منه ويقهرهم، ويأخذ هو ما أراد منهم وجعله أدبًا حسنًا، وقيل: ينكر على نفسه أن يعطيه الناس وهو يمنعهم. ورد البيت في "إصلاح المنطق" ص 35، و"الحجة" 2/ 97، 98، "الخصائص" 3/ 40، و"الأصمعيات" ص 56، و"التكملة" ص 251، و"المشوف المعلم" 2/ 742، "اللسان" (حسن) 2/ 877، "الخزانة" 9/ 431، والشاهد (حُسْن) فإنه منقول من (حَسُن). (¬2) في (ب) (الصابيون). وهي جزء من آية: 96 المائدة، على قراءة نافع. (¬3) كلام أبي علي في "الحجة": (.... وحركها بالحركة المنقولة، كما حرك العين من فاعل بالحركة المنقولة، وقياس نقل الحركة التي هي ضمة إلى العين أن تحذف كسرة عين فاعل ..) 2/ 97. (¬4) في (ج): (يحذف). (¬5) في (ج): (قدرت) وفي (أ) محتملة، وما في (ب) موافق لما في "الحجة" 2/ 97.

الواو، فإذا كان كذلك ألقيت (¬1) الحركة (¬2) التي كانت تستحقها اللام (¬3)، ولم أنقلها (¬4)، كما ألقيت (¬5) حركة المدغم ولم أنقلها في قول من قال: {يَهِدِّي} [يونس: 35] فحرك الهاء بالكسرة لالتقاء الساكنين، ولم ينقلها كما نقلها من قال: {يَهِدِّي}. ومثل ذلك في أنك تنقل الحركة مرة ولا تنقلها أخرى قولك: وَحَبَّ بِهَا مَقْتُولَةً وَحُبَّ بِهَا مَقْتُولَةً (¬6) و: حَسْنَ ذَا أَدَبًا و: حُسْنَ ذَا أَدَبًا (¬7) فأما مذهب الصابئين (¬8) فقد ذكرنا أنهم يعبدون النجوم، وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة (¬9). وقال مجاهد: قبيلة نحو الشام بين (¬10) اليهود والمجوس، لا دين لهم (¬11). ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة" في الموضعين (أبقيت) 2/ 97 وهو الصواب. (¬2) (الحركة) ساقط من (ب). (¬3) في (ج): (للام). (¬4) في (ب): (أدغمها). (¬5) في "الحجة" (أبقيت) وانظر التعليق السابق على (ألقيت). (¬6) جزء من بيت للأخطل، يروي بفتح الحاء وضمها، مرَّ تخريجه قريبًا. (¬7) جزء من بيت لسهم بن حنظلة، مر تخريجه قريبًا. وبهذا انتهى ما نقله عن "الحجة" لأبي علي 2/ 95، 98. (¬8) في (ب) (الصابين). (¬9) أخرجه الطبري ونصه: (الصابئون قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور) 1/ 319، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 97 ب، "تفسير الماوردي" 1/ 352. (¬10) في (ب) (من). (¬11) أخرجه الطبري عن مجاهد من طرق 1/ 319، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 391. وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 97 أ، "تفسير الماوردي" 1/ 352.

وقال الليث: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن (¬1) قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح، وهم كاذبون (¬2). قال عبد العزيز بن يحيى: هم قوم درجوا وانقرضوا (¬3). واختلف المفسرون في معنى هذه الآية على طريقين (¬4): أحدهما: أن الذين آمنوا، أي (¬5): بالأنبياء الماضين (¬6) ولم يؤمنوا بك، وقيل: أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم. من آمن ¬

_ (¬1) في (ب): (أنهم). (¬2) "تهذيب اللغة" (صبا) 2/ 1966. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 97 ب، "البحر المحيط" 1/ 239. (¬4) سلك الواحدي طريقة الثعلبي في إيضاح الآية، وخلاصة ما ذكره الثعلبي أن في الآية طريقين: الأول: أن الإيمان في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} على طريق المجاز، ثم اختلفوا فيهم فقيل: من آمن بالأنبياء الماضين ولم يؤمن بك، وقيل: المنافقون. الثاني: أن الإيمان على الحقيقة، فقيل: المراد المؤمنون من هذه الأمة، وقيل: الذين آمنوا بالنبي قبل المبعث، وقيل: المؤمنون من الأمم الماضية. وسبب هذا الخلاف هو كيف يتم الجمع بين قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 97 ب، و"تفسير البغوي" 1/ 97، وأما ابن جرير فقال: (فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟ قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان -وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به، حتى أدرك محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به وصدق فقيل لأولئك ... آمنوا بمحمد وبما جاء به- ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين فالتصديق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به ..) "الطبري" 1/ 320، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 111. (¬5) (أي) ساقط من (ب). (¬6) في (أ): (الماضيين) وما في (ب)، (ج) موافق لما في الثعلبي.

بالله من جملة الأصناف المذكورة في هذه الآية إيمانا حقيقيا (¬1) ولا يتم إيمانهم بالله إلا بإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فإذا آمنوا بالله ورسوله محمد، فلهم أجرهم عند ربهم، والدليل على أنه أراد مع (¬2) الإيمان بالله الإيمان بمحمد أنه قال: {وَعَمِلَ صَالِحًا} وقد قام الدليل على أن من لا يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون عمله صالحًا. وقال ابن جرير: في قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إضمار واختصار، تقديره (¬3) من آمن منهم بالله (¬4)، لأن قوله: {مَنْ آمَنَ} في موضع خبر إن (¬5) ولا بد من عائد إلى اسم إن، والعائد هاهنا محذوف، كأنه قيل: من آمن منهم بالله (¬6)، وهذا مصرح به في سورة المائدة (¬7). وهذا معنى قول ابن ¬

_ (¬1) في (ب): (وحقيقًا). وقوله: (حقيقيًّا) يفيد أن الإيمان المذكور في أول الآية مجازي كما مر في كلام الثعلبي. (¬2) (مع) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (وتقديره). (¬4) "تفسير الطبري" 1/ 320، ذكر كلامه بمعناه، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 80 أ. (¬5) (أن) ساقط من (ب). وفي نسخة (أ) تعليق من الكاتب صدره بقوله: ش. ك، ونصه: (محل (من آمن) الرفع إن جعلته مبتدأ، خبره (فلهم أجرهم). والنصب إن جعلته بدلا من اسم (إن) والمعطوف عليه، فخبر (إن) في الوجه الأول الجملة كما هي، وفي الثاني: (فلهم) و (الفاء) لتضمن (من) معنى الشرط) وهو منقول من "الكشاف" بنصه 1/ 286. (¬6) هذا على إعراب (من) في محل رفع مبتدأ، وقيل: في محل نصب بدل من اللذين، ويكون الخبر: (فلهم) والأول أحسن. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 182، و"المشكل" لمكي 1/ 51، و"البيان" 1/ 88، "تفسير القرطبي" 1/ 370، وذكر أبو حيان: أن هذين الوجهين لا يصحان إلا على تغاير الإيمانين، الإيمان الذي هو صلة (الذين)، والإيمان الذي هو صلة (من). "البحر" 1/ 241. (¬7) في سورة المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ =

عباس في رواية الكلبي (¬1). الطريقة الثانية: أن المراد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومؤمنو هذه الأمة، {وَالَّذِينَ هَادُوا}، أي: الذين آمنوا بموسى والتوراة ولم (¬2) يبدلوا ولم يغيروا، {وَالنَّصَارَى} يعني نصار (¬3) عيسى على غير تبديل ولا تحريف لما في الإنجيل، {وَالصَّابِئِينَ} يعني الخارجين من الكفر إلى الإسلام، {مَنْ آمَنَ} أي من مات منهم على دين الإسلام، لأن حقيقة الإيمان تكون (¬4) بالعاقبة (¬5)، {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6). ¬

_ = وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]. ولم يرد فيها ذكر العائد، ولعل الذي أوقعه في هذا الوهم قول الثعلبي (.. وفيه اختصار واضمار تقديره: من آمن منهم بالله واليوم الآخر نظيره في سورة المائدة ..). "تفسير الثعلبي" 1/ 80 أ. (¬1) ورد هذا في التفسير المنسوب لابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والمسمى "تنوير المقباس" 1/ 28، "على هامش الدر". (¬2) (ولم يبدلوا) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (نصارى). (¬4) في (أ)، (ج) (يكون) وأثبت ما في (ب) لمناسبته للسياق. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 79 ب. وفيه (لأن حقيقة الإيمان بالموافاة) وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 79. (¬6) لم أجده عن ابن عباس من طريق عطاء، وهذا المعنى ذكره الطبري عن مجاهد والسدي، وأخرج عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فأنزل الله تعالى بعد هذا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. قال الطبري: وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله، في =

قالوا: ويجوز أن يقدر فيه "واو" أي: ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة (¬1). ووحد الفعل في قوله: آمن (¬2) ثم جمع الكناية في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} لأن من تصلح للواحد والجميع (¬3) والمذكر والمؤنث، فالفعل يعود إلى لفظ (مَنْ) وهو واحد مذكر، والكناية تعود إلى معنى (من) ومثله في القرآن كثير (¬4). قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25,ومحمد:16] , وفي موضع آخر: {يَستَمِعُونَ} [يونس: 42]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]، ثم قال: {خَالِدِينَ} فجمع، وقال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82]، وأنشد الكسائي: أَلِمَّا بِسَلْمَى أَنْتُمَا إنْ عَرضْتُما ... وَقُولَا لَها عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا (¬5) فجعل (مَنْ) بمنزلة (الذين). وقال الفرزدق: ¬

_ = الآخرة الجنة، ثم نسخ ذلك ..) الطبري 1/ 323، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 379. (¬1) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 79 ب، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 79. (¬2) (أمن) مكرر في (ب). (¬3) في (ب): (والجمع). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 321، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 118، "تفسير الثعلبي" 1/ 80 أ، "تفسير الماوردي" 1/ 352، "تفسير ابن عطية" 1/ 329. (¬5) البيت لامرئ القيس، وقيل: لرجل من كندة، وقوله: (ألما): أي زوراها (إن عرضتما): بلغتما إليها (عوجي): أعطفي وقفي، والرواية للبيت (عنكما) بدل (أنتما) ورد في "تفسير الطبري" 1/ 321، "تفسير الماوردي" 1/ 353، "تفسير القرطبي" 1/ 371، "الدر المصون" 1/ 408، "ديوان امرئ القيس" ص 324)، وفي "أضداد" ابن الأنباري ورواية شطره: ألما بسلمى لمَّة إذ وقفتما ص 330.

تَعَالَ فِإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي ... نكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ (¬1) وإنما جاز ذلك في (من)؛ لأنه مبهم جامد لا يتصرف ولا يتبين فيه الإعراب ولا العدد، وكذلك (ما) إلا أن (من) لبني آدم والموصوفين بالعقل، و (ما) لغيرهم. وعلى هذا (¬2) يحكى أن جريرًا أنشد قوله: يَا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيانِ مِنْ جِبَلٍ ... وَحَبَّذَا ساكِنُ الرَّيانِ مَنْ كَانَا (¬3) فقيل له: وإن كان ساكنه (¬4) قرودًا؟ فقال: إنما يلزمني هذا لو قلت: ما كانا، وربما عاقب (ما) مَنْ على السعة كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، على تأويل: ومن بناها (¬5) وإنما ترخصوا في ذلك لأنهم قد يبدلون النون الخفيفة ألفا، كما قالوا: رأيت رجلًا، في الوقف، فالألف فيه بدل من التنوين، ومثله قوله: {لَنَسْفَعًا} [العلق: 15]، قول الشاعر: ¬

_ (¬1) البيت من الشواهد النحوية المشهورة، ورد في "الكتاب" 2/ 416، "المقتضب" 2/ 494، 3/ 253، و"الأصول" في النحو 2/ 297، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 2/ 84، "مغني اللبيب" 2/ 404، "الكامل" 1/ 368، و"طبقات فحول الشعار" 1/ 366، "الأضداد" لابن الأنباري ص 330)، "المخصص" 17/ 55، والطبري 1/ 371، "تفسير الثعلبي" 1/ 80 أ، "تفسير ابن عطية" 1/ 329، "تفسير القرطبي" 1/ 371، والهمع 1/ 300، و"ديوان الفرزدق" 2/ 329، وفي بعض المصادر (تعش) بدل (تعال). والشاهد: أنه ثنى (يصطحبان) لمعنى (من). (¬2) (على هذا) ساقط من (ب). (¬3) قوله: (الريان): اسم جبل أسود عظيم في بلاد طيئ، انظر: "معجم ما استعجم" 2/ 690، "معجم البلدان" 2/ 111، وقد ورد البيت أيضًا في "جمل الزجاجي" ص 110، و"شرح الجمل" لابن عصفور 1/ 611، و"اللسان" (حبب) 1/ 744، و"شرح المفصل" 7/ 140، و"الهمع" 5/ 45، و"ديوان جرير" ص 490. (¬4) (ساكنه) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 30/ 209. (ط/ الحلبي).

.. والله فاعبدا (¬1) وقد جاء في (من) بعض التصريف في بعض اللغات، كقوله: أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُم ... فَقَالُوا (¬2) الجِنُّ قُلْتُ عِمُوا ظلاما (¬3) وقد يلزمها الإعراب في مثل قولهم: رأيت فلانًا، فتقول على ¬

_ (¬1) في (ب): (فاعبدوا). جزء من بيت للأعشى من قصيدة قالها لما قدم مكة يريد الإسلام، ثم صدته قريش عن ذلك، وقد روى سيبويه البيت: فَإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْرَبَنَّهَا ... وَلا تَعْبُدِ الشيطانَ واللهَ فاعْبُدَا وتبعه على ذلك جمهور النحاة، وقال بعض المحققين: إنه بهذه الرواية ملفق من بيتين كما في "ديوان الأعشى": فَإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تأكُلَنَّهَا ... ولا تَأخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصدَا وذَا النُّصبَ المَنْصُوبَ لا تَنْسُكَنَّهُ ... ولا تَعْبُدِ الأوْثَانَ واللهَ فاعْبُدَا انظر: "ديوان الأعشى" ص 137، و"الكتاب" 3/ 510، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 2/ 244، "المخصص" 13/ 104، "تهذيب اللغة" (نصب) 4/ 3581، "اللسان" (سبح) 4/ 1916، و (نون) 8/ 4587، و"الأزهرية" ص 275، و"شرح الكافية" لابن مالك 3/ 1400، و"مغني اللبيب" 2/ 372، و"الهمع" 4/ 397، "المقتضب" 528، "الإنصاف" 2/ 157، "شرح المفصل" 9/ 39، 88، 10/ 20. (¬2) في (أ)، (ج): (قالوا). (¬3) البيت لشمير بن الحارث، وروي البيت في قصيدة حائية (عما صباحًا) منسوبًا لجذع بن سنان. يخاطب الجن، وقوله: (عموا ظلامًا) خاطب به الجن، كما كانوا يقولون لبني آدم: عموا صباحًا. ورد في "الكتاب" 2/ 411، و"شرح أبياته لابن السيرافي" 2/ 183، "المقتضب" 2/ 360، "نوادر أبي زيد" ص 380، "الخصائص" 1/ 129، "الصحاح" (منن) 6/ 2208، و"الهمع" 5/ 346، 6/ 221، و"شرح ابن عقيل" 3/ 88، و"الجمل" للزجاجي ص 336)، و"الخزانة"6/ 167، 7/ 105، "شرح المفصل" 4/ 16، "اللسان" (حسد) 2/ 868، وفي عدة مواضع. والشاهد فيه (منون أنتم) حيث جمع (من) مع الوصل وهذا من الضرورة. قال سيبويه: وهذا بعيد، وإنما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لم يسمع بعد 2/ 410.

الحكاية: منا بالنصب (¬1)، ومثله: منو ومني إذا قال: جاءني فلان ومررت بفلان، وقد يؤنثون فيقولون: منة فلما جاز هذا التصرف في (من) جاز إبدال نونها بالألف. وقوله تعالى: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يقال: كيف قال هذا مع (¬2) ما يمر بهم من أهوال القيامة؟ قيل: لأنه لا يعتد بذلك، من أجل أنه عارض ثم يصيرون (¬3) إلى النعيم الدائم، لقوله: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103]، وهو كما تقول (¬4) للمريض: لا بأس عليك. وقيل: إن أهوال القيامة إنما تنال (¬5) الضالين دون المؤمنين، والأول هو الوجه لعموم قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ} الآية [الحج: 2]. ¬

_ (¬1) هذه الحروف التي تلحق (من) ليست للإعراب إنما هي من باب الحكاية إذا كانت مستفهمًا بـ (من) عن نكرة، فذا قال. رأيت رجلا، فالجواب أن تقول: منا؟ , وإذا قال جاءني رجل، تقول: منو؟، أو مني إذا قال مررت برجل، وليست الواو والياء والألف التي لحقت (من) إعرابًا، إنما يلحقن في الوقف فقط، فهن دليل ولسن بإعراب، ومثله في التثنية والجمع فإذا قال: جاءتني امرأتان. تقول: منتان؟ وإذا قال جاءني رجال. قلت. منون؟. فإذا وصلت: قلت: من يا فتى في كل ما سبق لأن هذا هو الأصل. وجعل سيبويه والمبرد وغيرهما من النحاة البيت الذى استشهد به الواحدي من ضرورة الشعر، ولا يقاس عليه، خلافا ليونس. انظر: "الكتاب" 2/ 409، "المقتضب" 2/ 306، "الصحاح" (منن) 6/ 2208, و"أوضح المسالك" ص 255. (¬2) في (ج): (معما يجبر بهم). (¬3) في (ب): (يسير). (¬4) في (ب): (يقول). (¬5) في (ب): (ينال).

63

وكذلك ما ورد من الأخبار في هذا (¬1). 63 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} الآية الأخذ يستعمل في معان كثيرة، ويتصرف على ضروب (¬2)، منها: أن يدل على العقاب كقوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102]، وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} [الأنعام: 42]، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67]، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (¬3) [الأعراف: 165]، {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]. ومنها: أن يستعمل للمقاربة، تقول العرب: أخذ يقول كذا، كما قالوا: جعل يقول، وطفق يقول. ومنها: أن يتلقى بما يتلقى به القسم، كقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187]، ألا ترى أنه قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} فأخذ (¬4) ¬

_ (¬1) قال ابن جرير: (لا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة).2/ 150. وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. قال: (قيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين، لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنه يخفف عن المطيعين، وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا) 1/ 329. وذكر أبو حيان في تفسير هذه الآية أقوالا كثيرة ثم قال: (وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخص بما بعد الدنيا ..) "البحر" 1/ 170. (¬2) الكلام عن (الأخذ) نقله الواحدي عن أبي علي الفارسي من كتاب "الحجة" 2/ 72 انظر مادة (أخذ) في "تهذيب اللغة" 1/ 129، "الصحاح" 2/ 559، "مقاييس اللغة" 1/ 68، و (الغريبين) 1/ 23، و"مفردات الراغب" ص 12، و"إصلاح الوجوه والنظائر" ص 20، و"نزهة الأعين النواظر" ص 133. (¬3) (ج): (فأخذنا) تصحيف. (¬4) في (ب)، (ج): (واخد).

الميثاق هاهنا بمعنى الاستحلاف وتوكيد العهد، وكذلك في هذه الآية. ومثل أخذ في معنى العقاب: آخذ (¬1)، قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} [فاطر: 45]، وقال: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة: 286]، وقال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} [البقرة: 225]. ويستعمل من الأخذ التفعيل والاستفعال، قالوا: رجل مُؤَخَّذٌ عن امرأته (¬2)، وقال الفقهاء في الرجل المؤخذ عن امرأته: يؤجل كما يؤجل العنين (¬3). وأما اسْتَفْعل فقال الأصمعي (¬4): الاستئخاذ: أشد الرمد، قال الهذلى (¬5): يَرْمِي الغُيُوبَ (¬6) بِعَيْنيه ومَطْرِفُه ... مُغْضٍ كما كَسَفَ المُسْتَأْخِذَ الرَّمَدُ (¬7) ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 1/ 73، انظر: "الصحاح" (أخذ) 2/ 559، "مفردات الراغب" ص 13،12). (¬2) قال أبو علي: (وأما (فعَّل) فقالوا: رجل مُؤَخذٌ عن امرأته) "الحجة" 2/ 74، انظر: "تهذيب اللغة" (أخذ) 7/ 526، "الغريبين" 1/ 24. (¬3) ذكره أبو علي عن أبي حنيفة رحمه الله. "الحجة" 2/ 74، انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 322 - 323، و"المغني" 7/ 602. (¬4) في "الحجة" (فقال الأصمعي فيما روى عنه الزيادي ..) "الحجة" 2/ 74، وانظر "تهذيب اللغة" (أخذ) 1/ 129. (¬5) هو أبو ذؤيب الهذلي. (¬6) في (ج): (العيوب). (¬7) في هذا البيت يصف حمارًا وحشيًا، وقوله: (يرمى الغيوب) أي: ينظر ما غاب عنه خشية الصائد يرميه بطرفه حذرا، و (المغضي): الذي كف من بصره وهو مع ذلك ينظر، و (كسف): نكس رأسه لما أخذ الرمد فيه. انظر "شرح أشعار الهذليين" 1/ 58، و"جمهرة اللغة" 3/ 237، و"الحجة" 2/ 75، و"المخصص" 1/ 110، "تهذيب =

أي: عين المُسْتأخِذ فحذف المضاف، والرمد الفاعل (¬1). وهذه الآية خطاب لليهود وإن كان آباؤهم أخذ الميثاق عليهم. روى أبو صالح، عن ابن عباس أنه قال. هما ميثاقان (¬2): الأول (¬3): حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم. والثاني: أن كل نبي بعث إلى قومه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة لله والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقوله تعالى: {وَرَفَعنَا فَوقَكُمُ الطُّورَ}. الواو {وَرَفَعنَا} واو الحال، المعنى إذ أخذنا ميثاقكم في حال رفع الطور (¬5)، ويضمر معه قد لتصلح الحال كما ذكرنا في قوله: {وَكُنتُم أَموَاتًا} (¬6) [البقرة:28]. ونذكر كيف أخذ الميثاق في حال رفع الطور، وأما الطور فقيل: إنه الجبل (¬7) ¬

_ = اللغة" (أخذ) 1/ 129، و (غاب) 2616، و (كسف) 4/ 3144، "مقاييس اللغة" 1/ 69، "اللسان" (غيب) 6/ 3322، و (أخذ) 3811، و (كسف) 7/ 3877. (¬1) هذا آخر ما نقله عن "الحجة" 2/ 75. (¬2) في (ج): (ميتاق). (¬3) في (ب): (أول). (¬4) ذكره أبو الليث عن ابن عباس 1/ 376. وذكر ابن جرير أن المراد به الميثاق الذي أخذه منهم في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83 - 85]، وأخرجه بسنده عن ابن زيد. الطبري 2/ 156، وذكر الزجاج قولين فيه: الأول: حين أخرج الناس كالذر ورجحه، والثاني: ما أخذه على الرسل ومن تبعهم. "معاني القرآن" 1/ 119. (¬5) ذكر أبو حيان: أن هذه الواو تحتمل أن تكون للعطف إذا كان أخذ الميثاق متقدمًا، وإن كان أخذ الميثاق في حال رفع الطور فهي للحال. "البحر" 1/ 243. (¬6) وقد ذكر هناك القاعدة عند الجمهور: وهي أن الجملة الفعلية الماضوية، إذا وقعت حالا فلا بد من تقدير (قد) وقيل: لا يلزم ذلك. انظر ص 667. (¬7) في (ب): (جبل).

بالسريانية (¬1)، فإن صح ذلك فهو وفاق وقع (¬2) بين لغتهم ولغة العرب، لأنه لا يجوز أن يوجد في القرآن إلا ما تكلمت به العرب (¬3)، وهذا مما تكلم به العرب، قال العجاج: دَانَى جَنَاحَيْهِ من الطُّورِ فَمَرْ (¬4). وقيل: إنه اسم جبل بعينه، وهو جبل بالشام (¬5)، قال ذو الرمة: أَعاريبُ طُورِيُّونَ عن كُلِّ بلدة ... يَحيدونَ (¬6) عنها مِنْ حِذَارِ المَقادِرِ (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 325، "تفسير الثعلبي" 1/ 80 أ. (¬2) (وقع) ساقط من (ب). (¬3) قال القرطبي: (لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب، وأن فيه أسماء أعلاماً .. كإسرائيل ونوح ولوط، واخلفوا هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب) 1/ 68. فذهب الطبري في "تفسيره" إلى أن ذلك غير موجود، وكذا الثعلبي 1/ 80 أ، وذهب ابن عطية إلى أنه موجود لكن العرب استعملتها قبل وغيرت فيها، فدخلت في لغتها. (¬4) الرجز من قصيدة يذكر فيها مآثر عمر بن عبد الله بن معمر التميمي وبعده: تَقَضِّيَ البازي إذا البَازِي كَسَرْ ضم جناحيه للانقضاض، و (تقضي): أصلها (تقضض) ثلاث ضادات فقلبت الثالثة ياء طلبا للخفة، و (البازي): الشديد من الصقور ورد البيت في "ديوان العجاج" ص 28، "تفسير الطبري" 1/ 324، "تهذيب اللغة" (طرأ) 3/ 2173، انظر "تفسير ابن عطية" 1/ 330، "الكشاف" 4/ 426، "اللسان" (طرأ) 5/ 2649، "البحر المحيط" 1/ 239، "الدر المصون" 1/ 409. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 325، "تفسير الماوردي" 1/ 353، "تفسير ابن عطية" 1/ 330، 15/ 502. (¬6) في (ب): (يحيدرون). (¬7) ورد البيت في "التهذيب" (طور) 3/ 2229، "اللسان" (طرأ) 5/ 2649، و (طور) 5/ 2718، "الخزانة" 7/ 355، و"ديوان ذي الرمة" 3/ 1698، وفي بعضها (قرية) بدل (بلدة).

طوريون أي: وحشيون، يحيدون عن القرى حذار الوباء والتلف، كأنهم نسبوا إلى الطور وهو جبل بالشام. وقال الفراء في قوله تعالى: {وَالطُّورِ} [الطور: 1] قال: هو الجبل الذي بمدين، كلم الله عليه موسى (¬1). قال المفسرون: إن موسى لما أتاهم بالتوراة فرأوها وما فيها من التغليظ كبر ذلك عليهم وأبوا أن يقبلوا ذلك، فأمر الله جبلًا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم مثل الظلة، وكان العسكر فرسخا في فرسخ والجبل كذلك، وأوحى الله إلى موسى إن قبلوا التوراة وإلا رضختهم بهذا الجبل، فلما رأوا ذلك وأن لا مهرب لهم، قبلوا ما فيها وسجدوا من الفزع، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فمن أجل ذلك يسجد اليهود على أنصاف وجوههم، فهذا معنى أخذ الميثاق في حال رفع الجبل فوقهم (¬2)، لأن في هذه الحالة قيل لهم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [وكان فيما آتاهم الله تعالى الإيمان بمحمد (¬3) - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [(¬4) أي: وقلنا لكم خذوا (¬5)، ¬

_ (¬1) في (ب): (موسى عليه). كلام الفراء في "معاني القرآن" 3/ 91. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 80 ب، "تفسير أبي الليث" 1/ 377، وانظر. "الطبري" 1/ 324، "ابن عطية" 1/ 248، "القرطبي" 1/ 372، "البحر المحيط" 1/ 243. (¬3) في (ب): (لمحمد). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬5) نسب الطبري هذا القول لبعض نحوي أهل البصرة، قال: وقال بعض نحوي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول، فلا حاجة إلى إضمار قول، ورجَّح هذا في "تفسيره" 1/ 326، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 243.

وتأويل (¬1)] {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} اعملوا بما أمرتم فيه وانتهوا عما نهيتم عنه. وقوله: {بِقُوَّةٍ} قال ابن عباس والحسن وقتادة: بجد ومواظبة على طاعة الله واجتهاد (¬2)، وتأويله: خذوا ما آتيناكم بعزيمة على طاعة الله واتباع رسله. وقال الزجاج: أي بقوة قلب ويقين ينتفي عنده الريب (¬3) والشك، لما كان (¬4) لكم من عظيم الآيات، وأصل القوة: الشدة، ومنه قوة الحبل، لأنها تقوي الحبل وتشد فتله (¬5). وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} الكناية تعود إلى ما في قوله: {مَا آتَيْنَاكُمْ} (¬6). والمعنى: احفظوا ما في التوراة من الحلال والحرام، واعملوا بما فيه (¬7)، وقيل: اذكروا ما فيه من الثواب والعقاب لعلكم تتقون (¬8)، ويجوز أن ترجع الكناية إلى الميثاق، ويكون المعنى على حذف ¬

_ (¬1) من قوله (وقوله: خذو ..) إلى هنا ساقط من (ب). (¬2) ذكر الطبري في "تفسيره" نحوه عن مجاهد، وأبي العالية، وقتادة، وابن زيد 1/ 326، وكذا عند "ابن أبي حاتم" 1/ 398، وذكره الماوردي عن ابن عباس، وقتادة والسدي "تفسير الماوردي" 1/ 354، وكذا القرطبي في "تفسيره" 1/ 372، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 377، "تفسير الثعلبي" 1/ 80 ب. (¬3) في (ب): (الرتب). (¬4) في "معاني القرآن" (بان) 1/ 120. (¬5) في "تهذيب اللغة": (القوة) الخُصْلة الواحدة من قوى الحبل، وقيل: هي الطاقة الواحدة من طاقات الحبل. (قوى) 3/ 3070. (¬6) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 332، "البحر المحيط" 1/ 244، "الدر المصون" 1/ 409. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 326، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 120، "تفسير الثعلبي" 1/ 80 ب. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 326، و"تفسير أبي الليث"1/ 377.

64

المضاف، كأنه قيل: واذكروا ما في نقض الميثاق من العقوبة لعلكم تتقون. 64 - قوله تعالى: {وثُمَ تَوَلَّيتُم} التولي في اللغة يستعمل على ثلاث معان (¬1): يكون بمعنى الإعراض كالذي في هذه الآية، ومعناه: أعرضتم وعصيتم (¬2)، ومثله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] أي تعرضوا عن الإسلام. ويكون (¬3) بمعنى الاتباع، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، معناه: من يتبعهم وينصرهم. ويقال: توليت الأمر توليا، إذا وليته بنفسك (¬4)، قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11]، أي: ولي وزر الإفك وإشاعته (¬5). ومعنى توليتم هاهنا، أي: أعرضتم عن أمر الله وطاعته. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} قيل من بعد (¬6) أخذ الميثاق. {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بتأخير العذاب عنكم (¬7). وقيل: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن (¬8) ¬

_ (¬1) أخذه عن "تهذيب اللغة" (ولى) 1/ 3957، وانظر: "إصلاح الوجوه والنظائر" ص 499، و"نزهة الأعين" النواظر ص 215، و"مفردات الراغب" ص 534. (¬2) في (ب): (نسيتم). (¬3) في (ب): (وتكون). (¬4) لعل هذا المعنى هو الثالث عند المؤلف حسب تقسيمه، وانظر "نزهة الأعين النواظر" ص 216. (¬5) انتهى ما نقله عنه "تهذيب اللغة" (ولى) 1/ 3957. (¬6) (بعد) ساقط من (ب). (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 80 ب، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 328، وقال الزجاج من بعد ذلك: أي بعد الآيات العظام. "معاني القرآن" 1/ 120، وقال الماوردي: من بعد خروج موسى من بين أظهركم "تفسير الماوردي" 1/ 355. (¬8) (والقرآن) ساقط من (ج). وقد ذكر الطبري عن أبي العالية: فضل الله: الإسلام، =

65

{لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فمن آمن بحمد بعد ما كان في الضلالة لم يكن من الخاسرين، وذكرنا معنى الخسران فيما تقدم (¬1)، ومعناه ذهاب رأس المال، وهو هاهنا هلاك النفس لأنها بمنزلة رأس المال (¬2). 65 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} العلم (¬3) هاهنا بمعنى المعرفة كقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، ولولاه لاقتضى مفعولًا ثانيا، ألا ترى أنك إذا قلت: علمت زيدًا قائمَّاً [كان قائما] (¬4) مفعولًا ثانيا، وإذا قلت: عرفت زيدا قائما، [كان قائما] (¬5) حالا ولم يكن مفعولًا ثانيا، وإذا كان العلم بمعنى المعرفة جاز الاقتصار على أحد المفعولين (¬6). وقوله تعالى: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي: جاوزوا (¬7) ما حد لهم، كانوا أُمروا أن لا يصيدوا في السبت، فحبسوها في السبت وأخذوها في الأحد، فعدوا في السبت، لأن صيدها منعها من التصرف (¬8). ¬

_ = و (رحمته): القرآن، "تفسير الطبري" 1/ 328، ونحوه عند "تفسير المارودي" 1/ 355، وذكره ابن عطية في "تفسيره" عن قتادة 1/ 332 - 333، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 244. (¬1) عند تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. (¬2) (رأس المال) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (علمتم). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 329، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 277، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 120، و"تفسير الماوردي" 1/ 355، "تفسير ابن عطية" 1/ 333 - 334، "البحر المحيط" 1/ 245. (¬7) في (ب): (جاوزا). (¬8) ذكره الزجاج في "المعاني" 1/ 120، وفيه (لأن صيدهم منعها ..) أي أن حبس =

والسبت في كلام العرب معناه: القطع، يقال للحلق: السبت، لأنه قطع للشعر (¬1)، والسبت: السير السريع (¬2)، وتأويله قطع للطريق (¬3). ومنه قول حميد (¬4): ............ أمّا نَهارُها ... فَسَبْتٌ (¬5) ............... والسبت: السُّبَاتُ. قال الزجاج: تأويله أنه يقطع الحركة (¬6). والسبت. قطعة من الدهر، كأنه بمعنى المسبوت (¬7)، أي: المقطوع، وهو ¬

_ = الحيتان ومنعها من التصرف صيد. وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 329، "تفسير الثعلبي" 1/ 81 أ. (¬1) في (ب): (الشعر). (¬2) "تهذيب اللغة" (سبت) 2/ 1607. (¬3) في (ب): (الطريق). (¬4) هو حميد بن ثور بن عبد الله الهلالي، أحد المخضرمين من الشعراء أدرك الجاهلية والإسلام، وقيل إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" 247، "معجم الأدباء" 11/ 8. (¬5) وتمام البيت: وَمطْويَّةُ الأَقْراب أَما نهارُها ... فسبت وأَمَّا لَيْلُها فذمِيلُ قوله: (الأقراب): جمع قرب، وهو الخاصرة، و (السبت): السير السريع، و (الذمِيل): السير البطيء. ويروى شطره الأول: بمقورة الألياط أما نهارها والاقورار هنا: الضمور، و (الألياط) جمع ليط وهو الجلد، ورد البيت في "تهذيب اللغة" (سبت) 2/ 1607، "جمهرة أمثال العرب" (سبت) 1/ 195، "مقاييس اللغة" 3/ 124، وكذا في الصحاح 1/ 251، و"اللسان" 4/ 1912، و"المخصص" 7/ 107، و"البحر المحيط" 1/ 240، و"ديون حميد بن ثور" ص 116. (¬6) في "تهذيب اللغة" (وقال الزجاج): السبات: أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه ..)، (سبت) 2/ 1607. (¬7) في (ب): (السبوت).

في شعر لبيد: وغَنِيتُ سَبْتًا (¬1) ......... البيت قال أبو بكر بن الأنباري: السبت القطع، وسمي السبت من الأيام سبتًا، لأن الله ابتدأ الخلق فيه، وقطع بعض الخلق، وخلق (¬2) الأرض. [ويقال: أُمر فيه بنو إسرائيل بقطع الأعمال وتركها. قال: وأخطأ من قال: سمي السبت لأن الله أمر فيه بني إسرائيل بالاستراحة، وخلق هو عز وجل السموات والأرض في ستة أيام آخرها يوم الجمعة، ثم استراح في يوم السبت. قال: وهذا خطأ، لأنه لا يعلم في كلام العرب (سَبَتَ) بمعنى استراح، وإنما معنى سَبَتَ: قطع، ولا يوصف الله تعالى بالاستراحة لأنه لا يتعب (¬3). قال: واتفق أهل العلم على أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت ولم يخلق يوم الجمعة سماءً ولا أرضًا (¬4). ¬

_ (¬1) تمام البيت: وغَنَيِتُ سَبْتاَ قبل مُجْرَى داحس ... لو كان للنفس اللجُوجِ خُلُودُ ويروى (بعد مجرى) وعَمَرْتُ كَرْسًا. غنيت: عشت (سبتا): دهرا، (داحس) اسم فرس. ورد البيت في "تهذيب اللغة" (سبت) 2/ 1607، "اللسان" (سبت) 4/ 1912، و (عمر) 5/ 310، و"حماسة البحتري" ص 100، "المخصص" 2/ 64، "الخزانة" 2/ 251، "البحر المحيط" 1/ 240، وديوان لبيد مع شرحه ص 35. (¬2) كذا العبارة في جميع النسخ، وفي "الزاهر" (وقطع فيه بعض خلق الأرض ..) 2/ 145، ومثله في "تهذيب اللغة" (سبت) 2/ 1607، والنص منه. (¬3) منهج السلف في باب الصفات التزام النص، فيثبتون لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وينفون عنه ما أنفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله، وما لم يرد فيه نص فيلتزمون فيه الخفي المجمل من دون تفصيل في النفي. ولم ترد الاستراحة في نص. (¬4) "الزاهر" لابن الأنباري 2/ 145، "تهذيب اللغة" (سبت) 2/ 1607.

وقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً} أي: كونوا بتكويننا إياكم وتغييرنا خلقكم قردة (¬1). قال ابن الأنباري: كن (¬2) ينقسم في كلام العرب على معان: منها: أن يقول الرجل للرجل: كن جبلًا فإني أهدك، وكن حديدًا فإني أغلبك، يريد لوكنت بهذا الوصف لم تَفُتْنِي (¬3)، قال الله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] يريد لوكنتم حجارة أو حديدا لنزل بكم الموت ووصل إليكم ألمه، ويقول الرجل للرجل إذا لم يتعلم (¬4) العلم: فكن من البهائم، أي عُدَّ نفسَك مُشبهًا لها. قال الأحوص: إِذَا كُنْتَ عِزْهَاةً عَنِ اللَّهْو والصِّبَا ... فَكُنْ حَجَرًا مِنْ يَابِسِ الصَّخْرِ جَلْمَدَا (¬5) أي فعُدَّ نفسك من الحجارة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 329، و"تفسير البغوي" 1/ 81، و"البيان" 1/ 90، "تفسير ابن عطية" 1/ 336. (¬2) في (ج): (كمن في). (¬3) في (ب): (تنتنى). (¬4) كذا في (أ)، (ج)، وفي (ب) غير واضحة، ولعل الصواب (تتعلم). (¬5) ويروى شطره الأول كما في شعر الأحوص: إِذَا أنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدرِ مَا الْهَوَى وفي كتاب الزينة: إِذَا أنْتَ لَمْ تَطْرَبْ وَلَم تَشْهَدِ الْخَنَا و (العِزْهَاةُ): الذى لا يحب اللهو ولا يَطْرب، ورد البيت في "الزينة" 1/ 124، "المخصص" 16/ 175، "الخصائص" 1/ 229، "الشعر والشعراء" ص 346، و"أمالي الزجاجي" ص 75، و"أساس البلاغة" (عزه) ص 2/ 115، "اللسان" (عزه) 5/ 2933، و"شعر الأحوص" ص 98.

فقال الله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً}] (¬1) أي بتغييرنا (¬2) خلقكم وتبديلنا صوركم، وهذا أمر (¬3) حتم ليس للمأمور فيه اكتساب، ولا يقدر على دفعه عن نفسه (¬4). وقال (¬5) بعض النحاة: الأمر يجيء على معان: على الفرض، والنفل، والإذن، والتهديد والتحدي، وعلى معنى الخبر. فالفرض مثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬6) وأشباهه، والنفل كقوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34]، والإذن: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، والتهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] (¬7)، وكقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: 64]، الآية، والتحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا} [البقرة: 23]، وفيه معنى الإلزام، إلا أن من الإلزام ما لا يكون في المقدور أصلًا كقوله: {قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم} (¬8) وليس يصح برهان على صدقهم. وأمَّا بمعنى الخبر فقوله: {كُونُوا قِرَدَةً} (¬9) أي: جعلناهم قردة (¬10)، إلا أنه جاء بلفظ الأمر على طريق البلاغة. وقد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير مقروء في (ب). (¬2) في (ب): (بتغيير)، وفي (ج): (بتغيرنا). (¬3) في (ج): (امرتكم). (¬4) انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 366 - 377، و"البيان" 1/ 90، و"البحر" 1/ 246. (¬5) (الواو) ساقطة من (ب). (¬6) [البقرة: 43، 83، 110، والنساء: 77، والنور: 56، والمزمل: 20] (¬7) في (أ)، (ج): (اعملوا) تصحيف. (¬8) [البقرة: 111، والأنبياء: 24، والنمل: 64]. (¬9) [البقرة: 65، والأعراف: 166]. (¬10) ذكر الغزالي في المستصفى الوجوه التي يأتي عليها الأمر، ومنها الوجوه التي =

يجئ الأمر والمراد منه التسوية، كقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، أي قد استوى الحالان في أنه لا يغفر. والقردة جمع قرد، يقال: قرد، وثلاثة أَقْرِدة (¬1) وقُرُود وقِرَدَة كثيرة، والأنثى قِرْدَة. وأصل الحرف من اللصوق، ومنه الْقَرِد، وهو ما تلاصق من الوبر ويعقد، والقُرَادُ سمي قُرادًا للصوقه بالموضع الذي يعلق، والقرود تتلاصق إذا اجتمعت وتتداخل خوفًا من عدوها، فإنها أجبن شيء (¬2). و (¬3) قوله تعالى: {خَاسِئِينَ} الخَسْءُ: الطرد والإبعاد، يقال: خَسأتُه خَسْأً فَخَسَأ [وانْخَسَأ (¬4)، فهو واقع ومطاوع (¬5). قال الفراء والكسائي: يقال: خَساتُه خَسْأً فَخَسَأ] (¬6) خُسُوءًا (¬7) مثل رَجَعْتُه رَجْعًا فَرَجَعَ رُجُوعًا (¬8)، ويقال للكلب عند الزجر والإبعاد: اخسأ، وأنشد الفراء: وَإذا زَجَرْتُ الْكَلْبَ قُلْتُ اخْسَأ لَهُ ... وَالْكَلْبُ مِثْلُكَ ياخُرَيْمُ سَوَاءُ (¬9) ¬

_ = وردت عند المؤلف هنا ومما ذكر: التسخير كقوله: {كُونُوا قِرَدَةَ} "المستصفى" ص 293. (¬1) في (ب): (أقراد) وكلها وردت في "تهذيب اللغة" عن الليث (قرد) 3/ 2921. (¬2) انظر: "مقاييس اللغة" (قرد) 5/ 83، 84، "الصحاح" (قرد) 2/ 523، "اللسان" (قرد) 6/ 3576. (¬3) (الواو) ساقطة من (ج). (¬4) في (ج): (الخسأ). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 329، "تهذيب اللغة" (خسأ) 1/ 1028، "جمهرة أمثال العرب" 3/ 237، "الصحاح" (خسأ) 1/ 47. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) في (ج): قال الفراء والكسائي: (خَسَأتُه مخسأ خسأ فخسا خسوءا). (¬8) انظر: "الزاهر" 2/ 48، و"الوسيط" 1/ 125، "تفسير القرطبي" 1/ 443. (¬9) لم أعثر على هذا البيت فيما اطلعت عليه، والله أعلم.

66

وأنشد ابن الأنباري لعمران بن (¬1) حطان: لاَ تَجْعَلَنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْزِلِي ... يَا رَبِّ (¬2) مَنْزِلَ خَاسِئً مَدْحُورِ (¬3) وتقدير الآية: كونوا خاسئين قردة، لأنه لولا التقديم والتأخير لكان: قردة خاسئة (¬4). 66 - قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا} الآية، اختلفوا في الكناية، فقيل: إنها راجعة إلى القردة (¬5). وقال الفراء: الكناية تعود إلى المسخة (¬6)، لأن معنى: {كُونُوا قِرَدَةً} مسخناهم قردة، فوقعت الكناية عن الكلام المتقدم (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج): (عمر بن الخطاب). وابن حطان: هو عمران بن حطان من بني عمرو بن سيبان بن ذهل، كان رأس القَعدة من الصُّفْرية إحدى فرق الخوارج، وكان خطيبًا شاعرا، توفي سنة أربع وثمانين ذكر الجاحظ أخباره في "البيان والتبيين" 1/ 47، والمبرد في "الكامل" 3/ 167، وانظر: "تهذيب التهذيب" 3/ 317. (¬2) في (ج): (يارب منزلى). (¬3) لم أجد هذا البيت فيما اطلعت عليه من شعر عمران بن حطان ضمن "ديوان الخوارج" جمع نايف محمود معروف، ولا في "شعر الخوارج" لـ (إحسان عباس). (¬4) أي لو كان (خاسئين) صفة لقردة لقال: (خاسئة)، انظر "الوسيط" 1/ 125، وللعلماء في إعرابه وجوه: الأول: أنه خبر ثانٍ لـ (كان)، أو حال من (الواو) في كونوا، أو نعت لقردة، وهذا الوجه رده المؤلف. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 184، و"المشكل" لمكي 1/ 52، "تفسير ابن عطية" 1/ 336، و"البيان" 1/ 90، و"الإملاء" 1/ 41، "الدر المصون" 1/ 414. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 2/ 176، "تفسير الثعلبي" 1/ 81 أ، "تفسير الماوردي" 1/ 375. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 43. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 333، "زاد المسير" 1/ 95.

وقال ابن عباس: فجعلنا تلك (¬1) العقوبة لهؤلاء القوم الذين مسخوا قردة وخنازير، وعلى هذا الكناية تعود إلى العقوبة (¬2)، وهي مدلول عليها بقوله: {كُونُوا قِرَدَةً} لأن ذلك يدل على المسخ، والمسخ عقوبة، ويقال: الهاء عائدة على الأمة (¬3) الذين اعتدوا، لأن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ} (¬4) يدل على أنهم كانوا أمة وفرقة من الناس، فرجع العائد على المعنى (¬5). وقال الزجاج: وجعلنا هذه الفعلة عبرة (¬6). والنَّكَال (¬7) اسم لما جعلته نكالًا لغيره إذا رآه خاف أن يعمل عمله (¬8). وأصل هذا من قولهم: نكل عن الأمر ينكُل نُكولًا، إذا جبن عنه، يقال: نَكَّلْت بفلان، إذا عاقبته في شيء أتاه عقوبةً تُنَكِّل غيره عن ارتكاب مثله، أي: تمنع وتردد. والنِّكْل: القيد، لأنه يمنع الجري، والنِّكْلُ: حديد اللجام (¬9). ¬

_ (¬1) (تلك) ساقط من (ج). (¬2) أخرجه الطبري عن الضحاك عن ابن عباس. الطبري 1/ 333، وانظر: "الماوردي" 1/ 357، "زاد المسير" 1/ 95. (¬3) (الأمة) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (الذين اعتدوا). (¬5) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 121، و"تفسير الطبري" 1/ 333، وأورد أقوالا أخرى منها: أنها تعود على قرية القوم الذين مسخوا، أو تعود على الحيتان، وهي وإن لم يجر لها ذكر ففي الخبر دلالة عليها، "تفسير الطبري" 2/ 176، وانظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 81 ب، "تفسير الماوردي" 1/ 357، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 44. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 121، والنص من "تهذيب اللغة" (نكل) 10/ 247. (¬7) في (ب): (النكل). (¬8) ذكره الأزهري عن الليث. "تهذيب اللغة" 4/ 3665، وانظر: "اللسان" (نكل) 8/ 4544. (¬9) ذكره الأزهري عن شمر. "تهذيب اللغة" 4/ 3665، وانظر: "اللسان" 8/ 4544.

وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} قال أبو إسحاق: {لِّمَا بَينَ يَدَيهَا} الأمم التي تراها، {وَمَا خَلْفَهَا} ما يكون بعدها (¬1). فما في هذا القول عبارة عن الأمم. وقال الفراء: جعلت نكالا لما مضى من الذنوب، ولما (¬2) يعمل بعدها، ليخافوا (¬3) أن يعملوا بما عمل الذين مسخوا فيمسخوا (¬4). فعلى هذا القول (ما) عبارة عن الذنوب، والهاء في (يديها) يعود (¬5) على الفرقة الممسوخة وكذلك الهاء في {خَلْفَهَا} (¬6). وقيل: هذا على (¬7) التقديم والتأخير، تقديره: فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم من العذاب في الآخرة عقوبةً ونكالًا لما بين يديها، أي: لما (¬8) تقدم من ذنوبهم في اعتدائهم يوم السبت (¬9). ¬

_ (¬1) ما ذكره أحد قولين أوردهما الزجاج في "المعاني" 1/ 121، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 333. (¬2) في (ج): (يعملوا). (¬3) في (ب): (ليخافون). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 43، وهو قول للزجاج. انظر: "المعاني" 1/ 121، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 333 - 334. (¬5) في (ج): (تعود). (¬6) رجح الطبري في "تفسيره" أنها تعود على (العقوبة) 1/ 335، وذكر مكي: ثلاثة أقوال وهي، أنها تعود على القردة، أو المسخة، أو العقوبة. "المشكل" 1/ 52، وانظر: "البيان" 1/ 91. (¬7) (على) ساقط من (ب). (¬8) في (ب): (أي التقديم). (¬9) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 81 ب، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 81.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ) سورة البقرة من آية (67) -آية (195) تحقيق د. محمد بن عبد العزيز الخضيري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثالث

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ) سورة البقرة من آية (67) -آية (195) تحقيق د. محمد بن عبد العزيز الخضيري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثالث

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي, محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان, الرياض1430هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 3.227 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ) [3]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

باقي تفسير سورة البقرة

67

67 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} الآية. قال الليث (¬1): القوم الرجال دون النساء، ومنه قوله عز وجل: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] أي رجال من رجال، ثم قال: {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} قال زهير (¬2): وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ (¬3) أدْرِي ... أَقَوْمٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ (¬4) وقوم كل رجل: شيعته وعشيرته (¬5). وقال أبو العباس: القوم والنفر والرهط معناه الجمع، ولا واحد لها من لفظها، وهم الرجال دون النساء (¬6). والمراد بالقوم هاهنا شيعة موسى وأتباعه. وقد يذكر القوم فيدخل فيه النساء كقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] وكان مرسلاً إلى الإناث والذكور جميعاً، وجاز ذلك لأن ¬

_ (¬1) هو: الليث بن المظفر، وقيل: ابن، وقيل: ابن رافع بن يسار الخرساني، وكان بارعا في الأدب، بصيرًا بالشعر والغريب والنحو، وكان كاتبا للبرامكة. ينظر: "بغية الوعاة" 2/ 270، و"معجم الأدباء" 17/ 43. (¬2) هو: زهير بن أبي سلمة بن رباح، شاعر جاهلي، نت نزينة من الطبقة الأولى من فحول "الشعراء الجاهليين"، كان له من الشعر ما لم يكن لغيره، توفي سنة 13 قبل الهجرة. ينظر: "الشعر والشعراء" 1/ 69، "الأعلام" 3/ 52. (¬3) في (أ)، (ج): (أخاك) (¬4) البيت من قصيدة قالها زهير في هجاء بيت من كلب من بني عليم. ورد في "تهذيب اللغة" (قام) 3/ 2863، و"مجمل اللغة" (قوم) 2/ 738، "المقاييس" (قوم) 5/ 43، و"المعاني الكبير" 1/ 593، و"المخصص" 3/ 119، و"مغني اللبيب" 1/ 41، 139، 2/ 393، 398، و"الهمع" 2/ 230، 4/ 54، 376، و"معاهد التنصيص" 3/ 165، و"اللسان" (قوم) 6/ 3786، و"فتح القدير" 1/ 135. (¬5) انتهى كلام الليث. "تهذيب اللغة" (قام) 3/ 2863، وانظر: "الزاهر" 2/ 169، "اللسان" (قوم) 6/ 3786. (¬6) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" عن المنذري عن أبي العباس (قام) 3/ 2863، وانظر: "اللسان" (قوم) 6/ 3786.

الغالب من أمر (¬1) النساء اتباع الأزواج فاكتفى بهم منهن لغلبتهم عليهن (¬2). وقوله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} البقرة واحدة (¬3) البقر. الأصمعي: يقال: رأيت لبني فلان بَقَرًا وبَقِيرًا وبَاقُورَةً وبَاقِرًا (¬4) وبَوَاقِرَ، كله جمع البقر، وأنشد (¬5): بَوَاقِرُ جُلْحٌ أسْكَنَتْها الْمَرَاتِعُ (¬6) وقال آخر (¬7): خَلَقًا كَحَوْضِ الْبَاقِرِ الْمُتَهَدِّمِ (¬8) ويقال لجماعة البقرة: بيْقُور (¬9) أيضاً، وقال أمية (¬10): ¬

_ (¬1) (من أمر النساء) ساقط من (ب). (¬2) ذكره ابن الأنباري في "الزاهر" 2/ 170. (¬3) في (ب): (واحد). (¬4) في (ج): (باقر). (¬5) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (قال: قال أبو نصر: قال الأصمعي ... ثم ذكره، وفيه: وأنشدني ابن أبي طرفة. (بقر) 1/ 370، وانظر: "جمهرة أمثال العرب" 1/ 27، "الصحاح" (بقر) 2/ 594، "مقاييس اللغة" (بقر) 1/ 278. (¬6) في (ب): (المرابع). والبيت لقيس بن العَيْزَارَة وشطره الأول: فَسَكَّنْتُهُمْ بِالْقَوْلِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ و (الجُلْح): البقر لا قرون لها، (أسكنتها المراتع): طابت أنفسها بالمرعى فسكنت. ورد البيت في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 590، "تهذيب اللغة" (بقر) 1/ 370، "مقاييس اللغة" 1/ 278، "اللسان" (بقر) 1/ 423، و (جلح) 2/ 651. (¬7) هو الحارث بن خالد المخزومي كما في "جمهرة أمثال العرب" 1/ 270. (¬8) البيت بتمامه: مَالِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ أَهْلِكَ مُوحِشًا ... قَفْرًا كَحَوْضِ البَاقِر المُتهَدمِ ورد البيت في "جمهرة أمثال العرب" 1/ 270، و"تفسير الثعلبي" 1/ 84 أ، والسجاوندي في ص 53، و"البحر المحيط" 1/ 254. (¬9) "تهذيب اللغة" (بقر) 1/ 370، وانظر: "جمهرة أمثال العرب" 1/ 270. (¬10) هو: أمية بن أبي الصلت.

وعَالَت الْبَيْقُورَا (¬1) وقيل: إن أصل الحرف من الْبَقْر الذي هو الشقّ، يقال: بقر بطنه إذا شقّه وفتحه، وكان يقال لمحمد بن علي بن الحسين (¬2) رضي الله عنهما "الباقر"، لأنه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه وفتحه (¬3). والْبَقِيرُ: ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّيْن ولا جيب (¬4). والبقر جنس شأنها أن تشق الأرض في الْكِرَاب (¬5). ¬

_ (¬1) تمامه: سَلْعٌ مَّا وَمِثْلُهُ عُشَرٌ مَّا ... عَائِلٌ مَّا وَعَالَتِ الْبَيْقَورَا و (السلع): نبت، و (عائل): من قولهم: عالني أثقلني، و (عالت البيقورا): أي أثقلت هذه السنة البيقور بالهزال. قال في مغني اللبيب: قال عيسى بن عمر: لا أدري ما معناه، ولا رأيت أحدا يعرفه، وقال غيره: كانوا إذا أرادوا الاستسقاء في سنة الجدب عقدوا في أذناب البقر وبين عراقيبها السَّلْع والعُشَر، وهما ضربان من الشجر، ثم أوقدوا فيها النار وصعدوا بها الجبال، ورفعوا أصواتهم بالدعاء. "مغني اللبيب" 1/ 314، وانظر: "جمهرة أمثال العرب" 1/ 270، "تهذيب اللغة" (بقر) 1/ 370، و (سلع) 2/ 1733، "الأزهية" ص 81، "اللسان" (بقر) 1/ 324، و (علا) 5/ 3090. (¬2) في (ب) (الحسين الباقر). وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، أبو جعفر، الباقر خامس الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية، كان ناسكًا عابدًا، توفي سنة أربع عشرة ومائة , وقيل: ثماني عشرة. انظر: "حلية الأولياء" 3/ 180، "تهذيب التهذيب" 5/ 3090. (¬3) "تهذيب اللغة" (بقر) 1/ 369، "الصحاح" (بقر) 2/ 595. وذكر ابن فارس أن (الباء، والقاف، والراء: أصلان: الأول: البقر، والثاني: التوسع في الشيء وفتح الشيء، قال: وزعموا أنه أصل واحد وسميت البقر لأنها تبقر الأرض، قال: وليس ذلك بشيء. انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 277 - 280. (¬4) ذكره في "تهذيب اللغة" عن أبي عبيد عن الأصمعي 1/ 369. (¬5) (الكراب): بياض في: (ب). و (الْكِراَبُ): هو حرث الأرض وقلبها. انظر: "اللسان" (كرب) 7/ 3847.

وقوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} يقرأ بالتخفيف والتثقيل (¬1)، وذلك (¬2) أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم (¬3)، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخففه، نحو: العُسْر واليُسْر والحُكْم (¬4) والرُّحْم (¬5)، وكذلك ما كان على فُعُل من الجموع قد استمر فيه الوجهان نحو: الكتب، والرسل وحتى جاء ذلك في العين إذا كانت واوا نحو: ........ سُوُكَ الإِسْحِلِ (¬6) وقوله: ¬

_ (¬1) قرأ حفص بضم الزاي من غير همز، وحمزة بإسكان الزاي، وبالهمز في الوصل، فإذا وقف أبدل الهمزة واواً اتباعا للخط. وبقية السبعة بالضم والهمزة التيسير ص 74، وانظر: "السبعة" ص 158، و"الحجة" لأبي علي 2/ 100. (¬2) في (ب): (وكذلك). (¬3) في "الحجة" لأبي علي: (قال أبو الحسن: زعم عيسى أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم .... الخ) نقل عن أبي علي بتصرف. "الحجة" 2/ 105. (¬4) في (أ)، (ج): (الحلم)، وأثبت ما في (ب) لأنه يوافق ما في "الحجة" 1/ 105. (¬5) عند تثقيلها يقال: (العُسُر)، (اليُسُر)، و (الحُكُم)، و (الرُّحُم). وهذا آخر ما حكاه أبو علي عن أبي الحسن عن عيسى. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 278، و"الحجة" 1/ 105، وانظر: "الكشف" لمكي1/ 448، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 101. (¬6) البيت لعبد الرحمن بن حسان، وتمامه: أغَرُّ الثَّنايا أحمُّ اللِّثا ... ت تَمْنَحهُ سُوُكُ الإسْحِلِ (الأحم): الأسود، و (اللثات): جمع لثة وهي ما حول الأسنان، (سوك): جمع مسواك، و (الإسْحِل): شجر يستاك به. ورد في "الحجة" 2/ 105، "المقتضب" 1/ 113، "المخصص" 11/ 192، "الصحاح" 4/ 1593، "المنصف" 1/ 338، "شرح المفصل" 10/ 84.

وفي الأَكُفِّ اللامِعاتِ سُوُر (¬1) وأما فُعْل في جمع أفعل نحو أحْمر وحُمْر، وكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين، وقد جاء فيه التحريك في الشعر (¬2). ومعنى قوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} قال أبو زيد: هَزِئتُ به (¬3) هُزْءًا وَمهْزَأةً، وهذا لا يخلو من أحد أمرين (¬4)، أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا؛ لأن الهُزْءَ حَدَثٌ، والمفعول الثاني من هذا الفعل يكون الأول كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ويكون التقدير: أتتخذنا أصحاب هزء. أو يكون جعل الهُزْءَ المهزوءَ به مثل الخلْق (¬5) والصيد. وقوله (¬6): {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 57] لا يحتاج فيه إلى تقدير ¬

_ (¬1) البيت لعدي بن زيد كما في "الكتاب" وشطره الأول: عن مُبْرِقَاتٍ بالبُريْنِ تبدو (المبرقات): النساء المتزينات، و (البُرين): جمع برة وهو الحلي، و (سُوُر) جمع سوار. والبيت من "شواهد" سيبويه 4/ 359، و"شرح شواهده" للسيرافي 2/ 425، "المخصص" 4/ 46، و"المنصف" 1/ 338، و"الحجة" 2/ 105، و"شرح الكافية" لابن مالك 4/ 1837، "شرح المفصل" 5/ 44، 10/ 84، 91، و"الهمع" 6/ 94، "اللسان" (لمع) 7/ 4074. (¬2) "الحجة" لأبي علي 2/ 106، وانظر "الكشف" لمكي 1/ 448. (¬3) (به): ساقط من: (ب)، وليس في "الحجة"، وفي الحاشية: (في ط: هزئت به) "الحجة" 2/ 104. (¬4) في "الحجة" بعد أن ذكر كلام أبي زيد: قال أبو علي قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} فلا يخلو من أحد أمرين ..) 2/ 104. (¬5) قوله: مثل الخلْق والصيد، أي في نحو قوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ونحو ذلك. انظر: "الحجة" 2/ 104. (¬6) في (ب): (وقال).

محذوف، لأن الدِّين (¬1) ليس بعين. وقول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في جواب: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} يدل على أن الهازئ جاهل (¬2)، ومعنى {أَعُوذُ بِاللَّهِ} أي: أمتنع به وألجأ إليه، ومصدره العَوْذ والعِياذ (¬3). وتقول العرب: أطيب اللحم عُوَّذه، أي الذي عاذ بالعظم، وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها، وجعلت عائذًا وهي معوذ بها، وجمعها عُوذ، وهي الحديثات النتاج، وذلك أن الولد يعوذ بها إذا (¬4) كان حديثا، فإذا شبّ الولد لم يعذ بالأم، فلهذا يفسر العُوذ بالحديثات النتاج (¬5) والأصل ما ذكرنا، ومنه قول لبيد: فالِعينُ سَاكِنَةٌ على أَطْلائِهَا (¬6) ... عُوذًا تأَجَّلُ بِالغَضَاءِ بِهَامُهَا (¬7) وقوله تعالى: {مِنَ الْجَاهِلِينَ} الجهل نقيض العلم، ويقال: استجهلت الريحُ الغصنَ إذا حركته فاضطرب، والمجهلة: الأمر يحملك ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (الذين) تصحيف. (¬2) انتهى من "الحجة" 2/ 104، 105. (¬3) انظر: "مقاييس اللغة" (عوذ) 4/ 184، "اللسان" (عوذ) 5/ 3162. (¬4) في (أ)، (ج): (إذ)، وأثبت ما في: (ب)، لأنه أنسب للسياق. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (عاذ) 3/ 2273، "الصحاح" (عوذ) 2/ 567، "اللسان" (عوذ) 5/ 3763. (¬6) في (ب): (أطلابها). (¬7) قوله: (العين): البقر، لكبر عيونها، و (أطلائها): أولادها، والمفرد: طلا و (عوذا): حديثات النتاج، و (تَأجَّل): تسير أو تتجمع إجْلاً إجْلاً، أي قطيعا. و (البِهَام): أولاد الضأن، واستعاره لبقر الوحش. "شرح ديوان لبيد" ص 299، "مقاييس اللغة" (عوذ) 4/ 184، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس ص 133، "اللسان" (أجل) 1/ 33، و (بهم) 1/ 376.

على الجهل (¬1)، ومنه الحديث: "الولد مجهلة مبخلة (¬2) مجبنة (¬3) ". وكان حقه (¬4) أن يقول: (فقال أعوذ بالله) لأنه عطف على ما قبله، قال الفراء: وهذا في القرآن كثير بغير الفاء، وذلك أنه جواب يستغني أوله عن آخره بالوقفة عليه، فكأنّ (¬5) حسن السكوت (¬6) يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه في رؤوس (¬7) الآيات لأنها فصول حسناً (¬8)، في ذلك (¬9) قوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا} (¬10) [الحجر:57, 58, والذاريات: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (جهل) 1/ 680، "اللسان" (جهل) 1/ 713. (¬2) (مبخلة): ساقط م: ن (ب). (¬3) أخرجه ابن ماجه بسنده (عن يعلى العامري أنه قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمهما إليه، وقال: "إن الولد مبخلة مجبنة". قال في "الزوائد": إسناده صحيح، رجاله ثقات. "سنن ابن ماجه" كتاب الأدب، باب: بر الوالد والاحسان إلى البنات. وبهذا اللفظ ذكره السيوطي فىِ "جمع الجوامع" وعزاه لابن ماجه وابن أبي شيبة والطبراني في "الكبير"، "جمع الجوامع" في 1/ ل/216. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"، ولفظه: "أن الولد مبخلة مجهلة مجبنة" قال: رواه البزار ورجله ثقات. "مجمع الزوائد"، كتاب: البر والصلة باب ما جاء في الأولاد 8/ 155. (¬4) قوله: (وكان حقه أن يقول ..) هذه العبارة لا تليق بمكانة كتاب الله الذي هو في قمة الفصاحة والبلاغة، مع أن عموم القاعدة التي ذكر منقوض بكلام الفراء الذي أورده. (¬5) في (ب): (وكان) وفي "معاني القرآن" للفراء 1/ 43: (فكأن) وهو أولى. (¬6) في (أ): (السكون) والصحيح بالتاء كما في "معاني القرآن" للفراء 1/ 44. (¬7) في (ب): (فصول). (¬8) كذا في جميع النسخ، وكذا في "معاني القرآن" للفراء وفي حاشيته: في ش، ج (حسنة) 1/ 44. (¬9) (من ذلك): ساقط من: (ب). (¬10) قوله: (قالوا إنا أرسلنا) ساقط من: (ج).

68

31، 32]. والفاء حسنة مثل قوله: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [هود: 27، المؤمنون: 24]، ولوكان على كلمة واحدة لم تسقط العرب منه الفاء، من ذلك (¬1): قمت ففعلت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال (¬2)، حتى يقولوا: قلت (¬3) فقال وقمت فقام، أو قلت (¬4) وقال، لأنها نسق وليست باستفهام يوقف عليه، قال: وأنشدني بعض العرب: لَمَا رأَيْتُ نَبَطَا أَنْصَارا ... شَمَّرتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا كُنْتُ لَهَا مِنَ النَّصَارى جَارَا (¬5) [لم يقل: فكنت، ولا وكنت] (¬6). 68 - وقوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} الآية إنما سألوا ما هي، لأنهم لم (¬7) يعلموا أنّ بقرةً يحيا بضرب بعضها ميّتٌ، قاله (¬8) الزجاج (¬9). ¬

_ (¬1) (ذلك) ساقط من (ب). (¬2) زيادة لازمة من "معاني القرآن" للفراء 1/ 44. (¬3) قوله: (حتى يقولوا قلت) ساقط من (ب). (¬4) قوله: (أو قلت وقال) ليست في "معاني القرآن" للفراء 1/ 44. (¬5) سبق هذا الرجز. انظر تخريجه عند تفسير قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}. وبه ينتهي ما نقله من كلام الفراء. انظر: "المعاني" 1/ 43، 44، "تفسير الطبري" 1/ 337. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من: (ب). (¬7) في (ب): (ما علموا). (¬8) في (ب)، (ج): (قال). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 122. والحقيقة أن هذا السؤال تعنت منهم لسوء أخلاقهم مع نبي الله وجفائهم. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 240، "تفسير الثعلبي" 1/ 82 أ، "تفسير ابن كثير" 1/ 117.

ويقال: بيّن الشيءَ وأبانه إذا (¬1) أزال الإشكال عنه، والأصل فيه معنى التفريق، والبيان سمي بياناً لأنه التمييز عما يلتبس، والتبيين هو التمييز الذي يقع به التعريف (¬2). وترى هذا مستقصًى (¬3) عند قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]. وموضع (ما) رفع بالابتداء، لأنه بمعنى الاستفهام، معناه: أي شيء هي؟ والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله (¬4)، وبيان هذه المسألة يذكر (¬5) عند قوله: {مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69]. وقوله تعالى: {لَا فَارِضٌ} قال الفراء: الفارض: الهرمة، يقال من الفارض: فرَضَت وفرُضَت، ولم يسمع بِفَرَضَ (¬6)، ونحو ذلك قال قتادة (¬7). وقال الكسائي: الفارض: الكبيرة العظيمة، قد فرَضت تفرُض فُروضًا. ثعلب عن ابن الأعرابي: الفارض: الكبيرة. ¬

_ (¬1) في (ب): (وإذا). (¬2) انظر: "مقاييس اللغة" (بين) 1/ 327، "الصحاح" (بين) 5/ 2082. (¬3) في (ب): (مستقص). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 185، و"إعراب المشكل" 1/ 52، و"الإملاء" ص 42، "البحر المحيط" 1/ 251. (¬5) (يذكر): ساقط من: (ب). (¬6) في (ج): (تفرض)، وفي (أ) غير معجمة، والكلام بهذا النص في "تهذيب اللغة" (فرض) 3/ 2772، وفي "معاني القرآن" للفراء: (والفارض: قد فرضت، وبعضهم: قد فرضت، وأما البكر فلم نسمع فيها بفعل) 1/ 45. (¬7) وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية والسدي، انظر: "تفسير الطبري" 1/ 341، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 412.

وقال أبو الهيثم: الفارض: المسنة (¬1). أبو زيد: بقرة فارض: عظيمة سمينة، والجميع فوارض (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا بِكْرٌ} قال الليث: البكر من النساء: التي لم تمس، والبكر من الرجال: الذي لم يقرب النساء بعد، والبكر: أول ولد الرجل غلاما كان أو جارية، وبقرة بكر: فتية لم تحمل، والبكر من كل أمر: أوله (¬3)، وأصل هذا الباب أول الأمر، فالبكارة أول حال النساء، وهي بكر في أول حالها، والباكورة أول ما يدرك من الثمار، والبُكرة أول النهار (¬4). قال الزجاج في قوله: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ}: أي: ليست بكبيرة ولا صغيرة، قال: وارتفع (فارض) بإضمار هي (¬5). وقال الأخفش: ارتفع على الصفة للبقرة، والوصف بالنفي صحيح، لأنه يرجع في التحقيق إلى أنه يختص بما ينافي ذلك الوصف، تقول: مررت برجل لا قائم ولا قاعد، أي: برجل (¬6) مختص بصفة تنافي القيام والقعود (¬7). ¬

_ (¬1) قول الكسائي وابن الأعرابي وأبي الهيثم في "تهذيب اللغة" (فرض) 3/ 2772، وانظر: "اللسان" (فرض) 6/ 3387. (¬2) ذكره في "اللسان" (فرض) 6/ 3387. (¬3) "تهذيب اللغة" (بكر) 1/ 375 - 377. (¬4) انظر: "مقاييس اللغة" (بكر) 1/ 287، "تهذيب اللغة" (بكر) 1/ 375 - 377، "اللسان" (بكر) 1/ 333. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 122. (¬6) في (ب): (رجل). (¬7) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 279. ذكر قوله بمعناه.

وقوله تعالى: {عَوَانٌ} قال الفراء: انقطع الكلام عند قوله: {وَلَا بِكْرٌ}، ثم استأنف فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}. قال: والعوان يقال منها: عوَّنت تُعوّن تعْوينًا (¬1). وقال أبو الهيثم: العوان: النَّصَف التي بين الفارض -وهي المسنة- وبين البكر وهى: الصغيرة (¬2). أبو زيد: بقرة عوان: بين المسنة والشابة (¬3)، وقد عانت تعون عُووناً إذا صارت عواناً (¬4). وقال الأخفش: العوان التي نتجت مرارا، وجمعها عُون (¬5). قال ابن (¬6) مقبل: ومَأتَمٍ كالدُّمَى حُورٍ مَدَامِعُها ... لَمْ تشقَ بالعَيْشِ أَبْكَارًا وَلَا عُونًا (¬7) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 44، 45، "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2292، ولم يرد فيهما (تعون تعوينا). (¬2) "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2292، وانظر: "اللسان" (عون) 5/ 3179. (¬3) في (ب): (الشاب). (¬4) المرجع السابق. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 83 ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 83، ولم أجده في "معاني القرآن" للأخفش. (¬6) (ابن) ساقط من: (ج). (¬7) (المأتم): جماعة النساء، و (الدمى): الصورة أو التمثال، شبه النساء بجمالهن بالدمى، لم يشقين بالعيش وهن أبكار، أو عون عند أزواجهن، ويروى البيت (لم تيأس) بدل (لم تشق)، ورد البيت في "تفسير الطبري"، "الزاهر" 1/ 263، و"جمهرة أشعار العرب" ص 859، "تهذيب اللغة" (أتم) 1/ 114، "اللسان" (أتم) 1/ 20.

وقال ابن الأعرابي: العَوَان (¬1) من الحيوان السن بين السنين لا صغير ولا كبير (¬2). قال (¬3): ويقال في الجمع: عُون، فرس عَوان، وخيل عُون، على فُعْل، والأصل عُوُن فكرهوا إلقاء ضمة على الواو فسكنوها، وكذلك يقال: رجل جواد وقوم جُود، قال زهير: نَحُلُّ (¬4) سُهُولَها فإذا فَزِعْنا ... جَرَى مِنْهُنّ بالآصال عُونُ (¬5) فزعنا: أغثنا مستغيثًا. قال (¬6): وامرأة عوان: ثيب. وحرب عوان: كان قبلها حرب، كأنه قوتل فيها مرتين. قال ابن عباس: عوان: بين (¬7) الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (العون)، وما في (ب) يوافق "تهذيب اللغة". (¬2) كلام ابن الأعرابي أورده الأزهري عن ثعلب عن ابن الأعرابي، "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2292، وانظر: "اللسان" (عون) 5/ 3179. (¬3) نسب الواحدي الكلام لابن الأعرابي، وهو في "تهذيب اللغة" منسوب لأبي الهيثم حيث قال: (وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم قال: العوان النصف .. ثم قال: قال: ويقال: فرس عوان .. إلخ)، "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2292. (¬4) في (أ) (ج): (يحل)، وفي (ب) غير منقوط، وبالنون ورد في جميع المصادر. (¬5) قوله: (جرى منهن): أي من خيلهم، وقد روي شطره الأخير: جَرتْ بهم إلى المِضمارِ عُون ورد البيت في "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2292، "المخصص" 8/ 51، "اللسان" (عون) 5/ 3179، و"ديوان زهير" ص 102. (¬6) أي ابن الأعرابي. انظر: "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2292. (¬7) في (ج): (من).

يكون من البقر (¬1) وأحسن ما يكون (¬2). وقال مجاهد: عوان: وسط قد ولدت بطنا أو بطنين (¬3). وفائدة قوله: (عوان)، بعد ما نفي أن تكون (¬4) بكراً وأن تكون (¬5) فارضاً، هو أنه احتمل أن تكون عجلاً أو جنيناً، فقال: عوان، لإزالة اللبس ونفي الاحتمال. وقوله تعالى: {بَيْنَ ذَلِكَ} و (بين) لا تصلح (¬6) إلا لشيئين (¬7) أو لأكثر، وإنما صلحت من ذلك وحده؛ لأنه في مذهب الاثنين (¬8)، والاثنان (¬9) قد يجتمعان بـ ذلك وذاك ألا ترى أنك تقول: أظن زيدا أخاك، وكان زيد أخاك، ولا بد لـ (كان وأظن) (¬10) من شيئين، ثم تقول: قد كان ذاك وذلك، وأظن ذلك وذاك (¬11)، فيكون جائزا. ¬

_ (¬1) في (أ): (البقرة) وما في (ب)، (ج) يوافق رواية ابن عباس في الطبري. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" عن الضحاك عن ابن عباس 2/ 195، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 413، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 118، "الدر المنثور" 1/ 151. (¬3) أخرجه الطبري 2/ 195، وابن أبي حاتم 1/ 414. (¬4) في (أ): (يكون) في المواضع الثلاثة وأثبت ما في (ب)، (ج) لمناسبته للسياق. (¬5) في (ج): (أو تكون). (¬6) في (أ)، (ج): (يصلح) وما في (ب) موافق لـ"معاني القرآن" للفراء 1/ 45، والكلام منقول منه. (¬7) في "معاني القرآن"، (لا تصلح إلا مع اسمين فما زاد). (¬8) في (ب): (الاثنتين). (¬9) في "معاني القرآن" (والفعلان). (¬10) في (ب): (ولأظن). (¬11) (ذاك): ساقط من: (ب).

والاسمان اللذان ضمهما ذلك: الهرم والشباب (¬1)، كأنه قيل: بين الهرم والشباب (¬2)، وجاز أن يتضمن ذلك اسمين، لأنه أتى به على مذهب الفعل وأنت تقول في الأفعال: إقبالك وإدبارك يشق علي، فتوحد فعلهما بعدهما، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورني لأن الأفعال وإن اختلفت حركاتها جنس واحد، وليست كالأسماء التي يخالف بعضها بعضا، كذلك هاهنا أريد بين الهرم والشباب (¬3). ومما يجوز أن يقع عليه (بين) وهو واحد في اللفظ ويؤدي عن الاثنين (¬4) فما زاد قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136]، ولا يجوز: لا نفرق بين رجل منهم، لأن أحدا لا يُثنى كما يثنى الرجل ويجمع، فإن شئت جعلت أحدا (¬5) في تأويل اثنين، وإن شئت في تأويل أكثر من ذلك، قال الله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، وتقول: بين أيهم المال، وبين من قسم المال، فتجرى (¬6) (من وأي) على (¬7) مجرى أحد لأنهما قد يكونان لواحد. وجميع (¬8) هذا قول الفراء (¬9)، ونحو هذا قال ¬

_ (¬1) في (أ، ج): (الشاب) في المواضع الثلاثة، وما في (ب) موافق لـ"معاني القرآن" 1/ 45. (¬2) انظر الحاشية السابقة. (¬3) انظر الحاشية السابقة. (¬4) في (ب): (اثنتين). (¬5) في (ب): (واحد). (¬6) في (ج): (في فتجري). (¬7) (على): ساقط من: (ب). (¬8) في (ب): (لواحد ولجمع). (¬9) انظر: "معاني القرآن" 1/ 45، وقد نقل كلام الفراء بتصرف، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 344.

الزجاج فقال: معنى: {بَيْنَ ذَلِكَ} بين البكر والفارض، وانما جاز بين ذلك وبين لا يكون (¬1) إلا مع اثنين لأن (¬2) ذلك ينوب عن الجمل تقول: ظننت زيدا قائما، فيقول القائل: قد ظننت ذاك، وظننت ذلك (¬3). قال أبو علي (¬4): اعلم (¬5) أن بين اسم يستعمل على ضربين: مصدر وظرف، وهما عندي وجميع بابهما يرجع إلى أصل واحد، وهو الافتراق والانكشاف. فأما الذي هو مصدر (¬6) فقالوا: بان الخليطُ بيناً أي فارق، وقد بِنْتُه أي: فارقته، أنشد أبو زيد: كَأَنَّ عَيْنَيَّ وَقَدْ بَانُونِي ... غَرْبَانِ في جَدْوَلٍ مَنْجَنُونِ (¬7) والمعروف: بان عني، فأما هذا فيتجه على أنه أراد الحرف فحذفه ¬

_ (¬1) في (ب): (لا تكون). (¬2) (لأن): ساقط من: (ج). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 123، وانظر ما سبق ص 1037، 1038. (¬4) ورد كلام أبي علي في كتاب "الإغفال فيما أغفله الزجاج في كتاب معاني القرآن" نقل عنه الواحدي طويلا بتصرف، وقد أثبت الفروق الهامة في أماكنها، "الإغفال" ص 214. (¬5) (اعلم): ساقط من: (ب). (¬6) في (ب): (المصدر). (¬7) قوله: (بانوني): فارقوني، (غربان): مثنى غرب، وهي: دلو عظيمة، (جدول): نهر صغير، (منجنون): الدولاب، وهو ما يستقى به الماء، فارسي معرب. ورد البيت في "نوادر أبي زيد" ص 262، "الإغفال" ص214، "الخصائص" 2/ 149، "المنصف" 3/ 24، "المخصص" 12/ 38، "اللسان" (بين) 1/ 404، و (منجنون) 1/ 4273.

فلما حذف الحرف أوصل الفعل (¬1). وقولهم: بان الأمر وأبان، إنما معناه: انكشف، وفارقه ما كان غشيه من الإشكال بغيره والالتباس بسواه. وقال أبو زيد: البَيُون: البئر الواسعة الرأس الضيقة الأسفل، إذا قام الساقي على شفتها لم ير الماء، وأنشد: إِنَّكَ إِنْ دَعَوْتَنِي ودُوني ... زَوْرَاءُ ذاتُ مَنْزَعٍ بَيُونِ لَقُلْتُ لَبَّيْهِ لِمَنْ يَدْعُونِي (¬2) وهذا أيضًا مما ذكرنا (¬3)؛ لأن أعلى البئر فارق أسفلها لانهياره بورود السابلة عليها (¬4) والمستقين (¬5) منها. ولهذا المعنى الذي ذكرنا في أصل هذه الكلمة أضيف (بين) إلى ما دل على أكثر من الواحد في الأسماء، ولم يضف إلى الاسم المفرد الدال على الواحد، لأن ذلك ممتنع في معناه. ¬

_ (¬1) بمعناه في "الإغفال" ص 215. (¬2) الرجز لم يعرف قائله، ومعنى: (زوراء): الأرض البعيدة الأطراف. (المنزع): الموضع الذي يصعد فيه الدلو إذا نزع من البئر، فذلك الهواء هو المنزع. يقول: لو ناديتني وبيني وبينك أرض بعيدة، ذات ماء بعيد المتناول، أجبت. فلا تردني عن إجابتك الصعاب، وردت الأبيات في "تهذيب اللغة" (بان) 1/ 266، "المخصص" 10/ 36، 16/ 147، "الإغفال" ص215، "الهمع" 3/ 113، "شرح ابن عقيل" 3/ 52، "أوضح المسالك" 144، "مغني اللبيب" 2/ 578، "الخزانة" 2/ 93، "اللسان" (لبب) 7/ 3980، و (بين) 13/ 64، ووقع اختلاف يسير في رواية بعض ألفاظها. (¬3) في "الإغفال": (ذكرناه). (¬4) (عليها): ساقط من (ب). (¬5) في (ج): (المستبين).

ألا ترى أنك لو قلت: اجتماع زيد (¬1)، وجمعت زيداً، لم يسغ (¬2) حتى تضيف إليه ما تريد (¬3) به على الأفراد. هذا أصل (بين) في اللغة، ثم لا يمتنع أن يتسع فيه كما اتسع في غيره، فيستعمل لغير هذا المعنى. مما اتسع فيه أنه استعمل بمعنى الوصل (¬4)، وهو ضد الافتراق، وقد بينا أن أصله راجع إلى الافتراق، وإنما جاز استعماله بمعنى الوصل في قوله: {لَقَد تَقَطَّع بَيْنُكُم} [الأنعام: 94] على قراءة من رفع (¬5)، لأنه قد كثر استعمالها ظرفًا بين الشيئين ومع الشيئين اللذين بينهما ملابسة ومخالطة، فصار لذلك بمنزلة الوصلة والاقتراب بين الشيئين. وهذا الاتساع إنما هو في المستعمل ظرفا دون التي هي مصدر، لأنه في الاستعمال أكثر. وهذا التوسع في الظروف كثير، والذي استعمل ظرفا أصله الذي هو مصدر؛ لأن المصادر قد استعملت ظروفاً في مواضع كثيرة، والأسماء التي تستعمل تارة ظروفاً وتارة أسماءً لا تمتنع أن تكون مشتقة مثل: خلف وأمام وقدام وأعلى وأسفل ووسط كلها مشتقة، وهي مع ذلك ظروف وقد استعملت أسماءً كما (¬6) استعملت ظروفاً، وكذلك بين في نحو قوله: {وَمِن ¬

_ (¬1) في (ب): (زيدا). (¬2) (يسغ): مكانها بياض في (ب). (¬3) في "الإغفال": (ما يؤيد به ..) ص 217. (¬4) "الإغفال" ص 217 - 219، نقل كلامه بتصرف. (¬5) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعامر وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر بالرفع، وقرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص بالنصب. انظر: "السبعة" ص 263، و"التيسير" ص 105. (¬6) في (ب): (كلما).

بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، قد استعملت اسما. كما استعملت ظرفا (¬1) نحو: بينهما مال، وفي قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في قراءة من نصب (¬2)، لأن المعنى: لقد تقطع الاشتراك (¬3) بينكم. وأما ما لزم (¬4) الظرفية وبعد عن التمكن كإذ ونحوه فيمتنع اشتقاقه (¬5). هذا هو الكلام في بين. فأما ما يقع بعده فهو على ضربين (¬6): اسم وجملة. والاسم المفرد الذي بعده لا يخلو من أن يكون دالا على واحد أو أكثر من الواحد. فإن كان دالا على الواحد غير دال (¬7) على أكثر منه عطف عليه اسم آخر، وكان العطف بالواو دون غيرها من الحروف العاطفة، [وذلك قولنا: المال بين زيد وعمرو. وإنما كان العطف بالواو لما فيما من معنى الاجتماع، ولأن ذلك حقيقتها وأصلها وليس ذلك موجودا في شيء غيرها من الحروف العاطفة (¬8)]، وفي العطف على الاسم المفرد بعد (بين) يحتاج إلى ما يدل على معنى الاجتماع. لما قدمنا ذكره في معنى ¬

_ (¬1) في (ب): (قد استعملت ظروفًا). (¬2) قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم كما سبق. (¬3) في (أ)، (ج): (لقد تقطع بينكم الاشتراك بينكم) زيادة بينكم وليست في "الإغفال" ص 218. (¬4) في (أ)، (ج): (وأما لزم)، وفي (ب): (وأما ما لزوم). (¬5) قال أبو علي: (فالقول: أن ما كان منها يستعمل تارة اسما، وتارة ظرفا، فلم يلزم الظرفية، فيبعد بذلك عن المتمكنة، كإذ ونحوه، ولا يمتنع أن تكون مشتقة كسائر الأسماء التي لا تكون ظروفا) "الإغفال" ص 218. (¬6) "الإغفال" ص 219. (¬7) في (ب): (وغير ذاك). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

(بين) فلو عطف فيه على الاسم المفرد بحرف غير الواو لبقيت إضافتها كأنها إلى المفرد. ألا ترى أنك لو جعلت موضع الواو الفاء لكان -لما فيها من معنى إتباعه الثاني الأول- لا يكون مجتمعا مع المعطوف عليه، وإذا لم يجتمع معه حصلت الإضافة إلى مفرد دال على واحد، وإضافتها إلى الواحد ممتنع. والذي يدل على أنه حيث تريد (¬1) الاجتماع لا يجوز العطف بغير الواو (¬2) أنك لو قلت: مررت بزيد أخيك وصاحبك، وأنت تريد نعته بالأخوة والصحبة جميعًا (¬3) كان العطف بالواو دون سائر أخواتها، إذ (¬4) كان الغرض أنه مستحق لهما (¬5) معًا. وكذلك الأفعال التي لا تقع إلا من فاعلين لا يكون العطف فيه لأحد الفاعلين على الآخر إلا بالواو دون غيرها، لأنك لو عطفت فيها بغير الواو، لصارت كأنها مسندة إلى فاعل واحد، وذلك فيها فاسد، وذلك نحو الاشتراك والاختصام (¬6) والاقتتال وما أشبه هذا. وما امتنع من العطف بالفاء, فهو من (ثم) أشد امتناعًا إذ (¬7) كان معناها من معنى الاجتماع أبعد، وإلى الافتراق أقرب لما يدل عليه من التراخي والمهلة (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (يريد). (¬2) "الإغفال" ص 220، نقل كلامه بتصرف. (¬3) في (ب): (حصل). (¬4) في (ب): (اذا). (¬5) في (ب): (لها جميعا). (¬6) في "الإغفال": (الاختصاص) ص 220. (¬7) في (ب): (اذا). (¬8) "الإغفال" ص 221.

فإن قيل (¬1): أليس قال الله تعالى: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَه} [النور: 43] فأضاف (بين) (¬2) إلى اسم مفرد؟ قيل: الهاء فيه ضمير يعود إلى اسم يراد به الجمع، فجاز إضافة (بين) إليه من حيث جاز إضافته إلى الاسم الذي هذه (¬3) الهاء عائدة إليه، وذلك قوله: {سَحَابًا} (¬4) ألا ترى أن سحاباً جمع سحابة. فأما قوله (¬5): بيني وبينه مال، فمذهب سيبويه فيه أن (بين) الثاني متكرر للتأكيد، ومعناه عنده (¬6): بيننا. قال: وهو مثل قولهم: أخزى الله الكاذب منِّي ومنك وإنما هو: منا (¬7)، وكقول القائل (¬8): فأيِّي ما وأَيُّك كان شرًّا ... فَقِيدَ إلى الْمقَامَةِ لاَ يَرَاهَا (¬9) ¬

_ (¬1) "الإغفال" ص 226. (¬2) (بين): ساقط من (ب). (¬3) في (ج): (هو هذه). (¬4) سياق الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43]. (¬5) في (ب): (قولهم). (¬6) في "الإغفال": فمذهب سيبويه فيه أن (بين) الثاني متكرر للتأكيد، كما يكرر الشيء له، ومعناه عندنا: بيننا .. ص 227. (¬7) انظر: "الكتاب" 1/ 204. (¬8) هو العباس بن مرداس. (¬9) معنى البيت: يقول من كان منا شرًّا أعماه الله في الدنيا فلا يبصر مجلسه، وقيل: مات على عماه فيقاد إلى موضع إقامة الناس في العرصات، و (المُقامة): بفتح الميم وضمها: المجلس ومكان اجتماع الناس. انظر: "الكتاب" 2/ 402، "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 2/ 93، و"شرحها" للنحاس ص 155، "الإغفال" ص 227، "تهذيب اللغة" (أى) 1/ 242، "اللسان" (قوم) 6/ 3787، و (أيا) 1/ 242، "أمالي القالي" 3/ 60، "شرح المفصل" 2/ 131، "الخزانة" 4/ 367، "البحر المحيط" 4/ 226.

إنما هو فأينا، كذلك هاهنا المعنى بيننا، وكرر للتأكيد. وأما قوله تعالى: {عَوَان بَينَ ذَلِكَ} فأضاف (¬1) (بين) إلى ذلك من حيث جاز إضافته إلى القوم وما أشبه ذلك من الأسماء التي تدل على الكثرة وإن كانت مفردة، وإنما جاز أن يكون قولنا: (ذلك) يراد به مرة الانفراد ومرة الجمع والكثرة لمشابهته الموصولة كـ (الذي وما). ألا ترى أن القبيلين يشتبهان في دلالة كل واحد منها على شيء بعينه. ألا ترى أن (الذي) لا يدل على زيد دون عمرو، و (ما) لا يدل على الفرس دون الحمار، وكذلك (من)، فكان (¬2) قولنا (ذلك) وسائر المبهمة كذلك، فلما كان (الذي وما ومن) على ما وصفنا من الدلالة على الجموع والإفراد، وكانت تفرد والمراد في إفرادها الجمع في نحو قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33] و {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] و {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ونحو ذلك مما يكثر تعداده، وكانت المبهمة مثلها في أنها لا تخص (¬3) بالدلالة نوعاً ولا شخصاً بعينه، أجري مجراها في أن المراد فيما استعمل منه مفرداً قد يكون الجماعة (¬4). وهذا واسع مستحسن في جميع المبهمة، فمن المبهمة (كم) في قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} [النجم: 26]، وقال: {وَكَم ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (فأضيف)، وفي "الإغفال": (فإنما أضيف ..) ص 228. (¬2) في (ب): (وكان). (¬3) في (ب)، (ج): (لا تختص)، وما في (أ) موافق و"الإغفال" ص 229. (¬4) في "الإغفال": (لجماعة) ص 229، وعبارته أوضح.

مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4]، ثم قال: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} وقال: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، وقال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] (¬1) وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. فهذه الأسماء (¬2) حسن فيها هذا، لما لم يكن (¬3) لواحد بعينه ولا لنوع وحده (¬4)، فكذلك (¬5) (ذلك) لما كان مبهماً جاز أن يراد به الواحد مرة، وأكثر من الواحد مرة، وعلى هذا الحد صار فاعلاً لحبَّ في قولهم: [حبذا. ألا ترى أنه موضع يقع فيه الاسم (¬6)، كما أن فاعل نعم وبئس عام. وقيل:] (¬7) حبذا هند، كما قيل: حبذا زيد (¬8)، ويدلك على ما ذكرنا من قصدهم بـ (ذلك) الجمع وما زاد على الواحد، أن رؤبة لما قيل له في قوله: فيه خُطُوطٌ من سَوَادٍ وبَلَقْ ... كأَنَّه في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ (¬9) ¬

_ (¬1) والآية لم ترد في "الإغفال"، وترك الواحدي آيات أخرى استشهد بها أبو علي، انظر: ص 230. (¬2) في (ج): (اسماء). (¬3) في (ب): (يكون)، وفي "الإغفال" (تكن) ص 230 وهو أولى. (¬4) في "الإغفال" (واحد) ص 230. (¬5) في (ج): (وكذلك). (¬6) في "الإغفال": (الاسم العام). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج)، وثابت في (ب)، و"الإغفال" ص 230. (¬8) أي: أنه لم تُغير (حبذا) للتأنيث. انظر "الإغفال" ص 230، 231. (¬9) يروى (فيها) بدل فيه، وقوله (بلق): سواد وبياض، و (التوليع) استطالة البلق ولمعانه، (البهق): بياض رقيق في البشرة. ورد الرجز في "ديوان رؤبة" ص 104 "مجالس العلماء" للزجاجي ص 277، "المخصص" 5/ 89، "تهذيب اللغة" (بهق) 1/ 405، "مجمل اللغة" 1/ 138، "مقاييس اللغة" 1/ 310، "اللسان" 1/ 374،=

وجب أن تقول (¬1): كأنها، وإن أردت السواد والبلق وجب أن تقول (¬2): كأنهما. قال: أردت كأن ذاك (¬3). فعلم بهذا أنهم يقصدون بـ (ذلك) غير المفرد وأنه قصد هذا المعنى، وعليه حمل كلامه. ويدل أيضًا على أنهم يقصدون بـ (ذلك) إلى (¬4) أكثر من الواحد إضافتهم (كلا) إليه، وذلك في قول القائل: وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ (¬5) ألا ترى أن (كلا) لا يضاف إلى المفرد، فبان أن المراد بـ (ذلك) الزيادة على الواحد. وكذلك (¬6) قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} إنما أضيف ¬

_ = و"أساس البلاغة" (ولع) 2/ 527، "مغني اللبيب" 2/ 678، "البحر المحيط" 1/ 251، 4/ 285، 5/ 64، "الكشاف" 1/ 278، "الدر المصون" 1/ 423. (¬1) في (أ): (يقول)، وما في (ب)، (ج) موافق "للإغفال" ص 231. (¬2) انظر الحاشية السابقة. (¬3) في "مجاز القرآن": قال أبو عبيدة فقلت لرؤبة: إن كانت خطوط فقل كأنها، وان كان سواد وبلق فقل: كأنهما، فقال: كان ذاك ويلك توليع البهق. "المجاز" 1/ 44. (¬4) (إلى): ساقط من (ج)، وفي (ب): (الأكثر). (¬5) من قصيدة لعبد الله بن الزِّبَعْرَى، قالها يوم أحد، يتشفى من المسلمين، فرد عليه حسان، والشطر الأول: إنَّ للخَيْرِ وللِشِّرِ مَدًى. أورد ابن هشام القصيدة في "السيرة" 3/ 96، وهي في "شعره" ص 41، وورد البيت في "الإغفال" ص 232، "شرح المفصل" 3/ 2، و"الهمع" 4/ 283، "البحر المحيط" 1/ 251، "شرح ابن عقيل" 3/ 62، "مغني اللبيب" 1/ 203، "أوضح المسالك" 146، "الدر المصون" 1/ 348، 422. (¬6) في (ب): (فكذلك)، ومثله في "الإغفال" ص 232.

(بين) إلى (ذلك) لأن المراد به الزيادة على الواحد. ألا ترى أنه إشارة إلى ما تقدم من قوله مما دل على الفروض والبكارة. فأما قول أبي إسحاق: (لأن ذلك ينوب عن الجمل (¬1)، يقول القائل: ظننت ذاك، والظن يقتضي مفعولين فقام ذلك أو ذاك مقامهما)، فهذا خطأ (¬2)، ولا يجوز أن يقع ذاك وذلك (¬3) موقع الجملة، ولا يجوز أن تكون (¬4) نائبة عن الجملة، لأنه لوكان نائبا عنها للزم أن ينوب عنها في صلة (الذي) وأخواتها، وفي وصف النكرات (¬5). ولو (¬6) كان (ذلك) نائبًا عن الجمل لما جاز وقوعه في هذه الآية؛ لأن هذا الموضع ليس من مواضع الجمل، ولا من الأماكن التي يتجه فيها دخول الجمل. ¬

_ (¬1) في "الإغفال": (فأما قول أبي إسحاق: إنما جاز (بين ذلك)، و (بين) لا تكون إلا مع اثنين فعبارة أطلقها على جهة التسامح .. ثم قال (فاما قوله (لأن ذلك) ينوب عن الجمل، كقول القائل: ظننت ذاك ... إلخ) نقله بتصرف "الإغفال" ص 232، 233. (¬2) قوله: (فهذا خطأ) لم يرد في كلام أبي علي، ونص كلامه: (فلا يخلو (ذلك) في ما ذكره من قولهم: ظننت ذاك أن يكون إشارة إلى المصدر، كما ذهب إليه سيبويه، أو يكون نائبا عن الجمل كما قاله أبو إسحاق، أو يكون إشارة إلى أحد المفعولين اللذين يقتضيهما (ظننت)، لا تحتمل القسمة غير ذلك ..) ثم أخذ يفصل هذه الوجوه. انظر: "الإغفال" ص 233. (¬3) في (ج): (ذلك وذاك). (¬4) في (أ)، (ج): (يكون)، وفي "الإغفال" (يكون نائبًا) ص 233، وأثبت ما في (ب) لأنه أنسب للسياق. (¬5) "الإغفال" ص 233. (¬6) "الإغفال" ص 241.

69

ألا ترى أن (ذلك) إشارة إلى البكارة والفروض. فلو كان واقعاً (¬1) موقعَ جملةٍ ما دلّ عليهما (¬2)؛ لأن الجملة يُسنَد فيها الحديثُ إلى المحدَّث عنه (¬3)، وليس (¬4) واحد من الفروض والبكارة بمسند إلى الآخر. وهذا واضح لمن تأمله. فأما قولهم: ظننت ذاك، فهو عند سيبويه إشارة إلى المصدر (¬5) كأنك قلت: ظننت ذاك (¬6) الظنَّ، وإذا كان إشارة إلى المصدر لم يحتج إلى مفعول ثان، كما أنّ (ضربت) وغيره من الأفعال المتعدية إذا عديته (¬7) إلى المصدر لم يلزم أن تُعدِّيه إلى مفعول به، فبان أن (ذاك) من قولهم: (ظننت ذاك) لم يقع موقع الجملة (¬8). 69 - قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} اللون (¬9) مرفوع، لأنك لم ترد أن تجعل (ما) صلة، فتقول: يبين لنا لونَها، وقد قرئ ¬

_ (¬1) في (ب): (واقع). (¬2) في (ب): (عليها). (¬3) في (ب): (عنها). (¬4) قوله: (وليس) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "الكتاب" 1/ 40. (¬6) في (ب): (ذلك). (¬7) قوله: (إذا عديته) ساقط من (ب). (¬8) انتهى ما نقله المؤلف عن كتاب "الإغفال" لأبي علي الفارسي بعضه بنصه، وبعضه بتصرف. انظر: "الإغفال" ص 214 - 241، وقد أطال في النقل عن (بين). ومحل ذلك المطولات من كتب النحو، لا كتب التفسير والله أعلم. (¬9) في (ب): (ما لونها مرفوع).

بها شاذّاً، وهو صواب (¬1)، ولكنه (¬2) أراد (¬3): ادع لنا ربك يبيّن لنا أي شيء لونُها؟ ولم يصلح للفعل الوقوع (¬4) على (أي) لأن أصله جمع متفرق (¬5) من الاستفهام، كقول القائل (¬6): يبين لنا (¬7) أسوداء هي أم صفراء؟ فلما لم يصلح (¬8) للتَّبَيُّن أن يقع على الاستفهام في تفرقه لم [يقع] (¬9) على أي، لأنها ¬

_ (¬1) لعل المراد من الناحية النحوية، لو ثبتت القراءة به وقد نسب الثعلبي القراءة بالنصب إلى الضحاك 1/ 84/ أ، وعبارة الفراء -والكلام بنصه منقول عنه- يقول: (اللون مرفوع، لأنك لم ترد أن تجعل (ما) صلة فتقول: يبين لنا ما لونَها، ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا ..) "معاني القرآن" للفراء 1/ 46. قارن بين كلام الفراء وكلام الواحدي. قال الزجاج: (ولا يجوز في القراءة (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونَها) على أن يجعل (ما) لغوا، ولا يُقرأ القرآن إلا كما قرأت القراء المجمع عليهم في الأخذ عنهم) "معاني القرآن" 1/ 123. وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 344، فإنه نقل بعض كلام الفراء بمعناه، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 185، و"المشكل" 1/ 52. (¬2) في (ج): (ولكنه القائل يبين لنا أسوداء هي أما صفراء أراد: ادع ..) وفيه تكرير جملة لا مكان لها هنا وستأتي بعد. (¬3) ما أحسن صنيع الفراء حينما قال: (ولكنه أراد -والله أعلم- ادع ..) "معاني القرآن" 1/ 46. (¬4) في (ج): (للوقوع). (¬5) عبارة الفراء: (لأن الأصل (أي) تفرق جمع من الاستفهام) يريد أن (أيا) نابت عن جمع من الاستفهام متفرق. انظر: "معاني القرآن" للفراء، وحاشيته 1/ 46. (¬6) (القائل): مكرر في (ج). (¬7) في (ب): (سوداء) بسقوط الهمزة. (¬8) في (أ)، (ج): (فإنما يصلح للتبيين ..)، وما في (ب) موافق لـ "معاني القرآن" للفراء 1/ 46. (¬9) (يقع) زيادة من "معاني القرآن" 1/ 46، وهي لازمة لتمام الكلام.

جمع ذلك المتفرق، وكذلك ما كان في القرآن مثله. فأعمِلْ في (¬1) (ما) و (أي) الفعل الذي بعدهما، ولا تُعمِلْ الذي قبلهما إذا كان مشتقًّا من العلم أو في معناه، كقولك: ما أعلم أنهم قال ذلك، ولا أُعلِمَنَّ أيُّهم قال ذلك، وما أدري أيَّهم ضربتَ (¬2). فهو في العلم والإخبار والإنباء وما أشبهها على هذا الوصف، ومنه قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17]، موضع (ما) (¬3) رفع (¬4)، رفعتها بيوم، كقولك: ما أدراك أيُّ شيء يوم الدين؟ وكذلك قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12]، رفعت (أي) بأحصى، وإنما (¬5) امتنعت (أي) من الفعل الذي قبلها، لأنك تجد الفعل غير واقع عليها في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: اسأل (¬6) أيهم قام، كان المعنى: سل الناس أيُّهم قام، ولو أوقعت الفعل على أي فقلت: اسأل أيَّهم قام، خرجت من معنى الاستفهام، وذاك جائز إن أردته (¬7)، تقول: لأضربنَّ أيَّهم قال ذلك، فهنا (¬8) (أي) لا تكون (¬9) استفهاماً؛ لأن الضرب لا يقع [على ¬

_ (¬1) (في): ساقطة من (ب). (¬2) من (ب): (ضربت)، ومثله في "معاني القرآن" 1/ 46، وفي غير (ب): (ضرب). (¬3) في "معاني القرآن" (ما الثانية) 1/ 46. (¬4) في (ب): (رفعت). (¬5) في "معاني القرآن" للفراء: (وتقول إذا كان الفعل واقعا على (أي): ما أدري أيَّهم ضربت، وإنما امتنعت من أن توقع على (أي) الفعل الذي قبلها من العلم وأشباهه، لأنك تجد الفعل ... إلخ) 1/ 46، 47. (¬6) في "المعاني": (سل). (¬7) في (ب): (أردت). (¬8) في (ج): (فهاهنا). (¬9) في (أ)، (ج): (يكون).

اسم، ثم يأتي بعد ذلك استفهام، لأن الضرب لا يقع، (¬1) على اثنين. وقوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] مَنْ نصَبَ أيّاً (¬2) أوقع عليها النزع، وليس باستفهام، كأنه قال: ثم لنستخرجن العاتي الذي هو أشدّ عِتيّا. وأما الرفع (¬3)، فأن تجعل مكتفيًا بـ (من) في الوقوع عليها كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا من كل طعام، ثم تستأنف أيّاً فترفعها بالذي بعدها، كقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] وكذلك: {يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬4) [آل عمران: 44]. و (¬5) قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا} (¬6) ما بعد القول من باب (¬7) إنَّ مكسور أبدا، كأنك لم تذكر القول في صدر كلامك، وإنما وقع (قلت) في كلام العرب على أن يحكى به ما كان كلاماً يقوم بنفسه قبل دخوله، فيؤدي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) بالنصب قرأ طلحة بن مصرف، ومعاذ بن مسلم الهراء، وزائدة عن الأعمش، انظر "البحر المحيط" 6/ 209. (¬3) ذكر الفراء وجهين للرفع حيث قال: (وفيها وجهان من الرفع: أحدهما: أن تجعل الفعل مكتفيا بـ (من) .. الخ) وذكر الوجه الثاني فقال: (فإن في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشد وأخبث، وأيهم أشد على الرحمن عتيا ..) 1/ 48. (¬4) بهذا انتهى ما نقله المؤلف من الفراء بنصه في الغالب، وبتصرف في بعضه، انظر: "معاني القرآن" 1/ 46 - 48. (¬5) (الواو): ساقط من (ب). (¬6) (قال): ساقط من (ب). (¬7) (باب): ساقط من (ج).

مع ذكر (قلت) ذلك اللفظ، تقول: قلت: زيد منطلق، وكذلك إن زيدًا منطلق، إذا حكيته تقول: قلت: إن زيداً منطلق (¬1)، لا اختلاف بين النحويين في ذلك، إلا أن قوماً من العرب، وهم بنو سُلَيم يجعلون باب (قلت) (¬2) كباب (ظننت)، فيقولون: قلت: زيداً منطلقاً، وهذه لغة لا يؤخذ بها في القرآن. وقوله تعالى: {فَاقِعٌ} هو مبالغة في نعت الأصفر يقال: فَقَعَ فُقُوعًا وهو يَفْقَعُ ويَفْقُعُ. وربما استعمل الفقوع في معنى الحمرة (¬3)، قال البُرجُ بن مُسْهِر: كُمَيْتاً (¬4) مِثْلَ ما فَقَعَ الأَديم (¬5) أي: اشتدت حمرته، وفاقع يرجع إلى اللون، وهو خبر واسمه اللون، فهو خبر مقدم على الاسم (¬6). ¬

_ (¬1) الكلام بنصه في "معاني القرآن" للزجاج وفيه: (تقول: قلت: زيد منطلق. كأنك قلت: زيد منطلق، وكذلك: إن زيدا منطلق، لا اختلاف بين النحويين ..) "معاني القرآن" 1/ 123. (¬2) في "المعاني": (باب (قلت) اجمع كباب (ظننت)) 1/ 123. (¬3) أكثر المفسرين على أن {فَاقِعٌ} في هذه الآية صفة للأصفر. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 345 - 346، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 53، 54، "معاني القرآن" للأخفش1/ 279، "معاني القرآن" للزجاج1/ 124، "الكشاف" 1/ 287، وانظر: مادة (فقع) في "الصحاح" 3/ 259، "اللسان" 6/ 3448. (¬4) كذا في جميع النسخ، وفي "اللسان" (كميت)، وكذا في "التاج". (¬5) ورد البيت في اللسان، وصدره: تَراها في الإناء لها حُمَيَّا "اللسان" (فقع) 6/ 3448، و"التاج" (فقع) 11/ 349. (¬6) في إعراب (فاقع) وجوه: الأول: (فاقع) خبر مقدم، و (لونها) مبتدأ مؤخر، =

70

ومعنى {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}: تعجبهم بحسنها (¬1). 70 - قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِىَ} أي (¬2): أسائمة أم عاملة (¬3)؟ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ذكَّر الفعل لتذكير (¬4) اللفظ كقوله: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] وكلُّ جمعٍ حروفُه أقلُّ من حروف واحده جاز تذكيره مثل: بقر ونخل وسحاب، فمن ذكَّر ذهب إلى لفظ الجمع، ولفظ الجمع مذكر، ومَن أنَّثَ ذهب إلى لفظ الجماعة (¬5)، قال الله تعالى: {يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10]، وقال الزجاج: معناه جنس البقر تشابه علينا (¬6). {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها (¬7)، وقيل: إلى القاتل (¬8). ¬

_ = والجملة صفة، والثاني: (فاقع) صفة للبقرة، و (لونها): فاعل فاقع، والثالث: (فاقع) صفة، و (لونها) مبتدأ خبره (تسر الناظرين) انظر: "البيان" 1/ 93، "الإملاء" 1/ 42، "البحر المحيط" 1/ 252، "الدر المصون" 1/ 424. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 346، "تفسير الثعلبي" 1/ 84 أ. (¬2) في (ب): (قوله) يبين لنا ما هي (أي ..). (¬3) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 84 أ، وانظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 378، و"البغوي" 1/ 83. (¬4) في (ج): (للذكير). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 350، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 127، "تفسير الثعلبي" 1/ 84 أ. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 128. (¬7) الثعلبي في "تفسيره" 1/ 84 ب، وانظر "تفسير الطبري" 1/ 350، "تفسير أبي الليث" 1/ 128. (¬8) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 128، "الكشاف" 1/ 288، "البحر المحيط" 1/ 254.

71

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأيمُ اللِّه لو لم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لهم آخر الأبد" (¬1). 71 - قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} الذلول: المذللة بالعمل، و {تُثِيرُ اَلأرَضَ} أي: تقلبها للزراعة (¬2). ومعنى الإثارة: تفريق الشيء في كل جهة، يقال: أثرت الشيء واستثرته، إذا هيجته. قال (¬3): إِذا كَانَ في صَدْر (¬4) ابنِ عمِّك إِحْنَةٌ ... فلا تَسْتَثِرْها سوف يَبْدُو دَفِينُهَا (¬5) ويقال: ثار الشيء إذا ارتفع عن مكانه، يقال: ثار الغبار، ثار الدخان، وثار الدم في وجه فلان، وثَوَّرْتُ كدُورةَ الماء فثار، ومنه الثور لأنه يثير الأرض (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري عن قتادة وابن جريح مرسلا، قال شاكر - عن الأثر عن ابن جريح: لا تقوم به حجة. "الطبري (مع حاشية شاكر") 2/ 205، 206، وبمعناه عند "تفسير ابن أبي حاتم" عن أبي هريرة، قال المحقق: إسناده ضعيف. "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 420، وذكر ابن كثير رواية ابن أبي حاتم، وقال: ورواه الحافظ أبو بكر من مردويه في "تفسيره" من وجه آخر، ثم ذكره، وقال وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة. "ابن كثير" 1/ 118، وقد تناقل المفسرون هذه الروايات بدون سند، وقد جمع بعضها السيوطي في "الدر" 1/ 150، والشوكاني في "فتح القدير" 1/ 156. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 2/ 212 و"تفسير الثعلبي" 1/ 84 ب، و"تفسير أبي الليث" 1/ 388. (¬3) نسبه المرتضى في أماليه، إلى أبي الطمحان، ونُسب في اللسان إلى الأقيبل القيني. (¬4) في (أ)، (ج): (صد)، وأثبت ما في (ب)، لأنه يوافق المصادر الأخرى التي ورد بها البيت. (¬5) البيت في "أمالي المرتضى" 1/ 259، "مقاييس اللغة" (أحسن) 1/ 67، "الفائق" 1/ 27، "اللسان" (أحن) 1/ 35. (¬6) "تهذيب اللغة" (ثار) 1/ 467، انظر: "الصحاح" (ثور) 2/ 606، "معجم مقاييس اللغة" (ثور) 1/ 395.

وقوله تعالى: {تُثِيرُ الأَرْضَ} صفة لذلول (¬1)، والنكرة مع صفتها شيء واحد، ولذلك (¬2) قلنا: إن المراد بقوله: {تُثِيرُ الأَرْضَ} النفي لا الإثبات، لأنه نفي أن تكون مثيرة للأرض (¬3)، والنفي دخل على أول الكلام، فانتفى ما كان ينضم إليه، والصفة للنكرة كالصلة للموصول، ولو قلت: فلان ليس بالذي يأتيني كنت نافيًا للإتيان. ألا ترى إلى (¬4) قول طرفة: لا كَبِيرٌ (¬5) دالفٌ من هَرَمٍ ... أرْهَبُ اللّيْلَ ولا كَلُّ الظُّفُرْ (¬6) أراد أنه لا يدلف من الهرم ولا يرهب الليل، ولم يرد الإثبات. ¬

_ (¬1) وقيل: في موضع الحال من المضمر في (ذلول)، أو حال من (ذلول) أو حال من بقرة، أو صفة لها، أو مستأنفة، فيكون الوقف على (ذلول)، والقول الأخير مردود عند كثير من العلماء، وسيذكره الواحدي. انظر: "إعراب المشكل" 1/ 53، "الكشاف" 1/ 288، "تفسير ابن عطية" 1/ 346، "الإملاء" 1/ 42، "البحر المحيط" 1/ 255، "الدر المصون" 1/ 429، 430. (¬2) في (ب): (وكذلك). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 124، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 186، "الإملاء" 1/ 42. (¬4) في (ب): (في). (¬5) في (ب): (كثير). (¬6) قوله: (دالف): الدالف هو الذي يقارب الخطو ويمشي مشي المقيد، (الهَرَم): أقصى الكبر، كَلُّ الظفُر) أي: ظفري غير كليل، كناية عن قوته وبطشه، وكليلُ الظفَّر: المهين الذي لا يؤبه له. ورد البيت في ديوان طرفة ص 75، "مقاييس اللغة" (ظفر) 3/ 466، وفيه (لا كليل دالف)، وورد الشطر الثاني في "اللسان" (ظفر) 5/ 2749، وفيه (لست بالفاني ولا كل الظفر).

قال ابن الأنباري (¬1): غلط أبو حاتم في هذا (¬2)، لأنه قال: الوقف جيد على قوله: (ذلول) (¬3)، ثم يبدأ بـ (تثير (¬4) الأرض)، وقال: إن الله تعالى وصف هذه البقرة بما لا يعرفه الناس وصفاً لغيرها من البقر، فجعلها تثير الأرض ولا تسقي الحرث على خلاف ما نشاهد من بقرنا. وقد أبطل (¬5) الفراء وغيره من كبار النحويين هذا الوقف (¬6)، وردّ عليه هذا الاختيار بأن البقرة متى أثارت سقت، وغير جائز أن يُدّعى أعجوبةٌ في حرف من القرآن لم تؤثر (¬7) عن أهل العلم ما ادعاه، فلا يقبل (¬8) عنه ذلك، مع ما ذكرنا أنه لا يصح من (¬9) طريق النحو أن المراد منه الإثبات. وموضع (تثير) رفع في التأويل لأنه نعت لذلول، والمعنى: أنها بقرة لا ذلول مثيرة للأرض، أي: ليست كذا ولا كذا، أي: لا توصف بالتذليل ولا بإثارة الأرض، كما تقول في (¬10) الكلام: عبد الله ليس بعاقل حازم، وزيد ليس ¬

_ (¬1) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 521. (¬2) في (ب): (في هذه الآية) بدل (في هذا لأنه). (¬3) قال النحاس (ليس بقطع طاف وزعم الفراء: أنه ليس بقطع). "القطع والائتناف" ص148، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 384. (¬4) قوله: (بـ (تثير) ساقط من (ب). (¬5) (أبطل): ساقط من (ج). (¬6) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 521، "القطع والائتناف" ص 148، "تفسير القرطبي" 1/ 385. (¬7) في (ب): (يؤثر). (¬8) في (ج): (فلا يقبل). (¬9) (من): ساقط من (ب). (¬10) (في الكلام): ساقط من (ب).

بآكل شارب، فتنفي (¬1) عنه الفعلين. وقوله تعالى: {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} دخلت (لا) لأنه معطوف على قوله: (ذلول) فلما كان فيه حرف النفي أدخل أيضا فيما انعطف عليه (¬2). [وجاز عطف الفعل على الاسم، لأن فيه معنى الفعل كأنه قيل: لم تُذلَّل، والاسم إذا كان مبنيّاً على الفعل] (¬3) جاز عطف الفعل عليه، كما تقول: زيد صائم ويصلي، ويجوز أن تكون (لا) مستأنفة، يراد بها: لا ذلول تثير الأرض، وليست تسقي الحرث. قال أبو العباس: والحرث كل موضع ذللته من الأرض ليزرع (¬4) فيه، ويقال له عند غرسه وبذره إلى حيث بلغ: حرث. فمعنى الحرث: الأرض المهيأة للزرع (¬5)، ومنه قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، على التشبيه بالأرض التي (¬6) قد هُيِّئت للزرع. فأما الزرع فإنما هو النماء، من ذلك قولك للصبي: زرعه الله (¬7)، ويوضح هذا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا ¬

_ (¬1) في (أ): (فينفى) وفي (ج): (فينتفي). (¬2) وأجاز الزمخشري أن تكون (لا) مزيدة، لتأكيد النفي في الأولى. انظر "الكشاف" 1/ 288، قال أبو حيان: (ووافقه على جعل الثانية مزيدة صاحب المنتخب، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن قوله: (لا ذلول) صفة منفية بلا، وإذا كان الوصف كان الوصف قد نفى بـ (لا) لزم تكرار (لا) النافية لما دخلت عليه ....) "البحر" 1/ 255، وانظر "الدر المصون" 1/ 430. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج)، وأثبته من (ب) لأن استقامة السياق تقتضيه. (¬4) في (ب): (لتزرعه). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (حرث) 1/ 774، "الصحاح" (حرث) 1/ 279، "جمهرة أمثال العرب" 2/ 34، 35، "مقاييس اللغة" (حرث) 2/ 49، "اللسان" (حرث) 2/ 819. (¬6) في (أ)، (ج) (الذي)، وأثبت ما في (ب) لأنه أصوب. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (زرع) 2/ 1524، "اللسان" (زرع) 3/ 1826.

تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:63, 64]. وقوله تعالى: {مُسَلَّمَةٌ} قال قتادة، والربيع، وابن عباس: أي من العيوب (¬1). وقال الحسن: من أثر العمل (¬2). وقال مجاهد: من الشية (¬3). وقوله تعالى: {لَا شِيَةَ فِيهَا} الوشى في اللغة معناه (¬4): خلط لون، وكذلك في الكلام يقال: وشيتُ (¬5) الثوب أشِيه وَشْيًا وشِيَةً (¬6). والشية مما نقص منه الواو (¬7)، وعوض فيه الهاء كالدية من وَدَيْتُ، والعِدة من وَعدتُ (¬8)، ويجوز أن يكون (¬9) الشية مصدراً، يقال: وَشَيْتُ أشي شِيَةً (¬10) ¬

_ (¬1) ذكر الطبري في "تفسيره" عنهم، وعن أبي العالية 1/ 352، وذكره "ابن أبي حاتم" عن قتادة، وأبي العالية، والربيع 1/ 423، انظر: "تفسير الماوردي" 1/ 365، "الدر المنثور" 1/ 152. (¬2) في الثعلبي عن الحسن: مسلمة القوائم ليس فيها أثر العمل، 1/ 84 ب، وذكره "الماوردي" 1/ 365. (¬3) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 351 - 352، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 423، وانظر: "الدر" 1/ 152. (¬4) (معناه) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (وشية). (¬6) بنصه في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 124، وانظر "تهذيب اللغة" (وشى) 8/ 4847. (¬7) (الواو): ساقطة من (ج). (¬8) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 282، والطبري في "تفسيره" 1/ 352، و"تفسير القرطبي" 1/ 386. (¬9) في (ب): (تكون). (¬10) في (ب): (وشية).

ووَشْيا (¬1). قال الزجاج: أي (¬2) ليس فيها لون يفارق سائر لونها (¬3). وقوله تعالى: {قَالُوا الْآنَ} الآن هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حد الزمانين (¬4)، حد الماضي من آخره وحد الزمان (¬5) المستقبل من أوله (¬6). وذكر الفراء في أصله قولين (¬7): أحدهما: أن أصله (أوان) (¬8) حذفت منه الألف وغيرت واوه إلى الألف ثم أدخلت عليه الألف واللام، ولم يخلعا منه كما فعلوا بالذي وتركوه على مذهب الأداة، والألف واللام له لازمة غير مفارقة. والقول الثاني: أن أصله: آن (¬9) ماضي يئينُ، بني اسماً لحاضر الوقت، ثم ألحق به الألف واللام وترك على بنائه؛ لأن أصله فَعَلَ ¬

_ (¬1) انظر "الكشاف" 1/ 288، و"القاموس" (وشى) ص 1343. (¬2) (أي) ساقط من: (أ)، (ج)، وأثبتها من (ب) ومثله في معاني القرآن. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 124. (¬4) في (ب): (الزمان). (¬5) (الزمان): ساقط من (ب). (¬6) ذكره ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 523. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 467، 468، وقد ذكر كلام الفراء ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 523، 524، والأزهري في "تهذيب اللغة" (الآن) 1/ 98، وعبارة الواحدي متفقة مع ما ذكره ابن قتيبة في "تأويل المشكل". (¬8) في (ب): (وان). (¬9) في "معاني القرآن": (الآن) أصلها من قولك آن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام، ثم تركتها على مذهب (فَعَلَ) فأتاها النصب من نصب (فعل)، وهو وجه جيد كما قالوا ..) 1/ 468، ومثله في "تهذيب اللغة" 1/ 99.

منصوبة، كما قالوا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قيلَ وقالَ وكثرةِ السؤال (¬1) وكانتا كالاسمين وهما منصوبتان. ولو خفضا على النقل لهما من حد الأفعال إلى الأسماء في النية لكان صواباً. قال: وسمعت العرب تقول: أعييتني من شُبَّ إلى دُبَّ، ومن شُبٍّ إلى دُبٍّ مخفوض منون، يذهبون به مذهب الأسماء، والمعنى منذ كان صغيراً يشِبُّ إلى أن دَبَّ كبيرًا (¬2). ومثله (أمس) فإن أصله الأمر من: أمسى يُمسي بُنيَ اسماً للوقت، وألحق به الألف واللام (¬3). قال أبو علي الفارسي (¬4): حكم ما يبنى من الأسماء أن يكون لمضارعته الحرف، فلمضارعته له (¬5) ما يجب أن يخرج إلى حكمه كما أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1477) كتاب (الزكاة) باب (قول الله {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. عن المغيرة ولفظه: (إن الله كره لكم ثلاثا .. الحديث). "الفتح" 3/ 34، وفي كتاب (الأدب)، باب (عقوق الوالدين)، "الفتح" 10/ 405، و (6473) وفي كتاب (الرقاق) باب (ما يكره من قيل وقال) الفتح، وفي كتاب (الاعتصام) باب: (ما يكره من كثرة السؤال) الفتح، ومسلم عن أبي هريرة والمغيرة، بنحوه (7292) كتاب (الأقضية) (النهي عن كثرة المسائل)، وأحمد عن أبي هريرة 2/ 327، 360، 367، وعن المغيرة 4/ 246، 249، 250. (¬2) انتهى كلام الفراء، انظر: "المعاني" 1/ 467، 468، و"تأويل المشكل" ص 523، 524. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (أمس) 1/ 200، و"الأزمنة" لقطرب ص 109، 110. (¬4) "الإغفال" لأبي علي الفارسي ص 253. وقد نقل عنه الواحدي طويلا، بتصرف في كلامه بالاختصار والتقديم والتأخير، وسأذكر الفروق الهامة في أماكنها إن شاء الله. (¬5) (له): ساقط من (ب).

نوعاً منها لمشابهتها الأفعال (¬1) يخرج إلى حكمها (¬2) فيمنع ما لا يكون لها من الجر والتنوين. وكذلك (الآن) بني لما فيه من مضارعته الحرف. وجهة المضارعة تضمنه معنى الحرف، وإذا تضمن الاسم معنى الحرف وجب بناؤه. [وذلك التضمن هو تضمن معنى (¬3) التعريف، لأن التعرف حكمه أن يكون بحرف، فلما تضمن معنى الحرف وجب بناؤه] (¬4)، كما أن خمسة عشر لما تضمن معنى الحرف بني. فإن قيل: كيف تضمن معنى الحرف، والحرف نفسه فيه، ولو جاز بناؤه وفيه الحرف لجاز بناء الرجل ونحوه؟ قيل: الألف واللام في (الآن) ليس كهما في (الرجل)؛ لأن الرجل لا يتعرف (¬5) بغير الألف واللام، والآن يتعرف بغيرهما (¬6). والدليل على تعرف (الآن) بغير ما ظهر فيه من الحرفين، أن ما فيه الألف واللام مما يعرف به يلزم أن يكون قبل دخوله (¬7) عليه نكرة كرجل، والرجل، وليس (الآن) كذلك. ألا ترى أنه ليس (آن) (¬8) منكورا، ثم ¬

_ (¬1) في (ب): (فقال يخرج). (¬2) قوله: (كما أن نوعا منها لمشابهتها الأفعال يخرج إلى حكمها) ليس في "الإغفال" انظر: ص 253. (¬3) في "الإغفال" (تضمن معنى حرف التعريف) ص 254. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (لا يعرّف). (¬6) نقله بالمعنى، انظر: "الإغفال" ص 254، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 350. (¬7) في "الإغفال": (دخولهما)، وفي حاشيته (ج): (دخولها). (¬8) في (ب): (الآن).

يكتسي التعريف بالحرف كالرجل. ويراد بـ (الآن) الوقت الحاضر (¬1)، وما هو أقل القليل، ثم قد تتسع فيه العرب، فتقول: أنا الآن أنظر في النجوم، وأنا الآن أنظر في العلم، وأنا الآن أصل من قطعني (¬2)، وليس يراد أنه (¬3) في ذلك الوقت اليسير يفعل ذلك، ولكن غرضه أنه في وقته ذلك وما أتى من (¬4) بعد، وتطاول، يفعل هذا الضرب من الفعل. وهذا كقولهم: أنا اليوم خارج، يريد به الذي هو عقيب الليلة. ثم قالوا: أنا اليوم شيخ، وأنا اليوم متماسك، فاليوم أصله لما هو عقيب الليلة ثم يتسع فيستعمل لغير ذلك الزمان. فكذلك (الآن) أصله للوقت الحاضر، ثم قد يتسع فيه. فإن قلت: فهل تجد الألف واللام في اسم غير هذا، والاسم الذي فيه غير متعرف به (¬5)؟ ¬

_ (¬1) تصرف الواحدي في كلام أبي علي بالتقديم والتأخير، وسياق أبي علي أوضح، لترابط الكلام وبناء بعض على بعض. قال: أبو علي: (فإن قال قائل: ما تنكر أن يكون تعريف الآن كتعريف الجنس؟ ..) ثم قال: (ومع ذلك فلا يصح في المعنى أن يراد بالآن تعريف الجنس .. لأنه يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون يراد به جميع الأزمنة، أو يراد به الأوقات الحاضرة، أو الآتية ..) ثم فصل ذلك، وفي آخره قال: (فكذلك الآن أصله للوقت الحاضر، ثم قد يتسع فيه بعد ..) "الإغفال" ص 255 - 256. (¬2) في (ج): (من قطع). (¬3) في (ب): (وليس أنه يراد). (¬4) (من): ساقط من (ب)، وفي "الإغفال": (وما يأتي بعد) ص 255. (¬5) في "الإغفال": (بهما).

فالجواب: أن قولهم: (الذي) فيه الألف واللام وليس (¬1) تعريف الاسم بهما، إنما تعريفه بغيرهما. والدليل على ذلك: تعريف سائر الموصولات (¬2) سوى الذي (¬3) ولا ألف ولام فيها. فقد وجدت الألف واللام في هذا الاسم (¬4) أيضا لغير التعريف (¬5). ويدل أيضا على أن التعريف في (الذي) ليس باللام، أنّ كثيراً من العرب قد يستعمل موضع (الذي): (ذو)، وهو عندهم معرفة. أنشد أبو زيد لقيس بن جِرْوة (¬6) جاهلي: لئنْ لَم تُغَيِّرْ (¬7) بَعْضَ مَا قَدْ صَنَعْتُمُ ... لَأَنْتَحِيَنْ (¬8) للعَظْمِ ذُوأنا عارِقُه (¬9) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (ليس) بسقوط (الواو)، وثابتة في (ب)، و"الإغفال" ص 256. (¬2) مثل (من) و (ما) و (أي)، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 353. (¬3) والتي وبابهما مما فيه (الألف واللام). (¬4) قوله: (في هذا الاسم) أي: الآن كما في "الإغفال" ص 257، واختصار الواحدي للكلام جعله محتملًا لأن يراد به (الذي). (¬5) انظر بقية كلام أبي علي في "الإغفال" ص 257 - 260. (¬6) هو قيس بن جروة الطائي، ويلقب بـ (عارق الطائي) شاعر جاهلي، انظر أخباره وترجمته في: "الحماسة"، "شرح المرزوقي" 3/ 1446، 1466، "المزهر" 2/ 438، "الخزانة" 7/ 440. (¬7) في (ب): (يغير) وكذا يروى في بعض المصادر. (¬8) في (ب): (لا نتحن). (¬9) يروى البيت (فإن): بدل (لئن)، ومعنى (لا نتحين): لأقصدن ولأميلن. (عارقه): من عرق العظم، إذا نهشه بأسنانه. يقول: إن لم تغير ما صنعتم من الظلم، لأميلن إلى كسر العظم الذي أخذت ما عليه من اللحم، ورد في "نوادر أبي زيد" =

فإن قيل: إذا كانت اللام زيادة (¬1) في الذي غير متعرف بها، فهل يوجد حرف زائد لا يجوز إسقاطه؟ قلنا: قد يكون زائدًا لازماً، ألا ترى أنهم يقولون: آثِراً ما (¬2)، ولا يسقطون هذا الزائد، ورب (¬3) زائد لازم حتى يكون بمنزلة ما هو من نفس الحرف. ومثل ذلك (مِن) في {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الحج: 48]، و (ما) في سِيَّما (¬4)، فليس لزوم هذا الحرف وامتناع حذفه مما يمنع من الحكم بزيادتها (¬5). ومما يقوي زيادة اللام، ما (¬6) أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن (¬7)، عن أبي العباس محمد بن يزيد (¬8) عن أبي عثمان (¬9) قال: سألت الأصمعي عن قول الشاعر: ¬

_ = ص 266 و"الكمال" 3/ 219، و"الحماسة" بشرح المرزوقي 3/ 1447، و"الإغفال" ص 260، و"شرح المفصل" 3/ 148، و"اللسان" (عرق) 5/ 2909، و"الخزانة" 7/ 438، 11/ 339. (¬1) في (ب): (زائدة). (¬2) جعلوا (ما) لازمة وهي زائدة، انظر "الكتاب" 1/ 294. (¬3) في (ب): (وب). (¬4) انظر: "الكتاب" 2/ 170، 171. (¬5) انظر بقية كلام أبي علي في "الإغفال" ص 261 - 266. (¬6) (ما): ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (الحسين) وفي "الإغفال": (أبو بكر بن السراج ص 366) وهو محمد بن السري، أبو بكر سبقت ترجمته، وليس في نسبه (الحسن أو الحسين). انظر: "طبقات النحويين" ص112، و"إنباه الرواة" 3/ 145، "معجم الأدباء" 18/ 197. (¬8) المبرد، سبقت ترجمته. (¬9) المازني، سبقت ترجمته.

وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أكْمُؤًا وَعَسَاقِلا ... وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ بَنَاتِ الأوْبَرِ (¬1) لم أدخل اللام (¬2)؟ فقال: أدخله زيادة للضرورة، كقول الآخر: (¬3) يَا ليْتَ أمَّ العَمْرِو كانَت صَاحِبي (¬4) فكما أن اللام زيادة فيما ذكرنا، كذلك هو في (الآن) زائدة، ولا تستوحشنَّ من قولنا فيها، فقد قال بزيادته سيبويه والخليل في قولهم: مررت بهم الجمّاءَ الغفير نصب على نية (¬5) إلغاء الألف واللام نحو: طرًّا ¬

_ (¬1) البيت من الشواهد النحوية المشهورة، ولم يعرف له قائل، وقوله: (جنيتك): جنيت لك، وقوله: (أكمؤا): جمع كمأ، و (العساقل): نوع منه، وكذا (بنات الأوبر) وهو من رديئه، ورد البيت في "المقتضب" 4/ 48، "تهذيب اللغة" (العسقول) 3/ 2436، و (جنى) 1/ 674، و (وبر) 4/ 3827، "الخصائص" 3/ 58، "المنصف" 3/ 134، "الإنصاف" 273، "المخصص" 1/ 168، 11/ 126، 220، 13/ 215، 216، 14/ 120، "شرح المفصل" 5/ 71، "مغني اللبيب" 1/ 52، "شرح ابن عقيل" 1/ 181، "أوضح المسالك" 1/ 180، "اللسان" (سور) 4/ 2147، و (وبر) 8/ 4752. (¬2) في "الإغفال": (الألف واللام) ص 266. (¬3) في "الإغفال": (فقال أدخلها للضرورة كقول الآخر: باعَدَ أم العَمَرِ من أسيرِهَا وروينا عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي: ياليت أم العمر ..) ص 266، 267. (¬4) لم يعرف قائل الرجز: وبعده: مكان من أشتى على الركائب. ويروى (أم العمر) ورد البيت في "الإغفال" 1/ 267. "المخصص" 1/ 168، 11/ 220، "الإنصاف" 1/ 316، "المنصف" 3/ 134، "تهذيب اللغة" (ربع) 2/ 1347، "الصحاح" (ضرب) 1/ 169، "اللسان" (ضرب) 5/ 2569، و (وبر) 8/ 4752، و (ربع) 3/ 1563، "شرح المفصل" 1/ 44. (¬5) (على نية): ساقط من (أ)، (ج).

وقاطبة (¬1). وقال به أبو الحسن والأصمعي، وقبله أبو عثمان وأبو العباس وأبو بكر، فلم يدفعوه فيما روينا عنهم في البيت، وأما أبو الحسن الأخفش فإنَّه قال في قولهم: (مررت بالرجل خير منك، ومررت بالرجل مثلك) إن اللام زائدة (¬2)، وبعد: فإن حرف التعريف حرف كسائر الحروف التي تلزم معنى، ثم تزاد (¬3) في موضع آخر معرًّى من ذلك المعنى، كـ (باء الجر، ومن) وغيرهما، وكما جاءت (ما ولا) زائدتين، ولكل واحد منهما معنى يلزمه إذا لم يزد، وكذلك حرف التعريف (¬4). فإن قيل: إذا كانت اللام زائدة فهلّا جعلت هذا الاسم من الأسماء المنكورة (¬5) المبنية كـ (أين وكيف) ونحوه (¬6)؟ فالجواب أن هذا الاسم لا يجوز أن يكون كـ (أين) ونحوه من المنكورة (¬7) المبنية؛ لأن هذا مختص (¬8) ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 1/ 375، وفيه: (كقولك: مررت بهم قاطبة، ومررت بهم طرّا) وانظر: "المنصف" 3/ 134، "سر صناعة الإعراب" 1/ 350 - 368. (¬2) كلام أبي الحسن الأخفش ورد في "الإغفال" ص 263، 264. وفيه: (الألف واللام) زائدة، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 166. (¬3) في (أ): (يزاد) وأثبت ما في (ب)، (ج) لأنه أنسب للسياق، ومثله في "الإغفال" ص 268. (¬4) انتهى كلام أبي علي في "الإغفال" في هذه المسألة ص 268. ثم عاد إليها مرة أخرى ص 277، ونقل عنه الواحدي كما سيأتي. (¬5) في (ب): (المكنوزة). (¬6) "الإغفال" ص 277. (¬7) في (ب): (المكنوزة). (¬8) (مختص): ساقط من (ب).

مشار به إلى شيء بعينه، كما أن (هذا) مشار به إلى شيء واحد بعينه من سائر ما يحضر (¬1). ألا ترى أنك تخص به الوقت الحاضر دون الماضي ودون الآتي، إلا أن يتسع (¬2) فيه فالإشارة به والقصد فيه إلى المعين المخصوص يخرجه عن أن يراد به الشائع المنكور (¬3) كـ "كيف" وبابه. قال أبو على: وأما قول الفراء (¬4) إن قولنا: (الآن) يجوز أن يكون الآن (¬5) من قولنا: آنَ أن (¬6) يفعل كذا، دخلت عليه [الألف واللام مثل شُبَّ (¬7) إلى دُبَّ. وهذا قول يفسد في: اللفظ والمعنى، ومن حكم مثله ألا يعرج عليه] (¬8) أما فساده في اللفظ: فلأن ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون فعلاً مجرّداً من الفعل. أويكون فعلًا معه فاعل. فإن كان فعلاً مجردّاً من الفاعل لزم إعرابه وامتنع حكايته، وذاك مذهب العرب والنحويين جميعا. ¬

_ (¬1) في "الإغفال": (ما يخص). (¬2) في (ج): (تتسع)، ومثله في "الإغفال" ص 277. (¬3) في (ب): (المكنون لكيف). (¬4) لم يذكر أبو علي الفراء باسمه وإنما قال: (وذكر بعضهم أن قولنا: (الآن) يجوز أن يكون ..) "الإغفال" ص 283. (¬5) في (ب): (الآن). (¬6) في (ج): (تفعل). (¬7) في "الإغفال" (من شب ..) ص 283. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ج)، وأثبته من (ب) ومثله في "الإغفال" ص 283، واستقامة السياق تقتضيه.

ألا تراهم سمَّوا (¬1) العنبر بن عمرو بن تميم (¬2): خَضَّمَ (¬3) لكثرة أكله (¬4)، فأعربوه ولم يحكوه. قال سيبويه: وسمعناهم يصرفون رجلاً سُمَيَ كَعْسَبَ (¬5)، وهو فعلل (¬6) من الكعسبة، وهي (¬7) شدة العدو، وإنما لم يجز حكايةُ الفعل إذا نُقِل فسمّي به من أجل أن الفعل يلزمه الفاعل (¬8)، فلا يفارقه. فلو حكي بعد التسمية للزمه الفاعل كما كان يلزمه قبل , لأنه لا يخلو (¬9) من الفاعل، الحكاية (¬10) فيه إذا سمي به تؤدي إلى خلاف الغرض المقصود؛ لأن ¬

_ (¬1) في (ب): (ألا تراهم أنهم) وفي "الإغفال" (ألا ترى أنهم سموا) ص 283. (¬2) العنبر بن عمرو بن تميم، كان شاعر، وإليه ينسب بني العنبر، انظر "الاشتقاق" لابن دريد ص 201، 211، و"المزهر" 2/ 275. (¬3) في جميع النسخ (خضما) وفي "الإغفال": (خضم) ص 283. قال سيبويه: ولا يصرفون (خضّم) وهو اسم للعنبر بن عمرو بن تميم. "الكتاب" 3/ 208. (¬4) قال في الصحاح (خضّم) على وزن (بعّم) اسم العنبر بن عمرو بن تميم، يزعمون أنهم سموا بذلك لكثرة الخضم، وهو المضغ. الصحاح (خضم) 5/ 1914، وانظر "اللسان" (خضم) 2/ 1176 - 1178. (¬5) في "الإغفال" ص 282: (يسمى كعسبا). وكذا في "الكتاب" 3/ 206. (¬6) في "الكتاب" (وإنما هو (فَعَلَ) من الكعسبة. قال عبد السلام هارون: (لا يقصد بـ (فعل) الوزن الصرفي، وإلا فهو (فعلل) وإنما يقصد أنه منقول من الفعلية "الكتاب" مع حاشية عبد السلام هارون 3/ 206. (¬7) في (ب): (وهو). (¬8) في (ب): (الفعل). (¬9) (يخلو): ساقط من (ب). (¬10) في (ب): (فالحكاية).

المسمي بالفعل لو حكاه في حال (¬1) التسمية للزمه التسمية بالجملة دون المفرد، إذ الفعل لا يخلو من الفاعل بحال، فلما كان كذلك أزيل (¬2) عن الفعلية بإعرابه، وترك حكايته، وصح التسمية به (¬3) لذلك دون فاعله. ويدل على امتناع هذه الكلمة أن [تكون] (¬4) فعلا، دخول لام (¬5) التعريف عليها، وهذه اللام دخولها يكون على الأسماء، كما أن التنوين من خواص الأسماء. ولا يجوز (¬6) في قولهم: (الآن) (¬7) أن يكون فعلاً معه فاعله غير مجرد منه؛ لأن دخول اللام عليه يمنع ذلك، ألا ترى أن اللام لا تدخل على الجمل كما لا تدخل على الفعل فهذا فساده (¬8) من جهة اللفظ. وأما فساده من جهة المعنى، فقولهم: آن أن تفعل كذا (¬9) مقلوب من (¬10) أنى يَأني وأصل هذه الكلمة في اللغة إنما هو بلوغ الشيء (¬11) وانتهاؤه ومكثه وامتداده، فهو خلاف الآن وعكسه. والدليل على صحة ¬

_ (¬1) (حال): ساقط من (أ)، (ج)، وهو في (ب) "الإغفال" ص 284. (¬2) في (ب): (أزيد). (¬3) في (ب): (بذلك). (¬4) في جميع النسخ (يكون) بالياء والتصحيح من "الإغفال" ص 284. (¬5) في (ب): (اللام والتعريف). (¬6) "الإغفال" ص 288. (¬7) في (ب): (ألا أن يكون). (¬8) أي قول الفراء. (¬9) (آن): ساقط من (ب). (¬10) في (ج): (عن). (¬11) انظر: "تهذيب اللغة" (أنى) 1/ 225، و (الآن) 1/ 99.

القلب في هذا، أنه لا مصدر لـ (آن)، كما أن قولهم: أيس يأيس لما كان مقلوبًا من يئس ييأس (¬1) لم يكن له مصدر [ولوكان له مصدر] (¬2) لكان من باب جذب وجبذ (¬3)، ولم يكن قلبا. فإن قلت (¬4): فقد قالوا: الإياس، وقد سمّوا الرجل إياسًا؟ قيل: إن إياساً من إسْتَه إذا أعطيتَه (¬5)، وتسميتهم بإياس كتسميتهم بـ (عطية وعطاء)، ومن هذا الباب قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬6) أي أما بلغ، أما حان. والآن اسم للوقت الذي أنت فيه وهو باق، والباقي غير المتقضي (¬7) المنتهي. وأما قولهم: أعييتني من شُبَّ إلى دُبَّ (¬8) فهذا الكلام مخرجه مخرج الأمثال التي تلزم طريقةً واحدةً ووجهاً واحداً، كقولك للرجل: أَطِرِّي ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (يأس)، وفي "الإغفال": (يئس يئيس) ص 288. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ج)، وأثبته من (ب) ومثله في "الإغفال" ص 288، والسياق يقتضيه. (¬3) جبذ مقلوب من جذب قلبًا مكانيًّا. انظر: "تهذيب اللغة" (جذب) 11/ 15، "اللسان" (جذب) 1/ 258. (¬4) في (ب): (وأن). (¬5) في "الإغفال" وقد سموا الرجل إياسا فما تنكر أن يكون غير قلب، فإن إياسا من إسته إذا أعطيته ... "الإغفال" ص 288، وانظر: "اللسان" (يأس) 6/ 259. (¬6) الحديد: 16، وفي (ج) زيادة: {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. (¬7) في (ب): (المقتض)، وفي "الإغفال": (المنقض) ص 292. (¬8) قال أبو علي: (.. فإن قلت كيف يكون فيه ضمير الفاعل، وقد يقال: (أعييتني منذ شب إلى دب) ولو كان في هذا ضمير فاعل لوجب أن يكون مذ شببت إلى أن دببت؟ فالجواب: أنه إنما كان كذلك لأنه كلام مخرجه مخرج الأمثال ... الخ) "الإغفال" ص 287.

فَإنَّكِ نَاعِلة (¬1)، والصَّيفَ ضيَّعت اللبن (¬2)، فمعنى هذا: أنت عندي ممن يجب أن يقال له هذا. فهذه الأمثال وما شبه بها إنما تقال كما قيلت حيث جرت، ولذلك (¬3) أيضًا دخلت (إلى) على الجملة كأنهم جعلوها الوقت (¬4). فأرادوا: أعييتني من وقت الشباب إلى وقت الكبر والدبّ بالعصا (¬5). وأما (¬6) قوله: يجوز أن يكون الآن مأخوذا من الأوان فتكون الألف منقلبة عن الواو (¬7)، فإن ذلك لا ينبغي أن يجوز، لأن هذه المبنية مشابهة بالحروف (¬8) والأصوات [فكما لا يكون (¬9) الحروف ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (فاعلة) وفي "الإغفال": (ناعلة) وهو الصحيح، وفي الحاشية في (ب): (فاعلة). قال العسكري: يضرب مثلا للقوي على الأمر، وأصله أن رجلا كان تله أمتان راعيتان، إحداهما ناعلة والأخرى حافية، فقال للناعلة: أطري، أي: خذي طرر الوادي، فإنك ذات نعلين، ودعى سرارته، أي: وسطه لصاحبتك فإنها حافية. "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 50، "المستقصي" 1/ 221، "اللسان" (طرر). (¬2) يضرب مثلا لمن يضيع الأمر، ثم يريد استدراكه في غير وقته، وللمثل قصة مذكورة في كتب الأمثال. انظر: "أمثال العرب" للضبي ص 51، "الدرة الفاخرة" 1/ 11، "جمهرة الأمثال" 1/ 575. (¬3) في (ب): (وكذلك). (¬4) كذا في جميع النسخ، وفي "الإغفال" (للوقت) ص 287. (¬5) انظر بقية كلام أبي علي ص 287. (¬6) (أما): ساقط من (ب). (¬7) "الإغفال" ص 295. (¬8) في "الإغفال": (للحروف) ص 295، وهذا أولى بالسياق. (¬9) في "الإغفال" (لا تكون) في الموضعين ص 295.

والأصوات] (¬1) مشتقة كذلك (¬2) لا يكون هذه (¬3) الأسماء مشتقة (¬4). ومعنى قوله: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بالوصف البين التام الذي دل على التمييز من بين أجناسها (¬5)، ويقال: جاء مجيئاً وجَيْئةً، ومنه: الجَيْئة (¬6)؛ لأنه يجيئها الماء فيجتمع فيهما. [وقوله: {فَذَبَحُوهَا} في الآية إضمار، أراد: فطلبوها، فوجدوها، فذبحوها] (¬7). وقوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} قال القرظي: لغلاء ثمنها (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (لذلك). (¬3) في (ج): (هذا). (¬4) هذا آخر ما نقله الواحدي عن أبي علي الفارسي من كتابه "الإغفال" عن (الآن) وقد أطال النقل وتصرف في نقله بالاختصار والتقديم والتأخير، وقد أشرت للفروق الهامة في أماكنها. انظر: "الإغفال" ص 253 - 298. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 353، "تفسير الثعلبي" 1/ 84 ب. (¬6) كذا يقال له: (جيئة) وجيأة وكل من كلام العرب. "تهذيب اللغة" (الجيأة) 1/ 686، وقال صاحب اللسان: والجِئة والجِيئة: حفرة الهبطة يجتمع فيها الماء, والأعرف: الجية. "اللسان" (جيا) 2/ 739. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ج) وأثبته من (ب). انظر معنى الآية في "تفسير الثعلبي" 1/ 84 ب، "الكشاف" 1/ 288، "البحر المحيط" 1/ 257. (¬8) ذكره الطبري 1/ 354، "ابن أبي حاتم" 1/ 426، "تفسير ابن كثير" 1/ 119, وقال: وفي هذا نظر، لأن الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل. وانظر: "الدر المنثور" 1/ 152.

72

وقال وهب: مخافة الافتضاح (¬1). وذكرنا ما في (كاد) عند قوله {يَكَادُ الْبَرْقُ} [البقرة: 20]. قال عكرمة: لو أنهم عمدوا (¬2) إلى أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكنهم شدّدوا فشُدِّد عليهم (¬3)، وقيل: إن أول من راجع موسى في ذبح البقرة هو القاتل مخافة أن ينكشف ويفتضح. 72 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} الآية. كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة، وإنما تأخر في الكلام؛ لأن الله عز وجل لما قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، علم المخاطبون أن البقرة لم تذبح إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم، فلما استقرّ علم هذا في نفوسهم أتبعه بقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} على جهة التوكيد، لا أنه عرّفهم (¬4) الاختلاف في القاتل بعد أن دلهم على ذبح البقرة (¬5)، وقيل: إنه ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 355 - 356، و"ابن كثير"، وقال: (ذكره ابن جرير، ولم يسنده عن أحد). "تفسير ابن كثير" 1/ 119الصحيح: أن ابن جرير الطبري ذكره بسنده عن وهب. (¬2) في (ب): (عهدوا). (¬3) ذكره الطبري عنه، وعن عدة من السلف 2/ 204، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 119، "الدر المنثور" 1/ 152. (¬4) في (ب): (عن فهم). (¬5) وعلى هذا القول يكون قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مقدماً في التلاوة، وقوله. {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} مقدّماً في المعنى على جميع ما ذكر من شأن البقرة، ذكر ذلك القرطبي، وقد ذكر في الآية ثلاثة أوجه، هذا أحدها. والوجه الثاني: أن يكون قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} في النزول مقدمًا، والأمر بالذبح مؤخرًا. والثالث: يكون ترتيب نزولها حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى =

من المؤخر الذي يراد به التقديم، وتأويل {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، فسألتم موسى فقال لكم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. وهذا عادة العرب في كلامهم، قال الله جل اسمه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف:1, 2]، أراد: أنزل على عبده الكتاب قِيَماً (¬1). وقال الفرزدق يمدح خال هشام (¬2): وَمَا مِثْلُه في النَّاسِ إلا (¬3) مُملَّكًا ... أبو أمِّهِ حَيٌّ أبوهُ يُقَارِبُهْ (¬4) أراد: وما مثله (¬5) في الناس حي يقاربه إلا مملكاً، أبو أم المملك أبوه، فقدّم وأخّر. ¬

_ = ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتل، فأمروا أن يضرب ببعضها. "القرطبي" 1/ 378 - 388، وانظر: "البحر المحيط" 1/ 258. وقد رجح أبو حيان أن الأمر بالذبح متقدم، والقتل متأخر كحالهما في التلاوة، ولا داعي لحمل الآيات عن ظاهرها، بل تظهر الحكمة البالغة في امتحانهم أولا بذبح البقرة هل يمتثلون أم لا؟ (¬1) انظر: "تفسير أبي الليث" 1/ 392، "تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ، "البغوي" 1/ 84. (¬2) هشام بن عبد الملك بن مروان، أحد خلفاء بني أمية، وخاله هو إبراهيم بن هشام ابن إسماعيل المخزومي القرشي. انظر: "الكامل" 5/ 123، "سير أعلام النبلاء" 5/ 351، "الأعلام" 1/ 78. (¬3) (ألا): ساقط من (ب). (¬4) البيت من شواهد البلاغة على التعقيد اللفظي يقول: وما مثله يعني الممدوح في الناس حتى يقاربه، أي: يشبهه في الفضائل، إلا مملكا يعني به هشاما، أبو أمه: أي أبو أم هشام أبوه، أي: أبو الممدوح، فالضمير في (أمه) فلملك، وفي (أبوه) للممدوح. ورد البيت في "المعاني الكبير" 1/ 506، "الخصائص" 1/ 146، 329، 2/ 393، "الكامل" 1/ 28، "الصحاح" (ملك) 4/ 1609، "اللسان" (ملك) 7/ 4266، "معاهد التنصيص" 1/ 43، "الخزانة" 5/ 146. (¬5) قوله: (أراد وما مثله) ساقط من (ب).

وأضاف القتل إليهم في قوله: {وَإِذ قَتَلتُم} وإن كان القاتل واحداً على ما ذكرنا من مذهب العرب أنهم يضيفون فعل البعض إلى جماعة القبيلة، يقولون للقبيلة: انهزمتم يوم ذي قار وإنما انهزم بعضهم (¬1). وقوله تعالى: {وَإِذ قَتَلتُم} ينعطف على قوله: {وَإِذ قَلتُم يَامُوسَى} (¬2) [البقرة: 55]، {وَإِذ فَرَقنَا} [البقرة: 50] والذكر مضمر فيها كأنه: واذكروا إذ قتلتم (¬3)، ولهذا لم يأت لـ (إذ) بجواب. ومثله قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (¬4)، وليس شيء قبله تراه ناصباً لصالح، فعلم بذكر النبي وبالمرسل (¬5) إليه أن فيه إضمار (¬6): أرسلنا. ومثله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 76]، {وَذَا اَلنوُنِ} [الأنبياء: 87]. وهذا يجري على مثال ما قال في سورة ص: {وَاذكُر عَبدَنَا} [ص: 45] (¬7)، ثم ذكر الذين من بعدهم بغير (واذكر) لأن معناه متفق، ¬

_ (¬1) سبق بيان هذا عند تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]، 2/ 433 وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 90، 98، "البحر المحيط" 1/ 259. (¬2) في (أ)، (ج): (قتلتم تصحيف). (¬3) كذا في "معاني القرآن" للفراء نقل عنه بتصرف 1/ 35، والمراد أن (إذ) يقدر قبلها (اذكر) في أول موضع وردت فيه وما بعدها عطف عليهما وذلك في قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} [البقرة:49]. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 269، 275، 289، 356. (¬4) الأعراف: 73، هود: 61. (¬5) في (ب): (المرسل) بسقوط الواو والباء. (¬6) (إضمار) ساقطة من: (أ)، (ج)، وأثبتها من (ب)، ومثله في "معاني القرآن" 1/ 35، والسياق يقتضيها. (¬7) وفي "معاني القرآن" للفراء: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}.

فجاز ذلك، ويستدل على (أن) في هذه الآية (¬1) مضمرة أنه قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ} [الأنفال: 26]، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، فلما ذكر هاهنا (واذكروا) (¬2) مع (إذ) علم أنه مراد مع (إذ) وإن حذف (¬3). وقوله تعالى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} قال ابن عباس: اختلفتم فيها (¬4). وقال الربيع: تدافعتم (¬5). وأصل الدرء: الدفع، يعني: ألقى ذاك على هذا، وهذا على ذاك، فدافع كل واحد عن نفسه (¬6). والتدارؤ والمدارأة مهموزتان. قال أبو عبيد: وهي المشاغبة والمخالفة على صاحبك (¬7). ومنه حديث قيس بن السائب (¬8): "كان رسول الله صلى الله عليه ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": ويستدل على أن (واذكروا) مضمرة مع (إذ) أنه قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} 1/ 35. (¬2) في (ج): (واذكر). (¬3) انتهى النقل عن الفراء. "معاني القرآن" 1/ 35. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 84، "زاد المسير" 1/ 101. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 84. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 126. "تفسير الماوردي" 1/ 367. وذكر الطبري في معنى الآية قولين: الأول: اختلفتم وتنازعتم، والثاني: تدافعتم، قال: وهو أي: القول الثاني قريب من المعنى الأول 1/ 356. وذكر ابن فارس: أن (الدرء) مهموز: أصل واحد بمعنى: الدفع. "مقاييس اللغة" (درى) 2/ 271. (¬7) "غريب الحديث" 1/ 337، "تهذيب اللغة" (درى) 2/ 1181. (¬8) هو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن مخزوم، ذكر ابن حجر عن ابن حبان: أن له صحبة. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 99، و"الإصابة" 3/ 238.

وسلم شريكي (¬1)، فكان خير شريك لا يدارئ ولا يماري" (¬2). وكل من دفعته عنك فقد دارأته. قال أبو زبيد (¬3): كانَ عَنِّي يردُّ دَرْؤُكَ بَعْدَ ... اللهِ شَغْبَ المُستَصْعَبِ المِرِّيدِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (ب): (وكان خير) بسقوط (شريكي). (¬2) الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" عن قائد السائب عن السائب، وعن مجاهد عن السائب بن أبي السائب 3/ 425. وأبو داود عن قائد السائب عن السائب. "سنن أبي داود" كتاب الأدب، باب: كراهية المراء. وابن ماجه عن قائد السائب عن السائب (2287) كتاب: التجارة، باب: الشركة والمضاربة. وأخرجه الطبري عن السائب، وقد تكلم شاكر في حاشية الطبري عن الحديث وبين ما في سنده من ضعف، وما في الحديث من اضطراب. "تفسير الطبري" مع "حاشية شاكر" 2/ 223. والحديث أورده أبو عبيد في "الغريب" 1/ 336، 337. والأزهري في "تهذيب اللغة" (درى) 2/ 1181. وذكر الحديث ابن حجر في "الإصابة" وقال: (أخرجه البغوي والحسن بن سفيان وغيرهما من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد، وأخرجه أبو بشر الدولابي في "الكنى" من هذا الوجه، لكنه قال: أبو قيس بن السائب كذا عنده، وقيس بن السائب أصح ...). "الإصابة" 3/ 238. (¬3) أبو زبيد هو حرملة بن المنذر الطائي، شاعر مشهور، أدرك الإسلام واختلف في إسلامه. انظر: "الشعر والشعراء" ص 185، و"الإصابة" 4/ 80، "الخزانة" 4/ 192. (¬4) البيت من قصيدة لأبي زبيد رثى بها ابن أخته، (الشغب): تهييج الشر، و (المرّيد): مبالغة في المارد، يقول: كان دفعك عني بعد الله يرد عني شر كل مريد. ورد البيت في "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 202، "اللسان" (درأ) 3/ 1347، و (شغب) 4/ 2283، "الخزانة" 9/ 76.

وأصله تدارأتم ثم أُدغمت التاءُ في الدال وأُدخلت الألفُ لِيسلَمَ سكونُ الحرف الأول (¬1). ومثله: {اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، {اطَّيَّرنَا} [النمل:47]. قال الكسائي: التاء إذا كانت في الأفعال تدغم في حروف كثيرة، في التاء مثل: اتّابع بمعنى تتابع، وأنشد: تُولِي الضَّجِيعَ إذا مَا اسْتَافَهَا خَصِراً ... عَذْبَ المَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ القُبَلُ (¬2) وفي الثاء نحو: {اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، وفي الدال نحو: {ادَّارَكُوا} [الأعراف:38] وفي الذال نحو: {يَذَّكَّرُونَ} (¬3) وفي الصاد نحو: {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] وفي الزاي نحو: {وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24] وفي الطاء نحو: (اطَّهَّروا) (¬4) و {اطَّيَّرْنَا} (¬5)، وفي السين نحو: {واسَّمَّعَ} (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 356، "معاني القرآن" للفراء 1/ 437، وللأخفش 1/ 283، وللزجاج 1/ 126، "تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ، و"البيان" 1/ 95، "الدر المصون" 1/ 434. (¬2) لم أجد من نسبه وقوله: (استافها): دنا منها وشمها. و (الخصر): البارد من كل شيء، ويريد الريق. ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء 1/ 438، و"تفسير الطبري" 1/ 356، 10/ 133، "تفسير القرطبي" 8/ 140. (¬3) وردت في عدة آيات منها: الأنعام: 126، والأعراف: 26، 130، والأنفال: 57، والتوبة: 126، والنحل: 13. (¬4) في (ب): (اطهر). جزء من آية المائدة: 6، سياقها: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}. (¬5) في (ج): (ولطيرنا). آية: 47 من سورة النمل. (¬6) وعلى إدغام التاء في السين -أيضا- ورد قوله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 8].

وفي الظاء نحو: {تَظَاهَرُونَ} (¬1)، وفي الشين نحو: {تَشَقَّقُ} (¬2) فمتى ما لقيت التاء حرفاً من هذه الحروف أُدغمت، وإذا لم تَلقَه ظهرت (¬3)، من ذلك: يتعلّمون ويتكلّمون ويترامون، ولا يكون مدغمًا. فإن ابتدأت بقوله: {اثَّاقَلْتُمْ} وأخواته فقد اختلف الناس فيه. فقال بعضهم: إذا ابتدأت قلت: تثاقلتم: فتركت الإدغام (¬4)، قال: وهذا أحب إليّ. وقال بعضهم: لا بل أقطع الألف فأقول: اثاقلتم، يكون (¬5) هذه الألف كألف وافتعل واستفعل عند الابتداء. ولم يكتب (¬6) بالألف إلا وهي هكذا عند الابتداء. قال الكسائي: ولم أسمع من العرب إلا بالبيان، وذلك أن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء، فأما إذا ابتدأت فلا. قال الفراء: والعرب تبني المصدر على الإدغام كما بنوا الفعل، فيقولون: ادّارأ ادّارُؤا مثل ادّارَكَ ادّارُكاً واثّاقَل اثّاقُلاً وازّامُلاً، وما كان ¬

_ (¬1) هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر بتشديد الظاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية [البقرة: 85] وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف. انظر "الحجة" لأبي علي 2/ 130. (¬2) هذا على قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر بتشديد الشين في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25] وكذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّق اَلأَرّضُ} ق: 44، وبقية السبعة بالتخفيف، انظر: "السبعة" ص 464، 607. (¬3) في (ب): (اطهرت). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 437، 438، "تفسير الطبري" 1/ 356، 10/ 133، "تفسير القرطبي" 8/ 140. (¬5) (يكون): كذا في (أ)، (ج)، وفي (ب) بدون إعجام والأولى (تكون). (¬6) في (ب): (تكتب).

73

مثله فإن فيه الإدغام (¬1) والإظهار في مصدره (¬2). وكتب في المصحف (فادّرأتم) بغير ألف قبل الراء (¬3) كما كتبوا (الرحمن) بغير ألف الاختصار، لأنهم قد يحذفون لطول الكلام كما يحذفون لكثرة الاستعمال. وقوله: (فيها) الكناية عائدة على النفس (¬4). وقال ابن الأنباري: يجوز أن تعود على القتلة، لأن (قتلتم) يدل على المصدر (¬5). {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} من أمر القتيل، وأدخل التنوين لأنه ميعاد في المستقبل (¬6)، وقد مضى الكلام في هذه المسألة (¬7). 73 - قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قال ابن عباس: اضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو المقتل. وقال الضحاك: بلسانها، واختاره الحسين بن الفضل. سعيد بن جبير: بعَجْب ذنبها، واختاره يمان بن رباب، قال: لأنه ¬

_ (¬1) في (ب): (الإظهار والإدغام). (¬2) في (أ)، (ج): (مصدر) بدون الهاء، وأثبت ما في (ب)، لأنه أنسب للسياق. (¬3) قال الداني: (اتفق جمعها -أي: مصاحف الأمصار- على حذف الألف التي هي في صورة الهمزة في قوله في البقرة: (فادارأتم) لا غير)، "المقنع" ص 26. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 357، "تفسير ابن عطية" 1/ 351، "البحر المحيط" 1/ 295. (¬5) ونحوه قال ابن عطية 1/ 351، وأبو حيان في "البحر" 1/ 295، وذكر قولاً ثالثاً، وهو: أن الكناية تعود على التهمة. (¬6) قال الزجاج: (الأجود في (مخرج) التنوين، لأنه ميعاد لما يستقبل، أو للحال) "معاني القرآن" 1/ 126، وانظر: "الكشاف" 1/ 289، "البحر المحيط" 1/ 295. (¬7) وهي أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الاستقبال أو الحال ينون ولا يضاف لما بعده، وهذا عند البصريين، أما عند الكوفيين فيجوز إضافته.

أساس البدن الذي (¬1) رُكِّبَ عليه الخلقُ (¬2). ثم قال: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} معناه: اضربوه ببعضها فيحيا، فضُرِبَ فحَيِيَ (¬3)، كذلك يحيي الله الموتى كما أحيا هذا القتيل، وأضمر (فيحيى) كما قال: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] والمعنى: فضرب فانفلق (¬4)، فهذا احتجاج على منكري البعث (¬5). فإن قيل: ما معنى ضرب القتيل ببعض البقرة، والله قادر على إحيائه بغير ذلك؟ والجواب: أنّ في ذلك تأكيداً أنه ليس على جهة المخرقة والحيلة، ولا على جهة الكهانة والسحر، إذ جعل الأمر في إحيائه إليهم، وجعل ذلك عند الضرب بموات لا إشكال في أنه علامة لهم وآية للوقت الذي يحيا فيه ¬

_ (¬1) (الذي): ساقط من (ب). (¬2) هذه الأقوال، عن ابن عباس، والضحاك، وسعيد، في "تفسير الثعلبي" بنصها 1/ 85 أ، وذكر الطبري عن مجاهد وقتادة: بالفخذ، وعن السدي: بالبعضة التي بين الكتفين، وعن أبي العالية: بعظم من عظامها، وعن ابن زيد: بعضو من أعضائها. ثم قال الطبري: (والصواب من القول عندنا، أنه يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب، ولا دلالة في الآية، ولا في خبر تقوم به حجة، على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به .... ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها، فأحياه الله). "تفسير الطبري" 1/ 359 - 360، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 119 - 120. (¬3) قوله: (فضرب فحيى) ساقط من (ب). (¬4) قوله: (والمعنى فضرب فانفلق) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء1/ 48، و"تفسير الطبري" 1/ 361، و"تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ.

74

عندما يكون منهم، فبان أنه من فعل الله عز وجل (¬1). وقوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يقال: أَرَيْتُه الشيءَ إرايةً (¬2) من غير همز شبيهاً بالمنقوص، مثل: إقامة، وترك الهمز؛ لأن الياء في أريت غير مهموز. ويقال أيضًا: أريته إِرَاءَة، لأن الياء إذا جاءت بعد الألف همزت، ويقال أيضا: إراءً بنوا على الهمز كأنهم قالوا: أرأيته إِرْءَاءً، ثم تركوا الهمز، قال الفراء: وأجودها (¬3): إراية غير مهموز. وروى شمر عن ابن الأعرابي: أَرَيْتُه الشيءَ إِراءةً وإراية وإرْءَاءَةً (¬4). ومعنى قوله {آيَاتِهِ} أي: آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات. قال الزجاج: وهذه القصة في القرآن من أدلّ الدلائل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث أخبرهم بما صدّقه في ذلك أهلُ الكتاب، وهو رجل عربي أمّي لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم من أحد، ولم يكن هذا من علم العرب (¬5). 74 - قوله تعالى: {ثُمَ قَسَت قُلُوبُكُم} معنى القسوة في اللغة: الشدة والصلابة واليبس، ويقال: حجر قاسٍ: صلب، وأرض قاسية: لا تنبت شيئا، وعامٌ قَسِيٌّ: ذو قحط، قال شمر: هو الشديد (¬6) لا مطر فيه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الماوردي" 1/ 369، "البحر المحيط" 1/ 261. (¬2) في (ب): (ارايته). (¬3) (أجودها): ساقط من (ب). (¬4) "تهذيب اللغة" (رأى) 2/ 1327، وانظر: "اللسان" (رأى) 3/ 1537 - 1545. (¬5) بمعناه في "معاني القرآن" 1/ 122. (¬6) قوله: (هو الشديد) ساقط من (ب). (¬7) "تهذيب اللغة" (قسا) 3/ 2955، وانظر: "اللسان" (قسا) 6/ 3622.

ويقال: قَسا قلبُه يَقْسُو قَسْوَةً وقَسَاوةً وقُسُوًّا (¬1). وقال بعضهم: قسا قلبه قِسِيًّا، والعرب تقلب الفعول في المصدر إلى الياء فيقول: طغا طِغِيّاً وعتا عِتِيّاً. قال أبو إسحاق: وتأويل القسوة ذهاب اللين والرحمة والخشوع (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: أي من بعد إحياء الميت لكم بعضوٍ من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهدها أن يلين قلبه (¬3) ويخضع (¬4). قال الكلبي: قالوا بعد ذلك: لم نقتله نحن، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك (¬5). قال أبو إسحاق: ويحتمل أن يكون (من بعد ذلك)، أي: من بعد إحياء الميت والآيات التي تقدمت، نحو: مسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من حجر. وإنما جاز (ذلك) للجماعة، ولم يقل: (ذلكم)، لأن الجماعة يؤدي عن لفظها الجميع والفريق، والخطاب في لفظ واحد، والمعنى جماعة (¬6). ¬

_ (¬1) (قُسُوًّا): كذا ضبط في: (أ)، ومثله في "الوسيط" 1/ 132، وفي "تفسير الطبري" 361 (قَسْوا) وكذا في "القاموس" 20/ 78. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 1/ 128، "تهذيب اللغة" (قسا) 3/ 2955، والنص من "تفسير الثعلبي" 1/ 85 ب. (¬3) في (ج): (عليه). (¬4) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 128، وله قول آخر يأتي ذكره قريبًا. وانظر "تفسير الطبري" 1/ 361 - 362. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 85 ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 185. (¬6) في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 128.

وقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} قال أبو إسحاق: لا يجوز عندي إسكان الواو والياء من (هو وهي) لأن كل مضمر فحركته إذا انفرد الفتح نحو (أنا) فكما لا يسكن نون أنا فلا تسكن (¬1) هذه الواو. قال أبو علي فيما استدرك عليه (¬2): إسكان الواو من (هو) والياء من (هي) غير ممتنع. ولو قال قائل: الجيد الإسكان (¬3) لسكون النون في أنت (¬4)، كما قال (¬5) هو: لا يجوز الإسكان فيها لتحرك النون في (أنا)، لما كان بينهما فصل. فإن قلت: فقولهم: (نحن) من المضمر المنفصل، وآخره متحرك فذلك لا يشبه هو وهي وأنا وأنت، لأن آخر (نحن) إنما حرك لالتقاء الساكنين، ولوكان آخره متحرّكًا من الجهة التي ذكرت (¬6) لا لالتقاء الساكنين لما جاز إسكان الآخر من (هم) ومن (أنت) لأنهما أيضا مضمران منفردان. فإن قلت: إن آخر (أنت) متحرك، وليس بساكن، كما أن آخر (أنا) متحرك. فليس هذا بسؤال، لأن آخر الاسم في أنت إنما هو النون، والتاء للخطاب وليست من نفس الكلمة، كما أن الألف من (أنا) إذا وقعت لتبيين الحركة في الوقف، لا من نفس الحرف فإن اعتد بـ (التاء) مع أنها زائدة في ¬

_ (¬1) في (أ): (يسكن) وأثبت ما في: (ب، ج)، ومثله ورد في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 130. (¬2) "الإغفال" ص 211. (¬3) أي: الإسكان في (الياء) من (هي)، و (الواو) من (هو). انظر: "الإغفال" ص 211. (¬4) قوله: (في أنت) ساقط من: (ب). (¬5) أي: الزجاج، وفي "الإغفال": (كما قال أبو إسحاق) ص 211. (¬6) ما الجهة التي ذكر؟ قال في "الإغفال" (فتبين مما ذكرنا أن (نحن) لم يحرك آخره من حيث كان مضمرا منفردًا) ص 212.

الكلمة، فليعتد بـ (الألف) أيضًا في (أنا) مع كونها زائدة، وإذا اعتد بها سقط الاحتجاج، لأنها حينئذٍ ساكنة الأخير، وإنما اختير الحركة في هو وهي لأنها أكثر، وفي اللغات أشهر، لا لما ذكره (¬1). ويدل على جواز (¬2) هذا الإسكان (¬3) ما أخبرني محمد بن (¬4) الحسن عن أبي حاتم عن أبي زيد: كأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَهَا ... أعْقَبَتْهُ الغُبْسُ منه عَدَمَا غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَرْقُبُهُ ... فإِذا هي بِعظامٍ ودَمَا (¬5) وقوله تعالى: {كَالْحِجَارَةِ} قال الليث: الحجارة جمع الحجر (¬6)، وليس بقياس، لأن الحجر يجمع على أحجار، ولكن يجوز الاستحسان في العربية مثل الاستحسان في الفقه، وترك (¬7) القياس. ¬

_ (¬1) انظر: "الإغفال" ص 211، 212. (¬2) (جواز): ساقط من (ج). (¬3) في "الإغفال": (ويدل على جواز هذا الإسكان إذا جاءت به رواية ثقة غير ممتنع ما أخبرنا ..) ص 213. (¬4) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد. (¬5) لم أعثر على قائل البيتين. قوله: (أَطُوم): يريد البقرة الوحشية، (بُرْغُزَها): ولدها، (الغُبْسُ): الذئاب أو الكلاب. ورد البيتان في "الإغفال" ص 213، "مجالس العلماء" للزجاجي ص 326، "المنصف" 2/ 148، "اللسان" (برغز) 1/ 315، و (اطم) 1/ 170، "الخزانة" 7/ 491، وورد الشطر الثاني من البيت الثاني في "التكملة" ص 30، "المخصص" 6/ 93، والبيت الثاني في "شرح المفصل" 5/ 84، "الهمع" 1/ 13. وبهذين البيتين انتهى ما نقله الواحدي عن أبي علي الفارسي من كتاب "الإغفال" ص 211 - 213. (¬6) في (ج): (حجر). (¬7) في (ب): (وترى)، وفي "تهذيب اللغة" (ترك القياس له ..) 1/ 746.

قال (¬1): ومثله: المِهَارة والبِكَارة، لجمع: المُهْر والبَكْر (¬2). وأقرأني العروضي عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري عن أبي الهيثم قال: العرب تدخل الهاء في كل جمع على فِعَال أو فُعُول، فتقول: عظام وعِظَامةٌ وفِحَالةٌ وجمالةٌ (¬3) وذِكَارةٌ وذُكورَة وفُحُولَة وعُمُومة وحُمُولَة، قال: وإنما زادوا هذه الهاء لأنه إذا سكت عليه اجتمع فيه عند السكت ساكنان (¬4). قال الأزهري: وهذه العلة (¬5) أحسن من علة الاستحسان الذي شَبَّهه بالاستحسان في الفقه (¬6). قال المفسرون: إنما شبه قلوبهم بالحجارة في الغلظة والشدة، ولم يقل (¬7): (كالحديد)، وإن كان الحديد أصلب من الحجارة، لأن الحديد يلين بالنار، وقد لان لداود بإذن الله حتى صار كالعجين، ولا تلين الحجارة بمعالجة أبداً، ولأن في الحديد منافع، تلك المنافع لا توجد في الحجارة، فشبه الله قلوبهم بالحجارة لقسوتها ولعدم المنفعة منها (¬8). ¬

_ (¬1) (قال): ساقط من (ج). (¬2) "تهذيب اللغة" (حجر) 1/ 746، وانظر: "اللسان" (حجر) 2/ 781. (¬3) في "تهذيب اللغة": (حبالة)، وفي الحاشية (د): (جمالة). (¬4) في "تهذيب اللغة": أخبرني المنذري عن أبي الهيثم. ثم ذكره مع بعض الاختلاف في العبارة (حجر) 1/ 747، وانظر: "اللسان" (حجر) 2/ 781. (¬5) في (ب): (اللغة). (¬6) "تهذيب اللغة" (حجر) 1/ 746، وفيه: (قلت: وهذا هو العلة التي عللها النحويون فأما الاستحسان الذي شَبَّهه بالاستحسان في الفقه فإنه باطل، ومثله في "اللسان" (حجر) 2/ 78. (¬7) (يقل): ساقط من (ج). (¬8) انظر: "تفسير البغوي" 1/ 85، "تفسير ابن كثير" 1/ 121.

وقوله: {أَو أَشَدُّ} (أو) دخلت لغير معنى شك، ولكنها للإباحة (¬1) كما ذكرها في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ}، وقيل: (أو) هاهنا بمعنى بل (¬2) كقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وقيل: أراد إبهام علم ذلك على المخاطبين، كالعادة في مثل هذا في المخاطبة أن يقال: فلان كالبدر أو أحسن، وكالبحر أو (¬3) أجود، فأما الله تعالى فهو عالم أي ذلك كان (¬4). وارتفع (أشدُ) بإضمار (هي) كأنه قال: أو هي أشدُّ (¬5). ويجوز أن يرتفع بالعطف على موضع الكاف، كأنه قيل: فهي مثل الحجارة (¬6) أو أشد (¬7). قال ابن عباس في هذه الآية: إنما قال: {أَشَدُّ قَسْوَةً} لأن الحجارة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 129، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 362 - 363، و"تفسير أبي الليث" 1/ 395، "الماوردي" 1/ 372، "ابن عطية" 1/ 354. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 363، "تفسير أبي الليث" 1/ 395، "تفسير الثعلبي" 1/ 85 أ، "تفسير الماوردي" 1/ 372، "تفسير ابن عطية" 1/ 354. (¬3) في (ب): (بل أجود). (¬4) ذكره الطبري في "تفسيره" ورجحه 1/ 362 - 363، "تفسير الماوردي" 1/ 371، "تفسير ابن عطية" 1/ 354 - 355، وذكر الأخفش: أنها بمعنى (الواو) "معاني القرآن" 1/ 284، وقد رده الزجاج وقال: (أو) لا تصلح بمعنى (الواو) و"المعاني" 1/ 129، وهذا على قول البصريين، انظر: "الإنصاف" ص 383، وانظر ما سبق عند تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ}. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 284، وللزجاج 1/ 129، "الطبري" 1/ 363. (¬6) في (ب): (كالحجارة). (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 363، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 188، "الكشاف" 1/ 290، "البحر المحيط" 1/ 263.

ليس لها ثواب ولا عليها عقاب، وهي تخاف الله تعالى (¬1)، وقد مر عيسى ابن مريم عليه السلام بجبل فسمع منه أنيناً فقال: يا رب ائذن لهذا (¬2) الذي يئنّ حتى يكلّمني، فأذِن اللهُ للجبل فقال: إني سمعت الله يقول: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] فخفتُ أن أكون من تلك الحجارة (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} (¬4) الكناية عائدة على (ما)، و (ما) من المبهمات يجوز تذكيره وتأنيثه، تقول العرب: من النعال ما يعجبني بالياء والتاء حملاً على التأويل (¬5). وقيل: إن (من) واقعة على بعض الحجارة، وبعض مذكر، والعرب تقول: بعض النساء قام، وبعضهن قمن، فمن ذكر فللفظ (بعض) ومن أنث فلتأويله (¬6). والأنهار جمع نهْر ونَهَر، وأصله من السعة، يقال: أنهرت الفتق، أي: وسعته (¬7)، ومنه قوله (¬8): ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا النص عن ابن عباس والله أعلم، وأخرج الطبري في "تفسيره" نحوه عن ابن عباس وقتادة 1/ 364، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 433، "تفسير ابن كثير" 120، 122، "الدر المنثور" 1/ 156. (¬2) في (ب): (لهذا الجبل). (¬3) ذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى ابن المنذر عن عبد العزيز بن أبي رواد، "الدر" 6/ 375. (¬4) في (ج): (وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 363 - 364، "إعراب القرآن" للنحاس 188، "تفسير ابن عطية" 1/ 356، "تفسير القرطبي" 1/ 394، "البحر المحيط" 1/ 265. (¬6) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 49. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (نهر) 4/ 3674، "الصحاح" (نهر) 2/ 840. (¬8) البيت لقيس بن الخطيم.

فأنهرت فتقها (¬1) والنهر: اتساع الضياء، والنهر: أوسع من الجدول، والانتهار: إظهار الزجر، لا يكنى عنه، والنهار: ولد الكروان (¬2)، لأنه مشبه بالنهار لبيضه. وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قيل: أراد به جبل موسى، لما تجلّى ربه للجبل جعله دكّاً (¬3). وقال ابن الأنباري: يجوز أن يجعل الله تعالى للحجر عقلاً فيخشاه، كما جعل بحراء (¬4) عقلاً حتى عرف خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وكذلك ما ¬

_ (¬1) تمام البيت: مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِن دُونها ما وَراءَها سبق البيت وتخريجه. (¬2) قال الليث: فرخ القطاة، وقال الأصمعي: فرخ الحبارى. انظر: "تهذيب اللغة" (نهر) 4/ 3674، "الصحاح" (نهر) 2/ 840، وفي "القاموس": فرخ القطا أو ذكر البوم، أو ولد الكروان أو ذكر الحبارى (نهر) ص 489. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 364، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 135، "تفسير الماوردي" 1/ 373، "تفسير ابن عطية" 1/ 357 - 358. (¬4) في (ب): (لحراء). (¬5) لعله بهذا يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" مسلم (2414). كتاب فضائل الصحابة، فضائل طلحة والزبير، وأخرج أبو داود نحوه وفيه. "أثبت حراء .. " "سنن أبي داود" (4648)، كتاب: السنة، باب: الخلفاء، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (فضائل العشرة).

صحت الأخبار به من تسبيح الحصا في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكذلك قوله تعالى: في قصة داود {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10]، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إني لأعرف (¬2) حجراً بمكة كان يسلّم عليّ كلّما مررتُ به" (¬3). وروي أنه قال: "كان موسى عليه السلام يخرج من الرَّوحاء يؤمُّ هذا البيت يُلبّي، ومقامُ الروحاء يُجاوبه" (¬4). وكذلك قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] يدل على عقل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي بسنده عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وفيه: (.. وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع حصيات، أو قال: تسع حصيات فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن، حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل .. الحديث) وفي بعض رجاله ضعف. انظر: "دلائل النبوة" 6/ 64، 65، وذكر الحديث ابن حجر في "الفتح" وعزاه للبزار، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الدلائل"، وقال: (.. وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها ..) "فتح الباري" 6/ 592. (¬2) في (ب): (لا أعرف). (¬3) أخرج مسلم نحوه عن جابر بن سمرة ولفظه: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن" مسلم (2276). كتاب الفضائل، فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليم الحجر عليه)، وأخرجه الترمذي (3624) أبواب المناقب، باب (في إثبات نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما خصه الله به). معه "عارضة الأحوذي "، والدارمي في "سننه " باب ما أكرم الله به نبيه من إيمان الشجر والبهائم والجن 1/ 12، وأحمد في "مسند" 5/ 89، 95، 105. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وأخرج أحمد بسنده عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بوادي الأزرق، فقال: "أي واد هذا؟ "، قالوا: هذا وادي الأزرق، فقال: "كأني انظر إلى موسى عليه السلام وهو هابط من الثنية وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية" .. "المسند" 1/ 215، 216. وأخرج عن ابن عباس وفيه: "وأما موسى عليه السلام. فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه إذا انحدر من الوادي يلبي" "المسند" 1/ 277، وانظر "البداية والنهاية" 1/ 316.

يُركَّب في الجبل لو أنزل القرآن عليه، لأنّ في القرآن أمراً ونهياً، ولا يؤمر ولا ينهى (¬1) من لا يعقل (¬2). وقيل: إن الخشية في اللفظ للحجر، وفي المعنى للناظر إلى الحجر، وذلك (¬3) أنه تعالى يهبط الحجارة [دلالة للناظر على قدرة الله، فيحمله ذلك على الخشية، فنسب الخشية إلى الحجر] (¬4) لما كان منه بسبب مجازاً (¬5)، كما تقول العرب: لفلان ناقة تاجرة، أي: تامة سمينة تُنفِّق نفسها وتدعو إلى (¬6) شرائها والتجارة فيها، كذلك قال: الحجارة خاشية من الله، أي: داعية إلى الخشية (¬7)، ومعنى الآية: وإن منها ما يهبط فيدعو الناظرَ إليها إلى (¬8) خشية الله. وقال مجاهد: كلُّ حجر تفجّر منه الماءُ أوتشقّق عن ماء أو تردّى من ¬

_ (¬1) في (ج): (وينهى). (¬2) ذكر نحوه الطبري في "تفسيره" 1/ 365، "تفسير الماوردي" 1/ 374، "تفسير ابن عطية" 1/ 357 - 358. (¬3) في (ب): (وقيل أنه تعالى). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (مجاز). (¬6) في (ب): (إلى الله سرابها). (¬7) ذكر الطبري في "تفسيره" نحوه 1/ 365، "تفسير الماوردي" 1/ 374، "تفسير ابن عطية" 1/ 357 - 358، قال الزجاج: (وقال قوم إنها أثر الصنعة التي تدل على أنها مخلوقة، وهذا خطأ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينًا في جميعها، وإنما الهابط منها مجعول فيه التميز ..) "معاني القرآن" 1/ 130، وانظر: "تفسير القرطبي" 1/ 395، "تفسير ابن كثير" 1/ 121 - 222. (¬8) (إلى): ساقط من (ب).

75

يجعل على لفظ الغيبة ليعطف بالغيبة على مثله، كما عطفت الخطاب على مثله، ويجوز فيما كان قبله لفظ (¬1) غيبة: الخطاب، ووجه ذلك: أن يجمع بين الغيبة والخطاب، فتغلب (¬2) الخطاب على الغيبة، لأن الغيبة يغلب عليها الخطاب، فيصير (¬3) كتغليب المذكر على المؤنث. ألا ترى أنهم قدموا الخطاب على الغيبة في باب الضمير، فقالوا (¬4): أعطاكهو (¬5) ولم يقولوا: أعطاهوك، فعلمت أن الخطاب [أقدم في الرتبة كما أن المذكر مع المؤنث كذلك، ويجوز في الخطاب] (¬6) بعد الغيبة وجه آخر، وهو: أن يراد به: وقل لهم أيها النبي: وما الله بغافل عما تعملون. ومعناه (¬7): وعيد لهم وتهديد (¬8). 75 - وقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} يعني النبيَّ والمؤمنين (¬9). ومعنى الطمع: تعليقُ النفس بما يُرجى ويُظَنّ (¬10). وَالألف فيه ألفُ ¬

_ (¬1) في (ب): (فيما كان لفظه غيبة). (¬2) في (ب): (فيغلب). (¬3) في (ب): (فتصير). (¬4) في (ب): (فقال). (¬5) كذا في جميع النسخ، وفي "الحجة" (اعطاكه) 2/ 113، وهو الصواب. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) قوله: (ومعناه) ساقط من (ب). (¬8) انتهى من "الحجة" لأبي علي 2/ 113 - 114، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص101، "الحجة" لابن خالويه ص 82، "الكشف" 1/ 448. (¬9) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 366، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 149، عن ابن عباس والربيع بن أنس والحسن، "تفسير الثعلبي" 1/ 994. (¬10) ينظر "المصباح المنير" ص 348.

هذا كلام أهل المعاني في معنى خشية الحجارة (¬1)، والصحيح: أنها تخشى الله حقيقة كما قال مجاهد، ولكنا لا نقف على كيفية ذلك كسجود الجمادات لله تعالى، ذهب كثير من المفسرين إلى أنها تسجد لله تعالى على الحقيقة ولا نقف عليه نحن. وقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} اختلف القراء في مثل هذا، فقرأوا بالياء والتاء (¬2). والقول في جملة ذلك (¬3) أن ما كان قبله خطاب جعل بالتاء ليكون الخطاب معطوفاً على خطاب مثله، كقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} ثم قال: {عَمَّا تَعْمَلُون} فالتاء هاهنا حسن، لأن المتقدم خطاب. ومن (¬4) قرأ بالياء (¬5) فمعناه: ما الله بغافل عما يعمل هؤلاء الذين أقتصصنا عليكم قصّتَهم (¬6) أيها المخاطبون، وأما إذا كان قَلَبه غيبةً حَسُنَ أن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 365، وقد قال بعد أن ذكر هذه الأقوال: (وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها)، 2/ 243، وإلى نحو هذا مال القرطبي في "تفسيره" وقال: إنه لا يمتنع أن يعطي الله الجمادات المعرفة والعقل ولا ندرك نحن كيفيته، 1/ 465، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 121، وبهذا أخذ الواحدي كما يأتي قوله. (¬2) قرأ ابن كثير بالياء، وبقية السبعة بالتاء في هذه الآية، انظر: "السبعة" ص 160، "التيسير" ص 74، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 101. (¬3) نقله عن "الحجة" لأبي علي بتصرف 2/ 113. (¬4) في (ب): (فمن). (¬5) في (ج): (الياء) بسقوط الباء. (¬6) في (ب): (قصته).

يعني به الذين غيّروا أحكام التوراة وبدّلوا الحرام بالحلال، وغيروا آية الرجم، وصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعلى هذا القول معنى قوله: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} أي: من موسى أو ممن سمعوه كما أنزل ثم غيّروه. ويجوز أن يكون معناه: يفهمون كلامَه. وقال ابن عباس (¬2) ومقاتل (¬3): نزلت هذه الآية في السبعين، الذين (¬4) اختارهم موسى وذهبوا معه (¬5) إلى الميقات، وسمعوا كلام الله عز وجل وهو يأمره وينهاه، فلما رجعوا إلى قومهم سألهم الذين لم يذهبوا معهم، فقالت طائفة منهم لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: "إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا ولا بأس" (¬6). ¬

_ = "الثعلبي" في "تفسيره" 1/ 994 وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 90 "ابن كثير" ص 122 - 123. (¬1) وهذا قول جمهور المفسرين، ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 994، "الوسيط" للواحدي 1/ 160 "أسباب النزول" للواحدي ص 31 وعزاه لأكثر المفسرين، "تفسير البغوي" 1/ 113 و"تفسير ابن كثير" ص 1/ 122 - 123، ورجَّحه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 103. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 148 وذكره "الثعلبي" 1/ 994، والواحدي في "أسباب النزول" ص 27، و"الوسيط" 1/ 160، و"البغوي" 1/ 113. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 116، وذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 994، والواحدي في "أسباب النزول" ص 31، "الوسيط" 1/ 160. (¬4) ليست في (أ). (¬5) قوله: (وذهبوا معه): ليست في (م). (¬6) وروي هذا القول عن ابن إسحاق والربيع بن أنس، رواه عنهما الطبري 2/ 246، وابن أبي حاتم 1/ 148وذكره ابن كثير 1/ 105، ورجحه الطبري محتجًّا بأن الله أخبر أن التحريف كان ممن سمع كلام الله، وهؤلاء الذين كانوا في عهد =

استخبار، يجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار والنهي، إذا لم يكن معها نفيٌ، كأنه آيَسَهم من الطمع في إيمان هذه الفرقة، فإذا كان في أوّل الكلام نفيٌ، فإنكار النفي تثبيت (¬1)، نحو قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [تبارك: 8] وسيأتي بعد هذا لِمَ جعل الاستفهام للإنكار (¬2). وقوله تعالى: {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} يعني به: جماعة اليهود (¬3)؛ لأنّه قال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]. يعني به: جماعتَهم؛ لأن الخاصةَ تتبعُ العامة. {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} أي: جماعة. وأصله من الفَرْق، ومعناه: طائفة فرقت من الجملة كالفئةِ، قالوا: أصلها من فأوتُ (¬4) رأسَه: أي: شَقَقْتُه (¬5). واختلفوا في هذا الفريق، فقال مجاهد (¬6) وقتادة (¬7) والسُدّي (¬8): ¬

_ (¬1) فصَّل هذه المسألة ابن هشام الأنصاري في كتابه "مغني اللبيب عن كتاب الأعاريب" 1/ 17. (¬2) في (م): (الإنكاري) وفي (أ): (الإنكار). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 366، "تفسير الثعلبي" 1/ 994. (¬4) هذا مما يذكر في الواوي واليائي، أي فأوت وفأيت، وقوله: الفئة على وزن فعة، قال الأزهري في "تهذيب اللغة": وكانت في الأصل فئوة بوزن فعلة فنقص. انظر "لسان العرب" 6/ 333. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 366. (¬6) رواه مجاهد في "تفسيره" ص 80 ومن طريقه (الطبري) 2/ 245، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 149، وذكره "الثعلبي" في "تفسيره" 1/ 994 وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 103 - 104، "ابن كثير" في "تفسيره" ص 122 - 123. (¬7) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 149 وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 994، ابن كثير في "تفسيره" ص 122 - 123. (¬8) رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 367، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 149 وذكره =

اليأس وبين قطع الطمع. وليس قولُ من قال: المراد بالفريق هاهنا الذين سمعوا كلامَ الله في وقت المناجاة أولى من القول الأول بأن هؤلاء سمعوا كلام الله على الحقيقة (¬1)، من جهة أن الكلام يضاف إلى المتكلم على وجهين، وكلاهما حقيقة: أحدهما: يضاف إليه على أنه المظهر له. والآخر: يضاف إليه على معنى الحكاية لما كان مظهرًا له. يوضح ذلك أنك تقول: هذا كلام سيبويه (¬2) بعينه إن لم يحكه الحاكي على المعنى دون تأدية اللفظ (¬3)؛ ولهذا نقول: القرآن كلام الله على الحقيقة، وإن كنا لا نسمعُ الله يقولُ ذلك عند تلاوته. وقوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} التحريفُ: تفعيلٌ من الحَرْف، والحَرْفُ في أصل اللغة: حدّ الشيء وحِدَتُهُ، ومِنْه يقال: طعامٌ حِرِّيْفٌ، يراد حِدَّتُهُ، فالتحريف أن يَجْعَلَ للشيء حَرْفًا كتحريف القلم. هذا أصل معناه في اللغة، ثم استعمل في معنى الإمالة والتغيير، وهذا المعنى راجع إلى أصله في اللغة؛ لأن بالإمالة يصير الشيءُ ذا حَرْفٍ، ألا ترى أن القلم إنما يصير مُحَرَّفًا إذا أُمِيلَ قَطْعُهُ في أحد الجانبين، فصار التحريف اسمًا لتغيير الشيء عن وجهه (¬4). ¬

_ (¬1) يريد: سمعوا كلام الله من رسوله أو من كتابه المنزل. (¬2) هو: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، وقد تقدمت ترجمته في المقدمة. (¬3) يريد: إن حكاه الحاكي بلفظه. ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 883، "اللسان" 2/ 954، "مقاييس اللغة" 2/ 42. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 368، "تهذيب اللغة" 1/ 786، "المفردات" للراغب ص 121 وقال: وتحريف الشيء إمالته كتحريف القلم، وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين.

فغيّروا ما سمعوا، ولم يؤدّوه على الوجه الذي سمعوه، فقيل في هؤلاء الذين شاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في كفرهم، وهذا مما يقطع الطمع في إيمانهم (¬1)؛ لأن الطمعَ قد ينقطعُ بغلبةِ الظن كما ينقطع مع العلم، فإذا ظهرت الأمارات التي توجب غلبة الظن انقطع الطمع. بيان ذلك: أنا لا نطمع في إيمانِ ملكِ الرومِ مع غلبةِ الظن أنه لا يؤمن، كما لا نطمع في إيمان أبي جهل (¬2)، مع العلم بأنه لا يؤمن وقد هلك، واليأس إنما يكون مع اليقين أنه لا يقع، وهذا هو الفرق بين ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسلهم أحرى بالجحود والتحريف؛ لأن أسلافهم سمعوا من الله وحرفوا متعمدين التحريف، وهؤلاء سمعوا منكم أنتم، ولذا قطع الله أطماع المؤمنين في إيمانهم. ثم رد ابن جرير على أصحاب القول الأول قولهم، بأنه لوكان المراد: سمعوا التوراة، لم يكن لذكر قوله: (يسمعون كلام الله) معنى مفهوم، لأن ذلك قد سمعه المحرف وغيره، فخصوص المحرف بالسماع لا معنى له. وقد بين ابن كثير ص 1/ 122 - 123 أن القول الأول أعلم، وأنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون سمعه منه كما سمعه الكليم قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] أي: يسمعه مبلغًا إليه. وممن ضعف القول الثاني ابن عطية 1/ 359 فقال: وفي هذا القول ضعف، ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، ونقله القرطبي 2/ 1، وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 103: وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم الترمذي صاحب "النوادر"، هذا القول إنكارًا شديدًا. وقال: إنما خص بالكلام موسى وحده، وإلا فأي ميزة، وجعل هذا من الأحايث التي رواها الكلبي، وكان كذابًا. وينظر: "العجائب" 1/ 262. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 367 - 368. (¬2) هوة عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أحد سادات قريش في الجاهلية، وأشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام، حتى كانت وقعة بدر الكبرى فشهدها مع المشركين فكان من قتلاهم. ينظر: "السيرة النبوية" 2/ 358.

ابتدأت فتحه، كما يبتدأ الدخول إلى الشيء بفتح بابه، ومنه: الفتّاح للحاكم؛ لأنه يفتح القضيّة المستغلقة (¬1). وأما (يستفتحون) بمعنى: يستنصرون، فهم يسألون الفتح. ومعنى قوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قال ابن عَبَّاسٍ (¬2) وأبو العالية (¬3) والحسن (¬4) وقتادة (¬5) أي: من العلم بصفةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - المبشَّر به ونعتِهِ. وقوله تعالى: {لِيُحَاجُّوكُمْ} معنى المحاجة: المجادلة والمخاصمة. وأصل الكلمة: من القصد، ومنه: حَجَّ البيتَ، والحجة: النكتة (¬6) التي هي القصد في تصحيح الأمر، والمحجة: الطريقُ القاصدُ بك إلى الغرض الذي تؤمّه (¬7). ومعنى قوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} أي: ليجادلوكم، يعني: أصحاب محمد، ويقولون: قد أقررتم أنه نبي حقٌّ في كتابكم ثم لا تتّبعونه، فهذه حجة لهم عليكم (¬8). وقوله تعالى: {عِندَ رَبِّكُم} قال أبو بكر (¬9): معناه: في حكم ربكم، كما تقول: هذا حلال عند الشافعي، أي: في حكمه، وهذا يحل عند الله: ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 254 "تفسير الثعلبي" 1/ 995، "القرطبي" 2/ 3. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 370. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 370، و"ابن أبي حاتم" 1/ 781. (¬4) بنحوه أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 785، 787. (¬5) أخرجه الطبري 1/ 370 بأسانيد عن قتادة. (¬6) في (م): (النكة). والنكتة هي النقطة. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 744 - 746 مادة حج، "مقاييس اللغة" 2/ 29 - 31. (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 996. (¬9) يعني: ابن الأنباري.

وقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: يعلمون أنّ الذي حرفوا ليس من قبل الله، إنما هو مفتعل من جهتهم. أعلمنا الله تعالى أنهم لم يحرفوا ما سمعوا على جهة النسيان والخطأ، بل جهة القصد والتعمد. وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الذي يفعلونه مُكسِبٌ للأوزار (¬1). وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) وقتادة (¬4) (¬5): يعني منافقي اليهود، كانوا إذا رأوا المؤمنين قالوا: آمنّا بمحمد أنه نبي صادق نجده في كتابنا، فإذا رجعوا إلى رؤسائهم لاموهم على ذلك (¬6). وقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}. ومعنى التحديث: الإخبار عن حوادث الزمان. وأصل الفتح: نقيض الإغلاق، ثم يدخل في هذا فتح البلاد، وفتح المِغْلاق، وفتح المُشكل من الحكم، وفتح الباب، وكلّ مَا بَدَأتَ به فقد استفتحته، وبه سميت فاتحة الكتاب، ومعنى استفتحته: ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 368، "ابن أبي حاتم" 1/ 149، "زاد المسير" 1/ 104. (¬2) رواه الطبري في تفسيره 2/ 249، 250. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 151. (¬4) رواه الطبري في تفسيره بمعناه عنه 1/ 369، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 149، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 90. (¬5) أخرج أثر ابن عباس: ابن جرير الطبري 1/ 369. وأخرج ابن أبي حاتم أثر الحسن 1/ 785، وذكره عن قتادة 1/ 779، 787، ونسبه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 157 إلى عبد بن حميد. (¬6) روي هذا القول أيضًا عن السدي وأبي العالية، والربيع بن أنس، ومجاهد وعطاء وابن زيد، ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 369 - 370، "ابن أبي حاتم" 1/ 149 - 150 "زاد المسير" 1/ 104، "الدر المنثور" 1/ 157.

فقلبت الواو ياءً لسكونها ثم أدغمت (¬1)، ويجوز في أداء (¬2) جَمعها التخفيف على نقصان إحدى الياءين (¬3)، وكذلك ما كان على هذا الوزن من الجمع الصحيح ففيه لغتان، نحو: قرقور وقراقر (¬4) وإن شئت: قراقير، وحواجب وحواجيب، وجلابب وجلابيب. فأمَّا الغواشي والجوابي (¬5) والجواري والليالي فليس فيها إلَّا التخفيف؛ لأنّها منقوصات، وواحدَتُها خفيفة (¬6). والأمنيَّة: من التمنّي، كالأغنية من التغنّي. قال الكسائي: أصل التمني في اللغة: حديثُ الرجلِ نفسَه، والعرب تقول: تركتُه قاعدًا يتمنى، أي: يحدث نفسَه. وأنشد لكعب بن مالك (¬7) يرثي أباه: ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3254 (¬2) ساقطة من (أ) و (ش). (¬3) قال أبو حاتم: كل جمع من هذا النحو، واحده مشدّد فلك فيه التخفيف والتشديد، مثل: بَخَاتي، وأثافي، وأغاني، وأماني ونحوها ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 376 - 377، "تهذيب اللغة" 4/ 3454، "المحتسب" لابن جني 1/ 94 "تفسير الثعلبي" 1/ 999. (¬4) القرقور: السفينة العظيمة الطويلة. (¬5) في (م): (الجواني). (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 49، "معاني القرآن" للأخفش الأوسط 1/ 117 - 118، "تفسير الطبري" 2/ 376 - 377، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 159، "تهذيب اللغة" 4/ 345، "المحتسب" لابن جني 1/ 94. (¬7) هو: كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري الخزرجي، شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وأحد الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم، اختلف في تاريخ وفاته بين 40 و50 هـ وغيرها. ينظر: "أسد الغابة" 4/ 487 - 489، "الإصابة": 3/ 302.

78

أي: في حكمه، فعلى هذا معناه: لتكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة. ويحتمل: أنه أراد عند ربكم في الآخرة؛ لأنهم يقولون لكم: يا معشر اليهود آمنا بمحمد ولم نقرأ صفته، وكفرتم به بَعْد أن وقفتم على صِدقه في التوراة. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانية (¬1). وهذا من كلام رؤسائهم لهم في لومهم إياهم، فقال الله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: من التكذيب {وَمَا يُعْلِنُونَ} من التصديق. 78 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} قال أبو إسحاق: معنى الأمي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلّة (¬2) الأمة: أي: لا يكتب، فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه (¬3). وقال غيره: قيل للذي لا يكتب: أمِّي؛ لأن الكتابة مكتسبة، فكأنه نُسِبَ إلى ما ولد عليه، أي: هو على ما ولدته أمّه. وقال ابن الأنباري: إنما سمّي الذي لا يكتب، ولا يقرأ: أمّيّاً؛ لأنه نسب إلى أمّه، إذ كان النساءُ لا يكتبن في ذلك الدّهر (¬4). وقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِىَّ} جَمْعُ أُمْنِيّة، وأُمْنِيَّة في الأَصْلِ. أُمْنُوية ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 997. (¬2) في (ش): (حيلة). (¬3) "معاني القرآن" 1/ 159. وفي "تهذيب اللغة" 1/ 204 مادة (أم) النص هكذا: معنى الأمي في اللغة المنسوب إلى ما عليه جبلته أمه. (¬4) ينظر. "تهذيب اللغة" 1/ 204 - 205، و"المحيط في اللغة" للصاحب بن عباد 10/ 459، "تفسير القرطبي" 2/ 4، و"اللسان" 1/ 123.

حُروفه من غير زيادة. وقال ابن السكيت: يقال: هو مُنّي (¬1) بمَنَى مِيل، أي: بقدر ميل (¬2). وقال الفراء: يقال: مَنىَ الله لك ما يَسُرّك، أي: قَدّر لك. وأنشد: ولا تقولَنْ لشيء سوف أفعله ... حتى تَبَيّنَ (¬3) ما يَمْني (¬4) لَكَ الماني (¬5) أي: ما يقدر لك القادر (¬6). فأمَّا التفسير، فقال ابن عباس: {إِلَّا أَمَانِيَّ}: إلا أحاديث (¬7)، قال: لا يعلمون إلّا ما حُدّثوا. وقال الفرَّاء: الأماني: الأحاديث المفتعلة، يقول الله: لا يعلمون الكتاب ولكن هو أحاديث مفتعلة ليست من كتاب الله يسمعونها من كبرائهم (¬8)، وهذا قول الكلبي (¬9). واختاره الزجّاج في أحد قوليه، وقال: ¬

_ (¬1) في (ش): (تمني). (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3454 ولم أجده في كتابيه:"تهذيب الألفاظ"، و"إصلاح المنطق". (¬3) في (م): (يبين). وفي (ش): (بين) وفي "تهذيب اللغة" 4/ 3454: تُلاقيَ. (¬4) في (ش): (تمنى). (¬5) البيت لأبي قلابة الهذلي، في "شرح أشعار الهذليين" ص 713، ولسويد بن عامر "المصطلقي في لسان العرب" 7/ 4282، وذكره في "تهذيب اللغة" عن الفراء ولم ينسبه 4/ 3454. (¬6) لم أجده في مظنته من "معاني القرآن" للفراء، ونقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3454. (¬7) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" 2/ 261، و"ابن أبي حاتم" 1/ 152. (¬8) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 49 - 50. (¬9) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 999، وينظر: "البغوي" 1/ 88، "الخازن" 1/ 77.

تمنّى كتابَ الله أولَ ليلِهِ ... وآخرها (¬1) لاقى حِمَام المقادر (¬2) أي: قرأ، يسمّى (¬3) القراءة تمنِّيًا، لأنها تشبه التحدث، وما تمناه الإنسان فهو مما (¬4) يحدث به نفسه (¬5)؛ ولهذا فُسِّرت الأماني في هذه الآية بالأحاديث. وقال غيره: أصل هذه الكلمة عند أهل اللّغة من التقدير. والتمني: هو تقدير شيء تودُه، والمنيّة مقدرةٌ على العباد، والمَنَى الذي يوزن به: مقدار معروف، والمَنِيُّ: الذي يقدَّرُ منه الولد، والتمني: التلاوة؛ لأنها حكاية على مقدار المحكيِ، والمنا (¬6): الحذاء؛ لأن أحد الشيئين بإزاء الآخر على مقداره (¬7)، ومُنيت (¬8) بكذا أي: قُدَر علَيّ. والأمنية في هذه الآية: التلاوة؛ لأنها حكاية للكلام على مقدار ¬

_ (¬1) كذا في الأصل: وآخرها، وفي "تفسير الثعلبي" 1/ 1000، "اللسان" 7/ 4284، "تفسير القرطبي" 2/ 6: وآخره. (¬2) البيت في "ديوانه" ص 294 قاله في رثاء عثمان بن عفان، وينظر "تفسير ابن عطية" 1/ 169، "القرطبي" 2/ 5، وقيل: هو لحسان بن ثابت كما في "تفسير أبي حيان" 6/ 386، وليس في "ديوانه"، وبلا نسبة في "لسان العرب" 7/ 4284، و"مقاييس اللغة" 5/ 277، وكتاب "العين" 8/ 390. ينظر "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية"، للدكتور/ أميل بديع يعقوب 3/ 370. وحمام المقادر: الموت. (¬3) في: (م) لعلها (يسمي). (¬4) في (م) و (ش): (ما). (¬5) في (ش): تحدث نفسه. (¬6) في (م): (المنا الذي). (¬7) ينظر: "القاموس" 1336: (مادة: المنا). (¬8) في (م): (أمنيت).

رأس جبل فهو من خشية الله [نزل به القرآن (¬1). وقال بعض المتأولين: من قال: المراد بالحجارة في قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}] (¬2) أنه يركَّب فيها التمييز والعقل، فقد أخطأ (¬3)، إذ كان لا يُستنكر ذلك ممن جُعِل فيه التمييز، ولكن هذا على جهة (¬4) المثل، كأنه يهبط من خشية الله لما فيه من الانقياد لأمر الله الذي لو كان من حيّ قادر لدلَّ على أنه خاشٍ لله كقوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، أي: كأنه مريد. وكقول جرير: لمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ المدينةِ والجِبَالُ الخُشَّعُ (¬5) أي: كأنها خاشعة للتذلل الذي ظهر (¬6) فيها كما يظهر تذلل الخاشع، ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 364، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 433، "تفسير الماوردي" 1/ 374، انظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 356 - 357، "تفسير ابن كثير" 1/ 121 - 122. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) نسب الرازي هذا القول للمعتزلة 3/ 131. (¬4) في (ب): (على وجه). (¬5) من قصيدة قالها جرير في هجاء الفرزدق، يقول: لما وافى خبر قتل الزبير إلى المدينة تواضعت هي وجبالها وخشعت حزنا له، لأن قاتل الزبير من رهط الفرزدق. ورد البيت في مواضع كثيرة منها،"الكتاب" 1/ 52، "مجاز القرآن" 1/ 197، "الكامل" 2/ 141، "المقتضب" 2/ 197،"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص 595، "جمهرة أمثال العرب" 2/ 3339، "الأضداد" لابن الأنباري ص 296، "معاني القرآن" للفراء 2/ 37، والطبري في "تفسيره" 1/ 261، 365، "الخزانة" 4/ 218، "الخصائص" 2/ 418، "المخصص" 17/ 77، "تفسير القرطبي" 1/ 395، "البحر المحيط" 1/ 266، "رصف المباني" ص 244، "ديوان جرير" ص 270. (¬6) في (ب): (للتذل ظهر الذي فيها).

إلّا أكاذيب، والعربُ تقول: أنت إنما تتمنى (¬1) هذا القول، أي: تختلقه (¬2). وقال أحمد بن يحيى: التمني: الكذب، يقول الرجل: والله ما تمنيت هذا الكلام ولا اختلقته (¬3). قال ابن الأنباري (¬4): والمُنى تشبه الكذب لأنه لا حقيقة لها، والعرب تذمّها كما تذم الكذب، قال الشاعر: فَلا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ ومَا وَعَدَتْ ... إنَّ الأمَانِيَّ وَالأحْلامَ تَضْلِيلُ (¬5) وقال أبو عبيدة (¬6) وابن الأنباري (¬7) وابن قتيبة (¬8) والزجَّاج (¬9) في أحد قوليهِ: الأماني: التلاوة، واحتجوا ببيتِ كعبٍ، فأرادَ أنّهم يقرؤون عن ظهر القلب ولا يقرؤون في الكتب (¬10). وقيل: يقرءون في الكتاب ولا يعلمونه بقلوبهم، فهم لا يعلمون ¬

_ (¬1) في (ش): (تتمنى). في (أ) و (م): (تمتني)، وما في (ش) موافق لما في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 159. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 159. (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 15/ 534. (¬4) في (م): (الأنبار). (¬5) البيت لكعب بن زهير، ينظر: "ديوانه" ص 9، "لسان العرب" 7/ 4284، "المعجم المفصل" 6/ 347. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 999، وليس هو في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3456 (¬8) ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 46. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 159. (¬10) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 999، "تفسير البغوي" 1/ 88 "زاد المسير" 1/ 105.

الكتاب إلا تلاوة ولا يعملون به (¬1)، فليسوا كمن يتلونه حقّ تلاوته، فيُحِلّون حلالَه، ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه (¬2). قال ابن الأزهري: والتلاوة سميت أمنية؛ لأن تالي القرآن إذا مر بآية رحمة تمنّاها، وإذا مرّ بآية عذاب تمنّى أن يُوَقّاه (¬3). وقال الحسن (¬4) وأبو العالية (¬5) وقتادة (¬6): أي: إلّا أن يتمنوا على الله الباطل والكذب، ويتمنون على الله ما ليس لهم، مثل قولهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وقولهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111]، وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} [المائدة: 18]. قال ابن الأنباري: والاستثناء على هذا التأويل منقطع عن الأوّل، يريد. لا يعلمون الكتاب البتة، لكنهم يتمنون على الله مالا ينالون (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل (يعلمون)، وهو تحريف. (¬2) ينظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 56. (¬3) "تهذيب اللغة" 15/ 534. (¬4) ذكره "الثعلبي" في "تفسيره" عنه 2/ 1001، وينظر: "الوسيط" للمصنف 1/ 162، و"البغوي" 1/ 88. (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره بمعناه 2/ 374 - 375، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 152، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1001. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/، وفي "تفسير الطبري" بمعناه 1/ 375، وذكره "أبن أبي حاتم" 1/ 152 عنه وعن الربيع بن أنس بلا إسناد، وينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 180. (¬7) وقد رجح الشنقيطي هذا القول في أضواء البيان 1/ 141 وبين أن مما يدل لهذا القول: قوله تعالى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] وقوله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123] وبين أن القول الأول لا يتناسب مع قوله: ومنهم أميون لأن الأمي لا يقرأ. =

وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي: لا يعلمون، (¬1) أراد: ما هُمْ إلا ظانّينَ ظنًّا وتوهمًا لا حقِيقَةً ويقينًا (¬2) (¬3). وجعل الفعل المستقبل في مَوضع الحَالِ؛ لأنه يصلح للزمانين. قال ابن عبّاس في قوله: (وإن هُم إلّا يظنون): أي: لا يعلمون الكِتَابَ، ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظَنّ (¬4). قالَ أصحاب المعاني: ذمّ الله بهذه الآية قومًا من اليهود، لا يحسنون شيئًا وليسُوا على بصيرة إلّا ما يحدّثونَ به، أو إلّا ما يقرءون عن غَيْرِ عِلم به (¬5). ففيه حثٌّ علَى تعلّم العلم؛ حتّى لا يحتاج الإنسان إلى تقليد غيره، وأن يقرأ شيئًا لا يكون له به معرفة. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية. قال ابن عباس: الوَيْل شِدّة العَذَاب (¬6). ¬

_ = ويؤيد ذلك ما ورد بأسانيد صحيحة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي العالية. ينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 180. (¬1) زيادة من (ش). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 377، "تفسير الثعلبي" 1/ 1001، "تفسير البغوي" 1/ 115. (¬3) نقل القرطبىِ في "تفسيره" 2/ 6 عن أبي بكر الأنباري عن أحمد بن يحيى النحوي: أن العرب تجعل الظن علمًا وشكًّا وكذبًا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب. (¬4) رواه الطبري في تفسيره 1/ 277. (¬5) ينظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 1/ 365، "تفسير القرطبي" 2/ 6. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1003، والبغوي في "تفسيره" 1/ 115، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 378 بلفظ: فالعذاب عليهم.

وقال الزجّاج: الويل كلمة يستعملها كل واقع في هَلَكة، وأصله في اللغة: العذاب (¬1). وقال ابن قتيبة: قال الأصمعي: الويل تقبيح (¬2)، قال الله تعالى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. وروى الأزهري عن المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: قولهم: ويل (¬3)، كان أصلها (وي) وُصِلت بـ (له)، ومعنى (وي): حزن، ومنه قولهم: ويه (¬4) معناه: حزن، أُخْرج مُخْرجَ الندبة (¬5) (¬6). وحكى ابن الأنباري عن الفراء: أن أصل هذه الكلمة: وي لفلان، وهو حكاية صوتِ المصاب وَي وَي، فكثر الاستعمال للحرفين، يعني: وي لفلان فوُصِلتْ اللام بوي وَجُعِلَتْ معها حرفًا واحدًا، ثم خُبِّر عَن ويل بلام أُخرى. وقرأت على أبي الحُسين الفسوي، فقلت: أخبركم حمد بن محمد الفقيه، قال: أخبرني أبو عمر (¬7)، قال: حضرنا مجلس أبي العباس أحمد ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 160. (¬2) ينظر: "اللسان" 11/ 739. (¬3) في "تهذيب اللغة": (ويله). (¬4) في الأصل ويه، والمثبت من "اللسان". (¬5) الندبة: وهي نداء متفجع عليه حقيقة أوحكما أو متوجع منه. ينظر: "طرح التثريب" 1/ 154، "المصباح المنير" ص 597. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3969. (¬7) هو: محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، أبو عمر اللغوي الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، لازم ثعلبًا في العربية فأكثر عنه إلى الغاية، له مصنفات كثيرة منها: "فائت الفصيح"، و"الياقوتة"، وغيرها، توفي سنة 345 هـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" 15/ 508 - 513، و"تاريخ بغداد" 2/ 356 - 359.

أبن يحيى، فأقبل علينا، فقال: كيف الفعل من الويل؟ فبلّح القوم ولم يكن عند واحدٍ منهم جواب، وفي المجلس ابن (¬1) كيسان وغيره فأنشدنا: تَوَيّل إذ ملأتُ يدي وكانَتْ ... يميني لا تعلّلُ (¬2) بالقليل (¬3) قال أبو عمرو: يقال في هذا أيضًا: وال يَوِيلُ، على وزن مال يميل. انتهت الحكايةُ. وسمعتُ من يوثق بعلمه يقول: أخطأ أبو عمرو، لم يأت من هذا الباب ما أَوَّلُه واوٌ ولا ياءٌ في الأجوف. وروي عن أبي سعيد الخدري (¬4) مرفوعًا قال: "ويْلٌ: وادٍ في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره" (¬5). ¬

_ (¬1) ساقطة من (ش). (¬2) في (ش): (لا تغلل). (¬3) البيت بلا نسبة في: "الممتع في التصريف" 2/ 568، وفي "لسان العرب" 8/ 4939، "المعجم المفصل" 6/ 587. (¬4) هو: الصحابي الجليل، سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، اشتهر بكنيته أبو سعيد الخدري، من فقهاء الصحابة ومكثريهم في رواية الحديث، شهد ما بعد أحد، وتوفي سنة 74 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 2/ 365، و"الأعلام" 3/ 87. (¬5) أخرجه أحمد 3/ 75، وعبد بن حميد 924، والترمذي في التفسير، سورة الأنبياء برقم (3164)،، الطبري في تفسيره 1/ 378، والحاكم 2/ 507 أبو يعلى في "مسنده" 2/ 523 والبيهقي في "البعث والنشور" برقم 537 من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، ودراج ضعيف، وصححه الحاكم، وأحمد شاكر وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث ابن لهيعة وتعقبه ابن كثير في "تفسيره" 1/ 125 فقال: لم يتفرد به ابن لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا منكر، والله أعلم.

قال النحويون: وذكر اليد في قوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} تحقيق للإضافة وإن كانت الكتابة لا تقع إلا باليد، وقد أُكدّت الإضافة بذكر اليد (¬1) فيما لا يُرادُ باليد فيه الجارحة (¬2)، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]. ومعناه: مما تولينا عمله، ولما (¬3) توليت خلقه. والأصل في هذا: أنه قد يضاف الفعل إلى الفاعل وغير الفاعل له، كقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، والمراد بذلك: أنه يأمر بالذبح فَيُمتثل أمره. فلما كان الفعلُ قد يُضاف إلى غير الفاعل أُكّدَت الإِضافة بذكر اليد؛ للتحقق وينتفي الاحتمال، ثم استعمل هذا التأكيد (¬4) أيضا في فعل الله تعالى وإن لم يجز في وصفه يد الجارحة؛ لأن المراد بذكر اليد تحقيق الإضافة على ما بيّنا. وقال ابن السراج: معنى يكتبون بأيديهم، أي: من تلقائهم ومن قبل أنفسهم من غير أن يكون أُنزل عَلَيهم أو على من قبلهم (¬5)، وهذا كما يقال للذي يُبدعُ (¬6) قولًا لَم يُقَلْ قبله: هذا أنت تقوله (¬7)، يراد بذلك: أنت ابتدعت هذا المذهب وهذا الحكم. ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1004، "تفسير القرطبي" 2/ 8. (¬2) هذا تأويل من المؤلف رحمه الله، جرى فيه على مذهب الأشاعرة. والصواب ما عليه السلف من إثبات الصفات لله من غير تَأَويل ولا تكييف ولا تمثيل. (¬3) في (أ) و (م): (كما). (¬4) في (ش): (التاليد). (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 2/ 8. (¬6) في (ش): (يبيع). (¬7) في (ش): (بقوله).

80

قال المفسرون: هذا في اليهود، عَمَدوا إلى صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - فكتبوا صفته على غير ما كانت في التوراة، وأخذوا عليه الأموال، وقبلوا الهدايا (¬1). وهو معنى قوله: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} يقال: كسبت الشيء كسبًا، وكَسَبْتُ الرجلَ مالًا فَكَسَبه وهذا أحد ما جاء على فَعَلْتُه فَفَعَل، ومعنى الكسب: فعل يُجتلَب به نفع، أو يُستدفَع به ضرر، واكتسب الخطيئة إنما ذلك لأنه يَجتلب به تعجّلَ المنفعة وينسَى ما عليه فيه من تأجّل المضرّة. 80 - وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} يعني: اليهود لما أوعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار عند تكذيبهم إياه، قالوا: لن تمسَّنا النار إلّا أيامًا معدودة (¬2): أي: قليلة، والمعدودة إذا أطلقت كان معناها القليلة، كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] قيل معناه: معدودة عندنا. قال ابن عبّاس: قالت اليهود: مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذَّب بكل ألف سنة يومًا واحدًا (¬3). وقال قتادة (¬4) وعطاء (¬5): يعنون الأيام التي عبد آباؤهم فيها العجل، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 378، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 244 - 247، "تفسير السمرقندي" 1/ 132، "تفسير الثعلبي" 3/ 1003. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 1/ 380 - 381، "تفسير الثعلبي" 1/ 1006. (¬3) أخرجه عنه الطبري 2/ 278، وابن أبي حاتم 1/ 155، وسنده حسن كما في "التفسير الصحيح" 1/ 184 والطبراني في "الكبير" 11/ 96، وهو مروي عن مجاهد أيضًا كما عند الطبري 1/ 382. (¬4) أخرجه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" بسند صحيح 1/ 51 ومن طريقه رواه الطبري في تفسيره 1/ 381، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 155، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1007، ينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 184. (¬5) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1007، والبغوي في "تفسيره" 1/ 116.

81

وهي مدّة غيبة موسى عنهم، فكذّبهم الله عز وجل، فقال: قُل يا محمد: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أي: أخذتم بما تقولون من الله ميثاقًا فالله لا ينقُض ميثاقه، أم تقولون على الله الباطل جهلًا منكم. وَ (أَمْ) هاهنا يحتمل أن تكون متصلة على المعادلة لألف الاستفهام بمعنى: عَلَى أي الحَالَتَين أنتم؟ على اتخاذ العهد أم على القول بما لا تَعلَمُون. ويحتمل أن تكون منقطعة (¬1)، على تقدير تمام الكلام قبلها، كأنه تم الكلام عند قوله: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} ثم استأنف بـ (أم) على معنى: لا تقولون على الله مالا تعلمون. وكذا تقديرها وإن كانت منقطعةً (¬2). 81 - قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} قال الفراء: (بلى): تكون جوابًا للكلام الذي فيه الجحد، فإذا قال الرجل: ألست تقوم؟ فتقول: بلى. ونَعم جواب للكلام الذي لا جحد فيه، فإذا قال الرجل: هَل تقوم؟ قلت: نعم. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى} [تبارك:8, 9]، وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وقال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]، وإنما صارت (بلى) تتصل بالجحد؛ لأنّها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة (بَل)، و (بل) سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: مَا قام أخوك بل أبوك، وما أكرمت أخاك بل أباك. فإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم، فقال: بلى، أرادَ: بل أقوم، فزاد الياء على (بل) ليحسن السكوت عليها؛ لأنه لو قال: بل كان يتوقع كلامًا بعد بل، فزاد الياء (¬3) على بل ليزول عن المخاطب هذا ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 278. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: كذا تقديرها إن كانت منقطعة. (¬3) أراد الألف المقصورة، وهكذا عدها الفراء ألفًا.

التَوهم (¬1) وإنّما لم يصلح ها هنا (نعم) لأن (نعم)؛ إقرار، وإذا قال في هذا الموضع نعم، فقد أقرّ بالجحد وبالفعل الذي بعده، ألا ترى أنك لو قيل لك: أَمالَكَ مالٌ؟ فقلت: نعم، كنتَ مُقِرًّا بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت: نعم مالي مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويُقرّوا بما بعده، فاختاروا (¬2) (بلى) لأن أَصلها رجوع عن الجحد كما بينا (¬3). ومعنى الآية: أنه ردّ على اليهود قولَهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} فقال: (بلى) أُعذِّبُ من كَسَبَ سَيّئةً. و (مَنْ) هاهنَا بمعنى (الذي) (¬4)، ولهَا أربعة أَوجُه: تكون بمعنى (الذي)، وتكون (¬5) استِفهَامًا، وجزاءً، ونكرةً موصوفة، مثل: وَكَفَى بِنَا فَضلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنا ... حُبُّ النبيِّ محمّدٍ إيّانا (¬6) أي: على أحد غيرِنا. ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 52، ونقله عنه الطبري في تفسيره 1/ 384 - 385، وأبن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 107. وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1008، و"البيان" لابن الأنباري 1/ 99. (¬2) في (م): (فقالوا). (¬3) ينظر في معنى (بلى): "الكتاب" لسيبويه 4/ 234، و"البحر المحيط" 1/ 279، و"مغني اللبيب" 1/ 113 - 114. (¬4) قال أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 279: (من) يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ موصولًا موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسميه بالذين، وهو موصول. (¬5) في (ش): (تكون) في الموضعين. (¬6) البيت ذكره ابن هشام في "مغني اللبيب" 1/ 328، وابن الشجري في "الأمالي" 2/ 311 منسوبا إلى حسان، ونسبه الزبيدي في "التاج" (مادة: من)، والبغدادي في "الخزانة" 2/ 545 إلى كعب بن مالك، انظر: "ديوان حسان" 1/ 515.

وقولُ آخرَ: يا رُبَّ مَن يبغض أذوادنا .. (¬1) البيتَ. ودخول "رُبَّ" يدل على أنه نكرة (¬2). والسيئة فيعِلة (¬3) من السوء في قياس قول الخليل، وَفعيلَةٌ في قياس قول الفراء، وهذا مثل ما ذكرنا في الصيِّب (¬4). قال اللّيث: والسيئ والسيئة: عملان قبيحان يَصِير السيئ نَعتًا للذكر الأفعال، والسيئة: الأنثى (¬5)، يقال: ساء الشيء يَسوء فهو سَيئٌ، إذا قبح، وساء ما فعل، أي: قبح (¬6). وإجماع أهل التفسير: أن السيئةَ هاهُنا الشرك (¬7)، وأنّ الآية وردت ¬

_ (¬1) وتمامه: رُحْنَ على بغضائه واغْتَدين قاله عمرو بن قميئة كما في "الكتاب" لسيبويه 1/ 315 وقيل: لعمرو بن لأي التيمي. ينظر: "الوحشيات" ص 9، "معجم الشعراء" 214، "المقتضب" 1/ 41، "الإغفال" ص 318. (¬2) ينظر في (رُبَّ): "المقتضب" للمبرد 4/ 139 - 150، و"مغني اللبيب" 1/ 134 - 138، وقال في "القاموس" 87: ورُبَّ، ورُبَةَ، ورُبَّما، وربتما، بضمهن مشددات ومخففات، وبفتحهن كذلك حرف خافض لا يقع إلا على نكرة. (¬3) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 365، "المقتضب" للمبرد 1/ 125، "اللسان" 4/ 2161 (مادة: سوأ). (¬4) راجع "البسيط" [البقرة: 19]. (¬5) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1583. (¬6) نقله عنه في: "تهذيب اللغة" 2/ 1583، "اللسان" 4/ 2161. (¬7) هذا الإجماع ذكره الواحدي أيضًا في "الوسيط" 1/ 164، والصحيح: أن هذا قول أكثر السلف، والقول الآخر: أن السيئة هي كبائر الذنوب التي توعد الله عليها =

في اليهود (¬1)، وقد قيل: إنها عامة في جميع الكفار. وقوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُه} لا يَخلو معناه من أحد أمرين: إمَّا أن يكون المعنى: أحاطت بحسنته خطيئته، أي: أحبطتها من حيثُ كان المحِيط أكبر مِنَ المحاط به، فيكون كقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54]، وقوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، ويكون المعنى في (أحاطت به خطيئته): أهلكته، من قوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]، وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] وهذا كله في معنى البوار. وقد يكون للإحاطة معنى ثالث، وهو العلم كقوله: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف: 91]. وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]. ¬

_ = بالنار، والخطيئة هي الكفر، وممن قال به الحسن والسدي، وقواه ابن عطية في "المحرر الوجيز" 1/ 370 فقال: ولفظ الإحاطة يقوي هذا القول، وأصحاب القولين على أن الآية إنما هي في الكفار لا في العصاة؛ لأن الله توعد أهل هذه الآية بالخلود في النار، وهذا إنما يكون في حق الكفار فقط، قال الواحدي في "الوسيط" 1/ 165: والمؤمنون لا يدخلون في حكم هذه الآية، لأن الله تعالى أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئته، وتقدمت منه سيئة هي الشرك، والمؤمن ومن عمل الكبائر فلم يوجد منه شرك. ولعل الذي دفع الواحدي لحكاية الإجماع الرد على من حمل الآية على عصاة المؤمنين كالمعتزلة والخوارج. ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 384 - 385، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" 14/ 48 وما بعدها، و"البحر المحيط" 1/ 279، و"تفسير ابن كثير" 1/ 119، وكتاب "الإجماع في التفسير" ص 177. (¬1) ذكر الإجماع على أنها في اليهود الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 162 قال: والإجماع أن هذا لليهود خاصة، لأنه عز وجل ذكرهم؛ والطبري في تفسيره لم يذكر سوى ذلك، وكأن المؤلف نقض الإجماع بقوله: وقد قيل.

أي: عالم، هذا كلام أبي علي (¬1). وقال ابن السراج: أحاطت به خَطِيئته، أي: سُدّت عليه مَسَالك النجاة، وهذا لمن هو في معلوم الله أنه لا يؤمن. وأما الخطيئة فقال أبو زيد: خطِئْتُ من الخطيئةِ، أَخْطأ خَطْئًا، والاسم الخِطْءُ، وأخطأت إِخطاءً، والاسمُ الخَطَاء (¬2). وقال الأخفَش: الخطأ: الإثم وهو ما أصابه متعمدًا والخِطء غير المتعمد. ويقال من هذا: أخطأ يُخْطِئُ. قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] واسم الفاعل من هذا: مخطئ، فأمّا خطيئة فاسم الفاعل منه: خاطئٌ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] (¬3). اللّيث: الخطيئة: الذنب على عمد (¬4). قال أبو علي: والخطيئة تقع على الصغير والكبير، فمن وقوعها على الصغير قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. ووقوعها على الكبير قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (¬5). واختلف القراء في هذا الحرف فقرأ أهل المدينة (خطيئاته) بالجمع، والباقون على الوحدة (¬6)؛ ¬

_ (¬1) في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 114 - 115. (¬2) ينظر: "الحجة" 2/ 115، "تهذيب اللغة" 1/ 160، "اللسان" 2/ 1205. (¬3) "الحجة" 1/ 115. (¬4) ذكره في "تهذيب اللغة" 1/ 1060، "اللسان" 2/ 1205ولم ينسبه لليث. (¬5) "الحجة" لأبي علي 1/ 116. (¬6) قرأ نافع وأبو جعفر بالجمع، والباقون بالإفراد، ينظر: "السبعة" ص 162، "والنشر في القراءت العشر".

لأنها أضيفت إلى ضمير مفردٍ، فلما لم يكن الضمير جمعًا لم يجمع كما جمعت في قوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58]. لأنه مضاف إلى جماعة لكل واحدٍ منهم خطيئة، وكذلك قوله: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} [الشعراء: 51]. فهذه جمعت بجمع (¬1) ما أضيف إليه (¬2). فأما قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} فمضاف إلى مفرد، وكما أفردت السيئة ولم تجمع فكذلك ينبغي أن تفرد الخطيئة. وأنت إذا أفردته لم يمتنع وقوعه على الكثرة وإن كان مضافًا، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم: 24] والعَدُّ إنما يقع على الجموع والكثرة، وكذلك ما روي في الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها (¬3) ومصر إردَبَّها" (¬4) (¬5). فهذه أسماء مفردة مُضافة والمراد بها الكثرة، ومن جمَع حمله على المعنى، والمعنى الجمع والكثرة، فكما جُمع ما كان مُضَافًا إلى جمع كذلك يجمع ما كان مضافًا إلى مفردٍ يرادُ به الجمع من حيث اجتمعا في أنهما كثرة، ويدلّك على أن المراد به الكثرة. فيجوز من أجل ذلك أن تجمع خَطِيئةٌ على المعنى؛ لأنَّ الضمير المضاف إليه جمع في المعنى (¬6). ¬

_ (¬1) في "الحجة": (كجمع). (¬2) "الحجة" 2/ 118 - 119. (¬3) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق، قال الأزهري: هو ثمانية مكاكيك، والمكوك: صاع ونصف، وهو خمس كليجات. ينظر: "النهاية" 4/ 90. (¬4) الإردب: مكيال معروف لأهل مصر، قال الأزهري وآخرون: يسع أربعة وعشرين صاعًا. ينظر: "النهاية" لابن الأثير 1/ 37. (¬5) أخرجه مسلم في (2896) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات. (¬6) ما تقدم بمعناه منقول من "الحجة" 2/ 119 - 120.

قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} واختلف المفسرون في معنى الخطيئة هاهنا، فقال ابن عباس (¬1) والضحاك (¬2) وأبو وائل (¬3) (¬4)، وأبو العالية (¬5)، والربيع (¬6) (¬7) وابن زيد (¬8) (¬9): هي الشرك يموت عليه الإنسان. وقال غيرهم (¬10): هي الذنوب الكبيرة الموجبة لأهلها النار، وعلى ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 1/ 386، ابن أبي حاتم 1/ 157. (¬2) رواه عنه الطبري في تفسيره 1/ 386، وذكره "الثعلبي" 1/ 1009. (¬3) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 158، وانظرت "زاد المسير" 1/ 106. (¬4) هو الإمام الكبير، شيخ الكوفة أبو وائل، شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، مخضرم أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وما رآه، حدث عن الخلفاء وكثير من الصحابة، كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة 82 هـ. ينظر: "تاريخ بغداد" 9/ 268، "السير" 4/ 161 - 166. (¬5) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 158، والثعلبي 1/ 1009. (¬6) هو: الربيع بن أنس البكري، من رواة الحديث، وممن اشتهر بالعلم والتفسير كان من التابعين، بصري نزل خراسان، صدوق له أوهام، توفي سنة 139 هـ وقيل: 140 هـ. ينظر: "تقريب التهذيب" ص 205، (1882) و"مشاهير علماء الأمصار" ص 126. (¬7) رواه عنه الطبري في تفسيره 1/ 386 - 387 وذكره ابن أبي حاتم 1/ 158، والثعلبي 1/ 1009. (¬8) هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، المدني، محدث مفسر، كان في نفسه صالحًا، وفي الحديث ذاهبًا، توفي سنة 182 هـ. ينظر: "الجرح والتعديل" 5/ 233، "تقريب التهذيب" ص 340. (¬9) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1009. (¬10) ومنهم: مجاهد وقتادة والحسن والربيع بن أنس وأبو العالية، كما في "تفسير الطبري" 1/ 386 - 387، و"ابن أبي حاتم" 1/ 159، وقال ابن كثير 1/ 127 عقب هذه الأقوال والأقوال السابقة في الشرك: وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم.

هذا فالمؤمنون لا يدخلون في حكم هذه الآية؛ لأنه أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئته، وتقدمت مِنه سَيِّئةٌ هي الشرك، والمؤمن وإن عمل الكبائر فلم يوجد منه الشرك. وأيضًا فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن؛ لأنه يعصي مستحييًا راجيًا عفو الله معتمدًا للتوبة فلا تحيط به الخطيئة، وإنما تحيط بالكافر. أو يجعل هذه الآية من العموم المخصوص بآي الوعد. وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} خبر المبتدأ الذي هو (مَن) كقوله: {وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اَلله} [النحل:53] (¬1). فإن قيل: لم دخلت الفاء في خبر المبتدأ وأنت لا تقول: زيد فقائم. والجواب: إن الفاء تدخل في خبر المبتدأ إذا كان المبتدأ موصُولًا. نحو (مَنْ وما والذي) لتدلّ (¬2) أنَّ الخبر يجب بوجوب معنى الصلة، كقولك: الذي في الدار فَلَهُ دِرْهَم. قال ابن السراج: دلت أنه وجب الدرهم لأجل الكون في الدار. ونذكر شرح هذه المسألة عند قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274]، إن شاء الله. فإن قيل: لم جاءت الجملتان في قوله: {فأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بغير حرف عطف؟ والجواب: قال أبو بكر بن السراج: لأنهما خبران عن شيء واحد، وأيضا فإن الضمير يربط الكلام الثاني بالأول كما أن حرف العطف يربط به، ألا ترى أنّك تقول: مررت بزيد والناس يتراءون الهلالَ، فلا يجوز إسقاط الواو، فإن قلت: مررتُ بزَيْدٍ الناس عنده يتراءون الهلال، جاز إسقاط الواو وجاز إثباتها. ¬

_ (¬1) ينظر: "الحجة" 2/ 120. (¬2) في (ش) و (م): (ليدل).

83

83 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} اختلف النحويون (¬1) في محل قوله: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ. فقال قطرب (¬2) (¬3): يجوز أن يكون (¬4) حالًا كأنه أخذ ميثاقهم موحدين. وكذلك {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ} [البقرة: 84] أي: غير سافكين، فيكون حالًا من المخاطبين، ويكون موضعه نصبًا، كأنه قيل: أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله، أو موحدين. وقال الكسائي: يجوز أن يكون {لَا تَعْبُدُونَ} و {لَا تَسْفِكُونَ} في تقدير: لا تعبدوا، وكأن التقدير: أخذت ميثاقكم بأن لا تسفكوا (¬5) إلا أنه لما حَذَفَ (أن) ارتفع الفعل، كقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} (¬6) [الزمر: 64]. وأنكر المبرد هذا القول، وقال: هو خطأ من وجهين: أحدهما: أن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مُظْهَرًا، كقولهم: وبلدٍ قطعت، يراد: ورُبَّ بلد قطعت (¬7) (¬8)، وكقوله (¬9) تعالى: {نَاقَةَ الله} [الشمس: ¬

_ (¬1) ذكر في "البحر المحيط" 1/ 282 ثمانية أقوال في إعراب الآية. (¬2) محمد بن المستنير بن أحمد البصري، أبو علي المعروف بقطرب. (¬3) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 282. (¬4) في (ش): (تكون). (¬5) ساقطة من: (أ) و (م) من قوله: (غير عابدين). (¬6) نقله عن الكسائي الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1013، وينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 133، "تفسير الطبري" 1/ 388 - 389، "البيان" لابن الأنباري 1/ 101، "البحر المحيط" 1/ 283. (¬7) مقولة المبرد نقلها القرطبي في "تفسيره" 2/ 13. (¬8) ساقطة من: (أ) و (م). (¬9) في (م): (وقوله).

13] أي: احذروا، وكقوله: {قَالُوا مَعْذِرَةً} [الأعراف: 164] أي: موعظتنا معذرة. والثاني: أنه لا يجوز حذف الموصول في شيء من الكلام. وليس الأمر على ما قاله المبرد، فقد أجاز قولَ الكسائي: الأخفشُ والفراءُ وقطرب والزجّاج وعلي بن عيسى (¬1) (¬2)، ودعواه أن كل ما أضمر في العربيّة فهو يعمل عمله مظهرًا ليس كذلك، وهو على ضربين: منه ما هو على ما ذكر، ومنه ما ليس كذلك (¬3)، كحروف الجر إذا حذفت وهي تزاد، كقوله: أمرتك الخير (¬4) ..... البيت يريد بالخير، وقال الله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] فلما حَذف مِنْ وصل الفعل فنصب. كذلك هاهُنا لمّا حذف (أن) وصل ¬

_ (¬1) ينظر في الأقوال في المسألة: "معاني القرآن" للفراء 1/ 53 - 54، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 126، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 162، "البحر المحيط" 1/ 282 - 283. (¬2) هو: علي بن عيسى بن الفرج بن صالح، أبو الحسن الربعي النحوي، صاحب أبي علي الفارسي، درس النحو وتفنن فيه حتى ما بقي له شيء يحتاج أن يسأل عنه، من مؤلفاته: "شرح مختصر الجرمي"، توفي سنة هـ 420 ص. وينظر "إنباه الرواة" 2/ 297، و"تاريخ بغداد" 12/ 17 - 18. (¬3) في (أ): (كذلك) مكررة. (¬4) البيت: لعمرو بن معد يكرب، وتتمته: أمرتُك الخيرَ فافعل ما أُمِرتَ به ... فقد تركتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ "مغني اللبيب" 1/ 315، وقد عزاه في "الكتاب" 1/ 37 لعمرو بن معدي كرب الزبيدي، واختلف في قائله كما في "الخزانة" 1/ 164 - 166، والنشب: المال الثابت كالضياع ونحوها، من نشب الشيء، والمال: الإبل أو هو عام، والشاهد فيه: أمرتك الخير أراد: أمرتك بالخير.

عامل الرفع فرفع الفعل. وقوله: لا يحذف الموصول في شيء من الكلام ليس كذلك؛ لأن الموصول مع صلته بمنزلة اسم واحد، والاسم الواحد قد يحذف بعضه بالترخيم (¬1). وقال كثير من النحويين: الزجّاج (¬2) والفراء (¬3) والأخفش (¬4) في أحد قوليه: إن قوله: (لا تعبدون) جواب القسم؛ لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ} [آل عمران: 81]، القسم بـ (لام)، فكذلك هو في النفي بـ (لا)، وكان المعنى: استحلَفناهم وقلنا لهم: والله لا تعبدون (¬5) (¬6). قال الفراء: ويجوز أن يكون في موضع جزم على النهي، إلا أنه خرج مخرج الخبر، كقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} [البقرة: 233]. بالرفع ومعناه النهي، ويدل على أنه نهي قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. وقرئ لا تعبدون بالياء والتاء (¬7)، وما كان من مثل هذا جاز أن يكون ¬

_ (¬1) الترخيم: ما حذف من آخره حرف واحد أو أكثر للتخفيف، نحو: يا فاطم. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 162. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 53 - 54، و"البحر المحيط" 1/ 282. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 126. (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 54، والبحر المحيط 1/ 282. (¬6) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 11. (¬7) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون) بالغيب، وقرأ الباقون بالخطاب. انظر "السبعة" ص 162، "الحجة" 2/ 121، "النشر" 2/ 218.

على لفظ الغيبة من حيث كان اللفظ لها، وجاز أن يكون على لفظ المخاطب لأنك تحكي حال الخطاب وقت ما تخاطب به. ألا ترى أنهم قد فرأوا قوله: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سيُغلَبون ويُحْشَرونَ إلى جَهَنَم} [آل عمران: 12] على لفظ الغيبة، وبالتاء على لفظ الخطاب (¬1)، على حكاية حال الخطاب في وقت الخطاب (¬2)، فإذا كان هذا النحو جائزًا جاز أن تجيء القراءة بالوجهين جميعا، ويجوز في قياس العربية في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، الخطاب (على حكاية) (¬3) حال الخطاب. فأما قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة: 84]، وهذا لا يجوز (أن يكون) (¬4) إلا على الخطاب؛ لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون (¬5)، ولأنك إن حكيت الخطاب كان التقدير: (أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم: لا تسفكون) كان بالتاء. فحجة من قرأ بالتاء (¬6) قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ} [آل عمران: 81] فجاء على الخطاب، ويقويه قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} .. الآية. فإذا كان هذا خطابًا وهو عطف على ما تقدّم وجب أن ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي وخلف بالياء على الغيب في: (سيغلبون، يحشرون) وقرأ الباقون بالخطاب. ينظر: "السبعة" ص162، و"النشر" 2/ 238. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 54. (¬3) في (م): (الحكاية على حال الخطاب). (¬4) ساقطة من (م). (¬5) في (م): (مخاطبين). (¬6) أي في قوله: (لا تعبدون).

يكون المعطوف عليه في حكمه. وحجة مَن قرأ بالياء قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} .. الآية [الأنفال: 38]. وكل واحد من المذهبين قد جاء التنزيل به (¬1). وقوله (¬2): {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدين إحسانًا، كأنه قال: لما أخذنا ميثاقهم قال: وقُلنا لهم: أحْسِنوا بالوالدين إحسانًا، كما قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} [البقرة: 63]، أي: وقلنا لهم: خذوا، فالجار في الوالدين يتعلق بالفعل المضمر ولا يجوز أن يتعلق بالمصدر؛ لأن ما يتعلق بالمصدر لا يتقدم عليه. و (أَحْسِنْ) يُوصَل بالباء كما يوصل بـ (إلى) (¬3). يدلك على ذلك قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100]. فتَعَدّى بالباء كما تعدى بإلى (¬4) في قوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (¬5) [القصص: 77] هذا قول الزجاج (¬6). وقال بعضهم: المعنى: ووصيناهم بالوالدين إحسانًا (¬7). والقربى: القرابة في الرحم (¬8). ¬

_ (¬1) "الحجة" 2/ 123 - 126، بتصرف. (¬2) في (ش): (وهو قوله). (¬3) في "الحجة" يصل بالباء كما يصل بـ (إلى). (¬4) من قوله: (يدلك). ساقط من (أ) و (م). (¬5) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 128 - 129. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 163، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 127. (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1014، و"البحر المحيط" 1/ 283 - 284. (¬8) قال في "البحر المحيط" 1/ 281: القربى: مصدر كالرجعى، والألف فيه للتأنيث، وهي قرابة الرحم والصلب.

واليتامى: جمع يتيم، مثل: نديم وندَامى، ويجمع أيتامًا أيضًا، واليُتمْ (¬1) في الناس فُقْدان الأب، وفي غير الإنسان من قبل الأم (¬2). قال أحمد بن يحيى: معنى قولك: صبي يتيم: منفرد من أبيه، قال: واليتم (¬3) في كلام العرب معناه: الانفراد. قال: وأنشدنا ابن الأعرابي بيتًا، قال: فقلت له: زدنا، فقال: البيتُ يتيمٌ، أي: هو منفرد ليس قبله ولا بعده شيء. ومنه قولهم: درة يتيمة، إذا لم يوجد لها نظير. وقال الأصمعي: اليتيمة: الرملة المنفردة، قال: وكل منفرد ومنفردة عند العرب يتيم ويتيمة. قال الفراء: يقال للغلام: يَتِم يَيْتَمُ يُتْمًا وَيَتْمًا، وحكي لي ما كان يَتِيمًا، ولقد يَتِم يِيتَم، وقَدْ أَيْتَمَهُ الله. وقال المُفضّل: أصل اليُتْم: الغَفْلة، وبه سُمي اليتيم؛ لأنه يُتَغَافل عن بره. ¬

_ (¬1) في (م): (اليتيم). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 163، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 452 "تهذيب اللغة" 4/ 3974، "اللسان" 12/ 645، وقال ابن بري: اليتيم الذي يموت أبوه، والعجي الذي تموت أمه، واللطيم الذي يموت أبواه. وقال ابن العربي في أحكام القرآن 1/ 215: اليتيم: هو في اللغة عبارة عن المفرد من أبيه، وقد يطلق على المفرد من أمه، والأول أظهر لغة، وعليه وردت الأخبار والآثار، ولأن الذي فقد أباه عدم النصرة، والذي فقد أمه عدم الحضانة، وقد تنصر الأم لكن نصرة الأب أكثر، وقد يحضن الأب لكن الأم أرفق حضانة. (¬3) في (م): (اليتيم).

وقال أبو عمرو: اليُتْم: الإبطاء، يقال: ما في سَيرِه أتَمٌ ويتم أي: إبطاء، ومنه أُخِذَ اليتيم؛ لأن البرّ يبطيء عنه (¬1). وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} الحُسنُ هاهُنا يحتمل وجهين: أحَدُهُما: أن يكون لغة في الحَسَن، كالبُخْل والبَخَل والرُشْد والرَشَد وبابه، وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم، ألا تراهُم قالوا: العُرْبُ والعَرَبُ وهو صفة، يدلك على ذلك: قولك: قومٌ عُرْبٌ، فيكون الحُسْن على هذا صفة (¬2). وقد حكى الزجّاج عن الأخفش هذا القول، فقال: زعم الأخفش أنه يجوز أَنْ يكون (حُسنًا) في معنى حَسَنًا (¬3). الوجه الثاني: أن يكون الحُسْن مصدرًا كالكُفر والشُكر والشُغل، وحذف المضاف معه كأنه: قولًا ذا حُسْن (¬4). وقرأ حمزة والكسائي (حَسَنًا) (¬5) وهو صِفَة، كَأنَّ التقدير: وقولوا للناس قولًا حَسَنًا، فحذف الموصوف، وحَسُن ذلك في حَسَنٍ لأنها ¬

_ (¬1) ينظر في معاني اليتيم السابقة: "تهذيب اللغة" 4/ 3974، "البحر المحيط" 1/ 281، "اللسان" 8/ 4948، "القاموس" 1172. (¬2) من "الحجة" 2/ 127، وبنحوه في "معاني القرآن" القرآن للأخفش 1/ 127، ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 813، "لسان العرب" 2/ 878 (مادة: حسن). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 163، ونقله أيضًا الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 823، وعنه ابن منظور في "اللسان" 2/ 878. (¬4) من "الحجة" 2/ 127، وبنحوه في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 127. (¬5) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف (حَسَنا) بفتح الحاء والسين، وقرأ الباقون بضم الحاء وإسكان السين. ينظر: "السبعة" ص 162، و"النشر" 2/ 218.

ضارعت الصفات التي تقوم مقام الأسماء، نحو: الأبرق والأبطح، ألا تراهم (¬1) يقولون: هذا حَسَن ومررت بحسن، فلا يكادون يذكرون مَعَهُ الموصوف (¬2). وقال أبو الهَيثم (¬3): أصل قولهم شيء حَسَنٌ. إنما هو شيء حَسِين؛ لأنه من حَسُنَ يَحسُنُ، كما قالوا: عَظُم فهو عظيم، إلا أنّه جاء نادِرًا (فَعَلٌ) في مَعنى (فَعِيل). وحكى الأخفش عن بعض القراء: {وقولوا للناس حُسْنَى} بالتأنيث (¬4) (¬5). وذلك (¬6) لا يجوز عند سيبويه وسائر النحويين (¬7)؛ لأن (أفعل) ¬

_ (¬1) في (ش): (ألا تراهم أنهم). (¬2) كذا قال أبو علي في "الحجة" 2/ 126 - 128. (¬3) هو: خالد بن يزيد الرازي، كان نحويَّا إمامًا علامة، اشتهر بكنيته، روى عنه الأزهري من طريق أبي الفضل، توفي سنة 276 هـ. ينظر: "إنباه الرواة" 4/ 188، ومقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 42. (¬4) كذا في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 127. (¬5) قرأ بها: أبي وطلحة بن مصرف. ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1015، و"البحر المحيط" 1/ 285، و"القراءات الشاذة" للقاضي ص 30. (¬6) في (ش): (في ذلك). (¬7) قال النحاس في "إعراب القرآن": وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال في هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه. ونقل ذلك عن النحاس القرطبي في "تفسيره" 2/ 16، وينظر "المحرر الوجيز" 1/ 109، وكذا رد القراءة ابن جرير الطبري في "تفسيره" 390 - 391، قال: وأما الذي قرأ ذلك فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام إلى آخر ما قال. وقد ناقش أبو حيان هذه القضية وأطال فيها النفس في "البحر المحيط" 1/ 285.

و (فُعلى) لا يستَعمل صِفَةً إلا بالألف واللام؛ لأن أفعل لما كانت تلزمه (من) ولا يدخله الألف واللام معها كان إذا سقطت (من) لا بد من الألف واللام، إذًا صارا متعاقبين؛ فسقوط أحدهما يدلُّ على وجوب الآخر على المعاقبة. فأما معنى قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فقال ابن عباس (¬1) وسعيد بن جُبَير (¬2) (¬3) وابن جريج (¬4) ومقاتل (¬5) والزجاج (¬6) والأكثرون: قولوا للناس صدقًا وحقًّا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبيّنوا له صفته، ولا تكتموا أمره، ولا تغيروا نعته. وقال الربيع بن أنس: هذا على العموم في تحسين المقالة للناس كلهم (¬7). وقال الحسن والثوري (¬8): يعني: الأمر بالمعروف والنهي عن ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1016، وذكره القرطبي بنحوه 2/ 12. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1016. (¬3) هو: أبو عبد الله سعيد بن جبير الأسدي بالولاء، تقدمت ترجمته 2/ 16. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 390 - 392، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1016. (¬5) أخرجه عن مقاتل بن حيان ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 161، وذكره مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 119، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1016. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 164. (¬7) لم أجده عن الربيع، لكن روى الطبري في تفسيره 1/ 392 بسنده عن الربيع عن أبي العالية: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قال: قولوا للناس معروفا. أخرجه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 161. (¬8) أخرجه عنه الطبري في تفسيره 1/ 392، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1016، وورد مثله عن ابن عباس كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 161.

المنكر، وهو أن يأمروهم (¬1) بما أمرهم الله تعالى، وينهوهم (¬2) عما نهاهم الله عنه (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: المراد بالناس في هذه الآية محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4) كقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54]، فكأنه (¬5) يقول: قولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - حسْنًا. وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي: أعرضتم عن العهد والميثاق (¬6)، ويَعْني به: أوائلهم {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} يعني: من كان ثابتًا على دينه ثم آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي: وأنتم أيضًا كأوائلكم في الإعراض عما عُهِد إليكم فيه. ومعنى الإعراض: الذهَاب عن المواجهة إلى جهة العرض. ¬

_ (¬1) في (ش): (تأمروهم). (¬2) في (ش): (وتنهونهم). (¬3) وروي هذا عن ابن عباس أيضًا كما عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 161 وسنده مقبول. وقال ابن كثير1/ 128: فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنًا، كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله. (¬4) تقدم الحديث عن رواية عطاء هذه في المقدمة. (¬5) في (م): (وكأنه)، وفي (أ): (وكانوا). (¬6) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1016.

84

84 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} في (لا تسفكون) من وجوه الإعراب ما ذكرنا في (لا تعبدون). ويُقال: سَفَكَ يَسفِكُ ويَسفُكُ لُغتان (¬1). ودماء: جمع دم، قال الزجاج: وأصل دم: دَماء في قول أكثر النحويين (¬2)، أنشد أبو زيد: غفَلَتْ ثم أتت ترقبه ... فإذا هي بعظام ودَمَا (¬3) وقد جاء في التثنية: دَمَيَان ودَمَوَان (¬4)، على الأصل، قال الشاعر: وظل لعمري في الوغى دَمَوَاهما وقال آخر: ¬

_ (¬1) ينظر: "اللسان" 4/ 2030، و"القاموس" 9425، وسفك: من باب ضرب ونصر، وبهما قرئ قوله تعالى: ويسفك الدماء، والسفك: الصب وقرأ طلحة بن مصرف بضم الفاء قال الثعلبي 1/ 1016: وهما لغتان، مثل: يعرُشون، ويعكُفون. (¬2) عبارة الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 165: وواحد الدماء دم يا هذا مخفف، وأصله دمىِ في قول أكثر النحويين، ودليل من قال: إن أصله دمي: قول الشاعر: فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين وقال قوم: أصله: دمْي، إلا أنه لما حذف ورد إليه ما حذف منه، حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا. اهـ (¬3) ورد البيت هكذا: غفلت ثم أتت تطلبه ينظر: "الخزانة" 7/ 491، و"التنبيه" لابن بري 2/ 235، و"شرح التسهيل" 1/ 250، و"تلخيص الشواهد" ص 77، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 1231 ولم ينسبوه. (¬4) في "تهذيب اللغة" 2/ 1231، فقال بعضهم في تثنية الدميان، ونقل في "اللسان" 3/ 1429 عن ابن سيده: وأما الدموان فشاذ سماعا. قال في "البحر المحيط" 1/ 281: الدم معروف وهو محذوف اللام، وهي ياء لقوله: جرى الدميان بالخبر اليقين، أو واو لقولهم: دموان، ووزنه فَعَل، وقيل: فَعْل، وقد سمع مقصورًا.

جرى الدَمَيَان بالخَبر اليقين (¬1) وقال الليْث: الدم معروف، والقِطعة دَمَةٌ، وكان أصله دَمَيٌ؛ لأنك تقول: دَمِيَتْ يده (¬2). وقد أقرأني العروضي عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري، عن أبي الهيثم، أنه قال: الدم اسم على حرفين. فقال بعضهم في تثنيته: الدَمَيَان، وقال بعضهم: الدَّمَان، ويقال في تصريفه: دَمِيَتْ يدي تَدْمَى دَمًى، فيظهرون في دَمِيَتْ وتَدْمَى الياء والألف اللذين لم يجدوهما في دم. قال: ومثله: يَدٌ، أصله: يَدَيٌ (¬3). ومن قال بهذا القول قال: إنما حرّك الميم في قوله جرى الدمَيان؛ لإقامة الوزن، وقيل: بل وزنُه فَعَلٌ، فإنه كان (دَمَيٌ)؛ لأن الشاعر لما اضطر ردّه إلى أصل بنائه (¬4). والأجود: ما حكاه الزجاج في أصل الدم. والدُّميَةُ من الدم، كأنها الحَيَوان ذُو الدم (¬5). فأما التفسير: فقال ابن عباس (¬6) وقتادة (¬7): معناه لا يسفك بعضكم ¬

_ (¬1) البيت صدره: فلو أنا على حَجَر ذُبِحْنا .. وهو للمثقب العبدي في ملحق ديوانه ص 283، ولعلي بن بدال في "أمالي الزجاجي" ص 20. ينظر: "المعجم المفصل" 8/ 265. (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 14/ 216، "اللسان" 4/ 268. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1231، وينظر "اللسان" 3/ 1429. (¬4) ينظر: "اللسان" 3/ 1429. (¬5) المرجع السابق. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1017، والواحدي في "الوسيط" 1/ 167. (¬7) أخرجه عن قتادة "الطبري" 1/ 394 وينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 189، وكذا رواه عن أبي العالية، وأخرجه عن أبي العالية ابن أبي حاتم 1/ 163، ذكر أنه مروي عن الحسن والسدي ومقاتل بن حيان، وينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 188.

دم بَعضٍ بغَير حقٍّ. وإنما قال: {دِمَاءَكُمْ} لأن كل قوم اجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة، وأيضًا فإنّ الرجل إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقاد ويُقتص (¬1)، ففي النهي عن قتل نفسه على هذا الوجه نهي عن قتل غيره. (¬2) وقوله تعالى: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي: لا يخرج بَعضكُم بعضًا مِن دَاره ويغلبه عَليها (¬3). {ثُمَّ أَقرَرتُم} أي: قبلتم ذلك وأقررتم به (¬4). وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} حكى محمد بن جرير، عن ابن عباس: أن هذا خطاب لليهود الذين كانوا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ومعناه: وأنتم تشهدون اليوم على إقرار أوائلكم بأخذ المِيثاق عليهم بما في الآية، فالآية وإن كانت خِطابًا فالمراد به: أوائلهم، إلّا قوله: {وَأَنتُم تَشهَدُونَ} على هذا القول. وقال أبو العالية: الآية كلها خبر عن الله عز وجل عن أوائلهم (¬6)، وإن أخرجه مخرج المخاطبة على سعة كلام العرب، ويحتمل أن يكون قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} خِطابًا للسَلف والخلف جميعًا، يريد: أنتم ¬

_ (¬1) في (ش) و (م): (ويُقبض). (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 394 - 396 ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 300، "زاد المسير" 1/ 110. (¬3) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 163 عن أبي العالية نحوه، وينظر المصادر السابقة، و"الحجة" لأبي علي 2/ 146. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 163 نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية وإسنادهما حسن كما في "التفسير الصحيح" 1/ 189. (¬5) ذكره "الطبري" 1/ 395 - 399. (¬6) رواه "الطبري" 1/ 395 - 396.

85

تشهدُون أن هذا حق من ميثاقي عَليكم في التوراة (¬1). 85 - قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} الخطاب في هذه الآية لقُريظة والنضير (¬2). روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية، قال: كان (¬3) بنو إسرائيل إذا استضعف قومٌ قومًا أخرجوهم من ديارِهم، وقد أُخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأُخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضًا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض (¬4). وقد كشف السُدِّي عن هذا، فقال: أخذ الله عليهم أربعةَ عهود: تركَ القتل، وتركَ الإخراج، وتركَ المظاهرة عليهم، وفدى أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا إلا الفداء. وذلك أن قريظة كانت حلفاء الأوس (¬5)، ¬

_ (¬1) قال "الطبري" 395: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي أن يكون قوله: (وأنتم تشهدون) خبرًا عن أسلافهم، وداخلًا فيه المخاطبون منهم الذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم) خبرًا عن أسلافهم، وإن كان خطابًا للذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) قريظة والنضير: قبيلتان من اليهود في المدينة، وهما من بني الخزرج الصريح بن التوءمان بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن خير بن النحام بن تنحوم بن عازر بن عذري بن هارون بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. ينظر "السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 61. (¬3) في (ش): (كانوا). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 389، أبن أبي حاتم في "تفسيره". بمعناه 1/ 163. (¬5) هم بنو الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف، من أعظم بطون الأزد من القحطانية، أهل عز ومنعة، فيهم عدة أفخار، كان موطنهم الأصلي بلاد اليمن، فهاجروا إلى يثرب، وعاشوا مع الخزرج والقبائل اليهودية، ونشبت حروب طويلة بينهم وبين الخزرج كيوم بعاث والدرك وغيرها. ينظر: "معجم قبائل العرب القديمة والحديثة" 1/ 50.

والنضير حلفاء الخزرج (¬1)، وكانوا يقتتلون، فتقاتل بنو قريظة مع الأوس، والنضير مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم، وأخرجوهم منها، فإذا أُسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيّرهم العرب بذلك، وتقول: كيف تقاتلونهم وتفادونهم؟ فيقولون: إنَّا أُمرنا أن نفادَيهم، وحُرّم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ (¬2) قالوا: إنا نستحيي أن يُسْتَذَلّ (¬3) حلفاؤنا، فذلك حِين عيّرهم الله تعالى فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أي (¬4): يا هؤلاء، فحذف حرف النداء (¬5)، وقيل: معناه التوكيد لأنتم، و (تقتلون) في موضع الرفع بالخبر. وقال الزجاج: هؤلاء في معنى: الذين (وتقتلون) صلة لهؤلاء، كأنه قيل: أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ولا موضع لتقتلون إذا كان صلة (¬6)، ومثله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] (¬7) بمنزلة: وما التي بيمينك. ¬

_ (¬1) هم الخزرج بن حارثة بطن من الأزد من القحطانية، كانوا يقطنون المدينة مع الأوس، وكانت العرب جميعًا في الجاهلية يسمون الأوس والخزرج جميعًا الخزرج، وكانوا هم والأوس يحجون ويقفون مع الناس. ينظر: "معجم قبائل العرب" 1/ 342. (¬2) ساقطة من (أ) و (م). (¬3) في (م): (يذل). (¬4) رواه بمعناه الطبري في تفسيره 1/ 396، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 163، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1021، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 110 وورد نحوه عن ابن عباس، أخرجه الطبري في تفسيره 2/ 305، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 164. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1017. (¬6) قوله: (ولا موضع لتقتلون إذا كان صلة) ليست عند الزجاج في "معاني القرآن". (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 167.

وقوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} قرئ بتخفيف الظاء وتشديدها (¬1)، فمن شدّد: أدغم التاء في الظاء لمقاربتها، ومن خفف حذف التاء التي أدغمها الآخرون، فكل وَاحِد من الفريقين كره اجتماع الأمثال والمقاربة، فبعضهم خفف بالحذف، وبعضهم بالإدغام (¬2)، والمحذوفة هي التي تدغم، والمدغمة هي التي تحذف، وذلك أنها لما أُعِلّت بالإدغام أُعِلّت بالحذف. قال سيبويه (¬3): الثانية أولى بالحذف؛ لأنّهَا هي التي تُسَكن وتدغم، في نحو {فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72] و {وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24]. ومما يقوي ذلك: أن الأولى لمعنًى، فإذا حذفت لم يبق شيء يَدُلّ على المعنى، والثانية من جملةِ كلمةٍ إذا حذفتْ دل ما بقي من الكلمة عليها (¬4). ومعنى تظاهرون تعاونون (¬5)، ومنه قوله: {وَإِن تَظَاهَرَا عَليهِ} [التحريم: 4]، وقوله: {سِحرَانِ تَظَاهَرَا} (¬6) [القصص: 48] أي: تعاونا (¬7) على سحرهما، ومنه: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، أي: معين (¬8). والتقدير فيه ¬

_ (¬1) قرأ الكوفيون (عاصم، وحمزة والكسائي) بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، ينظر: "السبعة" ص162 - 163و"النشر" 2/ 218. (¬2) ينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 166. (¬3) "الكتاب" 2/ 425 - 426. (¬4) هذا كله كلام أبي علي الفارسي في "الحجة" 2/ 134 - 135. (¬5) في (م): (تعارفون). (¬6) قرأ الكوفيون (سحران) من غير ألف، وقرأ الباقون (ساحران). ينظر "السبعة" "النشر" 2/ 341. (¬7) في (م): (تعارفا). (¬8) "تفسير الثعلبي" 1/ 1019.

الجمع، وإن كان اللفظ على الإفراد، كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (¬1) وسمي العون ظهيرًا لاستناد ظهره إلى ظهر صاحبه (¬2). وأصل الباب من الظهور وهو البُروز، فظهر الشيء ظاهره الذي هو خلاف البطن، والظهيرة؛ لأنه أظهر ما تكون الشمس بانبساط شُعَاعها، وقرأه ظاهرًا، ومن ظهر قلبه؛ لأنّه ظهر له من غير كتاب. هذا أصل الباب. ثم استعمل من هذا التأليف أحرف ليس فيها معنى الظهور، ولكنها من الظهر الذي هو خلاف البطن، من ذلك: الظهر: الإبل التي تحمل الأثقال، والظهار: في مظاهرة الرجل من امرأته، والظِهريُّ: الشيء الذي تنساه وتحطّه وراء ظهرك (¬3). وقوله تعالى: {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي: تعاونون على أهل ملتكم بالمعصية والظلم. ومعنى العدوان: الإفراط والظلم، يقال: عَدَا عَدْوًا وعُدوانًا وعُدُوًّا وعِداءً (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} أي: إن أتوكم مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم، وقُرئ: (أُسَارى) (وأَسرى) (¬5)، وهما جمع أسير. وأسير: فَعِيل في معنى مفعول؛ لأنك تقول: أسرته، كما تقول: قتلته، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول فجمعه يُكسَّر على فَعْلَى، نحو: لديغ ولدغَى، وقتيل وقتلى، وجريح وجَرحَى، وإذا (¬6) ¬

_ (¬1) من كلام أبي علي في "الحجة" بتصرف 2/ 131. (¬2) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1019. (¬3) انظر: "مقاييس اللغة" 3/ 741. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 166، "تفسير الثعلبي" 1/ 1019. (¬5) قرأ حمزة (أَسْرى) بفتح الهمزة وسكون السين من غير ألف، وقرأ الباقون بضم الهمزة وألف بعد السين. ينظر: "السبعة" ص 163، و"التيسير" ص 64، "النشر" 2/ 218. (¬6) في (ش): (وإن).

كان كذلك فالأقيس الأسرى، وهو أقيس من الأسارى، كما أن الأسارى أقيس من قولهم: أُسَراء. والذين قالوا أُسَرَاء شبهوه بظُرَفاء، كما قالوا في قتيل: قُتلَاء، فكما أن أُسَراء وقُتلَاء في جمع قتيل وأسير ليس بالقياس، كذلك أُسارى ليس بالقياس (¬1). ووجه قول من قال أُسارى: كأنه شبهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسًا عن كثير من تصرفه للأسر كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته (¬2)، شُبِّه به، فقيل في جمعه: أُسارى، كما قيل: كسالى، وأجرى عليه هذا الجمع للحمل على المعنى، كما قيل: مرضى وموتى وهلكى؛ لما كانوا مُبتلين بهذه الأشياء ومصابين بها، فأشبه في المعنى فَعِيلًا الذي بمعنى مفعول، فلما أشبهه أجري عليه في الجمع (¬3). والحمل على المعنى لا يكون الأصلَ عند سيبويه، قال: ولو كان أصلًا قبح (هالِكون وزَمِنون)، وكذلك أُسَارى ليس بالأصل في هذا الباب، ولكن قد استعمل كثيرًا. قال سيبويه: قالوا: كَسْلى شبهوه بأَسْرى، كما قالوا: أُسارى، شبهوه بكُسالى. قال: وإنّما جمع ما كان على فعلان نحو سكران وكسلان على فُعَالى، وإن ¬

_ (¬1) هذا كله كلام أبي علي في "الحجة" بتصرف يسير 2/ 143، وقد ذكر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1020 أن أحدًا من العلماء الأثبات لم يُفَرق بين أسرى وأسارى إلا أبو عمرو فإنه قال: ما قد أُسِر فهو أسارى، وما لم يؤسر فهو أسْرى، وروي عنه من وجه آخر قال: ما صاروا في أيديهم فهم أسارى وما جاء مستأسرًا فهم أسرى، وأنكر الفرق ثعلب. وبين القرطبي في "تفسيره" 18/ 19 أن ما ذكره أبو عمرو لا يعرفه أهل اللغة. (¬2) في "الحجة": لعادته السيئة شبه به. (¬3) في "الحجة" 2/ 144: فلما أشبهه في المعنى أجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول.

كانت في أبنية الآحاد نحو: حيارى؛ لأن فعالًا قد جاء في بعض أبنية الجموع، نحو: رُخَالٍ (¬1) (¬2) وظُؤارٍ (¬3) وثُناء (¬4)، وقد لحقت تاء التأنيث بعض الجموع (¬5)، نحو: الحجارة والذِّكارة (¬6)، وكما لحق التاء في هذا النحو الذي يراد به الجمع، كذلك لحق علامة التأنيث في سكارى وكسالى، فجعلت الألف بمنزلة التاء، كما جعلت بمنزلتها في قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء (¬7) ودوامّ (¬8). وأصل الأسر في اللغة: الشدّ. قال الأصمعي: تقول العرب: ما أحسن ما أسَرَ قَتَبَه، أي: ما أحسن ما شدّه بالقِدّ، والقِدُّ: الذي يؤسَرُ به القَتَبُ، يسمى الإسار، وقيل للأسير من العدوّ: أسير؛ لأن آخذه يستوثق ¬

_ (¬1) في (ش) كأنها (رجال). (¬2) رخال: بكسر الراء وضمها: جمع رِخل، الأنثى من أولاد الضأن، ينظر "القاموس" ص 1005 (مادة: رخل). (¬3) الظؤار: جمع ظئر، وهي العاطفة على غير ولدها المرضعة له. ينظر القاموس ص 432 مادة: ظئر. (¬4) الثُّنَاء: أي اثنين اثنين، يقال: جاءوا مثنى وثُنَاء، كغُراب، أي: اثنين اثنين، وثنتين ثنتين، ينظر "القاموس" ص 1267. (¬5) في "الحجة" وقد لحقته تاء التأنيث، فقالوا في جمع نقوة: نُقاوة، كما قالوا: الحجارة والذكارة. (¬6) الذكارة: بالكسر، ما يصلح للرجال، كالمسك والعنبر والعود. انظر "اللسان" 3/ 1509 مادة: ذكر (¬7) القاصعاء والداماء: من أسماء جِحَرَةِ اليربوع السبعة. "اللسان" 3/ 1426 مادة: دمم. (¬8) هذا كله كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 143 - 145 بتصرف يسير.

منه بالإسار، وهو القِدّ، لئلا يُفْلِتَ (¬1)، ثمّ كثر استعماله حتّى قيل للمأخوذ: أسير، وإن لم يكن هناك شدّ (¬2). وقوله تعالى: {تُفَادُوهُم} قرئ أيضا بوجهين (¬3): بالألف، من المفاداة، وبغير ألف، من الفداء. يقال: فديتُه بمال، فيتعدّى إلى مفعولين، ويتعدّى إلى الثاني بالجار، كقوله: {وَفَدَينَاهُ بِذِبحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وكقول الشاعر: يودّون لو يَفْدُونَني بنفوسهم ... وَمَثْنَى الأواقي والقِيَانِ النواهدِ (¬4) فإذا ثَقَّلْتَ العين زدتَ المفعولين ثالثًا، كقوله: لو يَستطعن إذا نابتك مُجْحِفَةٌ ... فَدَّيْنَك الموتَ بالآباء (¬5) والولد (¬6) وقالوا: فادى الأسير: إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا (¬7). فأما الفداء فيجوز أن يكون مصدرًا مثل: الكتاب، ويجوز أن يكون مصدر فاعل، وقد قالوا: فديتُهُ وافتديتُه، أنشد أبو زيد: ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة"1/ 159. مادة (أسر) (¬2) ينظر في "تهذيب اللغة"1/ 159، "اللسان" 4/ 78. (مادة: أسر) (¬3) قرأ المدنيان نافع وأبو جعفر، وعاصم والكسائي ويعقوب (تفادوهم) بضم التاء وألف بعد الفاء، وقرأ الباقون بفتح التاء وسكون الفاء من غير ألف. ينظر "السبعة" ص 162 - 163، "التيسير" للداني ص 64، و"النشر" 2/ 218. (¬4) البيت لأبي ذؤيب في "شرح أشعار الهذليين" ص 192. مثنى الأواقي: (الذهب)، مثنى: أي: مرة بعد مرة. والقيان: الخدم. (¬5) في "الحجة" بالأبناء. (¬6) ذكره أبو علي في "الحجة" 2/ 146 ولم ينسبه. (¬7) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 146.

ولوأنّ مَيْتًا يُفْتَدَى لَفَدَيْتُه ... بما اقتال (¬1) من حُكْمٍ عليَّ طبيبُ (¬2) (¬3) فمن قرأ: {تُفَادُوهُمْ} فلأن من كلّ واحد من الفريقين فِعْلًا، فمن الآسر دفع (الأسير) (¬4)، ومن المأسور منهم دفع الفداء، وإذا كان كذلك فوجه (تفادوهم) ظاهر، والمفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف؛ لأن معناه تفادونهم بالمال. ومن قرأ (تَفْدُوهم) فالمعنى فيه مثل معنى من قرأ: (تُفَادوهم) إلا أنّه جاء بالفعل على يفعل، ألا ترى أن في هذا الوجه أيضًا دفعًا من كل واحد من الآسرين والمأسور منهم (¬5). أخبرني العَرُوضي، عن الأزهري، عن المنذري، عن ثعلب قال: المفاداة: أن تدفع رجلًا وتأخذ رجلًا. والفِداء: أن تشتريَه بمال فداءً. ويقال: فديته بنفسي (¬6). وقال نصير (¬7) الرازي (¬8): يقال: فاديتُ الأسيرَ، وفاديت الأُسارى، ¬

_ (¬1) في (ش) لعلها (أفتال) أو (أفتاك). (¬2) البيت لكعب بن سعد الغنوي في النوادر ص 244، وعنه نقل أبو علي في "الحجة" دون نسبة 1/ 342، ورواية "اللسان" والصحاح مادة [قول] والأصمعيات ص 97 هكذا: ومنزلة في دار صدق وغبطة ... وما اقتال من حكم علي طبيب فلو كان ميت يفتدى لفديته ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب وذكره صاحب "اللسان" في مادة [فدى] 6/ 3366 دون نسبة. (¬3) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 147. (¬4) سقطت من (ش). (¬5) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 147 بتصرف يسير. (¬6) في "تهذيب اللغة" 14/ 200، وينظر: "اللسان" 5/ 150 (مادة: فدى). (¬7) في (ش): (نظير). (¬8) هو: نصير بن أبي نصير الرازي، تقدمت ترجمته [البقرة: 15].

هكذا تقوله العرب. وإذا قلت: فديت الأسير فهو أيضا جائز بمعنى فَدَيْتُه مما كان فيه، أي: خلّصته، منه وفاديت أحسن في هذا المعنى. ومعنى فديته بالشيء، أي: خلّصته به، وجعلته عوضًا منه؛ صيانة له، كقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أي: خلّصناه به (¬1) من الذبح (¬2). قال الفراء: والعرب تقصر الفداء وتمدّه، يقال: هذا فداؤك وفداك، وربما فتحوا الفاء إذا قصروا (¬3). وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}. (هو) إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره في قوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا}. ثم بيّن لتراخي الكلام أنّ ذلك الذي حُرِّم: الإخراج، فقال: (وهو محرّم عليكم)، ولو اقتصر على هذا القدر أشبه أن يرجع ذلك إلى فداء الأسرى، لأن معناه وإخراجهم (¬4) فأظهر المكنى عنه فأعاده، فقال: إخراجهم فكان رفع الإخراج (¬5) بالتكرير على هو؛ لأن معناه: وإخراجهم، محرم عليكم، فهو مبتدأ مؤخر عن خبره، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم، وهذا معنى قول الفرّاء (¬6) والزجّاج (¬7) جميعًا. قال الفراء: وإن شئتَ جعلتَ هو عمادًا (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: خلصناه به. ساقط من (أ) و (م). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2754 بتصرف واختصار. (مادة: فدى). (¬3) نقله عنه "تهذيب اللغة" 3/ 2754، وعنه ابن منظور في "اللسان" 6/ 3366، "القرطبي" في "تفسيره" 2/ 91. (مادة: فدى). (¬4) قوله: (لأن معناه، وإخراجهم) ساقطة من (أ) و (م). (¬5) في (ش): (الإحرام). (¬6) في "معاني القرآن" للفراء 1/ 50 - 51. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 167. (¬8) كذا نقله عنه "القرطبي" في "تفسيره" 2/ 22.

قال: وإذا رأيت الواو في موضع تطلب الاسم دون الفعل، صلح في ذلك الموضع العماد، كقولك: أتيت زيدًا وأبوه قائم، فإن أردت أن تقدم الفعل على الأب، فقلت: أتيت زيدًا قائم أبوه (¬1)، أو ويقوم أبوه قبح؛ لأن الواو تطلب الاسم، فإذا قبح ذلك أدخلوا هو؛ لأنه اسم فقيل: أتيت زيدًا وهو قائم (¬2)، كذلك {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}: حُرّم عليكم إخراجهم، والاسم المبني على الفعل ينوب عنه في العمل، ومحرم على: حُرِّم .. (¬3) ورفعت الإخراج في هذا الوجه بمحرّم لأن معنى قوله: (ومحرم) مبني على حُرِّمَ. وقال الزجاج: وجائز أن يكون هو للقصة والحديث والخبر والأمر والشأن، كأنه قال: والخبر (¬4) محرم عليكم إخراجهم، كما قال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الصمد: 1] أي: الأمر الذي هو الحق: الله الأحد، وتأويله (¬5): الأمر الذي هو الحقُّ توحيدُ الله عز وجل (¬6). ونظم الآية على التقديم والتأخير، تقديره: وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم، وهو محرّم عليكم إخراجُهم، وإن يأتوكم أسرى (¬7) تَفْدُوهم (¬8). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للفراء: فقبيح أن تقول: أتيت زيدًا قائم أبوه، وأتيت زيدًا ويقوم أبوه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 51. (¬3) من قوله: حُ (رِّم عليكم) .. ساقط من (أ) و (م). (¬4) في (ش): (الخير). (¬5) في (أ): (وتأويل). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 167. (¬7) في (م): (أسارى). (¬8) "تفسير الثعلبي" 1/ 1022.

والمحرم: الممنوعٌ منه، والحرامُ: كلُّ ممنوع من فعله، ومن ذلك: البلد الحرام، والبيت الحرام؛ لأنه كان يمنع فيه ما هو مُبَاح في غيره، ورَجل مُحْرِم وحرام: إذا مَنَع نفسه ممّا يحظره الإحرام، والحُرُمات: كُلّ ما مُنِعَ ارتكابُه، وتقول: قد تَحَرَّمت بطعامك، أي: حَرُم عليك بهذا السبَب ما كان لك أخذه، والمحروم: الممنوع ما (¬1) ناله سواه. وقول زُهَير: يقول (¬2) لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ (¬3) أي: ليس بممنوع، والحَرَم والحَرَام واحد، كقولهم: زَمَنٌ وزَمَانٌ (¬4). وقوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} استفهامٌ في معنى توبيخ. وقوله تعالى: {إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني (¬5): ما نال قُريْظة وبني النضير؛ لأن بني النضير أُجلوا عن مَساكنهم، وبني قريظة أبيروا بقتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم (¬6). والخزي: الهوان والفضيحة، وقد أخزاه الله: أي: أهانه (¬7). شمر (¬8): أخزاه الله: فضحه، وفي القرآن: {وَلَا تُخْزُونِ فِى ¬

_ (¬1) (ما) بمعنى الذي. (¬2) في (أ): (يقول). (¬3) ديوان زهير ص 79، وصدر البيت: وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ. (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 793 - 797، و"لسان العرب" 2/ 844. مادة (حرم). (¬5) في (ش): (بمعنى). (¬6) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1023. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1027، "اللسان" 2/ 1155 مادة (خزا)، "تفسير الثعلبي" 1/ 1023. (¬8) هو: شمر أبو عمرو بن حمدويه الهروي اللغوي الأديب الفاضل الكامل، إليه الرحلة في هذا الفن من كل مكان، كانت له عناية بعلم اللغة، توفي سنة 255 هـ. ينظر: "إنباه الرواة" 2/ 77 - 78، و"بغية الوعاة" 2/ 4 - 5.

86

ضَيْفِي} [هود: 230] أي: لا تفضحوني (¬1). أبو عبيد: يُقال: خزِي يخزى خِزيًا: إذا هلك (¬2). وقال ابن السراج: معنى أخزاه الله، أي: أوقفه موقفا يُسْتحيَا منه، مِن قولهم: خزي يخزَى خِزَايَةً: إذا استحيا (¬3). ثم أعلم الله عز وجل أن ذلك غير مكفِّر عنهم ذنوبهم، فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} والردُّ: الرجع. يقال: ردّه إلى كذا، ويقال للمُجبّر: ردّاد؛ لأنه يردّ العُضْو إلى ما كان. والرِّدّة: الرجوع عن الشيء، ومنه الردّة عن الإسلام (¬4). وإنما قال: (يُردّون) بلفظ الجمع لمعنى مَنْ. وفي (أشد العذاب) قولان: أحدهما: أنه عذاب لا رَوْح (¬5) فيه تتصل أجزاؤه. والثاني: عذابٌ أشدّ من عذاب الدنيا بتضعيف الألم فيه. 86 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية. أي: استبدلوا قليل الدنيا بكثير الاخرة (¬6). وقوله تعالى: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنهُمُ العَذَابُ} أي: لا ينقص، والخِفّة: نُقْصَان الوَزْن. ¬

_ (¬1) ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 1027، "اللسان" 2/ 1155 (مادة: خزي). (¬2) كذا في "غريب الحديث" له 2/ 381. (¬3) ينظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 381، "تهذيب اللغة" 1/ 10274، (مادة: خزى)، "تفسير القرطبي" 2/ 23. (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1390 مادة (ردد). (¬5) لا روح فيه: أي لا راحة فيه. (¬6) ينظر: الطبري في "تفسيره" 2/ 316 - 317، "زاد المسير" 1/ 98.

87

ودخلت الفاء في قوله: {فَلَا يُخَفَفُ عَنهُمُ العَذَابُ} للعطف على (اشتروا) فيكون من صلة الذين. 87 - وقوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي: أرسلنا رسولًا يقفو رَسُولًا في الدعاء إلى توحيد الله والقيام بشرائع دينه (¬1). يقال: قفّى أثره، وقفّى غيرَه على أثره، أي: اتبعه إياه، والقفا: مُؤَخَّرُ العُنُق، ويقال للشيخ إذا هرم: رُدّ على قَفَاه، ورُدّ قَفًا. قال: إِن تَلْقَ رَيْبَ المنايا أو تُرَدُّ قفًا ... لا أَبْكِ مِنك على دينٍ ولا حَسَب (¬2). ومنه: قافية الشعر (¬3)، ونذكر استقصاءه عند قوله: {وَلَا تَقفُ مَا ليَسَ لَكَ بِهِ عِلم} [الإسراء:36] إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} يعني: الآياتِ التي ذكرها في سورة آل عمران (¬4) والمائدة (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 168، قال الطبري في "تفسيره" 1/ 403: وقفينا من بعده بالرسل أي: أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد، وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى عليه السلام إلى زمان عيسى بن مريم فإنما بعثه بأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها. (¬2) البيت بلا نسبة في: "لسان العرب" 6/ 3708، و"أساس البلاغة" ص 2/ 269، (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 403، "تهذيب اللغة" 3/ 3013، "المحرر الوجيز" 1/ 385، "اللسان" 6/ 3708 مادة (قفا). (¬4) في قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} [آل عمران: 49]. (¬5) في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} الآية: 110 من سورة المائدة وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 403، "تفسير الثعلبي" 1/ 1024.

{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي: قويناه (¬1)، والأيد والآد: القوة، ويقال: أَيَّدَه وآيده: إذا قواه، وآدَ يَئِيدُ أَيْدًا: إذا قوي، قال امرؤ القيس: فَأَثَّتْ (¬2) أَعَاليه وآدَتْ أُصولُه (¬3) أي: قويت وإياد كل شيء: ما يَقْوَى به (¬4)، قال العجاج: متخذًا مِنها إيادًا (¬5) واختلفوا في معنى (روح القدس). فقال قتادة (¬6) والربيع والضحاك (¬7) والسُّدّي (¬8): إنه جبريل. واختاره الزجاج (¬9). والقُدسُ: ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 1/ 403، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 168، "تفسير الثعلبي" 1/ 1024و"المحرر الوجيز" 1/ 385. (¬2) في (م) (فأتت). (¬3) عجز البيت: ومال بقُنْيَانٍ من البُسْرِ أحمرا يصف نخيلًا، انظر "ديوانه" ص 60، "لسان العرب" 1/ 189 (مادة أيد). "المعجم المفصل" 3/ 140. (¬4) ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 96، "اللسان" 1/ 189، وفيه: وإياد كل شيء: ما يقوى به من جانبيه، وهما إياداه. (¬5) البيت للعجاج يصف الثور: متخذًا منها إيادًا هدفًا. ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 96، "اللسان" 1/ 189. (¬6) أخرجه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 320 وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 168، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1026. (¬7) أخرجه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 320 وذكره الثعلبي فى "تفسيره" 1/ 1026. (¬8) أخرجه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 404. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 168 وكذا اختاره الطبري في "تفسيره" 1/ 404 بعد أن ذكر قولين آخرين: الأول: أنه الإنجيل، والثاني: أنه الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. ثم قال: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع جبريل؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: {إِذْ =

الطهارة (¬1)، كأنه منسوبٌ إلى الطهارة، وذلك أنه ممن لا يقترف ذنبًا ولا يأتي مأثمًا. وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام هو أنه كان قرينه، يسير معه حيثما سار، وأيضًا فإنه صَعِد به إلى السماء (¬2)، ودليل هذا التأويل: قوله عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، يعني: جبريل (¬3). وإنّما سُمي جبريل رُوحًا؛ لأنه بمنزلة الأرواح للأبدان تحيا بما يأتي من (¬4) البيان عن الله عز وجل من يُهدَى به، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، أي: كان كافرًا فهديناه. ¬

_ = قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل لكان قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} تكرير قول لا معنى له، وانظر "تفسير ابن كثير" ص 112. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 168، الطبري في "تفسيره" 1/ 132. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1026، وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 112 - 113 في تأييد عيسى بروح القدس الذي هو جبريل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أُيد به لإظهار حجته وأمر دينه. والثاني: لدفع بني إسرائيل عنه إذ أرادوا قتله. والثالث: أنه أيد به في جميع أحواله. (¬3) "تفسير الثعلبي" 1/ 1026 وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 1/ 142 هو جبريل على الأصحِ، ويدل ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] وقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17]، انتهى. ويؤيده أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان - رضي الله عنه -: "ياحسان أجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أيده بروح القدس". رواه البخاري (453) في الصلاة، باب الشعر في المسجد ومسلم (2485) كتاب: في فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت وينظر "التفسير الصحيح" 1/ 192. (¬4) في (م): (عن).

وقيل (¬1): لأن الغالب على جسمه الروحانية لرقته، وكذلك سائر الملائكة. وقال آخرون: أراد: الروح القدس، أي: المقدس، فأضاف الاسْم إلى الصفة، وأراد به روح عيسى عليه السلام. وسمى روحَه قُدُسًا؛ لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة، ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث (¬2) (¬3). وجاء في الخبر: أن الله تعالى لما أخذ الذرية في ظهر آدم (¬4) وأشهدهم على أنفسهم ردها إليه إلا روح عيسى فإنه أمسكها عنده إلى وقت خلقه. وقرئ القُدس بالتخفيف والتثقيل (¬5)، وهُما حسنان، مثل: العُنْقُ والعُنُق، والحُلْم والحُلُم، وبابه (¬6). ومعناه: الطهارة. قال العَجّاج: قد عَلِمَ القُدُّوس رَبُّ القُدْس (¬7). وذكرنا ما فيه عند قوله {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. ¬

_ (¬1) سقطت من (م). (¬2) في (م): (الطوارق). (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1025، "الكشاف" للزمخشري 1/ 80، "تفسير ابن كثير" 1/ 132. (¬4) في (م): (لما أخذ من ظهر آدم الذرية). (¬5) قرأ ابن كثير في تفسيره (القُدْس) بإسكان الدال حيث جاء، والباقون بضمها. ينظر: "السبعة" ص 163، و"التيسير" ص 64، و"النشر" 2/ 216. (¬6) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 150. (¬7) وبعده: إن أبا العباس أولى نفس ... بمعدن الملك القديم الكِرسِ ذكره في: "اللسان" 6/ 3550 (مادة: قدس)، وفيه: (مولى) بدل (رب).

وقوله: {أَفَكُلَّمَا} ذهب أبو الحسن (¬1) في هذه الفاء إلى أنها زائدة، والوجه: أن تكون غير زائدة وأن تكون للإتباع؛ لتعلق ما قبلها بما بعدها. وعلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل له لما جهد (¬2) نفسه بالعبادة: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدا شكورًا" (¬3). فالوجه أن تكون الفاء هَاهُنَا مُتبعَةً غير زائدة (¬4). ونصب (كلّما) كنصب سائر الظروف (¬5)، وكُلّ: حرفُ جملة، وهو اسم يجمع الأجزاء (¬6). وقال أبو الهيثم: يقع (كل) على اسم منكور مُوحَّد فيؤدي معنى الجماعة، كقولهم: ما كلُّ بيضاءَ شحمةً (¬7). و (ما) هاهُنا حرف جزاء (¬8)، ضم إلى (كل) (¬9). ومعنى {أسْتَكبَرْتُم}: تعظمتم عن الإيمان به؛ لأنهم كانت لهم ¬

_ (¬1) أي: الأخفش. (¬2) في (م): (أجهد). (¬3) رواه البخاري (1130) في أبواب التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل حتى ترم قدماه، ومسلم (2819) في الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 300. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 169. (¬6) "اللسان" 11/ 591، وقال في "البحر المحيط" 1/ 88: كل للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وأحكام كل كثيرة. (¬7) نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 9/ 450 وعنه ابن منظور في "اللسان" 11/ 591، وينظر: "مغني اللبيب" 1/ 201 - 202. (¬8) في (ش): (وخبر). (¬9) ينظر: "مغني اللبيب" 2/ 201.

88

الرئاسة، وكانوا متبوعين، فآثروا الدنيا على الآخرة (¬1). {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} مثل: عيسى ومحمد، {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} مثل: يحيى وزكريا. نظيره في المائدة [70]: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (¬2)، والفريق: الطائفة من الناس (¬3). قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فيما دل عليه قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} كأنه قال: فما استقمتم (¬4). 88 - قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوُبنَا غُلْفُ} الآية. جمع أغلَفَ، كما أن حُمْرًا (¬5) جمع أَحمر، فإذا كان جمع أفعل لم يجز تثقيله إلا في الشعر (¬6). قال أبو عبيدة: كل شيء في غلاف فهو أَغْلَف، قالوا: سيفٌ أَغْلَف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: لم يُختن (¬7). وما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها من الأعضاء إذا ذُكِر بأنه لا يعلم وُصِفَ بأن عليه مانعًا من ذلك ودونه حائلًا، فمن ذلك قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، كأن القُفْل لما كان حاجزًا بين المُقْفَل عليه وحائلًا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يَكن مُقفلًا ¬

_ (¬1) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1027. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 405 - 406، "تفسير الثعلبي" 1/ 1027. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1027. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 300. (¬5) في (ش): (حمر). (¬6) من "الحجة" 2/ 155، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 406، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 169. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 46، ونقله عنه أبو علي في "الحجة" 2/ 155.

جُعِل مَثَلًا للقلوب في أنها لا تعي ولا تفقَه. وكذلك قوله {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101] (¬1)، ومثل هذه الآية في المعنى قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]. قال ابن عباس (¬2) ومجاهد وقتادة في هذه الآية: إنهم قالوا استهزاءً وإنكارًا وجحدًا لما أتى به محمد: قلوبنا عليها غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد. ومن ضم اللام فهو جمع غلاف مثل: حِمَار وحُمُر، ومِثَال ومُثُل (¬3). قال ابن عباس (¬4) والكلبي (¬5): إنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قُلُوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به مما تدعونا إليه؟ فلو كان فيه خير لفَهِمَتْه وَوَعَتْه (¬6). وقوله تعالى: {بَل لَّعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكفرِهِمْ} أكذبهم الله سبحانه وقال: بل ¬

_ (¬1) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 154. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 406، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 170. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 169، و"البحر المحيط" 1/ 301، وقال الطبري في "تفسيره" 2/ 327: وأما الذين قرأوها بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية فمعنى الكلام: وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم وأوعية له ولغيره، ثم بين أن القراءة بالضم شاذة غير جائزة. انتهى كلامه. وممن قرأ بضم اللام: ابن عباس والحسن وابن محيصن والأعرج. ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1028، "زاد المسير" 1/ 99، "تفسير القرطبي" 2/ 22. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 407، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 170، وذكره أبو علي في "الحجة" 2/ 155، "القرطبي" 2/ 22. (¬5) "تفسير الثعلبي" 3/ 1028، "تفسير البغوي" 1/ 120، "تفسير الخازن" 1/ 81. (¬6) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 22.

لعنهم الله، أي: أبعدهم من رحمته وطردهم، واللعن: الإبعاد (¬1). قال الشَّمَّاخ (¬2): ذَعَرْتُ به القَطَا وَنَفَيتُ عنه ... مقام الذئبِ كالرجُلِ اللعينِ (¬3) أراد: مقام الذئب الذي هُوَ كالرجل اللَعين، لا يزال مُنتبذًا عن الناس، شبّه الذئب به، وكل من لعنه الله فقد أبعده عن رحمته، واستحق العذاب، وصار هالكًا (¬4). وقال الليث: اللعن: التعذيب، ولعنه الله، أي: عذبه، قال: واللعنة في القرآن: العذاب، واللعن: السب والشتم (¬5). قال شمر (¬6): أقرأنا ابن الأعرابي لعنترة (¬7): لُعِنَتْ بمحرومِ الشَّرابِ مُصَرّم (¬8) ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 408، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 46. (¬2) هو: الشمّاخ بن ضرار بن سنان بن أمامة الذبياني، قال ابن سلام: فأما الشماخ فكان شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد، وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه منطقًا "طبقات فحول الشعر" 1/ 124 - 132. (¬3) البيت للشماخ بن ضرار في "ديوانه" ص 321، "مجاز القرآن" 1/ 46، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 170 "تفسير الثعلبي" 1/ 1029، "لسان العرب" 7/ 4044، "تفسير القرطبي" 2/ 23، وذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 408 برواية: مكان الذئب. (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3272 - 3274، "اللسان" 7/ 4044 - 4045. (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 396، و"اللسان" 13/ 388، وتفسير "القرطبي" 2/ 25. (¬6) أول البيت: هل تبلغني دارها شدنية (¬7) والبيت من معلقة عنترة بن شداد التي مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم (¬8) ينظر: "أساس البلاغة" 2/ 14، و"لسان العرب" 7/ 4045.

وفسّره، فقال: سُبَّت بذلك، أي: قيل: أخزاها الله فما لها در ولا لبن (¬1). وقال الفراء: اللعن: المسخ أيضًا، قال الله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] أي: نمسخهم (¬2)، وكل هذا راجع إلى معنى الطرد والإبعاد. و (بل) لا يُنسق به في غير الجحد، والجحد هاهنا في المعنى، ومجازه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وليس كذلك، بل لعنهم الله، ولم يجعل لهم سبيلًا إلى فهم ما تقول (¬3). وقوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَّا يُؤمِنُونَ} يريد: فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا، والعرب قد تستعمل لفظَ القِلَّةِ في موضع النفي، فتقول: قلّما رأيتُ من الرجال مثلَه، وقلَّمَا تزورنا، يريدون النفي لا إثبات القليل. وحكى الكسائي عن العرب: مررت (¬4) بأرضٍ قلّما تُنبت إلا الكُرّاث والبَصَل، أي: ما تُنبت إلا هذين (¬5)، هذا قول الواقدي (¬6) (¬7) و (ما) على ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3274، ونقله في "لسان العرب" 7/ 4045 وفيه: ولا بها لبن. (¬2) لم أعثر عليه في "معاني القرآن" له. (¬3) في (ش): (فتقول). (¬4) في (ش): (مررنا). (¬5) ذكره عنه الفراء في "معاني القرآن" 1/ 59، وعنه الطبري في "تفسيره" 1/ 409 - 410 ولم ينسبها، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1030. (¬6) نقله عنه الثعلبي 3/ 1030، وينظر: "القرطبي" 2/ 23، و"البحر المحيط" 1/ 302. (¬7) هو: أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، محدث مؤرخ، مفسر فقيه، أديب، متروك الحديث مع سعة علمه، ولد بالمدينة، وأقام =

هذا الوجه للنفي. وقال أبو عبيدة: معناه: لا يؤمنون إلَّا بقليل ممَّا في أيديهم ويكفرون بأكثره. وانتصب قليلًا على هذا القول بنزع الخافض (¬1). و (ما) صلة، تقديره: فبقليل يؤمنون. وقال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا قليلٌ؛ (¬2) لأن مَنْ آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود. و (ما) على هذا القول أيضًا صلة، وانتصب قليلًا على الحال. تقديره: فيؤمنون قليلًا (¬3)، كعبد الله بن سلَامَ (¬4). وذكر ابن الأنباري في هذه الآية ثلاثة أوجه سوى ما ذكرنا: أحدها: فيؤمنون إيمانًا قليلًا، وذلك أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد والقرآن، فيقلل ذلك إيمانهم، ودليل هذا التأويل: قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، ¬

_ = ببغداد، تولى القضاء، توفي سنة 207 هـ. ينظر: "تاريخ بغداد" 3/ 3، و"وفيات الأعيان" 4/ 348. (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 302. (¬2) رواه عبد الرزق في "تفسيره" 1/ 51، ومن طريقه رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 409، وابن أبي حاتم 1/ 171، وذكره الثعلبي 1/ 1029، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 301 - 302، ونقل عن المهدوي مذهب قتادة: أن المعنى فقليل منهم من يؤمن، وأنكره النحويون؟ وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل، ثم تعقبه أبو حيان فقال: قول قتادة صحيح، ولا يلزم ما ذكره النحويون؛ لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ولم يرد شرح الإعراب فيلزمه ذلك. (¬3) "البحر المحيط" 1/ 302. (¬4) هو: أبو يوسف عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، ثم الأنصاري، كان أحد أحبار اليهود في الجاهلية، أسلم عند مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بشره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، توفي سنة 43 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 3/ 264، "الاستيعاب" 3/ 921.

معناه: أنهم يعترفون بأن الله ربهم، ويكفرون بمحمد فيقلّ إيمانهم. وانتصب قليلًا على هذا الوجه لأنه نعتُ مصدرٍ محذوف (¬1). الوجه الثاني: أن يكون المعنى: فيؤمنون قليلًا من الزَمَانِ ويكفرون أكثره، ودليل هذا التأويل: قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. فخّبر الله تعالى بقلة إيمانهم على معنى الوقت القصير الذي أظهروا فيه موافقة المسلمين ثم باينوهم بعده، وانتصب (قليلًا) في هذا الوجه؛ لأنه أقيم مقام الظرف، و (ما) في هذين الوجهين صلة. الوجه الثالث: أن يكون (ما) مع الفعل مصدرًا، ويرتفع بـ "قليل"، وهو مقدم، ومعناه: فقليلًا إيمانهم، كما قالوا: راكبًا لقَائِيك ومُجَرَّدًا ضَرْبِيكَ. والآيه رَدٌّ على القدرية؛ لأن الله تعالى بيّن أن كفرهم بسبب لعنه آباءهم، فالله تعالى لما لعنهم وطردهم وأراد كفرهم وشقاوتهم منعهم الإيمان (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 60، وهذا ما رجحه الطبري رحمه الله في "تفسيره" 1/ 409، فقال: أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك نصب قوله: فقليلا لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره، ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانًا قليلاً ما يؤمنون، فقد تبين إذًا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك". ورجحه في "البحر" 1/ 302 قائلًا: لأن دلالة الفعل على مصدره أولى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة وعلى المفعول وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلًا} [النساء: 46]. (¬2) قال القرطبي 2/ 23: ثم بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان: إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه.

89

89 - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاَءَهُم كِتَابٌ} يعنى: القرآن {مُصَدِّقٌ} موافق {لِمَا مَعَهُمْ}؛ لأنه جاء على ما تقدّم به الإخبار في التوراة والإنجيل، فهو مصداق الخبر المتقدم، من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به (¬1). وقوله تعالى: {وَكَانُوا} يعني: اليهودَ (¬2). و (كان) ليس بفعل حقيقي كسائر الأفعال، والفرق بينه وبين الفعل الحقيقي، أن الفعل الحقيقي يدل على وجود معنى مصدره بعد أن لم يكن، في ماض أو حاضر أو مستقبل، و (كان) إنما يدل على الزمان الماضي أو الحاضر والمستقبل في تصريفه فقط، من غير دلالة على وجود مصدره بعد أن لم يكن (¬3) كقولك: كان زيد عالمًا معناه: زيد عالم فيما مضى (¬4). وذكرنا ما في (كان) عند قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة:28] (¬5). وقوله تعالى {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذا الكتاب وقبل هذا النبي (¬6). {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس (¬7) والسدي (¬8): هو أنهم إذا ¬

_ (¬1) ينظر الطبري في "تفسيره" 1/ 410، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 171، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 171، "تفسير الثعلبي" 1/ 1030. (¬2) ينظر الطبري في "تفسيره" 1/ 410، "تفسير الثعلبي" 1/ 1030. (¬3) من قوله: في ماضٍ أو حاضر .. ساقط من (ش). (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3084 مادة (كان)، و"الأزهية في علم الحروف" ص 183، و"مغني اللبيب" 2/ 559. (¬5) ينظر: "البسيط" 2/ 293. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 410 "تفسير الثعلبي" 1/ 1030. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 411 - 412، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 171 - 172. (¬8) رواه عنه الطبري 1/ 411 - 412، وانظر: "زاد المسير" 1/ 114.

حزبهم (¬1) أمر، وظهر لهم عدوٌّ، قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، وكانوا يسألون الله النصرَ بمحمد وبكتابه (¬2). وذكرنا معنى (الفتح والاستفتاح) عند قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 76]. وفي الكلام إضمار واختصار، أراد: وكانوا من قبل يستفتحون به، أي: بذلك الكتاب، فلما سبق ذكر الكتاب لم (¬3) يُعِده. ومثله في الكلام: السَّمْنُ مَنَوَان (¬4) بدرهم أي: منه، ولكنك لا تعيد ذكره، وقد سبق في أول كلامك. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} يعني: الكتاب وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنهم كانوا قرأوا في التوراة: إن الله تعالى يبعث في آخر الزمان نبيًّا (¬5)، وينزل عليه قرآنًا مبينًا أي: بالكتاب، ويبعث صاحب ذلك الكتاب (¬6). أعلم الله أنهم كفروا وهم يوقنون، وأنهم مُتَعمدون للشقاق وعداوة الله. وجواب قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُم كِتَابٌ} محذوف، تقديره: ولما جاءهم ¬

_ (¬1) في (ش): (حزنهم)، وفي (م): (جزلهم). (¬2) ينظر ما رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 410 - 410، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 171 - 172، وأبو نعيم في "الدلائل" 1/ 19. (¬3) في (م): (فلم). (¬4) المنوان: تثنية مَنَا وهو كيل أو ميزان يساوي رطلين ويثنى على منوان، ومنيان ويجمع على: أمْنَاءٍ، وأمْنٍ، ومُنِيٍّ ومِنِيٍّ. ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3454 مادة (منا)، و"القاموس" 1722 و"المجموع شرح المهذب" 9/ 347. (¬5) في (م) و (ش): (يبعث نبيا في آخر الزمان). (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 411 - 412، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 172.

كتاب من عند الله جحدوه، وحذف لأنه معروف، دل عليه {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، هذا قول أبي إسحاق (¬1). وقال الفراء: جوابه في الفاء في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا}، وفيه أيضا معنى الابتداء. و (كفروا) بما فيه من جوابهما جميعًا، والعرب تجيب كلامين بجواب واحد، كقولهم: ما هو إلا أن يأتي عبد الله فلما قعد أكرمته (¬2) (¬3). والدليل على هذا: أن الواو لا تجوز في موضع الفاء في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} كما جاز في ابتداء الآية، فذلك دليل على أنها جواب وليست بنسق. ومثل هذا في كون الفاء جوابًا قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} (¬4) صار كأنه جواب لـ"إما"، ألا ترى أن الواو لا تصلح في موضع الفاء هنا. وقال محمد بن يزيد (¬5) قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} تكرير للأول؛ لأن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 171، وذكره الطبري في "تفسيره" 412 - 413، وممن ذهب إليه: الأخفش واختاره الزمخشري كما في "البحر المحيط" 1/ 303، ورجحه أبو حيان. (¬2) قال الفراء: ما هو إلا أن أتاني عبد الله فلما قعد أوسعت له وأكرمته. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 59 بتصرف، وذكره الطبري في تفسيره 1/ 412 - 413، ونسبه إليه في "البحر المحيط" 1/ 303، وقال: وأما قول الفراء، فلم يثبت من لسانهم: لما جاء زيد فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن يكون الجواب محذوفًا لدلالة المعنى عليه. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) أي المبرد، ينظر: "البحر المحيط" 1/ 303.

90

الكلام طال بقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ}، وكأنه كلام معترض، فأعاد الأول. وجوابه {كَفَرُوا بِهِ}. ومثله قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] أعاد ذكر {أَنَّكُمْ} لما طال الكلام، وكأنه قال: أيعدكم أنكم إذا مِتُّم مُخرَجون (¬1). 90 - قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوا} الآية. بئس ونِعم لفظان وُضِعا للمدح والذم، يخبر بأحدهما عن الشيء المذموم، وبالثاني عن الممدوح، وأصلهما: نَعِمَ وبَئِسَ (¬2)، وأرادوا لفظًا يُعبِّر عن المحمود يخصه، ولفظًا يعبِّر عنِ المذموم ويقتصر، فجعلوا نعم للممدوح وبئس للمذموم، فألزمهم بهذا الغرض ضرب من التغيير ليخص هذا القَصْد بالدلالة، فأزالوا التصرف عنهما وهو المستقبل، فلا يقال والمراد المدح أو الذم: ينعَم الرجل أو يَبْأسُ، وهذا القدر من التغيير لا يزيل الإلباس، فليس يُدرى (¬3) بقولك: نَعِمَ الرجل أو بَئِسَ إن المراد به الإخبار عنه على ما يقتضيه الأصل أو المدح والذم، فلم يجدوا بُدًّا من تغيير (¬4) زائد، فنقلوا وخففوا، والنقل والتخفيف لغة للعرب (¬5) فيما كان على فَعُل وفَعِل، نحو. حَسُنَ وضَجِر. حَسُن ¬

_ (¬1) بين في "البحر المحيط" 1/ 303: أن هذا القول حسن، لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. (¬2) ينظر في نعم وبئس: "المقتضب" للمبرد 2/ 140 - 152، "تهذيب اللغة" 1/ 412، "اللسان" 1/ 201 (بئس). (¬3) في (ش): (تَدْري). (¬4) في (ش): (تعبير). (¬5) في (ش): (العرب).

وجهُك، إذا خففت، وإن ثقلت قلت: حُسْنَ وَجهُك، فنقلت ضمة السين إلى الحاء، وعلى هذا ينشد: فَإِنْ أَهْجُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... من الأُدْمِ دِبْرَتْ (¬1) صفحتاه وكاهله (¬2) وإنما حملَهُم على هذا اسْتثقالهم الانتقال في الحركات المختلفة الذي يدل على هذا: أن اتفاق الحركات في فعل منعهم من هذا. فقالوا في نِعْمَ وبِئْسَ فرقًا بين المدح والذم وبين الخبر؛ ليخلُصا للمدح والذم لا يلتبسان بالخبر، ولهذا المعنى لم يتصرفا تصرف الأفعال؛ لأنهما تضمنا الدلالة على معنى الذم والمدح، كما أن التعجب لما كان خبرًا كسائر الأخبار إلا أنه زاد عليها بمعنى التعجب تُركَ تصرّفُه؛ ليدل به على زيادة المعنى، فكذلك (نعم وبئس)، يدل على أن القائل مادح أو ذامّ، وهو خبر باستحقاق المدح والذم. وبئس ذمٌّ بشدة الفساد. وأصل الكلمة من الشدة، ومنه البأساء: وهو اسم للحرب والمشقة والضرر والشدة، ومنه {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعرف: 165] أي: شديد. وكل هذا ممَّا علّقته عن مشايخ هذه الصنعة. فأما حكم هاتين الكلمتين وعملهما فقال أبو إسحاق: إنهما لا يعملان في اسم عَلم، إنما يعملان في اسم منكور دالّ على جنس، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس، وإنما كانتا كذلك؛ لأنّ (نعم) مستوفية لجميع المدح، و (بئس) مستوفية لجميع الذمّ، فإذا قلت: نِعم الرجل زيدٌ، ¬

_ (¬1) في (ش): (ديرت). (¬2) البيت للأخطل في "ديوانه" ص 217، ينظر: "لسان العرب" 4/ 481 - 12/ 12.

قلت (¬1): استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه، وكذلك (¬2) إذا قلت: بئس الرجل دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس، فإذا كان معهما (¬3) اسم جنس بغير ألف ولام فهو نصب أبدًا، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفع أبدًا، وذلك قولك (¬4): نعم رجُلاً زيدٌ، (¬5) ونعم الرجل زيد (¬6)، نصبت النكرة على التشبيه بالمفعول، وهو بمعنى التمييز، لأنك إذا قلت: نعم، جاز أن تذكر رجلًا أو حِمارًا، فإذا ذكرت نوعًا ميزته من سائر الأنواع، وفي نعم ضمير فاعل؛ لأنه فِعْلٌ، والفِعْلُ لا يخلو من فاعل، فصار المميز كالمفعول فلهذا نصب. فأما إذا قلت: نِعْمَ الرَجُل، فليس في نِعْمَ ضمير، وصار الرجل رفعًا بنعم. وارتفع زيد من وجهين، قال سيبويه والخليل (¬7): إن شئت رفعت زيدًا؛ لأنه ابتداء مؤخر، ويكون نعم وما عملت فيه خبره، وإن شئت رفعت على أنه خبر ابتداء محذوف، لأنك إذا قلت: نعم رجلًا، ونعم الرجل، لم يُعلم من تعني، فقلت: زيد، أي: هو زيد. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": فقد. (¬2) ساقطة من (م). (¬3) في "معاني القرآن": معها. (¬4) في "معاني القرآن": كقولك. (¬5) في (ش): (زيدا). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 172، وقد نقله الواحدي بتصرف يسير، وينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 412، "اللسان" 1/ 201، "تفسير القرطبي" 2/ 24. (¬7) نقله عنه الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 172، ونقله عن سيبويه ابن عطية في "المحرر" 1/ 391، "تفسير القرطبي" 2/ 240.

وقال الكسائي: قولك: نعم الرجل، كالشيء الواحد يرتفع بهما زيد (¬1)؛ لأن قولك: الرجل زيد، لمعنى: صلح زيد، فارتفاع زيدٍ، كارتفاع الفاعل. قال الفراء: فإن أضفتَ النكرةَ التي بعد نِعْمَ إلى نكرة رفعت ونصبت، فقلت: نعم غلامُ سَفَرٍ زَيدٌ، وغلامَ سفرٍ زيد، فإن أضفت إلى المعرفة شيئًا رفعتَ، فقلت: نعم سائسُ الخيل أخوك، ولا يجوز النصبُ إلّا أن يضطرّ إليه شاعر؛ لأنهم حينَ أَضَافوا إلى النكرَة آثروا الرفع، فهم إذا أضَافوا إلى المعرفة أحرى أن لا ينصبوا (¬2). فإن وصلت "مَا" بـ"نعم وبِئسَ" نحو: بئسما ونعِمّا، فقال الزجّاج: (ما) فيهما لغير صلة (¬3)؛ لأن الصلة توضح، وتخصص، وَالقصد في بئسَ (¬4) أن يليها اسم منكور واسم جنس (¬5). فقوله {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} بئس شيئًا اشتروا به أنفسهم (¬6)، قال: وروى جميع النحويين: بئسما تزويجٌ ولا مهر، وَالمَعنى فيه: بئسَ ¬

_ (¬1) نقله الفراء في "معاني القرآن" عن الكسائي 1/ 56، ابن عطية في "المحرر" 1/ 391، "تفسير القرطبي" 2/ 24 قال ابن عطية: وهذا أيضاً معترض؛ لأن بئس لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 57. (¬3) في "معاني القرآن" للزجاج: بغير. (¬4) في "معاني القرآن" للزجاج: نعم. (¬5) في "معاني القرآن" للزجاج: اسم منكور أو جنس، وفي "الإغفال" ص 317: اسم منكور أو اسم جنس. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 172، ونقله في "اللسان" 1/ 201 مادة (بئس).

شيئًا تزويج ولا مَهر (¬1). قالَ أبو علي: مَا ذكره أبو إسحاق يَدُل على أن (مَا) إذَا كانت موصولة لم يجز عنده أن يكون فاعلة نعم وبئس، وذلك عندنا لا يمتنع، وجهة جوازه: أن ما اسم مبهم يقع على الكثرة، ولا يخصص شيئًا واحدًا، كما أن أسماء الأجناس كذلك، وهي تكون للكثرة (¬2) والعموم، كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة (¬3)؛ (¬4) وذلك نحو قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فالقصد به هاهنا الكثرة، وإن كان في اللفظ مفردًا؛ يدلك على ذلك قوله: هؤلاء (¬5). وتكون ما معرفةً ونكرةً؛ كما أن أسماء الأجناس تكون معرفةً ونكرةً. فأمَّا كونها معرفةً فمأنوس به، وأَمَّا كونها نكرة فكثير أيضًا، ذكره سيبويه في مواضع، وهي و (من) قد تكونان نكرتين في التنزيل والشعر القديم الفصيح، أنشد سيبويه: ربّما تكره النفوسُ من الأمر ... له فَرجة كحلِّ العِقَال (¬6) ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 173، ونقله في "تهذيب اللغة" 1/ 412، و"اللسان" 1/ 201، وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 58. (¬2) في "الإغفال": للنكرة (¬3) في "الإغفال": للنكرة. (¬4) من قوله: كما أن .. ساقط من (ش). (¬5) في "الإغفال" فهؤلاء لا يكون للواحد. (¬6) البيت لأمية بن أبي الصلت، في "ديوانه" ص 50 وفي "الكتاب" 1/ 315، 424 وكذا في "الخزانة" 2/ 541 و 4/ 194، وينسب البيت أيضًا: لأبي قيس اليهودي، ولابن صرمة اليهودي، ولحنيف بن عمر اليشكري، ولنهار بن أخت مسيلمة =

وقال: يا رُبَّ من يُبْغِضُ أَذْوادَنا ... رُحْنَ على بَغْضَائِه واغْتَدَيْن (¬1) (¬2) وتأول سيبويه قوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23]، على أن تكون معرفةً، وعلى أن تكون نكرةً، مثل: هذا شيء لديّ عتيد، فإنما يتخلص بعضر ذلك من بعض، بدلالةٍ مِن غير جهة اللفظ؛ لأن اللفظ محتمل لما أعلمتك في اللغة (¬3). فقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يجوز عندي أن تكون ما موصولة، وموضعها رفع بكونها فاعلة لـ"بئس"، ويجوز أن تكون منكورةً، ويكون (اشتروا) صفة غير صلة (¬4)، وحينئذٍ تكون (ما) نصبًا. وتقول: نِعم ما صنعت، وبئسما صنعت، إن شئت كانت (ما) منصوبة، كأنك قلت: نعم شيئًا صنعت، وإن شئت كانت مرفوعة، كأنك قلت: بئس الشيء صنعت. ولا يجوز أن يليهما (الذي)؛ لأن الألف واللام لا يفارقانه، وهما يعملان فيما عُرِّف بالألف واللام، وجاز طرحهما منه. فقال الفراء: ويجوز أن تُجعل (ما) مع نِعم وبئس بمنزلة كلمة واحدة في غير هذه الآية، فيكون مثل كلما، وإنما، كما جُعلت (ذا) مع حَبَّ كلمةً واحدة، فقالوا: حبّذا. ¬

_ = الكذاب ويروى تجزع بدل تكره. ينظر: "الإغفال" 317، و"مغني اللبيب" 1/ 297، و"شذور الذهب" 132، والأشموني 1/ 70، و"المفصل" 4/ 2، وابن يعيش 3/ 4، و"طبقات القراء" 1/ 290، وشرح شواهد المغني ص 240، و"ديوان عبيد بن الأبرص" ص 86. (¬1) البيت تقدم تخريجه. (¬2) من "الإغفال" ص 317، 318 بتصرف، وقد لخصه القرطبي في "تفسيره" 2/ 24. (¬3) من "الإغفال" ص 319. (¬4) من "الإغفال" ص 319.

من ذلك قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]، رفعت هي بنعما، ولا يجوز (حينئذ) (¬1) تأنيث نعم، كما لا يجوز تأنيث حبذا (¬2)، قال: ويجوز أن تجعل (ما) فيه حشوًا وصلة، كما قال: عما قليل (¬3)، وإذا جعلت (ما) صلةً جاز فيه التأنيث (¬4)، تقول: بئست مَا جاريةً جاريتك (¬5). ومعنى الاشتراء هاهُنَا: البيع. والاشتراء والشراء والبيع كله من الأضداد، ويقال: اشتريته، أي: بعته، واشتريته، أي: ابتعته، وكذلك: شريته في المعنيين، وكذلك: بعته، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، أي: باعوه (¬6)، وقال يزيد بن المُفَرِّغ: ¬

_ (¬1) ساقطة من (م). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 57. (¬3) في "معاني القرآن" للفراء 1/ 57: عما قليل آتيك. (¬4) في "معاني القرآن" للفراء 1/ 57: جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، بئست ما جاريةً جاريتك. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 58 بتصرف، وقد ذكر الأقوال في إعراب ما في هذه الآية الطبري في تفسيره 1/ 413 - 414، والعكبري في "التبيان" 74، وأبو حيان في "البحر" 1/ 304 - 305، وخلاصته: اختلف في ما ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فذهب الفراء إلى أنه بجملته شيء واحد، وظاهره أن لا موضع لها من الإعراب، والجمهور على أن لها موضعًا من الإعراب، واختلفوا أموضعها نصب أم رفع؟. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 56، "اللسان" 4/ 2253 (شرى)، وذكر في "البحر المحيط" 1/ 305: أن اشتروا هنا بمعنى: باعوا عند الأكثرين، وفي المنتخب أنه على بابه، لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، وكأنه قد اشترى نفسه بها، قال أبو حيان: ويرد عليه، {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، حيث فعلوا ذلك على سبيل البغي والحسد.

وشُرَيْتُ بُردًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بردٍ صِرتُ هامة (¬1) أي: بعته؛ قال الفراء: وتقول بع لي بدرهم تَمرًا، أي: اشتر لي. وأنشد: ويأتيك بالأخبار مَن لم تَبعْ له ... بَتَاتًا ولم تضربْ له وقتَ موعِدِ (¬2) (¬3) ومعنى الآية: بئس الشيء بَاعوا به أنفسهم الكفر؛ يريد: أنهم اختاروا الكُفر وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنار؛ لأن اليهود خصوصًا علموا صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن من كذبه فالنار عاقبته، فاختاروا الكفر، وسلموا أنفسهم للنار، فكان ذلك كالبيع منهم (¬4). وقال المفسرون: في الآية إضمار معناه بئسما باعوا حظ أنفسهم بالكفر، هكذا قالوا (¬5)، وعلى هذا تكون الآية من باب حذف المضاف، وعلى ما قلنا أولًا تصح الآية من غير إضمار. وقوله تعالى: {أَن يَكْفُرُواْ} قال الزجاج: موضع أن رفع، المعنى: ذلك الشيء المذموم أن يكفروا (¬6)، على تقدير: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم ¬

_ (¬1) البيت ليزيد بن مفرغ الحميري، في ديوانه ص 213، و"لسان العرب" 4/ 2252 مادة (شرى). (¬2) البيت لطرفة بن العبد في "ديوانه" ص 41. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 56، وقال: وللعرب في شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما جميعًا في معنى باعوا، وكذلك البيع، يقال: بعت الثوب، على معنى: أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللغة في تميم وربيعة. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 305. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 414 - 416، "تفسير الثعلبي" 1/ 1032، "تفسير ابن كثير" 113 - 114. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1032. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 172.

الكفر، فيكون كقولك: بئس الرجل زيد، على الاختلاف الذي حكينا عن سيبويه والخليل والكسائي في رفع زيد، وقال الفراء: يجوز أن يكون محله جزًا بدلًا من المكني في (به)، كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكُفْر (¬1). وقوله تعالى: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني: القرآن (¬2). {بَغْيًا} أَصْلُ البغي في اللغة: الظلم والخروج عن النَّصَفَة والحدّ، يقال: بَغَى الفرس في عدوه، إذا اختال ومرح، وإنه ليبغي، ولا يقال: فرس باغ، وبغى الجُرحُ يَبْغِي بَغْيًا، إذا وَرم وكثر فيه المِدّة (¬3)، وبَغَتِ السماء، إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحدّ، وبغى الوادي، إذا بلغ الماء منه موضعًا لم يبلغه قبل. وقالَ قوم: أصل البَغْي: الطلب (¬4)، يقال: بغى الشيءَ، إذا طلبه، وأَبْغَاه، أعانه على الطلب. والبَغيّ: التي تطلب الزنا، ومنه قيل للأمة: بَغِيٌّ. وما ينبغي كذا، أي: ليس بصواب طلبه، والبَغْيُ: شدة الطلَب للتطاول (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 56، ونصه: أن يكفروا، في موضع خفض ورفع، فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي في به، على التكرير على كلامين، كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع ما التي تلي بئس. اهـ. وينظر في إعراب الآية: "التبيان" للعكبري ص 75، حيث ذكر القولين السابقين وزاد: وقيل: هو مبتدأ، وبئس وما بعدها خبر عنه. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1032. (¬3) المِدَّة بكسر الميم القيح، وهي الغثيثة الغليظة، وأما الرقيقة فهي صديد وأَمَدّ الجرح إمدادًا، صار فيه مِدَّةٌ ينظر: "المصباح المنير" ص 567. (¬4) قال في "مقاييس اللغة" 1/ 272: الباء والغين والياء أصلان: أحدهما: طلب الشيء، والثاني: جنس من الفساد. (¬5) ينظر في معاني البغي: "تهذيب اللغة" 1/ 367، "مقاييس اللغة" 1/ 271 - 272، "المفردات" للراغب ص 65، "اللسان" 1/ 323.

قال المفسرون: البَغْيُ، هاهُنا، بمعنى الحَسَد (¬1). قال اللحياني (¬2): بغيت على أخيك بغيًا، أي: حسدته، وقال الله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60]، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] فالبغي أصله الحَسَد، ثم سمي الظلم بغيًا؛ لأن الحاسِد يظلم المحسودَ جَهْدَه إرادة زوال نعمة الله عليه عنه (¬3). قال ابن عباس في هذه الآية: إنَّ كفر اليهود لم يكن شكًا ولا شيئًا اشتبه عليهم، ولكن بغيًا منهم، حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل (¬4). وانتصابه على المصدر؛ لأن ما قبله من الكلام يدلّ على بَغَوا، فكأنه قيل: (¬5) بَغَوا بغيًا (¬6). وقال الزجّاج: انتصب؛ لأنه مفعول له، كما تقول: فعلت ذلك حِذارَ الشرّ، أي: لحذر الشر (¬7)، ومثله من الشعر: قول حَاتِم (¬8): ¬

_ (¬1) ينظر: الطبري في تفسيره 1/ 415، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 173، "زاد المسير" 1/ 114، "تفسير القرطبي" 2/ 25. (¬2) هو: أبو الحسن علي بن حازم، وقيل: علي بن المبارك، تقدمت ترجمته [البقرة: 10]. (¬3) من "تهذيب اللغة" 1/ 367. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ لكن قريب منه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 173. (¬5) في (ش): (قال). (¬6) ينظر: "التبيان" للعكبري ص 75. (¬7) والعامل فيه: يكفروا، أي: كفرهم لأجل البغي، أو يكون العامل فيه: اشتروا. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 305. (¬8) هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، فارس شاعر جواد، جاهلي يضرب المثل بجوده، كان من أهل نجد، شعره كثير ضاع معظمه. ينظر: "الشعر والشعراء" ص 143، و"الأعلام" 2/ 151.

وأغفر عَورَاءَ الكريم ادّخارَه ... وأُعْرِضُ عن شَتْم اللئيم تَكَرُّما (¬1) المعنى: لادخاره، وللتَّكرّم (¬2). وقوله تعالى: {أَن يُنَزِل اللَّهُ} موضع أن نصب؛ لأن المعنى: أن تكفروا بما أنزل الله؛ لأن ينزل الله من فَضْلِهِ، أي: كفروا لهذه العلة، فهو كما ذكرنا في بيت حاتِم؛ لأنهم كفروا لإنزال الله عليه، كما أنه يغفر العوراء لادّخاره، هذا قول الزجاج (¬3). وأظهر منه أن تجعل {أَن يُنَزِلَ} مفعولًا للبغي، كأن معناه: حسدًا إنزال الله، لأن البغي، هاهنا، بمعنى الحَسَد، وأنت تقول: حَسَدْتُ زيدًا مالَه وفضلَه (¬4). وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} قال ابن عباس: الغضب الأول: تضييعهم التوراة، والثاني: بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله فيهم (¬5). وقال قتادة: الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بكفرهم بمحمد والقرآن (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريج البيت [البقرة: 18]. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 1703. (¬3) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 173، وينظر: "التبيان" ص 75 قال: وقيل: التقدير: بغيًا على ما أنزل الله، أي: حسدًا على ما خص الله به نبيه من الوحي. (¬4) وقيل: التقدير: بغيًا على أن ينزل الله، لأن معناه: حسدا على أن ينزل الله، فحذفت على، وقيل: أن ينزل في موضع جرًّ على أنه بدل اشتمال من ما في قوله بما أنزل الله أي: بتنزيل الله ينظر "البحر المحيط". (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 417، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 173، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1032 وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة وابن أبي خالد نحو ذلك، وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 114 خمسة أقوال في الآية، والخلاف فيها من قبيل اختلاف التنوع. (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 346 وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1033، وعزاه =

91

وقال أهل المعاني: أي: بإثم استحقوا به النار على إثم تقدم استحقوا به النار (¬1). 91 - وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: لليهود، و {إِذَا} عند النحويين وقت للفعل الذي هو جواب، كما تقول: إذا جئتني وصلتك، أخبرتَ أنك تصلُهُ وقت مجيئه، وليس كذلك إنْ، لأنك إذا قلت: إن جئتني وصلتك، يصلح أن تصلَه بعد وقت المجيء (¬2). وقوله تعالى: {بِمَا أَنزَلَ الله} يعني القرآن، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، يعني التوراة (¬3). {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}، قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون هذا إخبارًا من الله عز وجل عن اليهود، وتم الكلام عند قوله: {بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، ثم ابتدأ بالإخبار عنهم، فقال: (¬4) {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} (¬5). والدليل على انقطاع الكلام الأول: الانصرافُ عن الإخبار عن النفس إلى الحديث عن ¬

_ = السيوطي في "الدر" 1/ 218 إلى عبد بن حميد. وروى الطبري، وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. (¬1) هذا كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 174، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 174 عن سعيد بن جبير في قوله: (فباؤوا بغضب على غضب) يقول: استوجبوا سخطا على سخط، وذكر "القرطبي" 2/ 29 قولاً فقال: وقال قوم: المراد التأييد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين. وينظر "البحر المحيط" 1/ 306. (¬2) ينظر في معاني إذا "مغني اللبيب" 1/ 87 - 101. (¬3) "تفسير الثعلبي" 1/ 1033. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) في (ش): (تكفرون).

الغيب. ويجوز أن يكون (¬1) حكاية عن اليهود أنهم قالوا ذلك، وتأويله: نؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا، وَيَكْفُرُونَ (¬2) بِمَا وَرَاءَه، فردّ الفعل الثاني إلى الغيبة، كما تقول العرب: قال عبد الله: لأقُومَنّ، وقال عبد الله ليقومن، فالألف: لمعنى الإخبار، والياء: لمعنى الغيبة (¬3)، وكذلك تقول العرب: استحلفت عبد الله: لأقومنّ، وليقومنّ، ولتقومنّ. فمن قال: لأقومنّ، أراد: قلت له: قل لأقومن، ومن قال بالتاء، أخرجه على معنى الخطاب. ومن قال بالياء، أخرجه على لفظ عبد الله؛ لأنه غائب، قال الشاعر (¬4): يا ليت شعري عنك دَخْتَنُوس (¬5) ... إذا أتاك الخبرُ المرموسُ أتحلِقُ القرونَ أم تَمِيسُ ... لا، بل تَميسُ إنّها عروسُ (¬6) فقدم أفعالًا على المخاطبة، ثم رجع إلى الغيبة على ما وصفنا. ومعنى {بِمَا وَرَاءَهُ} بما سواه، قال الفراء: وذلك كثير في العربية يتكلم الرجل بالكلام الحسن، فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيء، ¬

_ (¬1) في (ش): (تكون). (¬2) في (ش): (ونكفر). (¬3) من قوله: كما تقول العرب .. ساقطة من (ش). (¬4) البيتان للقيط بن زُرارة كما في "اللسان" 3/ 1728، "تهذيب اللغة" 2/ 1467، ورواية التهذيب: ياليت شعري اليوم ... إذا أتاهها الخبر. ومعنى المرموس: المكتوم، وتميسُ: تتبختر. (¬5) في (ش): (وختنوس). (¬6) الرجز للقيط بن زرارة، في "لسان العرب" 6/ 101 مادة: (رمس)، و"تاج العروس" 8/ 279 (دختنس)، و"المعجم المفصل" 10/ 282.

يريد ليس سوى هذا الكلام شيء (¬1). ويحتمل {بِمَا وَرَاءَهُ} بما بعده، أي: ما بعد التوراة، يريد: الإنجيل والقرآن، وهذا كقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، أي: ما بعده، وما سواه. وقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} (¬2) مثله (¬3). أبو العباس، عن ابن الأعرابي في قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} قال: بما سواه (¬4). وسنذكر الكل في (وراء) عند قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] وقوله {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] وقولِه: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5]، إن شاء الله. وقوله تعالى: {وَهُوَ اَلحَقُّ} (هو) كناية عما في قوله: {بِمَا وَرَاءَهُ}. و (ما وراءه)، يجوز أن يكون واقعًا على الإنجيل والقرآن، فأفرد الله القرآن بقوله: (وَهُوَ الْحَقّ) تفصيلًا له وتخصيصًا (¬5). ويجوز أن يكون (هو) كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لما ذكر الإنزال والمنزِّل دلّا على المُنزَّل عليه، فكان كالظاهر. قال أبو إسحاق: في قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم، إذ كفروا بما يُصَدِّق مَا معهم. قال: ونصبت ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 60. (¬2) جزء من آية وردت في سورة [المؤمنون: 7]، [المعارج: 31] (¬3) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 307. (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3879، "اللسان" 8/ 4807، وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 25، "البحر المحيط" 1/ 307. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1033، "البحر المحيط" 1/ 307.

{مُصَدِّقًا} على الحال (¬1)، ومثله قولك: هو زيد معروفا، فـ (معروف) حال؛ لأنه إنما يكون زيدًا بأنه يعرف بزيد، وكذلك تقول: القرآن هو الحق، إذا كان مصدقًا لكتبِ الرُّسُل صلى الله عليهم. وقوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} هذا تكذيب من الله تعالى لهم في قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، أي: أيّ كتاب جوّز فيه قتل نبي، وأيّ دين وإيمان جوّز فيه ذلك (¬2). وأضاف القتل هاهُنا إلى المخاطبين، وإن كان آباؤهم قَتَلوا؛ لأنهم كانوا يتولّون الذين قَتَلوا فهم على مذهبهم، وإذا كانوا على ذلك المذهب فقد شركوهم. قال ابن عباس: كلما عُمِلَت مَعصِية، فمن أنكرها برئ، ومن رضي بها كان كمن شهدها (¬3). وقال ابن الأنباري: تأويله: فلم توليتم آباءكم القاتلين ورضيتم ما كانوا عليه، وصوبتم أفعالهم. والمراد بلفظ الاستقبال هاهنا: المضي (¬4)، وجاز ذلك؛ لأنه لا يذهب الوهم إلى غيره؛ لقوله: {مِنْ قَبلُ}، ودليل هذا قوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183]. ومما وضع فيه المستقبل موضع الماضي قوله تعالى: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 174 بتصرف، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1034. (¬2) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1034. (¬3) ذكره في "الوسيط" ولم أجده عنه في التفاسير المسندة، وفي معناه حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ستكون أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 621 وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها" رواه أبو داود. (¬4) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 25 - 26.

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102]، وسنذكره في موضعه، ومثل هذا قولك للرجل تعنفه بما سلف من قبيح فعله: ويحك لم تكذب؟ لم تُبَغِّض نفسك إلى الناس؟، كأنه قيل: لم هذا من شأنك (¬1). قال الفراء: وذلك كثير في الكلام، أنشدني بعض العرب: إذا ما انْتَسَبْنا لم تلدني لئيمةٌ ... ولم تَجِدِي من أن تُقِرِّي بها بُدَّا (¬2). يعني: أن الولادة قد مضت، وقد عبَّر عنها بجواب الجزاء، وذلك يكون في الاستقبال، كما تقول: إذا ما جئتني لم أضربْك، لم يوجد المجيء ولا الضرب (¬3) فالجزاء للمستقبل، والولادة قد مضت، وذلك أن المعنى معروف (¬4) يدل عليه، فجاز ذلك. والذي يدل على أن المراد بما في الآية المضي أن (لِمَ) معناه التعنيف، وأنت إنما تعنف الرجل بما سلف من فعله (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 60 - 61 ونقله الطبري في تفسيره 1/ 420. (¬2) البيت لزائد بن صعصعة الفقعسي يُعَرِّض بزوجته، وكانت أمها سرية، وذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 61، 178، ولم ينسبه وكذا الطبري في "تفسيره" 1/ 328، 420، 3/ 73. (¬3) من قوله: (يعني أن الولادة) ساقط من (ش). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 61، ومن قوله: (يعنىِ أن الولادة) إلى قوله: (ولا الضرب) من كلام الواحدي، في "تفسيره". (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 61 ونقله الطبري في تفسيره عنه 1/ 42 ذكر جوابًا آخر وهو أن معناه: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: ما تلت، وكقول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت عنه وقلت: لا يعنيني يريد بقوله: (ولقد أمر): ولقد مررت. اهـ. قال في "البحر المحيط" 1/ 307 نقلًا عن ابن عطية: وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر، ألا ترى أن حاضري محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء.

92

وقوله تعالى: {إِن كنُتُم مُّؤمِنِينَ} (إِنْ) بمعنى الشرط، وجوابها قبلها، يراد به: إن كنتم مؤمنين، فلم تقتلون أنبياء الله؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين أن تقتلوا الأنبياء، ولا أن يتولوا قاتليهم (¬1). 92 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاَءَكُمْ} اللام في (لقد) لام القسم (¬2)، ولا يجوز أن تكون لام الابتداء، لأن لام الابتداء لا تلحق إلّا الاسم أو ما كان بمنزلة الاسم من المضارع. والمراد بالبيّناتِ في هذه الآية ما ذكره في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]، وهي العصا، واليد، وفلق البحر، والجراد، والقُمَّل (¬3)، والضَفَادع، والدم، ورفع الطور، وإحياء الميت ببعض البقرة (¬4). وقوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} المراد بـ (ثُم) هاهنا: الاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات التي أتى بها موسى عليه السلام. 93 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} إلى قوله: {وَاسْمَعُواْ} أي: ¬

_ (¬1) استظهر هذا الوجه أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 307 وقال: ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد، لكن حذف الشرط من الأول وأبقي جوابه، وهو فلم تقتلون، وحذف الجواب من الثاني وأبقي شرطه. (¬2) ينظر: "تفسير "القرطبي" 2/ 27. (¬3) القمّل: قال ابن عباس: وهو السوس الذي يخرج من الحنطة، وعنه: أنه الدَّبى وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له - وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة، وقال الطبري في تفسيره 9/ 33: القمّل: جمع، واحدتها قُمَّلة، وهي دابة تشبه القمْل، تأكلها الإبل فيما بلغني. ينظر "تفسير ابن كثير" ص 700. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 421 "البحر المحيط" 1/ 308 إلا أنه عد بدل الأخيرين: السنين، والطوفان.

ما فيه من حلاله وحرامه، {قَالُوا سَمِعْنَا} ما فيه، {وَعَصَيْنَا} ما أمرنا به، هذا هو الظاهر. وقال أهل المعاني: معنى (اسمعوا) هاهنا: استجيبوا وأطيعوا، عُبِّر بالسمع؛ لأنه سَبَب الإجابة والطاعة (¬1)، وقد يُعبّر عنهما بالسمع كقول الشاعر: دعوتُ اللهَ حتى خِفتُ أن لا ... يكونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أقولُ (¬2) أي: يجيب (¬3). وقوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} بعض المفسرين يقولون: إنهم تلفظوا بهذه اللفظة، فقالوا: {سَمِعْنَا} لما أطل الجبل فوقهم، فلما كشف عنهم قالوا: {وَعَصَيْنَا} (¬4). وقال الحسن: قالوا: سمعنا بألسنتهم، وعصينا بقلوبهم (¬5). فقال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكنهم لما سمعوا ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 422، "تفسير الثعلبي" 1/ 1034 "تفسير القرطبي" 2/ 27. (¬2) البيت، لشمير بن الحارث الضبي، في "تاج العروس" 11/ 227 (مادة: سمع)، و"نوادر أبي زيد" ص 124، وبلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 1/ 1034 و"لسان العرب" 4/ 2095. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1035. (¬4) بنحوه عن ابن عباس كما في "البحر المحيط" 1/ 308 واستحسنه أبو حيان قال: لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه اهـ. وحكى الواحدي في "الوسيط" 1/ 176 أن المفسرين اتفقوا على أنهم قالوا (سمعنا) لما أطل الجبل فوقهم، فلمَّا كشف عنهم قالوا (عصينا). (¬5) ذكره في "الوسيط" 1/ 176، وذكره في "البحر المحيط" 1/ 308 ولم ينسبه.

الأمر، وتلقَّوه بالعصيان نسب ذلك منهم إلى القول اتساعًا (¬1)، كقول الشاعر: ومَنْهَلٍ ذِبَّانُه في غَيْطَلِ ... يَقُلْنَ للرائدِ أعْشَبْتَ انْزِلِ (¬2) وقال امرؤ القيس: نواعِمُ يُتْبعنَ الهوى سُبُلَ الردَى ... يقلن لأهل الحِلم ضُلًّا بَتْضلال (¬3) قالوا: المعنى: يُضللن ذا الحلم، وليس الغرض حكاية قولهن. وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ} الإشرابُ في اللُّغةِ خَلْطَ لونٍ بلون، يقال: أبيض مُشرَبٌ حُمرةً، إذا كان يعلوه حُمرة (¬4)، المازني (¬5): الإشراب: الخلط، يقال: أُشْرِب ذَا بذَا، وهو مشربٌ حُمرةً إذا خالطت لونه حُمرة. اللّحياني: يقال: فيه شُربةٌ من الحُمرة، إذا كان يُخالطه حُمرة (¬6). وقال أبو عبيدة (¬7)، والزجاج (¬8): معناه سُقُوا حُبَّ العِجل، وأصل ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1035، عزاه لأهل المعاني. (¬2) البيت لأبي النجم العِجْلي. ينظر: "الحيوان" 3/ 314 و 7/ 259، وذكر الشطر الآخر منه "تهذيب اللغة" 3/ 2448، "اللسان" 5/ 2951، "التاج" 2/ 233، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1035 بلا نسبة. والغيطل: شجر ملتف أو عشب ملتف. (¬3) البيت لامرئ القيس في "ديوانه" ص 126. (¬4) ينظر "تاج العروس" 2/ 103. (¬5) هو أبو عثمان بكر بن بقية، وقيل: بكر بن محمد بن عدي بن حبيب المازني، تقدمت ترجمته. (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1848، "اللسان" 4/ 2224 (شرب). (¬7) في "مجاز القرآن" 1/ 47. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 175، وينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1848، "اللسان" 4/ 2224.

الإشرابِ: السَّقْي، واستُعملَ في اللون المختلط بغيره تشبيهًا بالسّقي، لأنه لقال للمشرب حُمرةً: إنه لمسقيّ الدم. والمعنى هاهنا: أنهم خلطوا بحب العجل حتى اختلط بهم، ثم بيّن أنّ مَحَلّ ذلك الحُبّ قلوبهم، وأن الخلط حصل فيها، فأضاف أولًا إلى الجملة، ثم خصّ القلوب، كما تقول: ضُربوا على رؤوسهم، أضفت الضرب أولًا إليهم، ثم بيّنت مَحلّ الضَّرب، وإنما ذكره بلفظ الإشراب إخبارًا عن رسوخ ذلك الحُبّ في قلوبهم كإشراب اللَّوْن لِشِدّة الملازمة (¬1). وقوله تعالى: {الْعِجْلَ} أراد: حُبّ العجل فحذف المضاف (¬2) كقوله: {وَسْئَلِ القَرْيَةَ} (¬3) [يوسف: 82]، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177]، وكقول الشاعر: وكيف تُوَاصل مَنْ أصبَحتْ ... خِلاَلَتُه كأبي مَرْحَبِ (¬4) ¬

_ (¬1) ينظر: "الزاهر" 2/ 101 و"غريب القرآن" ص 48 "البحر المحيط" 2/ 1848 وقال: وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها .. وأما الطعام، فقالوا: هو مجاور لها غير متغلغل فيها، ولا يصل إلى القلب منه إلا اليسير. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 175، ونقله في "اللسان" 4/ 2224، وقال في "البحر المحيط" 1/ 309: وأسند الإشراب إلى العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 61، الطبري في "تفسيره" 1/ 423. (¬4) البيت للنابغة الجعدي، ينظر: "ديوانه" ص 26، "تفسير الثعلبي" 1/ 1035، "الكتاب" لسيبويه 1/ 110، "أمالي القالي" 1/ 192 "معاني القرآن" للزجاج 1/ 93، 175، "لسان العرب" 4/ 2224 مادة (اشرب) و 1/ 252 مادة (برد) قال ابن منظور: وأبو مرحب كنية الظِّل والظل منتقل، ويقال: هو كنية عرقوب، الذي قيل عنه: مواعيد عرقوب، والمراد على الأول: كيف تصاحب من لا يدوم على مودة، وإنما هو منتقل غير ثابت.

وأنشد الفراء: حَسِبْتَ بُغَامَ راحلتي عَنَاقًا ... وما هي وَيْبَ غيرِك بالعَنَاقِ (¬1) وقوله تعالى: {بِكُفْرِهِمْ} قال بعضهم: أي، باعتقادهم التشبيه؛ لأنهم طلبوا ما يتصوّرُ في نفوسهم (¬2). وقال الزجاج: معناه فعل الله ذلك مجازاة لهم على الكفر، كما قال: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفرِهِم} [النساء: 155] (¬3). وقوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معناه: إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمانٌ يأمر بالكُفْر، وهذا تكذيب لهم؛ لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، وذلك أنهم قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، فكذّبهم الله عز وجل، وعيَّرهم بعبادة العجل، وذلك أنّ آباءهم ادعوا الإيمان ثم عبدوا العجل (¬4). وقوله تعالى: {يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} من المجاز وسعة العربية؛ لأن الإيمان لا يأمُر، وهو كقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ¬

_ (¬1) البيت لذي الخرق الطهوي، ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 62، و"لسان العرب" 1/ 320 مادة (بغم)، 5/ 3053 (مادة: عقا) يخاطب الشاعر ذئبًا تبعه في طريقه، وقبله: ألم تعجب لذئب بات يسري ... ليؤذن صاحبًا له باللحاق وقوله ويب كلمة مثل: ويل، تقول: وْيبَك وويب زيد، معناه: ألزمك الله ويلًا، نصب نصب المصدر. بُغام الناقة: صوت لا تفصح به، والعناق: الأنثى من المعز. وقوله: حسبت بغامَ راحلتي عناقًا، أي: بغام عناق. (¬2) ينظر "البحر المحيط" 1/ 308 - 309. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 176. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1036، "الوسيط" 1/ 176.

94

وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وكما تقول في الكلام: بئسما يأمرك العقل بشتم الناسِ، معناه: إِن كنْتَ عاقلًا لم تشتمهم، كذلك المعنى في الآية: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل (¬1). 94 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الآية، كانت اليهود تقول: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111]، وقالوا أيضًا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، فقيل لهم: إن كنتم عند أنفسكم صادقين فتمنوّا الموتَ، فإنّ مَنْ كان لا يشكّ في أنه صائرٌ إلى الجنة، فالجنة آثرُ عنده من الدنيا (¬2). والمعنى: إن كانَتْ لكم نعمة الدار الآخرة، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى: {خَالِصَةً} يجوز أن يكون فاعلةً من الخُلوص، فيكون انتصابها على خبر كان، ويجوز أن يكون مصدرًا، كالكاذبة والصافية والخائنَة، فيكون المعنى: خلصتْ خالِصَةً، ويكون انتصابها على المصدر (¬3). ومعنى الخالصة: الصافية من الشائبة. ¬

_ (¬1) "البحر المحيط" 1/ 309 "الوسيط" 1/ 176. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 177، وينظر في هذا: "تفسير الطبري" 1/ 422 - 423 عن قتادة وأبي العالية والربيع، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 284، "معاني القرآن" للفراء 1/ 62، "تفسير الثعلبي" 1/ 1036، "البحر المحيط" 1/ 310. (¬3) ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 310 الخلاف في إعراب خالصة فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، وقيل: خبر كان، فيجوز في (لكم) أن يتعلق بـ (كانت)، ويجوز أن يتعلق بـ (خالصة) ويجوز أن تكون للتبيين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم أعني، ولم يذكر الانتصاب على المصدرية، وكذا القرطبي في "تفسيره" 2/ 33.

95

ومعنى قوله: {مِّن دُونِ النَّاسِ} الاختصاص كقولك: هذا لي دونك، أي: أنا مختص به (¬1). وقوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} معنى التمني: هو قولٌ يقدر فيه معنًى يحبه الطبع، وذكرنا ما فيه عند قوله: {إِلَّا أَمَانِىَّ} وَيُدَلّ على التمني بأداةٍ تميِّزُه من الإخبار، كقولك: ليت الله غفر لي، (وليت) أصل في التمني (¬2)، وقد يقام مقامها الاستفهام، كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} (¬3) [الأعراف: 53]، وقولك: ألا ماءَ فأشربَه (¬4). 95 - قوله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوهُ أَبَدًا} وذلك أنهم كفروا، وعرفوا أنهم كَفَرة، ولا نصيب لهم في الجنة؛ لأنهم تعمدوا كتمانَ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبَه. وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بما قدموه وعملوه (¬5)، فأضاف ذلك إلى اليد، لأن أكثر جنايات الإنسان تكون بيده، فيضاف إلى اليد كل جناية، وإن لم يكن لليد فيها عمل، فيقال: هذا ما اجترحته يدك (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيه معنى التهديد، أي: عليم بمجازاتهم، وهذا جرى على مستعمل الكلام يقول الرجل لمن أتى إليه مُنْكَرًا: أنا أعرفك، وأنا بصير بك، تأويله: أنا أعلم ما أعاملك به، وإلا ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 310. (¬2) ينظر: "مغني اللبيب" 1/ 285. (¬3) كذا أورده في مقام التمني: "القرطبي" 7/ 218. (¬4) ينظر: "مغني اللبيب" 1/ 69. (¬5) في (أ): (قدموا فأضاف). (¬6) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 312 وبين أن هذا الاستعمال كثير في القرآن، وقيل: المراد: اليد الحقيقية هنا، والذي قدَّمته أيديهم: هو تغيير صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك بكتابة أيديهم.

فالله عليم بالظالمين وغيرهم (¬1). وفي هذه الآية أبيَن دلالة عَلَى صدق نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن الله أنهم لا يتمنون الموت، وقالي: "لو تمنوا الموت لغصَّ كلُّ إنسانٍ بريقه، وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاّ مَاتَ" (¬2)، ثمَّ لم يَرَوا مَعَ حرصهم على تكذيبه أن أحدا أتاه، وقال: يا محمد، أنا أشتهي الموت وأتمناه؛ لأنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لَم يَبقَ منهم صغير ولا كبير إلّا مات، فكان إحجامهم عن ذكر الموت دليلًا على عنادهم الحق وتكذيب من يعرفون صِدقه، ويعلمون صحَّة نبوَّته - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 177. (¬2) الحديث بهذا اللفظ ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1037 عن ابن عباس مرفوعًا وأخرج البيهقي في دلائل النبوة 6/ 274 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه: "لا يقولها رجل منكم الا غص بريقه فمات مكانه" وفي السند الكلبي. وأخرج أحمد 1/ 248 وأبو يعلى 1/ 424 - 425، الطبري في تفسيره 2/ 362 من طريق عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: وفيه: "ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ورأوا مقاعدهم من النار" قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 228: في الصحيح طرف من أدلة، رواه أحمد وأبو يعلى، ورجاله الصحيح. وقال أيضًا 6/ 314: هو الصحيح بغير سياقه، رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح وأصله كما قال في البخاري (4958) كتاب التفسير باب: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} والترمذي كتاب التفسير باب من سورة اقرأ باسم ربك برقم (3348) وأحمد 1/ 368 وليس فيه: ولو أن اليهود ... وأخرج الطبري في تفسيره، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 284 عن ابن عباس موقوفًا: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. وأخرجا عن عكرمة نحوه، وأورد ابن كثير في تفسيره هذه الموقوفات عن ابن عباس ص 115 وصحح أسانيدها إليه. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 176، "تفسير الطبري" 1/ 424 - 425، "البحر المحيط" 1/ 310 - 312.

96

96 - قوله تعالى: {وّلَتَجِدَنَّهُم} دخلت اللام والنون لأن القسم مضمر تقديره: والله لتجدنهم، فهو جواب القسم (¬1)، فأكّد باللام والنون، وهذه النون إذا دخلت عَلَى (يفعل) فُتِحَ لدخولها، وبني الفعل معها على الفتح نحو: ليفعلنّ، وحذْفُ النون التي تَثبُت في نحو (¬2) يفعلان، في الرفع مع النون الشديدة (¬3)، كحذف الضمة في (ليفعلن). ومَعناه: ولَتجدنّ اليهود، يعني: علماءهم، وهؤلاء الذين كتموا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - عن عنَادٍ في حالِ دعائك إياهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة؛ لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار إذا ماتوا في أمر محمدعليه السلام (¬4). والحرص: شدّة الطَلَب، يقال: رجل حريصٌ، وقوم حِرَاص، ومِنْهُ: عليّ حِرَاصًا لَو يُسِرُّون مَقتَلي (¬5) ومنه يقال: حَرَص القَصَّارُ الثوبَ، إذا ألحَّ في الدقِّ إلحاح الحَريص. والحَارِصَة: شَجّةٌ تشقّ الجلد قليلًا، كما يحرص القصَّار الثوب عند الدقّ (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1038. (¬2) ساقطة من (م). (¬3) يعني عند التوكيد فتقول: يفعلانِّ. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178. (¬5) عجز بيت لامرئ القيس من معلقته في "شرح القصائد السبع الطوال" لابن الأنباري ص 49، وصدره: تجاوزتُ أحراسًا إليها ومعشرًا (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 786، "اللسان" 2/ 835 (حرص).

وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قال الفرّاء (¬1)، والزجَّاج (¬2): أي، وأحرص من الذين أشركوا، وهذا كما يقال: هو أسخى الناس ومن هَرِم، أي: وأسخى من هَرِم. وحقيقة الإشراك: عبادة غير الله مع الله، وهو أن يجعَل عبادته مشتركةً بين الله وغيره، ثم يسمّى كلُّ كافر بالله مُشرِكًا من عظم ذنبه حتى ساوى به عظم ذنب المشرك في عبادة الله. وقال بعضهم (¬3): تم الكلامُ عند قوله: {عَلَى حَيَاةٍ}، ثم ابتدأ، فقال (¬4): {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}، أي: من يود، فأضمر الموصول بيَوَدّ كقول ذي الرُمَّة: فظلوا وَمنهم (¬5) دمعُه سابقٌ له ... وآخرُ تُذري دمعَه العينُ بالهَملِ (¬6) أراد: ومنهم من دمعه سابق (¬7). وهذا الوجه يضعف من جهتين: إحداهما: أن المراد بالآية بيان حرص اليهود على الحياة، فلا يحسن قطع الكلام عند قوله: {عَلَى حَيَاةٍ} ثم الإخبار عن غيرهم بحب التعمير. ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" 1/ 62. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 1039. (¬4) في (أ) و (ش): (قال). (¬5) ساقطة من (م). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 141، "تفسير الثعلبي" 1/ 1039، وبلا نسبة في "الدر" 2/ 66، و"همع الهوامع" 1/ 116. وينظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة" 6/ 563. (¬7) "تفسير الثعلبي" 1/ 1039.

والأخرى: أنه لا يجوز حذف الموصول وترك صلته، واستقصاء هذا مذكور عند قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة [النساء: 46] واختلفوا في المعْنيّ بقوله: الذين أشركوا، فقال أبو العالية (¬1)، والربيع (¬2): هم المجوس، وإنما وصفوا بالإشراك؛ لأنهم يقولون بالنور والظلمة، وَيزدَان، وأَهرَمَن، وهم أيضًا موصوفون بالحرص على الحياة، ولهذا جعلوا التحيّة بينهم: زِه هَزَار (¬3) سَال، أي: عِشْ ألف سنة (¬4)، وقال أبن عباس: أراد منكري البَعْث، ومن أنكر البَعث فهو يحب طول الحياة؛ لأنه لا يرجو بعثًا بعد الموت (¬5). قال العلماء: وإنما كانت اليهود أحرص من الذين أشركوا؛ لأن المشركين لا يؤمنون بالمعاد، ولا يخافون النار، واليهود تؤمن، وقد علموا ما جَنَوا فهم يخافون النار (¬6). وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}، أي: أحد اليهود أن (¬7) يعمر ألف سنة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 429، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 179. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 429. (¬3) في (ش): (هزاز). (¬4) أخرج نحوه الثوري ص 47، والطبري في "تفسيره" 1/ 429 - 430، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 179 عن ابن عباس وسعيد بن جبير ورواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم: زه (يعني: زي، الأمر من مصدر "زيستن") هزار سال، يعني: عش ألف سنة، فمعنى زه: عش؛ وهزار: ألف، وسال: سنة. (¬5) أخرجه الطبري 1/ 429، وابن أبي حاتم 1/ 179. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178، و"البحر" 1/ 313. (¬7) في (م): (لو يعمر).

لأنه يعلم أن آخرته قد فسدت عليه، فالبقاء في دار الدنيا آثر عنده من القدوم على العذاب الأليم. وقوله تعالى: {يَوَدُّ} يقال: وَدِدتُ أوَدّ، والمصدر: الوَدّ، والوُدّ، والوِداد، والوَدادة، أنشد الفرّاء (¬1): ودِدت ودادَةً لو أَنّ حظّي ... مِنَ الخُلَّانِ أن لا يَصرمُوني (¬2). ويقال أيضًا: وَدَادًا بالفتح، ووِدَادَةً بالكسر، ويقلّ (¬3) هذان، واستقصاء هذا يذكر عند قوله: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90] (¬4). وقوله تعالى: {لَوْ يُعَمَّرُ} يقال: عَمَّرَه الله تعميرًا، إذا أطال عمره، وأصله من العمارة، الذي هو ضدّ الخراب، والعُمُر: اسم للمدّة التي يُعَمَّرُ فيها البدن بالحياة والنمو (¬5). وقوله تعالى: {أَلْفَ سَنَةٍ} سُمي الألف ألفًا، لأنه تأليف العشرات في عِقْدٍ، ويقال: ثلاثة آلاف إلى العشرة، ثم أُلُوف جمع الجمع، والألف مذكر، وإذا أُنِّثَ على أنه جمع فهو جائز، وكلام العرب فيه التذكير (¬6)، ¬

_ (¬1) نقله عن الفراء صاحب "اللسان" 8/ 4792، ولم أجده في "معاني القرآن" والظاهر أنه في المصادر للفراء. (¬2) البيت بلا نسبة في: "لسان العرب" 8/ 4793. (¬3) في (ش): (ونقل). (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 179، "اللسان" 8/ 4793 (ودد)، "المفردات" للراغب 532، وقال: الود: محبة الشيء، وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. (¬5) ينظر: "المفردات" 350، "اللسان" 5/ 3099 (عمر). (¬6) ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 183، "المفردات" 30، "اللسان" 1/ 108 مادة (ألف).

وقال أبو عبيد: يقال: آلفتُ القوم، إذا جعلتهم ألفًا، وقد آلفوا هم، إذا صاروا ألفًا (¬1). وأما السنة فأصلها والكلام فيها يذكر عند قوله: {لَمْ يَتَسَنَّه} [البقرة: 259]. وخَصَّ الألف هاهُنا بالذكر: لأنه نهاية العُقُود، وقيل: لأنه نهاية ما كانت تدعُو بهِ المجوس لملوكها (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ} الكناية راجعة إلى أحدهم، كأنه قيل: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، كما تقول: ما عبد لله بضاربه أبوه. قال أبو إسحاق: ويصلح أن يكون هو كناية عما جرى ذكره من طول العمر، وهو قوله: (لو يعمر) فيكون: وما تعميره بمزحزحه (¬3)، والفعل يدل على المصدر، كقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وإنه يريد إنأكله، وعلى هذا قوله: {وأَن يُعَمَّرَ} تكرير لذكر التعمير، فيكون كقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} أعاد المصدر بعد ما كنى عنه (¬4). وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون هو كناية عن الشأن والأمر في قول الكسائي، والمعنى عنده: وما الشأن بمزحزحه من العذاب أن يعمَّر (¬5). قال: ويجوز أن يكون عمادًا في قول الفراء. والعرب تدخل (هو) للعماد مع (ما) في الجحد و (هل) و (واو الحال)، فيقولون: هل هو قائم ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 183، "اللسان" 1/ 108. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178، "تفسير الطبري" 1/ 429، "تفسير الثعلبي" 1/ 1039، "زاد المسير" 1/ 117. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 315. (¬5) وأجاز هذا الوجه أبو علي كما في "البحر المحيط" 1/ 315، وقال في التبيان 1/ 78: ولا يجوز أن يكون هو ضمير الشأن لأن المفسر لضمير الشأن مبتدأ وخبر، ودخول الباء في بمزحزحه يمنع من ذلك.

97

عبد الله؟ وما هو بقائم زيد، ولقيت محمدًا وهو حسن وجهه (¬1). واحتج بما أنشده الفراء: فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بما هاهنا رأسُ (¬2) من أبيات ذكرها (¬3). والزحزحة الإبعاد والتنحية، يقال: زحّه وزحزحه فتزحزح: إذا تنحى (¬4). وقوله تعالى: {أَن يُعَمَّرَ} في موضع رفع بمزحزحه كما يرتفع الفاعل بالفعل؛ لأن المعنى: ما يزحزحه تعميره (¬5). 97 - وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية، سألت اليهود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يأتيه من الملائكة فقال: جبريل فقالوا: هو عدونا، ولو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 51 - 52، وينظر أيضًا: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 179، و"التبيان" 1/ 78. (¬2) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 51 - 52 فقال: وأنشدني بعض العرب، والأبيات: فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيتهَ ... على العِيسِ فىِ آباطِها عَرَقٌ يَبْسُ بأن السُّلامِيَّ الذي بضَرِيَّةٍ ... أميَر الحِمَى قد باع حقي بني عبسِ بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ... فهل هو مرفوع بما هاهنا رأسُ (¬3) ابن الأنباري. قال في "البحر المحيط" 1/ 316: وتلخص في هذا القول الضمير، أهو عائد على أحدهم أو على المصدر المفهوم من يعمر، أو على ما بعده من قوله: أن يعمر أو هو ضمير الشأن، أو عماد، أقوال خمسة أظهرها الأول. (¬4) ينظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 179، "البحر المحيط" 1/ 298، "اللسان" 3/ 1816، "القاموس" 222. (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 315 قال: وأجازوا أن يكون هو ضميرًا عائدًا على المصدر المفهوم من قوله: لو يعمر. وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهين من كونه اسم ما، أو مبتدأ.

أتاك بالوحي ميكائيل لتقبلنا منك، فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬1). وجبريل فيه لغات (¬2)، بعضها قرئ به (¬3)، وبعضها لم يقرأ به (¬4)، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 274، والنسائي في "السنن الكبرى"، في عشرة النساء، كما في "تحفة الأشراف" 4/ 394، والترمذي (3117) كتاب باب ومن "التفسير"، سورة الرعد وقال: حسن غريب، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 237 وقال: غريب من حديث بكير، تفرد به بكير، الطبري في تفسيره 1/ 43 - 432، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 180، وعبد بن حميد كما ذكره ابن كثير في التفسير، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الطبري في تفسيره. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 242: رواه الترمذي باختصار ورواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (3117) قال الطبري في تفسيره 1/ 431: أجمع أهل العلم جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك وحكى الإجماع أيضًا أبو حيان في "البحر" 1/ 319 قال الحافظ ابن حجر في "العجاب" 1/ 298 بعد أن ذكر الروايات في سبب النزول: وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قول الجمهور: أن عداوتهم لكونه ينزل العذاب. ثانيها: كونه حال دون قتل بختنصّر الذي خَرّب مسجدهم، وسفك دمائهم، وسبى ذراريهم. ثالثها: كونه عدل بالنبوة عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل. (¬2) استقصى اللغات في جبريل وميكائيل: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1044 وما بعدها، وأبو حيان في "البحر" 1/ 318، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 117 - 119. (¬3) قرأ نافع وأبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وحفص، بكسر الجيم والراء بلا همز، وقرأ ابن كثير كذلك ولكن مع فتح الجيم، وقرأ شعبة بفتح الجيم والراء وبعدها همزة مكسورة، وقرأ كذلك حمزة والكسائي وخلف، ولكن بزيادة ياء ساكنة بعد الهمزة، ولحمزة إن وقف عليه التسهيل فقط. وأما ميكال، فقد قرأ نافع وأبو جعفر بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء بعدها، وقرأ حفص وأبو عمرو ويعقوب من غير همز ولا ياء، وقرأ الباقون بهمزة مكسورة بعد الألف وياء ساكنة بعدها، ولحمزة فيه التسهيل مع المد والقصر. ينظر: "السبعة" ص 166 - 167، و"النشر" 2/ 219، و"البدور الزاهرة" ص 46. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 179، وذلك مثل: قراعة ابن محيصن (جبرئل) =

وكذلك ميكائيل وإسرائيل. وهذه أسماء عجمية (¬1) وقعت إلى العرب (¬2) (¬3)، فإذا أُتي بها على ما في أبنية العرب مثلُه كان أذهب في باب التعريب، يقوي ذلك: تغييرهم للحروف المفردة التي ليست من حروفهم، كتغييرهم الحرف الذي بين الفاء والباء في قلبهم إياه إلى الباء المحضة أو الفاء المحضة، كقولهم: البِرِنْدُ والفِرِنْدُ (¬4)، وكذلك تغييرهم الحركة التي ليست في كلامهم، كالحركة التي في قول العجم: رُوز وآشُوب (¬5) يخلصونها ضَمّةً، فكما (¬6) غيروا الحروف والحركات إلى ما في كلامهم فكذلك القياس في أبنية هذه الأسماء (¬7)، إلا أنهم قد تركوا أشياء من العجمية على أبنية العجم التي ليست من أبنية العرب كالآجُرِّ (¬8) والإِبْريسَم (¬9) والفِرِنْد (¬10)، وليس في الكلام على هذه ¬

_ = وقراءة الحسن (جبرائل). ينظر: "المحستب" 1/ 97، و"القراءات الشاذة" للقاضي ص 31. (¬1) في (م): (أسماء عربية وعجمية). (¬2) في (م): (للعرب). (¬3) في "الحجة": وهذه أسماء معربة. (¬4) في (ش): (القرند). (¬5) في "الحجة" (زورْأ اشُوْب). قال المحققان: في المعجم في اللغة الفارسية: زور: قوة، غلبة، وآشوب: من أشوفتين: الاضطراب. (¬6) في (م) و (ش): (كما). (¬7) قال ابن جني في "المحتسب" 1/ 97: عن العرب إذا نطقت بالأعجمي خَلّطَتْ فيه .. وذكرنا أنهم قد يحرِّفون ما هو من كلامهم فكيف مما هو من كلام غيرهم. وقال في 1/ 98: وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا. (¬8) الآجُرّ: اللَّبِنُ إذا طُبخ، بمد الهمزة، والتشديد أشهر من التخفيف، الواحدة آجُرَّة وهو مُعَرّب، ينظر "المصباح المنير" ص 6. (¬9) الإبْرِيسَمُ: بفتح السين وضمها، هو الحرير، أو معرَّبٌ مُفَّرِّحٌ للبدن، معتدلٌ مُقَوٍّ للبَصر إذا اكتحل به، "القاموس" 1079. (¬10) الفِرِنْد: بكسر الفاء والراء، السيف وجواهره ووشيه. ينظر: "القاموس" ص 306.

الأبنية. فمن قال جِبْرِيل بكسر الجيم وحذف الهمز كان على لفظ قِنْديل وبِرْطيل (¬1)، فإذا فتحتها فليس لهذا البناء مِثْلٌ في كلام العرب، فيكون هذا من باب الآجُرِّ والفرند ونحو ذلك من المُعَرَّب، الذي لم يجئ له مِثْل في كلامهم (¬2). ومن قال جَبْرَئيل: على وزن جبرعل كان على وزن: جَحْمَرِش (¬3) (¬4) وصَهْصَلْق (¬5). وجَبْرَئيل على وزن: عَندَليب (¬6)، والخارج من الأبنية العربية: جَبْريل، ألا ترى أنه ليس في أبنيتهم مثل مَنْدِيل، إلا أنه مُتَّجِهٌ وإن لم تجئ في أبنيتهم، وكلا المذهبين حسن لاستعمال العرب لهما جميعًا، وإن كان الموافق لأبنيتهم أذهب في باب التعريب (¬7)، وقد جاء في أشعارهم الأمران (¬8): قال جرير: عبدوا الصّليبَ وكذّبوا بمحمدٍ ... وبِجبْرَئيلَ وكذّبوا ميكالا (¬9) ¬

_ (¬1) البِرطِيل: بكسر الباء: الرشوة، ينظر: "المصباح المنير" ص 42. (¬2) هذا كله كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 164، 165. (¬3) في (ش): (جمحرش) وفي (م): (جمحرين). (¬4) الجَحْمَرِشُ: العجوز الكبيرة، والمرأة السمجة، والأرنب المرضع، ومن الأفاعي: الخشناء، وجمعه: جَحَامرِ ينظر: "القاموس" ص 586. (¬5) الصهصلق: العجوز الصَّخَّابة، ومن الأصوات: الشديد. ينظر: "القاموس" ص 306. (¬6) العَنْدَلِيبُ: طائرٌ يقال له: الهزارُ، يصَوِّت ألوانًا، وجمعه: عَنَادِل: "القاموس" 118. (¬7) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 165. (¬8) في "الحجة" الأمران: ما هو على لفظ التعريب، وما هو خارج عن ذلك. (¬9) البيت لجرير من قصيدة له في هجاء تغلب، ينظر: "شرح ديوان جرير" 361،=

وقال حسان (¬1): وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروحُ القُدْس ليس به خفاءُ (¬2) وقال كعب بن مالك: ويوم بدر لقيناكم لنا مَدَدٌ ... فيه مع النصرِ جبريل وميكالُ (¬3) قال أبو علي الفارسي (¬4): وليس قول من قال: إن إيل وإل اسم الله وأضيف ما قبلهما إليهما، كما يقال عبد الله (¬5) بمستقيم من وجهين: ¬

_ =، "إعراب القرآن" للزجاج 1/ 179، "تفسير الطبري" 1/ 436، "الحجة" لأبي علي2/ 167، "البحر المحيط" لأبي حيان 1/ 486. (¬1) هو حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد الصحابي، شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، دافع بشعره عن الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه لم يشهد معه مشهدا لعلة أصابته. ينظر: "الإصابة" 1/ 326، و"الأعلام" 2/ 175. (¬2) البيت لحسان بن ثابت، في "ديوانه" ص 75، و"لسان العرب" 7/ 3892 (مادة: كفأ)، 1/ 535 (مادة: جبر). ورواية الزجاج وأبي علي: ليس له كفاء، ونفى صاحب "الخزانة" 1/ 199 أن يكون البيت لحسان. (¬3) نَسب أبو علي البيت لكعب، ونُسِب لحسان في "ديوانه" ص 204 وجبريل بدل ميكال، وكذا نسبه في "لسان العرب" 7/ 4252 (مادة: مكا). ورواية "اللسان" ميكال وجبريل. (¬4) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 167 - 168، وقال في "البحر المحيط"1/ 319: (فإنه نزله) ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لابد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ... وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، بالتقدير: فعداوته لا وجه لها أو ما أشبه هذا التقدير. (¬5) ذكر ذلك الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 163، وقال: وهذا قول ابن عباس، وليس له من المفسرين مخالف، ونقله عنه القرطبي في "تفسيره" 2/ 33 ثم نقل خلافه، ونقل ابن كثير في تفسيره الخلاف أيضًا. ونقل هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 317، وينظر: "الإجماع في التفسير" ص 179 - 182.

أحدهما: أن إيل وإل (¬1) لا يعرفان في أسماء الله سبحانه في اللغة العربية. والآخر: أنه لو كان كذلك لم ينصرف (¬2) آخر الاسم في وجوه العربية، ولكان الآخر مجرورًا، كما أن عبد الله كذلك (¬3). وهذا الذي قاله أبو علي أراد أنه ليس في اللغة العربية على الوجه الذي ذكروا بمستقيم. وقد قال جماعة من أهل العلم: جَبر وميك: هو العبد بالسُريانية، وإيل هو الله عز وجل (¬4). وروي ذلك من خبر مرفوع، قال: إنما جبريل وميكائل كقولك: عبد الله وعبد الرحمن (¬5). قوله تعالى: {فَإِنَّهُ} يعني جبريل {نَزَّلَهُ} يعنى: القرآن، كنى عنه ولم يجئ له ذكر، وهو كثير، وقيل: فإن الله نزل جبريل على قلبك (¬6). وقيل: جواب من مُضمر، أراد: من كان عدُوًّا لجبريل فليخف، أو ليَمُتْ غيظا أو ما أشبهه من الإضمار (¬7). وقوله تعالى: {عَلَى قَلْبِكَ} يعني: قلبَ محمد - صلى الله عليه وسلم - قال الفراء: ولو كان: على قلبي، كان صوابًا، مثله في الكلام: لا تقل للقوم: إن الخَيْر ¬

_ (¬1) من قوله: (اسم الله وأضيف) .. ساقط من (ش). (¬2) في (ش): (ينصرف). (¬3) "الحجة" 1/ 169، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 317. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 436 - 437، "تفسير الثعلبي" 1/ 1048، "زاد المسير" 1/ 119، و"الدر المنثور" 1/ 176. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1048 بسنده من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي عن معاوية يرفعه، ونسبه في "الدر المنثور" 1/ 176 إلى الديلمي عن أبي أمامة، وهو من مظان الحديث الضعيف والله أعلم. (¬6) ينظر: "التفسير الكبير" للرازي 3/ 196، "البحر المحيط" 1/ 320 ورجَّح الأول. (¬7) ينظر: "التبيان" 1/ 79.

98

عندي وعندك، أما عندك فجائز؛ لأنه كالخطاب، وأما عندي فهو قول المتكلم بعينه (¬1)، وقد تقدم لهذا نظائر. وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال ابن عباس: لما قبله من الكتب التي أنزلها الله عز وجل (¬2). وفي قوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} رد على اليهود حين قالوا: إن جبريل ينزك بالحرب والشدة، فقيل: إنه وإن كان ينزل بالحرب والشدة على الكافرين فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين (¬3). 98 - قوله تعالى: {مَن كاَنَ عَدُوًّا} أي: معاديًا؛ لأن العدوَّ فعول بمعنى فاعل، ولا يصح العداوة لله على الحقيقة؛ لأن العداوةَ للشيء طلب الإضرار به بُغْضًا له، وإنما قيل للكافر: عدوّ الله، من عداوة الله له، أو لأنه بفعل فعل المُعَادي (¬4). وقوله تعالى: {وَمَلاَئِكَتِهِ} يريد: كجبريل وميكائيل، وذلك أن اليهود قالت لعمر - رضي الله عنه -: إن صاحب محمد من الملائكة جبريلُ، وهو عدوّنا، يُطْلعُ محمدًا على سرّنا، وهو صاحب كل عذاب وخسف وسَنَةٍ وشدّة، فقالٍ عمر: فإني أَشْهد أن من كان عدوًّا لجبريل فهو عدوُ ميكائيل، ومن كان عدوًّا لهما فإن الله عدو له، ثم (¬5) أتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد جبريل قد سبقه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 63، وينظر: "تفسير الرازي" 3/ 196 "البحر المحيط" 1/ 320. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 438 - 439، وينظر: "تفسير الرازي" 3/ 197. (¬3) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 321. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 319. (¬5) في (م): (وأتى).

بالوحي، فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات، وقال: "لقد وافقك ربك يا عمر"، فقال عمر: لقد رأيتني في دين الله أصلب من الحجر (¬1). وقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ} يعني: محمدًا وعيسى كفرت بهما اليهود. وقوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬2) أخرجهما من الجملة بالذكر (¬3) تخصيصًا وتشريفًا (¬4)، كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وكقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، بعد قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النجم:31]. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} قال محمد بن يزيد (¬5): ظهرت الكناية في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ} لأن الفاء جواب الجزاء وما بعدها مستأنف، فلما كان مبتدأً لم يقع (¬6) فيه كناية عن ظاهر سبقها، لأنه ليس ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 433 - 434، عن قتادة والسدي بنحوه، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 174 لسفيان بن عيينة عن عكرمة. وذكر القصة بطولها الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1044، ورواه الواحدي في "أسباب النزول" ص 32 بسنده عن الشعبي عن عمر، وهو لم يلق عمر. ولقصة عمر هذه طرق كثيرة. وقد قوى الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 166القصة بطرقها. وينظر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 140، 141، و"الدر المنثور" 1/ 174 - 175، وقال: صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر. (¬2) في (أ): (وميكايل)، وفي (ش): (وميكائيل). (¬3) في (م): (من الذكر). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1049، "زاد المسير" 1/ 119، "التفسير الكبير" للرازي 1/ 198، وذكر جوابًا ثانيًا وهو: أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما، والآية نزلت بسببهما فلا جرم نص على اسميهما. وقد أطال البحث في ذلك أبو حيان في "البحر" 1/ 322. (¬5) يعني المبرد. (¬6) في (م): (لم يكن يقع).

سبيل المكني أن يكون مبتدأً، بل سبيله أن يتقدمه ظاهر، والعرب تقول: إن ضربت زيدًا فإن زيدًا يضربك، إن ضربت زيدًا فإنه يضربك، فالذي بقول بالإظهار يحتج بأن الذي بعد الفاء مستأنف، و (إنَّ) من (¬1) علامات الاستئناف، والاستئناف (¬2) يكون بالظاهر لا بالمكني. والذي يقول بالكناية يحتج بأن جواب الجزاء ملابسٌ للأوَّل في المعنى لتعلقه به، فالذي في الجزاء يكفي من الذي في الجواب، فتصح الكناية لهذه العلة (¬3). وقال غيره: إنما أظهر الكناية لأنه ذكر الملائكة والرسل، فلو كنى لذهبَ الوهمُ إلى واحد من الملائكةِ، أو الرسلِ، أو إلى جبريل، أو إلى ميكائيل، فأظهر الكناية ليزيل اللبس (¬4). ومعنى الآية: من كان عدوًا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له، لأن عدوّ الواحد عدو الجميع، وعدو محمدٍ عدوُّ الله. ومثله قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 136]؛ لأن الكافر بالواحد كافر بالكل (¬5). والواو هاهنا بمعنى أو (¬6). وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ولم يقل: فهم أعداء له؛ لأنه تولى تلك العداوة بنفسه، وكفى رسله وملائكته أمر من عاداهم. وإنما لم يقل: فإن الله عدو لهم أوله بالكناية؛ ليدل مع أنه عدو لهم على أنهم كافرون بهذه العداوة (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): (لأن). (¬2) ساقطة من (م). (¬3) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 322. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 322. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1050، "البحر المحيط" 1/ 322. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 1050، وذكر الرازي في "التفسير الكبير" 3/ 198: أن الواو، قيل: إنها للعطف، وقيل: بمعنى أو. (¬7) ينظر: "زاد المسير" 1/ 119، و"التفسير الكبير" للرازي 3/ 198، و"تفسير ابن كثير" 1/ 141.

99

99 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال ابن عباس: هذا جواب لابن صوريا (¬1)، حيث قال لرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك لها، فأنزل الله هذه الآية (¬2). والبينات: جمع بينة، والبين: من باب الصيّب والسيّد، وقد مرّ (¬3). والبينة: الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة؛ لأنها من إبانة أحد شيئين عن الآخر، فيزول الالتباس بها. واستقصاء الكلام في هذا عند قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]. وقوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن أديانهم، واليهود خرجت بالكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عن شريعة موسى عليه السلام (¬4). 100 - قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا} قال سيبويه (¬5): الواو فيه واو العطف، إلا أن ألف الاستفهام دخل عليها؛ لأن لها صدر الكلام، وهي الأصل في الاستفهام، يدل على ذلك: أن الواو تدخل على (هل)، كقولك: وهل زيد عاقل؟ ولا يجوز: وأزيد عاقل؛ لأن الألف أقوى في ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن صوريا، تقدمت ترجمته [البقرة:1]. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 441، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 183 من طريق سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1051 والواحدي في "أسباب النزول" ص 34، والسيوطي في "لباب القول" ص 18. (¬3) في تفسير الآية رقم 19. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 441. (¬5) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 3/ 187، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 147، "تفسير الطبري" 1/ 441 - 442، و"إعراب مشكل القرآن" لمكي 1/ 105، "التبيان" للعكبري 1/ 79.

الاستفهام (¬1). و {كُلَّمَا} ظرف، والعامل فيه: {نَبَذَهُ} (¬2) {عَاهَدُوا}، لأنه متمم لما، إما صلةً، وإما صِفَةً. وقوله تعالى: {عَاهَدُوا عَهْدًا} قال المفسرون: إن اليهود عاهدوا فيما بينهم، لئن خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - ليؤمنُنّ به، وليكونُنّ (¬3) معه على مشركي العرب، فلما بُعِثَ نقضوا العهد وكفروا به (¬4). وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود، فنقضوها كفعل قريظة والنضير، عاهدوا ألا يعينوا عليه أحدًا، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشًا يوم الخندق (¬5). واتصال هذه الآية بما قبلها: من حيث إنهم كفروا بنقض العهد كما كفروا بالآيات. وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} إنما دخلت (بل) ههنا لأنه لما قال: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} دل على أنه كفر ذلك الفريق بالنقض، فقال: ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 181، و"تفسير الثعلبي" 1/ 1051، "القرطبي" 2/ 39 وذكر أبو حيان في "البحر" 1/ 323 الخلاف في هذه الواو: فقيل هي زائدة، قاله الأخفش، وقيل: هي أو الساكنة الواو حركت بالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي، وكلا القولين ضعيف، وقيل: واو العطف وهو الصحيح. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 181، "إعراب مشكل القرآن" 1/ 106. (¬3) في (ش): (لنؤمنن به ولنكونن). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1052، "الوسيط" 1/ 181، "زاد المسير" 1/ 120، القرطبي 2/ 35 والرازي في "تفسيره" 2/ 217. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1053، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 105، الرازي في "تفسيره" 3/ 201، القرطبي في "تفسيره" 2/ 40 وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 323.

101

بل أكثرهم كفار بالنقض. وحَسُن هذا التفصيل؛ لأن منهم من نقض عنادًا، ومنهم من نقض جهلًا. وقيل: معناه: كفر فريق بالنقض وكفر أكثرهم بالجحد للحق، وهو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 101 - قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} جائز أن يكون المراد بقوله: {كِتَابَ الله}: القرآن، وجائز أن يكون المراد به: التوراة؛ لأن الذين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - نبذوا التوراة (¬2). ويقال لكل من استخف بشيء (¬3) ولم يعمل به: نبذه وراء ظهره (¬4). قال الشعبي (¬5): هو بين أيديهم يقرؤونها، ولكن نبذوا العمل به (¬6). وقال سفيان بن عُيينة: (¬7) أدرجوه في الحرير والديباج، وحلَّوه بالذهب والفضة، ولم يُحِلّوا حلاله ولم يحرّموا حرامه، فذلك النبذ (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 324، وذكر احتمالا آخر. (¬2) هذا كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 182، وينظر: "زاد المسير" 1/ 120، و"تفسير الرازي" 1/ 202. (¬3) في (م): (استخف بشيء نبذه ولم يعمل). (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 443، "تفسير الثعلبي" 1/ 1053، "تفسير الرازي" 3/ 201. (¬5) هو: أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، تقدمت ترجمته [البقرة: 7]. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1054، البغوي في "تفسيره" 1/ 126وفي بعض نسخ الثعلبي في "تفسيره" يقرؤونه، وفي بعضها: يقرؤونها. (¬7) هو: الإمام أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران، ميمون الهلالي الكوفي المجتهد، شيخ الإسلام، من كبار المحدثين الثقات، كان واسع العلم، وله تفسير، توفي سنة 198 هـ. ينظر: "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 196، و"السير" 8/ 454. (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1054، "البغوي" 1/ 126.

102

وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أعلَمَ أنهم نبذوا كتاب الله، ورفضوه على علم به، عداوهً للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعنى بالفريق في هذه الآية: علماء اليهود الذين تواطؤوا على كتمان أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 102 - قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} الآية، هذه الآية قد أشكل علم إعرابها ومعناها على كثيرٍ من الناس، حتى ترك أكثر أهل العلم والنحو الكلام فيها لصعوبتها. وتكلم آخرون فيها (¬3). قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر (¬4). وقوله تعالى: {تَتْلُوا} أي: تقرأ (¬5). وقال ابن عباس: تتبع وتعمل به (¬6). وكذلك قال في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: يتبعونه حق اتباعه (¬7)، فيعملون به حق عمله. وقال أبو عُبَيدة: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: ما تتكلم به. كقولك: فلان يتلو كتاب الله، أي: يقرؤه ويتكلم به (¬8). وقال عطاء: ما تُحدّث ¬

_ (¬1) من كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 182. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 442. (¬3) قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 185: فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم، وإنما تكلمنا على مذاهبهم. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183. (¬5) وبه قال مجاهد وقتادة وعطاء، وروي عن ابن عباس، ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 447، و"تفسير ابن كثير" ص 144 - 146. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 447 وذكره الثعلبي في "تفسيره" 14/ 1055. (¬7) رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 218، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 145. (¬8) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة بمعناه 1/ 48.

وتَقُصّ (¬1). وهذه أقوال متقاربة (¬2). قال الزجاج: وفيه إضمار، أراد: واتبعوا ما كانت تتلوا (¬3)، وقيل: إنه لفظ الاستقبال والمراد به المضي، أي: تلت (¬4)، كقول الشاعر: فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ (¬5) أي: فلقد كان (¬6). وكقوله: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214]، أي: حتى قال. وقال أبو علي (¬7) فيما استدرك على أبي إسحاق الآية: تحتمل تأويلين، كلُّ واحد منهما أسوغ مما ذكره وذهب إليه. أحدهما: أن يكون {تَتلُوا} بمعنى: تلت فيكون كقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91]. أي: فلم قتلتم، إلا أنه لما اتصل بقوله: {مِن ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره عنه 1/ 447، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1055. (¬2) ينظر الطبري في تفسيره 1/ 447 - 448، وذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 326: أنها متقاربة. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183 بتصرف، وليس عنده قوله: وفيه إضمار، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 326. (¬4) ينظر: "التبيان" للعكبري 1/ 80، "البحر المحيط" 1/ 326. (¬5) صدر البيت: وانْضَح جوانبَ قبرِه بدمائها وهو لزياد الأعجم في "ديوانه" ص 54، "تفسير الثعلبي" 1/ 1055، و"البيان" 1/ 133، "تفسير القرطبي" 2/ 37، "الدر المصون"1/ 318، "أمالي المرتضي" 1/ 301، "الشعر والشعراء" 1/ 279، "لسان العرب" 7/ 3962، ينظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" 2/ 126. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 1055. (¬7) أي: في كتابه "الإغفال".

قَبْلُ} علم أن المراد بمثال المضارع الماضي، فكذلك هنا (¬1) كان يعلم باتصال الكلام بعهد سليمان؛ لأن المعنى (¬2): على عهد ملك سليمان، أو في زمن ملك سليمان، على تقدير (¬3) حذف المضاف (¬4)، وكان ذلك يدل على أن مثال المضارع يراد به الماضي. ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]. يجوز عندي أن يكون المعنى: إنّ الذين كفروا وصدوا. فلما كان المعطوف عليه ماضيًا دلّ على أن المراد بالمضارع أيضًا الماضي، ويقوي هذا قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] (¬5). ويجوز أن يكون المضارع على بابه، كأنه قال: إنّ الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدُّون مع ما تقدم من كفرهم. والأول كأنه أقوى (¬6). والإرادة بمثال المضارع الماضي مذهب سيبويه؛ لأنه قال (¬7): وقد تقع (¬8) نفْعَل في موضع فَعلت في بعض المواضع، ومثل ذلك: قول رجل ¬

_ (¬1) ساقطة من (ش). (¬2) في "الإغفال": في من قال إن المعنى على عهد ملك سليمان. (¬3) في "الإغفال": على من لم يقدر. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183، "التبيان" للعكبري 1/ 80، "البحر المحيط" 1/ 326. (¬5) تتمة الكلام في "الإغفال" فخبر اسم إن مضمرة، هو من نحو ما ظهر من قوله: أضل أعمالهم، وحسن الحذف لطول الكلام بالعلة. (¬6) "الإغفال" ص321 - 322. (¬7) في "الإغفال" وهذا الذي ذكرته لك من الإرادة بمثال المضارع الماضي مذهب سيبويه وقوله. (¬8) في (ش): (يقع تفعل).

من بني سلول: ولقد أمرُّ على اللئيم يَسُبّني ... فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنِيني (¬1) (¬2) على معنى: ولقد مررت (¬3). قال أبو علي: فسألت أبا بكر عما ذكره سيبويه من هذا، فقال: الأفعال جنس واحد، فكان يجب أن يكون على بناء واحد؛ لكنها غُيّرت بتغيير الأزمنة وقُسِّمت بتقاسيمها، لما كان ذلك في الإيضاح أبلغ، فخُصّ كلُّ قسم من ذلك بمثال لا يقع واحد منها في موضع الآخر، إلا أن يُضمّ إليه حرف يكون دليلًا على ما أريد به (¬4)، فيصير الحرف كأنه يقوم مقام البناء المراد، إذ كان يَدُلّ عليه كما يدلّ البناء، نحو: والله لا فعلت، فقولك: فعلت فعلٌ ماض وقع في موضع مستقبل، فلما كانت قبلها (¬5) (لا) عُلم أنه يُرادُ به الاستقبال؛ لأن (لا) إنما (¬6) تكون نفيًا لما يستقبل (¬7)، فلما كانت نفيًا للمستقبل ووقع بعدها ماض علمت أنه يراد ¬

_ (¬1) البيت لرجل من سلول في "الكتاب" 3/ 24، و"الخصائص" 3/ 330، و"الإغفال" 1/ 323، و"الدر" 1/ 78، ولشمر بن عمرو الحنفي في "الأصمعيات" ص 126، ولم ينسب في بعضها: نحو "تفسير الطبري" 1/ 420، وروايته وحده: فمضيت عنه وقلت. وبعد هذا البيت: غضبان ممتلئًا عليّ إهابه ... إني وربِّك سُخْطُه يُرضيني (¬2) " الكتاب" لسيبويه 3/ 24. (¬3) "الإغفال" ص 322، 323 وقال سيبويه في "الكتاب" 1/ 504: يجوز أن يجعل أفعل في موضع فعلت، ولا يجوز فعلت في موضع أفعل إلا في مجازاة، نحو إن فعلت فعلت. (¬4) في "الإغفال" على ما أريد به الحرف. (¬5) في (ش): (في قبلها). (¬6) إنما ساقطة من (ش). (¬7) في "الإغفال": لما يستقبل مما أوجب القسم.

به الاستقبال (¬1). قال أبو علي: وقد اتسعوا في إقامة أمثلة الأفعال، بعضها مقام بعض (¬2)، من ذلك: إقامتهم مثال الأمر مقام الخبر، نحو قولهم: أكرِمْ بزيد وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ} [مريم:38]، ومعنى هذا: كرُمَ زيد، وسمعوا (¬3) وأبصروا، أي: صار زيد ذا كرم، وصار هؤلاء المستحقون لأن يمدحوا بهذا المدح ذوي (¬4) أسماع وأبصار (¬5). ووقع مثال الأمر مقام الخبر، كما وقع مثال الخبر مقام الأمر في مثل: غفر الله لزيد، وقطع الله يده، وفي التنزيل: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]. وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] (¬6). فكذلك تَتْلُوا في هذه الآية، يجوز أن تكون بمعنى (تلتْ) كهذه الأشياء التي أريتكها، وهذا وجه. وأما الوجه الآخر: فعلى أن يكون يفعل على بابه، لا تريد به فَعَل كما أردت في الأول، ولكن تجعله حكايةً للحال وإن كان ماضيًا، وهذا الوجه في السَّعَة والكثرة كالأول وأسوغ (¬7)، كأنه حكى الفعل الذي كان يُحدّث به عنهم وهو للحال. ونظير هذا قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ} [البقرة: ¬

_ (¬1) "الإغفال" ص 323، 324. (¬2) في "الإغفال": اتساعًا أشد مما قدمنا. (¬3) في "الإغفال" فمعنى هذا: أكْرم زيد وأسمعوا. وما في نسخة البسيط أصوب. (¬4) في نسخة "الإغفال" جاء النص مُحرّفًا: وصار هؤلاء المستحقون الآن يمدحون بهذا المدح، ويثنى عليهم بهذا الثناء دون أسماع وأبصار. (¬5) "الإغفال" ص 326. (¬6) "الإغفال" ص 327 وما بعدها. بتصرف كبير. (¬7) في "الإغفال": أو أسوغ.

49]، فقوله: {يَسُومُونَكُمْ} حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه، وإن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب، وموضع الفعل نصب بالحال. ونظير هذا أيضًا من حكاية الحال: قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فأشير إليهما بما (¬1) يشار إلى الحاضر؛ إرادة لحكاية الحال على وجهها، وإن كانت قد تقدمت (¬2). ومن هذا أيضًا: إضافة (إذ) إلى تقول وإلى جمع المضارع في نحو: {إِذ تَقُولُ لِلمُؤمِنِينَ} [آل عمران: 124] أضيف (إذ) إلى فعل الحال إرادةً لحكايتها (¬3)، ولولا ذلك لتنافى هذا الكلام؛ لأن (إذ) لما مضى و (تقول) لما يستقبل. ومن هذا أيضًا: ما أنشده أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي: جاريةٌ في رمضانَ الماضي ... تُقطِّع الحديث بالإيماض (¬4) وهذا وجه ثانٍ نظير ما يحسن حمل الآية عليه (¬5). ¬

_ (¬1) في "الإغفال": كما. (¬2) في "الإغفال" لحكاية القصة على جهتها، وإن كانت متقدمًا كونها. (¬3) من قوله: إرادة لحكاية الحال على وجهها ... ساقط من (أ)، (م). (¬4) ذكره في "الإغفال" ص 332 بهذه الصيغة ووقع في نوادر ابن الأعرابي غير منسوب كما في "شرح ابن يعيش" 6/ 93، ووقع في "ديوان رؤبة" مما نسب إليه ص 176: جارية في درعها الفضفاض ... تقطع الحديث بالإيماض ونسب البغدادي 3/ 483 الشاهد نقلًا عن هشام اللخمي لرؤبة هكذا: لقد أتى في رمضان الماضي ... جارية في درعها الفضفاض تقطع الحديث بالإيماض أبيض من أخت بنىِ إباض وينظر أيضًا: "مغنى اللبيب" 2/ 691، و"الإنصاف" 1/ 124، مع اختلاف في الرواية، وحاشية "الإغفال" 332. (¬5) "الإغفال" ص331، 332. بتصرف.

فإن قلت: ما تنكر أن يكون ما ذكره أبو إسحاق من إضمار (كان) أيضًا جائزًا، فيكون ذلك وجهًا ثالثًا. قيل: ذلك لا يجوز؛ لأن المضمر لا دلالة عليه، وإنما يسوغ الإضمار إذا كانت عليه دلالة يكون بها كالمظهر، وسيبويه منع إجازة هذا، فقال: واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول: عبدَ الله المقتول، وأنت تريد: كن عبدَ الله المقتول (¬1)، فإذا لم يجز هذا، لم يجز هذا مع أن المنصوب يدل على ناصبه، فأن لا يجوز ما ذهب إليه في الآية أولى (¬2). فإن قلت: فقد قالوا: إنْ سيفًا فسيفٌ، وإنْ خنجرًا فخنجرٌ، فأضمروا، قيل: ليس ذلك من هذا في شيء؛ لأن (إن) مما يعلم أنه لا يليه إلا الفعل، فالدلالة على المحذوف المضمر قوية، وليس شيء من هذا في الآية (¬3). وقوله تعالى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ذكرنا أنه على تقدير حذف المضاف، وقيل: إن (على) هاهنا من صلة الافتراء والكذب، إذا قلنا إنّ (تتلوا) معناه: تحدّث وتكلّم، على ما قال أبو عبيدة وعطاء، فمعنى قوله: {تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (¬4)؛ لأنهم قالوا: إن سليمان مَلَكَ النّاسَ ¬

_ (¬1) "الكتاب"1/ 159 ط. بيروت. وزاد: لأنه ليس فعلًا يصل من شيء إلى شيء، ولكنك لست على أحد. (¬2) "الإغفال" ص 333 بتصرف. (¬3) "الإغفال" ص 334 بتصرف. (¬4) ينظر: "التفسير الكبير" للرازي 3/ 204، "البحر المحيط" 1/ 326، ابن كثير في "تفسيره" 1/ 143 - 146.

بالسحر، وذلك ما قاله ابن عباس (¬1) رحمه الله: إن سليمان، عليه السلام، لما عُذّبَ بنزع ملكه، دفنت الشياطين في خزانته ومواضع مصلاه سحرًا وأُخَذًا ونِيرَنْجات (¬2)، فلما مات سليمان دلّت الشياطين عليه الناسَ حتى أستخرجوها، وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه، فأقبل بنو إسرائيل على تعلمها، ورفضوا كتب أنبيائهم، فبرّأ الله نبيه سليمان عليه السلام على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقال السُّدِّي: إن الناس في زمن سُليمان كتبوا السحر، واشتغلوا بتعلّمه، فأخذ سليمان تلك الكتب، وجعلها في صندوق، ودفنها تحت كرسيه، ونهاهم عن ذلك، فلما مات سليمان، وذهب الذين كانوا يعرفون دفنه الكتب، تمثل شيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا (¬4)؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها، قال ¬

_ (¬1) قال في "البحر المحيط" 1/ 326: وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصًا كثيرة، الله أعلم به، ولم تتعرض الآية الكريمة ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه، فلذلك لم نذكره اهـ. وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 121 الكيفيات فعد أقوالًا ستة. (¬2) النيرنجات: أُخذٌ كالسحر وليس به، وإنما هو شبه وتلبيس، ويقال: النيرنجيَّات. ينظر: "تاج العروس" 3/ 497، و"مفتاح السعادة" لطاش كبرى زاده 1/ 340. (¬3) أخرج هذه القصة النسائي في "تفسيره" 1/ 179، الطبري في "تفسيره" 1/ 447 ولفظه مختصر، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 297 من طريق المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، بنحوه، والمنهال: صدوق ربما وهم. وقد ذكرها الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1057، وعزا القصة للكلبي. وذكرها أيضًا في "عروس المجالس" ص 43، والواحدي في "أسباب النزول" ص 35. (¬4) لا تأكلونه أبدًا: أي: لا تفنونه أبدًا، يقال: أكل فلان عمره: إذا أفناه.

الشيطان: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس (¬1) والشياطين والطير بهذا، فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب؛ فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فبرأ الله تعالى سليمان من ذلك، وأنزل هذه الآية (¬2). وقوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي: لم يكن كافرًا ساحرًا بسحر، (¬3) ويعمل بالسحر (¬4). وقيل: وما ستر سليمان كتب السحر، ولكن الشياطين سترته ودفنته. وأصل الكفر: الستر والتغطِية (¬5). وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} في (لكن) قراءتان: التشديد ونصب الاسم به، والتخفيف ورفع الاسم به (¬6). ¬

_ (¬1) في (م): (الإنس والجن). (¬2) رواه ابن جرير في "تفسيره" مطولًا عنه 1/ 444 - 445، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 186 من طريق أسباط عن السدي، وذكره الثعلبي في "تفسيره" مطولًا 1/ 1057 والواحدي في أسباب النزول ص 36 ولفظه هناك مثل هذا تمامًا. وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 121 - 122، وروى الحاكم 2/ 265، والواحدي بسنديهما عن ابن عباس نحوًا من هذا وصححه الذهبي. وينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 205 - 206. ذكر الدكتور بشير حكمت ياسين في كتاب "التفسير الصحيح" 1/ 205 - 206 روايتين عن ابن عباس وصححهما وهما موافقتان لما نقله الواحدي وقال بعدهما. وهاتان الروايتان من أخبار أهل "الكتاب"، ولكنهما لا تتعارض مع "الكتاب" والسنة، بل لبعض فقراتها شواهد، فهي توافق عصمة سليمان عليه السلام وتبرىء ساحته مما ألصق به من مفتريات الإسرائيليات. (¬3) ساقطة من (ش). (¬4) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1060. (¬5) "المفردات" للراغب 435. (¬6) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف نون لكن وإسكانها، ثم تكسر تخلصًا من التقاء الساكنين، والشياطين بالرفع. وقرأ الباقون بتشديد النون مفتوحة، ونصب الشياطين. ينظر: "السبعة" 167 - 168، و"الحجة" لأبي علي 2/ 169، و"النشر" 2/ 219، و"البدور الزاهرة" ص 46.

وهذه الحروف، أعني: لكنّ، وإن، وأن، وكأنَّ حروف تستعمل مخففة ومثقلة، فإذا استعملت مثقلة كانت عاملة في الأسماء، وعملها النصب (¬1)، والعلة في ذلك: أنها إذا كانت مشدّدة كانت مفتوحة الأواخر، وفتحةُ أواخرِها ألحقتها في المشابهة بالأفعال الماضية، والأفعال عاملةٌ في الأسماء، فإذا استعملت مخففة باينتها تلك الصفة التي ألحقتها في المشابهة بالأفعال، فالقياس أن لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل (¬2). وقال الكسائي: الذي يختار العرب والذي هو وجه الكلام عندنا إذا كانت (لكن) وحدها بغير واو كان التخفيف أحسن، وإذا كانت بالواو كانت بالتشديد، وبهذا قرئ أكثر ما في القرآن كقوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]. وبغير الواو كقوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} [النساء: 166]، {لَكِنِ الرَّسُولُ} [التوبة: 88] {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} [مريم: 38]. وقال الفراء: إذا ألقيت من ولكن الواو آثرت العرب تخفيفَ نونها، وإذا دخلت الواو آثروا تشديدَها، وإنما فعلوا ذلك؛ لأنها رجوع عما أصاب أول الكلام، فشبهت بـ "بل"، إذ كانت رجوعًا مثلها، ألا ترى أنك تقول: لم يقم أخوك بل أبوك، ثم تقول: لم يقم أخوك لكن أبوك، فتراهما في معنى واحد، والواو لا تصلح في بل. فإذا قالوا: ولكن فأدخلوا الواو تباعدت من بل، إذ لم تصلح الواو في بل، فآثروا فيها تشديد النون، وجعلوا الواو كأنها دخلت لعطف لا بمعنى بل (¬3)، وأصلها: أن دخلت عليها لا وكاف الخطاب، فصارنا ¬

_ (¬1) ينظر: "اللسان" 7/ 4070 (مادة: لكن)، و"مغني اللبيب" 1/ 290 - 292. (¬2) ينظر: "الحجة" 2/ 170 - 177، "تفسير الثعلبي" 1/ 1061، "المجيد في إعراب القرآن المجيد" ص 359. (¬3) بل ساقطة من (ش).

جميعًا حرفًا واحدًا (¬1). وقال الكسائي: حرفان من الاستثناء لا يقعان (¬2) أكثر ما يقعان إلا مع الجحد، وهما: لكن وبل، والعرب تجعلهما مثل واو النسق (¬3). وقال المبرد: لكن من حروف العطف، وهي الاستدراك بعد النفي، ولا يجوز أن يدخل بعد واجب إلا لترك قصة إلى قصة تامة، نحو قولك: جاءني زيد لكن عبد الله لم يأت (¬4). وأما اختلاف القراء في تشديد (لكن) في بعض المواضع وتخفيفها في بعض، فلا معنى للمصير إلى التبعيض في هذه المواضع ونظائرها إلا بأن تترجح عند أحد من القراء بعض الروايات على بعض، فيصير إليه (¬5). ومعنى الآية: ولكن الشياطين كفروا بالله يعلّمون الناس السحر. يريد: ما كتب لهم الشياطين من كتب السحر. ويجوز أن يكون (يعلّمون) في فعل اليهود الذين عُنُوا بقوله: {وَاْتَّبَعُواْ} (¬6). وسمي السحرُ سحرًا؛ لخفاء سببه. ومنه: السِّحْر وهو الغِذَاء، كقول لبيد (¬7): ونُسْحَرُ بالطعام وبالشراب (¬8) ¬

_ (¬1) نقل كلام الفراء صاحب "اللسان" 7/ 4070، وقد ناقش أبو علي في "الحجة" 2/ 179 ذلك وبين أن القياس لا يوجب هذا الذي ذكره الفراء من تشديدها مع الواو وتخفيفها مع عدمها. (¬2) في (ش): (لا تقعان). (¬3) نقل كلام الكسائي صاحب "اللسان" 7/ 4070. (¬4) "المقتضب" للمبرد 1/ 12. (¬5) ينظر: "الحجة" 2/ 179 - 180. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 451 - 452، "معاني للقرآن" للزجاج 1/ 183، "تفسير الثعلبي" 1/ 1062، "البيان" لابن الأنباري 1/ 114، "التفسير الكبير" للرازي 3/ 205. (¬7) هو: أبو عقيل، لبيد بن ربيعة بن مالك العامر، تقدمت ترجمته [البقرة: 2]. (¬8) وشطره الأول: =

وذلك أن حاله خفيّة في التنمية (¬1)، والسَّحَر: الرئة، لأنها مما تخفى وليس مما يظهر. وسَحَر الليل: قبل ظهور الصُبح. وقال المحققون من أهل اللغة: معنى السحر: الإزالة وصرف الشيء عن وجهه (¬2)، تقول العرب: ما سَحَرك عن كذا، أي: ما صَرَفك عنه. ومنه: قوله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89]، أي: تصرفون، ويقال: سحره، أي: أزاله عن البُغض إلى الحُبِ، وكأن السّاحر بما أرى الباطل في صورة الحق فقد سَحَر الشيء عن وجهه، أي: صرفه (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} موضع (ما) نصب، نسق على السحر، وجائز أن يكون نسقًا على ما في قوله: {مَا تَتلُوا الشَّيَاطِينُ} (¬4). ومعنى: {أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}: أي: عُلِّما وأُلْهِما وقُذِفَ في قُلُوبِهِما ¬

_ = أرانا مُوضِعِين لأمر غيب وفي رواية: لحتم غيبٍ، وهو لامرئ القيس في "ديوانه" ص 43، "تهذيب اللغة" 2/ 1641، "لسان العرب" 4/ 1952، ونسبه المؤلف وكثير من أهل التفسير كالرازي في "تفسيره" 3/ 205 إلى لبيد. (¬1) نقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1641: أن معنى ونسحر بالطعام، أي نُعَلَّل به قال الرازي في "تفسيره" 3/ 205: قيل فيه (أي: البيت) وجهان: أحدهما أنا نعلل ونخدع كالمسحور. والآخر: نغذى، وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء. (¬2) ينظر كلام الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1641، ونقله صاحب "اللسان" 4/ 19525. (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1641، "مقاييس اللغة" 3/ 138، "المفردات" للراغب 331، 332، "التفسير الكبير"3/ 205، "تفسير القرطبي" 2/ 38، "اللسان" 4/ 1952. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1062وصحح الأول، "تفسير الطبري" 1/ 454 - 455 "إعراب مشكل القرآن" 1/ 106، "التبيان" للعكبري 1/ 80.

من علم التفرقة، وهو رقية (¬1) وليس بسحر، والرخصة في الرقية واردة. فقد روى عوف الأشجعي (¬2) أنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك" (¬3). وقال ابن قتيبة: الذي أنزل الله على الملكين فيما يرى أهل النظر من أهل العلم والله أعلم هو الاسم الذي صعدت الزهرة فعلمته الشياطين، فهي تعلمه أولياءها، وقد يقال: إنّ السّاحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض، ويطفو على الماء. وذهب قومٌ ممن أبطلوا السّحر وأنكروا أن يكون له حقيقة (¬4) إلى أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} ما فيه نفي (¬5)، وذلك مستكره؛ لأنه إذا كان ¬

_ (¬1) الرقية: العُوذَةُ التي يُرَقى بها صاحب الآفة، كالحُمَى والصرع وغير ذلك من الآفات. ينظر: "النهاية" لابن الأثير، "اللسان" 3/ 1711. (¬2) هو: عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو حماد، صحابي جليل، أول مشاهده خيبر، وكانت معه راية أشجع يوم الفتح، توفي بدمشق سنة 73 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 4/ 312. (¬3) أخرجه مسلم (2200) كتاب السلام، باب: لا بأس، وأخرجه أبو داود (3886) كتاب الطب، باب: ما جاء في الرقى واللفظ له. (¬4) اختلف الناس هل للسحر حقيقة أو أنه خدع وتخييل؟ فذهب المعتزلة إلى أنه خدع وتخييل، ولا حقيقة له؛ لقوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]. والصحيح الذي عليه أهل السنة أنه يكون تخييلا وخدعا، ويكون حقيقة، ودليل كونه حقيقة قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}. ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 459 - 461، "تفسير القرطبي" 2/ 38 - 39، "المغني" لابن قدامة 12/ 304. (¬5) ذكر هذا الوجه مكي بن أبي طالب في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 106.

المعنى: لم ينزل على الملكين، (¬1) صار الكلام فضلًا لا معنى له. وإنما يجوز أن يكون (ما) نفيًا أن لو ادعى مدعي: أن السحر أنزل على الملكين، ويكون فيما تقدّم ذكر ذلك أو دليل (¬2) عليه، فيقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا}، ولم ينزل على الملكين كما ذكروا. ومثال ذلك: أن يقول مُبْتدئا: علمت هذا الرجل القرآن، وما أنزل على موسى. فلا يتوهم سامعُ هذا أنك أردت بقولك أن القرآن لم ينزل على مُوسى؛ لأنه لم يتقدّمه قول أحدٍ أنه أنزل على موسى، وإنما يتوهم السامع أنك علمتَه القُرآنَ والتوراةَ (¬3). ثم اعلم أن السحر على قسمين: أحدهما: يكفر به السّاحر، وهو أن يعتقد القدرة لنفسه، فإذا انتهى به السحر إلى هذه النهاية صار كافرًا بالله، وهذا السحر هو الذي عده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكبائر في قوله: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: "الشرك بالله، والسّحر، وقَتْل النفسِ التي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنة". (¬4) والقسم الثاني: لا يكفر به، وهو التخييل الذي يشاكل النِّيرَنْجات، فإذا لم يعتقد لنفسه فيما يعمل قدرة، واعتقد القدرة لله تعالى، كانت معصية، ولم يكن ذلك كفرًا (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: مافيه ... ساقط من (أ)، (م). (¬2) في (ش): (ذلك). (¬3) كلام ابن قتيبة لم أره في "غريب القرآن" و"تأويل مشكل القرآن". (¬4) أخرجه البخاري (6857) كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، ومسلم (89): الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها. (¬5) قد ذكر القرافي في "أنوار البروق في أنول الفروق" 4/ 137، أقسام السحر وأحكامه، وذكر القرطبي في "تفسيره" 2/ 39: أن من السحر ما يكون كفرًا =

وأما قصّة الملكين فهي معروفة مذكورة في عدة مواضع (¬1). ¬

_ = من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس وإخراجهم في هيئة بهيمة، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات فلم يَجِبْ على أصله قتل الساحر إلا أن يقتل بفعله أحدًا فيقتل به، ثم ذكر في 2/ 47 خلاف الفقهاء في حكم الساحر: 1 - فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرًا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته؛ لأنه أمر يستسرّ به كالزنديق والزاني؛ ولأن الله سمى السحر كفرًا في هذه الآية، وهو قول أحمد وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة، وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين، وروي مرفوعا: "حد الساحر ضربه بالسيف". 2 - وروي عن الشافعي: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره، ويقول: تعمدت القتل، وإن قال: لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيها الدية كقتل الخطأ، وإن أضرَّ به أُدِّبَ على قدر الضرر. ينظر: "الأم" للشافعي 1/ 293. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 48: وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته: أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر. وينظر في المسألة: الطبري في "تفسيره" 1/ 453، و"أحكام القرآن" للجصاص 1/ 725، و"المغني" 12/ 302 - 303، "زاد المسير" 1/ 126، "تفسير ابن كثير" 1/ 147 - 152. (¬1) ينظر في القصة وتفصيلاتها: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 53، والبزار في "المسند" برقم 2938، وعبد بن حميد كما في "المنتخب من مسنده" برقم 787، وابن حبان 1/ 634، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 143، والبيهقي في "سننه" 4/ 10، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1063، و"زاد المسير" 1/ 123، و"الدر المنثور" 1858 - 193، والقرطبي 2/ 44 - 45، قال: وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار، والسدي والكلبي ما معناه: فذكر القصة مجملة، ثم قال: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء. اهـ. وقال "ابن كثير" في تفسيره: "وحاصلها راجع في تفاصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ =

وقوله تعالى: {بِبَابِلَ} (¬1). وبابل اسم أرض (¬2)، قيل: سميت لأن الله تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من كل أفق إلى بابل، فبلبل الله بها ¬

_ = ليس فيه حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة في غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراد الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال". وقال أيضًا: "فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل. اهـ. وقد أنكر القصة جماعة من أهل العلم منهم ابن حزم في "الفصل" 3/ 261، 4/ 32، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 420، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 29، والرازي في "تفسيره" 1/ 237، والبيضاوي في "تفسيره" 1/ 79، والخازن في "تفسيره" 1/ 71، وأبو حيان في "البحر" 1/ 329، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 151، والآلوسي في "روح المعاني" 1/ 341، والقاسمي في "محاسن التأويل" 1/ 211، وغيرهم. وينظر استقصاؤهم في: "تحقيق العجاب" لابن حجر للأستاذ عبد الحكيم محمد الأنيس 1/ 332 - 342، وانتصر لتصحيحها الحافظ ابن حجر في "العجاب"، والسيوطي كما في "اللآلي المصنوعة" 1/ 159 و"مناهل الصفافي" تخريج أحاديث الشفاء للسيوطي 4/ 231 كما أفاده الخفاجي عنه في "نسيم الرياض" 4/ 231، وقال: وقد جمع الجلال السيوطي طرق هذا الحديث في تأليف مستقل فبلغت نيفًا وعشرين طريقًا. (¬1) قال العكبري في "التبيان" ص 81: ببابل، يجوز أن يكون ظرفًا لأنزل، ولجوز أن يكون حالا من الملكين، أو من الضمير في أنزل. (¬2) ذكر الطبري فى تفسيره 1/ 459 فيها قولين: أنها: بابل رنباوند، أو أنها بابل العراق، وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 109 في حدها ثلاثة أقوال: أنها الكوفة وسوادها، والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين، والثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض، وقد رجح ابن كثير في تفسيره 1/ 152 أنها بابل العراق، واستدل لذلك. وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1063، "معجم ما استعجم" 1/ 202، "معجم البلدان" 1/ 309.

أَلْسِنَتهم، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد (¬1). والبلبلة: التفرِيقُ (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} اختلفوا في تعليم الملكين السحر، فذكر أهل التفسير وأصحاب المعاني فيه وجهين (¬3): أحدهما: أنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر، ولكنهما يصفانه، ويذكران بطلانه، ويأمران الناس باجتنابه، وكانا يعلمان الناس وغيرهم ما يُسألان عنه، ويأمران باجتناب ما حُرِّم عليهم، وطاعة الله فيما أُمروا به، ونهوا عَنْهُ. وفي ذلك حكمة، لأن سائلًا لو سأل: ما الزنا؟ وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس السحر، وأمرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام والإخبار أنه كفر حرام (¬4). ويؤكد هذا الوجه: ما روى أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال: عَلَّم بمعنى أعلم، وذلك أن التعليم لا ينفك عن الإعلام، كما يقال: تعلّمْ بمعنى أعلَمْ؛ لأن من تعلم (¬5) شيئا فقد عَلِمَه، فيوضع التَّعَلُّم موضع العلم (¬6). قال قيس بن زهَير: ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1063، "زاد المسير" 1/ 125، "القرطبي" 2/ 46. (¬2) ينظر: "القاموس" 968 - 969. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 461 - 462 - 463، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183 - 184، "تفسير البغوي" 1/ 129، "زاد المسير" 1/ 122، "القرطبي" 2/ 48. (¬4) من "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 2554 مادة (علم) ومنه نقل الثعلبي 1/ 1085. (¬5) ساقطة من (أ)، (م). (¬6) نقله عن ابن الأعرابي والأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2554، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 48، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 330.

تَعَلَّمْ أنّ خيرَ الناس حيًّا ... على جَفْر الهَباءةِ لا يَريم (¬1) أي: اعلم. قال ابن الأعرابي: ومن هذا قول الله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} قال معناه: إن السّاحر يأتي الملكين فيقول: أخبرني عمّا نهى الله عنه حتى أنتهي، فيقولان: نهى عن الزنى، فيستوصفُهما الزِنى، فيصفانه، فيقول: وعن ماذا؟ فيقولان: عن اللواط، ثم يقول: وعن ماذا؟ فيقولان عن السحر، فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا، فحفظه، وينصرف فيخالف، فيكفر، فهذا معنى {يُعَلِّمَانِ} (¬2) ولا يكون تَعليم السحْر إذا كان إعلامًا كفرًا، ولا تعلّمه إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه كفرًا، كما أن من عرَّف الزنى لم يأثم بأنه عرَّفه، إنما يأثم بالعمل (¬3). الوجه الثاني: أن الله عز وجل امتحن الناسَ بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنةَ في الكفر والإيمان أن يقبل القائل تعلُّم السحر، فيكفر بتعلّمه، ويؤمن بترك التعلّم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن الله (¬4) بنهر طالُوت في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: ¬

_ (¬1) البيت لقيس بن زهير في "مقاييس اللغة" 4/ 110، و"لسان العرب" 5/ 3083 مادة (علم). (¬2) هذا فيه زيادة في (ش) إنما هو يعلمان ولا يكون. (¬3) نقل هذا بطوله الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2555 مادة (علم)، ومنه أخذ الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1085، ونصر هذا القول الطبري في "تفسيره" 1/ 453 - 455، وقواه الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 183 - 184، قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 152 - 153: وهذا الذي سلكه [يعني: ابن جرير] غريب جدًّا، وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم. (¬4) في (ش): (كما أنه امتحن بنهر طالوت).

249]. يدل على صحة هذا: قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أي: محنة من الله نُخبرك أنَّ عملَ السحر كفر بالله، وننهاك عنه، فإن أطعتنا في ترك العمل بالسحر نجوتَ، وإن عصيتنا في ذلك هلكتَ (¬1). وروي عن ابن عباس أنه قال: أما السحر فمما (¬2) علّمت الشياطين، وأما الفرق بين المرء وزوجه فمما علّم الملكان (¬3). ثم وجه تعليم الملكين أنه يجوز أن يلهمهما الله ويعلّمهما من الأذكار والأسماء ما يعلمان أنها إذا استعلمت على جهة الدعاء أو على جهة الرقية أفادت التفريق بين المرء وزوجه، إذ لا يحسن بحالهما وما هما فيه من عقوبة الذنب السابق أن يشتغلا بارتكاب كبيرة مستأنفة. وقوله تعالى: {مِنْ أَحَدٍ} أي: أحدًا، ومِنْ زائدة مؤكدة، كقولك: ما جاءني من أحدٍ (¬4). وأما (أحد) (¬5) فقال الليث: ¬

_ (¬1) من "تفسير الثعلبي" 1/ 1085 وذكر أنه الأصح. وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183، "تفسير الطبري" 1/ 455، "تفسير السمعاني" 1/ 575، "تفسير الرازي" 3/ 283. (¬2) في (ش): (فما). (¬3) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 188، ورواه الطبري بسنده عن مجاهد 1/ 454، وروى نحوه 1/ 453 عن قتادة، وكذا ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1080 وعزاه في "الدر" 1/ 194 لعبد بن حميد. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 330، وقال: من زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام فزيدت هنا لتأكيد ذلك. (¬5) قال العكبري في "التبيان" 1/ 81: وأحد هاهنا يجوز أن تكون المستعملة في العموم، كقولك ما بالدار من أحد، ويجوز أن تكون هاهنا بمعنى واحد أو إنسان قال في "البحر المحيط" 1/ 330: والأول أظهر.

أصله: وحد (¬1)، ونحو ذلك قال الزجاج (¬2). وقال أحمد بن يحيى: واحد وأحد وَوَحد بمعنى (¬3). وقال الليث: الوحَد: المنفرد، ورجل وحدٌ، وثور وحدٌ، قال النابغة (¬4): بذي الجليل (¬5) على مستأنسٍ وَحَدِ (¬6) والوَحْد والحِدَة كالوَعْد والعدة، يقال: وَحَدَ الشيءُ فهو يحِد حِدَةً. وفرّق قوم بين الواحد والأحد، فقالوا: أحد يصلح في الكلام في موضع الجحد، وواحد في موضع الإثبات. تقول ما جاءني منهم أحد، وجاءني منهم واحد، ولا يقال: جاءني منهم أحد؛ لأنك إذا قلت: ما جاءني منهم أحد، فمعناه لا واحد ولا اثنان، وإذا قلت: جاءني منهم واحد، فمعناه: أنه لم يأتني منهم اثنان (¬7). وأكثر ما جاء (أحد) في التنزيل في موضع النفي. ¬

_ (¬1) نقلة في "تهذيب اللغة" 4/ 3846، (مادة: وحد). (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3844، "اللسان" 8/ 4780، (مادة: وحد). (¬3) في "تهذيب اللغة" 4/ 3844: ثعلب عن سلمة عن الفراء: رجل وَحيدٌ وَوَحَدٌ وَوَحِدٌ، وكذلك فريد وفَرَدٌ مادة (وحد). (¬4) هو: الذبياني أبو أمامة زياد بن معاوية بن ضباب، من الطبقة الأولى، من فحول شعراء الجاهلية، كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ ويفاضل بينهم. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 56، و"جمهرة أشعار العرب" 1/ 303. (¬5) في (م) و (أ): (الخليل). (¬6) صدر البيت: كأن رحلي وقد زال النهار بها والبيت، من قصيدة قالها يمدح النعمان بن المنذر، ينظر: "ديوانه" ص 17، "تهذيب اللغة" 4/ 3844 مادة (وحد). (¬7) من "تهذيب اللغة" 4/ 3845، وعنه في "اللسان" 3/ 448، (مادة: وحد).

قال أبو علي: وقد استعملوا أحدًا بمعنى واحد، وذلك قولهم: أحد وعشرون، وفي التنزيل: {قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد} (¬1) [الصمد: 1]. وسنذكر الكلام في (أحد) صفة الله تعالى في سورة الإخلاص، والكلام في (واحد) نذكره في (¬2) قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان (¬3)، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب: إنا أذبتهما بالنار؛ ليتميز الرديء من الجيد، وتعرف جودتهما من الرداءة، ومن هذا قوله عز وجل: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13]، أي: يحرقون بالنار، ومن هذا قيل للحجارة السود التي كأنها أحرقت بالنار: الفتين، هذا هو (¬4)، ثم جعل كل امتحان فِتْنَة، وقد جعل الله امتحانه عبيده ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3847 - (مادة: وحد)، "مقاييس اللغة" 6/ 90، "اللسان" 8/ 4780 (مادة: وحد)، وقال صاحب "المفردات" ص21 - 22 ما حاصله: أحد يستعمل على ضربين: أحدهما في النفي فقط، نحو: ما في الدار أحد. والثاني: في الإثبات، وهو على ثلاثة أوجه: الأول: في الواحد المضموم إلى العشرات، نحو أحد عشر. والثاني: أن يستعمل مضافًا إليه بمعنى الأول، كقوله: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41]، وقولهم: يوم الأحد، أي يوم الأول، ويوم الاثنين. والثالث: أن يستعمل مطلقًا وصفًا، وليس ذلك إلا في وصف الله تعالى: {قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَدُ}. (¬2) في (م): (عند). (¬3) قال في "مقاييس اللغة" 4/ 472: الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على ابتلاء واختبار. (¬4) من "تهذيب اللغة" 3/ 2738، (مادة: فتن).

المؤمنين باللأواء ليبلو صبرَهم فيثيبهم، أو جزعهم (¬1) على ما ابتلاهم به فيجزيهم، جزاؤهم فتنة فقال: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} إلى قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] قيل في تفسيره: وهم لا يُبلَون في أنفسهم وأموالهم، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3]، أي: اختبرنا (¬2). والفتنة تستعمل في معانٍ كثيرة، ترجع كلها إلى الأصل الذي ذكرنا عند النظر، والفتنة مصدر؛ لذلك (¬3) لم يُثَنَّ (¬4). ويقال: فَتَنَه وأَفْتَنَه، والأول: لغة أهل الحجاز، والثاني: لغة أهل نجد، وقال أعشى همْدان: لئن فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمس أفْتَنَتْ ... سعيدًا فأمسى قد قَلَى كلَّ مُسلم (¬5) وكان الأصمعي ينكر أفتَنَه (¬6)، وذُكر له هذا البيت فلم يعبأ به (¬7). وأكثر أهل اللغة أجازوا اللغتين (¬8). ومعنى فتنته فلانة: أي: اختبرته، كأنه اختبر بها لجمالها. ¬

_ (¬1) في (ش): (جوعهم). (¬2) بمعناه من "تهذيب اللغة" 3/ 2738، (مادة: فتن). (¬3) في (ش): (كذلك). (¬4) ينظر: "الوسيط" 1/ 185. (¬5) البيت لأعشى همدان، وقيل: لابن قيس الرقيات، كما في "اللسان" 6/ 3345، (مادة: فتن) وذكر أنه قيل في سعيد بن جبير، وقال الأصمعي: هذا سمعناه من مخنث، وليس بثبت، لأنه كان ينكر أفتن. وينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن). (¬6) في (ش): (افتنته). (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن)، "اللسان" 6/ 3344. (¬8) ما تقدم من "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن).

وقال الليث: يقال فِتَنَه يَفتِنُه، ففَتَنَ بمعنى: افتتن، فجعله لازمًا ومتعديًا (¬1)، وقال: رخيم الكلام قطيع القيام ... أمسى الفؤاد به فاتنا (¬2) قال الأزهري: يقال: افْتَتَنَتْهُ (¬3) فافْتَتَنَ، واقعًا ومطاوعًا، وهو صحيح ذكره ابن شُميل (¬4). وأما فَتَنَتْه فَفَتَنَ فهي لغة ضعيفة (¬5). ومعنى قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي: ابتلاء واختبار لكم (¬6) وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} (¬7) هذا الفعل منسوق على فعل مقدّر يدل عليه الكلام، كأنه قال: حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فَيَأبَون فيتعلمون (¬8). ¬

_ (¬1) نقله في "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن). (¬2) البيت في: "اللسان" 6/ 3345، (مادة: فتن)، ولم ينسبه، وروايته: أمسى فؤادي بها فاتنا. (¬3) في (م): (افتنته). (¬4) هو: النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم التميمي، تقدمت ترجمته. (¬5) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2740، ينظر في فتن: "المفردات" 374، "اللسان" 6/ 3345، "تاج العروس" 18/ 424 - 428. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2739. (¬7) ينظر في إعرابها: "التبيان" ص 80، "البحر المحيط" 1/ 331، وقد لخص أبو حيان الكلام فيها بقوله: وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف، تقديره: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي: على مثبت، أو يتعلمون: خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يتعلمون عطف على جملة اسمية على فعلية، أو معطوف على يعلمون الناس أو معطوفًا على كفروا أو على يعلمان المنفية، لكونها موجبة في المعنى، فتلك أقوال ستة أقربها إلى اللفظ هذا القول الأخير. (¬8) وهذا اختيار "الطبري" 1/ 462 واستحسنه الزجاج 1/ 185 لكنه جوّد ما بعده.

قال ابن الأنباري: وصلح إضمار يأبون هنا كما صلح إضمار الفعل في قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، والعرب تحمل على المعنى كثيرًا، من ذلك قول الفرزدق: فكيف بليلةٍ لا نجمَ فيها ... ولا قمر لساريها منيرِ (¬1) عطف (ولا قمر) على مقدر في المعنى، كأنه قال: فكيف بليلة ليست بليلة نجم ولا قمر. قال أبو إسحاق: والأجود في هذا أن يكون عطفًا على {يُعَلِّمَانِ} {فَيَتَعَلَّمُونَ}، ويستغنى (¬2) عن ذكر {يُعَلِّمَانِ}؛ لما (¬3) في الكلام من الدليل عليه (¬4). وقال الفراء: هي مردودة على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيتعلّمون (¬5). قال الزجّاج: هذا خطأ؛ لأن قوله: (منهما) دليل هاهُنا على التعلم منَ الملكين خاصّةً (¬6). ¬

_ (¬1) ورد البيت هكذا: فكيف بليلة لا نوم فيها ... ولا ضوء لصاحبها منير والبيت للفرزدق، ينظر: "ديوانه" ص 221. (¬2) في "معاني القرآن" للزجاج: واستغنى. (¬3) في "معاني القرآن" للزجاج: بما. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 185، وينظر: "التبيان" للعكبري ص 81. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 64، وقد جود الوجه الأول، ورد عليه النحاس هذا الوجه في "إعراب القرآن" 1/ 204، فقال: غلط؛ لأنه لو كان كذا لوجب أن يكون فيتعلمون منهم، فقوله. منهما، يمنع أن يكون التقدير: ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر فيتعلمون، إلا على قول من قال الشياطين هاروت وماروت. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 185، وقد أطال أبو علي في "الإغفال" ص 335 - 349 النفس في مناقشة كلام الزجاج.

وابن الأنباري صحح مذهب الفراء، وقال: معناه: يعلّمون الناس السحر فيتعلّمون منهم عن (¬1) الملكين، فلا يكون (منهما) على هذا صلة للتعلم، بل يكون كقولك: تعلمت من الفراء عن الكسائي، أي: الفراء تعلم عنه، وروى لي (¬2) عنه، (ومنهما) على هذا الوجه يكون بمعنى: عنهما، فقامت مِنْ مقام عن. قال هشام: قال الأصمعي: سمعت (¬3) أفصح العرب يقول: حدثني فلان من فلان، وهو يريد عن فلان. ويجوز أن يكون معنى قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} أي: مِن السّحر والكُفر، أو من السحر والكهانة. و (أحدٌ): يقع على الواحد وَالاثنين والجميع؛ لذلك (¬4) قال: فيتعلّمُون بلفظ الجمع، والدليل على ذلك: قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]. قال ابن الأنباري: وأجاز أصحابنا: ما مررت بأحدٍ يتكلّمون. ومررت على كُلّ رَجُل يتعجبون (¬5). وروى سَلَمة (¬6) عن الفراء قال: (أحدٌ)، يكون للجميع والواحد في النفي، كقوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، جعل (أحد) في موضع جمع، وكذلك قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ¬

_ (¬1) في (أ): فيتعلمون عن منهم عن الملكين، وفي (م): فيتعلمون عن منهم من الملكين. (¬2) (لي) ساقطة من (م) (¬3) في (م): (سمعت من). (¬4) في (ش): (كذلك). (¬5) ابن الأنباري. (¬6) هو: سلمة بن عاصم النحوي أبو محمد، تقدمت ترجمته [البقرة: 8].

فهذا جمع؛ لأن (بينَ) لا يقع إلّا على اثنين فما زاد (¬1). وقوله تعالى: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهو أن يُؤَخَّذَ (¬2) كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغَّضَ كلُّ واحد إلى الآخر (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ} أي: السحرة، وقيل: الشياطين وعلى هذا دلّ كلام ابن عبّاس (¬4). (به) أي: بالسحر {مِنْ أَحَدٍ} أي: أحدًا (¬5). {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. قال ابن عبّاس: يريد: ما يُضلّون إلا من كان في علمي وقضائي وقدرتي أن أُضِلّه (¬6). وقال المفسرون: الإذن هاهُنا تأويله: إرادة التكوين، أي: لا يضرّون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه ذلك الضرر (¬7). ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3846 وقال سيبويه: هو معطوف على (كفروا)، قال: وارتفعت (فيتعلمون) لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلموا، ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره، نقله أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 331. (¬2) يؤخذ: من التاخيذ، وآخذه: رقاه، والأُخْذَة: بضم فسكون: رقية تأخذ العين ونحوها كالسحر، أو خرزة يؤخذ بها النساء الرجال، ورجل مؤخذ عن النساء: محبوس، ينظر: "اللسان" (مادة: أخذ). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 463، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 193، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1080 كلهم عن قتادة. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 332 وزاد قولًا ثالثًا: وقيل: على اليهود. (¬5) أي: من زائدة. ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1086، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 49، "تفسير القرطبي" 2/ 49، "البحر المحيط" 1/ 332. (¬6) ليس في شيء من التفاسير المسندة، وقد تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة. (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 364، "ابن أبي حاتم" 1/ 193، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 186، "تفسير القرطبي" 2/ 49.

وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} المعنى: إنه يضرهم في الآخرة، وإن تعجّلوا به في الدنيا نفعًا (¬1). {وَلَقَدْ عَلِمُوا} يعني: اليهود (¬2) {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي: اختاره يعني السحر (¬3). {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} أي: نصيب. والخلاق: النصيب الوافر من الخير (¬4). قال المفسرون في هذه الآية، الخلاقُ: النصيبُ من الجنة (¬5). ثعلب عن ابن الأعرابي: {لَا خَلَاقَ لَهُمْ} [آل عمران: 77] لا نصيب لهم في الخير. ويعني بهذا: الذين يعلّمون الناس السحر، وهم كانوا من علماء اليهود (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 464. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 464، "تفسير الثعلبي" 1/ 1086، وذكره في "البحر المحيط" 1/ 323 قولين آخرين أحدهما: أن المراد الشياطين، والثاني: أن المراد الملكين. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 465، ابن أبي حاتم 1/ 195، "تفسير الثعلبي" 1/ 1086، "زاد المسير" 1/ 125، وذكر في "البحر المحيط" 1/ 334 أربعة أقوال فيما يعود عليه الضمير، فقيل: السحر، وقيل: الكفر، وقيل: كتابهم الذي باعوه بالسحر، وقيل: القرآن لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 187، "الطبري" 1/ 465 - 466، "ابن أبي حاتم" 1/ 195، "البحر المحيط" 1/ 334، وذكروا خمسة أقوال هي: النصيب، والدين، والقوام، والخلاص، والقدر وقد فسره بالنصيب ابن عباس ومجاهد والسدي ورجحه الطبري والزجاج وغيرهما. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 466، "تفسير الثعلبي" 1/ 1086. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 186، "زاد المسير" 1/ 125.

وفي قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} جملتان (¬1): إحداهما: مقسم عليها. والأخرى: مؤكدة بغير قسم. ويحتمل أن تكون الجملتان كلتاهما مقسم عليهما، والجملة هي المحدّث عنه والحديث. فأما الجملة المقسم عليها فقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} مقسم عليه؛ لدخول اللام في لقد، وهذه اللام إذا جاءت في الفعل الماضي والمستقبل فإنما تجيء على نية اليمين، كانت مذكورة معها أو محذوفة. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: ليفعلنّ إذا جاءت مبتدأة؟ فقال: هي على نية القسم (¬2)، واللام التي تدخل على الماضي هي هذه التي إذا دخلت على المستقبل لزمته النون، فتقدير {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ}: والله لقد علموا. والأخرى المؤكدة غير المقسم عليها: قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} إذا جعلت (مَنْ) بمعنى (الذي) كانت اللام للتأكيد دون القسم. ومذهب سيبويه فيه هذا، وهو أن (من) فيه بمعنى (الذي)، كأنه قيل: للذي اشتراه ماله في الآخرة من خلاق (¬3). فموضع (من) رفع بالابتداء. ¬

_ (¬1) ما سيأتي فىِ المسألة من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 362 وما بعدها. وينظر في إعرابها "معاني القرآن" للفراء 1/ 65 - 69، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 186 - 187، "إعراب القرآن" للنحاس1/ 204، "إعراب مشكل القرآن" 1/ 106 - 107، "التبيان" للعكبري ص 81. (¬2) "الكتاب" 1/ 531 - 532 ط. بيروت. (¬3) ساقط من (أ)، (م).

وموضع {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} رفع على أنه خبر الابتداء. وأما احتمال الكلام أن يكون فيه جملتان كلتاهما مقسم عليهما: فالأولى منهما أيضًا: قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}، والأخرى المقسم عليها: قوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، وذلك أن تجعل (من) شرطًا في قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ولا تجعله بمنزلة الذي. وتجعل قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} بمنزلة القسم؛ لأن العلم قد يقام مقام القسم، في مثل قولك: علمت ليفعلنّ كذا، وفي مثل قول الشاعر (¬1): ولقد علمتُ لتأتينّ عَشِيّةٌ ... لا بعدها خوفٌ عليّ ولا عَدَمْ (¬2) قال سيبويه: كأنه قال: والله لتأتينّ عَشِيَّة، فحمل (علمت) في البيت على معنى اليمين. فمن حيث استعمل استعمال القسم صلح أن يكون له جواب، كما يكون للقسم، وساغ أن يكون النفي جوابًا له في الآية. فإن قيل: على هذا إذا قلتم: إن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} مقسم عليه، وجوزتم أن يكون هو في نفسه قسمًا، فكأنه قسم قد دخل على قسم، ويبعد ذلك عند سيبويه، فإن سيبويه والخليل قالا: لا يقوى أن يقول: وحقِّك وحقِّ زيد لأفعلن، والواو الآخرة واوُ قَسم لا يجوز إلا مستكرهًا؛ لأنّه لا يجوز هذا في محلوف عليه، إلا أن تضم الآخر إلى الأوّل، وتحلف بهما على المحلوف عليه (¬3). ¬

_ (¬1) الذي استشهد به أبو علي في "الإغفال" ص 366 ونقله عنه سيبويه هو قول الشاعر: ولقد علمت لتأتين منيتي. (¬2) البيت لعامر بن حوط، في تاج العروس، (مادة: عدم). "المعجم المفصل" 7/ 163. (¬3) "الكتاب" لسيبويه 3/ 501 ط. عبد السلام هارون.

ولهذا جعل هو والخليل الحرف في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2] إنه للعطف (¬1). معنى ضم الآخر إلى الأوّل، أي: يضم إليه بحرف العطف (¬2) دون القسم، قلنا: هذا على ما ذكرت، ولكن قوله: {وَلَقَد عَلِمُوا} أقيم مقام القسم، وليس كالمختصِّ بالقسم التي لا معنى لها غيره، نحو لعمرُك لأفعلنّ، وبالله (¬3) ليقومنّ، فليس يدخل على هذا قسم على قسم على (¬4) الحقيقة، إنما يدخل (¬5) على شيء أقيم مقام القسم، وأصله غير ذلك، والأول هو الوجه الواضح (¬6). قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي: بئس شيء باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله (¬7). وقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} إن قيل: كيف نفى العلم عنهم، ولقد أثبت العلم لهم في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}. قيل: وصفهم بالعلم (¬8) في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} على المجاز لا على الحقيقة، كأنه قال: علموا هذا عِلمًا ظاهرًا، ولم يعلموا كنه ما يصير ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) من قوله: معنى (ضم الآخر) ساقط من (ش). (¬3) في (ش): (وتالله). (¬4) (على) ساقطة من (ش). (¬5) في (ش) يدخل الاسم على شيء. (¬6) هذه المسألة بتمامها ملخصة من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 362 - 368. (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 466، "تفسير الثعلبي" 1/ 1087، "تفسير ابن كثير" 1/ 154. (¬8) في (ش): (وصفهم بالعلم ثم نفاه عنهم في قوله ... وهذا سيأتي).

103

إليه من بخس الآخرة من العقاب، لذلك (¬1) قال: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. وقيل: إن الله تعالى وصفهم بالعلم ثم نفاه عنهم؛ لأنهم لم يعملوا بما علموا، فكانوا بمنزلة من لم يعلم، كما تقول: صلَّيتَ ولم تصلِّ، وتكلّمتَ ولم تتكلّم، أي: لم تجوّد كلامك، فكنت بمنزلة من لم يتكلم. وقيل: إنما وصفهم بوصفين مختلفين؛ لأنهم علموا أن الآخرة يخسرها من آثر السحر، ثم دخلوا فيه وآثروه طمعًا في عوض يصير إليهم من الدنيا، فقال الله عز وجل: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن الذي قصدوه وآثروه لا يتم لهم من جهته ما يؤمِّلُون؛ لأن الدنيا تنقطع عنهم بالموت، ثم يقدمون على الآخرة التي لا حظ لهم فيها (¬2). 103 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} أي: بمحمد والقرآن {وَاتَّقَوْا} اليهودية والسحر (¬3). ¬

_ (¬1) في (ش): (كذلك). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 467، "تفسير البغوي" 1/ 132، "التفسير الكبير" للرازي 3/ 222، "البحر المحيط" 1/ 334، وأجاب الطبري 1/ 466 بأنه من باب التقديم والتأخير، ومعنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، ثم رد على من قال: ولقد علموا، أي: الشياطين، ولو كانوا يعلمون، يعني به الناس، وبين أنه قول لجميع أهل التأويل مخالف، لأنهم مجمعون على أن قوله (ولقد علموا)، يعني به اليهود إلخ ما قال. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1087، "تفسير الطبري" 1/ 468، "تفسير البغوي" 1/ 132.

{لَمَثُوبَةٌ} يقال: أثابه إثابة ومَثَابة، والاسم: الثواب والمَثُوبَةُ والمثْوَبَةُ بفتح الواو (¬1)، كالمَشُورَة والمَشْوَرَة. قال أبو العباس: الثوابُ في الأصل معناه: ما رجع إليك من عائدة، وحقيقته (¬2): الجزاء العائد على صاحبه مُكَافأةً لما فعل، ومنه: التَثْويب في الأذان، إنما هو ترجيع الصَوْت، ولا يقال لصوتٍ مرةً واحدةً: تثويب، ويقال: ثوّب الداعي: إذا كرر دعاه كما قال: إذا الداعي المُثَوّبُ قال: يالا (¬3) والثوب مشتقّ من هذا، لأنه ثاب لباسًا بعد أن كان قُطنا أو غزلا (¬4). وقوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ} في موضع جواب لو؛ لأنه ينبئ عن قولك: لأثيبُوا، فَحُذِفَ الجواب، وجُعل قوله: {لَمَثُوبَةٌ} بدلًا منه، واللامُ فيه لام الابتداء (¬5). ¬

_ (¬1) المثْوَبة: بفتح الواو شاذ كما قال اللحياني. ينظر: "اللسان" 1/ 519، (مادة: ثوب). (¬2) في (أ)، (ش): (والحقيقة). (¬3) البيت نسب لزهير بن مسعود الضبي، ينظر: "لسان العرب" 8/ 4976 (مادة: يا) غير منسوب. "المعجم المفصل" 6/ 81. ونسب إلى الفرزدق في "لسان العرب" 7/ 4105 (لوم). (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 468، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 206، "تهذيب اللغة" 1/ 463 (مادة- ثاب)، "المفردات" للراغب الأصبهانى 89، "مقاييس اللغة" 1/ 393، وقال: الثاء والواو والباء قياس صحيح من أصل واحد وهو العود والرجوع. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 187 و"البحر المحيط" 1/ 335، وقد ذكر الطبري في "تفسيره" 1/ 468 أن بعض نحوي البصرة يرد ذلك، ويرى أن الجواب (لمثوبة).

104

ومعنى الآية: أن ثواب الله خير لهم من كسبهم بالكفر والسحر (¬1). 104 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} يقال: أرعى إلى الشيء، وراعاه: إذا أصغى إليه، مثل: عافاه وأعفاه. قال الفراء: هو من الإرعاء والمراعاة (¬2). وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: راعِنا سمعَك، أي: اسمع منّا حتى نفهمَك وتفهمَ عنّا، والعرب تقول: أرْعِنا سمعَك، وراعِنا سمعَك بمعنى واحد (¬3). وأصل الكلمة من الرعاية (¬4)، الذي هو الحفظ، فمعنى أرعيته سمعي، أي: حفظت عليه ما يقول. والمراعاة: المراقبة لأنها حفظ ما يكون من أحوال الشيء، والإرعاء: الإبقاء على أخيك؛ لأنك تحفظ ما تقدم من حقه. (¬5) قال الكلبي: عن ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: راعِنا سمعك، وكان هذا بلسان اليهود سبًّا قبيحًا، فلما سمعوا هذه الكلمة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 187، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1087، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 108، و"التبيان" ص 81، و"البحر المحيط" 1/ 335. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 69. (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1430، (مادة: رعن). (¬4) ذكر الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 188 أن في (راعنا) ثلاثة أقوال: أحدها: راعنا، من أرعنا سمعك. والثاني: من المراعاة والمكافأة، فقيل لهم: لا تقولوا: راعنا، أي: كافئنا في المقال، كما يقول بعضهم لبعض، وقولوا أنظِرنا، أي: أمهلنا، واسمعوا، كأنه قيل لهم استمعوا. والثالث: راعنا، كلمة تجري على الهزء والسخرية، فنهي المسلمون أن يتلفظوا بها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1430، "المفردات" للراغب204، "مقاييس اللغة" 2/ 407، "البحر المحيط" 1/ 336، "تاج العروس" 18/ 238 (رعن).

يقولونها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعجبتهم، وكانوا يأتونه ويقولون ذلك، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ (¬1)، وكان يعرف لغتهم، فقال: عليكم لعنة الله، لئن سمعتُها من رجلٍ منكم يقولها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) لأضربنَّ عنقه، فقالت اليهود (¬3): أولستم تقولونها؟ فأنزل الله هذه الآية، ونُهوا عن ذلك (¬4). وهذا النهي اختص بذلك الوقت؛ لإجماع الأمة على جواز المخاطبة بهذه اللفظة الآن. ¬

_ (¬1) سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، أبو عمرو سيد الأوس، شهد بدرًا، واستشهد من سهم أصابه بالخندق، ومناقبه كثيرة. ينظر: "تقريب التهذيب" ص 230 (2255) ط. دار الرسالة. (¬2) من قوله: أعجبتهم ... ساقطة من (ش). (¬3) ساقطة من (ش). (¬4) أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" 1/ 47 من طريق عبد الغني بن سعيد عن موسى ابن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس، والإسنادان ضعيفان كما ذكرت في الدراسة. وذكر الثعلبي القصة ولم يسندها لأحد 1/ 1087 وكذا قال مقاتل في "تفسيره". وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 36، عن عطاء عن ابن عباس، والسيوطي في "لباب النقول" ص 19 وفي "الدر" 1/ 195 - 196 وعزاه لأبي نعيم في "الدلائل". ويشهد له ما أخرجه الطبري 1/ 469 عن قتادة بمعناه، وذكره ابن حجر في "العجاب" 1/ 344، وفي "فتح الباري" 8/ 163 وقال: وروى أبو نعيم في "الدلائل" بسند ضعيف جداً عن ابن عباس. والصحابي الذي ذكره الواحدي في "أسباب النزول" هو سعد بن عبادة، وكذا هو عند مقاتل في "تفسيره" 1/ 59. وهناك أسباب أخرى وردت في نزول الآية، ذكرها الطبري 1/ 470، وابن أبي حاتم 1/ 196، والسيوطي في "الدر" 1/ 195 - 196.

وقوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أي: انتظرنا والعرب تقول: نظرت فلانًا، أي: انتظرته، قال الحطيئة: وقد نَظَرْتُكُمُ إبناءَ صَادِرةٍ (¬1) ومعنى (انظرنا) هاهنا: اصبر حتى نفهمك ما نقول، ويجوز أن يكون (انظرنا) أي: انظر إلينا، فحذف حرف الصفة، كقول قيس بن الخطيم (¬2): ظاهراتُ الجَمال والحُسْنِ ينظُرنَ ... كما ينظرُ الأراكَ الظباءُ (¬3) ¬

_ (¬1) عجز البيت: للخمس طال بها حَوْزي وتنساسي في "ديوانه" ص 106، "تفسير الطبري" 1/ 473، "لسان العرب" 7/ 4466، "المعجم المفصل" 4/ 71، وفي رواية: للورد بدل للخمس والشطر الأول عند الطبري إعشاء: بدل إيناء. وهذه قصيدة مدح بها الحطيئة بغيض بن عامر بن شمّاس ويهجو الزبرقان بن بدر. والإيناء: مصدر آنيت الشيء: إذا أخرته. والصادرة: الإبل التي تصدر على الماء والخمس: من أظماء الإبل، وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام ثم ترد في الرابع، والحوز: السوق اللين، والتنساس: السوق الشديد لورود الماء، والشاعر يصف طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار. (¬2) هو: قيس بن الخطيم بن عدي الأوسي، أبو يزيد، شاعر الأوس وأحد صناديدها في الجاهلية، اشتهر عنه تتبعه قاتلي أبيه وجده حتى قتلهما، أدرك الإسلام لكنه لم يسلم، قتل سنة 2 ق هـ. ينظر "جمهرة أشعار العرب" 123، و"الأعلام" 5/ 205. (¬3) نسب هذا البيت لقيس بن الخطيم كما في إحدى نسخ الثعلبي الخطية وفي بعضها بلا نسبة. "تفسير الثعلبي" 1/ 1090. وهو بلا نسبة في "أساس البلاغة" ص 454. ونسب لعبد الله بن قيس الرقيّات وهو في "ديوانه" ص 88، وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 54، "البحر المحيط" 1/ 339، و"الدر المصون" 1/ 332.

105

وإذا كان بتقدير: انظر إلينا كان من نظر العين (¬1). ونذكر معاني النظر عند قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] إن شاء الله. قال: المفسرون أمروا أن يقولوا: انظرنا، بدل راعنا. وقوله تعالى: {وَاسْمَعُوا} أي: أطيعوا، أو اتركوا هذه الكلمة، فسمّى الطاعة سمعًا؛ لأن الطاعة تحت السمع (¬2). 105 - قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ} إلى قوله {مِنْ خَيْرٍ} (من) صلة مؤكدة (¬3). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ} يقال: خَصَّه بالشيء واخْتَصَّه به بمعنى واحد (¬4)، ويقال: اختَصَصْتُه بالفايدة واختصصت بها. ومعنى الاختصاص: الانفراد بالشيء، ومنه: الخَصَاص للفُرَجِ (¬5)؛ ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 70، "تفسير الطبري" 1/ 473، "المفردات" 490 - 500، "اللسان" 7/ 4464، وقد ذكر الطبري في "تفسيره" 1/ 473 - 474: أن معناها: انظرنا وارقبنا، نفهم ما تقول لنا وتعلمنا، قال: وقد قرئ (أنظِرنا)، أي: أخرنا، ولا وجه له في هذا الموضع؛ لأن الصحابة أمروا بالدنو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاستماع له لا بالتأخر عنه، قال: وقد قيل: إن معناها: أمهلنا، وبيَّنَ أنها قريبة المعنى مما ذكر لكن لا يقرأ بها. انتهى ملخصًا. (¬2) "تفسير الثعلبي" 3/ 1091، و"التفسير الكبير" للرازي 3/ 225. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1092، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 206، "تفسير البغوي" 1/ 133. (¬4) زيادة من (ش) وقد ذكر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1092 أن الاختصاص أوكد من الخصوص؛ لأن الاختصاص لنفسك والخصوص لغيرك. (¬5) أي: فُرَج بين الأثافي والأصابع، ينظر: "اللسان" 2/ 1173، وقال في "تهذيب اللغة" 1/ 233 - 234: وأصل ذلك من الخَصَاص، وكل خَلَلٍ أو خَرْق يكون في مُنْخل أو باب أو سحاب أو بُرقُع فهو خصَاص.

لأنه انفرد كل منهما (¬1) واحد عن الآخر من غير جمع بينها، ثم يقال لسوء الحال: الخصاصة (¬2)، لأنها خللٌ في الحال وصدع (¬3). وقوله تعالى: {بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أراد بالرحمة هاهنا: النبوة (¬4). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} قال الليث: ذو اسم ناقص، وتفسيره: صاحب ذاك (¬5)، كقولك: ذو مال. والتثنية: ذوان، والجمع (¬6): ذوون، وتقول في تأنيث (¬7) ذو: ذات، وفي التثنية: ذواتا، وفي الشعر يجوز: ذاتا. والجمع: ذوات مال (¬8)، وأنشد للكميت: وقد عَرَفَتْ مَوَالِيها الذَّوِينَا (¬9) أي (¬10): الأخصين الأدنين، وإنما جاءت النون لذهاب الإضافة (¬11). وسمعت أبا الحسن النحوي رحمه الله يقول: أصل ذو: ذوي أو ¬

_ (¬1) زيادة من (ش). (¬2) في (ش): (خصاصة). (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1299، "المفردات" 155، "اللسان" 3/ 1476. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 474 - 475، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 189. (¬5) في "تهذيب اللغة": ذلك. (¬6) في (أ) و (ش): (الجميع). (¬7) في (م): (التأنيث). (¬8) ينظر: "المفردات" 186، "البحر المحيط" 1/ 236 - 237، "القاموس" ص 1351، "الإتقان" 2/ 195. (¬9) البيت هكذا: فلا أعني بذلك أسفليكم ... ولكني أريد به الذوينا وهو للكميت بن زيد، في "ديوانه" 2/ 109، و"معجم الشعراء" 8/ 101، وما ذكره المؤلف موافق لما في "تهذيب اللغة" 2/ 1299. (¬10) في (ش): (أن). (¬11) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1299.

106

ذوو، فلما تحركت الواو والياء وانفتح ما قبلها صارت ألفًا فصار ذوا، ثم لما تحركت الواو وانفتح ما قبلها صارت ألفًا، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي ذا فلم يمكن إعراب الألف، فجعل إعرابه في الذال، فلما أعربت الذال بالرفع انقلبت الألف واوًا، ولما أعربت بالخفض انقلبت ياء، ولما أعربت بالنصب بقيت ألفًا كما كانت. 106 - قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية، قال الزجاج: النسخ في اللغة: إبطال شيء وإقامة آخر مقامه. والعرب تقول: نسخت الشمسُ الظل، والمعنى: أذهبت الظلّ وحلّت محلّه (¬1). وقال غيره: تناسخ الأزمنة والقرن بعد القرن: هو مضي الأول ومجيء الثاني بعده يخلفه في محلّه. ثعلب عن ابن الأعرابي: النسخ: تبديل الشيء من الشيء، وهو غيره، والنسخ: نقل شيء من مكان إلى مكان، وهو هو (¬2) (¬3). وروى أبو تراب (¬4) عن الفراء وأبي سعيد: مسخه الله قردًا، ونسخه قردًا، بمعنى واحد (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 189. (¬2) ساقطة من (أ)، (م). (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3558، "اللسان" 7/ 4407، (مادة: نسخ). (¬4) لغوي من خراسان، استدرك على الخليل بن أحمد في كتاب العين، وله كتاب الاعتقاب. ينظر: "إنباه الرواة" 4/ 102. (¬5) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3558، (مادة: نسخ)، وعنه أيضًا في "اللسان" 7/ 4407، "تفسيرالثعلبي" 1/ 1093. (¬6) ينظر في معاني النسخ: "تفسير الطبري" 1/ 475 - 476، "تفسير القرطبي" 2/ 62، "تهذيب اللغة" 4/ 3558، (مادة: نسخ)، "اللسان" 7/ 2407، والإتقان 3/ 59، وقال صاحب "المفردات" ص 492: النسخ: إزالة شيء بشيء يتعقبه، كنسخ الشمس الظل، والظل الشمس، والشيب الشباب، فتارة يفهم منه الإزالة، وتارة يفهم منه الإثبات، وتارة يفهم منه الأمران.

وقال العلماء من أهل اللغة والتفسير (¬1): النسخ له معنيان: أحدهما: تحويلُ الكتاب من حيث هو إلى نسخة أخرى، يقال: نسخت الكتاب، أي: كتبت منه نسخة أخرى (¬2). ثم (¬3) يقال: نَسَخْتُ منه نسخة، وإن لم تُحوِّله من مكتوب إلى غيره، كأنك كتبته عن حفظك. ومن هذا قوله عز وجل {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، يجوز أن يكون معناه: ننسخ، كقوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14]، أي: يسخرون، ويجوز أن يكون معناه: نستدعي ذلك، وهو أمر الملائكة بكتابته. وعلى الوجهين جميعًا هو كتابة لا من نسخة. فعلى هذا المعنى: القرآن كله منسوخ، لأنه نُسِخَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أمِّ الكتاب فأُنزل عليه. والثاني: هو رفعُ الحكم وإبطالهُ، ثم يجوز النسخ إلى بدل وإلى غير بدل. فالذي إلى بدل قولهم: نَسَختِ الشمسُ الظلَّ، فالظلُّ يزول ويبطل، ¬

_ (¬1) ينظر في ذلك: "المستصفى" للغزالي 1/ 107، و"المحرر الوجيز" 1/ 428 - 431، و"التفسير الكبير" للرازي 3/ 226، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي 2/ 251، و"الإتقان" 3/ 59، و"إرشاد الفحول" ص183. (¬2) ساقطة من (أ)، (ش). (¬3) ساقطة من (أ).

والشمس تكون بدلًا عنه (¬1). والذي إلى غير بدل قولهم: نَسَختِ الريحُ الأثرَ، أي: أبطلتها وأزالتها. وهذا المعنى هو المراد بالآية (¬2). ثم النسخ في القرآن على ضروب: منها: ما يكون حكمه مرفوعًا، وخطُّه مثبت يتلى ويقرأ، ولا يعمل به، وهذا هو المعروف من النسخ؛ أن تكون الآية الناسخةُ والمنسوخةُ جميعًا ثابتتين في التلاوة وفي خط المصحف، إلا أن المنسوخة منهما غيرُ معمولٍ بها ثابت، فينسخ التلاوة بثابت التلاوة (¬3)، وذلك مثل: عِدّة المتوفى عنها زوجها، كانت سنّةً لقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر؛ لقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] (¬4). ومثل هذا أيضا قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية، ثم نسخت بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]. ومنها: أن ترفع تلاوتها وحكمها، كنحو ما يُرْوَى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نقرأ: (لا ترغبوا عن آبائكم إنه كفر) (¬5). ¬

_ (¬1) ساقطة من (ش). (¬2) ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 14، "تفسير الطبري" 1/ 475، "المحرر الوجيز" 428 - 431، "تفسير القرطبي" 2/ 55 - 61. (¬3) (بثابت التلاوة) ساقطة من (ش). (¬4) سيأتي بيان حقيقة النسخ في هذه الآية عند "تفسيره". (¬5) الحديث أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 193، وأبو داود الطيالسي ص 12 عن عمر بن الخطاب، ونقله السيوطي عنه في "الإتقان" 3/ 74، وانظر: "كنز العمال" 2/ 285، وذكره في "الحجة" 2/ 180، وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 55 - 56، وأخرجه ابن الضريس عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" 1/ 197 - 198.

ومنها: أن ينسخ تلاوته ولا تنسخ حكمه، كآية الرجم، فإنها منسوخة تلاوة، ثابتة حكمًا (¬1). ومنها: أن يُنْسخ ما ليس بثابت التلاوة (بما ليس بثابت التلاوة) (¬2) مثل: ما روي عن عائشة رضي الله عنها. قالت: إنا كنا نقرأ: "عشر رضعات معلومات يُحَرّمن"، فنسخن بخمس (¬3). وقد ينسخ أيضا ما ليس بثابت التلاوة بما هو ثابت التلاوة والمراد بالمنسوخ: الحكم، مثل: نسخ تحليل الخمر، وكتحريم الزنا، وهذا كثير. ويجوز أيضا نسخ ما هو ثابت التلاوة بما (¬4) ليس بثابت التلاوة، وهو كنسخ الجلد في المحصنين بالرجم، والرجم غير متلو الآن، وإن (¬5) كان يتلى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، فالحكم يثبت والقراءة لا تثبت، كما يجوز أن تثبت التلاوة في بعض ولا يثبت الحكم. وإذا جاز أن يكون قرآن ولا يعمل به جاز أن يكون قرآن يعمل به ولا يتلى؛ وذلك أن الله عز وجل أعلم بمصالحنا، وقد يجوز أن يعلم من مصلحتنا ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ)، (م). (¬2) ساقطة من (ش). (¬3) أخرجه مسلم (1452) كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات. (¬4) (بما هو ليس) في (م). (¬5) في (ش): (قد). (¬6) ينظر حديث عمر في آية الرجم المنسوخة لفظًا عن ابن عباس عند البخاري (6830) كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، ومسلم (191) كتاب الحدوث، باب: رجم الثيب في الزنا. ينظر: "الإتقان" 3/ 73.

تعلّق العمل بهذا الوجه. قال أبو إسحاق: إن قيل: ما الفصل (¬1) بين الترك والنسخ؟ فالجواب في ذلك: أن النسخ أن يأتي في الكتاب نسخ آية بآية، فتبطِلَ الثانيةُ العمل بالأولى. ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تنزل ناسخةً للتي قبلها، نحو قوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10]، ثم أُمر المسلمون بعد بترك المحنة، فهذا يدل على معنى الترك ومعنى النسخ (¬2). فأبو إسحاق فصل بين النسخ والترك كما ترى، وجعلهما قسمين. قال أبو علي (¬3): ليس حقيقهُ النسخ ما ذكره أبو إسحاق، بل هو ضرب من النسخ، وقد يكون نسخ الآية على (¬4) ضروب أخر، وما أعلم في النسخ روايةً ولا قياسًا يدل على أنه مقصور على ما ذكر، وقد ينسخ القرآن عند عامةِ الفقهاء بسنَّةٍ غير آية، ولا يمتنعون من أن يسمّوا ذلك نسخًا، ولا يمتنع أن يسمّى الضرب الذي سماه أبو إسحاق تركًا نسخاً. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للزجاج: ما الفرق. (¬2) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 190. (¬3) أي: في "الحجة" 2/ 201 وما بعدها. (¬1) ساقطة من (أ)، (م).

ومما (¬1) يدل على ذلك: أن الزهري روى عن عروة عن عائشة، قالت: نزل في أصحاب بئر معونة (¬2) قرآن منه: "بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربَّنا فرضِيَ عنّا وأرضاناً"، دم نسخ (¬3)، فسمّت عائشة ذلك نسخًا، وإن لم ينسخ بآية، ولم تُسمّه تركًا، وهذا يفسد القسمين اللذين قسمهما (¬4). قال أبو علي: ولم يثبت بتسمية النسخ ومعناه رواية نعلمها عن العرب، ولا سماع، ولا قياس، وإن المفسرين قالوا فيه على طريق التقريب. الذي يدل على هذا: أن الفراء قال: النسخ: أن يعمل بالآية ثم تنزل أخرى فيعمل بها، وتترك (¬5) الأولى. ¬

_ (¬1) في (أ)، (م): (وما). (¬2) بئر معونة: وقعة في صفر من السنة الرابعة، قتل فيها أربعون من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاة إلى الله فغدرت بهم قبائل رِعل وذكوان وعصية عند بئر معونة. ينظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 184 - 190 تحقيق: همام سعيد. (¬3) حديث عائشة. وجاء هذا أيضًا من رواية أنس رواه البخاري (4090) كتاب المغازي، باب: غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة، ومسلم (677) كتاب المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة. (¬4) (¬5) من "الحجة" 2/ 201.

والقراءة الصحيحة: {مَا نَنْسَخْ} وقرأ ابن عامر (¬1) وحده (ما نُنْسِخْ) بضم النون (¬2)، وخَطَّأهُ في ذلك أبو حاتم (¬3) (¬4) وكثير من أهل النظر (¬5). والذين وجهوا هذه القراءة قالوا: أفعَلَ لا يخلو من ثلاثة (¬6) أوجه: أحدها (¬7): أن تكون (¬8) لغة (¬9) في فعل كقولهم: حلَّ من إحرامه، وأَحَلّ، وبدأ الله الخلق وأبدا هم، ولا يجوز هذا الوجه في أنسخ؛ لأنا لا نعلم أحدًا حكى أو روى أنسخ بمعنى: نسخ. الوجه الثاني: أن تكون الهمزة للنقل، كقوله: قام وأقمته، وضرب وأضربته (¬10)، ونسخ الكتاب وأنسخته الكتاب، وهذا الوجه أيضًا كالأول ¬

_ (¬1) هو: أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبي، إمام أهل الشام في القرآن، وأحد القراء السبعة، أخذ القراءة من المغيرة بن أبي شهاب اليحصبي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، توفي سنة 118هـ. ينظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 82، و"السبعة" ص 85. (¬2) قرأ ابن عامر من غير طريق الداجوني عن هشام: (ما نُنْسِخ) بضم النون، والباقون بالفتح. ينظر: "السبعة" 168، "النشر" 2/ 219 - 220، و"معاني القراءات" للأزهري ص 60، "الحجة في القراءات السبعة" 86 تحقيق: عبد العال سالم مكرم. (¬3) هو: سهل بن محمد الجشمي السجستاني، من أئمة القراءة واللغة، تقدمت ترجمته. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1102، "تفسير القرطبي" 2/ 55، "الدر المصون" 1/ 334. (¬5) قال السمين الحلبي في "الدر المصون" 1/ 334: وهذا جراءة منه على عادته. (¬6) في (ش): (لا يخلو هذه أوجه). (¬7) في (ش): (أحدهما). (¬8) في "الحجة" أن تكون (أفعل) لغة في هذا الحرف. (¬9) ساقطة من (م). (¬10) في (ش): (وضربته).

في أنه لا يجوز حمل الآية عليه؛ لأنك لو قدرت الهمزة للنقل كان المعنى ما ننسخك من آية، فتجعل (¬1) المفعول محذوفًا من اللفظ مرادًا في المعنى، كقولك: ما أعطيت من درهم فلن يضيع عندك، على معنى: ما أعطيتك، وإذا كان على هذا التقدير، كان المعنى: ما نُنَزِّلُ عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها، وذلك أن إنساخه إياها إنما هو إنزال في المعنى، لأنه تمكين من نسخها بالكتابة، وإنما يتمكن بأن ينزل عليه، وليس هذا المراد بالآية ولا المعنى، ألا ترى أنه ليس كل آية أنزلت أُتي بآية أذهب منها في المصلحة، وإذا كان هذا التأويل يؤدي إلى الفساد في المعنى والخروج عن الغرض الذي قصد به الخطاب علمت أن توجيه التأويل إليه لا يصح (¬2). الوجه الثالث: أن يكون المعنى في أنسخت الآية: وجدتها منسوخة، كقولهم: أَجَدْتُ الرجل، وأَجْبَنْتُه، وأكذَبْتُهُ، وأَبْخَلْتُه، أي: أصبتُه على هذه الأحوال، فيكون معنى قوله (نُنسخْ): نجده منسوخًا، وإنما (¬3) نجده كذلك ¬

_ (¬1) في (ش): (فجعل). (¬2) عبارة أبي علي في "الحجة" 2/ 185 هكذا: وذلك أن إنساخه إياها إنما هو إنزال في المعنى، ويكون معنى الإنساخ أنه منسوخ من اللوح المحفوظ أو من الذكر، وهو، الكتاب الذي نسخت الكتب المنزلة منه، وإذا كان كذلك فالمعنى: ما ننزل من آية، أو ما ننسخك من آية أو ننسها؛ لأن ابن عامر يقرأ: (أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها) وليس هذا المراد ولا المعنى، ألا ترى أنه ليس كل آية أنزلت أتي بآية أذهب منها في المصلحة فإذا كان تأويلها هذا التأويل يؤدي إلى الفساد في المعنى والخروج عن الغرض الذي قصد به الخطاب علمت أن توجيه التأويل إليه لا يصح، وإذا لم يصح ذلك ولا الوجه الذي ذكرناه قبله، ثبت أن وجه قراءته على القسم الثالث. (¬3) في (ش): (وأما).

لنسخه إياه، وإذا كان كذلك كان قوله: نُنسخ بضم النون كقراءة من قرأ: (نَنسخ) بفتح النون يتفقان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ (¬1). وقوله تعالى: {نُنْسِهَا} قرأ ابن كثير (¬2) وأبو عمرو: (نَنْسَأها) مفتوحة النون مهموزة (¬3). قال أبو زيد: نسأتُ الإبل عن الحوض، فأنا أنسؤها نَسْأً، إذا أخَّرْتَها عنه، ونسأت الإبل: إذا زدتَ في ظمئها يومًا أو يومين أو أكثر، وتقول: انتسأتُ عنك انتساء: إذا تباعدتَ (¬4) عنه (¬5)، وفي الحديث: "إذا تناضلتم ¬

_ (¬1) انتهى كلام أبي علي ملخصًا من "الحجة" 2/ 184 - 186، وينظر: "المحرر الوجيز" 1/ 428 - 429، ونقله القرطبي 2/ 54 - 56، قال أبو حيان في "البحر" 1/ 342 معلقا على كلام أبي علي: فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب، وجعل الزمخشري الهمزة فيه للتعدية، قال: وإنساخها: الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها وقال ابن عطية: التقدير: ما ننسخك من آية، أي: ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخا (فالهمزة عنده للتعدية). وخرج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر، وهو أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضًا، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: ويكون المعنى: ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله الخ وتعقبه أبو حيان. انتهى ملخصًا من "البحر المحيط". (¬2) هو: أبو معبد عبد الله بن كثير الداري المكي، أحد القراء السبعة المشهورين، تقدمت ترجمته 2/ 41 - 42. (¬3) ينظر: "السبعة" ص 168، "النشر" 2/ 220. (¬4) في (ش): (أخرتها). (¬5) نقله عنه في "الحجة" لأبي علي 2/ 187.

فانتسئوا عن البيوت" (¬1) أي: تباعدوا. وقال: مالك بن زُغْبة (¬2): إذا أَنْسَؤُوا فوتَ الرماح أتَتْهُمُ ... عوائرُ نَبْلٍ كالجرادِ نُطِيرُها (¬3) وأنسأته الدين إنساءً: إذا أخرت قضاءه عنه. واسم ذلك: النسيئة، فمعنى قوله: (ننسأها) أي: نؤخرها (¬4). ومعنى التأخير في الآية على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يؤخر التنزيل (¬5) فلا ينزل ألبتَّة، ولا يُعْلَم، ولا يُعْمَل به، ولا يتلى، والمعنى على هذا: ما نؤخر (¬6) إنزالها فلا ننزِلُها (¬7). الوجه الثاني: أن ينزلَ القرآن فيعمل به ويتلى، ثم يؤخر بعد ذلك، بأن يُنْسخ فترفع (¬8) تلاوته ألبتّة، فلا يتلى ولا يعمل بتأويله، وذلك مثل ما روينا عن أبي بكر (¬9) - رضي الله عنه - ومثل ما روي عن زر أن أُبَيًّا قال له: كم تقرؤون الأحزاب؟ قلت: بضعًا وسبعين آية، قال: قد قرأتها ونحن مع ¬

_ (¬1) ذكره ابن الأثير في "النهاية" بلفظ: "ارموا فإن الرمي جلادة، وإذا رميتم فانتسوا عن البيوت" أي: تأخروا وصوب: انتسئوا، وعزاه للهروي. ينظر: "النهاية" 5/ 45، "اللسان" 1/ 392 - 393 ومعنى تناضلتم: تراميتم للسبق. (¬2) هو: مالك بن زغبة، من بني قتيبة بن معن، من باهلة، حدثت معركة قبلية جاهلية ضد بني الحارث بن كعب وبني نهد وبني جرم، نظم فيها أبياتا. ينظر: "خزانة الأدب" 8/ 132، و"البرصان والعرجان" ص 459. (¬3) ينظر: "لسان العرب" 5/ 3617، (مادة: عور)، 5/ 3187، (مادة: عير)، 7/ 4404، (مادة: نسأ)، "المعجم المفصل" 3/ 371. (¬4) ينظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 187، "تهذيب اللغة" 4/ 3556، "اللسان" 7/ 4403. (¬5) في (ش): (المنزل). (¬6) في (ش): (يؤخر). (¬7) في (ش): (فلا ينزلها). (¬8) في (ش): (فترفع). (¬9) تقدم تخريجه.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطول من سورة البقرة (¬1). والوجهُ الثالث: أن يؤخر العملُ بالتأويل؛ لأنه نسخ، ويترك خَطه مُثبتًا وتلاوته في أن يُتلى قُرآن (¬2). وهو ما حكي عن مجاهد في قوله: (أو ننساها) قال: نُثْبت (¬3) خطها ونُبَدّل حكمها (¬4) (¬5). ولا يصح في معنى الآية من هذه الأوجه إلا الأول؛ لأن الثاني والثالث يرجع تأويلهما إلى النسخ، ولا يَحسُن في التقدير: ما نَنْسَخْ من آية أو نَنْسَخْها. وذُكر وجه رابع، هو أقوى هذه الأوجه، وهو: أن يكون المعنى: نؤخرها إلى وقت ثانٍ، فنأتي بدلًا منها في الوقت المتقدم بما يقوم مقامها، فعلى هذا يتوجّه معنى التأخير (¬6). ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في: "زوائد المسند" 5/ 132، والنسائي في "السنن الكبرى" (7150)، وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 190، ونقله عن أبي عبيد: السيوطي في "الإتقان" 3/ 72، وذكره القرطبي 2/ 56، وقال ابن كثير في "تفسيره" ص 1350: وهذا إسناد حسن. (¬2) في "الحجة": وتلاوته قرآن يتلى. (¬3) في (م): (ثبت). (¬4) رواه الطبري في تفسيره عن مجاهد 1/ 475 وذكره أبو علي في "الحجة" 2/ 187 وينظر في هذه القراءة وغيرها: "تفسير الثعلبي" 1/ 1104، وما بعدها، و"المحتسب" 1/ 103، و"المختصر" لابن خالويه ص 9، و"تفسير ابن عطية" 1/ 428 - 429، و"البحر المحيط" 1/ 343. (¬5) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 187 - 188 بمعناه. (¬6) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 1/ 428 - 429: وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان. والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك،=

وأما من قرأ: (نُنسها) فهو منقول من نسي، والنسيان له معنيان: أحدهما: الترك كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، أي: تركوا طاعة الله فترك رحمتهم، أو ترك تخليصهم. والثاني: الذي هو ضد الذكر (¬1). ¬

_ = فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر، فمعنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب، فإنا نأتي بما هو خير منها لكم، أو مثله في المنفعة. وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان: أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لابد أن ننزل رفقاً بكم خيرًا من ذلك أو مثله، حتى لا ينقص الدين عن حد كماله. والمعنى الثاني: أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا: رفع التلاوة والحكم. والمعنى الثالث: أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته، فالنسخ أيضا على هذا: رفع التلاوة والحكم. والمعنى الرابع: أو نتركها غير منسوخة الحكم والتلاوة، فالنسخ على هذا المعنى: هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في منها، أو مثلها، عائدين على المنسوخة فقط، وكأن الكلام: إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها. وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير، فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك: أولها: ما ننسخ أو نؤخر إنزاله. والثاني: ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته. والثالث: ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه. والرابع: ما ننسخ أو نؤخره مثبتا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال جميعها العلماء، إما نصًا، وإما إشارةً، فكملناها. (¬1) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 188 بمعناه.

والذي في هذه الآية منقول من: نسيتُ الشيء إذا لم تذكره، ومعناه: أنَّا إذا رفعنا آية من جهة النسخ أو الإنساء لها أتينا بخير من الذي نرفع بأحد هذين الوجهين وهما النسخ والإنساء (¬1). وقد يقع النسخ بالإنساء، وهو ما حدث أبو أمامة بن سهل بن حنيف (¬2): أن رجلًا كانت معه سورة، فقام يقرؤها من الليل، فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرؤها، فلم يقدر عليها، فلما أصبحوا أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: يا رسول الله، قمت البارحة لأقرأ سورة كذا، فلم أقدر عليها، وقال الآخر: يا رسول الله، ما جئت إلا لذلك (¬3)، وقال الآخر: وأنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها نسخت البارحة" (¬4). ¬

_ (¬1) بمعناه من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 192،193. (¬2) أبو أمامة أسعد بن سهل بن حُنَيف، وقيل: سعد بن سهل الأنصاري: معروف بكنيته، معدود في الصحابة، له رؤية، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، مات سنة 100 ينظر: "الاستيعاب" 1/ 176 و"التقريب" 104 (402). (¬3) في (ش): (كذلك). (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" برقم [17]، من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عُقَيل ويونس عن ابن شهاب، ورواه الثعلبي في "تفسيره" من طريقه 1/ 1097 وأخرجه الطحاوي في "مشكل الأثار" 2/ 273 والواحدي في "الوسيط" 1/ 189 وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 23 من طريق شعيب بن أبي حمزة الحمصي عن الزهري، به نحوه. وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 197 - 198 وعزاه لأبي داود في "ناسخه" وابن المنذر، وابن الأنباري في "المصاحف"، وأبي ذر الهروي في "فضائله"، والبيهقي في "الدلائل". وله شاهد عن ابن عمر بنحوه قال فيه ابن كثير في تفسيره فيه سليمان بن أرقم: ضعيف رواه الطبراني في "الأوسط" 7/ 156 وفي "الكبير" 12/ 288 ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 263، وينظر، "مشكل الأثار" 2/ 273، وقد حسنه د. خالد العنزي في تعليقه على الثعلبي 1/ 1099 وهو من مراسيل الصحابة، وهي حجة، ينظر: "تدريب الراوي" 1/ 207.

ومعنى قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي: أصلح لمن تعبّد بها، وأنفع لهم، وأسهل عليهم، وأكثر لأجرهم، لا أن آيةً خيرٌ من آية؛ لأن كلام الله عز وجل واحد، وكله خيرٌ (¬1). {أَوْ مِثْلِهَا} في المنفعة والمثوبة، بأن يكون ثوابها كثواب التي قبلها (¬2). والفائدة في ذلك: أن يكون الناسخُ أسهلَ في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به والناس إليه أسرع، نحو القبلة التي كانت على جهة ثم حولت إلى الكعبة، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساويًا في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح والأدعى للعرب وغيرهم إلى الإسلام. واعلم أن هذه الآية قد اضطرب فيها المفسرون وأصحاب المعاني والقراء، واختلفت أقوالهم وقراءاتهم. وكثرة الاختلاف تدل على الإشكال وخفاء المغزى، وقلَّ من أصاب الشاكلة منهم (¬3). فالفراء أشار في هذه الآية إلى قولين زَلَّ في أحدهما، وذلك أنه قال: النسيان على وجهين: أحدهما: على الترك، يتركها ولا ينسخها (¬4). وهذا لا يصح؛ لأنه ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1109. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1109. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 475، و"المحرر الوجيز" 1/ 428 - 441، و"التفسير الكبير" 3/ 231، و"البحر المحيط" 1/ 344. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 64 - 65 قال: والوجه الآخر من النسيان الذي ينسى، كما قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وكان بعضهم يقرأ (أو ننسأها)، بهمز، يريد: نؤخرها من النسيئة، وكل حسن.

107

ليس كل آية تُركت ولم تنسخ يؤتى بخير منها (¬1). قال الزجاج: وهو فاسد من جهة اللفظ، وذلك النسيان يكون بمعنى الترك، وفي الآية (ننسها) من الإنساء لا من النسيان، فالإنساء لا يكون بمعنى الترك (¬2). ونصر أبو علي الفارسي في كتاب الحجة قول الفراء، وأَفَسَدَ كل ما ذكره أبو إسحاق في هذه الآية في كتابه، وطال الخطبُ بينهما، فضربت عن ذكره صفحًا (¬3). وكثير من المفسرين حمل النسخ المذكور في الآية على معنى: نسخ الكتاب من الكتاب. فقد حكي عن عدة منهم أنهم قالوا: يريد بالنسخ ما نسخه الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من اللوح المحفوظ فأنزله عليه، وهذا ظاهر الإحالة؛ لأنه ليس كل آية نسخت للنبي - صلى الله عليه وسلم - من اللوح المحفوظ، فأنزلت عليه (¬4) يؤتيه الله ويأتيه بخير منها، ولو كان كذلك لتسلسل الوحي حتى لا يتناهى (¬5). وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: من النسخ والتبديل وغيرهما (¬6). 107 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} هو استفهام معناه التوقيف والتقرير (¬7)، كقوله: ¬

_ (¬1) ينظر هذا التعقب عند أبي علي في "الحجة" 2/ 192. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 189 - 190. (¬3) ينظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 192 - 252. (¬4) في (ش): (فأنزلت عليه)، وهذا ظاهر الإحالة، وهو تكرار. (¬5) ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لابي عبيد ص 7، "تفسير الطبري" 1/ 477 - 478، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 200 - 201، "تفسير القرطبي" 1/ 54 - 56. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 1109. (¬7) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 191، وينظر: "الوسيط" 1/ 190.

108

أَلَسْتم خير من ركب المطايا (¬1) أي: أنتم كذلك. وقوله تعالى: {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الملك: تمام القدرة واستحكامها (¬2)، وقد مرَّ. ومعنى الآية: أنه يملك السماوات والأرض ومن فيهن، وهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ (¬3). وقوله تعالى: {مِنْ وَلِيٍّ} هو فعيل بمعنى الفاعل (¬4)، يقال: هو والي الأمر ووليُّه، أي: القائم به والذي يلي عليه (¬5). وشرحنا (¬6) معنى الولي عند قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] ومعنى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} تحذير العباد من عذابه، إذ لا مانع منه (¬7). 108 - قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} الآية، قد ذكرنا بعض أحكام أم في قوله: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، (¬8) والذي بقي هاهنا أن أم تقع (¬9) ¬

_ (¬1) عجزالبيت: وأندى العالمين بطون راح وهو لجرير، في "ديوانه" ص 85، وفي "المجموع شرح المهذب"10/ 298، "المعجم المفصل" 2/ 133، وانظر 2/ 363. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 191، وينظر: "الوسيط" 1/ 190. (¬3) نفسه. (¬4) انظر: "البحر المحيط" 1/ 345. (¬5) ينظر: "الوسيط" 1/ 190. (¬6) يعنى: سيأتي شرحه. (¬7) ينظر: "الوسيط" 1/ 190. (¬8) "البسيط" 1/ 474 - 475 تحقيق: الفوزان. (¬9) في (ش): (تقطع).

عاطفة بعد الاستفهام، كقولك: أخرج زيدٌ (¬1) أم عمرو؟ وأَزَيدٌ عندك أم عمرو؟، فيكون معنى الكلام: أيهما عندك؟، ولا تكاد تكون عاطفة إلا بعد الاستفهام (¬2). قال الفراء: ويجوز أن يستفهم بها، فتكون (¬3) على جهة النسق في ظاهر اللفظ، وفي المعنى تكون استفهامًا مبتدأً به، منقطعًا مما قبله، وذلك مثل قوله تعالى: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة:1 - 3]. فجاءت (أم) وليس قبلها استفهام، وهي دليل على أنها استفهام مُبتدأ على كلام قد سبقه (¬4)، وتقديره: بل أتقولون افتراه، فلو لم يتقدمه كلام لم يجز أن تستفهمَ مبتدئا كلامك بـ (أم)، ولا يكون إلا بالألف أو بهل، فأم استفهام متوسط والمتقدم يكون بالألف أو بهل (¬5). فأما قوله {أَمْ تُرِيدُونَ} فيجوز فيه الوجهان جميعًا، إن شئت قلت قبله استفهام رُدَّ عليه، وهو قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} (¬6). فإن قيل: كيف يُرَدّ (أم تريدون) عليه والأول خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والثاني خطاب للجماعة؟ قيل: الله تعالى رجع في الخطاب من التوحيد إلى الجمع، وما خوطب به عليه السلام فقد خوطب به أُمّته، فيكتفى به من أُمّته، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، فوحَّد ثم جَمَعَ، ¬

_ (¬1) في (ش): (زيدًا). (¬2) ينظر: "مغني اللبيب" 1/ 42، "البحر المحيط" 1/ 346. (¬3) في (أ)، (م): (فيكون). (¬4) كذا في "معاني القرآن" للفراء1/ 71. (¬5) من قوله: (فأم استفهام) ... ساقط من (ش). (¬6) كذا في "معاني القرآن" للفراء 1/ 71.

كذلك فيما نحن فيه، ويكون المعنى على هذا: أيُّهما عندكم العلم بأن الله قدير، وأن له ملك السماوات والأرض، أم إرادة سؤال الرسول الآيات؟ والله تعالى علم أيهما عندهم. وإن شئت جعلت أم منقطعًا مما قبله في المعنى، مستأنفًا بها الاستفهام، فيكون استفهامًا متوسطًا في اللفظ مُبتدئًا في المعنى، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} الآية. ثم قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف:51 - 52] وهذا يطرد فيه الوجهان العطف بالاستفهام، والابتداء به (¬1). ومثله قوله: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص:62 - 63]. فمن قرأ: {أَتَّخَذنَاهُم} بفتح الألف فـ (أم) جاءت بعد الاستفهام (¬2)، ومن وصل الألف فـ (أم) فيه بمنزلته في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 3]. قال الفراء: وربما جعلت العرب (أم) إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه أيٌّ على جهة (بل) فتقول (¬3): هل لك قبلنا حقٌ أم أنت رجل ظالم؟ على معنى: بل أنت (¬4). وأنشد ابن الأنباري على هذا: تروحُ من الحيِّ أم تَبْتَكرْ ... وماذا يضُرُّك لو تَنْتَظِرْ (¬5) ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 72. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 71 - 72. (¬3) في (أ)، (م): (فيقول). وفي "معاني القرآن" 1/ 72: (فيقولون). (¬4) كذا بنحوه في "معاني القرآن" للفراء 1/ 72، ونقل أغلب ما سبق عن الفراء الطبري في "تفسيره" 1/ 484 - 485، وينظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 1/ 441. (¬5) البيت لامرئ القيس، ينظر: "ديوانه" ص 68، "لسان العرب" 5/ 2777، (مادة: عبد)، "المعجم المفصل" 3/ 31.

فقال: يجوز أن تكون أم في هذا البيت مردودة على الألفِ المُضْمَرة مع تروح وكافية منها، كقوله: فوالله ما أدري وإنْ كنتُ داريًا ... بسبعٍ رمينَ الجمرَ أم بثمانِ (¬1) ويجوز أن يكون هي حرف الاستفهام متوسطًا. فأما التفسير فقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من قريش، قالوا: يا محمد، (اجعل لنا) (¬2) الصَّفَا ذهبًا، ووسِّع لنا أرضَ مكة، وفجَّر الأنهار خلالها تفجيرًا، نؤمنْ بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬3). والذي سأل قوم موسى أنهم قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، (¬4). قال ¬

_ (¬1) البيت لعمر بن أبي ربيعة، ينظر: "ديوانه" ص 266، "المعجم المفصل" 8/ 186. (¬2) ساقطة من (م). (¬3) كذا ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1110، والمصنف أيضًا في "أسباب النزول" ص 34، القرطبي 2/ 62، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 345 وذكره الحافظ في "العجاب" 1/ 350 عن الواحدي، وقال: ذكره الثعلبي، ولعله من تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .. وقد ذكر الطبري في تفسيره 1/ 483، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 328 أسبابًا أخرى، ومن ذلك: ما رواه ابن أبي حاتم بسنده الحسن كما في "التفسير الصحيح" 1/ 213 عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد ايتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك عن قولهم: (أم تريدون ..) الآية. قال الثعلبي في "تفسيره" 15/ 111: والصحيح إن شاء الله أنها نزلت في اليهود حين قالوا: ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، لأن هذه السورة مدنية، وتصديق هذا القول: قوله عز وجل: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 153]. (¬4) قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 1/ 145 لم يبين هنا الذي سأل موسى من قبل من هو؟ ولكنه بينه في موضع آخر، وذلك في قوله: (يسألك أهل الكتاب ...) الآية.

المفسرون: إن (¬1) اليهود وغيرهم من المشركين تمنَّوا (¬2) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمِنْ قائلٍ يقول: ائتنا بكتاب من السماء جملة واحدة (¬3)، كما أتى موسى بالتوراةِ، ومِن قائلٍ يقول، وهو عبد الله ابن أبي أمية المخزومي (¬4): ائتني بكتاب من السماء فيه من الله رب العالمين إلى أُبي بن (¬5) أُميّة: اعلم أني قد أرسلت محمدًا إلى الناس، ومِن قائلٍ يقول: لن نؤمن أو تأتي بالله والملائكة قَبيلًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬6). وقال أبو إسحاق: معنى الآية: أنَّهم نُهوا أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مالا خير لهم في السؤال عنه (¬7)، إنما خُوطبوا بهذا بعدَ وضوحِ البراهين لهم، وإقامتهم (¬8) على مخالفتهم (¬9). ¬

_ (¬1) في (ش): (بأن). (¬2) تحرفت في "أسباب النزول" ص 37 إلى تمنعوا. (¬3) ساقطة من (أ)، (م). (¬4) هو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عاتكة بنت عبد المطلب، كان من كفار مكة ومن أقوى المعارضين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ولم يزل كذلك حتى عام الفتح، فهاجر إليه قبل الفتح هو وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب، وأسلما وحسن إسلامهما، وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف، ورُمي من الطائف بسهم فقتله. ينظر: "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 521، "أسد الغابة" 3/ 177، "البداية والنهاية" 4/ 130. (¬5) في الأصل: أبي بن، والتصويب من "أسباب النزول" ص 38. (¬6) ينظر تخريج كلام ابن عباس السابق، وكذا أيضا في "أسباب النزول" للمصنف ص 37 - 48، "البحر المحيط" 1/ 346. (¬7) في "معاني القرآن" عنه وما يكفرهم وإنما. (¬8) في "معاني القرآن" وإقامتها. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 192.

109

والسؤال بعد قيام البراهين كفر. لذلك قال {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} قصدَه ووسطَه (¬1)، ومعنى الضلال ها هنا: الذَهابُ عن الاستقامة (¬2)، قال الأخطل (¬3): كنتُ القَذَى في موجِ أكدرَ مُزبدٍ ... قذَفَ الأتيُّ به فضلَّ ضلالا (¬4) أي: ذهب يمينًا وشمالًا. وذكرنا ما في (سواء) في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]. 109 - قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد (¬5): ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحقّ ما هُزِمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم (¬6). وتم الكلام عند قوله: {كُفَّارًا}. وانتصب {حَسَدًا} على ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1112. (¬2) ينظر: "الوسيط" 1/ 191. (¬3) هو: غياث بن غوث بن الصلت أبو مالك التغلبي، شاعر نصراني. (¬4) ينظر: "ديوان الأخطل" ص 250، و"نقائض جرير والأخطل" ص 83، و"تفسير القرطبي" 14/ 91، و"الماوردي" 3/ 293، و"وضح البرهان" للغزنوي 2/ 175. وينظر: "البحر المحيط" 5/ 513 - 514. (¬5) تحرف في نسخ "أسباب النزول" كما في ص 38 إلى وقعة بدر. (¬6) ذكره المصنف أيضًا في "أسباب النزول" ص 38، وعنه ابن حجر في "العجاب في بيان الأسباب" 1/ 354، ثم قال: هذا لعله من تفسير الكلبي، والذي ذكره ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بكير عنه حدثني محمد بن أبي محمد، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً، إذ خصهم الله تعالى برسوله، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله تعالى فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} الآية. انتهى. وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 487 - 488، ابن أبي =

المصدر. ودل قوله: (يردونكم كفارًا) على (يحسدونكم)، وإن شئت جعلته مفعولًا له، كأنه قيل: للحسد (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أراد: أنهم ودُّوا ذلك من عند أنفسهم، لم يؤمروا به في كتابهم (¬2) الدليل على ذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} فـ (من) موصولة بـ {وَدَّ} لا بقوله: {حَسَدًا} على التوكيد، كقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. قال ابن الأنباري: ويكون تأويل {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} في حكمهم وتدينهم ومذهبهم، أي: هذا الحسد مذهب لهم، لم يؤمروا به كما تقول: هذا عند الشافعي حلال، أي: في حكمه ومذهبه. وأما معنى الحسد في اللغة، فحكى ثعلب عن ابن الأعرابي: أصل الحسد في كلام العرب: القشر، ومنه أخذ الحسد؛ لأنه يَقْشر القلب، قال والحَسدلُ (¬3): القرادة, ¬

_ = حاتم في "تفسيره" 1/ 204 وسند ابن أبي حاتم حسن كما في "التفسير الصحيح" 1/ 215، وقد ذكر القصة بأطول مما عند الواحدي: مقاتل في "تفسيره" 1/ 130 وكذا الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1112، وذكره الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 1/ 78 وقال: قلت: غريب، وهو في "تفسير الثعلبي" هكذا من غير سندٍ ولاراوٍ. وقال ابن حجر في "الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" 1/ 356: لم أجده مسندًا. اهـ. وممن ذكر القصة مختصرة: السمرقندي 1/ 149، والحيري في "الكفاية" 1/ 67، والسمعاني في "تفسيره" 2/ 16، وابن عطية 1/ 446، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 114 وغيرهم. (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1114، و"البيان" لابن الأنباري 1/ 118، "التبيان في إعراب القرآن" ص 83، و"إعراب القرآن" لأبي جعفر النحاس 1/ 207، و"الدر المصون" 1/ 341. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1114. (¬3) زيدت اللام فيه كما يقال للعبد: عبدل. ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1114.

لأنه يقشر الجلد فيمص الدم. ذكره الأزهري (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراة أن قول محمد صدق، ودينه حق، وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين (¬2). وقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} قد ذكرنا معنى العفو عند قوله: {ثُمَّ عَفَونَا عَنكم} [البقرة: 52]، وأما الصفح فمعناه في اللغة: الإعراض (¬3)، يقال: صفح عن فلان أي: أعرض عنه موليًا، ومنه قول كُثَيِّر يصفُ امرأة أعرضت عنه: صفوحًا فما تلقاك إلا بخيلةً ... فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ ملَّتِ (¬4) قال ابن عباس: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي: عن مساوئ كلامهم، وغلّ قلبهم (¬5). قال: وهذا منسوخٌ بآية القتال (¬6)، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورًا ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" 1/ 813، "اللسان" 2/ 868 (حسد). (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1114. (¬3) ينظر: "شمس العلوم" لنشوان الحميري 6/ 3773. (¬4) البيت لكثير عزة، في "ديوانه" ص 98، "لسان العرب" 4/ 2457، (مادة: صفح)، "المعجم المفصل" 1/ 553. (¬5) تقدم الكلام عن مثل هذه الرواية في قسم الدراسة. (¬6) أخرجه الطبري 1/ 489 - 490، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 206. وينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيد 1/ 50، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ص 274، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص 312. ورد ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 46 القولَ بالنسخ وعزى ذلك لجماعة، وقال: واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقًا، وإنما أمر به إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته، والآخر يحتاج إلى حكم آخر. ونقل في "البحر المحيط" 1/ 349 عن قوم بأنه ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر للتوقيف على مدته {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} غيّا العفو والصفح بهذه الغاية، وهذه الموادعة على أن تأتي أمر الله =

111

في أوَّلِ الأمر أن (¬1) يدعو بالحججِ البينة، وغاية الرفق، فلمَّا عاندَ اليهود بعدَ وضوحِ الحق عندهم أُمِرَ المسلمون بعد ذلك بالحرب (¬2). وقوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قال ابن عباس: يريد إجلاء النضير، وقتل قريظة، وفتح خيبر وفَدَك (¬3) (¬4)، وقال قتادة: يعنى: أمره بالقتال (¬5) في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬6) [التوبة: 29] (¬7). 111 - قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} المعنى: أن اليهود قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، والنصارى قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ولكنهم أُجملوا، ¬

_ = بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية، وغير ذلك مما أتي من أحكام الشرع فيهم، وترك العفو والصفح. (¬1) ساقط من (ش) (¬2) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 193. (¬3) فَدَك: قال في "المصباح المنير" ص 465 (ط: المكتبة العلمية) بفتحتين، بلدة بينها وبين مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وهي مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتنازعها علي والعباس في خلافة عمر ... فسلمها لهما. وينظر: "المغرب" للمطرزي ص 353 ط. دار "الكتاب" العربي. (¬4) عزاه لابن عباس: الثعلبي 3/ 1114، وينظر: "الكفاية" 1/ 67، "الوسيط" 1/ 191 "ابن عطية" 1/ 448، "القرطبي" 2/ 65، "البحر المحيط" 1/ 349. (¬5) وهذا قول الجمهور كما في "البحر المحيط" 1/ 349. (¬6) أخرجه الطبري 1/ 490، وذكره الثعلبي 3/ 1114 وروي نحوه عن ابن عباس وأبي العالية والسدي والربيع بن أنس وغيرهم كما عند الطبري 1/ 490، وابن أبي حاتم 1/ 334. (¬7) لم يفسر المؤلف الآية رقم (110) وهي قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

وضم النصارى إلى اليهود في قوله: {وَقَالُوا}؛ لأن الفريقين يُقِرَّانِ بالتوراة (¬1). كما قال حسان: أمَنْ يهجُو رسولَ اللهِ منكمْ ... ويمدحُه وينصرُه سواءُ (¬2). تقديره: ومن يمدحه وينصره، إلا أنه لما كان اللفظ واحدًا جُمع مع الأول، يعنى إلى أصل الفعل، وصار كأنه إخبار عن جملة واحدة، وإنما حقيقته عن بعضين مختلفين. وقوله: {هُودًا} قال الفراء: أراد: يهودًا، فحذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية، وقد يكون أن تجعل الهود جمعًا، واحده هائد، مثل حائل (¬3) وحُول، وعائط وعُوط (¬4) (¬5)، ومثله من الصحيح: بازل وبُزْل (¬6)، وفاره وفُرْهٌ، والهائد: المائل إلى التوبة وإلى غيرها من ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 194. (¬2) البيت لحسان في "ديوانه" ص 8، وينظر: "السيرة النبوية" 4/ 46، "تذكرة النحاة" ص 70، "الخزانة" 9/ 232، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 353، "البحر المحيط" 1/ 640. (¬3) في (ش): (حائل إلى أصل الفعل). (¬4) حائل: ناقة حائل: حمل عليها فلم تَلْقَح، أو التي لم تَلْقح سنة أو سنوات، وجمعها: حُول وحِيال وحُوَّل وحُولَل. القاموس ص 989. عائط: عاطت الناقة والمرأة: لم تحمل سنين من غير عُقْرٍ فهي عائط، وجمعها: عُوط وعِيْط وعُيَّط وعُوطَط، وعِيطات. "لسان العرب" 5/ 3172. (¬5) كذا أورده الفراء في "معاني القرآن" 1/ 73، وعنه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 207، وينظر مثله في: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 151، "تفسير الطبري" 1/ 491 - 492، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 194. (¬6) بازل: هو الجمل أو الناقة إذا بلغ التاسعة من سنينه، وليس بعده سِنٌّ تسمى جمعه: بُزْل، وبُزَّل، وبَوَازل.

المعاني (¬1)، وقال الليث: الهود: هم اليهود، هادوا يهودون هُودًا: أي: تابوا (¬2) وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} [الأنعام: 146]، أي: دخلوا في اليهودية، وقد مرَّ هذا. وقوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي: التي تمنّوْها على الله باطلًا، وذكرنا ما في هذا الحرف عند قوله: {إِلَا أَمَانىِّ} [البقرة: 78]. وقوله تعالى: {هَاتُوا} قيل: إن الهاء فيه أصلية، وهو من المُهَاتَاة. وقيل: إنه بدل عن الألف، من آتى، ولكن العرب قد أَمَاتَتْ كلَّ شيء من فعلها غير الأمر، فإذا أمرت رجلًا أن يعطيك شيئا قلتَ: هاتِ (¬3). ثعلب عن ابن الأعرابي: هاتِ وهاتِيَا، وهاتوا: أي: قَرِّبُوا قال (¬4): ومنه قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: قَرِّبُوا، قال: ومن العرب من يقول: هاتِ: أعط (¬5). و (البرهان): الحُجَّةُ، قال الأزهريُّ: والنون فيه ليست بأصلية، وقولهم: بَرْهَنَ فلانٌ، إذا جاء بِبُرهانٍ، مُوَلَّدٌ، والصوابُ أن يقال في معناه: أَبْرَهَ. كذلك قال ابن الأعرابي (¬6). أَبْرَهَ الرجلُ إذا غلبَ الناسَ وأتى ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 1/ 492، "اللسان" (مادة: هود) 8/ 4718. (¬2) نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3689. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3816، ولفظه: كل شيء من فعلها غير الأمر بهات. وينظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 1/ 449. "اللسان" 8/ 4732 (هيت). (¬4) ساقطة من (ش) و (م). (¬5) في (أ) و (م): (اعطى). (¬6) عبارة "تهذيب اللغة" بتمامها 1/ 322: كما قاله ابن الأعرابي [إن صح عنه =

112

بالعجائب (¬1). 112 - قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} (بلى) هاهنا بمنزلته في قوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ} (¬2) [البقرة: 81]، وقد ذكرناه. وقوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الإسلام والاستسلام لله -عز وجل- هو الانقياد لطاعته، والقبول لأمره. ومن هذا قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 83] أي: انقاد، والإسلام الذي هو ضد الكفر من هذا. ثم ينقسم إلى: متابعة وانقياد باللسان دون القلب، كقوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، أي: انقدنا من خوف السيف، وإلى متابعة وانقيادٍ باللسان والقلب كقوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]. ومعنى قوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي: بذل وجْهَهُ له في السجود (¬3)، وعلى هذا {أَسْلَمَ} بمعنى سلَّم، يقال: سلّم الشيءَ لفلانٍ، أي: خَلَّصَه له، وسَلَمَ له الشيء، أي: خَلَصَ له (¬4). قال ابن الأنباري: والمسلم على هذا القول: هو المخلصُ لله ¬

_ = وهي في رواية أبي عمرو، ويجوز أن تكون النون في البُرهان نون جمعٍ على فُعْلان، ثم جعلت كالنون الأصلية، كما جمعوا مُصَادًا على مُصْدَانٍ، ومصيرًا على مصرانٍ، ثم جمعوا: مُصران على مَصَارين، على توهم أنها أصلية] .. (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 322 وليس عنده: أبْرَةَ الرجل إذا غلبَ الناسَ وأتى بالعجائب. وبنحوه في "اللسان" لابن منظور نقلًا عن الأزهري 1/ 271. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1119. (¬3) ينظر: "تفسير القرطبي" 1/ 451. (¬4) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 131، "تفسير الثعلبي" 1/ 1119.

العبادةَ، فمعنى قوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، أي: سلّم وجهه له، بأن صانه عن السجود لغيره، وخَصَّ الوجه، لأنه إذا جاد بوجهه في السجودِ لم يبخل بسائر جوارحه. وقال قومٌ من أهل المعاني: أسلمَ وجهَه أي: أسلمَ نفسه وجميع بدنه لأمر الله، والعرب تستعملُ الوجه وهم يريدون نفسَ الشيء، إلا أنَّهم يذكرونه باللفظ الأشرف (¬1)، كما قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. وقال جماعة: الوجهُ قد يقع صلةً في الكلام (¬2)، فقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي: انقاد هو لله، ومثله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20] أي: انقدت لله بلساني وعَقْدي (¬3)، قال زيد بن عمرو بن نفيل (¬4): وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ ... له المزنُ تحملُ عَذْبًا زُلالًا (¬5) ¬

_ (¬1) قال القرطبي في "تفسيره" 1/ 67: والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 352. (¬2) ذكره أبو حيان في: "البحر المحيط" 1/ 352 معاني (أسلم وجهه) بأنه: أخلص عمله لله أو قصده، أو فوض أمره إلى الله تعالى، أو خضع وتواضع. ثم قال: وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضًا. (¬3) في (ش): (وعقيدتي). (¬4) هو: زيد بن عمرو بن نفيل العَدَوي، ابنُ عَمِّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يعادي عبادة الأوثان، ولا يأكل مما ذبح عليها، آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يبعث أمة وحده" توفي قبل البعثة بخمسِ سنين. ينظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 105، و"الإصابة" 1/ 569. (¬5) هما بيتان ذكرهما الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1119 هكذا: أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرًا ثقالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبًا زلالا =

113

وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} قال ابن عباس: يريد: وهو مؤمن موحّدٌ (¬1) مُصدِّق لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال غيره (¬3): {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: في عمله (¬4). وهذا دليل (¬5) على أن الطاعةَ من الإيمان، حيث جعل الإحسان في العمل (¬6) شرطًا في دخول الجنة، والآية ردٌّ على اليهود والنصارى؛ لأنَّهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فقال الله تعالى: (بلى) يدخلُها من كان بهذه الصفة. 113 - قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} الآية. قال ابن عباس: قدم وفد نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتنازعوا مع اليهود، فكذّب كل واحد منهما صاحبه، فنزلت هذه الآية فيهم (¬7). ¬

_ = وينظر في "الروض الأنف" 1/ 266، و"الأغاني" 3/ 17، و"تفسير الرازي" 4/ 4، والبيت الثاني في "تأويل مشكل القرآن" 480، و"الدر المصون" 2/ 73، وينظر: "وضح البرهان في مشكلات القرآن" محمد الغزنوي 1/ 162، وقد ورد البيت الثاني في بعض المصادر: نفسي، بدل وجهي، وماءً، بدل عذبًا. (¬1) في (م): موحد مؤمن). (¬2) هذه الرواية تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة، ولم أجد من نقلها من أهل التفسير. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 131. (¬4) ينظر الطبري في "تفسيره" 1/ 494، "تفسير الثعلبي" 1/ 1120 وذكر قولين آخرين: مؤمن، ومُخْلص. "البحر المحيط" 1/ 352. (¬5) في (ش): (زيادة دليل في العمل). (¬6) في (أ) و (م): (في العمل على شرطًا). (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" بنحوه 1/ 494 - 495، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 208 وإسنادهما حسن، وذكره المصنف في "أسباب النزول" دون عزو لابن =

فقوله تعالى {وَهُم يَتْلُونَ الكِتَبَ} قال الزجَّاجُ: يعني (¬1) به أن الفريقين يتلون التوراة، وقد وقع بينهم هذا الاختلاف، وكتابهم واحد، فدلّ بهذا على ضلالتهم، وحذّر بهذا وقوع الاختلاف في القرآن؛ لأن الفريقين أخرجهما إلى الكفر (¬2). وقيل معنى قوله {وَهُم يَتْلُونَ الكِتَبَ} رفع الشبهة بأنه ليس في تلاوة الكتاب معتبر في الإنكار إذا لم يكن لهم برهان على ما ينكرون، فلا ينبغي أن يدخل الشبهة بإنكار أهل الكتاب لملة الإسلام، إذ كلُّ فريق من أهل الكتاب قد أنكر ما عليه الآخر. ثم بين أن سبيلهم كسبيل مَنْ لا يعلم الكتابَ في الإنكار لدين الله من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم، فهم في جحدهم لذلك إذ لا حجة معهم يلزم بها تصديقهم لا من جهة سمع ولا عقل، فقال: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (¬3). قال ابن عباس: يريد: أمةَ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وقومِ فرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع، كلهم كذبوا الرسل، واختلفوا على أنبيائهم، وكذَّبوهم كما كذب اليهود والنصارى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ = عباس ص 39، وكذا الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1120، وذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" 2/ 175. (¬1) في (أ) و (م): (نعني). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 195. (¬3) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 353. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1121 عن ابن جريج عن عطاء قريبًا من هذا اللفظ، وأخرجه عن عطاء أيضا: الطبري في "تفسيره" 1/ 497، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 209.

114

وقال مقاتل (¬1): يعنى: مشركي العرب قالوا: إن محمدًا وأصحابه ليسوا على شيء من الدين (¬2). وقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الآية، قال أبو إسحاق: المعنى: أنه (¬3) يريهم من يدخلُ الجنة عيانًا ويدخل النار عيانًا (¬4)، فأما (¬5) حكم الدين (¬6) فقد بيّنه الله عز وجل بما أظهر من حجج المسلمين (¬7)، وقال الحسن: حُكْمُه فيهم أن يكذّبهم جميعًا، ويدخلهم النار (¬8). 114 - قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} الآية، (من) ابتداء، وخبره أظلم، وهو استفهام معناه: وأيُّ أحدٍ أظلمُ (¬9). وعن ابن عباس في نزول هذه الآية روايتان: الأولى: أنها نزلت في أهل الروم، لأنهم خربوا بيتَ المقدس، فعلى هذا أراد بالمسجد بيت المقدس ومحاريبه (¬10) (¬11). ¬

_ (¬1) هو مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي البلخي، أبو الحسن، من أعلام المفسرين، ولكنه رمي بالتجسيم، متروك الحديث، وانظر ترجمته في المقدمة. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 132. ويروى عن السدي فيما أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 497، و"ابن أبي حاتم" 1/ 209. (¬3) في (ش): (أنهم). (¬4) ليست في (أ)، (م). وفي "معاني القرآن" للزجاج قال بعدها: وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة. (¬5) في (ش): (وأما). (¬6) في "معاني القرآن" فأما الحكم بينهم في العقيدة. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 195، وزاد: وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن. (¬8) ذكر هذا الوجه: أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 354. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 195. (¬10) في (م): (محاربة). (¬11) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1122 دون عزو وذكره الواحدي في "أسباب =

والثانية: أنها نزلت في مشركي مكة، لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام (¬1)، وعلى هذه الرواية معنى قوله {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} أنهم منعوا من العبادة في المساجد، وكلُّ من مَنعَ من عبادة الله في مسجد فقد سعى في خرابه؛ لأن عمارته بالعبادة فيه. وأصل السعي في اللغة: الإسراع في المشي، قال الله عز وجل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20]. ثم يسمّى المشيُ سعيًا، كقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، يعنى المشي، وقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، أي: امشوا، وقال (¬2) {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260]، أي: مشيًا. ثم يسمى العمل سعيًا، لأنه لا ينفك من السعي في غالب الأمر، قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] وقال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [الحج: 51] أي: جدّوا في ذلك، وقال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]، أي: عملكم مختلف. وأراد (¬3) بالسعي في هذه الآية: العمل (¬4). ¬

_ = النزول" ص 39 من رواية الكلبي عن ابن عباس وأخرجها الطبري في "تفسيره" 1/ 498، وابن أبي حاتم 1/ 210 من طريق العوفي نحو ذلك، كما روي عن مجاهد وقتادة والسدي كما ذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 520، وابن أبي حاتم 1/ 210، والواحدي في "أسباب النزول" ص 39 وغيرهم. (¬1) أخرجها ابن أبي حاتم 1/ 210 من طريق ابن اسحاق بسند حسن، وذكره الحافظ في "العجاب" 1/ 359 من طريق عطاء عن ابن عباس. وبه قال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، كما رواه الطبري عنه 1/ 498. (¬2) في (م): (ثم قال). (¬3) في (ش): (فأراد). (¬4) ينظر: "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني ص 238 - 239.

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}. قال أبن عباس على الرواية الأولى: لم يدخل بيتَ المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلا خائفًا لو عُلمَ به قُتِلَ (¬1)، قيل: وهذا قول (¬2) مجاهد وقتادة (¬3) ومقاتل (¬4) والفراء (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1123، البغوي 1/ 139، "الخازن" 1/ 98. (¬2) يذكر ذلك عن كعب والسدي، ينظر: الطبري 1/ 500، ابن أبي حاتم 1/ 210 - 211، "العجاب" 1/ 360. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 56 ومن طريقه أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 498 - 499، وابن أبي حاتم 1/ 341 بنحوه وأخرجه الطبري أيضا من غير طريق عبد الرزاق. (¬4) "تفسيرمقاتل" 1/ 132 - 133. (¬5) في "معاني القرآن" 1/ 74. وقد رجح الطبري في "تفسيره" هذا القول 1/ 498 - 500 محتجًّا بأن الله ذكر أنهم سعوا في خراب المسجد، وهذا لم يكن قط من المشركين في المسجد الحرام، بل كانوا يفخرون بعمارته، وبأن سياق الآية ولحاقها كله في أهل الكتاب، ولم يجر للمشركين ذكر. ثم قال: وإن كان قد دل بعموم قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أن كل مانع مصليًا في مسجد لله -فرضًا كانت صلاته فيه أو تطوعًا- وكل ساع في إخرابه، فهو من المعتدين الظالمين. وانتصر لترجيح الطبري في "تفسيره" أحمد شاكر ورد كلام ابن كثير في "تفسيره" الآتي مختصره. وأما قول الطبري في "تفسيره" إنهم النصارى، وذلك أنهم سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بُخْتنْصَّر على ذلك ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد مُنْصرف بختنصر عنهم إلى بلاده. اهـ. فهذا قول قتادة والسدي وقد ذكر الجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 61 أن ما روي في خبر قتادة يشبه أن يكون غلطا من راويه؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الأولين أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى إنما كانوا بعد المسيح وإليه ينتمون، فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس، والنصارى إنما استفاض دينهم في الشام والروم في أيام قسطنطين=

وقال على الرواية الثانية: هذا وعدٌ من الله لنبيه والمهاجرين، يقول: أفتح مكة لكم حتى تدخلوها آمنين وتكونوا أولى بها منهم. وهذا قول عطاء (¬1) وابن زيد (¬2). وقيل (¬3): إنه أمر في صيغة الخبر، يقول: جاهدوهم واستأصلوهم بالجهاد؛ كيلا يدخلها أحد منهم إلا خائفًا من القتل والسبي، كقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] نهاهم على لفظ الخبر، ومعناهما: لا ينبغي لهم ولكم (¬4). وقال الزجاج حاكيًا: إنَّ هذه الآية مما يعنى به جميع الكفار الذين تظاهروا على الإسلام ومنعوا جملة المساجد؛ لأن من قاتل المسلمين حتى يمنعهم من الصلاة فقد منع جميع المساجد، وكل موضع يتعبد فيه فهو ¬

_ = الملك، وكان قبل الإسلام بمائتي سنة وكسور، وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أوثان، وكان من ينتحل النصرانية منهم مغمورين مستخفين بأديانهم فيما بينهم، ومع ذلك فإن النصارى تعتقد من تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود، فكيف أعانوا على تخريبه مع اعتقادهم فيه. (¬1) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1126، وعنه البغوي في "تفسيره" 1/ 139، والحافظ في "العجاب" 1/ 359. (¬2) ينظر الطبري في "تفسيره" 1/ 500، ففيه عن ابن زيد بغير هذا المعنى ومال إلى هذا ابن كثير في "تفسيره" 1/ 167 وبين أن أعظم خراب فعلوه إخراجهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستحواذهم عليه بأصنامهم، وصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، وذكر الآيات الدالة على أن معنى العمارة إقامة ذكر الله فيها وليس زخرفتها ... إلخ. (¬3) في (ش): (وقال). (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1124، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 139، والرازي 4/ 12، والقرطبي 2/ 70، و"البحر المحيط" 1/ 358 - 359.

115

مسجد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"جعلت لي الأرض مسجدا" (¬1) والمعنى على هذا: ومن أظلم ممن يخالف ملة الإسلام (¬2). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} الآية، أعلم الله عز وجل أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم، حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفا، وهذا كقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. الآية (¬3). وقوله: {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} موضع (أن) نصب؛ لأنه المفعول الثاني للمنع، وهو مع الفعل بمنزلة المصدر (¬4). قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} الآية. قال المفسرون: يريد القتل للحربي، والجزية للذمي (¬5). وذكرنا معنى الخزي عند قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ} [البقرة: 85]. 115 - قوله تعالى: {وللهِ المشَرِقُ وَالمغَرِبُ} ارتفع المشرق من جهتين: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (438) كتاب الصلاة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا. ومسلم (522) كتاب المساجد ومواضع الصلاة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 196. (¬3) نقله عن الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 196. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1123، القرطبي في "تفسيره" 2/ 68، "البحر المحيط" 1/ 358 وذكر الثعلبي في "تفسيره" جواز نصبه على نزع الخافض والتقدير: من أن يذكر. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1124، والبغوي في "تفسيره" 1/ 140، والقرطبي 2/ 70 عن قتادة، وأخرجه عبد الرازق في "تفسيره" 1/ 56 ومن طريقه الطبري 1/ 500، وابن أبي حاتم 1/ 211 عن قتادة: أن المراد بها الجزية وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 196 - 197، قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 168: والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

إحداهما: الابتداء، والأخرى: بالفعل الذي ينوب عنه اللام (¬1)، أي: ثبت لله المشرق، ومثله قولك: لزيد المال، فيه الوجهان كما ذكرنا، ومعنى (لله) أي: هو خالقهما (¬2). قال ابن عباس: نزلت الآية في نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجوا في سفر فأصابَهم الضَّبابُ، وحضرت الصلاةُ فتحرَّوا القبلةَ، وصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما ذهب الضباب استبان أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه الآية (¬3). وقال ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر يصلي حيثما توجهت به راحلته تطوعًا (¬4). وروى أن النبى -صلى الله عليه وسلم- كان يصلى على راحلته فى السفر حيثما توجهت به (¬5). وقال عكرمة وأبو العالية: نزلت في تحويل القبلة، وذلك أن اليهود عيّرت المؤمنين في انحرافهم من بيت المقدس، فأنزل الله هذه الآية جوابًا ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 197. (¬2) "تفسير الطبري" 1/ 501. (¬3) أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، كما في "ابن كثير" 1/ 169، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 151، والثعلبي 1/ 1128، والسيوطي في "لباب النقول" ص 23، وفي "الدر المنثور" 1/ 205، وعزاه إلى ابن مردويه، وضعف إسناده. وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" روايات كثيرة في هذا ثم قال: وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا. (¬4) أخرجه مسلم (700/ 34 - 35 - 36) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت به. (¬5) أخرجه البخاري (400) في الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (700) صلاة المسافرين، باب جواز النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.

لهم (¬1). قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أي: وجوهَكم، فحذف المفعول (¬2). ومعنى {تُوَلُّوُا وُجُوهَكُم}: تجعلونها تليه، ونذكر معنى هذا الحرف عند قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]. وقوله تعالى: {فَثَمَّ} قال أبو إسحاق: (ثَمّ) بُني على الفتح لالتقاء الساكنين، وثَمَّ في المكان: إشارة، بمنزلة هناك (¬3)، فإذا أردت المكان القريب قلت: هنا زيد. وإذا أردت المتراخي قلت: هناك وَثَمّ. وإنما منعت (ثَمّ) الإعراب لإبهامها (¬4). قال أبو علي الفارسي: المبني على ضربين: مبني على حركة، ومبني على سكون، والمبني على الحركة على ضربين: أحدهما: ما يكون بناؤه على الحركة، لتمكّنه قبل حاله المفضية إلى بنائه (¬5)، وذلك نحو: من عَلُ وأولُ ويا حَكَم، وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) ذكره عنهما الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1132وعنه البغوي 1/ 140، والخازن 1/ 99، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 502 - 503، "الوسيط" 1/ 194. وقد ذكر الثعلبي 1/ 1132، والواحدي في "أسباب النزول" ص 42، والحافظ في "العجاب" 1/ 364 سببين آخرين غير ما ذكر. وقال في "البحر المحيط" 1/ 360: وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول الآية وظاهرها التعارض، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها، وقد صنف الواحدي في ذلك كتابًا قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح. (¬2) ينظر: "الوسيط" 1/ 194. (¬3) في "معاني القرآن": هنا زيد. (¬4) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 197، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 505، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 208. (¬5) في "الإغفال": في حالة المفضية به إلى البناء.

والآخر: ما يكون بناؤه على الحركةِ لالتقاء الساكنين، نحو: كيف، وأين، وأيان، وثم، وأولاء، وحذارِ، ومنذ. وكل هذه الأسماء المبنيات مع اختلافها فالعلة الموجبة لبنائها مشابهتها الحروف، ومضارعتها لها، ولذلك بني هذا الاسم أيضا لا للإبهام، لأن الإبهام لا يوجب البناء. ألا ترى أن قولنا: (شيء) من أعمّ ما يتكلم به وأبهمه، وهو معرب غير مبني، و (مكان) أَبْهَمُ من قولنا: ثم؛ لأنه للداني والقاصي (¬1)، وهو مع إبهامه معرب، فبانَ أنّ بناءه ليس لإبهامه، وإنما هو لتضمُّنه معنى الحرف واختزاله عنه، وذلك أنّ هذا الاسم لمّا كان معرفةً، وكان حكم المعرَّف أن يكون بحرف ولم يذكر، بُنيَ ولم يُعرَبْ؛ لتضمّنه معنى الحرف الذي به يكون التعريف والعهد. ألا ترى أن (ثَمَّ) لا تستعمله إلا في مكان معهود معروف. (¬2) لمخاطبك، فإن لم تعرفه لم تعبر عنه بذلك، فتحقيق العلة في هذا وشرحه ما ذكرنا، دون ما ذكره من الإبهام (¬3). وقوله تعالى: {وَجْهُ اللَّهِ} قال أكثر المفسرين (¬4): الوجه: صلة، معناه: فثمَّ الله. كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، والمعنى: فثم الله يَعْلَمُ وَيرَى (¬5). و (الوجه) قد ورد صلة مع اسم الله كثيرًا، كقوله: ¬

_ (¬1) في "الإغفال": ومكان أبهم من قولنا ثم وكذلك؛ لأنهما يقعان على المواضع الدانية والقاصية. (¬2) في (ش): (معروف معهود). (¬3) "الإغفال" 383 - 385 بتصرف واختصار. (¬4) بين شيخ الإسلام في "الفتاوى" 2/ 428 أن جمهور السلف على القول بأن المعنى: فثم قبلة الله ووجهة الله. (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 198.

{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] و {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. وهذا قول الكلبي (¬1) وعبد الله بن مسلم (¬2) (¬3)، وقال الحسن (¬4)، ومجاهد (¬5) وقتادة (¬6) ومقاتل (¬7): فثم قبلة الله (¬8)، والوجه والجهة والوجهة: القبلة. ومثله: الوزن والزِّنَة، والوَعْد والعِدَة، والوَصْل والصِّلة. والعرب تجعل القصد الذي يتوجه إليه وجهًا (¬9)، كقول الشاعر: ربَّ العبادِ إليه (¬10) الوجهُ والعملُ (¬11) ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1134 وعنه البغوي 1/ 140. (¬2) يعني ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 254، وقد نُسِب هذا القول لابن عباس كما في "زاد المسير" 1/ 134 - 135، "القرطبي" 2/ 75، "البحر المحيط" 1/ 361، وانظر: "تفسير الطبري" 1/ 506، "تفسير الثعلبي" 1/ 1134. (¬3) في (ش): (ومسلم). (¬4) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 212، "الثعلبي"، 1/ 1134، "البغوي" 1/ 140، "زاد المسير" 1/ 135. (¬5) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة البقرة 5/ 206، الطبري في "تفسيره" 1/ 506، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 212 (1122)، والبيهقي في سننه 2/ 13. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 502، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 212، الثعلبي 1/ 1134، البغوي 1/ 140، وينظر: "ابن كثير" 1/ 168. (¬7) أي: ابن حيان، ذكره عنه "الثعلبي" 1/ 1134 وعنه البغوي 1/ 140. (¬8) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" هذا القول عن ابن عباس 1/ 212، وينظر في هذا القول: "الطبري" 1/ 506، "تفسير الثعلبي" 1/ 1134، السمعاني 2/ 26، "زاد المسير" 1/ 135، القرطبي 2/ 75، الخازن 1/ 99. (¬9) ينظر: "اللسان" 4775 (وجه). (¬10) في (ش): وإليه. (¬11) وصدر البيت: أستغفر الله ذنبًا لستُ مُحْصِيه =

معناه. إليه القصد، وعلى هذا القول معنى قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: جهة الله (¬1) التي تعبّدكم بالتوجه إليها (¬2)، والإضافة تكون للتخصيص ¬

_ = هذا البيت من شواهد سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. ينظر: "الكتاب" 1/ 37، و"الخزانة" 3/ 111، و"أدب الكاتب" 419، و"الفراء" 1/ 233، القرطبي 2/ 75 و"مجموع الفتاوى" 2/ 428 والرازي في "تفسيره" 4/ 22، "البحر المحيط" 1/ 361، "لسان العرب" 6/ 3274 (ماده: غفر). "المعجم المفصل" 6/ 279. والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع؛ فلذا قال: لستُ محصيه، وأراد: من ذنبٍ. والوجه: القصد والمراد. (¬1) ساقطة من (أ)، (م). (¬2) هذه الآية مما تنازع فيه الناس، هل هي من آيات الصفات أو لا؟ قولان: فمنهم من عدها في آيات الصفات وجعلها من الآيات الدالة على إثبات صفة الوجه لله واستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَل وجهه" رواه البخاري (406) كتاب الصلاة، باب: حك البزاق باليد ومسلم (547) كتاب المساجد، باب: النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، وبقوله "لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلًا عليه، فإذا انصرف صرف وجهه عنه". وممن قرر ذلك: "ابن خزيمة" كما في "مجموع الفتاوى" 6/ 16 وبهذا فسرها السعدي في "تفسيره" ص 45 وابن عثيمين في "شرح العقيدة الواسطية" 1/ 289 (ط. ابن الجوزي). وقال آخرون: إن المراد بالوجه هنا الجهة كما نقل عن مجاهد والشافعي ونصره شيخ الإسلام في "الفتاوى" 6/ 16، 3/ 193و 2/ 428 بل قال في 3/ 193: من عدها في آيات الصفات فقد غلط كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال: أي وجه تريده؟ أي: أي جهة .. ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: تستقبلوا وتتوجهوا والله أعلم. اهـ. وقال في 6/ 16: ولكن من الناس من يسلِّم أن المراد بذلك وجه الله: أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه =

نحو: بيت الله، وناقة الله (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الواسع في صفة الله تعالى على ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: أنه واسع بإفضاله على خلقه، واحتماله مسائل عباده، وأنه لا يُكرِثه (¬3) إلحاحُهم (¬4)، من قول العرب: فلان يسع ما يسأل، قال أبو زبيد: أُعطيهم الجَهْدَ مني بَلْهَ ما أسِعُ ¬

_ = الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث ... ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر، ليس هذا موضعه. وقد بيَّن الشيخ ابن عثيمين في "شرح الواسطية" 1/ 290: أن الأول صحيح موافق لظاهر الآية، وأن الثاني لا يخالف الأول في الواقع، فإذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أوكان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضًا وجه الله حقًا، وحينئذٍ يكون المعنيان لا يتنافيان. اهـ. هذا وقد نبه شيخ الإسلام على أمرٍ مهم فقال في "الفتاوى" 6/ 17: والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه، الذي ينكره منكرو آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة قولهم {فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ} على: فَثَّمَّ قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجهًا باعتبار أن الوجه والجهة واحد، أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها. (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1134. (¬2) ينظر تفصيل ذلك في: "البحر المحيط" 1/ 361. (¬3) في (أ): (لا يكونه). (¬4) "تفسير الطبري" 1/ 506.

وهذا معنى قول الفراء (¬1) وأبي عبيدة (¬2). الثاني: أنه يُوَسِّع على عباده في دينهم، ولا يضطرهم إلى ما يعجزون عن أدائه، فهو واسعُ الرَّحمة، واسع الشريعةِ بالترخيص لهم في التوجهٍ إلى أي جهة أدَّى إليها اجتهادهم عند خفاء الأدلة (¬3). الثالث: أنه يسع علمَ كلِّ شيء، ويسع علمُه كلَّ شيء، كقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: علمه (¬4)، وقال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]. وقال ابن عباس في بعض الروايات: إن هذه الآية نزلت في النجاشي (¬5)، وذلك أنه توفي، فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن أخاكم النجاشي قد مات، فصلوا عليه"، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه عليه، فقال أصحابه في أنفسهم: كيف نصلي على رجل مات وهو يصلي لغير قبلتنا؟، وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى هذا الآية (¬6). وعَذَر النجاشيَّ في ذلك؛ ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1136 وعنه البغوي 1/ 140. (¬2) في "مجاز القرآن" 1/ 51. (¬3) "الوسيط" 1/ 194. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1136 سيأتي الرد على هذا القول موسعًا عند آية الكرسي. (¬5) هو: أصحمة بن أبحر، والنجاشي لقبه، قال ابن عيينة: أصحمة بالعربية عطية، هو ملك الحبشة الذي أكرم المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده من مكة، وأحسن استقبالهم وأسلم ولم يهاجر وليست له رؤية فهو تابعي من وجه، وصاحب من وجه، وقد توفي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ينظر: "الإصابة" 1/ 109، و"تفسير عبد الرزاق" 1/ 144 و"السير" 1/ 428. (¬6) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 41 ونقله عنه في: "العجاب" 1/ 364، من قول ابن عباس في رواية عطاء، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1332 عن عطاء وقتاده، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ط. شاكر 2/ 532 - 533، مختصرًا عن =

116

لأنه لم يبلغه خبرُ نسخ القبلة وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ} للنجاشي في قبلته، {عَلِيمٌ} بما قبله (¬1) من الإيمان. 116 - قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ} وفي مصاحف الشام: قالوا (¬2) بغير واو؛ لأن هذه الآية ملابسة بما قبلها من قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} لأن الذين قالوا: اتخذ الله ولدا من جملة الذين تقدم ذكرهم، فيستغنى عن الواو؛ لالتباس الجملة بما قبلها كما استغنني عنها في نحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]. ولو كان (وَهُمْ) كان حسنًا، إلا أن التباس إحدى الجملتين بالأخرى وارتباطها بها أغنت عن الواو. ومثل ذلك قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، ولم يقل: ورابعهم كما قال: {وَثَامِنُهُمْ} [الكهف: 22]، ولو حذفت الواو منها كما حذفت من التي (¬3) قبلها، واستغنى عن الواو بالملابسة التي بينهما كان حسنًا، ويمكن أن يكون حذف الواو لاستئناف جملة ولا يعطفها على ما تقدم (¬4). والآية نزلت ردًّا على اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم وصفوا الله ¬

_ = قتادة، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 170 عن ابن جرير وقال: وهذا غريب، وقال أحمد شاكر: هو حديث ضعيف، لأنه مرسل، وسياقه يدل على ضعفه ونكارته. (¬1) قوله: عليم بما قبله .. ساقطة من (أ)، (م). (¬2) ذكره ابن أبي داود في: كتاب "المصاحف" ص 54، ولم ينص عليه أبو عمرو الداني في: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار". وينظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 460، "البحر المحيط" 1/ 362. (¬3) في (ش): (الذي). (¬4) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 208.

تعالى بالولد، فقالت اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، وقالت النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، وقالت المشركون: الملائكة بنات الله، فنزّه اللهُ نفسَه عن اتخاذ الولد، فقال سبحانه: {بَل لَّهُ} (¬1). وبل معناه: نفي الأول واثبات للثاني (¬2) (¬3)، أي: ليس الأمر كذلك {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عبيدًا وملكًا (¬4). {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال مجاهد (¬5) وعطاء (¬6) والسدي (¬7): مطيعون. قال أبو عبيد: أصل القنوت في أشياء: فمنها القيام، وبه جاءت الأحاديث في قنوت الصلاة؛ لأنه إنما يدعو قائمًا، ومن أبين ذلك: حديث جابر (¬8) قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت" (¬9) ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 507، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 198، "تفسير السمرقندي" 1/ 152، "تفسير الثعلبي" 1/ 1137، "أسباب النزول" للواحدي ص 42، "زاد المسير" 1/ 118، "العجاب" لابن حجر 1/ 366. (¬2) في (م): (الثاني). (¬3) ينظر: "كتاب سيبويه" 4/ 223. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1138. (¬5) أخرجه الطبري 1/ 507، ابن أبي حاتم 1/ 213من طريقين عن مجاهد. (¬6) ذكره عنه في "تفسير الثعلبي" 1/ 1138. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 507 وهو مروي أيضًا عن ابن عباس وقتادة وعكرمة، ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 507، البغوي في "تفسيره" 1/ 141، واختاره الطبري في "تفسيره" و"ابن كثير" في "تفسيره". (¬8) هو: أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، أحد الصحابة المكثرين من الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، شهد العقبة كما شهد تسع عشرة غزوة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدا بدراً وأحدًا، منعه أبوه، توفي سنة 78 وقيل 74، أو 73 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 1/ 307، و"الإصابة" 1/ 434. (¬9) أخرجه مسلم (756) في صلاة المسافرين، باب أفضل الصلاة طول القنوت.

يريد: طول القيام. والقنوت أيضًا: الطاعة (¬1)، وقال عكرمة في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} القانت: المطيع (¬2)، وقال الزجاج مثله، قال: والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء، وحقيقة القانت: أنه القائم بأمر الله، والداعي إذا كان قائمًا خُصَّ بأن يقال له: قانت، لأنه ذاكر لله وهو قائم على رجليه، فحقيقة القنوت: العبادة والدعاء لله في حال القيام (¬3). ويجوز أن يقع في سائر الطاعة؛ لأنه إن لم يكن قيام بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية (¬4). قال ابن عباس في هذه الآية: قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} راجع إلى أهل طاعته دون الناس أجمعين (¬5). وهو من العموم الذي أريد به الخصوص، وهذا اختيار الفراء (¬6)، وطريقة مقاتل (¬7) ويمان (¬8) إلا أنهما قالا: هذا يرجع إلى عُزير والمسيح ¬

_ (¬1) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 437، وينظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 415، "تفسير الطبري" 2/ 539، "تفسير الثعلبي" 1/ 1138. (¬2) أخرجه أبو عبيد في: "غريب الحديث" 1/ 438، ورواه الطبري 1/ 507 بنحوه (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 198. (¬4) رجح الطبري في "تفسيره" 1/ 507 أن القنوت: الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة والدلالة على وحدانية الله. (¬5) ورد عن ابن عباس بلفظ: قانتون: مطيعون. عند الطبري في "تفسيره" 1/ 507 وأما اللفظ المذكور أعلاه فلعله من تلك الرواية التي تقدم الحديث عنها في مقدمة الكتاب. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 74، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1140. (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 133، وذكره الثعلبي 1/ 140. (¬8) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1140.

والملائكة، أراد: أنهم كلهم عباد الله طائعون (¬1)، نظيره: قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. وقال السُدي ومجاهد والزجاج: هذا على ما ورد من العموم، فقال السدي: هذا في يوم القيامة (¬2)، تصديقه قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] (¬3). وقال مجاهد: إن ظِلالَ الكفار تسجد لله وتطيعه (¬4). دليله قوله (¬5): {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} [النحل: 48]، الآية، وقوله: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] (¬6). وقال الزجاج: كل (¬7) ما خلق الله في السماوات والأرض فيه أثر الصنعة فهو قانت لله، ودليل (¬8) على أنه مخلوق. والمعنى: كل له قانت، إما (¬9) مُقِرّ بأنه خالقه؛ لأنه أكثر من يخالف ليس يدفع أنه مخلوق، وما كان ¬

_ (¬1) رد الطبري في تفسيره 1/ 508 القول بالخصوص، بأنه لا يجوز ادعاء خصوص في آية ظاهرها العموم، إلا بحجة. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 507 وذكره الثعلبي 1/ 1140. (¬3) "تفسير الثعلبي" 1/ 1141. (¬4) تقدم تخريجه عن مجاهد قريباً. قال ابن كثير في تفسيره 1/ 171: وهذا القول عن مجاهد -وهو اختيار ابن جرير- يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله وذلك شرعي وقدري. (¬5) من قوله: قوله: وعنت ... ساقط من (ش). (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 1141 البغوي 1/ 141. (¬7) في (ش): على. (¬8) في "معاني القرآن"، (والدليل). (¬9) في (ش): (إنما)، وليست الكلمة في "معاني القرآن" للزجاج، والكلام مستقيم بدونها.

117

من الجمادات فأثَرُ الخلق بيِّنٌ فيه، فهو على العموم (¬1) (¬2). وقال غيرهُ: طاعة الجميع لله تكونهم (¬3) في الخلق عند التكوين إذا قال: كن كان كما أراد (¬4)، فنسب القنوت إليه كما نسبت الخشية إلى الحجارة، والمحبة إلى الجبال، والشكوى إلى الإبل، والسجود إلى الأشجار (¬5). 117 - قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، أي: خالقها وموجدها (¬6) لا على مثالٍ تقدّم (¬7)، وهو عند الأكثرين فعيل بمعنى مُفعلٍ، كأليم ووجيع وسميع في قوله: ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": فأثر الصنعة بَيِّنٌ فيه، فهو قانت على العموم. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 198. (¬3) في (ش): (بكونهم). (¬4) يروى عن مجاهد. ينظر: ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 213. (¬5) نسبت الخشية إلى الحجارة في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، ونسبت المحبة إلى الجبال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحد جبل يحبنا ونحبه" متفق عليه. ونسبت الشكوى إلى الإبل في الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد عن عبد الله بن جعفر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما راى جملًا لرجل من الأنصار، حنّ الجمل وذرفت عيناه، فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - ذِفراه، فسكت فقال: "من رب هذا الجمل"، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه". ونسب السجود إلى الأشجار في قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، وغيرها من الآيات. (¬6) في (ش): (خالقهما وموجدهما). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199، "تفسير الثعلبي" 1/ 1141.

أَمِنْ ريحَانة الداعي السميعُ (¬1) أي: المسمع. فالبديع: الذي يُبْدِعُ الأشياءَ، أي: يحدثها مما لم يكن. ابن السكيت قال: البدعة: كل محدثة، وسقاء بديع: أي: جديد (¬2). وقال أبو إسحاق: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} منشئُهما (¬3) على غير حذاء ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل: أبدعت؛ ولهذا قيل لمن خالف السنة (¬4): مبتدع؛ لأنه أحدث في الإسلام (¬5) ما لم يسبقه إليه السلف (¬6) (¬7). قال الأزهري: قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بمعنى مبدعهما، إلا أن بديعًا من بَدَعَ لا من أَبْدَع، وأَبْدَع أكثر في الكلام من بَدَع، ولو استُعْمِل بَدَع لم يكن خطأ، فبديع: فعيل بمعنى فاعل، مثل: قدير بمعنى قادر، وهو (¬8) من صفات الله؛ لأنه بدأ الخلق على ما أراد على ¬

_ (¬1) عجز البيت: يؤرقني وأصحابي هجوع وهو لعمرو بن معد يكرب، وقد تقدم البيت. (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 293، "لسان العرب" 1/ 230 (بدع). (¬3) في "معاني القرآن": يعني أنشأهما. (¬4) في "معاني القرآن" للزجاج: السنة والإجماع. (¬5) في "معاني القرآن" للزجاج: لأنه يأتي في دين الإسلام. (¬6) في "معاني القرآن" للزجاج: بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون. (¬7) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199 وقد نقله بحروفه من "تهذيب اللغة" 1/ 293 ولذلك اختلفت العبارات مادة (بدع). (¬8) في "تهذيب اللغة": وهو صفة من صفات الله.

غير مثالٍ تقدمه (¬1). وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أي: قدره وأراد خلقه (¬2). قال أبو إسحاق في قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8]: قضى في اللغة على وجوه، كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه، ومنه قول الله تعالى: {قَضَى أَجَلًا} [الأنعام: 2]. معناه: ثم حتم بذلك (¬3) وأتمه، ومنه: الأمر، وهو قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، معناه: أمر، إلا أنه أمرٌ قاطع حتم. ومنه الإعلام، وهو قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4]، أي: أعلمناهم إعلامًا قاطعًا، ومنه: القضاء الفصل فى الحكم، وهو قوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] (¬4) أي: قطع بينهم في الحكم، قال: ومن ذلك قضى فلان دينه، تأويله: أنه قطع ما لغريمه عليه، وأداه إليه، وقطع ما بينه وبينه. وكل ما أحكم فقد قُضِيَ. تقول: قد قضيت هذا الثوب، وقد قضيت هذه الدار، إذا عملتها وأحكمت عملها، تقول: قد قضيت هذا الثوب، وقد قضيت هذه الدار، إذا عملتها وأحكمت عملها، وقال أبو ذؤيب (¬5): ¬

_ (¬1) ذكره في "تهذيب اللغة" 1/ 293، ونقله في "اللسان" 1/ 230 (بدع). (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1141. (¬3) في "معاني القرآن": بعد ذلك. (¬4) وردت الآية في نسخ "البسيط" كلها، وفي "معاني القرآن" للزجاج ناقصة هكذا، (ولولا أجل مسمى لقضي بينهم). (¬5) هو: خويلد بن خالد بن محرث أبو ذؤيب الهذيلي، تقدمت ترجمته.

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهما ... داودُ أو صنعَ السوابغَ تُبّعُ (¬1) (¬2) ومنه قول الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]، أي: خَلَقَهن وعملهن وصنعهن. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، القول هاهنا عند كثيرٍ من النحويين لا يكونُ المراد به النطق، قالوا: لأن المعدوم الذي ليس بكائن لا يخاطَبُ، وتأويله: إذا قضى أمرًا فإنما يكوِّنُه فيكونُ، والقولُ قد يَرِدُ ولا يرادُ به النطقُ والكلام، كما قال: امتلأ الحوضُ وقال قَطْني (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) البيت لأبي ذؤيب، في "ديوانه": 19، "شرح أشعار الهذليين" 1/ 39، "مجاز القرآن" 1/ 52 "تأويل مشكل القرآن" ص 441، "تفسير الطبري" 1/ 509 "تفسير الثعلبي" 1/ 1141، "لسان العرب" 6/ 3662 مادة (قضض)، 6/ 3665 مادة (قضى)، 4/ 2508 مادة (صنع). وتفسير "القرطبي" 2/ 87 "الدر المصون" 1/ 353. والبيت من قصيدته التي يرثي فيها أولاده، ومسرودتان يعني: درعين، من السرد، وهو الخرز أو النسج وقضاهما أي: أحكمهما. وداود هو النبي المعروف - صلى الله عليه وسلم -، والصَّنَع الحاذق بالعمل، والصَّنَع هاهنا: تبع، يقال: رجلٌ صَنَعٌ، وامرأة صَنَاع. سمع بأن داود-عليه السلام- كان سخر له الحديد فكان يصنع ما أراد، وسمع بأن تبعًا ملك اليمن عملهما، فقال: عملهما تبع، وظن أنه عملهما، وإنما أمر بها أن تعمل، وكان تبع أعظم شأنًا من أن يصنع شيئًا بيده ينظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 39. (¬2) بتصرف يسير من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 230. (¬3) عجز البيت: مهلا رويدًا قد ملأت بطني وهذا البيت لم يعرف قائله، والبيت في "تفسير الطبري" 1/ 510، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 36، و"الأمالي الشجرية"1/ 313، و"المقاصد النحوية" 1/ 36، و"الخصائص" 1/ 23، ومعنى قطني: أي: حسبي. وروي: سلَّا رويدًا. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199.

وكقول أبي النجم (¬1): يَقُلْنَ للرائد: أعشبت، انزل (¬2) والذبّانُ لا قولَ لها، وقال آخرون: إن ما قدّر الله وجوده وعلم فهو كالموجود (¬3). قال أبو بكر بن الأنباري: يحتمل أن تكون اللام في (له) لام أجْل، والتأويل: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} فإنما يقول من أجْل إرادته: كن، فيكون، كقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] أي: من أجله (¬4)، وكقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، معناه: إنه من أجل حبّ المال لبخيل. قال: ولا يعجبني أن يُلغى القول، ويبطل معناه؛ لأنا لا نجعل حرفًا من كتاب الله مُطَّرَحًا إذا وجدنا له من وجه من الوجوه معنى. فإن قيل: كيف قال (كن) للشيء الذي يكونه، وذلك الشيء لا يكون نفسه حتى يقال له: كن؟ قلنا: على مذهب النحويين هذا لا يلزم؛ لأن التقدير عندهم فإنما يكوِّنه فيكون، ولفظ الأمر هاهنا المراد منه الخبر، ونذكره فيما بعد. وأما من جعل هذا أمرًا حقيقيًّا فإنه يقول هذا من الأمر الحتم الذي لا انفكاكَ للمأمور منه، ولا قدرة له على دفعه والانصراف ¬

_ (¬1) هو الفضل بن قدامة، تقدم 2/ 10. (¬2) سبق تخريجه تحت الآية رقم 93. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199 ففيه: قال بعض أهل اللغة (إنما يقول له كن فيكون) يقول له وإن لم يكن حاضرًا (كن)، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 364. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199.

عنه، ومشهورٌ في كلام العرب أن يرى الرجلُ منهم الرجلَ فيقول له: كن أبا فلان، أي: أنت أبو فلان. فكذلك قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} معناه: كن بتكويننا إياك، فالمأمور بهذا لا قدرة له على دفعِه، ولا صنع له فيه، كما أن الذي يقال له: كن أبا فلان، لا صنع له في ذلك بفعل ولا عزم ولا غير ذلك مما يكون من الفاعلين (¬1). وقوله تعالى: {فَيَكُونُ} قال الفراء (¬2): والكسائي (¬3) وأبو إسحاق (¬4): رفعه من وجهين: أحدهما: العطف على (يقول)، ومثله {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ} (¬5) [إبراهيم: 44]. الثاني: أن يكون رفعه على الاستئناف، المعنى: فهو يكون؛ لأنَّ الكلامَ تمَّ عند قوله: (كن) ثم قال: فسيكون (¬6) ما أراد الله. قال الفرَّاءُ: وإنه لأحبُّ الوجهين إلي (¬7)، وقرأ ابن عامر وحده (فيكونَ) بنصب النون (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر تفصيل المسألة في: "تفسير الطبري" 1/ 508 - 511، "البحر المحيط" 1/ 364 - 366 وقد رجح الطبري في "تفسيره" أن الأمر هنا عام في كل ماقضاه الله وبرأه مما هو موجود، فيقال له: كن قال: فغير جائز أن يكون الشيء مأمورًا بالوجود مرادًا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجوداً إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 74. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 75. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199. (¬5) وهذا الذي اختاره الطبري في "تفسيره" 1/ 511. (¬6) في (م): (فيكون). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 75. (¬8) ينظر كتاب: "السبعة" 168، "الحجة" 2/ 203.

قال أبو علي (¬1): قوله: (كُنْ) وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر، ولكنَّ المرادَ به الخبرُ، كأنَّ التقديرَ: يُكَوَّن (¬2) فيكون، وقد يَرِدُ لفظ الأمر والمرادُ منه الخبر، كقولهم: أكرمْ بزيدٍ، تأويلُه: ما أكرمَ زيدًا (¬3)، والجار والمجرور في موضع رفع بالفعل. وفي التنزيل: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] فالتقدير: مدَّه الرحمن. وإذا لم يكن قوله: {كُنْ} خبرًا في المعنى وإن (¬4) كان على لفظ الأمر لم يَجُزْ أن ينصبَ الفعلُ بعد الفاء بأنه (¬5) جواب. ويدل على امتناع النصب في قوله: {فَيَكوُنُ} أن الجواب بالفاء مضارع للجزاء، يدلُّ على ذلك أنه يؤولُ في المعنى إليه. ألا ترى أن قولك: اذهب فأعطيَكَ، معناه إن تذهب أعطيتُك (¬6) ولا يجوز: اذهب فتذهب؛ لأن المعنى يصير: إن ذهبتَ ذهبتَ، وهذا كلامٌ لا يفيد كما يفيد إذا اختلف الفاعلان والفعلان، نحو: قُمْ فأُعطيَك؛ لأنَّ المعنى: إن قُمتَ أعطيتُك، ولو جعلتَ الفاعل في الفعل الثاني فاعِل الفعل الأول، فقلت: قُم فتقومَ، أو أعطِني فتعطيني، على قياس قراءة ابن عامر، لكان المعنى: إن قمت تقم، وإن تُعطِني تعطِني، وهذا كلامٌ في قلةِ الفائدة على ما تراه. فأمَّا مَنِ احتج له فإنه يقول: اللفظ لما كان على لفظ الأمر وإن لم ¬

_ (¬1) في "الحجة" للفراء السبعة 2/ 203. (¬2) في (ش): (فكون). (¬3) في الأصل: زيد، والمثبت من "الحجة". (¬4) في (م): (وإذا). (¬5) في (ش): (لأنه). (¬6) من قوله: معناه .. ساقطة من (ش).

118

يكن المعنى عليه حملته على صورة اللفظ. وقد حمل أبو الحسن نحو قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]، ونحوه من الآي على أنه أجري مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابًا له في الحقيقة. وقد يكونُ اللفظُ على شيء والمعنى على غيره، ألا ترى أنهم قالوا: ما أنت وزيد (¬1)، والمعنى: لِمَ تؤذيه، وليس ذلك في اللفظ. قال: ومن رفع فإنه عطف على قوله: {كُنْ} لأن معناه: يكوّنه فيكون، وهذا أولى من حمله على (يقول) (¬2)؛ لأنه لا يطرد في سورة آل عمران في قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، لأن قال ماضي، ويكون مضارع، فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما، قال: ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: فهو يكون (¬3). 118 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: هم اليهود، قالوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: لا نؤمن لك حتى يكلّمنا الله أنك رسوله، أو حتى تأتينا بمثل الآيات التي أتت بها الرسل (¬4). وقال مجاهد: هم النصارى (¬5). ¬

_ (¬1) في " الحجة": وزيدًا. (¬2) في (ش): (على ما يقول). (¬3) إلى هنا انتهى كلام أبي علي الفارسي 1/ 208 بتصرف واختصار. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 512، ابن أبي حاتم 1/ 215 وذكره الثعلبي 1/ 1142، وذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" عن ابن إسحاق 2/ 176، وينظر: "تفسير السمعاني" 2/ 33، "زاد المسير" 1/ 137، "تفسير القرطبي" 2/ 83. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 512، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 215، وهو في "تفسير مجاهد" ص 86، وهذا الذي رجحه الطبري في "تفسيره" 1/ 513، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1142 لدلالة سياق الآيات.

وقال الحسن (¬1) وقتادة (¬2): هم مشركو العرب، وهذا أظهر الأقوال؛ لأنه يُشاكل ما طلبوا، حيث قالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} الآيات الأربع [الإسراء: 90 - 93]، ولأن أهل الكتاب أهل علم به، والله تعالى قال: {وَقَالَ اَلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ}. وقوله تعالى: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} قال أبو عبيدة (¬3) والزجاج (¬4): معنى لولا: هلّا، وأنشد أبو عبيدة: تعدُّونَ عَقْرَ النِّيب أفضلَ مجدِكم ... بني ضَوْطَرَى، لولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا (¬5) أي: هلّا (¬6)، وقال الخليل: (لولا) له معنيان: أحدهما: هلاّ، ¬

_ (¬1) لم أره عن الحسن وقد نقله في "الوسيط" 1/ 197. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 551، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 251، والثعلبي 1/ 1142. (¬3) ينظر: "مجاز القرآن" 1/ 52. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" 1/ 199. (¬5) البيت "لجرير" في ديوانه ص265، "النقائض" ص 833، "مجاز القرآن" 1/ 199، "تفسير الطبري" 1/ 513، "أمالي ابن الشجري" 2/ 210. وقد عزاه هؤلاء الثلاثة لأشهب بن رُميلة. ورواية الديوان والنقائض: أفضل سعيكم. وقوله: عقر النيب: يقال عقر الناقة أو الفرس: أي ضرب قوائمها فقطعها، والنيب: جمع ناب، وهي الناقة المسنة، سميت بذلك لطول نابها، وقوله: بني ظوطري: يعني: يابني الحمقى، وقيل: إنه نبز لرجلٍ من بني مشجاع بن دارم. والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، فلا يحيد عن قرنه، كان عليه سلاح أو لم يكن. وكان العرب يعقرون البعير قبل نحره لئلا يشرد، وكانوا يتكارمون بالمعاقرة، وهي أن يعقر هذا ناقة فيعقر الآخر، يتباريان في الجود حتى يغلب أحدهما. ينظر حاشية "تفسير الطبري" 1/ 513. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 52 - 53.

والآخر: لو لم، كقولك: لولا زيد لأكرمتك، معناه: لو لم يكن، وتقول: لولا فعلت ما أمرتك، في معنى: هلَّا فعلت. وقد يدخل (ما) في هذا المعنى في موضع لا، كقوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} [الحجر: 7]. أي: هَلَّا. وكلُّ ما في القرآن لولا يفسر على هَلَّا، غير التي في الصافات {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] يقول: فلو لم يكن من المُسَبِّحِين (¬1). وقال الفراء: لولا إذا كانت مع الأسماء فهي شرط، وإذا كانت مع الأفعال فهي بمعنى هلّا، لومٌ على ما مضى، وتحضيض لما يأتي. قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أراد: كفار الأمم الخالية. قال الزجاج: أعْلَمَ اللهُ أنَّ كفرَهم في التعنُّتِ بطلب الآيات على اقتراحهم، كَكُفْر الذين من قبلهم في قولهم لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] وما أشبهه، وفي هذا تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: أشبه بعضُها بعضًا في الكفرِ والقسوةِ ومسألةِ المُحال (¬3) كقوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30]. وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يريد: أن من أيقن وطلبَ الحقّ فقد أتته الآيات البينات، نحو: المسلمين ومن لم يعاند من علماء اليهود؛ لأن القرآن برهانٌ شافٍ (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر في لولا: "الكتاب" لسيبويه 3/ 115، 4/ 222، "المغني" لابن هشام 1/ 272 - 276. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 75، "تفسير الثعلبي" 1/ 1143. (¬4) نقلًا عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 200.

119

119 - قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} معنى الحقّ في اللغةِ: هو الواجب الصدق الموجود، وهو نقيض الباطل، يقال: حَقَّ الشيء يَحِقُّ حقًا، معناه: وجب (¬1) وجوبًا. فالحق مصدر، ثم يستعمل بمعنى فاعل، مثل: بَرٍّ وطَبٍّ، وقال شمر: تقولُ العرب: حقٌّ عليَّ أن أفعل ذلك، وحُقّ، وإني لمحقوق أن أفعل خيرًا، قال: وتقول: حَقَقْتُ الأمر، وأحققته، إذا كنت على يقين منه (¬2). وقال الفراء: حُقّ لكَ أن تفعل كذا، وحُقٌ عليك، فإذا قلت: حُقَّ، قلت: لك، وإذا قلت: حَقٌّ، قلت: عليك (¬3). ابن الأعرابي: الحق: صدق الحديث، والحقّ: الملك، والحقّ: اليقين بعد الشك (¬4). وأصل الحق ما ذكرنا من أنه الصدق الواجب، ثم يسمى كلُّ ثابت موجود غير باطل: حقًا، كالذي ذكره ابن الأعرابي. والحقُّ من أسماء الله تعالى قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71]، والحقُّ: العدل في قوله. {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، والحق: الدَّين في قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (¬5) [البقرة: 282]. فأما تفسير الحق في هذه الآية، فقال ابن عباس: الحق: القرآن (¬6)، كقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5]، (¬7)، وقال ابن كيسان: الحق ¬

_ (¬1) في (ش): (وجبت). (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 877 (¬3) نقله عن شمر كما في "تهذيب اللغة" 1/ 876 (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 880. (¬5) ينظر: "المفردات" للراغب الأصفهاني ص 132، "اللسان" 2/ 940 (حق). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1143، والواحدي في "الوسيط" 1/ 198، البغوي 1/ 142، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 137. (¬7) "تفسير الثعلبي" 1/ 1143.

في هذه الآية: الإسلام (¬1)، نحو قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] (¬2). والباء في (بالحق) بمعنى مع، أي: مع الحق (¬3). وقوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 62] , وإذا (¬4) كان كذلك كان في موضع النصب بالحال (¬5)، كقوله: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬6) البشير: فعيلٌ بمعنى فاعل من بشَر يبشُرُ بشَرًا بمعنى بشّر (¬7)، ونذكر ذلك عند قوله: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 39]. والنذير: بمعنى المنذر، وكان الأصل: نَذَرَ، إلا أن فعل الثلاثي أميت، ومثله: السميع: بمعنى المسمع، والبديع بمعنى المبدع، وتقول: أنذرتُه فَنَذِر، أي: أعلمتُه فعلِمَ وتحرّز (¬8). وقوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} سأل فِعْلٌ يتعدّى إلى مفعولين، أنشد أحمد بن يحيى (¬9): ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1144، والواحدي في "الوسيط" 1/ 198 البغوي 1/ 142 وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 137. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1143. (¬3) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 367. (¬4) في (ش): (فإذا). (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 367 وذكر أنه حال من الكاف، ويحتمل أن يكون حالا من الحق؛ لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضًا بالبشارة والنذارة، والأظهر الأول. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 200، "إعراب القرآن" 1/ 209. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 338، "البحر المحيط" 1/ 367. (¬8) "تهذيب اللغة" 4/ 3546، "اللسان " 7/ 4390. (¬9) في "الحجة" ذكر هذا البيت ثم قال: وأنشد أحمد بن يحيى: سألت عَمْرًا بعد بكير خُفًّا ... والدلْو قد تُسْمَعُ كي تَخِفّا

سألناها الشِّفَاءَ فما شَفَتْنَا ... ومَنَّتْنَا المواعدَ والخِلابا (¬1) ويجوز الاقتصارُ فيه على مفعولٍ واحد، ويكون على ضربين: أحدهما: أن يتعدّى بغير حرف. والآخر: أن يتعدّى بحرف. فالمتعدي بغير حرف نحو قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]. وقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 7]. وأما تعديه بالحرف فالحرف الذي يتعدى به حرفان. أحدهما: (الباء)، كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]، وكقول الشاعر: وسائلةٍ بثعلبةَ بْنِ بكر ... وقد أودَتْ بثعلبةَ العَلُوقُ (¬2) والآخر: (عن)، كقولك: سل عن زيد. وإذا تعدى إلى مفعولين فالمفعول الثاني يكون على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون الفعل واقعًا عليه من غير حرف ظاهر ولا مضمر، وذلك نحو قوله: سألتُ زيدًا بعد بكر خُفًّا (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لجرير بن عطية، يهجو فيها الراعي النميري، ينظر: "ديوانه" ص 58، "الحجة" 2/ 209. والخلاب: المخادعة والكذب. (¬2) البيت للمفضل النكري، في "الأصمعيات" ص 203، و"المنصفات" ص 25، و"الخصائص" 2/ 437، "الحجة" 2/ 210، "لسان العرب" 4/ 2170، (مادة: سير)، 5/ 3074، (مادة: علق)، "المعجم المفصل" 5/ 182 وروايته في بعض المصادر: (سير) بدل: بكر، و (علقت) بدل: أودت، وهذا البيت من قصيدة الشاعر المنصفة، يذكر أن ثعلبة بن سيار كان في أسره، وهو الذي ذكره في البيت: ثعلبة بن سير، ضرورة لإقامة الوزن. والعلوق: المنية. (¬3) البيت من الرجز لم ينسب لقائل، وبعده: والدلَو قد تُسْمَعُ كي تَخِفّا ذكره في "الحجة" 2/ 210 مرة قال: عمرًا، ومرة قال: زيدًا. "اللسان" (مادة: خفف).

فيكون معناه: استعطيته (¬1). الثاني: أن يتعدّى الفعلُ إليه بإضمارِ حرف، وذلك قوله (¬2): {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10]. معناه: ولا يسأل حميمٌ عن حميمٍ، ويكون بمنزلة: اخترت الرجال زيدًا، ويجوز إظهارُ الحرف، فيكوَن كقوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163]. والثالث: أن يقع موقعَ المفعول الثاني استفهام، كقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ} [البقرة: 211]. وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] (¬3). وفي (سألت) لغتان: تحقيق الهمزة وهي الفاشية الكثيرة، وسِلْتُ أَسَال لغةٌ، وعليها جاء قول الشاعر: سَالَتْ هذيلُ رسولَ الله فاحشةً ... ضلَّت هذيلُ بما قالت ولم تُصِبِ (¬4) وحمل سيبويه (¬5) (سالت) على قلب الهمزة ألفًا للضرورة، كما قال: راحَتْ بمسلمةَ البغالُ (¬6) عَشِيَّةً ... فارعَيْ فَزارةُ لا هَنَاكِ المَرْتَعْ (¬7) ¬

_ (¬1) في "الحجة" 2/ 211 زيادة عليه، أي: سألته أن يفعل ذلك. (¬2) من قوله: سألت زيدًا بعد بكر ... ساقط من (ش). (¬3) ما تقدم منقول من "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 209 - 211. (¬4) البيت لحسان بن ثابت هجو هذيلاً، في ملحق ديوانه ص 34، "السيرة النبوية" لابن هشام 3/ 176، "الكتاب" لسيبويه 2/ 130 "المقتضب" للمبرد 1/ 167، "الحجة" 2/ 218 "المعجم المفصل" 1/ 425. (¬5) "الكتاب" 3/ 468، 555. ونقل ذلك عنه أبو علي الفارسي في "الحجة" 2/ 218. (¬6) في (ش): (النعال). (¬7) البيت للفرزدق، في "ديوانه" 1/ 408، "الكتاب" 3/ 554، "الحجة" 2/ 218، "المعجم المفصل" 4/ 267.

قال الزجاج (¬1) ثم ابن الأنباري وأبو علي (¬2): الرفع في قوله: (ولا تُسأل) من وجهين: أحدهما: أن يكون حالًا صُرِفَتْ إلى الاستقبال، فيكون مثل ما عطف عليه في المعنى من قوله: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وغير مسؤول، فيكون مرفوعًا في اللفظ، منصوبًا في التأويل، ويكون ذكر تُسْأَلُ وهو فعل بعد قوله: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬3) كقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46]. بعد ما تقدم من قوله: {وَجِيهًا}. والوجه الثاني: أن يكون منقطعًا من الأول، مُستأنفًا به، يُراد: ولست تسأل عن أصحاب الجحيم، ويقوي هذا الوجهَ قراءة عبد الله: ولن تسألَ، وقراءة أُبي: وما تُسأل (¬4)، فلن، وما يشهدان للاستئناف (¬5). ومعنى الآية ما قال مقاتل: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن الله أنزل بأسه باليهود لآمنوا، فأنزل الله عز وجل {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (¬6). أي: لست بمسؤولٍ عنهم، وليس عليك من شأنهم عُهدة ولا تبعة، فلا تحزن عليهم، كما قال: ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 200. (¬2) "الحجة" 2/ 216. (¬3) ساقط من (ش) من قوله: (في اللفظ). (¬4) القراءتان في "الحجة" لابن زنجلة ص 112، "تفسير الثعلبي" 1/ 1146، و"مختصر في شواذ القرآن" لابن خالوية ص 16، و"الكاشف" 1/ 182، وتفسير ابن عطية 1/ 468. (¬5) إلى هنا انتهى كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 216. (¬6) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1145، والواحدي في "أسباب النزول" ص 43، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 119، و"القرطبي" 2/ 83 ونقله ابن حجر في "العجاب" 1/ 368 عن الواحدي، ثم قال: لم أر هذا في "تفسير مقاتل بن سليمان"، فينظر في "تفسير مقاتل بن حيان" ا. هـ. وهذا مرسل لا يحتج به.

{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (¬1) [الرعد: 40]. وقرأ نافعٌ وحدَه (ولا تَسْألْ) بفتح التاء وجزم اللام، وله وجهان: أحدهما: أن يكونَ هذا نهيًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما روي عن ابن عباس، أنه قال: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عن قبر أبيه وقبرِ أمِّهِ، فدلَّه عليهما، فذهب إلى القبرين ودعا لهما، وتمنىَّ أن يعرف حالَ أبويه في الآخرة فنزلت قوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (¬2). وقال القرظي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: "ليت شعري ما فعل أبواي"، فأنزل الله هذه الآية، فما ذكرهما حتى توفاه الله (¬3). قال ابن ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 200. (¬2) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" 2/ 216، وقال: وهذا إن ثبت معنى صحيح، ويذكر أن في إسناد الحديث شيئا وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1144 والواحدي في "أسباب النزول" ص 43 من طريق عطاء عن ابن عباس. وقال ابن حجر في "العجاب" 1/ 369: وأما قول ابن عباس فنسبه الثعلبي في "تفسيره" لرواية عطاء عنه، وهي من تفسير عبد الغني بن سعيد الواهي، وقد أخرجه الطبري من مرسل محمد بن كعب القرظي، وعليه اقتصر الماوردي وابن ظفر وغيرهما، وأستبعد الرازي صحة هذا السبب، قال لأنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم من مات كافرًا. انتهى. وفي سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 59، الطبري 1/ 516 وأشار إلى ضعفه في 1/ 516، ابن أبي حاتم 1/ 217 من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن كعب، وذكره السيوطي في "الدر" 1/ 209، وزاد نسبته إلى وكيع، وسفيان بن عيينه، وعبد بن حميد، وابن المنذر. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد، وقال أحمد شاكر بعد أن أورده الطبري من طريقين عن موسى بن عبيدة: هما حديثان مرسلان، فإن محمد بن كعب بن سليم القرظي، تابعي، والمرسل لا تقوم به حجة، ثم هما إسنادان ضعيفان أيضًا بضعف راويهما موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي ... وقد أخرجه الطبري أيضًا 2/ 559 عن داود بن أبي عاصم، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- =

عباس: وفي هذا نزلت الآية التي في التوبة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهو علي -رضي الله عنه-. {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (¬1) [التوبة: 113]. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون النهي لفظًا، ويكون المعنى على تفخيم ما أَعَدَّ لهم من العقاب، كما تقولُ (¬2): لا تسأل عما فيه فلان من البلاء، إذا عظمته وبالغت في وصفه (¬3). وعلى هذا يكون الظاهر نهيًا وتأويله تأويل التعجيب والتعظيم (¬4). واختار أبو عبيد القراءة الأولى قال: لأنه لو أراد النهي لكانت الفاء أحسن من الواو (¬5). وقال أبو علي: إنما تكون الفاء أحسن إذا كانت الرسالة بالبشارة والنِذارة علّةً لأن لا يسأل عن أصحاب الجحيم، كما يقول الرجل: قد حملتُك على فرس فلا تسألني غيره، فيكونُ حملُه على الفرس علّةً لئلا يَسْأل غيره، وليس البشارة والنذارة علةً لئلا يسأل (¬6)، وإنما يجعل للقراءة الأولى مزية على الثانية؛ لأن الأولى خبر، والكلام الذي بعده وقبله خبر، فإذا كان أشكل بما قبله وبما بعده كان أولى من القراءة الثانية التي هي ¬

_ = قال ... فذكره. وقال السيوطي1/ 209: معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وقال أحمد شاكر: وهذا مرسل أيضا لا تقوم به حجة، داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة، ويروى عن بعض التابعين أيضًا. (¬1) أخرجه الطبري 11/ 42 من طريق عطية العوفي وسنده مسلسل بالضعفاء. (¬2) في "معاني القرآن": كما يقول لك القائل الذي تعلم أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حالة جميلة، أو حالة قبيحة، فتقول: لا تسأل عن فلان، أي: قد صار إلى أكثر مما تريد. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 200. (¬4) في "معاني القرآن" 1/ 200. (¬5) نقله أبو علي الفارسي في "الحجة" 2/ 217 دون نسبة. (¬6) "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 217.

120

نهى (¬1). والجحيم عند العرب: النار المستحكمة المتلظية، يقال: جَحَمَتِ النارُ تَجْحَمُ، بفتح العين فيهما، جُحومًا فهي جاحم وجحيم، قال الله تعالى في قصة إبراهيم: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]، أراد: النار الشديدة التأجج. ويقال لشده القتل في معركة الحرب: جاحم، تشبيهًا بالنار العظيمة، قال: حتى إذا ذاق منها جاحِمًا بَردَا (¬2) والجَحْم والجَحْمَة: توقُّد النار (¬3)، ومنه قوله: نحن حَبسنا بني جَدِيلةَ في ... نارٍ من الحرب جَحْمةِ الضَّرَمِ (¬4) 120 - وقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} قال المفسرون: كانت اليهود والنصارى يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الهُدنة، وُيطمعونه، ويُرونه أنه (¬5) إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية (¬6)، وأخبر أنه لا يرضيهم إلا ما يستحيل وجوده، وما لا سبيل إليه؛ لأن اليهود لا ترضى عنه إلا بالتهود، والنصارى إلا بالتنصر، ويستحيل ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 216. (¬2) ذكره في "تهذيب اللغة" 1/ 545، عن الليث، ولم ينسبه وكذا في "اللسان" 1/ 553. (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 545، "المفردات" للراغب ص 95، "اللسان" 1/ 553. (¬4) ينظر: "ديوان الحماسة" 1/ 46. (¬5) ساقطة من (م). (¬6) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 202، والسمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 154، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1146، والواحدي في "أسباب النزول" ص 43، وفي "الوسيط" 1/ 200، البغوي 1/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 138، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 368.

الجمع بينهما، فإذا استحال إرضاؤهم فهم لا يرضَوْنَ عنه أبدًا (¬1). وقوله تعالى: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (حتى) تقع (¬2) على الأسماء وعلى الأفعال، وهي لوضعِ غاية أسمية أو فعلية. أما الأسمية: فمثل قولك: لقيتُ القوم حتى عبدَ الله، ومررت بالقومِ حتى عبدِ الله. وأمَّا الفعليةُ: فمثلُ قولك: اصبِرْ حتى أخرُجَ إليك. و (حتى) قد تقوم مقام (إلى) وتؤدي مثلَ معناها في بعض المواضع، ويفترقان في كثير منها، أما الموضع الذي يتفقان فيه، فمثلُ قولك: أقمْنا عندَه إلى الليلِ، وحتى الليل. وأما موضعُ افتراقهما، فمثل قولك: لقيتُ القوم حتى زيدًا، فإنه لا يجوز في هذا الموضع: لقيت القوم إلى زيد. وأما قولهُم: أكلت السمكةَ حتى رأسَها، ورأسُها، ورأسِها. فإذا كسرت لم يدخل الرأس في الكل، لأنَّ الأكلَ انتهى إليه، وهو بمعنى إلى. وفي النصب والرفع الرأسُ مأكولٌ؛ لأن (حتى) أتبع الرأسَ السمكة في النصب. وفي الرفع كان (حتى) بمعنى الواو، ورأسُها ابتداء، والخبر مضمرٌ فيه. وأما نصبها للفعل فقال الخليل (¬3) وسيبويه (¬4): الناصبُ للفعل بعد حتى (أن)، إلا أنها لا تظهر مع حتى، والدليل على أن (حتى) غير ناصِبَة بنفسها: أنَّها خافضةٌ بالإجماع، كقوله {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، ولا يُعرَف (¬5) في العربية ما يعمل في اسم يعمل في فعلٍ، ولا ما يكون خافضًا ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 517، "البحر المحيط" 1/ 368. (¬2) في (أ)، (م): يقع. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 201. (¬4) "الكتاب" 3/ 7. (¬5) في (ش): (تعرف).

لاسم يكون ناصبًا (¬1). وهكذا اللام في قولك: جاء زيد ليضربك، معناه: لأن يضربك؛ لأن اللام خافضة للاسم، فلا تكون ناصبَةً لفعل، ولا يجوز إظهار (أن) مع هذه اللام. ويجوز رفع الفعل بعد (حتى) إذا حَسُن فيه الماضي، نحو قولك: تعلمت حتى أجيب في كل شيء، وسنذكر هذا عند قوله: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214]، إن شاء الله. وقوله تعالى: {مِلَّتَهُم} قال ابن عباس: دينهم (¬2). وكذلك قال أهل اللغة، قالوا: وإنما سُمَيَ الدينُ ملّةً؛ لأنه يُمَلُّ، أي: يُملَى على المدعوِّ إليه، وأملّ وأملَى بمعنى واحد (¬3)، لكن الملة بنيت (¬4) على الأصل، وهو الثلاثي. وقيل: الملّة فِعْلةٌ من مَلَّه يمُلّه، إذا ألقاه في الرماد الحار، جُعِلَتْ اسمًا للدين؛ لما فيه من مشاق تخرج عن قضية (¬5) الهوى ورسم النفس، ويُقْلِق ويُحرقُ (¬6) (¬7). والزجاج ذكر فيها وجهًا آخر، وهو أنه قال: الملّة بمعنى السنّة والطريقة قال: ومن هذا سُمّيت المَلَّة؛ لأنها تؤثر (في مكانها كما يؤثر) (¬8) في الطريق بالسلوك فيه (¬9)، فجعل المَلَّة ¬

_ (¬1) ينظر تفصيل حتى وأوجهها في: "مغني اللبيب" 1/ 122 - 131، ومعظم النص منقول من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 201 - 202. (¬2) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" 1/ 209. (¬3) زيادة من (م). (¬4) في (ش) كأنها: (ثنيت). (¬5) في (ش): (قصة). (¬6) في (ش): (تعلق وتحرق). (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3451، "تفسير الثعلبي" 1/ 1147، "اللسان" 7/ 4271. (¬8) ساقط من (ش). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 202 وعبارته: ومن هذه المَلَّة، أي: الموضع الذي =

مشتقة من المِلَّة، وعنده أصلها من التأثير. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} قال ابن عباس: يريد أن الذي أنت عليه هو دين الله الذي رضيه (¬1). وقال الزجاج: أي: الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو طريق الحق (¬2). وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إنما جمعَ الهوى؛ لأنَّ جميع الفرق ممن يخالفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لِيُرضيَهم منه إلا اتباعُ هواهم (¬3). وأراد بهذا: ما يدعونه إليه من المهادنة والإمهال. وقوله تعالى: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} دين الله هو الإسلام (¬4)، وقيل: من العلم أنهم على الضلالة. وروي عن ابن عباس في هذه الآية قولان: أحدهما: أنه قال: الآية نزلت في تحويل القبلة، وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرجُون أن يرجع محمد إلى دينهم، فلمَّا صرفَ اللهُ القبلة إلى الكعبة شَقَّ ذلك عليهم، وأَيِسُوا منه أن يوافقَهم على دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬5). يعني: ¬

_ = يختبز فيه، لأنها تؤَثر في مكانها كما يُؤثر في الطريق. ثم قال: وكلام العرب إذا اتفق لفظه فأكثره مشتق بعضه من بعض، وآخذ بعضه برقاب بعض. وقد نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3451. (¬1) ذكره في "الوسيط" 1/ 200، وهذا لعله من رواية عطاء. (¬2) و (¬3) "معاني القرآن" 1/ 202. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1147. (¬5) ذكره الثعلبي 1/ 1146 والواحدي في "أسباب النزول" ص 43، والبغوي 1/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 138، وابن حجر في "العجاب" 1/ 373، والسيوطي في "لباب النقول" ص 25، وعزاه في "الدر" 1/ 209 للثعلبي.

121

صليت نحو قبلتهم بعد الذي جاءك من العلم في التحويل إلى الكعبة. والقول الثاني: إن المراد بقوله {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} أمةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما محمد فقد عصمته. وإياكم أخاطب وأنهى وأؤدب، فقد علمتم أن محمدًا قد جاءكم بالحق والصدق، فلا تتبعوا أهواء الكافرين، فلا يكونَ لكم من دوني ولي ولا نصير، فالخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمراد منه أمته (¬1). 121 - ثم ذكر أن من كان منهم غير متعنّت ولا حاسد ولا طالب رئاسة تلا التوراة كما أنزلت، فرأى فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق فآمن به. فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال ابن عباس: نزلت في الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب (¬2) من أهل الحبشة، وكانوا من أهل الكتاب، آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ومعنى قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال ابنُ مسعود: يُحِلِّون حلالَه، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 94. (¬2) جعفر بن أبي طالب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخو علي بن أبي طالب لأبويه وهو الملقب بالطيار، وكان أشبه الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خلقًا وخُلُقًا، هاجر الهجرتين، وعينه النبي صلى الله عليه خلفًا لزيد بن حارثة في مؤته واستشهد فيها سنة 8هـ. ينظر: "الاستيعاب" 1/ 312، "أسد الغابة" 1/ 341. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1147، ونقله الواحدي في "أسباب النزول" ص 43 وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 367 من رواية عطاء والكلبي: نزلت في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، كانوا أربعين رجلًا من الحبشة وأهل الشام. وقال ابن حجر في "العجاب" 1/ 374 تعقيبًا: ذكر بأبسط منه الثعلبي في "تفسيره" وقد ذكره الحيري في "الكفاية" ص 70، والسمعاني في "تفسيره" 2/ 38، والبغوي في "تفسيره" 1/ 144، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 369.

ويُحَرِّمون حرامَه، ويقرؤونه كما أنزل، ولا يحُرِّفونه عن مواضعِه (¬1). وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهِه، ويَكِلُونَ علمَ ما أشكلَ عليهم إلى عالمه (¬2). وقال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه (¬3)، وقال الضحاك: نزلت في مؤمني اليهود: عبد الله بن سلام وأصحابه (¬4)، وقال قتادة (¬5) وعكرمة (¬6): نزلت في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (الكتاب) على هذا: القرآن. {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} بمحمد أو بالكتاب. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 56، ومن طريقه أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 519 ورواه أيضًا من طريق أبي العالية، ورواه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1149، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 356، والسمرقندي 1/ 155، والواحدي في "الوسيط" 1/ 200، والسمعاني في "تفسيره" 2/ 38. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 520، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 218، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1150، وعزاه في "الدر" 1/ 210 إلى وكيع. وينظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 79. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 520، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 218، والثعلبي 1/ 1150. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1148، ولفظه: هم من آمن من اليهود: عبد الله بن سلام، وشعبة بن عكرو وتمام بن يهوذا، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 43 مختصرًا وفي "الوسيط" 1/ 200، البغوي في "تفسيره" 1/ 144، وفي "البحر المحيط" 1/ 369، وينظر: "العجاب" 1/ 374. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 518، وذكره الثعلبي 1/ 1148، وعزاه في "الدر" 1/ 210 لعبد بن حميد. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1148، والواحدي في "أسباب النزول" ص 43.

123

123 - قوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ليس على ظاهره من العموم (¬1)؛ لأنه قال في موضع آخر: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وقال: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] وهو من باب الخصوص، تأويله: ولا ينفعها (¬2) شفاعة إذا وجب عليها العذاب، ولم يستحقوا سواه. وقال بعضهم: إنما آيس الله اليهود بهذه الآية؛ لأنهم كانوا يزعمون أن آباءهم من الأنبياء يشفعون لهم (¬3). 124 - وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} الآية، الابتلاء: الاختبار والامتحان، وابتلاء الله تعالى يعود إلى إعلامه عباده لا إلى استعلامه؛ لأنه يعلم ما يكون، فلا يحتاج إلى ابتلاءٍ ليَعْلَم (¬4). وقوله تعالى: {بِكَلِمَاتٍ} الكلبي، عن أبي صالح (¬5)، عن ابن عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله عز وجل إبراهيمَ بها عشر خصال من السُّنة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فاللاتي في الرأس: المضمضة والاستنشاق والفرق والسواك وقص الشارب، والتي في الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان والاستنجاء ونتف الرفغين (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 472 - 473. (¬2) في (ش): (ولا تنفعها). (¬3) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 128. (¬4) ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 54، "تفسير الطبري" 1/ 524، "المفردات" للراغب ص 71 - 72، "تفسير البغوي" 1/ 145. (¬5) هو: باذان، ويقال: باذام، أبو صالح مولى أم هانىء، تقدمت ترجمته. (¬6) هذا الإسناد ضعيف لا تقوم به حجة، لكن ورد هذا عن ابن عباس بإسناد صحيح عند عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 57 عن معمر عن ابن طاوس، عن ابن عباس، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 524، ابن أبي حاتم =

وهذا أصح ما قيل في تفسير الكلمات، وعلى هذا أكثر أهل العلم (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: أوحى الله إلى إبراهيم: يا خليلي، تطهّرْ، فتمضمض، فأوحى الله إليه أن تطهرْ، فاستنشقَ، فأوحى إليه أن تطهر، فاستاك، فأوحى إليه أن تطهر، فأخذ شاربه، فأوحى (¬2) إليه أن تطهر، فَفَرَقَ شعره، فأوحى إليه أن تطهر، فاستنجى، فأوحى إليه أن تطهرَ، فحلق عانته، فأوحى إليه أن تطهر، فنتف إبطيه، فأوحى إليه أن تطهر، فقلم أظفاره، فأوحى إليه أن تطهر، فأقبل بوجهه على جسده ينظر ماذا يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة (¬3). وقال بعض المتأولين: المراد بالكلمات في هذه الآية: انقياده لأشياء امتحن بها، وأخذت عليه، منها: الكوكب والشمس والقمر والهجرة والختان وعزمه على ذبح ابنه (¬4) (¬5)، والمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بإقامة ¬

_ = 1/ 359، والحاكم 2/ 266 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 149، وذكره الثعلبي 1/ 1154، ولفظ الرُّفْغَين عند الفراء في "معاني القرآن" 1/ 76 والرُّفْغ: كل موضع اجتمع فيه الوسخُ، والمراد به الإبط. ينظر: "المصباح المنير" ص 233. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 204، وقال ابن أبي حاتم 1/ 219: روي عن أبي صالح وأبي الجلد ومجاهد وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي نحو ذلك. (¬2) في (ش): (فأوحى الله). (¬3) هو بمعنى ما سبق، ولكن فيه تفصيل. (¬4) أورد هذا المعنى عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 75، الطبري في "تفسيره" 1/ 527، وابن أبي حاتم 1/ 221 (1170)، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1155 كلهم عن الحسن. (¬5) ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 527 - 528 الأقوال في المسألة ثم بين أن الصواب:=

كلمات، أو بتوفية كلمات، والتقدير: ذوي كلمات: أي: يعبر بها عن هذه المسميات، ويجوز أن يكون الكلم المتكلم به، كما أن الصيد هو المصيد، والنسج المنسوج (¬1)، ومثلُ هذا مما حمل الكلمات فيه على الشرع قولُه تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]، فالكلمات تكون الشرائع التي شرع لها دون القول؛ لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ} وكان المعنى: صدقت بالشرائع فأخذت بها، وصدقت الكتب فلم تكذب بها (¬2). وقوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} معناه: أدَّاهُنَّ تامّاتٍ غيَر ناقصات (¬3)، وقيل: إنه مِنْ فعلِ الله تعالى، أي: قضاها الله له (¬4). وقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. قال ابن عباس: أوحى الله إليه إني جاعلك للناس إمامًا يقتدي بك الصالحون من بعدك (¬5). ¬

_ = أنه لا يجزم بشيء مما ذكر على أنه المراد بالكلمات إلا بحجة يجب التسليم بها، ورجح ابن كثير في "تفسيره" 1/ 177 عموم الكلمات لكل ما ذكر في أقوال المفسرين، وذكر في "البحر المحيط" 1/ 375 ثلاثة عشر قولًا ثم قال: وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما أبتلى الله به إبراهيم إذ كلها ابتلاه الله بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. (¬1) في (ش): (النسخ والمنسوخ)، وفي (م): (النسخ للمنسوخ). (¬2) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 87، و"تفسير ابن كثير" 1/ 176. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 528، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 62، "تفسير الثعلبي" 1/ 1157. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 204. (¬5) ذكره في "الوسيط" 1/ 203 لعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في=

والأَمُّ في اللغة: القصد، والإمامُ: كلُّ مَنِ ائتم به قومٌ، كانوا على الصراط المستقيم (¬1)، أو كانوا ضالّين. والنبي إمامُ أمتهِ، والخليفةُ إمام رعيتهِ، والقرآنُ إمامُ المسلمين، على معنى أنهم ينتهون إليه فيما أمر وزجر. والإمام: الذي يؤتَمُّ به، فيفعل أهله وأمته كما يفعل، أي: يقصدون لما يقصد. هذا أصله (¬2). ثم يجعل الكتابُ إمامًا يؤتم بما فيه، قال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] أي: بكتابهم الذي جعلت فيه أعمالهم في الدنيا، وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] يعنى: كتابًا، أو اللوح المحفوظ. وقد يجعل الطريقُ إمامًا؛ لأنَّ المسافر يأتمُّ به ويستدلُّ، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79]، أي: بطريقٍ واضح. ويقالُ للخيط الذي يُقَدَّرُ به البناء: الإمام؛ لأنه يقتدى به، ويُقْصَدُ قَصْدُه. وإمام الغلام في المكتب: ما يتعلمه كل يوم، لأنه يتبعه، ويقصده بالتعلم، ولا يعدو ما فيه (¬3). فقال إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: ومن أولادي أيضًا فاجعل أئمةً يُقْتدَى بهم (¬4). فأمَا تفسيرُ الذرية، فقال الليث: الذر: عدد الذرية، ¬

_ = القسم الدراسي وقد روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 222 عن أبي العالية، أنه قال: فجعله الله إمامًا، يؤتم ويقتدى به، ثم قال: وروي عن الحسن وعطاء الخراساني ومقاتل ابن حيان وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 205. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 205، وينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 206 (مادة: أمَ). (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 206، و"المفردات" للراغب الأصفهاني ص 33 - 34. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1157.

تقول (¬1): نَمَى (¬2) الله ذَرْأَكَ وذَرْوَكَ: أي: ذريتك. والذريةُ: تقع على الآباء والأبناء والأولاد والنساء، قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] أراد: آباءهم الذين حُمِلوا مع نوح في السفينة (¬3)، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} إلى قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:33 - 34]، فدخل فيها الآباء والأبناء (¬4). وتكون (¬5) الذرية واحدًا وجمعًا، فممَّا جاء فيه ذرية يراد به الواحدِ قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]، فهذا مثل قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]. ألا ترى أنه قال: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 39]. ومما جاء فيه جمعًا قوله: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173]، وهو كثير. وأما أصل الذُّرِّيةِ ومأخذُها، فقال أبو إسحاق النحوي: فيها قولان: قال بعضهم: هي فُعْليَّةٌ، من الذَرَ؛ لأنَ الله تعالى أخرجَ الخلق من صُلْبِ آدم كالذَّرِّ، حين أشهَدَهُم على أنفسِهم (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ)، (م): (يقول). (¬2) في (ش): (تمنى). (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1274 (مادة: ذرأ). (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1274 (مادة: ذرأ). (¬5) في (ش): (ويكون). (¬6) لم يذكر أبو إسحاق شيئا من ذلك في هذه الآية، لكنه أشار إلى العلة في آية الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. فقال في "معاني القرآن" 2/ 390: قال بعضهم: خلق الله الناس كالذر من صلب آدم وأشهدهم على توحيده.

قال: وقال بعضُ النحويين: أصلها ذرُّورَةٌ، على وزن فعلولة، ولكنَّ التضعيَف لمَّا كَثُرَ أُبْدِلَ من الراء الأخيرة ياء فصارت ذُرُّويَةً، ثم أُدغمت الواو في الياء فصارت: ذُرِّيَّة. قال: والقول الأول أقيسُ وأجود (¬1) عند النحويين (¬2). واختاره (¬3) الليث، فقال: هو فُعْليّة من الذر، كما قالوا: سُرّيَّة، والأصلُ من السّرّ، وهو النكاح (¬4). وزاد ابن الأنباري الوجهين (¬5) اللذين ذكرهما أبو إسحاق بيانًا فقال: الذرية مأخوذةٌ من ذرأَ الله الخلق، ويكون أصلها ذُرُّوؤه، تُرِكَ هَمْزُها، وأبدل من الهمز ياءً، فلمَّا اجتمعت الياء والواو والسابقُ ساكنٌ أُبدلَ من الواو ياءً، وأُدغمت في الياء التي بعدَها، وكُسِرَ الراء لتصِحَّ الياء. قال: ويجوزُ أن تكون (¬6) منسوبة إلى الذر بالتشبيه في كثرة التوالد، وضم الذال لأن النسبة قد يغير فيها الحرف، كما قالوا: دُهريٌّ بضم الدال (¬7)، وقالوا: بُصري للمنسوب إلى البصرة. وقال الخليل: الذرية فُعْليّة، من ذَرَرْت؛ لأن الله تعالى ذَرَّهم في الأرض، أي: نشرهم. قال أبو على الفارسي: أمَّا مثالُ ذرية من الفعل، فيجوزُ أن يكون ¬

_ (¬1) في (م): (أجود وأقيس). (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1277، وعنه في "اللسان" 3/ 1491 (مادة: ذرأ). (¬3) في (أ) و (م): (واختيار). (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1277. (¬5) المثبتمن (ش)، وفي غيرها: (للوجهين). (¬6) في (أ)، (م): (يكون). (¬7) الدهري، بضم الدال وفتحها، الذي يقول ببقاء الدهر "القاموس" ص 395.

فُعلُولة من الذر، فأُبدلَتْ من الراء التي هي اللامُ (¬1) الأخيرة ياءً، ويحتملُ أن يكون فُعّيلة منه. فأبدلت من الراء الياء، كما يبدل من هذه الحروف للتضعيف، وإن وقع فيها الفصل. ويحتمل أن يكون فُعْلية نَسَبًا إلى الذرّ، إلا أن الفتحة أبدلت منها الضمة، كما أبدلوا في الإضافة إلى الدهر دُهري، وإلى السهل سُهلي. ويجوز أن يكون فُعِّيلة، من ذرأ الله الخلق، اجتمع على تخفيفها كما اجتمع على تخفيف البرية، ويجوز أن يكون فُعِّيلة، من قوله: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أُبدِلت من الواو الياء؛ لوقوع ياء قبلها (¬2). وقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أعلم الله إبراهيم أن في ذريته الظالم (¬3). قال ابن عباس: يريد من كان من ولدك ظالمًا لم ينل عهدي (¬4). يريد: ليس بإمام ولا كرامة (¬5). واختلفوا في معنى العهد هاهنا، فقال أبو عبيد: العهد هاهنا: الأمان، أي: لا ينال أماني الظالمين (¬6)، يقول: لا أؤمنهم عذابي، وقال ¬

_ (¬1) ساقطة من (م). (¬2) ينظر: تفصيل ذرية وما فيها من اشتقاق وتصريف في: "البحر المحيط" 1/ 372 - 373, "اللسان" 3/ 1494 (ذر) , 3/ 1491 (ذرأ). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 205. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 222 بمعناه. (¬5) تفسير العهد بالإمامة قال به: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وبه قال كثيرون، ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 530، و"تفسير السمعاني" 2/ 45، "تفسير ابن عطية" 1/ 477، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 140، و"تفسير القرطبي" 2/ 98. (¬6) "غريب الحديث" 1/ 440، وذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1160 في نسخةٍ، وفي النسخة: أبو عبيدة، وليس في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، ونسبه الرازي في "تفسيره" 4/ 45 إلى أبي عبيد، وقد أخرجه الطبري 1/ 530 عن قتادة.

125

السدي: {لَا يَنَالُ عَهْدِي} أي: نبوتي (¬1). واختاره ابن كيسان، فقال: يعني: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة في الدين من كان ظالمًا من ولدك، بل ينال عهدي من كان رسولًا إماما. وقال الفراء: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: لا يكون للناس إمام مشرك (¬2). وقال عبد الله بن مسلم (¬3): العهد هاهنا: الميثاق، يقول: لا ينال ما وعدتك من الإمامة الظالمين من ذريتك، والوعد من الله عز وجل ميثاق (¬4). وهذه الأقوال متقاربة. 125 - قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} هذه الآية تنعطف على ما تقدمها من الآيات التي ذكر فيها (¬5) (إذ)، ويريد بالبيت الكعبة التي هي القبلة اليوم، ولذلك ذكره بالألف واللام (¬6). قوله تعالى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} المثاب والمثابة مصدران لقولهم: ثاب يثوب مثابًا ومثابة وثؤوبا وثَوَبانا، ذكر ذلك الفراء في كتاب "المصادر". فالمثابة هاهنا: مصدر وُصِف به، ويراد به الموضعُ الذي يُثاب إليه (¬7)، كما يقال: درهمٌ ضربُ الأمير، والمصدر قد يوصف به كثيرًا، قال زهيرٌ: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 530، وابن أبي حاتم 1/ 223، وذكره الثعلبي 1/ 1159. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 76. (¬3) يريد ابن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276 هـ (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 62، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 141. (¬5) قوله: (التي ذكر فيها) ساقطة من (ش). (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 532. (¬7) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 76، الطبري 1/ 532، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 205 - 206 انظر البحث في مثابة في: "اللسان" 1/ 518 (ثوب).

مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَوَاتُهُمْ ... هُمُ بَيْنَنا فَهُمُ رضًا وَهُمُ عَدْلُ (¬1) وأنشد أحمد بن يحيى: سقى الله نجدًا من ربيعٍ وصيّفِ ... وماذا تُرْجَى (¬2) مِن ربيعٍ سَقَى نَجْدا بلى إنَّهُ قد كانَ للعيشِ مرةً ... وللبيضِ والفتيانِ منزلةً حمدا (¬3) أراد: منزلة محمودة. قال ابن الأنباري: والمصدر للمؤنث قد يكون خبرًا عن المذكر، كقولهم: أكلُ الرمانِ لذةٌ، وذكر أخبار الصالحين عظةٌ، ولقاءُ محمد منفعة. ويمكن أن تكون المثابة الموضع الذي يثاب إليه، والهاء فيه لا تكون لتأنيث الموصوف به، كما يقال للمجلس: المقامُ والمقامة، يقال: هذا الموضعُ مقامُ فلان ومقامة بمعنى، والهاء تدخل للتخصيص لا للتأنيث، وهاء التخصيص تدخل في مواضع كثيرة كالقطنة والصوفة وأشباه ذلك (¬4)، قال زهير: وفيهم مقاماتٌ حِسَانٌ وجوهُها ... وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفِعْلُ (¬5) وواحد المقامات مقامة، وعلى هذا دلَّ كلام المفسرين. فقد قال ابن عباس في معنى قوله: {مَثَابَةً}: يريد: لا يقضون (¬6) منه وطرًا، كلما أتوه ¬

_ (¬1) البيت لزهير بن أبي سلمى في "الديوان" ص 40، "والأشباه والنظائر" 2/ 385، و"لسان العرب" 3/ 1664 (مادة: رضى). وينظر: "المعجم المفصل" 6/ 216. (¬2) ساقطة من (أ)، (م). (¬3) هما بلا نسبة في "المذكر والمؤنث" للأنباري ص 246، "معجم البلدان" 5/ 263 (نجد). وينظر: "المعجم المفصل" 2/ 204. (¬4) ابن الأنباري. (¬5) البيت لزهير بن أبي سلمى، في "ديوانه" ص113، "لسان العرب" 6/ 3787 مادة (قوم)، "المعجم المفصل" 6/ 245. (¬6) في (ش): (لا تقضون).

وانصرفوا اشتاقوا إلى الرجعة إليه (¬1). وروي أيضًا عن ابن عباس أنه قال في تفسير المثابة: معادًا (¬2)، وعلى هذا فقال أبو إسحاق: الأصل في مثابة مثْوَبةٌ، ولكنَّ حركة الواو نُقلت إلى الثاء، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفًا. قال: وهذا إعلال إتباع، تبع مثابةٌ بابَ ثاب (¬3)، وأصلُ ثاب ثَوَبَ، ولكنَّ الواوَ قُلِبَت ألفًا؛ لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، لا اختلاف بين النحويين في ذلك. انتهى كلامه (¬4). وُينشدُ على أن المثاب والمثابة واحد قول ورقة في صفة الحرم: مَثَابًا لأَفْنَاءِ القبائلِ كُلِّها ... تَخُبُّ إليها اليعملاتُ الطَّلائحُ وأنشده الشافعي رحمه الله لأبي طالب، وروى: اليعملات الذوامل (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 533 وبنحوه أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 255 ثم قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير في إحدى روايتيه وعطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع بن أنس والسدي والضحاك نحو ذلك. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1160، البغوي في "تفسيره" 1/ 146، "البحر المحيط" 1/ 380. ولفظهم: معاذًا وملجًا، بالذال، وليست بالدال. وقال الطبري 1/ 532: وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذًا. وورد بالدال في "الوسيط" 1/ 204. (¬3) في (ش): (وإعلال الألف اتباع تبع ألف مثابة ألف ثاب). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 206. (¬5) نسبه إلى ورقة الطبري في "تفسيره" 1/ 532، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 380، و"البداية والنهاية" 2/ 297. ورواية الطبري: مثابٌ، وذكره الشافعي في "الأم" (1/ 153ط. دار المعرفة) منسوبًا لورقة بن نوفل خلافًا لما ذكره الواحدي، لكنه قال: الذوامل بدل الطلائح وكذلك ذكره القرطبي في "تفسيره" 2/ 100 وعدها أبو حيان رواية في البيت. وبمثل هذه الرواية ذكرها صاحب "اللسان" 3/ 1516 منسوبًا لأبي طالب، وذكره في (مادة: ذمل) غير منسوب قال=

ومعنى ثاب في اللغة: عاد ورجع إلى وضعه الذي كان أفضى إليه، يقال: ثاب ماء البئر إذا عاد جُمَّتُها (¬1)، ومنه تثويب الداعي إذا عاد وكرَّر الدعاء. وقال الأخفشُ: الهاء في المثابة للمبالغة في كثرة من يثوب إليه، كقولهم: رجل علامة ونسابة (¬2). وقوله تعالى: {وَأَمْنًا} أراد: مأمنا (¬3)، وهو أيضًا مصدر وصف به، كما ذكرنا. قال ابن عباس: يريدُ: من دخله كان آمنًا، فمن أحدث حدثًا خارج الحرم ثم لجأ إليه أمن من أن يُهاجَ فيه. ولكن لا يُؤْذى (¬4) ولا يخالط ولا يُبَايع، فإذا خرج منه أُقيم عليه الحدُّ، ومَنْ أحدثَ في الحرم أُقيمَ عليه الحد فيه (¬5). ¬

_ = شاكر في تعليقه على الطبري 3/ 26: "والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في رواية البيت، وأخطأ صاحب "اللسان" في نسبته، اشتبه عليه بشعر أبي طالب في قصيدته المشهورة". وكلام الواحدي صريح في نسبة البيت لأبي طالب، فلعلها في نسخة أو كتاب آخر. وأفناء القبائل: أخلاطهم، وخَبَّت الدابة تَخُبُّ خَبَبًا: ضرب سريع من العدو، واليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل، اشتق اسمها من العمل، والعمل من الإسراع والعجلة، والطلائح: جمع طليح، ناقة طليح أسفار: جهدها السير وهزلها، والذوامل جمع ذاملة: وهي التي تسير سيرًا لينًا سريعا. (¬1) في "تهذيب اللغة" 1/ 463 (مادة: ثاب). (¬2) "معاني القرآن" 1/ 146. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 534، "تفسير البغوي" 1/ 146. (¬4) في "تفسير الثعلبي" 1/ 1161: ولكن لا يُؤْوَي. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 1/ 1161 والسمعاني2/ 47، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 141 وينظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 157، القرطبي 2/ 111، الرازي 4/ 52 =

وإلى هذا ذهب أبو حنيفة: أن الجاني إذا لاذ بالحرم أمن (¬1)، ومذهب الشافعي: أنه لا يأمن بالالتجاء إليه، وُيسْتَوفى منه ما وجب عليه في الحرم (¬2) (¬3)، على ما قد روي في الخبر: لا يعيذ الحرم عاصيًا (¬4). وعلى هذا فمعنى قوله: {وَأَمْنًا} الأولى أن يأمن فيه الجاني، فإن أخيف بإقامة الحد عليه جاز، فقد قال كثير من المفسرين: من شاء أمن، ومن شاء لم يؤمن، كما أنه لما جعله مثابة من شاء ثاب ومن شاء لم يثب، وقد كان قبل الإسلام يرى الرجلُ قاتلَ أبيه في الحرم فلا يتعرض له، وهذا شيء كانوا توارثوه من دين إسماعيل، فبقُوا عليه إلى أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاليوم من أصاب فيه جريرةً أقيم عليه الحد بالإجماع (¬5). ¬

_ = وقد روي بعضه عن بعض التابعين كما عند الطبري 1/ 534، ابن أبي حاتم 1/ 225. (¬1) ينظر: "شرح السير الكبير" للسرخسي 1/ 366 (ط. الشركة الشرقية)، "كشف الأسرار" للبزدوي 1/ 296، قال في "المغني" 9/ 90 (ط. دار احياء التراث العربي): وهذا قول ابن عباس، وعطاء، وعبيد بن عمير، والزهري ومجاهد وإسحاق والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه. وأحمد بن حنبل في القتل وأما في غيره فعنه روايتان. (¬2) ينظر: "الأم" للشافعي 4/ 290، وبه قال مالك وابن المنذر كما في "المغني" 9/ 90. (¬3) ساقطة من (أ)، (م). (¬4) ذكره البخاري (104) كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (1354) كتاب الحج، باب: تحريم مكة وصيده، قال ابن حجر: كلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل، "الفتح" 1/ 199 وقال في "المغني" 9/ 91: وما رووه من الحديث فهو من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول - صلى الله عليه وسلم - حين روى له أبو شريح هذا الحديث [يعني إن الله حرم مكة] وقول الرسول أحق أن يتبع. (¬5) ينظر الخلاف الفقهي فيه في: "تفسير الطبري" 4/ 11 - 15، "غرائب النيسابوري" 1/ 394، "الوسيط" 1/ 204.

وقال أبو بكر بن الأنباري: معناه: وَأَمْنًا أن يُبخس القاصد له من الثواب الذي يوعده أمثاله، فهو واثق آمنٌ أنَّ أجرَه لا يضيعُ عند ربه (¬1) (¬2)، وهذا قول قويم حسن؛ لأن الله تعالى وصف البيت بالأمن، وعلى ما ذكر أبو بكر يتعلق الأمن بالبيت، وعلى (¬3) ما قاله غيره من المفسرين من أمْنِ الجاني إذا لاذ بالحرم، فهو أمن الحرم لا أمن البيت، إلا أن يقال: إن أمن الحرم لأجل البيت، فهو بسبب منه وعائد إليه (¬4). وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} هذا معطوف على ما أضيف إليه إذ، كأنه: وإذ اتخذوا. قال الزجاج: وهو عطف جملة، على جملة (¬5). وقال الفراء: أي: جعلناه مثابةً لهم فاتخذوه مُصلَّى. والفتح في الخاء على معنى الخبر، قراءة أهل المدينة والشام (¬6). ويؤكده أنَّ الذي قبله والذي بعده خبر، وهو قوله {جَعَلْنَا} و {وَعَهِدْنَا}. ومن قرأ {وَأتَّخِذُوا} بالكسر على الأمر (¬7) فحجته في ذلك: ما أخبرنا ¬

_ (¬1) في (م): أن أجره عند ربه لا يضيع. (¬2) ابن الأنباري. (¬3) ساقطة من (أ)، (ش). (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 380. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 207. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 77. (¬7) قرأ بفتح الخاء نافع وابن عمر، وبكسر الخاء على الأمر، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي. ينظر: "السبعة" ص 169، "الحجة" 2/ 220، "المبسوط" لابن مهران ص 135، "التيسير" للداني ص 65.

الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (¬1) -رحمه الله- ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد (¬2)، ثنا عبدوس بن الحسين بن منصور (¬3)، ثنا أبو حاتم الرازي (¬4)، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري (¬5)، حدثني حُميد الطويل (¬6)، عن أنس بن مالك (¬7)، قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: وافقني ربي في ثلاث. قلت: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى. فأنزل الله عز وجل: ¬

_ (¬1) يعني: الثعلبي في "تفسيره". (¬2) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أبو الحسين بن أبي إسحاق المزكي، من فقهاء نيسابور، قال الخليلي: كان ثقة، وقال الحاكم: كان من الصالحين العباد، التاركين لما لا يغني، قراء القرآن، المكثرين من سماع الحديث توفي سنة 397. ينظر: "تاريخ بغداد"10/ 302، "السير" 16/ 97. (¬3) هو أبو الفضل عبدوس بن الحسين بن منصور النَّصْراباذي، سمع محمد بن عبد الوهاب الفراء وطبقته، روي عنه أبو علي الحافظ، ويقال: إن اسم عبدوس: عبد القدوس، والله أعلم ينظر: "الأنساب" 5/ 492. (¬4) هو: محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أبو حاتم الرازي، تقدمت ترجمته. (¬5) هو محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، أبو عبد الله البصري القاضي، ثقةٌ، توفي سنة (214) أو نحوها. انظر: "تهذيب الكمال" 25/ 539، "تقريب التهذيب" ص 490 (6046)، "تهذيب التهذيب" 3/ 614. (¬6) هو: حميد بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، كثير التدليس عن أنس معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتاده، وقد وقع تصريحه عن انس بالسماع وبالتحديث في أحاديث كثيرة في البخاري وغيره مات وهو قائم يصلي سنة 142 هـ ينظر: "تهذيب الكمال" 7/ 355، "التهذيب" 1/ 493. (¬7) أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، الخزرجي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور، مات سنة 92 وقيل: 93 وقد جاوز المائة. ينظر: "الاستيعاب" 1/ 198، "أسد الغابة" 1/ 151.

{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وقلتُ: يا رسولَ الله، إنه يدخُلُ عليك البرُّ والفاجرُ، فلو حجبت أمهات المؤمنين، فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال: وبلغني شيءٌ كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستقريتُهن أقول: لتكُفُّنَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ليبدلَنَّه اللهُ أزواجًا خيرًا منكن، فأنزل الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية [التحريم: 5] (¬1). وهكذا قال ابن عباس في هذه، فقال في قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}: وذلك أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، لو صليت بنا خلف المقام، فأنزل الله تعالى على ما قال عمر، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعلى هذه القراءة يكون قوله: {وَاتَّخِذُوا} عطفا على المعنى لا على اللفظ؛ لأن قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} معناه: ثوبوا إليه واتخذوا. واختلف في مقام إبراهيم، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: البيت (¬3)، وقال النخعي (¬4) (¬5): ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4483) كتاب تفسير القرآن، باب: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. (¬2) لعله من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها في المقدمة، والحديث رواه عدد كبير من الأئمة، وبعضهم أخرجه مختصرًا. وقد رواه الثعلبي بالإسناد نفسه 1/ 1163 بهذا اللفظ، وإسناده ورجاله ثقات عدا عبدوس فإنه لم يذكر بجرح أو تعديل، والحديث ثابت في البخاري (4484) كتاب التفسير: باب: قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وغيره من طريق آخر عن حميد الطويل عن أنس به. (¬3) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة. (¬4) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي من أهل الكوفة، كان إماما مجتهدًا، له مذهب، صالح زاهد ثقة، إلا أنه يرسل كثيرًا ويدلس، توفي سنة 97 هـ. ينظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 6/ 270، "الأعلام" 1/ 80. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1164، البغوي 1/ 146، القرطبي 2/ 102، "البحر المحيط" 1/ 381، والآلوسي 1/ 380.

الحرم كله مقام إبراهيم (¬1). وقال يمان: المسجد كله مقام إبراهيم (¬2). وقال عطاء: التعريف والصلاتان بعرفة والمشعر ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة مقام إبراهيم، سمعته من ابن عباس (¬3). وقال قتادة (¬4) ومقاتل (¬5) والسدي (¬6) في هذه الآية: هو الصلاة عند مقام إبراهيم، أمروا بالصلاة عنده، ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله، والمقام في اللغة: موضع القدمين حيث يقوم عليه (¬7). وروى عبد الله بن عمر (¬8) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب" (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1164. (¬2) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1164، والبغوي 1/ 146، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 381. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 226. (¬4) أخرجه الطبري 1/ 537، وذكره الثعلبي 1/ 1164. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 137 - 138، وذكره الثعلبي 3/ 1164. (¬6) أخرجه الطبري 1/ 537، وابن أبي حاتم 1/ 227. (¬7) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 381. (¬8) هكذا في الأصل، والصواب: عبد الله بن عمرو كما في مصادر تخريج الحديث. (¬9) أخرجه الترمذي (878) كتاب الحج، باب: ما جاء في فضل الحجر الأسود، والإمام أحمد في "المسند" 2/ 213 - 214 ابن خزيمة 4/ 219 برقم 2732 في المناسك، باب صفة الركن والمقام، والبيان انهما ياقوتتان من يواقيت الجنة، والحاكم 1/ 456 البيهقي 5/ 75 وعبد الرزاق في "المصنف" 5/ 39، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1167. قال الترمذي: هذا يُرْوى عن عبد الله بن عمرو، موقوفًا من قوله، وفيه عن أنس أيضا، وهو حديث غريب وقال ابن خزيمة: لست أعرف (رجاء) [يعني رجاء بن صبيح الحَرَشي] هذا بعدالة ولا جرح، ولست أحتج بخبر مثله، اهـ. وقد ضعفه الحافظ في "الفتح" 3/ 462 وللحديث شواهد كثيرة حكم بعضها على الحديث بالحسن لغيره، كالدكتور خالد العنزي في تحقيق "تفسير الثعلبي".

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن إبراهيم عليه السلام استأذن سارة أن يزور إسماعيل عليه السلام، فأذنت له، واشترطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب (¬1) يتصيد، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم فدعا لها بالبركة، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل به، فجاءته بالمقام، فوضعته عن شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدمه عليه (¬2). وذلك الحجر هو مقام إبراهيم الذي يعرفه الناس اليوم، وإذا أطلق مقام إبراهيم لم يفهم إلا الذي هو اليوم في المسجد، ويدل على هذا حديث عمر الذي رويناه آنفا (¬3)، وجعل تأثير قدم إبراهيم في الحجر معجزة ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ)، (م). (¬2) ذكر القصة مطولة مبسوطة الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1164 وقد ذكر الواحدي منها موضع الشاهد، وقد أخرج القصة الطبري في "تاريخه" 1/ 154 من طرق عن سعيد بن جبير، وذكرها البغوي في "تفسيره" 1/ 147، الثعلبي أيضا من رواية السدي وغيره في كتابه: "عرائس المجالس" ص 71، ورواها الطبري مختصرة من كلام السدي 1/ 537، وأصل القصة رواها البخاري (3364) كتاب الأنبياء، وليس عند البخاري غسل رأس إبراهيم ووضع رجله حينذاك على المقام، ومن طريق البخاري أخرجها ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 268 ثم ذكر قصة غسل زوجة إسماعيل الثانية لرأس إبراهيم، من رواية عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1166 تحقيق د: العنزي. (¬3) قال في "البحر المحيط" 1/ 381 بعد أن ذكر اتفاق المحققين على هذا القول: ورجح بحديث عمر أفلا نتخذه مصلى. الحديث، وبقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الطواف وأتى المقام {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فدل على أن المراد منه ذلك الموضع؛ ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، ولأن الحجر صارت تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى =

لنبوته. وقال أنس بن مالك: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم (¬1). ومعنى قوله تعالى: {مُصَلًّى} قال الحسن: قبلة (¬2)، وقال مجاهد: مُدَّعى (¬3)، أي: موضع دعاء. وقال قتادة: صلوا عنده (¬4). وقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي: أمرناهما وأوصينا إليهما (¬5): {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} قال سعيد بن جبير (¬6)، وعبيد بن عمير (¬7) (¬8)، ¬

_ = لأنه موضع القيام، وثبت قيامه على الحجر، ولم يثبت قيامه على غيره. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1167 وفي "عرائس المجالس" ص 73، وأخرجه الواحدي بسنده من طريق الزهري، عن ابن أنس في "الوسيط" 1/ 206، وذكره أبن كثير في "تفسيره" 1/ 182 من هذا الطريق، وذكره القرطبي 2/ 102 وابو حيان في "البحر" 1/ 381 وروى الطبري 3/ 35 بسنده عن قتادة قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبيه وأصابعه فيه، فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. (¬2) في (ش): (وقبله). (¬3) أخرجه الطبري 1/ 537، ابن أبي حاتم 1/ 227. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 537. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1169. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 227، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1169، البغوي 1/ 148، القرطبي 2/ 103. (¬7) هو: أبو عاصم عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعد من كبار التابعين، أجمعوا على توثيقه، كان من العباد، توفي سنة 73 هـ. ينظر: "تقريب التهذيب" ص 377 (4385)، "السير" 4/ 156. (¬8) أخرجه الطبري 3/ 40، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 228، والثعلبي 1/ 1169.

وعطاء (¬1)، ومقاتل (¬2): من الأوثان والريب وقول الزور. وقال الزجاج (¬3) والفراء (¬4): يريد من الأصنام ألا تعلّق فيه. وهذا الاختيار عند أبي علي، قال: لما جاء في المظهر منه لفظ (الرِّجْس) في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. وقال ابن عباس ويمان بن رئاب (¬5): يعنى بَخِّراه وخَلِّقاه (¬6) ونظفاه. وقوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} قال الفراء (¬7): يقال: طاف يطُوفُ طَوفًا وطَوافًا وطوفانًا، وطاف يطِيف، وأطَاف يُطِيفُ، بمعنى واحد (¬8). وقوله تعالى: {وَالْعَاكِفِينَ} العكوف: الإقامة (¬9) على الشيء (¬10). قال المفسرون: عنى بالطائفين: النُّزَّاع إليه من الآفاق، وبالعاكفين: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 40 عن عطاء، عن عبيد، وذكره عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 228، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1169. (¬2) "تفسير مقاتل"1/ 138. وينظر: "الثعلبي" 1/ 1169، "البحر المحيط" 1/ 382. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 207. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 77. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 1/ 1171 وينظر: البغوي 1/ 1458، "البحر المحيط" 1/ 382. (¬6) خَلَّقاه: أي طَيَّباه، والخلُوق والخِلاق: ضرب من الطيب وقيل: الزعفران وغيره، قال بعض الفقهاء: وهو مائع فيه صفرة. "تهذيب اللغة" 1/ 1094 "المصباح المنير" ص 180. (¬7) من قوله: (وقوله تعالى: للطائفين) ساقط من (ش). (¬8) هذا في كتاب "المصادر" للفراء وهو مفقود ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2155، "لسان العرب" 5/ 2722. (¬9) في (م): (القيام). (¬10) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2532.

126

أهلَ مكة وبالركع السجود (¬1): جميعَ المسلمين (¬2). 126 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}. (البلد) يجوز في اللغة أن يكون جمع بلدة، ويجوز أن يكون واحدًا، وجمعه بلدان وبلاد (¬3). قال الليث: كل موضع من الأرض (¬4) عامرٍ أو غامر (¬5) مسكونٍ أو خالٍ: بلدٌ، والطائفة منه: بلدة (¬6). والبلد: المفازة، يقال: أذلّ من بيضةِ البلدِ، أي: بيضة النعامة التي تتركُها بالبلد، وهو المفازة. والعربُ تُسَمِّي كلَّ موضع خال: بلدة، فيقولون لموضع خالٍ من الكواكب بين النعائم وسعد الذابح: بلدة (¬7). ويقال للذي ليس بمقرون الحاجبين: الأبلدُ؛ لخُلُوّ ما بين حاجبيه من الشعر. وقال أهل اللغة: أصلُ البلد: هو الأثر. من ذلك قولهم لكِرْكِرَةِ (¬8) ¬

_ (¬1) في (أ)، (م): (بالركع). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 539 - 541، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 207، "تفسير الثعلبي"، "تفسير البغوي" 1/ 148 - 149 وذكر الثعلبي في "تفسيره" عن عطاء قال: إذا كان طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسًا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليًا فهو من الركع السجود. وأخرجه الطبري 1/ 540 - 541 مفرقًا عن ابن عطاء ورجحه، وأخرج ابن حاتم في "تفسيره" 1/ 228 مثله عن عطاء عن ابن عباس. (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 383. (¬4) عبارة في "التهذيب" البلد: كل موضع مُسْتَحِييزٍ من الأرض. (¬5) في (م): (أو غير عامر) وهو كذلك في "تهذيب اللغة" والغامر: ضد عامر. (¬6) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 383. (¬7) نقل في "تهذيب اللغة" 1/ 383 عن الليث: والبلدة في السماء موضع لا نجوم فيه بين النعائم وسعد الذباح، وليست كواكب عظامًا تكون علمًا، وهي من منازل القمر وهي آخر البروج سميت بلدةً، وهي من برج القوس، خالية إلا من كواكب صغار. (¬8) الكِركِرة: بالكسر: رحى زور البعير، أو صدر كل ذي خف. "القاموس" 469.

البعير: بلدة. لأنه إذا برك أثرت. قال ذو الرمة: أُنِيخَتْ فألقَتْ بلدةً فوقَ بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغَامُها (¬1) ويقال للأثر: بلد، وجمعه أبلادٌ. قال القُطامي (¬2): وبالنُحورِ كُلومٌ ذاتُ أبلادٍ (¬3) وقال ابنُ الرِّقاع (¬4): عرَف الديارَ توهُّمًا فاعتادَها ... مِنْ بعدِ ما شَمِلَ البِلَى أبلادَها (¬5) وإنما سُمِّيت البلادُ لأنها مواضعُ مواطن الناس وتأثيرهم. والبلد: المقبرة، ويقال: هو نفس القبر، قال خُفَاف (¬6): كلُّ امرئ تاركٌ أحبَّتَه ... ومُسْلِمٌ وجهَه إلى البلَد (¬7) ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة، في "ديوانه" ص 1004، "تهذيب اللغة" 1/ 383، "لسان العرب" 1/ 341، "المعجم المفصل" 7/ 135. (¬2) هو عمير بن شييم التغلبي القطامي، شاعر إسلامي، تقدمت ترجمته [البقرة: 61]. (¬3) هذا عجز بيت، وصدره: ليست تجرح فُرّارًا ظهورهم. وهو للقطامي في "ديوانه" ص 12، ينظر: "اللسان" مادة: بلد. ويروى: وفي النجوم، كما في "عمدة الحفاظ"1/ 258، وكذا في "المشوف المعلم" 1/ 117، و"البصائر" 2/ 273، وينظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب ص 143. (¬4) هو عدي بن الرقاع بن عاملة حي من قضاعة، تقدمت ترجمته [البقرة: 60]. (¬5) البيت في "ديوانه" ص 33، "لسان العرب" 1/ 341 مادة: بلد. (¬6) هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد السلمي، من مضر، أبو خراشة، شاعر فارس، كان أسود اللون، وعاش زمنًا في الجاهلية، وأدرك الإسلام فأسلم، وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف، وثبت في الردة على إسلامه، توفي سنة 20 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 2/ 138، "الأعلام" 2/ 309. (¬7) البيت بلا نسبة في "المخصص" 6/ 133، وانظر: "المعجم المفصل" 2/ 429.

ومن هذا يقال: رجلٌ بليدٌ، إذا أثَّرَ فيه الجهلُ، ثم يقالُ منه: تبلَّدَ الرجلُ، وهو نقيضُ التجلُّد، قال: ألا لا تَلُمْهُ اليومَ أن يتبلَّدا ... فقد غُلِبَ المحزونُ أن يتجلَّدا (¬1) وبلد أيضا: إذا ضَعُفَ في العملِ وغيره، حتى قيل في الجرِي قال: جَرَى طَلَقًا حتى إذا قيلَ سابقٌ ... تداركَه أعراقُ (¬2) سوءٍ فَبَلَّدَا (¬3) وقوله تعالى: {آمِنًا} قال الزجاج: ذا أَمْنٍ (¬4)، فيكون كقولهم: لاِبنٌ وتَامِرٌ، ويجوزُ أن يكون آمنًا يأمَنُ أهله فيه، فيكون كقولهم: ليلٌ نائمٌ، أيْ: ينامُ أهله (¬5) فيه، قال الشاعر: ونمتُ وما ليلُ المطيِّ بنائمٍ (¬6) ويقولون: همٌّ ناصب، أي: ينصبُ فيه الإنسان، وينصبُ لأجلِه (¬7) ¬

_ (¬1) البيت للأحوص الأنصاري في "ديوانه" ص 98، وانظر: "المعجم المفصل" 2/ 201. (¬2) في (ش): (أعواق). (¬3) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 383، "لسان العرب" 1/ 342 و 5/ 2904، "المعجم المفصل" 2/ 201. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 207. (¬5) زيادة من (م). (¬6) البيت لجرير بن عطية، ومطلعه: لقد لُمتِنا يا أمَّ غيلان في السُّرى ينظر: "ديوانه" ص 454. (¬7) وليس هذا بقياس عند سيبويه، وعن المبرد أن فاعلاً بمعنى صاحب، كذا قياس، وفي شرح المفصل: وكثر فعال حتى لا يبعد دعوى القياس فيه، وقل فاعل، فلا يمكن دعوى القياس فيه لندوره. ينظر: "حاشية ابن جماعة الكناني على شرح الجاربردي للشافية لابن الحاجب" 1/ 125، "همع الهوامع" للسيوطي 2/ 198.

قال النابغة: كِلِيني لَهمٍّ يا أميمةُ ناصبِ (¬1) فأما التفسير فقال ابن عباس: يريد حرامًا محرمًا، لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا يدخلها أحد إلا بإحرام، ولا تحلُّ لأحدٍ من الخلق إلا الساعة التي حلّت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا كلامه (¬2). فأما الحكم في هذا، فإنَّ صيدَ مكة لا ينفر، ولا ينتف شعره، ولا يتعرض له بنوع أذًى، ومن قتل صيد مكة فعليه جزاؤه، ولا يجوز قطع أشجار (¬3) الحرم على جهة الإضرار بها، ويجوز تشذيبها على جهة المصلحة لها، ولا يجوز خبطها؛ ولكنها تهشُّ هشًا رفيقًا، ويجوزُ إرسالُ المواشي لترتَعَ في حشيش الحرم (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حبس الفيل عن مكة، وسلَّطَ عليها رسولَه والمؤمنين، وإنهَّا لم تَحِلُّ لأحدٍ كان قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ كان بعدي، وإنما أُحِلَّت لي ساعة من النهار" (¬5). والعرب تقول: آمَنُ من حمام مكة، يضربون المثلَ بها في الأمن (¬6). ¬

_ (¬1) البيت للنابغة الذبياني، وعجزه: وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ ينظر: "ديوانه" ص 45، و"المعجم المفصل" 1/ 450. (¬2) ينظر مرفوعًا عن ابن عباس بنحوه عند البخاري (1349) كتاب الحج باب: الأذخر والحشيش في القبر، ومسلم (1353) كتاب الحج؛ باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها. (¬3) في (م): (شجر). (¬4) ينظر في المسألة: "مشكل الآثار" للطحاوي 4/ 176 ط دار الكتب العلمية، "المجموع شرح المهذب" 7/ 425 و 7/ 444 ط المنيرية، "تفسير ابن كثير" 1/ 180. (¬5) تقدم تخريجه آنفًا. (¬6) لأنها لا تثار ولا تهاج. ينظر: "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 87، "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 199، "المستقصى" للزمخشري 1/ 7.

وقوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الثمرات: جمع ثمرة، وهو حمل الشجرة من أي نوع كان، ويأتي الكلام فيها عند اختلاف القراء في (ثمره) [الكهف: 42]. قال المفسرون: استجاب الله دعاء إبراهيم، فقال في موضع آخر: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: ذكروا أن الله عز وجل بعث جبريل إلى الشام، حتى اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة أسبوعًا، لذلك سميت الطائف، ثم أنزلها تهامة، ومنها تجْبَى إلى مكة الثمرات (¬2). وقوله تعالى: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (من) بَدَلٌ من أهله (¬3) وهو بدل البعض من الكُلِّ، كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. والأخفش يسمي هذا بدل التبيان؛ لأنَّ الأول دلَّ على العموم، ثم بان بالبدل أن المراد به البعض، كما تقول: أخذت المال ثلثيه، ورأيت القوم ناسًا منهم (¬4). وإنما خصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين؛ لأن الله تعالى أدبه بقوله: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فتوهَّم أنه كما لا يعطيهم النبوة إلا إذا كانوا مؤمنين، كذلك لا يرزق أهل ¬

_ (¬1) ينظر: "الوسيط" 1/ 210. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 210 ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 149 دون نسبة، وبعضه يذكر عن الزهري ومحمد بن مسلم الطائفي. ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 544، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 229 - 230، "البحر المحيط" 1/ 383. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 207. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 147.

مكة إلا أن يكونوا مؤمنين (¬1). قال ابن عباس: وكانت دعوةُ إبراهيم يومئذ وأهلها مؤمنون (¬2)، فما زالوا على إيمانٍ ومعرفة بالله حتى غيَّرَ ذلك عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي (¬3)، وهو الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيته في جهنم يجُرّ قُصْبَه (¬4) في النار" (¬5)، وكان أول من غيّر دين إبراهيم، وعبد الأصنام، وسيّب السائبة، وبَحَر البحيرة، وحمى الحامي (¬6)، وغلب على مكة، وقهر أهلها، وهم ولد إسماعيل. {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} فسأرزقه إلى منتهى أجله (¬7). وفي (أمتعه) ¬

_ (¬1) ينظر: "الوسيط" 1/ 210. (¬2) لعله من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها في القسم الدراسي. (¬3) هو عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وقيل: عمرو بن لحي بن قَمَعَة، وقيل غير ذلك، من قحطان، أول من غير دين إسماعيل، ودعا العربَ إلى عبادة الأوثان حيث دعا إلى تعظيمها. ينظر: "البداية والنهاية" 2/ 187، "الأعلام" 5/ 84. (¬4) قصبه أي: أمعاءه، ينظر: "صحيح مسلم" (2856) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون. (¬5) رواه البخاري (4623) كتاب تفسير القرآن، باب: ما جعل الله من بحيرة، ومسلم (2856) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون. (¬6) السائبة: قيل: من الإبل، وقيل من جميع الأنعام وتكوم من النذر للأصنام، فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا يركبها أحد، كان الرجل ينذر إن برىء أو قدم من سفره ليُسيبن بعيرًا. والبحيرة: هي التي بحرت أذنها أي خرمت، قيل من الإبل وقيل من الشاة، إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها وتركت فلا يمسها أحد. والحامي: هو فحل الإبل، إذا انتجوا منه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره، فلم يركب وقيل: غير ذلك ينظر: "فتح الباري" 8/ 284. (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1177، "تفسير البغوي" 1/ 149.

قراءتان: التشديد من التفعيل، وهو قراءة عامة القراء، وقرأ ابن عامر بالتخفيف (¬1). والتشديدُ أولى، لأن التنزيل عليه: كقوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] وقال: {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 61] وقال: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. وأمّا التخفيف فإن أَفْعَل قد يكون بمعنى فَعَّل في كثير من المواضع، نحو: فَرَّحْتُه وأفرحْتُه، وأنزلته ونَزَّلته، قال الراعي (¬2): خَلِيطَين من شعبين شتّى تجاورا ... قديمًا وكانا بالتفرُّقِ أمتعا (¬3) وأما قوله: (قليلا) قال أبو علي الفارسي (¬4): يجوز أن يكون صفةً للمصدر، ويجوز أن يكون صفة للزمان. فالدلالةُ على جواز كونه صفة للمصدر قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] فوصف به المصدر. قال سيبويه (¬5): مثال هذا: أنك ترى الرجل يعالج شيئًا فتقول: رُويدًا، أي: علاجًا رويدًا. فإن قيل: كيف يحسنُ أن يكون صفة للمصدر، وفعّل يدل على التكثير، فكيفَ يستقيمُ وصفُ الكثير بالقليل في قوله: {فَأُمَتِعُهُ قَلِيلًا}، وهلا كان قولُ ابن عامر أرجحَ؛ لأنَّ هذا السؤال لا يعترض فيه. ¬

_ (¬1) ينظر: "السبعة" ص 170، "معاني القراءات" للأزهري ص 63. (¬2) هو: أبو جندل عبيد بن حصين النميري، والراعي لقبه؛ لكثرة وصفه للإبل، وهو شاعر من المحدثين الفحول، عاصر جريرًا والفرزدق، توفي سنة 90 هـ. ينظر: "الشعر والشعراء" 265، "الأعلام" 4/ 188. (¬3) ينظر: "ديوانه" ص 166، "لسان العرب" 7/ 4129، "المعجم المفصل" 4/ 199. (¬4) في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 222. (¬5) "الكتاب" 1/ 124.

127

والجواب: أن هذا لا يدل على ترجيح قراءته، وإنما وصفه الله سبحانه بالقليلِ من حيثُ كان إلى نَفادٍ ونقصٍ وتناهٍ، ألا ترى أن (¬1) قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] فعلى هذا وُصِفَ المتاع بالقلة في قوله: {فَأُمَتِعُهُ قَلِيلاً}. وأما جواز أن يكون (قليل) صفة للزمان فيدل عليه قوله: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] بعد زمان قليل، كما تقول: أطعمه عن جوعٍ وكساه عن عُري (¬2). وقوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} أي: ألجئه في الآخرة إلى عذاب النار {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مُختصر، أي: بئس المصير النار أو عذاب النار (¬3). 127 - قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} معنى القعود في أصل (¬4) اللغة: الثبات على أيِّ حالةٍ كانت، الدليل عليه قوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]، يريد: مثابت ومراكز، ولا يريد مَجَالس. وقولهم: قَعَدَتِ المرأةُ عن المحيض، معناه: ثبتت على حالة الطُّهْر، ولا يراد به الجُلوس. ويقولون: قَعَدَتِ الفَسِيلة، إذا ثَبَتَتْ في الأرض، وصار لها جذع (¬5). ومن هذا: قواعد البيت، فَقَعَدَ في أصل اللغة ¬

_ (¬1) زيادة من (م). (¬2) انتهى كلام أبي علي الفارسي من "الحجة" 2/ 222. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1177، "تفسير ابن كثير" 1/ 186 - 187. (¬4) ساقط من (ش). (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 3004.

بمعنى: ثبت، ثم نقل إلى هذا الفعل المخصوص والمتعارف الذي لا تعرف العامة غيره (¬1). وأما تفسير قواعد البيت، فقال ابن المظفر: القواعد: أصول الأساسِ، الواحد: قاعدة (¬2). قال الزجاج: وكل قاعدةٍ فهي أصلٌ للذي فوقها (¬3). قال الكُمَيْت (¬4): في ذِروةٍ من يفاعٍ اوّلهم ... زانت عواليَها قواعدُها (¬5) ومنه يقال للخشبات أسافل الهودج: القواعد، لأنها كالأساس للهودج (¬6). قال ابن عباس: يعنى: أصولَ البيت (¬7). وقوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} المعنى: يقولان (¬8): {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 3004، "لسان العرب" 6/ 3689 (قعد). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 3004، "تفسير الثعلبي" 1/ 1182، "البحر المحيط" 1/ 387. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 208، قال في "البحر المحيط" 1: 373: القواعد: قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: الأساس، وبالأساس فسرها ابن عطية أولًا والزمخشري وقال: هي صفة غالبة، ومعناها: الثابتة. اهـ. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) البيت للكميت في "مجاز القرآن" 1/ 55، "تفسير الثعلبي" 1/ 1183، "البحر المحيط" 1/ 373 ولم ينسبه، واليَفَاع: المشرف من الأرض والجبل. (¬6) "لسان العرب" 6/ 3689 (قعد)، والهَوْدَج: مركب للنساء يوضع على ظهور الرواحل. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 1182، وأخرجه ابن أبي حاتم 1/ 231 بلفظ: أساس البيت، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 546 بلفظ: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. (¬8) يروي ابن عباس ذلك كما في "تفسير الطبري" 1/ 549، وينظر: "صحيح البخاري" (3365) كتاب الأنبياء، باب: يزفون النسلان في المشي، وعند الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 148 أن إسماعيل هو الذي قال: (ربنا تقبل منا).

128

كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] المعنى: يقولون: أخرجوا، ومثله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد:23 - 24]. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} يريد: لدعائنا {الْعَلِيمُ} بما في قلوبنا (¬1). 128 - قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي: مطيعين مستسلمين منقادين لحكمك (¬2). قال ابن الأنباري: يقال: فلان مسلم، وفيه قولان: أحدهما: أنه المستسلم لأمر الله. والثاني: هو المخلص لله العبادة، من قولهم: سَلَّمَ لفلان الشيءَ، أي: خَلَّصَه له، وسَلِمَ له الشيءُ، أي: خَلَصَ (¬3)، ومنه قوله تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]، معناه: خالصًا لرجل، وأنشد على أنَّ المسلم بمعنى المستسلم لأمر الله قولَ الشاعر: فقلنا أسْلِمُوا إنّا أخوكم (¬4) ... فقد بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ الصُّدُورُ (¬5) أراد: استسلموا. قالوا: فالمسلم الذي يعتقد الاستسلامَ لله تعالى والإيمانَ به محمودٌ، والمسلمُ الذي يستسلم خوفًا من القتل مذمومٌ، من ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1184، "تفسير البغوي" 1/ 150. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1185، "تفسير البغوي" 1/ 150. (¬3) نقله في "تهذيب اللغة" 2/ 1745، وعنه في "لسان العرب" 4/ 2080. (¬4) في (ش): (باحركم). (¬5) البيت لعباس بن مرداس، في "ديوانه" ص 52، "لسان العرب" 1/ 41 "المعجم المفصل" 3/ 326.

ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] (¬1). معناه: استسلمنا من خوف القتل (¬2). وقد ذكرنا معنى الإسلام فيما تقدم. قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} الأمَّةُ في اللغة تكون على وجوه، قال أبو العباس: الأمَّةُ تأويلها: الجماعة من كل شيء، من ذلك: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: إنما فلان أمةٌ وَحْدَه، أي يَسُدُّ مَسَدَّ جَمَاعةٍ, ومنه يقال: فلان حسن الأُمَّة، إذا مُدِحَ بالتمامِ واستجماعِ الخُلُقِ على الاستواء (¬3). قال الأعشى (¬4): وإنَّ معاويةَ الأكْرَمِين ... حسَانُ الوُجُوهِ طِوالُ الأُمَمْ (¬5) ومنه سميت الأمّ؛ لأنها المحتويةُ على الولد، ومنها يخرج، ومن ذلك قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أَيْ: مجمع الحلال والحرام. والإمام مأخوذ من هذا؛ لأن عليه تجتمع (¬6) الجماعة (¬7)، ومنه: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي: بعد حين من الدهر (¬8)، وذلك لجماعة الشهور ¬

_ (¬1) في (م)، (ش): (لن). (¬2) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1745، "لسان العرب" 4/ 2080. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 202 - 206، "لسان العرب" 1/ 135 (أمم). (¬4) هو أبو بصير ميمون بن قيس، تقدمت ترجمته. (¬5) البيت للأعشى في "ديوانه" ص 199، "تهذيب اللغة" 1/ 204، "لسان العرب" 1/ 135، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 282، "الأمالي" لأبي علي القالي 1/ 25، "المعجم المفصل" 7/ 29. (¬6) في (أ): (يجتمع)، وفي (م): (مجتمع). (¬7) "لسان العرب" 1/ 133 - 134 (أمم). (¬8) "المفردات" للراغب الأصفهاني ص 33.

والأعوام، وأم النجوم: المجرة، لأنها مجتمع النجوم، وكل شيء انضمت إليه أشياء فهو أمّ لها (¬1)، وأمُّ القوم: رئيسُهم الذي يجتمع إليه أَمْرُهم (¬2). قال الشنفرى (¬3): وأمَّ عيال قد شَهِدتُ تَقُوتُهم ... إذا أحْتَرتْهُمْ (¬4) أحْتَرَتْ وأقَلَّتِ (¬5) يعني: تأبط شرّا، والأَمَم: القريب المجتمع، وأمَّه: إذا قَصَدَ الاجتماع معه (¬6). وقال أبو إسحاق: الأمة في اللغة أشياء، الأمة: القرن من الناس، يقال: قد مضت أمم أي: قرون، والأمة: الدِّين، ومنه قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213]، أي: كانوا على دين واحد، والأمة: القامة وأنشد: .......... طوال الأمم (¬7) والأمة: الرجل الذي لا نظير له، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (¬8)، [النحل: 120]. ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 1/ 137 (أم). (¬2) "لسان العرب" 1/ 133 (أمم). (¬3) هو ثابت بن أوس الأزدي، شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته [البقرة: 30]. (¬4) في (ش): (أخترتهم)، وفي (أ) لعلها كذلك. (¬5) البيت للشنفرى في "ديوانه" ص 35، "تهذيب اللغة" 1/ 203 وروايته: إذا حَتَرَتْهم أتْفَهَتْ وأقَلَّتِ، "لسان العرب" 2/ 769 (مادة: حتر)، 1/ 137 (مادة: أمم)، "المعجم المفصل" 1/ 552. (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 202 - 203، "لسان العرب" 1/ 135 (أمم). (¬7) هذه قطعة من البيت المذكور في الصفحة السابقة. (¬8) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183، وزاد من المعاني: الأمة: بمعنى النعمة والخير.

قال: وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته، فمعنى الأمة في القرن من الناس: الذين يقصدهم مقصدًا واحدًا، ومعنى الأمة في الدين: إنما هو الشيء الذي يقصده الخلق ويطلبونه؛ ولذلك سميت النعمة أمة، ومعنى الأمة في الرجل: الذي لا نظير له: أن قصده منفرد من قصد سائر الناس (¬1). قال ومعنى الأمة: القامة، لأنها مقصد الجسد، فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت، أي: قصدت (¬2). قال الأزهري: والأمة فيما فسّروا يقع على الكفار والمؤمنين (¬3)، وقال الليث: كلُّ قوم نُسبوا إلى نبيٍّ فأضيفوا إليه فهم أمته، وقيل: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: كل من أرسل إليه (¬4) ممن آمن به أو كفر، قال: وكل جيل من الناس هم أمة على حدة (¬5). قال ابن الأنباري: والأمة أيضًا أتباع الأنبياء، من قولهم: نحن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} يريد: أمةَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} يريد: المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان (¬6). قيل: وإنما خصّا ¬

_ (¬1) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 283، ونقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 204 (أم). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 284. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 204. (¬4) ساقط من (ش). (¬5) نقله في "تهذيب اللغة" 1/ 205. (¬6) لم أجده ولعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة.

بالدعوة بعضَ الذُّرِّيَّة؛ لأن الله تعالى أعلمهما أن في ذريتهما من لا ينال العهد في قوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. وقوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}. (أرنا) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون منقولًا من رأيت الذي يراد بها إدراك البصر، نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير: حذف المضاف، كأنه قال: أرنا مواضع مناسكنا، والمناسك: جمع منسك، وهو مصدر، جُمع لاختلاف ضروبه، والمعنى: عَرِّفْنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها؛ لنفعله ونقضي نسكنا فيها (¬1)، على حدِّ ما يقتضيه توقيفنا عليها، وذلك نحو: المواقيت التي يحرم منها، ونحو: الموضع الذي يوقف فيه بعرفةَ، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار، فهذا من: رأيتُ المواضع، وأريته زيدًا. والوجه الآخر: أن يكون أرنا منقولًا من رأيت، الذي لا يراد به رؤية العين ولكن التوقيف على الأمر، وضرب من العلم. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة في تأويل الآية فقال: (وأرنا مناسكنا) أي: عَلِّمْنا، وأنشد: أريني جوادًا مات هَزْلًا لأَنني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلًا مُخَلَّدا (¬2) ¬

_ (¬1) في (م): (فيه)، وفي (ش): (بها). (¬2) البيت لحاتم الطائي، في "ديوانه" ص 40، ولحطائط بن يعفر، "مجاز القرآن" 1/ 55، "الحجة" 2/ 225، "شرح أبيات المغني" 1/ 219، وفي "خزانة الأدب" 1/ 406، ولدريد في "لسان العرب" 1/ 158، ولمعن بن أوس في "ديوانه" ص 39. قال: العيني 1/ 329: أقول قائله هو حاتم بن عدي الطائي، كذا قالت جماعة من النحاة. ينظر: "المعجم المفصل" 2/ 202، وتحقيق أحمد شاكر لكتاب "الشعر والشعراء" 1/ 248.

قال: أراد: دُلِّيني، ولم يرد رؤية العين (¬1). وقوله: لأنني، أي: لعلني (¬2). وقال أبو إسحاق: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} معناه: عرِّفنا متعبداتنا، وكلُّ متعبدٍ فهو منسِك ومنسَك، ومن هذا قيل للعابد: ناسك، ويقال للذبيحة المتقرب بها إلى الله: نسيكة، وإنما سمي الذبيحة نَسِيكة (¬3)؛ لأنهم كانوا يذبحونها للعبادة. فقوله: {مَنَاسِكَنَا} يحتمل أن يكون جمع مَنْسَك الذي هو المصدر، فيكون على تقدير حذف المضاف كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون جمع منسك الذي هو الموضع، فلا يكون فيه حذف. ونسك في اللغة على معنيين: أحدهما: ذَبَح، والآخر: عَبَدَ، فلا يُدرى (¬4) أيهما الأصل (¬5). وفي قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قراءتان: كسر الراء، وإسكانها (¬6). قال أبو إسحاق: والأجود الكسر؛ لأن الأصل أَرْئنا، فالكسرة في الراء إنما هي كسرة همزة، أُلقيت فَطُرحت حركتها على الراء، فالكسرة دليلُ الهمزة، وحذفُها قبيحٌ، وهو جائزٌ على بُعدٍ؛ لأن الكسرةَ والضمةَ ¬

_ (¬1) ما تقدم من "الحجة" 2/ 224 - 225 بتصرف واختصار. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 55. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 209، وقال بعده: وكان الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله جل وعز. (¬4) في (ش): (ندري). (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3562 (نسو). (¬6) قرأ ابن كثير والسوسي ويعقوب بإسكان الراء، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بإخفاء كسرتها: أي: اختلاسها، والباقون بالكسرة الكاملة على الأصل. ينظر: "السبعة" ص 170، "الحجة" 2/ 224، "البدور الزاهرة" ص 50.

129

تُحذفانِ استثقالًا (¬1)؛ كقولهم في فَخِذٍ: فَخْذٌ، وفي عَضُدٍ: عَضْدٌ، وقد (¬2) ذكرنا هذا بأبلغ من هذا الشرح فيما تقدم. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ} قال ابن عباس: أي: الراجع بأوليائه وأهل طاعته (¬3) إلى أفضل دينه (¬4). 129 - وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} قال ابن عباس: يريد: في ولدي (¬5)، والكناية تعود إلى الذرية أو إلى الأمة في قوله: {أُمَّةً مُسْلِمَةً} (¬6)، وكلاهما ولد إبراهيم، وهم العرب (¬7). وقوله تعالى: {رَسُولًا مِنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فاستجاب الله دعاءه، وبعث فيهم رسولًا من أنفسهم، محمدًا سيد الأنبياء (¬8)، لذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني عند (¬9) الله في أمِّ الكتاب لَخَاتَمُ ¬

_ (¬1) بتصرف من "معاني القرآن" 1/ 209، وفيه: (والأجود الكسر، وإنما أسكن أبو عمرو لأنه جعله بمنزلة فخذ وعضد، وهذا ليس بمنزلة فخذ ولا عضد؛ لأن الأصل ...). (¬2) في (ش): (وهذا). (¬3) في (أ)، (ش): (طاعة). (¬4) لعله من رواية عطاء التي تقدم ذكرها. وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 1200. (¬5) لعله من رواية عطاء. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 1187، وينظر: "سنن سعيد بن منصور" 2/ 615، "تفسير الطبري" 1/ 556، "زاد المسير" 1/ 146. (¬7) "تفسير الثعلبي" 1/ 1187 قال: وقيل في أهل مكة. وينظر: "زاد المسير" 1/ 146، "الخازن" 1/ 111، "البحر المحيط" 1/ 392. (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 1195، "تفسير البغوي" 1/ 151. (¬9) في (ش): (عبد).

النبيين، وإن آدم لمُنجدِلٌ في طِينَتِه، وسوف أنبئكم بتلك دعوة أبي إبراهيم {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ}. الآية، وبشارة عيسى قومه: {وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ} [الصف: 6]، ورؤيا أمي، التي رأت أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام (¬1) ". وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قال ابن عباس: يريد القرآن الذي أنزل عليه، وما فيه من الفرائض والأحكام والسنن وشرائع النبيين (¬2). فعلى هذا الحكمة: هي نفس الكتاب، وجُمع بينهما لاختلاف اللفظين. والحكمة في اللغة: فهم المعاني، وبه قال مجاهد، فإنه قال: يعنى بالحكمة فهم القرآن (¬3). وقال عبد الله بن مسلم: هي العلم والعمل، ولا يسمى الرجل حكيما ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 127، وابن حبان (6404)، والحاكم 2/ 418، 600، والبيهقي في "الدلائل" 1/ 389، والبغوي في "تفسيره" 15/ 151، وفي "شرح السنة" 13/ 207، والطبري 1/ 556، والطبراني 18/ 252 (629)، (630)، والبخاري في "تاريخه" 6/ 68 والثعلبي في "تفسيره"، وآخرون من حديث العرباض بن سارية وروايتهم: وسأنبئكم بتأويل ذلك، أو سأنبئكم بأول ذلك، أو سأخبركم عن ذلك، وذكر الآيات ليس في الرويات، ومعنى منجدل: أي: ملقىً على الجدالة وهي الأرض، والحديث صححه ابن حبان والحاكم، وقال: الهيثمي: أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وثقه ابن حبان، وينظر: "الكشاف" لابن حجر ص10، وهو صحيح لغيره. (¬2) لعله من رواية عطاء، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 557، عن قتادة وغيره "المحرر الوجيز" 1/ 212. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1188 عن مجاهد، وعنه البغوي 1/ 1188، "الخازن" 1/ 112، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 393.

حتى يجمعهما (¬1). سمعت الثعلبي -رحمه الله- يقول: سمعت البياري (¬2) يقول: سمعت السِّيرافي (¬3) يقول: سمعت ابن دُرَيدٍ يقول: كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قَبيحٍ فهي حكمة (¬4). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من الشعرِ حكمةً (¬5) ". وأصلها في اللغة: من المنع والرد (¬6)، قال الأصمعي: أصل الحكومة: ردُّ الرجل عن الظلم، ومنه سميت حَكَمَةُ اللِّجَام؛ لأنها تَرُدُّ الدَّابَّة (¬7)، وهذا يذكر في مواضع من هذا الكتاب. وقوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} أصل التزكية في اللغة: النسبة إلى الازدياد من الأفعال الحسنة التي ليست بمشوبة، والزكاة: الزيادة (¬8)، وقد ذكرنا ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 1/ 118، وذكره البغوي 1/ 152 وأبو حيان في "البحر المحيط". (¬2) هو علي بن الحارث البياري الخراساني، من معادن العلم، أديب بارع شدت إليه الرحال صاحب كتاب "شرح الحماسة وصناعة الشعر" ينظر: "إنباه الرواة" 2/ 274، 275، "دمية القصر" ص 302. (¬3) هو العلامة إمام النحو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان، "السيرافي"، صاحب التصانيف ونحوي بغداد، وهو من أعيان الحنفية، رأسًا في نحو البصريين، تصدر لإقراء القراءات واللغة والفقه والفرائض، وولي قضاء بغداد توفي سنة 368 هـ ينظر: "السير" 16/ 247 - 248، "إنباه الرواة" 1/ 413، "تاريخ بغداد" 7/ 341 - 342. (¬4) هكذا بهذا الإسناد عند الثعلبي 1/ 1189 وزاد: فهي حكمة وحكم. وذكره ابن دريد في "الجمهرة" 1/ 564، والواحدي في "الوسيط" 1/ 212، والسمعاني 2/ 60. (¬5) رواه البخاري (6145) كتاب الأدب، باب: ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، من حديث أبي بن كعب. (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 886، "تفسير الثعلبي" 843 و 1192. (¬7) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 886، "لسان العرب" 2/ 952. (¬8) "تفسير الطبري" 1/ 558، "المحرر الوجيز" 1/ 492، "تفسير القرطبي" 2/ 120.

هذا عند تفسير الزكاة. قال ابن عباس: ويرشدهم إلى أفضل عبادتك (¬1)، وقال ابن جريج (¬2): يطهرهم من الشرك، ويخلّصهم منه (¬3). وقيل: يأخذ زكاة أموالهم (¬4)، وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ، بيانه قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬5) [البقرة: 143] الآية. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} اختلف قول أهل اللغة في معنى العزيز واشتقاقه، فقال أبو إسحاق: العزيز في صفات الله: الممتنع فلا يغلبه شيء (¬6)، وهذا قول المفضل، قال: العزيز: المنيع الذي لا تناله الأيدي (¬7). وعلى هذا القول العزيز من عزّ يَعَزُّ بفتح العين، إذا اشتد (¬8)، يقال: عَزَّ علي ما أصاب فلانًا أي: اشتد، وتعزز لحم الناقة إذا صلُب واشتدّ (¬9)، ¬

_ (¬1) لعله من رواية عطاء التي تقدم ذكرها. وبنحوه أخرجه الطبري1/ 558، وابن أبي حاتم 1/ 237 (1265) بلفظ: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص. (¬2) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدمت ترجمته [البقرة: 35]. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 558، وذكره الثعلبي 1/ 1192 بلا نسبة. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1192، والسمرقندي 1/ 158، والبغوي 1/ 152، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 146، وبنحوه في "البحر المحيط" 1/ 393. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1192، وعنه البغوي 1/ 152، "الخازن" 1/ 112. (¬6) نقله عن أبي إسحاق الزجاج الأزهري في: "تهذيب اللغة" 3/ 2420، وعنه في "اللسان" 5/ 2925، وينظر تفصيلا في "اشتقاق أسماء الله" لأبي القاسم الزجاجي ص 237 - 240. (¬7) نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1193 وأبو حيان في "البحر المحيط"1/ 393. (¬8) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2420 "عزز". (¬9) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1194، "البحر المحيط" 1/ 393، "الدر المصون" 1/ 373.

وأنشد أبو عمرو الشيباني (¬1): أُجُدٌ إذا ضَمَرَتْ تعزّزَ لحمُها ... وإذا تُشَدُّ بنسعةٍ لا تَنْبِسُ (¬2) يريد: أنها إذا هزلت صَلُبَ لحمُها ولم يَسْتَرْخِ جلدها. وقال أبو كبير الهذلي (¬3) يصف عقابًا (¬4): حتى انتهيت إلى فراشِ عزيزة ... سوداء روثةُ أنفِها كالمِخْصفِ (¬5) سماها عزيزة؛ لأنَّها من أقوى الجوارح، وأشدِّها بأسًا، والعزاز: الأرض الصلبة، فمعنى العِزَّةِ في اللغة: الشَدَّة (¬6)، ولا يجوزُ في وصف الله تعالى الشِّدَّة (¬7)، ويجوزُ العزّة، وهي امتناعه على من أراده، وعلوه ¬

_ (¬1) هو إسحاق بن مرار أبو عمرو الشيباني، تقدمت ترجمته [البقرة: 39]. (¬2) البيت للمتلمس الضبعي في "ديوانه" ص 180، "تفسير الثعلبي" 1/ 1194، "لسان العرب" 5/ 2927، "تاج العروس" 8/ 105، "الأغاني" 24/ 230، وذكره ابن دريد في "الجمهرة" ص 341 ولم ينسبه. ورواية "الديوان": عُنُسٌ بدل أَجُدٌ، ورواية الثعلبي: بنَسعِها. ومعنى: ضمرت: نحلت، وقوله: تَعَزَّزَ لحمها: اشتد وصلب، والنسع: سير من الجلد تشد به الرحال، ومعنى لا تنبس: لا تنطق ولا تصيح. وهو في البيت يصف الناقة. (¬3) هو عامر بن الحليس الهذيلي، أبو كبير من بني سهل بن هذيل، تقدمت ترجمته. (¬4) ساقطة من (أ)، (م). (¬5) ينظر: "شرح أشعار الهذليين" ص1089، "لسان العرب" 5/ 2926، 1/ 1039 (خصف)، "تاج العروس" 3/ 220 (مادة: روث)، "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" 5/ 91. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2420 (عزز). (¬7) ذكره الشيخ بكر أبو زيد في "معجم المناهي اللفظية" ص 302 أن من أسماء الله تعالى القوي، ومن لوازم القوة: القدرة، بخلاف الشديد ولهذا لم يأت في القرآن =

عن (¬1) أن تناله (¬2) يدٌ (¬3)، وقال ابن عباس: العزيز: الذي لا يوجد مثله (¬4). قال الفراء: يقال: عزّ يَعِزُّ بالكسر: إذا قلَّ حتى لا يكاد يوجد، عِزّةً فهو عزيز (¬5). وقال الكسائي (¬6) وابن الأنباري (¬7) وجماعة من أهل اللغة: العزيز: القوي الغالب، تقول العرب: عَزَّ فلانٌ فلانًا يَعُزُّه عِزًّا، إذا غلبه (¬8)، قال الله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]. ¬

_ = الكريم إلا مربوطًا بالعقاب أو العذاب أو الحساب الشديد، وهو كثير، وليس من أسماء الله الشديد، قال الله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] فهذا من صفات الله سبحانه. ا. هـ. وقال الأستاذ علوي السقاف في كتابه: "صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة" ص 135 - 154: الشدَّة بمعنى القوة من صفات الله الذاتية ودلل لها بقوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] وقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35]، وبحديث: "اللهم اشدد وطأتك على مضر .. " رواه البخاري ومسلم. وقال: وقد عد الزجاجي (في كتابه اشتقاق أسماء الله ص 192) وابن منده في كتابه "التوحيد" ووافقه محققه (الشديد) من أسماء الله تعالى، ولا يوافقون على ذلك. ا. هـ كلام السقاف ملخصًا. (¬1) في (ش): (من). (¬2) في (أ) و (م): (يناله). (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2420 - 2421، "لسان العرب" 5/ 2925 (عزز). (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1192، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 152، "الخازن" 1/ 112، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 393. (¬5) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2420، وينظر: "القاموس المحيط" ص 517. (¬6) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1193، والواحدي في "الوسيط" 1/ 213، والقرطبي 2/ 121. (¬7) "الزهراء" 1/ 174. (¬8) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2420، "لسان العرب" 5/ 2925 (عزز).

130

قال عمر بن أبي ربيعة (¬1): هُنالك إما تَعُزُّ الهوى ... وإما على إثرهم تَكْمدُ (¬2) معناه: إما تغلب الهوى، ومنه يقال: من عَزّ بَزَّ أبو عبيد عن أبي زيد: عَزَّ الرجل يَعِزّ عِزةً وعِزًّا، إذا قَوِيَ (¬3)، فمعنى العزيز: الغالبُ القويُّ الذي لا يعجزه شيء (¬4)، وذكرنا معنى الحكيم فيما مضى (¬5). 130 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يقال: رغبت عن الشيء أي: تركته عمدًا، وهو ضدُّ قولك: رغبتُ فيه (¬6). قال أبو إسحاق: معنى (مَنْ) التقريرُ والتوبيخُ، ولفظُها لفظُ الاستفهام والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سَفِهَ نَفْسَه (¬7)، وذكرنا معنى السفه فيما تقدم (¬8). واختلف النحويون في نصب (نفسَه). فقال الفرَّاءُ: العرب توقع (¬9) ¬

_ (¬1) هو: أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المغيري المخزومي القرشي، أكثر شعره في الغزل، ولد ليلة مقتل الخليفة عمر، وتوفي سنة 93 هـ. ينظر: "وفيات الأعيان" 3/ 436، "الشعر والشعراء" ص 25، 186. (¬2) ينظر: "الأغاني" 13/ 87. (¬3) ذكره عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2420 "عزر". (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2420، "لسان العرب" 5/ 2925 (عزر). (¬5) تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1432، "تفسير الثعلبي" 1/ 1194. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج بتصرف، 1/ 209 "البحر المحيط" 1/ 394. (¬8) تقدم عند قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]. (¬9) في (م): (ترفع).

سَفِهَ على النفس، وهى معرفة، وكذلك قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] وهو في المعرفة كالنكرة؛ لأنه مفسِّر، والمفسِّر في أكثر الكلام نكرة، كقولك: ضِقْتُ به ذَرْعًا، المعنى: ضاق به ذرعي، فالفعل للذرع، فلما جعلتَ الضيق مسندًا إليك فقلت: ضقت، جاء الذرع مفسرًا؛ ليدل على أنَّ (¬1) الضيقَ فيه، كما تقول: هو أوسعُكم دارًا، أدخلتَ الدارَ لِيُعْلَمَ أنَّ السعةَ فيها لا في الرجل (¬2). ثم أجري على هذا قولهم: قد (¬3) وَجِعَ بطنَه، وأَلِمَ رأسَه، وغَبِنَ رأيَه، ورَشِدَ أمرَه، فعند الفرَّاءِ التقدير: سَفِهَتْ نفسُه، فَأُضيفَ الفعلُ إلى صاحب النفس، فخرجت النفس مُفسّرةً، وهذا مذهب الكوفيين. واعترض الزجاج على هذا بأن قال: معنى التمييز لا يحتمل التعريفَ؛ لأنَّ التمييزَ إنما هو واحدٌ يدل على جنس أو خَلَّة يخلص من خِلال، فإذا عَرَّفته صار مقصودًا قصده، وهذا لم يقُلْهُ أحدٌ ممن تقدَّمَ (¬4) من النحويين (¬5). ثم حكى أقوالًا، فحكى عن الأخفش (¬6)، عن أهل التأويل، إنهم قالوا: إن المعنى: سَفَّه نفسه. وقال يونس (¬7) (¬8): أُراها لغةً، ذهب إلى أن ¬

_ (¬1) في (م): (أن المعنى الضيق فيه). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 79، ونقله في "تفسير الثعلبي" 1/ 199. (¬3) ساقطة من (ش)، (م). (¬4) في (م): (من المتقدمين). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 79، وينظر: "التبيان" للعكبري 93. (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 148. (¬7) نقله عنه الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 148. (¬8) هو يونس بن حبيب الضبي بالولاء، البصري أبو عبد الرحمن، تقدمت ترجمته.

فَعِلَ للمبالغة كفَعُلَ، فذهب في هذا مذهب أهل التأويل، قال: ويجوز على هذا سفِهتُ زيدًا (¬1)، بمعنى: سَفّهتُ زيدًا. قال ابن الأنباري: لا يعرف (¬2) هذا؛ لأن العرب لا تقول: سَفِهَ زيدٌ عمرًا بمعنى: سَفَّه، وحكى الزجّاج أيضًا، عن أبي عبيدة، أنه قال: معناه: أهلك نفسه، وأوبق نفسه (¬3)، وهذا القول مثل ما حكى الأخفش عن أهل التأويل (¬4). وقال أبو بكر: على هذا القول أهلكت في معنى سفه معنًى، وليس بتفسير، وإذا كان كذلك لم يجز نصبُ النفس به، وإيقاعُه عليه؛ لأن سَفِهَ يخالف أهلَكَ في التعدِّي، وإن كان بمعنى خِفْتُ. وحكى الزجّاج أيضًا عن الأخفش نفسه (¬5): أن سَفِهَ نفسَه بمعنى سَفُه في نفسه، إلا أن (في) حذفت كما حُذفت حروف الجر في غير موضع، كقوله تعالى: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} [البقرة: 233]، المعنى: أن تسترضعوا لأولادكم (¬6)، فحذف حرف الجر من غير ظرف؛ لأن المعنى: لأولادكم، ومثله {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، أي: عليها، ومثلُه قول الشاعر: نغالي اللحم للأضياف نِيئًا ... ونبذُلُه إذا نَضجَ القُدُورُ (¬7) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج. (¬2) في (ش): (نعرف). (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 56. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 210. (¬5) ساقطة من (م). (¬6) ساقطة من (ش). (¬7) البيت لرجل من قيس، في "جمهرة اللغة" ص 1317، "أساس البلاغة" (غلو) =

المعنى: نغالي باللحم (¬1). قال: ومثله: قول العرب: ضُرِبَ زيدٌ الظَهَر والبَطنَ، المعنى (¬2): على الظهر والبطن. قال: وهذا عندي مذهَبٌ صالح، ثم اختار أن يكون معنى سفِه نفسَه: جَهِلَ نفسه، فالمعنى والله أعلم: إلا من جهل نفسه، أي: لم يفكر في نفسه، فوضع سَفِهَ موضع جَهِل، وعُدِّى كما عُدَي (¬3). وقد ارتضى هذا القول كثير من العلماء (¬4)، وبه قال ابن كيسان فقال في تفسير قوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}: إلا من جهِل نفسه (¬5)؛ لأن من عبد حجرًا أو قمرًا أو شمسا أو صنمًا (¬6) فقد جهل نفسه؛ لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم (¬7) ما يحق لله عليه. والعرب تضع سَفِهَ في موضع جَهِل، ومنه الحديث: "الكِبْرُ (¬8) ¬

_ = ص 171 وبلا نسبة في "لسان العرب" 6/ 3290. ونسب للحطيئة في "أمالي المرتضي". انظر: حاشية "معاني القرآن" للزجاج 1/ 210، "معاني القرآن" للفراء 2/ 382، "المعجم المفصل" 3/ 327. (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 148 - 149، وينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1385. (¬2) في (ش): (والمعنى). (¬3) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 210، وعنده: فحذف حرف الجر في غير الظرف. (¬4) ينظر: "التبيان" 93، "البحر المحيط" 1/ 394. (¬5) الثعلبي 1/ 1200، والبغوي في "تفسيره" 1/ 152. والواحدي في "الوسيط" 1/ 214، وهو اختيار الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 211. (¬6) في (ش): (ضيًا). (¬7) في (م): (ولا يعلم). (¬8) في (أ) و (م): (الكبير).

أن تسفَهَ الحقَّ وتغمِصَ (¬1) الناسَ (¬2) " أي: تجهل الحق. ويؤيد هذا القولَ ما روي في الحديث (¬3): "مَنْ عرف نفسه فقد (¬4) عرف ربه" (¬5). قيل في معناه: إنما يقع الناس في البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنّهم أنهم يملكون الضرّ والنفع دون الله. ¬

_ (¬1) أي: تحقر وتزدري، ينظر: "القاموس" ص 625. (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" 2/ 69، عن ثابت بن قيس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 133، في طريق عبد الله بن عمرو: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف، وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات. اهـ. ورواه أحمد 4/ 134 عن أبي ريحانة بلفظ: "إنما الكبر من سفه الحق وغمض الناس" ورواه مسلم (91) كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه ولفظه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس". (¬3) ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1200، وقال: كما جاء في الخبر فذكره، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 153. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره"، وعنه البغوي 1/ 153، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 214 قال النووي: ليس بثابت، ينظر: "المقاصد الحسنة" ص 490 (1149)، وقال ابن تيمية: موضوع، ينظر: "المصنوع في معرفة الموضوع" ص 189 (349)، وقال السمعاني: إنه لا يعرف مرفوعًا، ينظر: "المقاصد" ص490، "الموضوعات" ص 351. وقال العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 262: وقال أبو المظفر ابن السمعاني في "القواطع": إنه لا يُعرف مرفوعًا وإنما يُحْكى عن يحيى بن معاذ الرازي، يعني من قوله. وقال ابن الفرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت، قال: لكن كُتبُ الصوفية مشحونة به، يسوقونه مساق الحديث، كالشيخ محيي بن عربي، وغيره. قال: وللحافظ السيوطي فيه تأليف سماه "القول الأشبه في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربه" والكتاب ضمن الكتب الموجودة في "الحاوي للفتاوى" للسيوطي، وذكره أبو نعيم في "الحلية" 10/ 208، عن سهل التستري.

وحُكي عن أبي بكر الوراق (¬1) أنه قال في معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقًا رازقًا بالحول والقوة (¬2)، وقد أوحى الله إلى داود: كيف عرفتني، وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفتُ نفسي بالعجز والضعف والفناء، فقال: الآن عرفتني (¬3). فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه، كان من جهل نفسه جهل ربه حتى يرغب (¬4) عن ملة إبراهيم. ثم بعد هذه الأقوال، قد حكي عن الخليل قول حَسَنٌ، وهو أنه قال: تجيء أفعال تتعدى إلى النفس خاصة، نحو: سَفِه نفسَه وصَبَر نفسَه، ولا يقال: سَفهتُ زيدا (¬5) ولا صبرتُه، قال عنترة (¬6): فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً ... ترسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ (¬7) أراد: صبرتُ نفسًا عارفة. وبهذا قال الكسائي، فقال في قوله: {سَفِهَ نَفْسَهُ} و {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]، {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 150]، ووجع بطنَه، ورشِد أمرَهُ وخسِر نفسَه: هذه حروف تقولها العرب ¬

_ (¬1) الإمام المحدث أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس البغدادي المستملي الوراق، تقدمت ترجمته [البقرة: 6]. (¬2) ذكره في "الوسيط" 1/ 214. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 215، والبغوي 1/ 153. (¬4) في (م): (حتى يذهب يرغب). (¬5) في (م): (سفهت نفسه زيدًا). (¬6) هو عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من أشهر فرسان العرب وشجعانهم، من أصحاب المعلقات، يعد من الطبقة السادسة لفحول شعراء الجاهلية. ينظر: "الشعر والشعراء" ص 149، "الأعلام" 5/ 91. (¬7) البيت لعنترة، تقدم تخريجه [البقرة: 44].

كأنها فعل واقع في هذا المكان، ولا يقولون: وجعتُ عبدَ الله، ولا خسرتُ عبدَ الله (¬1). قال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال: خسر نفسه (¬2). وقال بعضهم: سفِه حقَّ نفسه، أي: جهِلَ (¬3)، فجعله من باب حذف المضاف. وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} معنى اصطفيناه: اخترناه للرسالة، وهو افتعلنا من الصفوة، قلبت التاءُ طاءً؛ لأنها أشبه بالصاد (¬4)، وتأويل: {اصْطَفَيْنَاهُ} أخذناه صافيًا من غير شائب (¬5). قال ابن عباس في معنى قوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}: يريد: أنه ليس في الأرض خلق إلا وهو (¬6) يذكره بخير، وينتحل دينه (¬7)، وقيل: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} بالنبوة، وقيل: بالخُلّة. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، قال ابن عباس: يريدُ ¬

_ (¬1) تقدم شيء منه قبل قليل. (¬2) ذكره الثعلبي 1/ 1191، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 152، والخازن 1/ 112، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 394. (¬3) ذكره الثعلبي 1/ 1200، عن المفضل بن سلمة عن بعضهم. وانظر: "البحر المحيط" 1/ 394. (¬4) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 239 - 240، "تفسير الطبري" 1/ 559، "تفسير الثعلبي" 1/ 1195، "تفسير القرطبي" 2/ 122. (¬5) ينظر: "الوسيط" للواحدي 1/ 215. (¬6) في (م): (إلا ويذكره). (¬7) لعله من رواية عطاء.

131

من نوح وآدم (¬1)، وقال أبو صالح عنه: يريد مع آبائه الأنبياء في الجنة (¬2)، وقال الحسن (¬3): أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامةَ وحسنَ الثواب، فلما كان خلوصُ الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك. وقال الزجاج: يريد من الفائزين؛ لأن الصالح في الآخرة فائز (¬4). وقال الحسينُ بن الفضل (¬5): هذا على التقديم والتأخير، تقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين قال: ومثل هذا: الآية التي في النحل: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] (¬6). 131 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} قال الزجاج: معناه: اصطفيناه إذ قال له ربه {أَسْلِمْ}، أي: في ذلك الوقت (¬7). ولأهل التفسير في قوله: {أَسْلِمْ} طريقان: أحدهما: أنه أراد بقوله: {أَسْلِمْ} ابتداء الإسلام، فقد قال ابن ¬

_ (¬1) في "الوسيط" عزاه لعطاء، فلعله من رواية عطاء عن ابن عباس التي تقدم الحديث عنها في المقدمة، ولفظه: يريد: نوح وآدم. (¬2) ذكره الثعلبي 1/ 1201، والبغوي 1/ 153، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 395. (¬3) ذكره في "الوسيط" 1/ 215، "البحر المحيط" 1/ 395. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 211. (¬5) هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي، تقدمت ترجمته. (¬6) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 201، والبغوي 1/ 153، والقرطبي 2/ 122، وأبو حيان 1/ 395 وقال: وهذا الذي ذهب إليه خطاء ينزه القرآن عنه. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 211.

عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السَّرَب (¬1)، فنظر إلى الكوكب والقمر والشمس (¬2)، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام (¬3). وقال أصحاب هذا القول: إن الأنبياء يجوز عليهم قبل الوحي من الشرك والكبائر ما جاز على غيرهم، وإنما عصموا من وقت البعثة وإنزال الوحي (¬4)، وهذا مذهب جماعة من أهل الأصول (¬5). وقال عدة من المفسرين: قوله: (أسلِمْ) معناه: دُمْ واثْبُتْ على الإسلام، كقوله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (¬6) ¬

_ (¬1) السَّرَب: حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض. ينظر: "اللسان" 4/ 1980. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1194، والواحدي في "الوسيط" 1/ 215، والبغوي في "تفسيره" 1/ 153، الخازن 1/ 111، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 123، وهو من رواية الكلبي عنه ولفظه كما في "الوسيط" رفع إبراهيم الصخرة عن باب السَّرَب، ثم خرج منه فنظر إلى الكوكب والشمس والقمر. (¬3) في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]، وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 1/ 560. (¬4) قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" 4/ 319: فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم يَنْقُلْ عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول .. وإنما نُقِل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة ثم عن بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين، وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر، ولا يُقَرُّون عليها، ولا يقولون: إنها لا تقع بحال. وأول من نُقِل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقًا وأعظمهم قولًا لذلك: الرافضة .... (¬5) ينظر مناقشة ذلك عند أبي حيان في "البحر المحيط" 1/ 395. (¬6) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 1/ 1201.

132

[محمد:19] وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]، في أحد الوجهين (¬1). وعند أصحاب هذا القول، لا يجوز على الأنبياء في سابقة حالهم الشرك والكبائر، بل عصمهم الله سبحانه ودفع عنهم مالم يدفع عن غيرهم. فأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فعامة أصحابنا: على أنه ما كفر بالله طرفةَ عينٍ، ولا كان مشركًا قطُّ. ثم قال بعضهم: كان قبل البَعْث على دين عيسى، ومنهم من قال: كان يعبد الله تعالى على دين إبراهيم. قال ابن كيسان: معنى (أسلم): أخلِصْ دينك لله بالتوحيد (¬2) فيكون أصل الإسلام على هذا القول: من السلامة، كأنه يخلص دينه فيسلم من الشرك، والشك، وقال عطاء: أسلِمْ نفسَك إلى الله وفوِّض أمورَك إليه (¬3). وقوله تعالى: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: في رواية عطاء: يريد بقلبه ولسانه وجوارحه، فلم يعدل بالله شيئا، ورضي أن يُحرَق بالنار في رضى الله تعالى، ولم يستعن بأحد من الملائكة (¬4). 132 - قوله تعالى: {وَوَصَّى} يقال: وصَّى يُوَصّي توصية (¬5)، يكونُ المصدر منه على تفعلة، ولا يكون على تفعيل؛ لأنك لو جئت به على تفعيل ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 396، "تفسير الفخر الرازي" 4/ 71. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1195، والواحدي في "الوسيط" 1/ 215، والبغوي 1/ 153، والقرطبي 2/ 123، وهذا اختيار ابن كثير 1/ 198، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 396. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 1/ 1195، والواحدي في "الوسيط" 1/ 216، والبغوي في "تفسيره" 1/ 153 وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 395. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" بنحوه، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 153. (¬5) المادة المذكورة في "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 227 - 228، "اللسان" 8/ 4853 - 4854 (وصى).

للزم في حيّيتُ ونحوه أن يكون على تفعيل، فيجتمع ثلاث ياءات. والوصاة: اسم من التوصية، يقوم مقام المصدر، يقال: وصَّاه وصاةً، كما يقال: كلَّمه كلامًا، قال الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا} [الأحزاب: 49]، قال الشاعر: ألا مَنْ مبلغٌ عَنِّي يزيدًا ... وَصاةً من أخي ثقةٍ وَدودِ (¬1) المصدر من هذا الباب ينقسمُ إلى: تفعيل وتفعلة وفِعَّال ومُفَعَّل، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} [ق: 8]. وقال: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [عم: 28]. وقال: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]. وفيما جاء على فِعال وهو اسم ينوب عن المصدر كما ذكرنا، إلا أن العربَ تُؤْثِر التَّفْعِلة على التفعيل في ذوات الأربعة، يقولون: وصَّيْتُه توصيةً، وصفّيْتُه تصفيةً. قال الله تعالى: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]. وقال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50]. والعلةُ فيه ما ذكرنا، واشتقاقُ التوصية من قول العرب: وصَى الشيء، إذا اتصل، قال أبو عُبيد (¬2): وَصَيْتُ الشيءَ ووَصَلْتُه سواء، قال ذو الرمة: وصى الليل بالأيامِ حتى صلاتُنا ... مُقاسمةٌ يشتَقُّ أنصافَها السَّفْرُ (¬3). وفلاة واصية: تتصلُ بفَلاةٍ أخرى، وقال ذو الرمة: ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 4/ 3902، "لسان العرب" 8/ 4854 (وصى)، "المعجم المفصل" 2/ 256. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3902 (وصى). (¬3) ينظر: "ديوانه" ص 590، "لسان العرب" 8/ 4854، "تهذيب اللغة" 4/ 3902، "ديوان الأدب" 3/ 257، "أساس البلاغة" (وصى)، "المعجم المفصل" 3/ 282، ورواية " التهذيب" (نَصِي) بدل (وصى).

بين الرَّجَا والرَّجَا من جنبِ واصيةٍ ... يَهْمَاءُ خابطُها بالخوفِ مَكْعُومُ (¬1) (¬2) الأصمعي: وَصَى الشيءُ يَصي، إذا اتصلَ، ووَصَاه غيرُه يَصِيه، إذا وَصَلَه، لازمٌ وواقع (¬3). ثعلب، عن ابن الأعرابي: الوصيُّ النباتُ الملتفُّ (¬4)، وقيل لعلي - رضي الله عنه -: (وصيٌّ) (¬5)، لاتصالِ نسبه وسببه (¬6) وسمته بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسببه وسمته، وسميت الوصيّةُ وصيةً؛ لاتصالها بأمر الميت، وقيل: لأنَّ الموصَى وصَلَها إلى الموصي إليه (¬7). وفي هذا الحرف قراءتان: وصَّى، وأوصى (¬8)، ولهما أمثلة من الكتاب. فمثال التشديد قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50]، وقوله: ¬

_ (¬1) ينظر: "ديوانه" ص407، "تهذيب اللغة" 4/ 3920، "لسان العرب" 3/ 1605، 7/ 3891، 8/ 4854، "المعجم المفصل" 7/ 218، ورواية "التهذيب"، و"اللسان" معكوم. (¬2) في (ش): (معكوم). (¬3) ذكره في "تهذيب اللغة" 4/ 3902 (وصى). (¬4) المصدر السابق. (¬5) لم أجد في النصوص ما يدل على وصف علي -رضي الله عنه- بالوصي سواء بالمفهوم الذي ذكره المؤلف أو بمفهوم الرافضة. وقد بين شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 4/ 77 أن الرافضة خرج أولهم في زمن علي -رضي الله عنه- صاروا يدعون أنه خُص بأسرار من العلوم والوصية حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه فيخبرهم بانتفاء ذلك .. وقد خرج أصحاب الصحيح كلام علي هذا من غير وجه مثل ما في الصحيح عن أبي جحيفة، قال: سألت عليًا، هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ماعندنا إلا ما في القرآن إلا فهمًا يعطيه الله لرجل في كتابه، وما في الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال. العقل وفكاك الأسير. (¬6) ذكره في "تهذيب اللغة" 4/ 3902 (وصى). (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3902، "لسان العرب" 8/ 4854 (وصى). (¬8) قرأ نافع وابن عامر: (وأَوْصَى) بها وقرأ الباقون من السبعة: (وَوَصَّى). ينظر: "السبعة" ص 170، "الحجة" لأبي علي 2/ 227، "الحجة" لابن خالويه ص 89.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} [الأحقاف:15] ومثال الإفعال: قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ} [النساء: 12] (¬1). قال الزجاج: ووَصَّى أبلغ من أَوْصَى؛ لأن أَوْصَى جائزٌ أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووَصَّى لا يكون إلا لمرات كثيرة (¬2). وقوله تعالى: (بِهَا) اختلفوا في هذه الكناية، فقال بعضُهم: إنهَّا ترجع إلى الوصية؛ لأنه ذكر الفعلَ، والفعلُ يدُلُّ على المصدرِ وعلى الاسمِ منه، كقول الشاعر: إذا نُهِيَ السفيهُ جرى إليه (¬3) أي: إلى السَّفَهِ، فدل السفيهُ على السَّفَهِ. وهذا قولُ أبي عبيدة، قال: وإن شئت رددتها إلى الملة؛ لأنه قد ذكر ملة إبراهيم (¬4). وقال المفضَّلُ وجماعة: الكناية عائدة إلى غير مذكور، ثم اختلفوا إلى ماذا تعود؟ فقال المفضل: تعود إلى الطاعة (¬5)، كأنه قال: ووصّى بالطاعة. وقال الكلبي (¬6) ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1203. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 211، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 397. (¬3) تمام البيت: وخالف والسفيه إلى خلاف. لم ينسب البيت لقائل. أنشده الفراء في "معاني القرآن" 1/ 248، وثعلب في "مجالسه" 1/ 60، وذكره في "خزانة الأدب" 4/ 335، وفي "الخصائص" 3/ 49، وفي "همع الهوامع" 1/ 264. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1203، ونقله البغوي في "تفسيره" 1/ 153، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 211. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1203، وذكره ولم ينسبه أبو حيان في "البحر" 1/ 397، والسمين في "الدر المصون" 1/ 376. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1203، والواحدي في "البسيط" 1/ 1204، والبغوي في "تفسيره" 1/ 153.

ومقاتل (¬1): يعني بكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله. والكناية عن غير مذكور جائزة كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] يعنى: الجنة لم يسبق لها ذكر، وقال: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] يعني: الشمس. وقال طرفة (¬2)؟ على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ... ألا ليتني أَفْدِيكَ منها وأَفْتَدي (¬3) أي: من الفلاة، وقال بعضهم: رجعت الكناية إلى كلمةٍ سبقت، وهو قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4). وقوله تعالى: {يَا بَنِيَّ} قيل: أراد أن يا بني، فحذف (أن) كأنه قال: وصَّاهم أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أُبي وابن مسعود، بإثبات أن (¬5). قال الفراء: إنمَّا حذف (أن) لأن الوصية قول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول (أن) وجاز إلقاؤه (¬6)، كما قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} [النساء: 11]، ولم يقل: أن للذكر، كأنّ معناه: قال الله: للذكر، فجرى الوصية على معنى القول. قال: وأنشدني الكسائي: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 140، "تفسير الثعلبي" 1/ 1203، "تفسير البغوي" 1/ 153. (¬2) هو: طرفة بن العبد بن سفيان البكري، تقدمت ترجمته. (¬3) ينظر: "ديوانه" ص 29، "تفسير الثعلبي" 1/ 1204 "الإنصاف" لابن الأنباري ص 85، "الدرر اللوامع على همع الهوامع" 2/ 269، والهاء في قوله: (منها) تعود إلى مضمر، وهي الصحراء المهلكة، وهو الشاهد حيث عادت على غير مذكور. (¬4) كذا في "البحر المحيط" 1/ 398. (¬5) كذا في "معاني القرآن" للفراء 1/ 80، "تفسير الثعلبي" 1/ 1207، "شواذ القراءة" ص 32، "تفسير القرطبي" 2/ 125. (¬6) في (م): كأنها (الغاوه).

إني سأبدي لك فيما أبدي لي شَجَنان شجن بنجد وشَجَنٌ لي ببلاد السند (¬1) ولم يقل: أن لي؛ لأن الإبداء بلسانه في معنى القول، قال: ومثله قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة: 9]، لأن العِدَةَ قولٌ، وإذا جعلت الوصية بمعنى القول لا يحسن أن يقال: أراد أن يا بني فحذف؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار أن مع القول (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} قال أبو إسحاق: إنما كسرت (إنّ) لأن معنى وصى وأوصى: قول، والمعنى: قال لهم: إن الله اصطفى (¬3). قال ابن عباس: إن إبراهيم قال لبنيه: لا تَعْدِلُوا بالله شيئًا، وإن نُشرتم بالمناشير وقُرضتم بالمقاريض وحُرقتم بالنار (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} يريد: دين الإسلام دين الحنيفية، والألف واللام فيه للعهد لا للجنس؛ لأنه لم يختر جميع الجنس من الدين، إنما اختار دين الإسلام على سائر الأديان (¬5). وقوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قال الفراء في كتاب ¬

_ (¬1) الرجز ذكره الفراء، عن الكسائي في "معاني القرآن" 1/ 80، وهو بلا نسبة في "تفسير الطبري" 1/ 561، "تفسير الثعلبي" 1/ 1207، "المخصص" 12/ 223، "مقاييس اللغة" 3/ 249. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 80 (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 211. (¬4) ذكره في "الوسيط" 1/ 216، "تفسير ابن عباس" ص 19. (¬5) "البحر المحيط" 1/ 399.

133

المصادر: مات يموت مَوتًا ومِيتةً ومَمَاتًا، والمَوتَةُ: المرَّةُ، ويقال: أرض مَواتٌ، وهو مصدر، ووَقَعَ في الناس مُواتٌ ومُوْتانٌ، ويقال: فلان يبيعُ الحيوان والموتانَ، إذا كان يبيع ما سوى الحيوان، ورجل مَوْتانُ النفس إذا لم يكن حيَّ القلب (¬1) (¬2). ووقع النهي في ظاهرِ الكلام على الموت، وإنما نهُوا في الحقيقة عن ترك الإسلام؛ لئلَّا يصادفهم الموت وهم (¬3) عليه، فإنه لابد منه، وتقديره: لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بالشرك والكفر بالله (¬4)، وهذا كما تقول: لا أريَنَّكَ ههنا، فتوقع حرف النهي على الرؤية، وأنت لم تنه نفسك على الحقيقة، بل نهيتَ المخاطب (¬5)، كأنك قلت: لا تقربن هذا الموضع فمتى جئته لم أرك فيه، ومثله من الكلام: لا يصادفك الإمام على ما يكره، تقديره: لا تتعرض لأن يصادفك. قال الزجاج: وهذا من سعة الكلام، والمعنى في الآية: ألزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم عليه (¬6). 133 - قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} الآية، ¬

_ (¬1) في نسخة (أ) زيادة ليست في النسخ لعلها حاشية من الكاتب وهي قوله: ومن العرب من يقولُ: مُتُّ، ومِتُّ، ويَمَات ويموتُ، والمَمَات من مصادر الموت أيضًا، والجارية تأخذها المُوْتَةُ كأنه سُكْرٌ وضرب من الجنون. ومؤتةُ، مهموزة، الأرض التي قتل بها جعفر بن أبي طالب، - رضي الله عنه -. (¬2) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3321، "لسان العرب" 7/ 4296 (مات). (¬3) زيادة من (م). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 212، "البحر المحيط" 1/ 399. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 212. (¬6) المصدر السابق.

نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ فأنزل الله قوله: {أَمْ كُنْتُمْ} (¬1)، ومعناه: بل أكنتم، كأنه ترك الكلام الأول واستفهم، قاله أبو إسحاق (¬2). وقال أبو عبيدة: أم ههنا بمعنى: هل، واحتج بقول الأخطل: كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أم رأيتَ بواسِطٍ (¬3) بمعنى: هل رأيت (¬4). ويجوز أن يتقدمه استفهام مضمر، كأنه قيل لليهود: أبلغكم ما تقولون وتنسبون إلى (¬5) يعقوب، أم كنتم شهداء حضرتم وصيته (¬6)؟ وقد شرحنا معنى (أم) عند قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا} [البقرة: 108]. ¬

_ (¬1) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 140، والثعلبي 1/ 1210، والواحدي في "أسباب النزول" ص 44، وفي "الوسيط" 1/ 216، والبغوي 1/ 154 وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 148، وابن حجر في "العجاب" 1/ 397، والمناوي في "الفتح السماوي" 1/ 183، ونقله عنه السيوطي، قوله: لم أقف عليه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 212، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 400. (¬3) وعجز البيت: غَلَسَ الظلام من الرَّباب خيالا ينظر: "ديوان الأخطل" ص 385، "مجاز القرآن" 1/ 65، "الخزانة" 2/ 411، 4/ 452، "لسان العرب" 6/ 3281، 7/ 3841، "المعجم المفصل" 6/ 79. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 57. (¬5) في (ش): (عن). (¬6) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 1/ 497 - 498: وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدلون عن علم، أي: لم تشهدوا بل أنتم تفترون، وأم، تكون بمعى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه.، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 400 - 401.

وقوله تعا لى: {شُهَدَاءَ} أراد: حضورًا (¬1). وقوله تعالى: {إِذْ حَضَرَ} موضع إذ نصب؛ لأنه بمعنى وقت حضر، والحضور خلاف الغيبة، وحَضْرة الرجل: فناؤه (¬2) (¬3). وقوله: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ}: إذ هذه الثانية موضعها نصب، كموضع الأولى، وهو بدل مؤكد (¬4). وقوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} الآباء: جمع أب، وفي الأب لغاتٌ، يقال: هذا أبُكَ، وهذا أباك، وهذا أبوكَ، فمن قال: أَبُكَ، قال في التثنية: أَبَان وأبُونَ وأَبِينَ، ومن قال: أباك وأبوك، فتثنيتهما أَبَوَان. أنشد أحمد بن يحيى (¬5): سوى أبِكَ الأدنى وأنَّ محمدًا ... علا كلَّ عالٍ يا ابنَ عمِّ محمدِ (¬6) وأنشد سيبويه (¬7): فلما تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بالأبِينَا (¬8) ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1210. (¬2) في (ش): (حضر الرجل فتاه). (¬3) "تهذيب اللغة "1/ 848، "البحر المحيط" 1/ 397. (¬4) كذا قال الزجاج في: "معاني القرآن" 1/ 212. (¬5) في: "اللسان" 1/ 16 (أبى). (¬6) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" 1/ 16 (أبى)، "المعجم المفصل" 2/ 436. (¬7) في: "الكتاب" 3/ 406، وهو في "اللسان" 1/ 15 (أبى). (¬8) البيت لزياد بن واصل السلمي، في "خزانة الأدب" 4/ 474 - 477، "شرح أبيات سيبويه" 2/ 284، وبلا نسبة في "الأشباه والنظائر" 4/ 286، "خزانة الأدب" 4/ 108، 468، "الخصائص" 1/ 356، "شرح المفصل" 3/ 37، "الكتاب" 3/ 406، "لسان العرب" 1/ 15 (أبى)، "المقتضب" 2/ 174، "البحر المحيط" 1/ 402، "المعجم المفصل" 8/ 75.

ويقال: ما كنت أبًا ولقد أَبَوْتَ أُبُوَّةً، وماله أبٌ يأبُوه. الليث: فلان يأبو تيمًا إباوة بكسر الألف، أي: يغذوه (¬1)، وتأبىّ فلان (¬2) فلانًا، أي: اتخذه أبًا، كما تقول: تبنَّى من الابن (¬3). وقال في تصغير الأب: أُبَيّ، وتصغير الآباء على وجهين: أجودهما: أُبيُّون، والآخر: أُبيَّاء؛ لأن كل جماعة كانت على أفعال فإنها تصغّر على حدها (¬4)، كما تقول في تصغير الأجمال: أجيمال. وقوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ} أدخله في جملة الأباء، وهو كان عمَّ يعقوب؛ لأن العرب تُسَمِّي العمَّ أبًا (¬5)، وقد روي أنه لما كان يوم فتح مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس (¬6): "امض إلى قومك، أهل مكة، فادعهم إلى الله قبل القتال"، فركب العباس بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهباء، فانطلق، فلما مضى فأبعد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا عليَّ أبي، ردوا عليَّ أبي، لا تقتلْه ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 103، "اللسان" 1/ 16 (أبي). (¬2) في (أ) (م): (تأبى فلانًا). (¬3) في "اللسان" 1/ 17 (أبي). "تهذيب اللغة" 1/ 396. (¬4) في (ش): (أحدها). (¬5) يروى عن أبي العالية، كما أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 24، وينظر: "مجاز القرآن"، "معاني القرآن" للفراء، "تفسير الطبري" 1/ 563، "تفسير الثعلبي". (¬6) العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي القرشي أبو الفضل، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة، هاجر قبل الفتح، وثبت يوم حنين، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه"، ولد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، وتوفي بالمدينة سنة 32. ينظر: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد 2/ 1159، "الاستيعاب" 2/ 358.

قريش كما قتلت ثقيفٌ عُروةَ بن مسعود (¬1) "، فلما رجع قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَعْني أمضِي لأمرك، فقال: "يا عم، أما علمتَ أنَّ عمَّ الرجل صِنْوُ أبيه (¬2) "، وقال أيضًا يعني العباس: "هذا بقيةُ آبائي (¬3) ". وفي بعض القراءات: "وإله أبيك إبراهيم" (¬4) وله وجهان: ¬

_ (¬1) هو عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، صحابي مشهور، كان كبيرًا في قومه بالطائف، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته قومه فخافهم عليه أن يقتلوه فرجع ودعاهم فقتلوه سنة 9 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 4/ 31 - 32، "الاستيعاب" 3/ 176. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 484 عن عكرمة مرفوعًا، وينظر أيضًا: "كنز العمال" 14/ 584 (39654). (¬3) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 80 عن ابن عباس مرفوعًا ولفظه: "استوصوا بعمي العباس خيرًا فإنه بقية آبائي، وإنما عم الرجل صنو أبيه" قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 269: رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن خراش، وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وقال: ربما أخطاه، وبقية رجاله وُثَّقُوا، ورواه الطبراني في "الصغير" 1/ 344 من حديث الحسن بن علي مرفوعًا بلفظ "احفظوا في العباس فإنه بقية آبائي" قال الهيثمي: فيه جماعة لم أعرفهم وضعفه الألباني كما في "ضعيف الجامع الصغير" برقم 213، وأخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" 10/ 68 من حديث عبد المطلب بن ربيعة، وقد ضعفه الألباني كما في "السلسلة الضعيفة" 4/ 415، وروي عم مجاهد مرسلًا كما عند ابن أبي شيبة في "المصنف" 12/ 109 وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 331. (¬4) كذا قرأ ابن عباس والحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء، كما في "مختصر شواذ القرآن" لابن خالويه ص 9، "شواذ القراءة" للكرماني ص 32، "تفسير الثعلبي" 1/ 1211، "البحر المحيط" 1/ 402، وقال الطبري في "تفسيره" 1/ 563: وقرأ بعض المتقدمين (وإله أبيك إبراهيم) ظنا منه أن إسماعيل إذ كان عمًّا ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن ترجم به عن الآباء وداخلا في عدادهم، وذلك من قارئه كذلك قلة علم منه بمجاري كلام العرب، والعرب لا تمنع من أن =

أحدهما: أنه جمع الأب على أَبِينَ كما ذكرنا. والثاني: أنه كره أن يجعل إسماعيل من جملة الآباء فوحَّد الأب، ويكونُ التقدير: إلهَ أبيك إبراهيمَ وإله إسماعيل وإسحاق، كما تقول: رأيتُ غلامَ زيد وعمرو أي: غلامهما (¬1)، قال عطاء عن ابن عباس: إن الله لم يقبض نبيًّا حتى يخيره بين الموت والحياة، فلما خيرَّ يعقوب قال: أنظِرْني حتى أسألَ ولدى وأوصيَهم، فجمع ولده، وهم اثنا عشر رجلًا، وهم الأسباطُ، وجميع أولادهم، فقال لهم: قد حَضَرَتْ وفاتي، وأنا أريدُ أن أسألكم وأوصيكم: ما تعبدون من بعدي قالوا: نعبد إلهك كما في الآية (¬2). وقوله تعالى: {إِلَهًا وَاحِدًا} ينتصب على وجهين: إن شئت على الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهَكَ في حال وحدانية، وإن شئت على البدلِ، وتكون الفائدة في هذا البدل: ذكر التوحيد، فيكون المعنى: نعبد إلهًا واحدًا (¬3). ¬

_ = تجعل الأعمام بمعنى الآباء، والأخوال بمعنى الأمهات، فلذلك دخل إسماعيل فيمن ترجم به عن الآباء، وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ترجمة عن الآباء في موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون. (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 402 - 403، "تفسير القرطبي" 2/ 127. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 1210، والبغوي في "تفسيره" 1/ 154، والحافظ في "العجاب" 1/ 380 من قول عطاء، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 1210 والرازي في "التفسير الكبير" 4/ 76، عن ابن عباس وذكره دون نسبة "الخازن" 1/ 114، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 402. (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 212، وذكره الأخفش في "معانيه" 1/ 150 على وجه الحال فقط.

134

134 - قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ} قال الأخفش: التاء في تلك: اسم المؤنث، واللام عمادٌ للتاء، والكاف خطاب، وهذا كما ذكرنا في ذلك قال: وكُسرت التاء من (¬1) تلك علامةً للتأنيث (¬2). وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} أي: مضت (¬3)، وخَلَتْ إذا استعمل في المكان فالمراد به خلوه عن السكان، وإذا استعمل في الزمان فالمراد به المضي (¬4) كقوله عز وجل: {الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. وقول لبيد: حِجَجٌ خلون حلالُها وحرامُها (¬5) والمراد بقوله: (تلك أمة) إبراهيم وبنوه ويعقوب وبنوه الذين تقدم ذكرهم، (لها ما كسبت) من العمل، ثم قال لليهود: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي: حسابهم عليهم، وإنما تسألون عن أعمالكم (¬6). 135 - قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} المعنى: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): (في). (¬2) ينظر: "شرح التصريح على التوضيح" للشيخ خالد الأزهري 1/ 128. (¬3) كذا قال الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 150، "تفسير الثعلبي" 1/ 1212. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 1074 (خلا). (¬5) مطلع البيت: دمن تجرم بعد عهد أنيسها وهو من الكامل، للبيد بن ربيعة من معلقته، ينظر: "ديوانه" ص 163. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 312، "تفسير الثعلبي" 1/ 1212، "تفسير ابن كثير" 1/ 199. (¬7) ذكره الزجاج في "معاني القرآن".

قال ابن عباس: نزلت في: يهود المدينة، ونصارى نجران، قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك (¬1). وقوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بنصب (¬2) {مِلَّةَ} بفعل مضمر، كأنه قال: قولوا بل نتبع ملة إبراهيم (¬3). وقال بعض النحويين: هو عطف على المعنى؛ لأن قوله: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} معناه: اتبعوا اليهودية والنصرانية، فقال الله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي: بل اتبعوا ملته (¬4). قال أبو اسحاق: ويجوز أن تنصب على معنى: بل نكون أهلَ ملةِ إبراهيم، ويحذف الأهل كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬5) [يوسف: 82]، وإلى هذا القول أشار الفراء والكسائي. ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي، والواحدي في "أسباب النزول" ص 41، والبغوي 1/ 155، وابن حجر في "العجاب" 1/ 381، عن ابن عباس وأخرج الطبري 1/ 564، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 241، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا}، وذكره السيوطي في "لباب النقول" ص 26 وعزاه في "الدر" 1/ 257، لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وحسن إسناده الأستاذ عصام الحميدان في تحقيقه لـ"أسباب النزول" للواحدي ص 44. (¬2) في (أ)، (م): (تنصب). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للفراء، "معاني القرآن" للزجاج، وقال بعده: ويجوز الرفع (بل ملةُ إبراهيم حنيفا) والأجود والأكثر النصب، ومجاز الرفع على معنى: قل: ملتنا وديننا ملة إبراهيم. (¬4) كذا في "معاني القرآن" للزجاج. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج، وذكره بنحوه أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 406.

قال الفراء: إن نصبتها بـ (نكون) كان صوابًا (¬1)، وقال الكسائي: بل يكون ملة إبراهيم. وقول الزجاج بيان لقولهما. قال أهل المعاني: وفي هذا احتجاج عليهم؛ إذ في اليهودية تناقُضٌ، وكذلك النصرانية، والتناقضُ لا يكون من عند الله، وملةُ إبراهيم سليمةٌ من التناقض، فهو أحقُّ بالاتباع (¬2). فمِمَّا في اليهودية من التناقض (¬3): امتناعُهم من جواز النسخ، مع ما في التوراة مما يدل على ذلك، وإمتناعُهُمْ من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي، مع إظهارهِم التمسك بها، وامتناعهم من الإذعان لما دلّت عليه المعجزة من نبوة محمد وعيسى عليهما السلام، مع إقرارهم بنبوة موسى من أجل المعجزة، إلى غير هذا مما هم عليه من التناقض، وأما النصارى فقولهم بثلاثة، ثم يقولون: إنه إله واحد (¬4). وقوله تعالى: {حَنِيفًا}. انتصب على الحال؛ لأن المعنى: نتبعُ ملةَ ابراهيم في حال حنيفيته، وعند الكوفيين ينتصب على القطع، كأنه ملة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن"، وعبارته (نكون). وفي الحاشية قال: وفي نسخ الفراء: بيكون، ولعل المراد إن صحت: يكون ما نختاره، وفي "البحر" 1/ 405 ذكر من أعاريبه على النصب: أنه خبر كان أي: بل تكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملة إبراهيم ... وإما أنه منصوب على الإغراء، أي: الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد، وإما على أنه منصوب على إِسقاط الخافض، أي: نهتدي ملة: أي بملة. (¬2) ينظر: "تفسير الفخر الرازي" 4/ 80. (¬3) ساقط من (م) و (أ). (¬4) ينظر: "تفسير الفخر الرازي" 4/ 80.

إبراهيم الحنيف، فقطع عنه الألف واللام (¬1). وأمَّا معنى الحنيف: فقال ابنُ دُريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وبه سمي الإسلام: الحنيفية؛ لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية (¬2). قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: من أين عُرِفَ في الجاهلية الحنيف؟ قال: لأن من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عندهم، وكان كل من حجَّ البيت سُمِّيَ حنيفًا، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا الحجَّ قالوا: هلموا نتَحَنَّفْ (¬3) (¬4). فالحنيف: المسلم؛ لأنه مال عن دين اليهود والنصارى إلى دين الإسلام، ومنه قيل للميل في القَدَم: حَنَفٌ. قال ذو الرمَة: إذا حَوَّل الظلُّ العشِيَّ رأيتَه ... حنيفًا وفي قَرنِ (¬5) الضحَى يَتَنَصَّر (¬6) (¬7) وقال الأخفش: الحنيف: المسلم، وكان في الجاهلية يقال لمن اختتن وحج البيت: حنيف؛ لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 214، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 218، "تفسير الثعلبي" 1/ 1214، "البيان" لابن الأنباري 1/ 125، "التبيان" 1/ 95، 96. (¬2) ذكره في "الوسيط" 1/ 218. (¬3) في (م): (نحنف). (¬4) ذكره في "الوسيط" 1/ 218. (¬5) في (م): (قرب). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 632، "لسان العرب" 2/ 1060، "المعجم المفصل" 3/ 265. (¬7) في (م): (تنتصر).

دين إبراهيم غير الختان، وحج البيت، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية، فالحنيف: المسلم (¬1). وروى ابن نجدة (¬2)، عن أبي زيد (¬3)، أنه قال: الحنيفُ: المستقيم، وأنشد (¬4): تعلم أَنْ سَيَهْدِيْكُم إلينا ... طريقٌ لا يَجُور بكم حَنِيفُ (¬5) فقيل: لكل من سَلَّم لأمر الله ولم يَلْتَوِ: حنيف (¬6)، وهذا القول اختيار ابن قتيبة (¬7)، والرياشي (¬8)، قالا: الحنيفية: الاستقامة على دين إبراهيم، وإنما قيل للذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى: أحنف، تفاؤلًا بالسلامة، كما قيل للمفازة (¬9): مهلكة (¬10). ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 942، "لسان العرب" 2/ 1025. (¬2) هو محمد بن الحسين بن محمد الطبري النحوي، يعرف بابن نجدة، قال ياقوت: مشهور في أهل الأدب، وله خط مرغوب فيه، قرأ على الفضل بن الحباب الجمحي. ينظر: "بغية الوعاة" 1/ 94، "معجم الأدباء" 18/ 186. (¬3) "لسان العرب" 2/ 1026 (حنف). (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 942 (حنف). (¬5) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 942، "لسان العرب" 2/ 1026 (حنف)، "المعجم المفصل" 3/ 265. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 942 (حنف). (¬7) "غريب القرآن" ص 64 بنحوه، وكذا قال الطبري 1/ 564 - 565. (¬8) هو العباس بن الفرج، أبو الفضل الرياشي، اللغوي النحوي، قرأ على المازني النحو، وقرأ عليه المازني اللغة، ووثقه الخطيب، صنف كتاب الخيل وكتاب الإبل، وغير ذلك، قتله الفرنج سنة 257 هـ. ينظر: "بغية الوعاة" 2/ 27، "الأعلام" 3/ 264. (¬9) في (ش): "للمقارفة". (¬10) لعل صحة العبارة كما قيل للمهلكة: مفازة، أو: كما قيل: مفازة للمهلكة، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 564.

فأما التفسير: فروي عن ابن عباس أنه قال: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام (¬1). وقال مجاهد: الحنيفية اتباع الحق (¬2)، وروي عنه أيضًا: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده، من الحج، والختان، وغير ذلك من شرائعه (¬3). وقال الحسن: الحنيفية: حج البيت (¬4)، وهو معنى قول ابن عباس (¬5)، وعطية (¬6) (¬7). وقيل: الحنيفية: إخلاص الدين لله وحده (¬8)، وهذه الأقوال غير خارجة عما ذكره أهل اللغة؛ لأنها تعود إلى الاستقامة أو الميل إلى ما أتى به إبراهيم عليه السلام من الشريعة (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1214، والواحدي في "الوسيط" 1/ 218، و"البغوي" 1/ 155، و"الخازن" 1/ 115، و"البحر المحيط" 1/ 406. (¬2) بنحوه أخرج الطبري في "تفسيره" 1/ 565 - 566، وابن أبي حاتم 1/ 41 قال: وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك. (¬3) عنه الواحدي في "الوسيط" 1/ 218، والبغوي في "تفسيره" 1/ 155. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 95، ومن طريقه أخرجه الطبري 1/ 565، وأخرجه من طريق أخرى 1/ 565، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 242، والثعلبي 1/ 1214. (¬5) أخرجه عنه الطبري 1/ 565، وابن أبي حاتم 1/ 241، قال: وروي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي نحو ذلك. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 106، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 241. (¬7) تقدمت ترجمته. (¬8) ذكر عن السدي كما أخرج الطبري في "تفسيره" 1/ 566، وعن خصيف عند ابن أبي حاتم 1/ 242، وذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 141. (¬9) رجح الطبري في "تفسيره" 1/ 566 أن الحنف والحنيف: الاستقامة على دين =

136

136 - قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَالْأَسْبَاطِ} قال الزجاج: الأسباط: ولد إسحاق، ومعنى القبيلة في ولد إسماعيل: معنى الجماعة، يقال لكل جماعة من واحد: قبيلة، ويقال لكل جمع على شيء واحد: قبيل، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} (¬1) [الأعراف: 27]. فأما الأسباط: فهو مشتق من السبط، وهو ضرب من الشجر، يعلفه الإبل. كأنه جعل إسحاق بمنزلة شجرة، وكذلك يفعل النسابون في النسب، يجعلون الوالد بمنزلة الشجرة، ويجعلون الأولاد بمنزلة أغصانها (¬2). وقال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي، ما معنى السبط في كلام العرب؟ فقال: خاصة الأولاد (¬3) والمُصَاصُ منهم (¬4)، وكان في الأسباط أنبياء؛ لذلك قال: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ}. وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض، ¬

_ = إبراهيم، واتباعه على ملته، وبين أنه لو كان المراد الحج، أو الاختتان؛ لوجب أن يكون المشركون حنفاء، وقد نفى الله عنهم ذلك. (¬1) عبارة الزجاج التي نقلها الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1615 (سبط): والصحيح أن الأسباط في ولد إسحاق عليه السلام، بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، فولدُ كل ولد من أولاد يعقوب سبط، وولدُ كل ولد من أولاد إسماعيل قبيلة، وإنما سموا هؤلاء بالأسباط، وهؤلاء بالقبائل ليُفْصَل بين ولد إسماعيل وولد إسحاق عليهما السلام. (¬2) نقله بتصرف من "تهذيب اللغة" عن الزجاج 2/ 1615 (سبط)، وقد ذكر في "معاني القرآن" شيئا يسيرا من هذا 1/ 217، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1215، وقال: والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم. (¬3) ساقط من (أ)، (م). (¬4) كما في "تهذيب اللغة" 2/ 1616 (سبط)، وعبارته: فقال: السِّبط والسِّبطان والأسباط: خاصة الأولاد، أو المُصاص منهم.

137

كما فعلت اليهود والنصارى (¬1)، وإنما جاز {بَيْنَ أَحَدٍ}، و (بين): تقتضي اثنين؛ لأنَّ أحدًا منهم يقع على الاثنين والجمع، يقال: ما عندي أحدٌ يتكلمون، فجاز دخول (بين) عليه، كما تقول: لا نفرق بين قوم منهم، وبين جمع منهم. ولهذه العلة جمع نعته في قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] (¬2). 137 - قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال الزجاج: تأويل هذا: إن أتوا بتصديقٍ مثل تصديقكم (¬3)، فيُحْمَلُ على تشبيهٍ بالإيمان، لا على التشبيه في الشيء الذي آمنوا به، كأنه قال: إن آمنوا وكان إيمانهم كإيمانكم، ووحدوا كتوحيدكم، وهذا قول ابن الأنباري، وزاد بيانًا فقال: المعنى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، أي: فإن آمنوا مثل إيمانكم، فتزاد الباء للتوكيد، كما زيدت في قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]. وقال أبو معاذ النحوي (¬4): أراد: إن آمنوا هم (¬5) بكتابكم كما آمنتم أنتم بكتابهم (¬6). فالمثل هاهنا: الكتاب، والمسلمون يؤمنون بالتوراة، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 215، "تفسير الثعلبي" 1/ 1214. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 409. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 217. (¬4) هو أبو معاذ النحوي المروزي، المقرئ اللغوي، تقدمت ترجمته في المقدمة. (¬5) ليست في (م). (¬6) نقله البغوي في "تفسيره" 1/ 156.

وقيل: المثل ههنا صلة، والمعنى: فإن آمنوا بما آمنتم به (¬1)، والمثل قد يذكر ولا يراد به الشَبْهُ والنظير، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، قيل: ليس كهو شيء (¬2). وقوله تعالى: {فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: فقد صاروا مسلمين (¬3). {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي: خلاف وعداوة (¬4)، وتأويله: أنهم صاروا في شِقّ غير شَقّ المسلمين (¬5)، والعداوة تسمى شقاقًا؛ لأنّ كلّ واحد من المعادين يأتي بما يشقّ على صاحبه، أو لأنّ كل واحد صار في شقّ غير شق صاحبه للعداوة والمباينة (¬6). وقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} قال المفسرون: كفاه الله أمر اليهود بالقتل والسبي في قريظة، والجلاء والنفي في بني النضير، والجزية والذلة (¬7) في نصارى نجران (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1224، والبغوي في "تفسيره" 1/ 156، وقد ورد عن ابن عباس أنه كان يقرأ الآية: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، كما ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 569، وبين الطبري أن مراد ابن عباس: فإن صدقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به، فالتشبيه وقع بين التصديقين، الإقرارين اللذين هما: إيمان هؤلاء، وإيمان هؤلاء. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1218، "البحر المحيط" 1/ 410. (¬3) كذا قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 214، والثعلبي 1/ 1217. (¬4) ذكره الثعلبي 1/ 1218، عن ابن عباس وعطاء والأخفش. (¬5) في (م): (الإسلام). (¬6) بنحوه عند الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 214، "تفسير الثعلبي" 1/ 1218، "تفسير السمرقندي" 1/ 162، والرازي 4/ 93. (¬7) في (ش): (والذلة والجزية). (¬8) "تفسير الثعلبي" 3/ 1220و 1/ 157، "تفسير القرطبي" 2/ 131، "البحر المحيط" 1/ 410.

138

وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {فِى شِقَاقٍ} يريد في خلاف لدينهم ولدينكم (¬1)؛ لأنهم أمروا في التوراة بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحسن: علموا أولادَكم وأهاليكم وخدمَكم أسماء الأنبياء، الذين ذكرهم الله في كتابه، حتى يؤمنوا بهم، ويصدقوا بما جاءوا به. هذا قوله (¬2). وقالت العلماء: لا يكون الرجل مؤمنًا حتى يؤمن بسائر الأنبياء السابقين، وجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل، فيجب على الإنسان أن يُعَلِّمَ صِبيانَه ونساءهَ أسماءَ الأنبياء ويأمرهم بالإيمان بجميعهم؛ إذ لا يبعد أن يظُنَّوا أنهم كُلِّفوا الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقط فيلقَّنوا قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية. 138 - قوله تعالى {صِبغَةَ الله} الصِّبْغ: ما يُلَوَّنُ به الثياب، والصَّبْغُ المصدر، وأصله: المزجُ للتلوين، وما يُصْطبَغُ به من الأطعمة يسمى: صِبْغا وصِبَاغًا؛ لأنه مزج شيء بشيء، ولون بلون (¬3). قال الحسن (¬4) وقتادة (¬5) وأبو العالية (¬6) ومجاهد (¬7) والسُّدّي (¬8) وعطية (¬9) وابن زيد (¬10): دين الله. فعلى هذا القول، إنما سمي الدينُ ¬

_ (¬1) بنحوه مختصرًا عند الثعلبي في "تفسيره" 3/ 1218، والبغوي 1/ 156. (¬2) ذكره في "الوسيط" عنه، وبنحوه عن الضحاك، كما في "الدر المنثور" 1/ 258. (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1975 - 1976 "صبغ"، "البحر المحيط" 1/ 411. (¬4) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 245. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 571، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 245. (¬6) المراجع السابقة. (¬7) المراجع السابقة. (¬8) المراجع السابقة. (¬9) المراجع السابقة. (¬10) المراجع السابقة.

صبغةً؛ لأن المتدين يَلْزَمُه ولا يُفَارقُه، كما يلزم الصبغُ الثوبَ. والعرب تقول: فلانٌ يَصْبغ فلانًا في الشرّ، إذا أدخله فيه، وألزمه إياه، كما يلزم الثوب الصبغ، خاطبهم الله في كتابه بمثل ما يعرفون في لغتهم، أنشد ثعلب: دعِ الشَّرَّ وَانْزِلْ بِالنَّجَاةِ تَحَرُّزًا ... إذا أنت لم يَصْبِغْكَ في الشَّرِّ صَابغُ (¬1) قال اللحياني: تَصَبَّغَ فلان في الدين تَصَبُّغُا، وصِبْغَةً حسنة (¬2). وقال أبو عمرو: كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل فهو الصِّبْغَةُ (¬3). وقال ابن عباس: إن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى على سبعة أيام غمسوه في ماء لهم، يقال له: المعمودي، وصبغوه به ليطهروه بذلك مكان الختان (¬4)، ويقولون: هو تطهير له وتنظيف، فجعل الله الختان للمسلمين تنظيفًا وتطهيرًا، وأمر به معارضةً للنصارى. فعلى هذا القول جرت الصبغة على الختانة؛ لصبغهم غلمانهم في الماء. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في: "أساس البلاغة"، (دبغ)، (صبغ)، "المعجم المفصل" 3/ 267. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1976، وابن منظور في "اللسان" 4/ 2396 (صبغ). (¬3) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1976، وعنه ابن منظور في "اللسان" 4/ 2396. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1223، وعنه البغوي في "تفسيره" 1/ 157، والواحدي في "أسباب النزول" ص 44، 45، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 151، "تفسير القرطبي" 2/ 132، و"الخازن" 1/ 116، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 411، وابن حجر في "العجاب" 1/ 382.

قال الأزهري: يقال: صَبَغَتِ الناقَةُ مَشَاَفِرَها في الماء: إذا غمستها، وصبغ يده في الماء (¬1)، قال: قد صبغت مشافرًا كالأشبارْ (¬2) فسمي الختانُ صبغةً من حيثُ كان بدل ما فعلوه من صبغهم أولادهم، كما قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فسمى الثانية سيئة لما كانت في معارضة الأولى، كذلك الختانة سماها الله تعالى صبغة؛ لأنها تجري (¬3) للمسلمين مجرى صبغ النصارى أولادهم، وهذا القول اختيار الفراء (¬4). ويحتمل أنه سمي الختان صبغة؛ لأنه يصبغُ الولدَ بالدم. وذكر أبو إسحاق في قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قولًا آخر، هو مذهب أبي عُبيدة (¬5)، وهو أنه قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي: خِلقَةَ الله، من صبَغْتُ الثوب، إذا غيرتُ لونَه وخِلْقَتَه، فيجوز أن يسمى الخلقة صبغة، والله تعالى ابتدأ الخلقة على الإسلام بدليل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الآية. وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] (¬6)، وما ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" له 2/ 1976 (صبغ). (¬2) هذا رجز ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1976، وابن منظور في "اللسان" 4/ 2396 (صبغ)، ولم ينسباه. (¬3) في (م): (تجزي). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 82، وينظر: "الزاهر" 1/ 145، "تفسير الطبري" 1/ 570. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 59. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 215 - 216، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 1221.

139

رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مولود يُولَد على الفطرة" (¬1)، معناه: إن كل مولود يولد في العالم على ذلك الإقرار الأول، وعلى ذلك العهد حين قالوا: {بَلَى} وهو الفطرة، ومعنى الفطرة (¬2): ابتداء الخلقة. ثم يُهَوِّدُ اليهودُ أبناءَهم، وُيمَجِّسُ المجوسُ أبناءَهم، وليس الإقرارُ الأول مما يَقَعُ به حكم، أو عليه ثواب. وانتصب قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} عند الأخفش (¬3) على البدل من قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}. وذكر الزجاج (¬4) في انتصابه الوجهين اللذين ذكرنا في {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}، وقال أبو عبيد: نصب على الإغراء، أي: الزموا واتبعوا (¬5). وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: دينًا، على القول الأول، وعلى قول ابن عباس: تطهيرًا، ومعناه: أن التطهير الذي أمر الله به مبالغ في النظافة، وعلى قول أبي إسحاق: فطرة وخلقة. 139 - قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} الخطاب ليهود المدينة، ونصارى نجران، ومحاجتهم أنهم قالوا: إن أنبياء الله كانوا منا، وديننا هو الأقدم، وكتابنا هو الأسبق، ولو كنت نبيًّا كنت منَّا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1385) كتاب "الجنائز"، باب: ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم (2658) كتاب "القدر"، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة: 4/ 2047، حديث 2658. (¬2) ليست في (أ) و (م). (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 150، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1224. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 215. (¬5) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1223، وذكر هذا الوجه ابن الأنباري في "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 126، وأبو حيان في "البحر" 1/ 412، والبغوي في "تفسيره" 1/ 157.

أَتُحَاَجُّونَنَا} (¬1) أي: أتخاصموننا وتجادلوننا، والمحاجة: مفاعلة من الحجة (¬2). وظاهر الألف: الاستفهام، ومعناه: التوبيخ والتقرير هاهنا (¬3)، وذكرنا في سورة آل عمران لم صار لفظ الاستفهام للتوبيخ. وقوله تعالى: {فِي اللَّهِ} أي: في دين الله (¬4)، ولنا أعمال نجازى بحسنها وسيئها، وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا، لا يؤخذ بعض (¬5) بذنب بعض. {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي: موحدون (¬6)، ومعنى الإخلاص: التنقية من الشوائب (¬7). ولقد سألت الأستاذ أبا إسحاق أحمد بن محمد (¬8) رحمه الله فحدثني بإسناده مسلسلا (¬9): أن حذيفة (¬10) رضى الله عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1224، والواحدي في "الوسيط" 1/ 223، و"الوجيز" 1/ 506، والبغوي في "تفسيره" 1/ 157، و"الخازن" 1/ 116، وأبو حيان في "البحر" 1/ 585. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1224، "تفسير البغوي" 1/ 157، "البحر المحيط" 1/ 412. (¬3) قال أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 413: والهمزة للاستفهام مصحوبًا بالإنكار عليهم. وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 133. (¬4) في "تفسير الثعلبي" 1/ 1224 قال: وذلك أنهم قالوا: يا محمد إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا، ولم يكن من العرب نبي، فلو كنت نبيًّا لكنت منا وعلى ديننا، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 157، "تفسير الخازن" 1/ 116. (¬5) في (ش): (بعضنا). (¬6) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1224. (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1225 - 1332، وقد أفرد فصلًا في معنى الإخلاص، "تفسير البغوي" 1/ 157. (¬8) يعني الثعلبي. (¬9) هذا الحديث مسلسل بالسؤال عن الإخلاص من أدناه إلى أعلاه. (¬10) هو حذيفة بن اليمان العبسي، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، =

الإخلاص، ما هو؟ قال: "سألت جبريل عن الإخلاص، ما هو؟ قال: سألت ربَّ العزة عن الإخلاص، ما هو؟ قال: سرٌ من سِرِّي، استودعتُه قلبَ مَنْ أحببتُ من عبادي" (¬1). قال ابن الأنبارى: وفي الآية إضمار واختصار، أراد: ونحن له مخلصون، وأنتم غير مخلصين، فحذف اكتفاء بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}. قال: ومعنى الآية: أتحتجون علينا، وأنتم مشركون كافرون بالأنبياء، ونحن مخلصون له بالعبادة والتوحيد؟ ومَن هو على مثل سبيلكم، الواجبُ عليه أن يتشاغل بالفكر في عماه، وأن لا ينازع ويناظر من يعلم (¬2) أنه أرشد منه وأهدى سبيلًا. وتلخيص الآية: لا حجة لكم علينا في دين ربنا؛ إذ كنا نخلص له (¬3) ولا نعبد معه سواه، وأنتم تجعلون له الشركاء والأنداد (¬4). ¬

_ = أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، كما في "صحيح مسلم"، وأبوه صحابي أيضًا، توفي في أول خلافة علي سنة 36 هـ ينظر: "تقريب التهذيب" ص 154 (1156)، "أسد الغابة" لابن الأثير 1/ 468. (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1225، وذكره الديلمي في "مسند الفردوس" 3/ 187، عن علي وابن عباس مرفوعًا، وذكره القرطبي في "تفسيره" 2/ 134، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 413، والآلوسي في "روح المعاني" 1/ 399، والحديث في إسناده أحمد بن عطاء، وعبد الواحد بن زيد، وقال عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" 4/ 109: حديث واهٍ جدًا وضعفه كذلك الدكتور خالد العنزي في تحقيق "تفسير الثعلبي" 1/ 1227. (¬2) في (ش): (يعلم الله). (¬3) في (ش): (معه). (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 413 - 414.

140

140 - قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} قرئ بالتاء والياء (¬1)، فمن قرأ بالتاء؛ فلأن ما قبله من قوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} وما بعده من قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} بالتاء. ومن قرأ بالياء؛ فلأن المعنى لليهود والنصارى، وهم غَيْبٌ (¬2). ومعنى الآية: كأنه قيل لهم: بأي: الحجتين تتعلقون؟ أبالتوحيد؟، فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء، فنحن متبعون دونكم (¬3)، فمن الجهتين جميعًا لا تلزمنا لكم حجة. هذا على قراءة من قرأ (¬4) بالتاء، وتكون الآية متصلة بما قبلها من الاستفهام الذي معناه الإنكار، ومن قرأ بالياء، فمعناه الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول، كأنه قيل: بل أيقولون إن الأنبياء من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل كانوا هودًا أو نصارى؟ كأنه أعرض عن خطابهم استجهالًا لهم بما كان منهم؛ كما يُقبِل العالِم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنيعة، هذا كله قول أصحاب المعاني في هذه الآية (¬5). وقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} أي: قد أخبرنا الله أن الأنبياء كان دينهم الإسلام، ولا أحد أعلم منه (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو، بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. ينظر: "السبعة" ص 171، "الحجة" لأبي علي 2/ 229، "الكشف" لمكي 1/ 266. (¬2) من "الحجة" 2/ 229 بتصرف، وينظر: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1232، والبغوي في "تفسيره" 1/ 158. (¬3) كذا قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 217. (¬4) في (م) و (ش): (قرأ). (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 217. (¬6) ساقط من (ش). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 217.

وقوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} توبيخٌ من الله لليهود بعد أن قامت الحجةُ عليهم (¬1). قال ابن عباس: يريد مَنْ أظلمُ ممَّنْ كتمَ شهادتَه التي أشهد عليها، يريد أن الله أشهدهم في التوراة والإنجيل: أنه باعث فيهم محمد بن عبد الله من ذرية إبراهيم، وأخذ على ذلك مواثيقهم أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه، فكتموه وكذبوا فيه (¬2). وقال مجاهد (¬3) والربيع (¬4): الشهادةُ في أمر إبراهيم والأنبياء الذين ذكرهم وأنهم كانوا حنفاء مسلمين، فكتموها، وقالوا: إنهم كانوا هودًا أو نصارى (¬5). وحكى ابن الأنباري عن بعضهم: أن هذا من كلام المسلمين، يريدون: من أظلم منا إن تابعناكم على ما تقولون، بعد ما وقفنا على كذبكم بإعلام الله إيّانا، وكتمان أمر محمد، والشهادة له بالنبوة، بعد أن ثبتت (¬6) ¬

_ (¬1) "البحر المحيط" 1/ 415. (¬2) هذا من رواية عطاء التي تقدم ذكرها في المقدمة، ويذكر قريب منه عن غير ابن عباس عند الطبري في "تفسيره" 1/ 574 - 575، وابن أبي حاتم 1/ 246. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 574. (¬4) أخرجه الطبري 1/ 575، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 246. (¬5) رجح هذا القول الطبري في "تفسيره" 1/ 575 - 575 مبينًا أن هذه الشهادة جاءت بعد ذكر هؤلاء الأنبياء؛ فأولى بها أن تكون متصلة بهم لا بموضوع آخر، والشهادة التي عندهم ما أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل من الأمر بمتابعة هؤلاء المذكورين من الأنبياء، وأنهم كانوا حنفاء مسلمين فكتموا ذلك حينما دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام. ورجحه كذلك أبو حيان في "البحر" 1/ 415، مبينا أنه أشبه بالسياق. (¬6) في (م): (ثبت).

141

عندنا نبوته بإخبار الله تعالى إيانا. 141 - قوله تعالى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي: ثواب ما كسبت {وَلَكُمْ} ثواب {مَا كَسَبْتُمْ} (¬1) وحَسُنَ تكريرُ هذه الآية؛ لأن الحجاج إذا اختلفت مواطنه حَسُنَ تكريرُه للتذكير به (¬2). 142 - قوله تعالى {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} الآية، نزلت في تحويل القبلة إلى الكعبة. قال ابن عباس: عَنَى بالسفهاء يهود المدينة (¬3)، وقال الحسن: يعني مشركي مكة. وقال السدي: يعني منافقي المدينة، وذلك أن المشركين قالوا لما توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة: قد اشتاق محمد إلى مولده، ومولد آبائه، وقد توجه نحو قبلتكم، وهو راجع إلى دينكم. وقالت اليهود: قد تردد على محمد أمره، ولا يدري أين يتوجه. وقالت المنافقون استهزاءً بالإسلام والمسلمين: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} (¬4)، والسفهاء: جمع سفيه، وهو الخفيف إلى ما لا يجوز له أن يخِفّ إليه (¬5)، وذكرنا هذا فيما تقدم. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 218. (¬2) ينظر: "الوسيط" 1/ 224، "البحر المحيط" 1/ 415، وقال: وليس ذلك بتكرار؛ لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره، وإذا كان كذلك فقد اختلف السياق فلا تكرار، بيان ذلك: أن الأولى وردت بإثر ذكر الأنبياء فتلك إشارة اليهم، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى فالمشار إليه هم. (¬3) أخرجه الطبري 2/ 1، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 247. (¬4) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 158. (¬5) ينظر: "اللسان" 4/ 2032 (سفه).

وقوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} أي: عَدَلهم وصرفهم (¬1)، ونذكر أصل هذا الحرف عند قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]. وقوله تعالى: {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} القبلة: الوجهة، وهي الفعلة من المقابلة، والعرب تقول: ماله قِبلة ولا دِبرة، إذا لم يهتد لجهة أمره، وأصل القبلة في اللغة: الحالة التي يقابل الشيء غيره عليها، كالجلسة للحال التي يجلس عليها، إلا أنها الآن صارت كالعلم للجهة التي تستقبل في الصلاة (¬2). وقوله تعالى: {الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يعنون: بيت المقدس، في قول أكثر المفسرين، والضمير في قبلتهم: للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد التي كان عليها إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط (¬3)، وهذا على زعمهم؛ لأنهم كانوا يدعون أن قبلة إبراهيم كانت بيت المقدس، وعلى هذا القول الضمير (¬4) في {قِبلَتِهِمُ} لإبراهيم ومن ذُكر بعده، كأنهم قالوا: ما ولّى النبي وأصحابه عن قبلة إبراهيم والأسباط. والقول هو الأول، وعليه المفسرون. وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي: له أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء (¬5). وقيل: أراد بالمشرق الكعبة؛ لأن المصلي بالمدينة إذا توجه إلى الكعبة فهو متوجه إلى المشرق، وإذا توجه إلى بيت المقدس فهو متوجه إلى ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 2/ 2، "تفسير القرطبي" 2/ 137 - 138. (¬2) "اللسان" 6/ 3517 (قبل). (¬3) قريب منه في "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 247. (¬4) ساقط من (م). (¬5) كذا في "تفسير القرطبي" 2/ 140.

143

المغرب (¬1). وقوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال ابن عباس: إلى دين مستقيم، يريد: أني قد رضيت قبلة أولئك، ورضيت هذه القبلة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. "ودين الله" يسمى: صراطًا مستقيمًا؛ لأنه يؤدي إلى الجنة؛ كما يؤدي الطريق المستقيم إلى البغية (¬2). 143 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية. قال أهل المعاني: التشبيه في قوله: {وَكذَلِكَ} يرجع إلى ذكر الأنبياء الذين أنعم الله عليهم، وهم إبراهيم وأولاده، فلما ذكرهم وذكر النعمة عليهم بالكتاب المنزل، والحنيفية المستقيمة، قال: {وَكذَلِكَ} أي: وكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم، كذلك جعلناكم أمةً وسطًا (¬3). وقيل: هذه الآية تتصل بما قبلها من قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: هديناكم وخصصناكم دونهم بالصراط المستقيم، وتحويل قبلتكم إلى قبلة إبراهيم، وكذلك أنعمنا عليكم نعمة أخرى فقال: إنا جعلناكم عدولًا (¬4). وقوله: {وَسَطًا} الوسط: اسم لما بين طرفي الشيء. قال الفراء: الوَسَط المثقل: اسم، كقولك: رأسٌ وسط وأسفل، ولا تقولن ههنا: ¬

_ (¬1) ذكره أبو حيان في "البحر" 1/ 421. (¬2) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 140. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1235، "تفسير البغوي" 1/ 158، "تفسير الرازي" 4/ 96 - 97. (¬4) ذكر الرازي في "التفسير الكبير" 4/ 96 - 97، وجوهًا أخر. وينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 3 - 4، "البحر المحيط" 1/ 412.

وسْط بالتخفيف، واحتجم وَسَط رأسه، وربما خفف، وليس بالوجه. وجلس وسْط القوم، ولا تقول (¬1): وسَط؛ لأنه في معنى بين القوم، وجلس وسَط الدار؛ لأن (بين) لا يصلح في هذا الموضع، وربما خفف. قال الفراء: قال ابن يونس: سمعت وسْط ووَسَط بمعنًى (¬2)، قال الشاعر: قالوا يالَ أشجع يومَ هَيْجٍ ... ووَسْط الدار ضَربًا واحْتِمايا (¬3) قال أحمد بن يحيى: ما اتحدت أجزاؤه فلم يتميز بعضه من بعض فهو وسَط بتحريك السين، نحو: وسَط الدار، ووسَط الرأس والكف، وما أشبهها. وما التفت أجزاؤه متجاورة، بعضها يتميز (¬4) من بعض، كالعقد، وحلقة الناس، فهو وسْط (¬5). ومما يصدق هذا ما روي في الخبر: "الجالس وسْط الحلقة ملعون" (¬6)، لم يرو إلا بالتخفيف، وقال محمد بن يزيد: ما كان اسمًا فهو وسَط، محرّك السين، نحو قولك: وسَط رأسه صلبٌ، ووسَط ¬

_ (¬1) في (أ): (ولا يقول). (¬2) قال الجوهري: كل وضع صلح فيه بين فهو وسْط، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسَط بالتحريك، وقال: وربما سكن، وليس بالوجه. وذكر البيت. (¬3) البيت، نسبه في "اللسان" 8/ 4831 (وسط) لأعصر بن سعد بن قيس عيلان. (¬4) في (م): (يتميز بعضها من بعض). (¬5) نقله عنه بمعناه في "تهذيب اللغة" 4/ 2888، "تفسير الثعلبي" 1/ 1234، "اللسان" 8/ 4832 (وسط). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 384 عن حذيفة، في الذي يقعد في وسط الحلقة قال: ملعون على لسان 22752، والترمذي (2753) الأدب، باب: كراهية القعود وسط الحلقة، وأبو داود (4826) الأدب، باب: في الجلوس وسط الحلقة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

داره واسع، وما كان طرفًا فهو وسْط، مسكن السين، نحو قولك: وسْط رأسه دهن، ووسْط داره رجل أي: في وسط داره، وفي وسط رأسه (¬1). قال الفراء: ويقال: وسطتُ القوم سِطةً ووسوطًا إذا دخلت وسطهم: قال الله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 5] (¬2). فأما التفسير: فقال عُظْم أهل التفسير في قوله: {أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدلًا خيارًا (¬3)، وروي ذلك في حديث مرفوع، أخبرناه الأستاذ أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي (¬4) رحمه الله، ثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص الزاهد (¬5)، ثنا إبراهيم بن عبد الله الكوفي العبسي (¬6)، ثنا ¬

_ (¬1) نقله عنه بمعناه في "تهذيب اللغة" 4/ 2888، "اللسان" 2/ 4832 (وسط). (¬2) نقله عنه بمعناه في "اللسان" 8/ 4833، ينظر في معاني الوسط: "المفردات" ص 537 - 538، "البحر المحيط" 1/ 418، "اللسان" 8/ 4831 - 4834 (وسط). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 7، وابن أبي حاتم 1/ 249، "تفسير الثعلبي" 1/ 1234، "المحرر الوجيز" 2/ 4 - 5، "تفسير القرطبي" 2/ 140. (¬4) هو محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أبو طاهر، من شيوخ الواحدي، كان إمام أصحاب الحديث بخراسان، وفقيههم ومفتيهم، أخذ الواحدي عنه، توفي سنة 410هـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" 17/ 276 - 278، "تذكرة الحفاظ" 3/ 1051. (¬5) هو الإمام الزاهد المعمر أبو بكر محمد بن عمر بن حفص النيسابوري العابد، سمع سهل بن عمار وغيره، روى عنه أبو طاهر بن محمش وغيره، توفي سنة 335 هـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" 15/ 376. (¬6) هو إبراهيم بن عبد الله العبسي الكوفي أبو شيبة، سمع من أبي نعيم وقبيصة والإمام أحمد وغيرهم، وحدث عنه ابن ماجه والنسائي في اليوم والليلة، قال أبو حاتم: صدوق، توفي سنة 265 هـ. ينظر: "السير" 11/ 128، "الجرح والتعديل" 2/ 110.

وكيع (¬1)، عن الأعمش (¬2)، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له (¬3): هل بلّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} " (¬4). والوسط: العدل، ثم اختلفوا لِمَ سمّي العدل وسطًا؟ فقالت طائفة: هذا مأخوذ من وسط الوادي والقاع، وهو خير موضح فيه، وأكثره كَلأً وماءً، وذلك أن في غالب الأمر الماء يبرح وسط الوادي؛ لأنه في الصيف وشدة الحر ينحسر عن الأطراف إلى جوف الوادي، فيكون الكلأ هناك أكثر، ولذلك تقول العرب: انزل وسط الوادي، أي (¬5): خير مكان منه (¬6)، فعلى هذا (الوسط) اسم وصف به (¬7)، ومنه قول زهير: هم وَسَطٌ يرضى الأنام بحكمهم (¬8) ....................... البيت. ¬

_ (¬1) هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي الحافظ، تقدمت ترجمته. (¬2) هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي، تقدمت ترجمته [البقرة: 60]. (¬3) ساقط من (ش). (¬4) أخرجه البخاري (3339) كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، ورواه أحمد 3/ 32، 58، والطبري في "تفسيره" 2/ 8، وابن أبي حاتم 1/ 249. (¬5) في (م): (انزل إلى وسط الوادي إلى)، وفي (أ): (انزل وسط الوادي إلى). وما أثبته موافق لما في "تفسير الثعلبي" 1/ 1243. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 219, "تفسير الثعلبي" 1/ 1233. (¬7) ينظر: "اللسان" 8/ 4834 "وسط". (¬8) البيت تتمته: إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ

ويحتمل على هذا الاشتقاق: أنه أراد: هم وسط بين طرفين: أحدهما: الغلو. والثاني: التقصير، وهما مذمومان، وهذا قول الكلبي (¬1). قال أهل المعاني: لما صار ما بين (¬2) الغلو والتقصير خيرًا منهما (¬3) صار الوسط، والأوسط عبارة عن كل ما هو خير، وإن لم يتصور فيه الغلو والتقصير، حتى قالوا: هو من أوسطهم نسبًا، أي: خيرهم، قال الله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] قيل في تفسيره: خيرهم وأعدلهم (¬4)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير هذا الدين النمط الأوسط" (¬5). فعلى هذا، أمة ¬

_ = ذكره بهذا اللفظ الجاحظ في "البيان والتبيين" 3/ 325، لكنه قال: يرضى الإله. وهو تحريف مفسد للمعنى، وذكره ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 63، ولم ينسبه، وذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 6، والثعلبي 1/ 1234، والسمعاني 2/ 80، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 418، والسمين في "الدر المصون" 1/ 393، وقال المعلق على "تفسير الطبري" 2/ 6: البيت من معلقة زهير، وروايته كما في "ديوانه" بشرح ثعلب، وفي شرحي التبريزي والزوزني للمعلقات، وكما في جمهرة أشعار العرب للقرشي: لحيٍّ حلال يعصم الناس أمرهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بِمُعْظَمِ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1234، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 158. (¬2) من قوله: (الغلو)، ساقط من (ش). (¬3) في (ش): (مبهمًا). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1234. (¬5) قال العراقي في "تخريج الإحياء" 1/ 106: حديث: "عليكم بالنمط الأوسط"، رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" موقوفا على علي بن أبي طالب، ولم أجده مرفوعا، وذكره في "اللسان" 8/ 4833 "وسط" من كلام علي. وفي "تفسير القرطبي" 2/ 140 - 141: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل". والنمط: جماعة من الناس أمرهم واحد، وقيل هو الطريقة.

محمد - صلى الله عليه وسلم - وسط، أي: عدول؛ لأنهم لم يغلوا غلو النصارى، ولا قصّروا تقصير اليهود، في حقوق أنبيائهم، بالقتل والصلب (¬1). وقالت طائفة: وَسَط جمع واسط، وفَعَل يجوز في جمع فاعل، نحو: خدَم ونشَأ. والواسط: الذي يسِطُ الشيء، أي: يتوسطه، قال الشاعر: وَسَطتْ نسبتي الذوائبَ منهم ... كلُّ دار فيها أبٌ لي عظيم (¬2) (¬3) وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن نسبه توسط نسبهم، فهو كريم الطرفين، أبوه وأمه من ذلك النسب. والثاني: أنه أخذ من واسطة القلادة؛ لأنه يجعل فيه أنفَسَ خَرَزها. قال بعض سعد بن زيد مناة: ومَن يفتقِرْ في قومه يحمَدِ الغنى ... وإن كان فيهم واسطَ العَمِّ مُخْوِلا (¬4) قوله: واسط العم، يحتمل المعنيين (¬5). وقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: على جميع الأمم، وذلك أن (¬6) الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين، أتى بالناس أمة بعد أمة، فيؤتى بأمة نوح، فيسألهم عما أرسل ¬

_ (¬1) ينظر: "المحرر الوجيز" 1/ 3 - 5. (¬2) سقطت من (م). (¬3) البيت لحسان بن ثابت في "ديوانه" ص 225. (¬4) البيت لجابر بن الثعلب الطائي، ينظر: "ديوان الحماسة" 1/ 109. (¬5) ينظر: "زاد المسير" 1/ 154. (¬6) في (م): (لأن الله).

إليهم، فينكرون أن نوحًا بلّغهم ما أرسل به إليهم، فيقول الله تعالى لنوح: ما فعلت فيما أرسلتك؟ فيقول: بلّغته قومي فكذّبوني وعصوك، فيقول الله له: زعموا أنك لم تبلّغهم فهل لك شهيد؟ فيقول: نعم، محمد وأمته، فيدعى بأمة محمد، فيقول الله تعالى: بم تشهدون لنوح؟ فيقولون: نشهد أنه قد بلّغ رسالاتك، فكذبوه وعصوك، فتقول أمة نوح: هؤلاء بعدنا يارب؛ كيف يشهدون علينا؟ فيقولون: ربنا أرسلت إلينا رسولًا، فآمنا به وصدقناه، فكان فيما أنزلت عليه {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، إلى قوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. قال: ثم يؤتى بأمة بعد أمة فيشهدون عليهم (¬1). وشهداء: لا ينوّن؛ لأن فيه ألف التأنيث، وألف التأنيث يبنى معها الاسم، وجعل الجمع بألف التأنيث كما جعل بهاء التأنيث، نحو: أَجْرِبَة، وأغْرِبَة، وضَرَبَة، وكَتَبَة (¬2). وقال ابن زيد في هذه الآية: الأشهاد أربعة: الملائكة، والأنبياء، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجوارح، وهذا كقوله: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69]. وقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره بمعناه من غير نسبة الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1236، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 158، وبمعناه: حديث أبي سعيد عند البخاري (7349) كتاب الاعتصام، باب: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، ورواه الترمذي (2961) كتاب التفسير، باب: ومن تفسير سورة البقرة، والنسائي في "التفسير" 1/ 197، وابن ماجه (4284) كتاب الزهد، باب: صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 220 بتصرف، وأجربة: جمع جريب، والأصل فيه: كل أرض ذات حدود، ثم استعمل في مقدار معين من الأرض، وهو يستعمل في المساحة والكيل. وضربة: جمع ضارب. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 11.

وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} قال المفسرون: وذلك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن حال أمته، فيزكّيهم، ويشهد بصدقهم (¬1). وقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ} أي: لكم (¬2)، كقوله (¬3): {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، أي: للنصب، وقيل: معناه: على صدقهم، فهو من باب حذف المضاف (¬4). قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؟ قال: أمةُ محمد شهداءُ على من ترك الحق من الناس أجمعين (¬5)، حين جاءه الهدى والإيمان، فذكر الله في كتابه {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يشهد على أنهم آمنوا بالحق حين جاءهم، وقبلوا، وصدّقوا به. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} اختلف أهل المعاني في هذا، فقال بعضهم: إن الله تعالى تعبّد نبيه والمسلمين بالصلاة إلى بيت المقدس حيث (¬6) كانوا بمكة في أول الأمر مخالفةً للمشركين؛ ليتبين إيمان المؤمن ونفاق المنافق، إذ كانت العرب تحب الكعبة، وترغب في الصلاة إليها، ولا يعجبهم الصلاة إلى بيت المقدس، فتعبّدهم الله بما يشقّ ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 9 - 11، "تفسير الثعلبي" 1/ 1235. وقال في "البحر المحيط" 1/ 422: وفي شهادته أقوال: أحدها: شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. والثاني: شهادته عليهم بإيمانهم. والثالث: يكون حجة عليهم. والرابع: تزكيته لهم وتعديلهم. ثم عزا هذا القول لأكثر المفسرين. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1235. (¬3) في (م): (لقوله). (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 423. (¬5) رواه "الطبري" في "تفسيره" 2/ 11، وابن أبي حاتم 1/ 250، والبغوي 1/ 159. (¬6) في (ش): (حين).

عليهم، امتحانًا واختبارًا؛ ليظهر إيمان المؤمن عند صبره على ما يحبّ، ويتبين نفاق المنافق عند خلافه ربَّه في إيثاره هواه، فكأنه قال: تعبدناكم بالصلاة إلى بيت المقدس برهةً من الدهر؛ لنمتحنكم بذلك، ونختبركم. وعلى هذا التأويل خبر {جَعَلْنَا} محذوف، معناه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لهذا، فحذف المفعول الثاني؛ لإحاطة العلم، ويقال: إن {جَعَلْنَا} هاهنا لا يقتضي (¬1) مفعولًا ثانيًا؛ لأنه في تأويل نصبنا. وقال بعضهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما (¬2) هاجر إلى المدينة أمر بالتوجه إلى الكعبة مخالفة لليهود وامتحانًا للمؤمنين، وعلى هذا التأويل (¬3) تقدير الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} فيكون من باب حذف المضاف (¬4)، ويحتمل أن يكون التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، فأضمر المفعول الثاني، كما ذكرنا في الوجه الأول. وتحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا ثالثًا، وهو أن {كُنْتَ} بمعنى: أنت (¬5)، والتقدير: وما جعلنا القبلة التي أنت عليها -وهي: الكعبة- قبلةً، ¬

_ (¬1) في (ش): (تقتضي). (¬2) ساقطة من (ش). (¬3) في (م): (وعلى هذا التقدير تأويل الآية). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1236. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1236، "البغوي" 1/ 159، "الكشاف" 1/ 199، وروي هذا عن ابن عباس. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 423، وقال: وهذا من ابن عباس إن صح: تفسير معنى، لا تفسير إعراب؛ لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد.

فحذف المفعول الثاني، أو أراد بـ (جعلنا) معنى نصبنا، كما بينا. ويجوز أن يريد بمعنى الكون: الحال، كقوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] أي: من هو في الحال صبي، وكقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} [آل عمران: 110] أي: أنتم. ويؤكد هذا التأويل الثاني: أن جماعة من اليهود لما صرفت القبلة إلى الكعبة، قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدًى أو ضلالةً؟ فإن كانت هدًى، فقد تحولتم عنها، وإن كانت ضلالة، لقد دنتم الله بها؟ فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله به، والضلالة ما نهى الله عنه، عيّروهم بنسخ القبلة (¬1). وقوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} والله تعالى عالم لم يزل، ولا يجوز أن يحدث له علم. واختلف أهل المعاني في وجه تأويله (¬2): فذهب جماعة إلى أن العلم له منزلتان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به (¬3) بعد وجوده، والحكم للعلم بعد الوجود؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب، والمتعبد بالشيء إذا لم يُطع وعصى عَلِمَه اللهُ تعالى عاصيًا، وإذا ¬

_ (¬1) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 145 - 146، والثعلبي 1/ 1238. وتنظر بعض الآثار التي تدل على هذا عند الطبري 2/ 11 - 12، وابن أبي حاتم 1/ 248. وتنظر الوجوه الإعرابية في: "البحر المحيط" 1/ 423، "التبيان" للعكبري ص 98. (¬2) ينظر في وجوه تأويل هذا: "تفسير الطبري" 2/ 12 - 14، "تفسير البغوي" 1/ 160، "المحرر الوجيز" 2/ 7 - 8، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 223، "البحر المحيط" 1/ 424. (¬3) سقطت من (ش).

أطاع عَلِمَه الله مطيعًا، وكان قبل أن أطاع لم يعلمه مطيعًا علمًا يستحق به الثواب، وإن كان في معلوم الباري أنه يطيع. فمعنى قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل به الثواب والعقاب، وتبدل الأحوال على المعلوم لا يقتضي تبدل العلم وتغيره، وهذا مذهب جماعة من أهل النظر (¬1). ويؤيده: ما روي عن ابن عباس: أنه فسر العلم هاهنا: بالرؤية، وقال: معنى {إِلَّا لِنَعْلَمَ}: إلا لنرى (¬2)، وهذا راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه إنما يراه إذا علمه موجودًا. وحكى ابن الأنباري، عن الفراء، أنه قال: يجوز أن يكون الله جل اسمه أضاف العلم إليه، وهو للمخاطبين (¬3) في المعنى، كما يجتمع جاهل وعاقل، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار. ويقول العاقل: النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما؛ لنعلم أيهما يحرق صاحبه؟. ومعناه: لتعلم أنت فينسب إلى نفسه فعل غيره، كذلك معنى الآية: إلا لتعلموا أنتم. ومثله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} [محمد: 31]، على هذا التأويل. ويجوز في سَعَة العربية إضافة الفعل إلى من ليس له في الحقيقة، كقول العرب: طلعت الشِّعرى، وانتصب العود على الحرباء، معناه: انتصب الحرباء على العود، فنسب الانتصاب إلى غير فاعله، ومثله في الكلام: لا أرَيَنَّك ههنا، أوقع النهي على غير المنهي؛ لأن المنهيَّ المخاطب، وذكرنا ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1237، "تفسير السمعاني" 2/ 83، البغوي في "تفسيره" 1/ 160، "التفسير الكبير" 4/ 115. (¬2) ذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 13 - 14، ولم ينسبه لابن عباس، ثم رد عليه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 155. (¬3) في (أ): (المخاطبين).

هذا في قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. وقيل: أراد ليعلم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأضاف علمه إلى نفسه تخصيصًا وتفضيلًا، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] (¬1) وتحقيق هذا القول: أنه تعالى أراد: ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، كما يقول الملك: فعلنا بمعنى: فعل أولياؤنا، ومنه: فتح عُمَرُ السواد، وجبى الخراج، وإن لم يتول ذلك بنفسه (¬2). وقوله تعالى: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} أي: يطيعه في التوجه (¬3) إلى بيت المقدس (¬4). {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: يرتد فيرجع إلى الشرك دين آبائه (¬5). ويجوز أن يكون المراد: ممن هو مقيم على كفره (¬6)؛ لأن جهة الاستقامة إقبال وخلافها إدبار، وكذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر، هذا إذا قلنا: المراد بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} بيت المقدس ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 13، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 1238. (¬2) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 8 عن الأقوال السابقة: وهذا كله متقارب، والقاعدة: نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 424: فهذه كلها تأويلات في قوله: (لنعلم) فرارًا من حدوث العلم وتجدده؛ إذ ذاك على الله مستحيل، وكل ما وقع في القرآن مما يدل على ذلك أُوِّل بما يناسبه من هذه التأويلات. (¬3) في (ش): (التوحيد). (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 14. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 15، "زاد المسير" 1/ 155، "المحرر الوجيز" 2/ 10، "تفسير القرطبي" 2/ 144. (¬6) ينظر: "التفسير الكبير" 4/ 105.

وإن قلنا: إن المراد هناك: التحويل عن بيت المقدس، وهو أظهر التأويلين (¬1)، فمعنى قوله: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} أي: يوافقه في التوجه إلى الكعبة، والانحراف عن بيت المقدس {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: يرتّد عن الدين فيرجع إلى اليهودية، أو إلى ما كان عليه. وذلك أن الله تعالى جعل نسخ القبلة عن الصخرة إلى الكعبة ابتلاء لعباده المؤمنين، فمن عصمه ووفقه صدَّق الرسول في ذلك، وعلم أن لله (¬2) تعالى أن يتعبد عباده بما شاء، وأن له أن ينسخ ما تعبدهم به، فيحولهم إلى غير ذلك، وأن الصلاح لهم فيما يأمرهم به، ومن لم يعصمه شَكَّ في دينه، وتردد عليه أمره، وظن أن محمدًا في حَيْرة من أمره، فارتد عن الإسلام. والانقلاب على العَقِب: عبارة عن الانصراف إلى حيث أقبل منه؛ لأن عقبَ الإنسان يكون وراءه، فإذا رجع إلى وراء يقال: نكص على عقبيه، وانقلب على عقبيه، أي: انصرف راجعًا (¬3). قال ابن عباس: {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} يريد: من يرجع إلى دينه الأول (¬4)، يعني: المنافقين، وسمي العقب عقبًا؛ لأنه يتلو القدَمَ، وأصل هذا الباب: الإتباع (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} قال سيبويه: {وَإِنْ} تأكيد شبيه ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 425. (¬2) في (م) و (ش): (الله). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 15، "المحرر الوجيز" 2/ 10. (¬4) هذه من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها بالمقدمة. (¬5) ينظر: "المفردات" ص 343 - 344، "اللسان" 5/ 3022 (عقب).

باليمين؛ لذلك دخلت اللام في جوابها (¬1). قال أبو إسحاق: دخلت اللام مع إن، لأنها لو لم تدخل كان الكلام جحدًا، فلولا اللام كان المعنى: (ما كانت كبيرة)، فإذا جاءت (إن واللام) فمعناهما التوكيد للقصة (¬2). وأما التفسير: فقال ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4) وقتادة (¬5): وقد كانت التولية إلى الكعبة لكبيرة. قال ابن زيد (¬6): وقد كانت الصلاة إلى الكعبة لكبيرة ثقيلة، إلا على الذين هدى الله، وقال أبو العالية: وإن كانت القبلة لكبيرة (¬7)، يعني: الكعبة. وقيل: إنه يعني: بيت المقدس (¬8)، أي: وإن كان اتباعها لكبيرًا إلا على الذين هدى الله. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال المفسرون: قالت اليهود للمسلمين لما حُوِّلت القبلة إلى الكعبة: إن كان هذا التحويل حقًّا ¬

_ (¬1) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 233، 2/ 140. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 220، وينظر: "التبيان" للعكبري 98، "البحر المحيط" 1/ 425. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 15، وابن أبي حاتم 1/ 251. (¬4) رواه عنه الطبري 2/ 15، وابن أبي حاتم 1/ 251. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 15، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 251. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 16. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 15، بلفظ: عن أبي العالية (وإن كانت لكبيرة) أي: قبلة بيت المقدس (إلا على الذين هدى الله)، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 251، وجعل قوله كقول مجاهد. (¬8) وعلى هذا المعنى حمله الطبري 2/ 16.

فإنَّ من مات منكم وهو يصلي إلى بيت المقدس مات على الضَّلالة، وكان قد مات رجال من المسلمين قبل تحويل القبلة، فانطلق عشائرهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يارسول الله، صرفك الله إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا الذين ماتوا منا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1) أي: تصديقكم بأمر تلك القبلة. قال الفراء: أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى: فيمن مات من المسلمين. وإنما أضيف إلى الأحياء؛ لأن الذين ماتوا على القبلة الأولى كانوا منهم. فقال: {إِيمَانَكُمْ} وهو يريد: إيمانهم؛ لأنهم داخلون معهم في الملة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، يريد: قتلنا منكم، فيواجههم بالقتل وهم أحياء (¬2). ويمكن أن يحمل على العموم، بأن أراد: إيمان الأحياء والأموات (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} الرأفة: أخص من ¬

_ (¬1) روي بهذا اللفظ في: "تفسير الطبري" 2/ 17، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 251، "تفسير مقاتل" 1/ 74، "تفسير الثعلبي" 1/ 1239، "الكفاية" للحيري 1/ 79، "أسباب النزول" للواحدي ص 45 - 46، "تفسير البغوي" 1/ 123. وروى البخاري (40) كتاب الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، عن البراء بن عازب أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم). (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 83 - 74. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 18.

الرحمة وأرق، قال الفراء: الرأْفة والرآفة، مثل: الكأبة والكآبة (¬1). وقال أبو زيد: رَأَفْتُ بالرجل، أَرْأَفُ به رأفةً، ورآفةً، ورَؤُفْتُ أَرْؤُفُ به، كلٌ من كلام العرب (¬2). وفي الرؤوف قراءتان (¬3): أحدهما: رؤوف على وزن فعول. والثانية: رؤف على وزن رَعُف. فمن قرأ على فَعُول؛ فلأنه أكثر في كلامهم من فَعُل، ألا ترى أن باب صبور وشكور، أكثر من باب حذُر ويقُظ، وإذا كان أكثر في كلامهم كان أولى. يؤكد هذا: أن صفات الله قد جاءت على هذا (¬4) الوزن، نحو: {غَفُورٌ شَكُورٌ}، ولا نعلم فَعُلًا فيها قال الشاعر: نطيع إلهنا ونطيع ربًّا ... هو الرحمن كان بنا رؤوفًا (¬5) ومن قرأ على وزن "رَعُف"، فقد قيل: إنه غالبُ لغة أهل الحجاز، ومنه قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط (¬6): ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1323، وينظر: "لسان العرب" 3/ 1535 (رأف)، "البحر المحيط" 1/ 426. (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1323، وينظر: "لسان العرب" 3/ 1535 (رأف). وينظر في بيان معاني الرؤوف: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 86. (¬3) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: (رؤف)، بهمزة من غير واو. وقرأ الباقون بواو بعد الهمزة. ينظر "السبعة" ص 171، "النشر" 2/ 223. (¬4) في (أ)، (م): (على وزن رعف الوزن). (¬5) البيت لكعب بن مالك الأنصاري في "ديوانه" ص 236، "تفسير الثعلبي" 1/ 1240 وروايته: نطيع رسولنا، "لسان العرب" 3/ 1535 "رأف"، وروايته: نطيع ربنا، "تاج العروس" 12/ 221 (رجف). (¬6) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط أبان بن عمرو، أسلم يوم فتح =

144

وشرُّ الطالبين (¬1) فلا تَكُنْه ... يقاتل عمَّه الرؤوفَ الرحيما (¬2) وكثر ذلك حتى قاله غيرهم، قال جرير: ترى للمسلمين عليك حقًّا ... كفعل الوالد (¬3) الرؤوف الرحيم (¬4) (¬5) 144 - قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية. قال المفسرون: كانت الكعبة أحبَّ القبلتين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس: لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم (¬6). وقال مجاهد (¬7) ومقاتل (¬8) وابن زيد (¬9): لأنه كره موافقة اليهود (¬10). ¬

_ = مكة، كان من الشعراء المطبوعين، قال الأصمعي كان شاعرًا كريمًا، توفي بالرقة. ينظر: "أسد الغابة" 5/ 451، "الإصابة" 3/ 637. (¬1) في (أ)، (م): (للطالبين). (¬2) البيت للوليد في "الحجة" لأبي علي 2/ 230، ابن عطية في "تفسيره" 2/ 12، "تفسير القرطبي" 2/ 145، "البحر المحيط" 1/ 601، "أنساب الأشراف" ص 140، "تاريخ الطبري" 5/ 236. وورد البيت في بعض المصادر هكذا: وشر الظالمين للظالمين فلا تكنه ... يقابل عمه الرؤف الرحيمُ (¬3) في (ش): (الوليد). (¬4) البيت لجرير في "ديوانه" ص 412، "الخزانة" 4/ 222، "الكامل" للمبرد 2/ 139، "تفسير الثعلبي" 1/ 1241، "البحر المحيط" 1/ 601. (¬5) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 229 - 230. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 20، وابن أبي حاتم 1/ 253، وذكره الثعلبي 1/ 1242. (¬7) رواه عنه الطبري 2/ 20، وذكره الثعلبي 1/ 1242، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 269 إلى عبد بن حميد. (¬8) ذكره الثعلبي 1/ 1242، والحيري في "الكفاية" 1/ 80. (¬9) رواه عنه الطبري 2/ 20، وذكره الثعلبي 1/ 1242. (¬10) وثم قول ثالث روي عن السدي، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة. ينظر "البحر المحيط" 1/ 428.

وقال عامة المفسرين: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بمكة يصلّون إلى الكعبة، فلما هاجروا إلى المدينة أمره الله أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس؛ ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم (¬1). وقال ابن زيد: قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فقال: هؤلاء اليهود يستقبلون بيتًا من بيوت الله، فلو استقبلناه، فاستقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر شهرًا (¬2). ثم رأى أن الصلاة إلى الكعبة أدعى لقومه إلى الإسلام، فقال لجبريل: وددت (¬3) أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسَلْه، ثم ارتفع جبريل، وجعل رسول الله يديم النظر إلى السماء؛ رَجَاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (¬4). ¬

_ (¬1) عزاه لعامة المفسرين: الثعلبي 1/ 1241. وينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد برقم 21، "صحيح البخاري مع الفتح" 1/ 95، ومسلم (525) كتاب المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، "تفسير الطبري" 2/ 20، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص 126، "تفسير البغوي" 1/ 161، "التفسير الكبير" 3/ 109، "تفسير الخازن" 1/ 120، "العجاب" لابن حجر 1/ 396. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 20 بلفظ: ستة عشر شهرًا، وذكره الثعلبي 1/ 1242، ويوحي صنيع الواحدي أن ما بعده تبع له، وليس الأمر كذلك. (¬3) في (م): (وودت). (¬4) كذا في "تفسير مقاتل" 1/ 144، "تفسير الثعلبي" 1/ 1243، "تفسير البغوي"، عن مجاهد 1/ 161، "العجاب" لابن حجر 1/ 395، وقال في "الدر المنثور" 1/ 269: أخرجه أبو داود في "ناسخه" عن أبي العالية. وذكره الواحدي ص 46، =

قال أصحاب المعاني: أراد: تَقَلُّبَ عينيك، فذكرهما بلفظ الوجه، كما ذكر الأعين بلفظ الوجوه في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وذلك أنّ ما تقع به المواجهة يسمّى وجهًا، كاللحية قد يطلق عليها اسم الوجه. ويجوز أن يريد نفس الوجه؛ لأنه كما يقلب عينيه في السماء يقلب وجهه (¬1). وقوله تعالى: {فِي السَّمَاءِ} أي: في النظر إلى السماء. وقوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} يقال، وَلَّيْتُكَ القبلة،: إذا صيرتَه يستقبلها (¬2) بوجهه، وليس في (فعلت) منه هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت: وَلِيتُ الحائط، ووليت الجدران، لم يكن في قولك دلالة على أنك واجهته. فَفَعَّلت من هذه الكلمة ليس بمنقول من (فَعَلت) الذي هو وَلِيتُ، فيكون على حد قولك: فَرِحَ وفرّحْتُه، ولكن المعنى الذي هو المواجهة عارض (¬3) في فَعّلت، ولم يكن في (فَعَلْت)، وإذا كان كذلك كان فيه دلالة على أن النقل لم يكن من فَعَلت، كما كان قولهم: ألقيتُ متاعَك بعضه على بعض، لم يكن النقل فيه (¬4) من: لقي متاعك بعضه بعضًا، ولكن ¬

_ = عن ابن عباس من رواية الكلبي، وأخرج بعضه الطبري في "تفسيره" 2/ 20، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 15، من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس. (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 221، "تفسير الثعلبي" 1/ 1243، "المحرر الوجيز" 2/ 13، "تفسير القرطبي" 2/ 145، والوجه الثاني هو الذي ذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 20. (¬2) في (م): (مستقبلها). (¬3) في (ش): كأنها (يمارض). (¬4) في (ش): (فيه دلالة).

(ألقيت) كقولك: أسقطت، ولو كان منه زاد مفعول آخر في الكلام، ولم يحتج في تعديته إلى المفعول الثاني إلى حرف الجر في قولك: ألقيت متاعك بعضه على بعض، كما لم يحتج إليه في قولك: ضرب زيد عمرًا، وأضربته إياه، ونحو ذلك. فكذلك: وَلَّيْتُكَ قبلةً، من قولك: وَلِيتُ، كألقيت، من قولك: لَقِيتُ (¬1). وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة، وذلك نحو: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} [البقرة: 83] {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى} [يوسف: 84] {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 64] {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29]، فهذه مع (¬2) دخول الزيادةِ الفِعْلَ. وفي غير الزيادة قوله: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل: 10]، وقوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، وقوله: {مُدْبِرِينَ} حال مؤكدة؛ لأن في {وَلَّيْتُمْ} دلالة على أنهم مدبرون، وهذا على نحوين: أما ما لحق التاءُ أولَّه، فإنه يجوز أن يكون من باب: تَحَوَّب (¬3) وتأثم، إذا ترك الحُوب (¬4) والإثم، فكذلك إذا ترك الجهة التي هي المقابلة. وأما الذي لا زيادة فيه، فيجوز أن تكون الكلمة استعملت على الشيء وعلى خلافه، كالحروف المروية في الأضداد، وقد روي في الأضداد: ولّى: إذا أقبل، وولّى: إذا أدبر (¬5). ¬

_ (¬1) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 230. (¬2) في (ش): فهذا (دخول). (¬3) في (أ)، (م): (تحرب). (¬4) في (أ)، (م): (الحرب). (¬5) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 231 - 232 بمعناه.

وقوله تعالى: {تَرْضَاهَا} أي: تحبها وتهواها (¬1)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان راضيًا بالقبلة الأولى، مطيعًا لله في حال صلاته إليها (¬2)، ولكنه أحبّ أن (¬3) تكون قبلته الكعبة، للمعاني التي ذكرنا (¬4). وقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} أي: أقبل وجهك نحوه. وقوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ} أي: قصدَه ونحوَه، ومعنى الشطر: النحو عند أهل اللغة، يقولون: وَلِّ وجْهَك نحوَ الموضع، وشطرَه، وتلِقَاءه بمعنًى. قال الشاعر: وأظعنُ بالقوم شَطْر الملوك ... حتى إذا خَفَق المِجْدَحُ (¬5) وقال آخر: أقول لأم زِنباعَ أقيمي ... صُدورَ العِيس شَطْرَ بني تميمِ (¬6) ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1243. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 222. (¬3) أن ساقطة من (م). (¬4) تقدمت في أول الآية. (¬5) البيت لدرهم بن زيد الأنصاري، في "تفسير الثعلبي" 1/ 1244، "مجمل اللغة" 1/ 180، "الكشاف" 1/ 201، "أساس البلاغة" 2/ 72، "تاج العروس" 4/ 22 (جرح)، "لسان العرب" 1/ 559، 2/ 1214. والمجدح: نجم من النجوم كانت العرب تزعم أنها تمطر به، كقولهم الأنواء. وجواب إذا خفق المجدح، في البيت الذي بعده وهو قوله: أمرت صحابي بأن ينزلوا ... فناموا قليلًا وقد أصبحوا (¬6) البيت لأبي زنباع الجذامي، في "الدرر" 3/ 90، "لسان العرب" 4/ 2263 "شطر"، ولأبي ذؤيب الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" 1/ 363، وبلا نسبة في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 2/ 705.

وقال سُدَيف: أقِمْ قصدَ وجهك شطرَ العراق ... وخالَ الخليفة فاستَمْطِرِ (¬1) قال أبو اسحاق: لا اختلاف بين أهل اللغة أن الشطر معناه: النحو. قال: وقول الناس: فلان شاطر، معناه: إنه قد أخذ في نحو غير الاستواء. قال: ونصب قوله: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ} على الظرف (¬2). وقوله تعالى: {اَلْحَرَامِ} بمعنى المحرم، وأصله: من المنع، وسمِّيت تلك البقعة حرامًا لما منع فيها من أشياء لم تمنع في غيرها (¬3)، ونذكر الكلام في الحرام والحرمات في موضع آخر. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} في بر أو بحر (¬4)، وذكرنا الكلام في حيث عند قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]. {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فيه إضمار واختصار، أي: وحيثما كنتم، وأردتم الصلاة، فولّوا وجوهكم شطره. قال المفسرون: إن أول ما نسخ من أمور الشرع أمر القبلة (¬5). وهذه ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في "جمهرة اللغة" 2/ 728. (¬2) بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 222، ونقل الإجماع على النحو ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 156، وينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 220 - 221، "التبيان" للعكبري ص 99. وينظر في معاني الشطر: "تفسير الطبري" 2/ 20 - 21، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ص 60، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 64، "المفردات" ص 264، "تفسير القرطبي" 2/ 146. (¬3) ينظر: "لسان العرب" 2/ 847 - 848. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1244. (¬5) قاله ابن عباس كما رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 253 عنه، ورواه أبو داود في ناسخه كما في "الدر المنثور" 1/ 269، ورواه الطبري عن الحسن وعكرمة 2/ 4، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1241.

الآية نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد بني سلمة، وقد صلّى بأصحابه (¬1) ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة نحو الكعبة، وحول الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال، فسمي ذلك مسجد القبلتين (¬2). فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد، ما أُمرت بهذا، وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك! فأنزل الله سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (¬3)، والكناية في {أَنَّهُ} يجوز أن ترجع إلى المسجد الحرام، أي: إنهم عالمون أن المسجد الحرام قِبْلَة إبراهيم وأنه حق. ¬

_ (¬1) في (م): (أصحابه). (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1244 عن مجاهد وغيره، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 162، (الخازن) 1/ 121. (¬3) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 146، وذكره هكذا الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1244، والبغوي 1/ 162، وأخرج الطبري 2/ 24 - 25 نحوه عن السدي، وقد اختلفت الروايات كثيرًا في الوقت والمكان والكيفية التي غيرت فيها القبلة، وقد ذكر جملة منها: السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 267 - 273. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 1/ 503: اختلفت الرواية في الصلاة التي تحولت القبلة عندها، وكذا في المسجد، فظاهر حديث البراء هذا أنها الظهر، وذكر محمد بن سعد في "الطبقات" قال: يقال: إنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون، ويقال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي مسجد القبلتين. قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا أثبت عندنا. وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 157، خلاف العلماء في وقت تحويل القبلة فلينظر.

145

ويجوز أن تعود الكناية إلى التولية (¬1)، لأن قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} دل على المصدر، كما أن قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] دل على البخل، فكنى عنه بقوله: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}. والتولية وإن كان في لفظ المؤنث فهو مصدر، وحكى ابن الأنباري: أن أبا عمرو الدوري روى عن الكسائي: أن الهاء تعود على الشطر (¬2)، والمعنى عنده: لَيَعْلَمُون أن شطره الذي تحولتم إليه هو الحق من ربهم (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قال ابن عباس: يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم. وإن اليهود يطلبون سخطي، وما أنا بغافل عن خِزْيِهم في الدنيا والآخرة (¬4)، 145 - وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية، معنى (لئن): ما تستقبل، ومعنى (لو): ماض، وحقيقة معنى (لو): أنها يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جئتني لأكرمتك، أي: لم تجئني، فلم أكرمك، فإنما امتنع إكرامي لامتناع مجيئك (¬5). ومعنى إن {وَلَئِنْ}: أنه يقع بهما الشيء لوقوع غيره، تقول: إن تأتني أكرمْك، فالإكرام يقع بوقوع ¬

_ (¬1) وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 23، وينظر: "زاد المسير" 1/ 156 - 157، "تفسير القرطبي" 2/ 147. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 430. (¬3) ينظر في الأقوال: "تفسير الطبري" 2/ 23، "زاد المسير" 1/ 157، "البحر المحيط" 1/ 430، "الدر المنثور" 1/ 267 - 269. (¬4) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 163. (¬5) بمعناه من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، وينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 224, "المقتضب" للمبرد 3/ 75.

الإتيان (¬1). فقولهم: (لئن) تستعمل فيما يستقبل، وجوابها يقع بالمستقبل، و (لو) تستعمل في الماضي، وجوابها يقع بالماضي، كقولك: لئن قمتَ لأقومنّ، ولو قمتَ قمتُ، هذا معنى الكلمتين ووضعهما في الأصل. ثم إنّ العرب لما استجازت في الفعل المستقبل والماضي أن يقوم أحدهما مقام الآخر، استجازت تقريب إحدى هاتين الكلمتين من الأخرى في الجواب؛ لذلك أجيبت لئن بجواب لو في هذه الآية (¬2). ومثل هذا من تقريب إحداهما من الأخرى في التنزيل قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} [الروم: 51]، أجيب (لئن) بجواب (لو). وأجيبت (لو) بجواب (لئن) في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} [البقرة: 103] فقوله: {لَمَثُوبَةٌ} ميعاد للثواب في المستقبل، ومثل هذا يكون جوابًا لقولك: لئن. وهذا معنى قول الفراء؛ لأنه قال؛ أجيبت لئن بجواب لو؛ لأن الماضي وليها، كما يلي لو، فأجيبت بجواب لو، ودخلت كل واحدة منهما على أختها، وشبهت كل واحدة بصاحبتها (¬3). ¬

_ (¬1) بمعناه من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، وينظر: "الكتاب" لسيبويه 3/ 77، و 107، و 108، "المقتضب" للمبرد 2/ 46 - 47، و 362. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 223. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 84، واختاره الطبري 2/ 24، ورده الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 224، وينظر: "التبيان" للعكبري ص 99، وقال متعقبا رأي الفراء: وهو بعيد، لأن إن للمستقبل، ولو للماضي. وقال أبو حيان، "البحر المحيط" 1/ 430: اللام في (ولئن) هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم، فقد اجتمع القسم المتقدم المحذوف والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم، وهو قوله: (ما تبعوا)؛ ولذلك لم تدخله الماء، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو =

فأما التفسير: فإن اليهود والنصارى طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات، فأنزل الله هذه الآية، وقد علم أهل الكتابين أن محمدًا حقّ، وصفته ونبوته في كتابهم، ولكنهم جحدوا مع تحقق علمهم، وما تغني الآيات عند من يجحد ما يعرف (¬1)؛ لذلك قال -عز من قائل-: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}. فإن قيل: كيف قال هذا، وقد آمن منهم كثير؟ قيل: هذا إخبار عن جميعهم أنهم كلهم لا يفعلون (¬2) ذلك (¬3). وقيل: إنه أراد الفريق الذين هم أهل العناد، وهم الذين عناهم بقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسم بهذا إطماع اليهود في رجوعه - صلى الله عليه وسلم - إلى قبلتهم، لأنهم كانوا يطمعون. وأكّد بهذا أنه لا ينسخ التوجه ¬

_ = منفي بما، ماضي الفعل، مستقبل المعنى. ثم رد مذهب الفراء بقوله: وهذا الذي قاله الفراء هو بناء على مذهبه أن المقسم إذا تقدم على الشرط جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم، وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو، واستعمال (إن) بمعنى (لو) قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على وضع أصلها. وقال ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 2/ 17: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع، وإن تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما معنى القسم، فالجواب إنما هو للقسم، لا أن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه. (¬1) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 147، "تفسير الطبري" 2/ 24، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، "تفسير الثعلبي" 1/ 1245، "الكفاية" 1/ 18، "تفسير البغوي" 1/ 163. (¬2) في (ش): (لا يعقلون). (¬3) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 17، "التفسير الكبير" 4/ 125، ونسبه إلى الحسن. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 431.

إلى الكعبة (¬1)، وقيل في هذا: إنه لما قال: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} قال: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} على المقابلة، كما تقول: ما هم بتاركي إنكار الحق، وما أنت بتارك الاعتراف به، ويكون الذي جرّ الكلام الثاني التقابل للكلام الأول، وهو حسن من كلام البلغاء (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أخبر أنهم وإن اتفقوا في الظاهر على النبي - صلى الله عليه وسلم - مختلفون فيما بينهم. فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل المشرق. واليهود لا تتبع قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود (¬3). وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} أي: صليت إلى قبلتهم {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أن قبلة الله الكعبة {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي: إنك إذن مثلهم (¬4)، وأجيبت (لئن) ها هنا بجواب مثلها؛ لأنه أراد فيما يستقبل من الزمان. وذكر أهل التأويل في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} وجهين: أحدهما: أن الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر وهو في المعنى لأمته، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]. والثاني: أن الله تعالى خاطب نبيه -عليه السلام- بهذا مهددًا أمته، أي: إذا استحققت منا مثل ذا الجزاء عند مخالفة، لو وقعت منك، ولن تقع أبدًا ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 24، "البحر المحيط" 1/ 432. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 432. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 24، 25 والثعلبي 1/ 1246، "التفسير الكبير" 4/ 126، "البحر المحيط" 1/ 432، " المحرر الوجيز" 2/ 17 - 18. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1246.

146

كانوا هم أجدر وأخلق، بتكاثف الأوزار، واجتماع الآثام، عند ما يظهر منهم من إيثار الضلال والانحراف عن الحق. وذكر وجه ثالث: وهو أن معنى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} أي: في المداراة معهم حرصًا على إيمانهم {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} لنفسك، إذ قد أعلمتك أنهم لا يؤمنون (¬1). وذكرنا الكلام في معنى (إذن) عند قوله: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]. 146 - قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} الآية، الكناية في {يَعْرِفُونَهُ} تعود إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - عند أكثر المفسرين (¬2). وكنى عن محمد، وقد تقدم ذكره في الخطاب؛ على عادة العرب في تلوين الخطاب. ويشهد بصحة (¬3) هذا التأويل: ما روي أن عبد الله بن سلام قال لما نزلت هذه الآية، وسئل عن معرفته محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله لأنا بمحمد وصحة نبوته أعرف مني بابني؛ لأني لا أشك في أمره، ولا أدري ما أحدث النساء (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، "المحرر الوجيز" 2/ 18 - 19. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1246، وعزاه في "المحرر الوجيز" 2/ 21 إلى قتاده ومجاهد، وعزاه في: "زاد المسير" 1/ 158 إلى ابن عباس، ولم يذكر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 207 غيره، وقال في "البحر المحيط" 1/ 435: "واختاره الزجاج ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري" وهو الذي رجحه أبو حيان. (¬3) في (م): (على صحة). (¬4) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1246، من حديث ابن عباس، وفيه الكلبي، وينظر "الفتح السماوي" 1/ 195، "الوسيط" للواحدي 1/ 215، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 166، والحيري في "الكفاية" 1/ 82، =

وقال قتادة (¬1) والربيع (¬2) وابن زيد (¬3): معناه: يعرفون أن أمر القبلة حق (¬4) وقوله تعالى: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} قال ابن عباس: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته في التوراة (¬5)، وقال قتادة (¬6) والربيع (¬7): يريد به: القبلة، والمسجد، والبيت، وأمر الكعبة (¬8). ¬

_ = والسمعاني في "تفسيره" 2/ 92، والواحدي في "أسباب النزول" ص 47، والبغوي في "تفسيره" 1/ 164، وأورده القرطبي في "تفسيره" بصيغة التمريض 2/ 149. وعزاه ابن حجر في "العجاب" 1/ 399 إلى يحيى بن سلام. (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 25، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 255. (¬2) رواه عنه الطبري 2/ 26، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 255، وروي عنه ما يوافق القول الأول، أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 1/ 271. (¬3) رواه عنه الطبري في 2/ 26. (¬4) وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 26، ورواه أيضا عن ابن عباس والسدي، كما رواه ابن أبي حاتم عنهما في "تفسيره" 1/ 255، وينظر: "زاد المسير" 1/ 158، قال الحافظ ابن حجر في "العجاب" 1/ 400: وحاصله أن الضمير في قوله: (يعرفونه) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في آية الأنعام بعيد، وأما في آية البقرة فمحتمل، وقد جاء أن الضمير للبيت الحرام، كذا قال مقاتل بن سليمان. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1247، ولم ينسبه لأحد، ورواه الطبري في "تفسيره" 2/ 26 - 27، وابن أبي حاتم 1/ 256 عن مجاهد، كما رواه ابن جرير 2/ 27، عن قتادة وخصيف بن عبد الرحمن. (¬6) روى الطبري في "تفسيره" عن قتادة 2/ 27 ما يوافق القول الأول. (¬7) رواه عنه الطبري 2/ 27، وابن أبي حاتم 1/ 256. (¬8) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 148، وعزاه في "زاد المسير" 1/ 158 إلى السدي، وقد جمع الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1247 بين القولين.

147

وقوله تعالى: {وَهُمْ يعَلَمُونَ} لأن الله بيّن ذلك في كتابهم. 147 - ثم قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي: هذا الحق من ربك (¬1). وقوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} لفظ خاص، ومعناه العموم، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد غيره (¬2). والمعنى: فلا تكونن من الممترين في الجملة التي أخبرتك من أمر القبلة، وعناد من كتم النبوة، وامتناعهم من الإيمان بك (¬3)، والمِرْيَة: الشك، ومنه: الامتراء والتماري (¬4). 148 - قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} مختصر، أراد: ولكل أهل دين وِجهة (¬5). والوِجهة: اسم للمتوجَّه إليه. وقيل: الوجهة: الجهة. قال الفراء: تقول العرب: هذا أمر ليس له وِجْهَةٌ، وليس له وَجْه (¬6). قال: وسمعت العرب تقول (¬7): وجِّه الحجر، وجِهةٌ مَّا لَه، وَوِجهةٌ مَّا لَه، ووَجهةٌ مَّا لَه (¬8)، وجِهة مَّا له، ووَجْه ما له، معناه: ضعه غير هذه ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1247. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 124، وقال: وكل ما ورد عليك من هذا النحو فهو سبيله. (¬3) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 21، 22، "تفسير القرطبي" 2/ 149 - 150. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 27، "زاد المسير" 1/ 158، "تفسير القرطبي" 2/ 150، وقال الراغب في "المفردات" ص 469: المرية: التردد في الأمر، وهو أخصمن الشك، والامتراء والمماراة: المحاجة فيما فيه مرية. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1248. (¬6) في "معاني القرآن" للفراء 1/ 90 زيادة: وليس له جهة. (¬7) سقطت من (م). (¬8) في "معاني القرآن" 1/ 90، وسمعتهم يقولون: وجه الحجر، جهةٌ ما له، ووجهة ما له، ووجهٌ ما له. وينظر: "اللسان" 8/ 4775، "تهذيب اللغة" 4/ 3842 "وجه".

الوَضْعة، والضِّعة والضَّعَة (¬1). وأصله في البناء (¬2)، يقولون: إذا رأيت الحجر في البناء لم يقع موقعه فأدِرْه، فإنه سيقع على جهته (¬3). قال أبو إسحاق: ومثله: وَضْعة وضِعَة وضَعَة (¬4). وقوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيهَا} ذكرنا معنى التولية في قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة: 144]. وقوله: {هُوَ} (¬5) ضمير اسم الله (¬6) وقد حذف من الكلام أحد مفعولي الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين وهو التولية، والتولية تقتضي (¬7) مفعولين، كقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} [البقرة: 144]. والتقدير هاهنا: الله موليها إياه، وإياه ضمير كل الموجَّه (¬8) المولَّى، وتولية الله إياه إنما هي بأمره له بالتوجه إليها، أو بإرادته ذلك، هذا قول أبي علي (¬9). ¬

_ (¬1) في (ش) لم يكرر: ما له. وليس فيها: والضعه والضعة. (¬2) في "معاني القرآن" للفراء 1/ 90: ويقولون: ضعه غير هذه الوضعة، والضِّعة والضَّعة، ومعناه: وجِّه الحجر فله جهة، وهو مَثَلٌ. (¬3) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 90 بتصرف، وينظر في معاني الكلمة: "المفردات" ص 529، "اللسان" 8/ 4776 (وجه). (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 225، ونصه: وكذلك يقال: ضَعَةٌ، ووَضْعة، وضِعَة. (¬5) قال ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 159: وفي هو ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: الله موليها إياهم، أي: أمرهم بالتوجه إليها. والثاني: ترجع إلى المتولي، فالمعنى: هو موليها نفسه، فيكون هو ضمير كل. والثالث: يرجع إلى البيت، قاله مجاهد، أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة. (¬6) قوله: (اسم الله) سقطت من (ش). (¬7) قوله: (أحد مفعولي ..) سقطت من (ش). (¬8) في (ش): (المؤخر). (¬9) ينظر: "الحجة" 2/ 239.

وقال أبو إسحاق: قال أكثر أهل اللغة (¬1): هو ضمير لكل، المعنى: هو مولّيها وَجْهَة، وجاء قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} على لفظ كل، ولو قيل: هم (¬2) مولّوها على المعنى كما قال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87]، كان حسنًا، يريد: كل أهل وجهة هم الذين ولّوا وجوههم إلى تلك الجهة (¬3)، ونحو هذا قال الفراء، فقال: هو مولّيها: مستقبلها، الفعل لكلٍ، يريد: كلٌّ مولّي وجهه إليها. والتولية في هذا الموضع: الإقبال، وفي {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} [آل عمران: 111] {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] نصراف، وهو كقولك في الكلام: انصرِفْ إليّ، أي: أقبِلْ إلي، وانصرف إلى أهلك، أي: اذهب إلى أهلك (¬4)، وهذا وجه آخر في ولّى، بمعنى: أقبل، وبمعنى: أدبر، غير ما ذكرنا في قوله {فَلَنُوَلّيَنَكَ} أنّ (ولّى) من الأضداد. قال الزجاج: وكلا القولين جائز (¬5)، أي: أن يكون {هُوَ} كناية عن الله تعالى. وأن يكون كناية عن كلّ. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للزجاج: قال بعض أهل اللغة. وهو أكثر القول. (¬2) في (أ)، (م): (هو). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 225، وليس عنده: وجاء قوله كان حسنًا، وقال في "البحر المحيط" 1/ 437: (وهو)، من قوله: (موليها)، عائد على (كل)، على لفظه، لا على معناه، أي: هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها، والمفعول الثاني لموليها محذوف؛ لفهم المعنى، أي: هو موليها وجهه أو نفسه، قاله ابن عباس وعطاء والربيع، ويؤيد أن هو عائد على كل، قراءة من قرأ: هو مولاها. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 85 بمعناه. (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 225.

وقرأ ابن عامر (¬1): (هو مولّاها) (¬2). وعلى هذه القراءة الكناية تعود إلى كل فقط، والمفعولان مذكوران، وذلك أنه حذف الفاعل، وأضاف المفعول الأول إلى المفعول الآخر، الذي هو ضمير المؤنث العائد إلى الوجهة، أي: كلٌّ وُلِّي جهةً، وهذه القراءة تؤول في المعنى إلى القراءة الأولى (¬3)؛ لأن التولية في المعنى استقبال، وما استقبلك فقد استقبلته، وما استقبلته فقد استقبلك. وقال أبو (¬4) الحسن النحوي فيما قرأته عليه: من قرأ بفتح اللام فحجته قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} فلما كان الله هو الذي يولّي القبلةَ فالإنسان مولًّى (¬5) إياها، ومن قرأ بكسر اللام قال: لما كان الله هو الذي يولّي المتوجه القبلة؛ كان إسناد التولية إليه أولى. وموضع {هُوَ مُوَلِّيهَا} رفع؛ لأنها جملة وقعت صفةً لقوله {وِجْهَةٌ} (¬6). وقال الحسن في هذه الآية: هو كقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 67] (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): (عباس). وعند الفراء في "معاني القرآن" 1/ 85: وقرأ ابن عباس وغيره. وكذا عند الطبري 2/ 29. (¬2) ينظر: "السبعة" ص 171، "الكشف" لمكي 1/ 267، "النشر" 2/ 223. (¬3) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 240، وزاد: ألا ترى أن في (موليها) ضمير اسم الله عز وجل، فإذا أسند الفعل إلى المفعول به، وبناه له، ففاعل التولية هو الله تعالى، كما كانت القراءة الأخرى كذلك. (¬4) في (ش) سقطت (أبو). (¬5) في (ش) و (م): كتبت (مولي) بنقطتين. (¬6) ينظر: "التبيان" للعكبري ص 99 - 100، "البحر المحيط" 1/ 437. (¬7) وفي "البحر المحيط" 1/ 437: وقال الحسن: وجهة: طريقة، كما قال: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا).

وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} قال أهل التفسير: أراد: إلى الخيرات، فحذف حرف الجر (¬1)، كقول الراعي: ثنائي عليكم يَا ابْنَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ ... سواكم فإني مهتدٍ غيرُ مائل (¬2) قال النحويون: ودعوى (¬3) الحذف لا يطرد هاهنا، وليس (¬4) الحذف من ضرورة هذا الكلام، فإن العرب تقول: استبقنا موضع كذا، أي: قصدناه متسابقين، كقوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف: 25] وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس: 66] وقلَّ ما تراه مستعملا مع الخافض. وقوله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ} قال الفراء: إذا رأيت حروف الاستفهام قد وُصِلت بـ (ما) مثل: أينما، ومتى ما، وكيف ما {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الإسراء: 110] كانت جزاء ولم تكن استفهامًا. فإذا لم توصل بـ (ما) كان الأغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء، فإذا كانت جزاءً جزمت الفعلين، الفعلَ الذي مع أينما وأخواتها، وجوابَه، كقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ}. فإذا أدخلت الفاء في الجواب، رفعت الجواب فقلت في مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك، ومثله قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} [البقرة: ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1249، "تفسير البغوي" 1/ 164،"البحر المحيط" 1/ 439، "الدر المصون" 1/ 407. (¬2) البيت للراعي النميري، في مدح يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ينظر "ديوانه" ص 191، "تفسير الثعلبي" 1/ 1249، "البحر المحيط" 1/ 439، "الدر المصون" 1/ 407 وموضع الشاهد قوله: ومن يمل سواكم، أراد: ومن يمل إلى سواكم. (¬3) في (ش): (ومعنى دعوى). (¬4) سقطت من: (ش).

126]. فإذا كانت استفهامًا رفعت الفعل الذي يلي: أين، وكيف، ثم تجزم (¬1) الفعل الثاني؛ ليكون جوابًا للاستفهام بمعنى الجزاء، كما تقول: هل أدلك على بيتي تأتني؟ (¬2). فإذا (¬3) أدخلْتَ في جواب الاستفهام فاءً نصبتَ، كما تقول: هل أدلك على بيتي فتأتيني؟ قال: ومثله قوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] (¬4). وقال أبو إسحاق: إنما تجزم ما بعدها، لأنها إذا وصلت بما جزمت ما بعدها، وكان الكلام شرطًا، وكان الجواب جزمًا كالشرط، وإن كانت استفهامًا، نحو: أين زيد؟ فأجبته أجبت بالجزم، تقول: أين بيتُك أزرْكَ؟ المعنى: إن (¬5) أعرف بيتك أزرك (¬6). قال أبو علي، فيما استدرك عليه (¬7): لا فائدة تحت قوله: إنها إذا وصلت بما جُزِمت (¬8)؛ لأنها تجزم ما بعدها في الشرط والجزاء، وُصلت ¬

_ (¬1) في (م): (وجزمت). في (أ)، (م): (فإن). (¬2) ذكر الفراء في "معاني القرآن" 1/ 86 مثالا غير هذا، فقال: كما قال الله تبارك وتعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم أجاب الاستفهام بالجزم، فقال: تبارك وتعالى: (يغفر لكم ذنوبكم). (¬3) في (أ)، (م): (فإن). (¬4) من "معاني القرآن" للفراء 6/ 85 - 86. (¬5) في (ش): (أين). (¬6) بتصرف يسير من، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 226. (¬7) يعني في كتاب "الإغفال" لأبي علي الفارسي. (¬8) كرر كلام أبي إسحاق في نسخة (ش) وهو زيادة لا داعي لها.

بـ (ما)، أو لم توصل بها، فقوله إذن لا فائدة فيه، ولا نكتة تحته، كما لا فائدة في قول القائل: الفعل يرفعُ الفاعل إذا كان ماضيًا؛ لأنه يرفع ماضيًا كان أو آتيًا (¬1)، ومما جزم أين (¬2) من غير وصلها بـ (ما). قول الشاعر: أين تصرِفْ بنا الغداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتلاقي (¬3) (¬4) وأما التفسير: فلأهل التفسير في هذه الآية طريقان: أحدهما: التعميم. والثاني: التخصيص. فأما التخصيص فقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أراد: القبلة في الصلاة لكل أهل دين (¬5)، كما ذكرنا. وقوله {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} قال الزجاج: أي: فبادروا إلى القبول من الله عز وجل، وولّوا وجوهكم حيث أمركم الله أن تولوا (¬6). وعلى هذا {الْخَيْرَاتِ} على صيغتها من العموم، وهي مخصوصة؛ لأنه أراد الابتدارَ إلى استقبال الكعبة. وقوله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} قيل: إنه في ¬

_ (¬1) "الإغفال" ص 387. (¬2) في (ش): (أي). (¬3) البيت لابن همام السلولي في "الكتاب" 3/ 58، وبلا نسبة في "الإغفال" ص 389، "شرح ابن يعيش" 4/ 105، "المقتضب" 2/ 48، "شرح الأشموني" 3/ 580، والرواية في بعض نسخ "الإغفال" وبعض المصادر: أين تضرب بنا العُداة (¬4) من "الإغفال" ص 389، باختصار. (¬5) ينظر أثر ابن عباس والسدي وابن أبي زيد ومجاهد والربيع وعطاء في هذا: عند ابن جرير 2/ 28، 29، وابن أبي حاتم 1/ 256 - 257. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 226، وينظر أثر قتادة عند الطبري في "تفسيره" 2/ 30.

149

المؤمنين خاصة، ومعناه: إن الذي سبق في علم الله أنه يصلي إلى الكعبة، فأينما يكونوا في شرق الأرض وغربها، وفي أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، يجمعهم الله على التوجه إلى هذه القبلة، فهذا محمول على صرف وجوه الناس إلى الكعبة للصلاة والمناسك (¬1). وأما التعميم فقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: من أراد وجهَ الله قبِلَ اللهُ منه، ومن أراد غير ذلك فإن الله يجزيه (¬2)، يعني: ان من طلب في جميع ما يأتي وجهَ الله قبِلَ الله منه، ومن رايا وطلب غير الله بعلمه عَلِمَ الله ذلك منه. وهذا كما قال سعيد بن جبير في هذه الآية قال: لكلٍّ طريقةٌ هو مجبور عليها. وهذا كقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] وكقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} قال ابن عباس: يريد: تنافسوا فيما رغب فيه من الخير لكل عنده ثوابه (¬3) (¬4). 149 - وقوله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي: أينما تكونوا يجمعكم الله للحساب فيجزيكم بأعمالكم (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "زاد المسير" 1/ 159، "البحر المحيط" 1/ 439. (¬2) تقدم الحديث عن هذه الرواية. (¬3) تقدم الحديث عن هذه الرواية، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 30 حيث روى عن الربيع وابن أبي زيد ما يدل على العموم، وكذا ابن أبي حاتم 1/ 257، وينظر: "زاد المسير" 1/ 159، "البحر المحيط" 1/ 439، "التفسير الكبير" 4/ 131 - 133. (¬4) من قوله: (وقوله تعالى: ...) ساقط من (أ)، (م). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 30، والثعلبي 1/ 1249، "البحر المحيط" 1/ 439.

149

149 - قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} الهاء تعود على شطر المسجد، ويجوز أن تعود إلى التوجه المدلول عليه بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} (¬1)، ومعنى: {لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي: بأمره وحكمه (¬2). 150 - قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} إنما كرر هذا؛ لأن هذا من مواضع التوكيد؛ لأجل النسخ الذي نُقلوا فيه من جهة إلى جهة للتقرير (¬3). وقوله تعالى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} قيل: الحجة: فُعلة، من الحج الذي هو القصد، لأنها مقصودة للمخاصم، ومنه: المحجّة: لأنها تقصد بالسلوك. والمخاصمةُ يقال لها: المحاجّة؛ لقصد كل واحد من الخصمين إلى إقامة بينته وإبطال ما في يد صاحبه (¬4). وقوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} اختلف العلماء في وجه هذا الاستثناء، وهم في هذه الآية فريقان: فريق أوّلوا الآية على سياقها، وصححوا الاستثناء على ظاهره (¬5)، ¬

_ (¬1) وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 30، وينظر: "التبيان" للعكبري ص 100. (¬2) قال الطبري 2/ 30: وان التوجه شطره للحق الذي لا شك فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله. وقال في "البحر المحيط" 1/ 439. هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل. (¬3) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 165، "المحرر الوجيز" 2/ 24. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1250، "المفردات" ص 115، "لسان العرب" 2/ 779 (حجج). (¬5) بين أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 441 أن الاستثناء في الآية متصل، ونسبه إلى ابن عباس، قال: واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانًا حسنًا كان أولى من غيره.

وهم مجاهد (¬1) وعطاء (¬2) وقتادة (¬3) والربيع (¬4) والسدي (¬5) وابن جرير (¬6) وأبو روق (¬7) (¬8)، قالوا: الناس هاهنا اليهود، كانوا يحتجون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاتهم إلى بيت المقدس، ويقولون: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن، ويقولون: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا (¬9). وهذا كان حجتهم التي كانوا يحتجون بها على المؤمنين، على وجه الخصومة والتمويه بها على الجهال، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجة (¬10). ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون، فإنهم قالوا: قد تحيّر محمد في دينه، فتوجه إلى قبلتنا، وعلِم أنّا (¬11) أهدى سبيلًا منه، ويوشك ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 259، وذكره الثعلبي 1/ 1251. (¬2) رواه عنه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251. (¬4) رواه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 31 - 35. (¬7) هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي صدوق، صاحب تفسير، عده ابن حجر من طبقة صغار التابعين، ينظر: "تقريب التهذيب" ص 393 (4615)، "الجرح والتعديل" 3/ 382. (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1254. (¬9) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 31 - 32، 2/ 19 - 20، والثعلبي 1/ 1251، والبغوي 1/ 165، و"زاد المسير" 1/ 159 - 160، وزاد نسبة هذا القول لابن عباس وأبي العالية ومقاتل. (¬10) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1251، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 226 - 227، "البحر المحيط" 1/ 442. (¬11) في (ش): (أننا).

أن يرجع إلى ديننا (¬1)، فهؤلاء تبقى لهم (¬2) الخصومة. والحجةُ قد تكون بمعنى الخصومة، كقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم} [الشورى: 15]، أي: لا خصومة (¬3). قال أبو روق: حجة اليهود أنّهم كانوا قد عرفوا أنّ النبيّ المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة، وأنه يحوَّل إليها، فلما رأوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى الصخرة واحتجوا بذلك، فصرفت قبلته إلى الكعبة؛ لئلا يكون لهم عليه حجة إلا الذين ظلموا منهم (¬4)، يريد: إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يُحَوَّل إلى الكعبة. وقال المفضَّل بن سلمة (¬5): المراد بالناس في هذه الآية: جميع الناس، كانوا يحتجّون على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه (¬6) لو كان نبيًّا لكانت له قبلة، ولم يصلّ إلى قبلة اليهود، فلما حُوِّلت قبلته إلى الكعبة، بطل هذا الاحتجاج، إلا أن الظالمين يتعنتون ويخاصمون. فيقول المشركون ومن دان بدينهم: ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الطبري في "تفسيره" 2/ 32 - 34، وابن أبي حاتم 1/ 258، بسنده عن أبي العالية، ثم ذكر عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس والضحاك، وينظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 1251، والبغوي 1/ 156. (¬2) في (أ)، (م): (فهو لانتقالهم الخصومة). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 31، "تفسير الثعلبي" 1/ 1252. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1254، والبغوي 1/ 165، وقد ذكر الرازي في "تفسيره" 4/ 140 أربعة أوجه لتأويل كون الاستثناء متصلًا. (¬5) هو المفضل بن سلمة بن عاصم، أبو طالب الضبي، لغوي، كان كوفي المذهب في النحو، لقي ابن الأعرابي وغيره من العلماء، توفي في نحو 290 هـ كما في "الأعلام". ينظر: "إنباه الرواة" 3/ 305، "بغية الوعاة" 2/ 296 - 297، "الأعلام" 7/ 279. (¬6) في (م): (لأنه).

إنما رجع إلى الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه وهي الحق، وكذا يرجع إلى ديننا، ويقول اليهود: إنما انصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق؛ لأنه يفعل برأيه ويزعم أنه أُمِرَ به. وهذا مذهب أبي إسحاق، فإنه يقول: المعنى: لأن لا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك علي حجة، وحجته داحضة عند الله -عز وجل- قال الله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} [الشورى: 16]، فسماها حجة مع بطلانها. وعلى هذا المذهب موضع (الذين) خفض على البدل من الناس: كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد. ويجوز أن يكون موضعه نصبًا على الاستثناء، كما يستثنى بعد الإيجاب؛ كقوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] من رفعه جعله بدلًا من الواو، ومن نصبه نصبه على الاستثناء (¬1)، وكذلك: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81]، رفعًا ونصبًا (¬2). وأما الفريق الثاني فإنهم لم يصححوا الاستثناء، وعدلوا به عن ظاهره، وهم الأخفش والمؤرج والفراء ومعمر بن المثنى. قال الفراء والمؤرج: هذا استثناء منقطع من الكلام الأول، ومعناه: لأن لا يكون للناس كلهم عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجّونكم بالظلم. هذا معنى قولهما، ثم قال الفراء: وهو كما تقول في الكلام: الناس كلهم حامدون إلا الظالم لك، فإن ذلك لا يُعتدّ به وبتركه الحمد لعداوته لك، وكذلك: الظالم لا حجة له وقد سمّي ظالمًا. ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر بنصب قليل والباقون برفعها، ينظر: "السبعة" ص 235. (¬2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو إلا امرأتك برفع التاء. والباقون بنصبها. ينظر: "السبعة" ص 338.

قال ابن الأنباري: (إلاَّ) في الاستثناء المنقطع له معنيان: أحدهما: أن يكون الذي بعدها مستأنفًا، يلابس الأول من جهة عائد عليه منها، أو معنى يقرب به منه، كقول القائل: قعدنا نتذاكر الخير وما يقرّبنا من الله، إلا أن قومًا يبغضون ما كنا فيه. فالذي بعد (إلا) مستأنف، يلبس بالأول من جهة المعنى، وذلك بغضهم لما كانوا فيه، فتأويل إلا: لكن قومًا. ولو لم يلتبس ما بعد (إلا) بما قبلها من وجه لم يكن الاستثناء معنى على جهة إيصال ولا انقطاع، ولذلك يقول النحويون: (إلا) في الاستثناء المنقطع بمنزلة (لكن)، لأن الذي بعد (لكن) مستأنف. وبهذا قال الأخفش في هذه الآية، لأنه قال: معناه: لكن الذين ظلموا، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] يعني: لكن الذين يتبعون الظن {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:19 - 20]، يعني: لكن يبتغي، فيكون منقطعًا من الكلام الأول. وأما المتصل فإنه يخرج من أسماء تشاكله ومن فعل يخالف بخروجه منه ما قبله من الأسماء المذكورة، كما تقول: خرج القوم إلا زيدًا، فزيد من جنس القوم قد خالفهم بترك الخروج. والمنقطع لا يكون مخرجًا من الأسماء التي قبل إلا في الظاهر، ولكن من معنى من معاني الكلام يجب به الملابسة كما ذكرنا. والمعنى الثاني في الاستثناء المنقطع: أن يكون مؤكدًا لما قبله، وذلك أن الرجل إذا قال: ارتحل الناس إلا الأثقال، أكّد ارتحال الناس بقوله: إلا الأثقال، وذهب إلى أنه إذا لم يبق إلا الأثقال، كان القوم كلهم مرتحلين، وكان تأويله: ارتحل الناس كلهم. وكذلك: مضى العسكر إلا الأبنية والخيام، معناه: مضوا أجمعون؛ لأنه إذا لم يبق إلا بناء وخيمة كان

القوم غير متخلف منهم واحد. ومنه قوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] معناه: لكن ما قد سلف وأنتم غير مؤاخذين، فهو مستأنف يلابس الأول، إذ كان أخرج من الأمور التي فيها المآثم والأوزار، فجعل لا مأثم فيه ولا وزر، ومثله قول النابغة: ......... وما بالربع من أحد إلا أواري ......... (¬1) معناه: لكن، وضم الاستثناء؛ لأنها كانت مستثناة ممن كان بالربع، فالربع كان يشملهم، وهذا ملابسة بينهما، وأيضًا فإن هذا التأكيد لخلو الأرض؛ لأنه إذا لم يبق في الدار إلا الأواري كان خلوها من الإنس متيقنًا. فهذان المعنيان ذكرناهما في الاستثناء المنقطع تحتملهما الآية؛ لأن الظالمين وإن لم يكن لهم حجة فهم يموّهون ويحتجون بالباطل، وأيضًا: فإنه إذا لم يكن لأحد عليهم حجة إلا من كان ظالمًا كان في هذا تأكيدًا لنفي الحجة. فعلى المذهب الأول: الظالمون كانوا ظالمين بشركهم وكفرهم، وعلى المذهب الثاني: كانوا ظالمين لاحتجاجهم بما لا متعلق لهم به. وموضع (الذين) على هذا القول -وهو قول الفريق الثاني- نصب على أكثر العرب؛ لأنهم ينصبون ما كان من الاستثناء المنقطع كقوله: إلا أواريّ ...... ¬

_ (¬1) تمام البيتين: وقفتُ بها أصيلانًا أسائلها ... عيَّتْ جوابًا وما بالربع من أحدِ إلا الأواريَّ لأيًا ما أبينها ... والنؤيُ كالحوض بالمظلومة الجَلَدِ ينظر: "ديوانه" ص 9، "الأغاني" 11/ 27، "الخزانة" 2/ 122.

غير أن بني تميم يجيزون البدل، كما يكون الاستثناء متصلًا، وعلى لغتهم ينشد: وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلّا اليعافيرُ وإلّا العِيسُ (¬1) فجعل اليعافير بدلًا من الأنيس. والقرآن نزل بلغة أهل الحجاز فلذلك نصب كل مستثنى منقطع من الأول، كقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وقوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} ثم قال: {إِلَّا رَحْمَةً} [يس:43 - 44] وكذلك قوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} [الليل: 20] (¬2). وقال معمر بن المثنى: إلا هاهنا معناها: الواو، فهو عطفٌ عُطِف به {الَّذِينَ} على {النَّاسِ}. والمعنى: لئلا يكون للناس والذين ظلموا عليكم حجة (¬3)، واحتُجَّ على هذا المذهب بأبيات منها (¬4): ¬

_ (¬1) الرجز لجران العود في "ديوانه" ص 97، "لسان العرب" 7/ 3938 (كنز)، وأوضح المسالك 2/ 261. (¬2) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 165، وقال في "البحر" 1/ 442 مبينا مثار الخلاف بين من قال بالاتصال والانقطاع هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح، أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول: فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني: فهو استثناء متصل. (¬3) ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 60 - 61، و"تفسير الثعلبي" 1/ 1255، و"تفسير البغوي" 1/ 166. (¬4) احتج أبو عبيدة بهذه الأبيات: الأول للأعشى: إلا كخارجةَ المكلِّفِ نفسَه ... وابني قبيصة أن أَغيبَ وأشهدا ومعناه: وخارجة. والثاني: لعنز بن دجاجة المازني: من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونُه جَرِبتْ معَا وأغدَّتِ إلا كناشرةَ الذي ضيّعتمُ ... كالغصن في غُلَوائه المتنبِّتِ يريد وناشرة الذي ضيعتم.

وكل أخٍ مفارقُهُ أخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدان (¬1) فقال: أراد: والفرقدان أيضًا يفترقان. وما أنشده الأخفش (¬2): وأرى لها دارًا بأغْدِرَةِ السِّيـ ... ـدَانِ لم يَدْرُس لها رَسْمُ إلّا رَمَادًا خامدًا دَفَعَتْ ... عنهُ الرِّياحَ خَوَالِد سُحْمُ (¬3) أراد: أرى دارًا ورمادًا (¬4). وهذا القول عند الفراء خطأ (¬5)؛ لأن (إلا) (¬6) لا يُخرج عن الاستثناء إلى النسق حتى يتقدمها عدد لا يصلح أن يستثنى منه، فتجري مجرى الواو إذا بطل فيها معنى الاستثناء، بيانه: قولك: لي على فلان ألفٌ إلا عشرةً إلا ¬

_ (¬1) البيت. نسب لعمرو بن معدي كرب، ينظر: "ديوانه" ص178، "الكتاب" 2/ 334، "المؤتلف والمختلف" ص 151، ولعمرو أو لحضرمي في "خزانة الأدب" 3/ 421. وهو بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 1/ 1255، "لسان العرب" 6/ 3402 "فرقد". والفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 152. (¬3) البيت للمُخَبَّل السعدي، ينظر: "ديوانه" ص 312، "تفسير الثعلبي" 1/ 1256، "لسان العرب" 2/ 1225 (خلد)، "المفضليات" ص 113 - 114. والأغدرة: جمع غدير، السِّيدان: أرض لبني سعد. الخوالد: البواقي وعنى بها: الأثافي. سحم: ذات لون يضرب إلى السواد. (¬4) سقط من (ش). (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 89، وخطأه أيضًا الطبري في "تفسيره" 2/ 33 - 34، وقال في "البحر المحيط" 1/ 442: وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة يضعَّف في النحو، ثم نقل تخطئة الزجاج لهذا القول. (¬6) كتبت في (ش): (لئلا).

مائةً، لا يصلح استثناء المائة من العشرة، فعادت المائة إلى الألف لا بالاستثناء ولكن بالعطف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت: اللهم إلا مائة فالمعنى: لي عليه ألف ومائة، وكما قال الشاعر: ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفة إلا دارُ مروانا (¬1) كأنه قال: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان (¬2). فعند الفراء إنما تكون (إلا) (¬3) بمنزله الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، لا يصلح أن يكون الثاني استثناء من الأول، كما بيّنا، ومن الناس من صوّب أبا عبيدة في مذهبه، وصحح قوله بما احتج به من الشعر. وقال قطرب: الاستثناء في هذه الآية من الضمير في {عَلَيْكُمْ}، المعنى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا منهم فإن عليهم الحجة (¬4)، وهذا الوجه اختيار أبي منصور الأزهري. حكاه لي أحمد بن إبراهيم المقبري -رحمه الله- عن الحسن بن محرم، عنه. قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا عندي بعيد رديء (¬5)؛ لأن المكني المخفوض لا ينسق عليه إلا بإعادة الخافض، ولأن (¬6) الكاف والميم في عليكم، للمخاطبين، فلو استثنى الذين ظلموا منهم لقال: إلا الذين ظلموا ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق في "الكتاب" 2/ 340، وليس في "ديوانه"، وبلا نسبة في "تذكره النحاة" ص 596، "المقتضب" 4/ 425. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 89 - 90. (¬3) سقطت من (ش). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1257، "التفسير الكبير" 4/ 140، "البحر المحيط" 1/ 442، وممن ضَّعف هذا: الطبري في "تفسيره" 2/ 34. (¬5) ساقط من (أ)، (م). (¬6) في (ش): (ولكن).

منكم، فلما قال: (منهم) دلّ بالغيبة على أنّ الذين ظلموا لم (¬1) يُستثنَوا من الكاف والميم. وقوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} الكناية ترجع إلى الذين ظلموا، والمعنى: لا تخشوهم في انصرافكم إلى الكعبة، وفي تظاهرهم عليكم في المحاجّة والمحاربة (¬2)، فإني وليكم، أُظْهركم عليهم بالحجة والنصرة (¬3). {وَاخْشَوْنِي} في تركها ومخالفتها (¬4). {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عطف على قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (¬5)، ولكن (¬6) أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية (¬7). قال عطاء: عن ابن عباس: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} يريد: في الدنيا والآخرة، أما الدنيا: فأنصركم على عدوكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأولادهم، وأما في الآخرة: ففي رحمتي وجنتي، وأزوجكم من الحور العين (¬8). وقال علي - رضي الله عنه -: تمام النعمة: الموت على الإسلام. ¬

_ (¬1) في (ش): (من). (¬2) في (ش): (والمجابهة). (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1257. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1257، والطبري 2/ 35، و"معالم التنزيل" 1/ 166. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1258، "البحر المحيط" 1/ 422، "التبيان" ص 105. (¬6) هكذا وردت في الأصول، ووردت في "الثعلبي": ولكي. وهي أوضح في المعنى. (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1258، والطبري 2/ 35، والبغوي 1/ 166. (¬8) تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة.

151

وعنه أيضًا: النعم ست: الإسلام (¬1) (¬2)، والقرآن، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، والستر، والعافية، والغنى عما في أيدي الناس (¬3). وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ذكرنا معنى (لعل) فيما تقدم (¬4)، ونظمُ الكلام يوجب طرح الواو؛ لأن معناه: ولأتم (¬5) نعمتي عليكم لعلكم تهتدون بنعمتي، إلا أنه قد يحسن استعمال الواو في مثل هذا الموضع، ويستفاد منه أن يكون ما بعده جملة مبتدئة تتضمن الاتصال بما سبق من الكلام، ويحسن حذف الواو فيكون حينئذ اتصالًا محضًا لا يتضمن استئناف جملة، مثاله: أن تقول: أعطيتك وأكرمتك أرجو رُشْدك، ويحسن أن تقول: وأرجو رُشْدك، أي: بالإكرام والإعطاء، وإن كانت جملة مبتدئة. 151 - قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} الآية، تكلم النحويون وأرباب المعاني في أن الكاف في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا} بماذا تتعلق، فذكروا فيه قولين (¬6)، أحدهما: أنه متعلق بما قبله، وهو من صلة {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي}، فيكون المعنى: ولأتم نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولًا، أي: ¬

_ (¬1) ساقطة من (ش). (¬2) ذكره عنه الثعلبي 1/ 1258، والبغوي 1/ 166. (¬3) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1258، وذكر أبوحيان في "البحر المحيط" 1/ 443: ثمانية أقوال في معنى تمام النعمة، قال فيها: صدرت مصدر المثال، لا مصدر التعيين، وكل فيها نعمة. (¬4) وقد ذكر الثعلبي في هذا الموضع من "تفسيره" 1/ 1258 - 1260: معاني لعل. (¬5) في (ش): (لأتم). (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 36، والثعلبي 1/ 1262.

أتم هذه كما أتممت تلك، وبيان هذا: ما ذكر محمد بن جرير، قال: إن إبراهيم عليه السلام دعا بدعوتين: إحداهما: قوله {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة: 128]. الثانية: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالله تعالى قال: {وَلِأُتِمَّ نِعمَتِى} ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} يعني (¬1): فكما أجبتُ دعوته بابتعاث الرسول، كذلك أجيب دعوته بأن أهديكم لدينه، وأجعلكم مسلمين، فيكون هذا إجابةً لدعوته حيث قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً} (¬2) وهذا الوجه اختيار الفراء (¬3). القول الثاني: أن {كَمَا أَرْسَلْنَا} جواب لقوله: {فَاذْكُرُونِي} معناه: فاذكروني أذكركم كما أرسلنا، فيكون هذا بمنزلة جزاءٍ له جوابان، أحدهما: مقدم، والآخر: مؤخر، ومثله من الكلام: إذا أتاك عبد الله فأتِه (¬4) تُرْضِه، فقد صارت فأتِه ترْضِه جوابين (¬5). ¬

_ (¬1) في (ش): (معنى). (¬2) "تفسير الطبري" 1/ 35 - 36 بتصرف. ورجحه مكي بن أبي طالب في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 114، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 444. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 92، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1262. (¬4) في (ش): كتبت: (فأنه). (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 92، وذكر الثعلبي في "تفسيره" 1/ 262، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 444 أن هذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم، وردّ الطبري في "تفسيره" 2/ 36 قول من قال: معنى الآية: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم =

قال ابن الأنباري: وفسر بعض (¬1) أصحابنا هذا تفسيرًا شافيًا. فقال: (كما) شرط، والفاء في قوله: {فَاذْكُرُونِي} جوابه، و {أَذْكُرْكُمْ} جواب الشرط المقدر من الأمر في {فَاذْكُرُونِي} وكذلك: إذا أتاك عبد الله فأتِه تُرضِه، (إذا) محمولة على معنى الشرط، والفاء جواب (¬2) له، فلما جعل له جواب لشرط مقدر من الإتيان، قال: ولو اقتصر على قوله: {فَاذْكُرُونِي} كان (كما) جوابًا له، فلما جُعِلَ له جوابٌ كان (كما) مذهوبًا به مذهب الشرط. وهذا القول موافق لتفسير الآية؛ لأن الآية خطاب لمشركي العرب (¬3)، خاطبهم الله تعالى بما دلّهم على إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} محمدًا، وهو رجل منكم أمي، تعلمون أنه لم يتلُ كتابًا، فأنبأكم (¬4) بأخبار الأنبياء، أىِ: فكما أنعمت عليكم بإرساله {فَاذْكُرُونِي} ¬

_ = وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، فأغربوا النزع وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسوى وجهه المفهوم. ثم فسر ذلك، ثم ذكر الرد على من قال بالجزاء الذي له جوابان، فقال: وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. وذكر في "البحر المحيط" 1/ 444: أن مكي بن أبي طالب رد هذا القول، وقال: لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به فاقبله لاشتغاله بجوابه، وقد رد كلامه أبو حيان في "البحر" وفصَّل. (¬1) في (م): (وفسر هذا). (¬2) في نسخة (ش): (والفاء جوابها وترضه جواب الشرط مقدر من الإتيان ..) والمثبت من نسختي (أ)، (م). (¬3) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 1/ 1262. (¬4) سقطت من (ش).

152

بتوحيدي، وتصديقه {أَذْكُرْكُمْ} برحمتي ومغفرتي والثناء عليكم (¬1). قال ابن عباس: قوله: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ} قال: هذا كله للمهاجرين والأنصار، فأوّل الآية الخطابُ عامٌّ؛ لأن الإرسال عام، وباقي الآية خاص؛ لأن تلاوته وتعليمه وتزكيته مما خص الله به أقوامًا دون (¬2). ومعنى قوله: {وَيُزَكِّيكُمْ} أي: يعرضكم لما تكونون به أزكياء، من الأمر بطاعة الله، واتباع مرضاته (¬3)، ويحتمل أن يكون المعنى: ينسبكم إلى أنكم أزكياء بشهادته لكم؛ ليعرفكم الناس به، وقد ذكرنا معنى التزكية فيما تقدم (¬4). 152 - قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أصل الذكر في اللغة: التنبيه على الشيء، ومن ذكّرك شيئا فقد نبهك عليه، وإذا ذكرته فقد تنبهت عليه، والذَّكرُ أَنْبَهُ من الأنثى. وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} [الزخرف: 44] أي: شرف لك، من النباهة. ومعنى الذكر: حضور المعنى للنفس، ثم يكون تارة بالقلب، وتارة بالقول، وليس موجبه أن يكون بعد النسيان؛ لأنه يستعمل كثيرًا دون أن يتقدمه نسيان (¬5). ¬

_ (¬1) من كلام الزجاج 1/ 228، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 37، والثعلبي 1/ 1262 - 1265، والبغوي 1/ 167. (¬2) سقط في نسختي: (أ)، (م). وأما في (ش) فبياض بمقدار كلمة ولعلها (أقوام). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 36 - 37. (¬4) ينظر ما تقدم في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129]. (¬5) ينظر في الذكر: "البحر المحيط" 1/ 445 - 446، "لسان العرب" 3/ 1507 - 1509 (ذكر)، وقال الراغب في "المفردات" ص 184: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر.

قال سعيد بن جُبير: (اذكروني) بطا عتي {أَذْكُرْكُمْ} بمغفرتي (¬1). وقيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة (¬2). وقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي} تقول العرب: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له، في أحرف تسمع ولا تقاس. فمن قال: شكرتك، أوقع اسم المنعم موقع النعمة، فعدّى الفعل بغير وسيطة، والأجود: شكرت لك؛ لأنه الأصل في الكلام، والأكثر في الاستعمال (¬3). والنعمة محذوفة من الآية؛ لأن معنى الكلام: واشكروا لي نعمتي؛ لأن حقيقة الشكر إنما هو إظهار النعمة، لا إظهار المنعم. وكذلك {وَلَا تَكْفُرُونِ} أي: لا تكفروا نعمتي (¬4)؛ لأن أصل الكفر إنما هو ستر النعمة (¬5) لا ستر ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 37، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 314، وذكره الثعلبي 1/ 1263، وعزاه في "الدر" 1/ 273 إلى عبد بن حميد، وأخرجه أبو الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن ابن عباس مرفوعًا. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1267. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 37 - 38، "المفردات" ص 268، "لسان العرب" 4/ 2305 (شكر)، قال: يقال: شكرته، وشكرت له، وباللام أفصح، وقال الفراء في "معاني القرآن" 1/ 92: العرب لا تكاد تقول شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك، ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا. وقال في "البحر المحيط" 1/ 447: وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدى بحرف الجر، وتارة تتعدى بنفسها وقالوا: إذا قلت شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله. واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1269، "البحر المحيط" 1/ 447. (¬5) ينظر في الكفر: "تفسير الطبري" 2/ 37 - 38، وقال في "المفردات" ص 435: وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا.

المنعم. والأصل: لا تكفروني (¬1) بالياء، إلا أن أكثر ما جاء في القرآن حذف الياءات مع النون (¬2) (¬3)، وقد حذفت مع غير النون، كقوله: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} (¬4) [ق: 41]. قال الفراء: وليست تتهيّب العرب حذف الياء من آخر الكلام (¬5)، إذا كان ما قبلها مكسورًا، من ذلك {أَكْرَمَنِ} {أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] و {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36]، ومن غير النون {الْمُنَادِ} [ق:41] و {الدَّاعِ} [القمر: 8]، (¬6) يكتفي من الياء بكسر ما قبلها، ومن الواو بضمة ما قبلها، مثل: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 18]، و {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11]. وقد تُسقط العرب الواو، وهي واو جِمَاع (¬7)، اكتفاءً بالضمة قبلها، فيقال في {ضَرَبُوا}: ضَرَبُ، وفي {قالوا}: قالُ، وهي في هوازن وعُليا قيس. قال بعضهم: إذا ما شاءُ ضرّوا من أرادوا ... ولا يألوهم أحدٌ ضرارا (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) في (ش)، (م): (لا تكفرون). (¬2) (النون) سقطت من (م). (¬3) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 186، "المقتضب" 4/ 246. (¬4) في (م): (ينادى المنادي). (¬5) في (م): (النون). (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 228، وقال فيه: الأكثر الذي أتى به القراء حذف الياءات مع النون. (¬7) في (ش): (اجماع). (¬8) (ما) ساقطة من (أ)، (م). وفيهما: "ضرار". وفي (م)، (ش): (ضربوا)، وهو تحريف. (¬9) البيت بلا نسبة في "الإنصاف" ص 430، "همع الهوامع" 1/ 58، وأورده البغدادي في "شرح شواهد المغني" 2/ 859، وقال: هذا البيت مشهور في تصانيف =

153

وأنشد الكسائي: فلو أنّ الأطِبّا كانُ حولي ... وكان مع الأطبّاءِ الأُسَاةُ (¬1) (¬2) 153 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} قال مقاتل: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تمحيص الذنوب (¬3). وذكرنا أن معنى الصبر في اللغة: الحبس (¬4)، فالاستعانة بالصبر هو أن يستعين على دينه بحبس النفس عن (¬5) الشهوات والمحارم، وحبسها على (¬6) الطاعات (¬7). ومعنى الاستعانة بالصلاة: قال الزجاج: أي: أنكم إذا صليتم تلوتم في صلاتكم ما تعرفون به فضل ما أنتم عليه، وكان ذلك لكم عونًا (¬8). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} قال عطاء، عن ابن عباس: ¬

_ = العلماء، ولم يذكر أحد منهم قائله. وذكر الفراء في "معاني القرآن" 1/ 91 بيتًا هو: متى تقول خلت من أهلها الدار ... كأنهم بجناحي طائر طاروا (¬1) البيت بلا نسبة في "أسرار العربية" ص 317، "جواهر الأدب" ص 208، وينظر: "الخزانة" 2/ 385. والأُساة: جمع آس، وهو هنا: من يعالج الجرح. (¬2) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 91. (¬3) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 150، وعبارته: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلوات في مواقيتها نحو الكعبة، حين عيرتهم اليهود بترك قبلتهم. (¬4) ينظر في الصبر ومعناه وحقيقته: كتاب ابن القيم الماتع: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين". (¬5) في (ش): (من). (¬6) في (ش): (عن). (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 38. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 229.

154

يقول: إني معكم أنصركم ولا أخذلكم (¬1). وقال أبو اسحاق: تأويله: أنه يظهر دينهم على سائر الأديان؛ لأن من كان الله معه فهو الغالب، كما قال عز وجل: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] (¬2). 154 - قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} يرتفع بإضمار المكني، تقريره: لا تقولوا: هم أموات. ولا يجوز إيقاع القول على الأسماء، لا يجوز أن تقول: قلتُ عبد الله قائمًا، وإنما يجوز إيقاع القول على (¬3) اسم في معنى قول، من ذلك قولك: قلت خيرًا، وقلت شرًا، نصبتهما؛ لأنهما قول، كأنك قلت كلامًا حسنًا أو قبيحًا (¬4). نزلت الآية في قتلى بدر من المسلمين، وذلك أن الناس كانوا يقولون لمن يقتل في سبيل الله: مات فلان، وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله هذه الآية (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 229. (¬3) من قوله: (الأسماء ..) ساقط من (ش). (¬4) بمعناه من كلام الفراء في "معاني القرآن" 93/ 1، "تفسير الطبري" 38/ 2 - 39، "المحرر الوجيز" 2/ 30 - 31، "البحر المحيط" 1/ 448. (¬5) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 150، وعدَّ أسماء القتلى، وأبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 169، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1269، والواحدي في "أسباب النزول" ص 47 - 48، والحيري في "الكفاية" 1/ 87، والسمعاني 2/ 100، والماوردي مختصرا في "النكت والعيون" 1/ 209، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 384 لابن منده في المعرفة، من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه سلسلة الكذب. وحكى ابن عطية في "المحرر" 2/ 30 - 31 في سببها، دون أن ينسبه إلى أحد، أن المؤمنين صعب عليهم فراق =

155

وقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ} أي: بل هم أحياء، والأحسن في حياة الشهداء، وكيفية وصفهم بها (¬1) ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أرواح الشهداء في أجوافِ طيرٍ خُضْرِ، تسرَحُ في ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها، وتأوي بالليل إلى قناديلَ من نورِ معلّقةِ بالعرش (¬2) ". وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} أي: ما هم فيه من النعيم والكرامة، وقيل {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} أنهم أحياء (¬3). فإن قيل: كيف لا يشعرون وقد أخبر الله بذلك؟ قلنا: أراد: لا يحسّون ذلك؛ لأنهم لا يشاهدون (¬4)، وهذا النوع من العلم مقتضى (¬5) الشِعْرِ، وذكرنا هذا في أول السورة (¬6)، وبيّنّا أنه لهذا المعنى لا يقال: الله يشعر. 155 - قوله تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} النون فيه للتأكيد، واللام جواب قسم ¬

_ = إخوانهم وقراباتهم، فنزلت مسلية لهم، تعظم منزلة الشهداء، فصاروا مغبوطين لا محزونا عليهم. ينظر: "العجاب" لابن حجر 1/ 403 - 405، "البحر المحيط" 1/ 448. (¬1) سقطت من (م). (¬2) أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود (1887) كتاب الإمارة، باب: بيان أن أرواح الشهداء في الجنة. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1270، "البحر المحيط" 1/ 448، وقال: ولكن لا تشعرون بكيفية حياتهم، ولو كان المعنى بأحياء: أنهم سيحيون يوم القيامة أو أنهم على هدى، فلا يقال فيه ولكن لا تشعرون؛ لأنهم قد شعروا به. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 40. (¬5) في (ش): (فيقتضي). (¬6) عند قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].

محذوف، وفتحت الواو لالتقاء الساكنين في قول سيبويه، وقال غيره: إنّها مبنية على الفتح (¬1). ومعنى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي: نعاملكم معاملة المبتلي؛ لأن الله تعالى يعلم عواقب الأمور، فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعرف العاقبة، ولكنه يعاملهم معاملة من يبتلي، فمن صبر أثابه على صبره، ومن لم يصبر لم يستحقّ الثواب، فيكون في ذلك إلزام الحجة (¬2). وقوله تعالى: {بِشَيْءٍ} ولم يقل: بأشياء، وقد ذكر بعده ما هو أشياء لمكان (من)، والمعنى: بشيء من الخوف وشيء (¬3) من الجوع، وهو كقول القائل: أعطني شيئًا من الدراهم، ومن الطعام، فيصير شيء كالمكرر في المعنى، ولو كان (بأشياء) كان صوابًا (¬4). قال ابن عباس: {مِنَ الْخَوْفِ} يعني خوف العدو (¬5)، {وَالْجُوعِ} يعني: المجاعة والقحط، {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} يعني: الخسران والنقصان ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 230، وعنده: وقال غيره من أصحابه، وتتمة كلامه: وقد قال سيبويه في لام يفعل، لأنها مع ذلك قد تبنى على الفتحة، فالذين قالوا من أصحابه: إنها مبنية على الفتح غير خارجين من قول له، وكلا القولين جائز. ينظر: "الكتاب لسيبويه" 3/ 518 - 521. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 41، "تفسير البغوي" 1/ 169. (¬3) في (م)، (ش): (شيئًا). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 2312، "تفسير الطبري" 3/ 41، "البحر المحيط" 1/ 450، وقال: أفرده ليدل على التقليل؛ إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروبًا من كل واحد مما بعده. (¬5) ذكره عن ابن عباس: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1274، والواحدي في "الوسيط" 1/ 236، و"البغوي" 1/ 169، "تفسير القرطبي" 2/ 159.

في المال وهلاك المواشي، {وَالْأَنْفُسِ} يعني: الموت والقتل. وقيل: المرض. وقيل: الشيب، {وَالثَّمَرَاتِ} يعني: الجوائح، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج (¬1). قال أبو إسحاق وابن الأنباري: تأويل الآية: ولَنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع لتصبروا عليه، فيكون صبركم داعيًا من يخالفكم من الكفار إلى أتباعكم والدخول فيما أنتم عليه، وذلك أنهم يقولون: لم يصبر هؤلاء القوم على هذا الدين الذي امتُحِنوا فيه بما امتُحِنوا ونالتهم فيه الشدائد إلا بعد ما قامت براهينُ صحته عندهم، ولم يداخلهم ريب في أنه هو الحق، فيكون ذلك أدعى إلى الإسلام (¬2). قال أبو بكر: وقيل في الآية: ولنختبرنّكم (¬3) بشيء من الخوف والجوع، لتنالوا به درجةً، وتصلوا معه إلى منزلة لولا هو ما وصلتم إليها، ولكي (¬4) تتضرعوا في كشفه عنكم، فتكتسبوا بذلك حظًا من الثواب جزيلًا. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: يعني بالخوف: خوف الله عز وجل، وبالجوع: صيام شهر رمضان، وبنقص من الأموال: أداء الزكوات والصدقات، والأنفس: الأمراض، والثمرات: موت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرة قلبه (¬5). وقد ¬

_ (¬1) هذا من رواية عطاء وقد تقدم الحديث عنها، وقد ذكر هذا بتمامه: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1274، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 169، "البحر المحيط" 1/ 450، (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 231. (¬3) في (ش): (لنختبرنكم). (¬4) في (م): (ولكن). (¬5) ذكره عن الشافعي: الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1274، والبغوي 1/ 169، والرازي 4/ 167، وأبو حيان في "البحر" 1/ 450، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 211، قائلًا: وقد حكى بعض المفسرين، ثم قال: وفي هذا نظر.

156

سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الولد ثمرة القلب (¬1) في بعض الأحاديث. وفي قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} دليل على أن من صبر على هذه المصائب أعطاه الله تعالى في العاجل والآجل ما هو أعمّ نفعًا له. 156 - قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} الآية، من الناس من يجعل {الَّذِينَ} مبتدأ، وخبره قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ} ومنهم: من يجعله صفة للصابرين (¬2). وقوله تعالى: {أَصَابَتْهُمْ} يقال في المصدر: الإصابة، والمُصَابة، والمُصَاب. أنشد الفراء: فلو أنّا بكينا من مُصَابِ ... على حَدَثٍ بكينا سَيِّدَيْنَا ¬

_ (¬1) رواه البزار عن ابن عمر، وفيه: أبو مهدي سعيد بن سنان، وهو ضعيف متروك، ينظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي 8/ 155، وينظر: "كنز العمال" 16/ 284، برقم 44485. وقد أخرج الترمذي في كتاب الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب 3/ 332، (1021) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم، قال: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم، قال: فماذا قال عبدي؟، قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد" وقال: هذا حديث حسن، ورواه عبد بن حميد [برقم 551]، وأبو نعيم في "زوائده على الزهد" لابن المبارك ص 108، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 210، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 1274، والبغوي في "تفسيره" 1/ 130، قال ابن حجر في "الكاف الشاف" ص 12 - 13. أخرجه أحمد [4/ 415] وغيره من حديث أبي موسى، وصححه ابن حبان، ورواه البيهقي في الشعب مرفوعًا وموقوفًا وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم 1408. الحديث بمجموع طرقه حسن على أقل الأحوال. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 451، وقال عن الأول: إنه محتمل، وعن الثاني: إنه ظاهر الإعراب، وذكر أيضا: أنه منصوب على المدح، أو مرفوع على إضمار هم على وجهين: إما على القطع، أو على الاستئناف.

وأنشد أيضًا: أظُلَيْمُ إن مُصَابَكمْ رَجُلًا ... أهدى السلامَ تحيةً ظُلْمُ (¬1) ومعنى المصيبة: هي التي تصيب بالنكبة، ولا يقال فيما يصيب بخير: مصيبة (¬2)، وياؤها منقلبة عن واو، هي عين الفعل. فأما جمعها: فحكى سيبويه: أن بعضهم قال في جمع مصيبة: مصائب فهمز، وهو غلط، وإنما هو مُفْعِلَة فتوهموها فَعِيلَة. قال: ومنهم من يقول: مصاوب، فجيء به عن الأصل والقياس. هذا كلامه (¬3)، ومثل هذا الغلط في جمع مصيبة على مصائب بالهمزة: قراءة من قرأ (معائش) بالهمز، وقد شرحنا ذلك مستقصى. قال أبو علي الفارسي: قول سيبويه: وتوهموها فعيلة، أي: توهموا ¬

_ (¬1) البيت للحارث بن خالد المخزومي في "ديوانه" ص 91، "الاشتقاق" ص 99، و 151، "الأغاني" 9/ 225، "خزانة الأدب" 1/ 454، "إنباه الرواة" 1/ 249، "اللسان" 4/ 2519، (صوب) "المقاصد النحوية" 3/ 502، "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" 7/ 190. وظليم: ترخيم ظليمة، ويروى: أظلوم، وظليم: هي أم عمران زوجة عبد الله بن مطيع وكان الحارث يُنْسب بها، ولما مات زوجها تزوجها. ورجلًا منصوب بمصاب، يعني: إن إصابتكم رجلًا، وظُلْمُ: خبر إن. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 451. (¬3) بمعناه من "الكتاب" لسيبويه 1/ 356، وقال الزجاج فيما نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1956 "صاب": أجمع النحويون على أن حكوا مصائب في جمع: مصيبة، بالهمز، وأجمعوا على أن الاختيار: مصاوب، ومصائب عندهم بالهمز من الشاذ، قال: وهذا عندي إنما هو بدل من الواو المكسورة، كما قالوا: وسادة وإسادة.

الياء التي في مصيبة، وهي منقلبة عن العين، التي هي واو الياء التي للمد، التي في نحو سفينة وصحيفة، فهمزوا الياء المنقلبة عن الواو التي هي عين الفعل، كما همزوا الياء التي للمد، في نحو: سفائن وصحائف، ولا تشبه هذه الياء تلك، ألا ترى أن هذه منقلبة عن واو، هي عين أصلها الحركة، وتلك زائدة للمد، لاحظَّ لها في الحركة. ومثل هذا مما حمله أبو الحسن على الغلط: قول بعضهم في جمع مَسيل: مُسْلان، فمسيل مَفعِل، والياء فيه عين الفعل، فتوهم من قال: مُسْلان أنها زائدة للمد، فجمعه على فُعلان، كما يجمع قضيب على قُضبان (¬1)، وعند أبي إسحاق: الهمزة في مصائب بدل من الواو المكسورة على حد إبدالها في إسادة (¬2). قال أبو علي: وليس القول عندي كذلك؛ لأن المكسورة غير أول لا تبدل كالمفتوحة، ألا ترى أنهم قالوا: أَناةٌ؟ فأبدلوا الواو أولًا، ولم يلزموا البدل غير أول، مع تكررهما في أَحْوويّ ونحوه، فكذلك المكسورة لا يجوز إبدالها غير أول (¬3) إذ لم تجئ في شيء مكسورة مبدلة غير أول، وإذا كان كذلك، كان قوله في مصائب عاريًا من دلالة تبينه، وخاليًا من نظير يردّ إليه، ويستشهد به (¬4) عليه، وقول النحويين: إنه على جهة الغلط أشبه ¬

_ (¬1) ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3398 "مسل" أن القياس في مسيل الماء: مسايل، غير مهموز، ومن جمعه: أمسِلة، ومُسُلا، ومُسلانًا، فهو على توهم أن الميم في المسيل أصلية، وأنه على وزن فعيل، ولم يرد به مفعِلا، كما جمعوا مكانا: أمكنة، ولهما نظائر. (¬2) ينظر كلامه فيما نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1956 (صاب). (¬3) من قوله: (تبدل كالمفتوحة ..) ساقط من (ش). (¬4) في (أ)، (م): (ويستشهد به دل عليه).

بالصواب من حيث كان أكثر نظيرًا. وقوله إنما يحصل (¬1) فيه على دعوى مجردة من البرهان. وقوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي: نحن وأموالنا لله، ونحن عبيد يصنع بنا ما يشاء، وفي {إِنَّا لِلَّهِ} إقرار له بالعبودية {وَإِنَّا إِلَيْهِ} إقرار بالبعث والنشور (¬2). ومعنى الرجوع إلى الله: الرجوع إلى انفراده بالحكم، كما كان أول مرة، إذ قد مَلَّك قومًا في الدنيا شيئًا من الضر والنفع لم يكونوا يملكونه، ثم يرجع الأمر إلى ما كان، إذا زال تمليك العباد (¬3). وقال أبو بكر الوراق: {إِنَّا للِّهِ}: إقرار منّا له بالملك {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}: إقرار على أنفسنا بالهلك (¬4)، وظاهر الخطاب في هذه الآية يقتضي أن يكون قول القائل: {إِنَّا للِّهِ} على إثر المصيبة من غير أن يتخللها جزع؛ ليستحق الثواب الموعود. يؤيد هذا: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة جزعت ثم راجعت: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" (¬5). الصبر الموعود عليه الأجر والثواب (¬6). ¬

_ (¬1) في (ش): كأنها: (يتحصل). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 42، "المحرر الوجيز" 2/ 34، "البحر المحيط" 1/ 451. (¬3) في (ش): (العبادة). (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1277، والرازي في "تفسيره" 4/ 171، وذكره القرطبي في "تفسيره" 2/ 161 [دون نسبة]. (¬5) أخرجه البخاري (1283) كتاب الجنائز، باب: زيارة القبور، ومسلم (926) كتاب الجنائز، باب: في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى. (¬6) ينظر في ذلك: كتاب "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" ص 114 وما بعدها.

157

157 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} قد ذكرنا معنى الصلاة واشتقاقها فيما تقدم (¬1)، وهي في اللغة: الدعاء، ومنه قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسكنهم (¬2). وقال أبو عبيدة: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} يقول: ترحّم من ربهم (¬3)، واحتجّ بقول الأعشى: تقولُ بنتي وقد قَرّبْتُ مُرْتَحِلًا ... يا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأوصابَ والوجعا عليكِ مِثْلُ الذي صلَّيتِ فاغتمضي ... نومًا فإنّ لجنب المرء مضطجَعا (¬4) يروى (مثل) رفعًا ونصبًا، فمن نصب فهو إغراء، ومن رفع فهو ردّ عليها، كأنه قال: عليك مثل دعائك، أي: ينالك من الخير مثل الذي أردت لي. فأبو عبيدة يجعل صليت بمعنى: ترحمت، وغيره من أهل اللغة يجعله بمعنى: دعوت، وأحدهما يقرب من الآخر؛ لأن المترحم على الإنسان داعٍ له، والداعي للإنسان مترحّم عليه (¬5)، ولهذا المعنى كان الصلاة منّا دعاء، ¬

_ (¬1) تقدم ذلك عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3]. (¬2) ينظر في معنى الصلاة: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 231، "تفسير الثعلبي" 1/ 1280، "المفردات" ص 287 قال: .. والصلاة، قال كثير من أهل اللغة: هي الدعاء والتبريك والتمجيد، يقال: صليت عليه، أي دعوت له وزكيت وصلوات الرسول، وصلاة الله للمسلمين هو في التحقيق تزكيته إياهم، ومن الملائكة هي الدعاء والاستغفار كما هي من الناس. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ص 61 - 62. (¬4) البيتان في "ديوانه" ص 106، وفي "الخزانة" 1/ 359، و"مراتب النحويين" ص 194. (¬5) سقطت من (م).

ومن الله تعالى رحمة (¬1). وأنشد الأزهري في تفسير هذه الآية قول الشاعر: صلّى على يحيى وأشياعه ... ربٌّ كريمٌ وشفيعٌ مُطاعْ (¬2) قال: معناه (¬3): ترحم الله عليه، على الدعاء، لا على الخبر. ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الصلاة (¬4) من الله رحمة، ومن المخلوقين: الملائكة والإنس والجن القيام والركوع والسجود والدعاء والتسبيح، ومن الطير والهوام: التسبيح، ومنه قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]. فالصلاة لها معانٍ بالتدريج، أصلها: الدعاء، ثم صارت الرحمة، لما ذكرنا من أن الداعي مترحّم، ثم صارت للمغفرة؛ لأن الترحم يوجب المغفرة، ومن ترحم الله عليه غفر له، وفسر ابن عباس الصلوات في هذه الآية بالمغفرة، فقال: {صَلَوَاتٌ} أي: مغفرة من ربهم (¬5). ¬

_ (¬1) قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 231: الصلاة في اللغة على ضربين: أحدهما: الركوع والسجود، والآخر: الرحمة والثناء والدعاء، فصلاة الناس على الميت، إنما معناها الدعاء، والثناء على الله صلاة، والصلاة من الله عز وجل على أنبيائه وعباده معناها: الرحمة لهم والثناء عليهم، وصلاتنا: الركوع والسجود كما وصفنا، والدعاء صلاة. (¬2) البيت للسفاح بن بكير اليربوعي، في "شرح اختيارات المفضل" ص 1362، وقيل: هو لرجل من قُريع يرثي يحيى بن ميسرة صاحب مصعب بن الزبير. ينظر: "الخزانة" 1/ 141، وبلا نسبة في "لسان العرب" 4/ 2490 (صلا). (¬3) في (ش): (ومعناه). (¬4) في (ش): (الله من الله). وهو خطأ. (¬5) ذكره عن ابن عباس الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1280، وبهذا فسر الطبري الرحمة =

وقيل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صلّ على آل (¬1) أبي أوفى (¬2) " أي: ارحمهم، واغفر لهم. قال ابن كيسان: وجَمَع الصلوات؛ لأنه عنى بها رحمةً بعد رحمة (¬3). وقوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ} قال ابن عباس: ونعمة (¬4). وقال أهل المعاني: إنما ذكر الرحمة، ومعنى الصلوات هاهنا: الرحمة؛ لإشباع المعنى، والاتساع في اللفظ (¬5). ومثله قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]. وقال ذو الرمة: لمياءُ في شفتيها حوَّة لَعَسٌ (¬6) ¬

_ =2/ 42، ورواه ابن أبي حاتم 1/ 265 عن سعيد بن جبير، وفسر ابن كثير هذه اللفظة ص 1/ 211، فقال: ثناء من الله عليهم ورحمة. وكأنه يشير إلى تفسير أبي العالية لصلاة الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء. ذكره البخاري (4797) كتاب التفسير، باب: (إن الله وملائكته يصلون على النبي). حديث: قبل، ينظر: "فتح الباري" 8/ 532. (¬1) سقطت من (ش). (¬2) أخرجه البخاري (4166) كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1078) كتاب الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته. (¬3) ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1280. (¬4) ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1280. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 478، "معالم التنزيل" 1/ 170، "المحرر الوجيز" 2/ 34. (¬6) عجز البيت: وفي اللثات وفي أنيابها شَنَبُ وهو في "ديوانه" ص 32، "لسان العرب" 4/ 2336 (شنب).

158

وتفعل العرب ذلك كثيرًا إذا اختلف اللفظ، ألا ترى أنّ اللعَس حُوَّة، فكرر لما اختلف اللفظان. وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال ابن عباس: يريد: الذين اهتدوا للترجيع (¬1). وقيل: إلى الجنة والثواب، وقيل: إلى الحق والصواب (¬2)، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية قال: نعم (¬3) العِدلان، ونعمت العلاوة (¬4) (¬5). 158 - قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، الصفا: جمع صفاة، وهي: الحجارة. قال أبو العباس: الصفا: كلُّ حجر لا يخلطه غيره، من طين أو تراب يتصل به، واشتقاقه من صفا يصفو إذا خَلَص (¬6)، والمروة: واحدة المرو، ¬

_ (¬1) هذا من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها، وقد ذكره بغير نسبة الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1281. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1281، "معالم التنزيل" 1/ 170. (¬3) في (م): (نعمت). (¬4) في (ش) حاشية: (قال عبد المؤمن: أراد بالعدلين: الصلاة والرحمة، وبالعلاوة: الاهتداء). (¬5) الأثر أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 634، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 116، من طريق مجاهد عن عمر، والحاكم 2/ 270، وصححه على شرط الشيخين، والواحدي في "الوسيط" 1/ 226 من طريق مجاهد عن سعيد بن المسيب عن عمر، ومجاهد لم يلق عمر، وسعيد أدرك عمر ولم يسمع منه. والأثر ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1281، و"تفسير البغوي" 1/ 170، "تفسير القرطبي" 2/ 162. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 43، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 233، "تفسير الثعلبي" 1/ 1282، "المفردات" ص 286، "البحر المحيط" 1/ 454، وذكر أبو حيان =

وهي حجارة بِيض برّاقة، يكون فيها النار (¬1). قال الأعشى: وتُوَلّي الأرضَ خُفًّا ذابلًا ... فإذا ما صادف المَروَ رَضَحْ (¬2) وهما اسمان لجبلين معروفين بمكة (¬3). وشعائر الله: واحدتها شعيرة. قال المفسرون وأهل اللغة جميعًا: شعائر الله: متعبداته التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا، وهي كلّ ما كان من مَشعر، أو موقف، أو مسعًى، أو منحر (¬4)، وهي من قولهم: شعرتُ، أي: علمتُ، وهي كلّها معلومات، وهذا قول الزجاج، واختياره (¬5). ¬

_ = قولين، فقال: وقد قيل: إنه الحجر الأملس، وقيل: هو الصخرة العظيمة، والقول المذكور أعلاه قال: إنه الذي يدل عليه الاشتقاق. وينظر: "اللسان" 4/ 2468 (صفا). (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 43 - 44، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 233،"تفسير الثعلبي" 1/ 1283، "البحر المحيط" 1/ 454، وذكر في "البحر" أقوالا أخر هي: الحجارة الصلبة، أو الصغار المرهفة الأطراف، أو الحجارة السود، أو الحجارة البيض، أو الحجارة البيض الصلبة. (¬2) البيت في مدح إياس بن قبيصة الطائي، ينظر: "ديوان الأعشى الكبير" ص40، وفيه: (مجمرًا) بدل (ذابلًا)، وفي "تفسير الطبري" 2/ 43، "تفسير الثعلبي" 1/ 1283، "تفسير القرطبي" 2/ 180. يصف الشاعر خف ناقته بأنه إذا وطئ المرو -وهي الحجارة الصغيرة- تكسرت من تحت خفها الأحجار، ورضح الحصى: كسرها. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1283. (¬4) سقطت مشعر من (أ)، (ش) كما أن فيها تقديمًا وتأخيراً بين المذكورات. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 233، وينظر "البحر المحيط" 1/ 454.

ويحتمل أن تكون الشعائر مشتقة من الإشعار الذي هو (¬1): الإعلام على الشيء، ومنه: الشعائر بمعنى العلامة؛ ولهذا تسمى الهدايا: شعائر؛ لأنها تُشْعَر بحديدة في سنامها (¬2) من جانبها الأيمن حتى يخرج الدم. قال الكميت: شَعَائرَ قُربانٍ بهم يُتَقَرَّبُ (¬3) ويحتمل أن يكون من الإعلام بالشيء (¬4)، وبه قال مجاهد في قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. قال: يعني: منْ الخبر الذي أخبركم عنه (¬5)، كأنه إعلام من الله عبادَه أمرَ الصفا والمروة (¬6). وقوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} قال الليث: أصل الحج في اللغة: زيارة شيء تعظّمه. ¬

_ (¬1) في (ش): (هي). (¬2) في (ش): (من أسنامها). (¬3) وشطره الأول: نُقَتِّلهُم جيلًا فجيلًا، تَرَاهُمُ ينظر: "القصائد الهاشميات" للكميت بن زيد ص 21، في "مجاز القرآن" 1/ 146، "تفسير الطبري" 2/ 44، "تفسير الثعلبي" 1/ 1284، "تفسير القرطبي" 2/ 165. (¬4) ينظر: "مجاز القرآن" 1/ 146، "تفسير الطبري" 2/ 44، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 233، "تهذيب اللغة" 2/ 1884 وما بعدها، "تفسير الثعلبي" 1/ 1284، "المفردات" ص 265، "تفسير البغوي" 1/ 172. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 44، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1284. (¬6) قال الطبري في "تفسيره" 3/ 227: وذلك تأويل من المفهوم بعيد، وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله: (إن الصفا)، عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم، وأمر بها خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إذ سأله أن يريه مناسك الحج، وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر، فإنه مراد به الأمر.

وقال يعقوب والزجاج: أصل الحجّ: القصد، وكلّ من قصد شيئًا فقد حجّه. (¬1) وقال كثير من أهل اللغة: أصل الحجّ: إطالة الاختلاف إلى الشيء. واختار ابن جرير هذا القول، قال: لأن الحاجّ يأتي البيت قبل التعريف، ثم يعود إليه للطواف يوم النحر، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصَّدَر؛ فلتكرارِهِ (¬2) العودَ إليه مرةً بعد أخرى قيل له: حاج (¬3). وكلهم احتجوا بقول المخبّل القُريعي (¬4): يحجُّون سِبَّ (¬5) الزِّبرِقانِ المُزَعْفَرا (¬6) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 234. (¬2) في (م): (فلتكرار) (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 44 - 45، "المفردات" ص 115، "اللسان" 2/ 181 - 778 (حجج). (¬4) هو المخبل بن ربيعة بن عوف قتال بن أنف الناقة بن قريع، أبو يزيد، شاعر فحل، هاجر وابنه إلى البصرة، وولده كثير بالأحساء، وهم شعراء، وله شعر كثير جيد، هجا به الزبرقان وغيره، وكان يمدح بني قريع ويذكر أيام سعد. ينظر: "طبقات ابن سلام" ص 61، "الشعر والشعراء" 269. (¬5) في (ش): (سب الزعفران الزبرقان المزعفرًا). (¬6) صدر البيت: وأشهد من عوف حُلُولًا كثيرةً ينظر في نسبته إليه "إصلاح المنطق" ص 372، "تفسير الطبري" 2/ 44، "البيان والتبيين" 3/ 97، "تفسير الثعلبي" 1/ 1286، "تفسير السمعاني" 2/ 106، "تفسير القرطبي" 2/ 165، وروي (المعصفرا) بدل (المزعفرا). وقوله: يحجون أي: يزورون. والسِبّ: العمامة، وقيل: الاست. والزبرقان: هو حصين بن بدر =

وقال سيبويه: ويقال: حَجَّ حِجًّا، كقولهم: ذكر ذِكرًا. وقال الفراء: الحَجّ والحِجّ لغتان (¬1)، يقال: حَجَجْتُ حِجّة للمرة الواحدة، لم يأت عن العرب غيره. ولو قيل: حَجَّة بالفتح كما قالوا: مَرَرتُ به مَرّة، كان صوابًا، مثل: مددته مدّةً، وقددته قدّةً، هذا كلامه. فأما قولهم: حُجٌّ، وهم يريدون: جمع الحاجّ، فقد يمكن أن يكونوا سموا بالمصدر، وتقديره: ذوو (¬2) حج، قاله أبو علي، قال: وأنشد أبو زيد: وكأنّ عافيةَ النسور عليهمُ ... حُجٌّ بأسفلِ ذي المَجَاز نُزُولُ (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {أَوِ اعْتَمَرَ} قال الزجاج: قَصد (¬5)، وقال غيره: زار (¬6)، قال أعشى باهلة: وراكبٌ جاء من تثليثَ معتمرُ قال الأزهري: وقد يقال: الاعتمار (¬7) القصد، وأنشد للعجاج: لقد سما ابنُ مَعْمَرٍ (¬8) حينَ اعْتَمَرْ ... مَغْزًى بعيدًا من بعيدٍ وضَبَر (¬9) ¬

_ = الفزاري من سادات العرب. والحلول: الأحياء المجتمعة. ينظر: "اتفاق المباني وافتراق المعاني" 1/ 206، "البيان والتبيين" 3/ 97. (¬1) ذكر في "اللسان" 2/ 779 "حجج"، أن الكسائي لا يفرق بين الحِج والحَج، وغيره يقول: الحَج حَج البيت، والحِج عمل السنة. (¬2) في (ش)، (م): (ذو). (¬3) البيت لجرير يهجو الأخطل في "ديوانه"، ص104، "لسان العرب" 2/ 778، وقال: والمشهور في روايات البيت: حِجّ، بالكسر، وهو اسم الحاج. (¬4) ينظر فيما تقدم "اللسان" 2/ 778 - 779 (حجج). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 234. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 45، "المفردات" ص 350. (¬7) في (م): (للاعتمار). (¬8) في (ش): (معتمر). (¬9) البيت للعجاج يمدح عمر بن عبيد الله التميمي، في "ديوانه" ص 19، "تفسير =

يعنى: حين قصد مغزًى بعيدًا (¬1). وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} الجناح: الإثم، وأصله: من الجنوح، الذي هو الميل، يقال: جَنَحَ: مال، ومنه قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ} [الأنفال: 61] وقيل للأضلاع: جوانح؛ لاعوجاجها. قال ابن دريد: معنى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي: لا ميل إلى مأثم. وجناح الطائر من هذا؛ لأنه يميل في أحد شقّيه، ليس على مستوى خلقته، فمعنى الجناح: الميل عن الحق. وقال أبو علي الجرجاني: معنى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أينما ذكر في القرآن: لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء، هذا هو الأصل، ثم صار معناه: لا حرج عليه، ولا ذنب عليه (¬2). قال ابن عباس: كان على الصفا صنم، وعلى المروة صنم، وكان أهل الجاهلية يطوفون بينهما، ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما؛ لأجل الصنمين؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية، منبهًا لهم (¬3) على أن الطواف بالصفا والمروة لا تبعة فيه عليهم، وأنه ¬

_ = الطبري" 2/ 45، "تهذيب اللغة" 3/ 2566 (عمر)، "تفسير الثعلبي" 1/ 1186، "القرطبي" 2/ 166، قوله: مغزى: أي غزوًا. ومعنى: ضبر الجواد: تهيأ للوثوب بقوائمه أو جمع قوائمه ليثب ثم وثب. ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 234. (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1286. (¬2) ينظر في معنى الجناح: "تفسير الطبري" 2/ 45، الثعلبي 1/ 1289، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 46، "المفردات" ص107، "تفسير القرطبي" 2/ 166، "اللسان" 2/ 697 - 698 (جنح). (¬3) سقطت من (م).

طاعة لله تعالى، وغير تعظيم للصنمين (¬1). فالآية تدلّ بظاهرها على إباحة ما كرهوه، ولكن السنّة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس كُتِبَ عليكم السعيُ فاسعَوا" (¬2). وهو مذهب الشافعي، رضي الله عنه (¬3)، والواجب أن يبدأ بالصفا، ¬

_ (¬1) رواه الطبري من طريق عمرو بن حبشي عن ابن عباس 2/ 46، وضعفه أحمد شاكر، ورواه ابن أبي حاتم 1/ 267، وذكره الثعلبي 1/ 1290، والواحدي في "أسباب النزول" ص 49. وبمعنى هذا ذكر الطبري آثارًا كثيرة عن: أنس، وابن عباس، وابن عمر، والسدي، والشعبي، وابن زيد، ومجاهد. وحديث أنس، رواه البخاري (1648) كتاب الحج، باب: ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، ولم يذكر المؤلف -رحمه الله- السبب الآخر الذي روته عائشة، وهو أن الأنصار كان يُهّلون قبل أن يسلموا لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهلّ منها تحرَّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله: إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة؟ فأنزل الله الآية. وهذا رواه البخاري في الحج، باب: وجوب الصفا والمروه "فتح الباري" 3/ 497، ومسلم (1277) كتاب الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 6/ 422، حديث (26917)، وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 232 برقم (2764)، والدارقطني في "سننه" 2/ 255 - 256، والطبراني في "الكبير" 24/ 255، والحاكم 6/ 421، والحديث صححه الحافظ المزي، وابن عبد الهادي كما في "الإرواء" 4/ 270، وقواه الحافظ في "الفتح" 3/ 498، وصححه الألباني في "الإرواء" 4/ 270. (¬3) ينظر: "المجموع شرح المهذب" 8/ 63، "تفسير الثعلبي" 1/ 1295، وقد اختلف العلماء في السعي: فمنهم من قال بركنيته، وهذا قول عائشة وعروة ومالك والشافعي، ومنهم من قال بسنيته، روي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير =

ويختم بالمروة، ويسعى بينهما سعيًا، فيكون مسيره من الصفا إلى المروة شوطًا من السبع، وعوده من المروة إلى الصفا شوطًا ثانيًا، فإن بدأ بالمروة إلى الصفا لم يحسب هذا الشوط (¬1)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا من الصفا في حجته قرأ: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابدأوا (¬2) بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت، ثم مشى حتى إذا تصوبت قدماه في الوادي سعى (¬3). وقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فيه وجهان من القراءة (¬4): أحدهما: {تَطَوَّعَ} على تَفَعَّل ماضيًا وهذه القراءة تحتمل أمرين (¬5): أحدهما: أن يكون موضع تطوَّع جزمًا، وتجعل (مَن) للجزاء، وتكون الفاء مع ما بعدها من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} في موضع جزم؛ لوقوعها موقع الفعل المجزوم، والفعل الذي هو {تَطَوَّعَ} على لفظ المثال ¬

_ = ومجاهد وعطاء وابن سيرين، وهو رواية عن أحمد. ومنهم من قال: إنه واجب وليس بركن، وإذا تركه جبره بدم، وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة وصاحبيه والثوري. ينظر "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 18، "تفسير الطبري" 2/ 49، "المغني" 5/ 238، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 48، "تفسير القرطبي" 2/ 167، "تفسير ابن كثير" 1/ 213. (¬1) ينظر: "المغني" لابن قدامة 5/ 237. (¬2) في (م): (فابدأوا). (¬3) جزء من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) قرأ حمزة والكسائي وخلف: (يَطَّوَّعْ) بالياء التحتية، وتشديد الطاء، وإسكان العين على الاستقبال، والباقون: بالتاء الفوقية، وتخفيف الطاء، وفتح العين. ينظر "السبعة" ص 172، "النشر" 2/ 223. (¬5) في (م): (وجهين).

الماضي، والمراد به المستقبل، كقولك: إن أتيتني أتيتك. الثاني: أن لا تجعل (مَن) للجزاء، ولكن تكون بمنزلة الذي، وتكون (¬1) مبتدأ به، ولا موضع حينئذ للفعل الذي هو {تَطَوَّعَ}، والفاء مع ما بعدها في موضع رفع، من حيث كان خبر المبتدأ الموصول، والمعنى فيه معنى الجزاء؛ لأن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة؛ آذنت أنّ الثاني إنما وجب لوجوب الأول، كقوله: {وَمَا بِكُم مِن نِّعمَةٍ فَمِنَ اَللهِ} [النحل: 53] وما: مبتدأ موصول، والفاء مع ما بعدها جواب له، وفيه معنى للجزاء؛ لأن تقديره: ما ثبت بكم من نعمة، أو ما دام بكم من نعمة فمن ابتداء الله إياكم بها، فسبب ثبات (¬2) النعمة ابتداؤه [ذلك] (¬3)، كما أن استحقاق الأجر إنما هو من أجل الإنفاق في قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274]. وعلى هذا كل ما في القرآن من هذا الضرب، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} إلى قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10]، وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} [البقرة: 126]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. ونذكر هذه المسألة مشروحة عند قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة: 274]. ¬

_ (¬1) الأفعال السابقة في (ش) بالفاء (تجعل يكون ويكون). (¬2) في (ش): (ابتدا). (¬3) زيادة يقتضيها الكلام، من كلام أبي على الفارسي في "الحجة" 2/ 246.

الوجه الثاني من القراءة: (يَطَّوَّعْ) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع إلا أنّ التاء أُدغم في الطاء لتقاربهما، وهذا حسن؛ لأن المعنى على الاستقبال، والشرط والجزاء الأحسن فيهما (¬1) الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته، فتُوقع الماضي موقعَ المستقبل في الجزاء، إلا أنّ اللفظ إذا كان وافق المعنى كان أحسن (¬2). وأما التفسير: فقال مجاهد: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} بالطواف بهما (¬3)، وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضًا. وقال مقاتل والكلبي: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فزاد في الطواف بعد الواجب (¬4). ومنهم من حمل هذا النوع على العمرة، وهو قول ابن زيد (¬5)، وكان يرى العمرة غير واجبة. وقال الحسن: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} يعنى به: الدين كلّه، أي: فعل غير المفترض عليه، من طواف وصلاة وزكاة ونوع من أنواع الطاعات (¬6). ¬

_ (¬1) في (ش): (في هذا). (¬2) ما تقدم من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 245 - 248 بتصرف واختصار. (¬3) "تفسير مجاهد" ص 92، ورواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 50، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 292 إلى: سيعد بن منصور، وعبد بن حميد، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 268 عن أنس قوله: والطواف بهما تطوع، وكذا روي عن ابن عباس، وعزاه في "الدر": إلى عبد بن حميد، وأبي عبيد في "فضائله"، وابن أبي داود في "المصاحف". (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 152، وذكره عنهما الثعلبي 1/ 1300، والبغوي 1/ 175. (¬5) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 52، وذكره الثعلبي 1/ 1301. (¬6) ذكره الثعلبي 1/ 1301، والبغوي في "معالم التنزيل" 1/ 175.

وهذا أحسن هذه الأقاويل؛ لأن قوله {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} صيغته تدلّ على العموم (¬1). وقوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي: مُجازٍ بعمله {عَلِيمٌ} بنيته (¬2). قال أهل المعاني: وحقيقة الشاكر في اللغة: هو المظهر للإنعام عليه، والله تعالى لا تلحقه المنافع والمضارّ، فالشاكر في وصفه مجازٍ، ومعناه: المجازي على الطاعة بالثواب، إلا أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد، مظاهرة في الإحسان إليهم، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245]، وهو تعالى لا يستقرض من عوزة ولكنه تلطّف (¬3) في الاستدعاء. كأنه قيل: من الذي يعمل عمل المُقرِض، بأن يقدّمَ، فيأخذ أضعاف ما قدَّمَ في وقت فقره وحاجته (¬4)!؟ ¬

_ (¬1) رجح الطبري في "تفسيره" 2/ 51 - 52 أن معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1301. (¬3) في (م): (اللطف). (¬4) وقال الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 87: فلما كان الله عز وجل يجازي عباده على أفعالهم ويثيبهم على أقل القليل منها، ولا يضيع لديه تبارك وتعالى لهم عمل عامل، كان شاكرا لذلك لهم، أي: مقابلًا له بالجزاء والثواب. وقال الشيخ السعدي في "تفسيره" ص 77: الشاكر والشكور من أسماء الله تعالى: الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره وامتثل طاعته أعانه عليه وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورًا وإيمانًا وسعة، وفي بدنه قوةً ونشاطًا، وفي جميع أحواله قلادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق، ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملًا موفرًا، لم تنقصه هذه الأمور، ومن شكره لعبده أن من ترك شيئا لله أعاضه الله خيرًا منه، ومن تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا.

159

159 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} قال المفسرون: نزلت في علماء اليهود (¬1). وأراد بالبينات: الرجم والحدود والأحكام (¬2)، وبالهدى: أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته (¬3) (¬4). {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ}: لبني إسرائيل (¬5). {فِي الْكِتَابِ}: في التوراة (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 50، ونقله عنه ابن حجر في "العجاب" 1/ 411، وذكره مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 80، ورواه الطبري 2/ 53، وابن أبي حاتم 1/ 268 عن ابن عباس. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1301، وروى ابن أبي حاتم 1/ 269 عن السدي عن أصحابه: [البينات]: الحلال والحرام. (¬3) في (ش): (وبعثه). (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1301، وقد ذكر هذا الفرق بين البينات والهدى أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 458، وقال: والبينات هي: الحجج الدالة على نبوته - صلى الله عليه وسلم -، والهدى: الأمر باتباعه، أو الهدى والبينات، والجمع بينهما توكيد، وهو ما أبان عن نبوته وهدى إلى اتباعه. وقد بين الطبري في "تفسيره" 2/ 52 البينات بقوله: البينات التي أنزلها الله: ما بين من أمر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه وصفته في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أن أهلهما يجدون صفته فيهما. ويعني -تعالى ذكره- بالهدى: ما أوضح لهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 53، قال: لأن العلم بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفته ومبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، ثم قال: وهذه الآية وان كانت في خاصّ من الناس فإنها معنيّ بها كلُّ كاتمٍ علمًا فرض الله تعالى بيانه للناس. وينظر: "تفسير الثعلبى" 1/ 1301، "البحر المحيط" 1/ 458. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 53، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 269، "تفسير الثعلبي" 1/ 1301، و"تفسير البغوي" 1/ 175، وروى "الطبري" 2/ 53، عن قتادة أن المراد: التوراة والإنجيل، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 269 عن الحسن أن الكتاب: القرآن، قال: وروي عن ابن عباس مثل ذلك، وقال في "البحر المحيط" 1/ 458: والأولى والأظهر عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب.

وقوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} اختلفوا في اللاعنين ههنا: فقال ابن عباس: كلّ شيء إلا الجنّ والإنس (¬1). وعلى هذا إنما قال: (اللاعنون)، ولم يقل اللاعنات؛ لأنه وصفها صفة من يعقل، فجمعها جمع من يعقل، كقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، و {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] (¬2). وقال قتادة: هم الملائكة (¬3). وقال عطاء: الجنّ والإنسان (¬4). ¬

_ (¬1) نسبه إلى ابن عباس: الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 235، والثعلبي "في تفسيره" 1/ 1303، والفراء في "معاني القرآن" 1/ 95، والبغوي في "معالم التنزيل" 1/ 175، ورواه الطبري "في تفسيره" 2/ 56 عن البراء بن عازب، والضحاك، وقريب منه قول مجاهد وعكرمة حيث قالا: يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب، يقولون: مُنِعْنا القطرَ بذنوب بني آدم. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 54 - 55، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 269، وقد رده الطبري: بأنه قول لا تدرك حقيقته إلا بخبر عن الله، ولا خبر. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 55، والثعلبي 1/ 1305، والقرطبي 2/ 171. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 52 إلا أنه قال في رواية: اللاعنون من ملائكة الله، ومن المؤمنين، وروى ذلك 2/ 56 عن الربيع بن أنس، وكذا رواه ابن أبي حاتم 1/ 269، ورجحه الطبري؛ لأن الله قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحل بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. وبنحوه قال الزجاج. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1303، والبغوي 1/ 175، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 296 إلى عبد بن حميد.

160

وقال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا (¬1) رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى، الذين كتموا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصفته (¬2). 160 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} معنى (¬3) (إلّا) التخصيص (¬4)، نحو قولك: جاءني القوم إلا زيدًا، خصصتَ زيدًا بأنه لم يجئ (¬5). ومعنى قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} بعد قوله: {تَابُوا} إزالة الإبهام: أن التوبة مما سلف من الكتمان تكفي، ومعنى {وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} أي: أصلحوا السريرة بإظهار أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬6). 161 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} إلى قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} إن قيل: كيف يلعنه الناس أجمعون، وأهل دينه لا يلعنونه؟ قيل: يلعنونه في الآخرة؛ لقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ ¬

_ (¬1) في (أ) زيادة في الحاشية: (وليس أحدهما بمستحق للعن رجعت). (¬2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 303 من طريق السدي الصغير، عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن مسعود، وهذا إسناد واه، وذكره الثعلبي 1/ 1304 ولفظه: هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة في السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت له أهلًا لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا، فتنطلق فتقع على اليهود، فهو قوله عز وجل {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. فمن تاب منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت في من بقي من اليهود. وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 235، "تفسير البغوي" 1/ 175. (¬3) في (أ)، (م): (يعنى). (¬4) في (أ)، (م): (للتخصيص). (¬5) "البحر المحيط" 1/ 459. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 57، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 270، "تفسير البغوي" 1/ 175، "تفسير القرطبي" 2/ 172.

162

بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] (¬1). وقال قتادة (¬2) والربيع (¬3): أراد بـ {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: المؤمنين، وعلى هذا كأنه لم يعتدّ بغيرهم، كما تقول: المؤمنون هم الناس (¬4). وقال السدي: لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران، فيقول أحدهما: لعن الله الظالم، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر؛ لأنه ظالم، وكل أحل من الخلق يلعنه (¬5). 162 - قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} معنى الخلود: اللزوم أبدًا، ومنه يقال: أخلد إلى كذا، أي: لزمه، وركن إليه (¬6). والعامل في الخالدين: الظرف من قوله (عليهم)؛ لأن فيه معنى الاستقرار، وهو حال من الهاء والميم في {عَلَيْهِمْ}، كقولك: عليهم المال صاغرين (¬7)، ومثل هذه الآيات الثلاث: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ}، {خَالِدِينَ فِيهَا} في سورة آل عمران [الآيات: 87 - 89]، وذكرنا الكلام هناك بأبلغ من هذا. وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد: ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 236، ورواه الطبري 2/ 58، وابن أبي حاتم 1/ 271 عن أبي العالية، قال ابن أبي حاتم: وروي عن قتادة نحو قول أبي العالية، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 176. (¬2) رواه عنه الطبري 2/ 58، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 271، والثعلبي 1/ 1306. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 58. (¬4) رواه ابن أبي حاتم 1/ 271 عن أبي العالية. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 58، وابن أبي حاتم 1/ 271. ورجح الطبري العموم. (¬6) ينظر: "المفردات" ص 160. (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 59، "البحر المحيط" 1/ 462.

163

للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة (¬1). 163 - قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية، معنى الوحدة في اللغة: هي الانفراد، يقال: وحَدَ الشيءُ، وهو يَحِدُ حِدَةً، فهو واحد، وجمعه: وُحدان بالضم. والوَحدان بالفتح؛ بمعنى: الواحد، مثل قولهم: فَردان بمعنى: الفَرد. وحقيقة الواحد: شيء لا يتبعض، ويقال أيضًا: وَحَدَ يَوْحَدُ وَحَادةً وَوَحْدةً فهو وحيد (¬2). ويستعمل الواحد على وجهين: أحدهما: على جهة الحكم والحقيقة. والثاني: على الوصف والمجاز. فالحكم كقولك: ذاتٌ واحدةٌ، وجزء واحد، والوصف قولك: إنسان واحد، ودار واحدة، فهذا لا ينقسم عن (¬3) الجهة التي جرت عليه الصفة، إذ ليس ينقسم من جهة أنه إنسان، وإن انقسم من جهة أنه جسم، وإذا أجريته حكمًا لم ينقسم من وجه من الوجوه. فأما الواحد في صفة الله تعالى، فقال الأزهري: له معنيان: أحدهما: أنه واحد لا نظير له، وليس كمثله شيء، والعرب تقول: فلان واحد قومه، وواحد الناس، إذا لم يكن له نظير. وقال بعضهم: المعنى في الواحد: أنه إله واحد، وربّ واحد، ليس له في إلاهيته وربوبيته شريك؛ لأنّ المشركين أشركوا معه آلهةً فكذّبهم ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم بمعناه عن الضحاك عن ابن عباس 1/ 272. (¬2) ينظر في معاني الواحد: "تفسير الطبري" 2/ 60، "المفردات" ص 530، "تهذيب اللغة" 4/ 3844، "اللسان" 8/ 4779 - 4783 (وحد). (¬3) في (ش): (من).

الله عز وجل، فقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1). وقال أبو علي: قولهم: واحد، اسم جرى على وجهين في كلامهم: أحدهما: أن يكون اسمًا. والآخر: أن يكون وصفًا. فالاسم الذي ليس بصفة قولهم: واحد المستعمل في العدد، نحو: واحد، اثنان، ثلاثة، فهذا اسم ليس بوصف، كما أنّ سائر أسماء العدد كذلك، وأما (¬2) كونه صفة فنحو قولك: مررت برجل واحد، وهذا شيء واحد، فإذا أجري هذا الاسم على القديم تعالى جاز أن يكون الذي هو وصف، كالعالم والقادر، وجاز أن يكون الذي هو اسم، كقولنا: شيء. يقوي الأول قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬3). ويجمع (¬4) الواحد واحدِين، كقوله: فقد (¬5) رجعوا كحيٍّ واحدينا (¬6) ¬

_ (¬1) الذي وجدته في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 3847 (وحد): والواحد في صفة الله، معناه: أنه لا ثاني له، ويجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد، فأما أحد فلا يوصف به أحد غير الله؛ لخلوص هذا الاسم الشريف له، جل ثناؤه. (¬2) في (م): (فأما). (¬3) نقله عنه الرازي في "التفسير الكبير" 4/ 168. (¬4) في (م): (وجمع). (¬5) في (ش): (وقد). (¬6) ورد البيت هكذا: فَرَدَّ قَواصِيَ الأحياء منهم ... فقد أضحوا كحيٍّ واحدينا وهو للكميت، ينظر: "اللسان" مادة: (وحد)، وفيه ورد بلفظ: رجعوا، وينظر: "معاني القرآن" 2/ 208، "عمدة الحفاظ" 3/ 392.

ويكسِّرونه على فُعلان، كقولهم: وُحدان، ويقلبون الواو همزةً، كقولهم: أُحدان، ومنه قوله: طاروا (¬1) إليه زَرَافاتٍ ووُحْدانا (¬2) وذلك أنه وإن كان صفة قد يستعمل استعمال الأسماء، فكسروه على فُعلان، كقولهم: راع ورُعْيَان. وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية الكلبي: قالت كفار قريش: يا محمد صِفْ وانسُبْ لنا ربّك. فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص، وهذه الآية (¬3). وقال جويبر (¬4)، عن الضحاك، عن ابن عباس: كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنمًا، يعبدونها من دون الله، فبيّن الله سبحانه لهم أنه واحد، فأنزل هذه (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (م): (يطار). (¬2) صدر البيت: قوم إذا الشرّ أدى ناجذيه لهم والبيت للعنبري، واسمه: قريط بن أنيف، ويروى لأبي الغول الطهوي. ينظر: "عمدة الحفاظ" 2/ 499. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1307، والوا حدي في "الوسيط" 1/ 245، والبغوي 1/ 176، والسمعاني 2/ 114، والقرطبي 2/ 175، ونقله في "البحر المحيط" 1/ 462، وإسناده واه، ونقله عنه ابن حجر في "العجاب" 1/ 413. (¬4) هو جويبر بن سعيد البلخي، روى: عن الضحاك وأبي سهل، وروى عنه: الثوري وابن المبارك ويزيد بن هارون، وهو ضعيف، قال يحيي بن معين: ليس بشيء، وكان وكيع لا يسميه استضعافًا له، في قول عن سفيان عن رجل. ينظر: "الجرح والتعديل" 2/ 540 - 541. (¬5) ذكره الثعلبي 1/ 1307، والواحدي في "الوسيط" 1/ 24، ونقله ابن حجر في =

164

قال أصحابنا: حقيقة الواحد في وصف الباري سبحانه: أنه واحد لا قسيم له في ذاته، ولا بعض له في وجوده، بخلاف الجملة الحاملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازًا، كقولهم: دار واحدة، وشخص واحد؛ ولهذا قال أصحابنا: التوحيد: هو نفي الشريك والقسيم، والشريك والشبيه، فالله سبحانه وتعالى واحد في أفعاله، لا شريك له يشاركه في إثبات المصنوعات؟ وواحد في ذاته، لا قسيم له؟ وواحد في صفاته، لا يشبه الخلق فيها (¬1). وقال أهل المعاني: في الآية تقديم وتأخير، تقديرها: وإلهكم الرحمن الرحيم إله واحد، لا إله إلا هو. 164 - قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، قال المفسرون: لما نزل قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} عجب المشركون، وقالوا: إن محمدًا يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله هذه الآية (¬2)، وعلّمهم كيفيةَ الاستدلالِ على الصانع، وعلى ¬

_ = "العجاب" 1/ 413، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 462، وإسناده ضعيف؛ لضعف جويبر. (¬1) ينظر في تفسير الواحد: "اشتقاق أسماء الله" لأبي القاسم الزجاجي ص90 - 93. (¬2) رواه الثوري في "تفسيره" ص 54، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 640، وأبو الشيخ في "العظمة" 1/ 252، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 272، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 130، والثعلبي 1/ 1208 كلهم عن أبي الضحى. ورواه الطبري 2/ 60 عن عطاء، وذكرهما الواحدي في "أسباب النزول" ص 50 - 51، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 273 عن ابن عباس أن قريشًا سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم، ولكن إن كفروا عذبتهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، فنزلت، وذكره السيوطي في "لباب النقول" =

توحيدِه، وردَّهم إلى التفكر في آياته، والنظرِ في مصنوعاته، على ما عدّها في الآية. وبيَّن أنّ فيما ذكره في هذه الآية من عجيب صنعه، وإتقانِ أفعاله، واتساق صنائعه دليلًا على توحيده، فإن هذه الأفعال لا تحصل في الوجود لو كان لها صانعان؛ لوجوب التمانع بينهما (¬1)، واستحالة تساويهما في صفة الكمال. قال أهل المعاني: وجمع السماوات؛ لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير الأخرى، ووحّد الأرض؛ لأنها كلها تراب (¬2). وقوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} فسّر الاختلاف هاهنا تفسيرين يرجعان إلى أصل واحد: أحدهما: أنه افتعال، من قولهم: خلَفه يخلُفه، إذا ذهب الأول وجاء الثاني خلافه، أي: بعده، فاختلاف الليل والنهار: تعاقبهما في الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان، إذا كان يذهب إليه، ويجيء ¬

_ = ص 31 وجود إسناده، وروي عن ابن عباس أنها نزلت حين قالوا: انسب لنا ربك وصفه. وينظر: "العجاب" 1/ 414 - 415، "زاد المسير" 1/ 167. (¬1) دليل التمانع: هو أنه لو كان للعالم صانعان، فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما: تحريك جسم، والآخر تسكينه، أو يريد أحدهما: إحياءه، والآخر إماتته- فإما: أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع، ويستلزم أيضًا عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلها، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزًا لا يصلح للإلهية. ينظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 28. (¬2) "تفسير البغوي" 1/ 177، وينظر أيضاً: "تفسير الطبري" 1/ 191 - 195، "البحر المحيط" 1/ 464.

من عنده، فذهابه يخلف مجيئه، ومجيئه يخلف ذهابه. أحدهما خلاف الآخر، أي: بعده، وكل شيء يجيء بعده شيء، فهو خِلفه. وبهذا فُسِّر قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] (¬1)، قال الفراء: يذهب هذا، ويجيء هذا (¬2). الثاني: قال ابن كيسان (¬3) وعطاء (¬4) في هذه الآية: أراد: اختلافهما في الطول والقصر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان. قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا: هما خِلْفان وخِلْفتان، وقول زهير: بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفةً (¬5) فسّر بالوجهين: تكون مختلفة في ألوانها وتكون يذهب هذا، ويجيء هذا. وهذا القول يرجع إلى معنى الأول؛ لأن معنى الاختلاف في اللغة: ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 63 ولم يذكر غيره، "تفسير البغوي" 1/ 177، "تفسير القرطبي" 2/ 176. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 271، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1308، "اللسان" 2/ 1237 (خلف). (¬3) ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1309، "البحر المحيط" 1/ 465. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1309، "القرطبي" 2/ 176، "البغوي" 1/ 177. (¬5) عجز البيت: وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم وهو في "ديوانه" ص 5، "جمهرة اللغة" ص415 - 416، "لسان العرب" 2/ 1237 (خلف)، و 5/ 2700، وبلا نسبة في "رصف المباني" ص 145. وقوله: بها: أى بدار من يتغزل بها، والعين: البقر، واحدها: أعين وعيناء، وذلك لسعة عيونها، والآرام: الظباء الخوالص البياض، والأطلاء: الصغار من البقر والظباء, والمجثم: ما تربض فيه وترقد.

التفرق في الجهات، جهة اليمين والشمال والخلف والقُدّام، ثم شبّه الاختلاف في المذاهب وفي كل شيء بالاختلاف في الطريق (¬1)، من جهة أن كل واحد من المختلفين على نقيض ما ذهب إليه الآخر، كالمختلفين في الطريق، ولما تفاوت الليل والنهار في النور والظلمة وغيرهما جعل ذلك اختلافا، فهذا أيضًا يعود في الاشتقاق إلى الخلف. وقوله تعالى: {وَالْفُلْكِ} الفُلْك: واحد وجمع، ويذكر ويؤنث، وأصله من الدوران، وكل مستدير فُلك، وفَلَك السماء: اسم لأطواق (¬2) سبعة، تجري فيها النجوم، وفَلَكَتِ الجارية: إذا استدارَ ثَدْيُها، وفَلَكَة (¬3) المِغْزلَ من هذا، والسفينة سميت فُلكًا؛ لأنها تدور بالماء أسهل دور (¬4). وإنما كانت للواحد والجمع؛ لأنه على بناء يصلح لها (¬5)، فإذا أريد به الواحد ذُكِّر، وإذا أريد به الجمع أُنِّث. ومثلُ الفلك من الجموع التي كسرت الآحاد عليها واللفظ فيهما (¬6) واحد: قولهم: ناقة هِجَان، ونوق هِجَان (¬7)، ودرع دِلاصٍ، وأدرُع دِلاص (¬8)، وشِمال: للخليقة والطبع، ¬

_ (¬1) في (ش): (بالطريق). (¬2) في (ش): (لأطواف). (¬3) في (م): (وفلك). (¬4) ينظر في الفلك: "تفسير غريب القرآن" ص 64، "تفسير الطبري" 2/ 64، "تهذيب اللغة" 3/ 2830 - 2831، "المفردات" ص 387، "اللسان" 6/ 3465 (فلك)، "تفسير القرطبي" 2/ 178. (¬5) في (م): (بها). (¬6) في (ش): (فيها). (¬7) (نوق هجان) سقطت من (ش). والهجان: البيض الخوالص. (¬8) دلاص: ملساء ليِّنة.

وجمعه شِمالٌ. ومجيء الجمع على لفظ الواحد مما يدل على قلة حفلهم بالفرق بينهما من طريق اللفظ، وأنهم اعتمدوا في الفرق على دلالة الحال، ومتقدم الكلام ومتأخره (¬1). وقال سيبويه (¬2): الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة (¬3) باء بُرْد، وخاء خُرْج، وإذا أريد به الجمع، فضمة الفاء بمنزلة ضمة الحاء في حُمْر، والصاد من صُفْر، فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فإنَّهما مختلفتان (¬4) في المعنى، وغير منكر أن يتفق اللفظان من أصلين مختلفين، ألا ترى أن من رخّم منصورًا في قول من قال: يا جار، قال: يامنصُ، فبقى الصاد مضمومة، كما بَقَّى الراء مكسورة، ومن قال: يا جارُ، فاجتلب للنداء ضمةً قال أيضًا: يا منصُ، فحذف ضمّةَ الصاد، كما حذف كسرة الراء، واجتلب للصاد ضمةَ النداء، كما اجتلب للراء ضمة النداء، إلا أن لفظ: يا منصُ في الوجهين واحد، والمعنيان متباينان. وقوله تعالى: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} قد مضى الكلام في البحر. والآية في الفلك: تسخيرُ الله تعالى إياها، حتى يجريَها على وجه الماء، كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32]، ووقُوفُها فوق الماء مع ثقلها وكثرة وزنها. وقوله تعالى: {يَنْفَعُ النَّاسَ} أي: بالذي ينفعهم، من ركوبها، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 64، "تفسير الطبري" 2/ 64، "تهذيب اللغة" 3/ 2831 (فلك)، "تفسير الثعلبي" 1/ 1310. (¬2) قريب منه ما في "الكتاب" 3/ 577، ونقله عنه في "اللسان" 6/ 3465 (فلك). (¬3) في (م): (ضمها). (¬4) في (م): (فهما مختلفان)، وفي (أ): (فإنهما مختلفان).

والحمل عليها في التجارات، وينفع الحامل؛ لأنه يريح، والمحمول إليه؛ لأنه ينتفع بما حمل إليه (¬1) (¬2). وقوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أراد بموت الأرض: جدوبتَها ويُبُوستَها، فسمّاها موتًا مجازًا، وذلك أن الأرضَ إذا لم يصبها مطر لم تُنبت، ولم تُنْمِ نباتًا، وكانت (¬3) من هذا الوجه كالميت، وإذا أصابها المطر أنبتت، ونحو هذا قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5]، فلما وصفت بالاهتزاز وهو (¬4) الحركة عند نزول الماء، توصف عند إمساك الماء بالسكون، والعربُ تسمي السكون موتًا (¬5)، قال الشاعر: إني لأرجو أن تموتَ الريحُ ... فأسكنَ اليوم وأستريحُ (¬6) فيجوز أن يراد بالموت في هذه الآية: ضد الاهتزاز الذي وُصِفَت به عند نزول الماء، ولما سَمّى ذلك موتًا سمّى (¬7) إِزالتَها إحياءً ليتجانس اللفظ (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ش). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، "تفسير الثعلبي" 1/ 1310، "تفسير البغوي" 1/ 177، "تفسير الرازي" 4/ 197، "تفسير القرطبي" 2/ 180. (¬3) في (ش) و (م): (وكان). (¬4) في (ش): (وهي). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، "تفسير الثعلبي" 1/ 1311، "تفسير البغوي" 1/ 177، "تفسير الرازي" 4/ 198. (¬6) البيت في "اللسان" 7/ 4295 (موت)، بغير نسبة. وينظر: "شأن الدعاء" ص 116، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 381. (¬7) سقطت جملة: (ذلك موتًا سمي) من (ش). (¬8) ينظر: "تفسير الرازي" 4/ 198 - 199.

وقوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} البثُّ: النشر والتفريق، ومنه قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، ومنه: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4]، ويقال: بثثته سِرِّي (¬1) أبثثته، إذا أطلعته عليه؛ لأنك فرقت بين سرّك وبينك، ويقال للحزن: بَثٌ؛ لأن صاحبَه لا يصبر عليه حتى يظهره (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} قال ابن عباس: يريد: كلّ ما دبّ على الأرض من جميع الخلق، من الناس وغيرهم (¬3). وقوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أراد: وتصريفه الرياح، فأضاف المصدر إلى المفعول، وهو كثير (¬4). والرياح: جمع الريح. قال أبو علي: الريح: اسم على فعل، والعين منه واو، انقلبت في الواحد (¬5) للكسرة، فأما في الجمع القليل: أرواح، فصحّت؛ لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال، ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب إعلال هذه الواو في نحو: قوم، وعون، وقول. وفي الجمع الكثير: رياح، انقلبت الواو ياء؛ للكسرة التي قبلها، نحو: ديمة ودِيَم، وحِيلَة وحِيَل (¬6). ¬

_ (¬1) سقطت من (ش). (¬2) ينظر في البث: "الطبري" 2/ 64، "المفردات" ص 47، "اللسان" 1/ 208 (بثث). (¬3) لم أجد هذا عن ابن عباس. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، واختار هذا الوجه، ونقل الرازي في "تفسيره" 4/ 201 هذا عن الواحدي، "البحر المحيط" 1/ 467، وذكر وجهًا آخر وهو أن يكون تصريف مصدرًا مضافًا للفاعل، أي: وتصريف الرياح السحاب، أو غيره مما له فيه تأثير بإذن الله. (¬5) سقطت من (م). (¬6) ونقله عنه ابن سيده في "المخصص" المجلد 2/ السفر التاسع ص 83، والرازي في "تفسيره" 4/ 201، وينظر: "لسان العرب" 3/ 1763.

وقال ابن الأنباري: إنما سميت الريح ريحًا؛ لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالرَّوح والرَّاحة، وانقطاعُ هبوبها يُكسِبُ الكربَ والغَمّ، فهي مأخوذة من الروح. وأصلها: رِوْح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا في الميزان والميعاد والعيد، والدليل على أن أصلها الواو: قولهم في الجمع: أرواح (¬1). قال زهير: قِفْ بالديار التي لم يعفُها القدمُ ... بلى وغيَّرَها الأرواحُ والدِيَمُ (¬2) ويقال: رِحْتُ الريح أَراحُها، وأُرحتُها أرِيحُها: إذا وجدتها، ومنه الحديث: "من استُرعي رعيةً فلم يَحُطهم بنصيحة، لم يُرِحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحَها لتوجد من مسيرة مائة عام" (¬3). قال الكسائي: الصواب: لم يُرحْ، من: أرَحتُ أُريح، وقال الفراء: لم يَرَح، بفتح الراء. وقال غيرهما: الصواب: لم يرِحْ، من رحت أريح. ¬

_ (¬1) نقله عنه الرازي في "تفسيره" 4/ 201. (¬2) ينظر: "ديوانه" ص 145، "لسان العرب" 8/ 4942. (¬3) الحديث أصله في الصحيحين، رواه البخاري (7150، 7151) كتاب الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم (142) في الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، وليس في ألفاظهما: "لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة مائة عام"، ولفظ (لم يرح) في حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا" رواه البخاري (3166) كتاب الجزية، باب: إثم من قتل معاهدًا بغير جرم، (6914) كتاب: الديات، باب: إثم من قتل ذميًّا بغير جرم.

قال أبو عبيد: الصواب: بفتح الراء (¬1)، وأنشد: وماءٍ وَرَدْتُ على زَوْرَةٍ ... كَمَشْيِ السَّبَنْتَى يَراحُ الشَّفِيفَا (¬2) وقال أبو زيد: قال القيسيون: الرياح أربع: الشمال والجنوب والصَّبَا والدَّبُور. فأما الشمال فمن عن يمين القبلة، والجنوب من عن جهة شمالها، والصَّبَا والدَّبور متتابعتان (¬3)، فالصَّبا من قبل المشرق، والدَّبور من قبل المغرب، وأنشد أبو زيد البيت لأبي صخر الهذلي: إذا قلتُ هذا حينَ أسلُو يهيجُني ... نسيمُ الصَّبا من حيث يَطَّلِعُ الفَجْر (¬4) (¬5) وربما تسمى الصبا: قبولًا؛ لأنها استقبلت الدبور. وقال الأصمعي: إذا انحرفت واحدة منهن عن هذه المهابّ فهي نكباء. ¬

_ (¬1) "اللسان" 3/ 1765: لم يُرح رائحة الجنة: من أرحتُ، ولم يَرَح رائحة الجنة: من رِحتُ أراحُ، ولم يرِح تجعله من راح الشيء أريحه إذا وجدت ريحه، وقال الكسائي: إنما هو لم يُرح رائحة الجنة، من أرحت الشيء فأنا أُريحه، إذا وجدت ريحه، والمعنى واحد، وقال الأصمعي: لا أدري هو من رِحت أو من أرحت؟. (¬2) البيت لصخر الغَيِّ الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" ص 300، "لسان العرب" 3/ 1764، 3/ 1887. والزورة: البعد، وقيل: انحراف عن الطريق، والشفيف: لذع البرد، والسبنتى: النمِر. (¬3) في كتاب "الحجة" 2/ 250: متقابلتان. وهو أصوب. (¬4) البيت لأبي صخر الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 957، و"شرح شواهد المغني" 1/ 169، و"لسان العرب" 5/ 2689 (طلع)، و"مغني اللبيب" 2/ 518. (¬5) من كتاب "الحجة" 2/ 250.

قال: وأخبرنا ابن الأعرابي قال: مهبّ الجنوب من مطلع سُهيل إلى مطلع الثُّرَيّا، والصبا من مطلع الثريا إلى بناتِ نَعْشٍ، والشمال من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر، والدبور من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سُهَيل. وقال غيره: الجنوب: التي تجيء من قبل اليمن، والشمال: التي تهبّ من قبل الشام، والدَّبور: التي تجيء من عن يمين القبلة شيئًا، والصّبا: بإزائها (¬1). والشمال ريح باردة، تكرهها العرب؛ لبردها وذهابها بالغيم، وفيه (¬2) الحَيَا والخِصْبُ (¬3)، وإذا سمعت الريح تنسب إلى الشام فهي الشمال الباردة، كقول زياد بن منقذ: والمطعِمون إذا هبّتْ شاميةً ... وباكر الحيَّ من صُرّادها صِرَمُ (¬4) (¬5) وقال النابغة: وهبّت الريحُ مِن تلقاءِ ذي أُرُلٍ ... تُزجى مع الليل من صُرّادها صِرَمًا (¬6) ¬

_ (¬1) من كتاب "الحجة" 2/ 250، و 251 بتصرف وتقديم وتأخير. (¬2) في (ش): (وفيها). (¬3) من كلام الأصمعي، نقله أبو علي في "الحجة" 2/ 255. (¬4) في (أ): ضبطت صِرَم، وفي (ش): صَرَم. (¬5) ينظر: "معجم البلدان" 1/ 203 (أشي). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 63، "لسان العرب" 1/ 65، 4/ 2439، "مقاييس اللغة" 3/ 345، "أساس البلاغة" (مادة: صرم).

وذُو أُرُلٍ: جبل بأرض غطفان من ناحية الشام، ولكراهتهم الشمال يسمّون كل مكروه عندهم: مشْمولًا، قال زهير: جرت سُنُحًا (¬1) فقلت لها مَرُوعُا ... نَوًى مَشْمُولةٌ فمتى اللِّقاءُ (¬2) مشمولة أي: مكروهة (¬3). وقد صرّح طرفة بأن الشمال شامية، في قوله: فأنت (¬4) على الأدنى شَمالٌ عَرِيّةٌ (¬5) ... شآميّةٌ (¬6) تَزوي (¬7) الوجوهَ بَلِيلُ ويحبون الجنوب لدفئها، ولأنها تجيء بالسحاب والمطر (¬8)، أنشد الأصمعي لحُميد بن ثور: فلا يُبْعِدِ اللهُ الشبابَ وقولَنا ... إذا ما صَبَوْنا صبْوَةً سَنَتُوبُ لياليَ أَبْصَارُ الغواني وسمعُها ... إليَّ وإذ ربْحِي لهن جنوبُ (¬9) ¬

_ (¬1) في (ش): (كأنها بسحًا). (¬2) البيت في "ديوانه" ص 59، و"لسان العرب" 4/ 2113، 4/ 2329، "أساس البلاغة" 1/ 506 (مادة: شمل). (¬3) ينظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 255. (¬4) في (ش)، (م): (وأنت). (¬5) في (ش): (عزية). (¬6) سقطت من (م). (¬7) في (ش): (تزري). (¬8) من كلام الأصمعي تابع للنقل السابق عنه، نقله أبو علي في "الحجة" 2/ 255، وقطعه المؤلف وأدخل فيه غيره. (¬9) البيتان لحميد بن ثور، وردا في "الإصابة" 1/ 356، "الاستيعاب" 1/ 431، "الأغاني" 18/ 132، "الزاهر" 1/ 367. ينظر: "وضح البرهان" 2/ 332.

أي: محبوبة كما تحب الجنوب. وقال أبو عبيدة: الشمال عند العرب للرَّوْح، والجنوب للأمطار والأنداء، والدَّبور للبلاء، أهونه أن يكون غبارًا عاصفًا، يقْذي (¬1) العين، وهي أقلهن هُبوبًا، والصَّبا لإلقاح الشجر، وكل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين من هذه الأربع فهي نكباء. وتقول العرب: إنَّ النُّكْب أربع: فنكباء الصبا والجنوب ميباس للبقل ونكباء الصبا (¬2) والشمال مِعْجاجٌ مِصْراد، لا مطر فيها ولا خير، ونكباء الشمال والجنوب ريح قَرَّة، وربما كان فيها مطر وهو قليل، ونكباء الدبور والجنوب قد تكون في الشتاء والصيف (¬3). وقول الخثعمي: مِن كلِّ فيّاضِ اليدين إذا غدَتْ ... نكباءُ تُلْوي بالكنيفِ (¬4) المُوصَدِ (¬5) هذه في الشتاء (¬6) (¬7). واختلف القراء في {الرِّيَاحِ} فقرأ بعضهم: بالجمع في مواضع، وبالتوحيد في مواضع (¬8)، وهم مختلفون فيها. والأظهر في هذه الآية ¬

_ (¬1) في (م): (يؤذي). (¬2) في (ش): (للصبا). (¬3) في (أ): (كأنها المصيف). (¬4) في (ش): (الكثيف). (¬5) ورد البيت في "ديوان الحماسة" 1/ 334. (¬6) في (م): (الثنا). (¬7) ينظر في تفصيلات الريح وأسمائها وأنواعها:"المخصص" لابن سيده 2 سفر 962 وما بعدها. (¬8) فبهذه الآية قرأ حمزة والكسائي وخلف بإسكان الياء وحذف الألف بعدها، على الإفراد، وغيرهم بفتح الياء وألف بعدها على الجمع. ينظر: "السبعة" ص 173،=

الجمع؛ لأن كل واحد من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية، وتسخيرها؛ لينتفع الناس بها بتصريفها، وإذا كان كذلك فالوجه أن تجمع؛ لمساواة كل واحدة منها الأخرى. وأما من وحّد فإنه يريد الجنس، كما قالوا (¬1): أهلك (¬2) الناس الدينار والدرهم، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحّد كقراءة من جمع. فأما ما روي في الحديث من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا هبت ريح قال: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحاً" (¬3). فمما (¬4) يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى قوله (¬5): {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46]، وإنما تبشر بالرحمة، ويشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد هذا الموضع من التنزيل. ومواضع الإفراد من ¬

_ = "النشر" 2/ 223، "الحجة" 2/ 248 - 251، وقد ذكروا المواضع التي اختلفت فيها القراء في القرآن كله. (¬1) في (م): (يقال). (¬2) في (م): (هلك). (¬3) أخرجه الشافعي في الأم 1/ 253 باب القول في الإنصات عند رؤية السحاب، وفي "المسند" 1/ 175 برقم 502، باب في الدعاء من طريق العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" 5/ 189، وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1352 من طريق العلاء بن راشد، وهو ضعيف، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" 4/ 341، والطبراني في "الكبير" 11/ 213 من طريق الحسين بن قيس، وهو متروك. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 135: رواه الطبراني وفيه: حسين بن قيس، الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬4) في (م): (رايدًا). (¬5) في كتاب "الحجة" 2/ 257: ومواضع العذاب بالإفراد، ويقوي ذلك قوله تعالى.

العذاب (¬1) كقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]. وقد يختص اللفظ في التنزيل بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} مبهم غير مبيّن، كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17]، وما كان من لفظ (أدراك) مفسّر، كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 3]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] (¬2). فأما التفسير، فالتصريف في اللغة: التقليب، وهو تَفْعيل من الصَّرف، والصَّرف: القلب عن الشيء. والصَّرِيف: اللبنُ الذي سَكَنَت (¬3) رَغْوتُه؛ لانصراف الرغوة عنه، وقيل: لا يُسمَى صريفًا حتى يُنصرف به عن الضرع (¬4)، والصريف: الفحل نابيه؛ لأنه يقلب أحدهما بالآخر (¬5). قال المفسرون: ومعنى {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}: تَقْليبُها قَبُولًا ودَبُورًا وشمالًا وجنوبًا، كما بَيَّنَّا، وتصريفها مرةً بالرحمة، ومرةً بالعذاب، وتصريفها مرة حارةً، ومرةً باردةً، ومرة لينةً، ومرةً عاصفة (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ)، (م): (الإفراد والعذاب). (¬2) من كتاب "الحجة" 2/ 256 - 258 بتصرف. (¬3) في (ش): (سكتت). ولعلها كذلك في (م). (¬4) ينظر في معاني التصريف: "المفردات" ص 283، "اللسان" 4/ 2434 (صرف). (¬5) العبارة غير واضحة، وقد يكون صوابها: صرف الفحل نابه، أي: حرقه فسمعت له صوتًا، ولنابه صريف أي: صوت. قال في "اللسان" 4/ 2436: الصريف: صوت الأنياب، وصرف الإنسان والبعير نابه، وبنابه حرقة فسمعت له صريفًا، وناقة صروف بينة الصريف، وصريف الفحل: تهدُّره. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 275، "تفسير الثعلبي" 1/ 1311، "المحرر الوجيز" 2/ 51، "البحر المحيط" 1/ 467.

165

وقوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر} سمي السحاب لانسحابه في الهواء (¬1). ومعنى التسخير: التذليل، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر}: المطيعة لله تعالى (¬2). 165 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} الآية، لما ذكر الله تعالى الدلالةَ على وحدانيته أَعْلَم أنّ قومًا بعد هذه الدلالة والبيان يتخذون الأنداد، مع علمهم أنهم لا يأتون بشيء مما ذكر (¬3). ومضى الكلام في معنى: (الأنداد) (¬4). قال أكثر المفسرين: يريد بالأنداد: الأضداد (¬5) المعبودة من دون الله عز وجل، فعلى هذا، الأصنام أنداد بعضها لبعض، أي: أمثال، ليست أنها أنداد لله تعالى (¬6). وقال السُدِّي: يعنى: بالأنداد أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1312، وينظر: "المفردات" ص 231، "التفسير الكبير" 4/ 202، "اللسان" 4/ 1948. (¬2) ينظر: "المفردات" 233، "التفسير الكبير" 4/ 202، "اللسان" 4/ 1963 (سخر). (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 237، وينظر: "التفسير الكبير" 1/ 204، "البحر المحيط" 1/ 469. (¬4) ينظر في معنى الند: "تفسير الطبري" 1/ 163، "المفردات" ص 489. (¬5) في (ش): (الأصنام). وهو كذلك عند الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1314 (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1314، "زاد المسير" 1/ 170، "معاني القرآن" 1/ 99، "البحر المحيط" 1/ 469، "التفسير الكبير" 4/ 204، ونسبه إلى أكثر المفسرين. وظاهر كلام المفسرين: أنهم اتخذوها أندادًا لله بحسب زعمهم. (¬7) رواه عنه الطبري 2/ 67، ولفظه: الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله،=

وعلى هذا: المطاعون في معصية الله أنداد (¬1) للمطيعين، أو هم أندادٌ، بعضُهم (¬2) لبعض نِدٌّ، كما قلنا في الأصنام. وقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} قال الليث: يقال: أَحْبَبَتُ الشيءَ فأنا مُحِبٌّ، وهو محبوبُ، قال: ومثله: أحزنته فهو محزون، وأجَنَّه الله فهو مجنون، وقد جاء مُحَبّ شاذًا في قول عنترة: بمنزلة المُحبِّ المكرم (¬3) قال شمر: قال الفراء: وحَبَبْتُ لغةٌ، وأنشد: فو الله لولا تَمْرُهُ ما حَبَبَتْهُ ... ولا كان أدنى من عُبيدٍ ومُشرِقِ (¬4) (¬5) عن أبي زيد: بعير مُحِبّ، وقد أحَبّ أحبابًا، وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. قال: والإحباب: هو البروك، فمن ¬

_ = إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله. وقد رواه الطبري عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باللفظ الذي ذكره المؤلف، وذكر ذلك عند قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ورواه الطبري 1/ 163. وينظر: "البحر المحيط" 1/ 469، فقد بين: أن المراد بالناس: أهل الكتاب، ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله: (يحبونهم). فأتى بضمير العقلاء، وباستبعاد محبة الأصنام. ولقوله: (إذ تبرأ)، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء، وكذا قال الرازي في "تفسيره" 4/ 204. (¬1) في (ش): (أندادًا لمطيعين). (¬2) في (ش): (وبعضهم). (¬3) والبيت بتمامه: ولقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّى غيرَه ... مني بمنزلة المُحَبِّ المكرم البيت في "ديوانه" ص 191. (¬4) في (م): (ومشرقي). (¬5) البيت لغيلان بن شجاع النهشلي، في "لسان العرب" 2/ 743 (حبب). وروايته: فأُقسِمُ، وبلا نسبة في "الأشباه والنظائر" 2/ 410، "مغني اللبيب" 1/ 361.

الناس من يجعل المحبة مأخوذة من هذا؛ للزوم المحب محبوبه (¬1). وفي قوله: {كَحُبِّ اَللَّهِ} طريقان لأهل المعاني: أحدهما: أن المعنى فيه كحب المؤمنين الله، أي: يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم، فأضيف المصدر إلى المحبوب، كقول القائل: أكلتُ طعامي كأكل طعامك، وبعت جاريتي كبيع جاريتك، وهو يريد: كبيعك جاريتك وأكلك طعامك، فيحذف الفاعل، ولضيف المصدرَ إلى المفعول (¬2)، كقول الشاعر: ولستُ مسلِّما ما دمتُ حيًّا ... على زيدكتسليم الأميرِ (¬3) أراد: كتسليمي على الأمير، هذا قول الفراء (¬4)، ويوافقه تفسير ابن عباس (¬5)، فإنه قال: يريد: كحب الذين آمنوا الله (¬6)، فكثير (¬7) من العلماء ¬

_ (¬1) ينظر: "المفردات" ص112، "البحر المحيط" 1/ 470، "اللسان" 2/ 745 - 746 (حبب). (¬2) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 54 - 55، "البحر المحيط" 1/ 470. (¬3) البيت لعلي بن خالد البردخت، كما في "رسائل الجاحظ" 2/ 261، ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 100، "البيان والتبيين" 4/ 51، "تفسير الطبري" 2/ 67 "تفسيرالثعلبي" 1/ 1314. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 97. (¬5) نسبه إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 170، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 54. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 67، واختار هذا القول، ورواه عن قتادة ومجاهد والربيع وابن أبي زيد، وكذا رواها ابن أبي حاتم 1/ 276، ونسبه في "زاد المسير" 1/ 170 أيضًا إلى عكرمة وأبي العالية ومقاتل. وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1314، وعزاه لأكثر العلماء، "تفسير السمعاني" 2/ 120، "الكشاف" 1/ 209. (¬7) في (ش): (وكثير).

على هذه الطريقة فلم يثبتوا للكفار حبًا لله، وجعلوا حب الله للمؤمنين (¬1)، وشبهوا حُب الكفار للأصنام بحب المؤمنين لله (¬2). الطريق الثاني: أن المعنى فيه: يحبونهم كحب الله، أي: يسوّون بين هذه الأصنام وبين الله عز وجل في الحب، فيكون تقدير الآية: يحبونهم كحبهم الله، فيضاف الحب إلى الله عز وجل، والمشركون هم المُحِبُّون (¬3)، وعلى المشركين في تسويتهم بين الله عز وجل والأصنام في المحبة أعظم الحجج وأوكدها، إذ أحبوا وعبدوا ما لا ينفع ولا يضر، ولا يحيي ولا يميت. وقد بيّن الله -عز اسمه- ما يدل على هذا المعنى في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وهذا القول اختيار الزجاج (¬4) وابن كيسان (¬5)، وعلى هذا فقد أثبت للمشركين حبًّا لله، شبه حبّهم الأصنام بحبهم الله تعالى. وقال أبو رَوق: معنى قوله: {كَحُبِّ اللَّهِ}، أي: يحبون الأصنام حُبًّا لا يستحقّ مثلَ ذلك الحبِّ إلا اللهُ، ويحبونهم كما ينبغي لهم أن يحبوا الله، فالمعنى فيه: كالحب المستحق لله. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} قال ابن عباس: أي: ¬

_ (¬1) في (أ)، (م): (المؤمنين). (¬2) في (م): (الله). (¬3) في (م): (المحبين). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 237، وقال عن القول الأول: (ليس بشيء، ودليل نقضه قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}. والمعنى: أن المخلصين الذين لا يشركون مع الله غيره هم المحبون حقًّا). وهو اختيار الرازي في "تفسيره" 4/ 204. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1314.

أثبت وأدوم (¬1)، وذلك أن المشركين كانوا يعبدون صنمًا فإذا رأوا شيئًا أحسن منه (¬2) تركوا ذلك، وأقبلوا على عبادة الأحسن (¬3). وقال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء، ويقبل على الله عز وجل، ألا ترى إلى قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} الآية [العنكبوت: 65]، والمؤمن لا يُعرض عن الله في السرّاء والضرّاء والشدة والرخاء، ولا يختار عليه سواه (¬4). وقيل: لأن المؤمنين يوحدون ربهم، والكفار يعبدون مع الصنم أصنامًا، فتنقص محبة الواحد، بضم محبة مجمع إليه، والذي لا يعبد إلا واحدًا محبته له أتم. وهذه الأقوال على طريقة من لم يثبت للمشركين محبة لله. فأما من أثبت لهم محبة لله فالمؤمنون أشد حبًّا منهم؛ لأن الكفار يقولون: إن الله خالقنا ورازقنا، ثم يجعلون معه شركاء، فتضعف محبتهم، وتنقص بذلك، وتتم محبة المؤمنين ربّهم بإفرادهم إياه في العبادة (¬5). وهذا معنى قول الحسن: إن الكافرين عبدوا الله بالواسطة، وذلك قولهم للأصنام: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] والمؤمنون يعبدونه بلا واسطة، لذلك قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، (¬6) ومعنى حب المؤمنين الله: ¬

_ (¬1) في (م): (ودا). (¬2) في (م): (أخير). (¬3) ذكره الثعلبىِ في "تفسيره" 1/ 1315، والسمعاني في "تفسيره" 2/ 121، والبغوي 1/ 178 ولم ينسبه لابن عباس. (¬4) "تفسير الثعلبي" 5/ 1311، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 178 - 179، والواحدي في "الوسيط" 1/ 236. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1315 - 1316. (¬6) في "تفسير الحسن البصري" 1/ 94، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1315.

حب طاعته والانقياد لأمره، ليس معنى يتعلق بذات القديم سبحانه (¬1). وقوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} جواب (لو) محذوف. وقد كَثُر في التنزيل حذفُ جواب (لو) كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} [الرعد: 31] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93]. قال أصحاب المعاني: وحذف جواب (لو) في مثل هذا الآي يكون أفحم وأبلغ؛ لذهاب المخاطب المتوعَّد إلى كلّ ضرب من الوعيد، ولو ¬

_ (¬1) هذا من المؤلف تأويل يخالف ظواهر النصوص، جرى فيه على مذهب الأشاعرة الذين يجيزون إطلاق هذه اللفظة لكنهم يحيلون وقوعه، كما ذكر الرازي في "تفسيره" 4/ 205، فالمؤمنون يحبون الله لذاته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} , وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} [المائدة: 54]. قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" 1/ 165: وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله عز وجل وحده، الذي لا تصلح الألوهية إلا له. وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة، فهو باعتبار متعلقها ومحبوبها ومرادها، فإن كان المحبوب المراد هو الذي لا ينبغي أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو وحده محبوبه ومراده وغاية مطلوبه، كانت محبته نافعة له. أما الأشاعرة فينفون المحبة بين الله وعبده؛ لأن العقل لا يدل عليها، وكل ما لا يدل العقل عليه فإن الله يجب أن ينزه عنه، وقالوا: إن المحبة لا تكون إلا بين متجانسين، فلا تكون بين رب ومخلوق، وهذه دعوى باطلة يكفي فيها المنع؛ لأن الأصل عدم ثبوت الدعوى، والواقع يدل على ثبوت المحبة بين غير المتجانسين، كما يحب آلاته وبعض بهائمه. علمًا بأن العقل قد دل على ذلك؛ فإثابة الطائعين ونصرهم وتأييدهم وإجابة دعائهم دليل على المحبة. وينظر: "شرح العقيدة الواسطية" للشيخ محمد العثيمين ص 196، "مختصر منهاج القاصدين" 343 - 356.

ذكر له ضرب من الوعيد لم يكن مثل أن يبهم (¬1) عليه؛ لأنه يوطّن نفسه على ذلك المذكور، ومن وطّن نفسه على شيء لم يصعب عليه صعوبتَه على من لم يوطنْ عليه نفسَه. وذكرنا شواهد هذه المسألة في سورة الأنعام، عند قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام: 27]، (¬2). وكثر اختلافُ القُرّاء (¬3) في هذه الآية، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم وأبو عمرو وابن كثير: (ولو يَرَى) بالياء، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ}، {وَأَنَّ اللَّهَ} بالفتح فيهما (¬4). والمراد بالرؤية هاهنا: رؤية العين المتعدية إلى مفعول واحد، والفعل في هذه القراءة (¬5) مسند إلى الذين ظلموا، و (الذين ظلموا): هم الذين ¬

_ (¬1) في (ش): (يتهم)، وفي (أ)، (م): غير منقطة ولا واضحة. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 97، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 239، و "تفسير الطبري" 2/ 67، "التبيان" للعكبري ص 105، "البحر المحيط" 1/ 471، "تفسير الثعلبي" 1/ 1318. (¬3) ينظر في توجيه القراءات في الآية: "معاني القرآن" للفراء 1/ 97، "تفسير الطبري" 2/ 67 - 69، "التبيان" ص 105 - 106، "البحر المحيط" 1/ 471، "الحجة" 2/ 258. (¬4) ينظر: "السبعة" ص 173 - 174، "النشر" 2/ 224، "الحجة" 2/ 258، قال في "النشر": واختلفوا في {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ} فقرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب، واختلف عن ابن وردان عن أبي جعفر، فروى ابن شبيب عن الفضل من طريق النهرواني عنه بالخطاب، وقرأ الباقون بالغيب. واختلفوا في {يَرَوْنَ الْعَذَابَ} فقرأ ابن عامر بضم الياء، وقرأ الباقون بفتحها. واختلفوا في {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} فقرأ أبو جعفر ويعقوب بكسر الهمزة فيهما. وقرأ الباقون بفتح الهمزة فيهما. (¬5) في (ش): (الآية).

كفروا، ألا ترى إلى قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وإنما كان ينبغي أن يسند إليهم الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين قد علموا قدرَ ما يشاهدُ الكفارُ ويعاينونه من العذاب يوم القيامة، والمتوعدون في هذه الآية لم يعلموا ذلك، فوجب أن يسند الفعل إليهم (¬1)، وفتحوا {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ}، لأنهم أعملوا فيه الرؤية، تقديره: ولو يرون أن القوة. ومعناه: ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لعلموا مضرّة اتخاذ الأنداد. وقولنا: لعلموا، هو الجواب المحذوف، وإنما قدرنا هذا الجواب مع احتمال غيره؛ لأنه قد جرى ذكر اتخاذ الأنداد في أول الآية (¬2). وقال أبو عبيد والزجاج (¬3): يجوز أن يكون العامل في (أن) جواب (لو) المقدر؛ لأنه قد جاء في تفسير هذه الآية: لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة، لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعًا، ففتحوا (أن) بالجواب المقدر وهو: لعلموا (¬4). وضعّف أحمد بن يحيى هذا القول، وقال: (¬5) العَلَم لو حذف لم يترك صلته، وقال من احتج لهذا القول: حذف الموصول وإبقاء أصله لا ينكر، كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]، في قراءة من نصب، والمراد: ما بينكم، فحذفت (ما) وتُركت صلتها. وقرأ أبو جعفر: (ولو يرى) بالياء (¬6)، وكسر (إن القوة) و (إن الله) ¬

_ (¬1) "الحجة" 2/ 261. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 238. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 238. (¬4) في (ش): (وعلموا). (¬5) في (م): (قال). (¬6) في (ش): (بالتاء).

وإنما كَسَر؛ لأن ما قبل (إن) كلام تام، مع ما أضمر فيه من الجواب المقدرة لأن تقديره: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لآمنوا، أو لرأوا أمرًا عظيما، فلما تم الكلام بقي قوله: {أَنَّ اَلقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} مستأنف، وإذا استأنف وجب كسره. قال الفراء: وتكون الرؤية على هذه القراءة واقعة على (إذ) في المعنى، وفتح (أنّ) مع الياء أحسن من كسرهما (¬1). وقرأ يعقوب وسَهْل: (ولو ترى) بالتاء، (إن القوة)، و (إن الله): بالكسر فيهما. والخطاب في هذه القراءة (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقصده (¬3) بالمخاطبة؛ لأنه لم يعلم ما يراه الكفار من العذاب في الآخرة، ولكن في قصده المخاطبة (¬4) تنبيه لغيره، ألا ترى أنه قد يُخَاطَبُ فيكون خطابه خطابًا للكافّة، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] (¬5). قال أبو إسحاق: وهذا (¬6) كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:106 - 107] وهو بمنزلة: ألم تعلموا. كذلك، (ولو ترى) بمنزلة: ولو ترون، ويكون (إن القوة) مستأنفة كما وصفنا. ويكون الجواب -والله أعلم- لرأيت أمرًا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 97. (¬2) في (ش): (الآية). (¬3) في (أ)، (م): (يقصد). (¬4) سقطت من (أ)، (م). (¬5) "الحجة" 2/ 262. (¬6) في (ش): (فهذا).

عظيمًا، كما تقول: لو رأيت فلانًا والسياط تأخذه، فتستغني (¬1) عن الجواب؛ لأن المعنى معلوم (¬2). قال ابن الأنباري: ويجوز في هذه القراءة أن تضمر القول وتعلق (إن) به، ويكون التقدير: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت: إن القوة لله جميعا، فانكسرت (إن) مع القول كما انفتحت مع العلم. وقرأ نافع وابن عامر: (ترى) بالتاء (¬3)، وفتح: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ}، و {وَأَنَّ اللَّه}، وعلى (¬4) هذه القراءة لا يجوز أن يكون العامل في: {أَنَّ الْقُوَّةَ} قوله: (ترى)؛ لأن الرؤية هاهنا: المراد به رؤية البصر، فلم يجز أن تتعدّى إلى (أن)؛ لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه، وهو: (الذين ظلموا)، فإذا لم يجز أن تنتصب (أن) بـ (ترى)، ثبت أنه منتصب (¬5) بفعل آخر غير (ترى) الظاهرة، وذلك الفعل هو الذي يقدر جوابا لـ (لو)، كأنه: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب رأوا أن القوة لله، والمعنى: أنهم شاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك، أو شكّهم فيه (¬6). والاختيار عند الفراء وغيره: كسر (إن) مع المخاطبة؛ لأن الرؤية واقعة على الذين ظلموا، فكان وجه الكلام أن يستأنف (إن). ¬

_ (¬1) في (م): (تستغني). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 238 - 239، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1318. (¬3) في (م): (بفتح التاء وفتح). (¬4) في (أ)، (م): (على). (¬5) في (م): (انتصب). (¬6) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 263.

قال الفراء: ولو فتحها على تكرير الرؤية كان صوابًا، كأنه قال: ولو ترى الذين ظلموا إذ (¬1) يرون العذاب يرون (¬2) {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬3). ومن قرأ بالياء ففتحُ {أَنَّ} في قراءته أبين؛ لأنه ينصب {أَنَّ} بالفعل الظاهر دون المضمر. هذه وجوه اختلاف القراءة في هذه الآية (¬4). فإن قيل: كيف جاءت (إذ) في قوله: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} مع قوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهذا أمر مستقبل وإذ لما مضى؟، قيل: إنما جاء على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك، كما جاء {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17]، فلما أريد فيها من التحقيق والتقريب؛ جاء على لفظ المضي، وعلى هذا جاء في ما هو من (¬5) أمر الآخرة أمثلة الماضي، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44]. ومما جاء على لفظ المضي للتقريب من الحال: قول المقيم: قد قامت الصلاة، يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم بالصلاة؛ لقرب ذلك من قوله، وعلى هذا قول رؤبة: أَوْدَيْتُ إن لم تَحْبُ (¬6) حَبْوَ المُعْتَنِكْ (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) من قوله: (فكان وجه الكلام). ساقطة من (ش). (¬2) ليست في (أ)، (م). (¬3) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 97 - 98. (¬4) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 263 بتصرف. (¬5) ساقطة من (أ)، (م). (¬6) في (ش): (يجب). (¬7) في (ش): (المعتبك). (¬8) لرؤبة من قصيدة يمدح فيها الحكم بن عبد الملك في "ديوانه" ص 118،=

166

فإنما أراد تقريب مشاركته وإشفاءه عليه، فأتى بمثال الماضي، وجعله سادًّا مسدّ جواب أن، من حيث كان معناه الاستقبال في الحقيقة (¬1)، وأن الهلاك لم يقع بعد، ولولا ذلك لم يجز، ألا ترى أنه لا يكون: قمتُ إن قمتَ؟ إنما تقول: أقومُ إن قمتَ، وقد جاء كثير مما في التنزيل من هذا الضرب كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام: 27]، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُون} [الأنعام: 93]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} [سبأ: 51]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى} [الأنفال: 50]، فكما جاءت هذه الآية التي يراد بها الاستقبال بإذ، كذلك جاء: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْن} (¬2). وقرأ ابن عامر: (يُرون) بضم الياء، وحجته قوله (¬3): {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} (¬4). وقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} منصوب على الحال، المعنى: إن القوة ثابتة لله عز وجل في حال اجتماعها (¬5). 166 - قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ}. العامل في {إِذْ} معنى {شَدِيدُ} ¬

_ = "الخصائص" 2/ 289، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 260 والمعتنك: البعير يصعد في العانك من الرحل، وهو المتعقد منه. (¬1) في (ش): (بالحقيقة). (¬2) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 260 - 261. (¬3) ساقط من (ش) وكلمة قوله ليست في (م). (¬4) "الحجة" 2/ 264. (¬5) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 239، وينظر: "التبيان" للعكبري ص 107، وهذا إعراب لكلمة: (جميعًا).

من قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأ} كأنه قيل: وقت تبرأ (¬1). وقوله: {الَّذِينَ اتُّبِعُوا} يعنى: المتبوعين في الشرك والشرّ، {مِنَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} يعنى: السفلة والأتباع (¬2). وقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ} الباء هاهنا: بمعنى: عن (¬3)، كقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، أي: عنه، قال علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصيرٌ بأدواء النساء طبيب (¬4) أي: عن النساء. وقال آخر: تسائل بي هوازنُ أين مالي ... وهل لي غيرَ ما أتلفتُ مالُ (¬5) أي: عني. وقوله تعالى: {الْأَسْبَابُ} أصل السبب في اللغة: الحبل، قال شمر: قال أبو عبيدة: السببُ: كلُّ حَبْل حَدَرْتَه (¬6) من فوق. ¬

_ (¬1) ينظر: "التبيان" ص 107، وإعرابها إعراب آخرين، فالأول: بدل من إذ الأولى. والثاني: مفعول (اذكر). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 239، وتنظر الآثار في ذلك عند الطبري في "تفسيره" 2/ 70، وابن أبي حاتم 1/ 277 عن قتادة وأبي العالية والربيع وعطاء، وينظر: "زاد المسير" 1/ 171، "تفسير الثعلبي" 1/ 1320 وعزاه لأكثر أهل التفسير. (¬3) "تفسير الثعلبي" 1/ 1320، "التبيان" 1/ 107، وذكر أنها أيضًا للسببية، والتقدير: وتقطعت بسبب كفرهم، وقيل: إنها للحال، أي تقطعت موصولة بهم الأسباب، وقيل: الباء للتعدية، والتقدير: قطعتهم الأسباب، كما تقول: تفرقت بهم الطرق، أي فرقتهم، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 473، "التفسير الكبير" 4/ 211. (¬4) البيت لعلقمة الفحل في "ديوانه" ص 35. (¬5) البيت ليزيد بن الجهم، في "ديوان الحماسة" 2/ 356. (¬6) في (ش): (جدوته).

وقال خالدُ بنُ جَنَبَة: السبب من الحبال: القوي الطويل، قال: ولا يدعى الحبل سببًا حتى يُصْعَدَ به وُينْزَل، ومن هذا قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15]، فالسبب: الحبل في هذا الموضع، ثم قيل (¬1) لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب، يقال: ما بيني وبينك سبب، أي: آصرة رحم، أو عاطفة مودة. وقيل للطريق: سبب؛ لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، أي: طريقًا، و (أسبابُ السماء): أبوابُها؛ لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال الله تعالى خبرًا عن فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر:36 - 37]، قال زهير: ومن هاب (¬2) أسبابَ المنايا ينلنه ... ولو رام أسبابَ السماء بسُلَّمِ (¬3). والمودة بين القوم تسمى: سببًا؛ لأنهم بها يتواصلون، ومنه قول لبيد: بل ما تَذكَّرُ من نوارَ وقد نأتْ ... وتقطّعت أسبابُها ورِمامُها (¬4) (¬5). والتي في هذه الآية يعني بها: وُصَلَهم التي كانت تجمعهم، قال ابن ¬

_ (¬1) في (م): (يقال). (¬2) سقط من (ش). (¬3) البيت في "ديوانه" ص30، "تفسير الثعلبي" 1/ 1322، "السمعاني" 2/ 123، "الرازي" 4/ 234، "القرطبي"، "لسان العرب" 4/ 1910 (سب). (¬4) البيت في "ديوانه" ص 301، "لسان العرب" 4/ 1910 (سب). (¬5) ينظر في معاني السبب: "تفسير الطبري" 2/ 71 - 73، "تفسير الثعلبي" 1/ 1322، "المفردات" ص 226، "تاج العروس" 2/ 66 وما بعدها.

167

عباس (¬1) ومجاهد (¬2) وقتادة (¬3): يعني: أسباب المودة والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا، تقطعت وصارت مخالّتهم عداوة. وقيل: أراد بالأسباب: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها (¬4). وقال ابن زيد: يعني: الأعمال التي كانوا يؤملون أن يصلوا (¬5) بها إلى ثواب الله (¬6). 167 - وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهم الأتباع. {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} موضع أن رَفْع؛ لأن لو تطلب الفعل (¬7)، المعنى: لو وقع كرور، أي: رجعة إلى الدنيا (¬8). {فَنَتَبَرَّأَ} جواب التمني بالفاء، كقوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102]، قال الكسائي: إنما نصب جواب التمني بالفاء (¬9)؛ لأن تأويله: لو أنّ لنا أن نَكُرَّ فَنَتَبَرَّأَ (¬10). ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 71، وابن أبي حاتم 1/ 278. (¬2) رواه عنه الطبري 271، وابن أبي حاتم 1/ 278. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 15/ 65، والطبري 2/ 71، وابن أبي حاتم 1/ 278. (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 71 بسنده عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن الضحاك 1/ 278، وذكره الثعلبي 1/ 1320 عن ابن جريج والكلبي. (¬5) في (م): (يوصلوا). (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 72، ورواه ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي صالح 1/ 279. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 240. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 240، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 73، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 279. (¬9) ساقطة من (أ)، (م). (¬10) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 73، "التبيان" 1/ 106، وذكر وجهًا آخر وهو أن (فنتبرأ) منصوب بإضمار أن، تقديره: لو أن لنا أن نرجع فأن نتبرأ، وجواب لو على هذا محذوف، تقديره. لتبرأنا أو نحو ذلك.

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} أي: كتبرؤ (¬1) بعضهم من بعض (¬2). {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} قال الربيع بن أنس: يريهم أعمالهم القبيحة التي سلفت منهم في الدنيا حسراتٍ عليهم في الآخرة (¬3)؛ لأنهم إذا رأوا حُسْنَ مجازاة الله المؤمنين بأعمالهم الحسنة تحسروا على أن لم تكن أعمالُهم حسنةً، فيستحقّوا بها من ثواب الله مثلَ الذي استحقه المؤمنون. وقال ابن كيسان: يعني بأعمالهم: عبادَتَهم الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسّروا وندموا (¬4). قال أبو إسحاق: والحَسْرَةُ: شِدَّةُ الندم، حتى يبقى النادم كالحسير من الدوابّ الذي لا منفعة فيه، ويقال: حَسِرَ فلان يَحْسَر حَسْرَةً وحَسَرًا: إذا اشتدَّ نَدَمُه على أمر فاته، قال المَرَّار: ما أنا اليومَ على شيء خلا ... يا ابنةَ القَيْنِ تَوَلَّى بِحَسِرْ (¬5). أي: بنادم. وأصل الحَسْر: الكشف، يقال: حَسَر عن ذراعه، والحَسْرَة: انكشاف عن حال الندامة (¬6)، والحُسُور: الإعياء؛ لأنه انكشاف الحال ¬

_ (¬1) في (ش): (كثير). (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 240، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1322 وذكر وجها آخر، أي: كما أراهم العذاب كذلك يريهم الله! (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 75، وذكره الثعلبي 1/ 1323، والقرطبي 2/ 190. (¬4) ذكره الثعلبي 1/ 1323، والواحدي في "الوسيط" 1/ 252، "البغوي" 1/ 180. (¬5) البيت للمرار في "لسان العرب" 2/ 869. (¬6) سقطت من (م).

168

عما أوجبه طول السفر، والمِحْسرة: المِكْنَسَة (¬1)؛ لأنها تكشف عن الأرض، والطيرُ تنحسر؛ لأنها تنكشف بذهاب الريش (¬2). قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المشركين الذين أخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة. 168 - قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} قال ابن عباس، في رواية أبي صالح: نزلت في الذين حَرَّموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر (¬3)، وقال في رواية عطاء: يعني: المؤمنين خاصةً (¬4). وقوله تعالى: {حَلَالًا} إن شئت نصبته على الحال: {مِمَّا فِي الْأَرْضِ}، وإن شئت نصبته على أنه مفعول: {مِمَّا فِي الْأَرْضِ}. ¬

_ (¬1) في (ش): كتب (الميليس). (¬2) ينظر في معاني حسر: "تفسير الطبري" 2/ 73 - 74، "تفسير الثعلبي" 1/ 1323، "المفردات" ص125، "تاج العروس" 6/ 273. (¬3) روى البخاري (4623) كتاب: التفسير، باب: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبةٍ، عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء، والوصيلة: الناقة البكر في أول نتاج الإبل بانثى، ثم تثني بعد بانثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ليس بينهما ذكر. (¬4) ينظر: "العجاب" 1/ 417، وفي "البحر المحيط" 1/ 478: قال الحسن: نزلت في كل من حرم على نفسه شيئًا لم يحرمه الله عليه، وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما: أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب، قاله النقاش. وقيل: في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة، قيل: وبني مدلج فإن صح هذا كان السبب خاصًّا واللفظ عامًّا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. انتهى. وينظر: "زاد المسير" 1/ 172.

قال الفراء: يقال: قد حَلَّ الشيء فهو يَحِلُّ حَلالًا وحلًا، وحَلَّ من إحرامه يَحِلُّ حلالًا، وأصله: من الحَلِّ الذي هو نقيض العَقْد، ومعنى الحلال: المباح الذي انحلت عُقْدة الحظر عنه. ومنه: حلَّ بالمكان، إذا نزل به؛ لأنه حلّ شدّ الارتحال للنزول. وحَلّ الدَّين: إذا وجب؛ لانحلال العُقْدة بانقضاءِ المدة، وحَلَّ من إحرامه؛ لأنه حل عقدة الإحرام. وحلت عليه العقوبة، أي: وجبت، لانحلال العقدة المانعة من العذاب، والحُلّة: الإزار والرداء؛ لأنها تحل عن الطي للبس، ومن هذا: تَحِلَّةُ اليمين؛ لأن عقدة اليمين تنحلّ به (¬1). والطيب في اللغة يكون بمعنى: الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب؛ لأن الحرام يوصف بأنه خبيث، قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]. والأصل في الطيب: هو ما يُسْتَلَذُّ ويستطاب، وَوُصفَ به الطاهر والحلال على جهة التشبيه؛ لأن النجسَ تكرهُهُ النفس فلا يُسْتَلَذّ، والحرام غير مستلَذّ؛ لأن الشرع يزجر عنه (¬2). قال ابن عباس: يريد: قد غَنَّمْتُكم مال أعدائكم (¬3)، فعلى هذا عنى بالحلال الطيب: الغنيمة. وقال أهل المعاني: أراد كل ما يغتذى به من المطاعم، ولهذا جمع ¬

_ (¬1) ينظر في الحلال "تفسير الطبري" 2/ 76، "تهذيب اللغة" 1/ 902 - 904 (حل)، "المفردات" ص 135، "تاج العروس" 14/ 158 - 168. (¬2) ينظر في الطيب: "تفسير الطبري" 2/ 76، "تهذيب اللغة" 3/ 2147 - 2148 (طاب)، "المفردات" 314 - 315، "تفسير البغوي" 1/ 180، "تاج العروس" 2/ 188 - 192، "البحر المحيط" 1/ 479. (¬3) هذا من رواية عطاء، وتقدم الحديث عنها.

بين الوصفين لاختلاف الفائدتين، إذ وصْفُه بأنه حلال يفيد أنه طِلْقٌ، ووصفه بأنه طيب أنه يغتذى به، وهو مُستلَذّ في العاجل والآجل. فعلى هذا: التراب والخشب طاهر، ولا يحل أكلهما؛ لأنهما ليسا من الطيّب الذي يغتذى به (¬1). وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من حيث يطيب لكم، أي: لا تأكلوا مما يحرم (¬2). فعلى هذا: المعنى: كلوا حلالًا من حيث يحِلّ لكم، فأما أن يأكل مال غيره فهو حلال في جنسه، ولكن ليس يحلّ له أكله، فهو حلال وليس مما يطيب له. وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال ابن السِّكِّيت فيما رواه عن اللحياني: الخُطوة والخَطْوة بمعنى، وحكى عن الفراء: خَطَوْتُ خَطْوَةً، والخَطْوَة ما بين القدمين. وقالوا: خطوتُ خُطوةً، كما قالوا: حَسَوتُ حَسْوَةً، والحُسْوة: اسم ما تحسيت، وكذلك غَرفتُ غَرْفةً، والغُرفة: اسم ما اغترفت (¬3). وإذا كان كذلك، فالخطوة: المكان المتخطى، كما أن الغرفة: المغترَفة بالكف، فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه، لأن الخطوة: اسم مكان، وهذا قول عبد الله ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 241، "البحر المحيط" 1/ 479. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 241. (¬3) نقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 1052 (خطا): وقال الفراء: العرب تجمع فُعلة من الأسماء على فُعُلات، مثل: حجرة وحجرات، فرقًا بين الاسم والنعت، النعت يخفف، مثل حلوة وحُلْوات، فلذلك صار التثقيل الاختيار، وربما خفف الاسم، وربما فتح ثانيه فقيل: حُجَرات ولنظر في معاني الخطوة "تفسير الطبري" 2/ 76، "المفردات" ص 158، "اللسان" 2/ 1205 (خطا).

ابن مسلم (¬1) والزجاج (¬2)، فإنهما قالا: خُطواتُ الشيطان: طُرُقُه. وإن جعلت الخُطوة بمعنى: الخَطوة كما ذكره اللحياني، فالتقدير: لا تأتموا به، ولا تَقْفُوا أَثَرَه. والمعنيان يتقاربان وإن اختلف التقديران (¬3)، وهذا قول المؤرِّج. قال: خطوات الشيطان: آثاره (¬4). وقال الوالبي عن ابن عباس: خُطوات الشيطان: عمله (¬5)، وهذا على أن يكون الخُطوة بمعنى الخَطوة، وخَطوة الشيطان: عمله. وقال الكلبي (¬6) والسُّدّي (¬7): يعني: طاعته، وهذا على أنَّ من اقتدى بإنسان واتبع خطاه فقد أطاعه، يريد: لا تطيعوا الشيطان (¬8). وفي الخطوات قراءتان: ضَمُّ العين وإسكانها (¬9)، فمن ضم العين فلأن الواحدة خُطوَة، فإذا جمعتَ حركتَ العينَ للجمع، كما فعلت ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 64. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 241. (¬3) ما تقدم في معنى الخطوة من قوله. وقالوا: خطوت خطوة، من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 267. (¬4) نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1328، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 479. (¬5) أخرجه عنه الطبري 2/ 76، وذكره الثعلبي 1/ 1327. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1327. (¬7) أخرجه عنه الطبري 2/ 77، وذكره الثعلبي 1/ 1327. (¬8) ذكر الطبري 2/ 77: أن هذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض؛ لأن كل قائل منهم قولًا في ذلك فإنه أشار إلى نهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 479: وهذه أقوال متقاربة. (¬9) قرأ: نافع وأبو عمرو وشعبة وحمزة بإسكان الطاء، والباقون: بضمها. ينظر: "السبعة" ص 174، "النشر" 2/ 216، "البدور الزاهرة" ص 54.

بالأسماء التي على هذا الوزن، نحو: غُرْفَة وغُرُفات (¬1)، وتحريك العين في نحو هذا الجمع فصل بين الاسم والصفة (¬2)، وذلك أن ما كان اسمًا جمعته بتحريك العين، نحو: تمرة وتمرات، وغرفة وغرفات، وشهوة وشهوات. وما كان نعتًا جمع بسكون العين، نحو: ضَخْمَة وضَخْمَات، وعَبْلَة وعَبْلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين. وأما من أسكن العين، فإنهم نووا الضمة، وأسكنوا الكلمة عنها؛ لثقل الضمة، وحذفوها من اللفظ وهم يقدرون ثباتها، ولا يجوز أن يكون جمع فعلة، فتركوها في الجمع على ما كان عليه في الواحد؛ لأن ذلك إنما يجئ في ضرورة الشعر، دون حال السعة والاختيار، كما قال ذو الرُّمَّة: ورَفْضاتُ الهوى في المفاصل (¬3) وإذا كان كذلك، علمتَ أنهم أسكنوا تخفيفًا وهم يريدون الضمة، لأنّ تحريكَ العين فصلٌ بين الاسم والصفة كما ذكرنا، فلا بد من أن يكون التحريك الذي يختصّ بالأسماء دون الصفات منويًّا هاهنا (¬4). ووجه آخر لمن سكن: وهو أنه أجرى الواو في خُطْوَة مجرى الياء في نحو: مُدْيَة وكُلية وزُبية، فإنها تجمع بإسكان العين، فيقولون: مُدْيات وكُلْيات. وذلك أنهم لو جمعوا بتحريك العين؛ للزم انقلاب الياء واوا ¬

_ (¬1) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 267. (¬2) "الحجة" 2/ 268. (¬3) تمام البيت: أبتْ ذِكَرٌ عَوَّدن أحشاءَ قلبه ... خفوقًّا ورَفْضاتُ الهوى في المفاصلِ لذي الرمة يتغزل بخرقاء، ويصف الإبل، في: "ديوانه" ص 417. (¬4) من "الحجة" 2/ 268 بتصرف.

169

لانضمام ما قبلها، فلما لزم الإسكان في الياء جَعَل من أسكن خطوات الواو بمنزلة الياء، كما جعل الياء بمنزلة الواو (¬1) في قولهم: اتَّسَرُوا (¬2)، ألا ترى أن التاء لا تكاد تبدل من الياء، وإنما يكثر إبدالها من الواو، وانما أبدلوها في اتَّسَرُوا لإجراء الياء مجرى الواو (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} قال المفسرون: قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لآدم، وهو الذي أخرجه من الجنة (¬4)، فعلى هذا (مبين): من أَبَان العداوة: إذا أظهرها. ويجوز أن يكون المبين بمعنى: الظاهر هاهنا؛ لأنّ (أبان) يتعدى، ولا يتعدى (¬5). ثم بين عداوة الشيطان فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} الكلام في إنما نذكره في قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 173]. 169 - وقوله تعالى: {بِالسُّوءِ} قال الليث: يقال: ساء الشيءُ يسوء فهو سيّئ، إذا قَبُحَ (¬6)، والسوء: الاسم الجامع للآفات والداء. وقال غيره: يقال: ساءه يَسُوءه سَوءًا ومساءةً، والسُّوء الاسم، بمنزلة الضُّرّ وهو كل ما يسوء صاحبه في العاقبة (¬7)، وذكرنا الكلام في (ساء) ¬

_ (¬1) من قوله: (الياء كما ..) ساقط من (ش). (¬2) ضبطت في (ش): (اتسَّروا). (¬3) من "الحجة" 2/ 269 بتصرف. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1328، والقرطبي 2/ 192 - 193. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1328، وينظر: "اللسان" 1/ 406 بين، "المفردات" ص 45 - 46، "زاد المسير" 1/ 172. (¬6) نقله عنه في "اللسان " 4/ 2138 (سوأ). (¬7) ينظر في السوء: "تفسير الطبري" 2/ 77، "المفردات" ص253 - 254، "المحرر الوجيز" 2/ 62، "زاد المسير" 1/ 172، "اللسان" 1/ 4/2138 - 2139 (سوأ).

عند قوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، والفصل بين السَّوء والسُّوء نذكره في سورة التوبة، عند ذكر اختلاف القراء في قوله: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] إن شاء الله. وقوله تعالى: {وَالْفَحْشَاءِ} اسم على ما قَبُحَ من الفعل والقول، كالفاحشة (¬1). قال الليث: الفحشاء: اسم الفاحشة، وكل شيء تجاوز قَدْرَه فهو فاحش، وكلُّ أمرٍ لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة وفحشاء. ويقال: فَحُش الرجل يفحُش صار فاحشًا، وأفحَشَ [قال] قولًا فاحشًا (¬2). قال عطاء عن ابن عباس: السوء: عصيان الله، والفحشاء: البُخل (¬3)، وقال في رواية باذان: السوء من الذنوب: ما لا حدّ فيه في الدنيا، والفحشاء: كل ما كان فيه حدّ (¬4). {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث والأنعام (¬5). قال ابن عباس: يريد: المشركين وكفار أهل الكتاب (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 1/ 1329. (¬2) ينظر في الفحش: "تفسير الطبري" 2/ 77، "المفردات" ص 375 - 376، "المحرر الوجيز" 2/ 62، "البحر المحيط" 1/ 477. (¬3) ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1330 عن عطاء عن ابن عباس في تفسير الفحشاء، وقال: البخل، ولم يذكر تفسير السوء، وذكره بنحوه: أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 480 [عن عطاء]. (¬4) ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1329، وفي "البحر المحيط" بنحوه 1/ 480. (¬5) "تفسير الثعلبي" 1/ 1330، الطبري 2/ 77، "البحر المحيط" 1/ 480، "الدر المنثور" 1/ 306. (¬6) لم أجده عند الثعلبي.

170

170 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال ابن عباس: نزلت في اليهود، وذلك حين دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فقالوا: نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيرًا وأعلم مِنِّا (¬1). فعلى هذا، الآية مُستأنفة، والكناية في لهم عن غير مذكور. وقال الضحاك، عن ابن عباس: نزلت في كفار قريش (¬2)، والكناية تعود إلى (من) في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ} [البقرة: 165] (¬3). وقال آخرون: نزلت في الذين حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام (¬4)، والكناية ترجع إلى (الناس) في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 168] عدل عن المخاطبة إلى الغيبة (¬5). وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} إلى آخر الآية، معناه: أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالًا، فترك جواب لو لأنه معروف (¬6)، والتقدير: أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون يتبعونهم (¬7)؟ ¬

_ (¬1) رواه الطبري 2/ 78 بسنده عن ابن عباس، وابن أبي حاتم 1/ 281، وذكره الثعلبي 1/ 1331، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 480، ونقله السيوطي في "اللباب" ص 31 - 32. وينظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 200. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1337. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 78، "تفسير الثعلبي" 1/ 1332، "البحر المحيط" 1/ 480. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1332، والبغوي 1/ 181. (¬5) ينظر: "الطبري" 2/ 78، والثعلبي 1/ 1332، ورجح هذا الطبري والثعلبي، وقال: لأن هذه القصة عقيب قوله: (يا أيها الناس)، فهي أولى أن تكون خبرًا عنهم من أن تكون خبرًا عن المتخذين للأنداد مع ما بينهما من الآيات وطول الكلام. (¬6) "تفسير الثعلبي" 1/ 1333. (¬7) ينظر: "التبيان" ص 109.

171

والواو في أَوَلو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ (¬1)، وإنما جعل ألف الاستفهام للتوبيخ؛ لأنه يقتضي ما الإقرار به فضيحة كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه. وفي هذا حجة عليهم، كأنه قيل: إذا جاز لكم أن تتبعوا آباءكم فيما لا تدرون أعلى حق هم فيه أم باطل؟ فأنتم كمن قال: نتبعهم وإن كانوا على باطل، وهذا غاية الفضيحة (¬2). والآية تضمنت النهي عن التقليد؛ لأن الله تعالى أنكر عليهم متابعة آبائهم، وأمر بمتابعة العقل والهدى (¬3). وقوله تعالى: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} لفظه عام ومعناه الخصوص؛ لأنهم كانوا يعقلون أمرَ الدنيَا، ومعناه: لا يعقلون شيئًا من أمر الدين (¬4). قال عطاء عن ابن عباس: لا يعقلون عظمةَ الله، ولا يهتدون إلى دينه (¬5). 171 - قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} الآية، قال أهل اللغة، الفراء وغيره: النعيق: دعاء الراعي الشاة، يقال: انعَقْ بضَأنِك، أي: ادعُها، وقد نَعَقَ يَنْعِقُ نعيقًا ونَعْقًا ونَعْقانًا ونُعاقًا، إذا صاح بالغنم زجرًا، قال الأخطل: ¬

_ (¬1) ينظر: "التبيان" ص 109، "البحر المحيط" 1/ 480، وذكر القول الآخر وهو أن الواو للحال. (¬2) "البحر المحيط" 1/ 481. (¬3) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 194، "البحر المحيط" 1/ 480. (¬4) "تفسير الثعلبي" 1/ 1334. (¬5) قد تقدم الحديث عن هذا الحديث عن هذه الرواية.

فانعِقْ بِضَأْنِك يا جريرُ فإنما ... مَنَّتْكَ نَفْسُك في الخَلَاء ضَلالا (¬1) (¬2) وللعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان: أحدهما: تصحيح المعنى بإضمار في الآية. والثاني: إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار (¬3). فأما الذين أضمروا فقد اختلفوا، فقال الأخفش (¬4) والزجاج (¬5) وابن قتيبة (¬6): تقدير الآية: ومثلك يا محمد، ومثل الذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل؛ فَحَذَف أحدَ المثلين اكتفاءً بالثاني، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، وعلى هذا التقدير: شبه الكفار بالبهائم، وشبه داعيهم بالذي يصيح بها، وهي لا تعقل شيئًا. وقال الفراء (¬7) في هذه الآية قولين: أحدهما: أن تقدير الآية: ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بالغنم، فحذف كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، أي: أهلها (¬8). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوان الأخطل" ص 392، "تفسير الطبري" 2/ 83، والثعلبي 1/ 1336، "خزانة الأدب" 11/ 133، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 497، "مجاز القرآن" 1/ 64، "وضح البرهان في مشكلات القرآن" 1/ 183. (¬2) ينظر في معنى نعق: "تفسير الطبري" 2/ 83، "تهذيب اللغة" 4/ 3613، "تفسير الثعلبي" 1/ 1335، "المفردات" 501، "اللسان" 7/ 4476. (¬3) ينظر في معنى الآية: "تفسير الطبري" 2/ 79، "المحرر الوجيز" 1/ 63 - 65، "تفسير القرطبي" 2/ 197 - 198، "البحر المحيط" 1/ 481. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1334، ولم أجده في "معاني القرآن" للأخفش. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 242. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 199، "تفسير غريب القرآن" ص 65. (¬7) ينظر: "معاني القرآن" للفراء بمعناه، وقال بعد ذكر القولين: وكلٌّ صواب. (¬8) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 81، "البحر المحيط" 1/ 482، وهذا اختيار الطبري.

والقول الثاني: أن معنى الآية: ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله عز وجل وعن رسولهِ كمثل المنعوقِ به من البهائم، التي لا تفقه من الأمر والنهى غير الصوت، فيكون المعنى للمنعوق به (¬1)، والكلام خارج على الناعق، وهو جائز عند العرب، يقلبون الكلام لاتضاح المعنى عندهم، فيقولون: اعرض الحوض على الناقة، وإنما هو: اعرض الناقة على الحوض، وأنشد: كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناءُ فريضةَ الرجم (¬2) أراد: كما كان الرجمُ فريضةَ الزنا. وعلى هذا حُمِل قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76]، المعنى: أن العُصْبَةَ تنوء بالمفاتح (¬3). واعترض ابن قتيبة على هذا القول بأن قال: لا يجوز لأحد أن يحكم بهذا على كتاب الله، لأن الشاعر يقلب اللفظ ويزيل الكلام عن الغلط، على (¬4) طريق الضرورة للقافية، أو لاستقامة الوزن، والله تعالى لا يغلط ولا يُضطر. هذا كلامه (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 63، "تفسير الطبري" 2/ 81، والثعلبي 1/ 1246، "البحر المحيط" 1/ 482. (¬2) البيت للنابغة الجعدي في "ديوانه" ص 35، "لسان العرب " 3/ 1875 (زني)، وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء، "مجاز القرآن" 1/ 378، "تفسير الطبري" 2/ 81، والثعلبي 1/ 1337. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 99 - 100، "تفسير الثعلبي" 1/ 1336 - 1337. (¬4) في (أ)، (م): (على الغلط وعلى طريق). (¬5) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 200، "البحر المحيط" 1/ 482 وقال: وينبغي أن ينزه القرآن عنه؛ لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر، أو إن جاء في الكلام فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه.

وقول الفراء صحيح وإن أنكره ابن قتيبة، موافق لمذاهب العرب في فنون مخاطباتها، فإنهم يفعلون الشيء للضرورة، ثم يصير وجهًا ومذهبًا لهم في الكلام، حتى يجيزوه وإن لم تدع إليه ضرورة. وعلى هذا الطريق أراد: بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً: البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الراعي، إنما تسمع صوتًا ولا تدري ما تحته، لو قال لها: كلي واشربي لم تقف على معنى قوله، فالذين كفروا يسمعون كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كالغنم، إذ كانوا لا يستعملون ما يأمرهم به، ولا ينتهون عما نهاهم عنه. وهذا قول ابن عباس (¬1) وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع (¬2) والسدي (¬3). والطريق الثاني في الآية: هو أن معناها: ومثل الكفار في قلة فهمهم وعقلهم، كمثل الرعاةِ يكلمون البَهم والبهم لا تعقل عنهم، وعلى هذا التفسير لا تحتاج الآية إلى إضمار (¬4). وقال عبد الرحمنُ بن زيد: معنى الآية: ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم الأوثان، كمثل الرجل الذي يصيح في جوف الجبال، فيجيبه منها صوت يقال له: الصدى، يجيبه ولا ينفعه (¬5)، وتقدير الآية على ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 80، وابن أبي حاتم 1/ 282. (¬2) رواه عن عكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع: "الطبري" 2/ 79، وذكره "الثعلبي" 1/ 1334. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 80، وابن أبي حاتم 1/ 282. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1338، "الوسيط" للواحدي 1/ 255، والرازي 5/ 8، والقرطبي 2/ 197 - 198. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 82.

هذا القول: ومثلهم في عبادتهم الأصنام كمثل الناعق بشيء لا يسمع منه الناعقُ إلا دعاءه ونداءه؛ لأن الصدى هو صوته عاد إليه، وذلك أنه إذا قال: يا زيد، سمع من الصدى يا زيد، وليس وراء القول شيء، إلا أنَّ يخيل إليه أن مجيبًا يجيبه، فيقول: يا زيد، وليس فيه فائدة. فكذلك يخيل إلى هؤلاء المشركين أن دعاءهم للأصنام يستجاب، وليس لذلك (¬1) حقيقة ولا فيه فائدة، والسمع على هذا في قوله: (لا يسمع) منفي عن الناعق لا عن المنعوق به (¬2). قال ابن الأنباري: ويجوز على هذا القول أيضًا: أن يكون السمع منفيًا عن المنعوق به، فيكون المعنى: كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ألبتة (¬3). والدعاءُ والنداءُ ينتصبان بـ (ينعق)، و (إلا) توكيد هاهنا، معناها السقوط، كقول الفرزدق: هم القوم إلا حيث سلّوا سيوفهم ... وضَحَّوا بلحم من مُحِلٍّ ومُحرِمِ (¬4) معناه: هم القوم حيث سلّوا سيوفهم (¬5). انتهى كلامه. والتقدير الأول في هذا المعنى أولى مما ذكره أبو بكر؛ لأن السمع إذا كان منفيًّا عن المنعوق به لم يكن للجبل اختصاص بالنعيق به؛ لأن غير الجبل من القفار والرمال والأشجار لا يسمع ألبتة أيضًا، وفي نفي السمع ¬

_ (¬1) في (م): (مستجاب وليس كذلك). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 81، والثعلبي 1/ 339، والسمعاني 2/ 128، والبغوي 1/ 181، والرازي 5/ 9. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 81 (¬4) البيت للفرزدق في "ديوانه" ص 200. (¬5) من قوله: (معناه هم). ساقطة من (ش).

172

عن الناعق للجبل اختصاص؛ لأن الصدى إنما يجيب من الجبل، فلهذا كان نفي السمع عن الناعق في هذا القول، أولى من نفيه عن المنعوق به، ولأنه أَلْغى (إلا)، وهو شاذ قليل في الاستعمال، ومهما أمكن استعمال حرف في معنى، أولى من إلغائه (¬1). وجمهور أهل التأويل على ما ذكرنا أولًا؛ لأن المشهور في كلام العرب أن النعيقَ صوتُ الراعي بالغنم، فإن حمل على غيره من الأصوات لم يكن حقيقة فيه. 172 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} قال المفسرون: هذا أمرُ إباحةٍ لا ندبٍ، ولا إيجابٍ (¬2)، وأراد بالطيبات: الحلالات من الحرث والنعم وما حرمه المشركون على أنفسهم منها (¬3)، وذكرنا لم سُمّي الحلال طيبًا. وقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أراد: إن كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب بأنه محسن إليكم، فمعنى الشرط هاهنا: المظاهرة في الحجاج (¬4). 173 - ثم بين أن المحرَّم ما هو (¬5)، فقال عز من قائل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} الآية. {إِنَّمَا} تكون على وجهين (¬6): ¬

_ (¬1) ينظر: "التبيان" للعكبري ص 109. (¬2) ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 51، "تفسير القرطبي" 2/ 198. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 83، والثعلبي 1/ 1340. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 83 (¬5) سقطت: (هو) في (ش). (¬6) ينظر في (إنما) وإعرابها: "تفسير الطبري" 2/ 84، "الكتاب" لسيبويه 2/ 138، و3/ 116 - 131، "التبيان" 1/ 140 - 141.

أحدهما: أن تكون حرفًا واحدًا، وما بعده من الأفعال يكون عاملًا في الأسماء على حسب عمله، فتقول: إنما دخلت دارَك، وإنما أعجبتني دارُك، وإنما مالي مالُك. والوجه الآخر: أن تكون حرفين: ما منفصلة عن إنّ، وتكون بمعنى الذي (¬1)، وإذا (¬2) كان كذلك وصلتها بما توصل به (الذي)، ثم ترفع الاسم الذي يأتي بعد الصلة، كقولك: إنّ ما أخذت مالُك، وإنّ ما ركبتُ دابتُك، وفي التنزيل كثيرًا ما أتى على الوجهين: كقوله (¬3): {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [هود: 12]، فهذه حرفٌ واحد؛ لأن (الذي) لا يصلح في موضع (ما). وأما التي (¬4) في مذهب (الذي) فقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69]، ولو نصب كيدَ ساحر على أن تجعل (إنما) حرفًا واحدًا كان صوابًا، وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25]، تنصب المودة وترفع، على ما ذكرنا من الوجهين، هذا كله قول الفراء (¬5). وقال الزجاج: {إِنَّمَا} إذا جعلته كلمةً واحدةً كان إثباتًا لما يذكر بعده ونفيًا لما سواه، فقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} معناه: ما ¬

_ (¬1) في (ش): (الذين). (¬2) في (م): (وإن). (¬3) في (م): (زيادة إنما الله إله). (¬4) في (م): (الذي). (¬5) "معاني القرآن" للفراء، وينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 229.

حرم عليكم إلا ما ذكر، كقول الشاعر: وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (¬1) المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي، وإنما صارت كلمة إنما إثباتًا للشيء ونفيًا لما سواه؛ لأن كلمة (إنّ) للتوكيد في الإثبات، و (ما) تكون نفيًا، وإذا قال (¬2) القائل: إني بشرٌ، فالمعنى: أنا بشرٌ على الحقيقة، وإذا قال: إنما أنا بشرٌ، كان المعنى: ما أنا إلا بشرٌ (¬3). والميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يُذبح (¬4). وتحريم الميتة مخصوص بالسنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلّتْ لنا ميتتان" (¬5). ¬

_ (¬1) مطلع البيت: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما والبيت للفرزدق في "ديوانه" ص 712، "معاني القرآن" للزجاج، "معاهد التنصيص" 1/ 89. (¬2) في (م): (وإذا كان قال). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 342 - 343. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1343، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 132، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 52، "تفسير القرطبي" 2/ 203 - 204، وتعريف المؤلف رحمه الله ناقص؛ فإنه لم يدخل فيه أيضًا ما ذبح بطريقة غير شرعية، قال الجصاص 1/ 132: "الميتة في الشرع: اسم حيوان الميت غير المذكى، وقد يكون ميتة بأن يموت حتف أنفه من غير سبب لأدمي فيه، وقد يكون ميتة لسبب فعل آدمي إذا لم يكن فعله على وجه الذكاة المبيحة له". (¬5) أخرجه ابن ماجه (3218) كتاب الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد، وأحمد في "المسند" 2/ 97، وعبد بن حميد في "المنتخب من مسنده" ص260، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" 2/ 331، والدارقطني في "سننه" 4/ 272، وابن عدي في "الكامل" 4/ 271، والبيهقي في "سننه" 1/ 254، كلهم من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر مرفوعًا وأخرجه ابن عدي في "الكامل" =

وكذلك الدم يخصه قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فقيد هناك، وأطلق هاهنا، والمطلق يحمل على المقيد (¬1)، وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وَدَمَان" وكانت العرب تجعل الدَّمَ في المباعر، وتشويها ثم تأكلها (¬2)، فحرّم الله تعالى الدم. وقوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} أراد: الخنزيرَ بجميع أجزائه، وخص اللحم؛ لأنه المقصود بالأكل (¬3)، {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أبو عبيد: قال الأصمعي: الإهلال أصله: رفع الصوت، وكل رافع صوتَه فهو مُهِلّ، قال ابن أحمر (¬4): ¬

_ = 1/ 397، من طريق عبد الرحمن وأسامة وعبد الله بني زيد بن أسلم وبنو زيد متكلم فيهم. وقد صحح الحديث موقوفًا أبو زرعة في "علل الحديث" 2171، والبيهقي وهو موقوف له حكم الرفع. ينظر: "حاشية أبي الطيب على سنن الدارقطني" 4/ 272، "السلسلة الصحيحة" 3/ 111، وتحقيق "تفسير الثعلبي" للدكتور خالد العنزي 1/ 1346. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 8/ 71، الثعلبي 1/ 1343، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 71 - 72، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 52، "تفسير القرطبي" 2/ 199. (¬2) في (م): (وتأكلها). (¬3) وقد حكي الإجماع على هذا، وممن حكاه: السمرقندي 1/ 177، وابن حزم في "المحلى" 7/ 391، وابن رشد في "بداية المجتهد" 1/ 452، وابن عطية 2/ 69، والرازي 5/ 22، والقرطبي 2/ 205، والشوكاني في "فتح القدير" 1/ 262. (¬4) هو عمرو بن أحمر بن العمرو بن تميم بن ربيعة الباهلي، أبو الخطاب، أدرك الإسلام فأسلم، وغزا مغازي الروم، وأصيبت إحدى عينيه هناك، ونزل الشام، وتوفي على عهد عثمان، وهو صحيح الكلام، كثير الغرائب. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 571، و 580، و"الشعر والشعراء" ص 223.

يُهِلُّ (¬1) بالفَرْقَدِ رُكْبَانُها ... كمَا يُهِل الراكبُ المُعْتَمِرْ (¬2) هذا معنى الإهلال في اللغة، ثم قيل للمُحْرِم: مُهِل، لرفعه الصوت بالتلبية، يقال: أهَلّ فلانٌ بحَجَّةٍ أو عُمْرةٍ، أي: أحْرَم بها؛ وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، والذابحُ مُهِلّ، وذلك لأنه كان يسمي الأوثان عند الذبح، ويرفع صوته بذكرها (¬3). فمعنى قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس: يعني: ما ذبح للأصنام (¬4)، وهو قول مجاهد (¬5) والضحاك (¬6) وقتادة (¬7). وقال الربيع (¬8) وابن زيد (¬9): يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله عز وجل. ¬

_ (¬1) في (م): (هل). (¬2) البيت في "ديوانه" ص 66، "مجاز القرآن" 1/ 150، "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 173، "تفسير السمعاني" 2/ 130، الثعلبي 1/ 1346، "لسان العرب" 3/ 1595، و 1714، 5/ 3102. (¬3) ينظر في الإهلال: "تفسير الطبري" 2/ 85، والثعلبي 1/ 1345، "المفردات" ص 522، "اللسان" 8/ 4689. (¬4) رواه عنه الطبري 2/ 85. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 85. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 85. (¬7) رواه عنه الطبري 2/ 85. (¬8) رواه عنه الطبري 2/ 85. (¬9) رواه عنه الطبري 2/ 86. وقد حكى الإجماع الواحدي في "الوسيط" 1/ 257 على أن ما أهل به لغير الله يشمل ما ذبح للأصنام، وذكر عليه غير اسم الله، وحكاه الجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 154، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 86، 8/ 71، "النكت والعيون" للماوردي، "معالم التنزيل" 1/ 183، "فتح القدير" 1/ 262، "روح المعاني" 2/ 42.

قال الكلبي (¬1): وإن ذبحه مسلم لم يحل أكله، وقال أهل العلم: لو أن مسلمًا ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدًّا، وذبيحته ذبيحة مُرتد (¬2). وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب، وذبائحهم تحل لنا، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] (¬3). وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أُحْوِجَ وألجئ، وهو افتُعِل من الضرورة، قال الأزهري: معناه ضُيق عليه الأمر بالجوع، وأصله: من الضرر وهو الضيق (¬4). وقرئ: برفع النون وكسرها في {فَمَنِ اضْطُرَّ} (¬5) فمن رفع فللإتباع، ومن كسر فعلى أصل الحركة. لالتقاء الساكنين (¬6). وفي الآية إضمار، معناه: فمن اضطر إلى شيء مما ذكرنا أنه محرّم، ويدخل تحت قوله: {اضْطُرَّ}: أن يحوج إليه لبؤس، أو يضطر (¬7) أو يُكره عليه لخوف، والإكراه مذهب مجاهد (¬8). ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) ينظر: "إعلام الموقعين" 4/ 404,, "المغني" 12/ 276, و"القول المفيد شرح كتاب التوحيد" 1/ 214. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1348, القرطبي 2/ 208 - 214. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1350, "المفردات" ص 296 - 297, "البحر المحيط" 1/ 490, "القاموس" ص 428. (¬5) قرأ أبو عمرو ويعقوب وعاصم وحمزة بكسر النون وضم الطاء, وأبو جعفر بضم النون وكسر الطاء, والباقون بضمهما معًا. ينظر: "النشر" 2/ 225, "البدور الزاهرة" ص 54. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1350, "التبيان" ص 110, "البحر المحيط" 1/ 490. (¬7) ليست في: (أ) , (ش). (¬8) رواه عنه الطبري 2/ 86.

وقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ} يصلح أن يكون {غَيْرَ} حالًا للمضطر، ولا يصلح أن يكون استثناءً؛ لأن {غَيْرَ} هاهنا بمعنى: النفي؛ ولذلك عطف عليها بلا؛ لأنها في معنى لا (¬1). قال الفراء: (غير) في هذا الموضع حال للمضطر، كأنك قلت: فمن اضطر لا باغيًا ولا عاديًا فهو له حلال (¬2). وقوله: {بَاغٍ} أصل البغي في اللغة: الفساد وتجاوز الحد، قال الليث: البغي في عدو الفرس: اختيال ومرح، وإنه ليبغي في عدوه. ولا يقال: فرس باغ، والبغي: الظلم والخروج عن النَّصَفة، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39]. الأصمعي: يقال: بغى الجرح يبغي بغيًا: إذا ترامى بالفساد، وبغت السماء: إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحد. الفراء: يقال للجرح إذا تورّم واشتد: بغى يبغي بغيًا، وبَغَى الجرح والبحر والحساب سواء: إذا طغى وزاد (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا عَادٍ} العدْو: هو التعدي وتجاوز ما ينبغي له أن يقتصر عليه، يقال: عدا عليه عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا وعدًا واعتداءً وتعديًا: ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 86، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 230، "تفسير الثعلبي" 1/ 1350، "التبيان" ص 110 قال الثعلبي: وإذا رأيت (غير) تصلح في موضعها (لا)، فهي: حال، وإذا صلح في موضعها (إلا)، فهي: استثناء، فقس على هذا ما ورد عليك من هذا الباب. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 102 - 103. (¬3) ينظر في معاني البغي: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 244، "تفسير الثعلبي" 1/ 1351، "المفردات" ص 65 - 66، "البحر المحيط" 1/ 490.

ظلمه ظلمًا مجاوزًا للقدر، وعدا طورَه: جاوز قدره (¬1) ولأهل التأويل في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} طريقان (¬2): أحدهما وهو قول ابن عباس في رواية عطاء: غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم (¬3). وهذا قول مجاهد (¬4)، وسعيد بن حُبَير (¬5)، والضحاك (¬6)، والكلبي (¬7) قالوا: غير قاطع للطريق، ولا مفارق للأئمة، مُشاقّ للأمة. وعلى هذا التأويل كل من عصى بسفره لم يحل له أكل الميتة عند الضرورة؛ لأنه باغ عاد، وهو مذهب الشافعي (¬8) رحمه الله، قال: إن ¬

_ (¬1) ينظر في التعدي: "تفسير الثعلبي" 1/ 1351، "المفردات" ص 328 - 329، "البحر المحيط" 1/ 490. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 86، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 243 - 244، "تفسير الثعلبي" 1/ 1351، "تفسير البغوي" 1/ 183، "المحرر الوجيز" 2/ 72 - 73، "تفسير القرطبي" 2/ 214، "البحر المحيط" 1/ 490 - 491. (¬3) تقدم الحديث عن هذا هذه الرواية ص 92. (¬4) رواه عنه الطبري 2/ 86، 87، وابن أبي حاتم 1/ 283. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 86، 87، وابن أبي حاتم 1/ 284. (¬6) ذكره الثعلبي 1/ 1351. (¬7) ذكره الثعلبي 1/ 1351. (¬8) ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 58، "تفسير القرطبي" 2/ 214، "المغني" 13/ 333، وقال الكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 1/ 74: اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره، ويشهد لأحد القولين قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، فإنه عام، ويشهد للقول الآخر قوله: ولا تقتلوا أنفسكم، وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيًا، وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقًا بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرًا كان أو حضرًا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضًا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء، وهو الصحيح عندنا. ا. هـ =

الإباحة إعانة له على فساده وظلمه، ولكن يتوب ويستبيح (¬1). والثاني: أن هذا البغي والعدوان يرجعان إلى الأكل، ومعناه: غير آكلها تلذُّذًا من غير اضطرار، {وَلَا عَادٍ} ولا مجاوز ما يدفع به عن نفسه الجوع، وهذا قول السدي (¬2). وقال الحسن (¬3)، وقتادة (¬4)، والربيع (¬5)، وابن زيد (¬6): (غير باغ) بأكله من غير اضطرار، ولا (عاد) يتعدى الحلال إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها. وعلى طريقة هؤلاء يُباح للعاصي بسفره تناول الميتة عند الضرورة، وهو مذهب أهل العراق (¬7). والتأويل الأول أولى؛ من حيث اللفظ والمعنى. ¬

_ = وقال القرطبي في "تفسيره" 2/ 214 - معقبا على قول ابن العربي-: وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا، قلت: الصحيح خلاف هذا؛ فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال الله تعالى: {وَلَا تَقتُلُواْ أَنفُسَكُم}، وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو الله عنه. (¬1) "الأم" 2/ 226، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1352. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 88، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 284، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬3) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 65، والطبري 2/ 87 (¬4) رواه عنه الطبري 2/ 87، وابن أبي حاتم 1/ 285. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 87، وذكره الثعلبي 1/ 1353. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 87، وذكره الثعلبي 1/ 1353. (¬7) يعني به الحنفية، ينظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 156، وقد ناقش هذه القضية بتوسع وأجاب على أدلة المانعين، فلينظر: "أحكام القرآن" للتهانوي 1/ 120.

أما اللفظ: فرجوع البغي والعدوان إلى حال المضطر أولى من رجوعهما إلى أكله، وهو المفهوم من اللفظ؛ لأنه لم يسبق للأكل ذكر حتى يكون البغي والعدوان صفةً له، راجعًا إليه، ومثله من الكلام أن يقال: قد حرم الأمير ركوب الخيل، ولبس السلاح، فمن أُحوِج (¬1) غير فارٍّ ولا ذاهبٍ فلا حرج عليه، فالذي يسبق إلى الوهم من هذا، ويليق باللفظ، أن معناه: غير فار بنفسه ولا ذاهب، وأن الفرار والذهاب يعود إلى نفس المضطر، لا إلى شيء سواه. وَوِزان التأويل الثاني من هذا الكلام: أن يكون المعنى: غير فار بسلاحه، ولا ذاهب به. وأما من حيث المعنى: فإن نفس المؤمن يعاف الميتة والدم، ويستقذرهما (¬2) استقذارا يمنعه من أكلهما؛ ولهذا لا يقام الحد على آكلهما، لأنه لم يحتج في الزجر عنهما إلى الحد، لا كالخمر فإن لها دواعي من النفس، وإذا كان كذلك فليس يتجاوز أحدٌ في أكل الميتة قدر التشبع عند الضرورة، ولا يتعدى الحلال الذي معه، فيأكلها تلذذًا من غير أن يَرِدَ بهذا نهي، وإن جاز ورود النهي تأكيدًا؛ فلهذين الوجهين: قلنا إن التأويل الأول أولى. وقوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُوُرُ} أي: للمعاصي، وفيه إشارة إلى أنه إذا كان يغفر المعصية فإنه لا يأخذُ بما جعل فيه الرخصة. {رَحِيمٌ} حيث رَخَّصَ للمضطر في أكل الميتة (¬3). ¬

_ (¬1) في (ش): (أخرج). (¬2) في (ش): (تعاف وتستقذرهما). (¬3) "تفسير الثعلبي" 1/ 1355.

174

174 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} الآية. قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود (¬1). وقوله تعالى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} يجوز أن تعود الكناية إلى الكتمان، والفعل يدل على المصدر، ويحتمل أن تعود الكناية إلى {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، ويجوز أن تعود إلى المكتوم مما أنزل الله (¬2). ومعنى قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} كقوله: {تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]. وقد مرّ. وقوله: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ذكر البطن هاهنا زيادة بيان؛ لأنه يقال: أكَلَ فلانٌ المال: إذا بَذَّرَه وأَفْسَدَه (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 1/ 1356، والواحدي بأطول من هذا في "أسباب النزول" ص 52، من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ونقله عنه ابن حجر في "العجاب" 1/ 419، والسيوطي في "لباب النقول" ص 30، وفي "الدر المنثور" 1/ 309، وضعف إسناده، ورواه الطبري 2/ 89، وعبد بن حميد عن قتادة، ورواه الطبري 2/ 89، وهو في "تفسير سنيد بن داود". كما ذكره الحافظ في "العجاب". عن عطاء، ورواه الطبري 2/ 89 - 90، وابن أبي حاتم 1/ 285 عن السدي وأبي العالية والربيع بن أنس، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 491 من وجه آخر عن ابن عباس، وذكره الثعلبي 1/ 1355 من رواية جويبر عن الضحاك، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 309، والآية وإن كانت في أحبار اليهود فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارًا لذلك، بسبب دنيا يصيبها. ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 73. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1356، "المحرر الوجيز" 2/ 74، وذكرها في "البحر المحيط" 1/ 491، واستظهر الثاني. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1357، "البحر المحيط" 1/ 491 قال: أو كناية عن ملء البطن؛ لأنه يقال: فلان أكل في بطنه، وفلان أكل في بعض بطنه، أو لرفع توهم المجاز إذ يقال: أكل فلان ماله إذا بذره وإن لم يأكله.

175

وقوله تعالى: {إِلَّا اَلنَّارَ} أي: إلا ما هو عاقبته النار، كما روي في حديث الشارب من آنية الفضة: "إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" (¬1) وكقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]؛ وقوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، أي: عنبًا، فسماه باسم ما يؤول إليه (¬2). وقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قال المفسرون: أي: لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم، فأما التهديد والمناقشة فقد تكون. وقيل: معناه: أنه يغضب عليهم؛ لأن ترك التكليم علامة الغضب. وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية (¬3). {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}: لا يطهرهم من دنس ذنوبهم، ولا يثني (¬4) عليهم (¬5). 175 - قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} معنى الفاء هاهنا: الجواب لما تقدم، وذلك أن ما قبله من الكلام وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5643) كتاب الأشربة، باب: آنية الفضة، ومسلم (2065) كتاب اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب. وقوله (يجرجر) يعني به صوت وقوع الماء في الجوف، وإنما يكون ذلك عند شدة الشرب. ينظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 154. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1357، "البحر المحيط" 1/ 492. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1358، وعزاه لأهل التفسير، "تفسير الطبري" 2/ 90، وقد اختار الأول، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 245، "زاد المسير" 1/ 176. والقولان الأخيران فيهما عدول عن ظاهر اللفظ، وتأويل للصفة. (¬4) في (أ)، (م): (لا يثني). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 90، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 245، "تفسير الثعلبي" 1/ 1358، "زاد المسير" 1/ 153، وذكر ثلاثة أقوال: لا يثني عليهم، قاله الزجاج، ولا يزكي أعمالهم، قاله مقاتل، ولا يطهرهم من دنس كفرهم، قاله ابن جرير.

اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} ثم قال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ}، كأنه قال: من كان بهذه الصفة فما أصبرهم على النار، فعومل معاملة المعنى الذي تضمنه حتى كأنه قد لفظ به. فأما المعنى: ففيه وجهان لأهل التأويل (¬1): أحدهما: أن (ما) هاهنا تعجب (¬2)، كقولهم: ما أحسن زيدًا. فما: رفع بالابتداء، وأحسن: فعل ماض، وهو خبر الابتداء، وفيه ضمير يرجع إلى ما وهو فاعل أحسن، وزيدًا (¬3): نصب (¬4) بأحسن، والتقدير: شيء أحسن هو زيدًا؛ وخُصَّتْ لفظة ما بالتعجب لإبهامها، وهي واقعة على الشيء الذي تتعجب منه، وذلك الشيء ليس مما يعقل (¬5). فإن قيل: قد قلتم: إن (ما) استعمل لإبهامها، فهلا استعمل (الشيء) إذ كان أبهم الأشياء؟ قيل: إن الشيء ربما يستعمل للتقليل، فلو قلت: شيء حسَّن زيدًا، لجاز أن يعتقد أنك تقلل المعنى الذي حسن زيدًا، وأيضًا: فإن الغالب في قولك: شيء حسّن زيدًا، أنه خبر عن معنى مستقر، وما يتعجب منه، فحقه أن يبهرك في الحال، فأما ما قد استقر وعرف فلا (¬6) يجوز التعجب منه، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 90، "المحرر الوجيز" 1/ 75 - 76، "زاد المسير" 1/ 176 - 177. (¬2) "تفسير الثعلبي" 1/ 1359، قال في "البحر المحيط" 1/ 494: والأظهر أنها تعجبية، وهو قول جمهور المفسرين. (¬3) في (أ): (نصبت). (¬4) في (أ): (نصبت). (¬5) "البحر المحيط" 1/ 494. (¬6) سقطت من (ش).

ومعنى التعجب: تَغَيُّر النفسِ لما يَرِدُ عَليها مما (¬1) جُهِل سَبَبُهُ جدًّا، ونقل لفظ الفعل في التعجب من الثلاثي إلى الرباعي؛ لأنا ذكرنا أن التقدير: شيء أحسن زيدًا، فصار زيد مفعولًا لغيره، ولهذا انتصب المتعجب منه؛ لأنه مفعول في الحقيقة، والدليل على أنَّ أحسن هاهنا فعل: لزومُ الفتحِ آخره (¬2). ولو كان اسمًا لوجب أن يرتفع؛ إذ كان خبر المبتدأ، فلما لزمه الفتح دل على أنه فعل ماض. وقد يصغَّرُ فعلُ التعجب، فيقال: ما أُحَيْسِنَ زيدًا، كقول الشاعر: يا ما أُمَيْلح غزلانًا (¬3) شدنّ (¬4) لنا (¬5) وتصغيره لا يدل على أنه اسم، وذلك أن فعل التعجب قد لزم طريقةً واحدةً، فجرى في اللفظ مجرى الأسماء، فأدخلوا عليه التصغير تشبيهًا بالاسم، وليس يجب أن يكون الشيء إذا حمل على غيره لشبه بينهما أن يُخرج من جنسه، ألا ترى أن اسم الفاعل قد أُعمل عمل الفعل ولم يخرج من أن يكون اسمًا، وكذلك الفعل أعرب؛ لشبهه بالاسم ولم يخرجه ذلك من أن يكون فعلًا، فكذلك فعل التعجب وإن صُغِّر تشبيهًا بالاسم؛ لم يجب أن يكون اسمًا (¬6). فقد بان بما ذكرنا أن قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ} إذا ¬

_ (¬1) في (ش): (ما). (¬2) مذهب البصريين أنه فعل، وأما الكوفيون فيرون أنه اسم. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 494. (¬3) في (م): (عن). وفي (أ): (عزلانا). (¬4) في (م): (شدان). (¬5) تكملة البيت: من هؤليائكن الضال والسمر والبيت للمجنون في "ديوانه" ص 130، ونسب لآخرين. (¬6) ينظر في ما تقدم: "المقتضب" للمبرد 4/ 175 وما بعدها.

قلنا: إنه تعجب، فعل منقول من الثلاثي إلى الرباعي، والهاء والميم في محل النصب بوقوع الفعل عليه. قال ابن الأنباري: ويكون أصبر ههنا بمعنى: صبّر (¬1)، وكثيرًا ما يكون أفعل بمعنى فعّل، نحو: أكرم وكرّم، وخبّر وأخبر، فهذا الذي ذكرنا بيان معنى التعجب وفعله. فأما التفسير على هذه الطريق: فقال المؤرّج: معناه: فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار (¬2)، أو على عمل أهل النار (¬3) وهو قول الكسائي وقطرب (¬4). وقال أحمد بن يحيى: الصبر معناه هاهنا (¬5): الجرأة، أي: ما أجرأهم على أعمال أهل النار (¬6). وهذا قول الحسن (¬7) وقتادة (¬8) والربيع (¬9). ¬

_ (¬1) ينظر: "زاد المسير" 1/ 177. (¬2) الثعلبي 1/ 1359، والحيري في "الكفاية" 1/ 109، والقرطبي 2/ 218، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 494. (¬3) سقطت من (أ)، (م). (¬4) عزاه إليهما الثعلبي 1/ 1360، والحيري في "الكفاية" 1/ 109، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 218، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 494، وهو قريب من قول المؤرخ كما بيّن أبو حيان، ونسبه في "زاد المسير" 1/ 176 إلى عكرمة والربيع. (¬5) في (م): (الصبر هاهنا معناه). (¬6) ونسبه في "زاد المسير" 1/ 176 إلى مجاهد. (¬7) رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره الثعلبي 1/ 1359. (¬8) رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره الثعلبي 1/ 1359. (¬9) رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره الثعلبي 1/ 1359.

قال الفراء: وهذه لغة يمانية، وحكى عن الكسائي قال: قال لي قاضي اليمن: اختصم إليَّ رجلان، فحلف أحدهما على حق صاحبه، فقال له الآخر: ما أصبرك على الله عز وجل (¬1)! قال الفراء: ففي هذا وجهان: أحدهما: ما أجرأك على الله، والثاني: ما أصبرك على عذاب الله، كما تقول (¬2): ما أشبه سخاءك بحاتم، أي: بسخاء حاتم، فتقيم حاتم مقام السخاء (¬3). قال أهل المعاني: وإنما جاز استعمال الصبر بمعنى الجرأة؛ لأن الصبر حبس النفس على الشدة، والجريء يصبِّر نفسه على الشدة، فلما كانت الجرأة تقتضي الصبر سميت به. وقال السدي: هذا على وجه الاستهانة (¬4) (¬5)، وقد تقول في الكلام لمن تعرف ضعفه، تستخف به: ما أقواك على هذا الأمر! وقيل: أراد ما أبقاهم في النار، وما أطول مكثهم فيها، كما يقال: ما أصبر فلانًا على الضرب والحبس، أي: ما أبقاه فيهما (¬6). قال عطاء عن ابن عباس: لم يرد أنهم حين دخلوا النار صبروا عليها، ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 103، "تفسير الثعلبي" 1/ 1359، والسمعاني 2/ 134. (¬2) في (م): (يقال). (¬3) بتصرف من "معاني القرآن" للفراء 1/ 103، وهذا اختيار الطبري 2/ 92. (¬4) في (ش): (الاستهابة). (¬5) ذكره الثعلبي 1/ 1360ولم ينسبه، وكذا القرطبي 2/ 236، وقد أخرج الطبري 2/ 91، والثعلبي 1/ 1360 عن السدي وعطاء وابن زيد وأبي بكر بن عياش نحوه. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 245، "تفسير السمرقندي" 1/ 178، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1360، "زاد المسير" 1/ 176 - 177.

ولكنه يريد: فما أعملهم بأعمال أهل النار (¬1). قال أصحاب المعاني: ومعنى التعجب من الله أنه يُعجِّب المخلوقين، ويدلُّنا على أنهم قد حلّوا محلّ من يتعجب منه (¬2)، ولا يجوز على الله التعجب؛ لأنا قد ذكرنا أن التعجب إنما هو مما لا يعرف سببه، والله تعالى عالم لا يخفى عليه شيء (¬3). الوجه الثاني من التأويل: أن (ما) في هذه الآية استفهام يتضمن التوبيخ، معناه: ما الذي صبرهم؟، وأي شيء صبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهذا قول عطاء (¬4) وابن زيد (¬5)، وقد ذكرنا عن ابن ¬

_ (¬1) تقدم الحديث عن هذه الرواية. وقد ورد هذا عن مجاهد في "تفسيره" ص 94، ورواه عنه الطبري 2/ 91، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 647، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 331. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 92، "زاد المسير" 1/ 176. (¬3) قد دلت النصوص على إثبات صفة التعجب لله، وعقيدة أهل السنة إثباتها كما جاءت دون تأويل، قال الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، في قراءة ضم تاء الفاعل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره" رواه أحمد 4/ 11 - 12، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة" رواه أحمد 4/ 151، وفيه ضعف، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عجب الله عز وجل من قوم بأيديهم السلاسل حتى يدخلوا الجنة" أخرجه البخاري (3010) كتاب الجهاد والسير، باب: الأسارى في السلاسل وغيرها. وحقيقة التعجب: استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين: الأول: لخفاء الأمر على المستغرب المتعجب، وهذا مستحيل على الله؛ لأن الله عليم بكل شيء. والثاني: لخروج ذلك الشيء عن نظائره، وعما ينبغي أن يكون عليه، بدون قصور من المتعجب، وهذا ثابت لله عز وجل، وليس فيه نقص. ينظر: "شرح العقيدة الواسطية" للشيخ محمد العثيمين 2/ 446، "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 415. (¬4) رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره عنه الثعلبي. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 91، ورواه أيضا عن أبي بكر بن عياش، وزاد نسبته في "زاد =

176

الأنباري أصبر بمعنى صبّر. وقيل: معناه: أيُّ: شيء غرّهم من النار أنهم يصبرون عليها؟. 176 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} {ذَلِكَ} إشارة إلى قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] معناه: ذلك العذاب لهم بأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه، فأضمر: فاختلفوا فيه (¬1). و {الْكِتَابَ} هو التوراة، واختلافهم فيه: إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض (¬2). ويجوز أن يريد: القرآن، واختلافهم فيه (¬3): قولهم: إنه كهانة، وسحر، ورجز، وأساطير الأولين (¬4). وقال بعضهم: معنى: {ذَلِكَ} أي: فعلهم الذي يفعلون من الكفر، والاجتراء على الله عز وجل من أجل أن الله نَزَّل الكتاب بالحق. وتنزيله الكتاب بالحق: هو إخباره عنهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ}. إلى قوله {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:6 - 7] (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} أي: فآمنوا ببعض ¬

_ = المسير" 1/ 177 إلى السدي، وهو قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن"، ونسبه في "البحر المحيط" 1/ 495 إلى ابن عباس والمبرد، وذكر قولًا ثالثًا وهو أن ما نافية، والمعنى: أن الله ما أصبرهم على النار، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 92، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 245، "زاد المسير" 1/ 177، ابن أبي حاتم 1/ 286، "المحرر الوجيز" 2/ 77 - 78. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 93، ابن أبي حاتم 1/ 286، "المحرر الوجيز" 2/ 78، "البحر المحيط" 1/ 495. (¬3) (فيه) سقطت من (ش). (¬4) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 78، "البحر المحيط" 1/ 495. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 92.

177

وكفروا ببعض (¬1). وإن قلنا: الكتاب هو القرآن، فقال ابن عباس: يريد اختلفوا فيما أنزلت عليك (¬2). وذكرنا حقيقة معنى الاختلاف عند قوله: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} [البقرة: 164] (¬3). وقوله تعالى: {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ذكرنا معنى (شقاق) عند قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. ومعنى {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: لفي خلاف طويلٍ (¬4)، ويقال: معناه: بعيدٍ عن الألفة بالاجتماع على الصواب (¬5). 177 - قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} قرئ (البرُّ) رفعًا ونصبًا (¬6)، وكلتا القراءتين حَسَن؛ لأن اسم ليس وخبرها، اجتمعا في التعريف، فتكافآ في كون أحدهما اسمًا، والآخر خبرًا، كما يتكافأ النكرتان. وحجة من رفع (البر): أن اسم {لَيْسَ} مشبهة بالفاعل وخبرها بالمفعول، والفاعل أن يلي الفعل أولى من المفعول، كما تقول: قام زيد، فيلي الاسم الفعل، وإذا ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 93، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 246، "تفسير الثعلبي" 1/ 1248، "زاد المسير" 1/ 177. (¬2) ينظر: "زاد المسير" 1/ 177، "البحر المحيط" 1/ 495. (¬3) ينظر: 3/ 431 - 432. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي"، "زاد المسير" 1/ 177، "المحرر الوجيز" 2/ 78، "البحر المحيط" 1/ 496. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 93، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 246، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 287، "زاد المسير" 1/ 177، "البحر المحيط" 1/ 496. (¬6) قرأ حمزة وحفص: بالنصب، وقرأ الباقون: بالرفع. ينظر: "النشر" 2/ 226.

قدمت المفعول كان النيةُ به التأخير، كما تقول: ضرب غلامَه زيدٌ (¬1). ومن نصب البر، ذهب إلى أن بعض النحويين قال: أَنْ مع صلتها أولى أن تكون اسم ليس؛ لشبهها بالمضمر، في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، وكان هاهنا اجتمع مُضْمَرٌ ومظهر، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المُضْمَرُ الاسم، من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر، فكذلك إذا اجتمع (أن) مع مظهر غيره كان أن يكون (أن) (¬2) الاسم، والمظهرُ الخبرُ أولى (¬3)، وعلى هذا قرئ في التنزيل قوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)} [الحشر: 17]. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأعراف: 82] {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الجاثية: 25]، والاختيار رفع البر؛ لأنه روي عن ابن مسعود أنه قرأ: ليس البرُّ بأن (¬4)، والباء تدخل في خبر ليس. واختلف المفسرون في هذه الآية على وجهين: فقال قتادةُ (¬5) والربيع (¬6) ومقاتل (¬7): عنى الله بهذه الآية: اليهود والنصارى، وذلك أن ¬

_ (¬1) من "الحجة" لأبي علي 2/ 270 بمعناه. (¬2) (أن) ليست في (ش). (¬3) "الحجة" لأبي علي 2/ 271، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج. (¬4) رواه الثعلبي بسنده عن عبد الله، وأبي بن كعب. وينظر: "معاني القرآن" للفراء، "المحرر الوجيز" 2/ 78، "تفسير القرطبي" 2/ 220، ونسب القراءة لأبي بن كعب أيضًا، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 2. (¬5) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 66، والطبري 2/ 94. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 95 واختاره، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 287. (¬7) لعل المراد به هنا مقاتل بن حيان، كما هو عند الثعلبي، وقد روى عنه ابن أبي حاتم 1/ 287 ما يوافق القول الثاني.

اليهود كانت تصلي قِبَلَ المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قِبَلَ المشرق، وزعم كل طائفة أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غيرُ دينهم وعملهم، ولكنه ما بينه في هذه الآية. فقال ابن عباس (¬1)، ومجاهد (¬2)، والضحاك (¬3)، وعطاء (¬4): المراد به المؤمنون، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد الشهادتين، وصلى إلى أي ناحية (¬5) كانت، ثم مات على ذلك، وجبت له الجنة، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت الفرائض، وحُدَّتْ الحدود، وصرفت القبلة إلى الكعبة، أنزل اللهُ هذه الآية، فقال: ليس البرُّ كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البرَّ ما ذكر في الآية (¬6). وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} {الْبِرَّ} مصدر، ولا يخبر عن المصادر بالأسماء ومَنْ اسم. واختلف النحويون وأهل المعاني في وجهه. وقال أبو عبيدة: البر، هاهنا، بمعنى: البار (¬7)، والفاعل قد يسمى بالمصدر، كما يسمى المفعول به، ومنه قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 94، وابن أبي حاتم 1/ 387. (¬2) السابق. (¬3) السابق. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 178، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 2. (¬5) في (م): (جهة). (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 94 عن قتادة، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 310 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 140 - 141. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 65، و"تفسير الطبري" 2/ 95، "تفسير الثعلبي" 2/ 147.

غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]. أي: غائرًا. وقالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار (¬1) أي: مقبلة ومدبرة. وقال آخر: هَرِيقي مِنْ دمُوعهما سِجاما ... ضُباعَ وجَاوبِي نَوْحًا قيامًا (¬2) (¬3) أراد: نائحاتٍ قائماتٍ. ومثله قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] أي: للمتقي. وحكى الزجَّاجُ أن معناه: ذا البر، فحذف (¬4)، كقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163]، أي: ذوو درجات (¬5). وقال قطرب (¬6) والفراء (¬7): معناه: ولكن البرَّ برُّ من آمن، فحذف المضاف، وهو كثير في الكلام، كقوله: {وَأُشرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ اَلعِجلَ} ¬

_ (¬1) صدر البيت: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت والبيت في "ديوان الخنساء" ص 383، "الشعر والشعراء" ص 215. (¬2) في (م): (سقاقًا .. حاوي)، وفي (ش): (صباع .. وجاوني). (¬3) البيت في "مجاز القرآن" 1/ 404 بلا نسبة، بل قال: وقال باكٍ يبكي هشامَ بن المُغيرة. والطبري 15/ 249، والقرطبي 10/ 409، و"شرح أبيات سيبويه" 1/ 94، 354. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 65. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1248، "البيان في إعراب القرآن" لأبي البركات الأنباري 1/ 139. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1248، "البحر المحيط" 2/ 3، قال: وعلى هذا خرجه سيبويه. ينظر: "الكتاب" لسيبويه 1/ 212، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 95. (¬7) "معاني القرآن" للفراء. 1/ 105.

[البقرة: 93] و {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ويقولون: الجود حاتم، والشعر زهير، والشجاعة عنتر. وقال النابغة: وكيف تواصل من أصبحت ... خِلالتُه كأبي مرحب (¬1) قال الفراء: والعرب تخبر عن الاسم بالمصدر، وعن المصدر بالاسم، وتجعل الاسمَ خبرًا للفعل، والفعلَ خبرًا للاسم؛ لأنه أمر معروف المعنى عندهم (¬2)، وحكي عن العرب أنهم يقولون: إنما البِرُّ الصادقُ (¬3): الذي يصل رحمه، ويخفي صدقته، فيجعلون الاسم خبرًا للفعل، وأما الأفعال التي جعلت أخبارًا للأسماء، فقولُ الشاعر: لَعَمْرُك ما الفتيان أن تَنْبُتَ اللّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فَتًى نَدِيّ (¬4) فجعل نباتَ اللِّحى، وهو مصدر، خبرًا للفتيان (¬5). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 26، "لسان العرب" 3/ 1607 (رحب). (¬2) سقطت من (ش). (¬3) سقطت من (ش). (¬4) قال البغدادي في شرح أبيات "مغني اللبيب": البيت ملفق من مصراعين من أبيات لابن بيض، وهي: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... وتعظم أبدان الرجال من الهبر ولكنما الفتيان كل فتى ندي ... صبور على الآفات في العسرِ واليُسْرِ وقد ذكره غير منسوب الفراء في "معاني القرآن" 1/ 104، الثعلبي في "تفسيره" 2/ 145، "أمالي المرتضى" 1/ 201، "شرح شواهد المغني" 2/ 264، "مغني اللبيب" 2/ 691. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 104 - 105 للفراء بمعناه.

قال ابن الأنباري: ولا يجوز القياس على هذا، وإنما يستعمل في مثل هذا ما استعملته العرب، لا يجوزُ أن تقولَ: الرُّكوب عبد الله؛ لأن هذا (¬1) من المجاز، والمجاز لا يقاس بعضه على بعض، إلا أن يُوصفَ رجلٌ بحسن الركوب فيصير عَلَمًا فيه، فيقال فيه: الرُكوبُ عبدُ الله، كما يقال: الجُودُ حاتم، ولا يقاس على المشهور ما ليس بمشهور. قال أبو علي: ومثل هذه الآية قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}. ثم قال: {كَمَنْ آمَنَ} [التوبة:19]، وهذا على: أجعلتم أهل سقاية حاج كمن آمن أو أجعلتم سقاية الحاج (¬2) كإيمان من آمن، ليقع التمثيل بين حَدَثَيْن، أو بين فَاعِلَيْن، إذ لا يقع التمثيل بين (¬3) حدث وفاعل (¬4). وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ} يريد: الكُتُب، قاله ابن عباس (¬5). وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الأكثرون (¬6) على أن الكناية في الحب راجعة إلى المال، والتقدير (¬7): وآتى المال على حب (¬8) المال، ¬

_ (¬1) ليست في (أ)، (م). (¬2) الجملة من قوله: (ثم قال ..) سقطت من (ش). (¬3) في (م): (من). (¬4) ينظر: "التفسير الكبير" للرازي 5/ 39. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 149، وقال الزمخشري في "الكشاف" 1/ 109: والكتاب: جنس كتب الله، أو القرآن. ينظر: "تفسير الرازي" 5/ 37. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 95، 96، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 288، "المحرر الوجيز" 2/ 80، "البحر المحيط" 2/ 5، وقال: لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. (¬7) سقطت من (ش). (¬8) في (ش): (حبه).

فأضيف الحب إلى المفعول، كما تقول: اشتريت طعامي كاشتراء طعامك. قال ابن عباس (¬1) وابنُ مسعود (¬2): هو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح. وهذا التفسير يقوي رجوع الكناية إلى المال. وقال ابن الأنباري: يجوز أن تكون الهاء عائدة على {مَنْ} في قوله: {مَنْ آمَنَ} فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، وتُرِكَ ذكرُ المفعول معه، لانكشاف المعنى. قال: ويجوزُ أن يعودَ إلى الإيتاء، أي: على حُب الإيتاء، (وآتى) يدل على الإيتاء؛ لأن الفعل يدل على المصدر، كقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} [آل عمران: 180]، أي: البخل، كنى عنه؛ لأن (يبخلون) يدل عليه، ومثله قولُ القَطَامي: هُمُ الملوكُ وأبناءُ المُلوكِ هُمُ ... والآخذون به والسَّاسَةُ الأُوَلُ (¬3) أراد: والآخذون بالملك، ودلَّ (الملوكُ) عليه، فكنى عنه، وأنشد الفراء (¬4): ¬

_ (¬1) عزاه إليه في "التفسير الكبير" 5/ 39. (¬2) رواه عنه ابن المبارك في "الزهد" ص 8، وعبد الرزاق في "المصنف" 9/ 55، وسعيد بن منصور 2/ 648، والطبري في "تفسيره" 2/ 95، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 288، وبمعنى هذا: حديث أبي هريرة مرفوعًا، رواه البخاري (1419) كتاب الزكاة، باب: أي الصدقة أفضل، ومسلم (1032) كتاب الزكاة، باب: بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح. (¬3) البيت من البسيط، وهو بهذه الصيغة للنابغة في "ديوانه" ص 75، "لسان العرب" 1/ 119مادة (ألا). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 104 - 105.

إذا نُهي السفيهُ جرى إليه ... وخَالف والسفيهُ إلى خلاف (¬1) أي: إلى السفه، ويكون المعنى على هذا الوجه: لا يعطيه وهو متسخِّط، وهذا الوجْهُ اختيارُ الحسين بن الفضل (¬2). وقوله تعالى: {وَابْنَ اَلسَّبِيلِ} قال مجاهد: هو المنقطع من أهله يَمُرُّ عليك (¬3). وقال قتادة: هو الضيفُ ينزل بالرجل (¬4). قال أهل المعاني: كل مسافر من حاجٍّ وغازٍ وغيرهما، فهو ابن السبيل؛ لملازمته الطريق، وكل من لزم شيئا نسب إليه، فيقال للشجعان: بنو الحروب، وللناس: بنو الزمان؛ لأنهم لا يَنْفَكُّون منه، ولطيرِ الماءِ: ابنُ الماء، وهو كثير (¬5). وقوله تعالى: {وَفِى اَلرِّقَابِ} قال ابن عباس: يريد المكاتبين (¬6)، ويكون التقدير: وفي غزو الرقاب. ¬

_ (¬1) تقدم تخريج البيت عند تفسير [البقرة: 177]. (¬2) "تفسير الثعلبي"، 2/ 150 "المحرر الوجيز" 2/ 81، "زاد المسير" 1/ 177، "البحر المحيط" 2/ 5، وقال عن هذا القول: إنه بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ: فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى: فلأن من فعل شيئًا وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك؛ لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 97، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 290، وروى مثله عن قتادة. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 97، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 289، وأسنده عن ابن عباس، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 81: والأول أعم. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 97، "المحرر الوجيز" 2/ 81. (¬6) عزاه إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 178، قال وهو مروي عن علي=

وقيل: فداء الأسارى، وعتق النسمة، وفك الرقبة (¬1)، والرقاب: جمع الرقبة، وهو مُؤَخَّر أصل العنق، واشتقاقها: من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم؛ ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال: أعتق الله عُنَقَه، لأنها لما سميت رقبةً كانت كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رَقُوب؛ لأجل مراعاتها موتَ ولدِها (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} قال المفسرون: أراد: فيما بينهم وبين الله، وبينهم وبين الناس، إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حَلَفُوا ونَذَروا وَفَّوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدَّوا (¬3). ارتفع قوله: {وَالْمُوفُونَ} بالعطف على محل (مَنْ) في قوله: {مَنْ ¬

_ = والحسن وابن زيد والشافعي، ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 290 عن سعيد ابن جبير ومقاتل بن حيان والحسن والزهري، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 98، وقد حكى الواحدي في "الوسيط" أن جميع المفسرين قالوا: يريد به المكاتبين، والمفسرون ذكروا الخلاف على أربعة أقوال: المكاتبون، وأنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، وفداء الأسرى، وجميع هؤلاء، وهذا قول ابن عطية وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 60، واستظهره أبو حيان في "البحر" 2/ 6. ينظر: "الإجماع في التفسير" ص 195. (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1249، "المحرر الوجيز" 2/ 81، "الكشاف" 1/ 109، وقال في "زاد المسير" 1/ 179: رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وأبو عبيد وأبو ثور، وعنه كالقولين. (¬2) ينظر في الرقاب: "المفردات" ص 206، "اللسان" 3/ 1701 (رقب)، والكلام بنصه عند الرازي في "تفسيره" 5/ 42. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 166، وينظر: "تفسير الرازي" 5/ 43، "تفسير القرطبي" 2/ 225.

آمَنَ} وهو رفع؛ لأنه خبر لكن، كأنه: ولكن البر من آمن بالله والموفون، أو على المدح على أن يكون خبر ابتداء محذوف، تقديره: وهم الموفون (¬1). وقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ} قال الكسائي: هو معطوف على ذوي القُربى، كأنه: وآتى المال على حبه ذوي القربي والصابرين (¬2). قال النحويون: إذا عطفت قوله: (والموفون) على الموصول وهو قوله: (من) لا يجوز أن يكون (الصابرين) مِنْ صلة (مَنْ) وقوله: (وآتى المال)، مِنْ صلة (مَنْ)، فإذا نصبت الصابرين بقوله: {وَآتَى الْمَالَ}، على ما ذكره الكسائي فقد جعلت {وَالْصَّابِرِينَ} من تمام الصلة، ولا يجوز هذا؛ لأنك قطعت ذلك الكلام بالعطف على (مَنْ)، حيث عطفت عليه قوله: {وَالْمُوفُونَ}، ولا يجوز العطف على الموصول حتى ينقضي بصلته، كما لا يؤكد ولا يوصف إلا بعد انقضائه بجميع صلته؛ لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد، ومحالٌ أن يوصف الاسم، أو يؤكد، أو يعطف عليه، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 247، "تفسير الثعلبي" 2/ 167، "التفسير الكبير" 1/ 42، "التبيان" ص 112، وذكر وجهًا ثالثًا: وهو أن يعطف (الموفون) على الضمير في (آمن). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 107، قال: وإنما امتنع من مذهب المدح -يعني الكسائي- الذي فسرت لك؛ لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتمم الكلام في سورة النساء، ألا ترى أنك حين قلت: (لكن الراسخون في العلم منهم) - إلى قوله: (والمقيمين والمؤتون)، كأنك منتظر لخبره، وخبره في قوله: (أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً). والكلام أكثره على ما وصف الكسائي، ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص والتام كالواحد وينظر أيضا: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 231، وقال: وهذا القول خطأ بين.

إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه وما يتصل به، فلا يجوز إذن أن يكون {وَالصَّابِرِينَ} عطفا على قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}. واذا كان قوله: {وَالْمُوفُونَ} عطفا على الموصول؛ لأن قولَه: {وَالصَّابِرِينَ} على هذا من تمام الموصول، فلا يجوز الفصل بينه وبين الموصول بالمعطوف على الموصول، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: مررت بالضاربين وقوم زيدًا، حتى تقدم زيدًا على القوم، وكذلك سبيل التأكيد والصفة، لو قلت: أعجبني كلامُكَ كلُّه زيدًا، أو أعجبني كلامُك الحسن زيدًا، لم يجز؛ لوصفك الاسم وتأكيدك قبل تمامه بما في صلته. وإن جعلت قوله: {وَالْمُوفُونَ} رفعًا على المدح على ما ذكرنا، لم يصح أيضا قول الكسائي؛ لأن الفصل بين الصلة والموصول يقع به إذا كان مدحًا، كما يقع إذا كان معطوفًا على الموصول، بل الفصل بينهما بالمدح أشنع؛ لكون المدح جملة، والجمل ينبغي أن تكون في الفصل أشنع بحسب زيادتها على المفرد (¬1). فإن قيل: أليس جاز الفصلُ بين المبتدأ والخبر بالجملة، كقول القائل: إن زيدًا -فافهم ما أقول- رجلُ صدقٍ، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. ثم قال: {أُولَئِكَ} ففصل بين المبتدأ والخبر بقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ}؟ قيل: ليس الصلة مع الموصول كالمبتدأ مع الخبر؛ لأن اتصال كل واحد منهما بالآخر أشد من اتصال المبتدأ وخبره، لأن مجراهما مجرى حروف الاسم ¬

_ (¬1) ذكر هذا بمعناه الرازي في "تفسيره" 5/ 44.

الواحد وأجزائه، وعلى حسب شدة الاتصال يقبح الانفصال، وليس كذلك المبتدأ مع خبره، ألا ترى أنَّ كل واحد منهما ليس كَجُزْء (¬1) الآخر. وإذا كان الأمرُ على ما ذكرنا، لم يَجُزْ الفصل بين بعض الصلة وبعض؛ لأن عطفَك على الموصول بالمفرد والجملة وتأكيدَك إياه ووصفَك له وإبدالَك منه يؤذن كل ذلك بالتمام والانقضاء، فلا يسوغ أن يذكر ما يؤذن بالتمام ويدل عليه ثم يتم بعد؛ لأن ذلك نَقْصٌ وفساد (¬2). فأما (¬3) قول الشاعر: ذاك الذي وأبيك يَعرِف مالكٌ ... والحقُّ يَدفَع تُرَّهاتِ الباطلِ (¬4) ففصل بين الصلة والموصول بالقسم، وهو جملة؛ لأن القسم، وإن كان في الأصل جملة، فإنه لا توصف به النكرة، ولا توصل به الموصول، كسائر الجمل، فالفصلُ بها -لجريها مجرى غير الجمل في هذه المواضع- أسهَل وأسْوَغ من الفصل بغيره؛ لمخالفة القسم سائر الجمل. وأيضًا فإن للقسم مداخل ليس لغيره من الجمل، ألا ترى أن القسم قد دخل بين الشرط وجزائه في نحو: إن تأتنى والله آتك، ولا يدخل عليه غيره من الجمل. فالقسم مما (¬5) قد اتسع بالفصل فيه؛ لكثرته، ويقع مواقع لم يقع غيره، فلا يلزم إذا اتسع فيه ففصل به أن يفصل بغيره. ألا ترى أنهم اتسعوا في الفصل بالظرف، ففصلوا به بين إن واسمها، وليس يوجب فصلهم بذلك ¬

_ (¬1) في (ش): (ليس كَجَسر الآخر). (¬2) ذكر هذا بمعناه الرازي في "تفسيره" 5/ 44. (¬3) في (ش): (وأما). (¬4) البيت لجرير في "ديوانه" ص580، "لسان العرب" 1/ 431 (تره). (¬5) في (م): (ما).

فصلهم بغيره. وكذلك يجوز الفصل بالقسم في الصلة، ولا يجوز ذلك في غيره، فبان (¬1) بما ذكرنا أنه لا وجه لقول الكسائي، وهذا كله كلام أبي علي. ثم قولُ الكسائي ضعيف أيضا في المعنى؛ لأنه يَضْعُفُ أن يُقَال: معنى الآية: ولكن البرّ من آمن بالله وآتى الصابرين. والصحيح: أنَّ ما بعد {آمَنَ} تَعدادٌ لأفعال {مَنْ آمَنَ} وأوصافه. والوجه في نصب {وَالصَّابِرِينَ} قولُ الفراء، وهو أنه ذهب به إلى المدح، وإن كان مِنْ صفة {مَنْ}، والعرب تعترض في صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فينصبون بعض المدح، وإن كان الاسم رفعًا، كأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدد غير متبع لأول الكلام، من ذلك قولُ الشاعر: لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْر النازلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطيبين معاقِدَ الأزْرِ (¬2) فنصبوا النازلين والطيبين على المدح. وأنشد أيضا: إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام ... وليثَ الكتيبةِ في المُزْدَحمْ (¬3) ¬

_ (¬1) في (ش): (فان). (¬2) البيتان لخرنق بنت بدر بن هفَّان، ترثي زوجها ومن قتل معه، في "ديوانها" ص 43، "معاني القرآن" للفراء، "لسان العرب" 7/ 4454 (نضر). وفي "الكتاب" لسيبويه 2/ 64، لكن قال: (والطيبون) قال الفراء: وربما رفعوا (النازلون) (الطيبون)، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يُتْبَعَ آخرُ الكلام أوّلَه. (¬3) البيت بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 105، "الإنصاف" ص 376، "الخزانة" 1/ 216. والقَرْم: السيد المعظم.

فنصب ليثَ الكتيبة على المدح، والاسم قبله مخفوض (¬1). وقال أبو علي مختارًا هذا القول: الأحسن عندي في هذه الأوصاف التي تعطف وتذكر للرفع من موصوفها والمدح أو النقص منهم والذم: أن يخالف (¬2) بإعرابها، ولا يجعل كلها جارية على موصوفيها؛ لأن هذه المواضع من مواضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خُولِفَ بإعراب الأوصاف كان أشدَ وأوقعَ فيما يعني لضرورةِ الكلام، وكونه بذلك ضروبًا وجملًا (¬3)، وكونه في الإجراء على الأول وجهًا واحدًا وجملةً واحدة (¬4). ونص سيبويه في قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]، أنه نصبٌ على المدح. انتهى كلامه (¬5). ومعنى المدحِ والذمِّ في النحو: أن العربَ لما أطنبت في وصفٍ بمدح أو ذم سلكت طرقًا، وأتت بأوصاف كثيرة، فلذلك خالفت بإعراب الأوصاف، تنويهًا بالموصوف وتنبيهًا على المراد، كأنهم ظنوا أنهم لو أجروا الأوصافَ على نحوٍ واحدٍ، كانوا قد أَتوا بوصفٍ واحدٍ. وأما علة اختلاف الحركة في المدح والذم: فقال الفراء: أصل المدح والذم من كلام السامع، وذلك أن الرجل إذا أخبر الرجل، فقال له: قام زيد، أثنى السامع عليه، فقال: ذكرت والله الظريف، ذكرت العاقل، وهو والله الظريف، هو العاقل، فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع، ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 106 بتصرف، واختاره الطبري في "تفسيره" 2/ 100. (¬2) في (ش): (لا تخالف). (¬3) في (م): (وحولًا). (¬4) نقله عنه الرازي في "تفسيره" 5/ 45، ونقله في "البحر المحيط" 2/ 7 - 8. (¬5) "الكتاب" لسيبويه 2/ 63 - 65.

فجرى الإعراب على ذلك (¬1). وقال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى: أعني الظريفَ (¬2). وأنكر الفراء هذا القول (¬3)، وقال: (أعني) إنما تقع تفسيرًا للاسم المجهول، والمدح يأتي بعد المعروف، ولو اطرد لنا إضمار (أعني) لأجزنا (¬4): قام زيدٌ أخاك، على معنى: أعني أخاك، وهذا لا يقوله (¬5) العرب أصلًا (¬6). قال: والذم بمنزلة المدح، يقال: مررت بزيدٍ الخبيثِ، والخبيثَ، ومن هذا: قوله عز وجل {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]. وقد تدخل الواو على المنصوب على المدح والذم ويكون (¬7) نكرةً، فيقال: مررت برجل ينصفُ من يُناظرهُ، وعاقلًا لبيبًا عالمًا، قال الشاعر: ويأوي إلى نسوة عُطَّلٍ ... وشُعثًا مراضيعَ مثل السَّعَالِي (¬8) فنصب شعثًا على الذم. وقال آخر: ¬

_ (¬1) نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 45، وينظر: "الكتاب" لسيبويه 2/ 65. (¬2) نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 45. (¬3) ليست في (أ)، (م). (¬4) في (ش): (لأجرينا). (¬5) في (ش): (بالتاء وفيهما). (¬6) نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 45. (¬7) في (ش): (بالتاء). (¬8) البيت، وهو لأمية بن أبي عائذ الهذلي، في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 507، ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 108ولم ينسبه، وفي "لسان العرب" 3/ 1661 (رضع). ويروى: وشعث على النعت كما ذكر الفراء. وهذا البيت في وصف صائد وإعساره. وعطل: هن اللواتي لاحلي عليهن، وشعث: جمع شعثاء، وشعثها من قلة التعهد بالدهن والنظافة. والسعالي: ضرب من الغيلان، الواحد: سعلاة.

إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليثَ الكتيبة في المزدحم (¬1) فنصب ليثَ على المدح. وقوله تعالى: {فِي الْبَأْسَاءِ} قال ابن عباس: يريد الفقر، وهو اسم من البؤس. (والضراء) قال: يريد المرض (¬2). وهما اسمان على فعلاء ولا أَفْعل لهما؛ لأنهما ليسا بنعتين (¬3). (وحين البأس) قال ابن عباس: يريد القتال في سبيل الله والجهاد (¬4). ومعنى البأس في اللغة: الشدة، يقال: لا بأس عليكم في هذا، أي: لا شدة ولا حرج، {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165]، شديد، ثم تسمى الحرب بأساء لما فيها من الشدة، والعذاب يسمى بأسًا لشدته، قال الله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84] وقال: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 12] وقال: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} [غافر: 29] كل هذا معناه: العذاب (¬5). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم (¬6). وهذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية ¬

_ (¬1) سبق تخريج البيت. (¬2) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 291، ورواه الطبري في "تفسيره" 2/ 99، عن ابن مسعود والربيع وقتادة والضحاك وابن جريج. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 170، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 100، "التفسير الكبير" للرازي 5/ 45. (¬4) رواه الطبري 2/ 101، وابن أبي حاتم 1/ 292 عن ابن مسعود ومجاهد وقتادة والربيع والضحاك وسعيد بن جبير والحسن وأبي العالية ومرة ومقاتل بن حيان. (¬5) ينظر في معاني البأس: "تهذيب اللغة" 1/ 255 (بأس)، "المفردات" ص 75، "التفسير الكبير" 5/ 45. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 101، "تفسير الثعلبي" 2/ 171، "المحرر الوجيز" 2/ 82.

178

للجمع، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر، فلا يظنن ظان أن الموفي بعهده على انفراد هذا الوصف فيه من جملة من قام بالبر، وكذا الصابر في البأساء حتى يستكمل هذه الأوصاف، وقد تدخل الواو في الأوصاف لموصوف واحد بقوله: إلى الملك القرم ......... (¬1) البيت الذي أنشدناه آنفًا، دخلت الواو في هذه الأوصاف وهي لموصوف واحد. ولهذه النكتة اختلف السلف في هذه الآية، فقال بعضهم: هذه الصفة خاصة بالأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقال بعضهم: هذه عامة في جميع المؤمنين (¬2). 178 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، كُتِبَ هاهنا، بمعنى: فُرض وأُوجب، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180]. وأصله: أن من أراد إحكام شيء والاستيثاق منه كَتَبَه؛ لئلا ينساه، فقيل في كل مفروضٍ واجب: كتب، بمعنى: أحكم ذلك. وقيل: أصلُه: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ومن هذا قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، أي: قضى الله ذُلك، وفَرَغَ منه، وحَكَم به، ومثله قوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} [الحشر: 3]، أي: حكم بإخراجهم من دورهم، وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريج البيت. (¬2) نقله بتمامه الرازي في "تفسيره" 5/ 45 وصرح فيه بالنقل عن الواحدي.

عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: 154]، كل هذا من القضاء. ويكون (كتب) بمعنى (¬1): جعل، كقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] (¬2). وقوله تعالى: {القِصَاصُ} معنى القصاص في اللغة: المماثلة والمساواة، وأصله من قولهم: قصصت أثره، إذا تتبعته (¬3)، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، فكأن المفعول به يتبع ما عُمِلَ به فَيَعْمَلُ مثله (¬4). والقِصَاص مصدرة لأنه فعال من المفاعلة. قال الفراء في كتاب المصادر: قاصَصْته قَصَصا، وأَقْصَصْتُه: إذا أقدته من أخيه إِقْصَاصًا، ويقال: قَصَصْتُ أثره قَصصًا وقَصًّا، وقَصصْتُ عليه الحديثَ قَصَصًا، قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]. وقال في قَصِّ الأثر: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] والقَصُّ جائز في هذين. هذا كلامه. وأراد بالقصاص هاهنا: المماثلة في النفوس والجروح. ¬

_ (¬1) في (أ): (يعنى). (¬2) ينظر في معنى (كتب): "تفسير الطبري" 2/ 102، 103، "المحرر الوجيز" 2/ 83، "المفردات" ص 425 - 427، "البحر المحيط" 2/ 7 - 8، قال الراغب: ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض والعزم، بالكتابة، ووجه ذلك: أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب، فالإرادة مبدأ، والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى. (¬3) في (م): (تبعته). (¬4) "تفسيرالثعلبي" 2/ 176.

وقال الأزهري: أصل القَصّ: القطع. قال أبو زيد: قَصَصتُ ما بينهما، أي: قطعت. قال الأزهري: والقِصَاص في الجِرَاح مأخوذ من هذا، وهو أن يُجْرحَ مثلَ ما جَرَح، أو يُقْتل مثل ما قتل (¬1)، والقول الأول أشهر؛ لأن القصاص والمقاصة في غير الجراح، يقال: قَاصَّه في الحساب وغيره: إذا أخذ الشيء مكان غيره. وقال الليث: القصاص والتقاص (¬2) في الجراحات والحقوق شيء بشيء (¬3)، وهذا يبين ان معنى القصاص اعتبار المماثلة والمساواة (¬4). وليس معنى الآية أن القصاص واجب علينا حتى لا يسعنا تركه، ولكن معناه: أن اعتبار المماثلة بين القتلى فرضٌ علينا، فالفَرْضِية ترجع إلى اعتبار المماثلة بين (¬5) الدماء، لا إلى نفس القصاص، حتى يلزم قتْلُ القاتلِ حتمًا، فالقصاص حيث يجب إنما يجب إذا وُجِدَتْ المساواة، وهذا يؤكدُ أنَ القولَ في اشتقاق القِصَاص في اللغة إنما هو من الاتباع، لا من القطع كما قاله الأزهري؛ لأنه لو كان من القطع لوجب القصاص حتى لا يسعنا تركه (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2976 (قصّ)، وعبارته: والقصاص في الجراح مأخوذ من هذا، يجرحه مثل جرحه إياه، أو قتله به. (¬2) في (ش): (والتقصاص). (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2976، "لسان العرب" 6/ 3652 (قصّ). (¬4) ينظر في معنى القصاص "تفسير الطبري" 2/ 102 - 103، "اللسان" 6/ 3652 (قصّ). (¬5) في (أ)، (م): (من). (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 102، 106، "زاد المسير" 1/ 180، "التفسير الكبير" 5/ 48، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 83: وصورة فرض القصاص هو =

قوله تعالى: {اَلحُرُّ باَلحُرِّ} أراد: الحر يقتص بالحر، فحذف لدلالة ذكر القصاص عليه. والحر: نقيض (¬1) العبد، قال أهل الاشتقاق: أصله من الحَرِّ الذي هو ضد (¬2) البرد، وذلك أن الحُرّ له من الأنفة وحرارة الحمية ما يبعثه على المكرمة، بخلاف العبد، ثم قيل للأكرم من كل شيء: حُرٌّ تشبيهًا بالرجل الحر (¬3). قال المفسرون: نزلت الآية في حَيَّيْنِ من العَرَبِ، لأَحَدِهِما طَولٌ على الآخر، فكانوا يتزوجون نسائهم بغير مهور، فقتلَ الأوضعُ منهما من الشريف قتلى، فحلف الشريف لَيَقْتُلَن الحرَّ بالعبد، والذكرَ بالأنثى. وليضاعفن الجراح، فأنزل الله هذه الآية، ليعلم أن الحر المسلم، كفء للحر المسلم، وكذلك العبد للعبد، والذكر للذكر، والأنثى للأنثى (¬4). ¬

_ = أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله، والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه، وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص باللزام، إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح. (¬1) في (ش): (يقتص). (¬2) في (م): (نقيض). (¬3) ينظر في معاني الحر: "تهذيب اللغة" 1/ 780 - 783، "اللسان" 2/ 827 - 832. (¬4) ينظر في سبب النزول "تفسير الطبري" 2/ 103، "معاني القرآن" للفراء 1/ 108، "المحرر الوجيز" 2/ 83 - 84، "تفسير الثعلبي" 2/ 175، "أسباب النزول" للواحدي ص 52 - 53، "زاد المسير" 1/ 180، "العجاب" لابن حجر 1/ 423 - 426، "لباب النقول" للسيوطي ص 32 - 33، وقد استطرد الطبري -رحمه الله- في ذكر أسباب نزول للآية، وكلها تدور حول هذا المعنى الذي ذكره الواحدي.

ولم تدل (¬1) الآية على أن الذكر لا (¬2) يقتل بالأنثى، ولكنها بينت أن من قُتِلتْ له أُنْثَى فقال: لا أقتل بها إلا رجلًا متعدٍّ غير منصف، فأما قتل الذكر بالأنثى فمستفاد من إجماع الأمة؛ لأنهما تساويا في الحرمة، والميراثِ، وحدِّ الزنى، والقذف وغير ذلك، فوجب أن يستويا في القصاص (¬3). قال الفراء: هذه الآية منسوخة بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] (¬4) وكان عنده هذه الآية تدل على أن الرجل إنما يُقتل بالذَّكَر ولا يُقتل بالأنثى؛ لأنه قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} فلما لم يعمل بهذا وعمل بقوله: {اَلنَّفسَ بِالنَّفسِ} جعل هذه الآية منسوخة، والصحيح أن هذه الآية غير منسوخة؛ لأن حُكْمَ الآية ثابتٌ، ولم تدلَّ على أن الذكرَ لا يقتل بالأنثى (¬5). ¬

_ (¬1) في (ش): (تدلك). (¬2) في (م): (لم). (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 177، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 105، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 44، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 63، "تفسير القرطبي" 2/ 227، "البحر المحيط" 2/ 11 وقد حكى هؤلاء الثلاثة الإجماع على ما ذكره المؤلف. "المحرر الوجيز" 2/ 84، "تفسير البغوي" 1/ 189. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 109. (¬5) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 227، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 84 - 85: روي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا يدخل صنف على صنف، ثم نسخت بآية المائدة: (أن النفس بالنفس)، قال القاضي أبو محمد (ابن عطية): هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو=

وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} معنى العفو: هو ترك الواجب من أَرْشِ (¬1) جناية، أو عقوبة ذنب، أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية فصفح عنه وترك له من الواجب عليه (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ أَخِيهِ} أراد: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به (¬3)، وأراد بالأخ: المقتول، سماه أخًا للقاتل، فدل أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله (¬4) (¬5). وفي قوله: (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عَفَا سَقَطَ القود؛ لأن شيئًا من الدمِ قد بطل بعفو البعض (¬6)، والله تعالى قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، والكنايتان في قوله: {لَهُ} و {أَخِيهِ} ترجعان إلى (مَنْ) وهو القاتل (¬7)، ولا يحتاج أن يقال: أخيه المقتول؛ لأن هذا الحكم لا ¬

_ = عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة، وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا: (الحر بالحر)، يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد. (¬1) الأرش: ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع، وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص، وسمي أرشا؛ لأنه من أسباب النزل، يقال: أرَّشت بين القوم إذا أوقعت بينهم. "النهاية" ص 33. (¬2) وهو قول ابن عباس ومجاهد وعطاء والشعبي وقتادة والربيع وغيرهم. ينظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 66، "تفسير الطبري" 2/ 107، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 295، "تفسيرالثعلبي" 2/ 181. (¬3) "البحر المحيط" 1/ 12. (¬4) في (ش): (بقلبه). (¬5) "البحر المحيط"1/ 12، "التفسير الكبير" 5/ 54، "المحرر الوجيز" 2/ 88. (¬6) "البحر المحيط"1/ 13، "التفسير الكبير" 5/ 54. (¬7) "تفسير البغوي" 1/ 191.

يثبت ولا يوجد إلا عند القتل. هذا الذي ذكرنا من معنى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} هو الذي عليه عامة المفسرين وأهل المعاني وإن لم (¬1) يبينوا هذا البيان. (¬2) وقال الأزهري: هذه الآية فيها إشكال، وقد فسرها ابن عباس وغيرُه من المفسرين على جهة التقريب وقدر أفهام من شاهدهم من أهل عصرهم. وأهلُ عصرنا لا يكادون يفهمون عنهم ما أومأوا إليه حتى يزاد في البيان، ويوضح بعض الإيضاح، ونسأل الله التوفيق. حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار (¬3) عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كان القِصَاصُ في بني إسرائيل ولم تكن الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} قال: فالعفو أن تقبل الدية في العمد (¬4). قال الأزهري: وليس العفو في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} عفوًا من ولي (¬5) ¬

_ (¬1) (لم) سقطت من (م). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 107، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 248، "تفسير البغوي" 1/ 191، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 66، "المحرر الوجيز" 2/ 88، "تفسير القرطبي" 2/ 234، وذكر خمس تأويلات للآية، وقال: هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. (¬3) هو: أبو محمد عمرو بن دينار المَكِّي الأثرم الجمحي مولاهم، تابعي إمام حافظ ثقةٌ ثبت، توفي سنة 126هـ ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 231، "التقريب" ص 421 (5024). (¬4) الحديث: أخرجه البخاري (4498) كتاب التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}، والطبري في "تفسيره" 2/ 107، كلاهما بهذا الإسناد. (¬5) في (ش): (ولا).

الدم، ولكنه عفو من الله -جل ذكره-، وذلك أنه لم يكن لبني إسرائيل أن يأخذوا الدية، فجعلها الله لهذه الأمة عفوًا منه وفضلًا، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد، فذلك قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَئٌ} أي (¬1): من عفا الله له بقبول الدية مع اختياره، أي: تَفَضَّل اللهُ عليه من هذه الأمة، ولم يكن ذلك الفضلُ لمن تَقَدَّمَه، قال: وقوله: {مِنْ أَخِيهِ} {مِنْ} هاهنا بمعنى البدل، المعنى: فمن عفا الله له بقبول الدية بدل أخيه المقتول. والعرب تقول: عوّضت (¬2) له من حقه ثوبًا: أي، أعطيته بدل حقه ثوبًا، وما أعلم أحدًا فسر من هذه الآية ما فسرته، فتدبره، فإنه صعب، واقبله بِشُكْرٍ إذ بان لك صوابه، انتهى كلامه (¬3). ولقد أعجب بقوله، وزلّ (¬4) فيما تكلف، وليس الأمر على ما ذكر، فإن (¬5) قوله {فَمَنْ عُفِيَ} عفو من ولي الدم بإباحة الله تعالى ذلك، ولو ¬

_ (¬1) لخص الواحدي كلام الأزهري، وهذا تمام هذه الجملة 3/ 226: أي: من عفا الله -جل اسمه- له بالدية حين أباح له أخذها بعدما كانت محظورة على سائر الأمم، مع اختياره إياها على الدم، (اتباع بالمعروف)، أي: مطالبة للدية بمعروف، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان، ثم بين ذلك فقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، لكم يا أمة محمد، وفضل جعله لأولياء الدم منكم، ورحمة خصكم بها، {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ}، أي: من سفك دم قاتل وليه بعد قبوله الدية، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والمعنى الواضح في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَئٌ}، أي: أحل له أخذ الدية بدل أخيه المقتول، عفوًا من الله وفضلًا مع اختياره، فليطالب بالمعروف. (¬2) في "تهذيب اللغة" 3/ 2283 (عاض). (¬3) في "تهذيب اللغة" 3/ 2283 (بمعناه). (¬4) في (م): (وزاد). (¬5) في (م): (ما ذكرنا وقوله).

كان العفو من الله تعالى لتعيّنت (¬1) الدية وسقط القصاص أصلًا، ولا معنى لقوله: أي: من عفا الله له بقبول الدية، أي: تفضل الله به عليه؛ لأن هذا رُخِّص لولي الدم في العفو، وهذا التفضل من الله، هذا العفو على القاتل لا على ولي الدم. وقوله: {مِنْ أَخِيهِ} أي: بدل أخيه المقتول (¬2) ليس بشيء؛ لأن قوله: {مِنْ أَخِيهِ} عام في كل المقتول، ليس المراد به (¬3) أخوة النسب، وعلى ما ذكره يختص بالأخ من (¬4) طريق النسب، والحكم في كل مقتول سواء، وليس لتخصيص الأخ فائدة، ومن تأمل هذا ظَهَرَ له فساد قوله. وقوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} على معنى: فعليه اتباع بالمعروف، ولو كان في غير القرآن لجاز: فاتباعًا وأداءً على معنى: فليتبع اتباعًا، وليؤد أداءً (¬5). قال الفراء: وهو بمنزلة الأمر في الظاهر، كما تقول: من لقي العدو فصبرًا واحتسابًا، فهذا نصب (¬6)، ورفعه جائز، على معنى: فعليه. ومثله في القرآن كثير، كقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، {فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، {فَإمسَاكُ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]، وليس شيء من هذا إلا ونصبه جائز على أن توقع عليه الأمر. ومما جاء منصوبًا قوله: ¬

_ (¬1) في (م): (لم ثبتت). (¬2) في (م): (العفو). (¬3) ليست في (م). (¬4) ليست في (ش). (¬5) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 249، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 110، "تفسير الثعلبي" 2/ 182. (¬6) في (م): (نصبه).

{فَضَربَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] (¬1). والمعروف: كل ما يتعارفه الناس ولا ينكرونه، ثم صار اسمًا للإحسان والجود والأخلاق الجميلة، لأنها مما لا ينكر، وأراد بالمعروف هاهنا: ترك التشديد (¬2) على القاتل في طلب الدية، ومعناه: فعلى (¬3) وليِّ المقتول الاتباع (¬4) بالمعروف في المطالبة بالدية (¬5)، وهو معنى قول ابن عباس: يطلبُ هذا بإحسان، ويؤدي هذا بإحسانٍ (¬6). وقال بعضهم: قوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ} خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: فالأمر اتباعٌ بالمعروف، أو فالحكم فيه اتباع بالمعروف (¬7). وقوله تعالى: {وَأَدَاءٌ} الأداء: اسم، من قولك: أدَّيْتُ إليه المال، وقد ينوب عن المصدر فيقال: أدّيت أداءً، كما يقال: سَلَّمْتُ ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 109 - 110 بتصرف كبير، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 110، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 248 - 249. (¬2) في (أ)، (م): (التشدد). (¬3) بياض في (م). (¬4) في (ش): (اتباع). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 109، "المحرر الوجيز" 2/ 89. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 109. (¬7) وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 110، وينظر: "التفسير الكبير" 5/ 45، "المحرر الوجيز" 2/ 89، وقال: فاتباع رفع على خبر ابتداء مضمر، تقديره: فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبًا، كقوله تعالى: {فَضَربَ الرِقَابِ} [محمد: 4]، قال في "البحر المحيط" 2/ 14: ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلا ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69].

سلامًا، وكلَّمْتُ كلامًا، قال الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُن سَرَاحًا} [الأحزاب: 49]. وقوله تعالى: {إِلَيْهِ} الكناية ترجع إلى العافي، ودل عليه {عُفِىَ}، لأنا قد ذكرنا أَنَّ الفعل يدل على الفاعل، فكأنه ذُكِر (¬1) (¬2). وقوله: {بِإِحْسَانٍ} قال ابن عباس، في رواية عطاء (¬3): يريد: أن يؤديَ الدية في نجومها، ولا يَمْطُلَه، ولا يذهبَ بشيء (¬4) منها، هذا هو الإحسان. قال المفسرون: إن الله تعالى أمر الطالب أن يطلب بالمعروف، ويتبع الحق الواجب له، من غير أن يطالبه بالزيادة، أو يكلفه ما لا يوجبه الله، أو يشدد عليه (¬5). كل هذا تفسير المعروف، وأَمَرَ المطلوب منه بالإحسان في الأداء، وهو ترك المَطْل والتسويف، وهذا لا يختص بثمن الدم، بل كل دين فهذا سبيله (¬6). وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد حيث جعل الدية لأمتك يا محمد (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): كأنها: (ذكره). (¬2) ينظر تفسير الواحدي لقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]. (¬3) في (م): (شيئًا). (¬4) تقدم الحديث عن هذه الرواية. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 182. (¬6) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 55، "تفسير القرطبي" 2/ 235 - 236. وقوله: بل كل دين فهذا سبيله، ففي حق الطالب قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. وفي حق المطلوب قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته". (¬7) رواه الطبري بمعناه 2/ 111، وابن أبي حاتم 1/ 296.

قال قتادة: لم تحلّ الدية لأحد غير هذه الأمة (¬1). قال المفسرون: إن الله تعالى كتب على أهل التوراة أن يُقِيدُوا (¬2)، ولا يأخذوا الدية، ولا يعفوا؛ وعلى أهل الإنجيل أن، يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدية؛ وخَيّر هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو، فقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، أي: التخيير بين هذه الأشياء (¬3). وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال ابن عباس: يريد: كما كانت الجاهلية تفعل، تقتل من قوم القاتل عِدَّةً (¬4). وقال آخرون: أي: ظَلَم فوثب على القاتل فقتله بعد أخذ الدية (¬5). وفي هذه الآية أدلة على القدرية: أحدها: قوله في افتتاح الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} ولا خلاف أن القصاص واقع في قتل العمد، فلم يسقط اسم الإيمان عن القاتل بارتكاب هذه الكبيرة. والثاني: ما ذكرنا في قوله: {مِنْ أَخِيهِ}. والثالث: قوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} وهما يلحقان ¬

_ (¬1) رواه الطبري عنه بمعناه 2/ 111، وابن أبي حاتم 1/ 296. (¬2) في (ش): (ولا يفتفدوا). (¬3) روي نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع وقتادة. ينظر البخاري (4498) كتاب التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}، "تفسير الطبري" 2/ 110، وابن أبي حاتم 1/ 296، "تفسير الثعلبي" 2/ 185. (¬4) لم أجده في الطبري ولا ابن أبي حاتم ولا البغوي، وذكر الرازي هذا القول ولم ينسبه لأحد 5/ 55. (¬5) تنظر الآثار التي أوردها الطبري 2/ 112، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والحسن وعكرمة والسدي وابن زيد، وكذا عن ابن أبي حاتم 1/ 297.

179

المؤمنين (¬1). 179 - قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قال عُظْمُ أهل التأويل (¬2): معناه: أن سافكَ الدم إذا أُقيد منه ارتدع من كان يهمّ بالقتل، فكان في القصاص بقاءٌ؛ لأنه إذا علم أنه إن قَتَل قُتِلَ أَمْسَكَ وارتدع عن القتل، ففيه حياةٌ للذي همّ بقتله، وحياةٌ للهامّ أيضًا، وقد أخذ الشاعر هذا المعنى ونقله عن القصاص إلى العتاب فقال: أبلغ أبا مالك عنى مُغَلغَلةً ... وفي العتاب حياة بين أقوام (¬3) يريد: أنهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتابُ، وكَفُّوا عن القتل، فكان (¬4) في ذلك حياة. أخذه المتمثلون فقالوا: بعض القتل أحيا للجميع، وقالوا: القتل أقل للقتل (¬5). ¬

_ (¬1) ذكر هذا الثعلبي في "تفسيره" 2/ 191 في مقام الاستدلال على أن القاتل لا يصير كافرًا، ولا يخلد في النار، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 191. (¬2) ينظر في بيان كون القصاص حياة: "تفسير الطبري" 2/ 114، 115، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 297، "تفسير الثعلبي" 2/ 191، "تفسير البغوي" 1/ 191، "المحرر الوجيز" 2/ 91، "التفسير الكبير" 1/ 56، "تفسير القرطبي" 2/ 237 - 238، "البحر المحيط" 2/ 15. (¬3) البيت لهمام الرقاشي في "مقاييس اللغة" 4/ 377، ولعصام بن عبيد الزماني في "تاج العروس"، وبلا نسبة في "لسان العرب" 6/ 3289 (غلل). (¬4) في (ش): (فكفوا عن القتل وكان). (¬5) ينظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 66/ 67، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 159، ويروى المثل بلفظ: القتل أنفى للقتل، وأوفى للقتل، وأكف للقتل. ينظر: "الصناعتين" لأبي هلال العسكري ص 181، "تفسير الثعلبي" 2/ 191، "التفسير الكبير" 5/ 56، "الدر المصون" 2/ 357، وعزاه ابن كثير 1/ 223 - 224 لبعض الكتب المتقدمة.

وقال السدي: كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والعشرة والمائة، فلما قصروا على الواحد كان في ذلك حياة (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فرح، وأراد: أن ولي الدم إذا استوفى القصاص تشفّى بذلك وطابت نفسه، فالتذ بالحياة، ولولا القصاص لتنغص بعيشه، فكأن حياته موتًا. وقد يبلغ بالإنسان القصور عن إدراك الثأر إلى أن يتمنى الموت، سيما العرب، فإنهم أشد الأمم حفاظًا، وأحرصهم على إدراك الثأر، والأخذ بالطوائل، وكل عيشٍ يراد الموتُ فيه موت، فإذا زال سبب تمني الموت بالقصاص كان فيه حياة. ويجوز أن يكون المعنى في هذا ما تذهب إليه العرب من أن قتل القاتل إحياء للمقتول، يقولون: أحيا فلان أباه، إذا قتل قاتله، ومنه: أحيا أباه هاشمُ بنُ حَرمَله (¬2) يعني: قتل قاتله، فسماه إحياءً، فعلى هذا في القصاص حياة للمقتول على معنى: أن المراد بالحياة قتل قاتله. وقوله تعالى: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} أولوا: واحدها ذو، وهو من الجموع التي لا يفرد واحدها من لفظه، كالنفر (¬3) والرهط والقوم والخيل ¬

_ (¬1) رواه بمعناه الطبري في "تفسيره" 2/ 115، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 268، والرازي في "تفسيره" 5/ 56. (¬2) تمامه: إذ الملوكُ حوله مُرَعبله. البيت لعامر الخصفي، ذكره في "الاشتقاق" لابن دريد ص 295، "السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 112، 113، "الإصابة" 3/ 616 وفيه قصة هذا البيت. (¬3) في (م): (كالنفس).

والإبل والنساء (¬1). {الأَلْبَابِ} جمع لُبٍّ، ولُبُّ الشيء: خالصُه، وهو الذي يَتَركَّبُ عليه القِشْر، وكذلك اللُّبَاب، يُقال: لبابُ القَمح والفستق، ولُبّ اللَّوز (¬2) والجوز. وسمى العقل لُبَّا تشبيهًا به؛ لأنه أشرف خصال المرءِ، وأصل لُبّ: اللزوم، يقال: أَلَبَّ بالمكان، إذا لزمه لزوم لُبِّ الشّيء له، واللَّبَبَ: الرمل المتراكم، سمي للزوم بعضه بعضًا، ومنه قولُ ذي الرمة: ..... أفضى بها لَبَبُ (¬3) وقال ابن المظفر: اللَّبَابَةُ: مصدر اللَّبيب (¬4)، وقد لَبِبْتَ تَلَبُّ، وهكذا قال الفراء وغيرُه: لَبَّ يَلَبُّ: إذا عَقَل، ومنه قول صفية (¬5) في ابنها الزبير (¬6) وضربته، فقيل لها: لم ضربتيه؟ فقالت: أضربه كي يَلِبَ، ويقود الجيش ذا ¬

_ (¬1) ينظر: "القاموس" ص 133. (¬2) في (م): (الموز). (¬3) تمام البيت هكذا: براقةُ الجِيد واللبات واضحة ... كأنها ظبية أفضى بها لبب ينظر: "ديوانه" ص 59. (¬4) في (أ): (اللبب). (¬5) هي: صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشية الهاشمية، عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم الزبير بن العوام شقيقة حمزة، صحابية، توفيت سنة 20 هـ- في خلافة عمر. ينظر: "أسد الغابة" 7/ 172 - 174، "الأعلام" 3/ 206. (¬6) هو: الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي، أبو عبد الله، أمه صفية بنت عبد المطلب، هو أول من سل سيفًا في سبيل الله، ما تخلف عن غزوة غزاها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أحد المبشرين بالجنة، قتل سنة 36 هـ. ينظر: "الاستيعاب" 2/ 89، "أسد الغابة" 2/ 249 - 252.

180

اللَّجَبْ (¬1). وقرأتُ على سعيد بن محمد، قال: قرأت على أبي علي الفارسي، قال: قرأت على أبي إسحاق الزجاج، قال: قرأت على المبرد، عن يونس: لَبِبْتُ لبابًا، وليس في المضاعف حرف على فَعُلت غير هذا، ولم يروه أحدٌ غير يونس (¬2). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: الدماء مخافة القصاص (¬3). 180 - قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية. يعني: إذا تيقن حضور الموت، ورأى أعلامه، ولم يشكُك في قربهِ منه. فقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يريد: أسبابَ الموت ومقدماته، من العلل والأمراض. وكان الإيصاء فرضًا قبل نزول أسباب الموت، ولكن يتضيق عند نزول سبب الموت حتى لا يجوز التأخير، فلذلك (¬4) قال: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ليس أنه قبل الحضور لم يكتب عليه (¬5). وإنما قال: ¬

_ (¬1) الخبر في "اللسان" 7/ 3979 "لبب"، وفيه فقالت: ليَلَبَّ، ويقود الجيش ذا الجلب، أي: يصير ذا لُب، ورواه بعضهم: أضربه لكي يلَبَّ، ويقود الجيش ذا اللجب، قال ابن الأثير: هذه لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون: يلِبّ، بوزن فَرَّ يَفِرُّ. (¬2) ينظر في معاني اللبيب: "تهذيب اللغة" 4/ 3224 - 3226، "المفردات" ص 449، " اللسان" 7/ 3979 (لبب). (¬3) "تفسير الطبري" 2/ 115، "تفسير الثعلبي" 2/ 192. (¬4) في (ش): (فكذلك). (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، "تفسير الثعلبي" 2/ 193، "البحر المحيط" 2/ 16، وذكر قولًا آخر: وهو أن المراد بالموت حقيقته لا مقدماته، فيكون الخطاب متوجهًا للأوصياء والورثة أن ينفذوا الوصية.

{كُتِبَ}، لأنه أراد بالوصية الإيصاء، أو للفصل بين الفعل والوصية؛ لأن الكلام لما طال كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث، والعرب تقول: حَضَرَ القاضي امرأةٌ، فَيُذَكِّرون؛ لأن القاضي فَصَل بين الفعل وبين المرأة. وقد أحكمنا هذا فيما سبق (¬1). ورفع {الْوَصِيَّةُ} من وجهين: أحدُهما: على ما لم يسم فاعله، والثاني: على الابتداء، ويكون {لِلْوَالِدَيْنِ} الخبر، وتكون الجملة في موضع رفعٍ بـ {كُتِبَ}، كما تقول: قيل: عبدُ الله قائم، فترفع عبدَ الله بقائم، وقائمًا بعبد الله، وتكون الجملة في موضع رفعٍ بـ (قيل) (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} الخيرُ: اسم جامعٌ للمالِ وغيرِهِ، والخيرُ يراد به المالُ في كثيرٍ من القرآنِ، كقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] (¬3). وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} أي: بالشيء الذي يعلم ذوو التمييز أنه لا حيف فيه، فهو العدل الذي لا ينكر، يعني: لا يزيد على الثلث (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 60، "المحرر الوجيز" 2/ 92 - 94. (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 110، "تفسير الثعلبي" 2/ 193، "التفسير الكبير" 1/ 60، "البحر المحيط" 1/ 19. (¬3) ينظر في معاني الخير: "المفردات" ص 167 - 168، "البحر المحيط" 1/ 17. (¬4) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 115، "تفسير الثعلبي" 2/ 194، "المحرر الوجيز" 2/ 97.

وقوله تعالى: {حَقًّا} أي: حقَّ ذلك عليكم حقًّا (¬1). وقوله تعالى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي: المؤمنين الذين يتقون الشرك (¬2). وقد اجتمعت العلماء على نسخ هذه الآية (¬3). وكان السبب في نزول هذه الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يوصون بمالهم للبعداء رياءً وسمعةً، ويتركون العيالَ عالةً، فصرف الله بهذه الآية ما كان يُصرف إلى البعداء إلى الأهلِ والأقرباء، فَعُمِل بها ما كان العمل صلاحًا، ثم نسختها آية المواريث (¬4)، فكانت الوصية للوالدين والأقربين فرضًا على من مات وله مال، حتى نَزَلَتْ آيةُ المواريث في سورة النساء، فأجمعوا على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون (¬5)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 251، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 194، "المحرر الوجيز" 2/ 97، "البحر المحيط" 1/ 21، وقيل: نصب على المفعول، أي: جعل الوصية حقًّا، وقيل: على القطع من الوصية. (¬2) "تفسير الطبري" 2/ 115، "تفسير الثعلبي" 2/ 194. (¬3) تابع المؤلف -رحمه الله- الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 249 في هذا الإجماع، وسيأتي في كلامه ما يدل على نقض هذا الإجماع، وممن ذكر الخلاف في الآية فأطنب: الإمام الطبري في "تفسيره" 2/ 116، ولو قال -رحمه الله-: أجمع العلماء على نسخ حكم هذه الآية في القريب الوارث، لكان مقاربا، وهذا ما ذكره بعد عدة أسطر. (¬4) أشار إلى هذا الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 250، وذكره الرازي 5/ 60. (¬5) رواه عن ابن عباس: البخاري (2747) كتاب الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وأبو داود (2869) الوصايا، باب: ما جاء في نسخ الوصية للوالدين، والدارمي 2/ 419 - 420، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص230، والطبري 2/ 117 - 119.

"ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (¬1). فأما الأقرباء الذين لا يرثون، والوالدان اللذان لا يرثان بكفر أو رقٍّ، ففل تجب الوصية لهم؟ اختلفوا، فذهبت جماعة إلى أن الوصية للوارث نسخت، والوصيِّة لهؤلاء الذين لا يرثون لم تنسخ، وهو (¬2) مذهب مسلم بن يسار، والعلاء بن زياد (¬3) (¬4)، ومسروق (¬5) والحسن (¬6)، حتى قال ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2120) كتاب الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث، والنسائي 6/ 247 كتاب الوصايا، باب: إبطال الوصية للوارث، وأبو داود (2870) كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، وابن ماجه (2713) كتاب الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وأحمد في "المسند" 4/ 186 - 187، عن أبي أمامة الباهلي. وقال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه الحافظ في "التلخيص الحبير" 3/ 106، وللحديث روايات ذكرها الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 403، وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 372 بعد أن ذكر رواياته: ولا يخلو إسناد كل منها من مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلًا، بل جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 23/ 442: استفاض عند أهل العلم، وقوله: لا وصية لوارث استفاضة هي أقوى من الإسناد والحمد لله. وقد ذكره السيوطي ضمن الأحاديث في كتابه: "الأزهار المتناثرة" ص 119؛ وكذا الكتاني في "نظم المتناثرة من الحديث المتواترة" ص 176، ينظر: "نصب الراية" للزيلعي 4/ 403. (¬2) في (م): (وهذا). (¬3) العلاء بن زياد بن مطر العدوي، أبو نصر البصري، ثقة، أحد العباد، توفي في ولاية الحجاج سنة 94 هـ. ينظر: "الثقات" 5/ 246، "تهذيب التهذيب" 3/ 343. (¬4) رواه عن مسلم والعلاء في أثر واحد: ابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 166، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 232، والطبري في "تفسيره" 2/ 118. (¬5) هو: أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني، تابعي ثقة، من أخص تلاميذ ابن مسعود، كان عابدًا فقيهًا مقرئًا، توفي سنة 162 هـ، وقيل بعدها. ينظر: "السير" 4/ 63 - 69، "الأعلام" 7/ 215. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 118.

الضحاك: من مات ولم يُوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية (¬1). وقال طاوس: إن أوصى للأجانب (¬2) وترك ذوي قرابته نزع منهم، ورد إلى ذوي قرابته (¬3). فعلى قول هؤلاء: النسخُ تناول بعض أحكام الآية وهو الوصية للوارث (¬4). والأكثرون من العلماء -وهو الذي يعمل به اليوم- على أن حكم الآية كلّه (¬5) منسوخ، ولا تجب على أحد وصية لأحد قريب ولا بعيد. وإذا أوصى فله أن يُوصِي لكل من شاء من الأقارب والأباعد إلا الوارث (¬6). قال أبو عبيد: وعلى هذا القول أجمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام، منهم سفيان ومالك الأوزاعي (¬7) والليث، وجميع ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 116، وسعيد بن منصور في "السنن" طبعة الأعظمي 1/ 135، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 484، ومكي في "الإيضاح" 144. (¬2) في (ش): (الأجانب). (¬3) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 9/ 81، والطبري 2/ 117، وعزاه في "الدر" 1/ 319 إلى عبد بن حميد، وذكره الثعلبي 2/ 198، والرازي 5/ 63. (¬4) عزا الطبري في "تفسيره" 2/ 117، 118 القول بذلك أيضًا إلى ابن عباس وقتادة والربيع وإياس بن معاوية. (¬5) سقطت من (م). (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 117، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 299، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 1/ 484، "تفسير البغوي" 1/ 192، "المحرر الوجيز" 2/ 97، "البحر المحيط" 1/ 17، "التفسير الكبير" 5/ 62. (¬7) هو: أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو يحمد الأوزاعي، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام، أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلًا وزهدًا، توفي سنة 159 هـ. ينظر: "السير" 7/ 107 - 138، "الأعلام" 3/ 320.

أهل الآثار والرأي، وهو القول المعمول به، أن الوصية جائزة للناس كلهم، ما خلا الورثة، غير واجبة (¬1). والخير في هذه الآية حمل على المال الكثير (¬2)، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مريض يعوده، فقال: إني أريد أن أوصي، فقال علي: إن الله عز وجل يقول: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} وإنما تدع شيئًا يسيرًا، فَدعه لعيالك، فإنه أفضل (¬3). وروي أيضًا أن رجُلًا قال لعائشة رضي الله عنها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: إنما قال الله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} وإن هذا شيء يسير، (¬4) فاتركه ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 231. (¬2) الخير هنا: المال، في قول جميع المفسرين، وقد اختلف المفسرون فيه: فمنهم من جعل له حدًا معينًا، فمن ترك ذلك أوصى، وإلا فلا، واختلفوا في ذلك الحد، ومنهم من قيده بوصف، وهو المال الكثير عرفا كما بينه الواحدي، ومنهم من أطلق في القليل والكثير، كما روي عن الزهري، ونصره الطبري. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 121، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 299، "التفسير الكبير" 5/ 59، "البحر المحيط" 1/ 17. (¬3) رواه الثوري في "تفسيره" ص 55، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 63، والدارمي في "سننه" 2/ 405، والطبري في "تفسيره" 2/ 121، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 298، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 659، والبيهقي 6/ 270، وابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 208، والحاكم في "المستدرك" 2/ 301، وقال: صحيح على شرط الشيخين وتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع يعني الانقطاع بين عروة بن الزبير وعلي -رضي الله عنه-. (¬4) في (م): (شيئًا يسيرًا).

181

لعيالك (¬1). 181 - قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} الكناية تعود إلى الإيصاء؛ لأن الوصيةَ في معنى الإيصاء، ودالة (¬2) عليه، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] أي: وعظ. وقيل: الهاء (¬3) راجعة إلى الحكم والفرض، إذ كان تأويل {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}: فرض عليكم، فكأنه قال: فمن بدل فرض الله، فيدل {كُتِبَ} على الكَتْبِ فيُكْنى عنه. وقيل: الكناية تعود إلى معنى الوصية، وهو قول أو فعل (¬4)، قال المفسرون: أي فمن غيّر الوصية من الأوصياء والأولياء والشهود {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} من الميت (¬5). وما: صلة زائدة. والكناية في {سَمِعَهُ} ترجع إلى حيث رجعت الكناية (¬6) في {بَدَّلَهُ}. وقيل: (ما) بمعنى: الذي، والكناية في {سَمِعَهُ} ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 208، وسعيد بن منصور في "السنن" 2/ 656، والطبري في "تفسيره" 2/ 121، والبيهقي في "الوصايا"، باب: من استحب ترك الوصية إذا لم يترك شيئًا كثيرًا 6/ 270، ونحوه عن عبد الرزاق في الوصايا، باب: الرجل يوصي وماله قليل 9/ 63. (¬2) في (ش): (دالة) بلا واو عطف. (¬3) في (م): (إنها). (¬4) ينظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 67، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 251، "تفسير الطبري" 2/ 121، "تفسير الثعلبي" 2/ 207. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 207، "البحر المحيط" 2/ 22، "التفسير الكبير" 5/ 64، "التبيان" للعكبري ص 114. (¬6) سقطت من (م).

182

راجعة إليه. والمعنى: فمن بدله بعد الذي سمعه، أي: من تغليظ الإثم في التبديل، والعادة في الوصايا أن يُذْكَر فيها تغليظٌ على من بدَّلَها، وهذا فيه بعد؛ لأن التغليظَ ذُكِر بعد قوله: {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} وهو قوله تعالى: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} فيبعد أن تجعل ما بمعنى الذي (¬1). وقوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي: إثم التبديل على الذين يبدلونه (¬2)، أي: على من بدل الوصية، وبرئ الميت (¬3). {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قد سمع ما قاله الموصي {عَلِيمٌ} بنيته وما أراد، وعليم بما يفعله الوصي (¬4). ويحتمل أن يكون المنهي عن التبديل المُوصي، نهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله سبحانه، وأمر أن يوصي على الوجه الذي أمر الله، وعلى هذا قوله: {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي: عن (¬5) الله تعالى (¬6). 182 - قال الكلبي: كان الأولياءُ والأوصياءُ يمضون وصية الميت بعد نزول هذه الآية وإن كانت مستغرقة للمال، فأنزل الله قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} (¬7) أي: خشي، وقيل: علم. ¬

_ (¬1) ينظر في هذه الأقوال: "تفسير الطبري" 2/ 122، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 300، "التبيان" للعكبري ص 114، "التفسير الكبير" 5/ 64، "البحر المحيط" 2/ 22. (¬2) من قوله: (فيبعد) ساقط من (ش). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 122، 123، "الثعلبي" 2/ 208، "البغوي" 1/ 194. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 123، "الثعلبي" 2/ 208، "البغوي" 1/ 194. (¬5) في (م): (من). (¬6) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 64. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 217، لكنه قال: ثم نسختها هذه الآية: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا}. وذكره البغوي 1/ 194، وروى عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 89 عن سفيان الثوري نحوه.

والخوف (¬1) والخشية يستعملان بمعنى العلم؛ لأن في الخشية والمخافة طرفًا من العلم؛ لأن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا، كأنه يقول (¬2): أعلم، وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، فاستعمل الخوف في العلم، قال الله تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] أي: علمنا، ومنه {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] وقوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا} [البقرة: 229] (¬3). وقوله: {جَنَفًا} أي: ميلًا، يقال: جَنِفَ يَجْنَفُ جَنَفًا: إذا مال، وكذلك تجانف، ومنه قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3]، (¬4). قال ابن عباس: يريد: خطأ من غير تعمدٍ (¬5). قال عطاء: هو أن يُعطي عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض (¬6). وقال طاوس: جنفُه: توليجه، وهو أن يوصي لولد ولده، يريدُ ولدَه (¬7). وقوله تعالى: {أَوْ إِثْمًا} أي: قصدًا للميل، قال السُدّي (¬8) والربيع (¬9) ¬

_ (¬1) في (ش): (فالحوف). (¬2) في (م): (قال). (¬3) ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 67، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 301، "الثعلبي" 2/ 208، "المحرر الوجيز" 2/ 98، "البغوي" 1/ 194، "التفسير الكبير" 5/ 66. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 123، "المفردات" ص108، "التفسير الكبير" 5/ 65. (¬5) رواه الطبري 2/ 124، وابن أبي حاتم 1/ 302، وقال: وروي عن أبي العالية ومجاهد والضحاك والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك. (¬6) رواه عنه الطبري بنحوه 2/ 124، وابن أبي حاتم 1/ 301. (¬7) رواه عنه الطبري بنحوه 2/ 125، وابن أبي حاتم 1/ 301. (¬8) رواه عنه الطبري 2/ 125. (¬9) رواه عنه الطبري2/ 127.

وعطية (¬1): الجنف: الخطأ، والإثم: العمد. فمن قال: (خاف) معناه: خشي قال: تأويل الآية: من حَضَر مَرِيضًا وهو يُوصي، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له، أو يتعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له، فلا حَرَجَ عليه أن يُصلح بينه وبين ورثته، بأن يأمره بالعدل وهذا قول مجاهد (¬2). ومن قال خاف: معناه علم، قال: الميت إذا أخطأ في وصيته، أو حاف فيها متعمدًا، فلا حَرَجَ على من علم ذلك أن يُغَيِّرَه، ويصلح بعد موتِه بين ورثته وبين المُوصَى لهم، من وليّ أو وصيّ أو والي أمر المسلمين، ويردَّ الوصيَة إلى العدل. وهذا معنى قول ابن عباس (¬3) وقتادة (¬4) والربيع (¬5). وقوله تعالى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} يريد: بين الورثة والمختلفين في الوصية، وهم المُوصَى لهم. وسياق الآية وذكر الوصية يدل عليهم، فكنى عنهم (¬6). وقال الكسائي والفراء (¬7): قوله: (أصلح) يدل على أن الصلح يكون ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 127. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 96، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 123، وعزاه في "الدر" 1/ 320 إلى عبد بن حميد، وهذا اختيار الطبري. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 124، وابن أبي حاتم 1/ 303، وروي عن أبي العالية وطاوس والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل نحو ذلك. (¬4) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 69، والطبري 2/ 124، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 171. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 124، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 303. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 251، "تفسير الثعلبي" 2/ 216، "التفسير الكبير" 5/ 67، "البحر المحيط" 1/ 24. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 111.

183

بين الورثة والمُوصَى لهم، قال الكسائي: لأنّ أصلح لا يكون على واحد، لا تقول: أصلحت بينَه، ولكن بينهما، أو بينهم. وقوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} إنما قال للمتوسط للإصلاح: ليس عليه إثم، ولم يقل فله الأجر؛ لأنه ذكر إثم التبديل، ونفى الإثم عن المصلح، ليبين أنه ليس بمبدل (¬1). 183 - قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية، الصيام: مصدر صام كالقيام، وأصله في اللغة: الإمساكُ عن الشيء والتركُ له، ومنه: قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]، وصام النهار: إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة، قال امرؤ القيس: فَدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عنكَ بجَسْرةٍ ... ذَمُولٍ إذا صامَ النهارُ وهَجَّرا (¬2) وقال آخر: حتى إذا صَام النهارُ واعتدَلْ (¬3) ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 5/ 67، وذكر أربعة أوجه. (¬2) البيت لامرئ القيس في "ديوانه" 63، "الكامل" للمبرد 3/ 89، "أساس البلاغة" (مادة: كنز). "لسان العرب" 4/ 2530 (صوم) والجسرة: الناقة النشيطة، والذمول: هو "السير" السريع، وهجرا: من الهاجرة، وهي شدة الحر. ينظر: "الديوان" ص 63. (¬3) ورد هذا الرجز بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 2/ 226، بعده عنده: وسال للشمس لعابٌ فنزل وكذا في "تهذيب اللغة" 2/ 1581، وفي "لسان العرب" 3/ 1524، 3/ 1901 (ذوب، زيق)، بالرواية التالية: وقام ميزان النهار فاعتدل

وصامت الريح: إذا ركدت، وصام الفرس: إذا قام على غير اعتلاف، ومنه قول النابغة: خيل صيامٌ وخيلٌ غير صائمة (¬1) ويقال: بكرة صائمة: إذا قامتْ فلم تَدُر، وقال الراجز: والبكراتُ شَرُّهن الصائمه (¬2) ومَصَام الشمس: حيث تَستَوى في مُنتصف النهار، وكذلك مَصَام النجم، وروي في شعر امرئ القيس: كَأنَّ نُجومًا عُلِّقَتْ في مَصَامِها ... بأَمْراسِ كَتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ (¬3) هذا هو الأصلُ في اللغة (¬4). وفي الشريعة: هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع اقتران النية به (¬5). ¬

_ (¬1) عجزالبيت: تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما في ملحق "ديوانه" ص 240، "الكامل" للمبرد 3/ 89، "لسان العرب" 5/ 3077 (مادة: علك)، 4/ 3529 (مادة: صوم). (¬2) ذكره في "البحر" 2/ 26، ولم ينسبه، وذكره في "اللسان" 2/ 33. وقوله: الصائمة: أي التي لا تدور. (¬3) ينظر: "ديوانه" ص 19، "اللسان" 4/ 2530 (مادة: صوم). (¬4) ينظر في (مادة: صوم): "تفسير الطبري" 2/ 128، "الثعلبي" 2/ 225، "المفردات" ص 293، "البحر المحيط" 2/ 26، "اللسان" 4/ 2530، "أساس البلاغة" 2/ 33. (¬5) ينظر في تعريفه: "المغني" 4/ 323 - 325، "المحرر الوجيز" 2/ 99 - 102.

وإجماعُ المفسرين على أن المراد بهذا الصيام صيام شهر رمضان (¬1)، وقد كان الفرض في ابتداء الإسلام صومَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، فنسخ ذلك بصيام رمضان قبل قتال بدر بشهرين (¬2). ¬

_ (¬1) حكى الواحدي هذا الإجماع في "الوسيط" 1/ 272، ولا يسلم له؛ لورود الخلاف؛ حيث يرى جماعة أن المراد صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيامها وصيام عاشوراء، على خلاف بين القائلين بذلك، وبه قال قتادة وعطاء، وروي عن ابن عباس. وقد بيَّن الحافظ في "الفتح" 8/ 178 أن الناس اختلفوا في التشبيه الذي دلت عليه الكاف، هل هو على الحقيقة، فيكون صيام رمضان قد كتب على الذين من قبلنا؟ أو المراد: مطلق الصيام دون وقته وقدره؟ قولان، والثاني قول الجمهور. وينظر في ذكر الخلاف: "تفسير الطبري" 2/ 130، "المحرر الوجيز" 2/ 99 - 102، "النكت والعيون" 1/ 230، "الإجماع في التفسير" ص 199 - 200. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 129 - 130، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 304 - 305، "الدر المنثور" 1/ 322. قال البغوي 1/ 196: قيل: كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ بصوم رمضان، ويقال. نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام، قال محمد بن إسحاق: كانت غزوة بدر يوم الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة، ثم ذكر حديث عائشة في الصحيحين، قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. البخاري (2002) كتاب الصوم، باب: صوم عاشوراء، ومسلم (1125) كتاب الصوم، باب: صوم عاشوراء.

وقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال بعضهم: التشبيه عائد إلى الإيجاب، فنحن متعبدون بالصيام كما تعبد الله من قبلنا من الأمم وأهل الكتابين (¬1). وقيل: إن التشبيه يعود إلى وقت الصوم، وقدر الصوم (¬2)، وذلك أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، فأما اليهود فإنها تركت الشهر وصامت يومًا من السنة تزعم (¬3) أنه يوم غَرَق فِرعون، وكذبت في ذلك أيضًا؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما النصارى فإنهم حَوَّلوا صيامهم إلى فصل اعتدال الهواء؛ لأنهم ربما صاموه في القيظ، فكان يشتدُّ عليهم، فاستدعوا أحبارهم أن ينقلوا الصوم إلى وقت اعتدال الهواء، ويزيدوا عليه زيادة، ففعلوا، وزادوا عشرة أيام، ثم إن حبرًا لهم اشتكى فمه، فنذر إن (¬4) شُفي أن يزيد في صومهم عشرة أيام، فبَرَأ فزاد، فصومهم اليوم خمسون يومًا. وهذا معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 129، "المحرر الوجيز" 2/ 101. (¬2) روي عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 129، 130، "ابن أبي حاتم" 1/ 305، "الثعلبي" 2/ 232، "المحرر الوجيز" 2/ 101. (¬3) في (ش): (بزعم). (¬4) في (ش): (لأن). (¬5) رواه الطبري 2/ 129 عن السدي، وذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 112، والثعلبي 2/ 233، والبغوي 1/ 195، وعند الثعلبي أن الذي اشتكى ملك وليس حبرًا، وقد روي نحوه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 254، والطبراني في "الكبير" 4/ 226، "الأوسط" 9/ 90، والنحاس=

وقال الشعبي: إنهم أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يومًا، وبعدهَا يومًا ثم لم يزل الآخر يَسْتَنّ بسُنَّة القرن (¬1) الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يومًا، ولهذا كره صوم يوم الشك (¬2). قال أبو إسحاق: وموضع {كَمَا} نصب على المصدر، المعنى: فرض عليكم فرضًا كالذي فرض على الذين من قبلكم (¬3). وقال ابن الأنبارى: يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام، يراد بها: كتب عليكم الصيام مشبهًا ومماثلًا ما كتب على الذين من قبلكم (¬4). وقال أبو علي الفارسي: هو صفة لمصدر محذوف، تقديره: كتابة كما كتب يعني: مثل ما كتب عليهم، فحذف المصدر، وأقيم نعته مقامه، قال: ومثله في الاتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق: أنتِ واحدة، ¬

_ = في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 492 عن دغفل بن حنظلة، والطبراني في الكبير وقفه عليه، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 142: رواه الطبراني في "الأوسط" مرفوعا، ورواه الطبراني في الكبير موقوفًا على دغفل، ورجال إسنادهما رجال الصحيح، وقال الدكتور المنيع في تحقيق "تفسير الثعلبي" 2/ 234: الحديث مرسل، دغفل بن حنظلة مخضرم، ولم يصح أن له صحبة. (¬1) في (ش): (القران). (¬2) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 111، ورواه الطبري عنه 2/ 129، والثعلبي 2/ 234، وقد ورد النهي عن صيام يوم الشك في أحاديث، منها: حديث أبي هريرة، رواه البخاري (1914) كتاب الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، ومسلم (1082) كتاب الصوم، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين. (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 251، وليس فيه الجملة الأولى. (¬4) ينظر: "التبيان" 1/ 148، "المحرر الوجيز" 1/ 250.

184

يريدون: أنت ذات تطليقة واحدة، فحذف المضاف والمضاف إليه، وأقيم صفة المضاف إليه مقام الاسم المضاف إليه (¬1). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال ابن عباس: يريد كي تخافوني في حدودي وفرائضي (¬2). وقال السُدي: لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم (¬3). وقال الزجاج: (¬4) لتتقوا المعاصي، فإن الصيام وصلةٌ إلى التقى؛ لأنه يكف الإنسان عن كثير مما تطلَّع إليه النفسُ من المعاصي، و (لعل) هاهُنَا على ترجي العباد، والله عز وجل من وراء العلم أيتقون (¬5) أم لا؟ ولكن المعنى: أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رَجاؤكم في التقى (¬6). 184 - قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} في انتصاب الأيام وجوه: أحدُها: أنها (¬7) ظرف لكُتب، كأنه: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام، هذا قول الزجاج (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "التبيان" 1/ 148، وزاد وجهًا رابعًا، وهو أن يكون في موضع رفع صفة للصيام، "المحرر الوجيز" 1/ 250، "البحر المحيط" 2/ 29. (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 252، وينظر معنى لعل في: "المفردات" ص 454. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 129، وابن أبي حاتم 1/ 305. (¬4) من قوله: (يريد: كي) مكرر في نسخة (م)، وفيه تقديم وتأخير. (¬5) في (ش): (أتتقون). (¬6) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 252، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 31، فيه مناقشات للأعاريب المذكورة. (¬7) في (م): (آنه). (¬8) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 252.

وقال الفراء: هي نصب على خبر ما لم يسم فاعله؛ لأن كل ما لم يسم فاعله، إذا كان فيه اسمان أحدهما غير الآخر رفعتَ واحدًا ونصبت الآخر، كما تقول: أُعطي عبدُ الله المال، ولا تبال أكان المنصوب معرفةً أو نكرة، فإن كان الآخر نعتًا للأول، وهما معرفتان، رفعتهما جميعًا، فقلت: ضُربَ عبدُ الله الظريفُ، رفعتَه؛ لأنه عبد الله، وإن كان نكرة نصبته، قلت: ضُرِبَ عبدُ الله راكبًا وماشِيًا ومظلومًا (¬1). قال أبو إسحاق: ليس هذا بشيء، لأن الأيام هَاهُنَا معلقة بالصوم، وزيد والمال مفعولان لأُعطي، فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل، وليس في هذا إلّا نصب (¬2) أيام بالصيام (¬3). ونصر أبو علي الفارسي قول الفراء، وقال: يجوز أن ينتصبَ الأيام انتصاب المفعول به على السعة، وهو أن يكون الأيام اسمًا لا ظرفَّاَ، فتخرجها من حيّز الظروف إلى حيز الأسماء، متسعًا فيها، وهذا الاتساع كثير واسع في الظروف، وقد جاء التنزيل به، وهو قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، فجواز الإضافة إليهما (¬4) دل على خروجهما من الظرف، ومتى وقعت الإضافة إلى هذه الأسماء المستعملة ظروفًا أخْرَجَتها الإضافة عن ذلك وأدخلتها في حَيّزِ الأسماء، وقد نص سيبويه على جواز هذا في قوله: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار. ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 112، وقد خطأ أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 31 قول الفراء وناقشه. (¬2) في (ش): (ونظر). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 252. (¬4) في (م): فجواز إليهما وفي (ش): (إليها).

وإذا كان هذا الاتساع على ما ذكرت لك في الكثرة والحسن ومجيء التنزيل به، فلم ينكر أن تحمل هذه الآية أيضًا عليه، وإذا حمل عليه، كان بمنزلة: أُعطي زيدٌ المال، ولا يمتنع على هذا التقدير أن تكون الأيام ظرفًا لـ (كُتِبَ)، ولا شيءَ يمنع من كون الأيام ظرفًا لكُتِبَ؛ لأن الصّيَام مفروض مكتوب في أيام معدودات، وإذا كان ظرفًا له لم يمتنع أن يتسع فيه، فينتصب انتصاب المفعول به، وإذا نصب انتصاب المفعول به كان بمنزلة: أُعطى زيدٌ المال، وصار الأيام في موضع المال، لا إشكال في جواز هذا الوجه، فقد بان أن ما منعه أبو إسحاق من إجازة أن {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} بمنزلة أعطي زيدٌ المال جائز غير ممتنع. وعند أبي علي يجوز أن تُعمل (الصيام) في الأيام، ثم (¬1) يجوز في انتصاب الأيام الوجهان اللذان ذكرنا إذا أعملت فيها (كتب)، من الظرف والانتصاب على المفعول به، فالظرف أن تجعل الأيام ظرفًا للصيام لا للكتابة، كما تقول: كتب عليكم الدخول يوم كذا، يجوز (¬2) أن تجعل اليوم ظرفًا للدخول، وإن جعلت الأيام مفعولًا به لصيام أعملت الصيَام وهو مصدر، فنصبت به، والمصدر يعمل عمل الفعل، كقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة: 251]، وهو كثير، ومثله: لحِقتُ فلم أنكُلْ عن الضرب مِسْمَعَا قال أبو علي: والأجودُ فيمن جَعَل الأيامَ معمول الصيام أن ينصب على أنه ظرف ولا يجعله مفعولًا للمصدر؛ لأنه يعمل المصدر وفيه الألف ¬

_ (¬1) (ثم) ساقطة من (ش). (¬2) في (ش): (ويجوز).

واللام إعمال الفِعل، وذلك لا يحسن؛ لأن الفعل نكرة، فحُكْمُ ما قام مقامه ويعمل عمله أن يكون مثلَه، وإن كان أصحاب سيبويه قد أجازوه. فأما (¬1) قوله: عن الضرب مسمَعَا، فقد قيل فيه: إن مسمعًا مفعول (لحقت) دون الضرب، فإن قيل: الإضافة في التعريف كالألف واللام، وقد جاء المصدر عاملًا في الإضافة، كقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ} [البقرة: 251] قيل: الإضافة أسهل من الألف واللام، ألا ترى أن الإضافة قد تقدر فيها الانفصال كثيرًا والألف واللام لا تشبهها، فلهذا رجَّحْنا قول من جعله ظرفًا، ولا يمتنع كون الأيام ظرفًا للصيام؛ لأن الصيام فيها، كما أن الكتابة فيها. وجمهور المفسرين على أن المراد بالأيام المعدودات: شهر رمضان (¬2). وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {أُخَرَ} فيه معنى الشرط والجزاء، أي: من يكن منكم مريضًا أو مُسافرًا فأفطر فليقض. وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله: {كَانَ مِنْكُمْ} الاستقبال لا المضي، كما تقول: من أتاني أتيته، وفي الآية إضمارة لأن التقدير: فأفطر فعدة؛ لأن القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر، ومثله قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، والحذف كثير في كلام العرب إذا كان فيما (¬3) أُبقي دليلٌ على ما أُلقي، قال ذُو الرمة: ¬

_ (¬1) في (ش): (وأما). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 131، 132، وهو اختياره، "تفسير الثعلبي" 2/ 236، "البحر المحيط" 1/ 30. (¬3) في (م): (ما).

فلما لبسن الليل أو حين نصَّبت ... له من خذا آذانها وهو جانح (¬1) أراد: أو حين أقبل (¬2). ونذكر في الآية التي بعد هذه حكم المرض والسفر في الصوم. وأصل السَّفَر من الكشف، وذلك أنه يكشف من أحوالِ الرجالِ وأخلاقهم، والمِسفَرة: المكنس؛ لأنها تُسِفر التراب عن الأرض، والسَّفيرُ: الداخل بين اثنين للصُّلح؛ لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما، والمُسْفِر: المضيء؛ لأنه قد انكشف وظهر، ومنه: أسفر الصبح، والسِّفُر: الكتاب؛ لأنه يكشف عن المعاني ببيانه، ومنه {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15]، أي: كتبة؛ لأن الكاتب يكشف عن المعاني، وسفرتِ المرأةُ عن وجهها: إذا كشفت النقاب (¬3). قال الأزهري: وسمي المسافر مُسَافرًا، لكَشْفِه قناع الكِنِّ عن وَجْهه، وبروزه للأرض الفضاء، وسُمي السَّفرُ سَفَرًا؛ لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافِيًا مِنْهَا (¬4). وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ} أي: فعليه عدة، كقوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، والتقدير: فعليه صومُ عِدّةٍ، ويكون هذا من باب حذف المضاف (¬5). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 898. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 252، "تفسير الثعلبي" 2/ 239، "البحر المحيط" 2/ 32 - 33، "التبيان" ص116. (¬3) ينظر في السفر: "تهذيب اللغة" 2/ 1701، "المفردات" ص 239، "لسان العرب" 4/ 2024 (سفر). (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1702 (سفر). (¬5) "تفسير الطبري" 2/ 132، "البحر المحيط" 2/ 32، "التبيان" 1/ 116.

وقال أبو إسحاق: التقدير فالذي ينوب عن صومِهِ عِدة (¬1). والعِدَّةُ: فِعْلَة من العَدِّ، وهو بمعنى المعدودة، كالطِّحْن بمعنى المطحون، ومنه يُقَالُ للجماعة المعدودة من الناس: عِدَّة، وعِدّة المرأة من هذا (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أراد غير أيام مرضه أو سفره (¬3). و (أُخَر) لا ينصرف؛ لأنها جمع أُخرى تأنيث آخر، وآخَرَ على وزن أفعل، وما كان على وزن أفعل فإنه يُستَعمل مع مِنْ أو بالألف واللام، فيقالُ: زيدٌ أفضل من عمرو، وزيد الأفضل، والألف واللام مُعاقبة لـ (مِن) في باب أفعل، فكان القياس يُوجب أن يقال: زيد آخر من عمرو، كما يقال: أقدم من عمرو، إلا أنهم حذفوا (من) من آخر؛ لأن لفظه اقتضى معنى مِنْ، فأسقطوا (مِنْ) اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، والألف واللام تعاقب (مِنْ)، فلما جاز استعماله بغير الألف اللام صار آخر وأُخر وأُخْرى معدولة عن حكم نظائرها؛ لأن الألف واللام استعملتا فيها، ثم حُذفتا. فإن قيل: الخروج عن النظائر يُوجب للاسم البناء، فهلا بُني آخر وأُخرى وأخَرُ؟ قيل: إنها وإن خرجت عن حكم نظائرها فليس هو خروجًا مُبَاينًا لما عليه الأسماء، وإنما هو خروج عن حكم تعريف إلى تنكير، وأكثر الأسماء يلحقها التعريف والتنكير، فلم يكن لهذه المخالفة قوةٌ توجب البناء، إلا أنه قد نقصت بهذا العدل لها درجة عن حكم أخواتها، فجعل هذا العدل لها من أقسام العلل المانعة للصرف، فاجتمع فيها في حال ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 252. (¬2) ينظر: "المفردات" ص 327، "البحر المحيط" 2/ 32 - 33،"لسان العرب" 5/ 2832 - 2836 (عدد). (¬3) "تفسير الطبري" 2/ 132، "تفسير الثعلبي" 2/ 240.

التنكير العدل والصفة، فلذلك لم تنصرف، ومعنى الصفة: أنها مما يوصف به، ألا ترى أنها صفة للأيام في هذه الآية (¬1). وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال الأزهري: يُقَال: طَاقَ يَطُوقُ طَوْقًا، وأَطَاق يُطِيقُ إِطَاقَةً وطَاقَةً، كما يقال: طاع يَطُوعُ طَوْعًا، وأَطَاع يُطِيعُ إِطَاعة وطَاعَةً، والطَّاعَة والطاقة: اسمان يوضعان موضع المصدر (¬2). وقوله تعالى: {فِدْيَةٌ} الفِدْيَة: الجزاء والبدل، من قولك: فديته بكذا، أي (¬3): أعطيته بدلًا منه (¬4)، كقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة: 85]. وقوله تعالى: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} قرأ أهل المدينة والشام بإضافة الفِدْيَةِ إلى الطَّعَام وجمع المساكين (¬5). ومعنى الآية: وعلى الذين يطيقون الصيامَ فأفطروا فديةُ طعامٍ؛ لأن ¬

_ (¬1) ينظر: "المفردات" ص 23، "البحر المحيط" 1/ 34، "اللسان" 1/ 38 (أخر). (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 131 (طبق). (¬3) في (م): إذا. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 141، "تفسير الثعلبي" 2/ 254، "المفردات" 376 ص، "مجمل اللغة" 3/ 714. (¬5) هذا إجمال في ذكر القراءات، تفصيله: قرأ نافع وأبو جعفر وابن ذكوان بحذف تنوين (فدية)، وجر (طعام) وجمع (مساكين)، وفتح نونه بغير تنوين، والباقون بتنوين (فدية)، ورفع (طعام)، وإفراد (مساكين)، وكسر نونه منونة، إلا هشامًا فقرأ بجمع مساكين كقراءة نافع ومن معه. ينظر: "النشر" 2/ 226، "البدور الزاهرة" ص 56.

الفدية وجبت بالإفطار لا بالإطاقة، وإنما أضافوا الفدية إلى الطعام، وهي طعام؛ لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام اسم يعم الفدية وغيرها، فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى من، وهو أن تضيف الاسم إلى اسم (¬1) يقع على الاسم الأول، كقولك: ثوبُ خَزٍّ، وقميصُ كتانٍ، وخاتم حديد، والمعنى: ثوبٌ من خَزٍّ، وقميصٌ من كتان، وخاتم من حديد. ألا ترى أنك تطلق على الثوبِ اسم الخز، وعلى القميص اسم الكتان، وعلى الخاتم اسم الحديد، كذلك هاهنا التقدير: فديةٌ من طعام، فأضفت الفدية إلى الطعام، وأنت تطلق على الفدية اسم الطعام. وجمعوا المساكين؛ لأن الذين يطيقونه جماعة، وكل واحد منهم يلزمُهُ طَعامُ مِسْكِين (¬2). وقرأ الباقون: (فِديةٌ) منونةً {طَعَامُ مِسْكِينٍ} على واحد، جعلوا ما بعد الفدية تفسيرًا لها، ووحَّدُوا المسكين؛ لأن المعنى: على كل واحد لكل يوم إطعام مسكين. ومثل هذا في المعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} وليس جميع القاذفين يُفرَّقُ فيهم جلد ثمانين، إنما على كل واحد منهم جلد ثمانين (¬3) فكذلك على كل واحد منهم طعام مسكين، فأفرد هذا كما جَمَعَ قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ}. وقال أبو زيد: أتينا الأميرَ فكسانا كلَّنا حُلّةً وأعطى كلَّنا مائةً، قال: ¬

_ (¬1) في (ش): (الاسم). (¬2) ينظر: "الحجة" 2/ 273 - 274، "تفسير الطبري" 2/ 141، "المحرر الوجيز" 2/ 106، "البحر المحيط" 2/ 37. (¬3) من قوله: (إنما على ..) ساقطة من (ش).

معناه: كسا كلَّ واحدٍ منا حُلَّةً وأعطى كل واحدِ منا مائة (¬1). فأما حكم قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فقال ابن عباس: كانت الإطاقة أن الرجل أو المرأة كان يصبح صائمًا، ثم إن شاء أفطرَ وأطعم لذلك مسكينًا، فنسختها هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2) وهذا قولُ سلمة بن الأكوع (¬3) (¬4)، وعبد الرحمن بن أبي ليلى (¬5) (¬6)، وعلقمة بن قيس (¬7)، وابن شهاب (¬8)، ومذهب أكثر ¬

_ (¬1) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 273، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 141، "تفسير الثعلبي" 2/ 246 - 247، "المحرر الوجيز" 2/ 107، "البحر المحيط" 1/ 37. (¬2) أبو داود في الصوم، باب: نسخ قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} 2/ 305 برقم 2316، من طريق عكرمة، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص203، من طريق ابن سيرين، ورواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 43، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 495، وابن أبي حاتم 1/ 307، من طريق عطاء الخراساني، ورواه الطبري 2/ 134 من طريق عطية. (¬3) هو: سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع الأسلمي، صحابي ممن بايع تحت الشجرة، غزا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، وكان شجاعًا بطلًا راميًا عدّاءً، توفي بالمدينة سنة 74 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 2/ 423، "الأعلام" 3/ 113. (¬4) رواه عنه البخاري (4507) كتاب التفسير، باب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، ومسلم (1145) كتاب الصيام، باب: بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}، والطبري 2/ 134. (¬5) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني ثم الكوفي، تابعي ثقة، مات بوقعة الجماجم سنة 83 هـ. ينظر: "تقريب التهذيب" ص 349 (3993)، وذكر أسماء التابعين ومن بعدهم 1/ 212. (¬6) رواه عنه البخاري (1949) كتاب الصوم، باب: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، والطبري 2/ 134، وابن أبي حاتم 1/ 306. (¬7) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 222، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 44، والطبري 2/ 133، وابن أبي حاتم 1/ 308. (¬8) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 44، والطبري في "تفسيره" 2/ 134.

العلماء (¬1)، قالوا: كان في ابتداء إيجاب الصوم من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بالطعام، ثم نسخ الله سبحانه ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال ابن عباس: زاد في الصدقة، يعنى: على المُدِّ الوَاحِدِ (¬2)؛ لأنه كان يجب مدٌّ واحدٌ على من أطاق الصومَ فَأَفْطَر قبل النسخ، في قول أهل الحجاز وأكثر العلماء (¬3). وقال مجاهد (¬4) والسُدّى (¬5): يطعم مسكينين، وفي هذا القول أيضًا زيادة الصدقة؛ لأنه إذا زاد مسكينا يجب أن يزيد في الصدقة حتى يكون متطوعًا. وقال ابن شهاب: يريد: من صام الفِدْية فهو خيرٌ له (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 133 - 136، "تفسير الثعلبي" 2/ 252، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 79، "المحرر الوجيز" 2/ 107، "الناسخ والمنسوخ" لهبة الله بن سلامة ص 43، "البحر المحيط" 2/ 36 - 37. (¬2) رواه عنه الطبري 2/ 142، ورواه ابن جريج وخصيف بن عبد الرحمن عن مجاهد، كما في "تفسير الطبري" 2/ 142، "تفسير الثوري" 56، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 309. (¬3) ينظر: "المغني" 4/ 395، و"تفسير البغوي" 1/ 197. (¬4) رواه عن مجاهد ابن جريج كما في "تفسير الطبري" 2/ 142، وأشار إليها عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 223، ورواها عنه خصيف بن عبد الرحمن كما في "تفسير الثوري" ص 56، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 309. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 143، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 309. (¬6) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 45، و"تفسير الطبري" 2/ 143، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 309. (¬7) قال الطبري 3/ 443: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله -تعالى ذكره- =

185

وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي: الصوم خيرٌ لكم، فالجملة ابتداء وخبر. والمعنى: والصوم خيرٌ لكم من الإفطار والفدية، وهذا إنما كان خيرًا لهم قبل النسخ، وبعد النسخ فلا يجوز أن يقال: الصوم خيرٌ من الإفطار والفدية (¬1). 185 - قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الآية، الشهر: مأخوذ من الشهرة، تقول شَهَرَ الشيء يَشْهَرُه شَهْرًا: إذا أظهره، وسمي الشَّهْرُ شهرًا لشهرة أمره في حاجة الناس إليه في معاملاتهم، ومحل ديونهم، وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم وغير ذلك من أمورهم. قال الليث: والشهر: ظهور الشيء، وسمي (¬2) الهلال شهرًا، قال ابن الأعرابي: لأنه يشهر به (¬3). ¬

_ = عمم بقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض، فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوع الخير، وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوع الخير، وجائز أن يكون الله -تعالى ذكره- عنى بقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}، أيَّ هذه المعاني تطوع به المفتدي من صومه فهو خير له؛ لأن كل ذلك من تطوع الخير ونوافل الفضل. وقد ذكر ابن العربي 1/ 80 قول من قال: (فمن تطوع)، أي: زاد على طعام مسكين، وقيل: من صام، وهذا ضعيف؛ لقوله تعالى بعد ذلك: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. معناه: الصوم خير من الفطر في السفر، وخير من الإطعام، وتحقيق ذلك أن الصوم الفرض خير من الإطعام النفل، والصدقة النفل خير من الصوم النفل .. اهـ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 253. (¬2) في (م): (ويسمى). (¬3) نقله عنه في "اللسان" 4/ 2351 (شهر).

وقال الزجاج: سمي الهلال شهرًا لشُهْرتِه وبيانه (¬1). وقال بعضهم: سُمي الشهر شهرًا باسم الهلال إذا أهلّ سمي شهرًا. والعرب تقول: رأيتُ الشَّهْرَ، أي: رأيت هلاله، قال ذو الرمة: يرى الشَّهْرَ قَبْلَ الناسِ وهو بخيلُ (¬2) وقد أَشْهَرْنا، أي: أتى علينا شَهْرٌ. قال الفراء: ولم أسمع منه فعلًا إلا هذا (¬3). وارتفع على البدل من الصيام، كأن المعنى: كتب عليكم شَهْرُ رمضانَ. ويجوز أن يكون ابتداءً، وخَبرُه الذي مع صلته، كقولك: زيد الذي في الدار (¬4). وقال الأخفش: ارتفع على أنه خبر ابتداء محذوف، المعنى: هي شهر رمضان (¬5)؛ لأن قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} تفسيرٌ للأيام المعدُودات، وتبيين لها، ونحو هذا قال الفراء (¬6)، أراد: ذلكم شهر رمضان، الصيام شهر رمضان، أي: صيامه كما قال في: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] أي: فيما فرض عليكم الزانية والزاني، أي: حكمهما، وكذلك: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا} قال: والأشبه أن يكون {الَّذِي} وصفًا، ليكون النص قد وقع على الأمر بصيام الشهر، يعنى: أَنَّكَ إن جعلت الذي خبرًا ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 259، ونقله عنه في "اللسان" 4/ 2351 (شهر). (¬2) البيت في "ديوانه" ص 561، وورد في "البحر المحيط": نحيل. (¬3) ينظر في معاني الشهر: "تفسير الطبري" 2/ 144، "تفسير الثعلبي" 2/ 264، "المفردات" ص 273، "اللسان" 4/ 2351 (شهر). (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 253. (¬5) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 352. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 112.

لم يكن شهر رمضان منصوصًا على صومه بهذا (¬1) اللفظ، إنما يكون مخبرًا عنه بإنزال القرآن فيه، قال: وإذا جعلت الذي وصفًا كان حقُّ النظر أن يكنى عن الشهر في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} كقولك: شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه، قال: وهذا كقوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 2] و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2] ونحو ذلك، يعنى: أن ذكر الابتداء أعيد ولم يُكْنَ عنه للتعظيم، كذلك في هذه. والفاء في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ} داخل على خبر الابتداء، وليس من حق خبر الابتداء (¬2) دخول الفاء عليه. ونذكر الكلام فيه إذا انتهينا إليه (¬3). و {رَمَضَانَ} لا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون، مثل: عثمان وسَعْدان. واختلفوا في اشتقاق {رَمَضَانَ}، فقال بعضهم: هو مأخوذ من الرمض، وهو حرُّ الحِجَارة من شدّة حَرِّ الشمس، والاسم: الرَمْضَاء، رَمِضَ الإنسان رَمَضًا: إذا مشى على الرَمضاء، والأرض رَمِضة، فسُمي هذا الشهر رمضان؛ لأن وجوبَ صَومه وافقَ بشِدَّة الحرّ، وهذا القول حكاه الأصمعي عن أبي عمرو (¬4). وحكي عن الخليل أنه قال: مأخذه من الرَّمَضي (¬5)، وهو من السَحَاب ¬

_ (¬1) في (ش): (فهذا). (¬2) في (م): (المبتدأ). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 112 - 113، "تفسير الطبري" 2/ 146 - 149، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 253، "تفسير الثعلبي" 2/ 263، "التبيان" ص118، "البحر المحيط" 1/ 38 - 39، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 238. (¬4) رواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 267، وقد ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1468 (رمض) ولم ينسبه لأحد. (¬5) عند الثعلبي: (الرمض).

والمطر: ما كان في آخرِ القَيْظ وأول الخريف، سمّي رمَضيًا لأنه يُدرِك سخونةَ الشمس وحَرَّها، فسمي هذا الشهر رمضان؛ لأنه يغسل (¬1) الأبدان من الآثام (¬2). وقيل: هو من قولهم: رمَضتُ النصْلَ أرمِضُه رَمْضًا: إذا دقَقْتَه بين حجرين ليرقَّ، ونصل رَميض ومَرْمُوض، فسمي هذا الشهر رمضان لأنهم كانوا يرمُضُون فيه أسلحتهم، ليقضوا منها أوطارهم في شوالٍ قبل دخول الأشهر الحرم، وهذا القول يُحْكَى عن الأزهري (¬3)، وعلى القولين الأولين يجب أن يكون هذا الاسم إسلاميًا، وقبل الإسلام لا يكون له هذا الاسم، وعلى ما حكاه الأزهري، الاسم جاهلي (¬4). وروي مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم لأصحابه: "أتدرون لم سمي شعبان؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "لأنه يشعب (¬5) فيه خير كثير لرمضان"، أتدرون لم سُمي رمضان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "لأنه يرمض الذنوب" (¬6). والإرماض: الإحراق. ¬

_ (¬1) في (م): زيادة (لأنَّ وجوب صومه يغسل). (¬2) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 269، وعزاه الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1469 (رمض) إلى أبي عمرو. (¬3) لم يذكره في "تهذيب اللغة" 2/ 1468، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 26، ولم ينسبه لأحد. (¬4) ينظر في رمضان: "تفسير الطبري" 2/ 144، "تهذيب اللغة" 2/ 1468 - 1469، "المفردات" ص209، "اللسان" 3/ 1730، "البحر المحيط" 2/ 26 (رمض). (¬5) سقطت من (ش). (¬6) أخرجه ابن الشجري في "أماليه" 2/ 102.

وروى سلمة عن الفراء، يقال: هذا شهر رمضان، وهما شهرا ربيع، ولا يُذكَر الشهرُ مع سائر أسماء الشهور العربية (¬1)، ونحو هذا يروى عن مجاهد (¬2)، أنه كره أن يقال: رمضان. وروى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقولوا رمضان، انسبوه كما نسبه الله في القرآن، فقال: شهر رمضان" (¬3). وقوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان، فوضع في ¬

_ (¬1) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1469، وزاد، يقال: هذا شعبان قد أقبل، وكذا في "اللسان" 3/ 1730 (رمض). (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 144، ورواه ابن أبي حاتم عن جماعة منهم مجاهد ومحمد بن كعب القرظي، وقال ابن أبي حاتم 1/ 310: ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" عن أنس 2/ 265، وليس في شئ من المصادر الحديثية عن أنس، بل روى من حديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة - رضي الله عنها - عند ابن عدي في "الكامل" 7/ 53، والبيهقي 4/ 201 والجوزقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" 2/ 88، وابن أبي حاتم 1/ 310، وحكم ابن الجوزي عليه في "الموضوعات" 2/ 187 بأنه موضوع لا أصل له، وقال المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" ص 87 موضوع بلا ريب، وضعفه القرطبي في "تفسيره" 2/ 278، وقال: والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم (في الصيام، باب: فضل شهر رمضان برقم 1079)، عن أبي هريره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين". ورواه البخاري برقم [1898] ثم ذكر القرطبي آثارًا كثيرة كلها بإسقاط الشهر.

بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - نجومًا (¬1) عشرين سنة (¬2). وقال سفيان بن عيينة: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} معناه: أنزل في فضله القرآن. وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال: ومثله: أن تقول: أنزل في الصديق كذا آية، تريد في فضله (¬3). وقال ابن الأنبارى: أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن. كما تقول: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا تريد في فرضها، وأنزل في الخمر كذا تريد في تحريمها (¬4). فأما (¬5) القرآن فهو اسم لكلام الله تعالى ¬

_ (¬1) سقطت من (ش). (¬2) رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" 367، والنسائي في "تفسيره" 2/ 131، والحاكم 2/ 242، وصححه، والبيهقي في "دلائل النبوة" 7/ 131، والطبري 2/ 144 - 145، وابن الضريس في "فضائل القرآن" ص 125، والطبراني في "الكبير" 11/ 305، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 269، وصحح إسناده الحافظ في "الفتح" 9/ 4. قال القرطبي: "ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ثم ذكر قول مقاتل: أنزل من اللوح المحفوظ كل عام ليلة القدر إلى سماء الدنيا قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع" انتهى كلامه. (¬3) ذكره الرازي عن سفيان 5/ 85، "البحر المحيط" 2/ 39. (¬4) نسب ابن الجوزي هذا القول في "زاد المسير" 1/ 185، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 39 إلى مجاهد والضحاك، وذكر ابن الجوزي قولًا ثالثًا نسبه إلى ابن إسحاق وأبي سليمان الدمشقي، وهو أن القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) في (م): (وأما).

واختلفوا (¬1) في اشتقاقه وهمزه، فقرأه أبن كثير بغير همز (¬2). أخبرنا سعيد بن العباس القرشي (¬3) كتابة، ثنا أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري، ثنا محمد بن يعقوب المعقلي، عن محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم (¬4)، أن الشافعي، رحمه الله، كان يقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل، قال: ويهمز قرأت ولا يهمز القرآن، كما تقول: وإذا قرأت القرآن (¬5). وقول الشافعي: إنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه ليس ¬

_ (¬1) ينظر في هذه المسألة "تهذيب اللغة" 3/ 2912، "التفسير الكبير" 5/ 86، "تفسير القرطبي" 2/ 278، "اللسان" 6/ 3563 "قرأ"، "الإتقان" للسيوطي 1/ 146، "البرهان" للزركشي 1/ 277. (¬2) قرأ ابن كثير بنقل حركة الهمزة إلى الراء، وحذف الهمزة في الحالين، وكذلك حمزة عند الوقف، وليس لورش فيه توسط ولا مد؛ نظرا للساكن الصحيح الذي قبل الهمز، وهكذا كل ما جاء من لفظه في القرآن معرَّفا أو منكرا. ينظر: "النشر" 2/ 226، "البدور الزاهرة" ص 56، وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2912 (قرأ): وقال أبو بكر بن مجاهد المقرئ: كان أبو عمرو بن العلاء لا يهمز القرآن، وكان يقرؤه كما روي عن ابن كثير. (¬3) هو: سعيد بن العباس بن محمد بن علي القرشي الهروي، قدم بغداد حاجا، وحدث عن أبي حامد بن حسنويه وأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري وغيرهم، توفي سنة 433 هـ. ينظر: "السير" 17/ 552 - 553، "تاريخ بغداد" 9/ 113 - 114. (¬4) هو: شيخ الإسلام المصري الفقيه، كان عالم الديار المصرية في عصره مع المزني كان أعلم بمذهب مالك وأحفظهم له، وكان عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، له مصنف في أدب القضاة، توفي سنة 268 هـ. ينظر: "السير" 12/ 497، "وفيات الأعيان" 4/ 193، "تقريب التهذيب" (6028). (¬5) ذكره الأزهري بسنده في "تهذيب اللغة" 3/ 2912 (قرأ)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 2/ 62، ونقله عن الواحدي: الرازي في "تفسيره" 5/ 86.

بمشتق، وقد قال بهذا جماعة، قالوا: إنه اسمُ كلامِه، يجرى مجرى الأعلام في أسماء غيره، كما قيل في اسم الله: إنه غير مشتق، من معنى يجرى مجرى اللقب في صفة غيره (¬1). وذهب آخرون إلى أنه مأخوذ من قَرَنْتُ الشيءَ بالشيء: إذا ضممت أحدَهما إلى الآخر، فسمي لاقتران السور والآيات والحروف، ولأن العبارة عنه: قرن بعضه إلى بعض. فهو مشتق من قرن. والاسم: قران غير مهموز، كما يقال: خرج، والاسم خُراج، ومن هذا يقال للجمع بين الحج والعمرة: قران (¬2). وذكر الأشعري (¬3) رحمه الله هذا المعنى في بعض كتبه فقال: إن كلام (¬4) الله يسمى قُرآنًا؛ لأن العبارةَ عنه قرن بعضه إلى بعض (¬5). ¬

_ (¬1) نقل ذلك الرازي في "تفسيره" 5/ 86، وقال بعده: وذهب آخرون إلى أنه مشتق، واعلم أن القائلين بهذا القول منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه، أما الأولون فلهم فيه اشتقاقان: أحدهما أنه مأخوذ من قرنت. (¬2) نقله عن الواحدي: الزركشي في "البرهان" 1/ 278. (¬3) هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر، أبو الحسن تتلمذ في العقائد على الجبائي زوج أمه، وبرع في علمي الكلام والجدل على طريقة المعتزلة، ثم رجع فرد عليهم، وشُهر بمذهب ينسب إليه، وقيل إنه رجع بعده إلى مذهب السلف، له: "مقالات الإسلاميين"، و"الإبانة"، توفي سنة 324 هـ. ينظر: "شذرات الذهب" 2/ 303، "الأعلام" 4/ 263. (¬4) في (م): (كتاب). (¬5) نقله عن الواحدي: الزركشي في "البرهان" 1/ 278. وهذا مذهب الأشاعرة واعتقاد السلف إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وقال الفراء: ظن أن القرآن سمي من القرائن، وذلك أن الآيات يصدق بعضها بعضًا، ويشبه بعضها بعضًا، فهي قرائن، فمذهب هؤلاء أنه غير مهموز (¬1). وأما الذين همزوا اختلفوا، فقالت طائفة: إنه مصدر القراءة. قال أبو الحسن اللحياني (¬2) (¬3): يقال: قرأت القرآن، فأنا أقرأه قَرْأً (¬4) وقراءةً وقرآنًا، وهو الاسم، قوله: وهو الاسم يعني: أن القرآن يكون مصدرًا لقرأت، ويكون اسمًا لكتاب الله، ومثل القرآن من المصادر: الرُّجْحَان والنُّقْصَان والخُسْران والغُفْران (¬5)، قال ابن مقبل (¬6): يُقَطِّعُ اللَّيلَ تسبيحًا وقرآنًا (¬7) أي: قراءة، هذا هو الأصل، ثم المقروء، ويسمي قرآنًا لأن المفعول يسمى بالمصدر، كما قالوا للمشروب: شراب، وللمكتوب: كتاب، واشتهر هذا الاسم في المقروء حتى إذا طرق الأسماع سبق إلى القلوب أنه المقرُوء، ولهذا لا يجوز أن يقال: القرآن مخلوق مع كون القراءة مخلوقةً؛ ¬

_ (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 86. (¬2) هو: علي بن المبارك، وقيل ابن حازم، أبو الحسن اللحياني، تقدم. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2912 (قرأ). (¬4) في (م): (قراء). (¬5) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 86، "اللسان" 6/ 3563 (قرأ). (¬6) هو: الشاعر تميم بن أبي بن مقبل العجلاني، تقدم. (¬7) صدر البيت: ضحوا بأشمط عنوان السجود به والبيت لحسان بن ثابت في رثاء الخليفة عثمان - رضي الله عنه - كما في "المغني" 1/ 218، رقم 363، "البحر المحيط" 2/ 32، ومعنى الأشمط: شيب اللحية.

لأن القرآن أشهر تسمية للمقروء (¬1). وقال أبو إسحاق الزجاج (¬2): معنى قرآن معنى الجمع، يقال: ما قَرَأَتْ هذا الناقة سلًا قط، إذا لم يَضْطَم رحمها على ولد، وهذا مذهب أبي عبيدة (¬3)، قال: إنما سُمي القرآن قرآنًا لأنه يجمع السور ويضمها، وأصل القرآن: الجمع، وأنشد قول عمرو: هِجَان اللون (¬4) لم تَقْرأْ جَنِينَا (¬5) أي: لم تجمع في رحمها ولدًا، ومن هذا الأصل: قُرء المرأة، وهو أيام اجتماع الدم في رحمها. وقال قُطْرب (¬6) في (القرآن) قولين: أحدهما: ما ذكرنا وهو قول أبي إسحاق وأبي عبيدة. والثاني: أنه سُمي قرآنًا؛ لأن القارئ يُظهرُه ويبينه ويلقيه من فيه، أخذ من قول العرب: ما قَرَأَتِ الناقة سلًا قَط، أي: ما رمت بولد، ونحو ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 5/ 86، "تفسير القرطبي" 2/ 278. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2913، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 305. (¬3) ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 1 - 4، "التفسير الكبير" 5/ 86، "البرهان" للزركشي 1/ 277، "اللسان" 6/ 3563. (¬4) في (م): (اللون). (¬5) البيت لعمرو بن كلثوم في معلقته وأوله: ذِراعَيْ حُرَّةٍ أَدْماءَ بَكْرٍ وينظر: "شرح المعلقات العشر" 111، "الجمهرة" 76، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 2 "لسان العرب" (مادة: قرأ)، و"تفسير القرطبي" 3/ 114، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 170. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2912، "التفسير الكبير" 5/ 86.

هذا قال أبو الهيثم واللّحياني، أي: ما أسقطت ولدًا قَط، وما طرَحت، وتأوِيلُه: ما حَمَلَتْ قَطّ. وأنشد قول حميد: أَرَاها الوليد أن الخلا فتشذّرتْ ... مرَاحًا ولم يقرأ (¬1) جنينًا ولا دمَا (¬2) قال: معناه: لم ترمِ بجنين، وسمي قرء المرأة من هذا على مذهب أهل العراق، والقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه، فسمي قرآنًا، ومعنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعًا (¬3). قال أبو إسحاق: وهذا القول ليس بخارج من الصحة وهو حسن. قَرَأْتُه أي: جَمَعْتُه (¬4). فبيّن على هذا أنه اسمٌ منقول من اسمِ هذا الحدث، كما أن قولنا: (زيد) في اسم رجل منقول من مصدر زاد يزيد، فأما دخول لام التعريف فيه بعد النقل فكدخوله في الحارث والعباس والفضل بعد النقل. ومذهب الخليل وسيبويه في هذه الأسماء التي يسمى بها، وفيها الألف واللام: أنها بمنزلة صفات غالبةٍ، كالنابغة والصَّعِق، وهذا فيما ينقل من الصفات، فأما الفضل فإنما (¬5) دخله الألف واللام لأنه (¬6) أيضًا ¬

_ (¬1) في (ش): (تقرأ). (¬2) البيت لحميد بن ثور في "ديوانه" ص 21، "لسان العرب" 6/ 3565 (قرأ). (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2912، "اللسان" 6/ 3565. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2912. (¬5) في (م): (فإنه). (¬6) في (م): (فإنه).

على (¬1) وعلى هذا دخلت اللام في قولنا: القرآن، ومن هذه الأسماء ما يكون اللام فيه تعريفًا ثانيًا، كما قالوا في اسم الشمس: إلاهة والإلاهة (¬2)، ومنها ما يكون اللام فيه زائدة، نحو قوله: يا ليت أم العمرو كانت صاحبي (¬3) قال: وقول من يقول: إنّ القرآن غير مهموز من قَرَنْتُ الشيء بالشيء سهو، وإنما هو تخفيف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها، فصار اللفظ به كفُعَال، من قرنت، وليس منه، ألا ترى أنك لو سميت رجلًا بقُرَان (¬4) مخفف الهمزة لم تصرفه في المعرفة، كما لا تصرف عثمان، ولو أردت به فعالا من قرنت لا تصرف في المعرفة والنكرة، ذكر ذلك أبو علي في المسائل الحلبية (¬5). وقوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ} أي: هاديًا، وهو حال قد سَدّ مَسَدّ المفعول الثاني لأنزل (¬6)، و {بَيِّنَاتٍ} عطف على قوله {هُدًى}، ¬

_ (¬1) بياض في نصف سطر في نسخة (أ) (م) وفي نسخة (ش) الكلام متصل كما هو مثبت والكلام غير واضح. (¬2) سقطت من (ش). (¬3) عجزالبيت: مكان من أشتى على الركائب ولم يعرف قائل هذا الرجز، والبيت ورد في "الأغفال" 1/ 267، "المخصص" 1/ 168، "الإنصاف" ص 272، "تهذيب اللغة" 2/ 1347، "الصحاح" 3/ 169، "اللسان" 2/ 1563 (ربع). وانظر ص 48 من هذا المجلد. (¬4) في (ش): (بقرأت). (¬5) "المسائل الحلبية" ص 297، وينظر: "البرهان" للزركشي 1/ 278. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 159، "تفسير الثعلبي" 2/ 278، "البحر المحيط" 2/ 40.

وتأويله: أنزل القرآن بيانًا للناس (¬1). والبيِّنَات: جَمْعُ بينة، يقال: بانَ الشيءُ يبين بيانًا فهو بين، مثل: بيِّع بمعنى بايع. والبيِّنات: الواضحات (¬2). وقوله تعالى: {مِنَ الْهُدَى} يريد: من الحلال والحرام والحدود والأحكام. وذكرنا معنى الفرقان في قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53]، قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}: يريد: من الرشاد إلى مرضاة الله، {وَالْفُرْقَانِ} يريد: فرّق فيه بين الحق والباطل، وبيّن لكم ما تأتون وما تَذَرُونُ. وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} زعم الأخفش والمازني: أن الفاء ههنا زائدة، وذلك أن الفاء تدخل للعطف أو للجزاء أو زيادة، وليس للعطف ولا للجزاء ههنا مذهب (¬3)، ومن زيادة الفاء: قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وقول الشاعر: لا تجزعي إِنْ مُنْفِسًا أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (¬4) ألا ترى أن إحدى الفاءين لا تكون إلا زائدة؛ لأن (إذا) إنما تقتضى جوابًا واحدًا. ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 40. (¬2) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 199. (¬3) نقله عنه في "التفسير الكبير" 5/ 87 - 88، والعكبري في "التبيان" ص 117، 118. (¬4) البيت للنمر بن تولب في "ديوانه" ص 72، وانظر: "لسان العرب" 8/ 4503 (نفس).

قال أبو علي: ولا يمتنع (¬1) أن يكون دخول الفاء لمعنى الجزاء؛ لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة (¬2) بعينه (¬3)، ألا ترى أنه شائع في جميع هذا القبيل، لايراد به واحدٌ بعينه، فلا يمتنع من أجل ذلك من معنى الجزاء، كما يمتنع ما يشار به إلى واحد مخصوص، ومن ثم لم يمتنع ذلك في صفة الموت في قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ} [الجمعة: 8]، لأن الموت ليس يراد به موتٌ بعينه، إنما يراد به الشِّيَاع ومعنى الجنس وخلاف الخصوص، والجزاءُ بوجبُ الشِّياع والإبهام واستغراق الجميع، ويكون التقدير فيه: الذي أنزل فيه القرآن من هذه الشهور التي سمي الواحد منها رمضان فمن شهده فليصمه (¬4). وقوله تعالى: {شَهِدَ} أي: حضر. ومعنى الشهود في اللغة: الحضور (¬5)، ومفعول شهد محذوف؛ لأن المعنى: فمن {شَهِدَ} منكم البلد أو بيته، يعنى: لم يكن مُسَافرًا (¬6). ¬

_ (¬1) في (ش): (لا يمتنع). (¬2) ليست في (أ) و (م). (¬3) في (ش): (معينة). (¬4) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 88، قال: وأقول: يمكن أن يقال الفاء هاهنا للجزاء، فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصًا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها، فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضا خصوه بهذه العبادة. (¬5) ينظر: "التبيان" ص 115، "البحر المحيط" 2/ 41. (¬6) المراجع السابقة.

وقوله تعالى: {الشَّهْرَ} انتصابه على الظرف، ولا يجوز أن يكون مفعولًا به؛ لأنه ما من أحدٍ غَابَ أو حضر إلّا وهو يشهد الشهر، لكن المعنى: من شهد منكم بيته في الشهر (¬1)، ولا بد أيضًا من إضمار حال الشاهد وصفته، التي بوجودها يجب الصوم، وهو أن يقال: من شهد منكم الشهر عاقلًا بالغًا مقيمًا صحيحًا (¬2). قوله: {فَلْيَصُمْهُ}، قال ابن عباس وأكثر أهل التأويل: معناه: فليصم ما شَهِدَ منه؛ لأنه إن سافر في حال الشهر كان له الإفطار (¬3). وذهب طائفة إلى أنه إذا شهد أول الشهر مقيمًا ثم سافر لم يحل له الإفطار. وهو قول النخعي (¬4) والسُدي (¬5) وابن سيرين (¬6) ومذهب ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 238، "الكشاف" 1/ 114، "البحر المحيط" 1/ 41، قال: وقيل: انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه، وهو مقيم لزمه الصوم، ثم قال: وقيل: التقدير: هلال الشهر، وهذا ضعيف؛ لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم من كل من شهد الهلال وليس كذلك. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 148، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 183، "تفسير الثعلبي" 2/ 298. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 18، والطبري 2/ 146، والبيهقي 4/ 246، وذكرها الثعلبي 2/ 300، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 82، والقرطبي 2/ 299، وروى الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس ما يوافق القول الثاني 2/ 147. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 147، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 312. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 146، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 312. (¬6) رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 269، وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 18، والطبري 2/ 146، 147، وقد ذكره من روايته عن عبيدة السلماني عن علي مرة، وعن عبيدة مرة أخرى.

جماعة (¬1) وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أعاد هاهُنا تخييرَ المريض والمسافر وترخيصهما في الإفطار؛ لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المقيمين بقوله: {فَلْيَصُمْهُ}، فلو اقتصر على هذا لاحتمل أن يعود النسخ إلى تخيير الجميع، فأعاد بعد النسخ ترخيصَ المسافر والمريض؛ ليعلم أنه باق على ما كان (¬2). والمرض الذي يبيح الإفطار هو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةَ في علته زيادةً لا يحتمله، والأصل فيه: أنه إذا أجهده الصوم أفطر (¬3). ¬

_ (¬1) وممن حكي عنه هذا: علي وعائشة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعبيدة السلماني وسعيد بن جبير وابن الحنفية وسويد بن غفلة وعلي بن الحسين ومجاهد والشعبي وأبو مجلز، وغيرهم. تنظر الروايات عنهم في: "تفسير الطبري" 2/ 146، 147، ابن أبي حاتم 1/ 312، "تفسير الثعلبي" 2/ 298، وقال ابن العربي في أحكام القرآن 1/ 83: وقد سقط القول الأول -يعني: قول هؤلاء- بالإجماع من المسلمين كلهم على الثاني، وكيف يصح أن يقول ربنا: (فمن شهد منكم الشهر فليصم منه ما لم يشهد)، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (سافر في رمضان فصام حتى بلغ الكَديد فأفطر وأفطر المسلمون). رواه البخاري برقم (2953) كتاب الجهاد والسير، باب: الخروج في رمضان، ومسلم برقم (1113) كتاب الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر .. ، وقال جمهور الأمة: (من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر)، وهذا هو الصحيح، وعليه تدل الأخبار الثابتة. وينظر: "المغني" 1/ 343 - 344، "تفسير ابن كثير" 1/ 231. (¬2) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 199. (¬3) ينظر: "أحكام القرآن" للشافعي ص 121، "تفسير الثعلبي" 2/ 304، "أحكام =

وحدُّ السَّفَرِ الذي يبيح الإفطار (¬1): ستة عشر فرسخا (¬2) فصاعدًا. والإفطار رخصة من الله للمسافر، فمَنْ (¬3) أَفْطَرَ فبرخصة الله أخذ، ومن صام ففرضه أدّى، على هذا عامة الفقهاء (¬4). ومن أجهده الصوم في السفر كره له ذلك (¬5)، وفي مثل هذا: جاء ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من البر الصوم في ¬

_ = القرآن" لابن العربي 1/ 77، "تفسير القرطبي" 2/ 156 - 157، "المغني" 4/ 403، وذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 150 أقوال العلماء في المرض الذي يبيح الفطر، فذكر ثلاثة أقوال: الأول: هو الذي لا يطيق معه صاحبه القيام لصلاته، ورواه عن الحسن وإبراهيم النخعي. والثاني: كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة، ونسبه للشافعي. الثالث: كل مرض يسمى مرضا، ونسبه لمحمد بن سيرين، ورجح أن من أجهده الصوم جهدا غير محتمل من المرض فله الفطر. وذكر القرطبي أن الجمهور يرون أن من كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر، وقد ذكر قبل ذلك أن للمريض حالتين: إحداهما: أن لا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا. والثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل. وهذا من كلام ابن العربي في "الأحكام" 1/ 77. (¬1) اختلف العلماء في حد السفر الذي يبيح الفطر على أقوال كثيرة. ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 327، "المغني" 3/ 105 - 110، 4/ 345، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 77، "تفسير القرطبي" 2/ 257 - 258، والذي في البخاري: كان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي "ستة عشر فرسخا". (¬2) الفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربعة وعشرون أصبعا معتدلة معترضة أي: أن طول الفرسخ نحو 6 كلم. ينظر: "المجموع شرح المهذب" 4/ 190، "القاموس" 329، "المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري" ص 94. (¬3) في (أ)، (م): (ومن). (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 153، "تفسير الثعلبي" 2/ 311، "المغني" 4/ 406. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 155، "تفسير الثعلبي" 2/ 318 - 322، "تفسير القرطبي" 2/ 260.

السفر" (¬1) يريد: لمن يشق عليه ويجهده. وذهب قومٌ من الصَّحَابة إلى أن الإفطار في السفر واجب (¬2). وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي: بالرخصة للمسافر والمريض (¬3). واليُسْر في اللغة: معناه: السهولة، ومنه يقال للغِنَى والسَّعَة: اليَسَار؛ لأنه يتسهل به الأمور، واليد اليُسْرى قيل: على التفاؤل باليسر، وقيل: لأنه يتسهل الأمر بمعاونتها اليمنى (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لأنه لم يشدد ولم يضيق عليكم. وهذه الإرادة ونفي الإرادة تختص بالأحكام لأهل الإسلام (¬5) (¬6). قال الحسين بن الفضل: يريد الله أن يكون أمره بالصوم عليكم ميسَّرًا، ولم يرد أن يكون أمره بالصوم عليكم مُعَسَّرًا (¬7). وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ذكرنا معنى العدة (¬8)، والمدةُ من الأيام تسمى عِدَّة، قال أبو زيد: يقال انقضت عدة الرجل إذا انقضى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1946) (كتاب الصوم)، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلل عليه واشتد الحر، ومسلم (1115) (كتاب الصيام)، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. من حديث جابر وقد روي من حديث أبي سعيد وأنس. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 152 حيث روى ذلك عن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، "تفسير الثعلبي" 2/ 305، "المغني" 4/ 406، "تفسير ابن كثير" 1/ 231. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 327. (¬4) ينظر: "المفردات" ص 553، "اللسان" 8/ 4957 - 4960 (يسر). (¬5) في (أ)، (م): لأهل (الأحكام) سلام. (¬6) "تفسيرالثعلبي" 2/ 328. (¬7) لم أجده. (¬8) تقدم معنى العدة في الآية السابقة.

أجله (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: ولتكملوا عدة أيام الشهر، إن كان ثلاثين قضيتم ثلاثين، وإن كان تسعًا وعشرين قضيتم تسعًا وعشرين، عددًا (¬2) بعدد (¬3). وروي عنه أيضا يعني: عدة ما أفطرتم، يوما مكان يوم. رواه الكلبي عن أبي صالح عنه (¬4)، فحمل ابن عباس إكمال العدة في الروايتين على قضاء رمضان (¬5). ومعنى الواو في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا} على هذا التفسير: العطف على معنى الكلام لا على ظاهر اللفظ، وذلك أن في إباحته الإفطار للمريض والمسافر تسهيل، فتأويل الكلام: فعل الله ذلك ليسهل عليكم، ولتكملوا العدة إذا أقمتم وبرأتم، والعرب ربما تحمل الكلام على المعاني وتترك اللفظ، أنشد الزجاج (¬6): بادَت وغُيِّر آيُهنّ مع البلى ... إلا رَواكدَ جمرهُن هباءُ ومشججٌ أما سواءُ قذاله ... فبدا وغيّبَ سارَه المَعْزَاءُ (¬7) ¬

_ (¬1) ينظر: "اللسان" 5/ 2834 (عدد). (¬2) روى الطبري 2/ 156، 157، أثرين عن الضحاك وابن زيد بمعنى ما ذكر. (¬3) تقدم الحديث عن رواية عطاء ص 92. (¬4) تقدم الحديث عن رواية الكلبي ص 92. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 156، 157، "تفسير الثعلبي" 2/ 330، "تفسير أبي المظفر السمعاني" 2/ 174. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 254، وينظر: "التفسير الكبير" 5/ 92. (¬7) البيت لشماخ بن ضرار، في ملحق "ديوانه" ص 427 - 428، ولذي الرمة في ملحق "ديوانه" ص 1840 - 1841، "لسان العرب" 4/ 2197. والرواكد: الأثافي، والمَعْزاء بفتح الميم: الأرض الغليظة الصلبة. والمشج: الوتد، والقذال: أعلاه،=

فعطف المشجج على معنى: بها رواكِد ومشجج؛ لأنه لما قال: بادت إلا رواكد ومشجج علم أن المعنى بقيت رواكدُ ومشجج (¬1). واحتج ابن الأنباري لهذه الطريقة بقول الشاعر: قد سالَمَ الحياتُ منه القَدَما ... الأُفْعُوانَ والشُّجَاع الشَّجْعَما (¬2) رد الأفعوان والشجاع على الحيات بالنصب، وهي مرفوعة على تغليب المعنى وتحلية (¬3) اللفظ؛ لأن الحيات إذا سالمت القدم فقد سالمتها القدم. قال: ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على مضمر في الكلام يدل عليه المعنى، والتأويل: يريد الله بكم اليُسر، ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم ولتكملوا العدة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، وبقيت الثانية منعطفة عليها؛ لأن قيام معناها في الكلام يجري مجرى إظهارها. واختار الفراء هذا القول، وقال: معنى الآية: ولتكملوا العدة في قضاء ما أفطرتم، والواو واو استئناف، واللام من صلة فعل مضمر بعدها، والتقدير: ولتكملوا العدةَ فعلَ ذلك، أو شرع ذلك، أي: الرخصة في الإفطار. ومثله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ¬

_ = وساره: سائره. وهذا البيت من شواهد "الكتاب" لسيبويه 1/ 173 - 174. (¬1) زيادة يقتضيها الكلام، من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 254. (¬2) اختلف في قائل هذا الرجز، فنسب في "اللسان" 4/ 2201 (شجع) إلى مساور بن هند، ويقال هو لأبي حيان الفقعسي، وفي "كتاب سيبويه" 1/ 145، لعبد بني عبس، ونسبه الأعلم للعجاج، وفي "شرح شواهد المغني" للسيوطي ص 329 قال: هو من أرجوزة لأبي حيان الفقعسي، وقيل. لمساور بن هند العبسي، وبه جزم البطليوسي، وقيل: للعجاج، وقال السيرافي: قائله التدمري، وقال الصغاني: قائله عبد بني عبس، انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 195. (¬3) في (أ): (تخلية).

الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك، وروي عن ابن عباس أيضا ما يدل على أن المراد بإكمال العدة إكمالها في الأداء لا في القضاء، وهو أنه قال في قوله {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يعني: عدة أيام الشهر (¬1). وتقدير الآية على هذا التفسير: يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العُسْر، ويريد لتكملوا العدة. والمفسرون على أن المراد به إكمالُ العِدّة في القضاء (¬2). وفي قوله: {وَلِتُكْمِلُوا}، قراءتان: التخفيف والتشديد (¬3)، فمن خَفَّفَ فلقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4) [المائدة: 3]، وقد قال امرؤ القيس: طوالُ المتون والعرانين والقنا ... لِطافُ الخُصور في تمام وإكمال (¬5) ومن شدَّدَ فلأن فَعَّل وأفعل يتعاقبان في أكثر الأحوال، كما ذكرنا في وصَّى وأوصى (¬6). وقال النابغة: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 113 - 114، وينظر: "التفسير الكبير" 5/ 92، واختار هذا الطبري في "تفسيره" 2/ 157. (¬2) هذا من رواية عطاء وقد تقدم الحديث عنها، ونسبه الثعلبي 2/ 329، البغوي 1/ 201 لعطاء. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 157، وابن أبي حاتم 1/ 313، والبغوي 1/ 201، "المحرر الوجيز" 2/ 114، 115، "تفسير ابن كثير" 1/ 232. (¬4) قرأ يعقوب وأبو بكر بن عياش عن عاصم بتشديد الميم، والباقون بالتخفيف. ينظر: "النشر" 2/ 226، "الحجة" 2/ 274. (¬5) البيت لامرئ القيس في "ديوانه" ص 139. (¬6) ينظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 274 - 275.

فكمَّلَتْ مائةً فيها حمامتُها ... وأسرعت حسبةً في ذلك العددِ (¬1) واللام في {وَلِتُكْمِلُوا}، لام كي (¬2)، وليستْ لامَ الأمر، ولو كانت لامَ الأمرِ لجاز تسكينُها مع الواو؛ لأنه إذا دخل على لام الأمر الواو أو الفاء أو ثم جاز تسكينها وتحريكها، كقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، قرئ بالتسكين والحركة (¬3) (¬4). ونذكر الكلام فيه في سورة الحج إن شاء الله. قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد لتعظموا الله على. ما أرشدكم له من شرائع الدين (¬5). وقال أكثر العلماء (¬6): أراد به التكبير ليلة الفطر (¬7). قال ابن عباس في هذه الآية: حقٌّ على المسلمينَ إذا رَأَوا هَلالَ ¬

_ (¬1) "ديوان النابغة" ص 16. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 329، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 350، "تفسير البغوي" 1/ 201. (¬3) سقطت من (م). (¬4) ينظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 276 - 277، قرأ ابن ذكوان بكسر اللام فيهما، والباقون بالإسكان، وقرأ شعبة بفتح الواو وتشديد الفاء من: وليوَفُّوا، والباقون بسكون الواو وتخفيف الفاء. (¬5) هذا من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها ص 92. وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 330 دون عزو لأحد. (¬6) في (م): (المفسرين العلماء). (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 157، "تفسير القرطبي" 2/ 286 - 287، "تفسير ابن كثير" 1/ 232 - 233.

186

شوالٍ أن يُكبروا (¬1). 186 - قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} الآية، قال الضحاك: سأل بعض الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أقريب ربُنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية (¬2). وقال الحسن سأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) فقالوا: أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} قال عطاء عن ابن عباس: من أوليائي وأهل طاعتي (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 157، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 330، وهو مروي عن زيد بن أسلم كما في المصدرين السابقين. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 333، وكذا البغوي 1/ 205، وروى الطبري 2/ 158، وابن أبي حاتم 1/ 314، وأبو الشيخ في "العظمة" 2/ 535 وغيرهم: عن أبي الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده، بمثل حديث الضحاك، وذكر في "الدر المنثور" 1/ 352: أنه رواه البغوي في معجمه، وابن مردويه، قال أحمد شاكر: وهذا الحديث ضعيف جدا، منهار الإسناد بكل حال. حاشية "تفسير الطبري" 2/ 158، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 352 من حديث أبي بنحوه إلى سفيان بن عيينة في "تفسيره"، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على الزهد من طريق سفيان عن أبي. (¬3) من قوله: (أقريب ..) ساقطة من (ش). (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 73، وعنه الطبري في "تفسيره" 2/ 158، وإسناده صحيح إلى الحسن، لكنه ضعيف لإرساله كما ذكر ذلك أحمد شاكر في تعليقه على الطبري. وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 352 من حديث أنس بنحوه إلى ابن مردويه. (¬5) تقدم الحديث عن هذه الرواية.

وقال أهل المعاني: يريد قربَه بالعلم، كما قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، يريد بالعلم (¬1). وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قال ابن عباس: أَتَقَبَّل عبادةَ من عَبَدَني وَوَحَّدني (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 334، "الدر المصون" 2/ 289، وقد بين شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" 5/ 247، 460 أن ما نطق به الكتاب والسنة من قرب الرب من عابديه وداعيه هو مقيد لا مطلق لجميع الخلق، وذكر رحمه الله أن قرب الله ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال ذلك من قال من السلف، وهذا كقربه من عبده موسى لما كلمه من الشجرة، وينظر أيضا: "مجموع الفتاوى" 6/ 13، و"النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى" للشيخ عبد الله المحمود 2/ 735 - 751. وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرحه للعقيدة الواسطية" 460 ما خلاصته: اعلم أن من العلماء من قسم قرب الله إلى قسمين، كالمعية، وقال: القرب الذي مقتضاه الإحاطة قرب عام، والقرب الذي مقتضاه الإجابة والإثابة قرب خاص، ومنهم من يقول. إن القرب خاص فقط، مقتض لإجابة الداعي وإثابة العابد، ولا ينقسم، مستدلين بهذه الآية، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". رواه مسلم (482) كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وقد أورد على قولهما: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}، وهاتان عامتان في المؤمن والكافر، وأجيب بأن القرب فيهما إنما هو للملائكة، ألا ترى أنه قال بعد الأولى: إذ يتلقى المتلقيان، وهما من الملائكة، وقال في الثانية: ولكن لا تبصرون، أي: لا تبصرون الملائكة وهم حاضرون لقبض الروح. (¬2) هذه من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها.

ويصحُّ حملُ الإجابة على القبول إذا حملت الدعاء على العبادة، والدعاءُ ضُرُوبٌ، فما كان توحيدًا وثناءً على الله، كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وقولك: ربنا لك الحمد يكون عبادة، لأنك دعوت الله ثم وحدته وأثنيت عليه، ولهذا يسمى دعاءً، ولما سمى العبادة دعاءً سمى القبول إجابةً؛ ليتجانس اللفظ، ومثله كثير في كلام العرب (¬1). وقال ابن الأنباري: {أُجِيبُ} هاهنا معناه: أسمع؛ لأنه أَخْبَر عن قُرْبه تعالى، وظاهر القُرْب يدل على السماع لا على الإجابة، والإجابة قد تكون في بعض المواضع بمعنى السماع؛ لأنها تترتب على السماع، فسمى السماعَ إجابةً، كما تقول: دعوت من لا يجيب، أي: دعوت من لا يسمع. قال الشاعر: منزلة صَمَّ صداها وعَفَتْ ... أرسُمُها إن سُئلتْ لم تُجبِ (¬2) أراد: لم تَسْمَع، فنفى الإجابة؛ لأن نفيها يدل على نفي السمع، وكما جعلوا الإجابة بمعنى السمع جعلوا السمع بمعنى الإجابة، فيقال: سمع الله لمن حمده، يراد به: أَجَابه. وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي: دعوتُ الله حتى خِفْتُ أن لا ... يكونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أقولُ (¬3) ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 255 بتصرف، وذكر ضربين آخرين: أحدهما: مسألة الله العفو والرحمة. وثانيهما: هو مسألته من الدنيا. كقولك: اللهم ارزقني مالا وولدا. وينظر: "البحر المحيط" 1/ 47. (¬2) البيت بلا نسبة في "لسان العرب"1/ 618، 2/ 1152. (¬3) البيت لسمير بن الحارث الضبي في "تاج العروس" 11/ 227 (سمع)، وفي "نوادر أبي زيد" ص 124.

أرأد: يجيب، وإنما قام أحدهما مقام الآخرة لأنهما يترتبان في الوجود (¬1). وقال السدي: ما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإما أن عجل له في الدنيا، وإما ادّخر (¬2) له في الآخرة، أو دفع به عنه مكروهًا (¬3). و {أُجِيبُ} موضعه نصبٌ (¬4) على الحَال، تأويله: فإني قريبٌ مجيبًا دعوةَ الداعي، فلما كان مستقبلًا رفع بما في أوله، ويجوز أن يكون مستأنفًا منقطعا مما قبله، ويجوز أن يكون محمولًا على {قَرِيبٌ}. تأويله: فإني قريبٌ مجيب، فلما كان في لفظ الاستقبال رفع بالألف، وتأويله الرفع على النعت لقريب (¬5). وقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أي: فليجيبوني بالطاعة وتصديق الرسل. وأجاب واستجاب بمعنى (¬6). قال كعب الغنوي (¬7): ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 206، "البحر المحيط" 1/ 47. (¬2) في (ش): (أخر). (¬3) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 159، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 314. (¬4) في (ش): (نصبًا). (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 45، وذكر أيضا إعرابًا آخر، وهو أن أجيب خبر بعد خبر. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 159، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 315، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 255، "تفسير الثعلبي" 2/ 335. (¬7) هو: كعب بن سعد بن عمرو الغنوي، من بني غنى، شاعر جاهلي حلو الديباجة يقال له: كعب الأمثال، لكثرة ما في شعره من الأمثال، أكثر شعره في رثاء أخ له قتل في حرب ذي قار قال عنه الأصمعي بين أصحاب المراثي: ليس في الدنيا مثله. وقد رد الزركلي وعبد العزيز الميمني قولَ الغدادي والبكري: إنه شاعر =

وداعٍ دَعَا يا (¬1) مَنْ يُجِيبُ إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عندَ ذَاك مُجِيْبُ (¬2) قال أهل المعاني: الإجابة من العبد لله تعالى: الطاعة، وإجابة كلِّ شيء على وفق السؤال، والله تعالى تَعَبَّدَنا بالطاعة، فالإجابة منّا له أن نطيعه، يقال: سأل فلان فلانًا شيئًا فلم يكن له عنده إجابة، أي: إعطاء لأن سؤاله كان استعطاءً، ويقال: أجابت السماء بالمطر، إذا أرسلت المطر، وأجابت الأرضُ بالنبات إذا أنبتت (¬3)، قال زهير: وغيثٍ من الوسمي حُوٍّ تِلاعُه ... أجابت روابيه النِّجَاءَ هَوَاطِلُه (¬4). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد (¬5). ¬

_ = إسلامي. توفي نحو10 ق هـ. ينظر: "سمط اللائي" 772، "الأعلام" 5/ 227، "جمهرة أشعار العرب" ص 250. (¬1) في (ش): (دعانا). (¬2) البيت في "الأصمعيات" ص 96، "الأمالي" لأبي علي 2/ 151 "مجاز القرآن" 1/ 67 "لسان العرب" 1/ 283 (جوب). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 159، "تفسير الثعلبي" 2/ 336، "البحر المحيط" 2/ 47. (¬4) البيت في "ديوانه" ص 127. و"المخصص" لابن سيده 10/ 190، "تفسير الثعلبي" 2/ 336، والوسمي: أول المطر، وحُوّ: تضرب إلى السواد من شدة خضرة نبتها، والتلاع: مسيل ما ارتفع من الأرض إلى بطن الوادي، والروابي: ما ارتفع من الأرض، وهواطله: مواطره، والهطل: مطر لين ليس بالشديد ينظر: "الديوان بشرح ثعلب" ص 127. (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 47.

187

وقال ابن عباس: لكي يرشدوا (¬1)، ويقال: رَشِدَ يَرشَدُ ورشَدَ يَرْشُدُ: إذا أصاب الرشد، وهو نقيض الغي (¬2). 187 - قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ} الآية قال المفسرون: كان في أول فرض الصيام الجماع محرَّما في ليل الصيام، والأكل والشرب بعد العشاء الآخرة، فأحل الله عز وجل ذلك كله إلى طلوع الفجر (¬3). وقوله تعالى: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أراد: لَياليَ الصِّيام، فأوقع الواحد مَوْقِعَ الجماعة (¬4)، ومنه قول العباس بن مرداس (¬5): فقلنا اسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإِحنِ الصُّدُور وأما (¬6) الرفث، قال الليث: الرفث: الجماع، وأصله: قول الفحش، وأنشد الزجاج: عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ (¬7) ¬

_ (¬1) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها. (¬2) ينظر: "المفردات" للراغب ص 202، وقال: وقال بعضهم: الرَّشَد أخص من الرُّشْد، فإن الرشد يقال في الأمور الدنيوية والأخروية، والرَّشَد يقال في الأمور الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما جميعا. (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 255، وقد اختصر المؤلف قصة سبب النزول، وهي مطولة، ينظر: في "تفسير الطبري" 2/ 165 - 167، وابن أبي حاتم 1/ 316، "تفسير الثعلبي" 2/ 346، وابن كثير 1/ 235، ورواها البخاري (1915، 4508). (¬4) ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 67. (¬5) انظر التعليق عند تفسير [البقرة: 61]. (¬6) في (م): (فأما). (¬7) قبله: وَرَبِّ أسرابِ حجيج كُظَّمٍ وهو للعجاج، من ميميته الطويلة في "ديوانه" ص 296، وأسراب: قطع، وكُظَّم: لا تتكلم بالكلام القبيح واللغا بفتح اللام: اللغو من الكلام. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 269

يقال: رَفَثَ في كلامه يَرْفُثُ، وأرفث: إذا تكلم بالقبيح، هذا هو الأصل، ثم يكنى به عن الجماع (¬1). قال أبو إسحاق: الرَّفَثُ: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة (¬2). وقال عطاء فيما روى عن ابن عباس: الرفث: الجماع (¬3). قال ابن عباس: إن الله حيي كريم يكني، فما ذكر الله في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول والرفث فإنما يعنى به الجماع (¬4). قال الزجاجي: قد تأملنا الألفاظ الواردة عن العرب، المستعملة في معنى الجماع، فما وجدنا فيها لفظةً وُضِعَتْ حقيقة في معنى الجماع حتى ¬

_ (¬1) ينظر في الرفث؛ "تهذيب اللغة" 2/ 1437، "اللسان" 3/ 1686، "المفردات" ص 205، وقال: الرفث: كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وجعل كناية عن الجماع في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، تنبيها على جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء. (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 255. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 161 من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 315 من طريق سعيد بن جبير، قال ابن أبي حاتم: وروي عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس والحسن والضحاك وإبراهيم النخعي، وسالم بن عبد الله والسدي، وعمرو بن دينار وقتادة والزهري ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني نحو ذلك. وينظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 235 - 236، "الدر المنثور" 1/ 358. (¬4) رواه الثوري في "تفسيره" ص 63، والطبري 2/ 161، وابن أبي حاتم 1/ 317، وعزاه في "الدر" 1/ 359 إلى ابن المنذر والبيهقي، وذكره الثعلبي 2/ 349، والبغوي 1/ 207.

لا تستعمل في غيره، لكن الكلمة إذا كثر استعمالها في معنى ويكون موضوعها لمعنى آخر فإنها تصير حقيقةً فيما استعملت فيه كثيرًا، حتى إذا أطلق لم يعرف غير ذلك، كما تقول في المباضعة، فإن أصلها من البَضْع، وهو قَطْعُ اللحم، فإذا أطلق لم يعرف منه غير معنى الجماع، كما أن نفس قولنا: فَرْج كناية، فإذا أطلقوا الفرج لم يعرف منه غير هذا المعنى المقصود إليه. وقالوا: بَاضَعَها كأنه باشر بُضْعَها، ولم يقولوا: فارجها، وصارت المباضعة كالحقيقة في معنى الجماع؛ لأنهم لا يستعملونها في غيره، ألا ترى أنهم يقولون: غَشِيَها وتَغَشَّاها، ووَطِئَها وتوطاها، وقربها، وبَطَنَها وتَبَطَنَها، وكل هذه الألفاظ موضوعةٌ لغير هذا المعنى (¬1). وذكر جماعة من أهل هذه الصناعة: أن صريحَ اللفظ المستعمل في المباضعة قولهم: ناك ينيكُ نَيْكا، وليس كما ذهبوا إليه؛ لأن هذه اللفظة مستعارة أيضا، وقد ذكر أبو زيد عن العرب: ناكَ النعاسُ عينَهُ، ونكح النعاس بمعنى (¬2)، فجعل أصل الكلمة اللزوم والمواظبة. وأما معنى النكاح فسنذكره عند قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]، إن شاء الله. قال أبو عبيدة: الرّفث إلى نسائكم: الإفضاء إلى نسائكم (¬3)، قال الأخفش: وانما عدّاه بإلى لأنه كان بمعنى الإفضاء (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 1/ 48. (¬2) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3659، "اللسان" 8/ 4537. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 67، "البحر المحيط" 1/ 48. (¬4) لم أجده في "معاني القرآن" للأخفش.

وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} أصلُ اللِّباس: ما يَلْبَسُه الإنسان مما يواري جَسَدَه، ثم المرأة تسمى لباسَ الرّجل، والرجل لباس المرأة؛ لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب (¬1) الذي يلبسه، فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا للآخر (¬2). قال الجعدي (¬3): إذا ما الضجيعُ ثنى جيدَها ... تثنّتْ فكانت عليه لباسا (¬4) والعرب تسمى المرأة: اللباس، والفراش، والإزار، وأم العيال، والرَبَضَ (¬5) والبيت. وقيل في قوله: فدًى لك من أخي ثقةٍ إزاري (¬6) ¬

_ (¬1) في (م): (كالثوب لصاحبه كالثوب). (¬2) ينظر: "تأويل مشكل القرآن" 141، "تفسير الطبري" 2/ 162، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256، "تهذيب اللغة" 4/ 3228، 3229، "تفسير الثعلبي" 2/ 351، "البحر المحيط" 1/ 49. (¬3) هو: قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة الجعدي العامري، شاعر مفلق، صحابي من المعمرين، اشتهر في الجاهلية وسمي النابغة؛ لأنه أقام ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله، هجر الأوثان ونهى عن الخمر في الجاهلية، ثم وفد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، توفي سنة 55 هـ. ينظر: "الإصابة" 3/ 537، "الأعلام" 5/ 207. (¬4) البيت في "ديوانه" ص 81، "تأويل مشكل القرآن" 142 "الشعر والشعراء" 1/ 299 "تفسير الطبري" 2/ 162، "لسان العرب" 7/ 3986. ويروى عطفها بدل جيدها. وتداعت بدل تثنت. (¬5) في (ش): (الريض). (¬6) صدر البيت: ألا أبلغ أبا حفص رسولًا وهو لنفيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال، وكان كتب إلى عمر بن =

أي: نسائي (¬1). ومنه: أكِبرٌ غَيّرني أم بيت (¬2) وقول (¬3) الآخر: جاء الشتاء ولمّا أتخِذْ رَبَضًا (¬4) وهذا المعنى الذي ذكرناه في اللباس (¬5) هاهنا موافق لما قاله المفسرون، قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن (¬6). وقال ابن زيد في قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قال: ¬

_ = الخطاب أبياتًا من الشعر يشير فيها إلى رجل كان واليًا على مدينتهم في قصة طويلة. والبيت في "تفسير الثعلبي" 2/ 354 "تاج العروس" 6/ 21، "الإصابة" 1/ 273، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256، "غريب الحديث" للخطابي 2/ 101. والبيت للنابغة الجعدي، في "الشعر والشعراء" ص 255، والطبري 3/ 490، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256. (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 354، "غريب الحديث" للخطابي 2/ 101، "الصحاح" للجوهري 2/ 578. (¬2) البيت لمجهول، ذكره في "الأمالي" لأبي علي 1/ 21، وفي "أساس البلاغة" 1/ 72 (بيت)، وفي "لسان العرب" 1/ 393 (بيتا). (¬3) في (ش): (وقال). (¬4) عجز البيت: ياويح كفي من حفر القراميص وهو في "اللسان" 3/ 1559، بغير نسبة. (¬5) ينظر في اللباس: "تفسير الطبري" 2/ 162، 163، ابن أبي حاتم 1/ 316، "المفردات" 450، " اللسان" 7/ 3986 (لبس). (¬6) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 207 بهذا اللفظ، ورواه الطبري عنه 2/ 163، ابن أبي حاتم 1/ 316 ولفظهما: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن، وكذا ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 352.

للمواقعة (¬1)، يريد: أن كلَّ واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس، (¬2) وهذا من خصائص الإنسان. قال عمرو بن يحيى (¬3): ليس شيء من الحيوان يتبطن طروقته غير الإنسان والتمساح. وزاد غيره: الدُبُّ. ومعنى تبطن: أتى من جهة البطن (¬4). وقيل: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} أي: سكن لكم وأنتم سكن لهن، وهو قول ابن عباس في جميع الروايات (¬5)، وقول مجاهد (¬6) وقتادة (¬7). والمعنى: أنكم تلابسونهن وتخالطونهن بالمساكنة، وهن كذلك، أي: قَلَّ ما يَصْبرُ أحد الزوجين عن الآخر. ويقال: إنما سُمِي الزوجان (¬8) لباسًا؛ لسَتر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحلّ (¬9)، كما جاء في الخبر: (من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه) (¬10). ¬

_ (¬1) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 163. (¬2) "تفسير البغوي" 1/ 207. (¬3) في (ش): (عمرو بن بحر) أقول لعله الجاحظ فليلاحظ (¬4) "حياة الحيوان الكبرى" للدميري 1/ 164. (ط. دار الفكر). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 316، وقال بعده: وروي عن مجاهد وسعيد ابن جبير وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك. (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" عنه 2/ 163، وابن أبي حاتم 1/ 316. (¬7) رواه الطبري عنه 2/ 163. (¬8) في (م): (سمي الزوجين). (¬9) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 163، "تفسير الثعلبي" 2/ 325، "تفسير البغوي" 1/ 207، "التفسير الكبير" 5/ 106، "البحر المحيط" 1/ 48. (¬10) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 207، دون إسناد، والحديث لفظه في كتب السنة الأخرى: "من تزوج فقد استكمل نصف دينه، أو نصف الإيمان" رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس برقم 7643، ورقم 8789، والأصفهاني في "الترغيب =

وإنما وحد (¬1) اللباس بعد قوله: {هُنَّ} لأنه يجري مجرى المصدر. وفِعَال من مصادر فاعل، وتأويله: هنّ ملابسات لكم. وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يقال: خَانه خَوْنًا وخِيانَةً ومَخَانَةً واخْتَانَه اخْتِيانًا: إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضريبة فقد خانك، وخَانَه الدهرُ والنعيمُ: إذا تغير حاله إلى شر منها. قال ابن قتيبة: الخيانة: أن يؤتمن الرجلُ على شيء فلا يؤدي الأمانةَ فيه، وناقض العهدِ خائن؛ لأنه آمن بالعهد فغدره، ومنه قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58]. أي: نقضا للعهد، ويقال لعاصي المسلمين: خائن؛ لأنه مؤتمن على دينه، ومنه قوله: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27]، أي: بالمعاصي (¬2). ¬

_ = والترهيب"، والحاكم 2/ 161، وصححه، ولفظه عنده: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني". وضعفه ابن حجر في التلخيص 279، وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 612 (ط. دار الكتب العلمية): هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يذكر عنه، وفيه آفات منها: يزيد الرقاشي، وهياج يعني ابن بسطام، ومالك بن سليمان. اهـ. بتصرف. وينظر: "كشف الخفا" للعجلوني 2/ 239 برقم2432، "المقاصد الحسنة" للسخاوي ص 638 برقم1098 (ط. دار الكتاب العربي) وحسن الألباني الحديث بمجموع طرقه كما في "السلسلة الصحيحة" 1/ 200 برقم 625. (¬1) في (ش): (وجد). (¬2) ينظر في "خان": "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 74، "الكشاف" للزمخشري 1/ 115، وقال: الاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدة، "اللسان" 3/ 1294، "المفردات" للراغب ص 167، قال: والاختيان: مراودة الخيانة، ولم يقل تخونوا أنفسكم؛ لأنه لم تكن منهم الخيانة، بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة. اهـ. أقول: وسبب النزول يدل على وقوعهم في الجماع المحظور.

وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: تخونونها بالمعصية، قال ابن عباس: يريد فيما ائتمنتكم عليه (¬1)، وخيانتهم: أنهم كانوا يباشرون ليالي الصيام (¬2). وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} يريد: عمر وأصحابه، وذلك أنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب الرخصة، واعترف رجال بمثل ما صنع عمر فنزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه (¬3). وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} أمر إباحة (¬4)، والمباشرة: المجامعة؛ لتلاصق البشرتين وانضمامهما (¬5). وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أكثر المفسرين على أن المراد بهذا: الولد، أي: اطلبوا بالمباشرة ما قضى الله لكم من الولد (¬6). ¬

_ (¬1) هذا من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها. (¬2) ينظر أسباب النزول فيما تقدم. (¬3) تنظر الروايات في ذلك عند الطبري 2/ 163 - 167، وابن أبي حاتم 1/ 316، والثعلبي 2/ 346. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 356. (¬5) "تفسير الطبري" 2/ 168، وابن أبي حاتم 1/ 317، "الثعلبي" 2/ 354، "البغوي" 1/ 207، "التفسير الكبير" 5/ 108. (¬6) ذكر الآثار في ذلك: الطبري 2/ 169 - 170، وابن أبي حاتم 1/ 317 عن أنس وابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي والربيع وابن زيد والضحاك بن مزاحم وشريح وعطاء وسعيد بن جبير والحكم بن عتيبة وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 355، "تفسير البغوي" 1/ 207، "الدر المنثور" 1/ 359.

وقال قتادة: يعنى الرخصةَ التي كتبتُ لكم (¬1)، وقال معاذ بن جبل (¬2) وابن عباس في رواية أبي الجوزاء (¬3): يعني: ليلةَ القدر، وكل هذا مما تحتمله الآية. وقال أبو إسحاق: الصحيح عندي أن ما كتب الله لنا هو (¬4) القرآن، أي: اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه (¬5) وأمرتم به (¬6). وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} أمر إباحة حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود (¬7) روي في تفسير هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعدي بن حاتم: "إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل" (¬8). وبهذا قال عامة أهل التفسير (¬9)، والعرب قد تكلمت بهذا اللفظ في ¬

_ (¬1) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 71، والطبري 2/ 170، وذكره الجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 227. (¬2) رواه عنه الطبري 2/ 170، وذكره عنه الثعلبي 2/ 356، البغوي 1/ 207. (¬3) رواه عنه الطبري 2/ 170، وابن أبي حاتم 1/ 317، وذكره الثعلبي 2/ 356، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 227. (¬4) هو: سقطت من (م). (¬5) سقطت من (ش). (¬6) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256 بمعناه، وقد بين الطبري 2/ 170 أن كل الأقوال المذكورة مرادة، وهو مما كتب الله، لكن أشبه المعاني بظاهر الآية من قال: إن المراد به الولد؛ لأنه ورد عقيب قوله: جامعوهن. (¬7) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 109، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 91. (¬8) أخرجه البخاري (1916) كتاب الصوم، باب قول الله: وكلوا واشربوا، ومسلم (1090) كتاب الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. (¬9) ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 68، "تفسير غريب القرآن" ص 74، "تفسير الطبري" 2/ 170 - 172، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 318، "تفسير الثعلبي" 2/ 363، "البغوي" 1/ 208.

الليل والنهار، قال أمية الثقفي (¬1): الخيط الأبيض لون الصبح منفلق ... والخيط الأسود لون الليل مركوم (¬2) (¬3) وقال أبو دواد (¬4): فَلمّا أَضَاءت لنا غُدْوَة ... ولاحَ من الصُّبْح خَيْطٌ أَنَارا (¬5) واختلفوا لم سميا خيطين؟ (¬6) فقال الأكثرون: إنما (¬7) يسمى خيطين عند اختلاط الضوء بالظلام والتفاف أحدهما بالآخر؛ شبها (¬8) بخيطين بريمين، ومن هذا يقال: خَيّطَ الشيبُ رأسَه، إذا اختلط السواد بالبياض، ¬

_ (¬1) هو: أمية بن أبي الصلت بن ربيعة بن عوف، تقدمت ترجمته. (¬2) في (ش): (مزكوم). (¬3) البيت في "ديوانه" ص 77، وذكره الثعلبي دون نسبة 2/ 364 ولفظه: الخيط الأبيض وقت الصبح منصدع ... والخيط الاسود جوز الليل مركوم وهو في "تاج العروس"، "الدر المنثور" 1/ 360، وقد ورد في "الديوان"، "الدر المنثور" مكموم، بدل: مركوم. (¬4) جارية بن الحجاج بن حذاق، وقيل: حنظلة بن المشرقي، أبو دواد الإيادي، تقدمت ترجمته. (¬5) البيت لأبي دواد الإيادي في "ديوانه" ص 352، "الأصمعيات" ص 190، "غريب الحديث" للخطابي 1/ 233، "لسان العرب" 3/ 1302 خيط. ورواية الطبري في "تفسيره" 2/ 176، سُدْفَة، بدل: غدوة، والسدفة: ظلمة الليل في لغة نجد، والضوء في لغة قيس، وهي أيضًا اختلاط الضوء والظلمة جميعًا وهذا مراد الشاعر. والخيط: اللون هنا يكون ممتداً كالخيط. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 176 - 177، "تفسير البغوي" 1/ 208، "التفسير الكبير" 5/ 109 - 110. (¬7) في (ش): (إنهما). (¬8) في (ش): (شبّها).

ذكره أبو عبيد عن الأصمعي، وأنشد: حتى تُخَيَّطَ (¬1) بالبياض قروني (¬2) البيت لبدر الهذلي، وأوله: آليت لا أنسى منيحة واحدٍ يعنى بالمنحة: هجاء مهاجيه (¬3). وقرأت على أبي الحسين الفسوي: أخبركم حمد بن محمد، قال: أنشدنا الحسن بن خلّاد، قال: أنشدني دريد، قال: أنشدنا ابن أخي الأصمعي، عن عَمِّه، لرجل يصف ليلًا: كأن بقايا (¬4) الليل في أخرياته ... مُلاءٌ يبقى (¬5) من طيالسة خضرِ تخال بقاياه التي أسأر الدجى ... تمدُّ وشِيعًا فوق أرديةِ الفجرِ (¬6) فشبهها بالوشيع، وهو فتائل الغزل؛ لما يتراءى في خلاله من خيوط سوادٍ وبياضٍ. وقال الزجاج: هما فجران، أحدهما: يبدو أسود معترضًا، وهو الخيط الأسود، والأبيض: الذي يطلع ساطعًا يملأ الأفق (¬7)، فعندهما ¬

_ (¬1) في (ش): (تخيط). (¬2) عجز بيت ذكر الواحدي بعده صدره، وهو من قول بدر بن عامر الهذلي في "الأغاني" 24/ 166. (¬3) من قوله البيت: البدر ... ساقط من: (ش). (¬4) في (ش): (بقانا). (¬5) في (م): (كأنها سقى). (¬6) لم أهتد إلى قائله أو من ذكره. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 257، والفجر فجران: أحدهما: يسطع في السماء مستطيلا كذنب السرحان (الذئب) ولا ينتشر، وهو الفجر الكاذب، فذاك لا يحل=

الخيطان: هما الفجران، سميّا لامتدادهما، تشبيهًا بالخيطين. وقوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} الفجر: مصدر قولك: فَجَرْتُ الماء أَفْجُره فَجْرًا، وفَجرتُه تفجيرًا، فانفجر انفجارًا، إذا سال. قال الأزهري: أصله: الشق، ومنه: فَجْرُ السِّكْر (¬1)، فعلى هذا، الفجر في آخر الليل: هو شق عمود الصبح الليل، شَبَّه شقَّ الضوءِ ظُلْمةَ الليل بفجر الماء الحوض (¬2). قال سهل بن سعد (¬3): لما نزل قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} كان الرجل إذا أراد الصوم ربط في رجله خيطين أسود وأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رِئْيُهُما، فأنزل الله: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه يعني: الليل والنهار (¬4). فالأكل للصائم بالليل ¬

_ = الصلاة، ولا يحرم الطعام على الصائم. والثاني: هو المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق، وهو الفجر الصادق الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم، وهو المعني بهذه الآية. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 172، والبيهقي 4/ 215، "تفسير الثعلبي" 1/ 334. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 177، "تهذيب اللغة" 3/ 2743، "تفسير الثعلبي" 2/ 367، "المفردات" 75، "اللسان" 6/ 3351 (فجر). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 367. (¬3) هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبو العباس، له ولأبيه صحبة، توفي سنة 88 هـ. وقيل بعدها. ينظر: "أسد الغابة" 2/ 472، "تقريب التهذيب" ص 257 (2658). (¬4) رواه البخاري (4511) كتاب التفسير، باب: قوله: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض وكذا برقم (1917) كتاب الصوم، باب: قول الله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}، ومسلم (1091) كتاب الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.

منظوم في الإباحة بإباحة المباشرة المذكورة قبله بمثل معناها في التوقيت، فقد أباح عز وجل المباشرة والأكل والشرب في ليالي الصوم وإلى انفجار الصبح، وفي هذا ما يدفع قول من يتهول: إن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم؛ لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح (¬1). وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} جعل الليل منتهى الصوم، ولم يُدْخِل الليلَ في الصوم، كما دخل المرفق في الغسل في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] لأن الليل ليس من جنس النهار، والمرفق (من جنس اليد) (¬2). قال أحمد بن يحيى: سبيل الغاية الدخول والخروج، وكلا الأمرين فيهما ممكن، كما تقول: أكلتُ السمكةَ إلى رأسها، جائز أن يكون الرأس داخلًا في الأكل وخارجًا منه، وخرج الليلُ من الصوم؛ لأنه لا يشك ذو عقل أن الليل لا يُصام، ودخلت المرافق في الغسل أخذًا بالأوثق، ثم انضم إلى هذا تبيين السنة (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الرازي" 5/ 110، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 94 - 95، وقال: ففي ذلك عدى جواز طلوع الفجر عليه وهو جنب، وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة رضوان الله عليهم كلام، ثم استقر الأمر على أنه من أصبح جنبا فإن صومه صحيح، وبهذا احتج ابن عباس عليه. ويعني -رحمه الله- بالخلاف بين الصحابة ما روي عن أبي هريرة أنه قال: من أصبح جنبا فلا صوم له، واختلف في رجوعه كما ذكره القرطبي 2/ 305. (¬2) ساقط من (م). (¬3) قد بينت السنة ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"، رواه البخاري (1941) كتاب الصوم، باب:=

وقال قوم: (إلى) في هذه الآية للتحديد، وفي آية الوضوء معناه مع. كقوله: {مَنْ أَنصَارِىَ إِلَى اَللَّهِ} [آل عمران: 52]. وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} قال المفسرون: كان الرجلُ يخرجُ من المسجد وهو معتكف فيجامع ثم يعود، فنهوا عن ذلك ما داموا معتكفين (¬2)، فالجماع يفسد الاعتكاف، وأما المباشرةُ غيرُ الجماع مما يُقْصدُ به التلذُّذُ فهو مَكْروه، ولا يفسده، وما لا يقصد به التلذذ فلا يكره (¬3). ¬

_ = الصوم في السفر والإفطار، ومسلم (1101) كتاب الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار. (¬1) ينظر: "المغني" 4/ 432 - 437، "المحرر الوجيز" 2/ 129، "تفسير القرطبي" 2/ 306، "التفسير الكبير" 5/ 111 - 112، وقد نقل كلام الواحدي هذا برمته. (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 257، وروى الطبري في "تفسيره" 2/ 180، عن مجاهد والضحاك والربيع وقتادة معنى ذلك، وينظر ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 319، "تفسير الثعلبي" 2/ 375. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 180 - 182، "تفسير الثعلبي" 2/ 374، "تفسير القرطبي" 2/ 311، وبين أن من جامع زوجته وهو معتكف عامدا، أنه أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وان لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف، رواه البخاري (2028) كتاب الاعتكاف، باب: الحائض ترجل رأس المعتكف، ومسلم (297) كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر، قال أبو عمر (يعني: ابن عبد البر): وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، واختلفوا فيما =

وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أشار إلى الأحكام التي ذكرها في هذه الآية. وأما معنى الحد، فقالَ الليثُ: فَصْل ما بينَ كلِّ شَيْئين: حد، ومنتهى كل شيء حدُّه. قال الأزهري: ومن هذا: حدود الأرضين، وحدود الحرم. قال أهل اللغة: أصل الحد: الصرفُ والمنعُ عن (¬1) ومنه يقال للمحروم: محدودٌ؛ لأنه ممنوع عن الرزق، ولهذا قيل للبواب: حدَّاد؛ لأنه يمنع الناس من الدخول، قال الأعشى: وقُمْنا ولَّما يَصِحْ ديكُنَا ... إلى جَوْنَةٍ عند حَدَّادها (¬2). يعني: صاحبها الذي يحفظها ويمنعها (¬3)، والجونة: الخابية، ومنه قول النابغة: ...... فاحدُدْها عن الفَنَد (¬4) ¬

_ = عليه إن فعل. وينظر في المسألة: "الإجماع" لابن المنذر ص 4، "الكافي" لابن عبد البر 1/ 308، "فتح الباري" 4/ 272. (¬1) في نسختى (أ) (م): (عن)، وكأن في الكلام باقيًا لم يذكر. (¬2) ورد البيت هكذا: فقمنا ولما يصحْ ديكنا ... إلى خمرة عند حدّادها والبيت في "ديوانه" 69، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308 "مجمل اللغة" 1/ 210، "الصحاح" 2/ 462 "تفسير الثعلبي" 2/ 380، والجونة: خابية الخمر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 380. (¬4) تمام البيت: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند والبيت للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص 12، والقرطبي 9/ 260، "البحر المحيط" 5/ 340، "الدر المصون" 6/ 557، "اللسان" 2/ 801، "تاج العروس" 4/ 411=

أي: امنعها. وحَدُّ الدار: ما يمنع غيرها أن يدخلَ فيها، وحدودُ الله: ما منع الله من مخالفتها (¬1). قال الأزهري: حدود الله على ضربين. ضرب منها: ما حُدَّ للناسِ في مطاعمهم ومشاربهم ومناكحهم وغيرها مما أحل وحرم، وأمر بالانتهاء إليها (¬2)، ونهى عن تعدّيها. والضرب الثاني: عقوبات جعلت لمن تعداها (¬3) كحد السارق وحد الزاني وحد القاذف، سميت حدودًا؛ لأنها تحدُّ، أي: تمنع من ارتكاب المعاصي التي جعلت عقوباتٍ فيها، وسميت الأولى حدودًا؛ لأنها نهايات أمر الله لا تُتَعَدَّى (¬4). وعلى ما ذكر الأزهري، وهو حسن صحيح، الضرب الأول سمي حدودًا؛ لأنها ممنوعة لا تؤتى، كالأكل بعد الفجر في الصوم، والضرب الثاني: مانعٌ، والمصدر يطلق على المفعول والفاعل كثيرًا، كقولهم: نسجُ اليمن، وضربُ الأمير، وقوله عز وجل: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [تبارك: 30]. ويؤكد ما ذكرنا من المعنى في الحدود قوله تعالى: {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي: لا تأتوها فبيّن أنها ممنوعة (¬5). ¬

_ = (حدد)، "تفسير الثعلبي" 2/ 380، وروايته (المليك) بدل (الإله). والفند: الخطأ في الرأي والقول. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 546، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 357، 308، "تفسير الثعلبي" 2/ 379، "تهذيب اللغة" 1/ 759 (حدد). (¬2) عبارة الأزهري في "تهذيب اللغة" وأمر بالانتهاء عما نهي عنه منها. (¬3) عبارة الأزهري في "تهذيب اللغة" عقوبات جعلت لم ركب ما نهي عنه. (¬4) من "تهذيب اللغة" 1/ 759 (حدد) بتصرف. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 182، "التفسير الكبير" 5/ 115.

188

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي: مثل هذا البيان الذي ذكر (¬1). 188 - قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي: لا يأكل (¬2) بعضكم مالَ بعضٍ. فأضافَ الأموالَ إليهم؛ لأن المؤمنين كجسد واحدٍ في توادِّهم وتعاطفِهم وتَرَاحمِهم، كذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ومثله قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} معنى الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بَطَلَ الشيء يبطُل بُطْلًا وبُطولًا فهو باطل، ويجمع الباطل: بَوَاطل، وأَبَاطِيل جمع أُبْطُولَة، ويقال: بَطَل الأجيرُ يَبْطُلُ بِطَالَة، إذا تَعَطَّل واتبع اللهو، ومثله: تبطّل (¬5). ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 257، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 183، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 320، "التفسير الكبير" 5/ 116. (¬2) في (أ): (لأكل). (¬3) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه البخاري في الأدب باب: رحمة الناس والبهائم (6011)، ومسلم في: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم، وتعاضدهم (2586) (6011) كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، ومسلم (2586) كتاب البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 183، "تفسير الثعلبي" 2/ 383، "تفسير البغوي" 1/ 210، "التفسير الكبير" 1/ 116. وقال: اعلم أنهم مثلوا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}، بقوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، وهذا مخالف لها؛ لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره. (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 350 بطل، "تفسير الثعلبي" 2/ 383، "الصحاح" 4/ 1635، "المفردات" ص61، "اللسان" 1/ 302 بطل.

قال ابن عباس: يعني: بغير طاعة الله عز وجل، واليمين الكاذبة يقتطع الرجل بها مال أخيه المسلم (¬1). قال أهل المعاني: الأكلُ بالباطل على وجهين: أحدهما: أن يكون على جهة الظلم، من نحو: الغَصْب والخيانة والسرقة، والثاني: على جهة اللهو واللعب، كالذي يُؤْخَذُ في القمار والملاهي ونحوها، كلُّ ذلك من أكل المال الباطل (¬2). وقوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} في محل {وَتُدْلُوا} من الإعراب قولان (¬3) ذكر في قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]. وأصل الإدلاء في اللغة: إرسال الدلو وإلقاؤها في البئر، قال الله تعالى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19]، ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاءً، ومنه يقال للمحتج: أدلى بحجته، كأنه يرسلها ليصل إلى مراده إدلاءَ المستقى الدلوَ ليصل إلى مطلوبه من الماء، ويقال: فلان يُدلي إلى الميت بقرابة ورَحِم، إذا كان يَمت إليه من هذا؛ لأنه يطلب الميراث بتلك القرابة طلب ¬

_ (¬1) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬2) ينظر. "تفسير القرطبي" 2/ 317، "زاد المسير" 1/ 194، ونقل عن القاضي يعلى أن الباطل على وجهين: أحدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه كالسرقة. والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه كالقمار والغناء وثمن الخمر. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 184، "معاني القرآن" للفراء 1/ 115، "تفسير القرطبي" 2/ 319، "التبيان" للعكبري 1/ 120، وذكر الوجهين، وهما: الجزم عطفًا على لا تأكلوا، والنصب على معنى الجمع أي: لا تجمعوا بين أن تأكلوا وتدلوا، وقيل: نصب بإضمار أن الخفيفة، وقال الأخفش: نصب على الجواب بالواو. ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 386، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 353.

المستقي الماء بالدلو (¬1). ومعنى قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي: تلقون أمورَ تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام. قال ابن عباس: نزلت في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم فيه إلى الحكام، وهو يعرف أن الحقَّ عليه، ولعلم أنه آثمٌ آكلُ حرامٍ (¬2). وقال الحسن: هو أن يكون على الرجل لصاحبه حَقٌّ، فإذا طالبه به دعاه إلى الحاكم فيحلف له، ولذهب بحقه (¬3). وعلى هذا المعنى تفسير لفظ الآية ما ذكره الزجاج، وهو أنه قال: معنى أدلى فلان بحجته: إذا أرسلها، وأتى بها على صحة. قال: فمعنى قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي: تعملون على ما يوجبه ظاهر الحكم والإدلاء بالحجة، وتتركون ما قد علمتم (¬4)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، ولعل بعضَكُم أن يكون أَلْحَنَ بِحُجَّتِه من بعض" الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 184، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 258، "تهذيب اللغة" 2/ 1214 (دلو)، "تفسير الثعلبي" 2/ 384، "المفردات" ص 178، "التفسير الكبير" 5/ 118. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" عنه 2/ 183، وابن أبي حاتم 1/ 321، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 366 إلى ابن المنذر. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 387، وذكر ابن أبي حاتم 1/ 321، عن الحسن أنه قال: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. (¬4) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 258. (¬5) أخرجه البخاري (7169) كتاب الشهادات، باب: موعظة الإمام للخصوم، ومسلم (1713) كتاب الأفضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.

189

والمختار في هذه الآية ما ذكره الفراء، وهو أنه قال: المعنى: لا تصانعوا بأموالكم الحكام، ليقتطعوا لكم حقًّا لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم (¬1). قال الأزهري: وهذا عندي أصح القولين؛ لأن الهاء في قوله {بِهَا} للأموال، وهي على قول الزجاج للحجة، ولا ذكر لها في الكلام (¬2). واختار ابن قتيبة أيضًا قول الفراء، فقال: يقول: لا تُدْلِ بمالِ أخيك إلى الحاكم ليَحكمَ لك به وأنت تعلم أنك ظالم له (¬3). وقوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} أي: طائفة (¬4). {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} قال ابن عباس: يريد باليمين الكاذبة (¬5). وقال غيرُه: بالباطل (¬6)، يعني: بأن يرشو الحاكم ليقضي له {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مبطلون وأنه لا يحلُّ لَكم (¬7). 189 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الآية. قال المفسرون: سأل معاذ بن جبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زيادة القمر ونقصانه؟ فأنزل الله هذه الآية (¬8). ¬

_ (¬1) نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1214 (دلو). (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1214 (دلو). (¬3) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 75. (¬4) "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 322، "تفسير الثعلبي" 2/ 386، "البحر المحيط" 2/ 57. (¬5) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة. (¬6) "تفسيرالثعلبي" 2/ 386. (¬7) "تفسير الطبري" 2/ 183، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 322، "تفسير الثعلبي" 2/ 386، "البحر المحيط" 2/ 52. (¬8) رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" 1/ 493، وعزاه السيوطي في "لباب النقول" =

والأهلة: جمع هِلال، وهو غُرّة القمر حين يراها (¬1) الناس، يقال لها (¬2): هلال ليلتين، ثم يكون قمرًا بعد ذلك. وقال أبو الهيثم: يسمى القمر لليلتين من أول الشهر وليلتين (¬3) من آخر الشهر: هلالًا، ويسمى ما بين ذلك: قمرًا، وسمي الهلال هلالاً: لأنه حين يرى يُهلِّ الناس بذكر الله وبذكره (¬4). ويقال: أُهِلّ الهلال، واستُهِلّ، وأهللنا الهلال، واستَهْلَلْناه (¬5)، إذا بُني الفعل للهلال ضُمَّ، وإذا بُنِيَ للرائين فُتِح. هذا قول عامة أهل اللغة، وقال شمِر: يقال: استَهَلَّ الهلال أيضًا وشهر مُستَهِلٌّ، وأنشد: ¬

_ = ص 35 أيضًا إلى ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به، وذكره أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 188، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 390، وضعف إسناده السيوطي كما في "الدر" 1/ 367، ووهاه المناوي في "الفتح السماوي" 1/ 232، وذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 166 والواحدي في "أسباب النزول" ص 56 عن الكلبي، وكذا ذكره الحيري في "الكفاية" 1/ 132، قال الحافظ في "العجاب": وقد توارد من لا يد لهم في صناعة الحديث على الجزم بأن هذا كان سبب النزول مع وهاء السند فيه، ولا شعور عندهم بذلك، بل كاد يكون مقطوعا به لكثرة من ينقله من المفسرين وغيرهم. اهـ. وقد روى الطبري في "تفسيره" 2/ 185، عن قتادة والربيع وابن جريج وكذا ابن أبي حاتم 1/ 322 عن أبي العالية، قالوا: إن أناسا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم خلقت الأهلة؟ فانزل الله تعالى هذه الآية (¬1) في (م): (تراها). (¬2) في (م) و (أ): (له). (¬3) من قوله: (ثم يكون قمرًا بعد ذلك). ساقط من (أ)، (م). (¬4) "تفسيرالثعلبي" 2/ 392. (¬5) في (م): (استهللنا).

وشهرٌ مُستهلٌّ بعد شَهْر ... وحَوْلٌ بعدَه (¬1) حولٌ جديد (¬2) (¬3) قال ابو إسحاق: فِعَالٌ يجمع في أقل العدد على أَفْعِلَة، نحو: مِثَال وأَمْثِلَة، وحِمَارٌ وأَحْمِرَة، وفي أكثر العدد يجمع على فُعُل، نحو: مُثُل وحُمُر، إلَّا أنهم كَرِهوا في التضعيف فُعُلا، نحو هُلُل وحُلُل (¬4)، واقتصروا على جمع أدنى العدد، كما اقتصروا في ذوات الياء والواو على ذلك، نحو: أَكْسِيَة وأَرْدِيَة، للقليلِ والكثير (¬5). أخبرَ اللهُ سبحانه أن الحكمةَ في زيادة القمر ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات الناس في حَجِّهم (¬6)، وحَلِّ ديونهم، وعِدَدِ نسائهم، وأجور أُجَرَائِهم، ومُدَدِ حواملهم، ووقت صومهم وإفطارهم، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬7). والمواقيت: جمع الميقات، والميقات: الوقت، كالميعاد بمعنى الوعد. وقال بعضهم: الميقات: منتهى الوقت، قال الله تعالى {فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ} [الأعراف: 142] والهلال: ميقات الشهر، ومواضع الإحرام: ¬

_ (¬1) في (م): (بعد). (¬2) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" 8/ 4690 (هلل). ورواية "تهذيب اللغة" 4/ 3784 (هلل: ويومٌ بعده يومٌ قريب). (¬3) ينظر في هلال: "تهذيب اللغة" 4/ 3784 - 3788، "المفردات" ص522، "اللسان" 8/ 4690 (هلل). (¬4) في "معاني القرآن" للزجاج: نحو هلل وخلل، فقالوا: أهلة وأخلة. (¬5) من "معاني القرآن" 1/ 262. (¬6) في (ش): (حجتهم). (¬7) "تفسير الثعلبي" 2/ 392، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 185، "البحر المحيط" 2/ 61.

مواقيت للحج؛ لأنها مقادير يُنْتَهَى (¬1) إليها (¬2). ولا يصرف مواقيت؛ لأنها غاية للجموع، فصار كأن الجمع تكرر فيها. فإن قيل: لم صرفت {قَوَارِيرَ} [الإنسان: 15]؟ قيل: لأنها فاصلة وقعت في رأس آية، فنُوِّن ليجري على طريقة الآيات كما ينون القوافي في مثل: أقلي اللومَ عاذلَ والعتابا (¬3) فالألفُ بدلٌ من التنوين، وليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تَمَكُّن الاسم، وإنما هو للفاصلة (¬4). وقوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} قال عامة أهل التفسير: كان أهلُ الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم نَقَبَ في بيته نَقْبًا من مُؤَخَّرِه يخرج منه ويدخل، إلا قريشًا ومن دانوا بدينهم، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو (¬5) محرم، ورجل محرم فرآه دخل من باب حائط، فاتبعه ذلك الرجل، فقال له: تنح عنى، قال: ولم؟ قال: دخلت من الباب وأنت محرم! فوقف ذلك الرجل فقال: إني رضيت بسنتك وهديك، وقد ¬

_ (¬1) في (ش): (تنتهى). (¬2) ينظر في المواقيت: "تفسير الثعلبي" 2/ 392، "المفردات" 544، "البحر المحيط" 2/ 59، "اللسان" 8/ 4690 (هلل). (¬3) عجز البيت: وقولي إن أصبت لقد أصابا مطلع قصيدة لجرير يهجو فيها عبيدا الراعي والفرزدق في "ديوانه" ص 813، "أوضح المسالك" 1/ 14. وقوله: عاذل: هو مرخم عاذلة، وهو اسم فاعل مؤنث من العذل، وهو اللوم والتوبيخ. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 8/ 397، "أوضح المسالك" 1/ 14. (¬5) ساقطة من (ش).

رأيتك دخلت فدخلت على إثرك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أحمس" (¬1)، يعني: قرشي، وكانت قريش لا تفعل ذلك، قال الرجل: فإن كنت أحمس فإني أحمس (¬2) ديننا واحد، فأنزل الله هذه الآية (¬3)، وأعلمهم أن تشديدهم في الإحرام ليس ببر، ولكن البِرَّ بِرُّ من اتقى مخالفةَ اللهِ، وأمرهم بتركِ سُنَّةِ ¬

_ (¬1) الأحمس: هو المتشدد في دينه، والحُمْس: قريش وخزاعة، وكل من ولدت قريش من العرب، وكل من نزل مكة من قبائل العرب، فكانت الحمس قد شددوا في دينهم على أنفسهم، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا، ولم يطبخوا أقطا، ولم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا، ولا يأكلون لحما، ولا يلبسون إلا جديدا، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمشون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات يقولون نحن أهل الله ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم. ينظر: "المحبر" ص178 - 180، "سيرة ابن هشام" 1/ 211 - 216، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 262، وهذا من تعليق محمود شاكر على "تفسير الطبري" 2/ 187، وقيل: سموا حمسا بالكعبة؛ لأنها حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد، والأول أشهر وأصح. "فتح الباري" 3/ 603. (¬2) سقطت من (ش). (¬3) أورده بهذا اللفظ الثعلبي 2/ 394، وكذا ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 56، دون سند، وقد جمعه من آثار متفرقة كما ذكر الحافظ في "العجاب" 1/ 458، وقد روي نحو هذا عن جابر، رواه ابن أبي حاتم 1/ 323، والحاكم 1/ 657، وصححه وعزاه الحافظ في "الفتح" 3/ 621 إلى ابن خزيمة وعبد بن حميد وأبي الشيخ وبقي، وقال في "العجاب" 1/ 456: هو على شرط مسلم ولكن اختلف في إرساله ووصله، وروى الطبري 2/ 188، وابن أبي حاتم 1/ 323 من طريق العوفي عن ابن عباس بنحوه، كما رواه الطبري 3/ 556 عن قيس بن حبتر، وأصل السبب رواه البخاري (1803) كتاب العمرة، باب: قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، ومسلم (3026) كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب.

الجاهلية فقال: وأتوا البيوت من أبوابها. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} كقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، وقد مرَّ. وذهب أبو عبيدة في تفسير هذه الآية إلى غير ما ذكرنا، وهو أنه قال: معناه: ليس البرُّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله، وتلتمسوا الأمر من غير بابه، {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. أي: اطلبوا الخير من وجهه والأمر من بابه (¬1)، والقول ما عليه العامة. واختلف القراء في {الْبُيُوتَ} وأخواته، كالجيوب والغيوب، فقرؤوا بضم أولها وكسره (¬2)، فمن ضم فهو الأصل، لأن فَعْلًا يجمع على فُعُول بضم الفاء، ومن كسر فلأجل موافقة الياء، فإن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة، ولا يستقبح ذلك، وإن لم يكن في كلامهم فِعُل؛ لأن الحركة إذا كانت للتقريب من الحرف لم تُكره، ولم تكن بمنزلة مالا تقريب فيه، ألا ترى أنه لم يجئ في الكلام عند سيبويه على فِعِل إلا إِبِل، وقد أكثروا من هذا البناء، واستعملوه على اطراد، إذا كان القصد فيه تقريب الحركة من ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 68، ولفظه: اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه عند الجهلة المشركين. (¬2) قال في "النشر" 2/ 226: واختلفوا في الضم والكسر من (بيوت، والغيوب، وعيون، وشيوخا، وجيوب) فقرأ بضم الباء من (البيوت وبيوت) حيث وقع: أبو جعفر والبصريان (أبو عمرو ويعقوب) وورش وحفص، وقرأ بكسر الغين من (الغيوب) وذلك حيث وقع: حمزة وأبو بكر، وقرأ بكسر العين من (العيون وعيون)، والشين من (شيوخا) وهو في في كافر، والجيم من (جيوبهن)، وهو في سورة النور: ابن كثير وحمزة والكسائي وابن ذكوان وأبو بكر، إلا أنه اختلف عنه في الجيم من جيوبهن.

190

الحرف، وذلك قولهم ماضغٌ لِهِمٌ، ورجل ضِحِكٌ (¬1)، وقالوا في الفعل: شِهِدَ ولِعِب، وقد استعملوا في إرادة التقريب ما ليس في كلامهم (¬2) على بنائه البتة، وذلك نحو شِعِير ورِغيف وشِهِيد، وليس في الكلام شيء على فِعِيل على غير هذا الوجه، فكذلك في {اَلْبُيُوتَ} يستجاز فيه ما ذكرنا للتقريب والتوفيق بين الحرفين. ومما يدل على جواز ذلك: أنه إذا كانت عين الحرف ياءً جوزوا كسر الفاء في التحقير، فقالوا: عِيَيْنَةُ وبِيَيْتٌ، بكسر الفاء، للتقريب من الياء، وإن لم يكُن في أبنية التحقير على هذا الوزن. ويدلّ على صحة هذا: أنه قد جاء في الجموع ما لزمته الكسرة في الفاء، وذلك قولهم في جمع قوس: قِسي، فلولا أن الكسر قد تَمَكَّن في هذا الباب للتقريب من الياء ما كان الحرف يجيء على الكسر خاصة حتى لا يستعمل فيه غيره (¬3). 190 - قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في دين الله وطاعته (¬4)، قال الربيع (¬5) وابن زيد (¬6): هذه أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله، ويكفُّ عمن كف عنه، حتى ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل، وفي الحجة: مِحِك. (¬2) في (م): (الكلام). (¬3) من "الحجة" 2/ 282 - 283 باختصار وتصرف. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 189، "الثعلبي" 2/ 398، "البغوي" 1/ 212. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 189، وذكره الثعلبي 2/ 398، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 257. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 189، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 516، والثعلبي 2/ 398.

نزلت: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} [التوبة: 5]، فنُسخت هذه الآية، وأُمِرَ بالقتال مع المشركين كافة. ومعنى قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي: لا تبدؤوهم ولا تعجلوهم بالقتال قبل تقديم الدعوة (¬1). وقال ابن عباس (¬2) ومجاهد (¬3): الآية محكمة، أُمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها (¬4) بالقتال، ولم ينسخ شيء من حكم هذه الآية. قالا (¬5): ومعنى قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السَّلَم وكف يده، فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم (¬6). وقال في رواية الكلبي: نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية (¬7)، وذلك ¬

_ (¬1) "تفسيرالثعلبي" 2/ 399. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 190، وابن أبي حاتم 1/ 325، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 516، والثعلبي 2/ 399. (¬3) رواه الطبري 2/ 190، وابن أبي حاتم 1/ 325. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) في (م): (قال). (¬6) روى الطبري في "تفسيره" 2/ 190 هذا القول أيضا عن عمر بن عبد العزيز ثم قال: وأولى هذين القولين بالصواب: القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز؛ لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه: تحكمٌ، والتحكم لا يعجز عنه أحد. (¬7) الحديبية: بالتخفيف والتشديد، قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التىِ بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتها، وهي على تسعة أميال من مكة، ويقال لها الآن: الشميسي، وصلح الحديبية كان في سنة لست من الهجرة حين منع المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه وكانو 1400 وقيل: 1500، ثم تصالحوا=

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من الحديبية إلى المدينة حين صَدَّه المشركون عن البيت صالحهم على أن يرجع عامه القابل، ويُخْلُوا له مكة ثلاثة أيام، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لعمرة القضاء (¬1)، خافوا أن لا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن البيت، ويقاتلوهم، وكره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم في الشهر الحرام، في الحرم، فأنزل الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} محرمين {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني: قريشا (¬2). ¬

_ = الصلح المعروف، ولم يقع فيه قتال، وفيه أنزل الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، ينظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 365 - 373، "طبقات ابن سعد" 2/ 95 - 105، "تاريخ الطبري" 3/ 71، "زاد المعاد" 3/ 386. (¬1) عمرة القضاء أو القضية كانت في ذي القعدة سنة سبع، وسميت بذلك قيل: لكونها قضاء للعمرة التي صدوا عنها، وقيل من المقاضاة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضى عليها المشركين. ينظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 424،"زاد المعاد" 3/ 370. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 406، والحيري في "الكفاية" 1/ 134، والواحدي في "أسباب النزول" ص 57 - 58، والبغوي 1/ 213، وذكره ابن حجر في "العجاب" 1/ 465، ثم قال: الكلبي ضعيف لو انفرد، فكيف لو خالف، وقد خالفه الربيع بن أنس، وهو أولى بالقبول منه، فقال: إن هذه الآية أول آية في الإذن للمسلمين في قتال المشركين، وسياق الآيات يشهد لصحة قوله، فإن قوله تعالى عقيبهما: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، منسوخ بقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، عند الأكثر، فوضح أنها سابقة، لكن سيأتي في سورة الحج عن أبي بكر الصديق: أول آية نزلت في الإذن في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، قلت: ويمكن الجمع، ولفظ الربيع قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت براءة. اهـ. ولم يرتض ابن كثير 1/ 242 هذا فقال: وفي هذا نظر؛ لأن قوله: الذين يقاتلونكم إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم.

191

{وَلَا تَعْتَدُوا} ولا تظلموا، فتبدؤوا في الحرم بالقتال (¬1). 191 - ثم قال: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} قال الليث: ثَقِفْنا فلانًا في موضع كذا، أي: أخذناه، ومصدره: الثَّقْف، وقال الفراء في المصادر: ثَقِفَ يَثْقَفُ ثَقْفًا، وربما ثُقِّل، فقيل: ثَقَفًا (¬2) (¬3). قال المفسرون: أي: حيث وجدتموهم (¬4). وقال الزجاج: معنى الآية: لا تمتنعوا من قتلهم في الحرم وغيره (¬5)، أينما وجدتموهم وصادفتموهم وظفرتم بهم (¬6) وقوله تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني: مكة (¬7) {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني: وشركهم بالله عز وجل أعظم من قتلكم إياهم في الحرم والحُرُم والإحرام (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 399. (¬2) ضبطت في (ش): (ثقفا). (¬3) ينظر في ثقف: "تفسير الطبري" 2/ 191، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 263، "اللسان" 1/ 492 - 493، "المفردات" ص 85، وقال: الثقف: الحذق في إدراك الشيء، ويقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 191، "تفسير الثعلبي" 2/ 407. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 262. (¬6) في (أ): (به). (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 191، "تفسير الثعلبي" 2/ 408، "تفسير البغوي" 1/ 213. (¬8) "تفسير الثعلبي" 2/ 408، وعبارته في بعض النسخ: في الحرم والحرام والإحرام، "تفسير الطبري" 2/ 191، 192، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 264، "تفسير البغوي" 1/ 214، وقوله: والحُرم: يعني: الأشهر الحرم، والقول الثاني في=

وذكرنا معاني الفتنة عند قوله: {إِنَّمَا نَحنُ فِتنَةٌ} [البقرة: 102]. وقال بعض أصحاب المعاني: سُمِّيَ الكفرُ فتنةً: لأن الكفر إظهار الفساد عند الاختبار، وأصل الفتنة: الاختبار (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} قال مقاتل: نَسَخَ هذا قولَه: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} ثم (¬2) نسخ هذا قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، فهذه الآية ناسخة ومنسوخة، وعنده يجوز الابتداء بالقتال في الحَرَم (¬3). ¬

_ = الآية: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليهم من أن يقتل محقًا، وهذا قول مجاهد. ينظر: "زاد المسير" 1/ 191 - 199، وقال الكسائي: الفتنة هاهنا. العذاب، وكانوا يعذبون من أسلم كما في "تفسير الثعلبي" 2/ 408. (¬1) ينظر: "زاد المسير" 1/ 198، "التفسير الكبير" 5/ 130. (¬2) ليست في (أ)، (م). (¬3) ذكره عن مقاتل بن حيان: الثعلبي في "تفسيره" 2/ 410، وبنحوه رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 326، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 228، وفي "زاد المسير" 1/ 199 - 200، واختاره الطبري في "تفسيره" 2/ 193، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 521، ومكي في "الإيضاح" 157، ونسبه ابن عطية في "تفسيره" 2/ 139 للجمهور، وقد ناقش الرازي في "تفسيره" 5/ 129 - 130 قول مقاتل، ثم ضعفه فقال: وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ، وأما قوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، منسوخة بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فهو خطأ أيضا؛ لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق، مثبِت أن قوله ضعيف، ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة ناسخة للأخرى. اهـ وممن رجح القول بعدم النسخ: ابن العربي في الناسخ والمنسوخ 2/ 58، وابن الجوزي. اهـ. في نواسخ القرآن 228، بعدم النسخ: ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 58، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" 228،=

193

وقال آخرون: إنهم نُهُوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال، حتى يبتدئ المشركون بذلك، وهذه الآية محكمة. ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وعلى هذا أكثر المفسرين، وغلّطوا مقاتلًا فيما قال (¬1). وقرأ حمزةُ والكِسائي (ولا تقتلوهم) (حتى يقتلوكم) (فإن قتلوكم) هذه الثلاثة بغير ألف (¬2)، وجاز ذلك، وإن وقع القتل ببعض دون بعض؛ لأن العرب تقول: قتلنا بني تميم، وإنما قتلوا بعضهم (¬3). 193 - وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك (¬4)، يعني: قاتلوهم حتى يُسْلموا، فليس يُقْبَلُ من المشرك الوثني جِزْيةٌ، ولا يُرضى منه إلا بالإسلام (¬5)، {وَيَكُونَ الدِّينُ}، أي: الطاعة والعبادة {لله} ¬

_ = والقرطبي 2/ 330، وابن كثير 1/ 242 قال النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 519: هذه الآية من أصعب ما في الناسخ والمنسوخ. (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 130، "تفسير القرطبي" 2/ 330، ونسبه الطبري في "تفسيره" 2/ 192 إلى مجاهد، وقال القرطبي: وبه قال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ثم استدل بحديث ابن عباس، وفيه: وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وقد ذكر -رحمه الله- أدلة الفريقين. (¬2) قرأ حمزة والكسائي وخلف بحذف الألف في الثلاثة، والباقون بإثباتها. "النشر" 2/ 226 - 227. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 264، "تفسير الثعلبي" 2/ 409. (¬4) ينظر: "تأويل مشكل القرآن" 374، "تفسير الطبري" 2/ 194، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 327 حيث ذكر الآثار في ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والربيع وابن زيد. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 411. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 411، وقد ذكر عن المفضل بن سلمة الحكمةَ في أخذ الجزية =

194

وحده، ولا يُعبد دونه شيء (¬1). {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي: عن الكفر (¬2) {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي: الكافرين الواضعين العبادة في غير موضعها (¬3)، والذي عليهم إنما سماه عدوانًا على معنى الجزاء والقصاص؛ لأن ما يكون منهم عُدوان فسمي الذي عليهم عدوانًا، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وذلك أنه في صورة العدوان من حيث إنه قَتلٌ ونهبٌ واسترقاقٌ (¬4). 194 - قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} قال المفسرون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صُدّ عام الحديبية سنة ستٍ، ثم عاد في سنة سبع، ودخل مكة وقضى العُمرة في ذي القَعدة، فأنزل الله هذه الآية، يريد: ذو القعدة، الذي دخلتم فيه مكةَ، واعتمرتم {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}: ذي القعدة، الذي صددتم فيه عن البيت، يعني: أن هذا جزاء ذاك وبدله. وتأويله: العمرة في الشهر ¬

_ = من أهل "الكتاب" دون غيرهم، قال القرطبي في "تفسيره" 2/ 353: وقاتلوهم، أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى: قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: فإن قاتلوكم، والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار، وقد بين في "زاد المسير" 1/ 200 بأن القول بالنسخ إنما يستقيم إذا قلنا إن معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، وأما إذا قلنا: إن معناه: فإن انتهوا عن دينهم، فالآية محكمة. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 195، "تفسير الثعلبي" 2/ 412. (¬2) في "تفسير الثعلبي" 2/ 413: فإن انتهوا عن القتال والكفر. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 413، "تفسير البغوي" 1/ 214، أو من بدأ بقتال على التأويل الثاني. ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 354. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 195، 196، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 265، "تفسير الثعلبي" 2/ 413، "تفسير القرطبي" 2/ 332.

الحرام من سنة سبع بدلٌ من الصدّ في الشهر الحرام سنة ستٍ (¬1). والحرمات: جمع حُرْمَة، والحُرْمَة: ما مُنِع من انتهاكه (¬2). والقصاص: المساواة والمماثلة، ذكرنا ذلك. وأراد بالحرمات: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحُرمة الإحرام (¬3). ومعنى قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي: اقتصصت لكم منهم، حيث أضاعوا وانتهكوا هذه الحرمات في سنة ستٍ، فقضيتم على زعمهم ما فاتكم في سنة سبع (¬4). قال مجاهدٌ: فَخَرت قريش أن صدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت الحرام في الشهر الحرام، في البلد الحرام، فأقصه الله، فدخل عليهم من القابل، في الشهر الحرام، في البلد الحرام، في البيت الحرام، وأنزل الله هذه الآية (¬5)، هذا قول أكثر المفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 196 - 198، وقد ذكر روايات كثيرة في ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقسم والسدي والضحاك والربيع وابن زيد، ونحوه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 328، وذكر هذا السبب: الثعلبي 2/ 414، البغوي 1/ 215، والواحدي في "أسباب النزول" ص 58، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 194 وغيرهم. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 416، وينظر: "المفردات" ص 122. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 579 و"تفسير الثعلبي" 2/ 416 و"البغوي" 1/ 215. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2 - 198، "الثعلبي" 2/ 416، ويفيد كلام الواحدي هنا أن هذه العمرة قضاء للعمرة التي حصروا عنها عام الحديبية، والقول الآخر: أنها من المقاضاة؛ لقول ابن عمر: لم تكن هذه قضاء ولكن كان شرطًا على المسلمين أن يعتمروا في الشهر الذي حاصرهم فيه المشركون. ينظر: "زاد المعاد" 3/ 378. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 197. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 416.

والصحيح في تفسير هذه الآية: ما قاله ابن عباس في رواية عطاء: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} يريد: إن قاتلوكم في الشهر الحرام، فقاتلوهم في مثله (¬1)، واختار الزجاج هذا القول، فقال: معناه: قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام (¬2). وقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} قال ابن عباس: يريد: إن انتهكوا لكم حرمةً فانتهكوا منهم مثل ذلك. وقال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن أمر هذه الحرمات قصاص (¬3)، أي: لا يكون للمسلمين أن ينتهكوها على سبيل الابتداء، ولكن على سبيل القصاص. وهذا القول أولى القولين بالصواب، وأشبهها بالآية وبما (¬4) قبلها، وهو قوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ} [البقرة: 191] والذي يدل عليه من سياق الآية. قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي: ظلم، فقاتل، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. وسمى الثاني اعتداءً لأنه مجازاة اعتداء فَسُمِّي بمثل اسمه؛ لأن صورةَ الفِعْلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية، ¬

_ (¬1) تقدم الحديث عن رواية عطاء ص 92، وقد ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 215، ولم ينسبه، وروى الطبري 2/ 198، وابن أبي حاتم 1/ 329 عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: أمركم الله بالقصاص، ويأخذ منكم العدوان، وهي بمعنى ما ذكره الواحدي، وعزا ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 201 هذا القول إلى الحسن البصري. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 264. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 264. (¬4) في (أ)، (م): (بما) بلا واو.

195

والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، إذا جازيته بظلمه، وجَهِلَ عَلَيَّ فَجَهِلْتُ عليه، أي: جازيته بجهله. قال عمرو (¬1): ألا لا يَجْهَلَن أحدٌ علينا ... فَنَجْهَل فوق جَهْلِ الجاهلينا (¬2) أي: نكافئ على الجهل بأكثر من مقداره، ومثله من التنزيل: قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] (¬3). 195 - وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} كل ما أمر الله به من الخير فهو في سبيل الله، وأكثر ما استعمل في الجهاد؛ لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال أبو عبيدة (¬5) والزجاج (¬6): التَهْلُكة: الهلاك، يقال: هلك يهلك هَلاكًا وهُلْكًا وهَلَكًا وتَهلُكةً. ¬

_ (¬1) عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي، شاعر جاهلي، من أصحاب المعلقات، وهو قاتل عمرو بن هند ملك الحيرة، وقد عمِّر وأدركته المنية وهو يناهز الخمسين ومائة. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 151، "الشعر والشعراء" ص 137، "خزانة الأدب" 3/ 183. (¬2) البيت في "ديوانه" ص 330 وقد تقدم تخريجه 2/ 140. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 265، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 199، 200، "تفسير الثعلبي" 2/ 413، 417، "تفسير البغوي" 1/ 215. (¬4) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 265، "تفسير البغوي" 1/ 215. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 68. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 266.

قال الخارزنجي (¬1): لا أَعْلَمُ في كلام العَرب مصدرًا على تفعُلة بضم العين إلا هذا (¬2). قال أبو علي: قد حكى سيبويه التَّضُرَّةُ والتَّسُرَّة وقد جاء هذا المثال اسما غير مصدر، حكى سيبويه: التتفل والتنضُب قال: ولا نعلمه جاء صفةً (¬3). وقال الليث: التَّهْلُكَة: كل شيء تصيرُ عَاقبتُه إلى الهلاك. ومعنى الهَلاكِ: الضياعُ، وهو مصير الشيء بحيث لا يُدْرى أين هو (¬4). ومعنى قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ}، لا تأخذوا في ذلك، يقال لكل من أخذ في عمل: قد ألقى يديه فيه (¬5)، ومنه: ¬

_ (¬1) هو: أحمد بن محمد البشتي، أبو حامد المعروف بالخارْزَنجي، إمام الأدب بخراسان في عصره بلا مدافعة، صنف تكملة كتاب العين، وشرح أبيات أدب الكاتب توفي سنة 348 هـ. ينظر: "الأنساب" 2/ 304 "بغية الوعاة" 1/ 388. (¬2) رواه عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 417، والحيري في "الكفاية" 1/ 136، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 59، "الدر المصون" 2/ 312. (¬3) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 270 - 271، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 59. (¬4) ينظر في التهلكة: "تفسير الثعلبي" 2/ 417، "المفردات" ص 522، "البحر المحيط" 1/ 59، "اللسان" 8/ 4686 (هلك)، وقال الحافظ في "الفتح" 8/: وقيل: التهلكة: ما أمكن التحرز منه، والهلاك بخلافه، وقيل: التهلكة: نفس الشيء المهلك، وقيل ما تضر عاقبته، والمشهور الأول. وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 215، "البحر المحيط" 2/ 60، وقد تكلم كثيرا، يحسن تلخيص كلامه. (¬5) "تفسير الطبري" 2/ 204، 205، "تفسير الثعلبي" 2/ 418.

حتى إذا ألقت يدًا في كافر (¬1) أي: بدأت (¬2) في المغيب (¬3). وقال المبرد: عبر بالأيدي عن النفس، أراد: لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، فعبر بالبَعْضِ عن الكُلِّ، كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] (¬4). والباء زائدة، أراد: لا تلقوا أيديكم، يدل عليه قوله {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} [النحل: 15]. فعدّى بغير الباء (¬5). وقال أبو علي: المعنى لا تقربوا مما يهلككم؛ لأن من ألقى يَدَهُ إلى الشيء فقد قَرُبَ منه، وهذا مبالغة (في الزجر) (¬6) وتأكيد، لأن النهي إذا وقع عن (¬7) مشارفته ومُقاربته فمباشرته أولى بالانتهاء، وكان المعنى: لا تقربوا من ترك الإنفاق في سبيل الله (¬8). ¬

_ (¬1) عجز البيت: وأَجَنَّ عوراتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُها والبيت للبيد في "ديوانه" ص 316، و"شرح المعلقات السبع" لأبي عبد الله الزورني ص 220، و"شرح المعلقات العشر" للتبريزي ص 246، و"إصلاح المنطق" ص 127، "تفسير الثعلبي" 2/ 418. والكافر: الليل، والكفر: الستر، والإجنان: الستر أيضًا. "لسان العرب" 7/ 3897 (كفر). (¬2) في (م): (بدت). (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 418. (¬4) نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 418، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 203. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 419، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 353، "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري 244. (¬6) سقطت من (م). (¬7) في (ش): (من). (¬8) ينظر في ذكر الأقوال في الآية "تفسير الطبري" 2/ 200 - 202، "البغوي" =

وأكثر أهل التفسير على أن معنى قول {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أي: لا تمسكوا ولا تبخلوا عن الإنفاق في سبيل الله. والمراد بهذه الآية: النَّهْيُ عن ترك النفقة في الجهاد، إما أن ينفق على نفسه ويخرج، وإما أن ينفق على من يغزو من المسلمين (¬1)، حتى قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئًا (¬2). وقال السدي، في هذه الآية: أنفق في سبيل الله ولو عقالًا. {وَلَا تُلْقُوا ¬

_ = 1/ 215 - 217، "زاد المسير" 1/ 203، "البحر المحيط" 2/ 70، وذكر تسعة أقوال ثم قال: وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية، والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله، وقال الطبري في "تفسيره" 3/ 593: فالصواب أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه، فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه، ثم ذكر أثر ابن عباس: التهلكة: عذاب الله. (¬1) ذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 200 - 202، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 331 الآثار في ذلك عن حذيفة، وابن عباس وعكرمة والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي صالح والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة ومحمد بن كعب القرظي، وينظر: "صحيح البخاري" 5/ 185، و"تفسير سفيان الثوري" ص 59، وسعيد بن منصور في "السنن" 3/ 710، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 74، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 262. (¬2) رواه عنه سفيان الثوري في "تفسيره" 59، والإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال" 2/ 395، والطبري 2/ 200، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 331، والبيهقي 9/ 45.

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا تقل: ليس عندي شيء (¬1). وقال أبو إسحاق معناه: أنكم إن لم تنفقوا في سبيل الله هلكتم، أي: عصيتم الله فهلكتم، وجائز أن يكون هلكتم بتقوّي عدوكم عليكم (¬2). فعلى هذا معنى التهلكة: الهلاك بالعصيان بترك النفقة، والهلاك بقوة العدو عند ترك النفقة في الجهاد. وقال أبو أيوب الأنصاري (¬3): إنها نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينَهُ ونَصَر رَسُوله، قلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 201، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 331. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 266. (¬3) هو: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري، من بني النجار، صحابي شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، رحل إلى الشام وغزا مع جيش معاوية القسطنطينية، وتوفي هناك سنة 52 هـ. ينظر: "الإصابة" 1/ 405، "الأعلام" 2/ 295. (¬4) الحديث رواه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة البقرة 5/ 212 وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في "تفسيره" 1/ 236، وأبو داود في الجهاد، باب: في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 3/ 12 برقم 2512، وصححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود برقم 2193، ولهذا الحديث قصة، عن أسلم بن عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت في الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. هذا لفظ أبي داود. قال الحافظ في "الفتح" 8/ 34: وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك، أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الحسنة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور =

فعلى هذا، التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. والمعنى: لا تتركوا الجهاد فتهلكوا، فسمى ترك الجهاد تَهُلكة؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك في الدنيا بقوة العدو وفي الآخرة بالعصيان (¬1). وفي الآية قول ثالث، وهو ما روي عن البراء بن عازب (¬2): أنه قيل له في هذه الآية: أهو (¬3) الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه (¬4) ويقول: لا توبة لي؟ (¬5). ¬

_ = فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 205، "الثعلبي" 2/ 426، "البحر المحيط" 2/ 70. (¬2) هو: البراء بن عازب بن حارث الأنصاري الأوسي، صحابي غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة غزوة، وهو الذي افتتح الرَّيَّ، وشهد الجمل وصفين مع علي - رضي الله عنه -، ومات في إمارة مصعب بن الزبير. ينظر: "أسد الغابة" 1/ 205، "الإصابة" 1/ 278. (¬3) في (ش): (أهوالٌ). (¬4) في (م): (بيده). (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 202، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 332، والحاكم 2/ 302، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 407، والخطابي في "غريب الحديث" 1/ 536، وصحح إسناده الحافظ في "الفتح" 8/ 185، وروى الطبري في "تفسيره" 2/ 202، وأحمد في "مسنده" 4/ 281 عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا؛ لأن الله عز وجل بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك، إنما ذلك في النفقة، وذكر الحافظ في "الفتح" 8/ 185 أنه إن كان محفوظا، فلعل للبراء فيه جوابين، والأول من رواية الثوري وأبي إسرائيل وأبي الأحوص ونحوهم، وكلٌّ منهم أتقن من أبي بكر بن عياش، فكيف مع اجتماعهم وانفراده.

وهذا القول اختيار يمان (¬1) بن رِئَاب (¬2) (¬3) والمفضل (¬4)، قالا: يقال للرجل إذا استسلم للهلاك ويئس من النجاة: ألقى بيديه (¬5). وقال الفضيل: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بإساءة الظن بالله (¬6)، فعلى هذا القول التهلكة: هو ترك التوبة، والقنوط من رحمة الله، أو إساءة الظن بالله عز وجل في الإخلاف عند الإنفاق (¬7). قال أبو علي الفارسي: الباء في قوله: (بأيديكم) زيادة، المعنى: (ولا تلقوا أيديكم) يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} [النحل: 15] {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [الحجر: 19] و {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151]، وزيادتها ههنا كزيادتها في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 2/ 437. (¬2) في (ش): (ريمان بن زيّات). وفي (م): (رباب). (¬3) هو: اليمان بن رباب أو ابن رئاب البصري من رؤساء الخوارج، تقدمت ترجمته. (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 437. وهذا القول مروي أيضًا عن محمد بن سيرين وعبيدة السلماني وأبي قلابة البصري. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 203، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 332، "تفسير عبد الرزاق" 1/ 332، "تفسير الثعلبي" 2/ 436 - 437. (¬5) في (م): (بيده). (¬6) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" 59، ورواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله" ص 117، وذكره الثعلبي 2/ 443، وروى الطبري 2/ 205 عن عكرمة نحوه. (¬7) وروى الطبري 2/ 205، وابن أبي حاتم 1/ 232 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: التهلكة: عذاب الله، وهذا قول رابع في معنى الآية. (¬8) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 205، "تفسير البغوي" 1/ 215، وقال: وقيل: الباء في موضعها، وفيه حذف، أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، واختار أبو=

وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} معناه على القول الأول في التهلكة: أنفقوا في سبيل الله، فمن أنفق في سبيل الله فهو محسن. قال ابن عباس: أي (¬1): أحسنوا الظن بالله، فإنه يُضَاعِفُ الثواب، ويُخْلِفُ لكم النفقة (¬2)، فالإحسان على هذا محمول على إحسان الظن بالله في الخُلْف، وعلى القول الثاني: جاهدوا، والمجاهد في سبيل الله محسنٌ، وعلى القول الثالث: تفسير الإحسان إحسان الظن بالله في قبول التوبة وغفران الذنوب (¬3). ... ¬

_ = حيان في "البحر المحيط" 2/ 71 أن المفعول في المعنى هو بأيديكم، لكنه ضمن ألقى معنى ما يتعدى بالباء فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة، ويكون إذ ذاك قد عبر عن الأنفس بالأيدي؛ لأن بها الحركة والبطش والامتناع. (¬1) ليست في (م). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" عن عكرمة 2/ 602، وذكر في "البحر المحيط" 2/ 71. (¬3) ينظر: "زاد المسير" 1/ 303، وذكر أن القول الثاني: أحسنوا الظن بالله، قاله عكرمة وسفيان، وهو يخرج على قول من قال: التهلكة: القنوط، والثالث: معناه: أدوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة البقرة من آية (196) - آخر السورة تحقيق د. محمد بن عبد العزيز الخضيري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الرابع

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة البقرة من آية (196) - آخر السورة تحقيق د. محمد بن عبد العزيز الخضيري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الرابع

جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي, محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان, الرياض1430هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 2273 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [4]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

196

196 - قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية. قال ابن عباس (¬1) ومجاهد (¬2): أتِمُّوهما بمناسِكِهما وحدودِهما وسننِهِما وتأديةِ كل ما فيهما (¬3). وقال ابن مسعود (¬4) وعلي (¬5) رضي الله عنهما: إتمامُهُما: أن تُحرم بهما من دُوَيْرة أهلك مؤتنفَيْن. وبهذا قال سعيد بن جبير (¬6) وطاوس (¬7). وفي إيجاب العمرة قولان: ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "السنن" 2/ 712، والطبري في "تفسيره" عنه بمعناه 2/ 207، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 376 إلى وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، والنحاس في "ناسخه"، والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه". (¬2) في "تفسير مجاهد" 1/ 100، ورواه الثوري في "تفسيره" ص 65، والطبري في "تفسيره" 2/ 207، وعزاه في "الدر" 1/ 376 إلى عبد بن حميد. (¬3) وبه قال علقمة وإبراهيم. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 206، 207، "تفسير الثعلبي" 2/ 452. (¬4) نسبه إليه البغوي في "تفسيره" 1/ 217، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 117. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" بمعناه 2/ 207، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 333، والحاكم 2/ 303 وصححه، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 376 إلى وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والنحاس في "ناسخه"، والبيهقي في "سننه". (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" عنه 2/ 207، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 333، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 263. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 4/ 9، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 333، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 225، وقد ذكر المؤلف قولين، والقول الثالث: إتمامهما: أن يفصل بينهما فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، روي عن عمر والحسن وعطاء، والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما، روي عن مجاهد. والخامس: ألا يتجر معهما. والسادس: ألا يحرم بالعمرة في أشهر الحج، قاله قتادة. ينظر: "زاد المسير" 1/ 204 (ط. المكتب الإسلامي)

أحدهما: أنها (¬1) واجبة، وهو مذهب علي (¬2) وابن عباس (¬3)، وقول الشافعي في الجديد (¬4). قال ابن عباس: والله إن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬5). وقال مسروق: نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة، ثم تلا هذه الآية (¬6). فمن أوجَبَ العمرةَ تأول الإتمام على معنى الابتداء، أي: أقيموهما وافعلوهما بما فيهما من الأعمال، كقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ¬

_ (¬1) في (أ) (أنهما)، وفي (م) (أيهما). (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 209، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 176 إلى عبد ابن حميد، وذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 463. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 334، والدارقطني في "السنن" 2/ 285، والبيهقي في "تفسيره" 4/ 351، والحاكم 1/ 643 وصححه، وعزاه في "الدر" 1/ 377، إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد والدارقطني والحاكم والبيهقي. (¬4) ينظر: "الأم" للشافعي 2/ 477 (ط. دار إحياء التراث العربي) "المجموع" 7/ 7، "البيان في مذهب الشافعي" للعمراني 4/ 11، وممن قال بالوجوب: ابن عمر وجابر وزيد وعطاء وابن المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، والسفيانان، وقتادة، وهو المذهب عند الحنابلة. ينظر: "المصنف" لابن أبي شيبة 4/ 304 - 305، "البيان" للعمراني 4/ 11، "تفسير الثعلبي" 2/ 463، "الفروع" لابن مفلح 3/ 203. (¬5) رواه البخاري تعليقًا في العمرة، باب: وجوب الحج والعمرة 2/ 240، ورواه موصولاً: الشافعي في "الأم" 4/ 144، والبيهقي في "تفسيره" 4/ 351، وابن عبد البر في "التمهيد" 20/ 16. (¬6) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 209، والبيهقي في "تفسيره" 4/ 351، وابن عبد البر في "التمهيد" 20/ 15.

فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، أي: فعلهن وقام بهن، وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، أي: ثم ابتدؤوا الصيام وأتموه؛ لأنه ذكر الإتمام عَقِيب الأكل والشرب (¬1). وفرائض الحَجِّ أربعةٌ: الإحرامُ، والوقوفُ، وطوافُ الإفاضة، والسعيُ (¬2). وأعمال العمرة: الإحرامُ، والطوافُ، والسعي، والحلق والتقصير (¬3)، وأقله: ثلاث شَعَرات (¬4). القول الثاني: أن العمرة سنةٌ وليست بفريضة، وهو مذهب أهل العراق (¬5)، وحملوا الآية على معنى: أتموها إذا دخلتم فيها، كالمتطوع ¬

_ (¬1) من "تفسير الثعلبي" 2/ 469، وينظر: "الأم" 2/ 144، "التمهيد" 20/ 10. (¬2) من "تفسير الثعلبي" 2/ 454، وهذا مذهب الجمهور. ينظر: "حاشية ابن عابدين" 2/ 250، "شرح الزرقاني على مختصر خليل" 2/ 281، "المهذب" للشيرازي 2/ 789، "الوسيط" للغزالي 2/ 1261، "البيان" للعمراني 4/ 373، "الموسوعة الفقهية الكويتية" 17/ 49. (¬3) من "تفسير الثعلبي" 2/ 454، وينظر: "المهذب" 2/ 789، "المجموع" 8/ 265، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن أركان العمرة ثلاثة، هي: الإحرام، والطواف، والسعي، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وزاد الشافعية ركنًا رابعًا هو الحلق، ومذهب الحنفية أن الإحرام شرط للعمرة، وركنها واحد هو الطواف. ينظر: "الشرح الكبير" و"حاشيته للدسوقي" 2/ 21، "المسلك المتقسط" ص 307، "كشاف القناع" 2/ 521، "البيان" للعمراني 4/ 370. (¬4) القدر الواجب: هو حلق شعر جميع الرأس، أو تقصيره عند المالكية والحنابلة، وربع الرأس على الأقل عند الحنفية، وثلاث شعرات على الأقل عند الشافعية. ينظر: "فتح القدير" 2/ 178 - 179، "المسلك المتقسط" ص 151 - 154، "الشرح الكبير" و"حاشيته للدسوقي" 2/ 46، "الفروع" 3/ 513. (¬5) القول بالسنية قول المالكية وأكثر الحنفية، وهو قول الشافعي في القديم، واختيار=

بالحج يلزمه المضي فيه إذا شرع فيه (¬1). والقول الأول أولى لأن فيه جمعاً بين وجهي الإتمام، ومعناه: ابتدئوا العمرة فإذا دخلتم فيها فأتموها، وقد تقول لمن لم يشرع في أمر: أَتِمَّ هذا الأمر (¬2). وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} اختلف أهلُ اللغةِ في الحَصْر والإحْصَار، ففرَّق بينهما قوم. أقرأني العروضي، قال: أقرأنا الأزهري، عن المنذري، عن ابن فهم، عن محمد بن سلام (¬3)، عن يونس، قال: إذا رُدّ الرجل عن وجه يريده فقد أُحْصر، وإذا حُبِسَ فقد حُصر (¬4). وبهذا الإسناد عن المنذري، عن الحرَّاني، عن ابن السِّكِّيت (¬5): ¬

_ = الطبري، وقول أبي ثور، وذهب بعض الحنفية إلى أنها واجبة في العمر مرة واحدة، على اصطلاح الحنفية في الواجب. ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 59، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 264، "شرح فتح القدير" 2/ 306، "بدائع الصنائع" 2/ 226، "حاشية الدسوقي" 2/ 2، "الموسوعة الكويتية" 3/ 314. (¬1) من "تفسير الثعلبي" 2/ 468، وينظر: "الأم" 2/ 144، "تفسير الطبري" 2/ 210، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 264، "التمهيد" 20/ 10. (¬2) من "تفسير الثعلبي" 2/ 469، وقال: ولأن من أوجبها أكثر، والأخبار في إيجاب الحج والعمرة مقترنين أظهر وأشهر. (¬3) هو: محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم أبو عبد الله، الجمحي البصري، تقدمت ترجمته (البقرة آية 58). (¬4) في "تهذيب اللغة" 1/ 838 (حصر): عن يونس أنه قال: إذا رُدَّ الرجل عن وجه يريده فقد أحصر، أبو عبيد، عن أبي عبيدة: حُصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرض أو انقطاع به. (¬5) في "تهذيب اللغة" 2/ 838 (حصر)، وقال ابن السكيت، ولم يذكر الإسناد.

أحصره المرض: إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها، وحَصَرَه العَدُوّ: إذا ضَيَّق عليه (¬1). وأقرأني سعيد بن أبي بكر الزاهد، عن أبي عليٍّ الحسنِ (¬2) بن أحمد الفارسي، عن أبي إسحاقَ الزجاج، قال: الروايةُ عن أهل اللغة للذي يمنعه الخوف أو المرض: أُحْصِر، وللمحبوس: حُصِر (¬3). وقال ابن قتيبة في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}: هو أن يَعْرِضَ للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مَرَضٍ أو كَسْرٍ أو عَدُو، يقال: قد أُحصر فهو محصَر، فإن حُبِس في سجن أو في دار قيل: حُصِر فهو مَحصُور (¬4). وهذا هو قول الفراء في المَصَادر، ونحو (¬5) ذلك ذكر أبو عبيد عن أبي عبيدة (¬6). وذهب قوم إلى أنهما بمعنى واحد، قال الزجاج، في باب الوفاق من فَعَلْت وأَفْعَلْت، يقال للرجل: من حَصَرك ههنُا، ومن أحصرك؟. وقال أحمدُ بن يحيى: أصل الحَصْرِ والإِحْصَار: الحبس، وحُصِرَ في ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 838 (حصر)، وزاد: إذا ضيق عليه فحصر، أي: ضاق صدره. (¬2) في (أ) (م) الحسن. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 267 بمعناه. (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة 78. (¬5) في (أ) (م) نحو بلا واو. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 69، وينظر: "الفروق في اللغة" للعسكري ص 108، "أحكام القرآن" 1/ 268، وقد فرق بينهما الراكب في "المفردات" ص 128 فقال: والحصر والإحصار من طريق البيت، فالإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فمحمول على الأمرين.

الحبس أقوى من أُحْصِر (¬1). وقال الأزهري: الرواية عن ابن عباس صحيحة أنه قال: لا حصر (¬2) إلا حصر العدو (¬3)، فَجَعْلُه بغير ألف جائزٌ، بمعنى قول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (¬4). وقال الفراء: يقال للذي يمنعه خوف أو مرض: أُحْصِر، ولمن حُبِسَ قَهْرًا: حُصر، فإن نويت بقهر السلطان أنها عِلَّةٌ مانعةٌ ولم يذهب إلى فعل الفاعل جاز فيه أحصر، وإن نويت في العلة (¬5) أنها حبسته جاز حُصِر (¬6). هذا كلام أهل اللغة في الحصر والإحصار، وأصل الباب: الحَبْس، ومنه يقال للذي لا يبوح بسرِّه: حَصِرَة لأنه حبس نفسه عن البَوْح (¬7) قال ¬

_ (¬1) بمعناه عند الثعلبي في "تفسيره" 2/ 495، ونقله في "البحر المحيط" بنحوه 2/ 73، "الدر المصون" 2/ 314. (¬2) سقطت من (ش). (¬3) رواه الشافعي في "الأم" 2/ 178، والطبري في "تفسيره" 2/ 214، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 336، والبيهقي في "تفسيره" 5/ 219، وصحح إسناده الحافظ في "تلخيص الحبير" 2/ 288. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 838، قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية: أن الإحصار يستعمل في العدو، فأما العدو فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما، نقله القرطبي في "تفسيره" 2/ 348 - 349، وقال أبو حيان في: "البحر المحيط" 2/ 73: وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة أن الإحصار والحصر سواء، وأنهما يقالان في المنع بالعدو وبالمرض وبغير ذلك من الموانع، فتحمل الآية على ذلك، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار، وليس في الآية تقيد، وبهذا قال قتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأبو حنيفة. (¬5) في (ش) اللغة. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 118 بمعناه. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 838 حصر.

جرير: ولقد تَكَنَّفَنِي الوُشَاةُ فَصَادفوا ... حَصِراً بسرِّكِ يا أُمَيْمُ ضَنِيْنَا (¬1) والحَصْر: احتباس الغائط، والحصير: المَلِك؛ لأنه كالمحبوس في الحجاب، وهو في شعر لبيد: جِنٌّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ (¬2) والحصير: المعروف، وسَقِيْفُ من بَرْديٍّ (¬3)؛ لانضمام بعضه إلى بعض، كحبس (¬4) الشيء مع غيره، ومنه يقال للجَنْب: حصير، تشبيهًا به (¬5). فأما حُكْمُ الإِحْصار فمذهب أهل العراق: أن كل مانع منع المُحْرم عن الوصول إلى البيت من: مَرَضٍ أو جُرْح أو كسر أو خوف عدو أو أي مانع كان، فإنه يقيم مكانه على إحرامه، ولبعث بهديه، أو بثمن الهدي، فإذا نحر الهدي حَلَّ من إحرامه. واحتجوا بأن الإحصار من طريق اللفظ عام ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 0476 وقد ورد البيت: ولقد تسقطني، وعند الطبري: تساقطني 3/ 255، وورد منسوبا له في "مجاز القرآن" 1/ 92، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 407،"تهذيب اللغة" 4/ 235، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 73، "لسان العرب" 2/ 896. (¬2) ورد البيت وهو في "ديوانه" ص 160 هكذا: وَمَقَامةٍ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأنهم ... جِنٌّ لدى طَرَفِ الحَصِيرِ قِيامُ "المفردات" للراغب ص 128 وروايته: ومَعَالمٍ. (¬3) في (ش) سقيف من تردي وفي (م) سفيف من بردي. والبردي: نبات يعمل منه الحصر. (¬4) في (ش): كلبس. (¬5) ينظر في مادة (حصر): "تهذيب اللغة" 2/ 839، "المفردات" ص128، "عمدة الحفاظ" 1/ 481.

في كل مانع (¬1). وأما مذهب أهل الحجاز (¬2)، وهو مذهب الشافعي (¬3)، رحمه الله، أن الحكم المتعلق بالإحصار إنما يتعلق بحبس العدو عن الوصول إلى البيت، فأما سائر الأعذار فغير داخل في الآية، والدليل على (¬4) هذا سببُ النزول، وهو إحصار العدوِّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحُدَيْبِيَةِ (¬5)، يَدُلُّ على أن المراد به حبس العدو فقط، قوله في سياق الآية: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ولم يقل: فإذا أندملتم (¬6)، والأمن المطلق يقتضى الخوف المطلق من العدو، لأنه قال: ¬

_ (¬1) وبه قال النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ومقاتل. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 215، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 268، "شرح معاني الآثار" 2/ 252، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 119، "تفسير القرطبي" 2/ 350 - 351. (¬2) ينظر: "الموطأ" 1/ 360، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 115، "تفسير الثعلبي" 2/ 495، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 90 - 91، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 119، وقال: قاله ابن عمر وابن عباس وأنس والشافعي، وهو اختيار علمائنا، ورأي أكثر أهل اللغة ومُحصِّليها على أن أُحصِر: عرض للمرض، وحُصر: نزل به الحصر، واستدرك عليه القرطبي في "تفسيره" 2/ 350 فقال: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا، فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا، وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصِر حصْرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى، وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة. (¬3) "الأم" 2/ 178، و"اختلاف العلماء" للمروزي ص 85، و"السنن" للبيهقي 5/ 219. (¬4) في (ش) عليه. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي": 2/ 495. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 119: وقد اتفق علماء الإسلام على أن الآية نزلت سنة ست، في عمرة الحديبية، حين صد المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 495، "تفسير القرطبى" 2/ 350.

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} فعُلم أن الإحصار في الآية ليس بالمرض، وأيضًا ذكرنا عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو (¬1). وقولهم: الإحصار عام، قلنا: هو عام من حيث اللفظ، خاص ههنا في حبس العدو، بما (¬2) ذكرنا من الدليل (¬3). فإذا (¬4) بان أن الإحصار هو قهر العدو بالحبس عن البيت، فالرجل إذا أحرم بحجٍّ أو عُمْرةٍ انحتم عليه الإتمام، حتى لو أفسد الإحرام بالجماع وجب عليه المضي في فَاسِدِ الإحرام، وإنما يباح التحلل (¬5) من الإحرام بإحصار العدو، كما أُحْصِر رسول الله (¬6). ثم إن كان الحج فَرْضاً أو العمرة فأحصره العدو فقال الشافعي: إذا أُحْصِرَ بعدوٍّ كافرٍ أو مسلم، أو سُلْطَان يحبسه في سجن، نحر هديًا بالإحصار حيث أُحْصِر في حِلٍّ أو حَرَم، وحَلَّ من إحرامه، وعليه القَضَاءُ إذا انْجَلَى الحَصْر، فإن انجلى الحَصْرُ عاجلاً أمكنه القضاء في ذلك العام، وإن كان النُّسُكُ في الأصل نفلاً فأُحْصِر فَتَحَلَّلَ فلا قضاء عليه من طريق الوجوب، ولكن يُسْتَحَبُّ له ذَلكَ، وإذا لم يجد هديًا يشتريه، أو كان فقيرًا، ففيه قَوْلان: أحدهما: لا يحل إلا بهدي. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في (م) وبما. (¬3) ينظر في ذكر الأدلة: "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 134 - 135. (¬4) في (ش) فإن. (¬5) في (ش) التحليل. (¬6) ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 348 - 355، "البحر المحيط" 2/ 73.

والآخر: إذا لم يَقْدِر عليه حَلَّ، وأتى به إذا قَدَرَ عَليه (¬1). وأما المحصر بالمرض، فإنه يصير على إحرامه ولا يتحلل، وله أن يتداوى بما لابد منه ويفتدي، ويأتي في هذه الآية ذكره (¬2). وفي الآية إضمار، تقديره: فإن أحصرتم دون تمام الحج والعمرة، وجاز الحذف لأن ما تقدم يدل عليه (¬3). قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} محل "ما" رفع. المعنى: فواجبٌ عليكم ما استيسر (¬4). قال الفراء: ولو نصبتَ على معنى: اهْدُوا ما استيسر، كان صوابًا، وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع (¬5). ¬

_ (¬1) "مختصر المزني" الملحق بكتاب "الأم" للشافعي 8/ 169، "تفسير الثعلبي" 2/ 496، والنقل عنه. وينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 122، "تفسير القرطبي" 3/ 353 - 355، ويرى أبو حنيفة أن عليه القضاء، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 226، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى عمرة الحديبية في العام الآخر، وأجيبوا بأنه إنما قضاها لأن الصلح وقع على ذلك إرغاما للمشركين، وإتماما للرؤيا، وتحقيقا للموعد، وهي في ابتداء عمرة أخرى، وسميت عمرة القضية من المقاضاة لا من القضاء. (¬2) من "تفسير الثعلبي" 2/ 497، وينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 121، "تفسير القرطبي" 2/ 351، وقد رد الإمام الطبري هذا القول في "تفسيره" 2/ 227، وناقش القائلين به، وبين عدم الفرق بين الإحصار بالعدو وبالمرض لعدم الفارق بين المعنيين بكلام نفيس. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 215. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 267، "تفسير الطبري" 2/ 219، "تفسير الثعلبي" 2/ 498، "تفسير القرطبي" 2/ 355، "التبيان" 122، وقال مكي في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 123: (ما) في موضع رفع بالابتداء، أي: فعليه ما استيسر. (¬5) "معاني القرآن" للفراء بمعناه 1/ 118، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 498، "مشكل =

واستَيْسر بمعنى: تيسر، ومثله استعظم، أي: تَعَظَّم، واسْتَكْبَر، أي: تَكَبَّر (¬1). والهَدْيُ: جَمْعُ هَدْيَة، مثل: شَرْية وشَرْي، وجَدْيَة وجَدْي (¬2). قال أحمد بن يحيى: أهلُ الحجاز يُخَفِّفُون الهَدْي، وتميمٌ تُثَقِّلُهُ، فيقولون: هديّة وهديّ، مثل مطيّة ومَطِيّ (¬3). قال الشاعر: حَلَفْتُ بربِّ مَكَّةَ والمُصَلَّى ... وأعْنَاقِ الهَديِّ مُقَلَّداتِ (¬4) ومعنى الهَدْي: ما يُهْدَى إلى بيت الله عزّ وجلّ تَقَرُّبًا إليه، بمنزلة الهَدِيَّةِ يُهْدِيها الإنسان إلى غيره متقربًا بها إليه (¬5). قال علي (¬6) وابن ¬

_ = إعراب القرآن" لمكي 1/ 123، "التبيان" 122، "البحر المحيط" 2/ 74. (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 160، "التبيان" للعكبري 122، قال: والسين هنا ليست للاستدعاء. وقال في "البحر المحيط" 2/ 74: واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد، أي: يسر، بمعنى: استغنى وغني، واستصعب وصعب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 219، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 267، "تهذيب اللغة" 4/ 3738، "المفردات" 519، "اللسان" 8/ 4642 "هدى". (¬3) نقله الرازي في "التفسير الكبير" 5/ 160، وصاحب "اللسان" 8/ 4642 (هدى). (¬4) البيت للفرزدق في "ديوانه" 1/ 108، "لسان العرب" مادة: قلد 6/ 3718. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 499، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 220، "المفردات" 519، "التفسير الكبير" 5/ 160، "اللسان" 8/ 4642 (هدى). (¬6) رواه عنه مالك في "الموطأ" 1/ 384، وسعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 753، والطبري في "تفسيره" 2/ 217، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 336، قال: ما استيسر من الهدي: شاة، ولم يذكر هذا التقسيم، والواحدي لعله لما نقل هذا عن الثعلبي لم يلتفت إلى التفريق في عبارته؛ حيث قال الثعلبي 2/ 499: فقال علي ابن أبي طالب وابن عباس: شاة، وقال الحسن وقتادة: أعلاه بدنة، وأوسطه شاة.

عباس (¬1) والحسن (¬2) وقتادة (¬3) في هذه الآية: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسُّه شاة، فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس. وقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي: لا تَتَحَلَّلُوا من إحرامكم حتى يُنْحَرَ الهَدْيُ (¬4). ومعنى {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي: حيث يَحِلُّ ذبحُه ونَحْرُه، يُقال: حلَّ الشيء يَحِلُّ حَلاَلاً وحِلاًّ، وهذا أوان محله، أي: حينَ حَلَّ (¬5)، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في اللحم الذي تصدّق على بريرة: "قربوه فقد بَلَغ محله" (¬6) أي: حل لنا ¬

_ = أو لعله سقط من المخطوطة. والله أعلم. (¬1) رواه مالك في "الموطأ" 1/ 384، والطبري بمعناه 2/ 215 - 217، وابن أبي حاتم 1/ 336، وسعيد بن منصور 3/ 749. (¬2) رواه سعيد بن منصور في "السنن" 3/ 758، والطبري في "تفسيره" 2/ 216، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 336 كلهم عن الحسن قال: فما استيسر من الهدي: شاة، وليس فيه التقسيم المذكور. وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 500 بلفظ الواحدى. (¬3) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 499. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 220. (¬5) من "تفسير الثعلبي"، وينظر: "غريب القرآن" 79، "تفسير الطبري" 2/ 220. (¬6) بهذا اللفظ ذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 222، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 502، وتابعه الواحدي هنا. وحديث بريرة المشهور، لفظه: هو لها صدقة ولنا هدية، رواه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/ 164 برقم 1493، ومسلم في العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق 2/ 1143 برقم 1504 وليس فيه اللفظ الذي ذكره المؤلف، لكنه ورد في حديث أم عطية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال عن الشاة التي أرسلتها نسيبة الأنصارية: فقد بلغت محلها، رواه البخاري في الزكاة، باب: قدر كم يعطي من الزكاة والصدقة 2/ 148 برقم 1446، ومسلم في الزكاة، باب. إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم - 2/ 756. =

بالهدية إلينا (¬1)، بعد أن كان صدقة على بريرة (¬2) (¬3). وهكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، حين صُدُّوا عن البيت، نَحَروا هَدْيَهُم بالحديبية ليست من الحرم (¬4). قال الشافعي رحمه الله: وكل ما وجب على المحرم في ماله من بَدَنةٍ وجَزَاء وَهَدْي فلا يُجْزِي إلا في الحرم، لمساكين أهله، إلا في موضعين: أحدهما: دم المحصر بالعدو، فإنه ينحر حيث حبس ولحل. والآخر: من ساق هديًا فعَطب في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين (¬5). هذا على مذهب أهل الحجاز (¬6)، وعلى مذهب أهل العراق محلُّ ¬

_ = قال أحمد شاكر في تعليقه على الطبري: ولم أجد لفظ: "فقد بلغ محله"، الذي حكاه الطبري في قصة بريرة، ولعله وقع إليه من رواية خفيت علينا، ثم ذكر شاكر أن نحو هذا اللفظ جاء في قصتين أخريين: إحداهما: من حديث أم عطية الأنصارية، ولفظه: "إنها قد بلغت محلها"، والأخرى: من حديث جويرية بنحو اللفظ السابق. (¬1) سقطت من (ش). (¬2) بريرة مولاة عائشة رضي الله عنهما، وكانت مولاة لبعض الأنصار، ثم اشترتها عائشة فأعتقتها، وكانت تحت مغيث فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد عتقها، فاختارت فراقه، وعاشت إلى خلافة يزيد بن معاوية. ينظر: "صحيح البخاري" 6/ 210، "الاستيعاب" 4/ 357 (3290). (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 502. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 221، 222، "تفسير الثعلبي" 2/ 502. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 497، وقد عزاه فقال: وقال بعض الفقهاء، ولم يعزه إلى الشافعي، لكن الجملة التي قبله عزاها للشافعي، وهي التي نقلها الواحدي قبل عدة أسطر. (¬6) ينظر: "الأم" 2/ 174، "تفسير الثعلبي" 2/ 501، "أحكام القرآن" لابن العربي=

هدي المحصر الحرمُ، ولا محل له غيره، فإن كان حاجًا فمحله يوم النحر، وإن كان معتمرًا فمحله (¬1) يوم يبلغ هديه الحرم (¬2). وحقيقة الخلاف تعود إلى أن عند أهل الحجاز المحل في هذه الآية اسمًا للأوان الذي يحل فيه ذبح الهدي عن المحصر، وعند غيرهم المحل اسم للمكان (¬3). وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} نزلت في كعب ابن عُجْرة (¬4) قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القَمْل والصِّيبَان، وهي تَتَناثر على وجْهي وأنا أطبخ قِدرًا لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيؤذيك هوام رأسك؟ " قلت: نعم يا رسول الله قال: "احلق رأسك"، فأنزل الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} (¬5) أي: ¬

_ = 1/ 122، "تفسير الطبري" 2/ 221، 222، وبين رحمه الله 2/ 226، 227 أن أولى الأقوال بالصواب قول من قال: إن المراد بالآية كل محصر بعمرة أو حج، وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله، وأراد بالمحل: المنحر أو المذبح، وذلك حين حل ذبحه ونحره في حرم كان أو حل. (¬1) في (م) (فحله في الموضعين). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 223، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 272، "شرح معاني الآثار" 2/ 251، "بدائع الصنائع" 2/ 179. (¬3) "التفسير الكبير" 5/ 162. (¬4) كعب بن عجرة بن أمية البلوي، الأنصاري المدني، أبو محمد، صحابي مشهور، تأخر إسلامه، ثم شهد المشاهد كلها، مات بعد الخمسين، وله نيف وسبعون سنة، روى حديثه الجماعة. ينظر، "أسد الغابة" 4/ 243، "تقريب التهذيب" ص 461 (5643). (¬5) أخرجه البخاري (1817) كتاب المحصر، باب: النسك شاة، ومسلم (1201) =

فحلق أو فداوى فعليه فدية يفدي بها إحرامه؛ لأنه يجبر بها ما وقع من خلل في إحرامه (¬1). والحكم في هذا: أن المحرم إذا تأذّى بهوامِّ رأسِه أو بالمرض أُبيح له الحلق والمداواة بشرط الفدية، وهذه الفدية على التخيير أيها شاء فعل، كما دل عليه ظاهر الآية (¬2)، فالصيام ثلاثة أيام، يصوم حيث شاء من البلاد (¬3)، والصدقة إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مدان، فيكون الجملة فَرَقًا، وهو اثنا عشر مدًّا (¬4)، وفي سائر الكفارات لكلِّ مسكين (¬5) مدٌّ واحد. وأصل معنى الصدقة نذكرها في قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] إن شاء الله تعالى. ¬

_ = كتاب الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم، وقال الطبري في "تفسيره" 2/ 230: وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية نزلت بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى رأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية، ثم ذكر 28 طريقا للحديث. والوفرة: أعظم من الجمة، وهي: ما جاوز شحمة الأذنين من الشعر، ثم اللمة، وهي: ما ألم بالمنكبين، والصئبان: جمع صؤاب، جمع: صؤابة، وهو بيض القمل، والهوام: واحدها: هامة، وهي الحيات وأشباهها مما يهم، أي: يدب، والهميم: الدبيب، وكنوا عن القمل بأنها هوام؛ لأنها تهم في الرأس، أي: تدب فيه وتؤذي. (¬1) "تفسير القرطبي" 2/ 360، "اللسان" 6/ 3367 فدي. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 231 - 234، 236، 237، "تفسير الثعلبي" 2/ 508، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 124. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 507، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 124 - 125، "تفسير القرطبي" 2/ 363 خلافًا لقول الحسن وعكرمة. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 507، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 125، "تفسير القرطبي" 2/ 362 - 363. (¬5) ليست في (أ) ولا (م).

وقوله تعالى: {أَوْ نُسُكٍ} جمعُ نسيكة، وهي الذبيحة يَنْسُكُها لله عز وجل، أي: يذبحها (¬1)، ويجمع أيضا: نسائك، وأصل النسك: العبادة. والناسك: العابد. قال ابن الأعرابي: النسك سبائك الفضة. كل سبيكة منها نسيكة، وقيل للمتعبد: ناسك؛ لأنه خَلَّص نفسه من دنس الآثام وصفّاها، كالسبيكة المخلَّصَة من الخَبَث (¬2). هذا أصل معنى النسك. ثم قيل للذبيحة نسك؛ لأنها من أشرف العبادات التي يُتَقرَّب بها إلى الله (¬3). قال العلماء أعلاها: بدنة، وأوسطها: بقرة، وأدناها: شاة. وهو مخير بينهما؛ لأن النسك وقع على هذه الأجناس (¬4). والصحيح: أنه يأتي بالإطعام والنسك أي موضع شاء، لأن الله تعالى أطلق في الآية، ولم يخص مكانًا دون مكانٍ (¬5). ¬

_ (¬1) في (م) بذبحها. (¬2) نقله عن ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" 4/ 3562. (¬3) ينظر في معنى النسك: "تهذيب اللغة" 4/ 3562 - 3563، "المفردات" 493، "التفسير الكبير" 5/ 164، "تفسير القرطبي" 2/ 364، "عمدة الحفاظ" 4/ 197. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 507، "تفسير البغوي" 1/ 223، وقال الرازي في "تفسيره" 5/ 164: اتفقوا في النسك على أن أقله شاة لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة: الجمل، والبقرة، والشاة، ولما كان أقلها الشاة، لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة، قال ابن عبد البر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرًا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء، نقله القرطبي في "تفسيره" 2/ 361. وينظر: "الإجماع في التفسير" ص204. (¬5) وهذا قول علي وإبراهيم النخعي، وروي عن مجاهد، وهو قول المالكية، واختيار الطبري والثعلبي، وقال الحسن وطاوس وعطاء ومجاهد، وهو قول الشافعي: النسك والإطعام بمكة، والصيام حيث شئت، وعلتهم: قياسه على جزاء الصيد، حيث قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وإذا كان =

قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ}، قال ابن عباس: أي من العدو، أو كان حج ليس فيه عدو (¬1)، قد جمع ابن عباس الحالتين في تفسير قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} لأن الأمن يكون بعد خوف فيزول، ويكون من غير خوف قد زال، وكلا الحالتين سواء في حكم المتمتع، وهو قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}. والمتاع: كل شيء يُتَمَتَّعُ به، ويُنْتَفَع به. وأصله: من قولهم: جَبَلٌ ماتعٌ، أي: طَويل، وكل من طالت صُحْبته مع الشيء فهو متمتع به (¬2). والتمتع بالعمرة إلى الحجِّ هو: أن يَقْدُمَ مَكَّةَ مُحْرِمُا، فيعتمرَ في أَشْهُرِ الحَجِّ، ثم يقيم حلالاً بمكةَ، حتى ينشئَ منها الحجَّ فيحج من عامه ذلك، ويكون متمتعًا بمحظورات الإحرام؛ لأنه حل بالعمرة إلى إحرامه بالحج (¬3). ¬

_ = هذا حكم الدم فكذا الإطعام، وقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء، وروي عن الحسن وهو قول أصحاب الرأي، قال الطبري 2/ 240: وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 240، "تفسير الثعلبي" 2/ 509، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 145، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 125، "تفسير القرطبي" 2/ 364. (¬1) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة. والمفسرون على قولين: أحدهما: أمنتم من العدو؛ لأن الأمن لا يقال إلا من العدو، والمرض لا تؤمن معاودته، وبه قال قتادة والربيع، وقال علقمة: أمنتم من المرض والخوف، وكذا قال عروة. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 243. (¬2) ينظر في متع: "تهذيب اللغة" 4/ 3334 - 3335، "المفردات" 463، "تفسير الثعلبي" 2/ 511، "التفسير الكبير" 5/ 165، "عمدة الحفاظ" 4/ 72 - 74، "اللسان" 7/ 4127، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 121، "تفسير الثعلبي" 2/ 510، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 341. (¬3) وبه قال سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء =

ومعنى قوله: {بِالْعُمْرَةِ} هو أي: بسبب العمرة، لأنه لا يتمتع بالعمرة، ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب العمرة حيث أتى بها (¬1). هذا معنى التمتع بالعمرة إلى الحج. وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال أصحابنا: المتمتع الذي يجب عليه الدّم: هو الذي يُحِم في أشهر الحج، ويحل بعمرة في أشهر الحج، ويُحْرم بالحج من عامه ذلك من مكةَ، ولا يرجع إلى الميقات، ويكون من غير أهل الحرم، فإذا انخرم شيء من هذه الشرائط سقط عنه الدم، ولا يكون متمتعاً (¬2). ¬

_ = وإبراهيم والحسن. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 243 - 246،"تفسير الثعلبي" 2/ 510، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 341، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 126، "التفسير الكبير" 5/ 165، "تفسير القرطبي" 2/ 364 - 366، وذكر رحمه الله أربع صور للتمتع، هذه إحداها. والثانية: القرآن، وهي أن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها. والثالثة: أن يحرم بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم أهل بالحج يوم التروية، وهذا الذي توعد عليه عمر بن الخطاب، وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج. والرابعة: متعة المحصر، ومن صُدَّ عن البيت حتى ينقضي الحج فيأتي إلى البيت فيعتمر ويحل إلى الحج من قبل قابل فيحج ويُهدي. وذكر هذه الصور: الطبري بأسانيده 2/ 243 - 246. (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 511، ونقله الرازي في "تفسيره" 5/ 165، وقيل: سمي متمتعًا؛ لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين. ينظر القرطبي في "تفسيره" 2/ 364 - 366. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 511، و"غرائب القرآن" للنيسابوري 2/ 161، "فتح الباري" 3/ 435، وذكر الرازي في "تفسيره" 5/ 165 - 166: أن دم التمتع له خمس شرائط عند الأصحاب أي من الشافعية: أحدها: أن يقدم العمرة على =

وإذا وجدت هذه الشرائط كان متمتعًا، وعليه إراقة دم إن شاء قبل يوم النحر، وإن شاء في يوم النحر (¬1)، ولا يجزيه غيره إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا فعليه صوم عشرة أيام، وذلك قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي: في أشهر الحج. قال المفسرون: يصومُ يومًا قبل التروية، ويومَ التروية، ويومَ عرفة. قال أصحابنا: يصوم ثلاثة أيام قبل يوم النحر في أشهر الحج، إن شاء متتابعة، وإن شاء متفرقة، وإن صام قبل يوم عرفة حتى يكون يوم عرفة (¬2) مفطرًا كان أولى؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صامَ بعرفةَ يومَ عَرَفة، وذلك ¬

_ = الحج. والثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. والثالث: أن يحج من عامه. والرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام. والخاص: أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة، فإن عاد إلى الميقات لم يلزمه شيء. وفصلها ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 126 وزاد فقال: والتمتع يكون بشروط ثمانية: الأول: أن يجمع بين العمرة والحج. الثاني: في سفر واحد. الثالث: في عام واحد. الرابع: في أشهر الحج. الخامس: تقديم العمرة. السادس: ألا يجمعهما، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة. السابع: أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد. الثامن: أن يكون من غير أهل مكة. (¬1) من "تفسير الثعلبي" 2/ 512، وهذا قول علي وابن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين. ينظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 76، "تفسير الطبري" 2/ 245 - 246، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 342. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 247 - 249، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 129 - 131، "زاد المسير" 1/ 206، وقد بين الطبري رحمه الله علة قول من قال: إن آخر الثلاثة قبل يوم النحر، أن الله أوجب صومهن في الحج، وإذا انقضى عرفة انقضى الحج، والعلماء مجمعون على حرمة صوم يوم النحر، فإن كان إجماعهم على حرمة صيام لأجل كونه ليس من أيام الحج فما بعده أولى، وان كان لأجل كونه عيدا فما بعده من أيام التشريق في معناه. وقال آخرون: إن آخرهن أيام التشريق=

أقوى للدعاء (¬1). وقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أما السَّبْعَةُ فله أن يصومها بعد الفراغ من الحج، أين شاء ومتى شاء، والأولى: أن لا يُوقِعَها في أيام التشريق (¬2)، وإن فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج قضاها من بعد. وقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} يقال: كمُل الشيءُ يَكمُل، وكمَل يكمُل، فهو كامِلٌ وكميل، وذُكِر أيضًا: كَمِل يكمَلُ (¬3). وإنما قال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} مع العلم بأن الثلاثة والسبعة عشرة، ¬

_ = لحديث عائشة وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري، قالوا: وأيام منى من أيام الحج، وفيه جملة من أعماله، وممن يرى جواز ذلك: عائشة وابن عمر وابن الزبير ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق، كما في "تفسير البغوي" 1/ 224. والواحدي رحمه الله كأنه بكلامه يرى عدم جواز صيام أيام التشريق مطلقا، وهذا قول الشافعية، والحديث حجة عليهم كما بين ذلك ابن العربي في "تفسيره" 1/ 129 - 130، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 377. (¬1) ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 130، "تفسير القرطبي" 2/ 377. (¬2) ذكر الطبري في "تفسيره" رحمه الله 2/ 253: " الإجماع" على أن المراد بقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، أي: إلى أهليكم، ودليله. حديث ابن عمر في الصحيحين مرفوعا: فمن لم بجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. البخاري 2/ 181 في الحج، باب: من ساق البدن معه، ومسلم 2/ 901 في الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع، وقد اختلف العلماء في حكم صيامها بعد الفراغ من أعمال الحج، وقبل الرجوع على قولين، ذكرهما القرطبي في "تفسيره" 2/ 378 - 379. (¬3) ينظر: "لسان العرب" 7/ 3930، "تفسير القرطبي" 2/ 379.

للتأكيد (¬1)، كقول الفرزدق (¬2): ثَلاثٌ واثْنَتَانِ فهُنَّ خَمْسُ (¬3) ... ....................... البيت. وكقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وقيل: إن العرب أمّةٌ أميةٌ، لا تَعْرِف الحساب (¬4)، ولذلك قال جابر حين ذكر عددَ أهلِ الحُدَيْبِيَة: كنا أربعَ عَشرَ مائة (¬5). ويروى أن رجلًا من الصحابة سَبَى جاريةً في بعض المغازي، فطلبوا منه أن يأخذ الفداء، فقال: لا أفديها إلا بألف درهم، فبذلوها له، فقيل له: لو طلبت أكثر من ذلك لأعطوك، فقال: والله ما عرفت أن فوق الألف حسابا (¬6). وقال الزجاج: العرب قد تذكر الواو والمراد منها أو، كقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فجاز أن يَتَوَهَّم المتوهم أن الفرضَ ثلاثة أيام في الحج أو سبعة في الرجوع، فأعلم الله عز وجل ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 254، "المحرر الوجيز" 2/ 162، "التفسير الكبير" 5/ 169. (¬2) هو: همام بن غالب بن صعصعة التميمي، أبو فراس، الشهير بالفرزدق، شاعر عظيم الأثر في اللغة، مات في بادية البصرة سنة 110 هـ انظر: "الشعر والشعراء" 310، "السير" 4/ 590. (¬3) عجزه: وسادسة تميل إلى شمام والبيت للفرزدق في "ديوانه" 2/ 835، ينظر: "البحر المحيط" 2/ 80، "تفسير الثعلبي" 2/ 513، "الدر المصون" 2/ 320 وشمام: اسم جمل ينظر: "لسان العرب" 5/ 2952 (عشر). (¬4) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 224، "التفسير الكبير" 5/ 169. (¬5) رواه مسلم (1856) كتاب الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. (¬6) لم أجده.

أن العشرَ مفترضةٌ كلها (¬1). وذكر الكمال على التأكيد. وقيل: أراد: كاملة في البدل عن الدم، وإن كانت مُفَرَّقة، ثلاثة في الحج وسبعة في الوطن (¬2). وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي: فأكملوها ولا تنقصوها (¬3). وقوله: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: ذلك الفرض والذي أمرنا به لمن كان من الغرباء من غير أهل مكة (¬4). قال الفراء: واللام في قوله: {لِمَنْ} معناها: على (¬5)، أي: ذلك الفرض الذي هو الدمُ أو الصومُ على من لم يكن من أهل مكة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اشترطي لهم الولاء" (¬6). أي: عليهم. والله تعالى ذكر الأهل والمراد بالحضور المحرم لا الأهل، وذلك أن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 268، وينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 162، "التفسير الكبير" 5/ 169، "تفسير القرطبي" 2/ 379. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 254، "المحرر الوجيز" 2/ 162، "التفسير الكبير" 5/ 169، "تفسير القرطبي" 2/ 379. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 254، "المحرر الوجيز" 2/ 162، "التفسير الكبير" 5/ 170، "تفسير القرطبي" 2/ 379، وهذا هو اختيار الطبري. (¬4) هذا قول، وهو رجوع اسم الإشارة إلى المتمتع الذي يلزمه الدم أو بدله، والقول الآخر: أن اسم الإشارة عائد إلى التمتع، ولهذا اختلفوا في حكم تمتع المكي، وهل له المتعة أو لا؟ والأول: قال به الشافعي، والثاني: قال به أبو حنيفة. ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 171، "تفسير القرطبي" 2/ 380، "البحر المحيط" 2/ 80. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 118، وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 381، والقول الآخر: أن اللام على بابها، والمعنى: ذلك لازم لمن. ينظر: "الدر المصون" 2/ 321. (¬6) أخرجه البخاري (2168) كتاب البيوع، باب: إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، ومسلم (1504) كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق.

الغالب على الرجل أن يسكن حيث كان أهله ساكنون (¬1). والحاضرون: من كانت دارُه على مسافةٍ لا يَقْصُر إليها الصِّلاة، سموا حاضرين: لأنهم يقربون من مكة، والحَضْرة عند العرب: قرب الشيء (¬2). وقوله تعالى: {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أصلُ الحرام: المَنْع، والمحروم: المَمْنُوع من المكاسب، والشيء المنهي عنه حَرَام؛ لأنه منع من إتيانه؛ ومنه قول زُهيْر: لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ (¬3). أي: لا ممنوع. فالمسجد الحرام: الممنوع من أن يفعل فيه ما حَرُم ولم يؤذن في إتيانه (¬4). قال الفراء: ويقال حَرَام وحَرَمُ، مثل: زَمَان وزَمَن (¬5). ¬

_ (¬1) نقله عن الواحدي بتمامه الرازي في "تفسيره" 5/ 172. (¬2) واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام، بعد "الإجماع" على أن أهل مكة وما اتصل بها، من حاضريه، وقال الطبري: بعد "الإجماع" على أهل الحرم، فقالا بعضهم: من وجبت عليه الجمعة فهو من حاضريه، وقال مالك: هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة، وقال أبو حنيفة: من كان دون المواقيت فهو من حاضري المسجد الحرام، وقال الشافعي: ما ذكره الواحدي. ينظر في ذكر الأقوال: "تفسير الطبري" 2/ 255 - 257، "التفسير الكبير" 5/ 171، "تفسير القرطبي" 2/ 381، "البحر المحيط" 2/ 81، "تفسير الثعلبي" 2/ 515. (¬3) البيت بتمامه: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم وهو في "ديوان زهير بشرح ثعلب" ص 153، وفي "الكتاب" لسيبويه 3/ 66، "الكامل" 1/ 134، "المقتضب" 2/ 70، والخليل من الخَلة: الفقير. (¬4) ينظر: "المفردات" ص 122، "عمدة الحفاظ" 1/ 457، ونقله عن الواحدي بلا عزو: الرازي في "تفسيره" 5/ 172، "لسان العرب" 2/ 846 (حرم). (¬5) نقله عنه الرازي في "تفسيره" 5/ 172.

197

وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} قال ابن عباس: يريد فيما افترضه عليكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن تهاون بحدوده (¬1). 197 - قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} تقدير الآية عند النحويين على وجهين: أحدهما: أن التقدير: أشهُر الحج أشهر معلومات، ليكون (¬2) الثاني الأول في المعنى، فحذف المضاف (¬3). والثاني: أنّ التقدير: الحجُّ حجُّ أشهر مَعْلومات، أي: لا حج إلا في هذه الأشهر، ولا يجوز في غيرها، كما كان يفعله أهل الجاهلية، يستجيزونها في غيرها من الأشهر، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر. ويمكن تصحيحُ الآيةِ من غير إضمار، وهو أنه جعل الأشهر الحج لمَّا كان الحج فيها، كقولهم: ليل نائم، لما (¬4) كان النوم فيه جعل نائمًا، كذلك ها هنا، اتسع في الأشهر وأخرجت عن الظرف، كقوله تعالى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59]، ألا تَرَى أن الحجَّ في الأشهر، كما أن الموعدَ في اليوم، إلا أنه اتسع فيه، فجعل الأول لما كان فيه، كذلك جعل الحج الأشهر على الاتساع، لكونه فيها وكثرته من الفاعلين له (¬5)، كما جَعَلتِ الخَنْساءُ الوحشيةَ إقبالًا وإدبارًا لكثرتهما منها في قولها: ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (ش) (أي ليكون). (¬3) قال مكي في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 123: ولولا هذا الإضمار لكان القياس نصب (أشهر) على الظرف، كما تقول: القتال اليوم، والخروج الساعةَ. (¬4) في (ش) ولما. (¬5) ليست في (أ) ولا (م).

تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتّى إذا ادَّكَرَتْ ... فإنَّما هي (¬1) إقْبَالٌ وإدْبَارُ (¬2) وكما قال مُتَمِّم (¬3): لَعَمْري وما دَهْرِي بَتَأبِيْنِ هَالكٍ ... ولا جَزعٍ مما أَصَاب فَأَوجَعَا (¬4) ألا ترى أنه قد جعل دَهره الجزع في قوله: ولا جزعٍ، أي: وما دهري بجزع. والأشهرُ بمنزلة الدهر (¬5). والمراد بالأشهر، هاهنا، عند جميع المفسرين: شَوَّالٌ وذو القَعْدة وتسع من ذي الحِجَّة، ويقال: عشر من ذي الحجة، فمن قال: وتِسْع، أراد الأيام؛ لأن يوم عرفة وهو اليوم التاسع من ذي الحجة آخر هذه الأشهر (¬6)، ومن قال: عَشْرٌ، عَبَّر به عن الليالي؛ لأن من أدركَ عرفةَ في الليل العاشر ¬

_ (¬1) في (ش) (اذكرت فانماهن). (¬2) البيت تقدم تخريجه مع تفسير [البقرة:49]. (¬3) هو: متمم بن نويرة بن جمرة بن ثعلبة بن يربوع، أبو نهشل، صحابي شاعر فحل، اشتهر في الجاهلية والإسلام، أشهر شعره رثاء أخيه مالك، توفي سنة 35 هـ انظر: "أسد الغابة" 5/ 52، 58، "الشعر والشعراء" ص 209. (¬4) البيت في "ديوانه" ص 106، "لسان العرب" 1/ 13 (أبن)، 3/ 1440 (دهر). (¬5) ينظر: في إعراب الآية: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 123، "التبيان" ص 123، "البحر المحيط" 2/ 84، "الدر المصون" 2/ 322، وقال أبو حيان والحج أشهر: مبتدأ وخبر، ولابد من حذف؛ إذ الأشهر ليست الحج، وذلك الحذف إما في المبتدأ، فالتقدير: أشهر الحج، أو وقت الحج، أو في الخبر، أي: الحج حج أشهر، أو يكون الأصل: في أشهر، فاتسع فيه، وأخبر بالظرف عن الحج. ثم رد على ابن عطية قوله بالإلزام بالنصب في الحالة الثالثة. (¬6) ذكره الشافعي في "أحكام القرآن" ص127، "مختصر المزني" 8/ 159، "المجموع" 7/ 143.

من ذي الحجة فقد أدركَ الحج (¬1)، وقد ورد في الخبر اللفظان جميعًا في تفسير الأشهر (¬2). وإنما قال: أشهر، لشهرين وبعض الثالث؛ لأن الاثنين قد يوقع عليها (¬3) لفظ الجمع، وذلك أن التثنية أولُ الجَمْع (¬4)، الدليل عليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26]. وإنما يريد عائشةَ وصَفْوان، وكذلك قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، يريد: داودَ وسليمانَ، وقال: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. وقال الشاعر: ¬

_ (¬1) وهذا قول ابن عباس وابن الزبير وابن سيرين ومجاهد والحسن وعطاء والشعبي وطاوس والنخعي وقتادة ومكحول والسدي والضحاك وأبو حنيفة والشافعي، وابن حبيب عن مالك، وروي عن ابن مسعود وابن عمر، وهو اختيار الطبري. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 257 - 260، "تفسير البغوي" 1/ 225، "البحر المحيط" 2/ 85. (¬2) أما لفظ عشر من ذي الحجة، فقد ورد عن جماعة من الصحابة: عبد الله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنه- وجماعة من التابعين. ينظر: "سنن سعيد بن منصور" 3/ 783 - 791، "المصنف" لابن أبي شيبة، (القسم الأول من الجزء الرابع ص 218)، "تفسير الطبري" 2/ 257، "سنن الدارقطني" 2/ 226، "تفسير الثعلبي" 2/ 516. وأما لفظ تسع، فلم أعثر عليه في شيء من الأحاديث والآثار، لكن ذكرها المفسرون والفقهاء في معرض الخلاف في أشهر الحج، وذكرها الشافعي في "أحكام القرآن" له ص 127، وفي "المجموع" 7/ 143، والمؤلف رحمه الله تابع الثعلبي على هذا. ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 516. (¬3) في (ش) (عليه). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 518، "تفسير البغوي" 1/ 225، "تفسير القرطبي" 2/ 382، "المدخل لعلم تفسير كتاب الله" للحدادي ص 280.

ظَهْرَاهُمَا (¬1) مِثلُ ظُهُورِ التُرسَيْن (¬2) (¬3) وقال ابن الأنباري: العرب توقع الوقت الطويل على الوقت اليسير، فيقولون: قُتل ابن الزبير زمان الحجاج أمير، وإنما كان القتل في أقصر وقت، فجاز على هذا وقوع الأشهر على أقل منها، ويقولون: أتيتك يوم الخميس، وإنما أتاه (¬4) في ساعة منه، فيسمي تلك الساعة يومًا (¬5). وقال عروة بن الزبير (¬6): أراد بالأشهر شوالًا وذا القَعْدة وذا الحِجَّة كُمَّلًا (¬7)؛ لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها، مثل: ¬

_ (¬1) في (ش) (ظهورهما). (¬2) في (ش) (الريسين). (¬3) صدر البيت: ومهمهين قذفين مرتين ينظر: "الكتاب" لسيبويه 2/ 48، وفيه قال الراجز هو خطام المجاشعي، "الخزانة" 2/ 314، "البيان" 2/ 446. وينظر: "الوسيط" للواحدي 1/ 300. (¬4) في (م) أتوه. (¬5) وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 119، "تفسير الطبري" 2/ 260، "تفسير الثعلبي" 2/ 517، قال الفراء: وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائز في غير المواقيت؛ لأن العرب قد تفعل الفعل في أقل من الساعة ثم يوقعونه على اليوم. (¬6) هو: أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أخو عبد الله بن الزبير، وأمهما أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهم- ثقة مشهور، من أفاضل التابعين وعبادهم، توفي سنة 94 هـ انظر: "السير" 4/ 421، "تقريب التهذيب" ص 389 (4561). (¬7) ذكره الثعلبي عنه 2/ 518، البغوي في "تفسيره" 1/ 225، والرازي في "تفسيره" 1/ 173، ولم يذكره أحد من أصحاب الكتب المسندة في التفسير، وروى سعيد بن منصور في "السنن" 3/ 791 عن عروة بن الزبير قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (الحج أشهر معلومات) قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 393 إلى ابن المنذر، وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد والزهري والربيع ومالك. ينظر: "البحر المحيط" 2/ 85.

الرمي، والحلق، والنحر، والبيتوتة بمنى (¬1). وقوله تعالى: {مَعْلُومَاتٌ} أي: أشهر مُؤَقَّتَةٌ معينة، لا يجوز فيها ما كان يفعلُه أهلُ الجاهلية من التبديل بالتقديم والتأخير، الذي كان يفعله النَّسَأة الذين أنزل فيهم {إِنَمَا النَّسِىَءُ} الآية [التوبة: 37]. قال ابن عباس في هذه الآية: جعلهن سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح لأحد (¬2) أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج (¬3). وهذا مذهب الشافعي رحمه الله قال: من أراد أن يحرم بالحج لم يصح إحرامه بالحج إلا في أشهر الحج، فإن أحَرْم في غير أشهر الحج انعقد إحرامه عمرة؛ لأن الله تعالى خَصَّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها، وجعلها وقتًا للحج (¬4). وعند أبي حنيفة: إذا أحرم بالحج في غير أشهر الحج كُرِه ذلك، ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 518. (¬2) سقطت من (ش). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 257 - 258 من طريق علي بن أبي طلحة عنه، ورواه الشافعي في "الأم" 2/ 169، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 345، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 130 من طريق عكرمة، ورواه البخاري معلقا 2/ 183 معلقا مجزوما به، ووصله ابن خزيمة في "تفسيره" 4/ 162، والحاكم في "تفسيره" 1/ 616، وصححه، من طريق مقسم، عن ابن عباس بنحوه مختصرًا. (¬4) ينظر: "الأم" 2/ 168، "المجموع" 7/ 140، "تفسير البغوي" 1/ 226، "تفسير القرطبي" 2/ 383، وهذا القول على التقدير في الآية: الحج حج أشهر معلومات، وبه قال ابن عباس وجابر وعطاء ومجاهد وطاوس والأوزاعي وأبو ثور، وقال الأوزاعي: يحل بعمرة، وقال أحمد: هذا مكروه، وروي هذا القول عن مالك، والمشهور عنه القول الآخر.

ويجزيه (¬1). وقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}. قال المفسرون: أي: من أوجب على نفسه فيهن الحج بالإحرام والتلبية (¬2). ومعنى فَرَضَ في اللغة. ألزم وأوجب، يقال: فَرَضْتُ عليك كذا، أي: أوجبته، وأصل معنى الفَرْض في اللغة: الحزّ والقطع. قال ابن الأعرابي: الفرض: الحز (¬3) في القِدْح وفي (¬4) الزند وغيره (¬5)، وفُرْضَة القَوس: الحَزّ الذي يقع فيه الوتر، وفرضة الزند: الحز الذي فيه. قال: ومنه فَرْضُ الصلاة وغيرها، إنما هو لازم للعبد كلزوم الحز للقدح، ففرض بمعنى: أوجب، قد ورد في القرآن فرضَ بمعنى أَبَان، وهو ¬

_ (¬1) وبه قال النخعي والثوري، والمشهور من مذهب مالك، وهذا القول على أن التقدير في الآية: أشهر الحج أشهر معلومات. ينظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 300، "شرح فتح القدير" 3/ 16، "تفسير الثعلبي" 2/ 519، "تفسير البغوي" 1/ 226، "تفسير القرطبي" 2/ 383. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 260 - 262، "تفسير الثعلبي" 2/ 520، "تفسير القرطبي" 2/ 383، وقد بين الطبري أن أهل التأويل اختلفوا في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحج بعد إجماع جميعهم على أن معنى الفرض: الإيجاب والإلزام، فقال بعضهم: فرض الحج: الإهلال، وقد رواه عن ابن عمر وعطاء ومجاهد وطاوس والثوري والقاسم بن محمد، وبه قال أبو حنيفة، وابن حبيب من المالكية، وهو قول الظاهرية، وقال آخرون فرض الحج: إحرامه، وقد رواه عن ابن عباس والحسن وقتادة والنخعي والضحاك، وهذا قول الشافعي والحسن بن حي. ثم رجح القول الثاني، وبين سبب الترجيح. (¬3) في (م) كأنها (الجز). (¬4) في ليست في (م). (¬5) نقله عن ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" 3/ 771 فرض.

قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1]، بالتخفيف (¬1)، وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهذا أيضًا راجع إلى معنى القطع؛ لأن من قطع شيئًا أبانه عن غيره، والله تعالى إذا فرض شيئًا أبانه، وبان ذلك الشيء عن غيره. (فرض) بمعنى: أوجب، وفرض بمعنى: أبان، كلاهما يَرْجِع إلى أصل واحد على ما بينا (¬2). وقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ذكرنا معنى الرفث عند قوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، وأما معناه في هذه الآية، فذهب ابن عباس (¬3)، والأكثرون إلى أن المراد به الجماع (¬4). قالت طائفة (¬5): المراد بالرفث، هاهنا، التعريض (¬6) للنساء بالجماع، ¬

_ (¬1) قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2771 "فرض": (وفرضناها) فمن خفف أراد: ألزمناكم العمل بما فرض فيها، ومن ضدد فعلى وجهين: أحدهما التكثير على معنى: إنا فرضنا فيها فروضا، ويكون على معنى بينا وفصلنا ما فيها من الحلال والحرام والحدود. (¬2) ينظر في الفرض "تهذيب اللغة" 3/ 2771 "فرض", "المفردات" 378، "عمدة الحفاظ" 3/ 258 - 259. (¬3) رواه الثوري في "تفسيره" ص 63، وسعيد بن منصور في "السنن" 3/ 799، وأبو يعلى في "مسنده" 5/ 98، والطبري في "تفسيره" 2/ 265، وابن أبي حاتم في " تفسيره" 1/ 346 وغيرهم. (¬4) ذكر الطبري القول بذلك عن ابن مسعود وابن عمر والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار وقتادة وسعيد بن جبير والسدي والربيع والنخعي والضحاك. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 265 - 267، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 346، "تفسير الثعلبي" 2/ 523. (¬5) ذكر الطبري القول بذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومحمد بن كعب القرظي وطاوس وابنه وعطاء. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 263 - 264، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 346، وقد رجح الطبري أن الرفث شامل للقولين، وقال أبو حيان في البحر 2/ 87: وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده، وهو الجماع، أو شيء لا يليق لمن كان متلبسا بالحج لحرمة الحج. (¬6) في (م) التعرض.

ذكره بين أيديهن، فأما اللفظ به من غير مراجعة النساء فلا بأس به، لما روى ابن عباس، كان يحدو بعيرَه وهو محرم ويقول: وهُنَّ يَمْشِينَ بنا هَمِيسا ... إن تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِك لَمِيسَا (¬1) فقيل له: تَرفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا فُسُوقَ} قال ابن عباس (¬3) والأكثرون (¬4): الفسوق معاصي الله كلها. وقال ابن زيد: هو الذبح للأصنام، قُطِعَ ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حين حج فعلَّم أُمتَه المناسكَ (¬5)، دليله قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) البيت ذكره الفراء في: "معاني القرآن" 2/ 192، وقال: تمثل به ابن عباس، وذكره الحربي في "غريب الحديث" ولم ينسبه 3/ 111، وقال شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" 4/ 126: لم أعرف قائله وهو رجز كثير الدوران في الكتب. والهمس، والهميس: صوت نقل أخفاف الإبل، والصوت الخفي الذي لا غور له في الكلام، والوطء والأكل وغيرها، ولميس: اسم صاحبته، ويريد بقوله: إن تصدق الطير: أنه زجر الطير فتيامن بمرها، ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله. (¬2) رواه سعيد بن منصور في "السنن" 3/ 806، والطبري في "تفسيره" 2/ 263 من طريق أبي حصين بن قيس، وهو القائل لابن عباس: ترفث وأنت محرم؟ ومن طريق أبي العالية الرياحي، ورواه الحاكم 2/ 303 وصححه وعنه البيهقي في "تفسيره" 5/ 67 من طريق الأعمش. (¬3) رواه سعيد بن منصور في "السنن" 3/ 799، وأبو يعلى 5/ 98، والطبري في "تفسيره" 2/ 269، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 347. (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 269، عن عطاء والحسن وطاوس ومجاهد والقرظي وابن جبير وإبراهيم النخعي والربيع وعكرمة. قال ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 2/ 169: وعموم المعاصي أولى الأقوال. (¬5) رواه الطبري، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 347 نحوه عن مالك، وينظر: "الموطأ" 1/ 389.

وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] (¬1). (والجدال) يقال: من المجادلة، وأصلها (¬2): من الجَدْل الذي هو الفَتْل، يقال: زِمَامٌ مَجْدُول وجَدِيْل، أي: مَفْتُول، والجَدِيْل: اسم للزمام لأنه لا يكون إلا مفتولًا، سميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه (¬3). قال ابن عباس (¬4) والمفسرون (¬5) في قوله: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}: هو أن يجادل صاحبه ويُمَارِيَه حتى يغضبه، نُهِي المحرمُ عن هذا. ¬

_ (¬1) ذكر الطبري رحمه الله 2/ 270 قولين آخرين أحدهما: أن الفسوق في هذا الموضع: ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه من قتل صيد وأخذ شعر، ورواه عن ابن عمر. والثاني: السباب، ورواه عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد والسدي وإبراهيم وعطاء بن يسار. وينظر: "النكت والعيون" 1/ 259، "تفسير الثعلبي" 2/ 528. (¬2) في (م) وأصله. (¬3) ينظر في المجادلة: "تهذيب اللغة" 1/ 560 - 561 "جدل"، "المفردات" 97، وذكر الراغب في تسمية المخاصمة مجادلة قولا آخر فقال: "وقيل: الأصل في الجدال: الصراع، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة" وذكر السمين في عمدة الحفاظ 1/ 359 قولا ثالثا، وهو: أن أصله من القوة، فكان كُلًّا من المتجادلين يقوي قوله ويضعف قول صاحبه. (¬4) رواه عنه سعيد بن منصور في "السنن" 3/ 799، وابن أبي شيبة في "المصنف"، القسم الأول من الجزء الرابع ص 157، وأبو يعلى 5/ 98، والطبري في "تفسيره" 2/ 271، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 348. (¬5) روى الطبري في "تفسيره" 2/ 272، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 348 هذا القول عن عطاء وابن جبير ومجاهد وعمرو بن دينار والحسن والربيع والضحاك والنخعي وعطاء بن يسار وعكرمة والزهري وقتادة.

وقال مجاهد (¬1) وأبو عبيدة (¬2): معناه: ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة، فأبطل النسيء، واستقام الحج كما هو اليوم، وبطل ما كان يفعله النّسَأة في تأخير الشهور (¬3). قال أهل المعاني: ظاهر الآية نفي ومعناها نهي، أي: ولا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، كقوله عز وجل: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، أي: لا ترتابوا (¬4). واختلف القُرَّاء في هذه الآية، فقرأ (¬5) بعضهم: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ) مرفوعين منونين، وقرأ بعضُهم منونين غير منونين، ولم يختلفوا في نصب اللام من جدال (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" عنه من عدة طرق 2/ 274 - 275، ورواه عن السدي وابن عباس، ورجحه الطبري في "تفسيره" 2/ 275 - 276، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 169، ويرى الزجاج في "تفسيره" 1/ 270 أن كلا من القولين صواب. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 70. (¬3) ذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 270، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 349 أقوالا أخر، فمنهم من قال: الجدال: السباب، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وقتادة، ومنهم من قال: الجدال: اختلافهم فيمن هو أتم حجا من الحُجاج، وهو مروي عن محمد بن كعب القرظي، ومنهم من قال: الجدال: اختلافهم في اليوم الذي يكون فيه الحج، فنهوا عن ذلك، وهو مروي عن القاسم بن محمد، وقيل: بل اختلافهم في أمر مواقف الحج أيهم المصيب موقف إبراهيم، قاله ابن زيد. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 530، "النكت والعيون" 1/ 259، "زاد المسير" 1/ 211، "تفسير البغوي" 1/ 227، "البحر المحيط" 2/ 88 (¬4) من "تفسير الثعلبي" 2/ 531، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 227، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 128، "المدخل" للحدادي ص 465. (¬5) في (ش) وقرأ. (¬6) قرأ ابن كثير المكي وأبو عمرو ويعقوب برفع الثاء والقاف مع التنوين، ووافقهم أبو جعفر، وانفرد بتنوين جدال مع الرفع، والباقون بـ (الفتح) بلا تنوين في الثلاث. ينظر: "السبعة" ص 108، "النشر" 2/ 211، "البحر المحيط" 2/ 88.

والأصل في هذا الباب: أن "لا" تَنْصِبُ النكراتِ خاصّةً بلا تنوين، ولا تعمل في المعارف شيئًا؛ لأنها جواب ما لا يكون إلا نكرة، وذلك أنك تسأل فتقول: هل من رجلٍ عندك؟ وهل من غلامٍ لك، فتقول: لا رجلَ عندي، ولا غلامَ لي، فكان الجواب منكّرًا مثل السؤال، والخافض والمخفوض في السؤال بمنزلة شيء واحد لا ينفصل أحدُهما عن صاحبه، فكذلك جعلت (لا) وما عَمِلتْ فيه بمنزلة شيء واحد، وحذفت منه التنوين، كما حذفت من خمسة عشر. ويجوز أن يكون العامل والمعمول فيه بمنزلة شيء واحد، كقولهم: يا ابن أمِّ، فالابن عامل في الأم؛ لأنه مضاف إليها، فجعلا بمنزلة اسم واحد وبُنِيا. هذا وجه النصب بلا (¬1). فإن رفعتَ بها، فقلت: لا رجلٌ عندك (¬2) ولا ثوبٌ لك، فيكون هذا جوابًا لقول القائل: هل رجل عندك؟ هل (¬3) ثوب لك؟ فكما أن هل لا تعمل شيئًا، جعلت لا في الجواب مثلها، فرفعت ما بعدها بالابتداء وإن شئتَ جعلتَ "لا" مشبهةً بـ (ليس) فرفعت بها النكرات؛ لأن بعض العرب تجعلها بمنزلة ليس. من ذلك قوله: فَأَنَا ابْنُ قَيْس لا بَرَاحُ (¬4) ¬

_ (¬1) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 2/ 274 - 275. (¬2) في (م) عندي. (¬3) في (ش) لا ثوب. (¬4) شطره الأول: "من صد عن نيرانها". والبيت لسعد بن مالك بن ضبيعة من قيس ثعلبة. ينظر: "الكتاب" لسيبويه 1/ 58، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 270، "الخزانة" 1/ 223، "المقتضب" 4/ 360، وفي رواية: من فر نيرانها، أي: نيران الحرب وشدتها، ومعنى: لا براح: أي لا براح لي ولا تحول، ولا أهرب منها، وابن قيس: سمى نفسه باسم جده لشهرته.

وقول العجاج: تالله لولا أنْ تَحُشَّ (¬1) الطُّبَّخُ ... بيَ الجَحِيمَ حِسِن لا مُسْتَصْرَخُ (¬2) فإن كررت (لا) كقولك: لا درهم ولا دينار، جاز لك فيه (¬3) الوجهان: النصبُ من غير تنوين، والرفعُ والتنوين، كالقراءتين في هذه الآية، وجاز أوجهٌ ثلاثة أيضًا يطول ذكرها (¬4). فإن قدرت الاسم بعدها مرفوعًا بالابتداء، جاز في قول سيبويه أن يكون (في الحج) خبرًا عن الأسماء الثلاثة، لاتفاق الأسماء في ارتفاعها بالابتداء. أما قوله {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} فبين (¬5)، وأما قوله {وَلَا جِدَالَ} فإن (لا) مع {جِدَالَ} في موضع رفع، فقد اتفقت الأسماء في ارتفاعها بالابتداء، فلا يمنع من أن يكون قوله: (في الحج) خبرًا عنها (¬6). وإن قدرت لا بمنزلة ليس، لم يجز أن يكون "في الحج" منتصبًا في موضع خبر ليس، لأن الخبر لا ينتصب بلا كما ينتصب (¬7) بليس، ولكنك تضمر لقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} خبرًا، لأن من شأن العرب إذا رفعت ما بعد لا وكانت لا بمنزلة ليس، حذف الخبر. وإضماره كالبيتين الذين أنشدناهما، فقوله: لا براحُ، تقديره: لا براحٌ من هاهنا، ويكون قوله: (في ¬

_ (¬1) في (ش) تخش وفي (م) كأنها (يخش). (¬2) البيت في "الديوان" ص 14، "أمالي الشجري" 1/ 282، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 270. (¬3) في (ش): ولا دينار لك جاز فيه الوجهان. (¬4) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 2/ 274، 2/ 303، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 270 - 271، "معاني القرآن" للفراء 1/ 120 - 121. (¬5) في (م) فهن. (¬6) من "الحجة" لأبي علي 2/ 289 - 290، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 271. (¬7) سقطت من (أ)، (م).

الحج) خبرا عن (لا جدال) (¬1). فأما من فتح فقال: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} فحجته أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، ألا تري أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرفث والفسوق، كما أنه إذا قال: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، فقد نفى جميع هذا الجنس، وإذا رَفَع وَنَوَّنَ كان المنفي الواحدَ منه، ألا ترى أن سيبويه يرى (¬2) أنه إذا قال: لا غلام عندك ولا جارية، فهو جواب من سأل فقال: غلام عندك أم جارية؟ (¬3) فالفتح أولى؛ لأن النفي به أعم والمعنى عليه (¬4)، ألا ترى أنه لم يُرَخَّص في ضَرْبٍ من الرَّفَثِ والفُسوق، كما لم يُرَخَّص في ضرب من الجدال، وقد اتفق الجميع على فتح اللام من الجدال؛ لتناول النفي جمع جنسه، فيجب أن يكون ما قبله من الاسمين على لفظه، إذ كان في حكمه (¬5)، ومن رفع فحجته أنه يُعلم من الفحوى (¬6) أنه ليس المنفي رفثًا ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 2/ 290 بتصرف، وقال أبو حيان في "البحر" 2/ 88: قيل: ويجوز أن تكون لا عاملة عمل ليس، فيكون في الحج في موضع نصب، وهذا الوجه جزم به ابن عطية فقال: ولا، في معنى ليس، في قراءة الرفع، وهذا الذي جوزه وجزم به ابن عطية ضعيف؛ لأن إعمال ليس قليل جدا لم أجد منه في لسان إلا ما لا بال له، ثم ذكر أربع شواهد، ثم قال: وهذا كله يحتمل التأويل، وعلى أن يحمل على ظاهره، لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح. (¬2) "الكتاب" لسيبويه 1/ 295. (¬3) من قوله: فهو جواب ... ساقط من (ش). (¬4) في "الحجة": لأن النفي قد عم. (¬5) "الحجة" لأبي علي 2/ 291، قال العكبري في "التبيان" ص 124: "الفتح" في الجميع أقوى لما فيه من نفي العموم. (¬6) في (م) (النحوي).

واحدًا ولكنه جميع ضروبه، وقد يكون اللفظ واحدًا والمعنى المراد به الجميع، خصوصًا في النفي، فإن النفي قد يقع فيه الواحد موضع الجميع، وإن لم يُبْنَ فيه الاسمُ مع لا النافية، نحو قولك: ما (¬1) رجل في الدار (¬2)، هذا الذي ذكرنا يكون وجه القراءتين في قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} ولم يختلفوا في نصب (لا جدال). وذلك أن الرفث والفسوق متفقان في المعنى وهو النهي، كأنه قيل: لا ترفثوا ولا تفسقوا، والجدال مخالف لهما في المعنى؛ لأن معنى لا جدال في الحج أي: الحج في ذي الحجة (¬3) على ما حكينا عن مجاهد وأبي عبيدة، فلما كان معنى الأولَيْن نهيًا ومعنى الثالث خبرا، أرادوا الفرق بين اللفظين، لتكون مخالفةُ ما بينهما في اللفظ لمخالفة (¬4) ما بينهما في المعنى (¬5). ¬

_ (¬1) في (م) (لا) وفي (أ) (هل). (¬2) "الحجة" لأبي علي 2/ 291 - 292. (¬3) في (ش) معنى لا جدال النفي أي لا جدال أي الحج في ذي الحجة. (¬4) في (ش) (كمخالفة) وفي (م) (للمخالفة). (¬5) ينظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 123 - 124، "البحر المحيط" 2/ 88 - 90، وقد تعقب أبو حيان في "تفسيره" 2/ 90 الزمخشري في دعواه أن قراءة أبي عمرو وابن كثير: (لا رفث ولا فسوق)، بالرفع، (لا جدال)، بالنصب، بأنهما حملا الأولين على النهي، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج، فقال: الرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنيا، وأما أن الرفع يقتضي الابتداء والبناء يقتضي الخبر فلا، ثم قراءة الثلاثة بالرفع، وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم، وقراءة الرفع مرجحة له، فقراءتهما الأولين بالرفع، والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة، إذا لم يتأد ذلك إليهما إلا على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب. ثم بيَّن رحمه الله الخلاف في الآية هل يراد بها النفي حقيقة فيكون إخبارا، أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي، ورجح الثاني.

وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} قال أهل المعاني: معناه: يجازيكم الله العالم به، إلا أنه جعل {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} في موضع يجازيه؛ لأن المجازاة إنما تقع من عالم بالشيء، وفيه: حث لهم على فعل الخيرات، وأن الله تعالى ليس بغافل عنهم وعن مجازاتهم، ومتى علم العامل أن الذي يُعْملُ له العملُ يعلم ذلك وليس بغافل عنه كان أحرصَ على عمله (¬1). وقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد، ويقولون: نحن متوكلون، ثم كانوا يسألون الناس، وربما ظلموهم وغصبوهم، فأمرهم الله سبحانه أن يتزودوا (¬2)، فقال: {وَتَزَوَّدُوا} ما تتبلغون به {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ما تكفُّون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم. وفي هذا حَثٌّ على التزود للآخرة، وتنبيهٌ عليه (¬3)، لأن الآية أفادت بيان الزادين، وذلك أن اللفظةَ العامة إذا أفادت فوائد ولم تكن متنافية، فلابد من استفادتها جميعًا، ويكون ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 278، "تفسير الثعلبي" 2/ 536، "المحرر الوجيز" 2/ 169، "البحر المحيط" 2/ 92، "التفسير الكبير" 5/ 182. (¬2) وردت هذه القصة عن جمع من السلف، أشهرهم ابن عباس، روى حديثه البخاري (1523) كتاب الحج، باب: قوله تعالى. وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وأبو داود (1730) كتاب المناسك، باب: التزود في الحج، والنسائي في "تفسيره" 1/ 245، والطبري في "تفسيره" 2/ 278، والخلال في "الحث على التجارة" ص147، والواحدي في "أسباب النزول" ص 63، عن عكرمة عن ابن عباس، وذكر الطبري الرواية بذلك عن ابن عمر وابن عباس وعكرمة، والنخعي وابن زيد ومجاهد، دون ذكر لقوم معينين، وذكر الرواية بتعيين أهل اليمن عن مجاهد والحسن والربيع وقتادة. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 278 - 281، "تفسير الثعلبي" 2/ 536. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 527، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 281، "المحرر الوجيز" 2/ 172، "التفسير الكبير" 5/ 182 - 183، "تفسير القرطبي" 2/ 388 - 389.

198

الجميع مرادًا باللفظ عند أهل التحقيق، فكأنه قال: إذا تزودتم تعففتم عن السؤال، وهو نوع تقوى، والتقوى زاد الآخرة (¬1)، قال الأعشى، وأراد هذا المعنى. إذا أنْتَ لم تَرْحَلْ بزَادٍ من التُّقَى ... ولاقيتَ بعدَ المَوْتِ من قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ على أن لا تكونَ كمِثْله ... وأنكَ لم تَرْصُدْ كما كان أرْصَدَا (¬2) 198 - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} قال المفسرون: كان قوم يزعمون أنه ليس لجمَّالٍ ولا أَجِيرٍ ولا تاجر حج، فأعلم الله عز وجل أنه لا (جُنَاح) أي: لا حرج في {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا} من رَبِّكُمْ: رزقًا من ربكم، يعني: التجارة في الحج (¬3). ¬

_ (¬1) قال القرطبي في "تفسيره" 2/ 389. أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات، فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى، وجاء قوله: فإن خير الزاد التقوى، محمولًا على المعنى؛ لأن معنى (وتزودوا): اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من التهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف، وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار. وبين أبو حيان أن الأقوال ثلاثة: أحدها: أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا. والثاني: أنه أمر بالتزود لسفر الآخرة، واختار هذا القول؛ لدلالة السباق واللحاق. والثالث: أنه أمر بالتزود في السفرين، كأن التقدير: وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله. (¬2) البيتان للأعشى من قصيدة يمدح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، "ديوان الأعشى" ص 46. وذكرها الثعلبي في "تفسيره" 2/ 538. (¬3) هذا السبب جمعه المؤلف من عدة آثار بمعناها عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وقتادة، وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فكانوا يتجرون فيها، فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، في مواسم الحج، رواه البخاري، "الفتح" (3/ 593) =

قال الزجاج: وموضع أن نصب، على تقدير: ليس عليكم جناح في أن تبتغوا، فلما سقطت (في) عمل فيها معنى جُناح. المعنى: لستم تأثمون أن تبتغوا، أي: في أن تبتغوا (¬1). وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} معنى الإفاضة، في اللغة: الدَّفْعُ للشَّيءِ حين يَتَفَرَّق. يقال: أفاضت العينُ دَمْعَها، وأفاض بالقداح، وعلى القداح: إذا ضرب بها منبثةً متفرقة، ومنه: وكأنَّهُن رِبَابَةٌ وكأنَّه ... يَسَر يُفِيْضُ على القِدَاحِ وَيصدَعُ (¬2) وأفاض البعير بجرته: إذا رمى بها متفرقة. ¬

_ = في الحج، باب: التجارة أيام الموسم، والبيع في أسواق الجاهلية 2/ 239 برقم 1770، وأبو داود في المناسك، باب: الكرى 2/ 146 برقم 1734، والطبراني في "الكبير" 11/ 113، والطبري 2/ 285 وغيرهم، وثبت عن ابن عمر نحوه، رواه الأمام أحمد 2/ 155 برقم 6435 ط. شاكر. وصححه أحمد شاكر، وأبو داود، الموضع السابق حديث 1733، والحاكم 1/ 449 وصححه، والطبري 2/ 282 - 284، وفيه قال أبو أمامة التيمي: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري فيزعمون أنه ليس لنا حج، فقال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون، قلت: بلى، قال: أنت حاج، جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 271. (¬2) والبيت لأبي ذؤيب الهذلي خويلد بن خالد يصف الحمُرُ، ضمن قصيدة من "المفضليات" ص 126، "ديوان الهذليين" 1/ 6 والبيت في "اللسان" مادة: ريب، وصدع. والرِّبابة: بكسر الراء: الرقعة تجمع فيها قداح الميسر، واليَسَر. صاحب الميسر، شبه الأُتُن بالقداح لتجمعهن وتراكمهن، وشبه الحمار الوحشي بالضارب الذي يفرق القداح ويجمعها. وينظر: "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 18.

قال الراعي: وأَفَضْنَ بعد كُظُومِهِنّ بجِرَّةٍ ... من ذي الأبَاطِح إذ رَعَيْنَ حَقِيلا (¬1) وأفاض القوم في الحديث، إذا اندفعوا فيه، ومنه {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (¬2) [يونس: 61] فمعنى قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} أي: دفعتم بكثرة (¬3)، يعني دفع بعضكم بعضًا؛ لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضًا، قال أبو إسحاق: قد دل بهذا اللفظ على أن الوقوف بها واجب؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف (¬4). ¬

_ (¬1) البيت للراعي النميري من لاميته المطولة التي كان يرمى من لم يحفظها من أولاده وحفدته بالعقوق في "ديوانه" 52، وفي "جمهرة اللغة" لابن دريد 2/ 179 وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2719 (فيض) والثعلبي في "تفسيره" 2/ 547 ويروى: من ذي الأباطل، قال ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 279: قال ثعلب: ذو الأبارق وحقيل موضع واحد، فأراد: من ذي الأبارق إذا رعينه، والكَظْم. إمساك الفم، فلما ابتل مافي بطونها أفضن بجرة. والمعنى: أنها إذا رعت حقيلًا أفاضت بذي الأبارق. (¬2) ينظر في مادة (فيض): "تهذيب اللغة" 3/ 2719، "تفسير الثعلبي" 2/ 546، "المفردات" ص 390، "عمدة الحفاظ" 3/ 308، قال الزجاج في "تفسيره" 1/ 272: وكل ما في اللغة من باب الإفاضة، فليس يكون إلا من تفرقة أو كثرة. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 272، وفي معنى الآية ثلاثة أقوال، هذا أحدها. والثاني: أن معناه: فإذا رجعتم من حيث بدأتم، وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 285، والثالث: أن الإفاضة: الإسراع من مكان إلى مكان. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 546، "النكت والعيون" 1/ 260، "البحر المحيط" 3/ 83 (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 272، قال أبو حيان في "تفسيره" 2/ 95 متعقبا هذا القول: ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب، إنما يعلم منه الحصول في عرفة والوقوف بها، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب، لا دليل في الآية على ذلك، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك.

وقوله تعالى: {مِنْ عَرَفَاتٍ} القراءةُ بالكسرةِ والتنوين؛ لأنها جَمْع عَرَفَة، مثل: مسلمات ومؤمنات، سميت بها بقعةٌ واحدة، مثل قولهم (¬1): ثوبٌ أَخْلاقٌ، وبَرْمَةٌ أَعْشَار، وأرضُ سَبَاسبٌ (¬2)، يجمع بما حولها، فلما سميت بها البقعة الواحدة صرفت، إذ كانت مصروفة قبل أن تسمى بها البقعة، تركًا منهم لها على أصلها (¬3). فإذا كانت في الأصل اسمًا لبقعة ولم يكن جمعًا لواحد معروف تركوا إجراءها، مثل: عانات وأذرعات (¬4)؛ لأنها ليست بجمع عانة ولا أذرعة، ففرقوا بين الواحد والجمع (¬5)، وعلى هذا تتوجه قراءة أشهب العُقَيلي: (من عرفاتَ)، مفتوحة التاء، جعلها اسمًا واحدًا، مثل: عانات وأذْرِعَات. ¬

_ (¬1) ثوب أخلاق: الثوب الذي بلي كله، ومعنى خلق، أي: بلي، وبرمة أعشار، وقدور أعاشر: مكسرة على عشر قطع، أو عظيمة لا يحملها إلا عشرة، والبرُمة: بالضم قدر من حجارة. والسبسب: المفازة، أو الأرض المستوية البعيدة، يقال: بلد سبسب، وسباسب. (¬2) في (م): سباب. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 164 - 165، "الكتاب" لسيبويه 3/ 232 - 233، "تفسير البغوي" 1/ 228، "تفسير الطبري" 2/ 285 - 286، ورجح الطبري أنه اسم لواحد، سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلًا، وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف. واستدرك أبو حيان في "البحر" 2/ 83 على من زعم أنها جمع، بأنه إن عنى في الأصل فصحيح، وإن عنى حالة كونه علما فليس بصحيح؛ لأن الجمعية تنافي العلمية. (¬4) أذرعات: موضع بالشام بين دمشق وعمان، وعانات، ويقال عانة: موضع في العراق على نهر الفرات. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 549.

قال أبو إسحاق: في قوله: {مِنْ عَرَفَاتٍ} الوجه كسرها مع التنوين، وهي اسم لمكان واحد، ولفظه لفظ الجمع، والوجه فيه: الصرفُ عند جميع النحويين؛ لأنه بمنزلة الزيدين يستوي نصبُه وجَرُّه، وليس بمنزلة هاء التأنيث (¬1) (¬2). هذا كلامه، ومعناه: أن عرفات بمنزلة مسلماتٍ، وهو معنى قوله: لأنه بمنزلة الزيدين، وهي وإن كانت اسمًا لمكان واحد لفظه جمع كما بينا، بخلاف عانات. قال: وقد يجوز منعه الصرف إذا كان اسمًا للواحد، إلا أنه لا يكون إلا مكسورًا، وإن أسقطت التنوين، وأنشد: تَنَوَّرْتُها من أَذْرعاتٍ وأهْلُهَا ... بيَثْرِبَ أدْنَى دَارِها نَظَرٌ عَالِ (¬3) الرواية بالتنوين، وقد أُنْشِدَ بغير التنوين، فأما الفَتْحُ فَخَطأ (¬4)؛ لأن نصبَ الجميع غير المُنْصِرف وجرَّه كَسْر (¬5). ¬

_ (¬1) قوله: وليس بمنزلة هاء التأنيث ساقط من (ش). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 272. (¬3) البيت لامرئ القيس في "ديوانه" ص 124. "الكتاب" لسيبوبه 2/ 233، "الخزانة" 1/ 26، والضمير في قوله: تنورتها للمرأة التي يذكرها، وتنور النار: أبصرها من بعيد، والمعنى: لاح نور المرأة في الظلماء وهو بأذرعات بلد الشام وهي بيثرب (المدينة)، ثم يقول: أقرب ما يرى منها لا يرى إلا من عال في جو السماء، يصف بُعْدَ ما بينه وبينها، ومع ذلك فقد لاحت له في الليل من هذا المكان البعيد. (¬4) النحويون على إجازة الأوجه الثلاثة؛ لأنه ليس جمعا. ينظر الأشموني 1/ 75، وممن أنشد البيت بغير تنوين: المبرد في "المقتضب" 3/ 333. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 272، والعبارة الأخيرة عنده هكذا: لأن نصب الجمع وفتحه كسر.

فعنده (من عرفاتَ) وهو قراءة العقيلي خطأ؛ لأن هذه التاء لا تفتح، وعند غيره إذا كان المراد به اسمًا واحدًا يجوز أن تفتح؛ لأنها ليست بتاء جمع يجري لفظه على ما كان يجري قبل التسمية، وعلى هذا جاء عرفات، قال الله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} فالذي ذكره أصحابنا التنوين، أجازوا ترك التنوين. قال (¬1): وذكر المبرد أن الفتح فيه لا يجوز (¬2)، فلا يجوز عنده أن تقول: رأيت عرفاتَ ومسلماتَ، إذا سميت بها رجلًا، قال: ورأيت من النحويين من يقول ضد هذا، يقول: إذا حذفت التنوين لم يجز إلا الفتح، قال: وكلام سيبويه (¬3) عندي يدل على هذا، ولم يفصح بفتح ولا كسر، هذا معنى كلام السيرافي (¬4)، وهو موافق لما ذكرنا وحكينا. واختلفوا لم سميت تلك البقعة عرفات؟ (¬5) فقال الضحاك: إن آدم عليه السلام لما أُهْبِطَ، وقع بالهندِ، وحَوَّاء بِجُدَّة، فجعل آدم يطلب حواءَ، وهي تطلبه، فاجتمعا بعرفات يومَ عَرَفَة، وتَعَارَفا، فسمي اليوم عَرَفَة، والموضع عرفات (¬6). ¬

_ (¬1) الظاهر عود الضمير على الزجاج في المواضع الثلاثة الآتية، ولم أجد هذا النقل في كتابه، إلا أن يكون في الكلام سقط، أو في "معاني القرآن" للزجاج نقص. (¬2) "المقتضب" للمبرد 3/ 331 - 334. (¬3) "الكتاب" لسيبويه 3/ 232 - 233. (¬4) السيرافي: الحسن بن عبد الله بن مرزبان السيرافي أبو سعيد، تقدمت ترجمته 3/ 328 [البقرة: 129]. (¬5) ذكر المفسرون أقوالًا كثيرة في سبب تسمية البقعة عرفات. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 286، "النكت والعيون" 1/ 261، "التفسير الكبير" 5/ 188 - 190. (¬6) ذكره الثعلبي 2/ 549، البغوي في "تفسيره" 1/ 228، وابن الجوزي في "زاد =

وقال عطاء: إن جبريل عليه السلام كان يُرِي إبراهيمَ المناسكَ، فيقول: عَرَفْتُ، ثم يريه فيقول: عرفتُ، فسميت عرفات (¬1). وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي: بالدُّعاء والتَّلْبية (¬2) {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهو المزدلفة (¬3)، وتسمى أيضًا جَمْعًا؛ لأنه يجمع فيها بين صَلاتَي العشاء (¬4). ¬

_ = المسير" 2/ 174، وروى الطبري في "تاريخ الأمم والملوك" 1/ 121 عن ابن عباس نحوه، وقال ابن كثير: وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهما، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات؛ والله أعلم بصحتها، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى أو رسوله. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، القسم الأول من الجزء الرابع 291، ورواه الفاكهي في "أخبار مكة" 5/ 9، والطبري 2/ 286، والثعلبي 2/ 554، وروى الإمام أحمد 1/ 297، وغيره عن ابن عباس نحوه. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 562. (¬3) اختلف في المراد بالمشعر الحرام، فقيل: هو الجبل الذي بالمزدلفة، ويسمى جبل قزح، وهذا قول لبعض المفسرين، وهو الذي صححه الزمخشري. والأكثرون على أن المزدلفة كلها هي المشعر الحرام، قال الطبري 2/ 287: فأما المشعر، فإنه ما بين جبلي المزدلفة من مأزِمَي عرفة إلى محسر، وليس مأزما عرفة من المشعر، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم ذكر الرواية به عن ابن عمر وابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء والسدي والربيع. ثم ذكر الطبري أنه يحتاج للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قُزح وما حوله؛ لحديث: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 564، "تفسير البغوي" 1/ 229، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 138، وهذا قول، وقيل: لأن الناس يجتمعون بها، وذلك أن قريشا كما سيأتي لا يخرجون إلى عرفات، فيكون اجتماع الحجيج في المزدلفة. ينظر: "معجم البلدان" [مزدلفة]، "اللسان" 4/ 2277، وذكر قولا آخر، وهو: أنها سميت بذلك لأن آدم وحواء لما هبطا اجتمعا بها.

وتسمى مشعرًا من الشِّعَار، وهو العلامة؛ لأنه مَعْلَم الحج. والصلاةُ (¬1) والمقامُ والمبيتُ به والدعاءُ عنده من معالم الحج (¬2). وقد ذكرنا هذا عند قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. وقولُه تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} موضَع الكاف نَصْب. المعنى: واذكروه ذكرًا مثل هدايته إياكم، أي: يكون جزاءً لهدايته (¬3)، ومعنى (اذكروه) بتوحيده والثناء عليه والشكر له (¬4). قال سيبويه: يقال: ذَكَرْته ذِكرًا مثل: حَفِظْتُه حِفْظًا (¬5). وقالوا: ذُكرًا كما قالوا: شُربًا (¬6). والذكر في كلام العرب على ضَرْبين: ذكر هو خلاف النسيان، وذكر هو قول (¬7)، فمما هو خلاف النسيان قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] والذكر الذي هو قولٌ يستعمل على ضربين: قول لا ثلبَ فيه للمذكور، كقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200] {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وهو كثير. ¬

_ (¬1) سقطت من (م). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 562، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 287، ونقل الثعلبي، عن المفضل: سمي المشعر لأنه أُشْعِرَ المؤمنون أنه حرم كالبيت ومكة، أي: اعملوا. (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 273. (¬4) المصدر السابق. (¬5) "الكتاب" لسيبويه، لم أعثر عليه فيه. ونقله عنه في "اللسان" 3/ 1507 "ذكر". (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة"، ونقل عن الفراء قوله: الذَّكر: ما ذكرته بلسانك وأظهرته. قال: والذُّكر بالقلب، يقال: ما زال مني على ذُكر، أي: لم أنسه. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1286 - 1287، نقله عن الليث، "لسان العرب" 3/ 1508 "ذكر".

والآخر: يراد به ثلب المذكور، كقوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] (¬1). ومن ذلك قول الشاعر: يذكركم منا عدي بن حاتم ... لَعَمْري لقد جِئْتُم حبولًا وماثما (¬2) ويقال في مصدره أيضًا: ذِكرى (¬3). وإنما أعاد الأمر بالذكر بعد قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} مبالغة في الأمر، وزيادة في الحث. وأكثر ما يكون التكرير في الأمر والنهي، كقولهم للرجل: اِرْم اِرْم. على أنَّ هذا التكرير حَسُنَ هاهنا؛ لأن اللفظةَ الثانيةَ لم تلاصِقِ الأُوْلى، وأيضًا فإن الأمر الثاني موصول بما لم يَصِلْ به الأول، وكانت الإعادة لما تعلق به من قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) نقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1287 "ذكر"، عن الفراء والزجاج بيان أن الذكر يكون مدحا ويكون عيبا، ونقل عن بعضهم أنه أن يكون الذكر عيبا. وينظر أيضا: "تفسير الرازي" 5/ 193 - 194، ونقله بحروفه. (¬2) البيت لم أهتد إلى قائله، ولا من ذكره. (¬3) ينظر في مادة: (ذكر) "تهذيب اللغة" 2/ 1286 - 1288، "اللسان" 3/ 1507 - 1509 "ذكر"، "المفردات" ص 184 وقال: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس، بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارًا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارًا باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر. ثم ذكر الأمثلة على ذلك، ولخص كلامه السمين الحلبي في "عمدة الحفاظ" 2/ 42 - 45. (¬4) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 192 - 193، وذكر وجوها أخر.

199

وقال ابن الأنباري معنى قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي: اذكروه بتوحيده كما ذكَرَكُم بهدايته (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل هداه، فالهاء كناية عن الهدى لدلالة هدى عليه (¬2)، وتأويله: ما كنتم من قبل إلا ضالين، كقوله: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186]، يعنى: ما نظنك إلا من الكاذبين (¬3). 199 - قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ذكرنا معنى الإفاضة. و (حيثُ) حقُّها البناء؛ لأنها مُنِعَتْ الإضافةُ مع لزوم معنى الإضافة لها، ولمَّا لزمت معنى الإضافة إلى الجملة، صارت بمنزلة الأسماء الناقصة التي تحتاج إلى صِلَةٍ كالذي ونحوه، والاسم الناقص بمنزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة حرفٌ يستحق البناء، فأما بناؤها على الضم: فلأنها بمنزلة الغاية كقبلُ وبعدُ، من جهة أنها مُنِعت الإضافة، مع لزوم معنى الإضافة، ولو أُعربت لاستحقت النصب والجر فقط؛ لأنها ظرف، والظروف لا ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) واختاره الطبري 2/ 291، وقيل: راجعة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كناية عن غير مذكور، وقيل: راجعة إلى القرآن، ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 566، "تفسير البغوي" 1/ 230، "البحر المحيط" 2/ 98. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 291، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 273، "تفسير الثعلبي" 2/ 566، "تفسير البغوي" 1/ 230، "تفسير الرازي" 5/ 195، وحكى الطبري وجها مفاده: أن إنْ بمعنى قد، والمعنى: وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين، وهذا مذهب الكسائي كما في "البحر المحيط" 2/ 98.

تُعْرَبُ إلا بالجر والنصب (¬1)، فإذا أعربت بالرفع لم تكن ظَرفًا، فلما بنيت جعلت على حركة لا تكون لها في حال الإعراب، ويجوز فيها الفتح لأجل الياء، كما فتحت أين وكيفَ، ويجوز الكسر على أصل الحركة لالتقاء الساكنين (¬2). قال عامة أهل التأويل: كانت الحُمْسُ (¬3) لا يَخْرجون من الحرم إلى عرفات، إنما يقفون بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهلُ الله، وقُطَّانُ حَرَمه، فلا نخرج من الحرم، ولسنا كسائر الناس، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفات كما يقف سائرُ الناس، حتى تكون الإفاضة معهم منها، فالناس في هذه الآية: هم العربُ كلُّها غيرُ الحُمس، وإنما أتى الله تعالى بالجمع المبهم لانكشاف معناه عند المخاطبين، هذا قول جمهور المفسرين (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): بالنصب والجر. (¬2) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 233 حيث بين أنها ظرف للمكان، 3/ 286، 299، "مغني اللبيب" ص 176 - 178 (ط. دار الفكر) "لسان العرب" 2/ 1064 - 1065 "حيث". (¬3) الحُمس: تقدم بيانه عند قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 3/ 627 [البقرة: 189]. (¬4) ذكر الرواية بذلك: الطبري في "تفسيره" 2/ 291 - 293 عن عائشة وابن عباس وعروة وعطاء ومجاهد وقتادة والسدي والربيع وابن أبي نجيح، وحديث عائشة رواه البخاري (4520) كتاب التفسير، باب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، ومسلم (1219) كتاب الحج، باب: في الوقوف وقوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، كما رواه البخاري (1664) كتاب الحج، باب: الوقوف بعرفة، ومسلم (الموضع السابق) (1225) من حديث جبير بن مطعم. قال الطبري 2/ 293: والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية: أنه عُني بهذه الآية =

وعلى هذا يبقى إشكال في النَّظْم؛ لأن الله تعالى ذَكَر الإفاضة من عرفاتٍ قبل هذا في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}، وبينَّا أن في ذكر الإفاضة منها بيانَ وجوب الوقوف، فكيف يسوغ أن يقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} ثم أفيضوا من عرفات، ووجه هذا: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: فمن فرض فيهن الحج فلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله (¬1). وقال بعضهم: المراد بالإفاضة في هذه الآية: الدَّفْعُ من مزدلفةَ إلى مِنَى، وأراد بالناس: الحُمْس، فإنهم كانوا يفيضون من المزدلفة إلى منى ولا يفيضون من عرفات. والله تعالى ذكر أولًا الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، ثم أمر بالإِفَاضَة من المزدلفة إلى منى (¬2). والحكم في الوقوف بعرفة والإفاضتين، هو أن الغرض (¬3) من الوقوف بعرفة الحصولُ فيها مجتازًا أو ماكثًا، مستيقظًا أو نائمًا، عالمًا أنه بعرفة أو جاهلًا. والكمال في الصبر إلى غروب الشمس. فإن أفاض قبل الغروب أراق دمًا، وما بين زوال الشمس من يوم ¬

_ = قريش، ومن كان متحمسا معها من سائر العرب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 230، "تفسير الرازي" 5/ 196. (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 568، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 293، "تفسير البغوي" 1/ 230، وذكر قولا آخر: أن ثم بمعنى الواو، أي: وأفيضوا، كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 568، "تفسير البغوي" 1/ 230. (¬3) في (ش): الفرض.

عرفة إلى طلوع الفجر الصادق من يوم النحر وَقْتُ إدراك الحج، فمن أدرك عرفة في هذا الوقت تم حجه. فإذا أفاضوا من عرفة إلى المزدلفة باتوا بها، ومن ترك المبيت بها فعليه دم (¬1)، ويجمعون هناك بين صلاتي العشاء، ولهذا يسمي: جمعًا (¬2)، ويسمى أيضًا: قُزَح والمشعر (¬3). فإذا أصبحوا بها غَلّسوا بالصبح. ثم وقفوا عند المشعر الحرام وهو آخر حد مزدلفة. والمزدلفة من الحرم كلها، ثم لا يزالون يدعون ويذكرون الله تعالى حتى يقاربوا (¬4) طلوع الشمس، ثم يروحون من مزدلفة قبل الطلوع خلافَ العادةِ في الجاهلية (¬5)، فإنهم كانوا يصبرون إلى الطلوع، ويقولون: أَشْرِقْ ثَبِيْر (¬6) كيما نُغِير (¬7)، ¬

_ (¬1) ينظر: "الأم" 2/ 233، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 313، "المجموع" 8/ 134، "المغني" 5/ 284. (¬2) ينظر المراجع السابقة. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 564. (¬4) في (ش): يفارقوا. (¬5) ينظر: "الأم" 2/ 233، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 313، "المجموع" 8/ 134، "المغني" 5/ 284، "صحيح البخاري" (1684) كتاب الحج، باب: متى يدفع من جمع، "سنن أبي داود" (1938) والترمذي كتاب الحج، باب: الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس 3/ 242 (986)، والنسائي كتاب الحج، باب: الصلاة بجمع 5/ 265. (¬6) هو ثبير غيناء، ويسمى أيضا: ثبير الأثبرة، أي: كبيرها، وتسميه عامة أهل مكة اليوم: جبل الرخم، وهو المقابل لجبل النور (حراء) من الجنوب والمشرف على منى من الشمال. "معجم البلدان" 2/ 73، "معالم مكة" للبلادي ص 55. (¬7) رواه البخاري (1684) كتاب الحج، باب: متى يدفع من جمع، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -.

ومعناه: أشرق يا ثبير بالشمس كيما نَدْفَعَ من مزدلفَةَ، فندخل في غَورِ الأرض، وهو المنخفض منها، وذلك أنهم إذا جاوزوا المزدلفة صاروا في هبوط من الأرض، وهناك بطن وادي محسر، والوادي فاصل بين حد مزدلفة وحد منى (¬1). وذهب الزُّهري (¬2) إلى أن (الناس) في هذه الآية: آدم -عليه السلام- واحتج بقراءة سعيد بن جبير: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي (¬3)). وقال: هو آدم، نسي ما عُهد إليه. وروي أنه قرأ (الناسِ) فاكتُفي (¬4) من الياء بالكسرة (¬5). ¬

_ (¬1) المحَسِّر: واد ليس من منى ولا المزدلفة، بل هو واد برأسه، وهو واد صغير يأتي من الجهة الشرقية لثبير الأعظم من طرف ثقبة، ويذهب إلى وادي عرَنة، فإذا مر بين منى ومزدلفة، كان الحد بينهما، والمعروف منه للعامة ما يمر فيه الحاج بين مزدلفة ومنى، وله علامات هناك منصوبة. "معجم البلدان" 5/ 62، "معالم مكة" ص 248. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 570، البغوي في "تفسيره" 1/ 231، "زاد المسير" 1/ 214، "تفسير الرازي" 5/ 197. (¬3) في (ش): الناس. (¬4) في (ش) و (أ): اكتفى. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 570، البغوي في "تفسيره" 1/ 231، وابن جني في "المحتسب" 1/ 119، وابن خالويه في "مختصر شواذ القراءات" ص 20، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 177، وقال: وقرأ سعيد بن جبير: الناسي، وتأوله: آدم عليه السلام، ويجوز عند بعضهم: تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد، قال ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءًا به فلا أحفظه. وبها قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورق العجلي: الناسي، بإثبات الياء، ينظر: "زاد المسير" 1/ 214.

200

وقال الضحاك: الناسُ هاهنا: إبراهيم عليه السلام (¬1)، وهذا كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ} يعني: نعيم بن مسعود (¬2) {إِنَّ اَلنَّاسَ} [آل عمران: 173] يعني: أبا سفيان، وإنما يقال هذا للذي يُقْتَدى به ويكون لسان قومه (¬3). قال ابن الأنباري: وإيقاع الجمع على الواحد جائز، كما تقول العرب: خرج زيدٌ إلى البصرة في السفن، وإلى الكوفة على البغال. 200 - قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} ذكرنا معاني القضاء عند قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة: 117]، وأراد هاهنا: أدَيْتُم، لأنه يقال: قضى ما عليه، إذا أداه. كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةَ} [الجمعة: 10] يعني: الجمعة، ولا يُتَصَوَّرُ فيها قَضَاءٌ دون الأداء، وأصلُ هَذَا يؤول إلى إحكامه بالفراغ منه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 293، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 354، وينظر: "النكت والعيون" 1/ 261، "زاد المسير" 1/ 214، وبين الطبري في "تفسيره" 2/ 293: أنه لولا إجماع الحجة لكان الأولى بتأويل الآية قول الضحاك؛ لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من مزدلفة، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام، وقد تقدم الأمر بها، فالأمر هنا إنما هو بالإفاضة من الموضع الذي لم يفيضوا منه دون ما أفاضوا منه. (¬2) هو: أبو سلمة، نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، صحابي مشهور، هاجر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، وهو الذي خذَّل المشركين واليهود حتى صرفهم الله، سكن المدينة، قُتِلَ في وقعة الجمل في أول خلافة علي، وقيل في خلافة عثمان. ينظر: "الإصابة" 3/ 568، "أسد الغابة" 5/ 348. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 294، "تفسير الثعلبي" 2/ 569، "تفسير البغوي" 1/ 230 - 231، "التفسير الكبير" 5/ 196. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 195، "تهذيب اللغة" 3/ 2985 - 2987 "قضى"، "المفردات" ص 406 - 408، وقال الرازي في "تفسيره" 5/ 199: اعلم أن القضاء =

والمناسك: جمع مَنْسَك الذي هو مصدر، بمنزلة النُّسُك، أي: إذا قضيتم عبادتكم التي أُمِرْتُم بها في الحج (¬1)، وإنْ جَعَلْتَها جَمْعَ مَنْسَك الذي هو موضع العبادة، كان التقدير: فإذا قضيتم أعمالَ مناسِكَكُم، فيكون من باب حذف المضاف (¬2). وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ} قال أكثرُ أهل التفسير: كانت العربُ إذا فَرَغوا من حَجِّهم ذكروا مآثرَ آبائِهم ومفاخِرَهم، فأمرهم الله عز وجل بذكره، فقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم (¬3). ¬

_ = إذا علق بفعل النفس فالمراد به: الإتمام والفراغ، وإذا علق على فعل الغير، فالمراد به الإلزام، نظير الأول: قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}، ونظير الثاني: قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ}، وإذا استعمل في الإعلام فالمراد أيضا ذلك، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}، يعني: أعلمناهم، إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}، لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه. اهـ. بتصرف. (¬1) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 178، "التفسير الكبير" 5/ 199، "زاد المسير" 1/ 215، وذكر أن القائلين بأن المناسك هي المتعبدات قد اختلفوا في المراد بها هاهنا على قولين: أحدهما: أنها جميع أفعال الحج، قاله الحسن. والثاني: أنها إراقة الدماء، قاله مجاهد. وينظر: "البحر المحيط" 2/ 103. (¬2) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 199، "البحر المحيط" 2/ 103، "المحرر الوجيز" 2/ 178 وقال: والمناسك عندي العبادات في معالم الحج، ومواضع النسك فيه. (¬3) نقله عن الثعلبي مختصرا "تفسير الثعلبي" 2/ 583، وقد جمعه الثعلبي من روايات عدة عن الصحابة والتابعين، وذكر الطبري 2/ 296 - 297، الرواية بذلك عن أنس ومجاهد وأبي وائل وأبي بكر بن عياش وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة، وينظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 79، "أخبار مكة" للفاكهي 4/ 147، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 355، "الدعاء" للطبراني 2/ 1208، "العجاب" 1/ 511.

قال أبو إسحاق: كانت العرب إذا قضت مناسكها وقَفَتْ بين المسجد بمنى وبين الجبل، فَتُعَدِّدُ فَضَائل آبائها، وتذكر محاسِنَ أيامهم، فأمر الله تعالى أن يجعلوا ذلك الذكرَ له، وأن يزيدوا على ذلك الذكر، فيذكروه بتوحيده، وتعديد نِعَمه؛ لأنه إن كانت لآبائهم نِعَمٌ فهي من الله عز وجل، وهو المشكور عليها (¬1)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬2). وقال في بعض الروايات (¬3): وهو قول الربيع (¬4) والضحاك (¬5): أرادَ: فاذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم، فاكتُفي بالآباء من الأمهات، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، قالوا: وهو قول الصبي الصغير أول ما يُفْصحُ الكَلام: أَبَهْ أَبَهْ، أمَّهْ أمَّهْ، أي: الهجوا بذكر ربكم في جميع أحوالكم، كما يلزمُ الصبيُّ (¬6) في صِغَرِه ذكرَ أبيهِ وأُمِّه (¬7). وقال ابن الأنباري في هذه الآية: إن العربَ كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء، كقولهم: وأبي وأبيك وأبيكم وجدكم. فقال الله تعالى: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 274. (¬2) رواه عن عطاء: الفاكهي في "أخبار مكة" 4/ 148، والطبري في "تفسيره" 2/ 297، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 356، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 451، وذكره الرازي في "تفسيره" 5/ 198. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 297 من طريق عطية العوفي عنه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 583. (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 297، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 584، والرازي في "تفسيره" 3/ 200. (¬5) انظر السابق. (¬6) من قوله: (الصغير ...) ساقط من (أ) (م). (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبى" 2/ 584.

عَظِّموا الله تعالى كتعظيمِ آبائكم (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} يعني: وأشدّ (¬2)، والعامل فيه: الكاف في قوله (¬3): {كَذِكْرِكُمْ}، وموضعه جر، وإن شئت جعلت العامل فيه: الفعل في (اذكروا)، فتكون نصبًا (¬4). وهذا الذكر المأمور به هو التكبير أيام منى، وقيل: إنه الدعاء لله عز وجل في تلك المواطن (¬5). وقوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ ..} إلى آخر الآية قال ابن عباس: هم المشركون، كانوا يسألون المال والإبل والغنم، وكانوا يقولون: اللهم اسْقِنا المَطَر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، ويسألون التوسعة عليهم في ¬

_ (¬1) نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 200 - 201، وينظر: "زاد المسير" 1/ 215، وقال: وهذا مروي عن الحسن أيضًا، "البحر المحيط" 2/ 103. (¬2) "التبيان" 1/ 164، قال في "البحر المحيط" 2/ 103: و (أو) هنا قيل: للتخيير، وقيل للإباحة، وقيل: بمعنى: بل أشد. (¬3) في (م): (كقوله). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 274، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 124، "التبيان" ص 125 - 126، وقد اعترض أبو حيان في "البحر" 2/ 103 على إعرابه بذلك، وبين سبب الاعتراض، وأطال في ذكر الأعاريب الضعيفة، ثم قال: والذي يتبادر إلى الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرًا يماثل ذكر آبائهم أو أشد، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون أشد منصوبا على الحال، وهو نعت لقوله (ذكرًا) لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، ويكون إذ ذاك: أو ذكرا أشد، معطوفا على محل الكاف من (كذكركم)، ثم ذكر وجهًا آخر. (¬5) والأول: اختيار الطبري 2/ 298، وينظر: "التفسير الكبير" 5/ 200، "البحر المحيط" 2/ 103.

201

الدنيا، ولا يسألون حظًا في الآخرة لأنهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة (¬1). وحذف مفعول {آتِنَا} من الكلام، وهو المسؤول من الدنيا؛ للعلم (¬2). 201 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية. هؤلاء المسلمون يسألون الحظ في الدنيا والآخرة. قال ابن عباس في رواية عطاء: أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر رضي الله عنه (¬3) عام الفتح على الموسم، ثم بعث عليًا رضي الله عنه بسورة التوبة، وصلى أبو بكر بالناس في الموسم، وعَرَّفَهُم مناسكهم. ولما (¬4) قَضَوْا حَجَّهم ومناسكهم ذكروا الله أشد من ذكرهم آباءهم، فكان أول من قال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أبو بكر، ثم اتبعه علي والناس أجمعون (¬5). قال ابن عباس: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} يريد: العملَ بما يُرضِي الله، وأكلَ الحلال، والزوجةَ الصالحة، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} يريد: الجنةَ ¬

_ (¬1) رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره"1/ 357، وهو مروي عن أنس ومجاهد وقتادة والسدي وأبي وائل وأبي بكر بن عياش، وابن زيد ومقاتل بن حيان. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 298 - 299. (¬2) "التفسير الكبير" 5/ 203، "البحر المحيط" 2/ 104 - 105، وقال: حذف مفعولي آتى، وأحدهما جائز اختصارا واقتصارا، لأن هذا من باب: أعطى، وذلك جائز فيه. (¬3) قوله: (أبا بكر -رضي الله عنه-) سقطت من (م). (¬4) في (م): (فلما). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 307، وأبو حيان في "البحر" 2/ 105.

والحور العين، والنعيم المقيم (¬1). وروى مجاهد، عن ابن عباس قال: عند الركن اليماني مَلَكٌ قائم منذ خلق الله السموات والأرض يقول: آمين، فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار (¬2). ولفظ الحسنة في الآية منكّرة مبهمة محتملة لكل حسنة من الحسناتِ على البدل، وأَتَمُّها ما قال ابن عباس (¬3). ¬

_ (¬1) هذه من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 10/ 368، والفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 110، والآجري في "مسألة الطائفين" 33، وابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال" 301، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 453 كلهم من طريق عبد الله بن مسلم بن هرمز عن مجاهد به، وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن مسلم. ينظر: "التقريب" ص 322 (3616)، وضعفه الدكتور/ المنيع في تحقيقه لـ"تفسير الثعلبي" 2/ 600، ورواه الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 341 بهذا السند موقوفا على مجاهد، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه ابن ماجه (2957) كتاب: المناسك، باب: فضل الطواف، عن حميد بن أبي سوية، قال: سمعت ابن هشام يسأل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني، وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وُكِّل به سبعون ملكًا، فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قالوا: آمين، الحديث، قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 2/ 135: إسناده ضعيف، حميد قال فيه ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة، وقال الذهبي: مجهول، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" (640). (¬3) والمروي عن السلف كله مقارب لهذا في المعنى، تنظر المرويات في ذلك عند الطبري في "تفسيره" 2/ 300 - 301، واختار الطبري أن المراد بالحسنة عام، فيشمل كل ما قيل فيها، وأما حسنة الآخرة فالجنة، لأن الله لم يخص شيئا من=

202

قال أهل المعاني: والفائدة في الإخبار عنهم بهذا الدعاء: الاقتداء بهم فيه، وذلك أنه لما حذر من الدعاء الأول رغب في الثاني. والإيتاء منقول من الأتي الذي هو المجيء (¬1)، يقال: أَتَى، إذا كان منه المجيء، وأتى إذا حَمَلَ غيرَه (¬2) على المجيء. يقال: آتاه ما يحب، وأتاه غير ما يحب، إذا جعله يأتيه ذلك الشيء، ثم يفسر الإيتاء بالإعطاء، وأصله ما ذكرنا (¬3). 202 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} قال ابن عباس: يريد: ثوابَ ما عملوا (¬4). وقال أبو إسحاق: أي: دعاؤهم مستجاب؛ لأن كَسْبَهُم هاهنا الذي ذكر: الدعاء (¬5). وقيل: معناه: لهم نصيب من كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه، خلاف من بطل عمله فلم يكن (¬6) له منه حظ (¬7). ¬

_ = معاني الحسنة ولا نصب على خصوصه دلالة فوجب إبقاؤه على عمومه، وحكى ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 180 أن حسنة الآخرة الجنة بإجماع، وقال القرطبي في "تفسيره" 2/ 408: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين: نعم الدنيا والآخرة، وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله. (¬1) في (م): (من المجيء). (¬2) في (أ) (م): (غير). (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة"، "المفردات" 18، "لسان العرب" 1/ 21 - 24 "أتى". (¬4) لعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في القسم الدراسي. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 275. (¬6) في (م) (ينزل). (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 302، ورواه عن قتادة وابن زيد، ينظر: "تفسير الثعلبي" =

وقوله تعالى: {وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} سريع فاعل من السُّرْعَة. قال ابن السِّكِّيْت: يقال: سَرَع يَسْرُع سَرَعًا وسُرْعة فهو سريع (¬1). والحساب: مصدر كالمحاسبة، وربما سمي المَحْسُوبُ حِسَابًا، ومعنى الحساب في اللغة: العد، يقال: حَسَب يَحْسُبُ حِسَابًا وحِسَابةً وحِسْبَةً وحَسْبًا؛ إذا عَدّ، ذكره الليث وابن السكيت، وأنشد قول النابغة: وأَسْرَعَتْ حِسْبَةً في ذلك العَدَد (¬2) وقول آخر: يا جُمْلُ أسْقَاكِ بلا حِسَابَهْ (¬3) ¬

_ = 2/ 601، "التفسير الكبير" 5/ 205، وكلا القولين اللذين ذكرهما (المصنف) على اعتبار أن أولئك عائدة للصنف الثاني، وهم المؤمنون، وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 301، ودليله: أنه قال في حق الصنف الأول: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، فذكر جزائهم، ثم ذكر الصنف الثاني، وهذا جزاؤهم. ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 205،"الدر المصون" 2/ 343، وقيل: إن أولئك تعود إلى الفريقين مثل قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19]. (¬1) نقله في "تهذيب اللغة" 2/ 89، "تفسير القرطبي" 2/ 410، ونقله عن الواحدي بغير عزو: الرازي في "تفسيره" 5/ 206. (¬2) صدره: فَكَمَّلَتْ مائةً فيها حمامَتُها "ديوان النابغة" ص 25، "لسان العرب" 2/ 865 (حسب). (¬3) ورد الرجز هكذا: يا جمل أُسْقِيْتَ بلا حسابه * سُقْيَا مَلِيكِ حَسَنِ الرِّبَابَه * قتلتني بالدل والخلابة والرجز لمنظور بن مَرْثَد الأسدي، في "لسان العرب" 2/ 865 (حسب)، وقال: وأورد الجوهري الرجز: يا جُمْل أسقاكِ، وصواب إنشاده: يا جُمْل أُسْقِيت، و"التنبيه والإيضاح" 1/ 62، "تاج العروس" 1/ 419. "المعجم المفصل" 9/ 51. والرِّبابة: القيام على الشيء بإصلاحه وتربيته، والخِلابة: أن تخلب الأمة قلب الرجل بألطف القول وأعذبه.

والحَسَبُ: ما عُدَّ، ومنه: حَسَب الرجل: وهو ما يُعَدُّ من مآثره ومَفَاخره، والاحتساب: الاعتدادُ بالشيء (¬1). وقال الزجاج: الحساب في اللغة: مأخوذ من قولهم: حَسْبُك كذا، أي: كفاك، فسمى الحساب في المعاملات حسابًا؛ لأنه يعلم به ما فيه كفاية، وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان (¬2). وأما التفسير، فإن (¬3) ابن عباس حَمَلَ الحساب، هاهنا، على حساب المذكورين في هذه الآية، فقال: يريد: أنه (¬4) لا حساب عليهم، إنما يقفون بين يدي الله يُعْطَوْن كتبهم بأيمانهم، فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزتها عنكم، ثم يعطون حسناتهم فيقال لهم: هذه حَسَنَاتُكُم قد ضَعَّفْتُها لكم (¬5). وقال أبو إسحاق: معناه: أنه قد علم ما للمحاسَب وعليه قبل توقيفه على حسابه، فهو سريع الحساب؛ لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته (¬6). فعلى ما ذكره أبو إسحاق تأويله: أنه عالم بما للمحاسبين وعليهم. وقال ابن الأنباري: معناه: سريع المجازاة للعباد على أعمالهم، وإن ¬

_ (¬1) ينظر في مادة حسب "تهذيب اللغة" 2/ 809 - 812، "المفردات" ص 123 - 125، "اللسان" 1/ 863 - 868. (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 810 "حسب". (¬3) في (م): قال. (¬4) في (م): إنه يريد. (¬5) ذكره في "غرائب النيسابوري" 2/ 280 - 281، "الوسيط" 1/ 308، "التفسير الكبير" 5/ 206. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 275.

كان قد أمهلهم مدة من الدهر، فإن وقت الجزاء عنده قريب (¬1)، يدل عليه قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77]، فسَمَّى المجازاةَ حسابًا؛ لأن ما يجازى به العبد هو كِفَاء لفعله، أو لأنه يجازى عند الحساب، وإنما يحاسب ليجازى، فذكر الحساب وهو يريد الجزاء. وقيل: تأويل الآية: أنه سريع القبول لدعاء عباده، والإجابة لهم، وذلك أنه تعالى يُسأل في وقت واحد سؤالاتٍ مختلفة، من أمر الدنيا والآخرة، فيجزي كلَّ عَبْدٍ على قدر استحقاقه، فلو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العَدُّ واتصل الحساب، فأعلم الله تعالى أنه (¬2) سريعُ الحساب، أي: الإحاطة والعلم بجملة سؤال السائلين؛ لأنه لا يحتاج إلى عَقْدِ يَدٍ، ولا وَعْي صَدْرٍ، ولا رؤيةٍ وفكرٍ، ثم تأويله يعود إلى سرعة القبول والإجابة ما لم يعرف مسألةَ كلِّ أحدٍ على التفصيل ليمكنه الإجابة (¬3) إلى ما سأل، وهذا معنى الدعاء المأثور: يا من لا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع (¬4). ومع ما ذكرنا من هذه التأويلات (¬5) قد ورد في الخبر: "أن الله عز وجل ¬

_ (¬1) "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 97 - 98، وينظر: "الوسيط" للواحدي 1/ 308، "البحر المحيط" 2/ 106. (¬2) في (ش) (لأنه). (¬3) لسِت في (أ) ولا (م). (¬4) لم أجده. (¬5) ينظر في الأقوال السابقة: "تفسير الطبري" 2/ 302، "تفسير الثعلبي" 2/ 609، "تفسير السمعاني" 2/ 243، "تفسير البغوي" 1/ 233، "المحرر الوجيز" 2/ 181، "زاد المسير" 1/ 216، "تفسير الرازي" 5/ 207، "البحر المحيط" 2/ 106، "تفسير القرطبي" 2/ 412، وقال: الكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف =

203

يحاسب في قَدْر حَلْبِ شَاةِ" (¬1). 203 - قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الأصحُّ أن هذه الأيام يرادُ بها: أيامُ التشريق (¬2) وأيامُ رَمْي الجمار (¬3)، سماها معدودات (¬4) لِقِلَّتِهَا (¬5)، كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]. وجَمْعُها ¬

_ = الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف في الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 609، وذكره الزيلعي في "آثار الكشاف" 1/ 128، والحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" 1/ 249، وسكتا عليه، وقال المناوي في "الفتح السماوي" 1/ 248: قال الولي العراقي: لم أقف عليه، وقال غيره: أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬2) سميت أيام التشريق بذلك؛ لأن الناس كانوا يشرقون اللحم تلك الأيام، وتشريق اللحم هو تقديده وبسطه في الشمس ليجف، وقيل: لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، أي: تطلع. ينظر: "النهاية" لابن الأثير ص 475. (¬3) قد حكى جماعة كثيرة من العلماء الإجماع على أن المراد بالأيام المعدودات هي أيام منى، منهم: الماوردي في: "النكت والعيون" 1/ 263، وابن عبد البر، نقله عنه القرطبي في "تفسيره" 3/ 1، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 394، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 1/ 178، والرازي في "تفسيره" 5/ 208، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 1. وقال النووي في "المجموع" 8/ 281: نقل القاضي أبو الطيب والعبدري وخلائق: إجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق. وذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 302 - 303 هذا القول عن مفسري السلف، وقال: وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم أسند التفسير به عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وإبراهيم والحسن وقتادة والسدي والربيع ومالك والضحاك وابن زيد. ينظر: "الإجماع في التفسير" 216 وما بعدها. (¬4) زيادة من (ي). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 275.

على الألف والتاء يدل أيضًا على القلة، نحو: دُرَيْهِمَات وحمامات (¬1). وروي أن حسان بن ثابت عرضَ شعره وهو صبي بعكاظ على النابغة وأنشده قوله: لنا الجَفنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْن بالضُّحَى ... وأسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دمَا (¬2) فقال: يا غلام! قَلَّلْتَ جِفَانك، يريد: أنه جَمَعَ بالألف والتاء، ولم يَقُلْ الجِفَان. قال الزجاج: وهذا الخبر عندي مصنوع؛ لأن الألف والتاء قد تأتي للكَثْرة قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]. وقال: {فِي جَنَّاتٍ} [يونس: 9]. وقال: {الْغُرُفَاتِ} [سبأ: 37]، فقد يرد هذا الجمع في الكثير، ولكنه أدلُّ على القليل، من حيث كانَ أقرب إلى الواحد؛ لأنه على التثنية، تقول: حمام وحمامان وحمامات، فتؤدي بناءَ الواحد (¬3). والمراد بالذكر في هذه الأيام: التكبير أدبار الصلوات وعند الجمرات، يكبر مع كل حصاة (¬4). وأكثر العلماء على ما ذكرنا وهو أن الأيام المعدودات: أيام ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 275، قال القرطبي في "تفسيره" 3/ 1: قال الكوفيون: الألف والتاء في (معدودات)؛ لأقل العدد، وقال البصريون: هما للقليل والكثير. (¬2) البيت في "ديوانه" ص 221. "المقتضب" 2: 188 "الكتاب" لسيبويه 3/ 578 "الخصائص" 2/ 206، "المحتسب" 1/ 187، والغُر: البيض، جمع غرّاء، يريد بياض الشحم، يقول: جفاننا معدة للضيفان ومساكين الحي بالغداة وأسيافنا تقطر بالدم، لنجدتنا وكثرة حروبنا. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 275 - 276، وقد استشهد سيبويه في "الكتاب" 3/ 578 ببيت حسان على الجمع الكثير. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 302، "تفسير الثعلبي" 2/ 614، "زاد المسير" 1/ 217.

التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر: أولها: يوم القَرّ، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، يستقرُّ الناس فيه بمنى. والثاني: يوم النَّفْر الأول؛ لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى. والثالث: يوم الثالث عشر، وهو يوم النفر الثاني (¬1). وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر، وأيام رمي الجمار (¬2). وهي الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير أدبار الصلوات، يبتدأ مع الصبح يوم عرفة، ويختم مع العصر يوم الثالث عشر، وهو مذهب ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 204، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 140 - 142، وقال القرطبي 3/ 1. أمر الله سبحانه عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر، وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر؛ لأنه قد أخذ يومين من المعدودات. (¬2) كونها أياما لرمي الجمار لا خلاف فيه، وكونها أياما للنحر وقع فيه الخلاف على أقوال: الأول: أن آخر أيام النحر اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري. والثاني: أن آخر أيام النحر هو آخر أيام التشريق، روي عن علي، وبه قال عطاء والحسن، وهو مذهب الشافعي. والثالث: أن النحر في يوم النحر فقط وهو قول ابن سيرين. والرابع: أن آخرها لأهل الأمصار يوم النحر، ولأهل منى اليوم الثاني من أيام التشريق، وبه قال سعيد بن جبير وجابر بن زيد. والخامس: أن آخرها هلال المحرم، وبه قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يِسار. ينظر: "المغني" لابن قدامة 13/ 386.

أمير المؤمنين علي (¬1)، رضي الله عنه، وهو أكمل المذاهب. والأظهر من مذهب الشافعي رحمه الله أنه يبتدئ التكبيرَ من صلاة الظُّهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، اقتداءً بالحاجّ، قال: لأنهم يقطعون التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر، من صلاة الظهر، والصبح آخر صلاة يصليها الحاج، والناس لهم تبع (¬2). وقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} معناه: فمن تعجل في يومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه في تَعَجُّلِه، ومن تَأَخَّرَ عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ¬

_ (¬1) رواه عن علي: ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 165، وابن المنذر في "الأوسط" 4/ 300، والبيهقي في "تفسيره" 3/ 314. (¬2) ينظر: "الأم" 1/ 275، "معرفة السنن والآثار" 5/ 104، "المجموع" 5/ 31، وقد وقع الخلاف في ابتداء التكبير عقب الصلوات المفروضات وانتهائه على ستة أقوال: الأول: ما ذكره المؤلف من مذهب علي، وبه قال عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود والثوري وأبو ثور، والشافعي في بعض أقواله، وأبو يوسف ومحمد، وهو مذهب أحمد لمن كان محلا، أما إن كان محرما فيبتدئ بالظهر من يوم النحر. الثاني أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود وعلقمة والنخعي وأبو حنيفة. الثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا قول للشافعي. ينظر: "زاد المسير" 1/ 217، "المغني" 3/ 288، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 142، "تفسير القرطبي" 3/ 4.

نفر فيه، فلا إثم عليه في تأخُّرِه (¬1). فإن قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل. فما بال المتأخر أُلحق به، والذي أتى أفضل؟ قيل: معناه: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فهو مبرور مأجور. فقال: (فلا إثم عليه) وهو يريد هذا المعنى لتوافق اللفظةُ الأولى الثانيةَ، وتكون على مثلِ سبيلها، وقد ذكرنا أنه حُمِلَ على موافقة اللفظ بما لا يصلح في المعنى (¬2) وهو قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، فَلأَن يحمل على موافقة اللفظ بما يَصِحُّ في المعنى أولى؛ لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفيُ الإثم عنه. وقيل: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه في استعماله الرخصة، ومن تأخر فَتَرْكُه استعمالَ الرخصةِ غيُر مؤثم له أيضًا. وقيل: فمن تَعَجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه من آثامهما التي كانت عليهما قبل أن يَحُجَّا، يدل على صحة هذا الوجه: ما روى منصور (¬3)، عن أبي حازم (¬4)، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 622، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 305، "زاد المسير" 1/ 218، "تفسير القرطبي" 3/ 4. (¬2) في (أ) و (م): ليوافق اللفظ ما لا يصح في المعنى. (¬3) هو: منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب الكوفي، أحد الأئمة الثقات، وكان أثبتَ أهلِ الكوفة، اشتهر بالعبد والصلاح، ذكر العجلي أن فيه تشيعا قليلا وليس بمغال، توفي سنة 132 هـ ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 92، "تاريخ بغداد" 11/ 120. (¬4) هو: سلمان أبو حازم الأشجعي الكوفي، روى عن ابن عمر وأبي هريرة، وروى =

حجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُق خرج من ذنوبه كيومِ ولدتْه أمه" (¬1). وذهب بعض المتأولين: إلى أن المراد بوضع الإثم عنه المتعجلُ دون المتأخر، ولكن ذُكرا معًا والمراد أحدُهما، كقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] والجناح على الزوج؛ لأنه أخذ ما أعطى، وقد قال الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] ومثل هذا قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]، نسب النسيان إليهما، والناسي أحدُهما، وقوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من أحدهما (¬2). وقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّقَى} قال النحويون: المعنى: ذلك لمن اتقى، أي: طَرْح المآثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتَّقَيَا في حَجَّهما تضييع شيء مما حَدَّه الله وأمر به، حتى لا يظن أن من تعجل أو تأخر خرج عن الآثام دون أن يتقي، فيكون قوله: {لِمَنِ اتَّقَى} خبرًا لمبتدأ محذوف (¬3)، ¬

_ = عنه منصور والأعمش، كان ثقة وله أحاديث صالحة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز. ينظر: "تهذيب التهذيب" 4/ 140، "التقريب" ص 246 (2479). (¬1) أخرجه البخاري (1820) كتاب الحج، باب: قول الله: ولا فسوق ولا جدال في الحج، ومسلم (1350) كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة. (¬2) ينظر في ذكر هذه الأجوبة على هذا الإشكال الذي طرحه الواحدي: "تفسير الطبري" 2/ 305 - 307، "زاد المسير" 2/ 218، "التفسير الكبير" 5/ 210 - 211، "البحر المحيط" 2/ 112. (¬3) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 185، "التبيان" ص 126 - 127، وقال في "البحر المحيط" 2/ 112: قيل هو متعلق بقوله: واذكروا الله، أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: المعنى: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لئلا يختلج في قلبه شيء منهما فيحسب أن أحدهما آثام في الإقدام عليه،

وهذا معنى قول قتادة (¬1) وابن مسعود (¬2)، وكان يقول: إنما جعلت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وكذلك كان يقرأ: {لِمَنِ اتَّقَى} (¬3) (¬4). وقال ابن عباس في رواية العوفي والكلبي: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتَّقَيَا قَتْلَ الصيد، لا يحلُّ لأَحَدْ أن يَقْتُلَ صيدًا حتى تخلو أيام التشريق (¬5)، فمتى (¬6) لم يتقياه كان عليهما مأثم. وقال أبو العالية: ذهب إِثْمُهُ كُلُّه إن اتقى فيما بقي من عمره (¬7). ومعناه: التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج والبر فيه، فبين أن عليهم مع ذلك ملازمةَ التقوى، ومجانبةَ الاغترار بالحال الأولى. ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 309، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 625. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 309، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 363. (¬3) من قوله: كان يقرأ القرآن ... ساقطة من (م). وهذه العبارة وردت مكررة في (أ) وفي الأولى منهما (لمن اتقى الله حجه). (¬4) رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 291، والطبري في "تفسيره" 2/ 208 عن ابن جريج، وذكر القراءة: الثعلبي في "تفسيره" 2/ 626، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 113. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 309، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 363 كلاهما من غير طريق العوفي والكلبي، وفي "الدر المنثور" 1/ 423، عزاه إلى سفيان بن عيينة وابن المنذر. رواية العوفي أخرجها الطبري 2/ 309، وذكرها الثعلبي 2/ 625، ورواية الكلبي ذكرها الثعلبي 2/ 625، وأخرجها ابن أبي حاتم 2/ 363، من طريق سفيان عن رجل قد سماه عن أبي صالح عن ابن عباس به. (¬6) في (ي) (فإذا). (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 308، وفي "الدر المنثور" 1/ 425 عزاه إلى عبد بن حميد، وذكر النحاس في "معاني القرآن" 1/ 147، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 625.

204

204 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. قال الكلبي (¬1) والسدي (¬2) ومقاتل (¬3) وابن عباس (¬4) في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شَرِيق (¬5)، واسمه: أُبَيّ، وسمي الأخنس؛ لأنه خَنَس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زُهْرَة عن قتالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رجلًا حُلْوَ الكلام، حُلْوَ المَنْظر، وكان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجالسه، ويظهر الإسلام، ويخبره أنه يحبه، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقًا حسن العلانية، سيئ السريرة، وكان يُعْجِبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬6) كلامُه (¬7). وإنما قال: (في الحياة الدنيا)، لأنه كاذب، فما تعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلامه (¬8) ولا ¬

_ (¬1) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 427 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وعزاه ابن حجر في "العجاب" 1/ 519 إلى عبد بن حميد، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 626. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 312، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 364. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 177. وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 626، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 219، البغوي في "تفسيره" 1/ 235. (¬4) عزاه في "زاد المسير" 1/ 219 إلى ابن عباس، وعزاه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 626، وكذا البغوي في "تفسيره" 1/ 235 إلى عطاء وحده وقد تقدم الحديث عن رواية عطاء في المقدمة. (¬5) هو: الأخنس بن شَرِيق بن عمرو بن وهب الثقفي، كان حليف بني زهرة، مطاعًا فيهم، نصحهم في عدم المشاركة في معركة بدر فأطاعوه ولم يشاركوا، كان أحدَ الثلاثةِ الذين تلذذوا بسماع القرآن ليلًا. اختلف في إسلامه. ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 187، "أسد الغابة" 1/ 47، "البداية والنهاية" 5/ 78. (¬6) ساقطة من "ي". (¬7) هذا مختصر من لفظ مقاتل في "تفسيره" 1/ 177 - 178، وذكره مطولا الثعلبي في "تفسيره" 2/ 626. (¬8) ما من قوله: وإنما. قال زيادة من (ي).

يثاب عليه في الآخرة (¬1). وقوله تعالى: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} يعني قوله: والله إني بك مؤمن، ولك محب، فهو يحلف بالله ويُشْهِدُه على أنه مضمر (¬2) ما يقوله، وهو كاذب في ذلك، فكان التأويل: ويشهد الله على ما في قلبه من الإيمان بزعمه (¬3). وقوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} معنى الأَلَدّ: الشديد الخصومة. قال أبو إسحاق: أُخذ من لَدِيدَي العُنُق، وهما صَفْحَتَاه، وتأويله: أنه في ¬

_ (¬1) وذكر المفسرون كالطبري 2/ 312 - 314، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 219، والرازي 5/ 213، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 629 قولين آخرين فيمن نزلت فيه الآية: أحدهما: أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه. وهذا قول مجاهد والربيع وعطاء والحسن وقتادة وابن قلد ومحمد بن كعب القرظي، وقال الرازي في "تفسيره" 5/ 214: وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين. الثاني: أنها نزلت في سرية الرجيع، وبه قال ابن عباس والضحاك، والرجيع: ماء لهذيل قرب الهداة، بين عسفان ومكة، حين بعث كفار قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنا قد أسلمنا فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلمونا ديننا، فبعث لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة من أصحابه، فغدرت بهم عضل والقارة، وصارت لهم قصة، فقال بعض المنافقين: ويح هؤلاء المقتولين، لا في بيوتهم قعدوا ولا رسالة صاحبهم أدوا، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية وثلاث آيات بعدها. وخبر سرية الرجيع مذكور في الصحيحين. رواه البخاري (4086) كتاب المغازي، باب: غزوة الرجيع ورعل وذكوان. ينظر: "فتح الباري" 7/ 385 - 392، ومسلم (677) كتاب الأمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، "سيرة ابن هشام" 2/ 184 - 191، "تفسير الثعلبي" 2/ 629 - 638. (¬2) زيادة من (ي). (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 642.

205

أيِّ وَجْه أَخَذَ من يمين أو شمال في أبواب الخُصومةِ غَلَب (¬1)، ويقال: لَدَدْتَ يا رجل، فأنت تَلَدُّ لَدَدًا ولَدَادَةً (¬2). والخصام: مصدر، كالمُخَاصمة، والمُخَاصَمَة: مُفَاعلةٌ من الخصُومة، وحقيقة الخُصومة: التَّعَمُّق في البحث عن الشيء، والمضايقةُ فيه، ولذلك قيل لزوايا الأوعية: خُصوم، واحِدُها: خُصْم (¬3). قال ابن عباس في قوله: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} يريد: الذي يدع الحق ويِخاصم على الباطل (¬4). 205 - قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: {وَإِذَا تَوَلَّى} يريد: راجعًا إلى مكة (¬5)، وذلك أنه لما انصرف من بدر ببني ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 277 بمعناه. (¬2) ينظر في مادة لدد: "تفسير الطبري" 2/ 315، "معاني القرآن" للفراء1/ 123، "تفسير الثعلبي" 2/ 643، "لسان العرب" 7/ 4020، "تهذيب اللغة" 4/ 3254، وضبطت فيه: لدِدْتُ، بكسر الدال، وقال شاكر في حاشية "تفسير الطبري" عن لدادة: مصدر لم أجده في كتب اللغة التي بين يدي. (¬3) ينظر في مادة (خصم) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 71، "تهذيب اللغة" 1/ 1042، "تفسير الثعلبي" 2/ 644، "لسان العرب" 2/ 1177 - 1178، "المفردات" ص 155، وبين أن أصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي جانبه، وأن يجذب كل واحد خُصْم الجوالق من جانب. ويرى الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 277: أن خصام: جمع خصم؛ لأن فَعلا يجمع إذا كان صفة على فعال، نحو صعب وصعاب، وكذلك إن جعلت خصما صفة، فهو يجمع على أقل العدد، وأكثره على فعول وفعال جميعا، يقال: خصم وخصام وخصوم، وإذا كان اسما ففعال فيه أكثر العدد، نحو: فرخ وأفراخ لأقل العدد، وفراخ وفروخ لما جاوز العشرة. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 310 بلفظه، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 428 إلى الطستي من سؤالات نافع بن الأزرق. (¬5) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 316، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 366،=

زُهْرَة (¬1)، كان بينه وبين ثقيف (¬2) خصومه، فبيتهم ليلًا، وأهلك مواشِيَهُم، وأَحْرَقَ زَرْعَهُم (¬3). وقال السُّدِّي. مرّ بزرع للمسلمين وحُمُر، فأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وعَقَرَ الحُمُر (¬4). وقال الضحاك (¬5) ومجاهد (¬6): تولى بمعنى: ملك وَوَلي وصار واليًا، ومعناه: إذا ولي سلطانًا جار، وعلى تفسير ابن عباس معناه: أدبر وأعرض. وذكرنا معنى السَّعْيَ فيما تقدم. وقوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} أكثرُ المُفَسِّرين على أن المراد بالحرث: الزرع والنبات، وبالنَّسْل: نسل الدواب، على ما روي أنه ¬

_ = وقد ذكر الواحدي قولين في معنى تولى، وفيها قولان آخران: أحدهما: تولى بمعنى غضب، روي عن ابن عباس وابن جريج. والثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله. قاله الحسن. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 316، "زاد المسير" 1/ 221. (¬1) هم: بنو زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، كانوا بطنا من بني مرة بن كلاب من قريش من العدنانية، ينتهي نسبهم إلى معد بن عدنان. انظر. "معجم قبائل العرب" 2/ 482. (¬2) قبيلة منازلها في جبل الحجاز بين مكة والطائف، وتنقسم إلى عدة بطون منها: طويرق، وبطن النور، وثمالة، وبني سالم، وعوف، وسفيان، وقريش، وهذيل، وثقيف اليمن. انظر: "معجم قبائل العرب" 1/ 147 - 148. (¬3) ذكر القصة بمعناها مقاتل في "تفسيره" 1/ 178، وذكرها الواحدي في "الوسيط" 1/ 310، والرازي في "تفسيره" 5/ 216. (¬4) رواه عنه الطبري 2/ 312. (¬5) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 646، وذكر أيضا في "تفسير البغوي" 1/ 236، "زاد المسير" 1/ 221. (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 317 بمعناه، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 366، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 648، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 236.

أهلكَ المَواشِيَ وأَحْرَقَ الزَّرْعَ (¬1). وقال مجاهد: إذا ولي فعمل بالعدوان والظلم أمسك الله المطر، فيهلك باحتباس المطر الحرث والنسل. وقيل: إن الحرث: النساء، والنسل: الأولاد، وهذا غير مدفوع عن الصحة؛ لقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، (¬2). والنسل: معناه في اللغة: الولد، يقال: نَسَلَ بولد كثير (¬3)، واشتقاقه يحتمل أن يكونَ من قولهم: نَسَلَ يَنْسِلُ، إذا سقط وخرج، ومنه نَسَل رِيْشُ الطائر، وَوَبَرُ البعير، وشَعْر الحمار، إذا خرج فسقط منه، والقطعة منها إذا سقطت نُسالة، ومنه قوله عز وجل: {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]، أي: يسرعون؛ لأنه إسراع الخروج بحدة، والنسل: الولد؛ لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه، والنسل (¬4): نسل آدم، وأصل الحرف من النُّسُول، وهو الخروج (¬5). وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} قال ابن عباس في رواية الكلبي: أي: لا يَرْضَى بالفسادِ والعَمَلِ بالمعاصي (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 178، "تفسير الطبري" 2/ 317 - 318، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 366 - 367، ومرادهم بالنسل: نسل الدواب كلها، ومنها الإنسان؛ خلافا لما قد يوهمه لفظ الواحدي، كما بينه الثعلبي في "تفسيره" صراحة 2/ 647. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 277 - 278 بمعناه. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) في (ي) والنسل. (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 317، "تهذيب اللغة" 4/ 3563 "نسل"، "المفردات" ص493، "النهاية في غريب الحديث" ص 931 (ط. ابن الجوزي). (¬6) ذكره في "الوسيط" 1/ 311، "زاد المسير" 1/ 222، وعبارة الطبري في "تفسيره" 2/ 319 نحو هذا.

206

وذكر في تفسير الفساد هاهنا: الخراب، وقطع الدرهم، وشق الثياب، لا على وجه المصلحة (¬1). ويقال: فَسَدَ الشيءُ يَفْسد فسودًا وفسادًا، كما يقال: ذهب ذُهُوبًا وذَهابًا، وكسد كُسُودًا وكَسَادًا (¬2). 206 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ}، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه إلى إجابةِ اللهِ في ظاهره وباطنه، فدعاه الأَنَفَةُ والكِبْر إلى الإثم والظلم، وهو قوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} (¬3). ومعنى العزة هاهنا: المنعة والقوة (¬4). وذكرنا معاني العز والعزيز فيما تقدم. قال قتادة: إذا قيل له: مَهْلًا مَهْلَا ازداد إقدامًا على المعصية (¬5). قال أهل المعانى: معنى (أخذته العزة بالإثم) حملته عليه، وجَرّأته عليه، وزينت له ذلك، يقال: أخذت فلانًا بكذا وكذا، أي: أردته عليه، وحملته على ذلك، وكلفته. ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 319، "تفسير الثعلبي" 2/ 648 - 651، "الوسيط" 1/ 311، "البحر المحيط" 2/ 117. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1124، "تفسير الطبري" 2/ 319، "تهذيب اللغة" 3/ 2787 "فسد" وقال: قال الليث: الفساد: نقيض الصلاح، والفعل فسد يفسد فسادا، قلت: ولغة أخرى: فسُد فسودًا، ويقال: أفسد فلان المال يُفسده إفسادًا وفسادا. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 652. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 319، "تفسير الثعلبي" 2/ 652، "الوسيط" 1/ 311، "التفسير الكبير" 5/ 219، "البحر المحيط" 2/ 117. (¬5) ذكره الواحدي عن قتادة في "الوسيط" 1/ 311، والقرطبي 3/ 19.

وتأويل الآية: حَمَلَتْه العِزّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل بالإثم (¬1). والجَارّ في قوله تعالى: {بِالْإِثْمِ} يجوزُ تَعَلُّقُه بالأخذ وبالعزة، فإن علقته بالأخذ، كان المعنى: أخذته بما يؤثمه، أي: أخذته بما كسبه ذلك، والمعنى: للعزة يرتكب ما لا ينبغي أن يرتكب، فكأن العزة حملته على ذلك وقلة الخشوع. وإن علقته بالعزة كان المعنى الاعتزاز بالإثم، أي: اعتز بما يؤثمه فيبعده مما يرضاه الله (¬2). وقوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} قال المفسرون: كافيه الجحيمُ جزاءً له وعذابًا (¬3)، ويقال: حَسْبُكَ دِرْهَمٌ، أي: كفاك، وحَسْبُنا الله، أي: كافينا الله. قال امرؤ القيس: وحَسْبُكَ من غِنًى شِبَعٌ ورِيّ (¬4) ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 319، "تفسير الثعلبي" 2/ 652، "المحرر الوجيز" 2/ 192، "الوسيط" 1/ 311، "زاد المسير" 2/ 222، "التفسير الكبير" 5/ 220. (¬2) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 236، "البحر المحيط" 2/ 117، "الدر المصون" 2/ 354، وذكر أبو حيان أن الباء يحتمل أن تكون للتعدية، كأن المعنى: ألزمته العزة الإثم، ولحتمل أن تكون للمصاحبة، أي: أخذته مصحوبا بالإثم، أو مصحوبة بالإثم، فيكون للحال من المفعول، أي: أخذته متلبسا بالإثم أو من الفاعل أي: حال من العزة، أي متلبسة بالإثم. ويحتمل أن تكون سببية، والمعنى: أن إثمه السابق كان سببا لإخذ العزة له حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 319، "تفسير الثعلبي" 2/ 653، "التفسير الكبير" 5/ 220، "البحر المحيط" 2/ 117. (¬4) صدر البيت: فَتُوسِعَ أَهْلَها أَقِطًا وسَمْنًا والبيت في "ديوان امرئ القيس" ص 171، وينظر: "الزاهر" 1/ 96، "الوسيط" للواحدي 1/ 311.

أي: يكفيك الشِّبَعُ والرِّيُّ، تصريفه من الثلاثي ممات، ويقال منه في الرباعي: أحسبني الشيء، إذا كفاني (¬1). وأما جهنم، فقال يونس وأكثر النحويين: هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة، وهي أعجمية لا تُجْرَى للتعريف والعجمة (¬2). وقال آخرون: جهنم اسم عربي، سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها، ولم تُجْر (¬3) للتعريف والتأنيث. قال قطرب: حكي لنا عن رؤبة (¬4) أنه قال: رَكِيَّةٌ جَهَنَّام، يريد: بعيدةَ القَعْر (¬5). والمهاد: جمع المهد. والمهد: الموضعُ المُهَيَّأُ للنَّوم، ومنه: مَهْدُ الصبي. وأصله: من التوطية، يقال: مَهَدْتُ الشَّيءَ والأرض مهادًا؛ لأنه موطاة للعباد (¬6). وسَمَّى جهنمَ هاهنا مِهادًا على معنى أنها قرار، والقرار كالوطاء في ¬

_ (¬1) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 231، "تهذيب اللغة" 1/ 810، "المفردات" ص 124، "تفسير الرازي" 5/ 220، "البحر المحيط" 2/ 109، "لسان العرب" 2/ 863 - 865 "حسب". (¬2) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 681، وفي "لسان العرب" 2/ 715 "جهن"، وقوله: لا تجرى، أي: لا تصرف وتنون. (¬3) قوله: لم تجر، أي: لم تصرف وتنون. (¬4) هو: أبو الجحاف رؤبة بن العجاج بن عبد الله التميمي، تقدمت ترجمته [البقرة: 9]. (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 681، "المفردات" 109، "التفسير الكبير" 5/ 220، "البحر المحيط" 2/ 108، "لسان العرب" 2/ 715 "جهن". (¬6) بنظر: "مجاز القرآن" 1/ 71، "تفسير الطبري" 2/ 320، "تهذيب اللغة" 4/ 3461، "المفردات" ص 479، "اللسان" 7/ 4286 "مهد".

207

الثبوت عليه، وقيل: لأنها بدل من المهاد لهم، فصار كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24]، على جِهَةِ البَدَلْ (¬1). 207 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية، يشري من الأضداد، يقال: شَرَى إذا باع، وشرى إذا اشترى. وأصله: الاستبدال، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، أي: باعوه (¬2). ومعنى بيع النفس هاهنا: بذلها لأوامر الله وما يرضاه (¬3). ونصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} على معنى المفعول له، أي: لابتغاء مرضاة الله، ثم نزع اللام منه، فوصل الفعل فنصبه (¬4)، ولا يجوز على هذا: فعله زيدًا، أي: لزيد، ويجوز: فعله خوفًا، أي: للخوف، وذلك أن في ذكر المصدر دليلًا على الغَرَضِ الداعي إلى الفعل، وليس كذلك ذكر زيد، ¬

_ (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 220، "البحر المحيط" 2/ 118. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 16، "الأضداد" للأصمعي 18، 19، "أضداد ابن السكيت" 185، "تهذيب اللغة" 2/ 1869، ونقل عن الفراء قوله: وللعرب في شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما: أن شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما بمعنى باعوا. وينظر: "اللسان" 4/ 2252 - 2253 "شرى"، "المفردات" ص 263، وقال: الراء والبيع يتلازمان، فالمشتري دافع الثمن وآخذ المثمن، والبائع دافع المثمن وآخذ الثمن، هذا إذا كانت المبايعة والمشاراة بناض وسلعة، فأما إذا كانت بيع سلعة بسلعة صح أن يتصور كل واحد منهما في موضع الآخر، وشريت بمعنى: بعت أكثر، وابتعت بمعنى: اشتريت أكثر، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 320، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 278، "تفسير الثعلبي" 2/ 654، "الوسيط" 1/ 312. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 166، "تفسير الطبري" 2/ 320، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، "المحرر الوجيز" 2/ 196، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 299.

ولأن في قوله: فعله لزيدٍ، تضمينًا، كأنه قال: فَعَلَه لإكرامِ ولسببِ زيدٍ، وما أشبه هذا مما يكون داعيًا إلى الفعل، فلم يحتمل الكلام حذفين كما احتمل حذفًا واحدًا (¬1). والمرضاة: الرِّضَى، يقال: رَضِيَ رِضًا ومَرْضَاة (¬2). وكان الكسائي يقرأها ممالة (¬3)، ليدل على أن الألف فيها منقلبة عن الباء، ولم يمنعها المستعلي وهو (الضاد) (¬4) من الإمالة، كما لم يمنع من إمالة نحو: صار وخاف وطاب (¬5). وكان حمزة يقف عليها بالتاء (¬6)، وحجته ما حكاه سيبويه عن أبي الخطاب (¬7)، أنه كان يقول: طَلْحَت (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 1/ 367 - 370، 3/ 126، 154. (¬2) ينظر: "اللسان" 3/ 1663 - 1664 "رضى". (¬3) قرأ الكسائي وحده: مرضاة الله، ممالة، وقرأ الباقون: مرضاة الله، بالفتح، أي بلا إمالة. ينظر: "السبعة" 180، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 299. (¬4) في (ي) و (أ): الميم ثم ذكر في تصحيح نسخة [أ] أن ذكر الميم غلط لأنها ليست من حروف الاستعلاء. (¬5) "الحجة" 2/ 299 - 300 بمعناه، وحروف الاستعلاء هي حروف التفخيم، وهي سبعة مجموعة في قولك: خص ضغط قظ. (¬6) وقف حمزة على مرضات، بالتاء المفتوحة، والباقون يقفون عليها بالهاء. ينظر: "السبعة" ص 180، "الحجة" 2/ 299، وفي "التيسير" ص 60، أن الكسائي وأبا عمرو كانا يقفان على هاء تأنيث رسمت في المصاحف تاء بالهاء، وهو قياس مذهب ابن كثير. (¬7) أبو الخطاب، هو: عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، تقدمت ترجمته [البقرة: 32]. (¬8) "الكتاب" لسيبويه 4/ 167.

وأنشد الأخفش: ما بَالُ عَيْني عن كَرَاها قد جَفَتْ ... مُسْبِلَةً تَسْتَنّ لَمّا عَرَفَتْ دارًا لِسَلْمى بعد حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بل جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْر الْجَحَفَتْ (¬1) ويجوز أن يكون لما كان المضاف إليه في التقدير أثبت التاء، كما يثبته في الوصل، أن المضاف إليه مراد (¬2)، كما أشم (¬3) من أشمّ في الوقف الحرفَ المضمومَ، ليعلم أنه في الوصل مضمومٌ، وكما كَسَر من كَسَر قوله: ......................... واعتقالًا بالرِّجْلِ (¬4) ليعلم أنه في الوصل مجرور. ويدل على حُجةِ قراءة حمزة قول ¬

_ (¬1) الرجز لسؤر الذئب، في "شرح شواهد الشافية" 4/ 200 مع اختلاف في الرواية، وينظر: "الخصائص" 1/ 304 "المحتسب" 2/ 92. "لسان العرب" 2/ 787 "جحف". وقوله: تَسْتَنّ، أي: تجري بدمعها، من سننت الماء: إذا أرسلته بغير تفريق، وضعت موضع رب، وجوز وسط، والتيهاء: المفازة التي يتيه فيها سالكها، والجحفة: الترس، شبه التيهاء بظهر الترس في الملامسة. (¬2) في "الحجة": ليعلم أن المضاف إليه مراد. (¬3) الإشمام هو: ضم الشفتين من غير انطباق بعد إسكان الحرف، وهو يرى ولا يسمع. ينظر: "الكشف" لمكي 1/ 122. (¬4) هذا جزء من بيت في الرجز، وتمامه في "النوادر والخصائص" 2/ 335: علَّمَنا أصحابنا بنو عجِل ... الشغزَبِي واعتقالا بالرجِل وهو برواية: علمنا إخواننا بنو عجل ... شرب النبيذ واصطفافا بالرجل في "المخصص" 11/ 200، "الإنصاف" ص 734، والعيني 4/ 567، وقالا فيه: إن أبا عمرو سمع أبا مرار الغنوي ينشد هذا البيت، والشغزبي: ضرب من المصارعة، والاعقال: أن يدخل رجله بين رجلي صاحبه فيصرعه. ينظر تعليق المحققين على "الحجة" 2/ 301.

الراجز: إن عَدِيًا رَكِبَتْ إلى عَدِي ... وجَعَلَتْ (¬1) أمْوالَها في الحُطَمي ارْهَنْ بَنِيكَ عَنْهم ارْهَنْ بَنِي (¬2). أراد: بنيّ، فحذف ياء الإضافة للوقف، كما يخفف المثقل من نحو: سُرٍّ وضُرٍّ، فلولا أن المضاف إليه المحذوف في تقدير المثبت لرد النون في بنين، فكما لم يَرُدَّ النون في بنين فكذلك لم يقف بالهاء في (مَرْضَاةِ)، لأن المضاف إليه في تقدير الثبات في اللفظ (¬3). فأما التفسير، فقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي (¬4)، كان رجلًا من ولد النِّمر بن قاسط (¬5)، فَسُبِيَ صغيرًا (¬6) إلى ¬

_ (¬1) في (م) لعلها: حملت. (¬2) ورد هكذا: إنَ عديا ركبت لي عديْ ... وجعلت أموالها في الحطَميْ ارهن بنيك عنهمْ ارهن بَنِيْ وزعم ابن جني أن هذا الشعر جاهلي، ينظر: "المحتسب" 1/ 108، " الخصائص" 3/ 327، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 301، ورهنه عنه: جعله رهنًا بدلًا منه. (¬3) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 300 - 302 بتصرف، وذكر الوجهين السمين في "الدر المصون" 2/ 357 - 358. (¬4) هو: أبو يحيى صهيب بن سنان الرومي، أصله من النمر، يقال: اسمه عبد الملك، ولقبه صهيب، صحابي شهير شهد المشاهد كلها توفي بالمدينة في خلافة علي - رضي الله عنه - سنة 38 هـ. انظر: "فضائل الصحابة" 2/ 828، "أسد الغابة" 3/ 36، "تقريب التهذيب" ص 278 (2954). (¬5) هو النمر بن قاسط بن هِنْب بن أفصى بن دعمى من أسد بن ربيعة جد جاهلي، كان له بالمدينة عقب كثير. انظر: "قبائل العرب" 1192، "الأعلام" 8/ 48. (¬6) في (أ) و (م:) (صغير).

الروم، فتغير لسانه، ثم كان مملوكًا لابن جُدْعان (¬1)، فآمن بالله وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل مهاجرًا إليه، فأخذه المشركون، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم أَمِنْكُم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة، فلما بلغ المدينة تلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في رجال، فقال له أبوبكر: ربحَ بيعُك أبا يحيى، فقال له (¬2) صهيب: وبيعك فلا يخسر، ما ذاك؟ فقال أنزل الله (¬3) فيك، وقرأ عليه هذه الآية (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: إنه بذل ماله لمولاه، وقال له: خذ ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب، أحد كفار قريش، كان يقري الضيف ويطعم الجائع، ويصل الرحم ويعتق، سئل عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل ينفعه ذلك؟ فقال: "لا" لأنه لم يقل يوما من الدهر: لا إله إلا الله". انظر "البداية والنهاية" 3/ 253، و19/ 516. (¬2) زيادة من (م). (¬3) ساقطة من (م). (¬4) هذا السياق بمعناه ذكره مقاتل 1/ 178 - 179، ورواه ابن أبي حاتم بنحوه 2/ 368 عن سعيد بن المسيب، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 430 إلى ابن مردويه وابن سعد والحارث ابن أبي أسامة في "مسنده"، وابن المنذر وأبي نعيم في "الحلية"، وابن عساكر، كلهم عن سعيد بن المسيب، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 400، والطبراني في "المعجم الكبير" 8/ 37حديث رقم (7296)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 522، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 398، وابن المنذر "فتح القدير" 1/ 210 عن أنس، وأخرج الطبري 2/ 321 عن عكرمة: أنها نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر الغفاري، كما أخرج الطبري 2/ 321، عن الربيع هذه القصة إلا أنه لم يسم صهيبا، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 654، "أسباب النزول" للواحدي ص 68، "تفسر البغوي" 1/ 238، وقد نسبوه لأكثر المفسرين، وكذا ذكر الحافظ ابن حجر في "العجاب" 1/ 527.

مالي وسَيِّبْني، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له، فأعطى ماله وخرج مهاجرًا (¬1). وعلى هذا يشري بمعنى: يشتري، كأنه يشتري نفسه من مولاه بماله، أو من المشركين بماله (¬2). وروى عن ابن عباس أيضًا في هذه الآية، أنه قال: أرى هاهنا من إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشري نفسي فقاتله فاقتتل الرجلان (¬3)، لذلك كان علي رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا ورب الكعبة (¬4)، وهذا كالمستنبط من الآية، وذلك أن هاتين الآيتين تتضمنان (¬5) المعنى الذي أشار إليه ابن عباس (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة ونقل الرازي في "تفسيره" 5/ 221 عن ابن عباس أنها نزلت في صهيب وعمار وسمية أمه وياسر أبيه، وفي بلال وآخرين ذكرهم. (¬2) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 223. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 320، ومراد ابن عباس: أن قوله: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، هي في الكافر يأمره المؤمن بتقوى الله، فيرد ذلك الكافر فيقول المؤمن: وأنا أشري نفسي ابتغاء مرضاة الله، فيقتتل الرجلان، وبمعنى هذا: ما روي عن عمر أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 68، ونقله ابن حجر في "العجاب" 1/ 528، وقال: أسنده عبد بن حميد، وبمعناه أيضا ما روي عن الحسن، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 68، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 658. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 319، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 368، والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 135، وعزاه في "الدر" 1/ 432 إلى وكيع وعبد ابن حميد والبخاري في "تاريخه" تاريخه 6/ 47. (¬5) في (أ) و (م): يتضمنان. (¬6) ذكر المفسرون أقوالا أخرى في سبب النزول، فقيل: إنها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقيل: إنها نزلت في كل شارٍ نفسه في طاعة الله وجهاد في سيله، وقيل: نزلت في أناس بأعيانهم، وقيل: نزلت في أصحاب الرجيع، وتقدمت =

208

208 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} اختلف القُرّاء في {السِّلْمِ}، فقرأ بعضهم بفتح السين، وبعضهم بكسرها (¬1). أما (¬2) الكسر: فقال أبو عبيدة (¬3) والأخفش (¬4): السِّلم: الإسلام، وهو اسم جعل بمنزلة المصدر، كالعطاء من أَعْطيْتُ، والنبات من أَنْبَتَ. وأما الفتح: فيجوز أن يكون لغة في السِّلْم الذي يراد به الإسلام، ويجوز أن يكون المراد به الصُّلْح، والمعني بالصلح: الإسلام؛ لأن الإسلام صلح، ألا ترى أن القتال والحرب بين أهله موضوع، وأنهم أهل اعتقاد واحد، ويد واحدة في نصرة بعضهم لبعض، فإذا كان ذلك موضوعًا بينهم وفي دينهم (¬5) كان صُلْحًا في المعنى، فكأنه قيل: ادخلوا في الصُّلْح، والمراد به: الإسلام، فسماه صُلْحًا لما ذكرنا، وهذا الوجه (¬6) أوجه من أن يكون ¬

_ = قصتهم. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 320 - 322، "تفسير البغوي" 1/ 236، "العجاب" 1/ 524 - 529، والذي رجحه الطبري أن يكون معنيًا بها كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما روي عن عمر وعلي وابن عباس، وهذا لا يدفع أن تكون أنزلت في شخص بعينه كصهيب، ومعناها شامل له ولغيره. (¬1) قرأ ابن كثير ونافع والكسائي بفتح السين هنا، وفي قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] وقوله: {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35]، وقرأ عاصم في رواية شعبة بكسر السين في الثلاثة، وقرأ حمزة بكسر السين هنا وفي سورة محمد، وفتح التي في الأنفال، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص، عن عاصم بكسر السين هنا، وفتحوا الأخريين. ينظر: "السبعة" ص 180 - 181، "الحجة" 2/ 292. (¬2) في (م) فأما. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 71. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 167. (¬5) في "الحجة": زيادة: وغلِّظ على المسلمين في المسايفة بينهم. (¬6) زيادة من (م).

السِّلْم لغة في السِّلم الذي يراد به (الإسلام، إلا أن يقال: إن الفتح لغة في الكسر الذي يراد به) (¬1) الصلح، ويتأول أن الإسلام صلحٌ على نحو ما بينا (¬2). والذي يراد به الصلح فيه ثلاث لغات: السِّلْم والسَّلْم والسَّلَم. وأنشد أبو عبيدة: أنائلَ إنَّنِي سَلَمٌ ... لأهلِكِ فاقْبَلي سَلَمِي (¬3) وقرئ {وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلقَىَ إِليَكُمُ السَّلَامَ} [النساء: 94] (¬4). والمراد بالسِّلم في هذه الآية: الإسلام (¬5)؛ لأن المراد إنما هو ¬

_ (¬1) ساقطة من (ي). (¬2) من "الحجة" 1/ 293، وقد اختصر الواحدي كلامه كثيرًا، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 323. (¬3) البيت لمسعدة بن البختري يقوله في نائلة بنت عمر بن زيد الأسيدي، وكان يهواها، انظر: "الأغاني" 13/ 271، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 43، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 294. وفي "اللسان" (مادة: سلم) ضبطت بكسر السين وتسكين اللام. (¬4) من "الحجة" 1/ 293 - 294 بتصرف واختصار، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، وآية النساء في المخطوطة كتبت: السلم، وهي كذلك في "الحجة" 2/ 296، وأما في "معاني القرآن" للزجاج فكتبت: السلام، بألف، والظاهر أن المؤلف ساقها شاهدا على السلم، وقد اختلف فيها القراء، فقرأها بالألف: ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وعاصم، وقرأها بغير ألف: نافع وابن عامر وحمزة. ينظر في تفصيل ذلك: "السبعة" لابن مجاهد ص 236. (¬5) ذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 322 - 323، وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 370 الرواية بذلك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وقتادة والسدي وابن زيد والضحاك. وقيل: بل المراد: الطاعة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع. وقيل: في أنواع البر كلها، وهو مروي عن مجاهد وسفيان الثوري، وهذه الثلاثة متقاربة، وقيل: الموادعة، وهو مروي عن قتادة، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 672.

تحضيضهم على الإسلام والدعاء إليه، والدخول فيه، وليس المراد: أدخلوا في الصلح، وليس ثَمّ صُلْحٌ يدعون إلى الدخول فيه (¬1)، إلا على التأويل الذي ذكرنا أن الإسلام صلح (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3) وقتادة (¬4) وابن زيد (¬5) والضحاك والسُّدِّي (¬6): نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قاموا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لُحْمَانَ الإِبِلِ وألبَانَها بعد ما ¬

_ (¬1) من قوله: وليس المراد ساقطة من (ي). (¬2) من "الحجة" 1/ 293 بتصرف، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 323. (¬3) رواه الواحدي بسنده في "أسباب النزول" ص 68، وفي إسناده عبد الغني بن سعيد الثقفي، وهو واه كما قال ابن حجر في "العجاب" 1/ 530، وذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 179 - 180 بمعناه، ورواه الطبري 2/ 325، عن ابن جريج عنه بلفظ: يعني أهل الكتاب، ورواه ابن أبي حاتم 2/ 369 - 370 عن عكرمة عن ابن عباس قال: يعني مؤمني أهل الكتاب، ثم ذكره عن مقاتل بن حيان، أنه قال: عبد الله بن سلام، ومؤمنوا أهل "الكتاب"، ورواه الطبري عن عكرمة قال: نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد بن كعب وسعية بن عمرو وقيس بن زيد -كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، إلخ. بمعناه. وقد اعترض ابن كثير في "تفسيره" ص 266 على رواية عكرمة فقال: وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر؛ إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 15/ 82، والطبري 2/ 323، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 370، والثعلبي 2/ 671. (¬5) رواه الطبري 2/ 323، وذكره الثعلبي 2/ 671. (¬6) انظر المصدر السابق.

أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا، فأنزل الله هذه الآية. وقوله تعالى: {كَافَّةً} يجوز أن يكون معناه: ادخلوا جميعًا. ويجوز أن يكون معناه: في السلم (¬1)، أي: في جميع شرائعه، وهذا أليق بظاهر التفسير، لأنهم أُمِروا بترك تعظيم السبت، واستحلاله لُحْمان الإبل، وهذا من شرائع الإسلام التي أمروا بالقيام بها كلها (¬2). ومعنى الكافة في اللغة: الحاجزة المانعة، يقال: كففت فلانًا عن السوء فكَفّ يَكُفُّ كَفًّا، سواء لفظ اللازم والمجاوِز، ومن هذا يقال: كُفَّةُ القميص، لأنها تمنع الثوب من الانتشار، وقيل لطرف اليد: كَفُّ؛ لأنه يُكَفُّ بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: كُفَّ بَصَرُه من أن ينظر. فالكافة معناها: المانعة، ثم صارت اسمًا للجملة الجامعة؛ لأنها تمنع من الشذوذ ¬

_ (¬1) في (ي): كافة. (¬2) ينظر في ذكر القولين: "تفسير الطبري" 2/ 324 - 325، "النكت والعيون" 1/ 267، "المحرر الوجيز" 2/ 197 - 198، "زاد المسير" 1/ 225، قال ابن عطية: واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب؟ فقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده، ويستغرق كافة حينئذ المؤمنين، وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27]، إلى غير ذلك من الأمثلة. وقال عكرمة: بل المخاطب من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره. الحديث، فكافة على هذا لأجزاء الشرع فقط، وقال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة، فكافة على هذا لأجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام، ومن يراها المسالمة يقول: أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية. ا. هـ- بتصرف.

209

والتفرق (¬1) (¬2). والمعنى: ادخلوا في شرائع الإسلام جملة مانعة من شريعة لم تدخلوا فيها (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى الآية: ابلغوا في الإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه، فتكفوا (¬4) من أن تعدوا شرائعه، وادخلوا كلكم حتى يكف عن عددٍ واحدٍ لم يدخل فيه (¬5). قوله تعالى {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي (¬6): آثاره ونزغاته، فيما زين لكم من تحريم السبت ولحم الجمل (¬7). وذكرنا هذا فيما تقدم. 209 - قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} يقال: زَلّ يَزِلّ زَلًّا وزالًا ومزلًا وزلولًا: إذا دحضت قدمه، وزَلَّ في الطين زليلًا. ومعنى زَلَلْتُم: تنحيتم عن القصد والشرائع في تحريم السبت ولحوم الإبل (¬8) {مِنْ بَعْدِ مَا ¬

_ (¬1) في (ي): فالفرق. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، وهذا لفظه بتصرف، "تهذيب اللغة" 4/ 3165 "كف"، "تفسير الثعلبي" 2/ 678، "المفردات" ص 435، وقوله: سواء لفظ اللازم والمجاوز: أي المتعدي. (¬3) ينظر: "الوسيط" 1/ 313، "التفسير الكبير" 5/ 226. (¬4) في (ي) فيكفوا. وفي "معاني القرآن" للزجاج: فَكُفُّوا، وفي "تهذيب اللغة" موافق لما أثبت. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، وقوله: وادخلوا، في "معاني القرآن": أو ادخلوا، وفي "تهذيب اللغة" موافق لما أثبت، وكذا قوله واحد، في "معاني القرآن" وأحد، وفي "تهذيب اللغة" موافق لما أثبت. (¬6) زيادة من (ي). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 280، "تفسير الطبري" 2/ 326، "تفسير الثعلبي" 2/ 678، "الوسيط" 1/ 313، "التفسير الكبير" 5/ 227. (¬8) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 280 بتصرف، وينظر في معاني زل "تهذيب اللغة" 2/ 1550 - 1551، "المفردات" ص 219.

210

جَاءَتْكُمُ} يعنى: القرآن ومواعظه (¬1). {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في نقمته لا تعجزونه، ولا يعجزه شيء، {حَكِيمٌ} فيما شرع لكم من دينه (¬2). 210 - قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} الآية، {هَلْ} هاهنا استفهام يراد به النفيُ والإنكار (¬3)، كما يقال: هل يفعل هذا إلا مايق (¬4)، أي: لم يفعل. {يَنْظُرُونَ} بمعنى: ينتظرون، والنظر عند أهل اللغة: الطلب لإدراك الشيء، وتقليب العين نحو الجهة التي فيها المرئي المراد رؤيته، مما يدل على ذلك قولُ ذي الرُّمَّةِ: فيامَيّ هل يُجْزَى بُكائِي بمِثْلِه ... مرارًا وأنْفاسِي إليك الزَّوافِرُ وإني متى أشْرِف على الجَانِبِ الذي ... به أنتِ من بَينِ الجَوانِبِ ناظِرُ (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 280، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 327، "المحرر الوجيز" 2/ 199. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 682، وقال ابن عطية 2/ 199: والبينات: محمد وآياته ومعجزاته، إذا كان الخطاب أولا لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والتعريف به. اهـ-. وهذا الذي مال إليه الطبري 2/ 326، وبين أن الأول قريب منه في المعنى. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 481، 2/ 329، "التبيان" ص 129، "البحر المحيط" 2/ 124، وقال: وكونها بمعنى النفي إذا جاء بعدها إلا، كثير الاستعمال في القرآن وفي كلام العرب. (¬4) المائق: الأحمق. ينظر: "اللسان" 7/ 4300. (¬5) البيت لذي الرمة من قصيدة يمدح فيها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، في "ديوانه" ص 233.

فلو كان النظرُ الرؤيةَ لم يطلب عليه الجزاء، أي: المحب لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئًا، بل يريد ذلك ويتمناه، ويدل على ذلك قول الآخر: ونظْرَة ذي شِجَنٍ وأَمْنٍ ... إذا ما الرَّكَائِبُ جاوَزْنَ مِيلًا (¬1). فهذا على التوجه إلى الناحية التي المحبوبُ فيها، وتقليب البصر نحوها، وما يعالج من التلفت والتقلب، كقول الآخر: ما سِرتُ مِيلًا ولا جَاوَزْتُ مَرْحَلةً ... إلا وذكركِ يَلْوِيْ دايبًا عُنُقِيْ (¬2) هذا الذي ذكرنا هو الأصل في اللغة (¬3)، ثم يجوز أن يعني بالنظر: الرؤية؛ لأن تقليب البصر نحو المُبْصَر تتبعه (¬4) الرؤية، وقد يجري على الشيء لفظ ما يتبعه ويقترن به، كقولهم للفِنَاء: عَذِرَة، ولذي بطن الإنسان: غائط. والنَّظَر يُعَدَّى بإلى، ثم يجوز أن يُحْذَفَ الجار وُيوصَل الفعل كما أنشده (¬5) الأخفش: ظاهرات الجَمَالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كما تَنْظرُ الأرَاكَ الظِّبَاءُ (¬6) ¬

_ (¬1) البيت في "المفضليات" 1/ 56 ولم ينسبه. وقوله وأمن كذا في المخطوطة وفي "المفضليات": (وامق) ولعلها أصوب. (¬2) البيت في "الحلة السيراء" 1/ 94، وفي "محاضرات الأدباء" 2/ 73. ولم أهتد لقائله. (¬3) ينظر في (نظر) "تهذيب اللغة" 4/ 3603 - 3606، "المفردات" ص 499 - 500، "اللسان" 7/ 4465 - 4468 (نظر)، "البحر المحيط" 2/ 124. (¬4) في (م): (يتبعه). (¬5) في (أ): (م) (أنشد). (¬6) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات في "ديوانه" ص 88 وذكره في "البحر المحيط".

المعنى: ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار (¬1). والنظر فعل يستعمل على ضروب من المعاني، كلها يرجع إلى أصل (¬2) واحد، وهي طلب الإدراك. منها: النظر، بمعنى: الانتظار (¬3)، كقوله تعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] أي: غير منتظرين إدراكه وبلوغه، والمنتظر يطلب إدراك ما يتوقع، يقال: نظرته وانتظرته، ومنه قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]. وقال الحطيئة (¬4): وقد نَظَرْتُكُم إينَاءَ صادرة .... (¬5) والناظرُ إلى الشيء يطلبُ إدراك ما يلتمس ببصره، والنظر بالفكر إدراك المعاني. ويكون النظر بمعنى: التَّعَطُّفِ والرَّحْمَة، كقوله: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ¬

_ = 1/ 399، وهو بلا نسبة في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 240، "أساس البلاغة" 2/ 454 (نظر) يشبه الشاعر الحسان العبشميات بالظباء المنتصبات، وهو أحسن ما تكون الظباء. والأراك شجر معروف يستاك بعيدانه. (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 124. (¬2) في (أ): الأصل. (¬3) قال الرازي في "تفسيره" 5/ 229: وأجمعوا على أنه يجيء بمعنى الانتظار. (¬4) هو جرول بن أوس من بني قطيعة بن عبس، الشاعر الهجاء الشهير، لقب بالحطيئة لقصره، وهو جاهلي إسلامي أسلم بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي سنة 45 هـ. ينظر: "الشعر والشعراء" ص 199، "الأعلام" 2/ 118 (¬5) وتمامه: للوِردِ طال بها حَوزي وتَنْساسي .. البيت للحطيئة كما في "اللسان" 7/ 4466 (نظر).

الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77]. ذلك أن الرحمةَ تتبع النظر، فإن الواحدَ منا إذا نظر إلى حال إنسان فرآه في بليةٍ أو شدةٍ رَحِمَهُ، ولو لم ينظر إليه لم تداخله الرحمة، هذا هو الأصل، ثم جعل الرحمة نظرًا. ويكون النظر بمعنى الاعتبار والتأمل والتدبر، وهو فعل غير متعد، فمن ذلك قوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الفرقان: 9] {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50] {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 21] وقد يتعدى هذا بالجار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. وقوله: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]. وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ} [ق: 6]، والمراد بالنظر في هذه الآية: نظر الاعتبار، وذلك أن الاعتبار ثاني النظر، كما ذكرنا في الرحمة. والنظر يكون بمعنى المقابلة، تقول العرب: الجبل ينظر إليك أي: يقابلك، وذلك أن الأكثر في باب النظر أن الناظر ينظر فيما يقابله، فلما كان الأكثر في هذا الباب المقابلة سميت المقابلة نظرًا (¬1). والظُّلَل جمع ظُلَّة: مثل حُلَّة وحُلَلٌ، والظُّلَّة: ما يُسْتَظَلُّ به من الشمس، ويسمى السحابُ ظَلَّةً لأنه يُسْتَظَل بها، ومنه قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189]، أراد: غيمًا تحته سموم (¬2). ومعنى الآية: هل ينتظر التَاركونَ الدخولَ في السَّلْم والمتبعون ¬

_ (¬1) ينظر في معاني النظر "تهذيب اللغة" 4/ 3603 - 3606، "المفردات" ص499 - 500، "اللسان" 7/ 4465 - 4468 (نظر). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 327 - 328، "تهذيب اللغة" 3/ 2245 - 2248 (ظل)، "تفسير الثعلبي" 2/ 683، "المفردات" 317، "المحرر الوجيز" 2/ 200، "اللسان" 5/ 2753 - 2756 (ظلل).

خطوات الشيطان إلا العذاب يوم القيامة، يريد: أنه لا ثواب لهم، فلا ينتظرون إلا العذاب (¬1). فإن قيل: إنهم لا ينتظرون العذاب، ولو انتظروا العذاب لدخلوا في السلم كافة؟ قيل: انتظارهم العذاب يكون في الآخرة، يوم القيامة يعلمون أنهم لا ثواب لهم فلا ينتظرون إلا العذاب، أو نقول: قد ذكرنا أن هذا استفهام معناه النفي، بمعنى: ما ينتظرون، ويكون هذا خبرًا بمعنى النهي، أي: لا تنتظروا بعد تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا العذاب، وذكرنا عن صاحب النظم وجهًا آخر في نظير هذه الآية في سورة النحل. وفي قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وجهان: أحدهما: أن هذا من بابِ المضاف، أذ يأتيهم عذابُ الله، أو أمرُ الله، أو آياتُ الله، فجعل مجيء الآيات والعذاب مجيئًا له، تفخيمًا لأن العذاب وتعظيمًا له. والثاني: أن المعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من العذاب والحساب، فحذف ما يأتي به تهويلًا عليهم، إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكرْ كان أبلغ لانقسام ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 329 - 330، "تفسير البغوي" 1/ 241، "تفسير ابن كثير" 1/ 266، وقد رد الطبري رحمه الله 2/ 331 قول قتادة في تأويله: والملائكة، أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت، بدلالة بعض الأحاديث الواردة التي تدل على أن إتيانهم إنما يكون بعد قيام الساعة في موقف الحساب حين تشقق، وبمثل ذلك روي الخبر عن جماعة من الصحابة والتابعين. اهـ-. وإذا كان قول قتادة مردودا بذلك فمن باب أولى ما روي عن بعضهم: أن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا. ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 200.

وخواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه، ومثله قوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]، أي: أتاهم بخذلانه إياهم (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر في ذكر هذه الأقوال: "تفسير الطبري" 2/ 329، "المحرر الوجيز" 2/ 200، والقول الصحيح مذهب السلف الصالح من إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به، من غير تحريف ولا تكييف، ولا تمثيل ولا تعطيل، مع الإقرار بمعناها، وهذه الآية كقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21 - 22]، وكقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقد ساق الطبري في 2/ 327 - 331، وابن أبي حاتم 2/ 372 - 373، والثعلبي 2/ 683 - 687، أخبارا وآثارا كثيرة تدل على مجيء الله تعالى يوم القيامة لفصل القضاء مجيئا حقيقيا، قال ابن سريج كما نقل الذهبي في "الأربعين في صفات رب العالمين" ص 95: وقد صح عند جميع أهل السنة إلى زماننا أن جميع الأخبار الصادقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب على المسلم الإيمان بكل واحد منها، كما ورد مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابهة أن نقبلها، فلا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ونسلم الخبر لظاهره، والآية لظاهر تنزيلها. وينظر: "مختصر العلو" للذهبي 226 ص، وقال الصابوني في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" ص 191: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله عز وجل، وكذلك يثبتون ما أنزله -عز اسمه- في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}، وقوله عز اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}. وينظر: "الحجة في بيان المحجة" 2/ 123، و"تفسير أبي المظفر السمعاني" 2/ 60، و"تفسير البغوي" 1/ 241، و"الفتاوى" لابن تيمية 16/ 409، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 199، و"تفسير ابن كثير" 1/ 266.

وفي قوله: {ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وجهان أيضًا: أحدهما: أن العذاب يأتي فيها ويكون أهول، كقوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189]. والثاني: أن ما يأتيهم من العذاب يأتي في أهوال مفظعة، فشبه الأهوال بالظلل من الغمام، كقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} [لقمان: 32] (¬1). وقوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: فُرغَ لهم مما كانوا يوعدون، بأن قدر عليهم ذلك وأعد لهم (¬2). وذكرنا معنى القضاء فيما تقدم (¬3). وقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} اختلف القراء في (ترجع) (¬4)، فقرأ بعضهم: بفتح التاء وكسر الجيم، بنى الفعل للفاعل، كقوله {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53]. وقوله: {إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25]، و {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} [المائدة: ¬

_ (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 234، "البحر المحيط" 2/ 124. والغمام: السحاب الأبيض الرقيق، سمي غماما، لأنه يغم، أي: يستر، قال ابن عباس: يأتي الله عز وجل يوم القيامة في ظلل من السحاب وقد قطعت طاقات، وقال مجاهد: هو غير السحاب، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، وقد ذكر المؤلف هذين الوجهين بناء على ما قرره من تأويل صفة الإتيان لله تعالى. تنظر: المراجع السابقة. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 331، "تفسير الثعلبي" 2/ 692، "تفسير البغوي" 1/ 241، "المحرر الوجيز" 2/ 201، "البحر المحيط" 2/ 125. (¬3) ينظر تفسير [البقرة: 200]. (¬4) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم بضم التاء، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء، وروى خارجة عن نافع أنه قرأ: وإلى الله يُرجع الأمور، بالياء مضمومة في سورة البقرة ولم يروه غيره ينظر السبعة ص 181، "الحجة" 2/ 304.

211

48] أضاف المصدر إلى الفاعل (¬1). وقرأ بعضهم: بضم التاء وفتح الجيم، بنى الفعل للمفعول به، كقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 62]، وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36] (¬2). ومعنى قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: في الخير من الثواب والعقاب، وذلك أن العباد في الدنيا لا يجازون على أعمالهم، ثم إليه يصيرون، فيعذب من يشاء، ويرحم من يشاء (¬3). قال ابن الأنباري: إن الأمور لم تخرج من يديه، ولكن العباد في الدنيا لا يجازون على أعمالهم بما يستحقون من الثواب والعقاب، ولا يُرزقون بمقدار الطاعة، ولا يُفَتَّر عليهم على حسب المعصية، بل الثواب والعقاب والجزاء والحساب في الآخرة، فقال الله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يعني: أنه كان يجازي عليها وُيثِيْبُ ويُعَاقب، إذ كانوا في الدنيا لا يلحقهم من هذه الأشياء شيءٌ. ويكون المعنى على أن الله مَلَّك عبيده في الدنيا الأموالَ والتصرفَ فيها، ثم يرجع الأمر في ذلك كله إلى الله تعالى في الآخرة، فلا يملك أحدٌ شيئًا (¬4). 211 - قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية، {سَلْ} كان في الأصل: اسأل، فتركت الهمزة التي هي عين الفعل؛ لكثرة الدور في الكلام ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 305 بتصرف. (¬2) من "الحجة" 2/ 304 - 305، وقال: والمعنى في بناء الفعل للمجهول كالمعنى في بناء الفعل للفاعل. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 331. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 331 - 332، "المحرر الوجيز" 2/ 201، "البحر المحيط" 2/ 125.

تخفيفًا، ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها، فاستغنيت عن ألف الوصل. وقال قطرب: يقال: سَال يَسَال، مثل: زأر الأسد يزأر، وسال يسال يسل، مثل: خاف يخاف، والأمر منه: سَلْ، مثل: خَفْ (¬1). وبهذه اللغة قرأ نافع (¬2) وابن عامر {سَأَلَ سَائِلُ} [المعارج: 1] (¬3)، على وزن: قال وكال. وقوله: {كَمْ} هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد، يقال: إنه من تأليف (كاف) التشبيه إلى (ما)، ثم قصرت (ما)، وسكنت الميم، وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام، ويعمل فيه ما بعده من العوامل، ولا يعمل فيه ما قبله سوى ما يجر، وهو في موضع نصب هاهنا بـ (أتيناهم)، وأكثر لغة العرب الجرُّ به عند الخَبَر، والنصبُ عند الاستفهام، ومن العرب من ينصب به في الخبر ويجر في الاستفهام (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 124 - 125، "التبيان" للعكبري ص 129، وقال: وفيه لغة ثالثة وهي إسل، حكاها الأخفش، ووجهها أنه ألقى حركة الهمزة على السين وحذفها، ولم يعتد بالحركة لكونها عارضة، فلذلك جاء بهمزة الوصل، كما قالوا: كحمر، "البحر المحيط" 2/ 126، "الدر المصون" 2/ 366. (¬2) هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم، المقرئ المدني، أحد الأعلام والقراء السبعة المشهورين، توفي سنة 169 هـ ينظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 107، "النشر" 1/ 112. (¬3) قرأ نافع وابن عامر: سال، غير مهموز، والباقون بالهمز، وكلهم قرأ: سائل، بالهمز بلا اختلاف. ينظر: "السبعة" ص650. (¬4) ينظر في عمل كم: "الكتاب" لسيبويه 2/ 156 - 168، "مغني اللبيب" 243، وبين أن الاستفهامية والخبرية يشتركان في خمسة أشياء ويفترقان في مثلها أيضا، "الدر المصون" 2/ 370 واختار أن الصحيح فيها أنها بسيطة وليست مركبة، وينظر في =

ومعنى السؤال هاهنا: تبكيتٌ للمسؤول عنه وتقريع له، لا تَعَرُّفٌ منه، كما يقال: سله كم أنعمت عليه فكفر نعمتي! وكم حذرته فلم ينته! كذلك هؤلاء، أنعم الله عليهم نعمًا من فَلْقِ البحر لهم، وإنجائهم من عدوهم، وأنزل عليهم المَنَّ والسلوى، فكفروا بهذه النعم حتى لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبينوا نعته (¬1)، ولهذا قال بعضهم: في الآية إضمار واختصار، تقديره: سلهم كم آتيناهم من آية بينةٍ فكفروا بها، ويدل على هذا الإضمار قوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} يعني: أنهم بدلوا بالكفر بها، وترك الشكر لها (¬2). والتبديل: تصيير الشيء على غير ما كان (¬3)، ونذكر الكلام فيه مستقصى عند قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] إن شاء الله. والله تعالى هو الذي يبدل النعمة نقمة إذا كُفِرَت ولم يُعْرف حقها، ولكن أضاف التبديل إليهم؛ لأنه بسبب من جهتهم، وهو ترك الشكر والقيام بحقها (¬4)، ثم بين حكم من بَدّل بباقي الآية. وفي قوله: {شَدِيدُ العِقَابِ} إضمار، يريد: شديد العقاب له (¬5). ¬

_ = إعرابها هنا: "التبيان" ص 129، "البحر المحيط" 2/ 126، "الدر المصون" 2/ 366 - 367، وذكروا وجها آخر وهو الرفع بالابتداء (وآتيناهم) خبرها، وضعفه سيبويه وأبو حيان. (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 281، "المحرر الوجيز" 2/ 202، "البحر المحيط" 2/ 126، وذكر في "زاد المسير" 1/ 227 قولًا آخر وهو أن المراد بالاستفهام التقرير والإذكار بالنعم. (¬2) ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 3. (¬3) ينظر: "المفردات" ص 50. (¬4) ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 4. (¬5) قال في "التبيان" ص 130: ومن يبدل: في موضع رفع بالابتداء، والعائد الضمير في يبدل، وقيل: العائد محذوف تقديره: شديد العقاب له.

212

والعقاب يَعْقُبُ الجُرْمَ (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يريد: الذين آمنوا بالله {كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} يريد ما أعطى موسى {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} يريد: من تخلف من الإيمان من قريظة والنضير وبني إسرائيل (¬2)، فعلى هذا: السؤال راجع إلى مؤمني أهل الكتاب. وقال مجاهد (¬3): النعمة في هذه الآية يراد بها: الحججُ والبراهينُ التي تدل على صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، مما في كتابهم، وتبديلهم إياها: تغييرهم نعتَه وصفتَه وذكَره، وهذا الوجه اختيار الزجاج (¬4). 212 - قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الآية، إنما لم يقل: (زينت)؛ لأن الحياة مصدر، فذهب إلى تذكير المصدر، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: ¬

_ (¬1) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 203. (¬2) تقدم الحديث عن رواية عطاء في المقدمة. (¬3) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 202: ونعمة الله، لفظ عام لجميع أنعامه، ولكن يقوي من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم أن المشار إليه هنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالمعنى: ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء اللفظ منسحبا على كل مبدل نعمة لله تعالى، وقال الطبري: النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول، ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرًا، والتوراة أيضًا نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم، وهدتهم فبدلوها بالتحريف لها، وجحدوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) ذكره الزجاج 1/ 181، وذكر ابن الجوزي 1/ 227، أن في المراد بتبديل النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد. والثاني: تغيير صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة.

67] هذا قول الفراء (¬1). وقال الزجاج: تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن معنى الحياة والعيش والبقاء واحد، وكأنه قال: زين للذين كفروا البقاء (¬2). وقال ابن الأنباري: إنما لم يقل: (زينت)، لأنه فصل بين زين وبين الحياة بقوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الاسم بفاصل حسن تذكير الفعل؛ لأن الفاصل يكفي من تاء التأنيث (¬3)، ويقال: من الذي زين لهم؟ قيل: فيه قولان: أحدهما: زَيَّنَها لهم إبليس بما يمنيهم ويعدهم من شهواتها، قاله ابن كيسان والزجاج (¬4). والقول الثاني: أن الله تعالى زَيَّنَها لهم حين بَسَطَها وَوَسَّعَها عليهم، فهي هَمُّهم وطَلِبَتُهْم ونِيَّتُهم وهم لا يريدون غيرها، كقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] وإنما فعل الله ذلك بهم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 125، وقال: فأما في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكر فعل مؤنث، إلا في الشعر لضرورته، وقد يكون الاسم غير مخلوق من فعل، ويكون فيه معنى تأنيث، وهو مذكر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، ومن ذلك قوله عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام 66] ولم يقل: كذبت، ولو قيلت لكان صوابا، كما قال {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء 105]. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 281، وقد ذكر أيضا العلة التي ذكرها ابن الأنباري بعد. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 281، "تفسير الثعلبي" 2/ 702، "البحر المحيط" 2/ 129، قال: وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهرة لأن المسند إليه الفعل مؤنث. وينظر: "الدر المصون" 2/ 371. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 282.

للابتلاء، كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7] ويدل على هذا قراءة حميد (¬1) (زَيَّنَ للذين كفروا) بفتح، الزاي (¬2) يعني الله تعالى (¬3). وقوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يقال: سخر منه سُخريَّة, وسُخريًّا، وسَخَرًا، وسُخْرًا، قال الأعشى: ..... لا عَجَبٌ منه ولا سُخْرُ (¬4) ويروى: ولا سَخَرَ، ومعنى السُّخْرِية: الإيهام للشيء والانطواء على خلافه (¬5). ¬

_ (¬1) هو حميد بن قيس المكي الأعرج، أبو صفوان القارئ، قال ابن حجر. ليس به بأس، من السادسة مات سنة مائة وثلاثين، وقيل بعدها. روى له الجماعة. ينظر: "تقريب التهذيب" ص 182 (1556). (¬2) وبها قرأ أبي بن كعب، والحسن ومجاهد وابن محيصن وابن أبي عبلة وأبو حيوة. ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 203، "زاد المسير" 1/ 228. (¬3) ينظر في ذكر الأقوال: "تفسير البغوي" 1/ 242، "المحرر الوجيز" 2/ 203، "البحر المحيط" 2/ 129 قال البغوي: الأكثرون على أن المزين هو الله تعالى، والتزيين من الله تعالى هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة، فنظر الخلق إليها بأكثر من قدرها فأعجبتهم ففتنوا بها. وقال ابن عطية جامعا بين القولين: المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه. وينظر: "زاد المسير" 1/ 228. (¬4) تمام البيت: إني أتتني لسان لا أسر بها ... من عَلوَ لا عجبٌ منها ولا سُخْر قال ذلك لما بلغة خبر مقتل أخيه المنتشر، والتأنيث للكلمة. ينظر: "اللسان" 4/ 1963 (سخر). (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1650، "المفردات" 233، "اللسان" 4/ 1963 (سخر)، ونقل في "التهذيب" عن الفراء قوله: سخِرتُ منه، ولا تقل سخرت به، قال الله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات 11]، وقال ابن السكيت: تقول:=

وقوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ} مستأنف غير معطوف على {زُيِّنَ}، ولا ينكر استئناف المستقبلِ بعد الماضي، وذلك أن الله تعالى خبر عنهم بـ {زُيِّنَ} وهو ماض، ثم خبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه ويستقبلونه، فقال: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يسخرون من فقراء المؤمنين ويعيرونهم بالفقر (¬1). قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في مشركي العرب، كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال، ويسخرون من فقراء المؤمنين الذين يرفضون الدنيا (¬2)، وقال في رواية عطاء: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وقينقاع، سخروا من المهاجرين حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم (¬3). ¬

_ = سخرت من فلان، فهذه اللغة الفصحية قال الله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]. (¬1) ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 7، "البحر المحيط" 2/ 130، وذكر أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره، وهو يسخرون، وقيل الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل؛ لأنه كان يلزم اتحاد الزمان، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة، قال: وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه، فليس أمرًا متجددًا، وصدرت الثانية بالمضارع لأنها حالة تتجدد كل وقت. وينظر: "الدر المصون" 2/ 371 - 373. (¬2) ذكره الثعلبي 2/ 698 من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ضعيف جدًّا، وذكر البغوي 1/ 242، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 228، والسمعاني في "تفسيره" 2/ 263، والرازي في "تفسيره" 6/ 5، "البحر المحيط" 2/ 129، وعزاه أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 198 إلى الكلبي، وقد روى الطبري 2/ 334، نحوه عن عكرمة. (¬3) تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 107 =

وقوله تعالى {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال مقاتل: والذين اتقوا الشرك وهم هؤلاء الفقراء (¬1)، وقال غيره: والذين اتقوا الله في عهدهِ وأمرهِ فوق الذين سخروا منهم (¬2)، يعني: بارتفاع حججهم على حجج الكفار، لأن في القيامة تعلو حجج المؤمنين، ويلزم الذُّلُّ الكافرين (¬3). قال الزجاج (¬4) وابن الأنباري: يجوز أن يكون (فوق) يدل على علو موضع المؤمنين على موضع الكافرين (¬5)؛ لأن المؤمنين في الجنة، والجنة عالية، والكافرين في النار، والنار هاوية، فوصف المؤمنين بأنهم فوق الكفار، وإن لم يكن للكفار موضع يوصف بالفوقية، كما قال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وإن لم يكن في مستقر أهل النار خير. وقال بعض أهل المعاني: أراد: أن حالهم في الآخرة فوق حال هؤلاء الكفار في الدنيا، وعلى هذا يتوجه قوله: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} يعني: أن مستقرهم في الآخرة خير من مستقر هؤلاء الذين اغتبطوا به في ¬

_ = من قول عطاء، وكذا البغوي في "تفسيره" 1/ 242، "زاد المسير" 1/ 228، و"تفسير الرازي" 6/ 5، "البحر المحيط" 2/ 129، وقال مقاتل في "تفسيره" 1/ 181 عند قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه، {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، في أمر المعيشة بأنهم فقراء نزلت في عبد الله بن ياسر المخزومي وصهيب، وفي نحوهم من الفقراء. (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 181. (¬2) ذكره في "الوسيط" 1/ 315، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 333 - 334. (¬3) ينظر: "زاد المسير" 1/ 228، "التفسير الكبير" 6/ 8. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 282، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 242، "المحرر الوجيز" 2/ 204، "زاد المسير" 1/ 228، "التفسير الكبير" 6/ 8. (¬5) من قوله: قال الزجاج ساقط من (أ) و (م).

الدنيا (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أن أموال قريظة والنضير تصير إليكم بلا حساب ولا قتال بأسهل شيء وأيسره (¬2)، فيكون على هذا: والله يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق للرزق، فيصير إليه ما لم يكن يحتسبه ولم يؤمله، ويكون ذلك من أهنأ العطاء وأحلا الأرزاق، لذلك مدح الله نفسه بهذا. وقال في رواية لأبي صالح: يعني: كثيرًا بغير فوت ولا مقدار؛ لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل (¬3). وقال الضحاك: يعني من غير تبعة في الدنيا ولا حساب في الآخرة (¬4)، دليله قوله: - صلى الله عليه وسلم -: "يدخل الجنة سبعون ألفًا من أمتي بغير حساب" (¬5). وقال مقاتل: يرزق من يشاء حين بسط للكافرين في الرزق، وقتّر على ¬

_ (¬1) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 204 - 205، "زاد المسير" 1/ 228، "التفسير الكبير" 6/ 8، وذكر ابن عطية أن هذه الاحتمالات المذكورة حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك. (¬2) هذا من تتمة الخبر السابق، عن عطاء، وقد تقدم تخريجه آنفا. وينظر في: "البحر المحيط" 1/ 131، "غرائب النيسابوري" 2/ 301، "الوسيط" للواحدي 1/ 315. (¬3) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 712، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243، وروى ابن أبي حاتم 2/ 375 عن ابن عباس في تفسيرها قوله: ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه. (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 713، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243. (¬5) رواه البخاري (6059) كتاب الرقاق، باب: يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، (5270) كتاب الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، ومسلم (317) كتاب الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة.

المؤمنين، {بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: ليس فوقي من يحاسبني، لي الملك أعطي من شئت بغير حساب (¬1). وهذا معنى قول الحسن (¬2)؛ لأنه قال: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يسأل عما يفعل. هذا الذي ذكرنا هي أقوال المفسرين. ولأصحاب المعاني أقوال (¬3) في هذا: أحدها: أن ما يعطي الله تعالى العبد على نوعين: ما يستحقه بعمله، ومنه ما يعطيه من فضله ابتداءً من غير استحقاق بعمل، كقوله تعالى {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] فقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: ما يتفضل به لا على حساب العمل. والثاني: لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم ما يعطي وما يبقى ولا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به، والله تعالى لا يحتاج إلى الحساب؛ لأنه عالم غني لا يتناهى لمقدوره ولا يخاف نفاد ما عنده (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 181، ونقله في "البسيط" 1/ 315. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 315، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 131، "غرائب النيسابوري" 2/ 301. (¬3) ينظر في هذه الأوجه: "تفسير الطبري" 2/ 334، "تفسير الثعلبي" 2/ 713، و"تفسير السمعاني" 2/ 264، "النكت والعيون" 1/ 270، "تفسير البغوي" 1/ 243، "المحرر الوجيز" 2/ 205 - 206، "زاد المسير" 1/ 228 - 229، "التفسير الكبير" 6/ 9 - 10، وقد ذكر ثمانية أوجه، إذا كان المراد به عطاء الآخرة، وثلاثة إذا حملت الآية على عطاء الدنيا. "البحر المحيط" 2/ 131. (¬4) روى نحوه عن الربيع بن أنس كما في "الدر المنثور" 1/ 435، وهذا اختيار الطبري" 2/ 334، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 713.

213

والثالث: أنه أراد بهذا رزقَ أهل الجنة، ورَزْقُهم بغير حساب؛ لأنه دائمٌ، كقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] وذلك أن رِزْقَهُم لا يَتَنَاهى، وما لا نهاية له لا حساب له. وقال ابن الأنباري: هذا في الدنيا يرزقُ عباده من غيرِ محاسبةٍ ولا استحقاق، ولو فعل ذلك لخرج الكفار من الأرزاق، فجعل فضله يشملهم، ورزقه يعمهم، بتفضل منه عليهم، وفيهم من لا يستحق الرزق والإحسان، فكان ذلك على غير حساب، لأنه لا يحاسب بالرزق في الدنيا على قدر العمل، وهذا الوجه اختيار الزجاج (¬1)، وذكرنا معنى الحساب فيما تقدم. 213 - قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية، قال ابن عباس: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمةً واحدةً كفارًا كلهم، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله إليهم إبراهيم وغيره من النبيين (¬2). وقال الحسن (¬3) وعطاء (¬4): كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر، كانوا كفارًا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله عز وجل نوحًا وإبراهيم وغيرهما من النبيين. قال ابن الأنباري: على هذا القول وإن كان فيما بينهم من لم يكن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 282. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 376 من طريق العوفي، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 243، "الدر المنثور" 1/ 435. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 714، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243، والواحدي في "الوسيط" 1/ 315، والرازي في "تفسيره" 6/ 133، "غرائب النيسابوري" 2/ 303. (¬4) انظر المصادر السابقة.

بهذا الوصف نحو: هابيل وإدريس، فإن الغالب كان الكفر، والحكم للأغلب والأعم، ولا يعتد بالقليل في الكثير، كما لا يعتد بالنبيذ القليل من الشعير في البر الكثير. وقال الكلبي (¬1) والواقدي (¬2): هم أهل سفينة نوح، كانوا مؤمنين كلهم، ثم اختلفوا بعد وفاة نوح فبعث الله النبيين. وقال ابن زيد (¬3): لم يكونوا أمة واحدة إلا يومًا من الدهر، يذهب إلى الوقت الذي أخرجهم الله فيه من صلب آدم في صورة الذَّرِّ، حين قال لهم تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. وهذا القول مروي عن أبي بن كعب (¬4)، وعلى هذين القولين يحتاج في الآية إلى إضمار، كأنه قال: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله، وهكذا في قراءة أبيٍّ (¬5) وابن مسعود (¬6). وحكى الزجاج عن بعض أهل اللغة قال: كان كلُّ من بعث إليه الأنبياء كفارًا (¬7)، يريد: أن أمم الأنبياء الذين بعثوا إليهم كانوا كفارًا، كما ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 715، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 22. (¬2) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 716، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 22، وقد استظهر محقق "تفسير الثعلبي" أن المراد بالواقدي هنا: علي بن الحسين بن واقد القرشي ت 211، وله تفسير رواه الثعلبي وصرح به في مقدمة "تفسيره". (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 336. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 335، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 376، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 717، "الدر المنثور" 1/ 435. (¬5) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 717. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 717، "الكشاف" 1/ 255، "المحرر الوجيز" 2/ 209. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 284.

كانت هذه الأمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال محمد بن إسحاق: ولدت حواء لآدم أربعين ولدًا ذكرًا وأنثى، في عشرين بطنًا، وكانوا أمة مسلمين فاختلفوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه (¬1). وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي: الكتب، اسم الجنس أريد به الجمع (¬2). وقوله تعالى: {بِالْحَقِّ} أي: بالعدل والصدق، وما فيه من البيان عن الحق من الباطل (¬3). وقوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} قال أهل المعاني: هذا مجاز وتوسع، وحقيقته ليحكم منزل الكتاب، إلا أنه جعل اللفظ على الكتاب تفخيمًا له لما فيه من البيان (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} الكناية راجعة إلى الكتاب، والمراد بالكتاب المختلف فيه: التوراة والإنجيل (¬5). وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} يعني: اليهود والنصارى، وهم الذين ¬

_ (¬1) ينظر: "السيرة النبوية" لابن هشام، والذي في "تفسير الثعلبي" 2/ 717 - 718، وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق بن يسار: كان الناس أمة واحدة، يعني: آدم وحده، سمى الواحد بلفظ الجمع؛ لأنه أصل النسل، ثم خلق الله تعالى حواء ونشر منهما الناس، فكانوا مسلمين كلهم إلى أن قتل هابيل فاختلفوا حينئذ فبعث الله النبيين. وينظر قول مجاهد في "تفسيره" 1/ 104، والطبري في "تفسيره" 2/ 335. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 723، "الكشاف" 1/ 256، "المحرر الوجيز" 2/ 206. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 723. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 724، "تفسير القرطبي" 3/ 32. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 724.

أوتوا الكتاب، والله تعالى كثيرًا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ، كقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، كأنه قال: وما اختلف في الكتاب إلا اليهود والنصارى (¬1). واختلافهم: كفر بعضهم بكتاب بعض بغيًا وحسدًا. ويحتمل أن يكون المراد باختلافهم: تحريفهم وتبديلهم؛ لأن اليهود بدلت التوراة، وعلى هذا المراد اليهود دون النصارى إن لم تبدل النصارى، والوجهان في الاختلاف ذكرهما الفراء (¬2). وقال بعضهم: الكناية راجعةٌ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه من جملة النبيين وداخل فيهم، وعلى هذا معنى الآية: وما اختلف في أمر محمد بعد وضوح الدلالات لهم بغيًا وحسدًا إلا اليهود الذين أوتوا الكتاب، وذلك أن المشركين وإن اختلفوا في أمر محمد فإنهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد، ولم تأتهم البينات في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته كما أتت اليهود. فاليهود مخصوصون من هذا الوجه الذي ذكرنا (¬3)، وهذا اختيار الزجاج، وقال في هذه الآية: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي؛ لأنهم عالمون بحقيقة أمره في كتبهم (¬4)، ويجوز أن تعود الكناية إلى الحق كأنه قال: وما اختلف في الحق، وذلك الحق الذي اختلفوا فيه هو: إما محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإما كتابهم، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 725، "المحرر الوجيز" 2/ 210 - 211. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 131، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 725، "المحرر الوجيز" 2/ 211، "تفسير القرطبي" 3/ 32، "البحر المحيط" 2/ 136 - 137. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 161، "تفسير الثعلبي" 2/ 725، "البحر المحيط" 2/ 136 - 137. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 284.

فيعود المعنى إلى ما ذكرنا. وقوله تعالى {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: إلى ما اختلفوا، كقوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، ويقال: هديته إلى الطريق وللطريق والطريقَ، قال الله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] (¬1). فإن قيل: ما معنى الهداية إلى ما اختلفوا فيه؟ فالجواب ما قال ابن الأنباري: إن هذا من باب حذف المضاف، أي: فهدى الله الذين آمنوا لمعرفة ما اختلفوا فيه. وقال الفراء: هذا من المقلوب، أراد: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، وأنشد: إِن سِرَاجًا لكَرِيمٌ مَفْخَرُه ... تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُه (¬2) أراد: يَحْلَى بالعين، لأنك تقول: حَلِيْتَ بعيني، فصرف فعل الرجل إلى العين (¬3). وقال بعضهم: اختلفوا فيه حق لا باطل، فالهداية إليه يصح في المعنى، وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فكفر بعضهم بكتاب بعض، فهدى الله الذين آمنوا بالكتب كلها؛ لأن الكتب المنزلة كلها حق، ألا تري إلى قول ابن زيد في هذه الآية، قال: ثم اختلفوا في القبلة، فصلت اليهود إلى بيت المقدس، وصلت النصارى إلى المشرق، فهدانا الله عز وجل إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من يصوم بالليل، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 726. (¬2) البيت غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء 1/ 131. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 131 - 132 بمعناه.

214

فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله عز وجل له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فهدانا الله عز وجل للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربًّا، فهدانا الله عز وجل فيه للحق (¬1). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كتب الله الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيها فهدانا الله لها، والناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غدٍ" (¬2). وقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد كان ذلك في قضائي وقدري (¬3)، وقال بعضهم: بعلمه وإرادته فيهم، وهو قول الزجاج (¬4). وقال بعض أهل التفسير في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ} يعني: أهل كل كتاب اختلفوا فيه بعد ما جاءهم البينات بغيًا بينهم ظلمًا وطلبًا للملك، ورفضوا الحكم بكتابهم، فعصم الله هذه الأمة من نقض حكم كتابها، ومخالفة ما فيه من الأحكام. 214 - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} الآية، قال عطاء ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 339، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 378، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 163، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 726، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 138، "الدر المنثور" 1/ 436. (¬2) أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة، رواه البخاري (876) كتاب الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) كتاب الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة. وأوله عندهما: "نحن الآخرون السابقون". (¬3) ذكره في "الوسيط" 1/ 317. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 285، "تفسير الثعلبي" 2/ 726.

عن ابن عباس (¬1): لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة اشتد الضر عليهم؛ لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل تطييبًا لقلوبهم {أَمْ حَسِبْتُمْ} الآية (¬2)، وقال قتادة (¬3) والسدي (¬4): نزلت في غزوة الخندق، حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف، وكان كما قال الله عز وجل {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. فقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} قال الفراء: استفهم بـ (أم) في ابتداء ليس قبله ألف فيكون (أم) ردًا عليه، وذلك يجوز إذا كان قبله كلام يتصل به، ولو كان ابتداء ليس قبله كلام لم يجز ذلك، كقولك للرجل: أعندك خبز؟ لم يجز هاهنا: أم عندك خبز، ولو قلت: أنت رجل لا تُنْصِف أم لك سلطان تُدِلُّ به؟ لجاز ذلك، إذ تقدمه كلام فاتصل به (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس في "تفسيره" 2/ 379، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 437 إلى ابن المنذر، وعن عطاء ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 728، والواحدي في "أسباب النزول" ص 68، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 231، البغوي في "تفسيره" 1/ 245، وأبو حيان في "البحر" 2/ 371. (¬2) رواه في "الدر المنثور" 1/ 437 بمعناه، وعزاه إلى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 379، وابن المنذر. وينظر: "الوسيط" 1/ 317. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 83، والطبري في "تفسيره" 2/ 341، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 435، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 437 إلى ابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 727. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 341، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 379، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 727. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 132، "تفسير الثعلبي" 2/ 728.

قال ابن الأنباري: (أم) استفهام متوسط، لا يكون إلا بعد كلام، جعلوا للمتوسط لفظًا يخالف لفظ السابق، فكان للسابق (هل) وأخواتها، وللمتوسط (أم) يدل على صحة هذا قوله عز وجل: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 1 - 3]، أتى بـ (أم) وسطًا، فجعلها استفهامًا، ولم يَرْدُدْهَا على استفهام متقدم، ومن هذا قول الأخطل: كَذَبَتْكَ عينُكَ أم رأيتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظلامِ من الرباب خَيَالا (¬1) وقال قوم: (أم) هاهنا بمعنى (بل) (¬2) وذلك لا يحسن إلا إذا تقدمه استفهام، كقولك: إنها لإبل أم شاء يا فتى، وكما قيل في بيت الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت ............... البيت. وقد استقصينا الكلام في (أم) عند قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا} [البقرة: 108] الآية. وقال بعضهم: أم هاهنا عطفٌ على استفهام متقدم محذوف، تقديره: أعلمتم أن الجنة حفت (¬3) بالمكاره، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير بلاء ولا مكروه؟ والكلام ما ذكره الفراء وابن الأنباري (¬4). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 385 "المعجم المفصل" 6/ 79. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 285، "تفسير الثعلبي" 2/ 728. (¬3) في (أ) (تحف). (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 285، "التبيان" ص 131، واختارا أنها منقطعة، وفي "البحر المحيط" 2/ 139 ذكر أبو حيان في (أم) هنا أربعة أقوال: الأول: أنها منقطعة بمعنى بل والهمزة. والثاني: أنها متصلة على إضمار جملة قبلها. والثالث: الاستفهام بمعنى الهمزة. والرابع: الإضراب بمعنى بل، قال: والصحيح هو القول الأول.

وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} أي: ولم يأتكم، و (ما) صلة، والفرق بينهما أن (لما) يوقف عليها في مثل قولك: أَقَدم زيد؟ فيقول: (¬1) (لما)، ولا يجوز: (لم) (¬2). وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا} أي: شبه الذين مضوا من قبلكم من النبيين والمؤمنين، أي: ولما يصبكم مثل الذي (¬3) أصابهم، ولم يمتحنوا بمثل الذي امتحنوا فتصبروا، كما صبروا، وهذا استدعاء إلى الصبر (¬4). وفي الكلام حذف، تقديره: مثل محن الذين، أو مثل مصيبة الذين من قبلكم (¬5). ثم ذكر ما أصابهم، فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء} وهو اسم من البؤس بمعنى الشدة، قال عطاء: يريد: الفقر الشديد، {وَالضَّرَّاءُ}: المرض والجوع (¬6). {الْبَأْسَاءُ}: نقيض النعماء، والضراء نقيض السراء. ¬

_ (¬1) في (ش): (تقول). (¬2) ينظر: "التبيان" ص 131، "البحر المحيط" 2/ 140، "مغني اللبيب" ص 367، وذكر أنها تفارق (لم) من خمسة أمور: 1 - أنها لا تقترن بأداة شرط. 2 - أن منفيها مستمر النفي إلى الحال، ومنفي لم يحتمل الاتصال والانقطاع. 3 - أن معنى (لما) لا يكون إلا قريبا من الحال. 4 - أن منفي (لما) متوقع ثبوته. 5 - أن منفي (لما) جائز الحذف. اهـ. وقال أبو حيان: ولما، أبلغ في النفي من لم؛ لأنها تدل على نفي الفعل متصلا بزمان الحال، فهي لنفي التوقع. (¬3) في (ي) و (ش) (الذين). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 729. (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 140. (¬6) ذكره في "الوسيط" 1/ 317.

وقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا} أي: حركوا بأنواع البلايا والرزايا (¬1) (¬2). قال أبو إسحاق: وأصل الزلزلة في اللغة من: زَلّ الشيء عن (¬3) مكانه، فإذا قلت: زلزلته، فتأويله: أنك كررت زللَه (¬4) من مكانه، فضوعف لفظه لمضاعفة معناه، وكل ما كان فيه ترجيع كررت فيه فاء الفعل، نحو: صَرَّ (¬5) وصَرْصَرَ وَصَلّ وصلصل (¬6). وتفسير {وَزُلزِلُوا} هنا: خوفوا وحقيقته ما ذكرنا، وذلك أن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه، ولهذا يقال للخوف: المقيم المُقْعِد؛ لأنه يُذْهب السكون، فيجوز أن يكون {وَزُلزِلُوا} هاهنا مجازًا، والمراد به: خوفوا، ويجوز أن يكون حقيقة بأن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف (¬7). وقوله تعالى {حَتَى يَقُولَ اَلرَّسُولُ} قرئ (يقولَ) نصبًا ورفعًا (¬8)، والنصب على وجهين إذا نصبت الفعل بـ (حتى) فقلت: سرت حتى أدخلها. ¬

_ (¬1) في (ي): (الرزايا والبلايا). (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 730. (¬3) في (م): (من). (¬4) كذا في الأصول، وفي "معاني القرآن" زلزلته. (¬5) (صر) ليست في (ي)، وفي (ش): (ضر وضرضر) وفي (م): (صر وصَرّ). (¬6) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 285. بمعناه. (¬7) ينظر في زلزل "تهذيب اللغة" 2/ 1551، "المفردات" ص 219، "عمدة الحفاظ" 2/ 165،"اللسان" 3/ 1857 (زلل). ونقل الأزهري عن ابن الأنباري في قولهم: أصابت القوم زلزلة، قال: الزلزلة: التخويف والتحذير، من ذلك قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي: خوفوا وحذِّروا قال بعضهم: الزلزلة مأخوذة من الزلل في الرأي، فإذا قيل: زلزل القوم، فمعناه: صرفوا عن الاستقامة، وأوقع في قلوبهم الخوف والحذر. (¬8) قرأ نافع برفع اللام، وقرأ الباقون بالنصب. ينظر: "السبعة" ص 181 - 182، "الحجة" 2/ 305 - 306.

أحدهما: أن يكون الدخول غاية للسير، والسير والدخول قد مضيا جميعًا، والمعنى: سرت (¬1) إلى دخولها، وقد مضى (¬2) الدخول. وعلى هذا نصب (يقول) في الآية، المعنى: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، فكأنه حتى قول الرسول. والوجه الآخر في النصب: أن يكون السير قد وقع والدخول لم يقع، ويكون المعنى: سرت كي أدخلها، وليس هذا وجه نصب الآية (¬3). ورفع ما بعد حتى على وجهين. فأحد الوجهين: هو وجه (¬4) الرفع في الآية، كما تقول: سِرتُ (¬5) حتى أَدْخُلُها، وقد مضى السير والدخول، كأنه بمنزلة قولك: سِرت فادخلها بمنزلة سرت فدخلتها، وصارت (حتى) هاهنا مما لا يعمل (¬6) في الفعل شيئًا؛ لأنها تلي الجمل تقول: (¬7) سرت حتى إني (¬8) كالٌّ، وكقوله: فيا عَجَبًا حتى كُليبٌ تَسُبُّني (¬9) ¬

_ (¬1) ليس في: (ش). (¬2) في (ي): (مضت). (¬3) رجح أبو حيان في "البحر" 2/ 140 الوجه الأول، قال: لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين. (¬4) من قوله: نصب الآية. ساقط من (ي). (¬5) (سرت) ليست في (أ) ولا (م). (¬6) في (ش) (تعمل). (¬7) في (ش): (تقول). (¬8) في (ي): (كأني). (¬9) البيت للفرزدق، وعجزه: كأن أباها نهشل أو مجاشع

فعملها في الجمل يكون في معناها لا في لفظها، وعلى هذا وجه الآية، ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع الآن، وقد انقطع السير، تقول: سرت حتى أدخلَها الآن ما أمنع، كأنك قلت: سرت حتى (أني) (¬1) أَدْخُلُها الآن ما أمنع، فهذه جملة باب (حتى) في الأفعال (¬2). قال أبو علي الفارسي: ما ينتصب بعد (حتى) من الأفعال المضارعة على ضربين: أحدهما: أن يكون بمعنى (إلى)، وهو الذي تحمل (¬3) عليه الآية، والفعل الذي يكون قبل (حتى) مع ما حدث عنه قد مضيا جميعًا، ألا ترى أن الأمرين في الآية كذلك. والآخر: أن يكون بمعنى (كي)، وذلك قولك: (أسلمت حتى (¬4) أدخلَ الجنة)، فهذه تقديره: أسلمت كي أَدْخُلَ الجنة، فالإسلام قد كان والدخول لم يكن. وأما قراءة من قرأ: (حَتَّى يَقُولُ) بالرفع، فالفعل الواقع بعد حتى إذا ¬

_ = في "ديوانه" ص419، "الكتاب" لسيبويه 3/ 18، "معاني القرآن" للفراء 1/ 138، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 304، "الخزانة" 4/ 141، "همع الهوامع" 2/ 24، و"تفسير ابن يعيش" 8/ 18، "مغني اللبيب" 173. والشاعر يهجو كليب بن يربوع رهط جرير، فجعلهم من الهون بحيث لا يُسابُّون مثله لشرفه. ونهشل ومجاشع: ابنا دارم، وهم رهط الفرزدق. (¬1) ليست في (ي). (¬2) ينظر في ذلك: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 304 - 306، "التبيان" ص 131، "البحر المحيط" 2/ 140، "مغني اللبيب" 166 - 176. (¬3) في (ش): (يجهل). (¬4) الجملة هذه ليست في (أ) و (م).

كان مضارعًا مرفوعًا لا يكون إلا فعلَ حالٍ، ويجيء على ضربين. أحدهما: أن يكون السبب الذي أدى إلى (¬1) الفعل الذي بعد حتى قد مضى، والفعلُ المُسَبِّبُ لم يمضِ، ومثال ذلك قولهم: مرض حتى لا يرجونه، وشَرِبَتِ الإبلُ حتى يجيء البعير يَجُرُّ بَطْنَه، وتتجه الآية على هذا الوجه، كأن المعنى: زلزلوا فيما مضى حتى إن الرسول يقول الآن: متى نصر الله، وحُكِيَتْ الحالُ التي كَانوا عليها، كما حكيت الحال في قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه} [القصص: 15] وفي قوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]. والوجه الآخر من وجهي الرفع: أن يكون الفعلان جميعًا قد مضيا، نحو: سِرتُ حتى أدخُلُها، والدخول متصل بالسير بلا فصل، كما (كان) (¬2) في الوجه الأول بينهما فصل، والحال في هذا الوجه أيضًا محكية، كما كانت محكية (¬3) في الوجه الآخر، ألا ترى أن ما مضى لا يكون حالًا؟ وحتى إذا رُفِعَ الفعل بعدها حرفٌ، يصير الكلام بعدها إلى الابتداء، وليست العاطفةَ ولا الجارةَ، وهي إذا انتصب الفعلُ بعدها الجارةُ للاسم، وينتصب الفعل بعدها بإضمار (أن) كما ينتصب بعد اللام بإضمارها (¬4). واعلم أن (حتى) على ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون جارة نحو {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، وهذه (¬5) ¬

_ (¬1) (إلى) ساقطة من (أ) و (ش) و (ي). (¬2) في (ش): (قال). (¬3) ليست في (أ) (م). (¬4) "الحجة" 2/ 306 - 307، وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 132، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 304 - 306، "تفسير الثعلبي" 2/ 730. (¬5) (وهي) في (ي).

الجارة هي التي تنصب الأفعال بعدها بإضمار أن، والفعل و (أن) المضمرة (معه) (¬1) في موضع جر بـ (حتى) (¬2). والآخر: أن تكون (¬3) عاطفة في نحو: والزَّادَ حَتَّى نَعْلَهُ ألْقَاهَا (¬4). وهذه تكون عاطفة. والثالث: أن تكون داخلة على الجمل ومنصرفًا بعدها الكلام إلى الابتداء، كأما وإذا ونحوهما، وذلك نحو قوله: فيا عجبًا حَتَى كليبٌ تَسُبُّني (¬5) فهذا جملة الكلام في حتى (¬6). ومعنى الآية: أن الجهد قد بلغ بالأمم قبل هذه الأمة حتى استبطأوا النصر، فقال الله عز وجل: ألا إن نصر الله قريب ¬

_ (¬1) ليست في (ي). (¬2) ليست في (ش). (¬3) (يكون) في (م). (¬4) صدر البيت: ألقى الصحيفة كي يخاف رحله. البيت منسوب للمتلمس، وفيه إشارة إلى قصة المتلمس وطرفة حين كتب لهما عمرو بن هند كتابين مختومين، أوهمهما أن فيهما أمرًا لعامله في البحرين بإكرامهما، إلا أن المتلمس فض صحيفته فوجد فيها أمرا بقتله فرجع. وفي "الكتاب" لسيبويه 1/ 97 نسبه لابن مروان النحوي. [وقال المحقق: الصواب أنه مروان النحوي] والبيت في "الكتاب" 1/ 97، و"الخزانة" 1/ 445، 4/ 140، و"مغني اللبيب" 167، والشاهد في البيت: مجيء حتى عاطفة، حيث نصب نعله، ويستشهد به أيضًا على مجيئها ابتدائية برفع نعله. (¬5) تقدم تخريج البيت قريبًا. (¬6) ينظر في حتى: "الكتاب" لسيبويه 1/ 96 - 97، 3/ 16 - 27، "المقتضب" للمبرد 2/ 38 - 43، "معاني القرآن" للفراء 1/ 132 - 138، "الأزهية" ص214 - 216، "مغني اللبيب" ص 166 - 176.

فأعلم أولياءه أنه ناصرهم لا محالة، وأن ذلك قريب منهم كما قال {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. وقوله تعالى: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (متى) سؤال عن زمان؛ لأن جوابها يقع بالزمان، ألا ترى أنك تقول: متى زيد خارج؟، فيكون الجواب: يوم الجمعة أو يوم السبت، فإذا كان الاسم الذي يلي (متى) جثة احتاج إلى خبر، كقولك: متى زيد منطلق؟، ولا يجوز أن تقول: متى زيد، وتسكت؛ لأن ظروف الزمان لا تكون خبرًا للجثث، وإن كان الاسم الذي (يلي) (¬1) (متى) لا يكون جثة، حسن السكوت على ذلك الاسم، كقولك: متى القتال؟ وكما في هذه الآية {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؛ لأن ظروف الزمان تكون خبرًا للمصادر (¬2). وقوله تعالى {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ} (ألا) صلةٌ لابتداء الكلام، كأنه تنبيهٌ للمخاطب. قال صاحب النظم: في هذه الآية مبتدآن وجوابان، جمع بين المبتدأين والجوابين، فقوله: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} مبتدآن. وقوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} إلى آخر الآية جوابان لهما، مجموع بينهما، فيحتاج أن يرد كل جواب إلى ابتداء به ليبين نظم الكلام، والتقدير: حتى ¬

_ (¬1) (هو) في (ي) و (ش). (¬2) ينظر في متى: "الكتاب" لسيبويه 1/ 217 - 218، "المقتضب" 3/ 63، 289، "الأزهية" 200 - 201، "مغني اللبيب" 440 - 441، قال في "التبيان" ص 131: وموضع متى رفع؛ لأنه خبر المصدر، وعلى قول الأخفش موضعه نصب على الظرف، ونصر مرفوع به.

215

يقول الذين آمنوا متى نصر الله، فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، وإنما قلنا إنه كذلك؛ لأن الرسول لا يشبهه (¬1) أن يقول: متى نصر الله، وهذا حسن (لمن) (¬2) تأمله، وذكر عبد الملك بن محمد الصدفي في هذه الآية، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، "أن نبيًا من الأنبياء سأل ربه السعة في الرزق، فأوحى الله إليه: أما يكفيك أني عصمتك أن تكفرني حتى تسألني السعة في الرزق، ولو رضي الله الدنيا لأحد من أوليائه ما نال فيها كافر جرعة ماء، ولكن الله تعالى لم يجعلها ثوابًا لمؤمن ولا عقابًا لكافر"، وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. يريد: الجنة لا موت فيها ولا نصبَ ولا تَعَبَ ولا هَرَمَ ولا سَقَم ولا هَمّ ولا حَزَنَ ولا شيءَ من الضر. 215 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} الآية، قال عطاء عن ابن عباس (¬3): نزلت الآية في رجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي دينارًا؟ فقال: "أنفقه على نفسك" فقال: إن لي دينارين! فقال: "أنفقهما على أهلك"، فقال: إن لي ثلاثة؟ فقال: "أنفقها على خادمك"، فقال: إن لي أربعة؟ قال (¬4): "أنفقها على والديك"، وقال: إن لي خمسة؟ قال: "أنفقها على قرابتك"، قال: إن لي ستة؟ قال: "أنفقها في سبيل الله، وهو أخسها". وروي من طريق الكلبي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمرو بن ¬

_ (¬1) في النسخ (أ) و (م) و (ب) يسبهه بدون نقط. (¬2) ساقطة من (ش). (¬3) تقدم الحديث عن رواية عطاء في المقدمة، وقد ذكره في "زاد المسير" 1/ 233، والرازي في "تفسيره" 2/ 24. (¬4) (فقال) في (ي). في جميع المواضيع.

الجموح الأنصاري (¬1)، وهو الذي قتل يوم أحد، وكان شيخًا كبيرًا هرمًا، وعنده مال عظيم، فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ (فنزلت) (¬2) {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} الآية (¬3)، ومعنى السؤال طلب الجواب. وقوله تعالى: {مَاذَا يُنْفِقُونَ} في محل (ماذا) من الإعراب قولان: أحدهما: أن تجعل (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد، ويكون الموضع نصبًا بـ (ينفقون) المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون، ومثل جعلهم (ماذا) بمنزلة اسم واحد قول الشاعر: دَعِيْ مَاذا عَلِمْتُ سَأَتَّقِيْهِ ... ولكن بالمغِيبِ ينبّئُنِي (¬4) ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 69، وينظر: "زاد المسير" 1/ 233، "الوسيط" 1/ 215، "التفسير الكبير" 2/ 24، "البحر المحيط" 2/ 141. ورواية الواحدي في "أسباب النزول" و"البحر المحيط": (وهو أحسنها)، وأورده الهيثمي عن أبي هريرة ص 211 حديث رقم 828. وعمرو، هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الخزرجي الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا في رواية، وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد بني سلمة، وشهد أحدا، وكان أعرج شديد العرجة، واستشهد بها. ينظر: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 4/ 1984، "الاستيعاب" 3/ 253. (¬2) في (ي) (فأنزل الله). (¬3) ذكره الثعلبي بغير إسناد 2/ 337، وعنه نقل الحافظ ابن حجر في "العجاب" 1/ 534، وعزاه من طريق أبي صالح عن ابن عباس: الواحدي في "أسباب النزول" ص 69، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 233، وعزاه الواحدي في "الوسيط" 1/ 318، وعنه الفخر الرازي في "تفسيره" 6/ 20 إلى رواية الكلبي عن ابن عباس 6/ 24. وهو قول مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" 1/ وقول مقاتل بن حيان، نسبه إليه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 1/ 437. (¬4) البيت للمثقب العبدي، في "ديوانه" ص 213، ولمزرد بن ضرار في "ديوانه" ينظر: "المعجم المفصل" 8/ 250.

فلا يكون (ذا) مع (ما) إلا بمنزلة شيء واحد، كأنه قال: دعي الذي علمت، لأن (دَعِي) لا يتعلق بالجملة كما يتعلق السؤال، لو قلت: سَألُته أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ صَحَّ، ولو قلت: دعي أزيد في الدار أم عمرو، لم يصح على ذلك الحد من غير حذف، والعرب تقول: عماذا تسأل؟ بإثبات الألف في (ما)، فلولا أن (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد لقالوا: عمذا (¬1) تسأل، بحذف الألف، كما حذفوها من قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] و {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] فلما لم يحذفوا الألف من آخر (ما) (¬2) علمت أنه مع (ذا) بمنزلة اسم واحد، فلم تحذف الألفُ منه، لما لم يكن آخر الاسم، والحذف يلحقها إذا كانت آخرًا، إلا أن تكون في شعرٍ، كقول الشاعر: عَلَى ما قام يشتمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في دَمَاني (¬3) ومما يحمل على أن (ما) و (ذا) فيه شيء واحد قول الشاعر: يا خُزْرَ تَغْلِبَ ماذا بالُ (¬4) نِسوتِكم ... لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيرين تَحْنَانا (¬5) فقوله: ماذا بالُ نسوتكم، بمنزلة: ما بال نسوتكم، فاستعمل (ماذا) ¬

_ (¬1) في (ي) (عماذا). (¬2) ساقطة من (ي). (¬3) البيت لحسان بن ثابت، قاله في هجو بني عابد. ينظر: "الحجة" 2/ 317 "شرح أبيات المغني" 5/ 220 "الخزانة" 2/ 537، "أمالي ابن الشجري" 2/ 233، "الشافية" 4/ 224، وابن يعيش 4/ 9، والعيني 4/ 554. والدمان كالرماد وزنًا ومعنى. (¬4) (قال) في (ي). (¬5) البيت لجرير يهجو الأخطل ينظر: "ديوانه" ص 167. و"الحجة" 2/ 317.

استعمال (ما) من غير أن ينضم إليها (ذا)، ألا ترى أنك لو حملت (ذا) على الذي في هذا البيت لم يَسْهُلْ: ما الذي بال نسوتكم؟ لأن المستعمل: ما بالُك، دون: ما الذي بالك (¬1). القول الثاني: أن تجعل (ذا) اسمًا يرفع (ما) كأنك قلت: ما الذي ينفقون؟ يعنى: أيَّ شيء الذي ينفقون، فيكون (ما) رفعًا بالابتداء و (ذا) خبرُها، والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي، فيقولون: ومن ذا يقول (¬2) ذاك، في معنى من الذي، وأنشدوا: عَدَسْ ما لِعَبّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ ... أَمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِليَن طَلِيقُ (¬3) كأنه قال: والذي تحملين طليق (¬4). وقد (¬5) مضى صدر من الكلام في (ماذا) عند قوله: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26]. وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} هذا جواب لسؤالهم. فإن (قيل): هذا الجواب لا يُطَابِقُ السُّؤَال، وما الجواب المطابق لهذا السؤال؟ ¬

_ (¬1) هذا الكلام بطوله من "الحجة" بتصرف يسير 2/ 316 - 318. (¬2) (يكون) في (م). (¬3) البيت ليزيد بن مفرغ الحميري قاله في عباد بن زياد، وكان يزيد قد أكثر من هجوه، حتى حبسه وضيق عليه، حتى خوطب في أمره معاوية، فأمر بإطلاق سراحه،. فلما خرج من السجن قدمت له بغلة فركبها فنفرت فقال هذا الشعر، في "ديوانه" ص170، "لسان العرب" 5/ 2837 "عدس" وعدس: اسم صوت لزجر البغل. (¬4) من "معاني القرآن" للفراء 1/ 138 - 139. (¬5) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 306، "تفسير الثعلبي" 2/ 737، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 127، "التبيان" ص 131، قال: وموضع الجملة نصب بيسألون على المذهبين. "البحر المحيط" 2/ 142.

قيل: الجواب المطابق أن يقال: قل النفقة التي هي خير، وإنما عدل عن المطابق لحاجة السائل إلى بيان بجمع الدلالة على ما سأل وعلى غيره. ويحسن من المعلم الحكيم الذي يعلم الناس ويبصرهم أن يضمن الجواب مع الدلالة على المسؤول عنه، الدلالة على ما يحتاج إليه السائل في ذلك المعنى مما أغفله وترك السؤال عنه، فأما الجدل الذي يضايق فيه الخصم فالأصل فيه أن يكون الجواب على قدر السؤال من غير زيادة ولا نقصان ولا عدول عما يوجبه نفس السؤال. وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} جزم {وَمَا تَفْعَلُوا} بالشرط، واسم الشرط وموضع {وَمَا} نصبٌ بـ {تَفْعَلُوا}، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬1) ومعناه: (أنه يحصيه) (¬2) ويجازي عليه. قال ابن الأنباري: إن عمرو بن الجموح سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصدقة لمن (¬3) يخص (¬4) بها عند الموت، فأنزل الله عز وجل هذه الآية قبل آية المواريث، فلما نزلت آية المواريث نسخت من هذه التصدق على الوالدين. ويقال: إن الإنفاق في هذه الآية لا يراد به الصدقة عند الموت، إنما يراد (¬5) به النفع في الدنيا، والإيثار بما يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى، ¬

_ (¬1) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس1/ 306،"مشكل إعراب القرآن" 1/ 127، "التيبان" ص 131، "البحر المحيط" 1/ 142. (¬2) ساقط من (ش). (¬3) (لما) في (ي). (¬4) (نخص) في (ي) و (ش). (¬5) (أراد) في (ش).

216

فأخبر الله أن مريد ذلك ينبغي أن يتوخى به الوالدين والأقربين والمذكورين في الآية، وإذا خرج الإنفاق على معنى التصدق كانت الآية محكمة، وهذا معنى قول مقاتل بن حيان (¬1). وقال (¬2) كثير من أهل التفسير: إن هذا كان قبل فرض الزكاة، فلما فُرِضَتِ الزكاة بالآية التي في براءة، نسخت الزكاةُ هذه الآية (¬3). 216 - قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية، اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن بعد الهجرة في قتال من يقاتله من المشركين دون من لا يقاتل (¬4)، ثم أذن في قتال المشركين عامة، وهذا كله قبل فرض الجهاد، ثم فرض الله الجهاد. واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فمذهب عطاء أن المعني بهذا: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون غيرهم؛ لأنه قال: كان القتال مع النبي ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 1/ 318. (¬2) في (أ) و (م): فقال. (¬3) من "تفسير الثعلبي" 2/ 738، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 343، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 381، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي 2/ 72، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 228، وقد بين ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 145، أن الأولى أن تكون الآية في بيان مصارف صدقة التطوع، ولا نسخ؛ لأن شروطه معدومة وقال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 229: والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع، فحكمها غير منسوخ؛ لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة، وما يتطوع به لم ينسخ بالزكاة، وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد. وينظر: "النسخ في القرآن" للدكتور/ مصطفى زيد 2/ 656. (¬4) (يقاتله) في (ش).

- صلى الله عليه وسلم - فريضة (¬1). وسئل عبد الله بن عمرو عن الفرائض؟ فقال: الفرائض: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان، والجهاد في سبيل الله، وخالفه ابن عمر في الجهاد، فعد الفرائض وترك الجهاد (¬2). وقال بعضهم: كان الجهاد في الابتداء من فرائض الأعيان، ثم صار فرض كفاية؛ لقوله عز وجل {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ولو كان القاعدُ مضيِّعًا فرضًا ما كان موعودًا بالحسنى. وقال بعضهم: لم يزل الجهادُ فرض كفاية، غير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير؛ لوجوب طاعته (¬3). وقال الزهري والأوزاعي: كتب الله سبحانه الجهاد على الناس (غَزَوا أو قعدوا، فمن غزا فبها ونعمت، ومن قعد فهو عدة، إن ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 344، وابن أبي حاتم 2/ 382، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 739، وقال النحاس في "الناسخ والمنسوخ": 1/ 531: وأما قول عطاء: إنها فرض، ولكنه على الصحابة فقول مرغوب عنه، وقد رده العلماء، وقد ذكر الثعلبي عن عطاء ما يوافق قول الجمهور من أن الجهاد في الأصل فرض كفاية 2/ 741. (¬2) رواه بسنده الجصاص في "أحكام القرآن" 4/ 311، وله قصة، وبين أنه مختلف في صحته، أما حديث ابن عمر المشهور: "بني الإسلام ... " فقد رواه البخاري (8) كتاب: الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم، ومسلم (21) كتاب الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام. (¬3) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 6/ 37: فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، وممن ذكر أنه فرض كفاية أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 205، والطبري في "تفسيره" 2/ 344 - 345، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 741، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 217.

استعين به أعان) (¬1)، وإن استنفر نفر، وإن استغني عنه قعد (¬2). وقال أبو عبيد: القول في الجهاد أنه حق لازم للناس، غير أن بعضهم يقضي ذلك عن بعض، وإنما وسعهم هذا لقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] فإنها فيما يقال ناسخة لفرض الجهاد، والإجماع اليوم على أنه من فروض الكفاية، إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين على كافة المسلمين، إلى أن يقوم بكفايتهم من يصرف وجوههم. وقوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} يعني: القتال كره لكم، وكان الكسائي يقول في الكَرْه والكُرْه: هما لغتان في المشقة (¬3) (¬4). قال الفراء: الكُره: المشقة، قمت على كُره، أي: على مشقة، وقال: أقامني على كره، إذا أكرهك عليه، فالكُره عند الفراء: الإجبار، ولهذا لم يقرأ هاهنا (كَرْه) بالفتح، كما قرأ في سائر المواضع بالضم والفتح؛ لأن المشقة هاهنا أليق من الإجبار (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) قول الزهري رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 204، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 382، وقول الأوزاعي ذكره أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 205، والطبري في "تفسيره" 2/ 344. (¬3) ساقط جميعًا من (ي). (¬4) ينظر في بيان أنهما لغتان بمعنى: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 365، و"تفسير الطبري" 2/ 345، و"الصحاح" 6/ 2247. (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 288، و"تهذيب اللغة" 4/ 3136 "كره"، و"المفردات" ص431، "عمدة الحفاظ" 3/ 459، "اللسان" 7/ 3864، 3865، قال الزجاج: والكره يقال فيه: كرهت الشيء كُرها وكراهية، وكل ما في كتاب =

قال الزجاج: وتأويله: وهو ذو كُره لكم، وهذا الكره من حيث المشقة الداخلة على النفس وعلى المال من المؤنة، وعلى الروح، (لا) (¬1) إن المؤمنين يكرهون فرض الله عز وجل (¬2)، وقال عكرمة: إنهم كرهوه ثم أحبوه، فقالوا: سمعنا وأطعنا (¬3). وقيل: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} قبل أن يكتب عليكم. ¬

_ = الله عز وجل من الكُره فالفتح فيه جائز، إلا أن هذا الحرف الذي في هذه الآية ذكر أبو عبيدة أن الناس مجمعون على ضمه، قال الأزهري: الذي قاله أبو العباس والزجاج فحسن جميل. وقال الراغب: قيل: الكَره والكُره واحد، نحو الضَّعف والضُّعف، وقيل: الكَره: المشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكُره: ما يناله من ذاته وهو يعافه، وهو على ضربين: أحدهما: ما يعاف من حيث العقل والشرع، ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد إني أريده وأكرهه، بمعنى: إني أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث العقل أو الشرع، أو العكس، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أي تكرهونه من حيث الطبع، ثم بين ذلك بقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، وكرهت يقال فيهما جميعا، إلا أن استعماله في الكره أكثر. اهـ- بتصرف. (¬1) ساقط جميعًا من (ي). (¬2) الزجاج 1/ 289، وعبارته: معنى كراهتهم القتال أنهم كرهوه على جنس غِلَظِه عليهم ومشقته، لا أن المؤمنين يكرهون فرض الله عز وجل، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 344، عن عكرمة عن ابن عباس، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 382 عن عكرمة، ولفظ الأثر: نسختها هذه الآية {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يعني: أنهم كرهوه ثم أحبوه، فقالوا: سمعنا وأطعنا، قال الطبري 2/ 344: وهذا قول لا معنى له؛ لأن نسخ الأحكام من قبل الله عز وجل لا من قبل العباد، وقوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخ منه.

وقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن في الغزو إحدى الحسنين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة، {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} يعني: القعود عن الغزو، وهو شر لكم؛ لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر (¬1). {وَعَسَى} عند العامة شك وتوهم، وهي عند الله يقين وواجب. وعسى. فعل يتصرف، درج مضارعه وبقي ماضيه، فيقال منه: عسيتما وعسيتم، قال الله تعالى: {فَهَل عَسَيْتُم} [محمد: 22] يتكلم فيه على فعل ماض، (وأميت) (¬2) ما سواه من وجوه فعله. ويرتفع الاسم بعده كما يرتفع بعد الفعل، فتقول: عسى زيد، كما تقول: قام زيد، ويقال منه: أعس بفلان أن يفعل كذا، مثل أحر وأخلق، وبالعسى أن يفعل كذا، يقول: بالحري أن يفعل، ومعناه في جميع الوجوه: قريب وقَرُبَ وأَقْرِب به. ومنه قوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، بمعنى: قرب، ومنه: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51]، أي: قرب ذلك، وكثرت (عسى) على الألسنة حتى صارت كأنها مثل: (لعل). وتأويل (عسى): التقريب؛ لكون الشيء الذي يقع عليه ويقتضيه فيجري مجرى (كاد) (¬3) وقرب، ولما كانت فعلًا لم تخل من ذكر فاعل، وهو الاسم الذي يدل عليه (عسى)، كقولك: عسى زيد، فزيد رفع لأنه ¬

_ (¬1) من "تفسير الثعلبي" 2/ 745. (¬2) في (ي): ليست. (¬3) في (ي): عاد.

فاعل، ولا يخلو (عسى) إما أن يكون لازمًا أو متعديًا، فلو كان لازمًا لجاز أن تقول: عسى زيد، وتقف، فلما لم يكن ذلك كاملًا اقتضت (عسى) مفعولًا، فإذا قلت: عسى زيدٌ أن يقوم، فقولك: أن يقوم، مثل قولك: قيام كقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] المعنى: والصيام خير لكم، فتأويل قولك: عسى زيد أن يقوم، عسى قيام زيد، بمعنى قَرُبَ قيام زيدٍ ورُجِي ذلك، إلا أنهم لما قلبوا فقدموا الاسم وأخَّروا الفعلَ رفعوا زيدًا، فـ (أن يقوم) في قولك: عسى زيد أن يقوم، في موضع نصب بوقوع فعل زيد (عليه) (¬1)، وجاء في القرآن بدخول أن كقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء: 8]. {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، ولما كثرت عند العرب في ألفاظهم أسقطوا (أن) (¬2) كما قال الشاعر: عَسَى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه ... له كلّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أمْرُ (¬3) ¬

_ (¬1) في (ي) (وعليه). (¬2) ينظر في عسى وأحكامها: "الكتاب" لسيبويه 3/ 11، 12، 158، 4/ 233، "المقتضب" 3/ 68 - 72، "تهذيب اللغة" 3/ 2428، "المفردات" 338 ص، "عمدة الحفاظ" 3/ 92، "اللسان" 5/ 295، "مغني اللبيب" ص 201 - 204، وقال: ومعناه: الترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}، ثم ذكر أنها تستعمل على سبعة أوجه. وقال في "البحر المحيط" 2/ 143: عسى هنا للإشفاق لا للترجي، ومجيئها للإشفاق قليل، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا} [محمد: 22] فقوله: {أَن تَكرَهُوا} في موضع رفع بعسى. (¬3) البيت لمحمد بن إسماعيل، ينظر: "همع الهوامع" 1/ 131. "المعجم المفصل" 3/ 301.

وقال آخر: عَسَى الكَرْبُ الذي أمْسَيْتُ فيه ... يكونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبُ (¬1) وقوله تعالى: {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} قال أصحاب العربية: الشر: السوء، (وأصله) (¬2) من شَرَّرْت الشيءَ إذا بسطته، يقال: شَرَّرْتُ اللحمَ والثوبَ، إذا بسطته لِيَجِفّ، وكذلك أَشْرَرْتُه (¬3)، ومنه: وحتى أُشِرَّتْ بالأكفِّ المَصَاحِفُ (¬4) فالشر: انبساط الضر، والشرر: اللهب لانبساطه، قال ابن عباس (¬5): كنت رِدْف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك، إنه لمثبت في كتاب الله عز وجل"، قلت: يا رسول الله، أين وقد قرأت القرآن؟ قال: (مكيس) (¬6) {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (¬7). ¬

_ (¬1) البيت لهدبة بن خشرم في "خزانة الأدب" 9/ 328. "المعجم المفصل" 1/ 323. (¬2) ليست في (ش). (¬3) يقال: شرَّرت، وأشررت، وشرَرْت. (¬4) البيت لكعب بن جعيل، وقيل: إنه للحصين بن الحمام المرِّي، يذكر يوم صفين، وتمامه: فما برحوا حتى رأى الله صبرهم. أي نشرت وأظهِرت. ينظر: "اللسان" 4/ 2233 (شرر). (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 344، وفي "الدر المنثور" عنه 1/ 439. ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1853، "المفردات" ص260، "عمدة الحفاظ" 2/ 298، "اللسان" 4/ 2233 (شرر). (¬6) في (ي) و (ش) (مليس). ولم أعرف المراد من الكلمة. (¬7) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 344، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 745 وأبو المسفر السمعاني في "تفسيره" 2/ 275 قال أحمد شاكر: هذا إسناد مظلم، والمتن منكر، لم أجد ترجمة يحيى بن محمد بن مجاهد، ولا عبيد الله بن أبي هشام،=

217

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي: يعلم ما فيه مصالحكم وما فيه منافعكم فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم. 217 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية، نزلت في سرية بعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نخلة، فلما انتهوا إليها وافت خيل المشركين فيها عمرو بن الحضرمي (¬1) والحكم بن كيسان، فرمى واقد بن عبد الله (¬2)، وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، عمرو بن الحضرمي فقتله، وظهر المسلمون على المشركين، وأسَرُوا بعضهم، وأهل هلال رجب والمسلمون يقاتلون لا يعلمون بدخوله، فضجت قريش بمكة، وكانوا يستعظمون سفك الدماء في رجب، فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬4). ¬

_ = ولا أدري ما هما، ولفظ الحديث لم أجده، ولا نقله أحد ممن ينقل عن الطبري. ينظر حاشية "تفسير الطبري" 4/ 299. (¬1) هو: عمرو بن العلاء الحضرمي، والحضرمي هو عبد الله بن عباد الصدفي، كان من صناديد كفار قريش، كان في عير تجارة قريش، قتله واقد بن عبد الله التميمي من سرية عبد الله بن جحش. انظر"البداية والنهاية" 5/ 37 - 39. (¬2) هو: واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين التميمي الحنظلي اليربوعي، صحابي أسلم قبل دخول الرسول دار الأرقم، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة لمراقبة تحركات المشركين والإتيان بأخبارهم، فكان أول من قاتل من المسلمين، شهد بدرًا والمشاهد كلها توفي في أول خلافة عمر - رضي الله عنه -. انظر: "معرفة الصحابة" 5/ 2729، "أسد الغابة" 5/ 432 - 433. (¬3) من قوله: عمرو بن الحضرمي .. ساقط من (أ) ولا (م). (¬4) ينظر في سبب النزول: "تفسير الطبري" 2/ 347 - 348، "سيرة ابن هشام" 2/ 340، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 17، "تفسير الثعلبي" 2/ 753 - 760، والواحدي في "أسباب النزول" ص 69، قال ابن حجر في "تعليق التعليق" 1/ 76: وهو مرسل جيد، قوي الإسناد، وقد صرح فيه ابن إسحاق بالسماع.

فقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} يعني: أهل الشرك يسألون عن ذلك على جهة العَيْب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقوله تعالى {قِتَالٍ فِيهِ} هو خَفْضٌ على البدل من الشهر، وهذا من باب بدل الشيءِ من الشيءِ، والمعنى مشتمل عليه، ويسمى: بدلَ الاشتمال، وهو إبدال المصادر من الأسماء، كقولك: أعجبني زيدٌ عِلْمُه، وعجبت من عمروٍ أمرِه، ونفعنى زيدٌ كلامُه، ومثله قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ} [البروج:4 - 5]، وقول الأعشى: لَقَدْ كان في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُه ... تُقَضِّى لُبَانَاتٍ وَيسْأَم سَائِم (¬1) ومن هذا الباب: سُرِق زيدٌ مالُه، وسُلب زيدٌ ثوبُه (¬2). ومعنى الاشتمال في الآية: أن سؤالهم اشتمل على الشهر وعلى القتال، وسؤالهم (¬3) عن الشهر إنما كان لأجل القتال. وقيل: الخفضُ في {قِتَالٍ} على معنى تكرير (عن)، تقديرُه: وعن قتال فيه، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود والربيع (¬4)، وقيل: إنه على ¬

_ (¬1) البيت للأعشى في "ديوانه" ص 177. "الكامل" للمبرد 2/ 265، وابن يعيش في "تفسيره" 1/ 386، "شواهد المغني" 297. قوله: ثواءٍ: الثواء: الإقامة، بالجر، قال ثعلب: وأبو عبيدة يخفضه، والنصب أجود، ومن روى تقضى لبنات فإنه ينبغي أن يرفع ثواء. ينظر: "شرح الديوان"، "مجاز القرآن"، "المعجم المفصل" 7/ 117. (¬2) ينظر في بدل الاشتمال: "الكتاب" لسيبويه 1/ 150 - 158، "المقتضب" 1/ 27، 4/ 296. (¬3) في (م): (ومعنى سؤالهم). (¬4) وبها قرأ ابن عباس والأعمى أيضا، ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 141، "المصاحف" لابن أبي داود 58، "تفسير الثعلبي" 2/ 767، "البحر المحيط" 2/ 145.

التقديم والتأخير، تقديره: يسألونك عن قتالٍ في الشَّهْرِ الحرامِ، وتم الكلام عند قوله: (قتال فيه كبير) (¬1). ثم ابتدأ فقال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وهو رفع على الابتداء، وما بعده من قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} مرتفع بالعطف على الابتداء (¬2) وخبره قوله تعالى: {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} هذا قول الزجاج (¬3)، وهو الصحيح (¬4)، وذكر الفراء في ارتفاع الصَّدِّ وجهين آخرين (¬5)، غُلِّطَ فيهما: أحدهما: أنه عطف على قوله: {كَبِيرٌ} يريد: قل القتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به، يعني: أن القتالَ قد جَمَع أنه كبير وأنه صَدٌّ وأنه كُفْرٌ، وهذا القول يؤدي إلى (¬6) أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرًا ¬

_ (¬1) ينظر في إعراب هذه الآية: "معاني القرآن" للفراء 1/ 141، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 307، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 127، "التبيان" ص 132، "البحر المحيط" 1/ 145، وقد أعرض المؤلف عن وجه ذكره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 72، وهو الخفض على الجوار، قال النحاس: لا يجوز أن يعرب شيء على الجوار في كتاب الله عز وجل، ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ وقال: وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض، فخفضه بكونه جاور مخفوضًا، أي: صار تابعا له، ولا نعني به المصطلح عليه جاز ذلك ولم يكن خطأ، وكان موافقا لقول الجمهور، إلا أنه أغمض في العبارة وألبس في المصطلح. (¬2) من قوله: (وما بعده من ..) ساقطة من (ي). (¬3) ذكره الزجاج في "تفسيره" 1/ 290. (¬4) ينظر في إعراب الآية: المصادر السابقة. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 141. (¬6) ساقطة من (ش).

بالله، وهو خطأ بإجماع من الأمة. والوجه الآخر: أن يجعل الصد مرتفعًا بالابتداء، وخبره محذوف لدلالة {كَبِيرٌ} المتقدم عليه، كأنه قال: والصد كبير، كقولك: زيد منطلق وعمرو، فيصير التقدير: قل قتال فيه كبير، وكبيرٌ الصد عن سبيل الله والكفر به، وينتقض هذا عليه بقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}؛ لأنه يستأنف على ما ذكر من التقدير قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرِ} (¬1) وإخراج أهله منه لا يكون أكبر عند الله من الكفر به، ومن قال: إنه أكبر فهو غالط بالإجماع (¬2). ومعنى الصد: الحَبْس، يقال: صَدَّ عن الشيء صُدُودًا، إذا صَدَف عنه، وصَدَّ غَيرَه يَصُدّ صَدًّا (¬3)، ويعني بهذا الصد: أن المشركين منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت عام الحديبية (¬4). وقوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ} أي: بالله {وَالْمَسْجِدِ} يُخْفَضُ بالعطف على {سَبِيلِ اللَّهِ} تقديره: وصدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ الحرام؛ لأن المشركين صدوا المسلمين عنه؛ كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ¬

_ (¬1) من قوله: وإخراج. ساقطة من (أ)، (ي). (¬2) ينظر في مناقشة الفراء: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 128. (¬3) ينظر في الصد "تهذيب اللغة" 2/ 1984 , 1985، "المفردات" ص 279، "اللسان" 4/ 2409 "صد". (¬4) ذكر الثعلبي في "تفسيره" 2/ 767 مثل قول الواحدي، دون قوله: عام الحديبية، وفيه إشكال؛ لأن الآية نزلت قبل ذلك، والظاهر أن المراد بالصد عن سبيل الله: الصد عن دين الله. ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 221، "تفسير القرطبي" 3/ 46، وقد حاول الرازي الإجابة عن هذا بأن المراد أنه معلوم لله قبل وقوعه، والأولى ما ذكرنا.

وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج: 25]. وقال الفراء: المسجد الحرام مخفوض بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} وعن المسجد (¬1)، وأُنكر (¬2) عليه هذا، بأنهم لم يُسْأَلوا عن المسجد، وإنما السؤال عن القتال في الشهر الحرام (¬3)، وله أن يقول: إن القوم لما استعظموا القتال في الشهر الحرام وكان القتال عند المسجد الحرام فجرى مجراه في الاستعظام (جمعوهما) (¬4) في السؤال، وإن كان القتال إنما وقع في الشهر الحرام خاصة، كأنهم قالوا: هل استحللت الشهر الحرام وَالْمَسْجِد الحَرَام؟ (¬5)، ولا يجوز حمله على الهاء في (¬6) (وكفر به)؛ لأنه لا يعطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار، ولأنه ليس المعنى: على كفر بالله والمسجد. وقيل: إنه خفض بواو القسم وليس بشيء (¬7). وقوله تعالى: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} أي: أهل المسجد منه {أَكْبَرُ} أعظم وزرًا وعقوبة {عِنْدَ اللَّهِ} (¬8). {وَالْفِتْنَةُ} أي: الشرك والكفر {أَكْبَرُ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 141. (¬2) في (ش): (فأنكر). (¬3) ينظر في مناقشة قول الفراء: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 128، "المحرر الوجيز" 2/ 221، "التفسير الكبير" 6/ 34، "التبيان" ص 133. (¬4) في (أ) (ي): (مجوعهما) وفي (م): (فجمعوهما). (¬5) ليست في (ي). (¬6) في (ي) (الباقى) وفي (م) (الثاني) وفي (ش) (الباقى). (¬7) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 308، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 128، "التبيان" ص 133، "البحر المحيط" 2/ 146. (¬8) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 768.

مِنَ الْقَتْلِ}، يعني: قتل ابن الحضرمي (¬1)، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله أبن جحش (¬2)، صاحب هذه السرية، إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام، فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة ومَنْع المؤمنين عن البيت (¬3). وأما حكم القتال في الشهر الحرام اليوم، فالعلماء فيه مختلفون: قال ابن جريج (¬4): حلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الحَرَم (¬5) ولا في الشهر الحرام إلا أن يُقاتَلوا. وروى أبو الزبير عن جابر (¬6)، قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى (¬7)، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. وسئل سعيد بن المسيب (¬8): هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وقال ذلك سليمان بن يسار (¬9)، وهذا مذهب قتادة (¬10) ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) هو: عبد الله بن جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة، أبو محمد الأسدي، أمه أميمة بنت عبد المطلب، أسلم قبل دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وهاجر الهجرتين، كان أول أمير أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، شهد بدرا وقتل في أحد شهيدًا سنة 3هـ. انظر "أسد الغابة" 3/ 194 - 195، "الأعلام" 4/ 76. (¬3) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 2/ 768، البغوي في "تفسيره" 1/ 248. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 353. (¬5) في (ش) (بالحرم). (¬6) المصدر السابق. (¬7) في (ي) (يغروا). (¬8) ذكره في "زاد المسير" عنه 1/ 237، والرازي في "تفسيره" 2/ 23. (¬9) ذكره في "زاد المسير" عنه 1/ 237. (¬10) لم أجده عنه.

وغيره من العلماء، يرون القتال في الشهر الحرام، قال أبو عبيد: والناس اليوم بالثغور جميعًا على هذا القول، يرون الغزو مباحًا في الشهور كلها حلالها وحرامها ولم أر أحدًا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم، وكذلك حب قول أهل الحجاز، والحجة في إباحته قوله جل ثناؤه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، هذه الآية عندهم ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام. وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ} يعني: مشركي مكة، وهو فعل لا مصدر له، يقال: ما يزال يفعل كذا، ولا (¬1) يزال، ولا يقال منه فاعل ولا مفعول، ومثله من الأفعال كثير، نحو: (عسى)، ليس له مصدر ولا مضارع، وكذلك {وَذَرُوا مَا بَقِيَ} [البقرة: 278]، وهَلُمّ وهَاكَ وهَاتِ وتَعَالَوا. ومعنى (لا يزالون) أي: يدومون، وكأن هذا مأخوذ من قولهم: زال عن الشيء، أي: تركه، فقولك: ما زال يفعل كذا، أي: لم يتركْه، وقلّ ما يتكلم به إلا بحرف نفي لأنه يبطل المعنى، وذلك أنك إذا قلت: زال زيد، فإنما أثبت زوال القيام، فإذا أدخلت حرف النفي نفيت الزوال، وبينت معنى الدوام، ومثله: (ما برح) بهذا التقدير سواء (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} أظهر التضعيف مع الجزم؛ لسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللغة من الإدغام (¬3). ¬

_ (¬1) في (ي)، (ش) (أولا يزال). (¬2) ينظر في زال وأحكامها: "المقتضب" للمبرد 3/ 96 - 189، 4/ 119 - 120، "تهذيب اللغة" 2/ 1577، "المفردات" 216، "اللسان" 3/ 1901"زول". (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 290، "التبيان" ص 133.

وقوله تعالى: {فَيَمُتْ} جزم بالعطف على {يَرْتَدِدْ} (¬1) (¬2) وجوابهما (¬3): قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت، يقال: حَبِطَ عملُ الرجلِ يَحْبَطُ حَبَطًا وحُبُوطًا، وأَحْبَطَه اللهُ إِحْبَاطًا (¬4)، وأصله: من الحَبَط، وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الكلأ حتى تَنْتَفِخَ أجوافها، ومنه الحديث "وإن مما (¬5) ينبت الربيعُ ما يقل حَبَطًا" (¬6). وسمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء لمصيره إلى ما لا ينتفع به (¬7)، والحكم في هذا أن المسلم إذا ارتد -أعاذنا الله من ذلك- فأعماله وطاعاته موقوفة، فإن عاود ¬

_ (¬1) في (ي) (يرتد). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 768، "التبيان" ص 133. (¬3) في (ش) (وجوابها). (¬4) ونقل في "تهذيب اللغة" 1/ 726 "حبط" عن ابن السكيت، يقال: حَبَط عملُه يحبُط حبْطا وحُبوطا، بسكون الباء، وحبِط بطنُه إذا انتفخ يحبَط حبَطا فهو حبِط، ورأيت بخط الأقرع في كتاب ابن هانىء: حبَط عملُه يحبُط حبوطا وحبْطا، وهو أصح، ثم قال في 1/ 728: قلت: ولا أرى حبْط العمل وبطلانه مأخوذا إلا من حبَط البطن؛ لأن صاحب الحبَط يهلِك، وكذلك عمل المنافق والمشرك يحبط، غير أنهم سكنوا الباء من قولهم: حبط بطنُه يحبَط حبْطا، كذلك أثبت لنا عن ابن السكيت وغيره. (¬5) في (ي): (ما). (¬6) أخرجه البخاري (6427) كتاب: الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ومسلم (1052) كتاب الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا. قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 727: هو مثل الحريص المفرط في الجمع والمنع، وذلك أن الربيع يُنْبِتُ أحرار العشب التي تَحْلَوْليها الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها وتهلِك، وكذلك الذي يجمع الدنيا، ويحرص عليها ويشحّ على ما جمع حتى يمنع ذا الحق حقه منها. (¬7) ينظر في حبط: "تهذيب اللغة" 1/ 726، "المفردات" ص 113 - 114، "عمدة الحفاظ" 1/ 423 - 425، "لسان العرب" 2/ 755.

218

الإسلام لم تحبط، ولم يبطل حجه الذي فرغ منه في الإسلام، وإن لم يعد ومات على الردة حبط (¬1) عمله؛ لأن الله تعالى قال: {فَيَمُت وَهُوَ كَافِرٌ}. 218 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه، قالوا لرسول الله: أصبنا القوم في رجب أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) يعني بمحمد {هَاجَرُوا} فارقوا عشائرهم وأوطانهم (¬3)، وأصله من الهجر، الذي هو ضِدّ الوَصْل، ومنه قيل للكلام القبيح: الهُجْرة لأنه مما ينبغي أن يهْجَر، والهاجِرة: وقتٌ يُهْجَر فيه العمل (¬4). {وَجَاهَدُوا} يعني: جاهدوا المشركين، ومعناه: حملوا أنفسهم على المشقة في قتالهم، ومنه: يقال: اجتهد فلان رأيه، إذا حمل نفسه على المشقة في بلوغ صواب الرأي، وأصله: من الجُهْد، الذي هو المشقة، ومنه: الجهاد، وهو الأرض الصلبة، لحمل النفس في ركوبها على ¬

_ (¬1) في (أ) (م) (يحبط). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 356، والواحدي في "أسباب النزول" ص 71، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 769، وقد رواه الطبري من حديث جندب بن عبد الله في "تفسيره" 4/ 306، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 384، وأبو يعلى في "مسنده" 3/ 102، وهو تمام قصة سبب النزول في الآية السابقة ومذكور في بعض رواياتها. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 769. (¬4) ينظر في هجر "تهذيب اللغة" 4/ 3717، "المفردات" ص514 - 515، "عمدة الحفاظ" 4/ 278 - 280، "لسان العرب" 8/ 4617. قال الراغب: الهجْر والهِجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب.

219

المشقة (¬1) {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} في نصرة دين الله (¬2). {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} قال الزجاج: إنما قال: {يَرْجُونَ} لأنهم عند أنفسهم غير بالغين ما يجب لله (¬3) عليهم، ولا يعلمون ما يختم به أمرهم (¬4). {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم. 219 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية، نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وسعد بن أبي وقاص وجماعة، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر في جهد "تهذيب اللغة" 1/ 675، "المفردات" ص 108، "عمدة الحفاظ" 1/ 405 - 406، "اللسان" 2/ 709. ونقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 675 عن الليث: الجَهد: ما جَهد الإنسان من مرض أو أمر شاق، فهو مجهود، قال: والجُهد لغة بهذا المعنى. وقال الفراء: بلغت الجَهد. أي: الغاية، واجْهَدُ جهْدًا في هذا الأمر. أي ابلغ فيه غايتك، وأما الجُهد فالطاقة. وقال الراغب: الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقة، وقيل: الجَهد بالفتح: المشقة، والجُهد: الوسع. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 769. (¬3) في (ي): (ما يحب الله). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 290 - 291. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 770، وعنه ابن حجر في "العجاب" 1/ 546، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 73، البغوي في "تفسيره" 1/ 249، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 239، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 156. وورد عن عمر قوله: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فدعي عمر فقرئت عليه، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. الحديث رواه أبو داود =

والخَمْر عند أهل اللغة سميت خمرًا لسترها العقل. قال ابن المُظَفَّر: الَخْمر معروف، واختمارها: إِدْرَاكها وغَلَيَانُها، ومُخَمِّرُها: مُتَّخِذُها، وخُمْرَتُها: ما غشي المَخْمورَ من الخُمَارِ (¬1)، وأنشد: وقد أَصَابَتْ حُمَيَّاها مَقَاتِلَهُ ... فلم تكَد تَنْجَلِي عن قَلْبِه الخُمَرُ (¬2) وخَمَرْتُ الدابةَ أُخْمِرُها، إذا سَقَيْتُهَا الخَمْر (¬3)، قال الكسائي: اختمرت خمرًا، ولا يقال: أخمرتها (¬4)، وأصل هذا السحرف: التغطية. روى ثعلب عن عمرو عن أبيه (¬5) قال: الخَامِرُ: الذي يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ، وفي الحديث: "خمروا آنيتكم" (¬6). وقد اخْتَمَرَتِ المرأةُ بخمارها، وتَخَمَّرَتْ وهي حَسَنَهُ الخِمْرَةِ، ¬

_ = (3670) كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر، والترمذي (3048) كتاب التفسير، باب: من سورة المائدة، والنسائي 8/ 286 كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر، وأحمد 1/ 53، والحاكم 2/ 305، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن المديني كما في "تفسير ابن كثير" 1/ 274. (¬1) في "مقاييس اللغة" 2/ 215 زيادة: [والسكر في قلبه] والكلام منسوب إلى الخليل فلعل الليث ناقل كما قال محقق "تهذيب اللغة"، كما أنه أخبر عن الخمر بالمذكر فقال: معروف، وكذا في "التهذيب"، والعبارة المنقولة عن الخليل: الخمر معروفة. (¬2) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 1099، "مقاييس اللغة" 2/ 215، "لسان العرب" 2/ 1259 (خمر) وروايته: لذٌّ أصابت. (¬3) نقله عن ابن المظفر في "تهذيب اللغة" 1/ 1099. (¬4) نقل عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 1099 قوله: أبو عبيد عن الكسائي: خمرت العجين وفطرته، وهي الخمرة الذي يجعل في العجين يسميه الناس: الخمير. (¬5) في "تهذيب اللغة" 1/ 1099: ثعلب عن ابن الأعرابي. (¬6) رواه البخاري (3280) كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2013) كتاب الأشربة باب تغطية الإناء في الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، من حديث جابر بن عبد الله. والتخمير: التغطية.

ويقال: خَامِرِي أمَّ عَامر (¬1)، أي: ادخُلِي الخَمَرَ، واستتري، والخَمَرَ: ما واراك من شجرٍ وغيره من وهْدَةٍ وأَكَمَةٍ. وقيل: سميت خمرًا؛ لأنها تُغَطَّى حتى تدرك، وقال ابن الأنباري: سميت خَمْرًا؛ لأنها تُخَامِرُ العَقْلَ، أي: تخالِطُه، يقال: خَامَره الداءُ، إذا خَالَطَه، وأنشد لكثير: هَنِيئًا مَرِيئًا غيرَ داءٍ مُخَامِرٍ (¬2) يقال: خامر السقامُ كبدَه، وخامرت كبدُه السقامَ، تجعل أيهما شئت فاعلًا، قال: أتَيْت الوَلِيدَ له عَايدًا ... وقد خَامَرَ القَلْبُ منه سَقَامَا (¬3) وهذا (¬4) الذي ذكره راجع إلى الأول؛ لأن الشيء إذا خالط (¬5) الشيء يصير بمنزلة الساتر، هذا قول أهل اللغة في اشتقاقها (¬6). ¬

_ (¬1) مثَل يضرب للرجل الأحمق، وأم عامر هي الضبع، قال ابن السكيت: الضبع محَمَّق، ويدخل عليها الرجل في وجارها تحمل عليه، فيقول: خامري أم عامر، ليست أم عامر هاهنا، فتمكنه حتى يكْعمَها ويوثقها بحبل ثم يجرها. ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1099، "مقاييس اللغة" 2/ 217، "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 238. (¬2) عجز البيت: لعزة من أعراضنا ما استحلت. والبيت في "ديوانه" ص100، كتاب "العين" 4/ 263، "مقاييس اللغة" 2/ 216. "المعجم المفصل" 1/ 547. (¬3) البيت لم أهتد إلى قائله، ولا من ذكره. (¬4) في (ش) (وهو). (¬5) في (ي) (خالطه). (¬6) ينظر في مادة خمر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 291، "تهذيب اللغة" 1/ 1101، "المفردات" ص 165، "عمدة الحفاظ" 1/ 614، "اللسان" 2/ 1261.

فأما حدها: فمذهب الثوري (¬1) وأبي حنيفة وأكثر أهل الرأي (¬2): أن الخمر ما اعتصر من الحبلة (¬3) والنخلة، فغلى (¬4) بطبعه دون عمل النار فيه، وأن ما سوى ذلك فليس بخمر، ومذهب مالك (¬5) والشافعي (¬6) وأحمد (¬7) وأهل الأثر (¬8): أن الخمر كل شراب مسكر، سواء كان عصيرًا أو نقيعًا، مطبوخًا كان أو نيئًا. واللغة تشهد لهذا. قال الزجاج: القياس أن ما عمل عمل الخمر أن يقال لها خمر، وأن يكون (¬9) في التحريم بمنزلها (¬10)، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما (¬11) ذكر الميسر من بينه وهو قمار في الجُزُر (¬12)، وحُرِّم كلُّه قياسًا على الميسر، وكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلته، وكل مُسْكِرٍ مخالط للعقل مُغَطٍّ عليه فهو خمر، ويقال لكل شارب غلبه بخار شرب المسكر، ¬

_ (¬1) ينظر: "اختلاف العلماء" للمروزي 204، "تفسير الثعلبي" 2/ 784، "بداية المجتهد" 1/ 549. (¬2) ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 278، "شرح معاني الآثار" 4/ 212، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 324. (¬3) الحبلة: العنبة. (¬4) في (م): (فغشي). (¬5) ينظر: "الموطأ" في الأشربة، باب: الحد في الخمر 1/ 843، "المدونة" 6/ 261. (¬6) ينظر. "الأم" 6/ 195. (¬7) ينظر: "المغني" 12/ 514، "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" 6/ 372. (¬8) ينظر: "التمهيد" 1/ 245، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 149. (¬9) في (ش) (تكون). (¬10) ابن الأنباري، ذكره الزجاج 1/ 291. (¬11) في (ش): (وإما). (¬12) في (م): (الجزد)، وفي (ش): (الجرر)، وفي (ي): (الحرر).

أيِّ مُسْكِرٍ كان: مخمور، وبه خمار، فهذا بين واضح، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن من التمر لخمرًا، وإن من العنب لخمرًا، وإن من الزبيب لخمرًا، وإن من الحنطة لخمرًا، وإن من الشعير لخمرًا، وإن من الذرة لخمرًا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر" (¬1). وقوله تعالى: {وَالْمَيْسِرِ} يعني: القمار، قال ابن عباس: كان الرجلُ في الجاهلية يخاطر الرجلَ على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله، فأنزل الله هذه الآية (¬2). والمَيْسِر عند أهل اللغة: مَفْعِل، من قولهم: يَسَر لي هذا الشيء يَيْسِرُ يَسَرًا ومَيْسِرًا، إذا وجب، والياسر: الواجبُ بقدح وجب ذلك أو مُنَاحبةٍ (¬3) أو غير ذلك، هذا أصله، ثم قيل للقمار: ميسر، وللمقامر: ياسر ويسرٌ (¬4)، قال: يَسَرُ الشِّتَاءِ وفَارِسٌ ذو قدمة ... في الحَرْبِ أن حَاصَ الجَبَانُ مَحِيصَا (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3672) كتاب الأشربة، باب: الخمر مما هو؟، والترمذي (1872) كتاب الأشربة، باب: ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، وابن ماجه (3380) كتاب الأشربة، باب: مما يكون منه الخمر، والإمام أحمد 4/ 267 والحاكم 4/ 164 وصححه. وحسنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" 10/ 44. (¬2) رواه أبو عبيد في " الناسخ والمنسوخ" ص 249، والطبري في "تفسيره" 2/ 358، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 90،والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 628، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 878، "الدر المنثور" 1/ 452. (¬3) في (ش): مناجية. وفي (أ) كأنها: مناخبة، وما أثبت من "تفسير الثعلبي" 2/ 878، والمناخبة: المراهنة والمخاطرة كما في النهاية، وأثبت محقق "تفسير الطبري" فتاحة. (¬4) "تفسير الطبري" 2/ 357، "تفسير الثعلبي" 2/ 878، وعنده: الواجب بقداح. (¬5) البيت لم أهتد لقائله، ولا من ذكره.

ويجمع يَسَر أَيْسَارًا. قال طرفة: وهم أيْسَارُ لُقْمَانَ إذا ... أغْلَتِ الشَّتْوَةُ أبْدَاءَ الجُزُرْ (¬1) قال ابن الأعرابي: يقال: يَسَر الياسِر يَيْسِر، إذا جاء بقِدْحِه للقمار (¬2). وقيل: أخذ الميسر من التجزئة والاقتسام (¬3)، ويقال: يَسَروا الشيء، أي: اقتسموه، قال: أقولُ لهم بالشِعْبِ إذ يَيْسِرُونني ... ألم تيأسوا أني ابنُ (¬4) فَارِسِ زَهْدَمِ (¬5) أي: تقتسمونني كما نقتسم أعضاء الجزور في الميسر، أراد أنهم أخذوا فداه فاقتسموه، فكأنهم اقتسموا نفسه، وكانت العرب تنحر الجزور وتجعله أقسامًا (¬6) يتقامر عليها بالقِداح، على عادة لهم في ذلك (¬7). قال النضر: الياسر: الجزار، ويَسَرْتُ الناقة، أي (¬8): جَزَّأْتُ ¬

_ (¬1) البيت في "اللسان" 8/ 4959 (يسر)، "تفسير القرطبي" 3/ 53، والشتوة: مفرد شتاء، والعرب تجعل الشتاء مجاعة؛ لأن الناس يلتزمون فيه البيوت ولا يخرجون للانتجاع، وأبداء: جمع بدء، خير عظم في الجزور، وقيل: هو خير نصيب فيها. (¬2) نقله في "اللسان" 8/ 4959 (يسر). (¬3) من قوله: يسر الياسر. ساقط من (أ) و (م). (¬4) في (ش) و (ي): (لي). (¬5) البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي، ينظر: "مجاز القرآن"،"اللسان" 8/ 4959، "تفسير القرطبي" 3/ 53، ورواية الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3981 "يسر". أقول لأهل الشعب، ورواية "اللسان": ألم تعلموا. وتيأسوا: تعلموا. وزهدم: اسم فرس. (¬6) ليست في (أ) ولا (م). (¬7) ينظر: "الميسر والقداح" لابن قتيبة ص 56 - 154، "تفسير الثعلبي" 2/ 879، "المحرر الوجيز" 2/ 234، "الميسر والأزلام" لعبد السلام هارون ص 12 - 54. (¬8) في (ش): (إذا).

لَحْمَها (¬1)، وقول الأعشى: والجَاعِلُو القُوتِ على اليَاسِرِ (¬2) يعني: الجازر، وقيل: الميسر من اليُسْر، وهو تَسَهُّلُ الشيء، وذلك أنهم كانوا يشتركون في الجزور لِيَسْهُل أمرُه (¬3)، وإلى هذا ذهب مقاتل؛ لأنه قال: (¬4) سمي ميسرًا لأنهم كانوا يقولون: يَسِّرُوا لنا ثَمَنَ الجَزُور (¬5)، وليست هذه الآية المُحَرِّمَةُ للخمر {وَالْمَيْسِرِ} (¬6) إنما المحرمة التي في المائدة (¬7). وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أراد: الإثم بسببهما من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وزوال العقل والمنع من الصلاة، والقمار يورث (¬8) الجماعة (¬9) العداوة، بأن يصير مال الإنسان إلى غيره بغير جزاء يأخذه عليه (¬10). ¬

_ (¬1) نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3980. (¬2) عجز بيت للأعشى، وصدره: لمطعمون اللحم إذا ما شتوا ينظر: "ديوانه" ص 95، "تهذيب اللغة" 4/ 3980، "لسان العرب" 8/ 4959 (يسر). (¬3) ينظر في الميسر: "الميسر والقداح" لابن قتيبة، "تهذيب اللغة" 4/ 3981، "عمدة الحفاظ" 4/ 409، "لسان العرب" 8/ 4959 (يسر). (¬4) ليست في (ش) (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 188. (¬6) ليست في (ي). (¬7) تقدم ذلك في ذكر سبب نزول الآية. (¬8) من قوله: الخاصمة. ساقط من (أ) ولا (م). (¬9) ليست في (أ) ولا (م) ولا (ي). (¬10) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 889 - 890.

وقال الربيع (¬1) والضحاك (¬2): إثم كبير بعد التحريم، ومنافع للناس قبل التحريم. والأول الوجه، وعنى بالمنافع ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر، والتجارة فيها، واللذة عند شربها، والتقوي بها (¬3)، كقول الشاعر (¬4) الأعشى: لنا من ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وكَأبةٌ ... وذِكرى هُمُومٍ ما تَغِبُّ أَذَاتُها وعند العِشَاءِ طيبِ نَفْسٍ ولَذّةٍ ... ومالٍ كثِيرٍ عدة نَشَوَاتُها (¬5) ومنفعة الميسر: ما يصاب من القمار، ويرتفق به الفقراء (¬6). وقال قتادة: في هذه الآية ذمها ولم (¬7) يحِّرْمها، وهي يومئذ حلال (¬8). وذهب قوم من أهل النظر: إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية؛ لأن الكتاب قد دل في موضع آخر على تحريم الإثم في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] وقد حرم الإثم، وقال: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، فوجب أن يكون محرمًا (¬9). ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 361، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 891. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 361، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 174، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 891. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 292، "تفسير الثعلبي" 2/ 890 (¬4) ليست في (أ) ولا (م) ولا (ي). (¬5) البيتان للأعشى بن قيس في قصيدة فخر له، ينظر: "ديوانه" ص 31 وفي الأشربة لابن قتيبة ص 198، "تفسير الطبري" 2/ 359 "تفسير الثعلبي" 2/ 890. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 293، "تفسير الثعلبي" 2/ 890. (¬7) في (ي): (فلم). (¬8) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 363، وذكره في "زاد المسير" 1/ 2414، وفي "الحجة" 2/ 307. (¬9) من "الحجة" 2/ 308.

واختلف القراء في قوله: {إِثْمٌ كَبِيرٌ} فقرأ حمزة والكسائي (كثير) بالثاء، الباقون بالباء (1)، وحجتهم: أن الباء أولى؛ لأن الكِبَر مثلُ العِظَم، ومقابل الكِبرِ الصِّغَر، قال الله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53] وقد استعملوا في وصف الذنب العِظَمَ والكِبَرَ، يدل على ذلك قوله: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]، بالباء، كذلك هاهنا ينبغي أن يكون بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبائر. وقالوا في اللمم: صغيرٌ وصغيرة، ولم يقولوا: قليل، فلو كان (كثير) متجهًا في هذا لوجب (2) أن يقال في غير الكبيرة (3): قليل، ألا ترى أن القلة تقابل الكثرة، كما أن الصغر يقابل الكبر. واتفاق القراء على الباء في {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ}، ورفضهم الثاء مما يقوي الباء. وأما من قرأ بالثاء فلأنه قد جاء فيهما ما يقوي (4) وصف الإثم فيهما بالكثرة دون الكبر، وهو قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] فذكر عددًا من الذنوب فيهما، ولأن (5) النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عَشْرَةً في سبب الخمر (6)،

فدل على كثرة الإثم فيها، ولأن الإثم في هذه الآية عودل به المنافع فَحَسُنَ أن يوصف بالكثرة (¬1)؛ لأنه كأنه قال: فيه مضارٌّ كثيرةٌ ومنافعُ (¬2). وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} نزل في سؤال عمرو بن الجموح، لما نزل قوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] في سؤاله أعاد السؤال وسأل عن مقدار ما ينفق، فنزل قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} (¬3). قال ابن عباس في رواية مقسم: العفو: ما فضل من المال عن العيال (¬4)، وهو قول السدي (¬5) وقتادة (¬6) وعطاء (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): (بالكثير) وفي (بالكبيرة). (¬2) من "الحجة" 1/ 312 - 314 بتصرف. (¬3) ذكر السيوطي في "لباب النقول" 1/ 41 أن ابن المنذر أخرج عن أبي حيان أن عمرو ابن الجموح سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت. وذكره مقاتل بنحوه 1/ 188 وذكر الثعلبي في "تفسيره" 2/ 891 أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حثهم على الصدقة، ورغبهم فيها من غير عزم، فقالوا: يا رسول الله، ماذا ننفق وعلى من نتصدق؟ فنزلت، وعنه نقله ابن حجر في "العجاب" 1/ 546، والسيوطي في "لباب النقول" ص 42، وعزاه لابن جرير، وبنحوه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 381. (¬4) رواه سعيد بن منصور في "سننه" 3/ 838، والطبري في "تفسيره" 2/ 364، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 393، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 133، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 894. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 364، والثعلبي 2/ 893، البغوي في "تفسيره" 1/ 253. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 89، والطبري 2/ 364، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 393، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 893 (¬7) رواه سعيد بن منصور 3/ 339، والطبري في "تفسيره" 2/ 364، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 393، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 893.

وقال في رواية الوالبي: ما لا يتبين (¬1) في أموالكم (¬2). وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى (¬3). وأصل العفو في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]، أي: زادوا على (ما) (¬4) كانوا عليه من العدد (¬5). وقال الشاعر: ولكنا نُعِضُّ السَّيْفَ منها ... بأسْؤُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (¬6) أي: زائدات الشحم. قال أهل التفسير: أُمِروا أن ينفقوا الفَضْل، وكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه ما يكفيه في عامه، وينفق باقيه، إلى أن فرضت الزكاة، فنسخت آيةُ الزكاة المفروضة هذه الآية وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ش): (مانبين) (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 364، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 394، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 631، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 894. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 365 بمعناه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 894. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) "تفسيرالثعلبي" 2/ 896 (¬6) القائل: لبيد، ينظر: "ديوانه" ص 104، "مجاز القرآن" 0/ 222، "تفسير الطبري" 2/ 366 "تفسير الثعلبي" 2/ 896 والضمير في قوله: منها، يعود إلى الإبل، يقال: أعضَّه السيف، إذا ضربه به والباء في (أسوق) زائدة، كُوْم: عظام الأسمنة يقال في البعير: أكوم، والناقة: كوماء. (¬7) من قوله: المفروضة. ساقطة من (ي). (¬8) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 293، وعزاه الثعلبي 2/ 899 للكلبي، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 238، واستظهر ابن الجوزي أن لا نسخ في الآية،=

واختلف القرَّاء في رفع العفو ونصبه، فقرؤا بالوجهين جميعًا (¬1)، فمن نصب جعل (ماذا) اسمًا واحدًا، فيكون قوله: {مَاذَا يُنْفِقُونَ} بمنزلة ما ينفقون (¬2)، و (ماذا) في موضع نصب، كما أن ما وأيًّا في قولك: ما ينفقون، وأيًّا ينفقون، كذلك (¬3)، وجواب هذا العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ما أنفقت؟ درهمًا، أي: أنفقت درهمًا. ومن رفع العفو جعل ذا (¬4) بعد (ما) بمنزلة الذي، ورد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: العفو، أي: الذي ينفقون العفو، فيضمن (¬5) المبتدأ الذي كان خبرًا في سؤال السائل، كما تقول في جواب ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد (¬6). قال أبو إسحاق: ويجوز أن تنصب {الْعَفْوَ} وإن كان (ما) وحدها اسمًا، تحمل (العفوَ) على ينفقون (¬7)، كأنه قيل (¬8): قل أنفقوا العفو، ¬

_ = وأنها في الإنفاق المندوب إليه، وقال الطبري 2/ 368: فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقات غير المفروضات، ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. وينظر: "النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 2/ 665. (¬1) قرأ أبو عمرو: {قل العفوُ} رفعا، والباقون نصبًا. (¬2) قوله: بمنزلة ما ينفقون ساقطة من (أ) و (م). (¬3) ساقطة من (ي). (¬4) في (ي): (إذا). (¬5) في (ش): (فيضمر) لحلها هي الصواب. (¬6) من "الحجة" 2/ 318 بتصرف. (¬7) في (ي): (ما ينفقون). (¬8) (قيل) ساقطة من (ش).

ويجوز (¬1) أن يرفع العفو، وإن جعلت ما وذا بمنزلة شيء واحد، على معنى: قل هو العفو (¬2)، والكلام في (ماذا) قد مر مستقصى (¬3). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أشار إلى ما بين في الإنفاق، كأنه قال: مثل الذي بينه لكم في الإنفاق إذ يقول: (قل العفو) يبين لكم الآيات لتتذكروا (¬4) في أمر الدنيا والآخرة، فتعرفوا فضل الآخرة على الدنيا. وقيل: مثل البيان في الخمر والميسر يبين الله لكم الآيات (¬5). وقال: {كَذَلِكَ} وهو يخاطب جماعة؛ لأن الجماعة معناها القبيل، كأنه قال: كذلك أيها القبيل. وقد أتى القرآن في غير موضع (بذلك) للجماعة، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} ثم قال: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30] والأصل: (ذلكن) (¬6)، إلا أن الجماعة في معنى القبيل، وجائز أن يكون الكاف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: كذلك أيها النبي يبين الله لكم الآيات؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] (¬7). ¬

_ (¬1) في (ي): (فيجوز). (¬2) ذكره الزجاج 1/ 293. (¬3) ينظر ما تقدم. (¬4) (لتتفكروا) في (ش)، وفي (ي): (تتفكروا). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 368 - 369، "بحر العلوم" 1/ 203، "تفسير الثعلبي" 2/ 900 - 901، "الكشاف" 1/ 263. (¬6) في (ي) و (ش) و (م): (ولكن). (¬7) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 293 - 294 بتصرف، "تفسير الثعلبي" 2/ 900.

220

220 - قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أول هذه الآية موصول بما قبلها، فيجوز أن يكون من صلة التفكر، قال أكثر (¬1) المفسرين: معناه: هكذا يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها. ويجوز أن يكون {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} من صلة التبين، أي: يبين لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬2). وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} قال الضحاك (¬3) والسدي (¬4) وابن عباس (¬5) في رواية العوفي: كانت العرب في الجاهلية يعظمون شأن اليتيم ويشددون (¬6) أمره، فلا يؤاكلونه، وكانوا يتشاءمون (¬7) بملابسة أموالهم، فلما جاء الإسلام سألنا (¬8) عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة والربيع (¬9) وابن عباس في رواية سعيد بن جبير ¬

_ (¬1) قوله: من صلة ... في (ش) (أهل أكثر). (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 294، "تفسير الثعلبي" 2/ 901. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 372 بمعناه، وذكره في "تفسير الثعلبي" 2/ 901، "زاد المسير" 1/ 244. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 372 بمعناه، وذكره في "زاد المسير" 1/ 244. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 372 بمعناه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 901. (¬6) في (ي): (يسدورن). (¬7) في (أ) و (م) و (ي): (يتشامون). (¬8) في (ي) و (ش): (سألوا). (¬9) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 89، والطبري بمعناه 2/ 370، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 902، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 456 - 457 إلى عبد بن حميد وابن الأنباري والنحاس.

والوالبي (¬1): لما نزل في أمر اليتامى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الإسراء: 34] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] اعتزلوا أموالهم، وعزلوا طعامهم، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء، حتى كان يصنع لليتيم طعامٌ، فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلًا وطعامًا وشرابًا، فعظم ذلك على ضَعَفَةِ المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! ما لكلنا منازل يسكنها الأيتام (¬2)، ولا كلُّنا يجد طعامًا وشرابًا يفردهما (¬3)، ونزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} عني: الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض منهم خير وأعظم أجرًا، وقيل: مخالطتهم بالإصلاح لهم وتعريفهم ما فيه حظهم خير من التفرد منهم (¬4). {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} أي: تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم، فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم، أو تكافؤهم على ما تصيبون من أموالهم. والمخالطة: جَمْعٌ يَتَعَذَّرُ معه التمييز، يقال: استَخْلط الفَحْل: إذا ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 370، وذكره الثعلبي 2/ 902. (¬2) قول ابن عباس من رواية سعيد رواه أبو داود (2871) كتاب الوصايا، باب: مخالطة اليتيم في الطعام، والنسائي 6/ 256 كتاب الوصايا، باب: ما للموصى من مال اليتيم، وأحمد 1/ 325، والطبري في "تفسيره" 2/ 370 - 371، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 395 وغيرهم. وقول ابن عباس من رواية الوالبي (علي بن أبي طلحة) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 238، والطبري في "تفسيره" 2/ 371، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 330 وغيرهم. (¬3) في (ش): (نفردهما) وفي (ي): (يردهما). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 903.

خالطَ قُبُلُه (¬1) حَيَا الناقَةِ، ومنه يقال للجماع: الخِلاطُ، ويقال خولط الرجل: إذا جُنّ، والخلاط (¬2): الجنون، لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله (¬3). وقوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانكم. والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويصيب بعضهم (¬4) من مال بعض (¬5)، ومثله قوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5]. قال الفراء: ولو نصبته كان صوابًا، يُرِيد: فإخوانَكُم تخالطون (¬6)، وانما يرفع من هذا ما حسن فيه هو، فإذا لم يحسن أجريته على ما قبله، فقلت: إن اشتريت طعامًا فَجَيِّدًا، أي: اشْتَرِ جَيدًا، وإن لبستَ ثِيابًا فالبياضَ، تنصب لأن هو (¬7) لا يحسن هاهنا، والمعنى هاهنا مخالفٌ للأول، ألا ترى أنك تجد القوم إخوانًا وإن لم تخالطوهم (¬8)، ولا تجد كل ما تلبس (¬9) بياضًا ولا ما تشتري جيدًا، فإن نويت أن ما ولي شراءه ¬

_ (¬1) في (ش): (قبلة). (¬2) في (ي): (المخالط). (¬3) بنظر في خلط "تهذيب اللغة" 1/ 1083، 1084، "المفردات" ص161، "عمدة الحفاظ" 1/ 600 - 601، "اللسان" 2/ 1229 - 1232 (خلط). (¬4) في (ش): (يصيب بعضهم بعضَا من مال بعض). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 904. (¬6) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 310. (¬7) في (ش): (ها). (¬8) عبارة الفراء في "معاني القرآن" 1/ 142: ألا ترى أنك تجد القوم إخوانًا وإن جحدوا. (¬9) في (ش): (تلتبس).

فَجَيّدٌ (¬1) رفعتَ، إذا كان الرجل قد عُرِفَ بجودةِ الشراءِ أو بلبس البياض (¬2). قال أبو عبيد: هذه الآية عندي أصل للتناهد (¬3) الذي يفعله الرفاق في الأسفار، ألا ترى أنهم يخرجون النفقات بالسوية ويتباينون في قلة المطعم وكثرته، فلما جاء هذا في أموال اليتامى واسعًا كان في غيرهم بحمد الله واسعًا (¬4). وقوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي: المفسد لأموالهم من المصلح لها، فاتقوا الله في مال اليتيم ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى إفساد (¬5) أموالهم وأكلها بغير حق (¬6). وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} معنى الإعنات: الحمل على مَشَقَّةٍ لا تُطَاقُ ثَقِلًا، يقال: أعَنتَ فلانٌ فلانًا، أي: أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتَعَنَّتَه تَعَنُّتًا إذا لَبَّسَ عليه في سؤاله له، وعَنَتَ العظمُ المجبورُ، إذا انكسر بعد الجبر، وأصل الحرف من المشقة، أَكَمَةٌ عَنوت: إذا كانت شاقةً كَؤُودًا (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ) و (م): (جيد). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 141 - 142 بتصرف يسير. (¬3) في (ي): (المشاهد)، وفي (ش): (للمتناهد). (¬4) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 240. (¬5) في (ي) و (ش) (فساد). (¬6) من "تفسير الثعلبي" 2/ 905. (¬7) ينظر في عنت: "تفسير غريب القرآن" ص 76، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 294 - 295، "تهذيب اللغة" 3/ 2585 - 2586، "المفردات" ص 352 وقال: المعانتة: كالمعاندة لكن المعانتة أبلغ؛ لأنها معاندة فيها خوف وهلاك، ولهذا يقال: عنت فلان إذا وقع في أمر يخاف منه التلف يعنَت عنتا، وينظر: "عمدة الحفاظ" 3/ 156، "لسان العرب" 5/ 3120.

221

قال ابن عباس: معناه: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا (¬1). وقال عطاء: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم (¬2). وقال الزجاج: ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم (¬3). وقيل: ولو شاء الله لضيق عليكم وأثمكم في مخالطتهم (¬4)، ومعناه التذكير بالنعمة في التوسعة. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} في ملكه {حَكِيمٌ} فيما أمركم من أمر اليتامى. 221 - قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} الآية، قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب: الوطء، وقيل للتزُّوج: نِكَاح، لأنه سبب الوطء (¬5)، يقال: نَكَح المطرُ الأرضَ: إذا اعتمد عليها، ونكح النعاسُ عَيْنَه. حكى ذلك أبو مالك (¬6) وأبو زيد (¬7). وقال أبو القاسم الزجاجي: النِّكَاح لفظةٌ جاريةٌ في كلام العرب بمعنى الوطء والعَقْدِ جميعًا، وموضوع (ن ك ح) على هذا الترتيب في كلامهم للزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه، من ذلك قولهم: نكحَ المطرُ ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 375، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 396، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 905. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 2/ 56. (¬3) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 294. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 905. (¬5) في "تهذيب اللغة" 4/ 3659 (نكح)، سبب الوطء المباح. (¬6) هو غزوان الغفاري الكوفي، مشهور بكنيته أبي مالك، ثقة قال ابن حجر من الثالثة. انظر "الجرح والتعديل" 7/ 55، "التقريب" ص 442 (5354). (¬7) حكاه في "تهذيب اللغة" 4/ 3659 (نكح).

الأرضَ ينكحها نكحًا، إذا واظب عليها ولزمها، ذكر ذلك أبو زيد وابن الأعرابي فيما حكى عنه ثعلب في "الأمالي" (¬1) (¬2). وقال أبو عمرو الشيباني: نكح النعاس عينه، إذا غَلَبَ ولزم، هذا كلام العرب الصحيح فإذا قالوا: نكح الرجلُ فلانةً، ينكِحُها نَكْحُا ونِكَاحُا، أرادوا: تزوج بها، كما قال الأعشى: فلا تَقَربَنَّ جَارَةً إنَّ سِرَّها ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا (¬3) وهذا الموضح لا يحتمل انكحن إلا الأمر بالعقد والتزوج؛ لأنه قال: لا تقربن جارة، يعني: مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج، وإلا فتأبد في (¬4) تجنب النساء وتوحش. قال عثمان بن جني (¬5) (¬6): سألت أبا علي عن قولهم: نَكَح المرأةَ، فقال: فَرَّقَتِ العربُ بالاستعمال فرقًا لطيفًا بين موضع العقد بفحوى الكلام وموضع الوطء حتى لا يلتبس، فإذا قالوا: نكح فلانٌ فلانة أو ابنةَ فلانٍ، أرادوا: أنه تزوجَ وعَقَدَ عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجَه، لم يريدوا غير المجامعة؛ لأنه إذا ذكر امرأته أو زوجه فقد استغنى عن ذكر العقد ولم ¬

_ (¬1) في (ي) و (ش): (فيما حُكَي عنه في "الأمالي"). (¬2) نقله في "البحر المحيط" 2/ 155، ونسبه للتبريزي، فلعله الزجاجي. (¬3) البيت للأعشى في "ديوانه" ص 46، "تهذيب اللغة" 4/ 3659 (نكح)، "اللسان" 8/ 4537 "نكح" وروايتها ولا تقربن. (¬4) في (ي) و (ش) (أي تجنب). (¬5) في (ي) و (ش) (أن حسين). (¬6) هو أبو "الفتح" عثمان بن جني الموصلي النحوي، صاحب التصانيف البديعة في النحو والأدب، سكن بغداد، وتوفي سنة 372 هـ. انظر "إنباه الرواة" 2/ 235، "وفيات الأعيان" 3/ 246.

تحتمل الكلمة غير المجامعة، وإذا قالوا: نَكَحَ بنتَ فلانٍ أو أُخْتَه أو امرأةً، لم يريدوا غير العَقْد (¬1). وروى سلم (¬2) (¬3) عن الفراء أنه قال: العرب تقول: نُكْحُ المرأةِ (بضم النون) بمعنى بضعها، وهو كناية عن الفرج، بُني على بناء القُبُل والدُّبُر، فإذا قالوا: نَكَحَها فمعناه: أصاب نُكْحَها، أي: ذلك الموضعَ منها، وقلّ ما يقال: نَاكَحَها كما يقال: باضعها من البُضْع (¬4)، وقد جاء لفظ النِّكاح في الشعر ولا يراد به إلا الوطء، من ذلك قوله: التارِكِينَ على طُهْرٍ نِسَاءَهُم ... والناكحينَ بِشَطَّيْ دِجْلةَ البَقَرَا (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 155، "عمدة الحفاظ" 4/ 251 قال: قلت: وهذا غير صحيح لظهوره بالقرينة. وقال الراغب في "المفردات" ص 506: أصل النكاح للعقد، ثم استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع، ثم استعير للعقد؛ لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى} [النور: 32]. (¬2) في (م): (مسلم)، وفي (ي): (سالم). (¬3) لعله سلمة بن عاصم النحوي من تلاميذ الفراء. (¬4) الفراء، نقله في "البحر المحيط" 2/ 155. (¬5) البيت للربيع بن ضبع الفزاري. ورد البيت في: "عمدة الحفاظ" 4/ 251 بلفظ: النازلين على ظهور متونهم ... والناكحين بشاطي دجْلة البقرا ولم ينسبه، وورد في "البحر المحيط" 2/ 155، وروايته: الباركين على ظهور نسوتهم ... والناكحين بشاطي دجلة البقرا (¬6) ينظر في (نكح): "تهذيب اللغة" 4/ 3659، "المفردات" 506 - 507، "عمدة الحفاظ" 4/ 250 - 251، "اللسان" 8/ 4537 - 4538.

قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي (¬1)، كانت له خليلة مشركة في الجاهلية، يقال لها: عناق، فلما أسلم قالت له: تَزَوَّجْ بي، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا رسول الله أيحل لي أن أتَزَوجَهَا، فأنزل الله هذه الآية (¬2). ومعنى المشركات هاهنا: كل من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن قال: إن الله واحد، وذلك أن من كفر بالنبي (¬3) - صلى الله عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن (¬4) (¬5) من عند غير الله، والقرآن إنما هو من عند الله عز وجل، فمن زعم ¬

_ (¬1) هو: كناز بن حصين بن يربوع بن طريف بن خرشة، آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبادة بن الصامت وكان حليف حمزة بن عبد المطلب، وهو تربه، شهد هو وابنه مرثد بدرا، مات في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - سنة 12 هـ. انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 47، "أسد الغابة" 6/ 282، "الأعلام" 5/ 234. (¬2) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 190 وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 398، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 906، والواحدي في "أسباب النزول" ص 74، والرازي في "تفسيره" 6/ 58، والحافظ ابن حجر في "الحجاب" 1/ 551، والسيوطي في "لباب النقول" ص 42، وغيرهمِ، وقد ورد عن عبد الله بن عمرو قصة مرثد هذه فنزل قول الله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] رواها أبو داود في النكاح، باب: قول الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} 2/ 227 برقم2051، والترمذي (3177) كتاب التفسير، باب: ومن سورة النور وقال: حسن غريب، والنسائي 6/ 66 كتاب النكاح، باب: تزويج الزانية، والحاكم 1/ 180 وصححه، قال الزيلعي: فظهر أن هذا الحديث ليس في هذه الآية التي في البقرة، إنما هو في الآية التي في النور [تخريج أحاديث "الكشاف"1/ 236]، وقال الحافظ في "الكشاف" 1/ 264 عن آية البقرة. ونزولها في هذه القصة ليس بصحيح. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) ساقط من (ي). (¬5) في (م) (إنه من عند).

أنه قد أتى غير الله (¬1) بما لا يأتي به إلا الله عز وجل قد أشرك به غيره (¬2) والله تعالى يقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ثم قال في آخر الآية الثانية: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. فحرم الله تعالى بهذه الآية نكاح المشركات، ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة، وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فهذه الآية مخصوصة بتلك في قول ابن عباس (¬3)، وهو الصحيح، والذي عليه جمهور (¬4) أهل العلم (¬5). وقال قتادة (¬6) وسعيد بن جبير (¬7): أراد بالمشركات في هذه الآية: مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه، فعلى قولهما: الآية محكمة ¬

_ (¬1) من قوله: والقرآن .. ساقط من (ي). (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 295. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 376، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 397، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 4، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 458 إلى ابن المنذر. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد 84، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 4، "تفسير الثعلبي" 2/ 909، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص 171، وقال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" 241: قوله: "ولا تنكحوا المشركات" لفظ عام، خص منه الكتابيات بآية المائدة، وهذا تخصيص لا نسخ، وعلى هذا الفقهاء وهو الصحيح، وينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 67، "النسخ في القرآن الكريم" لمصطفى زيد 2/ 604. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 377، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 458 إلى عبد الرزاق وعبد ابن حميد. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 377، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 397.

لا نسخ فيها، والذي عليه أهل العلم أن التي في المائدة ناسخة لهذه (¬1)، وبحكم (¬2) هذه الآية لا يحل تزوج الأمة الكتابية، لأن الله تعالى إنما استثنى الحرائر الكتابيات بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، فلا يحل نكاح الأمة الكتابية بحال (¬3). وقوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} الأمة: المملوكة. ومصدرها: الأمُوَّة، وتأميتُ أَمَةً، أي: اتخَذْتُ أمة، وجمع الأمة: إماء وآم (¬4)، قال الشاعر: يا صاحِبيَّ ألا لا حَيَّ بالوادي ... إلا عَبِيدٌ وآمٍ بَيْنَ أذْوادِ (¬5) ووزن أمة فَعَلَة، بدلالة الجمع، نحو: أكَمَة وآكَام. وقال الليث: يقال لجمع الأمة: إماء وإمَوَان وثلاث آم، وأنشد: تَمْشِي بها رُبْدُ (¬6) النَّعَام ... تَمَاشِيَ الآمِي الزَّوَافِر (¬7) (¬8) وقال أبو الهيثم: الآم جمع الأَمَة، كالنَّخْلَة والنَّخْل، والبَقْلَة والبَقْل. قال: وأصل الأَمَةِ أَمْوَة (¬9)، حذفوا لامها لما كانت من حروف اللين، فلما ¬

_ (¬1) قدم المؤلف أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة على الصحيح، وعليه فإن مراده بالنسخ هنا التخصيص على العادة المعروفة عند المتقدمين. (¬2) في (م): (ومحكم). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" 3/ 70. (¬4) وتجمع أيضا على أَمَوَات، وإِمْوان، وأُمْوان، وأَمَات. ينظر: "اللسان" 1/ 121 (أما). (¬5) القائل: السليك بن السلكة، في "ديوانه" ص 51، "لسان العرب" 1/ 121 (أما). (¬6) في (ي): (رند). (¬7) البيت للكميت في "ديوانه" 1/ 231، "تهذيب اللغة" 1/ 194، "لسان العرب" 1/ 121 (أما). (¬8) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 194 (أما). (¬9) ضبطت في الأصل: أمَوَة، وما أثبتناه من "تهذيب اللغة"، "اللسان".

جمعوها على مثال نَخْلة ونَخْل لزمهم أن يقولوا: أَمَةٌ وآم، فكرهوا أن يجعلوها حرفين، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم؛ لأنهم يستثقلون السكوت على الواو، فقدموا الواو وجعلوها ألفًا فيما بين الألف والميم (¬1) (¬2). قال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة (¬3)، كانت له أمة سوداء فغضب عليها ولطمها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، فقال له: "وما هي يا عبد الله"، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، وتصوم رمضان، وتحسن الوضوء وتصلي، فقال: "هذه مؤمنة"، قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، وطعن عليه ناس من المسلمين وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله هذه الآية (¬4). وقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أي: المشركة بمالها وجمالها (¬5). و (لو) بمعنى (أن) إلا أن (لو) للماضي، و (أن) للمستقبل (¬6). ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" (أما) بتصرف يسير، وفي الأصل قال ابن الهيثم، والتصويب من "التهذيب"، "اللسان". (¬2) ينظر في إماء: "تهذيب اللغة"، "البحر المحيط" 2/ 155، "اللسان" 1/ 121. (¬3) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، شهد العقبة، وهو أحد النقباء، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان من الشعراء، واستشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان. ينظر: "معرفة الصحابة" 3/ 1638، "الاستيعاب" 3/ 33. (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 387 - 389، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 398، والواحدي في "أسباب النزول" ص 75، وينظر: "العجاب" 1/ 551، "لباب النقول" 42. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 910. (¬6) ينظر: "مغني اللبيب" 337.

وقوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك (¬1). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ} يعني: المشركين {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي: الأعمال الموجبة للنار (¬2). فإن قيل: أليست الكتابية تدعو أيضًا إلى النار، فلم جاز نكاحها؟ قيل: الوثنية تدعو بما هي عليه إلى التقصير في الجهاد، والكتابية الذمية من جملة من سقط فيهم فرض القتال فلا تدعو إلى التقصير في الجهاد (¬3). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} يقول: إلى التوبة والتوحيد والعمل الموجب للجنة، {وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} أي: بأمره، يعني: أنه بأوامره يدعوكم. وقيل: إن (¬4) هذا مختصر على تقدير: يدعو إلى الجنة والمغفرة ولا هداية إلا بإذنه، كما قال في سورة يونس، فَبَسَطَ ما اخْتُصِر هاهنا، فقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [يونس: 25] فدعاء الله الخلق على العموم، وتوفيقه على الخصوص، ويؤيد هذا المعنى: ما روي عن الحسن أنه كان يقرأ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} رفعاً (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 72 قال: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 913. (¬3) ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 65 - 66. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 261، "التفسير الكبير" 6/ 66، "البحر المحيط" 2/ 166.

222

222 - قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم تؤاكلْها ولم تشاربها ولم تساكنها في بيت، كفعل المجوس، فسأل أبو الدحداح (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وقال: يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حِضْن؟ فأنزل الله هذه الآية (¬2). والمحيضُ: الحَيْضُ، قال أبو إسحاق: يقال: حاضت المرأةُ تَحِيضُ حَيْضًا ومَحَاضًا ومَحِيْضًا (¬3). وأصل الحيض في اللغة: السيلُ، حاض السيلُ، يقال: وفاض. وقال الفراء: حَاضَتِ السَّمُرَة تحيض إذا سَالَ منها لَثَاها (¬4)، وأنشد ¬

_ (¬1) هو: ثابت بن الدحداح، وقيل الدحداحة بن نعيم بن غنم بن إياس، اشتهر بكنيته، صحابي أقبل يوم أحد والمسلمون أوزاع قائلًا: يا معشر الأنصار إليَّ أنا ثابت بن الدحداحة إن كان محمد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا معه حتى قتلوا. ينظر: "معرفة الصحابة" 1/ 472، "الاستيعاب" 1/ 278. (¬2) عزاه السيوطي في "لباب النقول" ص 43 إلى البارودي في الصحابة بسنده عن ابن عباس، ورواه الطبري في "تفسيره" 2/ 380 - 381 عن السدي مختصرا، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 400 عن مقاتل بن حيان، وذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 191 وعنده: عمرو بن الدحداح، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 76 - 77، وابن حجر في "العجاب" 1/ 554، وقال في " التلخيص الحبير" 1/ 164: وقيل إن السائل هو أبو الدحداح، قاله الواقدي، والصواب ما في الصحيح أن السائل عن ذلك أسيد بن الحضير وعباد بن بشر. اهـ-. يعني ما رواه مسلم (302) كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، عن أنس. وينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 80. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 296. (¬4) قوله: حاضت السمرة: خرج منها الدُّوَدِم، وهو شيء شبه الدم، وإنما ذلك على التشبيه. ينظر: "اللسان" 2/ 1071 "حيض".

المبردُ عن عمارة بن عقيل (¬1): أجالَت حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ (¬2) ... عَلَيْهِنّ حَيْضَات السُّيولِ الطَّواحِمِ (¬3) (¬4) قال: ومعنى حيّضت: سيِّلت (¬5). قال الأزهري: ومن هذا قيل للحوض حوض؛ لأن الماء يحيض إليه، أي: يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء، والياء على الواو؛ لأنهما من حَيِّزٍ واحدٍ وهو الهواء (¬6). قال أبو إسحاق: وعند النحويين أن المصدر في هذا الباب المَفْعِل، ولذلك (¬7) ذهب قوم إلى أنه المأتى أي: (¬8) موضع الحيض، وإنما هو مصدر، والمَفْعِل جيد بالغ، قال الراعي: بُنِيَتْ (¬9) مرافقُهُنّ فوق مَزِلَّةٍ ... لا يَسْتَطِيعُ بها القُرَادُ مَقِيْلا (¬10) ¬

_ (¬1) هو: عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية الخطفي، كان من الشعراء الفصحاء، قدم من اليمامة فمدح المأمون ووجوه قواده، اجتمع الناس وكتبوا شعره، عمر قبل موته. انظر: "معجم الشعراء" للمرزباني ص 247، "الأعلام" 5/ 37. (¬2) ساقط من (ش). (¬3) في (م) (الطواحي). (¬4) البيت في "لسان العرب" 2/ 1071 "حيض"، 5/ 2645 "طعم". والذَّوَاري والذاريات: الرياح. (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 706، "اللسان" 2/ 1071 "حيض". (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 706 "حاض". (¬7) في (ش) (وكذلك). (¬8) ليست في (م) (ساقطة). (¬9) في (م) (وبُنَيَتْ). (¬10) البيت في "ديوانه" ص 241، "لسان العرب" 2/ 752، 3/ 1856 "حس-زلل".

أي: قيلولة (¬1) (¬2). قال ابن السِّكِّيت: إذا كان المفعل من ذوات الثلاثة نحو: كَال يَكِيْلُ، وحاض يحيضُ وأشباهه، (فإن) (¬3) الاسم منفرد (¬4) منه مكسور، والمصدر مفتوح، من ذلك مَال ممالًا وهذا مميلة، يذهب إلى الأسماء، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحتهما (¬5) جميعًا أو كسرتهما في المصدر والاسم لجاز. تقول العرب: المَعَاش والمَعِيش، والمَعَابُ والمَعِيبُ، والمَسَار والمَسِيُر. وأنشد: أنا الرَّجُلُ الذي قد عِبْتُمُوه ... وما فيه لِعَيَّابٍ مَعَابُ (¬6) وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} قال عطاء وقتادة (¬7) والسدي (¬8): أي: قَذَرَ. وقال مجاهد (¬9) والكلبي (¬10): دم. والأذى: ما يَغُمُّ ويُكْره من كل شيء. (¬11) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 296 بمعناه، وقوله: "ولذلك ذهب قوم إلى أنه المأتي أي موضع الحيض" ليست عند الزجاج. (¬2) ينظر في حيض: "تهذيب اللغة" 1/ 706، "المفردات" ص 144، "عمدة الحفاظ" 1/ 548، "اللسان" 2/ 1070. (¬3) في (م) (لأن). (¬4) زيادة من (م). (¬5) في (م) و (ي) (فتحهما) (¬6) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" 5/ 3184 "عيب". (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 89، والدارمي في "السنن" 1/ 258، والطبري في "تفسيره" 2/ 381، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 401. (¬8) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 381، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 401. (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 382، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 401. (¬10) رواه الدارمي في "السنن" 1/ 258، والطبري في "تفسيره" 2/ 382، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 401. (¬11) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 919.

{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الاعتزال: التنحي عن الشيء. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية عمد المسلمون إلى النساء الحيض فأخرجوهن من البيوت واعتزلوهن، فإذا اغتسلن ردوهن إلى البيوت، فقدم ناس من الأعراب وشكوا عزل الحيض عنهم، وقالوا: يا رسول الله! البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن آثرنا أهل البيت هلكت الحيض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم" (¬1) (¬2). فوطء الحائض في فرجها حرام (¬3). واعلم أن المرأة إذا حاضت حرم على الزوج جماعها ومباشرتها فيما بين السرة والركبة (¬4)، ولم يحرم عليه تقبيلها وما (¬5) فوق السرة وتحت الركبة منها (¬6)، وكذلك كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روت ندبة (¬7) عن ميمونة ¬

_ (¬1) أورد السيوطي مثله منسوبا إلى ابن عباس 1/ 461. (¬2) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 191، والسمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 250. وبنحوه روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في "تفسيره" 2/ 400، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 924، وقال الحافظ في "الكشاف" 1/ 265: لم أجده. (¬3) بالنص والإجماع. ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 72، "تفسير القرطبي" 3/ 86. (¬4) في (ي): (إلى الركبة). (¬5) في (م): (ولا ما). (¬6) هذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والجمهور، وقال الثوري ومحمد ابن الحسن وداود وبعض أصحاب الشافعي وهو الصحيح من قول الشافعي: يجتنب موضع الدم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 72، "تفسير القرطبي" 3/ 87. (¬7) ندبة: ويقال: بُرَيِّة، ويقال: بَدَنة، مولاة ميمونة أم المؤمنين، ذكرها ابن حبان في "الثقات" 5/ 487، وقال: روى عنها الزهري وذكرها الذهبي في النساء =

زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر المرأة من نسائه وهي حائض، إذا كان عليها إزار يبلغ إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين (¬1). فدل بهذا على أن المراد باعتزال الحيض ترك جماعهن، وذلك أن المجوس واليهود كانوا يجتنبون الحيض في كل شيء، وكانت النصارى يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، فأمرنا الله سبحانه بالاقتصاد بين هذين الأمرين (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: لا تجامعوهن (¬3)، يقال: قَرُبَ الرجلُ امرأَتَه: إذا جامعها، قربانًا (¬4). وقوله تعالى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: يَتَطَهَّرْنَ، ومعناه: يغتسلن بالماء بعد النَّقَاء من الدم، فأدغمت التاء في الطاء، هذه قراءة أهل الكوفة (¬5)، وحُجَّتُهم: أن حكم انقطاع الدم قبل الاغتسال حكم اتصاله؛ لأنها ما لم ¬

_ = المجهولات وقال: تفرد عنها حبيب الأعور. ينظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 610، وقال الحافظ في "التقريب" ترجمة ص 754 (8692): مقبولة، ويقال: إن لها صحبة من الثالثة. (¬1) رواه البخاري (303) كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، ومسلم (294) كتاب الحيض باب مباشرة الحائض فوق الإزار من طريق عبد الله بن شداد عن ميمونة بنحوه. وأخرجه النسائي 1/ 151 - 152 كتاب الطهارة، باب: مباشرة الحائض، وأبو داود (267) كتاب الطهارة، باب: في الرجل يصيب منها ما دون الجماع، والإمام أحمد في "المسند" 6/ 332، 335. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 947، "تفسير القرطبي" 3/ 81، "تفسير الرازي" 6/ 67. (¬3) في (ي) (يجامعوهن). (¬4) "المفردات" ص 400 - 401. (¬5) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، عن عاصم: يطْهُرن بالتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: يَطَّهَّرن مشددة. ينظر: "السبعة" ص 182، "الحجة" 2/ 321.

تغتسل كانت في حكم الحيض لكونها ممنوعة عن الصلاة والتلاوة، وإذا كانت كذلك فالوجه في القراءة التشديد، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فكما أن الجنب يتطهر بالماء إذا وجده، كذلك الحائض، لاجتماعهما في وجوب الغسل عليهما (¬1). وأما من قرأ بالتخفيف، فقال أهل اللغة: طَهَرت المرأة، وطهُرت طُهْرًا وطَهَارة، والفتح أقيس؛ لأنها خلاف طَمَثت، فينبغي أن يكون على بناء ما خالفه، مثل: عَطِشَ وَرَوِيَ، ونحو ذلك (¬2)، وُيقَوِّيَ طَهَرت أيضًا (¬3) قولُهم: طَاهر، وهذا يدل على أنه مثل: قَعَدَ يَقْعُدُ فهو قَاعِد، فقوله: {يَطْهُرْنَ} يحتمل أن يكون المراد حتى يَنْقَطع الدم، ويحتمل أن يكون حتى يفعلن الطهارة التي هي الغسل؛ لأنه إنما يحكم لها بأنها طاهرة إذا اغتسلت، وهذا أولى؛ لما قدمنا أنها في حكم الحيض ما لم تغتسل (¬4). فإن قيل على هذه القراءة: وجب أن يحل الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، لأن التحريم قد تناهى، ودل {حَتَّى} على غاية التحريم؟ قيل: إن في الكلام حذفًا، قد دل عليه ما بعده، وأغنى (¬5) عنه، لأن التقدير: ولا تقربوهن حتى يطهرن ويَطَّهَّرن، نحو قول القائل: لا تكلم ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 322 - 323 بتصرف. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 297، "تهذيب اللغة" 3/ 2225 - 2226 (طهر)، "اللسان" 5/ 2712 - 2713 (طهر)، قال الزجاج: ويقال: طَهَرت وطَهُرت جميعا، وطَهُرت أكثر. (¬3) ساقطة من (ش). (¬4) من "الحجة" 2/ 321 - 323 بتصرف. (¬5) في (ي)، (ش) (وأغني).

الأمير حتى يقعد (¬1)، وإذا طابت نفسه فكلمه في حاجتك، فتقديره: حى بقعد وتطيب نفسه، مع أنا قد بينا أن معنى {يَطْهُرْنَ} يفعلن (¬2) الطهارة التي يحل بها وطؤهن. فعلى القراءتين جميعًا لا يحل وطؤها ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء (¬3)، وهو قول سالم بن عبد الله (¬4) وسليمان بن يسار (¬5) والقاسم بن محمد (¬6) وابن شهاب (¬7) والليث ومذهب الشافعي (¬8). وعند أبي حنيفة إذا طهرت لعشرة أيام حل وطؤها دون الاغتسال، وان طهرت لما دونها لم يحل وطؤها إلا بإحدى ثلاث: أن تغتسل (¬9)، أو ¬

_ (¬1) في (ي) زيادة (ويطيب نفسه). (¬2) في (ش) (من الطهارة). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 297، "تفسير الثعلبي" 2/ 953. (¬4) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، أحد الفقهاء السبعة، كان ثبتًا عابدًا فاضلًا، وكان يشبه بأبيه في الهدي والسمت، توفي سنة 106 هـ-. انظر: "التقريب" ص 226 (2176)، "وفيات الأعيان" 2/ 349 - 350. (¬5) هو: أبو أيوب سليمان بن يسار مولى ميمونة أم المؤمنين، كان ثقة عالمًا فقيهًا كثير الحديث، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، توفي سنة 107هـ-. انظر: "وفيات الأعيان" 2/ 399، "الأعلام" 3/ 138. (¬6) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، توفي سنة 106هـ انظر "تقريب التهذيب" ص 451 (5489)، "الأعلام" 5/ 181. (¬7) في (ي)، (ش): (ابن شباب). (¬8) ينظر في عزو هذه الأقوال إليهم: "تفسير الثعلبي" 2/ 952، "الموطأ" باب: ما يحل للرجل من امرأته برقم 96، "الأم" 1/ 76، "سنن البيهقي" 1/ 310، "الأوسط" لابن المنذر 1/ 213، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 402، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 165. (¬9) في (م) و (أ): (يغتسل).

تمضي بها وقت أقرب الصلوات، فيحكم لها بذلك حكم الطاهرات بوجوب الصلاة في ذمتها، أو تتيمم (¬1). وقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ} معناه: فجامعوهن، وهو إذن بعد الحظر، فهو كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة:9] (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي: من حيث أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو الفرج، قاله مجاهد (¬3) وإبراهيم (¬4) (¬5) وقتادة (¬6) وعكرمة (¬7). وقال ابن عباس في رواية الوالبي (¬8): يقول: طؤوهن في الفرج ولا تعدوه إلى غيره (¬9)، وقال في رواية عطاء: يريد: من حيث يكون النسل (¬10). وقال في رواية العوفي: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله أن تأتوهن ¬

_ (¬1) ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 217، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 348، "تفسير الثعلبي" 2/ 951، "التفسير الكبير" 6/ 73. (¬2) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 254. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 330، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 233، والطبري في "تفسيره" 2/ 387 - 388. (¬4) هو: الإمام الحافظ فقيه العراق أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو النخعي اليماني ثم الكوفي، تقدمت ترجمته 3/ 307 [البقرة: 125]. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 232، والدارمي في "السنن" 1/ 259، والطبري في "تفسيره" 2/ 388. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 388. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1/ 96، والطبري في "تفسيره" 2/ 387. (¬8) في (ي): (الكلبي). (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 387، والبيهقي في "سننه"1/ 309. (¬10) تقدم الحديث عن الرواية.

منه، وهو الطهر دون الحيض (¬1). وهذا قول السدي (¬2) والضحاك (¬3). وقال ابن الحنفية: فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور (¬4). وقال ابن كيسان: أي: من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة، أي: لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات واقربوهن وغشيانهن لكم حلال (¬5) وهذا اختيار الزجاج (¬6). وقال الواقدي: (من) هاهنا بمعنى (في) يريد: في حيث أمركم الله وهو الفرج، نظيره قوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [الأحقاف: 4] أي: فيها، وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] أي: فيه. (¬7) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قال عطاء (¬8) ومقاتل بن سليمان (¬9) والكلبي (¬10): التوابين: من الذنوب، والمتطهرين (¬11) بالماء من الأحداث والمحيض والجنابات والنجاسات. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 389، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 955. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 389. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 389، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 402. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 233، والطبري في "تفسيره" 2/ 389، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 402. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 956، والماوردي في "النكت والعيون" 1/ 283. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 297، و"تفسير الرازي" 6/ 74. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 956. وذكره ولم يعزه في "زاد المسير" 1/ 249. (¬8) رواه عنه الطبري "في تفسيره" 2/ 390، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 403. (¬9) "تفسير مقاتل" 1/ 192، "تفسير الثعلبي" 2/ 957. (¬10) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 956، البغوي في "تفسيره" 1/ 259. (¬11) من قوله: قال عطاء. ساقط من (ي).

223

وقال مجاهد: التوابين من الذنوب، والمتطهرين من أدبار النساء (¬1). سعيد بن جبير: التوابين من الشرك، والمتطهرين من الذنوب (¬2). أبو العالية: التوابين من الكفر، والمتطهرين بالإيمان (¬3) ابن جريج: التوابين من الذنوب لا يعودون فيها، والمتطهرين منها لم يصيبوها (¬4). 223 - قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية، قال ابن عباس: جاء عمر - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! هلكت. قال: "فما الذي أهلكك؟ " قال: حَوَّلْتُ رَحْلِيَ البارحة، فلم يرد عليه شيئًا، وأوحي إليه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (¬5). وقال الحسن (¬6) وقتادة (¬7) والمقاتلان (¬8) والكلبي (¬9): تذاكر المسلمون واليهود إتيان (¬10) النساء، فقال المسلمون: إنا نأتيهن باركاتٍ وقائماتٍ ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 391، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 403. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 959، البغوي في "تفسيره" 1/ 259، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 249. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 959، وفي "البحر المحيط" 2/ 169. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 391، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 959. (¬5) الحديث رواه الترمذي (2980) كتاب التفسير، باب: ومن سورة البقرة وقال: حسن غريب، والنسائي في "تفسيره" 1/ 256، وأحمد 1/ 297، والطبري في "تفسيره" 2/ 397، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 405، والبيهقي في "سننه" 7/ 198، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 962 وغيرهم. (¬6) رواه عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 232، والدارمي في "سننه" 1/ 257. (¬7) عزاه الحافظ في "العجاب" 1/ 560، والسيوطي في "الدر المنثور" 1/ 467 - 468 إلى عبد بن حميد، وذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 971. (¬8) "تفسير مقاتل" 1/ 192، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 971. (¬9) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 971، والواحدي في "أسباب النزول" ص80. (¬10) في (أ): (آيتان).

ومستلقياتٍ ومن بين أيديهن وأرجلهن، بعد أن يكون المأتى واحدًا، فقالت اليهود: ما أنتم إلا أمثال البهائم، لكنا نأتيها على هيئة واحدة، وإنا لنجد في التوراة: أن كل إتيان يؤتى النساء غير الاستلقاء دنس عند الله، ومنه يكون الحول والحَبْل، فذكر المسلمون ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأكذب الله عز وجل اليهود، وأنزل يرخص (¬1) لهم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. أي: مَزْرَعٌ ومَنْبَتٌ للولد (¬2)، وأراد به المُحْتَرَثَ والمُزْدَرَع، ولكنهن لما كُنَّ من أسباب الحرث جُعلن حَرْثًا، ولهذا وُحِّد (¬3) الحرث؛ لأنه مصدر. وقال أهل العربية: معناه: ذواتُ حرثٍ لكم، فيهن تحرثون الولد (¬4)، فحذف المضاف، وقيل: أراد: كحرثٍ لكم، كقوله: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} (¬5) [الكهف: 96]. أي: كنار (¬6)، وكَقَولِ الشاعر: النَّشْرُ مِسْكٌ والوجوهُ دنا ... نير وأطرافُ الأكفِّ عَنَم (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) في (م) (ترخص). (¬2) في (م) (للوالد). (¬3) في (م) (ي) (ش) (وحد). (¬4) في (م) زيادة (الولد والفدة وقال الأزهري) حرث الرجل امرأته وأنشد وهو تكرار. (¬5) (حتى) ساقطة من (ي). (¬6) من "تفسير الثعلبي" 2/ 976 - 977، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 170، وذكر وجها ثالثا، قال: ويحتمل أن يكون حرث لكم بمعنى محروثة لكم، فيكون من باب إطلاق المصدر ويراد به اسم المفعول. (¬7) في (ي)، (ش) (غنم). (¬8) البيت للمرقش الأكبر في "ديوانه" ص 586، وفيه: وأطراف البنان. "تفسير الثعلبي" 2/ 977 "تاج العروس" 7/ 524، "لسان العرب" 7/ 4422 "نشر"، ينظر: "المعجم المفصل في شواهد العربية" 7/ 30 - 31.

وقال الزجاج: زعم أبو عبيدة أنه كناية (¬1)، قال: والقول عندي فيه: أن نساءكم حرث لكم، فيهن تحرثون الولد واللذة (¬2). وقال الأزهري: حَرْثُ الرجل: امرأتُه، وأنشد المبرد: إذا أكل الجَرادُ حُرُوثَ قومٍ ... فَحَرْثِي هَمُّهُ أَكْلُ الجَرَادِ (¬3) يعني: امرأته (¬4). وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف شئتم (¬5)، ومن أين شئتم، بعد أن يكون في صمام واحد. {أَنَّى} شِئْتُمْ معناه من أين، يدل عليه الجواب، نحو قوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37] (¬6). وقال الزجاج: أي ايتوا مواضع (¬7) حرثكم كيف شئتم مقبلة ومدبرة (¬8). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 73. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298. (¬3) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 775، "تفسير الثعلبي" 2/ 977، لكنه قال: قال المفضل بن سلمة أنشدني أبي "لسان العرب" 2/ 820، "تهذيب اللغة" 1/ 775، "تاج العروس" 3/ 194 [مادة حرث]، "أساس البلاغة"، [مادة: حرث] "البحر المحيط" 1/ 170. "المعجم المفصل" 2/ 328. (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 775، والكلام فيه منقول عن ابن الأعرابي. (¬5) ساقطة من (أ) و (م). (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 144، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 311، "تفسير الثعلبي" 2/ 973، "البحر المحيط" 1/ 170. (¬7) في (ش) و (ي): (موضع). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298.

والآية لا تدل على جواز (¬1) الإتيان في الموضع المكروه؛ لأنها نزلت تكذيبًا لليهود، ونسخًا لشرعهم إن صدقوا فيما ادعوا، أو إباحة للإتيان في القبل من أي (¬2) وجه كان، ولأن الله تعالى ذكر لفظ الحرث والقبل محل النسل (¬3) والحرث لا الدبر، فعلم أن المراد بالآية إباحة الجماع إذا كان في الفرج على كل جهة، والأخبار شائعة في تحريم أدبار النساء (¬4). وقوله تعالى: {لِأَنْفُسِكُمْ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد العمل لله بما يحب ويرضى (¬5)، وهو قول السدي (¬6) والكلبي (¬7)، واختيار الزجاج؛ لأنه قال: معناه: قدموا طاعته واتباع أمره، فمن اتبع ما أمر الله به فقد قدم لنفسه خيرًا (¬8)، يحض على العمل بالواجب الذي أمروا. وقال بعض المفسرين: يعني: ابتغاء الولد والنسل (¬9)، وذلك أن ¬

_ (¬1) في (ي): (جواب). (¬2) في (ش): (كل). (¬3) في (ي): (للنسل). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 979 - 1000، " المحرر الوجيز" 2/ 256، "التفسير الكبير" 6/ 76، "تفسير القرطبي" 3/ 96، "البحر المحيط" 2/ 170 - 171. (¬5) تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة. وذكره في "زاد المسير" عنه 1/ 253 برواية أبى صالح، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 329. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 399 بمعناه، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 406. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1006، البغوي في "تفسيره" 1/ 262. (¬8) "معانى القرآن" للزجاج 1/ 298. (¬9) قال به عكرمة كما رواه ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 405، وقدمه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1001، وينظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 77، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 186.

224

الولد ذخيرة للدنيا والآخرة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما حد لكم من الجماع وأمر الحيض. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} قال عطاءُ: يريد: راجعون إليه (¬1). وقد ذكرنا ما في هذا عند قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة: 46]. وقال أصحاب المعاني: معناه: ملاقو جزائه، إن ثوابًا وإن عقابًا. وقال بعضهم {مُلَاقُوهُ} أي: ملاقو ما قدمتم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين خافوه (¬2) وحَذِرُوا مَعْصيتَهُ. 224 - قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}: قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة، ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته (¬3)، بشير بن النعمان (¬4)، حلف أن لا يكلمَه، ولا يَدْخُلَ بينه، وبين خصم له (¬5)، ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) في (م): (يخافوه)، وفي (ي) (خافوا). (¬3) هي عمرة بنت رواحة الأنصارية، وهي امرأة بشير بن سعد والد النعمان. ينظر: "الاستيعاب" 4/ 441. (¬4) هو بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي والد النعمان، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها، ويقال: إنه أول من بايع من الأنصار أبا بكر يوم السقيفة واستشهد يوم عين التمر مع خالد بن الوليد سنة 12هـ. ينظر: "الاستيعاب" 1/ 252، وهذا هو زوج أخت عبد الله، وفي "الإصابة" 1/ 160 ترجمة لبشير بن النعمان بن عبيد، ويقال له مقرن بن أوس بن مالك الأنصاري الأوسي، قال ابن قداح: قتل يوم الحرة وقتل أبوه يوم اليمامة لكنه ليس المقصود والله أعلم. ينظر: "الإصابة" 1/ 160. (¬5) في (أ) كأنها: ولا يدخل بيته، وعند الثعلبي 2/ 1007: أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصم له، فلعل في نسخ "البسيط" سقط كلمات، والمعنى صحيح على كل حال.

وجعل يقول: قد حلف (¬1) بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي، فأنزل الله هذه الآية (¬2). والعُرضَة عند أهل اللغة: مُشْتَقَّةٌ من أصلين: أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور، أنها مشتقة من (¬3) الاعتراض بمعنى المنع، وذلك أن المعترض بين الشيئين مانع من وصول أحدهما إلى الآخر، تقول العرب: هو له دونه عرضة، إذا كان يعترض له دون الوصول إلى ذلك الشيء. قال الأزهري: والأصل فيه: أن الطريق المسلوك إذا اعترض فيه بناءٌ أو جِذْعٌ أو جَبَلٌ مَنَعَ السَابِلَةَ من سُلُوكه، فوضِعَ الاعتراضُ موضع المنع لهذا المعنى، وكل شيء منعك عن (¬4) أمر تريده فقد اعترض عليك وتعرض لك، ومن هذا يقال للمعارض في الكلام: معترض، واعترض عليه في كذا، أي: منع كلامه عن الاستمرار على وجهه (¬5). ¬

_ (¬1) في (ي) و (ش): (حلفت). (¬2) ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 206، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1007، والواحدي في "أسباب النزول" ص 80، وابن حجر في "العجاب" 1/ 576، وعزاه في "زاد المسير" 1/ 253، "البحر المحيط" 2/ 176 إلى ابن عباس، وقد ذكروا أسبابا أخرى لنزول الآية، فقيل: نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - حين حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، وقيل: نزلت فيه حين حلف لا ينفق على مسطح حين خاض في الإفك. (¬3) في (ي) زيادة وتكرار من أصلين أحدهما: الاعتراض. (¬4) في (ي) و (م): (من). (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2394 - 2401 مادة "عرض".

وعلى هذا الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وابن الأنباري، وأكثر أقوال المفسرين موافق لهذا الأصل (¬3). قال الحسن (¬4) وطاوس (¬5) وقتادة (¬6): لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر والتقوى، من حيث تتعمدون اليمين تعتلوا (¬7) بها. وقال ابن عباس (¬8) ومجاهد (¬9) والربيع (¬10): لا تجعلوا (¬11) اليمين بالله حجة في المنع، والتقدير: لا تجعلوا الله مانعاً من البر والتقوى باعتراضكم به حالفين. الأصل الثاني: في اشتقاق العُرْضَة: أنها من الشدة والقوة، تقول العرب: لفلان عُرْضَة يصرع بها الناس، أي: قُوة، ودابة عُرْضَةٌ للسفر، أي: قوية عليه والعرضيّ من النوق والإبل: الذي فيه نشاط وقوة (¬12). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 144. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298 - 299. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 400 - 402، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 407، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 77، "تفسير الثعلبي" 2/ 1011. (¬4) ذكره في "الوسيط" 1/ 330. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 400، وعزاه في الدر 1/ 479 إلى عبد الرزاق. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 400. (¬7) في (ي) (لتعلموا). (¬8) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 401 بمعناه، وعزاه في "الدر" 1/ 479 إلى ابن المنذر. و"ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 407. (¬9) رواه عنه الطبري 2/ 401 - 402 بمعناه. (¬10) رواه عنه الطبري 2/ 402 بمعناه. (¬11) ليست في (م) ولا (أ). (¬12) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1009.

قال الشاعر: واعْرَوْرَتِ العُلُطَ العُرْضِيَّ تَرْكُضُه ... أمُّ الفَوارسِ بالدِّيدَاءِ والرَّبَعَه (¬1) وقال الليث: يقال: فلان فيه على أعدائه عُرْضِيَّة، وفي الفَرَس عرضِيَّة (¬2) في عَدْوِه. وأنشد القطامي: بِيضُ الهِجَانِ التى كانت تكونُ بها ... عُرْضِيّةٌ وهِبَابٌ حينَ يَرْتَحِلُ (¬3) (¬4) (¬5) فالمعنى على هذا الأصل: لا تجعلوا الحلف بالله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا، ويحتمل أن يكون المعنى على هذا الأصل: النهي عن المبادرة إلى الأيمان، كأنه يقول: لا تجعلوا اسم الله قوة لأيمانكم تبتدر من أفواهكم مسرعين بذكره. ¬

_ (¬1) ورد البيت هكذا: واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالدأداء والربعة والبيت من البسيط، وهو لأبي الأسود الرؤاسي، في "لسان العرب" 3/ 1311 مادة: دأدأ، 5/ 3069 مادة: علط، "تهذيب اللغة" 3/ 240 مادة: "عرض"، 3/ 2375 مادة "عرا" "جمهرة اللغة" ص 226، "ديوان الأدب" 1/ 238. انظر "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" 4/ 196. (¬2) في (ش) و (ي) (عرضة). (¬3) في (ش) (هبات)، وفي (ي) (ترتحل) وهي كذلك في الديوان. (¬4) البيت في ديوانه ص 23 - 30 ط دار الثقافة، بيروت. (¬5) ينظر في عرض: "تهذيب اللغة" 3/ 2394 - 2403، "المفردات" 332، "عمدة الحفاظ" 3/ 66 - 74، "اللسان" 5/ 2884 - 2896.

وهذا المعنى مروي عن عائشة رضي الله عنها؛ لأنها قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم (¬1). وتفسير ابن عباس في رواية عطاء موافق لهذا المعنى؛ لأنه قال: يريد: لا يحلف الرجل في كل حق وباطل، ينبغي له أن ينزه الله عن كثير من الأيمان (¬2). والأيمان: جمع (¬3) يمين، وهي القسم، وأصلها: من اليُمْن الذي هو البركة، فاليمين عَقْدُ الأمرِ بما يُتَبَرَّكُ (¬4) بذكره (¬5). وقوله تعالى: {أَن تَبَرُّوا} اختلف أهل المعاني في تقديره، فقال الزجاج: تقديره (¬6): لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا، فسقط (في) ووصل معنى الفعل (¬7). وقال أبو عبيد: معناه: أن لا تبروا، فحذفت لا، كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وكقوله: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] والمعنى: لئلا تضلوا، أن لا تميد بكم (¬8). وقال أبو العباس: تقديره: لدفع أن تبروا، أو لترك أن تبروا، فحذف المضاف. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 402. (¬2) تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي. (¬3) في (ش) (جميع). (¬4) في (م) (يتبرك به بذكره). (¬5) ينظر في اليمين: "تهذيب اللغة" 4/ 3984 - 3987، "اللسان" 8/ 4967 - 4971. (¬6) ساقط من (ش). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298. (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1011.

وقال الكسائي: تقديره: لأن تبروا (¬1) أي: لا تتخذوا اليمين (¬2) مانعةً لأن تبروا (¬3). وهذه التقديرات كلها توافق تفسير العرضة من الاعتراض بمعنى المنع. وإن جعلنا تفسير العرضة القوة لم يصلح فيه تقدير الزجاج والكسائي. وقال عطاء: أراد (¬4): أن لا تبروا (¬5)، وهذا موافق لتفسير الآية عنده، والتقدير: لا تحلفوا بالله إلا أن يكون اليمين لقصد بر أو تقوى أو إصلاح بين الناس، فلكم أن تحلفوا (¬6). فالعرضة على القول الأول بمعنى المعترض، وعلى القول الثاني بمعنى القوة والشدة، وعلى القولين جميعا معنى قوله: لا تجعلوا الله، لا تجعلوا اسم الله، فالله تعالى هاهنا يراد (¬7) به التسمية لا الاسم الذي هو بمعنى الذات. وأما محل (أن) من الإعراب، فقال أبو إسحاق: الاختيار فيه النصب عند جميع النحويين؛ لأنه لما حذف الخافض وصل الفعل، المعنى: لا ¬

_ (¬1) من قوله: تقديره. ساقط من (أ) و (م). (¬2) قوله: لا تتخذوا اليمين. ساقط من (أ) و (م) و (ش). (¬3) وقد ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 312، ومكي في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 130 أن موضع (أن) خفض على إضمار الخافض، فيكون في أن تبرو. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) ذكره في "زاد المسير" 1/ 254. (¬6) تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي. (¬7) في (ي) (يريد).

تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا، فلما سقطت (في) أفضى معنى الاعتراض (¬1) فنصب (أن)، ويكون تأويله: (لا يمنعكم) (¬2) الإيمان بالله البر والتقوى والإصلاح بين الناس، قال: وجائز عند كثير من النحويين أن يكون موضعُها خفضًا، وإن سقطت (في)؛ لأنَّ (إن) الحذف معها مستعمل، يقول (¬3): جئت لأن تضرب زيدًا، وجئت أن تضرب زيدًا، فتحذف اللام مع (أن) ولا تحذف مع المصدر لو قلت: جئت ضربَ زيدٍ، وأنت تريد: لضرب زيد، لم يجز كما جاز مع (أن)، لأنّ (أنْ) إذا وُصِلَت دل ما بعدها على الاستقبال، والمعنى (¬4) تقول: جئتك أن ضربت زيدًا، وجئتك أن تضربَ زيدًا، فلذلك جاز حذف اللام، وإذا (¬5) قلت: جئتك ضَرْبَ زيد، لم يدل الضربُ على معنى مضى (¬6) ولا استقبال (¬7). وحرر بعض أصحابه هذا الفصل فقال: معنى هذا: أنّ (أنْ) لما وُصِل بالفعل احتمل الحذف كما يحتمل (الذي) إذا وصل بالفعل من حذف ضمير المفعول ما لا يحتمله الألف واللام إذا وُصل بالاسم، نحو: الذي ضربت، يريد: ضربته، فأما: الضاربه (¬8) أنا زيد، فلا يحسن إلّا بالهاء، وذلك أن ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298: لمعنى، وفي "الإغفال" لأبي علي 509 أقصى معنى الاعتراض. (¬2) في (ش): (يمنعنكم). (¬3) في (ش): (تقول). (¬4) في (أ) و (م) و (ش): والمضي، وما أثبته من (ي) موافق لما في "معاني القرآن". (¬5) في (ي) (إذا). (¬6) في "معاني القرآن": على معنى الاستقبال. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 298 - 299 بمعناه. (¬8) في (ش) (المضاربة).

الفعل أثقل، وهو بالحذف أحق. وأنكر أبو علي الفارسي هذا الفصل كلَّه على أبي إسحاق، وأجاز حذف اللام من المصدر، وقال: الذي منعه جائز غير ممتنع في جميع باب المفعول له، تقول (¬1): جئتك طمعًا في الخير، وزرتك كرامة فلان، أي: لكرامته (¬2)، قال: وأنشد أبو عثمان (¬3) لرؤبة: بلاَلٌ أنْدَى (¬4) العَالَمينَ شَخْصًا ... عندي وما بي أن أُسِيءَ الحِرْصا (¬5) فحمل الحرص على المفعول له، قال: وإنما جاز الحذف مع (أن) لطول الكلام بالصلة، وإذا طال الكلام حَسُنَ من الحذف معه ما لا يحسن إذا لم يطل، وذلك كثير، نحو قوله: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، ترك التأكيد الذي يقبح تركه في السعة لطول الكلام بلا، ولو لم يطل به للزم التأكيد كما لزم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف: 27] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35]، ومن ثم استجازوا: حضر القاضي اليوم امرأةٌ، حذفوا التاء من الكلام لما طال الكلام بالفصل بين الفعل والفاعل من المفعول. قال: وأما قوله: والنصب في (أن) في هذا الموضع الاختيار عند ¬

_ (¬1) في (أ) (يقول). (¬2) في "الإغفال" ص 511: تقول: جئتك طمعا في الخير، وللطمع في الخير، وزرتك كرامة فلان ولكرامة فلان، فتثبت اللام وتحذف، والمعنى في الحذف مثل المعنى في الإثبات. (¬3) هو بكر بن بقية، تقدمت ترجمته 3/ 162، [البقرة:93]. (¬4) في (ش): (أبدى). (¬5) هذان البيتان ليسا في "ديوان رؤبة" قال محقق "الإغفال": ولم أوفق في العثور عليهما. "الإغفال" ص 512.

جمع النحويين، فمن يقول أن موضعه جر وهو قول سيبويه، ليس يحفظ عنه أن النصبَ أحسن، وإنما يحكم على موضعه بالجر. أطال أبو علي الكلام في هذه المسألة على أبي إسحاق في الإنكار عليه، وقد اختصرته هاهنا (¬1). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون موضع (أن) رفعًا بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا أولى، أي: البر والتقى أولى، ويكون (أولى) محذوفًا، كقوله: {وطَاعَةٌ وَقَول مَّعْرُوفٌ} [محمد: 21] أي: طاعة وقول معروف (¬2) أمثل. قال: ومذهب النحويين فيه الجر والنصب، ولا أعلم أحدًا منهم ذكر هذا المذهب (¬3). وهذا الذي ذكره أبو إسحاق من رفع (أن) تقدير (¬4) زائد على ما ذكرنا من التقديرات في (أن)، لأن الكلام على هذا يصير مستأنفًا لا تعلق له بما قبله، والتقديرات السابقة توجب (¬5) التعلق بما سبق (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع (¬7) أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها. ¬

_ (¬1) ينظر: "الإغفال" ص 509 - 517. (¬2) زيادة من (ي). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 300. (¬4) في (ش) (تقديره). (¬5) في (ش) (يوجب). (¬6) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 311 - 312، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 130، "التبيان" ص135، "البحر المحيط" 2/ 177، وقد ضعف الوجه الأخير فقال: لأن فيه اقتطاع (أن تبروا) مما قبله، والظاهر هو اتصاله به، ولأن فيه حذفا لا دليل عليه. (¬7) ساقطة من (ي).

225

225 - قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية. اللغو: معناه في اللغة: الكلام الذي لا فائدة فيه ولا يعتد به (¬1)، وهو مصدر يقال: لَغَا يَلْغُو لَغْوًا وَلغا يَلْغَى، ولغي يَلْغَى لغًا: إذا أتى بلغو (¬2)، قال الفراء. اللغا مصدرٌ للغَيْتُ، واللغوُ مَصْدَرٌ لِلَغَوْتُ. قال العجاج: ورُبَّ أسْرَابٍ حَجِيجٍ كُظّمِ ... عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ (¬3) وقال ذو الرمة: ويُطْرَحُ بينها المَرْئِيُّ لَغْوًا ... كما أَلْغَيْتَ في المائةِ الحُوَارَا (¬4) قال ابن المظفر: يقول: اللَّغْو واللَّاغِيَةُ واللَّوَاغِي واللَّغَا واللغوي (¬5)، ومنه الحديث: "من قال يوم الجمعة لصاحبه صه (¬6) والإمام يخطب فقد لغا (¬7) ". ¬

_ (¬1) ساقطة من (ي). (¬2) قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 299: ويقال: لغوت ألْغُو لغوًا، ولغوْت أَلْغَى لغوًا، مثل محوت أمحو محوا وأمحى، ويقال: لغيت في الكلام ألغَى لغىً إذا أتيت بلغو. (¬3) سبق تخريجه 3/ 605. (¬4) ورد البيت هكذا: ويَهْلِكُ بينها المَرْئِيُّ فيها ... كما أَلْغَيْتْ في الديةِ الحُوَارا وفي "اللسان": ويَهْلِكَ وسْطَها المرئي لَغْوًا وهو لذي الرمة يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرئ القيس، انظر الديوان 2/ 1379، "تفسير الثعلبي" 2/ 1016، "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي 4/ 34. "اللسان" 7/ 4049 مادة "لغا". (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3275 مادة "لغو"، وبعض الكلام لغيره. (¬6) سقطت من (م) و (أ). (¬7) رواه البخاري (934) كتاب: الجمعة، باب. الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ومسلم (851) الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة في الخطبة.

ومثله من الكلام: الدَّلْو والدِّلاَء، والعَيْبُ والعَابُ. قال ابن الأنباري: اللغو عند العرب: ما يُطْرح من الكلام (¬1) استغناءً عنه ولا يفتقر إليه، قال الكميت: وبعد ذلك (¬2) أيَّامٌ (¬3) سَنَذْكُرها ... لم تنس لغوًا ولم تقدم على عمد (¬4) أي: لم تنس اطراحًا لها. ويقال: لغَا الطائر يلغو لغوًا: إذا صَوَّتَ، وسُمِّيَ ذلك منه لَغْوًا؛ لأنه لا يُوْقَفُ على ما يُريدُه. قال الشاعر: باكرتُهُم بِسَبَا جَوْنٍ ذَارعٍ (¬5) ... قبل الصَّبَاحِ، وقَبْلَ لَغْوِ الطَّائرِ (¬6) السبا: اشتراء الخمر، والجَوْنُ: الزِّقُّ، والذَّارعُ (¬7): الكبيرُ الكثيرُ (¬8) الأخذ من الأرض، ولغو الطائر: تَصْوِيْتُه. قال الزجاج: وكلُّ ما لا خيرَ فيه مما يُؤْثَم فيه، أو يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغوٌ (¬9) ولَغًا (¬10). هذا معناه في اللغة (¬11). ¬

_ (¬1) من قوله: الدَّلْو .. سقطت من (م) و (أ). (¬2) في (م): (ذاك). (¬3) في (ي): (أيامَا). (¬4) في (م): (أمر) والبيت لم أهتد إلى من ذكره. (¬5) في (ش) (دارع)، وفي (ي) (دراع). (¬6) البيت لثعلبة بن صعير المازني في "لسان العرب" 3/ 1498 مادة: ذرع، و 7/ 4051 مادة: لغا. وروايته: بساء. (¬7) في (م) و (ش) (الذراع)، وفي (ي) (الدراع). (¬8) (الكثير) ساقطة من (ي). (¬9) في (ش) (أو). (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 299. (¬11) ينظر لغا: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 299، "تهذيب اللغة" 4/ 3275 - 3276، "تفسير الثعلبي" 2/ 1016، "المفردات" ص 455، "عمدة الحفاظ" 4/ 33 =

وأما التفسير: فقال مجاهد (¬1) وعكرمة (¬2) والشعبي (¬3): لغو اليمين، في هذه الآية، ما يسبق به اللسان من غير عقد ولا قصد، ويكون كالصلة للكلام، مثل قول القائل: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، ونحو هذا، ولا كفارة فيه ولا إثم. وهو قول عائشة رضى الله عنها، قالت: أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة، (الذي) لا يعقد عليه القلب (¬4)، ومثله روى حماد (¬5) عن إبراهيم (¬6)، وهو كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم ¬

_ = "اللسان" 7/ 4049 - 4051. وقال الراغب: اللغو من الكلام ما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. وقد يسمى كل كلام قبيح لغوًا. (¬1) رواه عنه الطبري 2/ 406 بمعناه، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 188، والثعلبي 2/ 1021. (¬2) رواه عنه الطبري 2/ 404، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 408 (¬3) رواه عنه سعيد بن منصور 4/ 1528، والطبري 2/ 405، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 408. (¬4) حديث عائشة بهذا اللفظ موقوفًا عليها، رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 411 - 412، وبنحوه عند عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 474، وأصله رواه البخاري (6663) كتاب: الأيمان، باب: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ومالك في "الموطأ" 2/ 477، والشافعي في "الأم" 7/ 257، والنسائي في "تفسيره" 1/ 444 رقم 169، والطبري في "تفسيره" 2/ 406، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 408 وغيرهم موقوفا عليها. ورواه أبو داود مرفوعا (3254) كتاب: الأيمان، باب: لغو اليمين، والطبري 2/ 405، وابن حبان في "صحيحه" 10/ 176 وغيرهم، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/ 167: وصحح الدارقطني الوقف. (¬5) هو حماد بن أبي سليمان بن مسلم أبو إسماعيل الكوفي الأصبهاني، كان علامة إماما فقيه العراق، تفقه على إبراهيم النخعي فكان أنبل أصحابه وأفقههم، روى عنه تلميذه أبو حنيفة والأعمى وخلق كثير، توفي سنة 120هـ. ينظر "السير" 5/ 231 - 238، "الجرح والتعديل" 3/ 146. (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 443، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1030.

ينتضلون، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله وأخطأ، فقال الذي مع النبي عليه الصلاة والسلام: حنث الرجل يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (¬1) "كل (¬2) أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة (¬3) ". وكأن الفرزدق أراد هذا المعنى بقوله: ولسْتَ بمأخُوذٍ بلَغْوٍ تَقُولُه ... إذا لم تَعَمَّد عاقِداتِ العَزَائمِ (¬4) وقال ابن عباس في رواية الوالبي (¬5) ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬6): لغو اليمين، أن يحلف الإنسان على الشيء يُرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك، فهو خطأ منه غير عَمدٍ، ولا كفارة عليه فيه ولا إثم، ¬

_ (¬1) قوله: (فقال -صلى الله عليه وسلم-). ساقطة من (ش). (¬2) في (ي) و (ش). (كلا). (¬3) أخرجه الطبراني في: "المعجم الصغير" عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده 2/ 271 حديث رقم 1151. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 188: ورجاله ثقات إلا أن شيخ الطبراني يوسف بن يعقوب لم أجد من وثقهُ ولا جرحه، ورواه الطبري في "تفسيره" 2/ 412 عن الحسن قال ابن كثير: وهذا مرسل حسن عن الحسن، وقال الحافظ في "الفتح" 11/ 547: وهذا لا يثبت؛ لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن، لأنه كان يأخذ عن كل أحد. (¬4) البيت للفرزدق في "ديوانه" 2/ 307، وانظره في "طبقات فحول الشعراء" 2/ 336، "الدر المصون" 2/ 430، "والأغاني" 19/ 14، "المفردات" ص 52، "وضح البرهان" للغزنوي 1/ 207. (¬5) رواه عنه الطبري 2/ 406، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 408. (¬6) رواه في "تفسير مجاهد" 1/ 107، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 91، والطبري في "تفسيره" 2/ 407.

وهو قول الحسن (¬1) والنخعي (¬2) والزهري (¬3) وقتادة (¬4) والربيع (¬5) والسدي (¬6): وقال (¬7) في رواية وُسيم (¬8) (¬9): اللغو: اليمين في حال الغضب والضجر من غير عقدٍ ولا عزم، وهو قول علي (¬10) - رضي الله عنه - وطاوس (¬11). وقال ابن عباس (¬12) في رواية عكرمة ومسروق (¬13): اليمين الملغاة هي التي يحلف بها الحالف على أمر متى أمضاه وفعله كان معصية لله عز وجل، فهي ملغاة، إذ كان الواجب أن لا يستعمل ما حلف عليه. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 91، والطبري عنه 2/ 408. (¬2) رواه عنه سعيد بن منصور في "سننه" 4/ 1524، والطبري في "تفسيره" 2/ 407. (¬3) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1022، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 408، ضمن أهل القول الأول. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 91، والطبري في "تفسيره" 2/ 408، وعزاه في الدر 1/ 481 بمعناه إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 408، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 409. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 408، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 409. (¬7) رواه سعيد بن منصور 4/ 1533، والطبري في "تفسيره" 2/ 409، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 410. (¬8) في (م) (رستم) وفي (ي) (وسم). (¬9) وسيم أو الوسيم، قال البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في "الثقات": يروي عن طاوس عن ابن عباس، روى عه عطاء بن السائب، ولم يذكروا غيره. ينظر "التاريخ الكبير" 8/ 181، "الجرح والتعديل" 9/ 46. (¬10) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1024، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 179. (¬11) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 409، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1024. (¬12) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 411، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1026. (¬13) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 462، والطبري في "تفسيره" 2/ 411.

وقال الشعبي في الرجل يحلف على معصية: كفارته أن يتوب منها، وكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة (¬1). يدل عليه ما روى عمرو (¬2) بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على معصية الله فلا يمين له (¬3) ". وروت عمرة (¬4) عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على قطيعة رحم أو معصية، فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه" (¬5). وبه قال سعيد بن جُبير إلا أنه قال: يحنث ويكفِّر، ولا يؤاخذه الله بالحِنث (¬6). وقال الضحاك: هو اليمين المُكفَّرة (¬7)، سُميت لغوًا لأن الكفارة تُسقط منه الإثم، تقدير الآية: لا يؤاخذكم الله بالإثم في اليمين إذا كفرتم، وهذا اختيار الزجاج، قال: المعنى: لا يؤاخذكم الله بالإثم في (¬8) الحلف ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 411، وابن أبي شية في "المصنف"، القسم الأول من الجزء 4/ ص 33. (¬2) هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، من رجال الحديث، قال ابن حجر: صدوق، سكن مكة وتوفي بالطائف سنة 118 هـ. انظر "تقريب التهذيب" ص 423 (5050)، "الأعلام" 5/ 79. (¬3) أخرجه أبو داود رقم (2190) كتاب: الطلاق، باب: الطلاق قبل النكاح. (¬4) هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، تابعية روت عن عائشة توفيت سنة 103 هـ. انظر "التقريب" 750 (8643) "البداية والنهاية" 11/ 339، 503. (¬5) أخرجه ابن ماجه (2110) كتاب: الكفارات، باب: من قال كفارتها تركها. (¬6) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 375، والطبري 2/ 411. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 412، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1032. (¬8) من قوله: في اليمين. ساقطة من (أ) و (م).

إذا كفرتم، وإنما قيل له (¬1) لغو؛ لأن الإثم يسقط فيه إذا وقعت الكفارة (¬2). أعلم الله عز وجل أن الإثم إنما هو في الإقامة على ترك البر والتقى، وأن اليمين إذا كفرت فالذنب فيها مغفور. وجملة اليمين على مذهب الشافعي، رحمه الله: قِسْمٌ على الماضي (¬3) نفيًا أو إثباتًا مثل أن تقول: والله لقد كان كذا، أو لم يكن كذا. فإن كذب في يمينه متعمدًا فهذه الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، وفيها (¬4) الكفارة، وإذا (¬5) لم يتعمد واستبان الكذب فلا كفارة. القسم الثاني: اليمين (¬6) على المستقبل نفيًا أو إثباتًا، مثل: والله لأفعلن، أو والله لا أفعل، فإن حَنِثَ لزمته الكفارة، وحالة الرضا والغضب سواء (¬7). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: عزمتم وقصدتم، لأن كسب القلب العقد والنية (¬8). وقال الزجاج: أي: بعزمكم على أن لا تبروا وأن لا تتقوا، وأن ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ) و (م). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 299. (¬3) في (ي): (المعاصي). (¬4) في (م) و (أ): (فيها). (¬5) في (ي) و (ش): (فإن). (¬6) ساقطة من (ي). (¬7) ينظر: "الأم" 7/ 64، "والسنن الكبرى للبيهقي" 10/ 36، "تفسير الثعلبي" 2/ 1033، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" لابن المنذر 1/ 422، "اختلاف العلماء" للمروزي 212. (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1032.

226

تَعْتلَّوا في ذلك بأنكم حلفتم (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} معنى الحِلْم في كلام العرب: الأَنَاةُ والسُكُون، والعَرب تقول: ضَعِ الهَوْدَجَ على أحْلَمِ الجِمال، أي: على أَشَدِّها تَؤُدَةً في السير. ومنه الحُلُم؛ لأنه يُرَى في حال السكون، وحَلَمَةُ الثدي لأنها تُحَلِّم المرتَضِعَ، أي: تُسَكِّنُه، والحَلَمَةُ: القُراد، مُشَبَّهَةً بِحَلَمَةِ الثَّدْي (¬2)، ومعنى الحليم في صفة الله: الذي لا يَعْجَل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكافرين والعُصَاة (¬3). 226 - قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} قال سعيد بن المسيب: كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدًا، فكان يتركها بذلك لا أَيَّمًا ولا ذاتَ بعلٍ، يُضَارُّها، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله تعالى الأجل الذي يُعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 299. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 908، "المفردات" ص 136، "عمدة الحفاظ" 1/ 516 - 518، "اللسان" 2/ 979 - 982. قال الراغب: الحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام، قال الله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} [الطور: 32] قبل معناه: عقولهم، وليس الحلم في الحقيقة هو العقل، لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل. (¬3) قال السمين الحلبي في عمدة الحفاظ 1/ 516: الحلم: أصله ضبط عن هيجان الغضب، وإذا ورد في صفات الله فمعناه: الذي لا يستفزه عصيان العصاة، ولا يستخفه الغضب عليهم. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1038، والواحدي في "أسباب النزول" ص 80، 81, وابن حجر في "العجاب" 1/ 579. وذكره بنصه بلا نسبة الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 300 - 301، وروى سعيد بن منصور 2/ 51 [ط. حبيب الرحمن] والطبراني =

ويقال: آلى يُولي إِيلاء، وتألّي يَتَألَّى تألِّيًا وائتلى يَأتلي ائتلاءً، قالت الخنساء: فآليْتُ آسَى عَلَى هَالِكِ ... وأسْألُ نَائِحَةً مَالَهَا (¬1) وقال زيد الفوارس (¬2): تالى ابنُ أوسٍ حَلْفةً ليَرُدَّني ... إلى نِسوَةٍ كأنَّهُنَّ مقائد (¬3) ومن هذا قراءة من قرأ: {ولا يتأل أولوا الفضل منكم} [النور: 22] وقراءة العامة (ولا يأتلِ) (¬4) من الإيتلاء بمعنى الحلف، ويقال لليمين: الأَلِيَّةَ والأُلوّة والأَلُوّة (¬5) كلها بالتشديد، وحكى أبو عمرو (¬6) أَلْوَةٌ وإِلْوَهٌ ¬

_ = في "المعجم الكبير" 11/ 127، والواحدي في "أسباب النزول" ص 80، 81 عن ابن عباس قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، وأكثر من ذلك، فوقت الله أربعة أشهر. (¬1) البيت للخنساء في رثاء أخيها صخر، ينظر ديوانها ص120. تقول: لا أبكي على هالك بعده فقد شغلني عن غيره. (¬2) هو زيد بن حصين بن ضرار الضبي، فارس شاعر جاهلي، أورد البغدادي قليلًا من أخباره وأبياتاً له، واختار أبو تمام في "الحماسة" أبياتاً أخرى من شعره. ينظر "خزانة الأدب" للبغدادي 1/ 516، 517، "الأعلام" 3/ 58. (¬3) البيت ذكره في "الدر المصون" 8/ 394. (¬4) قرأ أبو جعفر: (يتأل) بهمزة مفتوحة بين التاء واللام مع تشديد اللام مفتوحة، وهي قراءة عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة مولاه، وزيد بن أسلم، وقرأ الباقون بهمزة ساكنة بين الياء والتاء وكسر اللام خفيفة، قال في النشر 2/ 331: وذكر الإمام المحقق أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم القراب، في كتابه: "علل القراءات": أنه كتب في المصاحف (يتل) قال: فلذلك ساغ الاختلاف فيه على الوجهين. ينظر النشر2/ 331، و"البدور الزاهرة" ص271. (¬5) ساقطة من (ش) و (ي). (¬6) ساقطة من (ي).

وأُلوَةٌ ثلاث لغات مخففة في اليمين، وذكرها يعقوب (¬1). قال كثيّر: قَلِيلُ الأَلايَا حَافِظٌ ليمينه ... فإن سَبَقَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ (¬2) وقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} قال أهل المعاني: الآية مختصرة، وما وقع عليه الإيلاء محذوف، وهو اعتزال النساء، كأنه قيل: للذين يؤلون أن يعتزلوا نسائهم تربص أربعة أشهرٍ، فحذف ما حذف لبيان معناه، وذلك أنه معلوم أن الحلف لا يكون إلّا على شيء يؤكّدُ ويحقق (¬3) (¬4). و (مِنْ) في (¬5) قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} عند بعضهم من صلة التربص، كأنه قيل: للذين يؤلون تربص أربعة أشهر من نسائهم، أي: يتربصون عنهن هذه المدة. وحكى ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة أن (من) هاهنا بمعنى على، وحروف الصفات متعاقبة، والتقدير عنده: للذين يحلفون على وطء أو في ¬

_ (¬1) ينظر في آلى: "تفسير الطبري" 2/ 417، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 301، "تهذيب اللغة" 15/ 178 - 180، "المفردات" 32، "عمدة الحفاظ" 1/ 120 - 122، "اللسان" 1/ 117 - 120. قال الراغب: وحقيقة الإيلاء والألية: الحلف المقتضي لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه. وجعل الإيلاء في الشرع للحلف المانع من جماع المرأة. أي: مدة أربعة أشهر فأكثر. (¬2) البيت لكثير عزة في "ديوانه" 2/ 220. وفي "البحر المحيط" 2/ 176، "التفسير الكبير" 6/ 86، وذكره في "اللسان" 1/ 117 بغير نسبة قال: ورواه ابن خالويه: قليل الإلاء. وفيه: وإن سبقت. (¬3) في (ي) و (ش) (تحقق). (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1040. (¬5) ساقطة من (ي).

وطء نسائهم، فأقام الصفة مقام الصفة، وحذف المضاف، وأقام النساء مقامه (¬1). والتربص: التَّلَبُّثُ والانتظار، تَرَبَّصْتُ بالشيء تَرَبُّصًا، ويقال: ما لي على هذا الأمر رُبْصَةٌ، أي: تلبث (¬2). وإضافة التربص إلى الأربعة أشهر أضافة المصدر، كقولك: بينهما مسيرة يوم، أو مسيرة في يوم، ومثله كثير. وأما تفسير الإيلاء الشرعي وحكمه، فكل (¬3) يمين يحلفها الرجل ويصير بها ممتنعًا من جماع امرأته أكثر من أربعة أشهرٍ فهو إيلاء، وما كان دون أربعة أشهر فليس بإيلاء. وإن حلف على أربعة أشهر، فقد اختلف الصحابة فيه، فذهب الأكثرون إلى أنه غير مُوْلي، وذهب ابن عباس إلى أنه مُولٍ. (¬4) ¬

_ (¬1) ينظر في معنى (من): التبيان ص 136، "تفسير الرازي" 6/ 86، "البحر المحيط" 1/ 181 وقال: (من) يتعلق بقوله: يؤلون، وآلى لا يتعدى بمن، فقيل: (من) بمعنى على، وقيل بمعنى في، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي: على ترك وطء نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم، وقيل: (من) زائدة، والتقدير: يؤلون أن يعتزلوا نساءهم، وقيل يتعلق بمحذوف، والتقدير: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف، قاله الزمخشري، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه، وإنما يتعلق بـ يؤلون على أحد وجهين: إما أن يكون (من) للسبب، أي: من يحلفون بسبب نسائهم، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع فيعدى بمن، فكأنه قيل: للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم. (¬2) ينظر في تربص: "تهذيب اللغة" 2/ 1344 مادة "ربص"، "تفسير الثعلبي" 2/ 1041، "المفردات" 192، "عمدة الحفاظ" 2/ 68. (¬3) في (ي) و (ش) (وكل). (¬4) ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 208، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 360.

وحالة الرضا والغضب سواء، إلا فيما يحكى عن علي رضى الله عنه أنه كان يقول: الإيلاء يمين في الغضب، فإذا حلف في حال الرضا فليس بإيلاء (¬1). ثم إن جامع قبل مضي أربعة أشهر لزمته (¬2) الكفارة عند عامّة الفقهاء والنكاح ثابت، وذهب الحسن (¬3) (¬4) وقتادة (¬5) إلى أنه لا كفارة عليه، لقوله: {فَإِن فَاَءُو فَإِنَّ اَللهَ غَفُوُرٌ} رَحِيمٌ، وإن لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة عند أبي حنيفة (¬6)، ولا رجعة له، وهو قول ابن مسعود (¬7) وزيد بن ثابت (¬8) وقتادة (¬9) والكلبي (¬10). وعند الشافعي (¬11): أنه إذا مضت أربعة أشهر والرجل ممتنع، فإن عفت المرأة ولم تطلب حقها من الجماع فلا شيء على الرجل، ولا يقع طلاق، وهما على النكاح ما أقامت على ذلك، وإن طلبت حقها وقف ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" / 451، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 141، والطبري في "تفسيره" 2/ 417 - 418، وعزاه في "الدر" 1/ 482 إلى عبد بن حميد. (¬2) في (م): (لزمه). (¬3) في (ي): (أبو الحسن). (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 426. (¬5) المصدر السابق. (¬6) ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 208، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 360. (¬7) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 454، وسعيد بن منصور 2/ 51، والطبري في "تفسيره" 2/ 428. (¬8) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 453، والطبري في "تفسيره" 2/ 428. (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 428. (¬10) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1043. (¬11) ينظر: "الأم" 5/ 287، و"الرسالة" ص 576.

الحاكم زوجها فإما أن يطلق، وإما أن يطأ، فإن أباهما جميعًا طلق الحاكم عليه، وله أن يراجعها. وهذا قول عُمَر (¬1)، وعثمان (¬2)، وعلي (¬3)، وأبي الدرداء (¬4) وابن عُمر (¬5) وعائشة (¬6)، ومذهب مالك (¬7). وأبي ثور (¬8) (¬9) وأبي عبيد (¬10) وأحمد (¬11) وإسحاق (¬12) وعامة أهل الحديث. ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 433. (¬2) رواه البخاري (5291) كتاب: الطلاق، باب: قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} معلقا على قول عثمان، ورواه الشافعي في "الأم" 5/ 282 موصولا، والطبري في "تفسيره" 2/ 433. (¬3) رواه البخاري في الموضع السابق معلقا؛ ورواه موصولا: الشافعي في الأم 5/ 282، والطبري في "تفسيره" 2/ 434. (¬4) رواه البخاري في الموضع السابق معلقا، ورواه موصولا عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 457، والطبري 2/ 434. (¬5) رواه البخاري في الموضع السابق، والطبري في "تفسيره" 2/ 434. (¬6) رواه البخاري في الموضع السابق معلقا، ورواه موصولا الشافعي في الأم 5/ 282، والطبري في "تفسيره" 2/ 343. (¬7) ينظر "الموطأ" 2/ 556، "والكافي" لابن عبد البر 2/ 599. (¬8) هو: إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي البغدادي، الفقيه مفتي العراق، أحد الحفاظ المجتهدين، حجة رغم جرح أبي حاتم الخفيف بسبب أخذه بالرأي، توفي سنة 240 هـ. ينظر "الجرح والتعديل" 2/ 372، "تاريخ بغداد" 6/ 65، و"السير" 12/ 72. (¬9) ينظر: "اختلاف العلماء" للمروزي ص 183، و"الإشراف" لابن المنذر 1/ 228. (¬10) ينظر المرجعين السابقين. (¬11) ينظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 1119. (¬12) "سنن الترمذي" (1201) كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء في الايلاء، والإشراف 1/ 228.

وقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} أي: رجعوا، والفَيْءْ في اللغة: الرجوعُ. قال الفراء: يقال: فاء يفيء فيئًا (¬1) وفُيُوءًا (¬2) (¬3) وفَيْئةً، وهي المرَّة (¬4) الواحدة (¬5)، وإنما يصير راجعًا بالجماع، ويكفى من ذلك تغييب (¬6) الحشفة في فرجها مرة واحدة (¬7). وقال قوم: الفيء باللسان، وهو مذهب النخعي (¬8)، وإن كان عاجزًا عن الجماع بمرض أو غيبة فاء بلسانه، وأشهد عليه. وقد ذكرنا أنه إذا فاء لزمته الكفّارة إلا عندَ الحسن وقتادة (¬9)، لقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والذين يوجبون الكفارة يقولون: هذا في إسقاط العقوبة لا في الكفارة (¬10). ¬

_ (¬1) في (ش): (فئيًا). (¬2) في (ش): (فُؤَرًا). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 145 بمعناه (¬4) في (أ) و (م): (المرأة). (¬5) ينظر في معنى الفيء: "تهذيب اللغة" 3/ 2711، "المفردات" ص 390، وقال: الفيء والفيئة: الرجوع إلى حالة محمودة، "اللسان" 6/ 3495، وذكر الأزهري: أن الفيء في القرآن على ثلاثة معان، مرجعها إلى أصل واحد هو الرجوع، ثم ذكر أولها وهي الفيء في هذه الآية، والثاني: قوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48]، فالفيء الظل بعد العشي، والثالث: قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7]، فالفي: ما رد الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال. (¬6) في (م): (تغيب). (¬7) ينظر: "الإشراف" 1/ 288، "والأم" 5/ 287، "تفسير الثعلبي" 2/ 1047. (¬8) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 423، وعبد الرزاق في "المصنف" 6/ 462. (¬9) سبق تخريجه عنهما. (¬10) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1047.

227

227 - قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} الآية، العَزْم: عقد القلب على الشيء، عزم على الشيء يَعْزِم عَزْمًا وعُزْمًا وعَزِيمةً، ذكرها الفراء (¬1)، اعتزم اعتزامًا، وعزمت عليك لتفعلنّ، أي: أقسمت (¬2) (¬3). والطلاقُ: مصدرُ طَلُقتِ المرأةُ تطلُق طَلاقًا (¬4)، وقال الليث: طَلُقَتِ المرأة، بضم اللام، تَطْلُق طلاقًا، وقال ابن الأعرابي: طَلُقَتْ من الطلاق أجود، وطَلَقَتْ بفتح اللام جائز (¬5) (¬6). ومعنى الطلاق: هو حل عقد النكاح بما يكون حلًّا في الشرع، وأصله من الانطلاق وهو الذهاب، والطَّلاق: انطلاق المرأة، والأولى (¬7) أن يكون الطلاق هاهنا اسمًا من التطليق، كالسراح اسم من التسريح يوضع موضع المصدر، لأن المراد هاهنا التطليق (¬8). وهذه الآية دليل على أنها لا (¬9) تَطْلقُ بعد مضي الأربعة أشهر ما لم ¬

_ (¬1) لم أجده في مظانه من "معاني القرآن" له. (¬2) ينظر في عزم: "تهذيب اللغة" 3/ 2425، "المفردات" 337، "عمدة الحفاظ" 3/ 86، "اللسان" 5/ 2932 - 2933. (¬3) ينظر عزم "تهذيب اللغة" 2/ 152، "والمفرادت" 337، "وعمدة الحفاظ" 3/ 86 واللسان 12/ 398 - 401. (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2209 مادة "طلق". (¬5) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2209، وتتمة كلامه: ومن الطلق طُلقت، وكلهم يقول: امرأة طالق بغير هاء. (¬6) ينظر في طلق: "تهذيب اللغة" 2209 - 2212، "المفردات" ص 309، "عمدة الحفاظ" 2/ 476 - 477، "اللسان" 4/ 2692 - 2696. (¬7) ساقطة من (ي). (¬8) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 192. (¬9) ساقطة من (ي).

228

يطلقها زوجها أو السلطان؛ لأنه شرط فيه (¬1) العزم، ولأنّ (¬2) السماع يقتضي مسموعًا، والقول هو الذي (¬3) يُسمَعُ فالسماع راجع إلى الطلاق. فإن قيل: العزم عزم القلب لا لفظ اللسان، فإلى أي شيء يرجع السماع؟ قلنا: الرجل يعزم بقلبه ثم يطلق بلسانه، وقد ذكر الله العزم والمراد منه إنشاء اللفظ وهو قوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. وما نهى عن النية؛ لأن التعريض بالخطبة مباح في عدة الوفاة والتعريض بالخطبة يتضمن القصد بالقلب وزيادة، وإنما حرم إنشاء عقد النكاح قبل أن يبلغ الكتاب أجله (¬4). 228 - قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية. المطلقات: المُخَلَّيات من حبال الأزواج (¬5) (¬6)، أراد المطلقات المدخول بهن البالغات غير الحوامل؛ لأن في الآية بيان عدتهن. وذكرنا معنى التربص. ومعنى الآية: أنهن ينتظرن بِأَنفُسِهِنَّ (¬7) انقضاء ثلاثة قروء أو مضي ثلاثة قروء (¬8) ولا يتزوَّجن، لفظه خبر ومعناه الأمر، كقوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، ومثله كثير (¬9). ¬

_ (¬1) في (ي) (في). (¬2) الواو: ساقطة من (ي). (¬3) في (ي) (الذي هو). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1048، "تفسير الرازي" 6/ 89 - 90. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1050. (¬6) ساقطة من (ي). (¬7) ساقطة من (ي). (¬8) زيادة من (ي). (¬9) ينظر: "الكشاف" "التبيان" ص 136، "البحر المحيط" 1/ 185.

قال الزجاج: هو كما تقول: حسبك درهم، لفظه خبر ومعناه: اكتف بدرهم. وقال غيره: معناه (¬1): يتربصن في حكم الله الذي أوجبه، فحذف للدلالة عليه (¬2). وقيل: أراد: ليتربصن، فحذف اللام (¬3). والقُرُوْءُ: جمع قُرْءٍ (¬4)، وجمعه القليل أَقرء، والكثير: أَقْراء وقروء (¬5). وهذا الحرف من الأضداد يقال للحِيَض: قُرُوءٌ، وللأَطهارِ: قُروء، والعَربُ تقول: أَقْرَأتِ المرأةُ. في الأمرين جميعًا. وعلى هذا يونس (¬6) وأبو عمرو بن العلاء (¬7) (¬8) وأبو عبيد أنها من الأضداد (¬9) (¬10)، وهي في لغة ¬

_ (¬1) ساقطة من (ي). (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 185. (¬3) ينظر: "التبيان" ص 136، "البحر المحيط" 2/ 185، واستبعد هذا القول جدا. (¬4) في (ش) (قرؤ). (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1051، قال في "اللسان" 6/ 3564 مادة "قرأ": والجمع أقراء، وقروء على فُعول، وأقرؤ، الأخيرة عن اللحياني في أدنى العدد، ولم يعرف سيبويه أقراءً ولا أقرؤًا، قال: استغنوا عنه بفعول. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 304. (¬7) هو: زبان بن العلاء بن عمار التميمي البصري، أحد القراء السبعة المشهورين، كان إماما في التفسير والعربية، توفي سنة 154هـ. ينظر معرفة القراء الكبار 1/ 100، "الأعلام" 3/ 41. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 304. (¬9) من قوله: يقال للحيض .. ساقط من (ي). (¬10) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2912 - 2913 مادة: (قرأ).

العرب مُستعملة في المعنيين (¬1) جميعًا (¬2)، وكذلك في الشرع (¬3). أما في استعمال العرب فقد أنشد الأئمة حجة للحيض قول الراجز: له قُرُوءٌ كَقُروء الحائضِ (¬4). وأنشدوا حجةً للطُّهْر قول الأعشى: ما ضَاعَ فيها من قُرُوءِ نِسَائِكَا (¬5) والذي ضاع الأطهار لا الحيض؛ لأنه خرج إلى الغزو فلم يغش نساءه. وأما في الشرع فقال (¬6) النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة "تنتظر (¬7) أيام أقرائها ¬

_ (¬1) في (م) (الأمرين). (¬2) قال الراغب ص 399 - 400: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسما جامعا للأمرين الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد منهما؛ لأن كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد كالمائدة للخوان وللطعام، ثم قد يسمى كل واحد بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا بدلالة أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمِر بها الدم والنفساء لا يقال لها ذلك. (¬3) ينظر في القرء: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 174 - 175، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 302 - 304، "تهذيب اللغة" 3/ 2912 - 2914 مادة (قرأ)، "المفردات" ص 399 - 400، "عمدة الحفاظ" 3/ 338 - 340، "اللسان" 6/ 3564 - 3565 مادة (قرأ). (¬4) ذكره الزجاج بقوله: وأنشدوا في القرء والحيض، ينظر "معاني القرآن" 1/ 303. (¬5) مطلع البيت: مورِّثةً مالا وفي الأصل رفعة البيت في "ديوان الأعشى" ص 67، "مجاز القرآن" 1/ 74، ينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 304. (¬6) في (ي): (فقد قال). (¬7) في (م): (ينتظر).

وتغتسل فيما سوى ذلك" (¬1) يعنى: أنها تجلس عن الصلاة أيام حيضها، فالخبر دليل على أن الأقراء قد يكون الحيض، وأما استعمال الشرع إياها في الأطهار، فقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أي: ثلاثة أطهار، يدل عليه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: لوقت عدتهن وزمان عدتهن، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن وقت العدة: زمان الطهر في حديث ابن عُمر، وهو أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك" (¬2) فبين أن زمان الطلاق الطهر؛ لتكون المرأة مستقبلة العدة. ومن هذا الاختلاف في اللغة وقع الخلاف في الأقراء بين الصحابة وفقهاء الأمة. فعند علي (¬3) وابن مسعود (¬4) وأبي موسى الأشعري (¬5) ومجاهد (¬6) ومقاتل (¬7) وفقهاء الكوفة (¬8): أنها الحيض. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في الطهارة، باب: في غسل المستحاضة 1/ 202، وأحمد في "المسند" ص 3/ 323. (¬2) أخرجه البخاري رقم (5258) كتاب: الطلاق، باب: من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، ومسلم (1471) كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 315، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 332 [ط. حبيب الرحمن]، والطبري 2/ 441، وعزاه في "الدر" 6/ 349 إلى الشافعي وعبد بن حميد. (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 316، والطبري في "تفسيره" 2/ 439. (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 317، والطبري في "تفسيره" 2/ 440. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 108، ورواه الطبري في "تفسيره" 2/ 439، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 415. (¬7) هو ابن حيان. ينظر "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 415، والحيري في "الكفاية في التفسير" 1/ 179. (¬8) ينظر "مختصر الطحاوي" ص 217، و"شرح معاني الآثار" 3/ 64، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 364.

وعند زيد بن ثابت (¬1) وابن عمر (¬2) وعائشة (¬3) ومالك (¬4) والشافعي (¬5) وأهل المدينة (¬6): أنها الأطهار. وهذا الخلاف فيما ذكر منها في العدة، فأما كونها حيضًا وطهرًا وأن (¬7) اللفظ صالح لهما جميعًا، فمما لا يختلف فيه أحد (¬8). وأصل هذا اللفظ واشتقاقه مختلف فيه أيضًا (¬9)، قال أبو عبيد: أصله من دُنُو وِقت الشيء (¬10)، وروى الأزهري عن الشافعي: أن القرء اسم للوقت، فلما كان الحيض يجيء لوقتٍ والطهر يجيء لوقت (¬11)، جاز أن يكون الأقراء حيضًا وأطهارًا (¬12). وذكر أبو عمرو بن العلاء أن القرء: ¬

_ (¬1) رواه مالك في "الموطأ" 2/ 577، والشافعي في الأم 5/ 224، والطبري 2/ 442. (¬2) رواه مالك في "الموطأ" 2/ 577، والطبري في "تفسيره" 2/ 443. (¬3) رواه مالك في "الموطأ" 2/ 576، والشافعي في "الأم" 5/ 224، والطبري في "تفسيره" 2/ 442. (¬4) "الموطأ" 2/ 578، و"التمهيد" 15/ 85. (¬5) "الرسالة" ص 569، و"الأم" 5/ 224. (¬6) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1056. (¬7) في (ي) (فإن). (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1061. (¬9) ينظر في القرء: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 74، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 174 - 175، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 302 - 304، "تهذيب اللغة" 3/ 2912، "المفردات" ص 399 - 400، "عمدة الحفاظ" 3/ 338 - 340، "اللسان" 3/ 2912 - 2913. (¬10) في "تفسير الثعلبي" ذكر أبا عبيدة وهو عنده في "مجاز القرآن" 1/ 74. (¬11) قوله: والطهر يجيء الوقت. ساقط من (ش). (¬12) "تهذيب اللغة" 3/ 2912.

الوقت، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر، ويقال: هذا قارئ الرياح، لوقت هبوبها (¬1) وأنشد أهل اللغة للهذلي: إذا هَبَّتْ لِقَارِئِها الرِّيَاحُ (¬2) أي: لوقت هبوبها، (¬3) (¬4) ومن هذا يقال: أَقْرَأَتِ النُّجُوم، إذا طَلَعَتْ، وأَقْرَأَتْ، إذا أَفَلَتْ (¬5)، قال كُثَيِّر: إذا ما الثُّرَيّا وقد أقْرَأَتْ ... أحسَّ السَّمَاكَانِ منها أُفُولاَ (¬6) أي: غابت، وأنشد ابن الأعرابي عن أحمد بن يحيى: مواعيد لا يأتي لقَرْءٍ حويرها (¬7) ... تكون هبا يوم نكباء صرصرا (¬8) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 304، "تهذيب اللغة" 3/ 2913، ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 60 عن أبي عمرو. (¬2) مطلع البيت: شَنِئْتُ العَقْر عَقْر بني شَلَيْلٍ والبيت لمالك بن الحارث الهذلي، ينظر "ديوان الهذليين" 3/ 83، والطبري في "تفسيره" 2/ 444، "لسان العرب" مادة: قرأ 6/ 3565 ينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 304، ورواية الثعلبي 2/ 1062: كرهت، ورواية "اللسان": لقارئها. وقوله: شنئت: أي: (كرهت)، والعقر: مكان، وهبت لقاريها: لوقت هبوبها. وشليل: جد جرير بن عبد الله البجلي ينظر "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 239. (¬3) من قوله: (وأنشد) .. زيادة من (ي) و (ش). وهنا ينتهي كلام أبي عمرو كما في "تهذيب اللغة". (¬4) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 304 - 305. (¬5) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1062. (¬6) البيت ليس في "ديوانه" الذي بتحقيق إحسان عباس، وهو في "تفسير الطبري" 2/ 444، "تفسير الثعلبي" 2/ 1062، "النكت والعيون" 1/ 291 بلا نسبة، والسماكان: نجمان نيران. ينظر "لسان العرب" 4/ 2099 مادة "سمك". (¬7) في (ش): (حويزها). (¬8) البيت لم أهتد لقائله ولا من ذكره.

أي: لا تأتي (¬1) لوقت رجوعها (¬2)، قال: والقُرُءُ: الأوقات، واحدها قَرْؤٌ، فعلى هذا الأصل القَرْؤ يجوز أن يكون الحيض، لأنه وقت سيلان الدم، ويكون الطُّهْر لأنه وقت إمسَاكِهِ، على عادة جارية فيه (¬3). وقال قوم: أصل القرء: الجمع، يقال: ما قَرَأَتِ الناقةُ سَلًا قَطّ، أي: ما جَمَعَتْ في رحمها ولدًا قَطُّ، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم: هِجَانِ اللونِ لم تَقْرأْ جَنِيْنَا (¬4) وقال الأخفش: يقال: ما قَرَأَتْ حَيْضَةً، أي: ما ضمت (¬5) رحمها على حيضة (¬6)، والقرآن من القرء الذي هو الجمع، وقرأ القارئ: أي جمع الحروف بعضها إلى بعض في لفظِهِ. وهذا الأصل يقوي أن الأقراء هي الأطهار (¬7). قال أبو إسحاق: والذي عندي في حقيقة هذا أن القرء الجمع (¬8) في اللغة، وأن قولهم: قريت الماء في الحوض وإن كان قد لزم (¬9) الياء فهو ¬

_ (¬1) في (ش): (لا يأتي). (¬2) ساقطة من (ش). (¬3) ينظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 77 - 78، "تفسير الطبري" 2/ 444، "والأضداد" لابن الأنباري 26، "تفسير الثعلبي" 2/ 1062. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ش): (صمت). (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 174، ولفظه: ما قرأت حيضة قط. (¬7) ينظر: "الأضداد" لقطرب ص 108، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 29، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 305، "تفسير الثعلبي" 2/ 1063. (¬8) في (ش): (تجمع). (¬9) في (ش): (ألزم).

جمعت، وقرأت القرآن لفظت به مجموعًا، والقرد يقرى، أي: يجمع ما يأكل في فيه (¬1)، فإنما القُرء اجتماع الدم في الرحم، وذلك إنما يكون (¬2) في الطهر. هذا كلامه (¬3). وذكر أبو حاتم عن الأصمعي أنه قال في قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}: جاء هذا على غير قياس، والقياس: ثلاثة أَقْرؤ؛ لأن القروء للجمع الكثير (¬4)، ولا يجوز أن تقول: ثلاثة فلوس، إنما يقال: ثلاثة أفلس (¬5)، فإذا كثرت فهي الفلوس (¬6). قال أبو حاتم: وقال النحويون في هذا: أراد ثلاثة من القروء (¬7). وقال أهل المعاني: لما كانت كلُّ مطلقة يلزمها (¬8) هذا، دخله معنى الكثرة، فأتي بناء الكثير (¬9) للإشعار بذلك، فالقروء (¬10) كثيرة إلا أنها في القسمة ثلاثة ثلاثة. فمن قال: القرء: الحيض، قال: لا تخرج المرأة من عدتها ما لم ¬

_ (¬1) في (ي): (وقته) (¬2) ساقطة من (ي). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 305، وينظر في بسط أدلة القولين والترجيح بينهما: "تفسير الثعلبي" 2/ 1051 - 1064، " التفسير الكبير" 6/ 94 - 98، "زاد المعاد" 5/ 629. (¬4) في (ي): (الكبير). (¬5) ساقطة من (ي). (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2912. (¬7) انظر المصدر السابق مادة "قرأ". (¬8) في (ش) و (ي): (يلزمه). (¬9) في (ي): (الكثيرة). (¬10) في (أ) و (م): (قال: فالقروء).

تنقض الحيضة الثالثة، ومن قال: إنها الأطهار، قال: إن طلقها في خلال الحيض لم يحتسب (¬1) كسر زمان الحيض من العدة، وعدتها ثلاثة أطهار كوامل، وإن طلقها وهي طاهر كانت بقية الطهر محسوبةً طهرًا ثم عليها طهران آخران (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الرحم: منبت الولد ووعاؤه في البطن، قال عكرمة (¬3) وإبراهيم (¬4): يعنى: الحيض، وهو أن تكون المرأة في العدة، فأراد الرجل أن يراجعها فقالت: إني قد حضت الثالثة. وقال ابن عباس (¬5) وقتادة (¬6) ومقاتل (¬7): يعنى: الحبل والولد. وهذا القول أولى؛ لأن قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} أدل على الولد منه على الحيض، كقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} [آل عمران: 6]، ومعنى الآية: لا يحل لهن أن يكتمن الحمل ليبطلن حق الزّوج من الرجعة والولد (¬8). ¬

_ (¬1) في (م) (يحتسبه). (¬2) ينظر في الأحكام: "المحرر الوجيز" 2/ 272، "التفسير الكبير" 6/ 94 - 95. (¬3) رواه عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 233، والطبري في "تفسيره" 2/ 447، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 416. (¬4) رواه عنه ابن أبي شيبة 5/ 234، والطبري 2/ 446، والبيهقي 7/ 420. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 449، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 44، وروى ابن أبي شيبة عنه في "المصنف" 5/ 234 الجمع بين القولين. (¬6) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 330، والطبري في "تفسيره" 2/ 449، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 415. (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 194. (¬8) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 305 - 306.

وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} الآية، وذلك أن المرأة السوء تكتم الحبل شوقًا منها إلى الزوج، وتستبطئ (¬1) العدة؛ لأن عدة ذات الحمل أن تضع حملها (¬2)، ذكر هذا في سورة الحج في قوله: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]. وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} معناه: من كان مؤمنًا (¬3) بالله واليوم الآخر (¬4) فهذه صفته فيما يلزمه، لا أنه على المؤمن دون غيره. قال (¬5) أبو إسحاق: وهذا كما تقول للرجل يظلم (¬6): إن كنت مؤمنًا فلا تظلم، لا تقول له هذا مُطْلِقًا الظلمَ لغيرِ المؤمن، ولكن المعنى: إن كنت مؤمنًا فينبغي أن يحجزك إيمانك عن ظلمي (¬7). وفي هذه الآية أمر متوجه على النساء في إظهار ما يخلق (¬8) الله في أرحامهن من الحيض والولد، وهن مُؤَمناتٌ على ذلك، إذ لا مرجع إلى غيرهن فيه، فإن كتمن أثمن وفسقن بالخيانة في الأمانة، وإذا أخبرن واحتمل ما قلن وجب الرجوع إلى قولهن، وإن كن متهمات فعليهن اليمين، وقد أغلظ الله القول عليهن حيث قال: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. ¬

_ (¬1) في (م): (تستنظر). (¬2) تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي ص 92. (¬3) في (م): (يؤمن). (¬4) من قوله: (معناه). ساقط من (ي). (¬5) في (ي) و (ش): (وقال). (¬6) في (ش): (تظلم). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 306. (¬8) في (ي): (خلق).

وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} البُعُولَة: جمع بَعْل، كالفُحُولة والذُّكُورة والخُؤُولَة والعُمُومة، وهذه الهاء زيادة (¬1) مؤكدة تأنيث الجماعة، ولا يجوز إدخالها في كل جمع إلا فيما رواه أهل اللغة عن العرب، لا تقول في كعب: كُعُوبة، ولا في كلب: كلابة (¬2). والبعولة أيضًا: مصدر البَعْل، يقال: بَعَل الرجل يَبْعَلُ بُعُولةً، إذا صار بَعْلًا، أنشد يعقوب (¬3): يارُبَّ بَعْلٍ سَاء ما كان بَعَلْ (¬4) ومن هذا يقال (¬5) للجماع ومُلاعَبَةِ الرَّجُلِ أهلَه: بِعَال، يقال للمرأة: هي تُباعِل زوجَها بِعالًا، إذا فَعَلتْ ذلك معه. ومنه قول الحُطَيْئَة: وكَمْ من حَصَانٍ ذاتِ بعْلٍ تَرَكْتها ... إذا الليلُ أَدْجَى لم تَجِدْ مَنْ تباعِلُه (¬6) وامرأةٌ حَسَنَةُ التَّبَعُّل: إذا كانت تحْسِنُ عِشْرَة زَوْجها. ¬

_ (¬1) في (ي) (زائدة). (¬2) من كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 306 بتصرف، وفيه زيادة: لأن القياس في هذه الأشياء معلوم. (¬3) هو: أبو يوسف يعقوب بن أسحاق السكيت النحوي اللغوي، تقدمت ترجمته 2/ 51، [البقرة: 2]. (¬4) البيت ورد بغير نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 363 (بعل). (¬5) ساقطة من (م). (¬6) البيت من الطويل، وهو للحطيئة في "ديوانه" ص80، "تهذيب اللغة" 1/ 363 "لسان العرب" 1/ 316 مادة: بعل. وأراد: أنك قتلت زوجها أو أسرته.

ومنه الحديث "إذا أَحْسَنْتُنّ تَبَعُّلَ أَزْوَاجِكُن (¬1) (¬2) ". ومعنى {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، أي: إلى النكاح والزوجية، يعنى: أحق بمراجعتهن (¬3) {فِي ذَلِكَ} أي: في الأجل الذي (¬4) أمرن أن يتربصن فيه. {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} لا إضرارًا، وذلك أن الرجل في الجاهلية إذا أراد الإضرار بامرأته، طلقها واحدةً وتركها حتى (¬5) إذا قرب انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، ثم راجعها، يضارها بذلك، فالله تعالى جعل الزوج أحق بالرجعة على وجه الإصلاح، لا على الإضرار (¬6). ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي وعن رضاها وعن تسمية مهر، وإذا راجعها سقطت بقية العدة وحل جماعها في الحال. والاحتياط الإشهاد على الرجعة. ولفظ الرجعة أن تقول: راجعتك أو رددتك إلى النكاح. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 6/ 420 - 421، برقم (8743)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 1788 في ترجمة أسماء بنت زيد الأشهلية، و"تاريخ واسط" ص 75. (¬2) ينظر في مادة: بعل "معاني القرآن" للزجاج 1/ 306، "تهذيب اللغة" 1/ 316، "تفسير الثعلبي" 2/ 1066، "المفردات" 64 - 65، "اللسان" 1/ 362 - 363. قال الراغب: ولما تُصور من الرجل الاستعلاء على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، سمي باسمه كلُّ مستعل على غيره، فسمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله بعلا؛ لاعتقادهم ذلك فيه، نحو قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}، ويقال: أتانا بعل هذه الدابة، أي المستعلي عليها، وقيل للأرض المستعلية على غيرها بعل. (¬3) في (ي) زيادة أي في ذلك أي. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) ساقط من (أ) و (م). (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1067.

وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: للنساء على الرجال مثل الذي للرجال عليهن من الحق {بِالْمَعْرُوفِ} أي: بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة (¬1). روي عن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مثل الذي عليهن بالمعروف (¬2). وقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} يقال: رَجَلٌ بَين الرُّجْلَة (¬3)، أي: القُوة، وهو أَرْجَلُ الرَّجُلَين، أي: أقواهما، وفَرَسٌ رَجِيلٌ، قويٌّ على المشي، والرِّجْل: معروفة لقوتها على المشي، وارتَجَل الكَلامَ، أي: قَوِيَ (¬4) عليه من ركوبِ فِكرةٍ ورويّة، وتَرَجَّلَ النهار: قويَ ضياؤه (¬5). والدَّرَجَة: المنزلة، وأصلها من دَرَجْتُ الشيء أَدْرُجُه دَرْجًا، وأَدْرَجْتُه إدراجًا: إذا طويتُه. ودَرَجَ القومُ قرنًا بعد قرن، أي: فَنُوا. وأدرجهم الله إدراجًا؛ لأنه (¬6) كطي الشيء منزلة بعد منزلة. ومعنى دَرَج القوم: طووا عمْرَهم شيئًا فشيئا، وأدرجهم الله: طواهم الله، ومَدْرَجَةُ الطريق: قَارِعَتُهُ؛ لأنه يُطْوى منزلةً بعدَ مَنْزِلَة، والدَّرَجَةُ: المنزلة من منازل الطَّيّ، ومنه: ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1067. (¬2) رواه الطبري عنه 2/ 453، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 417، وعزاه في "الدر" 1/ 493 - 494 إلى وكيع وسفيان بن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) يقال: رجل جيد الرُّجلة، ورجل بين الرجولة والرُّجلة والرُّجْلِيَّة والرجولية، وهي من المصادر التي لا أفعال لها. ينظر "اللسان" 3/ 1597 مادة "رجل". (¬4) في (ي) (أقوى). (¬5) ينظر في رجل: "تهذيب اللغة" 3/ 1596 - 1601، "المفردات" 196، "عمدة الحفاظ" 2/ 81 - 83، "اللسان" 3/ 1596 - 1601. (¬6) ساقطة من (ي).

229

الدَّرَجَة التي يُرْتقى (¬1) فيها (¬2). وأما المعنى (¬3) فقال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال (¬4). وقيل: بالعقل. وقيل: بالدية. وقيل: بالميراث (¬5). وقال قتادة: بالجهاد (¬6). قال أبو إسحاق: المعنى: أن المرأة تنال من اللذة من الرجل، كما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه عليها (¬7). {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: مالك يأمر كما أراد، ويمتحن كما أحب، ولا يكون ذلك إلا عن حكمة بالغة. 229 - قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} قال أهل التفسير: أتت امرأةٌ عائشة، فشكت أن زوجها يطلقها ويسترجعها، يضارُّها بذلك، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، ¬

_ (¬1) في (ش) (يرتقي). (¬2) ينظر في درج: "تهذيب اللغة" 2/ 1167، "المفردات" ص 174، "اللسان" 3/ 1351. قال الراغب: الدَّرَجة نحو المنزلة، لكن يقال للمنزلة: درجة، إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط كدرجة السطح والسلم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. (¬3) في (ي) (فقد قال). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1074، والماوردي في "النكت والعيون" 1/ 293، والبغوي في "تفسيره" 1/ 269، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 261. (¬5) ينظر في هذه الأقوال: "تفسير الثعلبي" 2/ 1074 - 1075، و"تفسير البغوي" 1/ 269، "زاد المسير" 1/ 261. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 93، والطبري في "تفسيره" 2/ 454، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 418. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 307.

وإن طلقها ألف مرة، فذكرت ذلك عائشة (¬1) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2). فحُصِرَ الطلاق، وجعل حدّه ثلاثة، فذكر في هذه الآية طلقتين، وذكر الثالثة في الآية الأخرى، وهو قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} الآية (¬3). والمرة من المرور والمرِّ أيضًا، يقال: المَرّةُ الأُولى، والمَرُّ (¬4) الأوَّلُ. وقال أهل المعاني: الآية مختصرة معناها: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان (¬5). وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكُ} الإِمْسَاكُ: خلاف الطلاق، والَمِسَاك والمَسَكَة اسمان منه، يقال: أنه لذو مَسَكَةٍ ومَسَاكَةٍ إذا كان بخيلا. قال الفراء: يقال: إنه ليسيء (¬6) مَسَاكَ غلمانِه، وفيه مُسْكَةُ من خيرٍ، أي: قوة وتَمَاسُك، ومَسَكٌ من قوة ومَسَاكَة، وإنه لَمسِيْكٌ (¬7) بين ¬

_ (¬1) في (ش): (عائشة ذلك). (¬2) رواه الترمذي (1192) كتاب: الطلاق، باب: 16، والحاكم 2/ 307، وصححه البيهقي 7/ 333، والواحدي في "أسباب النزول" 81 عن عائشة بنحوه، ورواه مالك في "الموطأ" في الطلاق، باب جامع الطلاق 2/ 588، وعنه الشافعي في "الأم" 5/ 258، والطبري 2/ 456، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 418 عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا، والمرسل أصح كما قال الترمذي 3/ 497، والبيهقي 7/ 333، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود برقم 2195، والنسائي 6/ 212. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1083. (¬4) في (م) و (ش): (المرة). (¬5) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1084. (¬6) في (ش): (لشيء). (¬7) في (ي) و (ش): (لمسك).

المَسَاكَة (¬1) (¬2). وهو مرتفع بمحذوف يتقدمه، أي: فالواجب إذا راجعها بعد الطلقتين إمساك بمعروف، أو فعليه إمساك بمعروف (¬3). ومعنى (بمعروف) أي: ما يعرف من إقامة الحق (¬4) في إمساك المرأة (¬5). وقوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} معنى التسريح في اللغة: الإِرسَال، وتَسْريحُ الشَّعْر، تخليصُك بعضَه من بعض، وسَرَحَ الماشيةَ سَرْحًا: إذا أرسلها ترعى، وناقة سُرُحٌ: سهلة السير لانطلاقها فيه (¬6). واختلفوا في معنى قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فقال عطاء والسُدّي (¬7) والضحاك (¬8): هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، يريد: إن كان من شأنه (¬9) رجعتها وإمساكها، وإلّا فلا يرتجعها ويسرحها بإحسان كي يسلم من الإثم. ¬

_ (¬1) في (ي) (الماسكة). (¬2) ينظر في مسك: "تهذيب اللغة" 4/ 3397، "المفردات" ص 471، "اللسان" 4202 - 4205. (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 307، و"المحرر الوجيز" 2/ 277. (¬4) في (ي) (الحد). (¬5) ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 277. (¬6) ينظر في سرح: "تهذيب اللغة" 1665 - 1668. وذكر الراغب أن التسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق في كونه مستعارًا من إطلاق الإبل. (¬7) رواه عنه الطبري 2/ 460 بمعناه، وذكره في "الدر المنثور" 1/ 495 - 496. (¬8) رواه عنه الطبري 2/ 460. (¬9) في (ي) و (ش) (شأنها).

وقيل: قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أراد به: الطلقة الثالثة، روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رجلًا قال له: أسمعُ الله يقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فأين الثالثة؟ قال: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ} هو الثالثة (¬1). وقال صاحب النظم: قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله: {بِإِحْسَانٍ} ظاهره يقتضي أنه خبر، وتأويله في الباطن شرط وجزاء، على نظم: من طلق امرأته مرتين فليمسك بعدهما بمعروف، أو ليسرحها بإحسان، ومثله مما جاء على لفظ الخبر ومعناه الشرط: قوله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} [الدخان: 12] معناه: إن كشفت آمنَّا، وقال في الجواب: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] ظاهره خبر وتأويله: إن كشفنا تعودوا (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} لا يجوز للزوج أن يأخذ من امرأته شيئًا مما أعطاها من المهر وما نحلها وتفضل عليها ليطلقها؛ لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها، فلا ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 337، وأبو داود في "المراسيل" ص 189، وسعيد بن منصور 1/ 384، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 259، والطبري في "تفسيره" 2/ 458، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 419، والبيهقي 7/ 340 عن أبي رزين، وهذا مرسل؛ لأن أبا رزين تابعي، ورواه الدارقطني في "السنن" 4/ 4، والبيهقي 7/ 340 عن أنس، قال البيهقي: وروي عن قتادة عن أنس وليس بشيء؛ وقال عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى 3/ 195: قد أسند هذا عن إسماعيل بن سميع عن أنس، وعن قتادة عن أنس، والمرسل أصح. وقال ابن القطان كما في بيان الوهم والإيهام 2/ 316: وعندي أن هذين الحديثين صحيحان. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 195.

بجوز أن يأخذ منها شيئًا إلا في الخلع (¬1). وهو قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ (¬2)، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس (¬3) (¬4)، كانت تبغضه أشد البغض كان يحبها أشد حُبٍّ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: فرق بيني وبينه، فإني أبغضه، فقال ثابت: يا رسول الله مرها فلترد عليَّ الحديقة التي أعطيتها، فقال لها: "ما تقولين"؟ قالت: نعم وأزيده، قال: "لا، حديقته فقط". وقال لثابت: "خذ منها ما أعطَيتَها، وخَلِّ سَبِيلَها"، ففعل، فكان أول خلع في الإسلام (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1085 - 1086. (¬2) جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول الخزرجية، وقد وقع الخلاف هل المختلعة بنت عبد الله المنافق أو أخته؟ واسمها جميلة أيضا، فذهب ابن سعد وابن منده إلى أن المختلعة هي جميلة بنت عبد الله، وذهب أبو نعيم وابن عبد البر إلى أنهما واحدة، وأن المختلعة هي جميلة بنت أبي، وصوب الحافظ ابن حجر أنهما اثنتان، وأن ثابتا تزوج أخت عبد الله فاختلعت منه، ثم تزوج الثانية ففارقها. ينظر "الطبقات الكبرى" 8/ 382، "فتح الباري" 6/ 398. (¬3) في (ش) (سماس). (¬4) ثابت بن قيس بن شماس بن زهير الخزرجي الأنصاري، خطيب الأنصار، شهد أحدا وما بعدها، وبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة في قصة معروفة، رواها البخاري (3613) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة، قتل يوم اليمامة شهيدا بعد أن أبلى بلاء حسنا. ينظر "سنن الترمذي" 5/ 667، و"الاستيعاب" 1/ 276. (¬5) القصة رواها البخاري (5273) كتاب: الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق فيه، والنسائي 6/ 169 كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في الخلع، وأبو داود (2229) كتاب: الطلاق، باب: في الخلع، والترمذي (1185) كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في الخلع، والطبري في "تفسيره" 2/ 461، "تفسير الثعلبي" 2/ 1086، ولفظ الواحدي مختصر منه، وقد روى أبو داود والنسائي في الموضعين السابقين =

ومعنى قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} أي: يَعْلَما، وإنما كان الخوف بمعنى العِلْم؛ لأن الخَوفَ مُضَارعٌ للظَّنِّ، وحكى الفراء: أن (¬1) العرب تقول للرجل: قد خرجَ غُلامُك بغير إِذْنك، فيقول له: قد خِفْتُ ذاك، يريد (¬2): قد ظَنَنْتُه وتَوَهّمْتُه، وأنشد: أتاني (¬3) كلامٌ عن نُصَيبٍ يقولُه ... وما خِفْتُ يا سَلّام أنكَ عَائِبي (¬4) (¬5) أراد: وما ظَنَنْتُ، والظَّنُّ بمعنى العِلْم صحيح، كذلك الخوف. وحكى الزجاج عن أبي عبيدة، قال: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} إلا أن يوقنا (¬6)، وذلك أن في الخوف طرفًا من العلم، لأنك تخاف ما تعلم، وما لا تعلم لا تخافه، فجاز أن يكون بمعنى العلم، كما أن الظن لما كان فيه طرفٌ من العِلْم جاز أن يكون علمًا (¬7). ¬

_ = وغيرهما: أن المختلعة هي حبيبة بنت سهل، قال الحافظ في "الفتح" 6/ 399: والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا لامرأتين؛ لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين. (¬1) في (م) (ساقطة). (¬2) ساقطة من (ي). (¬3) في (ي) (وأتاني). (¬4) البيت لأبي الغول علياء بن جوشن من بني قطن، ينظر "الشعر والشعراء" ص 278، "والنوادر في اللغة" لأبي زيد ص 46، وذكره الفراء والطبري دون نسبة 5/ 61. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 146. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 74، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 307 - 308، وقال النحاس 1/ 315: وقول من قال: يخافا، بمعنى يوقنا، لا يعرف. ولكن يقع النشوز فيقع الخوف من الزيادة. (¬7) ينظر في بيان أن الخوف يكون بمعنى الظن والعلم: "مشكل القرآن" لابن قتببة ص191، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308، "الحجة" 2/ 328، "تفسير الثعلبي" =

ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بغضًا له، وخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي (¬1) عليها، حل له أن يأخذ الفدية منها (¬2) إذا دعت إلى ذلك (¬3). ويكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، فإن أخذ أكثر من ذلك صح الخلع ولم ينقض (¬4) (¬5)، وهو مذهب ابن عباس (¬6) وابن عُمر (¬7) ورجاء بن حيوة (¬8) (¬9): أنه يجوز أن يأخذ زيادة من المهر. ¬

_ = 2/ 1090، "البحر المحيط" 1/ 197، وقال: والأولى بقاء الخوف على بابه، وهو أن يراد به الحذر من الشيء فيكون المعنى: إلا أن يعلم أو يظن أو يوقن أو يحذر كل واحد منهما بنفسه أن لا يقيم حقوق الزوجية لصاحبه حسبما يجب فيجوز الأخذ. (¬1) في (ش): (يتعدى). (¬2) ساقطة من (أ) و (م). (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1092. (¬4) في (ي): (ينقص). (¬5) ينظر: "الموطأ" 2/ 565، و"الأم" 5/ 211، و"الإشراف" 3/ 213، و"الكافي" لابن عبد البر 2/ 593، "فتح الباري" 9/ 397. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 471. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 471، وعزاه في "الدر" 1/ 674 إلى مالك والشافعي وعبد بن حميد والبيهقي عن نافع. (¬8) هو: رجاء بن حيوة الكندي، أبو المقدام، ويقال: أبو نصر الفلسطيني، ثقة فقيه، شيخ أهل الشام في عصره، من الوعاظ الفصحاء العلماء، لازم عمر بن عبد العزيز، توفي سنة 112هـ. ينظر: "تقريب التهذيب" ص208 (1920)، "الأعلام" 3/ 17. (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 471، وعزاه في "الدر" بمعناه 1/ 674 إلى عبد ابن حميد عن حميد الطويل.

ومذهب علي (¬1)، والحسن (¬2) (¬3)، وأبي حذيفة وعطاء (¬4)، والزهري (¬5) والشعبي (¬6): أنه يأخذ المهر فقط. وليست هذه الحالة حالة بعث الحكمين؛ لأن المرأة معترفة هاهنا بمنع حق الزوج وكراهتها (¬7) صحبته، وإنما الحكمان إذا اشتبه المتعدي منهما، وموضعه في سورة النساء. والخلع فسخ بلا طلاق عند ابن عباس (¬8)، وهو قول الشافعي في القديم، وقوله في الجديد (¬9): إن الخُلع (¬10) تطليقة بائنة، إلّا أن ينوي (¬11) أكثر منها، وهو قول عثمان رضى الله عنه (¬12). ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 469. (¬2) في (ش): (الحسين). (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 470. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 469، وعزاه في " الدر" 1/ 673 إلى عبد بن حميد والبيهقي. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 470. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 469. (¬7) ساقطة من (ش). (¬8) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 485 - 487، وسعيد بن منصور 1/ 384، وقال الإمام أحمد كما في "الإشراف" 3/ 214: ليس في الباب أصح من حديث ابن عباس. (¬9) ينظر: "مختصر المزني" 8/ 290، "تفسير الثعلبي" 2/ 1095، و"تكملة المجموع شرح المهذب" 17/ 14. (¬10) من قوله: بلا طلاق .. ساقطة من (ي). (¬11) في (ش): (يقوي). (¬12) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 483، وسعيد بن منصور 1/ 482، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 109 من طريق جهمان عن عثمان. وروى النسائي 6/ 186، كتاب: الطلاق، باب: عدة المختلعة، وابن ماجه (2058) كتاب: =

وقرأ حمزة {يُخَافَا} بضم اليَاءِ (¬1). وخَاف يتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ، فإن عديته إلى مفعول ثان ضَعَّفْتَ العين، أو (¬2) اجتلبتَ حرفَ الجر، كقولك: خَوَّفْتُ زيدًا أمرًا، واجتلاب حرف الجر كقوله: لو خَافَكَ اللهُ عَليه حَرَّمَهُ (¬3) فحرف الجر في موضع المفعول الثاني. وحمزة بنى الفعل للمفعول به وهو الزوجان، وقدر الجار ليتعدى إلى (¬4) المفعول الآخر، الذي هو {أَن يُقِيمَا}، فلابد من تقدير الجار في قراءة من (¬5) ضم الياء، لأن الفعل قد أسند إلى المفعول، فلا يتعدى إلى المفعول الآخر إلا بالجار، ولا يحتاج في قراءة العامة إلى تقدير الجار، ثم يكون قوله: {أن يقيما} على هذه القراءة في محل الجر بالجار المقدر، على مذهب الخليل والكسائي، وفي محل النصب، على قول غيرهما، لأنه لما حذف الجار وصل الفعل إلى المفعول الثاني، مثل: ¬

_ = الطلاق، باب: عدة المختلعة، عن الربيع بنت معوذ، قالت: اختلعت من زوجي فجئت عثمان فقال: تمكثي حتى تحيضي حيضة، وهذا يدل على أن عثمان يرى أن الخلع فسخ وليس بطلاق كما رجحه الخطابي في "معالم السنن" 2/ 256، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كما في "زاد المعاد" 5/ 198، ضعفوا الرواية الأولى عنه. (¬1) وقرأ الباقون (يُخافا) بفتح الياء. ينظر "السبعة" 183، "الحجة" 2/ 328. (¬2) في (ي) و (ش) (و). (¬3) من رجز نسبه في "اللسان"، مادة: روح، لسالم بن دارة، وقبله: يا أسدي لم أكلته لِمَه. وذكره في "الحجة" 2/ 229، وفي "الإنصاف" 257، والعيني 4/ 555، والأشموني 4/ 117. (¬4) ساقطة من (ي). (¬5) ساقطة من (ي).

أستغفر الله ذنبًا (¬1) ........ وأمرتك الخيرَ (¬2) ......... وهذا كما ذكرنا في قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224]، وعلى قراءة العامة يكون في محل النصب لا غير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تقدير الجار، وعاب الفراء قراءةَ حمزة، فقال: أراد أن يعتبر قراءة عبد الله (إلا أن يخافوا) فلم يصبه؛ لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على أن، وفي قراءة حمزة على الرجل والمرأة (¬3)، فقال من نصر حمزة: إن بلغ الفراء ما يقوله بروايةٍ عن حمزة: أنه أراد اعتبار قراءة عبد الله، فهو كما قال، وإلا فإذا اتجه قراءَتُهُ على وجه صحيحٍ لم يَجُزْ أن ينسب إليه الخطأ، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: لا تَحمِلْ فِعْلَ أخيك على القبيح ما وجدت له في الحَسَن مذهبًا (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} كان من حق النظم أن يكون فإن خافا (يعنى الزوجين، ليشاكل قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا}، وفي قراءة حمزة (فإن خِيْفَا) ليشاكلَ قراءته (يُخَافا)، إلا أنه لا يلزم هذا، لأمرين: أحدهما: أن يكون انصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ثم قال: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم: 39] ونظائره كثيرة. وخاطب في هذه الآية الجماعة بعد ما أخبر عن اثنين؛ لأنّ ضمير الاثنين في {يَخَافَاَ} ليس يراد به اثنان مخصوصان، إنما يراد به أن كل من ¬

_ (¬1) تقدم تخريج البيت [البقرة: 115]. (¬2) تقدم تخريج البيت [البقرة: 83]. (¬3) ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 146. (¬4) ما تقدم كله ملخص من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 328 - 333.

هذا شأنه فهذا حكمه. والآخرُ: أن قولَه: (فإن خفتم) خطابٌ (¬1) لولاة الأمر والفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة، وقد خاطب الله تعالى في هذه الآية الجميعَ بقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} ثم رجع إلى الزوجين فقال: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا}، ثم رجع إلى المخاطبين بالجمع بينهم وبين الزوجين (¬2) في لفظ واحد فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا} (¬3). ومثل هذا النظم قد جاء في الشعر، قال: أبا واصلٍ (¬4) فاكْسُوهُما حُلَّتَيْهِما ... فإنكما إن تَفْعَلا فَتَيَانِ (¬5) نادى مفردًا ثم جمع بقوله: فاكسوهما، ثم ثنى (¬6). ومعنى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا} أي: عَلِمْتُم وغَلَب على ظنكم، (أن لا يقيما حدود الله) في حسن العشرة وجميل الصحبة {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأةُ نفسَها من الزوج. وإنما قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} والمقصودُ رفعُ الحرجِ عن الزوجِ في استرجاع المَهْرِ عند الخُلْع، لأنه لو خصَّ الرجلَ بالذكر لأوهم ذلك أنها عاصية بالنشوز والافتداء بالمال، لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير حق، فأدخلت في الذِّكْر ليزول هذا الوهم، وفيه وجوه سوى هذا ذكرناها في ¬

_ (¬1) ساقطة من (ي). (¬2) من قوله: فقال .. ساقطة من (ش). (¬3) من "الحجة" 2/ 331 - 332 بتصرف. (¬4) في (أ): (واصلى). (¬5) البيت لم أهتد لقائله ولا من ذكره. (¬6) في (أ) و (م): (كنى).

230

قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] (¬1). وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} الآية. يريد: ما حده الله من شرائع الدين (¬2). وذكرنا معنى الحد فيما تقدم. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} إلى آخر الآية، قال عطاء: يريد: من يأخذ من أمرأته شيئًا وليست تريد أن تختلع منه، ويضارها ليأخذ منها شيئًا. 230 - قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} قال صاحب النظم: قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فصل مضمن فصلًا آخر، قد اعترض بينهما فصل سواهما، وهو قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} إلى آخرها. فلما فرغ من الفصل المعترض عاد إلى الفصل الأول الذي ضمنه الفصل الثالث، فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعنى: الزوج المطلق اثنتين المضمر في اللفظ الذي أخرجه مخرج الخبر بقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ففي هذا دليل على أن تأويل قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) من طلق امرأته تطليقتين فليمسكها بمعروف أو ليسرحها {بِإِحْسَانٍ} (¬4)؛ لأن هذا الثاني منسوق على الأول مثل معناه، فكأنَّ الثاني مفسِّرٌ للأول. وقوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد التطليقة الثالثة. وهو رفع على الغاية؛ لأنه لما حذف من الكلام ما أضيف إليه (بعدُ) رفع على الغاية (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 147، "تفسير الطبري" 2/ 466 - 465، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 315، "تفسير الثعلبي" 2/ 1093 - 1094. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308، "تفسير الثعلبي" 2/ 1096. (¬3) من قوله: ففي هذا. ساقط من (ي). (¬4) ساقطة من (ي). (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1096، "البحر المحيط" 2/ 200.

{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي: غير المُطَلِّقِ، والنكاح لفظ يتناول العقد والوطء جميعًا، فلا تحل للأول ما لم يصبها الثاني (¬1)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظى (¬2). وكانت تحت رفاعة بن وهب (¬3) فطلقها ثلاثًا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير (¬4)، ثم طلقها، فأتت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني، فبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هُدْبَةِ الثوب (¬5)، وإنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى زوجي الأول؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رِفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عُسيلتك (¬6) " قال أبو إسحاق: عَلم الله تعالى صعوبة تزوج المرأة على الرجل، فحرم عليهم التزوج بعد الثلاث، لئلا يعجلوا بالطلاق (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 476 - 477، "تفسير الثعلبي" 2/ 1096. (¬2) هي عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضيري القرظي، زوج رفاعة بن وهب، نزلت في طلاقها هذه آيات، صحابية. ينظر "أسد الغابة" 2/ 233، 7/ 193. وقد وقع في اسم المطلقة اختلاف ينظر "فتح الباري" 9/ 464 - 465. (¬3) هو: رفاعة بن وهب بن عتيك، صحابي طلق زوجه طلاقا بائناً فنزل بشأنه قرآن. ينظر "أسد الغابة" 2/ 233. وينظر الاختلاف فيه في "فتح الباري" 9/ 464. (¬4) عبد الرحمن بن الزبير بن باطيا القرظي المدني، وقال ابن منده: هو ابن الزبير بن زيد الأوسي، قال ابن الأثير: واتفقوا على أنه هو الذي تزوج المرأة التي طلقها رفاعة. ينظر "المؤتلف والمختلف" 3/ 1139، و"الإصابة" 4/ 159. (¬5) أرادت أن متاعه في عدم الانتشار والاسترخاء كطرف الثوب الذي لم ينسج. ينظر "فتح الباري" 9/ 465. (¬6) رواه البخاري (2639) كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبئ، ومسلم (1433) كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا ويطأها عن عائشة. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308 - 309.

وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعنى: الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة، لأنه قد ذكره بقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1). وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} يعنى: على المرأة المطلقة وعلى الزوج الأول، {أَنْ يَتَرَاجَعَا} بنكاح جديد، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع، لما كان بينهما قبل هذا من الزوجية، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح، فهذا تراجع لغوي (¬2). ومحل (أن) في قوله: {أَنْ يَتَرَاجَعَا} نصب؛ لأن المعنى: لا جناح عليهما في أن يتراجعا (¬3)، فلما سقطت (في) وصل معنى الفعل. وعند الخليل والكسائي: يجوز أن يكون محله خفضًا بالجار المقدر، وإن حذف من اللفظ؛ لأن المعنى إرادته. قال (¬4) الزجاج: والذي قالاه صواب؛ لأن أن يقع معها الحذف، لكونها موصولة، ويكون جعلها موصولة عوضًا مما حذف، ولو قلت، لا جناح عليهما الرجوع، لم يصلح حذف في (¬5)، وصلح مع (أن) لأن الكلام طال بالصلة فحسن الحذف، كما تقول: الذي ضربت زيد، تريد (¬6): ضربته، فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضعها جرًا على إرادة في، وأبى الفراء هذا، وقال: لا أعرفه (¬7). وقد استقصينا هذه المسألة عند قوله: ¬

_ (¬1) ينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308، "تفسير الثعلبي" 2/ 1102. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1102. (¬3) من قوله: (نصب ..) ساقطة من (ش). (¬4) في (م): (وقال). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 309. (¬6) في (ي): (يريد). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 148.

231

{أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} [البقرة: 224] (¬1). وقوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا} أي: إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدودَ الله (¬2). وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} خص العالمين بالذكر، وهو في المعنى عام لهم ولغيرهم؛ لأنهم الذين ينتفعون ببيان (¬3) الآيات، فصار غيرهم بمنزلة من لا يعتد بهم، ويجوز أن يُخَصّوا بالذكر لنباهتهم (¬4) وتشريفهم، كقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. 231 - وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قاربن انقضاء العدة، ولم يرد إذا انقضت عدتهن. فالبلوغ هاهنا بلوغ مقاربة، كما نقول: قد بلغت المدينة، إذا أشرفتَ عليها (¬5). والأَجَلُ: آخرُ المدةِ، وعاقبةُ الأمرِ، قال لبيد: واخْزُها (¬6) بالبِرِّ لله الأَجَلْ (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 309، "تفسير الثعلبي" 2/ 1102، "التبيان" 135، "البحر المحيط" 2/ 202. (¬2) ينظر: "مجاز القرآن" 1/ 74، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 78، وتأويل مشكل القرآن ص 187، وقيل: (إن ظنا) أي: رجوا، ولا يجوز أن يكون بمعنى العلم؛ لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله. ينظر "تفسير الطبري" 2/ 478 - 479، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 309، "تفسير الثعلبي" 2/ 1102. (¬3) ساقطة من (ي). (¬4) في (ش) (لنباهيهم). (¬5) حكى القرطبي في "تفسيره" 3/ 155 الإجماع على أن معنى البلوغ هاهنا: المقاربة، ونقل الإجماع الشوكاني 1/ 242، وينظر "تفسير الطبري" 2/ 479 - 480، "تفسير البغوي" 1/ 210، "زاد المسير" 1/ 267، و"الإجماع في التفسير" ص230. (¬6) في (ي) و (أ): (وأحرها). (¬7) صدر البيت: =

يريد (¬1): لله عاقبة الأمور، ومنه يقال: أَجَّلَ الشيءَ تأجيلاً، إذا أخَّره (¬2). {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: راجعوهن. والمعروف: ما يتعارف الناس بينهم، مما تقبله النفوس ولا تنكره العقول. قال ابن جرير: أي: بإشهاد على الرجعة، وعقد لها، لا بالوطء، كما يجوز عند أبي حنيفة (¬3). {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، ويكن أملك بأنفسهن (¬4). {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} يريد: لا تراجعوهن مضارة وأنتم لا حاجة بكم إليهن. وكانوا يفعلون ذلك إضرارًا بالمرأة {لِتَعْتَدُوا} أي: عليهن بتطويل العدة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}: الاعتداء {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ضرها، وإثم فيما بينه وبين الله (¬5). {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في ¬

_ = غير أن لا تكذبنْها في التقى والبيت في: ديوانه ص 139. وفي "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 171، "تفسير الثعلبي" 2/ 1126، وقوله: واخزها أَمْرٌ من خزاه يخزو خزوًا: إذا ساسه وقهره، ورواية "اللسان" واجْزِها، والأجلّ من الجلالة كما قال ابن السكيت في "إصلاح المنطق" 374 ص وقال ابن منظور: الأجل: الأعظم، كما في "لسان العرب" 2/ 1155 مادة (خزا) وهذا لايوافق ما استشهد عليه الواحدي به متابعًا الثعلبي. (¬1) ساقطة من (ي). (¬2) ينظر في الأجل: "تفسير الثعلبي" 2/ 1125، "تهذيب اللغة" 1/ 124، "المفردات" ص20 - 21، "عمدة الحفاظ" 1/ 71، "اللسان" 1/ 32 مادة (اجل). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 479 - 480، وينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1112. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 309. (¬5) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1112 - 1113.

الجاهلية، ويقول إنما طلقت وأنا لاعب، فيرجع (¬1) فيها، ويعتق فيقول مثل ذلك، وينكح فيقول مثل ذلك، فأنزلت هذه الآية، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "من طلق أو حرّر أو نكح أو أنكح، فزعم أنه لاعب فهو جد" (¬2). وقيل: معناه: لا تتركوا العمل بما حد الله عز وجل فتكونوا مقصرين لاعبين، كما تقول للرجل (¬3) الذي لا يقوم بما تكلفه ويتوانى فيه، إنما أنت لاعب، وهذا معنى (¬4) قول الكلبي (¬5). وقال عطاء (¬6): يريد أن المستغفر من الذنب المصِرَّ عليه كالمستهزئ بآيات ربّه. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} قال عطاء: بالإسلام (¬7). ¬

_ (¬1) في (ي): (يرجع). (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1116، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 291: رواه الطبراني، وفيه عمرو بن عبيد وهو من أعداء الله، وراه ابن عدي في "الكامل" 5/ 109 مختصرا، وابن أبي عمر عن الحسن عن رجل عن أبي الدرداء كما ذكر البوصيري في " إتحاف المهرة" 8/ 43 وضعفه لجهالة التابعي، وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت، وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 106، والطبراني في "تفسيره" 5/ 13عن الحسن مرسلا، وإسناده صححه ابن حجر في "العجاب" 1/ 589، وصحح الألباني في الإرواء 6/ 227 إسناد ابن أبي شيبة، وينظر "تحقيق الثعلبي للمنيع" 2/ 1118. (¬3) في (ش) (يقول الرجل). (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1122، والبغوي في "تفسيره" 1/ 275. (¬6) لعله الرواية التي تقدم الحديث عنها في القسم الدراسي من المقدمة. (¬7) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 483، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 338، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 508 - 510 إلى وكيع والبخاري وعبد بن حميد وأبي داود=

{وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} يعنى: القرآن {وَالْحِكْمَةِ} يعنى: مواعظ القرآن (¬1). وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تنبيهٌ على أنه لا يسقط الجزاء على شيء من أعمالهم لخفائه عنده، لأنه بكل شيء عليم. قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} الآية: نزلت في أخت معقل بن يسار (¬2)، طلقها زوجها، فلما انقضت عدتها جاء يخطبها، فأبى معقل أن يزوجها إياه، ومنعها بحق الولاية من ذلك، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال معقل: رَغِمَ أنفي لأمر الله، وقال: فإني أومن بالله واليوم الآخر، وأنكحها إياه (¬3). وأراد ببلوغ الأجل هاهنا: انقضاءَ العِدَّةِ، لا بُلوغَ المُقَاربَة (¬4). ¬

_ = والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر، وأبي حاتم في "تفسيره" 2/ 426، وابن مردويه والحاكم والبيهقي. (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1122. (¬2) هو: معقل بن يسار بن عبد الله بن معبر بن حراق المزني، أبو عبد الله، وقيل: أبو اليسار، صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشهد بيعة الرضوان، روي عنه قوله: بايعناه على أن لا نفر. سكن البصرة، وتوفي في آخر خلافة معاوية، وقيل: أيام يزيد بن معاوية، وفي الأعلام نحو 65 هـ. ينظر أسد الغابة 5/ 232 - 233، و"الاستيعاب" 3/ 485، "الأعلام" 7/ 271. (¬3) الحديث رواه البخاري 4529 كتاب: التفسير، باب: قوله: وإذا طلقتم النساء، وأبو داود (2087) كتاب: النكاح، باب: في العضل، والترمذي (3981) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة وغيرهم. (¬4) ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 210، و"المحرر الوجيز" 2/ 288 - 290، "تفسير القرطبي" 3/ 155، و"الإجماع في التفسير" 230 - 231.

والعَضْل: المنع، يقال: عَضَل فلان أَيِّمهُ: إذا مَنَعَها من التزوُّج، فهو يَعْضِلها وَيعْضُلها. أنشد الأخفش: وإن قصائدي (¬1) يدي لَكَ فاصطنعني ... كَرَائمُ قد عُضِلنَ عن (¬2) النكاح (¬3) وأصل العضل في اللغة: الضيق، يقال: عَضَّلَتِ المَرْأةُ: إذا نَشِبَ الولدُ في بطنها، وكذلك عَضَّلَتِ الشَّاةُ، وعضَّلَتْ الأرض بالجيش: إذا ضاقت بهم لكثرتهم (¬4). قال أوس بن حجر (¬5): تَرَى الأرْضَ مِنَّا بالفَضاءِ مَرِيضَةً ... مُعَضِّلةً منا بجَيْشٍ عَرَمْرَمِ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ش): (قضا). (¬2) في (ي): (من). (¬3) البيت نسب إلى إبراهيم بن هرمة في "ديوانه" ص 86 وفيه: كان قصائدي، ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1162، "الأغاني" 6/ 101، "الكشاف" 1/ 338، "البحر المحيط" 2/ 206، "تفسير الرازي" 6/ 111. (¬4) في حاشية (أ) زيادة في الحاشية قال: وعَضَّلت الدجاجةُ فهي مُعَضِّل إذا احْتَبَس بيضُها ونَشِبَ فلم يخرج. وعَضَّلت الناقة فهي مُعَضِّلٌ إذا احتبس ولدها في بطنها. (¬5) هو أبو شريح بن حجر بن مالك التميمي، وقيل أبن عتاب من شعراء بني تميم في الجاهلية، في شعره حكمة ورقة، عمّر طويلا ولم يدرك الإسلام، له ديوان شعر. ينظر: "الشعر والشعراء" 114، "الأعلام" 2/ 31. (¬6) البيت من الطويل، وهو لأوس بن حجر في "ديوانه" ص 12، "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 2475 "لسان العرب" 5/ 2989، مادة: عضل، وروايتهما: بجمعٍ عَرَمْرَمِ.

وأَعْضَل الدَّاءُ الأطباءَ، إذا أعياهم، ويقال: داءٌ عُضَال، وأمر عُضُال. وأَعْضَلَ الأمرُ: إذا اشتد. ومنه قول أوس (¬1): وليس أخوك الدائمُ العَهْد بالذي ... يذمُّكَ إنْ ولَّى وُيرْضِيكَ مُقْبِلا ولكنّه النَّائي إذا (¬2) كُنْتَ آمِنًا ... وصَاحِبك الأدْنَى إذا الأمْرُ أَعْضَلا (¬3) وقوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} يريد: الذين كانوا أزواجًا لهن، ويجوز أن يريد (¬4) من رضين بهم أزواجًا. ومحل (أن) نصب بحذف الخافض، وجرٌّ عند الكسائي والخليل، على ما (¬5) سبق شرحه (¬6). وأراد (¬7): ينكحن نكاحًا جديدًا: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بعقد حلال، ومهر جائز، ونظم الآية: أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا ترضوا بينهم بالمعروف (¬8)، وفي هذا ما يقطع به على صحة قول من قال: لا نكاح ¬

_ (¬1) البيتان، لأوس بن حجر، في: ديوانه ص 82. وفي "تفسير الطبري" 2/ 488، "تفسير الثعلبي" 2/ 1127. (¬2) في (ش): (إذ). (¬3) ينظر في عضل: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 311، "تهذيب اللغة" 3/ 2476، "تفسير الثعلبي" 2/ 1126 - 1127، "المفردات" 341، "عمدة الحفاظ" 3/ 109 - 110، "اللسان" 5/ 2989. (¬4) في (ي): (يكون). (¬5) في (ي): (ما قال). (¬6) تقدم في قوله تعالى: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} [البقرة: 224]. (¬7) في (ي): (أراد). (¬8) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1128.

إلا بوليٍّ؛ لإجماع المفسرين أن هذا الخطاب للأولياء، ولو صَحَّ نكاحٌ دون ولي لم يتصوَّر عضل، ولم يكن لنهي الله عن العضل معنى (¬1). وزعم (¬2) قوم أن (¬3) المعني بالنهي عن العضل: الزوج، وأن البلوغ هاهنا: مقاربة انقضاء العدة، ومعنى عضلها: أن يطلقها واحدة ثم يمهلها حتى تقارِبَ انقضاء العدة، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويطول عليها بالعدة بعد العدة، فذلك العضل، وهذا خلاف ما أجمع عليه المفسرون، ثم ما ذكروا مستفاد من الآية الأولى فلا تحمل هذه على ما وردت فيه الأولى، ثم في نفس هذه الآية ما يقطع بفساد ما قالوه، وهو أنه قال: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ} فقرن النهي عن العضل بشرط التراضي بالنكاح ولا يكون التراضي بالنكاح (¬4) إلا بعد التصريح بالخطبة والنكاح، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وعلى ما ذكروا لا يكون هذا التراضي إلا قبل انقضاء العدة، وقبل بلوغ الكتاب أجله، إذ لا يكون العضل من الزوج إلا في ذلك الوقت، ولا يكون العضل من الولي إلا بعد بلوغ الكتاب أجله وانقضاء العدة، فوقوع التراضي بالنكاح في هذا الوقت أولى (¬5). وقوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ} {ذَلِكَ} إشارة إلى ما سبق، أي: أمر ¬

_ (¬1) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1128 - 1129، وينظر "تفسير الطبري" 2/ 488، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 310. (¬2) في (ي): (زعم). (¬3) في (م): (إلى أن). (¬4) سقط من (ش). (¬5) ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 120 - 121، وقد نصر القول الذي رد عليه الواحدي.

الله الذي تلي عليكم من ترك العضل، ووحَّد الكاف وهو يخاطب جماعة؛ لأن الجماعة في معنى القبيل (¬1). وقال الفراء: {ذَلِكَ} حرف، كثر في الكلام حتى تُوُهِّمَ بالكاف أنها من الحروف، وليست بخطاب، فعلى هذا يجوز أن يخاطب المرأة والرجل والواحد والاثنان والجماعة بالكاف المنصوبة، ومن جعل الكاف للخطاب ثنى وجمع وأنث (¬2)، وقد نزل القرآن باللغتين جميعًا قال الله تعالى: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]. {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]. وقال: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق: 2]. وقال: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]. وأنكر الزجاج هذا وقال: اللهُ خاطب العرب بأفصح اللغات، وليس في القرآن تَوَهُّم، تعالى الله عن هذا (¬3)، وقول الفراء صحيح، وإن أنكره الزجاج؛ لأن التوهم تعود إلى العرب هم توهموا ذلك، والله تعالى يخاطبهم بلغتهم، وهذا كقولهم: تمكن فلان من الشيء، توهموا أن ميم المكان أصلي فبنوا منه الفعل، ولهذا نظائر في كلامهم، يجعلونَ الحرفين بمنزلة حرف واحد، كما قلنا (¬4) في (ماذا)، وهو كثير. وقال صاحب النظم: الكاف في (ذلك) مَنْ جَعَلَه للخطاب أظهَرَ ¬

_ (¬1) ذكر في "البحر المحيط" 2/ 210: أن ذلك خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: لكل سامع، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال: (منكم)، وقيل: ذلك بمعنى ذلكم. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 149 بمعناه، وينظر "تفسير الطبري" 2/ 488 - 489، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 311، "تفسير الثعلبي" 2/ 1133. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 311. (¬4) في (ي): (قال).

233

الجَمْع والتثنيةَ والتَّذْكِير، ومَنْ جَعَلَه للتراخي أو التبعيد (¬1) تركه على حالة واحدة. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} خص المؤمنين، أنهم أهل الانتفاع به. {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} (¬2) خير لكم وأفضل، {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من الريبة، وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حب لم يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى ما غير أحل (¬3) الله، ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون (¬4). {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل وأنتم غير عالمين إلا (¬5) بما أعلمكم. 233 - قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} الآية. قال المفسرون: أراد المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن. وقال بعضهم: بل هي على العموم، لأنه قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنّ} والمطلقة (¬6) لا تستحق الكسوة إلا أن يحمل على الرجعية، فإنها تستحق الكسوة والرزق في زمان العدة، والمطلقة ثلاثًا لا تستحق بالإرضاع الكسوة، وإنما تستحقُّ الأجرةَ، فإذا لا يمكن إجراؤها على العموم ولا ¬

_ (¬1) في (ي) و (ش): (والتبعيد). (¬2) ساقطة من (ي) و (ش) و (أ). (¬3) في (أ) و (م): (إلى ما أخل الله). (¬4) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1134، وينظر "تفسير الطبري" 2/ 489. (¬5) ساقطة من (ش). (¬6) في (ش): (فالمطلقة).

على المطلقات أيضًا لما بينا، فالأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح؛ لأنهن يستحققن الرزقَ والكسوة (¬1). فإنْ قيل: إذا كانت الزوجية باقية فهي تستحق الرزق والكسوة بسبب النكاح، سواء أرضعت له ولده أو امتنعت، فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع؟ قلنا: النفقة والكسوة في مقابلة التمكين، وإذا اشتغلت بالإرضاع والحضانة ربما لا تمكن من كمال التمكين، فيتوهم متوهم أن نفقتهما وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في التمكين، فقطع الله ذلك التوهم بإيجاب الرزق والكسوة، وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع، ولهذا قلنا: إذا أشخصها زوجها إلى سفر لحاجته وتجارته فنفقة سفرها عليه؛ لأنها مشغولة بشغله، وإذا كان كذلك فالرزق والكسوة هاهنا لا يكون أجرة الرضاع، وأجرة الرضاع تجب على الزوج بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وفائدة ذكر الرزق والكسوة في هذه الآية ما بينا (¬2). وقوله تعالى: {يُرْضِعْنَ} لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، كما تقول: حسبك درهم، معناه اكتف به، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، يريد: أنهن أحقُّ بالإرضاع من غيرهن إذا أردن ذلك، ولو وجب عليها الإرضاع لما استحقَّت الأجرةُ، وقد أوجب الله الأجرة لهن في سورة الطلاق (¬3). وقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أي: سنتين. أصل الحول من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت ¬

_ (¬1) ينظر "البحر المحيط" 2/ 212. (¬2) "التفسير الكبير" 6/ 116 - 117. (¬3) كذا قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 312، "تفسير الثعلبي" 2/ 1134 - 1135.

الأول إلى الثاني (¬1)، وذكر الكمال لرفع التوهم من أنَّه على مثل قولهم: أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين، وإنما أقام حولًا (¬2) وبعض الآخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون يومًا وبعضًا آخر، ومثله قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203]، ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض الثانى (¬3). وليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب؛ لأنه قد قال بعد هذا: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} ولكنه تحديدٌ لقطع التنازع بين الزوجين إذا اشتجرا في مدة الرضاع، فجُعِل الحولان ميقاتًا لهما يرجعان إليه عند الاختلاف، فإن أراد الأَبُ أن يَفْطِمَه قبل الحولين ولم ترض الأم، لم يكن له ذلك، وكذلك لو كان على عكس هذا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه (¬4). هذا هو الصحيح، وهو قول ابن عباس (¬5)، في رواية علي بن أبي طلحة، والثوري (¬6) وابن جريج (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1135، وينظر: "المفردات" 142 قال الراغب: والحول: السنة اعتبارا بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها. وينظر "اللسان" 2/ 1054، "تفسير الطبري" 2/ 490. (¬2) في (ي): (حولان) وهو خطأ. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1135، "تفسير الطبري" 2/ 490، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 312، و"تفسير البغوي" 1/ 177، "البحر المحيط" 2/ 212. (¬4) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1136 - 1137. (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 491، وعزاه في "الدر" 1/ 515 إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1137. (¬6) رواه عنه الطبري 2/ 492. (¬7) ذكره الثعلبي 2/ 1137، وعنه البغوي 1/ 277، وروى ابن جريج عن عطاء نحوه =

وقال آخرون: المراد بهذه الآية: الدلالة على أن الرضاع ما كان في الحولين، وأن ما بعد الحولين من الرضاع لا يُحرِّم، وهو قول علي (¬1) وعبد الله (¬2) وابن عباس (¬3) وابن عمر (¬4) وعلقمة (¬5) والشعبي (¬6) والزهري (¬7) ومذهب الشافعي، فإن عنده التحريم الحاصل بالرضاع يتعلق بالحولين، وبعد الحولين لا يحصل التحريم بالإرضاع (¬8). وعند أبي حنيفة: تتقدَّر (¬9) مدة حصول التحريم بالإرضاع بثلاثين شهرًا (¬10). والآية حجة للشافعي على قول هؤلاء، لأن الله تعالى علق (¬11) حكم ¬

_ = رواه الطبري 2/ 492، "ابن أبي حاتم" 2/ 429. (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 464، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 290. (¬2) رواه أبو داود 2059 كتاب: النكاح باب في رضاعة الكبير، وعبد الرزاق في "المصنف" 7/ 463، والطبري في "تفسيره" 2/ 492. (¬3) رواه مالك في "الموطأ" 2/ 602، وعبد الرزاق في "المصنف" 7/ 464، والطبري في "تفسيره" 2/ 492. (¬4) رواه مالك في الموطأ 2/ 602، وعبد الرزاق في "المصنف" 7/ 465، والطبري 2/ 492. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 291، والطبري في "تفسيره" 2/ 492. (¬6) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 463، وسعيد بن منصور 1/ 278، والطبري 2/ 492. (¬7) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 465. (¬8) ينظر: "السنن الكبرى" للبيهقي 7/ 462، وقال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 303: وهو مذهب الشافعي وأحمد واسحاق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية. (¬9) في (ي) و (ش) (يتقدر). (¬10) تنظر المراجع السابقة. (¬11) ساقطة من (م).

الرضاع بالحولين، فدل على أن ما زاد على الحولين لا حكم له. وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرًا، وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته أحدًا وعشرين شهرًا، كل ذلك تمام ثلاثين شهرًا اعتبارا بقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (¬1). فجعل مدتيهما (¬2) ثلاثين شهرًا، والذي عليه عامة الفقهاء أن مدة الرضاع حولان في جميع هذه الأحوال، لا يفصلون بين أن تزيد مدة الحمل أو تنقص، للتصريح بذكر الحولين في هذه الآية. وأما قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} الآية [الأحقاف: 15] فإنها في تعظيم شأن الوالدة، وتعريف الأولاد ما لزم الوالدة من التعب والمشقة في أول هذه المدة من حملها وإرضاعها وفي آخرها، لقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]، فلا تعتبر هذه الآية بتلك إذ الأصلان مختلفان في المعنى الذي نزلت الآيتان فيه (¬3). وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} يقال: رَضِعَ المولودُ يرضَعُ رِضاعةً ورَضاعًا، هذا هو الأفصح، ويقال أيضًا: رَضَعَ يرضِعُ رضَاعَةً ورِضاعًا بالكسر في المصدر (¬4) (¬5) والمعنى: أنَّ هذا التقديرَ والبيان لمن ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 491، والحاكم في "تفسيره" 2/ 308، وصححه، والبيهقي في "تفسيره" 7/ 462، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1136. (¬2) في (ي) (مدتهما). (¬3) تنظر المراجع في القول السابق. (¬4) في (ش) (أجرها). (¬5) كذا بنحوه في: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 302، "تهذيب اللغة" 2/ 1419 مادة (رضع)، "المفردات" ص 202، "اللسان" 3/ 1660 مادة: رضع، وفيهما رضُع =

أراد أن يُتِمَّ الرضاعة، كقوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، يعنى أن هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك وقت محدود (¬1). (من) لفظ مبهم يصلح للأب والأمِّ جميعًا. وقال قتادة (¬2) والربيع (¬3): فرض الله عز وجل على الوالدات أن يرضعن أولادهن حولين كاملين، ثم أنزل الرخصةَ والتخفيفَ بعد ذلك، فقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} يعنى: الأب. {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الكِسوة والكُسوة: اللباس، يقال: كسوت فلانًا أكسوه كسوة، إذا ألبسته (¬4) ثوبًا (¬5). والأكثرون من المفسرين قالوا في هذا: معناه (¬6) وعلى (¬7) الزوج رزق المرأة المطلقة وكسوتها إذا أرضعت الولد (¬8)، وقد ذكرنا هذا في أول الآية. ¬

_ = الرجل يرضُعُ رضاعة، بمعنى اللؤم، وأصله: من رضع اللؤمَ من ثدي أمه، يريد أنه وُلد في اللؤم. (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1140. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 493، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 429. (¬3) انظر المصدر السابق. (¬4) في (ي) و (ش): (ومن). (¬5) ينظر في كسا: "تهذيب اللغة" 4/ 3139، "المفردات" ص 432 - 433، "اللسان" مادة: كسا 7/ 3879. (¬6) في (م): (قالوا لي معنى هذا). (¬7) في (ي): (على). (¬8) يرويه بنحوه الطبري في "تفسيره" 2/ 495 - 496 عن الضحاك بن مزاحم، والنص المذكور من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 313.

وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} أي: بما يعرفون أنه عدل على قدر الإمكان (¬1). وقوله تعالى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} التكليفُ: الإلزام، يقال: كلفته الأمر فَتَكَلَّفْ وكَلِفَ (¬2). قيل (¬3): إن أصله من الكَلَف، وهو الأثر على الوجْه من السَّوَاد، فمعنى تَكَلَّفَ الأمرَ، أي: اجتهد يبين (¬4) فيه أثره، وكلّفه: أَلزمه ما يَظْهَرُ (¬5) فيه أثره (¬6). والوُسْع، ما يَسَعُ الإنسانَ فيطيقه، أُخِذَ مِن سَعَةِ المَسْلَك إلى الغَرَضِ، ولو ضاق لعجز عنه، فالسَّعَةُ فيه بمنزلة القُدْرَة، فلذلك قيل: الوُسْعُ بمعنى (¬7) الطاقة (¬8). ¬

_ (¬1) كذا في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 313، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1142، "تفسير القرطبي" 3/ 163. (¬2) ساقطة من (م). (¬3) في (م): (وقيل). (¬4) في (ي) (أن بين). (¬5) في (م) (فلا يظهر)، وفي (أ) لعلها (فما يظهر). (¬6) ينظر في كلف: "تهذيب اللغة" 4/ 3175، "المفردات" ص 441، "اللسان" مادة: (كلف) 7/ 3917. قال الراغب: وتكلُّف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كلَفٍ مع مشقة تناوله في تعاطيه، وصارت الكُلْفة في التعارف اسما للمشقة، والتكلُّف: اسم لما يفعل بمشقة أو تصنع أو تشبع. (¬7) في (ي) (بمنزلة). (¬8) ينظر في وسع: "تهذيب اللغة" 4/ 3889، "تفسير الثعلبي" 2/ 1142، "المفردات" ص 538، "اللسان" 8/ 4835 مادة: وسع، "البحر المحيط" 2/ 214، وذكر الراغب أن السعة تقال في الأمكنة وفي الحال كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} [الطلاق: 7] =

وقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} الاختيار فتح الراء (¬1) من تضارّ، وموضعه جزم على النهي، والأصل: لا تضارر، فأدغمت الراء الأولى في الثانية، وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهذا الاختيار في التضعيف إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول: عَضَّ يا رجلُ، وضارَّ زيدًا (¬2) يارجلُ (¬3). والمعنى: لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه (¬4) وألفها الصبي، ولا تلقيه هي إلى أبيه (¬5) بعد ما عرفها، تضاره بذلك (¬6). وقيل معناه: لا تضارَّ والدة فتكره على إرضاع الصبي إذا قبل من غيرها وكرهت هي رضاعه؛ لأن ذلك ليس بواجب عليها، {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ} يكلف (¬7) أن يُعْطِي الأم إذا (¬8) لم يرتضع الولد إلا منها أكثر مما يجب لها ¬

_ = من سعته، والوُسع من القدرة ما يفضل عن قدر المكلف، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، تنبيها أنه يكلف عبده دُوَيْن ما ينوء به قدرته، وقيل: يكلفه ما يثمر له السعة، وهي الجنة. (¬1) كذا قرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: (لا تضارَّ)، وقرأ الباقون من السبعة: (تضارُّ). ينظر: "السبعة لابن مجاهد" ص 183، و"النشر" 1/ 227. (¬2) في (ي): (زيد). (¬3) كذا نقله من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 313. (¬4) في (م): (وأصابك وألفها). (¬5) في (ش) (أمه). (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 150، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 313، "تفسير الثعلبي" 2/ 1146، "البحر المحيط" 2/ 215. (¬7) في (ي): (فكلف)، في (ش): (فيكلف). (¬8) في (ش): (إذ).

عليه. وهذان القولان على مذهب الفعل المبنى للمفعول نهيًا (¬1). ويحتمل أن يكون الفعل لهما، ولكون تضارّ على مذهب ما قد سُمي فاعله، وكان في الأصل: لا تضارر، فأدغمت (¬2). والمعنى: (لا تُضارَّ والدة) فتأبى أن ترضع ولدها لتشق على أبيه، (ولا مولود له) أي: ولا يضارَّ الأب أمّ الصبي فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها، والضرار يرجع إلى الوالدين، يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد (¬3)، ويجوز أن يكون الضرار راجعًا إلى الصبي، أي: لا يضار كل واحد منهما الصبي (¬4)، فلا ترضعه الأم حتى يموت، ولا ينفق الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي، وتكون الباء زائدة على تقدير: لا تضار والدة ولدَها، ولا أبٌ ولدَه، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسرين (¬5). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (لا تضارُّ) برفع الراء على الخبر منسوقًا على قوله: (لا تكلف) وأتبع ما قَبْلَه ليكونَ أحسنَ في تشابه اللفظ. فإن قلت: إن ذلك خبر، وهذا أمر؟ قيل: والأمر يجيء على لفظ الخبر، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، وقد سبق نظائره (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1146 - 1147. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1147، "البحر المحيط" 2/ 215. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1147، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 313، "تفسير القرطبي" 3/ 167. (¬4) من قوله: أي لا يضار .. ساقط من (ي). (¬5) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1148، وأورده أيضًا البغوي في "تفسيره" 1/ 278، وينظر "تفسير الطبري" 2/ 496، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 313، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 430 - 432. (¬6) نقله من "الحجة" لأبي علي 2/ 333 بمعناه.

وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هذا منسوق على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} يعني: على وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه، مثل الذي كان على أبيه في حياته، وأراد بالوارث من كان من عصبته كائنًا من كان من الرجال (¬1)، في قول عمر بن الخطاب (¬2) وإبراهيم (¬3) والحسن (¬4) ومجاهد (¬5) وعطاء (¬6) وسفيان (¬7). وقال بعضهم: هو وارث الصبي كائنًا من كان من الرجال والنساء، وهو قول قتادة (¬8) والحسن بن صالح (¬9) وابن أبي ليلى (¬10)، ومذهب أحمد (¬11) ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1148، والبغوي في "تفسيره" 1/ 278. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 59، وسعيد بن منصور 2/ 144، والطبري في "تفسيره" 2/ 500، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 432. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 501، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 433. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 247، وأبو عبيد في "الأموال" ص 305، والطبري في "تفسيره" 2/ 500. (¬5) تفسير مجاهد 1/ 109، وأخرجه الطبري 2/ 501، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 433. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 501، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 433. (¬7) روى عنه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 61 ما يوافق القول الثاني، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 433. (¬8) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 61، والطبري في "تفسيره" 2/ 501. (¬9) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1150، والمروزي في "اختلاف العلماء" ص 156، والحسن بن صالح اسمه: حيان الثوري الهمداني، ثقة فقيه عابد، رمي بالتشيع توفي سنة 169. ينظر "حلية الأولياء" 7/ 327، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 361. (¬10) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1150، والمروزي في " اختلاف العلماء" 156. (¬11) "المغني" 11/ 381، و"زاد المعاد" 5/ 548.

وإسحاق (¬1)، قالوا: يجبر على نفقه الصبي كل وارث (¬2) على قدر ميراثه عَصَبَةً كانوا أو غيرهم. وعند أبي حنيفة: يجبر على نفقة الصبي مِن ورثته مَن كان محرمًا، ومن لم يكن محرما مثل ابن العم والمولى فليسوا ممن عناهم الله بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} عند أبي حنفية وأصحابه (¬3). وقال آخرون: أراد بالوارث، الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى، عليه أجر (¬4) رضاعه (¬5) في ماله، إن كان له مال، وإن (¬6) لم يكن له مال أجبرت (¬7) أمه على رضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك (¬8) والشافعي (¬9). وقال كثير من أهل العلم: أراد بالوارث الباقي من الوالدين بعد الآخر، عليه مثل ما كان على الأب من أجر (¬10) الرضاع والنفقة والكسوة (¬11). ¬

_ (¬1) "اختلاف العلماء" للمروزي ص 156، "تفسير الثعلبي" 2/ 1151. (¬2) قوله كائناً من كان .. ساقط من (ش). (¬3) ينظر "مختصر الطحاوي" ص 224، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 407. (¬4) في (ي): (المتوفى آخر). (¬5) في (ش): (رضاعة). (¬6) في (ي) و (ش): (فإن لم). (¬7) في (م) و (ي): (أجبر). (¬8) ينظر "اختلاف العلماء" للمروزي ص 156، و"الإيضاح" لمكي ص 180. (¬9) ينظر: "الأم" 5/ 97، و"أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 271. (¬10) في (ي): (آخر). (¬11) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 502، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 433، "تفسير الثعلبي" 2/ 1152، "والنكت والعيون" 1/ 300، و"تفسير البغوي" 1/ 278.

وقال الشعبي (¬1) والزهري (¬2) والزجاج (¬3)، {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} يعنى: ألا يضارَّ (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا} يعنى: الوالدين {فِصَالًا} فطامًا، لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات. قال المبرد: يقال: فَصَلَ الولدُ عن أمِّه فِصَالًا وفَصْلًا، وقد قُرئ بهما (¬5) (¬6) في قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15]، والفِصالُ أحسن؛ لأنه إذا انفصل من أمِّهِ فقد انْفَصَلَتْ منه أُمُّهُ، فبينهما فِصَالٌ، نحو: القِتال والضِّرَاب. ويقال: فَصَلْتُه فَصْلًا وفِصَالًا كالكِتَاِب والضِّرَاب (¬7) والحِسَابِ واللِّقَاء، ومنه سُمِّيَ الفَصِيل فَصِيلًا؛ لأنه مَفْصُول عن أمِّه (¬8). {عَنْ تَرَاضٍ} منهما، يعني: قبلَ الحولين، لأن بعد الحولين لا يجب ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 504، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 433، وروى عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 244 أن المراد بقوله: (مثل ذلك)، رضاع الصبي. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 504. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 313. (¬4) ذكره إيضًا البغوي 1/ 278. (¬5) في (ش): (بها)، وفي (ي): (منها). (¬6) قرأ يعقوب من العشرة بفتح الفاء وإسكان الصاد (وفصْله) وكذا روي عن الحسن، وقرأ الباقون بكسر الفاء وفتح الصاد وألف بعدها (وفِصاله). ينظر "النشر" 2/ 373، و"البدور الزاهرة" ص 63، و"القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب" للقاضي ص 81. (¬7) زيادة من (م). (¬8) ما ينظر في فصل: "تهذيب اللغة" 3/ 2795، "المفردات" ص 382 - 383،"لسان العرب" 6/ 2423.

على واحد منهما اتِّبَاعُ الآخر. وقوله تعالى: {وَتَشَاوُرٍ} معنى التَّشَاوُر في اللغة: استخراج (¬1)، وكذلك المَشْوَرَة، والَمُشْوَرَة مَفْعَلَةٌ منه (¬2) كالمَعُونَةِ، ونظيرها: المَيْسَرَة. وشُرتُ العسلَ: استخرجته، وأنشد أبو زيد لحاتم: وليس على ناري حِجَابٌ أكفُّها ... لمُسْتَقْبِسٍ لَيلًا ولكِنْ أَشيْرُها (¬3) قال أبو حاتم والرياشي: أشيرُها: أرفعها. وهذا يعود إلى ما ذكرنا، لأنه أراد أنه يوقدها في البراز والتِّلاع دون (¬4) الوِهَاد، ليقْصِدَها الغَاشِيةُ من الطُّرَّاق. وقال أبوزيد: شِرتُ الدابةَ، وشَوَّرْتُها أَجْرَيْتُها لاستخراج جَرْيها. والشَّوَار: متاعُ البيت؛ لأنه يَظْهَر للناظِر، وقولهم: تَشَوَّرَ وشَوَّرْتُه، قيل: إن أصله أَنّ رجلًا بَدَتْ عورته وظهرت (¬5)، وكان معنى تَشَوَّرَ (¬6) ظهر ذلك، وشوَّرْتُه: فعلتُ به ذلك الفعلَ، أو مثله فيما فيه حِشمة ومنه خَجَلٌ. وتسميتهم للذكرِ شَوَارًا يُشبهُ أن يكونَ من ذلك. قال أبوزيد: يقالُ للرجالِ إذا دعوت عليه: أبدى الله شَوارَك. وشَوَارُهُ: مذاكيره (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): استخراج المشورة، وعند الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1153: استخراج الرأي. (¬2) ساقطة من (ش). (¬3) البيت في ديوانه ص 232. (¬4) ساقطة من (ي). (¬5) في (م): (فظهرت)، وفي (ش) ساقطة. (¬6) في (ي): (شور). (¬7) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 11/ 405.

والشارة: هيئة الرجل؛ لأنه ما يظهر (¬1) من زيِّهِ ويبدو من زينته. والإشارة: إخراجُ ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره (¬2). والمعنى: أنهما إن تشاورا وتراضيا على الفطام قبل الحولين فلا بأس إذا كان الولد قويًا، وليس لهما ذلك مع ضعفه (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} أي: لأولادكم، وحذفت اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع؛ لأنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز: دعوت زيدًا، وأنت تريد لزيد؛ لأنه يلتبس هاهنا، بخلاف ما قلنا في الاسترضاع (¬4). والمعنى: إن أردتم أن تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدة فلا إثم عليكم (¬5). وقوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. قال مجاهد (¬6) والسدي (¬7): إذا سلمتم إلى الأم أجرتها بمقدار ما أرضعت. ¬

_ (¬1) في (ش): (لأنه يظهر). (¬2) ينظر في شور: "تهذيب اللغة" 2/ 1803، "المفردات" ص 273، "اللسان" 4/ 2356. قال الراغب: والمشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، في قولهم: شِرت العسل، إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه. (¬3) بنحو معناه ذكر البغوي في "تفسيره" 1/ 279، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 313. (¬4) ينظر: "التبيان" ص 139، "البحر المحيط" 2/ 218، في تفصيل الاسترضاع وتعديه بحرف أو دون حرف. (¬5) كذا في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 314، وينظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 317، "تفسير الثعلبي" 2/ 1153. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 509، "ابن أبي حاتم" 2/ 237. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 509، "ابن أبي حاتم" 2/ 435.

وقال سفيان (¬1): إذا سلمتم أجرة المسترضعة. وقرأ ابن كثير: (ما أتيتم) بقصر الألف (¬2). وحجته: ما روي عن الزهري في هذه الآية، أنه قال: التسليم هاهنا بمعنى: الطاعة والانقياد (¬3). يعني: إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار (¬4). وكذلك قال ابن عباس في رواية عطاء، قال (¬5): إذا سلمت أمُّه ورَضِيَ أبوه، لعلَّ له غِنًى يشتري له مرضعًا (¬6). ومعنى: أتيتم هاهنا فعلتم، يعني: إذا سلمتم ما أتيتموه من الإنفاق، كما تقول: أتيت جميلًا، أي: فعلته. قال زهير: وما يَكُ من خَيْرٍ أتَوْه فإنمَّا ... تَوَارَثَه آباءُ آبائِهِم قَبْلُ (¬7) يعني: فعلوه وقصدوه. والباء في (بالمعروف) يجوز أن تتعلق بـ سلمتم، كأنه: إذا سلمتم بالمعروف، ويجوز أن تتعلق (¬8) بالإيتاء على قراءة العامة (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 509. (¬2) ينظر: "السبعة لابن مجاهد" 183. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 435، وينظر "تفسير البغوي" 1/ 279. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1154، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 279 على أنه قول آخر غير التسليم الذي بمعنى الطاعة والانقياد. (¬5) ساقطة من (ي). (¬6) فقد تقدم الحديث عن هذه الرواية في قسم الدراسة من المقدمة. (¬7) ورد البيت هكذا: وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثهم آباء آبائهم قبل والبيت في ديوانه ص 58. "البحر المحيط" 2/ 218. (¬8) في (ش): (يتعلق). (¬9) من قوله: ومعنى أتيتم، ... من كلام أبي علي الفارسي في "الحجة" 2/ 336 =

234

ثم عطف على جميع (¬1) هذه الحدود والأحكام الوصية بالتقوى فيها فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. 234 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية، {يُتَوَفَّوْنَ} معناه: يموتون ويُقْبَضُون. وأصلُ التَّوَفِّي: أخذُ الشيء وافيًا، يقال: تَوَفَّى الشيءَ واسْتَوفَاه، وتُوُفِّي فلانٌ وتَوَفَّى إذا مات، فمن قال تُوفي كان (¬2) معناه قُبض وأُخِذَ، ومن قال: تَوَفَّى، معناه: تَوَفَّى أَجَلَه، واسْتَوْفَى أُكُلَه وعُمُرَه (¬3). وعلى هذا قراءة علي رضى الله عنه (يَتَوفون) بفتح الياء (¬4). {وَيَذَرُونَ} معناه: يتركون، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر، استغناء عنهما بترك تركًا، ومثله أيضًا: يدع في رفض مصدره وماضيه (¬5). قال ابن المظفر: العربُ قد أماتت المصدر من يذر والفعل الماضي، واستعملته في الغابر (¬6) والأمر، فإذا أرادوا المصدر قالوا: ذَرْه تَرْكًا (¬7). ¬

_ = بنحوه، وينظر "البحر المحيط" 2/ 218. (¬1) في (ش) (جمع). (¬2) ساقطة من (ي). (¬3) ينظر في توفي: "تهذيب اللغة" 15/ 584 - 587، "المفردات" 543، "لسان العرب" 15/ 400 - 401 (مادة: وفي). (¬4) عزاها إليه ابن جني في "المحتسب" 1/ 125، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 223. (¬5) تنظر مادة وذر، في: "اللسان" 8/ 4805، "البحر المحيط" 2/ 220. (¬6) هكذا في الأصل، وفي "اللسان" 8/ 4805، ووردت (الحاضر) في "تهذيب اللغة" 4/ 3866. (¬7) نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3866.

وقال ابن السِّكِّيت: يقال: ذر ذا ودع، ولا يقالُ: وَذَرْتُه ولا ودعته، وأمَّا في الغابر (¬1) فيقال: يذره ويدعه، ولا يقال: واذِرٌ ولا وادِعٌ، ولكن يقال: تركته فأنا تاركٌ (¬2). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} ابتداء، ولابد للابتداء من خبر يكون هو أو يكون له فيه ذكر. واختلف النحويون في خبر (الذين) هاهنا: فقال الأخفش: المعنى: يتربصن بعدهم (¬3). وقال المبرد: التقدير والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا أزواجهم يتربصن (¬4). وقال الكسائي: المعنى: يتربصْنَ أزواجهم، فكنى الله عن الأزواج، فجاءت النون دالة على تأنيث المضمر (¬5). وقال الفراء (¬6): ترك الخبر عن (الذين) وأخبر عن الأزواج؛ لأن المعنى على ذلك، قال: والعرب تذكر اسمين ثم تترك الأول بلا خبر، وتخبر عن الثاني، وأغنى الإخبار عن الثاني الإخبار عن الأول، كذلك ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، وفي "اللسان" 8/ 4805، وصوابه: الحاضر، كما في "تهذيب اللغة" 4/ 3866، وهو المصدر الذي ينقل عنه الواحدي وابن منظور. (¬2) نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3866. وينظر في المادة "المفردات" ص 533، "اللسان" 8/ 4805، "البحر المحيط" 2/ 220. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 176، ونصه: فخبر (والذين يتوفون) يتربصن بعد موتهم، ولم يذكر بعد موتهم، كما يحذف بعض الكلام، تقول: ينبغي لهن أن يتربصن، فلما حذف ينبغي وقع يتربصن موقعها. (¬4) نقله عنه في "البحر المحيط" 2/ 222. (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 314 - 315، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 317، "البحر المحيط" 2/ 222. (¬6) ساقط من (ي).

ههنا أخبر عن الأزواج وترك الذين. والمعنى عنده: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، وأنشد: لَعلِّي إن مَالَتْ بي الرِّيحُ مَيْلةً ... على ابن أبي ذِبَّانَ أن يَتَنَدَّما (¬1) قال: المعنى: لعل ابن أبي ذِبان أن يتندم أن مالت بي الريح ميلة عليه (¬2)، فأخبر عن الابن واكتفى بخبره من خبر الياء في لعلي (¬3). قال أبو إسحاق: وهذا القول غير جائز، لا يجوز أن يبتدأ بالاسم ولا يحدث عنه؛ لأن الكلام إنما وضع للفائدة، فما لا يفيد فليس بصحيح، والذي هو الحق في هذه المسألة: أن ذكر الذين قد جرى ابتداء، وذكر الأزواج قد جرى متصلا بصلة الذين، فصار الضمير الذي في (يتربصن) يعود على الأزواج مضافات إلى الذين، كأنك قلت: يتربصن أزواجهم. قال: ومثل هذا من الكلام: الذي يموت ولخلف ابنتين ترثان الثلثين، المعنى: ترث ابنتاه الثلثين (¬4). ¬

_ (¬1) البيت لثابت بن كعب العتكي المعروف بثابت قطنة من أبيات قالها يرثي بها يزيد بن المُهَلِّب ينظر "تاريخ الطبري" 2/ 511، و"المخصص" 13/ 175. "البحر المحيط" 2/ 222 والبيت دون نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 150، "تفسير الطبري" 2/ 511، "معاني القرآن" و"إعرابه" للزجاج 1/ 315 والصاحبي في فقه اللغة ص 217 "تفسير الثعلبي" 2/ 1155، وأبو ذُبّان: كنية عبد الملك بن مروان؛ لأنه كان أبخراً لفسادٍ كان في فمه، وأراد بابنه: هشام بن عبد الملك. ينظر "لسان العرب" 3/ 1484 [ذبب]. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 150 - 151، وذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 222 ردا عليه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 150 - 151 "معاني القرآن" للزجاج 1/ 351. (¬4) "معاني القرآن" لأبي إسحاق الزجاج 1/ 315 - 316.

وهذا الذي ذكره أبو إسحاق هو قول أبي العباس بعينه، إلا أنه مَثَّل مثالًا لا يليق بما قدَّمه من الكلام والتقدير؛ لأنه مثل بالفعل والفاعل، وكان ينبغي أن يمثل بالمبتدأ والخبر، ألا ترى أنه قال: فصار الضمير الذي في يتربصن يعود على الأزواج مضافات إلى الذين، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ما يرجع إليه الضمير الذي في (يتربصن) يرتفع بالابتداء، وإذا ارتفع بالابتداء (¬1)، وجب أن يمثل بالابتداء، ليكون المثال مطابقًا للوصف، فيقول بدل قوله: يتربصن أزواجهم، أزواجهم يتربصن، وكذلك: الذي يموت ويخلف ابنتين يرثان الثلثين (¬2). ثم قال: المعنى: يرث (¬3) ابنتاه الثلثين، والمعنى: كذا من حيث (¬4) كان معنى الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر هاهنا واحدًا، إلا أن الأشبه بغرضه، والأولى أن يقول: ابنتاه يرثان الثلثين (¬5)، وهذا نقد عليه في اللفظ لا في المعنى. قال أبو علي الفارسي في تأويل هذه الآية: وتقدير المحذوف منها خلاف، فالواضح منها: أن الذين يرتفع بالابتداء، وإذا ارتفع بالابتداء فلا يخلو خبره من حكم خبر الابتداء، وهو أن يكون هو هو، أو يكون له فيه ذكر. ولا يجوز (¬6) أن يكون على هذا الظاهر الذي هو عليه، لخلوه من ضربي ¬

_ (¬1) قوله: "وإذا ارتفع بالابتداء". ساقطة من (ي). (¬2) في (ش): (الثلث). (¬3) في (ش): (ترث). (¬4) في "الإغفال": والمعنى -لعمري- يقرض كذا. (¬5) من الإغفال ص 518 - 519 بتصرف. (¬6) في "الإغفال" ص 520: ولا يجوز عندنا.

خبر الابتداء، فالذي يحتمله القول في ذلك: أن يكون المعنى: يتربصن بعدهم، على ما قاله أبو الحسن الأخفش (¬1)، والمعنى على هذا (¬2)، لأن المراد: أن أزواج المتوفين يتربصن عن التزوج بعدهم أربعة أشهر وعشرًا، وإذا كان المعنى عليه، جاز حذف هذا الذي يتعلق به هذا الراجع إلى المبتدأ من جملة الخبر (¬3)، يدل على جواز ذلك وحسنه: إجازة الناس: السمنُ مَنَوَانٍ بدرهم، والمعنى على: منوان منه بدرهم، لا يستقيم الكلام إلا بتقدير ذلك، لأن المنوين ليس بالسمن، إنما هو عبارة عن المقدار. وإذا كان كذلك فلابد (¬4) من راجع يرجع إليه، وجاز الحذف هاهنا في الجار والمجرور للعلم به والدلالة عليه واقتضاء الكلام (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 372، وينظر"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 371 "تفسير الثعلبي" 1/ 1156. (¬2) اختصر الواحدي الكلام، وتمامه في "الإغفال" ص 520: وهذا قول أبي الحسن، أو أن يكون: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ}. أخبرنا بهذا القول أبو بكر عن أبي العباس، وهذا هو الذي ذهب إليه أبو إسحاق أيضا، أو يكون ما ذهب إليه الكسائي من أن المعنى: يتربصن أزواجهم، ثم كنى عن الأزواج. (¬3) اختصر الكلام، وتمامه في "الإغفال" ص 521: إذ الخبر إذا عرف جاز حذفه بأسره، فإذا جاز حذف جميعه جاز حذف بعضه. (¬4) في (ش) (ولابد). (¬5) ساقطة من (م) و (أ). (¬6) في "الإغفال" ص 521 ورد الكلام هكذا: فإذا كان ذلك كذلك، فلابد من راجعين يرجع كل واحد منهما إلى كل واحد من المبتدأين، فالذي يرجع إلى الأول هو هذا الضمير المتصل بالجار المحذوف مع الجار، والذي يرجع إلى الثاني ما في الظرف، وجاز الحذف هنا في الجار والمجرور للعلم به، والدلالة عليه، واقتضاء الكلام له.

وهذه المعاني كلها قائمة في الآية، وإذا كان كذلك جاز تأويل أبي الحسن هذه المسألة التي لا خلاف في جوازها، وهذا القول أمثل من قول أبي العباس: أن التقدير: أزواجهم يتربصن، فحذف الأزواج، وحَذْفُ المبتدأ في كلامهم كثير، نحو: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج: 72] يعني: هو النار، وقوله: {فَصَبُرُ جمَيلٌ} [يوسف: 18]، لأن أبا العباس يقدر حذف مبتدأ مضاف، فيوالي بين الحذفين حذف المبتدأ، وحذف المضاف إليه مع اقتضاء الكلام لكل واحد منهما، أما اقتضاؤه للمبتدأ فلأن له خبرًا أسند إليه (¬1) وهو قوله: {يَتَرَبَّصْنَ}، وأما اقتضاؤه للضمير فلأنه يرجع إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} وليس إذا جاز حذف شيء جاز حذف شيئين، وليس حد حذف المبتدأ المضاف كحد حذف المبتدأ المفرد غير المضاف؛ لأن المضاف شيئان: المبتدأ والضمير. ولأبي العباس أن يقول: حذف المبتدأ المضاف يسوغ من حيث ساغ حذف المفرد، لأن المفرد إنما ساغ حذفه للدلالة عليه، والدلالة (¬2) إذا قامت على حذف المضاف قيامها على حذف المفرد، وجب أن يكون جوازه كجوازه؛ لمشاركته المفرد فيما له جاز الحذف، وقيام الدلالة على حذف المضاف: أن الأزواج قد تقدم ذكرهن في الصلة، فإذا تقدم ذكرهن ساغ إضمارهن وحسن، ألا ترى أنه لو قيل له: أين زيد؟ ساغ أن يقول (¬3): في السوق، ويضمر الاسم لجَرْي ذكره، وأما حذف المضاف إليه وهو ¬

_ (¬1) من قوله: (الكلام لكل واحد ...) ساقط من (ش). (¬2) في (ش) و (ي) (فالدلالة). (¬3) في (م) (يقول).

الضمير في (أزواجهم) ولتقدم (¬1) ذكر ما يعود هذا الضمير إليه، وجري ذكره وجري ذكر الاسم مما (¬2) يسهل حذف الضمير العائد إليه، لدلالة المذكور عليه، فلا فصل إذن بين حذف المفرد والمضاف في باب الحسن والجواز، ألا ترى أنه قد جاء المضاف من المبتدأ محذوفًا كما جاء المفرد، وذلك كقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196 - 197] والمعنى: تقلبهم متاع قليل، فقد رأيت المضاف حذف كما حذف المفرد (¬3)، فهذان القولان أجود هذه الأقوال. وأما قول الكسائي فليس بالمتجه؛ لأن المبتدأ على قوله ليس يعود إليه ذكر، لا مثبت ولا محذوف، وليس تقديره كواحد من هذين التقديرين في المساغ، ألا ترى أن المثبت في الكلام لا يرجع منه إلى المبتدأ شيء، وقد استقل الفعل بفاعله في {يَتَرَبَّصْنَ} وليس بهذه الجملة افتقار إلى ذلك الضمير الذي تقدره، لأن (يتربصن) مستقلة بالأزواج الظاهرة فلم يضمر عائدًا على المبتدأ، كما أضمر أبو الحسن وأبو العباس (¬4). وأما قول الفراء: إنه (¬5) اعتمد على الثاني ورفض الأول، فبعيد من الصواب جدًا، ومن فساده أنه ينكسر عليه قوله، وذلك أنه يقول؛ إن الأول مرتفع بالثاني، فإذا اعتمد على الثاني ورفض الأول لم يكن له برافع، وإذا لم يكن له برافع (¬6) وجب أن لا يرتفع، فارتفاعه وظهور الرفع فيه يدفع ذلك ¬

_ (¬1) في (م) (ليقدم)، وفي (ي) و (أ) غير منقوط. (¬2) في (أ) و (م) (فما). (¬3) من كلام أبي علي في الإغفال ص 526، بتصرف واختصار. (¬4) من كلام أبي علي في الإغفال ص 526 - 227، بتصرف كثير واختصار. (¬5) في (ي) (فإنه). (¬6) قوله: وإذا لم يكن له برافع ساقطة من (ي).

ويمنع منه. والمبتدأ (¬1) إنما يذكر ويلقى إلى المخاطب ليسند إليه حديث (¬2) يُفَاده (¬3) المخاطب، وإذا كان كذلك، علمت أن رفضه خلاف الغرض الذي يقصد به، وهذا في المعنى فاسد مرذول، وليس في كلامهم (له) نظير (¬4)، وما احتج به من البيت يجوز على حذف: أن يتندم لأجلي، لا على أنه ترك الأول (¬5). وقوله تعالى: {وَعَشْراً} بلفظ التأنيث، وأراد الأيام، وإنما كان كذلك تغليب الليالي على الأيام إذا (¬6) اجتمعن في التاريخ وغيره، وذلك أن ابتداء الشهر يكون بالليل، فلما كانت الليالي الأوائل غلبت، لأن الأوائل أقوى من الثواني (¬7). قال ابنُ السِّكِّيت: يقولون (¬8): صمنا خمسًا من الشهر، فيغلبون ¬

_ (¬1) في (ي): (فالمبتدأ). (¬2) في (ش): (حديثًا). (¬3) في الإغفال: (بإفادة). (¬4) من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 528. (¬5) ينظر: في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 317 - 318، "تفسير الثعلبي" 2/ 1154، "التبيان" ص 140، "البحر المحيط" 2/ 222. وذكر قول سيبويه، وحاصله: أن (الذين) مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم، ومثله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]. (¬6) في (ي): (فإذا). (¬7) ينظر: "الكتاب" لسيبويه، "تفسير الثعلبي" 2/ 1159، "شرح الكافية الشافية" 3/ 1690 - 1692، "الأصول" لابن السراج 2/ 428 - 429، "همع الهوامع" 2/ 148. (¬8) في (ي): (يقول).

الليالي على الأيام، إذا لم يذكروا الأيام وإنما يقع الصيام على الأيام؛ لأن ليلة كل يوم قبله، فإذا أظهروا الأيام قالوا: صُمنا خمسة أيام (¬1). قال الزجاج: وإجماع أهل اللغة: سرنا خمسًا بين يوم وليلة (¬2)، وأنشدوا للجعدي: فَطَافَتْ ثَلاثًا بَيْن يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ... وكان النَّكِيُر أن تُضيفَ وتَجْأَرا (¬3) وفيه وجه آخر لأصحاب المعاني: وهو أنه أنث العشر لأنه أراد الليالي، والعرب تذكر الليالي والمراد بها الأيام، كقولهم: خرجنا ليالي الفتنة، وخفنا ليالي إمارة الحجاج، وقال أبو عمرو بن العلاء: هربنا ليالي إمارة الحجاج. وإنما يُراد الأيام بلياليها، وهذا قريب من الأول (¬4). وكان المبرد يقول: إنما أنث العشر لأن المراد به المدة، معناه: وعشر مدد، وتلك المدد كل مدة منها يوم وليلة، والليلة مع اليوم مدة معلومة من الدهر (¬5). وذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية فقال: إذا انقضى لها أربعة أشهر ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 2/ 1262 (مادة: خمس). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 316. (¬3) البيت في ديوانه ص 41، و"الكتاب: لسيبويه" 3/ 563، "تفسير الثعلبي" 2/ 1160و"الكتاب: لسيبويه" 3/ 563، "لسان العرب" 2/ 1262 (مادة: خمس) والشاعر يصف بقرة فقدت ولدها. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 223 - 225. (¬5) نقله في "تفسير الثعلبي" 2/ 1160، "المحرر الوجيز" 2/ 300، "البحر المحيط" 2/ 223.

وعشُر ليال حلت للأزواج، فتأول العشر لليالي، وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم (¬1). ومعنى الآية: بيان عدة المتوفى عنها زوجها، وأنها تعتد من حين وفاة الزوج أربعة أشهر وعشرًا (¬2)، إلا أن تكون حاملًا، فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل، أو تكون أمة فإنها تعتد نصف عدة الحرة (¬3)، وسنذكر في سورة الحج (¬4) عند قوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] الآية: لم اختصت عدة المتوفى عنها زوجها (¬5) بهذا العدد، إن شاء الله. وهذه الآية ناسخة (¬6) لقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: ¬

_ (¬1) نقله ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 2/ 300 - 301، والقرطبي 3/ 186، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 223. (¬2) من: (ليال حلت). ساقط من (ش). (¬3) قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 210: فإن كانت أمة فتعتد نصف عدة الحرة إجماعاً، إلا ما يحكى عن الأصم، وهذا الإجماع فيه نظر، فهذا ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 162 - 164 ينقل أن عدتها أربعة أشهر وعشرٌ عن علي وعمرو بن العاص وأبي عياض، وسعيد بن المسيب، والحسن وسعيد بن جبير والزهري وعمر بن عبد العزيز. وقد تعقب القرطبي في "تفسيره" 3/ 183 قول ابن العربي فقال: قول الأصم صحيح من حيث النظر، فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر، فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة والله أعلم. (¬4) في (ي) (سورة الحجر). (¬5) في (ي) (الزوج). (¬6) سيأتي الحديث عن النسخ عند الآية الأخرى 240 من سورة البقرة.

235

240] وإن كانت هذه مكتوبة قبلها في المصحف، إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول، بل ترتيب التلاوة والمصاحف ترتيب جبريل بأمر الله سبحانه وتعالى (¬1). وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يخاطب الأولياء (¬2)، لأن الرجال قوامون على النساء، مأمورون بزجرهن عن مجاوزة حدود الله، فبين أنهن إذا انقضت عدتهن لا جناح على الأولياء في تخلية سبيلهن، ليفعلن في أنفسهن بالمعروف ما يردن من تزوج الأكفاء بإذن الأولياء، وهذا تفسير المعروف (¬3)، لأن التي تزوج نفسها سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - زانيةً (¬4). 235 - قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} الآية، التعريض في اللغة: ضدّ التصريح، ومعناه: تضمين الكلام دلالة على شيء ليس فيه ذكر له، وأصله: من عَرْضِ الشيء، وهو جانبه، كأنه يحوم به ولا يظهره (¬5)، وينشد على هذا قول الشماخ: ¬

_ (¬1) ينظر: "الإتقان" للسيوطي 1/ 175. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1160، "تفسير البغوي" 1/ 281. (¬3) ينظر: "تفسير ابن كثير". (¬4) روى ابن ماجه برقم (1882) كتاب: النكاح باب: لا نكاح إلا بولي والدارقطني 3/ 227 والبيهقي 7/ 110 عن أبي هريرة مرفوعًا: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإنه الزانية هي التي تزوج نفسها وقد صحح الألباني الحديث دون الجملة الأخيرة منه؛ فإنها موقوفة على أبي هريرة كما في البيهقي. ينظر "إرواء الغليل" 6/ 248. وروى الترمذي (1103) كتاب: النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا ببينة عن ابن عباس مرفوعا: البغايا اللاتي يُنكحن أنفسهن بغير بينة. ثم أورده موقوفًا وقال: هذا أصح. وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 125 وقال: والصواب موقوف والله أعلم. (¬5) "تهذيب اللغة" (عرض) 2398.

كما خَطّ عِبْرَانِيَّةً بيَمِينِه ... بتَيْمَاءَ حَبْرٌ ثم عَرَّضَ أسْطُرا (¬1) قالوا في تفسير عَرَّضَ، أي: لم يبيّن، بل حرفها (¬2)، ذهب (¬3) مرة كذا ولم يقوِّمْها، وذلك أشبه بالرسوم. قال ابن الأنباري حاكيًا عن بعضهم معنى التعريض في اللغة: اتصال الشيء من الكلام إلى المخاطب (¬4)، فإذا قيل: عرَّضَ به، معناه (¬5): أوصل إليه كلامًا فهم معناه ودَلَّ بالذي أسمعه عليه، من قول العرب: قد عرضت الرجل. إذا أهديت إليه أوصلت إليه التحفة (¬6). ومن ذلك حديثُ عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ لقيا الزُّبير في رَكْبٍ قد أقبلوا من الشام يريدون مكة، فَعَرَّضُوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابًا بيضًا، أي (¬7): أهدوها إليهما (¬8). والتعريض أخفى من الكناية؛ لأن الكناية عدول عن الذكر الأخصِّ إلى ذكر يدل عليه، والتعريض دلالة على شيء ليس له فيه ذكر، كقولك: ما أقبح ¬

_ (¬1) البيت للشماخ في "ديوانه" ص 129، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 528، "تفسير الثعلبي" 2/ 1161. "لسان العرب" 2/ 749 [مادة: حبر]. وتيماء: بلدة معروفة في الساحل على الطريق بين المدينة وتبوك. ينظر "معجم البلدان" 2/ 67، والمعجم الجغرافي للبلاد السعودية "شمال المملكة" 1/ 271. (¬2) نص الأزهري "تهذيب اللغة" 3/ 2400: إذا لم يبين الحروف، ولم يقوّم الخطأ. (¬3) في (ي): (وذهب). (¬4) في (ي): (المخاطبين). (¬5) في (ي): (معنى). (¬6) ابن الأنباري (¬7) ساقطة من (ي). (¬8) الحديث ذكره في "النهاية" ص 606، وعنه ابن منظور في "اللسان" 5/ 2891.

البخل، تعرض (¬1) بأنه بخيل، والكناية كقولك: رأيته وضربته، من غير أن تذكر اسمه (¬2). وأما الخِطْبة فقال الفراء: الخِطْبة (¬3): مصدر، بمنزلة الخَطْب، وهو مثل قولك: إنه (¬4) لحَسَنُ القِعْدَةِ والجِلْسَة، تريد (¬5): القُعُودَ والجلوسَ (¬6). ومعى الخِطبة (¬7): التماس النكاح، يقال: خَطَب فلانٌ فلانة، أي: سألها خِطبةً إليها في نفسها، أي حاجَته وأمَره، من قولهم: ما خَطْبُك، أي: ما حاجتُك وأمرك (¬8). وقال بعضهم: أصلُ الخِطْبة: من الخطاب الذي هو الكلام، يقال: خَطَبَ المرأة خِطْبَةً؛ لأنه خاطِبٌ في عقد النكاح، وخَطَب خُطْبَة: خَاطب بالزجر والوعظ. والخَطْب: الأمر العظيم، لأنه محتاج فيه إلى خطاب كثير. قال الليث: يقال: هو يخطبُ المرأة ويختطبها خِطبَةً وخِطِّبَى (¬9)، ¬

_ (¬1) في (أ) يعرض أنه. (¬2) ينظر "تهذيب اللغة" 3/ 2395 - 2403 (عرض)، "والنهاية" ص604 - 607، "المفردات" ص 333، "اللسان" 5/ 2895 (عرض). (¬3) قوله: فقال الفراء: الخطبة. ساقطة من (أ) و (م). (¬4) في (ش) (وأنه). (¬5) في (أ) (يريد). (¬6) "معاني القرآن" 1/ 152. (¬7) ساقطة من (م). (¬8) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1165. (¬9) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 1052 - 1053 مادة "خطب".

وخِطِّيْبَى مصدر كالخطبة، كذا قال أبو عبيد وغيره وأنشدوا: لخطِّيبى التي غَدَرَت وخَانَت ... وهُنّ ذَوَاتُ غائِلِةٍ (¬1) لُحِينَا (¬2) المعنى: لخِطبة زباء التي غدرت بجذيمة حين خطبها إلى نفسها (¬3). قال المفسرون: ومعنى التعريض بالخطبة: أن يقول لها وهي في العدة: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك لنَافِقة، وإن من عَزْمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب، وما أشبه هذا من الكلام (¬4). هذا في عدة المتوفى عنها، فأما الرجعية فلا يحل التعريض بخطبتها (¬5) في العدة؛ لأنها في معاني الأزواج، وأما المختلعة والمطلقة ثلاثًا فالصحيح أن التعريض بخطبتها جائز، كجوازه في عدة الوفاة (¬6). ¬

_ (¬1) في (ش) و (ي): (عائلة). (¬2) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص 182، "تهذيب اللغة" 1/ 1053، "لسان العرب" 2/ 1194 خطب. قال الأزهري: والمعنى: لِخْطَبة زباء وهي امرأة كانت مَلِكَةً خَطَبَها جذيمةَ الأبرش، فَغَرّرت به وأجابته، فلما دخل بلادها قَتَلَتْهُ. وقد خطأ الأزهري قول الليث: إن خطيبى في البيت اسم امرأة بل هو مصدر كالخِطبة. (¬3) ينظر في خطب "معاني القرآن" للأخفش 1/ 373، "تهذيب اللغة" 1/ 1053 (خطب)، "تفسير الثعلبي" 2/ 1165، "المفردات" ص 157، "اللسان" 2/ 1194 - 1195 (خطب)، قال في المفردات: وأصل الخِطبة. الحالة التي عليها الإنسان إذا خطب، نحو الجلسة والقِعدة، ويقال من الخُطبة: خاطب وخطيب، ومن الخِطبة: خاطب لا غير، والفعل منهما خطب. (¬4) كذا يروى عن القاسم ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن القاسم وآخرين، فيما ذكر عنهم الطبري في "تفسيره" بإسناده 2/ 517 - 520، وينظر صحيح البخاري (5124) كتاب: النكاح، باب: قول الله عز وجل {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ}، "مصنف عبد الرزاق" 7/ 53، "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 257. (¬5) في (ش): (بخطبها). (¬6) ينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 188، "التفسير الكبير" 6/ 140 - 141.

وقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: أَسْرَرْتم وأضمرتم في أنفسكم من خطبتهن ونكاحهن. قال مجاهد (¬1) وابن زيد (¬2): هو (¬3) إسرار العزم على النكاح دون إظهاره. وقال السدي: هو أن يَدْخُل فَيُسَلِّم ويُهْدِي إن شاءَ ولا يتكلم بشيء (¬4). ومعنى الإكنان في اللغة: الإخفاء والستر. قال الفراء: للعرب في أكننت الشيء إذا سترته لغتان، كَنَنْتُهُ، وأَكْنَنْتُهُ وأنشدوني (¬5): ثَلاثٌ من ثَلاثٍ قُدَامِيَاتٍ ... مِنَ اللاتِي يَكُنُّ مِنَ الصَّقيعِ (¬6) وبعضهم [يرويه] (¬7) تُكِن من أكننت (¬8). ونحو هذا قال ابن الأعرابي وأبو زيد: قالوا: كننت الشيء وأكننته في الكِنِّ وفي النفس بمعنى. وفَرَّقَ قومٌ بينهما، فقالوا: كننتُ الشيء: إذا صُنته حتى لا تصيبَه آفةٌ، وإن لم يكن مستورًا، يقال: دُرٌّ مكنون، وجاريةٌ مكنونة، وبيضٌ مكنون: مَصُونٌ عن التَّدَحْرُج (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 2/ 521. (¬2) المصدر السابق. (¬3) ساقط من (م) و (أ). (¬4) أخرجه الطبري 2/ 521، "ابن أبي حاتم" 2/ 439 (2329). (¬5) في (م) (أنشدني). (¬6) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" 7/ 3942 [مادة: كنن]، "تهذيب اللغة" 4/ 3196، "تاج العروس" (مادة: كنن). وينظر "المعجم المفصل" 4/ 415. (¬7) في الأصل: طمس عليها، والكلام يقتفيها، وهي مذكورة في "معاني القرآن" الفراء. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 152 - 153. (¬9) "اللسان" 7/ 3942 - 3943، وينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 317.

وأما أكننت فمعناه: أضمرت (¬1)، ويستعمل ذلك في الشيء الذي (¬2) يُخْفِيهِ الإنسانُ وَيسْتُره (¬3) عن غيره (¬4)، وهو ضِدُّ أَعْلَنْتُ وأَظْهَرْت (¬5). وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يعني: الخطبة (¬6)، {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}. روى الكلبيُّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: السرُّ في هذا الموضع النكاح، وأنشد عنه بيت امرئ القيس: وأن لا يشْهَدَ السِّرَّ أمْثَالي (¬7) (¬8). وقال الشعبي (¬9) والسدي (¬10): لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره، ¬

_ (¬1) "تفسير البغوي" 1/ 282، "زاد المسير" 1/ 276 - 277. (¬2) (الذي) ساقط من (ي،. وفي (ش) (إذا). (¬3) ساقطة من (ي). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 317. (¬5) ينظر في (كنن) "معاني القرآن" للفراء 1/ 152 - 153، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 317، "تهذيب اللغة" "المفردات" ص 444، "اللسان" 7/ 3942 - 3943. (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 360، والطبري في "تفسيره" 2/ 521، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 439 عن الحسن. (¬7) ورد البيت هكذا: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كَبِرْتُ وألا يُحْسِنَ السِّرَّ أمثالي في "ديوانه" ص 28، وفيه: وألا يحسن اللهو. و"جمهرة أشعار العرب" 1/ 118،117، وفي "معاني القرآن" للفراء 1/ 153: وأن يشهد. ومعنى السر: النكاح. وبسباسة: امرأة من بني أسد. (¬8) كذا نقَل رواية الكلبي وبيت الشعر من "معاني القرآن" للفراء 1/ 153. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 523، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 439. (¬10) أخرجه الطبري في الموضع السابق.

وقال الحسن (¬1) وقتادة (¬2) والضحاك (¬3) والربيع (¬4) وعطية عن ابن عباس (¬5): السِرُّ: هو الزنى، وكان الرجل يدخُلُ على المرأة للريبة وهو يعرض بالنكاح، فيقول لها: دعيني فإذا وفيتِ عدتك أظهرت نكاحك، فنهى الله عز وجل عن ذلك، وقال: الخطبة في السر بمعنى الزنا (¬6). ويَحْرُمُ سِرُّ جَارَتهِمِ عَلَيْهِم ... ويَأكلُ جَارُهُم أَنْفَ القِصَاعِ (¬7) ونحو هذا قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} قال: يريد الجماع، يقول لها: أنا راغب فيك، دعيني أجامعك حتى إذا وفيتِ عِدَّتَك أظْهَرْتُ نِكَاحَكِ (¬8). وقال الكلبي: معناه: لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع (¬9)، وعلى هذا القول السر: الجماع نفسه (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5124) كتاب: النكاح، باب: ولا جناح عليكم فيما عرضم به خطبة النساء معلقًا عنه، ورواه موصولًا عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 56، والطبري في "تفسيره" 2/ 522، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 440. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 522، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 440. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 876، انظر المصدرين السابقين. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 523. (¬5) المصدر السابق. (¬6) ينظر ما تقدم عند الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1166 - 1169، والبغوي في "تفسيره" 1/ 283. (¬7) البيت من الوافر، وهو للحطيئة في "ديوانه" ص 328، و"أمالي المرتضى" 1/ 175، ومعناه: يصفهم بالعفة والكرم، فهم يعفون عن سر الجارة، ويؤثرون ضيفهم بخير الطعام. وينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 317. (¬8) تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي من المقدمة. (¬9) نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1170، والبغوي في "تفسيره" 1/ 273. (¬10) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1171.

قال الفرزدق: مَوَانِع للأسْرَارِ (¬1) إلا من أَهْلِهَا ... ويخْلِفْنَ ما ظَنَّ الغَيْورُ المُشَفْشَفُ (¬2) الذي شفه الهم. يعنى: أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن. فحصل في السرِّ أربعة أقوال: النكاح، والجماع، والزنا، والسِرّ الذي تخفيه وتكتمه غيرك. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} يعنى: التعريض بالخطبة كما ذكرنا (¬3)، ويكون التقدير: قولًا معروفًا في هذا الموضع، وهو التعريض (¬4) غير التصريح؛ لأن التصريح مزجور عنه، فهو منكر (¬5) غير معروف. ويجوز أن يكون المعنى: قولًا معروفًا (¬6) منه الفحوى والمعنى دون التصريح. قوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قد ذكرنا معنى العزم عند قوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ}. ولم يقل: على عقدة النكاح ¬

_ (¬1) في (ش): (الأسرار). (¬2) البيت في "ديوانه" 2/ 24، "تفسير الثعلبي" 2/ 1171، "لسان العرب" 4/ 2292 مادة شفف. والمشفف: السخيف السيء الخلق، وقيل: الغيور، ويروي: المُشَفْشِف بالكسر عن ابن الأعرابي، وأراد: الذي شَفّت الغيرة فؤاده فأضمرته. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 562 عن مجاهد، ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1172، "تفسير البغوي" 1/ 283، "تفسير القرطبي" 3/ 192. (¬4) من قوله: (بالخطبة) ساقط من (ش) و (ي). (¬5) في (ي): (منكور). (¬6) في (ش): (معروفًا يعني منه).

اجتزاء بدلالة العزم، لأنه لا يكون إلا على معزوم عليه، كما تقول: ضرب زيدٌ الظهرَ والبطن، أي: عليهما. قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس، ويكون معنى الآية: ولا تعزموا على عقدة النكاح أن تعقدوها حتى يبلغ الكتاب أجله (¬1)؛ لأنه يجوز أن ينوي بقلبه ويعزم في مدة عدتها أن يتزوجها إذا انقضت المدة، فأما أن يعقد العقد قبل مضي المدة فلا. والمفسرون قالوا: معناه: لا تصححوا عقدة النكاح (¬2). وأصل العقد: الشدّ. والعهود (¬3) والأنكحة تسمى عقودًا؛ لأنها كَعَقْد الحبل في التوثيق. وقال عبد الرحمن بن زيد: هذه الآية نسخت ما قبلها، والخطبةُ (¬4) ومواعدهُ النكاح، وكلُّ شيء جائز إلا النكاح فقط (¬5). وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قيل: الكتاب: القرآن. والمعنى: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، يعنى: العدة المفروضة تنقضي. ويجوز أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض، فيكون المعنى: حتى يبلغ الفرض كمال أجله، قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي: فرض، وإنما جاز أن يقع (كتب) بمعنى فرض؛ لأن ما يكتب يقع في ¬

_ (¬1) كذا نقله من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 318، وينظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 319، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1173، و"تفسير القرطبي" 3/ 192. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 527، "تفسير الثعلبي" 2/ 1173، "البحر المحيط" 2/ 229. (¬3) في (م): (والعقود). (¬4) في (ي): (فالخكطبة). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 527، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1172، ومكي في "الإيضاح" 185.

236

النفوس أنه أثبت (¬1). 236 - قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية. نزلت في رجل من الأنصار، تزوَّجَ امرأةً من بني حنيفة، ولم يسمِّ لها مهرًا، ثم طلقها قبل أن يَمَسَّها، فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، فلما نزلت قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَتَّعْها ولو بقلنسوتك" (¬2). فإن قيل: ما معنى نفيِ الجناح عن المطلَّق قبل المسيس، ولا جناح على المُطَلِّقِ بعده؟ قيل: ظاهر الآية رفع الحرج عن المطلق قبل المسيس وقبل الفرض، فيحتمل أن يكون معناه: لا سبيل للنساء عليكم إذا طلقتموهن قبل المسيس والفرض بصداق ولا نفقة. ويحتمل أن يكون معناه: إباحة الطلاق له أي وقت شاء، بخلاف ما لو طلق بعد المسيس فإنه يجب أن يطلق للعدة (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 318، "تفسير الثعلبي" 2/ 1173. (¬2) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 200، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1174، والبغوي في "تفسيره" 1/ 283، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 279، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 202، وأبو حيان في "البحر" 2/ 230، وقد ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث "الكشاف" 1/ 151، وبيض له، وقال الحافظ كما في "الكشاف" 1/ 285: لم أجده، وقال الولي العراقي كما في "الفتح السماوي" 1/ 293: لم أقف عليه، وعزاه الحافظ في "العجاب" 1/ 596 إلى مجاهد ولم يذكر من خرجه. وقد روى البيهقي 7/ 257، والخطيب في "تاريخ بغداد" 3/ 72 من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: لما طلق حفص بن المغيرة امرأته، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "متعها ولو بصاع"، وليس فيه ذكر لسبب نزول الآية. وينظر تحقيق "تفسير الثعلبي" للمنيع 2/ 1174. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1175 - 1179، وينظر "تفسير الطبري" 2/ 538 - 539، و"تفسير البغوي" 1/ 284، و"البحر المحيط" 2/ 232.

وقال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز، وأنه لا إثم على من طَلَّقَ من تزوج بها بغير مهرٍ (¬1)، كما أنه لا إثم على من طلق من تزوج بها بمهر (¬2) (¬3). وقال صاحب النظم: ما في قوله: {لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} بمعنى الذي على النعت للنساء والترجمة والبيان عنهن، على نظم: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. و (ما) اسم جامد لا يتصرف، ولا يتبين فيه الإعراب ولا العدد (¬4). واختلف القراء في قوله: {تَمَسُّوهُنَّ} فقرأ حمزة والكسائي من المفاعلة، والباقون من الثلاثي (¬5)، لإجماعهم على قوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على فَعَلَ دون فاعل، كقوله {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] كقوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] (¬6). والنكاح عبارة عن الوطء وإن كان قد وقع على العقد (¬7). فأما ما جاء في الظهار من قوله: {مِّنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، فإنه أراد المماسة التي هي عين (¬8) الجماع، وهي حرام في الظهار (¬9). ¬

_ (¬1) من قوله. (على من) ساقطة من (ي). (¬2) من قوله: (كما أن) ساقطة من (ش). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 318. (¬4) ينظر: "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 296 وما بعدها. (¬5) ينظر: "السبعة" ص 183 - 184، "الحجة" 2/ 336، "النشر" 2/ 228. (¬6) نقله عن أبي علي الفارسي في "الحجة" 2/ 336. (¬7) "الحجة" 2/ 337. (¬8) في (ش) و (م) (غير). (¬9) "الحجة" 2/ 337 - 338.

ومن قرأ: (تماسوهن) فلأن فَاعَل قد يراد به ما يراد بـ فعل، نحو: طارقتُ النعلَ، وعاقبت اللصَّ، وهو كثير (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. أي. توجبوا لهن صداقًا (¬2). ومضى الكلام في معنى الفرض عند قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]. واختلفوا في تقديره، فقال قوم: (أو) هاهنا عطف على محذوف قبله، والتقدير: ما لم تمسوهن ممن فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن، لأن كل منكوحة إنما هي إحدى ثنتين: مفروض لها الصداق، وغير مفروض لها. وقال قوم: أو هاهنا بمعنى الواو، يريد: ما لم تمسوهن و (¬3) لم تفرضوا لهن فريضة، كقوله: {يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] (¬4). وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي: زودوهن وأعطوهن من مالكم (¬5) ما يتمتعن به (¬6) ومضى الكلام في معنى المتعة والتمتع. فأما من يستحق المتعة: فالمرأة إذا طلقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس، فإنها تستحق المتعة بالإجماع من العلماء، ولا مهر، وإنما تستحق المتعة في مقابلة ما حصل (¬7) من العقد عليها (¬8). وإن طلقها بعد ¬

_ (¬1) "الحجة" 2/ 338. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1175، و"تفسير البغوي" 1/ 284. (¬3) في (ي) (أوتفرضوا). (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 231. (¬5) في (ي) (وأعطوهن ما لكم). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1179، و"تفسير البغوي" 1/ 284. (¬7) في (ي) (حصلت). (¬8) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 536، "تفسير الثعلبي" 2/ 1182، "تفسير القرطبي" 3/ 200.

الدخول وقبل الفرض، فلها (¬1) مهر مثلها والمتعة أيضًا (¬2). وإن لم يدخلْ بها ولم يَفْرِضْ لها حتى مات ففيها قولان: أحدهما: لها مهر مثلها والميراث، وهو مذهب أهل العراق (¬3)، لحديث بِرْوع بنت واشَقْ الأشْجَعِية (¬4) حين توفي عنها زوجها، ولم يفرض لها، ولا دخل بها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمهر نسائها، لا وَكْسَ ولا شطط، وعليها العِدّة، ولها الميراث (¬5). والقول الثاني: وهو الصحيح: أن لها الميراث، وعليها العدة، ولا مهر لها، ولها المتعة، كما لو طَلَّقها قبل الدخول والتسمية، وهو قول علي (¬6) -رضى الله عنه- وكان علي يقول في حديث بِرْوع: لا يقبلُ قولُ ¬

_ (¬1) في (ش): (فلما). (¬2) وقع الخلاف في حكم المتعة، وقد ذكره المؤلف عند الآية رقم (241) فلينظر. (¬3) ينظر "اختلاف العلماء" للمروزي ص 142، "مختصر الطحاوي" ص 184، "المبسوط" 5/ 62، " المغني" 10/ 49. (¬4) بروع بنت واشق الرؤاسية الكلابية، وقيل: الأشجعية، زوج هلال بن مرة، صحابية اشتهرت بقصتها هذه. ينظر "الاستيعاب" 4/ 357، "أسد الغابة" 5/ 408. (¬5) الحديث رواه أبو داود (2115) كتاب: النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقا، والنسائي 6/ 121 كتاب: النكاح، باب: إباحة التزوج بغير طلاق، والترمذي (1145) كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها، وصححه، وابن ماجه (1891) كتاب: النكاح، باب: الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك، وأحمد 3/ 480، والحاكم 2/ 196، وقال: صحيح على شرط مسلم، عن معقل بن سنان الأشجعي، وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" 3/ 191: وصححه ابن مهدي والترمذي وقال ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده. (¬6) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 293، وسعيد بن منصور في "سنه" 1/ 265، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 301، والبيهقي 7/ 247.

أَعْرَابيٍ بَوَّالٍ على عقبيه على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} المُوْسِع: الغني الذي يكون في سَعَة من غناه، يقال: أوسعَ الرجل: إذا كَثُرَ مالُه واتَّسَعت حالُه، ويقال: أوسعه كذا، أي: وسعه عليه، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] (¬2). وقوله تعالى: {قَدَرُهُ} أي: قَدْرَ إمكانه وطاقته، فحذف المضاف. والمقتر: الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير. وأقتر الرجل إذا افتقر. وقرئ (قدْرُه) بالإسكان والتحريك (¬3)، وهما لغتان في جميع معاني القدر. يقال: قدر القوم أمرَهم يَقْدِرونه قَدْرًا، وهذا قَدْرُ هذا، واحمل على رأسك قَدْرَ ما تطيق، وقَدْرَ الله الرزق يَقْدِره ويَقْدُره قَدْرًا، وقَدَرْتُ الشيء بالشيء أقدِرُه قَدْرًا، وقَدَرْتُ على الأمر أقدِرُ عليه قُدْرَةً وقُدُورًا وقَدَارةً. كل هذا يجوز فيه التسكين والتحريك، يقال: هذا قدَرُ هذا، واحمل قَدَرَ ما تطيق، وهم يختصمون في القدْرِ والقَدَر، وقدرتُ عليه الثوب قدرًا، وخذ منه بقدرِ كذا وَبِقَدَر كذا، قال الله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ولو حُرِّك كان جائزًا. وكذلك: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، ولو خُفِّفَ جَاز، إلا أَنَّه ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" 1/ 268، والبيهقي 7/ 247، قال المنذري كما في "الجوهر النقي" 7/ 247: لم يصح هذا الأثر عن علي. (¬2) ينظر في وسع: "تهذيب اللغة" 4/ 3889، "المفردات" ص 538، "اللسان" 8/ 4835. (¬3) قدْرُه: بإسكان الدال، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: قدَرُه، بتحريكين. ينظر "السبعة" لابن مجاهد ص 184.

لِوفَاق رؤوس الآي يُحَرَّك (¬1). وقال الفرزدق: وما صَبَّ رِجْلي (¬2) في حديدِ (¬3) مُجَاشِعٍ ... مع القَدْرِ إلا حاجةً لي أُرِيدُها (¬4) والمتعة غير مقدرة (¬5) كما ذكر الله تعالى، فقال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} قال ابن عباس (¬6) والشعبي (¬7) والزهري (¬8) والربيع (¬9): أعلاها: خادم، وأوسطها: ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار، ودون ذلك: وِقَاية (¬10) أو شيءٌ من الوَرِق. وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، قال: أعلاها على الموسع (¬11) ¬

_ (¬1) هذا كله كلام أبي علي الفارسي في "الحجة" 2/ 338 - 339. (¬2) في (ش): (رحلي). (¬3) في (ي): (حديث). (¬4) البيت للفرزدق في "ديوانه" 1/ 215 وفي "إصلاح المنطق" لابن السكيت ص 99، "تفسير الطبري" 2/ 538 "تفسير الثعلبي" 2/ 1181، "لسان العرب" 4/ 2387 (مادة: صبب). (¬5) قال الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1189: والصحيح أن الواجب من ذلك على قدر عسر الرجل ويسره. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 156، والطبري في "تفسيره" 2/ 530، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 442 - 443. (¬7) أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره" 2/ 27، والطبري في "تفسيره" 2/ 530، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 443. (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 27، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 157، والطبري 2/ 531. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 530. (¬10) الوقاية: مثلثة الواو: كل ما وقيت به شيئًا، والوِقاية التي للنساء. ينظر "لسان العرب" 8/ 4901 - 4904 (مادة: وقى). (¬11) في (ي) (الموضع).

237

خادم، وأوسطها: ثوب، وأقلها: أقل مَالَه ثمن، قال: وحسن ثلاثون درهمًا (¬1). وعند أبي حنيفة رحمه الله: مبلغها إذا اختلف الزوج والمرأة فيها قدر نصف مهر مثلها (¬2). وقوله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} انتصب على: متعوهن متاعًا، وإن شئت على الخروج من القدر، لأنه معرفة وهذا نكرة (¬3). وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} أي: بما يعرفون القصد وقدر الإمكان (¬4). وقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} منصوب على: حقَّ ذلك عليهم حقًا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت: أي أوجبت (¬5). 237 - قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية. هذا في المطلقة بعد التسمية وقبل الدخول، حكم الله تعالى لها بنصف المهر ولا عِدَّة عليها (¬6)، وإن مات عنها قبل الدخول فلها المهر كاملًا والميراث، ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1187، "تكملة المجموع" 16/ 391، "تخليص الحبير" 3/ 164. (¬2) "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 433، "تفسير الثعلبي" 2/ 1189. (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 319، وعبارته: يجوز أن يكون منصوبا على الخروج من قوله: (ومتعوهن ... متاعًا) أي: ممتعًا متاعًا. وينظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 319. وقال الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1181: ويجوز أن يكون نصبًا على القطع، لأن المتاع نكرة والقدر معرفة. (¬4) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 319. (¬5) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 319، وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 154 - 155، و"التبيان" ص 142. (¬6) تنظر الآثار في ذلك في "تفسير الطبري" 2/ 540، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 4.

وعليها العدة بلا خلاف (¬1). والآية دلالة ظاهرة على أبي حنيفة حيث أوجب كمال الصداق (¬2) بالخلوة (¬3). قال شريح: لم أسمع الله تعالى ذكر في كتابه بابًا ولا سترًا، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق (¬4). وهو مذهب ابن عباس، قال: إذا خلا بها (¬5) ولم يَمَسَّها فلها نصف المهر، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية (¬6). وقال ابن مسعود: لها نصف المهر وإن قعد بين رجليها (¬7). فأما ما ذكر عن زرارة ابن أبي أوفى (¬8) أنه قال: قضى الخلفاء الراشدون أن الرجل إذا أغلق بابًا وأرخى سترًا وجب المهر (¬9). فإنهم أرادوا ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1193، "تفسير البغوي" 1/ 286. (¬2) في (ي) (الطلاق). (¬3) ينظر: "اختلاف العلماء" للمروزي ص 157، "الإشراف" 3/ 48، "تحفة الفقهاء" للسمرقندي 2/ 193. (¬4) رواه سعيد بن منصور في "سننه" 1/ 234، ووكيع في "أخبار القضاة" 2/ 254، وذكره الثعلبي في "سننه" 2/ 1194، والقرطبي 3/ 205. (¬5) في (أ) و (م) (خلاها). (¬6) رواه الشافعي في "الأم" 5/ 230، وعبد الرزاق في "المصنف" 6/ 290، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 236، قال ابن المنذر في "الإشراف" 3/ 49: فأما حديث ابن عباس فإنما رواه ليث بن أبي سليم، وليث يضعف. (¬7) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 286، وذكر القرطبي في "تفسيره" 3/ 205 عن ابن مسعود قال: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابًا أو أرخى سترًا أن لها الميراث وعلها العدة، وروي مرفوعا خرجه الدارقطني. (¬8) في (أ) و (ي) و (م): (ابن أوفى). (¬9) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 288، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 234،=

أَنَّ لها المطالبةَ بجميع المَهْر والنكاحُ قائمٌ إذا مَكّنت من نفسها، ولم يريدوا إذا طَلَّقها، أو لعلهم قالوا ذلك على استعمال مكارم الأخلاق، فإنَّ من الكرم أن يوفي مَهْرَها إذا خلا بها وإن لم يطأها. وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي: فَعَلَيكم نصفُ ما فَرَضْتُم، أو فالواجب ذاك (¬1). والنصف: الجزء من اثنين على المساواة، وكل شيء بَلَغَ نِصْفَ غيره فقد نَصَفَه، يقال: نصفَ النهارُ ينصُفُ، ونَصَفَ الماءُ القَدَحَ، ونصفَ الساقَ إزاري، ونصفَ الغلامُ القرآنَ، ويجوز في جميع ذلك: أنصف النهار، وأنصف الغلام القرآن (¬2)، ويجوز في جميع ذلك: أنصف، حكاه الفراء، يقال: أنصف النهار، وأنصف الغلام القرآن (¬3) وَنَصَّفَ (¬4). قال ابن ميادة: تَرَى سَيْفَه لا ينصُفُ الساقَ نعلُه ... أجَلْ لا وإن كانت طِوالا حَمَائِلُه (¬5) ¬

_ = وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 235، والبيهقي 7/ 255 وقال: هذا مرسل، زرارة لم يدركهم، وقد رويناه عن عمر وعلي موصولا، وقد روى مالك في "الموطأ" 2/ 528، وعبد الرزاق في "المصنف" 6/ 285، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 233، وابن أبي شية في "المصنف" 4/ 234 من طرق عن عمر وعلي بنحوه. (¬1) "تفسير القرطبي" 3/ 204. (¬2) من قوله: (ويجوز في جميع ذلك). ساقط من (ي). (¬3) من قوله: (ويجوز في جميع ذلك): أنصف النهار. ساقط من (ش). (¬4) ينظر في (نصف) "تهذيب اللغة" 4/ 3586 - 3587، "المفردات" ص497، "لسان العرب" 9/ 330 - 332. (¬5) وفي رواية: إلى ملك لا تنصف الساق نعلُه ... أجل لا وإن كانت طوالا محامله ونسب لابن ميادة في "ديوانه" ص293، وفي "تهذيب اللغة" 4/ 3587 وروايته:=

وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يعنى: النساء، ولذلك لم تسقط (¬1) النون مع أن؛ لأن جماعة المؤنث في الفعل المضارع يستوي في الرفع والنصب والجزم، والنون في الدلالة على جمع المؤنث كالواو في الدلالة على جمع المذكر، وكما (¬2) لا يسقط واو يفعلون في الإعراب كله رفعه ونصبه وجزمه لم يسقط نون يفعلن (¬3). وقال الفراء: (لو) (¬4) أسقطوها لأشبه فعل الواحد المذكر، ألا ترى أنك لو أسقطت النون من يقمن لالتبس بفعل الواحد المذكر (¬5). ومعنى {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} إلا أن يترك النساء ذلك النصف فلا يطالبن الأزواج به، إذا كُنَّ بالغاتٍ رشيداتٍ، فيسقطُ عن الرجل أو بعضه، فيسقط ذلك القدر (¬6). وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} اختلفوا في الذي بيده عقدة النكاح. فقال ابن عباس (¬7)، في رواية العوفى: هو ولي المرأة. وهذا قول ¬

_ = محاملهُ، وفي "اللسان" 8/ 4443 (نصف). نسب البيت الثاني لذي الرمة في "ديوانه" ص 1266. (¬1) في (أ) و (م): (يسقط). (¬2) في (م): (مما). (¬3) ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 155 بنحوه، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 319، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 320، "تفسير الثعلبي" 2/ 1197، "التبيان" ص 142. (¬4) ساقطة من (ي). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 155 بنحوه. (¬6) ذكره القرطبي في "تفسيره" 3/ 205 - 206. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 544.

علقمة (¬1) وأصحاب عبد الله (¬2)، وإبراهيم (¬3) وعطاء (¬4) والحسن (¬5) والزهري (¬6) والسدي (¬7). وقال عكرمة: أذن الله تعالى في العفو، وأي (¬8) امرأة عَفَتْ جاز عفوها، فإن شَحَّت عفا وليها وجاز عفوه (¬9). وهذا مذهب أهل الحجاز، إلا أنهم قالوا: يجوز عفو ولي البكر، فإذا كانت ثيبا فلا يجوز عفوه عليها (¬10). وقال ابن عباس، في رواية عمار ابن أبي عمار (¬11): ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 284، والطبري في "تفسيره" 2/ 543، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 282، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬2) "تفسير الطبري" 2/ 543. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 886، والطبري في "تفسيره" 2/ 544، 545، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 283، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 282، والطبري في "تفسيره" 2/ 544، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 96، والطبري في "تفسيره" 2/ 544، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬6) انظر المصادر السابقة. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 544، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1199. (¬8) في (ش) و (ي) (فأي). (¬9) أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 888، والطبري في "تفسيره" 2/ 545، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 444. (¬10) ينظر: "الموطأ" 2/ 528، و"الكافي" لابن عبد البر 2/ 559، "الإشراف" 3/ 48. (¬11) هو: عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله، قال ابن حجر: صدوق ربما أخطأ، توفي بعد سنة 120هـ. ينظر "الجرح والتعديل" 6/ 389، "التقريب" ص408 (4829).

إنه الزوج (¬1). وهو قول عليٍّ (¬2)، وسعيد بن المسيب (¬3)، والشعبي (¬4)، ومجاهد (¬5)، والقرظي (¬6)، والربيع (¬7) وقتادة (¬8) ومقاتل (¬9) والضحاك (¬10). وهو الصحيح الذي عليه عامة الفقهاء اليوم (¬11). ومعنى عفو الزوج: أن يعطيها الصداق كاملًا، ولما ذكر الله تعالى عفو المرأة عن النصف الواجب ذكر عفو الزوج عن النصف الساقط، فيحسن لها أن تعفو ولا تطالب بشيء، وللرجل أن يعفو ويوفي المهر كاملاً. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف" 4/ 281، والطبري في "تفسيره" 2/ 546، وذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 281، والطبري في "تفسيره" 2/ 545، ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 96، والطبري في "تفسيره" 2/ 547، وذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 547، 548، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 96، والطبري 2/ 547 - 548، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 445. (¬6) أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 280، والطبري في "تفسيره" 2/ 548، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 548، وذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 445. (¬8) ذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 445، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 439. (¬9) هو مقاتل بن حيان، ذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 445، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1202. (¬10) أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف" 4/ 281، والطبري في "تفسيره" 2/ 548 - 549، وذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 549. (¬11) كذا ذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 549.

روي أن جُبير بن مطعم تزوج امرأة ثم طلقها قبل البناء فأكمل لها الصداق، وقال: أنا أحقُّ بالعفو، وتأوَّل قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬1) ولأنَ المهرَ حقُّ المرأة فليس لغيرها إسقاطه، كما أنه ليس للولي أن يهب من مالها شيئًا، كذلك المهر مال لها (¬2). وقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} هذا خطاب للرجال والنساء جميعًا، إلا أن الغلبة (¬3) للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث، فلذلك غلب التذكير لسبق الأسماء المذكرة (¬4) وزيادة التأنيث على ما بينَّا، تقول: قائم، ثم تريد (¬5) التأنيث فتقول: قائمة، والمزيد (¬6) عليه هو الأصل المغلب (¬7). وموضع (أنْ) رفع بالابتداء، تقديره: والعفوُ أقربُ للتقوى (¬8)، واللام بمعنى إلى (¬9). والمعنى: وعفوُ بعضِكم عن بعضٍ أقربُ (¬10) إلى اتِّقاءِ ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 284، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 280، والطبري في "تفسيره" 2/ 546. (¬2) ينظر في الاستدلال لهذا القول: "تفسير الطبري" 2/ 549، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 440، "تفسير الثعلبي" 2/ 1203 - 1207، "تفسير البغوي" 1/ 287. (¬3) في (أ) (الغلبة). (¬4) في (ي) و (ش) (المذكورة). (¬5) في (ش) (يريد). (¬6) في (ي) و (ش) (فالمزيد). (¬7) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 319 - 320، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1212، والبغوي في "تفسيره" 1/ 287. (¬8) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 320، "تفسير الثعلبي" 2/ 1211، "التبيان" ص143، "تفسير القرطبي" 3/ 208، "المسير الكبير" 6/ 144. (¬9) قال السمين في "الدر المصون" 2/ 496: وهذا مذهب الكوفيين، أعني: التجوز في الحروف، ومعنى اللام وإلى في هذا الموضع يتقارب. وينظر "التبيان" ص 143. (¬10) في (ي) (أقرب للتقوى).

238

ظلمِ كُلِّ واحد صاحبه ما يجب من حقه (¬1). وقيل: معناه: أدعى إلى اتقاء معاصي الله؛ لأن هذا العفو ندب، فإذا انتدب إليه علم أنه لما كان فرضًا كان أشد استعمالًا (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} قال ابن عباس: لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض، وهذا حث من الله للزوج والمرأة على الفضل والإحسان، وأمر لهما جميعًا أن يستبقا إلى العفو (¬3). 238 - قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} الآية. الوسطى: تأنيثُ الأوسط، يقال: وَسَطَ فلانٌ الجماعة يَسِطُهم: إذا صار في وَسْطِهم، وهذا أوسطُ من ذاك على المبالغة، والأوسطُ: اسمٌ للوسط، قال الله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] (¬4). واختلفوا في الصلاة الوسطى، فقال معاذ (¬5) وعمر (¬6) وابن عباس (¬7) ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 6/ 144 - 145. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1212، "التفسير الكبير" 6/ 145. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1213، "تفسير البغوي" 1/ 287. (¬4) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3888 - 3889، "المفردات" ص 537 - 538. "اللسان" 8/ 4831 - 4834 (مادة: وسط). (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1216، والدمياطي في "كشف المغطى في تبين الصلاة الوسطى" ص123، والبغوي في "تفسيره" 1/ 287. (¬6) انظر المصادر السابقة. (¬7) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 139 بلاغا، وسعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 915، والطبري في "تفسيره" 2/ 564 - 565، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 448، وقد روى سعيد بن منصور في السنن 3/ 917، وابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 504، والطبري 2/ 577 عن ابن عباس: أنها العصر.

وابن عمر (¬1) (¬2) وجابر (¬3) وعطاء (¬4) وعكرمة (¬5) والربيع (¬6) ومجاهد (¬7): إنها صلاة الفجر. وهو اختيار الشافعي (¬8) رحمه الله. روى عكرمة عن ابن عباس قال: هي صلاة الصبح، وسطت فكانت بين الليل والنهار، تُصَلى في سواد من الليل وبياض من النهار، وهي أكثر الصلاة تفوت الناس (¬9)؛ ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار (¬10). وقال زيد بن ثابت (¬11)، وأبو سعيد الخدري (¬12)، وأسامة بن ¬

_ (¬1) سقطت من (ي). (¬2) رواه سعيد بن منصور في "سننه" 3/ 910، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 448، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1217، والبغوي في "تفسيره" 1/ 287، وروى الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 170 عن ابن عمر: أنها العصر. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 565، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 448، والبغوي في "تفسيره" 1/ 287. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 179، والطبري 2/ 566، وذكره ابن أبي حاتم 2/ 448. (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 912، والطبري في "تفسيره" 2/ 566، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 448. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 566، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 448. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 505، وانظر المصدرين السابقين. (¬8) "أحكام القرآن" للشافعي ص 71، "السنن الكبرى" للبيهقي 1/ 461. (¬9) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 171، وعزاه ابن عبد البر في "التمهيد" 4/ 284 إلى إسماعيل القاضي، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1221. (¬10) "تفسير الثعلبي" 2/ 1221. (¬11) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 139، وعبد الرزاق في "المصنف" 1/ 577، والطبري 2/ 561. (¬12) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 561، والبيهقي 1/ 458.

زيد (¬1) وعائشة (¬2): إنها الظهر؛ لأنها وسط النهار. ومن خصائصها: أنها أول صلاة فرضت (¬3). وقال علي (¬4) وعبد الله (¬5) وأبو هريرة (¬6) والنَّخَعي (¬7) وقتادة (¬8) والحسن (¬9) والضحاك (¬10) والكلبي (¬11) ومقاتل (¬12): أنها العصر، وهو اختيار أبي حنيفة (¬13) رحمه الله. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى 1/ 153، والطبري في "تفسيره" 2/ 562، وابن أبي حاتم 2/ 448. (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 577، وذكره الترمذي 1/ 342 كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الوسطى ... ، وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 505، والطبري في "تفسيره" 2/ 555 عنها أنها قالت: هي صلاة العصر. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1234. (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 577، وسعيد بن منصور في "سننه" 3/ 901، والطبري في "تفسيره" 2/ 557 - 559، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 448. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 504، والطبري في "تفسيره" 2/ 557 - 559. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 1/ 577، وسعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 903 - 908، والطبري في "تفسيره" 2/ 559. (¬7) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 556، وذكره الثعلبي 2/ 1235، والدمياطي في كشف المغطى ص 119. (¬8) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 556، 557. (¬9) أخرجه الطبري 2/ 558. (¬10) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 505، والطبري في "تفسيره" 2/ 556. (¬11) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1236، والنووي في "المجموع" 3/ 61. (¬12) "تفسير مقاتل" 1/ 200، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1236. (¬13) "شرح معاني الآثار" 1/ 176، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 443.

روي ذلك مرفوعًا أنها العصر (¬1)، ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي (¬2) ليل (¬3). وقال قبيصة بن ذؤيب (¬4): إنها المغرب (¬5)، لأنها وسط في الطول والقصر من بين الصلوات. ومن خصائصها: أنها لا تقصر (¬6). وحكى (¬7) الشيخ الإمام أبو الطيب سهل بن محمد، رحمه الله (¬8)، عن بعضهم: أنها صلاة العشاء الآخرة؛ ¬

_ (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر .. " الحديث، فقد رواه البخاري (2931) كتاب: الجهاد، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة، ومسلم (657) كتاب: المساجد، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من حديث علي. ورواه الترمذي من طريقين: (182) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة الوسطى، وحسنه، (2983) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة وصححه، والإمام أحمد 5/ 7، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 174، وابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 505، والبيهقي 1/ 460، والطبري في "تفسيره" 2/ 560، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1236، وغيرهم عن الحسن عن سمرة بن جندب. (¬2) في (ي) (وبين صلاتي). (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1249. (¬4) هو: قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، أبو سعيد أو أبو إسحاق المدني من أولاد الصحابة وله رؤية، من الفقهاء الوجوه، توفي سنة 86 هـ. ينظر "الاستيعاب" 3/ 336، "التقريب" ص 453. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 564، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1253، والبغوي في "تفسيره" 1/ 289. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1253 - 1254، وهو معنى كلام قبيصة المتقدم تخريجه. (¬7) الواو ساقطة من (ي). (¬8) هو سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي، أبو الطيب النيسابوري، شيخ الشافعية بخراسان ومفتيها، توفي سنة 404. ينظر "سير أعلام النبلاء" 17/ 207، "طبقات الشافعية الكبرى" 4/ 393.

لأنها بين صلاتين، لا تقصران (¬1) فهي الوسطى بينهما (¬2). وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها (¬3) بعينها (¬4). سئل الربيع بن خثيم (¬5) عنها فقال للسائل (¬6): أرأيت إن علمتها أكنت (¬7) محافظًا عليها ومضيعًا سائرهن؟ قال: لا، قال: فإنك إن حافظت عليها كلها فقد حافظت عليها (¬8). وبه يقول أبو بكر الوراق (¬9). وقال: لو (¬10) شاء الله عز وجل لعينها، ولكنه أراد تنبيه الخلق على أداء الصلوات (¬11). وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قال أبو عبيد: أصلُ القنوت في ¬

_ (¬1) في (ي) (لا تقصران وهي المغرب والفجر فهي). (¬2) ذكره الثعلبي 2/ 1257، وينظر كشف المغطى ص 135، "فتح الباري" 8/ 197 (¬3) في (م) (ولا يعرفها) في "تفسيره". (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 566، "تفسير الثعلبي" 2/ 1260. (¬5) هو: الربيع بن خثيم بن عائذ بن عبد الله التوزي أبو يزيد الكوفي، ثقة عابد مخضرم، قال له ابن مسعود: لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك، توفي سنة 61هـ، وقيل: 63 هـ. ينظر "تقريب التهذيب" ص206 (1888). (¬6) ساقطة من (ي). (¬7) في (ي): (كنت). (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 566. (¬9) هو محمد بن عمر الوراق الحكيم، أبو بكر البلخي، أصله من ترمذ، وأقام ببلخ، وأسند الحديث، توفي سنة 240. ينظر "حلية الأولياء" 10/ 235، "صفة الصفوة" 4/ 165. (¬10) في (ي): (وقالوا). (¬11) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1260، وأبو حيان في "تفسيره" 2/ 241.

أشياء، فمنها: القيام، وبه جاءت الأحاديث في قنوت الصلاة؛ لأنه إنما يدعو قائمًا، ومن أبين ذلك: حديث جابر، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت" (¬1) يريد: طول القيام. والقنوت أيضًا: الطاعة، ومنه قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي: مطيعين. والقانت: الذاكر لله المصلي، كما قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] (¬2). قال أبو إسحاق: والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: العبادة والدعاء لله في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة؛ لأنه إن (¬3) لم يكن قيام بالرِّجلين فهو قيام بالشيء بالنية (¬4). وعلى هذا صارت الآية دلالة للشافعي أن الوسطى صلاة الفجر (¬5)، لأنه لا فرض يُدْعى فيه قائمًا إلا الفجر عنده (¬6). فأما المفسرون: فقال ابن عباس في رواية عكرمة (¬7) والعوفي (¬8) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (¬2) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 437 بمعناه، ونقله في "تهذيب اللغة" 3/ 3054. (¬3) في (ش) (لأنه لم يكن). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 320 - 321، وينظر في القنوت: "تهذيب اللغة" 3/ 3054، "المفردات" ص413، "اللسان" 6/ 3747 - 3748. (¬5) في (ش) (أن الوسطى الفجر)، وفي (ي) (أن الصلاة الوسطى: الفجر). (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 577، "تفسير الثعلبي" 2/ 1222، وقد قال ابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 273: وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها؛ لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1277. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 569، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 449، من طريق العوفي عن ابن عباس: مصلين.

والوالبي (¬1): {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي: مطيعين. وهو قول الشعبي (¬2) وعطاء (¬3) والحسن (¬4) وقتادة (¬5). وقال الضحاك (¬6) ومقاتل (¬7) والكلبي (¬8): لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل قنوت في القرآن فهو الطاعة" (¬9) وقال ابن عباس، في رواية أبي رجاء (¬10): داعين في صلاتكم (¬11). فأما ما روي عن زيد بن أرقم (¬12) أنه قال: كنا نتكلم على عهد رسول ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 568. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 568، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 449. (¬3) انظر المصدرين السابقين. (¬4) انظر المصدرين السابقين. (¬5) انظر المصدرين السابقين. (¬6) انظر المصدرين السابقين. (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 201. (¬8) انظر المصدر السابق. (¬9) رواه أحمد 3/ 75، وأبو يعلى 3/ 522، والطبري 2/ 569، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 213، وابن حبان في صحيحه 2/ 7 قال ابن كثير في "تفسيره": ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه ورفع هذا الحديث منكر، وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه، والله أعلم. وكثيراً ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة فلا يغتر بها فإن السند ضعيف. (¬10) في (م): (رخا). (¬11) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 570. (¬12) زيد بن أرقم بن زيد الخزرجي الأنصاري، أبو عمر، أول مشاهده الخندق، وقيل: المريسيع، وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، وهو الذي أنزل الله تصديقه في =

239

الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (¬1) (¬2)، وعلى هذا القنوت هاهنا: الإمساك عن الكلام في الصلاة (¬3). وقال بعض (¬4) أهل المعاني: ليس القنوت في اللغة بمعنى السكوت، والمراد: أنه لما نزلت الآية فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الله بالقنوت وهو الطاعة تحريم الكلام في الصلاة فنهى عن الكلام في الصلاة (¬5). 239 - قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} الآية، أراد خفتم عدوًّا فحذف المفعول لإحاطه العلم به. والرِّجَالُ: جمع رَاجِل، مثل: تَاجِر وتِجَارُ، وصَاحِب وصِحَاب (¬6). والراجل: هو الكائن على رجله ماشيًا كان أو واقفًا. ويقال في جمع راجِل: رَجل ورَجَّالة ورُجّالَه ورِجَال ورُجَّال (¬7). ¬

_ = سورة المنافقون، توفي سنة 66 وقيل 68. ينظر "الاستيعاب" 2/ 109، "أسد الغابة" 2/ 219. (¬1) أخرجه البخاري (1200) كتاب: الجمعة، باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة، ومسلم (539) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، والترمذي بلفظه (2986) كتاب: تفسير القرآن، باب: 3. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 570، 233، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 449، والبغوي في "تفسيره" 1/ 289. (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1278. (¬4) (بعض) ساقطة من (ي). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 570 - 571. (¬6) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 321، "تفسير الطبري" 2/ 572 - 573، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1281. (¬7) ينظر في رجل: "تهذيب اللغة" 2/ 1371 - 1375، "المفردات" ص196، =

والرُّكبان: جمع راكبٍ، مثل: فارس وفرسان (¬1). ومعنى الآية: فإن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين مُوَفِّين للصلاة حقَّها فصلُّوا مشاةً على أرجلكم، وركبانًا على ظهور دوابِّكم، فإن ذلك (¬2) يجزيكم (¬3). قال المفسرون: هذا في المُسَايَفَة والمطاردة، يكبر الرجل مستقبلَ القبلة إن أمكنه، وإن (¬4) لم يمكنه يكبر غير مستقبل القبلة، ثم يقرأ ويومئ للركوع والسجود، ولا ينقص بسبب الخوف من عدد الركعات، ولكن إن كان مسافرًا يقصر الصلاةَ كما يقصر المسافر (¬5). وما روي عن ابن عباس أنه قال: فرض الله على لسان نبيكم الصلاةَ في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (¬6) فذاك مذهب لا يُعْمَل به (¬7). وهذه صلاة شدة الخوف، وهي التي يجوز للمصلي أن يصلي ¬

_ = و"القاموس" ص 1003 - 1004، وزاد في جمعه: رُجالَى ورَجالَى، ورجْلى ورُجْلان بالضم، ورَجْلة، ورِجْلة وأرجِلَة، وأراجل وأَراجيل. (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1456 - 1458، و"القاموس" ص 91، ونقل الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1282 عن المفضل قال: لا يقال راكب إلا لصاحب الجمل، وأما صاحب الفرس فيقال له: فارس، ولراكب الحمار: حمَّار، ولراكب البغل: بغّال. (¬2) في (ي) (ذلكم). (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1283، "تفسير البغوي" 1/ 290. (¬4) في (ي) ولم يمكنه. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1283، "تفسير البغوي" 1/ 290. (¬6) أخرجه مسلم (687) كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين. (¬7) قال النووي في "المجموع" 4/ 404: إن صلاة الخوف لا يتغير عدد ركعاتها، وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا ابن عباس والحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه، وحكاه الشيخ أبو حامد عن جابر وطاوس، فإنهم قالوا: الواجب في الخوف عند شدة القتال ركعة واحدة وقال =

240

من أجلها راكبًا ومومئًا وحيث ما كان وجهه، وأما صلاة الخوف فبيانها في سورة النساء (¬1)، وقال (¬2) ابن عمر في تفسير هذه الآية: ومستقبلي القبلة وغير مستقبلها. والصلاة بالإيماء في شدة الخوف لا يختص (¬3) بخوف المشركين، بل إذا خاف سبعًا، أو سيلًا، أو جملًا صائلًا، وما الأغلب (¬4) من شأنه الهلاك، له أن يومئ بالصلاة إيماءً، ويعدو عدوًا، أو يركض ركضًا إذا خاف فوت الصلاة (¬5). وقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} فصلوا الصلوات الخمس تامةً بحقوقها {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} يريد: كما افترض عليكم في مواقيتها (¬6). 240 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} الآية. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: نزلت الآية في رجل من أهل الطائف يقال (¬7) له: حكيم بن الحارث، هاجر إلى المدينة وله ¬

_ = البغوي في "تفسيره" 1/ 290: ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم. (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1283. وصلاة الخوف ذكرت في سورة النساء [آية:102]. (¬2) في (أ) و (م) قال. (¬3) في (م): (لا تختص). (¬4) في (م): (وما إلا وغلب)، وفي (ي): (وأما الأغلب). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1283، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 576، "البحر المحيط" 2/ 244. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1285، "تفسير البغوي" 1/ 290. (¬7) في (م): فقال.

أولاد معه أبواه وامرأته، فمات، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والديه وأولادَه ميراثه، ولم يعطِ امرأته شيئًا، غير أنَّهُ أمرَهم أن يُنفقوا عليها من تركةِ زوجها حَوْلًا (¬1). فكان الأمر في ابتداء الإسلام على هذا، إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من الميراث شيء إلا السُّكْنى والنفقة سنة، ما لم تخرج من بيت زوجها، وكان المتوفى يوصي بذلك لها، فإن خرجت من بيت زوجها لم يكن لها نفقة، وكان الحول عزيمةً عليها في الصبر عن (¬2) التزوُّجِ، ولكن كانت مخيرةً في أن تعتدَّ إنْ شاءت في بيتِ الزوجِ، وإن شاءت خَرَجَتْ قبلَ الحَوْلِ، على أنها إنْ خرجت سقطتْ نفقتُها. هذا جملةُ حكم هذه الآية. ثم وَرَدَ النَّسْخُ على هذه الآية من وجهين: أحدهما (¬3): أن العدة صارت مُقَدَّرةً بأربعة أشهرٍ وعشر، وقد تقدمت الآية الناسخة. والوجه الثاني: أن الميراث ثبت (¬4) لها، وسقطت نفقة العدة (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 2/ 1288، واليه وحده عزاه الحافظ في "الإصابة" 2/ 32، وذكره الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 311 عن الضحاك عن ابن عباس، وعزاه ابن حجر في "العجاب" 1/ 600، والسيوطي في "اللباب" ص 52، وفي "الدر" 1/ 550 إلى إسحاق بن راهويه في "تفسيره"، وأورد مقاتل في "تفسيره" 1/ 202 نحوه، وروى أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 129، والطبري في "تفسيره" 2/ 580، وغيرهم عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله .. الحديث. (¬2) في (ي): (في). (¬3) ساقطة من (ي). (¬4) في (ي): يثبت. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1290، وينظر "صحيح البخاري" (4536) كتاب: التفسير،=

واختلف القراء في رفع الوصية ونصبها (¬1). فمن رفع فله وجهان: أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ، والظرف خبره، وهو قوله: {لَأَزْوَاجِهِم}، وحَسُنَ الابتداء بالنكرة، لأنَّه موضعُ تخصيصٍ (¬2)، كما حسن أن يرتفع: سلام عليكم، وخير بين يديك. والوجه الآخر: أن يُضمر (¬3) له خبرًا، فيكون قوله: {لَأَزْوَاجِهِم} ¬

_ = باب: والذين يتوفون منكم، "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 129، "تفسير الطبري" 2/ 582، "ونواسخ القرآن" لابن الجوزي ص252، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 9/ 493: قال ابن بطال: وأطبقوا على أن آية الحول منسوخة، وأن السكنى تبعا للعدة، فلما نسخ الحول في العدة بالأربعة أشهر وعشر نسخت السكنى أيضا، وقال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء في أن العدة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر. وذهب مجاهد كما رواه البخاري (5344) كتاب: الطلاق، باب: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}، وآخرون من أهل العلم أن الآية محكمة، قال الشيخ السعدي في "تفسيره": ومن تأمل الآيتين اتضح له أن القول الآخر في الآية -وهو عدم النسخ- هو الصواب، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشرا على وجه التحتيم على المرأة، وأما في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولا كاملا جبرا لخاطرها وبرا بميتهم، ولهذا قال: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ}، أي: وصية من الله لأهل الميت أن يستوصوا بزوجته ويمتعوها ولا يخرجوها. اهـ. وذكر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 318 أن قول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث، إن أرادوا ما زاد على الأربعة والعشر فمسلّم، وان أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة. (¬1) قرأ بالرفع: ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي، وقرأ الباقون بالنصب. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 184. (¬2) في "الحجة" لأبي علي: تحضيض. (¬3) في (ش): (يضمر).

صفةً للنكرة التي هي الوصية، وتقدير الخبر المضمر: فعليهم وصية لأزواجهم (¬1). قال أبو عبيد: ومع هذا رأينا (¬2) المعنى كله في القرآن رفعًا، مثل قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]. ونحوهما (¬3). ومن نصب حمله على الفعل، أىِ: فليوصوا وصيةً، فتُنْصَب الوصيةُ على المصدر، ويكون قوله: {لَأَزْوَاجِهِم} وصفًا كما كان في قول من أضمر الخبر كذلك. ومن حجتهم: أن الظرف إذا تأخر عن (¬4) النكرة كان استعماله صفةً أكثر، وإذا كان خبرًا تقدم على النكرة، كقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} [المؤمنون: 63] {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 35] فإذا تأخرت فالأكثر (¬5) فيها أن تكون صفات، وهاهنا تأخر الظرف، وهو قوله: {لَأَزْوَاجِهِم}، فالأحسن أن تكون صفة للنكرة لا خبرًا (¬6). فإن قيل: كيف يوصي المتوفّى، والله تعالى ذكر الوفاة ثم أمر بالوصية؟. قلنا: المعنى: والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا، فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها (¬7). ¬

_ (¬1) كذا نقله من "الحجة" 2/ 341 - 342. (¬2) عند الثعلبي: رأينا هذا. (¬3) نقله عنه الثعلبي2/ 1287. (¬4) في (ش) و (ي): (على). (¬5) في (ي): فأكثر. (¬6) من "الحجة" لأبي علي 2/ 343. (¬7) من "الحجة" لأبي علي 2/ 343.

وجواب آخر: وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله، بمعنى أمره وتكليفه، كأنه قيل: وصية من الله لأزواجهم، كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وهذا المعنى إنما يحسن على قراءة من قرأ بالرفع (¬1). وقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} انتصب على معنى: متعوهن متاعًا، فيكون كقوله: {وَصِيَّةً} عند من قرأها بالنصب، ويجوز أن يكون على تأويل: جعل الله لهن ذلك متاعًا؛ لأن ما قبله من الكلام قد دل على هذا. وقيل: إنه عبارة عن الحال، وقيل: نصب بالمصدر الذي هو الوصية، كقوله (¬2): {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا} [البلد: 14 - 15] (¬3). وعنى بالمتاع: نفقة سنتها لطعامها (¬4) (¬5). وقوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نصب على أنه (¬6) صفةٌ لمتاع، وقيل: نصب بوقوعه موقع الحال، كأنه قال: مَتِّعوهن مقيمات غير مخرجات. وقيل: انتصب بنزع (¬7) الخافض، أراد: من غير إخراج (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 245. (¬2) ليست في (ي). (¬3) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 323، "تفسير الثعلبي" 2/ 1287، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 132، "التبيان" ص143. (¬4) في (ش): إطعامها. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1288، وزاد: وكسوتها وسكناها وما تحتاج إليه. (¬6) ساقط من (ي). (¬7) في (ي): انتزع بنصب. (¬8) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 323، "تفسير الثعلبي" 2/ 1288،"مشكل إعراب القرآن" 1/ 132، "التبيان" ص143.

241

وقوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ} يعنى: من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} يعنى: التشوف (¬1) للنكاح والتصنع للأزواج (¬2). قال عطاء: يريد التزوج بعد العِدة، يعنى: إذا مضت لها ثلاثة قروء كان لها أن تتزوج، وهذا منسوخ كما بينا (¬3). وفي (¬4) رفع الجناح عن الرجال بخروج النساء وجهان: أحدهما: لا جناح في قَطْعِ النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول. والثاني: لا جُناحَ عليكم في ترك منعهن من الخروج؛ لأن مُقامَها حولًا في بيت زوجها غيرُ واجب عليها (¬5). 241 - قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} قال ابن زيد: إنما نزلت هذه الآية؛ لأن الله سبحانه لما أنزل قوله: {وَمَتِعُوهُنَ} إلى قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذاك لم أفعل، فقال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬6) يعنى: المتقين الشرك، فبين أن لكل مطلقة متاعًا (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): (الشوق)، وفي (م): (التشوق). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1291، "تفسير البغوي" 1/ 291. (¬3) ينظر كلامه عند تفسيره لآية 106 في: بيان الصحيح في النسخ. (¬4) في (ي): (في). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1291، "تفسير البغوي" 1/ 291. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 584 - 585، وذكره في "تفسير الثعلبي" 2/ 1292. (¬7) "تفسير الثعلبي" 2/ 1292.

والناس طوائف مختلفة في هذا. فطائفة تقول: لكل مطلقة متعة كائنة من كانت، وعلى أي وجه وقع الطلاق، وهو قول الحسن (¬1) وسعيد بن جبير (¬2) وأبي العالية (¬3). وطائفة تقول: المتعة واجبة لكل مطلقة إلا المطلقة المفروض لها إذا طلقت قبل الدخول، إنما لها نصف المسمى فقط (¬4). وقال بعضهم: ليس شيء من ذلك بواجب، وإنما المتعة إحسان، والأمر بها أمر (¬5) ندب واستحباب، وهو مذهب أبي حنيفة (¬6). روي أن امرأة خاصمت إلى شريح في المتعة فقال شريح للزوج: (لا تأب أن تكون من المحسنين (¬7)) ولا تأب أن تكون من المتقين، ولم يجبره على ذلك (¬8). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 70، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 72، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 154، والطبري 2/ 532، ابن أبي حاتم 2/ 444. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في "تفسيره" 2/ 29، والطبري في "تفسيره" 2/ 584. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 154، والطبري في "تفسيره" 2/ 532، وابن أبي حاتم 2/ 454. (¬4) وهذا قول ابن عمر ونافع وعطاء ومجاهد ومذهب الشافعي. ينظر "الموطأ" 2/ 573، وعبد الرزاق في "المصنف" 7/ 68، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 154، والطبري في "تفسيره" 2/ 532، والأم 5/ 63، و"أحكام القرآن" للشافعي ص216، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1184 - 1185. (¬5) ليست في (ش). (¬6) ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 194، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 428، "تفسير الثعلبي" 2/ 1186. (¬7) سقطت من (ش). (¬8) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 71، وسعيد بن منصور 2/ 28، ووكيع في "أخبار القضاة" 2/ 327، والطبري 2/ 534، ابن أبي حاتم 2/ 443.

242

قال المفسرون: إنما أعيد هاهنا ذكر المتعة؛ لأنه ذُكر في غير هذه الآية خاصًّا وذكر هاهنا عامًّا (¬1). 242 - قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي: مثل البيان الذي تقدم فيما ذكر من الأحكام يبين آياته، فشبه البيان الذي يأتي بالبيان الذي مضى (¬2). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال عطاء: يريد: يفسر لكم فرائضه لتعملوا (¬3) بها حتى تفقهوا. قال أبو إسحاق: حقيقة هذا أن العاقل هاهنا الذي يعمل بما افترض الله عليه، لأنه إن فهم الفرض (¬4) ولم يعمل به فهو جاهل ليس بعاقل. وحقيقة العقل: استعمالُ الأشياء المستقيمة، ألا ترى أن الله تعالى وصَفَ بالجهلِ أقوامًا آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق، وإن كانوا ذوي عقل، من حيث يلزمهم التكليف، فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] فلو كان هؤلاء جهالًا غير مميزين لسقط عنهم التكليف (¬5) (¬6). وقال غيره: معنى {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: ثبت لكم صفةُ العقلاء، باستعمالِ ما بَيَّنَّا لكم، وهذا قريب مما ذكر. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 2/ 583 - 584، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1292، و"تفسير البغوي" 1/ 291. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 322. (¬3) في (ش): لتعلموا. (¬4) في (م) لعلها (الغرض). (¬5) ساقط من (أ) و (م). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 322.

243

243 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، الرؤية تكون بمعنى رؤية العيان، وتكون بمعنى رؤية القلب، وذلك راجع إلى العلم، والمعنى هاهنا: ألم تعلم، ألم ينته علمك إلى خبر هؤلاء (¬1). وإنما جاز إطلاق لفظ الرؤية على غير المعاينة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صار يصدق إخبار الله تعالى إياه كالناظر عيانًا. قال أهل المعاني: وفي هذا تعجيب (¬2) وتعظيم، كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان. وكل ما في القرآن من نحو هذا فهذا سبيله (¬3). وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} قال المفسرون: أراد به قومًا من بني إسرائيل، كانوا أهل قرية يقال لها: داوَرْدَان (¬4)، وقع بها الطاعون فخرجوا هاربين منها (¬5)، حتى نزلوا واديًا فأماتهم الله جميعًا (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 322، وينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 323. (¬2) في (ش) و (ي): (هذا تبين تعجيب). (¬3) "تفسير غريب القرآن" ص 84، "تفسير الثعلبي" 2/ 1307، "تفسير البغوي" 1/ 294. (¬4) قرية في نواحى شرقي واسط، بينهما فرسخ. ينظر: "معجم البلدان" 2/ 434، والمذكور في "تفسير مقاتل" (دامرودان). (¬5) في (ش) و (ي): (منه). (¬6) وهذا قول ابن عباس والسدي وأبي مالك وابن زيد والحسن وعمرو بن دينار. ينظر "تفسير الطبري" 2/ 589، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 458، "الدر المنثور" للسيوطي 1/ 551، و"بذل الماعون في فضل الطاعون" ص 236، قال الحافظ ابن حجر في "بذل الماعون" ص 235: والطرق الماضية من أن فرارهم كان بسبب الطاعون أقوى مخرجًا وأحسن طرقًا.

وقال الضحاك (¬1) ومقاتل (¬2) والكلبي (¬3): إنما فروا من الجهاد، وذلك أن نبيًّا لهم يقال له: حزقيل ندبهم إلى الجهاد، فكرهوا وجبنوا، فأرسل الله عليهم الموت، فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فلما رأى حِزْقِيل ذلك قال: اللهم ربّ يعقوب، وإله موسى، ترى معصية عبادك، فأرِهِم آيةً في أنفسهم تدلُّهم على نفاذ قدرتك، وأنهم لا يخرجون عن قبضتك، فأرسل الله عليهم الموت. واختلفوا في مبلغ (¬4) عددهم، فلم يقولوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفًا (¬5). والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم يزيد على عشرة آلاف؛ لقوله: ألوف وهو جمع الكثير (¬6)، ولا يقال في عشرة فما دونها: ألوف (¬7). وقوله تعالى: {حَذَرَ الْمَوْتِ} ينتصب على أنه مفعول له، أي: لحذر ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 456، وذكره الحافظ في بذل الماعون ص 235، وعزاه إلى سنيد في "تفسيره"، وإلى الطبري في تفسيره، وليس عند الطبري، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 245. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 202، "تفسير الثعلبي" 2/ 1298. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1298. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 590، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 456 - 457، "تفسير الثعلبي" 2/ 1299. (¬6) في (ي): (الكثير). (¬7) هذا ترجيح الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1301، وتنظر الأقوال: عند الطبري في "تفسيره" 2/ 585، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 455، والسيوطي في "الدر المنثور" 1/ 551، والحافظ في "بذل الماعون" ص 232.

الموت. وجائز أن يكون نصبه على المصدر؛ لأن خروجهم يدل على حذر (¬1). وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} يجوز أن يكون الله تعالى أماتهم عند قوله لهم (¬2): موتوا، ويكون ذلك أمر تحويل (¬3)، كقوله: {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] ويجوز أن يكون هذا أمرًا والمراد منه (¬4) الخبر. وقد ذكرنا وجوه الأمر عند قوله: {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] (¬5). وقوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} قال ابن عباس: وذلك أن نبيهم حزقيل خرج في (¬6) طلبهم فوجدهم بعد ثمانية أيام موتى، وقد نتنوا، فتضرع إلى الله وبكى، وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك ويمجدونك فبقيت وحيدًا لا قوم لي، فأوحى الله إليه رحمة منه له: إني قد جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: احيوا، فقاموا كأنهم نيام انتبهوا من نومهم، فذلك السبط الذين أُحيوا في الدنيا تشم منهم رائحة منتنة تخالف روائح الناس (¬7). وقال قتادة: مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليتوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 324، "البحر المحيط" 2/ 250. (¬2) في (ي) (قوله موتوا). (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1309، والبغوي في "تفسيره" 1/ 294. (¬4) في (ي) و (ش) (فيه). (¬5) ينظر: "تفسير البسيط للواحدي" الدكتور/ محمد الفوزان ص 1019. (¬6) ساقطة من (ش). (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 203، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1305، والثعلبي في "عرائس المجالس" ص 252، والبغوي في "تفسيره" 1/ 293. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 589.

244

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} تفضل على هؤلاء بأن أحياهم بعد موتهم وأراهم الآية العظيمة في أنفسهم ليلزموا سُبُل الهدى (¬1). 244 - قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يذهب كثير من أهل التفسير إلى أن هذا خطاب للذين أحيوا (¬2). قال الضحاك: أحياهم ثم أمرهم بأن يعاودوا (¬3) إلى الجهاد (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يحرض المؤمنين على القتال (¬5). فهذا يدلُّ على أنَّ الخطاب لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا أظهر (¬6)، لأن الكلام على وجهه لا محذوف فيه، وعلى الأول يحتاج إلى إضمار، أي: وقيل لهم: قاتلوا (¬7). قال الزجاج: يقول لا تهربوا من الموت، كما هرب هؤلاء الذين ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 2/ 591. (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 591 - 592، "تفسير أبي المظفر السمعاني" 1/ 267، "تفسير الثعلبي" 2/ 1309، "تفسير البغوي" 1/ 194. (¬3) في (ي) و (ش) (يعادوا). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 459، وتنظر روايات أخرى عن ابن عباس وغيره، فيها الأمر بالجهاد، عند الطبري في "تفسيره" 2/ 586، 587، ورد الطبري هذا الوجه من التفسير في "تفسيره" 2/ 591 - 592 قائلًا: ولا وجه لقول من زعم أن قوله: (وقاتلوا في سبيل الله)، أمر من الله للذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال بعدما أحياهم، ثم ذكر تفصيلًا مطولًا في المسألة. (¬5) ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 165، "تفسير البغوي" 1/ 294. وتقدم الحديث عن هذه الرواية في قسم الدراسة ص 92. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 323. (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 591، "بحر العلوم" 1/ 216، "تفسير القرطبي" 3/ 154، وذكر أنه قول الجمهور.

245

سمعتم خبرهم فلا ينفعكم الهرب (¬1). وقيل: إنه حث على الشكر بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} كأنه قال: واشكروا وقاتلوا في سبيل الله. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لما يقوله المُتَعَلل (¬2) {عَلِيمٌ} بما يضمره، فإياكم والتعلل بالباطل، وقيل: {سَمِيعُ} لقولكم إن قلتم، كقول الذين تقدم ذكرهم، {عَلِيمٌ} بضمائركم (¬3). 245 - قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الآية. القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلانًا، إذا أعطاه (¬4) ما يتجازاه منه، والاسم منه: القرض، وهو ما أعطيتَه لتكافأ عليه، هذا إجماع من أهل اللغة (¬5). قال الكسائي: القرض: ما أسلفت من عمل صالح (¬6) أو سيئ (¬7). وقال الأخفش: تقول العرب: لك عندي قَرْضُ صِدْق، وقرض سوء (¬8)، لأمر يأتي فيه مسرته أو مساءته (¬9). وقال الزجاج: القرض: البلاء الحسن، والبلاء السيئ (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 323. (¬2) في (ي)، (م): (المعلل). (¬3) "زاد المسير" 1/ 289، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 324. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1312، "لسان العرب" 6/ 3588 - 3589 مادة "قرض". (¬6) ساقط من (م). (¬7) نقله عنه في "تفسير الثعلبي" 2/ 1312، "لسان العرب" 6/ 3589. (¬8) في (م): (سبق). (¬9) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 179. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 324.

وأنشد بيت أمية: كلُّ امْرئٍ سَوْف يُجْزَى قرضَه حَسَنًا ... أو سَيِّئًا ومَدِينًا كالذي دانا (¬1) وقال ابن كيسان: القَرْضُ أن تعطيَ (¬2) شيئًا ليرجع إليك مثله، ولتُقْضَى شبهه (¬3). يقال: تقارضا الثناءَ: إذا أثني كلُّ واحد منهما على صاحبه. ويقال: قارضه الودُّ (¬4) والثناء. وأصله في اللغة: القطع، ومنه المقراض (¬5) ومعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازى عليها. وانقرض القوم: إذا هلكوا، لانقطاع أثرهم (¬6). شبه الله عز وجل عمل المؤمنين لله عز وجل على ما يرجون من ثوابه بالقرض؛ لأنهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما وعدهم الله عز وجل من جزيل الثواب (¬7). والقرض في هذه الآية اسم لا مصدر، ولو كان مصدرًا لكان إقراضًا (¬8). قال أهل المعاني: هذا تلطف من الله في الاستدعاء إلى أعمال البر؛ ¬

_ (¬1) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 63، "تفسير الطبري" 2/ 592، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 1311 "تهذيب اللغة" 3/ 2931 ويروى: ومدينًا مثل مادانا. (¬2) في (ي): (تقضي). (¬3) نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1312. (¬4) في (ش): (للود)، وفي (ي): (بالود). (¬5) في (م): (القراض). (¬6) ينظر في قرض: "تهذيب اللغة" 3/ 2931 - 2933، "المفردات" ص402، "لسان العرب" 6/ 3590، "تفسير البغوي" 1/ 294، "تفسير القرطبي" 3/ 239. (¬7) "تفسير الطبري" 2/ 592، "تفسير الثعلبي" 2/ 1312. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 325.

لذلك أضاف الإقراض إلى نفسه، وهذا كما جاء في الحديث: إن الله تعالى يقول لعبده: استطعمتك (¬1) فلم تطعمني (¬2). كأنه قيل: مَنِ الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم في وقت فقره وحاجته. وتأويله: في الذي يقدم لنفسه إلى الله تعالى ما يجد ثوابه عنده (¬3). قال ابن زيد: هذا القرض (¬4) الذي دعا الله إليه هو في الجهاد. وقال الحسن: هو في أبواب البر كله. وقوله تعالى: {قَرْضًا حَسَنًا} قال عطاء: يعنى حلالًا. الواقدي: طيبة به نفسه (¬5). ونذكر أوصاف القرض الحسن في سورة الحديد إن شاء الله. وقوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قرئ بالتشديد والتخفيف، والرفع والنصب (¬6). أما التشديد والتخفيف فهما لغتان. والرفع: بالنسق على ما في الصلة، أو الاستئناف، وهو الاختيار؛ لأن الاستفهام في هذه الآية عن فاعل الإقراض، ليس عن الإقراض، وإذا كان كذلك لم يحسن النصب؛ لأنه في هذه الآية (¬7) ليس مثل قولك: أتقرضني ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): (استطعمك). (¬2) أخرجه مسلم (2569) كتاب: البر والصلة، باب: فضل عيادة المريض. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1313، "البحر المحيط" 2/ 252. (¬4) في (ي): (هذا هو القرض). (¬5) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1319، "تفسير البغوي" 1/ 294، والواقدي هو علي بن الحسين. (¬6) قرأ ابن كثير (فيضَعِّفه) بالرفع والتشديد، وقرأ ابن عامر (فيضعِّفَه) بالنصب والتشديد، وقرأ عاصم (فيضاعفَه) بالنصب والتخفيف، وقرأ الباقون (فيضاعفُه). ينظر السبعة لابن مجاهد ص 184 - 185. (¬7) زيادة من (ي).

فأشكرك، لأن الاستفهام هاهنا عن الإقراض. فأما وجه النصب: فهو أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ؛ لأن المعنى: أيكون قرض فيضاعفه، كقراءة من قرأ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} (¬1) (¬2) [الأعراف: 186] جزم قوله: {وَيَذَرُهُم} لأن معنى قوله: {فَلَا هَادِيَ لَهُ} لا يهده (¬3). ونحو هذا كثير مما حُمِل الكلام فيه على المعنى دون اللفظ، قال الحسن والسدي: هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله تعالى، و (هو) (¬4) مثل قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، ومعنى التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد، وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر (¬5). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} يعنى: يمسك الرزق عمن يشاء، ويضيق عليه، ويوسع على من يشاء، في قول عطاء عن ابن عباس والحسن وابن زيد والأكثرين (¬6). وحكى الزجاج: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء عليها عاجلًا وآجلًا (¬7). ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ) و (ش). (¬2) في (ش): (ونذرهم). (¬3) في (ش): (يهده). (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) نقله عن "الحجة" لأبي علي 2/ 344 - 345. (¬6) ذكره عنهم أيضًا: ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 291. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 325، وينظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 248، "تفسير الثعلبي" 2/ 1323.

246

وحكى أبو الهيثم السجزى، عن بعضهم قال: إن الله تعالى لما أمرهم بالصدقة أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، فقال: (¬1) {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} يعني يقبض بعض القلوب فيزويه كيلا ينشط (¬2) لخير، ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرًا (¬3). 246 - وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية. الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسمٌ للجماعة، كالقومِ والرَّهْطِ والجيش، وجمعه: أملاء، قال الشاعر: وقال لها الأَمْلاَء من كلِّ مَعْشَر ... وخَيْرُ أقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُها (¬4) وأصله من الملأ، فالملأ: هم الذين يملؤون العيون هيبة ورُواءً (¬5)، وقيل: هم الذين يملؤون المكان إذا حضروا (¬6). وقال أبو إسحاق: الملأ: الرؤساء سموا بذلك لأنهم مِلآءٌ ومُلآءُ (¬7) بما يحتاج إليه (¬8) من قولهم: مَلُؤَ الرجل يَمْلُؤُ ملاءَةً فهو مليء (¬9). ¬

_ (¬1) ساقطه من (ي). (¬2) في (ي) ينبسط وفي (ش) فيزويه ينشط. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1323، "عجائب التأويل للكرماني" 1/ 221، "البحر المحيط" 2/ 253. (¬4) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في "أساس البلاغة" 2/ 397 مادة: ملأ. (¬5) في (ش) ورؤًا. (¬6) ينظر في الملأَ: "تهذيب اللغة" 4/ 3437 - 3438، "المفردات" ص 474 - 475، "لسان العرب" 7/ 4252 - 4253. (¬7) في (ش) (مُلآة)، وقد كتبت الأولى والثانية في النسخ مِلآء ومُلآء. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 325 - 326، ولفظه: لأنهم مُلء بما يحتاج إليه منهم، وفي "تهذيب اللغة" 4/ 3438: س ملاء بما يحتاج إليه منهم. (¬9) ساقط من (ش).

وقوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا} قال قتادة: هو يوشع (¬1). وقال السدي: هو شمعون (¬2). وقال سائر المفسرين: هو أشمويل (¬3). وكان سبب قولهم ذلك لنبيهم، فيما قال الكلبي (¬4) ووهب (¬5): أن الأحداث كثرت في بني إسرائيل، وعظمت فيهم الخطايا، وغلب عليهم عدُوُلهم (¬6) فَسَبوا كثيرًا من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكًا تنتظمُ به كلمتهم، ويجتمع أمرهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم، فقال لهم ذلك النبي: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} وهذا استفهام شك، يقول: لعلكم أن تَجْبُنُوا عن القتال (¬7). وقرأ نافع وحده (عسِيتم) بكسر السين، واللغة المشهورة فتحها (¬8). ووجه قراءة نافع: ما حكاه ابن الأعرابي: أنهم يقولون: هو عسٍ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 97، والطبري في "تفسيره" 2/ 596، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 463، واستبعده ابن كثير 1/ 322 قال: لا هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان ذلك في زمان داود عليه السلام كما هو مصرح به في القصة. وينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 352. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 596، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 463. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1334، وكذا يروى عن ابن إسحاق ووهب بن منبه فيما أخرج الطبري 2/ 595. (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1335، والبغوي في "تفسيره" 1/ 296. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 596 - 597، وذكر الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1335. (¬6) في (ي): عدوهم. (¬7) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1339. (¬8) ينظر: "السبعة" ص 186، "والنشر" 1/ 230.

بكذا، وما أعساهُ، وأَعْسِ به، فقولهم: عسٍ، يقوي عسِيتم بكسر السين، ألا ترى أن عسٍ، مثل (¬1): حرٍ وشجٍ، فإن قالوا: يلزمه أن يقرأ: {عَسَى رَبُّكُمْ} [الإسراء: 8] قيس: القياس هذا، وله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع، والأخرى في موضع (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} اختلف النحويون في وجه دخول (أن) هاهنا، والقائل يقول: ما لَكَ تفعل كذا كقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] و {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الحديد: 8]. فقال الأخفش: (أن) هاهنا زائدة. المعنى: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله (¬3). وقال الفرَّاءُ: ذهب الى المعنى؛ لأن قول: مَا لَكَ لا تصلي، معناه: ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) "الحجة" لأبي علي 2/ 350. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 180، وتمام كلامه: (أن) هاهنا زائدة، كما زيدت بعد (فلما) و (ولما) و (ولو) فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا، ومعناه: ما لنا لا نقاتل، فأعمل (أن) وهي زائدة كما قال: ما أتاني من أحد، فأعمل (من) وهي زائدة. انتهى كلامه. وفي "البحر المحيط" 2/ 256 رد مذهب الأخفش، ومذهب من قال: إن المعنى (ما لنا وأن نقاتل) فحذف الواو كما حكاه الطبري في "تفسيره" 2/ 600، فقال أبو حيان: وهذا ومذهب أبي الحسن ليس بشيء؛ لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل، ولا نذهب إليهما إلا لضرورة، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف. وقال الطبري في "تفسيره" 2/ 600: وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه آخرون، غير جائز أن تجعل (أن) زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة، قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل، فلا وجه لدعوى مدّع أن (أن) زائدة معنى مفهوم صحيح.

ما يمنعك أن تصلي، فلما ذهب إلى معنى المنع أدخل أن (¬1)، الدليل على ذلك: قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]، وعلى هذا المعنى قال: {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 32] (¬2). وقال الكسائيُّ: المعنى: وما لنا في أن نقاتل، فأسقط (في) (¬3) وارتضى الزجاج هذا القولَ وصحَّحه. وقال: المعنى: أي شيء لنا في أن لا نقاتل. أي: أيُّ غرضٍ (¬4) لنا في ترك القتال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، ولكن (في) سقطت مع (أن)، وكثيرًا ما يحذف حرف الجر مع أن، وقد مضت لهذا نظائر (¬5). ورجح أبو علي الفارسي قول الكسائي على قول الفراء، فقال: إذا اتجه للكلام وجه صحيح وكان مستمرًّا على الأصول، فلا معنى للعدول عنه إلى غيره، وكما جاز وقوع الفعل موقع الحال في قولك: ما لك تفعل كذا، والمعنى: ما لك فاعلًا، كذلك يجوز وقوع حرف الجر موقعها، كما ذكر الكسائي، وسد مَسَدَّها، ألا ترى أنك تقول: خرجت في الثياب، كما تقول: خرجت لابسًا، فالظرف هاهنا يقع موقع الحال، فكذلك في الآية، فإذا كان ما ذكرناه من تقدير حرف الجر متجها (¬6) متخرجًا (¬7) على معنى ¬

_ (¬1) في (ش): (أنَّ). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 163 - 164. (¬3) نقله عنه الفراء في "معاني القرآن" 1/ 165، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1341. (¬4) في (ي): (أي: أي شيء) وفي (ش): (أي أي لنا). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 327. (¬6) من قوله: (موقعها ..) ساقط من (ش). (¬7) في (ش): (متحركًا).

مستقيم ولفظ مستعمل، لم يكن بنا حاجة إلى أن نقدر أنَّ معنى ما لنا: ما يمنعنا، وكأنه قال: ما يمنعنا أن نقاتل أي: ما يمنعنا من أن نقاتل (¬1)، على أنا لا ندفع الحمل على المعنى في كثير من المواضع، ولكن لا يستحسن (¬2) ترك الظاهر والعدول عنه إلى غيره ما وجد للتأويل على الظاهر مساغ، وإذا حمل الكلام على ما ذكره الفَرَّاء ففي الكلام تقدير حرف جرٍ، كما أن في حمله على الظاهر تقديرُ حرفِ جرٍّ (¬3)، وإذا استوتِ الحالتانِ فلزومُ الظاهرِ أعْجَبُ إلينا (¬4). وعلى الأقوال كلها (أن لا نقاتل (¬5)) في محل النصب، لوقوعه موقع الحال، كقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] وقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، كأنه (¬6) قيل: ما لنا غير مقاتلين. وكما جاز وقوع الفعل الموجب موقع الحال في هذا النحو مثل: ما لك نفعل كذا، جاز أيضًا وقوع المنفي موقعه نحو: ما لك لا تفعل، كقوله تعالى: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92] (¬7) وأنشد أبو زيد: ¬

_ (¬1) من قوله: (أي ما ..) ساقط من (ي). (¬2) في "الإغفال": (لا نستحسن). (¬3) من قوله: (كما أن ..) ساقط من (ي). (¬4) من "الإغفال" ص 537 - 540 بتصرف واختصار. (¬5) في (ي) (لا تقاتلوا). (¬6) في (ش): (له). (¬7) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 325، "تفسير الثعلبي" 2/ 1340، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 134، "التبيان" 147،"البحر المحيط" 2/ 256.

ما لَكَ لا تَذْكُرُ أُمَّ عَمْرِو ... إلّا لعَيْنَيْكَ غُرُوبٌ تَجْرِي (¬1) وذهب المبرد في هذه الآية إلى غير ما ذهب إليه هؤلاء، وهو أنه قال: ما في هذه الآية جحدٌ لا استفهام، كأنه قيل: ما لنا ترك القتال، وعلى هذا سهل الأمر في دخول أن (¬2). وقوله تعالى: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا} ظاهرُ الكلام العموم وباطنه الخصوص؛ لأن الذين قالوا هذا لم يُخْرَجُوا من دِيَارِهم، ولكن إذا أُخْرِج بعضُهم جاز لكلهم أن يقولوا هذا، كما يقال: قتلناكم يوم ذي قار، وكما قال موسى بن جابر الحنفي (¬3): ذهبتُم فلُذْتمُ بالأميرِ وقُلْتُم ... تَرَكْنا أحَادِيثًا ولَحْمًا مُوضّعَا (¬4) والذين قالوا هذا لم يكونوا بهذه الصفة، وعنوا بالإخراج من الديار: السبيَ والقهر (¬5) على نواحيهم (¬6). وقوله تعالى: {وَأَبْنَائِنَا} أرادوا: أُفْرِدنا من أبنائنا بالتفريق بيننا ¬

_ (¬1) في "النوادر" ص 65، وينظر "الإغفال" ص 539، و"المخصص" 1/ 127، و"اللسان" 6/ 3228، و"التاج" 2/ 275، قال أبو زيد: الغروب: الدموع حين تخرج، وغربا العين: مقدمها ومؤخرها. (¬2) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 256. (¬3) هو: موسى بن جابر بن أرقم بن مسلمة أو سلمة بن عبيد الحنفي، شاعر مكثر من مخضرمي الجاهلية والإسلام، من أهل اليمامة، كان نصرانيًّا يقال له: أزيرق اليمامة، ويعرف بابن الفريعة. ينظر: "النجوم الزاهرة" 2/ 231، "الأعلام" 7/ 320. (¬4) البيت ذكر في "ديوان الحماسة" 1/ 140. (¬5) في (ي): (القهر والسبي). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1342، "تفسير البغوي" 1/ 297.

247

بالسبي والقتل. ومعنى الآية: أنهم أجابوا نبيَّهم بأن قالوا: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا (¬1) يظهر علينا عدو، فأما (¬2) إذْ (¬3) بَلَغَ ذلك منا فلابُدَّ من الجهاد، فنطيع ربنا في الغزو ونمنع نساءنا وأولادنا (¬4). قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وهم الذين عبروا النهر، ويأتي (¬5) ذكرهم بعد هذا (¬6). قال عطاء: وفي هذا تحريض للمهاجرين والأنصار، ووعيدٌ لمن تَخلَّفَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتال (¬7)، فقال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} يريد: المشركين والمنافقين (¬8). 247 - قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} أي: قد أجابكم إلى ما سألتم، من بَعْثِ الملكِ يُقَاتِل وتُقَاتلون معه، وكان طالوتُ رجلًا دبَّاغًا، يعمل الأدم، وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل، وكان من سبط بنيامن، ولم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة، ولذلك أنكروا مُلكه (¬9)، و {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ ¬

_ (¬1) في (ي): (مالا). (¬2) في (م): (فلما). (¬3) في (ي) و (ش): (إذا). (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1342 - 1343، "تفسير البغوي" 1/ 297. (¬5) في (ي) (وسيأتي). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1343، "تفسير البغوي" 1/ 297. (¬7) لعله من الرواية التي تقدم ذكرها في قسم الدراسة. (¬8) في (ي): (بالمشركين والمنافقين). (¬9) "تفسير الثعلبي" 2/ 1347، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 602 - 604، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 465، "تفسير عبد الرزاق" 1/ 97.

بِالْمُلْكِ مِنْهُ} لأنا من سبط الملوك {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} أي: لم يؤت ما يتملك به الملوك {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} اختصه بالملك {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (¬1). قال ابن عباس: كان طالوتُ يومئذ أعلمَ رجلٍ في بنى إسرائيل وأجمله وأتمه (¬2). والبسطة: الزيادة في كل شيء، ويسمى طول القامة: بَسْطَةً. والزيادة في المال والعلم وفي كل شيء: بسطة (¬3). وقال الكلبي: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} بالحرب (¬4) {وَالْجِسْمِ} يعني: بالطول. وكان يفوقُ الناسَ برأسه ومنكبه (¬5)، وإنما سمي طالوت لطوله (¬6). قال الزجاج: أعلمَ اللهُ عز وجل أن الذي يجب أن يقع به الاختيارُ العلمُ، ليس أن الله عز وجل لا يُملِّكُ إلا ذا مالٍ، وأعلمَهم أنَّ الزيادة في الجسم مما يهيب به العدو {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} (¬7) يريد: أن الملك ليس ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 2/ 601، "تفسير الثعلبي" 2/ 1347. (¬2) ينظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 466. (¬3) ينظر في بسطة: "تهذيب اللغة" 1/ 334، "المفردات" ص56 - 57، "اللسان" 1/ 283. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1348، "تفسير البغوي" 1/ 298، وقال القرطبي: وهذا تخصيص للعموم بغير دليل. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 466 عن ابن عباس، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1348. (¬6) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1348. (¬7) كذا في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 328 - 329.

248

بالوراثة، إنما هو بإيتاء الله واختياره (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قيل في الواسع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه واسع الفضل والرزق والرحمة، وسعت رحمته كل شيء، وهذا كما يقال: فلان كبير وعظيم (¬2)، يراد: أنه كبيرُ القدر، كذلك هو واسع بمعنى: أنه واسع الفضل، وهذا القول اختيار الأزهري (¬3) (¬4). والثاني: أنه واسع بمعنى: مُوَسِّع، أي: يوسع على من يشاء (من عباده) (¬5) من نعمه، وهذا قول الزجاج (¬6)، لأنه قال في قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} معناه: يوسع على من يشاء، ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة. الثالث: أنه واسع بمعنى ذو سعة (¬7)، ويجيء فاعل (¬8) كثيرًا ومعناه ذو كذا، نحو: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي ذات رضى، وهمّ ناصب: ذو نصب، فلما قال لهم النبي ذلك، قالوا له: لا نصدقك أن الله بعثه علينا، ولكنك تريد أن تحمله علينا مضارة لنا إذ سألناك ملكًا، فأراهم النبي على صحة مُلْك طالوت وتمليك الله إياه آيةً (¬9) وهي قوله: 248 - {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1349. (¬2) في (ي): (كبير عظيم). (¬3) في (ي): (الزهري). (¬4) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3889 (مادة: وسع). (¬5) زيادة من (م). (¬6) في: "معاني القرآن" 1/ 329. (¬7) "تفسير البغوي" 1/ 298. (¬8) في (ش): (وعلى فاعل). (¬9) "زاد المسير" 1/ 294.

قال أصحاب الأخبار: إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتًا فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، فكان في بنى إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكَلَّم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصرة، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العَمَالقة، فغلبوهم على التابوت، وسلبوه فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت دعا النبي ربه، فنزل بالقوم الذين غلبوا (بنى إسرائيل على التابوت) (¬1) داء بسببه، وذلك أنهم كانوا قد أخذوا التابوت فجعلوه في موضع غائطهم وبولهم، وكل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير، حتى تنبهوا أن ذلك لاستخفافهم بالتابوت، أخرجوه ووضعوه (¬2) على ثورين، فأقبل الثوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما (¬3)، حتى أتوا به منزل طالوت، فلما رأوا التابوتَ عند طالوت، علموا أن ذلك إمارة ملكه عليهم، فذلك قوله: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الآية (¬4). والإتيان على هذا مجاز لأنه أُتِيَ به ولم يأت هو، فنسبَ الإتيان إليه توسعًا، كما يقال: ربحت الدراهم، وخسرت التجارة، وعزم الأمر. وقال آخرون: إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران، بل كان ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) في (ي) (فوضعوه) وفي (م) (قضعوه) (¬3) في (ي) (يسوقونها). (¬4) تنظر القصة بطولها في: "تفسير الطبري" 2/ 607 - 608، "تاريخ الأمم والملوك" 1/ 469، "تفسير الثعلبي" 2/ 1358 - 1362، "تفسير البغوي" 1/ 298 - 299، "البحر المحيط" 2/ 261.

يسير بقدرة الله عز وجل، بلا حامل يحمله، ولا جارٍّ يجره، وهم ينظرون إليه، والملائكة تحفظه وترعاه، حتى وضع عند طالوت، وهذا قول ابن عباس، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت. وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعًا؛ لأن من حفظ شيئًا في الطريق ورعاه جاز أن يوصف بحمل ذلك الشيء وإن لم يحمله، كما يقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيد، إذا رعاها وحفظها في الطريق، وإن كان الحامل غيره، وتقول: حملت متاعي إلى مكة، ومعناه: كنت سببًا لحمله (¬1). وقوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قال وَهْبٌ: السكينة: روح من الله يتكلم، وكانوا إذا اختلفوا في أمر نطق ببيان ما يريدون (¬2). وقال قتادة (¬3) والكلبي (¬4): هي فعيله من السكون، أي: طمأنينة من ربكم. وفي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا. وهذا اختيار الزجاج. قال: أي: فيه ما تسكنون به إذا أتاكم (¬5). والسكينة: مصدر وقع موقع الاسم، نحو القضية والعزيمة، وهذا معنى قول الحسن، قال: جعل الله لهم في التابوت سكينةً لا يفرُّون عنه ¬

_ (¬1) قال أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 261: وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل كانوا قد فقدوه، وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حاله، ولم ينص على تعيين ما فيه. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 100، والطبري في "تفسيره" 2/ 612، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 469. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 613، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 470. (¬4) ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 1219، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1356. (¬5) في "معاني القرآن" 1/ 329.

أبدًا وتطمئن قلوبهم (¬1). وجاء في التفسير: أن السكينة لها رأس كرأس الهرة من زبرجد وياقوت، ولها جناحان (¬2). وقال مقاتل: كان فيه رأس كرأس الهرة إذا صاح كان الظفرُ لبني إسرائيل (¬3). وقوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} والبقية: مصدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الاسم، مثل: السكينة ونحوها، فيقال للباقي: بقية، وجمعها: بقايا (¬4). قال المفسرون: البقية التي كانت في التابوت: لوحان من التوراة، ورضُاض الألواح التي تكسَّرت لما ألقى موسى الألواحَ، وقفيزٌ من المن الذي كان ينزل عليهم، ونعلا موسى، وعمامة هارون، وعصاه، وعصى موسى، وطست من ذهب، قيل: كان يغسل فيه (¬5) قلوب الأنبياء (¬6). وإنما جعل هذه الأشياء بقية لأنها بقيت مما تركه موسى وهارون. ¬

_ (¬1) قريب منه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 469. (¬2) بنحوه عن مجاهد في "تفسيره" 1/ 114، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 101، والطبري في "تفسيره" 2/ 611 - 612، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 469. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 206، وأخرج نحوه الطبري في "تفسيره" 2/ 612، عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1356، "المفردات" ص 67، "لسان العرب" 1/ 330 - 331 (مادة: بقي). (¬5) في (ي): (فيها). (¬6) تنظر الآثار في ذلك: عند سعيد بن منصور في "سننه" 3/ 948، والطبري في "تفسيره" 2/ 613 - 615، وابن أبي حاتم 2/ 470 - 471، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1357.

وأراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون نفسهما، والعرب نقول: آل فلان، لو تريد نفسه (¬1). قال جميل: بثينة (¬2) مِنْ آل النّساء وإنما ... يَكُنَّ لأدْنَى لا وِصَالَ لِغَائِبِ (¬3) وعلى هذا يتأول قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: "لقد أُوتيَ هذا مِزمارًا من مزامير آل داود (¬4) " أراد: داود نفسه؛ لأنَّه لا يُعْلَم أحدٌ من آله أُعْطِيَ من حسن الصوت ما أعطيه داود. أخبرنا أبو الحسين بن أبي عبد الله الفسوي، أخبرنا أحمد بن محمد الفقيه، أخبرني أبو رجاء الغنوي، قال: حدثنا أبي، قال حدثنا ابن عمر بن شبه، قال: سمعت أبا عبيدة وسأله رجلٌ عن رجل أوصى لآل فلان: ألفلان نفسه المسمى من هذا شيء؟ قال: نعم، قال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1356، "لسان العرب" 1/ 174 - 175 (مادة آل). (¬2) هو جميل بن عبد الله بن معمر الحذري، أبو عمر، شاعر أموي من أشهر شعراء الغزل، صاحب بثينة، وكان قد خطبها فمنعت منه، فتغزل بها، واشتهر. وكان عفيفًا حييًا دينًا، توفي سنة 82، وقيل: بعد ذلك. ينظر "الشعر والشعراء" 282، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 181 (¬3) البيت عزاه إلى جميل، الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1356، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 262، وليس في "ديوان جميل"، وعزاه ابن جني في "الخصائص" 3/ 27 إلى كثيِّر، ولذا ألحقه د/ إحسان عباس بـ"ديوان كثير" ص 343، والبيت ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 270، وابن فارس في "الصاحبي" ص 258. ينظر تحقيق "تفسير الثعلبي" 2/ 1357. (¬4) أخرجه البخاري (5048) كتاب: فضائل القرآن، باب: حُسْن الصوت بالقراءة بالقرآن، ومسلم (793) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن، من حديث أبي موسى الأشعري.

فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، ففرعون أوَّلُهم، وأنشد: ولا تبكِ مَيْتًا بعد ميت أجنة ... علي وعباس وآل أبي بكْرِ (¬1) يريد: أبا بكر نفسه، وآل الرجل في اللغة: شخصه (¬2)، وقد ذكرناه عند قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّكَ طالوت عليكم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: مصدقين (¬3). قيل: إنهم كفروا بتكذيبهم نبيَّهُم في تمليك طالوت، ولذلك لم يَصْبر عن الماء - لَمَّا ابتلاهم اللهُ بالنهر إلا القليل منهم، وهم الذين أطاعوا ولم يكذبوا، فعلى هذا قوله: (إن كنتم مؤمنين) أي: مصدقين بتمليك طالوت إذ عاد إليكم التابوت (¬4). وقيل: أراد {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} كما تزعمون (¬5)، ويجوز أن يكون المعنى: إن في ذلك لآية لمن كان مؤمنًا منكم، فدخل الشرط للتوكيد، كقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، أي: من كان مؤمنًا توكل، وكما تقول: إن كنت أخي فأكرمني، لم يدخل الشرط للشك في الأخوة، ولكن توكيدًا للإكرام، ومثله في القرآن كثير. ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لابن أراكة الثقفي في: "المؤتلف والمختلف" ص 53. (¬2) ينظر "البحر المحيط" 2/ 262. (¬3) "تفسير الطبري" 2/ 617، وبنحوه في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 330. (¬4) "تفسير الطبري" 2/ 617، "البحر المحيط" 2/ 263. (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 263.

249

249 - قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} الآية. وجْهُ اتصال هذه الآية بما قبلها (¬1) يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام، كأنه (¬2) قيل: فأتاهم التابوت بالصفة التي وُعِدوا فصدقوا؛ لأن قوله: {فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} بعد تلك (¬3) المنازعة، يدل على أن الآية أتتهم فانقادوا لأجلها (¬4). ومعنى الفصل: القطع (¬5). يقال: قولٌ فَصْلٌ، إذا كان يقطع بين الحق والباطل، وفَصَلَ عن المكان، قطعه بالمجاوزة عنه، يقال: فَصَل يَفْصِل فُصُولًا، ومنه قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94]. وفَصَلْتُ اللحم عن العظم فَصْلًا، وفَاصَل الرجل شَريكَه وامْرَأَتَه فِصَالًا (¬6). والجنود جمع جند: وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حِدَة، يقال: الجَرَاد أكْثَرُ جنودِ الله (¬7)، ومنه: "الأرواح جنودٌ مجندة" (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) في (ي) فإنه. (¬3) في (ي) و (ش) (ذلك). (¬4) "البحر المحيط" 2/ 263. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1363، "تفسير البغوي" 1/ 301 (¬6) ينظر "تهذيب اللغة" 3/ 2795، "المفردات" ص 382 - 383، "لسان العرب" 6/ 3423 مادة (فصل). (¬7) ينظر: "المفردات" ص 107 - 108، "لسان العرب" 2/ 698. (مادة: جند). (¬8) الحديث رواه البخاري تعليقًا من رواية عائشة، (3336) كتاب: الأنبياء، باب: الأرواح جنود مجندة، وقال الحافظ في "الفتح" 6/ 369: وصله المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن الليث وأخرجه من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ومسلم (2638) كتاب: البر، باب: الأرواح جنود مجندة.

قال السدي: وكانوا يومئذ ثمانين ألف مقاتل (¬1). وقوله تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} يعنى: قال طالوت. قال وهب (¬2): إنهم شكوا قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وقالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله سبحانه أن يجري لنا نهرًا، فقال لهم طالوت: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} (¬3). وهذا لا يجوز أن يقوله إلّا نبي؛ لأن الله عز وجل عالم الغيب، فلا يظهر على غيبه أحدًا، إلا من ارتضى من رسول. فيجوز أن طالوت قال ذلك بوحى من الله إليه، فقد قيل: إنه لما مُلِّك عليهم صار نبيًّا، ويجوز أن يكون قال ذلك بإخبار نبيٍّ إياه (¬4). وإنما وقع الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب، فإن طالوت كان لا يعلم بمن له نيةٌ في القتال معه، ومن ليست له نية، فابْتُلُوا بالنهر ليتميَّزَ المحقق من المعذِّر، وذلك النهر: هو نَهْر فِلَسْطين في قول ابن عباس (¬5) والسدي. وقوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}، الكناية تعود على النهر في الظاهر، وهو في المعنى للماء. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 618، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 472. (¬2) وهب بن مُنبه اليماني: أبو عبد الله، صاحب القصص والأخبار، كانت له معرفة بأخبار الأوائل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وثَّقه أكثرهم، وضعفه عمرو الفلاس، اختُلف في تاريخ وفاته فقيل سنة 110هـ، وقيل 116هـ، وقيل بينهما، ينظر "وفيات الأعيان" 6/ 35، "طبقات ابن سعد" 5/ 543. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 618. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 264. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 619، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 473.

وقوله تعالى: {فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أهل ديني وطاعتي (¬1)، فحذف، ودل (مِنّي) عليه. وقيل: تأويله: ليس معي على عدوي، كقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منّا (¬2) " أي: ليس من أهل ديننا، وليس (¬3) هو معنا في حقيقة ديننا (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} طَعْمُ كُلِّ شيء ذوقُه، ومثله التطعُّمُ، يقال: تطعَّمت منه، أي: ذُقْتُه، قال ابن الأنباري: العرب تقول: قد أَطْعَمْتُكَ الماءَ، يراد به: أَذَقْتُكَ، وطعمت الماء أَطْعَمُه، بمعنى: ذقُته أذوقه (¬5) (¬6). أنشدنا أبو العباس العَرْجِي (¬7): ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1366، "تفسير البغوي" 1/ 301. (¬2) أخرجه ابن ماجه (2225) كتاب: التجارات، باب: النهي عن الغش، وأحمد في "المسند" 2/ 50، وأصله في مسلم. (¬3) في (ي) و (ش): (أو ليس). (¬4) ينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 252. (¬5) نقله عن ابن الأنباري أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 264. (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2193، "المفردات" ص 307، "لسان العرب" 5/ 2675 (مادة: طعم)، وذكر الراغب أن الطعم: تناول الغذاء، قيل: وقد يستعمل في الشراب، كقوله: ومن لم يطعمه فإنه مني. وقال بعضهم: إنما قال: (ومن لم يطعمه) تنبيهًا على أنه محظور عليه أن يشربه إلا غرفة، فإن الماء قد يطعم إذا كان مع شيء يمضع. (¬7) عبد الله بن عمر بن عبد الله العرجي، وقال في "اللسان" 8/ 4517 (مادة: نقخ): اسمه عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ونسب إلى العَرْج وهو موضع ولد به، كان ينزل بموضع قبل الطائف يقال له: العرج، فنُسب إليه، وكان من الشعراء. ينظر "الشعر والشعراء" 381.

فإن شِئْتُ حَرّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ ... وإن شِئْت لم أَطْعَم نُقَاخًا ولا بَرْدًا (¬1) أراد: لم أذق. والنُّقَاخُ: الماءُ العَذْب (¬2). وقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} الاغتراف: الأَخْذُ من الشيء باليدِ أو بآلة كما يُغْتَرَفُ من الماء. والمِغْرَفَةُ: الآلة التي يُغْرَفُ بها، وكذلك الغَرْفُ مثل الاغْتِرَاف (¬3). واختلف القراء في فتح الغين من (غرفة) وضمها (¬4). فمن فتح الغين عدَّى الفعل إلى المصدر، والمفعول محذوف في قوله، والمعنى: إلا من اغترف ماءً غَرْفةً. ومن ضم الغين عدَّى الفعل إلى المفعول به، ولم (¬5) يعده إلى المصدر؛ لأن الغُرفَة بالضم: الشيء المُغْتَرف، والماء المغروف، فهذا بمنزلة إلا من اغترف ماء (¬6). إلا أن كثيرًا من البغداديين يجعلون هذه الأسماء المشتقة من المصادر بمنزلة المصادر، ¬

_ (¬1) البيت نسب لعمر بن أبي ربيعة، ينظر: "ديوانه" ص 95، "اللسان" 8/ 4517 (مادة: نقخ) وروايته: أحرمت. والبرد هنا: الريق. (¬2) قال في "اللسان" 8/ 4516 (مادة: نقخ): والنقاخ: الماء البارد العذب الصافي الخالص الذي يكاد ينقخ الفؤاد ببرده، وقال ثعلب: هو الماء الطيب فقط. (¬3) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2656، "المفردات" ص 362، "لسان العرب" 6/ 3242 (مادة: غرف). (¬4) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (غَرفة) بالفتح، والباقون بالضم. ينظر "السبعة" لابن مجاهد ص 198. (¬5) في (ي): (ومن). (¬6) في "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 140، عن أبي عمرو: ما كان باليد فهو غَرفة -بالفتح- وما كان بإناء فهو غُرفة -بالضم-، وقال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 330 - 331: من قال: غرفة كان معناه: غَرفة واحدة باليد، ومن قال: غُرفة كان معناه: مقدار ملء اليد.

وُيعْمِلونَها كما يُعْمِلُون المصادر، فيقولون: عجبت من دُهنك لحيتَكَ، ويحتجون بقول القُطامي: وبعد عَطَائِكَ المِائةَ الرَّتَاَعا (¬1) (¬2) فعلى هذا يجوز أن ينتصب الغُرْفة، انتصاب الغَرْفَة. وزعم بعضهم (¬3) أن الاختيار الضم، لأنه لو جاء على معنى المصدر لمرة واحدة لكان (اغترافة) (¬4). وليس فيما قال حجة؛ لأنه إذا كان معنى الغرف والاغتراف واحدًا جاز: اغْتِرَافةً (¬5)؛ لأنه الأصل، وجاز غَرْفَة لأنه أخف (¬6). وقوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} قال المفسرون: قال لهم طالوت: من شرب من النهر وأكثر فقد عصى الله عز وجل وخالف أمره وتعرَّض لعقابه، ومَنِ اغترف غرفة بيده أقنعته، فهجموا على النهر بعد عطش شديد ¬

_ (¬1) في (ي): (الرباعا). (¬2) صدر البيت: أكفرا بعد رد الموت عني ينظر: "ديوان القطامي" ص 41، وفي "الخصائص" 2/ 221، "أمالي ابن الشجري" 2/ 42، "شرح المفصل" 1/ 20، "شرح الشواهد" للعيني 3/ 505، "همع الهوامع" 1/ 188، "مجاز القرآن" لأبي عبيد 2/ 9، "البحر المحيط" 1/ 272. (¬3) في (م): (بعضهم إلى). (¬4) شرح القراءة وتوجيهها منقول من "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 351 بتصرف، وكذا رجح هذه القراءة الطبري في "تفسيره". قال أبو حيان في "البحر" 2/ 265 معلقًا: وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة. (¬5) من قوله: (إذا كان). ساقط من (ش). (¬6) ينظر: "الحجة" 2/ 351 - 352، "البحر المحيط" 2/ 265.

أضر بهم فوقع أكثر أصحاب طالوت في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قوم قليل عددهم، فلم يزيدوا على الاغتراف، فأما من اغترف كما أمره الله تعالى: قوي قلبه، وصحَّ إيمانه، وعبر النَّهْرَ سالمًا، وكَفَتْه تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله عز وجل اسودَّت شفاهُهم، وغلبهم العطش فلم يرووا، وبقوا على شاطئ النهر، وجبنوا عن لقاء العدو (¬1)، ولم يشهدوا الفتح (¬2). قالوا: وتلك الغرفة المباحة لم تكن ملء الكف، ولكن المراد بالغرفة أن يغترف مرةً واحدةً بقربةٍ أو جرةٍ وما أشبه ذلك، تكفيه وتكفي دابته، غير أن العصاة انغمسوا في النهر ولم يغترفوا، بل شربوا منه وسقوا دوابهم. وأولئك القليل، الذين لزموا الاغتراف، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، في أصح الأقاويل (¬3)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يوم بدر: "أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر، وما جاز معه إلا مؤمن"، قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا (¬4). وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} يقال: جاوزتُ المكان والطريق مجاوزةً وجوازًا، وكذلك جُزْتُ الطريق، فأنا (¬5) أجوزه جَوازًا ومجَازًا وجُؤُوزًا، وأَجَزْتُ أيضًا مثل جُزْتُ، قال امرؤ القيس: ¬

_ (¬1) قوله: (عن لقاء العدو). ساقط من (ي) وفي (ش): (جبنوا من لقاء العدو). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1369، الفخر الرازي في "تفسيره" 6/ 182 (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 621، و"تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 475، والثعلبي 2/ 1368. (¬4) رواه البخاري 3956 - 3959 كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر عن البراء ابن عازب. (¬5) في (ي): (وأنا).

فَلمّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ (¬1) البيت، والمَجَازُ في الكلام هو ما جاز في الاستعمال، أي: نَفَدَ واستمرَّ على وَجْهِهِ، ومنه يقال: هذا يَجُوزُ. أي: يمرُّ على وجهِه (¬2) لا يَمْنَعُه مَانعٌ (¬3). وقوله تعالى: {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} الطاقة: [مصدرٌ بمنزلة] (¬4) الإطاقة، يقال: أطقتُ الشيء إطاقةً وطاقةً وطَوْقًا، مثل: أطَعْتُ إطاعةً وطاعةً وطَوْعًا (¬5). قال ابن عباس والسدي: يعنى هؤلاء الذين شربوا، وخالفوا أمرَ الله عز وجل، وكانوا أهل شك ونفاق، قالوا: {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وانصرفوا عن طالوت، ولم يشهدوا قتال جالوت (¬6). وقال الحسن وقتادة وابن زيد: هم المؤمنون الذين عبروا مع طالوت ¬

_ (¬1) البيت بتمامه: فلما أجزنا ساحة الحي وانْتَحَى ... بنا بَطْنُ خَبْت ذي حِقَافٍ عَقَنْقَل وهو لامرئ القيس في "ديوانه" ص 15، "تهذيب اللغة" 1/ 519، "لسان العرب" 2/ 724 مادة: جوز. (¬2) في (ش): (على وجهه ومنه يقال: لا يمنعه مانع). (¬3) ينظر في (جاز): "تهذيب اللغة" 1/ 519, 520، "المفردات" 110، "لسان العرب" 2/ 724 (مادة: جوز). (¬4) ساقط من (م). (¬5) كذا في"معاني القرآن" للزجاج 1/ 231، وقوله: (طوقًا وطوعًا) إنما هما مصدران للثلاثي منه، قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2230: يقال: طاق يطوق طوقًا، وأطاق يطيق إطاقة وطاقة، كما يقال: طاع يطوع طوعًا، فأطاع يطيع إطاعة وطاعة. (¬6) أخرجه عنهما بنحوه دون ألفاظه الطبري في "تفسيره" 2/ 622، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 302.

النهر، ممن ضَعُفَت بصيرتُهم ولم يبلغوا منزلة غيرهم (¬1). وهذا اختيار الزجاج، لأنه قال: لما رأوا قلتهم قال بعضهم لبعض: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} يعنى: القليل الذين اغترفوا (¬2). وعلى قول الحسن: هم صلحاء المؤمنين والأماثل منهم. ومعنى يَظُنّون: يَعْلمون وُيوقِنون (¬3). وذكرنا هذا عند قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (¬4) [البقرة: 46]. ويجوز أن يكون الظن هاهنا (¬5) شكًّا لا علمًا، وله تأويلان: أحدهما: قال الذين يتوهمون أنهم يُقْتلون مع طالوت فيلْقَون الله تعالى شهداء (¬6)، فوقوع الشك في القتل لأنهم لم يَيْقَنُوهُ، ولم يدرُوا أيكونُ أم لا؟ والثاني: الذين يظنون أنهم ملاقو ثواب الله فحذف المضاف، وهو كثير. وقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} قال الفراء: لو ألقيت (¬7) ¬

_ (¬1) نقل ذلك عنهم ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 298. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 331. (¬3) نقله الزجاج عن أهل اللغة في "معاني القرآن" 1/ 331، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1370. (¬4) ينظر: "تفسير البسيط" للواحدي ت/ د: الفوزان. (¬5) ساقط من (ي). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 331. (¬7) في (م) لعلها: (ألغيت).

من (¬1) ههنا جاز في (فئة) الرفع والنصب والخفض. فمن نصب قال: أصل (كم) الاستفهام (¬2)، وما بعدها (من) النكرة مُفَسّر كتفسير العدد، فجعل (كم) بمنزلة عدد ينصب ما بعده، نحو: عشرين وثلاثين. ومن خفض قال: طالت صحبة (من) للنكرة في كم (¬3)، فلما حذفناها أعملنا إرادتها فخفضنا، كقول العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ، يريد بخير. ومن رفع نوى تقديمَ الفعل، كأنه قيل: كم غلبت فئة، وأنشد: كم عَمَّةٍ لك يا جَرِيرُ وخَالةٍ ... فَدْعَاءَ قد حَلَبَتْ عليَّ عِشَاري (¬4) قال: يجوز فيه الأَوْجُه الثلاثة، وأنشد في جوازِ الرفعِ قولَ امرئ القيس: تَنُوصُ وكم من دُويها من مَفَازَةٍ ... وكم أرضِ جَدْبٍ (¬5) دونهَا ولصُوصُ (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) ساقط من (ش). (¬2) في (ي) (استفهام). (¬3) في (ي) و (ش) (كما). (¬4) البيت للفرزدق يهجو جريرًا، في "ديوانه" 1/ 361، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 169، و"الأشباه والنظائر" 8/ 123، و"أوضح المسالك" 4/ 271. والفَدَع: اعوجاجٌ وعيبٌ في القدم، والعشار: جمع العشراء، وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر. (¬5) في (ش): (جذب). (¬6) كذا إلى هنا نقل من "معاني القرآن" للفراء 1/ 168 - 169. وينظر في الإعراب: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 327، "التبيان" 149، "البحر المحيط" 2/ 268. (¬7) ورد البيت هكذا: وكم دونها من مهمة ومفازة ... وكم أرضُ جَدْبٍ دونها ولصوصُ والبيت في "ديوانه" ص 91. وفي "معاني القرآن" للفراء 1/ 169 ورد البيت هكذا: تبوص وكم من دونها من مفازة ... وكم أرض جَدْب دونها ولصُوصُ

250

والفئة: الجماعة، لأنَّ بعضَهم قد فاءَ إلى بعضٍ فصاروا جماعةً، وقال الزجاجُ: أصلُ الفئةِ: من قولهم فأوت رأسَه بالعصا، وفأيْتُ، فالفئةُ فرقةٌ من هذا، كأنها (¬1) قطعة (¬2). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} أصل (مع): للمصاحبة (¬3)، كأنه قال: الله يصحبهم النصر والمعونة (¬4). {الصَّابِرِينَ} قال عطاء: على طاعة الله، وعن محارمه. 250 - وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} الإفراغ: الصَّبُّ، يقال: أَفْرَغْتُ الإناء إذا صَبَبْت ما فيه، أصله من الفَرَاغ: وهو الخُلُوّ، وفلان فَارغٌ، معناه: أنه خَالٍ مما يَشْغَلُه، والإِفراغ: إِخْلاَءُ الإِنَاءِ مما فيه، وإنما يخلو بصَبِّ كُلِّ ما فيه، فمعنى {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي: اصبب (¬5) علينا أتمَّ صبٍّ وأبلغَه (¬6). ¬

_ = وقبله قوله: أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة أو تبوص تنوص: أي تتحول، فتقصر عنها خطوة، أي تتأخر عنها أو تبوص، البوص السبق والفوت، أي: تسبقها، أي: أنك لا توافقها فى "السير" معها، وهو يخاطب نفسه. (¬1) في (ي): (كأنه) (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 332، وينظر "تهذيب اللغة" 3/ 2730 مادة (فأى)، قال الأزهري: والفئة، بوزن فعة: الفرقة من الناس، مأخوذ من فأيت رأسه، أي شققته، وكانت في الأصل فئوة بوزن (فعلة) فنقص، وجمع الفئة فئون وفئات. وذكر العكبري في التبيان 149 قولا آخر فقال: وأصل فئة (فيئة)، لأنه من فاء يفيء إذا رجع، فالمحذوف عينها. (¬3) ينظر: "لسان العرب" 7/ 4234 (مادة: معع). (¬4) "تفسير الطبري" 2/ 624. (¬5) في (ي): (صب). (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2777، "تفسير الثعلبي" 2/ 1371، "لسان العرب" 6/ 3396 (مادة: فرغ) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 332.

251

{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} بتقويةِ قلوبِنا، أو باختلاف كلمةِ الأعداء حتى يتخاذلوا، أو بإلقاء الرُّعْبِ في قلوبهم حتى يظهر منهم الخور، وما أشبه هذا مما يكون من أسباب النصر (¬1). 251 - قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} هذه الآية تتصلُ بما قبلَها بتقدير محذوف (¬2) يتقدمها ويتصل بها، كأنه قيل: فأنزل الله عليهم صبرًا ونصرًا (¬3)، فهزموهم بإذن الله. وأصل الهزمِ في اللغة: الكسر، يقالُ: سقاءٌ مُنْهَزِمٌ: إذا تشقَّقَ مع جَفافٍ، وهَزَمْتُ العظم والقَصَبة هَزْمًا، وهزمت الجيشَ هزمًا وهَزِيمةً وهِزِّيمى مقصور، والهَزْمَةُ: نقرةٌ في الجبل أو في الصخرة. قال سفيان بن عينية في ذكر زمزم: هي هَزْمَةُ جبريل، يريد: هَزَمَها جبريلُ (¬4) برجله، فخرَجَ الماء، ويقالُ: سمعتُ هَزْمَةَ الرعد. قال الأصمعي: كأنَّهُ صوتٌ فيه تشقق، ويقالُ للسحابِ: هَزِيمٌ؛ لأنه يتشقَّقُ بالمطرِ، وهَزْمُ الضريع، وهَزْمه: ما تكسر منه (¬5)، قال قيسُ بن خويلد (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 2/ 625، "تفسير الثعلبي" 2/ 1371. (¬2) في (ش): (محذوف في اللغة بتقدمها) وهي زيادة. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) زيادة من (ي). (¬5) ينظر في (هزم): "تهذيب اللغة" 4/ 3759، "المفردات" ص521، "لسان العرب" 8/ 4665، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 332. (¬6) هو قيس بن عيزارة الهذلي، خويلد أبوه، وعيزارة أمه، وهو شاعر جاهلي، مات من داء من البطن في مكة. ينظر ترجمته في "معجم الشعراء" للمرزباني ص: 326، و"ديوان الهذليين" 3/ 82 - 83.

وحُبِسْن في هَزْمِ الضَّريعِ فكلُّها ... حَدْباءُ (¬1) دَامِيَةُ اليَدَيْنِ حَرُودُ (¬2) فمعنى (هزموهم): كَسَرُوهم ورَدُّوهُم (¬3). قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} قال المفسرون وأصحاب الأخبار: إن جالوت طلبَ البِرازَ فخرج إليه داود، وكان ممن عبر النهر مع طالوت، فرماه بحجر من مقلاعه، فوقَعَ بين عينيه، فخرجَ من قَفاهُ، وقَتَلَ من ورائه ثلاثين رجلًا، وانهزمَ القومُ عن آخرهم، وخَرَّ جالوتُ قَتيلًا (¬4). وقوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} أي: جمع له المُلْك والنبوة (¬5)، قال ابن عباس: يريد بعد طالوت (¬6). وقوله تعالى: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} قال الكلبيُّ: يعنى: صنعةَ الدروع، والتقدير: في السرد (¬7). وقيل: منطق الطير وكلام الحُكْل (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (حربا)، وفي (م): (جربا). (¬2) البيت في "شرح أشعار الهذليين" ص 598، "لسان العرب" 5/ 2581 (مادة: ضرع). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 332. (¬4) ينظر هذه القصة في: "تفسير مجاهد" 1/ 113، "تفسير الطبري" 2/ 625 - 632 على اختلاف بين الروايات، "تفسير الثعلبي" 2/ 1378وما بعدها، "تفسير البغدادي" 1/ 303 - 307. (¬5) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1389. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 300، ويذكر عن السدي فيما أخرج الطبري في "تفسيره" 2/ 632، و"ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 3/ 480، وقال الضحاك والكلبي: ملك داود بعد قتل جالوت بسبع سنين، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود. ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1388. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1389، والبغوي في "تفسيره" 1/ 307، وذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 632 دون عزو لأحد. (¬8) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 332، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1390، والبغوي في "تفسيره" 1/ 307. والحكل: ما لا يسمع له صوت كالذر والنمل.

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} قال ابن عباس (¬1) ومجاهد (¬2): لولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطيهم لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين وخربوا (¬3) البلاد والمساجد. وقال سائر المفسرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار، لفسدت الأرض ولهلكتْ بِمَنْ فيها (¬4). وتصديقُ هذا: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدفع الله بمن يصلي من أمتي عمَّنْ لا يصلُي، وبمن يزكي، عمَّن لا يزكِّي، وبمن يصومُ عمَّن لا يصوم، وبمن يَحُجُّ عمن لا يَحُجُّ، وبمن يُجاهدُ عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على تركِ هذه الأشياء ما ناظَرَهُم (¬5) الله طرفةَ عين"، ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية (¬6). واختلف القراء في قوله {دَفْعُ اللَّهِ} فقرأ بعضهم: (دفاعُ الله)، وقرأ بعضهم: (دفعُ الله) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1394، وأبو المظفر السمعاني 2/ 385. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 633، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 480، والثعلبي 2/ 1394. (¬3) في (م): (لغلب المشركون فيقتلوا المؤمنين ويخربوا). (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1394، و"تفسير البغوي" 1/ 307. (¬5) أي: ينظرهم، وهي كذلك عند الثعلبي. (¬6) ذكره الديلمي في "فردوس الأخبار" 5/ 364، من حديث ابن عباس، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 480 دون طرفه الأخير، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" 6/ 97 عن ابن عباس موقوفًا. وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1394. (¬7) قرأ نافع (دفاع)، وقرأ الباقون (دفع). ينظر "السبعة" لابن مجاهد، ص 187.

ومعنى الدفع: الصرف عن الشيء (¬1). والدفاع يحتمل أن يكون مصدرًا لِفَعَلَ، كالكتاب واللقاء والنكاح، ونحوها من المصادر التي جاءت على فِعالٍ، ويجوزُ أن يكون مصدرًا لفاعَلَ (¬2)، يُدلُّ على ذلك قراءةُ من قرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، ونظيرُ الدفاع في كونه مصدرًا لِفَعَلَ وفاعَلَ: الكتاب، فقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33]، الكتاب فيه مصدر: كاتَبَ. وقال: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] فالكتاب هاهنا: مصدرٌ لِكَتَبَ؛ لأن المعنى: كَتَبَ (¬3) هذا التحريمَ عليكم، ومعنى (دَفَعَ) و (دافَعَ) سواء، قال أبو ذؤيب: ولَقَدْ حَرِصْتُ بأن أُدَافِعَ عَنْهُم ... فإِذا المَنِيَّةُ أقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ (¬4) المعنى: حرصتُ بأن أدفعَ عنهم المنيةَ فإذا المنيةُ لا تُدْفَعُ (¬5). ونصب (بعضهم) على البدل من الناس (¬6)، المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس ببعض. ¬

_ (¬1) ينظر: "المفردات" ص 177، "لسان العرب" 3/ 1394 مادة (دفع). قال الراغب: الدفع إذا عُدِّي بـ إلى اقتضى معنى الإنالة، نحو قوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، وإذا عُدِّي بـ (عن) اقتضى معنى الحماية، نحو: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}. (¬2) ساقط من (م). (¬3) ساقط من (أ) و (م). (¬4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، في "شرح أشعار الهذليين" ص 8، "لسان العرب" 2/ 835 (مادة: حرص). (¬5) توجيه القراءة كله منقول من "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 352 - 353. (¬6) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 280، "التبيان" 1/ 150.

253

253 - قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا} أي: هذه الآيات التي أنبأتُكَ بها آيات الله (¬1) أي: علاماته التي تدل على توحيده (¬2)، {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: أنت من هؤلاء الذين قَصَصْت آياتهم؛ لأنك قد أُعطيت مثل ما أعطوا وزيادة. 253 - قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية. {تِلْكَ} ابتداء، وإنما قال: {تِلْكَ} ولم يقل: أولئك الرسل؛ لأنه ذهب إلى الجماعة، كأنه قيل: تلك الجماعة. والرسلُ رفع، لأنها صفة لتلك، وخبر الابتداء: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} (¬3). والمعنى في ذكر تفضيل بعضهم على بعض زوال الشبهة لمن أوجب التسوية بينهم في الفضيلة، لاستوائهم في القيام بالرسالة. وقوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} أي أراد: كلّمه الله، فحذف الهاء، والهاء تحذف كثيرًا من الصلة (¬4)، وقد ذكرنا هذا في مواضع. وعنى بقوله: {مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} موسى عليه السلام (¬5). ¬

_ (¬1) في (ي) (أ): (آيات الله أي: علاماته). (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 333 (¬3) ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 333، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 328، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 136، لكنه قال: الرسل: عطف بيان، "التبيان" 150، وذكر وجها آخر وهو: أن (الرسل) خبر، و (فضلنا) حال من الرسل. (¬4) ينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 333 - 334، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 328، "تفسير الثعلبي" 2/ 1401. (¬5) ينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 334

وقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قال أبو إسحاق: جاء في التفسير: أنه يعني به محمدًا (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، أُرسل إلى الناس كافةً، وليس شيء من الآيات التي أعطيها الأنبياء إلا والذي أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - أكبر (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قد مضى تفسير هذا فيما تقدم. والله تعالى أخبر في هذه الآية بتفضيل بعض الأنبياء على بعض ليعرف الناس أنهم ليسوا سواءً في الفضيلة، غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الخوض في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، ولا نخالف أمره، فقال في خبر أبي هريرة: "لا تفضلوا بين الأنبياء (¬4) " فيستفاد (¬5) من الآية معرفة تفاضلهم، وننتهي (¬6) عن (¬7) الكلام في ذلك؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: من بعد الرسل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: من بعد ما وضحت لهم البراهين {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} (ثبت على إيمانه) (¬8) {وَمِنْهُمْ مَنْ ¬

_ (¬1) في باقي النسخ: محمد. (¬2) (أكبر) ساقطة من (ش). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 334. (¬4) أخرجه البخاري (3414) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: [قول الله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}]، ولفظه: بين أولياء الله، ومسلم (2373) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى، واللفظ له. (¬5) في (ي): (يستفاد). (¬6) في (ي): (ويبتنى الكلام). (¬7) في (م) و (ش): (من). (¬8) ساقط من (ي).

254

كَفَرَ} كالنصارى بعد المسيح، اختلفوا فصاروا فرقًا، ثم تحاربوا (¬1)، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}، كما قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]. وكرر (¬2) المشيئة باقتتالهم تأكيدًا للأمر، وتكذيبًا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم، لم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى، ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} فيوفق من يشاء فضلًا، ويخذل من يشاء عدلًا (¬3). 254 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} قال الحسن: أراد الزكاة المفروضة، قال: لأنه مقرون بوعيد، وقال الآخرون (¬4): أراد صدقة التطوع، والنفقة في الخير. قال ابن عباس في هذه الآية: نَفَقَةُ الرجل على أهله وولده وخادمه وجاره صدقة، إذا كان من حلال، وفي غير سرف. وقال أبو إسحاق: أي: أنفقوا في الجهاد، ولْيُعِنْ بعضكم بعضًا عليه (¬5). {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} يعنى: يوم القيامة، يريد: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدلٌ ولا فداء، كقوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 36]، فذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل. ¬

_ (¬1) "تفسيرالثعلبي" 1/ 1402. (¬2) في (ي): (فكرر). (¬3) "تفسير الثعلبي" 1/ 1403. (¬4) في (ي) و (م): (آخرون). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 335.

255

{وَلَا خُلَّهٌ} الخُلَّةُ: مَصْدَرُ الخَلِيْل، وكذلك الخِلاَلة، والخُلَّةُ أيضًا تكون اسمًا، كما قال: ألا أبْلِغا خُلَّتِي رَاشِدًا ... وصِنْوِي قِديمًا إذا ما اتَّصَل (¬1) يريد: خليلى (¬2). وقوله تعالى: {شَفَاعَةٌ} إنما عم نفيَ الشفاعة؛ لأنه عنى الكافرين بأن هذه الأشياء لا تنفعهم، ألا ترى أنه قال عقيب هذا: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: هم الذين وضعوا الأمرَ غيرَ موضِعِه (¬3)، ونظير هذه الآية {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [إبراهيم: 31]. 255 - قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬4) رفع بالابتداء، وما بعده خَبَرُه (¬5)، ونَفْيُ إلهٍ سواهُ توكيدٌ وتحقيقٌ لإلاهِيَّتِه؛ لأن قولك: لا كريم إلا زيد، أبلغُ من قولِك: زيدٌ كريم. وقوله تعالى: {الْحَيُّ} الحي من له حياة، وهي صفة تخالف الموت والجمادية (¬6)، وأصله: حَيِيَ، مثل: حَذِرَ وطَمِع، فأدغمت الياء في الياء عند ¬

_ (¬1) البيت في "اللسان" 2/ 1252 (مادة: خلل) غير منسوب لأحد، وفي "اللسان": إذا ما اتصل. (¬2) ينظر في (خلل): "تهذيب اللغة" 1/ 1095 - 1098، "المفردات" ص 159 وقال: الخلة: المودة، إما لأنها تتخلل النفس، أي: تتوسطها، وإما لأنها تخل النفس فتؤثر فيه تأثير السهم في الرمية، وإما لفرط الحاجة إليها. وينظر أيضًا "اللسان" 2/ 1248 - 1254. (¬3) ينظر "تفسيرالثعلبي" 2/ 1409. (¬4) ساقطة من (ش). (¬5) ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 330، "تفسير الثعلبي" 2/ 1435، "إعراب مشكل القرآن" 1/ 136، "التبيان" ص 151. (¬6) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1436

اجتماعهما. وقال ابن الأنبارى: الحي: أصله الحيو (¬1)، فلما اجتمعت الياء والواو، والسابق ساكن جعلتا ياء مشددةً (¬2). ومعنى الحي: الدائم البقاء (¬3). وقوله تعالى {الْقَيُّومُ} القَيُّومُ في اللغة: مبالغةٌ من القَائم، وزنه فَيْعُول، وأصله: قَيْوُوُم، فلما اجتمعت الياء والواو، والسابق ساكن جُعِلَتا ياءً مشددة (¬4)، ولا يجوز أن يكون على (فَعُّول)، لأنه لو كان كذلك لكان قوومًا (¬5). وفيه ثلاث لغات: قَيوم وقَيّام وقَيِّم (¬6)، ولا يجوز أن يطلق في وصفه إلا {الْقَيُّومُ} لعدم التوقيف بغيره من اللغات، إلا ما روي عن بعض الصحابة والتابعين، أنهم قرأوا: القَيَّام والقَيّم (¬7). وقد تكلمت العرب بالقَيُّوم. قال أمية: قَدَّرَها (¬8) المُهَيْمِن القَيُّوم (¬9) ¬

_ (¬1) في (ي) (الحياة). (¬2) ابن الأنباري، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 947 (مادة: حوى) عن الفراء. (¬3) ينظر في (حيي): "معاني القرآن" للزجاج 1/ 336، "تفسير الثعلبي" 2/ 1436. (¬4) في "تهذيب اللغة" 1/ 947 عن سيبويه. وكذلك قال في سيد وجيد وميت وهيِّن وليِّن. (¬5) في (ي): (قؤومًا)، وفي (م): (قيووم). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1437. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 190، وقال: وقرأها عمر بن الخطاب وابن مسعود (القيّام)، وصورة القيوم: فيعول، والقيام: الفيعال، وهما جميعًا مدح، وأهل الحجاز أكثر شيء قولًا: (الفيعال) من ذوات الثلاَثة، فيقولون للصوّاغ: الصيّاغ. اهـ. والقيم: قرأه علقمة، كما ذكر الثعلبي 2/ 1436. (¬8) في (ي) (قدزها) (¬9) صدر بيت من مشطور الرجز، لأمية بن أبي الصلت، وهو في "ديوانه" ص 73 ضمن أبيات له يقول فيها: =

وأنشد ابن الأنباري: إنَّ ذا العَرْش الذي يَرْزُق ... النَّاس وحَيّ عَلَيْهمُ قَيّوم (¬1) ومثله: ما في الدار دَيَّارٌ ودَيُّورٌ ودَيِّر (¬2). فأما معناه: فقال (¬3) مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء (¬4)، وتأويله: أنه قائم بتدبير أمر الخلق، في إنشائهم وأرزاقهم، وقال الضحاك: القيوم: الدائم الوجود (¬5). أبو عبيدة: هو الذي لا يزول (¬6)، لاستقامة وصْفِهِ بالوجود، حيث لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقيل: هو بمعنى العالم بالأمور، من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب، أي: هو (¬7) عالم به. وقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} السِّنة: ثِقَلُ النُّعاس، وهو مصدر وَسَن، يَوْسَنُ، سِنَةً، وهو وسنان ووسِن، وامرأة وَسْنَانَةٌ ووَسْنَى. ¬

_ = لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يَعُوم درها المهيمن القيوم والحشر والجنة والجحيم إلا لأمر شأنه عظيم (¬1) البيت لم أهتد إلى قائله، ولا من ذكره (¬2) ينظر في (القيوم): "معاني القرآن" للفراء 1/ 190، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 336، "تهذيب اللغة" 9/ 356. (¬3) في (ي): (قال). (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" عنه 3/ 6، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 486، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 131. (¬5) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 3/ 6. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 78. (¬7) ليست في (ي).

وحقيقة السِّنة: ريح تجيء من قبل الرأس لينة تغشى العين (¬1). وحقيقة النوم: هو الغشية الثقيلة، التي تهجم على القلب، فتقطعه عن معرفة الأمور الظَّاهرة. وقال المفضل: السِّنة في الرأس، والنوم في القلب (¬2). وقد فصل بينهما عدي ابن الرِّقَاع (¬3) في قوله (¬4): وَسْنَانُ أَقْصدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عَينِه سِنَةٌ ولَيْسَ بِنَائِمِ (¬5) (¬6) وتأويله: أنه لا يغفل عن تدبير الخلق (¬7). وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} استفهام معناه الإنكار والنفي، أي: لا يشفع عنده أحد إلا بأمره (¬8)، وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أنّ الأصنام تشفع لهم، وقد أخبر الله عنهم بقوله: {مَا ¬

_ (¬1) ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1443. (¬2) ينظر في (السنة): "غريب القرآن" لابن قتيبة 84، "تهذيب اللغة" 4/ 3893 مادة "وسن", "المفردات" 539. (¬3) عدي بن زيد بن مالك بن الرقاع العاملي القضاعي، يكنى أبا داود، تقدمت ترجمته [البقرة: 60]. (¬4) (في قوله) ساقط من (ي). (¬5) في (ش): (ينام). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 122، وذكره في "مجاز القرآن" 1/ 78، "غريب القرآن" ص 84، والأغاني 8/ 181، وفي "اللسان" 8/ 4839 مادة "وسن". والإقصاد: أن يصيبه السهم فيقتله من فوره، وهو هنا استعارة، أي: أقصد النعاس فأنامه، رنقت: دارت وماجت، "سمط اللآلئ" 1/ 521. (¬7) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 337. (¬8) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 278.

نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} الآية [يونس: 18] فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد (¬1) إلا ما استثناه بقوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} يريد: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة بعض المؤمنين لبعض في الدعاء (¬2). وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} قال مجاهد (¬3) وعطاء (¬4) والسدّي (¬5): {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الآخرة. الضحاك (¬6) (¬7) والكلبي (¬8): {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني (¬9): الآخرة، لأنهم يُقْدمون عليها {وَمَا خَلْفَهُمْ} الدنيا، لأنهم يُخِّلفونها وراء ظهورهم (¬10). وقال عطاء عن ابن عباس: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد: من السماء ¬

_ (¬1) في (ي): (لأحد عنده). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 337 بمعناه. (¬3) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 3/ 9، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 489. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1452، وفي "تفسير البغوي" 1/ 312. (¬5) رواه الطبري عنه في "تفسيره" 3/ 9، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 489. (¬6) في (ي) و (أ) و (ش): (ضحاك). (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1453. (¬8) ذكره أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 223، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1453. (¬9) ساقط من (ي). (¬10) في نسختي (أ) و (م) كرر قول الضحاك والكلبي بنصه، ونسبه إلى عطاء عن ابن عباس، وقد أتى بعده ما رواه عطاء عن ابن عباس.

إلى الأرض، (وما خلفهم) يريد: ما في السموات (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} يقال: أَحَاط بالشئ: إذا عَلِمَه، كأنه ما لم يَعْلَمْه عازِبٌ عنه، فإذا عَلِمَه ووَقَفَ عليه وجَمَعَه في قَلْبه قيل: أحاط به (¬2)، من حيث إن المحيط بالشيء مشتمل عليه، قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئًا أو بلغَ علمُه أقصاه: قد أحاط به (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {مِنْ عِلْمِهِ} أي: من معلومه، كما يقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، وإذا ظهرت آية عظيمة قيل: هذه قدرة، أي: مقدورة. وقوله تعالى: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} أي: إلا (¬5) بما أنبأ به الأنبياء، ليكون دليلًا على تثبيت نبوتهم، وقال (¬6) ابن عباس: يريد مما أطلعهم على علمه. وقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يقال: وَسِع الشيءَ يَسَعُه سَعَةً: إذا احتمله وأطاقه (¬7) وأمكنه القيام به، يقال: لا يَسَعُك هذا، أي: لا تُطِيقُه ولا تَحْتَمِلُه (¬8)، قال أبو زبيد (¬9) (¬10): ¬

_ (¬1) هذا من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 707 (مادة: حاط). (¬4) ينظر في (أحاط): "تهذيب اللغة" 1/ 707 مادة "حاط"، "المفردات" ص 111 - 112، "اللسان" 2/ 1052 (مادة: حوط). (¬5) ساقط من (ي). (¬6) في (ي): (قال). (¬7) ساقط من (ش). (¬8) في (ي): (لا تحمله). (¬9) في (ي): (أبو زيد). (¬10) حرملة بن المنذر الطائي، شاعر مشهور أدرك الإسلام واختُلف في إسلامه. تقدمت ترجمته، [البقرة: 72].

أعْطِيهم الجهدَ مِنَّي بَلْهَ مَا أَسَعُ (¬1) أي: ما أطيق، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي (¬2) " أي: ما جَازَ له، ولم يحتمل غير ذلك (¬3). وأما الكرسي، فأصله في اللغة: من تركب الشيء بعضه على بعض، قال الأصمعي: الكِرْسُ: أبوالُ الدواب وأَبْعَارُها، تَتَلَبَّدُ بعضها فوق بعض (¬4)، وأكرست الدار إذا كثر فيها الأبعار والأبوال (¬5)، وتلبد بعضها على بعض. قال العجّاج (¬6): يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْمًا مُكرِسَا (¬7) ¬

_ (¬1) عَجْز بيتٍ، صدرُه: حّمالُ أثقالِ أهلِ الودِّ آونةً والبيت في "اللسان" 8/ 4834 (مادة: وسع)، وفي "تهذيب اللغة" 4/ 3890 (ماده: وسع)، قال الأزهري: فدع ما أحيط به وأقدر عليه، والمعنى: أعطيهم ما لا أجِدُه إلا بجهد، فدع ما أحيط به. (¬2) أخرجه الإمام أحمد 3/ 338 بلفظ: "فإنه لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني". (¬3) ينظر في (مادة: وسع): "تهذيب اللغة" 4/ 3890، "المفردات" ص 538، "اللسان" 8/ 4835. (¬4) نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3126 مادة "كرس". (¬5) في (ي): (الأبوال والأبعار). (¬6) ساقطة من (ي). (¬7) البيت، من أرجوزة للعجاج، في "ديوانه" 1/ 185، وبعده قوله: قال: نعم أعرفه وأبلسا ضمن مجموع أشعار العرب 2/ 31، وذكره في "تهذيب اللغة" 4/ 3127، و"المفردات" ص430، و"لسان العرب" 7/ 3854 مادة "كرس".

بفتح الراء وكسرها، ومن فتح الراء فهو الذي قد بعرت فيه الإبل وبولت فركب بعضه بعضًا، وتَكَارَسَ الشَّيءُ إذا تَرَاكَب، ومنه: الكُرّاسة لِتَرَاكبِ بعضِ أوراقِها على بعضٍ، والكُرسيُّ المعروف؛ لتركيب خَشَبَاته (¬1) بعضِها فوق بعض (¬2). واختلف المفسرون في معنى الكرسي في هذه الآية، فأولى الأقاويل وأصحُّها: ما قال ابن عباس، في رواية عطاء (¬3)، وأبو موسى (¬4) والسدي (¬5): أنه الكرسي بعينه، وهو لؤلؤ، وما السموات السبع في الكرسيِّ ألا كَدَراهم سبعة أُلْقِيَتْ في تُرْس، ومعناه: أن كرسيَّهُ مشتمل بعظمه على السموات والأرض. قال عطاء: هو أعظم من السموات السبع والأرضين السبع (¬6). وروى عمَّار الدُّهني (¬7) (¬8) عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ¬

_ (¬1) في (ي) (خشيه). (¬2) ينظر في (كرس): "معاني القرآن" للزجاج 1/ 337 - 338، "تهذيب اللغة" 4/ 3126 - 3127، "المفردات" 430، "اللسان" 7/ 3854 - 3855. (¬3) ذكره البغوي بمعناه 1/ 313، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 251 وقد تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي. (¬4) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "السنة" 1/ 302، والطبري في "تفسيره" 3/ 10، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش ص 78، وأبو الشيخ في "العظمة" 2/ 627، وابن منده في "الرد على الجهمية" 46، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 272، وصححه الحافظ في الفتح 8/ 199. (¬5) رواه الطبري عنه بمعناه في "تفسيره" 3/ 10، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 5/ 491. (¬6) ذكره البغوي بمعناه 1/ 313، وفي "زاد المسير" 1/ 251. (¬7) في (ي) الذهبي. (¬8) هو: عمار بن معاوية الدُّهْني، أبو معاوية البَجَلي الكوفي، قال ابن حجر: صدوق يتشيع، توفي سنة 133 هـ ينظر "تقريب التهذيب" ص 408 (4833).

ابن عباس، أنه قال: الكرسي: موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يُقْدَرُ قَدْرُه (¬1). وقال (¬2) الأزهري: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها (¬3). وأراد ابن عباس بقوله: موضع القدمين، أي: موضع القدمين منا. قال الزجاج: وهذا القول بَيِّن؛ لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة: الشيء الذي يعتمد عليه، ويجلس عليه، فهذا يدل (¬4) أن الكرسي عظيم، عليه السموات والأرضون (¬5). وقال بعضهم: كرسيه: سلطانه ومُلْكه، يقال: كرسي الملك من مكان كذا إلى مكان كذا، أي: مُلْكه، مشبه (¬6) بالكرسي المعروف؛ لأن تركيب بعض (¬7) تدبيره على بعض، كتركيب بعض الكرسي على بعض، ويجوز أن يكون لاحتوائه عليه كاحتوائه على كرسيه، فلا يبعد أن تُكنّي عن ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "السنة" 1/ 301، والدارمي في "نقض الإمام أبي سعيد على المريسي" 1/ 399، 412، وابن خزيمة في "التوحيد" 1/ 248، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في "العرش" ص 79، والطبراني في "الكبير" 12/ 31، وأبو الشيخ في "العظمة" 2/ 582، والحاكم 2/ 310، وقال: صحيح على شرط الشيخين 2/ 310، والخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 251، قال الذهبي في "مختصر العلو" ص102: رواته ثقات، وقال الهيثمي في المجمع 6/ 326: ورجاله رجال الصحيح، وصححه الأزهري كما ذُكر في النص أعلاه. (¬2) في (ي) و (ش) (قال). (¬3) في "تهذيب اللغة" 4/ 3127 مادة "كرسى". (¬4) في (م) (يدل على). (¬5) "معاني القرآن" 1/ 338. (¬6) في (م) (فشبه). (¬7) ساقطة من (ش).

الملك بالكرسي، كما (¬1) تكني عنه بالعرش. فيقال: ثُلَّ عرشُه، إذا ذهب عزُّه وملكه (¬2). وقال قوم: كرسيه: قدرته التي بها يمسك السموات والأرض، قالوا: وهذا كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسيًا، أي: اجعل له ما يَعْمِدُه ويُمْسِكُه، حكاه أبو إسحاق (¬3). وقال ابن عباس (¬4) ومجاهد (¬5) وسعيد بن جبير (¬6): كرسيه: علمه. قال أهل المعاني: يجوز أن يُسَمَّى العلمُ كرسيًّا، من حيث إن الاعتماد في الأشياء على العلم، كالكرسي الذي يعتمد عليه، ويقال للعلماء: الكراسي؛ لأنهم المُعتمدُ عليهم، كما يقال: هم أوتاد الأرض (¬7)، وأنشدوا: ¬

_ (¬1) في (ي) (كما لا يبعد أن تكني). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 11، "تفسير الثعلبي" 2/ 1455، "النكت والعيون" 1/ 325، "البحر المحيط" 2/ 279. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 338. (¬4) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "السنة" 2/ 500، والطبري في "تفسيره" 3/ 9، و"ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 490، وابن مندة في الرد على الجهمية 45، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" 3/ 449، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 272، كلهم من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الدارمي في نقضه على المريسي 1/ 411: وأما ما رَوَيْتَ عن ابن عباس فإنه من رواية جعفر، وليس جعفر ممن يعتمد على روايته إذا خالفه الرواة المتقنون. وقال ابن منده في "الرد على الجهمية" ص 45: ولم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوى في سعيد بن جبير. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1454، والبغوي في "تفسيره" 1/ 313. (¬6) رواه البخاري عنه 8/ 199 معلقا مجزومًا، ورواه موصولًا سفيان الثوري 127. (¬7) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 11، "تفسير الثعلبي" 2/ 1454، "النكت والعيون" 1/ 325، "البحر المحيط" 2/ 280.

تَحُفُّ بهم بِيضُ الوُجُوه وعُصْبة ... كَرَاسي بالأحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ (¬1) أي: علماء بحوادث الأمور. وأنشدوا أيضًا: نَحْنُ الكرَاسِي لا (¬2) تعد هوازن ... أمثالنا في النَّائِبَاتِ ولا أَسُد (¬3) قال ابن الأنباري: الذي نذهب إليه ونختاره القول الأول، لموافقته الآثار، ومذاهب العرب، والذي يحكى عن ابن عباس: أَنَّه عِلْمُه، إنما يروى بإسناد مطعون، والبيتان يقال: إنهما من صَنْعَةِ النحويين، لا يُعْرفُ لهما قائل، فلا يحتج بمثلهما (¬4) في تفسير (¬5) كتاب الله عز وجل. وقال الأزهري: من روى عن ابن عباس في الكرسي (¬6): أنه العلم، فقد أبطل (¬7). وقال أبو إسحاق: الله عز وجل أعلم بحقيقة الكرسي، إلا أن جملته ¬

_ (¬1) البيت ذكره الطبري في "تفسيره" 3/ 11، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1455، والماوردي في "النكت والعيون" 1/ 3205، والزمخشري في "أساس البلاغة" 2/ 303، (كرسي) وقال: أنشده قطرب، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 380. (¬2) في (ي) (فلا). (¬3) البيت لم أهتد إلى قائله، ولا من ذكره. (¬4) في (أ) و (م) بمثلها. (¬5) سقطت من (ي). (¬6) سقطت من (ي). (¬7) "تهذيب اللغة" 4/ 3126، وهذا لفظه في نسخة خطية أشار إليها محققو التهذيب، ونقلها صاحب "اللسان" 7/ 3855 مادة (كرس)، ولفظه في النسخة المطبوعة: والذي روي عن ابن عباس في الكرسي، فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار. وفي "مجموع الفتاوى" 6/ 584 سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل العرش والكرسي موجودان، أو أن ذلك مجاز؟ فأجاب: الحمد لله، بل العرش موجود =

أنه أمر عظيم من أمره (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقال: آده يَؤُوده أَوْدًا: إذا أَثْقَلَه وأَجْهَدَه، وأُدْتُ العُودَ أودًا، وذلك إذا اعتَمدت (¬2) عليه بالثِّقْلِ حتى أملته (¬3)، قالت الخنساء: وحَامِلُ الثِّقلِ والأعْبَاءِ قَدْ عَلِمُوا ... إذا يَؤُودُ رِجَالًا (¬4) بعضُ ما حَمَلُوا (¬5) وقال آخر: وقَامَتْ تُرَائِيكَ مُغْدوْدِنًا (¬6) ... إذا ما تَنُوءُ بهِ آدَها (¬7) ¬

_ = بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف، وقد نقل عن بعضهم أن كرسيه: علمه، وهو قول ضعيف، فإن علم الله وسع كل شيءكما قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] والله يعلم نفسه، ويعلم ما كان وما لم يكن، فلو قيل: وسع علمه السموات والأرض؛ لم يكن هذا المعنى مناسبًا، ولاسيما وقد قال: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أي لا يثقله ولا يكرثه، وهذا يناسب القدرة لا العلم، والآثار المأثورة تقتضي ذلك. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 338. (¬2) في (أ) و (م) و (ش): (اعتمد). (¬3) في (أ) و (م) و (ش) (أماله). (¬4) في (ي): (رجال). (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1463، وليس في "ديوانه". (¬6) في (م) مغدودوننا. (¬7) البيت من المتقارب، وهو لحسان بن ثابت في "ديوانه" ص 76، وفي "الحجة" 2/ 392، "المحتسب" 1/ 319، "لسان العرب" 6/ 3220 مادة: غدن. والمُغْدَودِن: الشعر الطويل.

256

أي: أثقلها، يصف كَثْرةَ شَعْرِها، وإنها لا تُطِيقُ حَمْله (¬1). وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} يقال: علا يَعْلُو عُلُوًّا فهو عالٍ وعليّ، مثل: عَالم وعَليم، وسامع وسميع، فالله تعالى عليٌّ بالاقتدار ونفوذِ السلطان، وقيل: عليٌّ على الأشباه والأمثال. يقال: علا على قِرنه، إذا اقتدر عليه وغَلبه، وليس ثَمَّ عُلُوٌ من جهة المكان، ويقال أيضًا: علا فلان عن هذا الأمر: إذا كان أرْفَعَ مَحَلًّا عن الوصف به (¬2)، فمعنى العُلُوِّ في صفة الله تعالى منقولٌ إلى اقتداره، وقهره، واستحقاقه صفات المَدْح، على وجه لا يُسَاوى ولا يُوَازَى (¬3) (¬4). والعظيم: معناه: أنه عظيم الشأن، لا يُعْجِزه شَيء، ولا نهايةَ لمَقْدُوره (¬5) ومَعْلُومه. 256 - قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية. اللام في الدين، قيل: إنه لام العهد، وقيل: بدل من الإضافة، كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] أي: مأواه، وأراد: في دين الله (¬6). وأكثرُ المفسرين: ابن ¬

_ (¬1) ينظر في (آد): "تهذيب اللغة" 1/ 133، "المفردات" ص 43، "اللسان" 1/ 168، وقال ابن قتيبة في غريب القرآن ص 93: آده الشيء يؤوده، وآده يئيده، والوأد، الثِّقْل. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) في (ي): (ولا يوازى ولا يوارى). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1463، وقد أنكر المؤلف -رحمه الله- علو الله على خلقه علو الذات وهو خلاف مذهب السلف. فالعلو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، ينظر كتاب: "العلو للعلي الغفار" للإمام الذهبي. (¬5) في (م): (لقدورة). (¬6) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 282.

عباس (¬1)، وقتادة (¬2)، ومجاهد (¬3)، وغيرهم (¬4)، على أن معنى الآية: لا إكراه في الدين بعد إسلام العرب. وذلك أن العرب كانت أمة أمية، لم يكن لهم دين ولا كتاب، فلم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف (¬5)، فأُكْرِهوا (¬6) على الإسلام، ولم يقبل منهم الجزية، فلما أسلموا، ولم يبق أحد من العرب، إلا دخل في الإسلام، طوعًا أو كرهًا، أنزل الله سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فأمر أن يقاتل أهل الكتاب، والمجوس، والصابئون، على أن يسلموا أو يقروا بالجزية، فمن أقر منهم بالجزية، قبلت منه وخُلّي سبيلُه، ولم يُكره على الإسلام (¬7). والحكم في هذا: أن الحربي إذا أُكْره على الإسلام فتلفظ بالشهادتين خوف السيف صحّ إسلامه، ولا خلاف في ذلك؛ لأن الإكراه إكراه بالحق هذا (¬8)، فأما الذمي إذا أكره على الإسلام، فهو مختلف فيه، والصحيح: أن إسلامه مع الإكراه غير صحيح؛ لأنه إكراه بباطل وظلم (¬9). قال أبو ¬

_ (¬1) "الوسيط" 1/ 369. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 102، والطبري في "تفسيره" 3/ 16، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 493. (¬3) "الوسيط" 1/ 369. (¬4) عزاه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1472 إلى قتادة والضحاك وعطاء وأبي روق والواقدي. (¬5) في (ي) (والسيف). (¬6) في (ي) و (ش) (وأكرهوا). (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1472. (¬8) ساقط من (ي). (¬9) ينظر: المغني 12/ 291، وخالف محمد بن الحسن، حيث يرى أن الذمي المكره على الإسلام يصير مسلمًا في الظاهر، وإن رجع عنه قتل إذا امتنع عن الإسلام.

عبيد: الصحيح في وجه هذه الآية، إن شاء الله، أن يكون في أهل الذمة لأدائهم الجزية، أو يكونوا مماليك، فلا يكرهون على الإسلام، فأما أهل الحرب فلا يكون لهم ذلك. وقال ابن مسعود، (¬1) والسدي، (¬2) وابن زيد، (¬3): كان هذا قبل أن يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتال أهل الكتاب في سورة براءة. وقال سليمان بن موسى (¬4) في هذه الآية: نَسَخَتْها {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] (¬5). وقال الزجاج: الإكراه في هذه الآية معناه: النسبة إلى الكره، كما يقال: أكفره وأفسقه وأكذبه. ومعنى الآية: لا تقولوا لمن دخل بعد الحرب في الإسلام: إنه (¬6) دخل مكرهًا، ولا تنسبوا من دخل في الإسلام إلى الكره؛ لأنه إذا رضي بعد الحرب، وصح إسلامه فليس بِمُكرَه (¬7) (¬8)، يدل عليه قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 314، والقرطبي 3/ 280. (¬2) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 494، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 306. (¬3) ذكره في "النكت والعيون" 1/ 327، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 306. (¬4) لعله سليمان بن موسى بن الأشدق أبو أيوب الدمشقي، روى عن عطاء وعمرو بن شعيب، وروى عنه الأوزاعي وابن جابر، كان أوثق أصحاب مكحول، وكان فقيها ثبتا. ينظر "الجرح والتعديل" 4/ 141 - 142، "التقريب" ص 255 (2616). (¬5) ذكره القرطبي في "تفسيره" 3/ 280. (¬6) في (ي): (لا تقولوا من دخل في الإسلام بعد الحرب دخل مكرها). (¬7) في (ش) (بمكروه). (¬8) "معاني القرآن" 1/ 338. (¬9) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1475.

وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} يقال: بَانَ الشيءُ وأَبَانَ واستبان وَبيَّنَ: إذا ظهر وَوَضَح، ومنه المثل: قد بَيَّنَ الصُّبْح لذي عينين، ويقال: تبَيَّن (¬1). والرُّشْدُ معناه في اللغة: إصابةُ الخير، وفيه لغتان: رَشَد يَرْشُد رُشْدُا، ورشِد يرشَد رشَدًا (¬2). والرشاد أيضًا مصدر كالرُّشْد (¬3). والغيُّ: نقيض الرُّشد، يقال: غوى يغوي غيًا وغوايةً، إذا سلك خلافَ طريقِ الرشد (¬4)، قال: فمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَه ... ومَنْ يَغْوِ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِما (¬5) قال أبو عبيد: وبعضٌ يقول: غَوِيْتُ أَغْوَى، وليست بمعروفة، إنما ¬

_ (¬1) ينظر في (بان): "تهذيب اللغة" 1/ 264، "المفردات" ص 45، "اللسان" 1/ 406. (¬2) ينظر في (رشد): "تهذيب اللغة" 2/ 1411، "المفردات" ص 202، "اللسان" 3/ 649. وذكر الراكب عن بعضهم الفرق بين الرشَد والرُّشْد، بأن الرَّشَد أخص من الرُّشد، فإن الرُّشد يقال في الأمور الدنيوية والأخروية، والرَّشَد يقال في الأمور الأخروية لا غير. والراشد والرشيد يقال فيهما جميعا. (¬3) ذكر في "تهذيب اللغة" 2/ 1411 مادة "رشد" أن الليث فرق بين رَشَد يرشُد رُشْدا ورَشَادا، ورَشِد يرشَد رَشَدا، بأن الأول نقيض الغي، والثاني نقيض الضلال، ثم ذكر الأزهري أن غير الليث جعلوهما بمعنى واحد. (¬4) ينظر في (غوى): "تهذيب اللغة" 3/ 2706، و"القاموس المحيط" ص 1220، "اللسان" 6/ 3320، قال الراغب: الغيُّ: جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحًا ولا فاسدًا، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا النحو الثاني يقال له غيٌّ. (¬5) البيت للمُرَقِّش، كما في "اللسان" 6/ 3320 مادة "غوص"، وضُبطت: يغْوَ، بفتح الواو، بينما في نسخة (أ) من البسيط ضُبطت بكسر الواو.

هي في الفصيل إذا بِشِمَ من اللبن (¬1). ومعنى {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ} مِنْ الغَبِّ ظهر الإيمان من الكفر، والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} قال أهل اللغة: الليث، (¬2) وأبو عبيدة، (¬3) والكسائي (¬4): الطاغوت: كُلُّ ما عُبِدَ من دون الله، واحدٌ وجِماع (¬5)، ويُذَكَّر ويؤنث، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] فهذا في الواحد، قيل: هو كعب بن الأشرف (¬6)، وقال في الجمع (¬7): {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة: 257] وقال في المؤنث: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]. ومثله من الأسماء: الفُلْك، يكون (¬8) واحدًا وجمعًا ومذكرًا ومؤنثًا (¬9). ¬

_ (¬1) نقله في "تهذيب اللغة" 3/ 2706 مادة (غوى)، وينظر "غريب الحديث" لأبي عبيد، وغويت أغْوَى، تقال في الفصيل إذا بشم وأتخم، وإذا لم يصب ريًّا من اللبن. (¬2) نقله عنه في: "تهذيب اللغة" 3/ 2196 مادة (طغى). (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 79، "تهذيب اللغة" 3/ 2196 مادة (طغى). (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2196 مادة (طغى). (¬5) في (م): (وجمع). (¬6) كعب بن الأشرف الطائي: من بني نبهان، شاعر جاهلي، أمه يهودية من بني النضير، وكان سيداً فيهم، هجا النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وآذى كثيرًا من المسلمين، أمر النبي بقتله، فقتله خمسة من الأنصار ظاهر حصنه سنة 3 هـ. ينظر "الروض الأنف" 3/ 139، "الأعلام" 5/ 225. (¬7) ساقط من (ي). (¬8) في (ش): (تكون). (¬9) ينظر في الطاغوت: "تهذيب اللغة" 3/ 2196، "التبيان" 153، "اللسان" 5/ 2678، مادة (طغى) وفى "المفردات" 307 - 308 قال الراغب: والطاغوت: عبارة عن =

قال النحويون: وزنه: فَعَلوت، نحو: جَبَرُوت، والتاء زائدة فيه، وهي مشتقة من طَغَى، وتقديره: طَغَوُوْت (¬1)، إلا أن لام الفعل قُلِبت إلى موضع العين، كعادتهم في القلب، نحو الصاعقة والصاقعة وبابه، ثم قلبت الواو ألفًا، لوقوعها في (¬2) موضع حركة وانفتاح ما قبلها، (¬3)، قال المبرد في الطاغوت: الأصوب عندي أنه جمع (¬4)، قال أبو علي: وليس الأمر عندنا على ما قال، وذلك أن الطاغوت مصدر، كالرَّغَبُوت والرَّهَبُوت والسَّلَبُوت، فكما أن هذه الأسماء آحاد، كذلك هذا الاسم مفرد ليس بجمع، والأصل فيه التذكير، فأما قوله: {أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] فإنما أَنَّثَ إِرادةَ الآلهة، ويدل على أنه مصدر مفرد قوله: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} فأفرد في موضع الجمع، كما قال: هم رضا، وهم عدل (¬5). ¬

_ = كل متعد وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع. ولما تقدم سمِّي الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن طريق الخير طاغوتًا. (¬1) في (ي) (إنها طغووت). (¬2) ليست في (م). (¬3) ينظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 137، "المفردات" ص308، "التبيان" ص153، "اللسان" 5/ 2678 مادة (طغى). قال العكبري: وأصله طغَيُوت؛ لأنه من طغيت تطغى، ويجوز أن يكون من الواو؛ لأنه يقال فيه: يطغو أيضا، والياء أكثر، وعليه جاء الطغيان، ثم قدمت اللام فجعلت قبل العين، فصار طيْغوتًا أو طوْغوتًا، فلما تحرك الحرف وانفتح ما قبله قلب ألفا، فوزنه الآن فلَعوت، وهو مصدر في الأصل مثل الملكوت والرهبوت. اهـ. وبنحو هذا في "مشكل إعراب القرآن". (¬4) المبرد، نقله عنه في "البحر المحيط" 2/ 272. (¬5) أبو علي، نقله عنه في "البحر المحيط" 2/ 272.

قال ابن عباس (¬1) ومقاتل (¬2) والكلبي (¬3): الطاغوت: الشيطان، وقيل: الأصنام (¬4). وقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} اسْتَمْسَكَ بالشيء: إذا تمسك به (¬5). والعُرْوة: جمعها عُرًى، وهي نحو عُروة الدَّلو والكُوز، وإنما سُميت لأنها يتعلق بها، من قولهم: عَرَوْتُ الرجلَ أَعْرُوهُ عَرْوًا: إذا ألمَمْتَ به مُتَعلِّقا بسبب منه، والعُرْوَةُ: شَجَر يبقى على الجَدْب؛ لأن الإبل تتعلق (¬6) به إلى وقت الخِصْب (¬7)، ومنه قول مهلهل (¬8): ¬

_ (¬1) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 495، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1477، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 306. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 215. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1477. (¬4) تفسير ابن أبي حاتم 2/ 495، "بحر العلوم" للسمرقندي 1/ 224، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1477. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1478، "المفردات" ص 471، قال: واستمسكت بالشيء إذا تحريت الإمساك. (¬6) في (م) (ش): (يتعلق). (¬7) ينظر في (العروة): "تهذيب اللغة" 3/ 2376، "اللسان" 5/ 2919، قال الراغب في "المفردات" ص 335: والعروة: ما يتعلق به من عراه، أي ناحيته، قال تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وذلك على سبيل التمثيل، والعروة أيضا شجرة يتعلق بها الإبل، ويقال لها: عروة وعَلْقةً. (¬8) مهلهل بن ربيعة التغلبي؛ قيل: اسمه امرؤ القيس، وقيل: عدي، ورجح المرزُباني أن عديًّا أخوه، سمي مهلهلًّا؛ لأنه هلهَل الشعر، أي: أَرقّه، ويقال إنه أول من قصد القصائد، وفي الأعلام رجح عديًّا، وقال توفي نحو 100 ق هـ. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 39، "معجم الشعر" للمرزباني ص 248، "الأعلام" 4/ 220.

خَلَعَ المُلوكَ وسَارَ تَحْتَ لِوَائِهِ ... شَجَرُ العُرَى وعَراعِرُ الأقْوَامِ (¬1) قال الأزهري: العروة من دِق الشجر: ما له أصل باق، مثل: العَرْفَج والنَّصِي، (¬2) وأجناس (¬3) الخُلةِ والحَمْضِ، فإذا أمحل (¬4) الناس عصمت العروة الماشية فتبلغت (¬5) بها، ضربها الله مثلًا لما يعتصم به من الدين (¬6). (والوُثْقَى) تأنيث الأوثق (¬7). قال عطاء عن ابن عباس: العروة الوثقى، هي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن ما جاء به محمد حق وصدق (¬8). وقال مجاهد (¬9): هي الإيمان، وقال الزجاج (¬10): معناه: فقد عقد لنفسه عقدًا وثيقًا (¬11). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 180، "لسان العرب" 5/ 2876 [مادة: عرر]، "تهذيب اللغة" 3/ 2388، "تاج العروس" 7/ 208، "مقاييس اللغة" 4/ 37، "جمهرة اللغة" ص 197. وجاء في "اللسان" 5/ 2919 مادة (عرا)؛ قال ابن بَرِّي: ويروى البيت لشُرْحبيل بن مالك يمدح معد يكرب بن كعب، قال: وهو الصحيح. ويروى: عُراعِر وعَراعِر، فمن ضمّ فهو واحد، ومن فتح جعله جمعًا، ومثله: جُوالق، وجَوالق. قال: والعُرَاعِر هنا: السيد. (¬2) حاشية على نسخة (أ) نصها: والنصِي من نبات الرمل، يقال له: الغضا والأرَطى والألا، مثال: العُلا، وهو شجر حسن المنظر، مر الطعم، والسبط والنَّصِي ما دام رطبًا، فإذا يبس فهو الحَلِي. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) في (م): (كأنها أهل). (¬5) في (م): (تعلقت). (¬6) "تهذيب اللغة" مادة (عرا) 3/ 2376. (¬7) "المفردات" 527. (¬8) ذكره القرطبي في "تفسيره" 3/ 282، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 496. (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 20، "ابن أبي حاتم" في "تفسيره" 2/ 496. (¬10) "معاني القرآن" 1/ 339. (¬11) من قوله: (وقال الزجاج). ساقط من (ي).

قال أهل المعاني: العروة (¬1) الوثقى، هاهنا: مَثَلٌ حَسُنَ به البيان لتَرْك ما لا يقع به الإحساس إلى ما يقع به الإحساس، وذلك أنه لا يقع الإحساس بالتعلق بالكلمة ولا بالإيمان، وإنما يقع الإحساس بما يكون من جنس الحَبْل والسَّبب والعُرَى وما يتعلق به، فضرب العروة الوثقى مثلاً للإيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} الفَصْم: كَسْرُ الشيء من غير إبانة، يدل عليه قولُ ذىِ الرمة يَصِفُ ظَبْيًا حاقِفًا: كأنه دُمْلجٌ من فِضَّةٍ نَبَهٌ ... في مَلْعَبٍ من جَوَارِي الحَيِّ مَفْصومُ (¬2) والانفصام: مطاوع الفَصْم، يقال: فَصمْتُه فانْفَصَم، أي: صَدَعْتُه فانْصَدَع (¬3). قال ابن عباس: لا انقطاع لها دون رضى الله ودخول الجنة (¬4). قال النحويون: نَظْمُ الآيةِ: بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ¬

_ (¬1) ساقطة من (ش). (¬2) البيت في ديوان ذي الرمة ص 572، وفي "تهذيب اللغة" 3/ 2795، وجاء في "اللسان" مادة (فصم) 6/ 3424،: شبه الغزال وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونُسي، وكل شيء سقط من إنسان فنسيه ولم يهتد له فهو نَبَهٌ، قال ابن بري: قبل في نبه: إنه المشهور، وقيل: النفيس الضال الموجود عن غفلة لا عن طلبَ، وقيل هو المنسي. (¬3) ينظر في فصم: "تهذيب اللغة" 3/ 2795، "اللسان" 6/ 3424، وفي "البحر المحيط" 2/ 272، ذكر أبو حيان أن الفصم: الانكسار من غير بينونة، والقصم: الكسر ببيونة، وقد يجيء الفصم -بالفاء- في معنى البينونة. (¬4) ذكره في "الوسيط" 1/ 370.

والعرب تضمر (التي والذي ومن وما)، وتكتفي بصلاتها منها (¬1)، قال سلامةُ بنُ جَنْدَل (¬2): والعادِياتُ أَسَابِيُّ الدِّماءِ بها ... كأنَّ أَعْناقَها أَنْصابُ تَرْجِيبِ (¬3) يريد: والعاديات (¬4) التي. ومنه قوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان: 20] أي: رأيت (¬5) ما ثم. وقال الشاعر في إضمار من: كَذَبْتُم وبَيْتِ الله لا تَنْكِحُونَها ... بَني شَابَ قَرْنَاهَا تُصَرُّ وتُحْلَبُ (¬6) على معنى: بني مَنْ شاب قرناها، وقال الله عز وجل: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164]، أي: من له. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال عطاء عن ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين حول المدينة، وكان يسأل الله ذلك سرًّا وعلانية (¬7). فمعنى قوله: والله سميع، يريد: لدعائك يا محمد، عليم بحرصك ¬

_ (¬1) في (ي): (منهما). (¬2) سلامة بن جندل بن عبد عمرو، من بني كعب بن سعد التميمي، أبو مالك: شاعر جاهلي، من الفرسان، من أهل الحجاز، في شعره حكمة وجودة، توفي في حدود 23 ق. هـ. ينظر الأعلام 3/ 106. (¬3) البيت في ديوان سلامة ص 96، وجاء في "لسان العرب" 3/ 1084 مادة (رجب) شَبّه الشاعر أعْناق الخيل بالنخلِ المُرَجَّب، والترجيب: التعظيم أو إرفاد النخلة من جانب ليمنعها من السقوط، وقيل: شبه أعناقها بالحجارة التي تذبح عليها النسائك. (¬4) في (ي): (العادة). (¬5) ساقط من (ش). (¬6) البيت من الطويل للأسدي في "لسان العرب" 6/ 3609 (مادة: قرن). (¬7) هذه الرواية التي تقدم عنها الحديث في قسم الدراسة.

257

واجتهادك. وقال (¬1) أبو إسحاق: أي: يسمع ما يعقده الإنسان على نفسه من أمر الإيمان، ويعلم نيته في ذلك (¬2). 257 - قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، الوَلِيُّ: فعيل بمعنى فاعل، من قولهم: وَلِيَ فلانٌ الشيءَ يَلِيهِ ولايةً فهو والٍ وَوَليِّ (¬3)، وأصله من الوَلْيِ الذي هو القُرْب، قال الهذلي (¬4): عدَتْ عَوَادٍ دَون وَليك تَشْعَبُ (¬5). ومِنْ هذا يقال: داري تَلِي دارَه، أي، تَقْرُبُ منه، ومن هذا المعنى يقال للنصير المعاون المحب: وَلِيّ، لأنه يقرب منك (¬6) بالمحبة والنصرة، ولا يفارقك (¬7)، ومن ثَم قالوا في خلاف الولاية: العَدَاوة، ألا ترى أن العداوة من: عَدَا الشيءَ، إذا جَاوَزَه، فمن ثَمَّ كانت خِلافَ الوِلاية، فالوَلِيّ في اللغة هو: القريب من غير فصل (¬8)، والله تعالى ولي المؤمنين على معنى أنه يلي أمورهم، أي: يتولاها، وإن كانت أمور الكفار تجري بمشيئته، ففي هذا تخصيص للمؤمنين وتفضيل، كقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ ¬

_ (¬1) في (ي): (قال). (¬2) "معاني القرآن" 1/ 339. (¬3) ليست في (ي). (¬4) خويلد بن خالد بن محرث الهذلي: شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم، وحسن إسلامه، تقدمت ترجمته. (¬5) عجز بيت وصدره: هجرتْ غضوبُ وحبَّ من يتجنبُ. ورد في "لسان العرب" 8/ 4922؛ ونُسب لساعدة (مادة: ولى). (¬6) في (ش): (منه ومنك). (¬7) ساقط من (ي). (¬8) ينظر في الولي: "تهذيب اللغة" 4/ 3956، "المفردات" ص 547 - 549، "اللسان" 8/ 4921.

الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، ووليهم أيضًا على معنى أنه يَتَوَلَّى ثوابَهُم ومجازاتهم بحسن أعمالهم (¬1). وقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أىِ: من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهداية (¬2). قال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان، غير التي في الأنعام {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، فإنه يعني الليل والنهار. وجعل الكفر ظلمات؛ لأنه كالظلمة في المنع من إدراك الحق (¬3). وقال الزجاج: لأن أمر الضلالة مظلمٌ غيُر بَيِّن، وأمر الهدى بَيِّنٌ واضح كبيان النور (¬4). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} أي: الذين يتولون أمرهم الطاغوت، والطاغوت هاهنا جمع، وقد ذكرناه (¬5). وقرأ الحسن: (أوليائهم الطواغيت) على الجمع (¬6). وقال مقاتل: يعنى بالطاغوت هاهنا: كعب بن الأشرف وحيي بن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 339. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1479. (¬3) نقله في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 339، "تفسير الثعلبي" 2/ 1479، "تفسير البغوي" 1/ 315. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 339. (¬5) في (ش): (وقد ذكرنا). (¬6) ينظر: "المحتسب" لابن جني 1/ 131، وابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 23، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1481.

أخطب (¬1) وسائر رؤوس الضلالة (¬2). وقوله تعالى: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} قال قتادة (¬3) والمقاتلان (¬4): يعنى: اليهود كانوا مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث لِما يجدونه في كتبهم من نعته وصفته، فلما بعث جحدوه وأنكروه (¬5) وكفروا به. بيانه (¬6) قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وعلى هذا، الطاغوتُ: علماؤهم، يخرجون أتباعهم عما كانوا عليه من الإيمان بمحمد قبل مبعثه، بقولهم: إنه ليس ذلك الذي نُعت (¬7) في كتابنا. وسائر المفسرين على أن هذا على العموم في جميع الكفار (¬8). ووجه إخراجهم من النور ولم يكونوا فيه، أنّ منع الطاغوت إياهم عن الدخول فيه إخراجٌ لهم منه، كما تقول: أخرجني والدي من ميراثه، تأويله: أنه (¬9) منعني الدخول فيه؛ لأنه لو لم يعمل ما عَمِلَ لدخلتُ فيه ومثل هذا: ¬

_ (¬1) هو: حيي بن أخطب النضري اليهودي، جاهلي من الأشداء العتاة، كان ينعت بسيد الحاضر والبادي، أدرك الإسلام وآذى المسلمين فأسروه يوم قريظة ثم قتلوه. ينظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 229، "الأعلام" 2/ 292. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 215، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 315، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 253. (¬3) ذكره ابن أبي حاتم 2/ 498، والثعلبي 2/ 1482. (¬4) ذكره عن مقاتل بن حيان: ابن أبي حاتم 2/ 497، والثعلبي 2/ 1482، وقول مقاتل في "تفسيره" 1/ 215. (¬5) زيادة من (ي). (¬6) في (ش): (ببيانه). (¬7) في (ش): (بعث). (¬8) "تفسير الثعلبي" 2/ 1482. (¬9) في (ي): (أن).

258

قوله تعالى {مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج: 5]، يريد: ينقل، لأنه لم يكن فيه قط، فسمى النقل ردًا، لأن صورتهما واحدة، ومثله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] أي: صار (¬1). وروي عن مجاهد: أن هذا في قوم ارتدوا عن الإسلام (¬2). وأضاف الإضلال والإخراج من النور إلى الطاغوت؛ لأن سبب ذلك من الطاغوت، وهو التزيين والوسوسة والدعاء إليه، فالإضافة إليه لأجل السبب. وحقيقة الهداية والإضلال لله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] والشيطان يزين ويسول، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت داعيًا وليس إليَّ من الهداية شيء، وخُلِقَ إبليسُ مُزِيِّنًا (¬3) وليس إليه من الضَّلالَةِ شيء" (¬4). 258 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} الآية {أَلَمْ} كلمة يُوْقَفُ (¬5) بها المخاطَبُ على أمر تعجب منه. ولفظه لفظ الاستفهام (¬6). ¬

_ (¬1) قال معد الكتاب للشاملة: هذه الحاشية سقطت من المطبوع، وأصل الحاشية في الصفحة السابقة، بسبب ترحيل الحواشي في أغلب الكتاب، وحقها أن تنقل هنا، وما بقي من هذه الحاشية هو: .... 2/ 1483. (¬2) ذكره في "النكت والعيون" 1/ 329. (¬3) في (أ) و (م): (من نار). (¬4) رواه العقيلي في "الضعفاء" من حديث عمر بن الخطاب، وفيه خالد أبو الهيثم، وابن عدي في "الكامل" في الضعفاء 3/ 471، وقال: في قلبي منه شيء، ولا أدري سمع خالد من سماك أم لا، قال الدارقطني وابن حجر: مجهول، ينظر تنزيه الشريعة1/ 315، "كنز العمال" 1/ 116حديث رقم 546. (¬5) في (ي): (وقف). (¬6) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 340.

قال الفراء: وإدخال العرب (إلى) (¬1) في هذا الموضع على جِهَةٍ التعجب، كما يقول الرجل: أما ترى إلى هذا؟ والمعنى: هل رأيت مثل هذا؟ أو رأيتَ هكذا (¬2)، والدليل على ذلك أنه قال: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ}، فكأنه قال: هل رأيت كمثل الذي حاج، أو كالذي مر (¬3). وإنما دخلت (إلى) لهذا المعنى من بين حروف الإضافة؛ لأن (إلى) لما كانت نهاية صارت بمنزلة: هل انتهت رؤيتك إلى من هذه صفته؟ لتدل على بعد وقوع مثله على التعجب منه، لأن التعجب إنما هو (¬4) مما استبهم سببه مما (¬5) لم تجر به عادة (¬6). و {حَاجَّ} بمعنى: جادل وخاصم (¬7)، وهو نمروذ (¬8) بن كنعان. قال ابن عباس، في رواية عطاء: إن إبراهيم دخل بلدة نمرود ليمتار (¬9)، وأرسل إليه (¬10) نمرود، وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أنا أحيي وأميت (¬11). ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) في (ش): (كهذا). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 170 وينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1494، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 138، "التبيان" ص 155 (¬4) ساقط من (ي). (¬5) في (ش): (ما) (¬6) ينظر في معنى (إلى): "مغني اللبيب" ص 104. (¬7) "المفردات" ص 115. (¬8) في (أ) و (م) و (ي): (نمرود). (¬9) ساقط من (م). (¬10) في (ي) و (ش): (فأرسل). (¬11) ذكر في "تفسير مقاتل" 1/ 215، "تفسير الطبري" 2/ 24، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1484، وذكره في "الوسيط" 1/ 371.

وقوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي: لأن أتاه الله، وتأويله: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه للملك الذي (¬1) آتاه الله، يريد: بطرُ المُلك حمله على محاجة إبراهيم (¬2). وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} هذا جواب سؤال سابق غير مذكور، وتقديره (¬3): إذ قال له: من ربك؟ فقال إبراهيم: {رَبِّيَ} (¬4) الذي يحيي ويميت، فحذف (¬5)؛ لأن الجواب يدل على السؤال في مثل هذا الموضع (¬6). وقوله تعالى: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} اعتمد عدو الله على المعارضة على الإشراك (¬7) في العبادة (¬8) في العبارة، عادلًا عن وجه الحجة بفعل حياةٍ للميت أو مَوْتٍ (¬9) لحي على سبيل الاختراع الذي يفعله الله عز وجل؛ لأنه رُويَ أنه دعا برجلين؛ فقتل أحدهما واستحيا الآخر، فسَمَّى ترك القتل إحياءً (¬10). والقراء على إسقاط ألف أنا (¬11) عند الوصل في جميع القرآن، إلا ما ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبى" 2/ 1484. (¬3) في (م) (وتأويله). (¬4) زيادة من (ي). (¬5) في (م) حذف. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1490. (¬7) في (ي) و (ش) الاشتراك. (¬8) في (ي) و (ش) العبارة. (¬9) فى (ش) ميت. (¬10) ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 85، "تفسير الطبري" 3/ 24 - 25، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 341، "تفسير الثعلبي" 2/ 1492. (¬11) (أنا) ساقط من (ي).

روي عن نافع من إثباته عند استقبال همزة (¬1)، والصحيح من القراءة ما عليه القراء (¬2)؛ لأن (أنا) ضمير المتكلم، والاسم الهمزة والنون، فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف، كما تلحق الهاء في (مسلمونه) للوقف، وكما أن الهاء التي تلحق للوقف إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء (¬3) سقطت. كذلك هذه الألف تسقط في الوصل؛ لأن (¬4) ما تتصل به يقوم مقامه، ألا ترى أَنَّ همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التى هي فيها (¬5) بشيء سقطت ولم تثبت؛ لأن ما تتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة، فلا تثبت الهمزة لذلك، وكذلك الألف في أنا والهاء التي للوقف (¬6)، إذا اتصلت الكلمة التي هما فيها بشيء سقطتا ولم يجز إثباتهما، كما لم تثبت همزة الوصل؛ لأن الهمزة في هذا الطرف مثل الألف والهاء في الطرف (¬7) الآخر وأما قراءة نافع فهي ضعيفة جدًّا (¬8)، لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف (¬9)، ¬

_ (¬1) ينظر: "السبعة" ص 188، "الحجة" 2/ 359، ونافع يثبت الألف عند استقبال همزة في جميع القرآن، إلا في قوله: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 115] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء، ولم يختلفوا في حذف الألف إذا لم تلقها همزة، إلا في قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38]. (¬2) ينظر التعليق لأبي حيان عند قوله تعالى: "إلا من اغترف غرفة بيده" [البقرة: 249]. (¬3) في (ي) و (ش): (شيء). (¬4) ساقط من (ي). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) في (م): (في أنا والتي للوقف)، وفي (ش): (في أنا والهاء التى في الوقف). (¬7) في (ش): (الظرف) في الموضعين. (¬8) هذه العبارة، وأما قراءة نافع فهي ضعيفة جدًّا ليست من كلام أبي علي. (¬9) هذا قول في توجيه قراءة نافع، والقول الآخر: أنها لغة، قال أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 288: والأحسن أن تجعل قراءة نافع على لغة بني تميم، لا أنه من=

وأثبت الألف التي حكمها أن تلحق في الوقف (¬1)، وهم قد يجرون الوصل مجرى الوقف في ضرورة الشعر، فيثبتون فيه ما حكمه أن يثبت في الوقف، وليس ذلك مما ينبغي أن يؤخذ به في التنزيل؛ لأنهم إنما يفعلون ذلك لتصحيح وزنٍ أو إقامةِ قافية، وذلك لا يكونان في التنزيل، وهذه (¬2) الضرورات إنما تركت في الشعر، كقوله: هم القائلونَ الخيرَ والآمِرُونَهُ (¬3) الهاء فيه هاء الوقف التي تلحق في: مسلمونه وصالحونه، فألحق الهاء حرف اللين، وهذا كما أجروا غير القافية مجري القافية، كما أجروا قوله: لما رَأَتَ ماءَ السّلى مَشْرَوبا (¬4) وإن لم يكن مُصَرَّعًا مجرى المُصَرّع، ولا يجوز شيء من ذلك في غير ¬

_ = إجراء الوصل مجرى الوقف على ما تأوله عليه بعضهم، قال: وهو ضعيف جدا، وليس هذا مما يحسن الأخذ به في القرآن. انتهى. فإذا حملنا ذلك على لغة تميم كان فصيحًا، وبنحوه قال السمين في "الدر المصون" 2/ 553، وقال: وإنما أثبت نافع ألفه قبل الهمزة جمعا بين اللغتين، أو لأن النطق بالهمز عسر فاستراح له بالألف، لأنها حرف مد. (¬1) ساقط من (ش). (¬2) في (ي): (وهذا). (¬3) عجزالبيت: إذا ما خشوا من محدَث الأمر معظما. هو بلا نسبة في "لسان العرب" 5/ 2690 مادة: طلع، مادة (جين). (¬4) هذا صدر بيت عجزه: والغرْثَ يُعْصر في الإناء أرنَّت. وقد اختلف في نسبته إلى شبيب بن جعيل، أو حجل بن نضلة. ينظر: "الحجة" 2/ 364، وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 247 - 248.

الشعر، فمما (¬1) جاءت ألف (أنا) مثبته فيه وصلًا من الشعر قول الأعشى: فكَيْفَ أنا وانْتِحَالِي القَوافي ... بعيد المَشِيبِ كَفَى ذاكَ (¬2) عارَا (¬3) وما أنشده الكسائي: أنا شَيْخُ العَشِيرةِ فاعرِفُوني ... حَمِيدٌ قد تَذَرَّيْتُ السَّنَاما (¬4) وقول آخر: أنا عبيد الله يَنْمينِي عُمَر خَيْرُ قُرَيْشٍ مِنْ مَضَى ومَنْ غَبَر (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) في (م): فما. (¬2) في (ي): بذاك. (¬3) البيت في "ديوانه" 84، وروايته فيه: فما أنا أم ما انتحالي القوافِ ... بعد المشيب كفى ذاك عارا وذكره في "البحر المحيط" 2/ 288، كرواية المؤلف، وأورده المبرد (في الكامل 2/ 37) شاهدا على إثبات ألف (أنا) في الوصل ضرورة، ثم قال: والرواية الجيدة فكيف يكون انتحال القوا .. في بعد .. والمعنى: ينفي عن نفسه ما اتهم به عند الممدوح من أنه يسطو على شعر غيره وينتحله لنفسه. (¬4) ورد البيت هكذا: أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدًا قد تذريت السناما. والبيت لحميد بن ثور، ينظر: "الديوان" 133، "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي 2/ 553. وقيل: هو لحميد بن مجدل الكلبي، ينظر: "المنصف" 1/ 10، وابن يعيش 3/ 93، "الخزانة" 2/ 390، "شرح شواهد الشافية" 4/ 223. (¬5) تكملة الرجز: بعد رسول الله والشيخ الأغر والرجز لعبيد الله بن عمر، ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1491، و"أساس البلاغة" (مادة: غبر)، "تاج العروس" 7/ 287 (مادة: غبر). (¬6) من "الحجة" 2/ 359 - 365 بتصرف واختصار.

وقوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، إنما انتقل إبراهيم من الحجة الأولى مع إمكانه أن يناقضه بأن يقول له: أحيي من قتلته إن كنت صادقًا، قطعًا للخصومهَ، وتركًا للإطالة، واحتجاجًا بالحجة المسكتة، لأن عدوّ الله لما لبس في الحجة بأن قال: أنا أفعل ذلك، احتج عليه إبراهيم بحجة لا يمكنه فيه (¬1) أن يقول: أنا أفعل ذلك، ولو قال ذلك بان عجزه وافتضاحه، ولزمه من الحجة ما لا سبيل إلى التدليس فيه، وصار كلام إبراهيم عليه السلام قدوةً للمجادِل إذا تمرَّد الخصمُ (¬2) وقصدَ التلبيسَ بالمحالِ، وكان الإدلاء في الحجة الأخرى مما يقطعه ويفحمه فالصواب ذكرها، ولا يكون تركُ الأُولى انتقالًا لعجز، ولكه تنبيهٌ على قِلةِ عَقْلِ الخصم، أو على تعسفه في الكلام (¬3). فإن قيل: كان للنمرود أن يقول لإبراهيم: فليأت بها ربك من المغرب، قيل: علم بما رأى من الآيات أنه يفعل فيزداد (¬4) فضيحةً؛ لأن هذه المحاجة (¬5) كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار، وخروجه منها سالمًا، فعلمَ أنَّ من قَدَرَ على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراقِ، يَقْدِرُ على أن يأتي بالشمس من المغرب، وقيل: إن الله تعالى خذله عن التلبيس (¬6) بالشبهة نصرة لنبيه. ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) في (ي): (للخصم). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 341، "تفسير الثعلبي" 2/ 1492. (¬4) في (م): (ليزداد). (¬5) في (ي): (المحاججة). (¬6) في (م): (التلبيس).

259

وقوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} يقال: بَهَتَه يَبْهَتُه بَهْتًا وبُهْتانًا: إذا واجهه بالكذب عليه، هذا هو الأصل، ثم تُسمَّى الحَيْرةُ عند استيلاء الحجة بُهْتًا لأنها كحيرة المواجَه بالكذب، وفيه ثلاث لغات: بُهِت الرجل فهو مبهوت، وبَهِت، وبَهُتَ، قال عروة العذري (¬1): فما هو إلا أن أرَاهَا فُجاءةً ... فَأُبْهَتُ حَتّى ما أكادُ أُجِيْبُ (¬2) أي: أتحير وأسكت (¬3). وتأويل قوله (¬4): فبهت أي: انقطع وسكت (¬5). 259 - قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} الآية. قد ذكرنا أن هذه الآية معطوفة على ما قبلها في المعنى، كأنه قيل: أرأيت (¬6) كالذي حاج، أو كالذي مر (¬7)، والعرب تحمل على المعاني كثيرًا (¬8)، قال الفرزدق: ¬

_ (¬1) هو عروة بن حزام بن مهاجر العذري، من بني عذرة شاعر من متيمي العرب، له ديوان شعر صغير، توفي في حدود 30 هـ ينظر: "الشعر والشعراء" 3/ 4, "الأعلام" 4/ 226. (¬2) البيت في "ديوانه" ص 28، وفي "خزانة الأدب" 8/ 560 وُيعْزى لكُثَيِّر عزة في "ديوانه" ص 522، وُيعْزى أيضًا للمجنون في "ديوانه" ص 49، ولم ينسبه في "معاني القرآن" للأخفش، ولا الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1493 وعزاه في الكتاب 3/ 54 لبعض الحجازيين، وللأحوص في ملحق، "ديوانه" ص 213. (¬3) ينظر في بهت: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 341، "تهذيب اللغة" 1/ 400، "المفردات" 73، "اللسان" 1/ 368. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 341، ولفظه: انقطع وسكت متحيرًا. (¬6) ساقط من (م). (¬7) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 342. (¬8) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 290، وقال: والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس.

فكيْفَ بلَيْلَةٍ لا نَجْمٍ فيها ... ولا قَمَرٍ لسَاريهَا مُنِيرِ (¬1) أراد: فكيف بليلة ليست بليلة نجم ولا قمر، وقال آخر: وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُم جَزَاءً ... وجَنَّاتٍ وعَيْنًا سَلْسَبِيلًا (¬2) فنصب الجنات بالنسق على الجزاء وجنات وعينا (¬3)، وقال آخر: مُعَاوِيَ إنَّنا بَشَرٌ فاسْجَحْ ... فلَسْنَا بالجِبَالِ ولا الحَدِيدَا (¬4) أراد: فلسنا الجبال والحديد (¬5)، فحمل على (¬6) المعنى وترك اللفظ. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن الكاف زائدة، وعطف الذي على الذي من قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي} (¬7) والقول الأول اختيار أبي علي، وهو وجه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) البيت لعبد العزيز بن زرارة الكلابي، كما في "أدب الكاتب" 1/ 288، وهو من شواهد "المقتضب" 3/ 284، ومعنى سلسبيلًا: أي سهلًا لذيذًا سلسًا، ينظر: "المفردات" ص 237. (¬3) البيت وما بعده ساقط من (أ) و (م). (¬4) البيت لعقبة أو لعقيبة الأسدي في: "الإنصاف" 384، "لسان العرب" 6/ 3496 (مادة: غمز). (¬5) في (ي): (ولا الحديدا)، وفي (ش): (ولا الحديد). (¬6) ساقط من (ي). (¬7) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 182، ورده الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكر أبو حيان في "البحر" 2/ 290: أن الكاف قد تكون اسمًا على مذهب الأخفش، فتكون في موضع جر معطوفة على (الذي)، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى مثل الذي مر على قرية، ومجيء الكاف اسمًا فاعلة ومبتدأة ومجرورة بحرف الجر ثابت في "لسان العرب"، وتأويلها بعيد، فالأولى هذا الوجه، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف حملًا على مشهور مذهب البصريين.

حسن (¬1). واختلفوا في الذي مَرَّ. فقال قتادة (¬2) والربيع (¬3) وعكرمة (¬4) والضحاك (¬5) والسدي (¬6): هو عزير (¬7). وقال وهب (¬8) وعطاء عن ابن عباس (¬9): هو أرميا؟ وهو الخضر. وقال مجاهد: هو رجل كافر (¬10) شك في البعث (¬11). وقوله تعالى: {عَلَى قَرْيَةٍ} قال وهب (¬12) وعكرمة (¬13) وقتادة (¬14) ¬

_ (¬1) ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للفراء 1/ 170، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 138، "التبيان" 154، "البحر المحيط" 1/ 290. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، " ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 500. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكره الثعلبي 2/ 1494، والقرطبي 3/ 289. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكره الثعلبي 2/ 1494، والبغوي في "تفسيره" 1/ 317. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكره الثعلبي 2/ 1495، والبغوي في "تفسيره" 1/ 317. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 500. (¬7) وهذا الذي صححه أبو المظفر السمعاني في "تفسيره" 2/ 409، وقال ابن كثير 1/ 337: وهذا القول هو المشهور. (¬8) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 99، والطبري في "تفسيره" 3/ 29، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 502. (¬9) ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 317، وابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 255. (¬10) ليست في (ي). (¬11) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1496، وروى الطبري في "تفسيره" 3/ 40، وذكر ابن أبي حاتم 2/ 500 عن مجاهد: أنه رجل من بني إسرائيل. (¬12) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 30، وذكره الثعلبي 2/ 1496. (¬13) انظر المصدرين السابقين. (¬14) انظر المصدرين السابقين.

والربيع (¬1): إيليا، وهي بيت المقدس. وقال (¬2) ابن زيد: هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت (¬3). وقوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} قال أبو عبيد عن أبي زيد والكسائي: خَوَت الدار (¬4) تَخْوِي خُوُيًّا، إذا خلت، قال الكسائي: ويجوز: خويت الدار (¬5). الأصمعي: خَوَى البيتُ فهو يَخْوِي خَوَاءً، ممدود، إذا ما خلا من أهله (¬6). والخَوَى: خُلُوّ البطن من الطعام، وأصل معنى هذا الحرف: الخُلوّ. ومن هذا ما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد خَوَّى (¬7) أي: أخلى ما بين عَضُدَيْهِ وجَنْبَيْهِ وبَطْنِهِ وفَخِذَيْه، وخَوَاءُ الفرس: ما بين قوائمه، وخَوَاءُ الأرض: بَرَاحُها (¬8) قال أبو النَّجْم يصف فرسًا طويلًا: يَبْدُو خَوَاءُ الأرْضِ من خَوَائِه (¬9) ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 30، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 308 - 309. (¬2) في (أ) (قال). (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 30، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 309. (¬4) في (ي) (الديار). (¬5) نقله عنهما في "تهذيب اللغة" 1/ 1123 (مادة: خوى). (¬6) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 1123 (مادة: خوى)، وضبطت يخوي في نسخة (أ) بكسر الواو، وفي التهذيب بفتح الواو. (¬7) رواه مسلم (497) كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة. (¬8) من قوله: (وخواء). ساقط من (ي). (¬9) ورد هذا الشطر منسوبا لأبي النجم في "تهذيب اللغة" 1/ 1122، "اللسان" 3/ 1296 (مادة: خوى).

ثم يقال للبيت إذا سَقَطَ وتَهَدَّم: خوي؛ لأنه بِتَهَدُّمه يَخْلُو من أهله، وكذلك خَوَتِ النجوم وأَخْوَت: إذا سَقَطت ولم تمطر؛ لأنها خَلَتْ من المطر (¬1). والعَرْشُ: سَقْفُ البيت، والعُرُوش: الأَبْنِيَة، والسُّقُوفُ من الخَشَب، يقال: عَرَشَ الرجلُ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ، إذا بنى بناءً من خَشَبٍ (¬2). وقوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي: متهدِّمة ساقطة خراب، قاله ابن عباس (¬3) والربيع (¬4) والضحاك (¬5). ومعنى: {عَلَى عُرُوشِهَا} أي: حيطانها كانت قائمة، وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت (¬6) الحيطان من قواعدها، فتساقطت على السقوف المتهدمة (¬7). ومعنى الخاوية: بمعنى المنقعرة وهي المنقلعة من أصولها، يدلك على ذلك قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. وقوله تعالى في موضع آخر: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] وهذه الصِّفَةُ في خراب المنازل من أبلغ ما يوصف به. قال الأزهري: وإنما قيل للمنقعر: خاو؛ لأن الحائط إذا انقلع خَوِي ¬

_ (¬1) ينظر في خوى: "تهذيب اللغة" 1/ 1122، "تفسير الثعلبي" 2/ 1497، "المفردات" ص 167، "اللسان" 3/ 1296 مادة (خوا). (¬2) ينظر في عرش: "تهذيب اللغة" 3/ 2391، "تفسير الثعلبي" 2/ 1497، "المفردات" 332، "لسان العرب" 5/ 2881. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 31، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 331. (¬4) انظر المصدرين السابقين. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 31، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 500، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 331. (¬6) في (ش) (انقرعت). (¬7) ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 85، "تفسير الطبري" 3/ 31، "تفسير الثعلبي" 2/ 1498.

مكانه، أي: خلا منه، فيقال: خَوِي البيت، أي: خلا عن الجدار، ثم يقال: خَوِي الحائط: إذا تهدّم (¬1). وقال بعضهم {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي: خالية عن عروشها لتهدمها، جعل (على) بمعنى عن كقوله: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)} [المطففين: 2] أي: عنهم. وقوله تعالى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} قال وهب: إن بُخْتَنَصّر دخل هو وجنوده بيت المقدس، وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وسبى ذرارِيَهم، وخرب بيت المقدس، فلما رجع إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أَرْمِيا على حمار له، معه عصير عنب في زُكرة (¬2) وسلة تين، حتى غشي إيليا، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬3). ومن قال: المار عزير، قال: هذا من قوله (¬4). وفي قول مجاهد قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} يكون إنكارًا للبعث؛ لأنه جَعَل المارَّ كافرًا، وعلى قول غيره: لا يكون إنكارًا للبعث، ولكن تأويله: أنه أحب أن يزداد بصيرة في إيمانه، فقال: ليت شِعْرِي كيف يحيي الله الأموات (¬5)؟ كما قال إبراهيم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1122 (مادة: خوى). (¬2) في (ش) (ركوة). والزُّكرة: وعاءٌ أو زِقٌ من أدم يجعل فيه شراب أو خلّ. (¬3) حديث وهب ستأتي تتمته بعد قليل، فينظر تخريجه هناك. (¬4) ينظر "تفسير الطبري" 35/ 35، "تفسير ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 501، "بحر العلوم" 1/ 226، "تفسير الثعلبي" 2/ 1505. (¬5) في (ي): (الموتى).

[البقرة: 260] والمراد بإحياء القرية: عمارتها (¬1). وقال آخرون: إنه لما رأى خلاءها (¬2) من السكان وتهدم أبنيتها استبعد أن يعمرها الله، لا منكرًا للقدرة، ولكن متعجبًا منها لو كانت (¬3). ومعنى أنى: من أين، كقوله: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] يعني: من أين يفعل الله ذلك، على معنى: أنه لا يفعله. فأحب الله تعالى أن يُرِيَه آيةً في نفسه، وفي إحياء القرية، فأماته الله مائةَ عَامٍ. قال وهبٌ: ربط أرميا حمارَه بحبل جديد، فألقى الله عليه النوم، فلما نام نزع الله منه الروحَ مائة عام، وأماتَ حماره، وعصيرُه وتِيْنُه عنده، وأعمى الله سبحانه عنه العيون، فلم يَرَهُ أحدٌ، وذلك ضُحَى، ومنع اللهُ السباعَ والطيرَ لحمَه، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله عز وجل مَلَكًا إلى ملك (¬4) من ملوك فارس عظيم، يقال له: نوشك، فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تنفر بقومك فَتَعْمُر بيتَ المقدس وإيليا وأرضَها حتى تعودَ أَعْمَر ما كان، فانتدب الملك لعمارتها، وأهلك الله بُخْتَنَصّر، ورَدّ من بقي من بني إسرائيل إلى بيت المقدس، فعمروها ثلاثين سنة، وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه، وسائرُ جسدِه ميت، ثم أحيا جسدَه وهو ينْظُر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه بيض متفرقة (¬5) تلوح، فسمع صوتًا من السماء: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن تكتسي ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 35، "تفسير الثعلبي" 2/ 1505. (¬2) كتبت في (ي) و (ش) (خلاها)، وفي (أ) و (م): (حلآها). (¬3) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 342، "تفسير الثعلبي" 1/ 1505، "التبيان" ص 155، "البحر المحيط" 2/ 291. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) في (ي): (متفرقة بيض).

لحمًا وجلدًا، فكان كذلك، ثم قام بإذن الله تعالى ونهق، فذلك قوله: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} (¬1). وقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} فيه وجهان من القراءة: الإدغام، والإظهار (¬2). فمن أظهر فلتباين المخرجين، وذلك أن الظاءَ والذالَ والثاءَ من حَيِّز، والطاءَ والدالَ والتاءَ من حَيِّز، فلما تباين المخرجان واختلف الحَيِّزَان لم يُدْغِم. ومن أدغم: أجراهما مجرى المثلين، من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتفقا في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف في المخرج خلافًا يسيرًا. فأدغم، أَجْراهما مجرى المِثْلين، ويقوي ذلك اتفاقُهم في الإدغام في سِتٍّ، ألا ترى أن الدالَ أُلْزِمَتْ الإدغامَ في مقَارِبِهِ وإن اخْتَلَفَا في الجَهْرِ والهَمْس (¬3). ¬

_ (¬1) حديث منبه هذا، رواه الطبري في "تفسيره" في "تفسيره" 3/ 32، وفي "تاريخ الرسل والملوك" 1/ 548، وذكره الثعلبي بطوله 2/ 1498 - 1508، وذكره ابن كثير في "قصص الأنبياء" 2/ 320. (¬2) قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في كل القرآن بإظهار الثاء هنا، وفي مثله، كقوله: "لبثتم" [الكهف 19] [المؤمنون 112] وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالإدغام. ينظر "السبعة" ص 188، "الحجة" 2/ 367. (¬3) من "الحجة" 2/ 367 - 368 بتصرف. والجهر في اصطلاح المجودين: قوة التصويت بالحرف لقوة الاعتماد عليه في المخرج حتى منع جريان النفس معه، والهمس هو: ضعيف التصويت بالحرف لضعف الاعتماد عليه في المخرج حتى النفس معه، وحروفه مجموعة في قولك (فحثه شخص سكت) والباقي حروف الجهر. ينظر "هداية القاري" 1/ 79.

(وكم) ههنا: استفهام عن مبلغ العدد الذي لبث، ومعناه: كم أقمت ومكثت هاهنا؟ (¬1). قال: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، وذلك أن الله عز وجل أماته ضحى في أول النهار؟ وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا} وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقيةً من الشمس، فقال: أو بعض يوم، جاء (¬2) بمعنى: بل بعض يوم؛ لأنه رجعَ عن قوله: {لَبِثْتُ يَوْمًا} (¬3). {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}. العام (¬4) -وجمعه أعوام-: حولٌ يأتي على شتوة وصيفة، قيل: إن أصله من العوم، الذي هو السِّباحة؛ لأن فيه سَبْحًا طويلًا لما يمكن من التصرف فيه (¬5). {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} يعني: التين {وَشَرَابِكَ} يعني: العصير (¬6). {لَمْ يَتَسَنَّهْ} قال ابن عباس في رواية عطاء: لم يتغير ولم ينتن بعد ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1508. (¬2) ليست في (ي). (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1509، وينظر: "تفسير الطبري" 3/ 35، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 343. (¬4) في (ي) (والعام). (¬5) ينظر في العام: "تهذيب اللغة" 3/ 2290، "المفردات" 356، وقال: العام كالسنة، لكن كثيراً ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب، ولهذا يعمر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الرخاء والخِصب، قال: "عام فيه يغاث الناس وفيه يحصرون" [يوسف: 49] ثم قال: وقيل سمي السنة عاما لعوم الشمس في جميع بروجها. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1509.

مائة سنة (¬1). وقال أبو عبيدة: لم يأت عليها السنون فيتغير، يريد: أن مر السنين عليه لم يغيره. وفيه قراءتان: إحداهما: إثبات الهاء في الوصل، والأخرى: حذفها، ولا اختلاف في إثباتها في الوقف (¬2). وأصل هذا الحرف، من السنه، والسَّنه مترددة (¬3) بين أصلين: أحدهما: سَنَوَة، والآخر: سَنَهَة (¬4)، فالذي يدل على أن أصلها سنوة، قولهم في الاشتقاق منها: أَسْنَتَ القومُ، إذا أصابتهم السَّنَةُ، وينشد قوله: ورِجَالَ مَكَّةَ مُسْنِتُون عِجَافُ (¬5) ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 503 من طريق عكرمة، وذكره في "زاد المسير" 1/ 311. (¬2) قال ابن مجاهد: واختلفوا في إثبات الهاء في الوصل من قوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ} و {اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، و {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] و {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] وإسكانها في الوصل، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله (لم يتسنه) و (اقتده) ويثبت الهاء في الوصل والوقف في الباقي، وكلهم يقف على الهاء، ولم يختلفوا في {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] أنهما بالهاء في الوصل والوقف. "السبعة" ص 188 - 189. (¬3) في (ي): (مرددة). (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1510، "الحجة" 2/ 374. (¬5) شطره الأول: عمرو العلا هشم الثريد لقومه. البيت لابن الزبعرى، كما قال ابن بري. ذكره: في "تاريخ الطبري" في "تفسيره" 1/ 504، "صبح الأعشى" 1/ 412، "المنتظم" 2/ 210، "الاشتقاق" ص 13 وفيه نسبته إلى مطرود بن كعب الخزاعي.

وقولهم في جمعها: سَنَوات، وفي الفعل منها: سَانَيْتُ الرجل مُسَانَاةً، إذا عامَلْتَه سَنَةً سَنَةً، قال لبيد: وسَانَيْتُ مِن ذِي بَهْجَةٍ وَرَقْيتُه ... عليه السُّموط عابِسٍ مُتَعصِّب (¬1) يقال: سَانَيْتُ الرجلَ أي: رَاضَيْتُهُ وأَحْسَنْتُ مُعَاشَرَتَه، ومعناه: عَامَلْتُه مُعَاملةَ من كأنه يريد صحبةَ السنين؛ لأن طولَ الصحبة بحسن (¬2) العشرة، وقولهم في التصغير: سُنَيه، فمن حذف الهاء أخذه من التَّسَنِّي، بمعنى التغير من السنه، على أن أصلها سنوة، فيكون المعنى: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير لما أتى عليه من طول الأيام، ألا ترى أن تطاول الأيام على العصير يُغَيِّرُهُ خَمْرًا أو خَلّا (¬3). وعند الفراء: يجوز أن تكون أصل سنة: سننه (¬4)، قال: لأنهم قد قالوا في تصغيرها: سُنَيْنَة، وإن كان ذلك قليلًا، فعلى هذا يجوز أن يكون: لم يَتَسَنَّ، لم يَتَسَنَّنْ، فَبُدِّلَتِ النونُ ياءً لما كثرت النونات، كما قالوا: تَظَنَّيْت (¬5)، وكقول العجاج: تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ (¬6) ¬

_ (¬1) البيت في "لسان العرب" 4/ 2130 (سنا) وفيه: عليه السموط عائصٍ متعصب، وأنشد الجوهري هذا البيت: عابس متعصب. (¬2) في (ش): (تحسن)، وفي (م): (يحسن). (¬3) ينظر: "الإغفال" لأبي علي ص 543، "الحجة" 2/ 474 - 475، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 443، "تفسير الثعلبي" 2/ 1510. (¬4) في (أ) كأنها (سنينه). (¬5) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 172، "تهذيب اللغة" 2/ 1781 (مادة: سنن) "تفسير الثعلبي" 2/ 1511. وتظنيت من ظننت. (¬6) هذه قطعة من مشطور الرجز، للعجاج، وقبله: =

ووجه آخر لمن حذف الهاء ذكره الفراء (¬1) وأبو عمرو الشيباني (¬2) (¬3) وهو: أن يكون مأخوذًا من قوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] يريد: متغير، فيكون قد بُدِّلَتْ نُونُه ياءً على ما ذكرنا (¬4). واعترض الزجاج على هذا، وقال: هذا ليس من ذاك (¬5)؛ لأن مسنون إنما هو مصبوب على سُنَّةِ الطريق (¬6). قال أبو علي الفارسي: قد حكي عن أبي عمرو الشيباني أنه قال (¬7): لم يتسن: لم يتغير من قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] وأبدل من النون ياءً فإن كان هذا ثابتًا (¬8) عن أبي عمرو وقاله على (¬9) جهة الاستنباط من قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} فهو خلاف ما فسره أبو عبيدة، لأنه يقول: ¬

_ = داني جناحيه من الطور فمر "ديوانه" ص 17، "تفسير الطبري" 1/ 324، "الإغفال" 541، "المحتسب" 1/ 157، "سمط اللآلي" 2/ 710، "شرح ابن يعيش" 10/ 25، "اللسان" (قضض، ضبر) وتقضي: بمعنى: انقض وتقضض على التحويل، وكسر الطائر يكسر كسرًا وكسورًا، إذا ضم جناحيه حتى ينقض. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 172 - 173. (¬2) ينظر. "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 85، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 280. (¬3) سبق ترجمته. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 172، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 343، "تهذيب اللغة" 1/ 912 مادة "حمأ"، "تفسير الثعلبي" 2/ 1510. (¬5) في (ش): (ذلك.) (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 344. (¬7) سقطت من (ي). (¬8) كتبت في النسخ (ثبتًا). (¬9) في (ي): (عن).

المسنون: المصبوب (¬1)، وإن قال ذلك (¬2) من حيث رواه وسمعه، فذاك على أنه يجوز أن يكون قوله: (لم يتسن) {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} بمعنى مصبوب، فيكون (لم يتسن) بمعنى: لم يَتَصَبَّبْ، أي: أن الشراب على حاله وكما تركته لم يَتَصَبَّبْ، وقد أتى عليه مائة عام، والسَّنُّ في اللغة: هو الصَّبُّ وإن لم يكن على سُنَّةِ الطَّريق، قال: تُضَمَّرُ بالأصائلِ كلَّ يَوْمٍ ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِها قُرُون (¬3) أي: تُصَب عليها دُفَعٌ من العرق (¬4). فعلى ما ذكرنا من هذه الأوجه الهاء تكون للوقف، فينبغي أن تُلْحَقَ في الوقف، وتسقط في الدَّرْج. وأما من أثبت الهاء في الوصل فإنه يجعل اللام في السنة الهاء (¬5)، فيقول: إنها في الأصل سَنَهَة، وتصغيرها سُنَيْهَة، ويحتج بقولهم: سَانَهَتِ النخلةُ، بمعنى: عَاوَمَتْ، وآجَرْتُ الدارَ مُسَانهة، وأنشد الفراء: ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 351. (¬2) في (أ): (ذاك). (¬3) البيت من الوافر، وهو لزهير بن أبي سلمى، في "ديوانه" ص 187، "لسان العرب" 4/ 2125 مادة: (سنن). (وقرن) 6/ 3609، "تهذيب اللغة" 2/ 1780 (سنن) وروايته: نعوِدها الطِّراد فكلَّ يومٍ ... يُسَنُّ على سنابِكها القُرونُ (¬4) ما تقدم من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 545 بتصرف، وينظر: "الحجة" 2/ 374، "تهذيب اللغة" 2/ 1780، وقد وردت (رفع العرق) هكذا في "تهذيب اللغة"، وفي "الإغفال": يعني وقع العرق الذي يتصبب عليها في الحضر. (¬5) ينظر: "الحجة" 2/ 374 - 376.

ليْسَتْ بِسَنْهَاءَ ولا رُجْبِيَّةٍ ... ولكن عَرَايَا في السِّنين الجَوَائِحِ (¬1) ويكون التَّسَنُّهُ بمعنى التغير، فعلى هذا من وقف بالهاء وقف على لام الفعل، وإذا وصل بالهاء كان بمنزلة: لم يَتَّقهِ زيد، ولم يجبهُ عمرو (¬2). قال الأزهري: وأحسن الأقاويل في السنة: أن أصلها سَنَهَة، نَقَصُوا الهاء منها كما نقصوها من الشَّفَة، ولأن الهاء ضاهت حروف اللين التي تنقص. والوجه: أن يُقْرَأ بالهاء في الوقف والإِدراج (¬3)، وهو اختيار أكثر القراء. ¬

_ (¬1) البيت لسويد بن الصامت الأنصاري، ورد منسوبًا إليه في "معاني القرآن" للفراء 1/ 173، "تفسير الثعلبي" 2/ 1512، السجستاني 88، 93، "تهذيب اللغة" 2/ 1782 (سه) وروايتها: وليست. وفي "اللسان" 3/ 1584 مادة: رجب، 3/ 1584 مادة: قرح، 2/ 719 مادة: جوح، 4/ 2128 مادة: سنه، وأورده أبو عبيد بن سلام في "غريب الحديث" 1/ 231، 4/ 154، وابن فارس في "معجم المقاييس" 4/ 299، ونسباه لشاعر الأنصار دون تصريح. والشاعر يصف نخله بالجودة، وأنها ليس فيها سنهاء، وهي التي تحمل عامًا وتحيل عامًا، وقيل: القديمة، وقيل: التي أصابتها السِّنة، أي: أخَّر بها الجدب، والرُّجْبِيّة: التي يبنى تحتها لضعفها أو لطولها وكثرة حملها، والعرايا: جمع عرية التي يوهب ثمرها، والجوائح: السنون الشداد. (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 172، "تفسير الثعلبي" 2/ 1511، "تهذيب اللغة" 2/ 1781 (مادة: سنن). (¬3) من "تهذيب اللغة" 2/ 1781 - 1782 (سنه) بمعناه، ولفظه. وأجود ما قيل في تصغير السنة: سُنيهة، على أن الأصل سنْهَة، كما قالوا: الشفة، أصلها: شفهة، فحذفت الهاء منهما في الوصل ونقصوا الهاء من السنة والشفة؛ لأن الهاء مضاهية حروف اللين التي تنقص في الأسماء الناقصة، مثل زنة وثبة وعِزة وعِضة، وما شاكلها، والوجه في القراءة (لم يتسنه) بإثبات الهاء في الإدراج والوقف، وهو اختيار أبي عمرو. والله أعلم.

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: إنه نظر إلى التين فإذا هو كما اجتناه، ونظر إلى العصير فإذا هو كهيئته لم يتغير (¬1). فإن قيل: ذكر شيئين وأخبر عن أحدهما أنه لم يتغير؟ قيل: التَّغَيُّرُ راجعٌ إلى أقرب اللفظين، وهو الشراب، واكتفى بالخبر عن أحدهما عن الخبر عن الثاني؛ لأنه في معنى الثاني، كما قال الشاعر: عِقَابٌ عَقَنْبَاة (¬2) كأنَّ وَظِيفَها ... وخُرطُومَها الأعْلَى بنانٌ مُلوّح (¬3) ذكر الوظيف والخرطوم، وأخبر عن أحدهما، ويدل على صحة هذا التأويل: قراءة ابن مسعود (¬4) فانظر إلى طعامك، وهذا شرابك لم يتسن (¬5). وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} وذلك أنه لما أحياه الله وقال له: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} وأراه طعامه غير متغير، وكذلك شرابه، وأراه علامة مكثه مائة سنة ببلى عظام حماره، فقال: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} (¬6) فرأى حماره ميتًا عظامُهُ بيضٌ تلوح، فأذن الله عز وجل له في الحياة، فاجتمعت أعضاؤه وانتظمت، حتى عاد إلى حالة الحياة، وجاءه فوقف عند رأسه ينهق. ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 1/ 373. (¬2) في (أ) و (م) و (ي): (عقبناه)، وما أتبت موافق لما في "تفسير الثعلبي" 2/ 1513، "لسان العرب" 7/ 4095 (مادة: لوح). (¬3) البيت من الطويل، وهو لجران العود في "ديوانه" ص 4: "لسان العرب" 7/ 4095 مادة: (لوح)، وللطرماح في ملحق "ديوانه" ص 565، "لسان العرب" 5/ 3052 مادة: (عقنب). وقوله (عقاب عقبناه) على سبيل المبالغة: حديدة المخالب السريعة الخطبة، وظيفتها: عظم ساقها، والخرطوم: منقار الطائر. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1513، "تفسير القرطبي" 3/ "البحر المحيط" 2/ 292. (¬5) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1512. (¬6) من قوله: (وذلك أنه لما). ساقط من (ي).

وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} قال بعضهم: هذه الواو مقحمة زائدة، والجالب للام في نجعلك (لبثت)، كأنه قال: بل لبثت مائة عام لنجعلك آية للناس (¬1) {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} على هذا تقدير الآية ونظمها، وإقحام الواو جائز عند بعض الكوفيين، أجازوا ذلك في مواضع من التنزيل، سنذكرها إن شاء الله. وقال الفراء: دخلت الواو لنية فعل بعدها مضمر (¬2)، لأنه لو قال: لنجعلك، كان شرطًا للفعل الذي قبله، كأنه قيل: ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك، يعني: ما فعله من الإماتة والإحياء، ومثله قوله: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105] معناه: وليقولوا دارست صرّفْناها، ومثله {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أراد: وليكون من الموقنين نريه الملكوت (¬3). ومعنى كونه آية للناس: أنه لما أحيي بعد الإماتة كان ذلك دلالة على البعث بعد الموت في قول أكثر المفسرين (¬4). وقال الضحاك وغيره: جعله الله آية للناس بأن بعثه شابًا أسودَ الرأس واللحيةِ وبنو بنيه شيب (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: (كأنه قال). سقطت من (أ) و (م). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 173. (¬3) ينظر في إعراب الآية: "تفسير الثعلبي" 2/ 1520، "التبيان" 1/ 155 - 156، "البحر المحيط" 2/ 293. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1521. (¬5) نقله عن الضحاك: الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1521، والبغوي في "تفسيره" 1/ 320، وروى سفيان الثوري في "تفسيره" ص 72 نحوه عن المنهال بن عمرو، وروى=

وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، وأن اللام فيه بدل عن الكناية (¬1). وقال آخرون: أراد به عظام هذا الرجل نفسه، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره وأحيا الله عينيه ورأسَه، وسائرُ جسده ميت، ثم قال له: انظر إلى حمارك، فنظر فرأى حماره واقفًا كهيئة يوم ربطه حيًّا، لم يطعم ولم يشرب مائة عام، وتقدير الآية على هذا: وانظر إلى عظامك كيف ننشرها، واللام في هذا القول بدل عن كاف الخطاب، وهذا قولُ قتادة (¬2) والربيع (¬3) وابن زيد (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد عظام نفسه وعظام حماره (¬5). وقوله تعالى: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (¬6) أي: نحييها، يقال: أنشر الله الميت فنشر، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]، وقال الأعشى: ¬

_ = الطبري في "تفسيره" 3/ 42 عن الأعمش نحوه، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 505 عن عكرمة نحوه. (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 40، "تفسير الثعلبي" 2/ 1519، "النكت والعيون" 1/ 333، "زاد المسير" 1/ 312. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 44، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1520. (¬3) انظر المصدرين السابقين. (¬4) انظر المصدرين السابقين. (¬5) تقدم الحديث عن هذه الرواية في قسم الدراسة. (¬6) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (نُنْشِرها) بضم النون الأولى وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (ننشزها) بالزاي، لمحال ابن مجاهد: وروى أبان عن عاصم (كيف نَنْشُرها) بفتح النون الأولى وضم الشين والراء مثل قراءة الحسن. ينظر: "السبعة" ص 189، "الحجة" 2/ 379.

يا عَجَبًا للمَيتِ الناشِرِ (¬1) وقد وصفت العظام بالإحياء في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا} [يس:78 - 79] فكذلك في قوله: ننشرها (¬2). وقرئ (نَنْشُرُها) (¬3) بفتح النون وضم الشين، قال الفراء: كأنه ذهب إلى النَّشْر بعد الطي (¬4)، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط (¬5) في التصرف، فهو كأنه مطوي ما دام ميتًا، فإذا عاد حيًا صار كأنه نُشر بعد الطي. وقال آخرون: يقال: نَشَر الميتُ ونَشَره اللهُ، مثل: حَسَرَتِ الدابةُ، وحَسَرْتُها أنا، وغاض الماء وغِضْتُه، قال العجاج: كم قد حَسَرْنا من عَلاةٍ عَنْسِ (¬6) (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) صدر البيت: حتى يقول الناس مما رأوا والبيت في "ديوانه" ص 93، "معاني القرآن" للفراء 1/ 173، "الخصائص" 3/ 225، "تفسير الثعلبي" 2/ 1518، والناشر: الذي بعث من قبره. "البحر المحيط" 2/ 297. (¬2) ينظر: "الحجة" 2/ 379 - 380، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 مادة "نشر"، "غريب القرآن" ص 85. (¬3) قرأ بها الحسن والمفضل. ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 173، "غريب القرآن" ص 85، "تفسير الثعلبي" 2/ 1518. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 173. (¬5) في (ش): (الانتشاط). (¬6) في (ش) و (ي): (عبس). (¬7) رجز أورده في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 381، وصاحب "اللسان" 5/ 3129 (مادة: عنس)، ولم ينسباه، والعَنْس: الصخرة والناقة القوية، شبهت بالصخرة لصلابتها، والعلاة: السندان، ويقال للناقة علاة تُشَبَّه بها في صلابتها. (¬8) بتصرف من "الحجة" 2/ 381، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 344، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 مادة "نشز"، "المفردات" ص 495.

وقرأ حمزة والكسائي نُنْشِزُها بالزاي على معنى: نرفع بعضها إلى (¬1) بعض، وإنشاز الشيء: رَفْعُه، يقال: أَنْشَزْتُه فَنَشَزْ، أي: رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض: نَشْزٌ، ومنه: نشوز المرأة، وهو أن تنبو عن الزوج في العشرة ولا تلائمه، وترتفع عن حد رضاه (¬2). ومعنى الآية على هذه القراءة: كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، ونركب بعضها على بعض (¬3). وقال الأخفش: يقال: نَشَزْتُه وأَنْشَزْتُه، أي: رفعته (¬4). وروي عن النخعي أنه كان يقرأ (نَنَشُزُها) بفتح النون وضم الشين والزاي (¬5). وقوله تعالى: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وذلك أنه لما شهد ما شاهد من إحياء الله وبعثه إياه بعد وفاته، أخبر عما تبيّنه وتيقنه مما لم يكن تبيّنه هذا التبيُّنَ الذي لا يجوز أن يعترض فيه إشكال، {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قبل، وتأويله: أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبًا (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ي): (على). (¬2) ينظر: "الحجة" 2/ 381 - 382، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 (مادة: نشز)، "المفردات" ص 495. (¬3) "غريب القرآن" ص 95، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 344، "المفردات" ص 495. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 183. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1518، و"تفسير القرطبي" 3/ 188، "البحر المحيط" 2/ 293. (¬6) سقطت من (ي).

260

وقرأ حمزة والكسائي (¬1): (قال اعلمْ) موصولًا مجزومًا على لفظ الأمر، وذلك أنه لما تبين له ما تبين نَزَّلَ نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطِبُ سِواها، وهذا مما تفعله العرب، يُنزّل أحدهم نفسه منزلة الأجنبي، فيخاطبها كما يخاطبه، ويجري التخاطب بينهما كما يجري بين الأجنبيين، قال الأعشى: وَدِّع هُرَيْرَةَ إنّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ (¬2) خاطب نفسه كما يخاطب غيره، كذلك (¬3) قوله لنفسه: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} نزله منزلة الأجنبي المنفصل منه؛ لينبهه على ما تبين له (¬4) (¬5). ويجوز أن يكون الله تعالى قال له: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، يدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش: قيل: اعلم (¬6). 260 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الآية. العامل في (إذ) عند الزجاج اذكر، كأنه قيل: واذكر هذه القصة (¬7)، وعند غيره: كأنه قيل: ألم تر إذ قال إبراهيم، عطف على {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي ¬

_ (¬1) وقرأ الباقون (أعلمُ). ينظر: "السبعة" ص189، "الحجة" 2/ 383. (¬2) عجزالبيت: وهل تطيق وداعًا أيُها الرَّجُلُ وهو في "ديوانه" ص155، "الحجة" لأبي علي 2/ 384 "لسان العرب" 2/ 715 "جهم". (¬3) في (ي): (وكذلك). (¬4) سقطت من (ي). (¬5) من "الحجة" 2/ 383 - 384 بتصرف. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1527، "التبيان" ص 157، "البحر المحيط" 2/ 296. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 345، وينظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 138، "التبيان" ص 157.

حَاجَّ} (¬1). واختلفوا في سبب سؤاله إحياء الميت، والأكثرون على أنه رأى جيفة بساحل البحر، يتناوله السباع والطير ودوابّ البحر، ففكر كيف يجتمع ما قد تفرّق من تلك (¬2) الجيفة، وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، ولم يكن شاكًّا في إحياء الله تعالى الموتى، ولا دافعًا له، ولكنه أحب أن يرى ذلك كما أن المؤمنين يحبون أن يروا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والجنة، ويحبون رؤية الله تعالى، مع الإيمان بذلك وزوال الشك، فكذلك أحب إبراهيم أن يصير الخبر له عيانًا (¬3)، وهذا معنى قول الحسن (¬4) والضحاك (¬5) وقتادة (¬6). وقال ابن عباس (¬7) والسدي (¬8) وسعيد بن جبير (¬9): إن ملك الموت ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 297، وقال: والذي يظهر أن العامل في (إذ) قوله: (قال أو لم تؤمن). (¬2) سقطت من (م). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 47، "تفسير الثعلبي" 2/ 1531، "المحرر الوجيز" 2/ 416. (¬4) قول الحسن، عزاه الحافظ في "العجاب" 1/ 617 إلى عبد بن حميد، وعزاه السيوطي في الدر 1/ 594 إلى البيهقي في "الشعب"، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1531، والبغوي في "تفسيره" 1/ 322، وابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 313. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 47، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 507، وينظر "زاد المسير" 1/ 313. (¬6) رواه عنه الطبري 3/ 47، وذكره الثعلبى 2/ 1530، والبغوي 1/ 322، وابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 313. (¬7) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 49، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 509، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 487. (¬8) رواه عنه الطبري 3/ 48، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 1/ 508، وينظر "زاد المسير" 1/ 313. (¬9) رواه سعيد بن منصور 3/ 973، والطبري فى "تفسيره" 3/ 49 بمعناه، "ابن أبي حاتم" 2/ 510.

استأذن ربه أن يأتي إبراهيم فيبشره أن الله تعالى اتخذه خليلا، فأذن له فأتاه وبشَّره بذلك، فحمد الله عز وجل، وقال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاك وتحيي الموتى بسؤالك، فقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى}. والألف فيه ألف إيجاب، كقول جرير: ألَسْتُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا (¬1) يعني: أنتم كذلك (¬2). {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بأن أنال ما قد تَمَنَّيْتُه، وأحببت رؤيته، واشتهيت مشاهدته. وقال الحسن (¬3) وقتادة (¬4)، أي: بزيادة اليقين والحجة، وعلى قول ابن عباس بحقيقة الخلة وإجابة الدعوة، ويدل على هذا: ما روى الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال معناه: لكن لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني (¬5) (¬6). وروى الوالبي عنه: لكن لأعلم أنك تُجِيبُني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك (¬7). وعن سعيد بن جبير قال معناه: ولكن ليزداد قلبي إيمانًا (¬8). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 85. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1540. (¬3) ذكره عنه ابن أبي حاتم 2/ 510، وابن الجوزي 1/ 313. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 50، وينظر "المحرر الوجيز" 2/ 420. (¬5) في (ش) و (م): (أحببتني). (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 51، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 509. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 51، وذكره في "زاد المسير" 1/ 313. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 50 - 51، وذكره في "زاد المسير" 1/ 313.

وقال الأزهري: أي: يسكن إلى المعاينة بعد الإيمان بالغيب. ويقال: طامن ظهره: إذا حنى ظهره، بغير همزة، والهمزة التي في (اطمأن) ليست بأصلية أدخلت فيها حذار الجمع بين الساكنين (¬1). قال الله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قال ابن عباس: أخذ طاوسًا ونَسْرًا وغرابًا وديكًا (¬2)، وفي قول مجاهد (¬3) وابن إسحاق (¬4) وابن زيد (¬5): حمامةً بدل النسر (¬6). وقوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قال أكثر أهل اللغة والتفسير (¬7): معناه: مِلْهُنَّ إليك، يعني: وَجِّهْهُنَّ إليك وادْعُهُنَّ واضممهن، قاله عطاء (¬8) وابن زيد (¬9). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2220 - 2221 (مادة: طمن). (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1541، والبغوي في "تفسيره" 1/ 323، "زاد المسير" 1/ 314. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 51، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 510، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1541، والبغوي في "تفسيره" 1/ 323. (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 51، وذكره في "المحرر الوجيز" 2/ 420. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 51، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1541. (¬6) ذكر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 338 بأنه لا طائل تحت تعيينها؛ إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن. (¬7) ينظر: "غريب القرآن" ص 86، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 345 - 346، وعزاه لأكثر أهل اللغة. "تهذيب اللغة" 2/ 2002 - 2054 (مادة: طمن)، "تفسير الثعلبي" 2/ 1544، "المفردات" 292 - 293. (¬8) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 56، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 512، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 335. (¬9) رواه عنه الطبري 5/ 56، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 335.

يقال: صُرْتُهُ أَصُورُه، إذا أملته (¬1)، وأنشدوا على الإمالة: على أنني في كل سَيْرٍ أسِيرُه ... وفي نظري من نَحْوِ أرضِكَ أَصْوَر (¬2) فقالوا (¬3): الأصور المائل العنق (¬4). وقول آخر: الله يَعْلَمُ أَنّا في تَلَفُّتِنا ... يومَ الوَدَاعِ إلى أحْبَابِنا صُورُ (¬5) جمع: أصْوَرَ، أي: مائلة. وهذان البيتان من الصَّوْر، يعنى: الميل، وهو لازم، والصَّوْر: الإمالة، ساكنة العين، قال الطرماح (¬6): عفائف إلا ذاك أو أن يَصُورَهَا ... هوًى والهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ (¬7) وقال آخر: يَصُور عنُوقَها أحْوَى زَنِيمٌ ... له ظَابٌ كما صَحِبَ الغَرِيمُ (¬8) وعلى هذا في الكلام محذوف، كأنه قيل: فصرهن إليك وقطعهن، ثم ¬

_ (¬1) سقطت من (ي). (¬2) البيت لذي الرمة، في "ديوانه" ص 220. (¬3) في (ي): (فقال). (¬4) من "الحجة" 2/ 389 بمعناه. (¬5) البيت بلا نسبة في "تهذيب الألفاظ" لابن السكيت 2/ 552، "تفسير الطبري" 3/ 52، " لسان العرب" 4/ 2524 (مادة: صور)، و4/ 2254 (مادة: شرى)، "تاج العروس" 7/ 111 (مادة: صور)، "المخصص" 12/ 103. "المعجم المفصل" 3/ 336. (¬6) هو الطرماح بن حكيم بن الحكم، تقدمت ترجمته 2/ 133 [البقرة: 9]. (¬7) البيت في "ديوانه" ص 180. (¬8) البيت لأوس بن حجر من ملحق "ديوانه" ص 140، "لسان العرب" 5/ 2741 (مادة: ظأب)، وهو ملفق من بيتين.

اجعل على كل جبل منهن جزءًا، فحذف الجملة التي هي قَطِّعْهُن، لدلالة الكلام عليها، كقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] على معنى: فضرب فانفلق؛ لأن قوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} يدل على التقطيع (¬1). وقال أبو عبيدة (¬2) وابن الأنباري (¬3) وجماعة: صرهن، معناه: قطعهن (¬4). وهو قول ابن عباس (¬5) وسعيد بن جبير (¬6) والحسن (¬7) ومجاهد (¬8). يقال: صار الشيء يَصُورُه صَوْرًا: إذا قطعه، قال رؤبة يصف خصمًا ألد: صُرْنَاه بالحُكم ويعي الحُكَّما (¬9) ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 183، "غريب القرآن" ص 86، "تفسير الطبري" 3/ 52، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 286، "تفسير الثعلبي" 2/ 1552. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 81. (¬3) "الأضداد" لابن الأنباري ص 36. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 183، "مجاز القرآن" 1/ 81، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 345 - 346، "تهذيب اللغة" 2/ 1959 (مادة: صار)، "المفردات" ص 292. (¬5) رواه عنه الطبري 3/ 55، "ابن أبي حاتم" 2/ 512. (¬6) انظر المصدرين السابقين. (¬7) ذكره في "زاد المسير" 1/ 315. (¬8) انظر التخريج السابق. (¬9) في حاشية (أ) تصحيح للبيت هكذا: صرنا به الحُكم وأَعْيا الحكَمَا وقد ورد البيت في "الحجة" 2/ 319 معزوًّا لذي الرُّمَّة بلفظ (صُرْنا به الحكم وعيًا الحُكّمَا) وليس في "ديوان ذي الرمة"، ونسبه في "اللسان" 4/ 2524 (صور) =

أي: قطعناه، ومنه قول الخنساء: ولو يلدغني الذي لاقيته حَضَنٌ ... لَظَلَّت الشُّمُّ منه وهي تَنْصَارُ (¬1) أي: تنصرع (¬2) وتنفلق. فمن فسر صُرْهُن بمعنى قَطِّعْهُن لا يحتاج إلى إضمار، كما ذكرنا في الإمالة، ويكون قوله: {إِلَيْكَ} من صلة الأخذ، كأنه قيل: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن (¬3). وقرأ حمزة (فصِرهن) بكسر الصاد (وقد فسر هذا الحرف على قراءة حمزة بالإمالة والتقطيع، كما ذكرنا في قراءة من ضم الصاد) (¬4) (¬5). فمن الإمالة: ما أنشده الكسائي هذا (¬6): وفَرْعٍ يصيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كأنّه ... على اللِّيتِ قِنوانُ الكُرومِ الدَّوَالِحِ (¬7). ¬

_ = للعجاج وهو مذكور في "ملحقات ديوان العجاج" 2/ 335، "مجاز القرآن" 1/ 81 قال: صُرْنا به الحكم، أي: فصلنا به الحكم. (¬1) ورواية صدر البيت فلو يلاقي الذي لاقيته حضن ورد في "لسان العرب" 4/ 2524 مادة: (صور)، بلفظ: لظلت الشهب، ولم يرد في "ديوان الخنساء"، وهو في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 81 وفي الأضداد للأصمعي وابن السكيت ص 33 - 187، "البحر المحيط" 2/ 300 وقوله: الشم، أي: الجبال، تنصار: تقطع، وحِضنُ الجبل: ما يُطِيف به. (¬2) في (ش): (تتضرع). (¬3) "الحجة" 2/ 393، وينظر "تفسير الطبري" 3/ 52، "تفسير الثعلبي" 2/ 1552. (¬4) ساقط من (أ) و (م). (¬5) ينظر "الحجة" 2/ 392. (¬6) ليست في (ي) ولا (ش). (¬7) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 174، قال: وأنشدني عن بعض سليم، وذكره =

معناه: يميل الجيد من كثرته. قال الفراء: وهذه لغة هذيل (¬1). وسليم (¬2)، يقولون: صاره يصيره: إذا ماله (¬3). وقال الأخفش وغيره: صِرهن، بكسر الصاد: قطعهن، يقال: صاره يصيره: إذا قطعه (¬4). قال الفراء: وأرى أن ذلك مقلوبٌ من صَرَى يَصْري إذا قطع (¬5)، قال ذو الرمة: وودَّعْنَ مُشْتَاقًا أصبْنَ فُؤَادَه ... هَوَاهُنّ إن لم يَصره اللهُ قَاتِلُه (¬6) فقدمت ياؤها، كما قالوا: عثى وعاث (¬7)، وأنشد: ¬

_ = في "الحجة" 2/ 392. قوله: فرع: يريد بالفرع الشعر التام، والوحف: الأسود، والليت: صفحة العنق، ويريد بقنوان الكروم: عناقيد العنب، وأصل ذلك كباسة النخل، والدوالح: المثقلات بحملها. ينظر "تهذيب الألفاظ". (¬1) هذيل بن مدركة، بطن من مدركة بن إلياس، من العدنانية، كانت ديارهم بالسروات، وكان لهم أماكن ومياه في أسفلها من جهات نجد. ينظر "معجم قبائل العرب" 3/ 1213. (¬2) سليم بن منصور، قبيلة عظيمة من قيس غيلان، من العدنانية، وكانت منازلهم في عالية نجد بالقرب من خيبر. ينظر "معجم قبائل العرب" 2/ 543. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 174. (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 183 - 184، وعبارته: أي قطعهن، وتقول منها: صار يصور، وقال بعضهم: فصرهن، فجعلها من صار يصير. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 174. (¬6) ورد البيت: فودعن، وهو في "ديوانه" ص 396. (¬7) ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 174، وعثى: لغة أهل الحجاز، وعاث: لغة تميم، وهما بمعنى: أفسد.

صَرَتْ نظرهٌ لو صَادَفَتْ جَوْزَ (¬1) دَارعٍ ... عَدَا والعَوَاصِي من دَمٍ الجَوْفِ (¬2) تَنْعَرُ (¬3) وأنشد أيضًا: يقولون: إنَّ الشَّأمَ يَقْتُلُ أهلَهُ ... فمَنْ لِيَ إن لَم آتِهِ بِخُلُودِ تَعَرَّب آبائي فما إن صَرَاهُم ... عن الموت إذ لم يَذْهَبُوا وجُدُودِي (¬4) فالإمالة والقطع يقال في كلِّ واحد من القراءتين (¬5). وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} قال المفسرون: إن الله تعالى أمره أن يذبح تلك الطيور، وينتف ريشها، ويقطعها، ويفرق أجزاءها، ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، بعضها ببعض، ففعل ذلك، ثم ¬

_ (¬1) في (م): (جوز)، وكما أثبت في (أ) "معاني القرآن" للفراء 1/ 174 "تفسير الثعلبي" 2/ 1549. (¬2) في (ش): (القوم). (¬3) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" 7/ 4472 (مادة: نعر)، 5/ 2981 (مادة: عصا). (¬4) البيت بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 174، "تفسير الثعلبي" 2/ 1550، وفي "لسان العرب" 4/ 2177 مادة: شأم، وورد البيت الثاني في "معاني القرآن" هكذا: تَعَرَّب آبائي فَهَلَّا صَرَاهم ... من الموت إن لم يذهبوا وجُدوُدي "الأمالي" للقالي 2/ 52، وقال في "التنبيه" ص 93: هذا ما اتبع فيه أبو علي القالي رحمه الله غلط من تقدمه، فأتى ببيت من أعجاز بيتين أسقط صدورهما، والشعر للمعلى العبدي، وقد أطال محقق "الحجة" الكلام حول البيتين 2/ 389 - 391. ولون الدهاس: لون الرمل، كأنه تراب رمل أدهس، خُلْعة: خيار شائه، صفايا: غزار، ويقال للنخلة: صفية، أي: كثيرة الحمل. (¬5) ينظر: "الحجة" 2/ 391 - 393.

أمر بأن يجعلها على أربعة أجبُل، فجعل أجزاء تلك الطيور أربعة أقسام، وجعل على كل جبل رُبعًا منها (¬1). وقال ابن جريج (¬2) والسدي (¬3): جعلها سبعة أجزاء، ووضعها على سبعة أجبل. وقال مجاهد (¬4) والضحاك (¬5): كل جبل بحسب الإمكان، كأنه قيل: فرقه على كل جبل يمكنك التفرقة عليه، قالوا: ففعل ذلك إبراهيم، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن: تعالين بإذن الله سبحانه، فجعلت أجزاء الطيور يطير بعضها إلى بعض، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا، وتكاملت أجزاؤها، ثم أقبلن إلى رؤوسهن، فكلما جاء طائر أشار بعنقه إلى رأسه، فكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه امتنع الطائر وتباعد، حتى يشير إليه برأسه، فتلقى كل طائر رأسه، فذلك قوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} (¬6). وهو نصبٌ على المصدر، أي: سَعَيْنَ سعيًا، ويجوز أن يكون في موضع الحال (¬7). ¬

_ (¬1) هذا هو المروي عن ابن عباس وقتادة والربيع وابن إسحاق. ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 55 - 57، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 511، "تفسير الثعلبي" 2/ 1553، "الدر المنثور" 1/ 593. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 58. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) ينظر: الطبري في "تفسيره" 3/ 59. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 55 - 57، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 511 - 512، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1554 - 1555. (¬7) ينظر في الإعراب: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 139، "التبيان" ص 158، "البحر=

261

وفي سعيها إلى إبراهيم دليل صحة إقدامها، وعود عظامها إلى مفاصلها، ولو طارت إليه لم يكن في طيرانها هذه الدلالة (¬1) {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يمتنع عليه ما يريد (¬2) {حَكِيمٌ} فيما يدبر ويفعل. 261 - وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية. قال أهل المعاني: هذه الآية متصلة بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245] وما بين الآيتين من الآيات اعتراض بالاستدعاء إلى الحق بالحجج والعبر التي ذكرها. وقال الزجاج: لما قصَّ الله عز وجل ما فيه الدلالة على توحيده، وما أتاه الرسل من البينات، حث على الجهاد، وأعْلَمَ أن من جاهد من كفر بعد هذا البرهان فله في جهاده ونفقته الثواب العظيم، وقد وعد الله في الحسنات أن فيها عشر أمثالها من الجزاء، ووعد في الجهاد أن الواحد يضاعف سبعمائة مرة، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} (¬3). ونظمُ الآية: مثلُ صدقاتِ الذين ينفقون (أموالهم في سبيل الله) (¬4)، أو مثلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله (¬5) كمثل زارعٍ ¬

_ = المحيط" 2/ 300 - 301، واستظهر الإعراب الثاني، وذكره عن الخليل: أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعيًا، فعلى هذا يكون مصدر الفعل محذوفًا وهو في موضع الحال من الكاف، وكان المعنى: يأتينك وأنت ساعٍ إليهن، أي: يكون منهن إتيان إليك ومنك سعي إليهن فتلتقي بهن. (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1555، "البحر المحيط" 2/ 300. (¬2) سقطت من (أ) و (م). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 346. (¬4) سقطت من (ي). (¬5) زيادة من (م).

262

حبةٍ، فحذف المضاف (¬1). فإن قيل: فهل رؤي سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها؟ قيل: قد يتصور ذلك وإن لم ير، وليس القصد في المثل تصوير سنبلة فيها مائة حبة، وإنما القصد التشبيه بمثل هذه السنبلة، على تقدير التصوير، لا على تحقيق التصوير، والعادة في الأمثال التي تضرب أن يشبه الشيء بما يجوز أن يتصور، وإن لم ير ذلك الشيء، وقد قيل: إنه رأى ذلك في سنبل الدُّخن، وقد قيل: المراد بقوله: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} (¬2) أنها إذا بذرت أنبتت مائة حبة، فقيل: فيها مائة حبة على هذا المعنى، كما يقال: في هذه الحبة حبّ كثير (¬3) {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} من أهل النفقة في طاعته {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} جواد لا ينقصه ما يتفضل به من السعة، (عليم) بمن ينفق (¬4). 262 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} إلى قوله {مَنًّا وَلَا أَذًى} المنّ في اللغة على وجوه: يكون بمعنى الإنعام، يقال: قد منَّ عليَّ فلان: إذا أَفْضَل وأَنْعَم، ولفلان عليّ منّة، أي: نعمة، أنشد ابن الأنباري: فمِنّي عَلَيْنَا بالسَّلامِ فَإِنَّما ... كلامُكِ ياقُوتٌ ودُرٌّ مُنَظَّمُ (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1558، "التبيان" ص 158، قال: وإنما قدر المحذوف لأن الذين ينفقون لا يشبهون بالحبة، بل إنفاقهم أو نفقتهم. "البحر المحيط" 2/ 303. (¬2) سقطت من (ي). (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 61، "تفسير السمعاني" 2/ 422، "تفسير الثعلبي" 2/ 1560، "تفسير البغوي" 1/ 325. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1560. (¬5) البيت أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 317 دون نسبة إلى قائل، وقال: ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري.

ومن النعمة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة (¬1) ". يريد: أنعم وأسمح بماله، ولم يرد المنة التي تهدم الصنيعة، والله تعالى يُوصَفُ بأنه مَنَّان، أي: منعم. قال أهل اللغة: المن: الإحسانُ إلى من لا يستثيبه، ولهذا يقال: الله تعالى منّان، لأن إحسانه إلى الخلق ليس لطلب ثواب، ومن هذا قوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} [ص: 39] وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثرَ مما أعطيت (¬2). والمنّ في اللغة أيضًا: النقص من الحق والبخس له، قال الله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] يقال: غير مقطوع، وغير منقوص، ومن هذا يسمى الموت: مَنُونًا؛ لأنه يُنْقِصُ الأَعْدَاد، ويقطع الأعمار (¬3). ومن هذا: المِنَّةُ المذمومة؛ لأنها تُنْقِصُ النعمة وتُكَدِّرُها، قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (466) كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر من المسجد، ومسلم (2382) كتاب: "فضائل الصحابة"، باب: من فضائل أبي بكر، والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له حديث رقم (15492). (¬2) في (ي): (أعطيتك). (¬3) ينظر في معاني المن: "تهذيب اللغة" 4/ 3459 - 3460 (مادة: منن)، "المفردات" 477، "لسان العرب" 7/ 4279، "عمدة الحفاظ" 4/ 131 - 132. وذكر الراغب أن المنة يراد بها: النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى. والثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ويقبح ذلك، قيل: المنة تهدم الصنيعة, ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: إذا كفرت النعمة حسنت=

الشاعر في المِنَّةِ المَذْمومة: أَنَلْتَ قليلًا ثم أسْرعَت مِنَّةً ... فَنَيْلُكَ مَمْنُون (¬1) لِذَاك قليلُ (¬2) فالمراد بالمن الذي في الآية: المنُّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة (¬3)، وذكرها الذي يكدرها. والعَرَبُ تتمدّح بترك المنِّ بالنعمة، قال قائلهم: زَادَ مَعْروفَكَ عِنْدِي عِظَمًا ... أنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حقيرْ تَتَنَاسَاهُ كأنْ لم تَأتِهِ ... وهو في العالم مَشْهورٌ كبيرْ (¬4). قال المفسرون: معنى المنّ المذكور في الآية: هو أن يقول: قد أحسنت إلى فلان، ونَعَشْتُه (¬5)، وجبرت حاله، وأعنته، يمنُّ بما فعل (¬6). والأذى: هو أن يذكر إحسانه لمن لا يحب الذي أحسن إليه وقوفه عليه، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيه (¬7). ¬

_ = المنة، وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} [الحجرات: 17] فالمنة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل وهو هدايته إياهم كما ذكر. (¬1) في (ش): (مذموم). (¬2) البيت أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 317 دون نسبة إلى قائل وقال: ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري. (¬3) في (ي): (في الصنعة). (¬4) البيتان من قول الخُرَيمي، نسبهما إليه في "عيون الأخبار" 3/ 160، و"دلائل الإعجاز" 1/ 360 وروايتهم، وعند الناس بدل في العالم. (¬5) في (م): (تعيشته). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1564 - 1566. (¬7) "تفسير الثعلبي" 2/ 1564.

263

263 - قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أي: كلام حسن، وردٌّ على السائل جميل، وقال عطاء: عدةٌ حسنة (¬1)، وفي الجملة: أنه قول معروف، تعرفه النفوس وتقبله ولا تنكره. {وَمَغْفِرَةٌ} أي: سَترٌ (¬2) لخلة السائل، قاله ابن جرير (¬3)، وقال عطاء والحسن (¬4): أي: تجاوز عن السائل، إذا استطال عليه عند رده، مثل ما يتجاوز عن أخيه إذا استطال عليه وعن زوجته وعن خادمه (¬5)، علم الله تعالى أن الفقير إذا ردّ بغير نوال شق عليه ذلك، فربما يدعوه ذلك إلى بذاءة اللسان، فأمر بالصفح والعفو عنه، وبين أن ذلك خير من صدقة يتبعها أذى، أي: مَنّ وتعيير للسائل بالسؤال (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} أي: عن صدقة العباد، وإنما دعاكم إليها ليُثِيبَكُم عليها (¬7). يقال: غَنِيَ عن الشيء يَغْنَى عنه غنى مقصور، فهو غانٍ عنه وغَنِيٌّ عنه (¬8)، والغِنَى: نقيضُ الحاجة (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 1/ 377، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1569 دون عزو. (¬2) سقطت من (ي). (¬3) "تفسير الطبري" 3/ 64. (¬4) لم أجده عنهما. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1570، دون عزو لأحد. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1570، "تفسير السمعاني" 2/ 425. (¬7) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1570 - 1571. (¬8) ليست في (ي) ولا (ش). (¬9) ينظر في غنى: "تهذيب اللغة" 3/ 3703، "المفردات" 368، "اللسان" 6/ 3308.

264

{حَلِيمٌ} إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته (¬1). 264 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} أراد: ثواب صدقاتكم وأجرها (¬2) {بِالْمَنِّ} هو أن تمن بما أعطيت وتعتد به، كأنك إنما تقصد به الاعتداد، وقال ابن عباس: {بِالْمَنِّ} على الله عز وجل (¬3). (والأذى) (¬4) هو أن يوبخ المعطَى. وقوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أخبر الله تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة، كما تبطل نفقة المنافق الذي إنما أعطى وهو لا يريد بذلك العطاء ما عند الله، إنما يريد (¬5) ليوهم أنه مؤمن (¬6). والرياء مصدر المُرَاءاة، يقال: رياء ومراءاة، مثل: راعيته رِعَاءً ومُرَاعَاةً، وهو أن ترائي غيرك بعملك (¬7). قال ابن عباس: يريد كالذي يتصدق لا يرجو لها ثوابًا، ولا يخاف من منعها عقابًا (¬8). وقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ} أي: مثل هذا المنافق المرائي {كَمَثَلِ ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1571. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1575. (¬3) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1575، والبغوي في "تفسيره" 1/ 326، والرازي 7/ 57. (¬4) سقطت من (ي). (¬5) في (ي) و (ش): (يعطي). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1575. (¬7) ينظر في الرياء: "تهذيب اللغة" 2/ 1326 (مادة: رأى)، "المفردات" 190، "اللسان" 3/ 1544 (مادة: رأى)، "عمدة الحفاظ" 2/ 62. (¬8) لعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة.

صَفْوَانٍ} (¬1)، وهو الحجر الأملس، ومثله: الصفا. أبو عبيد عن الأصمعي: الصَّفْواء أو (¬2) والصَّفْوان والصَّفَا مقصور كلُّه واحدٌ (¬3). والوابل: المطر الشديد، يقال: وَبَلَتِ السماءُ تَبِلُ وَبْلًا، وأرض مَوْبُولَةٌ: أصابها وابل (¬4). والصَّلْد: الأملسُ اليابس، يقال: حَجَرٌ صلْدُ، وجبين صلْدٌ: إذا كان براقًا أملس، وأرض صلد: لا تنبت شيئًا كالحجر الصلد، قال تأبط شرًا (¬5) في الحَجَر: ولَسْتُ بِجُلْبٍ جُلْبِ ريحٍ وقِرةٍ ... ولا بصَفًا صلْدٍ عَن الخَيْرِ مَعْزِل (¬6) وقال رؤبة في الجبين: ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1575. (¬2) كتبت في (م): (الصفو والصفوان)، وفي بقية النسخ (الصفوا والصفوان). (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 2022 (مادة: صفا)، وينظر في المادة نفسها: "المفردات" 286 - 287، "اللسان" 4/ 2468 - 2469. (¬4) ينظر في وبل: "تهذيب اللغة" 4/ 3829، "المفردات" 526، "اللسان" 8/ 4755 (مادة: وبل). (¬5) ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي أبو زهير، من شعراء الصعاليك، وأحد لصوص العرب المغيرين، اشتهر بسرعة العدو حتى إن الخيل لا تلحقه، وسمي تأبط شرًّا؛ لأنه تأبط سيفا وخرج، فقيل لأمه: أين هو؟ فقالت: تأبط شرا وخرج، وقيل غير ذلك. ينظر "الشعر والشعراء" 1/ 93، "وسمط اللالي" 1/ 158. (¬6) البيت في "ديوانه" 174، وفي "تفسير الطبري" 3/ 66، "تفسير الثعلبي" 2/ 1577، "لسان العرب" 5/ 2930 (عزل) والجلب: هو السحاب المعترض، تراه كأنه جبل، والمعنى: لست برجل لا نفع فيه، ومع ذلك فيه أذى كالسحاب الذي فيه ريح وقِرٌّ، ولا مطر فيه. ينظر "لسان العرب" 2/ 649 (جلب).

برّاق أصلادِ الجبينِ الأَجْلَهِ (¬1) وقال بعض بني أسد في الأرض الصلدة: وإنِّي لأرجو الوَصْلَ منكِ كَما رَجَا ... صَدَى الجَوْفِ (¬2) مُرْتَادًا كداه صُلود (¬3) جمعُ صَلْد، وأصله من قولهم: صَلَدَ الزَّنْدُ وأصلد (¬4): إذا لم يوْرِ نارًا (¬5). وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق وعمل المنّان الموذي، يعنى: أن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالًا كما يُرى التُرابُ على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل؛ لأنه لم يكن لله، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب، فلا يقدر أحد (من الخلق) (¬6) على ذلك التراب الذي أزاله المطر عن الصفا، كذلك هؤلاء في العمل الذي حبط، إذا قدموا على ربهم لم يجدوا شيئًا (¬7)، فهو قوله: {لَا ¬

_ (¬1) الرجز لرؤبة، وقبله كما في "الأراجيز" ص 165: لما رأتني خلق المُمَوهِ. وذكره في "تهذيب اللغة" 12/ 142، "اللسان" 4/ 2481 مادة: صلد، وخلق المموه: يعنىِ: قد بلي شبابي وأخلق، وأصلاد الجبين: يعني: أن جبينه قد زال شعره، والأجله: الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جهته. "حاشية تفسير الطبري" 3/ 66. (¬2) في (ش): (الخوف). (¬3) ورد البيت غير منسوب في "ديوان الحماسة" 2/ 165. (¬4) سقطت من (ي). (¬5) ينظر في صلد: "تهذيب اللغة" 2/ 2042، "المفردات" 289، "اللسان" 4/ 2481. (¬6) سقطت من (ي). (¬7) "تفسير الثعلبي" 2/ 1578.

265

يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} أي: على ثواب شيء (¬1) {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} قال أبو إسحاق: أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين، وقيل: لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم (¬2). 265 - قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية. هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن ينفق، يريد ما عند الله ولا يمن ولا يؤذي، وقوله (¬3): {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} أي: مثل نفقتهم أو إنفاقهم، فحذف المضاف كقولهم: يا خيل الله اركبي (¬4). وقوله تعالى: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال الزجاج: أي: وينفقونها مقرين بأنها مما يثيب الله عليها (¬5). فعلى هذا يكون المعنى: وتثبيتًا من أنفسهم لثوابها، يعني: أنهم أيقنوا أن الله يثيب عليها فيثبتوا (¬6) ذلك الثواب، بخلاف المنافق فإنه ينفق رياء (¬7) ولا يحتسب، ولا يؤمن بالثواب، وعلى هذا المعنى دارت أقوال المفسرين. فقال السدي (¬8) وأبو صالح (¬9) وابن زيد (¬10): يقينًا. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 347. (¬3) في (ي): (فقوله). (¬4) ينظر في إعراب الآية: ما تقدم في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ}. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 347. (¬6) في (ش) و (ي): (فثبتوا). (¬7) في (ش): (رياء الناس). (¬8) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 520، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1585، وابن الجوزية في "زاد المسير" 1/ 319. (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 69. (¬10) ذكره في "النكت والعيون" 1/ 339، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1585، وفي "الوسيط" 1/ 379.

وقال الشعبي (¬1) والكلبي (¬2): يعني: تصديقًا من أنفسهم، يعلمون أن ما أَخْرجوا خيرٌ لهم مما تركوا. وقال بعضهم: التثبيت، هاهنا، بمعنى: التثبت، وهو مذهب عطاء ومجاهد والحسن، قال عطاء (¬3) ومجاهد (¬4): يتثبت في صدقته، فيضعها في أهل الصلاح والعفاف، فهذا تثبت في طلب من يصرف إليه المال. وقال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان لله أمضى، وإن خالطه شك أمسك (¬5). وإنما جاز أن يكون التثبيت بمعنى التثبت؛ لأنهم ثبتوا أنفسهم تثبيتًا في طلب المستحق، وصرف المال في وجهه، فكانوا متثبتين، كما أن من صرف نفسه عن شيء فهو منصرف، وصح أن يقال: انصرف عنه، كذلك هؤلاء لما ثبتوا أنفسهم جاز أن يقال: تثبتوا (¬6). وقوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} (¬7) الرَّبْوة: ما ارتفع من ¬

_ (¬1) رواه ابن زنجويه في "الأموال" 3/ 1220، والطبري في "تفسيره" 2/ 69، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 519، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1585، والبغوي في "تفسيره" 1/ 328. (¬2) ذكره أبو المظفر السمعاني 2/ 428، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1585، والبغوي في "تفسيره" 1/ 328، والواحدي في "الوسيط" 1/ 379. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1586، والبغوي في "تفسيره" 1/ 328، والرازي 7/ 60. (¬4) رواه ابن زنجويه في "الأموال" 3/ 1220، والطبري في "تفسيره" 2/ 69، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 520. (¬5) رواه ابن زنجويه في "الأموال" 3/ 1221، والطبري في "تفسيره" 2/ 70، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 520 بمعناه. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1586. (¬7) قرأ عاصم وابن عامر (برَبوة) بفتح الراء، وقرأ الباقون بضم الراء. ينظر "السبعة" 190.

الأرض، وفيها لغات: رُبْوة ورَبْوة ورِبْوة ورَباوة ورِباوَةٌ ورُباوة (¬1). قال الأخفش والذي نختاره: رُبْوَةٌ بالضم (¬2)، لأنك لا تكاد تسمع في جمعها غير الرُّبَى، وأصلها من قولهم: رَبَا الشيء يَرْبُو: إذا زاد وارتفع، ولهذا يقال لها: الرَّابِيَة؛ لأن أجزاءها ارتفعت عن صفحة المكان الذي هي بها (¬3)، ومن هذا يقال: أصابه رَبْوٌ: إذا أصابه نفسٌ في جوفه لزيادة النفس على عادته، ومن هذا أيضًا: الربا في المال؛ لأنه معاملة على أن يأخذ أكثر مما يُعطي، وإنما خصت الجنة بأنها على ربوة؛ لأن الموضع المرتفع من الأرض إذا كان له ما يُرَوِّيْهِ من الماء فهو أكثرُ ريعًا من المستفل، ونَبْتُه يكونُ أحسن، وأنضر ما تكون الجنان والرياض على الرُّبى، قال الأعشى: ما رَوْضَةٌ (مِنْ رِياضِ) (¬4) الحَزْنِ (¬5) مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ فخص رياض الحزن (¬6) لما ذكرنا (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "مجاز القرآن" 1/ 83، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 184، "غريب القرآن" ص 87، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 348، "الحجة" 2/ 385. (¬2) نقله عنه في "الحجة" 2/ 385، "المفردات" ص193. (¬3) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 386. (¬4) سقطت من (ش). (¬5) في (م) و (ي): (الحسن)، وفي (ش): (الحي). (¬6) في (م): (الحسن)، وفي (ش): (الجون). (¬7) البيت في "ديوانه" ص 145، "لسان العرب" 1/ 428 (مادة: ترع)، "تهذيب اللغة" 1/ 435، وينظر: "المعجم المفصل" 6/ 240. (¬8) ينظر في ربو: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 348، "تهذيب اللغة" 2/ 1334، "المفردات" 193، "اللسان" 3/ 1573.

وقوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} وهو أشد المطر. {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} الأُكُل: ما يؤكل، قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] أي: ثمرتها وما يؤكل منها، فالأُكُلُ في المعنى مثل الطُعمة، تقول: جعلته أُكْلًا له، كما تقول جعلته له (¬1) طُعمة (¬2). وأنشد الأخفش: فما أُكْلَةٌ إن نِلْتُها بغَنِيمَة ... ولا جَوْعةٌ إن جُعْتُها بغَرام (¬3) وقال أبو زيد: يقال: إنه (¬4) لذو أكل: إذا كان له (¬5) حظّ من الدنيا (¬6). والضمُّ والتخفيف في الكاف لغتان (¬7)، ويجمع على الآكال (¬8). قال المفسرون: الأُكل: المراد به الثمر. وقوله تعالى: {ضِعْفَيْنِ} قال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين (¬9). ¬

_ (¬1) (له) سقطت من (م). (¬2) من "الحجة" 2/ 394 - 395 بتصرف. (¬3) ورد البيت في "تفسير الطبري" 5/ 538، ونسبه محققه إلى أبي مضرس النهدي، ينظر: "تفسير الطبري" 5/ 538، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 395. (¬4) في (ي) (له). (¬5) في (ي) (ذو). (¬6) نقله عنه في "الحجة" 2/ 395. (¬7) وفي الآية قراءتان على اللغتين: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع بسكون الكاف، وقرأ الباقون بضمها. ينظر: "السبعة" ص 190، "الحجة" 2/ 394. (¬8) ينظر في أكل: "تهذيب اللغة"1/ 176 - 177، "الحجة" 2/ 294 - 295، "المفردات" ص 29، "اللسان" 1/ 100 - 103. (¬9) ذكره عن عطاء: الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1590، والبغوي في "تفسيره" 1/ 328، وفي "الوسيط" 1/ 379، وفي بعض نسخ الثعلبي في "تفسيره": سنين بدل سنتين.

وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي: فالذي يُصِيبها طَلٌّ، وهو المطر اللِّينُ الصغارُ القَطْر، يقال: طَلَّت السماء تَطُلُّ طَلًّا فهي طَلَّة، وطُلَّتِ الأرض فهي مَطْلُولة، وروضة طَلَّةٌ نَدِيَّة، وتقول العرب في الدعاء: رحُبَت عليك الأرض وطُلَّت، بضم الطاء، ومن نصب الطاء أراد: وطَلَّت عليك السماء (¬1). فإن قيل: كيف قيل فيما مضى {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قيل: فيه إضمار المعنى: فإن يكن لم يصبها وابل فطل، ومثله من الكلام: قد أعتقت عبدين، فإن لم أعتق اثنين فواحدًا بقيمتهما، المعنى: إن أكن لم أعتق، قاله الفراء (¬2). وتم المعنى عند قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} ثم زاد تأكيدًا وزيادة معنى فقال: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} وأصابها طلٌّ فتلك حالها في الثراء وتضاعف الثمرة لا ينقص بالطل عن مقدارها بالوابل، وفي الكلام إضمار لا يتم المعنى إلا به، كأنه قيل: فإن لم يصبها وابل وأصابها طل فتلك حالها، فحذف لأن الباقي يدل عليه، تقول: كما أن هذه الجنة تثمر في كل حال ولا يخيب صاحبها، قلّ المطر أو كثر، كذلك يضعف (¬3) الله عز وجل ثواب صدقة المؤمن المخلص، سواء قلت نفقته وصدقته أم (¬4) كثرت (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر في طلل: "معاني القران" للزجاج 1/ 348، "تهذيب اللغة" 3/ 2212، "المفردات" ص309، "اللسان" 5/ 2696 - 2698. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 178، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 312. (¬3) في (ش): (يضاعف). (¬4) في (م): (أو). (¬5) الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1592، "البحر المحيط" 2/ 313.

266

266 - قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية. الأكثرون من المفسرين على أن هذه الآية راجعة في المعنى إلى قوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وأن هذا تقريرُ مثلٍ للمراء في النفقة (¬1) (¬2)، وقال مجاهد: هذا مثل للمفرط في طاعة الله، المشتغل بملاذ الدنيا، يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى (¬3). وقال ابن عباس: هو مثل الذي يختم عمله بفساد، وكان يعمل عملًا صالحًا، فهو مثل للجنة المذكورة في الآية، ثم يبعث الله له الشيطان فيسيء في آخر عمره، ويتمادى في الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار مثلصا لإساءته التي مات عليها (¬4). وقوله تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} عطف بماض على مستقبل، قال الفراء: وذلك يجوز (¬5) في يود؛ لأنها تتلقى مرّة بأن ومرة بلو، فجاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر لاتفاق المعنى، كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة، وذلك أن (لو) و (أن) مضارعتان في المعنى، فتجاب أن بجواب لو، ولو بجواب أن، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] المعنى: وإن أعجبتكم، وقال: {وَلَئِنْ ¬

_ (¬1) في (م): (بالنفقة). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1593. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 75، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 522. (¬4) رواه البخاري (4538) كتاب: التفسير، باب: قوله: (أيود أحدكم أن تكون له جنة)، والثوري في "تفسيره" 72، وابن المبارك في "الزهد" 546، والطبري في "تفسيره" 3/ 76، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 523. (¬5) في (ي): (ويجوز ذلك).

أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} [الروم: 51]، فأجيبت لئن بإجابة لو، وقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] معناه: ودوا أن تدهن (¬1). والإعصار: ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود، وهي التي يسميها الناس الزوْبَعة، وهي ريح شديدة، ومنه: إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارًا (¬2) وقال ابن الأعرابي: يقال: إعصار وعِصَار، وهو أن يهيجَ الريحُ الترابَ (¬3). قال المفسرون: مثلُهم كمثلِ رجلٍ كانت له جَنَّةٌ فيها من كلِّ الثمرات، وأصابه الكِبَرُ فَضعُفَ عن الكسب، وله أطفال لا يجدون عليه، ولا ينفعونه، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، ففقدها أَحوَج (¬4) ما كان إليها، عند كبر السن، وضعف الحيلة، وكثرة العيال، وطفولة الولد، وضعف عن إصلاحها لكبره، وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده، ولا أولاده ما يعودون به على أبيهم، فبقي هو وأولاده فقراء عجزة متحيرين، لا يقدرون على حيلة، كذلك يبطل الله عمل المنافق والمرائي، حين لا مُسْتَعْتب لهما، ولا توبة، ولا إقالة من ذنوبهما (¬5). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ} أي: كمثل بيان هذه الأقاصيص ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 175، "تفسير الثعلبي" 2/ 1593 - 1594. (¬2) مثل عربي في "تهذيب اللغة" 3/ 2459 (مادة: عصر). وينظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 349. ويضرب مثلًا للرجل يلقى قِرْنَه في النجدة والبسالة. (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2459 (مادة: عصر)، وعبارته: أن تهيج الريح التراب فترفعه. وينظر في إعصار: "المفردات" ص 339 - 340، "اللسان" 5/ 2970 (مادة: عصر). (¬4) في (م): (فأحوج). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1596.

267

التي ذكرها، من قصة الذي يمر على قرية، وقصة إبراهيم، {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ}، أي: العلامات والدلالات التي تحتاجون إليها في أمر توحيده. 267 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعنى: الجيادَ (¬1) الخِيارَ (¬2)، وقيل: يعنى: الحلالاتِ (¬3) مما كسبه الإنسان بالتجارة والصناعة من الذهب والفضة. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} يعنى: الحبوب مما يجب فيه الزكاة. {وَلَا تَيَمَّمُوا} التَّيَمُّم: القَصْد والتَّعَمُّد، يقال: أمَمْتُه وتَيَمَّمْتُه وَتَأمَّمْتُه ويَمَّمْتُهُ، كله بمعنى: قصدته، قال الأعشى: تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وكَمْ دُونَه ... من الأرضِ من مَهْمَهٍ ذي شَزَن (¬4) وقال آخر: رَمَى بصُدُورِ العِيسِ مُنْخَرقَ الصَّبا ... فلم يَدْرِ شَخْصٌ بعدها أين يَمَّمَا (¬5) أي: أين قَصَد، ويقال أيضًا: يممته الشيء، قال: ¬

_ (¬1) ليست في (ش) ولا (ي). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1598. (¬3) روي عن ابن مسعود ومجاهد. ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1598، والبغوي في "تفسيره" 1/ 329. (¬4) البيت في "ديوانه" ص207، "تفسير الطبري" 3/ 82، "تهذيب اللغة" 1/ 207، "تفسير الثعلبي" 2/ 1619، "اللسان" 1/ 132 (مادة: أمم) من قصيدة يمدح بها قيس بن معدي كرب، ومعنى: ذي شزن: غليظ، يصفُ وُعُورَةَ الطريق الذي يسلكه ليصل منه إلى ممدوحه، انظر: "زاد المسير" 1/ 322. وضبطت (شَزَن) بالفتح على الشين والزاي في "تهذيب اللغة" "اللسان" وبضمها في نسخة (أ). (¬5) أورده صاحب (ديوان الحماسة) 1/ 404 دون أن ينسبه.

يَمَّمْتُه الرُّمْحَ شَزْرًا ثم قلتُ له ... هَذِي المروة لا لعب الزحاليق (¬1) (¬2) وقراءة العامة: {وَلَا تَيَمَّمُوا} مخففة التاء، على حذف إحدى التاءين، وقرأ ابن كثير مشددة التاء على الإدغام (¬3). قال أبو علي: والإدغام في هذا ينبغي أن لا يجوز؛ لأن المدغم يسكن، وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به، كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو: ادّارأتم، وازينت، واطّيّر، وهمزة الوصل لا تدخل على المضارع، ألا ترى أن من قال في يترّس: اترس، لا يقول في المضارع: اتّرسون، بمعنى: تتترسون، ولا ايفكرون، في تتفكرون (¬4)، وهذا يلزم أن يقوله من قال: ولا تيمّموا مشدّدة التاء، وفي {يَمِينِكَ تَلْقَفْ} [طه: 69] ولا تدخل همزة الوصل على المضارع، قال أبو علي: وسألت أحمد بن موسى: كيف يبتدئ من أدغم؟ فقال كلامًا معناه: إنه يصير إذا ابتدأ إلى قول من خَفّف ويدعُ الإدغام. وأما التاء المحذوفة على قراءة العامة فقال هشام: هي الأولى من التائين، والفراء يقول: أيهما شئت أسقطت لنيابة الباقية عنها، وسيبويه لا يسقط إلا الثانية. ¬

_ (¬1) البيت لعامر بن مالك مُلاعِبُ الأَسِنّة في "لسان العرب" 3/ 1819 (مادة: زحلق)، 1/ 132 (مادة: أمم) وروايته: صدرًا بدل: شزرًا. "ومجمل اللغة" 4/ 560، "مقاييس اللغة" 1/ 31. (¬2) ينظر في أمم: "تهذيب اللغة" 1/ 207، "المفردات" ص 32 - 33، "اللسان" 1/ 132. (¬3) ينظر "المبسوط في القراءات العشر" ص 135،"حجة القراءات" لابن زنجلة ص146، "النشر في القراءات العشر" 2/ 232. (¬4) في (م): (يتفكرون).

قال ابن عباس جاء رجل ذات يوم بعذق حَشَف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما صنع صاحب هذا" فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقال علي بن أبي طالب (¬2). والحسن (¬3) ومجاهد (¬4): كانوا يتصدقون بشرار في ثمارهم ورُذَالة أموالهم، فأنزل الله هذه الآية (¬5) {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}. ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1623، وفي إسناده صالح بن محمد، والسدي الصغير، والكلبي، وهذا السند يسمى: سلسلة الكذب، وأورد نحوه مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 222 وأبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 231، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 526 من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: وإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون، فأنزل الله على نبيه الآية، وروى أبو داود (1608) كتاب: الزكاة، باب: فلا يجوز في الثمرة من الصدقة، والنسائي 5/ 43 كتاب: الزكاة، باب زكاة الثمر، وابن ماجه (1821) كتاب: الزكاة، باب النهي أن يخرج من الصدقة شر ماله، والإمام أحمد 6/ 23، والحاكم 2/ 313، وصححه عن عوف بن مالك قال: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل منا حشفه، فطعن بالعصا في ذلك القنو، وقال: "لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها" الحديث، وليس فيه أن القصة كانت سبب نزول الآية. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 84 بمعناه، وذكره في "تفسير الثعلبي" 2/ 1623، "النكت والعيون" 1/ 343. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 83، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1623، والبغوي في "تفسيره" 1/ 333. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 83، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1623، والبغوي في "تفسيره" 1/ 333، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 611 إلى سفيان بن عيينة والفريابي، وعزاه الحافظ في "العجاب" 1/ 626 إلى عبد بن حميد. (¬5) من قوله: (وقال علي). ساقط من (ي).

يعني: الرديء من أموالكم (¬1). وقوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال الفراء: (أن) هاهنا في مذهب جزاء، يدلك عليه: أن المعنى: إن أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه، وإنما فتحتها لأن إلا وقعت عليها، وهي في موضعِ خفضٍ، وإذا رأيت (أن) في الجزاء قد أصابها معنى خفض أو نصب أو رفع، انفتحت فهذا من ذلك، والمعنى، والله أعلم: ولستم بآخذيه إلا على الإغماض، أو بإغماض، وعن إغماض. قال: ومثله: قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} [البقرة: 229] {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] (¬2). وأنكر المبرد ذلك، وقال: (أن) إذا كانت مع الفعل بمعنى المصدر كانت مفتوحة أبدًا على كل حال، وذلك نحو: أن تأتينى خير لك. والمعنى في الآية: ولستم بآخذيه إلا بإغماضكم فيه (¬3). والإغْمَاضُ في اللغة: غَضُّ البصر (¬4)، وإطباق جَفْنٍ على جَفْنٍ، قال رؤْبة: أَرَّقَ عَيْنِي عن الإِغْمَاضِ ... بَرْقٌ سَرَى في عَارِضٍ نهّاض (¬5) وأصله من الغموض، وهو الخفاء، غمُض الشيء يَغْمُضُ غُموضًا، والإغْمَاضُ والغَمْضُ (¬6): إطباق الجفن؛ لأنه إِخْفَاءُ العين، والغَمْضُ: ¬

_ (¬1) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1623. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 178 بمعناه. (¬3) نقله عنه في "البحر المحيط" 2/ 318. (¬4) في (ي): (الطرف). (¬5) البيت في "ديوانه" ص 81، وكذا في "تفسير الثعلبي" 1/ 1625، وفي "اللسان" 6/ 3299 (مادة: غمض)، وروايته: أرَّق عينيك عن الغماض. (¬6) في (ش) و (ي): (والتغميض).

المتطامن الخفي من الأرض (¬1). والمراد بالإغماض في الآية: التجويزُ والمساهلة، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما يكره أَغْمَضَ عينه لئلا يرى ذلك، ثم كثر ذلك حتى جُعِلَ كلُّ تجاوز ومساهلة في البيع وغيره (¬2) إغماضًا (¬3). قال الطِّرِمَّاح في الإغماض بمعنى (¬4) المساهلة: لم يَفُتْنا بالوِتْرِ قومٌ وللضيمِ ... رجالٌ يَرْضَونَ بالإِغْمَاضِ (¬5) ويقال من هذا: اغمض لي في البياعة، أي: زدني لمكان ردائته، أو حُط لي من ثمنه (¬6)، ومعنى قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يقول: أنتم (¬7) لا تأخذونه إلا بِوَكْسٍ، فكيف تُعْطُونَه في الصَّدَقَةِ (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر في غمض: "تهذيب اللغة" 3/ 2697، "المفردات" 367، "اللسان" 6/ 3299، وقال في "القاموس" 649: الغامض: المطمئن من الأرض، ج: غوامض، كالغمض، ج: غموض، وأغماض، وقد غمض المكان غموضا، وككرم: غموضة وغماضة، والرجل الفاتر عن الحملة، وخلاف الواضح من الكلام، وقد غمض ككرم ونصر: غموضة، والخامل: الذليل، والحسب الغير المعروف. (¬2) سقطت من (ي). (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1625، "تهذيب اللغة" 3/ 2697، "المفردات" ص 367 (مادة: غمض). (¬4) في (م): (يغض). (¬5) البيت في "ديوانه" ص 170. وفي "تفسير الطبري" 3/ 84، والوِتْر: الثأر؛ وبالإغماض: أي الإغماض على الضيم، والتساهل فيه. (¬6) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2697 (مادة: غمض). (¬7) سقطت من (ي). (¬8) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2697 (مادة: غمض).

قال ابن عباس في رواية العوفي: لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن بعض حقه وتساهل فيه (¬1). وقال في رواية الوالبي: ولستم بآخذي هذا الرديء بحساب الجيد حتى تحطوا من الثمن (¬2)، وبه قال الحسن (¬3) وقتادة (¬4)، وهذا القول يحمل على الإغماض إذا كان متعديًا إلى آخر، كما تقول: أغمضت بصر الميت وغَمَّضْتُه، كان المعنى: ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع، يعني: أمرتموه بالإغماضِ والحطِّ من الثمن، فيكون المفعولُ محذوفًا في (¬5) هذا (¬6)، يدل على هذا المعنى: قراءة أبي مجلز {تُغْمِضُوا} فيه بضم التاء وفتح الميم (¬7) يعني: إلا أن يُهضم لكم. قال صاحب "النظم": اختلف في نظم هذه الآية فريقان: أحدهما: زعم أن انتهاء الفصل الأول إلى قوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} ثم ابتدأ خبرًا آخر في وصف الخبيث، فقال: (تنفقون منه) أي: من ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 84، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 528. (¬2) المصدرين السابقين. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 85، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 529، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1626، والبغوي في "تفسيره" 1/ 333. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 85، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1626، والبغوي في "تفسيره" 1/ 333. (¬5) في (ي): (على). (¬6) ينظر: "التبيان" ص 162، "البحر المحيط" 2/ 318. (¬7) "تفسير الثعلبي" 2/ 1625، وعزاها في "المحتسب" 1/ 139، و"البحر المحيط" 2/ 319 إلى قتادة.

268

الخبيث تنفقون، ولا تأخذون منه إلا إذا أغمضتم، أي: ساهلتم. وقوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} الآخذون وصف وضع موضع الفعل، والمراد: لا تأخذون، كقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] أي: أم صَمَتُّم، فيكون تأويل هذا الفصل: تنفقون منه ولا تأخذونه إذا وجب لكم إلا بالإغماض. الفريق الثاني: أن انتهاء الفصل: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}، فيكون (الذي) مضمرًا، كأنه قيل: ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه، ولستم بآخذيه إلا بالإغماض (¬1)، والعرب قد تضمر (الذي) كما ذكرنا في قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]. قال المفسرون: وفي هذه الآية بيان أن الفقراء شركاء رب المال في ماله، فإذا كان ماله جيدًا فهم شركاؤه في الجيد، والشريك لا يأخذ الرديء من الجيد، إلا بالتساهل (¬2). 268 - قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الفَقْرُ والفُقْرُ لغتان (¬3)، وهو الضعف بقلة الملك، وأصل الفقر في اللغة: كسر الفَقَار، يقال: رجل فَقِرٌ وفَقِير: إذا كان مكسور الفَقَار (¬4)، قال طرفة: إنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ (¬5) ¬

_ (¬1) سقطت هذه الجملة من (أ) و (م) و (ش). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 86، "تفسير الثعلبي" 2/ 1627. (¬3) قال الليث: والفُقر: لغة رديئة. ينظر "تهذيب اللغة" 3/ 2812 مادة (فقر). (¬4) ينظر في الفقر: "تهذيب اللغة" 3/ 2813، "تفسير الثعلبي" 2/ 1629، "المفردات" 385، "اللسان" 6/ 3444 مادة (فقر). (¬5) صدره: وإذا تلسُنني ألسُنها. البيت في "ديوانه" ص 60، وفي "تفسير الثعلبي" 2/ 1630، و"اللسان" 6/ 3445 =

وقال لبيد: رَفَعَ القَوَادِمَ كالفَقِيرِ الأعْزَلِ (¬1) ولم يسمع من الفقر الذي هو ضد الغنى: فِعْل، إنما يُقَال: أَفْقَرَه الله فافتقر (¬2). ومعنى الآية: أن الشيطان يُخَوِّفكم بالفقر، ويقول (¬3) للرجل: أمسك مالك، فإنك (¬4) أن تصدقت افتقرتَ (¬5). والفحشاء: البخلُ ومنعُ الزكاة في هذه الآية، وروي عن مقاتل (¬6) والكلبي (¬7): أن كل فحشاء في القرآن فهو الزنى إلا في هذه الآية. قال الأزهري: والعَرَبُ تسمي البخيلَ فاحشًا، وأنشد لطرفة: ¬

_ = (مادة: فقر). يقول الشاعر: إذا أخذتني بلسانها وفخرت علي، انتصرت لنفسي وقابلتها بمثل ذلك. والموهون: الضعيف. الفقر: الفقار، وهو كناية عن ضعف النفس واحتمال الذل. ينظر الديوان. (¬1) مطلع البيت: لما رأى لُبَدُ النُّسورَ تَطَايَرَتْ والبيت في "ديوانه" ص 126. "تهذيب اللغة" 3/ 2813 "اللسان" 6/ 3445 (مادة: فقر) والأعزل من الخيل: المائل الذَّنَب، والفقير: المكسور الفَقَار، يضرب مثلًا لكل ضعيف لا ينفُذُ في الأمور. (¬2) قال في "اللسان" 6/ 3444 مادة (فقر) وقال سيبويه: وقالوا افتقر كما قالوا: اشتد، ولم يقولوا: فقُر، كما لم يقولوا: شدد، ولا يستعمل بغير زيادة. (¬3) في (ي): (فإن كان). (¬4) في (ي): (فإن كان). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1630. (¬6) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1630، وليس في "تفسير مقاتل". (¬7) ذكره أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 231، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1630، والبغوي في "تفسيره" 1/ 333.

269

أرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطفي ... عَقِيلةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَدّدِ (¬1) (¬2) {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ} أن يجازيكم على صدقتكم {مَغْفِرَةً} لذنوبكم، وأن يخلف عليكم (¬3). 269 - قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} الآية. ابن عباس (¬4) وقتادة (¬5)، وأكثر المفسرين (¬6) على أن المراد بالحكمة هاهنا: علم القرآن، والفهم فيه، والفقه في الدين. وقال السدي: هي النبوة (¬7)، وقال مجاهد، في رواية ابن أبي نجيح (¬8): هي الإصابة في القول والفعل (¬9). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 34، و"لسان العرب" 4/ 2215 (مادة: شدد) 6/ 3356 (مادة: فحش) 5/ 3195 مادة: عيم. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2746، وينظر "المفردات" 375 - 376. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1630. (¬4) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 5، والطبري في "تفسيره" 3/ 89، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 53. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 109، والطبري 3/ 89، وذكره البغوي 1/ 334. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 89، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 531، "تفسير الثعلبي" 2/ 1631، "الدر المنثور" 2/ 66. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 91، وا بن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 532، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1631، والبغوي في "تفسيره" 1/ 334. (¬8) هو: أبو يسار عبد الله بن يسار بن أبي نجيح المكي الثقفي، مفسر، أخذ التفسير عن مجاهد وعطاء، من الرواة الثقات لكنه رمي بالقدر ولم يثبت عنه ذلك، توفي سنة 131هـ. ينظر: "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 258، "التقريب" ص 330 (3719). (¬9) في "تفسير مجاهد" 1/ 116، ورواه الدارمي في "السنن" 2/ 436، والطبري في "تفسيره" 3/ 90، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 532.

قال المفضل: جماع الحكمة ما يَرُدُّ إلى الصواب (¬1)، ومضى الكلام في الحكمة، ومعناها وأصلها في اللغة (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: ما يتعظ إلا ذوو العقول، وإنما قيل: للاتعاظ: تَذَكُّر؛ لأنه ما لم يتذكر آيات الله وأوامره ونواهيه لم يتعظ، وإنما يتعظ بذكر ما يزجُره عن الفساد، ويدعوه إلى الصلاح، وذكرنا تفسير الألباب فيما تقدم (¬3). قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} النذر: ما يلتزمه الإنسان لله بإيجابه على نفسه، يقال: نَذَر يَنذرُ وينذِر. قال جميل (¬4): فلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي ... وهَمُّوا بَقَتْلي يابُثَيْنُ لَقُونِي (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1635، وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 457: وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي، قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في عمل أو قول، وكتاب: الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس، وقال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 345: والصحيح: أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع. (¬2) ينظر ما تقدم [البقرة: 32] (¬3) ينظر ما تقدم عند الآية 179. (¬4) هو جميل بن عبد الله بن معمر العذري، تقدمت ترجمته الآية 248. (¬5) البيت في "ديوانه" ص 7، و"لسان العرب" 2/ 1007 (مادة: حمم)، والأغاني 8/ 99، و"شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 3/ 170، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 1/ 324، و"مختار الأغاني" 2/ 237 انظر: "المعجم المفصل" 8/ 244.

270

وأصله من الخوف، لأن الإنسان إنما يَعْقِدُ على نفسِهِ بالنذر خوفَ التقصير في الأمر المهم عنده (¬1). وهو في الشريعة على ضربين: مُفَسَّرٌ وغيرُ مُفَسَّرٍ. فالمفسر، مثل أن تقول: لله عليَّ عتقُ رقبة، ولله عليَّ حَجٌّ، وما أشبه هذا، فيلزمه الوفاء به لا يجزيه غير ذلك. وغيرُ المُفسَّر، أن يقول: نذرت لله أن لا أفعل كذا، ثم يفعله، أو يقول: لله عليّ نذر من غير تسمية، فيلزمه في ذلك كفارة يمين (¬2)؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر نذرًا وسَمَّى، فعليه ما سَمَّى، ومن نذر نذرًا ولم يُسَمِّ، فعليه كفارةُ يمين (¬3) ". والمفسرون حملوا الإنفاق في (¬4) هذه الآية على فرض الزكاة، والنذر على التطوع بالصدقة؛ لأن كل ما نوى الإنسان أن يتطوع به فهو نذر. 270 - وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} أي: يجازي عليه (¬5)، فدل بذكر العلم على تحقيق الجزاء، كما قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. وقوله تعالى: {يَعْلَمُهُ} ولم يقل: يعلمهما (¬6)؛ لأن الكناية عادت ¬

_ (¬1) ينظر: في (نذر) "تهذيب اللغة" 4/ 3546، "المفردات" ص 489، "اللسان" 7/ 4390، و"القاموس" ص 481. (¬2) ينظر: "تفسير القرطبي" 19/ 125. (¬3) أخرجه أبو داود (3322) كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر نذرًا لا يطيقه، وابن ماجه (2127) كتاب: الكفارات، باب: من نذر نذرًا ولم يسمه. (¬4) في (ي) و (ش): (من). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 352. (¬6) في (ي) و (ش): (يعلمهما).

271

إلى الآخر منهما (¬1)، كقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] هذا قول الأخفش (¬2). وقال غيره: الكناية عادت إلى ما في قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} لأنها اسم، كقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (¬3) [البقرة: 231]. وقوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وعيد لمن أنفق في غير الوجه الذي يجوز له، من ربا، أو معصية، أو من مال مغصوب مأخوذ من غير وجهه (¬4). والأنصار: جمع نصير، مثل: شريف وأشراف، وحبيب وأحباب (¬5)، يعني: لا أحد ينصرهم من عذاب الله. 271 - قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} الآية. فنعما نزلت لما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: صدقة السِّر أفضل أم صدقة (¬6) العلانيهَ؟ (¬7). والصدقة تطلق على الفرض والنفل، والزكاة لا تطلق إلا على الفرض. ¬

_ (¬1) في (ي): (منها). (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 186، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1639. (¬3) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 337، "تفسير الثعلبي" 2/ 1639، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 141، "البحر المحيط" 2/ 322، وذكر أن العطف إذا كان بأو كان الضمير مفردا؛ لأن المحكوم عليه هو أحدهما، وتارة يراعى الأول في الذكر، وتارة يراعى الثاني، وأما أن يأتي مطابقا لما قبله في التثنية والجمع فلا. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1640. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1640، وينظر في (نصر): "تهذيب اللغة" 4/ 3584، "المفردات" ص 497. (¬6) سقطت من (ي). (¬7) ذكره الثعلبي 2/ 1640، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 91، وابن=

قال الزجاجي: أصل (¬1) صدق على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال، من ذلك قولهم: رجل صَدْقُ النظر، وصدق اللقاء، وصَدَقُوهم القتال، وفلان صادق المودة، وهذا خَلٌّ صادق الحُموضة، وشيء صادق الحلاوة، وَصَدَقَ فلانٌ في خبره، إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحًا كاملًا، والصَّدِيقُ سُمِّي صَدِيْقًا لِصِدْقِهِ في المَوَدَّة، والصَّدَاقُ سمي صَدَاقًا لأن عقد النكاح به يتم ويَكْمُل، وسَمَّى الله تعالى الزكاةَ صَدَقَةً لأن المال بها يَصِحُّ ويكْمُل، فهي سبب لكمال المال ونماه، كما أن الزكاة سميت زكاة لأن بها تزكو الأموال وتنمى وتزداد بأن يبارك الله فيها (¬2). وقوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} فيه ثلاثة أوجه من القراءة (¬3): أحدها: كسر النون وجزم العين، وهو قراعةُ أبي عمروٍ، واختيار أبي عبيد، قال: لأنها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين قال لعمرو بن العاص (¬4): "نِعْمّا ¬

_ = الجوزي في "زاد المسير" 1/ 325، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 323، والحافظ في "العجاب" 1/ 627 عن الكلبي، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 384. عن ابن عباس. (¬1) ليست في (أ) و (م). (¬2) لم أجده فيما بين يدي من كتب الزجاجي، وينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1542، "المفردات" 280 - 282. (¬3) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون وكسر العين، وقرأ ورش وابن كثير وحفص ويعقوب بكسر النون والعين، وقرأ أبو جعفر بكسر النون وإسكان العين، واختلف عن قالون والبصري وشعبة، فروي عنهم وجهان: الأول: كسر النون واختلاس كسرة العين، وهذا هو الذي ذكره الشاطبي. والثاني: كسر النون وإسكان العين كقراءة أبي جعفر، واتفقوا على تشديد الميم. ينظر "السبعة" 190، "النشر" 2/ 335 - 336، "البدور الزاهرة" 55 - 56. (¬4) هو: عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سُعَيد القرشي السهمي، كان في =

بالمال الصالح للرجل الصالح" (¬1) هكذا روي في الحديث بسكون العين (¬2)، وهذه القراءة لا تستقيم عند النحويين؛ لما فيها من الجمع بين ساكنين، الأول منهما ليس بحرف مدّ ولين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين إذا كان أحدهما حرف مدّ ولين، نحو: دابّة وشابّة؛ لأن ما في الحرف من المد يصير عوضًا من الحركة (¬3). وأما ما ذكر أبو عبيد من أنها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الزجاج: لا أحسب أصحاب الحديث ضبطوا هذا، ولا هذه القراءة جائز عند النحويين البتة؛ لأن فيها الجمع بين ساكنين مع غير حرف من مد ولين (¬4). ومن احتج لأبي عمرو في هذه القراءة قال: لعله أخفى حركة العين، كأخْذِه بالإخفاء في نحو: بارئكم ويأمركم، فظن السامع الإخفاء إسكانًا، ¬

_ = الجاهلية من الأشداء على الإسلام، أسلم في هدنة الحديبية وأمَّرَه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم- على الجيش، كان من عظماء العربِ ودُهَاتهم، له فتوحاتٌ في الشام ومصر، توفي سنة 43 هـ. انظر: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد 2/ 911 "أسد الغابة" 3/ 244 - 248، "الأعلام" 5/ 79. (¬1) حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد 4/ 197 (17763)، (17764)، 4/ 202 (17802)، وأخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 93 - 94، وابن أبي شيبة 7/ 17 - 18، وأبو يعلى (7336)، وابن حبان (3210)، (3211)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (6056)، (6057). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 354، "علل القراءات" للأزهري 1/ 97، "تفسير الثعلبي" 2/ 1641 - 1642، "والنشر" 2/ 236. (¬3) من "الحجة" 2/ 396. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 354.

للطف ذلك في السمع وخفائه (¬1). وسمعت أبا الحسن القهندري رحمه الله يحتج لقراءة أبي عمرو، يقول: إنه لم يُبال الجمع بين ساكنين؛ لقوة العين، وخفاء سكون الميم عند الإدغام إذ اللسان ينبو (¬2) عن الحرف المدغم نبوة واحدة، ولا يظهر سكون المدغم (¬3). الوجه الثاني من القراءة في هذا الحرف: (فنِعِما هي) بكسر النون والعين، قالوا: كسر العين اتباعًا لكسرة الفاء، فرارًا من الجمع بين ساكنين، فأتبع العين الفاء في الكسرة، هذا قول أكثرهم، وقال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن تكون هذه القراءة ممن قال: نِعْم، فلما أدغم حرك العين، كما يقول {يَهْدِي} [يونس: 35]، يتحرك الهاء إذا أدغمت التاء في الدال، وأنكر قول من قال: إن العين كسرت اتباعا للفاء (¬4)، وقال: هذا لا يجوز في حرفين، وإنما جاز في يهدّي لأنه حرف واحد، ألا ترى أنه لا يجوز في قولك: هذا قرْم (¬5) مالك، أن تدغم الميم في الميم ويحرك الراء، ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 397. (¬2) في (أ): (بنوا). (¬3) قال في "النشر" 2/ 236: وحكى النحويون الكوفيون سماعا من العرب (شهر رمضان) مدغمًا، وحكى ذلك سيبويه في الشعر، وروى الوجهين جميعًا عنه الحافظ أبو عمرو الداني، ثم قال: والإسكان آثر، والإخفاء أقيس، قلت: والوجهان: صحيحان غير أن النص عنهم بالإسكان، ولا يعرف الاختلاس إلا من طريق المغاربة ومن تبعهم اهـ. (¬4) في (ي): النون مراده بالنون نون نعم والمراد فيما أثبتا الفاء أي فاء الفعل. (¬5) هكذا بالأصل مضبوطة، وفي "الحجة": (قدم) ولعله أصوب.

وكذلك: جسم ماجد، لا يجوز فيه الإدغام لما فيه من الجمع بين ساكنين، ولأنهما حرفان منفصلان، ولكن هذه القراءة على لغة من يقول في نعْم نِعِم. (¬1) وفي (نعم) أربع لغات: أحدها: نَعِم بفتح النون وكسر العين، وهو الأصل. والثاني: نِعِم بكسر النون والعين، أتبعوا الأول الثاني؛ لأن الكسرة أشبه بحروف الحلق. والثالث: نَعْمَ بفتح الأول وإسكان (¬2) الثاني، فعلوا ذلك أيضًا تخفيفًا، وهكذا القول في بئس، وقد مضى الكلام فيهما عند قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 90] بما فيه مقنع (¬3). قال سيبويه: أما قولُ بعضهم في القراءة {فَنِعِمَّا هِيَ} فَحَرَّك العين، فليس على لغة من يقول: نِعْمَ ما، فأسكن العين، ولكن على لغة من قال: نِعِم فحرك العين. وحدثنا أبو الخطاب (¬4): أنها لغة هُذيل (¬5)، ولو كان الذي قال: نعمّا، ممن يقول في الانفصال: نِعْمَ، لم يجز الإدغام على قوله، لما يلزم ¬

_ (¬1) "الحجة" 2/ 397 - 398. (¬2) في (م): (سكون). (¬3) لم يذكر في هذا الموضع اللغة الرابعة، وهي نِعْم، بكسر النون وإسكان العين، وينظر في لغاتها: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 354، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 141. (¬4) هو الأخفش الأكبر. (¬5) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 439 - 440.

من تحريك الساكن في المنفصل (¬1). الوجه الثالث من القراءة: (نَعِمّا هي) بفتح النون وكسر العين، ومن قرأ بهذه القراءة فقد جاء بالكلمة على أصلها، وهو نَعِمَ كما قال طرفة: نَعِمَ السَّاعُونَ في الأمْرِ المُبِرْ (¬2) ولا يجوز أن يكون ممن يقول: نَعْم قبل الإدغام، كما أن من قرأ: {نِعِمَّا} لا يكون ممنْ قال قبل الإدغام نِعْمَ، ولكن قارئ الوجه الثالث ممن يقول: نَعِم، فجاء بالكلمة على أصلها (¬3). فأما (ما) في قوله: {فَنِعِمَّا} قال أبو إسحاق: (ما) في تأويل الشيء، أي: نعم الشيء هي (¬4)، فعلى هذا (ما) تكون في محل الرفع. وقال أبو علي: الجيد في تمثيل هذا: أن يقال: (ما) في تأويل شيء؛ ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 398. (¬2) البيت في ديوان طرفة ص 58، وروايته: خالتي والنفس قُدما إنهم ... نعِم الساعون في القوم الشطُر وذكره أبو علي في "الحجة" 2/ 398، وكذا التبريزي في "شرح الحماسة" 2/ 85 برواية: ما أقلت قدماي إنهم ... نَعِم الساعون في الأمر المُبِر وعند سيبويه 4/ 440 برواية: ما أقلت قدم ناعلها ... نعم الساعون في الحي الشطر وقد استوفى الكلام على الشاهد: البغدادي في "خزانة الأدب" 4/ 101، والمُبِر: الغالب، من أبره يبره، إذا قهره بفعال أو غيره. ينظر: "اللسان" 1/ 252، 253 [برر]. (¬3) من "الحجة" 2/ 398 - 399. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 354.

لأن (ما) هنا: نكرة فتمثيله بالنكرة أبين، والدليل على أن (ما) نكرة هنا: أنها لا تخلو من أن تكون معرفة أو نكرة، فإن كانت معرفة فلا بُدّ لها من صلة، وليس هنا (ما) توصَل به (ما) (¬1)، ألا ترى أن الذي بعدها اسم مفردٌ، وهو هي، والاسم المفرد لا يكون صلة لـ (ما) (¬2)، وإذا كانت غير موصولة كانت منكورة، وإذا كانت منكورةً كانت منصوبةً، فـ (ما) في نعما بمنزلة سائر النكرات التي تنتصب في هذا الباب، فإن قلت: أرأيت (ما) إذا لم تكن موصولة هل تخلو من أن تكون موصوفة، وعلى هذا ما (¬3) يذهب إليه فيها لا تكون موصوفة أيضًا؛ لأنه ليس في هذا الكلام ما يصح أن يكون وصفًا لها؟ قلنا: لا تكون هنا موصوفة، كما لم تكن في التعجب في قولنا: ما أحسن زيدًا، موصوفةً ولا موصولة (¬4). والمعنى في قوله: {فَنِعِمَّا هِىَ} أن في نعم ضميرُ الفاعل، و (ما) في موضع نصب، وهي تفسير الفاعل المضمر قبل الذكر، والمخصوص بالمدح بقوله: (نعم) هو. (هي) في قوله: {فَنِعِمَّا هِىَ} والمعنى: إن تبدوا الصدقات فيكم (¬5) فنعم شيئًا إبداؤُها، وليس المعنى على أنه: إن تبدوا الصدقات فَنِعْمَ شيئًا الصدقات، إنما هو في الإظهار والإخفاء، وترجيح أحدهما على الآخر، وتعليمنا أيهما أصلحُ لنا وأفضلُ، فكما أن قوله: ¬

_ (¬1) سقطت من (ي). (¬2) في "الإغفال" (لها) والمعنى واحد. (¬3) (هذا) ليست في (أ) و (م) و (ش). (¬4) من "الإغفال" ص 547 - 550 بتصرف واختصار. (¬5) ليست في (م) ولا (ش) وكأنها تبدو في (أ) مكشوطًا عليها.

{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} المعنى فيه: فالإخفاءُ خيرٌ لكم، كذلك قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} المعنى فيه: فنعم شيئًا إبداؤها، فالإبداء هو المخصوص بالمدح، إلا أن المضاف الذي هو الإبداء حُذِفَ، وأقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه، فعلى هذا قوله: {هِيَ} في محل الرفع (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الإخفاء: نقيض الإظهار، والخِفَاء: الغِطَاء، والخفيّة: عَرِينُ الأسد، لأنه يَخْتَفِي فيها. والخوافي من الريش ما دون القوادم؛ لأنها تخفى بها (¬2). وقوله تعالى: {فَهُوَ} كناية عن الإخفاء، لأن الفعل يدل على المصدر، أي: الإخفاء خير لكم (¬3)، وإنما كان الإخفاء والله أعلم خيراً؛ لأنه أبعدُ من أن يشوب الصدقة مُراءاةٌ للناس، وتصنعٌ لهم، فتخلص لله سبحانه (¬4). فأما التفسير، فأكثر المفسرين على أن المراد بالصدقات في هذه الآية التطوّع لا الفرض؛ لأن القرض إظهاره أفضل من كتمانه، والتطوع كتمانه ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 399 بتصرف، وذكر الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان" 2/ 1640 أن (هي) في محل النصب، كما تقول: نعم رجلًا، فإذا عرفت رفعت فعلت: نعم الرجل زيد. (¬2) ينظر في خفي: "تهذيب اللغة" 1/ 1070، "المفردات" 159، "اللسان" 2/ 1216، "القاموس" 1280. (¬3) "الحجة" 2/ 399، "التبيان" ص163. (¬4) "الحجة" 2/ 399.

أفضل، لأنه أبعد من الرياء، كما تقول في الصلاة، فإن فرض الصلاة (¬1) تؤدى في الجماعة ظاهرًا، وهو أفضل، والتطوع كتمانه أفضل (¬2)، وهذا القول مرويٌّ عن ابن عباس (¬3). وقال بعضهم: المراد بالصدقات، هاهنا، القرض، وكان كتمانه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل، لأن المسلمين إذ ذاك لم تكن تسبق إليهم ظِنَّةٌ في منع الواجب، فأما اليوم والناس يسيئون الظن فإظهار الزكاة أحسن، أما التطوع فإخفاؤه أحسن، فإنه أدلّ على أنه يراد به الله وحده، وهذا اختيار الزجاج (¬4). وقال بعضهم: هذه الآية عامة في الصدقات والزكاة، والإخفاء في كل صدقة من زكاة وغيرها أفضل. وهذا قول الحسن (¬5) وقتادة (¬6). وقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} التكفير في اللغة: التغطية والستر، ورجل مُكَفَّرٌ في السلاح: مُغَطَّى فيه، ومنه، يقال: كفّر عن يمينه، أي: ستر ذَنْبَ الحِنْثِ بما بَذَلَ من الصدقة، والكَفَّارة الساترة لما ¬

_ (¬1) قوله: (فإن فرض الصلاة)، ساقطة من (أ) و (م). (¬2) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 93، "تفسير الثعلبي" 2/ 1650، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 236، "فتح الباري" 3/ 289. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 92، وفي "زاد المسير" 1/ 325 - 326. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 354. (¬5) ذكره في "زاد المسير" 1/ 326، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 345. (¬6) ذكره في "زاد المسير" 1/ 326، والواحدي في "الوسيط" 1/ 385، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 537. ورواه الطبري في "تفسيره" 3/ 92 بمعناه.

حصل من الذنب (¬1). والرفع (¬2) في (يكفر) من وجهين: أحدهما: أن يجعله خبرَ مبتدأ محذوف، تقديره: ونحن نكفر. والآخر: أن تستأنف الكلام وتقطعه مما قبله، ولا تجعل العاطف للإشراك، ولكن لعطف جملةٍ على جملةٍ، ومن هذا القبيل قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات:16 - 17] هو عطف جملة مستأنفة على معنى: نحن نفعل ذلك. ومن قرأ: (ونكفر) بالنون والجزم، فوجهه: أن يُحْمَلَ الكلام على موضع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وموضِعُه جَزْمٌ، ألا ترى أنه لو قال: وإن تخفوها تكن أعظم لأجركم، لجزم، فقد علمتَ أن قولَه: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في موضع جزم، ومثله في الحمل على الموضع: قراءة من قرأ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [الأعراف: 186]، بالجزم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ومن الحمل على المعنى قول أبي دؤادٍ: فَأَبْلُونِي بَلِيَّتَكُم لَعَلِّي ... أُصَالِحْكُم وأَسْتَدْرِجْ نَوِيَّا (¬3) ¬

_ (¬1) ينظر في (مادة: كفر): "تهذيب اللغة" 3160 - 3164، "المفردات" ص 435 - 438، "اللسان" 7/ 3897 - 3902. (¬2) قرأ نافع وحمزة والكسائي (ونكفر) بالنون وجزم الراء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة (ونكفر) بالنون ورفع الراء، وقرأ ابن عامر وحفص (ويكفر) بالياء والرفع. ينظر: "السبعة" ص 191، "الحجة" 2/ 399 - 400. (¬3) البيت من الوافر، وهو لأبي دؤاد الإيادي في "ديوانه" ص 350، "الحجة" 2/ 401، "الخصائص" 2/ 341، "سر صناعة الإعراب" 2/ 701، "شرح شواهد المغني" 2/ 839، "مغني اللبيب" 2/ 423 بلا نسبة. ينظر: "المعجم المفصل" 8/ 365.

واختلفوا في الياء والنون في (نكفّر) فمن قرأ بالياء، فلأن ما بعده على لفظ الإفراد، فيُكَفِّر أشبه بما بعده من الإفراد منه بالجمع، ومن قرأ بالنون على لفظ الجمع، فإنه أتى بلفظ الجمع، ثم أفرد بعد، كما أتى بلفظ الإفراد ثم جمع، في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. ثم قال: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} (¬1) [الإسراء: 1 - 2]. وقوله تعالى: {مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} أدخل (من) للتبعيض؛ ليكون العباد فيها على وجل ولا يتكلوا (¬2). وقال ابن الأنباري: (من) هاهنا توكيد للكلام، والتقدير: ويكفر عنكم سيئاتكم، فأكد (¬3) الكلام بمن كما قال: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد: 15]. وقال عطاء عن ابن عباس: (من) هاهنا صلة للكلام، يريد: جميع سيئاتكم (¬4). ¬

_ (¬1) "الحجة" 2/ 400 - 402. وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 355 - 356، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 338 - 339، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 141، "التبيان" ص163، "البحر المحيط" 2/ 325. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1649، "البحر المحيط" 2/ 326 قال: لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات. (¬3) في (م): (وأكد). (¬4) ينظر في إعراب الآية: "تفسير الطبري" 5/ 586، "تفسير الثعلبي" 2/ 1649، "المحرر الوجيز" 2/ 464، "التبيان" ص 163، "البحر المحيط" 1/ 326، وقد خطأ ابن عطية من قال إنها زائدة، وضعف قول من جعلها سببية وقدر (من أجل ذنوبكم).

272

272 - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآية. نزلت هذه الآية حين جاءت قُتيلة (¬1) أم أسماء بنت أبي بكر (¬2) إليها تسألها، وكذلك جَدّتها، وهما مشركتان (¬3)، أتتا أسماء تسألانها شيئًا، فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك، فأنزل الله في هذه الآية، وأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتصدق عليهما (¬4). والمعنى: ليس عليك هدى من خالفك فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها. وأراد بالهدى هاهنا: هدى التوفيق وخلق الهداية؛ لأنه كان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدى البيان والدعوة لجميع الخلق (¬5)، ¬

_ (¬1) قتيلة بنت عبد العزى بن سعد الحامرية القرشية، والدة أسماء بنت أبي بكر، ذكرها بعضهم في الصحابيات اللواتي تأخر إسلامهن، وقال أبو موسى: ليس في شيء من الروايات ذكر إسلامها، وقولها: راغبة، أي: في الصلة، وقال الحافظ ابن حجر: إن كانت عاشت إلى الفتح فالظاهر أنها أسلمت. ينظر "تجريد أسماء الصحابة" 2/ 297، "الإصابة" 8/ 169. (¬2) أسماء بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن عثمان التيمية القرشية، ذات النطاقين، أسلمت بعد سبعة عشر إنسانا، توفيت سنة 73 أو 74 بعد مقتل ابنها عبد الله بأيام، وقد عاشت مائة عام. ينظر: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3253، "الاستيعاب" 4/ 344. (¬3) في (ي) و (م): (مشتركان). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1655، والواحدي في "أسباب النزول" ص 90، والحافظ في "العجاب" 1/ 632 عن الكلبي، وذكره أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 233، ونحوه عند مقاتل في "تفسيره" 1/ 144، والقصة في الصحيحين، لكن دون ذكر لسبب النزول، رواها البخاري (2620) كتاب: الهبة، باب: الهدية للمشركين، ومسلم (1003) كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج. (¬5) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1658.

{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال ابن عباس: يريد: أولياءه (¬1). {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي: من مالٍ (¬2) وهو شرط وجوابه {فَلِأَنْفُسِكُمْ} (¬3). {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} ظاهره خبر، وتأويله نهي، أي: ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، فلما لم يجئ بلا وجاء بما صرفه عن وجه الجزم؛ لأن (ما) لا ينهى بها وإن كان جحدًا، وعادتهم في النهي أن يكون بـ لا، والخبرُ في النفي يأتي والمراد به النهي، كقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]. {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] وفي الإثبات يأتي والمراد به الأمر، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. وكقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] (¬4). وأجرى كثير من أهل المعاني هذا على ظاهر الخبر (¬5)، قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أنهم يريدون بنفقتهم ما عند الله عز وجل (¬6). وقال غيره: المراد بهذا نفي المنّ، يقول: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 1/ 387. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1659. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1659. (¬4) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1659 - 1660، "البحر المحيط" 327/ 2، "غرائب التفسير" 1/ 233. (¬5) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 327. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 355.

وَجْهِ اللَّهِ} فلا تَمُنُّوا به، إذ كان (¬1) ما تنفقون لأنفسكم من حيث هو ذخر لكم، ولابتغاء وجه الله الذي يُوفَّرُ به الجزاءُ لكم، فهو من كلِّ جهةٍ عائدٌ عليكم. وقال صاحب النظم: قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} حالٌ متوسط بين الجزاءِ والشرط، تأويله: وما تنفقوا من خير، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، أي: إذا أنفقتم على هذه الحال فلأنفسكم، كما تقول في الكلام: ما تفعل من خير، ولا تفعله إلا لله، فهو مقبولٌ منك. وقال بعضهم: القصد بقوله (¬2): {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} أن يُعَلِّمَهُم التعميمَ بالإنفاق والصِّلَة، يقول: أنتم ما تنفقون (¬3) أموالكم إلا ابتغاء وجه الله، فلا (¬4) يضركم أن تبتغوا وجه الله بالإنفاق على المشركين، مثاله: قولك لمن تنصحه (¬5): إن قصدك بالمعروف الثواب فلا تخصص به أولياءك دون أعدائك، فيستفاد من هذا تعليم التعميم، وتعليم كيفية القصد في الإعطاء. قال أهل العلم: وهذا في صدقة التطوع، أباح أن يتصدق على المليّ والذمي، فأما صدقة القرض فلا تجوز إلا للمسلمين (¬6). وفي ذكر الوجه في قوله: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قولان: ¬

_ (¬1) في (ي): (ما إذا كان). (¬2) في (ش): (تقوله). (¬3) من قوله: (وما تنفقون)، ساقط من (ش). (¬4) في (ي) و (ش): (لا). (¬5) في (ش): (نصحته). (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1660.

273

أحدهما: أن المراد منه تحقيق الإضافة؛ لأن ذكر الوجه يرفع الإبهام أنه له ولغيره، وذلك أنكَ لمَّا ذكرتَ الوجه ومعناه النفس، دل على أنك تصرِف الوهم عن الإشراك إلى تحقيق الاختصاص، فكنت بذلك محققًا للإضافة ومزيلًا لإبهام الشركة. القول الثاني: أنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد، كان أشرفَ في الذكر من: فعلتُه له، لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صارَ يدل على شرف الذكر في الصفة فقط من غير تحقيق وجه، ألا ترى أنك تقول: وجه الدليل كذا، وهذا وجه الرأي، ووجه الأمر، فلا تريد تحقيق الوجه، وإنما تريد أشرف ما فيه، من جهة شدةِ ظهورِهِ وحسن بيانه. وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: يوفِّر لكم جزاءه، قال ابن عباس: يريد: يجازيكم في الآخرة (¬1). وإنما حسن {إِلَيْكُمْ} مع التوفية؛ لأنها تضمنت معنى التأدية (¬2). {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئًا، كقوله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، يريد: لم تنقص (¬3) (¬4). 273 - قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ} الآية. قال المفسرون: هؤلاء فقراء المهاجرين، كانوا نحوًا من أربعمائة رجل، لم يكن لهم مساكنُ بالمدينة ولا عشائر، حثّ الله عز وجل الناس (¬5) على الإنفاق ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 1/ 388. وهذه الرواية تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬2) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1660. (¬3) في (ي): (ولم تنقص)، وهي ساقطة من (م). (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1660. (¬5) سقطت من (ش).

عليهم، فكان (¬1) مَن عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (¬2). واللام في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} متعلق بمحذوف، تأويله: هذه الصدقات، أو النفقة للفقراء، وقد تقدَّم ما يدل عليه؛ لأنه قد سبق ذكر الإنفاق والصدقات. قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: عاقل لبيب، إذا تقدم وصف رجل، والمعنى: الموصوف عاقل لبيب (¬3) وكذلك كتبوا على الأكياس: ألفان ومائتان، والمعنى: الذي في الكيس ألفان، وأنشد: تَسْألُنِي عن بَعْلِها أيُّ فَتَى ... خَبٌّ جَزُوعٌ وإذا (¬4) جَاعَ بَكَى (¬5) أراد: هو خَبٌّ، فَحَذَف المبتدأ وأبقَى خبره. وكثير من الناس قالوا: هذه اللام مردودة على موضع اللام من قوله: {فَلِأَنْفُسِكُمْ} كأنه قال: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، للفقراء، فأبدل الفقراء من الأنفس (¬6)، وهذا غلط؛ لأن بدل الشيء من غيره لا يكون إلا والمعنى مشتمل عليه، وليس كذلك ذكر النفس هاهنا؛ لأن (¬7) الإنفاق لها ¬

_ (¬1) في (ي): (وكان). (¬2) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 144، "بحر العلوم" 1/ 233، "تفسير الثعلبي" 2/ 1661، و"العجاب" 1/ 633، "الدر المنثور" 1/ 633. (¬3) من قوله: (إذا تقدم)، ساقط من (ي). (¬4) في (ي): (إذا). (¬5) هما بيتان وردا هكذا: يسألها عن بعلها أي فتى ... خب جبان وإذا جاع بكى والبيتان لشماخ بن ضرار، في "ديوانه" ص 128. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1660 - 1661، "البحر المحيط" 2/ 328. (¬7) في (م): (لأن المعنى).

من حيث هو عائد عليها، وللفقراء من حيث هو واصل إليهم، وليس من {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] لأن الأمر لازم للمستطيع خاصة. ولا يجوز أيضًا أن يكون العامل في هذه اللام (تنفقوا) إلا الأخير في الآية المتقدمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل والمعمول فيه بما ليس منه، كما لا يجوز: كانت زيدًا الحُمّى تأْخُذُ (¬1). وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الإحصار في اللغة: أن يعرِضَ للرجل ما يحول بينه وبين سفره، من مرض أو كسر أو عدوٍّ أو ذهابِ نفقةٍ أو عَطَبِ رِكَابٍ، أو ما جرى مجرى هذه الأشياء. يقال: أُحْصِرَ الرجل فهو مُحْصَر، ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله: {فَإِنْ أحُصِرتُم} [البقرة: 196] بما يغني عن الإعادة. فأما التفسير، فقد فسرت (¬2) هذه الآية بجميع الوجوه والأعذار (¬3) التي ذكرنا في معنى الإحصار، فقال قتادة: حبسوا أنفسهم في سبيل الله، أي: في طاعته للغزو، فلا يتفرغون إلى طلب المعاش (¬4)، وبقريب (¬5) من ¬

_ (¬1) ينظر في إعراب الآية: "تفسير الطبري" 3/ 96، "تفسير الثعلبي" 2/ 1660 - 1661، و"إعراب مشكل القرآن" 1/ 142، "التبيان" ص 164، "البحر المحيط" 2/ 328، واستبعد قول من قال: التقدير: إن تبدوا الصدقات للفقراء، وكذلك من علقه بقوله: "وما تنفقوا من خير" وكذلك من جعل (للفقراء) بدلًا من قوله: (فلأنفسكم) لكثرة الفواصل المانعة من ذلك. (¬2) في (م): (فسر). (¬3) في (أ) و (م) كتبت كلمة لم أستطع قراءتها. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 109، والطبري 3/ 96، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 540. (¬5) في (أ) و (ي) و (م): (ويقرب).

هذا القول قال ابن زيد، لأنه يقول: من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلُّها حربًا عليهم، لا يتوجهون جهةً إلا ولهم فيها عدو (¬1)، فهذا القول كالأول، من حيث إن خوف العدو منعهم عن السفر، إلا أن الخوف في هذا القول على أنفسهم لو خرجوا، وفي الأول على بيضة الإسلام بقوة العدو واستيلائهم (¬2) لو خرجوا لطلب المعاش. وقال سعيد بن المسيب (¬3): هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله، وصاروا زَمْنَى، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض (¬4)، فعلى هذا القول هم محصرون (¬5) بالمرض والزمانة، وهذا القول اختيار الكسائي (¬6)؛ لأنه يجعل الإحصار من الخوف والمرض. وقال ابن عباس، في رواية عطاء: هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله، فقال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} يريد: الجهاد (¬7)، وعلى ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 96 - 97، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1667، والبغوي في "تفسيره" 1/ 337. (¬2) في (ي): (لاستيلائهم). (¬3) كذا في الأصل، والذي عند ابن أبي حاتم 2/ 540، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1667، وفي "الدر المنثور" 1/ 633 هو سعيد بن جبير. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 540، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1667، والبغوي في "تفسيره" 1/ 337، وعزاه في الدر 1/ 633: إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) في (ي): (محصورون). (¬6) نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1667، و"باهر البرهان في معاني مشكلات القرآن" لمحمود النيسابوري 1/ 266، و"زاد المسير" 1/ 328. (¬7) هذه الرواية تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. وذكرها في "زاد المسير" 328 والواحدي في "الوسيط" 1/ 388.

هذا القول هم محصرون بذهاب النفقة وعدم الرِكاب. وقوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} يقال: ضَربْتُ في الأرض ضَرْبًا ومضربًا، إذا سرت فيها. قال الشاعر: لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ من بُغَاه ... وضربٍ في البلادِ بِغَيْرِ زَادِ (¬1) والضرب يقع على معان كثيرة (¬2)، وهؤلاء إنما لا يستطيعون الضرب في الأرض، لأن الفقر منعهم عن جهاد العدو، على قول ابن عباس، والضرب في الأرض على هذا السفر للجهاد، وهم لا يستطيعون ذلك للفقر، وعلى قول سعيد للزمانة لا يمكنهم السفر، وعلى قول ابن زيد، إشفاقًا على أنفسهم من الاغتيال وإيقاع المكروه بهم لا يمكنهم السفر، وعلى قول قتادة، لا يستطيعون ضربًا لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد، فمنعهم ذلك من ليس أنهم لا يقدرون أن يتصرفوا، وهذا كقولك: أمرني الوالي أن أقيم فما أقدر أن أخرج، فالمعنى: أني قد ألزمت نفسي طاعته، لا أنه لا يقدر على الحركة وهو صحيح سَوِيّ. وقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} يقال: حَسِبْتُ الشيءَ أَحْسَبُهُ وأَحْسِبُه حُسْبَانًا، وقرئ في القرآن ما كان من (¬3) الحسبان باللغتين جميعًا، ¬

_ (¬1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح في "ديوانه" ص 172 وقبله: قليل المال تُصْلِحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وينظر "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 102، "الأغاني" 23/ 570، "تفسير الثعلبي" 2/ 1666، "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال" 1/ 283. (¬2) ينظر في ضرب: "تهذيب اللغة" 3/ 2103 - 2106، "المفردات" ص 298، "اللسان" 5/ 2565 - 2570. قال الراغب: الضرب: إيقاع شيء على شيء، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها. (¬3) من سقطت من (ش) وفي (ي): (في).

الفتح والكسر، والفتح عند أهل اللغة أقيس، لأن الماضي إذا كان على فَعِلَ نحو: حَسِبَ، كان المضارع على يفعَل، مثل: فرِق يفرَق، وشرِبَ يشرَبُ، وشذ يحسِبُ فجاء على يفعِل في حروف أُخر، والكسر حسن لمجيء السمع به، وإن كان شاذًّا عن القياس (¬1). وقوله تعالى: {الْجَاهِلُ} لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبرة، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (¬2)، وهو تفَعُّلٌ من العِفّة، ومعنى العِفَّةِ في اللغة: تَرْكُ الشيءِ والكَفُّ عنه، قال رؤبة: فعَفَّ عن أسرَارِها بَعْدَ العَسَق (¬3) (¬4) أي: تركها (¬5). وأراد: من التعفُّف عن السؤال، فتركه للعلم به، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التحمل وتركهم المسألة. ¬

_ (¬1) من "الحجة" لأبي علي 2/ 402 - 403 بتصرف، وينظر "تهذيب اللغة" 1/ 809 - 812 مادة "حسب". (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1670 (¬3) في (م): (العشق)، وفي (أ): (الغشق)، وفي (ش): (عند) بدل (عن). (¬4) البيت في "ديوانه" ص 104 من قصيدة وصف المفازة، وينظر "الزاهر" 2/ 324، "مجاز القرآن" 1/ 76, والطبري في "تفسيره" 3/ 97، ومعنى العسق: عسق بالشيء إذا لزق به, ينظر "عمدة القوي والضعيف" ص 7، "الوسيط" للواحدي 1/ 389. (¬5) ينظر في عفف: "تهذيب اللغة" 3/ 2500، "تفسير الثعلبي" 2/ 1671، "المفردات" ص342,"اللسان" 5/ 3015، قال الراغب: العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة, المتعفف: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، وأصله: الاقتصار على تناول الشيء القيل الجاري مجرى العفافة.

وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} السِّيْمَا والسِّيْمَاءُ والسِّيْمِيَاءُ: العَلاَمَةُ التي يُعْرف بها الشيء، وأصلها من السِّمَة التي هي العلامة، قلبت الواو إلى موضع العين، ووزنه يكون: عِفْلَى، كما قالوا: له جَاهٌ في الناس، أي: وجه، وأرض خَامة، أي: وَخْمَةٌ، واضْمَحَلَّ الشىء وامْضَحَلّ، ذكره الفراء في كتاب "المصادر" في سورة الأعراف. وقال قوم: أصل السيما الارتفاع؛ لأنها علامة رفعت للظهور (¬1). قال مجاهد: سيماهم التخشع والتواضع (¬2). وقال الربيع (¬3) والسدي (¬4): أثر الجهد من الحاجة والفقر. الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر (¬5). ابن زيد: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي (¬6). وقوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} الإلحاف في اللغة: هو الإلحاح في المسألة (¬7)، ومنه الحديث: "من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف (¬8) ". ¬

_ (¬1) ينظر في السيما: "تهذيب اللغة" 2/ 1600 - 1602 مادة "سام"، "المفردات" ص 225 - 226، "اللسان" 4/ 2158 - 2159 (مادة: سوم). (¬2) في "تفسيره" 1/ 117، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 109، والطبري في "تفسيره" 3/ 98، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 541. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 98، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 541. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 98، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 541 بمعناه. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1672، والبغوي في "تفسيره" 1/ 338، والواحدي في "الوسيط" 1/ 389. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 98، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1672. (¬7) ينظر: "المفردات" ص 452، "اللسان" 4/ 4009 (مادة: لحف). (¬8) الحديث رواه الطبراني في "الكبير" 2/ 150، وعنه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 161،=

وقال أبو الأسود الديلي: ليس للسائل الملحف متل الرد الحامس. قال الزجاج: ومعنى ألحف: شَمِلَ بالمسألة، واللحاف (¬1) سمي لحافًا؛ لأنه شَمِلَ الإنسانَ في التغطية (¬2)، فالإلحاف في المسألة، هو أن (¬3) يشتمل على وجوه الطلب في المسألة، كاشتمال اللحاف في التغطية، في قول الزجاج. وقال غيره: معنى الإلحاف في المسألة: مأخوذ من قولهم: ألحف الرجل، إذا مشى في لَحْفِ الجبل، وهو أصله، كأنه استعمل الخشونة في الطلب (¬4). فأما التفسير، فقال ابن عباس، في رواية عطاء: يقول: إذا كان عنده غداءٌ لم يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لم يسأل غداءً (¬5). فعلى ¬

_ = ورواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1674 قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 334: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة. قال الدكتور المنيع في تحقيقه "تفسير الثعلبي" 2/ 1676: وله شواهد يترقى بها للحسن لغيره، ثم ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه النسائي 5/ 98، كتاب: الزكاة، باب من الملحف، وابن خزيمة 4/ 101، والبيهقي 7/ 24، وحديث عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد به مطولًا، رواه مالك في الموطأ 2/ 999، وأبو داود (1627) كتاب: الزكاة، باب: من يعطي من الصدقة وَحَدُّ الغني، والنسائي 5/ 98، كتاب: الرعاب، باب: من الملحف، وأحمد 4/ 36. (¬1) في (م): (باللحاف). (¬2) "معاني القرآن" 1/ 357. (¬3) في (م): (أنه). (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 99، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 304، "تفسير الثعلبي" 1/ 304. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1673، والبغوي في "تفسيره" 1/ 338 عن عطاء، وذكره في "الوسيط" 1/ 390. وقد تقدم الحديث عن هذه الرواية في القسم الدراسي.

هذا التفسير يجوز أن يسألوا الناس غير إلحاف، لأن الله تعالى نفى عنهم السؤال إلحافًا، وهو أن يسألوا مع الاستغناء عن المسألة. وقال الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وأكثر أهل المعاني (¬3): لا يجوز أن يَسْألوا غير إلحافٍ أيضًا، لما وصفوا به من التعفف والمعرفة بسيماهم، دون الإفصاح (¬4) بسؤالهم، إذ لو أفصحوا لم يحسبهم الجاهل أغنياء؛ لأنه إنما جهل ما لا ينال (¬5) بالاستذلال. ثم اختلفوا في وجه قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فقال الزجاج: المعنى: أنه ليس منهم سؤال فيكون إلحاف، كما قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يُهْتَدَى بمَنَارِه ... إذا سَافَهُ العَوْدُ الدِّيَّافيُّ جَرْجَرَا (¬6) المعنى: ليس به منار فيُهتدى به، كذلك ليس من هؤلاء سؤال فيقع ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 181. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 357. (¬3) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 99، "تفسير الثعلبي" 2/ 1673، و"أمالي المرتضى" 1/ 228. (¬4) في (م): (الالحاف صاح). (¬5) في (ش): (ما نال)، وفي (ي): (ما ينال). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 64، وأمالي المرتضى 1/ 165 "لسان العرب" 3/ 1466 مادة: ديف، 14663 مادة: سوف 4/ 2153 مادة: لحف. وقوله: سلفه: شمه، العَوْدُ: المُسِنّ من الإبل - الدِّيافيّ: نسبة إلى دياف قرية بالشام، جرجرا: أخرج شقشقته وصاح، ولاحب: الطريق الواضح. ويروى النياطي، وهو الأكثر، بمعنى الضخم الجسيم، والشاعر يصف طريقًا إذا شمه البعير المُسن عرفه فاستبعده وذكر ما يلحقه فيه من المشقة فجرجر لذلك. ينظر (أمالي المرتضى1/ 228 - 229).

فيه (¬1) إلحاف (¬2). ونصر ابن الأنباري هذه الطريقة، وقال: تأويل الآية: لا يسألون ألبتة فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف، فجرى هذا مجرى قولك: فلان لا يُرجَى خيرُه، أي: ليس فيه خيرٌ ألبتة فَيُرْجَى، وأنشد قول امرئ القيس: وَصُمٌّ صِلابٌ ما يَقِيْنَ من الوَجَى ... كأنَّ مَكَانَ الرِّدْفِ (¬3) منه على رال (¬4) أراد: ليس بهن وَجًى فَيَشْتَكِينَ من أجله، وقوله: يقين يقال: مرَّ الفرسُ يقي ويتقي، إذا هابَ المشيَ من وَجًى أو حفًا، يقال: فرسٌ واقٍ، وخيلٌ أواقٍ. وقال الأعشى: لا يغمز السَّاقَ من أيْنٍ ولا وَصَبٍ ... ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَرُ (¬5) معناه: ليس بساقه أينٌ ولا وصبٌ فيغمرها، ليس أن هناك أينًا ولا يَغْمِزُهُ هو (¬6). ¬

_ (¬1) سقطت من (ي). (¬2) "معاني القرآن" 1/ 358، ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 471. (¬3) في (م): (الزحف). (¬4) البيت في "ديوانه" ص 128. (¬5) البيت في "غريب الحديث" 1/ 26، و"الكامل" للمبرد 4/ 65، و"الخزانة" 1/ 197، و"لسان العرب"4/ 2458 (مادة: صفر). ومعنى لا يعمز الساق: لا يحبسها، يصف جلده وتحمله المشاق، والأين: الإعياء، والوصب: الوجع، والشرسوف: العظم الزائد فوق القلب وأطراف الأضلاع. وينظر "الوسيط" للواحدي 1/ 390. (¬6) ليست في (أ) و (م).

274

ونصر أبو علي هذه الطريقة، وقال: لم يثبت في قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} مسألة منهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف، قال. ومثل ذلك قول الراجز (¬1): لا يُفْزعُ الأَرْنَبَ أهوالُها ... ولا تَرَى الضَّبَّ بها يَنْجَحِرْ (¬2) أي: ليس بها أَرْنَبٌ فتفزع لهولها، ولا ضبٌ فينجحر، وليس المعنى: أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضب (¬3). وقال الفراء: نَفَى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميعَ وجوه السؤال، كما تقول في الكلام: قل ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه (¬4). وحكى ابن الأنباري عن بعضهم: أن معنى الآية: لا يسألون الناس إلحافًا ولا غير إلحاف، فاكتُفي بالإلحاف من غيره، وجاز اختصاصه بالذكر؛ لأن القصد إنما هو نفي صفة الذم عنهم، وهذا كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] والبرد فاكتُفي بالحر من البرد. 274 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} الآية. ¬

_ (¬1) في (ي): (الشاعر). (¬2) البيت لعمرو بن أحمر في وصف فلاة، في "ديوانه" ص 67، "الخزانة" 2734. "شرح أشعار الهذليين" 1/ 36، "الخصائص" 3/ 164،321، "الحجة" لأبي علي 2/ 47 المعنى: نفى أن يكون في الفلاة حيوان. (¬3) "الحجة" 2/ 47. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 181.

قال ابن عباس، في رواية مجاهد (¬1) وعطاء (¬2): كان عند علي بن أبي طالب أربعة (¬3) دراهم لا يملك غيرها، فتصدق بدرهمٍ سرًّا، ودرهمٍ علانيةً، ودرهمٍ ليلًا، ودرهمٍ نهارًا، فنزلت هذه الآية. وقال في رواية الضحاك (¬4): لما أنزل الله قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} [البقرة: 273] الآية. بعث عبد الرحمن بن عوف إليهم بدنانير كثيرة، وبعث علي بن أبي طالب في جوف الليل (¬5) بوسق من تمر، وهو ستون صاعًا، فكان (¬6) أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقة علي بن أبي طالب، وأنزل فيهما: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية. عنى بالنهارِ علانيةً، صدقة عبد الرحمن، وبالليل سرًّا، صدقة علي. وروى حنش بن عبد الله الصنعاني (¬7) عن ابن عباس، قال: هذه الآية ¬

_ (¬1) الحديث رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 108، ومن طريقه النحاس في "معاني القرآن" 1/ 305، والطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 80، والواحدي في "أسباب النزول" ص 92، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 543، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 42/ 358، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1688، وعزاه الحافظ في "الحجاب" 1/ 634 والسيوطي في "الدر" 1/ 642 إلى ابن مردويه، وإلى الطبري في "تفسيره"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 347: وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو ضعيف، وقد حسن الدكتور المنيع في تحقيق "تفسير الثعلبي" 2/ 1689 إسناد الثعلبي. وينظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 349. (¬2) لم أجده عن عطاء، وهو من الرواية التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬3) في (ش): (أربع). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1693، والبغوي في "تفسيره" 1/ 340، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 330، وهو من رواية جويبر عن الضحاك، وجويبر ضعيف جدًّا، والضحاك لم يسمع من ابن عباس. (¬5) سقطت من (ش). (¬6) في (ي): (وكان). (¬7) هو: حنش بن عبد الله، ويقال: ابن علي بن عمرو السبئي، أبو رِشدين الصنعاني،=

في علف الخيل (¬1). وبه قال أبو أمامة (¬2) وأبو الدرداء (¬3) ومكحول (¬4) والأوزاعي (¬5)، قالوا (¬6): هم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار، سرًّا وعلانيةً، نزلتْ فيمنْ لم يرتبطها لخيلاء ولا مِضْمَار (¬7). وروي هذا مرفوعًا عن النبي أنه قال (¬8): "هذه الآية نزلت في أصحاب الخيل (¬9) ". ¬

_ = نزيل إفريقيا، كان تابعيًّا ثقة شجاعًا من القادة، غزا المغرب والأندلس وأسَّسَ جامع قرطبة، توفي سنة 100 هـ. ينظر "تقريب التهذيب" ص 183، (1576) و"تهذيب الكمال" 7/ 429. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 304، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 543، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1697، وعزاه الحافظ في "العجاب" 1/ 636 إلى عبد ابن حميد، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 641 إلى ابن المنذر. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 304، والمحاملي في "أماليه" ص 49، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 543. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 100، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 92، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1693، والبغوي في "تفسيره" 1/ 340، "زاد المسير" 1/ 330. (¬4) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 543، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1693، والبغوي في "تفسيره" 1/ 340، وابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 330. (¬5) رواه عبد بن حميد كما عزاه إليه الحافظ في "العجاب" 1/ 636، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1693، والبغوي في "تفسيره" 1/ 340. (¬6) في (ش): (قال). (¬7) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1694. (¬8) في (م) قال في. (¬9) الحديث رواه ابن سعد في "الطبقات" 7/ 433، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 5/ 158، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 542، وأبو الشيخ في =

قال أبو إسحاق: الذين: رفع بالابتداء، وجاز أن يكون الخبر (¬1) ما بعد الفاء، ولا يجوز في الكلام: زيد فمنطلق، وصلح في الذي (¬2)؛ لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء (¬3)، لأنه يدل أن الأجر من أجل الإنفاق في طاعة الله، كأنه قيل: من أنفق كذا فله أجره عند ربه، هذا كلامه، وشرح هذا الفصل أبو الفتح الموصلي (¬4)، فقال: المعارف الموصولة والنكرات الموصوفة إذا تضمنت صلاتها (¬5) وصفاتها معنى الشرط أدخلت الفاء في أخبارها، وذلك نحو قولك: الذي يكرمني فله درهم، فلما كان الإكرام سبب وجود الدرهم دخلت الفاء في الكلام، ولو قلت: الذي يكرمني له درهم، لم يدل هذا القول على أن الدرهم إنما (¬6) يستحق للإكرام، بل (¬7) إنما هو حاصل للمكرم على كل حال، وتقول في النكرة: كل رجل يزورني فله دينار، فالفاء هي التي أوجبت استحقاق الدينار بالزيارة، ولو قلت كل رجل يزورني له دينار لما دل ذلك على أن الدينار مستحق عن الزيارة بل ¬

_ = "العظمة" 5/ 1781، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1695، والواحدي في "أسباب النزول" ص 92، والطبراني في "المعجم الكبير" 17/ 188، وغيرهم. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 30: فيه مجاهيل. (¬1) في (م): (الخبر بها). (¬2) في (م) و (ش): (الذين). (¬3) "معاني القرآن" 1/ 358. (¬4) هو: عثمان بن جني النحوي اللغوي، تقدمت ترجمته. (¬5) سقطت من (ش). (¬6) سقطت من (م). (¬7) سقطت من (ش).

275

بدل على أنه في ملك الزائر على كل حال، فلأجل معنى الشرط في الصلة (¬1) والصفة ما دخلت الفاء في آخر الكلام. والفاء في هذه الآية دلت على أن الأجر إنما استحق عن الإنفاق، والفاء في مثل هذا الموضع للاتباع دون العطف، وإنما اختاروا الفاء هنا من قبل أن الجزاء سبيله أن يقع ثاني الشرط، وليس في جميع حروف العطف حرف يوجد هذا المعنى فيه سوى الفاء، فدخلت الفاء في جواب الشرط توصلًا إلى المجازاة بالجملة المركبة من المبتدأ والخبر، والكلام الذي يجوز أن يبتدأ به ولو لم تدخل الفاء لم يرتبط آخر الكلام بأوله، ولم يوجد هذه المعنى إلا في الفاء وحدها، فلذلك اختصوها من بين حروف العطف، فلم يقولوا: إن تحسن إلي والله يكافيك، ولا: ثم الله يكافيك (¬2). 275 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} يريد: الذين يعاملون به، وخص الأكل لأنه معظم الأمر كما قال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه، لكنه (¬3) نبه بالأكل على ما سواه (¬4). والربا في اللغة: الزيادة، يقال: رَبَا الشيءُ يَرْبُو رَبْوًا، ومنه قوله: ¬

_ (¬1) سقطت من (ي). (¬2) ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 187، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 358، "تفسير الثعلبي" 2/ 1703، "مشكل إعراب القران" 1/ 142، "التبيان" ص 164، "البحر المحيط" 2/ 331. (¬3) في (ي) ولكنه. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 103، "تفسير الثعلبي" 2/ 1705، "تفسير السمعاني" 2/ 452.

{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي: زادت، وأرْبى الرجل، إذا عامل في الربا، ومنه الحديث: "من أجْبَى فقد أربى" (¬1) أي: عامل بالربا، والإِجْبِاءُ: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، هذا معنى الربا في اللغة (¬2). فأما في الشرع: فهو اسم للزيادة على أصل المال من غير بيع (¬3). وما يجري فيه الربا مما لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا لا يمكن ذكره هاهنا، يطول الكلام فيه (¬4). وقوله تعالى: {يَقُومُونَ} يعني: يوم القيامة من قبورهم (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" 20/ 336 برقم 795، 22/ 48 برقم 117، وفي "المعجم الصغير" 2/ 284 برقم 1176، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 5/ 173 برقم 2708، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" 1/ 388 برقم 292، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 159 برقم 1433، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 75، 9/ 374 وقال: فيه بقية ولكنه مدلس وهو ثقة. قال في "النهاية" 1/ 237: في كتاب: وائل بن حجر ومن أجبا فقد أربى الإجباء: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وقيل: هو أن يغيب إبله عن المصَدِّق من أجبأته إذا واريته. والأصل في هذه اللفظة الهمز، ولكنه هكذا روي غير مهموز، فإما أن يكون تحريفًا من الراوي، أو يكون ترك الهمز للازدواج بأربى. وقيل: أراد بالإجباء العينة، وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثمن الذي باعها به. (¬2) ينظر: في الربا: "تهذيب اللغة" 2/ 1334 - 1335، "المفردات" ص193، "اللسان" 3/ 1572 - 1574. (¬3) ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 241 - 242، "تفسير القرطبي" 3/ 348. (¬4) ينظر: "الأم" 3/ 15 - 31، و"اختلاف الفقهاء" للمروزي ص 246، و"المجموع" 9/ 401، و"أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 241 - 242، و"تفسير القرطبي" 3/ 348 وما بعدها. (¬5) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1709.

{إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} والتَّخَبُّطُ: معناه: الضَّرْبُ على غير استواءِ، وخَبَطَ البَعِيرُ الأرضَ بأخفافه، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: تَخَبَّطَ خَبْطَ عشْواءٍ، قال زهير: رأيتُ المَنَايا خَبْطَ عَشْوَاءَ من تُصِبْ ... تُمِتْهُ وَمَنْ تخطئ يُعمّر فيهرَمِ (¬1) وتخبّطه الشيطان: إذا مسّه بخبْلٍ أو جنونٍ؛ لأنه كالضرب على غير استواءٍ في الإدهاش، ويسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل: خَبْطَةٌ، ويقالُ: به خَبْطة من جنون (¬2). والمَسُّ: الجنونُ، يقال: مُسَّ الرجلُ فهو مَمْسُوس، وبه مَسٌّ وأَلْسٌ، أنشد ابن الأنباري: أُعلّلُ نَفْسِي بما لا يكونُ ... كذِي المَسِّ جُنّ ولم يخنق (¬3) وأصله: من المَسِّ باليد، كأن الشيطان يَمَسُّ الإنسانَ فيُجِنُّه، ثم سُمِّىِ الجنونُ مسًّا، كما أن الشيطان يتخبطه ويَطَؤُهُ برجْلِه فيخبّله، فسمي الجنونُ خَبْطَةً، فالتخبط بالرِّجل، والمَسّ باليد (¬4). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوان زهير" ص 29،. "تهذيب اللغة" 11/ 979 "الوسيط" للواحدي 1/ 394. وقوله: بْطَ عشواء، وهي الناقة التي في بصرها ضعف تخبِط إذا مشت لا تتوقى شيئًا. فهو يقول: رأيت المنايا تخبط الخلق خَبْطَ العشواء من الإبل، وهي التي لا تبصر، فهي تخبطُ الكل لا تبقي على أحد فممّن خبطته المنايا من تميته، ومنهم من تُعِلّه فيبرأ، والهرمُ غايته ثم الموت. ينظر "اللسان" 2/ 1093. (¬2) ينظر في خبط: "تهذيب اللغة" 1/ 978 - 979، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 241، "المفردات" 148، "اللسان" 2/ 1093 - 1095. (¬3) جاء في: "البيان والتبيين" 1/ 388 بيتًا شبيهًا بهذا وهو: أعلل نفسي بما لا يكون ... كما يفعل المائق الأحمق. (¬4) ينظر في المس: "تفسير غريب القرآن" ص 87 - 88، "تفسير الطبري" 3/ 103،=

فأما التفسير: فقال قتادة: إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا، وذلك عَلَم لأكلة الربا يعرفهم به أهل الموقف، يُعْلَم أنهم أكلة الربا في الدنيا، يبعثون وبهم خبْلٌ من الشيطان (¬1). قال الزجاج: لا يقومون في الآخرة إلا كما يقوم المجنون من حال جنونه (¬2). فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بجنون. وقال ابن قتيبة: يريد: أنه إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين، لقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا} [المعارج: 43] إلا أكلةُ الرِّبا، فإنهم يقومون فيسقطون، كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ويسقط؛ لأنهم أكلوا الرِّبَا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون، ويريدون الإسراع فلا يقدرون (¬3)، وهذا المعنى غير الأول؛ لأنه يريد أن أكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي، كالذي خَبَّله الشيطان وأصابه (¬4) بخبل في أعضائه من عَرَجٍ أو زَمَانة، فهو يقوم ويسقط، وهذا ليس من الجنون في شيء، والأول قول أهل التفسير، ويؤكد هذا الثاني: ما روي في قصة الإسراء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلق به جبريل إلى ¬

_ = "تهذيب اللغة" 4/ 3394 - 3395، "المفردات" ص 470، "اللسان" 7/ 4201 - 4202، قال الراغب: المس كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء وإن لم يوجد كما قال الشاعر: وألمسه فلا أجده. والمس يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس، واللمس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى: (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، والطبري في "تفسيره" 3/ 102، وذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 544. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 358. (¬3) ذكره ابن الجوزي عنه في "زاد المسير" 1/ 330. (¬4) في (ي) (فأصابه).

رجال كثيرٍ، كلُّ رجلٍ منهم بطنُهُ مثلُ البيتِ الضَّخْم، يقومُ أحدُهم فيميل به بطنه فيصرع (¬1)، قال: قلت: "يا جبريل من هؤلاء؟ " قال: الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس (¬2). وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي: ذلك الذي نزل بهم بقولهم هذا، واستحلالهم إياه، وذلك لأن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة بالربح في أول البيع. وكان أحدهم إذا حلَّ له مال على إنسان قال لغريمه: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل. فكذبهم الله سبحانه فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3). قال أصحابنا: هذه الآية مجملة، والمجمل: ما لا يعرف المراد من ظاهره إلا بقرينة تقترن به، كقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] أوجبَ الإِيتَاءَ، وليس يعرف من هذه الآية أن الحق الذي يجب إيتاؤه كم هو، وإنما يعرف ذلك بدليل آخر، كذلك قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} اقتضى أن يكون كلّ بيع حلالًا. وقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} اقتضى أن ¬

_ (¬1) في (م): (فيهرع). (¬2) يريد حديث أبي سعيد الخدري رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 25/ 365، ومن طريقه رواه الطبري في "تفسيره" 15/ 11 والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 390، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" 2/ 185، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1711، وفي إسناده أبو هارون العبدي متروك، وفي الباب: حديث أبي هريرة، رواه ابن ماجه (2273) كتاب: التجارات، باب: التغليظ في الربا، والإمام أحمد 2/ 353، وضعَّف إسناده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 350، وقال البوصيري في "مصباح الزجاج" 2/ 23: هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد. (¬3) ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 145، "تفسير الطبري" 3/ 103، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 545، "تفسير الثعلبي" 2/ 1714.

يكون كلُّ بيع حَرامًا، لأن الربا هو الزيادة، ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة، فأول الآية إباح جميع البيوع، وآخرها حرم الجميع، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية، ولكن يعرف ذلك ببيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي وَعْظٌ، ولذلك جاز تذكير (جاءه) (¬1). قال السدي: الموعظة: القرآن (¬2) {فَانْتَهَى} عن أكل الربا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} قال الزجاج: أي: قد صُفح له عما سلف (¬3)، أي: مضى من ذنبه قبل النهي (¬4)، وقال السُدّي: فله ما أكل من الربا (¬5)، أي: ليس عليه رد ما سلف، فأما ما لم يُقْضَ بعدُ فلا يجوز له أخذه، وهذا له رأس ماله فقط، وهذا أجود من الأول؛ لأن قبل النهي الربا لم يكن حرامًا فلم يكن (¬6) أخذه ذنبًا (¬7). ومعنى سلف، أي: تقدم ومضى، والسُّلُوف: التقدُّم، وكل شيء قدمته أمامك فهو سَلَفُكَ، ومنه: الأمم السَّالِفَة، والسَّالِفَةُ: العنق؛ لتقَدُّمِه في جهة العلوّ، والسُّلفة ما تَقَدَّم قبل الطعام، وسُلاَفَةُ الخَمْرِ: صَفْوُها، لأنه أول ما يخرج من عصيرها (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 358، "تفسير الثعلبي" 2/ 1715. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 104، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 545. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 358. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1715. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 104، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 546. (¬6) في (ش): (فلا يكون). (¬7) سقطت من (أ) و (م). (¬8) ينظر في سلف: "تهذيب اللغة" 2/ 1735، " المفردات" ص 244، "اللسان" 4/ 2068، وذكر الأزهري أن السلف يطلق في المعاملات على معنيين: القرض=

276

وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} قال أبو إسحاق: أي: الله وليه (¬1). وقيل: وأمره إلى الله بعد النهي، إن شاء عصمه حتى ثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود (¬2) {وَمَنْ عَادَ} أي: إلى استحلال الربا (¬3) {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال أبو إسحاق: وهؤلاء قالوا: إنما البيع مثل الربا، ومن اعتقد هذا فهو كافر (¬4). 276 - قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} المَحْقُ: نُقْصَانُ الشيء حالًا بعد حالٍ، ومنه المُحَاقُ في الهلال، يقال: مَحَقَهُ اللهُ فانْمَحَقَ وامتحق، أنشد يعقوب: وأَمْصَلْتِ (¬5) مالي كُلَّه بخيانةٍ ... وماسَسْتِ من شيء فَرَبُّكَ ماحِقُه (¬6) وأنشد الليث (¬7): ¬

_ = والسلم، وله معنيان آخران: أحدهما: ما قدمه العبد من عمل صالح، أو ولد فرط تقدمه فهو سلف، والثاني: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل. (¬1) "معاني القرآن" 1/ 358. (¬2) "تفسير الطبري" 3/ 104، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 307، وقال. هذا قول حسن بين، "تفسير الثعلبي" 2/ 1715. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1716. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 359. (¬5) في (ش): (وأمضلت). (¬6) ورد النص هكذا: لقد أمصلت عفراء مالي كله ... وماسست من شيء فربك ماحقه ذكره صاحب إصلاح المنطق 1/ 279: قال: وأنشدني الكلابي. (¬7) نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3351 (مادة: محق).

276

يَزْدَادُ حُتَّى إذا مَا تَمّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثم يَمَّحِقُ (¬1) وأَمْحَقَ: إذا صار إلى حالة المحق، أنشد ابن السكيت (¬2): أبوك الذي يَكْوِي أنوفَ عُنُوقِهِ ... بأظْفَارهِ حتَّى أَنَسَّ (¬3) وأَمْحَقَا (¬4) ويقال: هَجِيرٌ ماحق: إذا نَقَصَ كلُّ شيءٍ بحرارته وأحرقه (¬5). قال المفسرون: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي: ينقصه ويذهب بركته، وإن كان كثيرًا، كما يُمْحِقُ القَمَرَ (¬6)، وقد روى ابن مسعود (¬7)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُلِّ" (¬8). ¬

_ (¬1) ورد البيت هكذا: حتى إذا ما تراه تم أعقبه ... كر الجديدين نقصًا ثم يمحق والبيت لعبد الله بن المبارك، في "ديوانه" ص 90. والمِحَاق والمُحاقُ: آخر الشهر، إذا امَّحق الهلال فلم يُرَ. (¬2) نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3352 (مادة: محق). (¬3) لعلها: حتى أنشروا محقًا. (¬4) البيت لسبرة بن عمرو الأسدي، في "لسان العرب" 7/ 4147 (مادة: محق)، "تاج العروس" 13/ 438 (مادة: محق)، وبلا نسبة في "اللسان" 5/ 3136 (مادة: عنق)، "تهذيب اللغة" 4/ 3352 (مادة: محق)، وأنسَّ الشيء: بلغ غاية الجهد وهو نسيسه، أي: بقية نفسه. (¬5) ينظر في محق: "تهذيب اللغة" 4/ 3352، "المفردات" ص 466، "اللسان" 7/ 4147. (¬6) "تفسير الثعلبي" 2/ 1723. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 104. (¬8) أخرجه ابن ماجه (2279) كتاب: التجارات، باب: التغليظ في الربا 2/ 765 حديث رقم 2279، والإمام أحمد في "المسند" 1/ 395 والحاكم في "المستدرك" 2/ 43 وصححه، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 392، وأبو يعلى في "مسنده" 8/ 456، والطبراني في "الكبير" 10/ 223 والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" =

وقال ابن عباس في رواية الضحاك: يعنى: لا يقبل منه صدقةً ولا جهادًا ولا حجًّا ولا صلة (¬1). {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} قال في رواية عطاء: يريد: يُرَبِّي الصدقات لصاحبها (¬2) كما يُرَبي أحدُكُم فَصِيلَه (¬3). أخبرنا أبو إسحاق بن أبي منصور المقرئ (¬4) رحمه الله، ثنا (¬5) عبد الله ابن حامد (¬6)، ثنا (¬7) أبو بكر محمد بن الحسين (¬8)، ثنا (¬9) سهل بن ¬

_ = 2/ 188، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1723. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 2/ 42: إسناده صحيح ورجاله ثقات. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1725، والبغوي في "تفسيره" 1/ 344، وابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 273. (¬2) ليست في (ي). (¬3) ذكره في "الوسيط"1/ 396. وهو من رواية التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬4) يعني شيخه أبا إسحاق الثعلبي رحمه الله. (¬5) في (ي): (قال أخبرنا). (¬6) عبد الله بن حامد الأصبهاني، أبو محمد، كان أبوه من أعيان التجار الأصبهانيين، ثم نزل بنيسابور، ولد عبد الله بنيسابور وتفقه على أبي الحسن البيهقي، توفي سنة 389. ينظر "الأنساب" 5/ 182، و"طبقات الشافعية" 3/ 306. (¬7) في (ي): (قال أخبرنا). (¬8) العالم الصالح مسند خراسان، أبو بكر محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل النيسابوري القطان، قال الحاكم: أحضروني مجلسه غير مرة، ولم يصح لي عنه شيء وقال الخليلي: ثقة، وقال الذهبي: وسماعه صحيح كثير في الثقفيات، توفي سنة 332 هـ. ينظر "الإرشاد" 3/ 839، "السير" 15/ 318 - 319، "الوافي بالوفيات" 2/ 372. (¬9) في (ي): (قال: ثنا)، وفي (ش): (حدثنا)، وهكذا في الذي بعده.

عمار (¬1)، ثنا يزيد بن هارون (¬2)، ثنا عباد بن منصور النَّاجي (¬3)، قال: سمعت القاسم بن محمد (¬4)، يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل يقبل الصدقات، ولا يتقبل منها إلا الطيب، ويأخذها بيمينه فيربيها، كما يربي أحدكم مهره، أو فلوّه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] و {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬5). ¬

_ (¬1) هو سهل بن عمار النيسِابوري روى عن يزيد بن هارون وغيره، متهم، كذبه الحاكم، قال في "تاريخه": سهل بن عمار بن عبد الله العتكي، قاضي هراة ثم طرسوس، وهو شيخ أهل الرأي في عصره، كانوا يمنعون السماع منه، توفي سنة 267 هـ ينظر "ميزان الاعتدال" 2/ 430، "السير" 13/ 32 - 33. (¬2) هو: يزيد بن هارون بن زادان بن ثابت السلمي بالولاء الواسطي أبو خالد، ثقة متقن عابد من حفاظ الحديث الثقات، كان واسع العلم ذكيًا، كبير الأن، من أهل بخارى، وتوفي بواسط سنة 206 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 295، "تهذيب التهذيب" 4/ 431، " السير" 9/ 358. (¬3) هو: عباد بن منصور أبو سلمة الناجي البصري، سمع من عكرمة وعطاء وغيرهم، وأخذ عنه يحيى القطان ويزيد بن هارون وغيرهم، ولي قضاء البصرة، كان ضعيف الحديث، قال ابن حجر: صدوق رمي بالقدر، وكان يدلس، وتغير بأخرة. توفي سنة 152 هـ. ينظر: "السير" 7/ 105 - 106، "الجرح والتعديل" 6/ 86، "التقريب" ص 291 (3142). (¬4) سبقت ترجمته. (¬5) الحديث بهذا الإسناد رواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1726، فيه ضعف، لأن فيه سهل بن عمار، متهم، وعبد الله بن حامد، لم يذكر بجرح ولا تعديل، لكن الحديث صحيح متفق عليه. أخرجه البخاري (1410) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب، ومسلم (1014) كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب، وغيرهما. وليس عندهما (وتصديق ذلك ...) وهذه الزيادة عند =

277

وقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} قال عطاء: يريد: من جحد عظمة الله وكفر بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقيل: {كُلَّ كَفَّارٍ} بتحريم الربا، مستحل له (أَثِيمٍ) فاجر بأكله (¬2). أخبر الله تعالى في هذه أن من جمع مالًا من الربا أذهب الله البركة عنه، حتى يتلف عليه، ويذهب من حيث لا يدري، ثم يبقى عليه الوزر والإثم بجمعه وأخْذِه، ويزيد صدقةَ من تَصَدَّق بشيء وان قلَّ، حتى يَكْثُرَ ما تصدق به. 277 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يسأل عن هذه الآية، فيقال: إذا كان يستحق الثواب بخلوص الإيمان فلم شرط غيره؟ قيل: للبيان، إذ (¬3) كل واحدة من هذه الخصال يُستَحقُّ عليها الثواب، كما قال في ضد هذا {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}. ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] ومعلوم أن من دعا مع الله إلهًا آخر لا يحتاج في استحقاقه العقاب إلى عمل آخر، ولكن (¬4) الله تعالى جمع الزنا وقتل النفس مستحلاً مع دعاء غيره إليها، للبيان أن (¬5) كل واحدة من هذه الخصال توجب العقوبة، ولا تدل هذه الآية على أن ما ذكر من الخصال بعد الإيمان ليست من الإيمان، وإن ذكرها مع الإيمان على الانفصال، كما أنه ¬

_ = أحمد 2/ 471، وأبي عبيد في "الأموال" 437، وحميد بن زنجويه في "الأموال" 2/ 795، "تفسير الثعلبي" 2/ 1726. (¬1) وهو من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1729. (¬3) في (ي) و (م): (إن). (¬4) في (ش) ب: (لكن) (¬5) في (ي): (لأن).

278

ذكر مع الكفر خصالًا أخرجها وذكرها على الانفصال من الكفر وهو كفر، كقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [البقرة: 39] والصد عن سبيل الله والتكذيب بآياته كفر، وإن ذكرا مع الكفر على جهة الانفصال. 278 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} قد ذكرنا معنى {ذَروا} وما فيه عند قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] ومعنى الآية: تحريم ما بقي دينًا من الربا، وإيجاب أخذ رأس المال دون الزيادة على جهة الربا. والسبب في نزولها: العباس (¬1) وعثمان رضي الله عنهما، طلبا ربًا لهما كانا قد أسلف قبل نزول التحريم، فلما نزلت الآية سمعا وأطاعا، وأخذا رؤوس أموالهما. هذا قول عطاء وعكرمة (¬2). وقال المقاتلان (¬3) (¬4): نزلت في أربعة إخوة من ثقيف، كانوا يداينون ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته. (¬2) ذكره عنهما الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1729، والواحدي في "أسباب النزول" ص 93، والحافظ في "العجاب" 1/ 641، وروى الطبري في "تفسيره" 3/ 106 عن عكرمة قريبًا مما ذكره المقاتلان. (¬3) هما: المقاتلان: مقاتل بن سليمان المفسر المشهور، ومقاتل بن حيان، وهو: أبو بسطام النبطي الخزاز، صدوق مفسر مشهور فاضل، توفي قبيل سنة 150 هـ ينظر: "طبقات المفسرين" للداودي 2/ 329، "التقريب" ص 544 (6867). (¬4) قول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 227، وقول مقاتل بن حيان رواه عنه ابن أبي حاتم 2/ 548، وقد روى أبو يعلى في "مسنده" 5/ 74، ومن طريقه الواحدي في "أسباب النزول" ص 93 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بنحوه، وقد روى الطبري في "تفسيره" 3/ 106 - 107 عن ابن نجيح نحوه، وذكر هذا السبب الفراء في "معاني القرآن" 1/ 182، والزجاج 1/ 359، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1733.

278

بني المغيرة، فلما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الطائف أسلم الإخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فأنزل الله هذه الآية. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معناه: إن من كان مؤمنًا فهذا حكمه، كما تقول: إن كنت أخي فأكرمني، معناه: أن من كان أخًا أكرم أخاه (¬1). فقيل: معناه: إذ كنتم (¬2). قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أن من كان مؤمنًا قبل عن الله أمره، ومن أبى فهو حرْبٌ، أي: كافر (¬3). فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي: فإن لم تذروا ما بقي من الربا، قال النحويون: المفعول محذوف من الكلام، تقديره: فإن لم تفعلوا ترك ما بقي من الربا (¬4). 279 - قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يقال: أَذِنَ بالشيء: إذا علم به، يأذَنُ أَذَنُا وأَذَانَةً، قال أبو عبيدة: يقال: آذَنْتُه بالشيء فأَذِنَ به (¬5)، أي: عَلِمَ، مثل: أَنْذَرْتُه بالشيء فَنَذِرَ به، أي: عَلِمَ (¬6). والمعنى: فإن لم تدعُوا الربا الذي قد أمر الله بوضعه عن الناس فاعلموا بحرب من الله، أي: فأيقنوا أنكم في امتناعكم من وضع ذلك ¬

_ (¬1) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 337. (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1735، "البحر المحيط" 2/ 337، وعزاه لمقاتل بن سليمان، ثم ذكر أن بعض النحويين يقول به، وهو ضعيف مردود، ولا يثبت في اللغة. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 359. (¬4) ينظر: "البحر المحيط" 2/ 338. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 83، وعبارته: تقول: آذنتك بحرب فأذنت به. (¬6) ينظر في أذن: "تهذيب اللغة" 1/ 139، "المفردات" ص 23 - 24، "اللسان" 1/ 51.

حربٌ لله ورسوله. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب (¬1). وقال، في رواية الوالبي: يُستتاب من عامل بالربا، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه (¬2). وهو قول قتادة (¬3) والربيع (¬4). وقال أهل المعاني: حرب الله النار، فمن كان حربًا لله استحق العقوبةَ بالنار، وحربُ رسولِه السيف، فمن كان حربًا له قوتل بالسيف (¬5). وقرأ حمزة وعاصم في بعض الروايات (فآذنوا) ممدودًا (¬6)، أي: اعلموا، من قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية، تقديره: فأعْلِمُوا من لم ينته عن ذلك بحرب (¬7)، وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، ففي أمرهم بالإعلام علمهم أيضًا أنهم حرب ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 108، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 550، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1736، والبغوي في "تفسيره" 1/ 345. (¬2) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1736. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 108، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 550. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 108. (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1736، و"الكفاية في التفسير" للحيري 1/ 266، "تفسير البغوي" 1/ 344. (¬6) قرأ حمزة وشعبة (فآذنوا) ممدودة مكسورة الذال، وقرأ الباقون (فأذنوا) مقصورة مفتوحة الذال. ينظر: "السبعة" ص 192. (¬7) ستمطت من (ي).

إن لم يمتنعوا عما نهوا عنه، وليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، فهذا في الإبلاغ آكد (¬1). وقال أحمد بن يحيى: الاختيار: قراءة العامة من (¬2) الإذن، لأنه يفسّر كونوا على إذنٍ وعلم، ولأن الكلام يجري به على وجه واحد، وهو أدل على المراد وأقرب في الأفهام (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ} أي: عن الربا {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وإنما شرط التوبة، لأنهم إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله، وصار مالهم فيئًا للمسلمين، فلا يكون لهم رؤوس أموالهم (¬4). وقوله تعالى: {تُظْلَمُونَ} قال عطاء: أي بطلب الزيادة {وَلَا تُظْلَمُونَ} بالنقصان (¬5) عن رأس المال (¬6). وموضع {تُظْلَمُونَ} نصب على الحال من (لكم) (¬7)، والتقدير: فلكم رؤوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين. وروى عن عاصم في بعض الروايات: {وَلَا تُظْلَمُونَ} بضم التاء الأولى {وَلَا تُظْلَمُونَ} بفتح التاء الثانية (¬8)، وقراءة القراء أشكل بما قبله؛ لأن الفعل الذي قبله مسند إلى ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 413 بمعناه. (¬2) في (ي): (على). (¬3) أحمد بن يحيى، ينظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 1/ 318، "حجة القراءات" لابن زنجلة 148. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1737، "تفسير السمعاني" 3/ 457، "الكشاف" 1/ 322. (¬5) في (م): (النقصان). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1736 بهذا اللفظ دون عزو لأحد. (¬7) "الحجة" 2/ 413. (¬8) قرأ المفضل عن عاصم (لا تُظْلَمون ولا تَظْلِمون) بضم التاء الأولى وفتح الثانية، والقراء كلهم بعكس ذلك كما ذكر ابن مجاهد في "السبعة" 192.

280

فاعل، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ}، فتظلمون أشكل بما قبله لإسناد الفعل فيه إلى الفاعل من {تُظْلَمُونَ} المسند فيه (¬1) الفعل إلى المفعول به (¬2). قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قالت الإخوة المربون: بل نتوب إلى الله، فإنه لا يَدَان لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، وسلّموا لأمر الله عز وجل، فشكا بنو المغيرة العسرة، وقالوا (¬3): آخرونا إلى أن تُدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل (¬4): {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}. 280 - قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} (كان) كلمة تستعمل على أنحاء (¬5): أحدها: أن يكون بمنزلة حَدَثَ وَوَقَعَ، وذلك قولك: قد كانَ الأمرُ، أي: وَقَع وحَدَثَ، وحينئذ لا تحتاج إلى خبر، وأكثر ما تستعمل بهذا المعنى في المنكرات، كقولك: إن كان رجل صالح فأكرمه. والثاني: أن يخلع (¬6) منه معنى الحدث، فتبقى الكلمة مجردة للزمان، ¬

_ (¬1) من قوله: (فيه إلى)، من (ي) و (ش). (¬2) من "الحجة" 2/ 414 بتصرف. (¬3) في (ي) (وقال). (¬4) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 227 والفراء في "معاني القرآن" 1/ 182، والحيري في "الكفاية" 1/ 236، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1737، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 95 - 96، والحافظ في "العجاب" 1/ 641 عن الكلبي. (¬5) في (ي) (أحوال). (¬6) في (أ) و (م) (الخلع).

فيلزمها الخبر المنصوب، وذلك قولك: كان زيد ذاهبًا. والثالث: أن يكون بمعنى صار. أنشد أحمد بن يحيى: بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيَّ كأَنّها ... قَطَا الحَزْنِ قد كانت فِرَاخًا بُيُوضُها (¬1) أي: صارت. والرابع: أن تكون زائدة، وذلك قولهم: ما كَان أحسنَ زيدًا، أنشد البغداديون: سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْر تَسَامَوا ... على كان المُسَوَّمةِ الجِيادِ (¬2) (¬3) فمما استعمل فيه (كان) بمعنى: وقع وحدث، هذه الآية، أي: وإن وقع ذو عسرة، والمعنى على هذا يصح، وذلك أنه لو نصب فقيل: وإن كان ذا عسرة، لكان المعنى: وإن كان المستربي ذا عسرة فنظرة، فيكون النظر مقصورًا عليه، وليس الأمركذلك؛ لأن المستربي وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظر إلى الميسرة (¬4). ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في "ديوانه" ص119، "الحجة" 2/ 436، و"شرح الكافية" للرضي 4/ 189، و"لسان العرب" 5/ 2897 (مادة: عرض)، 7/ 3961 (مادة: كون). (¬2) البيت بلا نسبة في "الحجة" 2/ 437، "سر صناعة الإعراب" 1/ 298، والأزهية في علم الحروف ص 187وشواهد الأشموني 2/ 109، "الخزانة" 4/ 33، "لسان العرب" 7/ 3963 (كون). ويروى: العِراب بدل الجياد. (¬3) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 437، وينظر في معاني (كان): الكتاب. لسيبويه 1/ 45 - 56، "المقتضب" 3/ 96، 4/ 95، 116، 184، "تهذيب اللغة" 4/ 3083 - 3084، "الأزهية في علم الحروف" 183 - 192، "المفردات" ص 421 - 422، "لسان العرب" 7/ 3959 - 3963. (¬4) من "الحجة" 2/ 439 بتصرف، وينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج =

والعُسْرة: الاسم من الإعسار: وهو تعذر الموجود من المال، يقال: أَعْسَر الرجلُ إذا صار إلى حالة العُسْرةِ، وهي الحالة التي يتعسَّر عليها وجود المال (¬1). وقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ} أمر في صيغة الخبر، والفاء في جواب الشرط، تقديره: فالذي تعاملونه نظرة، أي: تأخير (¬2). والنَّظِرة: الاسم من الإنظار، وهو الإمهال، تقول: بِعته الشيء بِنَظِرَةٍ وبإِنْظَار (¬3). والميسرة: مفْعَلَة، من اليُسْرِ واليَسَارِ الذي هو ضد العُسْرة، وهو تيَسُّر الموجود من المال، ومنه يقال: أَيْسَرَ الرجلُ فهو مُوسر، أي: صار إلى حالةِ تَيَسُّرِ وجودِ المالِ، فالمَيْسُرة والمَيْسَرَة والمَيْسُور: الغنى (¬4) (¬5). وفيه قراءتان: فتح السين وضمها (¬6)، والفتح أشهر اللغتين؛ لأن مَفْعَلَة قد جاء في كلامهم كثيرًا، ومن قرأ بالضم فلأن مَفعُلة قد جاء أيضًا في كلامهم، ¬

_ =1/ 359، "تفسير الثعلبي" 2/ 1738، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 143، "البحر المحيط" 2/ 340، قال: وأجاز بعض الكوفيين أن تكون كان ناقصة هنا، وقَدَّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، محذوف المجرور الذي هو الخبر، وحذف خبر (كان) لا يجوز عند أصحابنا لا اقتصارًا ولا اختصارًا. (¬1) ينظر في العسرة: "تهذيب اللغة" 3/ 2431 - 2433، "المفردات" 337. (¬2) ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1739، والتقدير عنده: فعليه نظرة، أو فالواجب نظرة (¬3) ينظر في نظرة: "تهذيب اللغة" 4/ 3603 - 3605، "تفسير الثعلبي" 2/ 1739، "المفردات" 499 - 500. (¬4) في (ش): (والميسرة: الميسور وفيه). (¬5) ينظر في الميسرة: "تهذيب اللغة" 4/ 3979 - 3981، "المفردات" 553، "اللسان" 8/ 4957 - 4960. (¬6) قرأ نافع بضم السين، وقرأ الباقون بفتحها. ينظر: "السبعة" 192.

كالمَشْرُبَة والمَشْرُقَة وبابهما، ومفعُلة بناء مبني على التأنيث، ألا ترى أن مَفْعُل بناء لم يجىء في الآحاد (¬1)، قال سيبويه: وليس في الكلام مَفْعُل (¬2)، فعلى هذا قراءة من قرأ (مَيْسُرِهِ) بالهاء وضم السين مُضافًا، فأخْطأ، وهو قراءة مجاهد، وإحدى الروايات عن يعقوب (¬3). قال أبو إسحاق: من قرأ: (مَيْسُرِه) على الإضافة إلى الهاء فمخطئ، لأن مَيْسُر مَفْعُل، وليس في الكلام مَفْعُل، وزعم البصريون أنهم لا يعرفون مفْعُلًا (¬4). فأما ما أنشده ابن السكيت: ليَوْمِ رَوْعٍ أو فَعَالِ مَكْرُم (¬5) وقول آخر: بُثَيْنُ الْزَمِي (لا) إِنَّ (لا) إن لَزِمْتِه ... على كَثْرة الواشِينَ أَيُّ مَعُونِ (¬6) وقول عدي: أبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكًا (¬7) ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 414 - 415 بتصرف، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 340. (¬2) "الكتاب": لسيبويه 4/ 91، ونقله أبو علي في "الحجة" 2/ 415. (¬3) ينظر: "المحتسب" 1/ 143، "تفسير الثعلبي" 2/ 1741، و"إعراب القراءات الشواذ" 1/ 286، "البحر المحيط" 2/ 340. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 360، وتمامه: إنما يعرفون مفعُلة. (¬5) صدر البيت: مروان مروان أخو اليوم اليمي. والبيت لأبي الأخزر الحماني، في "اللسان" مادة: كرم 7/ 3861 - 3864، "البحر المحيط" 2/ 355. (¬6) البيت لجميل بثينة، انظر: "ديوانه" ص 105، "المحتسب" 1/ 144، "الخصائص" 3/ 321، "البحر المحيط" 2/ 355. (¬7) البيت لعدي بن زيد العبادي، مطلع قصيدته الرائية المكسورة، يستعطف بها =

فهذه كلُّها عند جميع النحويين من البصريين والكوفيين جَمْعٌ، فمَكْرُم (¬1) جمع مَكرُمَة، ومَعون جمْع مَعُونة، ومأْلُك جمع مالُكة، إلا عند الكسائى فإنه أجازَ أن يكونَ واحدًا، ولا يدخل هذا على كلام سيبويه، لأنه جمع، ومُراده فيما ذكر: أنه ليس في الكلام مفعُل المفرد دون الجمع، على أن مثلَ هذا الذي يقلّ (¬2) قد لا يَعتَدُّ به سيبويه، فربما أطلق القول فقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء عليه حرف أو حرفان، كأنه لا يعتد بالقليل، ولا يجعل له حكمًا (¬3). فأما الحكم في إنظار المعسر: فمهما علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه وملازمته وأن يطالبَه بما له عليه، ووجب عليه الانتظار إلى وقت يساره، إلا أن يكون له ريبة في إعساره، فجاز له أن يحبِسَه إلى أن يقيمَ المحبوسُ البينةَ، وتعتبر زيادةُ عددٍ على شاهدين في بينة الإعدام؛ لما روي في حديث قبيصة بن مخارق (¬4): "حتى يشهدَ ثَلاثةٌ من ذَوِي الحِجَى أنه أصابتْه فاقة وحاجة" (¬5). ¬

_ = النعمان، وعجزه: إنه قد طال حبسي وانتظاري في "ديوانه" ص 124، وينظر "الشعر والشعراء" ص 133، "الأغاني" 2/ 94، "العقد الفريد" 6/ 95، "الخزانة" 3/ 59. (¬1) في (أ) و (م) (مكرم) بدون فاء. (¬2) في (ي) و (ش) (نقل). (¬3) من "الحجة" 2/ 416 - 417 بمعناه. (¬4) هو قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد بن ربيعة بن نهيك العامري الهلالي، أبو بشر، صحابي، عداده في أهل البصرة، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ينظر: "أسد الغابة" 4/ 383 (¬5) رواه مسلم (1044) كتاب: الزكاة، باب من لا تحل له الصدقة، وذوو الحجى: ذوو العقول.

وإذا أقام بينة الإعدام كان للخصم طلبُ يمينه؛ لأن الرجل ربما يكتم ذخائر أمواله، فشهادة الشهود للظاهر، واليمين للباطن، وليس للقاضي أن يتوقف في الإصغاء إلى شهادة الإِعدام؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر مدة في سماع الشهادة (¬1) في حديث قبيصة. والحقوق مختلفة في هذا، فكلُّ حق لزم الإنسان عوضًا عن مالٍ حصلَ في يده، مثلُ قرضٍ أو ثمنِ سلعةٍ، فإذا ادّعى الإعسار لزمته إقامة البينة، وكلُّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان، فإذا ادَّعى الإعسار لزمَ ربُّ المال إقامةَ البينة على كونه موسرًا، لأن الأصل في الناس الفقر. ويباع في الديون جميعُ أموالِ الغريم، فلا يستبقى له سِوى (¬2) قوتِ يومٍ (¬3) ودست ثوب وسط (¬4). وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أعلم الله تعالى أن الصدقة برأس المال على المعسر خير وأفضل، والمراد: وأن تصدقوا على المعسر برأس المال خيرٌ لكم، ولكنه حذف للعلمِ به، لأنه قد جرى ذكرُ المعسر وذكرُ رأسِ المال، فعلم أن التصدقَ راجعٌ إليهما. ¬

_ (¬1) في (ي) (الشهود). (¬2) في (ي) (غير). (¬3) في (ش) (يوم بيوم). (¬4) ينظر في أحكام الآية: "تفسير الثعلبي" 2/ 1743، "معالم السنن" 4/ 179، "المغني" 6/ 585، "تكملة المجموع" 13/ 269، "مجموع فتاوى ابن تيمية" 35/ 397، "نيل الأوطار" 7/ 151.

281

281 - قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قال ابن عباس: هذه آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال جبريلُ عليه السلام: ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة (¬1). قال ابن جريج: وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال (¬2)، وقال سعيد بن جبير (¬3) ومقاتل (¬4): سبع ليال. وانتصب (يومًا) على المفعول به، لا على الظرف (¬5)، لأنه ليس المعنى: فاتقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح، ومثله قوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] أي: كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا (¬6) وصفه مع الكفر بالله، أي: لا يكون الكافر مستعدًا للقائه لكفره. وقوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} هذا يوم القيامة. وفي (ترجعون) قراءتان (¬7): ضم التاء وفتح الجيم، اعتبارًا بقوله: ¬

_ (¬1) رواه سفيان الثوري ص 73، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 370، والنسائي في "تفسيره" 1/ 290، والطبري في "تفسيره" 3/ 114 - 115، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 312، والطبراني في "الكبير" 11/ 293، والبيهقي في "دلائل النبوة" 7/ 137، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1774، والواحدي في "أسباب النزول" ص 17. (¬2) رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 370، والطبري في "تفسيره" 3/ 115. (¬3) رواه ابن أبي حاتم 2/ 554، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1782، والبغوي في "تفسيره" 1/ 347. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 228، وذكره في "زاد المسير" 1/ 335، وفي "الوسيط" 1/ 400. (¬5) ينظر: "المحرر الوجيز" 1/ 499. (¬6) في (ي) (الذي وصفه). (¬7) قرأ أبو عمرو: بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم. ينظر: "السبعة" ص 193، "الحجة" 2/ 417.

282

{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 62] {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36]. وقرأ أبو عمرو: (تَرْجعون) بفتح التاء وكسر الجيم، اعتبارًا بقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] فأضاف المصدر إلى الفاعل، وقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]. وقوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 46]. وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] (¬1). وقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي: جزاء ما كسبت من الأعمال، قال ابن عباس: يريدَ ثوابَ عَمَلِهَا، خيرًا بخير، وشرًّا بشر، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} يريد: وهم لا يُنْقَصُون، لا أهلُ الثوابِ ولا أهْلُ العِقَاب، قال: وهذه الآية لجميع الخلقِ البرِّ والفاجِرِ (¬2). 282 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} قال ابن عباس: لم حرّم الله تعالى الرِّبا أباحَ السَّلَم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (¬3) الآية. التداين: تفاعل، من الدَّيْن، ومعناه: داين بعضكم بعضًا وتبايعتم بدين (¬4)، قال أهل اللغة: القرضُ غير الدينِ؛ لأن القرض أن يقترض الإنسانُ دراهمَ أو دنانيرَ أو حَبًّا وتمرًا وما أشبه ذلك ولا يجوز فيه الأجل، والأجل في الدَّيْن جائز (¬5). ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 417 - 418 بتصرف. (¬2) ذكره في "الوسيط" 1/ 399، وهو من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 5، والشافعي في "الأم" 3/ 93، والطبري في "تفسيره" 3/ 116 - 117، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 554. (¬4) من قوله: (التداين)، ساقط من (ي). (¬5) ينظر "اللسان" 1/ 32 (مادة: أجل).

ويقال من الدَّين: ادَّانَ: إذا باع سلعته (¬1) بثمن إلى أجل، ودان بدين: إذا أَقْرضَ، ودان استقرض، وأنشد الأحمر (¬2): نَدِيْنُ ويَقْضِي اللهُ عَنّا وقد نَرَى ... مَصارعَ قَوْمٍ لا يَدِينُونَ ضُيَّعا (¬3) فهذا على معنى يستقرض، وادّان: إذا كثر عليه الدّين، وتديّن واستدان: إذا أخذ الدين (¬4)، قال: يُعَيّرُني بالدَّيْن قَوْمِي وإنَّما ... تَدَيَّنْتُ في أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُم حَمْدًا (¬5) قال المفسرون: كل حق مؤجل فهو داخل تحت قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) في (م) (سلعة). (¬2) هو: علي بن الحسن المعروف بالأحمر، مؤدب المأمون العباسي، وشيخ النحاة في عصره، كان جنديًا على باب الرشيد، وأخذ العربيةَ عن الكسائي الذي أوصله إلى الرشيد، كان قوي الذاكرة يحفظ 40 ألف بيتِ شعرٍ، توفي سنة 194هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 158 - 159، "الأعلام" 4/ 271. (¬3) البيت للعجير السلولي، في "لسان العرب" 3/ 1468 (مادة: دين)، "تاج العروس" (مادة: دين)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 2/ 1137، ينظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة" 4/ 249. قال ابن بَرِّي: صوابه ضُيّعِ بالخفض على الصفة لقوم وقبله: فَعِد صاحبَ اللَّحَّام سيفًا تبيعُه ... وزد درهمًا فوق المُغَالينَ واخْنَعِ (¬4) ينظر في دين: "تهذيب اللغة" 2/ 1137، "المفردات" ص181، "اللسان" 3/ 1468. (¬5) البيت للمقنع الكندي، ينظر "اللسان" 3/ 1468 مادة: (دين)، "تهذيب اللغة" 2/ 1138، "البحر المحيط" 2/ 8 ويروى البيت هكذا: يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدًا (¬6) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1783.

قال ابن الأنباري: إنما ذكر الدَّيْن مع أن {تَدَايَنْتُمْ} يدل عليه؛ لأن التداين يكون بمعنيين، أحدهما: التداين بالمال، والآخر: التداين بمعنى: المجازاة، من قولهم: كما تدين تُدان، والدين: الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتلخيص أحد المعنيين (¬1). وقوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} معنى الأجل في اللغة: الوقتُ المضروبُ لانقضاء الأمد، وأَجَلُ الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأَجَلُ الدين: محَلُّه، لانقضاء التأخير فيه، وأصله من التأخير، يقال: أَجِلَ الشيء يَأْجَلُ أُجُولًا: إذا تأخر، والآجل: نقيضُ العاجل. وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} الكِتابةُ والإِشهادُ اللذان ذكرا في هذه الآية للتداين، والمبايعة في قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قد اختلف الناس فيهما، فأوجبهما جماعة من أهل العلم، وقالوا: إن الله تعالى أمر في الحقوق المؤجلة بالكِتابة والإشهادِ حفظًا منه للأموال، وذلك أن الذي عليه الدين إذا كانت عليه الشهود والبينة قلّ تحديثه نفسه بالطمع في إذهابه، وهذا مذهب عطاء (¬2) وابن جريح (¬3) وإبراهيم (¬4) واختيار محمد بن جرير (¬5)، قال إبراهيم: يشهد ولو على دَسْتَجة (¬6) بَقْل. ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1783، وقيل: إنها جاءت للتوكيد، كقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. و"تفسير الطبري" 3/ 117، و"المدخل لتفسير كتاب الله": للحدادي 296 ص، و"تفسير أبي المظفر السمعاني" 2/ 461. (¬2) المغني 6/ 381. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 117. (¬4) المغني 6/ 381. (¬5) "تفسير الطبري" 3/ 119 - 120. (¬6) الدَّسْتَجَة: الحزمة. ينظر: "القاموس" ص 189 (مادة: دستج).

وقال قوم: هذا أمر ندب وإباحة كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وهذا اختيار الفراء؛ لأنه يقول: هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هو أدب ورحمة من الله، فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس (¬1). قال ابن الأنباري: وهو اختيارنا؛ لاتفاق أكثر العلماء عليه، ولأن الأمر لو كان حتمًا لم يكن المسلمون ليقدموا على خلاف نصّ القرآن في أسواقهم، ولكان فيه أعظم التشديد على الناس والتغليظ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بُعِثْتُ بالحنفية السمحة" (¬2). وقال آخرون: كانت الكتابة والإشهاد أو الرهن فرضًا، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} إن أشهدت فَحَزْم (¬3)، وإن تركت ففي حلٍّ وسعة (¬4). وقال التيِمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهدَ، وإن شاء لم يُشْهِدْ، ألا تسمع قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء. (¬2) رواه أحمد 5/ 266. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص109: وسنده حسن. (¬3) في (م) (فجزم). (¬4) وهذا قول الشعبي، رواه الثوري في "تفسيره" ص 73، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 145، وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 97، والطبري في "تفسيره" 3/ 118، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 570، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 263، وقال: وهذا ليس بنسخ؛ لأن الناسخ ينافي المنسوخ، ولم يقل هاهنا: فلا تكتبوا ولا تشهدوا، وإنما بين التسهيل في ذلك. وينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 383، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 2/ 683. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 118، وفي "النكت والعيون" 1/ 354 بمعناه.

قال أبو عبيد: والعلماء اليوم من أهل الحجاز وأهل العراق وغيرهم على هذا القول (¬1)، أن شهادة المبايعة ليست بحتم على الناس، والآية الناسخة بعدها قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ويرون (¬2) أن البَيِّعينِ مخيَّرانِ في الشهادة والترك (¬3). وقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي: ليكتب كتاب الدين بين المستدين والمدين كاتب بالعدل، أي: بالحق والإنصاف، لا يكتب لصاحب الدين فضلًا على الذي عليه، ولا يُنْقِصُه (¬4) من حَقِّه، ولا يقدِّم الأجلَ، ولا يؤخِّرُه، ولا يكتب شيئًا يبطل به حقًّا لأحدهما لا يعلمه هو، فهذا العدل (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أي: لا يمتنع، يقال: أبى فلان الشيء يَأبَاهُ، إذا امتنع عنه (¬6) ولم يفعله، ويقال: أَخَذَه أُبَاءٌ، إذا كان يأْبى الطعامَ فلا يشتهيه (¬7). قال مجاهد (¬8) والربيع (¬9): واجب على الكاتب أن يكتبَ إذا أُمر؛ لأن ¬

_ (¬1) سقطت من (م). (¬2) في (ش) (ويروي). (¬3) وينظر في المسألة: "المغني" 6/ 381 - 383، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 248، "تفسير القرطبي" 3/ 383. (¬4) في (ي) (ولا ينقصه عليه). (¬5) "تفسير الثعلبي" 2/ 1789. (¬6) في (م) (منه). (¬7) ينظر في أبى: "تهذيب اللغة" 1/ 114، "اللسان" 1/ 14 قال الراغب في "المفردات": الإباء شدة الامتناع، وليس كل امتناع إباء. (¬8) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 365، والطبري في "تفسيره" 3/ 119، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 556. (¬9) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 120، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 555.

الله تعالى أَمَره أن لا يَأْبى. قال الفراء: أُمِرَ الكاتبُ أن لا يأبى، لقلةِ الكُتّاب كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال الحسن: ذاك إذا لم يقدر على كاتب سواه فيضر بصاحب الدين إن امتنع (¬2). وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد، فنسخها قوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬3). وقوله تعالى: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أي: لا يأبَ أن يكتبَ كما أمره الله عز وجل من الحق، فعلى هذا يكون قوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} متصلًا بقوله: {أَن يَكْتُبَ} كما أمره الله، ويحتمل أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {أَن يَكتُبَ} ثم قال: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أي: كما فضله الله بالكتابة. وقال ابن عباس: كما أفهمه الله، ولا يمنعن المعروف بكتابة (¬4). والوجهان ذكرهما الزجاج (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1789. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1789، والبغوي في "تفسيره" 1/ 349. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 120، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1790، والبغوي في "تفسيره" 1/ 349، وفي "النكت والعيون" 1/ 355، "تفسير القرطبي" 3/ 384، وقال معلقًا: هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع، حتى نسخه قوله تعالي: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} وهذا بعيد؛ فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان، ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار لها؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الوثيقة على كَتْب الوثيقة. وينظر "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 248. (¬4) هو من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 362.

وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} الإِمْلال والإِملاءُ لغتان (¬1)، قال الفراء: أمْلَلْتُ عليه الكتابةَ لغةُ الحجاز وبني أسد، وأَمْلَيتُ لغة تميم (¬2) وقيس، نزل القرآن باللغتين (¬3)، قال الله تعالى في اللغة الثانية: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] ومعنى الآية: أن (¬4) الذي عليه الدين يُملي؛ لأنه المشهود عليه، فيُقر على نفسه بلسانه، ليُعلم ما عليه. وقوله تعالى: {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} البَخْسُ: النُّقْصَان، يقال: بَخَسه حَقَّه، إذا نَقَصَه (¬5). أُمِر من عليه الحق أن يُقرَّ بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص شيئًا. وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} قال مجاهد: جاهلا (¬6) بالإملاء (¬7). وقال الضحاك (¬8) والسدي (¬9): طفلًا صغيرًا. ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1790. (¬2) في (ي) (بني تميم). (¬3) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3452 (مادة: ملل)، وينظر "اللسان" 7/ 4271 (مادة: ملل). (¬4) سقطت من (أ) و (م). (¬5) ينظر في بخس: "تهذيب اللغة" 1/ 221: "المفردات" ص 48، قال الراغب: البخس: نقص الشيء على سبيل الظلم. (¬6) سقطت من (ي). (¬7) رواه عبه الطبري في "تفسيره" 3/ 122، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 559، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1791. (¬8) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 122، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1791. (¬9) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 122، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 559.

(أو ضعيفًا) يعني: عاجزًا أحمق، عن السدي (¬1) وابن زيد (¬2). (أو لا يستطيع أن يملّ هو) لخَرَسٍ أو عِيِّ أو (¬3) جَهْلٍ بما له وعليه (¬4). {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}. قال الضحاك (¬5) وابن زيد (¬6): أي: ولي السفيه والعاجز والطفل، يعنى: قيمه أو وارثه أو من يقوم مقامه في حقه. وقال ابن عباس (¬7) والربيع (¬8) ومقاتل (¬9): يعني: ولي الحق، وهو صاحب الدين؛ لأنه أعلم بدينه. {بِالْعَدْلِ}: بالصدق والحق والإنصاف. والقول الأول اختيار الزجاج (¬10) وصاحب النظم، وهو الأظهر والأصح. قال الزجّاج: إن الله عز وجل أمر أن لا يؤتى السفهاء الأموال، وأمر أن يقام بهم (¬11) فيها، فقال: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]، فوليُّه: الذي يقوم مقامه في ماله. قال: وقول من قال: إنه ولي الدين، بعيد، كيف يقبل قول المدعي، وما حاجتنا إلى الكتابة والإشهاد، والقول قوله (¬12)؟ ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123. (¬3) غير واضح في (م). (¬4) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1791. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123 بمعناه. (¬6) المرجع السابق. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1792، والبغوي في "تفسيره" 1/ 349. (¬8) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1792. (¬9) "تفسير مقاتل" 1/ 229. (¬10) "معاني القرآن" 1/ 363. (¬11) في (ي) و (ش) (لهم). (¬12) "معاني القرآن" 1/ 363.

وقال صاحب "النظم": الذي يدل عليه نظم هذا الفصل أنه ولي السفيه، لأن ولي السفيه (¬1) يقوم مقام (¬2) السفيه، والسفيه هو الذي عليه الحق، وقد وسم الله عز وجل في أول الفصل صاحب الحق بوسْمٍ، وكان ما وسمه به أن قال: {فَلْيَكْتُبْ} ووسم الذي عليه الحق (¬3) بوسم آخر، فقال: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (¬4) فلما قال هاهنا: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}، عُلِمَ أنه يعني: وليَّ السفيه؛ لأنه أقامه مقام السفيه، وهو الذي عليه الحق، ولو أراد صاحب الحق لقال: فليكتب وليه بالعدل، كما وسمه (¬5) به في أول القصة. وأجاز الفراء القولين جميعًا (¬6). وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا} أي: أَشْهِدُوا، يقالُ: أَشْهَدتُّ الرجلَ واستشهدته بمعنى (¬7)، وبه فسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَشْهَدُون (¬8) ولا يُستشهدون" (¬9) أي: لا يشهدون. ¬

_ (¬1) قوله: (لأن ولي السفيه)، ساقط من (ي). (¬2) في (م) (مقامه). (¬3) سقطت من (م). (¬4) في (ي) (قال فلما قال). (¬5) في (ي) (قال) بدل (وسمه به). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 183. (¬7) ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1944 (مادة: شهد). (¬8) سقطت من (ي). (¬9) رواه البخاري (3750) كتاب: فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (5235) كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة، عن عمران بن حصين.

وقوله تعالى: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يعني: من أهل ملتكم من الأحرار البالغين، دون الصبيان والعبيد (¬1). وقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قال الزجاج: أي: (¬2) فالذي يُستشهد إن لم يكن رجلان فرجل (¬3) وامرأتان (¬4). قال الفراء: فليكن رجل وامرأتان فرفع بالرد على الكون (¬5). وقال صاحب "النظم": أي: فليكفكم رجل وامرأتان (¬6). وقيل: فرجل وامرأتان (¬7) يشهدون. كل هذه التقديرات جائز حسن. قال أبو علي الفارسي: قال أبو الحسن الأخفش: التقدير: فليكن رجل وامرأتان (¬8)، كما قال الفراء، ثم قال من عنده: يجوز أن تكون (¬9) (كان) المضمرة في الآية الناصبة للخبر (¬10)، ويجوز أن تكون التامة التي لا ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1792، وينظر "الأم" 6/ 251، "مختصر الطحاوي" 335، "المغني" 14/ 185، وأجاز أنس بن مالك وابن سيرين وشريحٌ شهادةَ العبيد، وأجاز الحسن وإبراهيم. والشعبي والنخعي والحكم شهادتهم في الشيء التافه. ينظر صحيح البخاري (2659) كتاب: الشهادات، باب: شهادة الإماء والعبيد، و"المصنف" لابن أبي شيبة 6/ 77، و"المغني" 14/ 186. (¬2) سقطت من (ي). (¬3) في (أ) و (م) و (ش) (رجل). (¬4) "معاني القرآن" 1/ 363. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 184. (¬6) من قوله: (قال الفراء). ساقط من (أ) و (م). (¬7) من قوله: (قال الفراء). ساقط من (أ). (¬8) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 189. (¬9) في (ي): (إن كانت كان). (¬10) في (م): (للحال).

توجب خبرًا، فإن أضمرت التي تقتضي الخبر كان تقدير إضمار الخبر: فليكن من يشهدون رجل أو امرأتان، وإن (¬1) أضمرت التامة (¬2) التي بمعنى الحدوث والوقوع كان أولى؛ لأنك إذا أضمرتها أضمرت شيئًا واحدًا، وإذا أضمرت الأخرى احتجت أن تضمر شيئين، وكلما قل الإضمار (¬3) كان أسهل (¬4)، وأيهما أضمرت فلابدّ من تقدير المضاف، المعنى: فليحدث شهادة رجل وامرأتين، أو يقع، ألا ترى أنه ليس المعنى: فليحدث رجل وامرأتان، ولكن لتحدُث شهادتهما أو تقع، أو تكون شهادة رجلٍ وامرأتين (¬5) فيما يشهدون (¬6). واجماع أن شهادة النساء جائزة (¬7) في الأموال (¬8). وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قال ابن عباس: يريد: من ¬

_ (¬1) في (م): (فإن). (¬2) سقطت من (ي). (¬3) في (أ) و (م): (إضمار). (¬4) ذكر في "البحر المحيط" 2/ 346 أن الصحيح أن خبر كان لا يحذف لا اقتصارًا ولا اختصارًا. (¬5) في (ي): (أمرأة). (¬6) من "الحجة" 2/ 419 - 421 بتصرف، وينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 344، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" 1/ 167، "البحر المحيط" 2/ 346. (¬7) سقطت من (م). (¬8) حكى الإجماع الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1793، وابن المنذر في "الإجماع" ص 78، وينظر: "اختلاف الفقهاء" للمروزي ص 284، "المغني" 14/ 130، "فتح الباري" 5/ 266، ووقع الخلاف في غير الأموال، فيرى مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأحمد وأبو ثور: أنها لا تجوز إلا في الأموال، ويرى أبو حنيفة وسفيان: أنها جائزة في كل شيء ما عدا الحدود والقصاص.

أهل الفضل والدين (¬1)، كما في الطلاق، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. ودل هذا القول: أن في الشهود من ينبغي أن لا يُرضى (¬2)، وجملة القول فيمن تقبل شهادته، أن يجتمع فيه عشر خصال: يكون حرًا، بالغًا، مُسلمًا، عدلًا، عالمًا بما يشهد به، ولا يجرُّ بشهادته إلى نفسه منفعة، ولا يدفع عن نفسه مضرةً، ولا يكون معروفًا بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عَصَبيّة (¬3). وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أن تتعلق بفعل مضمر، دل عليه ما قبله من الكلام، وذلك أن قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يدل على: فاستشهدوا رجلًا وامرأتين، فتعلق أن إنما (¬4) هو بهذا الفعل المدلول عليه (¬5)، ويجوز أن يتعلق الشيء بما ذكرنا من الفعل المقدر، في قول الفراء وأبي الحسن (¬6) وهو: فليكن رجل وامرأتان، ويجوز أن يتعلق بشيء ثالث، وهو الخبر المضمر فيمن جعل التقدير: فرجل وامرأتان يشهدون (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره في "زاد المسير" 1/ 338، وفي "الوسيط" 1/ 405. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 363. (¬3) ينظر في ذكر الشروط: "تفسير الثعلبي" 2/ 1796، و"الكافي" لابن عبد البر 2/ 892، و"المغني" 14/ 145، و"روضة الطالبين" 14/ 145، "البحر المحيط" 2/ 347. وبين المذاهب خلاف في بعض هذه الشروط. (¬4) سقطت من (ي). (¬5) من "الحجة" 2/ 419. (¬6) تقدمت أقوالهما عند قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}. (¬7) من "الحجة" 2/ 421. (¬8) ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للفراء 1/ 184، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 345، "الحجة" 2/ 419، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" ص 167.

وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ} قال ابن عباس (¬1) وجميع أهل التفسير والمعاني: تَضلّ: تنسى، والضلال يكون بمعنى النسيان؛ لأن الناسي للشيء عادل عنه وعن ذكره، قال الله عز وجل: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أي: الناسين الذين ضلوا وجه الأمر، ومن هذا قولهم: ضَلِلْتُ الطريق والدار أَضِلُّه ضلالًا: إذا لم تدر أين هو (¬2)، قال الفرزدق: ولَقَدْ ضَلَلْتَ أباَكَ يَدْعُو دَارِمًا ... كضَلالِ مُلْتَمِسٍ طَرِيقَ وَبَارِ (¬3) وقال أبو عمرو: أصل الضلال في اللغة: الغيبوبة (¬4). وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أي: تغيب عن حفظِها، أو يغيب حفظُها عنها، وإحدى: تأنيث الواحد. قال أبو علي: أنثوه على غير بنائه، و (إحدى) لا تستعمل إلّا مضمومة إلى غيرها ومضافة، لا يقولون: رأيت إحدى، ولا جاءني إحدى. وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: (¬5) يقال: أحد في جمع إحدى. يقال: فلان إحدى الإحد، وأحَدُ الأَحَدِيْن، وواحِدُ الآحَاد، كما يقال: واحد لا ¬

_ (¬1) ذكره في "زاد المسير" 1/ 338. (¬2) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2129 - 2131 (مادة: ضلّ)، "تفسير الثعلبي" 2/ 1805، "المفردات" 300 - 302، وأطال النفس في ذكر أنواعه، "لسان العرب" 5/ 2601 - 2604 (مادة: ضلل)، وفيه قال أبو عمرو بن العلاء: إذا لم تعرف المكان قلت: ضلَلته، وإذا سقط من يدك شيء قلت: أضللته، يعني: أن المكان لا يضل وإنما أنت تضل عنه. (¬3) البيت من الكامل، وهو للفرزدق في "ديوانه" ص 450، "لسان العرب" 5/ 2601 مادة: (ضلل). (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2130 (مادة: ضل). (¬5) في "الحجة": (وقال أحمد بن يحيى) ولم يروه عن ابن الأعرابي كما هنا.

مثل له، وأنشد: حتى استثاروا بي (¬1) إحْدَى (¬2) الإِحَدِ ... لَيْثًا هِزَبْرًا ذا سِلاحٍ مُعْتَدِي (¬3) قال أبو العباس: جعلوا الألف في (إحدى) بمنزلة التاء في الكسرة، فقالوا (¬4) في جمعها: إِحَد، كما قالوا: كِسَر لما جَعَلُوه مثلها في الكبر والكبرى، والعُلْيا والعُلَى، فكما جعلوا هذه كظُلْمَة وظُلَم، جعلوا الأول بمنزلة كِسَرٍ وسِدَرٍ (¬5)، وكما جعلوا الألف المقصورة بمنزلة التاء فيما ذكرنا جعلوا الممدودة أيضًا بمنزلتها في قولهم: قَاصِعَاءُ وقَوَاصعُ، ودَامَّاءُ ودَوَامّ (¬6). وموضع (أن) نصب، لأن المعنى: استشهدوا امرأتين، لأن تُذَكّر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكر (¬7). فإن قيل: إذا كان المعنى هذا فلم جاز: أن تضل، والشهادة لم توقع للضلال الذي هو النسيان، إنما وقعت للذكر والإذكار؟ والجواب عنه: أن ¬

_ (¬1) في (ي): (في). (¬2) في (م): (أحد). (¬3) رجز للمرار الفقعسي. ينظر: "الأغاني" 10/ 324، "الخزانة" 3/ 293. (¬4) في (ش): (فقال). (¬5) في (ش): (سدد). (¬6) "الحجة" 2/ 422 - 423. وينظر في أحد: "اللسان" 1/ 35، "عمدة الحفاظ" 1/ 71 - 73. (¬7) ينظر في الإعراب: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 364، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" ص 168.

الإذكار لما كان سببه الإضلال، جاز أن يذكر (أن تضل)؛ لأن الضلال هو السبب الذي به وجب الإذكار، كما تقول: أعددت هذا (¬1) أن يميل الحائط فأدعمه (¬2)، وإنما أعددت للدعم لا للميل، ولكن ذكر الميل لأنه سبب الدعم، كما ذكر الضلال لأنه سبب الإذكار، هذا قول سيبويه، وعليه البصريون (¬3). وقال الفراء: معنى الآية: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، كي تُذَكِّر إحداهما الأخرى إن ضلت، فلما تقدم (¬4) الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن، قال: ومثله من الكلام؛ إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى، معناه: إنه ليعجبني أن يعطى السائل أن سأل؛ لأنه إنما (¬5) يعجبه الإعطاء لا السؤال (¬6)، فلما قدموا السؤال على العطية أصحبوه أن المفتوحة ليكشف المعنى، فعنده (أن) في قوله: {أَنْ تَضِلَّ} للجزاء، إلا أنه قدم وفتح، وأصله التأخير. وأنكر البصريون هذا القول (¬7). قال أبو إسحاق: لست أعرف لم صار الجزاء إذا تقدم وهو في مكانه وغير مكانه وجب أن تفتح أن (¬8). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": (أعددت هذا الجذع)، وفي "الكتاب" لسيبويه 3/ 53: أعددته. (¬2) في (ش) (فأدغمه). (¬3) ينظر: "الكتاب" لسيبويه 3/ 53، وعنه نقل الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 364، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" ص 168. (¬4) في (م) (قدم). (¬5) في (ش) (إنه). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 184، "تفسير الثعلبي" 2/ 1804. (¬7) ينظر في رد هذا القول: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 345، "التبيان" ص 168. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 364.

وقال أبو علي: ما ذكره الفراء دعوى لا دلالة عليها، والقياس يفسدها (¬1)، ألا ترى أنا نجد الحرف العامل إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغيرًا في عمله ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن فتح اللام الجارة مع المظهر، عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فقال: لَزَيْدٍ، فكما أن هذا اللام لما فتحت لم يتغير من عملها ومعناها شيءٌ عما كان عليه من الكسر، كذلك (إن) الجزاء لو فُتِحَتْ لم يجب على قياس اللام أن يتغيَّرَ له معنى ولا عمل، ومما (¬2) يبعد ذلك: أن الحروف العاملة إذا تقدمت كانت مثلها إذا تأخرت، لا تتغير بالتقدم عما (¬3) كانت عليه في التأخير، ألا ترى أن من قال: بزيدٍ مررتُ، وإلى عمروٍ ذهبتُ، فقدم الحرف كان تقديمُه مثلَ تأخيرِه لا يُغَيِّرُ التقديم شيئًا كان عليه في التأخير (¬4). وقال صاحب النظم في هذه الآية: التقدير: مخافة أن تضل وخوفًا لكم، أن تضل أن تنسى، لما فيهن من النقص عن ذكر الرجال وحفظهم، كما قال عمرو بن كلثوم: فَعجَّلْنَا القِرَى أن تَشْتِمُونَا (¬5) قيل فيه: مخافة أن (¬6) يشتمونا، وهذا لا بأس به لو لم يكن بعد قوله: ¬

_ (¬1) في (ي): (يفيدها). (¬2) في (ي): (ما). (¬3) في (أ) و (ش): (كما). (¬4) من "الحجة" 2/ 433 بتصرف. (¬5) شطره الأول: نزلتم منزل الأضياف منا والبيت من معلقته، ينظر: "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 361، "جمهرة أشعار العرب" 1/ 412، "منتهى الطلب" 1/ 116، "شرح شواهد المغني" ص 44. (¬6) في (أ) و (م) (لا يشتمونا).

{أَنْ تَضِلَّ} {فَتُذَكِّرَ}، ولما عطف قوله: {فَتُذَكِّرَ} على {أَنْ تَضِلَّ} فسد هذا القول؛ لأن الخوف على الضلال يصح، والخوف على التذكير لا يصح؛ لأن إشهاد امرأتين للتذكير لا لخوف التذكير (¬1). وقرأ حمزة (إن تَضَلَّ) بكسر الألف (فَتُذَكِّرُ) بالرفع (¬2)، جعل (إن) للجزاء، و (تضل) في موضع جزم، وحركت بالفتح لالتقاء الساكنين، كقوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} [المائدة: 54]. والفاء في قوله: {فَتُذَكِّرَ} جواب الجزاء، وقياس قول سيبويه في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أن يكون بعد الفاء في {فَتُذَكِّرَ} مبتدأ محذوف (¬3)، ولو أظهرته لكان: فيما (¬4) تُذَكِّرُ إحداهما الأخرى، والذكر (¬5) العائد إلى المبتدأ المحذوف: الضميرُ في قوله: {إِحْدَاهُمَا}. وموضع الشرط وجوابه رفع بكونهما وصفًا للمنكرين (¬6)، وهما المرأتان في قوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، لأن الشرط والجزاء جملة يوصف ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 346، وقال في "التبيان" ص 168: ولا يجوز أن يكون التقدير: مخافة أن تضل؛ لأنه عطف عليه {فَتُذَكِّرَ}، فيصير المعنى. مخافة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا عكس المراد. وينظر "البحر المحيط" 2/ 349. (¬2) وقرأ الباقون (أن تضل إحداهما فتُذَكِّر) بفتح همزة (أن) ونصب الراء من (تذكر) غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الكاف وشددها الباقون. ينظر "السبعة" ص 194، "الحجة" 2/ 418 - 419. (¬3) في (ي): (محذوف الضمير في). (¬4) في (ش): (فيهما). وفي (أ): (كأنها: فهما)، والمثبت من "الحجة". (¬5) في (ي) (والذكرى). (¬6) في (ش) (وضعا للمنكورين)، وفي (ي) (للمنكورين).

بها، كما يوصف (¬1) بها في نحو قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الحج: 41] (¬2). وقوله تعالى {فَتُذَكِّرَ} قرئ بالتشديد والتخفيف (¬3) (¬4)، والذكر فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضعفت منه العين أو نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعول آخر، مثل: فَرَّحْتُه وأَفْرَحْتُه، وغَرَّمْتُهُ وأَغْرَمْتُه، وكَرَّمْتُه وأَكْرَمْتُه. فمن قرأ بالتشديد كان ممن جعل التعدية بالتضعيف ومن حجته: قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، والتشديد أكثر استعمالًا من التخفيف، أنشد أبو علي: على أنَّنِي بَعْدَما قَدْ مَضَى ... ثَلاثُون للهَجْرِ حَوْلًا كَمِيلا يُذَكّرُنيِكِ حَنِينُ العَجُولِ ... ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلا (¬5) ¬

_ (¬1) في "الحجة": (يوصل). (¬2) من "الحجة" 2/ 426 - 427 بتصرف وتقديم وتأخير. (¬3) في (ي) (بتشديد الكاف وتخفيف). (¬4) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الكاف، وقرأ الباقون بالتشديد. ينظر: "السبعة" ص 194، "الحجة" 2/ 419. (¬5) البيتان للعباس بن مرداس الصحابي في "ديوانه" ص 136، "الحجة" 2/ 431، "لسان العرب" 7/ 3930 مادة: (كمل). والحنين: ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها، والعَجُول من الإبل: الواله التي فقدت ولدها بذبح أو موت أو هبة، ونوح الحمامة. صوت تستقبل بها صاحبها، والهديل: قال ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ص 210: العرب تجعله مرةً فَرْخُا تزعم الأعراب أنه كان على عهد نوح لله، فصاده جارح من جوارح الطير، قالوا: فليس من حمامة إلا وتبكي عليه. ومرة يجعلونها الطائر نفسه، ومرة يجعلونه الصوت. ينظر "الخزانة" 1/ 573 وشرح أبيات المغني 7/ 203، وتحقيق "الحجة" 2/ 431.

ومن قرأ بالتخفيف جعل التعدية إلى المفعول الثاني بالنقل بالهمزة، والمفعول الثاني محذوف، المعنى: فتذكّر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها (¬1). وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان، إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي: تجعلها ذَكَرًا (¬2)، يعني: أنها إذا شهدت مع أخرى صارت شهادتهما كشهادة ذكر، وقد روي هذا أيضًا عن أبي عمرو بن العلاء (¬3)، أخبرناه أبو الحسن بن أبي عبد الله الفسوي، وأحمد بن محمد الفقيه، وأبو محمد الكراني (¬4)، حدثنا عبد الله بن شبيب (¬5)، حدثنا المنقري، حدثنا الأصمعى، قال: قال أبو عمرو بن العلا: من قرأ: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} بالتشديد فهو من طريق التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا وبحضرتنا فلان أو فلانة، حتى تذكر الشهادة، ومن قرأ: (فتذكر) بالتخفيف، قال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها، لأنهما تقومان مقام رجل، ونحو هذا روى ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 431 - 432 بتصرف وتقديم وتأخير، وينظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 151، "علل القراءات" للأزهري 1/ 100. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 125، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 318، وابن زنجلة في "حجة القراءات" ص 151، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1806، والبغوي 1/ 351، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 338. (¬3) ذكره في "زاد المسير" 1/ 338، "المحرر الوجيز" 2/ 511 - 512، "البحر المحيط" 2/ 349. (¬4) في (أ) و (م) (المكداني). (¬5) عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، إخباري علامة، لكنه واهٍ ذاهب الحديث، كان يقلب الأخبار ويسرقها. ينظر: "ميزان الاعتدال" 3/ 152، "تاريخ بغداد" 9/ 474.

أبو عمر عن ثعلب سواء. وأنكر المفسرون هذا التفسير، وضعّفوه، من حيث إن النساءَ لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن حتى يكون معهنَّ رَجُل، فإذا كان الأمر على هذا لم تُذْكِرْها، والحاجة في نفاذ الشهادة إلى الرجل قائمة، ومما يبعد هذا التفسير: أن الضلال في قوله: {تُضِلَّ إِحْدَاهُمَا} فسر بالنسيان، والذي (¬1) ينبغي أن يعادله ما هو مقابل للنسيان من التذكير، وأيضًا فإن المرأة إذا انضمت إلى المرأة لو صيرتها ذكرًا لكانت شهادة المرأتين بمنزلة شهادة رجل في جميع الأحكام (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا في تحمل الشهادة، وكل من (¬3) دعي لتحمل شهادة وجب عليه ترك الإباء، في قول قتادة (¬4) والربيع (¬5). قال الشعبي: هذا إذا لم يوجد غيره فيتعين عليه الإجابة، فإن وجد غيره ممن يتحمل فهو مخير (¬6). ¬

_ (¬1) في (ي) (فالذي). (¬2) ينظر في الرد: "الحجة" 2/ 433، وعنه نقل المؤلف أكثر الكلام، "تفسير الثعلبي" 2/ 1806، "المحرر الوجيز" 1/ 511 - 512، "البحر المحيط" 2/ 349، وعده الزمخشري في "الكشاف" من بدع التفاسير، وقال ابن عطية: وهذا تأويل بعيد غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر، وذكر أبو حيان في "البحر" أن هذا التأويل ينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى، ثم فصل ذلك. (¬3) في (ش) و (كلما). (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 126، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 563. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 127، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 563. (¬6) نفسه.

القول الثاني: أن هذا في إقامة الشهادة وأدائها، قال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد: إذا استودعته الشهادة ثم احتجت إلى شهادة فلا ينبغي له أن يتخلف عنك حتى يأتي معك إلى الحاكم فيؤديها (¬1). وهو قول مجاهد (¬2) وعكرمة (¬3) والسدي (¬4) وسعيد بن جبير (¬5). القول الثالث: أن هذا في الأمرين جميعًا التحمل والأداء، إذا كان فارغًا، ولم يكن له عذر، وهذا قول الحسن (¬6) واختيار أبي إسحاق. قال: والدليل على أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداءً أن يجيب قولهُ تعالى {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} أي: لا تملوا أن تكتبوا ما شهدتم عليه، فقد أمروا بهذا، فهذا يؤكد أن أمر الشهادة فى الابتداء واجب، وأنه لا ينبغي أن تملوا (¬7). والسآمة: المَلاَلَةُ والضَّجَر، يقال: سَئِمْتُ الشيءَ أَسْأَمُهُ سَأَمًا وسَآمةً (¬8). ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 127، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 563، "الوسيط" 1/ 405. (¬2) في "تفسيره" 1/ 118، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، والطبري في "تفسيره" 3/ 128. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 128، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 563، "الوسيط" 1/ 405. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 128. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 128، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 563. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، وسعيد بن منصور في "مسنده" 3/ 996، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 71، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 563. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 365. (¬8) ينظر في سئم: "المفردات" ص 226، "تفسير الثعلبي" 2/ 1809، "اللسان" =

يقول: لا يمنعكم (¬1) الضَّجَر والملالةُ أن تكتبوا ما شهدتم عليه من الحقِّ صَغُر أو كَبُر، قلَّ أو كَثُر، و (أن) مع الفعل مصدر في محل النصب بوقوع السآمة عليه (¬2). والهاء في {تَكْتُبُوهُ} تعود على الحق، وكذلك الهاء في الأجل (¬3). هذا ما قيل في تفسير هذه الآية، وأظهر من هذا أن يُجْعَلَ قوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ} خطابًا لأولياء الحق، يقول: لا تَمَلُّوا أن تكتبوا حقُوقَكُم التي دفعتموها إلى الناس دقّت أو جلَّت، وتذكروا في الكتاب أَجَلَها ومَحَلَّها، ويؤكد هذا الوجه: أن الآية من ابتدائها خطاب لأرباب الأموال والديون. والقيراط والحبة لا تدخل في الندب إلى الكتاب؛ لأن هذا مضمن بالعادة وليس في العادة أن يكتبُوا التَّافِه. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ} أي: الكتاب {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: أعدل (¬4)، وذكرنا الكلام في قسط وأقسط عند قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] (¬5) وإنما كانت الكتابة أعدل؛ لأن الله أمر به، واتباع ¬

_ =3/ 1907، قال في "اللسان": سئم الشيء وسئم منه وسئمت منه أسام سأَما وسأْمة وسآمة. وقال الراغب: السآمة: الملالة مما يكثر لبثه فعلًا كان أو انفعالًا. (¬1) في (ش) (لا يمنعنكم). (¬2) ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 346، "تفسير الثعلبي" 2/ 1810. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1810. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1811. (¬5) ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2959، "التبيان" ص 231، قال الراغب في "المفردات" ص 404: والقسط هو أن يأخذ قسط غيره وذلك جور، والإقساط أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف، ولذلك قيل: قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل.

أمره أعدل من تركه (¬1). {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لأن الكتاب يذكر الشهود، فتكون شهادتهم (¬2) أقوم من أن لو شهدوا على ظن ومخيلة. ومعنى {وَأَقْوَمُ} أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج، وذلك أن المنتصب القائم يكون ضد المنحني المعوج، {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي: أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل (¬3). وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} أي: إلا أن تقع (¬4) تجارة حاضرة في هذه الأشياء التي اقْتُصَّت وأمر فيها بالتوثقة بالإشهاد والارتهان، فلا جناح في ترك ذلك فيه؛ لأن ما يخاف في النَّسَاء والتأجيل يؤمن في البيع يدًا بيدٍ (¬5). والكونُ هنا بمعنى: الوقوع والحدوث، كما بينا في قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]. وقال الفراء (¬6): وان شئت جعلت {تُدِيرُونَهَا} في موضع نصب، فيكون لـ (كان) مرفوع ومنصوب (¬7). وعلى الوجه الأول تكون (¬8) في موضع رفع كأنه قيل: إلا أن تقع ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1811. (¬2) في (أ) و (م): (الشهادة). (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1811. (¬4) من قوله: (تديرونها)، ساقط من (ش). (¬5) ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1811 - 1812. (¬6) قوله: (وقال الفراء)، سقطت من (ش). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 185. (¬8) من قوله: (في موضع نصب)، ساقط من (أ) و (م).

تجارةٌ حاضرةٌ دائرة بينكم (¬1). وقرأ عاصم {تِجَارَةً حَاضِرَةً} بالنصب (¬2)، قال أبو إسحاق: المعنى: إلا أن تكون المداينةُ تجارةً حاضرةً (¬3). قال أبو علي: لا يجوز أن يكون التداين اسم كان؛ لأن التداين معنى، والتجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتداين حق في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان؛ لاختلاف التداين والتجارة الحاضرة، ولا يجوز أيضًا (¬4) أن يكون اسمها (الحق) الذي في قوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} للمعنى الذي ذكرنا في التداين؛ لأن ذلك الحق دين فإذا لم يجز هذا، لم يخل (¬5) اسم كان من أحد شيئين: أحدهما: أن هذه الأشياء التي اقْتُصَّتْ من الإشهاد والإرتهان قد عُلِمَ من فحواها التبايع، فأضمر لدلالة الحال عليه، كما أضمر لدلالة الحال في ما حكى سيبويه من قولهم: إذا كان غدًا فأتني، وينشد على هذا: أَعَيْنَيّ هَلّا تَبْكِيَانِ عِفَاقا ... إذا كان طَعنًا بينهم وعِناقا (¬6) ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 132 - 133، و"الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه ص 103، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 1/ 321. (¬2) قرأ عاصم وحده (تجارة) نصبًا، وقرأ الباقون بالرفع. ينظر: "السبعة" ص 194، "الحجة" 2/ 436. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 366. (¬4) سقطت من (ش). (¬5) في (م) (يجز). (¬6) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 186 ولم ينسبه، وعفاق: اسم رجل، وقد يكون هذا عفاق بن مري الذي يقول فيه صاحب القاموس: أخذه الأحدب بن عمرو الباهلي في قحط وشواه وأكله، وقوله: إذا كان أي: إذا كان القتال والجلاد.

أي: إذا كان الأمر. والثاني: أن يكون أضمر التجارة، كأنه قيل: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، ومثله: ما أنشده الفراء: فِدًى لِبَني ذُهَلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي ... إذا كان يومًا ذا كَوَاكِبَ أشْهَبَا (¬1) أي: إذا كان اليوم يومًا (¬2). فأما التِّجَارَةُ فهي: تقليبُ الأموال وتصريفُها لطلبِ النَّمَاء (¬3)، يقال: تَجَرَ الرجل يَتْجَر تِجَارَةً فهو تاجر (¬4)، قال الشاعر: قد تَجَرَتْ في سُوقِنَا عَقْربٌ ... لا مرحبًا بالعَقْرَبِ التَّاجِرَة (¬5) والتجارة، اسمُ حَدَثٍ، لأنه اسمٌ للتَّقْليب والتَّصَرُّف، إلا أن المراد به في هذه الآية العين، ويكون المعنى: إلا أن تقع (¬6) ذو تجارة، أي: متاع تجارة، أو يراد بالتجارة المُتَّجَرُ فيه، فيكون كقولهم: هذا الدرهم ضرب ¬

_ (¬1) البيت لمقَّاس العائذي، في "الكتاب" 1/ 47، "المقتضب" 4/ 96 "الحجة"، 2/ 439 مع اختلاف في الرواية. وأشهب يعني يوم الحرب، جعله كالليل تبدو فيه الكواكب، ووصفه بالشبهة، وهي البياض، إما لكثرة السلاح الصقيلية فيه، وإما لما ذكره من النجوم، وذهل بن شيبان من بكر بن وائل، وكان مقّاس نازلًا فيهم ينظر: "لسان العرب" 7/ 3959 - 3963 مادة: كون. (¬2) من "الحجة" 2/ 440 بتصرف، والبيت الأول: أعيني هلا تبكيان، لم يذكره في "الحجة". (¬3) من "الحجة" 2/ 441. (¬4) ينظر في تجر: "تهذيب اللغة" 1/ 429، "المفردات" ص 85، "اللسان" 1/ 420، وضبط فيهما المضارع يتجر، بضم الجيم، قال في "المفردات": وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ، فأما تجاه فأصله وجاه، تجوب: التاء للمضارعة. (¬5) البيت للفضل بن عباس في "لسان العرب" 5/ 3039 (مادة: عقرب). (¬6) في (م) (يقع).

الأمير، وهذا الثوب نسج اليمن، أي: مضروبه ومنسوجه، وكذلك قوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94] أي: المصيدة لأن الأيدي والرماح إنما تنالان الأعيان، وبين (¬1) أن المراد بالمصدر الذي هو تجارة العروض وغيرها مما يتقابض وصفها بالحضور وبالإدارة بيننا. وهذا من أوصاف الأعيان (¬2). وقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قد ذكرنا ما في هذا في أول الآية (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} نهى الله عز وجل الكاتبَ والشاهدَ عن المضارَّة، وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرف، وأن يشهد الشاهد بما لم يستشهد عليه، أو يمتنع من إقامة الشهادة، وهذا قول طاوس (¬4) والحسن (¬5) وقتادة (¬6) وابن زيد (¬7)، وعلى هذا القول أصله: يُضَارِرَ، والكاتب والشاهد فاعلان، ثم أدغمت الراء في الراء لحقّ التضعيف، وهما ساكنان، الأولى سكنت للإدغام، والثانية للنهي، ثم حركت بالفتح (¬8). ¬

_ (¬1) في (ش) (ويبين). (¬2) من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 442، وذكر وجهًا ثالثًا وهو: أن يوصف بالمصدر فيراد به العين، كما يقال: عدل ورضا، يراد به: عادل ومرضي. (¬3) من قوله: (وقوله: وأشهدوا)، ساقط من (أ) و (م). (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 111، والطبري في "تفسيره" 3/ 134 - 135. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 135، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 567. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، والطبري في "تفسيره" 3/ 135، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 567. (¬7) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 135، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1815. (¬8) ينظر "تفسير الطبري" 3/ 135، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 366، "تفسير الثعلبي" 2/ 1814.

وقال ابن مسعود (¬1) وعطاء (¬2) ومجاهد (¬3): معنى الآية: لا يُدْعَى الكاتب وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يدعى الشاهد ومجيئه للشهادة يُضِرُّ به، وعلى هذا القول، أصله: يُضَارَرَ على الفعل المجهول فاعله. والقول الأول اختيار الزجاج، قال: لقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} والفاسق أشبه بغير العدل، وبمن حَرَّف الكتابة منه بالذي دعا شاهدًا ليشهد وكاتبًا ليكتب وهو مشغول، وليس يسمى هذا فاسقًا، ولكن يسمَّى من كذب في الشهادة ومن حَرَّفَ في الكتاب فاسقًا (¬4). ومَنْ نَصَرَ القولَ الثاني قال في الفسوق ما قاله ابن عباس، قال: يريد: إثمٌ عليكم وعصيان (¬5). وإذا أَضَرَّ بالكاتِبِ والشاهِدِ فقد أثم وعصى بترك أمر الله، ومعنى الفسوق: هو الخروج، وهذا خارج (¬6) عن أمر الله إذا ارتكب من الضرار ما نهي عنه، ويؤكد هذا الثاني: قراءة عمر (¬7) وأبي (¬8) وابن مسعود (¬9) ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 136. (¬2) المرجع السابق. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 136، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 567. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 366. (¬5) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 138، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 568. (¬6) في (ي) (خروج). (¬7) عزاها إليه ابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 21، والفراء في "معاني القرآن" 1/ 150، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816. (¬8) وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816. (¬9) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 324، وابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 24، والقرطبي 3/ 406.

283

ومجاهد (¬1) {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} بإظهار التضعيف على ما لم يسم فاعله (¬2). 283 - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} قال أهل اللغة: سمي السَّفَرُ سَفَرًا لأنه يُسْفِرُ عن أخلاق الرجال (¬3)، أي: يكشف، ونَضْدت هذه الحروف للظهور والكَشْف، فالسِّفْرُ: الكتاب، لأنه يبين الشيء ويوضِّحُه، ومنه يقال: أَسْفَر الصُّبْحُ، وسَفَرَتِ المرأةُ عن وجهها، وسَفَرْتُ بين القوم أَسْفِر سِفَارة، إذا كشفت ما في قلوبهم وأصلحت بينهم، وسَفَرْتُ أَسْفُر، أي: كَنَسْتُ، والمِسْفَر: المِكْنَسُ، والسفير من الورق، ما سَفَرَتْه الريح. ابن الأعرابي: السَّفَر: إِسْفَار الفَجْر (¬4)، قال الأخطل: إنّي أبِيتُ وَهَمُّ المَرْءِ يَبْعَثُه ... من أول الليلِ حتى يُفْرِجَ السَّفَرُ (¬5) ¬

_ (¬1) عزاها إليه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816، وأبو حيان في "البحر" 2/ 353، والسمين في "الدر المصون" 2/ 676. (¬2) ينظر في معنى الآية واختلاف المعنى باختلاف التصريف: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 366، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 347، "تفسير الثعلبي" 2/ 1814، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 145، "البحر المحيط" 2/ 353، وقد ذكر النحاس أن عمر يقرأ بكسر الراء الأولى، وابن مسعود يقرأ بفتح الراء الأولى، وقال السمين في "الدر المصون" 2/ 676: وذكر الداني أيضًا عنهم أنهم قرؤوا الراء الأولى بالفتح، قلت: ولا غروَ في هذا؛ إذ الآية محتملة للوجهين، فسروا وقرؤوا بهذا المعنى تارة وبالآخر أخرى، وقد ذكر النحاس أن القراءتين على التفسير ولا يجوز أن تخالف التلاوة التي في المصحف. (¬3) قوله: (عن أخلاق الرجال) من (ش). (¬4) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1702. (¬5) البيت في "ديوانه" ص 77، وروايته: بعهده. وهو في "تهذيب اللغة" 2/ 1702، وروايته: وهم المرء يصحبه، وفي نسخة: يبعثه، وهي كذلك في "اللسان" 4/ 2025.

يقول: أبيت أسري إلى الفجر المضيء. وقال الأزهري: وسمي المسافر مسافرًا لكشفه قناع الكِنِّ عن وجهه، وبروزه للأرض الفضاء، وسُمِّي السَّفَرُ سَفَرًا لأنه يُسْفِر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيًا منها، ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس: سفر؛ لوضوحه، ومنه قولُ الساجع: إذا طلعتِ الشِّعْرى سَفَرًا ولم تر فيها مطرًا (¬1). والسافرة والسَّفْر: جمع سافر (¬2)، ورجل مِسْفَر: قَوِيُّ على السَّفَر (¬3). وقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} الرَّهْنُ: مَصْدرُ رَهَنْتُ عند الرجل رهَنًا فأنا أَرْهَنْهُ: إذا وضعته عنده. قال الشاعر: يُرَاهِنُنُي فَيَرْهَنُنِي بنيه ... وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ (¬4) وأَرْهَنْتُ فلانًا ثوبًا: إذا دفعته إليه ليرهنه (¬5)، وأَرْهَنْتُ بمعنى رهنت، لغة عند الفراء، واحتج ببيت ابن همام السلولي: ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1072 بتصرف، والشعرى: نجم معروف، والمراد طلوعها عشاء. (¬2) في (م): (مسافر). وفي "اللسان" 4/ 2025: والمسافر كالسافر. (¬3) تقدم كلام المؤلف عن السفر في اللغة عند قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، وينظر في سفر: "تهذيب اللغة" 2/ 1702 - 1702، "اللسان" 4/ 2024 - 2027. (¬4) البيت لأحيحة بن الجلاح، شاعر جاهلي، وذكر الأبيات الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 368 دون نسبة، "الخزانة" 2/ 23 "مجمع الأمثال" للميداني، "اللسان" 3/ 1757 مادة: (رهن)، وينظر التعليق على"معاني القرآن" للزجاج 1/ 367. (¬5) ورهن أكثر استعمالًا من أرهن. ينظر "الحجة" 2/ 446.

فلَمَّا خَشِيتُ أظَافِيرَه ... نَجَوتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكًا (¬1) وأنكره (¬2) الأصمعي، وقال: الرواية: وأرهنهم مالكًا، والواو: واو الحال، كما تقول: قمت وأصكُّ وجْهَه (¬3). ويسمى المرهون رهنًا، وقد (¬4) ذكرنا أن المصادر قد تنقل إلى الأسماء فيسمى بها، ويزول عنها عمل الفعل، فإذا قال: رهنت عند زيد رهنًا، لم يكن (¬5) انتصابه انتصاب المصدر، ولكن انتصاب المفعول به (¬6)، كما تقول: رَهَنْتُ زيدًا ثوبًا، ولما نقل فسمي به جَمْعٌ كما تُجْمَعُ الأسماء، ولم يسمع فيه أقل الجمع وهو أَفْعُل، نحو: أَكْلُبٍ وأَفْلُسٍ، كأنه استغنى بالكثير عن القليل، كما قيل: ثلاثة شُسُوع، ولم يقولوا: أَشْسُع، وعلى القلب من هذا استغنوا بالقليل عن الكثير في جمع الرَّسَن، فقالوا: أَرْسَان، فرهن جمع على بناءين من أبنيه الجموع وهو فُعُل وفِعَال (¬7)، وكلاهما من أبنية الكثير، فمما جاء على فُعُل: قول الأعشى: ¬

_ (¬1) البيت في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 367، "تهذيب اللغة" 2/ 1491 مادة. (رهن)، "لسان العرب" 3/ 1757 مادة: رهن، ونسب لهمام بن مرة في "تاج العروس" (مادة: رهن). ورواية "اللسان": أظافيرهم، وهي المشهورة، ورواية معاهد التنصيص 1/ 96 (وأرهنهم) والشاعر قال ذلك لما توعده عبيد الله بن زياد ففر إلى الشام مستنجدًا بيزيد، ومالك عريفه، تركه لجنود عبيد الله ونجا بنفسه (¬2) في (ش): (فأنكره). (¬3) نقله في "تهذيب اللغة" 2/ 1491 مادة: (رهن). (¬4) سقطت من (ي). (¬5) في (أ) و (م): (رهنت زيدًا رهنًا ليس انتصابه). (¬6) قال أبو علي في "الحجة" 2/ 446: لم يعملوا من المصادر ما كثر استعمالهم له، كما ذهب إليه في قولهم: لله درك، وتمثيله إياه بقولهم: لله بِلادك. (¬7) في (ش): (فعلل).

آليتُ لا أُعْطِيِهِ من أبنائنا ... رُهُنًا فَيُفْسِدُهُم كَمَنْ قَد أَفْسَدَا (¬1) فرُهُن: جمع رَهنٍ، ثم تخفف العين كما تخفف في رسل وكُتُب، ونحو ذلك، ومثل رَهْن ورُهُن: سَقف وسُقُف، ونَسْرٌ ونُسُر، وخَلْق وخُلُق (¬2) (¬3)، قال الزجاج: وفَعْلٌ وفُعُل قليلٌ إلا أنه صحيح (¬4)، وأنشد أبو عمرو حجة لقراءته قول قعنب (¬5). بانَتْ سُعَادُ وأمْسَى دُونَها عَدَنُ ... وغَلِقتْ عندَها من قلْبِكَ الرُّهنُ (¬6) وحكى أبو الحسن الأخفش: لَحْدُ القبر ولُحْد، وقَلْبُ النخلة وقُلْبُ (¬7)، ورجل ثَطٌّ وقوم ثُطٌّ (¬8)، وفرس وَرْدٌ وخيلٌ وُرْد (¬9)، وسهم حَشْرٌ ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 56، و"لسان العرب" 3/ 1757 (مادة: رهن). (¬2) في بعض نسخ الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1819: حلْق وحُلُق، بالحاء، ولعله الصواب؛ لأنه استشهد عليه ببيت أنشده الفراء في "معاني القرآن" 3/ 32. حتى إذا بلَّت حلاقيم الحلُق ... أهوى لأدنى فِقرة على شقق (¬3) ما تقدم كله من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 446 - 448 بمعناه. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 367. (¬5) هو: قعنب بن ضمرة من بني عبد الله بن غطفان من شعراء العصر الأموي، يقال له: ابن أم صاحب، هجا الوليد بن عبد الله، توفي نحو 95 هـ. ينظر: "سمط اللآلئ" ص 362، "الأعلام" 5/ 202. (¬6) البيت في "لسان العرب" 6/ 3714 (مادة. رهن). (¬7) قلب النخلة: لبها وشحمها. ينظر: "اللسان" 6/ 3714 (قلب). (¬8) يقال رجل ثط: ثقيل البطن بطيء، وقيل: هو قليل شعر اللحية. ينظر "لسان العرب" 1/ 481 (ثطط). (¬9) الورد: هو النبات الذي يشم وله رائحة معروفة، وسمي الفرس به لمشابهة اللون، وهو بين الكميت والأشقر. ينظر: "لسان العرب" 8/ 4810 (ورد).

وسهام حُشْرٌ (¬1). وقال الفراء: الرُّهُن: جمع رِهَان، جَمْع الجمع، كأنه جمع رهن رِهانًا، ثم جمع الرِّهَان رُهُنًا، كما قالوا: ثُمُر في جمع الثمار (¬2)، وفِعَال قد تكسر في الجمع، كجِمَال جمع على جَمَائل (¬3). قال أبو عمرو: وإنما قرأت: (فَرُهُنٌ) للفَصْل بين الرِّهَان في الخيل وبين جمع رَهْن في غيرها، والرُّهُن في جمع الرَّهْن أكثر، والرِّهَانُ في الخَيْلِ أكثر (¬4) (¬5)، واختار الزجاج هذه القراءة، قال: لأنها موافقة للمصحف، وما وافق المصحف وصح معناه وَقَرَأَتْ به القُرَّاءُ، فهو المختار (¬6). وأما قراءةُ العَامّة {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬7) فإنها القياس في جمع رَهْن، مثل: نَعْل ونِعَال، وكَبْش وكِباش، وكَعْب وكِعاب. وذهب ناس إلى أن الرِّهان يجوز أن تكون جمع الرُّهُن؛ لأنهم قد جمعوا (¬8) فُعُلًا على فِعَال، وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطَّرِدًا (¬9)، فينبغي أن لا يقدم عليه حتى ¬

_ (¬1) نقله عنه أبو علي في "الحجة" 2/ 448. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 188 بمعناه، ونقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1492 (مادة: رهن). (¬3) ينظر "الحجة" 2/ 449. (¬4) قوله: (والرهان في الخيل أكثر)، ساقط من (ي). (¬5) نقله عنه في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 366. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 367. (¬7) قرأ أبو عمرو وابن كثير (فرُهُن) بضم الراء والهاء من غير ألف، وقرأ الباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها. ينظر: "السبعة" ص 194 - 195، "الحجة" 2/ 442 - 443. (¬8) سقطت من (ي). (¬9) "الكتاب" لسيبويه 3/ 619، قال: اعلم أنه ليس كل جمع يجمع، كما أنه ليس كل مصدر يجمع، كالأشغال والعقول والحلوم والألباب.

يُعْلَم، فإذا كان رهن قد صار مثل: كَلْبٍ وكَعْبٍ قلنا: إن (رهان) مثل: كِعَاب وكِلاب، ولم يجعله جمع الجمع (¬1). فأما اشتقاق الرهن في اللغة، فأصله: من قولهم: رَهَنَ الشيءُ: إذا دامَ وثَبَتَ، يقال: نِعْمةٌ راهِنَة، أي: دائمة ثابتة، أنشد ابن السكيت: لا يَسْتَفِيقُونَ منها وَهْي رَاهِنَةٌ ... إلّا بهَاتِ وإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلُوا (¬2) وقال آخر: واللَّحْمُ والخُبْزُ لَهُم رَاهِنٌ (¬3) ويقال: أَرْهَنْتُ لهم الطعامَ والشرابَ إرهانًا فَرَهَن، وهو طعام راهِنٌ، أي: دائم (¬4)، فَسُمِّيَ الرَّهْنُ رَهْنًا لثباته (¬5) ودوامه عند المرتهن، ومن ثَمَّ يبطلُ الرهنُ إذا خرج من يدِ المُرْتَهِن بحقٍّ؛ لزوالِ (¬6) إدامة الإمساك (¬7). وأما معنى الآية: فإن الله تعالى أمر عند عدم الكاتب بأخذ الرهون (¬8)، لتكون وثيقة بالأموال (¬9). واتفق الفقهاء اليوم على أن الرهن في ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 448 - 449 بمعناه. (¬2) البيت للأعشى يصف قومًا يشربون خمرًا لا تنقطع، كما في "اللسان" 3/ 1758 (مادة: رهن). (¬3) عجز البيت: وقهوة راووقها ساكب ذكره أبو علي في "الحجة" 2/ 446، وفي "اللسان" 13/ 190، دون نسبة، وفي "شرح ديوان العجاج" 1/ 93. (¬4) ينظر في رهن: "تهذيب اللغة" 2/ 1491 - 1492، "المفردات" ص 210، "اللسان" 3/ 1757 - 1758. (¬5) في (ي): (لشدته لثباته). (¬6) في (م): (الزوال)، وفي (ش)، و (ي): (المرتهن لزاول). (¬7) من "الحجة" 2/ 446. (¬8) في (م): (الرهن). (¬9) "تفسير الثعلبي" 2/ 1822.

الحضر والسفر سواء، وفي حال وجود الكاتب وعدمه (¬1). وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذًا بظاهر الآية، ولا يُعمل بقوله اليوم (¬2)، وإنما تقيدت الآية بذكر السفر، لأن الغالب في ذلك الوقت انهم إنما (¬3) كانوا يحتاجون إلى الرهن في السفر وعند عدم الكاتب، فخرج الكلام على ظاهره كقوله عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وليس الخوف من شرط جواز القصر (¬4). ثم عقد الرهن ينعقد بالإيجاب والقبول، ولا ينبرم إلا بالقبض (¬5). فإن ندم الراهن كان له فسخ الحقد قبل الإقباض، ثم يكون للبائع فسخ البيع المعقود بشرط هذا الرهن الذي صار مفسوخًا، وأما المرتهن فهو بالخيار أبدًا في فسخ الرهن ورده (¬6). وعقد الرهن جائز من جهة المرتهن، لازم (¬7) من جهة الراهن. ومنافع الرهن للراهن، لا حق للمرتهن فيها، فإن اشترطها المرتهن ¬

_ (¬1) ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 261، "بداية المجتهد" 2/ 274، "تفسير القرطبي" 3/ 407، "المغني" 6/ 444. (¬2) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 139، وابن أبي حاتم 2/ 69، وينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1822، والبغوي في "تفسيره" 1/ 352. (¬3) سقطت من (ي) و (ش). (¬4) ينظر: "المغني" 6/ 444، "تفسير القرطبي" 3/ 407. (¬5) ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 123، ونقل الإجماع على ذلك: الثعلبي في "تفسيره" أيضا 2/ 1822، وذكر الخلاف ابن قدامة في "المغني" 6/ 445، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 410. (¬6) ينظر في المسألة: "المغني" 6/ 448 - 449. (¬7) في (ي): (لا من).

صارت مداينتهما ومبايعتهما عقدًا من عقود الربا (¬1). وارتفع قوله: (فرهان) (¬2) على معنى فالوثيقة رهن، أو فعليه رهن، ويجوز أن يكون (فرهان) مبتدأ (¬3) وخبره محذوف، على تقدير: فرهان (¬4) مقبوضة بدل من الشاهدين، أو تقوم مقامهما، أو ما أشبه هذا، ولكنه حذف للعلم (¬5). وقوله تعالى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} قال اللحياني: أَمِنَ فلانٌ غيره على الشيء يَأمَنُ أَمْنًا وأمَنَةً وأَمْنَة (¬6) وأمَانًا فهو آمِن (¬7)، والرجل مأمون، قال الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (¬8) [الأنفال: 11] ويقال: ¬

_ (¬1) ينظر: "المغني" 6/ 510، "تفسير القرطبي" 3/ 411 - 413، وذكر ابن قدامة عن أحمد جواز اشتراط المرتهن منافع الرهن في المبيع كأن يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا، فيكون بيعا وإجارة، فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدُّور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب، وكرهه في القرض. وذكر القرطبي في "تفسيره" 3/ 413 عن ابن خويز منداد: لو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان: إن كان من قرض لم يجز، وإن كان من بيع أو إجارة جاز؛ لأنه يصير بائعا للسلعة بالثمن المذكور، ومنافع الرهن مدة معلومة فكانه بيع وإجارة. (¬2) في (ي) و (ش): (فرهن). (¬3) في (أ) و (م): (أن يكون ابتداء). (¬4) في (ي) و (ش): (فرهن). (¬5) ينظر في إعراب الآية: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 146، "التبيان" ص 170، "البحر المحيط" 2/ 355 - 356. (¬6) سقطت من (ش). (¬7) نقله في "تهذيب اللغة" 15/ 510. (¬8) في (ش) (يغشاكم).

أَمِنْتُ الرجل، إذا لم تخفه، آمنُهُ، قال الله تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} [يوسف: 64]. ومن هذا: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي: لم يخف خيانته وجحوده الحق (¬1). وقوله تعالى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} اؤتمن: افتعل، من الأمانة، يقال: أَمِنْتُه وايتَمَنْتُهُ، فهو مَأمونٌ ومُؤْتَمَن (¬2). وقوله تعالى {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} قال ابن عباس: يريد قد أَثِمَ قَلْبُه وفَجَر (¬3). وهو ابتداء وخبر (¬4) (¬5). قال المفسرون: ذكر الله تعالى على كتمان الشهادة نوعًا من الوعيد لم يذكره في سائر الكبائر، وهو إثم القلب، ويقال: إِثْمُ القلبِ سببُ مَسْخِه، والله تعالى إذا مسخ قلبًا جعله منافقًا، وطبع عليه -نعوذ بالله من ذلك- وروىَ أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كتم شهادة إذا دعي كان كمن ¬

_ (¬1) من قوله: (أي لم يخف)، ساقط من (ي). (¬2) ينظر في أمن: "تهذيب اللغة" 1/ 209 - 212، "المفردات" ص 35، "اللسان" 1/ 140 - 144. (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 141 - 142 بمعناه، وفي "الوسيط" 1/ 407. (¬4) في (ي): (خبر). (¬5) ينظر في إعرابها: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 146، "التبيان" ص 171, "البحر المحيط" 2/ 357، وقد ذكروا عدة إعرابات: الأول: أن (آثم) خبر إن، و (قلبه) مرفوع به؛ لأن (آثم) اسم فاعل، والثاني: كذلك، إلا أن (قلبه) بدل من (آثم) لا على نية طرح الأول. والثالث: أن (قلبه) بدل من الضمير في (آثم). والرابع: أن (قلبه) مبتدأ، و (آثم) خبر مقدم، والجملة خبر (إن) وقد ناقش أكثر هذه الأقوال أبو حيان في البحر.

284

شهد بالزور" (¬1). 284 - قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وهو مالكُ أعيانه، يملك تصريفه وتدبيره {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية. اختلف الروايات عن ابن عباس في معنى هذه الآية، فقال في رواية مقسم ومجاهد (¬2): نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها، يعنى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أيها الشهود من كتمان الشهادة، وتخفوا الكتمان يحاسبكم به ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" 5/ 97، والشجري في "الأمالي الخميسية" 2/ 238، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1823، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 203 إلى "المعجم الكبير" قال المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 222: حديث غريب، وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 203: وفيه عبد الله بن صالح وثقة عبد الملك بن شعيب، فقال: ثقة مأمون، وضعفه جماعة. وقال الدكتور المنيع في تحقيق (تفسير الثعلبي في "تفسيره") 2/ 1825: في إسناده من لم أظفر له بترجمة، ومحمد بن حميد لم أجد فيه جرحًا ولا تعديلًا وعبد الله بن صالح كثير الغلط، وقد تفرد به واضطرب في إسناده. (¬2) أما رواية مجاهد فأخرجها سعيد بن منصور في "تفسيره" 3/ 1004، والطبري في "تفسيره" 3/ 142، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 572. وأما رواية مقسم فأخرجها أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 274، والطبري في "تفسيره" 2/ 143، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 4/ 315، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص280. وقد بين الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 4/ 316 أن هذا التأويل غير صحيح؛ لأن كتمان الشهادة مما لا يغفر؛ لأنه حق من المشهود، وفي الآية ما قد منع من ذلكُ، وكذلك اعترض الشوكاني عليه في "فتح القدير" 1/ 463 قائلا: فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة.

الله، وهذا قول الشعبي (¬1) وعكرمة (¬2). وقال في رواية سعيد بن جبير (¬3) وعطاء (¬4): هذه الآية منسوخة، وذلك أنه لما نزلت جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف (¬5) ومعاذ بن جبل وناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: يا رسول الله، هلكنا وكلفنا من العمل ما لا نطيق، إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وأن له الدنيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، فقولوا: سمعنا وأطعنا"، فقالوا: سمعنا وأطعنا، واشتدَّ ذلك عليهم، فمكثوا بذلك حولًا، فأنزل الله عز وجل الفَرَجَ والرحمة، بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فنسخت هذه الآية ما قبلها (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 143، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 572، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1826. (¬2) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 274، والطبري في "تفسيره" 3/ 143، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 572. (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" 11/ 362، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 296، والطبري في "تفسيره" 3/ 145، وذكرها ابن أبي حاتم 2/ 574. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1829. (¬5) هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن زهرة القرشي الزهري، من كبار الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من الأجواد الشجعان العقلاء، شَهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها، كان من أثرياء الصحابة أنفق كثيرًا في سبيل الله، توفي سنة 32 هـ. ينظر "أسد الغابة" 3/ 480، "الأعلام" 3/ 321. (¬6) تابع المصنف. رحمه الله. شيخه الثعلبي في "تفسيره" في ذكر هذه القصة بهذا السياق ["تفسير الثعلبي" 2/ 1827] وهي ملفقة من عدة أحاديث وآثار منها الصحيح البالغ في الصحة، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها الضعيف، ولذا أورد الحافظ في "العجاب" 1/ 654 هذه الرواية عن الثعلبي في "تفسيره" بتمامها وعقب قائلًا: وهذا من عيوب كتابه، ومن تبعه عليه، يجمعون الأقوال عن الثقات وغيرهم، ويسوقون القصة مساقًا واحدًا على لفظ من يُرْمَى بالكذب أو الضعف الشديد، ويكون =

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا (¬1) أو يتكلموا به" (¬2)، وهذا قول ابن مسعود (¬3) وأبي هريرة (¬4) والقرظي (¬5) وابن سيرين (¬6) والكلبي (¬7) وقتادة (¬8). ¬

_ = أصل القصة صحيحًا، والنكارة في ألفاظٍ زائدة، كما في هذه القصة من تسمية الذين ذكروا. اهـ فمن الأحاديث هنا: حديث أبي هريرة، رواه مسلم في الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق 1/ 115 برقم (125) وغيره. ومنها حديث ابن عمر، رواه البخاري في التفسير، باب: سورة البقرة 5/ 195 برقم (6546) وغيره. ومنها أثر ابن عباس في تسمية الصحابة المذكورين في القصة، رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 275، والطبراني في "مسند الشاميين" 3/ 326. ينظر: تحقيق "تفسير الثعلبي" للمنيع 2/ 1828. (¬1) في (ش) و (ي): (يعملوا). (¬2) أخرجه البخاري (5269) كتاب: الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق والكره، ومسلم (127) كتاب: الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس. وليس في روايتهما ما يدل على أن القصة المذكورة هى سبب ورود الحديث. (¬3) رواه سعيد بن منصور 3/ 1018، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 275، والطبري في "تفسيره" 3/ 146، والطبراني في "الكبير" 9/ 211. (¬4) ذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 325، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1829. (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 146، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 574. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1830، والبغوي في "تفسيره" 1/ 355، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 342. (¬7) ذكره أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 239، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1830، والبغوي في "تفسيره" 1/ 355. (¬8) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 111، والطبري في "تفسيره" 3/ 146، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 574.

وقال في رواية الضحاك (¬1) ما يدل على أن الآية محكمة غير منسوخة، وهو أنه قد ثبت أن للقلب كسبًا؛ لأن الله تعالى قال: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] والعبد (¬2) يجازى على عمل القلب، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] وكل عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله، فمن أبدى ما في نفسه أو أخفاه مما عزم عليه وعقد عليه في قلبه يحاسبه الله به، فأما ما حَدَّث به نفسه مما لم يعزم عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يؤاخذ به (¬3)، وهذا معنى قول الحسن (¬4) والربيع (¬5). وقال في رواية علي بن أبي طلحة (¬6) وعطية (¬7): إن الله تعالى يقول يوم القيامة: هذا يوم تبلى السرائر، وتخرج الضمائر، وإن كُتَّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، وأنا المطلع على سرائركم مما لم (¬8) تعملوه ولم تكتبوه، فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه، لتعلموا أنه لا يعزب عن علمي ¬

_ (¬1) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 147 - 148 بمعناه، وذكره الثعلبي في "تفسيره"2/ 1833. (¬2) في (ي): (والعمل). (¬3) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1832 - 1833، وبين أن مما يدل على هذا القول: قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 148، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 574. (¬5) انظر المرجعين السابقين. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 147، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 572. (¬7) رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 147، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 573. (¬8) في (ش): (لا).

مثقال ذرة، ثم أغفر لمن شئت، وأعذب من شئت، فأما المؤمنون فيخبرهم بذلك كله، ويغفر لهم، ولا يؤاخذهم إظهارًا لفضله، وأما الكافرون فيخبرهم بها، ويعاقبهم عليها، إظهارًا لعدله. فمعنى الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} فتعملوا به {تُخْفُوهُ} مما أضمرتم ونويتم {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ} ويخبركم به، ويعرفكم إياه، فيغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين. يدل على هذا قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ} ولم يقل: يؤاخذكم، والمحاسبة غير المعاقبة، فالحِسَابُ ثابتٌ والعِقَابُ ساقط (¬1). وروى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: ما حدَّث العبد به نفسه (¬2) من شرٍّ كانت محاسبةُ الله له عليه بِغَمٍّ يبتليه به في الدنيا أو حُزْنٍ ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 2/ 1843 - 1843، وذكر حديثين يتأيد بهما هذا القول: الأول: حديث النجوى عن ابن عمر مرفوعا: "يدنو العبد من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف، فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا، فيقول الله عز وجل: أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، لا نطلع على ذلك ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا"، وأما الكفار والمنافقون فينادون على رؤوس الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] رواه البخاري في المظالم، باب: قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 3/ 134 برقم (2441)، ومسلم في التوبة، باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله 4/ 2120 برقم (2768). والثاني: حديث أبي ذر مرفوعا: "يؤتى برجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه، فيقال له: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وهو يقر ولا ينكر، وتخبأ عنه كبار ذنوبه وهو منها مشفق، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه". رواه مسلم (190) كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. (¬2) في (ي): (من نفسه).

أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه (¬1). وروت هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سألته عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه (¬2). والمحققون يختارون أن تكون الآية محكمة غير منسوخة، لأن النسخ إنما يكون في الأمر والنهي، والأخذ بقول عائشة، وبقولِ من لم يحكم على الآية بنسخ أولى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" عنها 6/ 116 - 117. (¬2) حديث عائشة رواه الترمذي (2991) كتاب: التفسير، باب: سورة البقرة، وأحمد 6/ 218، والطيالسي 221 برقم 1584، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" 3/ 783 برقم (1413)، والطبري في "تفسيره" 3/ 149، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 574 من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية عن عائشة به. قال الترمذي: حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. وقال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 365: وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته، وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة، وليس لها في الكتب سواه. ورواه أبو داود (3093) كتاب: الجنائز، باب: عيادة النساء، والطبري في "تفسيره" 5/ 295، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 1072 وغيرهم، من طريق صالح بن رستم أبي عامر الخزاز عن ابن أبي مليكة عنها مرفوعا بمعناه، ولفظ الحديث عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فقالت: ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عائشة هذه متابعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفرع لها يجدها في خبنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير". (¬3) قال البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 297: وهذا النسخ بمعنى التخصيص والتبيين، فإن الآية الأولى وردت مورد العموم، فوردت الآية التي بعدها، فبينت أن ما يخفى مما لا يؤاخذ به، وهو حديث النفس الذي لا يستطيع العبد دفعه عن قلبه، =

وقوله تعالى {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} قُرِئ رفعًا وجزمًا (¬1)، فمن جزم اتبع ما قبله ولم يقطعه منه، وهذا أشبه بكلامهم، لأنهم يطلبون المشاكلة (¬2). ومن رفع قَطَعَه من (¬3) الأول، وقَطَعَه منه على أحد وجهين: إما أن يجعل الفعل خبرًا لمبتدأ محذوف، كأنه قيل: فهو يغفر، فيرتفع (¬4) الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ. ¬

_ = وهذا لا يكون منه كسب في حدوثه وبقائه، وكثير من المتقدمين كانوا يطلقون عليه اسم النسخ على الاتساع، بمعنى: أنه لولا الآية الأخرى لكانت الأولى تدل على مؤاخذته بجميع ذلك. وبِين شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 14/ 101، صحة هذا القول، وأن المراد بالنسخ في الأحاديث هنا نسخ ما وقع في نفوس الصحابة من فهم معنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل، وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس، وقوله {لِمَنْ يَشَاءُ} يقتضي أن الأمر إلِيه في المغفرة والعذاب لا إلى غيره. وقال الطبري في "تفسيره" 3/ 149: وأولى الأقوال: أنها محكمة وليست بمنسوخة، وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا ينفيه بآخر هو ناف له من كل وجوهه، وليس في قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}؛ لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبة ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه. اهـ كلامه، باختصار. (¬1) قرأ ابن عامر وعاصم بالرفع في: (فيغفرُ) و (يعذب)، وقرأ الباقون بالجزم. ينظر: "السبعة" ص 195، "الحجة" 2/ 463. (¬2) في (ي): (المشاركة). (¬3) في (ي): (عن). (¬4) في (ي): (ارتفع).

285

وإما أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها (¬1). 285 - قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ} الآية. قد ذكرنا في بعض الروايات عن ابن عباس: أنه لما نزل قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: سمعنا وأطعنا. فقيل على هذا القول: إن الله تعالى لما قالوا ذلك أنزل الله هذه الآية وأثنى عليهم (¬2). وقال أبو إسحاق: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرضَ الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وأقاصيص الأنبياء وما ذكر من الأحكام ختم السورة بذكر تصديق (¬3) نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك (¬4). وقوله تعالى: {وَكُتُبِهِ} فيه قراءتان: التوحيد والجمع (¬5)، والكُتُب: جمع كتاب، وهو مصدر كتَب، فنقل وسُمي به، فصار يجري مجرى الأعيان وما لا معنى فِعْلٍ فيه، وعلى ذلك كُسّر، فقيل: كُتب، كما قالوا: إِزَارٌ وأُزُر، ولِجَامٌ ولُجُم، فمن قرأ بالجمع؛ فلأن ما قبله وما بعده بالجمع، فَجَمَعَ الكتبَ أيضًا ليكون مُشاكلًا لما قبله وما بعده، وأما من أفرد؛ فيجوز أن يريد الجنس، كقولهم: كَثُر الدرهم في أيدي الناس والدينار، وكقوله: أهلك الناسَ اللبنُ، ونحو ذلك مما (¬6) يفرد، والمراد منه الجمع. ¬

_ (¬1) من "الحجة" 2/ 464 - 465 باختصار. (¬2) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 1858. (¬3) سقطت من (أ) و (م). (¬4) "معاني القرآن" 1/ 368. (¬5) قرأ حمزة والكسائي (وكتابه) على الإفراد، وقرأ الباقون (وكتبه) بالجمع. ينظر: "السبعة" ص 195 - 196، "الحجة" 2/ 455. (¬6) في (م) (فيما).

ويدل على هذا قوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 213] فإن قيل: إن هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة تكون مفردةً معرَّفَةً باللام وهذه مضافة، قيل: قد جاء المضاف من الأسماء ويعني به الكثرة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وفي الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها" (¬1) يراد به الكثرة كما يراد بما فيه لام التعريف وقال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] وهذا الإحلال شائع في جميع ليالي الصيام (¬2) ولا يبعد أن يرجع الإفراد إلى كتاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هو القرآن ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل (¬3). وقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ} أكثر القراء فيه على التثقيل، وروى العباس (¬4) (¬5) عن أبي عمرو فيه التخفيف، والصحيح من مذهب أبي عمرو أنه يخفف ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين مثل {رُسُلُنَا} [الإسراء: 77] ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2896) كتاب: الفتن، باب. لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب من حديث أبي هريرة. والقفيز: مكيال معروف لأهل العراق. قال الأزهري: هو ثمانية مكاكيك. والمكوك: صاع ونصف. وهو خمس كيلجات. (¬2) من "الحجة" 2/ 458 بتصرف. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1861. (¬3) ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 1860. (¬4) في (ش): (أبو العباس). (¬5) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد الواقفي الأنصاري، أبو الفضل الأنصاري، قاضي الموصل، من أكابر أصحاب أبي عمرو بن العلاء، كان عظيم القدر، جليل المنزلة في العلم والدين، متروك الحديث، توفي سنة 186 وقيل: 195. ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 212، "تهذيب التهذيب" 2/ 292.

و {رُسُلُكُم} [غافر: 50] (¬1) فمن ثقل فلأن أصل الكلمة على فُعُل بضم العين، الدليل على أنه فُعُل مضموم العين رفضُهم هذا الجمع فيما كانت لامه حرف علة، نحو: كِسَاء ورِشَاء ورِدَاء وقِبَاء، لم يجمعوا شيئًا من هذا الجنس على فُعُل، كما جمعوا: قَذَالًا وحِمَارًا وكِتَابًا ورِغِيفًا، ولم يجمعوه أيضًا على التخفيف، لأنه إذا خفّف، والأصل التثقيل، كانت الحركة في حكم الثبات، ولو كان الأصل التخفيف لما رفضوا الجمع في هذه الأشياء على فُعْل كما قالوا: عُمْيًا وعُمْي، وعَشْواء وعُشْو، وقَنواء (2) وقُنْو، فلم يرفضوا هذا الجمع؛ لأن أصله فُعْل مُخَففًا، فصار بمنزلة الآحاد نحو: حُلْوٍ وعُرْيٍ. وأما ما كان عينه حرف العلة من هذا الجنس، فإنهم جمعوه مخففًا، نحو: عَوَان، وعُوْنٍ ونَوارٍ ونُور، وخِوانٍ وخُوْن (3)، كراهية الضمة في الواو، ثم إذا اضطر الشاعر رده إلى أصله، كما جاء: ......... سُوُكَ الإِسْحِلِ (4)

_ (1) عزاها إلى أبي عمرو: ابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 24، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1861، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 365، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 2/ 694، وقال ابن مجاهد في "السبعة" ص 195: قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكني على حرفين (رسلنا) و (رسلكم) بإسكان السين، وثقل ما عدا ذلك. (2) قنواء. مؤنث أقنى، كما في القاموس [القنوة] (3) العَوان: كسحاب، من الحروب التي قوتل فيها مرة، ومن البقر والخيل التي نُتِجت بعد بطنها البكر، ومن النساء: التي كان لها زوج، جمعها: عُون. ينظر: "القاموس" ص 1217 (مادة: عون)، والنَّوار: كسحاب، جمع: نور بالضم، والأصل: نُوُر، بضمتين، فكرهوا الضمة على الواو، ونارت نَورًا ونوَارًا بالكسر والفتح: نفرت، وبقرة نوار: تنفر من الفحل ينظر: "القاموس" ص 488 (مادة: نور). (4) البيت: تمامه: أغر الثنايا أحم اللِّثاث ... تمنحه سُوُك الإسحل وهو لعبد الرحمن بن حسان. ينظر: "الحجة" 2/ 462، "المنصف" 1/ 338، "المقتضب" 1/ 113.

في جمع سِوَاكٍ، وقوله: وفي الأَكَفِّ اللامِعَاتِ سُوُرْ (¬1) وأما من خفّف، فلأن ما كان من هذا الوزن يخفّف في الآحاد، نحو: العُنُق والطنُب، وإذا خففت الآحاد فالمجموع (¬2) أولى من حيث كان أثقل من الآحاد. وأما وجه تخفيف أبي عمرو ما اتصل من ذلك بحرفين، فلأن هذا قد يخفف إذا لم يتصل بمتحرك، فإذا اتصل بمتحرك حسن التخفيف، لئلا تتوالى أربع متحركات، لأنهم كرهوا ذلك، ومن ثم لم تَتَوالَ في بناء الشعر إلا أن (¬3) يكون مُزَاحَفًا. ومن لم يخفف فلأن هذا الاتصال بالحرفين ليس بلازم، وما لم يكن لازمًا فلا حكم له، ألا ترى أن الإدغام في {جَعَلَ لَكَ} [الفرقان: 15] لم يلزم، وإن كان قد توالى (¬4) خَمْسُ متحركات، وهذا لا يكون في بناء الشعر (¬5)، لا في مُزَاحَفِهِ ولا في سَالمِهِ ولا في الكلم المفرد (¬6). ¬

_ (¬1) عجز بيت لعدي بن زيد العبادي، وصدره: عن مبرِقاتٍ بالبُرين تبدو ينظر: "الحجة" 2/ 462، "المنصف" 1/ 338، "المقتضب" 1/ 113. (¬2) في (ش): (فالجموع)، وهي كذلك في "الحجة"، وفي (ي): (فالجمع). (¬3) في (ي): (مزحفًا). (¬4) سقطت من (ي). (¬5) في (ش) (بدل الشعر) كلمة لم أستطع قراءتها. (¬6) من "الحجة" 2/ 460 - 463 بتصرف.

وقوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فيه محذوف تقديره: يقولون: لا نفرّق بين (¬1). كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا} [الأنعام: 93] أي: يقولون: اخرجوا (¬2). ومعناه: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، حيث آمنوا ببعض الرسلِ وكفروا ببعضٍ، بل نجمع بين الرسل كلهم في الإيمان بهم (¬3). و (بين) تقتضي شيئين فصاعدًا، وإنما جاز مع أحدٍ، وهو واحد في اللفظ، لأن أَحَدًا يجوز أن يؤدي عن الجميع، قال الله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وفي الحديث: "ما أُحلت الغنائم لأحدٍ سُود الرؤوس غيركم" (¬4) وإنما كان كذلك، لأن أحدًا ليس كرجلٍ يثنى ويجمع، وقولك: ما يفعلُ هذا أحدٌ، تريد: ما يفعله الناس كلهم، فلما كان لفظ أحدٍ يؤديَ عن الجميع، جازَ أن يُسْتَعْمَل معه (بين)، وإن كان لا يجوز أن يقول: لا نفرّق بين رجل منهم، وقد استقصينا هذا عند قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ¬

_ (¬1) بين ليست في (ش) ولا (ي). (¬2) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1863، "التبيان" ص172، "البحر المحيط" 2/ 365، وذكر أن بعضهم يعربه خبرًا بعد خبر لكل. (¬3) "تفسيرالثعلبي" 2/ 1862. (¬4) الحديث، رواه الترمذي (3085) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في "تفسيره" 1/ 529 رقم 229، وأحمد 2/ 252، والطيالسي في "مسنده" 318 رقم 2429، وسعيد بن منصور في سننه 2/ 376 [ط. حبيب الرحمن] وابن أبي شيبة في "مصنفه" 14/ 387، وابن حبان في "صحيحه" الإحسان 11/ 134 برقم (4806) عن أبي هريرة مرفوعا، وأصله في الصحيحين. رواه البخاري (3124) كتاب: فرض الجهاد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. أحلت لكم الغنائم، ومسلم (1747) كتاب: الجهاد، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة عن أبي هريرة بمعنى الحديث أعلاه.

ذَلِكَ} [البقرة: 68] (¬1). والكلام في أحدٍ وأصلهِ ذكرناه (¬2) عند قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102]. وقوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، فحذف لأن في (¬3) الكلام دليلًا عليه من حيث مُدحُوا به (¬4). وقوله تعالى: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي: اغفر غفرانك (¬5)، يُستغني بالمصدر عن الفِعْلِ في الدعاء، نحو: سَقْيًا ورعيًا وأشباههما. قال الفراء: وهو مصدر وقع موقع الأمر فنصب، قال: ومثله: الصلاةَ الصلاة (¬6)، وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت (¬7)، وهذا أولى من قول من يقول: معناه: نسألك غفرانك؛ لأنه على الفعل الذي أخِذ منه أدلّ، نحو: حمدًا، وشكرًا، أي: أحمد حمدًا، وأشكر شكرًا (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1864، "البحر المحيط" 2/ 365، وقال: ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد، فيكون أحد هنا بمعنى: واحد، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي، ومِنْ حذف المعطوف: "سرابيل تقيهم الحر" أي: والبرد. (¬2) في (ي) و (ش): (ذكرنا). (¬3) في سقطت من (ي) و (ش). (¬4) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 369، "تفسير الثعلبي" 2/ 1865، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 147، "البحر المحيط" 2/ 366. (¬5) قوله: (أي اغفر غفرانك)، سقطت من (أ). (¬6) هذه الجملة ليست في (أ). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 188. (¬8) ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 369، "تفسير الثعلبي" 2/ 1865 - 1866، "التبيان" ص 172.

286

وقوله تعالى: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} نحن مُقِرُّون بالبَعْث. 286 - قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية. يقال: كَلَّفْتُه الشيءَ فَتَكَلَّفَ، والكُلْفَة الاسم منه (¬1). والوُسْعُ، قال الفَرّاء: هو اسم، كالوُجد والجُهد (¬2)، وهو اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه (¬3). وابن عباس (¬4) وأكثر المفسرين على أن هذه الآية نَسَخَت ما ضجَّ المؤمنون عنه من حديث النفس والوسوسة لما نزل قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآية (¬5). وروي عنه من طريق آخر، أنه قال: معناه: أنه كلف المؤمنين ما هم له مستطيعون، لأنه قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3175 (مادة: كلف)، "المفردات" ص 441. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 188 قال: ومن قال في مثل الوُجد: الوَجد، وفي مثل الجُهد: الجَهد، قال في مثله من الكلام {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ولو قيل: وَسْعَها لكان جائزًا، ولم نسمعه. اهـ ووَسعها بالفتح قراءة ابن أبي عبلة. (¬3) "تفسير الثعلبي" 2/ 1866. (¬4) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 154 بمعناه، وابن أبي حاتم 2/ 574. (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس 3/ 154، وعزاه في "الدر" 1/ 665 إلى ابن المنذر، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1867، "تفسير البغوي" 1/ 357. وقد ذكر المؤلف أن التحقيق عدم القول بالنسخ فلينظر عند قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 6/ 130 بمعناه، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 577، وعزاه في "الدر" 2/ 133 إلى ابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1867.

وهذا أحسن ما قيل في (¬1) تفسير هذه الآية (¬2)، وذلك أن الوُسع دون الطاقة، والله تعالى كلفنا دون طاقتنا تفضلًا (¬3) منه، وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله: {إلَّا وُسْعَهَا} أي: إلَّا يُسْرَها لا عُسْرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود (¬4). وتقول القدرية: إن الله تعالى أخبر أنه لا يكلف العبد إلا ما يسعه، وإذا كلفه الإيمان وقضى عليه الكفرَ فقد كَلَّفَهُ ما لا يسعه، فيقال لهم: يلزمكم مثلُ هذا في العِلْم، لأنكم توافقوننا على أن الله تعالى إذا سبق في مَعْلُومه أن فلانًا يموت كافرًا فلا سبيل له إلى تبديل معلومه، فإذا كلفه الإيمان فقد كلفه ما لا يطيق، وهذا معنى قول الشافعي، رضي الله عنه: إذا سلمت لنا القدرية العلم خُصموا (¬5). وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيهَا مَا أكْتَسَبَت} الصحيح عند أهل اللغة: أن الكسب والاكتساب واحد، لا فرق بينهما، قال ذو الرمة: أَلَفَى أَبَاه بذاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ش): (من). (¬2) "تفسير الثعلبي" 2/ 1869، وينظر: "تفسير السمعاني" 2/ 481، "الكشاف" 1/ 332. (¬3) في (ي): (تفصيلًا). (¬4) في "تفسير الثعلبي": المجهود منها، وقول سفيان رواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1868، وذكره الحيري في "الكفاية في التفسير" 1/ 248، والبغوي في "تفسيره" 1/ 357. (¬5) قول الشافعي، ذكره العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" 2/ 76 [ط. دار الكتب العلمية]. وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 23/ 342، وروايته: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أنكروه كفروا وإن أثبتوه خصموا. (¬6) شطره الأول: ومطعم الصيد هبال لبغيته وهو في "ديوانه" شرح أبي نصر الباهلي 1/ 99، و"جمهرة أشعار العرب" ص 346، و"الحيوان" 4/ 47، و"الأمثال" للميداني 3/ 300، و"تاريخ دمشق" 48/ 177.

وقال بعضهم: الاكتساب أخصّ من الكسب؛ لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة (¬1)، يقال: فلان كَاسِبُ أهلِه، ولا يقالُ: مُكْتَسِب أهله، قال الحطيئة: أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظلِمَةٍ ... فاغْفَر هَداكَ مَلِيكُ الناسِ يا عُمَرُ (¬2) ومعنى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أي: لا يؤاخَذ أحد بذنب غيره (¬3). وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} قال الحسن: معناه: قولوا: ربنا (¬4)، على التعليم للدعاء. وقيل: أي: يقولون: رَبَّنَا. على الخبر. ¬

_ (¬1) قال الراغب في "المفردات" ص 433: والكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره، ولهذا قد تعدى إلى مفعولين، فيقال: كسبت فلانًا كذا، والاكتساب لا يقال إلا فيما استفدته لنفسك، فكل اكتساب كسب، وليس كل كسب اكتسابا، ثم ذكر الأقوال في المراد بقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فقد قيل: خص الكسب هاهنا بالصالح، والاكتساب بالسيء، وقيل: عُنِي بالكسب ما يتحراه من المكاسب الأخروية، وبالاكتساب: ما يتحراه من المكاسب الدنيوية، وقيل: عُني بالكسب: ما يفعله الإنسان من فعل خير وجلب نفع إلى غيره، من حيثما يجوز، وبالاكتساب ما يحصله لنفسه من نفع يجوز تناوله، فنبه على أن ما يفعله الإنسان لغيره من نفع يوصله إليه فله الثواب، وأن ما يحصله لنفسه وإن كان متناولا من حيثما يجوز على الوجه فقلما ينفك من أن يكون عليه. (¬2) البيت للحطيئة في "ديوانه" ص208، وفي "الأغاني" 2/ 178، و"العقد الفريد" 5/ 259، و"الكامل في الأدب" 3/ 193، "خزانة الأدب" 3/ 254، "لسان العرب" 5/ 2686 (مادة: طلح)، "الوافي بالوفيات" 11/ 55. وأغلب رواياته: فاغفر سلام الله عليك. (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 369. (¬4) ذكره في "الوسيط" 1/ 410.

ومعنى {لَا تُؤَاخِذْنَا}: لا تُعاقبنا (¬1). وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد؛ لأن المسيء قد أمكن من نفسه، وطَرّقَ السبيلَ إليها بفعله، وكأنه أعان (¬2) عليه من يُعاقبه بذنبه، ويأخذه به، فشاركه في أخذه (¬3). وقوله تعالى: {إِنْ نَسِينَا} يجوز أن يكون هذا من النسيان الذي هو ضد الذكر (¬4)، فيكون له تأويلان: أحدهما: ما قاله الكلبي، وهو أن بني إسرائيل كانوا إذا نسوا شيئًا عجلت لهم العقوبة بذلك، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك (¬5). والثاني: أن النسيان وإن كان معفوًا عنه في الشرع، فيجوز أن نتعبد (¬6) بأن ندعو بذلك، كما جاء في الدعاء: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] والله سبحانه لا يحكم إلا بالحق، وكما قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] وما وُعدوا به على ألسن الرسل يُؤْتَونه، وكذلك قول الملائكة في دعائهم: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} إلى قوله: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7 - 9]. ¬

_ (¬1) "تفسيرالثعلبى" 2/ 1870. (¬2) في (ي): (أعدل). (¬3) من "تفسير الثعلبي" 2/ 1870، وينظر: "تفسير الرازي" 7/ 125، "الدر المصون" 2/ 701. (¬4) وهذا اختيار الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1871. (¬5) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1870، والبغوي في "تفسيره" 1/ 357، والحافظ في "العجاب" 1/ 655. (¬6) في (ي) و (ش): (يتعبد).

ويجوز أن يكون النسيان، هاهنا (¬1)، بمعنى: الترك، فيكون معنى قوله: {إِنْ نَسِينَا} أي: تركنا شيئًا (¬2) من اللازم لنا، كقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي: تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم (¬3). وقوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} الصحيح في اللغة: أن يقال: خَطِئ الرجلُ: إذا أَثِم، فهو خَاطئٌ آثِمٌ. وأخطأ: إذا لم يُصِبِ الصَّوابَ (¬4). قال أبو الهيثم: يقال: خطئ: ما صنعه عمدًا، وهو الذنب، وأخطأ: ما صنعه غير عمد (¬5). فعلى هذا قوله: {أَوْ أَخْطَأْنَا} معناه: مثل معنى {نَسِينَا} إذا كان بمعنى السهو (¬6)، وفيه الوجهان اللذان ذكرناهما: ¬

_ (¬1) سقطت من (ي). (¬2) سقطت من (ي). (¬3) ينظر: "الأشباه والنظائر" لمقاتل ص 239، الطبري في "تفسيره" 3/ 155 - 156، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 1/ 370، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 332، "تفسير الثعلبي" 2/ 1871، وقد بين الطبري في "تفسيره" 3/ 155 - 156: أن النسيان على وجهين: أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله تعالى في تركه مؤاخذته، وهو النسيان الذي عاقب الله آدم به فأخرجه من الجنة، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك كفرًا، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة وأما النسيان الذي يكون بسبب قلة احتمال العقل ما وكل بمراعاته، فلا وجه للدعاء بطلب المغفرة منه. قال: وكذلك الخطأ على وجهين. (¬4) ينظر في خطئ: "تهذيب اللغة" 7/ 495 - 500، "المفردات" ص 156، "اللسان" 1/ 65 - 68. (¬5) نقله في "تهذيب اللغة" 7/ 498. (¬6) ينظر: "تفسير الطبري" 6/ 134، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 370، قال الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1871: وهو الأصح، لأن ما كان عمدًا من الذنب فهو غير معفو عنه، بل هو في مشيئة الله عز وجل ما لم يكن كفرًا. وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 545: وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب، والخطأ غير المقصود، وهذا هو الصحيح عندي.

أحدهما: قول الكلبي (¬1) والثاني: أنا تعبدنا بهذا الدعاء. وقال أبو عبيدة: يقال: أخطأ وخطئ لغتان (¬2) (¬3)، وأنشد: يالَهْفَ هِنْدٍ إذ خَطِئْنَ كَاهلًا (¬4) أي: أخطأن، ويقال في المثل: مع الخَوَاطِئِ سهمٌ صائبٌ (¬5) ,أي: المُخْطِئات. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سقطت من (ي). (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 376، ونقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 1060 (مادة: خطئ)، وتعقبه الحافظ ابن حجر في "الفتح" لعله في سورة الإسراء. (¬4) البيت لامرئ القيس، وبعده كما في "تهذيب اللغة" 1/ 1060 (مادة: خطئ)، و"الشعر والشعراء" 1/ 55، و"أساس البلاغة": القاتلَيْنِ الملِك الحُلاحلا ورواية ديوان امرئ القيس ص 136 (ط. السندوبي). يالهف هند إذ خطئن كاهلا ... تالله لا يذهب شيخي باطلا حتى أبيرمالكا وكاهلا ... القاتلين الملك الحلاحلا وفي طبعة المعارف رواية أخرى. ينظر التعليق على"تهذيب اللغة" 1/ 1060 (مادة: خطئ)، وكاهل: حي من بني أسد، وهذا الشعر عنى به الخيل وإن لم يجر لها ذكر. ينظر: "اللسان" 2/ 1149 (مادة: خطأ). (¬5) ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 1060 (مادة: خطئ): ضرب للذي يكثر الخطأ ويأتي الأحيان بالصواب، وفي "مجمع الأمثال" للميداني 2/ 280: الخواطئ سهم صائب، وفسر الخواطئ بأنها السهام التي تخطئ القرطاس.

فعلى هذا معنى (أخطأنا): خطئنا، أي: أثمنا وتَعَمَّدْنا الإثم (¬1). وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} أصل الإِصْر في اللغة: الثِّقْلُ والشِّدَّةُ، قال النابغة: يا مانعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُم ... والحَامِل الإصْرَ عَنْهمُ بعدَ ما غَرِقُوا (¬2) ثم يُسَمَّى (¬3) العهد إصرًا (¬4) لأنه ثقيل، قال الله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عهدي وميثاقي، والأَصْر: العَطْف، يقال: ما يَأصِرُني عليه آصرة، أي: رَحِمٌ وقرابة، قال الحطيئة: عَطَفُوا (¬5) عَلَيَّ بغَيْر ... آصِرَةٍ فَقَد عَظُمَ الأوَاصِرْ (¬6) أي: عطفوا عليّ بغير عهدِ قرابةٍ (¬7)، وسمي الثقل إصرًا؛ لأنه يعطف حامله بثقله، ومن هذا يسمى العهد إصرًا؛ لأنه يأصرك على المعهود معه، أي: يعطفك عليه: فالأصل في هذا الحرف الإصر بمعنى العطف، ثم يسمي الثقل والعهد إصرًا لما فيهما من العطف (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 155، "تفسير الثعلبي" 2/ 1872، "تفسير البغوي" 1/ 357، "البحر المحيط" 2/ 343. (¬2) في "ديوانه" ص 129، و"الزاهر" 2/ 59، و"البحر المحيط" 2/ 343، و"الدر المصون" 2/ 59. (¬3) في (أ) و (ي): (سمي). (¬4) في (ي): (الإصر عهدًا). (¬5) في (م): (هم عطفوا). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 37، "تهذيب اللغة" 1/ 166، "لسان العرب" 1/ 87 (مادة: أصر). (¬7) في "تهذيب اللغة" 1/ 166: أو قرابة. (¬8) ينظر في الإصر: "تفسير الطبري" 3/ 157 - 158، "تهذيب اللغة" 1/ 166، "المفردات" ص 28، "اللسان" 1/ 87.

فأما التفسير. فقال ابن عباس في رواية الوالبي وعطاء وعطية (¬1): يعنى: عهدًا وميثاقًا لا نطيقه (¬2) ولا نستطيع القيامَ به فتعذبنا بنقضه وتركه كما حملته على اليهود فلم يقوموا به. وهو قول مجاهد (¬3) وقتادة (¬4) ومقاتل (¬5) والسدي (¬6) والكلبي (¬7) والفراء (¬8). يدل على هذا التفسير قوله لليهود: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81]. وقال كثير من أهل المعاني: الإصر: الثقل، أي: لا تَشُقّ علينا، ولا تشدد ولا تغلِّظ الأمرَ علينا، كما شددت على من قبلنا من اليهود (¬9)، وذلك أن الله تعالى فرضى عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداءِ رُبُعِ أموالهم في الزكاة، ومن أصاب (¬10) ثوبه نجاسةٌ أُمِرَ بقطعها، ونحو هذا ¬

_ (¬1) أخرجها الطبري في "تفسيره" 3/ 157، وروى ابن أبي حاتم 2/ 580 نحوه من طريق الضحاك عن ابن عباس، وذكر ذلك عنهم الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1875. (¬2) في (ي): (لا نطيق ذلك)، وفي (ش): (لا نطيقه ذلك). (¬3) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 156، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 580، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1875، والبغوي في "تفسيره" 1/ 358. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 112، والطبري في "تفسيره" 3/ 157. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 232. (¬6) رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 157، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 580. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1875، والحيري في "الكفاية" 1/ 249، والبغوي في "تفسيره" 1/ 358. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 1/ 189. (¬9) سقطت من (ي). (¬10) في (ي): (أصابت).

من الأثقال التي كانت عليهم، يدل على هذا قوله في صفة هذه الأمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] (¬1) وهذا قول أبي عبيدة (¬2) والمؤرج (¬3) (¬4) والقتبيي (¬5) والزجاج (¬6) وابن الأنبارى (¬7). قال الزجاج: المعنى لا تحمل علينا أمرًا يَثْقُلُ كما حملته على الذين من قبلنا، نحو ما أمُر به بنو إسرائيل من قتل أنفسِهم، أي: لا (¬8) تمتحنا بما يثقل علينا (¬9). وقوله تعالى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} الطاقة: اسم من الإطاقة، كالطاعة (¬10) من الإطاعة، والجابة من الإجابة، وهي توضع موضع المصدر. قيل في معنى {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، أي: من العذاب، كأنهم سألوا الله تعالى أن لا يعذبهم بالنار، فإنه لا طاقة لأحد مع عذاب الله، وقيل: ¬

_ (¬1) من "تفسيرالثعلبي" 2/ 1876 - 1877. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 84. (¬3) هو: أبو فيْد، مؤرج بن عمرو السدوسي البصري، تقدمت ترجمته 2/ 460، [البقرة: 44]. (¬4) "تفسير الثعلبي" 2/ 1877. (¬5) "تفسير غريب القرآن" ص 89. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 371. (¬7) "تفسير الثعلبي" 2/ 1877، وذكر الثعلبي في "تفسيره" أنه قول عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخراساني، ومالك بن أنس. (¬8) في (ش): (لأن لا). (¬9) "معاني القرآن" 1/ 371. (¬10) في (م): (اسم من الإطاعة).

أىِ: ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له بعد التجشم وتحمل (¬1) المكروه، وهذا كما تقول العرب: ما أطيق النظر إلى فلان، وهو مطيق لذلك، إلا أنه يثقل عليه ويتأذى به، ومن هذا قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هود: 20] معناه: كانوا يستطيعون ذلك على تأذٍّ وتَكَرُهٍ، فكانوا بمنزلة من لا يستطيع (¬2). وقوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلَانَا} قال ابن عباس والمفسرون: أي: ناصرنا (¬3)، ومثله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] أي: نَاصِرُهُم وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4] أي: ناصره، وكذلك قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] (¬4). ومعنى المولى: من النصرة، من ولي عليه، وولي منه: إذا اتَّصَلَ به ولم يَنْفَصِلْ عنه، وعلى هذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] أي: ناصِرُنا، وعلى هذا المعنى قولهم (¬5): صحبك الله. والوَليُ والمَوْلَى واحد، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كنتُ مَولاهُ فَعَلِي مولاه" (¬6) قال يونس (¬7): أي: من كُنْتُ ¬

_ (¬1) في (ي): (وحمل). (¬2) "تفسير الطبري" 3/ 158، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 581، "تفسير الثعلبي" 2/ 1878. (¬3) ينظر التفاسير المتقدمة، والرواية عن ابن عباس قد تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة. (¬4) ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 159، "تفسير الثعلبي" 2/ 1890. (¬5) في (ش): (قوله). (¬6) رواه أحمد 4/ 368، والترمذي (3713) كتاب: المناقب، باب: مناقب علي. وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم 3/ 109. (¬7) قال يونس سقطت من (ي).

وَلِيَّه (¬1)، وقوله أيضًا: "مُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ وأَسْلَم وغِفَار موالي الله ورسوله" (¬2) أي: أولياء الله، وقال العجاج: الحَمْدُ لله الذي أعْطَى الظَّفَرْ ... مَوَالي الحَقِّ إن المَوْلَى شَكَرْ (¬3) أي: أولياءُ الحَقِّ، وكلُّ مَنْ انَضَم إليكَ فَعَزَّ بِعِزِّكَ وامتنع بِمَنَعَتِكَ (¬4)، فهو مَوْلاك، ولهذا تُسَمَّى العَصَبَةُ وبنو العَمِّ مَوَالي، قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] أي: العصبة، وعلى هذا ينشد: مَوَالي حِلْفٍ لا مَوَالي قَرَابةٍ ... ولكن قَطِينًا يَسْأَلونَ الأَتَاويَا (¬5) ¬

_ (¬1) نقله عنه في "تهذيب اللغة" 15/ 450. (¬2) رواه البخاري (3512) كتاب: الأنبياء، باب ذكر وأسلم وغفار، ومسلم (2520) كتاب: فضائل الصحابة، باب: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لغفار وأسلم. من حديث أبي هريرة. ومزينة: بطن من مضر من القبائل العدنانية، مساكنهم بين المدينة ووادي القرى. ينظر: "معجم القبائل العربية" 3/ 1083. وجهينة: حي عظيم من قضاعة، من القحطانية، وهم: بنو جهينة بن زيد بن ليث، منازلهم ما بين ينبع ويثرب. ينظر: "معجم القبائل العربية" 1/ 216. وأسلم: بطن من خزاعة، وهم: بنو أسلم بن أفصى بن حارثة، من القبائل القحطانية، ومن قراهم: وبرة: وهي قرية ذات نخيل من أعراض المدينة. ينظر: "معجم القبائل العربية" 1/ 26. وغفار: بطن من كنانة، من العدنانية، وهم: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف، كانوا حول مكة ومن مياههم: بدر. ينظر: "معجم القبائل العربية" 3/ 890. (¬3) البيت في ديوان العجاج رواية الأصمعي 1/ 4، وروايته: فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحق إن الحق شكر وينظر: "تهذيب إصلاح المنطق" 1/ 169، و"مجالس ثعلب" ص 253، و"أمالي القالي" 1/ 134، و"خزانة الأدب" 4/ 40. (¬4) في (ي) و (ش): (لأنه). (¬5) البيت للجعدي، نسبه إليه في "اللسان" 8/ 4922 مادة: (ولى)، 2/ 957 (مادة: حلب)، 1/ 24 (مادة: أتى)، وفي الموضع الأخير ذكره بلفظ: يحلبون الأتاويا.

يقول: هم حلفاء لا أبناء عم (¬1)، والمَولَى: الذي يلي عليك أَمْرَكَ (¬2). فمعنى قوله: أنت مولانا أي: أنت ولينا بنصرك إيانا، وأنت الذي تلي علينا أمورنا، وذلك أنه (¬3) يلي أمور (¬4) المؤمنين بالنصرة والمعونة، يقال منه (¬5): ولي يلي ولاية، فهو ولي ومولى (¬6). قال مقاتل بن سليمان: لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء، أعطي خواتيم سورة البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ} فقالت له (¬7) الملائكة: إن الله عز وجل قد أحسن عليك الثناء بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} فَسَلْه وارغب إليه، وعلمه جبريل كيف يدعو، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا} إلى آخر السورة، وجبريل عليه السلام يقول في كل فصل: قد فعل الله تبارك وتعالى ذلك (¬8). ¬

_ (¬1) قوله: (حلفاء لا أبناء عم)، سقطت من (ي). (¬2) ينظر في ولي "تفسير الطبري" 3/ 159، "تهذيب اللغة" 4/ 3955 - 3958، "المفردات" ص 547، "اللسان" 8/ 4920. (¬3) في (ي) و (ش): (لأنه). (¬4) في (ي): (أمر). (¬5) سقطت من (ي). (¬6) قال الراغب: الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعدان حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والوِلاية: النصرة، والوَلاية: تولي الأمر، وقيل: الوِلاية والوَلاية نحو الدِّلالة والدَّلالة، وحقيقته: تولي الأمر، والوَلي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في الفاعل، أي الموالي، وفي معنى المفعول، أي: الموالَى، يقال للمؤمن: هو ولي الله عز وجل، ولم يرد مولاه، وقد يقال: الله تعالى ولي المؤمنين ومولاهم. (¬7) سقطت من (ي). (¬8) لم أجد عند مقاتل في "تفسيره" 1/ 232 الشق الأول من الحديث، ولكنه ذكر قوله:=

وحدثنا أحمد بن أبي منصور الحافظ (¬1) رحمه الله: أنبأنا (¬2) عبد الله ابن حامد الأصبهاني أنبأنا محمد بن جعفر المطيري (¬3)، حدثنا (¬4) علي بن حرب (¬5)، حدثنا ابن فضيل (¬6)، حدثنا عطاء (¬7)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} قال: قد غفرت لكم لا يكلف ¬

_ = ثم علم جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله عز وجل: ذلك لك. إلى آخر الآيات، وفي كل دعاء يقول الله: ذلك لك، فاستجاب الله عز وجل له ذلك فيما سأل، وشفعه في أمته، وتجاوز لها عن الخطايا والنسيان وما استكرهوا عليه، فلما نزلت قرأهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وأعطاه الله عز وجل هذه الخصال كلها في الآخرة، ولم يعطها أحدًا من الأمم الخالية. (¬1) يعني شيخه الثعلبي في "تفسيره". (¬2) في (ش): (أخبرنا)، وفي (أ): (انبا). (¬3) هو: الإمام المحدث أبو بكر محمد بن جعفر بن أحمد بن يزيد المطيري، ثم البغدادي الصيرفي، نزل بغداد، وحدث عن خلق منهم علي بن حرب، وروى عنه الدارقطني وغيرهم، قال فيه هو ثقة مأمون، توفي سنة 335 هـ. ينظر "السير" 15/ 301، "تاريخ بغداد" 2/ 145 - 146. (¬4) في (ي) و (أ) (ثنا). (¬5) هو: علي بن حرب الموصلي الطائي، أبو الحسن، روى عن يحي بن اليمان، ومحمد بن الفضيل وغيرهم، قال ابن حجر: صدوق فاضل، وروى عنه النسائي وأبو عوانة ومحمد بن جعفر المطيري، توفي سنة 265 هـ انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 183، "التقريب" ص 399 (4701)، "السير" 12/ 251 - 253. (¬6) هو: محمد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الضبي الكوفي، قال ابن المدني: كان ثقة ثبتًا في الحديث، وقال ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان، وابن سعد: ثقة، وقال الإمام أحمد: يتشيع، وكان حسن الحديث توفي سنة 194، وقيل: 195. ينظر: "الجرح والتعديل" 7/ 57، "تهذيب التهذيب" 3/ 676، "السير" 9/ 173. (¬7) عطاء بن السائب بن مالك الثقفي، أبو السائب الكوفي، تقدمت ترجمته [البقرة: 60، 61].

الله نفسًا إلا وسعها إلى قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: لا أوآخذكم، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} قال: لا أحمل عليكم، {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: لا أحملكم، {وَاعْفُ عَنَّا} إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم (¬1) وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرتكم على القوم الكافرين (¬2). وقال أبو إسحاق: هذا الدعاء أخبر الله عز وجل به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وجعله في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة (¬3)، فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يُحفَظ وأن يُدعَى به كثيرًا. وقال في قوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: انصرنا عليهم في إقامة الحجة، وفي غلبتنا إياهم في حربهم وسائر أمورهم، حتى (¬4) تُظهِر (¬5) ديننا على الدين كلِّه كَمَا وَعَدتنا (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: (غفرت لكم)، ساقط من (ي). (¬2) الحديث، رواه بهذا السند واللفظ: في "تفسيره" 2/ 1890، ورواه الطبري في "تفسيره" 3/ 160، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 577 - 582 كلاهما عن علي بن حرب بهذا الإسناد، والحديث أصله رواه مسلم (126) كتاب: الإيمان، باب. بيان أنه سبحانه لا يكلف إلا ما يطاق، والترمذي (2992) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، وأحمد 1/ 233 وغيرهم بلفظ: "قد فعلت" بعد كل دعاء. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 370. (¬4) سقطت من (ي). (¬5) في (ش) (يظهر). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 1/ 371.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة آل عمران من أول السورة إلى آية (138) تحقيق د. أحمد بن محمد بن صالح الحمادي أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الخامس

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة آل عمران من أول السورة إلى آية (138) تحقيق د. أحمد بن محمد بن صالح الحمادي أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الخامس

جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي, محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان, الرياض1430هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 2273 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 858 - 04 - 9960 - 978 (ج1)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [5]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة آل عمران

سورة آل عمران

1

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة آل عمران (¬1) 1 - {الم} اجتمعت القرّاء على فتح الميم، وإدراج ألفِ اللهِ في الوصل (¬2)، إلا ما رُويت (¬3) شاذًا عن عاصم: أنّه سكّن الميمَ وقَطَعَ الألف (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير سورة آل عمران: ساقط من (ج). (¬2) أي: بأن تُفتح الميمُ، ولا تظهر همزةُ اسم الجلالة في الوصل، حال النطق. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجّاج 1/ 373، "السبعة في القراءات" لابن مجاهد 200، "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي 3/ 8، وكتاب "التبصرة في القراءات السبع" لمكي بن أبي طالب 455، "إتحاف فضلاء البشر" لأحمد البَنّا ص 170. ويجوز لكل القرّاء في "ميم" المدُّ والقصر؛ لتغير سبب المد، فيجوز الاعتداد بالعارض وعدمه. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص 170، "البدور الزاهرة" لعبد الفتاح القاضي 58. (¬3) في (ج)، (د): (روي). (¬4) (قَطَع الألف) أي: ابتدأ بها. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 9، "السبعة" لابن مجاهد 200، "التبصرة" لمكي ص 455. وهذه القراءة عن عاصم، رواها ابنُ مجاهد من طرق عدّة عن أبي بكر عنه، كما رُويت عن الحسن، وعمرو بن عبيد، وأبي جعفر الرؤاسي، والأعمش، والأعشى، والبرجمي، وابن القعقاع. انظر: "السبعة" ص 200، "معاني القرآن" للفراء 1/ 9، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 307، "علل الوقوف" للسجاوندي: 1/ 220، "البحر المحيط" لأبي حيان: 2/ 374. ولكنَّ المعروف والمضبوط عن عاصم هو الوصلُ وفتح الميم، وهي =

واختلفوا في عِلَّةِ فتح الميم: فقال الفراء (¬1): طُرِحت عليها فتحةُ الهمزة؛ لأن نيّة حروف الهجاء الوقف. فَلَمَّا كان يُنوى بها الوقفُ، نُوي بما بعده الاستئنافُ، فكانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبات (¬2). ومذهب سيبويه (¬3): أنه حُرَّك لالتقاء الساكِنَينِ (¬4)، والساكن الذي حُرّك له الميمُ، لامُ التعريف؛ وذلك أنَّ حُكْمَ هذه الهمزة، أن تُجتلَبَ في الابتداء، إذا احتيجَ إلى اللفظ بحرفٍ ساكنٍ، دون الصِّلَةِ والإدْراج، فإذا اتَّصلَ الساكنُ المُجتَلَبُ له هذا الحرفُ بشيءٍ قبله، استُغنِيَ عنه، فحُذِفَ. فإن اتّصَلَ بمتحرِّكٍ، بُنيَ على حركته (¬5)، نحو: (ذهبَ ابْنُك). وإنْ كان حرفًا ساكنًا -غيرَ لَيِّنٍ- حُرّكَ، نَحْوَ: {عَذَابٍ (41) ارْكُضْ} (¬6) [ص:41 - 42]، ¬

_ = روايةُ حفصٍ عنه. ويقول الزجّاج: (والمضبوط عن عاصم في رواية أبي بكر بن عياش وأبي عمرو فتح الميم. وفتح الميم إجماعٌ). ويقول مكي: (والذي قرأت به في رواية يحيى بن آدم بالوصل، مثل الجماعة). يعني: رواية يحيى عن أبي بكر. انظر: "معاني القرآن" للزجّاج: 1/ 373، "التبصرة" لمكي 455، "السبعة" لابن مجاهد ص 200، "الحجة" للفارسي 3/ 5. (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 9. نقله عنه بالمعنى. وقد تقدمت ترجمته. (¬2) يعني بـ "الثبات": عدم سقوط الهمزة في الوصل. وقد ذهب الزمخشريُّ مذهبَ الفرّاء، وناقشه أبو حيان ورَدَّ عليه. انظر: "الكشاف" للزمخشري 1/ 410، "البحر المحيط" لأبي حيان 2/ 375 "الدر المصون" للسمين الحلبي 3/ 812. (¬3) في "الكتاب" له 4/ 152. (¬4) قال السمين الحلبي: (وهو مذهب سيبويه وجمهور الناس). "الدر المصون" 3/ 6. (¬5) في (ج): (متحركة). (¬6) يقول أبو علي الفارسي: (فإن كان الحرف الثاني من الكلمة التي فيها الساكن الثاني مضمومًا ضمة لازمة، جاز فيه التحريكُ بالضم والكسر جميعًا) وأتى بهذه الآية ضمن الشواهد على ذلك. ثم قال: وجميع هذا يجوز في الساكن الأول التحريك بالضم) أي أن تقرأ هكذا: {عَذَابٍ (41) ارْكُضْ} في حال الوصل. "التكملة" للفارسي 177، وانظر: "كتاب سيبويه" 4/ 153، "الكشف" لمكي 1/ 274. وقد قرأ بكسر الباء مع التنوين في {عَذَابٌ} في حال الوصل: عاصم، وحمزة، وأبو عمرو بن العلاء، وقنبل، وابن ذكوان، ويعقوب. وأجمعوا على ضم الهمزة في الابتداء. وقرأ الباقون بضم الباء مع التنوين. انظر: "الكشف" لمكي 1/ 274، 275، وقال: والضم في ذلك كلِّه الاختيارُ؛ لأن عليه أكثر القراء، ولأنه أخف. والكسر حسن؛ لأنه الأصل في حركة التقاء الساكنين. وانظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص 372، "البدور الزاهرة" ص 272.

و {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} (¬1) [الجن: 16]. فكذلك (¬2) الهمزة في أسماءِ اللهِ عزّ وجلّ مِن قوله: {الم}، إذا اتَّصَلَ بما قبلها لزم حذفُها، كما لزم إسقاطُها فيما (¬3) ذكرنا. وإذا لزم حذفها، لزم حذفُ حركتها أيضًا؛ لأنك لا تجدُ هذه الهمزة المُجْتَلَبَة في موضع ملقاةً، وحركتَها مبقاةً. فإذا لزم حذفها، لم يجُزْ إلقاؤها على الحرف الساكن. فليس حركةُ الميم إذن (¬4) حركةَ الهمزة، وإذا لم تكن حركةَ الهمزة، ثبت أنها حركةُ التقاء الساكنَيْنِ. وأمّا ما احتج به الفرّاءُ مِن أنّ هذه الحروف موضوعةٌ على الوقف، وإذا كان كذلك وجب أنْ تثبت الهمزةُ ولا تحذَف، كما تثبت في الابتداء، فإذا لزم أن لا (¬5) تحذف كما لا تحذف (¬6) في الابتداء، لم يمتنع أن تُلْقَى ¬

_ (¬1) وقد وردت كتابتها في جميع النسخ: (وأن لو) بفصل (أن) عن (لو). وأثبتها وفق رسم المصحف. (¬2) في (ج): (فلذلك). (¬3) في (ج): (في ما). (¬4) في (ب)، (ج)، (د): (إذًا). (¬5) (لا) ساقطة من: (ج)، (د). (¬6) (كما لا تحذف): ساقط من (ج).

حركتُها على ما قبلها. قيل: إنَّ وضعَ هذه الحروف (¬1) على الوقف، لا توجب (¬2) قطعَ ألفِ الوصل وإثباته (¬3) في المواضع التي تسقط فيها. وأنت إذا ألقيت حركته على الساكن، فقد وصلت الكلمة التي هي فيها بما قبلها، وإنْ كان ما قبلها موضوعًا على الوقف. فقولك: (ألقيت حركته عليه) بمنزلة قولك: (وَصَلْتُه)، ألا ترى أنك إذا خفَّفْتَ (مَنْ أَبُوكَ)، قلتَ: (مَنَ بُوك) فَوَصَلْتَ، ولو (¬4) وَقَفْتَ لم تُلقِ الحركةَ عليها، فإذا (¬5) وصلْتَها بما قبلها، لَزِمَ إسقاطُها، وكان إثباتُها مخالفًا لأحكامها في سائرِ مُتَصَرفاتها (¬6). ويقوي قولَ الفراء ما حكاه سيبويه (¬7) مِن قولهم: (ثَلَثَهَرْبَعَة) (¬8) ألاَ ¬

_ (¬1) في (ج): (الحرف). (¬2) في (د): (يوجب). (¬3) في (ج): (وإثباتها). (¬4) (ولو) ساقطة من (د). (¬5) في (ب): (وإذا). (¬6) يقول السمين الحلبي - بعد أن نقل ردّ الواحدي هذا على الفراء: (قلت: هذا الرد مردود؛ بأن ذلك معامل معاملة الموقوف عليه، والابتداء بما بعده، لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقةً، حتى يَرُدَّ عليه بما ذكر). "الدر المصون" 3/ 8. ورأي الفراء هذا رده آخرون غير المؤلف، ومنهم: أبو علي الفارسي، وابن جنِّي، وخطَّأه تاجُ القراء الكرماني، واستبعده العكبريُّ. انظر: "الحجة" للفارسي: 3/ 9، "المحتسب" لابن جني: 240، "غرائب التفسير وعجائب التأويل" للكرماني 1/ 139، "التبيان" للعكبري 1/ 173. قال الفارسي: (ولا يجوز أن تكون الفتحة لهمزة الوصل ألقيت على النون؛ لأن الهمزة إذا أوجب الإدراجُ إسقاطَها لم تبق لها حركة تلقى على شيء، فيما علمناه). (¬7) في "الكتاب" 3/ 265. (¬8) (ثلثهربعة): مطموسة في (د).

ترى أنهم أجروا الوصل في هذا مجرى الوقف؛ حيث ألقَوا حركة الهمزة على التاء التي للتأنيث، وأبقوها هاءً، كما تكون في الوقف، ولم يقلبوها تاءً (¬1)؛كما يقولون في الوصل: (هذه ثلاثتك) كذلك ههنا لَمّا كانت النيّةُ في الميم الوقفَ، وفيما بعدها الاستئنافَ، كانت الهمزةُ في حُكْمِ الثَبَات، فأُلقِيَت حَرَكَتُها على الميم. فله حُكْم الوقف مِن وَجْهٍ، وحُكْمُ الوَصْلِ مِن وَجْهٍ؛ كما كان في (ثَلَثَهَرْبَعَة) (¬2)، له حُكْمُ الوصل؛ من حيث إلقاء حركةِ الهمزة على (الهاء)، وحُكْم الوقف، حيث أبقوا الهاءَ على حالها (¬3). والساكن الذي حُرِّكت لَهُ الميمُ في {الم}، الساكنُ الثالث، وهو (¬4): لام التعريف؛ وذلك أنّ حروف التَّهَجِّي يجتمع فيها ساكنان؛ كقوله: {حم (1) عسق} [الشورى:1 - 2]، ولا يُحرَّك الساكنُ الثاني منها. وجمعهم بين الساكِنَيْنِ في هذه الحروف، دليلٌ على أنها في {الم} ليس بمتحرك للساكن الثاني إذ لو كان للثاني (¬5) لم يُحرَّك كما لم يُحرَّك سائرُ ما ذكرنا (¬6). ¬

_ (¬1) أي: أن أصلها (ثلاثة أربعة)، فلما وقفنا على (ثلاثة) أبدلنا التاء (هاءً) كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرينا الوصل مجرى الوقف، فتركنا الهاءَ على حالها في الوصل، ثم نقلنا الهمزة إلى الهاء، فكذلك هذا. وانظر: "الدر المصون" 3/ 8 (¬2) (ثلثهربعة): مطموسة في (د). (¬3) ولكن يلاحظ أن الهمزةَ في (أربعة) همزة قطع، فهي ثابتة في الابتداء والدرج، وعليه نقلت حركتها. أما همزة اسم الجلالة، فهي همزة وصل واجبة السقوط، فلا تنقل حركتها إلى ما قبلها. وهذا هو الفرق. انظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 240، "الدر المصون" 3/ 8. (¬4) في (د): (فهو). (¬5) في (ج): (الثاني). (¬6) انظر: "التكملة" للفارسي 179، "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 239.

قال الأخفش (¬1): لو كسرت الميم لالتقاء الساكِنَيْن، فقيل: {الم}، لَجَازَ. قال أبو إسحاق (¬2): هذا غلط من أبي الحسن؛ لأن قبل الميم ياءً، مكسورًا (¬3) ما قبلها، فحقها الفتح؛ لالتقاء الساكنين؛ لِثِقَلِ الكَسْرِ مع الياء (¬4). قال أبو علي (¬5): كَسْرُ الميم لو ورد بذلك (¬6) سماعٌ، لم يدفعه قياس، بل كان يُثَبِّتُه ويُقَوِّيه؛ لأنَ الأصل (¬7) في التحريك لالتقاء الساكنين الكسرُ. وإنما يُترك الكسرُ (¬8) إلى غير ذلك؛ لِمَا يَعْرِضُ مِن عِلّةٍ وكراهةٍ. فإذا جاء الشيء على ما به فلا وجه لِرَدِّهِ، ولا مَسَاغ (¬9) لِدَفْعِهِ. وقول أبي إسحاق: (إنَّ ما قبل الميم ياءً مكسورًا (¬10) [قبلها] (¬11) ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 22. نقله عنه بمعناه. وقد تقدمت ترجمته. (¬2) قوله في "معاني القرآن وإعرابه" له 1/ 373. نقله عنه بنصه. (¬3) في (ج): (مكسور). (¬4) في "معاني القرآن" (وذلك لثقل الكسرة مع الياء). (¬5) لم أقف على مصدر قوله فيما رجعت إليه من كتبه المطبوعة، وقد أورد قوله السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 14. (¬6) في (ب): (به). (¬7) في (ج): (الوصل). (¬8) في (ج): (القياس). (¬9) في (ج): (امتناع). (¬10) في (ج): (مكسورة). (¬11) ما بين المعقوفين زيادة أضفتها من "الدر المصون" للسمين 3/ 14. حيث أورد السمين هذه العبارة ناقلًا لها عن الواحدي، وكذلك هي في الأصل المنقول عنه وهو "معاني الزجاج" حيث إن الزجاج لا يعني كسر الياء، وإنما كسر ما قبل الياء.

فحقها الفتح)، ينتقضُ بقولهم: (جَيْرِ) وكان مِنَ الأَمْرِ) (¬1) (ذَيْتِ وذِيْتِ) (¬2) و (كَيْتِ وكِيْتِ) (¬3). فَحُرِّك الساكنُ بعد الياء بالكسر، كما حُرِّك بعدها بالفتح في (أيْنَ). وكما جاز الفتح بعد الياء؛ لقولهم (¬4): (أيْنَ)، كذلك يجوز الكسرُ بعدها؛ لقولهم: (جَيْرِ) (¬5). ويدل على جواز التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين في ما (¬6) كان قبله ياء جوازُ تحريكه بالضم؛ كقولهم (¬7): (حيثُ). وإذا (¬8) جازَ الضمُّ، كان الكسرُ أسهلَ، وأجْوَزَ. ¬

_ (¬1) (جير وكان من الأمر): ساقط من (ج)، (جَيْر) بكسر الراء، وقد يُنَوَّن: يمينٌ، أي: حَقَّا. أو بمعنى نعم، أو أجل. انظر: "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 937، 944، "مجمل اللغة" لابن فارس: 1/ 204، "القاموس المحيط" ص370 (جير). (¬2) في (د): (ديت وديت). (¬3) (ذيت وذيت) بفتح التاء أو كسرها أو ضمها: اسم كناية، يكنى بها عن الحديث أو القصة أي: الحديث عن شيء حصل أو قول وقع. ولا بد مع تكرارهما مع فصلهما بالواو، مع اعتبارهما كلمة واحدة في محل نصب أو جر أو رفع حسب حاجة الجملة. ويقال في (كيت وكيت) ما قيل في (ذيت وذيت). ولم أقف في المصادر التي رجعت إليها على كسر الذال من (ذيت) والكاف من (كيت). انظر: "الخصائص" لابن جني 1/ 202، "سر صناعة الإعراب" له: 1/ 152 - 153، "لسان العرب" 3/ 1528 (ذيت) 7/ 3964 (كيت)، "النحو الوافي" 4/ 583. (¬4) في (ج)، (د): (كقولهم). وفي "الدر المصون": (في قولهم). (¬5) في (ج): (خبر). (¬6) في (ب)، (ج)، (د)، "الدر المصون": (فيما). (¬7) في (د): (لقولهم). وفي "الدر المصون" (نحو قولهم). (¬8) في (د): (إذا). بدون واو.

وأما (¬1) ما رُوي عن عاصم، من قطعه الألف، فكأنّهُ قدّر الوقفَ (¬2) على الميم، واستأنف (الله). فقطع (¬3) الهمزة للابتداء بها. قال محمد بن إسحاق (¬4)، والكَلْبِي (¬5)، والرَّبِيع (¬6): نزلت هذه الآية، إلى (¬7) نيّف وثمانين من هذه السورة، في وفْدِ نَجْران (¬8)، مِنَ النَّصَارَى، لَمّا جاءُوا يُحَاجُّونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬9). ¬

_ (¬1) من قوله: (وأما ..) إلى (.. للابتداء بها): نقله بنصه عن "الحجة" للفارسي: 3/ 9. (¬2) في "الحجة": (الوقوف). (¬3) في (د): (وقطع). (¬4) قوله في "سيرة ابن هشام" 2/ 175، "تفسير الطبري" 3/ 162، "المحرر الوجيز" 3/ 5، "تفسير ابن كثير" 1/ 368. وهو: محمد بن إسحاق بن يَسَار، المُطَّلِبي بالولاء، من أهل المدينة، سكن العراق، إمام في المغازي والسيرة النبوية، رُمَي بالتشيع والقدر، صدوق يُدلِّس، مات ببغداد سنة (151 هـ)، وقيل بعدها. انظر: "وفيات الأعيان" 4/ 276، "تذكرة الحفاظ" 1/ 172، "تهذيب التهذيب" 3/ 504. (¬5) قوله في "بحر العلوم" 2/ 8، "تفسير البغوي" 2/ 5. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 163، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 585، "تفسير البغوي" 2/ 5، "المحرر الوجيز": 3/ 5. (¬7) في (ج): (في). (¬8) نجران: هي الآن في أرض الحجاز من المملكة العربية السعودية، وكانت قديمًا من مدن اليمن، من ناحية مكة. انظر حولها "معجم ما استعجم" 4/ 1298، "معجم البلدان" 5/ 266. (¬9) انظر في خبر وفد نجران، وأنه سبب نزول هذه الآيات إضافة إلى المصادر السابقة: "أسباب النزول" للمؤلف ص 99، "امتناع الأسماع" للمقريزي 1/ 502، "وتفسيرات شيخ الإسلام ابن تيمية" جمع إقبال الأعظمي: 115، "زاد المعاد" لابن القيم: 3/ 629، "السيرة النبوية" لابن كثير: 1/ 367، "البداية والنهاية" له 5/ 52 - 56، "حدائق الأنوار" لابن الدَّيْبَع الشيباني 1/ 68، 2/ 709، "الدر=

3

قال ابن عباس (¬1) في رواية عَطَاء، والضحاك في قوله: {الم} يريد بالألف: الله، واللام (¬2): جبريل، والميم: محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقد مضى الكلام في حروف التَّهَجِّي، وفي معنى {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. 3 - قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}. إنّما قال: {نَزَّلَ}، وقال: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}؛ لأن التنزيل للتكثير. والقرآن نزل نجومًا، شيء بعد شيء، والتوراة والإنجيل نزلتا دفعةً واحدةً (¬4). ¬

_ = المنثور" للسيوطي: 2/ 66، "لباب النقول" له: 51، وزاد في نسبة إخراجه فيهما لابن المنذر، والبيهقي في "دلائل النبوة". وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 395 - 398 فله توجيه لطيف حول قول محمد بن إسحاق هذا ومن معه في سبب نزول هذه الآية. (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" (مخطوط مصور في جامعة الإمام):1/ 23 ب. (¬2) في (ب): (والميم واللام). (¬3) أورد الأثر هذا عنه الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان" 1/ 23 ب. (¬4) وقد ذهب كثير من المفسرين، إلى ما ذهب إليه المؤلفُ، من تخصيص القرآن، هنا بلفظ التنزيل، الدال على التكثير؛ نظرًا لنزوله منجمًا، وأن التوراة والإنجيل خُصَّا بالإنزال؛ لأنهما نزلا دفعة واحدة ومن هؤلاء المفسرين: الثعلبي، والبغوي، والزمخشري، وبيان الحق النيسابوري، وابن الجوزي، والقرطبي، والنسفي، وأبو جعفر بن الزبير الغرناطي، وابن جماعة، والبيضاوي، والمهايمي، وأبو السعود. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 4 أ، "تفسير البغوي" 2/ 6، "الكشاف" للزمخشري: 1/ 238،412، "وضح البرهان" لبيان الحق: 1/ 233، "زاد المسير" 1/ 349، "تفسير القرطبي" 4/ 5، "تفسير النسفي" 1/ 141، "ملاك التأويل" لابن الزبير: 1/ 141، "كشف المعاني" لابن جماعة: 123، "تفسير اليضاوي" 1/ 62، "تفسير المهايمي" 1/ 102، "تفسير أبي السعود" 2/ 4. ولكن رُدَّ هذا القول بالآتي: إن التضعيف الدال على الكثرة، شرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف غالبًا؛ نحو: (فتَّحت الباب)، وفعل (نَزَل) لم=

و {وَالكِتَابِ}؛ يعني: القرآن (¬1). فهو مصدرٌ، سُمِّي به المكتوب. وقوله تعالى: {بِاَلحَقِّ}. أي: بالصدق في أخباره، وجميع دلالاته. ¬

_ = يكن متعديًا قبل التضعيف. وقولهم: (غالبًا): لأن التضعيف جاء دالًا على الكثرة في اللازم؛ نحو: (موَّت المالُ): إذا كثر. إن التضعيف الدال على الكثرة، لا يجعل اللازم متعديًا كما في (مَوَّت المال). ولما كان (نزل) لازما، وصار بالتضعيف متعديًا، دلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير. إنه لو كان (نَزَّل) للتكثير، لاحتاج قولُهُ تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] إلى تأويل، إنه ورد فعل (نَزَّل) المضعَّف، في آيات كثيرة، ولا يمكن أن يدل على التكثير، إلا بتأويل بعيد جدًا، ومن ذلك قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} [الأنعام: 37] وقوله: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95]. كما أن (أنزل) قد ورد خاصًّا بالقرآن، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل: 44] فلو كان أحدهما يدل على التنجيم، والآخر على النزول دفعة واحدة، لكان في ذلك تناقض في الإخبار، وهو محال. انظر: "الحجة" للفارسي: 2/ 158 - 162، "البحر المحيط" 1/ 103، "الدر المصون" 3/ 198، 3/ 21. ويرى ابن عاشور أن التضعيف في {نَزَّلَ} كالهمز فيه، إلا أن التضعيفَ يؤذن بقوة الفعل في كيفيته وكمِّيَتِه، وأن {نَزَّلَ} أهم من (أنزل)؛ حيث يدل على عِظَم شأن نزول القرآن. ويرى بأنه لا دلالة على أن التوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة، بل نزلا مفرقَيْن؛ كحال كل ما نزل على الرسل في مدة الرسالة. انظر تفسير "التحرير والتنوير" 3/ 147، 148. (¬1) ذهب سعيد بن جبير إلى أن الكتاب هنا: خواتيم سورة البقرة. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 587. أما جمهور المفسرين، فقد ذهبوا إلى أن المراد به القرآن، كما فَسَّره المؤلف. يقول أبو حيان (الكتاب هنا: القرآن، باتفاق المفسرين). "البحر المحيط" 2/ 377. وانظر: "تفسير الطبري" 3/ 166، 167 "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 587، "تفسير البغوي" 2/ 6، "تفسير ابن جزي" 73، "زاد المسير" 1/ 349، "تفسير ابن كثير" 1/ 369، "الدر المنثور" 2/ 5.

وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}. أي: موافقًا لِمَا تقدم الخبرُ به في سائر الكتب. وفي ذلك دليل على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل (¬1): مصدقًا لشرائع الأنبياء المتقدمين فيما أتوا به، خلاف مَن يقول: نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}. مِن مَجَازِ الكلام؛ وذلك أنَّ ما بينَ يَدَيْك، فهو أمَامَك. فقيل لكل ما تقدم على الشيء: (هو بين يديه)؛ كما جاء في الحديث: "إنَّ بينَ يَدَي الساعة سنين خَدّاعَة" (¬2) , أي: أمامها، تتقدم عليها. ¬

_ (¬1) هو معنى قول: مجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل، والطبري، والثعلبي، والبغوي. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 262، "تفسير الطبري" 3/ 166، 167، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 587، "تفسير البغوي" 2/ 6، "تفسير الثعلبي" 3/ 4 أ. (¬2) الحديث، أخرجه: البزار (انظر كشف الأستار عن زوائد البزار: رقم الحديث: (3373)، وأحمد في "المسند" 3/ 220. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 284، من رواية عمرو بن عوف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن رواية ابن إسحاق، عن عبد الله بن دينار، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الهيثمي: (وقد صرح ابن إسحاق بالسماع من عبد الله بن دينار، وبقية رجاله ثقات). وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" 14/ 229 رقم (38511) وعزاه للطبراني في "المعجم الكبير" والحاكم في "الكنى" وابن عساكر، عن عوف بن مالك الأشجعي. وورد الحديث بلفظ آخر من رواية أنس بن مالك: "إن أمام الدجال سنين خدَّاعة .. ". أخرجه أحمد في "المسند" 3/ 220 (انظر: "الفتح الرباني" للبنا: 24/ 35). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 284: (رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وابن لهيعة، وهو لين). وورد من رواية أبي هريرة بلفظ: "إنها ستأتي على الناس سنون خداعة". رواه أحمد في "المسند" 2/ 291. وانظر: "المسند" بشرح شاكر: 15/ 37 رقم (8799)، وقال الشيخ أحمد شاكر: (إسناده حسن، ومتنه صحيح).

وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ}. قال الفراء (¬1): أصل (التوراة): (تَوْرَيَةٌ)، على وزن (تَفْعَلَة)، فصارت الياءُ ألفًا، لِتَحَرُّكها وانفتاح ما قبلها. قال: ويجوز أن تكون (تَفْعِلَة)، فيكون أصلها: (تَوْرِيَة)، فتنقل الراء مِن الكَسْر إلى الفتح؛ كما تقول طَيِّئ (¬2) في (جاريَة): جَارَاة. وفي (ناصيةٍ): نَاصَاة (¬3). قال الشاعر: بِحَرْبٍ كَنَاصاةِ الأغَرِّ المُشَهَّرِ (¬4) ¬

_ (¬1) قوله: في "الزاهر" لابن الأنباري: 1/ 168، وأورد الأزهريُ طرفا منه، وعزاه لكتاب (المصادر) للفراء. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3880. (¬2) في (ج): (ظبي). (طيئ) هي القبيلة العربية المشهورة، التي تنسب إلى طيئ بن أدَد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وهي من القبائل القحطانية، كانت مساكنهم في اليمن، ثم خرجوا منها، ونزلوا بنجد والحجاز، ثم انتشروا في الجزيرة العربية. انظر: "جمهرة أنساب العرب" 398، 399، 476، و"صبح الأعشى": 1/ 320، و"معجم قبائل العرب": 2/ 689 - 691، 5/ 345. (¬3) الناصية، أو الناصاة: قصاص الشعر في مقدم الرأس. انظر: (نصا) في "اللسان" 7/ 4447، "القاموس المحيط" (1339). قال الأزهري (والناصية عند العرب: منبت الشعر في مقدم الرأس ... وسمي الشعرُ ناصيةً؛ لنباته في ذلك الموضع). "تهذيب اللغة" 4/ 3581. (¬4) عجز بيت، وصدره: لقد آذَنَتْ أهلَ اليَمَامَةِ طيِّئٌ وهو لحُرَيْث بن عَنَاب الطائي. وقد ورد منسوبًا له، في كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة: 2/ 1048، "اللسان" 7/ 4447 (نصا). وورد غير منسوب، في "تهذيب اللغة" 4/ 3581، "الدر المصون" 3/ 18. وردت كلمة (الحِصان) بدلًا من (الأغر) في كل المصادر السابقة، ما عدا "الدر المصون". المُشَهَّر: المشهور. انظر: (شهر) في "تهذيب اللغة" 4/ 1945، "اللسان" 4/ 2352.

وأنشد الفراء: فَمَا الدنيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ ... وما حَيٌّ على الدنيا بِبَاق (¬1) وقال الخليل (¬2) وهو مذهب البصريين (¬3): (تَورَيَةٌ، أصلها: (فَوْعَلَةٌ)، وأصلها: (وَوْرَيَةٌ)، ولكنَّ الواو الأولى قُلِبت تاءً، كما قُلِبت في ¬

_ (¬1) في (د): (باقي). أورده الزمخشري في "ربيع الأبرار" 1/ 38، ونسبه لخالد بن الطَّيِّفان الدارمي، وكذا نسبه الجاحظ له في: كتاب "الحيوان" 5/ 105، وسماه خالد بن علقمة بن الطيفان. إلا أن الزمخشري في "ربيع الأبرار" في: 1/ 13 نسبه لنهشل بن حري النهشلي، وروايته فيه: وما الدنيا بباقية لحي ... وما حي على الحَدَثان باقي وهو في الموضعين في "ربيع الأبرار" (بباقية لحي). وورد البيت غير منسوب، في "الزاهر" لابن الأنباري: 1/ 168، ورسالة الصاهل والشاحج، للمعري: 407، "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري: ص 69، "الدر المصون" 2/ 637، 3/ 19. والشاهد فيه: قوله: (بباقاة)، وأراد: بباقية. (¬2) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 333. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 4 ب. والبصريون، هم: أصحاب المدرسة النحوية بالبصرة، الذين نشأ النحو على أيديهم وتطور. وقد وضعوا قواعدهم على الأعم الأغلب مما نقل عن العرب، ومن قواعدهم المنهجية في النحو: التشدد في السماع، فلا يأخذون إلا من ثقات العربية، ممن سلمت لغاتهم من التأثر بلغة أو بلهجة أجنبية، ولا يعتمدون الشاهد النحوي مقياسًا، إلا إذا جرى على ألسنة العرب، وكثر استعمالهم له، وغير ذلك من القواعد، وهم أسبق من أصحاب المدرسة الكوفية، وأكثر تشددًا منهم. وهناك البغداديون، الذين ينتخبون من المدرستين. ومن علماء المذهب البصري: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وسيبويه، وقطرب، والأخفش الأوسط، والمازني، والمبرد، وغيرهم. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي: 21 - 211، والمدراس النحوية، لشوقي ضيف: 11 وما بعدها، "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" د. محمود اللبدي: 21، 87، "موسوعة النحو والصرف" د. أميل يعقوب: 362، 616.

(تَوْلَج) (¬1)، فهو (فَوْعَل)، مِنْ (وَلَجْت). وقُلِبت الياء ألِفًا؛ لتحركها (¬2) وانفتاح ما قبلها، فصارت (تَوْرَاةً) (¬3)، وكُتِبَت بالياء على أصل الكلمة. قالوا: ولا يجوز أن يكون أصلها (تَفعَلَة) كما قال الفرّاء؛ لأن (¬4) هذا البناء يَقِل، وإن (فَوْعَلة) من الكثرة بحيث لا يتناسبان (¬5). ولا إشكال في أن الحَمْل على الأكثر الأشْيع أولى، وأيضًا فإن التاء لم تكثر زائدةً أوّلًا، والواو إذا كانت أوّلًا فقد استمرّ البدل فيها؛ نحو: (وُجُوه)، و (أُجُوه) (¬6)، و (وُقِّتَتْ)، و (أُقِّتَتْ)، و (وشاح)، و (إشاح) (¬7)، و (وَنَاة)، و (أَنَاة) (¬8). فإذا اجتمع واوان لزم الأوّلَ منهما البدلُ: إما همزة، ¬

_ (¬1) تَوْلَج: كِناس الوحش، وهو الموضع الذي يستتر فيه. انظر: (ولج) في "أساس البلاغة" للزمخشري: 2/ 526، "القاموس المحيط" ص 209. وانظر: (كنس) في "الصحاح" 3/ 971. (¬2) في (د): (لحركتها). (¬3) في (ج): (توراية). (¬4) من قوله: (لأن ..) إلى (.. ولا إشكال): ساقط من: (د). ومن قوله: (لأن ..) إلى (.. وعومرة قد كثر): نقله بتصرف في بعض عباراته عن "الحجة" للفارسي: 3/ 1315. (¬5) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 333، "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 3/ 879، "الممتع في التصريف" لابن عصفور: 1/ 383، 384. (¬6) في (ج): (وأوجه). (¬7) الوشاح: شيء ينسج من أديم عريضًا، يرصع بالجوهر، وتشده المرأة بين عاتقيها. يقال: (وِشاح، وإشاح، ووُشاح، وُأشاح). الجمع: وُشُح، وأوْشِحة. انظر: "الصحاح" للجوهري: 1/ 415 (وشح). (¬8) (امرأة أناة، ووناة): فيها فتور. و (نساءق أنَوات). و (قد وَني في الأمر): ضعف وفتر. انظر: "أساس البلاغة" 1/ 23 (أنى)، 2/ 529 (ونى).

وإما تاء؛ نحو: (أَوَاقٍ) (¬1) في جمع (واقِيَةٍ). وقد أُبدِلت التاءُ من الواو، إذا (¬2) كانت مفردةً؛ نحو: (تُجَاه) و (تُرَاث) (¬3) و (تُخَمَة) (¬4) و (تُكْلاَن). فإذا كثر (¬5) إبدال التاء مِنَ الواو هذه (¬6) الكثرة كانَ حملها على هذا الكثير (¬7)، أوْلى من حمله على ما لم يكثر ولم يتسع هذا الاتساع، ولا يقرب أيضًا حملُها على (تَفْعِلَة)؛ لأنه لا يخلو مِن أن يجعلها (¬8) اسمًا؛ نحو: (تَوْدِيَة) (¬9) أو مصدرًا؛ نحو: (تَوْصِية). فأما باب (تَوْدِيَةٍ) فقليل؛ كما أن (تَفْعَلَة) كذلك، وباب (تَوْصِيَة) فيه ¬

_ (¬1) في (د): (واق). وقوله: (نحو أواق): ساقط من: ب. انظر: "لسان العرب" 8/ 4903 (وقي). (¬2) في (أ): (فإذا). وفي (ب)، (ج): (وإذا) والمثبت من مصدر المؤلف؛ لأنه لا يستقيم الكلام إلا به. ومن قوله: (إذا ..) إلى (.. من الواو) ساقط من: (د). (¬3) في (أ): (تَراث) بفتح التاء. والصواب ما أثبت وهو ضمها. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 527، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 863 (ورث). (¬4) في (أ): (تُخْمَة) بسكون الخاء. والصواب بفتحها. انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس: ص 920، "المصباح المنير" للفيومي: ص 250 (وخم). (¬5) في (ج): (أكثر). (¬6) في (أ)، (ب): وهذه. والمثبت من: (ج) (د). وهو الصواب؛ حيث لا تستقيم العبارة إلا به، كما أنه هكذا في مصدر المؤلف، وهو "الحجة" للفارسي: 3/ 14. (¬7) في (د): (الكثير). (¬8) في (د): (تجعلها). (¬9) في (ب): (تردية). والتودية: واحدة التوادي، وهي: الخشبات التي نشد على خِلْفِ الناقة إذا صُرَّت. انظر: "غريب الحديث" للحربي: 1/ 263، "الصحاح" 6/ 21،25 (ودى)، "اللسان" 8/ 8804 (ودى).

اتساع؛ لكن إذا حملها على لُغَةِ طَيِّئٍ، فقد حملها على لغةٍ لم نعلم شيئًا منها في التنزيل. فإذا لم يكن الوجهان اللّذان ذكرهما الفراءُ بالسّهلين، حَمَلْتَهُ على (فَوْعَلَةٍ) دونها؛ للكثرة؛ ألا ترى أنّ نحو: (صَومَعَة) (¬1) و (حَوجَلَة) (¬2) و (دَوسَرَة) (¬3) و (عَومَرَة) (¬4)، قد كثر؟. ونظير (التوراة) مِمّا قلبت الواوُ فيه تاءً (¬5)، قولُهم (¬6): (التَّرِيَّة): لِمَا تَرَاهُ المرأةُ في الطُّهْرِ بعد الحَيْضِ (¬7)، وهي (فَعِيلةٌ) مِنَ (الوَرَاءِ)؛ لأنها تُرى بعد الصُّفْرَةِ والكُدْرَة. ويجوز أن تكون (فَعِيلَة) (¬8)؛ مِن: (وَريَ الزَّنْدُ)؛ فكأن ¬

_ (¬1) الصومعة: منار الراهب، وبيت للنصارى. انظر: (صمع) في "اللسان" 4/ 2498، "القاموس" ص 738. (¬2) الحوجلة: هي ما كان من القوارير الصغار واسعة الرأس وقيل: هي القارورة الغليظة الأسفل. وقيل: هي القارورة فقط. انظر: (حجل) في "تهذيب اللغة" 1/ 752، "اللسان" 2/ 789. (¬3) الدَوْسَر: الجمل الضخم، ذو الهامة والمناكب. ولا أنثى: دَوْسَرٌ، ودَوْسَرةٌ. و (كتيبة دوسر، ودوسرة): مجتمعة. وقيل: الدوسر: النوق العظيمة. وقيل: الدوسر: القديم. انظر: (دسر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1183، "اللسان" 3/ 1372، "القاموس" ص 391. (¬4) في (ب): (عوصرة). والعَوْمَرة: الاختلاط. يقال: (تركت الناس في عومرة)؛ أي: في صياح وجلبة. "تهذيب اللغة" 3/ 2567، "اللسان" 5/ 3103. (¬5) في (ب): (الياء في ثاء). (¬6) من قوله: (قولهم ..) إلى (.. فكأن الطهر أخرجه): نقله بتصرف في بعض عباراته عن "الحجة" للفارسي: 3/ 12. (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 1328 (رأى). (¬8) في (د): (فيعلة).

الطُّهْرَ أَخرجه (¬1). فأما اشتقاقها: فقال الفرّاءُ فيما حكاه ابنُ الأنباري: التوراة (¬2)؛ معناها: الضياءُ والنُّورُ؛ من قول العرب: (وَرِيَ الزَّنْدُ (¬3)، يَرِي): إذا قَدَحَ (¬4)، فَلَم يَكْبُ (¬5)، و (أورْيتُه أنا)؛ قال الله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 2] ويقولونَ: (وَرِيتْ (¬6) بل زِنَادِي)، على مثال: (شَرِيَتْ) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر مبحث إبدال التاء من الواو، وأصل كلمة (التوراة) في "المقتضب" للمبرد 1/ 63، "نزهة القلوب" للسجستاني 154، "مجالس العلماء" للزجاجي 95، وكتاب "التكملة" للفارسي 571، "سر صناعة الإعراب" لابن جني 1/ 145، "المنصف" له 1/ 226، "المشكل" لمكي: 1/ 149، "شرح المفصل" لابن يعيش: 9/ 142, 10/ 36، "نزهة الطرف في علم الصرف" لابن هشام: 160. (¬2) من قوله: (التوراة ..) إلى (قول العرب): نقله عن "الزاهر" لابن الأنباري: 1/ 168. (¬3) من قوله: (وري الزند ..) إلى: (.. لم يجاوز به غيره): نقله عن "الحجة" للفارسي: 3/ 10 مع بعض التصرف. (¬4) يقال: (وَرِيَ الزَنْدُ يَرِي)، و (وَرَى يَرِي)، و (وَرِيَ يَوْرَى). انظر: (وري) في: "كتاب العين" للخليل بن أحمد: 8/ 304، "تهذيب اللغة" 4/ 3880، "الصحاح" 6/ 2522. والزَنْدُ: العود الذي تُقدَح به النارُ، وهو يكون في الأعلى، والزندة: السفلى. انظر: "الصحاح" 2/ 481 (زند). (¬5) في (أ): (يثب). (ب): (يتب). وفي (ج): ينب. وفي (د) كما في النسخ السابقة، ولكن بدون إعجام، ولا وجه لجميعها. والمثبت هو ما استصوبته؛ فقد جاء في "اللسان" (كبا الزَنْدُ): إذا لم يخرج ناره. انظر 6/ 3814 (كبا). وفي "مفردات ألفاظ القرآن" (ويقال: (فلانٌ واري الزند): إذا كان مُنْجِحا. و (كابي الزند): إذا كان مُخفِقًا) 558 (وري). (¬6) في (ج): (وَريْتُ). ووردت الكلمةُ كما أثبَتُّ، في "مجالس العلماء" للزجاجي: 82. وجاء في "كتاب العين" للخليل: 8/ 304: (وتقول للرجل الكريم: (إنه لواري الزِّناد، وورَّيْتُ بك زِنادي)؛ أي: رأيت منك ما أحب، مِنَ النُّصْح والنجابة والسماحة). (¬7) في (ج): (شربت). ومعنى (شَرِيَت)؛ أي: لجَّت، مِن: (شَرِيَ يَشرَى شرًى)،=

وزعم أبو عثمان (¬1): أنه استُعْمِل في هذا الكلام فقط، لم يُجاوَزْ به غيره. ومعنى (وَرِيَت بك زِنَادِي)؛ أي: ظَهَر بك الخيرُ لي. فالتوراة سُمِّيت [بذلك] (¬2)؛ لظهور الحق بها. يدل على هذا المعنى قولُه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} [الأنبياء: 48]. وقال المُؤَرّج (¬3): هو من (التَّوْرِيَةِ) (¬4)، وهي: التعريض بالشيء؛ وكان أكثر التوراة معاريضَ وتلويحًا، مِن غير إيضاحٍ وتصريح. وفي (التوراة) قراءتان: الإمالة، والتفخيم (¬5). ¬

_ = و (استشرى فلان في غيِّه): إذا تَمَادَى ولَجَّ فيه. و (شَرِيَ البَرْقُ): إذا تتابع لَمَعانُه. و (شَرِيَتْ عينُه): إذا لجت وتابعت الهملان. و (شَرِيَت)؛ بمعنى: أصابها الشَّرِي، وهو: مرض جلدي له لذع شديد. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري: 228، 229، ومادة (شري) في "الصحاح" 6/ 2391، "اللسان" 4/ 2253. (¬1) في (ج): (ابن عثمان). وهو: بكر بن بقية، وقيل: بكر بن محمد بن عديِّ بن حبيب. أبو عثمان المازني. من أهل البصرة، أستاذ المبرد، روى عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد. قال عنه المبرد: (لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان). قيل إنه توفي: (248 هـ)، وقيل: (249 هـ). انظر: "أخبار النحويين البصريين" 85، و"معجم الأدباء" 7/ 107، و"الأعلام" 2/ 69. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 4 ب. (¬4) في (د): (التوراة). (¬5) الإمالة: أن تُمِيل الفتحةَ نحو الكسرةِ، وتُمِيل الألفَ نحو الياء، مِن غير قلْبٍ خالص، ولا إشباع مبالغ. وهي كبرى وصغرى؛ فالكبرى: أن يُصرف الفتح إلى الكسر كثيرًا. وُيعبَّر عنهابـ (الكسر) مجازًا، أو (البطح) أو (الإضجاع)، وعند سيبويه: (الإجناح). والصغرى: أن يُصرف الفتح إلى الكسر قليلاً، ويسمى (بين اللفظين)؛ أي: بين الفتح وبين الإمالة الكبرى، أو يعبر عنها بـ (التقليل) و (التلطيف)، أو (بين بين). والتفخيم، أو الفتح هو النطق بالألف مركبة على=

فَمَنْ فَخَّم؛ فلأن الراءَ (¬1) حَرفٌ يَمْنُعُ الإمالة؛ لِما فيه مِنَ التكرير، كما يمنعه المستعلي (¬2)، ولو كان مكان (¬3) الراء مُستَعْلٍ مفتوحٌ، لمْ تَحْسُنْ الإمالةُ، كذلك إذا كانت الرّاءُ مفتوحةً. ومَنْ أمالَهَا؛ فَلأنّ الألف لَمّا كانت رابعةً، لم تخلُ مِنْ أن تشبه ألِفَ التأنيث، أو الألف المنقلبةَ عن الواو، وعن (¬4) الياء. وألِفُ (¬5) التأنيث تُمالُ (¬6)، وإنْ كان قبلها مستعْلٍ؛ كقولهم: ¬

_ = فتحة خالصة غير مُمالة. وهو شديد ومتوسط؛ فالشديد: فتح القاريء لِفِيهِ بلفظ الحرف الذي يأتي بعده ألف، وهو مكروهٌ. والمتوسط: ما بين الشديد، والإمالة المتوسطة، وهو المستعمل عند أصحاب الفتح من القراء. انظر: "الرعاية" لمكي: 129، "جمال القراء" للسخاوي: 2/ 500، "التمهيد" لابن الجزري: 57. ووردت الإمالة في قراءة {التَّوْرَاةَ} عن: أبي عمرو، والكسائي، وابن ذكوان، وخلف. ووردت الإمالة بين اللفظين، والإمالة المحضة، عن: حمزة. ووردت الإمالة بين اللفظين عن نافع. أما التفخيم: فورد عن: ابن كثير، وعاصم، وابن عامر. انظر: "السبعة" لابن مجاهد: 201، "الكشف" لمكي: 1/ 183، "التبصرة" لمكي:455، "التيسير" للداني: 86، "الإقناع" لابن الباذش: 1/ 282 - 284، "النشر" لابن الجزري: 2/ 61. (¬1) من قوله: (فلأن الراء ..) إلى (.. كذلك يميلون الراء): نقله بتصرف يسير عن "الحجة" للفارسي: 3/ 15. (¬2) حروف الاستعلاء: الخاء، والصاد، والضاء، والطاء، والظاء، والغين، والقاف. انظر: "الرعاية" لمكي: 123، "التمهيد" لابن الجزري: 9. (¬3) في (أ): (مكان مكان). (¬4) في (د): (أو من). (¬5) في (د): (والألف). (¬6) في (د): (قال).

(فَوْضى) (¬1)، و (جَوْخَى) (¬2) وهي مدينة (¬3)، [فـ] (¬4) كما أمالوا المستعليةَ معها، كذلك يميلون الرَّاءَ (¬5) والألِفَ المنقلبةَ عن الياء والواو، وتمال نحو: {رَمَى} (¬6) و {سَجى} (¬7)، وأشباههما. وقوله تعالى: {وَالْإِنْجِيلَ}. قال الزجَّاجُ (¬8): الإنجيْل، (إفْعِيل)، مِنَ (النَّجْل)، وهو (¬9): الأصل. هكذا كان (¬10) يقول جميع أهل اللغة في (إنجيل). قال ابن الأنباري (¬11): معنى قولهم: (إنجيل) لِكِتاب الله: أصْلٌ ¬

_ (¬1) في (أ): (قوضى). (ب): (قوضي). (د) قوصي. والمثبت من: (ج)؛ لموافقته للمصدر المنقول عنه، وهو "الحجة" للفارسي: 3/ 15؛ ولأن ما لم أثْبِتْهُ لم أقف عليه في معاجم اللغة التي بين يدي. (¬2) في (ب): (جوخي). (د): (حوحي). (¬3) في (ج): (وهما مدينتان). وجوْخى: قرية من أعمال واسط بالعراق. انظر: "معجم ما استعجم" للبكري: 403، "القاموس المحيط" 250 (جاخ). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة ليستقيم بها الكلام، وهي موجودة في "الحجة" 3/ 15. (¬5) قال الفارسي: (وإذا أمالوا مع المستعلي، كانت الإمالة مع الراء أجود؛ لأن الإمالة على الراء أغلب منها على المستعلي، ألا ترى أنه قد حكي الإمالة في نحو: (عمران)، ونحو: (فِراش)، و (جِراب). ولو كان مكان الراء المستعلي، لم تكن فيه إمالة؟ ..). "الحجة" 3/ 16، وانظر: "كتاب سيبويه" 4/ 141، 142. (¬6) من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} سورة الأنفال: 17. وقد أمالها: أبو بكر، وحمزة، والكسائي. انظر: "الكشف" لمكي: 1/ 177، 184. (¬7) الضحى: 2. وقد أمالها الكسائي. انظر: "الكشف" 1/ 189، "التيسير" للداني 49. (¬8) في "معاني القرآن" له: 1/ 375. (¬9) في (د): (وهي). (¬10) (كان): ساقطة من: (ج). (¬11) في "الزاهر" 1/ 168. نقله عنه، مع التصرف في بعض عباراته.

للقوم (¬1) الذين (¬2) نزل عليهم؛ لأنهم يَعْمَلونَ بما فيه. ويقال (¬3): (لَعَنَ اللهُ ناجِلَيْهِ)؛ أي: والِدَيْهِ. وأنشد قولَ الأعشى: إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا (¬4) أي: كان أصلًا له إذ وَلَدَاهُ. وقال قومٌ (¬5): (الإنجيل)، مأخوذ من قول العرب: (نَجَلْتُ الشيء): إذا استخرجته وأظهرتُه. يقال للماء الذي يخرج من النَّزِّ (¬6): (نَجْلٌ). ويقال: (قد استَنْجَلَ الوادي): إذا أخرج الماء من النزِّ. فسمّي الإنجيلُ إنجيلًا؛ لأن الله تعالى أظهره للناس بعد طموس الحق ودُرُوسِهِ. ¬

_ (¬1) في (د): (القوم). (¬2) في (ج): (الذي). (¬3) في (ج): (ويقولون). (¬4) عجز بيت، وصدره: أنجب أيامَ والداه به وهو في: ديوانه: 171، وقد ورد منسوبًا له، في "مجالس ثعلب" 1/ 77، "الزاهر" 1/ 169، "البارع" لأبي علي القالي: 625، "تهذيب اللغة" 4/ 3522 (نجل)، "المحتسب" لابن جني: 1/ 153، "الإفصاح" للفارقي: 332، "اللسان" 7/ 4355 (نجل)، "أوضح المسالك" لابن هشام: ص153، "همع الهوامع" للسيوطي: 4/ 297. ويروى البيت: (أنجب أيامُ والديه به)، و (أزمان) بدلًا من: (أيام). والبيت من قصيدة يمدح بها سلامة ذا فائش الحميري. ومعنى البيت: ولدا ولدا نجيبا. فيكون سياق البيت كالتالي: أنجب والداه به -أيام إذ نجلاه- فنعم ما نجلا. (¬5) ممن قال ذلك: ابن دريد في "جمهرة اللغة" 1/ 492 (نجل). وانظر: "المعرب" للجواليقي: 123. (¬6) النَزُّ، والنِزُّ: ما تَحَلَّبَ من الأرض من الماء. و (نَزَّت الأرض): صارت ذا نَزً. انظر: (نزز) في "تهذيب اللغة" 4/ 3550، "مجمل اللغة" 843، "القاموس" 527.

قال: وفي (الإنجيل) قولٌ ثالث: وهو أن يكون سُمّيَ إنجيلًا؛ لأن الناس اختلفوا فيه، وتنازعوا. قال أبو عمرو الشيباني (¬1): التَّنَاجُل: التنازع. يقال: (تناجلَ القومُ): إذا تنازعوا (¬2). وقال جماعة من أهل التحقيق: التوراة والإنجيل والزَّبُور، أسماء عُرِّبت مِنَ السريانية، وليس يُطّردُ فيها قياس الأسماء العربيّة؛ ألا تراهم يقَولون لها بالسريانية: (تُورَيْ)، (انْكِليُون) (¬3)، (زَفُوتَا) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3522 (نجل). (¬2) انظر: اشتقاقات ومعاني الإنجيل في "نزهة القلوب" للسجستاني: 123، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي: 3/ 161، "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي: 562، إضافة إلى بقية معاجم اللغة في مادة (نجل). (¬3) في (ج): (ان كليون). قيل إنه معرب من الرومية وليس من السريانية أي الآرامية، وأصله: (إثانْجَليُوم)؛ أي: الخبر الطيب. فمدلوله مدلول اسم الجنس؛ ولذ أدخلوا عليه كلمة التعريف في الرومية. وعربه العرب فأدخلوا عليه لام التعريف. ويرى ابن عاشور أن من ذهب إلى كونه منقول من السريانية، قد تكون العبارة اشتبهت عليه، وأن الصواب (اليونانية)؛ لأن فيها (أووَانَيْليُون) (أي: اللفظ الفصيح. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور: 3/ 149. (¬4) وممن ذهب إلى أن (الإنجيل) و (التوراة) اسمان أعجميان: الزمخشري، والجواليقي، والنسفي، وابن جزي، والبيضاوي، وأبو السعود، والسمين الحلبي، والطاهر بن عاشور. قال الزمخشري: (وتكلف اشتقاقهما من (الوَرْي) و (النَّجْل)، ووزنهما بـ (تفعلة)، و (إفعيل)، إنما يصح بعد كونهما عربيين). "الكشاف" 1/ 410. وانظر: "المعرب" للجواليقي: 123، "تفسير النسفي" 1/ 141، "تفسير ابن جزي" 73، "تفسير البيضاوي" 1/ 62، "تفسير أبي السعود" 2/ 4، "عمدة الحفاظ" للسمين: 562، "التحرير والتنوير" 3/ 149. وقد استدل بعضهم بقراءة الحسن: (والأَنجيل) بفتح الهمزة، على أنه أعجمي؛ لأنه ليس =

4

4 - وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ اَلفُرْقَانَ}. أي: ما فرق بين الحق والباطل (¬1). قال ابن عباس في رواية عطاء (¬2): يريد به جميع الكتب؛ لأنه فرّق فيها بين الحق والباطل (¬3). وقال السُّدِّي (¬4): في هذه الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: ونَزَّلَ التوراة والإنجيل وأنزل الفرقان؛ هُدًى للناس. وقوله تعالى: {ذُو انْتِقَامٍ} أي: مِمَّن كَفَرَ به، (لأن) (¬5) ذِكْرَ الكافرين جرى ههنا. والانتقام: العقوبَة. يقال: (انتقم منه انتقامًا)؛ أي: عاقبه (¬6). ¬

_ = في أبنية العرب (أفعيل). انظر: "الزاهر" 1/ 169، "البحر المحيط" 2/ 378، "اللسان" 7/ 4356 (نجل). (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 375، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 343، "تفسير البغوي" 2/ 6. (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬3) إضافة إلى هذا القول، فقد وردت الأقوال التالية في (الفرقان): أنه القرآن، وهو قول: قتادة والربيع وعطاء ومجاهد ومِقْسم والجمهور. أنه مصدر لكل ما يفرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام، وغير ذلك من أموره. وهو قول محمد بن جعفر ابن الزبير، ورجحه الطبريُّ؛ محتَجًّا بتقدم ذِكْر القرآن في آية: 3. من هذه السورة، فلا داعي لإعادته. أنه التوراة، وهو قول أبي صالح، ورَدَّه ابن كثير؛ نظرًا لِتقدم ذِكْر التوراة أنه خواتيم سورة البقرة، قاله سعيد بن جبير. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 167، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 375، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 588، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 343، "تفسير البغوي" 2/ 6، "زاد المسير" 1/ 350، "تفسير ابن كثير" 1/ 369. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 5، "تفسير البغوي" 2/ 6، "زاد المسير" 1/ 350. (¬5) في (أ): (لال). والمثبت من: (ب)، (ج)، (د). (¬6) انظر: (نقم) في "تهذيب اللغة" 4/ 3654، "الصحاح" 5/ 2045، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب (تحقيق عدنان داودي): 822.

6

وقال اللَّيْث (¬1): يقال: (لَمْ أرْضَ منه حتى نَقِمتُ، وانتقمْتُ): إذا كافأه؛ عقوبةً بما صنع. 6 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} (¬2). التصويرُ: جعل الشيء على صورةٍ. والصورة: هيئة يكون (¬3) عليها الشيء بالتأليف. وأصلها مِن: (صارَه، يَصُوره): إذا أماله (¬4). فهي صورَةٌ؛ لأنها مائلة إلى بِنْيَةٍ بالشَبَه لها. وقوله تعالى: {فِي الْأَرْحَامِ}. جَمْعُ رَحِم. وأصلها مِنَ: الرَّحْمَة (¬5)؛ وذلك لأنها مما يُتَراحم بالاشتراك فيها، ويُتَعاطف. وقوله تعالى: {كَيْفَ يَشَاءُ}. أي: ذكرًا (و) (¬6) أنثى؛ قصيرًا وطويلًا؛ أسودَ وأبيض؛ سعيدًا وشقِيًّا. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} في مُلْكه، {الْحَكِيمُ} ¬

_ (¬1) قوله في "تهذيب اللغة" 4/ 3654 (نقم). (¬2) لم يتعرض المؤلف لتفسير آية: 5. (¬3) في (أ): (تلون). (ج) يلون. والمثبت من: (ب)، (د). (¬4) يقال: (صارَهُ يَصُورُه، ويَصِيرُه) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1958 (صار)، "غريب الحديث" لأبي عبيد بن سلّام: 2/ 309، "اللسان" 4/ 2524. (¬5) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب (تحقيق عدنان داودي): 347. وورد في الحديث: (قال الله: أنا الله، وأنا الرحمن، خَلَقْت الرَّحِمَ، وشَقَقْت لها اسمًا من اسمي، فَمَن وَصَلَها وصَلْتُه، ومَنْ قَطَعَها بَتَتُّه). أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (1907) كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في قطيعة الرحم، وقال الترمذي: (حديث صحيح)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 157. وصححه، ووافقه الذهبي، وأحمد في "المسند" 1/ 194. وعند البزار: (أنا الرحمن الرحيم، وإني شققت الرَّحِمَ من اسمي ..). انظر: "كشف الأستار عن زوائد البزار": 2/ 379، تحقيق الأعظمي، وقال عنه الهيثمي: (وإسناده حسن). "مجمع الزوائد" 8/ 151. (¬6) في (ج): (أو). وكذا كُتِبت (أو) بدلا من (و) في (ج) فيما بعدها.

7

في خَلْقِه. 7 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} إلى قوله: {مُتَشَابِهَاتٌ} اختلف المفسرون في المُحْكَمِ والمُتَشابِه. واختلفت (فيهما) (¬1) الروايات عن ابن عبّاس، فقال في روايةِ عَطِيّة: المُحْكَم: الناسخ الذي يُعمل به. والمُتشابه: المَنْسُوخُ الذي يُؤمَنُ به، ولا يُعمل [به] (¬2). وهذا قول قتادة، والربيع (¬3). وقال في رواية عطاء: المُحْكَمَات: (هي) (¬4) الثلاثُ (الآيات) (¬5) في (آخر) (¬6) سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151]، إلى آخر الآيات ¬

_ (¬1) في (ج): (فيها). (¬2) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). وهذا الأثر عن ابن عباس من رواية عَطِية، في "تفسير الطبري" 3/ 172، "تفسير الثعلبي" 2/ 5/ ب، "الدر المنثور" للسيوطي: 3/ 8. وسند هذا الأثر عن ابن عباس من طريق عطية قال عنه الشيخ أحمد شاكر: (إسنادٌ مُسَلْسَلٌ بالضعفاء). انظر: "تفسير الطبري" 1/ 263 هامش (1) (ط. شاكر)، وقد تكلم على السَّنَدِ بإسهاب. وانظر كذلك السندَ، في "تفسير الثعلبي" 1/ 4 أ. وقد أخرج الطبريُ أثرًا آخرَ عن ابن عباس، في نفس المعنى من رواية السُّدِّي الكبير، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 172، وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنده، في: 1/ 156 - 160 هامش (2) (ط. شاكر). (¬3) انظر الأثر عنهما في "تفسير القرآن" لعبد الرزاق الصنعاني (تحقيق د. مصطفى مسلم): 1/ 115، "تفسير الطبري" 3/ 172، "تفسير الثعلبي" 3/ 5 ب، "تفسير البغوي" 1/ 17، " المحرر الوجيز" 3/ 17 - 18. (¬4) (هي): ساقطة من: (ج). (¬5) في (ب): (آيات). (¬6) في (ج): (أواخر).

الثلاث (¬1). {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يريد: (التي) (¬2) تشابهت اليهود؛ وهي حُرُوف التَّهَجِّي في أوائل السُّوَرِ؛ وذلك أنهم أوَّلُوها على حِسَابِ الجُمَّلِ، وطلبوا أن يَسْتَخرِجوا منها مُدَّة بقاء هذه الأمَّةِ، فاختلط عليهم واشْتَبَه (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجد هذا الأثر عن ابن عباس من رواية عطاء فيما رجعت إليه من مصادر، وإنما الوارد عنه هو من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن قيس. وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 288، وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 592 كما أورده السيوطيُّ في "الدر المنثور" 2/ 6، وعزا إخراجه لسعيد بن منصور، وابن مردوية وورد من نفس الطريق بلفظ آخر: (قال: هي الثلاث الآيات، مِنْ ههنا: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151]، إلى ثلاث آيات، والتي في (بني إسرائيل): {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] إلى آخر الآيات). أخرجه الطبريُّ في "تفسيره" 3/ 172، وابن أبي حاتم 2/ 592، والثعلبي 3/ 5/ ب، من رواية أبي إسحاق. وأورده السيوطيُّ في "الدر المنثور" 2/ 6 وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر. وانظر: "الإتقان" له: 3/ 5. وقال ابن عطية فى "المحرر الوجيز" 3/ 17 - 18: (وهذا عندي مِثالٌ أعطاه في المُحكَمَات). (¬2) في (ج): (الذي). (¬3) موقف اليهود من حروف أوائل السور، ورد في أثر طويل رواه محمد بن إسحاق، عن الكَلْبِيُّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله، وروايته له بصيغة التمريض؛ حيث قال: (.. فيما ذُكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله ..). انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 170 - 171. فسنده ضعيف لِمَا فيه مِنْ مجهول. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 174، وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: (ضعيف الإسناد). وقد أورد شاكر أسانيد هذا الأثر وبَيَّن اضطرابَها، ثم قال: (وعندي أن هذا الاضطراب، إنما هو من ابن إسحاق، أو لَعَلَّه رواهُ بهذه الأسانيد كمَا سَمِعَه، وكلها ضعيف مضطرب). "تفسير الطبري" 1/ 179 (ط. شاكر). وأورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 6 ب، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 370، وقال عنه: (مداره=

وهذا القول، اختيار الفرّاء (¬1). وقال في رواية الوالبي (¬2): محكمات القرآن: ما فيه من الحلال ¬

_ = على محمد بن السائب الكلبي، وهو مِمَّن لا يُحتج بما انفرد به). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 8، وأشار إلى ضعفه، والشوكانى في "فتح القدير" 1/ 480 وَرَدَّه هذا وقد استدل الطبري بهذه الرواية على أن هذه الحروف هي من حساب الجُمّل، مع أن الرواية التي أوردها مدارها على الكلبي، الذي ضعفه الطبري نفسُهُ، وعدّه ممن لا يجوز الاحتجاج بنقله. وقال عنه ابن تيمية: (فهذا نقلٌ باطلٌ)، وبيَّن بطلانَه من ثلاثة وجوه، منها: أنه من رواية الكلبي. وقال ابن كثير: (وأمّا مَنْ زَعَم أنها دالَةٌ على معرفة المُدَدِ، وأنه يُستخرجُ من ذلك أوقاتُ الحوادث والفِتَنِ والمَلاحِمِ، فقد ادّعَى ما ليس له، وطار في غير مطاره)، ثم قال: (كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يُحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإنْ حُسِبت مع التكرار فأطم وأعظم). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 175، "تفسير سورة الإخلاص" لابن تيمية: 191. "تفسير ابن كثير" 1/ 370. (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 190. (¬2) يريد المؤلف بـ (الوالبي) والله أعلم: علي بن أبي طلحة، الراوي عن ابن عباس، وهكذا سماه الثعلبي شيخ المؤلف في مقدمة تفسيره "الكشف والبيان" 1/ 5 أ، وساق سنده إليه، فقال: (.. أن معاوية بن صالح حدثه عن علي بن طلحة [هكذا في المخطوط، والصواب: ابن أبي طلحة] الوالبي، عن ابن عباس)، وهو نفس السند الذي روى به ابن أبي طلحة التفسير عن ابن عباس، وهو نفس السند الذي جاءت به هذه الرواية عنه في هذا الموضع في "تفسير الطبري" "تفسير ابن أبي حاتم". ولم أقف في المصادر التي رجعت إليها، على مَنْ سَمَّاه بـ (الوالبي) سوى الثعلبي والواحدي، والزركشي في "البرهان" 2/ 158. وهو: علي بن أبي طلحة "سالم" بن المخارق الهاشمي، أبو الحسن. أرسل عن ابن عباس ولم يره، عالم بالتفسير، رواه عن ابن عباس مرسلًا، والواسطة بينهما مجاهد، أو سعيد بن جبير. وتُعَدُّ هذه الطريقة إلى ابن عباس في التفسير من أقوى=

والحرام، والحُدُود والفرائض، مِمّا يُعمل به. والمتشابهات: مُقَدَّمُه ومُؤَخَّرُه، وأمثالُهُ وأقسامه، وما يُؤمَنُ به (ولا يُعمل به) (¬1). وقال ابن كَيْسَان (¬2): المُحْكَمَات: حُجَجُها واضحةٌ، ودَلائِلُها لائحة، (لا) (¬3) حاجة بمن سمعها إلى طلب معانيها. والمتشابه: ما يُدرَك عِلْمُهُ بالنظر. وهذا القول؛ اختيار أبي إسحاق؛ لأنه حكى هذا القول، وقال (¬4): معنى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}: أي: أُحكِمت في الإبانة، فإذا سمعها السامعُ لَمْ يَحْتَجْ إلى تأويلها؛ لأنها ظاهرة بَيِّنةٌ؛ نحو: ما قَصّ اللهُ تعالى مِنْ ¬

_ = الطرق إليه. واعتمد عليها البخاريُّ في صحيحه قال الإمام أحمد: (بمصر صحيفة تفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا، ما كان كثيرًا) مات سنة (143هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 191، و"المراسيل" 140، و"تاريخ بغداد" 11/ 428، و"ميزان الاعتدال" 3/ 143، و"تهذيب التهذيب" 7/ 339، و"الإتقان" 2/ 414 - 415. (¬1) في (ج): (وما لم يُعمل به) والأثر أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 172، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 593، والبغوي في "تفسيره" 2/ 8. وأورده السيوطى في "الدر" 2/ 9، وزاد نسبة إخراجه كذلك لابن المنذر، وأورده كذلك في: "الإتقان": 3/ 4. (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 6 ب، وأورده بالمعنى النحاسُ في "معاني القرآن" له: 1/ 345. وابن كسيان، أكثر من واحد، وهو هنا: عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم المعتزلي. كان من أفصح الناس، وأورعهم، وأفقههم، وله تفسير للقرآن، وكتب كثيرة ذكرها ابن النديم. قال ابن حجر: (هو من طبقة أبي الهذيل العلاف، وأقدم منه)، توفي سنة (200 هـ)، وقيل: (201 هـ). وقد نَصّ الثعلبيُّ على اسمه في مقدمة تفسيره "الكشف والبيان" وجعله من مصادره، وعليه اعتمد الواحديُّ. انظر: "الفهرست" لابن النديم: 120، "لسان الميزان" لابن حجر: 4/ 288، "طبقات المفسرين" للداودي: 1/ 274، "تفسير الثعلبي" (المقدمة) 1/ 10. (¬3) في (ج): (ولا). (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه" له: 1/ 376. نقله عنه باختصار وتصرف يسير.

أقاصيص الأنبياء، مِمّا اعترف به أهلُ الكِتَاب، وما أخبر اللهُ جلّ وعزَّ به مِنْ إنشاءِ الخَلْقِ، في قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] الآية. ومِنْ خَلْقِهِ مِنَ الماءِ (كلَّ) (¬1) شيءٍ (حَيٍّ) (¬2)، وما خلق مِنَ الثمار، وهذا (ما) (¬3) لَمْ يُنْكِروا، (وأنكروا) (¬4) ما احتاجوا فيه إلى النَّظَرِ مِنْ أنَّ اللهَ يبعثهم بعد أنْ يَصِيروا تُرابًا، (ولُوْ نَظَرُوا وتَدَبَّروا) (¬5) لَصَارَ المُتَشابِهُ عندهم كالظاهر؛ لأنَّ مَنْ قَدَرَ على الإنشاء أوّلًا، قَدَرَ على الإعادَةِ. وقد نَبَّهَ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يونس: 79]. وقال محمد بن جعفر بن الزبير (¬6): المُحْكَم: ما لا يَحْتَمِل مِنَ التأويل غير وَجْهٍ واحدٍ. والمُتَشابه: ما احتمل من التأويل أوجُهًا (¬7). وهذا ¬

_ (¬1) في (ج): (كل كل). (¬2) (حي): ساقطة من: (د). (¬3) في (ب): (مما). (¬4) في (ج): (ولو أنكروا). (¬5) (ولو نظروا وتدبروا): ساقطة من: (ج). (¬6) هو: محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني. من أتباع التابعين، كان من فقهاء أهل المدينة، ثقة، مات ما بين (110 هـ و 12 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 221، "تهذيب التهذيب" 3/ 530، "تقريب التهذيب" ص 471 (5782). (¬7) هذا معنى كلام محمد بن جعفر، ذكره: الطبري في "تفسيره" 3/ 173، ولفظه عنده من رواية محمد بن إسحاق: (قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}: فيهن حُجَّةُ الرَّبِّ، وعصمةُ العباد، ودفعُ الخصوم والباطل؛ ليس لها تصريف ولا تحريف عما وُضِعت عليه. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}: في الصدق؛ لَهُنَّ تصريفٌ وتحريف وتأويل، ابتلى اللهُ فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام؛ لا يُصرَفْنَ إلى الباطل، ولا يُحرفن عن الحق).=

اختيار ابن الأنباري، وكثيرٍ مِنَ العلماء (¬1). [و] (¬2) قال ابن الأنباري (¬3): الآية المُحْكَمَةُ: التي مَنَعَتْ كَثْرَةَ التأويلات؛ لأنها لا تَحْتَمِلُ إلّا تفسيرًا واحدا. والعرب تقول (¬4): (حَكَمتُ) و (أحكمتُ) و (حَكَّمْتُ)؛ بمعنى: (رَدَدْت) (¬5)، ومَنَعْتُ. والحاكم يَمْنَعُ (الظالمَ) (¬6) من الظُلْم. قال الأصمعي (¬7): وأصلُ الحُكُومَةِ: رَدُّ الرَّجُلِ عَنِ الظُّلْمِ، ومِنْهُ قولُ لَبِيد: أَحْكَمَ الجِنْثِيَّ مِنْ عَوْراتِها ... كُلُّ حِرْباءٍ إذا أُكْرِهَ صَلْ (¬8) ¬

_ = وانظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 6 أ، "تفسير البغوي" 2/ 8، "تفسير القرطبي" 4/ 10، "الدر المنثور" 2/ 7. وقال ابنُ عَطيَّة في "المحرر الوجيز" 3/ 18: (وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية). (¬1) ونسبه الماورديُّ، وابنُ الجوزي للشافعي رحمه الله. انظر: "النكت والعيون" 1/ 369، "زاد المسير" 1/ 381. (¬2) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) من قوله: (والعرب ..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. أحكموا سفهاءكم): نقله بتصرف واختصار عن "تهذيب اللغة" للأزهري: 1/ 886. (¬5) في (أ): رَدّدت. والمثبت من: بقية النسخ، ومن "التهذيب". (¬6) في (ج): (الظلم). (¬7) قوله: في "جمهرة اللغة" لابن دريد: 1/ 143 (أبواب النوادر)، وفي "تهذيب اللغة" كما سبق. (¬8) البيت في "ديوان لبيد" 192. وقد ورد منسوبًا له، في: كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة: 2/ 1030، "جمهرة اللغة" لابن دريد: 1/ 143، "تهذيب اللغة" 1/ 886 (حكم)، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" للفارسي: 541، "الصحاح" 1/ 109 (حرب)، "مجمل اللغة" لابن فارس: 1/ 199 (جنث)، "اللسان" 1/ 306 =

قال: (الجِنْثِيّ): السَّيْف (¬1)؛ أي: ردَّ السيفَ عن (¬2) عوراتِ (الدرع) (¬3) (وهي) (¬4) فُرَجُها، كلُّ حِرْباءٍ وهُوَ المِسْمَارُ الذي يُسَمَّرُ به حَلَقُها (¬5). ومِنْهُ حديثُ النَّخَعِيِّ: (حَكّمْ اليتيمَ كما تُحَكِّم وَلَدكَ) (¬6)، أي: امنعه من الفَسَاد (¬7). ¬

_ = (حرب)، 12/ 141 (حكم). وورد غير منسوب في "المخصص" لابن سيده: 12/ 240. وللبيت رواية ثانية: برفع (الجِنْثِيُّ)، ونصب (كلَّ). ومعنى (إذا أكرِهَ صَلّ): إذا أكره لِيُدْخَلَ في الحِلَقِ، سمعت له صليلًا. وعلى الرواية الثانية، يكون معنى الإحكام في البيت: إحكام الصنعة، و (الجِنْثِي): الزَّرَّاد (الحداد)؛ أي: أحْكَمَ الزَّرَّادُ مساميرها. انظر: "كتاب المعاني الكبير" 2/ 1030، "شرح الأبيات المشكلة" 541، "جمهرة اللغة" 3/ 1322. (¬1) في "القاموس" (الجُنْثي بالضم: السيف، والزَّرَّاد، وأجود الحديد، ويُكسر). ص 166 (جنث)، وانظر: "مجمل اللغة" 1/ 199 (جنث). (¬2) في (ب): (من). (¬3) في (ج): (الدروع). (¬4) في (ب): (وهو). (¬5) انظر: (حرب) في "الصحاح" 1/ 108، "اللسان" 2/ 818. (¬6) الأثر في "غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 240، وقال: (حدثنيه ابنُ مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم ..)، "تهذيب اللغة" 1/ 886، "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري: 1/ 303، "غريب الحديث" لابن الجوزي: 1/ 231، "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير: 1/ 420. (¬7) وقيل: حكمه في ماله ومِلْكِهِ إذا صَلَح، كما تحَكِّم وَلدَكَ في مِلْكه. ولم يرتض الأزهريُّ هذا المعنى، ورجح المعنى السابق. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 886 (حكم)، "الزاهر" لابن الأنباري: 1/ 503، "النهاية في غريب الحديث" 1/ 420، والمراجع السابقة.

وقال جرير: .. أَحْكِمُوا (¬1) سُفهاءَكُمْ (¬2) ... يقول: امنعوهم (¬3) من التَعرُّض. قال أبو بكر (¬4): والمُتَشَابِهُ، ما اعتَوَرَتْهُ تأويلات. وسُمِّيَ مُتشابهًا؛ لأن لفظَهُ يُشْبِهُ لفظَ غيره، ومعناه يخالف معناه. وقال بعضهم (¬5): المُحْكَمُ: ما عرفَ العلماءُ تأويلَهُ، وفهموا معناه. والمتشابه: ما ليس لأحدٍ إلى عِلْمِهِ سبيلٌ، مِمَّا استأثرَ اللهُ بِعِلْمِهِ؛ وذلك نحو: وقت خروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجّال، ونزول عيسى، وقيام الساعة، وعِلْم الرُّوح. ويُسْأَلُ (فيقال) (¬6): ماذا (¬7) أراد اللهُ بإنزال المُتشابِهِ في القرآن؛ وأراد ¬

_ (¬1) في (ج): (حكموا). (¬2) البيت في: ديوانه: 47. وتمامه: أَبنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهاءَكمْ ... إنِّي أخافُ عليكُمُ أنْ أغْضَبَا وقد ورد منسوبًا له، في "غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 421، "الكامل" للمبرد: 3/ 26، "الزاهر" 1/ 503، ومادة (حكم) في "تهذيب اللغة" 1/ 886، "الصحاح" 5/ 1902، "مجمل اللغة" 1/ 246، "أساس البلاغة" للزمخشري: 1/ 191، "اللسان" 2/ 953. وورد غير منسوب، في "غريب الحديث" للخطابي: 2/ 462، "الفائق" للزمخشري: 1/ 303. وقد وردت روايته في "الكامل" (أبني حنيفة نَهْنِهُو). (¬3) في (ج): (امنعوا السفهاء). (¬4) هو ابن الأنباري، ولم أقف على مصدر قوله. (¬5) من قوله: (وقال ..) إلى (.. وعلم الروح): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" 3/ 6 أ، كما أن هذا القول موجود في "تفسير الطبري" 3/ 173، مع اختلاف يسير جدًّا، إلا أن سياق المؤلف له أقرب إلى سياق الثعلبي. (¬6) في (د): (فيقول). (¬7) من قوله: (ماذا ..) إلى (.. يقع العجز والبلادة): نقله عن "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة: 86.

بالقرآن لِعِبادِهِ الهُدَى والبيان؟ فيقال: إنَّ القرآن نَزَلَ بألفاظِ العَرَبِ ومذاهبها في: الإيجاز؛ (للاختصار) (¬1)، والإطالَةِ؛ (للتوكيد) (¬2)، والإشارة إلى الشيء، واغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليه إلا اللَقِن (¬3). ولو كانَ القرآنُ كلُّهُ ظاهرًا مكشوفًا، حتى يستوي في معرفته العالمُ والجاهلُ، لَبَطَلَ التفاضُلُ بين الناس، وسقطت المِحْنَةُ، وماتت الخواطرُ. ومَعَ الحاجَةِ تَقَعُ الفِكْرةُ (¬4) والحِيلَةُ، ومع الكفاية يقع العَجْزُ والبَلاَدَةُ (¬5). وأصل التشابه (¬6): أن يُشْبِهَ اللفظُ اللّفظَ في (الظاهر) (¬7)، والمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفان. قال اللهُ عز وجل في وَصْفِ ثِمَارِ الجَنَّةِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]؛ أي: مُتَّفِقَ المَنَاظِرِ، [و] (¬8) مُخْتَلِفَ الطُعُوم (¬9). ¬

_ (¬1) في (د)، "وتأويل المشكل": (والاختصار). (¬2) في "تأويل المشكل": (والتوكيد). (¬3) في (د): (الكفر). واللَّقِن، هو: سريع الفهم. انظر: "القاموس" ص 12321 (لقن). (¬4) في (ج): (النكر). (¬5) انظر الحكمة في ورود المحكم والمتشابه في القرآن، في "الكشاف" 1/ 412، "تفسير الفخر الرازي" 7/ 185 - 186، "البرهان في علوم القرآن" للزركشي: 2/ 75، "الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة" للرجراجي: 161، "أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات" للكرمي: 50، "نور من القرآن" لعبد الوهاب خلاف: 67، "علوم القرآن" د. عدنان زرزور: 177، "الناسخ والمنسوخ بين الإثبات والنفي" لعبد المتعال الجبري: 135. (¬6) من قوله: (وأصل التشابه ..) إلى (.. وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة، مشكل): نقله بتصرف واختصار يسيرين عن "تأويل مشكل القرآن" 101 - 102. (¬7) (الظاهر): ساقطة من: (ج). (¬8) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬9) ممن قال هذا: ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، والربيع، وغيرهم.=

ثم يقال لكل ما غَمُضَ ودَقّ: (مُتشابهٌ)، وإنْ لم تقع الحَيْرَةُ فيه، مِنْ جِهَةِ (الشَّبَهِ) (¬1) بغيره ألا تَرَى أنه قد قيل للحروف المقَطَّعَةِ في أوائل السُّوَر: متشابهة؟ (وليس) (¬2) الشكُّ (¬3) فيها. والوقوف فيها؛ لمشاكَلَتِها غيرَهَا والتباسِها به. ومثل المتشابه: المُشكِلُ. واعلَمْ (¬4) أنَّ القرآن كُلَّهُ محكَمٌ مِنْ وَجْهٍ؛ على معنى: أنه (حقٌّ) (¬5) ثابت (¬6). قال اللهُ تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]. ومُتَشابِهٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وهو أن يشبه بعضه بعضًا في الحُسْنِ، ويُصدّق بَعْضُه بعضًا (¬7)، وهو قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (¬8) [الزمر: 23]. ¬

_ = انظر: "تفسير الطبري" 1/ 173، "تفسير القرطبي" 1/ 206,"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 26، "تفسير المشكل" لمكي: 25، "تذكرة الأريب في تفسير الغريب" لابن الجوزي: 1/ 53، "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي: 259. (¬1) في (ج): (الشيء). (¬2) في (ج): (ولبس). (¬3) قوله: (الشك ..) إلى (ومثل المتشابه): ساقط من: (ج). (¬4) من قوله: (واعلم ..) إلى (.. ويصدق بعضه بعضا) نقله عن "تفسير الثعلبي" 3/ 6ب. (¬5) (حق): ساقطة من: (ج). (¬6) تدور معاني الإحكام العام هنا على المعنى اللغوي للكلمة, أي: بمعنى الاتقان, والتدعيم، ومنع تطرق الخلل إلى ألفاظه وأساليبه ومعانيه؛ فهو محكم الألفاظ, لا يعتريها خلل ولا خطأ؛ ومحكم الأساليب، لا يعتورها رِكَّةٌ ولا تعقيد؛ ومحكم المعاني، فكلها حق ورسوخ، وثبات. (¬7) قوله: (في الحسن ويصدق بعضه بعضًا): ساقط من: (ج). (¬8) قال ابن العربي: (وأما كونه متشابها) فبمعنى واحد، وهو ما وصفناه من الأحكام الذي يجري في جميع سوره وآياته). "قانون التأويل" له: 665. ويقول: "والمعنى الذي صار به القرآن كله محكما، بذلك المعنى، صار كله متشابهًا). المرجع السابق: 665. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالتشابه هنا: تماثل الكلام, وتناسبه؛ بحيث يصدق بعضه بعضًا. فالإحكام العام في معنى التشابه العام، بخلاف الإحكام الخاص والتشابه الخاص؛ فإنهما متنافيان). ذكره ابن الوزير في "إيثار الحق على الخلق" 92. وانظر في هذا المعنى: "الرسالة التدميرية" لابن تيمية: 65، "القائد إلى تصحيح العقائد"، لعبد الرحمن المعلمي: 161، "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان" لابن الوزير: 124، "أقاويل الثقات"، للكرمي: 48.

وقوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}. أي: أصل الكتاب الذي يُعْمَل عليه (¬1). فَمَنْ جَعَلَ (المُحْكَمَات): الآيات الثلاث في (الأنعام)، قال: يريد: هُنّ أم كلِّ كِتَابٍ أنزله الله على نَبِيٍّ، فيهن كلُّ ما أحلّ، وفيهن كلُّ ما حرّم. ووحَّد (الأمَّ) بعد قوله: {هُنَّ}؛ لأن (¬2) الآياتِ كلَّها في تكامُلِها واجتماعها، كالآية الواحدة، وكلام الله واحد. وقال أبو العباس (¬3): لأنهن بكمالِهِنَّ (أُمٌّ)، وليست كلُّ واحدِةٍ منهن (أُمَّ الكتاب)، على انفرادها. وقال الأخفش (¬4): وَحَّدَ {أُمُّ الْكِتَابِ} بالحكاية؛ على تقدير الجواب؛ كأنه قيل (¬5): ما أمُّ الكتاب؟ فقيل: هنّ أم الكتاب؛ كما تقول: ¬

_ (¬1) والعرب تطلق (الأم) على كلِّ ما جُعِلَ مُقَدَّما لأمْرٍ، وله توابعُ تَتْبَعُه، وكلِّ جامعٍ لأمْرٍ؛ ومِنْ ذلك: رايَةُ الجيش، والجِلْدَة التي تجمع الدِّمَاغ، وتسمى: (أم الرأس)، ومكة المكرمة، وتسمى: (أم القرى)؛ لِتقدمها أمام جميعها، أو لأن الأرض دُحِيت منها، فصارت لجميعها أمَّا .. وهكذا. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 170، "الصحاح" 5/ 1864 - 1865 (أمم)، "تفسير الثعلبي" 3/ 5 أ. (¬2) من قوله: (لأن ..) إلى (.. وكلام الله واحد): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 5 ب. وانظر: "تفسير الطبري" 3/ 170. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 193. نقله عنه بالمعنى. (¬5) في (ج): (قيل له).

مَنْ نَظِيرُ زيد؟ فيقول قومٌ: نحن نظيرُه (¬1)؛ كأنهم حَكَوا ذلك اللفظ. وهذا على قولهم (¬2): دَعْنِى مِنْ (تَمْرَتان) (¬3)؛ أي: مِمَّا يقالُ له (تمرتان). قال أبو بكر (¬4): وقولُ الأخفش بِعيدٌ مِنَ الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لمْ يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ. وقيل (¬5): أراد: كل آية منهنّ أمُّ الكتاب؛ كما قال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]؛ أي: كلُّ واحدٍ منهما آية (¬6). قال العلماءُ، وأصحابُ المعاني: معنى قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصلُ الكتاب الذي يُسْتَدَلُّ به على المتشابه وغيره مِنْ أمور الدين. فإذا وردت الآية المتشابهة رُدَّت إلى المحْكَمَةِ، فكانت المُحْكَمَةُ (¬7) مُفَسِّرَةً لها، وقاضِيَةً على معناها. فـ {أُمُّ الْكِتَابِ} معناه: أصل الكتاب الذي ترجع إليه التأويلات، وتضم جميع المعاني، لأن الأم يرجع إليها بنوها فتضمهم. ¬

_ (¬1) العبارة في "معاني القرآن" للأخفش: (.. كما يقول الرجل: ما لي نصير. فيقول: نحن نصيرك). (¬2) في (ج)، (د): (وعلى هذا قولهم). (¬3) في (ب): تمراتان. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 26. (¬5) هو قول ابن كيسان. انظر: "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 348. (¬6) فعيسى عليه السلام وأمَّه، مشتركان جميعا في الأمر العجيب الخارق للعادة، فهي قد جاءت به مِنْ غير زوج، وهو مِنْ غير أبٍ. فلم تكن الآيةُ لها إلّا بِهِ، ولا لَهُ إلّا بها. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 171، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 348، "تفسير الفخر الرازي" 23/ 103. (¬7) (فكانت المحكمة): ساقطة من: (د).

مثال ما ذكرنا: قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]. هذه آيةٌ (¬1) مُحْكَمَةٌ، لا تحتمل تأويلًا غير ظاهرها (¬2)، لأن معناها: لا ينشئ الصُّوَرَ (¬3)، ولا يُرَكِّبُ الأرواحَ في الأجسام غيره عز وجل. وأما الآية المتشابهة: فقوله عزَّ ذِكْرُه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ يقع هذا متنافيًا عند الجاهل؛ إذْ كان قالَ في ذلك الموضع: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، وَجَعَلَ في (¬4) هذا الموضع مع الله خالِقِين، فاحتجنا إلى رَدِّ هذه الآية، إلى الآية المحكمة؛ لِتَحْكُمَ (¬5) عليها، فقلنا: قد نَفَت الآيةُ المُحْكَمة أن يكون مع الله تعالى خالق يُنْشئ وُيحْيي. ووجدنا العربَ تجعل (الخَلْقَ) على مَعْنيَيْن: أحدهما: (الإنشاء)، والآخر: (التقدير). (¬6) فنفت الآيةُ المُحْكَمة (الخَلْقَ) الذي بمعنى: (الإنشاء)، فبقي الذي معناه (¬7): (التقدير). فَحَمَلْنا المُتشابِهَ عليه، وقلنا: تأويلُهُ: فتباركَ اللهُ أحْسَن المُقَدِّرِين؛ كما قال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} ¬

_ (¬1) في (ب): (الآية). (¬2) في (د): (غير ظاهر). (¬3) في (د): (الصورة). (¬4) (في) ساقطة من: (ج). (¬5) في (ج): (ليحكم)، وفي (د): (لنحكم). (¬6) انظر: "الأضداد" للأصمعي (ضمن ثلاثة كتب في الأضداد): 55، "تأويل مشكل القرآن " 507، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج: 35، "الزاهر" 1/ 84، "تهذيب اللغة"1/ 1093، "قاموس القرآن" للدامغاني: 163، 164، "مفردات ألفاظ القرآن". للراغب: 296 (خلق)، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: 283، "اللسان" 2/ 1243 (خلق). (¬7) (الذي معناه): ساقط من: (ج).

[العنكبوت: 17]، أي: ويُقَدِّرُون (¬1). ومن هذا القَبِيل أيضًا، قولُه: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]؛ هذه مُحْكَمَةٌ لا تَحْتَمِل التأويلات. ثم قال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]؛ فَأَثْبَتَ في المُتَشَابِهِ (¬2) ما نفاهُ في المحكمة؛ فكانت المُحْكَمة قاضيةً عليها؛ لأنا وجدنا النسيان في كلام العرب على مَعْنيَيْنِ: أحدهما: (الإغفال)، والآخر: (التَّعَمُّدُ والتَّرْكُ) (¬3). فقلنا في قوله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]: تركوا (¬4) العَمَلَ لله، فَتَرَكَ أنْ يُثِيبهم (¬5)؛ فكان في المُحْكَمِ بَيانُ المُتَشابِهِ. ¬

_ (¬1) في (د): (وتعبدون). وفي "تهذيب اللغة" 1/ 1093: (وتقدرون). وانظر: "تفسير الطبري"20/ 137، "تهذيب اللغة" 1/ 1093 (خلق)، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج: 36، "تفسير القرطبي" 13/ 335، "لسان العرب" 2/ 1243 (خلق)، "تفسير أبي السعود" 7/ 34، "الدر المنثور" 6/ 457، "فتح القدير" 4/ 197. وقد سبق أن ذكر المؤلف عند تفسير آية: 21 من سورة البقرة: أن الخلق المنسوب لغير الله، إنما هو قياس وتشبيه وافتراء ومحاكاة وتقدير، على قدر قدره غيره، فخلق الله ذاتي، وخلق غيره على سبيل الاستعارة والتقدير. (¬2) في (د): (المتشابهة). (¬3) يعني أن النسيان، إما ترك الشيء عن غفلة وسهو وعدم ذكر، أو ترك الشيء مع التعمد. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري: 399، "الأضداد" لأبي حاتم السجستاني (ضمن ثلاثة كتب في "الأضداد" 156، "قاموس القرآن" للدامغاني: 454، "نزهة الأعين النواظر" 579، "الوجوه والنظائر في القرآن" د. سليمان القرعاوي: 614، "المصباح المنير" 231 (نسو). (¬4) في (ج): (ترك). (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 198، "تفسير الطبري" 10/ 175، "الأضداد" لابن الأنباري: 399، وتذكرة الأريب "في تفسير الغريب" لابن الجوزي: 1/ 220.

ومن هذا: قولُ اللهِ عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬1)، احتمل في اللغة أنْ يكونَ كاستواءِ الجالِسِ على سَرِيرِهِ، واحتَمَلَ أن يكون بمعنى الاستيلاءِ؛ وأحَدُ الوَجْهَيْنِ لا يجوز على الله؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وهذا من المُحْكم، الذي هو أصلٌ يُردُّ إليه المتشابهُ، فقلنا: إنَّ استواءَهُ بمعنى: الاستيلاء (¬2) ومثل هذا كثيرٌ، وفيما ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 54، ويونس: 3، والرعد: 2، والفرقان: 59، والسجدة: 4، والحديد: 4. (¬2) لقد أبعد المؤلف -رحمه الله- النجعةَ، في حمل الاستواء على الاستيلاء، وجانبه الصواب في ذلك؛ حيث لم يرد عن العرب أنَّ مِنْ معاني (الاستواء): الاستيلاء. وإنما الوارد عنهم في معاني الاستواء، التالي: الاستقرار، والقَصْدُ، والعُلُوّ، والإقبالُ على الشيء وإليه، والصُّعود. وقد ذَكَرَ ابنُ القيِّم أن للسلف أربع تفسيرات للاستواء، وهي: الاستقرار، والعلو، والارتفاع، والصعود، وهو ما يتناسب مع المعنى اللغوي. انظر: "توضيح المقاصد" في "شرح قصيدة الإمام ابن القيم" لأحمد بن عيسى: 1/ 440. أما (الاستيلاء) فقد أورده الجوهري في "الصحاح" مستدلًا بقول الشاعر: قد استوى بِشْرٌ على العراق ... من غير سيفٍ ودَمٍ مِهْراقِ وقد نسب الزبيديُ في "تاج العروس" البيتَ للأخطل. وتبع الجوهريَّ في ذكر هذا المعنى، صاحبُ "لسان العرب" وصاحبُ "القاموس المحيط". أما بيت الشعر السابق، فقد قال عنه ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 5/ 146: (ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة ..). وقد رَدَّ ابن الأعرابي وهو من أئمة اللغة على مَنْ فَسَّر الاستواء بـ (الاستيلاء) هنا، بقوله: (.. لا يقال: استولى على الشيء، إلا أن يكون له مضادّ، فإذا غلب أحدُهما، قيل: استولى ..). "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لللالكائي: 3/ 442. والله تعالى لا منازع له في مُلْكه. ورَدَّه كذلك الخليل بن أحمد. ذكَرَ ذلك الكرميُّ =

أوردتُهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ رُزِقَ الفَهْمَ. وقوله تعالى: {وَأُخَرُ} زعم (¬1) سِيبَويه والخليلُ أنَّ (أُخَرَ) فارقت ¬

_ = في "أقاويل الثقات" 124. فمعنى لفظ (الاستواء) من ناحية اللغة معروفٌ، وليس متشابها، ولا حرج في تفسيره بالألفاظ التي جاءت في اللغة، وليس في ذلك إيهام بالكيف، أو التجسيم ومشابهة الخلق؛ لأننا عندما نفسر هذه الصفة، إنما نذكر المعنى اللغوي، ونُجري هذه المعاني بما يليق بجلال الله تعالى وعظمته، ونقطع الطمع عن إدراك الكيفية، وذلك لعجز وقصور عقولنا عن إدراك ذلك. ومنهج السلف الصالح إزاء صفة الاستواء، وغيرها من صفات الباري تعالى: أن تمر كما جاءت، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل؛ فيثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، إثباتًا منزهًا عن التشبيه، منزهًا عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو مُعطّل، ومَنْ شبهه باستواء المخلوق على المخلوق، فهو مُمَثِّل. وقد قال الإمام مالك بن أنس، لَمَّا سُئل عن كيفية الاستواء، فقال: (الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، وقد وَرَدَ مثلُ ذلك عن أم سلمة رضي الله عنها، وربيعة الرأي. انظر: "شرح أصول الاعتقاد" 3/ 440 - 443. وانظر مادة (سوا) في "تهذيب اللغة" 2/ 1794، "الصحاح" 6/ 2385 - 2386، "اللسان" 4/ 2160، "القاموس المحيط" 1297، "قاموس القرآن" للدامغاني: 255، "تاج العروس" للزبيدي: 1/ 179. وانظر حول موضوع صفة الاستواء: "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة: 394، "الرد على الجهمية" للدارمي: ص 40، "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد" للبيهقي: ص 116، "الأسماء والصفات" للبيهقي: 2/ 303، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 5/ 146، 365 ,404، 519 - 520 "العقائد السلفية" لأحمد بن حجر: 1/ 124 - 125، 164 - 167، "رسائل في العقيدة" لمحمد بن عثيمين: 70. (¬1) من قوله: (زعم ..) إلى (.. إلا صفة منعت الصرف): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 377. وانظر: "كتاب سيبويه" 3/ 224، 283.

أخواتها، والأصلَ الذي عليه بِنَاءُ أَخَواتِها؛ لأن (أُخَرَ) أصلُها أن تكون بالألف واللّام (¬1)؛ كما تقول: (الصُّغْرى) و (الصُغَر)، و (الكُبْرَى) و (الكُبَر). فلما عُدِلَت عن مُجْرَى الألِفِ واللام، وأصلِ (أَفْعَلَ مِنْكَ) وهي مِمَّا لا يكونُ (¬2) إلا صِفَةً، مُنِعَت الصَّرْفَ. وقد شرحنا هذه المسألة عند قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) [البقرة: 184]. قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}. الزَّيْغُ: المَيْلُ. يعني: مَيْلًا عن الحقِّ؛ (زاغ، يَزِيغ، زَيْغًا، وزَيْغُوغَةً، وزَيَغانًا، وزيوغًا (¬4). قال الفراء (¬5): والعرب تقول في عامةِ ذوات الياء، مِمَّا يُشْبِهُ (زِغتُ)؛ ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" (أن تكون صفة بالألف واللام). (¬2) في (د): (وهي لا تكون). (¬3) يريد المؤلف (والله أعلم) أن (أخَر) مُنِعت مِنَ الصَّرْفِ؛ لأنها جاءت صفة بغير الألف واللام، ولم تلحقها (مِنْ) كأفعل التفضيل (أفعل منك)؛ حيث إن (أُخَر) جمعٌ، ومفرده (أُخْرَى). و (أخْرَى) مؤنث لِلَفْظٍ مُذَكَّرٍ، هو: (آخِر)؛ الذي أصله (أأخَر) بفتح الهمزة الأولى، وتسكين الثانية، على وزن (أفْعَل) الدال على التفضيل. وهو مُجَرَّدٌ من (أل) والإضافة. وحقُّه أنْ يكون مفردًا مذكرًا في جميع استعمالاته. ولكنْ عَدَلَ العربُ عنه إلى لفظ (أُخَر) بصيغة الجمع، ومنعوه من الصرف؛ للوصفية والعَدْل. انظر آراء النحويين حول منع (أخر) من الصرف، في "المقتضب" للمبرد: 3/ 246، 376، "إعراب القرآن" للنحاس: 1/ 235، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري:1/ 143، "شرح المفصل" لابن يعيش: 6/ 99، "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري: 1/ 116، "شذور الذهب" لابن هشام (بشرح محمد محي الدين عبد الحميد): ص 537، "همع الهوامع" للسيوطي: 1/ 80، "النحو الوافي" لعباس حسن: 3/ 408، 4/ 224. (¬4) انظر: (زيغ) في "تهذيب اللغة" 2/ 1502، "اللسان" 3/ 1890. (¬5) قوله في "تهذيب اللغة" 4/ 3083. وأورده بمعناه ابن جني في "المنصف" 2/ 12.

مثل: (سِرْتُ)، و (صرْتُ)، و (طِرتُ): (سَيْرُورَةً)، و (صَيْرُورَةً)، و (طَيْرُورَةً)، و (حِدْتُ حَيْدُودَةً)، و (مِلْتُ مَيْلُولَةً)، لا أحصى ذلك، وهو كثير. فأمّا ذوات الواو؛ مثل: (قلتُ)، و (رُضْتُ)، فإنهم لمْ يقولوا ذلك إلا في أربعة أحْرُف، منها: الكَيْنُونة (¬1)، والدَّيْمُومَةُ، مِنْ: (دُمْتُ)، والهَيْعُوعَةُ، من: (الهُواع) (¬2)، والسيْدُودَةُ، من: (سُدْتُ). وكان ينبغي أن يكونَ -في القياس-: (كَوْنُونَة) بالواو (¬3)، ولكنها لَمَّا قَلَّت في مصادر الواو، وكثرت في مصادر الياء، ألحقوها بالذي هو أكثر مجيئًا منهما؛ إذ كانت الواوُ والياءُ مُتَقارِبَتَينِ في المَخْرَج. ومثل هذا: أنهم يقولون في ذوات الياء: (سَعَيْتُ به سِعَايةً)، و (رَمَيْتُهُمْ رِمَايَةً)، و (دَرَيْتُ بِهِ (¬4) دِرايةً)، فتأتي المصادرُ في ذوات الياء، ¬

_ (¬1) مصدر (كان يكون كَوْنًا وكيْنُونة). (¬2) في "القاموس المحيط": (والهواع بالضم، والهيعوعة، والمِهْوع، والمهواع بكسرها: الصياح في الحرب). ص 777 (هوع). وجعلها في "لسان العرب" من مصادر ذوات الياء، فقال: (هاعَ، يَهاع، ويَهِيع، وهَيْعًا، وهَاعًا، وهُيُوعًا، وهَيعَة، وهَيَعانًا، وهَيْعُوعة: جَبُن وفَزع. وقيل: استخف عند الجزع). 8/ 4721 (هيع). والهُواع: القيءُ. يقال: (هاع، يهوع هواعًا. وهيعوتة): أي: قاء. انظر: (هوع) في "الصحاح" 3/ 1309، "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لأبي موسى الأصفهاني:3/ 516، "اللسان" 8/ 4721، "المعجم الوسيط" 2/ 1010. (¬3) ويرى الخليل بن أحمد أن (كيْنُونة): (فَيْعُولة)، هي في الأصل: (كَيْوَنُونَه)؛ التقت منها ياءٌ وواوٌ، والأولى منهما ساكنة، فَصُيِّرَتا ياءً مشدَّدَةً [أي: كيَّنُونة]، مثلما قالوا: (الهيِّن) من (هُنْت)، ثم خففوها فقالوا: (كيْنُونة)؛ كما قالوا: (هَيْنٌ، لَيْنٌ). قال الفراء: وقد ذهب مذهبًا، إلا أن القول عندي هو الأول). "تهذيب اللغة" 4/ 3084 (كان). (¬4) في (د): (بهم).

على هذا النحو، كثيرةً، ولا تكاد تأتي في ذوات الواو؛ نحو: (خَلَوْتُ)، و (دَعَوْتُ). فَنَدَرَ حرفٌ مِنْ ذوات الواو فألْحِقَ بذوات الياء، وهو قولُهم: (شَكَوْتُ فُلانًا شِكَايَةً)، ولم يقولوا: (شِكاوَةً)، فألحقوها بالمصادر من الياء (¬1). واختلفوا في هؤلاء الذي عُنُوا بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: فقال الربِيع (¬2): هم (¬3) وَفْدُ نَجْرَانَ؛ لَمَّا حَاجُّوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، في المَسِيح، فقالوا: أليسَ (¬4) هُوَ كَلِمَة اللهِ، وروح منه؟ قال: "بَلَى". قالوا: حَسْبُنا. فأنزلَ اللهُ تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، الآية. ثمّ أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} الآية. وقال الكَلْبِيُّ (¬5): هم اليهود، طَلَبُوا (¬6) عِلْمَ أكْلِ (¬7) هذه الأُمَّةِ، ¬

_ (¬1) انظر في هذا الموضوع: "المنصف" لابن جني: 2/ 10، "الممتع في التصريف" لابن عصفور: 2/ 502، 504، "شرح شافية ابن الحاجب" للاستراباذي: 1/ 152. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 177، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 596، "تفسير البغوي" 2/ 9، "زاد المسير" 1/ 353. (¬3) (هم): ساقطة من: (ج). (¬4) في (أ)، (ب): (ليس). والمثبت من: (ج) و (د). (¬5) قول الكلبي، أخرجه الطبري 1/ 92، 93 من رواية محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله، وأخرجه البخاري في: تاريخه: 1/ 2/ 208، والبغوي 2/ 9، وذكره بمعناه أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 247، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 353، والسيوطي في "الدر" 2/ 78. (¬6) في (ج): (طالبوا). (¬7) في (ج): إقامة. (د) أجل. وحقيقة (الأُكْل) بضم الهمزة: التنَقّص. ومعناها هنا: الرزق، والحظ من الدنيا. يقال للميت: (قد انقطع أكْلُه)، أي: انقضت مدته في الدنيا. فاليهود أرادوا معرفة =

واستِخْراجِهِ مِنَ الحُرُوف المُقَطَّعَةِ في أوائل السُّوَرِ (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬2). وقيل: هم جميع المُبْتَدِعَةِ، وكلُّ من احتَجَّ لِباطِلِهِ بالمتشابه (¬3). وهذا معنى قول قتادة (¬4). ¬

_ = مدة بقاء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأجلها. انظر: (أكل) في "مجمل اللغة" 1/ 100، "القاموس المحيط" ص 961. (¬1) انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 170، 171 فقد ذكره عن ابن إسحاق. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 595 عن مقاتل بن حيان، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 7 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر في "تفسيره" عن ابن جريج معضلا. (¬2) لم أقف على رواية عطاء عن ابن عباس. (¬3) روت عائشة رضي الله عنها قائلة: (تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيت الذين بتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سَمَّى الله فاحذروهم". أخرجه البخاريُّ (4547). كتاب: التفسير. سورة آل عمران باب: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}، ومسلم رقم (2665). كتاب: العلم. باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن. وفي رواية الإمام أحمد: "فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله فاحذروهم". "المسند" 6/ 48، 256. وأخرجه أبو داود رقم (47). كتاب: السنة. باب: النهي عن الجدال، والترمذي رقم (2993)، (2994). كتاب: التفسير. باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجة رقم (47). في المقدمة، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 274، 277 (73)، (76). وأخرجه: عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 116، والطبري في "تفسيره" 6/ 189 - 195، والطيالسي في "المسند" 3/ 50 (1535)، والآجري في "الشريعة" 26، 27. (¬4) كان قتادة إذا قرأ هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، قال: (إنْ لم يكونوا الحَرُورِيَّة والسَّبَئِيَّة، فلا أدري مَن هم! ..). و (الحرورية) هم: الخوارج، و (السبئية): نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي غالى في الإمام عليٍّ، وادَّعى فيه الألوهية. انظر الأثر، في "تفسير عبد الرزاق": 1/ 115، "تفسير الطبري" 3/ 178، "تفسير =

وقولُ الزَّجَّاج في هذه الآية، يَدُلُّ على أنّ هؤلاء، هم الكفار الذين يُنْكِرُون البَعْثَ، لأنه قال (¬1) في سياق الآية: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بَعثِهِمْ وإحيائهم. وقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}. قال عطاءٌ، عن ابن عباس (¬2): يريد: الكفر. وقال الرَّبِيع (¬3)، والسدي (¬4): طلب الشرك (¬5). وقال مجاهد (¬6): اللَّبْسِ (¬7)؛ لِيُضِلُّوا به جُهَّالَهم. ¬

_ = البغوي" 2/ 8، "المحرر الوجيز" 3/ 23. وورد كذلك عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنهم الخوارج. يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رجح ابن كثيرٍ وقفَهُ على أبي أمامة. انظر الأثر في: "مسند الإمام أحمد" 5/ 262، "مصنف عبد الرزاق" 10/ 152رقم (18663)، و"سنن البيهقي" 8/ 188، و"مسند الحميدي" 2/ 404 رقم (908)، "المعجم الكبير" للطبراني: 8/ 274 وما بعدها، "المعجم الصغير" له: 1/ 42 (33)، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 594، و"الشريعة" للآجرِّي: 36، "تفسير ابن كثير" 1/ 371. (¬1) في "معاني القرآن" له:1/ 378. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" المنسوب إلى ابن عباس: 43. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 180، "ابن أبي حاتم" 2/ 596، "الثعلبي" 3/ 7 ب، "البغوي" 2/ 10، "المحرر الوجيز" "زاد المسير" 1/ 354. (¬4) قوله في: المصادر السابقة، عدا "المحرر الوجيز". والسُدِّيُّ هنا هو: السُدِّي الكبير (إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، ت: 182 هـ). وليس هو السُدِّي الصغير (محمد بن مروان، ت: 186 هـ)؛ وذلك أن هذا الأثر ورد من رواية أسباط عن السدي، وأسباط إنما يروي عن السدي الكبير. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 596، " الطبقات الكبرى" لابن سعد: 6/ 376، "تهذيب التهذيب" لا بن حجر: 1/ 158في ترجمة أسباط، "معجم المفسرين" لعادل نويهض: 1/ 90، 2/ 635. (¬5) وهو قول: مقاتل في "تفسيره" 1/ 264، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 101. (¬6) قوله في "تفسيره" 1/ 122، والمصادر السابقة. (¬7) هكذا وردت في الأصل بالكسر على تقدير: ابتغاء، أو طَلَبِ اللَّبْسِ. =

وقال أبو إسحاق (¬1): الفِتْنَةُ في اللغة على ضُرُوب: فالضَّرْبُ الذي ابتغاه هؤلاء: إفسادُ ذوات (¬2) البَيْن في الدِين، والحرب. والفتنة في اللغة: الاستهتار بالشيء والغُلُوُّ فيه؛ يقال: (فلانٌ مَفْتُونٌ بِطَلَب الدُّنْيا)؛ أي: قد غلا في طَلَبِها، وتجاوز القَدر (¬3). وقوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. التأويل: التفسير. وأصلُهُ في اللغة: المرجِعُ والمَصِيرُ؛ مِنْ قولهم: (آل الأمْرُ إلى كذا): إذا (¬4) صار إليه. و (أوَّلْته تأويلًا): إذا صَيَّرته إليه، فتأول (¬5)؛ أي: رَجَعَ، وصار. قال الأعشى: على أَنَّها كانتْ تَأوُّلُ حُبِّها ... تأؤُّلَ رِبْعيِّ السِّقابِ فَأَصْحَبَا (¬6) ¬

_ = ونصُّ قول مجاهد كما في "تفسير الطبري" (الشبهات، مِمَّا أهلكوا به)، وفي تفسيره: (الهلكات التي أهلكوا بها). (¬1) هو الزجاج في "معاني القرآن" له: 1/ 377. نقله عنه بتصرف يسير جدًا في بعض الألفاظ. (¬2) في (ج) و"معاني القرآن": (ذات). (¬3) في "معاني القرآن" للزجاج: (وتجاوز القُدْرة). وانظر: "اللسان" 6/ 3345 (فتن)، "تفسير الفخر الرازي" 7/ 189. ويقول النحاس في هذا الموضع: (أي: ابتغاء الاختبار الذي فيه غُلوٌّ، وإفْسادُ ذاتِ البَيْن؛ ومنه: (فلانٌ مَفْتُونٌ بِفُلانة)؛ أي: قد غَلا في حبها). "إعراب القرآن" له: 1/ 310. (¬4) في (ب): (أي). (¬5) في (ب): (فتأوله). (¬6) البيت، في: "ديوانه": ص 7. وقد ورد منسوبًا له، في: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: 1/ 86، "تفسير الطبري" 3/ 184، "تهذيب اللغة" 2/ 1349 (ربع)، "الصحاح" 4/ 1627 (أول)، "الصاحبي" لابن فارس: 315، "اللسان" 3/ 1566 (ربع)، 1/ 172 (أول)، وفي: 4/ 2401 (صحب) أورد الشطر الثاني ولم ينسبه. وورد =

أي: كان حُبُّها صغيرًا، فآل إلى العِظَم، كما آل السَّقْبُ إلى الكِبَرِ (¬1). هذا معنى (التأويل) في اللغة (¬2). ثم تُسَمَّى (العاقبةُ): (تأويلا)؛ لأنَّ الأمرَ يصيرُ إليها. و (التفسير) ¬

_ = البيت في الديوان كالتالي: (.. تأوَّلُ حبَّها ..). وورد في "التهذيب" 2/ 1349 (ربع)، "اللسان" 3/ 1566 (صحب)، كالتالي: ولكنها كانت نَوًى أجنبيَّةً ... توالِيَ رِبْعِيِّ السِّقاب فأصحبا وينشد كما في "تفسير الطبري" 3/ 184: على أنها كانت تَوَابعُ حُبِّها ... توالي رِبْعِيِّ السِّقاب فأصحبا ومعنى: (ربعي السقاب): ذلك أن الفصيل الذي يُنتَج في أول النتاج، يقال له: (رُبَع)، والجمع: (رِباع). ورِبْعِيُّ كل شيء: أوله. والسَّقْب: ولد الناقة، أو ساعة يولد، إذا كان ذكرًا. والجمع: (سِقاب). ويقال: (سقبٌ رِبْعِيٌّ)، و (سقاب رِبعية)، وهي: التي ولدت في أول النتاج. و (أصحب): ذَلَّ وانقاد. انظر: "كتاب الفرق" لقطرب: 100، "الفرق" لابن فارس: 87، "اللسان" 1/ 172 (أول)، "القاموس" ص 97 (سقب). وسيأتي تفسير المؤلف للبيت على الرواية التي أوردها. أما على الرواية الثانية، التي أوردها الأزهريُّ، وصاحب "اللسان" فمعنى (توالي ربعي السقاب) هنا: من (الموالاة). وهي: تمييز شيء من شيء، وفصله عنه؛ أي: إن نَوَى صاحبته اشتَدَّ عليه، فحن إليها حنين ربعي السقاب، إذا فُصِل عن أمِّهِ ومُيِّز عنها. وأن هذا الفصيل يستمر على الموالاة ويُصْحب، أما هو فقد دام على حنينه الأول، ولم يصحب إصحاب السقب. انظر: "تهذيب اللغة" 1349. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 284؛ حيث قال في تفسيره: (ويعني بقوله: (تأوُّلُ حبِّها): تفسير حبِّها ومرجعه. وإنما يريد بذلك أنَّ حبَّها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصِّغَرِ إلى العِظَم، فلَمْ يزلْ ينبت حتى أصْحَبَ فَصَارَ قديمًا، كالسَّقْبِ الصغير الذي لم يزل يشبُّ حتى أصحبَ فَصَارَ كبيرًا مثلَ أمِّهِ) ويبدو أن المؤلف نقل هذا المعنى عن الطبري، متصرفًا في عبارَتِه هذه (¬2) انظر: (أول) في "الصحاح" 4/ 1626، 1628، "مجمل اللغة" 1/ 107، "اللسان" 1/ 172، "المصباح المنير" 12، "القاموس المحيط" 963.

يُسمَّى: (تأويلًا)، وهو قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]؛ أي: بِعِلْمِهِ وتفسيره؛ لأن التَّأويل: إخبارٌ عَمَّا يَرْجِعُ إليه اللفظُ مِنَ المعنى. وذكرنا معنى التَّأوِيل [بأبلغ] (¬1) مِنْ هذا، في سورة النساء، عند قوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3): {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: طَلَبِ مُدَّةِ أُكْلِ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وفي قول الزجاج (¬4): المراد به: الكفار (¬5)؛ طلبوا متى يُبْعثون؟ وكيف يكون إحياؤُهم بعد الموت؟ وفي قول الباقِين: معناه: طَلَبُ تفسير المُتَشابِهِ، وعِلْمِهِ. قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يريد: ما يَعلَمُ انقضاءَ مُلْكِ أُمَّة (¬6) محمد - صلى الله عليه وسلم - إلّا الله؛ لأن انقضاءَ مُلك هذه الأُمَّةِ مع قيام الساعَةِ، ولا (¬7) يَعْلَم ذلك مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌ مُرْسَلٌ. وهذا قولُ عطاء (¬8). وعلى هذا؛ يَحْسُنُ الوقفُ على قوله: {إِلَّا اللَّهُ}، وكذلك على قول الزجاج؛ لأن وقت البعثِ لا يَعلَمُهُ إلا الله. ثم ابتدأ، فقال: {وَالرَّاسِخُونَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬2) وقد تكلم ابنُ القيم عن معاني (التأويل) بإسهاب، وبَيَّن الصحيح منه والباطل. انظر: "الصواعق المرسلة": 175 وما بعدها. (¬3) لم أقف على مصدر هذه الرواية. وقد ورد هذا القول في: "تنوير المقباس": 43. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 378. (¬5) في (ب): (المراد به الزج الكفار). (¬6) (أمة): ساقطة من: (ج). (¬7) في (ج): (لا) بدون واو. (¬8) لم أقف على مصدر قوله.

فِي الْعِلْمِ} أي: الثابتون فيه. والرُّسُوخُ في اللغة (¬1): الثُّبُوتُ في الشيء (¬2). وعند أكثر المفَسِّرين (¬3): المرادُ بـ (الراسخين علمًا): مُؤْمِني أهل الكتاب؛ دليله: قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162]. قال ابن عباس (¬4)، ومجاهد (¬5)، والسُّدِّي (¬6): بقولهم: {آمَنَّا بِهِ}، سَمَّاهُم اللهُ (راسخينَ في العِلْم). فَرُسُوخُهم (¬7) في العِلْمِ؛ قولُهم: {آمَنَّا بِهِ} أي: بالمُتَشَابِهِ. {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} المُحْكَم والمُتشابه؛ الناسخُ والمنسوخ؛ وما عَلِمْناه وما لَمْ نعْلَمْه. وقال الزجاج (¬8): أي: يقولون: صَدَّقنا بأن الله عز وجل يبعثنا، ويؤمنون ¬

_ (¬1) في (ج): (في العلم). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 378، "الصحاح" 421 (رسخ)، "تفسير القرطبي" 4/ 19. (¬3) قول المؤلف أعلاه: (عند أكثر المفسرين)، غير مُسَلَّم؛ لأنني لم أجد من قال بهذا القول إلا مقاتل بن حيان، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 600. ولو كان قال به أكثر المفسرين، لتناقلته كتب التفسير والحديث، مما أُلِّف قبل المؤلف وبعده. وقد أورد هذا القولَ الثعلبيُّ وهو شيخ المصنف في "تفسيره" 1/ 280 بصيغة (قيل) ولم يذكر قائله. وأورده أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 385 بصيغة (قيل) ولم يذكر القائل، ولكنه استبعده بقوله: (وهذا فيه بعد). (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 6/ 208. "تفسير الثعلبي" 3/ 10 أ، "تفسير البغوي" 1/ 280. ومن قوله: (قال ابن عباس ..) إلى (.. وما لم نعلمه): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 10 أ. (¬5) قوله في المصادر السابقة. وهو من روايته عن ابن عباس. (¬6) قوله في المصادر السابقة. (¬7) في (د): فرسخهم. (¬8) في "معاني القرآن" له: 1/ 378. نقله عنه بالنص.

بأنَّ البَعْثَ حَقٌّ، كما أنَّ الإنشاءَ حَقٌّ. وقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. قال عطاء (¬1): هذا ثَنَاءٌ مِن الله تعالى على الذين قالوا: {آمَنَّا بِهِ}، معناه: ما يَتَّعِظُ [بما] (¬2) في القُرْآن، إلّا ذَوُو العُقُول. وقال الزَّجَّاج (¬3): هذا دليلٌ على أن الأمرَ الذي اشْتَبَهَ عليه من البَعْثِ، لمْ يَتَدَبَّرُوه، ومعناه: ما يَتَدَّبر القرآنَ، وما أتَى به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، إلّا أوْلُوا الألباب. والأظهر في تفسير هذه الآية: قولُ عطاء: إنَّ هذا في اليهود، حين طلبوا تفسيرَ الحروف المُقَطَّعَة، والقولُ الذي حكاه الزجَّاج: إن هذه في منكري البعث. ويقال: هل يجوز أن يكون في القرآن شيءٌ، لا يعلمه إلا الله؟ فيقال: اختلف الصحابة والناسُ في هذا: فذهب الأكثرون: إلى أنَّ تَمَامَ الوَقْفِ على قوله: {إِلَّا اللَّهُ}، وأن جميع المتشابه لا يعلمه إلا الله؛ مثل: وقت قيام الساعة، وطلوع الشمس من المغرب، ونزول عيسى، وخروج الدجَّال. وقال قومٌ: في القرآن أشياء لا يَعْرِف حقيقَتَها إلا الله؛ كالحروف المُقَطَّعة، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [المائدة: 64]، وقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وأشباه هذا. والله تعالى مُخْتَصٌّ (¬4) مُستأثِرٌ بِعِلْم هذه، والإيمانُ بها حَقٌّ، وحقائقُ عُلُومِها ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 379. نقله عنه بتصرف يسير. (¬4) في (أ)، (ب): (يختص). والمثبت من: (ج)، (د)؛ لمناسبته لسياق العبارة.

مُفَوَّضَةٌ إلى الله تعالى. وهذا مذهب: عائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَي، وكثير من التابعين، واختيار (¬1) الفَرّاء، والكسائي (¬2)، والمُفَضَّل (¬3)، وابن الأنباري، وأَبي عُبَيد (¬4)، وأحمد بن يحيى (¬5). ودليل هذا القول: قراءة عبد الله (¬6): (إنْ تَأويلُهُ إلّا عِنْدَ الله. والرّاسخون في العِلْم يقولون آمَنّا به) (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (واختار). والمثبت من: (ب)، (ج)، (د). وهو الصواب. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) هو: المُفَضَّل بن محمد بن يعلى الضَبِّي، الكوفي. تقدم 2/ 119. (¬4) في "الأضداد" لابن الأنباري: أبو عبيدة. وورد في أكثر المصادر: أبو عبيد. وهو: أبو عُبَيد، القاسم بن سَلّام الهَرَوي الأزدي الخزاعي. (¬5) هو: أبو العباس، أحمد بن يحيى (ثعلب). وقد بَيَّن النحاسُ أن نَيِّفًا وعشرين رجلًا من الصحابة والتابعين والقراء وأهل اللغة، ذهبوا إلى الوقف التام على لفظ الجلالة (الله)، وأن ما بعده منقطع منه، ثم ذكر إضافة إلى من ذكرهم المؤلف: الحسن، وأبانهيك، والضحاك، ومالك بن أنس، وسهل بن محمد، وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير، والطبري، والزجاج، وابن كيسان، وأحمد بن جعفر بن الزبير، والسدي. انظر: "القطع والائتناف" للنحاس: 212، "تفسير الطبري" 3/ 182 - 184، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 599 - 601، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 351، "تفسير الثعلبي" 3/ 8 ب، "المحرر الوجيز" 3/ 24، "تفسير القرطبي" 4/ 16، "البحر المحيط" 2/ 384، "الدر المنثور" 2/ 10، 11، "معترك الأقران" للسيوطي: 1/ 138، "فتح القدير" للشوكاني: 1/ 476، "فتح البيان" لصديق حسن خان: 2/ 15 - 16. (¬6) يعني: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬7) انظر هذه القراءة في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 191، "كتاب المصاحف" لأبي بكر بن أبي داود: 59، "تفسير الطبري" 3/ 184، "الأضداد" لابن الأنباري:=

وفي (¬1) حرف أُبَيٍّ، وابن عباس: (ويقول (¬2) الراسخون في العلم آمَنّا به) (¬3). وهذا هو الأشبه بظاهر الآية؛ لأنه لو كان {الرَّاسِخُونَ} عَطْفًا، لَقَال: ويقولون آمنّا به. وفي قوله أيضًا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، دليلٌ على أنهم لَمْ يَعْرِفوا البعضَ فآمَنُوا بظاهره، وقالوا: إنه من عند الله. وقد رُوي عن ابن عباس، أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسيرٌ (¬4) لا يَسَعُ أحدًا جَهْلُه، وتفسيرٌ تَعرِفُهُ العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ يَعْلَمُهُ العلماءُ، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا الله (¬5). ¬

_ = 426، "تفسير الثعلبي" 3/ 9 أ، "تفسير البغوي" 2/ 10، "البحر المحيط" 2/ 384، "الدر المنثور" 2/ 10، والإتقان، للسيوطي: 2/ 15. وقد وردت القراءة في: كتاب المصاحف، لابن أبي داود، كالتالي: (وإنْ حقيقةُ تأويلِهِ إلا عند الله ..). (¬1) من قوله: (وفي ..) إلى (.. آمنا به): ساقط من: (ج). (¬2) في (ب): (ويقولون). (¬3) انظر هذه القراءة، في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 191، "الأضداد" لابن الأنباري: 426، "القطع والائتناف" للنحاس: 212، "المستدرك" للحاكم: 2/ 289 كتاب: التفسير، سورة آل عمران. وقال: (صحيح) ووافقه الذهبي، "تفسير الثعلبي" 3/ 9 أ، "الدر المنثور" 2/ 10 وزاد نسبة إخراج الأثر لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. قال النحاس عن هذه القراءة: (وهي قراءة على التفسير). (¬4) (تفسير): ساقطة من: (ج). (¬5) الأثر، في "تفسير الطبري" 1/ 34، أخرجه موقوفًا على ابن عباس، من رواية محمد بن بشار، قال: (حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان [بن عيينة]، عن أبي الزناد ..) والسند صحيح، ما عدا مؤمل بن إسماعيل، فقد اختلف فيه. انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي: 5/ 353، 354. وأورده النحاس في "القطع والائتناف" 213، كما أخرجه الطبري مرفوعًا بلفظ آخر عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أنزل الله القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام، لا يُعذَر أحدٌ بالجهالة به،=

وعلى هذا المذهب؛ إنما (¬1) أنزل الله -تعالى- ما (¬2) لا (¬3) يعلمه إلّا هو؛ اختبارًا (¬4) للعباد، لِيُؤمِنَ به المُؤْمِنُ فَيَسْعَد، ويكفر به الكافرُ فَيَشْقَى؛ لأن سبيلَ المُؤْمِنِ إذا قرأ من هذا شيئًا، أنْ يُصَدِّق رَبه عز وجل، ولا يعترض فيه بسؤال وإنكار؛ فَيَعْظُمَ -بذلك- ثوابُهُ على الله عز وجل. فإن (¬5) قيل: وأي (¬6) تخصيصٍ لِلرَّاسخين إذا (¬7) لم يَعرِفوا، فإنَّ غيرَهم أيضًا يقولون: {آمَنَّا بِهِ}، فَلِمَ خَصَّ (¬8) الراسخينَ (¬9) بالذكر؟ قلنا: المراد بـ (الراسخين): كلُّ مَنْ يقول: {آمَنَّا} وليس المراد ¬

_ = وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره ومن ادَّعَى علمَهُ سوى الله، فهو كاذب". وقال الطبري: (في إسناده نظر)؛ وذلك أنه من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهي أوهى الأسانيد عن ابن عباس. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 34. وانظر: الحُكْمَ على الكلبي، وأبي صالح، في "تهذيب التهذيب" 3/ 569، "تقريب التهذيب" ص 479 (5901)، "ميزان الاعتدال" 5/ 2 (7574)، "الاتقان" للسيوطي: 4/ 238. (¬1) في (د): (إن ما). (¬2) (ما) ساقطة من: (د). (¬3): ساقطة من: (ج). (¬4) في (د): (اختبار). (¬5) في (أ)، (ب): (بان). والمثبت من: (ج)، (ء). (¬6) في (أ)، (ب): (وإلى). والمثبت من: (ج)، (ء). (¬7) في (د): (فإذا). (¬8) في (أ): خُصَّ بالبناء للمجهول. وفي (ب)، (ج).، (د) غير مضبوطة بالشكل. وما أثبتُّه يتناسب مع ما بعده، من نصب (الراسخين). (¬9) في (د): (الراسخون).

بهم الذين يدأبون في التَّعَلُّمِ (¬1) ويَجْتَهِدُون. وقد ذكرنا عن ابن عباس، أنه قال: سمَّاهم (راسخين)، بقولهم: {آمَنَّا}. وقال مجاهد (¬2)، والربيع (¬3)، ومحمد بن جعفر بن الزبير (¬4): المتشابه يعلمه الله، ويعلمه الراسخون. ولا يجوز أن يكون في القرآن شيءٌ، لا يعرفه (¬5) أحدٌ مِنَ الأُمَّةِ. وهذا اختيار ابن قتيبة (¬6)، وزَعَمَ أنَّ الراسخينَ في العِلْمِ عَلِمُوا تأويل القرآن مع الله تعالى؛ لأنه لم يُنْزِلْ كتابَهُ، إلا لِيَنْفَعَ به ¬

_ (¬1) في (د): (التعليم). (¬2) قوله في "تفسيره" 1/ 122، "تأويل مشكل القرآن" 100، "تفسير الطبري" 3/ 183، "الأضداد" لابن الأنباري: 424، "تفسير الثعلبي" 3/ 8 ب، "المحرر الوجيز" 3/ 24، "تفسير القرطبي" 4/ 16. وقد رَدَّ ابن الأنباري رواية هذا القول عن مجاهد؛ زاعمًا بأن الراوي عن مجاهد هو ابن أبي نَجِيح، وهو لم يسمع التفسير عن مجاهد. ولكن أئمة الجرح والتعديل على توثيق ابن أبي نجيح، وتصحيح تفسيره عن مجاهد، بل عدَّه ابنُ تيمية مِنْ أصح التفاسير. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري: 427، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم: 5/ 203، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 17/ 409، "سير أعلام النبلاء" للذهبي: 6/ 125، 126، "تهذيب التهذيب" 2/ 444، "تقريب التهذيب" ص 326 (3662). (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 183، "القطع والائتناف" للنحاس: 215، "تفسير الثعلبي" 3/ 8 ب، "المحرر الوجيز" 3/ 25، "تفسير القرطبي" 4/ 17. (¬4) قوله في المصادر السابقة. (¬5) في (د): (لا يعلمه). (¬6) في "تأويل مشكل القرآن" له: 98. قال مرعي الكرمي: (ورجح هذا جماعات من المحققين؛ كابن فورك، والغزالي، والقاضي أبي بكر بن الطيب، وقال النووي: إنه الأصح، وابن الحاجب: إنه المختار ..). "أقاويل الثقات" 53. وانظر: "مشكل الحديث" لابن فورك: 522 - 525، وشرح صحيح مسلم، للنووي: 16/ 218، "معترك الأقران" للسيوطي: 1/ 138، "والإتقان" له: 3/ 3537.

عِبَادَه، ويدل على المعنى الذي أراده. وتأوَّلَ قولَهُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}، على أنه حالٌ صُرِفَت إلى المُضَارَعَةِ؛ أي (¬1): (والراسخون (¬2) في العلم، قائلين (¬3) آمَنَّا به). قال: ومثله من (¬4) الكلام: (لا يَأتِيك إلا عبدُ الله، وزَيْدٌ يقول: أنا مسرورٌ بزيارتك)، تريد (¬5): (لا يأتيك إلا عبدُ الله، وزيدٌ قائلًا: أنا مسرورٌ بزيارتك). فـ (زيد) عطفٌ على (عبد الله) (¬6). واحتج لهذه الطريقة في كتابه (المُشْكل) بما يطول ذِكْرُه (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (إلى). والمثبت من: (ج)، (ء). (¬2) في (ج): (والراسخين). (¬3) في (د): (قايلون). (¬4) في (ج): (في). (¬5) من قوله: (تريد ..) إلى (.. بزيارتك): ساقط من: (ج)، (ء). (¬6) أورد الشوكاني، والشنقيطي إشكالًا على من يمنع كون جملة {يَقُولُونَ} حالًا، وخلاصته: أن الحال قَيْدٌ لِعامِلِها. ووصف لصاحبها، فتقييد عِلْمِهم بتأويله، بحال كونهم قائلين: {آمَنَّا بِهِ}، لا وجه له؛ لأن مفهومه: أنهم في حال عدم قولهم {آمَنَّا بِهِ}، لا يعلمون تأويله، وهو باطل؛ حيث إنهم يعلمونه في كل حال. ويرى الشنقيطي أن جملة {وَالرَّاسِخُونَ} في حال كونها معطوفة، فإن {يَقُولُونَ} تكون معطوفة كذلك بحرف محذوف. واستدل على ذلك بأقوال المحققين من أهل العربية، واستشهد عليه بآيات من القرآن؛ كقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} فإنها معطوفة على قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} بالواو. انظر: "فتح القدير" للشوكاني: 1/ 482، "أضواء البيان" للشنقيطي: 1/ 131. (¬7) انظر: "تأويل مشكل القرآن" 86101. إن الخلاف الواقع بين العلماء في تبني أحَدِ المذهبَيْنِ المذكورَيْن للسَّلَفِ؛ في الوقف أو العطف على لفظ الجلالة في هذه الآية، مرجعه وسببه: الاشتراك في لفظ التأويل؛ حيث إنَّ له معانٍ عِدَّة. ولكنَّه إذا أطْلِقَ عند السَّلَفِ، إنَّما يُرادُ به أمران: =

8

8 - قوله (¬1) تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا}. أي: ويقول الراسخون: ربنا، كقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا} [آل عمران: 191]. وقوله: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي: لا تُمِلْنَا (¬2) عن الهدى والقصد، كما ¬

_ = الأول: تفسيرُ الكلام وبيان معناه؛ كقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]؛ أي: بتفسيره. فيجوز بهذا المعنى عطفُ جُملَةِ {وَالرَّاسِخُونَ} على لفظ الجلالة؛ لأن الراسخين يعلمون تفسيره، ويفهمون ما أريد منهم بالخطاب القرآني. الثاني: حقيقةُ الشيء، وما يؤول أمرُهُ إليه. ومنه قوله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]، و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53]؛ أي: حقيقة ما أخبرهم الله به مِنْ أمر القيامة والبعث. فيجوز بهذا الاعتبار الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن حقائق الأشياء وكنهها، لا يعلمها إلا الله تعالى. وهناك معنى ثالث للتأويل عند الأصوليين والفقهاء المتأخرين عن عصر السَّلَف، وهو: صَرْفُ اللفظ عن ظاهره المتبادرِ منه، إلى مُحتَمَلٍ مرجوح، بدليل يدل عليه. وهذا المعنى ليس مُرادًا في إطلاقات السَّلَف، فهو خارجٌ عن دلالة الآية هنا. فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل، اعتَقَدَ كلُّ مَنْ فَهمَ مِنْهُ معنًى، أنَّ ذلك هو المذكور في القرآن. ولا شكَّ أنَّ في القرآن أمورًا لا يعلمها إلا الله: كوقت قيام الساعة، وحقيقة الروح وغيرها ... وهي الأمور المتشابهة في نفسها. وهناك أمورٌ، العِلْمُ بها نِسْبيٌّ، يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم، وهو المتشابه الإضافي، الذي قد يَشْتَبِه على أناسٍ دون آخرين. فلا مُنافاة بين الرأيَيْنِ عند التحقق. انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" 443445 (شبه)، والإكليل في المتشابه والتأويل، لابن تيمية: 89، 2025، والرسالة كلها حول هذا المعنى، وتفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية: 174، 179، 183، 188، 193، "الرسالة التدميرية" لابن تيمية:5963، "تفسير ابن كثير" 1/ 372، "بصائر ذوي التمييز" للفيروز آبادي: 3/ 296، "أقاويل الثقات" للكرمي: 5355، "فتح القدير" للشوكاني: 1/ 482، "فتح البيان" لصديق خان: 2/ 1517، و"مباحث في علوم القرآن" لمناع القطان: 218، 219. (¬1) في (د): (وقوله). (¬2) في (د): (لا تملها).

9

أزغت قلوب اليهود والنصارى، والذين في قلوبهم زيغ، بعد إذ هديتنا للإيمان بالمُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِكَ. وروت أم سلمة (¬1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثر في دعائه أن يقول: "اللهم مُقَلب (¬2) القلوب، ثبِّت قلبي على دينك" (¬3). 9 - قوله (¬4) تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ}. تقديره: جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه (¬5)؛ فلما حذف لفظ ¬

_ (¬1) هي: هند بنت أبي أمية المعروف بـ (زاد الراكب) بن المغيرة، القرشية المخزومية، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ممن أسلم قديمًا، وهاجرت إلى الحبشة، ثم المدينة، وشهدت غزوة خيبر، ماتت سنة (61 هـ)، أو (62 هـ)، وهي آخر أمهات المؤمنين موتًا. انظر: "الاستيعاب" 4/ 493 (3594)، و"الإصابة" 4/ 458 (1309). (¬2) في (د): (مثبت). وقد وردت هذه اللفظة في الحديث من رواية أنس عند ابن أبي شيبة في: "المصنف": 6/ 25. (¬3) الحديث من رواية أم سلمة رضي الله عنها: أخرجه أحمد في "المسند" 6/ 91، 294، 302، 315، والترمذي برقم (3522) كتاب الدعوات، وقال عنه: (حديث حسن). وابن أبي شيبة في: "المصنف": 6/ 25 برقم (29197)، وابن أبي عاصم في: "السنة": 100 برقم (223)، وقال الألباني محقق الكتاب عنه: (حديث صحيح). وابن خزيمة في: كتاب التوحيد: 1/ 191، والطبري في "تفسيره" 3/ 178، 179، وابن أبي حاتم 2/ 602، 603، والآجرِّي في "الشريعة" 316. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 13 وزاد نسبة إخراجه للطبراني، وابن مردويه، وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" 1/ 391 برقم (1686). وقد أوردت المصادر السابقة الحديث كذلك عن عائشة، والنواس بن سمعان، وأنس، وجابر، وعبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم. (¬4) في (د): (وقوله). (¬5) وقيل: إن اللام بمعنى: (في)؛ أي: في يوم. ويكون المجموع لأجله لم يُذكر. فظاهره أن هذا الجمع للحشر من القبور للمجازاة وقيل: اللام بمعنى: (إلى)،=

الجزاء، دخلت اللام على ما يليه، وأغنت عن (في) (¬1)؛ لأن حروف الإضافة متآخية؛ لما يجمعها من معنى الإضافة (¬2). قال الزجّاج (¬3): وهذا إقرارٌ من المؤمنين بالبعث، ومخالفةٌ لمن اتبع ¬

_ = أي: جامعهم في القبور إلى يوم ... انظر: "البحر المحيط" 2/ 387، "روح المعاني" للآلوسي: 3/ 91. (¬1) في (د): (فيه). (¬2) حروف الإضافة عند البصريين: هي حروف الجر، وسميت بذلك: (لأنها تضيف معنى الفعل الذي هي صلته إلى الإسماء المجرور بها) "شرح المفصل" لابن يعيش: 2/ 117، وانظر: "الإيضاح في علل النحو" للزجاجي: 93. وفي تناوب حروف الجر وتآخيها، مذهبان للنحويين: أ- مذهب جمهرة البصريين: أنها لا تنوب عن بعضها البعض قياسًا، فإن لكل حرف معنى واحدًا أصليًا، يؤديه على سبيل الحقيقة لا المجاز، فإذا أدى معنى آخر، فيقال حينها: إنه أداه على سبيل المجاز أو التضمين. ب- مذهب الكوفيين ومن وافقهم: أنها تنوب عن بعضها البعض؛ لأن الحرف إذا اشتهر معناه اللغوي الحقيقي، وشاعت دلالته بحيث تفهم بلا غموض، كان المعنى حقيقيًا لا مجازيًّا، ودلالته أصلية، وليست من قبيل المجاز أو التضمين. قال ابن جنّي ويحسبه البعضُ على البصريين بعد أن خطّأ المذهب الثاني: (ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لاكِنّا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسب الأحوال الداعية إليه، والمسوِّغة له، فأمّا في كل موضع، وعلى كل حال، فلا) "الخصائص" لابن جنّي: 2/ 308. وقال المالقي: (والحروف لا يوضع بعضها موضع بعض قياسًا، إلّا إذا كان معنياهما واحدًا، ومعنى الكلام الذي يدخلان فيه واحدًا، أو راجعًا إليه، ولو على بعد) "رصف المباني" للمالقي: 297. وانظر حول الموضوع "مغني اللبيب" لابن هشام: 656، "همع الهوامع" للسيوطي: 1/ 27، "النحو الوافي" لعباس حسن: 2/ 537، و"تناوب حروف الجر" د. محمد عواد: 1310 وما بعدها، و"من أسرار حروف الجر في الذكر الكريم" د. محمد الخضري: 12. (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 379. نقله عنه بالمعنى.

المتشابه ممن ينكر أمر البعث. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [يجوز أن يكون إخبارًا عن المؤمنين أنهم قالوا ذلك، فيكون متصلًا بما قبله، لكنه على تلوين الخِطاب (¬1)، و] (¬2) يجوز أن يكون استئنافًا، أخبر الله تعالى أنه لا يخلف الميعاد. ولا يدلُّ هذا على تخليد مرتكبي الكبائر من المسلمين في النار، وإنْ وعد ذلك بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14]. الآية؛ لأن المراد بالميعاد (¬3) ههنا يوم القيامة (¬4) لأن الآية وردت في ذكره. أو يُحمل [هذا (¬5) على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء؛ لأن خلف الوعيد كرم (¬6) عند العرب] (¬7)، والدليل: أنهم يمدحون بذلك، ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) يعني بتلوين الخطاب، أي: الانتقال من أسلوب الخطاب في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ} إلى أسلوب الغيبة في قوله: {إنَّ الله}. قال أبو حيان ذاكرًا الحكمة في تغيير الأسلوب، هنا: (لِمَا في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ..) "البحر المحيط" 2/ 387. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬3) في (ب): (المعاد). (¬4) ومما يؤكد ذلك لغة أن الميعاد هو: وقت الوعد وموضعه، ففي "تهذيب اللغة" (والميعاد، لا يكون إلا وقتًا أو موضعًا) وفي "اللسان" (والموعد: موضع التواعد، وهو الميعاد). انظر مادة (وعد) في "تهذيب اللغة" 4/ 3915، "الصحاح" 2/ 552، و"اللسان" 8/ 4871، و"القاموس المحيط" 326. لكنَّ أبا عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 149، 189: ذكر أن الوعد والميعاد والوعيد، واحد. وعلى الرغم من هذا، فإن سياق الآية وأقوال من سبق من أهل اللغة، يؤكد ما ذكره المؤلف من أن الآية لا دلالة فيها على تخليد مرتكبي الكبائر من المسلمين في النار. (¬5) أي: على فرض التسليم بدلالة الآية على ما ذكر. (¬6) في (د): (لزم). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).

إذا وعد السرّاءَ أَنجز (¬1) وعدَه ... وإنْ وَعَدَ الضرّاءَ فالعَفْوُ مانَعُهْ (¬2) قال الأصمعي: جمعنا بين أبي عمرو بن العلاء، وبين محمد بن مسعود الفدكي (¬3)، فقال أبو عمرو: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله وعد وعدًا، وأوعد إيعادًا (¬4)، فهو منجز إيعاده، كما هو منجز وعده. فقال أبو عمرو: إنك رجل أعجم، لا (¬5) أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب. إن العرب تعُدُّ الرجوع عن الوعد لُؤمًا، وعن الإيعاد كرمًا، وأنشد: وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُهُ أو وَعَدْتُهُ ... لَيَكذِبُ إيعادي ويصدقُ موعدي (¬6) ¬

_ (¬1) (أنجز): غير مقروءة في: (أ). (¬2) البيت، لأبي الحسن، السري بن أحمد بن السري الكندي الرفّاء الموصلي. وهو في: "ديوانه" 2/ 368. وورد منسوبًا له، في "يتيمة الدهر" 2/ 156. وروايته في "الديوان" "واليتيمة": (.. وإن أوْعَدَ الضراء ..). (¬3) ولكن في "الوسيط في التفسير" للمؤلف: 670 (رسالة ماجستير. تحقيق بالطيور): ورد عمرو بن عبيد المعتزلي بدلًا من محمد بن مسعود الفدكي، وكذا بقية المصادر التي أوردت الحكاية والتي سأذكرها فيما بعد، أجمعت كلُّها على أن المُحاوِر لأبي عمرو بن العلاء، هو عمروُ بنُ عبيد المعتزلي، حتى إن الرازي في "تفسيره" 7/ 187 نقل الحكاية عن "تفسير البسيط" للواحدي، وذكر اسم عمرو بن عبيد، وليس محمد بن مسعود، والذي يبدو لي والله أعلم أنَّ اسم عمرو بن عبيد المعتزلي قد حوِّر إلى محمد بن مسعود الفدكي، وقد يرجع السبب إلى أن جميع النسخ التي بين يدي، قد تكون نقلت عن نسخة رئيسة واحدة لم يستبن فيها الاسم لسبب ما، فكان الخط أقرب إلى أن يقرأ هذه القراءة، أو لاجتهاد من الناسخ الأول في كتابة الاسم السابق. وعمرو بن عبيد، هو شيخ المعتزلة في عصره، ولد سنة (80 هـ)، وتوفي سنة (144 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 12/ 166، "وفيات الأعيان" 3/ 460. (¬4) (إيعادا): مطموسة في: (ج). (¬5): (لا) مطموسة في: (ج). (¬6) البيت لعامر بن الطفيل، وهو في "ديوانه" 58. وقد ورد منسوبًا له، في "العقد الفريد" لابن عبد ربه: 1/ 284، وأورده بنفس رواية المؤلف: "يتيمة الدهر" للثعالبي: 2/ 157، "لسان العرب" 2/ 1098 (ختأ)، 8/ 4871 (وعد)، 2/ 1103 (ختا)، "تاج العروس" 1/ 143 (ختأ)، 19/ 369 (ختا). كما ورد غير معزوٍ، في "عيون الأخبار" لابن قتيبة: 2/ 142، "ضرورة الشعر" للسيرافي، تحقيق د. رمضان عبد التواب: 138، "مجالس العلماء" للزجّاجي: 62، "تهذيب اللغة" 4/ 3915 (وعد)، "الصحاح" 2/ 551 (وعد) "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي: 39، "العمدة" لابن رشيق: 1/ 589، "الحماسة البصرية" لصدر الدين البصري: 2/ 30. وروايته في "الديوان": وإنِّيَ إن أوعدتُه أو وعدتُه ... لأخلِفُ إيعادي وأنجز موعدي وبرواية أخرى: لمخلِفُ إيعادي ومنجز موعدي كما ورد في "اللسان" 1/ 63 كالتالي: لَيأمَنُ ميعادي ومنجز موعدي وانظر الفرق بين (وعد) و (أوعد) في: "ما تلحن فيه العامة" للكسائي: 110، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: 2/ 189، "أدب الكاتب" لابن قتيبة: 1/ 272، "مجالس ثعلب" 1/ 227، "والخاطريات" لابن جني: 198، "خزانة الأدب" للبغدادي: 5/ 189، 190. وانظر مادة (وعد) في "تهذيب اللغة" "الصحاح" "اللسان". وقد وردت هذه المحاورة في "عيون الأخبار" 2/ 142، "مجالس العلماء" 62، "طبقات النحويين واللغويين" 39، "إنباه الرواة" 4/ 133، "مدارج السالكين" لابن القيم: 1/ 396، "ميزان الاعتدال" للذهبي: 4/ 198، 199، "لوامع الأنوار" للسفاريني: 1/ 371.

10

أو تقول: هذا عامٌّ في وعيد الأولياء، ووعيد الكفار، فأما مرتكبو الكبائر، فهم مخصوصون بقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. 10 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس: يعني:

اليهود من قُريظة والنضير (¬1). {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} أي: لن تنفع، ولن تدفع. وإنما ذُكرَ (عن) مع الإغناء؛ لأنه يراد به الدفع، و (الغِنَى): ما يدفع عن صاحبه الفقر. وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ} قال الكلبي (¬2): من عذاب الله (¬3). وقال أبو عبيدة (¬4): معناه: عند الله. (¬5) (مِنْ) بمعنى: (عند) وحروف الصفات تتعاقب (¬6). ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قول ابن عباس هذا في المصادر التي رجعت إليها. وقد ذهب ابن جرير الطبري إلى أن المراد بهم: (يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم) "تفسيره": 3/ 189. وقال أبو السعود: (والمراد بالموصول: جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف). تفسيره: 2/ 10. وإلى عموم الآية وتناولها لكل كافر، ذهب كذلك أبو حيان في "تفسيره" 2/ 187. (¬2) من قوله: (قال الكلبي) إلى: (بمعنى: عند) نقله بالنص عن "الثعلبي" 3/ 11 ب. (¬3) قوله في "تفسيرالثعلبي" في الموضع السابق. (¬4) في "مجاز القرآن" 1/ 87. (¬5) وضعَّف أبو حيان، والسمينُ الحلبي قولَ أبي عبيدة. انظر: "البحر المحيط" 2/ 388، "الدر المصون" 3/ 35. ولكن ابن هشام وافق أبا عبيدة في جعل (مِن) موافقة لـ (عند) وكذلك جعلها بمعنى البدل؛ أي: بدل طاعة الله، أو بدل رحمة الله. انظر: "المغني" 422، 424. (¬6) حروف الصفات هي حروف الجر. قال عنها ابن يعيش في "شرح المفصل" 8/ 7: (وقد يسميها الكوفيون: حروف الصفات؛ لأنها تقع صفاتًا لما قبلها من النكرات). وقد عقد لها ابن قتيبة بابًا في "تأويل المشكل" ص 565 فقال (باب دخول بعض حروف الصلات مكان بعض)، وانظر: "أدب الكاتب" له 1/ 392، "من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم" ص 12، وانظر التعليق السابق على حروف الإضافة في هامش تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} آية: 9.

11

11 - {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}. الآية. يقال: (دَأبتُ، أَدْأَبُ، دَأبًا) (¬1). و (دَأَبًا)، و (دُؤُوبًا): إذا اجتهدتَ في الشيء وتعبتَ فيه (¬2). قال الفراء (¬3): والعرب تُثقِّلُ (¬4) ما كان ثانيه أحد حروف الحلق (¬5): كـ (النَعْلِ)، و (الصَخْرِ)، و (النَهْرِ)، و (الشأْمِ) (¬6)، وأنشدَ: قد سار شرقِيّهُمْ حتى أتى سبأَ ... وانساحَ غربِيُّهُمْ حتى هو الشأَمُ (¬7) ويقال: (سار فلان يومًا دائِبًا): إذا اجتهد في السير يومه كله. هذا ¬

_ (¬1) في (ب): (داءبًا). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 380، "تهذيب اللغة" 2/ 1127 (دأب). (¬3) قوله بمعناه في "معاني القرآن" له: 2/ 47. وورد بمعناه في "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 313، ونسبه لكتاب (المصادر) للفراء. وأورده السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 40. (¬4) في (أ): (تَثَقَّلُ). ولم تضبط بالشكل في بقية النسخ، وصوبته من: "الدر المصون" 3/ 40. (¬5) حروف الحلق هي: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 46 - 47، "الممتع في التصريف" 2/ 668 - 669، "التمهيد" لابن الجزري ص 83.وقد قال الفراء في "معاني القرآن" 2/ 47 عند قوله تعالى: (دأبا) آية: 47 من سورة يوسف بعد ذكر القراءتين فيها، بتسكين الهمزة وفتحها: (وكذلك كل حرف فُتِح أوله، وسُكِّن ثانيه، فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزةً أو عينًا أو غينًا أو حاءً أو خاءً أو هاءً). وانظر: "تفسير الطبري" 3/ 191، "البيان" لأبي البركات الأنباري: 2/ 42. (¬6) في (ب)، (أ): (والشام) في (ج): (والسام). وقصد المؤلف هنا أن هذه الكلمات تُنطق بتسكين الحرف الثاني، أو بفتحه. (¬7) لم أهتد إلى قائله، وقد نقله السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 40 عن "البسيط" للواحدي بالرواية التالية: قد سار شرقيهم حتى أتى سبأ ... وانساح غربيهم حتى هوى الشأما.

معناه في اللغة. ثم يصير الدأْب عبارة عن: الحال، والشأن، والأمر، والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله (¬1). واختلفوا في معنى الكاف في قوله: {كَدَأْبِ}: فقال ابن عباس، وعكرمة (¬2)، ومجاهد، والسدِّي، وابن زيد (¬3): كفعل آل فرعون، وصنيعهم في الكفر والتكذيب. يريد: إن اليهود كفرت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كعادة آل فرعون مع فرعون، عرفوا كَذِبَهُ وصِدْقَ موسى، وكذلك كفار الأمم الخالية. وعلى هذا التقدير: دأبهم في الكفر، كدأب آل فرعون، فيكون الكافُ في موضع رفعٍ بخبر الابتداء (¬4). و (الدأب) على هذا التفسير والتقدير إن شِئت قلت: معناه: الأمر والشأن. وهو قول الأخفش (¬5). وإن شئت قلت: العادة. وهو قول النضر (¬6) والمبَرِّد (¬7). وأما الزجَّاج، فإنه أجرى (الدأب) على ما هو موضوع عليه في اللغة، فقال (¬8): القول فيه عندي: إنَّ دأب هؤلاء أي (¬9): اجتهادهم في كفرهم، ¬

_ (¬1) انظر: "مجمل اللغة" 2/ 342، "اللسان" 3/ 1310. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) انظر أقوالهم في "تفسير الطبري" 3/ 690، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 603، "تفسير ابن كثير" 1/ 375. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج 1/ 380. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 194. (¬6) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬7) في "الكامل" له 1/ 376. (¬8) في "معاني القرآن" له: 1/ 380. نقله المؤلف عنه بتصرف يسير. (¬9) (أي): ساقطة من: (ج).

وتظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام. قال ابنُ الأنباري (¬1): لم يخاطب الله تعالى العرب إلَّا بما تَعْقِل (¬2)، وقد يكون من عادتها أن تحذف المُشَبَّهَ، وتذكر المشَبَّهَ به (¬3)، وتكون كاف التشبيه دليلًا على المحذوف، كقول امرئ القيس: كَدَأبِك من أُمِّ الحْوَيْرِث .... البيت (¬4). أي لَقِيتَ من هذه المنازل، كما لَقِيتَ من هاتين المرأتين (¬5)، فحذف، وهذا مشهور في الكلام. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في (د): (تفعل). (¬3) (به): ساقطة من: (ج). (¬4) البيت من معلقته، وهو في: "ديوانه": ص 111. وروايته في "الديوان": كَدِينك من أمِّ الحوَيْرِثِ قَبْلَها ... وجارَتِها أُمِّ الرَّباب بِمَأسَلِ وورد كذلك في "تفسير الطبري" 3/ 191، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 27، "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 569، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 314، "الأمالي" للقالي 2/ 295، "المنصف" لابن جني 1/ 150، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 10، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 10، "خزانة الأدب" 3/ 223. والدأب في البيت: العادة. وكذا قوله: (كدينك) أي: كعادتك. و (أم الحويرث) هي: أخت الحارث الكلبي، وهي امرأة أبي الشاعر، كما صَوَّبَ ذلك البغداديُّ في "خزانة الأدب" وقيل: هي أم الحارث الكلبي. و (أم الرَّبَاب): امرأةٌ من بني كلب أيضًا، و (مَأسِل): إسم جبل. (¬5) أي: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها، كما لقيت من أم الحويرث وجارتها. وقيل: أصابك من التعب من هذه المرأة، كما أصابك من هاتين المرأتين أي: أصبحت عادتك في حب هذه، كعادتك من تَيْنك في قلة حظك من وصالهما ومعاناتك الوجْد بهما.

وقال بعض أهل المعاني (¬1): يجوز أن يكون الكاف في محل النصب، متصلة بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}؛ لأن (الوقود) وإن كان اسما، ففيه معنى الفعل، ويكون التقدير: تَتَّقد النارُ بأجسامهم [كما تَتَّقدم بأجسام] (¬2) آل فرعون، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول (¬3) النقمة والعقوبة، مثل آل فرعون، أخذناهم وعاقبناهم، فلم يغن عنهم أموالهم ولا أولادهم (¬4). وعلى هذا القول: شُبِّه حال كفار اليهود بحال آل فرعون في العقوبة، وقلة غناء أسوالهم عنهم، وفي القول الأول: التشبيه وقع بين الحالتين في الكفر والتكذيب. قال النحويون: ولا يجوز أن تكون الكاف من صلة (كفروا) في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} لما وقع بينهما من الفصل بخبر (إنَّ) (¬5). وقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}. قال بعض أهل اللغة: معنى ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك النحاس في "معاني القرآن" 1/ 359. (¬2) زيادة من: (ج)، (د). (¬3) في (ب): (طول). (¬4) من قوله: (عند حلول) إلى (أولدهم): ساقطة من: (ج)، (د). (¬5) ممن قال: إن الكاف متعلقة بـ {كَفَرُوا} الفرَّاء. وممن أنكر هذا الوجه الزجَّاج، والنَّحاس. انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج 1/ 380، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 313. وتعليل رأييِهما أن الخبر قد تم بقوله (لن تغني ..) فانقطع تعلق الفعل بالكاف، ولا يُعطَف على صلة الموصول بعد تمام الجملة. وانظر: "البيان" لأبي البركات الأنباري 1/ 192، "التبيان" للعكبري 1/ 177. "الكشاف" 1/ 414، "المحرر الوجيز" 3/ 32، "البحر المحيط" 1/ 389 وقد ذكر عشرة أقوال في إعراب الكاف.

12

الذَّنْب: التُّلُوُّ للشيء. (ذنَبَه، يذْنِبهُ، ذنْبًا): إذا تلاه. و (الذَّنُوبُ): الدَّلْو؛ لأنها تالية للحبل في الجذب، وأصله من (الذَّنَبِ)؛ لأنه تالٍ لصاحبه (¬1). فالذَّنْب: الجُرْم (¬2)؛ لأن تبعته تتلو صاحبه من استحقاق الذم (¬3). وقوله تعالى: {شَدِيدُ الْعِقَابِ}. إنما سُمِّي عقابًا؛ لأنه يعقب الذنب. 12 - قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}. قال ابن عباس في رواية عكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي صالح (¬4)، وعطاء (¬5): يعني يهود المدينة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: (ذنب) في "تهذيب اللغة" 2/ 1295، "اللسان" (ذنب) 3/ 1520. (¬2) في (ج): (والحرم). (¬3) في (ج)، (د): (الدم). (¬4) هو: باذام، أو باذان، مولى أم هانىء. تقدمت ترجمته. (¬5) (عطاء): غير مقروءة في: (ج). (¬6) أثر ابن عباس هذا برواية عكرمة وسعيد بن جُبير في: "سنن أبي داود": برقم (3001) كتاب "الخراج" باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة "تفسير الطبري" 3/ 192، "سيرة ابن هشام" 2/ 179، "تفسير الثعلبي" 3/ 12 أ، "أسباب النزول" للواحدي: ص 100 - 101، "تفسير البغوي" 2/ 13، "لباب النقول" للسيوطي ص 51. وورد من رواية الكلبي عن أبي صالح في "تفسير الثعلبي" 3/ 12 أ، "أسباب النزول" للواحدي ص 100، "تفسير البغوي" 2/ 13. أما رواية عطاء عن ابن عباس، فلم أهتد إلى مصدرها. ونص الأثر في: "سنن أبي داود": (لما أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا يوم بدر، وقدم المدينة، جَمَع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: "يا معشَرَ يهودَ، أسلموا قبل أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قريشا" قالوا: يا محمدُ، لا يغرَّنَّكَ من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفتَ أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عز وجل في ذلك {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ}

وقال مقاتل (¬1): هم مشركو مكة. واللفظ يحتمل الفريقين جميعًا. يدل على ذلك قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] فَفَسَّرَ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقبيلين، وكذلك قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]. وقوله تعالى: {سَتُغْلَبُونَ}. يقال: غَلَبَ، غَلَبةً، وغَلَبًا. والغَلَبة أكثر (¬2). قال الفرَّاء (¬3): وكان قوله: {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 3]، حُذفت منها الهاء لمَّا أُضيفت (¬4)، كما قال: {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 37] فحُذفت منها الهاء للإضافة. وفيه قراءتان: الياء والتاء (¬5)، وكذلك قوله: {تُحْشَرُونَ}. فمن قرأ بالتاء: فللمخاطبة. ويدل (¬6) على حُسن (¬7) التاء (¬8): قوله تعالى (¬9): {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ} [النور: 3]. ¬

_ (¬1) قوله في "تفسيره" 1/ 265، "تفسير الثعلبي" 3/ 12 أ، "تفسير البغوي" 2/ 12. (¬2) انظر: (غلب) في: كتاب "العين": 4/ 420 "تهذيب اللغة" 3/ 2682، "اللسان" 6/ 3278. (¬3) في "معاني القرآن" 2/ 319. (¬4) في (ب)، (د): (أضيف). (¬5) في (د): (التاء والياء). قرأ حمزة والكسائي من السبعة بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 17، "المبسوط" لابن مهران 140، "حجة القراءات" لابن زنجلة 154 - 155، وكتاب "الإقناع" لابن الباذش 2/ 618. (¬6) في (د): (يدل). (¬7) في (ج): (صحة). (¬8) من قوله: (ويدل على ..) إلى (.. ولم يقل غضوا): نقله عن "الحجة" للفارسي 3/ 18 بتصرف واختصار. (¬9) من قوله: (تعالى ..) إلى (.. صحة الياء): ساقط من: (ج).

ومن قرأ بالياء، فالمعنى: بلِّغهم أنهم سيُغلَبون. ويدل على صحة الياء: قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14]، وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، ولم يقل: (غُضُّوا). قال الفرَّاء (¬1): مَن (¬2) قرأ بالتاء: جعل اليهود والمشركين (¬3) داخلين في الخطاب، ثم يجوز في هذا المعنى: الياء، والتاء؛ كما تقول في الكلام: (قل لعبد الله إنه قائم، وإنك قائم) (¬4). وفي حرف عبد الله (¬5): (قل للذين كفروا إن ينتَهوا (¬6) يُغفَر لكم (¬7) ما قد سلف) (¬8). ومن قرأ بالياء: فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وإلى أن الغلبة تقع على المشركين، كأنه قيل: (قل يا محمد لليهود: سَيُغلَبُ المُشركون، ويُحشَرون) فليس يجوز في هذا المعنى (¬9) إلَّا الياء؛ لأن المشركين غَيبٌ. وقال غير الفرَّاء (¬10): جعل المخاطبة للفريقين أحسن؛ لجواز وقوع ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 191. (¬2) في (ج): (ومن). (¬3) في (ج): (المشركين واليهود). (¬4) (وإنك قائم): ساقط م: ن (ج). (¬5) هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬6) في (ب): (تنتهوا). (¬7) في (ج): (د): (لهم). (¬8) انظر هذه القراءة، في "المحرر الوجيز" 6/ 300، "البحر المحيط" 4/ 494، ووردت فيه: (تنتهوا). والقراءة المتواترة: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. (¬9) في (ج): (الموضع). (¬10) القائل هو: أبو علي الفارسي في "الحجة" 3/ 19، ونقله المؤلف عنه بتصرف.

(الذين كفروا) عليهما ولأنهما جميعًا مغلوبان: فاليهود غُلِبوا بوضع الجِزْيِ (¬1) عليهم، والمشركون غُلِبوا بالسيف. وقال صاحب النظم (¬2): من قرأ بالتاء، فالأمر واقع على هذه اللفظة بعينها، أي (¬3): قل لهم هذا القول، ومن قرأ بالياء، فالأمر واقع على المعنى دون اللفظ أي قل لهم ما يكون هذا معناه، وإن لم تكن هذه اللفظة بعينها (¬4). قال مقاتل (¬5): لما نزلت هذه الآية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار يوم بدر: "إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم". وقوله تعالى: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} قال مجاهد (¬6): بئس ما مَهَدوا لأنفسهم. وقال الحسن (¬7): بئس القرار. وقيل (¬8): بئس الفراش المُمَهَّدُ لهم. وقال ابن عباس في رواية ¬

_ (¬1) في (ج): (د): (الخزى) وفي "الحجة" الجِزَى، وما أثبته صحيح كذلك؛ لأن الجزي، والجِزى، جمعٌ للجزية وهي: خراج الأرض، وما يؤخذ من أهل الذمة من مال. انظر: "اللسان" 2/ 621 (جزى). (¬2) هو: أبو علي، الحسن بن حييى بن نَصْر الجُرْجاني، وكتابه "نظم القرآن". (¬3) من قوله: (أي ..) إلى (.. هذه اللفظة بعينها) ساقطة من (د). (¬4) وانظر في توجيه القراءة بالتاء والياء: "الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه ص 106، "الكشف" لمكي 1/ 335. (¬5) قوله في "تفسيره" 1/ 256، "تفسير الثعلبي" 3/ 12 أ. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد": 1/ 122، "تفسير الطبري" 3/ 193، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 604. (¬7) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬8) ممن قال بذلك: الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 380.

13

عطاء (¬1): بئس ما مُهِّدَ لكم، وبئس ما مَهَّدتم لأنفسكم. وقال أصحاب المعاني: ليس (¬2) هناك تمهيد، ولكن المعنى: إنها بدلُ المهاد؛ كما أن البشارة بالعذاب بدل البشارة بالنعيم في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3). 13 - قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} قال الفراء (¬4): أراد بالآية البيان (¬5)؛ فلذلك ذَكَّرَ الفِعْلَ كأن ذهب إلى المعنى، وترك اللفظ كقول الشاعر: كَخُرْعُوبَةِ البانَةِ المنفطرْ (¬6) ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه الرواية عن ابن عباس، والذي في "الدر المنثور" 1/ 430 هو قوله: (بئس ما مهدوا لأنفسهم). ونسب إخراجه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولم يذكر الرواي عنه. (¬2) في (ج): (وليس). (¬3) سورة آل عمران: 21، التوبة: 34، والانشقاق: 24. وأصل المَهْد لغة: التوثير، ويقال: (مَهَدْت لنفسي مهدًا) و (مَهَّدت لنفسي) أي: جعلت لها مكانا وطيئًا سهلًا، و (مَهَد لمسه خيرًا)، و (امْتَهده): هيأه وتوطأه. والمِهاد: الفراش، سمي بذلك لوثارته، و (مهدت الفراش مهدًا): بسطته ووطأته، والجمع: (أمهِدة) و (مُهُد)، و (مهْد الصبي): موضعه الذي يُهَيَّأ له لينام فيه، وجمعه: مُهود. انظر: (مهد) في: "الجمهرة" لابن دريد ص 685، "اللسان" 7/ 4286. (¬4) لم أهتد إلى مصدر قوله. ومن قوله: (أراد بالآية ..) إلى (.. في الدنيا لمغرور): ورد في "تفسير الثعلبي" 3/ 13أ، مع اختلاف في بعض عباراته. (¬5) أي قد كان لكم بيان. (¬6) عجز بيت، وصدره كما في "الديوان": بَرَهْرَهَةٌ رُؤدَةٌ رَخصَةٌ وهو لامرئ القيس، في: "ديوانه": ص 69، كما ورد منسوبًا له في "تهذيب =

[ولم يقل المنفطرة] (¬1) لأنه ذهب إلى القضيب. ويجوز أن يكون التذكير للفصل [الواقع] (¬2) بينهما بحرف الصفة؛ كقول الشاعر: إنَّ (¬3) امرءَّاَ غرَّه مِنْكُنَّ واحدةٌ (¬4) ... بعدي وبعدك في الدنيا لَمَغْرُورُ (¬5) ¬

_ = اللغة" 1/ 1014 (خرعبة)، "الصحاح" 1/ 119 (خرعب)، "والمخصص": 10/ 214، 3/ 11، "اللسان" 2/ 1138 (خرعب)،1/ 391 (بون)، 1/ 270 (بره). ويروى كذلك: (.. رَخصَةٌ رُودَةٌ) في "تهذيب اللغة" وورد في "الصحاح": (رأدة) بدلًا من (رُؤدة)، ويروى: (رُودَةٌ). والبرهرهة: الجارية البيضاء، وقيل: التي لها بريق من صفائها، وقيل: الرقيقة الجلد؛ كأن الماء يجري فيها من النعمة، وهي معان متقاربة. والرخصة: الناعمة البَشرة. والرُّؤْدَة، والرَّأدَة، والرَّؤودة: الشابة الحسنة السريعة الشباب مع حسن غذاء. وسُمِّيت بذلك تشبيهًا لها بالغصن الرؤود، وهو الذي نبت من سنته أرطب ما يكون. والخرْعُوبة، والخرْعُوب، والخرعب: الغصن الطري السامق المتثني، وبه شُبِّهت المرأة الرقيقة الحسنة القوام، الكثيرة اللحم. والبانة: واحدة البان، وهو ضرب من الشجر. انظر: "اللسان" 1/ 270 (بره) 3/ 1616 (رخص) 3/ 1532 (رأد) 2/ 1138 (خرعب) 1/ 391 (بون). والشاهد فيه: أنه ذكَّر لفظ (المنفطرْ) مع أن الأصل فيه التأنيث. لأنه صفة للفظ (خرعوبة) المؤنث لفظًا، إلا أنه لما أراد وقصد معنى (الغصن) أو (القضيب) ذكَّر الصفة لتتناسب مع مراده. (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). وهي في "تفسير الثعلبي" كذلك 3/ 13أ. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) و (د). (¬3) (إن): ساقطة من: (ج). (¬4) في (أ): (واحدةً) وبقية النسخ غير مضبوطة بالشكل، والصواب ما أثبت. (¬5) لم أهتد إلى قائله. وهو في "معاني القرآن" للفراء: 2/ 308، "الخصائص" لابن جني 2/ 414، "واللمع" له ص 81، "الأمالي الشجرية" لابن الشجري 2/ 413، "الإنصاف" لأبي البركات الأنباري ص 152، "شرح المفصل" 5/ 93، "اللسان" 6/ 3232 (غرر)، "شرح شذور الذهب" ص 233، "وتخليص الشواهد" لابن =

والخطاب في هذه الآية للمعنيِّينَ بقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وأراد بالآية عَلاَمَةً تدل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {فِي فِئَتَيْنِ} أراد بالفئتين: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم بدر، ومشركي مكة حين خرجوا لقتاله، في قول جميع المفسرين. وقوله تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} الرفع (¬1)، وجْه الكلام، لأن المعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله، فهو رفع على استئناف من الكلام كما أنشدهُ (¬2) الفرَّاء: إذا مُتُّ كانَ الناسُ صِنْفَيْنِ (¬3): شامتٌ ... وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنت أفعل (¬4) ¬

_ = هشام 481، "المقاصد النحوية" للعيني 2/ 476، "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك" شرح الأشموني 2/ 52، "همع الهوامع" 7/ 66، "الدرر اللوامع على همع الهوامع" للشنقيطي 2/ 225. والشاهد فيه قوله: (غرَّه منكن واحدةٌ) حيث لم يؤنث الفعل (غرَّ) مع أن إسناده إلى اسم ظاهر حقيقي التأنيث، وهو (واحدة) نظرًا للفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول، وهو الضمير المتصل، وبالجار والمجرور، وهو (منكن). (¬1) من قوله: (الرفع ..) إلى (.. والنصب جائز): نقله عن "معاني القرآن" للفراء: 1/ 192، 193 بتصرف. (¬2) في (د): (أنشد). (¬3) في (ج): (صنفان). وفي "معاني القرآن" نصفين. (¬4) البيت للعُجَيْر بن عبد الله السَّلُولي. وقد ورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" 1/ 70، "والنوادر" لأبي زيد 156، "والأزهية في علم الحروف" للهروي 199، "الإفصاح" للفارقي 281، "والبسيط في شرح جمل الزجّاجي" لابن أبي الربيع السبتي 2/ 760، "المقاصد النحوية" للعيني 2/ 85، "خزانة الأدب" 9/ 72، "الدرر اللوامع" 1/ 46. وورد غير منسوب في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 10، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص 40، "أسرار العربية" لأبي البركات الأنباري=

ابتدأ الكلام بعد الصنفين، ولو كُسِرت على البدل من (¬1) {فِئَتَيْنِ} جاز؛ كما قال كُثَيِّر (¬2): وكنت كذي رِجلين: رجلٍ صحيحة ... ورِجْلٍ رَمى فيها الزمانُ فَشَلَّت (¬3) ¬

_ = ص 136، "شرح المفصل" 1/ 77، 3/ 116، 7/ 100، "منهج السالك" للأشموني 1/ 239، "همع الهوامع" 1/ 235. وقد انتهت قافية البيت في أكثر المصادر بكلمة (أصنعُ) بدلا من (أفعلُ) وقد جاءت رواياته مختلفة في بعض كلماتها، فورد (نصفين) و (نصفان) و (وصنفان) بدلًا من (صنفين) وورد (.. ومثنٍ بنِيرَيْ بعض)، و (النِيران): العَلَمان في الثوب. انظر: "الخزانة" 9/ 73. والشاهد فيه، قوله وفق رواية المؤلف: (شامتُ وآخر) بالرفع؛ ناويًا ابتداء الكلام بعد (صنفين)؛ ليفَسِّر؛ وأراد: بعضٌ شامتٌ، وآخر مثنٍ. وعلى الرواية الثانية: (.. كان الناس صنفان: شامت ..)، الشاهد فيه: (صنفان: شامت ..) وأراد: كان الشأن والأمر: الناس صنفان. (¬1) (من): ساقطة من: (د). (¬2) هو: أبو صخر، كُثَيِّر بن عبد الرحمن بن أبي جمعة. من خزاعة، كان رافضيًّا مُغاليًا، عَدَّه ابنُ سلام من الطبقة الثانية من الشعراء الإسلاميين. عاش في العصر الأموي. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 534، "الشعر والشعراء" ص 334، "وفيات الأعيان" 1/ 547. (¬3) البيت في: (ديوانه): 99، كما ورد منسوبًا له في كتاب "الجمل في النحو" للخليل ص207، "كتاب سيبويه" 1/ 433، "مجاز القرآن" 1/ 87، "الأمالي" للقالي 2/ 108، "أمالي المرتضى" للشريف المرتضى 1/ 46، "العمدة" لابن رشيق 2/ 1048، "والإيضاح" للفارقي 232، 282، و"نتاج الفكر" للسهيلي 315، "المقاصد النحوية" 4/ 204، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 1/ 398، "شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 814، .. كما ورد غير منسوب في "المقتضب" 4/ 290، "المحلى" (وجوه النصب)، لأبي بكر بن شقير 163 و"إيضاح الوقف =

[يُنشَدُ البيتُ على وجهين (¬1). ومما فُسِّر به الأول، فتبعه في الإعراب، ما أنشده] (¬2) الفرَّاء: حتى إذا ما استقلَّ النجمُ (¬3) في غَلَسٍ ... وغُودر البقْلُ (¬4) مَلْويٌّ ومحصودُ (¬5) ¬

_ = والابتداء" لابن الأنباري 2/ 570، و"المخصص" ص 58، و"ارتشاف الضرب من لغة العرب" لأبي حيان 2/ 621، و"المغني" لابن هشام 2/ 143. ومعنى البيت: أنه لما لم تثبت معشوقته عَزَّة على العهد، وثبت هو على عهدها؛ صار كذي رِجلين: رجلٍ صحيحة، ويعني بها: ثباته على عهدها، ورِجل مريضة، ويعني بها: خيانتها للعهد. ومعنى (شَلَّت): أصابها الشلل، وأصل الفعل: (شَلِلَت، تَشَلُّ، شَلَلًا)، ويقال: (شَلت يدُه)، و (أشلها الله). انظر: "الخزانة" 5/ 212. والشاهد فيه قوله: (رِجْلٍ ..) كُسرت على البدل من (رِجلين) وهو ما يسمى: بدل المفضَّل من المُجْمل، ويجوز الخفض على النعت. (¬1) أي: في (رِجْل) الوجه الأول: الخفض، كما سبق بيانه. والوجه الثاني: الرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: هما: رِجلٌ صحيحةٌ، ورجلٌ أخرى ... ، أو: إحداهما رِجلٌ .. انظر: "الخزانة" 5/ 211. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬3) في (ج): (استقل النجمَ). (¬4) في (ج): (النفل). (¬5) البيت لذي الرمة، وهو في: "ديوانه": 1366، "والسمط" 1/ 354. وأورده الفرَّاء في "معاني القرآن" 2/ 410 برواية أخرى: حتى إذا ما أضاء الصبح في غَلَسٍ وكذا نقله عن الفرَّاء بهذه الرواية النحاسُ في "إعراب القرآن" 2/ 801 وروايته في "الديوان" (.. وأحْصَدَ البقلُ أوْ مُلوٍ ومحصودُ). ومعنى (استقل): ارتفع، و (النجم) أراد به هنا الثريا. و (الغَلَس): ظلمة آخر الليل. وقوله (ملويٌّ)؛ يقال: (ألوَى النبتُ إلواءً): إذا جف. وقوله في رواية الديوان: (وأحْصَدَ البقلُ): أي: حان أن يحصد. انظر: "ديوانه" بشرح الباهلي: 1367، "القاموس" 1049 (قلل)، 561 (غلس).

ففسر، فقال: بعض البقل كذا، وبعضه كذا، والنَّصْب جائز (¬1). وقوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} الرؤية (¬2) ههنا متعدية إلى مفعول واحد، يدلك على ذلك تقييده بـ {رَأْيَ الْعَيْنِ}. وإذا كان كذلك كان انتصاب {مِثْلَيْهِمْ} على الحال (¬3)، لا على أنه مفعول ثانٍ كما تقول: (رأيت زيدًا راكبًا). وقوله (مثليهم): المِثْل: يجوز إفراده في موضع التثنية والجمع؛ كقول الشاعر: وساقِيَيْنِ مثلِ زيدٍ وجُعَلْ (¬4) ¬

_ (¬1) أي على الحال؛ سواء كان يقصد جواز النصب من الناحية الإعرابية في قوله: {فِئَةٌ} أي: التقتا مختلفتَيْن، أو يقصد جواز النصب في قوله: (ملوي ومحصود) في البيت، فيكون المعنى: حال كونه ملويًا ومحصودًا. (¬2) من قوله: (الرؤية ..) إلى نهاية قول الله تعالى: (ثم لا يكونوا أمثالكم) نقله عن "الحجة" للفارسي 3/ 9 - 20 بتصرف. (¬3) انظر: "المشكل" لمكي 1/ 150، "البيان" للأنباري 1/ 193. (¬4) صدر بيت من الرجز، وتمامه: سَقْبانِ ممشوقان مكنوزا العَضَلْ ولم أقف على قائله، وقد ورد غير منسوب في "كتاب سيبويه" 2/ 17، والفرق بين الحروف الخمسة، لابن السيد البطليُوسي ص 370، "اللسان" 4/ 2036 (سقب) 7/ 3937 (كنز)، "التاج" 2/ 78 (سقب). وروي بلفظ: (.. صَقْبان) بدلًا من (سقبان). و (السَّقْب): ولد الناقة الذكر ساعة يُولد، وقد سبق بيانه. و (الصَّقْب، والصَّقَب): يُطلق على الطويل الممتلئ من كل شيء، ومنه الغصن الريَّان الغليظ الطويل، و (صَقْب الناقة): ولدها، وعمود يُعمد به البيت، و (رجل صقْب): ممتلئ الجسم ناعمه. انظر: "كتاب العين" 5/ 68، "الفرق بين الحروف الخمسة" ص270، "اللسان" 4/ 2469 (صقب)، و (الممشوق): الذي فيه طول مع خفة لحم. و (مكنوزًا العضل): مجتمعًا، وممتلئًا العَضَل باللحم. انظر: "اللسان" 7/ 4211 (مشق)، 7/ 3937 (كنز).

وقال الله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (¬1) [النساء: 140] ولم يقل: أمثالهم. وقد جمع في قوله {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]. وقوله تعالى: {رَأْيَ الْعَيْنِ}. يقال: (رَأَيْتُه (¬2) رَأيًا)، و (رُؤْية)، و (رأيته في المنام رُؤيا حَسَنَةً) غَيْر مُجْراةٍ (¬3). فالرؤيا تختص بالمنام، وهو مصدرٌ لـ (رأيت) (¬4)، ويقول: (هو منى رأْيَ العَيْنِ) أي: حيث يقع عليه بصري. فقوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ} يجوز (¬5) أن يَنْتَصِبَ عدى المصدر (¬6)، ويجوز أن يكون ظرفًا للمكان (¬7)، كما تقول: (تروْنهم أَمامَكم). ومثله: (هو مِنِّى مَزْجَرَ الكَلْبِ) (¬8)، ¬

_ = والشاهد في البيت: إفراد (مثل) وهي في موضع التثنية. (¬1) فأفرِدَت (مثل) في الآية، وهي في موضع الجمع. (¬2) من قوله: (رأيته ..) إلى (.. مجراة): نقله عن "تفسير الطبري" 3/ 198 مع التصرف. (¬3) في (ج): (محزاة) , (د): (مجزاة). ومعنى: (غير مُحجْراة): أي أن كلمة (رُؤْيا)، غير مصروفة، والإجراء: المنع من الصرف. وهو من اصطلاحات الكوفيين. يقولون: (ما يجرى وما لا يجرى)، و (الجاري وغير الجاري). قال ابن حجر: (وهذا اصطلاح قديم، يقولون للاسم المصروف: مُجْرى). "فتح الباري" 8/ 684. وقد وردت هذه اللفظة كثيرًا عند الفرَّاء. انظر: "معاني القرآن" 3/ 150، 214، 218، "والحروف" لأبي الحسين المزني 59، "النحو وكتب التفسير" 1/ 186، "دراسة في النحو الكوفي" ص 233. (¬4) في (د): (مصدرًا رأيت). (¬5) في (ج): (ويجوز). (¬6) والنصب هنا على المصدر: إمَّا المصدر التوكيدي، أو المصدر التشبيهي أي: رأيا مثلَ رأي العين أي: يشبه رأي العين. (¬7) أي: يجوز نصبه لكونه ظرف مكانٍ. (¬8) انظر هذا المَثَل في "كتاب سيبويه" 1/ 413، 416، "الأصول" لابن السراج 1/ 199، "المسائل الحلبيات" للفارسي 59، "اللسان" 3/ 1813 (زجر). والمَزْجَر: اسمٌ لمكان الزَجْر. والزَّجْر: المنع والنهي والانتهار. ومعنى هذا المثل: أنه مني في القرب بتلك المنزلة. انظر: (زجر) في "اللسان" 3/ 1813، "المعجم الوسيط" 1/ 390.

و (مَنَاطَ العَيُّوقِ) (¬1). وفي قوله: {يَرَوْنَهُمْ} قراءتان: التَّاءُ (¬2)، والياء (¬3). فمن قرأ بالتَّاء؛ فلأن ما قبله خطاب لليهود؛ والمعنى: تَرَوْن أيها اليهود المسلمينَ مِثْلي ما كانوا، أي: مِثْلي الفئة الكافرة؛ وذلك أن الله تعالى كَثَّر المسلمين في أعينهم يوم بَدْر. فذلك الآية، والأُعجوبة، وهو أنهم رَأَوا القليلَ كثيرًا. ويجوز أن تكون الكناية عن الفئة الكافرة، وهم المشركون، والمعنى: تَرَوْنَ المشركين ضِعفي المؤمنين. ¬

_ (¬1) المَناط: موضع التعليق. والعيُّوق: نجم أحمرُ مضيءٌ في طرف المجرَّة الأيمن، يتلو الثريا، لا يتقدمها، ويطلع قبل الجوزاء. ومعنى المَثَل: هو مني شديد البعد، كبعد مكان هذا النجم. انظر: "القاموس" ص 913 (عوق)، "المعجم الوسيط" 2/ 643 (عاق) 2/ 972 (ناط). وقد ورد المَثَل في "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 201، "المستقصى في الأمثال" للزمخشري 1/ 24، "الدرة الفاخرة" لحمزة الأصفهاني 1/ 75، 76. وورد بلفظ: (أبعد من العيوق) في "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 204، 238. وورد: (وهو مني مناط الثريا) في "الأصول" لابن السراج 1/ 199. ولم يرتض السمينُ الحلبي رأيَ الواحدي بالنصب على الظرفية، فقال بعد أن نقل قول الواحدي السابق: (وهذا إخراجٌ للفظ عن موضوعه مع عدم المساعد معنًى وصناعةً). انظر: "الدر المصون" 3/ 55. (¬2) قوله: (التاء والياء، فمن قرأ بالتاء) ساقط من: (ج). (¬3) قرأ نافع بالتاء، وقرأ باقي القرَّاء السبعة بالياء. انظر: "السبعة" ص 201 - 202، "الحجة" للفارسي 3/ 17.

ونذكر بعد هذا كيف رأَوْهم مِثْلَيهم، وهم كانوا ثلاثةَ أمثالهم؟! (¬1). ومن قرأ بالياء؛ فَلِلْمُغايَبَةِ (¬2) التي جاءت بعد الخطاب، وهو قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. فقوله: {يَرَوْنَهُمْ} يعود إلى الإخبار عن إحدى الفِئتين: يجوز أن يكون خَبرًا عن الفئة المسلمة، ¬

_ (¬1) وهناك وجهٌ إذا كان الخطاب لليهود، إضافة إلى ما ذكره المؤلف، وهو: ترون أيها اليهودُ الكفارَ مثلي عدد الكفار، أي أن الله كثَّر الكفار في أعين اليهود، ومع ذلك كان النصر عليهم للمسلمين، وفيه دلالة على تأييد الله للمؤمنين. ويرى السمينُ الحلبي، أن كون الخطاب هنا لليهود استتباعًا لخطابهم في قوله تعالى: {لَكُمْ} يرى أن (تكلفٌ لا حاجة إليه). ويعلل ذلك بقوله: (لأن اليهود لم يكونوا حاضري الواقعة حتى يُخاطَبوا برؤيتهم لهم ذلك). "الدر المصون" 3/ ص 50 - 51. كما أن هناك وجوهًا أخرى وُجِّهَتْ بها القراءة بالتاء، وهي: أن الخطاب في قوله: {لَكُمْ} و {تَرَوْنَهُمْ} للمؤمنين، أي: كان لكم أيها المؤمنون آية ... حيث ترون الكفارَ مِثْلَيْ ما أنتم عليه في العدد، واستُبعِدَ هذا بأنه خلاف ما ذكره الله في آية 44 من سورة الأنفال {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حيث قلل الله المشركين في أعين المؤمنين. أن الخطاب في قوله: {تَرَوْنَهُمْ} للمؤمنين، أي: ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي عدد أنفسكم. و {مِثْلَيْهِمْ} هنا انتقالٌ من الخطاب إلى الغيبة، والمعنى: ترونهم مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله. أو ترون أيها المسلمون المسلمين، أي: ترون أنفسكم مثلي عددكم. أن الخطاب في {لَكُمْ} و {تَرَونَهُمْ} للكفار، أي: قد كان لكم أيها المشركون آية .. حيث ترون المؤمنين مثلي أنفسهم في العدد، ورُدَّ هذا بما رُدَّ به الوجه الأول. ترون أيها المشركون المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة و {مِثْلَيْهِمْ} هنا انتقال من الخطاب إلى الغيبة، وحول هذه الوجوه المذكورة نقاشات، تراجع في الكشف لحمكي 1/ 336. "الحجة" للفارسي 3/ 20، "حجة القراءات" ص 154، "الدر المصون" 3/ 48 - 51. (¬2) في (ج)، (د): (فللمعاينة).

ويجوز (¬1) أن يكون خبرًا عن الفئة الكافرة (¬2). فإن جعلته خبرًا عن الفئة المُسْلمة (¬3)، فالمعنى: يرى المسلمونَ المشركينَ مِثْلَيهم. فإن قيل: المسلمون يوم بَدر كانوا ثلاثمائة وثلاثةَ عشر رجلًا، والكفار كانوا تسعمائة وخمسين رجلًا (¬4)، فكيف رأى المسلمون (¬5) المشركين مِثْليهم، وهم كانوا ثلاثة أمثالهم؟! فزعم الفرَّاءُ (¬6): أن المعنى: يرونهم ثلاثة أمثالهم. قال: لأنك إذا قلت: (عندي ألف، وأحتاج إلى مِثليه). فأنت تحتاج إلى ثلاثة (¬7) آلاف (¬8)؛ لأنك لمَّا نَوَيْتَ أن يكون الألف الذي عندكَ داخلًا في المِثْل، كان (المِثْل): اثنين، و (المثلان): ثلاثة. وعلى هذا (¬9) الآية كانت في أن المسلمينَ رَأَوْا المشركين على ما هم عليه مِنْ وُفُورِ العَدَدِ، ومع ذلك كانت قلوبهم مملوءةً جُرْأةً عليهم، واحتقارًا لهم، وشهوةً لملابستهم (¬10). ¬

_ (¬1) من قوله: (ويجوز) إلى (.. عن الفئة المسلمة) ساقط من: (د). (¬2) في (ج): (المسلمة). (¬3) فإن جعلته خبرًا عن الفئة المسلمة) ساقط من: (ج). (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (3957) كتاب المغازي، باب: عدة أصحاب بدر، "صحيح مسلم" برقم (1763): كتاب الجهاد. باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، "زاد المعاد" 3/ 175، "حدائق الأنوار" لابن الديبع 2/ 498 - 499، "السيرة النبوية" لابن كثير 2/ 404، 422. (¬5) في (ج): (المسلمين). (¬6) في "معاني القرآن" 1/ 194. نقله عنه بتصرف، واختصار. (¬7) من قوله: (ثلاثة ..) إلى (.. في المثل، كان) ساقط من: (ج). (¬8) في (د): (ألف). (¬9) في (د): (هذه). (¬10) الملابسة: المخالطة. وهنا بمعنى: الاشتباك مع الكفار في ساحة المعركة. انظر: "اللسان" 7/ 3987 (لبس).

قال الزجاج (¬1): وهذا غلط؛ لأنَّا إنما نعقل (مِثْل الشيء): مساويًا له، و (مثليه): ما يساويه مَرَّتَيْن. والذي قاله الفرَّاءُ يَبْطُل في معنى الدلالة على الآية المعجزة؛ لأن المسلمين إذا رأوهم على هيئتهم، فليس في هذا آيةً، وإنما المعنى في هذا: أن الله عز وجل أرى المسلمين أنَّ المشركين إنما هم (¬2) ستمائة وكَسْر، وذلك (¬3)، ان الله عز وجل كان قد أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار (¬4)، فأراهم المشركين على قَدْرِ ما أعلمهم أنهم يغلبونهم؛ ليُقَوِّي قلوبَهم. والدليل على صحة هذا المعنى: قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]، فرأى كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخرَ أقلَّ مِمّا كانوا؛ لِيَطْمَعَ كلُّ واحد منهما في الآخر، فيتقدم ويُلابِسَ. وهذا (¬5) هو الذي فيه الآية المعجزة، وهو رؤية الشيء بخلاف صورته. انتهى كلامه (¬6). هذا إذا جعلنا قوله: {يَرَوْنَهُمْ} إخبارًا عن المؤمنين، فإنْ جعلته ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 381 نقله عنه بتصرف واختصار. (¬2) في (ج): (سماهم). (¬3) قوله (وكسر، وذلك): بياض في: (د). (¬4) وذلك في قول الله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} آية: 66 من سورة الأنفال. (¬5) في (ب): (هذا). (¬6) ومما يدفع قول الفراء الآنف: أن (المِثل) في اللغة: شِبْه الشيء، والمعادل له في المثال والقَدْر والمعنى. كتاب "العين": 8/ 228، وذيل كتاب "الأضداد" للصَّغاني: 245.

إخبارًا عن الفئة الكافرة (¬1)، فيكون المعنى: يُرِي الفئةَ الكافرةَ الفئةَ المقاتلةَ في سبيل الله مِثْلَيهم أي: مِثْلي ما كانوا، أو (¬2) مِثْلي أنفسهم، على ما ذكرنا مِنْ تكثير الله إيَّاهم. فإن قيل: كيف يصح تكثير الله المسلمينَ في أعينِ الكافرين، وقد قال: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]. فالجواب: ما قاله أبو عبيد (¬3)، وهو إنَّ التقليل كان في حالة أخرى، فالله (¬4) تعالى كثَّر المسلمين في أعين الكافرين، كما قَلَّل الكافرين في أعينهم، ثم في حالة أخرى، قَلَّل المسلمين في أعينهم؛ لِيَطْمَعوا (¬5) فيهم، فإذا لابسوهم، كانت العاقبةُ للمسلمين عليهم. فَكِلا (¬6) الأمرين فيه دلالة على لُطْف الله عز وجل للمؤمنين (¬7)، وحُسْن مَعُونَتِه إياهم. والقراءة الصحيحة الموافقة للآية التي في الأنفال من غير اختلاف حالين: قراءة العامة، وهي الياء المُعْجَمة، على المعنى الذي ذكره الزجَّاج. على أنَّ الفرَّاء (¬8) قال: يجوز أن يكون التقليل الذي ذُكِر (¬9) في ¬

_ (¬1) من (الكافرة ..) إلى (.. الفئة الكافرة): ساقط من (ج). (¬2) في (أ)، (ب): (و). والتصويب من (ج) و (د). (¬3) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬4) في (د): (والله). (¬5) في (أ): (ليطعموا)، والمثبت من (ب)، (ج)، (د)، وهو الصواب. (¬6) في (د): (فكان). (¬7) (للمؤمنين): ساقطة من (ج) و (د). (¬8) في "معاني القرآن" 1/ 195. (¬9) في (ج): (ذكره).

الأنفال لم يكن من طريق تقليل العَدَد، ولكن معناه: التهوين، كما تقول: (إني لأرى كثيرَكم قليلًا)، أي: قد هُوِّن علي، لا (¬1) أنك ترى الثلاثةَ اثنين (¬2). وإذا كان كذلك صَحَّ تكثيرُ الله المسلمين في أعين الكافرين، على ما ذكرنا. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} نَصْرُ الله تعالى المسلمين على وجهين: نَصْرٌ بالغَلَبَةِ، كنصرهم يوم بدر. ونَصْرٌ بالحُجَّة. ولو هُزِمَ قومٌ مِنَ المؤمنين لجاز أن يقال: هم المنصورون بالحُجَّة، ومحمودِ العاقبة. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} العِبْرَة: الاعتبار (¬3)، وهي: الآية التي يُعْبَر (¬4) بها من منزلة الجهل إلى العلم؛ لأن المعتبر بالشيء، تاركٌ جهلَه، وواصلٌ إلى عِلْمِهِ بما رأى. وأصلُه من: (العُبُور)، وهو: النفوذ من أحد (¬5) الجانبين إلى الآخر. ومنه: (العِبارة) وهو: الكلام الذي يَعْبرُ (¬6) بالمعنى إلى المخاطَب، و (عبارة ¬

_ (¬1) (لا): ساقطة من: (ج). (¬2) وقد دافع ابن الأنباري عن قول الفرَّاء هذا مبينًا أن الأعجوبة لم تكن في العَدَد، وإنما كانت في الجزع الذي أوقعه الله تعالى في قلوب المشركين على كثرتهم، وقلة المسلمين، ولِما قذفه الله من شجاعة في قلوب المسلمين، فهانت بها كثرة عدد المشركين عليهم، فكان احتقار المسلمين للكافرين على وفرة عددهم أعجب من احتقارهم لهم على نقصان عددهم. انظر: "الأضداد" ص 133. (¬3) وفي "الصحاح": (العِبْرَة: الاسم من الاعتبار) 2/ 732 (عبر). (¬4) في (د): (يُعتبر). (¬5) في (د): (إحدى). (¬6) في (أ): (يُعْبَرُ). وفي بقية النسخ غير مضبوطة بالشكل. والصواب ما أثبته ليستقيم المعنى.

14

الرُّؤْيا) من ذلك؛ لأنه تفسير لها، يَعْبُر بها من حال النَوْم إلى حال اليَقَظَةِ بإظهار التأويل (¬1). وقوله تعالى: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أي: لأولي (¬2) العقول؛ كما يقال: (لِفُلانٌ (¬3) بَصَرٌ بهذا الأمر)، أي: على علم ومعرفة. وليس بالأبصار التي يشترك فيها سائرُ الحيوان. 14 - قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}. يقال: مَن الذي زَيَّن للناس ذلك؟ فيقال: اللهُ تعالى زَيَّن للناس؛ بما جعل (¬4) في الطِبَاع من المنازعة إلى هذه الأشياء محنةً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7]. وقال بعضهم (¬5): الشيطان زينها؛ لأن الله تعالى زهَّد فيها؛ بأنْ أعلم وأرى زوالها (¬6)، ولو زهَّد فيها (¬7) حقيقةً؛ لوُجد ذلك في الخَلْقِ كلِّهم، كما وُجِد التزيين؛ فإنَّ حُبَّ هذه الأشياء موجودٌ في طِبَاع البَشَر (¬8). ¬

_ (¬1) وقد أخذت الكلمة من (العِبْر) وهو جانب النهر. (وعبرت النهرَ والطريقَ): إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر. انظر: (عبر) في "التهذيب" 3/ 2305، "مجمل اللغة" 2/ 643، "مفردات ألفاظ القرآن" ص 543، "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي ص 499. (¬2) في (ج): (أولي). (¬3) في (ج): (فلان). (¬4) في (ب): (بحب أجعل). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج 1/ 383 حيث اقتبس منه المؤلف بعض العبارات. (¬6) في (د): (والها). (¬7) (فيها): ساقطة من: (ج). (¬8) وممن قال بهذا القول: الحسن البصري رضي الله عنه وممن قال بالقول الأول:=

والشهوة: تَوَقان النفس إلى الشيء، وقد ذكرناها في سورة الأعراف، عند قوله: {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: 81]. وقوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ}. جَمْعُ (قِنْطار)، وكثر الاختلاف في معنى (القنطار): فروى أبو هريرة (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ¬

_ = عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 607، "تفسير الطبري" 3/ 199، "المحرر الوجيز" 3/ 40، "الدر المنثور" 2/ 1718. وقال الخازن في "تفسيره" 1/ 274: (قال أهل السنة: المُزيِّنُ: هو الله تعالى؛ لأنه تعالى خالق جميع أفعال العباد، ولأن الله تعالى خلق جميع ملاذ الدنيا، وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها) ثم ذكر من الآيات ما يدل على ذلك، ثم قال: (ومما يؤيد ذلك: قراءةُ مجاهد: (زَيَّنَ) بفتح الزاي على تسمية الفاعل. وقال الحسن: المزين: هو الشيطان. وهو قول طائفة من المعتزلة، ويدل على ذلك: أن الله تعالى ... أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة، والمُزَيِّن لذلك هو الشيطان، ولأن الله تعالى ذكر هذه الأشياء في معرض الذم للدنيا، ويدل عليه آخر هذه الآية، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ونقل عن أبي علي الجبَّائي من المعتزلة أن كل ما كان حرامًا، كان المزين له هو الشيطان، وكل ما كان مباحًا كان المزين له هو الله تعالى. والصحيح: ما ذهب إليه أهل السنة، لأن الله تعالى خالق كل شيء، ولا شريك له في ملكه). ولكن الآية هنا تحتمل الأمرين؛ لأن تزيين الله لها، حقيقة، كما سبق إيضاح المؤلف له، وكما ورد في قول الخازن، أما تزيين الشيطان لها فبالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجهها، والحض على تعاطي الشهوات المحضورة فيها، وعلى هذا الوجه يُحمل كلام الحسن رضي الله عنه. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 40، "البحر المحيط" 2/ 396، "تفسير الرازي" 7/ 209، "الإنصاف" فيما تضمنه "الكشاف" من الاعتزال، لابن المنير (مطبوع على هامش "الكشاف" 1/ 416، "روح المعاني" 3/ 99. (¬1) هو: أبو هريرة بن عامر الدوسي. واختلف في اسمه كثيرًا، ولم يُختَلَف في اسم آخر مثله ولا ما يقاربه. فقيل: عمير، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل غير ذلك. وقيل: إن اسم والده: صخر. وقيل: دومة، وقيل غير ذلك. أسلم بين =

"القنطار: اثنا (¬1) عشر ألف أوقية" (¬2). وروى أنس عنه أيضًا: أن القنطار: ألف دينار (¬3). وروى أُبَيُّ بن كعب، أنه قال: القنطار (¬4): ألف ومائتا أوقية (¬5) ¬

_ = الحديبية وخيبر، وهاجر وسكن الصُّفَّة، وكان من ألزم الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحفظهم للحديث عنه، وأكثرهم رواية. توفي سنة (57 هـ). انظر: "أسد الغابة" 6/ 318، "الإصابة" 4/ 202. (¬1) في (ب)، (ج)، (د): (اثني). (¬2) الحديث أخرجه: أحمد في "المسند" 2/ 363، وابن ماجه (3660) "كتاب الأدب" باب: (بر الوالدين)، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" مما نقله محقق "السنن": (إسناده صحيح، رجاله ثقات) ولكن ضعفه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" 2/ 494 برقم (2953)، وأخرجه الدارمي في "السنن" 4/ 2177 (3507) باب: (كم يكون القنطار). وأوقفه على أبي هريرة، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" انظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 6/ 311 برقم: 2573، وقال محققه، شعيب الأرنؤوط: (إسناده حسن)، وأخرجه البيهقي في "السنن" 7/ 233 وأورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 15 ب، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 377، ونسب إخراجه لوكيع في "تفسيره" وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 18، والمتقي الهندي، في "كنز العمال" 2/ 5 برقم (2892). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 608، وقال محقق التفسير: إسناده ضعيف، ولم يصح رفعه. وأورده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 377 ونسب إخراجه للطبراني، وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" 3/ 15 ب، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 18، ونسب إخراجه كذلك لابن مردويه. وقد ورد عن أنس رضي الله عنه بلفظ آخر، يرفعه: (القنطار: ألفا أوقية). رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 178 كتاب النكاح. وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبيُّ، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 18، والمتقي الهندي في "كنز العمال" 2/ 5 برقم (2891). (¬4) في (ج): (إن القنطار). (¬5) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 3/ 200، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 377،=

وهو قول ابن عمر (¬1)، ومعاذ بن جبل (¬2) وابن عبَّاس في (¬3) رواية عَطيَّة (¬4). وقال في رواية الوالبي: القنطار: اثنا (¬5) عشر ألفَ درهم، أو ألفُ دينار، دِيَةُ أحدِكم (¬6). ¬

_ = وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 18، والمتقي الهندي في "كنز العمال" 2/ 5 برقم (2893)، وقال عنه ابن كثير: (وهذا حديث منكر أيضًا، والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة). (¬1) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" 3/ 200، "تفسير الثعلبي" 13/ 15 ب، "المحرر الوجيز" 3/ 41، "زاد المسير" 1/ 359. وورد عنه: أن القنطار سبعون ألفًا. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 201، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 609. (¬2) الأثر عنه، في "سنن الدارمي" 4/ 2178 (3512) كتاب: فضائل القرآن، باب: (كم يكون القنطار)، "تفسير الطبري" 3/ 200، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 608، "غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 260، "تفسير الثعلبي" 3/ 15 ب، "سنن البيهقي": 7/ 233، كتاب الصداق، باب: (لا وقت في الصداق)، "تفسير البغوي" 2/ 15، "المحرر الوجيز" 3/ 41، "زاد المسير" 1/ 359، "الدر المنثور" 2/ 18، ونسب إخراجه لعبد بن حميد. ومعاذ بن جبل، هو: أبو عبد الرحمن، الأنصاري الخزرجي. من كبار الصحابة، شهد العقبة والمشاهد كلها، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا على منطقة (الجَنَدِ) من اليَمَن، وهو مُقَدَّمٌ في علم الحلال والحرام، وممن جمع القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، توفي بالطاعون سنة (17هـ). انظر: "الاستيعاب" 3/ 459، "الإصابة" 3/ 426. (¬3) في (ج): (وفي). (¬4) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" 3/ 20، "تفسير الثعلبي" 3/ 15 ب، "سنن البيهقي" 7/ 233، "الدر المنثور" 2/ 18. (¬5) في (ج): (د): (اثني). (¬6) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" 3/ 200، "تفسير الثعلبي" 3/ 16 أ، "سنن البيهقي" 7/ 233، "الدر المنثور" 2/ 18.

وبه قال: الحسن (¬1) [وقتادة] (¬2). وقال الكلبي (¬3): القنطار بلسان الروم: مِلْءُ (¬4) مَسْكِ ثَوْر (¬5)، من ذهب أو فضة. وهو قول أبي نَضْرة (¬6). ¬

_ (¬1) الأثر عنه، في "سنن الدرامي" 4/ 2174 (3501) كتاب: فضائل القرآن، باب: من قرأ من مائة آية إلى الألف، رواه مرة مرسلًا عنه، ومرة موقوفًا عليه. وورد في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 608، "تفسير الثعلبي" 3/ 16 أ، "تفسير البغوي" 2/ 15، "المحرر الوجيز" 3/ 41، "زاد المسير" 1/ 359. (¬2) ما بين المعقوفين: زيادة من: د. ولم أهتد إلى مصدر الأثر عنه، وإنما الوارد عنه في المعنى المذكور: روايته عن الحسن، وهي في "تفسير الطبري" 3/ 200. أما الوارد عنه من قوله هو: أن المثقال: ثمانون ألفًا من الورق، وهي الفضة، أو مائة رطل من ذهب. وقد ورد هذا الأثر في "تفسير الطبري" 3/ 199، "الزاهر" 1/ 432، "تفسير الثعلبي" 3/ 16 أ، "زاد المسير" 1/ 359، "المحرر الوجيز" 3/ 42، "الدر المنثور" 2/ 18، ونسب روايته لعبد بن حميد. (¬3) أورد قوله: أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 89، وأورده نقلًا عن النقَّاش ابن عطية، في "المحرر الوجيز" 3/ 42، والقرطبي في "تفسيره" 4/ 31، وفي "الزاهر" 1/ 432، ينقل عن الكلبي، أن القنطار: ألف مثقال، ذهب أو فضة، وكذا في "زاد المسير" 1/ 359. (¬4) في (ب): (ملاء)، وفي (ج): (ملو). (¬5) المَسْكُ: هو الجلد. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 4/ 331. (¬6) في (ج) في (د) أبي (نصرة). الأثر عنه، في "سنن الدارمي" 4/ 2177 (3508) كتاب: فضائل القرآن، باب: كم يكون القنطار، "تفسير الطبري" 3/ 201، "الزاهر" 1/ 432، "تفسير الثعلبي" 3/ 16 أ، "المحرر الوجيز" 3/ 42، "ابن كثير" 1/ 377. ولكن أبو منصور الثعلبي، في "فقه اللغة" 1/ 199، ذكر أن مقداره في لغة الروم: اثنا عشر ألف أوقية. وأبو نضرة هو: المنذر بن ملك بن قُطَعة العبدي، العَوَقي، البصري. عده ابن حجر من الطبقة الوسطى من التابعين، ثقة، توفي سنة (108هـ) أو (109هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 129، "تقريب التهذيب" (6890)، "تهذيب التهذيب" 4/ 154.

ويقال: إنَّه في التوراة كذا. وبلسان أفريقية، وأندلس: ثمانية ألف (¬1) مثقال من ذهب أو فضة (¬2). قال الزجَّاج (¬3): والذي يخرج من اللغة أن (القنطار) مأخوذ من عَقْدِ الشيء وإحكامه، و (القَنْطَرة) من ذلك؛ لتوثيقها بعَقْدِ الطَّاق (¬4). وكأن القنطار (¬5): هي الجملة التي تكُونُ عقْدَةً وثيقةً منه (¬6). وهذا قول الربيع (¬7)، وابن كيسان (¬8)، وأبي عبيدة (¬9)؛ فإنهم لم يحدُّوا القنطار، فقالوا: إنه المال (¬10) الكثير. ¬

_ (¬1) هكذا جاءت كتابتها في جميع النسخ. وهي كذلك في "الزاهر" 1/ 432، "تفسير الثعلبي" 3/ 16 أ، "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي: 132. (¬2) ممن قال بهذا القول أبو حمزة الثُّمالي. انظر المصادر السابقة، "تفسير القرطبي" 4/ 31. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 383، نقله عنه بتضرف. (¬4) الطَّاق: ما عُطِف من الأبنية، والجمع: طاقات، أو عقد البناء حيث كان، والجمع: أطواق وطيقان. انظر: "اللسان" 5/ 2725 (طوق). (¬5) (القنطار): ساقطة من: (د). (¬6) يعني: أن القنطار: الجملة من المال. (¬7) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" 3/ 200، "تفسير الثعلبي" 3/ 15 أ، "زاد المسير" 1/ 359، "الدر المنثور" 2/ 18. (¬8) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 15 أ. (¬9) في "مجاز القرآن" 1/ 88. (¬10) في (ج): (مال).

وحكى أبو عبيدة عن العرب: أنهم يقولون: هو وزن لا يُحَدُّ (¬1). وقوله تعالى: {الْمُقَنْطَرَة} قال أهل اللغة: (¬2) هو (مُفَعْلَلَة)، من: (القنطار)؛ كما قالوا: (إبلٌ مُؤبَّلةٌ)؛ أي: مجموعة، و (ألفٌ مؤلَّفٌ). فمعنى: {الْمُقَنْطَرَة}: أنها جُمعت حتى صارت قناطير؛ كما يقال: (دراهم مُدَرْهَمَة)؛ أي: مجعولة كذلك. وقال يَمَان (¬3): قَنطر، أي: كَنَزَ (¬4). وقال أبو العباس (¬5): اختلف الناس في القنطار، والمعمول عليه عند ¬

_ (¬1) وقد رجح الطبري هذا في "تفسيره" 3/ 200. (¬2) من قوله: (قال ..) إلى (.. القنطار): ساقط من: (د). والقائل هو أبو عبيدة، كما في "تفسير الثعلبي" 3/ 16ب. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. ويمان، أكثر من واحد، إلا أن المؤلف قد صَرَّح باسمه في أكثر من موضع من تفسيره، وسماه: يَمَان بن رَبَاب. انظر: "تفسير البسيط" تحقيق: د. الفوزان 91، 402، 903، 1084. وقد ورد في بعض النسخ (رياب)، وأثبَتَها المحققُ: (رباب)، وقال بأنه لم يقف على حاله، سوى ما ذكره عنه البغدادي في "هداية العارفين" 2/ 548، وقول البغدادي فيه: هو اليمان بن رباب البصري، من رؤساء الخوارج ... له "إثبات إمامة أبي بكر الصديق"، "أحكام المؤمنين"، "الرد على المعتزلة في القدر"، "كتاب التوحيد"، "كتاب المخلوق"، "كتاب المقالات". "التفسير البسيط" 402. وقد وقفت عليه كذلك في "المغني في الضعفاء" للذهبي: 2/ 760، وسماه: (يَمَان بن رِئَاب)، وقال عنه: (خراساني. قال الدارقطني: ضعيفٌ، من الخوارج). وذكره ابن حجر في "لسان الميزان" 7/ 521، وسماه: (يَمَان بن رَبَاب)، وقال عنه مثل القول السابق. (¬4) في (د): (كثر). (¬5) هو أحمد بن يحيى (ثعلب). وقد ورد قوله بأطول مما هنا في "اللسان" 6/ 3752 (قنطر)، وقد اختصره الواحدي قليلًا.

العرب: أنه أربعة آلاف (¬1) دينار [قال: وقوله {الْمُقَنْطَرَة}، يقال: (قد قنطر فلان): إذا مَلَكَ أربعةَ آلاف دينار] (¬2)، فإذا قالوا: مقنطرة؛ فمعناها: ثلاثة أدوار؛ دَوْرٌ، ودور، ودور. فمحصولها: اثنا عَشَرَ ألف دينار. وقوله تعالى: {مِنَ اَلذَّهَبِ} الذهب: التِّبْر. والقِطْعَةُ ذَهَبَة (¬3). {وَالْفِضَّةِ} الفَضُّ في اللغة معناه: التفريق، والكسر (¬4). ومنه: (لا يَفْضُض (¬5) الله فاكَ) (¬6)، فالفضة سُمِّيت؛ لأن من شأنها أن تُفَرَّق بضرب الدراهم. ¬

_ (¬1) في (ج): (د): (الألف). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (د). (¬3) في "الصحاح": (التِّبْر: ما كان من الذهب غير مضروب .. ولا يقال: (تِبْرٌ) إلَّا للذهب، وبعضهم بقوله للفظة، أيضًا) ص 600 (تبر). (¬4) انظر: "كتاب العين" 7/ 13، "تهذيب اللغة" 3/ 2799. (¬5) في (أ): يَفْضَضِ، بفتح الضاد الأولى. ولم تضبط بالشكل في بقية النسخ. (¬6) فاك: ساقطة من: (ج). وهذه العبارة، دعاء؛ بمعنى: لا يسقط الله أسنانَك، وتقديره: لا يكسر الله أسنان فيك، فحذف المضاف. ويقال: لا يُفضِ الله ... ، من: (أفضيت)، والإفضاء: سقوط الثنايا من تحت ومن فوق. انظر كتاب "العين" 7/ 13، "النهاية في غريب الحديث" 2/ 453، "تهذيب اللغة" 3/ 2799، "الفائق" للزمخشري: 2/ 382. وقد رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يفضض الله فاك" للعباس؛ لَمَّا مدحه شعرًا، وللنابغة الجعدي؛ لما أنشده بعض شعره انظر المصادر السابقة، "غريب الحديث" للخطابي: 1/ 189، "الاستيعاب" لابن عبد البَر: 2/ 358، "غريب الحديث" لابن الجوزي: 2/ 197، "أسد الغابة" لابن الأثير: 4/ 164، "الإصابة" لابن حجر: 2/ 271، وعزاه للبزَّار، والحسن بن سفيان، في مسنديهما، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان" والشيرازي في "الألقاب" "المؤتلف =

وقوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} الخيل: جَمْعٌ لا واحد له من لفظه، كـ (القَوْلِ)، و (النساءِ)، و (الرَّهْطِ) (¬1). سُمِّيت الأفراسُ (خيلًا)؛ لاختيالها في مِشْيتها بطول أذنابها؛ ألا ترى إلى قول امرئ القيس: لها ذَنَبٌ مِثْلُ ذيلِ العروسِ ... تَسُدُّ (¬2) به فَرْجَها من دُبُرْ (¬3). والاختيال: مأخوذ من (التَّخَيُّل)، والتخيُّل: التَّشَبُّه بالشيء (¬4)، ومنه يقال: (أخال عليه الأمرُ): إذا اشتبه، فالمختال (¬5)، يَتَخيَّل في صورة من هو أعظم منه كِبْرًا، والخيال: صورة الشيء. ¬

_ = والمختلف" للدارقطني، "الصحابة" لابن السكن، وغيرهم. وبَيَّن ابنُ حجر طرق روايتها عن النابغة. وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" 13/ 600 برقم (37541) ونسب إخراجه لابن عساكر، وابن النجار. (¬1) انظر: "جمهرة اللغة" 1056 (خيل)، وكتاب "فقه اللغة" للثعالبي: 252. (¬2) في (د): (تشد). (¬3) البيت، في: ديوانه: 164. وورد منسوبًا له في "أدب الكاتب" 155، وكتاب "المعاني الكبير" 1/ 149، "شرح أدب الكاتب" للجواليقي: 151، "الاقتضاب" للبطليوسي:3/ 111، "خزانة الأدب" 9/ 176، 177. وجاء في "الاقتضاب" (هذا البيت يروى لامرئ القيس، ويروى لرجل من النمر بن قاسط) 3/ 111. والشاعر هنا يصف فرسه ويذكر محاسن صفاتها، ومنها طول ذنبها ووفرته. وقال ابن قتيبة في "أدب الكاتب" 155: (لم يرد بالفرج هنا الرحم، وإنما أراد ما بين رجليها، تسدُّه بذنبها). (¬4) في "أدب الكاتب" 58، "المجمل" 1/ 309: (أفعل ذلك على ما خيَّلت، أي: على ما شبَّهت)، وفي "اللسان" 4/ 2299: (وتخيل الشيءُ له): تشبَّه. و (وتخيَّل له أنه كذا)، أي: تشبَّه وتخايل). (¬5) في (د): (والمختال).

والأخْيَلُ (¬1): الشِّقِرَّاقُ (¬2)؛ لأنه يَتَخيَّلُ، مرةً أخضر، ومرةً أحمر. واختلفوا في معنى {الْمُسَوَّمَةِ}: فقال ابن عباس في رواية عطية (¬3): هي الراعية؛ يقال: (أَسَمْتُ الماشيةَ)، و (سوَّمتُها): إذا رَعَيتُها، فهي (مُسَامةٌ)، و (مُسَوَّمة) (¬4)، ومنه {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]. وقال في رواية الوالبي (¬5): هي المُعْلَمَةُ. وأصلها من: (السِّيْما)، التي هي: العلامة. ومعنى العلامة ههنا: (الكَيُّ) في قول المؤرِّج (¬6)، والبَلَقُ (¬7) في قول ¬

_ (¬1) في (أ): (الأخيَّل). والمثبت من كتب اللغة. (¬2) في (ج): (السقراق)، في (د) الشفراق. والشِّقِرَّاق: طائر، وهو مشئوم عند العرب، ويقولون: أشأم من أخيَل. ونقل الأزهري عن الليث أنه طائر يكون في منابت النخيل، كقدر الهدهد، مرقَّط بحمرة وخضرة، وبمِاض وسواد. ويقال له: الشِّرقْراق، والشَّقِراق. ونقل صاحب "اللسان" عن ثعلب أنه يقع على دَبَر البعير، وينقُره، فيؤذي ظهره؛ ولهذا تشاءموا منه. انظر كتاب "العين" 4/ 305، "أدب الكاتب" 191، "جمهرة اللغة" 1056، "تهذيب اللغة" 2/ 1905، "اللسان" 4/ 2299 (خيل). (¬3) هذه الرواية، في "تفسير الطبري" 6/ 252، "تفسير الثعلبي" 3/ 16 ب، "زاد المسير" 1/ 360. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 98، "نزهة القلوب" للسجستاني: 419. (¬5) هذه الرواية، في "تفسير الطبري" 3/ 201، "زاد المسير" 1/ 360. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 17 أ، "زاد المسير" 1/ 360. (¬7) البَلَقُ: سواد وبياض، وفي الفرس: أن يرتفع التحجيل وهو البياض في قوائمه إلى أن يتجاوز البطن، ويظهر في جسده دون رأسه وعنقه، ويكون في بياض بلقه استطالة وتَفَرُّق. انظر: "المنتخب من غريب كلام العرب" لكراع النمل: 1/ 312، "القاموس" (869) (بلق).

ابن كَيْسان (¬1)، والشِّيَةُ (¬2)، في قول قتادة (¬3). وقال مجاهد (¬4)، وعكرمة (¬5): الخيل المُسوَّمة: هي الحسان المُطَهَّمَةُ (¬6)، يُراد: أنها ذات سيما؛ أي: ذات حُسن. يقال: (لفلان سِيما)، و (له شارةٌ حَسَنة) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 17 أ، "زاد المسير" 1/ 360. (¬2) في (أ)، (ب): (المشبه)، في (ج): (السه). والتصويب من: (د). و (الشِّيَة)، هي: اللون المخالف للون سائر الجسد، وأصلها من: (وشَى الثوبَ، وشْيا، وشِيَةً): إذا نسجه على لونين. واستعير للحديث؛ فقيل: و (شَى كلامه)؛ أي: زَيَّنه ونمَّقه. انظر: (وشى) في "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 872، "عمدة الحفاظ" 632. (¬3) انظر: قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 117، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 610، "الطبري" 3/ 202، "تفسير الثعلبي" 3/ 17 أ، "زاد المسير" 1/ 360. (¬4) انظر قوله في "تفسيره" 123، "تفسير سفيان الثوري" 75، "تفسير عبد الرزاق" 1/ 117، ورواه البخاري تعليقًا في "الصحيح" 6/ 165 كتاب التفسير، سورة آل عمران، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 610، والطبري في "تفسيره" 6/ 253، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 19، ونسب إخراجه كذلك لعبد بن حميد. (¬5) انظر: قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 610، "تفسير الطبري" 3/ 201، "زاد المسير" 1/ 360، "الدر المنثور" 2/ 19، وزاد نسبة إخراجه كذلك لعبد بن حميد. (¬6) (المُطَهَّم) هنا: الحَسَنُ، الذي تمَّ كل شيء منه على حدته، فهو بارع الجمال، ويقال للناس والخيل. انظر: (طهم) في "أساس البلاغة" 2/ 86، "اللسان" 5/ 2714. (¬7) (السَّيما): العلامة. ويقال: (سيما فلان حسنةٌ)؛ أي: علامة. وهي مأخوذة من: (وسَمْتُ، أسِمُ)، والأصل فيها: (وِسْمى)، فَحُوِّلت الواوُ من موضع الفاء إلى موضع العين، فصارت: (سِوْمى)، وجُعلت الواو ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصارت (سِيما). ويقال كذلك: (سِيماء)، و (سيمياء). انظر: "الزاهر" 2/ 144، "اللسان" 4/ 2157 (سوم). قال الطبري في "تفسيره" 3/ 202: (وأولى هذه الأقوال بالصواب .. المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسْنًا من رآها. لأن =

وقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامِ} جمع (نَعَم)، والنَّعَم: الإبل والبقر والغنم. ولا يُقال لجنس منها: (نَعَمٌ)، إلَّا للإبل خاصة؛ لأنه غلب عليها (¬1). ومضى فيما قبل اشتقاق (النَعَم). وقوله تعالى: {حُسْنُ الْمَآبِ} المآب في اللغة: المرجعُ. يقال: (آب الرَّجُلُ، إِيابًا)، و (أَوْبَةً)، و (أبيَةً) (¬2)، و (مآبًا) (¬3). قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25]. قال الفرَّاء (¬4): ولا يجوز التشديد (¬5) في (الإياب)، وقارِئُه (¬6) لعله ذهب على الإفعال، والإفعال من (أُبْتُ)، إنما (¬7) يأتي على مثل: (أقَمْتُه ¬

_ = (التسويم) في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن، من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي (المُطَهمة) أيضًا). (¬1) انظر: كتاب "العين" 2/ 162، "معاني القرآن" للزجّاج: 1/ 384، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: 1428 - 429. (¬2) في (أ)، (ب): أبية، والمثبت من: (ج) د، وهو الصواب. ويقال: أيْبَةً، وإيبَةً. انظر: "اللسان" 1/ 166 (أوب). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 205، "تهذيب اللغة" 1/ 94. (¬4) لم أهتد إلى مصدر قوله والذي في "معاني القرآن" 3/ 259: (سُئل الفراء عن (إيَّابهم) فقال: لا يجوز [أي: تشديد الياء] على جهة من الجهات)، وفي "تهذيب اللغة" 15/ 609 ينقل عن الفرَّاء، فيقول: (قال: هو بتخفيف الياء، والتشديد فيه خطأ). (¬5) من قوله (التشديد ..) إلى (.. من أبت): ساقط من: (ج). (¬6) يعني بقارئه: أبا جعفر، يزيد بن القعقاع المدني. أحد القراء العشرة، تابعي، توفي سنة (130 هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 72، "النشر" 1/ 187. وقد قرأها: {إِيَابَهُمْ} في سورة الغاشية: 25. انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 5/ 319، "إعراب القرآن" للنحاس: 3/ 691، "المحتسب" 2/ 357. (¬7) في (ج): (أن).

15

إقامَةً)، و (أزَغتُه إزاغةً). فلو أردت ذلك، قلتَ: (أَأَبْتهُ إآبَةً) (¬1)، ولو أردت أن تُخرجَ المصدرَ (¬2) تامًا، قلت: (إيوابًا). ثم أعلم الله عز وجل أن خيرًا من جميع ما في الدنيا ما أعدَّه الله لأوليائه، فقال: 15 - {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الذي ذَكَرتُ (¬3). قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬4): يريد: المهاجرين والأنصار، أراد الله أن يعزِّيَهم، ويشوقهم إلى المعاد. قال العلماء: ويدخل تحت هذا الخطاب كلُّ (¬5) من اتقى الشرك، بظاهر هذا الكلام (¬6). وقوله تعالى: {جَنَّاتٌ} يرتفع على وجهين: أحدهما: بخبر الصفة، ويكون تمام الكلام عند قوله: {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}. والثاني: على تقدير الجواب، ويكون تمام الكلام عند قوله (¬7): ¬

_ (¬1) في (ج): (ابته ابه). (¬2) في (أ): (المصدرُ). (¬3) (الذي ذكرت): ساقطة من: (د). (¬4) لم أعثر على هذه الرواية فيما رجعت إليه من مراجع، إلَّا في "تفسير الخازن" 1/ 275، وعبارته قريبة جدًا من عبارة الواحدي. وفي "تنوير المقباس" 44: (يعني: أبا بكر وأصحابه). (¬5) (كل): ساقطة من: (د). (¬6) وممن ذهب للعموم فيها: الإمام الطبري في "تفسيره" 3/ 206، حيث قال عن معنى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} (للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه). (¬7) من قوله: (بخير ..) إلى: (.. تمام الكلام عند قوله): ساقط من: (ج)، (د).

{عِنْدَ رَبِّهِمْ}، فكأنه قيل: ما ذلك الخير؟ فقيل: هو جنَّات، ومثله: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج: 72]؛ أي: هو النار. وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قد ذكرنا ما فيه عند قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]. وقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}. ويُقرأ (¬1) بضم الراء (¬2)، وهو لغة قيس وتميم (¬3). قال الفراء (¬4): يقال: (رضيت رضًا)، منقوص، و (رِضوانًا، ورُضوانًا (¬5)، ومَرْضاةً). ومثل (الرِّضوانِ) بالكسر من المصادر: (الرِّئْمان) (¬6)، و (الحِرْمان). ¬

_ (¬1) (ويُقرأ): ساقطة من: (ج). (¬2) هي قراءة عاصم برواية أبي بكر بن عيَّاش عنه، أمَّا رواية حفص عن عاصم فهي بالكسر كبقية السبعة. انظر: "السبعة" 202، "الحجة" للفارسي: 3/ 21. (¬3) (وتميم): ساقطة من: (ج). انظر: "تفسير الطبري" 6/ 206. وقيس: قبيلة عظيمة من قبائل العرب، تنتسب إلى قيس بن غيلان بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان. وغلب اسم قيس على سائر العدنانية. انظر حولها "معجم قبائل العرب" 3/ 972. وتميم: قبيلة عظيمة من العدنانية، تنتسب إلى تميم بن مُر بن أدّ بن طابخة بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد عدنان. وكانت منازلهم بنجد، دائرة من هنالك إلى البصرة واليمامة، حتى تتصل بالبحرين، وانتشروا في الكوفة، ثم تفرقوا في الحواضر. انظر المرجع السابق 1/ 126. (¬4) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد يكون في كتابه (المصادر). (¬5) (ورضوانًا): ساقطة من: (د). (¬6) الرِّئْمان: الالتئام، يقال: (رَئِمَ الجُرْح رَأمًا، ورِئْمانًا حسنًا): التأم. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1332 (ريم)، "اللسان" 3/ 1536 (رأم).

16

وبالضمِّ: (الطُّغْيان)، و (الرُّجْحان)، و (الكُفْران). وقال (¬1) سيبويه (¬2): (الشُّكْران). 16 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ} موضع {الَّذِينَ} (¬3): خفض؛ صفةً {الَّذِينَ اتَّقَوا}. [و] (¬4) المعنى: للمتقين القائلين (¬5). 17 - [و] (¬6) قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ} قال ابن عباس (¬7): يريد: على دينهم، وعلى [ما] (¬8) أصابهم. {وَالصَّادِقِيَن}: قال قتادة (¬9): هم قوم صدقت نيَّاتهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتهم، فصدقوا في السرِّ والعلانية. ¬

_ (¬1) في (ج): (قال). (¬2) في "الكتاب" له: 4/ 11. (¬3) في (د): (الذين). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (د). (¬5) ويجوز أن يكون كذلك في موضع جر، بدلًا من قوله: (للذين اتقوا). وجوَّز أبو البركات الأنباري كونه نعتًا لـ (العباد) في قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، وضعَّف هذا الوجهَ العكبريُّ؛ لأن فيه تخصيصًا لعلم الله تعالى، ولكنه جوَّزه على ضعفه ويحتمل أن يكون في محل رفع؛ على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أو خبرٌ لمتبدأ محذوف. ويحتمل أن يكون في محل نصب بإضمار: (أعني) أو (أمدح). انظر: "البيان" لأبي البركات الأنباري: 1/ 194، "التبيان" للعكبري: ص 180، "الدر المصون" 3/ 69. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من: (د). (¬7) لم أقف على مصدر قوله. (¬8) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، (ج)، (د). (¬9) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 207 - 208، و"ابن أبي حاتم" 2/ 614، "الثعلبي" 3/ 20 أ، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 20، ونسب إخراجه لعبد بن حميد.

ومعنى الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به (¬1)، وذكرنا أصله في اللغة عند ذكر اشتقاق الصدقة في سورة البقرة. {وَالْقَانِتِينَ} (¬2) الطائعين لله، عن أكثر المفسرين (¬3). ومضى الكلام في معنى القانتين. {وَالْمُنْفِقِينَ} قال ابن عباس (¬4): يريد: الذين ينفقون الحلال في طاعة الله [تعالى] (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 478 (صدق)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" 450. (¬2) في (د): (والقانتين). (¬3) وبه قال: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والشعبي، وجابر بن زيد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وعطية، وطاوس، وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 507 - 508، 2/ 568 - 571. ومن معاني (القنوت): السكوت، وبه فُسر قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. ومنها: طول القيام، وبه فُسِّر قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} الزمر: 9؛ أي: مصلٍّ، فسمى الصلاة قنوتًا؛ لأنها تكون بالقيام. وقيل للدعاء: (قُنُوت)؛ لأنه يُفْعَل أثناء القيام في الصلاة. ومن معانيه: الإقرار بالعبودية؛ كقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26]. ولكن ابن قتيبة أرجع كل هذه الوجوه إلى معنى: (الطاعة)، وقال معللًا: الأن جميع هذه الخلال: من الصلاة، والقيام فيها، والدعاء، وغير ذلك يكون عنها). وإليه ذهب الطبري، وجعل الطاعة هي أصل القنوت، وكل المعاني راجعة إليها. انظر: "تأويل مشكل القرآن" 451 - 452، "تفسير الطبري" 5/ 571 - 572، "تحصيل نظائر القرآن" للحكيم الترمذي: 50، "مفردات ألفاظ القرآن" 684 - 685 (قنت)، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: 483. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).

{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}. السَّحَر: الوقت الذي قبيل (¬1) طلوع الفجر. و (تَسَحَّر): إذا أكل في ذلك الوقت. و (استَحَرَ)؛ أي (¬2): سار فيه (¬3). قال زهير (¬4): بَكَرْنَ بُكورًا، واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ (¬5) والمُسْتَحِرُ من الطَّيْرِ: ما يَصيحُ (¬6)، ويتحرك فيه (¬7). قال امرؤ القيس: إذا طَرَّبَ الطائرُ المُسْتَحِرْ (¬8) ¬

_ (¬1) في (د): (قبل). وهكذا وردت هذه العبارة في "معاني القرآن" للزجَّاج: 1/ 385. (¬2) في (د): (إذا). (¬3) انظر: (سحر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1641، "اللسان" 4/ 1952 - 1953. (¬4) هو: زهير بن أبي سلمى (ربيعة) بن رباح. شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته. (¬5) تمامه: فَهُنَّ ووادي الرَّسِّ كاليد للفَمِ وهو، في "ديوانه" ص 10، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 250، "تهذيب اللغة" 2/ 1640 (سحر)، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص 76، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: 109. (¬6) في (أ): (يُصبح). والمثبت من بقية النسخ، وهو ما استصوبته لموافقته للمعنى المساق. (¬7) (فيه): ساقطة من: (ج). وانظر هذا المعنى في "جمهرة اللغة" 511. (¬8) عجز بيت، وصدره: يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابها وهو في (ديوانه) ص 69، "جمهرة اللغة" 511، "اللسان" 5/ 2649 (طرب)، 4/ 1953 (سحر)، 6/ 3670 (قطر) "خزانة الأدب" 9/ 231. وورد في "الجمهرة" (.. إذا غَرَّد ..) وفي "اللسان" 5/ 2649 (كما طرَّبَ ..)، وفي: 6/ 3670 (يُعَلُّ بها ..)، ويروى: (إذا صوت الطائر ..). وقوله: (يُعَلُّ)؛ من: (عَلَّه، يَعِلُّه، ويَعُلُّه، عَلَّا، وعلَلا)، وهو: السقيا بالخمر، مرةً بعد مرة. انظر: "ديوانه" ص 69.

وأسْحَرَ (¬1) دخل (¬2) في وقت السَّحَر (¬3). ونذكر كلام النحويين في ترك إجراء (سحر) عند قوله: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] إن شاء الله. قال ابن عباس (¬4) في قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}: يريد: المصلين صلاة الصبح (¬5)، وهو قول زيد بن أسلم (¬6)، وابن كيسان (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (داسحر)، (ب): (ذاسحر)، والمثبت من: (ج)، (د)، وهو الصواب. (¬2) في (د): (رحل). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1640. وفي "جمهرة اللغة" 511 (وأسْحرَ القومُ إسْحارًا: إذا خرجوا في وقت السَّحر). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) ويريد هنا المصلين صلاة الصبح في جماعة. (¬6) الأثر عنه في "مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 193 (35176)، "تفسير الطبري" 3/ 209، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 615 - 616، "تفسير الثعلبي" 3/ 20 ب، "النكت والعيون" للماوردي: 1/ 378، "تفسير البغوي" 2/ 16. وهو: أبو عبد الله، أو أبو أسامة، زيد بن أسلم العَدوي المدني، مولى عمر رضي الله عنه، ثقة عالم كثير الحديث، كانت له حلقة علم في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله تفسير يرويه ابنه عبد الرحمن، توفي سنة 136 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة. تحقيق د. زياد منصور) 314، "تقريب التهذيب" ص 222 (2117)، "طبقات المفسرين" للداودي: 1/ 182. (¬7) الأثر عنه في "تفسير الثعلبي" 3/ 20 ب. ولكن يرد على هذ القول: أن صلاة الصبح يبدأ وقتها بعد انتهاء وقت السَّحر، فكيف تدخل في المعنى؟! اللهم إلا أن يُراد أن التصاق وقت صلاة الصبح بوقت السحر وقربه المباشر له أدخل صلاة الصبح فيه استتباعًا، والعرب تقول: (لقيته بأعلى سَحرَين)، و (أعلى السَّحرَين)، لأنه أول تنفس الصبح. انظر: "اللسان" 4/ 1953. ولكن هذا التخريج أرى فيه تكلفًا، والله أعلم. ولذا استغربَ الكرمانيُّ إيرادَ الواحدي لهذا القول، فقال: والعجيب: قول الواحدي: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}: المصلين صلاة الصبح، فإن =

18

وقال مجاهد (¬1)، وقتادة (¬2): يعني: المصلين بالأسحار (¬3). قال الزجَّاج (¬4): وصف الله - تعالى (¬5) هؤلاء بما وصف، ثمَّ بيَّن أنهم مع ذلك لشدة خوفهم ووجلهم يستغفرون بالأسحار. 18 - قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} قال أبو إسحاق (¬6)، وأبو العباس (¬7): معنى {شَهِدَ اللَّهُ}: بيَّن وأظهر (¬8)؛ لأنَّ ¬

_ = الإجماع على أن الصائم يتناول الطعام في السحر، فكيف تصح صلاة الصبح فيه؟). "غرائب التفسير" 1/ 247. ويقصد الكرماني: أن وقت السَّحر متميز ومختلف عن وقت صلاة الصبح، الذي يَحرُمُ فيه الأكلُ على الصائم، وتصح فيه صلاة الصبح، فجواز أكل الطعام للصائم في السحر، فيِه دلالة على عدم دخول وقت الصبح، فكيف تصح فيه صلاة الصبح؟! فافترق وقت الصبح عن السحر، لغة، واصطلاحًا؛ بما ميَّز الشرعُ كلَّ وقت بحكم. هذا والله أعلم. (¬1) الأثر عنه في "تفسير الثعلبي" 3/ 20 ب، "زاد المسير" 1/ 361. (¬2) الأثر عنه في "تفسير الطبري" 3/ 208، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 615، "تفسير الثعلبي" 3/ 20 ب، "النكت والعيون" 1/ 378، "تفسير البغوي" 2/ 16. (¬3) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 51 بعد أن ذكر بعض الوجوه في تفسير معنى الاستغفار هنا، ومنها ما سبق معنا: (وهذا كله يقترن به الاستغفار). (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 385 نقله عنه بتصرف واختصار. (¬5) في (ج): عز وجل. (¬6) هو الزجَّاج، في "معاني القرآن" له: 1/ 385. (¬7) هو أحمد بن يحيى (ثعلب): وقوله في "تهذيب اللغة" 2/ 1942 - 1943، وبعضه في "الزاهر" 1/ 125. (¬8) هذه العبارة بنصها في "تهذيب اللغة". ومما ذكره العلماء في معنى {شَهِدَ اللَّهُ} إضافة إلى ما ذكره المؤلف: قضى، وحكم، وأعلم، وأخبر. وقد ردَّ الطبريُّ في "تفسيره" 3/ 209، وابنُ عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 52 من المعاني السابقة المذكورة، معنى (قضى) الذي قاله أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 89 ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر الأقوال السابقة في معنى (شهد) قال: (وكل هذه =

الشاهد (¬1): هو العالم الذي يبين ما علمه. فالله عز وجل قد دلَّ على توحيده بجميع ما خلق، فبيِن أنه لا يقدر أحدٌ أن ينشيء شيئًا واحدًا مما أنشأ. قال أبو العباس (¬2): ونظير هذا في القرآن مما أُريد فيه بالشهادةِ: التبيينُ، وإن لم يقارنه القولُ: قولُه عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، معناه: مبيِّنين على أنفسهم الكفر؛ وذلك أنهم يؤمنون بأنبياء (¬3)، كلهم شاهد لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالصِّدق، فلما آمنوا بأنبياء (¬4) بشَّروا بمحمد، وحثُّوا على اتباعه، ثم خالفوا عليه فكذبوه وحاربوه، بيَّنوا بذلك الكفر على أنفسهم، فوُصفوا بأنهم شَهِدوا به، وإنْ لم يكونوا قالوا: نحن كفار (¬5). ¬

_ = الأقوال وما في معناها، صحيحة، وذلك أن الشهادة تتضمن كلامَ الشاهد وقولَه وخبرَه عمَّا شهد به، ... وإن لم يكن معْلِمًا به لغيره، ولا مُخْبِرًا به لسواه، فهذه أول مراتب الشهادة. ثم قد يخبره ويُعْلِمه بذلك، فتكون الشهادة إعلامًا لغيره وإخبارًا له ..)، وتابع: (.. فمن قال: (حكم) و (قضى) فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر؛ ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى وحكم)، وتابع: (فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو، فقد حكم وقضى أن لا يعبد إلا إيَّاه). "المسير الكبير" لابن تيمية: 3/ 137 - 142. وانظر: "التفسير القيم" لابن القيم: 178. (¬1) من قوله: (لأن الشاهد ..) إلى (.. مما أنشأ): نقله بالنص عن الزجَّاج. (¬2) قوله في "تهذيب اللغة" 2/ 1942 - 1934 نقله المؤلف بالمعنى. (¬3) في (ج): (بالأنبياء). (¬4) في (ج): (بالأنبياء). (¬5) هذا الوجه في تفسير شهادة المشركين على أنفسهم بالكفر المذكور في آية (17) من سورة التوبة، ذكره كذلك ابنُ الجوزي في "زاد المسير" 3/ 408، ونسبه لابن الأنباري. ومما قيل كذلك في تفسيرها: هو قول اليهودي: أنا يهودي، =

وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ} أي: وشهدت الملائكة، بمعنى: أقرَّت بتوحيد الله -تعالى-؛ لما عاينت من عظيم قدرته؛ كقوله: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130]؛ أي: أقررنا. فَنَسَق شهادة الملائكة وأولي العلم على شهادة الله سبحانه، والشهادتان مختلفتان معنًى لا لفظًا، كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، والصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار والدعاء (¬1). ¬

_ = والنصراني: أنا نصراني، والصابئ: أنا صابئ، والمشرك: أنا مشرك. وقيل: إنَّ إظهار عبادتهم للأوثان، وتكذيب القرآن، وإنكار نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، كل هذا كفر يمارسونه، وهو إقرار منهم على أنفسهم به، وإن أبوا ذلك بألسنتهم. وقيل: قولهم في الطواف: (لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك). وقيل غير ذلك. فكيف يستقيم زعمُهم بعمارة المساجد وهي من صفات المؤمنين وشأنهم، والشهادة على أنفسهم بالكفر؟! وهما أمران متنافيان. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 16/ 9، "تفسير أبي السعود" 4/ 51، "فتح القدير" 2/ 500. (¬1) عن أبي العالية رضي الله عنه قال: (صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء). أخرجه البخاري في: "الصحيح" تعليقًا: "الفتح" 8/ 532 كتاب التفسير، سورة الأحزاب، وأخرجه إسماعيل القاضي في: "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -": 82، 83، وقال عنه الألباني: (إسناده موقوف حسن)، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 646، ونسب إخراجه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: (يصلون: يُبَرِّكون). أخرجه البخاري تعليقًا في: "الصحيح" في الموضع السابق، والطبري في "تفسيره" 22/ 43، وأورده السيوطي في " الدر" 6/ 647، ونسب إخراجه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردوية. وقال الضحاك: (صلاة الله: رحمته، وصلاة الملائكة: الدعاء)، وفي رواية: (صلاة الله: مغفرته ..) أخرجه إسماعيل القاضي في: "فضل الصلاة على النبي" 82، 83 وقال محققه الألباني عن الروايتين: (إسناده موقوف ضعيف جدًا). وعن ابن عباس قال: (صلاة الله على النبي: هي مغفرته ... وأما صلاة الناس على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي الاستغفار) أورده السيوطي في "الدر" 6/ 646 ونسبه لابن مردويه. وقال الطبري: (وقد يحتمل أن يقال: إن معنى ذلك: أن الله يرحم النبي، وتدعو=

وقال ابن الأنباري (¬1): إنما عَطَف الملائكةَ وأولي (¬2) العلمِ على اسمه؛ لأن الشهادة معناها في اللغة: إظهارُ المعلوم وتبَيُّنُه. فلمَّا بيَّن أولوا العلم المعلومَ (¬3) [عندهم؛ كما بيَّنه الله عز وجل، عطفهم على اسمه؛ للاتفاق في إظهار المعلوم] (¬4). وقوله تعالى: {وَأُولُو الْعِلْمِ} أي: وشهد بتوحيده أولوا العلم؛ بما ثبت عندهم. وشهادة أولي (¬5) العلم: يجوز أن تكون بمعنى: الإقرار، ويجوز أن تكون بمعنى: التبيين (¬6). واختلفوا في المعنيين بـ (أولي العلم) ههنا: فقيل (¬7): هم الأنبياء، وقال مقاتل (¬8): هم مؤمنو أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى وصفهم بالعلم في ¬

_ = له ملائكته ويستغفرون؛ وذلك أن الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء). "تفسيره" 22/ 43. وقال القاسمي: (وبالجملة، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر) "محاسن التأويل" 13/ 4901. وانظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 557، "فتح الباري" 8/ 533، "فتح القدير" للشوكاني 4/ 310. (¬1) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬2) في (ب): (وأولوا). (¬3) (المعلوم): ساقط من (ج). (¬4) زيادة من (ج)، (د). (¬5) في ب، (د): (أولوا). (¬6) قال ابن القيِّم رحمه الله بعد أن ذكر الوجهين: (والصحيح، أنها تتضمن الأمرين. فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام، وهم شهداء الله على الناس إلى يوم القيامة ..). "التفسير القيم" 199. (¬7) ورد هذا القول في "تفسير الثعلبي" 3/ 23 ب، "تفسير البغوي" 2/ 19، "فتح القدير" 1/ 491، ولم ينسبوه لقائل. (¬8) قوله في "تفسيره" 1/ 276، والمصادر السابقة.

مواضع من كتابه، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء: 107]، وقوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]. قال ابن كيسان (¬1): يعني: المهاجرين والأنصار، وهو قول ابن عباس فى رواية عطاء (¬2). وقال السدي والكلبي (¬3): يعني (¬4): علماء المؤمنين كلهم (¬5). وقوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ}. ينتصب على الحال من اسم الله جل وعز، على تقدير: شهد الله قائمًا بالقسط. ويجوز أن يكون حالًا من: هو؛ تقديره: لا إله إلَّا هو قائمًا بالقسط (¬6). وقال الفراء (¬7): هو نصب على القطع (¬8)، لأنه نكرة نُعِت (¬9) به معرفة، ¬

_ (¬1) قوله: في: المصادر السابقة (¬2) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية. (¬3) انظر قوليهما في المصادر السابقة، والأثر عن السدي ورد كذلك في "تفسير الطبري" 3/ 210، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 617. (¬4) في (أ)، (ب): (معنى). والمثبت من: (ج)، (د). (¬5) قال الشوكاني عن هذا القول: (وهو الحق، إذ لا وجه للتخصيص). "فتح القدير" 1/ 491. (¬6) وقد رجح هذا ابن تيمية. انظر: "التفسير القيم" لابن القيم 183. (¬7) في "معاني القرآن" 1/ 200. (¬8) استعمل الفراءُ كثيرا مصطلح (القطع) في كتابه "معاني القرآن" وهو في الغالب يريد به الحال، وقد يستعمله ولا يقصد به الحال، ولا أن يكون في النصب فقط، وكأنه يريد به قطع الكلمة عما قبلها من الإعراب، أيا كان هذا الإعراب. انظر حول مذهبه في ذلك: "النحو وكتب التفسير" 1/ 195 - 197. وكذا استعمل الطبري هذا المصطلح في تفسيره كثيرًا. راجع فهرس المصطلحات من "تفسيره" (تحقيق محمود شاكر): (ج) 1، 2، 5، 6، 7، 9. وانظر تعليق محمود شاكر على هذا المصطلح في هامش "تفسير الطبري" 6/ 270. وانظر هذا التفسير، في إعراب قوله تعالى: (.. وجيهًا في الدنيا والآخرة) [من آية: 45 من آل عمران]. (¬9) في (ج): (نصب).

19

كان (¬1) أصلها: (القائم بالقسط)؛ فلما (¬2) قُطعت الألفُ واللامُ نصب (¬3). ومعنى قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ}: قائمًا بالعدل (¬4)، كما يقال: (فلان قائم بالتدبير)؛ أي: يُجْرِيه على الاستقامة. فالله (¬5) تعالى يُجري التدبير على الاستقامة في جميع الأمور (¬6). 19 - قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. القُرَّاءُ على كسرِ (إنَّ)، إلَّا الكسائي؛ فإنه فتح (أنَّ) (¬7). والوجه (¬8)، الكسر (¬9)؛ لأن الكلام الذي قبله قد تمَّ (¬10)، وهذا النحو من الكلام الذي يراد به التنزيه، أن يكون بجُمَلٍ متباينة أحسن؛ من حيث ¬

_ (¬1) من قوله (كان ..) إلى (.. نُصِب) ينقله عن الثعلبي: 3/ 24 ب، باختصار يسير. (¬2) من قوله (فلما ..) إلى (.. قائمًا بالقسط): ساقط من: (ج). (¬3) ومعنى كلام الفرَّاء: أنَّ الأصل أن تكون (القائم ..) معرفة مرفوعة؛ لكونها نعتا للفظ الجلالة المرفوع، وهو معرفة، لكن، لمّا نكرت (القائم)، انقطعت تبعية النعت للمنعوت، فتُرِك الرفعُ إلى النصب. وفي إعرابها وجوه أخر. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 199، "تفسير الطبري" 3/ 210، "إعراب القرآن" للنحاس: 1/ 316، "التفسير القيم" 182 - 183، "الدر المصون" 3/ 75 وما بعدها. (¬4) القِسْطُ بكسر القاف: العدل، والنصيب. ويقال: (أقسط، يُقْسِط، إقساطًا)، فـ (هو مُقْسِط). والقَسْطُ بفتح القاف: الجَوْر. ويقال قَسَطَ، يَقْسِطُ، قَسْطًا، وقُسوطًا، فهو قاسِط. انظر: (قسط) في "تهذيب اللغة" 3/ 2959، و"المجمل" 752. (¬5) قوله: (فالله تعالى يجري التدبير على الاستقامة): ساقط من: (ج). (¬6) انظر: "تفسير الرازي" 7/ 222 - 223. (¬7) انظر: "السبعة" 202 - 203، "الحجة" للفارسي 3/ 22. (¬8) من قوله: (الوجه ..) إلى نهاية قول الله تعالى: (.. والصابرين): نقله عن "الحجة" للفارسي: 3/ 22 بتصرف يسير جدًّا. (¬9) (الكسر): ساقطة من (ج). (¬10) في (ج): (قديم).

كان أبلغ في الثناء (¬1)، وأذهب في باب المدح؛ ومن ثمَّ جاء: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [البقرة: 177]. فأما وجه قراءة الكسائي، فإن النحويين ذكروا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الشهادة واقعة على {إِنَّ الدِّينَ} (¬2)، وفَتح {أَن} في قوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} على تقدير: حذف حرف الجر؛ كأنه قيل: (شهد الله؛ لأنه (¬3) لا إله إلَّا هو، أنَّ الدين عند الله الإسلام). وهذا معنى قول الفرَّاء، حيث يقول (¬4) - في الاحتجاج للكسائي: إن شِئتَ جعلتَ (أنه) على الشرط (¬5)، وجعلت الشهادة واقعة على قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. وتكون {أَن} (¬6) الأولى يصلح فيها الخفض، كقولك: شهد الله بتوحيده، أنَّ الدين عند الله الإسلام. الوجه الثاني: أنه فتحهما على أن الواو تُراد (¬7) في قوله: {إِنَّ الدِّينَ}؛ كأنه قيل: (شهد الله أنه لا إله إلَّا هو: وأنَّ الدين عند الله الإسلام). فيكون قوله (¬8): (أنَّ الدين عند الله الإسلام) جملةً استغني فيها ¬

_ (¬1) في (ج): (البناء). (¬2) في (ب): (الذين). (¬3) في (ج): (أنه). (¬4) في "معاني القرآن": 1/ 199، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا. (¬5) ويعني بقوله (على الشرط)، أي: على العلة، وسماه شرطًا؛ لأن المشروط متوقف عليه، كتوقف المعلول على علته، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين، ولما كان (أنه) على الشرط لم يقع عليه الفعل، وإنما وقع على (أن الدين). انظر: "الدر المصون" 3/ 86. (¬6) (أنَّ): ساقطة من: (ج). (¬7) في (ج)، (د): (تزاد). (¬8) (قوله): ساقطة من: (ج)، (د).

عن حرف العطف؛ بما تضمنت من ذكر الأول المعطوف عليه، وهو التوحيد، كما استغني عنه بذلك في قوله: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، ولو كانت (الواو) لكان ذلك حسنًا (¬1)، كما قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (¬2) [الكهف:22]. الوجه الثالث: وهو مذهب البصريين: أن تجعل (أنَّ) الثانية بدلًا من الأولى، فكأنَّ (¬3) التقدير: (شهد الله أنَّه، أنَّ الدِّينَ عند الله الإسلام). فيكون هذا من الضرب الذي الشيء فيه، هو هو (¬4)، نحو قولك: (ضربت زيدًا نفسَه). ألا ترى أنَّ الدين الذي هو الإسلام، يتضمنُ التوحيد، وهو هو في المعنى. ¬

_ (¬1) قول المؤلف: (ولو كانت (الواو) لكان ذلك حسنًا) قد يريد به: أن الواو لو كانت ظاهرة في الآية؛ لكان هذا الوجه والتخريج النحوي حسنًا، وقد يفهم كلام المؤلف أن الواو لو كانت في الآية لكان ذلك أفضل من حيث استقامة التركيب، وهذا لا يجوز لأنه يبدو كأنه اقتراح على الله، والقراءات الصحيحة المتواترة قرآن، ودورنا إزاءها أن نذكر الوجوه النحوية لها، لا أن نعترض أو نقترح أو نفضل أو نحبذ. ولذا فإني أرجح أن قصد المؤلف هو الأول، لأنه حاشاه أن يقصد الثاني. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (د). (¬3) ضعف ابن عطية هذا الوجه في "المحرر الوجيز" 3/ 53، وبين أبو حيان وجه الضعف في هذا التخريج، فقال: "وجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاه الفصل نحو: (أكل زيد خبزًا وعمرو سمكًا) وأصل التركيب: (أكل زيد وعمرو خبزا وسمكًا .. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح): "البحر المحيط" 2/ 408. (¬4) وهو ما يسمى: البدل المطابق، أو بدل كلِّ من كل، وهو الذي يساوي المبدل منه في المعنى مساواة تامة.

وإن (¬1) شئت، جعلته مِنْ بدل الاشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيد (¬2)، فيكون كقولك: (ضربت زيدًا، رأسَه) (¬3). فإن قيل: على هذه القراءة، لو جاز إيقاع الشهادة على (أنَّ الدين)، لم يحسن إعادة اسم الله، ولكان: (أنَّ الدين عنده (¬4) الإسلام)؛ لأن الاسم قد سبق، فالوجه الكِنَايةُ عنه. قيل: إنَّ العرب ربما أعادت الاسم في موضع الكناية (¬5)؛ كقول الشاعر: لا أرى الموتَ، يسبقُ الموتَ شيءٌ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ج): (فإن). (¬2) من قوله: (فكأن ..) إلى (.. يشتمل على التوحيد): نقله عن "الحجة" للفارسي 3/ 23 بتصرف يسير. (¬3) انظر هذه التوجيهات، وغيرها لقراءة الكسائي -إضافة إلى ما سبق من مراجع- في: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 572، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 370، "القطع والائتناف" له:218، "الحجة" لابن خالويه:107، "المشكل" لمكي 1/ 152، "الكشف" له 1/ 338، "البيان" للأنباري 1/ 195، "الدر المصون" 3/ 83 - 88. (¬4) في (ج): (عند الله). (¬5) يعني بـ (الكناية): (الضمير). (¬6) صدر بيت، وعجزه: نغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا وهو لعدي بن زيد، في "ديوانه" 65. وورد منسوبًا له في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي: 1/ 36، "أمالي ابن الشجري" 1/ 379، 2/ 6، "الأشباه والنظائر في النحو" للسيوطي: 8/ 30، "الخزانة" 1/ 378، 379، 6/ 90، 11/ 366. وقيل: البيت لسوادة بن عدي، وورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" 1/ 62، والنكت في تفسير "كتاب سيبويه" للشنتمري: 1/ 198، "شرح شواهد المغني" 2/ 876،=

ومثله كثير (¬1). فأما المعنى: فقال ابن عباس (¬2): افتخر المشركون بآبائهم، فقال كلُّ فريق منهم: لا دين إلَّا ديننا، وهو دين الله منذ بعث الله (¬3) آدَم، فكذبهم الله -تعالى-، فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، يعني الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وأصل الدين في اللغة: الجزاء. ثم الطاعة تسمى دينًا؛ لأنها (¬5) ¬

_ = "الاقتضاب" 368، وقال في "لسان العرب": (لعدي أو سوادة بن عدي). 8/ 4488 (نغص). وصحح البغداديُّ في "خزانة الأدب" 1/ 381 أن البيت لعدي بن زيد. وورد غير منسوب في "الخصائص" 3/ 53، "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 320، 2/ 694، "شرح أبيات الكتاب" للنحاس: 67، " القطع والائتناف" له: 218، "ضرورة الشعر" للسيرافي 190، "العمدة" لابن رشيق: 686، "البيان" للأنباري: 1/ 63، 122، 144، 379، 2/ 44، 107، "مغني اللبيب"650. والبيت دليل على جواز إعادة الظاهر موضع المضمرة حيث كرر (الموت) في جملة واحدة. فـ (الموت) الأول مفعول لـ (أرى)، و (يسبق الموت) مفعول ثانٍ، وكان ينبغي أن يقول: يسبقه شيءٌ؛ لأن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرير ذكره في جملة واحدة، كان الاختيار أن يُذكر ضميرُهُ، ولكن التكرير قد يراد به التعظيم والتفخيم. انظر في هذ المعنى "القطع والائتناف" 218، "شرح ديوان الحماسة" 1/ 118، "النكت" للشنتمري: 1/ 197 - 198. (¬1) انظر: "الكتاب": 1/ 61 - 62. (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬3) (الله): ليست في: (ج). (¬4) (صلى الله عليه وسلم): ساقطة من: (ب). (¬5) (لأنها): ساقطة من: (د).

للجزاء، وكل ما (¬1) يطاع الله تعالى به فهو دين (¬2)، فاليهود يدَّعون أنهم يطيعون (¬3) بما أتاهم به موسى، فذلك دين اليهودية، وكذلك النصارى، وكل فرقة. والمسلمون يطيعونه بما أتاهم به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو دين الإسلام (¬4)، والله تعالى يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ومعنى (الإسلام) في اللغة: الدخول (¬5) في السَّلَمِ؛ أي: في الانقياد والمتابعة. قال الله عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} (¬6) [النساء: 94]؛ أي: انقاد لكم وتابعكم (¬7). ¬

_ (¬1) في (د): (كلما). (¬2) انظر المعاني السابقة لـ (الدين) وغيرها، في "تأويل مشكل القرآن" 455، "الكامل" للمبرد: 1/ 328، "تهذيب اللغة" 14/ 181، "الأمالي" للقالي: 2/ 295، "والوجوه والنظائر في القرآن الكريم" د. سليمان القرعاوي: 323 - 328. إلا أن ابن فارس جعل أصل (الدين): الانقياد والذل، وجعل كون الدين بمعنى (الطاعة)؛ أن مرد الطاعة إلى الانقياد. وهكذا خرج بقية المعاني الواردة لـ (الدين). انظر: "معجم المقاييس" 2/ 319 (دين). (¬3) في (ج): (د): (يطيعونه). (¬4) في (د): (دين الله الإسلام). (¬5) من قوله: (الدخول ..) إلى (.. وتابعكم): نقله بنصه عن "تأويل مشكل القرآن" 479. (¬6) وفي: نسخة (د)، وتأويل المشكل: ورد (السلام) بدلا من: (السلم)، وكذلك هي في مصاحفنا. وما أثبته، وردت به القراءة الصحيحة عن نافع، وابن عامر وحمزة، وكذلك وردت عن عاصم من رواية المفضل عنه، وعن ابن كثير من رواية عبيد عن شبل عنه، ويناسب مع إراده المؤلف من معنى بعده وقرأ بقية السبعة: السلام) بالألف الممدوة انظر: "السبعة" 236، "الكسف" لمكي 1/ 395، "حجة القراءات" لابن زنجلة 209. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 5/ 226. وقال الخطابي في "غريب الحديث" 2/ 411: (السَّلَمُ: الاستسلام) وقال بعد أن أورد آية 94 من النساء بقرأءة (السَّلَم): (أي: من استسلم وأعطى المقادة، وكذلك (الإسلام)؛ إنما هو: الطاعة لله، والانقياد لأمره، وأحدهما مشتق من الآخر). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" 2/ 394، "اللسان" 4/ 2077 (سلم).

وقيل: أصله: السِّلْم (¬1). فـ (أَسْلَمَ): دخل في السِّلْم؛ كقولهم: (أشْتى)، و (أَقْحَطَ)، و (أرْبَعَ) (¬2). وأصل السِّلْم: السَّلامة؛ لأنه انقياد على السلامة. ثم من (¬3) الإسلام (¬4) ما هو متابعة وانقياد باللسان دون القلب، وهو قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬5) [الحجرات: ¬

_ (¬1) في "اللسان" 4/ 2077 (سلم): (والسَّلْمُ والسِّلْمُ: الصلح. يُفتح ويكسَر وُيؤنَّث ... والسَّلْمُ، والسلام: كالسِّلْم؛ وقد سالمه مُسالَمَة وسلامًا ... والسِّلْم: المُسالِم ... وقوم سِلْمٌ، وسَلْمٌ: مسالمون). (¬2) انظر: "تأويل مشكل القرآن" 479، "تفسير الطبري" 3/ 212. وقد يكون المؤلف نقله عنه مع اختصار وتصرف. وأشتى أي: دخل في الشتاء، وأقحط: دخل في القحط، وأربع: دخل في الربيع. انظر المرجع السابق. (¬3) من قوله: (من الإسلام ..) إلى (قال أسلمت لرب العالمين): نقله بتصرف واختصار عن "تأويل مشكل القرآن" 479. (¬4) في (ب): (أسلم). (¬5) الإسلام هنا: هو الإسلام بالمعنى اللغوي، وهو: الانقياد بالجوارح دون القلب. وانقياد اللسان والجوارح في الظاهر يُعد إسلامًا لغةً، وفي نفس الوقت يُكتَفى به شرعًا عن البحث عن خبايا القلوب. (وكل انقياد واستسلام واذعان، يسمى: إسلامًا لغةً) والأعراب المذكورون في الآية هم بعض الأعراب؛ لأنه تعالى قال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 99] انظر: "أضواء البيان" 7/ 636، 639.

14]؛ أي: انقدنا (¬1)؛ من خوف السيف. ومنه، ما هو متابعة وانقياد باللسان والقلب، وهو قوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، فهذا معنى الإسلام. وذكر ابن الأنباري (¬2) في المسلم قولًا آخر، وهو: أنَّ المسلم معناه: المُخْلِصُ لله العبادة. من قولهم: (سَلَّمَ الشيءَ لفلان)؛ أي: خلَّصه (¬3) له، و (سَلِمَ له الشيءُ) (¬4)؛ أي: خَلصَ له. فعلى هذا الإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى، وهو التبريء عن الشرك. وأصله أيضًا من السلامة؛ لأنه يعود إلى أن يُسْلِم دينَه لله، حتى يكون له سالمًا من غير شريك. وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. معنى الاختلاف في اللغة، هو: ذهابُ أحدِ النَفسَيْنِ إلى نقيض ما ذهب إليه الآخر (¬5). ¬

_ (¬1) في (د): (أنقذنا). (¬2) في "الزاهر" 2/ 203. ولكن المؤلف ينقل قول ابن الأنباري عن "تهذيب اللغة" 2/ 1742 نظرًا لتطابق العبارة مع "التهذيب". وعبارة ابن الأنباري: (المسلم: المخلص لله العبادة، وقالوا: هو مأخوذ من قول العرب: (قد سَلم الشيءُ لفلان): إذا خلص له). (¬3) في (أ)، (ب): (خلَّفته). والمثبت من: (ج)، (د). نظرًا لموافقته لما في "الزاهر" و"التهذيب" ولموافقته للمعنى المراد وهو الإخلاص. (¬4) (الشيء): ساقطة من (ج). (¬5) قال الراغب: (والاختلاف والمخالفةُ: أن يأخذ كلُّ واحدٍ طريقًا غير طريق=

والاختلاف في الأجناس: امتناعُ أحدِ الشيئين أن يَسُدَّ مَسَدَّ الآخر. وأراد بـ {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: اليهود (¬1). قال ابن عباس (¬2): يعني: قريظة والنضير وأتباعهم. يقول: لم يختلف اليهود (¬3) في صدق نبوَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا يجدونه في كتابهم من نعته وصفته. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} قال ابن عباس (¬4): يريد: النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا؛ سَمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - (العِلْمَ)، وهو يريد المعلوم. والمصدر يقع على المفعول كثيرًا. والمعنى: أنهم كانوا يصدقونه بنعته وصفته قبل بعثه (¬5)، فلما جاءهم اختلفوا فآمن به بعضُهم، وكفر به الآخرون، فقالوا: لست الذي وُعِدْناهُ (¬6)، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]. ويجوز أن يريد بـ (العِلْم): بيان ما جاء في التوراة من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = الآخر، في حاله أو قوله) "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ص 294 (خلف). وانظر: "التوقيف" للمناوي 322. (¬1) وممن قال بأنهم اليهود: الربيع بن أنس، وسعيد بن جبير. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: إنهم النصارى. وقال ابن السائب: إنهم اليهود والنصارى. ولفظ {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعم الفريقين. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 212، "تفسير ابن أبي حاتم" 8/ 612، "النكت والعيون" 1/ 380، "زاد المسير" 1/ 363، "تفسير الفخر الرازي" 7/ 226، "تفسير القرطبي" 4/ 44. (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬3) (اليهود): ساقطة من: (ب). (¬4) لم أهتد على مصدر قوله. (¬5) (قبل بعثه): ساقطة من: (د). (¬6) في (ج) و (د): (وعدنا به).

وصفته، وبيان ما جاء في شأنه. يعني: أنهم ما اختلفوا إلَّا بعد صحة علمهم بنبوَّتِه، وإذا كان الاختلاف بعد العِلْم، كان ذلك أبلغ في الكفر والعناد، ودليل هذا التأويل قوله في سورة البقرة: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213]. وقوله تعالى: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} معنى البغي: طَلَبٌ للاستعلاء (¬1) بالظلم. أخبر الله تعالى عن عِلَّةِ اختلافهم، فقال: فعلوا ذلك طلبًا للرئاسة، وحسدًا له على النُبُوَّةِ. فانتصب (¬2) {بَغْيًا} في قول الأخفش (¬3) على تقدير: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬4). وقال الزجَّاج (¬5): والذي هو الأجود؛ أن يكون {بَغْيًا} منصوبًا بما دلَّ عليه: {وَمَا اخْتَلَفَ}. فيكون المعنى: اختلفوا بغيًا بينهم. قال أبو علي (¬6): وجهُ قولِ الأخفش: أنَّ {بَغْيًا} انتصب (¬7) على أنه ¬

_ (¬1) هكذا ورد (أ). وورد في: (ب)، (ج)، (د): (الاستعلاء). وأثبَتُّ ما في نسخة الأصل؛ نظرًا لِمُوافقته لما سيأتي بعده من طلبهم للرئاسة. وما ذكره المؤلف من معنى (البغي)، إنما هو في موضعه في هذه الآية؛ لأن لـ (البغي) معانٍ عدة، وأصله: مجاوزة الحد. ومن وجوهه: الحسد، والظلم. انظر: "اللسان" 1/ 321 (بغى)، "الوجوه والنظائر في القرآن الكريم" د. القرعاوي 226. (¬2) في (ج)، (د): (وانتصب). (¬3) في "معاني القرآن" له:1/ 199. (¬4) من قوله: (إلا ..) إلى (.. اختلفوا بغيًا بينهم): ساقط من: (د). (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 387، نقله عنه بنصه. (¬6) في "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني"، له: 1/ 573 - 575. تَصَرّف في بعض عباراته، ونقل بعضَها بالمعنى. (¬7) قوله: (وجه قول الأخفش: أن بغيًا انتصب): ساقط من: (ج).

مفعول له؛ أي: للبغي؛ كقولك: (جئتُ مَخافةَ الشرِّ، وابتغاءَ الخير). [قال] (¬1): وأَغْفِرُ عَوْراءَ الكريمِ ادِّخارَهُ (¬2) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (د). (¬2) صدر بيت. وعجزه: وأصْفَح عن شتمِ اللئيمِ تَكَرُّما وهو لحاتم الطائي، وهو في: "ديوانه" (ن: دار مكتبة الهلال): 72، وورد منسوبًا له، في "كتاب سيبويه" 1/ 368، "الإفصاح" 279، "شرح المفصل" 2/ 54، "اللسان" 5/ 3165 (عور)، "التصريح بمضمون التوضيح" للأزهري: 1/ 392، "شرح شواهد المغنى" 2/ 952، "الخزانة" 3/ 115، 122. "الجمل" للخليل: 95، "معاني القرآن" للفرَّاء: 2/ 5، "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 167، "الكامل" 1/ 291، "المقتضب" 2/ 348، "المحلى" (وجوه النصب)، لابن شقير: 69، "وأسرار العربية" للأنباري: 187، "الاقتضاب" 109. وورد في بعض المصادر بالروايات التالية: (.. اصطناعه وأعرض عن ذات ..) و (.. اصطناعه وأصفح عن ذات ..) و (.. وأصفح عن شتم ..). ومعنى (أغفر): استُر. و (العَوْراء): الكلمة، أو الفعلة القبيحة، و (الادِّخار)، افتعال من (الذُّخر)، بمعنى: الاتخاذ والحفظ، وأصلها: (اذتخار)، فقلبت التاء ذالًا، وأدْغِمَت فيها الذالُ الأصليةُ، فصارت ذالًا مشدوةً، ثم أبدِلَت الذالُ دالًا. انظر: "اللسان" 3/ 1490 (ذخر)، 5/ 3165 (عور)، 6/ 3274 (غفر). ومعنى البيت: إذا جهل علي الكريمُ بكلمة أو فعلةٍ قبيحة، سترتها عليه، وسامحته، واحتملتها منه؛ للإبقاء على صداقته، ولادِّخاره ليوم احتاج إليه فيه. وإن شتمني اللئيمُ أعرضت عن شتمه والرد عليه؛ إكرامًا لنفسي. والشاهد في البيت: نصب (ادِّخارَه)، و (تكَرُّما) على المفعول لأجله، والأصل فيه: (لادخارِه)، و (للتكرمِ)، فلما حُذِف حرفُ الجرِّ، انتصب الاسمُ.

ووجه قول الزجَّاج: أنَّه انتصب على المصدر؛ كأنه لمَّا قيل: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} دلَّ (¬1) على: (وما بغى (¬2) الذين أوتوا الكتاب). فحُمِلَت {بَغْيًا} عليه (¬3). فإن قيل: ما الفصل (¬4) بين ما ينتصب على المصدرة نحو: {صُنْعَ الله} (¬5)، وما ينتصب على أنَّه مفعول له؛ نحو: (ادِّخاره)، وبابه؟ فالقول: إنَّ الجميع وإن كانا يجتمعان في أنهما ينتصبان عن تمام الكلام؛ فالمفعول له؛ معناه: الإخبارُ بالغرض الذي من أجله فُعِل الفعلُ، والسبب له. والعامل فيه؛ هو هذا الفعل (¬6) الظاهر. وأما (¬7) المصدر: فالنحويون يُسَّمونه مفعولًا مطلقًا؛ لأن الفاعل ¬

_ (¬1) (دل): ساقطة من: (ج). (¬2) في (أ)، (ج): (بغا). والمثبت من: (ب)، (د). (¬3) أي أنَّ (بغيًا) مصدر مؤكِّد (مفعول مطلق)، ويكون التقدير: (وما بغى الذين أوتوا الكتاب ... بغيًا). والمعنى بناء على رأي الأخفش: أن الاختلاف بينهم حاصل قبل مجيء العلم وبعده، ولكن سببه بعد مجيء العلم هو البغي، فهو المفعول لأجله. والمعنى على رأي الزجاج: أن الخلاف بينهم حصل بعد مجيء العلم فقط وسببه البغي. هذا والله أعلم. (¬4) في (ب): (الفعل). (¬5) وقد انتصبت (صُنْعَ) بفعلٍ مضمرٍ دلَّ عليه ما قبله؛ لأن معنى الجملة: (صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعًا)، أو (صنع صنعًا، الله). ثم أضاف المصدر إلى الفاعل. ويجوز نصبها على الإغراء؛ أي: (انظروا صنع اللهِ). ولكن ليس هذا الوجه محل الشاهد. انظر: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 2/ 768، "إعراب القرآن" للنحاس: 2/ 536، "البيان" للأنباري: 2/ 228. (¬6) في (د): (السبب). (¬7) في (د): (فأما).

20

أحدثه. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. هذا شرطٌ وجوابُ، يتضمن وعيدًا لليهود الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وذكرنا معنى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} في سورة البقرة (¬1). 20 - قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]. قال ابنُ عباس (¬2): نزلت في يهود المدينة، ونصارى نَجْرَان، والأمِّيِّين من العرب. قال الكلبي (¬3): وذلك أن اليهود والنصارى قالت: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نَسَبٌ، والدِّين هو الإسلام، ونحن عليه. قال الزَّجَّاج (¬4): فأمر الله تعالى نبيَّه بأن يحتجَّ عليهم؛ أنه اتَّبع أمرَ اللهِ، الذي هم مُجْمِعون (¬5) مُقرُّون بأنه خالقُهم، وأمَرَه بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} الآية بأن يدعوهم إلى ما هو عليه من الإسلام. قال أهل المعاني (¬6): وإنما لزمتهم الحُجَّة من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر تفسير آية: 202 من سورة البقرة. (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله إلا ما ورد في "تنوير المقباس" 44، فقد قال بعد قوله تعالى: {حَاجُّوكَ} (يعني: اليهود والنصارى)، وقال بعد {وَالْأُمِّيِّينَ}: (يعني: العرب). (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 25 أ. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 388، نقله عنه بتصرف. (¬5) في "معاني القرآن": (أجمعون). (¬6) لم أعثر على من نصَّ على هذا القول، ممن سبق المؤلف.

أراهم الدلالة على صدقه ونبوَّته، ثم دعاهم إلى اتباع أمر من أقروا بأنه خالقهم، فإذا لم يطيعوه، صاروا محجوجين. فهذا وجه الحجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ}. ومعنى {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ}: أي: انقدت له بقلبي ولساني وجوارحي. وذكرنا أن الإسلام معناه -في اللغة-: الانقياد (¬1). وذُكِرَ (الوجه) هاهنا؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان، فإذا خضع وجهُهُ لشيء، فقد خضع له سائرُ جوارحه (¬2). وقال ابن عباس في هذه الآية (¬3): يريد: كما قال أبوك إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]. وقد ذكرنا هناك معنى (أسلم) و (أسلمْتُ). وقال الفرَّاء (¬4): معنى [أسلمت وجهي لله: أخلصت عملي لله؛ يقال (¬5)] (¬6): (أسلمتُ الشيءَ لفلان)؛ أي: أخلصته لهُ، فسلم له الشيء، ولم يشاركه غيره (¬7). قال: ومعنى (الوجه) ههنا: العمل، كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ¬

_ (¬1) انظر ما سبق عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} من آية 19 من هذه السورة. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 214، "تفسير الثعلبي" 3/ 25 ب. (¬3) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬4) لم أهتد إلى مصدر قوله وهو موجود في "تفسير الثعلبي" 3/ 25 ب. (¬5) في (ج): (فقال). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من: (ج)، (د). (¬7) في (ج): (فيه).

[الأنعام: 52 - الكهف: 28]، أي: قصده والعمل. وقول الشاعر: ... إليه الوجهُ والعَمَلُ (¬1) نسق بالعمل على الوجه، وهما واحدٌ؛ لاختلاف اللفْظَيْن. ومضى الكلام في هذا عند قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]، الآية. وقوله تعالى: {وَمنِ اَتَّبَعَنِ}. {مَنِ} عطف على الضمير في {أَسْلَمْتُ} من غير أن يؤكده؛ لأن الكلام طال بقوله: {وَجْهِىَ للهِ}، فصار عِوَضًا من تأكيد الضمير المُتَّصِل. ولو قيل: (أسْلَمْتُ وزيدٌ)، لم يَحْسُن حتى يقول: (أسلمتُ أنا وزيدٌ). ¬

_ (¬1) عجز بيت، وتمامه: أستغفرُ الله ذنبًا لست مُحصِيَهُ ... رب العباد إليه الوجه والعمل لم أهتد إلى قائله، وقد ورد غير منسوب في المصادر التالية "كتاب سيبويه" 1/ 37، "معاني القرآن" للفرَّاء: 2/ 314، "تأويل مشكل القرآن" 177، "أدب الكاتب" 524، "المقتضب" 2/ 321، "الأصول في النحو" 1/ 178، "المحلى" لابن شقير: 68، "الخصائص" 3/ 247، "الصاحبي" 291، 339، "أمالي المرتضى" 1/ 591، "تفسير الثعلبي" 25/ 3 ب، "المخصص" 14/ 71، "الاقتضاب" 3/ 400، "شرح المفصل" 7/ 63، 8/ 51، "اللسان" 5/ 26 (غفر)، "شرح شذور الذهب" ص 445، "المقاصد النحوية" 3/ 226، "منهج السالك" (شرح الأشموني): 2/ 194، "التصريح" للأزهري: 1/ 394، "الهمع" 5/ 17، ورد فيه الشطر الأول فقط. "خزانة الأدب" 3/ 111، "الدرر اللوامع" 2/ 106. ومعنى البيت: أطلب المغفرة؛ أي: الستر على ذنوبي، ويريد بـ (الذنب) هنا اسم الجنس؛ أي: جميع الذنوب؛ لأنه قال بعده: (لست محصِيَهُ)؛ أي: لا أحصي عدد ذنوبي التي عملتها، وأستغفر الله من جميعها. و (الوجه) هنا القصد، وهو بمعنى: التوجُّه؛ أي: إليه التوجه في الدعاء.

فإن قال: (أسلمتُ اليوم (¬1) بانشراح صدرٍ ومن جاء معي)، جاز وحَسُنَ (¬2). [قال أبو إسحاق (¬3): حذفت الياء من (اتبعن)، وهذه الياء إذا وقعت في آخر آية، حسن] (¬4) حذفها (¬5)؛ لأن أواخر الآي تُشَبَّهُ (¬6) بقوافي الشِّعْر، وأهل اللغة يسمونها الفواصل. قال الأعشى: ومن شانئٍ كاسِفٍ بالُهُ ... إذا ما انتسَبْتُ له أنكَرَنْ (¬7) ¬

_ (¬1) (اليوم): ساقطة من (د). (¬2) وفي إعراب {وَمَنِ اتَّبَعَنِ}، وجوهٌ أخرى، وهي: أنها مرفوعة على الابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: (ومن اتَّبعني أسلم وجهه لله). أنها منصوبة على المعيَّة، والواو واو المعية؛ أي: (أسلمت وجهي لله مع من اتبعني)، أو (مصاحبًا لمن أسلم وجهه لله). أنها في محل جر عطفا على اسم الله تعالى، على تأويل: (جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتَّبعني بالحفظ له والاحتفاء بعمله وبرأيه وبصحبته). ويظهر على الوجه التكلف والتعسف. انظر هذه الوجوه، في "الفريد في إعراب القرآن المجيد" للمنتجب الهمداني 1/ 555، "البحر المحيط" 2/ 421، "الدر المصون" 3/ 90 - 92، "الفتوحات الإلهية" 1/ 253. (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 389، نقله عنه بتصرف واختصار قليل. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬5) (حذفها): ساقطة من: (د). (¬6) (تشبه): مطموسة في (ج). (¬7) البيت في "ديوانه" ص 207. وورد منسوبًا له في "الكتاب" 4/ 187، "أمالي ابن الشجري" 2/ 291، و"مجاز القرآن" 2/ 195، و"الأمالي" للقالي 2/ 263، و"إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 259، و"فقه اللغة" للثعالبي 218،=

فإذا لم يكن آخر آيةٍ أو قافيةٍ، فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد، خاصة مع النونات؛ لأن أصل (اتبعني) (¬1): (اتبعي) (¬2)، فزيدت النونُ؛ لِتَسْلَم فتحةُ العيْن. فالكسرة (¬3) من النون، تنوب عن الياء، فإذا لم تكن النون؛ نحو: (غلامي)، (وصاحبي)، فالأجود إثباتها، وحذفها قليل، إلا أنه جائز؛ لأن (¬4) الكسْرَة دالة عليه. قال ابن عباس (¬5): {وَمَنِ اتَّبَعَنِ}: يريد: المهاجرين والأنصار. وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ}. يعني: العرب (¬6) ¬

_ = "شرح المفصل" 9/ 83، 86. وورد غير منسوب في "غريب الحديث" للحربي: 2/ 874، "وشرح أبيات سيبويه" للنحاس: 189. وروايته في الديوان وبعض المصادر: (.. كاسف وجهه ..)، وورد في بعض المصادر: (.. ومن كاشح ظاهِرٍ غِمْرُهُ ..). و (الشانئ): المُبغِض، و (كاسف البال): سيِّء الحال، و (كاسف الوجه): عابِسُه؛ من سوء الحال، و (رجل كاسف): مهمومٌ، قد تغير لونه، وهزل من الحزن. و (أنكرن): أنكرني بادِّعائه أنه لا يعرفني؛ لكراهيته لي. أما في الرواية الثانية: فمعنى (كاشح)؛ أي عدو مبغض، وهو الذي يضمر لك العداوة في كَشْحه؛ أي: باطنه، أو يطوية عنك كشحُهُ وُيعرض عنك، و (الكشح): الخَصْر. و (الغَمْرُ) بفتح الغين وكسرها: الحقد والغِل. انظر: "اللسان" 4/ 2335 (شنأ)، 7/ 3877 (كسف)، 7/ 3880 (كشح)، 6/ 3294 - 3295 (غمر). والشاهد في البيت: حذف الياء من (أنكرن) في الوقف عليها في القافية، وأصلها: (أنكرني). (¬1) في (ب): (اتبعن). (¬2) في (أ)، (ب): (اتَّبعنن). والمثبت من: (ج)، (د)، "معاني القرآن" للزجَّاج، "زاد المسير" 1/ 364. (¬3) في (د): (فالكسر). (¬4) في (ج): (إلا أن). (¬5) لم أعثر على مصدر قوله. (¬6) أي: إن الأميِّين هم العرب. وسُمُّوا بذلك كما يقول ابن عطية: نسبة (على الأم،=

{أَأَسْلَمْتُمْ}. قال الفرَّاء (¬1)، والزجَّاج (¬2): معناه: الأمر؛ أي: أسلموا؛ لأنه استفهام في معنى التوقيف والتهديد، وفي ضمنه الأمر؛ كما تقول للإنسان، بعد أن تأمره وتُؤكِّد عليه: أقَبِلْتَ؟ فأنت تسأله متوعدًا، وفي مسألتك دليلٌ أنك تأمره أن يفعل، ومثله قوله (¬3): {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ أي: انتهوا. قال النحويون: إنما جاء الأمر في سورة الاستفهام؛ لأنه بمنزلته في طلب الفعل، والاستدعاء إليه، فذكر ذلك؛ للدلالة على الأمر، من غير تصريح به؛ ليُقِرَّ المأمورُ بما يلزمه من الأمر. وقوله تعالى: {عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}. البلاغُ: اسمٌ (¬4) للمصدر، بمنزلة ¬

_ = أو إلى الأمَّة ... أي: كما هي الأم، أو على حال خروج الإنسان عن الأم، أو على حال الأمة الساذجة قبل التعلم والتحذق) "المحرر الوجيز" 3/ 58؛ أي: سُمُّوا بذلك لعدم معرفتهم الكتابة والقراءة. وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 204 - 205 (أمم). وبهذا ورد الأثر عن ابن عباس، كما في "تفسير الطبري" 3/ 215، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 620. ويعزز هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب .. ". أخرجه البخاري في "صحيحه" 2/ 230 كتاب الصوم، باب: 13، ومسلم في: "صحيحه": 2/ 761. كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان، رقم: 15. وقال محمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن إسحاق: الذين لا كتاب لهم. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 215، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 619. (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 202. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" له 1/ 390، وعنه نقل المؤلف العبارات التالية، بتصرف. (¬3) (قوله): ساقط من: (ج). (¬4) (اسم): ساقط من: (د).

التبليغ؛ كـ (السَّراح) (¬1) و (الأداء)، أي: تبليغ الرسالة. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. قال ابن عباس (¬2): ممن (¬3) آمن بك وصدَّقَكَ، ومن كفر بك وكذبك (¬4). وفي هذه الآية تسلية للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - حين أُخبر أنه ليس عليه هداهم، إنما عليه التبليغ، فإذا بلَّغ فقد أدَّى ما عليه. وقال بعض المفسرين: حكم هذه الآية قبل أن يُؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيف (¬5). ¬

_ (¬1) (السَّراح) اسم للمصدر، بمعنى: التسريح، وأصل (التسريح): إرسال الإبل في المرعى، ثم جُعِل للمطلق الإرسال، ثم استعير في الطلاق، فـ (تسبح المرأة): تطليقها، والاسم: (السَّراح)، قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} الأحزاب: 49، وقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. ومن معاني (السَّراح): السهولة، والمصدر: (التسريح)؛ أي التسهيل. انظر: (سرح)، في "اللسان" 4/ 1984 - 1985، "عمدة الحفاظ" 237. (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬3) في (ج): (من)، (د): (بمن). (¬4) والذي في: "تنوير المقباس" عنه: 44: (بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن). (¬5) يعني أنها منسوخة، والمنسوخ منها عندهم هو قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. وممن قال بذلك ممن سبق المؤلف بالوفاة: أبو عبد الله، محمد بن حزم الأنصاري، المتوفى سنة (320 هـ) تقريبًا، في كتابه: "الناسخ والمنسوخ في القرآن": 30، وهبة الله بن سلامة، المتوفى سنة (410 هـ) في كتابه: "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل": 60. والناسخ لها عندهم هي آية السيف، وهي في أصح أقوال العلماء: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]. ومنشأ دعواهم بأنها منسوخة، هو أنَّ الآية بما تضمنته من أسلوب القصر حصرت مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، في تبليغ الرسالة والموادعة دون قتال المخالفين، ثم جاءت آية =

21

21 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} نزلت في اليهود (¬1)، ومعنى هذه الآية، قد ذكرنا في سورة البقرة، عند قوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61]. ¬

_ = السيف بالإذن بقتالهم، فنسخت الاقتصارَ على التبليغ، وصارت المهمةُ بعدها: التبليغ والقتال في سبيل ما كُلِّفَ بتبليغه، ولكن دعوى النسخ هذه لا تُسلَّم؛ لأمور منها: أن هذه الآية خبَر، والأخبار لا تقبل النسخ. أن القول بالنسخ يقتضي معرفة تاريخ نزول الآية؛ ليقال: إن اللاحق نسخ السابق، والتاريخ هنا غير معروف. إن القصر هنا إضافيٌّ، يُراد به تقرير أن الرسول ليس مكَلَّفًا بإيجاد الإيمان في القلوب، وهو ما يُسمَّى بهداية القبول، فذلك من حق الله تعالى، أمَّا هداية البيان والإرشاد والتبليغ فذلك من وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي المرادة في هذه الآية. أن الآية كما يقول د. مصطفى زيد: (لم تكن تقصد إلى إعفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من واجب القتال في سبيل الدعوة، وإنما قصدت إلى تقرير أنه قد بَلَّغ عن الله فأدَّى ما عليه. وشَرْعُ القتال قبلها، ثم بعدها بآية السيف وغيرها لم يغير شيئًا من حقيقة الوظيفة التي كُلِّفَ القيام بها، وإن كان قد زاد الوسائل إليها وسيلة جديدة، هي: مشروعية القتال في سبيلها؛ لتأمين الدعوة، وحماية أرواحهم من عدوان الكفار عليهم، لا لحملهم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح). "النسخ في القرآن" د. مصطفى زيد: 1/ 425، وانظر: "المحرر الوجيز" 3/ 59. (¬1) وقال محمد بن جعفر، وقتادة، وأبو سليمان الدمشقي: إن المراد هنا هم اليهود والنصارى. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 215، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 621، "تفسير البغوي" 2/ 20، "زاد المسير" 1/ 365، "تفسير الخازن" 1/ 279، "البحر المحيط" 2/ 413 وقال ابن عطية، عن الآية بعد أن ذكر قول محمد بن جعفر: وتعم كلَّ من كان بهذه الحال، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمساوئ أسلافهم، وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوئ؛ لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -. "المحرر الوجيز" 3/ 60.

وقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ}. روى أبو عبيدة بن الجرَّاح (¬1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قَتَلَت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين (¬2) نبيًا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا (¬3) عَشَرَ رجلًا، من عبَّاد بني إسرائيل، فأمروا مَنْ قَتَلَهم بالمعروف، ونَهَوْهم عن المنكر، فقُتِلُوا جميعًا من آخر النهار، في ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عز وجل في كتابه، وأنزل الآية فيهم (¬4). وقرأ حمزةُ (¬5): (ويُقاتِلون الذين)، لأنه (¬6) اعتبر قراءةَ عبد الله (¬7): ¬

_ (¬1) هو: عامر بن عبد الله الجَرَّاح، الفِهْري القرشي. من كبار الصحابة، والسابقين منهم، سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أمينَ هذه الأمة)، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، شهد بدرًا وما بعدها من المشاهد، توفي بالأردن، سنة (18هـ). انظر: "الاستيعاب" 2/ 341 - 343، "الإصابة" 2/ 252 - 254. (¬2) في (ب): (وأربعون). (¬3) في (د): (واثنى). (¬4) الأثر عن أبي عبيدة، أخرجه: الطبري في "تفسيره" 3/ 216، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 621 وفيه بلفظ (.. فقام مائة رجل وسبعون رجلًا ..)، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 26 ب، وذكره (8) الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 381، والبغوي في "تفسيره" 1/ 20 - 21، والديلمي في: "مسند الفردوس": 5/ 361 رقم (8441) وأورده القرطبي في "تفسيره" 4/ 46، ونسب إخرا جه للمهدوي، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 381، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 23. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 272، وقال: (رواه البزار، وفيه ممن لم أعرفه اثنان). وفيه عندهم جميعًا: أبو الحسن مولى بني أسد، وهو مجهول. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 357، "ميزان الاعتدال" 6/ 188، "المغني في الضعفاء" للذهبي: 2/ 780. (¬5) هو: أبو عمارة، حمزة بن حبيب الزيات، تقدمت ترجمته. (¬6) من قوله: (لأنه ..) إلى (.. قتال المباين المشاق لهم): نقله عن "الحجة" للفارسي 3/ 24 بتصرف كثير. (¬7) هو ابن مسعود رضي الله عنه. وانظر قراءته، في "المصاحف" لابن أبي داود: =

(وقاتَلوا الذين يأمرون)، فقرأ (¬1): {يُقَاتِلُونَ}، وهو يريد: (قاتَلُوا)، كما روي في حرف عبد الله. ويجوز أن يكون المضارع، بمعنى الماضي؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]، وقال في أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} (¬2)، فالأول جاء على لفظ المضارع؛ حكاية للحال، كذلك (¬3) قراءة حمزة: (ويقاتلون)، يجوز (¬4) أن يكون مراده: (قد قاتَلوا)، إلا أنه جاء على لفظ المضارع، حكايةً للحال. والمعنى في قراءة حمزة: أنهم لا يوالون الذي يأمرون بالقسط؛ ليقلَّ نهيُهم (¬5) إيَّاهم عن العدوان عليهم، فيكونون متباينين لهم (¬6) مُشاقِّينَ؛ لأمرهم بالقسط، وإن لم يقتلوهم (¬7) كما قتلوا الأنبياء، ولكن يقاتلونهم (¬8) ¬

_ = 59، "تفسير الثعلبي" 3/ 26 أ، "الحجة" للفارسي 3/ 24، "البحر المحيط" 2/ 414. (¬1) من قوله: (فقرأ ..) إلى (.. يريد قاتلوا): ساقط من: (ج). (¬2) سورة النساء: 167، وورد هذا المقطع كذلك في: سورة النحل: 88، وسورة محمد: 32، 34. (¬3) من قوله: (كذلك ..) إلى (.. حكاية للحال): ساقط من: (د). (¬4) في (ج): (ويجوز). (¬5) في (أ)، (ب): (نبيهم)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "الحجة" للفارسي. وورد في إحدى نسخ "الحجة" أشار إليها محققه: (لِثِقَلِ نَهْيِهِم). (¬6) هكذا جاءت في جميع النسخ، وفي "الحجة" للفارسي: (مباينين)، وهي الأصْوَب، ولكني تركت ما في الأصل كما هو؛ لاتفاق جميع النسخ عليه. (¬7) في (ج): (يقاتلوهم). (¬8) فى (ج): (يقاتلوهم).

22

قتال المُبايِنِ، المُشاقِّ لهم. والصحيح الموافق لتفسير الآية: قراءةُ العامَّةِ (¬1). وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. ذكرنا معنى التبشير، وجواز إطلاقه فيما [لا] (¬2) يَسُر، عند قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25]. وأما (¬3) دخول الفاء في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} وهو خبر الابتداء، فقد (¬4) ذكرنا ما فيه عند قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. 22 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} هو يريد بـ {أَعْمَالُهُمْ}: ما هم عليه من ادِّعائهم التمسك بالتوراة، وإقامة شريعة موسى. وأراد ببطلانها في الدنيا: أنها لم تحقن دماءَهم، وأموالهم (¬5)؛ وفي الآخرة: لم يستحقوا بها مثوبة، فصارت كأنها لم تكن ولم توجد. ¬

_ (¬1) قال النحاس في "معاني القرآن" 1/ 375: (فإن قال قائل: الذين وُعظوا بهذا لم يقتلوا نبيًا. فالجواب عن هذا: أنهم رضوا فِعْلَ من قَتَل، فكانوا بمنزلته، وأيضًا فَإنهم قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهمُّوا بقتلهم ..). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)؛ ليستقيم بها المعنى. (¬3) من قوله: (وأما ..) إلى (.. ذكرنا ما فيه عند قوله): ساقط من (د). (¬4) في (ج): (وقد). (¬5) يعني المؤلف هنا والله أعلم: أنهم لم ينالوا بها محمدة الناس، وثناءَهم، ولم يرفع الله بها ذكرَهم؛ لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم وفضح ما كانوا يُخفُون من قبيح الأعمال على ألْسِنة رسله وأنبيائه في كتبه المنزلة، فأزال من قلوب الخلق محبَّتهم، وغرس فيها احتقارهم، وبقيت على مدى الدهر مذمَّتُهم؛ مما أدى لأن تُسفَك دماؤُهم، وتُسلَب أموالهم. انظر "تفسير الطبري" 3/ 217، "تفسير الفخر الرازي" 7/ 233.

23

23 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} الآية إنما قال: {نَصِيبًا}؛ لأنهم كانوا يعلمون بعض ما في الكتاب (¬1). والمراد بهؤلاء: اليهود. وقوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ}. قال ابن عباس في رواية الضحَّاك (¬2): المرادبـ (كتاب الله) ههنا: القرآن، والله [تعالى] (¬3) جعل القرآن حَكَماً بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، فَحَكمَ القرآن عليهم بالضلالة، فأعرضوا عنه. فإن قيل: كيف دُعوا إلى حكم كتابٍ لا يؤمنون به؟ قيل: إنَّما دُعوا إليه بعد (¬5) أن ثبت أنه (¬6) من عند الله، بموافقته التوراة في الأنباء والقصص، ورصانته (¬7)، بحيث لم يقدر بشرٌ أن يعارضَه، وهذا ¬

_ (¬1) وقال الشوكاني في "فتح القدير" 1/ 495: (وتنكير النصيب؛ للتعظيم؛ أي: نصيبًا عظيمًا، كما يفيده مقام المبالغة. ومن قال: إنَّ التنكير للتحقير فلم يصب، فلم ينتفعوا بذلك؛ وذلك بأنهم يدعون إلى كتاب الله الذي أوتوا نصيبًا منه، وهو التوراة). وبهذا قال الزجَّاج في "معاني القرآن" 1/ 391، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 376، والزمخشري في "الكشاف" 1/ 420، وأبو السعود في "تفسيره" 2/ 20. (¬2) هذا الأثر، في "تفسير الثعلبي" 3/ 27 أ، "تفسير البغوي" 2/ 21. وهو كذلك من رواية أبي صالح عنه، وهو قول الحسن، وقتادة. انظر: "النكت والعيون" 1/ 382، "زاد المسير" 1/ 367. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬4) في (ج)، (د): (رسوله). (¬5) (إليه بعد): ساقطة من (ج). (¬6) في (ج): (أنهم). (¬7) في (د): (ورصافته).

قول قتادة (¬1)، وقال في رواية سعيد بن جُبَير، وعكرمة: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود: "أنا على ملَّة (¬2) إبراهيم، وملَّته: الإسلام"، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهَلُمُّوا إلى التوراة". فأبوا عليه. فأنزل الله هذه الآية (¬3). وقال في رواية أبي صالح: أنكروا آية الرجْمِ من التوراة، وكان قد زنى منهم رجل (¬4) وامرأة، فكرهوا (¬5) رجمَهما (¬6) وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلزمهما (¬7)، فحكم بالرجْمِ. فقالوا: جُرْتَ (¬8) يا محمد! فقال: "بيني وبينكم التوراة". ثم أتوا بابن صُورِيا (¬9)، فقرأ التوراة، فلما أتى على آية الرجم سترها بكفِّهِ، فقام (¬10) ابنُ سَلام، فرفع كفه (¬11) عنها، ثم قرأ على ¬

_ (¬1) يعني بـ (قول قتادة) والله أعلم: ما سبق أن ذكره من أن المراد بـ (الكتاب)، هو: القرآن. (¬2) في (ج): (ما أنا على ملة)، (د): (ما علامكة). (¬3) هذا الأثر في "سيرة ابن هشام" 2/ 179 - 180 "تفسير الطبري" 3/ 217، "ابن أبي حاتم" 2/ 622، "الثعلبي" 3/ 27 ب، "أسباب النزول" للواحدي: 102، "تفسير البغوي" 2/ 21 - 22، "زاد المسير" 1/ 366، "تفسير القرطبي" 4/ 50، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 24، "لباب النقول" 50، ونسب إخراجه لابن المنذر. (¬4) في (ج): (د): (رجل منهم). (¬5) في (ج): (وكرهوا). (¬6) في (ج): (رجمها). (¬7) في (أ): (يلزمها)، والمثبت من: (ب)، (ج) (ء). (¬8) قوله: (فقالوا: جرت): ساقط من (ج). (¬9) جاء في "تفسير الثعلبي" 3/ 27 (ب) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل اليهود، فقال: "فمن أعلمكم بالتوراة؟ " فقالوا: رجل أعور يسكن فدك، يقال له: ابن صوريا. واسمه: عبد الله. (¬10) في (ج): (فقال). (¬11) في (ج): (ارفع كفك).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى اليهود الرجْمَ، فغضب اليهودُ لذلك (¬1) غضباً شديداً، وانصرفوا؛ فأنزل الله هذه الآية (¬2). ¬

_ (¬1) (لذلك): ساقطة من (ج). (¬2) هذا الأثر في "تفسير الثعلبي" 3/ 27 ب من رواية الكلبي عن أبي صالح. كما ورد في "تفسير البغوي" 2/ 22، "زاد المسير" 1/ 366، "البحر المحيط" 2/ 416. وقد ذكره المؤلف هنا مختصرًا وأورد طرفًا منه في "أسباب النزول" 102، وأشار إلى أنه سيأتي بيان ذلك في سورة المائدة، ولكنه عند إيراده لأسباب نزول سورة المائدة، لم يورد هذا الأثر عن ابن عباس، وإنما أورد آثارًا أخرى في نفس المعنى. ولم أجد أحدًا من المفسرين ممن اطَّلعت على تفاسيرهم ذكر هذا السبب عند هذه الآية، إلَّا من سبق ذكره، وإنما أورد المفسرون هذا السبب عند الآية: 41، 43 من سورة المائدة، ولكن بروايات أخرى عن ابن عباس وغيره، وأقرب هذه الروايات إلى ما ذكره المؤلف: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (إنَّ اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نفضحهم ويُجلدون. قال عبد الله بن سَلاَم: كذبتم! إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدُهم يَدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. قالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة). "صحيح البخاري" (6841). كتاب الحدود. باب: أحكام أهل الذمة. وأخرجه مسلم في "صحيحه" (1699) كتاب الحدود، باب: رجم اليهود، أهل الذمة. وأخرجه أبو داود (4446). كتاب: الرجم. وليس في لفظ الحديث أنه سبب لنزول الآية. وأما الوارد عن ابن عباس مما هو قريب من هذه الرواية فهو من رواية معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وأخرجها الطبري 6/ 232 عند آية 41 من المائدة، وليس فيها كذلك أنها سبب لنزول الآية. انظر بقية الروايات، في "الدر المنثور" 2/ 498 - 500، "أسباب النزول" للواحدي: 197 - 200، "لباب النقول" للسيوطي: 91 - 92.

24

وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ}. إن قيل: كيف خصَّ بالتولِّي فريقاً، ثم جمعهم في الإعراض، فقال: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ}؟. فالجواب، ما قال ابن الأنباري (¬1)، وهو: أنَّ الفريق المتولِّي، هم: المعرضون. وأراد بـ (الفريق المتولي): الرؤساء الذين تدين السَّفَلَةُ لهم، فأفردهم الله تعالى بالذكر، وخصَّهم بالتولي، لأنهم سببٌ لإضلال أتبَّاعهم. قال (¬2): ويحتمل أن يكونَ المتولُّون: العلماء والرؤساء، والمعرضون: الباقون منهم؛ كأنه قيل (¬3): ثم يتولى العلماءُ. والتُبَّاعُ معرضون عن القبول من النبي - صلى الله عليه وسلم - لتولي علمائهم. ويجوز أن يكون الفريق اختصه الله (¬4)؛ لأن عبد الله بن سَلام، وغيره من مؤمني أهل الكتاب، كانوا ممن قبلوا حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان (¬5) المتولِّي بعض مَن أوتي (¬6) الكتاب. 24 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}. (¬7) اختلف أهل المعاني في المُشارِ إليه بـ {ذَلِكَ}، فقال بعضهم (¬8): {ذَلِكَ} راجعة إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [آل عمران: 22]؛ يعني: ذلك الحُبُوطُ؛ بكذبهم على ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد أورد طرفًا منه ابنُ الجوزي في "زاد المسير" 1/ 367. (¬2) (قال): ساقطة من (د). (¬3) في (د): (كانو قبل). (¬4) معنى عبارة المؤلف هنا: أن الله خصَّ بالتولي فريقًا منهم دون الكل، لأن منهم من لم يتولَّ، كابن سلام وغيره. (¬5) في (ج)، (د): (وكان). (¬6) في (ج): (أولى). (¬7) (بأنهم): ساقطة من (د). (¬8) لم أهتد إلى هذا القائل. ولم أقف فيما رجعت إليه من مصادر على من قال برجوع {ذَلِكَ} إلى (الحبوط).

الله؛ وهو قولهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات}. و (¬1) قال ابن الأنباري (¬2): معنى قوله (¬3): {ذَلِكَ بِأَنَّهُم} أي: ذلك الاجتراء عليك، وعلى الإعراض عن حكمك يا محمد بسبب اغترارهم، ومقالتهم؛ حيث قالوا: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات}، وظنوا (¬4) أنفسهم على قِلَّةِ العذاب وقِصَرِ مُدَّته (¬5)، فتجاسروا على تكذيب الرسل (¬6). وهذا معنى قول الزجَّاج (¬7): أخبر الله تعالى عن اليهود، أنهم يُعرضون عن حكم كتاب الله، ثم أنبأ وبيّن ما حملهم على ذلك، وخبَّر بما غرَّهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} (¬8). قال: وموضع: {ذَلِكَ} رفعٌ. المعنى: شَأنُهُم ذلك، وأَمْرُهُم ذلك (¬9). ومضى القول في تفسير قولهم: ¬

_ (¬1) الواو زيادة من: (ج)، (د). (¬2) لم أعثر على مصدر قوله. (¬3) (قوله): ساقطة من (ج). (¬4) في (ب): (وطَّنوا)، وفي (د): (وطمنوا). (¬5) أي: أنهم ظنوا أنهم لا يعذبون إلا قليلًا، ولمدة قصيرة، كما زعموا. (¬6) وقد ذهب أكثر المفسرين إلى هذا الرأي، وهو أن {ذَلِكَ} تعود على التَّوَلِّي والإعراض المذكور في الآية قبلها. انظر: "المحرر الوجيز" 1/ 355، "الكشاف" 1/ 421، "تفسير الفخر الرازي" 7/ 236، "تفسير ابن كثير" 1/ 381، "تفسير أبي السعود" 2/ 21، "الفتوحات الإلهية" 1/ 255، "فتح القدير" 1/ 496، "روح المعاني" 3/ 111. (¬7) في "معاني القرآن" 1/ 391، نقله عنه بالمعنى. (¬8) (قالوا): ساقطة من (ج). (¬9) أي: أنها مرفوعة على أنها خبرُ مبتدأ محذوف؛ المعنى: شأنهم وأمرهم ذلك. ولكنِ هذا القول، ضعَّفه العكبري في "التبيان" 1/ 250؛ لأنه سيجعل قوله: {بِأَنَّهُمْ قَالُوا} في موضع نصب على الحال، مما في (ذا) من معنى الإشارة؛ أي: ذلك الأمر مستحقًا بقولهم .. ، وقال السمين الحلبي، في "الدر المصون" 3/ 95:=

25

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا} في سورة البقرة. وقوله تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} الغُرور: الإطماع (¬1) فيما لا يصح (¬2). وقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. يعني قولهم: لن تَمَسَّنا النار. 25 - قوله (¬3) تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ}. الآية. (كيف): معناه: السؤال عن الحال. والحال المسئولة عنها محذوفة؛ وتقديره: فكيف حالهم إذا جمعناهم؟ وتحذف الحال كثيراً مع كيف؛ لدلالته عليها؛ نحو قولك: (كنت أكْرِمُه وهو لم يزرني؛ فكيف إذا زارني؟)؛ أي: كيف حالُهُ إذا زارني في عِظَمِ الإكرام؟. ويُحذف أيضاً جوابُ هذا السؤال من الكلام؛ لأن في حذفه بلاغة تزيد على الإفصاح بذكره؛ لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: فكيف إذا زارني؟ وكل نوع من أنواع العذاب في الآية. وتأويل الكلام: أي حالة تكون (¬4) حال من اغتر بالدعاوى الباطلة، إذا جُمعوا ليوم الجزاء (¬5)؟ وقوله {لِيَوْمٍ} (¬6)، ولم يقل: (في يوم)؛ لأن ¬

_ = (بل هذا لا يجوز البتة). والقول الثاني: إن {ذَلِكَ} مبتدأ، وخبره: {بِأَنَّهُمْ} انظر المراجع السابقة، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" للمنتجب الهمداني: 1/ 557. (¬1) في (د): (الأطواع). (¬2) انظر: "تاج العروس" 7/ 299 (غرر). (¬3) في (د): (وقوله). (¬4) في (ب): (يكون). (¬5) قال أبو حيان في: "البحر": 1/ 417: (هذا تعجيب من حالهم واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم، وظهر كذب دعواهم، إذ صاروا إلى عذابٍ مالهم حيلة في دفعه ..). (¬6) في (ج): (ليوم لا ريب فيه).

المراد: لجزاء يوم، أو لحساب يوم؛ فحذف المضاف، ودلت اللاَّمُ عليه. قاله الزجَّاج (¬1). وقال الفرَّاء (¬2): اللاَّمُ، لفعل مُضْمَرٍ؛ إذا قلت: (جُمعوا ليوم الخميس)؛ كان المعنى: جُمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: (جُمعوا في يوم الخميس)، لم تُضْمِرْ فِعْلاً (¬3). وقوله تعالى: {لِيَوْمٍ}. أي: لما يكون في ذلك اليوم من الحساب والجزاء. وهذا قريب من القول الأول، بل هو تفسير له (¬4). وقوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. أي: جزاء ما كسبت (¬5) من خيرٍ أو شرٍّ. فهذا يكون على حذف المضاف، ويجوز أن يكون المعنى: ووُفِّيَت كل نفس ما كسب من الثواب والعقاب، بالطاعة والمعصية، فلا يكون في الكلام مضافٌ محذوف، ويجوز أن يُسمَّى الثوابُ والعقابُ كسباً للعبد؛ على معنى (¬6): أنهما جزاء كسبه، وأنه اجتلبهما بأعماله (¬7) الصالحة والطالحة (¬8). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 392، وعبارته: (أي: لحساب يوم لا شك فيه). (¬2) في "معاني القرآن" له: 1/ 202. نقله عنه بتصرف قليل. (¬3) انظر كذلك "تفسير الطبري" 3/ 220. (¬4) (له): ساقط من: (ب). وقد يكون هذا من تتمة كلام الفرَّاء، ولكن المؤلف نقله بالمعنى، ونص قول الفرَّاء: (أي: للحساب والجزاء). (¬5) قوله: (أي جزاء ما كسبت): ساقط من (ج). (¬6) (معنى): ساقط من (د). (¬7) في (ج): (بأعمال). (¬8) قال الطبري في "تفسيره" 1/ 380: (وأصل (الكسب): العمل، فكل عامل عملًا، بمباشرة منه لما عمل، ومعاناة باحتراف، فهو كاسبٌ لما عمل ..).

26

وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. أي: لا يُنقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيِّئاتهم. 26 - وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ} اختلف النحويون في إعراب (اللهمَّ)؛ فقال الخليل (¬1)، وسيبويه (¬2): (اللهمَّ)، بمعنى: يا الله. والميم (¬3) المشدَّدَة عِوَضٌ (¬4) من (يا)؛ لأنهم لم يقولوا: (يا) مع هذه الميم في هذه الكلمة. والضمة التي في الهاء (¬5): ضمة الاسم المنادى المفرد (¬6)، والميم مفتوحة؛ لسكونها، وسكون الميم التي قبلها. وأنكر الفرَّاء هذا القول؛ فقال (¬7): لم نجد العرب زادت مثل هذه الميم في نواقص الاسم إلَّا مخففة؛ مثل: (الفمُ)، و (هذا ابْنُمٌ)، و (سُتْهُمُ) (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: (فقال الخليل ..) إلى (.. وسكون الميم التي قبلها): نقله بتصرف يسير جدًّا عن "معاني القرآن" للزجَّاج: 1/ 394. (¬2) في: (الكتاب)، له: 2/ 196، وانظر مذهبه ومذهب الخليل كذلك في "الأصول في النحو" لابن السراج 1/ 338. (¬3) (الميم): ساقطة من (د). (¬4) في (ب): (عوضًا). (¬5) في (ج): (أولها)، وكذا هي في "معاني القرآن" للزجاج، ولا وجه لها، والصواب ما أثبته. (¬6) ويبنى المنادى المفرد على ما كان يرفع به قبل النداء، في حالة كونه علمًا، أو نكرة مقصودة، على أن لا يكونا مضافين، أو شبيهين بالمضاف. (¬7) في "معاني القرآن" له: 1/ 203، نقله عنه بتصرف. (¬8) قوله: (وهذا ابنم، وستهم): مطموسة في: (د). و (هذا) لم ترد في "معاني القرآن". و (ابنم): لغة في (ابن)، وتعرب إعرابها، وقيل إنَّ ميمها زائدة؛ للمبالغة، أو للعوض من لام الاسم المحذوفة، حيث إنَّ أصلها: (بَنَو)، وتعرب (ابنم) =

فلو (¬1) كانت الميم بدلاً من (يا)، لم يُجمع بين الميم و (يا)، وقد أنشدني بعضهم: وما عليكِ أنْ تَقُولي كُلَّمَا صَلَّيتِ أو سَبَّحتِ: يا اللَّهما اردُدْ علينا شَيخَنا مُسَلَّما (¬2) فقال: (يا اللهُمَّ). ثم قال: ونرى أنها كانت في الأصل كلمةً ضُمَّ ¬

_ = بحسب موقعها في الجملة، وحركة النون فيها تتبع حركة الميم في جميع حالات الإعراب، وبعضهم يبقيها مفتوحة دائمًا، ويجوز إبقاء الميم وحذفها عند إضافتها إلى ياء المتكلم. انظر: "موسوعة النحو والصرف والإعراب": 19، "معجم الشوارد النحوية" 65. و (سُتْهُمُ)؛ غير موجودة في "معاني القرآن" المطبوع المتداول، وقد وردت في "تفسير الطبري" 3/ 221. ومعنى (ستهم): هو الرجل الأسْتَهُ، إذا كان عظيم الاست، ويقال للمرأة: (سُتْهُم)، و (سَتْهاء). انظر كتاب "خلق الإنسان" لابن أبي ثابت: 306، "تهذيب اللغة" 2/ 1625 (ستة). (¬1) في (د): (ولو). (¬2) ثلاثة أبيات من الرجز لم يعرف قائلها، وردت في: "المحلى" لابن شقير: 84 "اللَّامات" للزجاجي: 90، "تفسير الطبري" 3/ 221، "الإنصاف" للأنباري ص291، "رصف المباني" 373، "اللسان" 1/ 116 (أله) "ارتشاف الضرب" 3/ 285، 289، "الهمع" 5/ 347، "خزانة الأدب" 2/ 296، "الدرر اللوامع" 2/ 220. وقد ورد في بعض المصادر: (.. صَلّيتِ أو هلَّلْت ..)، وفي الطبري: أو كبَّرتِ)، وفيه: (يا اللهُمَا)، وفي بعضها: تُفصَل (ما) عن (اللهُمَّ). والشاعر هنا يأمر بُنيَّته أو زوجته بالدعاء له، إذا ما سافر أو غاب عنهم: أن يرده عليهم سالمًا. و (التسبيح): تنزيه الله وتعظيمه وتقديسه، و (الصلاة) هنا قد تكون بمعنى الدعاء، أو الصلاة الشرعية، و (الشيخ) هنا الأب، أو الزوج. والشاهد فيه: قوله: (يا اللهمَّما)؛ حيث جمع بين حرف النداء، والميم المشددة، ولم يكتف بذلك، بل وزادها ميمًا مفردة بعد الميم المشددة، دلالة على أن الميم ليست بدلًا من حرف النداء.

إليها (أُمَّ)؛ يريد: (يا الله؛ أُمَّنا بخير)، فكثرت في الكلام حتى اختلطت (¬1) به، فحذفت الهمزة استخفافاً، فقيل: (اللهمَّ) (¬2)، ثم كثرت هذه اللفظة حتى قالوا: (لاهُمَّ)؛ بمعنى: اللهمَّ. قال الشاعر: لاهُمَّ إنَّ عامِرَ بن جَهْمِ ... أوْذَمَ (¬3) حَجّاً في ثِيَابٍ (¬4) دُسْمِ (¬5) وقال آخر: لاهُمَّ إن جُرْهُماً (¬6) عِبادكا ... الناس طُرْفٌ (¬7) وهمُ تِلادُكا (¬8) ¬

_ (¬1) في (د): (اختلط). ويعني بذلك: أنها اندمجت مع لفظ الجلالة. (¬2) (فقيل: اللهم): ساقط من (ج). (¬3) في جميع النسخ: (أودم). والصواب ما أثبته، كما سيأتي في التعليق على البيت. (¬4) في (أ)، (ب): (ثبات)، والمثبت من: (ج)، (د). (¬5) بيت من الرجز، وقائله مجهول، ولم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء. وقد ورد غير منسوب في المصادر التالية: "غريب الحديث" لأبي عبيد: 1/ 347، "تأويل مشكل القرآن" 142، "كتاب المعاني الكبير" 1/ 480 "الصحاح" 5/ 2050 (وذم)، "أساس البلاغة" 1/ 271 (دسم)، "اللسان" 3/ 1375 (دسم)، 8/ 4806 (وذم)، "البحر المحيط" 2/ 416 وورد فيه: (.. أحرم جحا). و (أوذم عليه الشيء)؛ أي: أوجبه وألزمه نفسه، و (ثيابٍ دُسْم)؛ أي: وَسِخة، و (الدَّسَمُ): الوَضَر والدَّنَس. ويقال للرجل من قبيل المجَاز إذا تدنَّس بمَذامِّ الأخلاق: (إنَّه لَدَسِمُ الثوب). ومعنى البيت: أنه أحرم بالحج وهو متدنِّسٌ بالذنوب. انظر: مادة (دسم) و (وذم) في "أساس البلاغة" 1/ 271، "اللسان" 3/ 1375، 8/ 4806. (¬6) في (ج): (أجرهما). (¬7) في (د): (طرو). (¬8) في (ج)، (د): (بلادكا). ولم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء، والبيت لعامر ابن الحارث بن مُضاض، سيِّد جُرْهم في مكة وقد ورد منسوبًا له في "تاريخ الطبري" 2/ 285، وذكر قصته ومناسبته. وتمامه كما عند الطبري: (.. بهم قديمًا =

فحذفوا الألف واللاَّم، لَمَّا كَثُرَ في كلامهم. قال (¬1): وقد خُفِّفت ميمها في بعض اللغات. أنشدني بعضهم: كحَلْفَةٍ من ابن (¬2) رباح ... يَسْمَعها اللهُمُ (¬3) الكُبارُ (¬4) ¬

_ = عَمِرَتْ بلادكْ). وقافيته عند الطبري كلها بالسكون. وورد في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: 1/ 574. وروايته فيه: (اللهم إن جُرْهما عبادُك .. الناس طُرْفٌ وهم تلادك). وورد فيه برواية: (اللَّهم إن جرهما عبادكا .. القوم طرف وهم تلادكا). وقوله: (طرف): يعني به والله أعلم: أنها جمع (طارف) و (طريف)، وهو: المستحدث من المال. ونقيضه: التليد والتالد، وهو: المال القديم الأصلي الذي وُلد عندك. فيعني الشاعر هنا والله أعلم: أن جرهما هم أهل مكة وأهل الحرم، وأول من عمر بهم البلد الحرام، وأما الآخرون فهم حديثو عهد به. انظر: "اللسان" 1/ 439 (تلد)، 5/ 2657 - 2658 (طرف). (¬1) يعني: الفرَّاء كما سبق. (¬2) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج)، (د). وورد في الديوان وبقية مصادر البيت: (أبي). (¬3) في (أ): اللهُمَّ. ولم تضبط بالشكل في بقية النسخ. وما أثبَتُّه هو الصواب؛ لوروده في مصادره بتخفيف الميم، ولأن تشديدها، خلاف ما أراده المؤلف من إيراده شاهدًا على التخفيف فيها. (¬4) البيت مطموس في: (د). وهو للأعشى، في ديوانه: 82، وقد ورد منسوبًا له، في "سر صناعة الإعراب" 1/ 430، "أمالي ابن الشجري" 2/ 197، "اللسان" 1/ 116 (أله)، "الهمع" 3/ 64، "الخزانة" 2/ 266، 269، "الدرر اللوامع" 1/ 154. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفرَّاء: 1/ 204، 2/ 398، "تفسير الطبري" 3/ 221، والجمهرة: 1/ 327 (برك)، "تهذيب اللغة" 1/ 191 (أله)، "المسائل العضديات" 78، "شرح المفصل" 1/ 3، "شرح ما يقع فيه التصحيف" 310، "المقاصد النحوية" 4/ 238. وقد وردت (أبي رياح) بدلا من: أبي رباح، في: الديوان، "معاني القرآن" والطبري، "التهذيب" "سر صناعة الإعراب" والجمهرة، "أمالي ابن الشجري" والخزانة، وقال صاحبها: (هو بمثناة تحتيَّة، لا بموحدة كما يزعم شُرَّاح الشواهد).=

قال: والرفعة التي في الهاء من همزة (أُمَّ) لمَّا تركت، انتقلت إلى ما قبلها. قال: ونرى (¬1) أن قول العرب: (هَلُمَّ) مثلها؛ إنما كانت: (هل) فضُمَّ إليها (أُمَّ) (¬2). ¬

_ = ووردت (لاهُهُ)، بدلًا من: (اللهُمُ) في: الديوان، والمسائل العضديات، "أمالي ابن الشجري" والخزانة. وورد في "سر صناعة الإعراب" "اللسان" (لاهُمُ). وورد في "معاني القرآن" 2/ 398 (.. الهمَّةُ الكبار)، وقال: (الهِمُّ، والهِمَّةُ: الشيخ الفاني)، وفي "معاني القرآن" 2/ 398 (.. الهمَّةُ الكبار)، وقال: (الهِمّ، والهِمَّةُ: الشيخ الفاني)، وفي: 1/ 204: (وإنشاد العامة: "لاهُهُ الكبار"، وأنشدني الكسائي: (يسمعها الله والله كبار). وفي "الخزانة" 2/ 269 أن الأصمعي رواها: (يسمعها الواحد الكبار). و (الحَلْفةُ): المرَّة من الحَلِفِ؛ بمعنى: القسم. و (أبو رياح) وفق رواية المؤلف: رجل من بني ضُبَيعة، وكان قد قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة، فسألوه أن يحلف أو يعطي الدِّيَة، فحلف فقُتِل بعد حَلْفَته، فضربته العربُ مَثَلًا لِمَا لا يغني حِلفُه. و (الكُبارُ): صيغة مبالغة لـ (الكبير). والشاهد فيه هنا: تخفيف ميم (اللهم). (¬1) في (ج): (ويري). (¬2) ومعنى: (هلُمَّ): أقبل، أو أعط. انظر: "اللسان" 8/ 4694 - 4695 (هلم). ولكن لم يرتض ابنُ سيده رأيَ الفرَّاء هذا في (هلم)، وردَّه مستدلًا على ذلك: بأن رأي الفرَّاء لا يخلو من أحد أمرين: (إمَّا أن تكون (هل) بمعنى: (قد)، وهذا يدخل في الخبر، وإما تكون بمعنى الاستفهام، وليس لواحد متعلق بـ (هلم) ولا مدخل). "المخصص": 14/ 88 ولكن هذا الردُّ لا يُسلَّم لابن سيده؛ حيث إن لـ (هل) استعمالات ومعاني أخرى غير ما ذكره ابن سيده، ومن ذلك: ما قاله ابنُ دريد في "الجمهرة" 2/ 988: (هلم) كلمتان جُعلتا كلمة واحدة؛ كأنهم أرادوا (هَلْ)، أي: أقبل، و (أمَّ)؛ أي: اقصد). وقال الزبيدي في "التاج" 17/ 762 عن (هلم): (وقال الفراء: مركبة من (هل)، التي للزجر، و (أمَّ)، أي: اقصد، خفِّفت الهمزة بإلقاء حركتها على الساكن، وحذفت). وانظر في مجيء (هل) للزجر والتوبيخ والأمر والتنبيه وغيرها، في: "تهذيب اللغة" 4/ 3784 (هل)، "اللسان" 8/ 4689 (هلل).

وأنكر أبو إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً، فقال (¬1): لو كان الأمر على ما قال، لجاز أن يقال: (الله أُمَّ)، فيُتَكلم به على أصله، كما يقال: (ويلُ أمِّه)، ثم يُتَكلم به على الأصل، فيقال: (ويلُ أُمِّهِ) (¬2)، ولجاز أيضاً: (الله أُؤمُمْ) (¬3). فلمَّا لم (¬4) يُسمع أحدٌ من العرب تكلم به على الأصل الذي [هو] (¬5) ذَكَر (¬6)، علم أنه ليس بأصل، وأيضاً لم يُسمع (¬7) أحدٌ (¬8) يقول: (يا اللهُمَّ)، والله عز وجل يقول: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} [الأنفال: 32]، وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} [الزمر: 46]. وما احتجَّ به الفرَّاء من قوله: (أنشدني بعضهم) (¬9)، فليس يعارض ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 393، ينقله عنه بتصرف كثير. (¬2) جاءت (ويل) في الموضعين برفع اللام، ولم تضبط في بقية النسخ بالشكل، وما أثبته هو الصواب؛ لأن (ويل) إذا أضيفت بغير اللام فالوجه فيها النصب؛ على أنها مفعول به لفعل محذوف، يقال: (ويل الظالمين)؛ أي: ألزمَ اللهُ الظالمين وَيلًا. أما إذا أضيفت باللام، فتُرْفَع؛ مثل: (ويلٌ لأمِّه)، فهي مرفوعة بالابتداء. و (ويل): بمعنى: عذاب. وقد تُركَّب لفظة (ويل) مع (أمِّه)، فيقال للرجل: (وْيلُمِّه)، أو (ويْلِمِّه) بكسر اللام، من (ويلٌ لأمه): وتعني: أنه داهية، وأصلها: الدعاء عليه، ثم استعملت في التعجب. انظر في أصلها وتركيبها: "المسائل الحلبيات" 43، 45، "سر صناعة الإعراب" 113، 235، 745، "معجم النحو" 437، "معجم الشوارد النحوية" 640. (¬3) في جميع النسخ: (أمم)، ولا وجه لها، والمثبت من "معاني القرآن" للفرَّاء: 1/ 393. (¬4) (لم): ساقطة من: (ب). (¬5) ما بيِن المعقوفين زيادة من (د). (¬6) في (ج): (ذكره). (¬7) في (د): (نسمع). (¬8) في (أ): (أحدا)، والمثبت من: (ب)، (ج)، (د). (¬9) (بعضهم): ساقطة من (ج).

الإجماعَ، وما أتى به كتابُ الله عز وجل، ووُجد في ديوان العرب. يقول قائل: (أنشدني بعضهم)، وليس ذلك البعضُ بمعروفٍ ولا مُسمَّى. وقال غير أبي إسحاق مِمَّن نصر مذهبَ الخليل (¬1): لو كان الأمر على ما ذكره الفرَّاء، لما صحَّ أن يقال: (اللهُمَّ افعل كذا)، إلَّا بحرف العطف؛ لأن قوله: (اللهُمَّ) حصل عنده في ضمنه الدعاء؛ لأن تأويله: (الله (¬2)؛ أُمَّنا بخير)، فالدعاء الثاني يجب أن يكون معطوفاً عليه بحرف العطف. ولم نجد أحداً يقول: (اللهُمَّ اغفر). وأجابَ الفرَّاءَ عن قوله: (هذه الميم، إنما تُزاد مُخفَّفةً)؛ بأن قال: إنما شُدِّدت الميمُ في (اللهمَّ)؛ لأنها عِوضٌ من حرفين (¬3) فشُدِّدت، كما قيل: (قُمتُنَّ) و (ضَربتُنَّ)؛ لمَّا كانت النون عِوضاً من حرفين في: (قُمتُموا) و (ضَربتُموا)، شُدِّدَت. فأما (قُمْنَ) و (ذَهبْنَ) فَعِوَضٌ من حرف واحد. وما ذَكَر من قوله: (فَمُ) (¬4) و (سُتْهُمُ) و (ابْنُمُ) (¬5)، فإنما خُفِّفت الميم؛ لأنها عِوَضٌ من حرف واحد. وليس حكمُ قولِكَ: (الله)، حكمَ (الفمُ) و (الابنُ)؛ لأنهما ناقصان أُتمَّا بالميم، و (اللهُمَّ) ليس زيادتها (¬6) تتميما للاسم، إنما هي لمعنىً آخر ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى هذا القائل، وقد يكون المبرد، كما في "الأصول في النحو" لابن السرَّاج: 1/ 338، حيث ورد موجز لهذا الرأي نقله عنه. (¬2) في (د): (اللهم). (¬3) (حرفين): ساقطة من (د). (¬4) في (د): (قم). (¬5) في (د): (وانتم). (¬6) أي: زيادة الميم في (اللهم).

غير المعنى الذي في (الفمُ). وأمّا ما احتَجَّ به من البيت؛ فجاز إدخال (يا) مع الميم لضرورة الشعر (¬1). فأما (¬2) احتجاجه بقوله: (هلُمَّ)، فعند الخليل (¬3): أنَّ الأصل فيه: (ها) التي [هي] (¬4) للتنبيه، دخلت (¬5) على (لمَّ) (¬6)، فلما كثر (¬7)، حُذِفت الألف (¬8). وأمَّا البيت الذي ذكر أنه جاء في (اللهُمُ)، بتخفيف الميم، فهو خطأ فاحشٌّ خصوصا عنده (¬9)؛ لأن الميم في (اللهُمُ)، هو الميم الذي في (أُمَّنا)، وإنشاده بالتخفيف يفسد عليه مذهبه؛ لأنه لا يحتمل في البيت ذكر أن يكون (أُمَّنا)، إنما هو بمنزلة قولك: (يسمعهُ اللهُ الكبارُ)، فالرواية الصحيحة: يَسمعها لاهُهُ الكبارُ ¬

_ (¬1) (لضرورة الشعر): ساقط من (د). (¬2) في (ج)، (د): (وأما). (¬3) انظر رأيه في: "الكتاب" 3/ 332، "تأويل مشكل القرآن" 557. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬5) في (ج): (وحلت). (¬6) وأصل (لَم)، من قولهم: (لَمَّ الله شعثه)؛ أي: جمعه. كأنه أراد: لَمَّ نفسك إلينا؛ أي: اقْرُبْ. انظر (هلم)، في "الصحاح" 5/ 2060، "اللسان" 8/ 4694. (¬7) في (ج): (كثرت). (¬8) انظر الأقوال في (هلم) في "إصلاح المنطق" 290، "الزاهر" 1/ 476، "تهذيب اللغة" 4/ 3788، "المسائل العضديات" للفارسي:221، "الصاحبي" لابن فارس: 279، "المسائل السفرية" لابن هشام: 34، "تنوير الحوالك شرح موطأ مالك" للسيوطي: 1/ 224 - 226، "تاج العروس" 17/ 762. (¬9) في (د): (عندهم).

قال أبو إسحاق (¬1): وقوله: إنَّ الضمَّةَ [التي] (¬2) في الهاء من قوله: (اللهُم)، ضمةُ الهمزِة التي كانت في (أُمَّ) محالٌ؛ لأنه لا يُترك الضمُ الذي هو دليل على النداء المفرَد (¬3)، ويُجعل في اسم الله ضمةُ (أُمَّ) (¬4). وقوله تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ}. في نصبه، وجهان: أحدهما: وهو قول سيبويه (¬5): أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} [الزمر: 46]، ولا يجوز عنده أن يكون {مَالِكَ الْمُلْكِ} نصباً على النعت للنداء المفرد، الذي هو قوله: {اللَّهُمَّ}؛ لأن هذا الاسم عنده لا يُوصَف. الوجه الثاني: وهو قول أبي العباس (¬6): أنَّ (مالِكَ) وصف للمنادى المفرد. وهذا الوجه اختيار الزجَّاج؛ قال (¬7): لأن هذا الاسم ومعه (¬8) الميم، بمنزلته ومعه (يا) (¬9)، فلا تمتنع الصفة مع الميم، كما لا تمتنع مع (¬10) (يا) (¬11). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 393، نقله عنه بتصرف. (¬2) ما بين المعقوفين من: (ج)، (د)، وكذا هي في "معاني القرآن". (¬3) أي: المنادى المفرد: مثل: يا الله. (¬4) (أم): ساقطة من (د). (¬5) "الكتاب" 2/ 196. (¬6) هو المبرد، في "المقتضب" 4/ 239. (¬7) في "معاني القرآن" 1/ 394، نقله عنه بتصرف يسير. (¬8) في (ب): (ومنه). (¬9) (ومعه يا): ساقط من (د). (¬10) في (د): (ومعه). (¬11) في (د) وردت هنا عبارة: (فلا تمتنع مع يا) مكررة.

ونَصَر أبو علي الفارسي قولَ سيبويه، وقال (¬1): هو عندي أصح، وإن كان أغمض، وذلك (¬2)، لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء (¬3) على حد (اللهُمَّ)، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة، ودخل في حيّز ما لا يوصف من الأصوات، وجب أن لا يوصف. والأسماء المناداة المفردة المعرَّفة، القياس فيها: أن لا توصف، كما ذهب إليه بعض الناس؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف؛ وكما (¬4) أنه لمَّا وقع موقع ما لا يُعرب لم يعرب، كذلك لمَّا وقع موقع ما لا يوصف، وجب أن لا يوصَف (¬5). فأما قوله: ¬

_ (¬1) قوله، في "الإغفال" 554 - 557. نقله عنه باختصار وتصرف. وقوله ينتهي إلى عند: (بمنزلة صوت مضموم إلى صوتٍ، نحو: حي هل). (¬2) في (ج): (ذلك). (¬3) من قوله: (شيء ..) إلى (ما عليه الأسماء الموصوفة): ساقط من (ج). (¬4) في (ج): (كما). ومن قوله: (وكما ..) إلى (.. موقع ما لا يوصف): ساقط من (د). (¬5) في (د): (توصف).

يا حَكَمُ الوارثُ عن عبد الملكْ (¬1). ¬

_ (¬1) بيت شعر من الرجز لرؤبة بن العجاج، في: "ديوانه": 118. كما ورد منسوبًا له في المصادر التالية: "المعاني الكبير" 2/ 870، "إعراب القرآن" "المنسوب" للزجّاج: 1/ 97، "شرح الأبيات المشكلة" للفارسي: 448، "أمالي ابن الشجري" 3/ 44، "شرح شواهد المغني" 1/ 52، 53. وورد غير منسوب في "المقتضب" 4/ 208، "الخصائص" 2/ 389، 3/ 331، 332، "الإنصاف" للأنباري: ص 499، "مغني اللبيب" 28. وبعده وفق رواية الديوان: .. ميراثُ أحسابٍ وجُودٍ مُنسفِكْ. وورد في بعض المصادر بنصب لفظ (الوارثَ). والشاعر هنا يمدح الحكم بن عبد الملك بن بشر بن مروان. والشاهد هنا أن قوله: (الوارث) على رأي سيبويه وأبي علي الفارسي ليس نعتًا للمنادى، وإنما هو خبر لمبتدأ؛ تقديره: (أنت). بينما الوجه الآخر فيه أنه مرفوع؛ لأنه نعت للمنادى قبله، ونعت المنادى المفرد إذا كان مقترنا بـ (أل) يجوز رفعه تبعًا للفظ المنادى، ونصبه تبعًا لمحله، فإن المنادى المفرد العلم مبني على الضم في محل نصب. انظر: "الانتصاف من الإنصاف" للشيخ: محمد محي الدين عبد الحميد (مطبوع مع الإنصاف، لأبي البركات الأنباري): 2/ 630.

يا حَكَمُ بن (¬1) المنذرِ بنَ (¬2) الجارودْ (¬3) و: ....... يا عُمَرُ الجَوادَ (¬4) فإن الأول، على: (أنت)، والثاني، على: نداء ثانٍ، والثالث، على: (أعني)، فلمَّا كان هذا الاسم، الأصل فيه: أن لا يُوصَف لِما ¬

_ (¬1) في (ج)، (د): (ابن). (¬2) في (د): (ابن). (¬3) بيت من الرجز، وتكملته: أنت الجوادُ ابنُ الجوادِ المحمودْ. قيل: هو لرؤبة بن العجاج، وقد ورد في: ملحق ديوانه: 172، وفيه أنه مما نُسب إليه، وقد نُسب إليه كذلك في "مجاز القرآن" 1/ 399، "الصحاح" 4/ 1496 (سردق). وقيل: هو لعبد الله الأعور، المُسَمَّى بـ (الكذاب الحرمازي)، وقد ورد في: "كتاب سيبويه": 2/ 203، وفيه: (وقال الراجز من بني الحرماز). ونسبه له ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" 2/ 689. كما ذكرته المصادر التالية، مع ذكر الاختلاف في نسبته إليهما "اللسان" 4/ 1988 (سردق)، "المقاصد النحوية" 4/ 210، "التصريح" 2/ 169، وورد غير منسوب، في "المقتضب" 4/ 232، "الأصول في النحو" 1/ 345، "شرح المفصل" 2/ 5، "أوضح المسالك" ص 200، "منهج السالك" 3/ 142. والشاعر يمدح الحكمَ بن المنذر بن الجارود العَبْدي، أمير البصرة على عهد هشام ابن عبد الملك. والشاهد فيه هنا: أن (ابن) تُعْرَب على أنها مُنادى مضاف، فحقها النصب، ولا تعرب على أنها تابعة للمنعوت، وهو (حكم). و (حكم) يجوز فيها: النصب والرفع؛ لأنه العلم المفرد الموصوف بـ (ابن) المتصلة به، والمضاف إلى علم، يجوز فيه الأمران، إمَّا النصب فعلى الاتباع لحركة الصفة؛ لأنها جُعلت مع (ابن) كأنها اسم واحد لكثرة استعمالها، وكما أضيفت (ابن) إلى ما بعدها، فكذلك جعلوا (حكم) كأنها أضيفت إلى ما بعدها، فكانت كالمنادى المفرد المضاف في هذا البيت. وإمَّا الرفع فعلى النداء؛ لأنها علم، مفرد، معرفة. انظر: "شرح أبيات سيبويه" للنحاس: 134، "شرح المفصل" 2/ 5، "هداية السالك" لمحمد محيي الدين عبد الحميد (مطبوع مع "أوضح المسالك" 3/ 80. (¬4) جزء من عجز بيت، وتمامه: ما كعبُ بنُ مامَةَ وابنُ سُعدى ... بأجودَ منك يا عمرُ الجواد هو لجرير، في: "ديوانه": 107. وقد ورد في المصادر التالية، ونسبه أكثرها إليه: "الكامل" 1/ 231، "المقتضب" 4/ 208، "الأصول في النحو" 1/ 369، "أمالي ابن الشجري" 2/ 40، 3/ 44، "أوضح المسالك" ص 201، "مغني اللبيب" 28، "المقاصد النحوية" 4/ 254، "منهج السالك" 3/ 143، "الهمع" 3/ 54، "شرح شواهد المغني" 1/ 56، "التصريح" 2/ 169، "الخزانة" 4/ 422، 9/ 399، "الدرر اللوامع" 1/ 153. والشاعر يمدح عمر بن عبد العزيز رحمه الله. و (كعب بن مامه) من إياد، يُضرب به المثلُ في الجود والإيثار، ومن ذلك: إيثاره رفيقه بالماء على نفسه، ومات هو عطشًا، و (ابن سُعدى): هو: أوس بن حارثة الطائي، يُضرب به المثلُ -كذلك- في الجود والشاهد في البيت -هنا-: أن (الجَوادَ) انتصبت على الاختصاص، بتقدير فعل: (أعني) أو (أخص). وفي الديوان وبعض المصارد وردت (عمرَ) بالفتح، على أنها منادى مبني على الفتح؛ لأنه منعوت بـ (الجواد) المَنصوب. أو مبني على ضم مقدر منع من ظهوره فتح الإتباع؛ أي: أن الموصوف هنا يتبع الصفة في فتح آخرها، وهو مما يجيز الكوفيون الفتح فيه، سواء أكان المنادى موصوفًا بلفظ (ابن) أم لم يكن. انظر: "الأصول في النحو" 1/ 369، "أوضح المسالك" ص 201، "الهمع" 3/ 54. والأصل فيه أن يكون في المخطوط: (عُمَرَ) بالفتح؛ ليتحقق الشاهد؛ لأن الفارسي أراد أن يقول: إن (الجوادَ) نصبت؛ لا لكونها صفةً لـ (عمرَ) المنصوب، فتبعتها في الإعراب -لأن عنده: المنادَى المعرَّف المفرَد، لا يوصف-، وانما جعلها -في البيت- منصوبة بفعلٍ مُقَدَّرٍ، هو: (أعني).

ذكرنا، كان (اللهم) أولى أن لا يوصف؛ لأنه قبل ضم الميم إليه، واقعٌ موقع ما لا يوصف، فلمَّا ضُمَّت الميمُ إليه، وصيغ معه صياغة مخصوصة، صار حكمُهُ حكمَ الأصوات، وحكم الأصوات: أن لا يوصف (¬1)؛ نحو: (غاقِ) (¬2). قال (¬3): وهذا المضموم إليه مع ما ضُمَّ إليه، بمنزلة صوتٍ مضموم إلى صوت؛ نحو: (حَيَّهَل) (¬4)، فحقُّهُ أن لا يوصفَ؛ كما لا يوصف (حَيَّ هلْ). فأما التفسير: فقال ابن عباس (¬5): لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ووعد أمَّتَه مُلكَ فارسَ والرومَ، قالت المنافقون واليهودُ: هيهات، هيهات (¬6)! ¬

_ (¬1) في (د): (لا توصف)، وفي (ج) غير منقوطة، وأثبتُّ ما في الأصل، ونسخة (ب) على تقدير: أن لا يوصف الصوت. (¬2) غاق: حكاية صوت الغراب، فإن نكَرَ، نُوِّنَ يقال: سمعتُ (غاق غاق)، وسمعت (غاقٍ غاقٍ). وسُمِّي الغُرَابُ: (غاقًا)، فيقال: (سمعت صوت الغاق). انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 310، 2/ 494، 495، "اللسان" 6/ 3317 (غوق). (¬3) في (د): (مال). (¬4) في (ج): (جبهل). و (حيَّهَلْ) و (حيَّهَلا) و (حيَّهَلًا) -مُنَوَّنًا وغير مُنَوَّنٍ-: كلمة يستحثُّ بها. ويقال: (حَيَّ هَلْ بفلان)، و (حيَّ هَلَ)، و (حَيَّ هَلا). ومعنى (حيَّ على كذا ..): هلمَّ وأقبِلْ، و (هلا) -كذلك- تقال للاستعجال والحَثِّ. وبُنِيَت (حيَّ) مع (هل)، وجُعِلَتا اسمًا واحدًا، وسُمِّي به الفِعْلُ، ويستوي فيه الواحد والجمع المؤنث. انظر: "الصحاح" 5/ 1853 (هلل)، "اللسان" 2/ 1082 (حيا)، "المسائل المشكلة" للفارسي: 152، "شرح الشافية" 2/ 294، "شرح المفصل" 9/ 84. (¬5) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 29 أ، "أسباب النزول" للواحدي: 102، "تفسير البغوي" 2/ 23، "تفسير القرطبي" 4/ 52، وعزوه -كذلك- لأنس بن مالك. (¬6) (هيهات): ساقطة من (د).

فأنزل اللهُ هذه الآية. وقيل: إنَّ الله عز وجل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية، أن يسأله نقل عزِّ فارس إلى العرب، وذلِّ العرب إلى فارس (¬1). وقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}. قال ابن عباس (¬2): تؤتي ملكَ قيصر أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتنزع الملكَ منه. الكلبي (¬3): {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}: محمداً وأصحابَه، {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}: أبي جهل (¬4)، وصناديدَ قريش. وقال بعضهم: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}: العرب، {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}: الروم، والعجمِ، وسائرَ الأمم (¬5). ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائل هذا القول، وقد ورد في "معاني القرآن" للزجَّاج: 1/ 393 مصدرًا بلفظ (قيل)، وعقب عليه بقوله: (الله أعلم بحقيقة ذلك). والذي في كتب التفسير عن قتادة رحمه الله أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 222، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 624، "تفسير الثعلبي" 3/ 29/ أ، "النكت والعيون" 1/ 384، "أسباب النزول" للواحدي: 102103، "تفسير البغوي" 2/ 23، "زاد المسير" 1/ 368، وأورده السيوطي في " الدر" 2/ 25 ونسب إخراجه -كذلك- لعبد بن حميد. (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬3) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 31 أ، "تفسير البغوي" 2/ 23. (¬4) هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، تقدمت ترجمته. (¬5) وردت هذه العبارة بنصها في "تفسير الثعلبي" 3/ 32 أ، وهو بنفس معنى قول مقاتل {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} يعني: محمدًا وأمته، {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}؛ يعني الروم وفارس). تفسيره: 1/ 269. وقد يكون الثعلبي حكاه بمعناه عن مقاتل ونقله المؤلف عن الثعلبي.

وذكر أبو إسحاق (¬1) في {الْمُلْكَ} المذكور ههنا، قولين: أحدهما: أن المراد بـ {الْمُلْكَ} ههنا: المال، والعبيد، والحَفَدَة (¬2). والله تعالى يؤتيها من يشاء، وينزعها ممن يشاء. الثاني: أن {الْمُلْكَ} ههنا: ظهور الدين، والغَلَبة. فمعنى {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} أي ترزق الغَلَبةَ والظَّفَرَ الذين يطيعونك، ويعبدونك. والله تعالى قد جعل كل ما (¬3) في مملكة (¬4) مَلِكٍ غير مسلم للمسلمين مُلكاً وغنيمة، ولهم أن يُطالِبُوا به حتى يَحُوزوه، كما يُطالِبُ المَسْلوبُ ثَوْبَهُ (¬5) بِثَوْبِه، والمأخوذ مالُهُ بما غلب عليه منه (¬6). ¬

_ (¬1) هو الزجَّاج، في "معاني القرآن" 1/ 392، نقله عنه بالمعنى. (¬2) في "معاني القرآن" (والحضرة)، وفسَّرها المحقق، بأنها: التَّحضر والثراء، وقد تكون (الحفدة) -هكذا- في نسخة أخرى لمعاني القرآن، والذي يؤكد ما نقله المؤلف -هنا- عن الزجاج، هو أن ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 369 نقل هذا القول عن الزجاج وفيه (الحفَدَة) كما هي عند الواحدي. و (الحفَدَةُ) و (الحفَدُ): الخدم، والأعواد. والمفرد: حافد. وحفدة الرجل: بناته، وقيل: أولاد أولاده، ومفردها، حفيد، وقيل: الأصهار. وأصلها من: (حفَد، يَحفِدُ، حفْدًا، وحفَدانًا، واحتفد احتفادًا)؛ أي: خفَّ وأسرع في العمل. انظر (حفد) في "اللسان" 2/ 922، "القاموس المحيط" ص 277. (¬3) في (ج): (كلما). (¬4) في (ج): (ملكه)، في (د): (مملكته). (¬5) في (ب): (المغلوب لوبه). (¬6) ولكن لفظ (الملك) -هنا- عام، ولا دليل على تخصصه، ولذا يقول ابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 65: (والصحيح: أنَّه مالك الملك كله مطلقًا في جميع أنواعه)، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 8/ 7.

وقال أهل المعاني (¬1): معنى قوله {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}؛ أي مَنْ تشاءُ أن تُؤْتِيَه، وكذلك (¬2) {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} أي: ممن تشاء أن تنزعه، إلاَّ أنه حذف؛ لأن في الكلام ما يدل عليه. قال الفرَّاء (¬3): ومثله: قولك: (خذْ ما شئت)؛ أي: ما شئت أن تأخذه. وكذلك (¬4) قولك: (إن شئت؛ فَقُمْ، وإن (¬5) شئت؛ فلا تَقُمْ) (¬6)، وكذلك قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] [فهذا بيَّن أنَّ] (¬7) المشيئة واقعة على الإيمان والكفر، وهما متروكان (¬8). وقوله تعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} قال ابن عباس (¬9): يريد: المهاجرين والأنصار، {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}، يريد: الروم وفارس: وقيل (¬10): {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} (¬11): محمداً (¬12) وأصحابه، حتى دخلوا مكة ظاهرين عليها، ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 397، وانظر -في هذا المعنى-: "معاني القرآن" للفراء 1/ 204، "الطبري" 3/ 222، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 379. (¬2) في (د): (كذلك). (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 204. نقله عنه بتصرف واختصار. (¬4) من قوله: (وكذلك ..) إلى (.. فلا تقم): ساقط من (ج). (¬5) في (ب): (إن). (¬6) أي: إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن لا تقوم فلا تقم. (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). وفي (ب): (فهذا فيه). والمُثْبت من: (ج)، (د) "معاني القرآن". (¬8) في (ج): (واقعان). والمعنى: أي: من شاء الإيمان، فلْيُؤمِنْ، ومن شاء الكفُرْ. فوقعت المشيئة على الإيمان والكفر، وتركا ولم يذكرا في الآية. (¬9) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد ورد هذا القول عن عطاء، كما في "تفسير الثعلبي" 3/ 32 ب، "تفسير البغوي" 2/ 23. (¬10) لم أهتد إلى قائل هذا القول، وقد ورد في المصادر السابقة مصدرًا بلفظ: (قيل). (¬11) شي (أ)، (ب)، (ج): (تعز) -بدون واو-. والمثبت من (د). (¬12) في (أ): (محمد). والمثبت من: (ب)، (د)، ومن المصادر السابقة.

27

{وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}: أبا جهل وأصحابه، حتى حُزَّت (¬1) رؤوسهم وأُلقوا في القليب. ويدخل تحت هذا كلُّ ما به يُعِزُّ اللهُ ويذل، من الإيمان والكفر، والتوفيق والخذلان وأشباهها (¬2). وقوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي: الخير والشر، فاكتفى بالخير؛ لأن الرغبة إليه فعل الخير بالعبد دون الشر (¬3)، وهذا كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النمل: 81] أي: [تقيكم] (¬4) الحَرَّ والبرد. وقال ابن عباس في تفسير {الْخَيْرُ} ههنا (¬5): إنه عِزُّ الدنيا والآخرة. 27 - قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الإيلاج في اللغة (¬6): الإدخال. والوُلُوجُ: الدخول. يقال: (وَلَجَ)، (وُلُوجاً)، و (لِجَةً) [و] (¬7) ¬

_ (¬1) في (د): (جرت). (¬2) في (د): (وما أشبهها). (¬3) قال الحدَّادي: (وهذا من باب الاقتصار على أحد طرفي الكلام، وهذا مطرد في كلام العرب) انظر "المدخل لعلم تفسير كتاب الله" للحدادي: 306. وقال الزمخشري -مبيّنًا العِلَّة في ذلك-: (قلت: لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك، ولأن كل أفعاله -تعالى- من نافع وضار، صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله، كإيتاء الملك ونزعه) "الكشاف" 1/ 422، وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 249. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) و (د). (¬5) لم أهتد على مصدر قوله: والذي في "تنوير المقباس" المنسوب إليه: 45: (بيدك الخير: العز والذل والملك والغنيمة والنصرة والدولة). (¬6) (في اللغة): ساقط من (د). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) و (د).

(وَلْجاً)، و (اتَّلَجَ، اتِّلاجاً)، و (توَلَّجَ، تولُّجاً) (¬1). قال الشاعر: فإنَّ القوافي يَتَّلِجنَ موالِجاً ... تَضايَقُ عنه أن تَولَّجَهُ (¬2) الإبَرْ (¬3) وفي التنزيل: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} [الأعراف: 40]، والوُليجَةُ: الدَّخيلَةُ، والبطانة (¬4)، ومنه قوله تعالى: {وَلَم يَتخِذُوا من دوُنِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا ¬

_ (¬1) انظر (ولج) في "تهذيب اللغة" 4/ 3949، "الصحاح" 1/ 347، "اللسان" 8/ 4913، "تاج العروس" 3/ 509. والمصدر الذي ذكره المؤلف، وهو: (وَلْجًا)، لم أعثر عليه فيما رجعت إليه من مصادر اللغة، وورد في "تفسير الطبري" 3/ 223. (¬2) في (ب): (تلجه). (¬3) في (أ)، (ب): (الأبرار). والمثبت من: (ج)، (د)؛ نظرًا لاتفاق مصادر البيت كلها عليه؛ ولاتفاقه مع الروي الذي قبله. والبيت، لطَرفة بن العبد، وهو في: ديوانه: 47. وورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" 1/ 254، 2/ 142، "البيان والتبين" 1/ 170، "الخصائص" 1/ 14، "سر صناعة الإعراب" 1/ 147، "الممتع" لابن عصفور: 1/ 386، "المقاصد النحوية" 4/ 581، "التصريح" 2/ 390. وورد غير منسوب في المصادر التالية: "تفسير الطبري" 22/ 59، "تهذيب اللغة" 4/ 3949 (ولج)، "والمخصص":14/ 183، "شرح المفصل" 10/ 37، "اللسان" 8/ 4913 (ولج)، "تاج العروس" 3/ 510 (ولج). وروايته في الديوان، "تفسير الطبري" (رأيت القوافي ..). وفي الديوان: (تَضَيَّقُ). وفي بعض المصادر: (تضايق عنها)، وفي "تهذيب اللغة" (أن تولجه الأمر). و (القوافي): جمع قافية، وهي آخر حرف في بيت الشعر، الذي تبنى عليه القصيدة، وأراد هنا القصيدة. و (تتَّلجْنَ)، أصلها: تَوْتِلجن، ثم قُلِبت الواوُ تاءً، وأدْغِمت في التاء التي بعدها، وهو صيغة افتعال من: (الولوج)، وهو: الدخول. و (الموالج): جمع (مَوْلَج)، وهو: المَدْخل، و (تَوَلَّجَه): أصلها: تتولجه؛ أي: تدخل إلى مكانه. والمعنى: أن قصائده وهي هنا، قصائد هجائه تبلغ من التأثير في نفس المهجوِّ، مواضِعَ عميقة ودقيقة، لدرجة أن رؤوس الإبر لا تستطيع أن تلجها، وتدخل إلى أماكنها. والشاهد هنا: ورود كلمات (يتلجن) و (تَولَّجه)، فالأولى دلالة على ما ذكره المؤلف من ورود فعل (اتَّلج) والثانية على ما ذكره من ورود المصدر (التَّولُّج) وفعله (تَولَّج). (¬4) انظر (ولج)، في "الصحاح" 1/ 348، "القاموس" ص 209.

{الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16]. ومعنى الآية: تجعل ما نقص من أحدهما، زيادة في الآخر، في قول جميع المفسرين (¬1). وذكر ابن الأنباري (¬2) قولاً آخر، وهو: أن المعنى: تدخل أحدهما في الآخرة بإتيانه به (¬3) بدلاً (¬4) منه. قال: وذلك أن الليل إذا (¬5) دخلت ظلمتُهُ، وظهرت نجومُهُ وقمرُه، كان النهار داخلاً فيه، ومستتراً تحته، وكذلك (¬6) والنهار، إذا دخل ضوؤه، وطلعت شمسُه، كان الليل داخلاً فيه، ومستترا تحته (¬7). وقوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}. أكثر المفسرين على أنَّ معناه: تخرج الحيوان من النطفة، وتخرج النطفة من ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 90، "تفسير الطبري" 3/ 223، "تفسير البغوي" 2/ 23. (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬3) (به): ساقطة من: (ج)، (د). (¬4) في (ج): (وبدلًا). (¬5) في (ج): (لما). (¬6) من قوله: (وكذلك ..) إلى (.. ومستترا تحته): ساقط من (د). (¬7) وورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قولًا آخر، وهو: أنه يأخذ الصيف من الشتاء، ويأخذ الشتاء من الصيف. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 625، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 26، ونسب إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ. وأورد عنه السيوطي في المصدر السابق رواية أخرى، هي: أنه قِصَر أيام الشتاء في طول ليله، وقِصَر ليل الصيف من طول نهاره ونسب السيوطي إخراجه كذلك لسعيد بن منصور، وابن المنذر. "وانظر تفسير ابن مسعود" إعداد: محمد العيسوي: 2/ 158 - 159.

الحيوان (¬1). وقال الكلبي (¬2): تخرج الفرخ من البيضة، وتخرج البيضة من الطير، وهذا كالأول؛ لأن البيضة للطير بمنزلة النطفة لسائر الحيوانات (¬3). وقال ابن عباس في رواية عطاء، والحسن (¬4): تخرج المؤمن مِنَ الكافر، والكافر من المؤمن. والمؤمنُ حَيُّ الفؤاد، والكافرُ ميِّت الفؤاد. دليله: قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (¬5) [الأنعام: 122]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 224 ورجَّحه، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 626 - 627، "المحرر الوجيز" 3/ 68. (¬2) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 33 ب، "تفسير البغوي" 2/ 24، وقال به عكرمة، كما في "تفسير الطبري" 3/ 225، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 628، والمصادر السابقة. (¬3) في (د): (الحيوان). (¬4) لم تذكر المصادر التي رجعت إليها هذه الرواية عن ابن عباس، وإنما عزت القول للحسن وعطاء، فالرواية عن الحسن وردت في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 117، "تفسير الطبري" 3/ 225، "تفسير الثعلبي" 3/ 33 ب. وعن الحسن وعطاء وردت في "تفسير البغوي" 2/ 24، "زاد المسير" 1/ 370. وقال ابن الجوزي في "الزاد" بعد أن ذَكَر هذا القولَ: (رَوى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن وعطاء). (¬5) روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله: أنَّ خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند بعض نسائه، فقال: "من هذه؟ " قيل: إحدى خالاتك يا رسول الله. قال: "إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب، فمن هي؟ " قيل: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث. فقال: "سبحان الله! يخرج الحيِّ مِن الميِّت". أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 117، والطبري 3/ 226، وابن أبي حاتم 2/ 626، وابن سعد في "الطبقات" 8/ 248 من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 27، ونسب إخراجه لابن مردويه.

وفي (الميِّت) قراءتان: التشديدُ، والتخفيفُ (¬1). والتشديد الأصل؛ لأنه في الأصل: (مَيْوِت)، فلما اجتمعت الواو والياء (¬2)، وسبقت (¬3) إحداهما بالسكون، قُلِبت الواوُ ياءً (¬4)، وأُدغمت الياءُ فيه (¬5). ومن خَفَّفَ: حَذَفَ الواوَ التي (¬6) أُعِلَّت في التشديد بالقلب (¬7)، فأعِلَّت (¬8) الواوُ في التخفيف بالحذف، كما أعلَّت في التشديد بالقلب. وقول من قال: إن (المَيْت) بالتخفيف: الذي قد مات، وبالتشديد: الذي لم يمت بعدُ (¬9)، ليس (¬10) بشيء؛ لأنه قد ورد في الشعر على عكس ¬

_ (¬1) القراءة بالتشديدة أي: {الْمَيِّتِ}، قراءة: حفص عن عاصم، وحمزة، ونافع، والكسائي. والقراءة بالتخفيف؛ أي: {الْمَيِّتِ} قراءة: أبي بكر عن عاصم، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر. انظر: "السبعة" 203، "الحجة" للفارسي: 3/ 25، "التبصرة" 457. (¬2) في (ج): (الياء والواو). (¬3) في (ج): (سبقت). (¬4) ياء: ساقطة من (ج). (¬5) هذا مذهب البصريين، أما مذهب الكوفيين، فعندهم أن (ميت)، أصلها: (مَوِيت)، على وزن: (فَعِيل)، وذهب آخرون إلى أن أصلها: (فَيْعَل)، بفتح العين، وفي المسألة نقاش حول أصل هذه الكلمة. انظر كتاب العين: 8/ 140، "تهذيب اللغة" 4/ 3321 (مات)، "الإنصاف" للأنباري: ص 639، "الكشف" لمكي: 1/ 340. (¬6) في (ج): (والتي). (¬7) قوله: (أعِلَّت)، من: (الإعلال)؛ وهو: تغيير حرف العلة للتخفيف؛ بالقلب، أو الحذف، أو الإسكان. انظر: "شرح الشافية" 3/ 66. (¬8) من قوله: (فأعلت ..) إلى (.. في التشديد بالقلب): ساقط من (ج). (¬9) نُقِل هذا القول عن أبي حاتم السجستاني، كما في "الخزانة" 6/ 529، ولم أعثر على من قال به غيره، إلا ما نقله الجوهري عن الفراء: (يقال لمن لم يَمُت: (إنه مائت عن قليل)، و (ميِّت)، ولا يقولون لمن مات: (هذا مائت). "الصحاح" 1/ 267 (موت). (¬10) في (ب): (وليس).

قوله. أنشد أبو العباس (¬1) لابن (¬2) الرَّعْلاء الغسَّاني (¬3). ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنَّما المَيْتُ ميِّتُ الأحْياءِ ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى مصدره، وهكذا ورد في "النكت والعيون" 1/ 385. (¬2) في جميع النسخ: (لأبي)، والمثبت هو الصواب. (¬3) في (أ): غير واضحة. وفي (ب): (لأبي يعلى الفسافي). والمثبت من (ج)، (د). وهو الصواب. وهو: عَدِي بن الرَّعْلاء الغَسَّاني، والرَّعْلاء هي أُمَّهُ. وهو شاعر جاهلي. انظر: "معجم الشعراء" 86، "الخزانة" 9/ 586، "الأعلام" 4/ 220.

إنَّما المَيْتُ من يعيشُ كثيبا ... كاسفاً بالُهُ (¬1) قليلَ الرَّخاء (¬2) فهذا بيَّن أنَّ الأمر فيهما سواء. وقوله تعالى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قال الزجَّاج (¬3): أي: بغير تقتير. وهذا مستعمل في اللغة، يقال: (فلان ينفق بغير حساب)؛ أي: بُوسِّع في النفقة؛ فكأنه لا يحسب ما ينفقه. وقال الحسن (¬4)، والربيع (¬5): أي: بغير (¬6) نقصان، وذلك؛ لأنه غير متناهي المقدور، فما يؤخذ منه (¬7) لا ينقصه، ولا هو على حساب جزءٍ من كذا وكذا (¬8) جزءا (¬9)، فهو بغير حساب التجزئة. وقيل معناه (¬10): بغير حساب الاستحقاق؛ لأنه يرزق ويعطي تفضلاً لا استحقاقاً. ¬

_ (¬1) (باله): ساقط من (ج). (¬2) ورد منسوبًا له في: المصادر التالية: "الأصمعيات" للأصمعي 152، "معجم الشعراء" للمرزباني (ط 2، 1982م، ن: مكتبة القدسي) 252، "النكت والعيون" 1/ 385، ولكن فيه: (لابن الرعلاء القلابي)، "البيان" للأنباري 1/ 198، "اللسان" 7/ 4295 (موت)، "شرح شواهد المغني" 1/ 405، 2/ 858 "الخزانة" 6/ 530، 9/ 583. كما ورد غير منسوب، في المصادر التالية: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 155، "البيان والتبيين" للجاحظ 1/ 132، "العقد الفريد" 5/ 491، "تهذيب اللغة" 4/ 3321 (موت)، "المنصف" 2/ 17، 3/ 62، "الصحاح" 1/ 267 (موت)، "أمالي ابن الشجري" 1/ 232، "ورسالة الصاهل والشاحج" 522، "شرح المفصل" 10/ 69، "البحر المحيط" 1/ 486، "والمغني" 601، "منهج السالك" 2/ 169. وقد نسبا لصالح بن عبد القدوس، في "الحماسة" للبحتري (ضبط وتعليق: كمال مصطفى، ط 1، ن: المكتبة التجارية) 340، "معجم الأدباء" 3/ 420. وردت روايته في "الأصمعيات" (.. ذليلا سيِّئا ..) ووردت (الرجاء) بالجيم، بدلًا من: (الرخاء) بالخاء، في كل المصادر ما عدا "معجم الشعراء" "خزانة الأدب" 9/ 583، وهي موافقة لما أورده المؤلف هنا و (الرخاء): اسم من: (رَخِيَ العيشُ)، و (رَخوَ): إذا اتّسع. و (كاسِفًا بالُه)، من: (كسفت): إذا ساءت، والبال: الحال. والشاعر يقول: بأن من لا يموت في الحرب، فإنه يعيش في ذلٍّ، وسوءِ حال، وخزي، فحياته في الحقيقة ليست إلا موتا. والشاهد: استعمال (ميْت) و (ميِّت) بمعنى واحد. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 395، نقله عنه بتصرف يسير جدا. وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 103. (¬4) لم أهتد إلى مصدر الأثر عنه. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 227، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 628. (¬6) في (ج): (تغير). (¬7) في (ج): (مثله). (¬8) في (ب): (ولا كذا). (¬9) (جزءًا): ساقطة من (ج). (¬10) لم أهتد إلى قائل هذا القول.

28

28 - قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} قال ابن عباس (¬1): نزلت الآية في قوم من المؤمنين، كانوا (¬2) يباطنون اليهود ويوالونهم (¬3). وقال المُقاتِلان (¬4): نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة (¬5)، وغيره ممن كانوا يوالون كفار مكة. ¬

_ (¬1) قوله، في "تفسير الطبري" 3/ 228، "تفسير الثعلبي" 3/ 34 أ، "أسباب النزول" للواحدي ص104، "تفسير البغوي" 2/ 25، "زاد المسير" 1/ 371، "لباب النقول" للسيوطي 52. (¬2) (كانوا): ساقطة من (ج). (¬3) في (أ)، (ب)، (ج): (يتوالونهم)، والمثبت من (د). وتفسير (الوسيط) للمؤلف (تح: بالطيور): 187. (¬4) في (أ)، (ب)، (د): (مقاتلان). والمثبت من (ج) وهو الصواب؛ لموافقة لما في "تفسير الثعلبي" 3/ 34 أ، والمقاتلان؛ هما: مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان، وقد أخرج لهما الثعلبي في "تفسيره" وجعلهما من مصادره. انظر: "تفسيره" 1/ 7 ب، وقول مقاتل بن سليمان في تفسيره 1/ 270. ويبدو أن الواحدي نقل القول عنهما من "تفيسر الثعلبي" 34 أ، وقد أورد البغوي في "تفسيره" 2/ 25 قولَ مقاتل، ولم يُعَيِّن مَنْ منهما. ونَصَّ على وروده عنهما ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 371، وقال: (هذا قول المقَاتِلَيْن: ابنِ سُليمان، وابن حَيان). (¬5) هو: حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو اللَّخمي، صحابي، أصله من اليمن، وكان حليفًا للزبير، شهد بدرًا، وهو الذي كاتب أهل مكة يخبرهم بتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغزوهم، مُريدًا بذلك أن يتخذ عند الكفار يدا يحمي بها أهله الذين في مكة، حيث لا عشيرة له بها تحميهم، وقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره. وقد أنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]، توفي سنة (30هـ). انظر: "صحيح البخاري" 8/ 633. كتاب التفسير. سورة الممتحنة، "الاستيعاب" 1/ 374، "الإصابة" 1/ 300.

قال الفرَّاء (¬1): {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ}: نهيٌ؛ فجُزم على ذلك. ولو رُفِع على الخبر كقراءة من قرأ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (¬2) [البقرة: 233] جازَ. قال الزجَّاج (¬3): ويكون المعنى على الرفع: أنه من كان مؤمنًا، فلا بنبغي أنْ يتَّخذَ الكافرَ وَلِيًّا؛ لأن وَلِيَّ الكافرِ راضٍ بِكُفْرِهِ، فهو كافر، وقد ذكرنا معنى (الوليَّ) و (المولى) فيما تقدم. ومعنى (الأولياء) ههنا: الأنصار، والأعوان، أو (¬4) الذين يوالونهم ويلاطفونهم بالمحبَّةِ والقُرْبَةِ. وقوله تعالى: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. (مِنْ) ههنا معناه: ابتداء الغاية، ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 205 نقله عنه بالمعنى. (¬2) وهي قراءة: ابن كثير، وأبي عمرو، وقرأ الباقون: {تُضَارَّ}، بفتح الرَّاء المشددة. انظر: "الحجة" لابن زنجلة: 136، "اتحاف فضلاء البشر" 1/ 440. والقراءة بجزم {لاَ يَتَّخِذِ}، قراءة الجمهور، وقرأ المفضل الضبِّي برفع الذال، وأجاز الكسائي الرفعَ على الخبر، والمراد به النهي. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس: 1/ 320، "التبيان" للعكبري: 1/ 183، "البحر المحيط" 1/ 422. (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 395، نقله عنه نصًّا. (¬4) (أو): ساقطة من (ج). وفي (د)، (و).

على تقدير (¬1): لا تجعلوا ابتداء الولاية مكاناً دون المؤمنين (¬2). وهذا (¬3) كلام جرى على المثل في المكان، وهو كما تقول: (زيدٌ دونك)؛ لست تريد: أنَّه في موضعٍ مُسْتَفِلٍ (¬4)، وأنك في موضع مرتفع، ولكن جعلت الشَّرف بمنزلة الارتفاع في المكان، وجعلت الخِسَّةَ كالاستفال (¬5) في المكان. والمعنى (¬6): أنَّ المكان المرتفع في باب الولاية: مكانُ المؤمنين، ومكان الكافرين الأدنى. فهذا معنى {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وتحقيق له. والتأويل: أولياء من غير المؤمنين وسواهم؛ كقوله تعالى {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] أي: غير الله. وقد مرَّ. وقد ثبت بهذه الآية تحريمُ موالاة الكافرين: والله تعالى قد قطع بيننا وبينهم أصلَ الموالاة. قال ابن عباس في هذه الآية (¬7): نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا ¬

_ (¬1) (تقدير): ساقطة من (ب). (¬2) والتقدير بعبارة أوضح: لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين. وكون (مِن) لابتداء الغاية، هو الوجه الأظهر، والوجه الآخر: أن (مِن) في موضع نصب، صفة للأولياء. وقال سليمان الجمل: (إنها في محل الحال من الفاعل). انظر: "التبيان" للعكبري 1/ 183، "البحر المحيط" 2/ 423، "الدر المصون" 3/ 107، "الفتوحات الإلهية" للجمل 1/ 258. (¬3) من قوله: (وهذا ..) إلى (.. مكان المؤمنين): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 396 مع اختلافٍ يسير جدًّا بين النصين. (¬4) (مستفل): وردت في "معاني القرآن" مستقل، وما أورده المؤلف هنا هو الصواب؛ لمناسبتها لسياق الكلام. و (التَّسفُّلُ)، نقيض التَّعلِّي، انظر: "التاج" 14/ 347 (سفل). (¬5) كالاستفال: وردت في "معاني القرآن" (كالاستقبال)؛ ولا وجه لها، والصواب ما أثبته المؤلفُ. (¬6) في (ج): (فالمعنى)، وفي (د): (والمكانى). (¬7) قوله، في "تفسير الطبري" 3/ 227، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 628، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 28ونسب إخراجه كذلك لابن المنذر. ونهاية قول ابن عباس إلى (.. الكفار)، أما الآيات القرآنية، فهي من إلحاق المؤلف الواحدي تفسيرًا لقول ابن عباس.

الكفارَ في آيات كثيرة، منها قوله: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} (¬1) [المائدة: 51]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: اتِّخاذ الأولياء منهم (¬2). {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}. أي: من دين الله، فحذف الدينَ اكتفاءً بالمضاف إليه، والمعنى: أنه قد برئ من الله، وفارق دينه، ثمَّ استثنى، فقال: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}. ذكرنا معنى الاتقاء وحقيقته في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. و (التُّقاة) ههنا مصدر، ووزنها: فُعَلَة، مثل: ¬

_ (¬1) وقال ابن عطية: (ولفظ الآية عام في جميع الأعصار)، وقال أبو حيان: (وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فُسح لنا فيه من اتِّخاذهم عبيدًا، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم). "المحرر الوجيز" 3/ 71. وذكر سلميان الجمل أن ترك موالاة المؤمنين يصدق بصورتين: إما أن تقصر الموالاة على الكافرين، أو أن يُشرك بينهم وبين المؤمنين في الموالة، وكلا الصورتين داخلتان في منطوق النهي، فموالاة الكافرين ممنوعة، استقلالًا أو اشتراكًا مع المؤمنين. انظر: "الفتوحات الإلهية" 1/ 258. وانظر: "البحر المحيط" 2/ 422. (¬2) (اتخاذ الأولياء منهم): ساقط من (د).

(تُخَمَة)، و (تُؤَدَة)، و (تُكَأَة)، و (تُهمَة). والتَّاء في كل هذا مبدلة من الواو (¬1)، ويقال (¬2): (تَقَيْتُهُ تُقاةً، وتُقىً، وتَقِيَّةً، وتَقْوى). وإذا قلت (¬3): (اتَّقَيت)، كان مصدره (الإتقاء) (¬4). وإنما قال: (تتَّقوا)؛ من: الاتِّقاء، ثم قال: (تُقاةً)، ولم يقل: اتِّقاءً: لأن العرب قد تَذْكُر المصدرَ من غير لفظ الفعل، إذا كان ما ذُكِر من المصدر يوافق (¬5) مصدر الفعل المذكور، فيقول: (التقيت فلاناً لقاءً حسناً)، قال القُطامي (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البسيط" (تح: د. الفوزان): 2/ 48، "كتاب سيبويه" 4/ 333، "سر صناعة الإعراب" 1/ 145 - 148، "شرح الشافية" 3/ 80 - 83، "الممتع في التصريف" 1/ 383. ومعنى (تُخمَة): ما يصيب الإنسان من الطعام، إذا استثقله ولم يستمرئه. وهي مأخوذة من: (الوَخامة). و (تُؤَدَة) بالتسكين والفتح: التأني والتمهل، واصلها: (وُأدَةٌ). و (تُكَأة): ما يُتَّكأ عليه، و (رجل تُكَأة): كثير الإتِّكاء، وأصلها: (وُكَأة). و (تُهَمَة): الظنُّ، أصلها: (الوُهَمَة)، من: الوهم، وهو: الظَّن. "اللسان" 8/ 4791 (وخم)، 8/ 4745 (وأد)، 8/ 4904 (وكأ)، 8/ 4933 (وهم). (¬2) من قوله: (ويقال ..) إلى نهاية بيت الشعر (.. احتقارًا): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" 3/ 34 ب. (¬3) في (ج): (قلبت). (¬4) انظر: "إصلاح المنطق" 24، ومادة (وقى)، في "تهذيب اللغة" 4/ 3941، "الصحاح" 6/ 2527، "اللسان" 8/ 4901. (¬5) في (ج): (موافق). (¬6) هو: عمير بن شُيَيْم التَّغْلبي، تقدمت ترجمته.

وليس بأنْ تتَّبعه اتِّباعا (¬1) وقال أيضًا: ولاح بجانب (¬2) الجبلين منه ... ركامٌ يَحْفِر التُّربَ (¬3) احتفارا (¬4) وقال بعض النحويين (¬5): (تقاة) اسم وضع موضع المصدر (¬6) كما يقال: (جَلَسَ جَلْسَةً)، و (رَكِبَ رِكْبَةً) (¬7)، وكما قال: ¬

_ (¬1) عجز بيت، وصدره: وخير الأمر ما استقبلت منه وهو في: "ديوانه" 35، "كتاب سيبويه" 4/ 82، "أدب الكاتب" 630، "الشعر والشعراء" 2/ 728، "المقتضب" 3/ 205، "الأصول في النحو" 3/ 134، "شرح المفضليات" لابن الأنباري 352، "الخصائص" 2/ 309، "الاقتضاب" 477، "شرح أدب الكاتب" 305، "أمالي ابن الشجري" 2/ 141، "وضح البرهان" 1/ 239، "شرح المفصل" 1/ 111، "خزانة الأدب" 2/ 369. ومعنى البيت: أن خير الأمور ما تدبرته في أوله فعرفت إلام تنتهي عاقبته، وشر الأمور ما تُرك النظرُ في أوله، وتُتُبِّعت أواخرُه بالنظر. والشاهد فيه: أنه أتى بـ"اتِّباعًا" مصدرًا لـ"تتبع"، لأن معناهما واحد. (¬2) (د): (من جانب). (¬3) (د): (الثوب). (¬4) لم أقف عليه في ديوان القطامي، وأورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 34 ب، ونسبه للقطامي، وبين أنه يصف غَيْثًا، وأورده أبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 424. (¬5) لم أهتد إلى القائل، وقد ذكره أبو حيان في "البحر" 2/ 424، والحلبي في "الدر" 3/ 111 عند بيان نصب {تقاه} على الحال كما سيأتي. (¬6) أي على تقدير: إلا أن تتقوا منهم اتقاءً، فيكون مفعولًا مطلقًا. (¬7) "جَلْسَة": اسم للمرَّة، و"جِلْسَة": اسم للهيئة، وهكذا "رِكْبة" و"رَكْبَة". يقول ابن مالك - في صياغة اسم المرَّة والهيئة من الثلاثي: و"فَعْلَةٌ" لمرَّةٍ كجَلْسَهْ ... و"فِعْلَةٌ" لهيئة كجِلْسَهْ

وبَعْدَ عطائِكَ المائةَ الرِّتاعا (¬1) فأجراه مجْرَى الإعطاء (¬2). قال: ويجوز أن تجعل (تُقاة) ههنا مثل: (رُماة)، فتكون حالاً مؤكدة (¬3). قال المفسرون (¬4): هذا في المؤمن، إذا كان في قوم كفَّار، ليس فيهم ¬

_ (¬1) عجز بيت، وصدره: أكُفْرًا بعد ردِّ الموتِ عني وهو للقطامي، في "ديوانه" 37، كما ورد في "الشعر والشعراء" 2/ 727، و"الخصائص" 2/ 221، و"الأصول في النحو" 1/ 149، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 396، و"اللسان" 8/ 163 (سمع)، 9/ 141 (زهف)، 15/ 69 (عطا)، 138 (غنا)، و"شرح شذور الذهب" 412، و"المقاصد النحوية" 3/ 505، 4/ 295، "منهج السالك" 2/ 288، و"شرح شواهد المغني" 2/ 849، و"الهمع" 3/ 103، "معاهد التنصيص" 1/ 179، و"التصريح" 2/ 64، "الخزانة" 8/ 136، 137، "الدرر" 1/ 161. والشاعر يمدح في البيت زُفَر بن الحارث الكِلاَبي، بعد أن مَنَّ عليه بإطلاق أساره من قبيلة قيس، التي كانت تنوي قتله، وأعطاه مائة من الإبل. وقوله: (أكفرًا) استفهام إنكاري؛ أي: لا أخونك بعد أن أنقذتني من الموت، وأعطيتني مائة من الإبل (الرِّتاع)؛ أي: الراعية. والشاهد فيه: إعمال اسم المصدر: وهو (عطاء) عملَ المصدر، وهو (إعطاء)، ولذا نصب به المفعول، وهو (المائة). (¬2) اسم المصدر المأخوذ من حدث لغيره، كـ (الثواب، والكلام، والعطاء)، منع البصريون إعمالَه، إلَّا في الضرورة، وأجاز إعمالَه الكوفيُّون والبغداديُّون قياسًا؛ إلحاقًا له بالمصدر. واستثنى الكسائي إمام الكوفيين ثلاثةَ ألفاظ، هي: (الخبز) و (الدهن) و (القوت)، فإنها لا تعمل، فلا يقال: (عجبت من خبزكَ الخبزَ)، ولا (من دهنكَ رأسكَ)، ولا (من قوتِكَ عيالَكَ)، وأجاز ذلك الفرَّاءُ، لما حكاه عن العرب مثل: (أعجبني دهنَ زيدٍ لحيَتَه). انظر: "همع الهوامع" 2/ 94 - 95. (¬3) أي: إنَّ (تقاة) هنا جمعٌ، حالها حال (رُماة) التي مفردها: (رامٍ)، وإن لم يأت من (تقاة) لفظ (فاعل)؛ لأن (فُعَلَة) تأتي جمعًا لفاعل الوصف المعتل اللَّام. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3940 (وقى)، "البحر المحيط" 2/ 424، "الدر المصون" 3/ 111، "التبيان" للعكبري: (184). (¬4) من قوله: (قال المفسرون ..) إلى (.. عورة المسلمين): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" 3/ 35 أ.

غيره، وخافهم على نفسه وماله، فله أن يخالفهم (¬1)، ويُداريهم باللسان، وقلبه مطمئنٌ بالإيمان دفعا عن نفسه (¬2)، من غير أن يَستحِلَّ مُحرَّماً؛ من: دمٍ، أو مالٍ، أو إطْلاع للكافرين على عَوْرة (¬3) المسلمين. قال ابن عباس في هذه الآية (¬4): يريد: مُدَاراةً ظاهرةً. والتقيَّة لا تحل إلاَّ مع خوف القتل. وهي رخصة من الله تعالى. ولو أفصح بالإيمان؛ حيث يجوز له التَقِيَّة، [فيُقْتَل لأجلِ إيمانِهِ] (¬5)، كان ذلك فضيلةً له (¬6). وظاهر الآية يدل على أن التقيَّة إنما تَحلُّ مع الكفار الغالبين، غير أن مذهب الشافعي رحمه الله: [أنَّ الحالةَ بين] (¬7) المسلمين (¬8)، إذا شاكلت (¬9) الحالةَ بين المسلمين والمشركين، حَلَّت التقِيَّةُ، محاماةً عن ¬

_ (¬1) في (د): (يحالفهم)، وفي "تفسير الثعلبي" (يتحالفهم)، وقد أثبَتُّ (يخالفهم)؛ لورودها في النسخ الثلاث، ولأنها تحتمل المخالفة القلبية، وإلا فإني أرجِّح أن تكون (يخالقهم)، بمعنى: يصانعهم، ويعاشرهم على أخلاقهم، وهكذا وردت عن مجاهد في تفسير الآية، حيث قال: (إلَّا مصانعة في الدنيا، ومُخالقة). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 229، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 629. (¬2) (دفعا عن نفسه): ساقط من: (ب). (¬3) في (د): (عورات). (¬4) الوارد عن ابن عباس في المصادر التي بين يدي ما يفيد هذا المعنى، وليس بهذا اللفظ. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 228، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 229، "المستدرك" للحاكم 2/ 291، "الدر المنثور" 2/ 29. (¬5) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وهو مثبت من: (ب)، (ج)، (د). (¬6) قال ابن العربي: (لا خلاف في ذلك) "أحكام القرآن" 3/ 1179، وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص: 1/ 9، 3/ 192، "تفسير القرطبي" 10/ 188. (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وهو بياض في (ب)، والمثبت من (ج)، (د). (¬8) (المسلمين): مكانها بياض في: (ب). (¬9) (شاكلت): أي: شابهت، ووافقت. انظر: "القاموس" (1019) (شكل).

المُهْجَةِ (¬1). [وأمال] (¬2) الكسائي، وحمزة {تُقَاةً} ههنا (¬3). والقافُ حرفٌ مُسْتَعْلٍ (¬4)، فالأحسن ترْكُ الإمالة مع القاف، كما لم يُميلوا (قادم). و (قاة) من (تقاة)، بمنزلة: (قادم). وحُجَّة (¬5) من أمالَ: أنَّ سيبويه ذكر (¬6): أنَّ قوماً قد أمالوا مع المستعلي، ما لا ينبغي أن يُمال في القياس؛ وذلك قولهم: (رأيت غَرْقى) (¬7). قال: وهو قليل. وأيضاً فإنهم قد أمالوا: (سَقى)، (وصَغى) (¬8)؛ طلباً للياء التي الألِفُ في موضعها، فلمَّا أُميلت هذه الألِفُ مع المستعلي، ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراسي: 2/ 285، 4/ 246، "الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية" للسيوطي: 206، "حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب" 2/ 390. (¬2) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). وفي (ب)، (ج)، وأما المثبت من (د). (¬3) انظر: "الحجة" للفارسي: 3/ 27، وقال: (وأمال حمزة منهم (تقاة) إشمامًا من غير مبالغة)، "حجة القراءات" لابن زنجلة: 159. (¬4) الحروف المستعلية، هي: الخاء، والطاء، والظاء، والصاد، والضاد، والغين، والقاف. انظر: "الرعاية" لمكي 123، "التمهيد" لابن الجزري 90. (¬5) من قوله: (وحجة ..) إلى (.. أميلت التي في تقاة): نقله عن "الحجة" للفارسي: 3/ 30 - 31 بتصرف واختصار. (¬6) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 132، و 4/ 134. (¬7) هكذا جاءت في جميع النسخ. والذي في "الحجة" للفارسي، "كتاب سيبويه" (عِرْقا) بالعين المكسورة، من: العِرقاة، وهي: أصل الشيء، وما يقوم عليه. وهي في الشَّجَر: أرُومُه الأوسط الذي تتشعب منه العروق. انظر: "اللسان" 5/ 2903 (عرق). أما (غَرقى)، فهي جمع: غريق. ويلاحظ أن سيبويه قد ذكر أن العلة في إمالة (عِرقا) هي وجود الكسرة في أولها، وليس ذاك في (غرقى). انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 134، "الدر المصون" 3/ 112 - 113. (¬8) (سقى)، (وصغى): ساقطتان من (د).

29

كذلك أميلت (¬1) التي في (تقاة). وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}. أي: يخوفكم الله على موالاة الكفار عذابَ نَفْسِهِ، وعقوبَتَه، فحذف المضاف، وهو قول ابن عباس (¬2) و (النفس) عند العرب، عبارة عن: ذات الشيء ووجوده. يقولون: هذا نفس كلامك (¬3). وإلى هذا ذهب أهل المعاني. قال الزجَّاج (¬4): معنى {نَفْسَهُ}: إيَّاه، كأنه قال: ويحذركم الله إيَّاه. وقال بعضهم (¬5): النفس ههنا: تعود إلى اتِّخاذ الأولياء من الكفار؛ [أي] (¬6): ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل (¬7). 29 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ}. أي: مِن مودة الكفار، وموالاتهم. هذا قول أكثر المفسرين (¬8). وقال الكلبي (¬9): يعني: تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول: إن أخفيتموه أو ¬

_ (¬1) (أميلت): ساقطة من (ج). (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله، اللهم إلا ما ورد في "المحرر الوجيز" 3/ 77 من قوله هو والحسَنَ: (ويحذركم الله عقابه)، وانظر: "البحر المحيط" 2/ 425. (¬3) انظر (نفس) في "تهذيب اللغة" 4/ 3629. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 397، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 384، "المحرر الوجيز" 3/ 76، "القاموس المحيط" (577). (¬5) لم أهتد إلى هذا القائل. (¬6) ما بين المعقوفين في (أ): غير واضح، وفي (ب): (أن)، والمثبت من (ج)، (د). (¬7) والآية من الأدلة على أن لله تعالى نفسًا، وهي صفة من صفاته العلية، تليق بكماله وجلاله سبحانه. انظر: "قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر" لصديق خان: 65. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 230، "تفسير الثعلبي" 3/ 36 أ، "تفسير البغوي" 2/ 26، "زاد المسير" 1/ 372. (¬9) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 36 أ، "تفسير البغوي" 2/ 26.

أظهرتم تكذيبه، بحربه وقتاله، يعلمه الله. وقال عطاء (¬1): يريد: الضمير، وهذا يعم كل ما في قلب الإنسان. قال أهل المعاني: لَمّا نَهَى اللهُ في الآية الأولى عن موالاة الكفار، خوَّفَ وحذَّر في هذه الآية (¬2) عن إبطان (¬3) موالاتهم؛ بأنه يعلم الإسرار، كما يعلم الإعلان. [فإن قيل: لِمَ جاء] (¬4) {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} بالجَزْم؛ على جواب (¬5) الشرط، ولا يَفْتَقِرُ في علمه إلى وجود (¬6) شرطٍ متقدمٍ؛ كقول القائل: (إنْ تأتِني؛ أُكْرِمْكَ!)، فالإتيان سببٌ للإكرام، ولا يجوز أنْ يكون الإخفاء ولا الإبداء سبباً لعلمه. فالقول في ذلك إنَّ المعنى: يعلمه كائنًا، [ولا يعلمُهُ اللهُ تعالى (¬7) كائناً، إلا بعد كَوْنِهِ، وقبل (¬8) الكَوْنِ لا يُوصَفُ بأنه (¬9): يعلَمُه كائنا] (¬10)، والتأويل: إنْ تبدوا ما في صدوركم، يعْلَمْهُ مبدىً، أو تُخْفوه يَعْلَمْهُ مُخْفىً. ¬

_ (¬1) لم اهتد إلى مصدر قوله. (¬2) (في هذه الآية): ساقطة من (ج). (¬3) في (ج): (انظار). (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، (د). (¬5) في (ج): (جواز). (¬6) في (ج): (وجوب). (¬7) (الله تعالى): ليس في (أ)، (ب)، (د). والمثبت من (ج). (¬8) في (د): (وقيل)، والمثبت من (ج). (¬9) في (ج): (لأنه)، والمثبت من (د). (¬10) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).

30

وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. رفع (¬1)؛ على الاستئناف؛ كقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 14]، جزم الأفاعيل (¬2)، ثم قال: {وَيَتُوُبُ اَللَّهُ} [التوبة: 15]، فرفع. ومثله، قوله: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24]، ورفعاً (¬3). وفي قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، إتمامٌ؛ للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيءٌ منهما، فكيف يخفى عليه الضميرُ؟. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. تحذيرٌ مِنْ عِقَابِ مَن لا يعْجِزَهُ شىءٌ. 30 - قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} اختلفوا في العامل في {يَوْمَ}، فقال ابن الأنباري (¬4): اليوم معلق بـ {الْمَصِيرُ} (¬5)، والتقدير: (وإلى اللهِ المصير، يومَ تَجِدُ). وقال الزجَّاج (¬6): العامل: قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، في الآية (¬7) ¬

_ (¬1) من قوله: (رفع ..) إلى (.. رفعا): نقله بتصرف عن "معاني القرآن" للفراء: 1/ 206. (¬2) (الأفاعيل): ساقطة من (د). ومعناه: جُزِمت الأفعال التالية في الآية: (يُعذِّبْهمْ)، (يُخزِهِمْ)، (يَشْفِ)، (يُذْهِبْ). (¬3) أي: هي في نيَّةِ رفع، مستأنفةٌ، غير داخلة في جزاء الشرط؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقًا. وسقوط الواو لفظًا، لالتقاء الساكنين في الدرج، وسقوطها خطًّا، حملًا للخطِّ على اللفظ. انظر: "منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" للأشموني: 249. (¬4) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬5) في (د): (متعلق بالضمير). يعني بـ {الْمَصِيرُ}: ما ورد في قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} آية: 28 من نفس السورة. (¬6) في "معاني القرآن" له: 1/ 397. (¬7) من قوله: (في الآية ..) إلى (.. نفسه): ساقط من (ج).

السابقة؛ كأنه قال: ويحذِّرُكُم اللهُ نفسَهُ في ذلك اليوم (¬1). قال أبو بكر: ولا يجوز أن يكون (اليوم) منصوباً بـ {وَيُحَذِّرُكُمُ}، المذكور في هذه الآية، لأن واو النَّسَقِ (¬2) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. قال: ويجوز أن يكون (اليوم) متَصلًا بـ {قَدِيرٌ} (¬3) منصوباً به، والتأويل: (والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ في هذا اليوم). وخصَّ هذا [اليوم] (¬4)، وإنْ كان غيرُه من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى؛ تفضيلاً له؛ لِعِظَمِ شأنِه؛ كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬5). وقوله تعالى: {مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}. يريد: بيان ما عملت؛ بما يرى من صحائف الحسنات. ويجوز أن يكون المعنى: جزاء ما عملت؛ بما يرى من الثواب. وقوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}. الأظهر: أن تجعل {مَا} ههنا بمنزلة (الذي)، فيكون معطوفاً على {مَا} الأولى، ويكون {عَمِلَتْ} صلةً لها. ويصلح أن تكون بمعنى: الجزاء فتكون مُسْتَأنَفَةً. وكان الأجود؛ إذا ¬

_ (¬1) ضعَّف أبو حيان نصب {يَوْمَ} بـ {الْمَصِيرُ}، وبـ {وَيُحَذِّرُكُمُ} في الآية التي قبلها؛ وذلك لأن الفاصل قد طال بين العامل والمعمول، ويضاف إليه في النصب بـ {وَيُحَذِّرُكُمُ}، أن التحذير موجود، واليوم موعود، فلا يلتقيان، فلا يصح عمل الفعل هنا. انظر: "البحر المحيط" 2/ 426، "التبيان" للعكبري: 1/ 252. (¬2) أي: واو العطف. (¬3) في (ج): (تقديره). ويعني بـ {قَدِيرٌ} الواردة في قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آية: 29. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، (د). (¬5) وقيل إنَّ {يَوْمَ} في آية سورة آل عمران، منصوب بفعل مضمرٍ، هو (اذكر) أو (اتَّقوا)، وقال الزمخشري: إنَّ ناصبه هو فعل {تَوَدُّ} الآتي بعده. وحول هذه الوجوه نقاش، انظره في "تفسير الطبري" 3/ 231، "الكشاف" 1/ 423، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 560، "البحر المحيط" 2/ 426، "الدر المصون" 1/ 114.

31

جعلت {مَا} بمعنى الجزاء، أن تنصب {تَوَدُّ}، أو تخفضه، ولَمْ يقرأ أحدٌ إلا رفعاً، فكان هذا دليلاً [على] (¬1) أنَّ {مَا} بمعنى (الذي) (¬2). وقوله تعالى: {أَمَدًا بَعِيدًا}. معنى (الأمد): الغاية التي يُنتَهى إليها (¬3). قال مقاتل (¬4): أي: كما بين المشرق والمغرب. وقال الحسن (¬5): يَسُر أحدَهم أن لا يلقى عملَهُ أبدا. وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}. قد ذكرنا ما فيه (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. قال الحسن (¬7): مِن رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. 31 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} قال ابن عباس في رواية الضحاك (¬8): وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، (ج). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 206،"إعراب القرآن" للنحاس: 1/ 321، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 155، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 561. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 231، "القاموس المحيط" 339 (أمد). (¬4) قوله في "تفسيره" 1/ 270. ونصه عنده: (يعني: أجلًا بعيدًا بين المشرق والمغرب). (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 231، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 631، "تفسير الثعلبي" 3/ 36 ب، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 29، ونسب إخراجه لابن المنذر كذلك. (¬6) ذكر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} من آية: 28. (¬7) قوله في "تفسير عبد الرزاق": 1/ 118، "تفسير الطبري" 3/ 231، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 631، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 384. (¬8) قول ابن عباس، في "تفسير الثعلبي" 3/ 36 أ، "أسباب النزول" للواحدي: 105، "تفسير البغوي" 2/ 27، "زاد المسير" 1/ 373.

للأصنام، فقال: "يا معشرَ قريش: والله لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم! ". فقالت قريش: إنما نعبد هَّذه حبًا لله؛ ليقربونا إلى الله. فقال الله: قل يا محمد: إن كنتم تُحبُّون الله وتعبدون الأصنامَ لِتُقَرِّبكم إلى الله فاتَّبعوني، يُحْبِبْكم اللهُ، فأنا رسوله إليكم، وحجَّتُه عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم (¬1). وقال في رواية أبي صالح (¬2): إنَّ اليهود لمَّا قالت: نحن أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، أنزل الله تعالى هذه الآية، فعرضها عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَبَوا أن ¬

_ (¬1) هذه الرواية عن ابن عباس، من طريق جُويبر عن الضحاك عنه، كما في "تفسير الثعلبي" "أسباب النزول" للواحدي وجُويبر، هو: ابن سعيد، أبو القاسم البلخي: ضعيف جدًّا. انظر: "المجروحين" لابن حبان: 1/ 217، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 2/ 540، "تقريب التهذيب" (987). (¬2) هذه الرواية في "تفسير الثعلبي" 3/ 37 أ "أسباب النزول" للواحدي 105.

يقبلوها (¬1). قال أهل العلم: معنى (مَحبَّة العبدِ لله): إرادته طاعته، وإيثاره أمره، ورضاه بشرائعه. ومعنى (مَحبَّة الله للعبد): إرادته لِثَوَابِهِ، وعفوه عنه، ¬

_ (¬1) هذه الرواية من طريق الكلبي عن أبي صالح. والكلبي -كما سبق- متَّهم بالكذب، وقد رُمي بالرفض، وقد قال لسفيان الثوري (كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب). انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 2 (7574)، "تقريب التهذيب" (5901)، وقد ورد في سبب نزول الآية سببان آخران: الأول: ادِّعاء أقوام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحبون الله تعالى، فأنزل الله هذه الآية؛ ليبين لهم أن علامة حُبِّه هي: اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو قول الحسن، وابن جريج. الثاني: أنها نزلت رَدًّا على مزاعم النصارى في ادِّعائهم: أنَّ ما يقولونه عن عيسى عليه السلام إنما هو محبة لله وتعظيم له. فأخبرهم أن محبة الله تكون باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير. ورجَّح الطبري هذا القول، قائلًا: (لأنه لم يجر لغير وفد نجران في هذه السورة، ولا قبل هذه الآية ذكْرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يُعَظِّمُونه)، ولم يجزم الطبري بصحة قول الحسن السابق، وبيَّن أنه ليس في السورة ما يدل عليه، إلا أن يراد بالقوم الذين ادَّعوا ذلك هم وفد نصارى نجران، فيكون القولان متَّفقين. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 232. وقال ابن عطية: (وُيحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأنهم كانو يدَّعون أنهم يحبون الله، ويُحبهم، ألا ترى أنهم جميعًا قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، ولفظ {وَأَحِبَّاؤُهُ} إنما يعطي أن الله يحبهم، لكن يعلم أن مراده "ويحبوه"). انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 80.

32

وانعامه عليه (¬1). 32 - قوله تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} قيل: لمّا نزل (¬2) قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ}، الآية، قال عبد الله بن أُبَي (¬3): إنَّ محمداً يجعل طاعتَه كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبَّت النصارى عيسى، فنزلت هذه الآية (¬4) وبين فيها أنَّ طاعة الله معلقةٌ بطاعة الرسول، ولا يتمُّ لأحد طاعةُ الله، مع عصيان الرسول؛ ولهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -: كل أمرٍ أو نهيِ، ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جرى ذلك في الفريضة واللزوم، مجرى ما أمر الله به ¬

_ (¬1) نقل القرطبي في تفسيره قريبًا من هذا القول عن الأزهري. انظر: "تفسير القرطبي" 4/ 60، "فتح القدير" 1/ 501، "فتح البيان" 2/ 42. وما ذكره المؤلف هنا في محبة الله تعالى هو ما عليه مذهب الأشاعرة؛ حيث ينفون هذه الصفة، وغيرها من الصفات، عن الله تعالى ويعطلونها، ويفسِّرونها إذا وردت في القرآن والسنَّة بلوازمها ومقتضياتها، من إرادة الثواب للعبد والعفو عنه والإنعام عليه كما فعل المؤلف، فينفون حقيقة صفة الله، ويحرفونها ويؤوِّلونها، بدعوى أنها توهم النقص في الذات العلية؛ لأن المحبة عندهم، هي: ميل القلب إلى ما يلائم الطبع، وهذا من صفات المخلوق، والله منزَّه عن ذلك الأمر الذي دعاهم إلى تأويل صفة المحبة، وحملها على الإرادة كما فعل المؤلف. والذي أوقع الأشاعرة في هذا الخطأ العقدي، هو قياسهم صفات الخالق على صفات المخلوق. ومن قواعد منهج السلف الصالح: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن ذات الحق لا تشبه ذوات الخلق، فكذلك صفاته. ومن قواعدهم: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر، فيثبت السلف جميع صفات الله، ويمرُّونها كما جاءت بما يليق بذاته العلِيَّة، ولا يُؤوِّلونها، ومنها: صفة المحبة. ويثبتون كذلك لوازمها من إرادة الله إكرام من يحبه وإثابته، فالله تعالى يُحِبُّ، ويُحَبُّ لذاته، وليس فقط لثوابه، كما قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وتأويل الأشاعرة ومنهم المؤلف لصفة المحبة بالإرادة، إنما هو حرْفٌ لحقيقة الصفة، وصرف لها عن وجهها الصحيح، ويقال لهم: إنَّ المعنى الذي صرفتم اللفظ إليه، هو نفس المعنى الذي صرفتموه عنه، فالإرادة، هي: ميل الإنسان إلى ما يلائمه، أو إلى ما ينفعه، ودفع ما يضره، وهي من صفات المخلوقين، والله منزَّه عن ذلك، فإن قال الأشاعرة: إرادة تليق به، قيل لهم: وكذلك له محبة، وصفات تليق به، فالسلامة والحكمة في منهج السلف. انظر: "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني 1/ 221 وما بعدها، "شرح العقيدة الواسطية" محمد هراس 45، "التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية" لفالح آل مهدي: 1/ 47، "الكواشف الجلية عن معاني الواسطية" للسلمان 183. (¬2) في (ب): (نزلت). (¬3) هو: عبد الله بن أبَيِّ بن سَلُول، العَوْفي الخزرجي. رأس المنافقين بالمدينة، وكان سَيِّد أهل المدينة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وقد اجتمعت الأوس والخزرج على أن يُتَوِّجوه عليهم مَلِكًا، فجاء الإسلامُ وهدى الله الحَيِّيْن له، ففَرَطَ منه هذا الشرفُ، فدخل في الإسلام مُكرَها، وأبطن النفاق والضَّغينة. انظر أخباره في "سيرة ابن هشام" 2/ 173، 234، 236 - 238، 3/ 51 - 53، 68، 200، 303. (¬4) ورد هذا الأثر في "تفسير الثعلبي" 3/ 37 ب، "تفسير البغوي" 2/ 27، "زاد المسير" 1/ 373 - 374، وقال: (هذا قول ابن عباس)، كما ذكره الرازي 8/ 20.

33

في كتابه، ونهى عنه (¬1). قال عطاء، عن ابن عباس، في قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، يريد: محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإن طاعتكم [لمحمدٍ طاعةٌ (¬2)] (¬3) لي، فأما أن تطيعوني وتعصوا محمداً، فلن أقبل طاعتكم (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. قال الزجَّاج (¬5): أي (¬6): فإنَّ الله لا يحبهم (¬7)؛ لأن من تَوَلَّى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد تَوَلَّى عن الله عز وجل. ومعنى {لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}: لا يغفر لهم، ولا يُثْنِي عليهم خيراً (¬8). 33 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} معنى (اصطفى) في اللغة: اختار. وتأويله: جعلهم صفوة خَلْقِه (¬9). ¬

_ (¬1) لم أجد نصَّ قول الشافعي، فيما اطلعت عليه من مصادر، ولكن وردت أقوال كثيرة له تدل على هذا المعنى. انظر: "الرسالة" للشافعي 73، 76، 78، 84، 85، 88، "أحكام القرآن" للشافعي، (جامع البيهقي): 1/ 28. (¬2) في (ج): (طاعتكم). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬4) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 398. (¬6) (أي): ساقطة من (د). (¬7) في (ج): (لا يحبكم). (¬8) هذا من تمام قول الزجاج، وقد سبق أن بيَّنت أن عدم المغفرة، وعدم الثناء بالخير عليهم، إنَّما هو من لوازم، ومُقتضيات عدم المحبة، وليس هو حقيقة عدم المحبة، وحقيقة ذلك وكنهه وكيفيَّته، لا تحيط بها عقولنا، ونكلها إلى الحق عز وجل. (¬9) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 399، وأنظر: "تهذيب اللغة" 12/ 249 (صفو).

قال أهل المعاني (¬1): هذا تمثيل المعلومِ بالمرئيِّ، والعرب تفعل ذلك، فإذا سمع السامع ذلك المعلوم، كان عنده بمنزلة ما يشاهده عَياناً؛ وذلك أن الصافي هو: النَّقيُّ من شائب الكَدَر فيما يُشاهَد. فمُثِّلَ به خُلُوص هؤلاء القوم من الدنس؛ لأنهم خلصوا كخلوص (¬2) الصافي من شائب الأدناس. وقيل في معنى (اصطفائه إيَّاهم)، قولان: أحدهما: اصطفى دينهم على سائر الأديان؛ لأن دين الجماعة الإسلامُ، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وهذا اختيار الفرَّاء، قال (¬3): وهو من باب حذف المضاف، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. القول الثاني: أنه اصطفاهم بالنبوَّة والرسالة، على عالمي زمانهم. وأراد بـ {آلَ إِبْرَاهِيمَ} إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط (¬4). ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك الزجاج في المصدر السابق. ومن قوله: (هذا تمثيل ..) إلى (.. والرسالة على عالمي زمانهم): نقله بالمعنى من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 399. (¬2) في (ج) و (د): (الخلوص). (¬3) في "معاني القرآن" 2/ 207، وهو اختيار الطبري كذلك في "تفسيره" 3/ 232. (¬4) هذا قول ابن عباس ومقاتل، وفي روايةٍ عن ابن عباس والحسن: أنه من كان على دينه. قال البخاري: (قال ابن عباس: {وَآلَ عِمْرَانَ} المؤمنين من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68]، وهم المؤمنون). "الصحيح" 4/ 138 كتاب الأنبياء. باب: 44. وقيل: هو نفسه. انظر: "وضح البرهان" للنيسابوري: 1/ 238، "زاد المسير" 1/ 374، "تفسير القرطبي" 4/ 62، "كشف المعاني" لابن جماعة: 127، "الدر المنثور" 2/ 30، وتفسير ابن عباس ومروياته من كتب السنة: 1/ 165. ومردُّ الخلاف: في ذلك إلى الـ (آل)، وهل هي تعني: الأهل والقرابة؟ أم الأتباع سواءً كانوا قرابة أو غيرهم؟ أم تعني: الرجل نفسه؟ والمسألة فيها خلاف، ولكلِّ قولٍ دليله. انظر: "اللسان" 1/ 171 (أول).

34

وبـ {وَآلَ عِمْرَانَ}: موسى وهارون (¬1). قالوا: وإنما خصَّ هؤلاء بالذكر؛ لأنَّ الأنبياء بأسرهم من نسلهم. وقوله تعالى: {عَلَى الْعَالَمِينَ}. قال صاحب "النَّظْمِ": ظاهر هذا اللفظ على العموم، وتأويله على الخصوص؛ لأنه يتضمَّنُ أخباراً منفصلاً بعضها من بعض، وأُجْمِلَت في الإخبار عنها؛ لأنه عز وجل إنْ كان عنى بالاصطفاء: أولادَ آدم، فمن سواه من العالمين الذين فُضِّل عليهم قد خرجوا من أن يكون لهم على العالمين فضل؛ لأن آدم من جملة العالمين، وكذلك نوحٌ، وإبراهيم، وآل عمران، إذا دخل أحد هؤلاء في التفضيل خرج الآخرون منه (¬2)؛ لأن كلاً من (العالَمين). فتأويل ذلك: أنَّ الله اصطفى كلاً منهم على عالَم لا يدخله من قد فُضِّل منهم على عالَم آخر، كما جاء في التفسير: على عالَمي زمانهم. 34 - قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} قال أبو إسحاق (¬3): المعنى ¬

_ (¬1) وهو قول ابن عباس ومقاتل، وممن ذهب إليه الكرماني وابن جماعة وقيل: عيسى وأمه. و (عمران) والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقال به الحسن وابن وهب. وقيل: هو نفسه، ورجَّح ابن جزي أن المعنيَّ بـ (عمران) هو: والد مريم؛ لِذِكْر قصَّتِها بعد ذلك في السورة، وممن ذهب إلى ذلك: أبو حيان، والسهيلي، والبلنسي، وابن كثير، والآلوسي، والقاسمي. انظر: "تفسير القرطبي" 4/ 63، "تفسير ابن جزي" 78، "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 251، "وضح البرهان" 1/ 238، "كشف المعاني" 127، "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 1/ 279، "البحر المحيط" لأبي حيان 2/ 434، "تفسير ابن كثير" 1/ 384، "روح المعاني" 3/ 131، "محاسن التأويل" 4/ 289. (¬2) في (ب): (منهم). (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 399.

اصطفى ذرِّيَةً بعضها من بعض؛ فيكون نصب (ذريةً) على البدل (¬1)، وجائز (¬2) أن ينتصب (¬3) على الحال، المعنى: اصطفاهم في حال كون بعضهم مِن بعض (¬4). وقوله: {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} فيه قولان: أحدهما: بعضها من ولد بعض؛ لأنَّ الجميع (¬5) ذُرِّية آدمَ ثم ذُرِّية نوح (¬6). الثاني: (بعضها [من بعض)] (¬7)، أي: في التناصر (¬8) في الدين (¬9)، فيكون المعنى: أنَّ بعضها يوالي (¬10) بعضاً، ولا يَتَبَرَّأُ بعضهم من بعض، كما يتبرأ الكافرون؛ ألا تراه (¬11) قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) والمُبدَل منه، فيه ثلاثة أقوال: قيل: مُبدَل من (آدم). ولم يرتض هذا العكبري، قائلا: (لأنه ليس بذرية). وقيل: مبدل من (نوح). وإليه ذهب العكبري. وقيل: مبدل من (آل إبراهيم وآل عمران). وبه قال الزمخشري. انظر: "الكشاف" 1/ 424، "التبيان" للعكبري: 1/ 184. (¬2) في (ب): (وجاز)، وفي "معاني القرآن" (وجائزًا). (¬3) في (ج): (ينصب)، وهكذا هي في "معاني القرآن". (¬4) وجوز الهمداني رفعها، على تقدير: تلك ذرية. انظر: "الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 563. (¬5) في (ب): (الأول). (¬6) أورد هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 386، وعزاه لبعض المتأخرين دون أن يُعيِّنْ، وأورده ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 375 وقال: (ذكره بعض أهل التفسير). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬8) في (ب): (التباصر). (¬9) وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة. انظر المصادر السابقة (¬10) في (ب): (توافي). (¬11) (ألا تراه): ساقط من (ج).

اتَّبَعُوا} [البقرة:166]. فقوله: {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، أي: هم على غير صفة الكافرين؛ لأنهم إخوان متوالون (¬1)، وهذا كقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]؛ أي: بعضهم يُلابس (¬2) بعضاً، ويوالي بعضاً وليس المعنى: على النسل والولادة، [لأنه قد يكون من نَسْلِ] (¬3) المنافقِ مُؤمنٌ، ومِنْ نَسْلِ المؤمنِ مُنافقٌ. قال عُبَيْد الرَّاعي (¬4): فَقلتُ ما أنا مِمَّن لا يُواصِلُنِي ... ولا ثَوائِيَ (¬5) إلا رَيْثَ أحْتَمِلُ (¬6). أي: لا [أُلابس مَنْ لا] (¬7) يواصلني، ولا أُواليهِ. والعرب تقول: (هو مِنْ بني فلان)؛ إذا كان يواليهم ويُلابسهم، وإن ¬

_ (¬1) في (ب): (لما يتوالون)، بدلًا من إخوان متوالون. (¬2) أي: يخالط، وقد سبق بيانها. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، والمثبت من بقية النسخ. (¬4) هو: أبو جندل، عبيد بن حُصين بن معاوية النُّمَيْري، تقدم 2/ 318. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 502، "الشعر والشعراء" ص 265، "شرح شواهد المغني" 1/ 336. (¬5) في (ب): (رأي). (أ)، (ج) ثواي. والمثبت من: الديوان، ومصادر البيت. (¬6) الييت في: "ديوانه" 197. وقد ورد منسوبًا له في "الحجة" للفارسي 1/ 173، إلا أنه لم يجزم بنسبته إليه، بل قال: (أظنه الراعي). و"أساس البلاغة" 1/ 388، و"المقاصد النحوية" للعيني 2/ 336. وورد في "المقاصد النحوية" (يوافقني) بدلًا من: (يواصلني)، وورد في "أساس البلاغة" (وما) بدلًا من: (ولا). وورد في الديوان، وبقية المصادر: (أرتحل) بدلًا من: (أحتمل). (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (أنا ممن لا)، والمثبت من: (ج)، (د)، لأنها أقرب لما ذكره المؤلف من قبل.

لم يكن من نسلهم. وهذا القول يُحكى معناه عن أبي رَوْق (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال عطاء عن ابن عباس (¬2): هذا مخاطبة لليهود الذين قالوا: نحن أبناءُ الله وأحبَّاؤه، وأبناء (¬3) الأنبياء الذين اصطفاهم. فأنزل فيهم قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ}، الآيات إلى قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ويريد: {سَمِيعٌ} لقولكم الذي تقولون: إنكم من ولد إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ومن آل عمران. وإنَّما فضَّلت أولئك، ورفعتهم واصطفيتهم؛ بطاعتهم، ولو عصوني، لأنزلتهم منازل العاصين. {عَلِيمٌ} بما في قلوبكم من تكذيب محمد، وعصيانه، بعد إقراركم بالتوراة، وتصديقكم بما فيها من صفته. وذكر أهل المعاني في هذا قولين آخرين: أحدهما: أنَّ المعنى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما تقوله (الذرية) المصطفاة {عَلِيمٌ} بما تضمره (¬4)؛ فلذلك فضلها على غيرها، لما في معلومه من استقامتها في فعلها وقولها (¬5). القول الثاني: أنَّ هذه الآية تتصل بما بعدها، تقديرها: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما تقوله امرأة عمران، {عَلِيُمٌ} بما تضمره، إذْ قالتْ: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ} ¬

_ (¬1) الذي في "تفسير الثعلبي" 3/ 38 أ: (وقال أبو روق: بعضها على دين بعض). وأبو رَوْق، هو: عَطِيّة بن الحارث الهَمْداني الكوفي تقدم. (¬2) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء، والذي عثرت عليه هو ما سبق من رواية أبي صالح عنه في هذا المعنى عند قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ}، آية: 31، وقد سبق الكلام على هذه الرواية. (¬3) في (ب): (وأما). (¬4) والذُرِّيَّة: تأتي مذكرًا ومؤنثًا ومفردًا وجمعًا، ولذا جاء هنا تذكير الضمائر. انظر تفسير قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا} من آية: 38. من هذه السورة. (¬5) لم أهتد إلى قائل هذا القول ولكن ورد مثل هذا القول في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 636 عن ابن إسحاق، حيث قال: (أي: سميع لما يقولون، .. عليم بما يخفون).

35

[آل عمران: 35]، الآية، وفيه إشارة إلى أنه لا يضيع لها شيء من جزاء عملها (¬1). 35 - قوله تعالى (¬2): {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ}. اختلف النحويون في وجه {إِذْ} ههنا: فزعم أبو عبيدة (¬3) أنها زائدة، لَغْوٌ؛ والمَعنى: (قالت امرأة عمران)، ولا موضع لها من الإعراب (¬4). قال الزَّجاج (¬5): ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً، لأن (إذ) تدل على ما مضى من الزمان، وكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغواً. وقال ابن الأنباري (¬6) منكراً لهذا القول أيضاً (¬7): إنَّا لا نُلغي حرفاً من ¬

_ (¬1) وهذا قول الطبري في "تفسيره" 3/ 235. (¬2) في (د): (عز وجل). (¬3) في "مجاز القرآن" 1/ 90. (¬4) وكذا قال ابن قتيبة بأنها زائدة. انظر: "تفسير غريب القرآن" له 103. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 400، نقله عنه بتصرف يسير. (¬6) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬7) (أيضًا): ساقطة من (د).

كتاب الله عز وجل إذا وجدنا سبيلاً إلى أن لا يكون مُلغىً (¬1). قال الأخفش، والمبرِّد (¬2): المعنى: (اذكر إذ قالت امرأة عمران). وقد (¬3) مضى مثل هذا كثيراً. وقال أبو إسحاق (¬4): المعنى عندي: (واصطفى آل عمران {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ}) (¬5). فالعامل في {إِذْ}: معنى الاصطفاء (¬6). وأنكر أبو بكر هذا، وقال: الله تعالى قَرَنَ اصطفاءه [آل عمران] (¬7) باصطفائه آدم ونوحاً، واصطفاؤه آدم ونوحاً قبل قول إمرأة عمران. وأيضاً فإن (عمران) هذا غير عمران المذكور في قوله: {وَآلَ عِمْرَانَ}، لأنه (¬8) ¬

_ (¬1) اختلف أهل النحو والتفسير في وقوع الزوائد في القرآن؛ بين مانع لذلك، وبين مُجوِّز. فمن (8) المانعين: المبرد، وثعلب، وداود الظاهري، وابن السَّرّاج، الذي رفض أن يكون في لغة العرب زوائد. وهناك من جوز ذلك، فرأى أن وجود هذه الزوائد كعدمها، وقال الزركشي عن هذا الرأي: (وهذا أفسد الطرق) "البرهان" 3/ 73. وأكثر النحويين على أن في القرآن حروفًا زوائد، ولكن من جهة الإعراب، لا من جهة المعنى؛ حيث إن لهذه الزوائد فوائد كثيرة منها: فصاحة اللفظ وحسنه، وتوكيد المعنى، وتمييز مدلوله عن غيره، إلى غير ذلك. وهذا ما تميل إليه النفس. قال السمين الحلبي عن القائلين بزيادة بعض الحروف: (لا يعنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه مُهْمَل لا معنى له. بل يقولون: زائد للتوكيد. فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن). "الدر المصون" 3/ 462. ولقد تَحرَّجَ كثيرٌ من العلماء من القائلين بوقوع الزيادة في القرآن من إطلاق لفظ (زائد) أو (مكرر)، لما له من مدلول لا يتفق وإحكام كتاب الله، واستخدموا محله لفظ (الصلة) و (الإقحام) و (التأكيد). انظر للتوسع في معرفة آراء العلماء في ذلك "البرهان" 2/ 178، 3/ 72 - 73، 1/ 305، "التأويل النحوي في القرآن" د. عبد الفتاح الحموز:2/ 1277 - 1279، "لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن" د. فضل عباس: 57 وما بعدها. (¬2) قولهما، في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 400، "الإغفال" للفارسي 566. (¬3) من قوله: (وقد ..) إلى: (.. إذ قالت امرأة عمران): ساقط من (د). (¬4) هو الزجاج، في: المصدر السابق: نقله عنه باختصار. (¬5) (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ): ساقط من (ج). (¬6) يعني: أنَّ قولها ذلك، ونذرها ما في بطنها لله، وقبول الله لنذرها، كل هذا يُعَدُّ اصطفاءً وتفضيلًا لآل عمران. (¬7) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ). والمثبت من بقية النُّسخ. (¬8) في (ج) و (د): (لأن).

عمران أبو موسى وهارون، وهذا عمران بن ماتان (¬1)، وبينهما ألف وثمانمائة سنة. كذلك ذكره ابن عبّاس (¬2)، ومقاتل (¬3). وذكرنا أيضاً عن بعض أهل المعاني أن هذه الآية متصلة بما قبلها، فيكون العاملُ في {إِذْ} على هذا القول: معنى قوله {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وقوله: {امْرَأَتُ عِمْرَانَ} هي: حَنَّةُ (¬4)، أمُّ مريمَ، جَدَّةُ عيسى عليه السلام، دعت الله أنْ يَهَبَ لها ولداً، وقالت: الَّلهم لك عَلَيَّ إن رزقتني ولداً، أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من (¬5) سَدَنَتِه (¬6) وخَدَمِه، شكراً لك. وكان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذورهم، وكان الرجل ينذُرُ في ولده أن يكون خادماً في مُتعّبَّدِهم (¬7). وقوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} معنى {نَذَرْتُ}: ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (مانان). وفي (د): (ماثان). وكذا ورد في "المعارف" لابن قتيبة: 52، وفي "تاريخ الطبري" 1/ 785. وينقل الطبري في "تفسيره" 3/ 235، و"تاريخه" 1/ 585 عن ابن إسحاق أن اسمه: (عمران بن ياشهم)، وفي "تفسير الثعلبي" 3/ 38 (أ)، (ب) (عمران بن أشهم)، ينقله عن الحسن وابن وهب وابن إسحاق، وكذا في "تفسير البغوي" 2/ 28. (¬2) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 38 ب، "زاد المسير" 1/ 376، "الدر المنثور" 2/ 32، ونسب إخراجه لإسحاق بن بشر، وابن عساكر. (¬3) قوله، في "تفسيره" 1/ 271. (¬4) بنت فاقود وقيل: فاقوذ بن قبيل. انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 585، وتفسير مبهات القرآن، للبلنسي 1/ 279. (¬5) في (ج): (عن). (¬6) السَّدَنة، جمع: سادِن، وهو: الذي يقوم على خدمة بيت العبادة. انظر: "القاموس" 1555 (سدن). (¬7) انظر قصتها في: "تفسير الطبري" 3/ 235، "تفسير الفخر الرازي" 8/ 25، "الدر المنثور" 2/ 32.

[أَوْجَبتُ] (¬1). والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه بِشَرِيطة كان، أو بغير شَرِيطة (¬2). قال أهل اللغة: معنى النَّذْر: استدفاع المَخُوفِ، بما يُعقَد على النفس ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين في جميع النسخ: (أوفيت)، ولم أر لها وجهًا، وما أثبته هو ما رجَّحتُ صوابه؛ لدلالة المعنى اللغوي للكلمة، كما ذكره المؤلف بعدها، وهو: ما يوجبه الإنسان على نفسه .. ، وفي "تهذيب اللغة" (إنما قيل له نذر؛ لأنه نُذِر فيه؛ أي: أوجِبَ، من قولك: (نذرت على نفسي)؛ أي: أوْجَبْتُ) 4/ 3546 (نذر). وكذا في "تفسير الثعلبي" 3/ 39 أ؛ حيث فسرها بـ (أوجبت)، وكذا في بقية كتب اللغة. انظر (نذر) في "مفردات ألفاظ القرآن" 797، والتعريفات، للجرجاني: 420، "اللسان" (نذر) 7/ 4390، "عمدة الحفاظ" 569، "التوقيف على مهمات التعارف" 694 - 695. وقد يكون مرد الخطأ، إلى اللبس في قراءة الأصل الذي انتُسِخت منه النسخ؛ نظرًا لتقارب الكلمتين في الرسم. (¬2) هذا التعريف ذكره الثعلبي في: "تفسيره": 3/ 39 أ. وقوله: (بشَريطة)؛ أي: أنْ يكون النذرُ مُعلَّقًا على شرط؛ كأن يقول: (إن شفى الله مريضي، فعلي أن أتصدق). وأما قوله: (بغير شَرِيطة)، فيعني به النذرَ المُطلَق غير المشروط، كأن يقول: (لله علي أن أتصدق بدينار). وبهذين النَّوْعَيْن من النذر، قال الشافعيةُ والمؤلف منهم، والحنابلة، وأهل العراق، وأكثر أهل العلم، وأوجبوا الكفارة عند عدم الالتزام. انظر: "فتح الوهاب" للنووي: 204، "مغني المحتاج" للشربيني 4/ 356، "المغني" لابن قدامة: 13/ 622 - 623. ويرى ابن عرفة أن النذر: هو ما كان وعدًا بِشرْط، وما ليس وعدًا بشرطٍ، فليس بنذر. وهو قولُ أبي عمرو (غلام ثعلب)، وبه قال: أبو البقاء، وفي (الكليات)، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي. إلا أن الراجح هو الأول. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3546 - 3547 (نذر)، "الكليات" لأبي البقاء (نذر): 912، "المغني" لابن قدامة 13/ 623.

من عمل البِّر. وأصله، من: الإنذار، وهو: الإعلام بموضع المخافة (¬1). وانتصب {مُحَرَّرًا} على الحال من {مَا} تقديره: نذرت لك الذي في بطني محرراً (¬2). وقال ابن قتيبة (¬3): أرادت نذرت لك أن أجعل (¬4) ما في بطني محرراً، أي: عتيقاً (¬5) خالصاً لله، خادماً للكنيسة، مفرغاً للعبادة ولخدمة الكنيسة. وكل ما أُخْلِصَ فهو مُحَرَّر. يقال: (حرَّرتُ العبدَ). إذا أعتقته، و (حَرَّرْتُ الكتابَ) إذا أصلحته، وأخلصته، فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه (¬6). و (رجل حُرٌّ): إذا كان خالصاً لنفسه، ليس لأحد عليه مُتَعَلَّق. و (الطينُ الحُرُّ): الذي خَلَصَ من الرملِ والحَمْأَةِ (¬7) والعيوب. ¬

_ (¬1) وفي "مقاييس اللغة" 5/ 414 ويقول عن (نذر): (.. كلمة تدل على تخويف، أو تخوُّف، ومنه الإنذار: الإبلاغ، ولا يكاد يكون إلا في التخويف). وفي "تهذيب اللغة" (الإنذار: الإعلام بالشيء الذي يُحذر منه) 4/ 3547 (نذر). (¬2) وقيل في علة النصب: إنه حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، {فِي بَطْنِي}، والعامل فيه، هو: (استقر)، وبه قال الطبري. وقيل: انتصب على المصدر، ويكون فيه حينها حذفُ مضاف، تقديره: (نذرت .. نذرَ تحرير)، أو انتصابه على ما تضمنه {نَذَرْتُ لَكَ} من معنًى، وهو: (حرَّرْتُ لك ما في بطني تحريرًا). وقيل: نصب على أنه نعت مفعول محذوف؛ أي: (.. غلامًا محررًا). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 235، "الدر المصون" 3/ 130، "الفريد في إعراب القرآن" 1/ 564، "روح المعاني" 3/ 134. (¬3) في "تفسير غريب القرآن" له: 103. (¬4) في (د): (نجعل). (¬5) من قوله: (عتيقا ..) إلى (.. والحمأة والعيوب): نقله مع اختصار قليل عن "تفسير الثعلبي" 3/ 39 أ. (¬6) في (ج)، (د) (إصلاح). (¬7) في (د): الحمأ. والحَمْأة، والحَمَأ: الطين الأسود المنتن. انظر (حمأ) في "الصحاح" 45، "اللسان" 2/ 986.

36

وقوله تعالى: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي}. معنى التَّقَبُّلِ (¬1): أخذُ الشيءِ على الرِضى (¬2) به (¬3). وأصله، من: المقابلة؛ لأنه يقابل بالجزاء ما يؤخذ. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ}. أي: لدعاي (¬4). {الْعَلِيمُ} بما في قلبي. 36 - قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتهَا}. قال المفسرون (¬5): هلك عمرانُ أبو مريمَ، وامرأته (حَنَّة) حاملٌ (¬6) بمريمَ، {فَلَمَّا وَضَعَتهَا} أي: ولدتها. و (الهاء): راجعة إلى {مَا}، في قوله: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي}، و (ما) ¬

_ (¬1) (معنى التقبل): ساقط من (ج). (¬2) في (ج)، (د): (الرضا). والأصل في كتابتها أن ترسم بالألف الممدودة؛ لأنها اسم ثلاثي منقلب ألفه عن واو، وهو مذهب البصريين، وما أثْبَتُّه صحيح على رأي الكوفيين الذين يكتبون ما كان على وزن (فعَل) بالياء، سواء كان أصل الألف ياءً أم واوًا. قال الفراء: (الحِمَا والرِّضَا، يكتبان بالألف والياء؛ لأن الكسائي سمع العرب تقول: حِمَوان ورِضَوان، وحِمَيان، ورِضَيان). انظر: "المنقوص والممدود" للفراء (تح: عبد العزيز الميمني): 33. وفي "إصلاح المنطق" 139: (ويقال: كان مَرضِيًا ومَرضُوَّا). وانظر: "باب الهجاء" لابن الدهان: 29. (¬3) انظر: "اللسان" 6/ 3516 (قبل). (¬4) في (د): (دعائي). (¬5) ممن ذكر ذلك: الطبري في "تفسيره" 3/ 235 يرويه عن ابن إسحاق، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 39 ب، والبغوي في "تفسيره" 1/ 30، ونسبه للكلبي عن ابن إسحاق. (¬6) في (ب): (كامل).

يقع على المؤنث، وقوعُهُ على المُذَكَّر (¬1)، وكان ما في بطنها، أُنْثى. وقوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}. اعتذار منها إلى الله حين فعلت ما لا يجوز من تحرير الأنثى للكنيسة (¬2). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}. قُرئ بإسكان التَّاء وضمها (¬3):فمن (¬4) ضم التاء؛ جعل هذا من كلام أمِّ مريم، وهو كقول القائل: (ربِّ قد كان كذا وكذا، وأنت أعلم بما كان). ليس يريد بقوله: (ربِّ قد كان كذا)، إعلام الله سبحانه [وتعالى] (¬5)، ولكنه كالخضوع منه، والاستسلام لله تعالى، لذلك قالت: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (¬6)، لأنها لم ¬

_ (¬1) وقيل: إن (الهاء) تعود على: النذيرة، أو النسمة، أو النفس، وهي ألفاظ مؤنثة، ولذا أنَّث الضمير. وهو رأي الطبري في "تفسيره" 3/ 237، والثعلبي: 3/ 39 ب، وانظر: "الكشاف" 1/ 425. (¬2) هذا قول السدي؛ كما في "تفسير الطبري" 3/ 238، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 637، "زاد المسير" 1/ 377. وقيل: إنها قالته على سبيل التَّحسُّر، والتلهف على ما فاتها من رجائها وتقديرها. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 88، "الكشاف" 1/ 425، "البحر" 2/ 438. وإليه مال الطبري في "تفسيره" 3/ 237، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 39 ب، والبغوي في "تفسيره" 2/ 30. (¬3) وردت القراءة بإسكان التاء وفتح العين في (وَضَعَتْ)، عن: عاصم برواية حفص والمفضل عنه، وابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي. أما القراءة بضم التاء وإسكان العين: (وَضَعْتُ)، فقد وردت عن: عاصم برواية أبي بكر، وعن ابن عامر، ويعقوب، وأبي رجاء، وإبراهيم النخعي. انظر: "السبعة" 204، "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 575، "القطع والائتناف" للنحاس: 221، "التيسير" 87، "النشر" 2/ 239. (¬4) من قوله: (فمن ..) إلى: (.. بما وضعت): نقله بتصرف واختصار عن "الحجة" للفارسي: 3/ 34. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب). (¬6) في (أ): وضَعَتْ، وفي بقية النسخ، غير مضبوطة بالشكل، والصواب ما أثبته لتناسبها مع سياق الكلام.

ترد بقولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، إخبارًا لله تعالى. ومن قرأ بإسكان التَّاء وهو أَجْوَدُ القراءتين، كان قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، مِن (¬1) كلام الله تعالى، ولو كان من قول أمِّ مريم، لكان: (وأنت أعلم بما وَضَعْتُ)؛ لأنها تخاطب الله سبحانه [وتعالى] (¬2)؛ ولأنها قد قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، [فليست] (¬3) تحتاج (¬4) بعد هذا [القول] (¬5) أن تقول: والله أعلم بما وضعْتُ (¬6). وقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}. أي: في خِدْمَة الكنيسة والعِبِّادِ الذين فيها؛ لما يلحقها من الحَيْضِ والنفاس، والصيانة عن التَّبَرُّجِ [للناس] (¬7). قال عبد الله بن مُسْلِم (¬8): قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، مؤخَّرٌ، معناه التقديم على قراءة العامة كأنه قال: إنِّي وضَعتها أُنثى وليس الذكر كالأنثى؛ لأنه من قول أمِّ مريم (¬9). قوله تعالى: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ}. يقال: (عاذ فلانٌ بالله)؛ أي: التجأ ¬

_ (¬1) من قوله: (كلام ..) إلى (وأنت أعلم بما وضعتُ): ساقط من: (ج)، (د). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)، "الحجة" للفارسي. (¬4) في (ب): (يحتاج). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: (د)، وليست موجودة في "الحجة" للفارسي. (¬6) انظر: "الحجة" لابن خالويه 108، "الكشف" لمكي 1/ 340. (¬7) ما بين المعقوفين من: (ج)، (د). (¬8) هو ابن قتيبة، في "تفسير غريب القرآن" 104، نقله المؤلف عنه بالمعنى. (¬9) أما على القراءة الأخرى (.. وضَعْتُ) بضم التاء، فليس فيه تقديم ولا تأخير. انظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 387.

إليه، وامتنع به، فأعاذه؛ أي: أجارَهُ، ومنعه (¬1). فمعنى: {أُعِيذُهَا بِكَ} أي: أمنعها، وأجيرها بك. وذكرنا معنى (العوذ) في قوله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬2) (¬3) [البقرة: 67]. وقوله تعالى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. أي: المطرود، المَرْمِيِّ (¬4) بالشُّهُبِ. وقال ابن عباس: {الرَّجِيمِ}: الملعون (¬5). ويجوز أن يكون {الرَّجِيمِ} بمعنى: المسبوب المشتوم (¬6). وذكرنا معاني (الرَّجْمِ) في سورة الحِجْر عند قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17]. ومعنى هذه الإعاذة، وإجابة الله تعالى إيَّاها إلى ما سألت؛ هو: ما رواه أبو هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مولود، إلاَّ والشيطان يَمَسُّهُ حين يُولَد، فيستَهِلُ صارخاً من مَسِّ الشيطان إيَّاه، إلا مريمَ وابنَها"، ثمَّ يقول أبو هريرة: (اقرأوا ¬

_ (¬1) انظر (عوذ) في: "العين " 229، "الصحاح" 2/ 566، "مقاييس اللغة" 4/ 183، 184. (¬2) (قال): ساقطة من (د) (¬3) وانظر: "تفسير البسيط" 3/ 10. (¬4) في (ب): (الرمي). (¬5) لم أهتد إلى مصدر هذا القول عن ابن عباس، والذي عثرت عليه، أنه من قول قتادة، كما في "زاد المسير" 1/ 337، "الدر المنثور" 5/ 69 ونسب إخراجه لعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬6) من معاني الرَّجْمِ في اللغة: الرمي بالحجارة، والقتل، والسب والشتم، واللعن. وينقل الأزهري عن ابن الأنباري، قوله: (والرجيم في نعت الشيطان: المرجوم بالنجوم، فصُرِف إلى (فَعِيل) من (مفعول). قال: ويكون الرجيم، بمعنى: المشتوم المسبوب، من قوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [46 سورة مريم]؛ أي: لأسبنَّك. قال: ويكون الرجيم، بمعنى: المطرود. قال: وهو قول أهل التفسير). "تهذيب اللغة" 2/ 1375 (رجم)، وانظر: "القاموس المحيط" 1111 (رجم).

37

إنْ شِئْتُم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). 37 - قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} التَّقَبلُ، والقَبُولُ، معناهما سواء، وهو: أن ترضى بالشيء، وتأخذه؛ ولهذا قال: {بِقَبُولٍ} , ولم يقل: (بتَقَبُّلٍ)؛ لأن معناهما واحدٌ. قال الفراء (¬2): والعرب قد تترك المصدر للفعل المذكور، وتأتي بمصدر آخر في معنى الأول، وإن اختلف بالزيادة والنقصان؛ كقولك: (تكلَّمْتُ كلاما). وهذا النوع يقال له المصدر على غير المصدر. وذكرنا هذا عند قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]. والقَبُول: مصدر قولهم: (قَبِلَ فلانٌ الشيءَ): إذا رضِيَهُ. قال أبو عمرو بن العَلاء (¬3): وليس في المصادر (فَعُولٌ) بفتح الفاء، ¬

_ (¬1) الحديث، أخرجه البخاري في: الصحيح: 5/ 166 كتاب التفسير سورة آل عمران، 4/ 138 كتاب الأنبياء، باب:44. ومسلم في "الصحيح" 4/ 1838رقمه (2366) كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى عليه السلام. وأحمد في "المسند" 2/ 274 (وانظر: "الفتح الرباني" 20/ 132، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 119، والطبري في "تفسيره" 3/ 240، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 638، والبغوي في "تفسيره" 2/ 30، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 32. وورد الحديثُ بألفاظ أخرى من طرق أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، انظر: "تفسير الطبري" 6/ 336 - 340، " الدر المنثور" 2/ 32. واستهلال الصبي: رفع صوته بالبكاء عند ولادته. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 5/ 271، "القاموس" (1072) (هلل). (¬2) لم أهتد إلى مصدر قوله. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 241، وفي مادة (قبل) في "الصحاح" 5/ 1795، "تفسير الثعلبي" 3/ 40 ب، "اللسان" 11/ 540، ونصه كما في "الصحاح": (وحكى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء: (القَبُول) بالفتح مصدر، ولم أسمع غيره.

إلَّا هذا، قال: ولم أسمع فيه الضَّمَّ. وقال سيبويه (¬1): خمسة (¬2) مصادر، جاءت على (فَعُول): (قَبُولٌ)، و (وَضُوءٌ) (¬3)، و (طَهُورٌ)، و (وَلُوعٌ)، و (وَقُود)، إلاَّ أنَّ الأكثر في (وَقُود) (¬4) إذا كان مصدراً (¬5) الضَّم. وأجاز الفرَّاء (¬6)، والزجَّاج (¬7) (قُبُولا) بالضَّمِّ. ثَعْلَب، عن ابن الأعرابي (¬8): يقال: قَبِلْتُهُ (قَبُولاً)، و (قُبُولاً) (¬9)، و (على وجهِهِ قَبُولٌ)، لا غير (¬10)، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) في "الكتاب" 4/ 42 نقله عنه بالمعنى، وقد ذكرها سيبويه في باب ما جاء من المصادر على فعول، ونصه: (.. توضَّأت وَضُوءًا حسنًا، وأولِعْتُ به وَلُوعًا، وسمعنا من العرب من يقول: وَقَدَت النارُ وَقُودًا عاليًا، وقَبِلَه قَبولًا، والوُقُود أكثر، والوَقود: الحطب). وفي نسخة أخرى لـ"كتاب سيبويه" أشار إليها محققُ الكتاب في الهامش: (وتطهَّر طَهورًا حسنًا، وَأُولِعت وَلوعا). (¬2) في (د): (خمس). (¬3) في (ج): (ووضو)، وفي (د): (ووصول). (¬4) في (ب): قود. (¬5) في (د): مصدر. (¬6) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد يكون في كتابه (المصادر) وهو مفقود. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 401، قال: (ويجوز قُبولًا: إذا رضيته.). (¬8) أورد قولَه الأزهري في "تهذيب اللغة" 9/ 169. وابن الأعرابي، هو: أبو عبد الله، محمد بن زياد. كوفيٌّ، تقدمت ترجمته. (¬9) (وقبولًا): ساقطة من (ج). (¬10) هكذا جاءت (قَبول) بالفتح في مصدرها في "التهذيب" وكذا ضبطها في "لسان العرب" 6/ 3516 بالفتح، وفي "القاموس المحيط" (1045) (قبل) أجاز فيها الأمرين، قال: (والقَبُول، وقد يُضم: الحُسْنُ والشَّارَةُ)، وانظر: "التاج" =

قد يُجهدُ (¬1) المرء إنْ لم يُنل (¬2) ... بالبشر والوجه عليه القَبُول (¬3). قال المفسِّرون (¬4): معنى قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي: رَضِيَها مكان المُحَرَّرِ الذي نذَرتْه (حَنَّةُ)، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى. وقال ابن عباس في رواية الضحَّاك: معناه: سَلَك بها طريقَ السُّعداء. وقوله تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}. ¬

_ = 15/ 595 (قبل). وأما (وَضوء) بالفتح، فقيل: الماء الذي يُتوضأ به، وقيل: هو المصدر، من: (توضأت للصلاة)، وقيل: إنَّ المصدر هو: (الوُضوء) بالضم. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 51، "اللسان" 8/ 4854 (وضأ). أما (طَهور) بالفتح، فقيل: هو الماء الطاهر، المُطَهِّر، وهو أعم من الطاهر، حيث إنَّ كل طَهور طاهر، وليس كل طاهر طَهور، وقيل إنَّ (طُهور) بالضم مصدر، بمعنى: التَّطَهُّر. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 3/ 147، "اللسان" 5/ 2712 (طهر). أما (وَلُوع) بالفتح، فهي: العلاقة، وهو اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي، يقال: (وَلعَ به وَلَعًا، و (وَلُوعا)، و (أولِعَ به إيلاعًا)، و (أوْلَعَه به): إذا أغراه، و (مُولَعٌ به): مُغْرًى به. انظر: "اللسان" 8/ 410. أما الـ (وَقود) بالفتح، فقيل: الحطب، والـ (وُقود) بالضم: المصدر. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 51، "اللسان" 8/ 4888. (¬1) في (ج)، (د): (يحمد). (¬2) في (د): (يبل). (¬3) لم أهتد إلى قائله. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 241، يرويه عن ابن جريج، وقال به، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 638، يرويه عن شرحبيل بن سعد، "تفسير الثعلبي" 3/ 40 ب، "النكت والعيون" 1/ 388، "تفسير البغوي" 2/ 31، "الدر المنثور" 2/ 35.

قال الزجَّاج (¬1): جاء لفظُ (¬2) {نَبَاتًا} على غير لفظِ (أَنْبَتَ)، على معنى: نبتت نباتاً حَسنَاً. وقال ابن الأنباري (¬3): لمَّا كان (أَنْبَتَ) يدل على [نَبَتَت] (¬4) حمل (¬5) الفعل على المعنى؛ كأنه قال: (وأنبتها، فَنبَتَتْ هي نباتاً حَسَناً)؛ كقول امريء القيس: [ورُضْتُ] (¬6) فَذَلَّت (¬7) صعبةً أيَّ إذْلالِ (¬8) ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن وإعرابه" له 1/ 403، نقله عنه بالنص. (¬2) (لفظ): ساقط من (د). (¬3) لم أقف على مصدره، وقد ورد في "زاد المسير" 1/ 377. (¬4) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ)، ومثبت من بقية النسخ. (¬5) في (ب): (عمل). (¬6) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (ونبتت)، والمثبت من: (ج)، (د)؛ نظرًا لموافقتها "الديوان" وللسياق. (¬7) في (د): (فدلت). (¬8) في (د): (إدلال). عجز بيت، وصدره: فَصِرْنا إلى الحسْنى ورَقَّ كلامُنا وهو في "ديوانه" 32، كما ورد في "المقتضب" 1/ 74، "معاني القرآن" للزجاج: 2/ 36 ولم ينسبه، "إعراب القرآن" للنحاس: 1/ 326، "تهذيب اللغة" 3/ 2875، "وليس في كلام العرب" لابن خالويه: 227، "المحتسب" 2/ 260، "والمخصص": 14/ 187، "زاد المسير" 1/ 378، "اللسان" 3/ 1775 (روض)، "شرح شواهد المغني" 1/ 341، "خزانة الأدب" 9/ 187. ورد في بعض المصادر: (.. فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ) بالضَمِّ. ومعنى (فَصِرنا): فَرَجعنا وانتقلنا، على أن (صار) هنا تامة. و (الحسْنى): قد تكون اسم مصدر، بمعنى: الإحسان، أو تكون صيغة مؤنث (أحسن)؛ أي: الحالة الحسنة. و (رَقَّ): لطُف. و (رُضْتُ)؛ أي: سَهلت وانقادت، فهي (ذلُول)، ويقال لتعدية الفعل: (ذلَّلْتها وأذْلَلْتها). و (صعبة)؛ أي: غير ذلول. والشاهد فيه: أنَّ (رُضت) تتضمن معنى: (أذللت)؛ ولذا جاء المصدر بعدها: (إذلالًا)؛ أي: أذلَلْت .. إذلالًا، وأقام (الإذلال) مقام (الرياضة). انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1319 (راض)، "اللسان" 3/ 1775 (روض)، "الخزانة" 9/ 187.

أراد: أيَّ رياضة. فلمَّا دلَّ (رُضْتُ) على (أذْلَلْت) (¬1)، حمله (¬2) على المعنى، وخلَّى (¬3) اللفظَ. قال ابن عباس في رواية عطاء (¬4)، في قوله: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}؛ يريد: في صلاحٍ ومعرفةٍ بالله، وطاعةٍ له، وخدمةٍ للمسجد. وقال في رواية الضحَّاك (¬5): يعنى: سوَّى خَلْقَها من غير زيادة، ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. وقوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (¬6) أي: ¬

_ (¬1) في (د): (دللت). (¬2) في (ب): (جاء). (¬3) في (أ)، (ب)، (د): (وخلا)، وفي (ج): (وحلى)، وما أثبَتُه يوافق القاعدة الإملائية؛ حيث إنه فعل يزيد على ثلاثة أحرف، ولم يكن قبل الألف ياءٌ، كما إنه يوافق ما جاء في نسخة (ج) وإن خلت الكلمة فيها من النقط. ومعنى (خلَّى الأمرَ): تركه. انظر: "اللسان" 2/ 1254 (خلا). (¬4) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية. (¬5) الرواية في "تفسير الثعلبي" 3/ 41 أ، "تفسير البغوي" 1/ 31، وهذه الرواية من طريق جويبر بن سعيد، وسبق أنه ضعيف جدًا. (¬6) حديث المؤلف التالي عن هذا المقطع، بالنظر إلى قراءة من قرأ: (وَكَفَلَهَا) بتخفيف الفاء وفتحها، و {زَكَرِيَّا} بالمد والرفع. هي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر. وقد أثبتُّ رسم الآية كما جاء في جميع النسخ، وهي مطابقة لقراءة حفص عن عاصم. أما بقية قراءات "السبعة" فهي: قراءة عاصم في رواية أبي=

ضَمَّها (¬1) إلى نَفْسِهِ وقام بأمرها. قال الزجَّاج (¬2): ومعناه في هذا: ضَمِنَ القيامَ بأمرها، يقال (¬3): (كَفَلَ (¬4)، يَكْفُلُ، كَفالة، وكَفْلاً) (¬5)، فهو كافِل؛ وهو: الذي قد كَفَلَ إنساناً يَعُولُه (¬6) ويُنفِقُ عليه. و {زَكَرِيَّا}، رُفعَ بفعله (¬7)، لأن الكفالة نُسِبت إليه. وفيه قراءتان: القَصر، والمَدُّ، وهما لغتان فيه، كقولهم: (الهَيْجاء)، و (الهَيْجا)، والألِفُ فيه أَلِفُ تأنيثٍ؛ ولهذا لا ينصرف في معرفة ولا نَكِرة؛ لأن (زكريا) (¬8)؛ بالمَدِّ، مثل: (حمراءَ)، و (سوداءَ) (¬9)؛ وبالقصر، مثل: ¬

_ = بكر: (وكَفَّلَها) بتشديد الفاء، و {زَكَرِيَّا} ممدودة منصوبة، وكان يمدها في جميع القرآن. أما قراءة عاصم برواية حفص، وقراءة حمزة والكسائي، فهي: {وَكَفَّلَهَا} بتشديد الفاء، و {زَكَرِيَّا} مقصورة في جميع القرآن. انظر: "السبعة" 204، "الحجة" للفارسي: 3/ 33، "حجة القراءات" لابن زنجلة: 161. "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 3/ 869. (¬1) في (ب): (ضمنها). (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 403. (¬3) من قوله: (يقال ..) إلى (.. وينفق عليه): نقله عن "تهذيب اللغة" للأزهري: 4/ 3166 (كفل)، وانظر: "اللسان" 7/ 3905 (كفل). (¬4) في "التهذيب" (كفل به). (¬5) (وكفلا): غير موجودة في "التهذيب". (¬6) في (ب): (يقول من). (¬7) على أن (زكرياءُ) هنا ممدودة مرفوعة، وهي فاعل لـ (كَفَلَ) المتعدي لمفعول واحد، بناء على قراءة من قرأ بالتخفيف فيها. (¬8) في (ب)، (د) (زكريا). (¬9) في (ج)، (د): (حمرا، وسودا).

(حُبْلى) (¬1)، و (سَكْرى) (¬2)، و (ذِفْرى) (¬3) وهذا النوعُ لا ينصرفُ في مَعْرفة ولا نَكِرَة؛ لأن الاسم (¬4) بُني على أَلِفِ التأنيث، وحقُّ التأنيثِ أن يكون داخلاً على لفظ المُذَكَّر؛ نحو: (قائم)، و (قائمةٌ)؛ فلما بُنِي الاسمُ على علامة التأنيث، ولَزِمَت (¬5) الاسمَ حتى صارت كبعض حروفه، صار كأن التأنيثَ قد تكرر فيه، فقامت العِلَّةُ مَقامَ العِّلَّتين (¬6)، فلم ينصرف (¬7) في النَّكرة والمعرفة. وقرأ حمزةُ والكسائيُ: (وكَفَّلَها) مشَدَّدا، ومصدره: التَّكْفِيلُ، والتَّكْفِلةُ (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب): (حتى). و (الحُبْلى): المرأة الحامل، وجمعها: (حَبَالى) و (حُبْلَيات). انظر: "القاموس" 1269 (حبل). (¬2) يقال: (هي سَكِرَة، وسَكْرَى، وسَكْرانة) للمؤنث. انظر: "القاموس" 524 (سكر). (¬3) في (ب): (دفري). و (الذِفْرى)، هو: العظم الشاخص خلف الأذن. وهما ذِفريَان. والجمع: ذِفرَيات، وذَفارى. انظر: "خلق الإنسان" لابن أبي ثابت: 54، "القاموس" 396 (ذفر)، "المعجم الوسيط" 1/ 312 (ذفر). (¬4) في (ج): (اللام). (¬5) في (ب): (لزمت). (¬6) يعني: قامت ألفُ التأنيث، مقامَ العلميةِ والعجمةِ في المنع من الصرف. انظر في علَّة منعها من الصرف "الحجة" للفارسي: 3/ 34، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 157، "البيان" للأنباري: 1/ 201. (¬7) في (د): (تنصرف). (¬8) لم أقف في معاجم اللغة التي رجعت إليها، على أنَّ (التكفلة) مصدر لـ (كَفَّل). وهي على خلاف القياس في مصدر (فَعَّلَ) الرباعي المضاعف العين؛ الصحيح اللام. وتأتي (تفْعِلَة) مصدرًا للرُّباعي المعتل اللام، المُضاعَف العين؛ مثل: (رضَّى تَرْضيَةً)، و (ورَّى تورِيَةً). وأشار الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد إلى مجيء (تفْعِلَة) مصدرًا لـ (فَعَّلَ) الصحيح اللام، وذلك في النادر، ومَثَّلَ لها بـ (قَدَّمَ=

و {زَكَرِيَّا} (¬1) على هذه القراءة منصوب؛ لأنه المفعول الثاني للتَّكفيل، ومعناه: ضَمَّنها الله زكريا (¬2)، وضَمَّها إليه؛ وذلك أنَّ (حَنَّةَ) لمَّا ولدت مريمَ، أتت بها سَدنَةَ بيت المقدس، وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة (¬3). فتنافس فيها الأَحْبارُ (¬4)، حتى اقترعوا عليها، فخرجت القُرعة لزكرياءَ (¬5) عليه السلام. ونذكر ما فيه عند قوله: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44]. فمعنى قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (¬6): أنَّ الله تعالى (¬7) ضمَّها (¬8) إلى زكريا (¬9) بالقُرْعَة التي قَرعها (¬10). ¬

_ = تَقْدِمَةً جَرَّبَ تَجْرِبَةً). انظر: "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل" مطبوع بهامش "شرح ابن عقيل": 3/ 128، "النحو الوافي" 3/ 198. وانظر (كفل) في "الصحاح" 5/ 1811، "اللسان" 7/ 3905 - 3906، "التاج" 15/ 658. (¬1) في (ج)، (د): (وزكريا). (¬2) (أ)، (ب): (وزكريا)، والمثبت من: (ج)، (د)، وهو الصواب؛ لأنه لا وجه لحرف العطف هنا. (¬3) النذيرة هنا: الابن الذي يجعله أبواه قَيِّما أو خادمًا للكنيسة أو للمُتَعَبَّد؛ من ذكر أو أنثى. انظر: "اللسان" 7/ 4390 (نذر). (¬4) الأحبار: جمعُ (حَبْر) أو (حِبْر)، وهو: واحد أحبار اليهود، وهو: العالم أو الرجل الصالح، وُيجمع كذلك على (حُبُور). انظر: "الصحاح" 2/ 620، "اللسان" 2/ 748 (حبر). (¬5) في (ج): زكريا. (¬6) في (ب)، (ج)، (د): (وكفلها زكريا). (¬7) في (أ)، (ب) (إن شاء الله تعالى)، والمثبت من: (ج)، (د)؛ نظرًا لمناسبته لسياق الكلام، ولا وجه لما في (أ)، (ب). (¬8) في (ب): (ضمنها). (¬9) في (د): (زكرياء). (¬10) في (ب): اقترعها. ومعنى (قرعها): أصابته القرعةُ دونهم. يقال: (كانت له =

وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}. قال المفسرون (¬1): لمَّا ضمَّ زكريا مريمَ إلى نفسه، بنى لها مِحْرابا في المسجد، وبابه في وسطها، لا يُرقى إليها إلا بسُلَّم، ولا يَصعَد إليها غيره. و (المِحْرابُ) في اللغة: أشرف المجالس. وكانت محاريب بني إسرائيل مساجدَهم (¬2). و (المِحْراب): الغُرْفَة أيضاً، قال عمر (¬3) بن أبي ربيعة (¬4): رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جِئْتها ... لم أَدْنُ حتى أرْتَقي سُلَّما (¬5). ¬

_ = القرعة): إذا قَرَع أصحابه، و (قارعه فَقَرَعَه، يَقرَعه): إذا أصابته القرعة دونه. "اللسان" 6/ 3596 (قرع)، وانظر: "المعجم الوسيط" 735 (قرع). وانظر القصة في "تفسير الطبري" 3/ 239 - 240، "وسنن البيهقي": 10/ 286، "الدر المنثور" 2/ 35. (¬1) من قوله: (قال ..) إلى (.. أي: ربة غرفة): نقله مع الاختصار والتصرف من "تفسير الثعلبي" 3/ 42 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 31. (¬2) قوله: (وكانت محاريب بني إسرائيل مساجدهم): ليسست عند الثعلبي، وإنما هي في "تهذيب اللغة" 1/ 772. (¬3) في (د): (عمرو). (¬4) هو: أبو الخطاب، عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المُغِيري المخزومي تقدمت ترجمته. (¬5) البيت ليس لعمر بن أبي ربيعة، ولم أقف عليه في "ديوانه" وإنما نسبته المصادر لوضَّاح اليمن، والمؤلف تبع الثعلبي في نسبته لعمر. وقد ورد منسوبًا لوضَّاح، في "مجاز القرآن" 2/ 144، 180، "جمهرة اللغة" 276 (حرب)، "الصحاح" 1/ 109 (حرب)، "والأغاني" (نسخة مصورة من طبعة دار الكتب مصر): 6/ 237، "تفسير القرطبي" 4/ 71، "اللسان" 2/ 817 (حرب). كما ورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 403، 4/ 325،=

أي: رَبَّة غُرفةٍ. وقال الأصمعي (¬1): (المِحْراب): الغُرْفة؛ ألا تراه يقول: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [سورة ص: 21]. وقال الزجاج (¬2): (المحراب): أرفع بيت في الدار، وأرفع مكان في المسجد، قال: و (المحراب) ههنا كالغرفة، وأنشد بيت عمر (¬3). وقال أبو عبيدة (¬4): (المحراب) عند العرب سيِّدُ المجالس، ومُقَدَّمُها، وأشرفها، وإنما قيل للقبلة: محرابٌ؛ لأنها أشرف موضع في المسجد. ويقال للقصر محرابٌ؛ لأنه سيِّد المنازل (¬5). قال امرؤ (¬6) القيس: كغزلان وَحْشٍ في محاريبِ أَقْوال (¬7) ¬

_ = "الاشتقاق" لابن دريد: 75، "الزاهر" 1/ 541، "التهذيب" 1/ 772، "مقاييس اللغة" 2/ 49. وهذه الرواية للبيت وردت في: الجمهرة، "الزاهر" "تفسير الثعلبي" وورد في بقية المصادر: (... لم ألقها أو أرتقى سلما). (¬1) نقل المؤلف قوله باختصار عن "الزاهر" 1/ 541. كما ورد هذا القول عن الأصمعي في: الاشتقاق: 75، قال: (وقال أبو حاتم وعبد الرحمن، عن الأصمعي) وذكره. (¬2) في "معاني القرآن" له 4/ 325. (¬3) قوله: (وأنشد بيت عمر) ساقط من (د). (¬4) في قوله: (وقال أبو عبيدة ..) إلى (.. أراد بالمحاريب القصور) نقله بنصه عن "الزاهر" 1/ 540. أما قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 91 عن المحاريب، فنصه: (سيد المجالس، ومقدمها وأشرفها، وكذلك هو من المساجد)، وفي 2/ 144، 180 ورد عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة قليلًا، أما بقية الكلام فهو من قول ابن الأنباري. (¬5) في "الزاهر" (أشرف المنازل). (¬6) في (أ): (امرئ)، والمثبت من بقة النسخ. (¬7) عجز بيت، وصدره: =

أراد بـ (المحاريب): القصور (¬1). قال ابن عباس في رواية عطاء (¬2): صارت عنده لها غرفة تصعد إليها تصلي فيها الليل والنهار. وقوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}. قال (¬3) ابن عباس (¬4)، والربيع (¬5): كان زكريَّا كلما دخل عليها غرفتها وجد عندها رزقاً؛ أي: فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في ¬

_ = وماذا عليه أنْ ذكرتُ أوانسًا وقد ورد البيت في "ديوانه": 34، "مجاز القرآن" 2/ 180، حيث ورد في هامش إحدى نسخ المجاز، كما أشار إلى ذلك المحقق، وفي "الزاهر": 1/ 540، "اللسان" 2/ 817 (حرب). وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" 1/ 772، "والمخصص": 3/ 135، "البحر المحيط" 3/ 249. وورد في كل المصادر السابقة: (كغزلان رَمْلٍ ..)، وورد في الديوان، وبعض المصادر: (.. محاريب أقيال)، وفي "الزاهر" (وماذا عليه أن أروضَ نجائبًا ..). و (الأقوال) و (الأقيال): ملوك اليمن، وقيل: هم مَنْ دون الملك الأعظم. ومفردها: (قَيْل). انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2859 (قال). وقوله: (كغزلان وَحشٍ)، الوَحشُ: حيوان البَرِّ؛ مثل: حمارُ وَحشٍ، وحمارٌ وحشِيٌّ. انظر: "القاموس" 609 (وحش). (¬1) انظر معاني الـ (محراب) السابقة، في: مادة (حرب)، في "التهذيب" 1/ 772، "الصحاح" 1/ 108، "اللسان" 2/ 817. (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬3) من قوله: (قال ..) إلى (.. غرفتها، وجد عندها رزقًا): ساقط من: (ج)، (د). (¬4) قوله، في "تفسير الطبري" 3/ 244، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 229، "المحرر الوجيز" 3/ 94، "زاد المسير" لابن الجوزي 1/ 380. قال ابن الجوزي: (وهذا قول الجماعة). (¬5) قوله، في "تفسير الطبري" 3/ 245، "تفسير الثعلبي" 3/ 42 ب. وهو قول مجاهد، وعكرمة، وابن جبير، وأبي الشعثاء، والنخعي، والضحاك، وقتادة، وعطيَّة العوفي، والسُّدِّي. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 386.

الشتاء، تأتيها به الملائكة من الجَنَّةِ. قال محمد بن إسحاق (¬1): كان هذا كله، بعد أن بلغت مريمُ مبلغ النساء. وقال الحَسَنُ (¬2): كان هذا في صغرها، ولم ترضع ثدياً قط، بل (¬3) كان يأتيها رزقها من الجَنَّة، وتكلَّمت وهي صغيرة، حين أجابت زكريا بقولها: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (¬4). قال أبو إسحاق (¬5): ونصب {كُلَّمَا} بقوله: {وَجَدَ} (¬6)؛ أي: يَجِدُ عندها الرزقَ في كل وقت يدخل عليها المحرابَ، فيكون (ما) مع (دَخَلَ)، بمنزلة: الدخول (¬7)، أي: في كل وقت دخول (¬8). ¬

_ (¬1) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 42 أ. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تفسير البغوي" 2/ 32، وفيه: (قال أبو الحسن)، وهو خطأ، والصواب: الحسن. كما ورد في "زاد المسير" 1/ 380. (¬3) (بل): ساقطة من (د). (¬4) انظر حول الذين تكلموا في المهد صغارًا: "مصنف ابن أبي شيبة": 6/ 342 (31864)، "المستدرك" للحاكم 2/ 595، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 652، "القرطبي" 4/ 91، "البحر المحيط" 2/ 442 - 443، "روح المعاني" 3/ 140. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 403، نقله عنه بنصه. (¬6) لأن (كلَّ) عندما تضاف إلى (ما) المصدرية الظرفية، تصبح ظرفًا متضمنًا معنى الشرط، ويكون لها فعل وجواب، وتتعلق بجوابها، وتنتصب به، وجوابها هنا (وَجَدَ). أمَّا (ما) فهي حرف مصدري ظرفي، مبني على السكون، لا محل لها من الإعراب. (¬7) لأن (ما) وما بعدها تُؤَؤَّل بمصدر، وهو هنا: الدخول. (¬8) انظر في إعرابها "مشكل إعراب القرآن" 1/ 157، "التبيان" للعكبري ص 34، "الفريد" للهمداني 1/ 566.

وقوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا}. قال ابن عباس (¬1): يريد: من أين لك هذا؟ وانما سألها؛ لأنه خاف أن يأتيها الرزقُ من غير جهته، فتبيَّن أنه من عند الله، لا من عند الناس (¬2). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قد فَسَّرنا هذا في موضعين: من (¬3) سورة البقرة، ومن هذه السورة (¬4). وهذا يحتمل أن يكون من كلام مريمَ، ويحتمل أنَّه على (¬5) الابتداء، والأَوْلى به الاستئناف (¬6)؛ لأنه ليست (¬7) من معنى الجواب عمَّا سئلت في شيء. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬2) ممن قال بأن (أنَّى) بمعنى (أين): أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 91، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 99. بينما يرى الإمام الطبري في تفسيره: 1/ 397 - 398: أنَّ هناك اختلافًا بين (أنى) و (أين) و (كيف)، ويرى أنه نظرا لتقارب معنى (أنَّى) من هذه الحروف فقد تداخلت معانيها وحصل اللَّبْسُ، فتُؤُؤِّلت بـ (أين) و (كيف) و (متى) مع مخالفة معناها لهذه الحروف، ومخالفة هذه الحروف لها، ويرى أنَّ (أين) سؤال عن الأماكن، و (كيف) سؤال عن الأحوال، أمَّا (أنَّى) فهي سؤال عن المذاهب والوجوه، وقد بيَّن الطبري هذا الأمر بإسهاب مستدلًّا عليه بأمثلة من القرآن وشعر العرب. وبهذا قال النحاس كذلك، رادًا على أبي عبيدة في "معاني القرآن" 1/ 389. وانظر حول هذا الموضوع: "إعراب الحديث النبوي" للعكبري: 96، "البحر المحيط" 2/ 443، "الدر المصون" 2/ 423. (¬3) في (د): (في). (¬4) عند آية: 27. (¬5) في (ب): (أن يكون على). (¬6) وبه قال الطبري في "تفسيره" 3/ 247. (¬7) في (ج): (ليس).

38

38 - قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} قال أهل اللغة (¬1): (ههنا) و (هنا) تقريب (ثَمَّ) (¬2). ومعنى (هنالك)؛ أي: عند ذلك. و (وهنالك): مَحَلٌّ ومَوْضِعٌّ؛ كما أنَّ (حيث): مَحَلٌّ، و (عِنْدَ)، و (حِينَ): وقتان. فلو قال عز وجل: (عند ذلك دعا زكريا) لكان جائزاً (¬3)، بمثل (¬4) معنى (هنالك). ولكن العرب تضع المحل موضع اسم الوقت في مثل هذا، فيقولون: (كان ذلك حيث وَليَ زيدٌ) بمعنى حين وَليَ، وكذلك (هنالك): مَحَلٌ يوضع (¬5) موضع (عند)، وقد يكون مجاز (هنالك) في هذا الموضع ¬

_ (¬1) انظر مادة: (هنا) في "الصحاح" 6/ 2561، "اللسان" 8/ 4715، "تاج العروس" 20/ 432. (¬2) (ثَمَّ) بفتح الثاء، وتشديد الميم: اسم إشارة إلى المكان البعيد، وهو ظرف مكان، لا يتصرف، مبني على الفتح، في محل نصب على الظرفية، ويقال: (ثَمَّةَ) والتاء فيه لتأنيث اللفظ فقط. انظر: "معجم الشوارد النحوية" لمحمد شراب 227، "معجم النحو" للدقر: 124. أما (هنا) و (هناك) فيقول عنهما الجوهري: (للتقريب، إذا أشرت إلى مكان، و (هناك) و (هنالك): للتبعيد). "الصحاح" 6/ 2561 (هنا). (¬3) قول المؤلف: (فلو قال .. لكان جائزًا)، أقول: غفر الله للمؤلف، ليته لم يقل هذه العبارة، فإنها كلمةٌ فيما أرى عظيمةٌ، يجب أن لا تقال في حق الله تعالى، وهل يجوز أن نقترح على الله تعالى.؟! ومتى كان الحق عز وجل لا يقول الأفضل من القول، والأبلغ من الكلام، والفَصْلَ في الخطاب، حتى نقول نحن البشر القاصرون مثل تلك المقولة العظيمة.؟! فالله تعالى يضع الكَلِمَ وفق حكمته وعلمه، وهو الأحكم الأعلم. (¬4) في (د): (مثل). (¬5) في (ج): (موضع).

مَحَلاًّ؛ لأن ما ذَكَرَه عز وجل من هذه القصة، يكون مضمناً لوقت (¬1) ومحل؛ لأنه لا يكون إلا في محل؛ كما لا يكون إلا في وقت؛ فلما لم يجز أن يكون (¬2) إلا (¬3) في محل؛ احتمل أن يومئ إلى ذلك المحل بقوله: {هُنَالِكَ}، و (هناك)، و (هنالك) لأصلُ فيهما: [هنا] (¬4)، ثم (¬5) زيدت الكاف؛ للخطاب، كما قالوا في (ذا) (¬6): (ذاك). ومن قال: (هنالك) فتقديره تقدير (ذلك)، والكاف فيهما للخطاب (¬7). وقول زهير: هنالك إنْ تُسْتَخبَلُوا (¬8) المالَ تُخبِلُوا (¬9) ¬

_ (¬1) في (ج)، (د): (بوقت). (¬2) (ب): (إلا أن يكون). (¬3) إلا: ساقطة من (ب)، (ج). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي غير موجودة في جميع النسخ. (¬5) (ثم): ساقطة من (ج). (¬6) (ذا): ساقطة من (ج). (¬7) انظر في زيادة الكاف في هذه الأسماء "المسائل العسكرية" للفارسي: 140، "المسائل الحلبيات" له: 7576، "سر صناعة الإعراب" 1/ 309، 321 - 322، 2/ 571، "مغني اللبيب" 240. (¬8) في (د): (يستجلبوا). (¬9) صدر بيت، وقد وردت روايته في "الديوان" بضمير الغائب، كالتالي: هنالك إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخبِلوا ... وإنْ يُسألوا يُعْطوا وإن يَيْسِروا يُغْلُوا انظر: "ديوانه" ص 112. كما ورد منسوبًا له في "الخصائص" 1/ 1097، "اللسان" 2/ 109 (خبل)، و3/ 1293 (خول). وروايته في "الخصائص" "اللسان" 3/ 1293 (خول) (هنالك إن يُسْتَخوَلوا المال يُخوِلوا ..). وفي "اللسان" 3/ 1293 (خول: (.. وإن يُسألُوا يُعْصوا ..). و (يُستَخبَلوا)؛ من قولهم: (أخبَلْتُ الرجلَ، أُخبِلُه، إخبالًا)،=

يحتمل (هنالك) أن يكون (¬1) لمحل، وأن يكون لوقت. و (هنالك)، و (هناك) و (هنا) (¬2)، و (ههنا)، شيء واحد، إلا أن (هنا)، و (ههنا)، لم يُذكرا في شيء من الأوقات، وإنما ذُكرا في المحالِّ (¬3) القريبة منك. ¬

_ = و (اسْتَخبَلَه إبِلًا وغنمًا، فأخبله)، و (يُسْتَخوَلُوا) بمعناها؛ أي: إن تُطلَب منهم إبلُهم أو غنمُهم على سبيل الاستعارة؛ ليُنتفَعَ بألبانها وأوبارها، أو تستعار منهم خيلهم للغزو، فإنهم (يُخبلوا)؛ أي: يتكرموا ويتفضلوا بإعارتها. ومعنى (يَيْسَروا): من (يَسَر، يَيْسَر، يَسْرًا)، وهو: المقامر بالمَيْسر، أو هو: تجزئة الجَزُور، واقتسام أعضائها؛ يقال: (يَسَرَ القومُ الجزورَ)، وهو المراد في البيت هنا -والله أعلم- نظرًا لمناسبته لما سبقه من أبيات يمدح فيها الشاعرُ سنان بن أبي حارثة المُرِّي، والمعنى: إنهم يأخذون سِمان الجزُرِ والغاليَة منها وينحرونها، ويقسمونها على ذوي الحاجات. ومعنى: (يعْصوا) كما في رواية "اللسان" -: أي- والله أعلم-: يجمعونهم، من قولهم؛ (عصوت القومَ): إذا جمعتهم على الخير أو الشر؛ أي: إنهم إذا سُئلوا الخيرَ، جمعوا الناس على خيرهم وزادهم. وقبله: إذا السنةُ الشهباءُ بالناس أجحفت رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينًا بها حتى إذا نبت البقل والذي دعاني لسوق الأبيات، أن المُعَلِّق على الديوان، فسَّر (ييسروا) بقوله: (يقامروا بالميسر)، وإن كان المعنى صحيحًا لغة، إلا أن المعنى الآخر الذي ذكرته أصح في رأيي لمناسبته لسياق الأبيات. انظر: "اللسان" 2/ 1097 (خبل)، 3/ 1293 (خول)، 5/ 2980 (عصا)، 8/ 4959 - 4960 (يسر). والشاهد في البيت: قوله: (هنالك) المحتملة أن تكون لوقت ومكان. (¬1) في (ب): (يحتمل أن يكون هنالك). (¬2) (وهنا): ساقطة من (ج). (¬3) (ج): (المحل).

قال الزجَّاج (¬1): و (هنالك) في موضع نصب، لأنه ظرف؛ ويقع في المكان من الزمان والحال (¬2). [ومعنى قوله: {هُنَاِلكَ دَعَا}؛ أي: في ذلك المكان من الزمان والحال] (¬3) دعا. قال أهل التفسير: لمَّا رأى زكريا ما أوتي (¬4) مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف على خلاف مجرى العادة، طمع في رزق الولد من العاقر، على خلاف مجرى العادة، فدعا الله عز وجل، فقال: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ}. أي: من عندك (¬5). و (لَدُن) اسمٌ غير متمكن (¬6)، ونذكر حقيقته، وما قيل فيه، في سورة الكهف إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 404، نقله بتصرف يسير جدًّا. (¬2) (ج) (وأحوال الزمان)، بدلًا من: (من الزمان والحال). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د) ومن "معاني القرآن" للزجاج. (¬4) في (د): (أولي). (¬5) ممن قال بذلك: ابن عباس، والسُّدِّي، وابن جبير، والحسن. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 249، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 641، "الدر المنثور" 2/ 37. (¬6) الاسم غير المتمكن، هو الاسم المبني، الذي لا يتغير آخره بتغير العوامل في أوله؛ أي: لا يتمكن من تحمل الحركات المختلفة. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" د. محمد اللبدي: 213. و (لَدُنْ): اسم جامد يُعرب ظرفًا للمكان أو الزمان، مبني على السكون، في محل نصب مفعول فيه، وهي تلازم الإضافة الاسم، أو الضمير، أو الجملة، وإذا أضيفت إلى ياء المتكلم اتصلت بها نون الوقاية، فيقال: (لَدُنِّي) ويقل تجريدها منها، فيقال: (لَدُنِي) وهي في المعنى والإضافة كـ (عند)، إلا أنها أقرب مكانًا من (عند) وأخصُّ منها. انظر: "معجم الأدوات النحوية" د. محمد التونجي: (101)، "معجم النحو" د. الدقر: 309، "موسوعة النحو والصرف" د. أميل يعقوب: 576.

وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}. أي (¬1): نسلاً مباركاً تقياً (¬2). والذُّرِّية)؛ يكون (¬3) واحدًا وجمعًا، وذكرًا وانثى (¬4). والمراد بـ (الذُّرِّيَّة) ههنا: ولدٌ واحدٌ؛ لقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]. قال الفرَّاء (¬5): وأنَّث الـ (طَيِّبَة)؛ لتأنيث لفظ الذرية؛ كما قال الشاعر: أبوك خليفةُ وَلَدَتْهُ أخرى ... وأنت خليفةٌ، ذاك الكمال (¬6) فأنَّثَ فعل الخليفة؛ لتأنيث لفظهِ (¬7). وقال آخرُ: ¬

_ (¬1) من قوله: (أي ..) إلى (فهب لي من لدنك وليا): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" 3/ 44 أ. (¬2) عند الثعلبي: (نقيا). (¬3) في (ب)، (د)، وعند الثعلبي: (تكون)، وفي: (ج) غير منقوطة. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفرَّاء: 1/ 208، "تفسير الطبري" 3/ 249، "تهذيب اللغة" 2/ 1274. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 208. نقله عنه بالمعنى. (¬6) البيت نسبه ابن الأنباري لنُصَيْب بن رباح. انظر: "المذكر والمؤنث" 2/ 163. وقال محقق الكتاب: بأن البيت ليس في مجموع شعره. وقد ورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 208، "تفسير الطبري" 3/ 248، "الزاهر" 2/ 242، "تفسير الثعلبي" 3/ 44 أ، "المحرر الوجيز" 3/ 96، "اللسان" 6/ 3459 (فلح)، 2/ 1235 (خلف). (¬7) أي: قال: (ولدته أخرى)؛ نظرًا لأن لفظ الخليفة مؤنث، والوجه: أن يقول: ولده آخر. قال ابن الأنباري: (ويقال: (قال الخليفة)، و (قالت الخليفة)، ويقال: (قال الخليفة الآخر)، و (الخليفة الأخرى)؛ فمن ذكَّر، قال: (الخليفة)، معناه: فلان؛ ومن أنَّثَ، قال: هو وصف قد دخلته علامة التأنيث، فحمل الفعل على لفظ المؤنث .. ومن استعمل لفظ المؤنث، قال في الجمع: (خلائف)، ومن استعمل =

فَمَا تَزْدَري مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ ... سُكاتٍ (¬1) إذا ما عَضَّ ليس بِأَدْرَدا (¬2) فجمع التأنيث، والتذكير: مرَّة على اللفظ، ومرةً على المعنى. قال: وهذا يجوز في أسماء الأجناس، دون التي معناها: فلانٌ؛ نحو: (طَلْحَة)، و (حَمْزَة)، و (مُغِيرَة). لا يجوز (جاءت طلحة)؛ من قِبَل أنَّ التذكيرَ الحقيقي يغلب على تأنيث اللفظ. وقوله تعالى: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}. قيل (¬3): مجيب الدعاء في ¬

_ = المعنى المذكَّر، قال في الجمع: (خلفاء ..). "الزاهر" 2/ 242، وانظر: "المذكر والمؤنث" له 2/ 163. (¬1) في جميع النسخ: سُكابٌ، ولم أر لها وجهًا، والتصويب من المصادر التي أوردت البيت، وسيأتي بيانها. (¬2) لم أهتد إلى قائله، وقد ورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء 1/ 208، "تفسير الطبري" 3/ 248، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 125، "تهذيب اللغة" 2/ 1718 (سكت)، "الصحاح" 1/ 253 (سكت)، "تفسير الثعلبي" 3/ 44 أ، "المحرر الوجيز" 3/ 96، "اللسان" 4/ 2046 (سكت). وقوله: (سُكاتٌ): وصف للحيَّة، يقال: (حيَّة سُكاتٌ، وسَكُوتٌ)،: إذا لم يشعر بها الملسوع حتى تلسعه وقوله: (أدردا)؛ أي: ليس في فمه سِنٌ، و (الدَّرَدُ): هو ذهاب الأسنان، والأنثى: دَرْداء. انظر: "الصحاح" 2/ 470 (درد)، "اللسان" 4/ 2046 (سكت)، "القاموس" ص 153 (سكت). والبيت في وصف رجل داهية يقول عنه: كيف تستخف به، وهو كالحية الجبلية الفاتكة، التي لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط، ولم يذهب سُمُّه. والشاهد فيه كونه أنَّث (جبلية)؛ نظرًا لورود الموصوف مؤنثًا في اللفظ، وهو (حيَّة)، وذكَّرَ (عضَّ)؛ لأنه أراد المعنى؛ أي: حيَّة ذكَرًا. (¬3) لم أقف على صاحب هذا القول، وقد حكاه الثعلبي في "تفسيره" 3/ 44أ، والبغوي في "تفسيره" 2/ 33، وابن الجوزي، في "الزاد" 1/ 380.

39

التفسير؛ وذلك أن مَنْ لا يُجابُ (¬1) كلامه، صار بمنزلة من لم يُسمع (¬2)، فقيل لمن أجيب في سؤاله: سُمع دعاؤه. وعلى هذا دلَّ كلام ابن عباس في تفسير هذه الآية؛ لأنه قال في قوله (¬3): {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} يريد: لأنبيائك، وأهل طاعتك (¬4). وهذا يدل على أنه أراد بالسمع: الإجابة؛ لأن دعاء غير هؤلاء مسموع لله تعالى على الحقيقة. 39 - قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} يقال: نادى، مُناداةً، ونِداءً. فالكسر: مصدرٌ (¬5)، والضم اسمٌ (¬6). وأكثر ما جاءت الأصوات على ضَمِّ أولها؛ نحو: (الرُّغاء) (¬7)، و (البُكاء)، و (الصُّراخ)، و (الهُتاف) (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (الإيجاب)، والمثبت من: (ج)، (د). (¬2) في (أ)، (ب): (يَسمع)، والمثبت من: (ج)، (د). (¬3) في (أ): قولك، والمثبت من: (ب)، (ج)، (د). (¬4) لم أقف على مصدر قول ابن عباس هذا. (¬5) انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 1061 (ندى). (¬6) ويردُ الاسمُ منه كذلك بالكسر؛ فيقال: (نِداء)، و (نُداء). وجعل الجوهريُّ الكسرَ هو الأصل، فقال: (النِّداء: الصوت، وقد يُضم). "الصحاح" 6/ 2505. وانظر (ندى) في "تهذيب اللغة" 4/ 3545، "اللسان" 7/ 4388، "التاج" 20/ 233. (¬7) في (ج)، (د): (الدعا). والرُّغاء: صوت البعير، والضبع، والنَّعام. انظر: "القاموس" ص 1289 (رغى). (¬8) في جميع النسخ: (والهتات)، ولم أجدها في معاجم اللغة التي رجعت إليها، ولم أر لها وجهَا، وما أثبته هو ما رجَّحتُه؛ لأن (الهُتاف)، و (الهَتْف): هو الصوت الجافي العالي، أو الصوت الشديد. انظر: "المنتخب من غريب كلام العرب" لكراع النمل: 1/ 294، "اللسان" 8/ 4612 (هتف).

وفي قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ}، قراءتان: التذكير، والتأنيث (¬1). قال الفرَّاء (¬2): (الملائكة)، وما أشبههم من الجمع، يُذَكَّر وُيؤَنَّث. وقرأت القُرَّاءُ: {يَعرُجُ الملائكة}، و {تَعرُجُ} (¬3) [المعارج: 4]، و {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} و {ويَتَوفَّاهم الملائكة} (¬4) (¬5) [النحل: 28]، فمن ذكَّر؛ ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنَّث؛ فلِتأنيث الاسم. قال الزجَّاج (¬6): الجماعة، يلحقها التأنيث؛ للفظ الجماعة، ويجوز أن يُعبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه يقال: جَمْعُ الملائكة، وهذا كقوله: {وَقَالَ نِسْوُةُ} [يوسف: 30]. وقال أهل المعاني (¬7): أراد بالملائكة (¬8) ههنا: جبريل، وحده (¬9)، ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي من السبعة وخلف من العشرة (فناداه)، بإمالة الدال، وتروى هذه القراءة عن (علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي بن الحسين، ومحمد بن زيد وابنيه، وجعفر بن محمد). "القطع والائتناف" ص 222. والباقون: (فنادته). انظر: "السبعة" 205، و"الحجة" للفارسي 3/ 37، و"النشر" 2/ 239. (¬2) في "معاني القرآن" له: 1/ 209، نقله بنصه. (¬3) والقراءة بالياء: للكسائي، وبالتاء: للباقين. انظر كتاب "الإقناع"، لابن مهران: 297، "حجة القراءات"، لابن زنجلة 721، "التبصرة" 708. (¬4) الملائكة: ليست في: (ج) و (د). (¬5) القراءة في الموضعين بالياء: لحمزة، وبالتاء: للباقين. انظر: "الكشف" 2/ 36، "حجة القراءات" 388. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 405. نقله عنه بتصرف يسير. (¬7) نقل المؤلف هنا عبارة الفراء باختصار عن "معاني القرآن" 1/ 210، وممن قال بذلك: الطبري في "تفسيره" 3/ 250، والزجاج في "المعاني" 1/ 405، والنحاس في "المعاني" 1/ 390، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 45 أ. (¬8) قوله: (المعاني أراد بالملائكة): مكانها بياض في: (د). (¬9) ممن قال بأن المنادي: جبريل وحده: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، والسدي، ومقاتل.=

وذلك جائز في العربية أن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع؛ كما تقول في الكلام: (ركب السفنَ)، و (خرجَ على البِغالِ)، وإنما ركب بغلاً واحدًا. وهذا (¬1) جائز فيما لم يُقْصد فيه قَصْد (¬2) واحدٍ بعينه. قال الزجَّاج (¬3): المعنى: أتاه النداءُ من هذا الجنس، الذين هم الملائكة (¬4)، كما تقول: (ركب فلانٌ في السُّفُن) وإنما ركب في سفينةٍ واحدةٍ؛ تريد بذلك: جَعْلَ ركوبه في هذا الجنس. ومثل (¬5) هذا مما في القرآن قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، وهو نعيْمُ بن مَسعود (¬6)، {إِنَّ النَّاسَ}، يعني: أبا سُفيان (¬7). قال المفضَّل: إذا كان القائل رئيسًا، فيجوز الإخبار عنه بالجمعِ؛ ¬

_ = انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 274، "تفسير الطبري" 2/ 449 - 450، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 641، "القطع والائتناف" للنحاس 222، "زاد المسير" 1/ 381، "الدر المنثور" 2/ 37. (¬1) (ج) (وهو). (¬2) في (أ)، (ب): (وقصد)، والمثبت من: (ج) (د)، ومن "معاني القرآن". (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 405، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا. (¬4) في (ج): (ملائكة). وقوله: (الذين هم ملائكة): ليس في "معاني القرآن". (¬5) من قوله: (ومثل ..) إلى (.. جرى على هذا): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" 3/ 45 أ. (¬6) هو أبو سلمة، نُعَيم بن مسعود بن عامر الأشجعي. صحابي مشهور، هاجر إلى الرسول يوم الخندق، وهو الذي خذَل المشركين واليهود حتى صرف الله المشركين، سكن المدينة، قتل في وقعة الجمل في أوّلِ خلافة علي، وقيل: مات في خلافة عثمان - رضي الله عنه -. انظر: "الاسيعاب" 4/ 70 (2658)، "الإصابة" 3/ 568 (8779). (¬7) سيأتي بيان قصة الآية في موضعها من هذه السورة، عند تفسير آية: 173 إن شاء الله تعالى.

لاجتماع أصحابه معه، فلمَّا كان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة، وقلَّما يُبْعثُ إلاَّ ومعه جَمعٌ منهم، جُرِيَ على هذا. وهذا قول ابن عباس (¬1)، والأكثرين (¬2): إنَّ المنادى جبريل وحده. وقال غيره: ناداه جماعةٌ من الملائكة (¬3). وقوله تعالى: {أَنَّ اللهَ يُبَشِرُكَ} يُقْرأ بـ {إِنَّ} (¬4): مكسورًا ومفتوحاً (¬5)؛ فمن فتح (¬6)، كان المعنى: (فنادته بِأَنَّ اللهَ)، فلمَّا حذف الجارّ منها (¬7)، وصل الفعلُ إليها فنصبها؛ فـ (أَن) (¬8) في موضع ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) قوله: (والأكثرين)، سبق أن بينت أنه لم يقل بهذا القول غير ابن مسعود - رضي الله عنه - والسدي، ومقاتل، بناءً على المصادر التي رجعت إليها. (¬3) ورَجَّح هذا الطبري؛ حملًا لتأويل القرآن على الأظهر الأكثر من كلام العرب، دون الأقل، ما وُجِد إلى ذلك سبيل. وبيَّن أنَّه لا حاجة هنا لصرفه إلا أنه بمعنى واحد. وبيَّن أنَّ هذا قول جماعة من أهل العلم، ومنهم: قتادة، والربيع، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم. "تفسير الطبري" 3/ 250، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 120، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 641، "الدر المنثور" 2/ 37، ورجحه كذلك النحاس في "القطع والائتناف" (223). (¬4) في (ج)، (د): (إن). وفي (د) بدلًا من: (بإن). (¬5) قرأ ابن عامر، وحمزة: {إِنَّ} بالكسر، وقرأ الباقون: {أَن} بالفتح. انظر: "السبعة" 205، "الحجة" للفارسي: 3/ 38، "الكشف" لمكي: 1/ 343. (¬6) من قوله: (فمن ..) إلى (.. فأضمر القول في ذلك كله): نقله باختصار وتصرف يسير عن "الحجة" للفارسي: 3/ 39، 38 (¬7) (منها): ساقطة من (ج). (¬8) في (ج): (بأن).

[نصب] (¬1). وعلى قياس قول الخليل: في موضع (¬2) [جَرٍّ] (¬3). وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم. ومن كَسَرَ، أضمر القولَ؛ كأنه: (ناداه، فقال: إنَّ الله) فحذف القولَ. وإضمار القول كثير في هذا النحو، كما قال: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد:23 - 24]، {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا} [الأنعام: 93]، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106]، فأضمر القول في ذلك كلِّه (¬4). وقوله تعالى: {يُبَشِّرُكَ} قد (¬5) ذكرنا معنى التبشير في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25]. وقرأ حمزةُ والكسائيُّ (¬6): ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (د)، ومن "الحجة". ويقتضيها السياق. (¬2) (في موضع): مكانها بياض في: (د). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة" للفارسي، يقتضيها السياق. وانظر: "كتاب سيبويه" 3/ 126 - 129، 1/ 92، 37 - 39، "المحلى ووجوه النصب" لابن شقير: 76، "سر صناعة الإعراب" 130، "الكشف" لمكي 1/ 343. وانظر تفسير آية19 من هذه السورة، وما سيذكره عند تفسير {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} آية: 73 من هذه السورة. (¬4) هذا على مذهب البصريين القائلين بإضمار القول، أما على مذهب الكوفيين، فإنهم أجروا النداء مُجرى القول. انظر: "البحر المحيط" 2/ 446، "الدر المصون" 3/ 152، "إتحاف فضلاء البشر" للبنا ص 174. (¬5) من قوله: (قد ..) إلى (.. وقرأ حمزة والكسائي: يبشرك): ساقط من (د). (¬6) انظر: "السبعة" 502، "الحجة" للفارسي: 3/ 41. وقد قرأ حمزة: (يَبْشُرُ) بالتخفيف في كل القرآن، إلا في قوله: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [آية 54 من سورة الحجر]، فقرأها بالتشديد (يُبَشِّرون). أما الكسائي: فقد قرأها بالتخفيف في خمسة مواضع: (آل عمران: 39، 45) و (الإسراء: 9) =

{يُبَشِّرُكَ} (¬1)، مُخَفَّفاً، من (البَشْرِ) (¬2) وهو بمعنى: التبشير (¬3). قال أبو زيد: يقال: (بَشَّرَ، يُبَشِّرُ)، [و (أبْشَرَ يُبْشِرُ] (¬4) إبْشارا)، و (بَشَرَ، يَبْشُرُ، بَشْرا)، ثلاث لغات (¬5). ونحو هذا قال ابن الأعرابي فيما روى عنه ثَعْلَب (¬6). ¬

_ = و (الكهف: 2) و (الشورى: 23). أمَّا نافع، وابن عامر، وعاصم، فقد قرأوها بالتشديد في كل القرآن. وكذا قرأها ابن كثير، وأبو عمرو في كل المواضع، إلا في آية (23 من الشورى). انظر: "السبعة" 205، "الحجة" للفارسي: 3/ 239، "الغاية" لابن مهران:125، "التيسير" للداني: 87، "النشر" 2/ 239، "اتحاف فضلاء البشر" ص 174. (¬1) وردت في: (أ) يَبْشِرُكَ بكسر الشين المخففة، وأهملت حركاتها في بقية النسخ، ولم ترد بها قراءة، والصواب من قراءتها ما أثبته، وما سبق الإشارة إليه، وقد ورد في قراءة مجاهد، وحميد بن قيس الأعرج: (يُبْشِرُكَ) بضم الياء، وتسكين الباء، وكسر الشين المخففة. انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج: 1/ 405، "المحتسب" 1/ 161، "تفسير الثعلبي" 3/ 45 ب. انظر ترجمة حميد بن قيس في "غاية النهاية" 1/ 265 برقم (1200). (¬2) في (أ): البَشرَ، ولم أر لها وجهًا، وأهملت حركاتها في بقية النسخ، وما أثبته، هو ما استصوبته. قال في "اللسان" 4/ 61 (بشر): (وقد بَشَرَه بالأمر، يَبْشُرُه بالضم بَشْرًا، وبُشُورا، وبِشْرًا، وبَشَرَهُ به بَشْرًا .. وبَشرَ يَبْشُرُ بَشْرًا وبُشُورًا) وانظر: "الصحاح" 2/ 590 (بشر). (¬3) قال الفرَّاء في "معاني القرآن" 1/ 212: (وكأن المشَدَّد على: بِشارات البُشَراء، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور، وهذا شيء كان المشيخة يقولونه). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، (د)، ومن "الحجة" للفارسي. (¬5) لم أقف على قول ابن زيد فيما رجعت إليه من مصادر، ويبدو أن هذا قول أبي الحسن (الأخفش)، كما في "الحجة" للفارسي 3/ 37، ونصه: (قال أبو الحسن: في (يبشر) ثلاث لغات: ..) وذكر ما دُوِّنَ أعلاه، ثم بعدها نقل الفارسي قولًا آخر لأبي زيد مغاير لما هنا، فقال: (قال أبو زيد ..). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 338 (بشر).

وقال أهل اللغة (¬1): أصل معنى (البَشْرِ): إصابة البَشَرَةِ يقال: (بَشَرتُ الأديمَ) (¬2): إذا أخذتُ بَشَرَتَه بشَفْرةٍ، و (بَشَرَ الجرادُ الأرض): إذا أكلَ ما عليها، [فأخذ بَشَرَتها (¬3)، فاستُعمِلَ هذا في إيراد الخبرِ (¬4) السَّارِّ؛ لأنه يصيب البَشَرَة بالهَشاشَةِ (¬5)] (¬6). وقال الزجَّاج (¬7): معنى {يُبَشِّرُكَ} (¬8) بالتخفيف: يسُرُّكَ، ويُفرِحُكَ، يقال: (بَشَرْتُ ¬

_ (¬1) انظر (بشر) في "إصلاح المنطق" ص21 - 22، 41، 277، و"الجمهرة" ص310، "تهذيب اللغة" 1/ 338، "الصحاح" 2/ 590، "مقاييس اللغة" 1/ 251. (¬2) الأديم هنا: الجلد. انظر القاموس (أدم) ص 1074. (¬3) أخذ بشرتها؛ أي: أكل ما ظهر من نباتها، فجعل ظاهر الأرض كأنه بشرة لها. (¬4) في (د): هذا إيراد في الخبر. (¬5) الهَشَاشة والهَشَاشُ: الارتياح، والخفَّةُ، والنشاط، يقال: (هَشِشْتُ إليه، أهَشُ، هَشاشة): إذا خففت إليه، وارتحت له. انظر: "إصلاح المنطق" 200، "القاموس المحيط" 610 (هش). (¬6) ما بين المعقوفين زياد من: (ج) (د). (¬7) في "معاني القرآن" له 1/ 405. ولكن النصَّ في "معاني القرآن" المطبوع المتداول يختلف بعض اختلافٍ في ضبط الكلمات عمَّا أورده الواحدي، ونصه في "معاني القرآن" (ومعنى: يُبْشرك: يسرك ويفرحك، يقال: بَشَّرتُ الرجلَ أبَشِّرُه، وأبْشُرُه: إذا أفرحته، ويقال: بَشُرَ الرجل يَبْشرُ)، وما أورده المؤلف مطابق لما فى "تهذيب اللغة" 1/ 338 (بشر)، وأورده كذلك ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 382، وصاحب "اللسان" 1/ 287 (بشر) مما يعني أن يكون الأزهري، والواحدي، قد نقلا من نسخة أخرى غير المعتمدة في المطبوعة، أو يكون الواحدي، نقل النص عن الأزهري، وهو ما أرجحه؛ نظرًا لأن "التهذيب" من مصادره الأساسية، التي اعتمد عليها كثيرًا. (¬8) في (أ): يَبْشِرُكَ أما بقية النسخ فقد أهملت حركاتها. وفي "معاني القرآن" المطبوع =

الرَّجُلَ، أبْشُره): إذا أفرحته، فـ (بَشِرَ (¬1)، يَبْشَرُ): إذا فرِحَ. وقال ابن الأعرابي (¬2): (بَشِرتُ بكذا، وأبْشَرْتُ به) أي: فرحت (¬3)، ومنه قوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30]. وقوله تعالى: {بِيَحْيَى}. (يحيى) (¬4)، لا ينصرف، عَربيّاً كان، أو عجمِيًّا (¬5): لأنه إن كان عجميَّا: فقد اجتمع فيه العُجْمةُ والتعريف، وإن كان عربيًّا: لا (¬6) ينصرف؛ لِشِبهه (¬7) بالفعل، وأنه معرفة. قال المفسرون: سمَّاه الله تعالى بهذا الاسم قبل مولده (¬8). قال الحسين (¬9) بن الفضل (¬10): إنَّما سُمِّيَ ¬

_ = يُبشرك. وما أثبتُه هو ما استصوبته، وهو موافق لما في "زاد المسير" حيث ضبط الحركات بالحروف، "اللسان"؛ لأن الواحدي أراد أن يبين معنى القراءة بالتخفيف (يَبْشُرُكَ)، وما في "معاني القرآن" المطبوع لا استبعد الخطأ المطبعي في ضبط حركتها. (¬1) في (أ): (فبَشُرَ) وهو موافق لما في "معاني القرآن". وما أثبتُّه يوافق ما في "تهذيب اللغة"، "اللسان" وبقية مصادر اللغة، ولم أعثر على (بَشُرَ) في معاجم اللغة. (¬2) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 338، وهو ما أشار إليه المؤلف سابقًا. (¬3) نقله المؤلف باختصار، ونصه: (يقال: (بَشَرْتُهُ، وبَشَّرْتُهُ، وبَشِرْتُهُ، وأبْشَرته). قال: (وبَشِرْتُ بكذا، وبَشرْت وأبشرْت): إذا فرحتَ به. (¬4) من قوله: (يحيى ..) إلى (.. وأنه معرفة): نقله بتصرف عن "معاني القرآن" للزجَّاج 1/ 406. (¬5) في (ج)، و"معاني القرآن": (أعجميا). (¬6) في (ج)، "معاني القرآن": (لم). (¬7) في (د): لتشبيهه. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 252، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 642، "النكت والعيون" 1/ 389 - 390. (¬9) في (ج): (الحسن). (¬10) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 46 أ، وانظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب 269 - 270. وهو: أبو علي، الحسين بن الفضل بن عمير بن كَيْسان البجَلِي، تقدم.

(يَحْيى) (¬1)، لأن الله [تعالى] (¬2) أحياه بالطاعة، حتى لم يَعْصِ، ولم يَهم بمعصية. فمعنى (يحيى): أنه يعيش مطيعاً لله عمره، ألا ترى أنَّ الكافر يُسمَّى (مَيْتاً)؛ قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، قيل في تفسيره: ضالاً فهديناه (¬3). وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. نصب على الحال؛ لأنه نكرة، و (يَحيى) معرفة. قال ابن عباس (¬4): يريد: مُصدِّقاً بعيسى أنه روح الله، وكلمته. وسُمِّيَ (عيسى) كلمةُ الله؛ لأنه حدث عند قوله: {كُن}، فوقع عليه اسم (الكلمة)؛ لأنه بها كان. قال المفسرون: وكان (يحيى) أول من آمن بـ (عيسى) عليهما السلام، وصدَّقه، وكان (يحيى) أكبر من (عيسى) (¬5). ¬

_ (¬1) في (د): (بيحيى). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬3) وهذا قول: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدِّي، وابن زيد، وعكرمة، وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 21 - 24، "الدر المنثور" 3/ 81. (¬4) الأثر عنه في "تفسير الطبري" 3/ 253، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 651، "تفسير ابن كثير" 1/ 387، "الدر المنثور" 2/ 38، ونسب إخراجه كذلك للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وهو قول مجاهد، والرقاشي، وقتادة، والربيع، والسدي، والضحاك. انظر المصادر السابقة. وذهب أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 91 إلى أن (كلمة الله): كتاب الله، كما تقول العرب للرجل: (أنشدني كلمة كذا وكذا)؛ أي: قصيدة فلان، وإن طالت. وأنكر عليه الطبري ذلك إنكارًا شديدًا، وردَّه انظر: "تفسير الطبري" 3/ 254. (¬5) قال به ابن عباس، والربيع، والضحاك. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 250 - 253، "تفسير الثعلبي" 3/ 46 ب.

قوله تعالى: {وَسَيِّدًا}. (السَّيِّد) من باب: (الصَّيِّب)، و (المَيِّت). وقد ذكرنا ما فيهما (¬1). ويقال (¬2): (سادَ فلانٌ قومَه، يَسُودُهم، سُؤْدَداً، وسِيادَةً): إذا صار رئيسهم (¬3). قال أبو (¬4) إسحاق (¬5): (السيِّد): الذي يفوق في الخير قومَه. وقال بعض أهل اللغة: (السيد): المالك الذي (¬6) يجب (¬7) طاعته؛ ولهذا يقال: (سيِّد الغلام)، ولا يقال: سيِّد الثوب. سَلَمَة (¬8) عن الفرَّاء (¬9): (السيِّد): المالك (¬10)، و (السيِّد): الرئيس، و (السيِّد): الحليم، و (السيِّد): السَّخي، و (السيِّد): الزوج، ومنه قوله: ¬

_ (¬1) في (ج): فيها. وانظر: "تفسير البسيط" تح: د. الفوزان، عند آية: 19 من سورة البقرة وانظر ما سبق عند تفسير آية: 27 من سورة آل عمران. ويعني: أن (سَيِّد)، أصلها: (سَيْوِد)، مثل: (صَيِّب)، و (مَيّيت) حيث إنَّا أصلهما: (صيْوِب) و (مَيْوِت). انظر بيان هذه المسألة، والخلاف فيها، في "كتاب سيبويه" 4/ 365، "سر صناعة الإعراب" 153، 585، "الإنصاف" ص 624 - 625، وقد سبق الإشارة إلى ذلك عند تفسير آية: 27 من سورة آل عمران. (¬2) (ويقال): ساقطة من (ج). (¬3) وفي لغة طيىء: (سُؤْود) بضم الدال، وورد من مصادره: (سَيْدُودَة). انظر (سود) في: العين، للخليل: 7/ 281، "الصحاح" 2/ 490، "اللسان" 4/ 2144. (¬4) في (ب): ابن. (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 406. (¬6) من قوله: (الذي ..) إلى (.. والسيد الرئيس): ساقط من (د). (¬7) في (ج): (تجب). (¬8) هو: أبو محمد، سَلَمَة بن عاصم. تقدم. (¬9) قوله في "تهذيب اللغة" 13/ 35. (¬10) في "التهذيب" "اللسان" (سود): الملك.

{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} [يوسف: 25]، [أي: زوجها] (¬1). وقال أبو خيرة (¬2): سُمِّيَ (سَيِّدا)، لأنه يَسُودُ سَوادَ الناسِ، أي: عُظْمَهم (¬3). هذا قول أهل اللغة في معنى (السيِّد). فأما أهل (¬4) التفسير: فقال ابن عباس (¬5): السَّيِّد: الكريم على رَبِّهِ عز وجل. وقال قتادة (¬6): السيِّد، هو: العابد، الورع، الحليم. وقال عِكرمَة (¬7): السيد: الذي لا يغلبه غضبُهْ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (ج) (د)، ومن "تهذيب اللغة" 2/ 1590. وانظر في تفسير (سيِّدها) بـ (زوجها) "تفسير البيضاوي" ص 243، "تفسير أبي السعود" 4/ 267، "فتح القدير" 3/ 27. (¬2) في (د): أبو حيوة. وقوله في "تهذيب اللغة" 2/ 1590، "اللسان" 4/ 2144 - 2145. وأبو خيرة، هو: نهشل بن زيد البصري. أعرابي بَدَوي من بني عَدِيّ، دخل الحاضرة، وأخذ عنه الناس، وصنف في الغريب كتبا. انظر: "الفهرست" ص 72، "إنباه الرواة" 4/ 117، "معجم الأدباء" 19/ 243، "بغية الوعاة" 2/ 317. (¬3) في "تهذيب اللغة" معظمهم. و (عُظْمهم): أكثرهم، ومعظمهم. انظر: "الصحاح" 5/ 1987 (عظم). (¬4) (أهل): ساقطة من: (ب). (¬5) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد أورده ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 383، وهو قول مجاهد، والرقاشي. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 254، "ابن أبي حاتم" 2/ 643، "البغوي" 2/ 34، "الدر المنثور" 2/ 38 أورده عن مجاهد ونسب إخراجه كذلك إلى عبد بن حميد. والوارد عن ابن عباس، تفسيره بـ (الحليم النقي)؛ كما في "تفسير الطبري" 3/ 254، "ابن أبي حاتم" 2/ 642، "زاد المسير" 1/ 383، "الدر المنثور" 2/ 39، ونسب إخراجه كذلك لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن عساكر. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 254، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 642، "تهذيب اللغة" 2/ 1590، "تفسير الثعلبي" 3/ 47 أ، "تفسير البغوي" 2/ 34. (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 255، "ابن أبي حاتم" 2/ 642، "تهذيب اللغة" 2/ 1590، "الدر المنثور" 2/ 39، وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في "ذم الغضب".

وقوله تعالى: {وَحَصُورًا} (الحَصْرُ) في اللغة: الحَبْسُ (¬1). يقال: (حَصَرَه، يَحْصُرُه، حَصْراً). و (حُصِرَ الرجلُ): إذا اعتُقِل بطنه (¬2)، و (حَصرَ (¬3) الرجلُ عن النساء)، فهو (حَصُورٌ). والحَصُورُ: الضَّيِّقُ (¬4)، البخيل، الذي يمنع مالَهُ، فلا يُخرِجُ مع النَّدامى (¬5) شيئاً للشراب (¬6)، ومنه: لا بالحَصُورِ ولا فيها بِسَوَّارِ (¬7) ¬

_ (¬1) قال ابن فارس في "مقاييس اللغة": (الحاء، والصاد، والراء؛ أصل واحدة وهو: الجمع والحبس والمنع 2/ 72 (حصر). وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي: 34، "الصحاح" 2/ 630 - 632، وما سيأتي من مراجع. (¬2) في "الصحاح" (والحُصْرُ بالضم: اعتقال البطن، تقول فيه: (حُصِرَ الرجل)، وَ (أُحْصِرَ)، على ما لم يُسمَّ فاعِلُه) 2/ 362 (حصر). (¬3) ورد ضبطها في "تهذيب اللغة" (حُصِرَ)، حيث قال: (ورجل حَصُورٌ: إذا حُصِرَ عن النساء ..) 1/ 838، وانظر 1/ 839، وكذا ورد في "اللسان" 2/ 896 (حصر). ولكن ورد في "الصحاح" (وكل من امتنع عن شيء، فلم يقدر عليه، فقد حَصِرَ عنه، ولهذا قيِل: (حَصِرَ في القراءة)، و (حَصِرَ عن أهله) 2/ 631 (حصر). (¬4) من قوله: (الضيق ..) إلى (.. ولا فيها بسوار): ساقط من: (ب). (¬5) النَّدامى هنا: هم الذي يجتمعون على الشراب، وهذا هو الأصل فيها، ثم استعملت في كل اجتماع للمسامرة. يقال: (نادمه على الشراب، مُنادمة، ونِدامًا). والمفرد: نَدِيم، ونَدْمان. والجمع: نَدامى، ونُدَماء، ونِدام. انظر (ندم) في "أساس البلاغة" 2/ 432، "التاج" 17/ 683. (¬6) انظر: "التهذيب" 1/ 838 (حصر). وقال ابن سيده في: "المخصص": 14/ 25: (والحَصير .. الذي لا يشرب مع القوم لبخله، وهو الحَصور)، وكذا ورد في "مجالس ثعلب" 509. (¬7) قوله: (فيها بسوار): بياض في: (د). وهذا عجز بيت وصدره: وشاربٍ مُربح بالكأس نادمني

و (الحَصور)، و (الحَصِرُ) أيضاً: الذي يكتم السِّرَّ، ويحبسه في نفسه. قال جرير: ولقَدْ تَسَقَطني الوُشاةُ فصادفوا ... حَصِرًا بِسِرِّكِ (¬1) يا أمَيْمَ ضَنينا (¬2) ¬

_ = وهو للأخطل، في شعره 168، كما ورد منسوبًا له في أغلب المصادر التالية: "مجاز القرآن" 1/ 92، "طبقات فحول الشعراء" 501، "مجالس ثعلب" 315، 509، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 407، "تفسير الطبري" 3/ 255، "القطع والاستئناف" للنحاس: 223، "جمهرة أشعار العرب" ص 328، "تهذيب اللغة" 1/ 838 (حصر)، "المحتسب" 2/ 241، "الصحاح" 2/ 631 (حصر)، "مقاييس اللغة" 3/ 115 (حصر)، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 أ، "والمخصص": 14/ 25، "تفسير القرطبي" 3/ 158، "اللسان" 2/ 896 (حصر)، 4/ 2147 (سور). وورد في "مجالس ثعلب" برواية أخرى، وذكرها ابن جني في "المحتسب" (.. ولا فيها بسآر) بتشديد الألف الممدودة، وقال ابن جني: (وأجود الروايتين: (بسَوَّار)؛ أي: بمعربد)، وفي "القطع والائتناف" (وصاحب مربح ..). ومعنى (مُرْبح)؛ أي: يصف نديمه في الشراب، بأنه يُربح بائعها، ولا يبالي بأن يشتريها بثمن غالٍ، وهو هنا يمدحه بحب اللهْو والكرم، أو تكون (مربح) من: أرْبَح الرجلُ: إذا نحر لأضيافه (الرَّبَح)، وهي الفصلان الصغار. وقوله: (لا بالحصور)؛ أي: ليس بخيلا ممسكا. ومعنى: (ولا فيها بسوَّار)؛ السَّوَّار: الذي تَسُورُ وتدبُّ الخمرُ في رأسه سريعًا، فتثب به وثْبَ المُعَرْبِد على من يُشارِبُه. أما الرواية الثانية (ولا فيها بسآر)؛ أي: لا يبقى في الإناء سُؤْرًا، أي: بقية، بل يشتفُّهُ كلَّه. انظر: "اللسان" 3/ 1553 (ربح)، 2/ 896 (حصر)، 4/ 2147 (سور). (¬1) في (ج)، (د): (يسرك). (¬2) في نسخة (ب) دمج بيت الأخطل مع بيت جرير، كالتالي: لا بالحصر ولا عنها بسوار ... بسرك يا أميم ضنينا وقد ورد بيت جرير، في "ديوانه": 476. كما ورد منسوبًا له في: "مجاز القرآن" 1/ 92، "تفسير الطبري" 3/ 255، "معاني القرآن" للزجَّاج1/ 407، "تهذيب اللغة" 1/ 839، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 73، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 أ، =

قال ابن قتيبة (¬1): الحَصُور: الذي لا يأتي النساء، وهو (فَعُولٌ) بمعنى: (مفعول)؛ كأنه (¬2) محصور عنهن، أي: مأخوذ (¬3)، محبوس (¬4)، ومثله: (رَكوب)، بمعنى: مَرْكُوب (¬5)، و (حَلوب)، بمعنى: مَحْلُوب (¬6). ويجوز أن يكون (فَعُولاً) بمعنى: (فاعل)؛ يعني: أنه حَصَرَ نفسه عن الشهوات. وجميع المفسرين: على أن (الحَصُور) ههنا: الذي لا يأتي النساءَ، ولا يقربهن (¬7). ¬

_ = "والمخصص": 3/ 20، "اللسان" 2/ 896 (حصر)، 4/ 2038 (سقط). وورد عند الطبري: (تَساقَطَني)، وفي "اللسان" 4/ 2038: (.. حَجِئًا بسِرِّك). و (تَسَقَّطه)، و (استسقطه)، و (تساقطه)؛ بمعنى: طلب سَقَطَه، أي: خطأه وعثرته، وعالجه على أن يخطئ، وفي البيت: عالجه على أن يسقط فيخطئ أو يبوح بما عنده. أما في الرواية الثانية: (.. حجئا بسرك)؛ أي: مستمسكًا به، من قولهم: (حَجِئَ بالشيء، وحَجَأ به، حَجْأ)؛ أي: تمسك به ولزمه. ومعنى (الضَّنِين): البخيل، الحريص على الشيء. انظر: "اللسان" 4/ 2038 (سقط)، 2/ 777 (حجأ)، "القاموس" 1212 (ضنن). (¬1) في "تفسير غريب القرآن" له 99، نقله مع اختصار قليل. (¬2) في (ج): (فكأنه)، وفي (د): (وكأنه). (¬3) في (د): (أحود). (¬4) قال ابن قتيبة بعدها: (وأصل الحصر: الحبس). (¬5) (بمعنى مركوب): ساقط من: (ج) (د). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 394. (¬7) وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وابن جبير، وقتادة، وعطاء، وأبي الشعثاء، والحسن، والسدي، وابن زيد، وعطية العوفي انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 643، 644، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 أ، "تفسير ابن كثير" 1/ 387، "تفسير القرطبي" 4/ 78.

قال ابن عباس: هو الذي لا يجامع النساءَ، إنما له فَرْجٌ كفَرْجِ الصَّبِيِّ الصغير (¬1) وقال سعيد بن المُسَيِّب (¬2): هو العِنِّين. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه ذكر يحيى بن زكريا ثم أهوى بيده إلى قَذَاةٍ (¬3) من الأرض فأخذها، وقال: "كان ذَكَرُهُ مثلَ هذه القذاةِ" (¬4). ¬

_ (¬1) الذي في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 643: (عن ابن عباس، قال: الحصور: الذي لا يأتي النساء.)، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 39، ونسب إخراجه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن عساكر. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 255، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 أ. وقد تقدمت ترجمته. (¬3) القذاة: هي الشيء الصغير جدًّا، مما يقع على العين والماء والشراب؛ من تراب، أو تُبْن، أو وسخ، أو غير ذلك. وجمعها: (قَذُى)، وجمع الجمع: (أقْذاء). انظر: "اللسان" 6/ 3562 (قذى). (¬4) الحديث: أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 255، بسنده عن سعيد بن المسيب، عن ابن العاص إما عبد الله أو أبيه، من طرق مختلفة، مرفوعًا وموقوفًا، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 643 عن ابن المسيب عن ابن العاص مرفوعًا وموقوفًا، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 373، وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي، وأورد ابن كثير في "تفسيره" 1/ 387 رواية ابن أبي حاتم المرفوعة والموقوفة، وقال عن المرفوعة: إنها غريبة جدًّا، وقال عن الموقوفة: (فهذا موقوف، أصح إسنادًا من المرفوع)، وقال: (رواه ابن المنذر في "تفسيره" من طريق آخر عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص). وأخرجه ابن أبي حاتم والثعلبي في تفسيريهما عن أبي هريرة مرفوعًا. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 643، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 أ. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 39، ونسب إخراجه كذلك إلى ابن المنذر وابن عساكر، وقال: (وأخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد في: "الزهد" وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي هريرة من وجه آخر عن ابن عمرو، موقوفًا، وهو أقوى إسنادًا من المرفوع). وقد نقل ابن كثير بعد أن أورد بعضًا من هذه الآثار قولَ القاضي عياض حولها، ونصه كما في (الشفاء): (فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصُورٌ، ليس كما قال بعضهم: إنه كان =

40

فعلى هذا القول: (الحَصور)، بمعنى: (المحصور)، وهو الذي حُصر عنهن، على (¬1) قول الجمهور، وهو (فَعُول) بمعنى (فاعل)؛ لأنه حَبَس نفسه عنهن. وقد استقصينا هذا الحرف عند قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]. 40 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} ذهب كثير من ¬

_ = هَيُوبا [أي: يهاب الفعل المعروف]، أو لا ذَكَر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقَّاد العلماء، وقالوا: هذه نَقيصةٌ وعيب، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه: أنه معصوم من الذنوب؛ أي: لا يأتيها، كأنه حُصِر عنها، وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء. فقد بان لك من هذا؛ أنَّ عدم القدرة على النكاح، نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة، ثمَّ قمْعُها؛ إمَّا بمجاهدة، كـ (عيسى) عليه السلام، أو بكفاية من الله تعالى كـ (يحيى) عليه السلام فضيلة زائدة؛ لكونها مُشْغلةً في كثير من الأوقات، حاطَّةً إلى الدنيا؛ ثم هي في حقِّ من أقْدِر عليها، ومُلِّكَها، وقام بالواجب فيها، ولم يشغله عن ربه درجةٌ علياء، وهي درجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي لم تشغله كثرتُهُنَّ عن عبادة ربِّه؛ بل زاده ذلك عبادة؛ لتحصينهنَّ، وقيامه بحقوقهنَّ، واكتسابه لهنَّ، وهدايته إيَّاهن؛ بل صرَّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره) ثم ساق القاضي عياض الأدلة على ذلك. انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض: ص 88. ثم يقول ابن كثير: (والمقصود، أنه مَدْح ليحيى بأنه حَصُورٌ، ليس أنه لا يأتي النساء؛ بل معناه: .. أنه حصور عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهنَّ، وإيلادهنَّ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم، حيث قال: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} كأنه قال: ولدا لهُ ذرية ونسل وعَقِب. والله سبحانه وتعالى أعلم). "تفسير ابن كثير" 1/ 388. وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 8/ 40 وقال بأنه (اختيار المحققين)، "غرائب القرآن" للنيسابوري 3/ 183، "تفسير الخازن" 1/ 289. (¬1) في (ج): (وعلى).

المفسرين إلى أن زكريَّا خاطب بهذا جبريل عليه السلام، فقال: (رَبِّ)؛ أي: يا سيِّدي (¬1). وذهب جماعة إلى أنه خاطب الله تعالى (¬2). وقوله: {أَنَّى يَكُونُ} إنْ قيل: كيف أنكر زكريَّا الولدَ مع تبشير الملائكة إيَّاه به؟ وما معنى هذه المراجعة؟ ولِمَ عجب (¬3) من ذلك بعد إخبار الله تعالى بأنه يكون، إذ يقول عز وجل: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}؟ فالقول في ذلك: {أَنَّى يَكُونُ لِي} (¬4) أن معنى قوله {أَنَّى يَكُونُ} على أيِّ حالٍ يكون ذلك؛ أيَرُدُّني إلى حال الشباب، وامرأتي؟ أم من حال الكِبَرِ؟. فقال ما قال من هذا مستثْبِتاً، ومستعْلِماً، لا متعجباً، ولا منكِراً (¬5). والغُلامُ: الشابُّ من الناس. وأصله من (الغُلْمَةِ). و (الاغتلام)؛ وهو: شِدَّة طَلبِ النِّكاح. ويقال: (غُلامٌ بّيِّن (¬6) الغُلُومِيَّةِ، والغُلُومَةِ، والغُلامِيَّةِ) (¬7). ¬

_ (¬1) وهذا قول الكلبي، كما في "تفسير الثعلبي" 3/ 48 ب، وقال الثعلبي بأنه قول أكثر المفسرين، "تفسير القرطبي" 4/ 79، وانظر: "الخازن" 1/ 290. (¬2) وهو الظاهر من الآية. (¬3) في (ج): (اعجب). (¬4) (لي): ساقطة من (ج)، (د). (¬5) وممن قال بهذا: الحسن، وابن كيسان، وابن الأنباري. انظر: "زاد المسير" 1/ 384. وقيل: بأي منزلة أستَوْجِبُ هذا؟ قاله على سبيل التواضع لله، والشكر له، والاستعظام لقدرته تعالى التي لا يعجزها شيء. انظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 395، "النكت والعيون" 1/ 391، "غرائب القرآن" 3/ 184، و"أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل" للرازي 61. (¬6) في (د): (من). (¬7) انظر كتاب "خلق الإنسان" 11، "تهذيب اللغة" 3/ 2691 (غلم)، "الصحاح" 5/ 1797 (غلم).

قال الفرَّاء (¬1): والعرب تجعل مصدرَ كلِّ اسمٍ ليس له فعلٌ (¬2) معروف على هذا المثال. فتقول: (هذا [عبدٌ] (¬3) بَيِّن (¬4) العبودية، والعبدِيَّةِ (¬5)، والعبودَةِ). وقوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}. (الكِبَرُ)، مصدرُ: (كَبِرَ الرجلُ، يَكْبَرُ): إذا أسَنَّ (¬6). قال أهل المعاني (¬7): معنى {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}: وقد بَلَغتُ الكِبَرَ؛ وذلك أن كلَّ (¬8) شيءٍ صادَفْته وبلغته، فقد صادفك وبلغك. وكان نسبةُ الفعلِ إلى الكبر، كنسبته (¬9) إلى الرجل؛ يدل على هذا قولُ العرب: (تلقَّيْتُ الحائطَ)، و (تلقَّاني (¬10) الحائطُ). ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد ورد بعضه في "تهذيب اللغة" 3/ 2301 (عبد) ونصُّه: (وقال الفرَّاء: يقال: فلان عبدٌ بيِّن العبودة، والعبودية، والعبدية). (¬2) (فعل): ساقط من: (ب). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬4) في (أ)، (ب): (من)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "تهذيب اللغة" 3/ 2301. (¬5) (والعبدية): ساقط من: (ج)، (د). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 257، "القاموس المحيط" ص 468 (كبر). والقياس أنَّ (فَعِلَ) من الثلاثي المجرد، يأتي مضارعها على (يَفْعَلُ). انظر: "المزهر" 2/ 37. أما (كَبُرَ، يَكْبُرُ)، فهي إذا ما أردت عِظَمَ الشيءِ والأمرِ، فهي مثل: (عَظُمَ، يعظُمُ). انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3090 - 3091 (كبر). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 408، "مجاز القرآن" 1/ 92، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 ب. (¬8) من قوله: (كل ..) إلى (.. وبلغك): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 408. (¬9) في (أ): (كنسبة)، والمثبت من بقية النسخ. (¬10) في (ج): (فتلقاني).

فإن قيل: أيجوز (¬1) (بلغني البلدُ) في موضع (بلغْتُ البلدَ)؟ قيل: إنما جاز في الكِبَرِ؛ لأن الكبَر بمنزلة الطالب، فهو يأتيه بحدوثه (¬2) فيه، والإنسان (¬3) أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه، ولا يجوز مثل ذلك في البلد، وليس الكبَر بمنزلة البلد، إنما هو بمنزلة: القول، والعطاء، والإفضال (¬4)، والعقاب؛ فكما يجوز: (بلغني عطاؤك)، و (بلَغَتْ زيداً (¬5) جائزتُكَ)، (وبلغ عبدَ اللهِ عقابُكَ)، جاز أن يكون (¬6) البلوغُ منسوباً (¬7) إلى الكِبَر (¬8). قال ابن عباس في رواية الضحاك (¬9): كان زكريا يوم بُشِّر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمانٍ وتسعين سنةً. وقوله تعالى: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}. العاقِر (¬10) من النساء: التي لا تلد. يقال: (عَقُرَت، تعْقُرُ، عُقْراً، وعَقارةً) (¬11). أنشد الفراء: ¬

_ (¬1) في (ج): (تحوز)، وفي: (د) (لا يجوز). (¬2) من قوله: (بحدوثه ..) على: (.. أيضًا يأتيه): ساقط من (ج). (¬3) في (د): (والإنصاف). (¬4) في (د): (والاتصال). (¬5) في (ج): (زيد). (¬6) (أن يكون): ساقط من (ج). (¬7) في (أ)، (ب): (منصوبًا)، والمثبت من: (ج)، (د). (¬8) انظر: "تأويل مشكل القرآن" 193 - 198، فقد جعل هذا من المقلوب، وهو أن يقدم ما يوضحه التأخير، ويؤخر ما يوضحه التقديم. (¬9) الأثر في "تفسير الثعلبي" 3/ 48 ب، "تفسير البغوي" 2/ 35، "زاد المسير" 1/ 385. (¬10) (العاقر): ساقطة من (د). (¬11) في (ب): (وعقارا).

إرْزامَ نابٍ عقُرت أعواماً ... فَعَلِقَتْ بُنَيَّها (¬1) تَشْماما (¬2) ويقال أيضًا: (عَقُرَ الرجلُ، وعَقَرَ، وعَقِرَ) (¬3): إذا لم يُحمل له. و (رجلٌ عاقرٌ) (¬4). قال عامرُ بن الطُّفَيْل (¬5): ¬

_ (¬1) في (د): (فعقرت بنتها). (¬2) في (ج): (تسماما). لم أقف على قائله، وقد أورد الثعلبي في "تفسيره" 3/ 48 ب، قائلًا: (وأنشد الفراء) وذكره، وأورده السمين الحلبي في "الدر المصون" وقال: (وأنشد الفراء) وذكره. وروايته في "الدر المصون". أرزامُ باب عقُرت أعواما ... فعلقت بُنَيَّها تسماما ومعنى (الإرزام): الصوت الذي لا يُفْتَح به الفمُ، ومنه: (الرَّزَمة)، وهو: ضرب من حنِين الناقة على ولدها حين تَرأمُهُ، يقولون: (أرْزَمَت الناقةُ إرْزامًا). وقيل: هو دون الحنِين، والحنِينُ أشدُّ من الرَّزَمَةِ. و (النابُ)، و (النَّيُوب): الناقة المسنة، سُمِّيت بذلك حين طال نابها وعظُمَ. انظر: "اللسان" 3/ 1637 (رزم)، 8/ 4591 (نيب). أي: أنَّ هذه الناقة المسنَّة، والتي نُتِجَتْ بعد أن كان عاقرًا لمدة أعوام، فإنها تحن على وليدها، مصدرة صوتًا يدل على رحمتها، وشغفها وتعلقِّها به، ولا تنشب تَشَمُّ هذا الوليد تَشْماما المرة بعد الأخرى. (¬3) (وعقر): ساقط من (د). (¬4) انظر (عقر)، في "تهذيب اللغة" 3/ 2514، "اللسان" 5/ 3034. والقياس في (فَعُلَ) الثلاثي المجرد، أن يكون مضارعه (يَفْعُل). أما (فَعَلَ) من المجرد الثلاثي الصحيح، الذي عينه أو لامه ليست من حروف الحلق، فمضارعه يأتي على (يَفْعِل) و (يَفْعُل). انظر: "المزهر" 2/ 37 - 38. (¬5) هو: عامر بن الطفيل بن مالك العامري. أحد فرسان العرب المشهورين، وابن عم لَبِيد الشاعر، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُسْلِم، وهو الذي غدر بالصحابة عند بئر معونة سنة (4هـ)، وحاول قتل النبي فعصمه الله منه، ودعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأهلكه الله. انظر: "الشعر والشعراء" ص207، "معجم الشعراء" 37، "الأعلام" 3/ 252.

لبئس الفتى إنْ كنتُ أعورَ عاقرًا ... جبانًا فما عذري لدى كلِّ مَحْضَرِ (¬1) قال أبو إسحاق (¬2): قوله: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}، في هذا دليل على أن (عاقرًا) (¬3) وقع على جهة النَّسَب (¬4)؛ لأنَّ (فَعُلَت) أسماء (¬5) الفاعلين فيه على (فَعِيلَة) نحو: (ظَريفة) (¬6)، و (كَريمة)؛ وإنما (عاقر) على: (ذات عُقْرٍ) (¬7)، ¬

_ (¬1) البيت في: "ديوانه": 64، كما ورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" 2/ 92، "تفسير الطبري" 3/ 257، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: 1/ 203، "تفسير الثعلبي" 3/ 48ب، "المحرر الوجيز" 3/ 107، "تفسير القرطبي" 11/ 79، "الدر المصون" 3/ 162. وورد غير منسوب في "الزاهر" 2/ 582. وروايته في الديوان: (فبئس ..)، وفي "الزاهر" (.. فما أغني لدي كل مشهد)، وفي "المذكر والمؤنث" (.. فما أغني لدي كل محضر). قال الشاعر هذا البيت ضمن أبيات في وقْعَةٍ دارت في موضع يُسمَّى (فَيْفَ الريح)، وقد ذهبت عَيْنُه في هذه المعركة، فاجتمع له العَورُ والعُقْمُ، فيقول هنا: إنه بئس الفتى إن كان يجمع إلى العور والعقم، الجُبنَ، والمهابَةَ من العدو، حيث لا يُعذَر بعدها. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 408، نقله عنه بنصه. (¬3) في (ب): (عاقر). (¬4) أي مما جاءت النسبة فيه على صيغة (فاعل)، مثل: تامِر، ولا بِن، وحائِك، وكاسٍ؛ بمعنى: صاحب تمْرٍ، وصاحب لبنٍ، وصاحب حياكة، وصاحب كساء. فعاقر، بمعنى: ذات عُقْر. (¬5) في (ج): (اسما)، وفي (د): (اسم). (¬6) في (أ)، (ب): (طريقة)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "معاني القرآن" للزجاج؛ لأن (طريقة) من: (طَرَقَ) وليست من. (طَرُقَ)، كما أن (طريقة) تأتي على (مفعولة) بمعنى (مطروقة). (¬7) في (أ): (عُقَر). وفي بقية النسخ، مهملة من الشكل. وما أثبَتُّه هو ما استصوبته. والعُقْر: العُقْم. يقول السمين الحلبي بعد أن نقل كلام الزجاج السابق: (وهذا نصٌّ من أن الفعل =

و (رجالٌ ونساءٌ عُقُرٌ) (¬1) وفي الحديث: (عُجُزٌ عُقُرٌ) (¬2). ويقال: (أعقَر اللهُ [رحِمَها]) (¬3)، فهي (مُعْقَرَةٌ). و (رملٌ (¬4) عاقِر): لا يُنبِت شيئاً (¬5). ¬

_ = المسند للمرأة، لا يقال فيه إلّا (عقرت) بضمِّ القاف، إذ لو جاز فتحها أو كسرها لجاز منها (فاعِل) من غير تأويل على النسب). "الدر المصون" 3/ 162. ولكن ورد في "اللسان" (وقد عَقُرَت المرأة عَقارةً، وعِقارة، وعَقَرت تَعْقِر عَقْرا، وعُقْرا، وعَقِرت عَقارًا، وهي عاقر) 5/ 3033 (عقر). وعليه فإنه يصح أن يأتي منها صفة مشبهة باسم الفاعل. (¬1) عقر: ساقطة من (ج). و (عُقُر)، و (عُقَّر) و (عواقر)، جمع: عاقر. انظر العين: 1/ 150، "النهاية في "غريب الحديث" 3/ 186، "اللسان" 5/ 3033 (عقر). (¬2) العُجُز: جمع (عَجوز). ولم أهتد إلى مصدر الحديث بهذا اللفظ في كتب السنة. وقد أورده الخليل في: "كتاب العين" 1/ 150، وقال: وفي الحديث: "عُجْزٌ عُقُرٌ" بتسكين العَيْن في (عجز)، وورد في "النهاية في "غريب الحديث" 3/ 186، بلفظ: "إيَّاكم والعُجُز والعُقُر"، ولم يخرِّجه. وقد وقفت على حديث آخر قريب من معنى هذا الحديث، وهو: عن عياض بن غنم الفهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يا عياض لا تَزَوَجَّن عجوزًا ولا عاقرا، فإني مكاثر بكم الأمم". أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 290 - 291. كتاب معرفة الصحابة، وصححه، وتعقبه الذهبي بأن في سنده معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 17/ 368 رقم (1008). قال الهيثمي: (وفيه معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف) "مجمع الزوائد" 4/ 258، وأورده ابن حجر في "الإصابة" 3/ 50 وضعَّفه؛ لأن في سنده عمرو بن الوليد الأغضف، وزاد نسبة إخراجه لأبي نعيم، وأورده ابن حجر الهيثمي المكي في كتاب "الإفصاح" عن أحاديث النكاح): 160. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (امرأته)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "اللسان" 5/ 3034 (عقر). والعبارة في (ج): (أعقرها الله رحمها)، وفي (د): (أعقر رحمها). (¬4) في (ج): (ورجل). (¬5) انظر: "اللسان" (عقر) 5/ 3034.

41

وذَكر (¬1) زكريا عليه السلام عُقْرَ زوجته مع كِبَر نفسه؛ لزيادة ترجيحٍ في الاستبعاد، فلمَّا استفهم عن (¬2) كيفيَّة حال الولادة؛ قيل له: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}؛ أي: مثل ذلك من الأمر، وهو: هبة الله الولدَ على الكِبَر، يفعل الله (¬3) الذي يشاؤه، فسبحان من لا يعجزه شيء. 41 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} قال المفسرون: إنَّ زكريا عليه السلام لمَّا بُشِّر بالولد، سأل الله تعالى علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته؛ ليزيد في العبادة؛ شكراً (¬4) على هبة الولد (¬5)، فقال الله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}. أي (¬6): علامة ذلك أن تمسك (¬7) لسانك عن الكلام، وأنت صحيح سَوِيٌ، لأنه قال في موضع آخر: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]؛ أي: وأنت سَوِي. ¬

_ (¬1) في (ج): (وذكرنا). (¬2) في (أ): غير مقروء، وفي (ب): (استبعد من). والمثبت من: (ج)، (د). (¬3) (الله): ليس في: (ج). (¬4) في (ب): (ذكرا). (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 49 أ، "تفسير البغوي" 2/ 36، "زاد المسير" 1/ 386. (¬6) من قوله: (أي ..) إلى: (أي: وأنت سوي): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 409. (¬7) في "معاني القرآن" للزجاج: (يُمْسَك لسانُك)، وهي الأصوب؛ لأن قوله بعدها: (وأنت صحيح سوي) لا تتناسب مع فعل (تمسك)، المبني للمعلوم، كما أن الآثار بعدها تدل على ذلك، وكذلك ما رواه الحاكم عن ابن عباس قال: (يُعتقَلُ لسانُك من غير مرض وأنت سوي) "المستدرك" 2/ 291 كتاب التفسير. وصححه، ووافقه الذهبي. وروى عن نوف البكالي: (فختم على لسانه ثلاثة أيام ولياليهن، وهو صحيح لا يتكلم). المرجع السابق: 2/ 591 كتاب التاريخ، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 388.

قال الحسنُ (¬1)، وقتادة (¬2)، والربيع (¬3): أُمسِك لسانُه ثلاثةَ أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلاَّ إيماءً، وجعل ذلك علامةَ حملِ امرأتِه. و (الرَّمْزُ): الإيماء بالشَّفَتين، والحاجِبَيْن، والعينين؛ يقال: (رَمَزَ، يَرمُزُ، وَيرْمِزُ)، ومنه قيل للفاجرة: (رامِزَةٌ)، و (رمَّازَةٌ) (¬4)؛ لأنها تَرمُز وتُومِئ (¬5)، ومنه الحديث: أنه (نهى عن كسب الرَّمَّازة) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 12، "تفسير الطبري" 3/ 259، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 646، "تفسير البغوي" 2/ 34، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 40، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) قوله، في "تفسير الطبري" 3/ 259، "المحرر الوجيز" 3/ 108. (¬4) (ورمازة): ساقطة من (د). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 213، "تأويل مشكل القرآن" 489، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 409، "تفسير الطبري" 3/ 260، "تهذيب اللغة" 2/ 1467 (رمز)، "الصحاح" 3/ 880 (رمز). (¬6) الحديث ورد بلفظ آخر، أخرجه البيهقي في "السنن" 6/ 126. ولفظه عنده: (عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، ومهر الزَّمّارة). وأخرجه البغوي في "شرح السنة" 8/ 22 - 23 رقم (2038)، عن أبي هريرة بنحوه إلا أنه فيه (.. وكسب الزمّارة). وأخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 204 بنحوه وذكر محقِّقُ الكتاب في الهامش سندَ الحديث، من نسخة أخرى لكتاب "الغريب". وأورده اليزيدي في "ما اتفق لفظه واختلف معناه": 155، والأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1468 (زمر)، وابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" 20/ 312. وفي كل المصادر السابقة ورد (الزَّمّارة) بدلا من: الرَّمّازة). وأشار البغوي، وأبو عبيد، وابن الأثير، والأزهري إلى أن الحديث رواه البعض بلفظ: (الرمّازة). وقال أبو عبيد: (قال الحجاج: (الزمّارة): الزانية .. وقال بعضهم: (الرمّازة). وهو عندي خطأ في هذا الموضع. =

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا}. إن (¬1) قيل: إذا مُنع من (¬2) الكلام، واضطُرَّ إلى الإشارة، كيف يقدر على التسبيح؟ قيل (¬3): إنَّ الله تعالى حبس لسانه عن التَّكلم بأمور (¬4) الدنيا، وما يدور بين الناس، ولم يُحبس لسانه عن التسبيح. فكانت هذه أبلغ في الأعجوبة من أن يُمنع من (¬5) كلِّ ما يجري ¬

_ = أما (الرَّمَازة) في حديث آخر؛ وذلك أن معناها مأخوذ من (الرَّمْز)، وهي التي تومئ بشفتيها أو عينيها، فأي كسب لها ههنا ينهى عنه؟ ولا وجه للحديث إلا ما قال الحجاج: (الزمارة). وعقب ابنُ قتيبة على هذا الكلام بقوله: (الصواب (الرَّمازة)؛ لأن من شأن البَغِيَّ أن ترمز بعينها أو حاجبها). "تهذيب اللغة" 13/ 207. وصوب الأزهريُّ قول أبي عبيد، وكذا قال البغوي: (والأصح تقديم الزاي). "شرح السنة": 8/ 23. ومن الناحية اللغوية، فإن (الزمارة) و (الرمازة) كلامها هنا بمعنى الفاجرة، إلا أن (الزَّمّارة) يُحتمل أن تكون كذلك بمعنى المرأة المُغَنِّيَة. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1467، 1555 (رمز، زمر)، وانظر قول ابن قتيبة في هامش "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 342 نقله المحقق عن كتابه "إصلاح الغلط" مخطوط: ص 3، فقد أسهب في بيان هذا المعنى. وورد الحديث بلفظ: (الزمارة) في كتاب "أحاديث ذم الغناء في الميزان" لعبد الله الجديع: 50 - 51 وعزا تخريجه للمحاملي في "الأمالي" وابن عدي، وابن طاهر في: كتاب السماع. وأورده في ص: 155 بلفظ: (أخبث الكسب كسب الزمارة)، وعزا إخراجه لابن أبي الدنيا في: "ذم الملاهي". وذكر الجديعُ إسنادَه، وحكم عليه بأنه ضعيف جدًّا. (¬1) في (ج): (أي). (¬2) (من): ساقطة من: (ب). (¬3) في (ج)، (د) (فيقال). (¬4) في (ب): (بكلام). (¬5) في (د): (عن).

به اللسانُ (¬1). وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} أي: صَلِّ لله تعالى. والصلاة تُسَمَّى تسبيحا (¬2)، لأن الصلاة يُوَحَّد فيها الله تعالى، وُينَزَّه، ويُوصف بكلِّ ما يُبَرِّئه من السوء (¬3). و (العَشيُّ): آخر النهار، جمع (عَشِيَّة) (¬4). و (الإبكار) مصدر: (أَبْكَرَ: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 8/ 44، 21/ 191، "غرائب القرآن" 3/ 185، "أضواء البيان" 1/ 341. (¬2) في (ج)، (د): (سبحة). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 409، فقد نقل عنه المؤلفُ بعض العبارات في تفسيرالتسبيح. قال الراغبُ: (والتسبيح تنزيه الله تعالى. وأصله: المرُّ السريع في عبادة الله تعالى .. وجُعِل التسبيح عامًّا في العبادات، قولًا كان، أو فعلًا، أو نِيَّة). "مفردات ألفاظ القرآن" 392 (سبح). وتفسير التسبيح هنا بالصلاة، قال به مجاهد، ومقاتل. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 646، "زاد المسير" 1/ 386. (¬4) قال الخليل: (العَشيُّ: آخر النهار. فإذا قلت: (عَشيَّة) فهي ليوم واحد، تقول: (لقيته عَشِيَّة يوم كذا)، و (عشِيَّة من العشيَّات". كتاب "العين": 2/ 188 (عشى). وفي "القاموس" (والعشيُّ، والعَشيَّة: آخر النهار، والجمع: عَشايا، وعَشِيَّات) ص 1311 (عشا). وعند الراغب: أنَّ العشي من زوال الشمس إلى الصباح. وعند الطبري: أن العشي من زوال الشمس إلى المغيب. وقال السمين الحلبي عن هذا القول: (هو المعروف). وعند الجوهري: أن العشي (من صلاة المغرب إلى العتمة، تقول: أتيته عشيَّ أمس، وعشيَّة أمس). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 262، "الصحاح" للجوهري 6/ 2426 (عشا)، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب 567 (عشا)، "الدر المصون" 3/ 167، "تاج العروس" 19/ 677 (عشا).

إذا صار في وقت البُكرة (¬1)، أو سار (¬2) فيه، ومثله: (بَكَر)،و (ابتَكَر) (¬3) , و (بَكَّر)، قال عمر بن (¬4) أبي ربيعة: أمِنْ آل نُعْمٍ أنت غادٍ (¬5) فَمُبْكِرُ (¬6) وقال أيضًا: أيُّها الرائِحُ المُجِدُّ ابتكارا (¬7) ¬

_ (¬1) البكرة: هي أول النهار. انظر: "عمدة الحفاظ" للحلبي 59 (بكر) وقال: (وقد اشتُق منها لفظ الفعل، فقيل: (بكر فلان في حاجته)؛ أي: خرج بُكرَة والبُكور: الخروج بُكرة، والبَكور بالفتح: المبالغ في البكور. ولتَقَدُّمِها على سائر أوقات النهار؛ استعمل منها كلّ متعجل، وإن لم يكن في ذلك الوقت، فقيل: بَكر فلان في حاجته، وابتكر، وباكر مُباكرةً). (¬2) في (ب): (صار). (¬3) في (د): (فابتكر). (¬4) في (د): (عمرو ابن). (¬5) في (أ)، (ب): (حا)، في (د): (عاد). والمثبت من: (ج) لموافقته للديوان، وبقية المصادر. (¬6) في (ج): (فمنكر)، وفي (د): (فمسكر). البيت في: "ديوانه" 92. وورد في "تفسير الطبري" 3/ 262، "المحرر الوجيز" 3/ 111. وتمامه: غَداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ و (نُعْم): امرأة من قريش من بني جمَح. و (غادٍ)؛ أي: سائر في وقت الغَداة، وهو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، وأراد أول النهار. و (مُبْكِر)، من (التبكير)، وهو: الخروج بُكرةً، وهو: أول النهار. و (مُهَجِّرُ)، من التهجيِر؛ أي: السير في وقت الهاجرة، وهو: نصف النهار، عند زوال الشمس، حال اشتداد الحرِّ. انظر: "القاموس" ص 352 (بكر)، ص 1317 (غدو)، ص 495 (هجر). (¬7) من الشعر المنسوب لعمر بن أبي ربيعة. انظر: "ديوانه" 493 وتمامه: قَدْ قَضى مِن تِهامة الأوطارا

42

وقال زُهير: بَكَرَنَ بُكوراً واسْتحَرْنَ بِسُحْرةٍ (¬1) و (باكرت الشيء): إذا بكَّرت له، قال لَبيد: [باكرْتُ حاجَتَها الدجاجَ بسُحرةٍ (¬2) هذا معنى (الإبكار)، ثمَّ يُسَمَّى ما بين طُلوعِ] (¬3) الفجر إلى الضحى: إبكاراً، كما يُسَمَّى: إصباحاً (¬4). 42 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ}. هذا عطف على قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} (¬5)، وذكرنا العامل في {إذْ} هناك. وأراد ¬

_ (¬1) في (أ): حرة (بدلا من بسحرة)، والمثبت من بقية النسخ، ومن "ديوانه": ص 10، وقد سبق ورود البيت عند قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]. (¬2) (باكرت حاجتها الدجاج بسحرة): ساقط من (د). وهذا شطر بيت، وتمامه: لأُعِلَّ منها حين هبَّ نيامُها وهو في: "ديوانه": 315. وقد ورد البيت منسوبا له، في "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 577، "تهذيب اللغة" 1/ 376 (بكر)، "شرح القصائد العشر" للتبريزي 163، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: 244، "اللسان" 3/ 1328 (دجج)، 1/ 332 (بكر)، 3/ 1879 (زهف). وروايته في "الديوان": (بادرت حاجتها)، ويروى: (بادرت لذتها)، و (أن يهب نيامها). قال الأزهري في معناه: (أي: بادرت صقيع الديك سحرًا إلى حاجتي)، أي: حاجتي في الخمر، وأضاف الحاجة إلى الخمر اتِّساعًا؛ أي: بادرت بشربها صياح الدَّيَكة. و (لأعِلَّ منها)؛ أي: أشرب مرَّة بعد مرَّة، من (العَلَل)، وهو: الشرب مرَّة ثانية. و (حين هبَّ نيامها)؛ أي: وقت استيقاظ النيام بالسَّحَرِ، يعني: أنه ذهب بليل. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬4) انظر المعاني السابقة، في "تفسير الطبري" 3/ 262، "اللسان" 1/ 332. (¬5) فيكون العامل في {إِذْ}، هو: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} من آية 34، وإليه ذهب الطبري في "تفسيره" 3/ 263. =

بـ {الْمَلَائِكَةِ}: جبريل وحده كما ذكرنا (¬1). وهذا كقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2]، يعني: جبريل وحده (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ}. أي: بما لطف لكِ [حتى] (¬3) انقطعتِ إلى طاعته، وصرت متوفرة (¬4) على اتباع مرضاته. {وَطَهَّرَكِ}. قال ابن عباس (¬5): أي: من ملامسة الرجال. وقيل: من الحيض، والنفاس، كانت مريم لا تحيض (¬6). {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}. قال الأكثرون (¬7): ¬

_ = وقيل العامل فيها: فعلٌ مُضْمَرٌ تقديره: (واذكر) ورجَّح هذا ابن عطية. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 112، "التبيان" للعكبري ص 188. (¬1) (ذكرنا): ساقط من (د)، وانظر تفسير قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} من آية 39 من سورة آل عمران. (¬2) وهذا قول ابن عباس -رضي الله عنه-، كما في "المحرر الوجيز" 8/ 367، "غرائب القرآن" 3/ 190، "تفسير أبي السعود" 5/ 95. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬4) في (ب): (متفرغة). (¬5) لم أهتد إلى مصدر قوله، وهو مذكور في "زاد المسير" 1/ 387. (¬6) هذا قول السدي، وعكرمة، وهو في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 647، "تفسير الثعلبي" 3/ 49ب. وفي "زاد المسير" 1/ 387 أنه قولٌ لابن عباس. وقال مجاهد: (جعلك طيبة إيمانًا)؛ أي: طهَّرَ دينك من الرّيَب والدَّنَسِ. انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 127، "تفسير الطبري" 3/ 264، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 647، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 42 وعزا إخراجه كذلك لعبد بن حميد، وابن المنذر. قال الآلوسي: (والأوْلى: الحمْلُ على العموم؛ أي: طهَّرك من الأقذار الحسِّيَّة والمعنوية والقَلْبِيَّة والقالبية). "روح المعاني" 3/ 155. (¬7) ممن قال بذلك ابن عباس، والحسن، وابن جريج، والسدِّي، واختاره ابن جرير في "تفسيره" 3/ 262، وانظر: "تفسيره" كذلك 3/ 263، "زاد المسير" 1/ 387،=

43

معناه: على عالَمي زمانها؛ بأن فضلت عليهن (¬1). قال أبو إسحاق (¬2): وجائز أن يكون على نساء العالمين كلِّهم؛ لأنه ليس في النساء امرأة وَلَدت من غير أبٍ (¬3) غير مريم؛ ولأنها (¬4) قُبِلت في التحرير للمسجد (¬5)، ولم يكن التحرير في الإناث، فهي مختارة على النسوان كلِّهنَّ، بما لها من الخصائص (¬6). وكرَّر الاصطفاء (¬7)، لأن كلا (¬8) الاصطفائين مختلفٌ (¬9) معناهما: فالاصطفاء الأول: عمومٌ يدخل فيه صوالحُ النساء، والثاني: اصطفاء بما اختُصَّت به من خصائصها. 43 - قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}. ذكرنا معنى القنوت فيما تقدم (¬10). قال مجاهد: معناه: أطيلي القيام في الصلاة (¬11). ¬

_ = وقال: (قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين)، وقال الشوكاني عن هذا القول: (وهذا هو الحق). "فتح القدير" 1/ 510. (¬1) في (ج): (عليهم). (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 410. (¬3) في (د) شطب على كلمة (أب) وكتب عليها: (زوج). وُيراد هنا: أنها ولدت عيسى من غير أبٍ. (¬4) في (ج): (لأنها). (¬5) في (ج)، (د): (في التحرير للمسجد). (¬6) وقد رجَّح هذا الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 48، والقرطبي في "تفسيره" 4/ 82. (¬7) في (د): (وذكر الاصطفاء عموم). (¬8) في (أ)، (ب)، (د): (كلي)، والمثبت من: (ج) ومن "الدر المصون" 3/ 170 حيث نقل عبارة الواحدي. (¬9) في (ج)، (د): (يختلف). (¬10) انظر تفسير آية:116، 238 من سورة البقرة، و 17 من سورة آل عمران. (¬11) قوله، في "تفسير الطبري" 3/ 265، ولكن لفظه: (قال: أطيلي الرُّكود؛ يعني:=

وقال ابن عباس: يريد: قومي للصلاة بين يدي ربِّكِ (¬1). وقوله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي}. يقال: لم قدَّم الأمرَ بالسجود على الركوع، وهو قبل السجود؟ قيل: (الواو) عند النحويين للجمع لا للترتيب (¬2)، وليس فيه دليل على المبدوء به. ¬

_ = القنوت). وأورد الأثر عنه السيوطي في "الدر" 2/ 195 ونسب إخراجه كذلك إلى عبد بن حميد. ومعنى الرُّكود: السكون والثبات. انظر: "القاموس المحيط" 283 (ركد). وعند الطبري، عن الربيع: (قال القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة، يقول: اركدي لربك؛ أي انتصبي له في الصلاة) "تفسير الطبري" 3/ 265، وكذا رواه الربيع عن أبي العالية كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 648. وقال ابن عطية: (معناه: أطيلي القيام في الصلاة وهذا هو قول الجمهور .. وبه قال مجاهد وابن جريج والربيع). "المحرر الوجيز" 3/ 115. (¬1) الذي وقفت عليه عن ابن عباس، قوله في الآية: (يعني: صلِّي لربِك) من رواية إسحاق بن بشر، وابن عساكر، أوردها السيوطي في "الدر" 2/ 43. وقد ورد عن سعيد بن جبير في معنى {اقْنُتِي}: قوله: (أخلصي لربك). وعن قتادة، والسدِّي، وابن زيد: (أطيعي ربَّكِ)، وعن الحسن: (اعبدي ربكِ). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 265، "زاد المسير" 1/ 387. وقد جمع بينهما الطبري، فقال: (فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربِّكِ لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له مِن خلقه؛ شكرًا له على ما أَكرَمَكِ به من الاصطفاء والتطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالَم دهرِكِ) تفسيره: 3/ 266. وانظر ما سبق من تعليق على قوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ} في آية 17. (¬2) هذا هو مذهب جمهور النحويين وأئمة الأصول والفقه. وذهب آخرون إلى إفادتها للترتيب، ومن هؤلاء: قطرب (ت: 209 هـ)، وهشام بن معاوية الضرير (ت: 209 هـ)، وأبو جعفر الدينوري (ت: 289 هـ)، والرَّبعي (ت: 420 هـ)، وقد عزاه بعض المؤلفين إلى الإمام الشافعي. إلا أن صلاح الدين العلائي قال: (والحق أن ذلك ليس قولًا له، بل هو وجه في المذهب، قال به جماعة من الأصحاب). "الفصول المفيدة في الواو المزيدة" للعلائي 69. انظر بيان هذا الأمر في =

قال أبو الفتح الموصلي (¬1): واوُ العطفِ (¬2)، ليس فيها دليل على المبدوء به في المعنى؛ لأنها ليست مُرَتِّبةً، يدلُّ على ذلك قولُ لَبيد: أُغْلي السِّباءَ (¬3) بكلِّ أدكنَ عاتقٍ (¬4) ... أو جَوْنَةٍ قُدِحتْ وفُضَّ خِتامُها (¬5). ¬

_ = "المقتضب" للمبرد 1/ 10، "الكامل" له 2/ 18، 3/ 185، "الأصول في النحو" لابن السراج: 2/ 55، وكتاب "المعاني الحروف" للرماني 6059، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 334 - 335، "رصف المباني" 474 - 475، "ارتشاف الضرب" لأبي حيان: 2/ 633، "الجنى الداني" للمرادي: 160158، "مغني اللبيب" 463 - 464، "البرهان" للزركشي 4/ 436، "همع الهوامع" 2/ 129. (¬1) في "سر صناعة الإعراب" 632، نقله عنه باختصار وتصرف. وأبو الفتح الموصلي، هو: عثمان بن جِنِّي. من أئمة النحو والأدب والتصريف، تتلمذ على أبي علي الفارسي وصحبه أربعين سنة، استوطن بغداد، ودرّس بها إلى أن مات، من كتبه "الخصائص"، "المنصف" وغيرها. توفي ببغداد سنة (392 هـ). انظر: "نزهة الألباء" 244، "إنباه الرواة" 2/ 335 , "معجم الأدباء" 3/ 461. (¬2) في (ج): (الفتح). (¬3) في (أ)، (ب): (أعلى السب). (ج): (أعلى النسا). والمثبت من: (د)، ومن "سر صناعة الإعراب" والديوان. (¬4) في (ج): (عايق). (¬5) البيت في: "ديوان لبيد" 314. وقد ورد في "سر صناعة الإعراب" 632، "شرح القصائد العشر" للتبريزي 162، "شرح المفصل" 8/ 92، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص109، "رصف المباني" 474، " الفصول المفيدة" للعلائي 77، "اللسان" 6/ 35452 (قدح)، 5/ 2800 (عتق)، 3/ 1406 (دكن). ومعنى قوله: (السِّباء): شراء الخمر، من: (سَبَأ الخمرَ): إذا اشتراها للشرب. ومعنى قوله: (أغْلِي)؛ أي: أشتريها غالية. =

وإنما يُفتح ويفض: الختم قبل الغَرْف (¬1)، فقد علمت أن (قُدِحت) مُقَدَّم في اللفظ، مُؤَخَّرٌ في المعنى، كذلك ههنا بدأ بالسجود لفظاً، وهو مؤَخَّرٌ معنى، والكلام في هذه المسألة يُذكر (¬2) عند قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية. قال (¬3) ابن الأنباري (¬4): أمَرها أمراً عاماً، وحضَّها على أفعال الخير، فكأنه قال: استعملي السجود في حال، واستعملي الركوع في حال، ولم يذهب إلى أنهما يجتمعان، ثمَّ يُقدَّم السجودُ على الركوع؛ بل أراد العموم بالأمر على اختلاف الحالين (¬5). وقوله تعالى: {مَعَ الرَّاكِعِينَ}. ولم يقل مع الراكعات؛ لأن الراكعين ¬

_ = وقوله: (أدْكَنَ عاتِقٍ): العاتق: زِقُّ الخمر الواسع. والأدْكَن: الأغبر اللون بين الحمْرَةِ والسَّوادِ، أو أراد: بكلِّ أدكنَ عاتقٍ خمرُهُ التي فيه. و (الجَوْنَة): الزِّقُّ الأسود المَطْلِيُّ بالقار. وقوله: (قُدِحت): (غُرِفَت). وقوله: (فُضَّ ختامُها)؛ أي: كُسِرَ خاتَمُها، وهو الطينُ الذي خُتِمَ به فوهُها. والشاهد فيه قوله: (قُدِحت وفُضَّ ختامُها)، على أنَّ واو العطف هنا لا تعني ترتيب الفضّ بعد القدح وهو الغرف، حيث إنها تُفَضُّ أولًا ثمَّ تُغرَف. (¬1) في (ج): (الغرق). (¬2) في (ب): (نذكر). وفي (ج): (نذكره). (¬3) في (ج)، (د): (وقال). (¬4) لم أهتد إلى مصدر قوله. وقد أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 388. (¬5) وقال أبو سليمان الدمشقي: إنه كذلك كان في شريعتهم، يُقدَّمُ السجود على الركوع. ويرى الفخر الرازي أنه قُدِّم لرتبته وفضيلته؛ حيث إنَّ غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدًّا. انظر: "زاد المسير" 1/ 388، "تفسير الفخر الرازي" 4/ 48.

44

أعمُّ؛ لوقوعه على الرجال والنساء إذا اجتمعوا، والراكعات يختصُّ بالنساء، فكان (¬1) الأعم أولى. ومعنى قوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: افعلي كفعلهم. وقيل: المراد به: الصلاة في الجماعة (¬2). قال المفسرون (¬3): كلَّمت الملائكةُ بهذا مريَم شفاها، فقامت مريمُ في الصلاة حتى ورمت قدماها، وسالتا دماً، وقيحاً. 44 - قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}. أشار إلى ما قصَّ من حديث زكريا، ومريم، ويحيى. وقوله تعالى: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [أي] (¬4): نلقيه إليكَ (¬5). و (الإيحاء) في اللغة: إلقاء معنى الكلام إلى من تريد إعلامه؛ إما بإرسال رسول، أو بإلهام، أو بكتابة، أو بإشارة (¬6). فمن الإرسال: قوله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} (¬7) [النساء: 163]. ¬

_ (¬1) في (ج): (وكان). (¬2) وهو قول ابن عباس ومقاتل. ولفظ ابن عباس: (مع المصلِّين، مع قرَّاء بيت المقدس). أورده السيوطي في "الدر" 2/ 43 - 44 ونسب إخراجه لإسحاق بن بشر وابن عساكر. ولفظ مقاتل: (يعني مع المصلين في بيت المقدس). "تفسير مقاتل" 1/ 276. (¬3) هو قول ابن إسحاق، والأوزاعي. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 265، "تفسير الثعلبي" 3/ 49 ب، "تفسير القرطبي" 4/ 84. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬5) (إليك): ساقطة من (د). (¬6) انظر: "مقاييس اللغة": 6/ 93 (وحى)، "اللسان" 8/ 4787 (وحى). (¬7) في (ج) ورد بدلًا من هذه الآية، قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}.

ومن الإلهام: قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، ومن الإشارة: قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} [مريم: 11]، أي: أشار إليهم، وقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]، أي: يُلْقون إليهم بالوَسْوَسَة (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}. الأقلام: جمع (القَلَم)، و (القَلَم) (¬2) أصله من: (القَلْمِ)، وهو: قطع للطَّرَفِ (¬3)، يقال منه: (قَلَمْتُ الظُفُرَ) (¬4). والقَلَمُ: الذي يُكْتب به؛ بمعنى: مَقْلُوم؛ لأنه يُبْرى طرفُهُ. والقَلَمُ: القِدْحُ (¬5)، لانه يُسَوَّى بأن يُقْطع طرفاه (¬6). ¬

_ (¬1) جعل ابن قتيبة والثعلبي، وابن الجوزي (الإعلام بالوسوسة من الشيطان) وجهًا مستقلًّا من وجوه الوحي، وأوردوا هذه الآية دليلًا عليه، ويشهد لقولهم: أن الوحي لغة هو: إعلام في خفاء، كما أن إيحاء الجن والشياطين يكون عن طريق الوسوسة، كما قال تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]. أما مقاتل، وهارون بن موسى، وابن العماد فجعلوا هذه الآية شاهدا على أنَّ الوحي هنا يعني: الأمر. انظر: "تأويل مشكل القرآن" 489 - 490، "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى: 166. "الزاهر" 2/ 353، "تهذيب اللغة" 4/ 3852 (وحى)، "الأشباه والنظائر" للثعلبي: 267، "ونزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: 622، "والوجوه والنظائر في القرآن" د. القرعاوي: 649 - 651. (¬2) (والقلم): ساقطة من (ب). (¬3) في (ب): (الظفر). (¬4) ويقال كذلك: قَلَّمْتُ الظُفُر. انظر: "القاموس" 1151 (قلم). (¬5) القِدْح بالكسر: السهم قبل أن يُراش ويُنصل، والجمع: قِدَاح، وأقْدَاح، وأقْدُح، وأقاديح، وهي جمع الجمع. انظر: "تاج العروس" 4/ 164 (قدح). (¬6) انظر (قلم) في "تهذيب اللغة" 3/ 3037، "مقاييس اللغة" 5/ 15.

قال ابن عباس في رواية عطاء (¬1): هؤلاء كانوا جماعة من الأنبياء، اختلفوا واختصموا في مريم، كل واحد يقول: أنا أَوْلى بها، فقال زكريا: هي بنت عمِّي، وخالتها عندي. قالوا: فتعالوا حتى نَسْتَهِم (¬2). فجمعوا سهامهم، ثم أَتَوا بها إلى العَيْنِ، وقالوا: اللَّهمَّ، مَنْ كان أَوْلى بها فَلْتقُم سَهْمُهُ، ويغرق (¬3) البقيَّة. وأَلْقَوا سهامَهم، فارتَزَّ (¬4) قلَمُ زكريا، وانحدرت (¬5) أقلامُ الآخرين (¬6)، فقرعهم زكريا (¬7). وقال الزجَّاج (¬8): هي قِداحٌ جعلوا عليها علامات، يعرفون بها مَنْ يَكْفل مريمَ على جهة القرعة. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬2) في (أ)، (ب): (فتغالوا حتى نسيتهم)، والمثبت من: (ج)، (د). (¬3) في (ج): (وتغرق). (¬4) في (ب): (فارتد). وفي (ج): (فأدبر). وفي (د) مكانها بياض. (¬5) في (ب): (واتحدرت). (¬6) في (ب): (الباقين). (¬7) وقد وردت رواية قريبة من هذه الرواية عن ابن عباس، من طريق أبي مالك، وأبي صالح عنه، أخرجها البيهقي، وفيها: أنَّ هؤلاء المستهمين كانوا ممن يكتبون التوراة، ولم يرد فيها أنهم كانوا جماعة من الأنبياء. وورد فيها أنهم ألقوا أقلامهم التي يكتبون فيها في نهر الأردن، فجَرَت أقلامهم، وقام قلم زكريا كأنه مرتزُّ في طين. انظر: "سنن البيهقي": 10/ 286 - 287. كما ورد عن ابن عباس من طريق عطية العوفي، أنه: (اقترع عليها أهل المُصلَّى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفلها). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 268، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 649. (¬8) في "معاني القرآن" 1/ 410، نقله بنصه.

45

وقوله تعالى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. مختصر (¬1)؛ أي: لينظروا أيُّهم تجب له كفالة مريم (¬2). 45 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} قال ابن عباس: يريد: جبريل (¬3). {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}. يعني: عيسى، لأنه في ابتداء أمره كان كلِمَةً من الله ألقاها إلى مريم، ثمَّ كوَّن تلك الكلمة بَشَراً. قال الحسنُ (¬4)، وقتادةُ (¬5): لأنه كان بكلمة الله [تعالى] (¬6)، وهو: {كُنْ}، ومعنى هذا: أنه أوجده بالكلمة، وكونه بها، وهي قوله: {كُنْ} من غير توليد من فَحْلٍ، أو تنسيل من ذَكَرٍ، وهو معنى قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: 59]، ولم يُردْ -والله أعلم- أنَّ عيسى هو الكلمة نفسها، ألا تراه يقول: {اسمُهُ المَسِيحُ}، ولو أراد الكلمة لقال (¬7): (اسمها المسيح) (¬8). ¬

_ (¬1) في (د): (مختص). (¬2) نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 411. وانظر: "تفسير الطبري" 3/ 269، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 400. (¬3) لم أقف على مصدر قوله، وقد ورد في "زاد المسير" 4/ 428، "غرائب القرآن" 3/ 190، 4/ 44، وانظر: "المحرر الوجيز" 8/ 367. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 269 - 270، وأورده ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 389. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب). (¬7) في (أ)، (ب): (يقال). والمثبت من: (ج)، (د). (¬8) وهذا ما رجحه في "تفسيره" 3/ 270، ثم قال بعده: (ومعنى ذلك: أنَّ الله يبشِّركِ ببشْرى، ثم بيَّن عن البشرى أنها ولد اسمه المسيح).

وقيل: إنما سمَّاه كلمةً؛ لأن الله تعالى بشَّر به في الكتب السالفة، فلمَّا أوجده سمَّاه كلمة، كما يقول الذي يُخْبِرُنا بأمر كائن -إذا وُجِدَ ذلك الأمر-: (قد جاء قولي (¬1) وكلامي)، وقيل: لأن الله عز وجل يهدي به كما يهدي (¬2) بكلمته. وقيل: لأنه كان (يُكلِّم) (¬3) عن الله تعالى فيُبشِّر، ويُنْذر (¬4). وقوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ}. ذَكَر (¬5) الكنايةَ (¬6)؛ لأنه عنى بـ (الكلمة): عيسى، أو الولد، فرجعت الكناية إلى معنى الكلمة، لا إلى اللفظ. فإن قيل: كيف أخبر أن اسمه المسيح، وقدمه على اسمه المعروف، وهو: عيسى، وإنما لُقِّب بـ (المسيح) بعد نفاذ التسمية له بـ (عيسى)؟ قيل: إنَّ الأسماء ألقاب عُلِّقت على المُسمَّيات؛ للفصل بين الأعيان فإذا عُلِّق الاسم على المولود في وقت ولادته، ثمَّ شُهر بعد عُلُوِّ سنِّه (¬7) بلقب، كان اللقبُ أغلبَ عليه من الاسم، لأن من يعرفه به أكثر ممن يعرفه باسمه الحقيقي، فلهذه العلَّة قُدِّم المسيح على عيسى، ألا ترى أنَّ ألقاب ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (في قولي). والمثبت من: (ج)، (د). وهو الصواب؛ لأن المؤلف يريد أنَّ الأمر الكائن المتحقق هو نفس الكلام والقول الذي قاله. (¬2) كما يهدي: ساقط من (د). (¬3) في (ج): (تكلم). (¬4) لم أهتد إلى أصحاب الأقوال السابقة المصدر بقوله: (قيل)، ولا إلى مصادرها. (¬5) (ذكر): ساقطة من (د). (¬6) الكناية: الضمير. (¬7) في (أ)، (ب): (سته). والمثبت من: (ج)، (د).

الخلفاء أشهر وألزم لهم من أسمائهم (¬1). فأما معنى المسيح؛ فقال أبو عبيد (¬2) والليث (¬3): المسيح أصله بالعبرانية: [(مشيحا). فعرَّبته العربُ وغيرت لفظه، وكما قالوا (¬4): موسى، وأصله: (موشى)، أو (ميشى) بالعبرانية] (¬5)، فلمَّا أعربوه (¬6) غيَّروه (¬7)، فعلى هذا لا اشتقاق (¬8) له، وأكثر العلماء على أنه مشتق. قال ابن عباس في رواية عطاء والضحاك (¬9): وإنما (¬10) سُمِّيَ عيسى عليه السلام مسيحاً؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ (¬11). وقال أحمد بن يحيى (¬12): سمي مسيحاً؛ لأنه كان يمسح الأرض؛ أي: يقطعها. فعلى قول هؤلاء، هو: (فعيل) بمعنى: (فاعل)، وقيل: إنه (¬13) ¬

_ (¬1) نقل هذا القول ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 389، ونسبه لابن الأنباري. (¬2) قوله في "الزاهر" 1/ 493، "تهذيب اللغة" 4/ 3389 (مسح). (¬3) قوله في "تهذيب اللغة" 4/ 3388 (مسح). (¬4) في (د): (قال). والمثبت من (ج). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬6) في (ج)، (د): (عرُّبوه). ويجوز لغة: عربوه، وأعربوه. انظر: "اللسان" 5/ 2865 (عرب). (¬7) في (د): (وغيَّروه). (¬8) في (ج): (الاشتقاق). (¬9) ورد قوله هذا في "الزاهر" 1/ 394، "تهذيب اللغة" 4/ 3388 (مسح)، "تفسير البغوي" 2/ 38، "زاد المسير" 1/ 389، قال: (رواه الضحاك عن ابن عباس). (¬10) في (د): (إنما). (¬11) في (ج): (برأ). (¬12) هو ثعلب، وقوله في "الزاهر" 1/ 493، "تهذيب اللغة" 4/ 3388، "زاد المسير" 1/ 389. (¬13) (إنه): ساقطة من (د).

(فعيل) بمعنى: (مفعول) (¬1)، على أنه مُسِح من الأوزار، وطُهِّر (¬2). وقيل: لأنه خرج من بطن أمِّه ممسوحاً بالدهن (¬3). وقال الحسن (¬4)، وسعيد (¬5): لأنه مُسح بالبركة. وبهذا (¬6) قال مِنْ (¬7) أهل اللغة: شَمِر (¬8). وقال ابن الأعرابي (¬9)، وأبو الهيثم (¬10): المسيح بن مريم: الصدِّيق. قال أبو الهيثم (¬11): وضدُّ الصديق: المسيحُ الدجال؛ أي: الضلِّيل، الكذاب؛ خلق الله المسيحين، أحدهما ضد الآخر، فكان (¬12) المسيح بن مريم يُبْرِئ الأَكْمَهَ، والأبْرَصَ (¬13)، ويحيى الموتى بإذن الله، وكذلك ¬

_ (¬1) في (أ) وردت عبارة مكرَّرة هي: (وقيل: إنه فعيل بمعنى فاعل). (¬2) ممن قال بذلك الطبري في "تفسيره" 3/ 270 ونص قوله: (إنما هو ممسوح؛ يعني: مسحه الله فطهَّره من الذنوب؛ ولذلك قال إبراهيم: المسيح: الصدِّيق) فجعل الطبري من لوازم معنى الصدِّيق. ويعني بـ (إبراهيم)، هو: النخعي كما سيأتي معنا. (¬3) قال ابن الجوزي عن هذا القول: (قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم). "زاد المسير" 1/ 389. (¬4) لم أقف على مصدر قوله، وهو مذكور في "النكت والعيون" 1/ 394، "زاد المسير" 1/ 389. (¬5) "تفسير الطبري" 3/ 270، وذكره ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 389. (¬6) في (ب): (بهذا). (¬7) (من): ساقطة من (د). (¬8) "تهذيب اللغة" 4/ 3389. (¬9) في (د): الأعرابي. قوله، في "تهذيب اللغة" 4/ 33889 (مسح). (¬10) في (ج): أبو الهيثم، بدون واو العطف. وقوله في: المصدر السابق. وأبو الهيثم، هو خالد بن يزيد الرازي. (¬11) قوله في "التهذيب" 4/ 348. (¬12) في (ج): (وكان). (¬13) الأكْمَه: هو الذي يولد أعمى. وقد يقال لمن لم تذهب عينه. انظر: "معجم المفردات" للراغب: 459 (كمه).

الدجال، يحيي الميتَ، ويميت الحيَّ، وينشئ السحائب (¬1) [وينبت] (¬2) النبات، فهم المسيحان (¬3): مسيح الهدى، ومسيح الضلالة. قال [المنذري] (¬4): فقلت (¬5) له: بلغني أن عيسى [عليه السلام] (¬6)، إنما سُمِّي مسيحاً، لأنه [مُسح بالبركة، وسُمِّيَ الدجال مسيحا؛ لأنه] (¬7) ممسوح العين. فأنكره، وقال: إنما المسيح ضدَّ المسيح، يقال: مَسَحَه الله؛ أي: خلقه حَسناً مباركاً، ومَسَحَه (¬8)، أي: خلقه قبيحاً ملعوناً. وكان إبراهيم النخعي يذهب أيضاً (¬9) إلى أن المسيح، معناه: الصِّدِّيق (¬10). قال ابن الأنباري (¬11): وهذا القول لا يعرف (¬12) اللغويون مذهبه؛ ¬

_ = والبَرَصُ: مرض جلدي معروف، يصيب الجلد ببياض. انظر: "القاموس" 613 (برص). (¬1) في (د)، "تهذيب اللغة" السحاب. (¬2) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ) ومثبت من بقية النسخ، ومن "تهذيب اللغة". (¬3) في (ج)، (د)، "التهذيب": فهما مسيحان. (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). ومثبت من بقية النسخ، ومن "تهذيب اللغة". وقول المنذري في "التهذيب" 4/ 3389. وقد تقدمت ترجمته. (¬5) في (ب): (قلت). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)، ومن "التهذيب". وقول المنذري في "التهذيب" 4/ 348. (¬8) في (ب): (ومسخه). (¬9) (أيضًا): ساقطة من (ج). (¬10) "تفسير الطبري" 3/ 270، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 651، "الزاهر" 1/ 493، "التهذيب" 4/ 3389 (مسح)، "الدر المنثور" 2/ 45، وعزاه كذلك لابن المنذر. (¬11) قوله، في "تهذيب اللغة" 4/ 3389 (مسح). (¬12) في (ج): (لا يعرفه).

إذ (¬1) كانت لا تصف كلَّ صِدِّيق بـ (المسيح)، ولعل كان هذا مستعملاً (¬2) في بعض الأوقات في وصف الصدِّيقين، فدَرَسَ مع ما دَرَسَ من الكلام؛ لأن الكسائي قال (¬3): قد درس من كلام العرب شيء كثير. ثمَّ فسَّر المسيح وبيَّنه من هو، فقال: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. معنى (الوجيه): ذو الجاه والشرف والقدْر، يقال: (وجُهَ الرجلُ، يَوْجُهُ، وَجاهةً)، فـ (هو وَجِيْهٌ): إذا صارت له منزلة رفيعة عند السلطان والناس (¬4). وقال بعض أهل اللغة (¬5): الوجيه: الكريم، عند من لا يسأله؛ لأنه لا يردُّه لكرم (¬6) وجهه عنده (¬7)، خلاف من يبذل وجهه للمسألة (¬8)، فيرده (¬9). قال الزجَّاج (¬10): {وَجِيهًا}، منصوب على الحال، المعنى: إنَّ الله ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (إذا). والمثبت من: (ج)، (د). (¬2) في (ج): "التهذيب" ولعل هذا كان مستعملًا، (د) ولعل هذا مستعملًا. (¬3) قوله، في "تهذيب اللغة" 4/ 3389 (مسح)، وقوله من تتمة كلام ابن الأنباري. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 412، "اللسان" 8/ 3776 (وجه). (¬5) لم أقف على هذا القائل. (¬6) في (أ)، (ب): (الكرم). والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "البحر المحيط" 2/ 461، وهو أنسب لسياق الكلام. (¬7) في (ج): عند. قال الفخر الرازي: (الوجيه، هو: الكريم؛ لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه، فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال). تفسيره: 8/ 55. وقال الطبري عن قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]: (الوجيه في كلام العرب: المُحَبُّ المقبول). تفسيره 22/ 51. (¬8) في (ج): (للمسلمة). (¬9) في (ج)، (د): (فيرد). ولم أقف على هذا الذي ذكره المؤلف في معنى (الوجيه) فيما رجعت إليه من مراجع. (¬10) في "معاني القرآن" 1/ 412.

46

يبشِّرك بهذا الولد، وجيهاً في الدنيا والآخرة. والفرَّاء (¬1) يسمي هذا قطْعاً، كأنه: كان (¬2) عيسى بن مريم الوجيه، قُطِع منه التعريف (¬3). وقوله تعالى: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. أي: إلى ثواب الله وكرامته. 46 - قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} موضع {وَيُكَلِّمُ} منصوب؛ في التأويل بالنَّسَقِ (¬4) على (وجيه)، كأنه قال: (وجيها، ومُكَلِّماً الناسَ)، ولا يُنكَرُ وضعُ (¬5) المستقبل موضعَ الحال. ومثله قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} [مريم: 5 - 6]، في قراءة مَنْ رَفَعَ (¬6). وهذا أحدُ ما يضارعُ به الفعلُ المستقبلُ الاسمَ. وأنشد النحويُّون على هذا: ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 213. (¬2) في (ج): (قال). وكذا في "الدر المصون" 3/ 179، حيث نقل عبارة الواحدي هذه. (¬3) وقد علَّق السمينُ على قول الفراء هذا، بعد أن نقله عن الواحدي، بقوله: (فظاهر هذا يُوذِن بأن (وجيها) من صفة عيسى في الأصل، فقُطِعَ عنه، والحالُ وصْفٌ في المعنى). "الدر المصون" 3/ 179. وانظر ما سبق من تعليق على إعراب قوله تعالى {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} من آية 18 من سورة آل عمران. (¬4) النسق, هو عطف اللفظ على نسقِ الأول وطريقته. ويسمَّى في النحو بـ (عطف النسق)، وهو: التابع الذي يتوسط بينه وبين متبوعه أحدُ حروف العطف. انظر: "معجم المصطلحات النحوية" د. اللبدي: 224. (¬5) (ولا ينكر وضع): ساقط من (ج). (¬6) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: {يَرِثُنِى وَيَرِثُ} برفعهما. والتقدير: (وليًّا وارثًا)، على أنَ (يرِثُني) صفة لـ (وليًّا). قال مكي: (وهو الاختيار؛ لأنَّ الجماعة عليه، ويقوِّي الرفع: أنَّ (وليًّا) رأس آية، فاستغنى الكلام عن الجواب). "الكشف" 2/ 84. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: (يَرِثْنِي وَيَرِثْ) بجزمهما؛ على أنها جواب للأمر، والتقدير: (هب لي من لدنك وليًّا فإنك إنْ وهبته لي ورثَني). انظر: "الحجة" لابن خالويه: 234، "حجة القراءات" لابن زنجلة: 438.

بتُ أُعَشِّيها (¬1) بَعضْبٍ باتِرِ ... يَقْصِدُ (¬2) في أَسْوُقِها وجائِرِ (¬3) ¬

_ (¬1) في (ج): (أغسيها)، وفي (د): (أغشيها). (¬2) يعصله. (¬3) البيت في نسخة (ب) ورد هكذا: سبت اميتها بقضيب باتر ... بقصد في اسوفها وجاير ولم أقف على قائل هذا البيت. وقد ورد في: "معاني القرآن" للفراء 1/ 213، 2/ 198، "تفسير الطبري" 6/ 416، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 414، "تهذيب اللغة" 4/ 3199 (كهل)، "شرح الأبيات المشكلة" للفارسي 465، " المحرر الوجيز" 3/ 121، "أمالي ابن الشجري" 2/ 437، 3/ 205، "وضح البرهان" للنيسابوري: 243، "اللسان" 5/ 2963 (عشا)، "وشرح ابن عقيل" 3/ 245، "المقاصد النحوية" للعيني 4/ 174، "منهج السالك" للأشموني 3/ 120، "خزانة الأدب" 5/ 140 - 143. وقد ورد البيت بألفاظ أخرى، هي: (بات يعشِّيها)، و (بات يغشِّيها) و (بات يعيَشها)، و (أسؤقها)، و (أسواقها). ومعنى (أعشِّيها)؛ أي: أطعمها العشاءَ، وأما رواية (يغشِّيها) بالغين المعجمة، فهي من الغشاء، كالغطاء؛ أي: يشْملها ويعمُّها. و (عَضْب باتر)؛ (العَضْب) هنا: السَّيف. والكلمة، أصلها: صفة، بمعنى: قاطع؛ من: عضَبَه؛ أي: قطعه. و (باتر): قاطع. و (يَقْصِد): يتوسط، ولا يتجاوز الحد في القطع. و (أسْوُقِها) جمع: ساق، وتجمع كذلك على (سُوْق) و (سِيْقان) (وأسْؤُق)، والساق: ما بين الكعب والركبة. و (جائر): ظالم، مجاوز للْحدِّ. والشاعر هنا على هذه الرواية: يمدح نفسه بأنه رجل كريم مضياف، يقول: بأنه بات يعشِّي إبِلَه عقْرًا لها بسيف قاطع، فأقام الشاعرُ السيفَ مقام العشاء، وعلى الرواية الثانية (يغَشِّيها)؛ أي: يشْملها بسيفه القاطع؛ أي: يضربها به، فهو يقصد ويتوسط في عقر سيقان إبِل تستحق العقر، ويجور ويتجاوز الحدَّ في عقر سيقان إبِل لا تستحق العقر، كالحوامل، وذوات الفصال. وعلى رواية (بات يعشِّيها) يصف به رجلًا آخر بالكرم. انظر: "القاموس" (116) (عضب)، (345) (بتر)، (895) (سوق)، "الخزانة" 145141، "ومنحة الجليل" لمحمد محيي الدين عبد الحميد (مطبوع مع شرح ابن عقيل): 245 - 246. والشاهد فيه كما قال الأزهري: (والعرب تجعل (يفعل) في موضع (فاعل)، إذا كان في عُطوف مجتَمِعيْنِ). "التهذيب" (3199).

على معنى: قاصدٌ (¬1)، وجائزٌ. وقوله تعالى: {فِي الْمَهْدِ}. أي: صغيراً. والمَهْدُ: الموضع الذي مُهِّدَ لنوم الصبي (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3): يريد: الحَجْرَ (¬4). ويعني بكلامه {فِي الْمَهْدِ}: تبرئة أمِّهِ ممَّا قُرِفَت (¬5) به (¬6). وقوله تعالى: {وَكَهْلاً}. هو عطف على الظرف من قوله: {فِي الْمَهْدِ}، كأنه قيل: (ويكلِّم الناس صغيراً وكهلاً) (¬7). ¬

_ (¬1) في (د): (قصد). (¬2) سبق بيان معاني (المهد) في التعليق على قوله تعالى: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} آية 12 من هذه السورة وانظر (مهد) في: "الجمهرة" لابن دريد 685، "القاموس" (320). (¬3) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء. والذي في "تفسير الطبري" 3/ 271 من طريق ابن جرير عن ابن عباس، قال: (مضجع الصبي في رَضاعه). وأوردها السيوطي في "الدر" 2/ 45 ونسب إخراجها كذلك لابن المنذر. (¬4) الحَجْر بفتح الحاء وقد يقال بكسرها، وهو: الحضن، وما بين يديك من ثوبك. والجمع: حُجُور. انظر (حجر) في "اللسان" 2/ 782، "القاموس" (371)، "عمدة الحفاظ" للسمين (111). (¬5) في (ب)، (ج): (قذفت). وفي (د): مكانها بياض. ومعنى (قُرِفَت به)، أي: قُذِفت به واتُّهِمت، من: (قرَفَه بكذا)، أي: اتَّهمه به وأضافه إليه. انظر (قرف) في "اللسان" 6/ 3600، "القاموس" 844، "تفسير الطبري" 3/ 272. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 272. (¬7) أي: أنه حال من الضمير في {وَيُكَلِّمُ}. وقد يكون معطوفًا على {وَجِيهًا}، فيكون في الآية خمسة أحوال، هي: {وَجِيهًا} و {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} و {وَيُكَلِّمُ} و {وَكَهْلاً} و {مِنَ الصَّالِحِينَ}. انظر: "البيان" للأنباري: 1/ 203 - 204، "التبيان" للعكبري: ص 189.

و (الكَهْلُ) في اللغة: الذي اجتمع [فيه] (¬1) قوَّتُه، وتَمَّ (¬2) شبابُه، وهو من قول العرب: (اكْتَهَلَ النَّباتُ): إذا قَوِيَ وتَمَّ (¬3). قال الأعشى: يُضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ، بعَميمِ النَبْتِ مُكْتَهِلُ (¬4) أراد بـ (المكْتَهِل): المتناهي في الحسن والكمال. واختلفوا في كهولة عيسى عليه السلام، فقال بعضهم: إنه رفع إلى السماء حين (¬5) دخل في الكهُولة؛ وذلك، أنه كان قد أرْبى (¬6) على الثلاثين، ومن أَرْبى (¬7) عليها فقد دخل في الكُهُولة، وتقَضَّى أكثرُ شبابه (¬8). وعلى هذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬2) في (ج): (وثَم). (¬3) في (ج): (وعم). انظر: "خلق الإنسان" 21، "الزاهر" 2/ 269 - 270. (¬4) البيت في: "ديوانه" ص145. وقد ورد منسوبا له في: "العين" للخليل 3/ 278 (كهل)، وتأويل المشكل، لابن قتيبة 136، "الزاهر" 2/ 270، "تهذيب اللغة" 4/ 3199 (كهل)، "أمالي الزجاجي" 135، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: 292، "اللسان" 7/ 3957 (كوكب)، 1/ 72 (أزر)، 4/ 2244 (شرق)، 7/ 3948 (كهل)، 5/ 3112 (عمم). والشاعر هنا يصف روضةً. وقوله: (يضاحكُ الشمسَ)؛ أي: يدور معها، ومضاحكته إيَّاها: حسنٌ لها نَضْرَةٌ. و (كوكبٌ شَرِقٌ): (الكوكب): معظم النبات، و (الشَّرِقُ): الريَّانُ الممتليءُ ماءً. و (مؤَزَّر)؛ أي: صار النبات كالإزار للكوكب، فهو يغطِّيه. و (عَمِيم النبت): النبات الكثير الحسَنُ، ويقال: (نبات عَمِيم، ومُعتَمٌ، وعَمَمٌ): إذا كان بالغًا حسنًا كثيرًا. و (المكتهل): التامُّ الحسَنُ. انظر: "الزاهر" 2/ 270، "تهذيب اللغة" 4/ 3199 (كهل). (¬5) في (ج): (أنه). (¬6) في (ج): (أرمى). ومن قوله: (أربى ..) إلى (.. ومن أربى): ساقط من (د). (¬7) في (ج): (أرمى). (¬8) وردت عن علماء اللغة أقوال في بيان عُمُرِ الكَهْلِ: فقيل: إنَّه من وَخطَهُ الشيبُ، ورأيت له بَجَالَة. قاله الخليل، والليث بن المظفر. وقيل: هو ما بين الأربعين إلى الخمسين. قاله ابن أبي ثابت. وقيل: إذا بلغ الخمسين. قاله الأزهري. وقيل: ابن ثلاث وثلاثين سنة. قاله ابن الأعرابي. وقيل: هو من جاوز الثلاثين. قاله ابن الأنباري. وقيل: منتهى الحُلُم؛ أي: منتهى سن البلوغ. قاله يزيد بن أبي حبيب. انظر: "العين" 3/ 378 (كهل)، "خلق الإنسان" لابن أبي ثابت: 29، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 401، "تهذيب اللغة" 6/ 19 (كهل)، "الصحاح" 5/ 1813 (كهل)، "اللسان" 7/ 3947 (كهل).

القول: يكلِّم الناس كهلاً، قبل أن يرُفع إلى السماء. وهذا معنى قولِ مقاتل (¬1)، وابن عباس في رواية عطاء (¬2)، لأنه قال (¬3) في قوله: (وكهلاً) (¬4)؛ يريد: أنه يتكلم بكلام النبَّوة. وقال بعضهم: المراد بقوله: {وَكَهْلاً} (¬5): بعد أن ينزل من السماء يكلِّم الناس بعد نزوله إلى الأرض، كهلاً (¬6). وهذا اختيار الحسين بن الفضْل (¬7)، قال (¬8): وفي هذا بيان نزوله في نصِّ القرآن (¬9). ¬

_ (¬1) قوله: في "تفسيره" 1/ 276. وما نقله المؤلف هو نص كلام مقاتل. (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية والذي في "زاد المسير" 1/ 390 خلاف هذه الرواية، قال: (وقد روي عن ابن عباس، أنه قال: {وَكَهْلاً}، قال: ذلك بعد نزوله من السماء). (¬3) في (ب): (وقال). (¬4) الواو زيادة من: (ج)، (د). (¬5) في (ب): (كهلا). (¬6) في (ب): (من السماء كهلًا إلى الأرض كهلا). (¬7) انظر قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 50، "تفسير البغوي" 2/ 38. (¬8) (قال): ساقطة من (د). (¬9) وهذا كذلك قول ابن زيد، كما في "تفسير الطبري" 3/ 273، "المحرر الوجيز" 3/ 122، وقول أحمد بن يحيى، ثعلب، كما في "تهذيب اللغة" 6/ 18 (كهل). وقال محمد بن جعفر بن الزبير، وقتادة، والربيع، والحسن، وابن إسحاق: إنه =

47

وقوله تعالى: {وَمِنَ اَلصَّالِحِينَ}. قال عطاء (¬1): يريد: مثل: موسى، وإسرائيل (¬2)، وإسحاق، وإبراهيم (¬3). 47 - قوله تعالى (¬4): {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} قال أهل المعاني (¬5): إنَ مريم لا تستنكر في قدرة الله تعالى خلقَ الولد من غير مَسِيس بَشَرٍ (¬6)، وإنَّما قالت هذا؛ لأنَّ في البشرية التعجب مما خرج عن العادة، كما يقول الإنسان: (كيف تَهَبُ ضيعتَك، وهي أنفَس أملاكك.؟!) ليس يشك في هبته، وإنما يتعجب من وجوده. و (البَشَر): الخَلْق. واحدُهُ وجمعُه سواء؛ لأنه بمنزلة المصدر (¬7)، نحو (¬8): الخَلْق، يقال (¬9): هذا ¬

_ = يكلِّمهم صغيرًا أو كبيرًا، وهو إخبارٌ لِمريمَ عليها السلام أنه يعيش إلى سِنِّ الكهولة. وبيَّن الطبري رحمه الله أن كلام هؤلاء الأئمة يعني: أن عيسى عليه السلام كسائر بني آدم، يتقلب في الأحداث، ويتغير بمرور الأزمنة عليه، من صِغَرٍ إلى كِبَر، ومن حال إلى حال، وفي هذا احتجاج على النصارى القائلين بألوهية عيسى عليه السلام. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 272، "ابن أبي حاتم" 2/ 653، "القطع والائتناف" للنحاس 224. (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) إسرائيل، هو: يعقوب عليه السلام. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 248، "فتح القدير" 1/ 117. (¬3) في (ج): (ويعقوب). قال الطبري في تفسير هذه الآية: (يعني: من عدادهم وأوليائهم؛ لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل) تفسيره: 3/ 273. (¬4) في (د): (عزَّ وجل). (¬5) لم أقف عليه. وقد أورد هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 390، ونسبه للجمهور. (¬6) (بشر): ساقطة من (ج). (¬7) انظر (بشر) في "تهذيب اللغة" 1/ 338. (¬8) من قوله: (نحو ..) إلى (.. في المصدر): ساقط من (د). (¬9) في (ج): (يقول).

48

خَلْق، وهؤلاء خَلْق (¬1). وإنما وجب في المصدر ذلك؛ لأنه جنس في الفعل، كما وجب في الماء والرمل، وما هو من أسماء الأجناس. وأصله من (البَشَرَة) التي هي ظاهر الجِلْدِ؛ لأنه الذي من شأنه أن يَظْهَرَ الفرحُ والغمُّ في بشَرَته (¬2). وقوله تعالى: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}. أي: يخلق الله (¬3) ما يشاء مثل ذلك من الأمر، وهو: خَلْق الولد من غير مَسِيس. وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}. إلى آخر الآية. ذكرنا ما فيه في سورة البقرة، عند قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة: 117]. الآية. 48 - قوله (¬4) تعالى: {وَيعَلِمُهُ الكِتَابَ}. الآية. قال ابن جُرَيج، وغيره: أراد: الكتابة والخط (¬5). وقيل: أراد كتابًا آخر غير التوراة والإنجيل، من نحو: الزَّبُور وغيره (¬6). ¬

_ (¬1) (وهؤلا خلق): ساقط من (ج). (¬2) انظر (مادة: بشر) في: "التهذيب" 1/ 338، "اللسان" 1/ 286. (¬3) لفظ الجلالة (الله): ليس في: (ج)، (د). (¬4) في (د): (وقوله). (¬5) قول ابن جريج، في "تفسير الطبري" 3/ 274، ولفظه: (قال: بيده). وقد ورد هذا التفسير عن عكرمة، يرويه عن ابن عباس، ولفظه: (الخطُّ بالقَلَم)، وقد ورد كذلك عن: يحيى بن أبي كثير، ومقاتل، وعثمان بن عطاء. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 653، وممن رجَّح هذا: البغويُ في "تفسيره" 2/ 39، والفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 59، واستظهره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 391. (¬6) لم أهتد إلى قائل هذا القول. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 653 عن الحسن قوله: (الكتاب: القرآن). وفي "زاد المسير" 1/ 391 ذكر في المراد بـ {الْكِتَابَ} قولَ ابن جريج، وقولًا آخر، وهو: (أنه كُتُب النَّبِيِّين، وعلمُهم)، وقال: (قاله ابن عباس). وذكرَ ابنُ عَطِيَّةَ هذا القولَ الذي أورده الواحديُّ، وقال عنه: (وهو دَعْوًى لا حُجّةَ عليها). "المحرر الوجيز" 3/ 125.

49

49 - [و] (¬1) قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}. قال أبو إسحاق (¬2): ينتصب على وجهين: أحدهما: (ويجعلُهُ (¬3) رسولاً). قال: والاختيار عندي: أنه (ويكَلِّمُ الناسَ رسولاً)؛ لقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ}؛ والمعنى: يكلِّمُهم رسولاً بأني (¬4) قدْ جئتكم (¬5). وقال الأخفش (¬6): إن شئت جعلت الواو في {وَرَسُولًا} مُقْحَمَةً (¬7)، و (الرسولا) (¬8) حالاً للهاء (¬9)، تقديره: ونُعَلِّمُهُ الكتابَ رسولا (¬10). وقوله تعالى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} هو ذكر آية واحدة، وإنما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب.) (¬2) في "معاني القرآن" له: 1/ 413، نقله عنه بتصرف واختصار. (¬3) في (د): (ونجعله). (¬4) في (د): (أني). (¬5) أي: أنَّ الوجه الأول، تقديره: (ويجعلهُ رسولًا) فـ {رَسُولًا} منصوب على المفعولية. والتقدير الثاني وهو اختيار الزجاج: (ويكلمُ الناسَ رَسُولًا)، على أنَّ {رَسُولًا} حالٌ. (¬6) من قوله: (قال الأخفش ..) إلى (.. ونعلِّمه الكتاب رسولًا): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 51 ب. والوارد في "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 205 في قوله تعالى: {ونعلَّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، كالتالي: (موضع نصب على {وَجِيهًا}. و {رَسُولاً} معطوف على {وَجِيهًا}؛ أي: أنها عنده حال منتصبة عن قوله تعالى: {بِكَلِمَةٍ} في آية: 45. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 204. (¬7) أي: (زائدة أو (لغو)، وهي عبارة البصريين، وتسمى (صلة) أو (حشو) عند الكوفيين. انظر: "البرهان" 3/ 72. (¬8) في (ج): (ورسولًا). (¬9) في (ب): (لها). وقوله: (للهاء)؛ أي: في {ونعلِّمُهُ}. (¬10) وللآية توجيهات نحوية أخرى، انظرها: في "البحر المحيط" 2/ 464، "الدر المصون" 3/ 186 - 189.

جاءهم (¬1) بآيات، وهي: خلق الطير، وإبراء الأكْمَه والأبرص، وإحياء الموتى، وإنباء (¬2) بما يأكلونَ؛ وذلك، أنه أراد بالآية: خلق الطير، ثم عطف عليه إبراء (¬3) الأكمه والأبرص على جهة الاستئناف. وقوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} مَنْ (¬4) فتح {أَنِّي} (¬5)، جعلها بدلاً من {آيَةٍ} (¬6)، كأنه قال: (وجئتكم بأني أخلق لكم من الطين)، ويكون موضع {أَنِّي} خفضاً على البدل من {آيَةٍ} (¬7)، ويجوز أن يكون رَفعاً على معنى: الآيةُ أنِّي أخلق لكم) (¬8). ومَنْ كَسَرَ (¬9)، فله وجهان: أحدهما: الاستئناف، وقَطْع الكلامِ مما قبله. والوجه الآخر: أنه (¬10) فسر الآية بقوله: {إنِّي أخلق [لكم من ¬

_ (¬1) في (د): (جاههم). (¬2) في (ج)، (د): (والأنباء). (¬3) في (ج): (وإبراء). (¬4) من قوله: (من ..) إلى (أني أخلق لكم من الطين): نقله بتصرف يسير جدًّا عن "الحجة" للفارسي 3/ 43. وقد قرأ الجميع بفتح الهمزة في {أَنِّي}، إلَّا نافعًا وأبا جعفر، فقد كسرا {أَنِّي}. انظر "النشر" 2/ 240، "إتحاف فضلاء البشر" 174 - 175. (¬5) في (ج): (أنا). (¬6) (من آية): ساقط من (د). (¬7) في (ج): (أنه). (¬8) أي هي خبر لمبتدأ مضمر، تقديره: (هي أنِّي أخلق)؛ أي: الآية التي جئت بها أني أخلق. انظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 334. (¬9) من قوله: (ومن كسر ..) إلى (.. وأبدل من آية): نقله بتصرف عن "الحجة" للفارسي 3/ 4344. (¬10) (أنه): ساقط من: (ج).

الطين] (¬1)}، ويجوز أن يفسِّر الجملة المقدمة بما يكون على وجه الابتداء، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 9]، ثمَّ فسَّر الموعود بقوله: {لَهُم مَّغفِرَةٌ} (¬2)، وكقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (¬3) [آل عمران: 59]، ثمَّ فسَّر المَثَلَ بقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}. وهذا الوجه أحسن؛ لأنه في المعنى كقراءة مَنْ فتح (أنِّي)، وأبدل من آية (¬4). وقوله تعالى: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} أي: أقَدِّر، وأصوِّر. والخلْقُ، معناه: التقدير في اللغة (¬5). وقوله تعالى: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الهيئةُ: الصورة المُهَيَّأة؛ من قولهم: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) ومن "الحجة". (¬2) ومن قوله: (لهم مغفرة ..) إلى (.. فسَّر المثل بقوله): ساقط من: (ج). (¬3) (كمثل آدم): ساقط من: (ب). (¬4) وهناك وجه ثالث، وهو: كسْرُها على إضمار القول؛ أي: فقلت: إنِّي أخلق. انظر هذه الوجوه في: "البحر المحيط" 2/ 465، "الدر المصون" 3/ 191. (¬5) وقد قال ابن قتيبة أنَّ الأصل في (الخَلْق)، هو: التقدير. وفي "تهذيب اللغة" أنَّ (الخَلْقَ) في كلام العرب على ضربين: الأول: ابتداع الشيء على مثال لم يُسبَق إليه. والآخر: التقدير. وقد ذكر أصحاب الوجوه والنظائر أنَّ من وجوه (الخلق) في القرآن: الإيجاد، والبعث، والتصوير، وذكروا هذه الآية (49 من آل عمران) شاهدًا على هذا المعنى، والكذب، والجعل، والنطق، والدين، والموت، والبناء. وهذان الوجهان الأخيران، ذكرهما الثعلبي، وابن الجوزي. انظر "تأويل مشكل القرآن" 507، "تهذيب اللغة" 1/ 1093 (خلق)، "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى 281، "قاموس القرآن" للدامغاني 162، "الأشباه والنظائر" للثعلبي: 131.

(هيَّأتُ الشيءَ): إذا قدَّرُته (¬1). وقوله تعالى: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} أي: في الطَّيْر. و (الطَّيْر): يجوز تذكيره، على معنى الجمع، وتأنيثه، على معنى الجماعة. ولا يجوز أن تعود (¬2) الكناية (¬3) إلى الطين؛ لأن النفخ إنَّما يكون في طِينٍ مخصوص، وهو: ما كان مُهَيَّأ منه، والطينُ المتقدِّمُ ذكرهُ، عامٌ، فلا تعود إليه الكناية؛ ألا ترى أنه لا يَنْفخ في جميع الطِّينِ (¬4)؟. ويجوز أن تعود الكناية على ذي الهيئة. وأريد بـ (الهيئة): ذو الهيئة، كما أريد بـ (القسمة): المقسوم، في قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] لأنه قال: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) قال الثعلبي: (هيأت الشيء: إذا قدَّرته، وأصلحته). تفسيره: 3/ 52 أ، وانظر (هيأ) في "الصحاح" 1/ 85، "اللسان" 8/ 4730. (¬2) في (ج): (يعود). (¬3) يعني بـ (الكناية) هنا: الضمير؛ لأنه يُكْنى به أي: يرمز عن الظاهر، اختصارا، وتسميته بـ (الكناية) من إلطلاقات الكوفيين عليه. انظر "النحو الوافي" 1/ 217، "معجم المصطلحات النحوية" د. اللبدي: 74. (¬4) قال السمين الحلبي، بعد أن ذكر قول الواحدي هذا: (وفي هذا الردِّ نَظَرٌ؛ إذ لقائل أن يقول: لا نسلِّم عموم الطِّينِ المتقدِّم، بل المراد بعضه؛ ولذلك أدخل عليه (مِنْ) التي تقْتضي التبعيض. وإذا صار المعنى: (أني أخلق بعض الطين) عاد الضمير عليه من غير إشكال، ولكن الواحدي جعل (مِن) في {مِنَ الطِّينِ} لابتداء الغاية، وهو الظاهر). "الدر المصون" 3/ 194. (¬5) (منه): ساقط من: (ج). (¬6) [سورة النساء: 8]. والشاهد هنا: أنَّ الضمير في {مِنْهُ} يعود على القسمة. ولمَّا كان الضمير مذَكَّرا، والقسمة مؤنثة، دلَّ على أن المراد بالقسمة هنا المقسوم =

كذلك أراد بـ (الهيئة): المُهيَّأ، وذا (¬1) الهيئة. و (¬2) يجوز أن تعود الكناية إلى ما وقعت الدلالة (¬3) عليه في اللفظ، وهو (¬4): أنَّ (يَخْلُق) يدل على الخَلْقِ، فيكون قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ}؛ أي: في الخَلْقِ، ويكون الخلق بمنزلة المخلوق. ويجوز أن تعود إلى ما دلَّ عليه الكافُ من معنى المِثْل؛ لأن المعنى: أخلق من الطين مِثْلَ هيئة الطير، ويكون الكافُ في موضع نصب على أنه صفة (¬5) للمصدر المُرادِ، تقديره: (أنِّي أخلق لكم من الطينِ خَلْقاً مثلَ هيئةِ الطَّيْرِ). وهذه الوجوه ذكرها أبو علي الفارسي (¬6). وقوله تعالى: {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} وقرأ (¬7) نافع (¬8): {طائراً} (¬9)، ¬

_ = وهذا رأي في مرجع الضمير هنا. وقيل: إنه يعود على المال؛ لأن القسمة تدلُّ عليه بطريق الالتزام. وقيل: إنه يعود على (ما) في قوله: {مِّمَّا تَرَكَ} من آية 7 في سورة النساء. انظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 190، "تفسير البيضاوي" 1/ 85، "البحر المحيط" 3/ 176، "الدر المصون" 3/ 589. (¬1) في (د): (وذو). (¬2) الواو زيادة من: (ج). (¬3) في (ب): (الكناية الدلالة). (¬4) من قوله: (هو ..) إلى (.. أي: في الخلق): ساقط من (د). (¬5) (صفة): ساقطة من (ج). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. (¬7) في (ج): (وقرئ). (¬8) هو: أبو رُوَيم، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم، تقدمت ترجمته. (¬9) وقرأ بها كذلك: أبو جعفر، ويعقوب. وقرأ باقي القرَّاء العشرة: (طَيْرًا). انظر "المبسوط في القراءات العشر" 143.

على معنى: يكون (¬1) ما أنفخ فيه طائراً، أو (¬2) ما أخلُقُهُ طائراً، أو أراد أن (¬3) يكون كلَّ واحد من ذلك طائراً، كما قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي: كلَّ واحد منهم. وقال بعضهم (¬4): ذهب نافع (¬5) إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يَخْلُق غير الخَفَّاش. وإنَّما خصَّ الخفَّاش (¬6)؛ لأنه أكمل الطير خَلْقاً. وقد زدنا بيانا على هذا في سورة المائدة (¬7). ¬

_ (¬1) من قوله: (يكون ..) إلى (.. أي: كل واحد منهم): نقله بتصرف يسير عن "الحجة" للفارسي: 3/ 44. (¬2) في (د): (و). (¬3) ساقطة من (د). (¬4) هو الثعلبي في "تفسيره" 3/ 52 أ. (¬5) عبارة الثعلبي: (وقرأ أهل المدينة (طائرا) بالألف على الواحدة ذهبوا إلى نوع ..)، وبقية العبارة كما هي عند الواحدي. (¬6) وإنما خص الخفاش: ساقط من: ج. ورد خَلْقُه للخفاش، عن ابن جريج، كما في "تفسير الطبري" 3/ 276. وعن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، كما في "زاد المسير" 1/ 392. وأورده السيوطي في الدر: 2/ 575 عن ابن عباس، ونسب إخراجه لأبي الشيخ. (¬7) قول المؤلف فيما سبق عن توجيه قراءة نافع: (أو أراد أن يكون ..)، وقوله: (ذهب نافع ..)، قد تشعر هذه العبارات أن قراءة نافع، وغيرها من القراءات الصحيحة، إنَّما هي مذهب اجتهادي في القراءة يذهبه القارئُ بناء على موازنات ذوقية، ومقاييس منهجية، لا علاقة لها بالتلقي عن طريق الرواية الصحيحة. وليس الأمر كذلك؛ فالذي يعرفه الجميع أن القراءات القرآنية إنَّما هي متلقّاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق التواتر، فهي موقوفة لا مجال فيها للاجتهاد، وإنما للإمام القارئ فقط أن يختار مما رُوي، وعُلم وجهه من القراءات. ولذا يقول ابن الجزري عن نسبة القراءة إلى القارئ، بأنها: (إضافة اختيار ودوام =

قال وَهْبٌ: كان يطير ما دامَ الناسُ ينظرون، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا (¬1). قوله تعالى: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}. قال الأصمعي (¬2): بَرِئْتُ من المرض: لغةُ تميم، وبَرَأْتُ: لغةُ أهل الحِجاز (¬3). وقال أبو زيد (¬4): بَرَأْتُ من المرض: لغة أهل الحجاز. وسائرُ العرب: بَرِئْتُ (¬5). ¬

_ = ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد). أي: إنَّ إضافة القراءات إلى أئمة القراءة ورُواتِهم، يُرادُ بها فقط أن الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة، حسبما قرأ به، فآثره على غيره ودوام عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به. فللإمام أن يختار من القراءات ما وافق العربية، سواء أكان ذلك الوجه فصيحًا أم أفْصَح، حسبما يترجح عنده، إذا تحققت بقية الشروط، وهي: صحة السند، وموافقة المصحف الإمام ولو احتمالًا. وهذا المجال الاختياري فيما يبدو لي، والله أعلم، هو الذي يعنيه الواحدي، ومَنْ نقلَ عنهم عباراته السابقة. انظر "النشر" 1/ 52، "القراءت القرآنية". د. عبد الهادي الفضلي: 105 - 106، "دفاع عن القراءات المتواترة". د. لبيب السعيد: 13 - 14. (¬1) ورد هذا الأثر في "تفسير الثعلبى" 3/ 52 أ، "زاد المسير" 1/ 392، "تفسير القرطبي" 4/ 94. (¬2) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 324 (برأ). (¬3) في "تهذيب اللغة" (وقال الأصمعي: (بَرَأت من المرض بُروءًا)، لغة تميم، وأهل الحجاز يقولون: (بَرْأت من المرض بَرْءًا)، و (أبرأه الله من مرضه إبراءً). ويبدو أن هذا النص من النسخة المطبوعة من "التهذيب" فيها خطأ مطبعي؛ لأنها لم تفرِّق بين برأ وبرئ. وقد أورد السمين الحلبي نفس النص في "الدر المصون" 3/ 198 موافقًا لما أورده الواحدي. (¬4) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 324 (برأ). (¬5) قال في "اللسان" 1/ 240 (برأ): (وبَرِئت من المرض، وبَرَأ المريض، يَبْرأ، ويبرُؤ، بَرءًا، وبُروءًا .. وأصبح بارئًا من مرضه، وبريئًا، من قومٍ بِراءٍ). وانظر: "العين" 8/ 289 (برأ)، "المقاييس" 1/ 236 (برأ).

والأكمَهُ (¬1)، قال ابن عباس، وقتادة (¬2): هو الذي وُلِد أعمى، لم يبصر ضوءاً قط (¬3). يقال: كَمِهَ الرجلُ، يَكْمَهُ، كَمَهًا (¬4). والأبْرَصُ: الذي به وَضَحٌ (¬5). وقوله تعالى: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} قال الكلبي (¬6): كان (¬7) عيسى عليه السلام يحيي الأموات بـ (يا حيُّ يا قَيُّوم)، أحيا عازَرَ (¬8)، وكان صديقاً له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيًّا، ومُرَّ عليه بابن عجوز على سريرٍ مَيْتًا، فدعا ¬

_ (¬1) في (ج): الأكمه (بدون واو). (¬2) قولهما في "تفسير الطبري" 3/ 276، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 655، وأخرجه في 2/ 655 بلفظ: (الأعمى: الممسوح العين)، "تفسير الثعلبي" 3/ 52 أ. وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 121 عن مقاتل قوله: (الأكمه: الأعمى). وأورد السيوطي في "الدر" 2/ 57 قول ابن عباس، وعزاه كذلك لابن المنذر. (¬3) وفي معنى (الأكمه) أقوال أخرى، وهي: إن الأكمه هو: الأعمى، أو الأعمش، أو الأعش الذي يبصر بالنهار لا بالليل. ولكن المعنى الذي ذكره الواحدي هو الأرجح، وقد قال به أبو عبيدة، والطبري، وغيرهم، وهو الذي عليه الجمهور، كما يقول ابن حجر في فتح الباري؛ لأن إبراء الذي يولد أعمى هو الذي فيه المعجزة، أما من يُصيب عينيه مرض عارض، فهذا قد يُعالجه الطب البشري. انظر: "صحيح البخاري" 4/ 138 كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} "تفسير الطبري" 3/ 276 - 278، "فتح الباري" 6/ 472، "الدر المنثور" 2/ 57. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 276، "الصحاح" 6/ 2247 (كمه). (¬5) الوَضَح، هو: البياض من كلِّ شيء، والضوء، ويكنى بالوضح عن البرص، وهو المرض الجلدي المعروف؛ لأنه يصيب الجلدَ ببياض. انظر "اللسان" 8/ 4855. (¬6) ورد قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 53 أ، ونهاية قوله إلى: (بيا حي يا قيوم). (¬7) في (ب): (إن). (¬8) هكذا ضُبطت في "القاموس المحيط" 439 (عزر)، وورد في "تفسير الثعلبي" 3/ 52 ب (عازِر).

اللهَ عيسى، فنزل عن سريره حيَّاً، ورجع إلى أهله، وبقي ووُلدَ له (¬1). وقوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. (ما) بمعنى: الذي؛ أي: بالذي تأكلونه، والذي تدَّخِرونه (¬2). وجاء (¬3) في التفسير: بما تأكلون في غُدُوِّكم [وتدَّخرون لباقي يومكم] (¬4). و (تدَّخِرون): (تفتعلون)، من (الذُّخْر) (¬5). يقال: (ذَخَر، يَذْخَر، ذُخْراً)، و (اذَّخَرَ اذِّخِارا): وأصله: (اذْتَخَرَ) (¬6)، فأُبْدِل (¬7) التَّاءُ دالاً (¬8)؛ لأن الذَّالَ حَرْفٌ مَجْهُورٌ (¬9) والتَّاءَ مهموسٌ (¬10)، ¬

_ (¬1) أورد هذا الثعلبيّ في "تفسيره" 3/ 52 أ، وذكره البغوي 2/ 40 عن ابن عباس. وانظر روايات أخرى في هذا المعنى، في "الدر المنثور" 2/ 58. وهذه الأخبار بصرف النظر عن إمكان وقوع ما ورد فيها، فإنها لا تعدو أن تكون من الإسرائيليات، التي وإن لم يكن عندنا ما ينفيها، فليس عندنا ما يصدقها من خبر صحيح عن الصادق المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. والاكتفاء بإجمال القرآن في مثل هذه المواطن، أولى من السير وراء تفصيلات أخبار، الله أعلم بصحتها ووقوعها. (¬2) وقد استحسن هذا الوجه الزجَّاج، وقال: (ويجوز أن يكون (ما)، وما وقع بعدها، بمنزلة المصدر، المعنى: (أنبِّئكم بأكلِكم، وادِّخاركم). "معاني القرآن" 1/ 414. (¬3) من قوله: (جاء) إلى (غدُوِّكم): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 414. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). وقوله: (في غُدُوِّكم)؛ أي: في وقت البكرة، أو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. انظر: "القاموس" 1317 (غدا). (¬5) أي: أن أصل (تدَّخرونَ): تذْتَخرون. (¬6) في (ب): (اتدخر). (¬7) في (ب): فأبدلت. (¬8) في (أ)، (ب): (ذالا). والمثبت من: (ج)، (د)، وهو الصواب. انظر: "اللسان" 3/ 1490 (ذخر). (¬9) في (ج): (مجهورة). (¬10) الحروف المهموسة، عشرة أحرف، هي: الهاء، والحاء، والخاء، والكاف،=

فأُبدِلَ بحرفٍ يُشْبِهُ الذَّالَ (¬1) في الجَهْرِ، وهو الدَّال، ثم أُدْغِمتْ الذَّالُ (¬2) في الدَّال فصار: (تَدَّخِرونَ) (¬3)، وهذا أصل الإدغامِ؛ وهو: أن يدغم (¬4) الأولى في الثانية، ومثل (¬5) هذا في التعديل بين الحروف (¬6): (ازدُجِر) (¬7)، و (اضطُرَّ)، و (اصْطَبِر) (¬8). ¬

_ = والشين، والصاد، والتاء، والسين، والثاء، والفاء. ويجمعها قولك: (سَتَشْحثُك خصَفَه). وباقي الحروف مجهورة. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 60، وقد ذكر كذلك سبب تسْمِيتها بذلك، "الممتع" لابن عصفور 2/ 671. (¬1) في (ج): (الدال). وفي (د): (الجهر). (¬2) في (أ)، (ب): (الدال). والمثبت من: (ج)، (د). وهو الصواب. (¬3) ويرى العكبري أن أصل الكلمة: (تذتَخرون)، إلا أن التاء أبدلت دالًا لتقارب مخرجها مع الذال، ثم أبدلت الذال دالًا، ثم أدْغِمت الدال في الدال. انظر "التبيان في إعراب القرآن" 1/ 191. (¬4) في (ج) و (د): (تدغم). (¬5) في (د): (ومثال). (¬6) في (ج): (الحرفين). وقوله: (التعديل بين الحروف)، يعني به: الإبدال الصرفي، وهو جعل حرف مكان حرف غيره؛ لتسهيل اللفظ، وتيسيره. انظر "شرح الشافية" 3/ 197، "موسوعة النحو والصرف" د. أميل يعقوب 17. (¬7) (ازدجر): ساقط من (د). (¬8) (ازدُجِر) وردت في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9]، وأصلها: (ازتجر)، فقلبت فيها التاءُ دالًا. و (اضطُرَّ) وردت في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وانظر آية 3 من سورة المائدة وأصلها: (اضتُرَّ). و (اصطَبِر) وردت في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وأصلها: (اصتَبِر) فقلبت التاءُ طاءً في الكلمتين. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 215216، "سر صناعة الإعراب" 1/ 185، 217، و"الوجيز في علم التصريف" للأنباري 55، "الممتع في التصريف" 1/ 356، 360، و"شرح شافية ابن الحاجب" 3/ 226، 227.

50

قال الخليل (¬1): الحرف (¬2) المجهور: الذي أُشبع (¬3) الاعتمادُ (¬4) عليه في موضعه، ومَنَعَ (¬5) النَّفَسَ أن يخرج معه، والمهموس: حرف أُضْعِفَ الاعتماد عليه في موضعه، وجرى معه النفس (¬6). 50 - قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ}. [قال الفرَّاءُ (¬7)، والزجَّاج (¬8): نصب {مُصَدِّقًا} على الحال، المعنى: (وجئتكم مصدِّقاً لِما بين يَدَيَّ)] (¬9). وجاز إضمارُ (جئتكم)؛ لأن أول الكلام يدلُّ عليه، وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 49]. ومثله في الكلام: (جئتُه بما يُحِب، ومُكْرِماً لهُ) (¬10). قال الفرَّاء (¬11): ولا يجوز أن يكون {مُصَدِّقًا} عطفاً على {وَجِيهًا}؛ ¬

_ (¬1) قوله في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 414، وقد ورد: هذا النص في "كتاب سيبويه" 4/ 434، ولم يعزه للخليل، كما ورد في "سر صناعة الإعراب" 1/ 60 ولم يعزه كذلك للخيل. (¬2) في (ج): (والحرف). (¬3) في (ب): (اتسع). (¬4) في (ب): (للإعتماد). (¬5) من قوله: (ومنع ..) إلى (.. في موضعه): ساقط من: (ج). (¬6) وقد شرح ذلك سيبويه، وابن جني، وبيَّنَا أن المهموس يعرف بترديد الحرف مع جَرْي النفس، ويصعب ذلك في المجهور، فيمكن تكرير المهموس مع جري الصوت، نحو: (سَسَسَسَ، كَكَكَكَ، هَهَهَهَ)، ولو تكلفت ذلك في المجهور لما أمكن. انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 434، "سر صناعة الإعراب" 1/ 60. (¬7) في "معاني القرآن" له 1/ 216. ونسب النحاسُ كذلك القول بهذا لأحمد بن يحيى (ثعلب). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 335. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 415. (¬9) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬10) في (ب): (ومكر حاله). (¬11) في "معاني القرآن" له 1/ 216، نقله عنه بتصرف.

لأنه لو كان كذلك، لقال: (ومُصدِّقاً لِمَا بين يَدَيْهِ) (¬1)، ولا يحسن أيضاً أن يتابع قوله: {وَرَسُولًا} (¬2)؛ لأنه لو كان مردودًا عليه؛ لقال: (ومُصَدِّقاً لما بين يديكِ)، لأنه خاطب بذلك مريمَ، أو قال: (بين يديهِ) (¬3). ومعنى {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ}: أي: للكتاب (¬4) الذي أُنزِلَ قَبْلِي (¬5). وإذا كان يُصَدِّقُ التوراةَ، كان أحرى أن يُتَّبع. وقوله تعالى: {وَلِأحِلَّ لَكُمْ} قال الفرَّاء (¬6): الواوُ ههنا زائدةٌ مُقْحَمةٌ، كهي في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ [مِنَ الْمُوقِنِينَ]} (¬7)، المعنى: يُرِيهِ (¬8) لِيَكونَ (¬9). ¬

_ (¬1) (أي): إنه لو كان معطوفًا على {وَجِيهًا} لجاء بضمير الغيبة، لا بضمير المتكلِّم. (¬2) (أي): يمتنع أن يتبع {وَرَسُولًا} في الإعراب. (¬3) قال أبو حيان في "البحر" 1/ 468: (وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله {وَرَسُولًا}، أن يكون منصوبًا بإضمار فعل؛ أي: (وأرسلت رسولا)، فعلى هذا التقدير، يكون {وَمُصَدِّقًا} معطوفًا على {وَرَسُولًا}). (¬4) في (ج): الكتاب. (¬5) في (ب): قيل. في (ج): قيل. (د) من قبلي. (¬6) في "معاني القرآن" له: 1/ 216. نقله عنه بالمعنى. (¬7) سورة الأنعام: 75. وما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، وكذا وردت في "معاني القرآن". وانظر مذهب الفراء في زيادة الواو، في "معاني القرآن" 1/ 107، 238، 2/ 50، 211، 390، 3/ 249. (¬8) في (ج): نريد. ب، (د) نريه. (¬9) قيل في قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ} ثلاثة أقوال: الأول: إن الواو زائدة. الثاني: إنها عِلَّةٌ لمحذوف؛ أي: ولِيكون .. أريناه ذلك. الثالث: إنها عطف على عِلَّةٍ محذوفة؛ أي: ليستدل وليكون، أو ليقيم الحجة على قومه. وقال صلاح الدين العلائي: (تقديره: لِنبصِّره أو لِنُرْشده. ونحو ذلك. ثم عطف عليه {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}. الفصول المفيدة في الواو المزيدة، للعلائي: 147. وانظر: "التبيان" للعكبري 1/ 342، "الفريد" للهمداني 2/ 177، "الدر المصون" 5/ 7.

وأهل التحقيق من النحويين قالوا: الواو لا تُقْحَمُ إلا معَ (حتى إذا)، ومع (لَمَّا) (¬1). ¬

_ (¬1) قال الفراء في "معاني القرآن" 1/ 238 عن الواو في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ...} آل عمران: 152: (وهو في (حتى إذا) و (فَلَمَّا أن) مقول، لم يأتِ في غير هذين). وقال في 2/ 390: (والعرب تدخل الواو في جواب (فلما) و (حتى إذا)، وتلقيها). وفي 3/ 249 بَيَّنَ أن العرب لم تجاوز هذين الموضعين. وانظر: "تفسير الطبري" 3/ 282. وبيان هذا الأمر: إن مذهب الكوفيِّيِنَ هو: جواز وقوع الواوِ زائدةً لغير معنى. وشاركهم من البصريين في هذا المذهب: الأخفشُ، وأبو القاسم بن بَرهان، وتبعهم ابنُ مالك. ونَسَب الرمَّانيُّ في كتابه "معاني الحروف" 63، وأبو البركات الأنباري في كتابه "الإنصاف" ص 366 القولَ بهذا الرأي للمبرد وهو من البصريين. ولكن المبرد في كتابه "المقتضب" 2/ 80 قال عن مذهب القائلين بزيادة الواو لغير معنى: (وهو أبدع الأقاويل؛ أعني زيادة الواو) مما يؤكد أنه لم يشذ عن مذهب البصريين. واستدل الكوفيُّون على مذهبهم هذا بأدلة من القرآن ولغة العرب، منها: زيادة الواو في {وَفُتِحَتْ} في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وزيادتها في {وَاقْتَرَبَ} في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الأنبياء: 97. وزيادته في {وَنَادَيْنَاهُ} في قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} سورة الصافات: 103، وغيرها من الآيات. ومن شعر العرب، قول امريء القيس: فلَمَّا أجَزنا ساحةَ الحيِّ وانْتَحى ... بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَل وغيرها من الأدلة. أمَّا البصريون فلا يُجيزون وقوع الواو مزيدةً، لأن الحروف عندهم (وضعت للمعاني، فذكرها بدون معنى يقتضي مخالفة الوضع، ويورثُ اللَّبْسَ. وأيضًا فإن الحروف وضعت للاختصار نائبة عن الجمل، كالهمزة فإنها نائبة عن (أستَفْهِم)، وزيادتها يُنقِصُ المعنى). الفصول المفيدة، للعلائي: 147. وتأول البصريون أدلة الكوفيين، وقالوا بأن الواو فيها عاطفة، وأن الجواب محذوفٌ مقدَّرٌ. يقول ابن جني: (فأما أصحابنا فيدفعون هذا التأويل البتَّة، ولا يجِيزون زيادةَ هذه الواو، ويرون أن أجوبة هذه الأشياء محذوفة للعلم بها =

قالوا: أو، والواو ههنا للعطف على معنى الكلام الأول (¬1)، لأن معناه: (وجئْتُكم لأُصَدِّقَ ما بين يديَّ من التوراة، ولأُحِلَّ لكم). ومثله من الكلام: (جئتُ مُعتذِرًا إليه، لأجتَلِبَ رِضاه)؛ أي: لأعتذر، ولأجتلب (¬2). وقال ابن الأنباري (¬3): الَّلام في قوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ} (¬4) صِلَةٌ لفعلِ مضمرٍ؛ كأنه قال: (ولأحلَّ لكم جئتكم)، وكذلك قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، تقديره: ولِيكون من الموقنين نُرِيهِ (¬5) ذلكَ (¬6). ¬

_ = والاعتياد في مثلها). "سر صناعة الإعراب" 2/ 646. فمثلًا قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} قال البصريون: إن الواو فيها عاطفة، وجواب (إذا) محذوف، والتقدير فيه: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها، فازوا ونَعِموا. وهكذا ردُّوا على بقية الأدلة. انظر هذه المسألة، إضافة إلى المراجع التي ذكرت في "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 124 - 125، "تأويل مشكل القرآن" 252254، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 55، "الإنصاف" للأنباري ص 366، "شرح المفصل" 8/ 93، "رصف المباني" 487، و"الجني الداني" 164، "المغني" 473، "الحروف" لأبي الحسين المزني 110. (¬1) أي: للعطف على معنى {مُصَدِّقًا}. (¬2) في (ج): لاجتلب (بدون واو). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) (لكم): ساقطة من (د). (¬5) في (ج): (بربه). (¬6) وفي التوجيه الإعرابي لقوله {وَلِأُحِلَّ} أقوال أخرى، هي: إنها مردودة على قوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} من آية 49؛ أي: جئتكم بآية من ربكم، ولأحل لكم. أو معطوفة على عِلَّةٍ مقدَّرةٍ؛ أي: جئتكم بآية لأوسِّعَ عليكم ولأحل لكم، أو نحوها. أو إنها متعلقة بقوله: {وَأَطِيعُونِ} في آخر آية 50؛ أي. اتَّبِعوني لأحلَّ لكم. وقد استبعد هذا الوجهَ السمينُ الحلبيُّ وجعله ممتنعًا. أو إنها معمولة لفعل مضمر بعد الواو؛ أي: وجئتكم لأحل .. انظر هذه الوجوه، في "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 335، "الكشاف" 1/ 431، "التبيان" للعكبري: 1/ 191، "البحر المحيط" 2/ 268 - 269، "الدر المصون" 3/ 202 - 203، "روح المعاني" 3/ 171.

- قوله تعالى: {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}. قال المفسرون (¬1): أُحِلَّ لهم على لسان المسيح: لحومُ الإبل، والثُّرُوبُ (¬2)، وأشياءُ مِنَ الطَّيْر، والحيتان، مما كان مُحرَّما في شريعة موسى عليه السلام. قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (¬3). وإنَّما قال (¬4): {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}؛ لأن عيسى لم يأتهم بتحليل الفواحش من: القتل، والسَّرِقِ، والزِّنا. وذهب أبو عبيدة (¬5) إلى أنَّ (بعضَ) ههنا بمَعنى: الكُلِّ، واحتجَّ ببيت لَبِيد: أو يعتَلِقْ (¬6) بعضَ النفُوسِ حِمامُها (¬7) ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك: قتادة، والربيع، وابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 282، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 657، "زاد المسير" 1/ 393، " الدر المنثور" 2/ 62. (¬2) في (ب): الشروب. و (الثُّروب): شحم رقيق يُغَشِّي الكرشَ والأمعاء، والمفرد: ثَرْب. انظر: "القاموس المحيط" ص 62 (ثرب). (¬3) سورة النساء:160. وبقيتها: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}. (¬4) في (ج): (قيل). (¬5) في "مجاز القرآن" 1/ 94. (¬6) في (د): (وتعليق). (¬7) عجز بيت، وأوله: تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لم أرضها وهو من معلقته، وقد ورد في "ديوانه" 313. كما ورد في "مجاز القرآن" 1/ 94، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 415، "الزاهر" 2/ 237، ولم ينسبه، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 573، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 403، "تهذيب اللغة" 1/ 360، "الخصائص" 1/ 74، "المحتسب" 1/ 111، "تفسير الثعلبي" 3/ 52 ب، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص 109، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: 160، "تفسير البغوي" 2/ 41، "اللسان" 1/ 312 (بعض). =

وأنكر عليه الآخرون أشدَّ (¬1) الإنكارِ (¬2). وسنستقصي الكلام في (بعض) عند قوله: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28]، وأنه هل يجوز أن يكون بمعنى الكلِّ، أم لا؟. إنْ شاء الله. ¬

_ = وورد غير منسوب في "الموضح في التفسير" للحدادي: 37، "المخصص" 17/ 131. ويروي (منزلةٍ) بدلًا من: (أمكنةٍ)، و (أو يَرْتَبِط)، و (أو يَعْتَقِي) بدلًا من: (أو يعتلق). و (يرتبط)، و (يعتقي)، معناهما: يَحتَبِس. و (يعتلق): من (اعتلقه)؛ أي: أحبَّهُ، ويقال: (عَلِقَ بقلبه): أي: تشبَّث به. وعليه يكون معناها هنا معنى: يرتبط، ويعتقي. و (والحِمَام): الموت. انظر: "شرح القصائد السبع" 573، "اللسان" 5/ 3053 (عقا). ومعنى البيت: إني أترك الأماكن التي أجتويها، إذا رأيت فيها ما أكره إلا أن يربط الموتُ نفسي فلا يمكنها البراح. وتحرير المعنى: إني لا أترك الأماكن التي أجتويها إلا أن أموت. انظر: "شرح المعلقات السبع" 242، "شرح القصائد العشر" 160. والشاهد فيه عند أبي عبيدة: أنَّ (بعض) هنا تعني (كلَّ). وقد خالفه آخرون كما ذكر المؤلف، حيث إنَّه في هذا البيت لا داعي لإخراج لفظ (بعض) عن مدلوله مع إمكان صحةِ معناه؛ لأن لبيد يريد بـ (بعض) هنا نفسَهُ هُوَ، من بين نفوس الناس. (¬1) في (ج): (ابتدا). (¬2) وممن أنكر عليه ذلك الزجاجُ، حيث قال: (وأنشد أبو عبيدة في ذلك بيتًا غلط في معناه) ثم قال: (وهذا كلام تستعمله الناس، يقول القائل: (بعضنا يعرفك)؛ يريد: أنا أعرفك، فهذا إنما هو تبعيض صحيح) "معاني القرآن" 1/ 415. أي: إن (بعض) هنا مستعملة في موضعها. لأن المتكلم بعض الناس. وقال ثعلب: (أجمع أهل النحو على أنَّ البعض شيء من أشياء، أو شيء من شيء) ثم ردَّ على من زعم أن المراد بـ (بعض) في بيت لبيد تعني: (كل) فقال عنه: (فادَّعى وأخطأ أنَّ (البعض) ههنا جمعٌ .. وانما أراد لبيد بـ (بعض النفوس): نفسَه). "تهذيب اللغة" 1/ 360. وكذا ردَّه النحاس، في "معاني القرآن" 1/ 403، وابن سيده، كما في "اللسان" 1/ 312، والزوزني في "شرح المعلقات السبع" ص 109.

51

وقوله تعالى: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو إسحاق (¬1): أي: لم أُحلَ لكم شيئًا بغير برهان، فهو حقيق (¬2) عليكم اتِّباعي؛ لأنَّني أتيتكم (¬3) ببرهان، وتحليل طيِّباتٍ كانت (¬4) حُرِّمَتْ عليكم. وإنَّما وحَّد (¬5) الآية، وكان قد أتاهم بآيات؛ لأنها كلُّها جنسٌ واحدٌ في الدلالة على رسالته. 51 - وقوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. أي: طريق من طرق الدين مستوي. ومضى الكلام في معنى (الصراط المستقيم) (¬6). 52 - قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}. معنى (الإحْساس) في اللغة: وُجودُ الشيء بالحاسة، من جهة المُلابَسة. هذا أصله ثم يختلف في الفرع، والأصل واحد (¬7). قال الفرَّاء (¬8): معنى {أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} (¬9)؛ أي: وجد. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 415، نقله عنه بنصه. (¬2) في "معاني القرآن" (حق). (¬3) في "معاني القرآن" (أنبئكم). (¬4) (كانت): ساقطة من (د). (¬5) من قوله: (وحد ..) إلى (.. رسالة): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" 3/ 54 أ. (¬6) انظر تفسير آية: 6 من الفاتحة، في "تفسير البسيط" (تح د/ الفوزان). (¬7) قال السمين الحلبي: (وأصله من (الحاسة)، وهي: القوة التي تُدرك الأعراض الحسِّيَّة. و (الحواس): المشاعر .. ويقال: (حَسَسْتُ)، بمعنى: فهمت وعلمت، ولكن لا يقال إلا فيما كان من جهة الحاسة، وأما (أحسَسْت)، فحقيقته: أدركته بحاستي. قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}، تنبيه: أنه قد ظهر منهم الكفر، ظهورًا بأن للحسِّ، فضلًا عن التفهم ..) "عمدة الحفاظ" 123 (حسس). (¬8) في "معاني القرآن" له: 1/ 216. (¬9) (منهم الكفر): ساقطة من (د).

والإحساس (¬1): الوجود. وقال ابن المُظَفَّر (¬2): {أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}: أي رأى. يقال: أحسَسْتُ من فلان أمرًا؛ أي: رأيت. وقال معْمَر (¬3): أحسَّ؛ أي: عرفَ. وقال الزجَّاج (¬4): أحسَّ في اللغة: عَلِمَ، ووجَدَ، ورأى (¬5). يقال (¬6): (هل أحسَسْتَ صاحبَكَ)؟؛ أي: هل رأيته. هذا كلام أهل اللغة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: أحسَّ: عَلِمَ (¬7). وقال مقاتل (¬8): رأى، نَظِير (¬9) قوله (¬10): {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]. ¬

_ (¬1) في (د): الإحساس (بدون واو). (¬2) هو الليث بن المظفر، وقد سبقت ترجمته. ولم أقف على مصدر قوله هذا. (¬3) هو أبو عبيدة، مَعْمر بن المُثَنَّى. وقوله في "مجاز القرآن" 1/ 94. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 416. (¬5) (ورأى) غير مذكورة في "معاني القرآن" للزجاج. وقد أورد الأزهري في "التهذيب" 1/ 817 قولَ الزجاج هذا، ولم يذكر فيه (رأى). (¬6) من قوله: (يقال ..) إلى (.. رأيته): غير موجود في "معاني القرآن" للزجاج، ولكن ذكره الأزهري في "التهذيب" 1/ 817 وعزاه للزجاج، مما يعني أن قولَ الزجاجِ هذا نقله المؤلف إما عن "تهذيب اللغة" أو عن نسخة أخرى لمعاني القرآن، لم يعتَمدها محقق الكتاب. (¬7) لم أقف على مصدر هذه الرواية عن أبي عباس. (¬8) قوله في "تفسيره" 1/ 278. ويبدو أن المؤلف نقل قوله عن "تفسير الثعلبي" 3/ 54 أ؛ نظرًا لاتفاق عبارته معه. (¬9) في (ب)، (ج)، (د)، "تفسير الثعلبي": نظيره. (¬10) في (ج): (وقوله). وعن ثعلب، قال في معنى هذه الآية: (معناه: هل تبصر، هل ترى؟). "تهذيب اللغة" 1/ 817 (حسس). =

وقوله تعالى: {مِنْهُمُ الْكُفْرَ}. يريد: القتل؛ وذلك أنَّهم أرادوا قتلَهُ حين دعاهم إلى الله (¬1) [تعالى] (¬2)، فاستنصر عليهم، وقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}. و (الأنصارُ): جمع (نَصِير)، مثل: (شَرِيف)، و (أشراف) (¬3). قال الحسن (¬4)، ومجاهد (¬5): إنَّما استنصر طلبًا للحماية من الكافرين، الذين أرادوا قتله عند إظهار الدعوة، ولم يستنصر للقتال؛ لأنه لم يُبْعث بالحرب. وقوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ}. أكثر أهل التفسير على أن المعنى: مع الله (¬6). ¬

_ = وقال ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 331: (معناه: هل تجد منهم من أحد.). (¬1) الكفر هنا بمعناه الأصلي الحقيقي، وإنما قال المؤلف: القتل؛ لأنهم أرادوا قتله، نظرًا لكفرهم وجحودهم دعوته، فكانت إرادة القتل من دوافع كفرهم وتكذيبهم به. هذا، والله تعالى أعلم. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 659، "تفسير الطبري" 3/ 283، "تفسير القرطبي" 4/ 97. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 92، 286، "الصحاح" 2/ 829 (نصر). (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 286، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 659، ولفظه عندهما: (استنصر، فنصره الحواريون، وظهر عليهم.)، وورد قوله كذلك في "النكت والعيون" 1/ 396. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 286، "النكت والعيون" 1/ 396، "زاد المسير" 1/ 394، ولفظه عند الطبري: (قال: كفروا وأرادوا قتله؛ فذلك استنصر قومه). (¬6) هو قول: السدِّي، ومقاتل، وابن جريج، وسفيان بن عيينه، والكسائي، وابن قتيبة، والطبري، ومكِّي بن أبي طالب. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 278، "تأويل مشكل القرآن" 571، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 106، "تفسير الطبري" 3/ 284، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 405، "تفسير الثعلبي" 3/ 55 أ، وتفسير=

قال الفرَّاء (¬1): وهو وجه حسن، وإنَّما يجوز أن تجعل (إلى) في موضع (مع)؛ إذا ضممت الشيءَ إلى الشيءِ (¬2)، مما لم يكن معه؛ كقول العرب: (الذَّوْدُ إلى الذَّودِ؛ إبِل) (¬3)؛ أي (¬4): إذا ضممت الذَّوْدَ إلى الذَّودِ (¬5)، صارت إبِلًا. فإذا كان الشيءُ مع الشيءِ، لم يصلح مكان (مع) (إلى) (¬6)، ألا ترى أنَّك تقول: قَدِمَ فلانٌ ومعه مالٌ كثيرٌ، ولا تقول في هذا الموضع: وإليه مالٌ كثير (¬7). وكذلك تقول: قَدِمَ فلانٌ إلى أهله، ولا ¬

_ = المشكل من غريب القرآن: 49. ويبدو أن المؤلف نقل هذه العبارة عن "معاني القرآن" للفراء: 1/ 218، ونصُّها عند الفراء: (المفسرون يقولون: من أنصاري مع الله). (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 218. نقله عنه مع تصرف يسير جدًّا. (¬2) (إلى الشيء): ساقطة من: (ج). (¬3) في (ج): الدود إلى الدود. وفي "معاني القرآن" إنَّ الذود إلى الذود. و (الذَّوْدُ) من الإبل من الثلاثة إلى العشرة، أو من الثلاثة إلى التسع، وقيل غير ذلك. ولفظ (الذود) مؤنث. انظر: "المذكر والمؤنث" للفراء: 77، "المنتخب" لكراع النمل: 1/ 291، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: 1/ 522، "المجمل" 362 (ذود)، "اللسان" 3/ 1525 (ذود). وهذا القول مَثَلٌ من أمثال العرب، وهو في كتاب الأمثال، لأبي عبيد بن سلام: 190، "تأويل مشكل القرآن" 571، وجمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري: 1/ 458، 462، 2/ 226، 289، والمخصص: 7/ 129، 14/ 67، 17/ 9، وفصل المقال في شرح كتاب الأمثال، لأبي عبيد البكري: 282، ومجمع الأمثال، للميداني: 1/ 288. والمستقصى من أمثال العرب، للزمخشري: 1/ 422، "اللسان" 3/ 1525 (ذود). (¬4) من قوله: (أي ..) إلى (.. الذود): ساقط من (د). (¬5) في (ج): (الدود إلى الدود). (¬6) (إلى): ساقطة من (د). (¬7) في "معاني القرآن": قدم فلان وإليه مال كثير.

تقول: مع أهله، ومنه قوله (¬1): {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] معناه: لا (¬2) تُضيفوا (¬3) أموالهم إلى أموالكم في الأكل (¬4). وقال أبو إسحاق (¬5): (إلى) ههنا إنما قاربت معنى (مع)، بأن صار اللفظ لو (¬6) عُبِّرَ عنه بـ (مع) (¬7) أفاد مثل هذا المعنى، لا أنَّ (إلى) في معنى (مع) (¬8). لو قلت: (ذهب زيد إلى عمرو)، لم يجز أن تقول: (مع عمرو) في (¬9) هذا الموضع؛ لأن (إلى) غاية، و (مع) تضمُّ الشيءَ إلى الشيءِ، والمعنى في الآية: من يضيف نُصْرَته إيَّايَ إلى نُصْرةِ الله. والحروف (¬10)، إنما يقع بعضها مكان بعض؛ لنوع تقارب في المعنى؛ لا أنَّ (¬11) أحدهما يقوم مقام الآخر، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: على. وأصل (في): إنما هو للوعاء (¬12)، وأصل (على): لما علا [على] (¬13) ¬

_ (¬1) في (أ): (قولهم). والمثبت من بقية النسخ، ومن "معاني القرآن". (¬2) في (ج)، (د)، "معاني القرآن": (ولا). (¬3) في (ب): (لا تضيعوا). (¬4) في الأكل: غير موجودة في "معاني القرآن". (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 416 نقله عنه بالمعنى. (¬6) في (د): (إذ). (¬7) في (ب): (مع)، بدون الباء. (¬8) (مع): ساقطة من: (ج). (¬9) في (ج)، (د): (وفي). (¬10) في (ج): (والحروف). (¬11) في (ج): (لأن) بدلًا من (: لا أن). (¬12) في (ب): (الدعاء). (¬13) ما بين المعقوفين زيادة من (د). وفي "معاني القرآن" 1/ 417: (وأصل (على) لما مع الشيء).

الشيء، تقول: (التمرُ في الجِراب)؛ المعنى فيه: أنَّ الجِراب مشتمل عليه، ولو (¬1) قلت: (التمرُ على الجِرابِ)، لم يصلح (¬2) في هذا المعنى. وجاز {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، بمعنى: على، لأن الجِذْع مشتمل على المصلوب، ولو قلت: (زيدٌ في الجبل)، و (على الجبل). [يصلح] (¬3)؛ لأن (¬4) الجبل قد اشتمل على زيد، فعلى هذا مَجاز هذه الحروف (¬5). وقوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} اختلفوا في (الحواريِّين): فقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬6): كانوا ¬

_ (¬1) في (ج): (لو بدون واو). (¬2) (لم يصلح): ساقطة من: (ج). (¬3) ما بين المعقوفين: زيادة من "معاني القرآن" ليتم بها المعنى. (¬4) في (ج): (أن). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 284، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 405. وقد سبق الحديث عن تناوب حروف الجر في التعليق على تفسير المؤلف لقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ}، آية: 9 من آل عمران. وانظر كذلك في هذا المعنى "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 806، "الخصائص" لابن جني: 2/ 306315. وقد قال ابن الأنباري كما نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير": 1/ 393: (ويجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله). وذكر الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 395 بقية الأقوال في الآية إضافة إلى ما سبق، وهي: من أنصاري في السبيل إلى الله. وقيل: من ينصرني إلى نصر الله. وقيل: من ينقطع معي إلى الله. (¬6) هذه الرواية في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 659، "تفسير الثعلبي" 3/ 55 أ، "النكت والعيون" 1/ 395، "زاد المسير" 1/ 394، وأوردها السيوطي في "الدر" 2/ 62، وزاد نسبة إخراجها للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وأخرجها البخاري تعليقًا، فقال: (وقال ابن عباس: .. وسُمَّيَ الحواريُّون لبياض ثيابهم) 7/ 79 "الفتح" كتاب فضائل أصحاب النبي، باب: مناقب الزبير بن العوام.

صيَّادين، سُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم. قال السُدِّي (¬1): وذلك أنَّ عيسى [عليه السلام] (¬2) مرَّ بهم وهم يصطادون السمكَ، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا (¬3): نصطاد السمك. قال: أفلا تمشون حتى نصطاد الناس؟ قالوا: وكيف ذاك؟ قال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، عبد الله ورسوله، فآمنوا به، وانطلقوا، فهم الحواريُّون. قال ابن الأنباري (¬4): وهذا قول بعض اللُّغَويِّين (¬5)، يقول: الحواريُّون: النِظَافُ الثِّياب؛ من قول العرب: (قد حُرْت الثوبَ): إذا غسلته، ونَظَّفته، قال: وإنما يراد بنظافة الثياب: نظافةُ الأديان والأعمال. يقال: (فلانٌ نظيف الثياب): إذا كان صالحًا، و (دَنِسُ الثياب): إذا كان غادرًا و (¬6) فاجرًا. قال امرؤ القيس: ثِيابُ بني عَوْفٍ طَهارى نقِيَّةٌ (¬7) ¬

_ (¬1) قوله هذا جزء من أثر طويل أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 284 - 286. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬3) في (ج): (قالوا بدون فاء). (¬4) في " الزاهر" 1/ 121 - 122، ونقله عنه بالمعنى، ولكن قوله: (وإنما يراد ..) وما بعده، غير موجود في كتابه "الزاهر" في هذا الموضع، وإنما ورد معناه في نفس الكتاب في 1/ 539، فإما أن يكون المؤلف نقل بالمعنى من الموضعين ولَفَّق بينهما، أو يكون نقله من كتاب آخر لابن الأنباري. (¬5) في (ج): (الكوفيين). وقد عزا ابن الأنباري هذا القول لقطرب، وهو محمد بن المستنير. (¬6) في (ج)، (د): (أو). (¬7) في (ج): (نظيفة). وهذا صدر بيت، وعجزه: وأوْجهُهُم عند المشاهد غُرَّانُ

أراد بـ (الثياب): الأفعال. وقال [ابن عباس] (¬1) في رواية عَطَاء (¬2): كانوا قَصَّارين (¬3)، وكانوا يُحَوِّرُون الثياب؛ أي: يُبَيِّضونَها (¬4). ¬

_ = وقد ورد في ديوانه: ص 167، كما ورد منسوبًا له، في "الزاهر" 1/ 539، "تهذيب اللغة" 3/ 2226 (طهر)، 3/ 2652 (غرر)، "الصحاح" 2/ 767 (غرر)، "اللسان" 5/ 2712 (طهر)، 6/ 3234 غرر)، "التاج" 7/ 301. وترويه بعض المصادر السابقة: (.. وأوجُهُهُم بِيضُ المَسافِرِ غُرَّان). و (طَهارى) و (أطهار): جمع طاهر، وترد (طهارى) نادرة. و (غُرَّان): جمعٌ، ومفردها: (أغَرُّ). و (رجل أغرُّ الوجه): إذا كان أبيض الوجه، و (هو من قومٍ غُرِّ، وغُرَّان). و (مَسَافِر الوجه): ما يظهر منه. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2652 (غرر)، "اللسان" 5/ 2712 (طهر)، و4/ 2024 (سفر). قال ابن الأنباري: (وهم يكنون بالثياب عن النفس والقلب ..)، ثم قال عن البيت: (معناه: هم في أنفسهم طاهرون). "الزاهر" 1/ 539. وقال عنه الزبيدي: (أي: إذا اجتمعوا لغرْم حَمَالةٍ، أو لإدارة حرب، وجدت وجوههم مستبشرة، غير منكرة). "التاج" 7/ 301. (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬2) ورد معنى هذه الرواية عن عطاء دون رفع إلى ابن عباس في "تفسير الثعلبي" 3/ 55 أ، وفي "تفسير البغوي" 2/ 42. وورد هذا القول عن أبي أرطأة يرويه عن ابن أبي نجيح، كما في "تفسير الطبري" 3/ 287، "تفسير الثعلبي" 3/ 55 أ. وورد عن الضحاك ومقاتل، كما في "زاد المسير" 1/ 494، "غرائب القرآن" 3/ 501، "البحر المحيط" 2/ 471. (¬3) قَصَرَ الثوبَ قِصَارةً: حَوَّره ودقَّهُ. وقصَّره تقصيرًا، مثله. والقصَّار، والمُقَصِّرُ: المُحَوِّرُ للثياب، لأنه يدُقُّها بالقَصَرَةِ، وهي قطعة من الخشب، وحرفته: القِصارَةُ. والمِقْصَرَةُ: خشبة القصَّار. انظر: "اللسان" 6/ 3649 (قصر). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد: 1/ 217، "تهذيب اللغة" 1/ 696 (حور)، "مقاييس اللغة" 2/ 116 (حور)، "اللسان" 2/ 1044 (حور).

وهو قول مصعب (¬1)، قال (¬2): كانوا مع عيسى، اتَّبعوه وصدَّقوه (¬3)، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام أو (¬4) الشراب، دعا الله تعالى، فيخرج (¬5) من الأرض ما يأكلون، وما يشربون، أينما كانوا. فقالوا له (¬6): من (¬7) أفضل منَّا؟ إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنَّا بك!؟ فقال: أفضل (¬8) منكم من يعمل بيده، ويأكل من [كسبه] (¬9). قال: فصاروا يغسلون الثياب بالكراء، ثمَّ صار هذا الاسم مُستعمَلا فيمن أشبههم (¬10) من المُصدِّقين بأنبيائهم (¬11)؛ تشبيهًا بهم. وروى جُوَيْبِر (¬12) عن الضحَّاك، قال (¬13): مرَّ عيسى عليه السلام بغسَّالين، ¬

_ (¬1) هو: مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري، أبو زرارة المدني، تابعي، ثقة كثير الحديث. توفي سنة (103هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 303، "المراسيل" 206، "تهذيب التهذيب" 4/ 84. (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 55 ب. (¬3) في (ب): (وصل وقوه). (¬4) في (ب)، (د): (و). (¬5) في (ج): (ليخرج). (¬6) في (ب): (أيا الـ) بدلًا من: (له). (¬7) (من): ساقطة من: (ب). (¬8) في (أ)، (ب): (يال)، والمثبت من: (ج)، (د). (¬9) ما بين المعقوفين غير مقروءة في (أ). والمثبت من: بقية النسخ، ومن "تفسير الثعلبي". (¬10) في (ب): (أشباههم). (¬11) (بانبيائهم): ساقطة من (ج)، (د). (¬12) هو: أبو القاسم، جويبر بن سعيد الأزدي البلخي. تقدمت ترجمته. (¬13) الأثر في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 659، "الدر المنثور" 2/ 63، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

يغسلون الثياب، فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل، فآمنوا، فسمَّاهم الله: حواريين. قال: وهي (¬1) بلغة النَّبَط (¬2): هواري (¬3). قال أبو بكر (¬4): فمن أخذ بهذا القول، قال: هذا حرفٌ اشتركت فيه لغة العرب ولغة (¬5) النَّبَطٍ. وهذا قول مقاتل بن سليمان: إنَّ الحواريِّين القصَّارون (¬6). قال أبو بكر (¬7): ¬

_ (¬1) (وهي): ساقطة من (د). (¬2) في (ب): (وهي بلغة القيطي). و (النَّبَطُ): جِيْل ينزلون سواد العراق، ويقال: النَّبيط، والأنباط. والمفرد: نَبَطي، ونُباطي، ونَباط، ويقال كذلك: بَناطي. انظر (نبط) في "تهذيب اللغة" 4/ 3497، "التاج" 10/ 425. وفي الموسوعة العربية الميسرة: أنهم قبائل بدوية كانت تعيش في الصحراء في شرق الأردن، وقامت لهم دولة قديمًا، سنة (169 ق. م)، وعاصمتهم البتراء، ولغتهم العربية. ص: 231 - 232. (¬3) انظر: "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي: 86، وقد أورد هذا الأثر عن الضحاك، وأورد عن ابن جريج فيما يرويه عنه ابن المنذر: (الحواريون: الغسَّالون للثياب، وهي بالنبطية: الحوار)، وأشار محقق الكتاب الدكتور التهامي الهاشمي إلى أن هذه اللفظة في اللغة الحبشية تعني: (رسول)، ولها أصل في الآرامية، وتعني عندهم: (الأبيض). (¬4) هو ابن الأنباري، وقد ورد التصريح باسمه في "الدر المصون" 3/ 210. ولم أقف على مصدر قوله. (¬5) في (ب): (واللغة). (¬6) قوله في "تفسيره" 1/ 278. قال: (فمرَّ عيسى عليه السلام على الحواريين، يعني: على القصارين. غسَّالي الثياب). (¬7) في (ج): قال أبو بكر ومقاتل. ولكن لم أجد هذا القول لمقاتل في تفسيره، ولا في بقية المصادر التي رجعت إليها، ولم يعزه أحد منها إليه، ولم تذكره بقية النسخ؛ لذا أهملته، ولم أثبته في الأصل؛ لما ترجح عندي أنه سبق قلم من الناسخ. وقول أبي بكر بن الأنباري، في "الزاهر" 1/ 121، ونصُّه: (وقال آخرون: الحواريون: المجاهدون، واحتجوا بقول الشاعر: ..)، ثم ذكر الشعر، وبقية العبارات غير موجودة في "الزاهر" فقد يكون المؤلف نقل قوله هذا عن كتاب آخر له، أو أنه أضاف هذه العبارات من عنده، توضيحًا وشرحًا. والله أعلم.

ويقال (¬1): الحوارُّيون: المجاهدون، وسُمِّيَ أصحابُ عيسى حواريين؛ لمجاهدتهم معه، وصبرهم على منازعة أهل الكفر، وأنشد: ونحن أناسٌ يملأُ البَيْضَ هامُنا ... ونحنُ حَواريُّون حينَ نُزاحِفُ. جماجمُنا يومَ اللقاءِ تِراسُنا ... إلى الموت نمشي (¬2) ليس فيها تَجانُفُ (¬3) ¬

_ (¬1) في (ج): (يقال بدون واو). (¬2) في (ج): (تمشي). (¬3) لم أهتد إلى قائله. وهما في "الزاهر" 1/ 121، "زاد المسير" 1/ 394 وقد ورد البيت الثاني فيهما برواية: (.. ليس فينا ..). ومعنى (البَيْضَ) هنا: الحديد الذي يوضع على الرأس لحمايته في العرب، وهي: الخُوذَة، ومفردها: بَيْضَة. وقوله: (هامُنا): جمع (هامة)، وهي: الرأس. وقوله: (نزاحف) من (الزَّحْفِ)، وهو: المشي قليلًا، قليلًا. ويراد به هنا الزحف لقتال العدو. و (الجماجم)، جمع: جُمْجُمَة، وقد يريد بها هنا جمجمة الرأس، أو يريد: جماجم القوم؛ أي: ساداتهم ورؤساؤهم، ويكون معنى البيت في هذه الحال: أن سادتهم يتقدمونهم للحرب، ويكونون لهم كالترس الواقي. و (التِراسُ)، جمع: (تُرْس)، وتجمع كذلك على (أتراس) و (تِرَسة) و (تُروس)، وهو: ما يُتَوقَّى به في الحرب. و (تَجانُف): تمايل. وهي مصدر: (تَجانَفَ)، أي: مال. وقد وردت في المخطوطة (تجانف) بكسر النون، وأثْبَثُّ ما رأيته صوابًا؛ لأن (تَفاعَلَ) يأتي مصدرها على (تَفاعُل) بضم العين. انظر: "المزهر" للسيوطي: 2/ 81 وانظر: "اللسان" 8/ 4723 (هوم)، 3/ 1816 (زحف)، 2/ 686 (جمم)، 1/ 428 (ترس)، 2/ 700 (جنف)، "المعجم الوسيط" 1/ 78 (بيض)، (1011) (هوم).

والمختار من هذه الأقوال عند أهل اللغة: أنَّ هذا الاسم لزمهم للبياض. قال (¬1) أبو عبيد (¬2): سُمَّي أصحاب عيسى الحواريين، للبياض، وكانوا قصَّارين. قال الفرزدق (¬3): فقلت إنَّ الحوارِيَّات مَعْطَبَةٌ ... إذا تَفَتَّلْنَ (¬4) من تَحْتِ الجَلابِيبِ (¬5) يعني: النساء (¬6). ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الزُّبَير (¬7) ابنُ (¬8) عمَّتي، وحَواريَّ من ¬

_ (¬1) من قوله: (قال ..) إلى (.. هم خاصة الصحابة): نقله بتصرف قليل واختصار في بعض المواضع عن "تهذيب اللغة" 1/ 696. (¬2) قوله في "غريب الحديث" 1/ 217، وقد نقله عنه الأزهري بمعناه، ونقله الواحدي عن الأزهري. (¬3) هو: أبو فراس، هَمَّام بن غالب بن صعصعة التميمي. تقدمت ترجمته. (¬4) في (د): (تقتلن). (¬5) البيت، في ديوانه: 25. كما ورد في "تهذيب اللغة" 1/ 696 (حور)، "تفسير الثعلبي" 3/ 56 أ، "اللسان" 2/ 1043 (حور)، "الدر المصون" 3/ 209. ومعنى (مَعْطَبَة): مَهْلَكَة؛ من: (عَطِبَ)، أي: هلك. و (تفَتَّلْنَ): تمايلن، وتلَوَّيْنَ، وأصلها من: (فَتَلَ الحبلَ، وفتَّله): إذا لواه و (الجلابيب): جمع (جِلْباب): القميص أو الثوب الواسع. انظر (عطب) في "القاموس" ص 116، و (فتل) في "اللسان" 6/ 3344، "القاموس" ص1041، و (جلب) في "القاموس" ص 68. (¬6) انظر هذا المعنى في: "جمهرة اللغة" لابن دريد: 258 (حور)، "تهذيب اللغة" 1/ 696 (حور). قال ابن دريد: (الحَواريَّات: النساء الحَضَرِيَّات؛ سُمِّين بذلك لنقائهن، وبياضهنَّ). (¬7) في (ب): (النصر). (¬8) في (ب): (بين بن).

أمَّتي" (¬1). قال أبو عبيد (¬2): أصل هذا إنما كان (¬3) بُدُوَّهُ (¬4) الحواريُّون (¬5)، ¬

_ (¬1) الحديث بهذا اللفظ: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 3/ 314 (وانظر: "الفتح الرباني" للبنا: 22/ 240)، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 6/ 379 (32154). وورد في "غريب الحديث" 1/ 217، وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" 11/ 682، وعزاه لأحمد. وورد بلفظ: "إن لكل نبي حواريَّ، وإن حواريَّ الزبير بن العوام". أخرجه البخاري (3719)، كتاب: فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب: مناقب الزبير بن العوام (4113) كتاب: المغازي، باب، غزوة الخندق (2846) باب: فضل الطيعة، (2847) باب: هل يبعث الطليعة وحده، (2997) باب: السير وحده من كتاب: الجهاد. وأخرجته الكتب التالية بنصه أو قريبًا منه: صحيح مسلم: (2415) كتاب فضائل الصحابة، باب (من فضائل طلحة والزبير). وسنن الترمذي: (3744)، (3745) كتاب المناقب، باب، 24، 25، "مسند أحمد" 1/ 89، 3/ 307. (وانظر: "المسند" بشرح: أحمد شاكر: 2/ 79). "سنن ابن ماجه" (122)، المقدمة، باب: فضل الزبير. وانظر: "صحيح سنن ابن ماجه" للألباني: 1/ 27). "المستدرك" 3/ 362 كتاب معرفة الصحابة، "الحلية" لأبي نعيم: 4/ 186، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 151، والمتقي الهندي في "كنز العمال" 11/ 682. والزبير، هو: ابن العوّام بن خويلد الأسدي القرشي، تقدمت ترجمته. (¬2) قوله في "غريب الحديث" 1/ 217، وقد نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 696 بمعناه، ونقله الواحدي عن الأزهري. (¬3) في (د): (يكون). (¬4) في (ب): (بد). وفي "تهذيب اللغة" بَدْؤُهُ، وليس موجودة في "غريب الحديث" وأثبتُّها كما هي أعلاه؛ لاتفاق النسخ عليها، ولصحة معناها؛ لأن (البُدُوَّ)، يعني: الظهور، من: (بدا)؛ أي: ظهر، (يبدو، بَدْوًّا، وبَدًا). أما (بَدْؤُهُ)، فهي من: (بَدَأ، يبدَأ، بَدْأ)، و (البَدْءُ): فعلُ الشيءِ أوَّلُ. انظر: "اللسان" 1/ 234 (بدا)، و1/ 223 (بدأ). (¬5) في (ب): (الحواريين).

أصحاب عيسى؛ سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثياب، وهو (¬1): التبييض، فلما كانوا هؤلاء أنصار عيسى دون الناس، قيل لكلِّ ناصرٍ نَبِيَّهُ: (حواريٌ)، تشبيها بأولئك. وروى (¬2) ثَعْلَب عن ابن الأعرابي: الحوارُّيون: الأنصار، وهم خاصَّة الصحابة (¬3)، وهذا معنى قول قتادة (¬4)، والكلبي (¬5)، وأبي رَوْق (¬6)، قالوا: الحواريُّون: خَواصُّ عيسى، وأصفياؤه (¬7). واختاره الفرَّاء (¬8). وروى شَمِر عن ابن الأعرابي، أنه قال (¬9): الحواري: الناصح، وأصله: الشيء الخالص. وكلُّ شيءٍ خَلَصَ لونُهُ، فهو: حَواري. والحواريَّات من النساء: النَّقِيَّاتُ الألوان والجلود. قال أبو عبيدة (¬10): يقال لنساء الأمصار: حواريات؛ لأنهنَّ تباعدن ¬

_ (¬1) في (ج): (وهي). (¬2) في (ج): (روي بدون واو). (¬3) في "تهذيب اللغة" أصحابه. وأشار محققه في الهامش إلى ورود (الصحابة) في نسخة أخرى للتهذيب. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 6/ 450، "تفسير الثعلبي" 3/ 56 ب، "تفسير البغوي" 2/ 43. (¬5) قوله في "تفسير البغوي" 2/ 43. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 287، يروي عن الضحاك. (¬7) في (ج): (وأصفيائه). (¬8) في "معاني القرآن" له: 1/ 218. (¬9) لم أهتد إلى مصدر رواية شمر عن ابن الأعرابي. (¬10) من قوله: (قال أبو عبيدة ..) إلى نهاية بيت الشعر. نقله عن "تهذيب اللغة" 1/ 697، والأزهري في "التهذيب" ذكر معنى قول أبي عبيدة. ونص قوله كما في "مجاز القرآن" 1/ 95: (و (الحواريات) من النساء: الاتي لا ينزلن البادية، وينزلن القرى. قال الحادي: (لمَّا تضمَّنت الحواريات). وقال أبو جلدة اليشكري: ..) وذكر بيت الشعر.

عن قَشَفِ الأعرابيات، وأنشد: فَقُلْ للحواريَّات يَبكِينَ غيرَنا ... ولا يبْكِينا إلاَّ الكلابُ النَّوابِحُ (¬1) واختار الزجَّاج هذا القول، وقال (¬2): الحُذَّاقُ باللغة يقولون: الحواريون: صفوة الأنبياء، الذين خَلَصوا (¬3)، وأخْلصوا في التصديق بهم، ونُصرتهم (¬4). ¬

_ (¬1) البيت لأبي جِلْدة بن عبيد اليشكري. وقد ورد منسوبًا له، في "مجاز القرآن" 1/ 95، "تفسير الطبري" 3/ 278، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 418،"معاني القرآن" للنحاس 1/ 407، "المؤتلف والمختلف" للآمدي: 106، 107، "الصحاح" 2/ 640 (حور)، "تفسير الثعلبي" 3/ 56 أ، وفيه (ابن حلزة)، "المحرر الوجيز" 3/ 139، "اللسان" 2/ 1044 (حور)، " البحر المحيط" 2/ 470. وورد غير منسوب، في غريب لحديث، لأبي عبيد: 1/ 217، "الجمهرة" لابن دريد: 285 (نبح)، "الزاهر" 1/ 121، "تهذيب اللغة" 1/ 697 (حور)، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 116 (حور)، "أساس البلاغة" 1/ 205 (حور)، "تفسير القرطبي" 4/ 98. وقد ورد البيت في أكثر المصادر بلفظ: (.. ولا تبكنا.)، وفي "التهذيب". (ولا يَبكِينَ)، وفي المؤتلف والمختلف: (فقل لنساء المصر ..). ومعنى البيت: قل للنساء الحضريات، المترفهات، البيضاوات، يبكين غيرنا، أما نحن، فغير مترفين ولا مرفهين، بل من أهل البدو، فلا تبكي علينا إلا الكلاب النوابح التي تخرج معنا للصيد. (¬2) "معاني القرآن" له: 1/ 417، نقله عنه بتصرف يسير. (¬3) في (د): (أخلصوا). (¬4) هذا الذي قاله الزجاج، إنما هو من إطرادات كلمة (حواري)، وتقرير حال أولئك الذي أطلِقت عليهم هذه الكلمة، وليس تفسيرًا لفظيًا لها، لأن أصل كلمة (حَوَرَ) هو: شدة البياض، وكما بيَّن المؤلف أن أصحاب عيسى عليه السلام وخاصته، سُمُّوا بذلك؛ لتبييضهم الثياب، فجرى هذا الاسم لهم، ثم أطلق على خاصَّة الأنبياء وناصريهم. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 287، "المحرر الوجيز" 3/ 138.

53

وقوله تعالى: {نَحْنُ أَنصَارُ الله}. أي: أنصار دين الله، آمنَّا بالله، واشهد يا عيسى بأنَّا مسلمون. 53 - وقوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} قال عطاء، عن ابن عبَّاس (¬1): يريد: مِن النبيِّين (¬2)؛ لأن كل نبي شاهدُ أمتِّهِ. قال: فنبَّأهم الله -تعالى- أجمعين، إجابة (¬3) لهم، فأحيوا الموتى، وصنعوا كل ما صنع عيسى (¬4). وقال أكثر أهل التفسير (¬5): (اكتبنا [مع الشاهدين] (¬6)): مع الذين شهدوا للأنبياء بالصدق. ومعنى (اكتبنا معهم): أَثبِت أسماءَنا مع أسمائهم؛ ¬

_ (¬1) ورد الأثر عن عطاء دون أن يُرفع إلى ابن عباس، في "تفسير الثعلبي" 3/ 57أ، "تفسير البغوي" 2/ 43، "زاد المسير" 1/ 395. وورد من رواية عكرمة من ابن عباس: (قال: مع محمد وأمَّتِهِ، فإنهم قد شهدوا أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل على أنهم قد بَلَّغوا) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 279، رقم (11732). (¬2) هكذا جاءت في جميع النسخ (من النبيين)، وعند الثعلبي: (مع النبيين). وقد ورد عن ابن عباس في هذا المعنى قولَه: (من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته أنهم قد شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا). انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 660، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 407، "تفسير الثعلبي" 3/ 57 أ، "تفسير البغوي" 2/ 43، "تفسير ابن كثير" 1/ 392، "الدر المنثور" 2/ 63، وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردوية. (¬3) في (ج): (أجابهم). (¬4) من قوله: (قال: فنبأهم ..) إلى (.. ما صنع عيسى): هذه الزيادة لم أقف عليها فيما رجعت إليه من مصادر. (¬5) ممن قال بهذا الطبري، في تفسيره: 3/ 288، والزجاج، في "معاني القرآن" 1/ 418، والنحاس، في "معاني القرآن" 1/ 407. (¬6) ما بين المعقوفين: زيادة من: (د).

54

لنفوز بمثل (¬1) ما فازوا، وننال مِن الكرامة مثل ما نالوا. 54 - [و] (¬2) - قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ}. أصل (المَكْر) في اللغة: السعي في الفساد (¬3) في خفية، ومُداجاة (¬4). قال الزجاج (¬5): يقال: (مَكَرَ الليلُ، وأمْكَر): إذا أظلم (¬6). قال ابن عباس (¬7): يريد: أنَّ عامَّة بني إسرائيل كفروا به، وهَمَّوا بقتله، وتواطئُوا على الفتك به، فذلك مكرهم به. وقوله تعالى: {وَمَكَرَ اللَّهُ}. قال أهل المعاني (¬8): المَكْرُ مِنَ (¬9) ¬

_ (¬1) في (د): (مثل). (¬2) ما بين المعقوفين: زيادة من (د). (¬3) في (ج)، (د): (بالفساد). (¬4) انظر (مادة: مكر) في "كتاب العين" 5/ 370، "تهذيب اللغة" 4/ 3434، "تفسير الثعلبي" 3/ 57 أ، "اللسان" 7/ 4247، "التاج" 7/ 493494. و (المُداجاة): من: (داجى الرجلَ): ساتره بالعداوة، وأخفاها عنه، فكأنه أتاه في الظلمة. و (المداجاة): المداراة، و (داجَيتة): داريته، وكأنك ساترته العداوة انظر: "اللسان" 3/ 1332 (دجا). (¬5) لم أقف على مصدر قوله وقد ذكره كذلك السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 212، ولم يبين مصدره. (¬6) لم أعثر على هذا المعنى فيما رجعت إليه من مصادر اللغة، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 57 أقائلًا: (قال أهل المعاني: المكر: السعي بالفساد في سَتر ومُداجاة، وأصله من قول العرب: (مكَرَ الليلُ): إذا أظلم). (¬7) لم أقف على مصدر قوله وقد أورد معناه ابنُ الجوزي في "زاد المسير" 1/ 395. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 218، "معاني القرآن" للزجاج، 1/ 419، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 408، "تفسير الثعلبي" 3/ 57 أ. (¬9) في (د): (في).

المخلوقين: خِبٌّ (¬1) وخِداعٌ، وهو مِنَ الله: استدراجه العِبادَ. قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). قال ابن عباس في تفسيره (¬3): كلَّما أحدثوا خطيئةً، جدَّدْنا (¬4) لهم نعمةً. وليس المراد بـ (مَكْرِ اللهِ) في هذه الآية، هذا الوجه. ووجه (مكرِ اللهِ) بهم في هذه القصَّة، ما قال الزجاج، وهو أنه قال (¬5): المكر من الله عز وجل: المجازاة على ذلك، فسُمِّي باسمه، كقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، وقد مرَّ (¬6) ¬

_ (¬1) في (د): (خبث). (الخِبُّ) بكسر الخاء: الخِداع، والخُبْثُ، والغِشُّ. و (الخَبُّ) بفتح الخاء، وقد تكسر: الخدَّاع، الذي يسعى بين الناس بالفساد، والفعل منه: (خَبَّ)؛ أي: خَدَعَ وغشَّ غشًا منكرًا، و (خبَّبَهُ تخبيبًا): خدعه وأفسده. انظر (مادة: خبب) في "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث": 1/ 541، "القاموس" 77. (¬2) سورة الأعراف: 182، والقلم: 44. (¬3) في (ج): (تفسير). وقوله أورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 57 أ، وذكره المؤلف في تفسيره "البسيط"، تح (د). الفوزان) 2/ 541، والقرطبي في "تفسيره" 4/ 98. (¬4) في (ج): (حددنا). (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 419، نقله عنه باختصار. (¬6) انظر: "تفسير البسيط" للمؤلف: [البقرة: 15]. والواحديُّ عند تفسيره لهذه الآية أوَّلَ الاستهزاء الوارد في الآية بالمجازاة؛ أي: يجازيهم جزاء استهزائهم، وأجراه على المجاز، لا على الحقيقة، وما ذكره المؤلف حول معنى الاستهزاء، والمكر الوارد في هذه الآيات إنما هو من لوازم معانيها، والواجب في مثل هذه الألفاظ الاستهزاء، والمكر، والخديعة، والسخرية الواجب فيها أن تُثبت على الحقيقة، كما أثبتها الله لنفسه، دون تأويل. وتُجرى وفق ما يليق به تعالى ولكن لا يُشتَق من هذه الأفعال التي أطلقها الله على نفسه أسماءٌ منها، فلا يقال: ماكر، ولا مستهزيء، حاشاه عن ذلك؛ وذلك أن هذه الأفعال في إطلاقاتها، أوسع من=

قال المفسرون: ومكْرُ اللهِ بهم في هذه القصَّه: إلقاءُ شَبَهِ عيسى على (¬1) من دَلَّ عليه، حتى صُلِب بَدَلَه. قال ابن عباس: وذلك أن أحد الإنجيلية (¬2) ممن آمن به، نافَقَ، فدلَّ (¬3) عليه، فجعله (¬4) الله تعالى في سورة عيسى، فأُخِذ فَصلِبَ (¬5). ¬

_ = إطلاقات الأسماء. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 132 - 133، "مجموع فتاوى ابن تيمية" 7/ 111 - 112، "إعلام الموقعين" لابن القيم: 3/ 217 - 218، "مدارج السالكين" 3/ 415. (¬1) من قوله: (على ..) إلى (.. في سورة عيسى): ساقط من: (ج). (¬2) في (د): (أصحابه). (¬3) في (ج): (يدل). (¬4) (أ)، (ب): (جعل)، وهي ساقطة من: (ج). والمثبت من (د). (¬5) الذي وقفت عليه مما ورد عن ابن عباس: أن اليهود لمَّا أرادوا قتل عيسى عليه السلام حاصروه، وحوارييه، ثم بعث رأسُ اليهود رجلًا خبيثًا ليدخل ويقتل عيسى عليه السلام، فرفع اللهُ عيسى، وألقى شبهَهُ على هذا الرجل، فلمَّا خرج الرجلُ إلى أصحابه بعد أن لم يرَ عيسى، ظنَّه أصحابُه أنه عيسى، فقتلوه وصلبوه. وقد أورد هذه القصة عن ابن عباس: الثعلبيُّ في "تفسيره" 3/ 57 ب، والبغوي في "تفسيره" 2/ 4445، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 395، وأوردها القرطبي في "تفسيره" ولم يعزها إلى ابن عباس. وكذا ورد عن السدِّي بمعناه كما في "تفسير البغوي" 2/ 45، وعن مقاتل في "تفسيره" 1/ 278. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس من طريق سعيد بن جُبير قصَّةً، مُلَخصها: أن عيسى عليه السلام لما خرج على أصحابه، وهم اثنا عشر رجلًا، قال لهم: (أيُّكم سيُلقى عليه شَبَهي، فيُقتَل مكاني، فيكون معي في الجنة؟) فتطوع أحدهم، فألقِيَ عليه شَبَه عيسى عليه السلام، ثم رفع عيسى إلى السماء، ولما جاء طلبُ اليهود، أخذوا الشبيه، فقتلوه وصلبوه. انظر: "مصنف ابن أبي شيبة": 6/ 342. وكذا ورد بهذا المعنى عن السُدِّي، كما في "تفسير الطبري" 3/ 289، وورد مثله عن قتادة في "تفسير البغوي" 2/ 45 =

55

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. أي: أفضل المُجازين بالسيِّئَة العقوبة. 55 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى}. الآية. العامل في (إذ): قوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ} (¬1). واختلف أهل التأويل في هذه الآية على طريقين: أحدهما: إجراء الآية (¬2) على سياقها من غير تقديم ولا تأخير. وهو قول الحسن (¬3)، والكلبي (¬4)، وابن جُريج (¬5)، وابن زيد (¬6)، ومَطَر (¬7)، قالوا: معنى ¬

_ = فليس في هذه الروايات عن ابن عباس وغيره، أن الذي دلَّ عليه كان ممن نافق من أصحابه، ولكن ورد ذلك عن وهب، وهو: أن الذي دلَّ اليهود عليه أحدُ الحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام بعد أن أخذ رشْوَةً من اليهود، فلما دخل هذا الرجل إلى البيت الذي فيه عيسى، رفع اللهُ عيسى عليه السلام، وألقي شبَهَهُ على الرجل، فأخذه بعدها اليهود وقتلوه وصلبوه، ظنًا منهم أنه عيسى عليه السلام. انظر هذه الرواية عن وهب في "تفسير الثعلبي" 3/ 57 ب، "تفسير البغوي" 2/ 46. (¬1) أي إنها منصوبة بقوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ} أي ت ومكر الله بهم في هذا الوقت. وقيِل: إن الناصب لها، قوله: {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. وقيل: إن الناصب لها، فعل مقدَّر، هو: (اذكر). انظر تفسير "الكشاف" 1/ 432، "غرائب القرآن" 3/ 203، "الدر المصون" 3/ 213. (¬2) في (ج): (الإجراء). (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 289 - 290، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 661، "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "النكت والعيون" 1/ 397، "تفسير البغوي" 2/ 45، "زاد المسير" 1/ 396، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 64. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "تفسير البغوي" 2/ 45. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 290، "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "النكت والعيون" 1/ 397، "تفسير البغوي" 2/ 45، "زاد المسير" 1/ 396. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 290، "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "النكت والعيون" 1/ 397. (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 290، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 410، "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "تفسير ابن كثير" 1/ 393. ومطر، هو: ابن طَهْمان الوَرّاق،=

{مُتَوَفِّيكَ}: قابضك من غير موت. و (التَّوَفِّي): أخذُ الشيء وافيًا (¬1). وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (¬2). يدل على هذا القول: قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: 117]، أي: قبضتني إلى السماء (¬3). فعلى هذا، معنى قوله: {مُتَوَفِّيكَ}: قابضك وافيا، لم ينالوا منك شيئًا (¬4). وقال (¬5) الربيع (¬6): معناه: متوفيك وفاة نومٍ (¬7)، للرفع (¬8) إلى السماء، ¬

_ = أبو رجاء، السّلمي مولاهم، الخراساني، سكن البصرة، قال ابن حجر: (صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف). مات سنة (125هـ)، وقيل: (129هـ). انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 251 - 252، "تقريب التهذيب" 534 (6699). (¬1) انظر (مادة: وفى) في "تهذيب اللغة" 4/ 3924 - 3925، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 878، "التاج" 20/ 300. (¬2) انظر: "تفسير البسيط" للمؤلف: 3/ 804 - 805، وانظر في موضع آخر عند تفسير آية: 281 من البقرة. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 139، "أبي السعود" 3/ 101، "البيضاوي" (68). (¬4) وهذا الذي رجحه الطبري في "تفسيره" 3/ 289 - 290، حيث قال: (وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قول من قال: (معنى ذلك: أني قابضك من الأرض، ورافعك إليَّ)؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدَّة ذكرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه" ثم ذكر ابن جرير روايات في ذلك. (¬5) في (ج): (قال). (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 289، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 409، والنكت العيون: 1/ 397، "تفسير البغوي" 2/ 45، "تفسير ابن كثير" 1/ 393. (¬7) (نوم): ساقطة من: (ج). وقد وردت في جميع النسخ (يوم) بدلًا من: (نوم)، وما أثبتُّه هو الصواب؛ لأن المقصود بها أن الله رفعه إليه بعد أن نام، وقد سمَّى الله النوم وفاة، كما جاء في الدليل بعدها، وهو ما تدل عليه روايات الأثر في مصادره المذكورة سابقًا. (¬8) في (د): (الرفع).

يدلُّ عليه: قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]. قال ابن عباس في رواية الوالبي (¬1): معناه: إنِّي مميتك. ووجه هذا القول؛ ما قال وهبٌ (¬2): توفَّى اللهُ عيسى ثلاثَ ساعات من النهار، ثمَّ أحياه، ورفعه إليه (¬3). وقال الواسطي (¬4): معناه: إنِّي متوفيك عن شهواتك و [عن] (¬5) حظوظ ¬

_ (¬1) هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه تعليقًا: 6/ 190 كتاب "تفسير القرآن" سورة المائدة، باب: 13. وهي كذلك في "تفسير الطبري" 3/ 290، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 661، "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "تفسير البغوي" 2/ 45، "تفسير ابن كثير" 1/ 393. وأورَدَها السيوطى في "الدر المنثور" 2/ 64، وزاد نسبت إخراجها لابن المنذر. وانظر: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير" 1/ 169. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 290، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 661، "مستدرك الحاكم" 2/ 596، "تفسير الثعلبي" 3/ 58 ب، "تفسير البغوي" 2/ 45، "المحرر الوجيز" 3/ 143، "تفسير ابن كثير" 1/ 393. (¬3) أخرج الحاكم عن وهب، قوله: (توفى الله عيسى ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إليه، والنصارى تزعم أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ..). وقال الذهبي عن هذه الرواية: (رواه عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عنه، قلت: وعبد المنعم، ساقط). "المستدرك" 2/ 596، كتاب: تواريخ المتقدمين. وأورد السيوطي عن وَهْب، قوله: (أماته الله ثلاثة أيام، ثم بعثه ورفعه). "الدر المنثور" 2/ 64، ونسب إخراجه لابن عساكر. قال الطبري رادًا على من قال بأن الله أماته في الدنيا ثم رفعه: (ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ثم يحيهم ..). تفسيره: 3/ 292. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 59 ب. وسماه الثعلبي: (أبو بكر الواسطي). وهو: أبو بكر، يوسف بن يعقوب بن الحسين الأصم، الواسطي. الإمام المُجوِّد، مقرئ واسط، وإمام جامعها، إمام جليل القدر، ثقة، محقق كبير، توفي سنة (313 هـ)، وقيل: (314 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" 14/ 319، "معرفة القراء الكبار" 1/ 250، "سير أعلام النبلاء" 15/ 218، "غاية النهاية" 2/ 404. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).

نفسك؛ وذلك (¬1) أن عيسى لمَّا رُفع إلى السماء، صارت حالُهُ (¬2) كحالِ الملائكةِ (¬3) والطريق (¬4) الآخر في هذه الآية: أنها على التقديم والتأخير. قال ابن عباس في رواية عطاء (¬5): هذا مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ، يريد: إني رافعك إليَّ، ومتوفيك بعد أن أُهبِطك إلى الأرض حتى تكون فيها، وتتزوج، وُيولَد لك، وتكون في أمَّة محمد، ومعهم حتى تموت. (¬6) وفي حديث أبي هريرة: أنه يُدفن في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقوم أبو بكر وعمر يوم القيامة بين رسولين: محمد وعيسى عليهما السلام (¬7). ¬

_ (¬1) من قوله: (وذلك ..) إلى (.. كحال الملائكة)، هذا التعليل ذكره الثعلبي تعليقًا على قول الواسطي، ولفظ الثعلبي في "تفسيره" 3/ 59ب، بعد أن ذكر قول الواسطي: (ولقد أحسن فيما قال؛ لأن عيسى ..)، ثم ذكره (¬2) في (ج): (حالته). (¬3) ورد هذا في "تفسير البغوي" 2/ 45، عن قتادة بدون سند قال: (ورفعه إليه، وكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذَّة المطعم والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش ..) وقد أورده القرطبي في "تفسيره" 4/ 100، عن الضحاك ولم يسنده. (¬4) في (ج): (الطريق) بدون واو. (¬5) لم أقف على مصدر هذه الرواية (¬6) ورد هذا القول عن الضحاك. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 59 أ. (¬7) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في نزول عيسى عليه السلام، ورد عنه من طرق وألفاظ مختلفة، فقد أخرجه البخاري في "الصحيح" (3448) كتاب الأنبياء، باب: 49، و (2476) كتاب المظالم، باب: 31. ومسلم في الصحيح: (انظر: "صحيح مسلم" (155) كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى بن مريم حاكمًا). والترمذي (2233) كتاب الفتن، باب: 54. وأحمد في "المسند" انظر: "الفتح الرباني" للبنا: 24/ 87، 88 كتاب الفتن أبواب ظهور العلامات الكبرى)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 595 كتاب التواريخ، والطبري في "تفسيره" 3/ 292. وقد ورد =

قال الفرَّاء (¬1): يقال: إنَّ هذا مقَدَّمٌ ومؤَخرٌ؛ المعنى (¬2): إني رافعك إليَّ، ومُطَهِّرُكَ من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إيَّاك إلى (¬3) الدنيا. ومثله من المقدَّم والمؤخر، قوله: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] (¬4) ¬

_ = فيها أنه يُتَوفَّى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، ولكن لم أقف فيها على كونه يتزوج، ويولد له، أو كونه يُدفن في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. إلخ، إلا في رواية أوردها الثعلبي في "تفسيره" 3/ 59 ب، عن أبي هريرة، ولم يسندها، قال: (.. ثم يتزوج ويولد له، ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه، ويدفنونه في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي سنن الترمذي، عن عبد الله بن سلام: (مكتوب في التوراة صفة محمد وصفة عيسى بن مريم يدفن معه، قال: فقال أبو داود [أحد الرواة في السند]: وقد بقي في البيت موضع قبر) وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب). "السنن" (3611) كتاب المناقب، باب: 1. وفي "الدر المنثور" 2/ 65 قال: (وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني، عن عبد الله بن سلام، قال: (يدفن عيسى بن مريم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فيكون قبره رابعا). وقد جمع ابن كثير والسيوطي روايات كثيرة في نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 393، "الدر المنثور" 2/ 65. (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 219. نقله عنه بنصه (¬2) في "معاني القرآن": المعنى فيه. (¬3) في "معاني القرآن": في. (¬4) ويعني المؤلف بالتقديم والتأخير في الآية، على أن معناها. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قَيِّما، ولم يجعل له عِوَجًا. وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، واليه ذهب الطبري، والفراء، والزجاج. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير، والمعنى: ولم يجعل له عوجا، ولكن جعله قيِّما. وهو مروي عن قتادة. وكذلك ذهب إليه الفخر الرازي، وقال: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} يدل على كونه كاملًا في ذاته، وقوله {قِيَمًا} يدل على كونه مكملا لغيره، وكونه كاملًا في ذاته، متقدم بالطبع على كونه مكملًا لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح =

[الآية] (¬1)، وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (¬2). وقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [أي] (¬3): و (¬4) إلى سمائي ومحل كرامتي. فجعل ذلك رَفْعًا إليه؛ للتفخيم (¬5) والتعظيم، ومثله، قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99]، وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من العراق إلى الشام، والتقدير: إلى أمر ربي، لأنه أمره بذلك المكان. وقوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. أي: مُخرِجُك مِن بينهم؛ لأن كونه في جملتهم، بمنزلة التنجيس له بهم. وقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. ¬

_ = هو: الذي ذكره الله تعالى، وهو قوله {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قِيَمًا}، فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد، يمتنع العقل من الذهاب إليه) "تفسير الفخر الرازي" 21/ 76 انظر: "تفسير الطبري" (ط: دار الفكر): 15/ 190191، "معاني القرآن" للفراء: 2/ 133، "معاني القرآن" للزجاج: 3/ 267، "معاني القرآن" للنحاس 4/ 211212، "تفسير القرطبي" 10/ 351. (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬2) سورة طه: 129. والمعنى على التقديم والتأخير فيها: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسَمَّى لكان لزاما .. وهو قول قتادة، وأبي زيد، وأهل التفسير. انظر: "تفسير الطبري" (ط. دار الفكر): 22/ 232، "تفسير الفخر الرازي" 22/ 133، "تفسير البيضاوي" 2/ 65. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج، (د). (¬4) الواو: ساقطة من: (ج)، (د). (¬5) في (ب): (إلى التفخيم).

قال ابن عباس في رواية عطاء (¬1): يعني بـ (الذين اتَّبعوه): الحواريّين ومن كان على دينهم. وقال قتادة (¬2)، والربيع (¬3)، والكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5): هم أهل الإسلام من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، اتَّبعوا دين المسيح، وصدَّقوه بأنَّه (¬6) رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فوالله ما (¬7) اتَّبعه من دعاه (¬8) ربًّا. وقوله تعالى: {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. يحتمل أن يكونوا فوقهم بالبرهان والحُجَّة، ويحتمل بالعِزِّ والغَلَبَةِ. وقال ابن زيد (¬9): وجاعل النصارى فوق اليهود، فاليهود: مُسْتذلُّون ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر هذه الرواية. وورد في "تفسير الثعلبي" 3/ 60 أ، "تفسير البغوي" 2/ 46: أن الضحاك، ومحمد بن أبَّان، قالا: (يعني: الحواريون فوق الذين كفروا). (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 292، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 661، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 411، "تفسير الثعلبي" 3/ 60 أ، "النكت والعيون" 1/ 398، "تفسير البغوي" 2/ 46، "زاد المسير" 1/ 397، "الدر المنثور" 2/ 64 وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 292، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 661، "تفسير الثعلبي" 3/ 60 أ، "النكت والعيون" 1/ 398، "تفسير البغوي" 2/ 46، "زاد المسير" 1/ 379. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 60 أ، "تفسير البغوي" 2/ 46، "زاد المسير" 1/ 379. (¬5) قوله في "تفسيره" 1/ 279، "تفسير الثعلبي" 3/ 60 أ، "تفسير البغوي" 2/ 46. (¬6) في (ب): (أنه). (¬7) في (ب): (وربما). (¬8) في (د): (ادعاه). (¬9) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 292، "تفسير الثعلبي" 3/ 60 أ، "تفسير ابن عطية" 3/ 144، "زاد المسير" 1/ 379.

56

مقهورون، والنصارى وأهل الروم: لهم الملك والبسطة. و (الاتِّباعُ) على هذا القول، بمعنى: الادِّعاءُ والمحبَّة، لا بمعنى: اتِّباع الدين والمِلِّة (¬1). والاختيار: ما سبق من القولين. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}. عَدَل عن الغَيْبَة إلى الخطاب؛ لتَغليب الحاضر على الغائب، لمَّا دخل معه في المعنى، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله من المعنى: كأنَّه قيل: أمَّا الدنيا: فالحال فيها ما ذكرنا، وأما الآخرة: فيقع فيها الحكم في (¬2) اختلافكم في الدين وأمر عيسى. 56 - قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} الآية. العذاب (¬3) في الدنيا: القتل الذي نالهم (¬4)، وينالهم (¬5)، وسَبْي الذراري، وأخذ الجزية. {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. أي: مالهم مَن يمنعهم مِن عذاب الله. 57 - قوله تعالى: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} التَوْفِيَةُ: التكميلُ (¬6) في الأداء. وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. أي (¬7): يعذِّبهم، ولا يرحمهم، ولا ¬

_ (¬1) يعني: أنه بناء على قول ابن زيد، يكون معنى اتباع النصارى لعيسى الوارد في الآية إنَّما هو: ادِّعاؤهم اتِّباعه ومحبته، وليس المراد به الالتزام الحقيقي باتباع دينه وملته؛ لأن واقع النصارى يخالف ذلك. (¬2) في (ج): (على). (¬3) من قوله: (العذاب ..) إلى (.. الجزية): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 420. (¬4) في (ب): (أصابهم). (¬5) في (ب): (ونالهم). (¬6) في (ج): (التمليك). (¬7) من قوله: (أي ..) إلى (.. ولا يثني عليهم): نقله بتصرف يسير عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 421.

58

يُثْنِي عليهم (¬1). 58 - قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} {ذَلِكَ}: إشارة إلى ما تقدَّم من النبأ عن (¬2) عيسى ومريم والحواريِّين. وقوله تعالى: {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ}. قال ابن عباس (¬3): يريد: نخبرك به. جَعَلَ إخبارَه به (¬4)، وإظهارَهُ له (¬5): تِلاوَةً، لأن التلاوة: إظهار وإخبار (¬6). ¬

_ (¬1) المحبة هنا وفي غيرها من الآيات، صفة من صفات الله تعالى، وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهي من صفاته تعالى الاختيارية المتعلقة بمشيئته. ومنهج السلف الكرام: وجوب اثبات ما أثبته الله لنفسه من صفات، وفق ما يليق به تعالى، دون تأويل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ويُنفى عنه ما نفاه عن نفسه منها. وقد وردت صفة المحبة في آيات كثيرة منها ما ورد بالإيجاب، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [195من سورة البقرة] ومنها ما ورد بالسلب، كالآية السابقة في الأصل، والتي هي موضوع هذا التعليق. والمؤلف هنا أثبت لازم الصفة، وثمرتها وفق مذهب الأشاعرة، وإثبات الَّازم غير إثبات الصفة، فالله تعالى لا يحب الظالمين على الحقيقة، ومن نتيجةِ ولازِمِ وعدم محبتهم: أن يعذبهم، ولا يرحمهم، ولا يثني عليهم. والأشاعرة والمعتزلة ينفون هذه الصفة بدعوى إيهامها النقص في الخلق؛ لأنها عندهم: مَيْلُ المخلوق إلى ما يناسبه أو يستلذه، ويرجعها الأشاعرة إلى صفة الإرادة، فيقولون بأن محبَّة اللهِ للعبد: هي إرادة إكرامه ومثوبته. والمعتزلة بما أنهم لا يثبتون إرادة قائمة، به فإنهم يفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله. وكلا المذهبين خالف الحقَّ وجانب الصواب والعدل. والصراط السوي، هو: مذهب السلف الكرام الذي أثبت هذه الصفة وغيرها من الصفات الواردة في الكتاب والسنة لله، على الحقيقة ويثبت معها نتائجها ولوازمها. انظر: "مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 2/ 354، "شرح العقيدة الواسطية" 44 - 46، "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" 1/ 396 - 399. (¬2) في (د): من. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) (به): ساقطة من (د). (¬5) (له): ساقطة من: (ج). (¬6) وإخبار: ساقطة من (د). قال ابن فارس: (التاء، واللام، والواو، أصل واحد،=

ويجوز أيضًا أن تكون (¬1) التلاوة (¬2) لجبريل عليه السلام، والله تعالى يضيفها إلى نفسه (¬3)؛ لأن تلاوة جبريل بأمر الله [تعالى] (¬4). ومثله: {نَحْنُ (¬5) نَقُصُّ عَلَيْكَ} (¬6)، وأمثاله كثيرة. ومعنى {مِنَ الْآيَاتِ}: أي (¬7): من العلامات الدالة على تثبيت رسالتك (¬8)؛ لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب أو من يوحى إليه، وقد علموا أنك أمِّيٌّ لا تقرأ. وقوله تعالى: {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}. يعني: القرآن. ولـ {الْحَكِيمِ} (¬9) ههنا ¬

_ = وهو: الاتباع. يقال: (تَلَوته)؛ إذا تَبِعْتَه. ومنه: تلاوة القرآن؛ لأنه يُتبع آية بعد آية). "معجم مقاييس اللغة" 1/ 351 (تلو). وقال الراغب: والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة؛ تارة بالقرآن، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك، وهو أخصُّ من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة. ولا يقال: (تلوت رُقْعتك)، وإنما يقال في القرآن، في شيء إذا قرأته وجب عليك اتِّباعه). "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 167 (تلو)، وانظر: "اللسان" 1/ 444 (تلو). (¬1) في (ب): (يكون). (¬2) (التلاوة): ساقطة من: (ب). (¬3) (إلى نفسه): ساقطة من: (ب). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (د). (¬5) (نحن): ساقطة من: (ج). (¬6) مقطع من آية 3 في سورة يوسف، وأية 13 من الكهف. وسياقها في سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. (¬7) من قوله: (أي ..) إلى (.. لا تقرأ): نقله بتصرف واختصار عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 421. (¬8) انظر هذا المعنى لـ {الْآيَاتِ}، في "الصحاح" 6/ 2275 (أيا)، "اللسان" 1/ 182 (أيا). (¬9) في (ج): (والحكيم).

معنيان: أحدهما: أنه بمعنى: الحاكم، مثل: القدير، والعليم، ومعناه: ذو الحِكْمَةِ (¬1) في تأليفه ونظمه، وإبانة (¬2) الفوائد فيه. [والحِكْمَة: أصله في اللغة: المنع عن الفساد. والقرآنُ حاكمٌ، على معنى: أنه بما فيه] (¬3) من العِبَرِ والدِّلالات، مانع عن الكفر والفساد. وهذا كما وُصِفت الدِّلالةُ بأنَّها الدليلُ؛ لأنها بمنزلة الناطق بما فيها من البيان. وهذا الوجه، اختيار الزجَّاج (¬4). الثاني: أنَّه بمعنى: المُحكَم، (فَعِيل) بمعنى: (مُفعَل). قال الأزهري (¬5): وهو سائغ (¬6) في اللغة؛ لأن (حَكَمتُ) يجري مجرى (أَحْكَمت) في المعنى، فَرُدَّ إلى الأصل. ومعنى (المُحْكَم) في القرآن: أنه أُحكِم بالأمر والنهي، وبيان الحلال والحرام. قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]. وهذا قول مقاتل (¬7). قال: الحكيم: هو المُحكَمُ من الباطل. قال الليثُ (¬8): ¬

_ (¬1) في (ج): (ذو القدرة). (¬2) في (ج): (وآياته). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، (د). قال الزجاج: (وأصل (ح، ك، م) في الكلام: المَنْعُ. وسُمِّيَ الحاكمُ حاكمًا؛ لأنه يمنع الخصمين من التظالم. و (حَكَمَة الدابَّة)، سُمِّيت (حَكَمَةً)؛ لأنها تمنعه من الجِماح. وفي كتب السلاطين القديمة: (واحكُم فلانًا عن ذلك الأمر)؛ بمعنى: امنعهُ). تفسير أسماء الله الحسنى، للزجاج: 43. وانظر: "مقاييس اللغة" 2/ 91 (حكم)، "الزاهر" 1/ 207. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 421. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 413. (¬5) في "تهذيب اللغة"1/ 885 (حكم)، نقله عنه بالمعنى. (¬6) في (د): (شائع). (¬7) في "تفسيره" 1/ 279. (¬8) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 885 (حكم).

59

وسمَّى الأعشى القصيدَةَ المحكَمةَ: (حكيمةً)؛ فقال (¬1): وغَرِيبَةٍ تأتي المُلوكَ حكيمةٍ ... قد قُلتُها ليُقالَ مَنْ ذا قالَها (¬2). 59 - و (¬3) قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (¬4) الآية. نزلت في وَفْدِ نجران، حين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهل رأيت ولدًا من غير ذكرٍ؟)؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬5). وقد ذكرنا معنى (المَثَل) فيما تقدم (¬6)، وأن المراد به بيان أنَّ سبيلَ الثاني سبيلُ الأول. فالله تعالى قد ذكر في القرآن قصَّهَ آدَمَ، وإنشاءه إيَّاه من غير والدٍ، ثم دلَّ في هذه الآية على أنَّ سبيلَ الثاني (¬7) وهو عيسى، في إنشائِه، وخَلْقِهِ من غير ذَكَرٍ سبيلُ الأول، وهو آدَم. ¬

_ (¬1) في (ج): (وقال). (¬2) البيت، في ديوانه: 144، "تهذيب اللغة" 1/ 885 (حكم)، "اللسان" 2/ 951 (حكم). وأراد بـ (الغريبة): القصيدة. (¬3) الواو: زيادة من (د). (¬4) (كمثل آدم): ليست في (ب)، (د). (¬5) ورد هذا السبب بألفاظ مختلفة في "تفسير الطبري" 3/ 295، 471، يرويه عن قتادة، والسدِّي، وابن زيد، ولفظه عن قتادة: (ذُكِر لنا أن سيِّديْ أهل نجران وأسْقُفَّيهم: السيد، والعاقب، لقيا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن عيسى، فقالا: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز وجل فيه الآية (إنَّ مثل عيسى ..). وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 66 وزاد في نسبته إلى عبد بن حميد. ووردت روايات أخرى من طرق أخرى في سبب نزول هذه الآية، قريبة من السابقة، انظرها في "تفسير الطبري" 6/ 468 - 471، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 665، "أسباب النزول" للواحدي: 99، "لباب النقول" للسيوطي 52، "الدر المنثور" 2/ 67. (¬6) انظر: "تفسير البسيط" [البقرة: 26] تحقيق د. الفوزان. (¬7) (الثاني): ساقطة من: (ج).

وفي هذه الآية حجةٌ على من أنكر القياس؛ لأن الله تعالى احتجَّ فيها على المشركين، ولا يجوز أن يدلَّهم إلاَّ بما فيه دليلٌ. فقياس (¬1) خَلْقِ عيسى من غير ذَكَرٍ، كقياسِ خَلْقِ آدم، بل الشأن فيه أعجب؛ لأنه خُلِقَ من غير ذَكَرٍ ولا أنثى. وقوله تعالى: {عِنْدَ اللَّهِ}. أي: في الخَلْق والإنشاء. خَلَقَ عيسى من غير أب، كما خَلَقَ آدمَ من غير أبٍ ولا أُمٍ. وتمَّ الكلام عند قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ} (¬2)، وهو جملةُ تامَّةٌ، وتشبيهٌ كاملٌ. ولو اقتصر عليه حصل المراد. قال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} وهذا ليس بِصِلَه لـ {آدَمَ}، ولا صِفَةٍ، لأن الصلة للمبهمات (¬3)، والصفة للنكرات (¬4)، ولكنَّهُ خبرٌ مستأنَفٌ على جهة التفسير لحال آدم (¬5). ¬

_ (¬1) في (ب): (فيقاس). (¬2) ممن قال بأن الوقف تامٌّ: يعقوب، وقال أبو بكر بن الأنباري: إن الوقف هنا: حسنٌ، وليس بتامٍّ ولا كافٍ. انظر كتاب "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري: 2/ 578، "القطع والائتناف" للنحاس 226، "منار الهدى" للأشموني: 63. (¬3) لأن (آدم) معرفة، والمعارف لا تُوصل، وإنما الصلات للنكرات. انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 219، "تفسير الطبري" 3/ 296. (¬4) لأن الجُمَل بعد النكرات صفات، و (آدم) مَعْرِفة، ولذا لا تكون الجملة بعده صفة له، لأن الجمل لا تكون إلا نكرة، فلا توصف بها معرفة. (¬5) أي: إنها جملة مفسرة لوجه التشبيه، فلا وجه لها من الإعراب، وهذا الوجه هو الأظهر. وقيل: إنها في محل نصب على الحال من (آدم)، مع تقدير (قَدْ) معها لتقربه من الحال؛ لأن الفعل الماضي لا تصل بالأعلام إلا إذا أضمر معه (قَدْ)، والعامل فيها معنى التشبيه. وقال أبو البركات بن الأنباري في كتابه "البيان": إنها جملة مفسرة للمَثَلِ، وهي في موضع رفع؛ لأنها خبر لمبتدأ محذوفٍ؛ كأنه قيل: ما =

قال الزجَّاج (¬1): وهذا كما تقول في الكلام: (مَثَلُك، مَثلُ زيدٍ). تريد: أنك تشبهه في فِعْلٍ، ثم تخبر بقصَّة زيد، فتقول: كذا وكذا. وقوله تعالى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. اختلفوا في المَقُولِ له {كُنْ}: فالأكثرون (¬2): على أنه (آدَمُ)، وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له: (كُنْ) قبل أن يخلقه لا بعده، وههنا يقول: {خَلَقَهُ} , {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ}. والجواب: إنَّ الله تعالى أخبرنا أوَّلًا أنه خلق آدم من غير ذَكَر ولا أنثى، ثم ابتدأ خبرًا آخَرَ، أراد أَنْ يُخبرنا به، فقال: ثم (¬3) إني أخبركم أيضًا بعد خبري الأول: أني قلت له {كُنْ}، فكان، [فجاء] (¬4) [(ثم)] (¬5) لمعنى (¬6) الخبر الذي تقدم، والخبر الذي تأخر في الذِّكْر، لا أن (¬7) ¬

_ = المثل؟ فقال: خلقه من تراب. أي: المَثَلُ خلَقَهُ من تراب ..). انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 219، "تفسير الطبري" 3/ 296، "البيان" للأنباري: 1/ 206، "الدر المصون" 3/ 218، "منار الهدى" 63. (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 422، نقله عنه بتصرف يسير. والزجَّاج هنا يوضح كيف كانت {خَلَقَهُ} جملة مفسرة. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 96، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 665 وقد رواه عن ابن إسحاق، "المحرر الوجيز" 3/ 148. (¬3) (ثم): ساقطة من: (ج) و (د). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (د)، وهي كذلك في "الدر المصون" 3/ 220؛ حيث نقل السمينُ الحلبيُّ قولَ الواحدي كاملًا. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)، وكذلك هي في "الدر المصون" 3/ 220، ولكن وردت فيه: (بثم). (¬6) في (ج)، (د): (بمعنى). (¬7) في (ب)، (ج)، (د): (لأن) بدلًا من: (لا أن) وكذلك وردت في "الدر المصون" =

الخَلْقَ تقدم على قوله: {كُنْ}، وهذا كما تقول للرجل: أخبرك أني أعطيتك اليوم ألفا، ثم إني أخبرك [أني] (¬1) قد أعطيتك (¬2) أمس قبلَ هذا ألفا، فـ (أمس) متقدم (¬3) لـ (اليوم)، وإنما جاء (ثم)؛ لأن خبَرَ اليومِ متقدمٌ خبرَ (¬4) أمس، وجاء خبرُ أمس بعد مُضِيِّ (¬5) خبرِ اليوم، ومثله قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، وقد خُلِقت (¬6) بعد خلق زوجها، ولكن هذا واقع على الخبر دون الخلق؛ لأن التأويل: أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة؛ لأن حوَّاء أيضًا خُلِقت من ضلعه، ثم إني أخبركم أني (¬7) خلقت زوجها منها، ومثل هذا مما جاء في الشعر، قوله: قُلْ لِمَن سادَ ثمَّ سادَ أبوهُ ... ثم قد سادَ قبلَ ذلك جدُّهْ (¬8) ¬

_ = 3/ 220: (لأن). وما في هذه النسخ له وجاهته؛ حيث يعني أنه جيء بـ (ثم) لأن الإخبار عن قوله (كن) تأخر عن الإخبار عن الخلق. وما أثبته في الأصل من نسخة (أ)، يتناسب كذلك مع الكلام السابق واللاحق. (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، (ج)، (د)، "الدر المصون". (¬2) أعطيتك: ساقطة من (د). (¬3) في (د): (متقدما). (¬4) (خبر): ساقطة من: ب. (¬5) في (ب): (فأخبر أمس بفعل مضى). (¬6) في (ج)، (د): (خلقتا). (¬7) في (ب): (أني قد). (¬8) البيت لأبي نواس، وهو في ديوانه: 493. وورد البيت غير منسوب، في "غرائب التفسير" للكرماني: 1/ 260، "رصف المباني" 250، والجني الداني: 428، "مغني اللبيب" 159، "منهج السالك" 3/ 94، "همع الهوامع" 5/ 236 (1605)، "خزانة الأدب" 11/ 37، 40، "الدرر اللوامع" 2/ 173. وقد وردت روايته في =

ومعلوم أن الأبَ متقدم له، والجدَّ متقدم للأب، ولكنه أخبر عن سيادته أولًا، ثم عن سيادة أبيه، ثم عن سيادة جدِّه؛ فالترتيب يعود إلى الخبر، لا إلى الوجود. ويجوز أن يكون المراد: أنه خلقه قالَبًا من تراب، ثم قال له: (كن بَشَرًا)، فيصح النظم (¬1). وقال بعضهم: المقول له {كُنْ}: عيسى عليه السلام (¬2)، ولا إشكال على هذا. وفي قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ}، وجهان من التأويل: أحدهما: أن هذا دلالة على أنه تعالى يخلق الشيء من غير نصب ولا تعب؛ لا أنَّه يختلقه بقوله {كُنْ}؛ لأنه لو أراد خلق شيء وُجد ذلك الشيء، وإن لم يقل له: (كن). ¬

_ = المصادر السابقة: (إنَّ من ساد ..). وروايته في الديوان: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... قبلَهُ ثم قبل ذلك جدُّه وقال البغدادي في "خزانة الأدب" 11/ 40: (وهذا البيت من شعرٍ مولَّدٍ لا يوثق به، وأوله مغيَّر اشتهر به، وهو أول أبيات سبعة مدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر) وهو عم هارون الرشيد. (¬1) يعني المؤلف بقوله (فيصح النظم) والله أعلى: أن الذهاب في تفسير الآية إلى هذا الوجه الأخير الذي ذكره يغني عن تمحل إجابة كالتي سبقت في تفسيرها بالوجه الأول، وأنه لا إشكال في لفظ الآية. (¬2) روى أسباط عن السدِّي عن أبي مالك (غزوان الغفاري) أنه قال عن المَعنِيِّ بالآية: (فهو أمر عيسى والقيامة). انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 666، وبه قال البغوي في "تفسيره" 2/ 47، وهذا القول مذكور في "تنوير المقباس" 48. قال الآلوسي: (والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول بأنه عائد على عيسى، ليس بشيء؛ لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه، ولا قرينة تدل عليه). "روح المعاني" 3/ 187. ويعني بـ (الضمير المجرور): الضميرَ في {لَهُ}، ويعني بـ (الضمير المنصوب): الضميرَ في {خَلَقَهُ}. وانظر: "البحر المحيط" 2/ 478.

60

والثاني: أن قولَه: {كُنْ}، علامةٌ لما يريد خلقه وإنشاءه. وقوله تعالى: {فَيَكُونُ}. قال بعض النحويين (¬1): هو بمعنى: كان. وكذا فسَّره ابن عباس، فقال (¬2): {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ}، فَكانَ، فجرى عليه (¬3) الروح. وقد ذكرنا أنه يجوز أن يراد بمثال المستَقبَلِ الماضي، مستقصىً عند قوله: {تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} (¬4). وقال آخرون (¬5): المعنى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ}، فيكون كما يأمر الله تعالى. وقوله: {فَيَكوُنُ}، حكاية لتلك الحالة التي يكون فيها آدمُ كما شاءَ اللهُ. 60 - قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} ارتفع {الْحَقُّ} عند الفراء (¬6) والزجاج (¬7) بخبر ابتداءٍ محذوف. المعنى: [(الذي أنبأناك من قصة] (¬8) ¬

_ (¬1) ومنهم الأخفش في "معاني القرآن" له: 1/ 206، وقال: (ومعناه: (كن فكان)، كأنه قال: فإذا هو كائن). والنحاس، في "إعراب القرآن" 1/ 338. (¬2) لم أقف على مصدر قولة، وأورده الخازن في "تفسيره" 1/ 302. (¬3) في (ج)، (د): (فيه). (¬4) سورة البقرة: 102. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. قال النحاس: (والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عُرفَ المعنى) "إعراب القرآن" له: 1/ 338. وذكر الحدَّاديُّ أنَّ الماضي يذكر بلفظ المستقبل في موضعين: أحدهما: إذا كان حالاً. والثاني: إذا كان الفاعل يدوم على الفعل، وكان من سبيله إتيان ذلك الفعل. انظر: "المدخل لعلم تفسير كتاب الله" له: 228. (¬5) لم أقف عليهم. (¬6) انظر: "معاني القرآن" له: 1/ 220. (¬7) انظر: "معاني القرآن" له: 1/ 422. (¬8) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). ومُثْبت من بقية النسخ.

عيسى، الحَقُّ). أو: (ذلك النبأ في أمر عيسى، الحقُّ). فحُذِفَ؛ لتقدم ذِكْره، وأغنى حضورُ المعنى للنفس عن الإشارة إليه. وقال أبو عبيدة (¬1): هو استئنافٌ بعد انقضاء الكلام، وخبره: في قولك (¬2): {مِنْ رَبِّكَ} [و] (¬3) هذا كما تقول: الحقُّ من الله تعالى (¬4)، والباطل من الشيطان (¬5). وقوله تعالى: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: نهي غيره عن الشكِّ، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬6) ويحتمل أن يكون المعنى: فلا تكن من الممترين أيُّها السامع للبرهان، من المكلفين كائنًا مَنْ كان. والامْتِراءُ: الشكُّ (¬7). قال ابن الأنباري (¬8): وهو مأخوذ من قول العرب: (مَرَيْتُ الناقةَ والشاةَ): إذا حَلَبْتهما (¬9). فكأنَّ الشاكَّ يجتذب ¬

_ (¬1) في "مجاز القرآن" له: 1/ 95. نقله عنه. (¬2) في (ب)، (ج)، (د): (قوله). (¬3) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج)، (د). (¬4) تعالى: ساقطة من: (ج)، (د). (¬5) وقيل: هو فاعل؛ أي: جاءك الحقُّ. انظر: "تفسير القرطبي" 4/ 103. (¬6) سورة الطلاق: 1. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال الزجاج: (والخطاب للنبي خطاب للخلق؛ لأن النبي لم يشكك في قصَّة عيسى) "معاني القرآن" له: 1/ 422. (¬7) في (ب): (الشاك). (¬8) في "الزاهر" 1/ 455 نقله عنه بالمعنى. (¬9) في (ج): (حلبتها).

61

بِشَكِّه (¬1) سِرًّا، كاللبن (¬2) الذي يُجتذَب (¬3) عند الحلب. ويقال: (قد مارى فلانٌ فلانا): إذا جادله واستخرج غضبه (¬4). 61 - قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي: في عيسى عليه السلام. وقيل (¬5): الهاء تعود إلى {الْحَقُّ}، في قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}. أنَّ عيسى عبد الله ورسوله. {فَقُل تَعَالَواْ}. أصله: (تعالَيُوا)؛ لأنه (تَفاعَلُوا)؛ من: (العُلُوِّ)، فاستُثْقِلت الضمة على الياء، فسُكِّنت، ثم حُذِفَت لاجتماع الساكِنَيْن. وأصله: العُلُوُّ والارتفاع. فمعنى (تعالَ): ارتفع. إلاَّ أنه أكثر (¬6) في الاستعمال حتى صار لكل مجيء، وصار بمنزلة (هَلُمَّ) (¬7). وقوله تعالى: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ}. فقال المفسرون (¬8): لمَّا احتجَّ الله تعالى على النصارى من طريق القياس بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} [آل ¬

_ (¬1) من قوله: (بشكه ..) إلى (يجتذب): ساقط من (د). (¬2) في (أ): (كاللين). والمثبت من بقية النسخ. (¬3) في (ج): (يجتلب). (¬4) ونصُّ قول ابن الأنباري: (وقولهم: "قد مارى فلان فلانًا"، قال أبو بكر: معناه: قد استخرج ما عنده من الكلام "الحجة" وهو مأخوذ من قولهم: "مَرَيْتُ الناقةَ والشاة، أمْريهما مَرْيًا": إذا مسحت ضروعهما لتَدُرّا). (¬5) لم أقف على القائل، وقد حكى المفسرون القولين دون بيان الذاهب إلى القول الثاني. وقد ذهب الطبري إلى الأول، وأجاز الثاني. انظر: "تفسيره" 3/ 298، "تفسير البغوي" 1/ 48، "زاد المسير" 1/ 399. (¬6) في (ب)، (د): (كثر). (¬7) انظر: "الزاهر" 3/ 277، "مفردات ألفاظ القرآن" 584 (علا). (¬8) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 423.

عمران: 59]، الآية؛ أمر (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يحتجَّ عليهم من طريق الإعجاز وهو: المباهلة. ومعنى المباهلة: الدعاء على الظالم من الفريقين (¬2). فلما نزلت هذه الآية، دعا رسول - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران إلى المباهلة، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتضنًا الحسينَ (¬3)، آخذًا بيد الحَسَن (¬4)، وفاطمة (¬5) تمشي خلفه، وعَلِيٌّ خلفها، وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فَأَمِّنوا. فقال: أُسْقُفُّ (¬6) نَجْران: يا ¬

_ (¬1) (أمر): ساقطة من (د). (¬2) انظر: "تأويل مشكل القرآن" 556، "الزاهر" 1/ 219، "مقاييس اللغة" 1/ 311 (بهل). وقد ذكر ابن فارس أن (بهل) أصل لثلاثة معانٍ: الابتهال، والتضرع، والدعاء، ثم قال: (والمباهلة يرجع إلى هذه، فإن المتباهِلَيْن يدعو كل واحد منهما على صاحبه، قال تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. (¬3) هو: أبو عبد الله، الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حفيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن بنته فاطمة رضي الله عنها، اختلف في سنة ولادته ما بين سنة (4 هـ - 6 هـ)، وكان رحمه الله دَيِّنا فاضِلا كثيرَ الصيام والصلاة والحج، وقُتِل رضي الله عنه بكربلاء من الكوفة سنة (61 هـ)، إثر خروجه على بني أمية رضي الله عنه. انظر: "الاستيعاب" 1/ 442، "الإصابة" 1/ 332. (¬4) هو: أبو محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حفيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ابن بنته فاطمة رضي الله عنها وُلِد سنة (3 هـ)، كان حليمًا ورعًا فاضلًا، ترك المُلْك والدنيا حرصًا على دماء المسلمين، ورغبة فيما عند الله، اختلف في سنة وفاته ما بين (49 هـ - 51 هـ)، ودفن بالبقيع. رضي الله عنه. انظر: "الاستيعاب" 1/ 436، "الإصابة" 1/ 328. (¬5) هي: الزهراء، بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأم الحسن والحسين رضي الله عنهما. انظر: "الاستيعاب" 4/ 447، "الإصابة" 4/ 377. (¬6) الأُسقُفُّ بتشديد الفاء، وتخفيفها: لقب ديني لأحبار النصارى، فوق القسِّيس، =

معشر النصارى: إني لأرى وجوهًا لو سألوا الله أن يزيل جبلًا عن مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثمَّ قبلوا الجِزْيَةَ وانصرفوا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، إنَّ العذاب قد تدلَّى على أهل نجران، ولو تلاعنوا، لمُسِخوا قِرَدَةً وخنازيرَ، ولا ضطَرَبَ عليهم الوادي نارًا، ولاستأصل الله نجرانَ وأهلَهُ، حتى الطيرَ على الشجر، ولَمَا حالَ الحولُ على النصارى حتى هلكوا" (¬1). ¬

_ = ودون المطران. ويقال: سُقْفٌ. والجمع: أساقفة، وأساقف. انظر (سقف) في "القاموس المحيط" ص 820، "المصباح المنير" 106، "المعجم الوسيط" ص 438. وقد سَمَّى ابنُ إسحاق هذا الأسقُفَّ، وهو: أبو حارثة بن عَلْقَمة، أحد بني بكر بن وائل، ووصفه بأنه أسقفُّهم وحَبْرُهم وإمامُهم، وصاحبُ مِدْرَاسِهم. وذكر في موضع آخر أن الذي قال ذلك هو العاقب، واسمه عبد المسيح، ووصفه بأنه أميرُهم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. وفي "دلائل النبوة" لأبي نُعيم: أن الذي نصحهم، هو: السَّيِّد، واسمه: الأيهم، وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم والذي يقوم بأمورهم. انظر: "السيرة" لابن هشام: 2/ 215، "دلائل النبوة" 355. (¬1) وردت قصة المباهلة في كتب السنة، والتفسير بالمأثور، بروايات وألفاظ مختلفة تتفق في مضمونها مع ما ذكره المؤلف، ولكن لم أجد الرواية بهذا اللفظ الذي ساقه المؤلف إلا عند البغوي في "تفسيره" 2/ 48، وذكرها الزمخشري في "الكشاف" 1/ 434. وتتفق بعض ألفاظ رواية المؤلف مع بعض الروايات الواردة في كتب السنة، وتقرب من بعضها، كما أن بعض ألفاظها بالمعنى. انظر: "روايات المباهلة" في "صحيح البخاري" (4380) كتاب: المغازي، باب: (قصة أهل نجران). "صحيح مسلم" (2404) كتاب: فضائل الصحابة، باب (من فضائل علي)، "سنن الترمذي" (2999)، كتاب: التفسير، باب: من سورة آل عمران، وقال عنه: (حسن صحيح). "مسند أحمد" 1/ 248، "مستدرك الحاكم" 2/ 594 وصححه، ووافقه الذهبي. "مصنَّف ابن أبي شيبة" 6/ 381 رقم الحديث (32175)، "سيرة ابن هشام" 2/ 215، "تفسير الطبري" 3/ 299 - 301، "تفسير =

وقوله تعالى: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}. قال أهل المعاني: يعني بـ (الأنفس): بني العم. والعرب لا تستنكر أن تخبر عن ابن العم بأنه نفسُ ابن عمِّهِ، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1)؛ أراد: إخوانكم من الدين (¬2)، فأجرى (¬3) الأخوَّةَ في (¬4) الدين، مجرى الأخوَّةِ في (¬5) القرابةِ (¬6). وإذا (¬7) وقعت النفس على البعيد في النسب، كان أجدر أن تقع على القريب في النسب والدين؛ وإنَّما قلنا هذا؛ لأن المتكلم لا يقول ادعوا فلانا وفلانا ونفسي؛ لأنه يكون حاضرًا. ¬

_ = ابن أبي حاتم" 2/ 667 - 668، "دلائل النبوة" لأبي نعيم: 353 - 354، "أسباب النزول" للواحدي: 107 - 108. وأوردها السيوطي في "الدر" 2/ 67 - 70، ونسب إخراج بعض رواياتها للبيهقي في الدلائل، وابن مردويه، وعبد بن حميد، وسعيد ابن منصور. وأوردها ابن كثير في "تفسيره" 1/ 395 من لفظ ابن إسحاق في "سيرة ابن هشام" ومن رواية البيهقي في الدلائل، ومن غيرها من كتب السنة. (¬1) سورة الحجرات: 11 وبعدها: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. (¬2) في (ج)، (د): (من المؤمين). (¬3) في (ج): (وأجرى). (¬4) في (ب): (من). (¬5) في (ب): (من). (¬6) وقد ذكر ابن خالويه أن من معاني (النفس): الأخ. ثم استدل له بقوله تعالى في آية 29 من النساء: {وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم}، وقال: (أي: إخوانكم). وقد نقل صاحب "اللسان" قوله ابن خالويه، واستدل له بقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} آية: 61 سورة النور. انظر ليس في كلام العرب، لابن خالويه: 196، "لسان العرب" 6/ 234 (نفس). وكذا فسرها ابن قتيبة، فقال: (أي: إخواننا وإخوانكم). "تفسير غريب القرآن" 106. (¬7) في (ج): (إذا) بدون واو.

وقوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} الابتهال في اللغة يكون على معنيين: أحدهما: التضرع إلى الله. والثاني: الالتعان، والدعاء بـ (البَهْلَةِ)، وهي: اللَّعْنَةُ. يقال: (عليه بَهْلَةُ اللهِ)؛ وبَهلتهُ؛ أي: لعنته (¬1). قال لَبِيد: في قُرومٍ سادةٍ مِن قومِهم ... نَظَرَ الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ (¬2). ¬

_ (¬1) ما ذكره المؤلف من معاني الابتهال، ترجع إلى (البَهْل)، وهو: اللعن. والبَهْلَهُ بفتح الباء وبضمها تعني: اللغنة. و (باهَلَ القَومُ بعضهم بعضا)، و (تباهلوا، وابتهلوا)؛ أي: تلاعنوا، وذلك أن جتمعوا ويقولوا: لعنة الله على الظالم مِنَّا؛ وذلك إذا ما اختلفوا في شيء. ومن معاني (بَهَلَ): التخلية. ويقولون: (بَهَلْتُه)؛ إذا خلَّيته وإرادَته، و (أبهل الراعي إبِلَهُ): إذا تركها ترعى، أو تركها من الحلب. و (الباهل من الإبل): التي لا صِرَارَ على ضَرْعِها. و (أبْهَلَ الوالي رعيَّتَه): إذا أهملها. والمعنيان من وادٍ واحد؛ لأن اللعن في حقيقته: إهمال وإبعاد، فـ (بهَلَه اللهُ): لعنه وأبعده من رحمته. وهذا هو أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يُجتهد فيه، وُيستَرسَل، وُيتضرع، وإن لم يكن التعانا. و (البَهْلُ) كذلك: الشيء الحقير اليسير، ومنه المال القليل، والماء القليل. و (التَّبَهُّلُ): العناء في الطلب. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 96، وغريب القرآن، لليزيدي: 42، "الزاهر" 1/ 219، "الصحاح" 4/ 1642 - 1643 (بهل)، "مقاييس اللغة" 1/ 310 - 311 (بهل)، "الفائق" للزمخشري: 1/ 140، "الكشاف" 1/ 434، "اللسان" 1/ 375 (بهل). (¬2) البيت، في ديوانه: 197، وقد ورد منسوبًا له، في "تفسير الطبري" 3/ 298، "الزاهر" 1/ 219، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 415، "النكت والعيون" للماوردي: 1/ 398، "أساس البلاغة" 1/ 71 (بهل)، "تفسير القرطبي" 4/ 104. وقد وردت روايته في بعض المصادر السابقة: (في كهول سادة)، وورد في كل المصادر السابقة: (.. من قومه) بدلًا من: (.. من قومهم). و (قُروم) مفردها: (قَرْم)، وهو: السيِّد المقدَّم في الرأي والمعرفة وتجارب الأمور. ويقال كذلك للسيد الرئيس: (مُقرَم). انظر: "أساس البلاغة" 2/ 248 =

62

أي: دعا عليهم بالهلاك، وكلا (¬1) المعنيين مروي عن ابن عباس. قال (¬2) في رواية الكلبي (¬3): قوله {نَبْتَهِلْ} أي: نجتهد في الدعاء. وقال في رواية عطاء (¬4): ندعُ (¬5) الله باللَّعنة على الكاذبين. 62 - وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} الآية. أي (¬6): هذا الذي أوحيناه إليك من الآيات والحُجَجِ. فـ {هُوَ} (¬7) ههنا يصلح أن يكون فَصْلًا وعِمادًا (¬8)، ويكون {الْقَصَصُ} ¬

_ = (قرم)، "النهاية في غريب الحديث" 4/ 49، 50 (قرم). وقد فسر الزمخشري في "أساس البلاغة" (ابتهل) الواردة في البيت، فقال: فاجتهد في إهلاكهم. وفسرها د. إحسان عباس محقق الديوان: (سبح، أوقف متضرعًا؛ أي أنه وقف معجبًا وهو ينظر إليهم، أو استشعر ذلة حاله بالنسبة إليهم ..). (¬1) في (ب): (وكان)، وفي (ج)، (د): (وكلي). (¬2) (قال): ساقطة من: (ج). (¬3) أخرج هذه الرواية: أبو نعيم في "دلائل النبوة" 354، وهي في "تفسير البغوي" 2/ 48 من قول الكلبي دون أن يرفعها لابن عباس، وأوردها السيوطي في "الدر" 2/ 69 ونسب إخراجها لأبي نعيم. وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 668 عن ابن عباس من رواية ابن جربج عنه: ({ثُمَّ نَبْتَهِلْ}: نجتهد). (¬4) أوردها السيوطي في "الدر" 2/ 69 من طريق الكلبي عن ابن عباس، وعزاها لأبي نعيم في الدلائل، ولم أجدها فيه، وقال البغوي في "تفسيره" 2/ 48 (قال إبن عباس رضي الله عنهما: أي: يتضرع في الدعاء). (¬5) في (د): (ندعوا). (¬6) من قوله: (أي ..) إلى (.. وهما جميعا خبر إنَّ): نقله بتصرف عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 424. (¬7) في (ب)، (ج): (وهو). وفي (د): (هو) بدون واو. (¬8) أي: ضمير زائد لا محل له من الإعراب، وضمير الفصل ويسمِّيه الكوفيُّون: =

خَبَرَ {إِنَّ}. ويصلح أن يكون {هُوَ} ابتداءً، وخَبرُه: {الْقَصَصُ}. وهما جميعًا خبرُ إنَّ (¬1). والقَصَصُ: مصدر قولهم: (قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يقصُّه قَصًّا، وقَصَصًا) (¬2). وأصله (¬3): اتِّباعُ الأثر؛ يقال: (خرج فلانٌ قَصَصًا في أثر فلان)، و (قَصًّا) (¬4)؛ وذلك إذا اقتصَّ أثَره، ومنه قوله تعالى: [{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]. وقيل للقاصِّ يقصُّ (¬5) لأتباعه خبرًا بعد خبر] (¬6)، وسَوقه الكلامَ سَوقًا. فمعنى (¬7) (القَصَص): الخبر الذي تَتَابَعُ (¬8) فيه المعاني. ¬

_ = (العماد)، ويُسمَّى كذلك (الدعامة) هو: أحد ضمائر الرفع المنفصلة، يأتي لإزالة اللبس في الكلام، فيفصل بين ما أصله مبتدأ وخبر؛ ليُعلم أن ما بعده خبر عمَّا قبله، وليس نعتا له، وهو يفيد الكلام ضربًا من التوكيد، ويغلب على الاسم الواقع بعده أن يكون معرفة. انظر: "النحو الوافي" 1/ 242 - 250، "معجم الشوارد النحوية" 355، "معجم المصطلحات النحوية" 173. (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 339، "التبيان" للعكبري: (194)، "الفريد في إعراب القرآن" 1/ 583. (¬2) قال في "اللسان" 6/ 3650 (قصص): (والقِصَّهُ: الخبر، وهو (القَصَصُ). و (قصَّ عليَّ خبره، يقصُّهُ قَصَّا، وقصَصًا): أورده. و (القَصَص): الخبر المقصوص بالفتح وضع موضع المصدر، حتى صار أغلب عليه. و (القِصَصُ) بكسر القاف: جمع (القِصَّة) التي تكتب). (¬3) من قوله: (وأصله) إلى (سوقا): نقله بتصرف عن "تهذيب اللغة" 3/ 2977 (قصَّ). (¬4) في (د): (وقصصا). (¬5) في (د): (يقص). والمثبت من: (ج). وفي (تهذيب الغة): (يقُصُّ القَصَصَ). (¬6) ما بين المعقوفين: زيادة لازمة لتمام المعنى، من: (ج)، (د)، "تهذيب اللغة". (¬7) في (ب): (لمعنى). (¬8) في (ب): (شايع).

63

وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}. (مِن) (¬1) دخلت توكيدا (¬2) لنفي جميع من ادَّعى المشركون أنَّهم آلهة (¬3)، أي: أن عيسى ليس بإلهٍ كما زعموا، وإنَّما اقتضت (مِن) توكيد النفي؛ لأن أصلها لابتداء الغاية، فدلت (¬4) على استغراق النفي لابتداء الغاية إلى انتهائها (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. معناه ههنا (¬6): أنه لا أحد يستحقُّ إطلاق هذه الصفة (¬7) له إلا هو. 63 - قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} الآية. أي (¬8): فإن أعرضوا عمَّا أتيت به من البيان، فإنَّ الله يعلم من يُفسِد (¬9) خلقه فيجازيه على إفساده. 64 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية (¬10). الخطاب ¬

_ (¬1) من قوله: (من ..) إلى (.. كما زعموا): نقله باختصار وتصرف من "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 424. (¬2) في (ب): توكيد. (¬3) في (د):إله. (¬4) (فدلت على استغراق النفي لابتداء الغاية): ساقط من (د). (¬5) فـ (من) هنا جارَّةٌ، صلةٌ (أي: زائدة) تفيد استغراق نفي الجنس، أو توكيد العموم، انظر: كتاب "حروف المعاني" للزجاجي: 56، "الجنى الداني" 316317. (¬6) في (ب): هنا. (¬7) في (ج): القصة. (¬8) من قوله: (أي ..) إلى (.. على إفساده): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 424. (¬9) في "معاني القرآن": (يفسد من خلقه). (¬10) الآية: ساقطة من (د).

لنصارى نجران؛ عند الحسن (¬1)، والسُدِّي (¬2)، وابن زيد (¬3)، ومحمد بن جعفر بن الزبير (¬4). وليهود المدينة؛ عند قتادة (¬5)، والربيع (¬6)، وابن جُرَيج (¬7). وعند بعضهم (¬8): الخطاب لهما جميعًا (¬9). ¬

_ (¬1) قوله في "النكت والعيون" 1/ 399، "تفسير القرطبي" 4/ 105. (¬2) قوله: في "تفسير الطبري" 3/ 302، "النكت والعيون" 1/ 399، "المحرر الوجيز" 3/ 154، "زاد المسير" 1/ 400، "القرطبي" 4/ 105، "الدر المنثور" 2/ 71. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 302، "النكت والعيون" 1/ 399، "المحرر الوجيز" 3/ 154، "تفسير القرطبي" 4/ 105. (¬4) قوله في "سيرة ابن هشام" 2/ 215 من رواية ابن إسحاق عنه، "تفسير الطبري" 3/ 302، "المحرر الوجيز" 3/ 154، "الدر المنثور" 2/ 71. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 302، "النكت والعيون" 1/ 399، "المحرر الوجيز" 3/ 154، "زاد المسير" 1/ 400، "تفسير القرطبي" 4/ 105، "الدر المنثور" 2/ 71 وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 302، "النكت والعيون" 1/ 399، "المحرر الوجيز" 3/ 154، "زاد المسير" 1/ 400، "الدر المنثور" 2/ 71. (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 302، "ابن أبي حاتم" 2/ 669، "النكت والعيون" 1/ 399، "المحرر الوجيز" 3/ 154، "زاد المسير" 1/ 400، " الدر المنثور" 2/ 71. (¬8) ومنهم: عمر بن عبد العزيز، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 669، ونُسِب القولُ به إلى الحسن، كما في "زاد المسير" 1/ 400، وكذلك جعلها الطبري عامَّةً لأهل الكتابين. انظر: "تفسيره" 3/ 302 - 303، وإليه ذهب المؤلف الواحدي في تفسيره (الوجيز) (مطبوع بهامش تفسير مراح لبيد): 1/ 102. (¬9) رجح الطبري هذا الرأي، مستدلًّا بعدم مخصص من أثر صحيح لأحد الفريقين دون الآخر، وليس أحدهما أولى بأن يُقصَد دون الآخر، وقال: (فالواجب أن يكون كل كتابي معنيًا به لأن إفراد العبادة لله وحده وإخلاص التوحيد له، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله، واسم أهل الكتاب يلزم أهل التوراة والإِنجيل، فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا). "تفسيره" 3/ 302 - 303. وإليه ذهب ابن كثير في "تفسيره" 1/ 398، والشوكاني في "فتح القدير" 1/ 525. واستظهر ابن عطية أن الآية نزلت في وفد نجران إلا أن لفظ (أهل الكتاب) =

وقوله تعالى: {إِلَى كَلِمَةٍ}. معنى (¬1) الكلمة: كلامٌ فيه شرح قِصَّة، وإن طال؛ ولذلك يقول (¬2) العرب للقصيدة: (الكلمة) (¬3). وقوله تعالى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. [يريد بـ (السواء): العدل، وكذلك في قراءة عبد الله (إلى كلمة عدل بيننا وبينكم)] (¬4). قال ابن قتيبة (¬5): {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}؛ أي: نَصَفٍ. يقال: (دعا إلى ¬

_ = يعمهم، ويعم سواهم من النصارى واليهود. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 154. (¬1) من قوله: (معنى) إلى (الكلمة): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 424. (¬2) في (ج)، (د): تقول. (¬3) وهو من باب إطلاق الجزء، ويراد به الكُلُّ، وسُمِّيت القصيدةُ بذلك؛ لأنها بمجموعها وارتباط بعضها ببعض، صارت في قوة الكلمة الواحدة. وقد تطلق الكلمة وهي واحد (الكَلِم)، ويراد بها الكلام، وذلك على سبيل المجاز. يقول ابن مالك: كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم ... اسمٌ وفعلٌ ثم حرف الكَلِم واحدُه كَلِمَةٌ والقَوْلُ عَم ... وكِلْمَةٌ بها كلام قد يُؤم فالكلمة قد يُؤَمُّ بها الكلام؛ أي: قد تطلق على الكلام، وهو اللفظ المفيد المتركب من كلمتين أو أكثر. انظر: "شرح ابن عقيل" 1/ 16، "النحو الوافي" 1/ 17. ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها الشاعر؛ كلمة لَبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل". أخرجه: البخاري في "صحيحه" (3841)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، وأخرجه ابن ماجه في سننه: (3757)، كتاب: الأدب، باب: الشعر. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (د). وانظر قراءة عبد الله بن مسعود وهي قراءة تفسيرية في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 220، "تفسير الطبري" 3/ 303، "المحرر الوجيز" 3/ 155، "البحر المحيط" 2/ 483. (¬5) في "تفسير غريب القرآن" له: 106، نقله عنه بتصرف واختصار.

السواء)؛ أي: إلى النَّصَفَةِ؛ وإنَّما قيل و (النَّصَفَة): (سواءٌ)؛ لأنَّ أعدل الأمور أوساطها (¬1). وقال الزجاج (¬2): {سَوَاءٍ}: نعتٌ للكلمة، يريد: ذات سواء. وذكرنا الكلام في معنى {سَوَاءٌ} في ابتداء سورة البقرة. والمعنى: إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية، إذا أتيناها نحن وأنتم كنَّا على السواء والاستقامة. ثمَّ قال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ}. موضع (¬3) {أَنْ}: خَفْضٌ على البدل من {كَلِمَةٍ} المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلاَّ الله. وهذا تفسير للكلمة (¬4). قال الزجاج (¬5): وجائز أن تكون في موضع (رفع)؛ كأن قائلًا قال: ما الكلمة؟ فأجيب، فقيل: هي: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}. أي: لا نعبد معه غيره. يقال: أشرك معه فلانًا: أي: جعله شريكه، وأشرك باللهِ غيره؛ أي: عبده معه عبادة الله؛ فمعنى الباء، معنى (مع) (¬7)، وفي الباء وجه آخر، ¬

_ (¬1) وعبارة ابن قتيبة أوضح، وهي: (وسواء كل شيء): وسطه. ومنه يقال للنَّصَفَة: (سَواء)؛ لأنها عَدْلٌ. وأعدل الأمور: أوساطها. والنَّصَفَة، والنَّصَفُ: العدل. والمصدر: الإنصاف. انظر: "القاموس" (856) (نصف). (¬2) في "معاني القرآن" له: 1/ 425، نقله عنه بالمعنى. (¬3) من قوله: (موضع ..) إلى (.. فقيل. هي أن لا نعبد إلا الله): نقله بنصه مع تصرف يسير عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 425. (¬4) قوله: (وهذا تفسير للكلمة): من قول المؤلف وليس من قول الزجاج. (¬5) في المصدر السابق. (¬6) وهناك توجيهات إعرابية أخرى لها، انظرها في "الدر المصون" 3/ 233 - 234. (¬7) انظر في إتيان الباء بمعنى (مع) "رصف المباني" 222، "مغني اللبيب" 140، "تناوب حروف الجر" 94.

ذكرنا (¬1) عند قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151]. وقوله تعالى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. قال عطاء عن ابن عباس (¬2): يريد: كما اتخذت النصارى عيسى، واتخذت بنو إسرائيلَ عُزَيْرًا. قال الزَّجاج (¬3): أي: نرجع إلى أنَّ (¬4) معبودَنا الله عز وجل، وأن عيسى بشر، كما أننا بشر، فلا نتَّخذه (¬5) ربًّا. وقال بعضهم (¬6): معناه: لا نطيع في المعاصي أحدًا. والله تعالى أخبر عن اليهود والنصارى لمَّا (¬7) أطاعوا في معصيته (¬8) علماءَهم، فإنهم اتخذوا (¬9) من دونه آلهةً، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬10). وفي الخبر: (من أطاع مخلوقًا في معصية الله، فكأنما ¬

_ (¬1) في (د): (ذكرناه). (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 426. نقله عنه بنصه. (¬4) أن: ساقطة من (د). (¬5) في (ج): تتخذوه. (¬6) ومنهم ابن جريج، كما في "تفسير الطبري" 3/ 304 وإليه ذهب الطبري، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 670، "النكت والعيون" 1/ 399، "زاد المسير" 1/ 402، "الدر المنثور" 2/ 71، وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. (¬7) في (د): (بما). (¬8) في (ج): (في معصية الله). (¬9) اتخذوا: غير مقروءة في (أ)، ومثبتة من: بقية النسخ. (¬10) [سورة التوبة: 31] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. انظر في تفسيرها "تفسير الطبري" 10/ 114.

65

سجد سجدة لغير الله) (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}. أي: إنْ أعرضوا عن الإجابة (¬2)، فقابلوا أنتم إعراضَهم عن الحقِّ بِخِلافِهِ؛ للإنكار عليهم، وقولوا: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. أي: مقرون بالتوحيد مستسلمون لما أتتنا به الأنبياءُ. 65 - قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ}. الآية (¬3). قال ابن عباس (¬4)، والسدِّي (¬5)، وقتادة (¬6): اجتمعت اليهود، ونصارى نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيًّا، فنزلت هذه الآية. وقوله (¬7) تعالى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ}. يريد: إنَّ اليهودية حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية، بعد نزول الإنجيل. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصادر هذا الخبر. (¬2) في (أ): (عن الآية). وفي (ب): (عن الحق)، والمثبت من: (ج)، (د): "التفسير الوسيط" للمؤلف. (¬3) الآية: ساقطة من (د). (¬4) قوله في "سيرة ابن هشام" 2/ 175، "تفسير الطبري" 3/ 305، "زاد المسير" 1/ 402، "تفسير ابن كثير" 1/ 399، "الدر المنثور" 2/ 72، وزاد نسبة إخراجه إلى البيهقي في الدلائل، وأورده السيوطي في "لباب النقول" 53. (¬5) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 671، "زاد المسير" 1/ 402، "الدر المنثور" 2/ 72. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 305، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 671. (¬7) (قوله): ساقطة من: (ج).

66

وإنما أنزلت التوراة والإنجليل بعد مهلك إبراهيم بزمان طويل، وليس في الكتابين اسمه بواحد من [دين] (¬1) اليهود والنصارى. وقوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. أي: فساد هذه الدعوى؛ إذ العقل يزجر عن الإقامة على دعوى بغير حُجَّة، فكيف بما ظهر فساده بالمناقضة؟. 66 - وقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ}. اختلفوا فيه: فقرأ ابن كثير (¬2) من طريق قُنْبُل (¬3): {هَا أَنْتُمْ} (¬4)، بِوَزْنِ (هَعَنْتُم) (¬5)، أُبْدِلَ (¬6) من همزة الاستفهام الهاءُ؛ أراد: أأنتم (¬7). والهمزة قد تُبدل هاءً (¬8)، كقولهم: (أرقت الماء) و (هرقته) (¬9)، و (إبرِيَة) و (هِبرِيَة) (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). (¬2) هو: أبو معبد، عبد الله بن كثير الداري المكي. إمام المكِّيِّين في القراءة، وأحد القُرّاء السبعة المشهورين، توفي سنة (120هـ). انظر: "الفهرست" 48، "معرفة القراء الكبار" 1/ 86، "النشر" 1/ 120. (¬3) في (أ): (قتيل). والمُثبَت من بقية النسخ. وقُنْبُل، هو: أبو عمر، محمد بن عبد الرحمن، المخزومي مولاهم، المكي. ولد سنة (195هـ)، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، أحد رواة قراءة ابن كثير، توفي سنة (291 هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 230، "النشر" 1/ 120 - 121، "البدور الزاهرة" 8. (¬4) في (ج)، (د): (هانتم). (¬5) انظر: "الحجة" للفارسي: 3/ 46، "الكشف" لمكي: 1/ 346. (¬6) من قوله: (أبدل ..) إلى (.. الاستفام في أنتم تقرير): نقله عن "الحجة" للفارسي 1/ 4647، نقل بعض عباراته بالنص، وبعضها بالمعنى، وتصرف وزاد في بعضها. (¬7) في (د): (أنتم). (¬8) في (ج): (نبدلها). (¬9) في (ج): (وأهرقته). (¬10) (أ)، (ب): (إيريه، وهيريه). وفي (ج): (ابره وهبره)، وفي (د): (اره وهيريه). وما أثبته هو ما استصوبته، نظرًا لقربه من رسم الكلمتين في نسخة ج. أما (إيريه =

وهذا كإبدالهم من الباء (¬1)، الواوَ، في قولهم: (والله)، ومن الواوِ التَّاءَ في (تالله) (¬2)، فهذه حروف مفردة قد وقع الإبدال منها. ولا (¬3) يجوز أن يكون أراد {هَا أَنْتُمْ}، و (ها) للتنبيه، ثم حَذَف الألفَ، فصار: (هأنتم)، كما حذف الألف من (ها) في (هَلُمَّ)؛ لأن ¬

_ = وهيريه) فلم أقف عليها في كتب اللغة التي رجعت إليها، ولم ترد مثالًا فيما رجعت إليه من كتب الاختصاص في باب الإبدال، إلا ما ورد في "سر صناعة الإعراب" لابن جني: 553، من تمثيله لهذا الإبدال بـ (هيْر، وهِيْر) و (أيْر وإيْر) وهي من أسماء الصَّبا، وقيل: من أسماء ريح الشمال. ولكني استبعدتُها، وأثبتُّ ما هو أقرب إلى رسم الكلمة المثبتة، وهي: الـ (إبْرِيَة) والـ (هبْرِيَة)، وهي: ما تعلق بأسفل الشعر مثل النخالة من وسخ الرأس، أو ما طار من الريش ونحوه. وقد تكون الكلمة المرادة، هي: (أبرْتُهُ)، و (هبَرْتُهُ)، فكتب الناسخ النقط تحت التاء فكانت ياءً. ومعناها: قطعتُهُ، من (هَبر، يَهْبُرُ، هَبْرًا): قطع قِطَعا كبارا. والهَبْرُ: قطْعُ اللحم، و (هَبرتُ له من اللحم هَبْرَةً): قطعت له قِطعَةً ومنه: (هَبَره بالسيف)؛ أي: ضربه وقطعه. انظر: "اللسان" 8/ 4603 (هبر)، 8/ 4735 (هير)، "الممتع" 1/ 399، "ارتشاف الضرب" 1/ 130، "نزهة الطرف" لابن هشام: 158. (¬1) في (ب)، (د): (التاء). (¬2) الأصل فيها (بالله) ثم أبدلت الواو من الباء، ثم أبدلت التاء من الواو، ويدل على ذلك: أولا: أن الباء توصل القسم إلى المقسم به؛ كقولنا: (أحلف بالله). ثانيًا: أن الباء تدخل على المُضمَر كما تدخل على المُظهَر، كقولنا: (بالله لأقومَنَّ)، و (به لأقعدنَّ). والواو لا تدخل على المضمر البتة، فقتول: (والله لأضربنَّك). فإذا رجعنا إلى المضمر قلنا: (به لأضربنَّك). وهذا هو رأي الجمهور. ونقل ابن هشام عن قطرب وغيره أن التاء غير مبدلة من الواو، وإنما هي حرف مستقل. انظر: "سر صناعة الإعراب"121، 143، 144، 645، "الممتع في التصريف" 1/ 384، "ارتشاف الضرب" 1/ 156، "نزهة الطرف" لابن هشام: 161. (¬3) في (ج): (لا) بدون واو.

الحروف لا يحذف منها إلَّا إذا كان فيها تضعيف، وليس ذلك في (ها)، وإنَّما حُذِف من (هَلُمَّ)؛ لأن الَّلام التي هي فاءٌ، في تقدير السكون، لأن (تَلُمَّ)؛ (¬1) كان في الأصل: (تلْمُمْ) (¬2)، و (لَمَّ) أصله (¬3): (الْمُم)، فهي (¬4) متحركة بحركة منقولة إليها، والحرف المتحرك بالحركة المنقولة، قد تكون في نيَّة السكون؛ كقولهم: (اَلَحْمَرْ) (¬5)، فالَّلام (¬6) في تقدير (¬7) سكون؛ بدلالة تقدير الهمزة التي للوصل معها، فكذلك الَّلام في (هَلُمَّ)، وإذا كان في نية سكون، استقام حذف الألف من (ها) كما يُحذف لالتقاء الساكِنَيْنِ، وليس ذلك في (هأنتم) (¬8)؛ فإذا كان كذلك لم يستقم الحذف فيه، كما جاء في (هَلُمَّ). ومعنى الاستفهام في (أنتم) (¬9): تقرير (¬10). وقرأ نافع وأبو عمرو (ها انتم) (¬11) استفهامًا من غير همزٍ ولا مَدٍّ (¬12). ¬

_ (¬1) في (د): (لم). (¬2) في (د): (لمم). (¬3) في (ج): (بصله). (¬4) يعني: اللام. الذي هو فاءُ الكلمة (لمَّ). (¬5) (الحمر): ساقطة من (د). وضبطها في "الحجة" بضم الراء. (¬6) في (د): (اللام) بدون واو. (¬7) (تقدير): ساقطة من (د). (¬8) في (ب): (ها أنتم). (¬9) هكذا وردت في جميع السنخ. وفي "الحجة": (أأنتم)، وهي الأصوب. (¬10) (أ)، (ب)، (ج): (تقدير). وفي (د): (تقديره). والمثبت من "الحجة" وهو الصواب. (¬11) في (ج): (هانتم). (¬12) الذي أوردته كتب القراءات من قراءة نافع وأبي عمرو: أنهما كانا يقرآنها ممدودة، من غير همز، على الاستفهام. وقول المؤلف: (بلا مدٍّ)؛ يعني: بلا مدٍّ كثير. فقد =

و (ها) (¬1) في هذه القراءة للتنبيه، دخلت على (أنتم)، وخُفِّفت (¬2) الهمزةُ في (أنتم)؛ لوقوعها بعد أَلِفٍ، كما تقول في (هَبَاءَةٍ): (هَبَايَة) (¬3) مليَّنة الهمزة، وفي (المسائل) (¬4): (المسايل). ويجوز أيضًا على (¬5) هذه القراءة: أن يكون (¬6) الهاءُ بدلًا من همزة الاستفهام، كما ذكرنا في قراءة ابن كثير، ودخلت الأَلِفُ التي تدخل للفصل بين الهمزتين في مثل قولك: {أَأَنْتُمْ} (¬7)، و {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ} (¬8) [الأنعام 143] في قراءة أبي ¬

_ = كانا يمدان قليلًا بقدر خروج الألف الساكنة. فهذا هو توجيه قول المؤلف والله أعلم. انظر: "السبعة" 207، "الحجة" للفارسي: 3/ 46، "حجة القراءات" 165، "الكشف" لمكي: 1/ 346، "تفسير الفخر الرازي" 4/ 98. وقال ابن مجاهد في "السبعة" 207: (وروى علي بن نصر عن أبي عمرو استفهامًا مُخفَّفًا بلا همز. وقال أحمد بن صالح عن ورش وقالون عن نافع: ممدودًا غير مهموز). (¬1) من قوله (و (ها) ..) إلى (وكذلك في كثير من المواضع البدل يكون في حكم المبدل منه): نقله عن "الحجة" للفارسي: 1/ 47 - 50 نقل بعض عباراته بالنص وبعضها بالمعنى، وتصرف في بعضها بالاختصار والزيادة. (¬2) في (ج): (فخففت). (¬3) (هباية): مطموسة في (أ). وفي "الحجة": (هباةٌ). والمثبت من بقية النسخ. والهباءة: القطعة من الهباء. والهباء: التراب الذي تطيره الريح ويلزق على الأشياء، ويرى في ضوء الشمس. انظر: "اللسان" 8/ 4609 (هبا)، "المعجم الوسيط" 980 (هبأ). (¬4) (المسائل): ساقطة من: (ج). (¬5) في (ج): (من). (¬6) في (د): (تكون). وفي (ج): مهملة في النقط. (¬7) في (د): (اانتم). وقد وردت هذه المفردة في الآية 140 من سورة البقرة، و17 من الفرقان، و59، 64، 69، 72، من الواقعة، و27 من النازعات. (¬8) في (ب): (آاالذكرين)، (د): (الذكرين). وهي مقطع من الآيتين 143، 144 من سورة الأنعام.

عمرو (¬1). فإن قيل: إن الألف إنما تدخل للفصل بين المِثْلين، واجتماع المِثْلين قد زال ههنا بإبدال الهاء من الهمزة (¬2)، فلا يُحتاج إلى الألف؛ ألا ترى أنَّ من قال: (هَراقَ)، قال: (أُهْرِيق)، ولم يحذف (¬3) الهاء مع الهمزة، كما يحذف (¬4) إذا قال: (أُرِيق)؛ لزوال اجتماع المثلين؟ قيل: إن البدل قد يكون في حكم المُبدَل عنه، ألا ترى أنَّك لو سميت رجلًا: بـ (هَرِق)، لم تصْرفْهُ كما لا تصرفُ مع الهمزة؛ لأن حكم الهاء حكم الهمزة، وكذلك في كثير من المواضع، البَدَلُ يكون في حكم المُبدَلِ عنه. وقرأ أهل الكوفة (¬5): (ها أنتم) (¬6) بالمدِّ في (ها)، وتحقيق الهمزة في (أنتم)، ويكون (¬7) (ها) في قولهم، حرف التنبيه، ولا يكون الهاءُ بدلًا من همزة الاستفهام، كما يجوز (¬8) أن يكون بدلًا منها في قراءة أبي عمرو؛ ولأنهم (¬9) لا يرون إدخال الألف بين الهمزتين. ¬

_ (¬1) انظر: "حجة القراءات" 165، "الكشف" 1/ 346، "النشر" 1/ 364. (¬2) في (د): (الهمز). (¬3) (ب)، (ج): (تحذف). (¬4) في (ب): (تحذف). (¬5) يعني بهم: عاصم، وحمزة، والكسائي، وهم من أهل الكوفة، وقرأ بها كذلك ابن عامر. انظر: "السبعة" 207، "الحجة" للفارسي: 3/ 46. (¬6) في (د): (هانتم). (¬7) من قوله: (ويكون ..) إلى (.. إدخال الألف بين الهمزتين): نقله مع التصرف عن "الحجة" للفارسي: 3/ 51. (¬8) في (ج): (لا يجوز). (¬9) في (ج): (لأنهم) بدون واو.

فإن قيل: ما وجه التنبيه (¬1) بـ {هَا أَنْتُمْ} مع أنه لا يُنبَّهُ الإنسان على نفسه، وإنما يُنبَّه على ما أغفله؟. قيل: إنَّ التنبيه (¬2) وإن كان على ما أغفله من حاله فإنه يُنبَّه بذكر ما يعلم على ما لا يعلم، فلذلك خرج التنبيه على النفس؛ والمعنى: على حال النفس. وقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ}. في موضع النداء؛ يعني: يا هؤلاء (¬3). وقد ذكرنا زيادة بيان عند قوله {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119]. وقوله تعالى: {حَاجَجْتُمْ}. أي: جادلتم، وخاصمتم (¬4). ويُسَمَّى الجدال بِحُجَّةٍ أو شبهة: حِجاجًا؛ لأن صاحب الشبهة (¬5) يُوهِم أن معه حُجَّة. وقوله تعالى: {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}. قال السدِّي (¬6): هو ما وجدوه في كتبهم، وأنزل عليهم [بيانه] (¬7) وقصته (¬8). ¬

_ (¬1) في (د): (التثنية). (¬2) في (ج): (قيل خرج التنبيه). (¬3) لا يجوز عند البصريين حذف حرف النداء من أسماء الإشارة، وأجازه الكوفيون. انظر: "كتاب سيبويه" 2/ 229، "المقتضب" 1/ 258، "شرح المفصل" 2/ 15، "التبيان" (195)، في الآية وجوه أخرى من الإعراب، استوعبها السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 240 - 242، وانظر نفس المرجع: 1/ 474 - 478. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 283، "تفسير الطبري" 3/ 306. (¬5) في (ب): (المشبهة). (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 6/ 303 "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 672. (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (خبره). والمثبت من: (ج)، (د). (¬8) ونص قول السدي، كما في "تفسير الطبري" (أما الذي لهم به علم: فما حُرِّم عليهم، وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم: فشأن إبراهيم). ولعل المؤلف ساقه هنا بمعناه؛ أي: ما وجدوه محرما، وما أمروا له في كتبهم ... الخ.

67

وقال آخرون (¬1): يعني: في أمر محمد عليه السلام (¬2)؛ لأنهم كانوا يعلمونه بما يجدون من نعته في كتابهم، وحاجُّوا (¬3) فيه بالباطل. وقوله تعالى: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}. أي: لِمَ تجادلون في شأن إبراهيم، وليس في كتابكم أنَّه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، والله يعلم شأن إبراهيم، وأنه لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وأنتم لا تعلمون. فينبغي أن [تلتمسوا] (¬4) حقَّهُ من باطله؛ إذ لا تعلمون أنه كان يهوديًّا ونصرانيًّا. ثم بيَّن حال إبراهيم، فقال: 67 - {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} الآية. نزَّهه وبرأه من الدِّينَينِ، ووصفه بدين الإسلام. واليهودية والنصرانية صفتا ذَمِّ، ما تعبَّد (¬5) بهما قط؛ [لأنَّ موسى لم يكن يهوديا (¬6)] (¬7)، وعيسى لم يكن نصرانيًا، مع قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. فاليهودية (¬8) مِلَّةٌ محرَّفة عن شريعة موسى، والنصرانية مِلَّةٌ مُحرَّفةٌ عن ¬

_ (¬1) قد يعني بهم: قتادة، وأبي العالية، والربيع، فقد ورد عنهم في معناها: (فبما شهدتم ورأيتم وعاينتم). انظر: "تفسير الطبري" 3/ 306، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 672، والذي شهدوه ورأوه وعاينوه هو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالته. (¬2) في (د): (صلى الله عليه وسلم). (¬3) في (ج)، (د): (فحاجوا). (¬4) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). ومثبت من بقية النسخ. (¬5) في (ج): (لم يتعبد). (¬6) (لم يكن يهوديا): ساقطة من (ب). (¬7) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ)، ومثبت من بقية النسخ. (¬8) في (ج): (واليهودية).

68

شريعة عيسى عليهما السلام. فإن قيل: الله تعالى أخبر (¬1) أن (¬2) إبراهيم كان (¬3) مُسْلِمًا، فهل كان إبراهيم على جميع ما نحن عليه من شريعة الإسلام؟ قيل: إنه كان مسلما، وإن كان على بعض شريعتنا؛ لأنَّ تلاوة القرآن واجبة في صلاتنا، ولم ينزل القرآن إلاَّ على نبينا - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، والدليل على أنه كان مسلما بإقامة بعض الشريعة: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مسلمين في الابتداء قبل استكمال الشريعة (¬5). 68 - قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}. أَوْلَى: أفْعَل؛ من (الوَلْي)؛ الذي هو: القُرْبُ (¬6)؛ أي: أقرب الناس إلى إبراهيم، وأحقهم به: الذين (¬7) اتَّبعوه على دينه ومِلَّتِه. {وَهَذَا النَّبِيُّ}. يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {وَالَّذِينَءَامَنُوا} يعني: بمحمد (¬8) - صلى الله عليه وسلم -. من المهاجرين والأنصار والتابعين. قال الزجاج (¬9): أي: فهم الذين ينبغي أن يقولوا: إنَّا على دين ¬

_ (¬1) في (ب): (أخبر الله تعالى). (¬2) في (ج): (عن). (¬3) في (ج): (أنه كان). (¬4) يعني المؤلف بقوله هذا: أن إبراهيم عليه السلام كان مسلما، وإن لم توافق فروع شريعته جميع فروع شريعتنا، حيث لا يمكن ذلك بوجه أصلا، فَمِنْ فروع شريعتنا: وجوب تلاوة القرآن في صلاتنا، ولم يكن ذلك من فروع شريعته؛ لأن معروف بديهة أن القرآن نزل على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينزل على نبي غيره. (¬5) انظر بيان ذلك في "روح المعاني" 3/ 196. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 448 (ولي)، "المجمل" 936 (ولي). (¬7) في (ب)، (ج)، (د): (للذين). (¬8) في (ج)، (د): (لمحمد). (¬9) في "معاني القرآن" له 1/ 427، نقله عنه بنصه.

69

إبراهيم. وفي هذا بيان أنَّ (¬1) الأَوْلَى بالإنسان: المُوافق له في دينه، دون ولده، ومن يرجع إليه في نسبه، ممن يخالفه في مذهبه، ولا يُعتَدُّ (¬2) بالولادة أو نحوها من القرابة في عقد الولاية. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}. ذكرنا ما فيه عند قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3) الآية (¬4). 69 - قوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. أي: تَمَنَّت (¬5). وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُم} (¬6) الآية (¬7). {طَائِفَةٌ}؛ الطائفةُ، معناها في اللغة: القطعة من كل شيء. يقال: (طائفةٌ من الناس)، (وطائفة من الليل) (¬8). ¬

_ (¬1) أن: ساقطة من: (ج). (¬2) في (ج) (د): (لئلا يعتبر). (¬3) سورة البقرة: 257. {... يخرجهم من ...} (¬4) (الآية): ساقطة من (د). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 500، "مفردات ألفاظ القرآن" 860 (ودد). (¬6) سورة البقرة: 96. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}. (¬7) (الآية): ساقطة من: (ج)، (د). (¬8) انظر (مادة: طوف) في "تهذيب اللغة" 3/ 2154، "اللسان" 5/ 2722. قال الراغب: (والطائفة من الناس: جماعة منهم، ومن الشيء: القطعة منه .. وقال بعضهم: قد يقع ذلك على واحدٍ فصاعدا). "مفردات ألفاظ القرآن" 532 (طوف). وبيَّن ابن فارس (أن كل جماعة يمكن أن تحفَّ بشيء فهي عندهم طائفة. ولا يكاد هذا يكون إلا في اليسير ثم يتوسعون في ذلك من طريق المجاز، فيقولون: أخذتُ=

قال بعض أهل اللغة: الطائفة: الفِرْقَة؛ سُمِّيَت بها لتصرفها في الإقبال والإدبار؛ كأنها تطوف (¬1)؛ كقولهم: (الإنسان (¬2)، دَيُّور وديَّار)؛ لكثرة دورانه (¬3). وقوله تعالى: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}. ولم يقل: أنْ يُضِلُّونكم، لأن (لو) (¬4) أوفق مع التمني (¬5)، فإنَّ (¬6) قولك: (لو كان كذا)، تَمَنٍّ [منك] (¬7) تمنيته (¬8) لِكَوْنِه (¬9). ومثله: قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96]، وقد مرَّ. ¬

_ = طائفةً من الثوب؛ أي: قطعة منه. وهذا على معنى المجاز؛ لأن الطائفة من الناس، كالفرقة والقطعة منهم) "مقاييس اللغة" 3/ 433 (طوف). (¬1) لم أقف على من قال بهذا القول، ولكن معناه صحيح، قال ابن فارس: (الطاء والواو والفاء، أصلٌ واحدٌ صحيح، يدل على دوران الشيء على الشيء وأن يحفَّ به) ثم قال: (فأما الطائفة من الناس، فكأنها جماعة تطيف بالواحد أو بالشيء). "المقاييس" 3/ 432 (طرف). (¬2) في (ج)، (د): (للإنسان). (¬3) في (ب): (مداراته). وفي "اللسان" (.. وما بالدَّار دُوريٌّ ولا ديَّار، ولا دَيُّورٌ على إبدال الواو من الياء، أي: ما بها أحدٌ، لا يُستعمل إلا في النفي، وجمع الدَّيَّار، والدَّيُّور لو كُسِّرَ: دواويرُ) 3/ 1450 (دور). وانظر: "الزاهر" 1/ 366، "الصحاح" 2/ 660 (دور). ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [سورة نوح: 26]. وانظر: "تفسير أبي السعود" 9/ 41. (¬4) في (ج): (أو). (¬5) في (ج): (المتمني). (¬6) في (ب): (وإن). (¬7) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج)، (د). (¬8) (تمنيته): ساقطة من: (ج)، (د). (¬9) انظر: "رصف المباني" 360، "الجنى الداني" 288.

والإضلال (¬1) في كلام العرب ضد الهداية والإرشاد. يقال: (أضللتُ فلانا): إذا وجَّهته للضلال عن الطريق فلم ترشده. نزلت هذه الآية في نَفَرٍ من اليهود. قال ابن عباس (¬2): هم قُرَيظَة والنَّضير وبنو قَيْنُقاع؛ أرادوا أن يَسْتَنزِلوا (¬3) المسلمين عن دينهم ويردوهم إلى الكفر (¬4). ¬

_ (¬1) من قوله: (والإضلال ..) إلى (.. عن الطريق): نقله بنصه عن "تهذيب اللغة" 3/ 2128 (ضلل). وقال الطبري: (والإضلال في هذا الموضع: الإهلاك)، ولم يختلف المعنى؛ لأن الإهلاك من نتائج الإضلال ولوازمه. وقد بيَّن الطبري نفسه هذا الأمر فقال في نفس الصفحة: (.. لو يصدُّونكم أيها المؤمنون عن الإسلام، ويصدونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلونكم بذلك). "تفسيره" 3/ 304. ولذا قال ابن عطية عن تفسير الطبري لهذه اللفظة بـ (الهلاك): (وهذا تفسير غير خاص باللفظة، وإنما اطَّرد له؛ لأن هذا الضلال في الآية اقترن به الهلاك، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم). "المحرر الوجيز" 3/ 163. (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. وقد أورد ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 404، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 488 عن ابن عباس أنَّ المقصود بالطائفة هم اليهود حين دعوا معاذ بن جبل، وعمار بن ياسر إلى دينهم. (¬3) في (د): (يستزلوا). (¬4) قيل: إن المقصود بـ {طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: هم النصارى، وبه قال سفيان بن عيينة، فقد ورد عنه قوله: (كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب، فهو في النصارى). أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 671، وأورده السيوطي في " الدر" 2/ 239، وزاد في نسبته إلى ابن المنذر. ودفع هذا القول الشوكاني في "الفتح" 1/ 352، وقال: (ويدفع هذا أن كثيرًا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة، لا يصح حملها على النصارى =

70

وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (¬1) لأن المؤمنين لا يقبلون فولهم، وما يدعونهم إليه فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: وما يعلمون أن هذا يضرهم، وما يضر المؤمنين. 70 - قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الخطاب لليهود (¬2). وقوله: {لِمَ} أصلها: (لِمَا)؛ لأنها (¬3) (ما) التي للاستفهام، دخلت عليها الَّلام فحُذِفت الألِفُ استخفافًا؛ لأن حرف الجرِّ صار عِوَضًا منها، مع وقوعها طَرَفًا (¬4)، تدل (¬5) عليها الفتحةُ (¬6)، وعلى هذا قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1]، و {فَبِمَ ¬

_ = البتة، ومن ذلك هذه الآيات)، ثم بين أن المقصود بالطائفة هم: اليهود خاصة. وقيل: هم اليهود كما سبق أن رُوي عن ابن عباس، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 283. وذكر هذا القول بعض المفسرين دون عزو إلى قائل، ومنهم: البغوي في "تفسيره" 2/ 50، والواحدي في "أسباب النزول" (110). وقال أبو حيان: بأن عليه إجماع المفسرين. انظر: "البحر المحيط" 2/ 488. وعلى هذين القولين تكون {مِّن} في الآية تبعيضية. وقيل: هم اليهود والنصارى، ولفظ {أَهْلِ الكِتَابِ} يعمهم، وتكون حينها {مِّن} في الآية لبيان الجنس. وبه قال أبو سليمان الدمشقي، كما في "زاد المسير" 1/ 404. وإليه ذهب الطبري في "تفسيره" 3/ 304، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 419. ونقل ابن عطية عن مكي: أنهم يهود بني قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، ونصارى نجران. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 164. (¬1) إلى هنا انتهى ما وقفت عليه من نسخة (د). (¬2) وذهب الطبري: إلى أن الخطاب لليهود والنصارى. انظر: "تفسيره" 3/ 309، "المحرر الوجيز" 3/ 164. (¬3) في (ج): (أنها). (¬4) في (ب): (ظرفا). (¬5) في (ج): (يدل). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 427 - 428.=

تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]. والوقف على هذه الحروفِ يكون بالهاء (¬1)، نحو: (فِبْمَهْ)، و (لِمَهْ). ولا يجوز حذفُ الأَلِفِ [من (ما)، إذا كانت موصولة] (¬2)؛ لأن [الألِفَ في] (¬3) الموصولةِ [بِمَنْزِلَة حرفٍ في وسط الاسم؛ لأن الموصولة] (¬4) لا تتم (¬5) إلا بِصِلَتِها، والطَّرَف (¬6) أقوى على التغيير من وسط الاسم، كما قوي على التغيير بالإعراب (¬7) والتنوين (¬8). وزعم الكسائيُّ (¬9)، أن أصل (كَمْ) (¬10) كما، وهذا غلط منه عند ¬

_ = ويجب حذفُ ألف (ما) بعد دخول حرف الجر عليها، مع إبقاء الفتحة دليلا عليها، إلا في الشعر، حال الضرورة الشعرية. انظر: "المغني" لابن هشام: 393. وذكر أبو حيَّان أن قوما يحذفون الألف من (ما) الاستفهامية في الوصل، فيقولون: (مَ صنعت؟). وذكر كذلك أن من العرب من يثبت الألف إذا دخل عليها حرف الجر، وقال: (وذلك قليل وقبيح). "ارتشاف الضرب" 1/ 544، وانظر: "شرح المفصل" 4/ 8. (¬1) في (ج): (كأنها). انظر في هذا المعنى: "شرح المفصل" 4/ 6، "ارتشاف الضرب" 1/ 544. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج). (¬5) (لا تم) ساقطة من: (ج). (¬6) في (ب): (والظرف). (¬7) بالإعراب: في (أ) غير واضحة، وفي (ب): (للإقراب). والمثبت من: (ج). (¬8) في (ب): (وللتنوين). انظر في هذا المعنى "شرح المفصل" 4/ 9. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 428، "الجنى الداني" 261 ونسب هذا الرأي للكسائي والفراء. (¬10) أي: إن (كم) مركبة من: كاف التشبيه، و (ما) الاستفهامية محذوفة الألف، وسُكِّنت ميمُها لكثرة الاستعمال.

البصريين؛ لمخالفة (¬1) (كَمْ) (ما) في اللفظ، والمعنى؛ أما في اللفظ: فكان يجب أن تبقى الفتحة (¬2) لتدل على الألِفِ، كما باقيت في (لِمَ) ونحوه. وأما في المعنى: فإن (كم) سؤالٌ عن العدد، و (ما) سؤال عن الجنس، فليس بينهما مشابهة، ولا لكاف التشبيه في (كَمْ) معنًى. وقوله تعالى: {بِآيَاتِ اللَّهِ}. يعني: القرآن (¬3). {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، قال قتادة (¬4)، والربيع (¬5)، والسُّدِّي (¬6): أي: تشهدون بما يدل على صحة القرآن من كتابكم؛ لأن فيه نعت محمد وذكره. وقيل (¬7): {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها. فحذف من الكلام ما يشهدون به ويقرون؛ لأن الكلام كان توبيخًا، فَدَلَّ على: (وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة)، فحُذِف؛ للإيجاز، مع الإستغناء عنه بالتوبيخ. والحجة عليهم: إقرارهم بالبشارة لمحمد ثم الكفر به، والإقرار بمثل ¬

_ (¬1) (لمخالفة): غير واضحة كاملًا في (أ)، وفي (ب): (لمحل أداة). والمثبت من: (ج). (¬2) في (ج): (العدد الفتحة). (¬3) ممن قال بهذا: مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 283. وفسر السدي (آيات الله) بـ (محمد - صلى الله عليه وسلم -). وفسرها مقاتل بن حيان بالحجج. أما الطبري، فقد فسرها بما أنزِل عليهم من كتب الله على ألسن أنبيائه. انظر: "تفسير الطبري" 6/ 503، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 676. (¬4) قوله في "الطبري" 3/ 309، "ابن أبي حاتم" 2/ 676. (¬5) السابق. (¬6) السابق. (¬7) لم أقف على هذا القائل. وقد أورده الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 854، ولم يعزه إلى قائل.

71

آياته للأنبياء، ثم كفرهم بما جاء به محمد وجحدهم؛ فكان (¬1) ذلك مناقَضَةً منهم. 71 - قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ذكرنا معنى (اللَّبْس) فيما تقدم (¬2). و (الحَق) ههنا: التوراة التي أنزل على موسى، و (الباطِلُ): ما كتبوه بأيديهم وغيروه وحرفوه من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخبره (¬3)، في قول: الحسن (¬4)، وابن زيد (¬5). وقال قتادة (¬6): لِمَ تخلطون (¬7) الإسلام باليهودية والنصرانية؛ وذلك أنهم تداعوا إلى إظهار الإسلام في صدر النهار، والرجوع عنه في آخره؛ لتشكيك الناس فيه. وقوله تعالى: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -. قاله [قتادة] (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ج): (وكان). (¬2) عند تفسير الآية 42 من سورة البقرة. (¬3) في (ب)، (ج): (وغيره). (¬4) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 677، "النكت والعيون" 2/ 401 "زاد المسير" 1/ 405، "البحر المحيط" 1/ 491. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 310، "النكت والعيون" 2/ 401، "زاد المسير" 1/ 405، "البحر المحيط" 1/ 491. (¬6) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 677، "زاد المسير" 1/ 405، "البحر المحيط" 1/ 491. (¬7) في (ب): (تختلطون). (¬8) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). وقوله في "تفسير الطبري" 3/ 310، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 677، "زاد المسير" 1/ 405.

72

ومقاتل (¬1). وقال عطاء (¬2): يريد بـ {الْحَقَّ}: النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: تعلمون الحق، وأنه رسول الله، وأن الإسلام دين الله. ونظير هذه الآية: قوله في البقرة: {وَلَا تَلبِسُواْ اَلحَقَّ بِالبَاطِلِ} (¬3) الآية. 72 - قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية، قال الحسنُ (¬4)، والسدِّيُّ (¬5): تواطأ اثنا عشرَ حَبْرًا من اليهود، وقال بعضهم لبعض: أظهروا الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، في أول النهار، وارجعوا عنه في آخر النهار؛ فإنه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينهم ويشكوا فيه؛ إذا قلتم: نظرنا في كتبنا فوجدنا محمدًا ليس بذاك، وقال مجاهد (¬6)، ومقاتل (¬7)، ¬

_ (¬1) قوله في "تفسيره" 1/ 284. وهو مروي كذلك عن: الحسن والربيع ومقاتل بن حيان انظر: "تفسير الطبري" 3/ 310 "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 677. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وهو مروي كذلك عن: مجاهد والسدي، كما في "تفسير الطبري" 3/ 309، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 676، ولا أرى فرقًا بين القولين، وقد جعلهما ابن أبي حاتم في "تفسيره" بمعنًى واحدٍ. (¬3) سورة البقرة: 42 {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. (¬4) قوله في "تفسير البغوي" 2/ 53، "زاد المسير" 1/ 405 "البحر المحيط" 1/ 493. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 311، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 678، "تفسير البغوي" 2/ 53، "زاد المسير" 1/ 405، "البحر المحيط" 1/ 493. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 2/ 313، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 679، "تفسير البغوي" 2/ 53، "البحر المحيط" 1/ 493، "الدر المنثور" 2/ 75 وزاد انسبة إخراجه لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬7) قوله في "تفسيره" 1/ 284، ولكن ليس فيه أن مرادهم بفعلهم هذا: التشكيك في أمر القبلة، بل جعله للتشكيك في نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، فقال: (وإذا كان العشى: قولوا لهم: نظرنا في التوراة فإذا النعت الذي في التوراة ليس بنعت محمد - صلى الله عليه وسلم - ..). وفي "تفسير البغوي" 2/ 54، "البحر المحيط" 1/ 493 بنحو الذي عند المؤلف.

والكلبي (¬1): قال بعض اليهود لبعض: أظهروا الإيمان بالذي (¬2) [أنزل] (¬3) على محمد في أمر الكعبة، والصلاة إليها، أولَ النهار، ثم اكفروا به آخرَ النهار (¬4)، وارجعوا إلى قبلتكم؛ لعلهم يَشُكُونَ فيرجعون إلى قبلتكم؛ فأطلع اللهُ نبيَّه على سرِّ اليهود ومكرهم. وقوله تعالى: {وَجْهَ النَّهَارِ} قال ابن عباس (¬5): أول النهار. والوَجْهُ في اللغة: مُسْتَقْبَلُ كلِّ شيء؛ لأنه أول ما يُواجَهُ منه، كما يقال لأول الثَّوْبِ: (وَجْهُ الثوب) (¬6). روى (¬7) ثعلب عن ابن الأعرابي: (أتيته بوجهِ نَهارٍ)، و (صدر نهار)، ¬

_ (¬1) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 123عن قتادة والكلبي، أنهما قالا: (قال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أن قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم). فليس في هذا الأثر ما يتعلق بأمر القبلة، وفي "تفسير البغوي" 2/ 54، "البحر المحيط" 1/ 493، بنحو الذي عند المؤلف. (¬2) في (ب): (الذي). (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب، ج). (¬4) (ثم اكفروا به آخر النهار): ساقطة من: (ج). (¬5) أخرج قوله ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 679 بمعناه، ولفظه عنده: (قال: يكونون معهم أول النهار يمارونهم ويكلمونهم). وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 76 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، وابن مردويه، والضياء في "المختارة". وكذا ورد عنه في حديث آخر أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 312 حيث ورد ضمنًا تفسيره لـ (وجه النهار): بأوله، وقد فسره بذلك قتادة، والربيع، ومجاهد. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3842 (وجه). (¬7) في (ج): (وروي). ومن قوله: (روي ..) إلى نهاية بيت الشعر: نقله باختصار وتصرف عن "تهذيب اللغة" 4/ 3842 (وجه).

73

و (شباب نهار)؛ أي: أول النهار؛ وأنشد للربيع بن زياد (¬1): مَنْ كان مسرورًا بِمَقتَلِ مالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نهارِ (¬2). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: عن دينهم (¬3). وقال الكلبي (¬4): إلى القبلة الأولى. 73 - قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} الآية. ¬

_ (¬1) هو: الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان العَبْسي، شاعر جاهلي، وفارسٌ، وسيد من سادات قومه، يقال له الكامل، مات سنة (30) قبل الهجرة. انظر: "العمدة" لابن رشيق: 1/ 128، 2/ 881، 891، "الأعلام" 3/ 14. (¬2) ورد البيت منسوبًا له في "مجاز القرآن" 1/ 97، "الحماسة" لأبي تمام: 1/ 494، "الفاخر" للمفضل الضبي: 223، "الطبري" 3/ 312، "الدر المصون" 3/ 248، "خزانة الأدب" 8/ 369. وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 249، "مجالس العلماء" 234، "تهذيب اللغة" 4/ 3842 (وجه)، "الموضح في التفسير" 38، "تذكرة النحاة" 139، "اللسان" 13/ 556 (وجه)، "التاج" 9/ 418 (وجه). والبيت ضمن أبيات قالها في مالك بن زهير العبسي الذي قتلته بنو فزارة، وبعده: يَجِدِ النساءَ حواسِرًا يندُبُنَه ... يَلْطمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسحارِ. ومعناه: إن من سرَّه قتل مالك، فلْيأت لنا في أول النهار، ليَجدنا قد أخذنا بثأره مباشرة، وعلامة ذلك أن يجد النساء حواسرًا يندُبنه ويلطمن وجوههن بالأسحار، وذلك أن العرب لا تندب قتلاها إلا بعد أن تأخذ ثأرها. (¬3) وهو قول قتادة، والربيع، وابن عباس ومجاهد، وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 313، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 680. (¬4) لم أقف على مصدره. وقد ورد في "البغوي" 2/ 54، "البحر المحيط" 1/ 493. والذي في "تفسير عبد الرزاق": 1/ 123 عنه وعن قتادة قالا: (.. وهو أن يرجعوا عن دينهم).

قتادةُ (¬1)، والرَّبيعُ (¬2)، والسُّدي (¬3)، والحسنُ (¬4)، وابن زيد (¬5)، وأكثرهم: على أن هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض؛ والمعنى: لا تصدِّقوا إلا لِمَن تبع دينكم اليهودية، وقام بشرائعكم. {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من: العلم، والحكمة، والكتاب، والحجة، والمَنِّ والسَّلْوَى، والفضائل والكرامات. والتقدير: (¬6) لا تُصَدِّقوا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، إلا لِمَنْ تبع دينكم. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} اعتراضٌ بين المفعول وفعله، وهو من كلام الله تعالى. قال ابن عباس (¬7): ومعناه: إنَّ الدينَ دينُ اللهِ. ومثله في سورة البقرة: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (¬8) [البقرة: 120]. وقوله تعالى: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} التقدير: (بأن يُؤتى)؛ لأن الإيمان ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 313. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 314. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 314، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 681 "النكت والعيون" 1/ 400. (¬4) لم أقف على مصدر قوله وهو في "زاد المسير" 406/ 1، "النكت والعيون" 1/ 400. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 314، "النكت والعيون" 1/ 401. (¬6) في (ج): (ولا). (¬7) لم أقف على مصدر قوله، وفي "تنوير المقباس" 1/ 50 (إنَّ دينَ الله هو الإسلام, وقبلة الله هي الكعبة). (¬8) في (ج): (قل إن الهدى هدى الله).

يتعدَّى بالجارِّ، فلمَّا حذفَ الجار من {أَنْ}، كان موضع {أَنْ} على ما ذكرنا من الخلاف؛ في قول الخليل: يكون جَرًّا (¬1)، وفي قول سيبويه: يكون نصبًا (¬2). وقد ذكرنا هذا الخلاف في مواضع. فأما الَّلام في {لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}، فقال أكثر النحويين (¬3): إنها دخلت صِلَةً وتأكيدًا (¬4)؛ كهي في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} (¬5)؛ والمعنى: رَدِفَكم. وأنشد ابن الأنباري (¬6) على هذا: ما كنتُ أَخدَعُ للخليلِ بِخُلَّةٍ ... حتى يكونَ ليَ الخليلُ خَدوعا (¬7) قال: أراد: ما كنت أَخدَعُ الخليلَ، فزاد الَّلام. ¬

_ (¬1) في (ج): (خبرا). (¬2) انظر ما ذكره عند تفسير: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} آية: 39 من آل عمران. (¬3) منهم: الفراء في "معاني القرآن" 1/ 222، وابن شقير في "المحلى" 238، والزجاجي، في "اللامات" 147. (¬4) حروف الصلة، هي حروف الزيادة، وأشهرها: الباء، الكاف، اللام، مِن. وتستعمل هذه الحروف أصلية، وأحيانًا زائدة؛ وهي لا تجلب معنى جديدًا، وإنَّما تؤكد وتقوي المعنى العام في الجملة كلها، سواء أكان المعنى العام إيجابًا أم سلبًا. انظر: "النحو الوافي" 2/ 449 - 450، وانظر للتوسع في نقاش هذا الأمر في "سر صناعة الإعراب"120 وما بعدها، "شرح المفصل" 8/ 128. (¬5) [سورة النمل: 72]. {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}. وممن قال بزيادتها: الفراء في "معاني القرآن" 1/ 222، والطبري في "تفسيره" 3/ 314، وابن شقير في "المحلى" 238، والزجاجي في "اللامات" 147. (¬6) لم أقف على مصدره. وقد أورده ابنُ الجوزي في "الزاد" 1/ 407. (¬7) لم أقف على قائله فيما رجعت إليه من مصادر. وقد ورد في "زاد المسير" 1/ 407، "البحر المحيط" 1/ 494.

وقال الآخر: يَذمُّونَ للدنيا (¬1) وهم يَحْلِبونها ... أَفَاوِيقَ (¬2) حتى ما يَدُرُّ لها ثُعْلُ (¬3) أراد: يذمون [الدنيا. فأكَّدَ الكلامَ بالَّلام. وُيروى: (يَذُمُّونَ لِي الدنيا) بالياء. وقال] (¬4) أبو علي الفارسي (¬5): (الإيمان) لا يتعدَّى إلى مفعولين، ¬

_ (¬1) في (ج): (لي الدنيا). (¬2) في (أ)، (ب): فاويق. والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت. (¬3) في (أ): (نَعل). وفي (ب): (حتى لا يدرها نعل)، والمثبت من: (ج) ومصادر البيت. والبيت لعبد الله بن همام السلُولي. وقد ورد منسوبًا له، في "إصلاح المنطق" 213، " الكامل" 1/ 55، "الصحاح" 1646 (ثعل)، والمخصص: 15/ 59، "اللسان" 8/ 4857 (وضع)، 6/ 3487 (فوق)، 1/ 484 (ثعل). وورد في "المخصص" 1/ 25 ونسبه لهمام بن مرة. وورد غير منسوب، في "مجالس ثعلب" 447، "جمهرة اللغة" 746 (وضع)، "التهذيب" 2/ 1418 (رضع)، 1/ 482 (ثعل)، "معجم المقاييس" 2/ 401 (رضع)، و"المجمل" 380 (رضع)، "زاد المسير" 1/ 407، "الدر المصون" 3/ 250. وفي كل المصادر السابقة ما عدا "زاد المسير" ورد: (وذمُّوا لنا الدنيا وهم يرضِعُونها ..)، وفي "معجم المقاييس" (.. الثُّعْلُ)، وفي "الدر المصون" (ويروى: (بالدنيا) بالباء. و (الثُعْل)، و (الثَّعْل)، و (الثَّعَل): زيادة في حَلَمات الناقة والشاء والبقر. وقيل: هو خِلْفٌ زائد في أخلاف الناقة وضرِع الشاة. انظر: "اللسان" 6/ 3487 (فوق)، 1/ 484 (ثعل). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬5) في "الحجة" له: 3/ 53. نقله عنه بالمعنى.

فلا يجوز أيضًا أن يَتعَلَّقَ (¬1) بجارَّيْنِ، وقد تعلق بالجارِّ المحذوف من قوله: {أَنْ يُؤْتَى} فلا يتعلق بالَّلام من (¬2) قوله: {لَمَنْ}، إلا أن يُحمَل (الإيمان) على معناه، فيَتَعدَّى إلى مفعولين، ويكون المعنى: ولا تقرُّوا بأنْ يؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، إلا لِمَن تبع دينكم؛ كما تقول: (أقررت لِزيدٍ بألف)، فيكون اللامُ متعلقًا بالمعنى، ولا تكون زائدةً (¬3) على حَدِّ {رَدِفَ لَكُمْ} (¬4)، و {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (¬5). وقوله تعالى: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} (أحَدٌ) (¬6) إنَّما يُستعمل (¬7) لتعميم النفي؛ كقولك: (ما رأيت أحدًا مِنَ الناس) (¬8). وههنا دخل (أَحَدٌ) للنفي الواقع في ¬

_ (¬1) في (ج): (تعلق). (¬2) في (ج): (في). (¬3) في (ج): (زيادة). قال أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 494: (والأجود أن لا تكون اللام زائدة، بل ضُمِّن (آمَن) معنى أقَرَّ، واعترف، فتعدى باللام). (¬4) سورة النمل: 72 {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}. (¬5) سورة يوسف: 43. وقبلها: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. قال العكبري: في "التبيان" (472) (للرؤيا): اللام فيه زائدة، تقوية للفعل لمَّا تقدم مفعوله عليه، ويجوز حذفها في غير القرآن؛ لأنه يقال: عبَّرت الرؤيا). (¬6) (أحد): ساقطة من: (ج). وفي (أ)، (ب): (أحدًا بما). ومن قوله: (أحد ..) إلى (.. لدخول النفي في أول الكلام): نقله بتصرف من "الحجة" للفارسي: 3/ 54 - 55. (¬7) في (ج): (استعمل). (¬8) (أحدٌ) الذي يلازم النفي، تكون همزته أصلية، وهو وإن كان لفظه مفردا، إلا أنه يدل على الجمع ويفيد العموم. أما (أحد) الذي بمعنى واحد، فهمزته بدل من واو.

أول الكلام، وهو قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا}؛ كما دخلت (¬1) (مِنْ) في صِلَةِ (أنْ يُنَزَّلَ) في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 105]. فكما دخلت (مِنْ) في صلة (أنْ يُنَزَّلَ)؛ لأنه مفعول للنَّفي الَّلاحق لأوَّلِ الكلام (¬2)، كذلك دخل (أحدٌ) في [صِلَةِ (أنْ) في] (¬3) قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ}؛ لدخول النفي في أول الكلام. والكلام في معنى (أحد)، قد تقدم عند قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102]. وقوله تعالى: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} عطف على قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ}؛ المعنى: ولا تؤمنوا بأن يحاجُّوكم عند ربكم؛ لأنكم أصح دينًا منهم، فلا يكون لهم الحجة عليكم عند الله. قوله: {يُحَاجُوكُمْ}، الضمير (¬4) فيه ضمير الجماعة، وهو خبر عن {أحدٌ} في قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ}، وجاز ذلك؛ لأن الأسماء المنفردة قد تقع للشياع (¬5) في المواضع التي يراد بها الكثرة؛ كقوله: {يُخرِجُكم طِفْلاً} (¬6)، وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬7) [الفرقان: 74]، وقوله: ¬

_ (¬1) (دخلت): ساقطة من: (ج). (¬2) (الكلام): ساقطة من: (ج). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬4) من قوله: (الضمير ..) إلى: (.. للمتَّقين إماما): نقله بالمعنى من "الحجة" للفارسي: 3/ 57. (¬5) يريد بالشياع: الجمع والعموم، وشمول اللفظ المفرد لأكثر من فرد. (¬6) سورة غافر: 67. وقد وردت في (أ)، (ب)، (ج): (ويخرجكم). والشاهد في الآية: أن (طفلا) بمعنى أطفال، وأفرد اللفظ وأراد به الجنس. انظر: "تفسير أبي السعود" 7/ 283، "تفسير البيضاوي" 2/ 345. (¬7) الشاهد هنا إفراد لفظ (إمام) ليدل على الجنس. انظر: "تفسير أبي السعود" 6/ 231، "تفسير البيضاوي" 2/ 75.

{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬1). وقد مضى مثل هذا في قوله: {لَا نُفَرقُ بَينَ أَحَدٍ} (¬2). وقرأ ابن كثير: {أَنْ يُؤْتَى} (¬3) بالمدِّ (¬4). وعلى هذه القراءة يحتاج أن يستأنف الآية في بيان المعنى والنظم. فقوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}؛ معناه على هذه القراءة: ما ذكره الزجَّاجُ، قال (¬5): قالت اليهود بعضهم لبعض: لا تجعلوا تصديقكم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء مما جاء به، إلا لليهود؛ أي: لا تخبروا أحدًا بصدق ما أتى به، إلا أن يكونَ منكم؛ فإنكم (¬6) إن قلتم ذلك للمشركين كان (¬7) عونًا لهم على تصديقه، ويكون معنى (الإيمان): الإقرار، كما ذكرنا، وأحد مفعوليه محذوف، والتقدير: لا تقروا إلا لليهود (¬8) بصدق محمد. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} هو من كلام الله، معترض من كلام اليهود على ما ذكرنا. وقوله تعالى: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} {أَنْ} (¬9) في موضع رفع ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: 47. والشاهد هنا: أن حاجزين جمع، وهو وصف لـ (أحد) الذي يدل على جماعة. انظر: "الكشاف" 4/ 55. (¬2) مقطع من آية 136 {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وآية 285 {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. سورة البقرة. (¬3) في (ج): (أن يؤتى). (¬4) أي على الاستفهام. انظر: "السبعة" 207، "الحجة" 3/ 52، "التيسير" 89. (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 430. نقله عنه بتصرف. (¬6) في (ج): (وإنكم). (¬7) في (ج): (كانوا). (¬8) في (ج): (اليهود). (¬9) من قوله: (أن في موضع ..) إلى (.. إن أحدًا ووحدا وواحدا بمعنى): نقله عن=

بالابتداء (¬1)، ولا يجوز أن يُحمل على ما قبله؛ لقطع الاستفهام بينهما، وخبره محذوف؛ والمعنى: أأنْ (¬2) يُؤتَى أحَدٌ، يا معشر اليهود، مثل ما أوتيتم من الكتاب والعلم، تصدقون به، أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، أو تشيعونه في الناس؟ أو نحو هذا مما دلَّ عليه قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}. وهذا في قول من قال: (أزيدٌ ضربته) (¬3)؟ ومن قال: (أزيدًا ضربته؟)، كان (أنْ) عنده في موضع نصب (¬4). ومِثْلُ حَذْفِ خبر المبتدأ لدلالة ما قبل الاستفهام عليه: حَذْفُ الفعل في قوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس: 91] التقدير (¬5): آلآن أسلمتَ حين لا ينفعك الإيمانُ من أجل المعاينة؟. فحذف الفعل لدلالة ما قبل الاستفهام عليه. ومثل هذه الآية في المعنى: قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76]، وبَّخ بعضهم بعضًا بالحديث بما علموه من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوه من صفته. ¬

_ = "الحجة" للفارسي: 3/ 55 - 57، نقل بعض عباراته بالنص، وتصرف في بعضها، واختصر في بعض المواضع. (¬1) هذا التوجيه النحوي بناء على قراءة ابن كثير. (¬2) في (أ)، (ب): (آأن). وفي (ج): (ان). وما أثبتُّهُ هو الصواب. (¬3) فالاسم هنا واقع بعد همزة الاستفهام، وقد قال عنه السمين الحلبي: (وهو وجه مرجوح). "الدر المصون" 3/ 257. (¬4) فالفعل هنا مضمر بعد حرف الاستفهام، وقد استحسن هذا، وقال بوجوب اختياره، مكيُّ في "الكشف" 1/ 348 وقال: (فهو أقوى في العربية؛ لأن الاستفهام بالفعل أولى؛ لأنك عنه تستفهم، لست تستفهم عن شخص زيد، إنما تستفهم عن الفعل، هل وقع بزيد). وانظر: "الدر المصون" 3/ 257 - 258. (¬5) (التقدير): ساقط م: (ج).

ولعل ابن كثير اعتبر هذه الآية في قراءته (¬1). فإن قيل: فكيف وجْهُ دخول {أحدٌ} في هذه القراءة، وقد انقطع من النفي [بِلحاقِ] (¬2) الاستفهام (¬3)، وإذا انقطع، كان (¬4) الكلام إيجابًا وتقريرًا، فلا يجوز دخول {أحدٌ}؟ قيل: يجوز أن يكون {أحدٌ} في هذا الموضع (أحدًا) الذي في نحو: (أحدٌ وعشرون)، وهذا يقع في الإيجاب، ألا ترى أنه بمعنى واحد؟. وقال أبو العباس (¬5): إن (أحدًا)، و (وَحَدًا)، و (واحدًا) بمعنىً. وقوله تعالى: {أَوْ يُحَاجُوكُمْ} (أو) في هذه القراءة (¬6) بمعنى: حتىَّ (¬7)؛ ومعنى الكلام: أأن (¬8) يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم، تذكرونه لغيركم؛ حتى ¬

_ (¬1) أي: اعتبر الآية السالفة 76 من البقرة، حيث إنها في معنى قراءة ابن كثير. وقد سبق أن بينت أن القراءات المتواترة، لا تقوم على مقايسات ذوقية، ولا على اعتبارات لغوية، أو نظر عقلي، إنما هي سنَّةٌ متَّبعة، متلقاة بالسند الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن كثير أحد أئمة القراء، الذين تلقت الأمة قراءتهم بالقبول، بعد أن تلقاها هو بالسند الصحيح عمن قبله من القراء المعتبرين، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهم اعتبروا السند الصحيح للقراءة قبل كل شيء؛ لأن الإسناد الصحيح في القراءات هو (الأصل الأعظم والركن الأقوم) كما قال ابن الجزري في "النشر" 1/ 10. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة" للفارسي: 3/ 56 ليتم ويصح بها المعنى. (¬3) في (ج): (والاستفهام). (¬4) (كان): ساقطة من: (ج). (¬5) هو أحمد بن يحيى، ثعلب. كما في "الحجة" للفارسي: 3/ 57. (¬6) أي: في قراءة ابن كثير. (¬7) قال الرماني: (وتضمر مع (أو) (أن)؛ وذلك إذا كان معناها معنى "حتى". كتاب "معاني الحروف" له: 79. وانظر: "كتاب سيبويه" 3/ 47، "المقتضب" 2/ 28، و"حروف المعاني والصفات" للزجاجي: 58. (¬8) في (ج): (أن).

يحاجُّوكم عند ربكم؟. قال الفرَّاء (¬1): ومثله في الكلام: قولك: (تعلَّقْ به، أو يُعْطِيَكَ حقَّكَ)؛ أي: حتى. وقال امرؤ القيس: فقلتُ له لا تَبْكِ عينُكَ إنَّما ... نُحاوِلُ (¬2) مُلْكًا أو تَموتَ فنُعْذَرا (¬3) أي: حتى تموت. ومن هذا قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]، وسنذكره إن شاء الله. فهذا (¬4) وجهٌ، وأجود منه: أن نجعله عطفًا على الاستفهام؛ ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 223. نقله عنه بالمعنى. وانظر نفس المصدر 2/ 70 - 71. (¬2) في (ب): نجادل. (¬3) البيت في ديوانه: 66. وقد نسبته إليه أكثر المصادر التالية: "كتاب سيبويه" 3/ 48، "معاني القرآن" للفراء: 2/ 71، "المقتضب" 2/ 28، "الزاهر" 2/ 183، "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 584، "القطع والائتناف" للنحاس 233، "معاني القرآن" له: 1/ 243، وكتاب "حروف المعاني" للزجاجي: 58، "اللامات" للزجاجي: 68، "معاني الحروف" للرماني: 79، "الخصائص" 1/ 263، "الموضح في التفسير" 38، "أمالي ابن الشجري" 3/ 78، "شرح المفصل" 7/ 22، 33، "تفسير القرطبي" 4/ 113، "رصف المباني" 212، "منهج السالك" 558، "الخزانة" 8/ 543. وقد ورد في كل المصادر السابقة: (.. أو نموتَ فنُعذَرا). والبيت من قصيدة له، وقبله: بَكَى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونه ... وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا وصاحبه هو عمرو بن قميئة الذي استصحبه معه في ذهابه إلى القيصر، لاستنصاره على قتلة أبيه واستعادة ملكه، فلما توسطوا الدرب بين بلاد العرب وبلاد الروم، وأيقن صاحبه أنهما لاحقان بقيصر، حنَّ إلى بلاده فبكى، فقال له الشاعر هذا القول. والشاهد فيه: قوله: (أو نموت ..)؛ بمعنى: حتى نموت. (¬4) في (ب): (وهذا).

74

والمعنى: أنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو يُحاجَّكم (¬1) أحدٌ عند الله، تصدِّقون به؟. وهذه الآية من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيرًا، ولقد تدبَّرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أجدْ قولًا يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى، وصحة النظم. وقد يسر الله تعالى بفضله ههنا سوق الآية في القراءتين على تفسيرٍ بيِّن، ونظمٍ صحيحٍ، وله المِّنة في ذلك. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} قال ابن عباس (¬2): يريد: ما تفضَّل به عليك، وعلى أمَّتك. 74 - قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} قال الحسن (¬3)، ومجاهد (¬4)، والربيع (¬5): بنُبُوَّتِه. وقال (¬6) ابن عباس: بدينه (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (يحاجوكم). (¬2) لم أقف على مصدره وفي "زاد المسير" 1/ 408: (قال ابن عباس: يعني النبوَّة، والكتاب، والهدى). وهو بمعنى ما ذكره المؤلف عنه. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "النكت والعيون" 2/ 857، "تفسير القرطبي" 4/ 115، "البحر المحيط" 2/ 497. والذي أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 345 عن الحسن قوله: (برحمته: الإسلام، يختص بها من يشاء). (¬4) قوله في "تفسيره" 129، "تفسير الطبري" 6/ 517، 518، "ابن أبي حاتم" 2/ 345، "النكت والعيون" 2/ 857، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 423، "زاد المسير" 1/ 408، "الدر المنثور" 2/ 76 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 316، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 682، "النكت والعيون" 1/ 402. (¬6) في (ج): (قال). (¬7) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. والذي في "زاد المسير" 1/ 408، "البحر المحيط" 2/ 497 قوله: (إنها الإسلام).

75

وقال ابن جريج (¬1): بالقرآن والإسلام. [و] (¬2) قال عطاء (¬3): يريد: اختصَّك وتفضل عليك وعلى أمَّتِك، بدينه ورحمته. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ}. (¬4) على أوليائه وأهل طاعته. {الْعَظِيمِ}. لأنه لا شيء أعظم عند الله من الإسلام. والفَضْلُ في اللغة: الزيادة. وأكثر ما يُستعمل في زيادة الإحسان (¬5). والفاضل: الزائد على غيره في خصال الخير. ثم كثر استعمال الفضل حتى صار لكل نفعٍ قَصَد به فاعلُهُ أن ينفع صاحبَهُ. 75 - قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} الآية. قال عُظْمُ (¬6) أهلِ التفسير: أخبر الله تعالى في هذه الآية اختلاف أحوال أهل الكتاب، في الأمانة والخيانة؛ ليكون المؤمنون على بصيرة في ترك الركون إليهم؛ لاستحلال أموالهم (¬7). قال (¬8) مقاتل (¬9): يعني بـ (الذي يُؤَدِّي): مؤمني أهل الكتاب؛ ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 316، "النكت والعيون" 1/ 402، "زاد المسير" 1/ 408، "تفسير القرطبي" 4/ 115، "البحر المحيط" 1/ 497. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) (والله): ليس في (ج). (¬5) انظر (فضل) في "مقاييس اللغة" 4/ 108، "اللسان" 6/ 3428. (¬6) (عُظْمُ الشيء، ومُعْظمهُ): جُلُهُ وأكثرُه. انظر: "اللسان" 5/ 304 (عظم). (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 317. (¬8) في (ج): (وقال). (¬9) في "تفسيره" 1/ 285 نقله عنه بالمعنى.

وبـ (الذي لا يُؤَدِّي): كُفَّارَهم. وقال ابن عباس في رواية الضحاك (¬1): أودع رجلٌ عبدَ الله بن سَلامَ ألفًا ومائتي أوقية من ذهب، فأدَّاهُ إليه، فمدحه الله عز وجل. وأودع رجلٌ فنحاصَ (¬2) بن عازورا (¬3) دينارًا فخانه. وقوله تعالى: {تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ}. يقال: (أمنتهُ بكذا، وعلى كذا)، كما يقال: (مررت به، وعليه) (¬4). فمعنى الباءِ: إلصاقُ الأمانة (¬5). ومعنى (على): استعلاء الأمانة (¬6). وهما يتعاقبان (¬7) ههنا لتقارب المعنى. وفي قوله: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وجوه من القراءة: تسكين الهاء (¬8)، وهو رديء عند أهل النحو، خطأ عند ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. وقد وردت في "تفسير البغوي" 2/ 56، "زاد المسير" 1/ 408، "الخازن" 1/ 309. (¬2) في (ب): (فيحاص). (¬3) وردت في المصادر التي رجعت إليها: (عازوراء) بمد وهمز. انظر: "تفسير البغوي" 2/ 56، "زاد المسير" 1/ 408، "تفسير القرطبي" 4/ 115. وفنحاص، سَيِّد بني قَيْنُقاع اليهود، ومن أحبارهم، وعلمائهم. انظر: "سيرة ابن هشام" 137، 187، 201، "تفسير الطبري" 7/ 455. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" (520). (¬5) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 123، "مغني اللبيب" 137. (¬6) انظر: كتاب "معاني الحروف" للرماني: 108، "مغني اللبيب" 190. (¬7) في (ج): (متعاقبان). (¬8) وهي قراءة أبي عمرو من رواية عبد الوارث واليزيدي عنه، وقراعة حمزة، وعاصم من رواية أبي بكر عنه. انظر: "السبعة" 207 - 212، "التبصرة" 461، "اتحاف فضلاء البشر" ص 176. والخلاف هنا في حال الوصل، أما في حال الوقف فلا خلاف على الإسكان.

الزجاج (¬1)؛ لأن الجزم (¬2) ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء، والهاء اسم (¬3) المَكْنِي (¬4)، والأسماء لا تجزم في الوصل (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" له: 1/ 234. (¬2) في (ج): (الحرفر). (¬3) في (ج): (الاسم). (¬4) (المكني): ساقطة من: (ج). (¬5) ما ذكره المؤلف من كون هذه القراءة غير مرضية عند أهل النحو، وخطَّأوها، فإنه لا يؤثر في صحة هذه القراءة، لأن القراءات المعتمدة قرآنٌ، فهي حجة على النحو واللغة، وليس النحو واللغة حجة عليها. وما النحو واللغة إلا أدوات خادمة لكتاب الله تعالى. يقول أبو عمرو الداني: (وأئمة القرَّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياسُ عربية ولا فشوُّ لغة؛ لأن القراءة سنَّة متَّبعة، يلزم قبولها والمصير إليها). "النشر" 1/ 10 - 11. ويقول الفرَّاء: (والقُّرَّاء لا تقرأ بكل ما يجوز في العربية، فلا يقبحنَّ عندك تشنيعُ مشَنِّع مما لم يقرأه القراء مما يجوز). "معاني القرآن" 1/ 245. فالقراءات (ما دام سندها الرواية، ودعامتها السماع، فهي من أجل هذا أقوى من المصادر الأخرى كالشعر وغيره؛ لأن رواة القراءات يتحرجُّون من عدم الدقة فيها، على حين لا يبالون بالحرج في غيرها؛ حينما تخون الحافظة، أو يستبد النسيان، أو يقع على الألسنة التحريف). "أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية" 58. أما ما يتعلق بهذه القراءة، وتخطئة الزجاج لها، فقد دفع هذا أبو حيَّان، فقال: (وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط، ليس بشيءٍ؛ إذ هي قراءة في "السبعة" وهي متواترة. وكفى أنها منقولة عن إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء، فإنه عربي صريح، وسامع لغة، وإمام في النحو، ولم يكن ليذهب عنه جوازُ مثل هذا، وقد أجاز ذلك الفرَّاء، وهو إمام في النحو واللغة، وحكى ذلك لغةً لبعض العرب، تجزِمُ في الوصل والقطع. وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب أنهم =

وقال الفراء (¬1): من العرب من يجزم الهاء، إذا تحرك ما قبلها، فيقول: (ضربتُهْ ضربًا شديدًا)، كما يسكنون ميم (أنتمْ) و (قمتمْ)، وأصلها الرفع، وأنشد: لمَّا رَأَى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ (¬2) ¬

_ = يختلسون الحركة في هذه الهاء، إذا كانت بعد متحرك، وأنهم يسكنون أيضًا ..). "البحر المحيط" 2/ 499، وانظر: "الكشف" 1/ 349. وانظر ما سبق بيانه عند التعليق على توجيه المؤلف لقراءة نافع الواردة في قوله تعالى: {فيكون طائرًا بإذن الله} من آية: 49، وعن تعليقي على توجيه المؤلف لقراءة ابن كثير لقوله تعالى: {آن يؤتى} من آية: 73، والتعليق على كلام المؤلف حول القراءة الواردة بتسكين الهاء في قوله: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} من آية: 75. (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 223، نقله عنه بتصرف. وليس في هذا الموضع من كتابه بيتُ الشعر الآتي، وإنما ذكره الفراء في 1/ 388 عند قوله: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}. الأعراف: 111. (¬2) صدر بيت من الرجز لمنظور بن حبة الأسدي، وقبله: يا رُبَّ أبَّازٍ مِنَ العُفْرِ صَدَعْ ... تقَبَّضَ الذِئبُ إليهِ فاجتَمعْ. لما رأى أنْ لا دعه ولا شبع ... مالَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضطجعْ. وقد ورد في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 388، "إصلاح المنطق" 95، "المحتسب" 1/ 107، "الخصائص" 1/ 63، 263، 3/ 163، "المنصف" 2/ 329، والمخصص: 8/ 24، "شرح المفصل" 9/ 82، 10/ 46، "اللسان" 1/ 6 (أبز)، 1/ 63 (أرط)، 5/ 2554 (ضجع)، 3/ 1664 (رطا)، "أوضح المسالك" 3/ 313، "المقاصد النحوية" 4/ 854، "التصريح" 2/ 367، "منهج السالك" 4/ 280، 332، "الأشباه والنظائر" للسيوطي: 2/ 340، و"شرح شواهد الشافية"، للبغدادي (مطبوع في آخر "شرح الشافية"): 4/ 274. والأبَّاز: القفَّاز، مِنَ (القَفْزِ). و (العُفر)، جمع: (عفْراء) أو (أعْفَر)، وهي مِن الظباء: التي يعلو بياضها حُمرة. و (الصَّدَعُ): الوسط من الوعول، ليس بالعظيم ولا الصغير. وقيل: هو الشيء بين =

وقرئ باختلاس (¬1) حركة الهاء، اكتفاءً بالكسرة من الياء (¬2)، وأنشدوا على هذا: أنا ابنُ كلابٍ (¬3) وابنُ أوْسٍ فمَنْ يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مَغْطِيًا فإنِّي لَمُجْتَلِي (¬4) ¬

_ = الشيئين من أي نوع كان. يصف الذئب بأنَّهُ تقَبَّضَ؛ أي: جمع قوائمه ليثب على الظبي. فلمَّا رأى الذئبُ أن لا مجال لإدراك الظبي والشبع منه ولا مجال للدَّعةِ -وهي الخفض ولين العيش-، فحينها مال إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضطجع. و (الأرطاة): شجر ينبت في الرمل وجمعها: (أرْطَى). و (الحِقْف) بكسر الحاء وسكون القاف، وهو: المعوجُّ من الرمل، وجمعه: (أحقاف)، و (حُقوف)، و (حِقاف)، و (حِقَفَة). انظر: "اللسان" 1/ 6 (أبز)، 4/ 2414 (صدع)، 2/ 939 (حقف)، "شرح شواهد الشافية" 4/ 275 - 276. والشاهد فيه هنا: إبدال تاء التأنيث في (دعه) هاءً، ومعاملة الكلمة في الوصل كما تعامل في الوقف. واعترض السمين الحلبي على الفراء في إيراده هذا البيت شاهدًا في هذا الموضع؛ لأن الهاء في البيت هي هاء التأنيث، والكلام هنا عن هاء الضمير، وهاء التأنيث لاحظ لها من الحركة البتةَ. انظر: "الدر المصون" 3/ 264. (¬1) اختلاس الحركة: الإسراع بها إسراعًا يحكم السامع له أن الحركة قد ذهبت، وهي كاملة في الوزن. انظر: "التمهيد" لابن الجزري: 59. فالقارئ لا يكمل الحركة، بل يأتي بثلثيها فقط. (¬2) وهي قراءة نافع برواية الحلواني عن قالون عنه، وقراءة يعقوب وأبي جعفر من العشرة. انظر: "المبسوط" لابن مهران: 145، "حجة القراءات" 167، "إتحاف فضلاء البشر" ص 176. (¬3) جاءت في (أ)، (ب)، (ج): (حلاب). والمثبت من مصادر البيت. (¬4) لم أقف على قائله، وقد ورد في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 223، "تهذيب اللغة" 3/ 2678 (غطى)، "الصحاح" 2447 (غطا)، "الإنصاف" 407، "اللسان" =

وقُرئ بإشباع الكسرة في الهاء، وهو الأصل (¬1). وقوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. أي: بالإلحاح (¬2) والخصومة والتقاضي والمطالبة. عن ابن عباس (¬3) وقتادة (¬4) ومجاهد (¬5). قال ابن قتيبة (¬6): أصله: أن المطالب للشيء، يقوم فيه ويتصرف، والتارك له يقعد عنه. دليله: قوله [عز وجل] (¬7): {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل ¬

_ = 6/ 3273 (غطى)، "الدر المصون" 3/ 264. وقوله: (لمجتلي) وردت في "الإنصاف"، "اللسان": (مجتَلى)، وفي "معاني القرآن": (لمجتلَى) بفتح اللام وفي "الإنصاف" "اللسان" لم تضبط اللام وما بعدها بالشكل. وما في المخطوط موافق لما في "التهذيب"، "الصحاح"، "الدر المصون". وقوله: (مَغْطِيًا)؛ من: (غَطَيتُ الشيءَ): سترته، (أغْطِيهِ غَطْيًا)، فـ (هو مُغْطِيٌّ)، وهي بمعنى: (غطَّى يُغَطِّي). ويقال: (فلانٌ مَغْطيُّ القِناعِ): إذا كان خامل الذِّكرِ. وقوله: (مُجتلي)؛ أي: نابه الذكْرِ محمود الأثر. انظر: "اللسان" 6/ 3273 (غِطى). والشاهد في البيت: اختلاس ضمةِ الهاء في (قناعُهُ)، وعدم إشباعها حتى تنشأ عنها واو. (¬1) وهي قراءة عاصم برواية حفص، وقراءة ابن كثير، والكسائي، ونافع من رواية ورش عنه، ورواية الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عنه، وقراءة ابن عامر. انظر: "السبعة" 207 - 212، "المبسوط" لابن مهران: 145. (¬2) في (ج): (باالالجاج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تفسير البغوي" 2/ 92. (¬4) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 123، "الطبري" 3/ 317، "ابن أبي حاتم" 2/ 683، "زاد المسير" 1/ 409. (¬5) قوله في "تفسيره" 129، "تفسير الطبري" 3/ 317، "ابن أبي حاتم" 2/ 683، "زاد المسير" 1/ 409. (¬6) في "تأويل مشكل القرآن" 181. نقله عنه بتصرف واختصار. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).

عمران:113]؛ أي: عاملة بأمر الله، غير تاركة. ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر: (قامَ به)، وإن لم يكن ثَمَّ (¬1) قيامٌ. ومثله قال ابن الأنباري (¬2) وأنشد (¬3) للأعشى: يقومُ (¬4) على الوَغْمِ في قومِهِ ... فَيَعْفُو إذا شاءَ أوْ يَنْتَقِمْ (¬5) أراد: يحققه ويتمسك بالمطالبة به، وليس ثَمَّ قيامٌ على الرِّجْل. وقال أبو علي الفارسي (¬6): (القيام) في اللغة بمعنى: الدوام والثبات. وذكرنا ذلك في قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3]. ومِنْ هذا قولُه: {دِينًا قِيَمًا} (¬7)؛ أي: دائمًا ثابتًا، لا يُنسَخ كما نُسِخت الشرائعُ التي قبله. فمعنى ¬

_ (¬1) في (ج): (تم). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) قد يكون الضمير في (أنشد) يعود على ابن الأنباري. لأنه أقرب متَحَدَّث عنه، وقد يرجع إلى ابن قيبة؛ لأن المؤلف هنا ينقل كلامه، وابن قتيبة قد أنشد هذا البيت في هذا الموضع استدلالًا على المعنى الذي ذهب إليه، وحينها يكون قول المؤلف: (ومثله قال ابن الأنباري) جملةً معترِضَةً، وهو الذي أرَجِّحه. (¬4) في (ج): (نقوم). (¬5) البيت في ديوانه: 198، "تأويل مشكل القرآن" 181، "النكت والعيون" 2/ 859. وقد ورد في "النكت": (على الرَّغْمِ). والشاعر يمدح قيس بن معد يكرب. و (الوَغْم): الحقد الثابت في الصدر، والثأر، والقهر. انظر (وغم) في "العين" 4/ 456، "اللسان" 8/ 4880، "القاموس" (1167). ومعناه: يقوم مطالبًا بالثأر لقومه، ولا يقعد ولا يتوانى عن ذلك. (¬6) لم أقف على مصدر قوله. (¬7) سورة الأنعام: 61. فُسِّر (قِيَما)، بمعنى: مستقيمًا. ولا منافاة بين التفسيرين. قال الآلوسي: (ولا فرق بين (القيم) و (المستقيم) في أصل المعنى، عند الكثير. وفسروا (القِيَم) بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد، وجعلوا المستقيم) من:=

قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}؛ أي: دائمًا ثابتًا في اقتضائك له، ومطالبتك إياه. ومن المفسرين من يجعل القيام ههنا حقيقةً. قال السدِّي (¬1): يعني: إلا ما دمت قائمًا على رأسهِ (¬2)، بالاجتماع معه، والملازمةِ له. وهو اختيار أبي رَوْق؛ قال (¬3): [يعترِف بما] (¬4) دفعت إليه، ما دمت قائمًا على رأسه، [فإنْ أنظرته وأخَّرت] (¬5)، أنكر وذهب به. والقول الأول: اختيار الفراء (¬6) والزجاج (¬7). وقوله (¬8) تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: ذلك الاستحلال والخيانة، بأنهم يقولون: ليس علينا فيما اؤتُمِنَّا (¬9) من أموال العرب سبيل؛ [لأنهم مشركون. فـ (الأميُّون) على هذا القول: العرب كلهم] (¬10). وهو (¬11) قول قتادة (¬12) والسدِّي (¬13). ¬

_ = استقام الأمر؛ بمعنى: ثبت .. وقيل: (المستقيم) مقابل (المعوج). والقِيَم: الثابت الذي لا ينسخ). "روح المعاني" 8/ 70. وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 111، "تهذيب اللغة" 3/ 2862 (قام). (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 117، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 683. (¬2) في (ب): (على مطالبته). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (بعته ما). والمثبت من (ج). (¬5) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج). (¬6) انظر: "معاني القرآن" له 1/ 224. (¬7) انظر: "معاني القرآن" له 1/ 433. (¬8) في (ب): (قوله). (¬9) في (ج): (أصبنا). (¬10) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). والمثبت من: (ج). (¬11) في (ب): (وهذا). (¬12) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 117، و"ابن أبي حاتم" 2/ 683، "الدر المنثور" 2/ 77 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد. (¬13) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 117، "ابن أبي حاتم" 2/ 683.

وكانت اليهود تستحل ظلم من خالفهم في دينهم، وتقول (¬1): لا حرج علينا في جنس (¬2) أموال العرب، قد (¬3) أحلها الله لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا (¬4). و (¬5) روي في الخبر: أنَّه (¬6) لَمَّا نزلت هذه الآية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " [كذَّب اللهُ أعداءَ اللهِ] (¬7)، ما من شيء كان في الجاهلية، إلاَّ وهو [تحت] (¬8) قَدَمَيَّ، إلاَّ الأمانة. فإنها مُؤَدَّاةٌ إلى البَرِّ والفاجر" (¬9). وقال ابن عباس في رواية عطاء (¬10): الأمِيُّون ههنا: أصحاب ¬

_ (¬1) في (ب): (فتقول). (¬2) في (ب): (أخذ). (¬3) قد: ساقطة من (ب). (¬4) في (ب): (دين). (¬5) في (ب): (لما). (¬6) (أنه): ساقطة من: (ج). (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وبياض في (ب). والمثبت من (ج). إلا أن الحديث في كل مصادره التالية، ورد بلفظ: (كذب أعداء الله). (¬8) ما بين المعقوفين: غير مقروء تمامًا في (أ)، وبياض في (ب)، والمثبت من: (ج) ومصادر الخبر. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 117، وابن أبي حاتم 2/ 683، والثعلبي 3/ 60 ب، وابن كثير 1/ 401، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 77 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وقد أخرجه كلهم عن سعيد بن جبير مرسلا. وقال الشيخ أحمد شاكر عن إسناده إلى سعيد بن جبير: (وإسناده إليه إسناد جيد). هامش "تفسير الطبري" 1/ 473. (¬10) لم أقف على مصدر هذه الرواية.

76

النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمون. وهو قول: الحسن (¬1) ومقاتل (¬2) وابن جريج (¬3)، قالوا: إن اليهود كانوا استدانوا من العرب وبايعوهم، ولزمتهم الأثمانُ، فلمَّا أسلم أصحابُ الحقوق، [قالت] (¬4) اليهودُ حين تقاضوهم (¬5) ليس لكم علينا شيءٌ، لأنكم تركتم دينَكم، وتحولتم، فسقطت عنَّا ديونُكم، وادَّعوا أنَّ ذلك في التوراةِ، فكذبهم الله عز وجل، فقال: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. أنهم يكذبون. 76 - قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} في {بَلَى} وجهان: أحدهما: أنه جواب متصل بالجَحْدِ المتقدم، وهو قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، فقال الله عز وجل رادًّا عليهم (¬6): {بَلَى}، [أي: بَلَى] (¬7) عليهم سبيل في ذلك. وهذا اختيار الزجاج؛ قال (¬8): وعندي وقف التمام على {بَلَى}. وما بعده استئناف (¬9). ¬

_ (¬1) قوله في "النكت والعيون" 1/ 403، "تفسير البغوي" 2/ 56. (¬2) قوله في "تفسيره" 1/ 285. (¬3) قوله في "الطبري" 3/ 117، "ابن أبي حاتم" 2/ 683، "النكت والعيون" 1/ 403. (¬4) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬5) في (ب): (نقضوهم). (¬6) عليهم: ساقطة من (ج). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 434. نقله عنه بالمعنى. (¬9) في (ب): (وما بعدها مستأنف).

والوجه الثاني: أن {بَلَى} ابتداء كلامٍ، أتى به بيانا [وتصديقًا لما بعده] (¬1)، وهي (¬2) كلمة مصححة لحب اللهِ عز وجل، من اتَّقاهُ وعبدَه وخاف عقابه. وعلى هذا الوجه لا يحسن الوقف على {بَلَى}. وقوله تعالى: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ}. مضى الكلام في معنى (الوفاء)، و (العهد) (¬3). قال المفسرون: أي: بما (¬4) عهد (¬5) اللهُ إليه في التوراة، مِنَ الإيمان بمحمد، والقرآن، وأداء الأمانةِ (¬6). والهاء (¬7) في (عهده)، تعود على اسم الله، في قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}. ويجوز أن تعود على {مِّن} لأن العهد مصدر يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول (¬8). وقوله تعالى: {وَاَتَّقَى} أي: الكفر (¬9)، والخيانة، ونقض العهد. {فَإِنَ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلمُتَّقِينَ}. يريد: مَن كانت هذه صفته. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وفي (ب): (وفيت لما بعده). والمثبت من (ج). (¬2) في (ج): (هو). (¬3) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: 40. (¬4) في (ج): إنما. ومن قوله: (أي بما) إلى (.. الأمانة): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 60 ب. (¬5) في (أ)، (ب): (عاهد)، والمثبت من: (ج)، "تفسير الثعلبي". (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 320. (¬7) في (ج): (والفاء). (¬8) انظر: "تفسير الثعلبى" 3/ 60 ب، "الدر المصون" 3/ 270271. (¬9) من قوله: (الكفر ..) إلى (.. هذه صفته): نقله بتصرف يسير جدًّا عن "تفسير الثعلبي" 3/ 60 ب.

77

77 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية. أكثر أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في اليهود (¬1). قال عكرمة (¬2): إن جماعة من علمائهم (¬3) كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبدَّلُوه، وكتبوا غيره بأيديهم من عندهم، فيما ادَّعوه أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، وحلفوا أنه من عند الله؛ لئلا تفوتهم الرِّشَى (¬4) والمآكل. ودليل هذا: قوله في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬5) الآية. ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك: عكرمة كما سيأتي، ومقاتل، والكلبي، والحسن. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 285، "تفسير الثعلبي" 3/ 61 ب، "أسباب النزول" للمؤلف (112)، "النكت والعيون" 1/ 404. ولم أقف على غيرهم قال بهذا القول. وفي الآية روايات أخرى صحيحة، تخالف هذا القول ذكرها المفسرون، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 320، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 686، "ابن كثير" 1/ 401، "الدر المنثور" 2/ 77. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 321، 6/ 528، "تفسير الثعلبي" 3/ 61 ب، "أسباب النزول" للمؤلف (112)، "تفسير البغوي" 2/ 56، "زاد المسير" 1/ 411. (¬3) هم: أبو رافع، وكنانة بن أبي الحُقَيق، وكعب بن الأشرف، وحُيي بن أخطب. كما في المراجع السابقة. (¬4) الرِّشى بكسر الراء، وبضمها: جمع رَشْوة بفتح الراء وبضمها وبكسرها: وهي الجُعْل الذي يُتوصل به إلى الحاجة، وأصلها من الرِّشاء، وهو: الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، والمصدر: الرَّشْوُ. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 2/ 226، "اللسان" 3/ 1648 (رشا). (¬5) سورة البقرة: 174. وهذه الآية نزلت في اليهود. انظر: "تفسير الطبري" 2/ 89.

وقال ابن عباس في رواية باذان (¬1): نزلت في رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضَيْعَةٍ، فَهَمَّ المدَّعَى عليه أن يحلف، فنزلت هذه الآية، فَنَكَلَ المدَّعَى عليه عن اليمين، وأقر للمدَّعِي بحقه، ودفعه إليه (¬2). ¬

_ (¬1) في (ب): بانوان. ولم أقف على مصدر هذه الرواية. وباذان، هو: أبو صالح، مولى أم هانئ، يقال: باذان، وباذام. وقد سبق، ورواية باذان عن ابن عباس وردت في "تفسير الثعلبي" من طرق كلها عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (¬2) ورد عن ابن جربج أثر قريب من هذا القول أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 322: (قال [يعني أن جريج]: قال آخرون ..) ثم ذكره. وملخصه: أن الأشعث بن قيس اختصم مع رجل في أرض، فطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الرجل البيِّنة، فقال: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث، قال: فلك يمينه فقام الأشعث ليحلف، فأنزل الله هذه الآية، فنكل الأشعثُ، وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق. فردَّ إليه أرضه، وزاده من نفسه زيادة كثيرة .. قال الشيخ أحمد شاكر: (هذا حديث مرسل، لم يذكر ابن جريج من حدَّثه به، فهو ضعيف الإسناد). المرجع السابق. وورد في نزول هذه الآية أسباب أخرى، أصح من هذا الأثر، فقد ورد أنها نزلت في السبب التالي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف يمين صبر؛ ليقتطع بها مال امريء مسلم، لقيَ الله وهو عليه غضبان". فأنزل الله تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ...} إلى آخر الآية. قال فدخل الأشعث بن قيس، وقال: فيَّ أنزِلَت، كانت لي بئر في أرض ابن عمِّ لي، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بيِّنَتك أو يمينه". فقلت إذًا يحلفُ يا رسول الله! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين صبر ..). إلى آخره. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ...}، واللفظ له، انظر: "فتح الباري" 8/ 212. وأخرجه مسلم في "صحيحه" (138) كتاب الإيمان، باب: (وعيد من اقتطع حق مسلم). وأبو داود في "السنن" (3243) كتاب الأيمان والنذور، باب: (فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا). والترمذي في "السنن" (2669) كتاب التفسير، باب: (ومن سورة آل عمران). وابن ماجه في "السنن" (2322) كتاب الأحكام، باب: (البيِّنة على المدعي). وأحمد في "المسند" 5/ 211، 212 وانظر: "المسند" شرح شاكر =

ومعنى {يَشْتَرُونَ}: يستبدلون (¬1). وذكرنا هذا في قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}. جاز (¬3) أن يكون (¬4) إسماع الله جلَّ وعز أولياءَهُ كلامَهُ بغير سفير، خصوصيةً يَخُصُّ بها أولياءَه، فهو لا [يكلم هؤلاء أصلا. ويكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة. ¬

_ =5/ 210 رقم (3597)، 6/ 58 رقم (4049). والبيهقي في "السنن" 10/ 178، وأبو داود الطيالسي في مسنده: 35 رقم (262)، 141 رقم (1050، 1051)، والطبراني في "المعجم الكبير" 1/ 234، والحميدي في مسنده: 1/ 53 رقم (95)، والنسائي في "تفسيره" 1/ 299، والطبري في "تفسيره" 3/ 220 وفيه أن الخصومة كانت بين الأشعث وبين رجل من اليهود، وأخرجه ابن أبي حاتم في 2/ 686. وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ...} سببًا آخر عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: (أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف فيها: لقد أعطِيَ بها ما لم يُعطَه؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلين. فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ...}). انظر: "فتح الباري" 8/ 213، وأخرجه كذلك الطبري 6/ 533، وابن أبي حاتم 2/ 686. وقد وردت روايات أخرى، ولكنْ هاتان الروايتان أصح ما ورد، وعليهما الاعتماد، وهما نصَّان في السببيَّة، ولا يمتنع أن يتعدد السبب والنازل واحد. وقال الكرماني: (لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة، فظنَّ أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد، فنزلت الآية). "فتح الباري" 11/ 560. ولكن هذا لا يمنع أن يدخل اليهود فيها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معروف. وانظر بقية الروايات في "تفسير الطبري" 6/ 530 - 534. (¬1) في (ب): يسترون: يستدلون. (¬2) في (ج): (واشتروا). سورة البقرة: 16. (¬3) في (ب): (فإما). (¬4) من قوله: (أن يكون) إلى (لم ينقض ذلك) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 434 نقل بعض عباراته بالنص، وتصرف في بعض عباراته بالزيادة والاختصار.

وجائز أن يكون معنى] (¬1) {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} أي: لا يكلمهم بكلامٍ يَسُرُّهم. ونفى الكلامَ أصلًا لأنه يتضمن (¬2) معنى الغضب؛ كما يقال: (فلان لا يكلم فلانًا)، تأويله: أنه غضبان عليه، وإنْ كلمه بكلام سوء، لم ينقض ذلك. وقوله تعالى: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}. أراد: نظر الرحمة؛ كما يقال: (نظر فلان لفلان)، و (نظر الأمير لرعيته): إذا رحمهم، وبهذا فسره ابن عباس، فقال (¬3): يريد: لا (¬4) يرحمهم. وروى جعفر بن سليمان الضُّبَعِي (¬5) عن أبي عِمْران (¬6) الجَوْني (¬7)، أنه قال (¬8): ما نظر الله عز وجل إلى شيء إلاَّ رَحِمَه، ولو قضى أن ينظر إلى أهل النار لرحِمَهُم؛ ولكن قضى أن لا ينظرَ إليهم. ومضى الكلام في معنى تزكية الله. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬2) في (ج): (يضمن). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) في (ب): (ولا). (¬5) هو: أبو سليمان الحرشي البصري. قال عنه ابن حجر: (صدوق زاهد، لكنه كان يَتَشيَّع)، وعَدَّه من الطبقة الوسطى من أتباع التابعين، توفي سنة (178 هـ). انظر الجرح والتعديل: 2/ 481، "ميزان الاعتدال" 1/ 408، "تقريب التهذيب" (942). (¬6) في (ج): (أبي عمر). (¬7) في (ب): الجرني. وهو: أبو عمران، عبد الملك بن حبيب، البصري، الأزدي، الجَوْني. ثقةٌ، من التابعين، توفي سنة (128هـ) وقيل: بعدها. انظر: "الأنساب" 2/ 125، "تقريب التهذيب" (4172). (¬8) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 63 أ، وقد أورده بسنده عنه.

78

78 - قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا}. يعني: من اليهود (¬1). وفي هذا دليل: أن الآية المتقدمة نازلةٌ (¬2) في اليهود، حيث عطف عليها بهذه [الآية] (¬3) التي هي (¬4) نازلة فيهم بلا خلاف. وقوله تعالى: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}. قال مجاهد (¬5)، وقتادة (¬6)، والربيع (¬7)، وابن جريج (¬8): يحرفونه (¬9) بالتغيير والتبديل. وأصل (اللَّيِّ): [الفَتْلُ؛ من قولك: (لَوَيْتُ يدَهُ): إذا فتلتها (¬10)، و] (¬11) تحريف الكلام [وتقليبه] (¬12) عن وجهه، [و] (¬13) لَيُّ اللِّسانِ به؛ لأن ¬

_ (¬1) وهذا قول ابن عباس في رواية عطية، والربيع، وقتادة، وإليه ذهب الطبري، وابن كثير. وذهب الحسن، وابن عباس في رواية الضحاك: إلى أنهم أهل الكتاب كلهم. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 323، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 688، "تفسير الثعلبي" 3/ 64 ب، "تفسير البغوي" 2/ 59، "زاد المسير" 1/ 411، "تفسير ابن كثير" 1/ 404. (¬2) في (ب): (أولا). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ب). (¬4) في (ب): (أنها). (¬5) قوله في "تفسيره" 129، "تفسير الطبري" 3/ 323، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 689. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 323، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 689. (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 324، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 689. (¬8) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 324. (¬9) في (ب): (يحرفون). (¬10) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 324، قال: (وأصل (الليِّ): الفَتْل، والقلب، من قول القائل: لوى فلانٌ يدَ فلان: إذا فتلها وقلبها). (¬11) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). والمثبت من: (ج). (¬12) في (ب): وتقلبه. وقد جاءت في النسخ الثلاث: (وتقلبه). وما أثبتُّه من "تفسير الخازن" 1/ 311؛ حيث نقل عبارة الواحدي، وفيها: (تقليبه) وهي الأليق بسياق الكلام. (¬13) ما بين المعقوفين زيادة لازمة ليستقيم بها الكلام.

79

المُحرِّفَ (¬1) لَوَى لسانَهُ (¬2) عن سَنَنِ (¬3) الصواب، بما يأتي به من عند نفسه (¬4). ويحتمل أن يكون المعنى: يَلْوُونَ بألسنتهم الكتابَ (¬5)؛ لأنهم (¬6) يحرفون الكتاب عما هو عليه، بألسنتهم، فأتى به على القلْب. والقَلْبُ سائغٌ في كلام العرب. ولهذا نظائر وأشباه. وقوله تعالى: {لِتَحْسَبُوهُ}. أي: لتحسبوا ما لَوَوا ألسنتَهم به، وما حرفوه من الكتاب. فرجعت (¬7) الكناية (¬8) إلى مفعول {يَلْوُونَ}، وهو غير مذكور (¬9) ولكن الفعل يدل عليه (¬10). 79 - قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الآية. لمَّا ادعت اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم، أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم ليسوا على دينه، غضبوا، وقالوا: ما يرضيك منا يا محمد إلا أن نتخذك ربًّا ونعبدَك؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير ¬

_ (¬1) في (ب): (الحرف). (¬2) (لسانه): ساقطة من (ج). (¬3) في (ب): (حسن). (¬4) بما يأتي به من عند نفسه: ساقط من (ب). (¬5) (بألسنتهم الكتاب): الكتاب: غير مقروء في (أ). وفي (ب)، (ج): (السنتهم بالكتاب)، ولا يستقيم بها المعنى. وما أثبتُّه من "تفسير الخازن" 1/ 311؛ حيث نقل عبارة الواحدي هذه، وهي الأصح والأليق بسياق الكلام. (¬6) في (ب): (أي). (¬7) في (ب): (ورجعت). (¬8) الكناية، هي: الضمير؛ لأنه يكنى به أي: يرمز به عن الظاهر. (¬9) في (ج): (منكور). (¬10) (وهو غير مذكور ولكن الفعل يدل عليه): ساقط من (ب).

الله، ما بذلك بعثني ربي". فأنزل الله عز وجل هذه الآية. هذا قول ابن عباس (¬1). وقال الضحاك (¬2)، ومقاتل (¬3): كانت النصارى تقول: إن عيسى إلهٌ معبودٌ، وزعموا أن عيسى قال لهم ذلك، فنزلت الآية فيهم. فقوله (¬4): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} (¬5)؛ يعني: محمدًا عليه السلام على قول ابن عباس. وعلى قول مقاتل، يعني: عيسى. و (الحُكْم) (¬6) في اللغة وفي التفسير: العلم والفقه؛ قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، يعني: العلم والفقه. و (الحُكْم): القضاء بالعدل (¬7) أيضًا؛ ومنه قول النابغة: واحْكُم كحُكْمِ فتاةِ (¬8) الحَيِّ. (¬9) .. البيت. ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 325، "تفسير الثعلبي" 3/ 64 ب، "أسباب النزول" للواحدي: (116)، "تفسير ابن كثير" 1/ 404، "لباب النقول" 54، "الدر المنثور" 2/ 82 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل". (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 64 ب، "أسباب النزول" للواحدي: 116، "تفسير البغوي" 2/ 59، "زاد المسير" 1/ 413. (¬3) قوله في "تفسيره" 1/ 286، "تفسير الثعلبي" 3/ 64 ب، "تفسير البغوي" 2/ 59 "زاد المسير" 1/ 413. (¬4) (فقوله): ساقط من: (ج). (¬5) في (أ): (وما). (¬6) من قوله: (والحكم ..) إلى نهاية بيت الشعر: من قول الليث بن المظفر، نقله المؤلف بتصرف من "تهذيب اللغة" 4/ 111. (¬7) في (ب): والعدل. في (ج): (بالعذاب). (¬8) في (ب): قناة. في (ج): (فتادة). (¬9) صدر بيت، وتمامه: =

وقوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولَ للِنَّاسِ}. عطف على قوله: {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ} أي: ما كان لبشرٍ أن يجمع بين هذين: بين النُّبُوَّة، وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله. قال الزجاج (¬1): أي: الله عز وجل لا يصطفي لنبوته الكَذَبَةَ (¬2)، ولو فعل ذلك بشَرٌ، لَسَلَبَهُ الله عز وجل آياتِ النُّبُوّة، و (¬3) علاماتها. ونصب {ثُمَّ يَقُولُ} على الاشتراك (¬4) بين أن يُؤتِيَه وبين أن يقولَ (¬5)؛ أي: لا يجتمع لنبي إتيانُ (¬6) ¬

_ = واحكم كحكم فتاةِ الحي إذْ نَظَرَتْ ... إلى حَمامٍ شِراع واردِ الثَّمَدِ وهو في ديوانه: 34، وورد منسوبًا له، في "كتاب سيويه" 1/ 168، والحيوان، للجاحظ: 3/ 221، "تهذيب اللغة" 1/ 885 (حكم)، "الصحاح" 5/ 1902 (حكم)، "أمالي ابن الشجري" 3/ 29، "اللسان" 2/ 951 (حكم)، (1006) (حمم)، "التصريح" 1/ 225، "شرح شواهد المغني" 1/ 75. ويروى: (.. سِراع) بدلًا من (شراع). والشاعر هنا يخاطب النعمان بن المنذر، ويعتذر إليه، ويطلب منه أن يحكم بالعدل في أمره، كما حكمت فتاةُ الحيِّ، وهي زرقاء اليمامة، المشهورة بحدَّةِ النظر، حيث نظرت إلى سرب حمام في الجو، فأحصتها، ولم تخطيء في عددها. و (شِراع): مقبلة على شِرعةِ الماء؛ أي: مَوْرِدهِ. و (الثَّمَدِ): الماء القليل. انظر: "اللسان" 4/ 2238 (شرع)، "القاموس" 270 (ثمد)، "شرح شواهد المغني" 1/ 76 - 77. وقيل: إن معنى قوله: (احكم كحكم ..)؛ أي: كن حكيمًا كفتاة الحي؛ أي: إذا قلت فأصِبْ كما أصابت هذه المرأة في حكمها. انظر: "التهذيب" 1/ 885. (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 435، نقله عنه بتصرف. (¬2) في (ب): (مثل ذ) ابدلا من (الكذبة). (¬3) الواو ساقطة من: (أ)، (ب). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن". (¬4) في (ج): (الإشراك). (¬5) في "معاني القرآن": (يقول) بدون واو. (¬6) الأوْلى أن تكون (إيتاء النبوة) بدلًا من (إتيان)؛ لأن الإتيان: المجيء، وهو =

النُّبوَّةِ والقولُ للناس: {كُونُوا عِبَادًا لِي}. وقال صاحبُ النَّظْمِ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ}: نفيٌ، والنفي واقع غير موقعه؛ لأن التأويل ما كان لبشر يُؤتِيَه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ. وقوله تعالى (¬1): {يُؤتِيَهُ اَللَّهُ} (¬2) صفة للنكرة (¬3)؛ على تأويل: (ما كان لِبَشَرٍ يكون بهذه الحال، أن يقول للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله). فالمنفي (¬4): قوله: (أن يقول الناس). فلمَّا (¬5) وقع {أَنْ} في غير موقعه، نسق (¬6) عليه بـ {ثُمَّ}. ففي الآية تقديم حرف حقُّهُ أن يُؤَخَّرَ، ومثله من تقديم ما وجب أن يؤخر في النظم: قوله تعالى (¬7): {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ (¬8)} [الفتح: 25]، التأويلُ: ولولا أن تطؤوا رجالًا مؤمنين ونساءً مؤمناتٍ لم تعلموهم؛ أي: لم تعرفوهم. وقوله تعالى: {كُونُوا عِبَادًا لِي}. قال ابن عباس (¬9): هذه لغة ¬

_ = مصدر: (أتى يأتي)، ومن مصادره أيضًا: (أتْيًا، وأُتِيَّا، وإتِياَّ، ومأتاة). أما قوله تعالى: {يُؤْتِيَهُ}، فهو من: (آتاه، يُؤْتيه)؛ أي: أعطاه، يعطيه. والمصدر: إيتاء. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 115 (أتى)، والسان: 1/ 21 (أتي). (¬1) (تعالى): ساقطة من: (ج). (¬2) في (ب): {يَقُولَ للِنَّاسِ}. (¬3) (صفة للنكرة): ساقطة من (ب). (¬4) في (ب): (والمنفي). (¬5) في (ب): (وإنما). (¬6) أي: عطف. وحروف النسق، هي: حروف العطف. (¬7) (تعالى): ساقطة من: (ج). (¬8) (أن تطؤوهم): ساقطة من: (ج). (¬9) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 65 أ.

مُزَيْنَة (¬1)، تقول للعبيد: (عِبَاد) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}. أي: ولكن تقول: كُونُوا، فحذف القول؛ لدلالة الأولى عليه. و (الرَّبّانِي): العالم، في قول كلهم. أخبرني العَرُوضِيُّ، عن الأزهري، قال (¬3): أخبرني المُنْذِري، عن أبي طالب (¬4)، قال: الرَّبّاني: العالم. والجماعة (¬5): الربّانِيُّون. وقال أبو ¬

_ (¬1) قبيلة عربية مُضَرية عدنانية، كانت مساكنهم بين المدينة ووادي القرى. وقد قاتلت مُزينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين، واشتركوا في فتح مكة مع خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: "معجم قبائل العرب" 3/ 1083. (¬2) فرق الراغب بينهما، فجعل (العبد) بمعنى (العابد)، وجعل (العبيد) جمع (العبد) الذي هو مسترقٌّ. أي: أن (العباد) من العبادة، و (العبيد) من العبودية، وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله. ثم قال: (فـ (العبيد) إذا أضيف إلى الله، أعم من (العباد)؛ ولهذا قال: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]، فنبه إلى أنه لا يظلم من يختص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذي تسموا بـ (عبد الشمس)، و (عبد اللات)، ونحو ذلك). "المفردات" 543 (عبد). ويرى ابن عطية أن (العباد) (جمع (عبد)؛ متى سيقت اللفظةُ في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن)، وضرب لذلك أمثلة، منها: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 27]، و {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. "المحرر الوجيز" 3/ 187، وانظر: "روح المعاني" 3/ 207. (¬3) قوله هذا في "تهذيب اللغة" 2/ 1336. ومن قوله: (قال ..) إلى (.. بصغار العلوم قبل كبارها): موجود مع اختلاف يسير في "التهذيب" 15/ 179. (¬4) هو: المفضَّل بن سَلمة بن عاصم، أبو طالب الضَّبِّي، تقدمت ترجمته. (¬5) في (ب): (للجماعة).

العباس (¬1): الربَّانِيُّون: العلماء. وقال سيبويه: زادوا ألِفًا ونونًا في (الرَّبّاني)، إذا (¬2) أرادوا تخصيصًا بعلم الرَّبِّ، دون غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: (شَعْراني)، و (لِحْيانِي)، و (رَقَباني): إذا خُصَّ بكثرة الشَّعْر، وطول اللِّحْيَة، وغِلظ الرَّقَبَة. فإذا نسبوا إلى الشَّعْر، قالوا: (شَعْرِي)، وإلى الرَّقَبَة: (رَقَبِي)، وإلى اللِّحْيَة: (لِحْيِي) (¬3). وقال ابنُ الأعرابي: الرباني: العالم المُعَلِّم، الذي يَغْدُوا الناسَ (¬4) بصِغار العلوم قبل كبارها. وقال المبرد (¬5): الربّانِيُّون: أرباب العلم، وأحدهما: رَبّاني، وهو: الذي يَرُبُّ العِلم، ويَرُبُّ الناسَ؛ أي: يعلمهم ويصلحهم، ويقوم بأمورهم (¬6). والأَلِف والنُّونُ: للمبالغة؛ كما قالوا: (رَيّان) (¬7)، و (عطشان)، و (شبعان)، و (عُرْيان) (¬8)، و (نَعْسان)، و (وَسْنان) (¬9)، ثم ضمَّت إليه ياءُ ¬

_ (¬1) هو ثعلب كما في "تهذيب اللغة" قوله: (الربّاني: العالم. والجماعة: الربَّانيون). (¬2) (إذا): ساقطة من (ج). (¬3) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 380. "المقتضب" 3/ 144. (¬4) في (ج): (للناس). (¬5) قوله بنصه، في "تفسير الثعلبي" 3/ 65 ب، "تفسير القرطبي" 4/ 122. (¬6) انظر: "الزاهر" 1/ 576، "تهذيب اللغة" 2/ 1336 (ربَّ)، "تاج" 2/ 10 (ربب). (¬7) في (أ)، (ب)، (ج): (ربَّان). والمثبت من "تفسير الثعلبي". (¬8) في (ب): (وعرقان)، في (ج): (وعرثان). (¬9) يقال: (وَسِنَ، يَوْسَنُ، وَسَنًا)، و (سِنَةً)، و (وَسْنَةً)، أي: أخذ في النُّعاس، فهو: (وَسِنٌ)، و (وَسْنان)، و (مِيْسان). والاسم: (الوَسَن)، وهو: النعاس. انظر (وسن) في "المجمل" 925، "القاموس" (1238)، "المعجم الوسيط" 1033.

النسبة، كما قيل: (لِحياني)، و (رَقَبانِي). فعلى قول سيبويه؛ الرَّبّاني: منسوب إلى الرَّبِّ؛ على معنى التخصيص بعلم الرَّبِّ، أي: يَعْلَم الشريعة، وصفات الرب. وعلى قول ابن الأعرابي، والمبرد؛ الرّبّانِي: من الرَّبِّ، الذي هو بمعنى: التربية، على البيان الذي ذكر. وقال أبو عبيدة (¬1): لم تعرف العرب (رَبّانِيِّين) (¬2). هذا قول أهل اللغة في معنى (¬3) هذا (¬4) الحرف. قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬5): ربانيين؛ أي: معلِّمِين (¬6). وهو قول مُرَّة الهَمْداني (¬7)، واختيار عبد الله بن مُسْلِم (¬8)، ويقوى هذا قول ¬

_ (¬1) قوله في "مجاز القرآن" 1/ 97. (¬2) ونص قول أبي عبيدة كما في "مجاز القرآن" (لم يعرفوا ربّانيِّين). وفي "تهذيب اللغة" 2/ 1336: (قال أبو عبيدة: وأحسب الكلمة ليست بعربية، وإنما هي عبرانية أو سريانية: وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربّانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم). (¬3) (معنى): ساقطة من: (ب). (¬4) (هذا): مطموسة في (أ). ومثبتة من: (ب)، (ج). (¬5) الرواية في "تفسير الطبري" 3/ 325، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 691، "تفسير الثعلبي" 3/ 65 أ. (¬6) في (ب): (مسلمين). واختلفت ألفاظ هذه الرواية عن ابن عباس في مصادرها، فعند الطبري، ورد: (حكماء فقهاء)، وعند ابن أبي حاتم: (الفقهاء المعلمون)، ومثله عند الثعلبي. وورد عن ابن عباس من رواية عطية العوفي: (حكماء فقهاء)، هكذا عند الطبري. وعند الثعلبي: (حكماء علماء). ومن رواية الضحاك عنه: (الفقهاء العلماء). انظر المراجع السابقة. (¬7) هو: أبو إسماعيل، مُرَّة بن شَرَاحِيل، الكوفي، البكيلي الهَمْداني، تقدم 2/ 77 (¬8) هو ابن قتيبة وقوله في "تفسير غريب القرآن" له: 107.

ابن الأعرابي والمبرد (¬1). وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} (¬2). ويُقرأ: {تُعَلِّمُونَ} (¬3)، من: العلم. والباء (¬4) في {بِمَا}، متعلقة بقوله: {كُونُوا}. و (ما) في القراءتين، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل، والتقدير: كونوا رَبَّانِيِّين، ¬

_ (¬1) قال الطبري: (وأولى الأقوال عندي بالصواب في (الرَّبانيِّين): أنهم جمع (رَبّاني)، وأن (الرَّبّاني): المنسوب إلى (الرَّبَّان) الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و (ويربُّها)، ويقوم بها ..). ثم قال: (يقال منه: (رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه). فإذا أريد به المبالغة في مدحه، قيل: (هو ربّان) ..). ثم تابع قائلاً جامعًا بين الأقوال المختلفة: (فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان (الربَّان) ما ذكرنا، و (الربّاني) هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمورَ الناس على المنهاج الذي وَليَهُ المقسطون من المصلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم، كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] مِمّن دَخل في قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}. فـ (الرَّبّانيُّون) إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد: (وهم فوق الأحبار)؛ لأن (الأحبار): هم العلماء، و (الرَّبّانِي): الجامع إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم). تفسيره: 3/ 296. (¬2) (الكتاب): ساقطة من (ج). (¬3) في (أ): (تُعَلمون). وفي (ب)، (ج) مهمل، لم يضبط بالشكل. وما أثبته هو الصواب. وهذه القراءة بفتح التاء، وإسكان العين وفتح اللّام، قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {تُعَلِّمُونَ} بضم التاء وتشديد اللام المكسورة. انظر: "السبعة" 213، "الكشف" 1/ 351. (¬4) من قوله: (الباء ..) إلى (.. أبلغ في هذا الوضع): نقله باختصار وتصرف من "الحجة" للفارسي: 3/ 59 - 61.

بكونكم عالمين؛ [أو: معلِّمين] (¬1). وعلى هذا التقدير أيضًا قوله تعالى (¬2): {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}. ومثل هذا مِنْ كَوْن (¬3) (ما) مع الفعل بمنزلة (¬4) المصدر؛ قوله [تعالى] (¬5): {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]؛ أي: كنسيانهم لقاء يومهم، وككونهم (¬6) بآياتنا جاحدين. فأما قوله: {تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ}، من قرأه (¬7) بالتخفيف؛ فهو من (العِلم) الذي يراد (¬8) به: المعرفة، فيتعدى إلى مفعول واحد؛ كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65]، وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وحجته: ما رُوي عن عمرو (¬9) أنه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ)، وساقط من (ب). ومثبت من (ج). إلّا أنه ورد في (ج): (أي: معلمين)، بدلًا من: (أو معلمين)، ولم أرَ لها وجهًا. والصواب ما أثبته؛ لأن المؤلف هنا يذكر التقدير في القراءتين باعتبار أنَّ (ما) مصدرية فيهما. ففي القراءة الأولى {تَعلمون}، يكون التقدير: (بكونكم عالمين)، أو يكون التقدير: (بكونكم مُعَلِّمين) على اعتبار القراءة الثانية {تُعَلِّمُونَ}. ويعزز هذا ما ورد في "التفسير الوسيط" للمؤلف؛ حيث أورد في هذا الموضع القراءتين، فقال عن قراءة: {تُعَلِّمُونَ} (أي: بكونكم عالمين). وقال عن قراءة {تُعَلِّمُونَ} بالتشديد: (بكونكم معلمين). "الوسيط" تحقيق بالطيور: 255. (¬2) لفظة (تعالى): ساقطة من: (ج). (¬3) في (ب): (ممن تكون فيه). (¬4) في (ب): (بمعنى). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من: ب. (¬6) في (ج): (ولكونهم). (¬7) في (ج): (قرأ). (¬8) في (ج): (يريد). (¬9) هو أبو عمرو بن العلاء، ممن قرأ {تَعْلَمون}.

احتج بقوله: {تَدْرُسُونَ} ولم يقل: (تُدَرِّسُون)، وأيضًا فإن التشديد يقتضي مفعولين، والمفعول ههنا واحد، فالتخفيف أولى. ومن قرأ بالتشديد: فالمفعول الثاني محذوف، تقديره: بماكنتم تُعَلِّمونَ الناسَ الكتابَ، أو غيرَكم الكتابَ. وحُذِف؛ لأن المفعول به قد يُحذَف من الكلام كثيرًا. وحجته في التشديد: أن التعليم (¬1) يَدُل على العِلْم؛ لأن الذي يُعَلِّم لا يكون إلا عالمًا بما يُعَلِّم، والعِلْم لا يدل على التعليم، فالتشديد أبلغ في هذا الموضع. وأيضًا فإن الرَّبّانِيّين لا يقتصرون على أن يَعْلَموا لأنفسهم حتى يتقربوا إلى الله بالتعليم، يدل عليه: قول مُرَّة بن شَراحيل (¬2): كان عَلْقَمَةُ من الربّانيين الذي يُعَلِّمون الناسَ القرآن. قال الزجاج (¬3): معنى قوله: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ}: كونوا معلِّمِي الناس بعِلْمِكم ودَرْسِكم، عَلِّموا الناسَ وبَيِّنوا لهم؛ كما تقول: انفعوهم بمالِكم. وقيل (¬4): كونوا ممن يستحق أن يُطلق (¬5) له صفة عالم بعلمه؛ لإخلاصه وقيامه بحقه. وقوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}. أي: تقرأون (¬6). ومنه قوله تعالى: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169]. وشَرْحُ معنى الدَّرسِ والدراسة، ¬

_ (¬1) في (ج): (العلم). (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 65 أ، "حلية الأولياء" 2/ 98، "صفة الصفوة" 2/ 16. (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 435. نقله عنه بالمعنى. (¬4) هذا القول يدخل ضمن معنى قول الزجاج في المصدر السابق. (¬5) في (ب): (تطلق). (¬6) في (ج): (تقرون).

80

يُذكر عند قوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105]. 80 - قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ}. الآية. أكثر القراء على رفع {ولا يأمُرُكُم} (¬1). قال سيبويه (¬2): {وَلَا يَأَمُرُكم}: منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى: ولا (¬3) يأمُرُكم الله. وقال ابن جريج (¬4)، وجماعة (¬5): ولا يأمُرُكم محمدٌ. ومما يدل على الانقطاع من الأول: ما روي عن ابن مسعود، أنه قرأ: (ولن يأمُرَكم) (¬6). قال الفراء (¬7): فهذا دليل على انقطاعها من النَّسَقِ، وأنها مستأنفة؛ فلما وقعت (لا) موقع (لن) رفعت، كما قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا ¬

_ (¬1) القراءة برفع الراء، هي لابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، والكسائي، وأبي جعفر، وعاصم برواية الأعشى والبرجمي عن أبي بكر. وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفًا. والقراءة بالفتح، لعاصم برواية حفص وحماد ويحيى عن أبي بكر، وهي كذلك قراءة ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، وخلف. انظر: "السبعة" 213، "المبسوط" لابن مهران: 145 - 146، "حجة القراءات" 168، "الإقناع" 621، "إتحاف فضلاء البشر" (177). (¬2) في "الكتاب" 3/ 52. (¬3) من قوله: (ولا ..) إلى (.. ابن جريج وجماعة): ساقط من: (ج). (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 329. (¬5) لم أقف على المراد بهم. وقد وردت هذه العبارة بنصها في "تفسير الثعلبي" 3/ 66 أ. قال: (وقال ابن جريج وجماعة). (¬6) ذكر هذه القراءة: الطبري في "تفسيره" 3/ 329، والفارسي في "الحجة" 3/ 58، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 66 أ. وقال الطبري: عن سند هذه القراءة: (فذلك خبر غير صحيح سنده). "تفسيره" 3/ 329. (¬7) في "معاني القرآن" له: 1/ 225. نقله عنه بنصه.

وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]، وفي قراءة عبد الله: (ولن تُسأَلَ) (¬1). ومَن نَصَبَ {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} كان (¬2) وجهه ما قال سيبويه: إن المعنى: وما كان لِبَشَرٍ أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة. فيكون نصبًا بالنَّسَقِ على قوله: {أَنْ يُؤْتِيَهُ}. ويقوي هذا الوجه ما ذكرنا: أن اليهود قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتريد يا محمدُ أن نتخذك ربًّا؟! فقال الله سبحانه: ما كان لِبَشَرٍ أن يأمر بذلك (¬3). قال الزجاج (¬4): معنى الآية (¬5): ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين؛ لأن الذي قالوا: إن عيسى إلهٌ، عبدوهُ واتخذوهُ ربًّا. وقال قوم من الكفار: إن الملائكة أربابُنا (¬6)؛ يقال (¬7): إنهم الصابئون (¬8). ¬

_ (¬1) انظر هذه القراءة في "تفسير الطبري" 1/ 516، "المحرر الوجيز" 1/ 469. (¬2) من قوله: (كان ..) على (.. لبشر أن يأمركم): ساقط من: (ج). (¬3) سبق تخريج هذا الأثر في التعليق على تفسير آية 79 من هذه السورة. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 436، نقل عنه بنصه. (¬5) في "معاني القرآن": أي. (¬6) في (ج): (أربابا). (¬7) في "المعاني": (ويقال). (¬8) (الصابئ) هو الذي خرج من دينه ودخل في دين آخر. ولذا سَمَّ كفارُ قريش النبيَ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته بذلك -بزعمهم- لأنهم تركوا دينهم ودخلوا في دين آخر. و (الصابئة) هنا لفظة قديمة من لغة عرب ما بين النهرين من العراق، وهو دين قديم ظهر في بلاد الكلدانيين في العراق، واشتهر في (حرّان) من بلاد الجزيرة الفراتية، ويُسَمَّون لذلك بـ (الحرْنانِيّة) على غير قياس. ودينهم من أقدم الأديان، ولما بعث الله إبراهيم عليه السلام كان الناس على دين الصابئة. وقد ترك هؤلاء دين التوحيد وعبدوا النجوم والكواكب وعظموها، مدعين أن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق =

81

وقوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ}. استفهام معناه: الإنكار؛ أي: لا يفعل (¬1) ذلك، وإنما جاز أن يُنقَلَ إلى الإنكار؛ لأنه مما أقَرَّ بِهِ المخاطَبُ، [و] (¬2) ظهر افتضاحه، وبان سقوطه؛ لأنه مما لا يَخفى فسادُه؛ فلذلك (¬3) جاء الكلام على السؤال، وإنْ لم يكن معناه تَعَرُّف الجواب. وقوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. أي: بعد إسلامكم. 81 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} قال أبو إسحاق (¬4): موضع (إذْ): نَصبٌ؛ المعنى: واذكر في أقاصيصك: إذ أخذ اللهُ ميثاقَ النَّبِيِّين. وقوله تعالى: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} قرأ (¬5) حمزة: {لِمَا} بكسر اللاَّم (¬6). ووجهُ (¬7) هذه القراءة: أنَّ اللاَّم في {لِمَا} متعلق ¬

_ = فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربة لديه، وهي الأرواح الطاهرة المقدسة، وزعموا أن هذه الأرواح تسكن الكواكب، وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية بمقدار تقرب النفوس إليها، فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى رُوحانياتها. وبنوا للكواكب هياكل وجعلوا لها تماثيل. انظر حول تفصيل معتقدهم "الملل والنحل" للشهرستاني: 2/ 5 وما بعدها، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للفخر الرازي:143، "لسان العرب" 4/ 2398 (صبأ)، "المختصر في أخبار البشر" 1/ 81، "التحرير والتنوير" لابن عاشور: 1/ 533. (¬1) في (ج): (نفعل). (¬2) الواو: زيادة لازمة ليستقيم بها المعنى. (¬3) في (ج): (فكذلك). (¬4) في "معاني القرآن" لم: 1/ 436. نقله عنه بنصه. (¬5) في (ج): (وقرأ). (¬6) انظر: "السبعة" 213، "حجة القراءات" 3/ 62، "المبسوط" لابن مهران: 146. (¬7) من قوله: (ووجه ..) إلى (.. والمفعول لا يحتاج إلى عائد ذكر): نقله باختصار وتصرف عن "الحجة" للفارسي: 3/ 62.

بالأخذ؛ كأنَّ (¬1) المعنى: أخذ ميثاقهم لهذا؛ لأن من يؤتَى الكتابَ والحكمة، يُؤخَذُ عليهم الميثاقُ؛ لِما أوتوهُ (¬2) من الحكمة، وأنهم الأفاضل، وأماثل (¬3) الناس. و (ما) على هذه القراءة تكون موصولةً؛ بمعنى: الذي. والراجع إلى (ما) مِن صِلَتِها محذوفٌ؛ تقديره: لِما آتيتكموه. فَحُذِفَ الراجعُ، كما حُدفَ من قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]. ونحو ذلك. فإن قيل] (¬4): إذا كانت (ما) موصولةً، لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة (¬5) على الصلة، ذِكرٌ إلى الموصول، وإلاّ لم يَجُز. ألا ترى أنك لو قلت: (الذي قام أبوه (¬6) ثم انطلق زَيْدٌ، ذاهبٌ) (¬7)؛ لم يَجُز إذ لم يكن [راجعٌ مذكورٌ] (¬8). وقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ] (¬9)} ليس فيه (¬10) راجعٌ إلى الموصول. قيل: يجوز (¬11) أن يكون المُظهرُ بمنزلة ¬

_ (¬1) (أ)، (ب)، (ج): (كان). والمثبت من "الحجة". (¬2) (أ)، (ب)، (ج): (أتوه). والمثبت من "الحجة". (¬3) في (ب): (وأفاضل). (¬4) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج). (¬5) في (ب): (الموصولة). (¬6) في (ب): (أثره بدلًا من أبوه). (¬7) (إليك) بدلًا من (ذاهب). (¬8) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج) "الحجة". (¬9) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب). (¬10) ليس فيه: ساقط من: (ب). (¬11) في (ب): ورجوعه بدلا من: (قيل يجوز).

المُضْمَر. فقوله: {لِمَا مَعَكُمْ}، هو في المعنى: ما أُوتوهُ (¬1) مِنَ الكتاب والحكمة؛ فكأنه (¬2) قال: ثم جاءكم رسولٌ مُصدِّقٌ له؛ أي (¬3): لِمَا آتيتكم مِنْ كتابٍ وحِكْمَةٍ، وهو ما معكم. والصلة المُظهَرَة تقوم مقام المُضمَرَة (¬4)، عند أبي الحسن الأخفش؛ ومثل هذا: قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، المعنى: كأنه قال: لا يضيع أجرهم؛ لأن الذي يتقي (¬5) ويصبر يكون من المحسنين، وكذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (¬6) [الكهف: 30]، المعنى عنده: إنا لا نضيع أجرهم؛ لأن مَنْ أحسن عملًا، هم: الذين آمنوا وعملوا الصالحات (¬7). ووجه آخر، وهو: أنَّ الراجعَ ههنا محذوفٌ، وحَسُن الحذف للطول، كما حكاه الخليل (¬8) من قولهم: (ما أنا بالذي قائل لك شيئًا)، والتقدير: بالذي هو قائل. كذلك ههنا يكون التقدير: ثم جاءكم رسولٌ به؛ أي: بتصديقه، أي: بتصديق ما أتيتكم. ¬

_ (¬1) (أ)، (ب): (أتوه). والمثبت من: (ج)، و"الحجة". (¬2) في (ج): (وكأنه). (¬3) له أي: ساقط من: (ج). (¬4) في (ج): (المضمر). (¬5) في (ب): (يتق). (¬6) من (إنا لا نضيع ..) إلى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات): ساقط من: (ج). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 396. (¬8) انظر قوله في "كتاب سيبويه" 2/ 404.

وأما من قرأ {لَمَا} بفتح اللام (¬1)؛ فـ (ما) (¬2) في هذه القراءة، يحتمل (¬3) تأويلين: أحدهما: أن تكون موصولة. والآخر: أن تكون للجزاء (¬4). فمن قدَّرها موصولةً: كان القول فيها كما ذكرنا في قراءة حمزة. واللاّم في (لَمَا)، لام الابتداء، وهي المتلقية (¬5) لِما أُجري مجْرى القَسَم، لأن قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}، بمنزلة القَسَم، كأنَّ المعنى: استحلفهم. وموضع (ما) رفع بالابتداء. والخَبَرُ: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}. و {لَتُؤْمِنُنَّ} (¬6)، متعلق بِقَسَم محذوف؛ المعنى: والله لتؤمنن به. فإن قدرت (ما) للجزاء، كانت (ما) في موضع نصب بـ {آتَيْتُكُمْ}. و {جَاءَكُمْ} في موضع جزمٍ بالعطف على {آتَيْتُكُمْ}، واللاّم الداخلةُ على (ما) لا تكون المتلقية (¬7) للقسم، ولكن تكون بمنزلة اللّام في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 60] [والمتلقية للقسم؛ قوله (¬8): {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}، كما أنها في ¬

_ (¬1) هم باقي القراء، ما عدا حمزة الذي قرأ بكسرها كما سبق. انظر: "السبعة" 213، "المبسوط" لابن مهران: 146، "الكشف" 1/ 351. (¬2) في (أ)، (ب): (فيما). والمثبت من: (ج). وفي "الحجة": فإن ما. (¬3) في (ب)، (ج)، "الحجة": (تحتمل). (¬4) الجزاء: هو الجواب في أسلوب الشرط؛ لأنه جزاء مترتب على حصول الشرط. (¬5) في (ب)، (ج): (المنقلبة). (¬6) ولتؤمنن: ساقط من: (ج). (¬7) في (ج): (المنقلبة). (¬8) (قوله): ساقط من: (أ)، (ب). وفي (ج): (وقوله). والمثبت من "الحجة" للفارسي.

قوله {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ}] (¬1)، قوله (¬2) {لَنُغْرِيَنَّكَ} [الأحزاب: 60]. وهذه اللاّم الداخلة على (إنْ) في {لَئِنْ}، لا يعتمد القَسَمُ عليها؛ فلذلك جاء حذفها تارةً، وإثباتها تارة؛ كما قال (¬3): {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} [المائدة: 73]، فَتَلْحَقُ هذه اللاّم مرة [(إنْ)] (¬4)، ولا تَلْحَقُ أخرى، كما أنّ (أنْ) كذلك في قولهم: (واللهِ أَنْ لو فعلتَ لفعلتُ)، [و] (¬5) (واللهِ لو فعلتَ لفعلتُ) (¬6). وهذه اللاّم بمنزلة (أَنْ) الواقعة مع (لو). وهذا مذهب سيبويه (¬7)، وهو يُقدِّر (ما) ههنا للجزاء (¬8)، وانما لم يحمله على أن (ما) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) ومن "الحجة" للفارسي. (¬2) في (ب): (وقوله). (¬3) قال: ساقطة من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة" للفارسي؛ ليتضح بها المعنى. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة". (¬6) (والله لو فعلت لفعلت): ساقطة من: (ج). (¬7) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 107. (¬8) بالرجوع إلى "كتاب سيبويه" يظهر ابتداء خلاف ما ذكره المؤلف هنا، ونص عباره سيبويه: (وسألته [يعني الخليل] عن قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. فقال: (ما) ههنا بمنزلة (الذي)، ودخلتها اللام؛ كما دخلت على (إنْ) حين قلت: (واللهِ لئن فعلتَ لأفعلن)، واللام التي في (ما) كهذه التي في (إنْ)، واللام التي في الفعل، كهذه التي في الفعل هنا ..). وذكر الفارسي في "الحجة" 3/ 66 أنَّ المازني قال: (زعم سيبويه أن (ما) بمنزلة (الذي)، ثم فسّر تفسير الجزاء). ثم بيَّن الفارسي وجه قول سيبويه، فقال: (والقول فيما قاله من أن (لَما) بمنزلة (الذي): أنه أراد أنه اسم، كما أن (الذي) اسم، وليس بحرف، كما كان حرفًا في قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111]، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35]، فهذا المعنى أراد بقوله: أنه بمنزلة الذي، ولم =

موصولة، بمنزلة الذي؛ لأنه لو حمله على ذلك، للزم أن يكون في الجملة المعطوفة على الصلة، ذِكرٌ يعود على الموصول، فلما لم ير (¬1) ذلك، ولم ير أن يضع المُظْهَر موضع المُضْمَر كما يراه أبو الحسن عَدَلَ عن القول: بأن (ما) موصولة، إلى أنها للجزاء، ولم يحملها على الحذف من المعطوف على الصلة؛ لأنه ليس بالكثير، ولا بموضع (¬2) يليق به الحذف. و (ما) إذا كانت للجزاء، لا تحتاج إلى عائدِ ذِكرٍ، كما تحتاج إليه (ما) التي بمنزلة (الذي)؛ لأن (ما)، إذا كانت جزاءً، مفعولٌ بها، والمفعولُ لا يحتاج إلى عائدِ ذكرٍ. وهذا الوجه اختيار الزجاج؛ لأنه قال (¬3): أجوَد الوجهين: أن يكون (¬4) (ما) للشرط والجزاء؛ لأن الشرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرسول (¬5) فهذه طريقته. وأبو عثمان المازني أيضًا اختار هذا الوجه، فقال (¬6): الوجه عندي: أن يكون (¬7) (ما) للجزاء؛ لأن الفعل الماضي إنما يكون في معنى ¬

_ = يرد أنها موصولة كـ (الذي). وبهذا يتضح كلامَ المؤلف الذي اختصره من "الحجة" للفارسي. انظر في هذا كذلك "الإغفال" لفارسي: 1/ 579 - 586 فقد نقل هنا قول سيبويه والمازني، وناقش هذه المسألة. (¬1) في (ج): (نر). (¬2) في (ب): (موضع)، (ج): (لموضع). (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 436. نقله عنه بتصرف. (¬4) في (ب)، (ج): (تكون). (¬5) في (ج): "معاني القرآن" الرسل. أما (الرسول) فقد وردت في كتاب "الإغفال" للفارسي: 1/ 579 حيث نقل قول الزجاج هذا. ويبدو أن المؤلف نقل العبارة عن "الإغفال" أو عن نسخة أخرى لـ "معاني القرآن" ورد فيها لفظ (الرسول). (¬6) قوله في "الإغفال" 1/ 585. وقد نقله المؤلف بنصه. (¬7) في (ب)، (ج): "الإغفال" تكون.

المستقبل، في الجزاء لا في غيره، والمعنى: أنه أخذ ميثاقهم على أن ينصروه ويؤمنوا بما يأتيهم فيما يستقبل من كتاب وغيره. والدليل على أن {آتَيْتُكُمْ}، {ثُمَّ جَاءَكُمْ}، معناه مستقبل: قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، وإذا كان جزاءً كانت اللاّمُ توكيدا. وقد قال سيبويه (¬1): ومثل هذه الآية؛ قوله: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18]، فهذا جزاء، والفعل (¬2) الماضي في معنى المستقبل، ولام القسم التي تعتمد عليها اللاّم في {لَأَمْلَأَنَّ} وهي وإن كانت مؤخرة فمعناها التقديم. وقوله تعالى: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} تقديره (¬3): أول الكلام في قول من قدّر (ما) جزاء، والتمثيل: (وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتؤمنن به)، وجواب الشرط، محذوف مستغنى عنه؛ لدلالة لتؤمنن به، الذي هو جواب القسم عليه، كما أن قولك: (لآتِيَنَّك إنْ أتيتني)، كذلك؛ والمعنى: (واللهِ، لآتِيَنَّك إنْ أتيتني). فيكفي جوابُ القسم من جواب الجزاء، وإذا كانت بمعنى الجزاء على ما (¬4) وصفنا فيكون تقدير المعنى: لأَنْ آتيتكم شيئًا من كتاب وحكمة، -ومهما آتيتكم- ثم جاءكم رسول، لتؤمنُنَّ به. ¬

_ (¬1) في "الكتاب" له: 3/ 108. ونص قوله: (ومثل ذلك: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنهُمْ لَأَمْلَأَنَّ}، إنما دخلت اللام على نِيَّة اليمين). وقول سيبويه هنا من تتمة نقل المؤلف لكلام المازني من "الإغفال". (¬2) من قوله (والفعل ..) إلى (.. فمعناها التقديم): نقل المؤلف هذه العبارات بالمعنى، وهي من تتمة كلامِ المازني في "الإغفال". (¬3) من قوله: (وتقديره ..) إلى (.. لآتينك إن أتيتني كذلك): نقله بتصرف عن "الإغفال" للفارسي: 1/ 587. (¬4) في (ب): (كما) بدلًا من: (على ما).

فإن قيل: ميثاق الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وسائر الرسل، مأخوذ على جميع النبيين ما (¬1) أوتوا الكتاب، وانما أوتي (¬2) بعضهم؟. قيل: هذا على التغليب؛ فالذكر ذكر الأنبياء الذين أوتوا الكتاب، والمراد: هم، وغيرهم ممن لم يُؤتَ الكتاب، ودخلوا في جملتهم؛ لأنهم بمنزلة من أوتى الكتاب بما أوتوا من الحُكْم والنبوة، وأيضًا فإن الذين لم ينزل عليهم الكتاب أمروا بأن يأخذوا بكتاب نَبِيٍّ (¬3) قبلهم، ورُزِقوا علمَ ذلك الكتاب، فدخلوا تحت صفةِ أبناء الكتاب. وقرأ (¬4) نافع: {آتَيْنَاكُم} (¬5)، وحجته قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء:55]، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات: 117]. ومن قرأ: {آتَيْتُكُم}، فحجته قوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحديد: 9]، و {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 3]، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]. والقراءة الأولى: أشبه بكلام البلغاء والملوك، ومن الفصاحة تغيير العبارة عن الواحد إلى الجمع، وعن الجمع إلى الواحد، كقوله: {وَجَعَلْنَاهُ ¬

_ (¬1) في (ج): (مما). (¬2) في (ج): (أولى). (¬3) (بأن يأخذوا بكتاب نبي): مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬4) من قوله: (وقرأ ..) إلى نهاية قوله: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}: نقله بتصرف عن "الحجة" للفارسي: 3/ 69. (¬5) في (ب): (أتيتكم). وهذه القراءة لجعفر -كذلك-، وقرأ الباقون {آتَيْتُكُم}. انظر: "المبسوط" لابن مهران: 146، "الكشف" لمكي 1/ 351.

هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} (¬1) [الإسراء: 2] ولم يقل: من دوننا، كما قال: {وَجَعَلْنَاهُ}. والقراءة الثانية: أشبه بما قبله مِنْ قولِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ}، وبما بعده من قوله: {إِصْرِى}. وقوله تعالى: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قال ابن الأنباري (¬2): وإنّما خاطب، فقال: {آتَيْتُكُمْ} بعد أن ذكر النبيين وهم غيب؛ لأن في الكلام معنى قول وحكاية، يراد: واذ أخذ الله ميثاق النبيين، فقال مخاطبًا لهم: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}. قال (¬3): ونظائر هذا كثيرة (¬4). وقوله تعالى: {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}. دخلت {مِنْ} تبيينًا لـ (ما)؛ كقولك: (ما عندي من الوَرِقِ (¬5) والعَيْنِ) (¬6). ¬

_ (¬1) كُتِبت {ألّا يَتّخذوا} -بضمير الغائب- وهي قراءة أبي عمرو. وقرأ الباقون: {الَّا تَتَّخِذُوا} -بضمير الخطاب- على الالتفات. انظر: "إتحاف فضلاء البشر": (281). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) في (ج): (وقال). (¬4) في (ج): (وتظاهر هذا كثرة). (¬5) الوَرِق، والوِرْق، والوَرْق، والرِّقَة: الدراهم المضروبة وقيل: الفضة، أكانت مضروبة أم لا. وقيل: المال بعمومه. وجمع الورق: أوراق. وجمع الرِّقَة: رِقُون. انظر (ورق)، في "الصحاح" 4/ 1564، "اللسان" 8/ 4816، "التاج" 13/ 476. (¬6) في (ج): (والحبر). و (العين): من معانيها في اللغة -مما يصلح في هذا الموضع-: المال العتيد: الحاضر، والنّقد، والدينار، والذهب عامّة. انظر (عين)، في "اللسان" 6/ 3198، "القاموس" (1218).

وقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}. يقال: ما وَجْه (¬1) قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ}، والنَّبِيُّون لم يأتهم الرسولُ، وإنما يُبْعَثُ الرُّسُلُ إلى الأمم، لا إلى الرُّسُلِ؟. قيل: يجوز أن يُعْنى بذلك أهل الكتاب في المعنى (¬2)؛ لأن الميثاق إذا أُخذ على النبيين، فقد أُخذ على الذين أوتوا (¬3) كُتُبَهُمْ من أممهم. وعامَّة ما يُشْرع للأنبياء (¬4)، قد (¬5) شُرعَ لأممهم وأتباعهم؛ يبين ذلك: أن الفروض التي تلزمنا تلزمُ نبينا (¬6) عليه السلام؛ وإذا كان كذلك؛ فأخذ (¬7) الميثاق على النبيين، كأَخْذ الميثاق على الذين أوتوا كتبهم من أممهم، ومن ثَم جاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، فجُمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه في الخطاب الواحد، وهذا من جهة المعنى. قال ابن الأنباري (¬8): إنما أخذ الله ميثاق النبيين (¬9)، بأن يؤمنوا برسل ¬

_ (¬1) من قوله: (ما وجه ..) إلى (وهذا من جهة المعنى): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي: 3/ 67 - 68. (¬2) ممن قال بذلك: طاوس، وقتادة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 124، "تفسير الطبري" 3/ 333، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 694. (¬3) في (ب): أتوا. والمثبت من: (ج)، "الحجة". (¬4) في (أ)، (ب): الأنبياء. والمثبت من: (ج)، "الحجة". (¬5) في (ب)، (ج): (فقد). (¬6) في (ج): (نبيهم). (¬7) في (أ)، (ب)، (ج): (وأخذ). والمثبت من "الحجة" للفارسي؛ لأنه الأليق بالعبارة، ودخول الواو يخل بالمعنى. (¬8) لم أقف على مصدر قوله. (¬9) في (ج): (الميثاق على النبيين).

الله جل وعز بعدهم، فإذا آمنوا بهم، لزم أُمَمَهم الاقتداءُ بهم، والسلوكُ لمنهاجهم. وجواب آخر من طريق اللفظ (¬1)، وهو: أن يكون المراد: وإذ أخذ ميثاق أممِ النَّبِيِّين وأتباع النَّبِيِّين، شَرط عليهم أنبياؤُهم أن يؤمنوا بكل نَبِيٍّ يبعثه الله عز وجل ولا يكذبوه، ولا يدخلوا في جملة أعدائه، وأخذوا بذلك عهودهم، فقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}، وهو يريد: ميثاقَ تُبّاع النَّبيين، فحَذَف المضاف. وقال صاحب النظم: معنى النَّبِيِّين ههنا: معنى أُمَمِهم، وصار ذكرهم كالقبيلة للأمم، كما يقال: قَيْس، وتَمِيم، وبَكْر، وهي أسماء رجال بأعيانهم، نُسِب أولادهم إليهم، فصاروا قبائل. ومنه قول الشاعر: أتَسأَلُني السويَّةَ وَسْطَ زَيْدٍ ... ألا إنَّ السَّوِيَّةَ أنْ تُضامُوا (¬2) فـ (زيد) ههنا قبيلة لأصحابه؛ لذلك قال: (وَسْطَ زيد). وقوله تعالى: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. إن قيل: ما معنى: أخْذَ ميثاق النبيين بِنُصْرَةِ مَن لم يَلْقَوْهُ، ولم يدركوا زمانَه؟. قلنا: قد بَيَّنّا (¬3) أن المراد بـ {النَّبِيِّينَ}: أتباعهم وأممهم. فعلى هذا؛ ¬

_ (¬1) وهذا الجواب قد ذكره الفارسي في "الحجة" 3/ 68، وإنما ذكر المؤلف معناه هنا. (¬2) البيت ورد في "اللسان" 4/ 2162 (سوا)، ونسبه إلى البراء بن عازب الضَّبِّي. و (السَّويِّة، والسواء): العدل، والنَّصفَة. وقوله: (تُضامُوا) من: (ضامَهُ حقَّهُ)، (يَضيمُه، ضَيْما)؛ أي: انتقصه حقه، وظلمه. انظر: "اللسان" 4/ 2162 (سوا)، 5/ 2629 (ضيم). (¬3) (قد بينا): ساقط من: (ج).

لا كلام. وإن (¬1) قلنا: المراد: هُم، ثم (¬2) تتبعهم الأُممُ؛ فمعنى النصر ههنا: أن ينصروه بتصديقه عند قومهم. قال المفسرون في هذه الآية: إن الله تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء بتصديق بعضهم بعضًا. وهذا قول: سعيد بن جبير (¬3)، وقتادة (¬4)، وطاوس (¬5)، والحسن (¬6)، والسدّي (¬7). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬8): لم يبعث الله عز وجل؛ (¬9) نَبِيًّا، آدَمَ ومَن بَعده، إلا أَخَذَ (¬10) عليه العهد في محمد وأمره (¬11)، وأخذ العهدَ ¬

_ (¬1) في (ج): (فإن). (¬2) (ثم): ساقط من: (ج). (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 331 - يرويه عن ابن عباس- وفي "الثعلبي" 3/ 67 أ. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 332، "تفسير الثعلبى" 3/ 67 أ، "الدر المنثور" 2/ 84، وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد. (¬5) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 124، "تفسير الطبري" 3/ 331، "تفسير الثعلبي" 3/ 67 أ. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 331، "تفسير الثعلبي" 3/ 67 أ، "تفسير ابن كثير" 1/ 405، وانظر: "تفسيره" 1/ 219. (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 332، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 694، "تفسير الثعلبي" 3/ 67 أ. (¬8) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 332، "تفسير الثعلبى" 3/ 67 أ. (¬9): ساقطة من: (ج). (¬10) في (أ): (خذ). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"تفسير الطبري" و"الثعلبي". (¬11) في (ب): وإمره. وهكذا جاءت العبارة: (... وأمره، وأخذ العهد ...) عند المؤلف، والثعلبي، الذي نقل قول الإمام علي، ومن سبق من التابعين، عن كتاب "نظم القرآن" - كما أشار هو إلى ذلك. ولكن عبارة الطبري أصح في المعنى وهي: (ويأمره فيأخذ العهد على قومه).

على قومه لَيُؤمِنُنَّ به، ولَئِن بُعث وهم أحياء لَيُنْصُرُنَّهُ. وقال ابن عباس: يريد بـ {مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}: عَهْدَهُم؛ ليشهدوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، بأنه رسول الله. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ}. يريد: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، يريد: إن أدركتموه. فالآية (¬1) عامة في جميع النبيين؛ على قول: سعيد بن جبير ومَن تابَعَهُ، وخاصَّة في النبي - صلى الله عليه وسلم -، على قول: عَلِيٍّ، وابن عباس رضي الله عنهما. وهذا هو الأصح؛ لأن المراد بالآية: التَنْوِيه بذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أُخِذ على النبيين مِن التصديق به، واعتماد النصرة له، مع الاحتجاج على أهل الكتاب باتِّبَاع سبيلِ النبيبن فيه (¬2). وقوله تعالى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} أي: قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان به والنصرة له. و (الإقرار) في اللغة منقول بالألف (¬3)، من: (قَرّ الشيءُ، يَقِرُّ) (¬4): إذا ثبت، ولزم مكانه، و (أَقَرَّهُ غيرهُ). والمُقِرُّ بالشيء: يُقِرُّهُ على نفسه؛ أي: يُثْبِتُهُ (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): بالآية. والمثبت من: (ج). (¬2) وقد رجح الطبري القول الآخر؛ أن الآية عامَّة في جميع النبيين بأن يصدِّق بعضهم بعضًا، وأخذ على الأنبياء الميثاق على أممهم وأتباعهم بنحو الذي أخذ عليهم ربهم بتصديق أنبيائه ورسله. انظر: "تفسيره" 3/ 333. (¬3) أي: منقول بالهمزة؛ للتعدية. (¬4) في (أ)، (ب): (يقرو). في (ج): (يفرا). وما أثبته هو ما رجحت صوابه. يقال: (قَرَّ بالمكان، يَقَرُّ، ويَقِرُّ) -بالكسر والفتح- وبالكسر أكثر. انظر المصادر التالية. (¬5) انظر (مادة: قرر) في "اللسان" 6/ 3579، و"التاج" 7/ 380.

وقوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي: قبلتم عهدي (¬1). والأخذ؛ بمعنى (القَبُول) (¬2)، كثيرٌ في الكلام؛ كقوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]؛ أي: لا يُقبل فِدْيَةٌ (¬3). وقال: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]، أي: يقبلها. ومضى الكلام في معنى (الإصْر) (¬4). وقوله تعالى: {قَالَ فَاشْهَدُوا} أي (¬5): قال الله عز وجل للنبيين: فاشهدوا (¬6) أنتم على أنفسكم، وعلى أتباعكم، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم. وهذا القول، يُروى عن عَلِي - رضي الله عنه - (¬7). وقال الزجاج (¬8): {فَاَشْهَدُوا} أي: فبينوا (¬9)؛ لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، ولبينها، وشهادة الله عز وجل للنبيين: تبيينه (¬10) أمر ¬

_ (¬1) تفسير (الإصر) بـ (العهد)، قال به ابن عباس، ومحمد بن إسحاق، ومجاهد، والربيع، والسدي، وابن جريج، وقتادة. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 334، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 695. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 3/ 334. (¬3) انظر: "تفسير البسيط" 863، "تفسير الثعلبي" 3/ 67 أ. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 192، 83، "تفسير الثعلبي" 3/ 76 ب. (¬4) انظر: "تفسير البسيط" للمؤلف: عند تفسير آية: 286 من سورة البقرة (¬5) من قوله: (أي: ..) إلى (عليكم وعليهم): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 76 ب. (¬6) (أي قال الله عز وجل للنبيين فاشهدوا): ساقط من: (ج). (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 334، "زاد المسير" 1/ 416. (¬8) في "معاني القرآن" له، 437. نقله عنه بتصرف يسير. (¬9) في "معاني القرآن" فتبينوا. وما كتبه المؤلف أصح من ناحية المعنى، وأنسب لما بعده من كلام. (¬10) في (ب)، (ج): (تبينه).

82

نبوتهم بالآيات المعجزات (¬1). وحكي عن سعيد بن المُسَيّب أنه قال (¬2): هذا الخطاب للملائكة، قال الله تعالى للملائكة) (¬3): اشهدوا عليهم بإقرارهم؛ فيكون خطابًا لمن لم يتقدم ذِكْرُهُ (¬4). 82 - قوله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} هذا شرط (¬5)؛ وقد ذكرنا أن الفعل الماضي معناه: الاستقبال في الشرط والجزاء، وإنما جاز وقوع الماضي موقع المستقبل في الجزاء؛ لأن حرف (¬6) الجزاء لمّا كان يعمل في الفعل، قوي على نقله من معنى المضي إلى الاسقبال، وذلك إشارة إلى أخذ الميثاق. قال ابن عباس (¬7): يريد: فمن أعرض عما جئت به، وأنكر ما عاهد الله عليه. وقال الزجاج (¬8): فمن تولى؛ أي: أعرض عن الإيمان بعد أخذ الميثاق، وظهور آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في (ب): (والمعجزات). (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 76ب، "تفسير البغوي" 3/ 62، "زاد المسير" 1/ 416، "تفسير القرطبي" 4/ 126. (¬3) (قال الله -تعالى- للملائكة): ساقط من: (ج). (¬4) في (ج): (لم يتقدم). (¬5) ويجوز أن تكون {مَنْ} موصولة، وتكون {تَوَلَّى}: صلة، لا محل لها. ويكون {فَأُولَئِكَ} -في هذه الحالة-: في محل رفع؛ لوقوعها خبرًا. انظر: "الدار المصون" 3/ 395. (¬6) في (ج): (حروف). (¬7) لم أقف على مصدر قوله. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 438. نقله عنه بتصرف

83

وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} دخلت الفاء في (أولئك)؛ لأنه جواب الشرط؛ وإنما تدخل (¬1) الفاءُ في جواب الشرط؛ لأن الثاني يجب بوجود الأول بلا فصل؛ كقولك: (إنْ تأتِنِي فَلَكَ درهمٌ)، فوجوب الدرهم، بالإتيان عقيبَه بلا فصل؛ فلذلك جاء بالفاء. و {أُولَئِكَ}: ابتداء؛ و (¬2) {هُمُ}: ابتداءً ثانٍ، و {الْفَاسِقُونَ}: خبره، و {هُمُ} (¬3) مع خبره: خَبَرُ {أُولَئِكَ}، ويصلح أن يكون {أُولَئِكَ}: ابتداء؛ و {الْفَاسِقُونَ}: خبرَهُ، و {هُمُ}: عِمَاد وفَصْلٌ؛ لا موضع له. ومعنى (الفاسقين) ههنا؛ أي: الذين خرجوا عن القصد، وعن جملة الإيمان. قاله الزجاج (¬4). 83 - قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} دخلت الفاءُ في {أَفَغَيْرَ} لأنه عطف جملة على جملة (¬5)، وكذلك (¬6) لو قيل: (أَوَغَير)، إلّا أَنَّ الفَاءَ تُرتِّبُ (¬7)؛ كأنه قيل: أَبَعد أَخْذِ الميثاق، غَيرَ دينِ الله يبغون؟. واختلفوا في الياءِ والتّاءِ، من قوله: {تَبغُون}: فمن قرأ بالتاء (¬8)؛ فلأن ما قبله خطاب؛ كقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ}. ¬

_ (¬1) في (ج): (يدخل). (¬2) (الوا) و: زيادة من (ج). (¬3) من قوله: (وهم ..) إلى (والفاسقون خبره): ساقط من (ج). (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 438. (¬5) على جملة: ساقط من: (ج). (¬6) في (ج): (ولذلك). (¬7) في (ج): (نزلت). (¬8) القراءة بالتاء في {تبغون}، لابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم -في رواية أبي بكر عنه-، وحمزة، والكسائي.=

ومن قرأ بالياء (¬1)؛ فوجهه: أن الله تعالى أخبر في الآية السابقة، عن أخذ الميثاق على اليهود والنصارى وغيرهم، فلما كفروا، أخبر عنهم على جهة الاستنكار، فقال (¬2): {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}. وقرأ أبو عمرو: {يَبْغُونَ} بالياء، و {تُرجَعُونَ} بالتاء (¬3)؛ لأن الأول: خاص لليهود (¬4) وغيرهم (¬5)، والثاني: عامٌّ لجميع المكلفين (¬6). وقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}. روى (¬7) أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال في هذه الآية: "الملائكة، أطاعوه في السماء؛ وعبد القيس في الأرض" (¬8). ¬

_ = انظر: "علل القراءات" للأزهري: 1/ 122 - 123، "الحجة" للفارسي: 3/ 69، "التيسير" 89، "التبصرة" 462. (¬1) القراءة بالياء في {يَبْغُونَ}، لأبي عمرو، وعاصم -برواية حفص-، ويعقوب. انظر المصادر السابقة. (¬2) في (ج): (قال). (¬3) قرأ عاصم -برواية حفص-: {يُرجَعُونَ} -بالياء المضمومة-، وقرأ الباقون: {تُرجَعُونَ} -بالتاء المضمومة-. انظر المصادر السابقة. (¬4) في (ب): (باليهود). (¬5) (باليهود وغيرهم): ساقط من: (ج). (¬6) انظر توجيه هذه القراءة في "علل القراءات" للأزهري: 1/ 123، "الحجة" للفارسي: 3/ 69 - 70، "حجة القراءات" لابن زنجلة: 170، "الكشف" لمكي: 1/ 353. (¬7) في (ج): (وروي). (¬8) الحديث: أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس": 4/ 407، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 68 أ، وأورده -بدون سند- القرطبيُّ في "تفسيره" 4/ 128. وفيه زيادة عندهم "والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض". وفي سنده عند الديلمي والثعلبي: =

وبهذا (¬1)؛ قال ابن عباس في رواية عطاء (¬2): قال: يريد بأهل السموات: الملائكة. وبأهل الأرض: المهاجرين والأنصار وعبد القيس، طوعًا، والناس كرهًا. وهذا قول الحسن (¬3). وقال قتادة (¬4): المؤمن، أسلم طائعًا فنفعه (¬5) ذلك، وقبل منه، والكافر، أسلم كَرْهًا في وقت البأس والمعاينة، حين (¬6) لا ينفعه ذلك، ولا ¬

_ = الكُدَيْمي، وهو: محمد بن يونس القرشي. قال عنه ابن حبان: (كان يضع على الثقات الحديث وضعًا، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث). وقال عنه الذهبي في "الميزان": (أحد المتروكين)، وقال عنه -في "المغني في الضعفاء"-: (هالك). وعند ابن حجر -في "التقريب"-: (ضعيف). انظر: "المجروحين" لابن حبان: 2/ 313، "ميزان الاعتدال" 5/ 199، "المغني في الضعفاء" له: 2/ 283، "تقريب التهذيب" ص 515 (6419). وعبد القيس، قبيلة عربية كبيرة، تنسب إلى عبد القيس بن أفصى بن دُعْمي بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان. وكان موطنهم بتهامة، ثم خرجوا إلى البحرين واستوطنوها، وقدم وفدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام (9 هـ)، وثبتت عبد القيس على إسلامها عندما ارتدت قبائل البحرين عام (11 هـ). انظر: "جمهرة أنساب العرب" 295 - 296، 469، و"صبح الأعشى" 1/ 337، "معجم قبائل العرب" لكحالة: 2/ 276. (¬1) في (ب): (وعلى هذا). (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬3) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 6961، وورد نفس المعنى عن مطر الوراق، أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 337. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 337، "تفسير الثعلبي" 3/ 69 أ. (¬5) في (ب): ففقه. (¬6) (حين): ساقطة من: (ج).

يُقبَل منه، يدل عليه قولُه: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]. وقال ابن كَيْسان (¬1)، والزجاج (¬2): أي: خضعوا وانقادوا من جهة ما فطرهم عليه، ودَبَّرَهُم به، لا يمتنعُ مُمْتَنِعٌ مِن جِبِلَّةٍ جُبِلَ (¬3) عليها، ولا يَقدِرُ على تغييرها، أحب تلكَ الجِبِلَّةِ أو كرهها؛ يدل على تصديق هذا القول: قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} لأن المعنى: أنه بدأكم على إرادته، شئتم أو أبيتم، وهو يبعثكم كما بدأكم، والتأويل: أتبغون دينا غير دين (¬4)؛ الذي هذه صفته. وفي قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وعيد لهم؛ أي: أتبغون غير دين الله، وتزيغون عن الله، مع أن مرجعهم إليه، فيجازيهم على رفضهم دينه، وأخذهم سواه. وقوله: {طَوْعًا وَكَرْهًا} الطَّوْعُ: الانقياد؛ يقال: (طاعَهُ، يَطُوعُه، طوعًا) (¬5): إذا انقاد له، وخضع. فإذا مضى لأمره (فقد أطاعَهُ)، وإذا وافقه، (فقد طاوَعَهُ) (¬6). ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 69 أ، "البحر المحيط" 2/ 515. (¬2) في "معاني القرآن"، له: 1/ 438. وهذا النص -هنا- له، من: (أي خضعوا ..) إلى (الذي هذه صفته). (¬3) الجِبِلَّةُ: الخليقة، والطبيعة، والغريزة ويقال للخلق: (الجِبِلّة، والجِبِلّ، والجِبُلّ، والجُبُلُ، والجُبُلّ، والجِبْلُ). و (جَبَلَه الله على كذا)؛ أي: فطره عليه. انظر: "الزاهر" 1/ 321، "المجمل" 206 (جبل)، "المصباح المنير" 35 (جبل). (¬4) في "معاني القرآن": الدين. (¬5) (طوعا): ساقطة من: (ج). (¬6) انظر: (طوع) في "تهذيب اللغة" 3/ 2153، "الصحاح" 3/ 1255، "المقاييس" 3/ 431.

84

وقال ابنُ السِّكِّيت (¬1): يقال: (طاعَ لهُ، وأطاعَهُ)، سواء، فَمَن قال: (طاعَ)، قال: (يَطَاعُ)، ومن قال: (أطاعَ)، قال: (يُطيعُ). فحصل في (الطَّوْع) لغتان: (طاعً يَطُوعُ)، و (طاعَ يَطاعُ). وانتصب {طَوْعًا وَكَرْهًا}؛ على أنه مصدرٌ وقع موقع الحال؛ وتقديره: طائعًا (¬2) أو كارهًا (¬3)؛ كقولك: (أتاني رَكضًا)؛ أي: راكضا؛ ولا يجوز: (أتاني كلاما)؛ أي: متكلمًا؛ لأن الكلام ليس بِضَرْبٍ للإتْيَانِ. 84 - قوله تعالى {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية. في هذه الآية إنكارٌ (¬4) على الكفار من اليهود والنصارى، فيما ذهبوا إليه (¬5) من الإيمان ببعض النبيين دون بعض، وأمْرٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمته، أن يقول: آمنا بالله وبجميع الرسل، وما أنزل عليهم: لا نفرق بين جميع الرسل في الإيمان (¬6) بهم، كما فعلت اليهود والنصارى. وأجرى أوَّلَ الآية على التوحيد، وآخِرَها على الجمع، في قوله: {لَا نُفَرِّقُ}، {وَنَحْنُ} لدخول أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الإقرار معه. 85 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الآية. ¬

_ (¬1) في "إصلاح المنطق" 257 - 258 مع اختلاف في العبارة. والعبارة -هنا- تتفق مع ما في "تهذيب اللغة" 3/ 2152 عن ابن السكيت؛ مما يدل على أن المؤلف نقل النص عن "التهذيب". (¬2) (طائعًا): ساقطة من: (ب). (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس: 3/ 29، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 167. (¬4) في (ج): (ان كان). (¬5) إليه: ساقطة من: (ب). (¬6) في (ب): (بالإيمان).

86

قال ابن عباس (¬1): يريد: خَسِرَ (¬2) ثوابَ الله، وصارَ إلى عذابِهِ؛ وخَسِرَ الحُورَ العِيْنِ. وقال الزجاج (¬3): يعني: خَسِرَ عَمَلَهُ؛ حيث لم يُجازَ بِهِ (¬4) الجنَّة والثوابَ. 86 - قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}. قال ابن عباس (¬5): نزلت في اليهود (¬6): قَرَيظة والنَّضِير، ومَن دانَ بدينهم؛ كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كانوا قبل مَبْعَثِهِ مؤمنين، وكانوا يَشهَدُون له بالنبوة، فلما بُعِثَ، وجاءهم بالآيات المعجزات، كفروا بغيًا وحَسَدًا (¬7). ¬

_ (¬1) من قوله: (قال ابن عباس ..) إلى نهاية (كفروا بعد إيمانهم): ساقطة من: (ج). ولم أقف على مصدر قول ابن عباس. (¬2) في (ب): (حسن). (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 439. (¬4) في (أ)، (ب): (يجازيه). وأثبتُّ ما رأيته صوابًا. (¬5) ورد قوله في "تفسير الطبري" 3/ 341، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 699، "زاد المسير" 1/ 418. (¬6) الذي وقفت عليه عنه: أنها نزلت في أهل الكتاب، ولم يجعل نزولها في اليهود فقط. (¬7) وقد ورد في سبب نزولها -إضافة إلى ما ذكره المؤلف-: أن رجلًا من الأنصار، أسلم، ثم ارتَدَّ ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه؛ ليسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هل له من توبة؟ فلما سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نزلت هذه الآية إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فأرسل إليه فأسلم. وقد ورد هذا الأثر بسندٍ صحيح عن ابن عباس -من رواية عكرمة عنه-، قد أخرجه: النسائي في سننه: 7/ 107. كتاب تحريم الدم. باب: (توبة المرتد)، وأخرجه -كذلك- النسائي في "تفسيره" 1/ 308. وأحمد في "المسند" 1/ 247، وابن حبان في "صحيحه" (انظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان"): 10/ 329، (4477)، "موارد الظمآن" 427،=

وأصل (كيف): أنها للاستفهام والاستخبار عن الحال. ودخلت ههنا للإنكار؛ وذلك أن المسئول يُسألُ لأغراضٍ مختلفة، فقد يُسأل للتعجيز عن إقامة البرهان، وقد يُسأل لتوبيخ، بما يظهر من معنى الجواب. وقد ذكرنا فيما مضى (¬1): لِمَ جازَ أن يَقَعَ الاستفهام موقعَ الإنكار؟ ومثل هذا قول ابن الرُّقَيّات (¬2): ¬

_ = والحاكم في "المستدرك" 2/ 142، 4/ 366، وقال: (صحيح)، ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقيُّ في "السنن" 8/ 197. والطبري في "تفسيره" 3/ 340، وابن أبي حاتم 2/ 699، والواحدي في "أسباب النزول" ص116 - 117. وقد ذكر مجاهد والسدي أن المرتد هو الحارث بن سويد. وعن عكرمة أنهم أثنا عشر رجلًا، منهم أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد، وَوضحْوَح بن الأسلت. وقيل: إنها نزلت في أهل الكتاب، عرفوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم، ثم كفروا به بعد بعثته. وقد روي هذا عن ابن عباس والحسن. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 125، "تفسير الطبري" 3/ 340، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 699، "أسباب النزول" للمؤلف (118)، "تفسير الحسن" 1/ 221، "الدر المنثور" 2/ 88. ومما سبق تبين أن الأثر الأول في كونها نزلت في الحارث بن سويد أصح؛ ولذا يُقَدم ويُعتَمد سببًا لنزول الآية، مع عموم حكمها لكل من عَرفَ الحقَّ وارتد عنه، ثم تاب ورجع إليه، فيدخل في حكمها أهل الكتاب الذين شهدوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، ثم كفروا به بعد بعثته؛ حسدًا منهم. (¬1) من هذه المواضع: ما ذكره عند تفسيره لقوله -تعالى-: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آية: 80 من سورة آل عمران]. (¬2) هو: عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات. أحد بني عامر بن لؤي، من الشعراء الإسلاميين، كان يوالي مصعب بن الزبير، ضد بني أمية. انظر: "الشعر والشعراء" ص 361، "خزانة الأدب" 7/ 280.

كيفَ نَوْمِي عَلَى الفِراشِ وَلَمّا ... يَشْمَلِ الشامَ غارَةٌ شَعْوَاءُ. (¬1). أي: لا نوم لي، ولا أنام. ومثله قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 7] أي: لا يكون لهم عهد. قال (¬2) الزجاج (¬3): أعلم الله عز وجل أنه لا جهة لهدايتهم؛ لأنهم قد استحقوا أن يُضلُّوا بكفرهم؛ لأنهم قد كفروا بعد البَيِّنات. وقوله تعالى: {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}. ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" 95. وورد منسوبًا له، في أكثر المصادر التالية: "إصلاح المنطق" 211، "المنصف" 2/ 231، "العقد الفريد" 4/ 406، "الأمالي" للقالي: 1/ 95، "اللسان" 4/ 2282، "مقاييس المقاييس" 3/ 190 (شعى)، "تفسير الثعلبي" 3/ 69 أ، "أساس البلاغة" 1/ 495 (شعو)، "أمالي ابن الشجري" 2/ 163، "شرح المفصل" 9/ 36، "اللسان" 11/ 368 (شامل)، 14/ 435 (شعا)، "خزانة الأدب" 7/ 287، 11/ 377. ونسبه في "معجم الشعراء" (تحقيق: عبد الستار فراج): 406 إلى محمد بن الجهم بن هارون السمري، صاحب الفراء. والشعواء، الفاشية المتفرقة يقال: (أشعى القومُ الغارةَ إشعاءً): إذا أشعلوها. و (شَعِيَت الغارةُ، تَشْعَى شَعًا): إذ انتشرت. انظر: "معجم المقاييس" 3/ 190 (شعى)، "اللسان" 4/ 2282 (شعا). والبيت من قصيدة يمدح فيها الشاعر مصعبَ بن الزبير، ويعرِّض ببني أمية أعداء ابن الزبير، ويقول بأنه لا يمكن أن ينام، ولن يأتيه النوم حتى تَعُمَّ الشامَ -وهي معقل بني أمية- غارةٌ فاشية مكتسحة. وبعد هذا البيت: تُذهِلُ الشيخ عن بنيه وتُبْدِي ... عن بُراها العَقيلَةُ العذراءُ و (بُراها)؛ أي: خلاخيلها. يريد: أن النساء يكشفن عن خلاخيلهن وسيقانهن، حال الهروب من شدة الفزع من الغارة. (¬2) في (ج): (وقال). (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 439. نقله عنه بنصه.

عطف بالفعل على المصدر؛ لأنه أراد بالمصدر الفعل؛ تقديره: (كفروا بالله بعد أن آمنوا). فهو عطفٌ على المعنى؛ كما قال: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إليَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ (¬1) معناه: لأن ألبس عباءة، وتَقَرَّ عيني (¬2). ¬

_ (¬1) البيت لميسون بنت بحدل الكلبية. زوج معاوية بن أبي سفيان، وأم ولده يزيد. وقد ورد في "كتاب سيبويه" 3/ 45، "المقتضب" 2/ 27، "الأصول في النحو" 2/ 150، "المحتسب" 1/ 326، "سر صناعة الإعراب" 1/ 273، "الإيضاح العضدي" 321، "الصاحبي" 146، "شرح المفصل" 7/ 25، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 1/ 233، "شرح شذور الذهب" ص 381، "شرح بن عقيل" 4/ 20، "المقاصد النحوية" 4/ 397، "منهج السالك" 3/ 313، "التصريح" 2/ 242، "شرح شواهد المغني" 653، 778، "همع الهوامع" 4/ 141، "الخزانة" 8/ 503، 574، "الدرر اللوامع" 2/ 10. الشفوف: الثياب الرِّقاق. وسميت بذلك؛ لأنها تشف عما تحتها، وواحدها: (شَفَّ) - بفتح الشين وبكسرها. وقد قالته ميسون ضمن أبيات، تحنُّ فيها إلى وطنها البادية، وتُفَضِّل فيها حياةَ البداوة وشَظَفَ العيش، على نعيم المدينة وعيشَةِ القصور. (¬2) ذكر النحويون البيت السابق شاهدا على انتصاب الفعل المضارع بـ (أنْ) المضمرة جوازا، بعد واو عاطفة على اسم صريح؛ أي: (وأنْ تقرَّ عيني) بمعنى: قرة عيني. فهذا المصدر، معطوف على المصدر الأول، فيكون: (ولبس عباءة وقرة عيني) وهذا خلاف ما ذكره المؤلف حيث أوَّلَ الاسم الوارد في الآية: {إِيمَانِهِمْ}، وفي البيت: (لبس)، من أجل الفعل، فقال: (أن آمنوا)، و (أن ألبس) والأوْلَى أن نتأول الفعل باسم ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله، فيكون التقدير في الآية: (بعد إيمانهم، وأن شهدوا ..)؛ أي: وشهادتهم. فعطف الشهادة على الإيمان. وكذا في البيت، يكون التقدير: (ولبس عباءة وأن تقر عيني) أي: وقرة عيني. انظر المصادر النحوية السابقة التي أوردت البيت، "الدر المصون" 3/ 303.

وزاد (¬1) صاحبُ النظم لهذا بيانا، فقال (¬2): قوله: {وَشَهِدُوا} منسوق على ما يمكن في التقدير؛ وذلك أن قوله: {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} يمكن أن يكون: (بعد أن آمنوا)، و (أَنْ) الخفيفة مع الفعل، بمنزلة المصدر، كقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، أي: والصوم. ومثل هذا ممّا حُمِلَ عَلَى الإمكان (¬3) قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ} (¬4)، فهو (¬5) عطف على قوله: {إِلَّا وَحْيًا}، ويمكن فيه: إلا أَنْ يوحى إليه. فلمّا كان قوله (¬6): {إِلَّا وَحْيًا} بمعنى: يوحى إليه، حمله على ذلك. ومثله من الشعر، قوله: فَظَلَّ طُهاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ (¬7) شِواءٍ أو [قَدِيرٍ مُعَجَّلِ] (¬8) ¬

_ (¬1) في (ج): (وأراد). (¬2) أورد هذا النص عنه السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 303. (¬3) في "الدر المصون": (المعنى). (¬4) [سورة الشورى:51]. وبقيتها: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. (¬5) من قوله: (فهو ..) إلى (إلا وحيا): ساقط من: (ج). (¬6) في (ب): ما كان يوحى. بدلًا من: (فلما كان قوله). (¬7) في (أ)، (ب): (ضعيف). والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت. (¬8) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج)، ومصادر البيت. والبيت لامرئ القيس، من معلقته، وقد ورد في "ديوانه" 120، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 97، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: 36، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: 46، "اللسان" 4/ 2463 (صفف)، 4/ 2715 (طها)، "مغني اللبيب" 600، 617، "المقاصد النحوية" 4/ 146، "منهج السالك" 3/ 107، "همع الهوامع" 5/ 278، "شرح شواهد المغني" 857.=

خَفَضَ قولَه: (قَدِيرٍ) (¬1)؛ لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله: (مُنْضِجٍ)، لأنه أمكن أن يكون مضافًا إلى الصَّفِيفِ (¬2)، فحمله على ذلك (¬3). وقوله (¬4) تعالى: {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}. يجوز أن يريد بـ {الْبَيِّنَاتُ}: ما بُينَ في التوراة والإنجيل. وهو قول ابن عباس (¬5). ويجوز أن يريد: ما أتى به (¬6) النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والآيات المعجزات. وفي هذا تبعيد لهم من حال الهداية، وبيان لاستحقاقهم الكفر بفعلهم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس (¬7). يريد: لا يرشد من نقض عهود (¬8) الله، وظلم نفسه. ¬

_ = الصفيف: هو اللحم المصفوف على الجمر على شكل شرائح مُرَقَّقَة؛ ليُشوَى. وقدير: أي: المطبوخ في القدور، فصرفه من (مفعول) إلى (فعيل). ومعنى البيت: أنه نظرًا لكثرة الصيد، فقد ظل الطبَّاخون ما بين من يقوم بإنضاج اللحم بشوائه على الجمر، وما بين من يقوم بطبخه في القدور. وقوله: (معجل)؛ لأنهم كانوا يستحبون تعجيل كل ما كان من الصيد يُستظرف. (¬1) (خفض قوله قدير) غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج)، و"الدر المصون". (¬2) في (ب): (الخفيف). (¬3) أي: حَمَلَ (قدير) على (صفيف)؛ لأنه أمكن أن يكون (صفيف) مجرورًا بالإضافة إلى (منضج). (¬4) من قوله: (وقوله ..) إلى (الكفر بفعلهم): ساقط من: (ب). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) (أتى به): غير مقروء في (أ). ومثبت من (ج). (¬7) لم أقف على مصدر قوله. (¬8) في (ج): (عهد).

87

وهذا خاص فيمن (¬1) علم الله عز وجل منهم أنهم لا يؤمنون، وأراد ذلك منهم. 87 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87]. قال ابن عباس (¬2): يريد: المؤمنين (¬3). فعلى هذا؛ {النَّاسِ}، خاصٌ؛ ولكنَّه لمَّا ذكر الثلاثة، قيل: {أَجْمَعِينَ}. وقال الزجاج (¬4): معنى (لَعْن الناسِ أجمعين لهم): أن بعضَهم يوم القيامةِ يَلعَنُ بعضًا، ومَن خالَفَهم؛ يلعنهم في الدنيا. فقد استقرَّت عليهم لعنةُ الجميع، وإن كان على التفريق. 88 - قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} نصبٌ على الحال مما قبله، وهو قوله: {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ} (¬5). ¬

_ (¬1) في (ب): (بمن). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) ورد هذا -كذلك- عن قتادة، والربيع. وقيل: اللفظ على إطلاقه، وأن الكافرَ يلعنه الناسُ جميعًا يوم القيامة. وهو قول أبي العالية. وكذا قال مقاتل بالعموم. وقيل: هي قول القائل: (لعنة الله على الظالم)، فتجب تلك اللعنة للكافر؛ لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه. وهو مروي عن السدي. ورجح هذا الطبري، وجعل بمعناه قول أبي العالية السابق. واستدل له بقوله -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 288، "تفسير الطبري" 3/ 343، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 434، "المحرر الوجيز" 3/ 206، "الدر المنثور" 2/ 87، "روح المعاني" 2/ 29، عند تفسير آية: 161 من سورة البقرة، وهي نظير هذه الآية. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 440. نقله عنه بنصه. (¬5) انظر: "المشكل" لمكي 1/ 169، "التبيان" للعكبري: 200.

وقوله تعالى: {فِيهَا} قال ابن عباس (¬1): في جهنم. فعلى هذا؛ الكنايةُ (¬2) عن (¬3) غيرِ مَذْكورٍ (¬4). وقال الزجاج (¬5): أي: فيما توجبه اللعنة؛ [أي: في عذاب اللعنة] (¬6). وقال بعضهم (¬7): الكناية راجعة إلى اللعنة. ومعنى (خلودهم في اللعنة): استحقاقهم دائمًا لها، مع ما (¬8) توجبه من أليم العقاب، بدوامها. وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} معنى (الإنظار): تأخير العبد، ليُنظَرَ في أمره (¬9)؛ أي: لا (¬10) يُؤخرون عن وقتهم المؤقت (¬11) لعذابهم. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله، وقد ذكره الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 142. (¬2) الكناية؛ هي: الضمير. (¬3) في (ج): (من). (¬4) قال ابن عطية: (وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم، فالضمير عائد على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع.). "المحرر الوجيز" 3/ 207. (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 440. نقله عنه بتصرف. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬7) ممن قال بذلك: مقاتل، في "تفسيره" 1/ 288. (¬8) في (أ)، (ب)، (ج): (معما). وما أثبتُّه هو الموافق للرسم الإملائي؛ لأن (ما) اسمية موصولة، ولا توصل بـ (مع)، وإنما قيل: إن (ما) الحرفية الزائدة توصل بـ (مع). انظر: "كتاب الإملاء". لحسين والي: 106، 110. (¬9) الإنظار -لغة-: التأخير والإمهال. يقال: (أنْظَرتُه، أُنْظِرُه). وتقول: (أنْظِرْني): أمهلني. انظر: "نزهة القلوب" للسجستاني: 72، "العمدة في غريب القرآن" لمكي: 81، "اللسان" 7/ 4467 (نظر). قال ابن عطية: (ولا يجوز أن يكون {يُنْظَرون} -هنا- نظر العين، إلا على توجيه غير فصيح، لا يليق بكتاب الله -تعالى-). "المحرر الوجيز" 3/ 207. (¬10) في (ب): (ما). (¬11) في (ب): (الوقت).

89

89 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} موضع {الَّذِينَ}: نصبٌ، استثناء من قوله: {عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ}، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} والتوبةُ لا تكون إلا بعد الذنْبِ، ولكنْ فيه دلالةٌ على معنًى تابوا منه؛ وذلك أن التوبة مِن غير الرِّدَّةِ لا ينفع (¬1) في التَّخَلُّصِ منها (¬2)، كما أن التوبةَ من ذَنْبٍ لا ينفعُ في التخلص من ذَنْب آخر (¬3). وقوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} قال ابن عباس (¬4): يريد: راجعوا الإيمان بالله، والتصديق بِنَبِيِّهِ، وأَصلَحُوا أعمالَهم. وقال الزجاج (¬5): معنى {وَأَصْلَحُوا}: أظهروا للناس أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوهُ مِن تَغْرِيرِهم مَن تَبِعَهم (¬6)، مِمَّن لا علم عنده. وشَرَطَ مع (¬7) التوبةِ الإصلاحَ؛ لإزالة الإيهام أنهم إذا تابوا من الارتداد، [لم] (¬8) يضرهم غيرُهُ مِنَ الفساد؛ وعلى ذلك، قال (¬9): {إِلَّا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): (لا تنفع). (¬2) أي: من الردة. ومن قوله: (منها ..) إلى (من ذنب آخر): ساقط من: (ج). (¬3) انظر: "لوامع الأنوار" 1/ 384. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 440. نقله عنه بتصرف. (¬6) (تبعهم): غير مقروء في (أ). وفي (ب): (بعدهم). وفي "معاني القرآن": (اتَّبعهم). والمثبت من: (ج). (¬7) في (ب): (شرائع). بدلًا من: (شرط مع). (¬8) زيادة لازمة من (ج). (¬9) (قال): ساقطة من (ب).

90

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1)؛ لإزالة الإيهام: أنَّ مَن كان مؤمنًا (¬2)، لم (¬3) يضره ما عمل بعد ذلك مِن الجُرْمِ. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ} دخلت الفاءُ في: {فَإِنَّ اللَّهَ}؛ لِشَبَهِ الجزاء، إذ (¬4) كان الكلامُ قد تضمن معنى: (إنْ تابوا؛ فإنَّ الله يغفر لهم). وقوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال الزجاج (¬5): أعلم الله أنَّ مِن سَعَةِ (¬6) رحمته وتفضله، أنْ يغفرَ لِمَن اجترأ عليه هذا الاجتراء؛ وذلك أنَّ الذي (¬7) فعلوا، لا غايةَ وَرَاءَهُ فِي الكفر، وهو: أنَّهم كفروا بعد (¬8) تبَيُّنِ الحقِّ. 90 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عباس (¬9): نزلت في اليهود؛ كفروا بعد إيمانهم بمحمد، وتصديقِهم إيّاهُ قَبْلَ (¬10) بِعثتِهِ (¬11). ¬

_ (¬1) مقطع من: سورة الشعراء: 227، وص: 24، والانشقاق: 25، والبروج: 11، والتين: 6، والبينة: 7، والعصر: 3. (¬2) (مؤمنا): غير مقروء في (ج). (¬3) في (ب): (لا). (¬4) في (ج): (إذا). (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 440. نقله عنه بتصرف. (¬6) في (ب): (منه). (¬7) (الذي): غير مقروء في (أ). وفي (ب): (الذين). والمثبت من: (ج). (¬8) (بعد): ساقطة من: (ج). (¬9) لم أقف على مصدر قوله. (¬10) في (ج): (وقيل). (¬11) أورد ابن كثير عن ابن عباس -من رواية الكلبي- أن سبب نزول الآية، هو: أن=

{ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بالإقامة على كفرهم حتى هلكوا عليه. قاله مجاهد (¬1). وقال الحسن (¬2): {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} أي: كلَّما نزلت آية على محمد - صلى الله عليه وسلم -، كفروا بها. وقال قتادة (¬3): إنَّ اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ازدادوا كفرًا، بكفرهم بمحمد والقرآن. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}. ¬

_ = قومًا أسلموا ثم ارتدُّوا عن الإسلام، فأرسلوا إلى قومهم يسألون إن كان لهم من توبة، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية ونسب ابنُ كثير إخراجَه إلى البزار -مسندا-، وقال: (هكذا رواه، واسناده جيد). "تفسيره" 1/ 408. ولكن السيوطي قال -بعد أن أورد هذه الرواية عن البزار-: (هذا خطأ من البزار)؛ وذلك أن ابن عباس ورد عنه بنفس السند الذي عند البزار: أن هذا كان سببًا لنزول قوله -تعالى-: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا} آية: 86. وقد مر بيانه عند تفسيرها. وورد عن الحسن وأبي العالية أنها نزلت في اليهود والنصارى؛ كفروا بعد إيمانهم. ثم ازدادوا كفرًا بذنوب عملوها، ثم يتوبون من تلك الذنوب بعد كفرهم. وفي أثر لأبي العالية أضاف لهم المجوس. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 343، "ابن أبي حاتم" 2/ 701، "أسباب النزول" للواحدي: ص 118، "الدر المنثور" 2/ 88. (¬1) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 701، "الثعلبي" 3/ 70 أ، "البغوي" 2/ 65، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 88، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد والطبري. (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 70 أ، "تفسير البغوي" 1/ 65، "زاد المسير" 1/ 419. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 343، "ابن أبي حاتم" 1/ 701، "الثعلبي" 3/ 70 أ، "النكت والعيون" 1/ 408، "تفسير البغوي" 2/ 65، "زاد المسير" 1/ 419.

91

قال الحسن (¬1)، وقتادة (¬2)، وعطاء (¬3): لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، والله تعالى يقول: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} (¬4)، الآية. وقال ابن الأنباري (¬5): لن تُقبل توبتهم التي تقدمت في حال إيمانهم وتصديقهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لأن الله عز وجل لا يَقبَلُ مع الإقامة على الشرك توبَةً متقادمةً (¬6)، ولا عَمَلًا حَسَنًا ماضيًا مرجوعًا عنه إلى ضدِّه. 91 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} إلى قوله: {مِلْءُ الْأَرْضِ} (مِلْءُ (¬7) الشيء): قدر ما يَمْلؤه، وهو اسمٌ يُثَنَّى وُيجمع؛ يقال: ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 3/ 344، "ابن أبي حاتم" 1/ 702، " الثعلبي" 3/ 70 ب، "زاد المسير" 1/ 419، و"تفسير الحسن البصري" 1/ 222. (¬2) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 125، "تفسير الطبري" 3/ 343، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 702، "تفسير الثعلبي" 3/ 70 أ، "النكت والعيون" 1/ 408، "زاد المسير" 1/ 419. (¬3) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 125، "تفسير الطبري" 3/ 343، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 702، "تفسير الثعلبي" 3/ 70 ب، "زاد المسير" 1/ 419. وعطاء -هنا- هو: أبو عثمان، عطاء بن أبي مسلم - (اسمه: مَيْسرة) -، البَلْخي الخراساني. تابعي، مشهور بالعبادة والفتوى والجهاد، والتفسير، صاحب رِحْلَة، قال ابن حجر: (صَدوق، يَهم كثيرا، ويرسل ويدلس). مات سنة (135 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 334، "حلية الأولياء" 5/ 193، "الميزان" 3/ 470، "تقريب التهذيب" 392 (4600). (¬4) [سورة النساء: 18]، وتمامها: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) في (ب): (مقادمة). (¬7) في (ب): (بمثل).

(مِلْءُ القَدَح)، و (مِلآهُ)، و (ثلاثة أملائِهِ) (¬1). والفرق بين (المِلْءِ) و (المَلْءِ) (¬2)، كالفرق بين (الرِّعْي) و (الرَّعْي) (¬3). وانتصب {ذَهَبًا} على التفسير (¬4). قال المُفضَّل (¬5): ومعنى التفسير: أن يكون الكلامُ تامًّا وهو مُبْهَم؛ كقولك: (عندي عشرون)؛ فالعدد (¬6) معلوم، والمعدود (¬7) مبْهَم. فإذا قلت: (درهمًا) (¬8)، فَسَّرت العددَ. وكذلك إذا قلت: (هو أَحْسَنُ ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 776 (ملأ)، "اللسان" 7/ 4252 (ملأ). (¬2) في (ب): الملاء والملاء. وهكذا رسمت (مل) في نسخة (ب) فيما سيأتي. المِلْءُ -بالكسر-: اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ. والمَلْءُ -بالفتح-: المصدر. (ملأ الشيء، يملؤه مَلْأً). انظر: (ملأ) في "اللسان" 7/ 4252، "القاموس" (1335). (¬3) في (ب): (والري). الرِّعي -بالكسر-: الكلأ، والجمع: أرْعاء. والرعي -بالفتح-: المصدر. انظر: (رعى) في "اللسان" 3/ 1676 - 1677، "القاموس" (1289). (¬4) التفسير -هنا- بمعنى: التمييز، ويقال له - كذلك: التبيين. وكونه منصوبًا على التمييز، هو قول عامة أهل النحو. انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 225، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 442. وذهب الكسائي إلى انه منصوب بنزع الخافض. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "تفسير القرطبي" 4/ 131. وقال السمين الحلبي -عن هذا القول-: (وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر بـ"مِن"). "الدر المصون" 3/ 206. (¬5) من قوله: (قال المفضل ..) إلى (ما لا عامل فيه): نقله -بنصه- عن "تفسير الثعلبي" 3/ 70 ب. وأورده القرطبي في "تفسيره" 4/ 131. (¬6) في (ب): (العدد)، وفي (ج): (والعدد). (¬7) في (ج): (والمعدوم). (¬8) في (ج): (درهم). وعند الثعلبي: (عشرون درهما).

الناسِ)، فقد أخبرت عن حُسْنِه، ولم يبين (¬1) في أي شيء هو، فإذا قلت: (وَجْهًا)، أو [(فِعْلًا)] (¬2)، فقد بينته، ونصبته [على التفسير، وإنما نصبته] (¬3)، لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلما خلا من هذين، نُصِبَ؛ لأن النصب أخفُّ (¬4) الحركات، فجعِل لكل ما لا عامل فيه. وقال سيبويه (¬5): انتصب (ذهبًا)؛ لأن الاسم المخفوض قد حال بين الذهب وبين المِلْءِ أن يكون جَرًّا (¬6)؛ ومعنى هذا: أنَّ العاملَ (¬7) اشتغل بالإضافة في {مِلْءُ الْأَرْضِ} (¬8)، وبما يعاقِبُ الإضافة من النون الزائدةِ في (عشرون درهمًا)، فجرى ذلك مجرى الحالِ في اشتغال العامل بصاحبها (¬9)، ومجرى المفعول في اشتغال العامل عنه بالفاعل. ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج)، "تفسير الثعلبي": (تبين). (¬2) ما بين المعقوفين: غير مقروءة في (أ). وفي (ب): فضلًا. والمثبت من: (ج)، "تفسير الثعلبي". (¬3) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج)، "تفسير الثعلبي". (¬4) في (ب): (أحد). (¬5) لم أقف على موضع قوله في كتابه، وقد ذكره الزجاج في "معانيه" 1/ 442. (¬6) في (ب): (خبرا). (¬7) في (ب): (الملاء). (¬8) أي: إننا شغلنا الإضافة بالاسم الذي قبل {ذَهَبًا}، وهو {الأَرْضِ}، فانجرت {الأَرْضِ} بالإضافة، ثم جاء {ذَهَبًا} فانتصب كما ينتصب الحالُ، أو المفعول إذا جاء من بعد الفاعل. (¬9) في (ج): (لصاحبها). أي: بصاحب الحال، كقولنا: (جاء عبدُ الله راكبًا) فشغلنا الفعل بـ (عبد الله) وهو صاحب الحال فرفعه، فبقيت (راكبًا) ليس لها ما يرفعها ولا ما يجرها، فانتصبت.

وقوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}. قال الفرّاء (¬1): الواو زائدةٌ، كهي في قوله: {وَلِيَكوُنَ مِنَ المُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]؛ المعنى: لن يُقَبلَ مِن أحَدِهم مِلْءُ الأرضِ ذهبًا، لو افتدى به. وغَلّطَهُ الزجاجُ وغيرُه (¬2)، وقالوا: الواو ههنا للعطف؛ لأن المعنى: لو (¬3) عمل مِنَ الخَيْرِ، وقَدَّمَ مِلْءَ الأرضِ ذهبًا؛ يتقرب به الله عز وجل، لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذابِ بِمِلْءِ الأرضِ ذهبًا، لم يُقْبَل منه. فالواو دخلت لفعلٍ مُضْمَرٍ، وهو (¬4): (القَبُولُ)؛ أي: ولا يُقبل منه لو افتدى به (¬5). قال ابن الأنباري: وهذا آكَدُ في التغليظ عليهم، إذْ كانوا لا يُقبل منهم [مِلْء الأرضِ ذَهَبًا، على جهة الصَّدَقَةِ والتَّقْرُّبِ إلى الله جل وعز، ولا يُقبل منهم] (¬6) أيضًا على جهة فِدْيَةٍ (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 226. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج:1/ 441، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 437. (¬3) في (ب): (ولو). (¬4) هو: بياض في (ج). (¬5) انظر: "الكامل" للمبرد: 1/ 277، "تفسير الطبري" 3/ 346، "المحرر الوجيز" 3/ 211. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬7) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سُئلت ما هو أيسر من ذلك". رواه البخاري في "صحيحه" (6538). كتاب الرقاق، باب: من نوقش الحساب فقد عُذب، ومسلم في "صحيحه" (2805) كتاب: صفات المنافقين، باب: طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا، رقم (2805) وفي لفظه عنده: "قد =

92

وقد أشار الفراء إلى هذا القول أيضًا، فقال (¬1): والواو [ههنا كأنَّ لها فِعْلًا] (¬2) مُضْمَرًا بعدها. وقال بعض النحويين (¬3): الواو ههنا دخلت لتفصيل نفي القَبول بعد الإجمال؛ وذلك (¬4) أنَّ {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} [قد عمَّ وجوهَ القَبول] (¬5) بالنفي، ثم أتى بالتفصيل، لِئَلّا يتَطَرَّق عليه سوءُ التأويل (¬6). 92 - قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} قال شَمِر (¬7): اختلف العلماء في تفسير {الْبِرَّ}: فقال بعضهم: البِرُّ: الصلاح. وقال بعضهم: الخير، ولا أعلم تفسيرًا [أجمع منه؛ لأنه] (¬8) يُحيط بجميع ما قالوا. قال: وجعل لَبِيد (¬9) (البِرَّ): التُّقَى؛ حيث يقول: ¬

_ = أردت منك أهون من هذا وأنت في صُلْبِ آدم: أن لا تشركَ -وأحسبه قال- ولا أدخِلكَ النار، فأبيت إلا الشرك". (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 226. (¬2) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). ومثبت من: (ب)، (ج)، "معاني القرآن". (¬3) لم أقف عليهم. (¬4) (وذلك): ساقطة من: (ج). (¬5) ما بين المعقوفين: غير مقروء تمامًا في (أ). وفي (ب): قد أجمل القبول. والمثبت من: (ج). (¬6) أي: أنه نفى جميع وجوه القبول، ثم خص من تلك الوجوه: أليقها وأحراها بالقبول، وهو: الافتداء، فنفاه كذلك. (¬7) من قوله (قال شمر) إلى (في غير طاعة وخير): نقله عن "تهذيب اللغة" 1/ 307 (برر). (¬8) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): أجمع سيرة لأنه. والمثبت من (ج)، "تهذيب اللغة". (¬9) في (ب): (لنيل).

وما البِرُّ إلا مُضْمَراتٌ مِنَ التُّقى (¬1) وقول الشاعر: تُحَزُّ رُؤوسُهم في غَيْرِ بِرِّ (¬2) معناه: في غير طاعة وخير. وعلى هذا دار كلام المفسرين. قال عطاء (¬3) ومقاتل (¬4): البِرُّ: التقوى، في هذه الآية. وقال أبو رَوْق (¬5): الخير. ¬

_ (¬1) صدر بيت، وبقيته: وما المال إلا مُعْمَراتٌ ودائِع وهو في ديوانه: 169. وورد في "تهذيب اللغة" 1/ 307 (بر)، "اللسان" 1/ 252 (برر). والمُضْمَر: الهزيل. من: (ضَمَرَ، يضمُرُ، ضمورًا)، و (الضُمْرُ، والضُمُرُ): الهزال. والمعمرات: من قول العرب: (هذه الدار لك عُمْرَى)؛ أي: لك ما عمرت، فإذا مت، فلا شيء. (ضمر) "التهذيب" 3/ 2133، "القاموس" (429). (¬2) صدر بيت، وبقيته: فما يدرون ماذا يَتَّقونا وهو لعمرو بن كلثوم، من معلقته. انظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 397، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص 126، "شرح القصائد العشر" للتبريزي:230. وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" 1/ 307 (برر)، "اللسان" 1/ 252 (برر). وورد (تَحُزُّ)، و (نَجُذُّ)، و (نَحُذُّ)، و (تَخر). (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "زاد المسير" 1/ 420، "تفسير القرطبي" 4/ 133. ونص قوله: (لن تنالوا شرف الدين والتقوى، حتى تتصدقوا، وأنتم أصحاء أشحَّاء، تأملون العيش، وتخشون الفقر). (¬4) ورد هذا القول عن مقاتل بن سليمان، وهو في "تفسيره" 1/ 290. وورد عن مقاتل بن حيان، وهو في "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 703، "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "تفسير البغوي" 2/ 66، "زاد المسير" 1/ 420. (¬5) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "زاد المسير" 1/ 420.

ورُوِيَ عن ابن عباس، ومجاهد، والسدِّي، أنهم قالوا (¬1): [البِرُّ؛ المرادُ به ههنا: الجنة. وقال بعض أهل المعاني (¬2): معنى الآية: لَنْ تَنالوا] (¬3) البِرَّ من الله عز وجل بالثواب في الجنة. وقوله تعالى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال ابن عباس في رواية الضحاك (¬4): أراد بهذه الآية: الزكاةَ؛ يعني: حتى تُخرجوا زكاةَ أموالكم. وقال الحسن (¬5): كل شيء أنفقهُ المُسْلِمُ مِن مالِهِ؛ يبتغي به وجْهَ الله عز وجل، فإنّه من الذي عَنَى الله سبحانه بقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، حتى التَّمْرَةَ. وقال مجاهد، والكلبي (¬6): هذه الآية منسوخة، نسختها آيةُ الزَّكاةِ (¬7). ¬

_ (¬1) قول ابن عباس، ومجاهد، في "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "تفسير البغوي" 3/ 66، "تفسير القرطبي" 4/ 133. وقول السدي، في "تفسير الطبري" 3/ 347، "ابن أبي حاتم" 3/ 703، "الثعلبي" 3/ 71أ، "البغوي" 3/ 66، "القرطبي" 4/ 133. (¬2) لم أقف عليهم. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) هذه الرواية عنه، في "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "تفسير البغوي" 3/ 66، "زاد المسير" 1/ 421. (¬5) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 71 أ، "تفسير البغوي" 2/ 66. (¬6) انظر المصادر السابقة. (¬7) آية الزكاة، هي: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [آية: 60 من سورة التوبة]. قال الفخر الرازي -رادًّا على من قال إن هذه الآية منسوخة-: (وهذا في غاية البعدة لأن إيجاب الزكاة؛ كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى؟). "تفسيره" 8/ 148.

93

وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. [تأويلها (¬1) تأويل الشرط والجزاء، وموضعها نَصْبٌ بـ {تُنْفِقُوا}، والفاء في {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}] (¬2)، جوابُ المجازاة. وتأويل الآية: وما تنفقوا من شيء فإنَّ اللهَ يجازيكم به قَلَّ أو كَثُرَ، فإنه عليم به، لا يخفى عليه شيء منه. نَظِير هذه الآية (¬3) في المعنى: قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، وقوله تعالى (¬4): {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] (¬5). 93 - قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية. قال أهل التفسير: لما ادَّعى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه على مِلَّةِ إبراهيم؛ قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لُحومَ الإبِلِ وألبانها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان ذلك حلالاً (¬6) لإبراهيم، فنحن نحله". فقالت اليهود: كلُّ شيءٍ أصبحنا اليوم نُحرِّمُهُ، فإنه كان مُحرَّمًا على نوح وإبراهيم؛ فأنزل الله عز وجل تكذيبًا لهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬7) ¬

_ (¬1) من قوله: (تأويلها ..) إلى (جواب المجازاة): نقله بتصرف عن: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 443. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬3) في (ج): (وهذا) - بدلًا من: (وهذه الآية). (¬4) (تعالى): ساقطة من (ج). (¬5) [سورة البقرة: 270] وبقيتها: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. (¬6) (حلالًا): ساقطة من: (ج). (¬7) ورد هذا القول عن أبي رَوْق، والكلبي -بدون سند- كما في "تفسير الثعلبي" 3/ 73 أ، "أسباب النزول" للواحدي: ص118، "زاد المسير" 1/ 326، وأورده البغوي -كذلك - دون عزوٍ لقائل-، في "تفسيره" 2/ 67.

[الآية] (¬1) و (الحِلُّ)، و (الحَلالُ)، و (المُحَلَّلُ): واحد. قال ابن عباس في زمزم (¬2): (هي حِلٌّ وَبِلّ) (¬3). رواه سُفْيَان بن عُيَيْنَة (¬4)، عن عَمْرو بن دينار عنه، فسُئِل سفيانُ: ما (حِلٌّ) (¬5)؟ فقال: مُحَلَّلٌ. وروى ابن عباس (¬6): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ يعقوبَ مرض مرضًا شديدًا (¬7)، فنذر لَئِن عافاه الله؛ ليُحرِّمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه. وكان أحب الطعام إليه: لُحْمان الإبل، وأحب الشراب إليه: ألبانها". ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج). (¬2) هذه الرواية عنه، في "تهذيب اللغة" 1/ 905 (حل). (¬3) قال في "اللسان" 1/ 349 (بلل): (والبِلَّة: الخير والرزق. والبِلّ: الشفاء والبِلَّة: العافية والبِلّ: المباح. وقالوا: (هو لك حلٌّ وبِلٌّ)، فـ (بل): شفاء ويقال: (بِلٌّ): مباحٌ مُطلقٌ، يمانِيَّة حِميَرِيَّة). (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) في "التهذيب": ما حل وبل. (¬6) هذه رواية شهر بن حوشب عنه، أخرجها: أحمد في "المسند" 1/ 247. والطيالسي في "المسند" 4/ 450 (2854)، والطبري في "تفسيره" 1/ 431، 4/ 5، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 704، والطبراني في "المعجم الكبير" 12/ 246 برقم (13012)، وأوردها الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 242، وقال: (رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات). وورد بنحوه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، أخرجها: أحمد في "المسند" 1/ 274، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 114، والترمذي في "سننه" (3117) كتاب التفسير، باب: سورة الرعد، والحاكم في "المستدرك" 2/ 292، وصححه ووافقه الذهبي. والطبري 4/ 4، وابن أبي حاتم 3/ 705، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 304، وقال: غريب من حديث سعيد، تفرد به بكير [بن شهاب]. (¬7) وفي المروي عن ابن عباس في المراجع السابقة: أن الألم الشديد هو: عِرْق النَسَّا.

وهذا قول: أبي العالية (¬1)، وعطاء (¬2)، ومقاتل (¬3)، والكلبي (¬4): أن الذي حرَّم إسرائيلُ (¬5) على نفسه كان (¬6) لحومَ الإبلِ وألبانَها (¬7). قالت العلماء (¬8): إنما حرَّمَ إسرائيلُ ذلك على نفسه بإذن الله عز وجل (¬9) له (¬10) [فيه] (¬11)، كما جاز (¬12) الاجتهاد في الأحكام لما أَذِنَ اللهُ فيه (¬13). ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 73 ب، "البغوي" 2/ 68، "زاد المسير" 1/ 422. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 4، والمصادر السابقة. (¬3) قوله في "تفسيره" 1/ 260، "تفسير الثعلبي" 3/ 73ب، "تفسير البغوي" 2/ 68. (¬4) قوله في "بحر العلوم" 2/ 109، "تفسير الثعلبي" 3/ 73 ب، "البغوي" 2/ 68. (¬5) إسرائيل، هو: يعقوب عليه السلام. (¬6) من قوله: (كان ..) إلى (ذلك على نفسه): ساقط من (ج). (¬7) وورد -كذلك- أنه حرم عروق اللحم. وهذا مروي -كذلك- عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي والضحاك وأبي مجلز. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 2 - 4. وعن ابن عباس: أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم، إلا ما كان على الظهر. وعن مجاهد: أنه حرم الأنعام. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 705. ورجح الطبريُ أنه حرم العروق ولحوم الإبل، وقال: (لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمهما، كما كان عليه أوائلها). "تفسيره" 4/ 5. (¬8) لم أقف على من قال ذلك ممن سبق المؤلف. (¬9) (عز وجل): ليس في (ج). (¬10) (له): ساقطة من: (ب). (¬11) ما بين المعقوفين غير مقروء تمامًا في (أ). وساقط من (ب)، (ج). والمثبت هو ما رجحته. (¬12) (كما جاز): ساقطة من: (ب). (¬13) يَرِدُ على كلام المؤلف -هنا- التالي: إذا كان التحريمُ بإذن الله، فأين مجال الاجتهاد هنا؟. ولذا عَرَضَ الماورديُّ تحريمَ إسرائيل ذلك على نفسه، كالتالي: (هل كان بإذن الله -تعالى- أم لا؟ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء على قولين: أحدهما: لم يكن إلا بإذنه، وهو قول مَن زعم أنه ليس لِنَبِي أن يجتهد. =

وللنبي (¬1) أن يجتهد في الأحكام؛ لأنه إذا كان بالدين أعلم، ورأيُه أفضل، كان بالاجتهاد أحق، ولا (¬2) يجوز لأمته أن يخالفوه في اجتهاده، كما لا يجوز مخالفة الإجماع (¬3). وإن (¬4) كان من طريق الاجتهاد. فعلى هذا؛ لم تكن لحومُ الإِبِل محرمة عليهم في التوراة، وإنما لزمهم ذلك التحريم من جهة يعقوب. وقال الحَسَنُ (¬5): حَرَّم إسرائيلُ على نفسه لحم الجَزُور، تَعَبُّدًا لله عز وجل، فسأل ربه أن يجيز ذلك له، فحرَّمَه اللهُ على ولده. ¬

_ = الثاني: بغير إذنٍ، بل باجتهاده، وهو قول مَن قال إنَ للنبِيِّ أن يجتهد). "النكت والعيون" 1/ 409 - 410. (¬1) في (ج): (للنبي) بدون واو. (¬2) في (ج): (ثم لا). (¬3) وهذه مسألة وقع فيها خلاف بين الأصوليين: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَعبَّدًا بالاجتهاد فيما لا نَصَّ فيه؟ قال بذلك الإمام أحمد وأبو يوسف، وجوزه الشافعي من غير قطع، وبه قال بعضُ أصحابه، واختاره الآمديُّ. انظر: "المحصول" للرازي: 2/ 43/ 184 وما بعدها، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، د. محمد الأشقر: 1/ 118 وما بعدها. وهناك مسألة أخرى، هي: هل يجوز أن يَكِلَ الله (يفوض) إلى نَبِيِّه أن يَحْكُمَ في بعض الأمور بما يَرَاه، دون نَصٍّ ولا قياسٍ على منصوص، وُيعَدُّ ذلك شَرْعَ الله، ويكون مُكَلَّفًا به؟ ترددت هذه المسألة عند الأصوليين بين المنع والجواز؛ فمنعها أكثر المعتزلة، والجَصَّاص من الحنفية. وممن أجازها الآمديُّ، وابنُ السمعاني، والشيرازي. وكانت هذه الآية من أدلتهم على الجواز. ولم يَقطَعْ بذلك الشافعيُّ. انظر: "أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -" 1/ 123 - 126. (¬4) في (أ)، (ب): فإن "بالفاء". ولم أر لها وجهًا، ولا يستقيم بها المعنى المراد. والمثبت من: (ج)، لاستقامة المعنى وصحة السياق. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 4 بمعناه. وبنصه في "تفسير الثعلبي" 3/ 74 أ.

وقال عَطِيَّةُ (¬1): إنما كان ذلك حرامًا عليهم، بتحريم إسرائيل ذلك عليهم؛ وذلك أنَّه (¬2) قال: لئن عافاني الله؛ لا يأكل لي ولدٌ لحم الجزور (¬3). ولم يكن ذلك محرمًا عليهم في التوراة. وقال الضَّحّاك (¬4): لم يكن شيءٌ من ذلك عليه (¬5) حرامًا، ولا حَرّمَهُ اللهُ عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم؛ اتِّباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمَهُ إلى الله عز وجل، فكذبهم الله عز وجل، فقال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}. وقال السُدِّي (¬6): إنَّ الله تعالى (¬7) لما أنزل التوراة، حرَّم عليهم ما كانوا يُحرِّمونه قبل نزولها؛ اقتداءً بأبيهم يعقوب عليه السلام. فالمفسرون مختلفون كما ترى في أن هذا التحريم: هل ثبت عليهم من الله تعالى في التوراة، أم لا؟. ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 74 أ، كما ورد في "تفسير الطبري" 4/ 2 من رواية عطية عن ابن عباس. (¬2) في (ب): (لأنه). (¬3) نص قوله عند الثعلبي والطبري، يفيد أن يعقوب عليه السلام حرم على نفسه العروق؛ حيث قال عطيّةُ -كما عند الثعلبي-: (وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا: والله! لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولدٌ، ولم يكن ذلك محرمًا عليهم في التوراة). أي: أصابه عرق النسا، والضمير في (لا يأكله) يعود على العرق. (¬4) قوله بمعناه، في "تفسير الطبري" 4/ 2، "بحر العلوم" 2/ 110. (¬5) (عليهم): ساقطة من: (ج). (¬6) قوله بمعناه، في "تفسير الطبري" 4/ 1. وبهذا النص في "تفسير الثعلبي" 3/ 74 أ. (¬7) لفظة (تعالى): ساقطة من: (ب).

94

وكيفما (¬1) كان، ففي التوراة بيان أن ابتداء هذا التحريم من جهة يعقوب، وقبله كان حلالًا لإبراهيم عليه السلام. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَدَّعي دين إبراهيم. 94 - قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الافتراء: اختلاق الكذب (¬2). والفِرْيَةُ: الكذِبُ والقَذْفُ (¬3). وأصلُهُ مِنْ: (فَرْيِ الأديم)، وهو: قَطْعُهُ (¬4)، فقيل للكَذِبِ: افتراء؛ لأن الكاذب يقطع به على التقدير، من غير تحقيق. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد ظهور الحُجَّة: بأنَّ التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرمًا قبله. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أنفسهم ومن يدعونهم إلى مذهبهم. 95 - قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} أي: في جميع ما أخبر به، وفيما أخبر (¬5) مِنْ أنَّ {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. [الآية] (¬6). 96 - قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}. الآية. قال أبو إسحاق (¬7): معنى (الأول) في اللغة: ابتداء الشيء. ثم جائزٌ أن يكون له ثانٍ، وجائزٌ أن لا يكون؛ كما تقول: (هذا أوَّلُ مالٍ (¬8) كَسَبْتُهُ). جائزٌ أن ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): (كيف ما). وأثبتها وفق الرسم الإملائي الحديث. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 103، "غريب القرآن" لليزيدي: 40، "نزهة القلوب" للسجستاني 124، 125، "التاج" 20/ 47 (فري). (¬3) انظر: "الصحاح" 6/ 2454 (فرا)، "التاج" 20/ 47 (فري). (¬4) وهو قطعة: ساقطة من: (ب). انظر هذا المعنى، في "جمهرة اللغة" 879 (فري)، "المقاييس" 496 (فرى). (¬5) (به وفيما أخبر): ساقط من (ج). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) في "معاني القرآن" له: 1/ 445. نقله عنه بتصرف واختصار. (¬8) في (ج): (ما).

يكون بعده كسبٌ، وجائزٌ أن لا يكون، ولكن إرادتك: (هذا ابتداءُ كَسْبِي). ومضى الكلامُ في معنى (الأول) واشتقاقه، عند قوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]. واختلفوا في تأويل قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} فقرأت على الشيخ أبي حسَّان، محمد بن أحمد بن جعفر، فقلت: أخبركم أبو سَهْل، هارون بن محمد (¬1) بن هارون الإسْتَرَاباذي (¬2) أبنا (¬3) أبو محمد، إسحاق بن أحمد الخزاعي (¬4)، أبنا (¬5) أبو الوليد، محمد بن عبد الله الأَزْرَقي (¬6)، حدثنى ¬

_ (¬1) في مصادر ترجمته التالية: (هارون بن أحمد) بدلا من: (محمد). (¬2) هو: أبو سهل، هارون بن أحمد بن هارون بن بندار بن حريش -أو خداش- بن الحكم، والإستراباذي. شيخ فاضل، مكثر من الحديث، ارتحل إلى العراق والحجاز، وحدث سنين في نيسابور وبخاري ونسف وسمرقند، مات سنة (364 ص). انظر: "الأنساب" 1/ 216، "تاريخ الإسلام" للذهبي: 26/ 331 وفيات (351 - 380 ص). (¬3) في (ج): (أخبرنا). قال السيوطي: (ويكتبون مِن (أخبرنا): (أنا)؛ أي: الهمزة والضمير. ولا تحسن زيادة الباء قبل النون؛ وإن فعله البيهقي وغيره؛ لئلا يلتبس برمز حدَّثنا). "تدريب الراوي" 2/ 87. (¬4) في (ب): أبو محمد إسحاق بن محمد بن أحمد. وهو: أبو محمد، إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، شيخ الحرم، من كبار أهل القرآن، وأحد فصحاء مكة، ثقة حجة، توفى سنة (307 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" 14/ 289، ومقدمة محقق "أخبار مكة" للأزرقي: 1/ 16 - 17. (¬5) في (ج): (أخبرنا). (¬6) مؤرِّخ، من أهل مكة، أصله من اليمن، له كتاب: "أخبار مكة"، اختلف في سنة وفاته، ورجح محقق "أخبار مكة" القولَ بأنه كان حَيًّا في عهد الخليفة العباسي، المنتصر، الذي حكم سنة (247 - 248 هـ). انظر: "الفهرست" (158)، ومقدمة محقق "أخبار مكة": 1/ 13 - 15، "الأعلام" 6/ 222، "معجم المؤلفين" 3/ 429.

مهدي بن أبي المهدي (¬1)، ثنا أبو أيوب البصري (¬2)، ثنا هشام (¬3)، عن حميد (¬4)، قال: سمعت مجاهدًا يقول: (خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرضين) (¬5). وبه عن الأزرقي، قال: حدثني يحيى بن سعيد (¬6)، عن محمد بن عمر بن إبراهيم (¬7)، عن عثمان بن عبد الرحمن (¬8)، عن هشام، عن مجاهد، قال: (لقد خلق الله موضع هذا البيت، قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة، وإنَّ قواعده لفي الأرض السابعة السفلى) (¬9). ¬

_ (¬1) هو: مهدي بن حرب العبدي، الهَجَري، قال أبو حاتم: (شيخ ليس بمنكر الحديث). وقال ابن حجر: (مقبول). انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 335، "تقريب التهذيب" 548 (6928). (¬2) لم أقف على ترجمته. (¬3) هو: أبو عبد الله، هشام بن حسان القُرْدُوسي البصري. ثقة، إمام كبير الشأن، توفي سنة (147 هـ)، أو (148 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 54، "تهذيب الكمال" 30/ 181، "ميزان الأعتدال" 5/ 420، "تقريب التهذيب" 572 (7289). (¬4) هو: أبو صفوان، حميد بن قيس الأعرج، المكي، القارئ، تقدمت ترجمته. (¬5) أخرجه الأزرقي، في "أخبار مكة": 1/ 31 - 32، وانظر معناه، في "تفسير الطبري" 7/ 20 - 21، "تفسير البغوي" 1/ 328، "زاد المسير" 1/ 424. (¬6) لم أقف على ترجمته. (¬7) في "أخبار مكة": (محمد بن عمر بن إبراهيم الجبيري). ولم أقف على ترجمته. (¬8) لم أقف على ترجمته. (¬9) أخرجه الأزرقي، في "أخبار مكة" 1/ 32، والطبري في "تفسيره" 1/ 548، وأورده السيوطي في "الدر" 1/ 236، وزاد نسبة إخراجه إلى الحميدي، وعبد الرزاق - ولم أقف عليه في مُصنَّفِه، ولا في تفسيره.

وبه عن الأزرقي، ثنا علي بن هارون العجلي (¬1)، ثنا [عن أبيه] (¬2)، [قال] (¬3): ثنا [القَاسم] (¬4) بن عبد الرحمن الأنصاري (¬5)، حدثني محمد بن علي بن علي بن أبي طالب (¬6)، عن أبيه (¬7)، قال: (إنَّ الله بعث ملائكته، فقال: ابنوا لي في الأرض بيتًا بمثال البيت المعمور وقَدْرِهِ، وأمر الله مَنْ في الأرض مِنْ خَلْقِه، أن يطوفوا به، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خَلْق آدم) (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف على ترجمته. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من "أخبار مكة" 1/ 32. وهو: هارون بن مسلم بن هُرْمُز العجْلي، أبو الحسين البصري، صاحب الحِنّاء. من أتباع التابعين، قال ابن حجر: (صدوق)، وقال أبو حاتم: (فيه لين)، ووثقه الحاكم، وابن حبان، مات بعد المائتين. انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 411، "لسان الميزان" 7/ 241، "تقريب التهذيب" 569 (7240). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، وأخبار مكة. (¬5) قال عنه ابن معين: (ضعيف جدًا)، وقال أبو حاتم: (ضعيف الحديث، مضطرب الحديث). انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 14 - 15، "لسان الميزان" 5/ 500 - 501. (¬6) هو: أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل، من فقهاء المدينة، وكان يتولى الشيخين: أبا بكر وعمر، ويبرأ من عدوهما، ويقول: (فإنهما كانا إمامي هدى) وقال: (ما أدركت أحدًا من أهل بيتي، إلا وهو يتولاهما)، توفي سنة مائة وبضع عشرة. انظر: "تهذيب التهذيب" 3/ 650، "التقريب" 497 (6151). (¬7) هو: الملقب بـ (زين العابدين)، الثقة الثبت العابد الفاضل، المتفق على جلالته. قال الزهري: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه، توفي سنة (193هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 178، "التقريب"400 (4715). (¬8) جزء من أثر طويل، أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 32 - 34، وورد في "تفسير البغوي" 2/ 70.

وقال ابن عباس (¬1): هو أول بيتٍ بناه آدمُ في الأرض. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬2): هو أول بيت مبارك وهدى وُضِع (¬3) للناس. وهو قول الضحاك (¬4). وروي عن ابن عباس أيضًا قال (¬5): هو أول بيت وُضِع للناس يُحَجُّ إليه. واختاره الزجاج (¬6). وأخبرنا أبو الحسين بن أبي عبد الله الفَسَوي (¬7)، أبنا أحمد (¬8) بن ¬

_ (¬1) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 75 ب، "البغوي" 2/ 70، "زاد المسير" 1/ 424. (¬2) قوله: في "أخبار مكة" 1/ 61، "تفسير الطبري" 4/ 7، "الثعلبي" 3/ 75 ب، و"المطالب العالية" 14/ 539 (3556) - ونسب إخراجه لابن راهويه في مسنده. (¬3) وضع: ساقطة من: (ب). (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 75 ب، "تفسير البغوي" 2/ 70. (¬5) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 75 ب. (¬6) في "معاني القرآن" له: 1/ 446، وهو قوله: (فجائز أن يكون أول بيت، هو البيت الذي لم يكن الحج إلى غيره). (¬7) هو: أبو الحسين، عبد الغافر بن محمد (أبي عبد الله) بن عبد الغافر بن أحمد الفارسي، الفسوي. أحد رواة صحيح مسلم، وأحد رواة "غريب الحديث" للخطابي، يرويه عن مؤلفه. كان عَدْلا جليلَ القَدْر. قال عنه حفيدُه عبد الغافر الفارسي صاحب كتاب (السياق لتاريخ نيسابور): (الثقة الأمين الصالح الديِّن). توفي سنة (448 هـ). انظر: "المنتخب من السياق" 361، "سير أعلام النبلاء" 18/ 19، "شذرات الذهب" 3/ 277. وقد أثبت محقق تفسير (الوسيط، من أول آل عمران- على آخر المائدة) اسمه كالتالي: (أبو الحسن الفسوي)، وأشار إلى وروده في نسخة أخرى لـ (الوسيط): (أبو الحسين القشيري)، وقد وهم المحققُ فَعَرَّف الفَسَوِيَ -هذا- بأنه: (أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الفارسي)، وهو خطأ ظاهر. انظر: "تفسير الوسيط" من أول آل عمران إلى آخر المائدة: 275. (¬8) في (ج): (حمد). وهو الأصوب في اسم هذا الإمام؛ فقد قال -رحمه الله-:=

محمد البُسْتي، ثنا (¬1) إسماعيل بن محمد الصفّار (¬2)،ثنا (¬3) سعدان (¬4)، ثنا (¬5) أبو معاوية (¬6)، ثنا الأعمش عن إبراهيم التَيْمي (¬7) عن ¬

_ = (اسمي الذي سُمِّيت به: (حمْد) -[بتسكين الدال]-، ولكن الناس كتبوا (أحمد)، فتركته عليه). "وفيات الأعيان": 2/ 215. وهو: الإمام أبو سليمان، حمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البُسْتي، الخَطّابي. (¬1) في (ب): (أبنا). (¬2) نقل الحافظ العراقي قول ابن حزم فيه: إنه (مجهول)، ودفع هذا ابن حجر، وسَمَّاه: (الثقة، الإمام النحوي المشهور)، وذكر أنه حدَّث عن الكبار، وانتهى إليه عُلُوُّ الإسناد، وأنه روى عنه الدارقطني، وابنِ مَنْدَه، والحاكم، ووثقوه، صَحب المبرِّد وأخذ عنه. قال الدارقطني: (وكان متعصبًا للسُّنَّة)، مات سنة (341 هـ)، وله 94 سنة. انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 302، و"إنباه الرواة" 1/ 246، وذيل "ميزان الاعتدال" 140، "لسان الميزان" 1/ 666. (¬3) في (ب): (أبنا). (¬4) هو: أبو عثمان، سعدان بن نصر بن منصور البغدادي، الثقفي، البزار. ثقة صدوق، توفي سنة (265 ص)، وقد جاوز التسعين. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 290، "تاريخ بغداد" 9/ 205، "سير أعلام النبلاء" 12/ 357. (¬5) في (ب): (أبنا). (¬6) هو: محمد بن خازم التميمي السعدي مولاهم، الضرير، الكوفي. ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وحديثه عنه فيه اضطراب، اتهم بالإرجاء، والتدليس، مات سنة (195هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 246، "سير أعلام النبلاء" 9/ 73، "تهذيب التهذيب" 3/ 551. (¬7) هو: إبراهيم بن يزيد بن شَرِيك التيمي الكوفي، أبو أسماء. ثقة عابد، ولكنه يرسل ويدلس، قتله الحجاج سنة (92 هـ)، وله أربعون سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 145، "الميزان" 1/ 74، "التقريب" 95 (269).

أبيه (¬1)، عن أبي ذر (¬2)، قال: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)؛ايُّ مسجد وُضِعَ في الأرض أوَّلا؟ قال: "المسجد الحرام". قال: قلت (¬4): ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى". قال: قلت كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة". قال: "فأينما (¬5) أدركتك الصلاةُ فَصَلِّ (¬6)، فهو مسجدٌ" (¬7). وقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}. ¬

_ (¬1) هو: يزيد بن شَريك بن طارق التَيْمي الكوفي. ثقة، عَدَّه ابنُ حجر مِن طبقة كبار التابعين، وكان عريف قومه، يقال: إنه أدرك الجاهلية، مات في خلافة عبد الملك. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 271، "التهذيب" 4/ 417، "التقريب" 602 (7729). (¬2) اختلف في اسمه، وأصح ما قيل فيه: جُنْدُب بن جُنادة، الغِفَاري. من كبار الصحابة، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة، وتوفي بـ (الرَّبَذة) سنة (31 هـ) أو (32 هـ) وليس له عقب. انظر: "المعارف" لابن قتيبة: 252، "الاستيعاب" 4/ 216، "صفة الصفوة" 1/ 298، "الإصابة" 4/ 62. (¬3) (صلى الله عليه وسلم): ليس في (ج). (¬4) في (ج): (ثم قلت). (¬5) فأينما: كتبت في (أ)، (ب)، (ج): (فأين ما). وكذا رسمت في صحيح البخاري: 4/ 117، وأثبَتُّها وفق الرسم الإملائي الحديث. (¬6) في (ب): (فصلي). (¬7) أخرجه البخاري في "الصحيح" (3366)، كتاب: الأنبياء باب: (10)، ومسلم في "الصحيح" (520). كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. وأحمد في "المسند" 5/ 150، 156، 157، 160، 161، والطبري في "تفسيره" 4/ 8 - 9، والبغوي في "تفسيره" 2/ 70، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 76 أ، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 93، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب".

بَكّة: هي (¬1) مكة، في قول الضحاك (¬2)، ومجاهد (¬3)، والمُؤَرّج (¬4). فأبدِلَت الميمُ باءً، كقوله (¬5): (سَبَّدَ (¬6) رأسَهُ)، و (سَمَّدَ رأسَه) (¬7)، و (أَغْبَطَت ¬

_ (¬1) في (ج): (قال هي). (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 10، "تفسير الثعلبي" 3/ 76 أ، "زاد المسير" 3/ 425. (¬3) قوله في مصنف ابن أبي شيبة 3/ 262 (14125)، "تفسير الطبري" 4/ 8، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 709، "النكت والعيون" 1/ 410، "تفسير القرطبي" 4/ 318، "الدر المنثور" 2/ 94، وزاد نسبة إخراجه إلى سعيد بن منصور، والبيهقي في "الشعب" وعبد بن حميد. وأورد السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 94 عن مجاهد، أن (بكة) هي: الكعبة، ومكة: ما حولها. ونسبة إخراجه إلى عبد بن حميد. ونَصُّ قولِ مجاهد -كما في الطبري-: (إنما سميت (بكة)؛ لأن الناس يتباكُونَ فيها، الرجال والنساء)؛ أي: يزدحمون. إلّا أن الطبري أتى بقول مجاهد شاهدًا على أن المراد بـ (بكة) موضع مُزدَحَمِ الناس للطواف، وأن ما كان خارج المسجد فـ (مكة) لا (بكة)؛ لأن ما كان خارج المسجد لا يوجب على الناس التّباك فيه؛ أي: التزاحم. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 76 أ. (¬5) في (ج): (كقولك). (¬6) في (ب): (وشهد). (¬7) (رأسه، وسمد رأسه): ساقط من: (ب). التسبيد أو التسميد -هنا-: ترك التدهن، وغسل الرأس، وقيل: هو الحلق واستئصال الشعر حتى يلصق بالجلد، وقيل: تطويل الشعر وتكثيره. فهو حرف من الأضداد. ويقال: (سَبَدَ شعرَه وسَبَتَه) -بالتخفيف-: إذا حلقه، ويقال: (سبَّد شعرُهُ): إذا نبت بعد الحلق، أول ما يظهر. انظر: "الأضداد" لقطرب: 144، "الأضداد" للسجستاني: 91، "غريب الحديث" لأبي عبيد: 1/ 162، "الأضداد" لابن الأنباري: 309، "تهذيب اللغة" 2/ 1612، "ذيل كتاب الأضداد" للصغاني: 232.

الحُمَّى)، و (أَغْمَطَت) (¬1)، و (ضَرْبة لازِمٍ)، و (لازِبٍ) (¬2). ومَكَّة سُمِّيَت بذلك؛ لقلة مائها، وعدم الزرع والضَرْع بها، من قولهم (¬3): (مَكَّ الفَصِيلُ ضرْعَ (¬4) أُمِّهِ)، و (امْتَكَّهُ) (¬5): إذا امتص كلَّ ما فيه. وقال [ابن الأنباري (¬6): سُمِّيَت مكة، لاجتذابها الناس إليها من كل أُفُقٍ وفجٍّ، من قولهم] (¬7): (وقال تَمَكَّكْتُ المُخَّ من العَظْم): إذا استقصيت عليه في جِذْيه (¬8)، وكذلك (تَمَكُّك (¬9) الفَصِيلِ ما في ¬

_ (¬1) في (ب): (وأغطش). ومعنى: (أغْبَطَت الحمَّى وأغْمَطَت)؛ أي: لزمته الحُمَّى ولم تفارقه. وهو مأخوذ من وَضْع (الغَبِيط) على الجَمَلِ، و (الغَبيط): ما يوطَّأ للمرأة من هودج وغيره، ويقال: (أغْبَطْتُ الرَّحْلَ على الدابة إقباطا): إذأ ألزمته إيّاه. انظر: "غريب الحديث" لابن سلام: 1/ 99، "تهذيب اللغة" 3/ 2631 (غبط)، "الفائق" 3/ 47، "النهاية في غريب الحديث" 3/ 341. (¬2) اللُّزوب: اللصوق، والثبوت. و (طين لازب)؛ أي: لاصق وثابت. و (الَّلازب واللاتب واللاصق)، واحد. وتقول العرب: (صار الأمر ضربة لازب)؛ أي: شديدًا لازمًا ثابتًا. ويقولون: (ليس هذا بضربة لازب) و (لازم)؛ بمعنى: ما هذا بواجب لازم؛ أي: (ما هذا بضربة سيف لازب)، وهو مَثَل. انظر: "إصلاح المنطق" 288، "التاج" 2/ 402 (لزب). (¬3) (من قولهم): ساقط من: (ج). (¬4) في (ج): (زرع). (¬5) (وامتكه): ساقطة من: (ج). (¬6) قوله في "الزاهر" 2/ 112. نقله عنه بالمعنى. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬8) في (ب): (حديه)، في (ج): (حذبه). وفي "الزاهر": (تمككت العظمَ: إذا أجديت ما عليه من اللحم). وما أثبته صواب لغة؛ لأن (جِذْي كلِّ شيءٍ، وجِذْمهُ): أصله. انظر: "اللسان" 1/ 581 (جذا). (¬9) في (ج): (امتكاك).=

الضرع) (¬1). وقال الآخرون (¬2): (مكَّة): اسم البلد كله (¬3)، و (بَكَّة): موضع البيت والمطاف. سميت بكّة؛ لازدحام الناس بها، يَبُكُّ بعضهم بعضًا، أي: يدفع ويصلي بعضهم بين يدي بعض، وَيمُرُّ بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا هناك. وقال الليث (¬4): سميت مكَّةُ: بَكَّةَ (¬5)؛ لأنها تَبُكُّ أعناقَ الجبابرة، إذا ألحدوا فيها؛ أي: تَدُقُّ. و (البَكُّ): دَقُّ العُنُقِ (¬6). ¬

_ = والتَّمَكُّك، مصدر (تَمَكُّك)؛ أي: امتصَّ ما في الضرع. أما (مَكَّ)، فمصدرها: (المَكُّ). انظر: "اللسان" 7/ 4248 (مك). (¬1) في (ب): (الدرع). انظر المعاني السابقة، في "غريب الحديث" لابن سلام: 1/ 432، "تهذيب اللغة" 4/ 3435 (مك)، "معجم البلدان" 5/ 181، "اللسان" 7/ 4248 - 4249 (مكك). (¬2) في (ب)، (ج)، "تفسير الثعلبي" (آخرون). ومن قوله: (وقال الآخرون ..) إلى (لا يصلح ذلك إلا هناك): نقله -بتصرف يسير- عن "تفسير الثعلبي" 3/ 67 أ. ومن هؤلاء الآخرين القائلين بهذا القول: مالك بن أنس، وعكرمة، وزيد بن أسلم، وعطية الحوفي، وضمرة بن ربيعة، وإبراهيم النخعي، ومقاتل بن حيان، والطبري. انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 261 - 262 "تفسير الطبري" 4/ 7 - 10، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 708 - 709، "تفسير الثعلبي" 3/ 76 أ، "تفسير القرطبي" 4/ 138، "معجم البلدان" 5/ 181. (¬3) في (ب): (اسم البيت). (¬4) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 377. (¬5) (بكة): ساقطة من: (ج). (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 97، "تفسير الطبري" 4/ 9، "الصحاح" 4/ 1576 (بكك)، "معجم البلدان" 1/ 475، "اللسان" 1/ 335 (بكك).

وقوله تعالى: {مُبَارَكًا} معناه (¬1): كثير الخير؛ أنْ جعل فيه وعنده البَرَكَة، ومعنى البَرَكَةِ: الكثرة في كل خير. وقال بعض أهل المعاني: أصل البَرَكَة: الثُّبُوت، من قولك: (بَرَكَ بَرْكًا، وبُرُوكًا): إذا ثبت على حاله (¬2). فالبَرَكَة: ثُبُوت الخير؛ بِنُمُوِّهِ وتَزَيُّدِه. ومنه: (البَراكاء) في القتال (¬3)، ومنه: (البِرْكة)، شِبْهُ الحوض؛ لثبوت الماء فيها. و (تبارك الله)، لثبوته، لم يزل ولا يزال (¬4). وقال اللِّحْياني (¬5): (باركت على التجارة، وغيرها)، أي: داومت وواظبت عليها (¬6). ¬

_ (¬1) (معناه): ساقطة من: (ج). (¬2) قال ابن فارس: (الباء، والراء، والكاف، أصل واحد، وهو: ثبات الشيء ثم يتفرع فروعًا يقارب بعضها بعضا). "مقاييس اللغة" 1/ 227 (برك). (¬3) البراكاء: الثبات في العرب، والجدّ، ويقال -كذلك- لساحة العرب، وأصله من البُرُوك. انظر: (برك) في "الصحاح" 4/ 1575، "اللسان" 1/ 267. (¬4) قال ابن الأنباري: (قال قوم: معنى (تبارك): تَقَدَّس؛ أي: تطهر وقال قوم: معنى (تبارك اسمك): تفاعل من (البَرَكة)؛ أي: البركة تُكتسب وتنال بذكر اسمك). "الزاهر" 1/ 148. وفي "تهذيب اللغة" 1/ 318 أن (تبارك): ارتفع. والمتبارك: المرتفع. وينقل عن الزجاج: أنه (تفاعل) من (البركة). انظر المعاني السابقة لـ (البركة)، في مادة (برك) في "تهذيب اللغة" 1/ 319، "الصحاح" 4/ 1574، 1575، "اللسان" 1/ 266. (¬5) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 319. (¬6) وفي "مقاييس اللغة" 1/ 229، ينقل عن ابن السكيت قوله: (بَرَك فلانٌ على الأمر، وبارك، جميعًا: إذا واظب عليه).

97

وانتصب {مُبَارَكًا} على الحال. قال الزجاج (¬1): المعنى: لَلَّذي (¬2) استقر بمكة في حال بَرَكَتِه، وقال (¬3): هو حال مِنْ {وُضِعَ}، أي: وُضِعَ مباركًا. وقوله تعالى: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} قال أبو إسحاق (¬4): المعنى: وذا هُدَى (¬5). قال: ويجوز أن يكون {وَهُدًى} في موضع رفع، على معنى: وهو هُدَى. ومعنى كونه {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}: أنه قِبْلةُ صلاتهم، ودلالة على الله تعالى من حيث هو المدبر له (¬6) بما لا يقدر عليه غيره، مِن أَمْنِ الوحوش فيه، حتى يجتمع الكلبُ والظَبْي (¬7) فلا يعدوا عليه، وحتى يأنَسَ الطيرُ فلا يمتنع كما يمتنع في غيره، إلى غير ذلك من الآثار البينة فيه، مع البَرَكة التي يجدها من حج البيت. 97 - قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قال ابن عباس (¬8): يريد: ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 445. (¬2) في (ج)، "معاني القرآن" الذي. (¬3) هذا القول ليس في "معاني القرآن" عند الموضع السابق، وقد يكون نقله المؤلف من موضع آخر في كتاب المعاني، لم أقف عليه، وقد يكون المؤلف حكى معنى قول الزجاج. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 445. نقله عنه بتصرف قليل. (¬5) هذه العبارة غير موجودة في "معاني القرآن" في الموضع السابق. (¬6) في (ب): (الذي) بدلًا من: (له بما). (¬7) في (ج): (والصبي). (¬8) الذي وقفت عليه عن ابن عباس -من رواية عطية- أنه فسره بمقام إبراهيم والمشعر. إلا أنه ورد عنه -من رواية عطاء بن أبي رباح، عنه- أنه قرأ {فيه آيةٌ بيِّنَةٌ}، وفسره بـ (مقام إبراهيم)، وفسر مقام إبراهيم بأنه الحج كله.=

المناسك والمشاعر كلها. وقال آخرون (¬1): الآيات التي فيها: أَمْنُ الخائف، وإمحاقُ الجِمَارِ (¬2) على كثْرةِ الرَّامي، وامتناع الطَيْرِ مِنَ العُلُوِّ عليه (¬3)، واستشفاءُ المريض به، وتعجيلُ العقوبة لمن انتهك فيه حُرْمة (¬4)، وإهلاكُ أصحاب الفِيل لَمَّا قصدوا [لإحْراقِه] (¬5). فعلى (¬6) هذا؛ تفسير الآيات (¬7) وبيانها (¬8)، غير مذكور (¬9) في الآية. ومذهب جماعة من المفسرين (¬10): أنَّ تفسير الآيات مذكورة، وهي قوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} أي: هي: مقامُ إبراهيم؛ يعني: الآيات. وقال بعضهم (¬11): المعنى: منها مقام إبراهيم. ¬

_ = انظر: "الطبري" 1/ 535، 4/ 10، "ابن أبي حاتم" 3/ 710، "الدر المنثور" 2/ 96. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 444 - 445، "النكت والعيون" 1/ 411، "تفسير البغوي" 2/ 71. (¬2) في (ب): الجبار. (¬3) قال ابن عطية: (وهذا كله عندي ضعيف، والطير تُعايَن تعلوه). "المحرر الوجيز" 3/ 228. (¬4) في (ب): (حرمة فيه). (¬5) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ)، وفي (ج): (الإحراقه)، والمثبت من: (ب). (¬6) في (ب): (وعلى). (¬7) في (ج): (الآية). (¬8) من قوله: (وبيانها ..) إلى (الآيات مذكورة): ساقط من (ج). (¬9) في (أ)، (ب): (منكور). وفي (ج): ساقطة وما أثبتُّه هو الصواب. (¬10) ومنهم: مجاهد، والسدي، ومقاتل، وقول ابنِ عباس على حسب القراءة المروية عنه {فيه آية بيِّنة}؛ حيث فسرها بـ {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 11، "ابن أبي حاتم" 3/ 710، "تفسير مقاتل" 1/ 291. (¬11) منهم: مجاهد، وقتادة، والطبري. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 127، "تفسير الطبري" 4/ 11، "الدر المنثور" 2/ 96.

فإن قيل: (الآيات) جماعة، ولا يصح تفسيرُها بشيء واحد. قلنا: يجوز ذلك؛ كما يقول القائل: (في بلدة كذا، لي أصدقاء وقرابات)، ثم يقتصر على ذكر واحدٍ منهم، على معنى تخصيص له. وعند الزجاج: أن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، مِن تفسير الآيات؛ لأنه قال (¬1): ومن الآيات (¬2) أيضًا: أَمْنُ مَنْ دَخَلَه. قال: ومعنى (أَمْن مَن دخله): أن إبراهيم عليه السلام سأل الله عز وجل أَنْ يُؤَمِّنَ سكانَ مكةَ، قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]، فجعل [عز وجل] (¬3) أَمْنَ مكةَ آيةً لإبراهيم، فلم يطمع في أهلها جبَّار، فكان فيما (¬4) عطف الله تعالى من قلوب العرب في الجاهلية على مَنْ لاذَ بالحَرَمِ حتى يُؤْمَّنوا (¬5)، آيةً بَيِّنَةً، يدل على هذه الجملة قولُ قتادة في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، قال (¬6): كان ذلك في الجاهلية، فأما اليوم، فإنْ سرقَ فيه [أحدٌ] (¬7) قُطِعَ، وإن قَتَلَ فيه قُتِلَ. وقد ذكرنا الحُكمَ في هذا عند قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 446. (¬2) في (ج): (ومن تفسير الآيات). وكلمة (تفسير) غير موجودة في "معاني القرآن". (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج)، "معاني القرآن". (¬4) في (ج): (فيها). (¬5) في (ج): (يؤمنوه). (¬6) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 127، "تفسير الطبري" 4/ 11، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 712، والأزرقي، في "أخبار مكة" 2/ 139، "الدر المنثور" 2/ 93 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). وهي موجودة في رواية الأثر في المصادر السابقة، وورد في "تفسير عبد الرزاق": (وأخذَ قطِع).

وقال الضحاك في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قال (¬1): مَن حَجَّهُ فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قَبْلَ ذلك. وعن يحيى بن جعدة (¬2) في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قال: مِنَ النَّارِ. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [ويقرأ {حِج البيت}] (¬3) بالكسر (¬4). فالمَفتوح: مصدرٌ، وهو لغة أهل الحجاز. والمكسور: اسم العَمَلِ (¬5). ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 77 ب. وقوله: (من حجه فدخله كان آمنا): ساقط من: (ج). (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 14، و"ابن أبي حاتم" 3/ 712، "تفسير الثعلبي" 3/ 77 ب، "النكت والعيون" 1/ 411، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 98، وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. ويحى بن جَعْدة بن هُبَيرة، بن أبي وَهْب المخزومي القرشي. تابعي، ابن أخت علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال عنه أبو حاتم: (حجازي ثقة)، روى عن بعض الصحابة، وأرسل عن ابن مسعود وأبي بكر. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 133، "المراسيل" 245، "تقريب التهذيب" ص 588 (7520). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {حِجَّ} -بالكسر-، وقرأ الباقون: {حَجَّ} -بالفتح-. انظر: "علل القراءات" للأزهري 1/ 123، "الحجة" للفارسي 3/ 69، "الكشف" لمكي 1/ 353. (¬5) في (ج): (للعمل). قال أبو زرعة بن زنجلة. (الفتح، لأهل الحجاز، وبني أسد، والكسر، لغة أهل نجد وقيل: إن الفتح مصدر، والكسر اسم). "حجة القراءات" 170. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 18، "الصحاح" 1/ 303 (حجج)، "القاموس" (183) (حج).

قال سيبويه (¬1): ويجوز أن يكون مصدرًا كـ (الذِكْرِ) و (العِلْم). وقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. قال الزجّاج (¬2): موضع {مَنِ}: خفض على البدل من {النَّاسِ}؛ المعنى هو (¬3): [و] (¬4) لله على من استطاع [إليه سبيلا] (¬5) مِنَ الناس، حِجُّ البيت (¬6). قال الفرّاء (¬7): وإنْ نويت الاستئناف بـ {مَن}، كان جزاء، وكان الفعل به بعدها جزمًا، واكتفيتَ بما جاء قبله من جوابه، [والتأويل] (¬8) فيه: [من استطاع] (¬9) إلى الحج سبيلًا، فلِلّهِ (¬10) عليه حِجُّ البيت (¬11). فقدم الجوابَ وهو مؤخر في المعنى، على مذهب العرب في التقديم والتأخير. ¬

_ (¬1) في "الكتاب" له 4/ 10، نقله عنه بمعناه. ونصُّ سيبويه: (وقالوا: حجَّ حِجَّا، كما قالوا: ذكر ذِكرا). (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 447، نقله عنه بنصه. وانظر: "الكامل" للمبرد 3/ 18. (¬3) (هو): ساقطة من (ج). وليست في "معاني القرآن". (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، "معاني القرآن". (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وهي ليست في "معاني القرآن". (¬6) من الناس حج البيت: ساقطة من: (ج). وهذا التوجيه النحوي، هو قول أكثر النحويين. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 353. (¬7) لم أقف على مصدر قوله، وقد أورده الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 166، ونصه عنده: (إن نويت الاستئناف بـ (مَنْ) كانت شرطًا، وأسقط الجزاء؛ لدلالة ما قبله عليه). وبقية العبارة كما هي عند المؤلف. (¬8) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من: (ب). والمثبت من (ج). (¬9) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وفي (ب): (كالمستطاع). والمثبت من (ج). (¬10) في (ج): (ولله). (¬11) ونسب هذا الرأي للكسائي، كما في "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 353 - 254، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 169.

وقال ابن الأنباري (¬1): ويجوز أن يكون في موضع رَفْعٍ؛ على الترجمة للناس؛ على معنى: (هُمْ (¬2): مَن استطاع إليه سبيلا). وأما معنى الاستطاعة في اللغة: فالاستطاعة مأخوذة مِن: (طاع له (¬3) الشيءُ يَطُوعُ)، و (طاع يُطيع): إذا انقاد له (¬4). يقال: (فَرَس طَوْعُ العِنَانِ) (¬5): إذا انقاد لك. و (تطاوع لي الأمرُ)؛ أي: سهل حتى تمكنت منه. فمعنى قولهم: (استطعت): استمكنت منه ووجدت السبيلَ إلى فعله؛ لمطاوعته لي وسهولته عَلَيّ (¬6). وكلّ من ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله وقد أورده الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 166. (¬2) في (أ)، (ب): (بهم). والمثبت من (ج). (¬3) (له): ساقط من (ج). (¬4) وردت في معاجم اللغة التي رجعت إليها: (طاعَ له يطوع طوْعًا): إذا انقاد. أما (طاع يُطيع)، فلم أجدها. وإنما الذي وقفت عليه، ما ورد في "تهذيب اللغة" عن ابن السكيت: (يقال: (طاع له وأطاع)، سواء. فمن قال: (طاع)، قال: (يَطاع). ومن قال: (أطاع)، قال: (يُطيع). "تهذيب اللغة" 3/ 2152 (طوع). وكذا نقله ابن دريد عن أبي زيد. انظر: "الجمهرة" (طوع): 917، 1310. وانظر مادة (طوع) في "العين" 2/ 209، "الصحاح" 3/ 1255، "المقاييس" 3/ 431. وانظر تفسير قوله تعالى: {طَوعًا وَكَرهًا} من الآية: 83 من هذه السورة. (¬5) في (ب): (القتال). وعِنان اللجام: السير الذي تمسك به الدابة. وجمعه: (أعِّنة). انظر: "اللسان" 5/ 3141 (عنن). يقال: و (طَوْعة العنان). ويقال: (ناقةٌ طَوْع القِياد، وطَيِّعة القياد، وطَوْعة القياد)، أي: ليِّنة لا تنازع قائدها. انظر: (طوع)، في "تهذيب اللغة" 3/ 2153، "اللسان" 5/ 2720. (¬6) في (ب): (له).

تَوصَّلَ إلى مُرامِهِ، وتمكَّنَ من مطلبه، قالوا: (قد استطاعة، واسْطاعَه) (¬1)؛ لانقياد ذلك المطلوب له. والعرب تستعمل لفظ الاستطاعة (¬2) فيمن يصل إلى مرادهِ مِن غير مباشرة لذلك الفعل؛ كما يقولون: استطاع الأمير فتحَ بلدِ كذا، وإنْ لم يَتَوَلَّ بنفسه، وإنما توصل إليه برجاله وأمواله، فليس كل الاستطاعة بالمباشرة بالأعضاء. وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية عطاء (¬3): يريد بـ (الاستطاعة) القوة. واختلف الناس في الاستطاعة الموجبة للحج: [فالذي عليه الجمهور أن معنى (الاستطاعة) ههنا، هو: القوة. والمستطيع للحج] (¬4): هو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكَوْنِ على الراحلة، فهذا إذا ملك الزاد والراحلة، لزمه فرضُ الحج بنفسه. وإن (¬5) عدم الزاد والراحلة أو أحدَهما سقط فرضُ الحج عنه، فوجودُهُ (¬6) الزادَ والراحلةَ شرطٌ في ¬

_ (¬1) في (ج): (وأطاعه). والعرب تحذف التاءَ مِن (استطاع)، فتقول: (اسطاع)، ومن (يستطيع)، فتقول: (يسطيع)؛ لأن التاء والطاء من مخرج واحد، فيحذفون التاء استثقالًا لها مع الطاء. وبعض العرب يقول: (استاع يَسْتيع)؛ أي: (استطاع يستطيع). وبعضهم يقول: (أسْطاع يُسْطِيع) -بهمزة قطع-، يريدون: أطاع يُطيع، فيزيدون السين. انظر: (طوع) في "التهذيب" 3/ 2153، "الصحاح" 3/ 1255. (¬2) في (ج): (الإطاعة). (¬3) لم أقف على مصدر، هذه الرواية، وفي "المحلى" لابن حزم: 7/ 54: (قد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال في الحج: (سبيله: من وجد له سعة، ولم يُحَلْ بينه وبينه). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬5) في (ب): (وإذا). (¬6) في (ج): (فوجود).

وجوب الحج (¬1). وهذا قول عمر بن الخطاب (¬2)، وابنه (¬3)، وابن عباس (¬4)، ¬

_ = والوجود: مصدر (وَجِدَ) -بفتح الجيم وكسرها-. ومن مصادرها -كذلك-: (جِدَة، و (وُجْد)، و (وِجْدان)، و (إجْدان). انظر: "القاموس" (324) (وجد). (¬1) هذا مع مراعاة انتفاء عوائق أخرى من مرض مقعد، أو خوف طريق، أو غيره من الأعذار التي تُعد مانعًا من الاستطاعة ذكرها وفصَّلها الفقهاء في كتبهم. انظر: "تفسير القرطبي" 4/ 149. (¬2) في (ج): (وعلى قول ابن عباس، وعمر بن الخطاب). وقول عمر -رضي الله عنه-، في "تفسير الطبري" 4/ 15، "المحلى" لابن حزم: 7/ 54، "سنن البيهقي" 4/ 331، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 99، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة. (¬3) قول ابن عمر هذا أورده ابنُ حزم في "المحلى" 7/ 54، من طريق إسرائيل عن مجاهد عن ابن عمر، قال: ({مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قال: ملء بطنه، وراحلة يركبها). وقد أخرج عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 715، قوله: (من كان يَجِد -وهو موسرٌ صحيح- لم يَحج، كان سيماه بين عَيْنَيه: كافر، ثم تلا هذه الآية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 99 وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. وفيه بيان أنَّ الغِنَى، والسَّعَة مِن موجبات الحج عنده. كما وردت روايته المشهورة لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي فَسَّر فيه (السبيل) بالزاد والراحلة، وسيأتي التنبيه عليها. (¬4) (ابن عباس): ساقط من: (ج). وقوله في "تفسير الطبري" 4/ 15، "المحلى" 7/ 54، "سنن البيهقي" 4/ 331، "تفسير ابن كثير" 1/ 414، "الدر المنثور" 2/ 100، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة. وورد من رواية علي بن أبي طلحة عنه: (السيبل: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 15، "سنن البيهقي" 4/ 331، "الدر المنثور" 2/ 100 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. وفي رواية سعيد بن جبير عنه: (من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل). "الطبري" 4/ 16.

وسعيد بن جبير (¬1)، ومجاهد (¬2)، ومذهب الشافعي (¬3)، وابي حنيفة (¬4)، وأحمد بن حَنْبل (¬5)، وإسحاق (¬6). [وروى جماعة من الصحابة] (¬7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسَّر استطاعة السبيل إلى الحَجِّ، بوجود الزاد والراحلة (¬8). ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير سفيان الثوري" 79، "تفسير الطبري" 4/ 16، "ابن أبي حاتم" 3/ 713، "المحلى" 7/ 54، "الدر المنثور" 2/ 100 ونسب إخراجه لابن أبي شيبة. (¬2) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 713، "المحلى" 7/ 54، " الدر المنثور" 2/ 100 ونسب إخراجه لابن أبي شيبة. (¬3) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي (جمع البيهقي): 1/ 113، "الأم" 2/ 126، 127،132 - 133، "الرسالة" 197، "المجموع" للنووي: 7/ 63، "أحكام القرآن" للهراسي: 1/ 294، "مغني المحتاج" للشربيني: 1/ 463. (¬4) انظر: "فتح القدير" لابن الهمام: 2/ 415 وما بعدها، "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعى: 3/ 3. (¬5) انظر: "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود: 97، 106، "المغني" لابن قدامة: 3/ 169، "المقنع" لابن قدامة: 1/ 389، "حاشية الروض المربع" (جمع: عبد الرحمن العاصمي): 3/ 514. (¬6) انظر: "تفسير القرطبي" 4/ 147، "المغني" لابن قدامة: 3/ 169. (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (وروى بعض الصحابة). والمثبت من: (ج). (¬8) ورد في ذلك أحاديث رواها ابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وغيرهم. فحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وهو أشهرها-: أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما السبيل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الزادُ والراحلة". أخرجه الترمذي في "السنن" (2998) كتاب: التفسير، باب: (4) من سورة آل عمران (813)، كتاب: الحج، باب: (4)، وقال فيه: (هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم، أن الرجل إذا ملك زادًا وراحلة وجب عليه الحج). وأخرجه الإمام الشافعي في "الأم" 2/ 126 - 127، وفي مسنده (بترتيب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = السندي): 1/ 284، وسفيان الثوري في "تفسيره" 78، وابن ماجه في "السنن" (2896) كتاب: المناسك، باب: (6)، والدارقطني في "السنن" 2/ 218، والطبري في "تفسيره" 7/ 39، 40، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 422، والبغوي في "شرح السنة" 7/ 14، والبيهقي في "السنن" 4/ 327. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 99، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عدي، وابن مردويه. إلا أن الحديث في سنده إبراهيم بن يزيد الحوزي، وقد تكلم فيه أهل العلم. انظر سنن الترمذي في المواضع السابقة، و"نصب الراية" 8/ 3، و"التلخيص الحبير" 2/ 221، "تفسير ابن كثير" 1/ 415. كما ورد من رواية الإمام علي - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من ملك زادا وراحلة، حتى تبلغه إلى بيت الله؛ فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، إن الله يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}). أخرجه الترمذي في "سننه" (812) كتاب المناسك، باب (3). وفي سنده هلال بن عبد الله، والحارث الأعور. قال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال). وقال عن هلال: (مجهول)، وعن الحارث: (يُضَعَّف في الحديث). وانظر: "تقريب التهذيب" 1/ 345، 2/ 324. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 16، وابن أبي حاتم 3/ 713، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 209، والسيوطي، في "الدر" 2/ 100 وزاد نسبة إخراجه للبيهقي في "الشعب" وابن مردويه. كما ورد الحديث من رواية الحسن البصري، أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 15 - 16، والدارقطني في "السنن" 2/ 218، والبيهقي في "السنن" 4/ 330، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 99، وزاد نسبة إخراجه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر. قال عنه ابن حجر: (وسنده صحيح إلى الحسن، ولا أرى الموصول إلا وهْمًا). "التلخيص الحبير" 2/ 221. أي: أن سند الحديث إلى الحسن صحيح، إلا أنه منقطعٌ وليس موصولًا. كما ورد الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، عند ابن ماجه في "سننه" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 2/ 967 رقم (2897) كتاب المناسك، باب (6)، والدراقطني في "سننه" 2/ 218، وقال عنه ابن حجر: (وسنده ضعيف أيضًا). و"التلخيص الحبير" 2/ 221. كما ورد عن عائشة، وأنس- رضي الله عنهما-. انظر: "سنن الدارقطني" 2/ 216، 217، "سنن البيهقي" 4/ 330. ولكن أكثر روايات الأحاديث -في هذا المعنى- فيها مقال. انظر نصب الراية: 3/ 7 - 10. قال ابن حجر: (ورواه ابن المنذر من قول ابن عباس، ورواه الدارقطني. من حديث جابر، وحديث علي بن أبي طالب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة، ومن حديث محمد بن شعيب عن أبيه عن جده، وطرقها كلها ضعيفة. وقال عبد الحق: إن طرقها ضعيفة، وقال أبو بكر بن المنذر: لا يثبت في ذلك مسندًا، والصحيح من الروايات: رواية الحسن المرسلة). التلخيص الحبير: 2/ 221. أي: أن سندها صحيح إلى الحسن، مع إرساله. وقال البيهقي: (وروي فيه أحاديث أخرى لا يصح شيء منها، وحديث إبراهيم بن يزيد أشهرها، وقد أكدناه برواية الحسن البصري، وإنْ كان منقطعًا). "السنن الكبرى" 4/ 330. إلا أن الشوكاني قال: (ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، فتصلع للاحتجاج بها، وبذلك استدلَّ مَن قال: إن الاستطاعة المذكورة في القرآن هي: الزاد والراحلة). "نيل الأوطار" 4/ 322. وقد قال ابن تيمية في (شرح العمدة) عن الأحاديث السابقة -كما نقله عنه الصنعاني في "سبل السلام"-: (فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة، تدل على أن مناط الوجوب: الزاد والراحلة، مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ كثيرًا من الناس يقدرون على المشي، و-أيضًا- فإن الله قال في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات، وهو مطلق المُكْنة، أو قدرًا زائدًا على ذلك؛ فإن كان المعتبر هو الأول، لم يحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدرٌ زائد في ذلك، وليس هو إلا المال، وأيضًا: فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد. ودليل الأصل قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [91 - 92 سورة التوبة]). "سبل السلام" 2/ 180.

98

وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} قال ابن عباس (¬1)، والحسن (¬2)، وعطاء (¬3): جَحَد فرضَ الحَجِّ. وقال الضحّاك (¬4): لمّا نزلت آية الحج، جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أهلَ الأديان كلَّهم، فخطبهم، وقال: "إن الله عز وجل كتب عليكم الحجَّ فحُجُّوا". فآمَنَ بِهِ المسلمون، وكفر [بِهِ] (¬5) الباقون، فأنزل الله قولَه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. 98 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}. وقال في هذه السورة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] (¬6) وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (¬7) [آل عمران: 70]. هناك خاطبهم تَلَطُّفًا في استدعائهم (¬8) إلى الحق؛ بأن وجه الخطاب ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 19، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 715، "تفسير الثعلبي" 3/ 82 ب، "النكت والعيون" 1/ 411، "الدر المنثور" 4/ 101 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر، والبيهقي. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 19، "ابن أبي حاتم" 3/ 715، "الثعلبي" 3/ 82 ب. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 19، "تفسير الثعلبي" 3/ 82 ب، وعنه رواية أخرى، قال: (قال: ومن كفر بالبيت). في "الطبري" 4/ 21، "الثعلبي" 3/ 83 أ. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 20، "تفسير الثعلبي" 82 ب، "الدر المنثور" 2/ 101 وزاد نسبة إخراجه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) (وأنتم تشهدون): ساقطة من (ب). (¬8) في (ب): (اسم تداعيهم).

إليهم، وههنا وجَّهَ الخطابَ إلى غيرهم إهانة لهم لصدهم عن الحق. فإن قيل: لم جاز أن يقال لليهود والنصارى (أهل الكتاب)، وهم لا يعملون (¬1) به، ولم يجز (¬2) مثلُ ذلك في أهل القرآن؟ قيل: إن القرآن [اسمٌ] (¬3) خاصٌ لِما أَنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأما الكِتاب فيجوز أن يذهب به إلى معنى: يا أهل الكتاب المحرف عن جهته!. وأيضًا فإنهم نُسبوا إلى الكتاب، احتجاجًا عليهم بالكتاب لإقرارهم به كأنه قيل يا من يُقِرُّ بأنه من أهل الكتاب لم تكفرونَ بآيات الله؟. وقوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} توبيخٌ (¬4) لهم، على لفظ الاستفهام، لأنه كسؤال التعجيز عن إقامة البرهان. وقد ذكرنا مثل هذا (¬5). والمراد بـ (الآيات) ههنا: الآياتُ التي أنزلها على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعجزات التي كانت له، والعلامات التي وافقت في صفته ما تقدمت البشارة به (¬6) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (يعلمون). والمثبت من (ج). (¬2) في (ج): (نجز). (¬3) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (انتم). والمثبت من (ج). (¬4) في (ب): (توبيخًا). (¬5) انظر: "تفسير البسيط" آية: 28 من سورة البقرة. وانظر تفسير الآية: 75 من سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، والآية: 80 {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، والآية: 86 {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}. (¬6) ورد عن ابن عباس، تفسيره لـ (الآيات) بأنها القرآن، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "زاد المسير" 1/ 429. وجعلها ابن عطية محتملة للقرائن وللعلامات الظاهرة على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 240.

99

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} قال ابن عباس (¬1): يريد: حاضرٌ لأعمالكم. ومعنى الآية يؤول إلى أن (¬2) الله وبخهم على الكفر (¬3)، وأخبر أنَّه لا ينفع [الاستسرارُ به] (¬4)؛ لأن الله شهيدٌ عليه، مع أن شهادته توجب ردعهم عن الكفر. 99 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. قال الفرّاء (¬5): [يقال] (¬6): (صَدَدْتُهُ، أصده صَدًّا)، و (أَصْدَدْتُه، إصْدادًا) (¬7)، وأنشد: أُناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيف عنهمُ ... صُدُودَ السَّواقِي عن أُنُوفَ الحَوائِمِ (¬8) ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) أن: ساقطة من: (ج). (¬3) في (ج): الكافرين. (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (الأخرابية). والمثبت من: (ج). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬7) قال الجوهري: (صدَّ عنه، يَصِدُّ، صُدُودًا): أعرض و (صده عن الأمر صدًّا): منعه وصرف عنه. و (أصَدَّهُ)، لُغة). "الصحاح" 2/ 495 (صدد)، وانظر: "اللسان" 4/ 2409 (صدد)، "البحر المحيط" 3/ 14. وقال الزمخشري عن قوله تعالى: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ} القصص: 87: (وقرئ (يُصِدُّنَّك) من: أصَدَّه بمعنى: صَدَّه، وهي لُغة كلب). "الكشاف" 3/ 194. (¬8) البيت لذي الرُمَّة، وهو في ديوانه: 771. وورد في "الصحاح" 2/ 495 (صدد)، "الكشاف" 2/ 366، 3/ 194، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 608، "اللسان" 4/ 2410 (صدد)، "البحر المحيط" 3/ 14. وروايته في "الديوان": =

وقرأ الحَسَنُ: (تُصِدُّون) بضم التاء، مِن: أَصَدَّ (¬1). قال المفسرون (¬2): وكان صدهم عن سبيل اللهِ بالتكذيب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ صفَتَهُ ليست في كتابهم، ولا البِشَارَة به متقدِّمَةٌ عندهم. وقوله تعالى: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال اللِّحْيانِي (¬3): (بَغَى الرجلُ في كل ¬

_ = أناس أصدوا الناس بالضرب عنهم ... صدودَ السواقي عن رؤوس المخارِم ويروى: (السوافي) -بالفاء- وهي الرياح التي تسفي، التراب. و (الحوائم)، جمع: (حائم). من: (حام حول الشيء، يَحُوم حَوْما وَحَوَمانا): دار. وكلُّ مَن رام أمرًا فقد (حام عليه حَوْمًا، وحِياما، وحُؤُوما، وحَوَمانا). وكلُّ عطشان: (حائم). و (إبِلٌ حوائم وحُوَّمٌ): عطاش جدا، وهي: التي تحوم حول الماء من شدَّة العطش. انظر: (حوم) في "اللسان" 2/ 1061، "القاموس" (1098). وقيل: الحوائم: الإبل الغرائب، انظر: "شرح شواهد الكشاف" لمحب الدين أفندي 4/ 528. وعليه يكون معنى البيت: أنهم صدوا أعداءهم كما يصد السقاةُ الإبلَ الغرائبَ عن إبِلهم. أما على رواية "الديوان"، فقد قال في "اللسان" 4/ 2410 (صدد): (قال ابن برِّي، وصواب إنشاده: (صدود السواقي عن رؤوس المخارم). و (السواقي): مجاري الماء. و (المَخرِم)، منقطع أنف الجبل. يقول: صدُّوا الناسَ عنهم بالسيف، كما صُدَّت هذه الأنهار عن المخارم، فلم تستطع أن ترتفع إليها). قال الزمخشري -مبينًا الشاهد في البيت-: (والهمزة فيه داخلة على (صد صدودًا)؛ لتنقله من غير التعدِّي إلى التعدِّي). "الكشاف" 2/ 366. (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 83 ب، "تفسير القرطبي" 4/ 154، "البحر المحيط" 3/ 14، "فتح القدير" 1/ 553. (¬2) منهم: السدي، وقتادة، والربيع. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 22، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 717، "فتح القدير" 1/ 555. (¬3) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 367. وفيه (وبِغْيةً، وبِغًى مصدر). وقد نقله المؤلف عنه بتصرف.

ما يطلبه من خير وشر، يَبْغِي، بُغاءً وبِغْيَة) (¬1). وقال الفرّاء (¬2): العرب تقول: (ابغني كذا)؛ يريدون: ابتغه لي. فإذا أرادوا: ابْتَغ معي، وأَعِنِّي على طلبه، قالوا: (أَبْغِنِي)، ففتحوا الألف، وكذلك يقولون: (أُحْلُبْنِي وأَحْلِبني) (¬3)، و (احْمِلْنِي وأَحْمِلْنِي)، و (اعْكُمْنِي وأَعْكِمْنِي) (¬4)، على هذا القياس. و (العِوَجُ) (¬5) بكسر العين، في الأَمْرِ، وفي الدين والقول: المَيْلُ عن الاستواء في الطريق، وفي كلِّ ما لا يُرى. وكلُّ قائمٍ مُنْتصِبٍ يُرَى عَوَجُهُ، يقال: (فيه عَوَج)، بالفتح؛ كالحائط، والقَنَاة (¬6)، والشجرة. يقال: (عَوِجَ الشيءُ، يَعوَجُ، عَوَجًا)، فهو (أَعْوَجُ) لكل ما يُرى، ¬

_ (¬1) ويقال: (بِغْيَة، وبُغْيَة، وبَغَى، وبُغايَة). انظر: "اللسان" 1/ 321 - 322 (بغا). (¬2) في "معاني القرآن" له: 1/ 227. نقله عنه بتصرف واختصار. (¬3) فسَّرها الفراء في سوقه لهذا القول فقال: (فقوله: احلبني؛ يريد: احلب لي، أي: اكفني الحَلَب. وأحلِبني: أعني عليه. وأتبعها قائلا: (وبقيته مثل هذا). أي: بقية الكلمات التي ذكرها. "معاني القرآن" 1/ 228. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 447. (¬4) في (ب)، (ج): (واعلمني، وأعلمني). وقوله: اعكُمني -بضم الكاف-، ويجوز بسكرها. يقال: (عَكَم المتاعَ، يعْكِمُه عَكْمًا): وهو أن يبسط ثوبًا ويجعل فيه المتاعَ، ويشدَّه، ويسمى بعدها: (العِكْمُ)، والجمع: (أعكام) و (عُكوم). انظر: (عكم) في "المجمل" 623، "اللسان" 5/ 3060 - 3061. (¬5) من قوله: (العوج ..) إلى (فهو أعوج لكل ما يرى): نقله بتصرف واختصار من "تهذيب اللغة" 3/ 2264 - 2265. (¬6) القناة -هنا-: الرمح، وكل عصا مستوية، وقيل: ولو مُعْوَجَّة. انظر: "القاموس" 1710 (قنى).

[و (عِوَجًا)] (¬1) لما لا يرى. وأما المعنى، فقال ابن الأنباري (¬2): قوله تعالى: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}، (البَغْيُ): يُقتَصَرُ (¬3) له على مفعول واحد، إذا لم يكن معه اللَّام، كقولك: (بَغَيْتُ المالَ والأجرَ والثوابَ). [وأريد ههنا] (¬4): تَبغون لها عِوَجًا. فلما سقطت اللّامُ، عمل الفعلُ فيما بعدها، كما قالوا: (وَهَبْتُك (¬5) درهمًا)، وأصله: وهبت (¬6) لك درهما، ومثله: (صدْتُكَ ظَبْيًا)، يعنون: صدْتُ لك. وكذلك: (جئْتُكَ)، كما قد (¬7) (وَرَّثْتُكَ من المال جملة)، وأنشد: فَتَولَّى غلامُهم ثُمّ نادَى (¬8) ... [أَظَلِيمًا أَصِيدُكُم] (¬9) أم حِمَارا (¬10) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): وهوجًا. والمثبت من: (ج). وهذه الكلمة ليست في "تهذيب اللغة" وإنما فيه: (والأنثى: عوجاء). وقيل: إن الكسر يقال في الأمرين: الأجسام المرئية وغير المرئية، كالرأي والقول. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 98، "النهاية" لابن الأثير: 3/ 315. "اللسان" 5/ 3154 - 3155 (عوج). ولكن الراغب ذكر أن (العِوَج) -بالكسر- (يقال: فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرضٍ بسيطٍ يُعرف تفاوتُه بالبصيرة، والدين والمعاش). انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" 592 (عوج). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده -كذلك- الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 172. (¬3) في (ب): (يقتدر). (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (وارى أصله). والمثبت من (ج)، و"تفسير الفخر الرازي". (¬5) في (ب): (أوهبتك). (¬6) في (ب): (أوهبتك.) (¬7) (قد): ساقطة من: (ج). (¬8) في (ب): (الذي). (¬9) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (أظبيا صيدكم). والمثبت من (ج). (¬10) لم أقف على قائله. وقد ورد في "زاد المسير" 1/ 430، "تفسير الفخر الرازي" 8/ 172، "مغني اللبيب" 291، "شرح شواهد المغني" 596، "الدر المصون" للسمين الحلبي: 3/ 426. (الظَّليم): ذَكَرُ النَّعَام.

أراد: أصيد لكم. والهاء في قوله: {تَبْغُونَهَا} عائدةٌ على السبيل؛ لأن السبيلَ يُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ (¬1). و (العِوَجُ)، يعنى به: الزَيْغ والتحريف (¬2)؛ أي: تَلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي تُلَبِّسون بها، وتُوهِمون أنها تقدح فيها، وأنها مُعوَجَّة بتناقضها (¬3). ويجوز أن يكون {عِوَجًا} في موضع الحال؛ والمعنى: تبغونها ضالِّين؛ وذلك (¬4) أنهم كانوا يَدَّعون أنهم على دين اللهِ وسبيلِه، فقال الله: إنكم تبغون سبيلَ اللهِ ضالِّين عنها. وهذا قول أبي إسحاق (¬5)، ذكر ذلك في سورة إبراهيم، عند قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (¬6). وعلى هذا القول، لا يحتاج إلى إضمار اللّام في {تَبْغُونَهَا}. ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 319، "تفسير الطبري" 4/ 22، "الزاهر" لابن الأنباري: 2/ 108، "المذكر والمؤنث" له: 1/ 394. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 22. (¬3) فإعراب {عِوَجًا} على هذا القول: مفعول به. انظر: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 47، "تفسير الطبري" 4/ 22. (¬4) في (ب): (والمعنى). (¬5) في "معاني القرآن" له: 3/ 154. (¬6) [سورة إبراهيم: 3]. {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}. وفي حالة إعرابها حالًا يكون معنى (تبغون): تتَعدَّوْن. و (البغي): التعدي. انظر: "الدر المصون" 3/ 326، "اللسان" 1/ 323.

100

وقال بعض أهل المعاني (¬1): تأويل (¬2) الآية: يطلبون أن يُعْوِجُوا (¬3) سبيل الله، وأن يكون فيها عِوَج؛ لأن معنى (سبيل الله): الطريق التي هي الوُصْلَة (¬4) إلى رضا الله، فهم يطلبون أن يُعْوِجوا هذا الطريق؛ حتى لا يصل إلى رضا الله من سلكها بدلالة اليهود. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} قال ابن عباس (¬5): يريد بها: في التوراة. [قال المفسرون] (¬6): يعني: أنتم شُهداء أنَّ في التوراة مكتوبًا أنَّ دينَ اللهِ الذي لا يقبل غيره، هو الإسلام. وهذا معنى قول ابن عباس. وقال الزجاج (¬7): أي: أنتم تشهدون بما قد ثبت في نفوسكم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حقٌ. وقيل (¬8): معناه: وأنتم شهداء أن لا يجوز الصَدُّ عن سبيل الله. 100 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا} الآية. قال المفسرون: نزلت في الأوس والخزرج، حين أَغْرَى قومٌ من ¬

_ (¬1) لم أقف عليهم. (¬2) في (ب): (أصل). (¬3) في (ج): (تطلبون أن تعوجوا). (¬4) في (ب): (الموصلة). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 172. (¬6) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ) وساقط من: (ب). والمثبت من (ج). وممن قال بهذا: قتادة، والربيع، وابو جعفر الرازي، وقريبًا منه قال مقاتل. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 24، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 718، "تفسير مقاتل" 1/ 292، "الدر المنثور" 2/ 104. (¬7) في "معاني القرآن" له: 1/ 447. نقله عنه بنصه. (¬8) لم أقف على القائل. وأورده الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 173.

اليهود بينهم؛ ليفتنوهم (¬1) عن دينهم (¬2). ¬

_ (¬1) في (ب): (ليغشوهم). (¬2) ورد ذلك في روايات عدة تتفق في مضمونها، وأكثرها تفصيلًا، ما أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 24 - 25، عن زيد بن أسلم، وخلاصتها: أن شاس بن قيس اليهودي -وكان عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم، وقد كبر في الجاهلية وأسَنَّ -مرَّ يومًا على نفر من المسلمين- من الأوس والخزرج-، فغاظه ما رآهم عليه من الألفة وصلاح ذات البين، فأوعز إلى شاب من اليهود أن يجلس بينهم، ويُذَكِّرهم يوم بُعاث - وقد اقتتل فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه للأوس، وما كان قبله من معارك بين الحيِّيْنِ، وينشدهم بعض ما قالوا فيه من أشعار، ففعل الشاب، فتنازع الحيَّان، ووثب كلٌّ مِن أوْس بن قيظى، من الأوس، وجبَّار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، وغضب الفريقان، وأخذتهم حميَّةُ الجاهلية، ورَبَا الأمرُ بينهم وتداعوا إلى حمل السلاح وتواعدوا للقتال، وخرجوا إلى ظاهر المدينة، وانحاز الأوس إلى بعضهم، وكذلك الخزرج، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، ووعظهم، فعرف القوم أنها نَزْغةٌ من الشيطان، وكَيْدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وتعانقوا، وانصرفوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، فأنزل الله قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وانظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 183 - 184، "أسباب النزول" للواحدي: 119 - 120، "تفسير الثعلبي" 3/ 83 - ب، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 102 - 103 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر، وأبي الشيخ. وأورده السيوطي في لباب النقول: 55. وقد روى الواحدي بسنده إلى عكرمة نحو هذه الحادثة مع الاختصار. انظر: "أسباب النزول" له: (120)، وأوردها عنه -كذلك- السيوطي في "الدر" 2/ 103 ونسب إخراجها لابن المنذر. كما ورد عن ابن عباس ومجاهد نحو ذلك. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 128، "تفسير الطبري" 4/ 24 - 25، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 719، "مجمع الزوائد" 6/ 326، "الدر المنثور" 2/ 103.

101

101 - وقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} هذا خطاب للمسلمين (¬1)، من الأوس والخزرج، في قول ابن عباس، وأكثر المفسرين (¬2). {وَكَيْفَ} ههنا [استفهام في معنى] (¬3) التعجب، وإنِّما [تَضَمَّنَت صيغةُ الاستفهام معنى] (¬4) التعجب؛ لأنها طلبٌ للجواب عَمَّا حَمَلَ على الفساد مما لا يصح فيه اعتذار. قال الزجاج (¬5): أي: على أي حال يقع منكم الكفر، وآياتُ الله التي تدل على توحيده ونُبُوَّة نَبِيِّه (¬6) محمد - صلى الله عليه وسلم - تتلى عليكم. وقوله تعالى: {وَفِيكُمْ رَسُولُه} قال الزجاج (¬7): جائزٌ أن يقال: [فيكم رسوله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شاهد، وهذا مختصٌّ بأيَّامه. وجائزٌ أن يقال لنا] (¬8) الآن: فيكم رسول الله؛ لأن آثاره، ومعجزته القرآن الذي أتى به، فِينا. فعلى هذا، كونُه فينا، لا يختص بزمان دون زمان. ¬

_ (¬1) في (ب): (للمؤمنين). (¬2) انظر قول ابن عباس في "تفسير الطبري" 4/ 24 - 25، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 719. وانظر أقوال بقية المفسرين في المصادر السابقة. (¬3) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): (استفهام بمعنى)، والمثبت من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (تضمنت كيف الاستفهام ومعنى). والمثبت من: (ج). (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 448. نقله عنه بتصرف. (¬6) (نبيه): ساقطة من: (ب). (¬7) في "معاني القرآن" له: 1/ 448. نقله عنه بتصرف. (¬8) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

102

وقال الحسن (¬1): نزلت الآية في مشركي العرب. وقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} خطاب لهم، وهو توبيخٌ لهم على الكفر بعد نصب الحُجَّةِ، وبعثة الرسول. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} الاعتصام في اللغة: الاستمساك بالشيء، وأَصله مِن: (العِصمة). و (العِصْمَةُ): المَنْع في كلام العَرب. و (العاصِمُ): المانع. و (اعتصم فلانٌ بالشيء): إذا امتنع به (¬2). قال ابن عباس (¬3) في قوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}، يريد (¬4): يمتنع بسبيل الله. وقال الزجاج (¬5): يستمسك بحبل الله. وقال ابن جريج (¬6): {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}؛ أي: يؤمن بالله. 102 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قد ذكرنا ما في (التُقاة) عند قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]. ومعنى {حَقَّ تُقَاتِهِ}، هو: أنْ يُطاعَ فلا يُعصى، ويذكَرَ فلا يُنْسى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر. وهذا يروى عن عبد الله مرفوعًا، ورُوي موقوفًا عليه (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) (العِصْمة) الاسم. أما المصدر، فهو: (العَصْمُ). واعتصم، قد يتعدّى بالباء، فيقال: (اعتصمت به)، وهي الأفصح، وقد يقال: (اعتصمته). انظر مادة (عصم) في "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 108، "معاني القرآن" للفراء: 1/ 228، "تفسير الطبري" 4/ 26 - 27، "الزاهر" 1/ 579، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 569، "اللسان" 5/ 2976. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) من قوله: (يريد ..) إلى (ومن يعتصم بالله): ساقط من: (ج). (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 448. نقله عنه بنصه. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 26، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 720، "تفسير البغوي" 2/ 77، "الدر المنثور" 2/ 104 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. (¬7) أكثر الذين رووا الأثر عن عبد الله بن مسعود، رووه موقوفًا. انظر: "الزهد" لابن المبارك 8، "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد 265، "تفسير سفيان الثوري" 79، "تفسير عبد الرزاق" 1/ 129، "تفسير الطبري" 4/ 27 "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 722، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ص 84 - 85، "المعجم الكبير" للطبراني 9/ 93 رقم (8501)، "المستدرك" للحاكم 2/ 294، وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي. وأورد البغويُّ طرفا منه -موقوفًا- في "تفسيره" 2/ 77، وأورده ابن كثير 1/ 416 من رواية ابن أبي حاتم موقوفًا، وقال: (وهذا إسناد صحيح موقوف). وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 105 وزاد نسبة إخراجه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه. أما المرفوع، فقد أخرجه: الثعلبي في "تفسيره" 3/ 86 أبسنده إلى عبد الله بن مسعود مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما أورده القرطبي 4/ 157 مرفوعًا، ونسب إخراجه للبخاري، وهو تصحيف؛ لأن البخاري لم يرو هذا الأثر، والصواب نسبته للنحاس، حيث ورد ذلك في نسخة أخرى لـ "تفسير القرطبي" أشار إليها محقق التفسير. وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 431، وقال رواه ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأورده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 416 مرفوعًا من رواية ابن مردويه، وذكر أن الحاكم رواه مرفوعًا في "المستدرك" -كذلك-، وعَقَّب ابنُ كثير قائلًا: (والأظهر أنه موقوف. والله أعلم). وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 105 ونسب إخراجه للحاكم، وابن مردويه. ولم أقف على المرفوع في مستدرك الحاكم. وورد من رواية ابن عباس، أخرجها البيهقي في كتاب "الزهد الكبير" 344 رقم (873).

واختلفوا في هذه الآية: فقال ابن عباس في رواية الوالِبي (¬1): لَمْ تُنسَخ هذه الآيةُ، ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ}: أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا ¬

_ (¬1) هذه الرواية، في "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد: 260، "تفسير الطبري" 4/ 29، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 722، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس: (85) "الدر المنثور" 2/ 106 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.

تأخذهم (¬1) في الله لومةُ لائم، ويقوموا (¬2) بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم (¬3). واختار الزجاج هذا الوجه، وهو أن الآية مُحكَمَةٌ غير منسوخة؛ لأنه قال (¬4) في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}: أي: اتَّقُوهُ فيما يحقُّ عليكم أن تتَّقُوهُ فيه. وقال (¬5) في رواية عطاء (¬6): هذا منسوخٌ؛ لانهم قالوا: يا رسولَ الله! وما حَقُّ تُقاتِهِ؟ قال: "يُذكر فلا ينسى، ويُطاع فلا يُعصى" قالوا: ومَن يَقوَى على هذا؟ وشَقَّ (¬7) عليهم؛ فأنزل الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وإلى هذا القول، ذهب: قتادة (¬8) والرَّبِيع (¬9) والسُّدِّي (¬10) وابن ¬

_ (¬1) في (ج): (يأخذهم). (¬2) في (ب): (ويفرحوا). (¬3) ورد في الأثر عند أبي عبيد، والطبري، وابن أبي حاتم، زيادة في آخره: (وأبنائهم). ولا توجد لفظة (أنفسهم) عند النحاس. وفي "الدر": (وأمهاتهم) بدلًا من: (أبنائهم). (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 448. نقله بنصه. (¬5) أي: ابن عباس. (¬6) لم أقف على مصدر هذه الرواية. ولكن ورد عن ابن عباس بنحوه، أخرجه ابن مردويه، كما ورد عنه من طريق عكرمة، أخرجه عبد بن حميد. انظر: "الدر المنثور" 2/ 106. (¬7) في (ب): (وحتى). (¬8) قوله في كتاب "الناسخ والمنسوخ" له: 38، "تفسير الطبري" 4/ 29، 28/ 227، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 722 "الناسخ والمنسوخ" للنحاس: (85)، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 105، ونسب إخراجه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه. (¬9) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 29، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 722. (¬10) قوله في المصادر السابقة.

زيد (¬1)، وقال مقاتل (¬2): ليس (¬3) في آل عمران من المنسوخ إلا هذا (¬4). ¬

_ (¬1) قوله في "الطبري" 4/ 29، "زاد المسير" 1/ 432، "المحرر الوجيز" 3/ 246. (¬2) لم أقف على نص قوله هذا في تفسيره، وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 86 أ. وقد نص مقاتل في تفسيره على نسخها بآية التغابن. انظر: "تفسيره" 1/ 292. (¬3) في (ب): (آيتين). بدلًا من: (ليس). (¬4) ممن قال بنسخها من الذين كتبوا في النسخ: هبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" له: 62، 181، وأبو عبد الله محمد بن حزم في "الناسخ والمنسوخ" له: 31، والبازري في "ناسخ القرآن ومنسوخه" له: 28، وعبد القاهر البغدادي في "الناسخ والمنسوخ" له: 92. والكرمي في "قلائد المرجان" 81. ولكن ذهب آخرون إلى إحكام هذه الآية وعدم نسخها -وهو الراجح-؛ لأنه لا تعارض بين الآيتين؛ حيث إن آية سورة التغابن من قبيل المفسِّر والمبيِّن للمُبْهَم الوارد في آية سورة آل عمران؛ وذلك أنَّ (حقّ تُقاته) إنما هو بقدر الاستطاعة؛ لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} -286 البقرة-، فمعنى الآية: أن نتَّقي اللهَ حقَّ تقاته، ما استطعنا، وُيبَين النَّحاسُ هذا بقوله: (محال أن يقع في هذا ناسخ ولا منسوخ، إلا على حيلة؛ وذلك أن معنى (نسخ الشيء): إزالته بضدِّه، فمحال أن يقال: {اتَّقُوا اللهَ} منسوخ، ولا سيما مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما فيه بيان الآية) ثم ذكر رواية معاذ بن جبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معاذ أتدري ما حق الله -عز وجل- على العباد؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (أن يعبدوه، فلا يشركوا به شيئًا). أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ؟). ثم ذكر رواية ابن عباس من طريق الوالبي التي أوردها المؤلف سابقًا، وقال: (فكل ما ذكر في الآية، واجب على المسلمين أن يستعملوه، ولا يقع فيه نسخ. وهذا هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن تعبدوه لا تشركوا به شيئًا، وكذا على المسلمين، كما قال ابن مسعود: أن تطيعوه فلا تعصوه، وتذكروه فلا تنسوه، وتشكروه ولا تكفروه، وأن تجاهدوا فيه حق جهاده فأما قول قتادة -مع محله من العلم-: إنها نسخت.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = فيجوز أن يكون معناه نزلت {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بنسخ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، وأنها مثلها؛ لأنه لا يُكلَّفُ أحدٌ إلا طاقته). "الناسخ والمنسوخ" له: 282 - 284. وقال مكي بن أبي طالب -مؤكدًا القول بإحكام الآية وعدم نسخها-: (وهذا القول حسن؛ لأن معنى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}: اتَّقوه بغاية الطاقة، فهو قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} إذ لا جائز أن يكلِّفَ اللهُ أحدًا ما لا يطيق، وتقوى الله بغاية الطاقة واجب فرض لا يجوز نسخه؛ لأن في نسخه إجاة التقصير من الطاقة في التقوى، وهذا لا يجوز). "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" 171. ويؤكد هذا ما ورد عن طاوس بن كيسان في تفسير هذه الآية، وهو قوله: (وهو أن يُطاع فلا يُعصَى، فإن لم تفعلوا، ولن تستطيعوا، {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، قال: على الإسلام، وعلى حرمة الإسلام). أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 30، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 723 واللفظ له. ويرجح هذا المعنى: أن معنى النسخ عند السلف أعم وأشمل من المعنى الإصطلاحي، وهو: (رفع حكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر عنه)، بل يشمله ويشمل غيره، وقد بين الشاطبي هذا الأمر فقال: (الذي يظهر من كلام المتقدمين، أن النسخ عندهم في الإطلاق، أعم منه في كلام الأصولين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الإصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد: ما جيء به آخرًا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به). الموافقات: 3/ 108. وبمثله قال ابن القيم في إعلام الموقعين: 1/ 35. وممن رجح كون الآية محكمة غير منسوخة، وأن المراد بها هو: تقوى الله قدر الاستطاعة: الطبري في "تفسيره" 4/ 29، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 246، وابن الجوزي في المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم "الناسخ والمنسوخ" 122، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 1/ 298، والفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 167. ومن المعاصرين: د. مصطفى زيد في "النسخ في القرآن" 2/ 614 - 615.

وقوله تعالى: {ولَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لفظ (¬1) النَّهْي واقعٌ على الموت، والمعنى واقعٌ على الأمر بالإقامة (¬2) على الإسلام. المعنى: كونوا على الإسلام فإذا أورد (¬3) عليكم الموت، صادفكم على ذلك (¬4). وقال بعض أهل المعاني (¬5): هذا في الحقيقة، نَهْيٌ عن ترك الإسلام؛ المعنى: لا تتركوا الإسلام فإن الموت لابد منه، فمتى (¬6) صادفكم، [صادفكم] (¬7) عليه، إلّا أنه وضع كلامًا موضع كلام؛ لِحُسْنِ الاستعارة؛ لأنه لَمَّا كان يمكنهم الثبات على الإسلام، حتى إذا أتاهم الموت، لاقاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام، بمنزلة ما (¬8) قد [دَخَلَ] (¬9) في إمكانهم. وقد مضى الكلام في هذا عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّين} [البقرة: 132]، الآية. ¬

_ (¬1) من قوله: (لفظ ..) إلى (صادفكم على ذلك): نقله -بنصه- عن: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 449. (¬2) في (ب): (والإقامة). (¬3) في (ب): (اود). وفي "معاني القرآن": (ورد). (¬4) في (ب): (الإسلام): بدلًا من (ذلك). (¬5) لم أقف عليهم. وقد نقل هذا القول، بتصرف: الفخر الرازي في "تفسيره" 8/ 177. ونقله -بنصه- الخازن في "تفسيره" 1/ 328 دون أن ينسباه لقائل. (¬6) في (ب): (التي). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). و"تفسير الفخر الرازي"، و"تفسير الخازن". (¬8) في (ب): (من). (¬9) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (دخله). ولكن لم أر لها وجهًا، وأثبتُّها من تفسير الفخر الرازي، وتفسير الخازن.

103

103 - وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}. الآية. ذكرنا معنى (الاعتصام) (¬1). وأما (الحَبْل)؛ فقال أبو عبيد (¬2): أصل الحَبْل في كلام العرب، ينصرف على وجوهٍ منها: (العَهْدُ) وهو الأمان (¬3)، وذلك أن العرب كانت تخفيف بعضها بعضًا في الجاهلية، فكان (¬4) الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا مِن (¬5) سيِّد القبيلة (¬6)، فَيَأمَن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثلَ ذلك أيضًا، يريد به الأمان. وربما أعطاه حَبْلًا أو سَهْمًا (¬7). و (¬8) هذا المعنى ذَكَرَهُ الأعشى في قوله يذكر مَسِيرا له (¬9): وإذا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبِيلةٍ ... أَخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إليكَ حِبَالَها (¬10) ¬

_ (¬1) عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}. الآية: 101 من هذه السورة. (¬2) في "غريب الحديث" له: 2/ 219 نقله عنه بتصرف. وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 730 (حبل). (¬3) انظر: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي: 121 - 122. (¬4) في (ج): (وكان). (¬5) في (ب): (على). (¬6) في (ب)، (ج): (القبيل). (¬7) في (ب): (أن سهل). بدلًا من: (حبلًا أو سهامًا). وقوله: (وربما أو سهما): غير موجودة في "غريب الحديث". وقال السمين الحلبي معلقًا على هذا القول: (وهذا معنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلًا للتوصل به إلى الغرض). "الدر المصون" 3/ 332. (¬8) في (ب): (في). (¬9) في "غريب الحديث": (يذكر مسيرًا له، وأنه كان يأخذ الأمان من قبيلة إلى قبيلة، فقال لرجل يمتدحه) وذَكَرَ البيتَ. (¬10) البيت، في ديوانه: (151). كما ورد منسوبًا له، في "غريب الحديث" لأبي عبيد:=

قال أبو عبيد: (¬1) فالاعتصام بحبل الله؛ هو: ترك الفرقة، واتباعُ القرآن؛ لأن المؤمن إذا اتبع القرآن، أَمِنَ العذابَ (¬2)، كما أن الآخذ [عهد] (¬3) سيِّد القبيلة يأمَنُ به. قال ابن الأنباري (¬4): لمَّا ذَكَرَ اللهُ عز وجل الاعتصامَ، ذكر الحبلَ، إذ كان العهد في التمسك به والتوصل، يجري مجرى الحبل، فأقامه الله تعالى مقامه، وأجراه مُجراهُ، ولم تزل العربُ تُشَبِّهُ العهودَ بالحبالِ. قال الشاعر: ¬

_ = 2/ 219، "تأويل مشكل القرآن" 465، "المعاني الكبير" 1120، "تفسير الطبري" 4/ 30، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 450، "الزاهر" 2/ 307، "تهذيب اللغة" 1/ 730 (حبل)، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 453، "مقاييس اللغة" 2/ 131، "تفسير الثعلبي" 3/ 86 ب، "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لأبي موسى المديني: 1/ 394، "اللسان" 2/ 760 (حبل)، "التاج" 14/ 134 (حبل)، وغيرها. وورد غير منسوب في الموضع في " التفسير" 38. وروايته في الديوان: (فإذا تجوزها ..)، وعند الزجاج: (وإذا أجوز بها ..). وهذا بيت من قصيدة يمدح فيها الشاعر قيس بن معد يكرب، ويقول فيها مخاطبًا له، وذاكرًا ناقته -أي: ناقة الشاعر-: إنها -وهي تمر في أراضي القبائل، قاصدةً إليك-، لا يُسَوِّغ لها هذا المرور، ولا يُسَهِّل لها قطعَ هذه الطرق، إلا ما تأخذه من عهود الأمان من هذه القبائل، وهكذا من قبيلة إلى قبيلة حتى تصل إليك. انظر: "المعاني الكبير" 1120، "المقاييس" 2/ 131. (¬1) في "غريب الحديث" له 2/ 219. نقله عنه بالمعنى. (¬2) في (ب): (العرب). (¬3) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): (عن). والمثبت من (ج). (¬4) لم أقف على مصدر قوله.

مازلتُ معتَصِمًا بِحَبْلٍ منكُمُ ... مَن حَلَّ ساحَتَكم بأسبابٍ نَجَا (¬1) أي: بعهد وذِمَّةٍ. فَسُمَي عهدُ الله حبلًا؛ لأنه سبب النجاة، كالحبل الذي يُتمسك به للنجاة من [سبي] (¬2). ونحوها (¬3). قال ابن عباس (¬4): أي: تمسكوا بدين الله (¬5). وقال قتادة (¬6)، والسدي (¬7)، والضحاك (¬8): حبل الله، هو: القرآن (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف على قائله. وقد ورد في مادة (حبل) في "تهذيب اللغة" 1/ 731، "اللسان" 2/ 759. (¬2) هنا كلمة غير مقروءة في (أ)، (ج). وفي (ب): (شيء)، ولم أر لها وجهًا. (¬3) في (ب): (ونحوهما). قال ابن الأنباري: (والحبل توقعه العرب على السبب تشبيهًا له بالحبل المعروف والسبب المذكور في القرآن هو الحبل، سمَّاه الله -عز وجل- سببًا؛ لأنه يوصل من تمسك به إلى الأمر الذي يَؤُمُّهُ. وكذلك الأسباب المعروفة هي وُصلات وأسباب تصل شيئًا بشيء ..). "الزاهر" 2/ 307، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" 464 - 469، "تفسير الطبري" 4/ 30. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 86 ب، "زاد المسير" 1/ 433. (¬5) وقد ورد نفى هذا المعنى عن ابن زيد، في "تفسير الطبري" 4/ 30، "النكت والعيون" 1/ 414، "زاد المسير" 1/ 433. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 31، "تفسير الثعلبي" 3/ 86 - ب، "النكت والعيون" 1/ 413، "زاد المسير" 1/ 33. وفي رواية أخرى عنه، فسره بـ (عهد الله وأمره). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 31، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 724. (¬7) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 31، والمصادر السابقة. (¬8) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 31، "تفسير الثعلبي" 3/ 86 ب. (¬9) ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - تفسير (حبل الله)، بقوله: (كتاب الله، حبل الله ممدود من السماء إلى الأرض). ورد ذلك من رواية أبي سعيد الخدري، أخرجها: أحمد، في "المسند" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 3/ 14، 17، 26، 59. والترمذي، في "السنن" 5/ 663 رقم (3788) كتاب المناقب، باب: (مناقب أهل البيت). وأورده من طريقين: الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد. والأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم. وقال: (هذا حديث حسن غريب). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 134 (30072)، والطبري في "تفسيره" 4/ 31، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 87 ب، وابن أبي عاصم في "السنة"630 (1554). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 163 ونسب إخراجه إلى الطبراني في "الأوسط" وقال: (وفي سنده رجال مختلف فيهم)، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 107. ومدار سنده عندهم على عطية العوفي، وهو ضعيف، ويخطئ كثيرًا، وكان شيعيًّا مدلِّسًا. انظر: "ميزان الاعتدال" 3/ 476، "تقريب التهذيب" 393 (4616). وورد بلفظ: (إني تارك فيكم كتاب الله، هو حبل الله ..)، من رواية يزيد بن حبان، عن زيد بن أرقم. أخرجه: ابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 134 (30069)، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 330 - 331 (123)، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 87 ب. وورد بنفس السند وبنحو لفظه، إلا أنه ليس فيه تفسيره بأنه حبل الله، وإنما ورد فيه: (وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْن: أولهما كتاب الله ..). أخرجه: مسلم في "الصحيح" (2408) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب. وأحمد في "المسند" 4/ 366 - 367، وابن أبي عاصم في "السنة" 629 (1551)، والبيهقي في "السنن" 4/ 2090 (3359)، والدارمي في "السنن" 2/ 431 كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل من قرأ القرآن. ووردت تفسيراتٌ أخرى لـ (حبل الله) عن بعض السلف، منها: أنه: طاعة الله، وقيل: إخلاص التوحيد، وقيل: الجماعة، وقيل: عهد الله. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 31، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 723، 724. والاختلاف -هنا- من قبيل اختلاف التّنَوُّع، وليس التَّضاد، فإن من التزم القرآن فقد التزم الإسلام -أصلا-، وبالتالي، فقد أطاع الله، واستقام على عهده، وهو ما عليه جماعة المسلمين.

والخطاب في هذه الآية للأوس والخزرج (¬1). وقوله تعالى: {جَمِيعًا} منصوب (¬2) على الحال؛ المعنى: اعتصموا بحبل الله، مجتمعين على الاعتصام به. وقوله تعالى: {وَلَا تَفَرَّقُوا} قال ابن عباس (¬3): أي: كما كنتم في الجاهلية مقتتلين على غير دين الله. وقال قتادة (¬4): لا تفرقوا عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة، والائتلاف على الطاعة. وقال الزجاج (¬5): أي: تناصروا على دين الله، ولا تتفرقوا (¬6). وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} قال ابن عباس (¬7): يريد: دين الإسلام. {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} يريد: ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب التي (¬8) تطاولت عشرين (¬9) ومائة سنة، إلى أن ألَّفَ اللهُ عز وجل بين قلوبهم ¬

_ (¬1) ويدخل فيه المسلمون عمومًا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو مقرر فى أصول هذا الفن. (¬2) من قوله: (منصوب ..) إلى (الاعتصام به): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 450. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 32 بنحوه، "النكت والعيون" 1/ 414. (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 450 نقله عنه بنصه. وقد فسره الزجاج بلازمه؛ لأن التناصر من لوازم الوحدة وعدم التفرق. (¬6) (ولا تتفرقوا): غير موجودة في "معاني القرآن". (¬7) لم أقف على مصدر قوله. (¬8) في (ج): (الذي). (¬9) في (ج): (عشرون).

بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد، وصاروا إخوانًا في الإسلام، مُتَوادِّينَ على ذلك (¬1). قال الزجاج (¬2): وأصل (الأخ) في اللغة [مِن] (¬3) [(التَّوَخِّي)، وهو] (¬4): الطَّلَبُ. فالأخ [مقصده مقصد] (¬5) أخيهِ، وكذلك هو في الصداقة: أن تكون إرادةُ كلِّ واحدٍ من الأَخَوَيْنِ موافقةً (¬6) لِمَا يُريد صاحِبُه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر حول ذلك: "تفسير الطبري" 4/ 33، "الكامل" لابن الأثير 1/ 402 - 420. (¬2) في "معاني القرآن" له: 1/ 451. نقله عنه بتصرف. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). ولكنه بعد التمعن والتدقيق قد يقرأ (من) كما أثبتُه. وقد وجدته كذلك في تفسير الفخر الرازي:8/ 179؛ حيث نقل عبارة الزجاج كما هي عند المؤلف- هنا-. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وقوله: (من التوخي، وهو الطلب) ليس في "معاني القرآن" وإنما حكى المؤلف المعنى، ونصها عند الزجاج -في آخر كلامه-، كالتالي: (والعرب تقول: (فلان يَتَوَخَّى مَسَارَّ فلانٍ)؛ أي: يقصد ما يسره). (¬5) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (مقصد فمقصد). والمثبت من (ج). (¬6) في (ج): (مفارقة). (¬7) قال الأزهري: (وأصله من: (وَخَى، يَخِي): إذا قصد. فقلبت الواو همزة). "تهذيب اللغة" 1/ 128 (أخو). ونقل عن أبي عمرو: (وَخى فلان يَخي وخيْا: إذا توجه لأمر). المصدر السابق: 4/ 3856 (وخى). وانظر: "معجم مقاييس اللغة" 6/ 95 (وخى)، 1/ 70 (أخو). وجمع (أخ): (أخُون، وإخْوان، وإخْوَة، وأخْوَة، وآخاء). ويرى سيبويه أن (إخوة) اسم جمع. انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 625، "الصحاح" 6/ 2264 (أخا)، "اللسان" 1/ 40 (أخا).

قال أبو حاتم (¬1): قال أهل البصرة: (الإخوَةُ؛ في النَّسَبِ، و (الإخوان)؛ في الصَّداقة. قال: وهذا غلط (¬2). يقال (¬3) للأصدقاء، و [الأنسباء] (¬4): (إخوةٌ) و (إخوانٌ). قال الله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ولم يعْنِ (¬5) النَّسَبَ. وقال عز وجل: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61]، وهذا في النَّسَبِ. وقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} (شَفَا الشيءِ): حَرْفُهُ، مقصورٌ (¬6)، مثل: شَفَا البئر. والجمع: (الأشفاء). ويقال لِمَا بين الليل والنهار، عِند غُروب الشَّمس، إذا غاب بعضها: (شَفَا). قال الراجز: أدركتُهُ قَبْلَ شَفًا أو بِشَفَا ... والشمسُ (¬7) قدكادت تَكُونُ دَنَفَا (¬8). ¬

_ (¬1) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 128 (أخ)، نقله باختصار وتصرف يسير. وقد تقدمت ترجمته. (¬2) في "التهذيب"، وهذا خطأ وتخليط. (¬3) في (ج): (فقال). (¬4) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). وفي "تهذيب اللغة" وغير الأصدقاء. والمثبت من (ب)، (ج). (¬5) في (ب): (يقل). (¬6) في (ج): (مقصورة). (¬7) في (ج): (فالشمس). (¬8) البيت، للعجاج، وهو في ديوانه (تح: د. عزة حسن): 493. كما ورد في "مجاز القرآن" 1/ 388، "العين" 6/ 288، 8/ 48، "غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 427، "إصلاح المنطق" 409، "الجمهرة" 274، 679، "الخصائص" 2/ 119، "المخصص" 9/ 25، 17/ 31، "المقاييس" 2/ 304، "اللسان" 3/ 1432 - 1433 (دنف)،14/ 437 (شفى). =

ومِن هذا، يقال: (أشفى على الشيء): إذا أشرف عليه؛ كأنه بلغ شَفَاهُ؛ أي: حَدَّهُ وَحَرْفَه (¬1). قال ابن عباس (¬2): يريد: لو مُتُّمْ على ما كنتم عليه في الجاهلية، لكنتم من أهل النار. وقوله تعالى: {فَأَنْقَذَكُمْ} قال الأزهري (¬3): يقال: (نَقَذْتُهُ)، و (أنقَذتُه)، و (استَنْقذتُه)، و (تَنَقّذتُه)؛ أي: خلَّصته ونجَّيته. ومنه يقال (¬4): ¬

_ = وورد في الديوان: (أشرفته قبل شفا). وفي "إصلاح المنطق"، "المخصص"، "اللسان": (أشرفته بلا شفى). وقال في "اللسان" -في تفسير البيت-: (بلا شفى)؛ أي: وقد غابت الشمس، (أو بشفى)؛ أي: وقد بقيت منها بقية) 4/ 2294 (شفى). يقال: (شَفَت الشمسُ، تشفو، وتشفي)، و (شفيت شَفًى)، فالكلمة واوية ويائية. انظر المصدر السابق: 4/ 2294 (شفى). و (الدَّنَف): هو المرض اللازم، وقيل: مطلق المرض. ويقال: (رجلٌ دَنَفٌ، ودنِف، ومُدْنَف، ومدْنِف)؛ أي: براه المرضُ حتى أشفى على الموت. ويقال: (دِنفَت الشمس وأدْنَفَت): إذا دنت للمغيب أو أصفَّرَتْ. وأراد في البيت: مداناة الشمس للغروب، فكأنها حينئذ كالشخص الدَّنِفِ، وهو استعارة انظر: "اللسان" 3/ 1432 - 1433 (دنف). (¬1) انظر المعاني السابقة في مادة (شفا)، في "تهذيب اللغة" 2/ 1902، "تفسير الطبري" 4/ 36 - 37، "المخصص" 9/ 25، "اللسان" 4/ 2294 - 2295. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد بنحوه عن السدي، في "تفسير الطبري" 4/ 38، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 726. (¬3) في "تهذيب اللغة" 4/ 4643 (نقذ). نقله عنه بنصه. (¬4) هذا قول أبي عبيد، كما في المصدر السابق: 4/ 4643 (نقذ).

(النقائِذ)، للخيل التي (¬1) تُنُقِّذَت مِن أيدي الناس (¬2) وقوله تعالى: {مِنْهَا}. الكناية (¬3) راجعةٌ إلى النار، لا إلى الشَّفا؛ لأن القصد: الإنجاء مِن النَّارِ لا مِن شَفَا الحفرة. هذا قول الزجاج (¬4). وقال غيره (¬5): الكِناية تعود إلى الحفرة، فإذا أنقذهم الله من الحفرة، فقد أنقذهم من شَفَاها؛ لأن شفاها منها. على أنه يجوز أن يُذكَر المضافُ، والمضافُ إليه، ثم تعود الكنايةُ إلى المضاف إليه دون المضاف، فذكر الشفا، وعادت الكناية إلى الحفرة. كقول (¬6) جرير: [أَرَى مَرَّ] (¬7) السِّنِين أَخَذْنَ مِني ... كما أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب): (الذي) (¬2) قال ابن دريد: (وكل شيء استرجعته من عدوك من بعير أو فرس، فهو: (نقِيذ)، والجمع: (نقائذ). "الجمهرة" 700. (¬3) أي: الضمير. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 451. وهو معنى قوله. (¬5) ممن قال بذلك: أبو عبيد، في "مجاز القرآن" 1/ 98، والطبري، في "تفسيره" 4/ 37 - 38. (¬6) من قوله: (كقول ..) إلى (وكذلك شفا الحفرة): ساقط من: (ب). (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت. (¬8) البيت في ديوانه: 341. وقد ورد منسوبًا له، في "مجاز القرآن" 1/ 98، 2/ 83، "الكامل" للمبرد: 2/ 141، "تفسير الطبري" 4/ 37، "الأصول في النحو" 3/ 478، "البحر المحيط" 3/ 19، "الدر المصون" 3/ 337، "الدر اللوامع" 1/ 20. وورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء 2/ 37، "المقتضب" 4/ 200، "تهذيب اللغة" 1/ 1049، "الصاحبي" 423، "اللسان" 2/ 1187 (خضع)، "همع الهوامع" 1/ 47. =

فَذَكَرَ (مَرَّ السِّنِين)، ثم أخبر عن السنين. وكذلك قول العَجَّاج: طُولُ اللَّيالي أسرعت في نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وطَوَيْنَ عَرْضِي (¬1) ¬

_ = وروايته في الديوان وأكثر المصادر: (رأت مرَّ السنين ..). والسِّرَارُ: هي آخر ليلة من الشهر. ويقال: (سَرَرُ الشهر، وسَرارُه، وسِراره)، وهو مشتق من: (استسر القمرُ)؛ أي: خفي ليلة السرار، وقد يكون ذلك ليلةً، أو ليلتين. انظر: "الصحاح" 682 (سرر). قال الأستاذ محمود شاكر: (وأراد جرير بـ (السرار) -في هذا البيت-: نقصان القمر حتى يبلغ آخر ما يكون هلالًا، حتى يخفى في آخر ليلة، فهذا النقصان هو الذي يأخذ منه ليلة بعد ليلة، أما (السِّرَار) الذي شرحه أصحاب اللغة، فهو ليلة اختفاء القمر، وذلك لا يتفق في معنى هذا البيت). هامش "تفسير الطبري" 7/ 86 (ط. شاكر). قال ابن السراج: (فقال (أخَذْنَ)، فردَه إلى السنين، ولم يرده إلى (مَرّ)؛ لأنه لا معنى للسنين إلّا مرُّها). "الأصول في النحو" 3/ 478. (¬1) البيت من الرجز، في ملحق ديوانه (بعناية: وليم بن الورد، نشر ليبسك 1903 م): 80، مما نسب له. وقد ورد منسوبًا له، في "كتاب سيبويه" 1/ 53، "مجاز القرآن" 1/ 99، "تفسير الطبري" 4/ 37، "المخصص" 17/ 78. وقد نسبته بعض المصادر للأغلب العجلي، ومنها: "المُعمِّرون" لأبي حاتم السجستاني (تح: عبد المنعم عامر، ط: البابي الحلبي - مصر 1961م) 108، و"الأغاني" 21/ 28، "المقاصد النحوية" 3/ 395، "التصريح" للأزهري 2/ 31، "خزانة الأدب" 4/ 224 - 226. وورد غير منسوب، في "البيان والتبيين" للجاحظ: 4/ 60، وقال فيه: (ورأى معاويةُ هُزالَه وهو مُتَعر، فقال: ..) وذَكَرَه. ولا يدلُّ هذا على أنه لمعاوية، بل قد يكون مما استشهد به من حفظه، وورده في "المقتضب" 4/ 199، "الخصائص" 2/ 418، "الأصول في النحو" 3/ 480، "الصاحبي" 423، "مغني اللبيب" 666=

وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه (¬1). فإن (مَرَّ السنين)، هو السنون. وكذلك (شَفَا الحفرة). فَذَكَرَ الشَّفَا وعادت الكناية إلى الحفرة (¬2). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ} الكاف (¬3) في موضع نصب (¬4)؛ أي: مِثْلَ البَيَانِ الذي يُتلى عليكم، يُبَيِّنُ اللهُ لكم آياته لعلكم تهتدون؛ أي: لتكونوا على رجاء هدايته. ¬

_ = (وانظر:"شرح شواهد المغني" 881)، "منهج السالك" 2/ 284. وقد ورد برواية: (إن الليالي ..) و (أرى الليالي ..)، ولا شاهد فيه -هنا- على هاتين الروايتين. وورد: (مرُّ الليالي ..). وورد الشطر الثاني برواية: (نَقَّضن كلِّي ونقضن بعضي)، و (أخَذْنَ بعضي وتَرَكْنَ بعضي). والشاهد فيه: أنه تكلم عن (طول الليالي)، ولكن أخبر عن الليالي، حيث أنَّثَ (أسرعت)، و (طَوَيْنَ) مع أنه يعود على (طول) وهو مذكر؛ وذلك لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه، وهو (الليالي)، وليس الطول شيئًا غيرها، فأخبر عنها، دون الطول. (¬1) (إليه): ساقطة من: (ج). (¬2) وذهب أبو حيان إلى عَوْد الضمير على (الشفا)، وعلَّلَ قائلًا: (لأن كينونتهم على الشفا، هو أحد جزئي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ..) ثم أضاف: (وأما ذكر النار فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة، وليست -ايضًا- أحد جزئي الإسناد [و] لا محَدّثا عنها، و -أيضًا- فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ منها لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى). "البحر المحيط" 3/ 19. (¬3) من قوله: (الكاف) إلى (هدايته): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 451. (¬4) وفي هذه الحالة إما أن تكون نعتًا لمصدر محذوف، أو تكون حالًا؛ أي: (يبيِّن بيانًا مثل ذلك البيان). أو: (يبيِّن لكم تبيينًا مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة). انظر: "الفريد في إعراب القرآن" 1/ 612، "الدر المصون" 3/ 338.

104

104 - قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}. الآية. (مِنْ) دخلت لتخص المُخاطَبِين مِن سائر الأجناس، و [ليس المُراد] (¬1) به التبعيض (¬2)، [وهذا] (¬3) كما تقول: (لِفُلان من أولادِهِ جُهْدٌ)، و (للأمير مِن غِلْمانِهِ عِدَّةٌ)؛ تريد بذلك: جميعَ أولاد وغلمانه، لا بعضهم. وقد قال الله تعالى (¬4): {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، ليس (¬5) يأمرهم باجتناب بعضِ الأوثان، ولكن المعنى: اجتنبوا الأوثان، فإنها رِجْسٌ (¬6). ومثله من الشعر، قولُ الأعشى (¬7): أخُو رغائِبَ يُعْطِيها ويُسْأَلُها ... يأبَى الظُّلامَةَ مِنْهُ النّوْفَلُ الزُّفَرُ (¬8) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (ومن يراد). والمثبت من (ج). (¬2) قال المالقي: (وكثيرًا ما تَقْرُب التي للتبعيض من التي لبيان الجنس، حتى لا يُفرق بينهما إلا بمعنى خفي؛ وهو: أن التي للتبعيض تُقَدَّرُ بـ (بعض)، والتي لبيان الجنس تُقدَّر بتخصيص الشيء دون غيره). "رصف المباني" 389. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬4) (تعالى): ساقطة من: (ج). (¬5) من قوله: (ليس ..) إلى (اجتنبوا الأوثان): ساقط من: (ج). (¬6) ذكر ابن هشام أن بعض العلماء ذهب إلى أن (من) في قوله -تعالى-: {مِنَ اَلأوْثَانِ} للابتداء، والمعنى: فاجتنبوا من الأوثان الرجس؛ أي: عبادتها. وقال -معقِّبًّا على هذا القول-: (وهذا تكلف). "مغني اللبيب" 420 - 421. (¬7) هو: أعشى باهلة، أبو القُحفان، عامر، وقيل: عمر بن الحارث بن رياح الباهلي، من همدان، شاعر جاهلي. انظر: "المزهر" 2/ 457، "الخزانة" 1/ 187، "الأعلام" 1/ 250. (¬8) ورد البيت منسوبًا له في أكثر المصادر التالية: "الأصمعيات" 90، "الكامل" للمبرد: 1/ 57، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 452، "جمهرة أشعار العرب" ص255، "الأضداد" لابن الأنباري:252، "تهذيب اللغة" 4/ 3637 (نفل)،=

وهو النَّوْفَلُ الزُّفَرُ لا بعضه (¬1). ¬

_ = "شرح الأبيات المشكلة" 521، "أمالي المرتضى" 2/ 21، "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 2/ 665، 666، "التنبيه والإيضاح" لابن بري: 2/ 192، "زاد المسير" 1/ 434، "اللسان" 3/ 1842 (زفر)، 6/ 3701 (قفر)، 8/ 4510 (نفل)، "خزانة الأدب" 1/ 185، 186، 1195 وردت روايته في "الأضداد": (يعطاها) بدلًا من: (يعطيها)، كما وردت روايته كذلك: (ويَسْلُبُها) -بالبناء للمعلوم-، من: (السلب) بدلًا من: (وُيسألُها). والبيت من قصيدة قالها الشاعر في رثاء أخيه من أمه: المنتشر بن وهب الباهلي. والرغائب: هي العطايا الكثيرة. والمفرد: (رَغِيبة)، وهي: ما يُرغَب فيه من أشياء. والظُّلامَة: هي ما تطلبه عند الظالم، وهي: اسمٌ لما أُخِذَ من الإنسان ظلما. ويقال -كذلك-: (الظليمة)، و (المظلِمة) - بكسر اللام وضمها. والنوفل: السيد من الرجال الكثير الإعطاء للنوافل، وهي: العطايا. وفي "اللسان" 8/ 4510 (نفل) ينقل عن ابن الأعرابي: (للنوافل: من ينفي عنه الظلم من قومه؛ أي: يدفعه)؛ من (انتفل من الشيء): انتفى وتبرأ منه، و (انتفل)، و (انتفى) بمعنى واحد، كأنه إبدال منه. انظر المرجع السابق. والزُّفَر: السيد الذي يتحمل بالأموال في الحَمَالات من دَيْن، أو دِيَة، مطيقًا لها. وأصلها من: (ازْدَفَر)؛ أي: حَمَل. والزَّفْرُ: الحَمْل من قولك: (زفَرَ الحِمل، يزفِرُهُ، زفْرا)، و (ازدفَرَهُ) -أيضًا-؛ أي: حمله. ويقال -كذلك- (زُفَر) للأسد، والجمل الضخم، والرجل الشجاع، والجواد. انظر: (زفر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1538، "اللسان" 3/ 1841. (¬1) قال ابن الأنباري: (ومستحيل أن تكون (مِن) -ههنا- تبعيضًا، إذ دخلت على ما لا يتبعض، والعرب تقول: قطعت من الثوب قميصًا، وهم لا ينوون أن القميص قطع من بعض الثوب دون بعض، إنما يدُلُّون بـ (مِن) على التجنيس ..). "الأضداد" 252 - 253. وانظر: "التنبيه والإيضاح" لابن بري: 2/ 192. وممن ذهب إلى ذلك: الزجاج، في "معاني القرآن" 1/ 452، ولكنه جوَّز أن تكون (مِن) في الآية تبعيضية. وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس: النحاس، في "معاني القرآن" 1/ 456. وانظر في هذا الموضوع: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج 2/ 644.=

105

وفيه قول آخر، وهو: إنَّ المراد: تخصيص للعلماء والأمراء، والذين هم أعلامٌ، في الأمر بالمعروف، فهو أمر لجماعة من جملة المسلمين، على الكفاية؛ كأنه قيل: لِيَقُمْ بذلك بعضكم، فأيُّ بعضٍ قام به سقط عن الآخر. ولو كان الأمر للجميع على غير الكفاية لم (¬1) [تسقط] (¬2) الفريضةُ بقيام البعض به (¬3). 105 - قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} يعني: اليهود والنصارى في قول أكثر المفسرين (¬4). ومعنى {تَفَرَّقُوا}، أي: بالعداوة وقوله تعالى: {وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يعني: اختلفوا في الديانة. ولاختلافهم وجوهٌ: ¬

_ = وممن ذهب -كذلك- إلى أن الأمر في هذه الآية عام لكل الأمة: أبو بكر الجصاص، في "أحكام القرآن" 2/ 29 - 34، وأطال النفس في بيان ذلك والاستدلال له، وانتصر لهذا الرأي الشيخ محمد عبده، وأسهب في بيان ذلك. انظر: "تفسير المنار" 4/ 23 وما بعدها. (¬1) في (ب): (ثم). (¬2) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (تكون). والمثبت من (ج). (¬3) ممن قال بأن المراد -هنا- بعض الأمة، وهم العلماء: الضحاك، كما في "تفسير الطبري" 4/ 38، ومقاتل بن حيان، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 726، وبكفائية هذا الفرض قال: الطبري، والماوردي، وأبو يعلى الفراء، والزمخشري، والقرطبي، وأبو حيان، وابن تيمية، وابن كثير، وهو رأي جمهور العلماء. وانظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي: 240، "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى: 284، "الكشف" 1/ 452، "تفسير القرطبي" 4/ 165، "الحسبة في الإسلام" لابن تيمية 6، 20، "تفسير ابن كثير" 1/ 419، "البحر المحيط" 3/ 20. قال ابن تيمية: (ويصير فرضَ عَيْن على القادرة إذا لم يقم به غيره). الحسبة: 6. (¬4) منهم: ابن عباس، الربيع، والحسن، ومقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان، =

أحدها: أن اليهود اختلفوا مِن بعد موسى، فصاروا فِرَقًا، والنصارى اختلفوا من بعد عيسى، فصارت (¬1) فِرَقًا، فأمر الله عز وجل بالاجتماع على كتابه، وأعلَمَ أنَّ التَّفَرُّقَ (¬2) فيه، يُفضي بأهله إلى مثل ما أفضى بأهل الكتاب إليه من الكفر. ¬

_ = والطبري، والزجاج. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 293، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 453، "تفسير الطبري" 7/ 92 - 93، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 728، "زاد المسير" 435. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، قائلًا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). أخرجه: أبو داود كتاب: السنة (4596)، باب شرح السنة، والترمذي (2640) كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: (حديث حسن صحيح). وابن ماجه (3991) كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، وقال عنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 2/ 364 (حسن صحيح). والحاكم في "المستدرك" 1/ 6، 1/ 128، وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد في "المسند" 2/ 332، وابن حبان في صحيحه "الإحسان" 14/ 140 رقم (6247)، والآجري في الشريعة: 15. وأورده السخاوي في "المقاصد الحسنة" (190)، وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم الحديث (203). وورد بنحوه بروايات أخرى فيها زيادات، أخرجها: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والآجري، والحاكم، كلهم في المواضع السابقة وانظر: "الدر المنثور" 2/ 110 - 111، "كشف الخفاء" للعجلوني: 1/ 369، "الفوائد المجموعة" للشوكاني: 502، "فتح القدير" له: 1/ 559، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (203، 204). (¬1) في (ب): (فصاروا). (¬2) في (ب): (التفريق).

والثاني: أن المراد بالاختلاف ههنا: اختلاف (¬1) أهل الكتاب في الإيمان (¬2) بمحمد صلى الله عليه وسلم (¬3): فبعضهم آمَنَ، وبعضهم كفر. والثالث: أنَّ الاختلاف ههنا: اختلاف اليهود والنصارى، و (¬4) كتابهم جميعًا (¬5) التوراة، وهم يختلفون، كل فرقة (¬6) منهم ليست على شريعة الأخرى. فإن قيل (¬7): إذا (¬8) كان الاختلاف في الدِّين مذمومًا منهيًا عنه، فَلِمَ اختلفت هذه الأُمَّةُ في المذاهب والدِّيانات؟. قلنا: ذاك اختلافٌ في المُجْتَهَدَاتِ، وجميع ذلك مدلولٌ على صحته، فيصير كاختلاف الأحكام المنصوص عليها، مثل: حُكْم المقيم والمسافر، في الصلاة والصيام، ونحو ذلك من الأحكام، في أنَّ كلًّا منها مأذون فيه بالشرع. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ولم يقل (جاءت)؛ لجوازِ حذفِ علامَةِ التأنيث من الفعل في التقديم؛ تشبيهًا بعلامة التثنية والجمع (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (اختلفوا). (¬2) في الإيمان: ساقطة من: (ج). (¬3) في (ج): (عليه السلام). (¬4) في (ب): (في). (¬5) جميعًا: ساقطة من: (ب). (¬6) في (ب): (حرفة). (¬7) فإن قيل: ساقطة من: (ب). (¬8) في (ب): (إذا). (¬9) وقال العكبري: (إنما حذف التاء؛ لأن تأنيث البيِّنةِ غير حقيقي، ولأنها بمعنى الدليل). "التبيان" ص 203.

106

وقد فسَّرنا {الْبَيِّنَاتُ} في مواضع (¬1). 106 - قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} انتصاب اليوم على الظرف، والعامل فيه معنى قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: يثبت لهم العذاب يوم تبيض وجوه، و (¬2) يعذبون يوم تبيض وجوه (¬3). ومعنى ابيضاض الوجوه: إشراقها (¬4) واستنارتها وسرورها واستبشارها (¬5)؛ لما تصير إليه من ثواب الله ورحمته؛ كقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39]. ومعنى اسْوِدادِها: حزنها، وكآبتها، وكسوفها؛ لما تصير إليه من العذاب؛ كقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40]، وقوله تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27]. قال ابن عباس في رواية عطاء (¬6): تبيض وجوه المهاجرين ¬

_ (¬1) انظر تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} من الآية: 86. (¬2) في (ج): (أو). بدلا من: (و). و (أو) أولى هنا من (و)؛ لما تتضمنه من معنى المغايرة. (¬3) أو يكون منصوبًا بفعل محذوف، تقديره: اذكر يوم ... انظر: "البيان" للأنباري 1/ 214، "التبيان" (203)، "محاسن التأويل" للقاسمي 4/ 933. (¬4) في (ج): (وإشراقها). ومن قوله: (إشراقها ..) إلى (عليها غبرة): موجود بمعناه في "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 452. (¬5) (سرورها واستبشارها): ساقط من (ج). (¬6) لم أقف على مصدر هذه الرواية وقد أورد الثعلبي والقرطبي هذا القول وعزواه لعطاء دون رفع لابن عباس. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 96 ب، "تفسير القرطبي" 4/ 167.

والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير والذين كذبوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال في رواية سعيد بن جبير (¬1): تَبْيَضُّ وجوهُ أهل السُنَّة، وتَسْوَدُّ (¬2) وجوهُ أهل البدعة. وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} قال الفرَّاء (¬3) والزجاج (¬4): جواب (أمَّا) محذوفٌ مع القول، وهو: [الفاء] (¬5) مع قولٍ مُضمَرٍ، فلما سقط القول، [سقط] (¬6) الفاء معه (¬7)، والمعنى: (فيقال لهم: اكفرتم بعد إيمانكم؟)، وحَذَف القولَ؛ لأن في الكلام دليلًا عليه. ومثله كثير في التنزيل؛ كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬8)، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ¬

_ (¬1) أخرجها ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 729، والثعلبي -بسنده- في "تفسيره" 3/ 96 ب. وأوردها البغوي في "تفسيره" 2/ 87، والسيوطي في "الدر" 2/ 111 - 112 ونسب إخراجها لأبي نصر في الإبانة، والخطيب في تاريخه، واللالكائي في "السنة". (¬2) في (ج): (وتبيض). (¬3) في "معاني القرآن" له:1/ 228. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 454. وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 211، "تفسير الطبري" 4/ 40، "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 1/ 38، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 457. "الصاحبي" 390، "الإكسير في علم التفسير" للطوفي 185،193، "ارتشاف الضرب" 2/ 63، 570، 3/ 151. (¬5) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وفي (ب): ساقط. والمثبت من: (ج). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وفي "معاني القرآن" للفراء: سقطت. (¬7) انظر: "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 834. (¬8) سورة الرعد: 24. وتمامها: {بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. والمعنى: يقولون: سلامٌ عليكم.

رَبَّنَا} (¬1)، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا} (¬2) الآية. وقوله تعالى {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3): يعني: اليهود؛ شهدوا لمحمد عليه السلام (¬4) بالنُّبُوَّةِ، فَلمَّا قَدِمَ عليهم كذَّبوه وكفروا به. وهذا قول عكرمة (¬5) واختيار الزجاج (¬6). وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم (¬7). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا في قوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 127. وتمامها: {تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. والمعنى: يقولان: ربَّنا .. (¬2) سورة السجدة: 12. وتمامها: {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}. والمعنى: يقولون: ربنا .. (¬3) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬4) في (ب): (صلى الله عليه وسلم). (¬5) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 97 - ب، "تفسير القرطبي" 4/ 167، وأروده السيوطي في "الدر" 2/ 112 ونسب إخراجه للفريابي، وابن المنذر. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 455. (¬7) أورده بهذا النص الثعلبي في "تفسيره" 3/ 97 ب. وهو معنى قول قتادة الذي أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 40، ونصه عنه -بعد أن قرأ الآية-: (لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "والذي نفس محمد بيده، لَيَرِدنَّ عليَّ الحوض ممن صحبني أقوام، حتى إذا رُفِعوا إليَّ ورأيتهم، اختُلِجوا مِن دوني، فلأقولن: ربِّ! أصحابي! أصحابي! فليقالنَّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وقد ذكر الثعلبي هذا النص الذي أخرجه الطبري مستدلًا به على معنى قول قتادة الذي ذكره، قائلًا: (ودليل هذه التأويلات) ثم أورد الخبر السابق. وأورد -كذلك- قول قتادة -كما هو عند المؤلف-: البغوي في "تفسيره" 2/ 88 وابن الجوزي في الزاد: 1/ 436. وانظر هذا الخبر وأحاديث أخرى نحوه في "لوامع الأنوار" للسفاريني: 2/ 197.

بعد الإقرار بالميثاق الأول (¬1). أخبرنا أبو علي ابن أبي القاسم المذكِّر (¬2)، أبنا محمد بن حمدوية النيسابوري (¬3)، [حدَّثنا علي بن حَمْشَاذ (¬4)، ثنا حُمَيد بن حَكيم الدقَّاق (¬5)، ثنا عباس بن الوليد الخلَّال (¬6) (¬7)، ثنا] (¬8) أبو صفوان، القاسم بن [يزيد ¬

_ (¬1) أي المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [سورة الأعراف. آية: 172]. (¬2) لم أقف على ترجمته. (¬3) هو: أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعَيم الضَّبِّي الطهماني، الحاكم النيسابوري، المعروف بـ (ابن البَيِّع). ولد سنة (321 هـ)، الإمام الجليل الحافظ المتفق على جلالة قدره، صاحب "المستدرك على الصحيحين"، و"معرفة علوم الحديث" وغيرها من التصانيف الكثيرة. توفي سنة (405 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" 5/ 473، "سير أعلام النبلاء" 17/ 162، "طبقات الفقهاء الشافعية" 1/ 198، "لسان الميزان" 6/ 250. (¬4) هو: أبو الحسن، علي بن حمشاذ بن سختويه بن نصر النيسابوري. ولد سنة (285 هـ)، إمام عدل ثقة حافظ عابد. قال عنه الحاكم: (ما رأيت في مشايخنا أثبت في الرواية والتصنيف من علي بن حمشاذ). توفي سنة (338 هـ). انظر: "تاريخ الإسلام" 25/ 165وفيات (331 - 350 هـ)، "سير أعلام النبلاء" 15/ 398، "تذكرة الحفاظ" 3/ 855، "شذرات الذهب" 2/ 348. (¬5) لم أقف له على ترجمة، إلّا ما ورد في (ذيل ميزان الاعتدال)، للحافظ العراقي، حيث قال: (حُمَيد بن حَكِيم. حديثه في سنن الدارقطني، قال ابن القطان: لا تُعرف حاله). الذيل: 203. (¬6) هو: أبو الفضل، عباس بن الوليد بن صُبْح الخلال السُلَمي الدمشقي. قال ابن حجر: (صدوق)، ووثقه ابن حبان، قال أبو داود: كان عالما بالرجال والأخبار، لكنه لم يحدث عنه. توفي سنة (248 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 215، "الميزان" 3/ 100، "تهذيب التهذيب" 2/ 295، (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬8) ما بين المعقوفين ليس في (أ)، وجاء فيه: (ثنا أبو صفوان القاسم بن يزيد العامري، ثنا يحيى بن كثير أبو النضر، ثنا عاصم.

العامري] (¬1)، ثنا يحيى بن كثير، أبو النضر (¬2)، ثنا عاصم الأحول (¬3) وداود بن أبي هند (¬4)، عن أبي العالية الرِّيَاحِي، قال: قال أُبَيُّ بن كعب (¬5): ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج). وقد وردت رواية القاسم -هذا- عن يحيى بن كثير، في "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 77، 109 باسم أبي صفوان، القاسم بن يزيد بن عوانة. ولم أقف له على ترجمة. (¬2) في (ب): ثنا أبو النصر. في (ج): أبو النصر. عَدّه ابنُ حجر مِن الطبقة الصغرى من أتباع التابعين، شيعي، قال ابن حجر: (ضعيف)، وقال أبو حاتم: (ضعيف ذاهب الحديث جدًا)، وقال الدارقطني: (متروك). انظر: "المجروحين" لابن حبان:3/ 130، "ميزان الاعتدال" 6/ 77، "المغني في الضعفاء" 2/ 410"التقريب" ص595 (7631). (¬3) هو: أبو عبد الرحمن، عاصم بن سليمان الأحول، البصري. تابعي، ثقة حافظ، توفي بعد سنة (140 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 343، "تهذيب التهذيب" 2/ 252. (¬4) هو: أبو بكر أو أبو محمد، داود بن أبي هند - (دينار) - القُشَيري بالولاء، البصري- تابعي، ثقة متقن، إلا أنه يهم إذا حدّث مِن حِفْظِه، توفي سنة (140هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 411، "ميزان الاعتدال" 2/ 201، "تهذيب التهذيب" 1/ 572، "التقريب" ص200 (1817). (¬5) هو: أبو المنذر، أبَيُّ بن كعب بن قيس، الأنصاري الخزرجي. ويكنى بـ (أبي الطفيل) -أيضًا-، من فضلاء الصحابة، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، سيد القراء، وأحد كتَّاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، توفي سنة (22 هـ)، وقيل: (30 هـ) ورجحه ابن الأثير. انظر: "المعارف" لابن قتيبة: 261، و"أسد الغابة" 1/ 61، "صفة الصفوة" 1/ 245، "الإصابة" 1/ 19.

107

(قال) (¬1) النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - في قوله، فذكره (¬3). 107 - قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} قال ابن عباس (¬4): يريد: ففي جنة الله. قال أهل المعاني (¬5): وإنما قيل [لـ (الجَنَّةِ): رحمةُ] (¬6) الله؛ إعلامًا أنً العبدَ لا يدخلها إلا برحمته (¬7)، وإنْ اجتهد في طاعته. ¬

_ (¬1) في (أ): (قال قال). (¬2) في (ج): (رسول الله). (¬3) الأثر: أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 40، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 730، وأورده الثعلبي في "تفسيره" 2/ 88 أ، والبغوي في "تفسيره" 1/ 340، والماوردي في "النكت والعيون" 1/ 415، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 436، والسيوطي في "الدر" 2/ 112 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. وقد أوردوه كلهم موقوفًا على أبي بن كعب - رضي الله عنه - (ولم أر من رفعه سوى المؤلف. ونصه كما عند الطبري: (قال صاروا يوم القيامة فريقين: فقال لمن أسوَدَّ وجهُه، وعيَّرَهم: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقرُّوا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين. يقول: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، يقول: بعد ذلك الذي كان في زمان آدم ..). وعلى هذا فالآية عامَّةٌ في جميع الكفار، ورجَّح هذا الطبري. (¬4) لم أقف على مصدر قوله وقد أورده ابن الجوزي في الزاد:1/ 437. (¬5) ممن قال ذلك: ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 145. وانظر: "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى: 53، "تفسير الطبري" 4/ 40، "الأشباه والنظائر" للثعلبي: 162، "قاموس القرآن" للدامغاني: 199، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: 331، "تفسير الكريم المنان" للسعدي: 1/ 194، "محاسن التأويل" 4/ 932. حيث فسروها جميعًا بالجنة. (¬6) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) في (ج): (رحمة الله).

108

وقال آخرون (¬1): رحمة الله ههنا: ثوابهُ لأهل طاعته. وقوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال أبو إسحاق (¬2): كرَّر (في)؛ للتأكيد، الذي هو تمكين المعنى في النفس. وقال غيره (¬3): كرَّر (في)؛ للبيان عن الصفتين (¬4)؛ المعنى: أنهم في رحمة الله، وأنهم خالدون فيها، فكل واحدةٍ منهما قائمةٌ بنفسها. 108 - قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} أي (¬5): تلك التي جرى ذكرها، حُجَجُ اللهِ وعلاماتُه. وصَلح {تِلْكَ} ههنا في موضع (هذه)؛ لانقضاء الآيات؛ فلمَّا انقضت، صارت كأنها بَعُدَت، فقيل فيها: {تِلْكَ} (¬6). وقال ابن عباس (¬7): {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}، يعنى: القرآن (¬8). وقوله تعالى: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي: نُعرِّفُك إيَّاها. قال ابن ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك: الزجاج، في "معاني القرآن" 1/ 455، والنحاس، في "معاني القرآن" 1/ 458. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 455. وعبارته -هنا- بالمعنى. (¬3) لم أقف على هذا القائل. (¬4) في (ج): (البيان عن الصفين). (¬5) من قوله: (أي ..) إلى (وعلاماته): نقله بنصه عن: "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 454. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 10، 229، "تفسير الطبري" 1/ 96. (¬7) لم أقف على مصدر قوله. وهو مذكور في (تنوير المقباس)، المنسوب له: 53. وقد قال بهذا القول: قتادة انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 468. (¬8) (القرآن): مطموسة في (ج). وقد اختار المؤلف هذا القول في تفسيره (الوجيز) (المطبوع بهامش (مراح لبيد): 1/ 113). وذهب إليه القرطبي. انظر: "تفسيره" 4/ 169.

عباس (¬1): نُبَيّنها. وقوله تعالى: {بِالْحَقّ} أي: بأنَّها (¬2) حقٌ؛ كما تقول: أعامِلُك بالحَقِّ؛ أي: معاملتي حقٌّ. ويجوز أنْ يكون المعنى: نتلوها بالمعنى الحق؛ لأن معنى المَتْلُوِّ حقٌّ. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} فيعاقبهم بلا جُرْمٍ. (قاله) (¬3) ابنُ عبَّاس. وقال أبو إسحاق (¬4): أعلم الله جل وعزَّ أنَّهُ (¬5) يُعذِّبُ مَن يُعذِّبُهُ باستحقاقٍ. [وحَسُنَ] (¬6) ههنا نفيُ إرادةِ الظلم للعالمين؛ لأن ذِكْرَ العقوبةِ قد تقدم، فبيَّنَ أنَّه لا يُعاقِب أحدًا (¬7) ظالمًا إيَّاهُ. فإنْ قيل: أليس لو فعل ذلك، لم يكن ظالمًا عندكم؟ فلِمَ (¬8) قال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]؟ ولو أراده لم يكن ظُلمًا؟ (¬9). قلنا: سمَّاه ظلمًا؛ لأنه في سورة الظُّلْم (¬10)، ولو عَذَّبَ غير (¬11) ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. واختاره المؤلف في تفسيره (الوجيز) (المطبوع بهامش (مراح لبيد): 1/ 113). (¬2) في (ب): (بيانها). (¬3) من (أ)، وفي باقي النسخ: (قال). (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 455. نقله عنه بمعناه (¬5) في (ج): (أنَّ). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) في (أ)، (ب): أحد. والمثبت من: (ج). وهي أليق بالعبارة -هنا- وأوجه. (¬8) في (ج): فلما. (¬9) في (ب): (ظالمًا). (¬10) انظر حول هذا الموضوع: "شرح العقيدة الطحاوية" 453 - 455. (¬11) في (ج): (غيره).

110

مُستَحِقٍّ (¬1) للعذاب، لم يكن منه ظلمًا حقيقيًّا، ولكنه يكون في صورة الظلم، وقد يُسمَّى الشيءُ بالشيء، إذا أشبهه، وكان في صورته؛ كجزاء السيِّئة، يُسَمَّى: (سيئةً) (¬2)، وجزاء الاستهزاء، يُسمَّى (¬3): (استهزاءً) في التنزيل (¬4)، ومثله كثير. 110 - قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} اختلف قول أهل المعاني في هذا: فقال الفرَّاء (¬5) والزجاجُ (¬6)، وغيرُهما (¬7): كنتم خير أُمَّةٍ عند الله، في اللَّوْح المحفوظ. وقالا (¬8) أيضًا: معنى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}: أنتم خير أمة؛ ¬

_ (¬1) في (ج): (مستحقًا). (¬2) كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]. (¬3) في (ج): (سمي). (¬4) يعني المؤلف قولَه -تعالى-: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15]. وقد ذكر الطبريُّ هذا المعنى في تفسيره، ورَدَّهُ، فـ (الاستهزاء) في هذه الآية صفة من صفات الله على الحقيقة، تليق بجلال الله -تعالى-، وليس المقصود بـ (الاستهزاء) هنا مجازاتهم في الآخرة على استهزائهم بأوليائه في الدنيا، فهذا صرفٌ للصفة عن حقيقتها. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 132 - 134. وانظر ما سبق من تعليق على تفسير المؤلف لقول الله -تعالى-: {وَمَكَرَ اَللهُ} من الآية: 54. (¬5) في "معاني القرآن" له: 1/ 229. (¬6) في "معاني القرآن" له: 1/ 456. وقد أورده الزجاج بلفظ (قيل: ..). (¬7) ممن جوز هذا القول: النحاس، في "إعراب القرآن" 1/ 357. (¬8) قائل هذا القول، هو: الفراء، في المرجع السابق. والعبارات التالية له نقلها =

كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وقال في موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ} [الأنفال: 26]. وإضمارُ (كان) (¬1) وإظهارُها في مثل هذا، سواءٌ، إلّا أنها إذا ذُكِرت كانت للتأكيد، ووقوع الأمرِ لا مَحالة. قال ابن الأنباري (¬2): وهذا القول ظاهرُ الاختلال؛ لأن (كان) يُلغى (¬3) مُوسَّطًا ومُؤَخَّرًا، ولا يُلغَى (¬4) مُقدَّما؛ تقول العرب: (عبدُ الله كان قائمٌ) و (عبدُ الله قائمٌ، كان)؛ على أنَّ (كان) مطروحة، ولا يقولون: (كانَ عبدُ الله قائمٌ)، على إلغائها، لأنَّ سبيلهم أن يبدأوا بما [تنصرف الغايةُ إليه، والمُلْغَى غير معني به، على أنَّه لا يجوز] (¬5) إلغاءُ الكَوْنِ في الآية؛ لانتصاب خبره، وإذا (أُعْمِلَ) (¬6) الكَوْنُ في الخَبَرِ، فنصبه، لم يكن مُلغًى. وقال بعضُ النحويين (¬7): إنما قال: {كُنْتُمْ}، ولم يقل: (أنتم)؛ ¬

_ = المؤلف بتصرف يسير. أما الزجاج فلم يذكر هذا المعنى في هذا الموضع. وممن قال بهذا: ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 295. وجعله من باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه، قال: (ومنه أن يأتي الفعلُ على بِنْيَةِ الماضي وهو دائمٌ أو مُستَقبَل) وذكره. وقال به الطبري، في "تفسيره" 4/ 45 - 46، وابن فارس، في "الصاحبي" 364، ويرويه أبو العباس عن ابن الأعرابي، كما في "تهذيب اللغة" 4/ 3084 (كون)، وجوزه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 357. (¬1) في (ج): (كل). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) في (ب)، (ج): (تلغى). (¬4) في (ب)، (ج): (تلغى). (¬5) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج). (¬6) في (أ): (عمل). (¬7) لم أقف عليهم.

لتَقَدُّمِ (¬1) البِشَارَةِ بهذه الأُمَّة، ولِمَا قد (¬2) كان يُسمَعُ مِنَ الخير في هذه الأمَّةِ؛ فكأنَّه (¬3) قيل: كنتم خير أُمَّةٍ بُشِّرَت بها. وهذا القول، يُروى معناه عن الحَسَنِ (¬4). وقال بعضهم (¬5): الكَوْنُ ههنا بمعنى: الوقوع والحُدُوث، وهي التَّامَّةُ التي لا تحتاج إلى خبر، فمعنى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}: حَدَثْتم خَيْرَ أُمَّةٍ، ووُجِدْتُم وخُلِقْتُم خَيرَ أمَةٍ، فيكون {خَيْرَ أُمَّةٍ} حينئذ بمعنى الحَالِ. وهذا معنى قولِ [ابن] (¬6) جَرِير (¬7). وحكى الزجاجُ (¬8) عن بعضهم: كنتم [منذ] (¬9) آمنتم خيرَ أُمَّةٍ (¬10). فأمَّا المُخاطَبون بهذا: فقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬11): ¬

_ (¬1) في (ج): (فتقدم). (¬2) في (أ)، (ب): (قدم). والمثبت من (ج). (¬3) في (ج): (وكأنه). (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 45، "النكت والعيون" 1/ 416. (¬5) منهم الطبري، كما سيأتي. (¬6) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬7) في "تفسيره" 7/ 106. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 456. أورد هذا القول وصدَّره بلفظ (قيل ..). (¬9) في (أ)، (ب)، (ج): (قد). ولم أر لها وجهًا. وأثبتُّها من: "معاني القرآن" للزجاج. وقد تكون (مُذ) فحرِّفت إلى (قد). (¬10) قد يكون القائل ابن الأنباري؛ حيث أورد ابن الجوزي في الزاد نحو هذا القول، وقال: (ذكره ابن الأنباري) ونصه: (مذ كنتم). انظر: "زاد المسير" 1/ 439. (¬11) هذه الرواية، في "مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 398 رقم (32349)، و"مسند أحمد" (شرح الشيخ أحمد شاكر): 4/ 153 رقم (2463)، 335 (1928)، 355 (3989)، 5/ 112 (3321)، وصححه الشيخ شاكر، وتفسير النسائي: 1/ 319، "تفسير الطبري" 4/ 45، "تفسير عبد الرزاق" 130، "تفسير ابن أبي حاتم" =

هم الذين هاجروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. وعلى هذا (¬1): عِكْرِمة (¬2)، ومقاتل (¬3)، والضَّحَّاك (¬4): أن هذا خاصة لأصحاب محمد (¬5) - صلى الله عليه وسلم -. يدل على هذا القول: ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال في هذه الآية (¬6): هي ¬

_ = 3/ 732، "المعجم الكبير" للطبراني: 12/ 6 رقم (12303)، ومستدرك الحاكم: 2/ 294. وصححه ووافقه الذهبي، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، وذكرها ابن حجر في "المطالب العالية" 3/ 315 رقم (3570) وعزاها للحارث بن أبي أسامة في مسنده عن ابن عباس، وذكرها الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 327 وقال: (رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)، وأوردها ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 225 وعزاها لمن سبق وقال عن إسنادها: (جيد)، وأوردها السيوطي في "الدر" 2/ 113، وزاد نسبة إخراجها لعبد بن حميد، والفريابي، وابن المنذر، عن ابن عباس موقوفًا. (¬1) في (ج): (ذلك). (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 43، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، "أسباب النزول" للواحدي: (121)، "تفسير البغوي" 2/ 89، "زاد المسير" 1/ 438، "الدر المنثور" 2/ 113 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. (¬3) قوله في "تفسيره" 1/ 295، والمصادر السابقة ما عدا الطبري. وقد ورد قول مقاتل وعكرمة في معرض بيانهما لسبب نزول الآية، فقد قال مقاتل في تفسيره (وذلك أن مالك بن الصَّيف، ووهب بن يهوذا، قالا لعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة: إن ديننا خيرٌ مِمَّا تدعوننا إليه فأنزل الله عز وجل - فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} في زمانكم، كما فضل بني إسرائيل في زمانهم). وانظر المصادر السابقة. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 44، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، ولكنه فيه: (عن الضحاك عن ابن عباس)، "تفسير البغوي" 2/ 89 (¬5) في (ب): (النبي). (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 43، وابن أبي حاتم: 3/ 732، "تفسير الثعلبي" 3/ 98 أ، "تفسير البغوي" 2/ 89.

لأوَّلِنا، ولا تكون لآخرنا. وقال (¬1) في رواية عطاء (¬2): يريد: أُمَّةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا: هم جميع المؤمنين من هذه الأمَّة. قال الزجاج (¬3): هذا الخطاب، أصلُه: أنه خوطب به أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يَعُمُّ سائرَ أُمَّتِهِ. وقوله تعالى: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} يُحتَمَلُ أنْ يكون {للِنَّاسِ}، مِنْ صِلَةِ {أُمَّةٍ}، أي: كنتم خير أمةٍ للنَّاسِ أُخْرِجَت، يعني: أفهم (¬4) خير أمَّة للنَّاس، تجيئون بهم في السلاسل، فتُدْخِلُونَهم في الإسلام. وهذا المعنى يُروى عن أبي هريرة (¬5). ¬

_ (¬1) أي: ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬3) في "معاني القرآن" له: 1/ 456، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا. (¬4) في (ج): (أنتم). (¬5) ورد هذا عنه مرفوعا وموقوفًا، أما المرفوع فقد أخرجه: البخاري في "الصحيح" (3010) في الجهاد، باب الأسارى في السلاسل، ولفظه عنده من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل". وأخرجه أحمد مرفوعًا بنحو لفظ البخاري. انظر: "المسند" (شرح الشيخ شاكر): 15/ 168 (8000)، 18/ 48 (9260)، 19/ 33 (9781)، 66 (9890)، وأبو داود في "السنن" (2677) كتاب الجهاد، باب: (في الأسير يوثق). وابن حبان في "صحيحه" "الإحسان" 1/ 343 رقم (134). أما الموقوف، فقد أخرجه: البخاري (4557) في التفسير، سورة آل عمران، باب (7) ولفظه: ({كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام). وأخرجه عنه كذلك: النسائي في "تفسيره" 1/ 318، والطبري في "تفسيره" =

وقال قتادة (¬1): لم يُؤْمَرْ نَبِيٌّ وأمَّتُهُ بالقتال، إلّا هذه الأمَّة ونَبِيها، يُقاتِلُونَ، فَيَسْبُونَ الرُّومَ والتُّرْكَ والعَجَمَ، فَيُدْخِلونهم في دينهم، فهم خير أمَّة للنَّاس. ويُحتَمَلُ (¬2) أن يكون {للِنَّاسِ} (¬3) مِن (¬4) صِلَةِ {أُخْرِجَتْ}؛ ومعناه: ما أَخرَجَ (¬5) [اللهُ] (¬6) للنَّاسِ أمَّةً، خيرًا (¬7) مِنْ أمَّةِ أحمد (¬8)؛ فهم (¬9) خير أمَّةٍ أُظْهِرَت (¬10) وأُخْرِجَت للنَّاس. ¬

_ 4/ 44، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 732، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 98ب، وأورده البغوي في "تفسيره" 2/ 90، والسيوطي في "الدر" 2/ 113 وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم. ولكنيِّ لم أجده في مستدركه. قال ابن حبان في معناه: (والقصد في هذا الخبر: السَّبْيُ الذين يسبيهم المسلمون من دار الشرك مكتَّفِين في السلاسل يُقادون بها إلى دور الإسلام، حتى يُسْلِمُوا، فيدخلوا الجنة). "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 1/ 343 - 344. وقد نقل ابنُ حجر أقوال أهل العلم في شرحه. انظر: "فتح الباري" 6/ 145، 8/ 225. (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 99 أ، "تفسير البغوي" 2/ 89. (¬2) من قوله: (ويحتمل ..) إلى- (أخرجت للناس): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" 3/ 99 أ. (¬3) في (ج): (من الناس). (¬4) من: ساقطة من (ج). (¬5) في (ب): (فلا تخرج). (¬6) ما بين المعقوفين: في في (أ)، (ب): إليه. وهي ساقطة من: (ج). وليست في "تفسير الثعلبي". ورجَّحتُ أن أصلها كما أثبتُّه، وقد حُرِّفت إلى (إليه). (¬7) في (ج): (خير). (¬8) في (ج): (محمد). (¬9) (من أمة أحمد فهم): ساقطة من: (ب). (¬10) في (ج): (ظهرت).

111

وقوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الظاهرُ أنَّ (¬1) هذا مَدْحٌ لهذه الأمَّة بهذه الخصال، وإخبارٌ عنهم بهذه الجملة، وحُكِي عن مجاهد أنه قال (¬2): الخَيْرِيَّةُ في هذه الأمَّةِ على هذه الشَّرِيطَةِ (¬3)؛ يعني: كنتم خيرَ أُمَّةٍ، ما أَمَرْتُم بالمعروف، ونَهَيْتُم عن المنكر، وآمنتم بالله، وهذا أيضًا اختيار الزجاج (¬4). والمَعْرُوفُ: كلُّ حَسَنٍ جميل، يُعرَفُ بجلالته، وعُلُوِّ قَدْرهِ (¬5). ولا يجوز إطلاق هذه الصفة على القبيح، وإنْ كان يُعرَف، لأنه بمنزلة ما لا يُعْرَف؛ لخُمُولِهِ وسُقُوطِهِ. 111 - قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} هذا وعْد مِنَ الله تعالى (¬6) للمؤمنين، في أهل الكتاب، أنَّهم منصورون عليهم، وأنَّه لا ينالهم منهم غَلَبَةٌ. ومعنى {إِلَّا أَذًى}؛ أي: أذًى باللِّسانِ، مثل (¬7): الوعيد، والبُهْت (¬8). ¬

_ (¬1) في (ج): (من). (¬2) قوله في "الطبري" 4/ 44، "الدر المنثور" 2/ 113 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. (¬3) في (ب): (الطريقة). (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 456. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 44، "اللسان" 5/ 2899 - 2900 (عرف)، و"التعريفات" للجرجاني: 221، و"التوقيف على مهمات التعاريف" 666. (¬6) تعالى: ساقطة من: (ب)، (ج). (¬7) في (ج): (ثم). (¬8) البُهْت -بضم الباء-، والبَهِيتة، والبهتان: الكذب والافتراء. والبَهت -بفتح الباء-: أن يقول المرء في غيره ما لم يفعله. يقال: (بَهَته، يَبهَتُه، بَهْتًا، وبَهَتا، وبُهْتانًا). والبَهْتُ: الانقطاع والحَيْرة، يقال: (بَهَتَ، وبَهِتَ، وبُهِتَ): إذا تَحيَرّ. وهو أصل=

وقال الحسن (¬1) وقتادة (¬2): أي: دعاء إلى الضلالة. وموضع {إِلَّا أَذًى} نصبٌ بالاستثناء المتصل؛ المعنى: لن يضروكم إلا ضَرَرًا يسيرًا. فـ (الأذى) وقع موقع الضَّرَر (¬3). والأذى: مصدر (أَذِيْتُ بالشيء أذًى) (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} قال أبو على (¬5): (وَلَّى) منقول مِن (فَعل)؛ تقول: (داري تَلِي دارَهْ)، وَ (وَلِيَتْ (¬6) داري دارَه)، ¬

_ = معنى الكلمة. فـ (البُهتان): هو الباطل الذي يُتحير من بطلانه. انظر: (بهت) في. "مقاييس اللغة" 1/ 308، والنهاية في "غريب الحديث" 1/ 165، "اللسان" 1/ 367 - 368. (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 47، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 734، "زاد المسير" 1/ 240. (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 46 ونصه عنده: (لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم). "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 734. (¬3) وقيل: هو استثناء منقطع؛ أي: لن يضروكم بقتال أو غلبة، ولكن بكلمة أذى أو نحوها. وممن قال بهذا: الأخفش، والطبري، والنحاس، ومكي، وأبو بكر الأنباري. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 213، "تفسير الطبري" 4/ 41، "إعراب القرآن" للنحاس: 1/ 358، "البيان" للأنباري: 1/ 285، "الدر المصون" للسمين الحلبي: 3/ 352، "مشكل إعراب القرآن" لمكي: 1/ 170. (¬4) الأذى: هو ما تسمعه من مكروه. يقال: (أذِيتُ بالشيء، آذَى أذًى وأذاة وأذِيَّة)، فـ (أنا أذٍ). أمَّا (آذى)، فمصدرها: إيذاء، وأذيّة. وتأذَّيْت به تأذِّيا. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 140 (أذا)، "الصحاح" 6/ 2266 (أذا)، "اللسان" 1/ 54. (¬5) هو: الفارسي، ولم أقف على مصدر قوله فيما رجحت إليه من مؤلفاته، وقد وجدته -مع اختلاف يسير جدًا- في "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: 2/ 447 في كلام طويل نقله عن أبي علي في تعليقه على قوله -تعالى-: {فَلَنُوَليَنَّكَ قِبْلَة تَرضَاهَا} [الآية: 144 من سورة البقرة]. (¬6) في (ب): (ووليته).

فإذا (¬1) نَقَلْتَ (¬2) إلى (فَعَّلَ)، قلت: (ولّاني مآخيرَهُ) (¬3)، و (ولّاني مَيَامِنَه) (¬4)، فهو مثل: (فَرِحَ) و (فَرّحْتُه) (¬5)، ومثل هذا: قوله: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} [الحشر: 12]، وقوله: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، إلّا أنّ المفعول الثاني الزائِد في نَقل (فَعِلَ) (¬6) إلى (فَعَلَ) محذوفٌ من الآيتين، ولو لم يُحذَفْ لكان كقوله: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} (¬7). وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} محمول (¬8) على الاستئناف، لا على ¬

_ (¬1) في (ج): (وإذا). (¬2) في "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: نقلته. (¬3) في (أ)، (ب): (ما آخيره). والمثبت من: (ب)، (ج)، "إعراب القرآن". وفي "إعراب القرآن": (قلت: وَلِيتُ مآخيره، وولّاني مآخيره). والمآخير: لم أقف على المراد بها في معاجم اللغة التي رجعت إليها، وقد ورد فيها (المئخار)، وهي النخلة التي يبقى حملها إلى آخر الصِّرام، أو يبقى إلى آخر الشتاء، وجمعها: مآخير. انظر: "كتاب النخل"، لأبي حاتم السجستاني: 92، وانظر مادة (أخر) في "اللسان" 1/ 45، "التاج" 6/ 17. ولكن هذا المعنى ليس هو - المراد هنا، وإنما يراد بها هنا -والله أعلم- جهة الخلف من الإنسان: الظهر وما يليه. ويعزز هذا قوله بعده: (وولاني ميامنه). (¬4) ورد في "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: (ووليت ميامنه، وولاني ميامنه). والميامن: جمع (مَيمَنه)، وهي خلاف الميسرة في الإنسان. انظر: "اللسان" 8/ 4967 (يمن). (¬5) في "إعراب القرآن" السابق، أضاف بعدها: (وليس مثل: لقي وألقيته ولقَّيْته). (¬6) في (أ): (فعِّل). وفي (ب)، (ج): (غير مشكولة). وما أثبته هو الصواب. (¬7) فـ (الأدبار) مفعول ثانٍ. انظر: "التبيان" للعكبري: ص 204، "الدر المصون" 3/ 352. (¬8) من قوله: (محمول ..) إلى (ثم لا ينصرون): ساقط من (ج).

العطف (¬1). والتقدير: ثم هم لا ينصرون. وإنَّما لم يُحتملْ (¬2) على العطف؛ لأنه غير مشاكل للمعطوف عليه؛ وذلك أن سبب التولية: القتال، وليس كذلك منعُ النصر؛ لأن (¬3) سببه: الكفر (¬4). وأيضًا فإنه آخر آية، فكان الرفعُ فيه أقوى؛ ليشاكل (¬5) سائرَ الفواصل بالنُّون (¬6)، كما قال: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] (¬7). قال المفسرون: صدق الله وعْدَه بالنصر، فلم يقاتل يهودُ (¬8) المدينة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين (¬9)، إلّا ولَوا منهزمين، وكانت الدَّبْرَةُ (¬10) عليهم، ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب الحديث النبوي" للعكبري: 172. (¬2) في (ج): (يحمل). (¬3) في (ج): (لأنه). (¬4) أي: لو قلنا بعطفه على جواب الشرط، للزم تقييد عدم نصرهم في حالة مقاتلتهم لنا فقط. ولكن -في الحقيقة- هم غير منصورين مطلقًا؛ لكفرهم، سواءً أقاتلوا أم لم يقاتلوا. (¬5) في (ج): (لتشاكل). (¬6) في (ب): (والنون). (¬7) في رفع {فَيَعْتَذِرُونَ} -هنا- وجهان: أ- أنها معطوفة على ما قبلها {وَلَا يُؤْذَنُ} فهي نفي؛ أي: فلا يعتذرون فلم يجعل الاعتذار متسببًا عن الإذن؛ إذ لو كان كذلك لنُصب وحذف النون. وذهب الفرَّاء إلى أن الرفع فيها لمراعاة الفواصل. ب- أنها مستأنفة؛ أي: فهم يعتذرونه ومعناها: أنهم ينطقون في مواقف دون أخرى. انظر: "معاني القرآن" للفراء: 1/ 229، 3/ 226، "التبيان" للعكبري: ص 204، "البيان" للأنباري: 2/ 488، "البحر المحيط" 8/ 408. (¬8) في (ب): (بعد) بدلًا من (يهود). (¬9) (والمسلمين): ساقطة من: (ج). (¬10) في (ج): (الدائرة).

112

ففيه أعظم دلالة على (صحة) (¬1) نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 112 - قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} قد مضى الكلام في معنى ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ على اليهود، في سورة البقرة (¬2). وقوله تعالى: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} أي: وُجِدوا، وصُودِفوا (¬3). ومضى الكلام في هذا عند قوله: {حَيثُ ثَقفتُمُوهُم} [البقرة: 191]. وقوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} قال الفرّاء (¬4): يقول: (إلَّا أنْ يَعتَصموا بحبل من الله)، فأضمر ذلك، وأنشد: رأتني بحَبْلَيْها فَصدّتْ مَخَافَةً ... وفي الحَبْلِ رْوْعاءُ الفُؤادِ فَرُوقُ (¬5) ¬

_ = الدَّبْرَة: العاقبة، والهزيمة في القتال. أمَّا الدِّبْرة -بكسر الدال المشددة- فهي خلاف القِبلة. انظر: "القاموس المحيط" ص 389 (دبر). (¬1) زيادة من (أ). (¬2) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير آية: 61 من سورة البقرة. (¬3) انظر: (ثقف) في "اللسان" 1/ 492، "القاموس" ص 795. (¬4) في "معاني القرآن" له: 1/ 230. نقله عنه بنصه. (¬5) البيت لحميد بن ثور، وهو في ديوانه: 35. وورد في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 230، "تفسير الطبري" (49)، "تهذيب اللغة" 1/ 731، "تفسير الثعلبي" 3/ 101 أ، "أساس البلاغة" 1/ 381، "اللسان" 2/ 761، 7/ 4410، 6/ 3401. "البحر المحيط" 3/ 32. وروايته في الديوان: فجئت بحبليها فردَّت مخافةً ... إلى النفس روعاءُ الجَنان فَرُوق ووردت روايته في "اللسان" 7/ 4410 رأتني بنِسْعَيها فردت مخافتي ... إلى الصدر روْعاءُ الفؤادِ فَرُوق وفي "اللسان" 6/ 3401: رأتني مُجَلِّيها فصدت مخافةً ... وفي الخيل روعاء الفؤاد فروق و (الروعاء): الناقة الحديدة الفؤاد. "القاموس" 724 (روع). و (الفَرُوق): =

قال أراد: أقْبَلْتُ (¬1) بحبليها (¬2). وقد نُعي هذا عليه، فقيل: لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته (¬3)؛ وذلك أن الموصول لمّا احتاج إلى الصِّلَةِ للبيان عنه، فالحاجة إلى ذِكْرِهِ أشدُّ (¬4)، وإنَّما يجوز حذفُ الشيء للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دَلّ دليل عليه لحُذف مع صلته؛ لأنه معها بمنزلِةِ شيءٍ واحد. ويجوز حذف الصلة دون الموصول؛ لأن الموصول [هو المعتمد عليه، والصلة تبع له؛ لأنها للبيان عنه، فإذا حُذِفَ الموصول] (¬5) وجب حذفُ الصلة معه؛ [لأنها تَبَعٌ] (¬6) له. وقد أخبرني العَرُوضي رحمه الله، عن الأزهري، قال (¬7): أخبرني ¬

_ = الشديدة الفزع. من (الفَرَق): وهو الخوف. "اللسان" 6/ 3397 (فرق). قال الأستاذ محمود شاكر في تعليقه على البيت في هامش "تفسير الطبري" 7/ 113 (ط. شاكر): (مدح ناقته بحدة الفؤاد، تفزع لكل نبأة؛ من يقظتها؛ كما قالوا: (مجنونة)، يقول ذلك في ناقته: رأتني أقبلت بالحبلين لأشد عليها راحلي، فصدَّت خائفة. يصفها بأنها كريمة لم تبتذلها الأسفار. ثم قال: فلما شددت عليها الرحل، كانت في الحبل ذكية شهمة، تتوجس لكل نبأة؛ من يقظتها وتوقدها). (¬1) في (ب): (قبلت). (¬2) في (ج): (بحبلها). (¬3) وهي -هنا- الجار والمجرور. ففي الآية {بِحَبْلٍ}، وفي البيت (بحبليها). (¬4) في (ج): (ذكر ما شد). (¬5) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬6) ما بين المعقوفين: في (أ)، (ب): (لا يتبع). والمثبت من (ج). (¬7) قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 731 - 732 (حبل) إلى نهاية: (ومعنى (ألا): (لكن). وقد نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين.

المُنْذِريُّ، عن ثعلب، أنه قال: هذا الذي قاله الفرّاء (¬1)، بعيدٌ (¬2)، ولكن المعنى إن شاءَ الله: ضربت عليهم الذِّلَّة أينما ثُقِفُوا؛ أي: بكلِّ مَكان إلّا بموضِع حَبْلٍ مِنَ الله، وهو استثناء مُتَّصل، كما تقول: (ضُرِبت عليهم الذِّلَّة في الأمكنة، إلّا في هذا المكان)، ثمّ حذف المضافُ (¬3). قال: وقول الشاعر: (رأتني بحبليها)؛ هو كما تقول: (أنا بالله، وبك) (¬4)؛ أي: مُتَمَسِّك. فتكون الباءُ مِن صِلَة (رأتني متمسكًا ¬

_ (¬1) (الفراء): ساقطة من: (ج). (¬2) وفي "تهذيب اللغة": (بعيد أن تحذف (أن) وتُبقِي صلتها). (¬3) ثم حذف المضاف: ليس في "تهذيب اللغة". وقد ذهب إلى هذا الزمخشري، وأيَّد كون الاستثناء متصلًا هنا، وقال: (وهو استثناء من أتم الأحوال؛ المعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حالة اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ..). "الكشاف" 1/ 455. (¬4) وبك: ليس في "تهذيب اللغة". بالنسبة لهذه الألفاظ مثل (أنا بالله، وبك) وأمثالها، وبغض النظر عن مجال الاستدلال النحوي بها، فإن الآثار الشرعية قد وردت بالنهي عن استعمالها بهذه الصورة. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله، ثم شئت". أخرجه ابن ماجه (2117) كتاب الكفارات، باب (13)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه":1/ 362. وورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان". رواه أبو داود في "السنن" (4980)، كتاب الأدب، والبيهقي في "السنن" 3/ 216، وأحمد في "المسند" 5/ 384، 394، 398. وعن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أجعلتني والله عِدْلاً، بل ما شاء الله وحده". أخرجه البيهقي في "السنن" 3/ 217، والبخاري في الأدب المفرد: 344 رقم (783)، وغيرهما. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1/ حديث رقم (136 - 139). وقد ذكر العلماء أن قول الإنسان (ما لى غير الله وأنت)، و (توكلت على الله =

بحبليها) (¬1)، فاكتفى بالرُّؤيَةِ (¬2) مِن التمسك. قال الأزهري: والقول، ما قال أبو العباس (¬3). وقال الأخفش (¬4): قوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} استثناء خارج عن (¬5) أول الكلام (¬6)، ومعنى (إلّا): لكِنْ (¬7). واختار الزَّجَّاج هذا الوجه، فقال (¬8): ما بعد الاستثناء (¬9) ليس من الأول؛ المعنى (¬10): أنهم أذلَّاءُ، إلَّا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أُعطوه. ونَصَرَ محمدُ بن جَرِير هذه الطريقة أيضًا، فقال (¬11): إن أهل الكتاب (قد) (¬12) ضربت عليهم الذلة، سواء كانوا على عهد من الله، أو لم يكونوا ¬

_ = وعليك)، وأنا بالله وبك) وأمثالها من عبارات، تعد من ألفاظ الشرك التي يجب أن تُجتَنَب، كما دلت على ذلك الآثار السابقة. انظر تيسير العزيز الحميد: 598 - 602 (¬1) في (ج): (بحبلها). (¬2) في (ب): (بالراية). (¬3) هو ثعلب. (¬4) قوله في "معاني القرآن" له 1/ 213، ولكنه هنا من، تتمة قول الأزهري السابق في "التهذيب". (¬5) في (ب)، "معاني القرآن"، "تهذيب اللغة": (من). (¬6) أي إنه استثناء منقطع. (¬7) في "معاني القرآن"، "تهذيب اللغة": (في معنى لكن). (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 457 نقله عنه بنصه. (¬9) في (ج): (الا استثناء). (¬10) المعنى: ليست في "معاني القرآن". (¬11) في "تفسيره" 4/ 50. نقله عنه بالمعنى. (¬12) زيادة من (أ).

على عهد، فلا يخرجون بالاستثناء (¬1) عن الذِّلة إلى العِزَّة. قال (¬2): وتمام الكلام عند قوله: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، ثم قال: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} أراد (¬3): لكن قد يعتصمون بحبل من الله، أو قد يُثْقَفُونَ بحبل من الله، وحَبْلٍ مِنَ الناس كما قال: {وَمَا كاَنَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤْمَنًا إِلا خَطأ} [النساء:92]، فـ (الخَطَأ) وإن كان منصوبًا بما عمل فيِه ما قبل الاستثناء، فليس باستثناء مُتَّصل حتى يَدُلَّ على أنَّ قتلَه خطأ مباحٌ (¬4)، ولكن معناه: قد يقتله خطأ (¬5). ومَن نَصرَ طريقة أبي العباس، قال (¬6): إنَّ عِزَّ (¬7) المسلمين عِزٌّ لأهلِ الذِّمَةِ؛ لأنَّ أخْذَهم عَهْدَ المسلمين يَحقِنُ دماءَهم، ويمنع فُرُوجَهم وأموالهم عن الاغتنام بالسَّبْي، ثم هذا [العِزُّ] (¬8) لا يخرجهم عن الذِّلَّة في أنفسهم، فهم على ما وصفهم الله من الذِّلَّة أينما ثقفوا، وإنْ اعتصموا بالذِّمَة (¬9). وأما التفسير: فقد ذكرنا معضى (الحبل) عند قوله: {وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] وبعض المفسرين يذهب إلى أن حبلَ الله ههنا ¬

_ (¬1) في (ج): (بالاستغناء). (¬2) في المرجع السابق. نقله بالمعنى. (¬3) من قوله: (أراد ..) إلى (بحبل من الله): مكرر في (أ). (¬4) في (ج): (ماح). (¬5) (خطأ): ساقطة من: (ب). (¬6) لم أقف على هذا القائل. وممن ذهب إلى أن الاستثناء منقطع ونصر هذا الرأي: ابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 270. (¬7) في (ج): (إن الله عز). (¬8) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج). (¬9) وهو اختيار ابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 270 - 271.

113

الإسلام (¬1)؛ يعني [إلّا] (¬2) أنْ يُسْلِمُوا. وهذا بعيدة لعطف (حبل الناس) عليه، وإذا أسلموا، استغنوا عن حَبْلِ الناس، ولو أرادَ الله تعالى بالحبلَ الأوَّل: الإسلام، وبالثاني: الذِّمَّة؛ لقالَ: (أو حبل من الناس)، ولكن الصحيح: أن كلا (¬3) الحبلين؛ المراد به العهد، والذِّمَّة، والأمان، كما قال ابن عباس (¬4) يريد: بعهد مِنَ الله، وعهد مِنَ المؤمنين، وانما ذكر الله تعالى حبلَ الله مع حبل المؤمنين؛ لأن الأمان الذي يأخذونه (¬5) من المؤمنين، هو بإذن الله تعالى، فهو أمانٌ مِن جهته. وباقي الآية مشروح في سورة البقرة (¬6). 113 - قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَآءً} قال أبو الهيثم (¬7): يقال: (فلانٌ وفلانٌ سَواء) (¬8)؛ أي: متساويان، و (قوم سَواء)؛ لأنه مصدر لا يُثَنّى ولا يُجمع. ومضى الكلام في (سواء) في أول سورة البقرة (¬9). ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك: ابن زيد، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 293، "تفسير الطبري" 7/ 73. (¬2) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج). (¬3) في (أ)، (ب)، (ج): كلي. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 48، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 735، وأورده السيوطي في " الدر" 2/ 115 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. (¬5) في (ج): أخذونه. (¬6) انظر: "تفسير البسيط" [البقرة: 61]. (¬7) قوله في "تهذيب اللغة" 2/ 1794 (سوى). (¬8) في "تهذيب اللغة": (سواعد) -بدلًا من: (سوى) - ويبدو أنها تصحيف. (¬9) عند آية 6 من سورة البقرة. انظر حول (سواء): "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى 36، و"تحصيل نظائر =

قال ابن الأنباري (¬1): يريد: ليس أهل الكتاب الذين سبق ذكرُهم وتقدم وصفُهم، سواءً؛ أي: متساوين في دينهم ومذهبهم. ثمّ ابتدأ فقال (¬2): {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} إنقطع الكلامُ عند (سواءً)، ورفع (الأُمة) بـ (مِنْ) (¬3)، وأضمر (¬4) (الأمَّة) المذمومة؛ لأن القائمة تكفي من التي ليست بقائمة، على مذهب العرب من الاكتفاء بالشيء من ضده، كما قال أبو ذؤيب (¬5): عَصاني إليها القَلْبُ إِنّي لأمرها ... مطيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها؟ (¬6) ¬

_ = القرآن" للحكيم الترمذي 27، "الأضداد" لابن الأنباري 40، "الحجة" للفارسي 1/ 245، "الصحاح" 6/ 2384 (سواء)، و"قاموس القرآن" للدامغاني ص 252، و"التصاريف" لمكي 111، و"نزهة الأعين النواظر" 359، "المغني" لابن هشام 187 - 189. (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد بعضُ قوله في "إيضاح الوقف والابتداء" له: 2/ 582. (¬2) فقال: ساقطة من: (ب). (¬3) ممن قال بالوقف التام -هنا- أكثر أهل العلم، ومنهم: نافع، ويعقوب، والأخفش، والزجاج، وأبو حاتم. انظر: "القطع والائتناف" للنحاس: 232، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 213، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 458، و"منار الهدى" للأشموني 68 وقال: (وهو الأصح). وإعراب {أُمَّةٌ} على هذا الوجه: مبتدأ مؤخر، و {مِن أَهلِ الكِتَابِ} خبر مقدم. انظر: "التبيان" للعكبري: ص 205. (¬4) في (ج): (فأضمر). (¬5) في (ج): (ذيب). وهو: خويلد بن خالد بن مُحرِّث الهُذَلي. تقدم. (¬6) ورد البيت منسوبًا له في "شرح أشعار الهذليين" 1/ 43، "تأويل مشكل القرآن" =

أراد: أم غيٌّ؟. فاكتفى بالرُّشد مِن غيره (¬1). وقال آخر: وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضًا ... أُريدُ الخيرَ أيُّهُما يَلِيني (¬2) ¬

_ =215، "تفسير الثعلبي" 3/ 101 - ب، "مغني اللبيب" 18، 59، 820، وانظر: "شرح شواهد المغني" 27، 142، 672)، "الدرر اللوامع" 2/ 172. كما ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء: 1/ 230، "منهج السالك" 3/ 116، "همع الهوامع" 5/ 241. وقد ورد في بعض المصادر: (دعاني إليها القلب) وفي معاني الفراء، وتأويل المشكل، وتفسير الثعلبي: (عصيت إليها القلب) كما ورد في جميع المصادر المذكورة: (إني لأمره * سميع ..). قال الأصمعي: (عصاني القلب): جعل لا يقبل مني؛ أي: ذهب إليها قلبي سفها، فأنا أتبع ما يأمرني به، فما أدري أرُشدٌ الذي وقع فيه أم غيٌّ). "شرح أشعار الهذليين" 1/ 43. (¬1) وقد تطرق المؤلف لهذا المعنى عند الآية: 6 من سورة البقرة. (¬2) في (ج): (أيهما أريد). والبيت للمثقب العبدي، وهو في ديوانه: 212. وورد منسوبًا له، في "المفضليات" 574، "الشعر والشعراء" 1/ 403، و"الصناعتين" 205، و"الحماسة البصرية" 1/ 40، "شرح شواهد المغني" 191، "خزانة الأدب" 11/ 80 وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء: 231. وروايته في "المفضليات": (يممت أمرًا ..)، وعند الفراء: (يممت وجها ..) وفي "الحماسة البصرية" كما عند المؤلف، وفي "شرح شواهد المغني" "الخزانة": (وجهت وجهًا ..). وبعد هذا البيت: أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ومعنى (يميت): قصدت، و (يليني): من (الوَلْي)، وهو: القرب.

أراد (¬1): أريد الخير والشر، فاكتفى بالخير من الشر (¬2). ويجوز أن يرتفع (الأُمَّة) (¬3) بـ (سواء)، ويكون المعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمَّةٌ قائمةٌ، وأخرى غيرُ قائمةٍ. وهذا الذي ذكر (¬4) ابنُ الأنباري، كُلُّهُ مذهبُ الفرّاء في هذه الآية (¬5). قال [أبو إسحاق] (¬6): هذا الذي قاله (¬7)، خطأ فاحش في هذا المكان (¬8)؛ لأن ذِكْرَ أهلِ الكتابِ قد جرى في هذه القصة، وأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون [الأنبياء] (¬9)، فأعلمَ اللهُ عز وجل أنَّ منهم المؤمنين، الذين هم (¬10) أمةٌ قائمةٌ، فما الحاجَةُ إلى أن يقال: غير قائمة؟ وإنما [المبدوء] (¬11) به ما (¬12) كان مِن فِعْلِ أكثرِهم؛ من الكفر والمُشَاقَّةِ للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في (ج): (المعنى: لا يستوي أراد). ولم أثبت هذه الزيادة؛ لأنه لا وجه لها، ويبدو أنها سبق قلم من الناسخ. (¬2) انظر المصادر السابقة التي أوردت البيتين؛ حيث تطرقت إلى موضوع الحذف الوارد في الآية. (¬3) في (ج): (الأمر). (¬4) في (ج): (ذكره). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 230. (¬6) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج). وقوله في "معاني القرآن" له: 1/ 460. نقله عنه بنصه. (¬7) في (ج): (قال). (¬8) في "معاني القرآن" في مثل هذا المكان. (¬9) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). ومثبت من (ب)، (ج)، "معاني القرآن". (¬10) هم: ساقطة من (ب). (¬11) ما بين المعقوفين: في (أ): البدو. والمثبت من (ب)، (ج)، "معاني القرآن". (¬12) في (ب): (مما).

فّذَكَرَ مَنْ كان منهم مباينًا لهؤلاء. فعند الزجّاج: لا يحتاج إلى إضمار الأمَّةِ المذمومة؛ لأن ذِكْرَ أهلِ الكتاب قد جرى، ثُمّ أخبر الله تعالى أنهم غير متساوين، بقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً}، وههنا وقف التمام. ثُمّ أنبأ بافتراقهم، فقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} (¬1) قال أبو بكر (¬2): وقول الفرّاء هو الحق، واحتجاج الزّجاج عليه مُخْتَلٌّ (¬3) فاسد، لأنه لو اكتفى بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ} [آل عمران: 112] من إضمار الأُمَّة الكافرة بعد ذِكْرِ الأُمَّة المؤمنة، لاكتفى بقوله عز وجل: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، مِن ذِكْر الأُمَّتين جميعًا؛ فلما لم يكتفِ بالمؤمنين من الأُمَّة القائمة، لم يكتفِ بالفاسقين من الأُمَّة الكافرة، إذْ كان الله جل وعلا أتى بإخبار بعد إخبار، وَوَصْفٍ لهم إثْرَ وَصْفٍ؛ للزيادة (¬4) في الإفهام، والمبالغة في الإيضاح والبيان. والله أعلم. وكان أبو عبيدة يذهب مذهب الفرّاء: من إضمار الأُمَّة المذمومة، إلّا أنه لا يجعل تمامَ الوقف عند قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً}، ويقول (¬5): (الأُمَّة) رُفِع ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}. وما أثبته من: (ج)؛ لأنه الأولى والأنسب بسياق الكلام. وما ورد في (أ)، (ب) مما سبق به الفكر والقلب عادة في مثل هذه المواطن. (¬2) هو ابن الأنباري، كما سبق، ولم أقف على مصدر قوله وهو من تتمة النقل السابق عنه. (¬3) في (ج): (محتمل). (¬4) في (ج): (الزيادة). (¬5) لم أقف على مصدر قوله وليس موجودًا في "مجاز القرآن" بهذا النص؛ ونَصُّهُ =

بـ {لَيْسُوا}. قال: وجُمِعت (ليس) وهي مُقَدَّمة، على لغة مَن يجمع الفعلَ وإن يقدم، كقولهم: (أكلوني البراغيثُ) (¬1)، واحتج بقول الفرزدق: ولكنْ دِيافِيٌّ أَبُوهُ وأُمُّهُ ... بِحَوْرانَ (¬2) يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقارِبُهُ (¬3) ¬

_ = في (المجاز) هو: (العرب تُجوِّزُ في كلامهم مثل هذا أن يقولوا: (أكلوني البراغيثُ)، قال أبو عبيدة: سمعتها من أبي عمرو الهذلي في منطقه، وكان وجه الكلام أن يقول: (أكلني البراغيث). وفي القرآن: {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]، وقد يجوز أن يجعله كلامين، فكأنك قلت: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، ثم قلت: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}.) "المجاز" 1/ 101 - 102. (¬1) هذا مثل وضع عَلَما على لغة (طيئ)، وقيل لغة (أزد شنوءة)، أو (بلحارث)، وكما ورد في الهامش السابق عن أبي عبيدة أنه نطق بها بعض (هذيل). وقد ألحقوا في هذه اللغة علامة الجمع أو التثنية بالفعل، مع ظهور الفاعل، فجمع في (أكلوني البراغيث) واو الجماعة والاسم الظاهر. والأصل المتبع أن يقال: (أكلني البراغيث). انظر الكلام عن هذه اللغة في "كتاب سيبويه" 2/ 40 - 41، "معاني القرآن" للفراء: 1/ 316، "المسائل المشكلة" للفارسي: 109، "سر صناعة الإعراب" 629، "نتائج الفكر" للسهيلي:166، "إعراب الحديث النبوي" للعكبري: 125، 137 - 138، "رصف المباني" 111، "الجنى الداني" 150، 170، "البحر المحيط" 3/ 24، "مغني اللبيب" 478، "أوضح المسالك" ص 82، "همع الهوامع" 2/ 256، "الاقتراح في علم أصول النحو" للسيوطي: 43، "معجم الشوارد النحوية" 108. (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): (بحوزان). والمثبت من: الديوان ومصادر البيت. (¬3) البيت في ديوانه: 44. وقد ورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" 2/ 40 (وانظر شرح أبيات سيبويه، للنحاس: 113)، "أمالي بن الشجري" 1/ 201، "شرح المفصل" 3/ 89، 7/ 7، "معجم البلدان" 2/ 494، "خزانة الأدب" 5/ 63، 234، 7/ 346، 446، 11/ 372، "اللسان" 2/ 1193 (خطأ)، 4/ 2065 (سلط)،=

ولم يرتض هذا القولَ أحدٌ مِن النحويين، وقالوا: هذا الذي قاله، لغة رديئة في القياس والاستعمال. أما القياس؛ فلأن الجمعَ عارِضٌ، والعارِضُ لا تُؤكَّد عَلامَتُه؛ لأنه بمنزلة ما لا يُعتَدُّ بِه، وليس كالتأنيث؛ للزومه، فَتُقَدَّم [له] (¬1) العَلامَةُ؛ لِتُؤذِنَ به قبل ذِكْرِهِ. ومع (¬2) [هذا؛ فجائز] (¬3) تركها فيه، فكيف (¬4) بالعارض (¬5)؟ ولزوم (¬6) الفعل للفاعل يغني عن التثنية والجمع فيه، فلا ¬

_ = 3/ 1455 (دوف)، "الدر اللوامع" 1/ 142. وورد غير منسوب في "الحجة" للفارسي: 1/ 132، "الخصائص" 2/ 194، و"إعراب الحديث النبوي" 125، 138، "رصف المباني" 112، "الجنى الداني" 150، "همع الهوامع" 2/ 256. والبيت من قصيدة قالها في هجاء عمرو بن عفراء الضبِّي. و (دِيافيّ) نسبة إلى (دِياف) وهي من قرى الشام، وأهلها نَبَط، و (حوران): من قرى الشام. انظر: "معجم البلدان" 2/ 494، "الخزانة" 5/ 235. و (السليط): الزيت. وقيل: كل دهن عصر من حب. انظر: "اللسان" 4/ 2065 (سلط). يقول الشاعر -هنا- عن المهجو: إنَّ أهله من النَّبطِ، وليسوا من العرب الخلَّص، أصحاب الانتجاع والشجاعة والحروب، بل هم من أهل (دِياف)، ممن يعيشون على عصر الزيت. وزاده هجاءً بقوله: (يعصرن) -بنون النسوة- يشبههم بالنساء ذوات الخدمة والتبذل، وليسوا كالرجال ممن شأنهم الحروب. والشاهد فيه: قوله: (يعصرن السليط أقاربه) ولم يقل (يعصر)، على الأصل، حيث إنه فعل مقدمة، وفاعله (أقاربه)، والنون في الفعل علامة لكون الفاعل جمعًا. (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬2) في (ج): مع. (¬3) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): هذا الحيز. والمثبت من: (ج). (¬4) في (ج): (وكيف). (¬5) في (ب): (العارض). (¬6) في (ب): ولزومه. في (ج): (ولزم).

يدخل جمعٌ على جمع، كما لا يدخل تعريفٌ على تعريف. وأما الاستعمال؛ فإن أكثر العرب تَرَك هذه اللغة، وهي من لغة من لا يُرتَضى لغتُه، ولم ينزل الله عز وجل كتابَه إلا بأعرب اللغات، وأقربها من البيان. ومتى جُمع الفعلُ مُقدَّمًا [أوْهَمَ] (¬1) أسماءً (¬2) قبله، ولم يَقِفْ المخاطَبُ على معنى الكلام، إلّا بعد تفكر [من التَّوَهُّم] (¬3). ومعنى {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}: قال ابن عباس (¬4): يريد: قائمة على الحَقِّ، وعلى أمر الله، لم تتركه كما تركه الآخرون. وقال مجاهد (¬5): عادلة. وقال السُدِّي (¬6): قائمة بطاعة الله. وقال ابن قتيبة (¬7): مواظبة على أمر الله. وقوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ}. أي: يقرأون كتاب الله. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): وهم. وما أثبته هو كما رجحت صوابه؛ لأني لم أجد في معاجم اللغة التي رجعت إليها، أن (وهم) يتعدى بدون الهمزة، أو بالتضعيف. وما يؤكد هذا أن الواو في (وهم) لصقت بالألف في (مقدما) في (أ)، (ج). (¬2) في (ب): (إنهاء). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 54، "ابن أبي حاتم" 3/ 738، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 462، "تفسير البغوي" 2/ 93، وقد رجح هذا الطبري في تفسيره في الموضع السابق، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 427. (¬5) قوله في "تفسيره" 133، "تفسير الطبري" 4/ 53، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 738، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 462، "تفسير البغوي" 2/ 93، "الدر المنثور" 2/ 116 وزاد نسبته لعبد بن حميد. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 53، "ابن أبي حاتم" 3/ 737، "البغوي" 2/ 93. (¬7) في "تفسير غريب القرآن" له 108.

{آنَاءَ اللَّيْلِ}. ساعاته. والواحد: (إنًى)، مقصورٌ؛ مثل: (مِعًى) (¬1). قال الراجز: لله درُّ جعفرٍ أيَّ فتًى ... مُشَمِّرٍ عن ساقه كُلَّ إنًى (¬2) ويجوز: (إنْيٌ)، مثل: (نِحْيٌ) (¬3)، و (حِسْيٌ) (¬4). قال الأعشى: في كلِّ إنْيٍ حَذَاهُ الليلُ يَنْتَعِلُ (¬5) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): (معًا). والمثبت من كتب اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 225 (أنى). (¬2) في (ب): (أنى). ولم أقف على قائله، وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 102 أ، ولم يعزه لقائل، ولم أقف على مصادر أخرى له. (¬3) في (ب): (محي). والنِحْيُ: الزِّقُّ -وهو السقاء الذي يُتَّخذ للشراب، أو ما كان للسمن خاصة-، أو نوع من الرُّطَب، أو سهم عريض النصل. ويقال -كذلك-: (النِّحْي، والنَّحَى). والجمع: (أنحاء، ونُحِيٌّ، ونِحاءٌ). انظر: (نحا) في "اللسان" 7/ 4372، "القاموس" ص 1337. (¬4) الحِسْيُ: سهل من الأرض يستنقع فيه الماء. وقيل: غِلَظٌ فوقه رمل يجتمع فيه ماء المطر، فكلما نَزحتَ دلوا جمَّت أخرى. والجمع: أحساء. انظر: "الصحاح" 1313 (حسا)، "المجمل" 233 (حسو)، "اللسان" 2/ 880 (حسا)، "القاموس" ص 1274 (حسا). (¬5) في (أ)، (ب)، (ج): ورد البيت كالتالي: (في كل إنيٌ جداه الليل شغل). وما أثبته فمن مصادر البيت. والبيت ليس للأعشى كما ذكر المؤلف، بل هو لأبي أُثَيْلَة، المُتَنَخِّل، مالك بن عويمر بن عثمان الهُذَلي. وقد ورد منسوبًا له في "سيرة بن هشام" 2/ 186، "مجاز القرآن" 1/ 102، 2/ 33، "شرح أشعار الهذليين" 3/ 1283، "الشعر والشعراء" ص 439، "الصحاح" 2273 (أنا)، "اللسان" 1/ 162 (أنى).

قال المفسرون: يعني بـ (الأُمَّة القائمة) ههنا: عبد الله بن سلام، ومن آمَنَ معه من أهل الكتاب. هذا قول ابن عباس (¬1)، وقتادة (¬2)، وابن ¬

_ = وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 4/ 54، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 459، "المنتخب" لكراع النمل: 2/ 608، "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 214، وكتاب "حروف الممدود والمقصور" للكسائي: 64، "المنصف" 2/ 107، "تهذيب اللغة" 1/ 3614 (نعل)، 1/ 225 (أنى)، "تفسير الثعلبي" 3/ 102 أ. وأول البيت: حلْوٌ ومُرٌّ كَعَطْفِ القِدْح مِرَّتُهُ وقد ورد في بعض المصادر: (بكل إني ..)، وورد: (قضاه الله ..)، و (قضاه الليل ..) بدلًا من: (حذاه الليل)، وفي المنتخب، لكراع النمل: (حَدَاهُ الليل)، وورد: (كعطف القدح شيمتُهُ ..). الشاعر -هنا- يرثي ابنه أثَيْلَة، ويصفه بأنه (حلو ومر)؛ أي: حلو وسهل لمن يستحق المعاملة الحسنة، ومرٌّ وشديد على من يستحق الشدة والخشونة. وقوله: (كعطف القدح)، (القِدْح): السهم قبل أن يُراش ويُنْصل. و (المِرَّة): الشِّدّة، والقوة. يريد: أنه يُطوَى كما يُطوَى القِدح، ثم يعود إلى شدَّته واستقامته. قوله: (حذاه الليل): أي: قطعة اليل حِذاءً. و (ينتعل)، أي: يتخذه نعلًا. أي: إنه يسري في كل ساعة من ساعات الليل، لا يتأَخر ولا يهاب. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 2/ 1283، وتعليق الأستاذ محمود شاكر على البيت في هامش "تفسير الطبري" 7/ 125 - 126. وفسر كراع النمل: (حداه الليل)؛ أي: ساقه وقال: (أي: ينتعل كل إنيٍ حداه؛ أي: ساقه، و (في) زائدة) المنتخب: 608. (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 52، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 737، "الدر المنثور" 2/ 115، وزاد نسبة إخراجه لابن إسحاق، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر. (¬2) لم أقف على مصدر قوله وقد أورده ابن الجوزي في الزاد: 1/ 442. والذي في تفسير الطبري عنه: (ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية) 4/ 52.

جريج (¬1). وقوله تعالى: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} قال الفرَّاء (¬2)، والزجاج (¬3): أي: يُصلُّون؛ لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فالمراد بـ (السجود) (هنا) (¬4): الصلاة، وإنَّما ذكرت بلفظ السجود؛ لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع. فعلى ما ذكروا (¬5)؛ الواو في (وهم) واو الحال؛ أي: يقرأون القرآن مُصَلِّينَ. وقال غيرهما (¬6): يجوز أن يكون المراد: حقيقة السجود، لا الصلاة؛ فيكون التأويل: يتلون آيات الله آناء الليل (¬7)، وهم مع ذلك يَسجدون. فليست الواوُ حالًا، وإنَّما هي عطف جملةٍ على جملة (¬8). وعلى هذا؛ لم يعدل بالسجود عن ظاهره. وقال ابن مسعود (¬9): هذه في صلاة العَتَمَة؛ يصلونها، ومن سواهم ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 52. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 231. (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 459. المؤلف -هنا- دمج بين عبارات الفراء والزجاج، ولفَّقَ بينها. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) في (أ) و (ج): (ذكر). (¬6) ممن قال ذلك: الطبري في "تفسيره" 4/ 56، رادًّا على الفراء رأيَه السابق. والعبارة التالية قريبة من عبارته في تفسيره. (¬7) (آناء الليل): ساقطة من: (ج). (¬8) أي: أنها معطوفة على قوله تعالى {يَتْلُونَ}، في موضع رفع نعت لـ {أُمَّةٌ}. وقد تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. واستحسن هذا مكِّي بن أبي طالب. (¬9) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 55، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 739، "التاريخ =

114

من أهل الكتاب لا يصليها. 114 - قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} قال ابن عباس (¬1): يريد: بتوحيد الله. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: يريد: عن الشرك بالله. وقال الزجاج (¬2): أي: يأمرون باتِّباع (¬3) النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينهون عن ¬

_ = الكبير" للبخاري 1/ 2/ 308، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 116 وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وقد وردت في رواية أخرى للطبري عن ابن مسعود عبارةٌ مُدرَجة، تبيِّن أن صلاة العتمة هي صلاة العشاء، ونصها: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ونحن ننتظر العشاء- يريد: العتمة- فقال لنا: ما على الأرض أحدٌ من أهل الأديان ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم. قال: فنزلت: {لَيْسُوا سَوَاءً}). وقد يكون الإدراج من الطبري أو من أحد رواة الأثر عن ابن مسعود. أخرج هذه الرواية: أحمد 1/ 396، والطبري في "تفسيره" 4/ 55، وابن أبي حاتم 3/ 738، والنسائي في "تفسيره" 1/ 320، وابن حبان (الإحسان) 4/ 397 رقم: 1530)، والبزار (انظر: "كشف الأستار" 1/ 190 رقم: 375)، والواحدي في "أسباب النزول" ص123، وانظر: "تفسير ابن مسعود" 1/ 176 - 178. وقد ورد عن ابن عباس، والسُدِّي تفسير {آنَاءَ اللَّيْلِ} بجوف الليل. وعن الثوري، عن منصور بن المعتمر السلمي: أنها بين المغرب والعشاء. وهي معان متقاربة، لأن كلًّا منها يصدق عليه أنه من آناء الليل. إلا أن الطبري يرى أن أَوْلاها، هو قول من قال: هي تلاوة القرآن في صلاة العشاء، لأنه صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 54 - 56، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 738 - 739. (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وفي "النكت والعيون" 2/ 881 أورد عن ابن عباس، أن (المعروف: اتباع الرسول. والمنكر: عبادة الأصنام). (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 460. نقله عنه بنصه. (¬3) في (ب): (يأمرون بتوحيد الله باتباع النبي).

115

الإقامة على مُشَاقَّتِه. وقوله تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} فيه وجهان لأصحاب المعاني: أحدهما: أنهم يبادرونها خوف الفَوْتِ بالموت (¬1). والآخر: [يعملونها] (¬2) غير متثاقلين (¬3) فيها (¬4). والسُّرْعة محمودةٌ، بخلاف العَجَلَة؛ وذلك أنَّ (السرعة): التقدم فيما ينبغي أن تتقدم (¬5) فيه. ونقيضها مذموم، وهو: (الإبطاء) (¬6). و (العَجَلَة) مذمومة، وهي: التقدم فيما لا ينبغي أن تتقدم (¬7) فيه (¬8). ونقيضها: (الأَنَاة) (¬9)، وهي محمودة. 115 - قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} موضع {يَفْعَلُوا}: جزم بالشرط، وجوابه: {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}. وفيهما قراءتان (¬10): ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك: الطبري في "تفسيره" 4/ 56. وهو المتبادر من معنى الآية. (¬2) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (يعلمونها). والمثبت من: (ج). (¬3) في (ب): (متشاقين). (¬4) لم أقف على من قال بهذا القول، ممن سبق المؤلف. (¬5) في (ب): (يتقدم). (¬6) انظر: "اللسان" 4/ 1994 (سرع)، "بصائر ذوي التمييز" 3/ 214. (¬7) في (ب): يتقدم. (¬8) قال الفيروز آبادي: (والعجلة من مقتضيات الشهوة؛ فلذلك ذُمَّت في جميع القرآن، حتى قيل: إن العجلة من الشيطان. وقوله -تعالى-: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، ذُكر أن عجلته -وإن كانت مذمومة- فالذي دعا إليها أمرٌ محمود، وهو: طلب رضا الله). "بصائر ذوي التمييز" 4/ 23. (¬9) في (ب): (الإناء). (¬10) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بالياء في {يَفعَلُوا} و {يُكفَرُوهُ}. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبي بكر عن عاصم، وابن عامر، بالتاء فيهما. وورد عن أبي عمرو القراءة بالياء، والتاء. انظر: "السبعة" 215، "الحجة" للفارسي: 3/ 73، "النشر" 2/ 241.

الياءُ؛ للكناية عن الأُمَّةِ القائمة، ثم سائر الخلق داخل في هذا الشرط. ومن قرأ بالتَّاء؛ فلأن نظائره جاءت بالتَّاء؛ مخاطبة لجميع الخلائق، من غير تخصيص قوم دون قوم؛ كقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} (¬1) [البقرة: 272]. ومعنى {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}: فلن تعدموا (¬2) ثوابه، ولن تُجحَدوا جزاءَه (¬3) وسُمِّيَ منعُ الجزاء على عمل الخير كفرًا؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ له، والسَّتْر (¬4)؛ لئلا يقع الجزاء عليه. ولمَّا جعل ثواب الطاعة من الله تعالى ¬

_ (¬1) ورد في (أ)، (ب)، (ج): (وما تفعلوا من خير يوف غليكم) وليست هذه آية قرآنية. والصواب ما أثبته. وقد أورد هذه الآية في هذا الموضع -في سياق بيان وجه القراءة بالتاء- الفارسيُّ في "الحجة" 3/ 73 - وهو من مصادر المؤلف في كتابه هذا-، وكذا أوردها مكيُّ في "الكشف" 1/ 354. (¬2) في (ب): (تقدموا). وقوله: (ولن تعدموا ثوابه ولن تجحدوا جزاءه): بنصها في "تفسير الثعلبي" 3/ 103أ. (¬3) في (ج): (جزاه). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 57. (¬4) أصل معنى كلمة (كفر): السَّتْر والتغطية. انظر: (كفر) في "تهذيب اللغة" 4/ 3160. "مقاييس اللغة" 5/ 191. وعبارة الطبري في بيان معنى الآية: (فلن يغطي على ما فعلوا من خير، فيتركوا بغير مجازاة، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك فيجزل لهم الثواب). "تفسيره" 4/ 57، وانظر: "المحرر الوجيز" 3/ 280.

116

شُكْرًا لأن معنى الشاكر في (¬1) صفته: أنَّه يُثِيب (¬2) على الطاعة (¬3) جعل منع الثواب كفرًا. ومعنى (¬4) قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي: لا يُضيع شيئًا من أعمالهم (¬5)؛ لأن المُجازي به عليمٌ بهم. 116 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس (¬6): يريد: قريظة والنضير (¬7). {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} أي: لن تدفع عنهم الضَّررَ إذا نزل بهم أموالُهم ولا أولادُهم. خُصَّا بالذكر؛ لأنهما مُعتَمَد ما يقع به الاغترارُ، فإذا لم يغنيا، فغناء مَن دونهما أبعد. وقال الزجّاج (¬8): لأن رؤوساء اليهود مالوا إلى الأموال في معاندتهم ¬

_ (¬1) في (ج): (مع). (¬2) في (ج): (يثبت). (¬3) قال الزجاج: (فكأن الشكر من الله -تعالى- هو: إثابتة الشاكر على شكره، وقبوله للطاعة شكرا على طريقة المقابلة؛ كما قال عز اسمه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} [البقرة: 194]). "تفسير أسماء الله الحسنى" 48. ونقل الأزهري عن الزجاج -كذلك- قوله: (والشكور من أسماء الله -جل وعز- معناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم به الجزاء). "تهذيب اللغة" 2/ 1913. (¬4) ومعنى: ساقطة من: (ج). (¬5) في (أ) و (ج): (عملهم). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. (¬7) قال الطبري: (وهذا وعيد من الله عز وجل للأمَّة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب ... ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله ..). "تفسيره" 4/ 58. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 460. نقله عنه بالمعنى.

117

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قامت لهم الرياسة، واكتسبوا الأموالَ بمعاندته. والدليل على ذلك: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] الآية. وخص الأولاد؛ لأنهم أقرب أنسبائهم (¬1) إليهم. وقال بعض المفسرين (¬2): لن تغني عنهم أموالُهم في الصدقات، ولا أولادُهم في الشفاعات، بخلاف المؤمن، فإنَّ المؤمنَ ينفعه مالُه في الكَفَّارات والصدقات؛ وأولاده في الشفاعة. والدليل على صحة هذا التفسير: ما ذكر مِن بُطلان نفقاتهم عقيب هذه الآية في: 117 - قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. قال يَمَان (¬3): نزلت في إنفاق أبي سفيان والمشركين في بدر وأحد، على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال مقاتل (¬4): يعني: نفقة سَفَلَة اليهود على علمائهم (¬5). وقال مجاهد (¬6): يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا، وصدقاتهم. ¬

_ (¬1) في (ب)، (ج): أنسابهم. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 103 ب، وقد أورد الماوردي هذا القول في "النكت والعيون" 1/ 418 ولم يعزه لقائل. (¬4) قوله في "تفسيره" 1/ 296، "تفسير بحر العلوم" 2/ 135، "الثعلبي" 3/ 103 ب. (¬5) بيَّن مقاتل أن نفقة سفلة اليهود على علمائهم، يبتغون بها الآخرة، ثم أردف مقاتل قائلًا: (فكذلك أهلك الله نفقات سفلة اليهود ومنهم كفار مكة التي أرادوا بها الآخرة، فلم تنفعهم نفقاتهم). "تفسيره" 297. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 59، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 741، وتفسير مسلم بن خالد الزنجي: 77 (ضمن الجزء الذي فيه تفسير القرآن ليحيى بن اليمان وغيره =

الزجّاج (¬1): كل ما أُنفق في التظاهر على عداوة الدين. ومعنى (المَثَل): الشَّبَهُ الذي يصير كالعَلَمِ؛ لكثرة استعماله فيما يُشَبَّه به (¬2). ولا بُدَّ من تقدير محذوفٍ من الكلام، حتى يتقابل المثلان في التشبيه (¬3)، وهو: مَثَل إهلاك ما ينفقون، كَمَثَل إهلاك ريح. فحذف الإهلاك؛ لدلالة آخر الكلام عليه (¬4). ¬

_ = رواية أبي جعفر الرملي). وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 117 وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬1) في "معاني القرآن" له: 1/ 461. (¬2) انظر: (مثل) في "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: 759، "اللسان" 7/ 4132. وانظر الوجوه المختلفة لكلمة (مثل) في القرآن، في "التصاريف" 253، "الوجوه والنظائر" في القرآن، د. القرعاوي: 588. (¬3) وذلك أن الظاهر -هنا-: تشبيه الشيء المُنفَق بالريح، وفي ذلك إشكال؛ لأنه ليس هو المقصود من معنى المثل هنا، لذا لزم التقدير. (¬4) وقيل: هو من باب التشبيه المركب، شبَّه هيئة حاصلة من أشياء، بهيئة أخرى. وبه قال الزمخشري في "الكشاف" 1/ 457. وقيل: هو من باب التشبيه بين شيئين وشيئين، فذكر الله أحد الشيئين المشبَّهين وترك الآخر، وذكر أحد الشيئين المشبَّه بهما -وليس هو مما يقابل المذكور الأول- وترك ذكر الآخر، ودلَّ المذكوران على المتروكَيْنِ. وبه قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 281 وقال: (وهذا غاية البلاغة والإعجاز). وانظر: "البحر المحيط" 3/ 37، "الدر المصون" 3/ 358 - 359. قال ناصر الدين بن المنير: (أصل الكلام-والله أعلم-: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم، فأصابته ريح فيها صِرٌّ فأهلكته، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور؛ لفائدة جليلة، وهو: تقديم ما هو أهم؛ لأن الريح التي هي مثل العذاب، ذِكْرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها، واعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة بردِّ الكلام إلى أصله على أيسر وجه ..). الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال (مطبوع مع "الكشاف" (1/ 458).

وقوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} اختلفوا في (الصّر): فقال أكثر المفسرين، وأهل اللغة (¬1): الصِّرُّ: البَرْد الشديد. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬2)، وقتادة (¬3)، والربيع (¬4)، والسدّي (¬5)، وابن زيد (¬6). ومعنى الآية: أن إنفاقهم في الدنيا على عداوة الدين، أفسد عليهم أعمالَهم في الآخرة، كما أفسدت هذه الريحُ -التي فيها الصِّرُّ- الزرعَ الذي وقعت به (¬7). ¬

_ (¬1) (أهل اللغة) ساقط من: (ج). (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء، ولكن ورد عنه ذلك من طرق أخرى أخرجها الطبري 4/ 59، وابن أبي حاتم 3/ 741، وذكر هذا القول عنه الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 418، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 117 وزاد نسبة إخراجه لسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 59، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 741، "النكت والعيون" 1/ 418. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 59، "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 741. (¬5) قوله في المراجع السابقة، "النكت والعيون" 1/ 418. (¬6) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 60، ونصه: (قال: (صر): باردة، أهلكت حرثهم، وقال: والعرب تدعوها (الضريب)، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا قد أحرق الزرع). و (الضريب) هنا معناها: الثلج والجليد والصقيع. انظر: "القاموس" ص 107 (ضرب). وممن فسر (الصر) بـ (الريح الباردة): أبو عبيدة، وأبو عبيد بن سلام، وابن السكيت، والمبرد، والطبري، والزجاج، والنحاس. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 102، "غريب الحديث" لأبي عبيد: 4/ 472، "إصلاح المنطق" 21، "الكامل" للمبرد: 1/ 25، "تفسير الطبري" 4/ 60، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 461، "معاني القرآن" للنحاس: 1/ 464. (¬7) قال ابن القيم: (هذا مثل ضربه الله -تعالى- لمن أنفق ماله في غير طاعته =

وقال الزّجاج (¬1): أعلم الله -تعالى-: أن ضَرَرَ نفقتهم عليهم، كضَرَرِ هذه الريح على (¬2) هذا الزرع. وقال ابن عباس (¬3): الصِّرُّ: السَّمُومُ الحارَّةُ التي تقتل (¬4). وإلى قريبٍ من هذا القول ذهب ابنُ كيسان، وابن الأنباري (¬5) (فقالا) (¬6): الصِّرُّ: النار. وهو قول مجاهد -في رواية ابن أبي نَجِيح- (¬7). ¬

_ = ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر، وكسب الثناء، وحسن الذكر، لا يبتغون به وجه [الآخرة]، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله -عليهم الصلاة والسلام-، بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابه ريح شديدة البرد جدًا، يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته). أمثال القرآن: 52. (¬1) في: "معاني القرآن"، له 1/ 461. نقله بنصه. (¬2) في "معاني القرآن": في. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده البغوي 2/ 94، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 444. وذكر هذا القول عنه: ابن القيم في "أمثال القرآن": 53، وابن كثير في: "تفسيره": 1/ 427. (¬4) في (ج): (تقبل). والسَّمُوم: ريح حارَّة تكون غالبًا في النهار. والجمع: سمائم. انظر: "القاموس": ص 1124 (سمم). (¬5) لم أقف على مصدر قوليهما. وفي تفسير الفخر الرازي: (الصِّر: هو السموم الحارة، والنار التي تغلي، وهو اختيار أبي بكر الأصم، وأبي بكر بن الأنباري) 8/ 213. ثم ذكر بقية قول ابن الأنباري الآتي. (¬6) من (أ) وفي باقي النسخ: (فقال). (¬7) أخرج عنه ذلك ابن أبي حاتم في: "تفسيره": 3/ 741 قائلًا: (وروي عن مجاهد في إحدى الروايات نحو ذلك)؛ أي: نحو قول ابن عباس في تفسير (الصِّرِّ) =

قال ابن الأنباري (¬1): وإنما وُصِفت النارُ أنها صِرٌّ؛ لتَصْرِيَتِها (¬2) عند الالتهاب. قال الزجاج (¬3): وهذا غير ممتنع. وصوت لهيب النار يُسمَّى صِرًّا (¬4)، ومن هذا: (صرير الباب). ويقال: (صَرْصَرَ الأخطَبُ (¬5) ¬

_ = بـ (النار)، ولم يُبَيِّن ابنُ أبي حاتم السندَ إلى مجاهد. وابنُ أبي نَجِيح، هو: أبو يَسَار، عبد الله، بن أبي نجيح - (يسار) -، المَكِّي، الثقفي بالولاء. من الأئمة الثقات، إلا أنه رُمي بالقدر والاعتزال، وربَّما دَلَّس. قال ابن تيمية: (تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، من أصح التفاسير، وليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير، أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة)، مات (131 هـ)، وقيل: بعدها. انظر: "تفسير سورة الإخلاص"، لابن تيمية: 201، و"ميزان الاعتدال": 3/ 229، و"تقريب التهذيب": ص 326 (3662). (¬1) لم أقف على مصدره. وقد أورد قوله هذا ابن الجوزي في: الزاد: 1/ 445، وابن القيم في: أمثال القرآن: 53، والفخر الرازي في: "تفسيره": 8/ 213. وكذا نقل صاحب "اللسان" هذا المعنى، فقال: (وقال ابن الأنباري في قوله -تعالى-: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}، قال: فيها ثلاثة أقوال: أحدها: فيها برد، والثاني: فيها تصويت وحركة، وروي عن ابن عباس قوله آخر: {فِيهَا صِرٌّ}، قال: فيها نار) 4/ 2429 (صرر). (¬2) في "زاد المسير"، و"تفسير الفخر الرازي" لتصويتها. وورد في "أمثال القرآن" لابن القيم: (لتصريتها) -كما هي عند المؤلف-. (¬3) في: "معاني القرآن"، له: 1/ 461. (¬4) ونص عبارة الزجاج: (وجعل فيها صِر؛ أي: صوت، وهذا يخرج في اللغة، وإنما جعل فيها صوتًا؛ لأنه جعل فيها نارًا، كأنها نار أحرقت الزرع. فالصر -على هذا القول-: صوت لهيب النار، وهذا كله غير ممتنع). (¬5) الأخطب: من نوع الطيور، قيل: هو الشِّقِرَّاق، وهو طائرٌ مُرَقَّط، وقيل: هو الصُّرَد. وسُمِّيا بذلك، لأن فيهما سوادًا وبياضًا. انظر: "تاج العروس": 1/ 469 (خطب).

صَرْصَرَةً) (¬1). و (الصَّرَّةُ): الصَّيْحة (¬2)، ومنه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ} (¬3) [الذاريات: 29]. وقول ابن عباس على هذا يتوجه، فإن السموم الحارة لها صوت، ألا ترى إلى قول الراعي: فَعُجْنَا على رَبْعٍ بِرَبْعٍ تَعُودُهُ ... مِنْ الصَّيفِ جَشَّاءُ الحَنِينِ نَؤُوجُ (¬4) ¬

_ (¬1) تقول العرب: (صَرَّ الجُنْدبُ صَرِيرًا)، و (صرصر الأخطبُ صَرْصَرَةً)، و (صَرَّ البابُ يَصِرُّ). (وكل صوت شِبْه ذلك فهو صرير؛ إذا امتد، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضُوعِف). "العين": 7/ 82 (صرّ)، وانظر: "الصحاح":712 (صرر). (¬2) انظر: "اللسان": 4/ 2429 (صرر). (¬3) تفسير (الصرَّة) بـ (الصيحة) هو ما عليه أكثر أهل التفسير. انظر: "تفسير الطبري" 26/ 209، و"العمدة في غريب القرآن" لمكي 282، و"تفسير أبي المسعود" 8/ 140، و"الدر المنثور": 2/ 117. وقال السمين الحلبي في تفسيرها: (قيل: جماعة من النساء. سميت صرة؛ لانضمام بعضها إلى بعض، كأنهم جُمِعوا وصُرُّوا في وعاء واحد ..). "عمدة الحفاظ" 292 (صرر)، ثم ذكر المعنى الآخر. وما ذكره الحلبي صحيح من ناحية اللغة. انظر هذا المعنى في: "الصحاح": 2/ 170 (صرر)، و"اللسان": 4/ 2429. (¬4) البيت في: ديوانه: 22. وورد منسوبًا له في: "تهذيب اللغة": 2/ 1347 (ربع)، و"اللسان": 3/ 1563. وروايته في الديوان: فعجنا على رَسْمٍ بربْعٍ تَجُرُّهُ وفي "اللسان": (تُؤَرِّجُ) بدلًا من: (نَؤُوُج). وقوله: (فعُجْنا)، من (عاج بالمكان، وعاج عليه، عَوْجًا)؛ أي: عَطَفَ عليه، ومالَ، وألَمَّ به، ومرَّ عليه. والرَّبْع: هو المنزل، وأهل المنزل. والرَّبع الثاني الذي ذكره في البيت، يريد به: طَرَف الجَبَل. =

فعلى هذا، قوله: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي: سَمُوم؛ كالنار أحرقت الزرع، أو نارٌ لها صوت (¬1). وروى ابن الأنباري -بإسناده- عن السُّدِّيّ، عن أبي مالك (¬2)، عن ابن عباس، في قوله: {فِيهَا صِرٌّ}، قال: فيها نار (¬3). وقوله تعالى: {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن عباس (¬4): جحدوا نعمة الله عندهم. وقال آخرون (¬5): ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. ¬

_ = وقوله: (جشَّاء الحنين): (الأجش): الغليظ الصوت، والمؤنث: (جَشَّاء)؛ أي: لها صوت أجش. يقال للريح التي لها حنين يشبه حنين الإبل: (الحَنُون). وقوله: (نؤوج) من (نَأجَ، ينأجُ، نأجًا) وهو من الإنسان أحزن ما يكون من الدعاء وأضرعه وأخشعه. و (النَّأج، والنئيج)، بمعنى: الصوت والسرعة، ويقال عن الريح: (نَأجَتْ، تَنْأجُ، نَئِيجًا): تحركت، فهي (ريح نؤوج)، و (لها نَئيج)؛ أي: مَرٌّ سريع مع صوت. انظر: "تهذيب اللغة": 2/ 1347 (ربع)، و"اللسان": 5/ 3156 (عوج)، 7/ 4312 (نأج)، 2/ 1029 (حنن)، 2/ 628 (جشش). (¬1) قال ابن القيم: (وأقوال الثلاثة متلازمة، فهو برد شديد محرق بِيبُسْه للحرث، كما تحرق النار، وفيه صوت شديد). "أمثال القرآن": 53. وانظر: "تفسير ابن كثير": 1/ 427. (¬2) هو: غَزْوان الغِفاري الكوفي، مشهور بكنيته (أبي مالك). ثقة، عده ابن حجر من الطبقة الوسطى من التابعين، توفي بعد المائة. انظر: "الجرح والتعديل": 7/ 55، و"التقريب": ص 442 (5354). (¬3) وقد أخرج هذا القول عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره": 3/ 741 من رواية عنترة بن عبد الرحمن الكوفي عنه. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) منهم السدي، وهو ما يفهم من قوله في الآية: (فكذلك أنفقوا، فأهلكهم شركهم). "تفسير الطبري": 4/ 60. و"تفسير ابن أبي حاتم": 3/ 742. وهو قول الطبري في "تفسيره". وهو قول الكلبي. انظر: "بحر العلوم" 2/ 135، وقول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 103 ب.

118

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لأنَّ كلَّ ما فعله بخلقه فهو منه عدلٌ، ومَن تَصَرَّف في حقيقة مُلْكِهِ، لا يُوصَفُ تصرفُهُ بأنه ظلم. {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنَّ الإنسان -بالكفر والعصيان- هو الذي يَظلِمُ نفْسَه. قال أهل المعاني: وفي هذا حسرة شديدة لهؤلاء المنفقين، ومصيبة عظيمة؛ لأنهم رجوا (¬1) فائدة نفقاتهم، وعائدتها، فعادت عليهم بالمَضَرَّة (¬2)، كما رجا أصحابُ الزرع عائدةَ زرعِهم، فضربته (¬3) الريحُ وأهلكته (¬4). 118 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية. قال المفسرون: نزلت في النهي عن مداخلة اليهود والمنافقين (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): ربحوا. ولا وجه لها. والمثبت من: ج؛ نظرًا لمناسبته لما بعده من قوله: (كما رجا أصحاب الزرع ..)، ولمناسبته للمعنى المراد. وقد وردت هذه الكلمة في: "تفسير الطبري": 4/ 60 عند تفسير هذه الآية. (¬2) في (ب): (المضرة). (¬3) في (ج): (فضربتها). (¬4) انظر معنى هذا القول في: "تفسير الطبري" 4/ 60. (¬5) ورد ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، وغيرهم. انظر: "سيرة ابن هشام": 2/ 186، و"تفسير الطبري":4/ 61، و"تفسير ابن أبي حاتم": 3/ 742 - 743، و"تفسير الثعلبي": 3/ 104 أ، و"أسباب النزول" للواحدي: ص 124، و"الدر المنثور": 2/ 118. ولا يمنع كونها نازلة في اليهود والمنافقين، أن يدخل في النهي اتِّخاذ جميع أصناف الكافرين بطانة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وقد قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}. [سورة الممتحنة:1]. =

و (البِطَانَة): قال أبو حاتم، عن الأصمعي (¬1): (بَطَن فلانٌ بفلان، يَبْطُنُ به بُطُونًا، وبِطَانَةً) (¬2): إذا كان خاصًّا به، داخلًا في أمره. فـ (البِطانة) (¬3) مصدرٌ يُسَمَّى به الواحد والجمع. قال الشاعر: أولئك خُلْصاني نَعَمْ وبِطانَتِي ... وهُمْ عَيْبَتِي (¬4) مِن دونِ كلِّ قَرِيبِ (¬5) ¬

_ = وقد قيل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: (إن ههنا غلامًا من أهل الحيرة، حافظًا كاتبًا، فلو اتّخذته كاتبًا. قال: قد اتّخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين). أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 743، وأورده ابن كثير 1/ 428، والسيوطي في "الدر": 2/ 118، وزاد عزوه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة. قال ابن كثير -معلقًا في هذا الموضع-: (ففي هذا الأثر مع هذه الآية [أي: آية سورة آل عمران 118] دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، وإطلاع على دواخل أمورهم، التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل العرب؛ ولهذا قال: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}). "تفسيره": 1/ 428. وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 8/ 215. (¬1) قوله، في: "تهذيب اللغة": 1/ 350 (بطن). وهو من قوله: (أبو حاتم ..) إلى (في أمره). نقله عنه بنصه. (¬2) وبطانة: ليست في: "تهذيب اللغة". وهي في: "اللسان": 1/ 304 (بطن) حيث أورد نفس النص، ولكن دون عزو. (¬3) في (أ): (بالبطانة). وفي (ب): (في البطانة). والمثبت من (ج). (¬4) في (ب): (عينتي). (¬5) لم أقف على قائله. وقد ورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" 3/ 104 أ، و"البحر المحيط" 3/ 33، و"الدر المصون" 3/ 363، و"فتح القدير" للشوكاني 1/ 566. وفي "فتح القدير": (وهم خلصاني كلهم وبطانتي). وقوله: (خُلْصاني)؛ أي: خُلَصائي. ويستوي فيه الواحد والجماعة. =

وبِطَانة الرجل: خاصَّتُه الذين يَسْتَبْطنون (¬1) أمْرَهُ. وأصله من: (البَطْنِ) خلاف الظهر، ومنه (¬2): (بِطانَة الثوب)، خلاف (ظهارته) (¬3). وقوله تعالى: {مِنْ دُونِكُمْ} أي: مِن دون المسلمين، ومِن غير أهل ملَّتكم، وظاهر هذا للمخاطَبِين، وهو يريد: جميع المسلمين. يعني لا تتخذوا بطانة مِن دون (¬4) المسلمين (¬5). وصلح أن يُعَبَرَ {مِنْ دُونِكُمْ} عن هذا. كما يقول الرجل: (قد قتلتمونا [وهزمتُمُونا] (¬6)؛ وهو يريد قتلتم إخواننا. وقد تقدم لهذا نظائر (¬7). وقوله تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} يقال (¬8): (أَلَوْتُ في الشيء، ¬

_ = و (عَيْبَة الرجل): موضعُ سِرِّه والجمع: (عِيَبٌ)، و (عِياب)، و (عَيْبات). انظر: "اللسان": 5/ 3184 (عيب)، 2/ 1228 (خلص). (¬1) في (أ)، (ب): (يستنبطون). ولا وجه لها. والمثبت من (ج)، ومصادر اللغة. (¬2) منه: ساقطة من (ج). (¬3) انظر: (بطن) في: "الصحاح" 2079 - 2080، و"مقاييس اللغة" 1/ 259. (¬4) في (ب): من دونكم من دون المسلمين. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن"، لابن قتيبة 1/ 103، و"تفسير الطبري" 4/ 61، و"تفسير أبي السعود" 2/ 76، و"فتح القدير" 1/ 566. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) ومن ذلك قوله -تعالى- عن بني إسرائيل: {فَأقتُلُوَا أَنفُسَكُم} [من سورة البقرة: 54]. لا يعني بها أن يقتل كل واحد منهم نفسه بيده، بل يعني ليقتل بعضكم بعضًا، أو ليقتل البريء منكم المجرم. ومنها قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [من سورة البقرة: 61]. والمعنِيِّين في الآية لم يقتلوا النبيين، وإنما الذي قتل النبيين آباؤهم، وإنما هم تولوا القتلة. وانظر: الآية: 21 من سورة آل عمران، والآية: 61 من سورة النور. وانظر: "معاني القرآن"، للنحاس: 1/ 465، و"تفسير الفخر الرازي": 8/ 216. (¬8) في (أ)، (ب): (لا يقال). وهو خطأ واضح. والمثبت من (ج).

أَلْوًا (¬1)؛ أي: قَصَّرت. قال امرؤ (¬2) القيس: وما المَرْءُ ما دامت حُشَاشَةُ (¬3) نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أطرافِ الخُطُوبِ ولا آلِي (¬4) قال أبو الهيثم (¬5): يقال: (أَلاَ، يَألُوا): إذا فَتَرَ (¬6)، وضعُف، وقَصَّر (¬7)، ومثله: (أَلَّى (¬8)، وائْتَلَى)، وأنشد: ¬

_ (¬1) في (أ): (آلوا). وهي خطأ. والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر اللغة. (¬2) في (ب): (امرئ). (¬3) في (أ): (حَشاشة) -بفتح الحاء-. ولم أرها في معاجم اللغة التي رجعت إليها. وأهملت حركاتها في: (ب)، (ج). وما أثبتُّه، فمن مصادر البيت وكتب اللغة. (¬4) في (ج): (ولا ألي). والبيت في: ديوانه: ص 129. كما ورد منسوبًا له في: كتاب "المعاني الكبير": 3/ 1255، و"الزاهر": 1/ 268. وورد غير منسوب في: "اللسان": 2/ 886 (حشش)، 1/ 176 (ألا). والحُشاشة: الروح ورمق الحياة، وبقية الروح في المريض، وكل بَقِيَّة: (حشاشة). انظر: "اللسان": 2/ 886 (حشش). ومعناه: إن المرء ما بقيت فيه بقية من روح، فإنه يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق ما يريد، ومع هذا فإنه لن يحصل على كل شيء، ولن يدر أواخر الأمور. (¬5) قوله، في: "تهذيب اللغة": 1/ 179، و"اللسان": 1/ 117. (¬6) في (أ)، (ب): (أفتر). والمثبت من: (ج)، و"تهذيب اللغة"، و"اللسان". (¬7) وقصَّر: غير موجودة في (التهذيب)، "اللسان". (¬8) في (أ)، (ب): (آلى). وفي (ج): (الا). وقد أثبتُها (ألَّى)؛ لأنه بدا لي -والله أعلم- أن المؤلف هكذا أرادها؛ والدليل على ذلك: أنها جاءت بهذه الصورة في: "التهذيب" و"اللسان"، وبقية مصادر اللغة التي رجعت إليها. إضافة إلى أن =

فما أَلَّى بَنِيَّ ولا أساؤوا (¬1) أي: ما قصَّروا (¬2). ¬

_ = المؤلف أورد الشاهد الشعري بعدها دليلًا على ورودها في اللغة بهذه الصورة، وقد وردت فيه (ألَّى) كما سيأتي. مع ملاحظة أن (آلى) صحيحةٌ لغةً، وقد أوردها ابنُ فارس في: "مقاييس اللغة": 1/ 128 (ألوى)، وأورد بعدها الشاهد الشعري الآتي دليلًا عليها، وفيه (آلى) بدلًا من (ألَّى). ومن معاني (آلى): حَلَفَ. يقال: (آلَى، يُؤلي، إيلاءً). وتأتي: (يَتَألَّى تألِّيًا)، و (ائْتَلَى يأتَلي ائْتِلاءً). كلها بمعنى: اليمين. انظر: "مقاييس اللغة": 1/ 128 (ألوى)، و"اللسان": 1/ 117 (ألا). (¬1) في (ب)، (ج): وردت (ألَّى) في البيت مهملة بدون همز ولا تشكيل. وهذا شطر بيت للرَّبيع بن ضبُع الفَزَاري. وأول البيت: وإنَّ كَنَائِني لَنِساءُ صِدْقٍ وقد ورد منسوبًا له في: كتاب " المعاني الكبير" 1/ 532، و"تهذيب اللغة" 1/ 179 (ألى)، و"غريب الحديث"، للخطابي 1/ 58، و"الصحاح" 6/ 2270 (ألا)، و"أمالي المرتضى" 1/ 255، و"الإفصاح" للفارقي 270 و"الفائق" للزمخشري 1/ 65، و"اللسان" 1/ 117 (ألا)، و"خزانة الأدب" 7/ 381، 382. وورد غير منسوب في: "مقاييس اللغة" 1/ 128 (ألوى). وقد ورد في كل المصادر السابقة -إلا في: "المقاييس"، و"أمالي المرتضى" كالتالي: (وما ألَّى بَنِيَّ). أما في: "المقاييس"، و"الأمالي"، فورد: (.. آلَى ..)، وورد في بعض المصادر: (وما أساؤوا). الكَنائن: جمع: كَنَّة. وهي امرأة الابن والأخ. انظر: "القاموس": 1585 (كنن). و (ألَّى) فعَّلَ، من: (ألَوت)؛ أي: أبطأت. أو من: (الألُوِّ)؛ أي: التقصير. انظر: كتاب "المعاني الكبير": 1/ 532، و"التهذيب": 1/ 179 (ألى). ويعني الشاعر: أن كنائنه نِعْم النساء، وأن بنيه ما أبطؤوا عن فعل المكارم، وما يجب عليهم من القيام بأمره، وما قصَّروا في ذلك. (¬2) نقل في "خزانة الأدب" قول أبي حاتم السجستاني، معلقًا على البيت: (والتألية: =

قال امرؤ القيس: أَلاَ رُبَّ خَصْمٍ فيكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٍ على تَعْذالِهِ غيرِ مُؤْتَلِي (¬1) أي: غير مقصر. و (الخَبَالُ) -في اللغة-: الفساد والشر. ومنه قوله تعالى: {مَّا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا} (¬2)؛ أي (¬3): يريد (¬4): [إلَّا] (¬5) شرًّا (¬6). ¬

_ = التقصير، ومن قال: (وما آلى) بالمد؛ فمعناه ما أقسموا؛ أي لا يَبرُّوني) 7/ 382. وذكر محقق "أمالي المرتضى" 1/ 255: أنه في حاشية نسخة أخرى للأمالي، ورد التالي: (ألّى) - بتشديد اللام. قال: وهو الصحيح، ومعنى (ألّى): قصر، في قول بعضهم. واللغة الأخرى: (ألا) -مخففًا-؛ يقال: (ألا الرجلُ)، (يألوا): إذا قصر وفَتَر. فأما (آلى) في البيت، فلا وجه له؛ لأنه بمعنى: حلف، ولا معنى له -ههنا-). وانظر: "الخزانة"، في الموضع السابق. (¬1) البيت في: ديوانه: (116). و"شرح القصائد السبع"، لابن الأنباري: 73، و"شرح المعلقات السبع"، للزوزني: 25، و"شرح القصائد العشر"، للتبريزي: 35. (الألوى): الشديد الخصومة، الجَدِل. و (النصيح): الناصح. و (التَّعْذال): هو العَذْل؛ أي: اللوم. و (غير مؤتلي): غير مقصر. ومعنى البيت: ألا رُبَّ خصم؛ شديد في خصومته؛ جَدِلٍ في كلامه، كان ينصحني، غير مقصر في نصيحته لي، ولومه إيّاي على حبي لكِ، قد رددته، ولم أرجع عن هواك بلومه ونصحه. أي: إنه بلغ من شدة حبه لها الغاية القصوى، لدرجة أنه لا يؤثر فيه، ولا يثنيه عن ذلك نصح ناصح، ولا لومُ لائم. انظر: المراجع السابقة. (¬2) [سورة التوبة: 47]، وتمامها: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. (¬3) (أي): ساقطة من (ب)، (ج). (¬4) في (أ): (لا يريد). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ب). (¬6) انظر: "مجاز القرآن": 1/ 103، 261 و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 187،=

ويقال: (في قوائم الدابَّة خَبَالٌ)، و (في عَقْلِهِ خبالٌ)؛ أي: و (رجلٌ مُخَبَّلُ الرأي): فاسدُهُ، [و] (¬1) مُضْطَرِبُهُ. و (خَبَلَهُ (¬2) الحُبَّ)؛ أي: أفسده (¬3). ومعنى قوله: {لَا يَأْلُونَكُم خَبَالًا} أي: لا يَدَعُونَ جهدَهم في مضرَّتِكم، وفسادكم (¬4). يقال: (ما أَلَوْتُهُ نُصْحًا)؛ ما قصَّرت في نصيحته (¬5)، و (ما أَلَوْتُه شَرًّا)، مثله. قال الزجَّاج (¬6): {لَا يألُونَكُم خَبَالًا} أي: لا يُبْقون (¬7) غايةً في إلقائكم فيما يضركم (¬8). ومحل قوله: {لَا يأْلُونَكُمْ}: النَّصْبُ، لأنه صفة البطانة (¬9). ¬

_ = و"نزهة القلوب" للسجستاني 217، و"بحر العلوم" لأبي الليث 1/ 294، و"تفسير الثعلبي" 3/ 104 ب، و"تحفة الأريب" لأبي حيان 113. (¬1) ما بين المعقوفين: زيادة من (ب). (¬2) في (ج): (ختله). (¬3) انظر: (خبل) في: "إصلاح المنطق": 52، و"تهذيب اللغة": 1/ 981، و"مقاييس اللغة": 2/ 242. (¬4) انظر: "بحر العلوم" لأبي الليث: 1/ 294. (¬5) في (ج): (نصيحة). (¬6) في: "معاني القرآن"، له: 1/ 462. (¬7) في (ج): (لا يتقون). (¬8) في "معاني القرآن": في إلقائهم فيما يضرهم. (¬9) انظر: "البيان"، للأنباري 1/ 217، و"التبيان" للعكبري (206). وقيل: هي حال من الضمير في قوله تعالى: {مِنْ دُونِكُمْ} على أن يكون الجارُّ صفة لـ (بطانة). وقد جوز كونها -والجمل التي بعدها- صفة، الزمخشريُّ، ولكنه جعل الأَوْلَى من ذلك أن تكون مستأنفة على وجه التحليل للنهي عن اتِّخاذهم بطانة. وأيد ذلك ابن هشام. =

وانتصب (¬1) (الخَبَالُ) بـ (الأَلْوِ)؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، كما ذكرنا (¬2). وإن شئت نصبته (¬3) على المصدر؛ لأن معنى قوله: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}: يُخبلونكم خَبَالًا (¬4). ¬

_ = انظر: "الكشف": 1/ 458، و"المغني"، لابن هشام: 503 - 504. أما أبو حيان فلا يرى أن تكون هذه الجمل صفة للبطانة أو حالًا، ولا يجيز ذلك، ويرى لها وجهًا واحدًا فقط، هى أن تكون استئنافية، لا محل لها من الإعراب (جاءت بيانًا لحال البطانة الكافرة؛ لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة). ويرى أن من قال عنها أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به (مِن) (فبعيد عن فهم الكلام الفصيح؛ لأنهم نُهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبَّه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، ووداد مشقتهم، وظهور بغضهم، والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما). "البحر المحيط": 3/ 38. (¬1) من قوله: (وانتصب) إلى (يخبلونكم خبالًا): نقله بتصرف عن "الثعلبي" 3/ 104 ب. (¬2) أي هو مفعول ثانٍ. قال الزمخشري عن تعدِّي فِعْلِ (ألا) الذي بمعنى قصَّر: (يقال: (ألاَ في الأمر، يألو): إذا قَصَّرَ فيه، ثم استعمل فعدِّيَ إلى مفعولين في قولهم: (لا آلُوكَ نُصْحًا)، و (لا آلوك جهدًا)؛ على التضمين؛ والمعنى: لا أمنعك نصحًا، ولا أنقصكه). "الكشاف": 1/ 458. (¬3) في (ج): (نصبت). (¬4) في (أ): لا يختلونكم خبالًا. ب: لا يخبلونكم خبالًا. والجملة ساقطة من (ج). وأثبتُّها بحذف حرف النفي (لا) كما جاءت في: "تفسير الثعلبي"، ولأنها لا وجه لها بوجود حرف النفي. وأثبتُ (يخبلونكم) من: ب، و"تفسير الثعلبي". وقد ذُكر في نصب (خبالًا) أقوالٌ أخرى، منها: - إنها منصوبة على إسقاط حرف الجر، والتقدير: لا يألونكم في خبال؛ أي: في تخبيلكم، ويكون حينها فعل (ألاَ) يتعدى إلى مفعول واحد بغير حرف الجر. - وقيل: إنها مصدر في موضع الحال. أي: مُتَخبلين. انظر: "التبيان" للعكبري (206)، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 620.

وقوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}. قال المفسرون (¬1): ودُّوا عَنَتَكم (¬2). والعَنَت (¬3): دخول المشقة على الإنسان، ووقوعه فيما لا يستطيع الخروج منه. يقال: (عَنِتَ الرجل): إذا صار إلى هذه الحالة. و (عَنِتَ) -أيضًا-: إذا أثم (¬4). و (ما) (¬5) -ههنا- (ما) المصدر، كقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (¬6)؛ أي (¬7): عزيز عليه عنَتُكم (¬8)، وهو: لقاء الشِّدَّةِ والمَشَقَّةِ (¬9). وقيل (¬10) في قوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}، أي: ما أعنتكم من مكروه، ¬

_ (¬1) منهم: ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن": 109، والزجاج في: "معاني القرآن" 1/ 462، والطبري في: "تفسيره": 4/ 61. (¬2) في (ج): (ودُّوا ما عنتم). (¬3) في (ج): (فالعنت). (¬4) انظر هذا المعنى في: كتاب "العين": 2/ 72، و"مجاز القرآن": 1/ 73،123، و"تفسير الطبري": 2/ 375، و"معاني القرآن"، للزجاج: 1/ 362، و"جمهرة اللغة": 1/ 403 (عنت)، و"الزاهر": 1/ 436، و"تهذيب اللغة": 3/ 2584، و"مقاييس اللغة" 2/ 150 (عنت). (¬5) (ما): ساقطة من (ج). (¬6) [سورة التوبة: 128]. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. (¬7) (عزيز عليه ما عنتم أي): ساقط من (ج). (¬8) انظر: "المغني" لابن هشام 399. (¬9) قوله: (لقاء الشدة والمشقة): هو نص قول الأزهري في: "تهذيب اللغة" 3/ 2584 (عنت). (¬10) القائل هو ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 109.

وضُرٍّ (¬1). وهو معنًى وليس بتفسير. وقال السُّدِّي (¬2): ودُّوا ضلالكم عن دينكم؛ وذلك أن الحَيْرَة بالضلال مشقة. ومضى الكلام في (العَنَتِ)، و (الإعْنَاتِ) عند قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]. ولا محل لقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}؛ لأنه استئنافٌ بالجملة. وقيل (¬3): إنَّه من صِفَةِ البِطَانَةِ، ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وصفت بقوله: {لَا يألُونَكُم خَبَالًا}. فلو رجع هذا إلى البطانة، لأدخل حرف العطف؛ لأنك لا تقول في الكلام: (لا تَتَّخذ صاحبًا يَشْتِمُكَ، أحبَّ مُفارقَتَكَ) (¬4). وقوله تعالى: {قَد بَدَتِ اَلبغضَاَءُ مِن أَفوَاهِهِم} البَغْضاءُ: شِدَّةُ البُغْضِ (¬5) قال الفراءُ (¬6): البغضاء: مصدرٌ مؤنثٌ. ¬

_ (¬1) ونصه قول ابن قتيبة: (أي: ودُّوا عنتكم وهو ما نزل بكم من مكروه وضر). وبه قال مكي في: "تفسير المشكل" 51، وأبو الليث في: "بحر العلوم" 1/ 294. (¬2) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 62، و"تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 743 و"النكت والعيون" 1/ 419. (¬3) ممن قال ذلك: الأخفش في: "معاني القرآن"، له: 1/ 214، والطبري في: "تفسيره": 4/ 62. (¬4) أورد قولَ الواحديِّ -هذا- ابنُ هشام في: "المغني": 504، وفيه: (يؤذيك) بدلًا من (يشتمك) وقد علق ابن هشام على قول الواحدي هذا بقوله: (الذي يظهر، أنَّ الصفةَ تتعدد بغير عاطف، وإن كانت جملة، كما في الخبر، نحو: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن:1 - 4]). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" (637) (بغض). (¬6) قوله، في: "معاني القرآن" له: 1/ 231، نقله عنه بالمعنى.

ومعنى الآية: قد ظهرت العداوةُ من أفواههم، بالشتِيمَةِ والوَقِيعَةِ في المسلمين، وإطلاع المشركين على أسرارهم (¬1). وواحد (الأفواه): فَمٌ. وأصله (¬2): (فَوْهٌ)، بوزن: (سَوْطٍ)، فحُذِفت الهاءُ تخفيفًا، كما حذفت من (سَنَةٍ)، فيمن قال: لَيْسَتْ (¬3) بِسَنْهاء ... (¬4). ¬

_ (¬1) قال القرطبي: (وخص الله -تعالى- الأفواهَ بالذكر، دون الألسنة؛ إشارة إلى تشدُّقهم، وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه). "تفسيره": 4/ 180. (¬2) من قوله: (وأصله ..) إلى (كالحات وبسل): نقله بتصرف واختصار عن: "سر صناعة الإعراب": 1/ 414. (¬3) في (ب): (لست). (¬4) قطعة من بيت، لِسُوَيد بن الصامت الأنصاري. وتمامه: ليست بِسَنْهاءٍ ولا رُجَبيَّةٍ ... ولكنْ عَرَايا في السِّنينَ الجَوائِح وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب النخل" لأبي حاتم السجستاني: 88, 93، و"اللسان": 3/ 1583 (رجب)، 6/ 3571 (قرح)، 2/ 719 (جوح)، 4/ 2127 (سنة)، (عرا). وأورده أبو عبيد بن سلام في: "غريب الحديث": 1/ 141، وابن فارس في: "المقاييس": 4/ 299، ونسباه لشاعر الأنصار، ولم يصرحا باسمه. وورد غير منسوب في: "مجالس ثعلب": 76، و"جمهرة اللغة": 1/ 266، و"الأمالي"، للقالي: 1/ 121، و"تهذيب اللغة": 6/ 129 (سنه)، و"المخصص": 16/ 54. وقد وردت (سنهاء) في مصادر البيت بفتح الهمزة، وبكسرها مُنوُّنَةً، ووردت (رُجَبِيَّةٍ) بفتح الجيم مع التشديد فيها وبدونه. يصف الشاعر -هنا- نخلةً بالجودة و (السنهاء): إما هي التي تحمل سنة ولا تحمل أخرى، أو تلك التي أصابتها السنة المجدبة فأضرت بها. و (الرُّجَبِيَّة): هي النخلة التي تكون كريمة على صاحبها، فتميل، فيسندها =

و (عملت (¬1) معه مُسَانَهَةً) (¬2)، ومن: (شاةٍ) (¬3)، و (شَفَةٍ) (¬4)، فصار التقدير: (فَوْ) (¬5). فلما صار الاسم على حرفين، لا ثاني منهما (¬6) حرف لين، كرهوا حذفه للتنوين، فَيُجْحِفُوا به، فأبدلوا من الواوِ مِيْمًا لقرب الميم ¬

_ = بِـ (رُجْبة)، أي: بخشبة ذات شعبتين، وقيل: الترجيب، هو: أن يُجعَل حولها شوكٌ حتى لا يرقى لها راقٍ فيجني ثمرها. وأرى -والله أعلم- أن القول الثاني هو المراد في البيت؛ لأنه يصفها أنها ليست من تلك التي يُمنع ثمرها من الناس، بل هي مبذولة لهم، لأنه قال بعدها: (عرايا)، أي: التي يوهب ثمرها لناس، ومفردها (عَرِيَّة). و (الجوائح): هي السنون الشداد التي تجتاح المال. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 141، و"اللسان" 3/ 1583 (رجب)، 4/ 2127 (سنه). (¬1) في (ج): (علمت). (¬2) المسانهة: أن يعامله إلى مدَّة سنة يقال: (سانَهَهُ مسانهةً وسِناهًا). انظر (سنه) في: "اللسان":4/ 2127، و"المعجم الوسيط" 1/ 459. ويجوز أن يكون المحذوف من (سنة) واوًا أو هاءً؛ لأنها في الجمع: (سنوات)، و (سنهات). انظر حولها: "كتاب سيبويه" 3/ 360، 452، و"اللسان" 4/ 287 (سنة)، و"نزهة الطرف" 172. (¬3) أصل (شاة): (شَوْهَةٌ) ويقال في تصغيرها: (شُوَيهة)، وفي جمعها تكسيرًا: (شياه)، ويقولون: (شَوَّهتُ شاةً)، أي: اصطدتها. انظر: "الممتع في التصريف" 2/ 626. (¬4) أصل (شَفَة): (شَفَهَة) فيقال في تصغيرها: (شُفَيهة)، وفي جمعها: (شِفاه) والفعل منها: (شافهتُ فلانا)، والمصدر: (المُشافهة). انظر: "كتاب سيبويه": 3/ 358 - 359، 451، و"الوجيز في علم التصريف" 41، و"الممتع" 2/ 625، و"نزهة الطرف" 173. (¬5) في (أ)، (ب)، (ج): (فوه). والمثبت من: "سر صناعة الإعراب"، وهي الصواب. (¬6) في (ج): (منها).

من الواو؛ لأنهما (¬1) شفويتان (¬2)، وفي الميم هُوِىٌّ في الفَمِ يضارع امتداد الواو. والدليل على أن أصله (فَوْه): جمعه على (أفواه)، نحو: (سَوْطٍ، وأسواط)، و (حَوْضٍ، وأحواض)، و (طَوْقٍ، وأطواق). وقال أُمَيَّةُ (¬3): وما فَاهُوا بِهِ أبدًا مُقِيمُ (¬4). وقالوا: (رجلٌ مُفَوَّهٌ): إذا أجادَ (¬5) القولَ، و (أَفْوَهُ): إذا كان واسع الفَمِ. وجمعه: (فُوْهٌ) (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (ولأنهما). (¬2) في: "سر صناعة الإعراب": شفهيتان. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) شطر بيت، وتمامه - كما في الديوان: وفيها لحم ساهرة وبَحرٍ ... وما فاهوا به لهم مقيمُ وهو في "ديوانه" 68. وورد منسوبا له في "معاني القرآن"، للفراء 1/ 121، و"اللسان": 1/ 29 (أثم)، 6/ 3492 (فوه)، و"المقاصد النحوية" 2/ 346، و"شرح التصريح" 1/ 241، و"الدرر اللوامع" 2/ 199. وورد غير منسوب في: "اللسان" 4/ 2132 (سهر)، 6/ 3492 (فوه)، و"شرح شذور الذهب" (123)، و"شرح ابن عقيل" 2/ 15، و"منهج السالك" للأشموني 2/ 11. وأكثر المصادر -ومنها "سر صناعة الإعراب"- تورد الشطر الأول كالتالي: (فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها ..) وهذا إنما هو صدر بيت آخر وعجزه: (ولا غَوْلٌ ولا فيها ملُيِمُ). وهو في القصيدة بعد البيت المستشهد به بأبيات. و (الساهرة): الأرض. و (مقيم): ثابت. انظر: "اللسان" 4/ 2132 (سهر). (¬5) في (ب): (جاد). (¬6) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 264، 365 - 366، و"المسائل المشكلة"، للفارسي 149 - 163،504، و"المخصص" 1/ 134 - 137، و"شرح المفصل" =

قال الشَّنْفَرَى (¬1): مُهَرَّتَةٌ (¬2) فُوْهٌ كأنَّ شُدُوقَها ... شُقُوقُ العِصِيِّ (¬3) كالِحاتٌ (¬4) وبُسَّلُ (¬5) ذكر ذلك أبو الفتح الموصلي (¬6). ¬

_ = 10/ 33، و"الوجيز في علم التصريف" 50، و"الممتع" 391، 625، و"نزهة الطرف" 173، و"أوضح المسالك" 3/ 341. ويرى الأخفش أن الميم في (فم) بدل من الهاء؛ حيث إن أصله عنده (فَوْه)، ثم قلب، فصار (فَهْو)، ثم حذفت الواو، وجعلت الهاء ميما. انظر "شرح الشافية" 3/ 215. (¬1) هو: ثابت بن أوس الأزدي. شاعر جاهلي، من عَدّائي العرب المعدودين، وصعاليكهم، وأكثرهم جرأة ودهاءً، أَسَرَتْه بنو سَلامَان صغيرًا، ونشأ فيهم، فلما شبَّ وعرف بقصة أسره، قَتَل منهم كثيرًا، فقتلوه ثأرا وانتقامًا. انظر: "خزانة الأدب": 3/ 343، و"الأعلام": 3/ 177. (¬2) (أ)، (ب): (مبوته). وفي (ج): (مهونه). والمثبت من: سر الصناعة، ومصادر البيت. (¬3) في (ب): (العصا). (¬4) (أ)، (ب): (الحاق). والمثبت من (ج)، وسر الصناعة، ومصادر البيت. (¬5) البيت من لامِيَّتِهِ المسماة بـ (لامية العرب). انظر: "بلوغ الأرب في شرح لامية العرب" 152. المُهَرَّتَة: الواسعة الأشداق. و (فُوْهٌ): جمع: (أفْوَه) و (فوهاء)، يقال للواسع الفم، أو من تخرج أسنانه من شفتيه من طولها. و (الشدوق): جمع كثرة، وأما جمع القلة، فـ (أشداق)، والمفرد: شِدْق، وهو جانب الفم. و (الكالحات): المكشرات في عُبوس. و (بُسَّل): الكريهة المنظر، المفرد: باسل. ويقال للأسد، وللرجل الشجاع. الشاعر -هنا- يعين بهذه الأوصاف: الذئابَ وقوله: (كالحات وبسل) نعت لـ (فُوُهٌ). انظر: المرجع السابق 152 - 154. (¬6) في "سر صناعة الإعراب" 1/ 413 - 416.

119

قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (¬1) أي: من العداوة والخيانة (¬2). وقيل (¬3): من الكفر بالله ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} قال عَطَاء (¬4): يريد: ما أمرهم به مِن طاعته، وما نهاهم عنه من معصيته. وقال السُّدِّي (¬5): قد بيَّنَّا آياتهم؛ لتعرفوهم بها. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون} قيل (¬6): إن كنتم تعقلون موقعَ يقع (¬7) البيان، ومبلغَ عائدتِهِ عليكم (¬8). وقيل (¬9): إن كنتم تعقلون الفَصْلَ بينَ ما يستحقه العدوُّ، والوَلِيُّ. 119 - قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} الآية. مضى الكلام في (ها) مع (أنتم) عند قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ} [آل عمران: 66]. قال الفراء (¬10): العرب إذا جاءت إلى اسمٍ مَكنيٍّ قد وُصِفَ بـ (هذا) و (هذان) و (هؤلاء)، فَرَّقوا بينَ (ها) وبين (ذا)، المَكنِيَّ بينهما، وذلك في ¬

_ (¬1) في (ج): (وما تخفي الصدور). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 297، و"تفسير الثعلبي" 3/ 104ب. (¬3) لم أهتد إلى القائل، ولا فرق بين القولين لأنهما متلازمان. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) قاله -بمعناه- الطبري في "تفسيره" 4/ 64. (¬7) هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): مهملة من النقط وأرى أن الأصوب أن تقرأ (نفع)؛ لأنها تتناسب مع عبارة الطّبَري التالية. (¬8) ونص قول الطبري: (إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم، ومبلغ عائدته عليكم). (¬9) لم أهتد للقائل. (¬10) في: "معاني القرآن"، له 1/ 231. نقله عنه بنصه.

جهة التقريب (¬1)، فيقولون: (أين أنت؟) فيقول القائلُ: (ها أنا ذا) (¬2). ولا يكادون يقولون: (هذا أنا) (¬3). و-كذلك-: التثنية والجمع، ومنه (¬4): {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ}، وربَّما أعادوا (ها) فوصلوها بـ (ذا)، و (ذان)، و (أولاء) (¬5)، فيقولون: (ها أنت هذا)، و (ها أنتم هؤلاء). قال الله -تعالى-: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ} [النساء: 109]. ¬

_ (¬1) "التقريب" هو: أن تجعل (هذا)، و (هذه) بمثابة الأفعال الناقصة كـ (كان) وأخواتها التي تحتاج إلى تمام الخبر، وهذا من اصطلاحات الكوفيين، وقد بَيَّنَه السيوطي في: "همع الهوامع": 1/ 264 فقال: ذهب الكوفيون إلى أن (هذا) و (هذه)، إذا أريد بهما التقريب، كانا من أخوات (كان)، في احتياجهما إلى اسمٍ مرفوعٍ وخبر منصوب، نحو: (كيف أخاف من الظلم، وهذا الخليفة قادمًا؟)، و (كيف أخاف البرد، وهذه الشمس طالعة؟)، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود، نحو: (هذا ابنُ صياد أشقى الناس)، فيعربون (هذا): (تَقْريبا)، والمرفوع اسم التقريب، والمنصوب خبر التقريب؛ لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتى باسم الإشارة تقريبًا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهم وهما حاضران؟ و-أيضا-، فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب؛ لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى، كما لو أسقطت (كان) من: (كان زيدٌ قادمًا). وانظر في هذا المعنى: "معاني القرآن" للفراء 1/ 12، و"تفسير الطبري" 4/ 64 - 66، 15/ 416، و"دراسة في النحو الكوفي" 237، و"النحو وكتب التفسير" 1/ 185. (¬2) هكذا جاء رسمها في (أ)، (ب)، وكذا وردت في "تفسير الطبري" 4/ 65، ووردت في (ج): (هاناذا). أما في الرسم الإملائي فقد اصطلح على كتابتها كالتالي: هأنذا. (¬3) في (ج): (ها أنا). (¬4) في (ج): (منه) بدون واو. (¬5) في "معاني القرآن": فوصلوها بذا وهذا وهذان وهؤلاء.

قال (¬1): وإنَّما فعلوا ذلك؛ ليفصلوا بين (التقريب) وغيره. ومعنى (التقريب) عنده: أنك لا تقصد أن تخبر (¬2) عن (هذا) بالاسم (¬3)، فيقولون (¬4): (هذا زيد). وإذا (¬5) كان الكلام على غير تقريبٍ، وكان (¬6) مع اسم ظاهر، جعلوا (ها) موصولةً بـ (ذا)؛ فقالوا (¬7): (هذا زيد)، و (هذان الزيدان) (¬8)، إذا كان على خَبَرٍ يكتفي كلُّ واحدٍ بصاحبه بلا [فِعْلٍ] (¬9). فقد (¬10) أنشد ابنُ الأنباري (¬11) على هذا قولَ أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت: لَبَّيْكُما لَبَّيْكُما ها (¬12) أنا ذا لَدَيْكُما (¬13) ¬

_ (¬1) من قوله: (قال ..) إلى (فيقولون هذا زيد): هو نص قول الزجاج في "معاني القرآن" له 1/ 463، يحكي به معنى قول الفراء في "معاني القرآن" له 1/ 231 - 232. (¬2) في "معاني القرآن"، للزجاج الخبر. بدلًا من: (أن تخبر). (¬3) في "معاني القرآن"، للزجاج (الخبر عن هذا الاسم). وقوله: (بالاسم)؛ أي: بالاسم الظاهر، غير المكنيِّ عنه. (¬4) في (ج) و"معاني القرآن" للزجاج: (فتقول). (¬5) من قوله: (وإذا ..) إلى (بلا فعل): من تتمة كلام الفراء في "معاني القرآن" 1/ 232 نقله عنه ببعض التصرف. (¬6) في "معاني الفراء": أو كان. (¬7) في (ب) و"معاني الفراء": (فيقولون). (¬8) في "معاني القرآن": هذا هو، وهذان هما. (¬9) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"معاني القرآن". وبقية عبارة الفراء: (والتقريب لابد فيه من فعل؛ لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح). (¬10) (فقد): ساقطة من (ج). (¬11) في: "الزاهر" 1/ 279. (¬12): ساقطة من (ج). (¬13) بيت من الرجز، ورد منسوبًا لأمية في "طبقات فحول الشعراء" 1/ 266، و"الزاهر" 2/ 279.

فَجَعَل (أنا) بين (ها) و (ذا)؛ لتقريبه طاعتهما، والانقياد لأمرهما. وقال الزَّجاجُ (¬1): (ها) -ههنا- تَنْبيهٌ (¬2) دَخَلَ على (أنتم) و (¬3) (أولاء) في معنى: (الذين)، كأنه قيل: (ها أنتم الذين تُحِبُّونَهم ولا يُحِبُّونَكم). فيكون {تُحِبُّونَهُمْ} صِلَةً (¬4). قال (¬5): وكُسِرت (أولاء)؛ لأن أصلها السكون، لكن الهمزة كُسِرت؛ لسكونها وسكون الألف. وإنما كان أصلُها السكون؛ لأنها بمنزلة حَرْفِ الإشارة، والحروفُ أصلها السكون. وسنذكر الفرقَ بين (أولاء) و (أولئك) عند قوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99]. قال المفسرون: هذا خطاب للمؤمنين، أُعلِموا فيه أن منافقي أهلِ الكتابِ (¬6) لا يُحِبُّونَهم، وأنهم يَصْحَبونَ هؤلاء المنافقين بالبِرِّ، والنصيحة ¬

_ (¬1) في: "معاني القرآن" 1/ 463. نقله عنه بمعناه (¬2) في (ج): (ها تنبيه ههنا). (¬3) (و): ساقطة من (ب). (¬4) وفي "البسيط في شرح جمل الزجاجي": 1/ 310 قال عن هذه الآية: (فيحتمل أن يكون الأصل: (أنتم هؤلاء)، فاعْتُني بحرف التنبيه فقُدِّم، وأن تكون (ها) التنبيه، ولا تكون المقرونة بالإشارة؛ كما تقول: (ها زيد قائمٌ) ولكون هذا بمنزلة قوله سبحانه {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} [آل عمران: 66]). (¬5) أي: الزجاج، في المصدر السابق. نقله عنه معناه. (¬6) لم أقف على من خص المراد هنا بمنافقي أهل الكتاب، وإنما قيل في المراد: هم المنافقون، أو اليهود. وقد سبق أن ذكر المؤلف أن المعنِيَّ في هذه الآيات: اليهود والمنافقون معًا، وهو قول لابن عباس ومجاهد، وغيرهم. وقد سبق بيان مصادر هذا القول عند التعليق على شرح المؤلف لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آية: 118]. =

التي يفعلها المُحِبُّ. قال المُفَضَّلُ (¬1): معنى {تُحِبُّونَهُمْ}: تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء. {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}؛ لأنهم يريدونكم على الكفر، وهو الهلاك. قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي: بالكتب كلها، وهو اسم جنس؛ كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، أو لأن الكتاب مصدر، فيجوز أن يسمى (¬2) به الجمع. قال ابن عباس (¬3): يريد: الذي أُنزل على محمد، والذي أنزل على عيسى، والذي أنزل على موسى، وهم لا يؤمنون بشيء منه؛ لأنهم (¬4) يَنتحِلون (¬5) التوراةَ، ولم يعلموا بما (¬6) فيها. ¬

_ = وممن قال بأنهم اليهود: ابن عباس -في رواية عنه- والحسن، وقتادة، ومجاهد، وابن جريج، والنحاس، والقرطبي، وابن كثير. انظر: "تفسير مجاهد" 134، و"تفسير مقاتل" 1/ 298، و"تفسير الطبري" 4/ 60 - 64، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 742، و"معاني القرآن"، للنحاس 1/ 466، و"تفسير الثعلبي" 3/ 105 أ، و"تفسير البغوي": 2/ 95، و"تفسير القرطبي" 4/ 181، و"تفسير ابن كثير" 1/ 428، و"الدر المنثور" 2/ 118 - 119. (¬1) قوله، في: "تفسير الثعلبي": 3/ 105 ب. (¬2) في (ج): (نسمي). (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ عنه، والذي في: "تفسير الطبري" 4/ 65 قوله: (أي: بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء منهم لكم). وأورده السيوطي في: "الدر المنثور" 2/ 120 وزاد نسبة إخراجه لابن إسحاق، وابن المنذر. وانظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 186. (¬4) (لأنهم): ساقطة من (ب). (¬5) يقال: (انتحل كذا): أي: دان به. و (انتحل فلانٌ شِعْرَ غيره): ادَّعاه ونسبه لنفسه. و (انتحل مذهبا): انتسب إليه. انظر: "لسان العرب" 7/ 4369 - 4370 (نحل). (¬6) في (ج): (ما).

وقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} يقال: عَضَّ، يَعَضُّ، عَضًّا، وعَضِيضًا) (¬1). قال امرؤ القَيس: كَفَحْلِ الهِجَانِ يَنْتَحِي لِلعَضِيض (¬2) والأنامِل: جمع أَنْمُلَة (¬3)؛ وهي: أطراف الأصابع (¬4). [والغَيْظُ: الإغضابُ (¬5)، يقال؛ (غاظَهُ الشيءُ)؛ أي: أغضبه (¬6). ¬

_ (¬1) في (ج): (يغض غضًا وغضضا). (¬2) في (ج): (العضيض). وهذا عجز بيت، وأوله: له قُصْرَيا عَيْرٍ وساقا نعامةٍ وهو في "ديوانه" 97. والقُصْرَيان: مفردهما: (قُصْرى). وهما الضلعان اللذان يليان الخصر بين الجنب والبطن، وهما آخر الضلوع. و (العَيْر): الحمار، ويغلب إطلاقه على الوحشي منه. و (فحل الهجان)؛ أي: فَحل الإبل الكريمة البيضاء، ولا يكون فحلها إلا كريمًا مثلها. و (الانتحاء): القصد، والاعتماد، والجد، وقوله: (ينتحي للعضيض)؛ أي: يعتمد ويعترض للعض. انظر: "تهذيب اللغة" (2974) (قصر)، و"القاموس" (1337 - 1338) (نحا). (¬3) يقال: (أنْمُلَة) -بفتح الهمزة وضم الميم-، و (أنمَلَة) -بفتح الهمزة وفتح الميم-. انظر: (نمل) في "الصحاح" 1836، و"القاموس" (1065)، و"المجمل" 886، و"اللسان" 8/ 4550. (¬4) انظر المصادر السابقة (¬5) (الإغضاب): ساقطة من (أ)، (ب). وفي (ج): (الأعصاب). وما أثبَتُّهُ هو الصواب. (¬6) يقال: (غاظه، وأغاظه، وغيَّظه): بمعنى واحد، والمصدر: الغيظ. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2622 (غيظ). قال الراغب: (الغيظ: أشد الغضب، وهو: الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه). "مفردات ألفاظ القرآن": 619 (غيظ).

وعَضُّ الأصابع] (¬1)، والأنامِل، واليد (¬2): مِن فِعْلِ المُغضَبِ (¬3)، الذي فاته ما لا يقدر [على] (¬4) أن يتداركه، أو يرى شيئًا يكرهه، ولا يقدر على أن يُغيِّره. ثم كثر استعمال (¬5) [هذا] (¬6) فيه، حتى استُعمِلَ مَثَلًا، مجازًا، فيقال للمُغضبِ: (هو يَعَضُّ يدَهُ غَضَبًا وحَنَقًا) (¬7)، وإنْ لم يكن هناك عَضٌ. قال الشاعر: قَدَ أَفْنَى أنامِلَهُ أَزْمُهُ ... فأَضْحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا (¬8) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬2) في (ب): (ولليد). (¬3) في (ج): (الغضب). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬5) في (ج): (استعماله). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) قال -تعالى- عن حال من يعض على يديه ندمًا وأسفًا يوم القيامة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]. (¬8) البيت لصخر الغَيّ بن عبد الله الخُثَمِي الهذلي. وقد ورد منسوبًا له في: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 299، وورد في "تهذيب اللغة" 4/ 3977 (يدي)، و"اللسان" 8/ 4953 (يدي)، وقالا فيه: (قال الهذلى). وروايته في هذه المصادر: (فأمسى يَعَضُّ ..). وقوله: (أزْمُهُ): عَضُّهُ. من: (أزَمَ يأزِم أزْما) و (أُزوما)، فهو (آزم وأزُوم): إذا عَضَّ بالفم كلِّه عَضًّا شديدًا. و (الوظيفة): أصل استعمالها لذوات الأربع من الخيل والإبل، وهي ما استدَقَّ من الذراع أو الساقين، ففي البعير هي: ما بين الرسغ والذراع، أو بين الرسغ والساق، وجعلها الشاعر هنا للإنسان. انظر: "الصحاح" 1439 (وظف)، و"الفرق" لابن فارس 61، و"زينة الفضلاء" للأنباري 91، و"القاموس المحيط" (1075) (أزم). قال الأزهري عن معنى البيت: (أكل أصابعه حتى أفناها بالعض، فصار يعض وظيف الذراع). "تهذيب اللغة" 1/ 156 (أزم).

وقال أبو طالب (¬1): يَعَضُّونَ غَيْظًا خلفَنا بالأَنَامِلِ (¬2) قال المفسرون (¬3): وإنما ذلك لِما يَرَوْنَ من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصَلاح ذات بَيْنِهم. وفي الآية تقديم وتأخير؛ لأن التقدير: وإذا خَلَوْا عَضُّوا الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ عليكم. وقوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} خرج هذا مخرج الأمر، وليس معناه الأمرَ، لكنَّه دعاء عليهم، أمر اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بأن يَدْعُوَ عليهم بهذا (¬4). ¬

_ (¬1) واسمه: عبد مَناف -بن عبد المُطَّلِب بن هاشم، عَمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي كفله بعد موت جده عبد المطلب، وكان حدِبًا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، عطوفًا عليه، منع عنه أذى قريش، إلا اْنه لم يُسْلِم، ومات على الشرك، قبل الهجرة بثلاث سنين. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 193 - 194، 2/ 25 - 26. (¬2) عجز بيت، وصدره: وقد حالفوا قوما علينا أظنَّةً وقد ورد منسوبًا له في: "سيرة ابن هشام" 1/ 286، و"تفسير الثعلبي" 3/ 105 ب، و"البحر المحيط" 3/ 41، و"الدر المصون" 3/ 370. وأول البيت في: "تفسير الثعلبي"، والبحر: (وقد صالحوا قومًا عليهم أشحة)، ولكن في: "البحر المحيط": (علينا أشحة). والبيت من قصيدة طويلة يخاطب فيها أشراف قومه لَمّا خافهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن علا ذِكرُه وظهر أمرُه، ووقفوا منه موقف العداء، وفيها كذلك مدح للنبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر حول هذه القصيدة: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 244. (¬3) ممن قال ذلك: قتادة، والربيع، والطبري. والعبارة -هنا- عبارة الطبري. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 66 - 67، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 746. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 67. وقال أبو الليث: (يقول: موتوا بحنقكم على وجه الدعاء والطرد واللعن، لا على وجه الأمر والإيجاب؛ لأنه لو كان على وجه الإيجاب لماتوا من ساعتهم. كما =

ومعنى موتِهم بِغَيْظِهم: هو أن يَدُوم غيظُهم إلى أن يموتوا، أو (¬1) يصير الغيظُ قاتِلَهم، وسببَ موتهم (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما فيها من خير وشر. قال (¬3) النحويون (¬4): (ذات) تأنيث (ذو). وإذا وقَفْتَ (¬5) على (ذات): فمنهم مَن يَدَعُ التَّاء على حالها؛ لكثرة ما جرى على اللسان بالتَّاء، ومنهم من يردها إلى هاء (¬6) التأنيث. وهو القياس. وقال ابن الأنباري (¬7): {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: بما فيها (¬8) من خير وشر (¬9). معناه: بحقيقة القلوب من المضمرات. فتأنيث (ذات) (¬10) ¬

_ = قال في موضع آخر: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243]، فماتوا من ساعتهم، وههنا لم يرد به الإيجاب). "بحر العلوم": 1/ 294 - 295. وذهب الضحاك إلى أن هذا يراد به الخبَر؛ أي: يخبر عنهم أنهم يخرجون من الدنيا بالموت وهم بهذه الحسرة والغيظ. انظر: المرجع السابق. (¬1) في (ب): (و). (¬2) أي: أن الباء -هنا- في {بِغَيْظِكُمْ}، إما للحال، أو للسببية. (¬3) من قوله (قال ..) إلى (عليم بذات الصدور): مكرر مرتين في (أ). (¬4) هذا قول الليث في: "تهذيب اللغة" 2/ 1299 (ذو)، نقله عنه المؤلف بتصرف يسير. وانظر: "اللسان" 3/ 1477 - 1478 (ذو). (¬5) في (ب)، (ج): (وقعت). (¬6) في (ب): (تاء). (¬7) قوله، في: "تهذيب اللغة" 2/ 1300. نقله عنه بتصرف يسير وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الإنباري 2/ 367 - 368، و"اللسان" 3/ 1478 (ذو). (¬8) (أي بما فيها): ساقط من (ج). (¬9) (من خير وشر): ساقط من (ج). (¬10) في (ج): (ذا).

120

لهذا المعنى؛ كما قال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]، فَأَنَّثَ؛ لمعنى (الطائفة)؛ كما يقال: (لقيته ذات يوم)، فيؤنثون؛ لأن مقصدهم: لقيته مرَّةً في يوم. وقد ذكرنا زيادة في الشرح والبيان عند قوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155]. 120 - قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} الآية. (المَسُّ)، أصله باليد، ثم يُسَمَّى المُقارِبُ والمخالِطُ: (ماسًّا)؛ تشبيهًا بالمتناوِلِ للشيء، فيقال: (أمْرُكَ يَمَسُّنِي)؛ أي: يَكْرِثُني (¬1)، ويهمني، ويَقْرُبُ مِن قلبي. فأشبه بذلك المَسَّ بالأصابع (¬2). ومعنى (الحسنة) -ههنا-: النصر (¬3)، والغنيمة، والخِصْب (¬4). ¬

_ (¬1) يقال: (كَرَثَه، وأكرَثَه الغَمُّ)، (يكرِثُهْ ويَكرُثه): اشتد عليه، وأقلقه، وحرَّكَه. و (الاكتراث): الاعتناء. و (لا تكترث بالأمر): لا تعبأ به، ولا تبالي. وذكر ابن الأثير أنها لا تستعمل إلا في النفي، وقد جاءت في الإثبات وهو شاذ. انظر: (كرث) في: "أساس البلاغة" 2/ 302، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 4/ 161، و"التاج" 3/ 252. (¬2) يقال: (مَسَسْتُ) -بفتح السين الأولى وبكسرها-، (أمَسُّ مَسًّا ومَسِيسا، ومِسِّيسَى): وهو ما كان باليد. و (المَسُّ، والمَسِيس) يُكنى به عن النكاح -كذلك-. ويقال: (مِسْتُ) - يحذفون السين الأولى، ويحولون كسرتها إلى الميم، أو تترك الميمُ مفتوحة. انظر: "العين"، للخليل 7/ 208، 209 (مسس)، و"إصلاح المنطق" 211، و"المقاييس" 5/ 271، و"الفرق بين الحروف الخمسة" 408، 409، و"بصائر ذوي التمييز" 4/ 498. (¬3) في (ج): (النصرة). (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 103، و"تفسير الطبري" 4/ 67، و"بحر العلوم" 1/ 295، و"تفسير ابن كثير" 1/ 429. لفظ الآية في (الحسنة) و (السيئة) عامٌّ، لم يخصص نوعًا منها دون نوع، فيدخل فيها كل ما يحسن ويسوء. وما ذكره المؤلف من النصر والغنيمة والخصب، إنما هو على سبيل التمثيل لها. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 292.

و (تسؤْهم)، أي: تُخْزِيْهم، يقال: (ساءَهُ، يَسُوءُهُ، مَسَاءَةً (¬1)، ومَسَائِيَةً) (¬2)، فـ (استاءَ) (¬3)؛ أي: اهتم (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} أي: نالكم ضد ذلك. ويقال: (ساء (¬5) الشيءُ)، (يسوء (¬6)، فهو سيِّء)، والأنثى: (سيِّئةٌ)؛ أي: قَبُحَ (¬7). ومنه قوله: {سَاَءَ مَا يَعمَلُونَ} [المائدة: 66]. و (سَوَّأتُ على الرجل (¬8) فعلَهُ)؛ أي: قَبَّحْتُهُ عليه، وعِبْتُهُ به. و (السُّوْءَى) (¬9): ضد الحُسْنَى، و (السَّوْءاءُ) (¬10): المرأةُ القبيحة (¬11). ¬

_ (¬1) في (ج): (ساه يسوه مساه). (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): مسايبة والمثبت من كتب اللغة. وفي "القاموس المحيط" 43 (سوء): قال: (ومسائية مقلوبًا، وأصله: مساوِئة). (¬3) في (أ): فاستَاءً، والمثبت من: (ب)، (ج)، وكتب اللغة. (¬4) انظر: (سوء) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1795 - 1796، و"القاموس" 43. (¬5) في (ج): (أسى). (¬6) يسوء: ساقطة من (ج). (¬7) في (ب): (قبح). (¬8) في (ب): (الوجه). (¬9) في (ج): (السوى). (¬10) في (ب): (السؤا). وفي (ج): (السوا). (¬11) انظر: المصادر السابقة. قال ابن عطية: (وذكر تعالى المسَّ في (الحسنة)؛ ليُبَيِّن أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءةُ بنفوس المبغِضِين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة، وهي: عبارة عن التمكن؛ لأن الشيء المصيب لشيء، فهو متمكن منه أو فيه، فدلَّ هذا المنزعُ البليغُ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة). "المحرر الوجيز" 3/ 292 - 293.

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا}. أي: على ما تسمعون منهم، وعلى أذاهم. {وَتَتَّقُوا}. قال ابنُ عباس (¬1): وتخافوا ربَّكم، في سِرِّكم وعلانِيَتِكم. وقال غيره (¬2): وتتقوا مقاربتهم في دينهم، والمحبة لهم. {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} يقال: (ضارَهْ، يَضِيرُهُ، ضَيْرًا)، و (يَضُورُهْ ضَوْرا): إذا ضرَّهُ (¬3). وقرئ: {لَا يَضُرُّكُمْ} مُشَدَّدا (¬4) من: الضَّرِّ (¬5). وأصله: (يَضْرُرْكُمْ) -جَزْمًا-، وأُدغِمَت (¬6) الرَّاءُ في الرَّاءِ، ونقلت ضَمَّةُ الرَّاء الأولى إلى ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. والذي في: "زاد المسير" 1/ 448 من قول ابن عباس: (الشرك). (¬2) لم أهتد لقائل هذا القول. وقد يفهم ذلك من عبارة الطبري في "تفسيره" 4/ 68، حيث قال: (وإن تصبروا -أيها المؤمنون- على طاعة الله، واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- من دون المؤمنين وغير ذلك من سائر ما نهاكم ..). (¬3) انظر: "الزاهر" 2/ 174، و"تهذيب اللغة" 3/ 2078 (ضور)، و"اللسان" 5/ 2619 (ضور)، 5/ 2623 (ضير). (¬4) هي قراءة عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي -بضم الصاد، وتشديد الراء المرفوعة-. انظر: "السبعة" 215، و"الحجة" للفارسي 3/ 74. (¬5) انظر: "الحجة"، لابن خالويه 113. وورد في: "اللسان": (الضَّرُّ، والضَّرُّ): ضد النفع. و (الضَّرُّ): المصدر، و (الضُّرُّ): الاسم. وقيل: إذا جمعت بين الضَّرِّ والنفع: فتحتَ الضاد، وإذا أفردت الضُّرَّ: ضممت الضاد: إذا لم تجعله مصدرًا. وقال: (وضَرَّه يضُرُّه ضَرًّا)، و (ضَرَّ به وأضَرَّ به)، و (ضارَّه مُضَارَّة، وضِرَارًا) والاسم: (الضَّرر). "اللسان" 5/ 2573 (ضرر)، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 68. (¬6) في (ج): (فأدغمت).

الضاد، وضُمَّت الرَّاءُ الأخيرةُ؛ إتْباعًا لأقرب الحركات إليها، وهي: حركة الضادُ، كقولهم: (مُدُّ يا هذا) (¬1). واعلم أنه إذا كان قبل الحرف المُدْغم (¬2)، حرفٌ مضمومٌ، فلك في تحريك الأخير ثلاثة أوجه: الضمُّ؛ للإتْباع، والكسرُ؛ على أصل ما يجب (¬3) في التقاء الساكنين، والفتحُ؛ للخفة. قال جرير: فَغُضّ الطَرْفَ إنك مِن نُمَيْرٍ (¬4) يُنشَد باللغات الثلاث (¬5). ولا يجوز في القراءة إلّا الرفع، على ما قرأته القُرَّاءُ المُتَّبَعون (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن هشام 717 - 718؛ حيث لم ير في إعرابها إلا أنها مجزومة، وأن الضم اتباع، كالضمة في قولك: (لم يَشُذُّ ولم يَرُدُّ). (¬2) (المدغم): ساقطة من (ب). (¬3) في (ب): (التأنيث). بدلًا من: (ما يجب). (¬4) صدر بيت، وتمامه: فلا كَعْبَا بَلَغتَ ولا كِلابا وهو في: ديوانه: 63، وورد في: "كتاب سيبويه" 3/ 533، و"المقتضب" 1/ 158، و"المصون في الأدب" 19، و"العمدة" 126، 127، 844، 1053، و"شرح المفصل" 9/ 128، و"المقاصد النحوية" 4/ 494، و"منهج السالك" 1/ 252، و"التصريح" 2/ 401، و"همع الهوامع" 6/ 288، و"خزانة الأدب" 1/ 72، 6/ 531، 9/ 306، 542، و"شرح شواهد شرح الشافية" 4/ 163. والبيت من قصيدة طويلة له، يهجو فيها الراعي النميري، وُيعَرِّض بقومه. (¬5) أي يقال: (فَغُضَّ) -بضم الضاد المشددة، وفتحها، وكسرها. انظر فيما ذكره المؤلف سابقًا: "معاني القرآن"، للفراء 1/ 232، و"الطبري" 4/ 68. (¬6) أي: لا يجوز في قراءة: {لَا يَضُرُّكُمْ} إلا الرفع في الراء، من ناحية القراءة القرآنية، مع صحة قراءتها بالفتح والكسر من ناحية اللغة كما ذكر المؤلف؛ لأن =

قال أبو إسحاق (¬1): ضمن الله -عز وجل- للمؤمنين النصرَ إن صَبَروا، وأَعلَمَهم أَنَّ عَدَاوَتَهم (¬2) وكَيْدَهُم غَيْرُ ضَارٍّ لهم. والكَيْدُ -في اللغة-: الاحتيال بغير ما يبدي (¬3)، وهو: أن يحتال ليَغْتَالَ صاحِبَهُ، ويوقِعَهُ في مكروه (¬4)، وابن عباس فَسَّرَ الكيْدَ بالعداوة (¬5). ¬

_ = الراء الثانية مُدغَمَة في الراء الأولى، مع سبقها بحرف مضموم. وقد وردت قراءة أخرى صحيحة، متواترة، وهي: {لَا يَضُرُّكُمْ} على التخفيف -بتسكين الراء وكسر الضاد المخففة- وقد قرأ بها: ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، ويعقوب، ورواية أخرى عن حمزة. انظر: "السبعة" 215. قال الفارسي: (فكلتا القراءتين حسنة؛ لمجيئهما جميعًا في التنزيل). "الحجة" 3/ 75. وانظر: "المحلى" لابن شغير 17. ووردت قراءات أخرى شاذة، وهي: قراءة عاصم برواية أبي زيد عن المفضل عنه: (لا يَضُرَّكم) بضم الضاد وفتح الراء المشددة. وقرأ الضحاك: (يَضُرِّكم) -بضم الضاد، وكسر الراء المشددة-. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 361، و"تفسير القرطبي" 4/ 184، و"البحر المحيط" 3/ 43. (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 465. نقله عنه بنصه. (¬2) في "معاني القرآن": عدوانهم. (¬3) في (ج): (ما مدى). (¬4) أصل (كَيَدَ) -في اللغة- يدل على معالجة شيء بشدة، ثم يتسع بابه ويدخل فيه المعنى المراد -هنا- الذي ذكره المؤلف وهو: الاحتيال لإيقاع مكروه بالغير؛ لأنه فيه معالجة وبذل وُسْع، واجتهاد للمكر والإضرار بالآخرين. انظر: "المقاييس" 5/ 149 (كيد). وعَرَّف الجرجانيُّ (الكيد)، فقال: (إرادة مضرة الغير خفية، وهو من الخلق: الحيلة السيئة). التعريفات: 189. وانظر: "اللسان": 7/ 3966 (كيد)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" 614. (¬5) لم أقف على مصدر قوله.

[ورُدَّ على الفرَّاء] (¬1) [في هذه الآية شيئان: أحدهما: أنه قال (¬2): ولو] (¬3) قرئ: (لا يَضُرْكم) -بضم الضاد-، جازَ؛ فقد سمع الكسائيُّ بعضَ أهل العالِيَةِ (¬4) يقول: [(لا ينْفَعُني ذاك (¬5) ولا يَضُورُني) (¬6). قال الزجاج (¬7): وهذا غير جائز، لا يُقرأ حرفٌ من كتاب الله -عز وجل- بخلاف الإجماع، على قول رجل من أهل العالية. وهذا كما قاله؛ لأن القراءةَ بالسَّمَاع والتَّوْقِيف، لا بالجَوَازِ في اللغة. والآخر: أنه قال (¬8) في قوله: {لَا يَضُرُّكُمْ} -على قراءة من قرأ بالتشديد-: يجوز أن يكون جواب الشرط: فَاء مُضْمَرَة (¬9)، ويكون (لا) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، وساقط من (ب)، والمثبت من (ج). (¬2) في: "معاني القرآن" له 1/ 232. نقله عنه بمعناه. (¬3) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ)، والمثبت من (ب)، (ج). (¬4) العالية: اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة إلى تهامة، وهي عالية الحجاز، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهي السافلة. وقيل: هي ما جاوز الرُّمَّة -وهي أرض واسعة بنجد تنصب فيها عدَّة أودية- إلى مكة. انظر: "معجم البلدان" 4/ 71. (¬5) (ذاك) مطموس في (أ). وساقط من (ب). ومثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة": 3/ 2078. وفي "معاني القرآن": ذلك. (¬6) (يضورني): مطموسة في (أ). وفي (ب): (يضرني). والمثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة" 3/ 2078، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 232، و"تفسير الطبري" 4/ 68. (¬7) في: "معاني القرآن" له 1/ 465. نقله عنه بتصرف يسير. (¬8) في: "معاني القرآن" له 1/ 232. نقله عنه بمعناه (¬9) (فاء مضمرة): مطموس في (أ)، وساقط من (ب). والمثبت من (ج).

بمعنى (ليس) والتقدير: (فليس يَضُرُّكُمْ كيدُهم شيئا). وأنشد (¬1) على هذا بيتًا (¬2). قال النحويون: وهذا غلطٌ، مَن حَذَفَ الفاءَ، إنما (¬3) يجوز لِضرُورة الشعر (¬4)، والقرآن لا يُحْتَمل (¬5) على ضرورة الشعر (¬6)، سِيَّما إذا كان لرفع ¬

_ (¬1) من قوله: (وأنشد ..) إلى (من حذف الفاء): مطموس في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج). (¬2) البيت هو: فإن كان لا يُرضيكَ حتى تَرُدُّني ... إلى قَطَريِّ لا إخالُكَ راضيا. وقائله، هو: سوَّار بن المُضَرِّب السعدي التميمي. وقد ورد البيت في: "النوادر" لأبي زيد 54، و"الكامل" للمبرد 2/ 102، و"الطبري" 4/ 68، و"القراءات" للأزهري 1/ 124، و"الخصائص" 2/ 433، و"المحتسب" 2/ 192، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 185، و"شرح المفصل" 1/ 80، و"المقاصد النحوية" 2/ 451، و"منهج السالك" 2/ 45، و"التصريح" 1/ 272. والشاعر يخاطب الحجاجَ لمَّا أراد بعثَه وقومَه بني تميم لقتال الخوارج وزعيمِهم قَطَرِي بن الفجاءة. ويعبر الشاعر عن رفضه لهذا الأمر. والشاهد في البيت قوله: (لا إخالُك)، أي: فلست إخالُك) -برفعها-. (¬3) في (ب): وإنما. والمثبت من (ج). وهو الصواب. (¬4) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 64 - 65، و"المقتضب" 2/ 71، و"المغني" لابن هشام: 80، 133، 218، 311، 832. وذكر ابن هشام أن المبرّدَ منع حذف الفاء حتى في الشعر. انظر: "المغني" 219. إلا أن الظاهر من كلام المبرّد في كتابه "المقتضب": 2/ 72 خلاف ما ذكره ابن هشام. وانظر تعليق محقق "المقتضب" في هامش 2/ 72 - 73. وأجاز الأخفشُ حذفَ الفاء في جواب الشرط في القرآن. انظر: "معاني القرآن" له 1/ 158 عند تفسيره لآية (180) من سورة البقرة {إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ}. ورُدّ بأن {الوَصِيَّةُ} نائب فاعل لـ {كُتِبَ}، وجواب الشرط محذوف، وهو (فَلْيُوصِ). انظر: "المغني" 133، 219. (¬5) في (ج): (لا يحمل). (¬6) في (ب): (الشاعر).

121

الراء في {يَضُرُّكُمْ} وجهٌ حسن. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: عالم به؛ على معنى: أنه باقتداره عليه، وعلمه به (¬1)، قد (¬2) حَصَرَه مِن (¬3) جميع جهاته، كما حَصَرَه (¬4) المحيطُ به. هذا معناه وحقيقته؛ لأن المحيط بالشيء، هو المحيط به من حواليه، وهذا من صفة الإحكام (¬5)] (¬6). 121 - قوله تعالى (¬7): {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} (¬8) الآية. مضى (¬9) الكلام [في (إذ) في مواضع؛ (¬10) والعامل فيه -ههنا- محذوف، وهو: اذكر. وحُذِفَ؛ لأن الحال تدل على أن (¬11)] (¬12) المعنى تذكير لتلك الحال. قال ابن عباس (¬13)، وقتادة (¬14)، والربيع (¬15)، والسدي (¬16)، وأكثر ¬

_ (¬1) أنه باقتداره عليه وعلمه به: مطموس في (أ). وساقط من (ب). ومثبت من (ج). (¬2) في (ج): (ود). والمثبت من (ب). (¬3) في (ج): (في). والمثبت من (ب). (¬4) في (ج): (يحصره)، والمثبت من (ب). (¬5) في (ج): (الأجسام)، والمثبت من (ب). (¬6) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) (قوله تعالى): ساقط من (ج). (¬8) {مِن أَهلِكَ}: ليس في (ب). (¬9) (مضى): مطموسة في (ج). (¬10) منها: عند تفسيره لقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35]. (¬11) ليست في (أ)، (ج). ومثبتة من (ب). (¬12) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ)، ومثبت من (ب)، (ج). (¬13) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 70، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 748، و"النكت والعيون" 1/ 420. (¬14) انظر المصادر السابقة. (¬15) انظر المصادر السابقة. (¬16) انظر المصادر السابقة.

المفسرين (¬1): هذا كان يوم أُحُد، غدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منزل عائشة إلى أُحُد (¬2)، فجعل يصف أصحابَه للقتال. قال ابن عباس (¬3): {مِنْ أَهْلِكَ}؛ يريد: مِن (¬4) منزل عائشة (¬5). وقوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} يقال: (بَوَّأتُه مَنْزِلًا)، و (بَوَّأتُ له منزلًا)؛ أي: أنزلته إيَّاهُ (¬6). قال ابن هَرْمَة (¬7): وبُوِّئَتْ في صَميمِ مَعْشَرِها ... فَتَمَّ في قومِها مُبَوَّؤُها (¬8) ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك: ابن مسعود - رضي الله عنه -، ومجاهد، والكلبي، والزهري، وابن إسحاق، والطبري. انظر: المراجع السابقة، و"سيرة ابن هشام" 3/ 58، و"بحر العلوم" 1/ 295، و"زاد المسير" 1/ 884 و"الدر المنثور" 2/ 120 وما بعدها. (¬2) المصادر التي أشرت إليها، وقد ذكرت أقوال من سبق ذكره، ولكن لم تذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من منزل عائشة رضي الله عنها. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) (من): ساقطة من (ج). (¬5) وممن ذكر أن المنزل الذي خرج منه - صلى الله عليه وسلم - هو منزل عائشة: أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 295، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 107 أ، والبغوي في "تفسيره" 4/ 96، وقد نسباه لمجاهد والكلبي والواقدي، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 449، وابن الديبع في "حدائق الأنوار" 521. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 72، و"الصحاح" 1/ 37 (بوأ)، و"اللسان" 1/ 382. (¬7) هو: أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن سَلَمَة بن عامر بن هَرْمَة القرشي، من الخُلْج، وهم من قيس بن الحارث بن فِهْر. سكن المدينة، وهو من آخر الشعراء الذين يُحتَجُّ بشعرهم، قال الأصمعي: (خُتِم الشعرُ بابن هَرْمة)، عاصر الدولة الأموية والعباسية، مات بعد سنة (150هـ) تقريبا. انظر: "طبقات الشعراء" لابن المعتز 20، و"تاريخ بغداد" 6/ 127، و"خزانة الأدب" 1/ 424. (¬8) البيت ورد منسوبًا له في: "مقاييس اللغة" 1/ 312 (بوأ)، وورد غير منسوب في: "اللسان" 1/ 382 (بوأ).

وفي قراءة عبد الله: (تبوِّئُ للمؤمنين) (¬1). و (المَبَاءَة) (¬2)، و (البَاءَة) (¬3): المنزل (¬4). قال أبو علي (¬5): (بَوَّأتُ فُلانًا (¬6) منزلًا)، تُعدِّيْهِ إلى مفعولين، وكأنه منقول من قولك: (باءَ فلانٌ منزِلَهُ)؛ أي: لَزِمَه. وإن كنّا لا نرى ذلك؛ ولكن يدل على ذلك قولهم: (المَبَاءَة) (¬7) - وهي: المُرَاحُ (¬8) الذي تبيت فيه النَّعَم (¬9) -: [اسمٌ] (¬10) للمكان (¬11). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن"، للفراء 1/ 233، و"تفسير الطبري" 4/ 72، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 362. (¬2) في (ج): (والمباه). (¬3) في (ج): (والمباه). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة": 1/ 246 (بوأ). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) في (ب): (لفلان). (¬7) في (ج): (المباه). (¬8) تضبط (المُراح) بضم الميم، إذا كانت من (أراح) الرباعي، وهو: حيث تأوي الماشية بالليل. أما (المَراح) بفتح الميم، إذا كانت من (راح) الثلاثي. وقد ضبطت بالضم في: "تفسير الطبري" 4/ 72، و"التهذيب" 2/ 1309 (راح)، و"القاموس": 272 (روح)، و"اللسان" 3/ 1769 (روح)، و"المصباح المنير" 93 (روح). (¬9) في (ج): (الغنم). (¬10) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬11) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 246 (بوأ)، و"مقاييس اللغة" 1/ 312 (بوأ)، و"المصباح المنير" 93 (روح). ولم أعثر في كتب اللغة -التي رجعت إليها- على: (باء فلان منزله) بمعنى: لزمه، وإنما تأتي (باء) بمعنى الرجوع، واللزوم، والإقرار إذا عُدِّيت بالباء أو بـ (إلى) ومنه. (باء بإثمه، يَبُوء بَوْءا) و (أبوء بذنبي)؛ أي: ألتزم وأرجع وأقر. و (باء بالشيء): رجع. ويقا- كذلك: باء فلانٌ لفلان، بَوْءا، وبَوَاءً): إذا كان مكافئًا له، يقتل به. =

وقوله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي (¬1): مواطن. قال ابن عباس (¬2): كل رجل لِمَقعَدِه الذي يصلح له. وقد بيّنّا أن معنى القُعُود -في أصل اللغة-: الثُّبُوت، على أي حال كانت، عند قوله: {الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127]. فمعنى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} مراكز (¬3)، ومَثابِتَ، لا مَجَالِس (¬4). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عباس (¬5): يريد: سميعٌ لقولكم، عليمٌ بما في قلوبكم؛ وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشار أصحابه في ذلك الحرب (¬6)، فمنهم من أشار عليه بأن يقيم في المدينة، ومنهم من أشار عليه بالخروج إليهم، فقال الله -تعالى-: أنا {سَمِيعٌ} لِمَا يقوله المُشيرون عليك (¬7)، {عَلِيُمٌ} (¬8) بما يُضْمِرُون. ¬

_ = أما (المَباءة) فهي من: (أبَأتُ الإبلَ مَباءَةً): أنخت بعضها إلى بعض. فيتعدى الفعل هنا بالهمزة. انظر: (بوأ) في: "تهذيب اللغة" 15/ 594، و"الصحاح" 1/ 37، و"اللسان" 1/ 382. (¬1) من قوله: (أي ..) إلى (.. مقاعد للقتال): ساقط من (ج). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) في (ج): (مراكب). (¬4) قال ابن دريد: والمقاعد: موضع القعود في الحرب وغيرها. "الجمهرة" 2/ 661 (قعد). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) هكذا جاءت (ذلك الحرب) على التذكير. والمعروف أن الحرب مؤنثة، لكن حكى ابن الأعرابي والمبرد فيها التذكير، ولكنها نادرة، وقد تُذكَّر إذا ضُمِّنت معنى القتال. انظر: (حرب) في: "الصحاح" 1/ 108، و"اللسان" 2/ 815. (¬7) في (ج): (عليكم). (¬8) (عليم): ساقطة من (ج).

122

122 - قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} قال الزّجاج (¬1): العامل في (إذ) (¬2): التَّبْوِئَة؛ المعنى: كانت التَّبْوِئَةُ في ذلك الوقت. و {هَمَّتْ}؛ أي: قَصَدَت وأرادت. يقال: (هَمَمْتَ بالشيء)، (أَهَمُّ به هَمًّا) (¬3). والطائفتان -في قول ابن عباس وأكثر المفسرين- (¬4): بَنُو سَلِمَة (¬5) مِن الخزرج، وبنو حَارِثَة من الأنصار (¬6). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 465. نقله عنه بنصه. (¬2) في (ب): (إذا). (¬3) انظر: "اللسان": 8/ 4702 (همم). (¬4) قول ابن عباس في: "تفسير الطبري": 4/ 72، و"تفسير ابن أبي حاتم": 3/ 749. وهو قول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والسدي، والشعبي. انظر: "صحيح البخاري": (4051)، كتاب: المغازي، باب: (إذ همت طائفتان ...)، (4558) كتاب التفسير. سورة آل عمران. باب: (إذ همت طائفتان ..)، و"تفسير الطبري" 4/ 72، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 749. (¬5) في (ب): (بنو أسلمة). و (سَلِمة) -بفتح السين وكسر اللام-، وترد في بعض المراجع بفتح اللام، وهو خطأ. قال الأستاذ محمود شاكر: (بنو سَلِمة -بفتح السين وكسر اللام- وليس في العرب (سَلِمة) -بكسر اللام- غيرها، وسائرها بفتح اللام. وهم: بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جشم بن الخزرج). هامش "تفسير الطبري" 7/ 161. (ط. شاكر). ويذكر ابن الأثير أن النسبة إلى سَلِمة بن سعد المذكور سابقًا: (السَّلَمي) عند النحويين، وينطقونها بفتح اللام، وأما المُحدِّثون فينطقونها (السَّلِمي) بكسر اللام. انظر: اللباب في "تهذيب الأنساب" 2/ 129. وقد ورد ضبطها بالكسر في: "المغازي" للواقدي 1/ 319، و"المعارف" لابن قتيبة 109، 159، و"تاريخ الطبري" 2/ 354، 356، و"الاشتقاق"، لابن دريد 566، و"عيون الأثر" 2/ 9، و"فتح الباري" 7/ 357. (¬6) هم بنو حارثة بن النَّبت، أو النبيت، من الأوس. انظر: "سيرة ابن هشام": 3/ 58، و"المعارف" 110، 159، و"تفسير الطبري" 4/ 72، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 469، و"التعريف والإعلام" للسهيلي 77.

وكان سبب ذلك أن (¬1) عبد الله بن أُبَيٍّ انْخَزَلَ (¬2)، فرجع عن الطريق في ثلاثمائةٍ، وهمت الطائفتان بالانصراف معه، فعصمهم الله، فلم ينصرفوا ومضوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). والفَشَل: الجُبْنُ، والخَوَرُ (¬4). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قال ابن عباس (¬5): يريد: ناصِرُهما، ومُوَالٍ لهما على مَنْ عاداهما (¬6). ¬

_ (¬1) أن: ساقطة من (ج). (¬2) انخزل؛ أي: انفرد وانقطع. و (الخَزْلُ، والاختزال، والانخزال): القطع والتقطع. انظر: "المجموع المغيث في غريب القرآن والحديث" 1/ 574، و"النهاية في غريب الحديث": 2/ 29 (خزل). (¬3) وبقي من المجاهدين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعمائة - رضي الله عنه - أجمعين- بعد رجوع ابنِ أُبَي ومن معه من الثلاثمائة، وكان عدد المشركين: ثلاثة آلاف. انظر خبر هذه الغزوة في "سيرة ابن هشام" 3/ 3 وما بعدها، "طبقات ابن سعد" 2/ 36، و"تاريخ الطبري" 2/ 499 وما بعدها، و"المنتظم" لابن الجوزي 3/ 161، و"الكامل في التاريخ" 2/ 103، و"عيون الأثر" 2/ 5، و"البداية والنهاية" 3/ 10، و"حدائق الأنوار" لابن الديبع: 2/ 518. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 74، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 465، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" لمكي 51، و"تذكرة الأريب" لابن الجوزي 1/ 98، و"تحفة الأريب" لأبي حيان 247. قال ابن عباس: {أَنْ تَفْشَلَا} يعني: أن تَجْبُنا، بلغة حِمْيَر). "اللغات في القرآن": 20. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) وقد فسرها ابن إسحاق بقوله: (المدافع عنهما ما همَّتا به من فشلهما؛ وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما، غير شك في دينهما، فتَولَّى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته، حتى سلمتا من وهونهما وضعفهما، ولحقتا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -). "سيرة ابن هشام": 3/ 58. وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 74، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 749.

123

وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} التَوَكُّل: تَفَعُّل، مِن: (وَكَلَ أمْرَهُ إلى فلان): إذا اعتمد في كفايته عليه، ولم يَتَوَلَّهُ بنفسه (¬1). وفي الآية إشارة إلى أنَّه ينبغي أن يستدفع (¬2) الإنسان ما يعرض له مِن حَرْفٍ (¬3) ومكروهٍ بالتوكل على الله، وأن (¬4) يَصْرِفَ الجَزَعَ (¬5) عن نفسه بالتوكل. 123 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}. الآية (¬6). النَّصْرُ: حُسْنُ المَعُونة (¬7). وبَدْرٌ: بِئْرٌ (¬8) لرجل [يقال] (¬9) له: بَدْر (¬10)، ¬

_ (¬1) (والتوكل: إظهار العجز، والاعتماد على الغير، والاسم: التُّكلان). "القاموس": (1069) (وكل). وانظر: "مقاييس اللغة": 6/ 136 (وكل). (¬2) في (ب): (يدفع). (¬3) في (ج): (حرب). وما في نسخة (ج) له وجاهته، ومناسبته التامة هنا؛ لأن المقام هنا مقام حديث عن الحرب، إلا أن ما أثبته وهو في نسخة الأصل (أ)، (ب)، له وجهه كذلك؛ لأن (الحرف) من (حَرَفَ الشيء، يحرف حَرْفا)، و (انحرف، وتَحرَّف): عَدَلَ. ومال عن الشيء، و (حَرَف الشيءَ عن وجهه): صرفه. فيكون معناها في هذا الموضع هو الصرف والميل والعدول عن الأمر السوي. وهو ما كان من أمر الطائفتين اللتين همَّتا بالميل والانصراف عن القتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مما يستدعي أن يدفع الإنسان هذا الوهم الشيطاني عن نفسه بالتوكل. انظر: (حرف) في: "اللسان" 2/ 839، و"القاموس" (799). (¬4) في (ج): (أن). (¬5) في (ب): (الجذع). الجَزَع: نقيض الصبر. وهو أبلغ الحزن، الذي يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه عنه. يقال: (جَزع جَزَعًا، وجُزُوعا). انظر: (جزع) في: "مفردات ألفاظ القرآن" 194، و"القاموس" (709). (¬6) (الآية): ساقطة من (ب). (¬7) انظر: (نصر) في: "المجمل" 870، و"مفردات ألفاظ القرآن" 808 (¬8) (بئر): ساقطة من (ب)، (ج). (¬9) ما بين المعقوفين: غير واضح في (أ). وفي (ب): اسمه -بدلًا من: (يقال له) -. وأثبَتُّه من (ج). وهكذا جاءت العبارة في "تفسير الثعلبي" 3/ 108 - ب. ويبدو أن المؤلف نقلها عنه. (¬10) في (ب): وبدر كان رجل اسمه بدر.

سُمِّيَت باسم صاحبها، في قول الشعبي (¬1). يدل على هذا قولُ حَسَّان (¬2): وبِبِئْرٍ إذْ يَرُدُّ وجوهَهُم ... جبريلُ تحت لِوائِنا ومُحَمَّدُّ (¬3) وقال الواقِدِيُّ (¬4) -عن شيوخه- (¬5): (بدر) (¬6)، هو اسمٌ لِمَوضِعٍ (¬7). ¬

_ (¬1) بيَّن الشعبي أن هذا الرجل من جهينة. انظر قوله في: "مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 353 رقم (36646)، و"الطبقات الكبرى" 2/ 27، و"المعارف" 152، "تفسير الطبري" 4/ 74 - 75، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 750، و"تفسير الثعلبي" 3/ 108 ب، و"معجم ما استعجم" 1/ 231، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 123 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وذكر ابن قتيبة والسهيلي أن بدرًا -هذا- رجل من غفار، من بطن يقال لهم: بنو النار. وقيل: إن بدرا -هذا- هو ابن قريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة. انظر: "المعارف":152، و"التعريف والإعلام"، للسهيلي 77 - 78. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) البيت لكعب بن مالك الأنصاري، وليس لحسّان، ولم أقف عليه في ديوانه، ولم أجد من نسبه له. رضي الله عنهما. وهو في: "ديوان كعب" 191، وورد منسوبًا له في: "العمدة" لابن رشيق 799، و"معجم ما استعجم" 232. وفي المعجم: (.. نَرُدُّ ..) بدلًا من: (.. يَرُدُّ ..). والبيت من قصيدة يرثي فيها حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. والضمير في (وجوههم) يعود على المشركين الذين قُتِلوا وغيِّبوا في قليب بدر بعد المعركة. (¬4) لم أهتد إلى قوله هذا في كتابه "المغازي"، وقد ورد في: "الطبقات الكبرى" 2/ 27، و"تفسير الطبري" 4/ 75، و"تفسير الثعلبي" 3/ 108 ب، و"معجم ما استعجم" 1/ 231. والواقدي، هو: محمد بن عمر بن واقد السَّهْمي، تقدمت ترجمته. (¬5) عن شيوخه: ساقطة من (ب). (¬6) بدر: زيادة من (ب). (¬7) وفي هذا الخبر عنه، أن الواقدي ذكر قول شيوخه -هذا- ليحيى بن النعمان =

وقيل: هو ماءٌ (¬1) لبني غِفَار (¬2)، بين مكة والمدينة (¬3). وقوله تعالى: {وَأَنتُم أَذِلَّةٌ} في موضع الحالِ، وإنّما كانوا أذلةً؛ لقلة العَدَدِ، وضعف الحال (¬4)؛ لقلة (¬5) السلاح والمال عن مقاومة العدو (¬6). ¬

_ = الغفاري، فقال: (سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما مكه أحدٌ قطُّ يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفار. قال الواقدي: وهو المعروف عندنا) "معجم ما استعجم" 1/ 231. (¬1) (ماء): ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (لبني عفان). (¬3) ورد عن الربيع، والضحاك، وقتادة أنه ماء بين مكة والمدينة. وليس فيه أن هذا الماء لبني غفار. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 75، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 750، و"تفسير الثعلبي" 3/ 107 ب، و"معجم ما استعجم" 1/ 307، و"الدر المنثور" 2/ 123. (¬4) وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والحسن، والربيع، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 75، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 751. (¬5) في (ب): ولقلة. (¬6) بلغ عدد المسلمين في هذه المعركة: ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وهذا قول عامة السلف، كما يقول الطبري في تاريخه: 2/ 432. على اختلاف الأقوال في العدد بعد الثلاثمائة: فقيل: (305)، وقيل: (307)، وقيل: (313)، وقيل: (314)، وقيل: (318)، وقيل: (319). ومعهم: فرسان، وستون درعًا، وسبعون بعيرا. أما المشركون: فقيل: عددهم: تسعمائة وخمسون رجلًا، وقيل: ألف رجل. ومعهم: ستمائة درع، ومائتا فرس، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: ستون. انظر: "صحيح البخاري": كتاب: المغازي. باب: عدة أصحاب بدر، و"صحيح مسلم": كتاب: الجهاد والسير، باب: الامداد بالملائكة في غزوة بدر، و"طبقات ابن سعد" 2/ 21 - 22، و"سيرة ابن هشام" 2/ 354، و"تاريخ الطبري" 2/ 423، 431 - 432، و"المنتظم" 3/ 98، 100، 102، و"البداية والنهاية": 3/ 259،=

ومعنى الذلِّ: الضَّعْف عن المقاومة. ونقيضه: العِزُّ، وهو: القوة والغَلَبَة (¬1). و {أَذِلَّةٌ} (¬2): جمع ذليل. والأصل في (فَعِيل) إذا كان صفةً، أن يجمع على (فُعَلاَء, نحو: (ظَرِيف وظُرَفَاء)، و (شَرِيك وشُرَكَاء)، ولكن لفظ (¬3) (فُعَلاَء) [اجتُنِبَ] (¬4) في التضعيف؛ لأنه [لو قيل: (خُلَلاَء) (¬5)، و (قُلَلاَء)، في جمع: خَلِيل (¬6) وقَلِيل، لا جتمع حرفان من جنسٍ واحد، فَعُدِل به] (¬7) إلى (أفْعِلَة)؛ لأن (أفْعِلَة) مِن جمْع الأسماء في (فَعِيل) (¬8)، [نحو: جَرِيب] (¬9) وأَجْرِبَة) (¬10)، و (قَفِيز (¬11) وأَقْفِزَة) (¬12). ¬

_ =260، و"حدائق الأنوار" 2/ 498، 499، و"عيون الأثر" 1/ 381، 383، وانظر: تفسير المصنف لقوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} من آية 13 سورة آل عمران. (¬1) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" (330) (ذلل)، "اللسان" 5/ 2925 (عزز) 3/ 1513 (ذلل)، "القاموس" 517 (عزز). (¬2) من قوله: (وأذلة ..) إلى (.. وأقفزة): نقله بتصرف يسير من "معاني القرآن"، للزجاج 1/ 466، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 405. (¬3) (لفظ): في (أ) غير واضحة وفي (ب): (لفظت)، وليست في "معاني القرآن". والمثبت من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (خففت). وفي "معاني القرآن" (اجتنب). والمثبت من (ج). (¬5) في "معاني القرآن": (جللاء). (¬6) في "معاني القرآن": (جليل). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج) ومن "معاني القرآن". (¬8) في (ب): (فعل). (¬9) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وفي (ب): (نحو جريت). والمثبت من (ج) و"معاني القرآن". (¬10) في (ب): (أجريت). (¬11) في (ب): (وقفز). (¬12) الجريب: من الأرض والطعام، مقدار معلوم الذراع والمساحة. وهو عشرة =

قال أبو إسحاق (¬1) في هذه الآية (¬2): أعلم الله -جَلَّ وعَزَّ- أنَّهم حين لَزِمُوا الطاعةَ، نصرهم اللهُ، وهم قليل، ويوم أُحُد نَزَلَ بهم ما نزل؛ بمخالفة أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ذلك عقوبة. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: اتقوا معاصي الله بالعمل بطاعته، أو اتَّقوا عقابَ اللهِ بالعمل بطاعته؛ لتقوموا بشكر نعمته. وهذا (¬3) معنى قول محمد بن إسحاق بن يَسَار في هذه الآية (¬4): اتَّقُونِي فإنَّه شكر نعمتي (¬5). ¬

_ = أقفزة وقيل: قدر أربعة أقفزة. وقيل: يختلف باختلاف البلدان، كالاختلاف في الرطل والمد والذراع وغير ذلك. وقيل: ثلاثمائة وستون ذراعًا. ويطلق -كذلك- على المزرعة، والوادي. وجمعه: أجربة وجُربان. والقفيز: مكيال، وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق - والمكّوك: مكيال يسع صاعًا ونصف، وقيل: غير ذلك. وقيل: القفيز: مقدار مساحة من الأرض. وقيل: مكيال يتواضع الناس عليه. ويجمع على أقفزة، وقُفْزان -بكسر القاف وضمها-. انظر: "التاج": 1/ 361 (جرب)، 8/ 129 (قفز)، و"القاموس": ص 954 (مكك). (¬1) في "معاني القرآن"، له: 1/ 466. نقله عنه باختصار قليل وتصرف. (¬2) (في هذه الآية): ساقط من (ج). (¬3) في (ج): (هذا) بدون واو. (¬4) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 59، و"تفسير الطبري" 4/ 74، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 751. (¬5) في (ب): (لنعمتي).

124

124 - قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية. قال الشَّعْبيُّ (¬1): حُدِّثَ المسلمون أن كُرْز بن جابر المُحَارِبي (¬2) يريد أن يُمِدَّ (¬3) المشركين، فَشَقَّ ذلك عليهم، فقيل لهم: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ}. ومعنى الكِفَايَةِ، هو: سَدُّ الخَلَّةِ (¬4)، والقيام بالأمر، يقال: (كفاهُ أمْرَ كذا): إذا قامَ (¬5) بِهِ دونه، وسَدَّ خَلَّتَهُ (¬6). ومعنى الإمْدَاد: إعطاء الشيء حالًا بعد حال (¬7). قال المُفَضَّلُ (¬8): ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: (أَمَدَّهُ، ¬

_ (¬1) قوله في: "مصنف ابن أبي شيبة" رقم (36659) كتاب: المغازي. غزوة بدر الكبرى، و"تفسير الطبري" 4/ 76، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 752، و"تفسير الثعلبي" 3/ 110 ب، و"تفسير ابن كثير" 1/ 432، و"الدر المنثور" 2/ 123، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬2) هو كرز بن جابر بن حُسيل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فِهْر القُرَشي الفهري. كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم، وهو الذي أغار على سَرْح المدينة مرَّةً، وفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدركه، وهي المسماة: (غزوة بدر الأولى)، ثم أسلم وحسن إسلامه، ولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش الذي بعثهم في أثر العرنيين الذين قتلوا راعيه، واستشهد يوم في فتح مكة سنة (8 هـ). انظر: "أسد الغابة" 4/ 468، و"الإصابة" 3/ 290. (¬3) في (ب): (أن هذا). بدلًا من (أن يمد). (¬4) الخَلَّةُ -هنا-: الحاجة، والفقر. انظر: "القاموس" (994) (خلل). (¬5) في (أ)، (ب): (أقام). والمثبت من (ج). (¬6) انظر: "النكت والعيون" 1/ 421، و"اللسان" 15/ 225 (كفي)، و"بصائر ذوي التمييز" 4/ 368. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3361 (مدد)، و"النكت والعيون" 1/ 421. (¬8) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 111 ب.

125

يُمِدُّهُ) (¬1)، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: (مَدَّةُ، يَمُدُّهُ، مَدًّا) (¬2)، ومنه قوله: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} (¬3). 125 - قوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} الآية. {بَلَى}: تصديق لوعد الله. ومضى الكلامُ فيه (¬4) إذا وقع في ابتداء الآية. وقوله تعالى: {إِنْ تَصْبِرُوا} (¬5). أي: على لقاء العدو. ¬

_ (¬1) في (ب): (المد مده). وفي "تفسير الثعلبي": أمدَّه يُمِدُّه إمدادًا. (¬2) في "تفسير الثعلبي": (مدَّه يمده مدادًا). ذكر الرَّاغبُ أن أكثر ما جاء (الإمداد) في المحبوب، و (المد) في المكروه. فمن (الإمداد) قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22]، و {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12]. ومن (المد) قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّ} [مريم: 79]. وقد نقل الطبري عن يونس الجرْمي ذلك، وبيَّن أن ما كان منها متعلقًا بالشر وبمعنى أنك تركته، فهو: (مددت)، وما كان في الخير، وبمعنى أنك أعطيته، فهو: (أمددت). ونقل عن بعض نحوي الكوفة -ولم يسم أحدا منهم-: أنَّ كل زيادة أحدثت في الشيء من نفسه، فهي: (مَدَدت)؛ كقولنا: (مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر غيرُه) حيث يتصل به، فيصير منه. وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره، فهي: (أمدَدْت)؛ كقولنا: (أمددت الجيش بمدد). انظر: "تفسيرالطبري" 1/ 135، و"مفردات ألفاظ القرآن" 763 (مدد)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 111 ب، و"بصائر ذوي التمييز" 4/ 489. (¬3) سورة لقمان: 27. وتمامها: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. (¬4) في (ج): (في). (¬5) في (ج): {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}.

{وَتَتَّقُوا} معصية الله، ومخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال ابنُ عبَّاس -في رواية العَوْفي- (¬2): مِن وجههم هذا. وهو قول: الحسن (¬3)، وقتادة (¬4)، والربيع (¬5)، والسّدِّي (¬6)، وابن زيد (¬7). وقال (¬8) في رواية باذان: من غَضَبِهم هذا (¬9). وهو قول: مجاهد (¬10)، والضَّحَّاك (¬11). وأصل الفَوْرِ: غَلَيانُ القِدْرِ. يقال: (فارت القِدْرُ، تَفُورُ فَوْرًا)، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم": 1/ 296، و"تفسير ابن أبي حاتم": 3/ 753 ولفظه عندهما: (من سفرهم هذا)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 112 أ، و"تفسير البغوي" 2/ 100، و"زاد المسير" 1/ 451. (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 80، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 753، و"تفسير الثعلبي" 3/ 112 أ، و"تفسير البغوي" 2/ 100، و"زاد المسير" 1/ 451. (¬3) قوله في المصادر السابقة. (¬4) قوله في المصادر السابقة. (¬5) قوله في: "الطبري" 4/ 80، و"ابن أبي حاتم" 3/ 753، و"الثعلبي" 3/ 112 ب. (¬6) قوله في المصادر السابقة. (¬7) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 80، و"تفسير الثعلبي" 3/ 112ب. (¬8) أي: ابن عباس. (¬9) ورد هذا القول في "تفسير الطبري" 4/ 80، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 753، و"تفسير الثعلبي" 3/ 112 أ، و"النكت والعيون" 1/ 421، ولكن هذه المصادر نسبت هذا القول لأبي صالح باذان، وليس في الأثر أنه رفعه لابن عباس. (¬10) قوله، في "تفسيره" 135، و"تفسير الطبري" 4/ 81، و"ابن أبي حاتم" 3/ 753، و"الثعلبي" 3/ 112 أ، و"البغوي" 2/ 100، و"زاد المسير" 1/ 451. (¬11) قوله في المصادر السابقة، عدا الأول.

غليانها عند شدة الحَمْي (¬1). ومنه: فَوْرُ الغَضَبِ؛ لأنه كَفَوْرِ القِدْرِ بالحَمْي. ومنه، يقال: (جاء على الفَوْر)؛ أي: على ابتداء الحَمْي، قبل أن تَبْرُدَ نَفْسُه عنه (¬2). وقوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ} مَنْ فَتَحَ الواو (¬3)، معناه: مُعْلَمِين، قد سُوِّمُوا، فهم مُسَوَّمِين. والسُّوْمَة: العَلاَمَةُ يُفْرَقُ بها الشيءُ مِن غَيْرِه. ومضى شيءٌ من هذا في قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} (¬4). وهذه (¬5) العَلامَةُ يُعْلِمُها الفارسُ يوم اللقاء؛ ليُعْرَفَ بها. قال عنترة (¬6): فَتَعَرَّفوني إنَّنِي أنا ذِلكُم ... شاكٍ سِلاحي في الحوادِثِ مُعْلَمُ (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: (فور) في: "مقاييس اللغة" 4/ 458، و"مفردات ألفاظ القرآن" 647. (¬2) انظر: المصادر السابقة، و"تفسير الطبري" 4/ 81، و"تفسير الثعلبي" 3/ 112 أ. (¬3) هي قراءة: نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {مُسَوِّمِينَ}. انظر: "السبعة": 216، و"حجة القراءات": 173. (¬4) [سورة آل عمران: 14]. وانظر: "تهذيب اللغة": 2/ 1601 (سوم). (¬5) من قوله: (هذه) إلى نهاية بيت الشعر الآتي: نقله بنصه عن "الحجة" للفارسي 3/ 76. غير أنه ليس في "الحجة": (قال عنترة) وإنما: (قال) فقط دون نسبة لقائل. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) البيت: ليس لعنترة، وإنما هو لطريف بن تميم العنبري. وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" 3/ 466، 4/ 378، و"الأصمعيات" 128، و"البيان والتبيين" 3/ 93، و"الاختيارين" 189، و"العقد الفريد" 3/ 208، و"الاقتضاب في شرح أدب الكتاب" 3/ 408، و"شرح أدب الكاتب"، للجواليقي 284، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 367، و"معاهد التنصيص" 1/ 204، و"شرح شواهد شرح الشافية" (مطبوع مع شرح الشافية) 4/ 368. =

ومَن كَسَرَ الواو (¬1)، نَسَبَ الفِعْلَ إليهم؛ لِمَا جاء في الخبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "سَوَمُوا، فإن الملائكة قد سَوَّمَتْ" (¬2). ¬

_ = كما ورد غير منسوب في: "المقتضب" 1/ 116، و"المنصف" 2/ 53، 3/ 66، و"الحجة" للفارسي 3/ 77. وقد روي البيت في بعض المصادر بـ (فتوسَّموني) بدلا من: (فتعرفوني)، و (ذاكم) بدلًا من (ذلكم) وفي بعضها: (شاكي السلاح)، وفي "الكامل"، لابن الأثير: (لا تنكروني إنني داء لكم ..). وقبل هذا البيت: أوَ كلما وردت عكاظ قبيلةٌ ... بعثوا إليَّ عريفهم يَتَوَسَّمُ لقد كان من عادة الفرسان في الجاهلية -نظرا لما عليهم من ثارات كثيرة- أنهم إذا ما وردوا عكاظ في الموسم، يتقنعون لئلا يُعرَفوا، فيُقصدوا في الحروب؛ لأخذِ الثأرِ منهم، إلا الشاعر، فإنه لشجاعته يلقي القناع عن وجهه على خلاف العادة، فكان بعضُ من لهم ثأر عنده يمر به ويتفرس في وجهه، فخاطبهم الشاعرُ بقوله: تعرفوا عليَّ جيدًا، وتفرسوا فيَّ، فإنني لا أخشاكم، ولا أهابكم. وقوله: (شاك سلاحي)؛ أي: لسلاحي شوكة وله حد. وأصله: (شائك)، فقُلِب إلى: شاكٍ وقيل: أصله: (شاككٌ) من: الشكَّة، وهي: السلاح. وقيل غير ذلك. وينطق (شاكٍ) -في البيت- بالضم، أو بالكسر، مع التنوين. وقوله: (مُعْلَم)، أي: يُعلِم نفسه بعلامة في الحرب؛ ليُعرَف بها. انظر: "الاقتضاب": 3/ 409. (¬1) هي قراءة: ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، {مُسَوِّمِينَ}. انظر: "السبعة" 216، و"حجة القراءات" 173. (¬2) الحديث أخرجه: ابن أبي شيبة في: "المصنف" 7/ 355 رقم (36657) وأبو عمرو الدوري في "جزء فيه قراءات النبي - صلى الله عليه وسلم -" 80، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 82. وأوردته الكتب التالية، غير مسند: "تفسير الثعلبي" 3/ 112 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 99، 100، و"زاد المسير" 1/ 452، و"الدر المنثور" 2/ 125. والحديث مرسل؛ لأنه من رواية عمير بن إسحاق، قال: (.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذكره. =

قال ابن عباس: كانت الملائكة قد سَوَّمت يوم بدر بالصُّوف الأبيض في نواصي الخيل، وأذنابها (¬1). وقال الربيعُ (¬2)، وهشامُ بن عُرْوة (¬3): كانت عليهم عمائم صُفْرٌ، ¬

_ = قال الشيخ أحمد شاكر: (وعمير بن إسحاق، أبو محمد مولى بني هاشم، روى عن المقداد بن الأسود، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، كان قليل الحديث. قال أبو حاتم: لا نعلم روى عنه غير ابن عون. قال ابن معين: ثقة. وقال -ايضًا-: لا يساوي حديثه شيئًا، ولكن يكتب حديثه) ثم تابع الشيخ شاكر قائلًا: (فهذا الحديث مرسل -كما ترى-، وعن رجل يكتب حديثه ولا يحتج به). هامش "تفسير الطبري" 7/ 186. (ط. شاكر). وانظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 216. وأخرج الواقدي في "المغازي": 1/ 75 - 76 عن محمود بن لبيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الملائكة قد سَوَّمت فسَوِّموا، فأعْلَموا بالصوت في مغافرهم وقلانسهم". وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 16 ولم يسنده، وأورده المتقي الهندي في: "كنز العمال": 10/ 403 رقم (29964) وزاد نسبة إخراجه لابن النجار. ومحمود بن لييد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، أبو نعيم المدني. قال عنه ابن حجر: (صحابي صغير، وجل روايته عن الصحابة، مات سنة 96، وقيل: 97، وله تسع وتسعون سنة). "تقريب التهذيب": 522 (6517). (¬1) في (ب): (وأذناها). وفي (ج): (وأذانها). ولم أقف على قول ابن عباس بهذا اللفظ، وإنما الذي ورد عنه، قوله: (فإنهم [أي: الملائكة] أتوا محمدًا النبي - صلى الله عليه وسلم - مسومين بالصوف، فسوَّم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف). أخرجه الطبري 4/ 83، وابن أبي حاتم 3/ 754، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 422. (¬2) لم أقف على مصدر قوله هذا. والذي في "تفسير الطبري" 4/ 83 قوله: (كانوا يومئذ على خيل بُلْق) وكذا ورد في "تفسير الثعلبي" 3/ 112 ب. (¬3) قوله في: "مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 361 رقم (36692)، و"تفسير الطبري" 4/ 83، و"ابن أبي حاتم" 3/ 755، و"المستدرك" 3/ 361، و"تفسير الثعلبي" =

وروي عن علي (¬1) وابن عباس (¬2): كانت عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم. قال المفسرون: فصبر المسلمون يوم بَدْرٍ، واتَّقوا اللهَ، فأَمَدَّهم (¬3) الله ¬

_ = 3/ 112ب، و"النكت والعيون" 1/ 422، و"تفسير البغوي" 2/ 101، و"زاد المسير" 1/ 452، و"تفسير ابن كثير" 1/ 432، وقال: (رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير). وهشام، هو: أبو المنذر، ابن عُرْوة بن الزبير بن العوام الأسدي. إمام ثقة حافظ حجة، مشهور بالورع والصلاح. توفي بغداد سنة (145هـ) أو (146هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 63، و"الميزان" 5/ 426، 427، و"التهذيب" 4/ 275، و"شذرات الذهب" 1/ 218. (¬1) قوله في "سيرة ابن هشام" 2/ 274 ولفظه عنده: (العمائم تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء). وأخرج ابن أبي حاتم عنه قوله: (كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض)، وفي رواية أخرى عنده: (كان سيما الملائكة أهل بدر الصوف الأبيض، وكان سيما الملائكة -أيضًا- في نواصي الخيل). "تفسيره" 2/ 525. وورد في "مصنف ابن أبي شيبة" بنفس السند الذي عند ابن أبي حاتم، ولكن لفظه: (كان سيما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..) وذكره وأورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 112 ب، بنفس لفظ المؤلف، حيث قال: (وقال علي ابن أبي طالب وابن عباس ..) وذكره، وكذا أورده البغوي في "تفسيره": 2/ 101، وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" 2/ 378 رقم (4299) بنفس لفظ ابن أبي حاتم، وزاد نسبته لابن المنذر. (¬2) قوله في: "سيرة ابن هشام" 2/ 274، و"تفسير الثعلبي" 3/ 112 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 101، و"تفسير ابن كثير" 1/ 432، وورد في "الدر المنثور" 2/ 125، وزاد نسبة إخراجه للطبراني. (¬3) في (ب): (فأيديهم).

126

بخمسة آلافٍ من ملائكته (¬1) على ما [وَعَدَهم] (¬2). قال الحسن (¬3): فهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءٌ (¬4) للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس (¬5)، ومجاهد (¬6): لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك، يشهدون القتال ولا يُقاتِلُون. 126 - قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} الكناية (¬7) تعود على المَصْدَرِ؛ كأنه قال: وما جعل الله المَدَدَ والإمْدادَ إلّا بُشْرى. فَدَلَّ {يُمْدِدْكُمْ} على الإمداد، فَكَنَى عنه (¬8)، كما قال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]؛ معناه (¬9): وإن أكلَهُ لَفِسْقٌ. فَدَلَّ {تَأْكُلُوا} على الأكل، فكنى عنه، والعرب تقول: (مَنْ صَدَقَ؛ كان خيرًا له، ومَن كَذَبَ؛ كان شرًا له). فدل الفعلان على المَصْدَرَيْنِ (¬10). هذا كلام ¬

_ (¬1) في (ج): الملائكة. (¬2) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (وهم). والمثبت من (ج). وممن قال بهذا: ابن عباس، وقتادة، والربيع. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 77. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) الرِّدْءُ -هنا-: العَوْنُ. انظر: "القاموس المحيط" 41 (ردأ). (¬5) قوله في "المغازي" 1/ 79، و"سيرة ابن هشام" 2/ 274، "تفسير الطبري" 4/ 77، "النكت والعيون" 1/ 422، و"ابن كثير" 1/ 432، ونسب إخراجه إلى ابن مردويه. (¬6) قوله في "تفسيره" 135، و"تفسير الطبري" 4/ 78. (¬7) سبق بيان أن الكناية يُراد بها: الضمير. (¬8) وقيل: الضمير يعود على النصر، وقيل: يعود على التسويم، وقيل: على التنزيل، وقيل: على العدد، وقيل: على الوعد. انظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 268، و"الدر المصون" 3/ 389 - 390. (¬9) (معناه وان أكله لفسق): ساقط من (ج). (¬10) وهما الصدق والكذب.

ابن الأنباري (¬1). وكذلك قال الزجاج (¬2)؛ أي: وما جَعَلَ اللهُ ذِكْرَ المَدَدِ إلّا بُشْرَى (¬3). والبُشْرى: اسم من (الإبشار)، و (التبشير) (¬4). ومضى الكلام في معنى التبشير (¬5)، وسيأتي الكلام في (بُشْرى) في سورة يوسف إن شاء الله (¬6). وقوله تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} فلا تجزع من كثرة العَدُوِّ (¬7)، وقِلَّةِ عَدَدِكم. وإنما قال: {وَلِتَطْمَئِنَّ}، ولم يقل: واطْمِئْنانًا، كما قال {بُشْرَى}، لأن ذِكْر المَدَدِ سببٌ لاطمئنان القلوب، ولم يكن نفس الاطمئنان، وكان ذكر المَدَدِ نفس البُشْرَى. وقال صاحب النظم (¬8): هذا على تأويل: وما جعله الله إلّا لِيُبَشِّركم (¬9)، ولِتَطمئنَّ به قلوبُكم. ومن أجاز إقحام الواو -وهو مذهب الكوفيِّين (¬10) - جعلها مقحمةً في ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 467. (¬3) ومن قال بهذا: أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 296، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 471، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 454. (¬4) انظر: "القاموس المحيط" 744 (بشر). (¬5) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير {إِنَ اَللَّهَ يُبَشِرُكِ} الآية: 39. (¬6) وردت لفظة (بشرى) في سورة يوسف: 19 {قَالَ يَابُشرَى هَذَا غُلاَمٌ}. (¬7) في (ج): (العدد). (¬8) قد أورد قوله هذا بنصه السمينُ الحلبي في "الدر المصون" 3/ 389. (¬9) في (ب): (إلا بشرى لكم). (¬10) سبق بيان مذهب الكوفيين والبصريين في موضوع زيادة الواو العاطفة. انظر: التعليق على تفسير قوله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ} [الآية 50 من سورة آل عمران].

{وَلِتَطْمَئِنَّ} فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بُشْرَى لكم؛ لِتَطمئنَّ قلوبكم به. قال: وزعم بعضهم أنَّ الواو لإضمارٍ بعده، على تأويل: (ولتطمئن قلوبكم به، جَعَل ذلك). واحتج بقوله: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت: 12]، على تأويل: (وحفظًا لها، جَعَل ذلك). ومثله: قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، على (¬1) تأويل: ليقضي اللهُ أمرًا كان مفعولًا، فَعَلَ ذلك. ونحو هذا قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} (¬2) [الأنعام: 75]. وقوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قال المفسرون: أرادَ الله تعالى: أنْ لا يَرْكَن المؤمنون إلى الملائكة، وأَعْلَمَ أنهم وإنْ (¬3) حضروا وقاتلوا، فما النصر إلا من عند الله؛ ليستعينوا به [و] (¬4) يَتَوَكَّلوا عليه. والإمداد بالملائكة؛ بُشرَى لهم [وطُمَأنِينة] (¬5) لقلوبهم (¬6)؛ لما في البَشَرِ من الضَّعْف، فأما حقيقة النصرِ والاستعلاءِ في العرب، فهو من عند الله العزيز الحكيم (¬7). ¬

_ (¬1) من قوله: (على ..) إلى (.. مفعولًا): ساقط من (ج). (¬2) والتأويل هنا، على هذا الرأي: أي: وليكون من الموقنين أريناه انظر: "الدر المصون" 5/ 7. (¬3) في (ج): (إن) بدون واو. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬5) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (بطمأنينة). والمثبت من (ج). (¬6) في (ب): (قلوبهم) بدون اللام. (¬7) انظر هذا المعنى في: "تفسير الطبري" 4/ 84

127

127 - قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} اللّام تعود إلى قوله: {وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدرٍ} (¬1). {لِيَقْطَعَ طَرَفًا}؛ أي: لِيُهلك طائفةً، ولِيَقْتُلَ قِطْعَةً. قال السُّدِّي (¬2): معناه: لِيَهدِمَ رُكْنًا مِن أركان الشرك، بالقتل والأَسْرِ، فقُتِلَ من قادتهم وسادتهم يومَ بَدْرٍ، سبعون، وأُسِرَ سبعون (¬3). وقال بعضهم (¬4): المعنى: وما النصر إلا من عند الله، ليقطع طرفًا (¬5). وقيل (¬6): إنَّ هذا راجعٌ إلى [معنى قوله] (¬7): {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 85، و"الثعلبي" 3/ 113 أ، و"البغوي" 2/ 101. وعزا السمين الحلبي هذا القول -كذلك- للحوفي. انظر: "الدر المصون" 3/ 390، واستبعده السمين؛ لطول الفصل بين اللام ومتعلقه. (¬2) قوله هذا -بنصه- في: "تفسير الثعلبي" 3/ 113 أ، و"تفسير البغوي" 2/ 101. (¬3) الذي وقفت عليه من قول السدي: أن المَعني بالآية: مَن قُتِل من الكفار يوم أحد، وهم ثمانية عشر رجلًا. وقد ورد قوله هذا في: "تفسير الطبري" 4/ 85، و"النكت والعيون" 1/ 422، و"زاد المسير" 1/ 454. وممن قال بأن المراد بها مَن قتل يوم بدر: قتادة، والربيع، والحسن، وابن إسحاق، والجمهور. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 85، و"زاد المسير" 1/ 454. أما ما ذكره المؤلف من عدد قتلى وأسرى المشركين في معركة بدر، فانظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 362، و"تاريخ الطبري" 2/ 474. (¬4) لم أقف على القائل. (¬5) قال السمين: (وفيه نظر من حيث إنه قد فُصل بين المصدر ومُتَعَلَّقه بأجنبي، وهو: الخبر). "الدر المصون" 3/ 390. (¬6) ممن قال بهذا: أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 297. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. =

و {لِيَقْطَعَ طَرَفًا}، ولكنه ذُكِر بغير حرفِ العطف؛ لأنَّ الكلامَ إذا كان بعضُه ملتبسًا ببعضٍ، جاز حذفُ العاطف؛ كقوله: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]. وإنما قال: {طَرَفًا} ولم يقل: (وَسَطًا)؛ لأنه لا يُوصَلُ إلى الوَسَطِ الا بعد قطع الطَّرَفِ، وهذا القَطْعُ إنما هو بأيدي المؤمنين، وإنما يقطعون الطَّرَفَ الذي يليهم مَنَ الكافرين، وهذا يوافق قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، وعلى هذا -أيضًا- قولُه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]. وقوله تعالى: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} الكَبْتُ -في اللغة-: صَرْعُ الشيء على وجهه؛ يُقال: (كَبَتَهُ، فانْكَبَتَ) (¬1). هذا تفسيره، ثم قد (¬2) يُذكرُ (¬3) المرادُ به: الإخزَاءُ، والإهلاكُ، واللَّعْنُ، والهَزِيمَةُ، والغَيْظُ، والإذلالُ. وكلُّ هذا ذكره المفسرون في تفسير (الكَبْتِ) (¬4). ¬

_ = وهناك أقوال أخرى في عود الللام في {لِيَقْطَعَ}. انظر: "تفسير ابن عطية" 3/ 313، و"الدر المصون" 3/ 390. (¬1) انظر: كتاب "العين" 5/ 342 (كبت)، و"مجاز القرآن" 1/ 103، و"تهذيب اللغة" 10/ 152 (كبت). (¬2) (قد): ساقطة من (ب). (¬3) (يُذْكَرُ): وردت في (أ)، (ج): (يذكرو). وفي (ب): (يذكروا). وما أثبتُّهُ هو ما استصوبته، لأن في (أ)، (ج) قد تكون الضمة التي على الواو كتبها الناسخ بحجم أكبر من حجمها الطبيعي، وتزحلقت قليلًا إلى ما بعد الرَّاء. أما الذي في نسخة (ب) فلا وجه له، لأن الفعل كُتِب فيها في حالة الجمع، وحذفت منه النون التي هي علامة رفعه، والصواب إثباتها، لأنه من الأفعال الخمسة. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 299، و"سيرة ابن هشام" 3/ 61، و"غريب القرآن" لابن اليزيدي 44، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 110، و"تفسير الطبري" 4/ 86، =

128

وقوله تعالى: {خَائِبِينَ} الخَيْبَةُ: حِرْمانُ البُغْيَة (¬1)، ولا تكون إلّا بعد الأَمَلِ. واليَأْسُ قد يكون قبل الأَمَلِ، وقد يكون بعده. فنقيض اليَأْسِ: الرَّجَاءُ، ونقيض الخَيْبَةِ: الظَّفَرُ. وقد أنجز الله وَعْدَهُ يوم بَدْرٍ؛ بِقَطْع (¬2) طَرَفٍ مِن الكفار بالقتال والأسر، وَرَدَّ الباقين منهزمين، خائبين مِمّا أَمَّلُوا مِن الظَّفَرِ، فتحقق نصرُه، وعَلَت كلمَتُهُ. 128 - قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية. ذَكَرَ النحويون -الفرّاء (¬3)، والزّجاج (¬4)، وغيرُهما (¬5) - في هذه الآية قولين: ¬

_ = و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 467، و"ابن أبي حاتم" 3/ 756، و"نزهة القلوب" للسجستاني 485، و"بحر العلوم" 1/ 297، و"زاد المسير" 1/ 454. قال ابن قتيبة: (لأن أهل النظر يَرَوْن أن التاء فيه منقلبة عن دال؛ كأن الأصل فيه: (يكبدُهُم)، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ وشدة العداوة. ومنه يقال: (فلان قد أحرق الحزنُ كبِدَهُ). و (أحرقت العداوة كبده). والعرب تقول للعدو: (أسود الكبد) ..) ثم أتبع قائلاً: (والتاء والدال متقاربتان المَخرَجَيْن. والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى). "تفسير غريب القرآن" 110. وانظر (كبت) في "تهذيب اللغة" 4/ 3088، "اللسان" 6/ 3805، "عمدة الحفاظ" 477. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 957 (خاب)، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 472، و"اللسان" 3/ 1297 (خيب). (¬2) في (ج): (فقطع). (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 234. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 468. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 215، و"تفسير الطبري" 4/ 86، و"إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 583، و"القطع والائتناف" للنحاس 233، و"معاني القرآن" له 1/ 474. واستحسنه الثعلبي في "تفسيره" 3/ 115 ب.

أحدهما: أنَّ قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عَطْفٌ عَلَى قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، ويكون قولُه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} اعتراضًا بين المعطوف والمعطوف عليه؛ كما تقول: (ضَرَبْتُ زيدًا -فاعْلَمْ ذلك- وعَمْرًا) (¬1). فعلى هذا القول: هذه الآية متصلة بما قبلها. القول الثاني: وهو أنَّ الموافق لِمَا ذُكِرَ في تفسير هذه الآية: أنَّ معنى (أو) -ههنا- معنى (حتَّى) و (إلّا أنْ)؛ وذلك أنَّ أكثر المُفَسِّرِين -ابنَ عباس (¬2)، والحسنَ (¬3)، وقتادةَ (¬4)، والربيع (¬5) - قالوا: لَمّا كان من المشركين يوم أحد ما كان (¬6)، مِنْ كَسْرِ رَبَاعِيّةِ (¬7) النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشَجِّهِ حتَّى ¬

_ (¬1) وقد رجح الطبري هذا الرأي في "تفسيره" 4/ 86، وقال معلَّلًا: (لأنه لا شيء من أمرالخلق إلى أحد سوى خالقهم، قبل توبة الكفار وعقابهم، وبعد ذلك). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره الماوردي في "النكت" (423)، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 456. (¬3) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 87، 88، و"النكت والعيون" 2/ 423، و"زاد المسير" 456. (¬4) قوله في المصادر السابقة. (¬5) قوله في المصادر السابقة. (¬6) (ما كان): ساقطة من (ج). (¬7) الرَّبَاعِيَّة: هي السن بين الثَّنِيَّة والناب. وجمعها: رباعيات. وهن أربع رباعيات: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل. انظر: كتاب "خلق الإنسان"، لابن أبي ثابت 166، و"القاموس" (719) (ربع). قال ابن حجر: (والمراد بكسر الرَّباعية .. أنها كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقلع من أصلها). "فتح الباري" 7/ 366. وفي "سيرة ابن هشام" عن ابن إسحاق أن الذي فعل ذلك هو: عقبة بن أبي وقاص. =

جَرَت الدِّماءُ على وجهه، قال: "كيف يُفْلِحُ قومٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟! " (¬1)، فأنزل اللهُ هذه الآية، لِعِلْمِهِ أنَّ كثيرًا منهم سيؤمِنُونَ، فَكَفَّ عن ذلك (¬2). وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} مختَصَرُ معناه: ليس لَكَ مِنَ الأمْرِ في عقابهم، أو (¬3) استصلاحهم شيءٌ، حتى تقَعَ إنابَتُهم (¬4) أو ¬

_ = حيث رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته العليا وشَجَّه في وجهه. ويذكر ابن هشام، عن أبي سعيد الخدري، أن عبد الله بن شهاب الزهري شجَّه في وجهه، وأن ابن قَميئة جرح وجنته، فدخل حلقتان من حِلَق المِغْفَر في وجنته. انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 27، و"تاريخ الطبري" 2/ 514. (¬1) الحديث -كذلك- ورد من رواية أنس، وقد أخرجته الكتب التالية بألفاظ مختلفة، بنحو الذي ذكره المؤلف. فقد أخرجه البخاري -معلقًا- 5/ 35. كتاب المغازي. باب (ليس لك من الأمر شيء)، وأخرجه مسلم في (1791) كتاب الجهاد. باب غزوة أحد، وأحمد 3/ 206، 3/ 99، 253، 288، والترمذي (3002 - 3003) كتاب التفسير. (سورة آل عمران) وقال: (حسن صحيح). وابن ماجه (4027) كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء. والنسائي في "تفسيره" 1/ 329، والبغوي في "شرح السنة" 13/ 333 رقم (3748) وقال عنه: (صحيح)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 44، والطبري في "تفسيره" 4/ 87، وفي "تاريخه" 2/ 515، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 756، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 213، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 114 أ، والبغوي في "تفسيره" 2/ 102، والمؤلف في "أسباب النزول" (124). (¬2) وهناك أسباب أخرى لنزول هذه الآية ذكرها المفسرون. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 86 - 89، و"ابن أبي حاتم" 3/ 756 - 758، و"أسباب النزول" للمؤلف 124 - 126، و"لباب النقول" 57 - 58، و"الصحيح المسند من أسبالب النزول" 53 - 56. (¬3) في (ج): (و) بدلًا من: (أو). (¬4) وهكذا وردت في "تفسير الوسيط" للمؤلف (تح: بالطيور): 326. وورد في "تفسير الوجيز" له 1/ 118 (إثابتهم).

تعذيبهم. فيكون أمْرُكَ -حينئذٍ - تابعًا لأمْرِ اللهِ، بِرِضَاكَ بتدبيره قال الفرّاء (¬1): ومِثْلُ هذا مِن الكلام: (لأَذُمَّنَّكَ (¬2) أو تُعْطِيَنِي)؛ على معنى: (إلّا أنْ تُعْطِيَني)، و (حتى تُعْطِيَنِي) (¬3). وأنشد ابن الأنباري (¬4) على هذا: فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عيْنُكَ إنَّما ... نُحاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا (¬5) أراد: (حتَّى)، و (إلّا أنْ نموت) (¬6). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 234. نقله بمعناه وانظر: "معاني القرآن" 2/ 70. (¬2) في (أ)، (ب): (لا أذمنك). وهي خطأ. والمثبت من (ج). (¬3) الذي في "معاني القرآن" -في هذا الموضع-: (وإن شئت جعلت نصبه على مذهب (حتى)؛ كما تقول: (لا أزال ملازمك أو تعطيني)، أو (إلا ان تعطيني حقي). وقال في موضع آخر 2/ 70: (والله لأضربَنك أوْ تُقِرَّ لي). فيكون معناه معنى (حتى) أو (إلا). (¬4) في "إيضاح الوقف والابتداء" له 2/ 584. (¬5) في (ج): (فنعذرا). والبيت لامرئ القيس، في "ديوانه" 64. وقد سبق إيراده وبيان مصادره عند تفسير قوله تعالى: {أَو يُحَاجُّوكُمْ} [الآية: 73 من سورة آل عمران]. (¬6) الذي في كتاب "إيضاح الوقف والابتداء"، قوله -بعد أن ذكر البيت-: (أراد: حتى نموت). وهناك قولان آخران في نصب {يَتُوبَ}، وهما: -النصب بإضمار (أنْ) عطفًا على (الأمر)، والتقدير: (ليس لك من الأمر لك من الأمر شيء، أو من أن يتوب عليهم، أو يعذبهم)؛ أي: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو من تعذيبهم شيء. وهو قول أبي حاتم، كما في "تفسير الثعلبي"- إنها معطوفة بالتأويل على {شَئءٍ} وتقديرها: ليس لك من الأمر شيءٌ، أو توبةُ الله عليهم، أو تعذيبهم؛ أي: ليس لك أيضًا توبتهم ولا تعذيبهم، إنما مرد ذلك إلى الحقِّ تعالى. انظر: كتاب "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 584، وكتاب "القطع والائتناف" 233، و"تفسير الثعلبي" 3/ 115 ب، و"الدر المصون" 3/ 393.

129

129 - وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قال أهلُ المعاني (¬1): لَمَّا نَفَى [اللهُ] (¬2) الأمرَ عَنْ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ذَكَرَ أنَّ جميع الأمر له؛ كأنه قال: الأمر ليس لك منه شيءٌ، فمن شاء عَذَّبَهُ، ومَن شاءَ غَفَرَ له. وقوله تعالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ولم يقل: (مَنْ)؛ لأنه ذهب به مَذْهَب الجنس، فَدَخَلَ فيه الجميع (¬3). وقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قال ابنُ عَبَّاس، في رواية عطاء (¬4): الذنْبَ العظيمَ للمُوَحِّدِينَ (¬5). {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} يريد: المشركين (¬6)، على الذنب الصغير (¬7). {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لأوليائه، {رَحِيمٌ} بهم. 130 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} قال ابن عباس (¬8)، وسعيد بن جبير (¬9) هو أنهم كانو يزيدون على ¬

_ (¬1) لم أقف عليهم. (¬2) ما بين المعقوفين: زيادة من (ب). (¬3) قال البقاعي: (وعُبِّر بـ (ما)؛ لأن غير العاقل أكثر، وهي به أجدر). "نظم الدرر" 5/ 61. (¬4) لم أقف على مصدر هذه الرواية (¬5) وقد أورد أبو الليث عن الضحاك مثل هذا القول: انظر: "بحر العلوم" 1/ 297. (¬6) في (ج): (للمشركين). (¬7) في (ج): (الصغير). وفي "تفسير ابن أبي حاتم" عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} قال: (وأما أهل الشكِّ والرَّيْب فيخبرهم بما أخفوا من تكذيب) 3/ 758. (¬8) لم أقف على مصدر قوله. (¬9) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 759، و"تفسير الثعلبي" 3/ 115 ب، و"زاد المسير" 1/ 458.

131

المال، وُيؤَخِّرُونَ الأَجَلَ، كلَّما أخّر عن أَجَلٍ إلى غيره، زِيد زيادة. وانتصب {أَضْعَافًا} على الحال. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال عطاء (¬1): يريد: كي تسعدوا، وتبقوا في الجنة. وقال الزّجاج (¬2): المُفْلِحُ: الذي أدرك ما أمَّلَ مِنَ الخير. وذكرنا معنى (الإفلاح) فيما تقدم (¬3). 131 - قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ} الآية. قال أبو إسحاق (¬4): أي: اتَّقُوا أن تُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ، فإنَّ مَنْ أَحَلَّ شيئًا مِمَّا حَرَّمَ اللهُ، فهو [كافرٌ] (¬5) بإجماع. وهذا معنى قول ابن عبَّاس، قال (¬6): يُهَدِّدُ المؤمنين إن استحلوا ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ الرِّبَا وغيره، مِمَّا أوجَبَ الله فيه النَّارَ؛ والتقدير: واتَّقُوا النَّارَ التي أُعِدَّت للكافرين، أن تستحلوا الرِّبا، فتستحقوها (¬7). وفي الآية تَقْويَةٌ لِرَجاءِ المؤمنين، رحمةً من الله -تعالى-؛ لأنه قال: {أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ}. فَجَعلها مُعَدَّةً للكفار، دونَ أهلِ الإيمان. 132 - قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اَللَّهَ وَاَلرَّسُولَ} لَمَّا نَهَى عن أكل الرِّبَا، أمَرَ بطاعة الرسولِ فيما يأمرهم به، وينهاهم عنه، مِن أكلِ الرِّبَا وغيره. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 468. نقله عنه بنصه. (¬3) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير قوله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 468. نقله عنه بنصه. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج) و"معاني القرآن". (¬6) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره ابن الجوزي في: "زاد المسير" 1/ 459. (¬7) في (ج): (فيستحقوها).

133

وذُكِر عن محمد بن إسحاق بن يَسَار، أنَّه قال (¬1): [في] (¬2) هذه الآية معاتَبة للذين عَصَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرهم بما أمرهم به يوم أُحُد. 133 - قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قُرِئ بالواو، وبغير الواو (¬3). فَمَن (¬4) قرأ بالواو؛ فلأنه عَطَفَ الجملة على الجملة، والمعطوف عليها قوله: {وَأَطِيعوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، {وَسَارِعُوَاْ}. ومَن تَرَكَ الواو؛ فلأن الجملة الثانيةَ مُلْتَبسَةٌ بالأولى (¬5)، مستغنية بالتباسها عن عطفها بالواو (¬6). وقد جاء الأمران في التنزيل، في قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] الآية (¬7)، وقوله -تعالى-: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ¬

_ (¬1) قوله، في: "سيرة ابن هشام" 3/ 61 - 62، و"تفسير الطبري" 4/ 91، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 761. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬3) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: {سَارِعُوا} بغير الواو. وهي في مصاحف المدينة والشام. وقرأ باقي القرّاء: {وَسَارِعُوا} بإثبات الواو. وعليه مصاحف مكة والعراق. انظر: "القراءات" للأزهري 1/ 126، و"الحجة" للفارسي 3/ 78، و"المبسوط" لابن مهران 147، و"النشر" 1/ 242، و"كتاب المصاحف" للسجستاني (38). (¬4) من قوله: (فمن ..) إلى (.. فكذلك المكسورة تجلبها): نقله عن "الحجة"، للفارسي 3/ 78. نقل بعض العبارات بالنص، وبعضها تَصرَّف فيها. (¬5) وذلك لأن الضمائر فيها وفي التي قبلها متحدة، وكذلك المأمورين غير مختلفين. انظر: "الكشاف" 1/ 356. (¬6) وهي كذلك مستأنفة. انظر: المرجع السابق، و"التبيان" ص 208. (¬7) وجه الدلالة فيها أن قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} يجوز فيه من الناحية النحوية دخول واو العطف على {رَابِعُهُمْ}، وكذا دخولها على {سَادِسُهُم}،=

هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] (¬1). ورُوِي عن الكِسائي الإمالة في (¬2) {وَسَارِعُواْ} و {أُولَئِكَ يسُارِعُونَ} [المؤمنون: 61] و {نُسَارِعُ} (¬3) [المؤمنون: 56]. وذلك مُستَحسَنٌ لِمَكان الرَّاءِ المكسورة؛ فكما تمنع المفتوحةُ الإمالةَ، فكذلك المكسورةُ تَجلِبُها (¬4). وفي الكلام محذوف، والمعنى على: وسارعوا إلى مُوجِبِ (¬5) مغفرة مِن رَبِّكم. واختلفوا في ذلك الذي إذا سارع إليه، فقد سارع إلى مغفرة: فقال عطاء عن ابن عباس (¬6): يريد: لا تُصِرُّوا على الذنب. إذا أذنب أحدٌ فلْيُسْرع الرجوع، يغفر الله له. وقال ابن عباس -أيضًا- (¬7): سارعوا إلى الإسلام. وروي عن ¬

_ = كما يجوز حذفها من {وَثَامُنهُم}؛ لأن الضمير العائد يكفي عن الواو. انظر: "إعراب مشكل القرآن" 1/ 439، و"التبيان" ص 535. (¬1) قال أبو علي في "الحجة" 3/ 78 بعد أن أورد هذه الآية: (فهذا على قياس قراءة نافع وابن عامر). فقوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لم تحتج لعطف بالواو؛ لأنها حال من {أَصْحَابُ}، فالجملة ملتبسة بما قبلها متحدة معها، فاستغنت عن العطف بالواو. (¬2) (في): ساقطة من (ج). (¬3) والإمالة -هنا- هي رواية أبي عمرو الدوري عن الكسائي. ورواية غيره عن الكسائي ترك الإمالة. انظر: "السبعة" (216)، و"إتحاف فضلاء البشر": ص 319. (¬4) انظر: "الإقناع" لابن الباذش 1/ 271 - 277، و"النشر" 2/ 54. (¬5) في (ج): (لما موجب). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. وقال البغوي: (وروي عنه: إلى التوبة، وبه قال عكرمة). "تفسيره" 2/ 104. (¬7) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 116أ، و"البغوي" 2/ 104، و"زاد المسير" 1/ 460.

علي - رضي الله عنه -، أنه قال (¬1): إلى أداء الفرائض. وعن أنس بن مالك، قال (¬2): هو التكبيرة الأولى (¬3). وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي: عرضها عَرْضُ السَّموات والأرض، فحذف المضاف، كقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬4). يدل على هذا قوله في سورة الحديد: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:28]. قال ابن عباس (¬5): تُقرَنُ السَّمواتُ السبعُ والأرَضُونَ السَّبْعُ، كما يُقرن (¬6) الثيابُ بعضها إلى بعض، فذلك عَرْضُ الجنَّةِ. ¬

_ (¬1) قوله في المصادر السابقة. (¬2) قوله في المصادر السابقة، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 476، و"تفسير البغوي" 2/ 104. (¬3) وهناك أقوال أخرى، منها: - وسارعوا بالأعمال الصالحة. وهو قول أبي سعيد الخدري، ومقاتل. - وسارعوا إلى أداء الطاعة. وهو قول الكلبي. - وسارعوا إلى الجهاد الأكبر. وهو قول الضحاك. - وسارعوا إلى الإخلاص. وهو قول عثمان رضي الله عنه. وقيل غير ذلك. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 301، و"بحر العلوم" 1/ 298، و"تفسير الثعلبي" 3/ 116 أ. ويلاحظ أن القول الأول وهو تفسيرها بالمسارعة بالأعمال الصالحة، أو تفسيرها بالمسارعة بالطاعة هو أعم الأقوال، وتدخل تحته كل الأعمال التي ذكرت في الأقوال الأخرى، حيث إنها مفردات للعمل الصالح، وطاعة الله تعالى، ومن أنواعه. فليس بينها تعارض، وإنما اختلاف تنوع. (¬4) [سورة لقمان: 28 وبقيتها {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}]. والتقدير: ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة فحذف المضاف، وهو (بَعْث). (¬5) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 91، و"تفسير القرطبي" 4/ 204. (¬6) هكذا في (أ)، (ب): (يقرن). وفي (ج): غير منقوطة. وفي "تفسير الطبري": تُقرن.

قال أهل المعاني (¬1): إنَّمَا خَصَّ العَرْضَ دون الطول، لأن طولَ كلِّ شيءٍ في الأغلب أكثر من عَرْضِه. يقول: هذه صفة عرضها، فكيف طولُها؟. كما قال الزُّهْري (¬2): إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلَّا الله. وهكذا قوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، وصَفَ (¬3) البِطَانَةَ وتَرَكَ الظِّهارَةَ؛ إذ مِنَ المعلوم (¬4) أنها (¬5) أحسن وأنفس من البطائن. وقال عطاء عن ابن عباس (¬6) - في قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، يريد: لِرَجُلٍ واحدٍ مِن أوليائه. [و] (¬7) قال جماعة من أهل المعاني (¬8): لم يُرِدْ العَرْضَ الذي هو ضِد الطُوْلِ، وإنما أراد بالعرض: السَّعَةَ. والعرب تقول: (بلاد عَرِيضةٌ)، أي: ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 298، و"تفسير الثعلبي" 3/ 116ب، و"تفسير القرطبي" 4/ 209، والعبارات التي ذكرها المؤلف متطابقة مع ما في "تفسير الثعلبي"، وهي من قوله: (إنما خص ..) إلى (.. من البطائن). (¬2) هو: محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب. تقدمت ترجمته. (¬3) في (أ)، (ب): (وصفةُ). والمثبت من (ج)، و"تفسير الثعلبي" و"تفسير القرطبي". (¬4) في (أ): (العلوم). والمثبت من (ب)، (ج). (¬5) أنها: ساقطة من (ب). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬8) قال ذلك ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 111. وقد نقله عنه المؤلف بتصرف مع اختصار قليل. وقد ورد بعض هذا القول في تفسير "بحر العلوم" 1/ 298، نقله عن ابن قتيبة، وورد في: "غريب الحديث" للخطابي 1/ 705، و"تفسير الثعلبي" 3/ 116 ب.

واسعة. (وفي الأرض العريضة مذهبٌ) (¬1) [و] (¬2) قال: كأنَّ بِلادَ اللهِ وَهْيَ عَرِيضةٌ ... على الخائفِ المَطْلُوبِ كِفَّةُ حابِلِ (¬3) وإنما يقال للشيءِ الواسع: (عَرِيض)؛ لأن الشيء إذا عَرُضَ اتَّسَعَ، وإذا لم يَعْرُضْ، ضاقَ وَرَقَّ. قالوا (¬4): وتشبيه عرض الجنة بعرض السَّموات والأرض على التمثيل لا على التحقيق؛ معناه: عرضها كعَرْضِ السموات والأرض عند ظَنِّكم؛ لأنه لا شيء عندنا أعرض منها، فهو كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (¬5)؛ يعني: عند ظنكم؛ لأنَّهما لابد زائلتان. فَلمَّا كانَ قوله: {مَا ¬

_ (¬1) في "تفسير غريب القرآن": ضبطها المحقق: (مذهبُ) بدون تنوين. وهذه العبارة أشبه لأن تكون مقطعًا من بيت شِعْرٍ، ولكني لم أقف عليه. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬3) البيت لم أهتد إلى قائله، وقد ورد غير منسوب في: "تفسير غريب القرآن" 111، و"الكامل" للمبرد 3/ 131، و"غريب الحديث" للخطابي 1/ 705، و"تفسير الثعلبي" 3/ 116ب، و"زاد المسير" 1/ 460، و"تفسير القرطبي" 4/ 205، و"لسان العرب" 7/ 3904 (كفف)، و"البحر المحيط" 3/ 57. وقد ورد في "الكامل" و"اللسان": (كأن فجاج الأرض ..). والكِفَّةُ -بكسر الكاف-: كل شيء مستدير، وهي هنا: حِبالة الصائد، لاستدارتها، أما إذا كانت مستطيلة فهي: (كُفَّة) -بضم الكاف-، وجمعها: (كِفَف)، و (كِفاف). والحابل: الصائد الذي ينصب الحِبَالة، وهي المصيَدة. انظر: "الكامل" 3/ 131، و"اللسان" 7/ 3904 (كفف)، و"القاموس" ص 981 (حبل). (¬4) ممن قال ذلك: الثعلبي في "تفسيره" 3/ 116 ب. ويبدو أن المؤلف نقل هذا القول عنه بتصرف. (¬5) سورة هود: من آية 107، وآية: 108. وتمام الآيات ليتضح المعنى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.

134

دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَاَلأَرضُ} عندنا -في عادة الاستعمال- من ألفاظ التأبيد، خُوطِبْنا على ما نَعْرِف (¬1)؛ كذلك في هذه الآية. وسُئِل أنسُ بن مالك عن الجَنَّة: أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأيُ أرضٍ وسماءٍ تَسَعُ الجَنَّة؟! قيل: فأين هي؟ فقال: فوق السَّموات السَبْع، تحت العَرْش (¬2) (¬3). 134 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} قال ابن عباس (¬4): يعني: في اليُسْرِ والعُسْر. كأنه يريد: السَّرَّاء؛ بكثرة المال، والضَّراء، بِقِلَّتِهِ. وهذه الآية من صفة المُتَّقِين الذين أعِدت لهم الجَنَّة. وأول ما وصفهم الله تعالى به: الإنفاق في كل حال. وهو من أقسام السَّخَاء. وقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} يقال: (كَظَمَ غَيْظَه): إذا سكت ¬

_ (¬1) هذا القول هو ما ذهب إليه الطبري في "تفسيره" 12/ 117. وهناك قول آخر، وهو: إن المراد: سموات الدار الآخرة، وأرضها، وهي دائمة بدوام الدار الآخرة؛ حيث إنه لابد لهم من أرض تقلهم وسماء تظلمهم. وقد ورد عن ابن عباس قوله: (لكل جنة أرضٌ وسماء) وروي نحوه عن السدي والحسن. انظر: "المحرر الوجيز" 7/ 401، و"تفسير النسفي" 2/ 173، و"تفسير أبي السعود" 4/ 241، و"تفسير ابن كثير" 2/ 504، و"فتح البيان" 4/ 403، و"منهج صديق حسن خان في تفسيره" 526 - 527. (¬2) أورد قوله هذا بنصه: الثعلبي في "تفسيره" 3/ 117 أ، والبغوي في "تفسيره" 2/ 104. ولم أقف على مصدر آخر له. (¬3) انظر حول مكان الجنة روايات أخرى بنفس ما روي عن أنس بن مالك في: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: 65 - 67. (¬4) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 93، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 762.

عليه، ولم يُظْهِرْهُ بقول أو فِعْلٍ (¬1). قال المُبَرِّد (¬2): تأويله: أنه كتمه على امتلائه منه. ويقال: (كظَمتُ [السِّقَاءَ): إذا ملأتُه] (¬3)، وَشَدَدْتُ عليه. ويقال: ما يَكْظِمُ فلانُ على (جِرَّةٍ) (¬4): إذا كان لا يحتمل شيئًا. قال أبو زيد (¬5): وكل ما سددت (¬6) من مجرى ماءٍ أو طريق؛ فهو (كَظْمٌ). ويُدعَى الذي تَسُدُّه (¬7) به: (الكاظِمَة) و (السَّدَادَة). و (فلانٌ كَظِيْمٌ)، و (مَكْظُومٌ): إذا كان ممتلئا (¬8) حُزْنًا، مُمْسِكًا عليه. وهما في التنزيل (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 469، و"تهذيب اللغة" 4/ 3151 (كظم)، و"الزاهر" 2/ 344. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬4) في (أ)، (ب)، (ج): (حره). وما أثبتُّ هو الصواب. (الجِرَّةُ): هي ما يخرجه البعير من كرشه، ويَجْترّه؛ أي: يردده في حلقه. انظر: (جر) في: "تهذيب اللغة": 1/ 578، و"اللسان": 1/ 594 (جرر). وقولهم: (ما يَكظِمُ فلانٌ على جِرَّةٍ)، مَثَلٌ يُضرَب لِمن لا يَكتِمُ سِرًا. ومثله: (ما يَخنُق فلان على جِرَّةٍ) كما في: النوادر لأبي زيد. وفي: "اللسان": (ما يَحْنَق ..). انظر: "النوادر" لأبي زيد 132، و"جمهرة الأمثال" للعسكري 2/ 234، و"مجمع الأمثال" للميداني 3/ 288، و"اللسان" 1/ 594. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) في (أ)، (ب): (شددت). والمثبت من (ج)، ومن "تفسير الفخر الرازي" 9/ 7؛ حيث أورد هذا النص بتمامه. (¬7) في (ج): (تشده). (¬8) في (ج): (ممكا). (¬9) ورد ذلك في قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}. يوسف: 84. وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58]، [الزخرف: 17]. وقوله: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48].

ويقال للقناة (¬1) التي تجري في بطن الأرض: [كِظَامَة] (¬2)؛ لامتلائها بالماء كامتلاء القِرْبَةِ المكظومة. ومنه الحديث: (كيف بك إذا بُعِجَتْ مَكَّةُ كظَائِمَ) (¬3). ¬

_ (¬1) في (أ): (الفتاة). والمثبت من (ب)، (ج) وكتب اللغة. (¬2) ما بين المعقوفين غير مقروء تماما في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، وكتب اللغة. (¬3) الأثر ورد في: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 269 (ط. السلفية)، و"تهذيب اللغة" 4/ 315 (كظم)، و"الفائق" للزمخشري 3/ 263، و"المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" 3/ 50، و"غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 291، و"النهاية في غريب الحديث" 4/ 178. ولم أقف عليه في غيرها من مصادر الحديث. وكل المراجع السابقة أوردته غير مسند وصرحت بأنه حديث، إلا في "المجموع المغيث" حيث قال: (ومنه قول عبد الله بن عمرو ..). وفي (الفائق)، للزمخشري، و"غريب الحديث"، لأبي عبيد أورداه من حديث عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما. وفي "المجموع المغيث"، و"النهاية" عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما. ولكن أشار محقق "غريب الحديث" لأبي عبيد، إلى أنه في نسخة أخرى للكتاب، ورد: (ومنه حديث عبد الله بن عَمرو). ثم ذكرت هذه النسخةُ السندَ، وهو: (حدثنيه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه عن عبد الله بن عَمْرو، قال: ..). أقول: وهذا هو الصواب؛ لأن عطاء والد يَعْلى، وهو عطاء العامري الطائفي روى عن ابن عمرو بن العاص وروى عنه ابنه يعلى، كما في "تهذيب التهذيب" 3/ 111. ونصه عند أبي عبيد: (إذا رأيت مكة قد بُعِجت كظائم، وساوى بناؤها رؤوس الجبال، فاعلم أن الأمر قد أظللك، فخذ حذرك). "غريب الحديث": 1/ 169، وانظر: المصادر السابقة التي أوردت الأثر. و (الكظائم)، جمع: كِظَامَة، وهي: آبارٌ تُحفَر، ويُباعَد ما بينها، ثم يُحفَر ما بين كل بئرين بقناة مِن تحت الأرض، توصِل الماءَ مِن الأولى إلى التي تليها، حتى يجتمع الماءُ في أخراهن. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 163، والمصادر السابقة التي أوردت الأثر.

ومنه يقال: (أَخَذَ بكَظْمِهِ): إذا أخذ بمجرى نَفَسِهِ؛ لأنه موضع الامتلاء بالنَّفَسِ. و (كَظَمَ البعِيرُ والنَّاقَةُ، كُظُومًا): إذا أَمْسَكا على ما في جَوْفِهما ولم يَجْتَرَّا (¬1). قال الراعي: فَأَفَضْنَ (¬2) بعد كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ ... مِن ذِي الأَبَاطِح إذْ رَعَيْنَ حَقِيلاَ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر المعاني السابقة و (كظم) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3151، و"المقاييس" 5/ 184 - 185، و"اللسان" 7/ 3886 وما بعدها. (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): (فأفرضن). والمثبت من مصادر البيت التالية. (¬3) البيت في "ديوانه" 224. وقد ورد منسوبًا له في: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 469، و"جمهرة أشعار العرب" (333)، و"الزاهر" 2/ 344، و"مجالس العلماء" 39، 80، و"تهذيب اللغة" 4/ 3151 (كظم)، و"الفهرست" 86، و"مقاييس اللغة" 1/ 226 (برق)، 2/ 88 (حقل)، 4/ 465 (فيض)، و"المجمل" 245 (حقل)، و"معجم ما استعجم" 2/ 460، و"أساس البلاغة" 2/ 222 (فيض)، و"المحرر الوجيز" 3/ 326، و"إنباه الرواة" 2/ 321، و"معجم البلدان" 2/ 279 (حقيل)، و"تفسير القرطبي" 4/ 206، و"اللسان" 6/ 3500 وما بعدها (فيض)، و2/ 947 (حقل)، و7/ 3886 وما بعدها (كظم). وورد غير منسوب في: "جمهرة اللغة" 558، و"الصحاح" 3/ 1100 (فيض). وقد ورد في كل المصادر السابقة: (من ذي الأبارق). وقال البكري: (ورواه أبو حاتم: (من ذي الأباطح)، قال: وهو واد في بني عامر). "معجم ما استعجم" 2/ 460. وورد في "جمهرة أشعار العرب": (أو رَعَيْن ..). ومعنى البيت: أي: دفعن بالجِرَّةِ من كروشهن، فاجتررنها بعد أن كُنَّ كُظُومًا لا يجتررن. و (ذي الأبارق) -على الرواية الأخرى-: موضع. أي: أن هذه الجِرَّة التي اجتررنها أصلها مما رعينه من هذه الموضع. و (حقيل): موضع. وقيل: نبت. وقيل: جبل في (ذي الأبارق). انظر: "الزاهر" 2/ 344، و"اللسان" 2/ 947 (حقل)، 7/ 3886 (كظم)، و"معجم البلدان" 2/ 279 (حقيل).

وإنَّما تفعل ذلك الإِبِلُ مِنَ الفَزَع أو الجهد. قال الأعشى (¬1) -ووصف رجلًا نَحَّارًا للإبل، وهي (¬2) تفزع منه-: قَد تَكْظِمُ البُزْلُ مِنه حين تُبْصِرهُ ... حتَّى تَقَطَّعَ في أجوافها الجِرَرُ (¬3) ومعنى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}: الكافِّينَ غَضَبَهم (¬4) عن إمضائه، يَردُّون غيظهم في أجوافهم، ويصبرون فلا يُظِهرون (¬5). وهذا الوصف من أقسام ¬

_ (¬1) هو أعشى باهلة (عامر بن الحرث)، وليس الأعشى الكبير (ميمون بن قيس). (¬2) في (ج): (فهي). (¬3) البيت ورد منسوبًا له في: "الأصمعيات" 89، و"الكامل" للمبرد 4/ 65، و"جمهرة أشعار العرب" (255)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 118 أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 206، و"خزانة الأدب" 1/ 194. وقد اختلفت روايات البيت، فقد ورد في بعض المصادر: (وتفزع الشَّوْلُ منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر). وورد: (وتفزع الشول منه حين يفجؤها)، وورد: (قد تكظم البَرْك منها حين يفجؤها). والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه المنتشِر بن وهب الباهلي. انظر خَبَرَة في: "الكامل": 4/ 64 - 65. و (البُزْل): جمع: بازِل. وهو -من الإبل-: الداخل في السنة التاسعة، وفطر نابه. وتُجمَع -كذلك- على: (بُزَّل)، و (بوازل). ومعناه: أن الإبل قد تعودت على أن يَعقِرَ منها، فإذا رأته كظمت على جِرَّتها فزعا منه. و (البَرْك): -على الرواية الأخرى-: جمع بارك. و (الشَوْل): جمع: شائلة، وهي -من الإبل-: ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر، فجف لبنها. انظر: "المصباح المنير" 19 (بزل)، و"القاموس" (1021) (شول). (¬4) في (ب)، (ج): (غضبهم). (¬5) قال ابن عطية: (و (الغيظ) أصل الغضب، وكثيرًا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس (الغيظ) بـ (الغضب)، وليس تحرير الأمر كذلك، بل الغيظ فعل النفس، لا يظهر على الجوارح، والغضب حال بها معه ظهور في الجوارح، وفعل ما ولا بد). "المحرر الوجيز" 3/ 327، وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 207، و"البحر المحيط" 3/ 58.

الصبر والحِلْم (¬1). وقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال ابن عباس (¬2): يريد: المَمَالِيك؛ إذا أذنب واحد منهم ذنبًا، عفوت عنه؛ لما يرجو من ثواب الله. وقال زيد بن أسلم (¬3)، ومقاتل (¬4): أي: عمَّن ظَلَمَهم وأساء إليهم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس (¬5): يريد: المُوَحِّدِين، الذين هذه الخِصَال فيهم. قال الثَّوْرِي في هذه الآية (¬6): الإحسان: أن تُحْسِن إلى مَن أساء ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن حِبَّان البُسْتي: (الحِلْم: اسم يقع على زَمِّ النفس عن الخروج - عند الورود عليها ضد ما تحب- إلى ما نُهِي عنه). "روضة العقلاء" 252. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" 56، و"زاد المسير" 1/ 461. وبهذا قال: الربيع، والكلبي، ومكحول، وأبي العالية. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 763، و"بحر العلوم" 1/ 299، و"تفسير الثعلبي" 3/ 118 ب، و"زاد المسير" 1/ 461. وقد ورد عن ابن عباس حول هذه الآية قوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} كقوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئاً واعفوا واصفحوا). "تفسير الطبري" 4/ 94، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 763. (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 118 ب، و"البغوي" 2/ 105، و"زاد المسير" 1/ 461. (¬4) (ومقاتل): ساقطة من (ج). ولم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "زاد المسير" 1/ 461، و"تفسير البغوي" 2/ 105. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 119 أ. والثوري، هو: أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق. أمير المؤمنين في الحديث، ولد في الكوفة سنة (97 هـ)، ونشأ بها، مشهور بالورع والعلم، مُجْمَع على إمامته، مات بالبصرة سنة (161 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 151، و"وفيات الأعيان" 2/ 386، و"تهذيب التهذيب" 2/ 56.

135

إليك؛ فإنَّ الإحسانَ إلى المُحسِنِ مُتَاجَرَةٌ (¬1)، كَنَقْدِ السُّوقِ: خذْ مِنِّي وهات (¬2). وصدَقَ؛ فإنَّ الله -تعالى- عقَّبَ وَصْفَ هؤلاء بالكَظْمِ والعَفْوِ، بِحُبِّهِ المحسنين. وفي ذلك دليل على أن هؤلاء محسنون، والأوصاف التى وُصِفوا بها، كلُّها إحسانٌ إلى مَن أساء إليهم. 135 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية. الظاهر أنَّ هذا عطفٌ على {المُتَّقِينَ} (¬3). فيكون موضع (الذين): جَرًّا (¬4). ويُحتمل أنْ يكون موضِعُه: رفْعًا على الاستئناف؛ بعطف جملة على جملة. وهو قول أكثر المفسرين. قال ابن عباس -في رواية عطاء- (¬5): نزلت الآيةُ في نَبْهان التَّمَّار؛ أتته امرأة حسناء، تَبْتَاعُ منه تَمْرًا، فَضمَّها إلى نَفْسِه وقَبَّلَها، ثم ندمَ على ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (متأخره). وفي (ج): (مناحرة). والمثبت من:"تفسير الثعلبي". (¬2) يعني رحمه الله: أن الإحسان إلى من أحسن إليك لا يُسَمَّى إحسانًا، بل يُعَد من قبيل المكافأة؛ لأنَّ ذلك بمثابة أن تعطي من سبق له أن أعطاك؛ وترد الفضلَ له؛ لما سبق أن أولاك من فضل. ويسميه الثوري -هنا- متاجرة، لأنه كالمقايضة، والأخذ والعطاء. قال ابن حِبان: وما الفضل إلا للمحسن إلى المسيء، فأما من أحسن إلى المحسن وحلُمَ عمن لم يؤذه؛ فليس ذلك بحِلْم ولا إحسان. "روضة العقلاء" ص 254. (¬3) في (ج): (المنفقين). (¬4) الجَرُّ؛ على النعت لـ {المُتَّقِينَ} في الآية: 133، أو البدل منه أو البيان. (¬5) هذه الرواية في: "بحر العلوم" 1/ 300، ولم يعزها إلى ابن عباس. وأوردها الثعلبي في: "تفسيره" 3/ 119 ب قائلًا: (قال عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التَّمَّار، وكنيته: أبو مقبل). وأوردها المؤلف في "أسباب النزول" ص 127، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 461.

ذلك، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَر له ذلك، فنزلت هذه الآية (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر: ذكر مقاتل بن سليمان في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}. الآية، قال: هو نبهان التمار، أتته امرأة حسناء ..) ثم ذكر نحو ما ذكر المؤلف، وأضاف ابن حجر: إن المرأة قالت له: (والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك، فسقط في يده، فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه، فقال له: إيَّاك أن تكون امرأة غاز! فذهب يبكي ثلاثة أيام يصوم النهار ويقوم الليل، فأنزل الله في اليوم الرابع هذه الآية، فأرسل إليه فأخبره، فحمد الله وأثنى عليه وشكره، وقال: يا رسول الله هذه توبتي، فكيف بأن يقبل شكري؟ فأنزل الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، ثم قال ابن حجر بعده: (وهكذا أخرجه عبد الغني بن سعيد الثقفي في: تفسيره، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مطوَّلًا. ومقاتل متروك، والضحاك، لم يسمع من ابن عباس، وعبد الغني وموسى هالكان. وأورد هذه القصة: الثعلبي، والمهدوي، ومكي، والماوردي، في تفاسيرهم بغير سند). "الإصابة": 3/ 550. وهذه القصة لم يذكرها مقاتل في تفسيره المطبوع، ولا الماوردي في "النكت والعيون" خلاف ما ذَكَرَه ابنُ حجر. وهناك سبب آخر ذكره العلماء لهذه الآية، وهو: أن رجلين؛ أنصاريا وثَقَفِيًّا، آخى بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانا لا يفترقان، فخرج الثقفي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إحدى غزواته، وخلَّفَ الأنصاريَّ على أهلِهِ، وحاجته، فكان يتعاهد أهل الثقفي، فرأى يومًا امرأة أخيه الثقفي بارزة، فوقعت في نفسه، فراودها عن نفسها فأبت، وسترت وجهها منه بكفِّها، فقَبَّلَ كفَّها، ثم خرج بعدها، سائحا في الجبال، نادِمًا خائِفًا من ذنبه، إلى أن أتاه أخوه الثقفي فأخذ بيده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن علم بحاله، فأنزل الله هذه الآية. وقد ذكر هذا السبب -مع اختلاف في التفاصيل-: مقاتل في "تفسيره" 1/ 301، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 119 ب، وعزاها للكلبي عن ابن عباس، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 462 وقال: (رواه أبو صالح عن ابن عباس).

وقال ابنُ مسعود (¬1): قال المؤمنون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كانت بنو إسرائيلَ أكرَمَ على اللهِ مِنَّا؛ كان أحدُهم إذا أذنب ذَنْبًا، أصبحت كفَّارةُ ذَنْبِهِ مكتوبةً (¬2) في عَتَبَةِ بابِهِ (¬3): (اجْدَعْ أنفَكَ)، (افعل كذا)! فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، وبَيَّنَ أنَّهم أكرم على اللهِ منهم؛ حيث جعل كفّارةَ ذنوبهم الاستغفار. وقوله تعالى: {فَعَلُواْ فَاحِشَةً} يعني: الزِّنَا -ههنا- (¬4). وهي-في اللغة-: كلُّ قَبِيحةٍ خارِجَةٍ عَمَّا أذِنَ اللهُ فيه (¬5). وذكرنا معنى (الفُحْش) و (الفحشاء) فيما تقدم. والفاحشة -ههنا- نعتُ محذوفٍ؛ التقدير: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً (¬6). وقوله تعالى: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابنُ عباس (¬7)، ومقاتل (¬8)، ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 96، و"تفسير الثعلبي" 3/ 119 أ، و"النكت والعيون" 1/ 424. وسياق المؤلف للخبر قريب جداً من سياق الثعلبي له. إلا أن لفظ الأثر هنا أقرب إلى لفظ الأثر الوارد عن عطاء بن أبي رباح، الذي أخرجه الطبري في: "تفسيره" 4/ 96، والمؤلِّف في: "أسباب النزول" ص 128، وابن الجوزي في "الزاد" 1/ 462. (¬2) (مكتوبة): ساقطة من (ج). (¬3) في (أ)، (ب): (بأنَّه). وهي تصحيف. والمثبت من: (ج)، ومصادر الخبر. (¬4) وممن قال ذلك: جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل بن حيان. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 95 - 96، و"ابن أبي حاتم" (764)، و"زاد المسير" 1/ 462. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 95، و"المقاييس" 4/ 478 (فحش). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 95، و"تفسير الثعلبي" 3/ 120 أ. (¬7) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" 56. (¬8) قول مقاتل بن سليمان في: "تفسيره" 302، و"تفسير الثعلبي" 3/ 120 أ، وورد عن مقاتل بن حيان: (أصابوا ذنوبًا). "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 764.

والكلبي (¬1): هو ما دون الزِّنَا، مِن قُبْلَةٍ أو لَمْسَةٍ، أو نَظَرٍ فيما [لا يَحِلُّ؛ مثل الذي (¬2) فَعَلَ نَبْهانُ التَّمَّار. وقوله تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ} فيه وجهان: أحدهما: أن المعنى: ذكروا وعيد الله. فيكون من باب حَذْفِ المضاف. والذِّكْرُ -ههنا- يكون: هو الذي ضد النسيان. وهذا معنى قول: الضحاك، ومقاتل، والواقدي. فإن الضَّخَاكَ قال (¬3): ذكروا العَرْضَ الأكبر على الله. ومقاتل والواقدي قالا (¬4): تَفكَّرُوا أنَّ اللهَ سائِلُهُم عنه. الوجه الثاني: ذكروا الله بأن قالوا: اللهُمَّ اغفر ذنوبنا، فإنَّا تُبْنا إليك, ونَدِمْنا. وهذا معنى قولِ مُقاتل بن حَيَّان (¬5). والذكْر -ههنا- ليس الأول وقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} قال الفَرَّاءُ (¬6) هذا محمولٌ على المعنى؛ تأويله: ما يَغْفِرُ الذنوبَ أحَدٌ إلّا اللهُ؛ فلذلك رفعت ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 120 أ. (¬2) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 125 أ، و"زاد المسير" 1/ 463، و"القرطبي" 4/ 210. (¬4) قوله مقاتل في: "تفسير الثعلبي" 3/ 125 أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 210. وقول الواقدي في: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 764، و"تفسير الثعلبي" 3/ 120 أ، و"زاد المسير" 1/ 463، و"تفسير القرطبي" 4/ 210. (¬5) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 120 أ، و"تفسير البغوي" 2/ 107. وفي "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 764 عن مقاتل بن حيان: (ذكروا الله عن تلك الذنوب الفاحشة). وليس فيه بيان نوع الذكر هنا. وفي "تفسير القرطبي" 4/ 210 ذكره عن مقاتل، ولم يبِّن أيَّ المُقاتِلَيْن، ابن سليمان أو ابن حيَّان. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 234. نقله عنه بمعناه. وانظر: "معاني القرآن"، للزجاج 1/ 469، و"تفسير الطبري" 4/ 97.

ما بعد (إلّا) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} يقال: (أصَرَّ (¬2) على الشيء): [إذا قام عليه] (¬3)، ودام. ومِن هذا يقال للعَزِيمَةِ (¬4) التي لا تُنْقَضُ: (صِرِّي) (¬5). قال المفسرون (¬6): معناه: لم يُقِيموا، ولَمْ يَدُومُوا، [بل تابوا، وأَقَرُّوا] (¬7)، واستغفروا. والذي يُؤَكِّد هذا القول (¬8): ¬

_ (¬1) ونص قول الفراء -ليتضح المعنى-: (يقال ما قبل (إلّا) معرفة، وإنما يُرفَع ما بعد (إلّا) باتْباعِهِ ما قَبْلَهُ، إذا كان نكرة، ومعه جحد؛ كقولك: (ما عندي أحدٌ إلّا أبوك)، فإن معنى قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}: ما يغفر الذنوب أحدٌ إلّا اللهُ، فجعل على المعنى). وقال أبو حيان عن رفع اسم الجلالة: (فهو على البدل مِن {مَنْ}، أو مِن الضمير الفاعل في {يَغْفِرُ} العائد عليها، وجاز هذا؛ لأن في الكلام معنى نفي، وتقديره: لا يغفر أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ). "تذكرة النحاة": 296. (¬2) في (ب): (صر). (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬4) في (ج): (العزيمة). (¬5) يقال: (هذا منِّي صِرِّي، وأصِرِّي، وصِرَّى، وأصِرَّى، وصُرِّي، وصُرَّى): أي: عزيمةٌ وجِدٌّ و (إنها مني لأصِرِّي)؛ أي: لحقيقة. وهي مشتقة من: (أصررت على الشيء): إذا أقمت ودمت عليه. انظر: (صرر) في: "إصلاح المنطق" 319، و"تهذيب اللغة" 2/ 2003، و"المجمل" 532، و"مفردات ألفاظ القرآن" 482، و"الفرق بين الحروف الخمسة" 386. (¬6) ممن قال ذلك: مجاهد، وقتادة، وابن إسحاق، ومقاتل، والزجاج، والطبري، وأبو الليث. انظر: "تفسير مجاهد" 136، و"تفسير مقاتل" 1/ 302، و"الجزء الذي فيه تفسير القرآن" 78، و"تفسير الطبري" 4/ 97 - 98، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 766، و"معاني القرآن" للزجاج / 469، و"بحر العلوم" 1/ 300. (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (تابوا وأنابوا). والمثبت من (ج). (¬8) حيث إن هناك أقوال أخرى منها: لم يواقعوا الذنب إذا همُّوا به. قاله الحسن، ونُسب لمجاهد، وليس هو في تفسيره. - وقيل: السكوت على المعصية، وترك الاستغفار منها. قاله السدي، وعطاء الخراساني. انظر: "الجزء الذي فيه تفسير القرآن" 102، و"تفسير الطبري" 4/ 97، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 766، و"تفسير الثعلبي" 3/ 120ب، و"النكت والعيون" 1/ 424.

أنه تعقب (¬1) قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} فوَصَفَ الذَّاكرَ بأنه غير مُصِرٍّ (¬2). ورُوِيَ عن [النبي] (¬3) - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أصَرَّ مَن استَغْفَرَ، وإنْ عادَ في اليوم سبعينَ مَرَّةً" (¬4). ¬

_ (¬1) في (ج): (يعقب). (¬2) انظر توجيه هذا الترجيح في: "تفسير الطبري" 4/ 98. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ج). (¬4) الحديث من رواية أبي بكر الصدِّيق (أخرجه: أبو داود في "السنن" رقم (1514). كتاب الصلاة. باب في الاستغفار، والترمذي في "السنن" رقم (3559). كتاب الدعوات. باب: 107. وقال: (هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نُصَيْرة، ليس إسناده بالقوي). وأخرجه أبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" 186 رقم (121)، (122)، والشهاب القضاعي في "مسنده" 2/ 13رقم (788)، والطبري في "تفسيره" 4/ 98، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 766. والبيهقي في "السنن" 10/ 188، والبغوي في "شرح السنة" 5/ 80 (1297)، وفي "تفسيره" 2/ 107. وأورده الغزالي في "الإحياء" 1/ 312. وذكر الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" نَفْسَ قول الترمذي السابق في الحديث، مما يدل على موافقة الحافظ العراقي للترمذي في تضعيف الحديث. وأورده التبريزي في "مشكاة المصابيح" 2/ 723 رقم (2340)، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 439 وزاد نسبة إخراجه إلى أبي يعلى، والبزار. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 139 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب". وأورده في: "الجامع الكبير" 15/ 1963 رقم (1117) وزاد نسبة إخراجه إلى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" وأورده في: "الجامع الصغير" (انظر: "فيض القدير" 5/ 538) ورمز له بالضعف، وكذا ضعفه الألباني في ضعيف "الجامع الصغير" 5/ 82 (5004). وفي سند الحديث: (.. عثمان بن واقد، عن أبي نصيره، عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر ..). قال الغَماري: (وقال البزَّار: لا نحفظه إلا من حديث أبي بكر بهذا الطريق، وأبي نصيرة وشيخه لا يعرفان. انتهى. قلت: أما أبو نصيرة، فمعروف، اسمه: مسلم بن عبيد. قال أبو طالب عن أحمد: ثقة وقال ابن مَعِين: صالح. وذكره ابن حِبَّان في: الثقات، وقال: الأزدي: ضعيف. ومولى أبي بكر، اسمه: أبو رجاء، ولم اقف فيه على جرح ولا تعديل، إلا قول البزار المتقدم: إنه مجهول. وقد قال الزيلعي: إن جهالته لا تضر، إذ يكفيه نسبته إلى الصديق. وعثمان بن واقد، وثقه ابن معين ..). "فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب" 2/ 54 - 55. وقال ابن كثير -بعد أن ذكر نحو القول السابق-: (فهو حديث حسن). "تفسيره" 1/ 439.

وقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال عطاء (¬1): يعلمون أنَّ اللهَ يُعذِّب على الإصْرارِ. وقال ابن عباس (¬2)، والحسن (¬3)، ومقاتل (¬4)، والكلبي (¬5): وهم ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) قوله، في: "تفسير الثعلبي" 3/ 120 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 107. وورد في "زاد المسير" 1/ 464 و"تفسير القرطبي" 4/ 212، عنه وعن الحسن: (وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وأن تركه أولى من التمادي). (¬3) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 120 ب، و"البغوي" 2/ 107، و"القرطبي" 4/ 212. (¬4) قوله في "تفسيره" 1/ 302، و"زاد المسير" 1/ 464. (¬5) قوله في "تفسير الكلبي" 3/ 120 ب، و"البغوي" 2/ 107، و"القرطبي" 4/ 212.

136

يعلمون أن الذي أَتَوْهُ معصية. وقال الحسين بن الفَضْل (¬1): وهم يعلمون أنَّ لهم رَبًّا يغفر الذنوب، وكان هذا من قوله- عليه السلام-: "من أذنب ذَنْبًا، وعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يغفر الذنوبَ، غُفِرَ له وإنْ لم يَستَغْفِر" (¬2). 136 - قوله تعالى: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} مختصر المعنى (¬3): ونِعْمَ أجْرُ العاملين؛ المغْفِرَةُ. فحُذِفَ؛ لدلالة ما قبله عليه. 137 - قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أصل (¬4) (الخُلُوِّ) -في ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 121 أ، و"البغوي" 2/ 107، و"القرطبي" 4/ 212. (¬2) الحديث: لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 121 أ. ولم يسنده. وقد ورد حديث آخر بنفس معنى هذا الحديث، ولفظه: "من أذنب ذنبًا، فعلم أن الله قد أطَّلَعَ عليه، غفر له وإن لم يستغفر". أورده الغزالي في "إحياء علوم الدين" 1/ 312. قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود، بسند ضعيف). وهناك حديث آخر قريب منه، من رواية أنس رضي الله عنه، ولفظه: "من أذنب ذَنْبًا، فعلم أن له رَبًّا إن شاء أن يغفر له غفر له، وإن شاء أن يعذِّبَه عذبه، كان حقًا على الله أن يغفر له". أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 242، وقال: (حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وأخرجه أبو نعيم في "حِلية الأولياء" 8/ 826. وفي سنده عندهما: جابر بن مرزوق المكي. قال الذهبي في تعليقه على تصحيح الحاكم له: (قلت: لا والله، ومَنْ جابر؛ حتى يكون حُجَّة؟ بل هو نَكِرة، وحديثه مُنْكَر). (¬3) في (ب): (معناه). (¬4) (أصل): ساقطة من (ج).

اللغة-: الانفراد. والمكان الخالي (¬1): المنفرد عن الساكن. والخَلِيَّةُ من النُوْقِ: التي ذُبح ولَدُها، فَخَلَت عن الوَلَدِ (¬2). ويستعمل في الزمان، والقُرُون، بمعنى: المُضِيِّ، لأن ما مضى انفرد عمَّا يأتي بعده. فالأيَّام الماضية: التي انفردت بالمُضِيِّ عن غيرها، كذلك الأمَم الخالية (¬3). والسُّنَنُ: جمع: سُنَّة (¬4). والسُّنَّة (¬5): الطريقة المستقيمة (¬6). ويقال للخط الأسود على مَتْنِ الحِمَار: سُنَّة. و (سَنَّ اللهُ سُنَّةً)؛ أي: بَيَّنَ طريقًا قويمًا. ويقال: (هذه سُنَّةْ اللهِ)؛ أي: أمْرُهُ ونَهْيُهُ وحُكْمُهُ. و (سُنَّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -): طريقته. ¬

_ (¬1) في (ج): (الخال). (¬2) في كتاب "العين": (والخَلِيَّة: الناقة التي خلت من ولدها، ورَعَت ولدَ غيرها. ويقال: هي التي ليس معها ولد) 4/ 308 (خلو). وذكر الأزهري أنها التي ينحر ولدها عمدًا؛ ليدوم لبَنُها، فتُستَدَرَّ بِخُوارِ غيرها، أو التي يُجَرُّ ولدُها مِن تحتها، ويُجعَل تحت أخرى، وتُخلى هي للحلب. انظر: "التهذيب" 1/ 1074 (خلو). وانظر المعاني السابقة لـ (خلو) في المصدر السابق 1/ 1074، و"المقاييس" 2/ 204. (¬3) انظر: (خلو) في "التهذيب" 1/ 1074، و"مفردات ألفاظ القرآن" 297. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 99. (¬5) من قوله: (والسنة ..) إلى (.. قويما): نقله بنصه عن "تهذيب اللغة" 2/ 1780 (سنن). وانظر: "الزاهر" 2/ 352، و"اللسان" 4/ 2125 (سنن). (¬6) قال ابن الأنباري في: "الزاهر" 2/ 352: (وهي مأخوذة من: (السَّنَن)، وهو: الطريق. يقال: (خذ على سَنَنِ الطريق، وسُننَهِ، وسُنُنه) .. أي: وسطه وجادته). وقال: (ثم تستعمل السن في كل شيء يراد به القصد).

والسُّنَّةُ (¬1): المِثالُ المُتَّبَعُ، والإمام المُؤتَمُّ به. يقال: (سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، و [سَنَّ] (¬2) سُنَّةً سيِّئَةً): إذا عمل عملًا اقتُدِيَ به (¬3)، مِن خيْرٍ أو شَرٍّ. قال لَبِيد: مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّت لهمْ آباؤُهُمْ (¬4) ... ولِكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمَامُها (¬5) واختلفوا في اشتقاق (السُّنَّةِ): فقال بعضهم: هي (فُعْلَة)، من: (سَنَّ الماءَ، يَسُنُّهُ): إذا والَى صَبَّهُ. والسَّنُّ: صَبُّ الماءِ، والعَرَقِ، وغيره (¬6). قال زُهَيْر: ¬

_ (¬1) من قوله: (والسنة ..) على نهاية بيت الشعر (.. وإمامها): نقله -بتصرف يسير- عن: "تفسير الطبري" 4/ 100. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"تفسير الطبري" 4/ 100. (¬3) في "تفسير الطبري" اتبع عليه. (¬4) في (أ): (آبائهم)، وفي (ب): (آبائهم). والمثبت من (ج)، ومن مصادر البيت. (¬5) البيت في: ديوانه: 320، وورد منسوبًا له في: "تفسير الطبري" 4/ 100، و"جمهرة أشعار العرب" (137)، و"الزاهر" 2/ 352، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 593، و"تهذيب اللغة" 1/ 206، و"تفسير الثعلبي" 3/ 121 ب، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني 251، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي 173، و"اللسان" 1/ 134 (أمم)، و"الدر المصون" 3/ 399. والبيت من معلقته. وقد تقدم هذا البيت أبياتٌ يذكر فيها قومه، ويذكر أنَّ مِن قومه مَن لهم فضائل متعددة، ومكارم وجلائل من الأعمال متنوعة. وفي هذا البيت يقول: إن هؤلاء الذين ذكرتهم وأشرت إليهم هم من معشر فيهم هذه العادات والفضائل سنة قديمة متَّبعة، سنَّها لهم آباؤهم فتوارثوا عنهم، ولكل قوم سنة، وإمامها؛ أي: مِثَال يُحتَذى ويُسَارُ على طريقته. (¬6) قال ابن السكيت: (وكل صبٍّ سهل، فهو: سَنّ). "إصلاح المنطق": 378. وانظر هذا المعنى في: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي:270، و"تهذيب اللغة" 2/ 1777 (سنن)، و"غريب الحديث" للخطابي 1/ 438 - 439، و"مجالس ثعلب" 2/ 352، و"الصحاح" 2141 (سنن)، و"المقاييس" 3/ 60، و"اللسان": 4/ 2126 (سنن).

تعودها الطرادَ (¬1) فَكلَّ (¬2) يومٍ ... يُسَنُّ على سَنَابِكِها قُرُونُ (¬3) أي: يُصَبُّ عليها دُفَعٌ (¬4) من العَرَقِ. يريد: أنهم يُضَمِّرُونها. شُبِّهَ فِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي كان يأتيه مَرَّةً بعد أخرى، بالماءِ المَسْنُون؛ وهو (¬5): المصبوب صَبًّا مُتَوَالِيًا. فهي (فُعْلَة) بمعنى: (مفعول)، ¬

_ (¬1) في (ب): مطرد. (¬2) في (ج): وكل. (¬3) البيت في: "شرح ديوانه" ص187، ورد منسوبا له في: "تهذيب اللغة" 2/ 1780 (سنن)، و"مقاييس اللغة" 5/ 77 (قرن)، و"الدر المصون" 3/ 440، و"اللسان" 4/ 2522 (صوح)، 4/ 2125 (سنن)، 6/ 3609 (قرن). ورد في كل المصادر السابقة: (نُعَوِّدُها) -بالنون-. وورد الشطر الأول في الديوان، و"اللسان" 6/ 3609 (قرن): (تُضَمَّر بالأصائل كل يوم ..). وورد في الديوان و"اللسان" (تُسَنُّ) -بالتاء-. الطِّرَاد: هو عَدْوُ الخيل، وتتابعها. انظر: "اللسان" 5/ 2653 (طرد). السَّنابِك: جمع: سُنْبُك، وهو: طرف الحافر في الفرس. انظر: "كتاب الفرق" لابن فارس 63، و"القاموس" 944. والقُرُون: جمع: قَرْن، وهو: الدُّفْعَة من العَرَق. وقال أبو عمرو الشيباني: (القرن: العرق). كتاب الجيم، له: 70. وانظر: "اللسان" 6/ 3609 (قرن). يقول: إننا نعوِّدها الجري في كل يوم، حتى يسيل عرقها، ويصل إلى سنابكها؛ مبتغين بذلك أن تكون ضامرة، خفيفة الجسم. (¬4) في (أ)، (ب)، (ج): رسمت الدالُ فيها قريبًا من الراء. والمثبت من كتب اللغة وهو الصواب. والدُّفَع: جمع: دُفْعَة. وهي: الدَّفْقَة المنصبة بمرَّة انظر: "القاموس" 715 (دفع). (¬5) (أ)، (ب): (وهي)، والمثبت من (ج). وهو الصواب؛ لأن الضمير يعود على الماء المسنون.

كـ (الغُرْفَة) (¬1) من الماء وأشباهها. فَمَا رَسَمَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سُنَّة)، و (مسنون). ويجوز أن يكون من قولهم: (سَنَنْتُ النَّصْلَ والسِّنَانَ، أسُنُّهُ سَنًّا)، فهو (مَسْنُون): إذا أحْدَدْتُهُ على المِسَنِّ (¬2). فالفعل (¬3) الذي كان تهذيبُه منسوبًا إليه، سُمِّيَ (سُنَّة)؛ على معنى: أنه (مَسْنُون). ويجوز أن يكون من قولهم: (سَنَّ الإِبِلَ): إذا أحْسَنَ رِعْيَتَها (¬4). فالفعل الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتولَّى رِعايَتَه وإدامَتَه مِن العبادات سُمِّيَ: (سُنَّةً ومسنونًا)؛ ذهابًا إلى أنَّه كان يَتَوَفَّرُ عليها بإقامةِ شروطِها، تَوَفُّرَ الرَّاعِي على الإِبِلِ بإِحْسانِ رَعْيَها. هذا كلامُ أهلِ اللغة في (السُّنَةِ). فأما معنى الآية وتفسيرها؛ فقال أكثر المفسِّرين (¬5): معنى الآية: قد مضت منِّي-فيمن (¬6) [قد] (¬7) كان قبلكم، من الأمم ¬

_ (¬1) في أ: قد تُقرأ: (الغَرْفة) -لقرب رسم الفتحة كالضمة-. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وما أثبته هو الصواب؛ لأن (الغَرْفة) لا دليل فيها على ما أراد المؤلف. أما (الغُرْفَة) فهي من: (غَرَفَ الماء يَغرِفُه، وَيغرُفه). و (اغترَفَهُ): أخذه بيده. واسم المَرَّة منه: (غَرْفَة). و (الغِرْفة) -بكسر الغين-: هيئة الغَرْفِ. و (الغُرفَة) بضم "العين": بمعنى: المغروف. وهي المراد بالتمثيل هنا. انظر: "القاموس" (841) (غرف). (¬2) انظر: (سنن) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1776، و"اللسان" 4/ 2123. (¬3) في (ج): (والفعل). (¬4) قال ابن السكيت: (ويقال: (سَنَّ الإبل، يَسُنُّها، سَنًّا): إذا أحسن رِعْيَتها، حتَّى كأنه صَقَلَها). "إصلاح المنطق" 54. وانظر: (سنن) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1777، و"الصحاح" 2139، و"اللسان" 4/ 2123. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 303، و"تفسير الطبري" 4/ 99، 100، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 768، و"بحر العلوم" 1/ 300، و"تفسير الثعلبي" 3/ 121 ب. (¬6) في (ج): (في من). (¬7) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).

الماضية المكذِّبَةِ الكافرة-، سُنَنٌ؛ بإمهالي واستدراجي إيَّاهم، حَتَّى يبلغَ الكتابُ فيهم أجَلِي الذي أجلته، في إهلاكهم واستئصالهم، وبَقِيَت لهم آثارٌ في الدنيا، فيها (¬1) أعظمُ الاتِّعاظِ والاعتبار، فَسِيرُوا في الأرض فانظروا كيف كان [آخِرُ أمْرِ] (¬2) المكذِّبِين منهم. والمعنى: أنكم إذا سِرْتُم في أسفاركم، عرفتم أخبارَ قومٍ أُهْلِكُوا؛ بتكذيبهم، ورأيتم مصارِعَهم، وما بقي بعدَهم مِن آثارِ مساكنهم، التي [خربت] (¬3)، فاعتبرتم، وكنتم على حَذَرٍ بما تَرَون (¬4) في غيرِكم مِن المَثُلاتِ (¬5) التي نزلت بهم على قبيحِ فِعْلِهم. وهذا في يوم أُحُد، يقول الله: فأنا أمهلهم (¬6) [حتى يبلغ أجلي الذي] (¬7) أجَّلْتُ في نُصْرَةِ النبي وأوليائِه، وهلاكِ أعدائِهِ. فـ (السُّنَنُ) -على هذا- جمع: (سُنَّة)، وهي سُنَّة الله عز وجل في [إهلاكِ الأُمَمِ الضالَّةِ] (¬8). وهذا تفسير الآية من غير إضمار. ¬

_ (¬1) في (ج): فهم. (¬2) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (احزا من). والمثبت من (ج). (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬4) في (أ): (يرون)، والمثبت من (ب)، (ج). (¬5) المَثُلات، والمُثُلات: جمع: مَثُلَة؛ وهي: النقمة والعقوبة التي تنزل بالإنسان، فيجعل مثالًا يرتدع به غيره. انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" 760 (مثل)، و"تذكرة الأريب" لابن الجوزي 1/ 271، و"تحفة الأريب" لأبي حيان 284. (¬6) في (ج): (مهلكهم). (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬8) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).

وقال (¬1) ابن عباس -في رواية عطاء- (¬2): قد خلت سُنَنٌ مِن قبلِكُم؛ يريد: شرائعُ. قال ابن الأنباري (¬3): يعني: شرائع مذمومة؛ لأن باقي الآية يدل على ذَمِّها، وإنَّ المُعَاقَبِينَ بالتكذيب كانوا مُسْتَعْمِلِينَ لها، وجارِينَ (¬4) على منهاجها، فأقامَ المذكورَ في آخرِ الآيةِ، مقامَ النَّعْتِ لها. وتلخيص الآية: قد خَلَت مِن قبلكم طرائقُ سَلَكها (¬5) قومٌ، فأهْلِكُوا بِمَعاصيهم وخِلافِهم على أنبيائهم. وقالَ أبو إسحاق (¬6): معنى الآية: قد خَلَت [مِن قَبْلِكم] (¬7) أهلُ سُنَنٍ، وأصحاب سُنَن في الشَّرِّ، [فحذف المضاف] (¬8)، ولم يذكر (في الشَّرِّ) (¬9)؛ لأن في الآية دليلًا عليه، فهو (¬10) إهلاك من اتَّبَعَها. و (العاقبة): آخر الأمر (¬11). يقال: (عَقَبَهُ، يَعْقُبُهُ، عَقْبًا، وعُقُوبًا)، ¬

_ (¬1) في (ج): (قال) بدون واو. (¬2) أورد هذا القول الثعلبي في: "تفسيره" 3/ 121 ب، وعزاه لعطاء دون ابن عباس. وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 465. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) في (أ): (وجازين). وفي (ب): (وجازبن). والمثبت من (ج). (¬5) في (ب): (سنها). (¬6) في: "معاني القرآن" له 1/ 470. نقله عنه بمعناه. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬8) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬9) في "معاني القرآن" (وقول الناس: فلان على السنة؛ معناه: على الطريقة، ولم يحتاجوا أن يقولوا على السنة المستقيمة؛ لأن في الكلام دليلًا على ذلك). (¬10) في (ج): (وهو). (¬11) انظر: "القاموس" ص 116 - 117 (عقب).

138

وعاقَبَهُ: إذا (¬1) جاءَ بعده (¬2). فالعاقب (¬3): الذي يَخْلُف مَن كان قَبْلَهُ (¬4). ومنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (العاقب) (¬5). 138 - قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} أي: هذا القرآن. عن أكثر المفسِّرِين (¬6). ¬

_ (¬1) في (ج): (وإذا). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 147، و"اللسان" 5/ 3022 (عقب). (¬3) في (ب): (كالعاقب). وفي (ج): (والعاقب). (¬4) العاقب: الآخر، والذي هو دون السيد، وقيل: الذي يخلفه، وقيل: الذي يخلف من كان قبله في الخير، وهو -كذلك-: العَقُوب. انظر: (عقب) في: "اللسان" 5/ 3022، و"القاموس" ص 116. (¬5) ورد ذلك في الحديث الذي رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن لي أسماء: أنا محمد: وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". أخرجه: البخاري في "الصحيح" (3532). كتاب التفسير. سورة الصف (61). ومسلم في " الصحيح" رقم (2354) كتاب الفضائل. باب في أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد"، وفي لفظ: "ليس بعده نبي". وأخرجه الترمذي في "السنن" (2840). كتاب الأدب باب ما جاء في أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -. والدارمي في "السنن" (2817). وأحمد في "المسند" 4/ 81، 84 (وانظر: "الفتح الرباني" 2/ 187 - 188). وأخرجه عبد الرزاق في: "المصنف": 10/ 446 رقم 16957) وفيه: (قال معمر: قلت للزهري: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبي). وأخرجه مالك في: "الموطأ" (انظر: "تنوير الحوالك" 3/ 162 - 163). وقال السيوطي عن عبارة (والعاقب: الذي ليس بعده نبي): (وهو مدرج من تفسير الزهري). "تنوير الحوالك" 3/ 163. (¬6) ممن قال بذلك: الحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل " 1/ 303، و"تفسير الطبري" 4/ 101، و"زاد المسير" 1/ 465.

وقال ابن (¬1) إسحاق (¬2): {هَذَا}؛ أي: ما ذَكَرْت؛ يعني قولَه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137]، أي: هذا (¬3) الذي (¬4) عَرَّفْتُكم، بيانٌ للناس. قال ابن عباس (¬5): يريد: لجميع الخَلْقِ. {وَهُدًى}. ذَكَرَهُ بعد ذِكْرِ البَيَان؛ لأن البَيَان: ظُهور المعنى للنَفْسِ (¬6)، كائنًا ما كان (¬7). والهُدَى: بَيَانٌ لِطَريق الرُّشْد؛ لِيُسْلَكَ دُونَ (¬8) طَرِيق الغَيِّ (¬9). وقوله تعالى: {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} عَمَّ في أَوَّلِ (¬10) الآية، عند ذِكْرِ البَيَان؛ لِيَدُلَّ [على] (¬11) أنَّ الخِطَابَ في التكليف، شَامِلٌ لِلمُشْرِكِ والمُسْلِم. وخَصَّ بـ (الهدى)؛ لأنه يهدي بالقرآن مَن يشاء مِن عِبَادِهِ بفضله. ¬

_ (¬1) في (أ): (أبي)، وفي (ب)، (ج): (أبو). والصواب ما أثبته. (¬2) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 101، و"تفسير الثعلبي" 3/ 121ب, و"زاد المسير" 1/ 465. (¬3) في (ج): (هذا القرآن). ولفظة (القرآن) -هنا- مقحمة. (¬4) (الذي): ساقطة من (ج). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) في (ب): (لليقين). (¬7) انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف": 149. (¬8) في (ب): (بعد). (¬9) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 2/ 22، 9/ 13، و"تفسير الخازن" 1/ 355، و"غرائب القرآن" للنيسابوري 4/ 72. (¬10) في (أ)، (ب): (تأويل). والمثبت من (ج). (¬11) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة آل عمران من آية (139) إلى آخر السورة تحقيق د. أحمد بن صالح الحمادي سورة النساء من أول السورة إلى آية (83) تحقيق د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء السادس

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة آل عمران من آية (139) إلى آخر السورة تحقيق د. أحمد بن صالح الحمادي سورة النساء من أول السورة إلى آية (83) تحقيق د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء السادس

جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي, محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان, الرياض1430 هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 5 - 863 - 04 - 9960 - 978 (ج6) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 5 - 863 - 04 - 9960 - 978 (ج6)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [6]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة آل عمران من آية (139) إلى آخر السورة تحقيق د. أحمد بن صالح الحمادي

139

139 - قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} الآية. قالَ الزُهْرِيُّ (¬1)، وقتادة (¬2)، وابن أبي نَجِيح (¬3): هذه الآية تَسْلِيَةٌ مِن الله -تعالى- للمسلمين، لِمَا نالَهُمْ يومَ أُحُد مِنَ القتل والجَرْح. ومعنى {وَلَا تَهِنُوا}: لا تضْعُفُوا. والوَهْنُ (¬4): الضَعْفُ في العَمَلِ، وفي العَظْمِ. يقال: (وَهِنَ (¬5)، يَهِن، وَهْنًا)، فهو (واهِنٌ): إذا ضَعُفَ في العمل. و (مَوْهُونٌ) في العَظمِ والبَدَنِ، و (وهِنَ وَهَنًا)، لُغَةٌ (¬6). و (أَوْهَنَهُ اللهُ) (¬7)، فهو (مَوْهُونٌ)؛ مثل: (أَحَمَّهُ)، فهو (مَحْمُوم)، و (أزْكَمَه) فهو (مَزْكُوم) (¬8). ومنه قول طَرَفَة: ¬

_ (¬1) في (ج): (الأزهري). وقول الزهري، في "تفسير الطبري" 4/ 102. (¬2) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 102، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 770. (¬3) قوله هذا يرويه عن مجاهد، وهو في: "تفسير مجاهد" 136، و"تفسير الطبري" 4/ 102، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 770. (¬4) من قوله: (والوهن ..) إلى (.. وهَنا لغة): نقله -بتصرف واختصار- عن: "تهذيب اللغة" 4/ 3966 (وهن). (¬5) هكذا جاءت في (أ): (وَهِنَ) -بكسر الهاء-. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وفي "التهذيب" (وَهَنَ) -بفتح الهاء- وقد وردت الكلمة في مصادر اللغة بالحركات الثلاث (فتح الهاء وكسرها وضمها). انظر مادة (وهن) في: "الصحاح" 2215، و"التاج" 18/ 579. (¬6) في (أ): (وَهْنًا) بتسكين الهاء وفي (ب)، (ج): مهملةٌ غير مشكولة. والمثبت هو الصواب. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3966 (وهن). (¬7) من قوله: (وأوهنه الله ..) إلى نهاية شطر بيت الشعر: (.. فقر): نقله -بتصرف يسير- عن "تهذيب اللغة" 4/ 3967 (وهن). (¬8) انظر (وهن) في: "جمهرة اللغة" 996، و"الصحاح" 2215 - 2216، و"التاج" 18/ 579.

إنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ (¬1) قال المفسِّرُون: {وَلَا تَهِنُواْ} عن جهاد عدوِّكم، بما نالَكُم مِنَ الهزيمة (¬2)، {وَلَا تَحْزَنُوا} على ما فاتكم من الغَنِيمَةِ (¬3)؛ فإنَّكم {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}؛ أي: لكم تكون العاقِبَةُ بالنَصْرِ والظَّفَرِ. ¬

_ (¬1) عجز بيت، وصدره: وإذا تَلْسُنُنِي ألسُنُها وهو في: ديوانه: 53، وورد منسوبًا له في: "التهذيب" 4/ 3967 (وهن)، و"الصحاح" 2215 (وهن)، و"اللسان" 6/ 445 (فقر)، 7/ 4030 (لسن)، 8/ 4935 (وهن). ومعنى (تلسُنُني)؛ أي: تأخذني بلسانها، يقال: (لَسَنَه لَسْنًا): إذا أخذه بلسانه. انظر: "اللسان" 7/ 4030 (لسن). والمَوْهون: هو الذي أصابه وَجَعُ (الواهنة)، وهو وَجَعٌ يصيب العِرْق المستبطن حبْل العاتق إلى الكتف. انظر: "التهذيب" 4/ 3967 (وهن). والفَقِر: الذي يشتكي من فَقَارِهِ. انظر: "اللسان" 6/ 445 (فقر). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 102 - 103، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 771. (¬3) في (ج): (القسمة). لم أقف على من قال بأنهم نُهُوا عن الحزن على ما فاتهم من الغنيمة. وقد ذكر هذا القول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 122 ب. وصدَّره -مع القول السابق- بقوله: (وقيل: ..). ولم يبين القائل. وأورده ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 466 وقال: (ذكره علي بن أحمد النيسابوري) يعني: المؤلف (الواحدي). ويرى مقاتل أنهم نُهوا عن الحزن على ما أصابهم من هزيمة يوم أحد. انظر: "تفسيره" 1/ 303. ويرى الماوردي أنهم نهوا عن الحزن على ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من شَجِّه، وكَسْرِ رَبَاعِيَتِهِ. انظر: "النكت والعيون" 1/ 466. وقيل: نُهُوا عن الحزن على مَن قُتِل من إخوانهم من المسلمين. ونسبه ابن الجوزي لابن عباس. انظر: "زاد المسير" 1/ 466.

قال ابن عباس (¬1): يريد: في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني: أَنَّ الإيمانَ يُوجِب ما ذكر مِن تَرْكِ الوَهْنِ والحُزْن. فقيلَ: إنْ كُنتم مؤمنين؛ فَلا تَهِنوا ولا تحزنوا؛ أي (¬2): من كان مؤمنًا فيجب ألّا (¬3) يَهِنَ، ولا يَحْزَن؛ لثقته باللهِ -جل وعَزَّ-. وإلى هذا أَشَار ابنُ عبَّاس، فقال (¬4) في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يريد: مُصَدِّقِينَ؛ تحريضًا مِنَ اللهِ تعالى لهم. وفيه وجْه آخر، وهو: أن (¬5) المعنى: إنْ كنتم مؤمنين بِصِدْق (¬6) وَعْدِي إيَّاكُمْ بالنَصر؛ حتى تَسْتَعْلُوا على عَدُوِّكُم، وتَظْفَرُوا بِبُغْيَتِكُم. وفي قوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وجهان: أحدهما: أنه في موضعُ الحَال؛ كأنَّهُ قيل: لا تَحْزَنوا عَالِينَ؛ أي: منصورين على عَدُوِّكُم (¬7) بالحُجَّةِ (¬8). الثاني: أنه اعتراضٌ بِوَعْدٍ مؤكد؛ كأنه قيل: ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا إنْ كُنْتُم مؤمنين، وأنتم الأَعْلَوْن (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في (ج): (إلى). (¬3) في (ب): (أن لا). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) (أن): ساقطة من (ج). (¬6) في (ج): (لصدق). (¬7) (على عدوكم): ساقطة من (ج). (¬8) انظر: "البيان"، للأنباري 1/ 222، و"الدر المصون" 3/ 401. (¬9) انظر: "الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 633.

140

وفي هذه الآية إشارَهٌ إلى أنَّ (¬1) مَنْ كان مؤمنًا، لا يَنْبَغِي له أن يَضْعُفَ لِمَا يَنَاله مِن مُصِيبَةٍ في الدُّنْيَا، بل يجب أن يسكن نفسُهُ، وينتفي حزْنُهُ بما هو عليه مِن الاستعلاء، والفوز بالأُمْنِيَةِ في العاقِبة. 140 - قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} الآية. مَعْنَى {يَمْسَسْكُمْ}: يُصِبْكم (¬2). يقال: (مَسَّهُ أَمْرُ كذا)، [أو] (¬3) (مَسَّتْهُ الحَاجَة)؛ أي: أصابته. وتأويله: لَصِقَ بِهِ، وأصابَهُ في ذاته (¬4). و (القَرْحُ): قُرِئ بِضَمِّ القَافِ، وفَتْحِه (¬5). قال أهل اللغة (¬6): هُمَا لُغَتَانِ في عَضِّ السِّلاح ونَحْوِهِ، مِمَّا يَجْرَحُ [الجَسَدَ] (¬7)، مثل: (الوَجْد، والوُجْد) (¬8)، و (الضَّعْف، والضُّعْف)، وبابه (¬9). ¬

_ (¬1) أن: ساقطة من (ج). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 104. (¬3) (أو): في (أ)، (ب): و. والمثبت من (ج). (¬4) أصل (المَسِّ): لمس الشيء باليد. ثم تُوُسِّعَ فيه، واستعير للتعبير عن معانٍ عدَّة. انظر: (مسس) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3394، و"اللسان" 7/ 4201. (¬5) القراءة بضم القاف في (قُرْح)، هي من رواية أبي بكر عن عاصم، وقراءة حمزة، الكسائي. والقراءة بفتحها (قَرْح)، من رواية حفص عن عاصم، وابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر. انظر: "علل القراءات" 1/ 126، و"الحجة" للفارسي 3/ 79، و"التبصرة" 464. (¬6) هو قول الليث. ذكره الأزهري في: "تهذيب اللغة" 3/ 2918 (قرح). (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج). (¬8) يقال: (وَجَدَ الشيءَ، يجِدُه، جِدَةً، ووُجْدًا، ووَجْدًا، ووجودا؛ ووُجْدانًا، وإجْدانًا). وتأتي (الوُجْدُ) و (الوَجْدُ)، بمعنى: اليَسَار، والسَّعَة. انظر: "اللسان" 8/ 4770 (وجد). (¬9) ومنها: (الكَرْه والكُرْه)، و (الفَقر والفُقْر)، و (الدَّف والدُّفُّ)، و (الشَّهْد والشُّهْد)،=

قال الفراء (¬1): وكأن (القُرْح): أَلَمُ الجِرَاحات، وكأن (القَرْح): الجراحات (¬2) بأعيانها. وقال الزجاج (¬3): هما عند أهل اللغة بمعنى واحد؛ ومعناهما: الجراح وألَمُهَا. يقال: (قَرَحَهُ): إذا جَرَّحهُ (¬4). قال الشاعر: لا يُسلِمُونَ قَرِيحًا حَلَّ وَسْطَهُمُ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا (¬5) ¬

_ = و (الجَهْد والجُهْد)، و (الوَسْع والوُسْع). انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 234، و"الحجة" للفارسي 3/ 79. (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 234. نقله عنه بنصه. (¬2) (وكأن القرح الجراحات): ساقط من (ج). وفي "معاني القرآن" الجرح -بدلًا من: الجراحات-. (¬3) في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 470. نقله عنه بنصه. (¬4) هكذا جاءت في (أ): (جَرَّحَه). وفي (ب)، (ج): مهملة من علامات الشكْل. والأصوب: (جَرَحَه) بدون تشديد في الرَّاء. وهكذا وردت في مصادر اللغة. قال ابن السكيت: (قَرَحَه، يَقْرَحُهُ، قَرْحًا: إذا جَرَحَه). "إصلاح المنطق" ص 80، 195. وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2918 (قرح)، و"مفردات ألفاظ القرآن" 665 (قرح)، و"الدر المصون" 3/ 403. (¬5) البيت للمتنخل الهذلي. وقد ورد منسوبًا له في: "إصلاح المنطق" 81، 195، و"شرح أشعار الهذليين" 1279، و"الأمالي" للقالي 1/ 28، و"الصحاح" 395 (قرح)، و"اللسان" 6/ 3571 (قرح). وورد غير منسوب في: كتاب "المعاني الكبير" 901، و"جمهرة اللغة" 520 (قرح). وقد وردت روايته في "الجمهرة": لا يُسْلِمون قَرِيحا كان وسْطَهُمُ ... تحت العَجَاج ولا يشوون من قرحوا القريح: الجريح. و (لا يُشْوُون مَن قَرَحُوا): يقال: (أشواه): إذا أصاب (شَوَاهُ)، وهي: أطرافه، وأخطأ مقتله. ومعنى البيت: أن من جُرِح منهم حاموا عليه حتى يستنقذوه، ولا يخطِئون مقتل من جرحوه. انظر: "المعاني الكبير" 901، و"الجمهرة" 520 (قرح)، و"اللسان" 6/ 3571 (قرح).

و (قَرِحَ الرَّجُلُ، يَقْرَحُ): إذا صَارَ قَرِيحا (¬1). قال المفسِّرُون (¬2): يقول: إنْ أصابكم جُرْحٌ يوم أُحُد، فقد أصابَ المشركين (¬3) مثْلُهُ يومَ بَدْر. وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ}. قال ابنُ عبَّاس (¬4): يعني: أيَّام الدُّنْيَا، نُداوِلُها [بَيْنَ النَّاس] (¬5). [قال الحَسَنُ] (¬6)، وقَتادة (¬7)، والرَّبِيع (¬8)، والسُّدِّي (¬9): نصرفها مَرَّةً ¬

_ (¬1) انظر: المعاني السابقة لـ (قرح) في: "إصلاح المنطق" 81، 195، و"جمهرة اللغة" 520 (قرح)، و"التهذيب" 37 (قرح)، و"المخصص" 5/ 90. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 303، و"الطبري" 4/ 104، و"بحر العلوم" 1/ 304، و"تفسير الثعلبي" 3/ 122 ب، و"النكت والعيون" 1/ 426. وقد رجح هذا القول: البغوي، والقرطبي، والنسفي، والشوكاني، وصديق خان. انظر: "تفسير البغوي" 2/ 110، و"تفسير القرطبي" 4/ 217، و"تفسير النسفي" 1/ 84، و"فتح القدير" 1/ 584، و"فتح البيان" 2/ 137. (¬3) في (ب)، (ج): (المشركون). (¬4) لم أقف على مصدر قوله هذا. وُيفهم من قوله -هنا- عموم أيام الدنيا، وما فيها من مداولة بين الناس، من عُسْر وُيسْر، وفَرَح وغَمِّ، بينما وردت آثار أخرى عنه، تخصص هذه الأيامَ بما حدث يوم بدر واحد، حيث كانت الدولة للمسلمين على المشركين يوم بدر، وللمشركين على المسلمين يوم أحد. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 105، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 772. (¬5) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬6) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). وقول الحسن، في: "تفسير الطبري" 4/ 104 - 105، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 773، و"النكت والعيون" 1/ 426. (¬7) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 105، و"النكت والعيون" 1/ 426. (¬8) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 105، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 773. (¬9) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 105.

لِفِرْقَةٍ ومَرَّةً عليها. والدَوْلَةُ: الكَرَّةُ (¬1). و (أَدَالَ اللهُ فُلانًا مِن [فُلان): إذا جَعَلَ الكَرَّةَ لَهُ عليه؛ يريد] (¬2): أَنَّهُ أدالَ المسلمينَ مِنَ المُشْرِكين يَوْمَ بَدْر، وأدال المشركين مِنَ المسلمين يوم أُحُد. وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}. اختلفوا في العامل في اللام، فذكروا فيه وجهين: أحدهما: أن اللام صِلَةٌ لِفِعْلٍ مُضْمَر (¬3)، يدل عليه أولُ الكلام، ¬

_ (¬1) (الدَّوْلَة) -بفتح الدال-، أو (الدُّوْلَة) -بضم الدال-: أصل معناهما: تَحَوُّل شيء من مكان إلى مكان. يقال: (تداولوا الشيء بينهم): إذا صار مِن بعضهم إلى بعض. وتستعمل (الدوْلَة) -بفتح الدال وبضمها-: لانقلاب الزمان من حال البؤس، إلى حال السرور. وكذلك في العُقْبَة في المال، أي: النَّوبة فيه. ويرى بعضُ أهل اللغة أن بينهما فرقًا، فقالوا: الدَّولة -بالفتح-: تستعمل في العرب خاصة، وهو أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى. وبالضم: في المال خاصة. يقال: (صار الفيءُ دوْلة بينهم)؛ أي: يتداولونه مرَّة لهذا ومرة لهذا. وقيل: بالفتح: للفعل، وهو الانتقال من حال إلى حال. وبالضم: اسمٌ للشيء المتداول بعينه. وقيل: بالفتح: أن ترجع الكرة للجيش المهزوم، فينتصر على من هزمه، فتكون له الدَّوْلة. وبالضم: في الملْك والسنن التي تُغير وتُبدل عن الدهر. انظر (دول) في: "التهذيب" 2/ 1248، و"المقاييس" 2/ 314، و"اللسان" 3/ 1455، و"التاج" 14/ 245. (¬2) ما بين المعقوفين ورد مكانه في سورة الأصل: العبارةُ التالية: (عن خلق وتأتي مثله). وهي عِبَارَةٌ مكانها في الصفحة التي تليها في الأصل، ولكن نظْرًا لوجود خرم في الأصل في هذا الموضع، فقد ظهرت هذه العبارة في المصورة في هذه الصفحة. وقد أثبتها من (ب)، (ج). (¬3) في (ب): (لمضمر). -بدلًا من: لفعل مضمر-.

بتقدير: ولِيَعلم اللهُ الذين آمنوا؛ نُدَاولها (¬1). الوجه الثاني: أن العامل فيه: {نُدَاوِلُهَا} (¬2) المذكور؛ بتقدير: نداولها بين الناس؛ ليظهر أمرهم، وليَتَبَيَّنَ (¬3) أعمالَهم، وليعلم الله الذين آمنوا. فَلَمَّا انكشف معنى اللّامِ المُضمَرة في (لِيظهر)، و (لِيَتبيَّن)، جرت مجرى الظاهرة؛ فأمكن (¬4) العطْفُ عليها. [و] (¬5) الوجهان، ذكرهما ابنُ الأنباري (¬6)، وغيرُهُ مِن أهلِ النَّحْو. و (العِلْمُ) إذا لم يتعلق بالذَّاتِ، اقتَضَى مَعْلُومَيْنِ؛ كما تقول: (عَلِمْتُ زَيْدًا عاقلًا، وَجَوادا). فلا (¬7) تقول: (عَلِمْتُ زَيْدًا) فقط؛ إلّا أن تريد به: عَرَفْتَهُ، وعَلِمْتَ مَنْ هُوَ (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 106. (¬2) في (ج): (تداولها). (¬3) ورد هذا النص في: "الدر المصون" 3/ 405 ينقله عن ابن الأنباري، وفيه: (ولِيُظْهِرَ أمرَهم، ولِنبيِّن أعمالهم). (¬4) في (ب): (وليكن). (¬5) غير واضحة في (أ)، وفي (ب): (بـ). والمثبت من (ج). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده السمين الحلبي في "الدر" 3/ 405. (¬7) في (ج): (ولا). (¬8) أي: أن العِلْمَ -هنا- متعلق بذاته. ويجوز أن يتعدى (عَلِمَ) إلى مفعول واحد؛ وذلك إذا كان بمعنى (عَرَف)، أو أن يكون العِلْمُ متعلقًا بالذوات دون الأحوال. فأما إذا كان بمعنى (عرف) فيرى السمينُ الحلبيُّ أنه يُشْكِلُ في هذا الموضع؛ لأن الله -تعالى- لا يجوز أن يوصف بذلك، وإنما يوصف بالعلم؛ لأن المعرفة هي: إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل، أو نسيان حاصل بعد العلم.=

والمفعول الثاني -ههنا- محذوف. والتقدير: وَلِيَعلمَ اللهُ الذين آمنوا [مُمَيَّزينَ] (¬1) بالإيمان مِنْ غيرهم؛ أي: إنما يجعل الدَّولةَ للكفارِ على المسلمين، لِيُميِّزَ (¬2) [المؤمن] (¬3) المخلص (¬4)، مِمَّن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبةٌ. ويحتمل أن يكون (العِلْمُ) -ههنا- بمعنى: معرفة الذات؛ والتأويل: وَلِيَعلمَ اللهُ الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوِّهم؛ أي: لِيَعرِفَهم بأعيانهم. إلَّا أنَّ سَبَبَ العِلْم، -وهو: ظهور الصبر -حذف ههنا-. وقال الفراء (¬5): هذا في مذهب [(أيّ)] (¬6) و (مَنْ)؛ التأويل: ليعلم الله مَن المؤمن، وأيّهُم المؤمن؛ كما قال: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى}. وجاز ذلك؛ لأنَّ في (الذي)، وفي الأَلِفِ واللَّامِ تأويل (مَن) و (أيّ)؛ كما قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]. ¬

_ = أما العِلْم، فهو: الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع، إذ هو صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض. انظر: كتاب "التعريفات" للجرجاني 155، 221، و"التوقيف على مهمات التعاريف" 523، 666، و"الدر المصون" 3/ 406، و"الكليّات"، لأبي البقاء: 868. (¬1) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وساقط من (ب). والمثبت من (ج). (¬2) في (ب): (ليتميز). (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وساقط من (ب). والمثبت من (ج). (¬4) في (ب): (الملخص). (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 234. نقله عنه باختصار، وتصرف يسير. وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 106. (¬6) ما بين المعقوفين في (أ) غير مقروء. وفي (ب): (أين). والمثبت من (ج).

وتأويل قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، واللهُ تعالى يعلم الشيءَ قبلَ وُجُودهِ، ولا يحتاج إلى سَبَبٍ حَتى يعلم؛ وإنما المعنى: وَلِيَعْلَمَ ذلك واقِعًا منهم. أي: لِيَقَعَ ما عَلِمَهُ غَيْبًا، مُشَاهَدَةً للناس. والمُجَازاة إنَّمَا تَقَع بِما يعلمه موجودًا كائِنًا، لا (¬1) بِمَا عَلِمَهُ غَيْبًا (¬2). وهذا كقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]. وقد استقصينا ما في هذا عند قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143]. وقوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} أي: وَلِيُكْرِمَ قَوْمًا بالشَّهَادةِ؛ وذلك أنَّ المسلمين تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوَّ، وأنْ يَكُونَ لهم يومٌ كيوم بَدْر، يقاتِلُوا فيه العَدُوَّ، ويَلْتَمِسُوا الشهادة (¬3). والشُّهَدَاء: جمع شَهِيد؛ كـ (الكُرَمَاء)، و (الظُّرَفَاء). والمقتول مِنَ المسلمين بِسَيْفِ الكُفَّار، يُسَمَّى: شهيدًا. واختلفوا فيه: لِمَ سُمِّيَ شهيدًا؟: فقال النَضْرُ بن شُمَيْل (¬4): الشَّهِيد: الحَيُّ. قال الأزهري (¬5): أراه تَأَؤَّلَ قولَ اللهِ جلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ¬

_ (¬1) (لا): ساقطة من (ج). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 470 - 471، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 482، و"المحرر الوجيز" 3/ 341، و"البحر المحيط" 3/ 63. (¬3) من قال ذلك: ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج، والضحاك، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 106 - 107. (¬4) قوله، في: "تهذيب اللغة" 2/ 1943 (شهد)، و"اللسان" 4/ 2348 (شهد). (¬5) قوله، في "التهذيب" 2/ 1943 (شهد). نقل أكثر قوله بنصِّه وتصرف قليلًا في آخره.

عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬1)، كأنَ أرواحَهُم أُحْضرَت (¬2) دارَ السَّلام [أحياءً، و] (¬3) أرواحَ غيرهم لا يَشهَدها (¬4). وهذا قولٌ حَسَنٌ. وقال ابنُ الأنباري (¬5): سُمَّي شهيدا، لأن الله وملائكته شُهُودٌ له. فهو (فَعِيل)، بمعنى: (مَفْعُول له). وقال قومٌ (¬6): سُمُّوا شُهَداء؛ لأنهم يُسْتَشْهَدُونَ يومَ البَعثِ (¬7)، مع الأنبياء والصِّدِّيقِينَ على الأمم؛ كما ذَكَرَهُ اللهُ تعالى في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. قالَ أبو منصور (¬8): والشهادة -يومئذ- تكون للأفضل (¬9) فالأفضل مِنَ الأُمَّةِ. فأفضلهم مَن قُتِلَ في سبيل الله؛ أَبَانَهم اللهُ من غيرهم -بالفضل الذي يميَّزوا به- مِن جَمَاعَةِ المؤمنين. (¬10) وبَيَّن أنَّهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]، الآية. ثم يتلوهم في الفضل مَنْ عَدَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران 169. وبقيتها: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. (¬2) في (ج): (حضرت). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من: "تهذيب اللغة". (¬4) وفي "التهذيب": وأرواح غيرهم أخِّرَتْ إلى يوم البَعْث. (¬5) قوله، في: المصدر السابق. نقله عنه بمعناه. (¬6) أورد هذا القول الأزهريُّ في المصدر السابق، ولم ينسبه لقائل. (¬7) في (ب): (بالبعث). بدلًا من: (يوم البعث). (¬8) هو الأزهري، وقوله في: "تهذيب اللغة" 2/ 1943. نقله عنه بتصرف واختصار. (¬9) في (أ)، (ب): الأفضل. والمثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة". (¬10) وعبارة "التهذيب": ميّزت هذه الطبقة عن الأمة بالفضل الذيَ حازوه.- بدلًا من عبارة المؤلف: (أبانهم .. المؤمنين).

المسلمين شهيدا؛ فإنه قال: "المَبْطْونُ شَهِيد (¬1)، والغرِيق شَهيد (¬2) " (¬3). وذَكَرَ -أيضًا- غيرَ هذين. ويدل على هذا ما رُوي أنَّ النَبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) في (أ): (شهيدا). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"التهذيب"، ومصادر الخبر. (¬2) في (ب): (شهيدا). (¬3) الحديث ورد من رواية جابر بن عتيك، ونصه: (.. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما تعدُّون الشهادة؟." قالوا: القتل في سبيل الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداء سَبْعَةٌ، سوى القَتْل في سبيل الله: المَطْعُونُ شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحبُ ذات الجَنْب شهيد، والمَبْطُونُ شهيد، والحَرِقُ شهيد، والذي يموت تحت الهَدْمِ شهيد، والمرأَة تموت بِجُمْعٍ شهيد". وقد أخرجه مالك في: "الموطأ" 161 رقم (36) كتاب الجنائز. باب النهي عن البكاء على الميت. واللفظ له. وأخرجه أحمد في "المسند" 5/ 446 انظر: "الفتح الرباني" 14/ 39)، وأبو داود في "السنن" رقم (3111). كتاب الجنائز. باب في فضل من مات في الطاعون. وأخرجها النسائي في "السنن" رقم (1846) كتاب الجنائز. باب النهي عن البكاء على الميت. رقم (3194) كتاب الجهاد. باب من خان غازيا .. وأخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (2803) كتاب الجهاد. ما يرجى فيه الشهادة، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" رقم (2261). وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 562 رقم (6695). وابن حبان في صحيحه 7/ 461 رقم (3189)، 463 رقم (3190). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 351 كتاب الجنائز، وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في "المعجم الكبير" 2/ 191 رقم (1779)، 192 رقم (1780)، و"الأوسط" 2/ 142 (1265)، والبغوي في "شرح السنة" 5/ 433 رقم 1532. وأخرج الشافعى أوَّلَه في "المسند" 1/ 199 رقم (556)، وكذا البيهقي في "السنن" 4/ 69 واقتصر على أوَّله. وقد ورد حديث آخر بنحو هذا الحديث عن أبي هريرة: (الشهداء خمسة: ..) وذكر بعضر الأنواع التي وردت في الحديث السابق. =

"مالَكُمْ إذا رَأَيتم الرَّجلَ يُخَرِّقُ (¬1) أغرَاَض الناس، ألآ تُعَرِّبُوا عليه (¬2) "؟ ¬

_ = أخرجه البخاري في "الصحيح" (2829). كتاب الجهاد: باب الشهادة سبع سوى القتل، ومسلم في "الصحيح" رقم (1914) كتاب الإمارة. باب بيان الشهداء. وأحمد في "المسند" 2/ 441، 310، وابن ماجة في "السنن" رقم (2804)، والطيالسي 316 رقم (2407)، وعبد الرزاق في "المصنف" 5/ 270 رقم (9574). وانظر أحاديث، وآثارًا أخرى في: "صحيح البخاري" (5733) كتاب الطب. باب ما يذكر في الطاعون، و"مصنف عبد الرزاق" 5/ 269 رقم (9572)، 271 رقم (9575، 9576، 9577)، و"سنن سعيد بن منصور" 2/ 235 - 236 رقم (2615، 2616، 2617)، و"فتح الباري" 6/ 43 - 44، و"كنز العمال" 4/ 421 - 424 رقم (11213 - 11231)، و"الفتح الرباني" 14/ 34 - 39. و (المبطون): الذي مات بداء البطن، كالاستسقاء، ونحوه من العلل. و (المطعون): الذي مات من إصابته بالطاعون. و (المرأة تموت بجُمْع): التي تموت وولدها في بطنها. وقيل: التي تموت بكرًا. و (ذات الجنب): التهاب يصيب غلاف الرئة، ينتج عنه سُعال وحمى، ونخس في الجنب، ويسمى- كذلك (الجُناب). (¬1) (يُخرِّق) جاءت في: (أ)، (ب)، (ج) مهملة من الشكل، وفي "تهذيب اللغة" 2/ 1944: (يَخرِق)، خلاف ما جاء في مخطوط التهذيب، كما أشار إلى ذلك محقق التهذيب. وكذا ورد ضبطها في: "اللسان" 4/ 2348 (شهد)، وما أثبتُّه هو ما استصوبته؛ لأنها وردت في مصادر الخبر (يُخرِّق)، ومن هذه المصادر: أصل مخطوط "تهذيب اللغة"؛ حيث أشار إلى ذلك محقق التهذيب في هامش نفس الصفحة قائلًا: (ضُبط في مُصوَّرة التهذيب بضم أوَّلِه؛ فكأنه يُراد فيها مشدَّد الراء من (التخريق). ولكن المحقق أثبتها (يَخرِق) إما باجتهاد منه، أو اعتمادًا على ما في "اللسان". وكذا وردت (يُخرَق) في: "غريب الحديث" لابن سلّام 1/ 102، 2/ 28، و"الفائق" للزمخشري 2/ 414، و"غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 78، و"النهاية" لابن الأثير 3/ 201. (¬2) (تُعَرِّبوا) وردت في (أ)، (ب)، (ج) مهملة من الشكل. ووردت في "تهذيب اللغة" (تُعرِبوا)، وهو خلاف ما ورد في أصل التهذيب كما أشار إلى ذلك =

فقالوا: نَخَاف لِسَانَهُ يا رَسُولَ الله. فقال: "ذلك [أدْنَى] (¬1) أنْ لا تَكُونوا شُهَداء" (¬2) معناه: أنكم إذا لَمْ تُعَرِّبُوا على مَن يتناول أعراضَ المسلمين؛ مَخَافَة لِسَانِهِ، لم تَدْخُلُوا في جُمْلَةِ المُسْتَشْهَدِين يومَ القيامة على الأمم التي كَذَّبَتْ أنبياءَها. ¬

_ = محققه؛ حيث قال: (ضُبطت بتشديد الراء في المصورة). وكذا وردت بتشديد الراء في مصادر الخبر المشار إليها سابقًا. وهي ما اعتمدت عليه في ضبط الكلمة. أما في "لسان العرب" 4/ 2348 (شهد) فقد نقل هذا النص عن الأزهري وفيه: (أنْ لا تَعْزِمُوا عليه). (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من "تهذيب اللغة"، وبقية مصادر الأثر التالية. (¬2) الأثر، لم أهتد إليه في كتب السنة، وقد أورده: أبو عبيد بن سلّام في: "غريب الحديث" 1/ 102 من قول عمر - رضي الله عنه -، حيث قال: (وقد روي عن عمر أنه قال: ..) وذكره، وفي: 2/ 28 قال: (وفي حديث عمر: ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل ..) وذكره وأشار محقق "غريب الحديث" في هامش: 2/ 252 إلى أنه وردت زيادة في بعض نسخ الغريب فيها سند هذا الأثر، وهو: (.. قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن زيد بن صوحان، عن عمر ..). وفي "التهذيب" 6/ 74: جعله من قول عمر، حيث قال: القوله (..)، وقد أورده الزمخشري في "الفائق" 2/ 414، وابن الجوزي في "غريب الحديث" 2/ 78 وقال: (قال عمر: مالكم ..) وذكره، وابن الأثير في "النهاية" 3/ 201. وفي جميع المصادر السابقة التي أوردت الأثر لم يرد فيها قولهم: (.. يا رسول الله ..). وقوله: (تُعَرِّبوا عليه)؛ أي: تقبِّحوا قولَه، وتعيبوه، وتَرَدُّوه عليه، وتُفسِدوا عليه كلامَه، وتهجِّنوه. انظر: "الفائق" 2/ 414، و"اللسان" 5/ 2866 (عرب)، في كتاب "النخل" لأبي حاتم السجستاني 101: (وفي الحديث: (فما عرَّبتم عليه)، أيَ: فما غيَّرتم).

وقيل في الشَّهِيد: إنَّه سُمِّيَ (شَهِيدا) (¬1): لأنه شَهِد الجَنَّة؛ أي: حَضَرَها حين استشهد. فهو على هذا التأويل، بمعنى (¬2): (شاهد)، وهو: الحاضر؛ كما يقال: (سميع وسامع)، و (عليمٌ وعالِم) (¬3). وهذا قريب مِمَّا قاله ابنُ شميل (¬4). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس (¬5): أي: المشركين. وفي هذا [إشارة] (¬6) إلى أنه إنَّما [يُدِيل] (¬7) الكافرين على المؤمنين؛ لِمَا ذَكَرَ (¬8)، لا (¬9) لأنَّهُ يُحِبُّهم. وإذْ (¬10) أَدَالَ المؤمنين، أدَالَهُمْ نُصْرَةً لهم، ومَحَبَّةً منه إيَّاهم. وجملة معنى الآية: أنها [تَسْلِيَة] (¬11) للمؤمنين [عَمَّا نالَهُم مِنَ ¬

_ (¬1) لم أقف على من قال بهذا القول. (¬2) في (أ)، (ب): (معنى). والمثبت من (ج). (¬3) وردت -هنا- عبارة مكررة في (ج)، وهي: (فهو على هذا التأويل). (¬4) أورد ابن حجر في "فتح الباري" هذه الأقوال في سبب تسمية الشهيد بهذا الاسم، وزاد عليها أقوالًا أخرى، ثم قال: (وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله، وبعضها يعم غيره، وبعضها قد ينازع فيه). "فتح الباري" 6/ 43. (¬5) قوله، في "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 774. (¬6) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (يريد). والمثبت من (ج). وهو الصواب. (¬8) أي في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} (¬9) لا: ساقطة من (ج). (¬10) في (ب)، (ج): (وإذا). (¬11) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).

141

الجِرَاح] (¬1) بِأَنَّ عَدُوَّهم قد نَالَ مِثْلَهُ، وأَنَّ سُنَّةً لَهُ في عِبَادِهِ أنْ يَبْلُوهم مَرَّةً بالخير، ومَرَّةً بالشَّرِّ [كما قال] (¬2): {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬3)] (¬4). 141 - قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: لِيُظْهِرَهم (¬5) مِن ذنوبهم، وُيسْقِطَها عنهم. وتأويل (المَحْص) [-في اللغة-: التَّنْقِيَةُ والتَّخْلِيص (¬6)] (¬7). قرأت على سَعِيد بن محمد الحِيري، فقلت: أَخْبَرَكم أبو علي الفارسي، عن الزجَّاج، قال: سمعت المبَرِّد يقول: (مَحَصَ (¬8) الحبْلُ، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬2) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬3) سورة الأنبياء: 35. وتمامها: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. (¬4) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬5) هكذا في (أ)، (ب): (لِيُظْهرهم) -بالظاء-. وفي (ج): (ليطهِّرهم) -بالطاء-. وهي أوْلى. إلّا أنَّ الأولَى، وهي (لِيظْهِرَهم) تدخل في المعنى المراد من التمحيص. جاء في "اللسان" (.. وقد أمْحَصَت الشمسُ؛ أي: ظهرت من الكسوف وانجلت) 7/ 4145 (محص). وقد قال المؤلف -فيما سيأتي- عند تفسير قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آية: 154]: (قد ذكرنا للتمحيص ثلاثة معانٍ، عند قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}: التطهير، والكشف، والابتلاء. وهذا القول يعزز ما جاء في نسخة (ج)؛ لأن التطهير مصدر لـ (طهَّر)، إلا أنِّي آثرت أن أبقِيَ ما في نسختي (أ)، (ب)؛ لأن الكلمة وردت فيهما مضبوطة بالشكل، واضحة، فكأن الناسخ أراد بشَكْلها أن يُنَبِّهنا إلى رسمها. (¬6) في (ب): (والتلخيص). (¬7) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من: (ب)، (ج) و"معاني القرآن"، للزجاج، حيث وردت العبارة فيه. (¬8) هكذا ضبطت في (أ): (مَحَصَ) -بفتح الحاء-. وكذا وردت في "معاني =

يَمْحَصُ، مَحْصًا) (¬1): إذا ذهب زِئْبِرُهُ (¬2) حتَّى [يَمَّلِصَ] (¬3) و (حبْلٌ مَحِصٌ، ومَلِصٌ)، بمعنًى واحدٍ (¬4). ¬

_ = القرآن"، للزجاج 1/ 471. أمّا في (ب)، (ج) فأهمِلَت من الشَّكْل. وفي "التهذيب" 4/ 3350، و"اللسان" 7/ 4145 فقد وردت فيهما: (مَحِصَ) -بكسر الحاء-. (¬1) (أ)، (ب)، (ج): (محصا) مُهْمَلة من الشَّكْل. وضَبَطْتُها من: "معاني القرآن"، للزجاج 1/ 471، و"التهذيب" 4/ 3350 حيث نقل نَصَّ الزجاج، و"الدر المصون" 3/ 407 حيث نقل هذا النص عن الواحدي. أمّا في: "الزاهر" 1/ 108، و"اللسان" 7/ 4145 فقد وردت فيها: (مَحَصًا) -بفتح الحاء-. (¬2) (أ)، (ب)، (ج): زبيره وفي "معاني القرآن" للزجاج: (إذا ذهب منه الوبَرُ). وقد وردت (زبيره) في: "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي: 536 إلا أني لم أجدها في كتب اللغة الأخرى التي رجعت إليها. وقد ذكرها السمين الحلبي -نفسه- في: "الدر المصون" 3/ 407 (زئبره) وفق ما أثبَتُّهُ. والمثبت من كتب اللغة. انظر: "مقاييس اللغة" 5/ 300 (محص)، و"اللسان" 7/ 4145، و"الدر المصون" 3/ 407. الزِّئْبِرُ -بكسر الباء، وقد يضمها بعضُهم-: هو ما يظهر من درز الثوب. وهو الزَّغَب والوَبَر الذي يعلو المنسوجات. انظر: "التاج" 6/ 449 (زأبر)، و"المعجم الوسيط" 1/ 388 (زأبر). (¬3) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). وهي فيهما غير مشكولة. وفي "معاني القرآن"، للزجاج وردت: (يَمْلَصَ). وقد ضبطْتُها بالشكل من: "تهذيب اللغة" 4/ 3350 (محص)، و"اللسان" 7/ 4145 (محص). وهي الصواب. ويَمَّلص: يَنْزَلِقُ من اليد. والمَلَص: الزَّلَق. يقال: (مَلِصَ مَلَصًا)، (فهو أمْلَصُ، ومَلِصٌ، ومَلِيصٌ). قال في: "اللسان" (و (امَّلَصَ، وتَمَلَّص): زَلَّ انسلالًا لِمَلاسَتِهِ. وخصَّ اللِّحيانيُّ به الرِّشاءَ، والعِنان، والحبل، قال: و (انمَلَص الشيءُ): أفْلَتَ. وتُدْغمُ النون في المِيمِ) 7/ 4262 (ملص). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 471، و"الزاهر" 1/ 108، و"تهذيب اللغة" =

قال (¬1): ويُسْتَحَبُّ مِن الفَرسِ أنْ تَمْحَصَ (¬2) قوائِمُهُ؛ أي (¬3): تَخْلُصَ من الرَّهَلِ (¬4). وأنشد (¬5) ابنُ الأنباريِّ (¬6) -على هذا- لأبي دُوَاد (¬7)، يَصِف قوائمَ الفرس: صُمِّ النُّسُورِ صِحاحٌ غيرُ عاثِرَةٍ ... رُكِّبْنَ في مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ (¬8) ¬

_ = 4/ 3350 (محص)، و"اللسان" 7/ 4145، و"الدر المصون" 3/ 407. (¬1) القائل هو الزجاج، ويروي المؤلفُ قولَه هذا بسنده السابق، وقول الزجاج -بنصه- في: "معاني القرآن" له 1/ 472. قال الزجاج: (ويقال: ..) وذكره. (¬2) في (ب): (يملص). وفي "معاني القرآن" (تُمَحَّصَ). وما أثبتُّه ورد كذلك في: "تهذيب اللغة" 4/ 3350 (محص) حيث نقل نَصَّ الزجاج. و"الدر المصون" 3/ 407 حيث نقل نَصَّ المؤلف (الواحدي). وورد في "اللسان" 7/ 4145 (محص) قوله: (أنْ تُمْحَصَ) -بضم التاء-. (¬3) في (ب)، (ج): (أن). (¬4) في (ب): (الرها). والرَّهل -هنا-: استرخاء اللحم مِنْ سِمَنٍ. يقال: (رَهِلَ اللحم، يَرْهَلُ، رَهَلًا)، فهو (رَهِلٌ): إذا استرخى واضطرب. انظر (رهل) في: "جمهرة اللغة" 802، و"المجمل" 403، و"اللسان" 3/ 1756. (¬5) في (ج): (أنشد) -بدون واو-. (¬6) في "الزاهر" 1/ 107. (¬7) قال البغدادي: (وأبو دُوَاد، بدالين مهملتين، أوْلاهما مضموم، بعدها واو). "خزانة الأدب" 9/ 590. وكذا كُتِب في "الأصمعيات" 185. أما في المصادر التالية، فقد ورد (دُؤاد). وهو: أبو دؤاد الإيادي، جارية بن الحجَّاج، وقيل: جُوَيْرِية بن الحجاج، وقيل: حنظلة بن الشَّرْفي. (¬8) البيت في "ديوانه" 285. وورد منسوبًا له في "الزاهر" 1/ 107، وورد غير منسوب في "الدر المصون" 3/ 408. وقد وردت روايته في المصادر السابقة: (.. صِحاحٍ غيرِ عاثرةٍ ..) - بكسمِ (صِحاحٍ)، و (غيرِ). قال ابن الأنباري: (النُّسْور: اللحم الذي في باطن الحافر، يشبه النوى، واحدها: نَسْر). "الزاهر" 1/ 107.

قوله: (في مَحِصَات)؛ معناه: في قوائمَ مُتَجَرِّداتٍ عن اللحم، ليس فيها إلا العَظْمُ، والعَصَبُ، والجِلْدُ (¬1). قال المُبرِّد (¬2): وتأويل قول الناس: (مَحِّصْ عنَّا ذُنُوبَنا)؛ أي: أذهب (¬3) ما تَعَلَّقَ بنا مِنَ الذُّنُوب. وهذا الذي ذكره المبرِّدُ، تأويل (المَحَصِ) -بفتح الحاء-، وهو واقعٌ (¬4)، و (المَحْص) -بسكون الحاء- مطاوع (¬5). قال الخليل (¬6): يقال: (مَحَصْتُ الشيءَ، أَمْحَصُه، مَحْصًا): إذا ¬

_ (¬1) انظر: المصدر السابق. وورد فيه: (.. من العظم، والجلد، والعصب). (¬2) قوله في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 471. (¬3) في "معاني القرآن" أذهب هنا. (¬4) الفعل الواقع هو الفعل المتعدي إلى مفعول أو أكثر. وسمي بـ (الواقع)؛ لوقوعه على المفعول بِه، ويسمى كذلك بالفعل المجاوز، لمجاوزته الفاعل إلى المفعول به. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" 245، و"موسوعة النحو والصرف" 498. (¬5) في "الدر المصون" 3/ 408 - وقد نقل نَصَّ الواحدي هذا-: (.. والمحص-بسكون الحاء- مصنوعٌ). المطاوع من (محص) هو: انْمَحَص، وتُدغم النونُ في الميم فيصير: (امَّحَص) قال في "اللسان" (وقَدْ أَمْحَصَت الشمسُ: أي: ظهرت من الكسوف وانجلت. وُيروَى: امَّحَصت على المطاوعة، وهو قليل في الرباعي). 7/ 4145 (محص). (¬6) قوله في: كتاب "العين" له 3/ 127. ولكن المؤلف نقل قوله عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 472 نظرًا لتطابق النص معه. ونص قول الخليل: (المحْصُ: خُلُوص الشيء. (مَحَصْتُهُ محْصًا): خلَّصْته من كل عيب). وفي "معاني القرآن" للنحاس: (قال أبو إسحاق: قرأت على أبي العباسِ، محمد =

خَلَّصته من كلِّ عَيبٍ. قال رُؤبَةُ -يصف فَرَسا (¬1) -: [شَدِيدُ] (¬2) جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى (¬3) ¬

_ = ابن يزيد، عن الخليل: أن التمحيص: التخليص؛ يقال: (مَحَصَه، يَمْحَص، مَحْصًا): إذا خلَّصه) 1/ 483. (¬1) في (ب): (ذئبا). (¬2) (شديد) غير مقروء في (أ). وفي (ب): (فيديد). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت. (¬3) في (ج): السوى. -غير معجمة-. والبيت من الرجز، وتمامه: كالكَرِّ لا شَخْتٌ ولا فيه لَوَى وقد ورد منسوبًا لرؤبة، في: "تهذب اللغة" 4/ 3350 (محص)، و"اللسان" 7/ 4145 (محص)، و"الدر المصون" 3/ 408، و"التاج" 9/ 359 (محص). وفي "اللسان" 7/ 3851 (كرر) نقله عن الأزهري، ولم ينسبه. والبيت ليس في ديوان رؤبة، وإنما في ديوان العجاج (بعناية وليم بن الورد) ص 73. وقد ورد منسوبًا له في "اللسان" 7/ 4109، وقد أورد الأزهري شطره الثاني، ونسبه للعَجَّاج في "التهذيب" 4/ 3314 (لوى). وورد في "اللسان" 7/ 3851 (كرر): (.. لا سَخْتٌ ..) وهي تصحيف -والله أعلم-، وفي "الدر المصون" (.. السوى ..). (الجَلْز): الطيُّ، واللَّيُّ. وكل شيء يُلوى على شيء، ففعله: الجَلْز. يقال: (جَلَزْته، أجْلُزُه، جَلْزًا). انظر: "اللسان" 2/ 656 (جلز). و (الصُّلْب): الظهر. انظر: "المجمل" 538 (صلب) و (الشَّوَى): الأطراف، و (شَوَى الفَرَسِ): قوائمه. انظر: "اللسان" 4/ 2368 (شوى). يصف الفرس بأنه شديد طَيِّ الظهر؛ أي: وثيق الخلْق، أطرافه وقوائمه نَقِيِّة من العيوب المشينة. أما (السَّوَى) -على الرواية الثانية التي أوردها السمين الحلبي-، فقد فسَّرَهُ السمين بأنه: الظَّهْر. جعله مقصورًا للضرورة. وأصله: (السواء). و (الكَرُّ): الحبل الذي يصعد به على النخل. وجمعه (كرور). و (الشخت): =

ومِن هذا؛ يُقال للسِّنَانِ المَجْلُوِّ: (مَمْحُوص) (¬1). قال أُسَامَةُ الهُذَلِيُّ (¬2): وَشَقّوا (¬3) بمَمْحُوصِ القِطَاعِ (¬4) فُؤَادهُ (¬5) يعني: بِمَجْلُوِّ النِّصَالِ (¬6). ¬

_ = الدقِيق، الضامر. و (اللَّوَى): العِوَج. انظر: "التهذيب" 4/ 3123 (كرر)، 4/ 3350 (محص)، و"القاموس" 198 (شخت). (¬1) انظر (محص) في: "التهذيب" 4/ 3350، و"اللسان" 7/ 4145. (¬2) هو: أسامة بن الحارث الهذلي. وقيل: أسامة بن حبيب. شاعرٌ مُخَضْرَم (جاهلي، إسلامي). انظر: "الشعر والشعراء" 2/ 670، و"شرح أشعر الهذليين" 3/ 1289، و"الإصابة" لابن حجر 1/ 31. (¬3) في (ج): (شقوا) - بدون واو-. (¬4) في (ج): (القطاة). (¬5) صدر بيت، وتمامه: لَهُمْ قُتَرَاتٌ قد بُنِينَ مَحاتِدُ وقد ورد منسوبًا له في: "شرح أشعار الهذليين" 3/ 1300، و"تهذيب اللغة" 4/ 3350 (محص)، و"اللسان" 7/ 4145 (محص)، و"التاج" 4/ 410 (حتد). وورد غير منسوب في: "اللسان" 2/ 768 (حتد). ولكنه ورد في "شرح أشعار الهذليين" بالرواية التالية: (.. بِمَنْحُوضِ القِطَاع ..) وليس في هذه الرواية شاهد على ما ذهب إليه المؤلف. وفي "التهذيب" (أشَفُّوا ..)، وفي "اللسان" 2/ 768: (.. له قُتُرات ..)، وفي 7/ 4145: (أشْفَوْا ..). يصف الشاعر حِمَارًا رُمي بالنِّصال، حتى رَقَّ فؤادُه من الفزع، فيقول: شَقُّوا فؤادَه. بـ (مَنْحوض القِطَاع)، وهو النَّصْل الدَّقيق المُرْهف. يقال: (سِنان نَحِيض)، أي: رقيق. و (نَحَّضَه): رقَّقَه. و (القطاع): جمع: قِطْع، وهو نصلٌ قَصِير عَرِيض. و (القُترات) واحدها: (قِتْر)، و (قِتْرَة)، وهي: نوع من النصال حاد الطَّرف. و (محاتد): أي: قديمة ورثوها عن آبائهم فهي لهم أصل، و (المحتِدُ): الأصل. انظر: المصادر السابقة. و"الصحاح" 1107 (نحض)، و"اللسان" 6/ 3526 (قتر). (¬6) النِّصَال، والأنْصُل، والنُّصُول)، واحدها: (نصْل)، وهي حديدة السَّهم، =

فمعنى قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: لِيُخَلِّصهم مِن ذُنوبهم. وإلى هذا ذَهَب أكثرُ أهلِ المعاني والتفسير. وقال (¬1) ابن عباس (¬2): يريد (¬3): يُمَحِّصَ ذنوبَهم حتى يَلْقَوْهُ؛ وليس لهم قَبْلَهُ سَيِّئَةٌ يعذبهم عليها. ووجه هذا القول: ما قاله أبو عَمْرُو الشيباني (¬4): معنى التمحيص في اللغة: الكشف. و (مَحِّصْ عنَّا ذنوبَنا)؛ معناه: واكشف (¬5) عنَّا ذنوبَنا. و (تَمَحَّصَ الشيءُ): إذا تَكَشَّفَ. وأنشد: حتى بَدَتْ قَمْرَاؤُهُ وتَمَحَّصَتْ ظَلْمَـ ... ـاؤُهُ (¬6) ورَأَىَ الطريقَ المُبْصِرُ (¬7) وهذا اختيار الفرَّاء؛ لأنه قال (¬8): يريد: لِيُمَحِّصَ (¬9) اللهُ الذنوبَ عن الذين آمنوا. ¬

_ = والرُّمْح، والسَّيف ما لم يكن له مِقْبَض، فإذا كان له مقبض، فهو سيف. انظر: "التاج" 15/ 738 (نصل). (¬1) في (ج): (قال) -بدون واو-. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) (يريد): ساقطة من (ب). (¬4) لم أقف على مصدر قوله، وليس في كتابه (الجيم). نقله عنه القالي في "أماليه" 2/ 275. (¬5) في (ب): (اكشف) -بدون واو-. (¬6) في (أ): (ظلماه)، والمثبت من (ب)، (ج). و (القَمْرَاء): ضوء القَمَر. و (ليلة قمراء): مضيئة. و (الظَّلْمَاء): الظُلْمة. و (ليلة ظلماء): شديدة الظلمة. انظر: "اللسان" 7/ 3736 (قمر)، 5/ 2759 (ظلم). (¬7) ينظر: "أمالي القالي" 2/ 275، و"الفاخر" 135، و"اللآلئ" 916، و"أساس البلاغة" (محص)، والزاهر 1/ 15. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 235. نقله بنصه. (¬9) في "معاني القرآن" يمحص.

وعلى هذا القول؛ تقدير الآية: وَلِيُمَحِّصَ الله ذنوبَ الذين آمنوا. فحذف المضاف (¬1). وروى أبو عُبَيْد (¬2)، عن أبي عَمْرو، قال (¬3): التَّمْحِيص: الابتلاء والاختبار (¬4). وإلى هذا القول ذهب جماعة من المفسرين: السُّدِّي (¬5)، ومجاهد (¬6)، وروي ذلك عن ابن عباس -في بعض الروايات- (¬7)، قالوا: {وَلِيُمَحِّصَ} أي: لِيَبْتَلِي. وهذا اختيار القُتَيْبِيِّ (¬8). وقوله تعالى: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}. (المَحْقُ) في اللغة معناه: النُّقْصَان. يقال: (مَحَقَهُ اللهُ، فامْتَحَقَ، وامَّحَقَ) (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "مجالس ثعلب" 1/ 266، فقد حكى هذا القول. (¬2) (أبو عبيد): في (أ) تُقرأ: (أبو عبيدة) -فيشتبه السكون على الدال بالتاء المربوطة-. وفي (ج): أبو عبيدة. وما أثبتُّه من (ب)، و"تهذيب اللغة"، وهو الصواب؛ لأن أبا عبيد هو المعروف بالرواية عن أبي عمرو الشيباني. انظر: مقدمة تحقيق كتاب "الجيم" 1/ 25. (¬3) انظر قوله في "تهذيب اللغة" 4/ 3350 (محص). (¬4) في (ج): (والاختيار) وفي "التهذيب" الاختبار والابتلاء. (¬5) قوله، في "تفسير الطبري" 4/ 107، و"زاد المسير" 1/ 467. (¬6) قوله، في "تفسيره" 137، و"تفسير الطبري" 4/ 107 - 108، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 774. (¬7) في "تفسير الطبري" 4/ 108، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 775 - من رواية ابن جريج عنه-، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 426. وهو قول: الحسن، وابن إسحاق، وقتادة انظر: المصادر السابقة. (¬8) هو ابن قتيبة، واختياره هذا في: "تفسير غريب القرآن" له 1/ 106، وهو -كذلك- قول المبرد في "الكامل" 1/ 213. (¬9) انظر: (محق) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3351، و"اللسان" 7/ 4146.

وقال أبو زيد (¬1): (مَحَقَهُ اللهُ)، و (أَمْحَقَهُ). والأصمعي يأبى إلّا (محَقَه) (¬2). وأما (أَمْحَق) (¬3)، فقال أبو عمرو (¬4): هو أن يَنْقُصَ ويَدِقَّ (¬5)، كَمُحَاقِ (¬6) الهِلالِ. وأنشد ابن السِّكِّيت (¬7): ... حتى أنسَّ وأَمْحَقَا (¬8) ¬

_ (¬1) قوله، في: "تهذيب اللغة" 4/ 3352 (محق)، و"اللسان" 7/ 4146 (محق). (¬2) قول الأصمعي هذا، مِن تتمة كلام أبي زيد. قال: (وأبَى الأصمعيُّ إلا (محقه)). وفي "الصحاح" (و (مَحقَه الله)؛ أي: ذهب ببركته. و (أمحقه) لغة رديئة) 1553 (محق). وانظر: "اللسان" 7/ 4146 (محق). (¬3) نلاحظ هنا أن الفعل (أمحق) لازم، وأما (أمحقه) السابق، فمتعدٍّ. (¬4) قوله في: "إصلاح المنطق" 278، و"التهذيب" 4/ 3352 (محق)، و"الصحاح" 1553 (محق). (¬5) في (ب): (يرق). (¬6) مُحَاق، ومَحاق، ومِحاق. بضم الميم، وفتحها، وكسرها-. انظر: "اللسان" 7/ 4147 (محق). (¬7) ولفظ أبي عمرو كما في "إصلاح المنطق" (قال أبو عمرو: الإمحاق: أن يَهلِك؛ كمُحاق الهلال، وأنشد ..). وفي "التهذيب" (عن ابن السكيت عن أبي عمرو: الإمحاق: أن يهلك الشيء ..). (¬8) في (ج): (وامَّحقا). وهذا مقطع من بيت وتمامه -حسب روايته في "إصلاح المنطق" 278 - : أبوك الذي يَطْوِي أُنُوفَ عُنُوقهِ ... بأظفاره حتى أنَسَّ وأمْحَقا وقد نسبه في "اللسان" 7/ 4147 (محق) لسَبْرة بن عمرو الأسدي، يهجو به خالد بن قيس، وقد ورد غير منسوب في: "إصلاح المنطق" 278، و"تهذيب اللغة" 4/ 3352 (محق)، و"الصحاح" 1553 (محق)، و"اللسان" 7/ 4147 (محق). وقد وردت روايته في هذه المصادر -عدا "إصلاح المنطق"-: (يَكْوي أنوث عنوقه). و (العُنُوق): مفردها: (عَنَاق)، وهي: الأنثى من أولاد المِعْزى، إذا أتت عليها =

142

وقال ابن الأعْرَابي -عن المفَضَّل- (¬1): (المَحْقُ) -عند العرب (¬2) -: أن يذهب الشيءُ كلُّهُ، حتى لا يُرَى مِنْهُ شيءٌ. ومنه {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (¬3)، أي: يستأصله. قال أبو إسحاق (¬4): ومعنى الآية: جَعَلَ اللهُ الأيَّامَ مُدَاوَلَةً بين الناس؛ لِيُمَحِّصَ اللهُ المُؤْمنينَ، إذا أدَالَ عليهم، بما يقع عليهم (¬5) مِنْ قَتْلٍ وَجُرْحٍ وذَهابِ مَالٍ. و {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: يستأصلهم، إذا أدال عليهم، ويهلكهم بذنوبهم. فَقَابَلَ (¬6) تَمْحِيصَ المؤمنين بِمَحْقِ الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء، بإهلاك ذنوبهم، نَظِير مَحْقِ أولئك، بإهلاك أنْفُسِهِمْ. وهذا مُتقابِلٌ في المعنى، حَسَنٌ. 142 - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} الآية (¬7). ¬

_ = سنة. وتُجمع -كذلك- على: (أعْنُق، وعُنُق). و (العُنوق) جمعٌ نادرٌ. و (أنَسَّ)؛ أي: بلغ نَسِيسَهُ، ونَسِيسَتَهُ؛ وهو: بقية روحه، أو غاية جهده. انظر: "التهذيب" 3/ 2597 (عنق)، و"القاموس" 4/ 577 (نسس). (¬1) قول ابن الأعرابي في: "تهذيب اللغة" 4/ 3353 (محق)، وفيه: (أبو العباس عن ابن الأعرابي، قال: المحق: ..) وليس فيه (عن المفضل). وكذا أورده صاحب "اللسان" في: 7/ 4146 (محق). (¬2) (عند العرب): ليس في "تهذيب اللغة"، ولا في "اللسان". (¬3) سورة البقرة: 276. وتمامها: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 470. نقله عنه بتصرف. (¬5) (بما يقع عليهم): ساقط من (ج). (¬6) في (ب): (مقابل). (¬7) (الآية): ساقطة من (ج).

معنى {أَمْ حَسِبْتُمْ}: (بَلْ حَسِبْتُم)، على جهة الإنكار (¬1)، أي: لا تحسبوا ذلك. ومضى الكلام في هذا، في مواضع (¬2). وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}. قال أبو إسحاق (¬3): (لَمَّا) جوابٌ لقولِ القائل: (قَدْ فَعَلَ فُلان). فجوابه: (لَمَّا (¬4) يَفْعَل)؛ لأن (لَمَّا) مُؤَكَّدٌ بِحَرْفٍ؛ كما أُكِّدَ الابتداءُ بـ (قد). وإذا قال: (فَعَلَ فلان)، فجوابه: (لَمْ يَفْعَل). وإذا قال: (لَقَد فَعَل)، فجوابه: (ما فَعَل) (¬5) كأنه قال: (واللهِ لَقَد فَعَل) (¬6)، وقال المُجِيبُ: (واللهِ ما فَعَل) وإذا قال هو يفعل فجوابه و (لا يَفْعَل) (¬7) وإذا قال سيفعل ¬

_ (¬1) (أم) هذه، هي المنقطعة، التي تقدر بـ (بل) -التي للإضراب-، وهمزة الاستفهام التي تفيد الإنكار. والتقدير: (بل أحسبتم؟). وانظر أقوالًا أخرى فيها، في: "المغني" لابن هشام 821، و"البحر المحيط" 3/ 65 - 66، و"الدر المصون" 2/ 380، 3/ 408 - 409، و"دراسات لأسلوب القرآن الكريم" القسم الأول 1/ 313 - 315. (¬2) انظر: "البسيط" عند تفسير الآيات: 108، 133، 214 من سورة البقرة. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 472. نقله عنه بتصرف. (¬4) (لما): ساقطة من (ج). (¬5) في "المعاني": ما يفعل. (¬6) في "المعاني" (والله هو يفعل). وقد أورد هذا سيبويه في "الكتاب" 3/ 117 وفيه: (والله لقد فعل) كما هي عند المؤلف. (¬7) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 117 فقد وردت نفس العبارات التي أوردها الزجاج، ويبدو أنه نقلها عن سيبويه. قال الزمخشري: (و (لَمَّا) بمعنى (لم)، إلا أن فيها ضربًا من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يُستقبل. وتقول: (وعدني أن يفعل كذا، ولَمَّا)، تريد: ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله). "الكشاف" 1/ 467. قال أبو حيان -معلقًا على قول الزمخشري السابق-: (وهذا الذي قاله في (لَمَّا) =

فجوابه (لن يفعل) و (لا يفعل). والنَفْيُ في الآية، واقِعٌ على العِلْمِ. والمعنى: على نَفْي الجِهَادِ دونَ العِلْم؛ وذلك لِمَا فِيهِ مِنَ الإيجاز في انتفاءِ جهادٍ؛ لَوْ كانَ؛ لَعَلِمَهُ. والتقدير: (ولَمَّا لم (¬1) يكن المعلوم من الجهاد الذي أَوْجَبَ عليكم). فجرى النفيُ على العِلْمِ؛ للإيجاز؛ على سبيل التوسع في الكلام؛ إذ المعنى مفهومٌ مِن غير إخلال. وقال الزجاج (¬2): المعنى: وَلَمَّا يقع العِلْمُ بالجهاد، والعِلْمُ بِصَبْرِ الصابرين؛ أي (¬3): وَلمَا يَعْلَمِ اللهُ ذلك واقِعًا منكم (¬4)؛ لأنه يَعْلَمُه غَيْبًا (¬5)، وإنما يجازيهم على عَمَلِهِم. وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} انتصب على الصَّرْفِ (¬6) عن ¬

_ = أنها تدل على توقع الفعل المنهي بها، فيما يُستَقبَل؛ لا أعلم أحدًا من النحويِن ذكره، بل ذكروا: أنك إذا قلت: (لمَّا يخرج زيد)، دَلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى، متصلًا نفيُهُ إلى وقت الإخبار، أمَّا أنها تدل على توقعه في المستقبل، فلا، لكني وجدت في كلام الفراء شيئًا يقارب ما قاله الزمخشري، قال: (لَمَّا) لتعريض الوجود، بخلاف (لم)) "البحر المحيط" 3/ 66. وانظر: "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" القسم الأول 2/ 620 - 622. (¬1) لم: ساقطة من (ج). (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 472. نقله عنه بنصه. (¬3) أي: ليست في "معاني القرآن". (¬4) في "معاني القرآن": منهم. (¬5) في (أ): (غنيا). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"معاني القرآن". (¬6) (الصرف) اصطلاح للكوفيين، يعني: أن الفعل كان من حقه أن يُعرَبَ بإعراب ما =

العطف (¬1). إذ ليس المعنى على نفي الثاني والأول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني والأول؛ على نحو: (لا يَسَعُنِي (¬2) شيءٌ، وَيعْجَزَ (¬3) عنك). ومثله: لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ (¬4) ¬

_ = قبله، ولكن صَرَفَتْهُ الواو إلى وجهٍ آخر من الإعراب. انظر: "المحلى" لابن شقير 42، و"مغني اللبيب" 472، و"الدر المصون" 3/ 411، و"النحو وكتب التفسير" 1/ 187. وسيفسر الفراءُ هذا المصطلح، كما سيأتي. (¬1) والرأي الثاني، -وهو للبصريين-: أن النصب في هذه الآية وأمثالها، بإضمار (أن) وجوبًا بعد الواو، إذا قصد بها المصاحبة. والرأي الثالث، -وهو لأبي عمرو الجَرْمي، من البصريين-: أنها نصبت بالواو نفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف. وقد عرض هذه الآراء وناقشها أبو البركات الأنباري في "الإنصاف" ص 442. وانظر: "شرح ابن عقيل" 4/ 14. (¬2) (أ)، (ب): (يستعني). والمثبت من (ج). وهو الصواب. (¬3) في (ب)، (ج): (ولا يعجز). وهو خطأ؛ لأنه خلاف ما يريد المؤلف في هذه المسألة النحوية، وسيأتي بيان ذلك في قول الفراء. (¬4) صدر بيت، وعجزه: عار عليك إذا فعلت عظيمُ وقد اختلف في قائله، فنُسِب للشعراء التالين: أبي الأسود الدُؤَلي، والمتوكل الليثي، وسابق البربري، وحسان بن ثابت، والطرماح. وقد ورد في الكتب التالية: "ديوان أبي الأسود الدؤلي" 231، و"كتاب سيبويه" 3/ 42، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 34، و"المقتضب" 2/ 26، و"تفسير الطبري" 1/ 255، 2/ 185، و"الأصول في النحو" 2/ 154، و"المحلى" لابن شقير 42، و"اللمع" لابن جني 189، و"الإيضاح العضدي" 1/ 323، و"جامع بيان العلم" لابن عبد البر 1/ 240، و"فصل المقال" للبكري 93/ و"شرح المفصل" 7/ 24، و"البسيط في =

قال الفراء (¬1): ومعنى (الصرف): أن يجتمع فِعْلان ببعض حروف النَّسَقِ (¬2)، وفي أوَّلِهِ ما لا يَحْسُنُ إعادَتُه في حروف النَّسَقِ (¬3)، فتنصب الذي بعد حرف العطف، لأنه مَصرُوفٌ عن معنى الأول. وذلك يكون مع جْحدٍ أو استفهامٍ أو نَهْيٍ في أول الكلام. كقولهم: (لا يَسَعُنِي مكانٌ، ويَضِيقَ عنك) بفتح (ويضيقَ)، لأن (لا) التي مع (يَسَعُنِي)، لا يَحْسُن أن يذكرها مع (يضيقَ عنك) (¬4). وقال ابن الأنباري (¬5): قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} معناه: ¬

_ = شرح جمل الزجاجي" 1/ 232، و"المغني" لابن هشام 472، و"شرح شذور الذهب" 296، 360، و"شرح ابن عقيل" 4/ 15، و"خزانة الأدب" 8/ 564 وقد ذكر البيت، والاختلاف في قائله. والشاهد في البيت: نصب الفعل المضارع (وتأتي) بعد الواو في جواب النهي. وهي الواو التي يسميها الكوفيون: واو الصرف. أما عند البصريين: فالنصب بـ (أن) المضمرة وجوبًا، بعد واو المعية التي تقتضي الجمع. انظر: "شرح ابن عقيل" 4/ 14 والمصادر النحوية السابقة. (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 235. نقله عنه بالمعنى. وعبارة المؤلف قريبة جدًا من عبارة الطبري في "تفسيره" 7/ 247، وقد يكون المؤلف نقل قول الفراء عن الطبري. وعبارة الفراء في المعاني أوضح وأجلى. (¬2) في المعاني: بالواو، أو (ثُمَّ)، أو الفاء، أو (أو). (¬3) في المعاني: (وفي أوله جحد، أو استفهام، ثم ترى ذلك الجحد، أو الاستفهام، ممتنعًا أن يُكَرَّر في العطف، فذلك الصرف ..). (¬4) انظر -لبيان معنى الصرف-: "تفسير البسيط" فقد تناول هذه المسألة عند تفسير آية 42 من سورة البقرة، و"معاني القرآن"، للفراء: 1/ 33 - 34، و"تفسير الطبري" 1/ 255، 4/ 108، و"الإنصاف" 555 - 556. (¬5) لم أقف على مصدر قوله.

143

الحال لِمَا قبله. وهذه الواو، يُسَمُّون (¬1) النحويون: (واو الصرف)، والذي بعدها يُنْصَبُ (¬2) على خلافِ ما قبلها. كما تقول العربُ: (لا تأكل السَّمَكَ، وتَشْرَبَ اللَّبَنَ (¬3))؛ أي: لا تجمع بينهما، ولا تأكلِ السَّمَكَ، في حال شُرْبِكَ اللَّبَنَ. قال: وقَرَأ الحَسَنُ: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} -بالكسر- (¬4)، وهو جزمٌ بالعطف على الأول، وليس بحالٍ لما قبله. وهذه الآية خطابٌ للذين انهزموا يوم أحد، فقيل لهم: أَحَسِبتم أنْ تدخلوا الجَنَّةَ، كما دَخَلَ الذين قُتِلوا، وبَذَلُوا مُهَجَهُم (¬5) لِرَبِّهم، وثَبَتُوا على أَلَمِ الجِرَاح والضَّرْبِ، مِن غير أنْ تَسْلُكُوا (¬6) طَرِيقهم، وتصبروا صَبْرَهُمْ. 143 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} الآية. قال الحسن (¬7)، ومجاهد (¬8)، .................. ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في: (أ)، (ب). وفي (ج): (تسميها). (¬2) في (ب): (نصب). (¬3) في (ب): (الماين). (¬4) انظر قراءة الحسن في: "معاني القرآن"، للفراء 1/ 235، "تفسير الطبري" 4/ 108، وهي -كذلك- قراءة: يحيى بن يعمر، وابن حيوة، وعمرو بن عبيد، انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 41. وقرأها عبدُ الوارث عن أبي عمرو بن العلاء بالرفع: (ويعلمُ)، وهي إما على الاستئناف، وهو الأظهر، أو على أن الواو للحال. انظر: "الكشاف" 1/ 467، و"المحرر الوجيز" 3/ 344، و"الدر المصون" 3/ 411. (¬5) في (ب): (جهدهم). (¬6) في (ج): (يسلكوا). (¬7) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 109، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 776. (¬8) قوله، في: "تفسيره" 137، و"تفسير الطبري" 4/ 109، و"تفسير ابن أبي حاتم" =

وقتادة (¬1)، والرَّبِيع (¬2)، والسُدِّي (¬3)، ومحمد بن إسحاق (¬4): كانوا يَتَأسَّفُون (¬5) على ما فاتهم مِن [بَدْر] (¬6)، ويَتَمَنَّون يوما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: لَنَفْعَلَنَّ ولَنَفْعَلَنَّ، ثم انهزموا يوم أُحُد، واستحقوا العِتَاب (¬7). وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}. يعني: مِن قَبْلِ يوم أُحُد. وقوله تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: رأيتم أسبابَهُ، وما يتولَّدُ منه الموتُ (¬8)؛ كالسَّيْفِ، والأَسِنَّةِ، ونحوِها (¬9). وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}. قال الأخفش (¬10): هو تَوْكيدٌ (¬11) لقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}. وقال أبو إسحاق (¬12): المعنى: فقد رأيتموه، وأنتم بُصَرَاء؛ كما ¬

_ = 3/ 776، و"معاني القرآن"، للنحاس 485، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 141 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬1) قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 134، و"الطبري" 4/ 109، و"ابن أبي حاتم" 3/ 776، وأورده السيوطي فى "الدر" 2/ 141 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. (¬2) قوله، في: المصادر السابقة. (¬3) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 110، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 776. (¬4) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 64، والمصادر السابقة. (¬5) في (ج): (يأسفون). (¬6) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) في (ج): (العقاب). (¬8) في (أ): (وما يتولد منه الموت منه)، وفي (ب): (وما يتولد الموت منه)، والمثبت من (ج). (¬9) انظر: "معاني القرآن"، للفراء 1/ 236، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 106، و"تفسير الطبري" 4/ 108. (¬10) قوله في "معاني القرآن" له 1/ 236، وهو معنى قوله. (¬11) في (ب): (تأكيد). (¬12) في "معاني القرآن"، له 1/ 473. نقله عنه بنصه.

تقول: (رأيت كذا وكذا)، وليس في عينيك (¬1) عِلَّة (¬2)؛ أي: قد رأيته رؤيةً حقيقية، وهو راجع إلى معنى التوكيد. وقال غيره (¬3): لِئَلَّا يُتَوَهَّم رؤية القَلْبِ؛ كما يقال: (رأيته عِيَانًا)، و (سمعته بأذني)؛ لئلا يتوهم سَمْع العِلْمِ. وقيل (¬4): {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}؛ أي: تَتَأَمَّلُون الحالَ في ذلك، كيف هي؟ (¬5) ¬

_ (¬1) في (ج): (عينك). (¬2) ورد في مخطوطات "معاني القرآن" -كما ذكر محققه-: (علمه)، ورأى المحقق أنها لا تناسب ما بعدها؛ ولذا أثبَتَها (عَمَه)، وفسرها في الحاشية بـ (العَمَى). وليس كما قال؛ لأن (العَمَه) هو: التَّحَيُّرُ في منازعة أو طريق، والتردد في الضلال. انظر: (عمه) في: "اللسان" 5/ 3114، و"القاموس" 1250. وأرى أن صوابها كما أثْبَتَ المؤلف هنا، وإنما صُحِّفت في أصول مخطوطات "معاني القرآن". وقد وردت (عِلَّة) في "بحر العلوم" 1/ 305 حيث نقل قول الزجاج. (¬3) لم أهتد إلى القائل. (¬4) لم أهتد إلى القائل. (¬5) قال الطبري: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني: فقد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر؛ أي: بقرب منكم). "تفسيره" 4/ 109. وحكى الزجاجُ قولًا، ولم يعزه لقائل، فقال: (وقال بعضهم: وأنتم تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -). "معاني القرآن" 1/ 473، وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 271. وقد أورده ابنُ عطيَّة، وضَعَّفَه. انظر: "المحرر" 3/ 346. وقال أبو الليث: (وأنتم تنظرون إلى السيوف التي فيها الموت). "بحر العلوم" 1/ 305 وأورد هذا القولَ ابنُ الجوزي في "زاد المسير" 1/ 468، وعزاه إلى أبن عباس. وعن ابن إسحاق: (تنظرون إليهم). "سيرة أبن هشام" 3/ 64، و"تفسير الطبري" 4/ 110، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 777.

144

وفي الآية محذوفٌ، لأن المعنى: (فقد رأيتموه، وأنتم تنظرون، فَلِمَ انهزمتم)؟ وهذا موضعُ العِتَاب. وهو قول ابن عباس (¬1). 144 - وقوله (¬2) تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الآية. قال أهل التفسير (¬3): لَمَّا نُعِيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُد، وأُشِيعَ أنه قد قُتِل، قال بعضُ المسلمين: لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إلى عبد الله بن أُبَيّ، فيأخذ لنا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيان! وقال أناسٌ مِنْ أهل النِّفَاق: إنْ كان محمدٌ قد قُتِلَ، فالْحَقُوا بدينكم (¬4) الأَوَّل؛ فأنزلَ الله هذه الآية (¬5). و (مُحَمَد) (¬6) هو المُسْتَغْرِقُ لجميع المَحَامِدِ؛ لأن الحَمْدَ لا يَسْتَوْجِبُهُ إلَّا الكامِلُ. و (التَحْمِيد) فوق (¬7) (الحَمْدِ) (¬8)، فلا يستحقه إلا المستولي على ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في (ج): (قوله) -بدون واو-. (¬3) ممن قال بذلك: السدِّي، وقد ورد معناه عن ابن عباس، من رواية عطية العوفي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 113، و"تاريخ الطبري" 2/ 520، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 777، و"أسباب النزول" للواحدي 129. (¬4) في (ج): (لدينكم). (¬5) ورد ذلك عن الضحاك، وابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 113، 114، و"تفسير الثعلبي" 3/ 125 ب. (¬6) من قوله: (ومحمد) إلى (في الكمال): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 126 أ. (¬7) في "تفسير الثعلبي" (قول). وما أثبتهُ موجود -كذلك- في "تفسير البغوي" 2/ 115 حيث نقل هذا النص. (¬8) لأن التحميد أبلغ من الحمد؛ يقال: (فلان محمود: إذا حُمِدَ، ومُحَمَّد: إذا كثرت خصاله المحمودة). انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" 256 (حمد). قال ابن فارس: (فإذا بلغ النهاية في ذلك، وتكاملت فيه المحاسِنُ والمناقِبُ، =

الأَمَدِ (¬1) في الكمال. و (الرَّسُول) -قال ابن الأنباري، فيما حكى عنه الأزهري- (¬2): معناه في اللغة: الذي يُتَابع أخبار مَنْ (¬3) بَعَثَهُ (¬4)؛ أُخِذَ مِنْ قولهم: (جاءت (¬5) الإِبِلُ رَسَلًا) (¬6)؛ أي: متتابعة (¬7). فمعنى (¬8): {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} أي: إلَّا مُتَابع للأخبار عن الله. وقال الأخفش (¬9): (الرسول): هو (¬10) الرِّسَالة، وهو اسمٌ مِنْ (أَرْسَلْتُ) (¬11). ¬

_ = فهو (محمد) .. وهذا البناء أبدًا يدل على الكثرة، وبلوغ النهاية .. وكذلك بناء اسم محمد - صلى الله عليه وسلم -، دليل على كثرة المحامد وبلوغ النهاية في الحمد ..). "أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعانيها" 30. (¬1) في "تفسير الثعلبي": على الأمة وفي "تفسير البغوي": على الأمر. (¬2) في "التهذيب" 2/ 1407 (رسل)، وقول ابن الأنباري في كتابه "الزاهر" 1/ 127. (¬3) في " التهذيب"، و"الزاهر" الذي. (¬4) (بعثه): مطموس في (ج). (¬5) في "الزاهر" قد جاءت. (¬6) في (ج): (رحلا). (¬7) الرَّسَلُ: القطيع من كل شيء، أو هو: القطيع من الإبل والغنم، وقيل: قطيع من الإبل، قدر عشر، يُرسل بعد قطيع، وقيل: ما بين عشر إلى خمس وعشرين. والجمع: أرسال. فإذا أوْرَدَ الرجل إبِلَهُ متقطعةً، قيل: أوردها أرسالًا. انظر: "اللسان" 3/ 1643 (رسل). (¬8) من قوله: (فمعنى ..) إلى (.. الرسول هو): ساقط من (ج). (¬9) لم أهتد إلى قوله في كتابه "المعاني"، وهو في "تهذيب اللغة" 2/ 1407 (رسل). (¬10) في (ب): (من) بدلا من: (هو)، وساقطة من (ج). (¬11) وممن فسره بذلك: يونس بن حبيب البصري، وأبو عبيدة، والزجاج. فقالوا عن قوله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]: إنه في معنى الرسالة؛ كأنه =

وقال أبو علي (¬1): (الرسول)، جاء على ضربين: أحدهما: يراد به المُرْسَلُ، والآخر: الرِّسَالة. وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}، يريد: المُرْسَل. يُقَوِّي ذلك قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3]. ومثل (¬2) هذا في (فعُول)، يراد به (المفعول): (الرَّكُوب)، و (الحَلُوُب): لِمَا يُحْلَبُ، ويُرْكَبُ (¬3). والرسول بمعنى الرسالة كقوله: لَقَدَ كَذَبَ الواشُوُنَ مَا (¬4) بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ (¬5) أي: برسالة. ومِنْ هذا قولُهُ تعالى: {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] (¬6). ¬

_ = قال: إنا رِسَالة رَبِّ العالمين. انظر: "مجاز القرآن" 2/ 84، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 85، و"الزاهر" 1/ 128. (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في (ج): (وقيل). (¬3) في (ج): (لما يركب ويحلب). (¬4) في (ب): (بما). (¬5) البيت لكثير عَزَّة. وهو في "ديوانه" 110. وورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" 2/ 84، و"الصحاح" 1709 (رسل)، و"اللسان" 3/ 1645 (رسل). وورد غير منسوب في: "معاني القرآن"، للزجاج 2/ 85، و"الزاهر" 1/ 125، و"تهذيب اللغة" 2/ 1407، و"المسائل العضديات" 36، و"البيان" للأنباري 2/ 206، 212، و"اللسان" 3/ 1644، و"تخليص الشواهد" لابن هشام 176، و"المقاصد النحوية" 1/ 506، و"خزانة الأدب" 10/ 278. وقد وردت روايته في بعض المصادر: (ما فُهْتُ) بدلًا من: (ما بُحت)، وفي بعضها: (بسوء)، وفي أخرىَ: (بِلَيْلَى)، بدلًا من: (بِسِرٍّ). (¬6) في (ج): {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47]. وكذا وردت في تفسير الفخر الرازي 9/ 22، حيث نقل هذا النص.

وسنذكره (¬1) في موضعه إن شاء الله. وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} معناه: أنه يموت كما ماتت الرُّسُلُ قَبْلَهُ. وقوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} ألِفُ (¬2) الاستفهام دخلت على حرف الشرط؛ ومعناها: الدخول على الجزاء. المعنى: (أتنقلبون على أعقابكم؛ إن مات محمَّدٌ (¬3) أو قُتِلَ)، إلّا أنَّ الشرط والجزاء مُعَلَّقٌ أحدُهُما بالآخَرِ، فانعقدا جملةً واحدةً، وخَبَرًا واحدًا؛ فدخلت أَلِفُ الاستفهام على الشرط، وأَنْبَأَت عن معنى الدخول على الجزاء؛ كما أنك إذا قلت: (هل زيدٌ قائمٌ؟)؛ فإنما تستفهم عن قيامِهِ، إلّا أنك أَدْخَلْتَ (هَلْ) على الاسم؛ لِيُعْلَمَ الذي استفهمتَ عن قيامه، مَنْ هُوَ؟ وكذلك قولك (¬4): (ما زيدٌ قائما)، إنما نَفَيْتَ القيامَ، ولم تَنْفِ زيدًا، ولكنك أدخلت (ما) على (زيد)؛ ليُعْلَمَ مَن الذي نُفِيَ عنه القيامُ. يوضح هذا: أن هذا الاستفهام للإنكار، ولم ينكر عليهم الموت، وإنما أنكر عليهم الانقلاب. وقوله تعالى: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي: ارْتدَدْتُم كُفَّارًا بعد إيمانكم؛ وذلك؛ لأن الرجوع عن الحق إلى الباطل، بمنزلة رجوع القَهْقَرَى (¬5)، في القُبْح والتنكيل بالنفس. ¬

_ (¬1) في (أ): (سنذكر). والمثبت من (ب)، (ج). (¬2) من قوله: (ألف ..) إلى (.. نفي عنه القيام): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 474. وانظر: "الصاحبي" 295 - 296. (¬3) في (أ): (محمدً). وفي (ج): (محمدا). والمثبت من (ب)، وهو الصواب. (¬4) في (ج): (قول). (¬5) القَهقَرَىَ: الرجوع إلى خَلْفٍ. والفعل: (قهْقَرَ)، و (تَقَهْقَرَ): إذا رجع على عقبيه. انظر: (قهر) في: "اللسان" 6/ 3746، و"القاموس" 467.

145

ويقال لكلِّ مَن عادَ إلى ما كان عليه، ورَجَعَ ورَاءَهُ (¬1): انقَلَبَ على عَقِبِهِ (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} فيه معنى الوعيد؛ أي: فإنما يَضُرُّ نَفْسَهُ؛ باستحقاق العِقَاب. {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} بِمَا يستحقونه مِنَ الثَّوَاب. قال ابن عباس (¬3): يريد: الطائعين لله من المهاجرين والأنصار. 145 - وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية. قال الأخفش (¬4)، والزجَاجُ (¬5): اللَّام في (لِنَفْسٍ) (¬6)؛ معناها: النقل؛ بتقدير: وما كانت نفسٌ لِتَموتَ إلّا بِإذْنِ اللهِ (¬7). قال ابن عباس (¬8): يريد: بقضائه وَقَدَرِهِ. وفي هذا رَدٌّ على القَدَريَّةِ؛ حيث قالوا: إنَّ المقتول لا يكون مَيتًا بِأَجَلِهِ (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): (وراه). (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 113. ومن قوله: (على عقبه ..) إلى (.. فلن يضر الله): ساقط من (ج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) لم أهتد إلى قوله في كتاب "المعاني" له، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 128أ. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 474. وهو قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 104. (¬6) في (ج): النفس. (¬7) أي: أنَّ قوله: {أَنْ تَمُوتَ} جُعِل خبَرًا لـ {كَانَ}، بعد أن كان اسمًا لها. وجُعِلَ {لِنَفْسٍ} اسمًا لـ {كَانَ} بعد أن كان خبرًا لها. انظر: "الدر المصون" 3/ 408. (¬8) لم أقف على مصدر قوله. (¬9) انظر رأيهم حول هذه المسألة في "كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية" ليحيى بن الحسين 153 وما بعدها، و"شرح جوهرة التوحيد" 160 - 162، =

واختلفوا في المراد بهذا: فقال بعض (¬1) أهل المعاني (¬2): المراد به التَّسْلِيَةُ عَمَّا يلحق النفسَ بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا (¬3) وَقعَ. من جهة أنه إذا وَقَعَ كان بإذن الله. وقال بعضهم (¬4): المراد به: الحَضُّ على الجهاد، من حيث لا يموت أحدٌ فيه إلّا بإذن الله. وقال ابن الأنباري (¬5): عاتب اللهُ تعالى (¬6) بهذا المُنْهَزِمينَ يوم أُحُد؛ رَغْبَةً في الدنيا، وَضَنًّا بالحياة، وأخبرهم أن الحياة [لا تزيد] (¬7) ولا تنقص، وأنَّ الموتَ بِأَجَلٍ عنده، لا يتقدم ولا يتأخر. وقوله تعالى: {كتَابًا مُؤَجَّلًا} إنتصب {كِتَابًا} بالفعل الذي دلّ عليه ما قبله، وذلك أن قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، يدل على: (كَتَبَ). وكذلك قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، لأن في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، دِلاَلَةً على: (كَتَبَ هذا التحريمَ ¬

_ = فقد ذكر آراء المعتزلة المختلفة في هذا الأمر، وذكر رأي أهل السنة، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 305، و"المحرر الوجيز" 3/ 351، و"تفسير القرطبي" 7/ 202، و"روح المعاني" 4/ 76. (¬1) (بعض): ساقطة من (ج). (¬2) ممن قال بذلك: ابن فورك. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 351. (¬3) في (ج): (وإذا). (¬4) لم أقف عليهم. وقد ذكر هذا القولَ ابنُ عطية في "المحرر" 3/ 351، ولم يعزه لقائل. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) كلمة (تعالى): ساقطة من (ج). (¬7) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب). (ج).

عليكم). ومثله: {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88]، و {وَعَدَ اللَّهُ} [النساء: 122]. و (المُؤَجَّلُ): ذو الأَجَلِ. و (الأَجَلُ): الوقت المعلوم (¬1). [و] (¬2) قال عطاء (¬3)، ومقاتل (¬4): يريد مُؤَجَّلًا إلى أجله الذي هو في اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} قال المفسرون (¬5): أي: من يُرِدْ بطاعته وعمله زينةَ الدنيا، وزُخْرُفَهَا؛ نُؤْتِهِ منها. قال أهل المعاني (¬6): هو مُجْمَلٌ (¬7)، ومعناه: نؤته منها ما نشاء، مِمَّا قَدَّرناه له (¬8) كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]. يعني بهذا: الذين تركوا المَرْكَزَ يوم أُحُد طلبًا للغنيمة، ورَغْبَةً في الدنيا (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 474. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) في "تفسيره" 1/ 305. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 115 - 116، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 475، و"بحر العلوم" 1/ 306، و"تفسير الثعلبي" 3/ 128 أ. (¬6) من قوله: (قال ..) إلى (.. طلبًا للغنيمة): نقله -بتصرف يسير- عن "تفسير الثعلبي" 3/ 128 أ. (¬7) (هو مجمل): ساقط من (ج). (¬8) وممن قال بهذا: ابن إسحاق. انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 64، و"تفسير الطبري" 4/ 115 - 116، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 779، و"الدر المنثور" 2/ 145 وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. وهو قول الطبري. انظر: "تفسيره" 4/ 115 - 116. (¬9) ممن قال هذا: مقاتل في "تفسيره" 1/ 305.

{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ} أي: مَنْ كانَ قَصْدُهُ بِعِمْلِهِ ثَوَابَ الآخرة. قال عطاء (¬1): يعنى: زينَتَها ومُلْكَها وسُرُورَهَا. {نُؤْتِهِ مِنْهَا}. يعني بهذا: أولئك الذين ثَبَتُوا يومَ أُحُد حتى قُتِلُوا (¬2). أعْلَمَ الله -تعالى- أنَّهُ يُجازي كُلًّا على قَصْدِهِ وإرادته، فَمَنْ نَصِبَ للدنيا، و (¬3) عمل لها، أُعْطِيَ منها حظًّا على قَدْرِما قُسِمَ له، ومَن عَمِلَ للآخرة فاز بها (¬4)، كما رُوِيَ عن (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "الأعمال بالنيَّاتِ" (¬6)، الحديث المعروف. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) هذا قول مقاتل في: "تفسيره" 1/ 305، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 128 ب. (¬3) في (ج): (أو). (¬4) قال الزجاج: (وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا؛ لأنه لم يقل: (ومن يرد ثواب الآخرة، لم نؤته إلا منها)، والله -عز وجل- ذو الفضل العظيم). "معاني القرآن" 1/ 475. (¬5) في (ج): (قال النبي) بدلًا من: روي عن. (¬6) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" -في مواضع منها-: (1) كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي، و (54) كتاب الإيمان: باب ما جاء من الأعمال بالنية، و (2529) كتاب العتق. باب الخطأ والنسيان في العتاق والطلاق، و (3898) كتاب مناقب الأنصار. باب هجرة النبي إلى المدينة. وأخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (1907) كتاب الإمارة. باب إنما الأعمال بالنيات. وأبو داود في "السنن" رقم (2201) كتاب الطلاق. باب فيما عني به الطلاق والنيات. والترمذي رقم (1647) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا. والنسائي 1/ 58 كتاب الطهارة. باب النية في الوضوء، و 6/ 158 كتاب الطلاق. باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه، و7/ 13 في الأيمان. باب النية في اليمين. وابن ماجة في "السنن" رقم (4227) كتاب "الزهد". باب النية. وأحمد في "المسند" 1/ 25، 43، والدارقطني في "السنن" 1/ 50،=

وأَنَّثَ الكِنَاية (¬1) في {مِنْهَا}، -وهي (¬2) في المعنى راجعةٌ إلى الثواب-؛ لأن ثوابَ الدنيا، هو: الدنيا، وثوابَ الآخرة، هو: الآخرة. فرجوع الكِنَايَةِ إليها، كرجوعها (¬3) إلى الثواب. ويقول القائل: (اللهم ارزقني الآخرة)؛ وهو يريد: ثوابَها. وقوله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} قيل (¬4): إنَّه تكريرٌ للتأكيد الذي يُوجِبُ تمكين المعنى في النَّفْسِ؛ لأنه قد قال في الآية الأولى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}. وقال محمد بن إسحاق (¬5): فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ أرادَ بِعَملِهِ الآخرةَ، ¬

_ = وابن خزيمة في "الصحيح" 1/ 73 رقم (142، 243)، 1/ 232 رقم (455). وابن حبان في "الصحيح". انظر: "الإحسان" 2/ 113رقم: (388)، (389)، و11/ 210رقم: (4868)، والبيهقي في "السنن" 1/ 41، 298، و2/ 14، و4/ 112، و5/ 39، و7/ 341، والحميدي في مسنده 1/ 17 رقم (28)، وأبو داود الطيالسي 1/ 41 - 42 (37)، وابن المبارك في "الزهد" 62 رقم (188)، وهناد بن السري في "الزهد" 2/ 286 رقم (883)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 346، 4/ 244. وابن الجارود في: "المنتقى" انظر: "غوث المكدود" 1/ 65 رقم (64). وقد وردت معظم روايات الحديث بلفظ: (إنما الأعمال بالنِّيَّة)، ووردت بعض الروايات: (الأعمال بالنية)، وفي رواية: (العمل بالنية)، والرواية التي أوردها المؤلف موافِقَةٌ لِما أورده ابن حبان في: "صحيحه"، ولفظه: "الأعمال بالنيات, ولكل امرئٍ ما نَوَى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". (¬1) أي: الضمير. (¬2) في (ج): (وهو). (¬3) في (ج): (لرجوعهما). (¬4) لم أقف على من قال بهذا القول. (¬5) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 115، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 779.

146

أُعْطِيَ ثوابَها، ولَمْ يُحْرَمْ مِن الدنيا ما يُعطَاه مِنْ عَمَلِ الدنيا (¬1)، مِمَّا قُسِمَ له. 146 - قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ}. اجتمعوا (¬2) على أنَّ معنى (كَأَيِّنْ): كم (¬3)؛ وتأويلها: التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم. والكاف (¬4) في (كَأَيِّنْ) كافُ التَّشْبِيه، دخلت على (أيٍّ)، التي هي الاستفهام-، كما دخلت على (ذا) مِن (كَذَا (¬5)، و (أَنَّ) مِن (كَأَنَّ)، ولا معنى للتشبيه فيه، كما أنه لا معنى للتشبيه في (كَذَا)؛ لأنك تقول: (لي عليه كَذَا وكَذَا)؛ معناه: لي عليه عددٌ مَّا. فلا معنى للتشبيه. إلا أنها زيادةٌ لازمةٌ، لا يجوز حذفُها. ولم يقع للتنوين صورةٌ في الخط، إلا في هذا الحرف خاصَّةً. وكَثُرَ استعمالُ هذه الكلمة، فصارت كَكَلِمَةٍ واحدةٍ، موضوعة ¬

_ (¬1) في "تفسير الطبري" مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا. (¬2) في (ج): (أجمعوا). وكذا ورد في "تفسير الفخر الرازي" 9/ 27 حيث نقل هذا النص عن المؤلف. (¬3) هي (كم) الخبرية التي يُكنى بها عن معدود كثير، ولكنه مجهول الجنس والكمية. و (كأين تشترك مع (كم) -هنا- في إفادة التكثير للمعدود، وهو الغالب من استعمالها، وتستعمل في الأكثر مع (مِنْ)، ولا تأتي استفهامًا إلا في النادر، وهو رأي الجمهور، وأثبت وقوعها استفهامًا: ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك؛ كما أفاد ذلك ابن هشام. ويرى سيبويه أن معنى (كأين) معنى: (رُبَّ). انظر: "كتاب سيبويه" 2/ 170، و"تأويل مشكل القرآن" 519، و"الإيضاح العضدي" 1/ 143، و"المغني" لابن هشام 246، و"النحو الوافي" 4/ 577 - 580. (¬4) من هنا إلى نهاية: (.. لدن غدوة): نقل معناه عن "الحجة"، للفارسي 3/ 80 - 82، مع إضافات أخرى لم أقف على مصادرها. (¬5) (كذا) من كنايات العدد المبهمة التي يكنى بها عن معدود؛ سواء كان كثيرًا أو قليلًا.

للتكثير؛ كقول الشاعر: كأيِّنْ في المَعَاشِرِ مِنْ أُنَاسٍ ... أخُوهُم فوقَهْمْ وهُمُ كِرَامُ (¬1) أي: كَم مِن أُنَاسٍ. وقرأ ابنُ كَثِير (¬2): {وَكَائِنْ} (¬3)، في وزن: (كاعِنْ). ووجه هذه القِرَاءةِ: أن (¬4) (كأيِّنْ) لَمَّا جُعِلَت كلمةً واحدةً، قُلِبت قَلْبَ الكلمة الواحدة؛ كما فُعلَ ذلك، فيما حكاه أحمد بن يحيى (¬5) مِن قولهم: (لَعَمْري)، و (رَعَمْلِي)، فصارت بالقَلْبِ (كَيَّإن). فَحُذِفت (¬6) الياءُ الثانيةُ تخفيفًا؛ كما حُذِفَت مِن (مَيْت) و (هَيْن) و (لَيْن) (¬7)، فصارت: (كَيْإنْ) (¬8) بعد ¬

_ (¬1) للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه، وأخبار أبي تمام، بلفظ (أخوهم منهم) والوساطة للجرجاني ص 329. وقد ورد في: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 476، و"حجة القراءات" 175، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 أ، و"المحرر الوجيز" 3/ 354، و"تفسير القرطبي" 4/ 228، و"البحر المحيط" 3/ 72، و"الدر المصون" 3/ 422. وروايته عند الثعلبي: (وكأين من أناس لم يزالوا ... ................). المَعَاشِر: جماعات الناس. والمَعْشَرُ: كلُّ جماعةٍ أمرُهُم واحد، نحو: مَعْشَر المسلمين، ومَعْشَر المشركين. انظر: "اللسان" 4/ 754 (عشر). (¬2) انظر: "السبعة" 216، و"الحجة" للفارسي 3/ 80، و"الكشف" 1/ 357. (¬3) (أ)، (ب)، (ج): (وكاين). والمُثْبَت هو الموافق للقراءة. (¬4) (أن): ساقطة من (ج). (¬5) هو ثَعْلب. وقوله في: "الحجة"، للفارسي 3/ 81، و"المسائل المشكلة" له 394، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 308. (¬6) من قوله: (فحذفت ..) إلى (.. فصارت كَيْإن): ساقط من (ج). (¬7) الأصل فيها: (مَيِّت، وهَيِّن، ولَيِّن). انظر: "المنصف" 2/ 15. (¬8) في (أ)، (ب): (كَيْأن). والمثبت من: "الحجة" 3/ 81، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 307، و"المحتسب" 1/ 171. ورسِمَت الكلمةُ فيها: (كَيْءٍ).

الحذف، ثم أبْدِلت من الياء الألف؛ كما أبدلت في (طَائِيٍّ) (¬1)، وكما أبدلت في (آيَةٍ) عند سيبويه (¬2)، وكانت (أَيَّةً) (¬3)، وقد حُذِفَت الياءُ مِن (أَيٍّ) في قول الفرزدق: تَنَظَّرْتُ نَضرًا والسِّماكَيْنِ أيْهُمَا (¬4) ... عَلَيَّ مِنَ الغَيثِ اسْتَهَلَّتْ مَواطِرُهْ (¬5) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): (طاي). والمثبت من المصادر السابقة، و"المسائل المشكلة" 394. والأصل في كلمة (طائي): (طَيِّئيّ)، ثم حذفوا الياء المتحركة من الياء المشددة الأولى، فصارت: (طَيْئيّ)، ثم قلبوا الياءَ الساكنةَ ألِفًا، فصارت (طائي). انظر: "الدر المصون" 3/ 423، و"روح المعاني" 4/ 27، ويرى مَكيُّ بن أبي طالب أنَّ أصل (طائي): (طيِّيّ) -بياءين مشددتين-؛ لأنه ينسب إلى (طَيّ)، لكن أبدلوا من الياء الأولى الساكنةِ ألِفًا، فوقعت الياء الثانية بعد ألف زائدة، فأبدلوا منها همزة.). "الكشف"1/ 357. وانظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 23، 307، 2/ 669. (¬2) انظر: "الكتاب" له 4/ 398، و"الحجة" للفارسي 1/ 85، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 23، 2/ 669، و"الكشف" 1/ 357. (¬3) في (ب): (أبيه). (¬4) في (ج): (الهما). (¬5) في (ب): (مواطر). والبيت في: ديوانه: 246. وقد ورد منسوبًا له في: "الحجة" للفارسي 1/ 92، 3/ 81، و"المحتسب"1/ 41، 108، 2/ 152، و"المحرر الوجيز" 3/ 355، و"اللسان" 2/ 1068 (حير). وقد ورد في: "اللسان" (تنظرت نَسْرا ..). وقوله: (نصرا) يعني: نَصْرَ بن سَيَّار، الذي قال القصيدة في مدحه. والسِّمَاكان: نجمان نَيِّران، أحدهما: السماك الرامح، والآخر: السماك الأعزل. و (الرامح) لا نَوْء له، وهو في جهة الشمال. و (الأعزل): من منازل القمر، وهو من كواكب الأنوار، وجهتة الجنوب. انظر: (سمك) في: "التهذيب" 2/ 1759، و"اللسان" 4/ 2099. والشاهد فيه: تخفيفه لـ (أيِّهما)؛ بأن حذف الياءَ الثانِية.

فَلَمَّا أُبْدِلَت الألفُ مِن الياء، صارت: (كَائِنْ)، على وزن: (كاعِنْ). وأكثر ما جاء في الشعر، على هذه اللغة. قال جرير: وكايِنْ في الأَبَاطِحِ مِن صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أُصِيبَ (¬1) هو المُصَابَا (¬2) ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في كل (أ)، (ب)، (ج): (أصيبَ). وهي خلاف ما جاء في كل المصادر التي أوردت البيت. وقد أثْبَتها كذلك؛ لاتفاق النسخ عليها، ولأني وجدت ابن الحاجب أوردها كذلك. انظر: "أمَالِيه" 2/ 662. وجاء في جميع نسخ تفسير (الوسيط) للمؤلف: (لو أصِيب)، ولكن المحقق جعلها (لو أصِبْتُ)، وقال: (في جميع النسخ: (لو أصيب) وما أَثبته هو "الصحيح". "الوسيط" (تحقيق: بالطيور) 346. (¬2) البيت في "ديوانه" 21. وقد ورد منسوبًا له في أكثر المصادر التالية: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 475، و"الإيضاح العضدي"، للفارسي 1/ 143، و"شرح الأبيات المشكلة" له 244، و"الحجة" له 3/ 80، و"حجة القراءات" 174، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 106، و"غرائب التفسير" للكرماني 1/ 272، و"المحرر الوجيز" 3/ 352، و"شرح المفصل" 3/ 110، 4/ 135، و"أمالي ابن الحاجب" 2/ 662، و"تفسير القرطبي" 4/ 228، و"المغني" 643، و"منهج السالك" 4/ 87، و"همع الهوامع" 1/ 68، 256، و"شرح شواهد المغني" 875، و"الدرر اللوامع" 1/ 46، 213، 2/ 92، و"خزانة الأدب" 5/ 397. ورد البيت في جميع المصادر السابقة: (بالأباطح ..). وورد في الديوان وجميع المصادر السابقة -عدا أمالي ابن الحاجب-: (.. يراني لو أصِبْتُ هو المصابا). وأشار في: "خزانة الأدب" 5/ 401 إلى أن الأخفش رواه: (وكم في الأباطح ..)، وليس فيه موضع الشاهد. الأباطح، جمع: أبطح، وهو: مَسِيل واسعٌ فيه دقاق الحصى. ويجمع -كذلك- على: (بِطَاح)، و (بَطَائِح). انظر: "القاموس" ص 213 (بطح). ومعنى (يراني لو أصيبَ هو المصابا) -على الرواية التي أوردها المؤلف-: يراني أننى المصاب فيما أصِيب هو. -والله أعلم-.

وأنْشَدَ المُفَضّل (¬1): وكائِنْ (¬2) تَرَى (¬3) في الحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ ... وغَيْرَان يَدْعُو ويلَهُ مِنْ حِذَارِيَا (¬4) فإنْ وقفت على هذه الكلمة؛ فَلَكَ في الوَقْفِ على قِرَاءةِ ابن كثير، ثلاثة أوجه: أحدها: أنْ تحذف التنوين الدَّاخِلَ الكلمة مع الجرِّ، فيقول (¬5): (كاءْ). فَتُسَكِّنْ (¬6) الهمزةَ المجرورةَ للوقف. الثاني: أن يقول: (كائِي) (¬7)؛ على لغة من يقول: (مَرَرْتُ بِزَيْدِيْ)، في الوقف، فَيُبْدِل (¬8) مِنَ التَّنْوِين الياءَ. ¬

_ (¬1) قوله: (وأنشد ..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. حذاريا): ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 3/ 129 أ. ويبدو أن المؤلف نقله عنه. (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): (وكاين). (¬3) في (ب): (يرى). وفي (ج): (نرى). (¬4) لم أقف على قائله. وقد ورد في المصدر السابق، وأورد شطره الأول الفخرُ الرازي في "تفسيره" 9/ 27. والحِذار: المحاذرة، والتحرز، والتأهب. انظر: "اللسان" 2/ 809 (حذر). (¬5) هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): مهملة من النقط. وقد تكون على تقدير: فيقول الواقف، أو القارئ. (¬6) في (ب): (كائنتسكن). وفي (ج): (كافتسكن). (¬7) (أ)، (ب)، (ج): (كايَ). وما أثبَتُّه من "الحجة"، للفارسي 3/ 82، وهو الصواب؛ لأن الإبدال من التنوين، وليس من الهمز. (¬8) في (ج): (فتبدل).

الوجه الثالث: أنْ تَقِفَ على التنوين، وتترك الحركة (¬1)؛ فتقول: (كَائِنْ) (¬2)؛ وذلك أنَّ التنوين -بالقَلْبِ الذي حدث في هذه الكلمة-، صارت بمنزلة النون التي من نَفْسِ الكلمة [فَتُقِرُّهُ نُونًا في الوَقْفِ] (¬3)، بمنزلة [ما هو من نفس الكلمة؛ كما أنهم جعلوا ما هو من نفس الكلمة] (¬4)، [التنوينَ] (¬5) الزائدَ (¬6)، في قول من قال: (لَدُنْ غُدْوَةً) (¬7). فأما الوقف في القراءة (¬8) الأولى، فتقف على الياء، وتترك التنوين، ولا ¬

_ (¬1) في (ب): أن تترك الحركة، وتقف على التنوين. (¬2) في (ب)، (ج): (كاين). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة أضفتها ليتضح الكلام. انظر: "الحجة" 3/ 82. (¬6) في (ج): (الزائدة). (¬7) لَدُنْ: ظرف زمان ومكان، على حسب إضافتها، وهي مبنية على السكون، وتعني: (عند)، وهي تلازم الإضافة؛ إما إلى الاسم، أو الضمير. ويقال: (لُدْن، ولَدْن، ولَدِن، ولَدُ، ولَدَى). أما (لَدُنْ غُدْوَة)، فقال الأزهري عنها: (وَرَوَى أبو عمرو عن الإمامين: المبرد، وثعلب، قالا: العرب تقول: (لَدُنْ غُدوةً) و (لَدُنْ غُدْوةٌ)، و (لَدُنْ غُدْوَةٍ). قالا: فمن رَفَع؛ أراد: لدن كانت غُدْوةٌ [أي: (كان) -هنا- التَّامَّة. ومَن نَصَب؛ أراد: لدن كان الوقت غُدْوَةً. ومن خفض؛ أراد: مِن عِنْد غُدْوةٍ). "التهذيب" 3/ 2636 (غدا)، وانظر: "شرح المفصل" 2/ 127، و"اللسان" 7/ 4022 (لدن)، و"معجم الشوارد النحوية" 511 - 512. والغُدْوَةُ: البُكْرَةُ ما بين صلاة الفجر، وطلوع الشمس. فإذا كانت مِن يَومٍ بعينه، فهي عَلَمٌ للوقت، غير مَصْروفَةٍ، فلا يدخلها التَنْوِينُ؛ لأنها مَعْرِفَة، أما إذا كانت نَكِرَةً، فإنها تُنَوَّنُ. انظر. "اللسان" 15/ 116. (¬8) في (ب)، (ج): (القراة).

تقف على النون؛ لأنه لم يُقْلَبْ، كما ذكرنا من القَلْبِ في قراءة ابن كثير (¬1). وقوله تعالى: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}. {قُتِلَ}، و {قَاتَلَ} (¬2). فمن قرأ: {قُتِلَ} (¬3)، احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون القَتْلُ مُسْنَدًا إلى {نَبِيٍّ}. [وقوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ}]، (¬4) صِفَة لـ {نَبِيٍّ}. و (الرِّبِّيُّون) -على هذا- مرتَفِعٌ بالظَّرْفِ (¬5). والثاني: أنْ يُسْنَدَ القَتْلُ إلى قوله: {رِبِّيُّونَ}. ويكون معنى قوله: {فَمَا وَهَنُوا} أي: مَا وَهَنَ باقِيهم بَعْدُ، بِمَنْ (¬6) قُتِلَ منهم في سبيل الله. فَحُذِفَ المُضَافُ، وأقُيِمَ المضافُ إليه مقامه؛ والمعنى: ما وَهَنَ مَنْ بَقِيَ ¬

_ (¬1) انظر: الكلام حول (كائن) في: "كتاب سيبويه" 3/ 151، 2/ 170 - 171، و"الحجة" للفارسي 3/ 80 - 82، و"المسائل المشكلة" 393 - 394، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 306 - 308، و"المحتسب" 1/ 170 - 173، و"الكشف" لمكي 1/ 357، 358، و"مشكل إعراب القرآن" له 1/ 175. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع -من السبعة-، ويعقوب: {قُتِلَ}. وقرأ باقي القراء: {قَاتَلَ}. انظر: "السبعة" 217، و"الحجة"، للفارسي 3/ 82، و"النشر" 2/ 242، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 180. (¬3) من قوله: (فمن قرأ ..) إلى (.. وتضمر للمبتدأ خبرا): نقله -بتصرف واختصار- عن "الحجة"، للفارسي 3/ 83 (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬5) ويكون الضمير الذي في {مَعَهُ} يعود لـ {نَبِيٍّ}. ويجوز أن يكون {قُتِلَ} في محل جَرٍّ، صِفَةً لـ {نَبِيٍّ}، و {مَعَهُ رَبِّيُّونَ}. صِفَةً ثانية. أو يكون {مَعَهُ رَبِّيُّونَ} في حالة إسناد القتل إلى {نَبِيٍّ} -: حالًا مِن الضَمِير الذيَ في {قُتِلَ}. انظر: "الحجة" 3/ 83، و"الدر المصون" 3/ 427. (¬6) في "الحجة" بعْدَ مَنْ.

منهم لِقَتْلِ (¬1) مَن قُتِلَ مِنَ الرِّبَيِّينَ، لأن مَنْ قُتِلُوا لا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ (ما وَهَنُوا). وحُجّة هذه القراءة: أنَّ هذا الكلامَ، اقتصاصُ ما جرى عليه سَيْرُ (¬2) أُمَمِ الأنبياء -عليهم السلام- قبلهم؛ لِيَتَأَسَّوا بهم. وقد قال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]. ومَنْ قَرَأَ: {قَاتَلَ}، جاز فيه الوجهان اللذان ذكرنا في {قُتِلَ}، مِن إسناد القِتَالِ إلى {نَّبيٍّ}، أو إلى {الرِّبِّيِّينَ}. وحُجَّةُ هذه القراءة: أنَّ المُراد بهذه الآية مدح الطائفة الذين مع النَّبِيِّ، بالقتال والثَّبَاتِ على ما كان عليه نَبِيُّهُمْ. والقتال أَلْيَقُ بهذا المعنى مِنَ القَتْلِ، فَحَصلَ مِن هذا أنَّ قوله: {وَكَأَيِّنْ}، موضع الكاف الجَارَّةِ مع المجرور، رَفْعٌ بالابتداء، كما أنَّ موضع (لَهُ كَذَا وَكَذَا)، رَفْعٌ. وخَبَرُهُ: {قُتِلَ}؛ إذا أسندت القَتْلَ إلى {نَبِيٍّ}. وإذا لم يُسنَدْ القَتلُ إليه، كان قولُه: {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ}: صِفَةً لـ {نَبِيٍّ}، وتُضمِرُ للمبتدإ خَبَرًا؛ بتقدير: (كَأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ معه رِبِّيُّونَ كثيرٌ قبلكم أو مضى). وما أشبهه من التقدير. وهذا الذي ذكرنا في هذه الآية: قولُ الفَرَّاء (¬3)، والزجَّاج (¬4)، وأبي علي (¬5)، وجميع مَن يُوثَقُ بِعِلْمِهِ في النحو (¬6). ¬

_ (¬1) في (ج): (بقتل). (¬2) في "الحجة"، ضُبِطت: سِيَرُ. (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 237. (¬4) في "معاني القرآن" له / 476. (¬5) في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 83 - 84 (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 117، و"إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 585 - 587،=

وقوله تعالى: {رِبِّيُّونَ}. قال الفَرّاء (¬1): الرِّبِّيُّون: الأُلُوف. وهو قول ابن مسعود (¬2)، والضحاك (¬3)، والكلبي (¬4). وقال الزّجاج (¬5): هم الجماعة الكثيرة. أخبرنا العَرُوضي (¬6)، عن الأزهري، عن المنذري، عن أبي طالب، قال (¬7): الرِّبِّيُّونَ: الجماعات الكثيرة. الواحد: (رِبِّيٌّ). ¬

_ = وكتاب "القطع والائتناف" 236 - 237، و"حجة القراءات" 175 - 176، و"التبيان"، للعكبري ص 212 - 213. (¬1) في "معاني القرآن"، له 1/ 237. (¬2) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 134، و"تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 490، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129ب، و"تفسير البغوي" 2/ 116، و"زاد المسير" 1/ 472، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 146 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) قوله في "تفسير الطبري"4/ 119ونصه عنده: (جموع كثيرة، قتل نبيهم). وفي "تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، ونصه عند: (الرِّبِّيَّة الواحدة: ألف)، وكذا في: "تفسير البغوي" 2/ 116. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 146 ونسب إخراجه إلى سعيد بن منصور، ولفظه: (الرِّبَّة الواحدة: ألف). (¬4) قوله، في: "بحر العلوم" 1/ 306، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 116، ونصه: (الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف) (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 476، وأوره بلفظ: (قيل: .. إنهم الجماعات الكثيرة) واستحسنه. (¬6) هو: أحمد بن محمد، أبو الفضل. تقدمت ترجمته. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1336 - 1337 (ربّ)

وهو قول ابن عباس (¬1)، ومجاهد (¬2)، وقتادة (¬3)، والرَّبِيع (¬4)، والسُّدِّي (¬5). [و] (¬6) قال ابن قتيبة (¬7) وأصله مِن (الرِّبَّةِ)، وهي: الجَمَاعة، يقال (¬8): (رِبِّيّ)؛ كأنه نُسِبَ (¬9) إلى (الرِّبَّةِ) (¬10)، ثم يُجمَع (رِبِّيّ) بالواو (¬11). وقال الأخفش (¬12): الرِّبَيُّونَ: الذين (¬13) يعبدون الرَّبَّ، واحِدُهم: (رِبِّيُّ). ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 117 - 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 146 - 147 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. وفي رواية أخرى عنه فَسرها بـ (علماء كثير). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 117. (¬2) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، و"معاني القرآن"، للنحاس: 490، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"النكت والعيون" 1/ 428، و"زاد المسير" 1/ 472. (¬3) قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 134، و"تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"زاد المسير" 1/ 472. (¬4) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"زاد المسير" 1/ 472. (¬5) قوله، في: المصادر السابقة، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) في "تفسير غريب القرآن" له ص 106. (¬8) في "تفسير الغريب" يقال للجمع. (¬9) في (ج): (ينسب). (¬10) (الربة): مطموس في (ج). (¬11) في "تفسير غريب القرآن" فيُقال: رِبَّيُّون. (¬12) في "معاني القرآن"، له 1/ 217. (¬13) (أ)، (ب): (الذي). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن".

قال أحمد بن يحيى (¬1): ينبغي أن يُفتَحَ [الرَّاءُ] (¬2) على قول الأخفش، فيقال: (رَبِّي) (¬3)؛ لِيَكونَ منسوبًا إلى الرَّبِّ. فقال مَنْ نَصَرَ الأخفشَ (¬4): العرب تنسب الشيءَ إلى الشيء، فتغيِّر حَرَكَتَهُ؛ كما قالوا: (بِصْرِي)، في النسبة إلى البَصْرَةِ. وقوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} جَمَعَ بين الوَهْنِ والضَّعْفِ؛ لأن (الوَهْنَ): انكسارُ الحَدِّ بالخوف (¬5). و (الضَّعْفُ): نُقْصانِ القوة. أي: لم يَهِنْوا بالخوف، ولا ضَعُفُوا بنُقْصان القُوَّة. هذا معنى قول أبي إسحاق (¬6): ما جَبُنُوا عن قِتَال عَدُوِّهم، ¬

_ (¬1) قوله، في: "تهذيب اللغة" 2/ 1336 (ربّ)، و"اللسان" 3/ 1548 - 1549 (ربب). (¬2) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (إلّا). وهي تخل بالمعنى، وأراها تصحيفًا من النساخ. والمثبت من: المصادر السابقة. (¬3) في (أ): رِبِّي -بكسر الراء-. وفي (ب)، (ج): مهمل من النقط. وما أثبَتُّهُ -بفتح الراء- هو الصواب. (¬4) هو الثعلبي، في: "تفسيره" 3/ 129 ب. (¬5) في (ج): (بالحذف). لم أرَ في مصادر اللغة والتفسير التي رجعت إليها، مَن فسَّر (الوَهْن) بهذا المعنى الدقيق، وإنما فَسَّروه جميعًا بـ (الضَّعْف)، وجعلوهما مترادفين، وهما من عطف الشيء على نفسه. ومنهم من قال بأنه الضعف في الخَلْق والخُلُق، ومنهم من فَسَّره بالضعف في العمل والأمر. انظر: "غريب القرآن"، لابن اليزيدي 44، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 106، و"غريب الحديث" للحربي 1056، وانظر مادة (وهن) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3966، و"الصحاح" 2215، و"المقاييس" 6/ 149، و"اللسان" 8/ 4935، و"تخليص الشواهد" لابن هشام 452، و"عمدة الحفاظ" 645. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 476.

وَمَا فَتَرُوا (¬1) وقوله تعالى: {وَمَا اسْتَكَانُوا} الاسْتِكَانَةُ: الخُضُوعُ. وهو أنْ يَسْكنُ لصاحِبِهِ، لِيَفْعَلَ (¬2) بِهِ ما يريد؛ أي: وما خضعوا لِعَدُوِّهم (¬3). قال المفسرون: هذه الآية احتجاجٌ على المنهزِمِينَ يومَ أُحُد، وذلك أنَّ صائِحًا صاحَ: قد قُتِلَ مُحمَد! فاضْطَرَبَ أمرُ المسلمينَ؛ كما ذكرنا القصة في قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144]، الآية. واختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله هذه الآية، يعاتبهم على ما كان مِن فِعْلِهم، وَيحَضُّهم على الجهاد في سبيل الله؛ لِسُلُوك طريقة العلماء مِن صَحَابَةِ الأنبياء، لِيَقْتَدِيَ الخَلَفُ بالسَّلَفِ في الصَّبْرِ، حتى يأتي اللهُ عز وجل ¬

_ (¬1) نص عبارة الزجاج: ({فَمَا وَهَنُوا}: فما فَتَروا، {وَمَا ضَعُفُواْ}: وما جبنوا عن قتال عدوهم). أفهم من عبارة المؤلف -والله أعلم- أن (الوَهْنَ): أقرب إلى أن يكون نقصان القوة المعنوية، ومنها خَوَر العزيمة، ودبيب اليأس إلى النفس، وحُلُول الخوف. وأما (الضعف)؛ فهو: نقصان القوى البدنية، والفشل في المقاومة. ومن الطبيعي أنه إذا عمل الخوفُ عَمَلَه في النفس، خارت العزيمةُ، وضعفت القُوَى البدنيةُ، وقلّ إثرَها اندفاعُ الإنسان، وكُسِرت حدَّتُه، فيتضعضع حينها، ويذل، ويستكين. فالوهْنُ يكون أوَّلًا ثم الضعف، ثم الاستكانة. انظر حول هذا المعنى: "التحرير والتنوير" لابن عاشور 4/ 118، و"تفسير الفخر الرازي" 9/ 28. (¬2) من قوله: (ليفعل ..) إلى نهاية قوله: (.. وقال في موضع آخر: السلطان في اللغة: الحجة): سقط من: (ج) من هذا الموضع من المخطوط، ثم عاد الناسخ وكتبه بعد تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} آية: 152، بحيث تداخل مع تفسير هذه الآية. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 476.

147

بالفتح (¬1). وقال ابنُ الأنباري (¬2) في هذه الآية: أي: وقد كان واجبًا عليكم، أن تُقاتلوا على أَمْرِ نَبِيِّكُمْ لو قُتِلَ؛ كما قَاتَلَ أُمَمُ الأنبياء بعد قَتْلِهِم، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهم. 147 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} قال ابن عباس (¬3): يريد: عند لِقَاء العدو. وهذا بعد أنْ قُتِلَ نَبِيُّهُم. وقوله (¬4) تعالى: {وَإِسْرَافَنَا} الإسْرَافُ -في اللغة-: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ. ومثله: السَّرَفُ (¬5). قال ابن الأعرابي (¬6): هو تَجَاوُزُ ما حُدَّ لك. قال ابن عباس (¬7) -في قوله: {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} -: يريد: في المَعَاصِي. وقوله تعالى: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} قال ابن عباس (¬8): يريد: بالقُوَّةِ مِن عِندك، والنُّصرَةِ. وعلى هذا أكثر المفسرين؛ أَنَّ المراد بهذا: سؤال ¬

_ (¬1) (بالفتح): ساقط من (ج). وانظر: التعليق على تفسير المؤلف لقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} من آية: 144 سورة آل عمران، فقد وردت مصادر هذه الأقوال هناك. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) في (ج): قوله. -بدون واو-. (¬5) انظر: (سرف) في: "مقاييس اللغة" 3/ 153، و"مفردات ألفاظ القرآن" 407، و"بصائر ذوي التمييز" 2/ 105. (¬6) قوله في "تهذيب اللغة" 2/ 1675 (سرف). (¬7) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 120، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 783. (¬8) لم أقف على مصدر قوله.

148

[القوة و] (¬1) المعونة التي تَقَوَّى (¬2) بها قُلُوبُهم على جهاد عدوهم، حتى يقع معها ثُبُوت (¬3) أقدامهم (¬4). وقال (¬5) أبو إسحاق (¬6): معنى {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي: ثَبِّتْنَا على دينك. قال: فإذا (¬7) ثَبَّتَهُمْ على دينهم، ثَبَتُوا في حربهم. واحتج بقوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل: 94]، قال: المعنى: تَزِلَّ عن الدِّينِ. وهذا تعليم لدعاء الاستفتاح والاستنصار على الكُفَّار، وتعريضٌ بالعِتابِ معهم، حين أخبر عن غيرهم من الأمم بهذا. 148 - قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} قال ابن عباس (¬8): يريد: النَّصْر (¬9) والظَّفَر والغنيمة. {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} يعنى: الأجر والمغفرة، وما يَلْقَوْنَه مِنَ النَّعِيم. 149 - قوله تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: اليهود؛ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (ب). (¬2) في (ب): (تقوي). (¬3) في (ب): (ثبات). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 307، و"تفسير الطبري" 4/ 121، و"تفسير الثعلبي" 3/ 130 ب. وهو قول ابن عباس؛ كما في: "زاد المسير" 1/ 473. (¬5) في (ج): (قال). (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 477. (¬7) في (ج): (وإذا). (¬8) لم أقف على مصدر قوله. وهو قول: الحسن، وقتادة، والربيع، وابن جريج، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 122، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 783 - 784. (¬9) في (ب): (بالنصر).

150

في قول ابن عباس (¬1)، والأكثرين. وقال السُّدِّي (¬2): يعني: أبا سفيان، وأصحابه. وقال علي (¬3): يعني: المنافقين؛ في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجِعُوا إلى دِينِ آبائكم. وقوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي: يُرْجعوكم إلى أَوَّلِ أمْرِكم؛ الشركِ بالله (¬4). 150 - وقوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} أي: ناصِرُكُم ومُعِينُكم. والمعني في هذه الآية: يقول: أنا مولاكم؛ فاسْتَغْنُوا عن مُوَالاةِ الكفَّار، وناصِرُكُمْ؛ فلا تَسْتَنْصِرُوهم. 151 - [و] (¬5) قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}. قال المفسرون: هذا وَعْدٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين، بِخذلان أعدائِهم بالرُّعْب (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد عن ابن جريج: أنهم اليهود والنصارى، وممن قال بذلك: الطبري، والثعلبي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 123، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 785، و"تفسير الثعلبي" 3/ 130 ب. (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 123، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 784. (¬3) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 130ب، و"زاد المسير" 1/ 474، و"تفسير القرطبي" 4/ 232. وبه قال مقاتل في "تفسيره" 1/ 306، وأبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 307. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 307، و"زاد المسير" 1/ 474، و"تفسير القرطبي" 4/ 232. (¬5) زيادة من (ب). (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 279.

وقال السُّدِّي (¬1): لَمَّا انصرَفَ أبو سفيان وأصحابه مِن أُحُد إلى مَكَّةَ، هَمُّوا بالرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى اللهُ في قلوبهم الرُّعْبَ، فَمَضوا ولم يرجعوا. و (الإلقاء) (¬2): أصلُهُ في الأعيان؛ كقوله: {وَأَلقَى اَلأَلوَاحَ} [الأعراف: 150]، {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44]، {إِذْ يُلْقُونَ} [آل عمران: 44]. ويُسْتَعْمَلُ في غير الأعيان؛ تَوَسُّعًا؛ كقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، ويقال: ألقَى عليه مَسْئلةً). ومِثْلُ (الإلقاء) -في أنه يُسْتَعْمَلُ في الأعيان حقيقةً، وفي غير الأعيان تَوَسُّعًا-: (القَذْفُ)، و (الرَّجْمُ)، و (الرَّمْيُ)؛ يقال: (رَمَاهُ بالزِّنَا)؛ قال الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] أي: بالزِّنَا. وهذا اتِّسَاعٌ؛ لأن هذا ليس بِعَيْنٍ، وكذلك: (القَذْفُ). قال الشاعر: قَذَفُوا سَيِّدَهُم في وَرْطَةٍ ... قَذْفَكَ المَقْلَةَ وَسْطَ المُعْتَرَكْ (¬3) ¬

_ (¬1) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 124، و"تفسير الثعلبي" 3/ 130 ب، و"زاد المسير" 1/ 474. (¬2) من قوله: (والإلقاء ..) إلى (.. والعنق): نقله -بتصرف واختصار- عن "الحجة" للفارسي 3/ 85 - 88 (¬3) البيت ليزيد بن طُعْمَة الخَطْمِيِّ. وقد ورد منسوبًا له في: كتاب "المعاني الكبير" 1/ 309، و"تهذيب اللغة" 4/ 3430 (مقل)، و"اللسان" 8/ 4813 (ورط)، 7/ 4245 (مقل). وورد غير منسوب في: "مجالس ثعلب" 2/ 542، و"الحجة" للفارسي 3/ 87. وقد ورد في "المعاني الكبير" (قذفوا جارهم في هُوَّةٍ ..). =

فالأوَّل: على الاتِّسَاع، والثاني: على الأصل؛ ألا تَرَى أنَّ المَقلَةَ تُلقَى للتَّصَافُنِ (¬1). وقوله تعالى: {الرُّعْبَ} يُقرأ (¬2) بالتَّثْقِيلِ، والتخفيف (¬3)، وهما لُغَتَانِ، كـ (الطُّنْبِ (¬4) والطُّنُبِ)، و (العُنْقِ والعُنُقِ)، ومثله كثير (¬5). ¬

_ = والوَرْطَةُ: الهَلَكَةُ، أو كلُّ غامض. وأصلها: الأرض التي لا طريق فيها. و (أوْرَطَهُ)، وَ (وَرَّطَهُ): أوقعه فيما لا خلاص له منه. والمَقْلَةُ: هى حصاة القَسْمِ، التي توضع في الإناء، ويصب فيه الماء حتى يغمرها، فيعرف بها قَدْرُ ما يسقى كلُّ واحد؛ وذلك إذا قل الماء، وكانوا في سفر. وفي "مجالس ثعلب": 2/ 542: أنها الحجر الذي يُلقى في البئر، يُقدر به الماء انظر: "اللسان" 8/ 4812 (ورط)، 7/ 4245 (مقل). (¬1) يقال: (تَصَافَنَ القومُ، تَصَافُنًا): إذا اقتسموا الماء بينهم على طريقة إلقاء المَقْلَةِ في الإناء. وذلك عند قلة الماء. كما سبق بيانه في الهامش السابق. انظر: "اللسان" 13/ 249 (صفن). (¬2) في (ج): (يقرى). (¬3) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة: (الرُّعْبَ) مخففة؛ أي: ساكنة العين. وقرأ ابن عامر، والكسائي: (الرُّعُبَ) بالتثقيل؛ أي: مضمومة العين. انظر: كتاب "السبعة" 217، و"الحجة" للفارسي 3/ 85، و"حجة القراءات" لابن زنجلة 176. (¬4) في (أ): كالطِّنْبِ. وهى خطأ، وفي (ب): مهملة من غير شكل. والصواب ما أثبته. الطُّنْب: الحبلَ الذي يُشَدُّ به الخِبَاء والسُّرَادق. أو هو -أيضا-: عِرْق الشجر، وعَصَبُ الجَسَد، وَسَيْرٌ يُوصَلُ بِوَتَرِ القَوْسِ، ثم يدار على مَحزِّهَا الذي تقع فيه حلقة الوَتَر. ويُسمَّى -كذلك-: (الإطنابة). وجمع الطُّنْب: (أطْنَابٌ)، و (طِنَبَةٌ). انظر: (طنب) في "الصحاح" 1/ 172، و"اللسان" 5/ 2708، و"التاج" 2/ 186 - 188. (¬5) انظر: "أدب الكاتب" 536 - 537

والرُّعْبُ، بمعنى: الرَّوْع (¬1). يقال: (رَعَّبْتُهُ (¬2) رَعْبًا، وَرُعْبًا) (¬3) -لغتان-، فهو (مَرْعُوبٌ)، وَ (رَعِيبٌ) (¬4). ويَجوز أنْ يكون (الرَّعْبُ) (¬5) مصدرًا، و (الرُّعْبُ) اسم منه (¬6). وهو: الخوف الذي يحصل [في القلب. ¬

_ (¬1) الرَّوْع: الفزع. يقال: (رُعْتُه، أرُوعُهُ، رَوْعا). انظر: "إصلاح المنطق" 123 (روع). (¬2) هكذا جاءت في أ -بتشديد العين المفتوحة-. وأهملت من الشكل في (ب)، (ج). أكثر مصادر اللغة التي بين يدي، أوردتها: (رَعَبه) -بفتح العين من غير تشديد- والمصدر منها: (رُعْبًا ورُعُبا). أما (رَعَّبه) فمصدرها: (الترعيب). انظر: (رعب) في: "اللسان" 3/ 1667، و"القاموس" ص 90، و"التاج" 2/ 25 - 26. وفي "الجمهرة" لابن دريد: "رُعِبَ الرجل، يُرْعَبُ رُعْبًا، فهو (مرعوب)، و (رَعَبْتُه أنا، أرْعَبُه)، فـ (أنا راعِبٌ له. 1/ 318 (رعب). (¬3) وهكذا ورد ضبطها -بفتح الراء في الأولى، وضمها في الثانية، مع تسكين العين في الحالتين في: "تهذيب اللغة" 2/ 1422، و"المقاييس" 2/ 410، و"المجمل" 1/ 384. وورد ضَبْطُها في أكثر المصادر اللغوية التي بين يدي، كالتالي: (رُعْبًا، ورُعُبًا). انظر: (رعب) في: كتاب "العين" 2/ 130، و"اللسان" 3/ 1667، و"القاموس" ص 90، و"المصباح المنير" 88، و"عمدة الحفاظ" 205، و"التاج" 2/ 25 - 26. وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 232. (¬4) و -كذلك-: (رَعِبٌ). انظر: "عمدة الحفاظ" 205. (¬5) في (أ): (الرَعَب). وفي (ب): (غير مشكولة). وفي (ج): ساقطة. والمثبت من: مصادر اللغة. ولتتناسب مع ما قبلها من قوله: (رَعْبا ورُعْبا). (¬6) انظر: "مقاييس اللغة" 2/ 410. وقال في "تاج العروس" عن الحالة الثانية، وهي: (الرُّعْب، والرُّعُب): (هما لغتان. وقيل: الأصل الضم، ولا سكون تخفيف. وقيل: العكس، والضم إتباع. وقيل: الأول مصدر، والثاني: اسم. وقيل: كلاهما اسم. وقيل: كلاهما مصدر). 1/ 371 (رعب). وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 232، و"تفسير الفخر الرازي" 9/ 33.

(رَعَبْتُ] (¬1) الشيءَ، أَرْعَبُهُ رَعْبًا). و (سَيْلٌ راعِبٌ): يملأ الأوديةَ والأنْهَارَ (¬2). ثم قالوا: (رَعَبْتُهُ فارْتَعَبَ)؛ أي: أفْزَعْتُهُ فَفَزعَ؛ كأنك قلت: ملأتُ قَلْبَهُ فَزَعًا. ومعنى الآية: يملأ قلوبَهُم فَزَعًا. وقوله تعالى: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} (ما) ليست بموصولة؛ لأنها للمصدر؛ أي: بإشراكهم بالله. والباء في {بِاللَّهِ}، مِنْ صِلَةِ معنى الإشراك، لا لَفْظه؛ لأن لفظَ الإشراك لا يقتضي الباء. قال الأزهري (¬3): إنَّمَا دَخَلَتْ البَاءُ في قوله: {لَا تُشرِك بِاَللَّهِ} [لقمان:13]؛ لأن معناه: لا تَعْدِلْ به غَيْرَه، فتجعله شريكًا له، وذلك (¬4) قوله -تعالى-: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}؛ أي: بِمَا عَدَلُوا باللهِ، ومَنْ عَدَلَ بالله شيئًا مِنْ خَلْقِهِ، فهو كافرٌ (¬5). وقوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}. أي: حُجَّةً، وَبَيَانًا. و (السُّلْطَانُ)؛ معناه: الحُجَّةُ، في قول أكثر المفسِّرينَ، وأهلِ اللغة (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من (ج). والمثبت من (ب). (¬2) ويقال: (رعَبَ الحوضَ)، (يَرْعَبُهُ رَعْبا): مَلأه و (رَعَبَ السيلُ الوادي): ملأه. انظر: (رعب) في: "المقاييس" 2/ 410، و"اللسان" 3/ 1667. (¬3) في "تهذيب اللغة"10/ 16 (شرك). نقله عنه بتصرف يسير. (¬4) في "التهذيب" وكذلك. (¬5) في "التهذيب" فهو مشرك. وفي نسخ أخرى منه أشار إليها محقِّقُهُ: فهو كافر مشرك. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 106، و"تأويل المشكل" له 504، و"تفسير الطبري" 7/ 279، و"نزهة القلوب" للسجستاني 276، و"تهذيب اللغة" 2/ 1732 (سلط)، و"المجمل" 2/ 471 (سلط)، و"مفردات ألفاظ القرآن"420 (سلط).

قال الزَّجَّاجُ (¬1): واشتقاق (السُّلْطانِ) مِنَ (السَّلِيط)، وهو: ما يُضَاءُ به (¬2) السِّرَاجُ (¬3). وقيل (¬4) للأمراء: سلاطين؛ لأنهم الذين يُقامُ (¬5) بهم الحُجَجُ، والحُقُوقُ. وقال في موضع آخر (¬6): السُّلْطانُ -في اللغة-: الحُجَّةُ. وإنَّمَا قيل للخليفة والأمير: (سُلْطان)؛ لأن معناه: أنه ذو الحُجَّةِ. والعَرَبُ تُؤنِّثُ (السلطان) وتُذَكِّرُ (¬7)؛ فتقول: (قَضَتْ (¬8) بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطَانُ (¬9))، و (أمَرَتْكَ السُّلْطَانُ)؛ أي: قَضَتْ بِهِ عليك الحُجَّةُ، وَقَضَتْ به عليك حُجَّةُ الوَالِي. ومَنْ قال: (قَضَى به عليك السُّلطانُ)؛ ذَهَبَ إلى معنى: (صاحبُ السُّلطانِ)؛ أي: صاحب الحُجَّةِ. وجائزٌ أنْ يذهب بـ (السُّلطان) إلى معنى: الاحتجاج والبرهان. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 3/ 76 عند تفسير آية 96 من سورة هود. (¬2) السَّلِيطُ -عند عامَّةِ العرب-: الزَّيْتُ، وعند أهل اليمن: دهن السِّمْسِم، وقيل: هو كل دهن عُصِر من حَبِّ. انظر: "اللسان" 4/ 2065 (سلط). (¬3) السراج: ليست في: "معاني القرآن". (¬4) من قوله: (وقيل ..) على (.. الحقوق): في "معاني القرآن" للزجاج 5/ 127 عند تفسير آية 29 من سورة الحاقة. (¬5) في (ج)، و"معاني القرآن": (تقام). (¬6) في "معاني القرآن" له 2/ 123 - 124 عند تفسير آية 144 من سورة النساء. نقله عنه باختصار، وتصرف ببعض عباراته. وانظر: "المذكر والمؤنث" له 74. (¬7) في (ج)، و"معاني القرآن" (وتُذَكِّره). (¬8) في (ج): (قضيت). (¬9) من قوله: (السلطان ..) إلى (.. قضت به عيك): ساقط من (ج).

قال ابن السِّكِّيت (¬1): السُّلْطان: مؤنَّثَةٌ (¬2)؛ يُقَال: (قَضَت (¬3) به عليهم (¬4) السُّلْطانُ)، وقد (آمَنَتْهُ (¬5) السُّلْطَانُ). قال الأزهريُّ (¬6): ورُبمَا ذُكِّرَ (السُّلْطانُ)، لأن لفظه (¬7) مُذَكَّرٌ؛ قال الله تعالى: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (¬8). وقال اللَّيْثُ (¬9): السُّلْطان: القُدْرَةُ. يقال: (جعلت لِفُلانٍ سُلْطانا على كذا). والنُّونُ فيه زيادة؛ لأن أصل بِنَائِهِ (¬10) مِنَ (التَّسْلِيط). وعلى هذا: (سُلْطان المَلِكِ): قُوَّتُهُ وقُدْرَتُهُ. والسُّلْطانُ: البُرْهان، لِقُوَّتِهِ على دفع الباطل. والتَّسْلِيطُ على الشيء: ¬

_ (¬1) في "إصلاح المنطق" 362. نقله عنه بتصرف يسير. (¬2) في (ج): (مؤنث). (¬3) في (ج): (قضيت). (¬4) في "إصلاح المنطق" علينا. وفي بعض النسخ منه أشار إليها محققه: (عليك)، و (عليه). (¬5) في (ج): (أمنه). (¬6) في "تهذيب اللغة" 2/ 1732 (سلط). نقله عنه بنصه. (¬7) في (ج): (لأنه لفظا). (¬8) سورة هود: 96، والمؤمنون: 45، وغافر: 23. وورد في: "تهذيب اللغة" {بِسُلطَانٍ مُبِينٍ}. وهي من سورة إبراهيم: 10، والنمل: 21، والدخان: 19، والذاريات: 38، والطور: 38. انظر حول تذكير وتأنيث (السلطان): "المذكر والمؤنث" للفراء 74، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 381، و"الزاهر" لابن الأنباري 2/ 29 - 30، و"المذكر والمؤنث" لابن التستري 51، 83، و"اللسان" 4/ 2065 (سلط). (¬9) قوله: في "تهذيب اللغة" 2/ 1733 (سلط). نقله عنه بمعناه. (¬10) في (أ): (بنايه)، وفي (ج): (بيانه)، والمثبت من: (ب)، و"التهذيب".

التَّقْوِية عليه. وقال ابن دُرَيد (¬1): سلْطان كلِّ شيء: حِدَّتُه. مِن (¬2) اللِّسَان السَّلِيط الحدِيد. و (السَّلاَطَةُ)، بمعنى: الحِدَّة، قد جَاءَ، ومنه قول الشاعر -يَصِفُ نَصْلًا (¬3) مُحَدَّدَة (¬4) -: سلاَطٌ حِدَادٌ أَرْهَقَتْهَا المَوَاقِعُ (¬5) هذا كلام أهل اللغة في معنى (السلطان) واشتقاقه. قال أهل التفسير: لم [يُنْزل] (¬6) اللهُ حُجَّةً ولا بَيَانًا في عِبَادَةِ غَيْرِهِ، ¬

_ (¬1) في "الجمهرة" 2/ 836 (سلط). قال: (حِدَّته وسطوته). ويبدو أن المؤلف نقله عن الأزهري، نظرا لتوافق عبارة المؤلف مع عبارة التهذيب. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1723 (سلط). (¬2) من قوله: (من ..) إلى (.. أرهقتها المواقع): بنصه في: "تهذيب اللغة" 2/ 1732 (سلط). (¬3) في "التهذيب" نصالا. النَّصْل: الحديدة التي توضع في رأس المهم أو الرمح، أو حديدة السيف ما لم يكن له مقبض. والجمع: أنْصُل، ونِصَال، ونُصُول. انظر: "القاموس" 1062 - 1063 (نصل). (¬4) في (أ)، (ب): (محدودة). والمثبت من: (ج)، و"تهذيب اللغة"، وهو ما استصوبته؛ لأنه يقال: (حَدَّده، فهو مُحدَّد). "التاج" 2/ 332 (حدد). أما (المحدود) -في اللغة-، فهو: المَمْنوع من الخير وغيره، أو كلُّ مَصْروفٍ عن خير أو شر. انظر: (حدد) في: "اللسان" 2/ 799، و"القاموس" ص 276. (¬5) لم أهتد إلى قائله. وقد ورد غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 2/ 1732 (سلط)؛ و"اللسان" 4/ 2065 (سلط). (¬6) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).

152

والإشْرَاكِ به؛ فهم يُشْرِكون بالله الأوثانَ مِنْ غيْرِ حُجَّةً ولا بُرْهان (¬1). وقوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}. أي مرجعهم ومصيرهم. {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} المَثْوَى: المكان الذي (¬2) يُقِيم به؛ مِن قولهم: (ثَوَى، يَثْوِي، ثَوَاءً) (¬3). ويقال للمقتول: (ثَوَى) (¬4)؛ لإقامته حيث قُتِل. وجَمْعُ الـ (مَثْوَى) (¬5): مَثَاوِي (¬6). 152 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} الآية. قال القُرَظِيُّ (¬7): لَمَّا رَجَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابُه إلى المدينة، وقد ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 124، و"بحر العلوم" 1/ 307، و"تفسير القرطبي" 4/ 233. (¬2) (الذي): ساقطة من (ب). (¬3) يقال: (ثَوَى المكانَ)، و (ثَوَى به)، (يَثوي، ثَواءً، وثُوِيًّا). ويقال -كذلك-: (أثْوَى)؛ بمعنى: أقام. و (أثْوَيْتُه، وثَوَّيْته): ألزمته الثَّواءَ فيه. انظر (ثوى) في: "التهذيب" 1/ 510، و"اللسان" 1/ 524، و"التاج" 19/ 262. (¬4) في "التهذيب" 1/ 510 (ثوى)، و"اللسان" 1/ 525 (ثوى): (ويقال للمقتول: قد ثَوَى). (¬5) في (ج): (الثوى). (¬6) انظر: المصادر السابقة، و"القاموس" (1268) (ثوى). (¬7) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 131 أ. وقد نقله المؤلف بنصه عنه، من قوله: (لما رجع ..) إلى (.. ولقد صدقكم الله وعده). وانظر قوله -كذلك- في: "أسباب النزول" للمؤلف (129)، و"زاد المسير" 1/ 475، و"تفسير القرطبي" 4/ 233. والقُرَظي، هو: أبو حمزة، محمد بن كعب بن سليم بن أسد القُرَظي. تقدمت ترجمته.

أصابهم ما أصابهم بِأُحُد، قال ناسٌ مِن أصحابه: مِنْ أين أصابَنَا هذا، وقد وَعَدَنا اللهُ النصرَ؟ [فأنزل اللهُ] (¬1): {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}؟. وقال بعضهم: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَأَى في المنام أنَّه (¬2) يذبح كَبْشًا، فصدَق رُؤياهُ بقتل (¬3) طَلْحَةَ بن عثمان (¬4)، صاحبِ لِوَاءِ المشركين، يوم أُحُد، وقَتْلِ تِسْعَة نَفَرٍ بعده على اللواء (¬5)، فذلك قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}؛ يريد: تصديق رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والصِّدق يتعدى إلى مفعولين؛ تقول: صَدَقْتُهُ الوَعْدَ، والوَعِيدَ (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من: (ب)، (ج)، و"تفسير الثعلبي". (¬2) (أ)، (ب)، (ج): (أن). وما أثبَتُه هو ما استصوبته. (¬3) في (ب): (فقتل). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 125 - 126. وعند الواقدي: هو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة هو: عبد الله بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَي. انظر: "المغازي" 1/ 220. والذي ورد في كتب السِّيَر عن رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه رأى في منامه كأنه في دِرْعٍ حَصِينة، ورأى كأن سيفه ذا الفقار انفصم من عند ظُبَتِه، ورأى بقرا تُذبح، ورأى كأنه مردفٌ كَبْشًا. فأولَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الدرعَ الحصينة بالمدينة، وأما انفصام سيفه من عند ظُبَته: فمصيبة في نفسه؛ بأن يُقتل رجلٌ من أهل بيته، وأما البقر المذبوح: فقتلى في أصحابه، وأما أنه مُرْدف كَبشا: فكبش كتيبة العدو الذي سيقتلونه، أي: حامل لواء المشركين. وفي رواية عن الواقدي: (ورأيت في سيفي فَلًّا فكرهته)، فهو الذي أصاب وجهه الشريف - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "المغازي" 1/ 209، و"سيرة ابن هشام" 3/ 66 - 67، و"طبقات ابن سعد" 2/ 37 - 38، و"تاريخ الطبري" 2/ 502، و"إمتاع الأسماع" للمقريزي 1/ 116. (¬5) انظر: "المغازي" 1/ 226 - 228، و"الطبقات الكبرى" 2/ 40 - 41، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 787. (¬6) وقد يتعدى للثاني بالحرف، تقول: (صَدَقتك في القول).

قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}. قال اللَيْثُ (¬1): الحَسُّ: القَتْلُ الذَرِيع. قال: و {تَحُسُّونَهُمْ}، أي: تقتلونهم قَتْلًا شديدًا كثيرًا. وروى الحَرَّانيُّ (¬2) عن ابن السِّكِّيت (¬3): الحَسُّ: مصدرُ (حَسَسْتُ القومَ، أَحُسُّهُمْ، حَسًّا): إذا قتلتهم. وقال أبو عبيدة (¬4)، والزَّجَّاجُ (¬5)، وابنُ قُتَيْبَة (¬6): الحَسُّ: الاستئصال بالقتل؛ يقال: (جَرَادٌ مَحْسُوسٌ): إذا قَتَلَه البَرْدُ. و (سَنَةٌ حَسُوسٌ): إذا أتَتْ على كلِّ شيء (¬7) ومعنى {تَحُسُّونَهُمْ}: تستأصلونهم قَتْلًا (¬8). وقال أصحاب الاشتقاق: (حَسَّهُ، يَحُسُّهُ): إذا قَتَلَه؛ لأنه أبطل حِسَّهُ بالقتل، وأصابَهُ (¬9)؛ كما يقال: (بَطَنَهُ): إذا أصاب بَطْنَهُ (¬10)، و (رَأَسَهُ): إذا ¬

_ (¬1) قوله في: "تهذيب اللغة" 1/ 816 (حسس). نقله عنه ببعض التصرف. (¬2) هو: أبو شعيب، عبد الله بن الحسن الحَرّاني. تقدمت ترجمته. (¬3) في "تهذيب اللغة" 1/ 816 (حسس). وانظر قول ابن السكيت في "إصلاح المنطق" 26. (¬4) في "مجاز القرآن" 1/ 104. (¬5) في "معاني القرآن" 478. (¬6) في "تفسير غريب القرآن" له 113. (¬7) هذا قول ابن قتيبة المصدر السابق، تصرف فيه المؤلف بالتقديم والتأخير. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 127، "نزهة القلوب"، للسجستاني 155، و"الموضع في تفسير القرآن" للحدادي 39. (¬9) انظر: "مقاييس اللغة" 2/ 9 (حسس)، و"النكت والعيون" 1/ 429، و"تفسير القرطبي" 4/ 235. (¬10) (إذا أصاب بطنه): ساقط من (ج).

أصاب رَأسَهُ (¬1). والتَّحَسُّسُ: طَلَبُ الأخبار بحَاسَّةِ السَمْعِ (¬2). وقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ} أي: بِعِلْمِهِ (¬3) قال المفسرون (¬4): كان المسلمون يوم أُحُد، يقتلون المشركين قتلا ذريعًا حتى وَلَّوْا هاربين، وانكشفوا منهزمين؛ فذلك قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}. ثم أَخَلَّ الرُّمَاةُ (¬5) بالمكان الذي ألزمهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهُ، فَحَمَلَ -حينئذ- خالدُ بنُ الوَلِيد (¬6)، مِن وَرَاء المسلمين، وتَرَاجَعَ المشركون، وقُتِلَ ¬

_ (¬1) يقال: (بَطَنَه)، و (بَطَنَ له)، و (بَطَّنَه): ضرب بَطْنَه. انظر: "القاموس المحيط" ص 1180 (بطن). و (رَأسَه، يرْأسَه، رَأسًا): أصاب رأسه. انظر: "اللسان" 3/ 1533 (رأس). (¬2) انظر: "الزاهر" 1/ 473. (¬3) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 478. وقيل: بأمره وحكمة وقضائه. وهو قول ابن عباس، والطبري، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو الليث. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 127، و"بحر العلوم" 1/ 308، و"زاد المسير" 1/ 476، و"تفسير القرطبي" 4/ 235. وقيل: بلطفه، وقيل: بمعونته، وقيل: بصدق وعده. وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها الماوردي في: "النكت والعيون" 2/ 906. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 2/ 118، و"تفسير الثعلبي" 3/ 131 ب، و"تفسير ابن كثير" 1/ 444. (¬5) في (ب): (أجل الزمان). (¬6) هو: أبو سليمان، خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي. سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (سيف الله)، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وقائد خيلهم، وشهد مع الكفار حروبهم ضد المسلمين إلى عمرة الحديبية، وأسلم سنة سبع بعد خيبر، وقيل: قبلها. وهو من أشهر قادة الجيوشَ عند المسلمين. توفي سنة (21 هـ). انظر: "الاستيعاب" 2/ 11، و"الإصابة" 1/ 413.

مِن المسلمين سبعونَ رجلًا، ثم هُزِمُوا (¬1). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي: جَبنْتُم عن عَدُوِّكم (¬2). قال الليث (¬3): يقال: (فَشِلَ الرَّجُلُ، يَفْشَلُ) - عند الحَرْبِ والشِّدَّةِ: إذا ضَعُفَ، وذهبَتْ قُوَاهُ (¬4). ويقال: (إنه لفَشْلٌ)، و (فَشِلٌ) (¬5). واختلفوا في جواب {حَتَّى إِذَا} (¬6): فقال الفراء (¬7): جوابه: {وَتَنَازَعْتُمْ}، والواو فيه مُقْحَمَةٌ، معناها السقوط؛ كما قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} (¬8)؛ المعنى: نَادَيْنَاه. واحتج بقول الشاعر: حَتَّى إذا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ ... ورَأَيْتُمُ أبْنَاءَكُمْ شَبُّوا ¬

_ (¬1) انظر: أخبار غزوة أحد في: "صحيح البخاري" (4043) كتاب المغازي. باب غزوة أحد، و"سيرة ابن هشام" 3/ 3، و"الطبقات الكبرى" 2/ 36، و"إمتاع الأسماع" 1/ 116 وما بعدها، و"البداية والنهاية" 4/ 10 وما بعدها. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 478، و"تفسير الطبري" 4/ 128، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 786. (¬3) قوله في: "تهذيب اللغة" 3/ 2792 (فشل). نقله عنه بتصرف يسير. (¬4) في (ب)، (ج): (قوته). (¬5) (فشل): ساقطة من (ج). وفي "التهذيب" ويقال: (وإنه لَخَشْلٌ فَشْل، وإنه لَخَشلٌ فَشِلٌ). والفَشِلُ: الرجل الضعيف الجبان، وجمعه: أفشال. يقال: فَشِلَ فَشلا. أما الخَشل والخَشلُ: فهو -هنا-: الرديء من كل شيء. والله أعلم. انظر: "الصحاح" 4/ 1685 (خشل)، و"اللسان" 6/ 3418 (فشل)، 2/ 1167 (خشل). (¬6) (إذا): ساقطة من (ج). (¬7) في "معاني القرآن" له 1/ 238. نقله عنه باختصار، وتصرف. (¬8) سورة الصافات: 103، 104. وبقيتها: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ}. آية: 104.

وقلبتمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا ... إنَّ اللَّئِيمَ العاجِزُ الخَبُّ (¬1) قال: يريد: قَلَبْتُم. هذا مذهب الكوفيين. وعند البصريين: لا يجوز زيادةُ الواو. ويتأولون هذه الآيةَ وأمثالَها، ¬

_ (¬1) البيتان للأسود بن يَعْفُر النهشلي. وهما في "ديوانه" 19. وأورد البكريُّ في "معجم ما استعجم" 2/ 379 البيت الأول ضمن أبيات نسبها للأسود قالها في هجاء بني نَجيح من بني مجاشع بن دارم. وقد أورَدتْهما المصادر التالية، بدون نسبة "معاني القرآن" للفراء 2/ 51، و"تأويل مشكل القرآن" 254، وكتاب "المعاني الكبير" 1/ 533، و"المقتضب" 2/ 81، و"مجالس ثعلب" 1/ 59، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 55، و"تهذيب اللغة" 3/ 3047 (قمل)، 1/ 84 (باب الواوات)، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 646، 647، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 121، و"الإنصاف" للأنباري ص 367، 368، و"شرح المفصل" 8/ 94، و"رصف المباني" 487، و"لسان العرب" 6/ 3742 (قمل)، و"الجنى الداني" 165، و"تذكرة النحاة" 45، و"خزانة الأدب" 11/ 44، 45. ورد في: "شرح القصائد السبع" (وقلبتم بطن المجن). وورد في بعض المصادر: (إن الغَدُورَ الفاحشُ الخب)، وفي بعضها: (إن اللئيم الفاجر)، وفي "سر صناعة الإعراب" (حتى إذا امتلأت بطونكم). قَمِلَت: من (قَمِلَ القومُ): كثروا، و (قَمِل الرجلُ): سَمِنَ بعد هُزَال. ويريد -هنا-: كثرت قبائلكم. والمِجَنُّ: التُّرْس. وقوله: (وقلبتم ظهر المجن): كناية عن إسقاط الحياء والتنكر للمعروف، وإبداء العداوة والخِبُّ -بفتح الخاء وكسرها-: الخدّاع الذي يسعى بين الناس بالفساد. أما بكسر الخاء فقط - (الخِبُّ) -، فهو: الغَدْر. والشاهد فيه عنده: أن الواو في (قلبتم) زائدة، وحقها أن تسقط. و (قلبتم): جواب (إذا).

على حذف الجواب، والتقدير عندهم: (حتى إذا فَشِلْتُمْ، وتَنَازَعْتُم في الأمر، وعَصَيْتُم، امْتُحِنْتُمْ (¬1)؛ بأن نِيلَ منكم، وعُوقِبْتُم بِظَفَرِ أعدائكم بكم)، فحذف الجواب؛ لبيان (¬2) معناه؛ كما حذف في قوله -عز وجل-: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 35]؛ معناه: فافْعَلْ. فأسقط الجواب؛ إذْ أُمِنَ (¬3) اللَّبْسُ (¬4). والآية -عند الفراء- على التقديم والتأخير؛ لأنه يذهب إلى أن الفَشَلَ مُؤَخَّرٌ بعد التَّنازُع؛ والمعنى عنده: (حتى إذا تنازعتم في الأمر وعَصَيْتُم؛ فَشِلتم). فقدم المؤخر وأخر المقدم؛ كقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (¬5). وغيره يقول: الفَشَل في موضعه، غَيْرُ مَنْوِيٍّ به التأخير. والتنازع والعصيان كانا بعد الفَشَلِ (¬6). والتنازع (¬7): الاختلاف. وأصله مِنْ: (نَزَعَ القومُ الشيءَ، بعضُهُم مِن ¬

_ (¬1) في (أ): (امتَحَنْتم) -بالبناء للمعلوم-. وفي: (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والصواب ما أثبتُّه. (¬2) (لبيان): ساقطة من (ج). (¬3) (أ)، (ب): (أمَرَّ). والمثبت من (ج). (¬4) وقد بينَّا مذهبي البصريين، والكوفيين في زيادة الواو من عدمه، مع ذكر طرف من أدلة الفريقين على ذلك. انظر التعليق على تفسير قوله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} آية: 50 من سورة آل عمران. والتعليق على زيادة الواو في قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} آية: 49، والتعليق على زيادة (إذ) في قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} آية: 35. (¬5) سورة آل عمران: 55. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 478، و"تفسير الطبري" 4/ 128 - 129. (¬7) من قوله: (والتنازع ..) إلى (.. من بعض): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 131 ب.

بَعْضٍ). وسنذكر شرحه عند قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء: 59]، إن شاء الله. وكان اختلاف القوم (¬1): أن المشركين لَمَّا انكشفوا؛ قال بعضُ الرُّمَاةِ: ما مُقَامُنا هاهنا، قد انْهَزَمَ القومَ. وقال بعضُهم: لا نُجَاوِزُ أمْرَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقوله تعالى: {وَعَصَيْتُمْ}. أي (¬3): بِتَرْكِ المَرْكَزِ (¬4). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} يعني: الظَّفَرَ والنَّصْرَ والفَتْحَ، حين كان الدَّبْرَةُ (¬5) على المشركين (¬6). وقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني (¬7): الذين تَرَكُوا المَرْكَزَ، وأقْبَلُوا إلى النَّهْبِ. ¬

_ (¬1) (القوم): ساقط من (ج). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (4043) كتاب المغازي. باب غزوة أحد، و"سنن أبي داود" رقم (2662)، و"تفسير النسائي" 1/ 334، و"مسند الطيالسي" 2/ 95 - 96 رقم (761)، و"الطبقات الكبرى" 2/ 41، و"تفسير الطبري" 4/ 128 - 129، و"تاريخه" 2/ 507، و"إمتاع الأسماع" 1/ 127، و"البداية والنهاية" 4/ 26. (¬3) من قوله: (أي ..) إلى (.. تحبون) ساقط من (ج). (¬4) يعني ترك الرماة لموقعهم الذي عينه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم ألّا يبرحوه انظر: "تفسير الطبري" 4/ 128 - 129. (¬5) الدَّبْرَةُ -بفتح الدال-: الهزيمة في القتال. أما الدِّبرة -بكسر الدال-: فهي خلاف القبلة. انظر: "القاموس" ص 390 (دبر). (¬6) وهذا قول عامة المفسرين، منهم: ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسدي، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 128 - 129، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 788. (¬7) من قوله: (يعني ..) إلى (.. بالهزيمة) بنصه في: "تفسير الثعلبي" 3/ 132 أ.

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} يعني: الذين ثَبَتُوا مَعَ عبد الله بن جُبَيْر -وهو أمير الرُّمَاةِ (¬1) - حتى قُتِلُوا. وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} [أي] (¬2): بالهزيمة؛ على معنى: صَرَفَ وجوهَكُم عنهم (¬3). وقال عَطَاء (¬4): يريد: صرف حدكم (¬5) عنهم. وهذا صريح في أن [المعصيةَ مَخْلُوقَةٌ لله] (¬6) عز وجل؛ حيث أضاف انهزامهم وتَوَلِّيهم إلى نفسه؛ فقال: {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}، ولم يقل: (انْصَرَفْتُمْ) (¬7). وقوله تعالى: {لِيَبْتَلِيَكُمْ}. أي: لِيَخْتَبِرَكُمْ بِمَا جَعَلَ عليكم مِنَ الدَّبْرَةِ والهزيمةِ، فَيَتَبَيَّنَ الصابرُ (¬8) مِنَ الجازع، والمُخْلِصُ مِنَ المنافق (¬9). ¬

_ (¬1) وهو أمير الرماة: ليس في "تفسير الثعلبي". وفي (ب): (الرملة). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 129 - 130، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 789، و"المستدرك" 2/ 296 كتاب التفسير. سورة آل عمران. وعبد الله بن جُبَيْر بن النعمان الأوسي الأنصاري. شهد العقبة وبدرًا، واستشهد يوم أحد -رضي الله عنه- انظر: "الاستيعاب" 3/ 14، و"أسد الغابة" 3/ 194. (¬2) ما بين المعقوفين في (أ): (إلى). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"تفسير الثعلبي". (¬3) في (ج): (وههم). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج). ومعناها -والله أعلم-: صرف بأسكم وقوتكم عنهم، لأن (حَدّ الرَّجُلِ): بأسه ونفاذُهُ. في نجدته. يقال: (إنه لذو حَدٍّ). انظر: "اللسان" 2/ 801 (حدد). (¬6) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) انظر تأويل المعتزلة لها في: "تنزيه القرآن عن المطاعن" 82. (¬8) (أ)، (ب): (الصابرين). والمثبت من (ج). (¬9) في (ب): (الشاك).

153

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} أي: ذَنْبَكُمْ (¬1)؛ حيث عصيتم رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحيث (¬2) انهزمتم، فَلَمْ يُؤاخِذْكُمْ بذَنْبِكُمْ. وقال بعضُ المُفَسِّرِينَ (¬3): ولقد عفا عنكم، فَلَمْ يَسْتَأصِلْكُم بعد المعصية والمخالفة، نظيره: {ثُمَ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} (¬4). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس (¬5): يريد: بالمَغْفِرَةِ. 153 - قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} (إذْ) مُتَعَلِّق بـ (عَفَا)؛ يعني: ولقد عَفَا عنكم إذْ تُصْعِدُونَ. و (الإصْعَادُ)، قال الفَرَّاءُ (¬6) والزَّجَّاجُ (¬7): هو الابتداء في كلِّ سَفَرٍ؛ يقال: (أَصْعَدْنَا مِن بَغْدادَ إلى خُرَاسانَ وإلى مَكَّةَ): إذا خرجنا إليها، وأَخَذْنا (¬8) في السَّفَرِ نحوها (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): (دينكم). (¬2) في (ج): (فحيث). (¬3) ممن قال ذلك: مقاتل، والحسن، وابن جريج، وابن إسحاق، والطبري، وأبو الليث، والثعلبي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 131 - 132، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 789 - 790، و"بحر العلوم" 1/ 308، و"تفسير الثعلبي" 3/ 132 أ. والعبارة له. (¬4) سورة البقرة: 52. {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. (¬5) لم أقف على مصدر قوله بهذا النص. وقد أورد ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 477، عنه قولَه: (إذ عفا عنهم جميعًا). (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 239. (¬7) في "معاني القرآن" له 1/ 478 - 479. (¬8) في (ب): (وابتدأنا). (¬9) في (ب): (يوما).

وأَقْرَأَني العَرُوضِيُّ، عن الأزهري، عن المُنْذِري، عن الحَرَّانِيِّ، عن ابن السِّكِّيت، قال (¬1): يقال: (صَعِدَ في الجَبَلِ)، و (أَصْعَدَ في البلاد). وقال الأخفش (¬2): (أَصْعَدَ في البلاد): سار ومَضَى (¬3). أبو عُبَيْد، عن أبي زيد، وأبي عمروٍ: يقال: (أَصْعَدَ الرجلُ في البلاد): حيث تَوَجَّهَ. (¬4) قال الأعشى: ألا أيُّهذا السَّائِلِي أينَ أَصْعَدَتْ ... فإنَّ لَهَا في أهلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا (¬5) ¬

_ (¬1) قوله في "إصلاح المنطق" 256. ونصه: (قد أصْعَد في الأرض إصعادًا، وقد صَعِدَ في الجبل، وعلى الجبل). وأورده الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 2013 (صعد)، والنص له. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 218. (¬3) ونصه عنده: "أصعد"؛ أي: مضى وسار. و (أصعد في الوادي)؛ أي: انحدر فيه. وأما (صَعِد)، فإنه ارتَقَى). وأورده الازهريُّ -كما هو عند المؤلف-. ويبدو أن المؤلف نقله عنه. انظر: "التهذيب" 2/ 2013 (صعد). (¬4) نقله -بنصه- عن "تهذيب اللغة" 2/ 2013 (صعد). (¬5) البيت في: ديوانه: 45. وقد ورد منسوبًا له في المصادر التالية: "السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 412، و"المقتضب" 4/ 259، و"الأضداد" لابن الأنباري 315، و"تفسير الثعلبي" 3/ 132ب، و"تفسير القرطبي" 4/ 239، و"المقاصد النحوية" 3/ 60، 326، و"الدرر اللوامع" 1/ 153، وأورده السيوطي في "همع الهوامع" 3/ 51 ولم ينسبه. وقد ورد البيت في الديوان، وكل المصادر السابقة -ما عدا "الأضداد" وتفسيري الثعلبي، والقرطبي-: (أين يَمَّمَتَ) بدلًا من: (أين أصْعَدَتْ) وليس فيها موضع الشاهد. وورد عند القرطبي: (فإن لها من بطن يثربَ موعدا). والبيت من قصيدة طويلة يمدح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوجه إلى المدينة المنورة؛ لِيُسْلِمَ، إلا أن قريشًا صرفته عن ذلك، فرجع ولم يُسْلِمْ. انظر خبره في: "سيرة ابن هشام" 1/ 411.

وقال ابن قُتَيبة (¬1): {تُصْعِدُونَ}: تُبْعِدُونَ في الهَزِيمَةِ؛ يقال: أَصعَدَ في الأرض: إذا أَمْعَنَ فيها (¬2) في الذَّهَاب (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي: لا تُعَرِّجُونَ ولا تُقِيمون ولا تَلْتَفِتون هَرَبًا. يقال: (مَضَى ولم يَلْوِ على شيءٍ)؛ أي: لم يُعَرِّجْ. وأصله: أنَّ المُعَرِّجَ على الشيء، يَلْوِي إليه عُنُقَهُ، أو عِنَانَ (¬4) دابَّتِهِ. فإذا مضى، ولمْ يُعَرِّج، قيل: (لم يَلْوِ). ثم استُعْمِلَ في تَرْكِ التَّعْرِيج على الشيء. فإن قيل: أليس اللهُ قد أخبَرَ أنَّه عَفَا عنهم -إذْ هُزِمُوا-، فكيف ذلك العَفْو، مع ما ابتلاهم به مِنَ القَتْلِ والجَرْح، وإدَالَةِ العَدُوِّ عليهم؟. قيل: لولا عَفْوُ اللهِ، ما نَجَا منهم أحدٌ (¬5)، ولَصَارُوا في الآخرةِ من الخاسرين؛ حين عَصَوا رسولَهُ في تَرْكِ المَرْكَزِ والهزيمة، وهو يناديهم مِن وَرَائِهم: (إلَيَّ عِبَادَ اللهِ! إلَيَّ عِبَادَ الله!) وهم لا يَلْتَفِتُون إليهِ. وذلك قوله: ¬

_ (¬1) في "تفسير غريب القرآن" له 114، وانظر: "أدب الكاتب" له 278. (¬2) (فيها): ليست في (ج)، ولا في "تفسير غريب القرآن". (¬3) وبقية عبارة ابن قتيبة: (وصعِد الجبل والسطح). قال الطبري: (قالوا: فالهرب في مستوى الأرض، وبطون الأودية والشِّعاب: (إصعاد) لا صعود. قالوا: وإنما يكون (الصُّعُود) على الجبال والسلاليم والدَّرج؛ لأن معنى (الصعود): الارتقاء، والارتفاع على الشيء عُلُوًّا). "تفسيره" 4/ 132 - 133. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 105، و"الأضداد" لابن الأنباري 315. ونقل الثعلبي عن المفضل، أن: (صَعِد، وأصْعَدَ، وصَعَدَ، بمعنى واحد). "تفسير الثعلبي" 2/ 132 ب. وكذا فسر ابنُ اليزيدي (الإصعاد) بالصعود على الجبل. انظر: "غريب القرآن" لابن اليزيدي 44. (¬4) (أ)، (ب): (عيْنان). والمُثبت من (ج). (¬5) في (ج): (أحدا).

{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}. قال ابن عباس (¬1): يريد: مِن خَلْفِكُم. يقال (¬2): (جاءَ فلانٌ في آخِرِ النَّاسِ)، و (آخِرَةِ (¬3) النَّاس)، و (أُخْرَى الناس)، و (أُخْرَاة الناس) (¬4). وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ} الإثَابَةُ: أكثر ما تُسْتَعمل (¬5) في الخير، ويجوز استعمالُه في الشَّرِّ، لأن أصله: ما يَرْجِعُ مِنَ الجَزَاء على الفِعْل، طاعةً كان أو معصيةً، ولكنه كَثُرَ في جَزَاء الطاعة (¬6)، كما تقول في (الطَّرَب)، فإنَّ أصْلَهُ: خِفَّةٌ تأخذ الإنسانَ، مِنْ فَرَحٍ أو حُزْنٍ (¬7)، كما قال (¬8): ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله بهذا النص. والذي في "تفسير الطبري" 4/ 133من قوله -في تفسيرها-: (إليَّ عبادَ الله!) وقد يفهم من هذا القول أنه يناديهم مِن خَلْفهم، وهو ما فهمه الطبريُّ، حيث فسرها بذلك، ثم أورد قول ابن عباس -السابق- دليلًا على ذلك. انظر: "تفسيره" 4/ 133. (¬2) من قوله: (يقال ..) إلى (.. وأخراة الناس): بنصه في: "تفسير الثعلبي" 3/ 133 أ. وأورده القرطبي في "تفسيره" 4/ 240. وعندهما زيادة: (.. وأخرَيَات الناس). (¬3) في (ج): (احرة). وفي "تفسير الثعلبي" (أَخَرَةِ) وعند القرطبي: (أُخْرَةِ). وما ورد في (أ)، (ب) مِمّا أثبَتُّه، قد ورد في مصادر اللغة. يقال: (جاء أَخَرَة، وبأخَرَةٍ، وَأُخَرَةً، وبأخَرَةٍ)؛ أي: جاء آخر كل شيء. ويقال: (جاء أُخُرًا، وبآخِرَةٍ)، ويقال: (وآخِرَةِ السَّرْج، أو الرَّحل). انظر: (أخر) في: "اللسان" 1/ 39، و"التاج" 6/ 17. (¬4) (وأخرى الناس وأخراة الناس): ساقط من (ج). وقوله: (وأخراة الناس) ليس في "تفسير القرطبي". و (أخراة) مثل (أخرى)؛ مؤنث (الآخر). انظر: "التاج" 6/ 17 (أخر). (¬5) في (ج): (يستعمل). (¬6) انظر: (ثوب) في: "تهذيب اللغة" 1/ 465، و"اللسان" 1/ 519. (¬7) انظر: (طرب) في: "التهذيب" 3/ 2174، و"اللسان" 5/ 2649. (¬8) في (ب): (يقال).

طَرَبَ الوَالِهِ أوْ كالمُخْتَبَلْ (¬1) إلا أنَّه كَثُرَ استعمالُهُ في خِفَّةِ الفَرَحِ، وَنَشَاطِ السُّرُورِ (¬2). وقال أصحابُ المعاني (¬3): معنى قوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}؛ أي: جَعَلَ مكانَ مَا تَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ، الغَمَّ؛ كما تقول: (تَحِيَّتُكَ الضَّرْبُ)، و (عِتَابُكَ السَّيْفُ) (¬4)؛ أي: تجعل هذا مكانَ ذاك. قال عَمْرو بن مَعْد يكَرِب (¬5): وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنهمْ ضرْبٌ وَجِيعُ (¬6) ¬

_ (¬1) شطر بيت للنابغة الجعدي. وصدره: وَأرَانِي طَرِبًا في إثْرِهِمْ وقد ورد في: شعره: 93. وورد منسوبًا له في: "أدب الكاتب" 18، و"تهذيب اللغة" 3/ 2174 (طرب)، و"الاقتضاب" 3/ 14، و"اللسان" 5/ 2649 (طرب). وروايته في شعره: (فأراني ..). (الوالهُ): الذي ذهب عقله، أو قارب الذهاب؛ لفقد حبيبه، أو ولده، وهو (الثاكل). و (المُختَبَل): الذي خَبَلَهُ الحُزْنُ فَجَنَّنَهُ وأفقده عقله، أو هو الذي قُطِع عضوٌ من أعضائه. وهذا التفسير الثاني، قال في: "الاقتضاب" إنه (أجود في هذا الموضع؛ ليختلف المعنيان). انظر: "الاقتضاب" 4/ 134، و"القاموس" 972 (ثكل)، 990 (خبل). (¬2) انظر: (مادة: طرب) في المصادر السابقة (¬3) انظر: "تفسيرِ الطبري" 4/ 134، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 497، و"بحر العلوم" 1/ 308، و"تفسير الثعلبي" 3/ 133 ب. (¬4) وهذا من كلام العرب السائر. كما يقول أبو زيد في: النوادر: 149. (¬5) أبو ثور الزُّبَيْديَ، تقدم. (¬6) ورد البيت في: شعره 149. وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" 3/ 50، و"النوادر" لأبي زيد 150، و"العمدة" لابن رشيق 2/ 1056، و"الممتع في صنعة الشعر" 159. =

أي: جَعَلُوا الضربَ الوجِيعَ، مَكَانَ التَّحِيَّةَ بين القَوْمِ. وقال الفَرّاء (¬1): الإثابة -ههنا- في معنى: (عِقَاب)، ولكنه كما قال الشاعر: أَخَافُ زِيَادًا أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ (¬2) ... أدَاهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً فُتْلا (¬3) ¬

_ = وأوردته المصادر التالية غير منسوب: "كتاب سيبويه" 2/ 232، و"المقتضب" 2/ 20، 4/ 413، و"الخصائص" 1/ 368، و"مفردات ألفاظ القرآن" 126، 835، و"المحرر الوجيز" 3/ 375، و"شرح المفصل" 2/ 80، و"التصريح" 1/ 353، و"خزانة الأدب" 9/ 257، 263؛ حيث ذكر نسبته للشاعر ولم يجزم بذلك. أراد الشاعرُ بـ (الخيل) الأولى: خيل الأعداء، وبالثانية: خيلَه. والخيل -هنا-، يعني بها: الفُرسان. و (دَلَفْتُ): دَنَوْتُ وزَخفْتُ؛ يقال: (دَلَفَ الشيخ): إذا مَشى مَشْيًا لَيِّنًا. انظر: "خزانة الأدب" 9/ 264. (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 239. نقله بنصه إلى نهاية بيت الشعر (فتلا). (¬2) (أ)، (ب): (عطآه). والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت. (¬3) في (ج): (قتلا). البيت، للفرزدق، وهو في: ديوانه: 169. وقد ورد منسوبًا له في. "طبقات فحول الشعراء" 2/ 304، و"تاريخ الطبري" 5/ 247، و"الصحاح" 1/ 305 (حدرج)، و"اللسان" 2/ 804 (حدرج). وورد غير منسوب في: "معاني القرآن"، للفراء 1/ 239، و"تفسير الطبري" 4/ 134، و"تفسير الثعلبي" 3/ 133 أ، و"المدخل" للحدادي 357، و"المحرر الوجيز" 3/ 376، و"زاد المسير" 1/ 478، و"البحر المحيط" 3/ 83. ورواية البيت في الديوان، و"تاريخ الطبري": فلمَّا خشِيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سُمْرا وفي "طبقات فحول الشعراء" (فلما خشينا ..). وورد في كل المصادر -ما عدا "تفسير الثعلبي"-: (سُمْرا) بدلا من: (فُتلا) التي لا تستقيم مع قافية القصيدة الرائية. واتفقت رواية المؤلف للبيت مع الثعلبي، مما يدل على أن المؤلف أخذ البِيت عنه.=

يعني بـ (السُّودِ): القيود (¬1)، وبـ (المحَدْرَجَة): السِّيَاط. وأرادَ: أخافُ أنْ يَجْعَلَ (¬2) مَكانَ عَطائِهِ، القُيُودَ والسِّيَاطَ. قال (¬3): وقد يقول الرَّجُلُ [لـ] (¬4) الذي اجترم (¬5) إليه (¬6): [(لَئِنْ] (¬7) أتَيتَنِي (¬8)؛ لأُثِيبنَّك ثَوَابَكَ)، معناه: لأعاقبنَّكَ. وهذا راجعٌ إلى ما ذكرنا مِن قَوْلِ أصحابِ المعاني. وقوله تعالى: {غَمًّا بِغَمٍّ} أي: أثَابَكم غَمًّا، وهو: الهَزِيمَة، وظَفَر ¬

_ = (الأداهم): جمع: (أدْهَم)، وهو: الأسْوَد. وتُطلَقُ (الأداهمُ) على القيِود -وهي المرادة -هنا- في البيت-، وسميت بذلك؛ لِسَوَادها. و (المُحَدْرَجة): السِّياط، وأصل المُحَدْرَج: المفتول، والأملس. ويقال -كذلك-: (الحُدرُج)، و (الحُدرُوج). انظر: "اللسان" 4/ 1443 (دهم)، 2/ 804 (حدرج). والبيت ضمن قصيدة طويلة قالها الشاعر في زِيَاد بن أبِيهِ، وكان قد تَوَعَّد الفرزدقَ، ثم أظهر عفوَهُ عنه، وأنه سيُؤَمِّنه وَيمُنُّ عليه، فلم يثق الشاعرُ في أمانه، وقال القصيدة في ذلك. (¬1) في (ج): (القيود والسياط). (¬2) في (ج): (تجعل). (¬3) الفراء في: "معاني القرآن" 1/ 239. نقله عنه بنصه. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة لازمة لتستقيم العبارة. (¬5) في (ج): (احترم). اجْتَرَمَ، بمعنى: (جَرَم، وأجرم): تَعَدَّى، وارتكب جُرْما؛ أي: ذنبًا. يقال: (جرم إليهم، وعليهم جريمة)، و (فلان يَتَجَرَّم علينا)؛ أي: يَتَجَنَّى علينا ما لم نجْنِه. انظر: "اللسان" 1/ 604 (جرم). (¬6) في "معاني القرآن" عليك. (¬7) ما بين المعقوفين في (أ)، (ج): (أي). وساقط من (ب). والمثبت من "معاني القرآن". (¬8) في (أ): (أثييني)، وفي (ب): (أيثبتني)، وفي (ج): مهملة من النقط. والمثبت من "معاني القرآن".

المشركين بكم. {بِغَمٍّ}، يعني: بِغَمِّكمْ رَسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذْ عَصَيْتموهُ وَضَيَّعتم أمرَهُ. فالغَمُّ الأوّل لهم، والغَمُّ الثاني للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول، اختيار الزجاج (¬1). وقال الحسن (¬2): غَمّ يومِ أحُد للمسلمين، بغَمِّ يومِ بَدْرٍ للمشركين (¬3). وقيل: الغَمُّ الأَوَّل: ما أصابهم مِنَ الهزيمة والقتل. والغَم الثاني: إشْرافُ خالد بن الوَلِيد عليهم، في خَيْلِهِ، فَرَعَبَهم ذلك، وزَادَ مِنْ قَلَقِهم. وهذا قول أكثر المفسرين (¬4)، واختيار الفراء (¬5). وقيل: الغَمّ الأوَّل: ما أصابهم مِنَ القتل والجرح. والغَمّ الثاني: ما سَمِعوا أنَّ مُحَمَّدًا قد قُتِلَ. وهذا قول: قَتَادة (¬6)، والرَّبِيع (¬7)، وابنِ عبَّاس -في رواية عطاء- (¬8) فإنَّه قال في قوله: {غَمَّا بِغَمٍّ}؛ يريد: الهزيمة، وحيث قال ابنُ قَمِيئَةُ (¬9): قد قتلتُ محمدا. ¬

_ (¬1) في "معانى القرآن" له 1/ 479. (¬2) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 133 أ، و"النكت والعيون" 1/ 430، و"زاد المسير" 1/ 479، و"تفسير القرطبي" 4/ 240. (¬3) وأخرج عنه ابن أبي حاتم قولَه في تفسيرها: (قال غَمَّا -والله- شديد، على غَمٍّ شديد، ما منهم إنسان إلا وقد همته نفسه). "تفسيره" 3/ 791. (¬4) ممن قال ذلك: ابن عباس. انظر: "زاد المسير" 1/ 478، ومقاتل. انظر: "تفسيره" 1/ 307. ولم أقف على غيرهما قال به. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 240. (¬6) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 135، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 791، و"زاد المسير" 1/ 478، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 154، وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. (¬7) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 135. (¬8) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬9) في (ج): (قتيبة). =

والباء في قوله: {بِغَمٍّ} -في القولين المتأخرين-؛ بمعنى: [(مع)] (¬1) أو بمعنى: (عَلَى)؛ كما يقال (¬2): (نزلتُ بِبَنِي (¬3) فلان)، و (على بَنِي فلان)، و (ما زِلْتُ به حتى فَعَلَ)، و (ما زِلْتُ معه حتى فَعَل) (¬4). قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}. اختلفوا (¬5) في اللّام في قوله: {لِكَيْلَا}: فقال بعضَ النحويِّين (¬6): إنها مُتَّصِلَة بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [كأنه قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}] (¬7)، {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا ¬

_ = ابن قَمِيئة: اسمه عمرو، وقيل: عبد الله. وهو الذي قَتَلَ مُصْعَب ابن عُمَيْر (وكان يَظُنُّه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان بِيَدِ مُصْعب اللِّواء. انظر: "المغازي" 1/ 244 - 246، و"تاريخ الطبري" 2/ 516، و"إمتاع الأسماع" 1/ 129، 130، 131. (¬1) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج). (¬2) في (ب): (قال). (¬3) في (ج): (بني). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 812، و"تفسير الطبري" 4/ 134، و"رصف المباني" 222، و"الجنى الداني" 40، 42. و (الباء) في القول -وهو قول الحسن-: للسببية؛ أي: فأثابكم غمًّا؛ بسبب الغم الذي حلَّ بالكفار -على أيديكم- يوم بدر. وابن عطية يسمي هذه الباء: (باء معادلة). انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 376، و"البحر المحيط" 3/ 84، و"الدر المصون" 3/ 442. (¬5) في (ب): (واختلفوا). (¬6) لم أهتد إليهم. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

فَاتَكُمْ}، [لأن] (¬1) في (¬2) عَفوِهِ -جلَّ وعَزَّ-، ما يُذْهِبُ كُلَّ غَمٍّ وَحُزْنٍ (¬3). وقال آخرون: إنها مُتَّصِلَةٌ بقوله: {فَأَثَابَكُمْ}. ثُمْ اختلفوا: فَقَالَ [أبو إسحاق] (¬4): المعنى: أثابكم غَمَّ الهزيمة، بِغَمِّكُمْ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - بِمُخَالَفتِهِ (¬5)، ليكون غَمُّكُمْ، بأن خالفتموه فقط، لا على ما فاتكم مِنْ غَنِيمة، ولا ما أصابكم من هزيمة وجِرَاحٍ؛ وذلك أنَّ غَمَّ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، يُنْسيهم غَمَّ فَوْتِ الغَنِيمَةِ. وقال غيره: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَتَأَسَّفُونَ على ما فاتهم مِنْ غَنائم المشركين، وعلى ما حَلَّ بهم مِنَ القَتْلِ والجراح، فأنزلَ اللهُ بقلوبهم غَمَّ قَتْلِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ أزال ذلك الغم عنهم؛ لِيَفرحوا ببقائه، ولا يحزنوا مع بقائه على شَيءٍ (¬6) فَاتَهُمْ (¬7). وقولُ أبي إسحاق ألْيَقُ بَظَاهِرِ الآية؛ لأنه ليس في الآية ذِكْرُ إزَالَةِ غَمِّ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، وساقط من (ب)، والمثبت من (ج). (¬2) في (ب): (من). (¬3) وقد استحسن هذا الوجه: القرطبي، واستبعده أبو حيان، والسمين الحلبي؛ وذلك لطول الفصل، ولأنه -في الظاهر- يتعلق بمجاوره، وهو: {فَأَثَابَكُمْ}. انظر: "تفسير القرطبي" 4/ 241، و"البحر المحيط" 3/ 85، و"الدر المصون" 3/ 443. (¬4) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج). وقول أبي إسحاق في "معاني القرآن" له 1/ 479. نقله عنه بمعناه. (¬5) في (ج): (مخالفة). (¬6) في (ج): (ما) بدلا من (شيء). (¬7) لم أقف على من قال هذا القول بتمامه، إلا أن بعضه، وهو: أن الغم الأول: ما أصابهم من قتل وجراح، والغم الثاني: سماعهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد سبق وروده عند تفسير قوله تعالى: {غَمًّا بِغَمٍّ} آية: 153.

154

قتلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إلّا بأنْ (¬1) يُقال: إنَّ ذلك الغَمَّ، لَمْ يتحققْ؛ لأنَّهُ لَم يَصْدُقْ نعْيُ الرسول. وحُكي عن المُفَضَّلِ (¬2) أنه كان يَجْعَلُ (لا) -في هذه الآية- صِلَةً (¬3)، ويقول: المعنى: لِكَيْ تَحْزَنُوا على ما فاتكم وما أصابكم؛ عُقُوبَةً لكم في خِلافِكُمْ إيَّاهُ؛ كقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} (¬4) [الحديد: 29]. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. تذكيرٌ؛ للتَّحْذِير (¬5). 154 - قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} الآية. قال المُفسِّرون (¬6): إنَّ المشركين لَمَّا انصرفوا يوم أُحُد، كانوا يتوَعَّدُون المسلمينَ بالرجوع، ولم يَأمَن المسلمون (¬7) كَرَّتَهم، وكانوا تحت الحَجَفِ (¬8)؛ مُتَأَهِّبِينَ للقتال، فأنزَل اللهُ -تعالى-[عليهم] (¬9) -دونَ المنافقين- أمَنَةً؛ فأخذهم النُّعَاسُ. ¬

_ (¬1) في (ج): (أن). (¬2) حكى قولَ المُفضَّل: الثعلبيُّ في "تفسيره" 3/ 133 ب، والقرطبى في "تفسيره" 4/ 241. (¬3) بمعنى: (زيادة). (¬4) انظر: "تفسير البيضاوي" 2/ 250، و"تفسير النسفي" 4/ 221. (¬5) في (أ)، (ب): (التحذير)، والمثبت من (ج). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 140، 141، و"النكت والعيون" 1/ 430. (¬7) في (ج): (المسلمين). (¬8) (الحَجَفُ)، جمعٌ، ومفردُها: (حَجَفَةٌ)، وهي: التُّرُوسُ الصغيرة، والمُتَّخَذَةُ من الجلود، وليس فيها خَشب، يُطَارَقُ بين جِلْدين، ويُجعل منها حَجَفة. انظر: (حجف) في: "المجمل" 1/ 265، و"القاموس" (798)، و"المعجم الوسيط" 1/ 108. (¬9) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

قال ابن عباس (¬1): آمَنَهُم (¬2) -يومئذ- بِنُعَاس يَغْشاهم بعد خوف، وإنَّمَا يَنْعُسُ مَنْ يَأمَنُ، والخائف لا ينام. قال أبو طَلْحَة (¬3): رَفَعْتُ رَاسِي يوم أُحُد، فَجَعَلْتُ (¬4) ما (¬5) أرى أحَدًا مِنَ القوم، إلّا وَهُوَ يَمِيد تحت حَجَفَتِهِ؛ مِنَ النُّعَاس. قال (¬6): وكنت مِمَّن ¬

_ (¬1) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 140، و"تفسير الثعلبي" 3/ 134 أ. (¬2) عند الطبري: أمَّنهم. وعند الثعلبي: أمَنَهم. (¬3) أخرج قوله: ابن أبي شيبة في: "المصنف" 7/ 372 رقم (36780). والترمذي في: "السنن" رقم (2007) كتاب التفسير. باب سورة آل عمران. وقال: (حسن صحيح). والطبري في: "تفسيره" 4/ 140، والحاكم في "المستدرك" 2/ 297. وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبيُّ. والطبراني في: "المعجم الكبير" 5/ 98 رقم (4707)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" 487 رقم (421)، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 134 أ، والبغوي في "تفسيره" 2/ 121. وأبو طلحة، هو: زيد بن سهل بن الأسود، النَجَّاري الأنصاري. من فضلاء الصحابة، اشتهر بكُنْيَتِه، شهد العَقَبة، وبدرا، وأحدًا، وهو زوج أم سُلَيم بنت مِلْحان، أم أنس بن مالك، -رضي الله عنهم-، اختلف في تاريخ وفاته على السنوات التالية: (32، 33، 34، هـ)، وقيل: (51 هـ). انظر: "أسد الغابة" 2/ 289، و"الإصابة" 4/ 113. (¬4) (فجعلت): ساقطة من (ج). (¬5) في (ج): (فما). (¬6) أخرج قوله هذا: البخاري في: "صحيحه" (4068) كتاب المغازي. باب (ثم أنزل عليكم ..)، كتاب التفسير. سورة آل عمران. باب قوله: أمنة نعاسا .. والنسائي في "تفسيره" 1/ 337،516، والترمذي في "السنن" رقم (3008) كتاب التفسير. باب: (سورة آل عمران). وأحمد في "المسند" 4/ 29، والطبراني في "المعجم الكبير" 5/ 96 رقم (4700)، والطبري في "تفسيره" 4/ 141، وابن أبي حاتم 3/ 793، والثعلبي 3/ 134 أ، والبغوي 2/ 121.

أُلْقيَ عليه النُّعَاس -يومئذٍ -، فكان السَّيْفُ سقُطُ مِن يدِي فَآخُذُهُ، ثم يَسْقُطُ السَّوْطُ من يدي فَآخُذُه. وقال أبو إسحاق (¬1) -في قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}: أي: أعْقَبَكم- بما نالكم (¬2) مِنَ الرُّعْب-؛ أنْ آمَنَكم (¬3) أمْنًا تنامون معه؛ لأنَّ الشَّدِيدَ الخوفِ لا يكاد يَنَام. والأَمَنَةُ: مصدرٌ، كـ (الأمْنِ). ومثله من المصادر: (العَظَمَةُ)، و (الغَلَبَةُ). وقال اللِّحْيانيُّ (¬4): يُقال: (أَمِنَ فلانٌ، يَأمَنُ، أَمْنًا، وأَمَنَةً، وأَمْنَةً (¬5)، ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن"، له 1/ 479. نقله عنه بنصه. (¬2) في (ج): (أنالكم). (¬3) في "معاني القرآن" (أمنَكم). (¬4) قوله، في "تهذيب اللغة" 1/ 209 (أمن). (¬5) (وأمْنَةً): ساقطة من (ج). وليست في "تهذيب اللغة". ويبدو أنَّ إثبات هذه الكلمة، سبق قلم من الناسخ؛ حيث أبدلها بـ (أمَنًا) التي وردت في قول اللحياني في (التهذيب)، ولم يذكرها المؤلفُ هنا، ولم أقف في مصادر اللغة التي رجعت إليها، على مجيء (أمْنةً) مصدرًا لـ (أمِنَ)، إلا أنها وردت في قراءة ابن محيصن، ورُويت عن يحيى، وإبراهيم من القُرَّاء. وقال ابن جِنِّي: (روينا عن قطرب أنه قال: (الأمْنَةُ): الأمْنُ. و (الأمَنَة) -بفتح الميم-، أشبه بمعاقبة الأمْن). "المحتسب" 1/ 174. وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 241، و"فتح القدير" 1/ 589، و"القراءات الشاذة" لعبد الفتاح القاضي: 30. وورد من مصادرها: (.. إمْنًا) -بالكسر-. انظر: "القاموس" 1176. وفي "اللسان" "ما أحسن أمَنَتَك، وإمْنَتَك"؛ أي: دينك وخلقك. 1/ 141 (أمن). و (أَمَنَةً) -إضافةً إلى مجيئها مصدرًا- فإنها تأتي صفة، بمعنى: الذي يثق بكلِّ أحد، أما (الأُمَنَة) -بضم الهمزة، وفتح الميم والنون-، فإنها صفهَ فقط، كـ (الأمَنَة)، ولا تأتي مصدرًا.

وأمَانًا). والنعاس: بَدَلٌ مِنَ (الأمَنَة) (¬1). وقوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} قُرِئ بالياء والتَّاءِ (¬2). فَمَن قرأ بالياء؛ فلأن النُّعَاسَ هو الغاشي، والعرب تقول: (غَشِيَنِي النُّعاسُ)، وقلّما تقول: (غَشِيَني الأمْنُ). و-أيضًا- فإنَّ النعاسَ مذكورٌ بالغِشْيَانِ في قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11] ولأن النعاسَ يَلِي الفِعْلَ، وهو أقرب في اللفظ إلى ذِكْرِ الغِشْيانِ مِنَ الأمَنَة. فالتذكير أولى. ومن قرأ بالتَّاءِ: جعل الأمَنَةَ هي الغاشِيَةَ. والأَمَنَةُ والنُّعاسُ، أحدهما بَدَلٌ عن الثاني، فيجوز وَيحْسُن رَدُّ الكِنَايَةِ (¬3) إلى أيِّهما شئت؛ كقوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي} [الدخان:43 - 45]، وَ {وتَغْلِي} (¬4). ¬

_ = انظر (أمن) في: "الصحاح" 5/ 2071، و"اللسان" 1/ 140، و"التاج" 18/ 23 وما بعدها. (¬1) وهو بدل اشتمال، ويكون بدلًا في حالة إعراب {أَمَنَةً} مفعولًا به لـ {أَنزَلَ}. وقيل: هو عطف بيان، ويجوز أن يكون {نُّعَاسًا} مفعولًا، و {أَمَنَةً} حال منه. وقيل غير ذلك. انظر: "معاني القرآن"، للزجاج 1/ 478، و"البيان" للأنباري 1/ 226، و"التبيان" للعكبري (215)، و"الدر المصون" 3/ 444، و"فتح القدير" 1/ 589. (¬2) قرأ ابنُ كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر {يَغْشَى} -بالياء-. وقرأ حمزة، والكسائي {وَتَغشَى} بالتاء. انظر: "القراءات" للأزهري 1/ 128، و"الحجة" 88، و"الكشف" 1/ 360. (¬3) الكناية: الضمير. (¬4) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: {يَغْلِي}. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، ونافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم -في رواية أبي بكر-: {تَغْلِي}.=

ومِمَّا يُقَوِّي القراءة بالتَّاء: أنَّ الأصل: الأَمَنَةُ، و (النُّعَاس): بَدَلٌ. وَرَدُّ الكناَيَةِ إلى الأصْلِ أحْسَنُ. والأَمَنةُ هي المقصودة، فإذا حَصَلَتْ (¬1) الأمَنَةُ، حَصلَ (¬2) النُّعَاسُ، لأنها سَبَبُهُ، فإنَّ الخائفَ لا يكادُ يَنْعُسُ. وقوله تعالى: {طَائِفَةً مِنْكُمْ} قال ابن عباس (¬3): هم المهاجرون، وعامَّةُ الأنْصَارِ (¬4). وقوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} هؤلاء هم المنافقون: عبد الله بن أُبَي، ومُعَتِّبُ بن قُشَيْر (¬5)، وأصحابُهُما، كان هَمُّهُم خَلاَصَ أنفسِهِم (¬6). يقال: (أهَمَّنِي الشيءُ): إذا كان مِنْ هِمَّتِي وقَصْدِي. والواو في قوله {وَطَاَئِفَةٌ}، واو الحال. ¬

_ قال الفراء: (إذا كانت {تغلي}، فهي الشجرة، وإذا كانت {يَغلِى}، فهو المُهْل). "معاني القرآن" 1/ 240. وانظر: "السبعة" 592، و"تفسير الطبري" 4/ 139، و"المدخل" للحدادي 147 - 149، و"المسائل العضديات" 166. (¬1) في (ج): (حصل). (¬2) في (ج): (وحصل). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 2/ 121، و"زاد المسير" 1/ 480، و"تفسير ابن كثير" 1/ 451، و"فتح القدير" 1/ 590. (¬5) ويقال: مُعتِّب بن بشير الأوسي الأنصاري. شهد العقبة وبدرًا وأُحدًا، وقال ابن هشام بأنه ليس من المنافقين، وقيل: إنه تاب مما قاله يوم أحد. انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 238،344، و"الاستيعاب" 3/ 482، و"أسد الغابة" 5/ 225، و"الإصابة" 3/ 443. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 141، و"النكت والعيون" 1/ 430، و"تفسير البغوي" 2/ 122.

قال سيبويه (¬1): المعنئ: إذْ طائِفةٌ قد أهَمَّتْهُم أنفُسُهم، وهو (¬2) رَفْعٌ بالابتداء، وخبرُهُ: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}. وجائزٌ أن يكون الخَبَرُ: {يَظُنُّونَ}، ويكون {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}: مِنْ صِفَةِ النَّكِرَةِ، ويكون المعنى: وطائفةٌ مُهِمَّتُهُمْ أنفُسُهم، يَظنُّونَ. قال أبو الفَتْحِ المَوصِلِيُّ (¬3): هذه الواو للحال، وهي وما بعدها في مَوْضِعٍ نَصْب، على تقدير: يَغْشَى طائفَةً منكم، مُهِمَّةً (¬4) طائفةً أخرى منكم أنفُسُهم، في وقت غِشْيَانِهِ تلكَ الطائفة (¬5) الأولى. ولا بُدَّ مِن هذا التقدير؛ كما أنَّ قولك: (جاءت هند، وعمرٌو ضاحكٌ)، في تقدير: (جاءت هند ضاحكًا (¬6) عمرو في وقت مجيئها)، حتى يعود من الجملة التي هي حالٌ، ضميرٌ على صاحب الحال، ولهذا شبَّهَهَا سيبويه بـ (إذ) (¬7). ¬

_ (¬1) في "الكتاب" 1/ 90. نقله عنه بمعناه. وانظر: "الكامل" للمبرد 1/ 327، 328، وكتاب "معاني الحروف" للرماني 60، و"الصاحبي" 157، و"أمالي ابن الشجري" 3/ 11، و"تذكرة النحاة" 648. (¬2) من قوله: (وهو ..) إلى (.. وطائفة مهمتهم أنفسهم): ساقط من (ج). (¬3) هو ابن جِنِّي في: "سر صناعة الإعراب" 2/ 644 - 645. نقله عنه بعضه بتصرف، ونقل أكثره بنصه. (¬4) في (أ): مهمةٌ -بضم التاء المربوطة المُنوَّنة-. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من: "سر صناعة الإعراب"؛ وهو الصواب؛ لأن موقعها في الجملة حال منصوب. (¬5) في (ب): (النعاس) بدلًا من: الطائفة. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): (ضاحك)، والمثبت من: سر الصناعة، لأن ابن جِنِّي أراد أنها حال منصوبة. (¬7) بـ (إذ): ساقط من (ج).

قال أبو علي (¬1): إنما فَعَلَ ذلك من حيث كانت (إذْ) منتصبةَ المَوْضعِ في الحال (¬2)، وأنَّ ما بعد (إذْ) لا يكون إلّا جملةً، كما أنّ ما بعد واو الحال لا يكون إلّا جملةً مرَكَّبَةً مِن مبتدأ وخَبَر، كقولك: (مَرَرْتُ بزَيْد، وعمرٌو قائمٌ) (¬3). وقوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: يظنون أنَّ أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مضمَحِلٌّ، وأنّه لا يُنْصر (¬4). وقوله تعالى: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}. الجاهلية: زَمَان الفَتْرَةِ، قبل الإسلام (¬5). والمعنى: إنهم على جاهليتهم في ظنهم هذا. وتقدير الكلام: يَظنُّونَ ظَنَّ أهلِ الجاهلية (¬6). وقوله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} أي: ما لنا. استفهام يتضمن الجَحْدَ. قال الحَسَنُ (¬7): يقولون: أُخْرِجْنَا كَرْهًا، ولو كان الأمرُ إلينا ما ¬

_ (¬1) قول أبي الفارسي -هنا- من تتمة كلام ابن جني في: المصدر السابق: 2/ 645 نقله المؤلف عنه بمعناه وانظر رأي أبي علي الفارسي حول هذه المسألة في كتابيه: "المسائل المشكلة" 593، و"المسائل الحلبيات" 151. (¬2) عبارة أبي علي -كما نقلها ابن جني-، هي: (.. من حيث كانت (إذ) منتصبة الموضع بما قبلها، أو بعدها، كما أن (أو) منتصبة الموضع في الحال ..). (¬3) في (ب): (قائما). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 479، و"زاد المسير" 1/ 481. (¬5) قال النووي: (سموا بذلك؛ لكثرة جهالاتهم). "صحيح مسلم بشرح النووي" 3/ 87، وانظر: "المزهر" للسيوطي 2/ 202. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 142، و"معاني القرآن"، للزجاج 1/ 431. (¬7) قوله، في: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 795، و"النكت والعيون" 2/ 909، و"زاد المسير" 1/ 481.

خَرَجْنَا (¬1) وقال الأكثرون (¬2): أي: ليس لَنا مِنَ النَّصْرِ والظَّفَرِ شيءٌ كما وعدنا، بل هو للمشركين. يقولون ذلك (¬3) على جهة التكذيب. فقال الله: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، أي: النَّصْرُ بيد الله عز وجل. وقال عطاء، عن ابن عباس (¬4): يريد: القضاء والقدر، والنُّصْرَةُ والشَّهادة. واختلف القرّاء (¬5) في قوله: {كُلَّهُ}: فَنَصَبَهُ [أكثرُهُم] (¬6)؛ لأن (¬7) الكُلَّ بمنزلة (أجمعين)، وجُمَعَ؛ في أنه للإحَاطَةِ والعُمُوم. ¬

_ (¬1) لفظه عند ابن أبي حاتم: (.. ذلك المنافق، لما قُتِل مِن أصحاب محمد، أتَوا عبد اللهَ بن أبَي، فقالوا له: ما تَرَى؟ فقال: إنَّا والله ما نُؤامَر، لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا). وما أورده المؤلف هو معنى هذا اللفظ. (¬2) في (ب): (وقال الآخرون الأكثرون). ولم أقف على من قال بهذا القول، وقد أوردته بعض كتب التفسير ولم تعزه انظر: "النكت والعيون" 1/ 431، و"زاد المسير" 1/ 481، و"تفسير القرطبي" 4/ 242، و"فتح القدير" 1/ 590. (¬3) (ذلك): ساقطة من (ج). (¬4) لم أقف على مصدر هذ الرواية. وأورد الثعلبي، والقرطبي -من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس- ما نصه: (يعني: القدر خيره وشره من الله). وهي بمعنى رواية عطاء عنه. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 134 ب، و"تفسير القرطبي" 4/ 242. (¬5) في (ب): (واختلفوا القراء). (¬6) ما بين المعقوفين في (أ): غير واضح. والمثبت من (ب)، (ج). انظر هذه القراءة في: "السبعة" 2187، و"الحجة" للفارسي 3/ 90. (¬7) من قوله: (لأن ..) إلى (.. إذا قال كله): نقله -بتصرف يسير- عن "الحجة" للفارسي 3/ 90.

ولو قيل: (إن الأمرَ أجْمَعَ)، لم يكن إلّا النَّصبُ، -كذلك- إذا (¬1) قال {كُلَّهُ} (¬2). وقرأ أبو عمروٍ بالرَّفْعِ (¬3)، وذلك أنه لم يُجْرِهِ على ما قَبْلَهُ، ورَفَعَهُ على الابتداء، و {لِلَّهِ}: الخَبَر. قال الفَرّاءُ (¬4): ومثله مِمَّا قُطِعَ مِمَّا (¬5) قبلَهُ: قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (¬6) [الزمر: 60]، ومِنْ هذا -أيضًا-: ما أجازه سيبويه مِن قولِهِم: (أينَ تَظُنُّ زيدٌ ذاهِبٌ). وقوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} أي: مِنَ الشَّكِّ والنِّفَاقِ، وتكذيب الوَعْدِ بالاستعلاء على أهل الشرك. وقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} رُوي (¬7) عن الزُّبَيْر بن العَوَام -رضي الله عنه -، أنَّه قال (¬8): أَرْسَلَ اللهُ علينا النَّوْمَ، ¬

_ (¬1) (أ)، (ب): (إذ). والمثبت من: (ج)، و"الحجة". (¬2) فنصب {كُلَّهُ} إما على التوكيد، أو النعت، أو البدل. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 243، و"معاني القرآن" للأخفش 1/ 218، و"الأصول في النحو" لابن السراج 2/ 23، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 371، و"التبيان" للعكبري ص 216. (¬3) أي: {كُلَّهُ} انظر: المصادر السابقة. (¬4) في "معاني القرآن"، له 1/ 243. نقله عنه بمعناه. (¬5) في (ج): (من). (¬6) قوله تعالى: {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}، جملة مكونة من: مبتدإ، وهو: {وُجُوهُهُمْ}، وخبر، وهو: {مُّسْوَدَّةٌ}. والجملة في محل نصب على الحال. ويجوز من الناحية النحوية أن تُنْصبَ {وُجُوهُهُمْ} على أنها بدل من {الَّذِينَ}. انظر: "البيان" للأنباري 2/ 325 (¬7) في (أ): (رَوَي). والمثبت من: (ب)، (ج). (¬8) أخرج قوله: الواقدي في "المغازي" 1/ 323، والطبري في "تفسيره" 4/ 143،=

وإنِّي لأَسْمَعُ قولَ مُعَتِّب بن قُشَيْر -والنُّعَاس يغشاني-، ما أسمعه إلّا كالحُلم (¬1)، يقول: لو كان لنا من الأمر شىِءٌ، ما قُتلنا ههنا (¬2). يَعْنُونَ أنهم أُخْرِجُوا كُرْهًا، ولو كان الأمر بيدهم لم يخرجوا. وقال المفسرون (¬3): إنَّ المُنافِقِينَ قال بعضُهم لِبَعضٍ: لَوْ كانَ لنا عُقُولٌ، لم نخرجْ مع محمد لِقِتال أهل مكة، وَلَمَا قُتِلَ رُؤَساؤُنا. وهذا منهم تكذيبٌ بالقَدَرِ؛ حين ظَنُّوا أنهم لو لم يخرجوا لم يُقْتَلوا. فَرَدَّ اللهُ -تعالى- عليهم هذا الكلام بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} أيها المُنافِقُونَ، وَلم تَخْرُجوا إلى أُحُد. {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} يعني: لو تَخلَّفتم عن القتال؛ لَخَرَج منكم الذين كُتِب عليهم القَتْل، ولم يكن لِيُنْجِيهم قُعُودهم. ومعنى (بَرَزَ): صار إلى (بَرَاز)؛ وهو المكان المنكشف (¬4). والمضاجع: جمعُ (المَضْجَع)؛ وهو الموضع الذي يَضْجَعُ عليه الإنسانُ. ومنه قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]. ¬

_ = وابن أبي حاتم 3/ 795، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" 487 فصل 25. رقم (423)، وأورده السيوطي في "لباب النقول" 59، و"الدر المنثور" 2/ 156، وزاد نسبة إخراجه إلى ابن إسحاق، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل". وانظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 68. (¬1) في (أ): (كالحِكم). والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر الخبر. (¬2) في (أ): (هنا). والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر الأثر. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 142، و"تفسير الثعلبي" 3/ 134 ب، والنَّصُّ له. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 480، و"نزهة القلوب" للسجستاني 144، و"المقاييس" 1/ 218 (برز).

قال الهُذَلِيُّ (¬1): أَم ما لجنْبِكَ لا يُلائِمُ مَضْجَعًا ... إلّا أَقَضَّ عليكَ ذاكَ المَضْجَعُ (¬2) وقال: (أضْجَعْتُ فُلانا): إذا وَضَعْت جَنْبَهُ بالأرض. و (ضَجَعَ)، فهو يَضْجَعُ بنَفْسِهِ. ويريد بـ {المَضَاجِعِ} ههنا: مَصارِعَهم للقتل؛ أي: حيث يَسْقُطُون (¬3) -هناك- قتلى. وقوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} قال الكسائيُّ وغيرُهُ (¬4): وليَبْتَلِيَ اللهُ ما في صدوركم، فَعَلَ ما فَعَلَ يومَ أُحُد. فَحُذِفَ واختُصِرَ؛ لِبَيَان المعنى. ومعنى {لِيَبْتَلِيَكُمْ}: ليعاملكم معامَلَة المُبْتَلِي، المُخْتَبِرِ لكم. ¬

_ (¬1) هو أبو ذؤيب، خويلد بن خالد الهذلي. (¬2) البيت ورد منسوبًا له في: "المفضليات" 421، و"الزاهر" 1/ 473، و"الأمالي" 1/ 182، و"تهذيب اللغة" 3/ 2982 (قضض)، و"شرح أشعار الهذليين" 1/ 5، و"مقاييس اللغة" 5/ 21 (قضض)، و"جمهرة أشعار العرب" ص 241، و"اللسان" 6/ 3662 (قضض). ورد في (التهذيب): (.. أقضَّ عليه ذاك ..)، وفي "المقاييس" (أم ما لجسمك). البيت من مرثيته التي يرثي بها أبناءه الخمسة الذين ماتوا في عام واحد. وقبل هذا البيت: قالتْ أُمَيْمَةُ ما لجسمك شاحبا ... منذ ابْتُلِيتَ ومثل مالِكَ يَنفَع (أم) في البيت هي المنقطعة، بمعنى: (بل) والاستفهام. وقوله: (لا يُلائِم): لا يوافق، (أقضَّ عليك ذاك المضجع)؛ أي: لم يطمئن بك النوم، كأن تحت جنبك (قَضِيضا)، وهو: الحصى الصغار. انظر: "الزاهر" 1/ 473، و"التهذيب" 3/ 2982، و"شرح أشعار الهذليين" 1/ 6. (¬3) (يسقطون): مطموسة في (ج). (¬4) لم أقف على مصدر قول الكسائي، ولا على مصدر قول غيره ممن قال هذا القول.

وقال أبو إسحاق (¬1): أي: لِيَخْتَبِرَ ما في صدوركم، لِيَعلَمَهُ مُشَاهدَةً، كما يعلمه غَيْبًا؛ لأن المُجَازَاةَ تَقَعُ على ما عَلِمَهُ مُشَاهَدَةً. وقيل (¬2): لِيَبتلي أولياءُ اللهِ ما في صدوركم. إلّا أنه أُضِيفَ الابتلاءُ إلى اللهِ -تعالى-، تفخيما لشأنهم؛ كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} (¬3). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 480. نقله عن بتصرف. (¬2) ممن قال ذلك: الطبري في "تفسيره" 4/ 143، وقد أورد هذا القول الماورديُّ في: "النكت والعيون" 1/ 431 ولم يعزه (¬3) الزخرف: 55. ومعنى {آسَفُونَا}: أغضبونا. وهو قول: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، والسدي، وغيرهم من المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" 25/ 84، و"تفسير ابن كثير" 4/ 137. والمؤلف يقصد -هنا- أن معنى الآية: فلما أغضبوا موسى عليه السلام ومن معه من أولياء الله، ولكن نُسِب الغضبُ إلى الله تعالى؛ تفخيمًا لشأن أولياء الله. ولا مانع من قبول هذا التأويل الذي يراه المؤلف، مع إثبات صفة الغضب لله تعالى، ولكن قد يكون الدافع لهذا التأويل هو الهرب من نسبة هذه الصفة إليه تعالى، وحينها، فإن هذا التأويل لا يُسَلَّم؛ وذلك أنَّ الأشاعرة -والمؤلف منهم- يرون أن الغضب من صفات المخلوقين التي يجب أن لا تنسب إلى الله على الحقيقة؛ حيث إن الغضبَ عندهم هو: غَلَيَانُ دَمِ القَلْب؛ لإرادة الانتقام، وذاك محال على الله، وانما يُنْسَب إلى الله -عز وجل- على سبيل المجاز، ويراد به -حينها-: إرادة العقوبة، فيكون صفة ذات، أو يُراد به العقوبة ذاتها، فيكون صفة فعل. ولكنْ سَلَفُ الأُمَّةِ -وقد شق بيان مذهبهم الحق في صفات الباري تعالى- يرون أن الغضب من صفات الله، يُنْسبُ إليه -تعالى- على الحقيقة، بما يليق بذاته، والشأن في الصفات أن تُمَرَّ كما جاءت، دون تعطيل ولا تشبيه ولا تحريف ولا تأويل، ولا بيان لكيفيَّتها، كما أن صفة الغضب تنسب إلى المخلوق على الحقيقة، بما يتناسب مع خَلْقِهِ، وطبيعته، ومن توابع هذه الصفة، ولوازمها في المخلوق: هو ما ذكره المُؤَوِّلُونَ مِنْ غَلَيَان دَمِ القلب، وبذا تفترق صفة الخالق عن المخلوق. انظر: "النكت والعيون" 5/ 231 - 232، و"تفسير الفخر الرازي" 27/ 220،=

وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} قد ذكرنا للتَّمْحِيصِ ثلاث مَعَانٍ، عند قوله -تعالى-: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141]: التَّطْهِير، والكَشْف، والابْتِلاء. وهذ كلها مُحْتَمَلَةٌ في هذه الآية. قال قتادة (¬1) - في قوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}، أي: يُظْهِرها (¬2) مِنَ الشَّكِّ والارْتِيَاب؛ بما يُرِيكم من عجائب صُنعه في إلقاء الأَمَنَةِ، وصَرْفِ العدُوِّ، وإعلانِ سَرَائِرِ المنافقين. وهذا (¬3) التمحيص خاصٌّ للمؤمنين؛ فابن عباس قال (¬4): يريد: يُمَحِّص قلوب أوليائه من الخطأ. وقال الكَلْبِيُّ (¬5): {وَلِيُمَحِّصَ}: يُبَيِّن ما في قلوبكم. يعني: أن المؤمن يُظْهِر الرِّضَا بِقَدَرِ الله، والمنافق يُظْهر مثلَ ما أظهرَ مُعَتِّب بن قُشَيْر وأصحابُه. فَعَلَ اللهُ ما فَعَلَ يومَ أُحُد؛ لِيُبَيِّنَ ما في قلوب الفريقين. ويَحْتَمِلُ التَّمْحِيصُ -ههنا- معنى الابتلاء، غير أن القولين الأَوَّلَيْن أجودُ؛ لِزِيَادَةِ الفائدة؛ فإنَّ الابتلاءَ قد ذُكِرَ في قوله: {وَلِيَبْتَلىَ اللَّهُ}. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (ذاتُ الصدور)، تحتمل معنيين: أحدهما: أن (ذات الصدور) هي: الصدور؛ لأن ذاتَ الشيء ¬

_ = ولوامع الأنوار" للسفاريني 1/ 221 - 223، و"روح المعاني" 25/ 91، و"أضواء البيان" 7/ 256، و"العقائد السلفية" لأحمد بن حجر 1/ 86 (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده ابن الجوزي في: "الزاد" 1/ 482. (¬2) في (ب)، (ج): (يطهرها) بالطاء. انظر:"بحر العلوم" 1/ 309، و"تفسير الثعلبي" 3/ 134 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 122، و"زاد المسير" 1/ 482. (¬3) من قوله: (وهذا ..) إلى (.. يمحص قلوب): ساقط من (ج). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) لم أقف على مصدر قوله.

155

نَفْسُهُ، وعَيْنهُ. يقال: (فَهَمتُ ذاتَ كلامك)، كما يقال: (نَفْسَ كلامك). قال الشاعر: نَطُوفُ بِذَاتِ البيتِ والخَيْرُ ظاهِرُ (¬1) أي: البيت نفسه. وفيه معنى التأكيد. فيكون المعنى: واللهُ عليمٌ بالصدور. والثاني: أنَّ (ذاتَ الصدور): الأشياء التي في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي (ذات الصدور)؛ لأنها فيها، تَحُلُّها (¬2) وتصاحبها وصاحب الشيء: (ذُوهُ)، وصاحبته: (ذاته) (¬3). 155 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} هذا الخطاب للمؤمنين خاصَّةً، يعني: الذين انهزموا يوم أحد (¬4). {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أي: حَمَلَهُمْ على الزَّلَّةِ، وَكَسَبَهُمْ الزَّلَّةَ (¬5). ¬

_ (¬1) هو عمرو بن الحارث بن مضاض كما في "الأغاني" 15/ 17بلفظ (نمشّى به والخير إذ ذاك) وفي "نهاية الأرب" للنويري بلفظ (نطوف بذاك). وصدره: فنحن ولاة البيت من بعد نابت وينظر: "السيرة الحلبية" (1/ 15)، و"البدء والتاريخ" 4/ 126، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 97، و"الاكتفاء" للكلاعي 1/ 59، و"البداية والنهاية" 2/ 186، و"المنتظم" 2/ 321، و"تاريخ الطبري" 1/ 523، و"الأنساب" 5/ 440، و"معجم البلدان" 5/ 36، 186. (¬2) في (ب): (وتحلها). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1299 - 1301 (ذو)، و"اللسان" 3/ 1476 - 1477 (ذو) وانظر: تفسير قوله تعالى: {إنَّ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. آية: 119. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 144. (¬5) (وكسبهم الزلة): ساقط من (ج).

و (أَزَلَّ)، و (اسْتَزَلَّ)، بمعنى واحد. ذكرنا ذلك في قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36] (¬1). وقال ابن قُتَيْبَة (¬2): {اسْتَزَلَّهُمُ}: طَلَبَ زَلَّتَهم؛ كما يقال: (استعجلته)؛ أي: طَلَبْتُ عَجَلَتَهُ، و (استعملته): طَلَبْتُ عَمَلَهُ. وقول تعالى: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} قال مقاتل (¬3): يعني: معصيتهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وتركهم المَرْكَزَ. وقيل: استزَلَّهم الشيطانُ بِتَذْكِيرِ خَطَايَا سَلَفَتْ لهم، فكرهوا أن يُقْتَلُوا قبلَ إخلاصِ التَّوْبَةِ. وهذا اختيار الزَّجَّاج؛ لأنه قال (¬4): لَمْ يَتَوَلَّوا على جهة المُعَانَدَةِ، ولا على الفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ؛ رَغْبَةً في الدنيا، وإنَّمَا ذَكَّرَهُم الشيطانُ خَطَايَا كانت لهم، فكرهوا لقاءَ اللهِ، إلا على حَالَةٍ يَرْضَوْنَهَا (¬5). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}. ¬

_ = يقال: (كَسَبَ هو)؛ بمعنى: أصاب. ويقال: (كَسَبْتُ زيدًا مالًا)، و (أكْسَبْتُ زيدًا مالًا)؛ أي: أعنته على كَسْبِه، أو جعلته يَكْسِبُهُ. انظر: "اللسان" 7/ 3870 (كسب)، و"القاموس" 131 (كسب). والزَّلَّة: الخطيئة. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 145، و"القاموس" ص 1010 (زلل). (¬1) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير هذه الآية (¬2) في "تفسير غريب القرآن" له 107. نقله عنه بتصرف. (¬3) في "تفسيره" 1/ 309. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 481. نقله عنه بتصرف يسير جدًّا. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 500. (¬5) قال أبو حسان عن قول الزّجاج -هذا-: (ولا يَظْهَرُ هذا القول، لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال، وفي حالة القتال، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.). "البحر المحيط" 3/ 91.

156

قال الكلبيُّ (¬1)، ومقاتلُ (¬2): عَفَا عنهم إذْ لَمْ يُقْتَلوا جميعًا، ولم يَسْتَأصِلْهم (¬3). وقيل (¬4): عَفا عنهم؛ أي: غفر لهم تلك الخطيئة. 156 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} الآية قال ابن عباس -في رواية عطاء (¬5) -: يريد قومًا من المنافقين قالوا فيمن بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، مِنَ السَّرَايَا إلى بِئْرِ مَعُونَة (¬6)، وإلى ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) في "تفسيره" 1/ 309. (¬3) وممن قال بهذا القول: الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو الليث. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 797 - 798، و"بحر العلوم" 1/ 310. (¬4) هذا قول الجمهور، ومنهم: عثمان بن عفان رضي الله عنه، وابن عمر -رضي الله عنهما-، وقتادة، والربيع، والطبري. انظر: "صحيح البخاري" (4066) كتاب المغازي. باب: قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، و"تفسير الطبري" 4/ 144 - 146، و"بحر العلوم" 1/ 310، و"تفسير الثعلبي" 3/ 135 أ، و"المحرر الوجيز" 3/ 287، و"تفسير القرطبي" 4/ 244 - 345، و"البحر المحيط" 3/ 91، و"مجمع الزوائد" 9/ 83 - 84. (¬5) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬6) بَعَث النبي - صلى الله عليه وسلم -، سبعينَ رَجُلا؛ لِحاجَةٍ، يُقال لهم القُرَّاء، فَعَرَضَ لهم حَيَّانِ من بني سُلَيْمِ: رِعْلٌ وذَكْوانُ، عند بِئْر يُقال لها بئرُ مَعُونَةَ، فقال القوم: والله ما إيَّاكم أرَدْنَا، إنَّمَا نحنُ مُجْتازُون في حاجة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقَتَلُوهم، فَدَعَا النبي - صلى الله عليه وسلم -، عليهم شهرا، في صلاة الغَدَاةِ). "صحيح البخاري" (4088)، كتاب: المغازي. باب: غزوة الرجيع. وهذ إحدى الروايات التي أوردها البخاري حول هذه السَّرِية، وهناك روايات أخرى عنده. انظرها في الباب نفسه. =

الرَّجيع (¬1)، فأُصِيبوا: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}. وقال مجاهد (¬2)، ومحمد بن إسحاق (¬3): يعني بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}: جميعَ المنافقين. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لِإِخوَانِهِم}. أي: في النِّفَاق. وقيل: في النَّسَبِ (¬4). ¬

_ = وانظر روايات أخرى لهذه السَّرِيَّة في كتب السيرة، منها: "المغازي" 1/ 346، و"سيرة ابن هشام" 3/ 184، و"الطبقات الكبرى" 2/ 51، و"تاريخ الطبري" 2/ 545. (¬1) بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، سَرِيَّةً؛ عَيْنًا له، وقيل بعثهم استجابة لطلب عَضَل والقَارَة أن يبعث معهم من يُفَقِّههم في الإسلام ويقرؤهم القرآن، -وكان ذلك خدعة منهم، اتفقوا فيه مع بني لِحيان-، وأمَّرَ على السرِية عاصمَ بن ثابت، وقيل: مَرْثَد بن أبي مرثد الغَنَوِي، فخرجوا حتى إذا كانوا عند ماءٍ لهذيل، يقال له: الرَّجِيع، بناحية الحجاز، هجم عليهم بنو لِحيان، حيٌّ من هذيل، فاستل الصحابة سيوفهم، فقال لهم الأعداء: لكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم رجلًا، فرفض عاصم، وقاتل حتى قتل، مع نَفَرٍ من أصحابه، وأسِرَ البقيَّةُ، وانطلق الأعداء بِخبَيْب بن عَدي، وزيد بن الدِّثِنَّةِ، وباعوهما بمكة، فقتلهما أهل مكة ثأرا لقتلاهم في بدر. انظر تفصيل أخبار هذه السرِيَّة في: "صحيح البخاري" (4086). كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع، و"المغازي" 1/ 354، و"سيرة ابن هشام" 3/ 160، و"الطبقات الكبرى" 2/ 55، و"تاريخ الطبري" 2/ 538. (¬2) الذي وقفت عليه عنه: قوله: (قول المنافق؛ عبد الله بن أبي بن سلول) "تفسير الطبري" 4/ 146، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 799. وقد أورده السيوطي في "الدر" 2/ 158، إلا أن لفظه عنده: (هذا قول عبد الله بن أبي بن سلول، والمنافقين). ونسبه السيوطي إخراجه لهما، وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 69، و"تفسير الطبري" 4/ 146، و"تفسير أبن أبي حاتم" 3/ 798. (¬4) ذكر القولِين: الثعلبي في: "تفسيره" 3/ 135 ب، ولم يعزهما لقائل. ورجح ابن =

{إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} أي: ساروا وسافروا فيها. وكان (¬1) ينبغي في العَرَبِيَّةِ أنْ يُقَال: (وقالوا لإخوانهم إذْ (¬2) ضَرَبُوا في الأرض)؛ لأنه ماضٍ، كما تقول: (ضربتك إذْ قُمْتَ)، ولا تقول (¬3): (ضربتك إذا قُمْتَ). والذي في كتاب الله عَرَبِيٌّ حَسَنٌ، لأن القَوْلَ -وإن كان ماضيًا في اللفظ- فهو في معنى (¬4) الاستقبال؛ لأن (الذين) يُذْهَبُ بها إلى معنى الجزاء، وكذلك: (مَنْ)، و (ما). فإذا وقع الماضي صِلَةً لِمُبْهَمٍ مِنْ (مَنْ) و (ما) و (الذين)، جازَ أنْ يكون بمعنى الاستقبال (¬5). فقوله (¬6): {كَالَّذِينَ كَفَرُوا}، في معنى: يَكْفُرُونَ، فدخلت (إذا) لِمَعْنى الاستقبال؛ والتقدير: (لا تكونوا كالذين يكفرون (¬7)، ويقولون لإخوانهم ¬

_ = عطية القولَ بأنها أخُوَّةُ النَسَبِ، قائلا: (لأن قَتْلَى أُحُد كانوا من الأنصار، أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلا أربعة). "المحرر" 3/ 389. (¬1) من قوله: (وكان ..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. ما كان في غد): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن"، للفراء 1/ 243 - 244، وأضاف إليه -مُلَفِّقا- بعضًا مِن كلام ابن الأنباري الذي أورده الأزهري في "التهذيب" 1/ 137 (إذ). وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري 121. (¬2) (أ)، (ب)، (ج): (إذا). وهي خطأ. والمثبت من "معاني القرآن". وهي الصواب. (¬3) (ضربتك إذ قمت ولا تقول): ساقطة من (ج). (¬4) في (ج): (بمعنى) بدلًا من: (في معنى). (¬5) يقول ابن عطية: (ودخلت (إذا) في هذه الآية -وهي حرف استقبال-؛ من حيث (الذين) اسمٌ فيه إبهام، ويعمُّ مَنْ قال في الماضي ومَنْ يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان). المحرر 3/ 389. (¬6) في (أ)، (ب): (بقوله). وساقطة من (ج). وليست في "معاني القرآن"، والمثبت هو ما اسْتَصْوَبْتُه. ومن قوله: (بقوله ..) إلى (.. بمعنى الاستقبال): ساقط من (ج). (¬7) في (ج): (كفروا).

إذا ضربوا في الأرض (ومثله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]؛ معناه: إنَّ الذين يكفرون. وكذلك قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا} [المائدة: 34]؛ معناه: يَتُوبُون. ومثله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60]؛ معناه: إلّا مَن يَتُوب. ومشهورٌ في كلامهم، أنْ يقول الرجلُ للرجلِ: (لا تضربْ إلّا الذي ضَرَبَكَ؛ إذا سَلَّمْتَ عليه). فيجيء بـ (إذا)؛ لأن (الذي) غير مُؤَقَّت، فلو وَقَّته، لَقَالَ: (اضربْ هذا الذي ضَرَبَكَ؛ إذْ (¬1) سَلَّمْتَ عليه). ولا يجوز: (إذا سَلَّمْتَ) -ههنا-؛ لأنَّ توقيت (الذي) أبْطَلَ أنْ يكونَ الماضي في معنى المستَقبَلِ. وتقول: (ما هَلَكَ امرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ)؛ لأن الفعل حديثٌ عن مَنْكُورٍ؛ يُراد به الجنس؛ كأنَّ المتكلمَ يريد: (ما يهلك كُلُّ امرئٍ إذا عرف قدره)، أو الرَّجُل وما أشبهها (¬2). هذا مذهب الفراء (¬3)، وأنشد: وإنِّي لآتِيكمْ تَشَكُّرُ ما مَضَى ... مِنَ الأمرِ واستيجابَ ماكان في غَدِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (إذا). والمثبت من (ج). وهو الصواب. (¬2) في (ج): (أشبههما). (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 244. (¬4) البيت للطِّرِمّاح بن حكيم الطائي، وهو في: ذيل ديوانه 572، وورد منسوبًا له، في: "أمالي بن الشجري" 1/ 67، 2/ 53، 453، و"اللسان" 7/ 3962 (كون). وورد غير منسوب في: "معاني الفراء" 1/ 180، و"تفسير الطبري" 4/ 148، و"الخصائص" 3/ 331، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 398، و"المحرر الوجيز" 3/ 390. وردت روايته عند ابن الشجري: (من الود)، و (من البر)، و (من الأمس) بدلًا من: (من الأمر). كما وردت روايته: (.. في الغد). وفي "اللسان" (واستنجاز ما كان =

أي: ما يكون. وأجاز (¬1) قُطْرُب (¬2) أنْ تُوقَعَ (إذْ) على معنى (إذا)، و (إذا) على معنى (إذ)، واحتج بقول الشاعر: ثمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنِّي إذ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلى (¬3) معناه: إذا يجزي (¬4). قال ابن الأنباري (¬5): والاختيار: مذهب الفراء؛ لأنه لا يصلح في كلِّ موضعٍ وَضْعُ (¬6) (إذ) في موضع (إذا)، ولا وَضْعُ (إذا) في موضع (إذ). ¬

_ = في غد). وفي جميع المصادر السابقة -ما عدا "معاني القرآن"- ورد: (وإني)، والصواب ما ورد في الديوان، و"معاني الفراء" (فإني)؛ لأن جوابٌ للشرط الوارد في البيت الذي قبله، وهو: مَنْ كان لا يأتيك إلا لحاجة ... يروح بها فيما يروح ويغتدي (¬1) في (ج): (وأجاب). (¬2) في كتاب "الأضداد" له 150 - 152. وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري 119، فقد ناقش هذا الأمر، وأورد قول الأخفش هذا. (¬3) البيت لأبي النجم العجلي. وقد ورد منسوبًا له في: المصادر السابقة، و"تفسير الطبري" 7/ 137، و"الصاحبي" 196، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 67، 153، و"اللسان" 5/ 2716 (طها)، 1/ 50 (إذ) ولم يشبه هنا. وورد غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 1/ 138. وقد ورد في كل المصادر السابقة: (.. جزاه الله عنا). (العلالي)، جمع: عُلِّيَّة -بكسر العين وضمها-، وهي الغُرْفة العالية في البيت. وأراد هنا (عِلِّيِّينَ) الواردة في القرآن. و (العُلَى)، جمع: عُلْيا. انظر: "عمدة الحفاظ" 379، 380 (علو). (¬4) في (ج): (إذ يجزي). وفي "الأضداد"، لقطرب، وابن الأنباري: إذا جزى. (¬5) لم أقف على مصدر قوله، وليس هو في كتابه "الأضداد" الذي تعرض فيه لهذه المسألة. (¬6) في (أ): (وضُعَ). وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وما أثبته هو ما استصوبته.

والذي احْتَجَّ به من قولِ الراجز، فإن معناه: (ثم جزاه الله عني، إذْ حَكَمَ بالجزاء وأوجبه). فـ (إذ) في بابها، غير منقولة إلى معنى غيرها (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ كَانُوا غُزًّى} (الغُزَّى) (¬2): جمع (غازٍ)؛ مثل: (شاهِدٍ، وشُهَّد)، و (نائِم ونُوَّم)، و (صائِمٍ وصُوَّم)، و (قائلٍ وقُوَّل). ومثله من الناقص: (عَافٍ وعُفًّى (¬3). ويجوز (غُزَاة)؛ مثل: (قُضَاة)، و (دُعَاة)، و (رُمَاة). ويجوز (غُزَّاء) مثل: (حُرَّاب) (¬4)، و (ضُرَّاب) (¬5). ومعنى (الغَزْوِ) -في كلام العرب-: قَصْدُ العَدُوِّ. و (المَغْزَى): المَقْصد. روى عَمْرُو (¬6) عن أبيه: (الغَزْوُ): القَصْد. و-كذلك- (الغَوْزُ). و (قد غَزَاه، وغَازَه, غَزْوًا، وغَوْزًا): إذا قَصَدَه. ¬

_ (¬1) انظر هذه المسألة في: "تفسير الطبري" 4/ 147 - 148، و"تهذيب اللغة" 1/ 138 (إذ)، و"اللسان" 1/ 50 (تفسير إذ). (¬2) في (ب): (الغز). (¬3) (العُفَّى، والعافِيَةِ والعُفَاة)؛ كلها جمعُ (عافٍ) و (مُعْتَفٍ)، وهو: كلُّ مَن جاءك يطلب رزقًا أو معروفًا، ويقال: (وفلان تَعْتَفِيه الأضيافُ) أو (هو كثير العُفَّى أو العافية)؛ أي: كثير الأضياف. انظر: "اللسان" 5/ 3019 (عفا). (¬4) في (أ): (خراب) بالخاء. والمثبت من: (ب)، (ج)، و"معاني القرآن" للزجاج. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة (107)، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 481 - 482، و"تفسير الطبري" 4/ 147، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 372 - 373، و"الدر المصون" 3/ 454، وقال: (ويقال: غُزَّاء -بالمد، أيضًا-، وهو شاذ). (¬6) في (أ)، (ب): (عمر). والمثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة" 3/ 2661 - 2662؛ حيث نقل قول عمرو عنه بنصه. وعمرو هو: ابن أبي عمرو الشيباني (إسحاق بن مرار).

قال الأزهري (¬1): ويقال لِجَمْعٍ (الغَازِي): (غَزِيٌّ)؛ مثل: (نَاجٍ، ونَجِيٍّ)؛ للقوم يَتَناجَوْنَ، وأنشد لِزِياد (¬2) الأعجم: قُلْ لِلْقَوافِلِ والغَزِيِّ إذا غَزَوْا ... والباكِرِينَ ولِلْمُجِدِّ الرَائحِ (¬3) ¬

_ (¬1) قوله في: المصدر السابق 3/ 2662. (¬2) في (أ)، (ب): (الزياد). والمثبت من (ج)، وهو الصواب؛ لأن اسمه (زياد) في المصادر التي تَرْجَمَت له، وليس (الزياد). وفي "التهذيب" (وقال زياد الأعجم). وهو: زياد بن سَلْمَى، وقيل: زياد بن جابر بن عمرو بن عامر، من عبد القيس، وقيل له الأعجم، لِلُكْنَة كانت فيه، شاعر إسلامي، شهد فتح إصطخر، وتوفي في حدود المائة للهجرة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 279، و"معجم الأدباء" 3/ 352. (¬3) البيت، ورد في: "تهذيب اللغة" 3/ 2662 (غزا)، و"إعراب القرآن"، للنحاس ص 373، و"الأمالي" لأبي عبد الله اليزيدي 1، و"ذيل الأمالي" للقالي 3/ 8، و"أمالي المرتضى" 2/ 199، و"اللسان" 6/ 3253 (غزا)، و"المقاصد النحوية" 2/ 502. وقد اختلف في نسبته، فقال اليزيدي في "الأمالي" (وقد قال لي الأصمعي، يرويها للصلتان العبدي). وقال القالي: (وكان في كتابي للصَّلتان، فقال [يعني ابن دريد]: هي لزياد الأعجم؛ وكان ينزل إصْطَخر، ورثى بهذه القصيدة المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة. قال: وأنشدنا هذه القصيدة أبو الحسن الأخفش لزياد الأعجم). "ذيل الأمالي" 3/ 8. وقال ابن منظور: (رأيت في حواشي ابن برِّي أن هذا البيت للصليان [هكذا في "اللسان"، بالياء] العبدي، لا لزياد. قال: وقد غلط أيضًا في نسبتها لزياد، أبو الفرج الأصبهاني، صاحب الأغاني، وتبعه الناس على ذلك). "اللسان" 6/ 3253. والصَّلَتَان، هو: قُثَم بن خبيئة، من عبد القيس. انظر: "الشعر والشعراء" (331)، و"معاهد التنصيص" 1/ 74. وقد ورد في بعض المصادر: (والغزاة إذا غزو) وليس فيها موضع للشاهد. وورد: (للباكرين). و (القوافل): جمع (قافِلَةٍ)، وهي: الرُّفْقَة الراجعة من سفرها إلى وطنها. و (الباكِرِين): المُسْرِعين في الذهاب من أوَّلِ النهار. و (المُجِدّ الرائح): المجتهد في رجوعه آخر النهار، أو المجتهد في السير في وقت الرواح، وهو: من الزوال إلى الليل. والشاهد في البيت قوله: (الغَزِيِّ)، وهي جمعُ (غازٍ). انظر: "اللسان" 3/ 1763 (روح)، و"الخزانة" 10/ 5.

وفي الآية محذوفٌ، يَدُلُّ عليه الكلامُ؛ والتقدير: إذا ضَرَبُوا في الأرض، فَمَاتُوا أو كانوا غُزًّى فَقُتِلُوا، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (¬1). فقوله: {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}؛ يَدُلُّ على موتِهم وقَتْلِهم. وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي: لِيَجْعَلَ ظَنَّهُمْ -أَنَهم لو [لم]، (¬2) يَحْضُروا (¬3) الحربَ؛ لاندفع عنهم القتلُ- حَسْرَةً في قلوبهم. وحَسْرَتُهُم -في مَقَالَتِهم، التي كانوا كاذبين فيها على القضاء والقدر-؛ أشَدُّ (¬4) عليهم مما (¬5) نالهم في قَتْلِ إخوانهم ومَوْتِهم. وتقدير الآية: لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم؛ لِيَجْعَلَ اللهُ ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم. فـ (اللام) في {لِيَجْعَلَ} متعلقة بـ {لاَ تَكُونُوا}. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي (¬6): ليس يمنع الإنسانَ تَحَرُّزُهُ مِن إتْيَان أجَلِهِ على ما سَبَقَ في عِلْمِ الله -عز وجل-. فهو إنكارٌ على مَن خالفَ أمْرَ اللهِ في الجهاد؛ طَلَبًا (¬7) للحياة، وهَرَبًا من الموت. هذا قول أكثر ¬

_ (¬1) (وما قتلوا): ليس في (ج). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب)، والمُثبت من (ج). (¬3) في (ب): (حضروا). (¬4) في (أ): (اشتد). وفي (ب): (واشتد). والمثبت من (ج). (¬5) في (ب): (فيما). (¬6) من: (أي ..) إلى (.. في علم الله): نقله -بتصرف يسير جدًا- عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 824. (¬7) في (أ) , (ب)، (ج): (وطلبًا). ولم أر للواو وجهًا -هنا- فحذفتها.

المفسرين في هذه الآية (¬1). وقال ابن عباس -في رواية عطاء (¬2) - في قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} , يريد: يومَ القِيَامَةِ؛ لِمَا هم فيه من الخِزْيِ والهَوَان، ولما فيه أولياء (¬3) الله مِنَ الكَرَامَةِ والنَّعِيم. {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}؛ يريد: الندامة على ترك الإسلام. {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ يريد: يحيى قلوبَ أوليائه وأهلِ طاعته، وُيرْشِدُهم للعمل بطاعته، وُيميت قلوبَ أعدائِهِ من المنافقين والكُفَّار. واللَّام (¬4) -على هذا التفسير- في قوله {لِيَجْعَلَ اَللَّهُ} متعلق (¬5) بقوله {كَفَرُوا}؛ على [أنها] (¬6) لام العاقبة (¬7)؛ مثل قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: المصدر السابق، و"تفسير الطبري" 4/ 148. (¬2) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬3) في (ج): (لأولياء). (¬4) في (ج): (فاللام). (¬5) في (ب): (تتعلق). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة أضفتها لتستقيم بها العبارة (¬7) وتُسمَّى لام الصيرورة، ولام المآل. (¬8) سورة القصص: 8. وبقيتها: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}. وينسب القول بأن اللام -هنا- لام الصيرورة، للأخفش، وليس هو رأي أكثر النحويين. قال ابن هشام: (وأنكر البصريون ومن تابعهم، لامَ العاقبة. قال الزمخشري: والتحقيق أنها لام العلة، وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز، دون الحقيقة، وبيانه: أنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عَدُوًّا وحَزَنا، بل المحبةَ والتَّبنِّي، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شُبِّه بالداعي الذي يُفعَلُ الفعل لأجله. فاللام مستعارة لما يشبه التعليل، كما استعير الأسدُ لمن =

157

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بالياء والتاء (¬1). فمن قرأ بالتاء؛ فلأن الآية خطاب، وهو قوله: {وَلَا تَكُونُوا}. ومن قرأ [الياء] (¬2)، فلِلْغَيْبَةِ التي قبلها؛ وهو قوله: {وَقَالُوا لِإخوَانِهِم}، فحمل الكلام على الغَيْبَةِ. 157 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. اللام في {لَئِنْ} لام القَسَم؛ بتقدير: والله لَئِنْ قُتِلتُمْ في سبيل الله -أيها المؤمنونَ- {أَوْ مُتُّمْ}؛ يريد: في سبيل الله؛ كقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]؛ يعني: فُرُوجَهم. وقال الكَلْبِيُّ (¬3): أوْ مُتُّمْ في إقامتكم، وأنتم مؤمنون. وقرأ بعضهم: {مِتُّمْ} بكسر الميم (¬4). ¬

_ = يشبه الأسدَ). "مغني اللبيب" 283. وانظر: كتاب "معاني الحروف" للرماني 56، و"الدر المصون" 3/ 454 - 456، و"همع الهوامع" 4/ 200. (¬1) قرأ {يَعْمَلُونَ} بالياء: ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف. وقرأ الباقون: نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: {تَعْمَلُونَ} بالتاء. انظر: "السبعة" 217، و"الحجة" للفارسي 3/ 91، و"المبسوط" لابن مهران 148، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 181. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وانظر: "بحر العلوم" 1/ 310، و"زاد المسير" 1/ 485. (¬4) هي قراءة: نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف. وقد كسروا الميم في: {مِتَّ}، و {مِتْنَا}، و {مِتُّمْ} في كل القرآن. وقد كسر عاصم -في رواية حفص- هذه الكلمات في كل القرآن، ما عدا ما ورد في سورة آل عمران {مُتُّمْ}: الآية 157، 158 فقد رفعهما. ورفع الميم فيها في كل القرآن: ابن كثير، وعاصم -في رواية أبي بكر-، وأبو =

قال أهل اللغة (¬1): الأشهر الأقْيَس: (مُتَّ، تَمُوتُ)، مثل: (قُلْتَ، تقول). والكسر شادٌّ (¬2). ونظيره في الصحيح (¬3): (فَضِلَ يَفْضُلُ) (¬4). هذا مذهب الخليل (¬5). وحكى المُبرِّد (¬6): أنَّ (مَاتَ يَمَاتُ)، لغة، مثل: (هَابَ يَهَابُ)، ¬

_ = عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب. انظر: "الحجة"، للفارسي 3/ 92، و"المبسوط" لابن مهران 148، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 181. (¬1) نقله باختصار عن "الحجة" للفارسي 3/ 93، وانظر: "كتاب سيبويه" 4/ 343. (¬2) الشذوذ -هنا- هو الشذوذ في القياس، لا في الاستعمال. انظر: "الكشف" لمكي 1/ 362، و"شرح الشافية" 1/ 135. (¬3) يعني بـ"الصحيح" الفعل الصحيح الذي سلمت حروفه الأصلية من حرف العلة. (¬4) (يفضل): ساقطة من (ج). وفي (أ)، (ب): فصل، يفصل -بالصاد-. والمثبت من "الحجة" للفارسي، و"كتاب سيبويه"، و"كتاب العين"، للخليل 7/ 44 (فصل)، وهي التي وردت في كتب اللغة والتصريف، مِثالًا على الشذوذ عن القياس؛ لأن القياس في مضارع (فَعِلَ)، هو: (يَفعَل) -بفتح العين-. ونقل ابنُ السكيت عن أبي عبيدة، أنه (ليس في الكلام حرفٌ من السالم يشبه هذا). "إصلاح المنطق" 212. قال في "اللسان" (وفَضَلَ الشيءُ يَفْضُلُ، مثال: (دَخَلَ يدخُلُ). وفَضِلَ يَفضلُ، كـ (حَذِر يحذَرُ). وفيه لغة ثالثة مركبة منهما: فَضِلَ -بالكسر-، يَفضُل -بالضم-، وهو شاذ لا نظير له. قال ابن سيدهْ: هو نادر) 11/ 525 (فضل). (¬5) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 343 - 345، و"التكملة" للفارسي 979، و"حجة القراءات" 178، و"الكشف" 1/ 362، و"الدر المصون" 3/ 458 - 459، و"شرح الشافية" 1/ 135 - 137. ونسب الخليل (فضِل يفضُل) لأهل الحجاز. انظر: "العين" 7/ 44. (¬6) لم أقف على مصدر قوله. =

و (خافَ يَخَافُ)، وأنشد: عِيشِي ولا يَوْمِي بِأنْ تَمَاتِي (¬1) فإن ثَبَتَ هذا، فهو لُغَةٌ. قالَ ابنُ عباس (¬2): هذه الآية رَدٌّ على المنافقين؛ حيث اختاروا الدنيا على الآخرة، وتركوا الجهاد؛ مَحَبَّةً للدنيا. فقيل للمؤمنين: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} ليغفرن لكم، وهو {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. وقوله تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ}. {لَمَغْفِرَةٌ} (¬3): جواب القسم. وقد قام مقام جواب الجزاء. وقوله تعالى: {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي: من أعراض الدنيا، التي ¬

_ = وقول المؤلف: (هذا مذهب الخليل، وحكى المبرد): ليس في "الحجة"، للفارسي. وما بعده إلى نهاية بيت الشعر، في "الحجة". (¬1) شطر بيت من الرجز، لم أقف على قائله. وقد ورد غير منسوب في: الجمهرة، لابن دريد 3/ 1308، و"الحجة" للفارسي 3/ 93، و"الصحاح" 1/ 267 (موت)، و"تفسير القرطبي" 1/ 220، و"شرح الشافية" 1/ 137، و"اللسان" 7/ 4295 (موت)، و"الدر المصون" 1/ 174، 3/ 458، و"شرح شواهد الشافية" 57. وتمام البيت: بنيتي سيدة البنات ... عيشي ولا يومي بأن تماتي وقد ورد في بعض المصادر: (بُنيَّ يا سيدة ..)، وورد: (ولا نأمن أن ..)، و (لا يُؤمَنُ أن ..). أما (يَوْمي) فقد وردت في (الجمهرة)، و"الحجة" فقط من المصادر السابقة. وورد: (بنيتي يا خِيرَة البنات). قال ابن دريد عن (مِتَّ تمات): (وأكثر ما يتكلم بها طيِّئ، وقد تكلم بها سائر العرب). "الجمهرة" 3/ 1308. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).

158

يتركون القتال (¬1) في سبيل الله؛ للاشتغال بجمعها. وروي عن ابن عباس، أنه قال (¬2): {تَجمَعون} (¬3): خطاب المنافقين؛ لأنه قال: {خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُون} (¬4) يا معشرَ المنافقين. ومثله، قال الكَلْبِيُّ (¬5). وقرأ حَفْص، عن عاصم: {يَجمَعُونَ} -بالياء-. ويكون المعنى: لَمَغْفِرةٌ مِن اللهِ ورَحْمَةٌ، خيرٌ مِمَّا يجمعُهُ غَيْرُكُم، مِمَّا تَرَكوا القِتَال لِجَمْعِهِ (¬6). 158 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ} قال المفسرون: يريد: مقيمين عن الجهاد. {أَوْ قُتِلْتُمْ}؛ يريد: مجاهدين (¬7). {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}؛ يعني: في الحالين. وهذا تهديد بالحشر، وتحذير من القيامة. واللام في {لَئِنْ} خلف من القسم. والثانية (¬8): جواب، على معنى: والله إن متم، أو قتلتم لتحشرون إلى الله. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (للقتال). والمثبت من (ب). وهي الصواب انظر: "الحجة"، للفارسي 3/ 94، فقد وردت العبارة فيه. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "زاد المسير" 1/ 485. (¬3) قرأ {تَجمَعُونَ} -بالتاء- كلُّ القرَّاءِ، ما عدا عاصم في رواية حفص؛ حيث قرأها: {يَجمَعُونَ} بالياء. انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 94، و"الكشف" 1/ 362. (¬4) في (ج): (يجمعها). (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 93. (¬7) انظر: "بحر العلوم" 1/ 310، و"زاد المسير" 1/ 485. (¬8) أي (اللام) التي في قوله: {لَإِلَى اللَّهِ}.

159

قال أبو عبيد: وتقول في الكلام: (لَئِن أحسنتَ إِليَّ؛ لأحْسِنَنَّ إليك) -بالنُّونِ-. فإذا حُلْت بينهما بالصفة (¬1)، قلت: (لَئِن أحسنتَ إليَّ، لإليكَ أُحْسِن) -بغير نُونِ-. كما في الآية-، لأن اللام قد تحولت إلى الصفة (¬2). 159 - قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. أكثر النحويِّينَ على أنَّ (ما) -ههنا- صِلَةٌ (¬3)، لا تمنع الباءَ مِن عَمَلِها فيما عملت فيه، وهي مع كونها صلةً، تُحْدِثُ معنى التأكيد (¬4) وحُسْن النَّظْم. وهي كثيرةٌ في القرآن؛ كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40]، و {جُندٌ مَّا} [ص: 11]، {فبَمَا نَقضِهِم} [النساء: 155]، {مِمَّا خَطَايَاهُمْ} (¬5) [نوح: 25]. ¬

_ (¬1) (بالصفة): ساقطة من (ج). ويعني بـ (الصفة): حرف الجَرِّ. (¬2) انظر: "الأصول في النحو" 2/ 166، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 919. (¬3) (صلة)؛ بمعنى زيادة. (¬4) في (ب): (التوكيد). (¬5) المؤلف -هنا- أوردها على قراءة أبي عمرو: {خَطَايَاهُم}. وقرأ الباقون: {خَطِيئَاتِهِمْ}. انظر: "الكشف" لمكي 2/ 337، و"إتحاف فضلاء البشر" (425). وممن ذهب إلى كون (ما) -هنا- (صِلَة): الفراء في: "معاني القرآن" 114، والمبرد في "الكامل" 1/ 342، والطبري في "تفسيره" 4/ 150، وكراع النمل في "المنتخب" 2/ 687، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 482، وابن شقير في "المحلى ووجوه النصب" 290، وابن جني في "سر صناعة الإعراب" 1/ 261، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 136 أ، والسفاريني في "لباب الإعراب" 463. قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 482: "ما" بإجماع النحويين -هنا- صِلَةٌ، لا تمنع الباء من عملها فيما عملت.

[وتكثر] (¬1) -أيضًا- في الشعر؛ قال امرؤ القيس: وقاهم جَدُّهُمْ بِبَني أبِيهم ... وبالأشْقَيْنَ ما كانَ العِقَابُ (¬2) أراد: (وبالأشْقَيْنَ (¬3) كان العِقَابُ) (¬4). وقال النابغة: المرءُ يَهْوَى أنْ يَعِيـ ... ـشَ وطُولُ عَيْشٍ ما يَضُرُّهْ (¬5) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬2) البيت في "ديوانه" 45. وورد منسوبًا له في "الأصمعيات" 131، و"الشعر والشعراء" 54، وكتاب "المعاني الكبير" 2/ 886، و"فصل المقال" للبكري 385. البيت من قصيدة قالها الشاعر حين غزا بني أسد فأخطأهم، وأصاب بني كنانة بدلًا منهم، وهو لا يدري. و (الجَدُّ) -هنا-: الحظ والبخت. أي: أن بني أسد وقاهم حظهم من سطوته، بقتل بني عمهم -بني كنانة- لأن أسد وكنانة أخوان. والشاهد في البيت زيادة (ما) في قوله: (وبالأشقين ما كان العقاب). ويجوز كون (ما) مع الفعل بتأويل المصدر؛ أي: وبالأشقَيْن كون العقاب. (¬3) في (ج): (بالأشقين). بدون واو. (¬4) (العقاب): ساقطة من (ج). (¬5) البيت نسب للنابغة الذبياني، وقد ورد في ديوانه 122. ونسبته له المصادر التالية: "الشعر والشعراء" 85، و"جمهرة أشعار العرب" (63)، و"الأضداد" لابن الأنباري 196. ونسب للنابغة الجعدي، وقد ورد منسوبًا له في "ديوانه" 191. ونسبته إليه المصادر التالية: "الأمالي" للقالي 2/ 8، و"الأمالي" للمرتضى 1/ 266، و"الأشباه والنظائر في النحو" للسيوطي 5/ 163، و"خزانة الأدب" 3/ 172. وقد ورد في الشعر المنسوب لِلَبِيد. انظر "ديوانه" 356. وأورده ابن الشجري في "أماليه" 2/ 365، ونسبه لبعض المُعمِّرِين. وورد في: "المدخل" للحدادي 146، و"زاد المسير" 1/ 485 ونسباه للنابغة ولم يحددا مَن مِنهما. =

أراد: (وطول عيش يَضُرُّهْ). فأكد الكلام بـ (ما). والعرب قد تزيد في الكلام ما يُسْتغنى عنه؛ للتأكيد؛ كقوله: (أنت فعلت كذا وكذا؛ يا هذا!) فأدخلوا (يا هذا)؛ للتأكيد؛ إذ كانت (أنت) دالاًّ على الخطاب. وكذلك قولهم: (لَمَّا أنْ زارني عبد الله، زُرْتُه). معناه: لَمَّا زارني (¬1). قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]، أراد: فلَمَّا جاء. فأكّد بـ (أنْ) (¬2). وكذلك قولهم: يا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ (¬3) ¬

_ = وورد غير منسوب في: "أمالي الزجاجي" 111، و"النكت والعيون" 2/ 911. وورد البيت بروايات عدة منها: (المرء يرغب في الحياة)، و (المرء يأمل أن يعيش). و (المرء يهوى ما يعيش). وورد: (وطول عيش ..)، و (وطول عمر ..). وورد: (قد يضره) بدلًا من: (ما يضره) وليس فيها موضع الشاهد. ويجوز أن تكون (ما) في البيت بمعنى (الذي)، والتأويل: وطول عيش الذي يضره. انظر: "الأضداد"، لابن الأنباري 196. (¬1) انظر: "مغني اللبيب" 50. (¬2) في (ج): (أن). بدلًا من: بأن. (¬3) في (أ)، (ب): (يتم يتم)، والمثبت من (ج)، ومصادر الشاهد. وهذا جزء من بيت شعر لجرير، وهو في "ديوانه" 219، وتمامه: يا تيمَ تيمَ عَدِيٍّ لا أبا لكُمُ ... لا يُوقِعَنَّكمُ في سَوْأةٍ عُمَرُ وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" 1/ 53، 2/ 205، و"الكامل" 3/ 217، و"المقتضب" 4/ 229، و"اللامات" 101، و"الخصائص" 1/ 345، و"العمدة" 2/ 841، و"شرح المفصل" 2/ 10، 105، و"اللسان" 1/ 18 (أبي)، و"المقاصد النحوية" 4/ 240، و"شرح شواهد المغني" 2/ 855، و"خزانة الأدب" 2/ 298، 301, 4/ 99, 107, 8/ 317, 10/ 191.

أكد الكلام بـ (تَيْم) (¬1) الثاني. هذا قول أكثر أهل التأويل. وقال بعضهم (¬2): يجوز أن تكون (ما) استفهامًا للتعجب (¬3)، تقديره: (فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لهم؟!)؛ أي: سَهُلَتْ لهم أخلاقُكَ، وكثر ¬

_ = وورد غير منسوب في: "الأصول في النحو" 1/ 343، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 307، و"شرح ابن عقيل" 3/ 17، و"ارتشاف الضرب" 3/ 315، و"منهج السالك". 3/ 153، و"همع الهوامع" 5/ 196، 2/ 122، و"الدرر اللوامع" 2/ 154. وورد في أكثر المصادر: (لا يُلْقِيَنَّكُمُ في سوأة ..). والبيت من قصيدة قالها الشاعر في هجاء عمر بن لَجَأ التَيْمِي. ويعني بـ (تيم): تيم بن عبد مناة بن أدّ. و (عدي) أخو (تيم). وأضاف (تيم) إلى (عدي) تخصيصًا، وتمييزًا لهم عن بطون عدة كلها تُدْعَى تَيْمًا. وقوله: (لا أبا لكم)، أصلها: أن يُنسب المخاطبُ إلى غير أب معلوم؛ شتمًا له، ثم كثرت في الاستعمال حتى جُعلت في كل خطاب يغلظ فيه على المخاطب. و (السوأة): الفعلة القبيحة. يريد الشاعر تحذير بني تيم، وهي قبيلة عمر بن لجأ، بأن يمنعوا عمر من التعرض للشاعر بهجاء؛ وإلّا فإن الشاعر سيتعرض لِتَيْم في شعره، ويلقيهم في بلِيَّة، هم في غنى عنها. ويجوز في (تيم) الأولى الضمُّ، على أنه منادى مفرد عَلَم، ويحوز النصبُ على تقدير إضافته إلى ما بعد (تيم) الثانية، أو بتقدير إضافته إلى محذوف وهو: (عدي). (وتيم) الثاني لا يجوز فيه إلا النصب على أنه منادى مضاف، أو مفعول بإضمار (أعني)، أو عطف بيان، أو توكيد، أو بدل. انظر: "ارتشاف الضرب" 3/ 135. والشاهد فيه: تكرير (تيم) للتأكيد. (¬1) في (أ)، (ب): يتم. والمثبت من (ج). (¬2) لم أقف على القائل. وممن أورد هذا القول ممن سبق المؤلف: الثعلبيُّ في "تفسيره" 3/ 136 أ، قائلاً: (وقال بعضهم: ..) ولم يعين. (¬3) ورد في: (ج) في هذا الموضع كلمة زائدة، لا وجه لها، وهي: (قوله).

احتمالك (¬1). وقوله تعالى: {لِنْتَ لَهُمْ} (لانَ، يَلِينُ، لِينًا) (¬2)، و (لَيَانًا) -بالفتح: إذا رَقَّ، وحَسُنَ [خُلُقُهُ] (¬3)، وانْقادَ (¬4). قال الشاعر: وإنْ هي أعطتك اللَّيانَ كأنها ... لِغَيرك مِن خُلّانِها سَتَلِينُ (¬5) ¬

_ (¬1) وقد جوز هذا الرأي الفخر الرازي في "تفسيره" 9/ 64 قائلًا: (وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين، غير جائز)، ثم ذكر هذا الرأي واستصوبه. والذي دفع لهذا الرأي هو تنزيه كتاب الله من أن يكون فيه حرف زائد مهمل، لا معنى له. وهذا فيه نظر؛ لأن القائلين بزيادة (ما) ويغرها من الحروف، لا يقصدون جواز سقوطها، وأنها مهملة لا معنى لها، بل يقولون: إنها مَزيدة لمعنًى مقصود، وهو -هنا- في (ما): التوكيد؛ أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواردة في القرآن. وكون (ما) للاستفهام التعجبي، قد رَدَّه علماءُ النحو، من ناحية الصناعة النحوية، ومنهم: ابن هشام في "المغني" 394، وأبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 98، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 362. (¬2) ضُبطت: (لَيْنًا) بفتح اللام، في "تهذيب اللغة" 4/ 3314 (لين)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 136 أ، وضبطت في بقية المصادر اللغوية التالية: (لينا) بكسر اللام. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) ورد في مصادر اللغة: اللِّين: ضد الخشونة، قال الراغب: (ويستعمل ذلك في الأجسام، ثم يستعار للخُلُق وغيره من المعاني). "مفردات ألفاظ القرآن" 752 (لين). أما (اللِّيان) بكسر اللام فمصدر الملاينة، يقال: (لايَنْته مُلايَنْة)، و (لِيَانا). انظر (لين) في: "جمهرة اللغة" 2/ 989، و"الصحاح" 6/ 2198، و"المقاييس" 5/ 225، و"اللسان" 7/ 4117، و"القاموس" (1232). (¬5) البيت، لكُثَيِّر عَزَّة وقد ورد منسوبًا له في: "زهر الآداب" 1/ 17. وليس في ديوانه، وأورده محقق ديوانه وجعله مما نُسِب له، وأحال على المصدر السابقة =

وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} الفظُّ (¬1): الغليظ الجانب، السَّيّءُ الخُلُق (¬2). يقال: (فَظِظْتَ، تَفَظُّ، فَظَاظَةً، وَفِظَاظًا)، فأنت فَظٌّ (¬3)، وأصله. (فَظِظٌ)؛ كقولك: (حَذِرٌ) (¬4)؛ من: (حَذِرْتَ) (¬5)، و (فَرِقٌ) (¬6)؛ مِن: (فَرِقْتَ). إلّا أنَّ ما كان مِن المضاعف على هذا الوزن، يُدْغَم؛ نحو: (رَجُلٌ صَبٌّ) (¬7). وأصله: صَبِبٌ) (¬8). ¬

_ = انظر "ديوانه" 176. ورواية البيت في المصدر السابق: وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من خلانها ستلين (¬1) من قوله: (الفظ ..) إلى (.. وأصله صبب): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن"، للزجاج: 1/ 483. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2806 (فظظ)، و"الفرق بين الحروف الخمسة" 155، و"زينة الفضلاء" للأنباري 98. (¬3) انظر: "اللسان" 6/ 3437 (فظظ). قال الراغب: (الفظُّ: الكريه الخُلُق؛ مستعار من: (الفظِّ)؛ أي: ماء الكرش، وذلك مكروه شربه، لا يتناول إلا في أشدّ ضرورة). "مفردات ألفاظ القرآن" 640 (فظظ). (¬4) في (أ): (حَذِرَ) بفتح الراء، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل، والصواب ما أثبت. (¬5) في (أ): (حَذَرت) بفتح الذال، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل، والصواب ما أثبت، وهي بكسر الذال. انظر: (حذر) في: "التهذيب" 1/ 767، و"القاموس" 373. (¬6) في (أ): (فَرِق) بفتح القاف. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والصواب ما أثبت. يقال: (رجلٌ فَرقٌ): شديد الفزع. انظر: "القاموس" 917 (فرق). (¬7) في (أ): (صبِّ)، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والصواب ما أثبت. يقال: (رجلٌ صبُّ): بيِّنُ الصَّبَابَة. والصبابة: رِقّة الشَّوْق. انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 71 (صب)، و"المخصص" 4/ 61. (¬8) في (أ): (صبَبٌ) بفتح الباء الأولى، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل، =

قال الكلبي (¬1): ولو كنت فظًّا في القول، غليظ القَلْبِ في الفعل (¬2). {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي: لَتَفَرَّقوا وَنَفَرُوا منك؛ كما تتطاير شظايا الشيء المتكَسِّر. والفَضُّ: الكسر والتفريق (¬3). يقال: (فَضضْتَ القومَ، فانْفَضُّوا). ومنه يقال: (لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ) (¬4). قال الزّجاج (¬5): المعنى: إنَّ لِينَكَ لهم، يُوجِبُ (¬6) دخولهم في الإسلام (¬7)؛ لأنك تأتيهم بالحُجَجِ والبراهين، مع لِينٍ وخُلُقٍ عظيم. ¬

_ = والصواب ما أثبت. قال سيبويه عن (صَبِّ): (زعم الخليل أنها (فَعِلٌ)؛ لأنك تقول: (صَبِبْتُ صبابة)، كما تقول: (قَنِعْتُ قَناعةً)، و"قَنِعٌ". "كتاب سيبويه" 4/ 419. وانظر: "المخصص" 4/ 61. (¬1) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 136 ب. (¬2) قال السمين الحلبي: (وعن الغِلْظَةِ تنشأ الفظاظة، فلم قُدِّمت؟ فقيل: قدِّم ما هو ظاهر للحسِّ، على ما هو خافٍ في القلب؛ لأنه كما تقدم أن الفظاظة: الجفوة في العشرة قولًا وفعلًا. والغِلْظُ: قساوة القلب، وهذا أحسن من قَوْلِ من جعلهما بمعنًى، وجمع بينهما). "الدر المصون" 3/ 463. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2799 (فض)، و"الفرق بين الحروف الخمسة" 156، و"زينة الفضلاء" 98. (¬4) معناه لا يكسر الله أسنانك، ويفرِّقها. والفم يقوم مقام الأسنان. وقد يقال: (لا يُفْضِ الله فاك)، ومعناه حينها: لا يجعل الله فاك فضاءً، لا أسنان فيه. انظر: "الزاهر" 1/ 274 - 277، و"تهذيب اللغة" (فض) 3/ 2799، و"الفائق" 3/ 123، و"النهاية في غريب الحديث" 3/ 453. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 482. نقله عنه بنصه. (¬6) في "المعاني" مما يوجب. (¬7) في "المعاني" في الدين.

وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ}. أي: ما فعلوا يومَ أُحُد حتى أشفعك فيهم. وقال الكلبي: فاعف عنهم أي الشيء يكون منهم و {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}. مِنْ ذلك الذَنْب. وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} يقال: (شَاوَرَ مُشَاوَرَةً)، و (شِوارا) (¬1)، و (مَشُورَةً) (¬2)، و (مَشْوَرَةً) (¬3). و (القوم شُورى). وهي مصدرٌ، سُمِّي القومُ بها، كقوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} (¬4) [الإسراء: 47]. وقد ذَكَرْنا أمْرَ هذه الكلمة وما فيها، عند قوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: 233]. قال أصحاب المعاني (¬5): هذه عامَّةٌ في اللفظ، خاصَّةٌ في المعنى؛ لأن المعنى: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله (¬6) أَمْرٌ وَوَحْيٌ (¬7) وعَهْد. يدل عليه: قراءةُ ابن عباس: (وشاورهم في بعض الأمر) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ج): (سوارا). (¬2) قال في (لسان العرب): (والمَشُورَة بضم السين (مَفْعَلة) ولا تكون (مفعولة)؛ لأنها مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال (مفعولة)، وإن جاءت على مثال (مفعول)، وكذلك المَشْوَرَة) 4/ 2358 (شور). (¬3) (ومَشْوَرة): ساقطة من (ج). انظر (شور) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1803، و"اللسان" 4/ 2358. (¬4) في (ج): (فإذا). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 483. ومن قوله: (قال أصحاب المعاني ..) إلى نهاية تفسير هذا المقطع: موجود في "تفسير الثعلبي" 3/ 137أ. نقله عنه بالمعنى. (¬6) في (ب): (من الله فيه) بدلًا من (فيه من الله). (¬7) في (ج): (ورحى). (¬8) أخرج هذه القراءة عنه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (257)؛ وابن أبي =

وقال الكلبي (¬1): إنما أُمِرَ بالمُشَاوَرَةِ معهم في لِقَاءِ العدُوِّ، والحربِ ومكايِدِها (¬2). فالأمر -عنده- بالمشاورة، خاصٌّ في الحرب. وروى عَمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قال (¬3): الذي أُمِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بمشاورته في هذه الآية: أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما-. وقال قتادة (¬4)، والربيع (¬5)، ومقاتل (¬6): إنما أُمِرَ بالمشاورة مع استغنائه بوحي الله وجَزَالَةِ رأيه؛ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِ القوم، ورَفْعًا (¬7) مِن أقدارهم؛ إذْ كانت العربُ إذا لم يُشَاوروا في الأمر، شَقَّ عليهم. ¬

_ = حاتم في "تفسيره" 3/ 802، وذكرها ابن جني في "المحتسب" 1/ 175، وأبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 311، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 137أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 489، ونسبها -كذلك- إلى ابن مسعود، وذكرها السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 160 وقال: (بسند حسن)، وزاد نسبة إخراجها إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬1) قوله في: "تفسير الثعلبي" / 137 أ. (¬2) من قوله: (ومكايدها ..) إلى (.. خاص في العرب): ساقط من (ج). (¬3) أخرج قوله: الحاكم في "المستدرك" 3/ 70 كتاب معرفة الصحابة. وقال: (صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 109 كتاب أدب القاضي. باب: (مشاورة الوالي ..)، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 502. (¬4) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 152، و"ابن أبي حاتم" 3/ 802، و"الثعلبي" 3/ 137أ، وأورده السيوطى في "الدر" 2/ 159وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 152، والمصادر السابقة. (¬6) قوله في: "تفسيره" 1/ 310، و"تفسير الثعلبي" 3/ 137 أ. (¬7) في (ب): (ورخصا).

قال الشافعي ((¬1): وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والبِكْرُ تُسْتَأمَر" (¬2)، ولو أكرهها (¬3) الأبُ على النِّكاح، جَازَ، لكنَّها تُسْتَأمر؛ تطييبا لِنَفْسِها. وقال الحَسَنُ (¬4)، وسُفْيانُ بن عُيَيْنَة (¬5): إنما ذلك؛ لِيَقْتَدِيَ به غيرُهُ في المُشَاوَرَةِ، ويَصِير سُنَّة. وقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ}؛ أي: على ما تريد إمضاءَهُ (¬6). {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، لا على المشاورة. ومعنى التَّوَكُّلِ: تفويضُ الأَمْرِ إلى الله؛ لِلثِّقَةِ بِحُسْنِ تدبيره. ¬

_ (¬1) قوله معناه في كتاب "الأم" 5/ 19. (¬2) الحديث: أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (1421) كتاب النكاح. باب: (استئذان الثيب في النكاح). ونصه عنده: (الثَّيِّبُ أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستَأمَر، وإذنها سكوتها). وورد عنده بلفظ: "الأيِّم أحق .. والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتُها). وأخرجه الشافعي بلفظ (تستأمر) في "الأم" 7/ 165، وبلفظ (تستأذن) في "الأم" 2/ 19، وأخرجه أحمد في "المسند" 1/ 219، وانظر: "الدراية" لابن حجر 2/ 59، 61، 62. (¬3) في (ب): أكرمها. (¬4) قوله في: كتاب "الأم" للشافعي 7/ 100، و"أحكام القرآن" له 2/ 119، و"تفسير ابن أبي حاتم" 632، و"معاني القرآن" للنحاس 502، و"سنن البيهقي" 10/ 109، كتاب "آداب القاضي"، و"زاد المسير" 1/ 488. وأورده السيوطي في: "الدر" 2/ 159 وزاد نسبة إخراجه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬5) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 153، و"زاد المسير" 1/ 488. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): إمضاؤه. وما أثبت هو الصواب.

160

160 - قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} الآية. معنى (الخِذْلان): القعود عن النُّصرَةِ وقت الحاجة إليها، والإسلامُ للهَلَكَةِ. يقال: (خَذَلَ، يَخْذُلُ، خِذْلانًا، وخَذْلًا). ويقال للبقرة والظَّبْيَة، إذا تخلفت مع ولدها في المرعى، وتركت صواحباتها: (خَذُول) (¬1). قال (¬2) طَرَفَة: خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ أطرافَ البَرِيرِ وترتدي (¬3) ¬

_ (¬1) وتُسمَّى كذلك: خاذِل. انظر هذه المعاني لـ (خذل) في: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي 121، و"التهذيب" 1/ 998، و"معاني القرآن"، للنحاس 1/ 503، و"المقاييس" 2/ 165، و"الكليات" لأبي البقاء 310، و"اللسان" 2/ 1118. (¬2) في (ج): (وقال). (¬3) البيت من معلقته، وهو في: "ديوانه" 21، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 141، و"جمهرة أشعار العرب" ص 149، و"تهذيب اللغة" 1/ 999 (خذل)، و"المقاييس" 2/ 165، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني 47، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي 58، و"اللسان" 2/ 1118 ولم ينسبه. قوله: (تراعي ربربا)؛ أي: ترعى مع (الرَّبْرَب)، وهو: قطيع الظباء وبقر الوحش، وقيل: أولاد البقرة. و (الخميلة): الأرض السهلة اللينة، التي فيها شجر. والجمع: (خَمائل). و (البَرِير): ثمر الإراك البالغ، ومفردها: (بَرِيرة). وخَصَّ الخذول -هنا-؛ لأنها فَزِعةٌ بانفرادها، وَلِهَةٌ على وليدها، فهي تمد عنقها مرتاعة، فيظهر -حينها- جمالها، وحسنها، ولو كانت في قطيعها، لم يَبِنْ حسنُها، ثم وصفها بأنها ترعى أطراف شجر الأراك، وتمد عنقها، وتتطاول؛ لتنال ما علا من أغصان الشجر، فتتهَدَّل عليها الأغصان حتى تصبح كأنها رداءٌ لها. انظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري 141 - 142، والتبريزي 58 - 59.

وقال ذو الرُّمَّةِ (¬1): دَعَتْ مَيَّةَ الأعدادُ واستَبدَلت بها ... خَنَاطِيلَ آجَالٍ (¬2) مِنَ العِينِ (¬3) خُذَّلِ (¬4) أي: متخلفات من الأولاد. والخَنَاطِيل (¬5): جماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ، لا واحد لها مِنْ لَفْظِها. وقيل: واحدها (خُنْطُول) (¬6). ¬

_ (¬1) هو: أبو الحارث، غَيْلان بن عُقْبَة بن بُهَيْش. شاعر إسلامي، في الطبقة الثانية من فحول شعراء الإسلام، مات سنة (117هـ). انظر: "الشعر والشعراء" ص 350، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 549، و"وفيات الأعيان" 4/ 11. (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من مصادر البيت. (¬3) في (أ): (العَيْن). في (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من مصادر البيت. (¬4) البيت في: ديوانه: 1455. وورد منسوبًا له في: "الصحاح" 4/ 1686 (خطل)، و"اللسان" 5/ 2835 (عدد)، و"التاج" 14/ 215 (خنطل). (الأعداد): جمع (عِدٍّ)، وهو الماء الدائم الذي لا ينقطع. و (الخناطيل): القطعان من الإبل والبقر، وهي -هنا في البيت- بقر الوحش. و (آجال): جمع: (إجْل) -بكسر الهمزة، وتسكين الجيم- وهو: القطيع من بقر الوحش والظباء. و (العِين): بقر الوحش. والثور منها: (أَعْيَن)، والبقرة: (عَيْناء). و (خُذل): أي: أقامت على ولدها، وتركت صواحبها. الشاعر -هنا- يذكر امرأة تسمى (ميّة)، وهي التي كان يشبب بها ويعشقها، يقول: تركت منازلَها وظعنت عنها، بعدما نضبت الغدرانُ في القيظ، وحضرت ماءً عِدًّا؛ واستبدلت الدارُ بها بقرَ الوحش، التي خالفتها إلى منازلها وأقامت فيها. انظر: "اللسان" 5/ 2835 (عدد)، 3/ 1278 (خنطل)، 1/ 32 - 33 (أجل) , و"القاموس" ص 1218 (عين). (¬5) في (أ)، (ب)، (ج): والخناظيل -بالظاء-. والمثبت من: مصادر اللغة. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): (خنظول) بالظاء. =

161

قال محمد بن إسحاق بن يَسَار -في هذه الآية- (¬1): أي: إنْ يَنْصُرْكَ (¬2) اللهُ؛ فَلاَ غالبَ لك مِنَ النَّاس، ولن يَضُرَّكَ خِذْلانُ مَنْ خَذَلَكَ، وإنْ يَخْذلْكَ؛ فَلَنْ يَنْصُرَكَ الناسُ؛ أي: لا تترك أمري للناس، وارفض الناسَ (¬3) لأمري. وقوله تعالى: {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}. (مَنْ) -ههنا-: تقريرٌ لِلنَّفْي؛ أي: لا يَنْصُرُكُمْ أحدٌ (¬4) مِنْ بَعْدِهِ. وإنما تضمن حرفُ الاستفهام معنى النفي؛ لأن جوابَهُ يجب أن يكون بالنفي، فصار ذِكْرُهُ يغني عن ذِكْرِ جوابه، وكان أبلغ لتقرير المخاطَبِ فيه، بما لا يتهيأ له إنكاره. 161 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الآية. اختلفوا في سبب نزول هذه الآية: فرَوَى عكرمةُ، ومِقْسَم (¬5)، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنَّ الآية ¬

_ = الوارد في كتب اللغة التي رجعت إليها، أن واحد الخناطيل: (خِنْطيلة)، و (خُنْطُولة). أما (الخنطول)، فهو يطلق على: القرن الطويل. انظر: "التهذيب" 1/ 1113 (خنطل)، و"الصحاح" 4/ 1686 (خطل)، و"اللسان" 3/ 1278 (خنطل)، و"التاج": 14/ 215 (خنطل). (¬1) قوله، في:"سيرة ابن هشام" 3/ 70، و"تفسير الطبري" 4/ 154، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 803. (¬2) في (ج): (ينصركم). (¬3) في "سيرة ابن هشام": (وارفض أمر الناس ..). (¬4) (أحد): مطموسة في: (ب). (¬5) هو: أبو القاسم، مِقْسم بن بُجْرة، ويقال: نَجْدة الكِنْدي، ثم التُّجيبي النخعي. يقال له: مولى ابن عباس، من مشاهير التابعين، أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبايع =

نزلت في قَطِيفَةٍ (¬1) حمراءَ، فُقِدَت يوم بَدْر، قال بعض الناس: لَعَلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها (¬2). وقال -في رواية الضحّاك- (¬3): إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لَمَّا وَقَعَ في يده غنائمُ هَوَازِنَ يوم حُنَيْنٍ، غَلَّهُ رجلٌ بِمِخْيَط، فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة -في نزول هذه الآية- (¬4): نزلت وقد غَلَّ طوائفُ مِن أصحابه. ورُوي عن ابن عباس -من طريقٍ آخرَ-: أنَّ أشراف الناس ¬

_ = معاذًا في اليمن، ويقال: إن له صُحبة، صَدوق وكان يُرْسل، مات سنة (101هـ). انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 301، و"الإصابة" 3/ 455، و"تقريب التهذيب" 545 (6873). (¬1) القطيفة: دِثَارٌ أو كِسَاءٌ مُخَمَّلٌ؛ أي: له أهداب. وجمعها: قطائف، وقُطُف. انظر (قطف) في: "القاموس" 845، و"المعجم الوسيط" 2/ 753. (¬2) الأثر عن ابن عباس -من رواية مقسم-، أخرجه: أبو داود (3971) كتاب الحروف والقراءات، والترمذي (3009) كتاب التفسير. باب: (4) من سورة آل عمران. وقال: (حديث حسن غريب)، والطبري في "تفسيره" 7/ 348، 349، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 361 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد. ومن رواية عكرمة، أخرجه: الطبري في "تفسيره" 4/ 155، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 803، والطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 364 رقم (12028، 12029)، والواحدي في "أسباب النزول" (130). ومن رواية سعيد بن جبير، أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 155. (¬3) من رواية جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس، أوردها الثعلبي 3/ 140 ب، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 490. (¬4) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 157، و"زاد المسير" 1/ 490. وهذا القول من قتادة تفسير للآية على القراءة الثانية {يَغُلَّ}.

استدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وطلبوا] (¬1) تخصيصهم (¬2) بشيءٍ مِنَ المغانم؛ فنزلت هذه الآيةُ (¬3) وقال الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5): نزلت حين ترك الرُّمَاةُ المَرْكَزَ يومَ أحُد؛ طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أنْ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن (¬6) أخَذَ شيئًا فهو له، وأنْ لا يقسِم الغنائمَ، كما لم يَقْسِمْ (¬7) يومَ بَدْر. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ظننتم أنَّا نَغُلُّ، ولا نَقْسِم لكم. فأنزل الله هذه الآية. وفي قوله {يَغُلَّ} قراءتان: أحدهما: فتح الياء، وضم الغَيْن (¬8)؛ ومعناه: ما كان لِنَبِيٍّ أن يَخُونَ. مِنَ (الغُلُول)، وهو: الخِيَانَةِ. يُقال: (غَلَّ، يَغُلُّ، غُلُولًا): إذا خَانَ، وأصلُهُ: أخْذُ الشيء في خُفْيَةٍ (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) ويجوز أن تكون: لتخصيصهم. بدلًا من الكلمة التي أضفتها قبلها. (¬3) لم أقف على مصدر هذه الرواية، وقد ذكرها ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 490. (¬4) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 140 ب. (¬5) قوله في "تفسيره" 1/ 310، والمصدر السابق. وبه قال الفراء في "معاني القرآن" 1/ 246. (¬6) من قوله: (من ..) إلى (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -): ساقط من (ج). (¬7) في (أ): (يُقْسَم). وفي: (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وأثبَتُّ ضبطَها من "تفسير الثعلبي" 3/ 140 ب؛ نظرًا لتقارب سياق المؤلف لهذا القول، مع سياق الثعلبي، وهي الأليق بسياق الكلام. (¬8) القراءة بفتح الياء، وضم الغَين: {يَغُلَّ}، قرأ بها: ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم. وقرأ الباقون: {يَغُلَّ} -بضم الياء، وفتح الغين-. انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 94، و"النشر" 2/ 243، و"إتحاف فضلاء البشر" 181. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2689.

قال الزّجاج (¬1): وما (¬2) كان مِنْ هذا الباب، فهو راجعٌ إلى هذا، مِنْ ذلك: (الغَالُّ): وهو الوادي الذي (¬3) يُنْبِتُ الشجرَ، في مُطْمَئِن مِنَ الأرض (¬4)، وجمعه: (غُلّان)، ومن ذلك: (الغِلّ): الحقد في الصدر؛ لأنه كامن (¬5)، و (الغِلاَلَة): الثوب الذي يلبس تحت الثياب (¬6). و (الغَلَلُ) (¬7): الماء الذي يجري في أصول الشجر؛ لأنه مستَتِرٌ بالأشجار. فمعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، أي: أن يَخُونَ فيكم (¬8) ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 484، وقد نقله عنه بتصرف، واختصار. وقد ورد نص قول الزجاج في "تهذيب اللغة" 3/ 2689، مع اختلاف يسير عما في "معاني القرآن"، ووافق نقل المؤلف -هنا- عن الزجاج، بعضًا مما في نسخة "المعاني" المطبوعة، ووافق بعضًا مما في "التهذيب"، وليس في "المعاني". مما يدل على أن المؤلف نقل عن نسخةٍ من المعاني فيها بعض اختلاف عن النسخة المطبوعة المتداولة، أو نقل قولَ الزجاج عن كتابٍ آخر تصرف في عبارة الزجاج. (¬2) في "المعاني": فكل ما. (¬3) في (ب): (التي). (¬4) (في مطمئن من الأرض): ليست في "معاني القرآن". والعبارة في "التهذيب" (وهو الوادي المطمئن الكثير الشجر). وانظر: "المنتخب" لكراع النمل 1/ 424. (¬5) في "المعاني": وهو الحقد. وفي "التهذيب": وهو الحقد الكامن. (¬6) قوله: (والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب): أورده في "التهذيب" من قول أبي زيد، وليس من قول الزجاج. (¬7) في (أ)، (ب)، (ج): (الغال). وفي "المعاني": الغل. وما أثبت من مصادر اللغة. انظر (غلل) في: "إصلاح المنطق" 26، و"غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 49؛ و"جمهرة اللغة" لابن دريد 2/ 2012، و"تهذيب اللغة" 3/ 2689، و"المقاييس" 4/ 376، و"اللسان" 6/ 3287. (¬8) هكذا وردت (فيكم) في (أ)، (ب)، (ج)، و"تفسير الوسيط" المؤلف 371. وأرى أن الأصوب أن تكون: (فيكتم)؛ لأنه أنسب للسياق الذي أراد المؤلف من خلاله أن يُدلِّل على أن معنى (الغل) -هنا- فيه كتمان وكمون وستر، وهو أنسب بسبب النزول الذي أورده المؤلف سابقًا، وأشار إليها هنا. ويعزز هذا ما قاله في تفسيره "الوجيز": (أي: يخون بكتمان شيء من الغنيمة عن أصحابه) 1/ 240.

الغنيمةَ مِن أصحابه. أو أنْ يَخُونَ بأن يعطيَ البعضَ دون البعضِ، على ما روي في سبب النزول. فإن قيل: ما معنى تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - ههنا-، وغيرُهُ يساويه في أنه ليس له ذلك؟. قلنا: (أَنْ) مع المستقبل، تكون بمعنى المصدر؛ كأنه قيل: (ما كان لِنَبي الغُلُول)؛ أراد: ما غَلَّ نَبِيٌّ. ينفي عن الأنبياء الغُلُولَ، لا أنه (¬1) ينهاهم بهذا اللفْظَ. وقال (¬2) بعض أهلِ المعاني: اللّام فيه منقولة؛ معناه: ما كان نَبِيٌّ (¬3) ليَغُل، كقوله -عز وجل-: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، أي: ما كان الله لِيَتّخِذَ [ولدا] (¬4)، على نفي الاتخاذ، -كذلك- الآيةُ على نفي الغُلُول عن الأنبياء. وحجة هذه القراءة: ما روي عن ابن عباسٍ -في أكثر الروايات- في سبب نزول الآية، وعن الكلبي ومقاتل، وذلك يدل على نَسَبِ الغُلُول إلى ¬

_ (¬1) في (ج): لأنه -. بدلًا من: (لا أنه). (¬2) من قوله: (وقال ..) إلى (.. ليتخذ ولدا): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" 3/ 141 أ. ولم أقف على من قال بهذا القول، من أصحاب المعاني. (¬3) (في) (ج): (لنبي). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَنَفى ذلك عنه. و-أيضًا- فإنَّ ما هو مِن هذا (¬1) القبيل في التنزيل، أُسنِدَ الفعلُ فيه إلى الفاعل، نحو: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ} [يوسف: 38]، و {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} [يوسف: 76]، و {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} [آل عمران: 145]، و {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} [التوبة: 115] , و {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ} [آل عمران: 179]. ولا يكاد يجيء منه: (ما كان زيدٌ ليُضْرَبَ)، فيُسنَد الفعلُ فيه إلى المفعول به، فكذلك: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} يُسندُ (¬2) فيه الفعلُ إلى الفاعل. يُؤكِّدُ (¬3) هذا الفصل، ما حكى أبو عبيد (¬4) عن يونس (¬5) أنه اختار (يَغُلّ) -بفتح الياء-، وقال: لا يكون في الكلام: (ما كان لك أن تُضْرَب) بضم التاء. ¬

_ (¬1) من قوله: (من هذا ..) إلى (يُسند فيه الفعل إلى الفاعل): نقله -بتصرف يسير- عن "الحجة" للفارسي 3/ 96. (¬2) من قوله: (يسند ..) إلى (.. عن يونس أنه): ساقط من (ج). (¬3) في (أ): (بمؤكد). والمثبت من (ب)، (ج). (¬4) (أ)، (ب)، (ج): (أبو عبيدة). وما أثبَتُّه فمن "تهذيب اللغة" 3/ 2688. فقد ورد فيه: (وأخبرني المنذري، عن الحسين بن فهم، عن ابن سلام، قال: كان أبو عمرو بن العلاء، ويونس يختاران ..) وذكره. وابن سَلّام، هو: أبو عبيد. والمؤلف، كثيرًا ما ينقل عن "تهذيب اللغة" بتصرف. وانظر: "اللسان" 6/ 3286 (غلل). (¬5) هو: أبو عبد الرحمن، يونس بن حبيب الضَبِّي بالولاء نحوي بصري، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وحماد بن سلمة، وكانت له حلقة بالبصرة يحضرها أهل العلم، والأدباء وفصحاء الأعراب، توفي سنة (183هـ). انظر: "أخبار النحويين البصريين" 51، و"طبقات النحويين" للزبيدي 51، و"إنباه الرواة" 4/ 74.

وهذه القراءة اختيار ابن عباس، كان (¬1) يقرأ (يَغُلّ) بفتح الياء، فقيل له: إنَّ ابن مسعود يقرأ: {يُغَلّ}، فقال ابن عباس: قد كان النبي يُقتَل، فكيف (¬2) لا يُخَوَّنُ؟ (¬3). والقراءة الثانية: {يُغَلّ} بضم الياء، وفتح الغين. وهذه القراءة تحتملُ وجهين (¬4): أحدهما: أن يكون من (الغُلُول). والثاني: أن يكون من (الإغلال). فإن جعلتها من (الغُلُول) احتملت معنيين: أحدهما: أن معنى قوله: {وَمَا كاَنَ لِنبيٍّ أَن يُغَلّ} (¬5)؛ أي: ليس لأحدٍ أن يَغُلَّهُ، فيأخذ مِنَ الغنيمة التي حازها (¬6) على طريق الخيانة، وإن كان لا يجوز أن يُغَلّ غيرُ النبيِّ، مِن إمام المسلمين وأميرٍ لهم (¬7). وفائدة تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذِّكْر: أن الغُلُول يَعْظُمُ بحضرته، ويكبر كِبَرًا لا يكبر عند غيره؛ لأن المعاصي بحضرته أعظم. المعنى (¬8) الثاني: أن تكون (أَنْ) مع الفعل، بمنزلة المصدر؛ كما ¬

_ (¬1) من هنا، وإلى: (.. لأن المعاصي بحضرته أعظم): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي 3/ 96 - 97. وهو من تتمة النقل السابق. (¬2) في (ج): (كيف). (¬3) انظر هذا الأثر عن ابن عباس في: "تفسير الطبري" 4/ 155، وانظر قراءة ابن عباس في "تفسير سفيان الثوري" 81، و"المعجم الكبير" للطبراني 11/ 101 (11174). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 124، و"تفسير الثعلبي" 3/ 141 ب. (¬5) (أ)، (ب): (يَغُلّ) -بفتح الياء، وضم الغين، والمثبت من (ج)، وهو الصواب. (¬6) في (أ): (جازها). والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) في (ب): (وأميرهم). (¬8) (المعنى): ساقط من (ب).

ذَكَرْنا في القراءة الأولى. ويكون المعنى: ما كان لِنَبيٍّ غُلولٌ من المُتَحقِّقِينَ بِنُبُوَّتِهِ؛ أي: لم يَخُنْهُ أصحابُهُ وأنصارُهُ، ويكون في هذا ذَمٌّ لِمَن خانَه. يُؤكِّد هذا المعنى ما روى عطاءٌ عن ابن عباس (¬1)، في قوله: {وَمَا كاَنَ لِنبيٍّ أَن يَغُلَّ}؛ يريد: أن يكون ممن يَصْحَبُهُ، أحدٌ يَغُلُّ ويَسْتَحلُّ الغُلُولَ. وإن أخذت بهذه القراءةِ مِنَ (الإغْلال)، احتَمَلَتْ -أيضا- معنيين: أحدهما: أن يكون (الإغلال) بمعنى (الغُلول). يقال: (غَلّ الرجلُ مِنَ الغنيمة، يَغل غَلًّا، وغلولًا)، و (أَغَلّ إغلالًا): إذا سَرَق منها (¬2). ذكره الزّجاج في باب الوفاق (¬3) ومِن هذا يقال: (أغَلّ الجازِر، والسَّالِخُ): إذا أبْقَى في الجِلْدِ شيئًا مِنَ اللَّحْمِ؛ على طريقِ السَّرِقَةِ والخيانة (¬4). قال النَّمْر بن تَوْلَب (¬5): ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر هذه الرواية. (¬2) يقال: (غَلَّ، يَغُلُّ، غُلولًا): للخيانة في المغنم خاصة. و (أغَلَّ، يُغِلُّ، إغلالًا): للخيانة في المغانم، وغيرها. و (غَلَّ، يَغِلُّ، غِلًّا): للحقد والضِّغْنِ والشحناء. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 124، و"إصلاح المنطق" 265 - 266، و"تهذيب اللغة" 3/ 2688 (غلل)، و"ما جاء على فعلت وأفعلت" للجواليقي 57، و"اللسان" 6/ 3285 (غلل). (¬3) لم أقف على مصدر قول الزجاج هذا. (¬4) انظر (غلل) في: "إصلاح المنطق" 65، و"التهذيب" 3/ 2690، و"اللسان" 6/ 3286. (¬5) من بداية بيت الشعر، وإلى (.. أي: لا يقال له: غللت): نقله المؤلف -بتصرف؛ واختصار- عن: "الحجة" للفارسي 3/ 95 - 97. والنَّمْر، هو: ابن تَوْلَب بن أقَيْش العُكْلي، وكُنْيَته: أبو قيس، وأبو ربيعة. شاعر مُخضْرَم، أدرك الجاهلية والإسلام، وَفَدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم وحسن إسلامه. انظر. "الشعر والشعراء" ص 191، و"الإصابة" 3/ 572، و"الأعلام" 8/ 48.

جَزَى اللهُ عنَا جَمْرَةَ ابْنَةَ نَوْفَلٍ ... جَزاءَ مُغِلٍّ (¬1) بالأمانَةِ كاذبِ (¬2) وقال آخر: حَدَّثْتَ (¬3) نفْسَكَ بالوَفَاءِ ولم تَكُنْ ... للْغَدْر خائنَةً مُغلَّ الإصْبَع (¬4) قوله: (لِلْغَدْرِ) (¬5)؛ أي: لِكَراهَةِ الغَدرِ. و (الخائِنَة): يحتمل أن تكَون مصدرا؛ كـ (العافِيَةِ)، و (العَاقِبَةِ). ¬

_ (¬1) في (أ): (مُغَلٍّ). وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من مصادر البيت. (¬2) البيت ورد في "شعره" ص 38، وورد منسوبا له في: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 123، و"إصلاح المنطق" 266، و"الزاهر" 1/ 469، و"تهذيب اللغة" 3/ 2689 (غلل)، و"الصحاح" 5/ 1784 (غلل)، و"المقاييس" 4/ 376 (غلل)، و"المحرر الوجيز" 3/ 401، و"اللسان" 6/ 3285 (غلل). وقد ورد في "التهذيب"، و"الصحاح": (حمزة) بدلًا من (جمرة). ومعنى (المُغِلِّ): الخائن. ورد في إحدى نسخ "إصلاح المنطق" أشار إليها محقق الكتاب: (جَمرة، كانت أخيذة عنده، فسألته أن يزيرها قومها، ففعل، فلما أتتهم منعوها الرجوع ..). ص 266. (¬3) في (ب): (حدثته). (¬4) نسبته المصادر التالية لرجل من بني أبي بكر بن كلاب: "مجاز القرآن" 1/ 158، و"الكامل" للمبرد 1/ 359، و"اللسان" 3/ 1294 (خون). وورد غير منسوب في: "إصلاح المنطق" 266، و"تفسير الطبري" 6/ 156، و"الجمهرة" لابن دريد 1/ 347، و"المخصص" 2/ 4، و"اللسان" 4/ 2395 (صبع)، 6/ 3286 (غلل). يقال: (فلانٌ مُغِلُّ الإصبع): إذا كان خائنًا. انظر: "اللسان" 4/ 2395 (صبع). يخاطب الشاعرُ رجلًا يُسمَّى (قرين بن سُلْميّ الحنفي) قتل أخاه، وقبل هذا البيت: أقَرِينُ إشك لو رأيت فوارسي ... بعَمَايَتَيْنِ إلى جوانب ضَلْفَعِ و (عمايتين)، و (ضلفع): مواضع في نجد. انظر مناسبة البيت في "الكامل" 1/ 358 - 359. (¬5) في (ج): (الغدر).

و-حينئذٍ - يُقَدَّرُ حذفُ المضاف؛ أي: لم يكنَ صاحبَ خائِنَةٍ؛ أي: خيانَة. وإنْ شئتَ جعلته مثل: (راوِيَة). ونَسَبَ (¬1) الإغْلالَ إلى الإصْبَع، كَمَا نَسَبَ (¬2) الآخرُ الخيانةَ إلى اليَدِ، في قوله: أَحَذَّ (¬3) يَدِ القَمِيصِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (أ): (نُسِبَ)، وفي (ب)، (ج) مهملة من الشكل. والمثبت من "الحجة" للفارسي. وهو الصواب؛ حتى تتناسب مع الكلمة المنصوبة المعمولة لها بعدها. (¬2) في (أ): نُسِبَ. وفي (ب)، (ج) مهملة من الشكل. والمثبت من "الحجة" للفارسي، ويقال فيها ما قيل في التي قبلها. (¬3) في (أ)، (ب): أحد. والمثبت من (ج)، ومصادر البيت. (¬4) جزء من بيت شعر، للفرزدق. وتمامه: أأطعَمْتَ العراقَ ورافِدَيْه ... فَزَاريَّا أحَذَّ يَدِ القميصِ وهو في "ديوانه" 338، وورد منسوبًا له في: "الحيوان" للجاحظ 5/ 197، 6/ 510، و"الشعر والشعراء" 1/ 94، و"المعارف" 408، و"الكامل" 3/ 83، و"اللسان" 3/ 1688 (رفد)، 2/ 809 (حذذ). وورد غير منسوب في: "المخصص" 2/ 4، و"همع الهوامع" 1/ 172، و"الدرر اللوامع" 25. جاء في بعض المصادر: (أوَلَّيْت العراق)، وورد: (فَوَلَّيت)، وورد: (بَعَثت إلى العراق)، وفي الهمع: (لأطعمت ..) وهي خطأ بلا شك. ومعنى (أحذَّ يدِ القميص)، أي: خفيف اليد. يصفه بالغلول والسرقة، وأراد: أحذ اليد، وأضاف اليد إلى القميص؛ لحاجته. و (الحَذَذ): السرعة، وقيل: السرعة والخفة، و-كذلك-: خفة الذنَب، واللحية. و (فرسٌ أحَذّ): خفيف شعر الذنب، و (رجل أَحَذّ): سريع اليد خفيفها، وهذا التفسير هو الذي أراده المؤلف أعلاه. وقيل: (الأحَذّ): المقطوع؛ أي: أنه قصير اليد عن نيل المعالي، فجعله كالأحذ، الذي لا شعر لذنبه. انظر: "اللسان" 2/ 808 (حذذ).

قال: جعلت (الإغلالَ) بمعنى (الغُلول). فقد ذكرنا للغُلُول معنيين في هذه القراءة. المعنى الثاني: أنْ يكون (الإغلالُ) بمعنى النسبة إلى الغُلُول. وقد يَردُ (¬1) (الإفْعَال) بمعنى النسمة، شاذًّا، وإن كان الأكثر فيه التَفْعيل؛ كقولهم: (أسْقاهُ)، أي: قال له: سَقَاكَ اللهُ (¬2). ومنه قول ذي الرُّمَّة: وأُسْقِيهِ حتى كاد (¬3) ... البيت. ¬

_ = والبيت، ضمن أبيات، يهجو بها الشاعرُ عمرَ بن هبيرة الفزاري، ويخاطب -معاتبًا- يزيدَ بن عبد الملك، الذي ولَّى ابنَ هبيرة العراقَ. (¬1) في (ج): (ترد). (¬2) في "الحجة" للفارسي 3/ 97: (.. كقولك: أسقيْتُهُ؛ أي: قلت له: سقاك الله). (¬3) وتمامه: وأسقِيهِ حتى كاد مما أبُثُّهُ ... تكلِّمني أحجارُه ومَلاعبُه وقبل هذا البيت: وقفت على رَبْعٍ لِمَيَّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وهو في "ديوانه" 821. وورد البيتُ -الشاهد- منسوبًا له، في: "كتاب سيبويه" 4/ 59، و"النوادر" 213، و"مجاز القرآن" 1/ 350، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 557، و"تهذيب اللغة"10/ 297، و"المحرر الوجيز" 3/ 404، و"لسان العرب" 4/ 2042 (سقى)، 4/ 2314 (شكا)، و"المقاصد النحوية" 2/ 176، و"التصريح" للأزهري 1/ 204، و"شرح شواهد الشافية" 41، و"الدرر اللوامع" 1/ 108. وورد غير منسوب في: "منهج السالك" 1/ 263، و"همع الهوامع" 2/ 144. ورد في بعض الروايات: (وَأُشْكِيهِ ..)، وورد: (.. أبِثُّهُ) -بضم الهمزة، وكسر الباء-. ومعنى (أبُثُّه): أظهر له البَثَّ، وهو: الحزن والغم. انظر: "اللسان" 1/ 208 (بثث). يخاطب الشاعرُ -هنا- منزلَ معشوقته (مية). و (أسقيه): أدعوِ له بالسُّقْيا. والماضي: أسْقاهُ.

ويقال (أَكْفَرَهُ): إذا نَسَبَهُ إلى الكفر. قال الكُمَيْت (¬1): فَطَائِفَةٌ قَدْ أكفَرُوني بِحُبِّكُمْ (¬2) فيكون المعنى: وما كان لِنَبِيٍّ أن يُنْسَبَ إلى الغُلُول؛ أي: لا يُقَال له غَلَلْتَ. قال الفرّاءُ، في (¬3) هذه الآية (¬4): وقرأ (¬5) أصحاب عبد الله (¬6): {يُغَلّ}؛ يريدون: أنْ يُسَرَّقَ ويُخَوَّنَ (¬7)، وذلك جائزٌ، وإنْ لم يَقُل: (يُغلَّل)، فيكون مثل قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}، و {ويُكَذِّبُونَكَ} (¬8) [الأنعام: 33]. ¬

_ (¬1) هو: أبو المُسْتَهِلّ، الكُمَيت بن زيد بن حُبَيْش، من بني أسد. شاعر إسلامي، عاش في أيام الدولة الأموية، ولم يدرك الدولة العباسية، وكان متشيعًا لبني هاشم، وُلِد سنة (60 هـ)، ومات سنة (126هـ). انظر: "الشعر والشعراء" 2/ 385، و"جمهرة أشعار العرب" 351، و"أمالي الزجاجي" 137، و"الخزانة" 1/ 144. (¬2) صدر بيت، وعجزه: وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومذنب ورد في: "شرح هاشميات الكميت" 53، وورد منسوبًا له في "خزانة الأدب" 4/ 314. وورد فيه: (.. قد أكفرتني بحبهم ..). قال في "شرح الهاشميات": (و (طائفة)؛ يريد: الحرورية. (وطائفة)؛ يريد: المرجئة). (¬3) في (ج): (وفي). (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 246، نقله عنه بتصرف يسير. (¬5) في (ج): (وقال). (¬6) أي: ابن مسعود - رضي الله عنه -. وقال الطبري: (وهي قراءة عُظْم قَرَأة أهل المدينة والكوفة) "تفسيره" 4/ 157. (¬7) أي: ينسب إلى السرقة والخيانة. (¬8) القراءة الأولى: {يُكَذِّبُونَكَ}، لابن كثير، وعاصم، وأبي عمرو، وابن عامر =

ومِن حُجَّةِ هذه القراءة: ما رُوي عن ابن عبّاس، من طريق الضّحاك، وما روي عن قتادة، في سبب نزول هذه الآية (¬1). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. أي: يأتي به حاملًا له على ظهره، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خَطَبَ يومًا، فذَكَرَ الغُلُولَ، وعَظَّمَه، وعَظَّمَ أَمْرَهُ، فقال: "لا أُلْفِيَنَّ (¬2) أحدَكمْ يجيء على رقبته يوم القيامة بَعِيرٌ له رُغَاء (¬3)، يقول: يا رسولَ الله! أعِنِّي (¬4). ¬

_ = والقراءة الثانية: {يُكْذِبُونَكَ}، لنافع، والكسائي. انظر:"السبعة" 257، و"الحجة" للفارسي 3/ 302، و"المبسوط" لابن مهران 618. أي: أن (كَذَّبه، وأكْذَبه)، بمعنًى واحد، وهو: نسبته إلى الكذب، وكذلك: (غَلَّ، وأغَلَّ) تتواردان على معنى واحد، وهو: النسبة إلى الغلول. انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 58، و"الحجة" للفارسي 3/ 302. وحول رأي الفراء -هذا-، قال الأزهري: (وقال أبو العباس: جَعَلَ (يَغُل)، بمعنى: (يُغَلَّل)، وكلام العرب على غير ذلك في (فعَّلت)، و (أفْعَلْت). و (أفعلته): أدخلت ذاك فيه، و (فعَّلتُ): كثرت ذاك فيه). "التهذيب" 3/ 2688. وانظر: "الحجة" للفارسي 302 - 304. (¬1) انظر ما سبق ص 128 - 129. (¬2) في (ج): (لألفين). وهذه توافق رواية الإمام أحمد في "المسند": (لألفِيَنَّ يجيء أحدكم يوم القيامة ..) وسيأتي تخريجه. وفي بعض الروايات: (لا ألفِينَّ ..) انظر: "فتح الباري" 6/ 186. ألفى الشيء: وجده. يقال: (ألْفَيْتُ الشيء، أُلْفِيهِ، إِلفاءً): إذا وجدته وصادفته ولقيته. انظر: "اللسان": 7/ 4056 (لفا). (¬3) الرُّغاء: صوت البعير. قال: (رَغَا البعيرُ، والضَّبُعُ، والنَّعامُ، رُغاءً): صوَّتَت فَضَجَّت. انظر: "القاموس" (1289) (رغا). (¬4) في مصادر الحديث التالية: أغثني.

فأقول: لا أملك لك مِنَ الله شيئًا، قد أَبْلَغْتُكَ". وذَكَر في الحديث: الشاةَ والفرَسَ والصَّامِتَ (¬1). وهذا قول: ابن عباس (¬2)، وأبي هريرة (¬3)، وأبي حُمَيْد الساعدي (¬4)، ¬

_ (¬1) في (ج): (والفَرَسَ الصامِتَ). والصامت من المال: الذهب، والفضة، خلاف الناطق منه، وهو: الحيوان. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 3/ 52، و"القاموس" 155 (صمت)، و"فتح الباري" 6/ 186. والحديث من رواية أبي هريرة، أخرجه: البخاري في "الصحيح" (3073) كتاب الجهاد. باب الغلول وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ}. ومسلم في "الصحيح" رقم (1831) كتاب الإمارة. باب غلظ تحريم الغلول. وأحمد في "المسند" 2/ 426، وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 529، رقم (33519). والطبري في "تفسيره" 4/ 158، والبيهقي في "السنن" 9/ 101، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 141 ب. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 163 وزاد نسبة إخراجه إلى البيهقي في "الشُّعَب". (¬2) قول ابن عباس - رضي الله عنه - ومن بعده، هي آثار رواها المذكورون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالمعنى نفسه. وقول ابن عباس رضي الله عنهما في "تفسير الطبري" 4/ 159, وأورد الأثر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 455 ونسب أخراجه إلى ابن جرير, وقال: (لم يروه أحد من أهل الكتب الستة). (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 158, 160, و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 805. (¬4) قوله في: "صحيح مسلم" رقم (1832) كتاب الإمارة, باب تحريم هدايا العمال, والطبري في "تفسيره" 4/ 159, والبغوي في "تفسيره" 2/ 127, وابن كثير في "تفسيره" 1/ 455. وأبو حميد الساعدي , اختلف في اسمه كثيراً, المنذر بن سعد, وقيل: عبد الرحمن بن سعد بن المنذر, وقيل غير ذلك. أنصاري , صحابي مشهور, شهد أحداً وما بعدها, تُوفي في آخر خلافة معاوية, وأول خلافة يزيد بن معاوية. انظر: "الاستيعاب" 4/ 199, و"الإصابة" 4/ 46.

162

وابن عمر (¬1)، وقتادة (¬2). وقوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. قال ابن عباس (¬3): يريد: تجازى ثوابَ عَمَلِها. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. قال (¬4): وهم لا يُنقَصُونَ مِنْ ثوابِ أعمالهم شيئًا. 162 - قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ}. يعني: بترك الغُلُولِ -في قول: الكلبي (¬5)، والضحاك (¬6) -. {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}، في فِعْلِ الغُلول. وقيل: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} بالعمل بطاعته والإيمان، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} في العملِ بمعصيته، والكفر به. وهذا القولُ يُحكَى عن محمد بن إسحاق (¬7). وعلى هذا المعنى دلّ كلامُ ابن عباس -في رواية عطاء-؛ لأنه قال (¬8): {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ}؛ يريد: المهاجرين والأنصار، {كَمَنْ بَاءَ ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 160، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 86، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) قوله في: "المصنف" لعبد الرزاق 5/ 242 (9493)، و"تفسير الطبري" 4/ 161. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) قوله في "بحر العلوم" 1/ 312. (¬6) قوله في: "المصنف" لعبد الرزاق 5/ 246 رقم (9507)، و"تفسير الطبري" 4/ 161، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 806. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 165 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. (¬7) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 70، و"تفسير الطبري" 4/ 161، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 807. (¬8) لم أقف على مصدر قوله.

163

بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}؛ يريد: المنافقين. وقال الزجاج (¬1): يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين أمر المسلمين يوم أحد بالحرب، اتَّبَعَهُ المؤمنون، وتَخَلَّفَ عنه جماعةٌ مِنَ المنافقين (¬2). فأعلم الله عز وجل: أنّ مَنْ اتَّبَعَ نَبِيَّهُ، اتَّبَعَ رِضوانَهُ، وأنَّ مَن تَخَلّف عنه فقد باء بِسَخَطٍ مِنَ الله. ومعنى (باءَ به)؛ أي: احتمله، ورَجَع به. وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (¬3). 163 - قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} أي: ذَوُو (¬4) درجات. فحذف المضاف. وحَسُن ذلك ههنا؛ لأن اختلاف أعمالهم، قد صيَّرَهم بمنزلة المختلفي الذوات، كاختلاف مراتب الدرجات؛ لتبعيدهم من استواء الأحوال، فجاء على هذا المَجَاز. والمجاز في موضعه، أحسنُ مِنَ الحقيقة، لِمَا فيه [مِنَ] (¬5) الإيجاز مِن غيرِ إخلال، ومِنَ المُبالغة التي لا ينوبُ مَنَابها الحقيقة، إذْ (¬6) قولك: (هو الشمسُ ضياءً)، أبْلَغُ في النفس مِن: (هو كالشمس ضياءً). فكذلك: {هُمْ دَرَجَاتٌ} (¬7)، أبلغ مِنْ: (هم أهلُ درجاتٍ) (¬8). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 486. نقله عنه بتصرف. (¬2) انظر: تفسير {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} آية: 122 من سورة آل عمران. (¬3) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} البقرة: 61. (¬4) في (ب): (ذو). (¬5) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج). (¬6) في (أ)، (ب): إذا. والمثبت من (ج). (¬7) في (أ): (بدرجات درجات). (¬8) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 486، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 506. =

وأصل الدَّرَجَةِ: الرُّتْبَةُ (¬1)، ومِنْهُ: (الدَّرْجُ)، لأنه يُطوَى رُتْبةً بعد رُتْبةٍ؛ قال: (أدْرَجَني إدْرَاجًا) (¬2) و (الدَّرَجَانُ) (¬3): تَقارُبُ الخَطْوِ؛ كَمِشْيَة الشَّيْخ، والصَّبِيِّ؛ لتقارُبِ الرُّتَبِ (¬4). فأما التفسير: فالآيةُ تحتملُ ثلاثةَ أوجه: أحدها: أن يكون المراد بقولهم: دَرَجاتُ المؤمنين والكافرين جميعًا. والمعنى: أن المؤمنين ذَوُو (¬5) دَرَجةٍ رفيعةٍ، والكافرين ذَوُو ¬

_ = قيل في تأويل الآية: إنهم جعلوا نفس الدرجات؛ للمبالغة؛ أي: إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم، كما أن الدرجات تتفاوت. والأصل فيه: هم مثل الدرجات في التفاوت. انظر: "الدر المصون" 3/ 469 - 470. (¬1) انظر (درج) في: "جمهرة اللغة" 1/ 446، و"التهذيب" 2/ 1167، و"اللسان" 3/ 1351، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 162. قال الراغب: (الدرجة، نحو المنزلة، لكن يقال للمنزلة: (درجة)، إذا اعتُبِرت بالصعود، دون الامتداد على البسيط؛ كدرجة السطع والسلَّم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة ..). "مفردات ألفاظ القرآن": 310 (درج). (¬2) قال ابن دريد: (والدَّرْج: مصدر (دَرَجْتُ الشيء دَرْجًا)، و (أدرجته إدراجًا): إذا طويته). "جمهرة اللغة" 1/ 446. وأراد المؤلف، هنا والله أعلم: الدَّرْج -أو الدَّرَج-: الذي يُكتَبُ فيه. يقال: (أنفذته في دَرْج الكتاب)؛ أي: في طَيِّه. انظر: "الصحاح" 314 (درج). وفي "مفردات ألفاظ القرآن": 311 (درج): (والدرْج: طيُّ الكتاب والثوب. ويقال للمطوي: دَرْج). (¬3) في (أ)، (ب): (والدرجات). والمثبت من: (ج)، ومصادر اللغةُ. (¬4) انظر: (درج) في: "التهذيب" 2/ 1167، و"مفردات ألفاظ القرآن" 311، و"اللسان" 3/ 1351. (¬5) في (ب): (ذو). وكذا في الموضع التالي.

درجةٍ (¬1) خَسِيسَةٍ. وهذا الوجه مروي عن ابن عباسٍ، قال (¬2): يعني أنَّ مَن اتَّبَعَ رِضْوانَ الله، ومَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله، مختلِفُو (¬3) المَنَازِلِ عند الله فَلِمَن اتبع رِضْوانه الكرامةُ والثواب، ولِمَن باء بسخطٍ منه المَهَانةُ والعذاب. وهذا قول الكلبي -أيضًا-، فإنه قال (¬4): هم درجاتُ، بعضهم أشدُّ عذابًا مِنْ بعضٍ، وكلٌّ في عذابٍ وهَوَانٍ، وأهل الجَنَّةِ بعضهم أفضلَ من بعض، وكلٌّ (¬5) في فَضْلٍ وكَرَامَةٍ (¬6). الوجه الثاني: أن تكون الآيةُ خاصَّةً في المؤمنين؛ يريد: أنَّ بعضهم أرفع درجة عند الله مِنْ بعض. وهذا قول ابن عباس -في رواية عطاء-، قال (¬7): يريد: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعضهم أفضل من بعض، وهذا أيضًا اختيارُ الفرّاء، قال (¬8): يقول: هم في الفضل مختلفون، بعضهم أرفع من بعض. الوجه الثالث: أن تكون الآية خاصة في الكافرين (¬9). وهذا قول ¬

_ (¬1) (ذوو درجة): بياض في (ج). (¬2) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 143 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 129، و"زاد المسير" 1/ 493. (¬3) في (ب): (يختلفوا). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) من قوله: (وكل ..) إلى (.. بعضهم أفضل من بعض): ساقط من (ج). (¬6) وهو قول ابن إسحاق، واختيار الطبري. انظر: "تفسيره" 4/ 162. (¬7) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 246. نقله عنه بتصرف. (¬9) في (ج): (المنافقين).

الحسن، يقول (¬1): بعض أهل النار أشدُّ عذابًا مِنْ بعضٍ؛ ألا تَرَاهُ (¬2) يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. قال: وبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ منها (¬3) ضحْضاحًا (¬4)، وإنَّ منها غَمْرًا (¬5)، وإني لأرجو أنْ يكون أبو طالب في ضحْضَاحِها) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. والذي وقفت عليه من قوله، الآتي: أ- يعني أهل الخير وأهل الشر درجات. ب- إنها درجات الجنة. ج- للناس درجات بأعمالهم، في الخير والشر. انظر: "تفسير الحسن البصري" 246، 247. (¬2) في (ج): (تسمعه) بدلًا من: (تراه). (¬3) الضمير يعود على النار. (¬4) أصل الضحْضَاح: الماء القليل، الرقيق، أو الذي يصل إلى الكعبين. فشَبَّه قِلَّةَ النار به. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 400، و"الفائق" 2/ 332. (¬5) الغَمْر: الماء الكثير. وجمعه: غِمَار، وغُمُور. انظر: "القاموس" 452 (غمر). (¬6) هذا الجزء من قول الحسن (والمتضمن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، المرسل عن الحسن (إن منها ضحضاحا ..)، قد ورد بألفاظ مختلفة من طريق أخرى صحيحة، في بيان حال أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم القيامة. فقد أخرج البخاريُّ عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أغنيت عن عمك؟ فوالله كان يحيطك ويغضب لك. قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار". "الصحيح" (3883). كتاب مناقب الأنصار. باب قصة أبى طالب، (6208) كتاب الأدب. باب كنية المشرك. وأخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (209) كتاب الإيمان رقم (357) باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب، وورد في لفظٍ لمسلم: "نعم وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذُكِرَ عنده عَمُّهُ أبو طالب، فقال -واللفظ للبخاري-: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار, يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه". =

164

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (¬1). فيه تحريضٌ على العمل بطاعته؛ لأن ثوابه لا يضيع؛ إذا عَمِلَه (¬2) مَنْ يعمل له، وتحذيرٌ مِنَ العملِ بمعصيته؛ لأن جزاءه لا يفوتُ إذا كان عالِمًا به. فهو تهديد ووعيدٌ للكافرين، وتبشيرٌ ووَعْدٌ للمؤمنين. 164 - قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. لـ (المَنِّ) (¬3) -في كلام العرب- مَعَانٍ: أحدها: الذي يسقط من السماء، وقد مرّ ذكره في قوله: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57]. والمَنُّ: الاعتداد بالصنَّيعَةِ (¬4)، وهو: أنْ تَمُنَّ بما أعطيت، وذلك في قوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ} [البقرة: 264]. والمَنُّ: القَطْعُ. ومنه قوله: {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]؛ أي: غيرُ مَقْطُوع (¬5). ¬

_ = "صحيح البخاري": (6564) كتاب الرقاق. باب صفة الجنة والنار. و"صحيح مسلم" رقم (120) كتاب الإيمان، رقم (360) باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب. وانظر روايات أخرى بألفاظ أخرى في: "فتح الباري" 7/ 193 - 194، و"الفائق" للزمخشري 2/ 332. (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): تعملون. والمثبت من رسم المصحف. (¬2) في (ج): (علمه). (¬3) في (ج): (المن) بدلا من: (للمن). (¬4) الصَّنِيعة: العَطِيَّة، والكرامة، والإحسان. والجمع: صَنائِع. انظر: (صنع) في: "اللسان" 4/ 2510، و"القاموس" 739. (¬5) وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم. وحكى السُدِّي عن بعضهم, =

والمَنُّ: الإعطاء والإنعام، والإحسان إلى مَنْ لا تَسْتَثِيبه. منه قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص: 39]، وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] (¬1). و (المَنَّانُ) -في صفة الله- تعالى-؛ معناه: المُعْطِي ابتداءً (¬2). فمعنى قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: أنعَمَ عليهم، وأحسَنَ ¬

_ = أن معناه: غيرُ ممنونٍ عليهم. ورُدَّ عليه؛ لأن المِنَّة لله تعالى على أهل الجنة؛ لأنهم دخلوها برحمته تعالى وفضله، لا بأعمالهم. انظر: "تفسير ابن كثير" 4/ 519. (¬1) معنى الآية -على هذا الوجه-: لا تُعْطِ العطيَّةَ تلتمس أكثر منها. وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبي الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم، واستظهره ابن كثير. ويرى الضحاك أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، مباح للناس عامة. وقيل: لا تعط عطاءً وتستكثره؛ لأن الكريم يستقل ما يعطي، وإن كان كثيرًا. ذكره ابن جُزي. وهناك أقوال أخرى في الآية، هي: - لا تمنن بعملك على ربك تستكثره وهو قول الحسن، والربيع، واختيار الطبري. - وقيل: لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ على أنَّ (تَمْنُنْ) -في كلام العرب-: تضعف. وهي رواية خصيف عن مجاهد. أو لا تضعف عن تبليغ الرسالة، وتستكثر ما حملناك من ذلك. ذكره ابن جُزَي. - وقيل: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس، تستكثرهم به، تأخذ عليه عوضًا من الدنيا. وهو قول ابن زيد. انظر: "تفسير الطبري" 29/ 148 - 150، "وتفسير ابن جزي" 806، و"تفسير ابن كثير" 4/ 466. (¬2) انظر هذه المعاني لـ (المن) في: "الزاهر" 2/ 355 - 357، و"تهذيب اللغة" 4/ 3459 - 3460، و"مفردات ألفاظ القرآن" 777، و"قاموس القرآن" للدامغاني 444، و"بصائر ذوي التمييز" 4/ 527 - 528.

إليهم، إذ بَعَثَ فيهم رَسُولًا. واختلفوا في المراد بـ (المؤمنين) في قوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. فقال بعضهم (¬1): هذا خاصٌّ في العرب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانَ مِنَ العَرَبِ، ولم يكُنْ حَيٌّ مِن أحياء العرب، إلّا [و] (¬2) قد وَلَدَهُ، وله فيهم نَسَبٌ، غير بني تَغْلِب؛ لأنهم كانوا نَصَارَى (¬3)، فطَهَّرَهُ (¬4) اللهُ منهم؛ لأنهم ثَبَتوا على النصرانية (¬5). وعلى هذا دلّ كلام ابن عباس -في رواية عطاء- (¬6)، فإنه قال: يعنى المهاجرين والأنصار. وعلى هذا التفسير، معنى قوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: مِنْ نَسَبِهم. قال ابن عباس (¬7): يريد: نَسَبه نَسَبهم، هو مِن وَلَدِ إسماعيل. وبه قال الكلبيُّ (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: (قال بعضهم ..) إلى (.. على النصرانية): نقله -بتصرف- عن "تفسير الثعلبي" 3/ 143 - ب. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"تفسير الثعلبي". (¬3) هم بنو تَغْلب بن وائل بن قاسط. ينتهي نسبهم إلى مَعَدّ بن عدنان. ومساكنهم بالجزيرة الفُرَاتية، وتعرف بديار بكر. وبينهم وبين بني بكر بن وائل دارت حرب (البَسُوس) المشهورة التي استمرت (40) سنة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" 303، 469، و"صبح الأعشى" 1/ 338، و"معجم القبائل العربية" 1/ 120. (¬4) في (أ)، (ب): (فظهره). والمثبت من (ج)، و"تفسير الثعلبي"، وكذا جاءت في "تفسير القرطبي" 4/ 264، 18/ 92. وهي الصواب. (¬5) أورد هذا القول القرطبيُّ في "تفسيره" 18/ 92 ونسبه لابن إسحاق، وكذا أورده أبنُ عطية في "المحرر" 3/ 409 ونسبه للنقاش. (¬6) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬7) لم أقف على مصدر قوله؛ وقد ذكره ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 494. (¬8) لم أقف على مصدر قوله.

ومعنى (المِنَّة) -على هذا التفسير-: أنه بُعِثَ واحدًا منهم؛ ليكونَ ذلك شَرَفًا لهم (¬1). ففيه إنعامٌ مِنْ وجهين: أحدهما: أنه أنقذهم به من النار، وهداهم. والثاني: أنْ جعله منهم. ودليل هذا التأويل، قولُه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]. وقال آخرون (¬2): أراد المؤمنين كلَّهم، وعلى هذا معنى قوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: إنه واحدٌ منهم، يعرفونه، ويعرفون نَسَبَهُ، ليس بِمَلَكٍ، ولا أحد مِن غيرِ بني آدم. ومعنى (المِنّة) -على هذا القول-: أنّه (¬3) مَنَّ على المؤمنين، بإرساله واحدًا منهم، عُرِفَ أمرُهُ، وخُبِرَ صِدْقُهُ وأمانَتُهُ، فكانَ تَنَاوُلُ (¬4) الحُجّةِ والبرهانِ (¬5) سَهْلًا مِنْ قِبَلِهِ (¬6). ¬

_ = وممن ورد عنه أن هذا خاصٌّ في العرب: عائشةُ -رضي الله عنها-. فقد أخرج عنها ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 808 أنها قالت -بعد أن قرأت هذه الآية-: (هذه للعرب خاصة). وأورده القرطبي في: "تفسيره" 4/ 264، ونسب إخراجه لأبي محمد عبد الغني، بسنده عنها. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 165 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الشعب". وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 4/ 163حيث قال: ({مِنْ أَنْفُسِهِمْ} نبيًا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم، فلا يفقهوا عنه ما يقول). (¬1) انظر: "بحر العلوم" لأبي الليث 1/ 313، و"النكت والعيون" 1/ 434. (¬2) ممن قال هذا: الزجاج -كما سيأتي-، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 143 ب، ولم يعزه لقائل. (¬3) من قوله: (أنه) إلى (من قبله) نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 487. (¬4) في (أ)، (ب): (يتأول). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن". (¬5) في (أ): (البرهانُ) بضم النون. وفي (ب)، (ج): مهملة، وما أثبته هو الصواب. (¬6) في (ب): (قبل).

وهذا القول اختيار الزجّاج؛ لأنه قال (¬1): لو كانت المنّةُ فيه [أنه] (¬2) مِنَ العرب، لكانَ (¬3) العَجَمُ لا مِنَّة عليهم فيهِ، ولكن المِنَّة (¬4) فيه: أنَّهُ قد خُبِرَ أمْرُه، وشأنُه، وعُلِمَ صدقُهُ، بعد أنْ عَلِمُوا أنه كان واحدًا منهم، وإذا كان واحدًا منهم، كانَ أيْسَرَ عليهم معرِفةُ أحوالِهِ مِنَ الصِّدقِ والأمانة. وعلى هذا التفسير: خُصّ المؤمنون بالذكر، وإنْ كانَ جميعُ المُكَلَّفِينَ في هذا سواء؛ لأن المِنّة على المُؤْمِنِ في هذا أعظمُ منها على الكافر؛ لانتفاع المؤمن ببعثته، فصار كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، وهو كان منذرًا لجميع البَشَرِ، ولكنْ لَمَّا كان المؤمنُ يخشَى الساعةَ دون الكافرين، وكان للمؤمن الانتفاعُ بإنذاره، أُضِيفَ إليه. وباقي الآية مفسَّرَةٌ في سورة البقرة (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قيل: معناه: وقد كانوا (¬6). وقيل: معناه: وما كانوا مِنْ قَبْلِهِ؛ أي (¬7): مِنْ قبل محمد، إلَّا في ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 487. نقله عنه بتصرف يسير. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة ليستقيم بها السياق. (¬3) في (ب): (لكانت). (¬4) في (ب): (أمانته). (¬5) انظر: تفسير الآية 129، والآية 151 من سورة البقرة. (¬6) لم أقف على من قال بهذا القول، إلا أنه يُخَرَّج على قول الكسائي -من الكوفيين- أنَّ (إنْ) إنْ دخلت على جملة فعلية، تكون بمعنى (قد)، واللام زائدة للتوكيد، وإن دخلت على جملة اسمية، فتكون (إنْ) هي النافية، واللام بمعنى (إلَّا). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 163، و"اللامات" للزجاجي 115، و"الجنى الداني" 214، و"الدر المصون" 2/ 334. (¬7) (من قبله أي): ساقط من (ج).

165

ضلال مبين. ومثله قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (¬1) [البقرة: 198]. 165 - قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} الآية. الواوُ في {أَوَلَمَّا}، لِعَطْفِ جملةٍ على جملة. ودخل أَلِفُ الاستفهام على واو النَّسَقِ (¬2)؛ لأنَّ له صدر الكلام. قال الزجّاج (¬3): ومثله من الكلام قولُ القائل: (تكَلّمَ فلانٌ بكذا وكذا) فيقول مجيبًا له: (أوَ هُوَ مِمَّن يقول ذلك؟). والمعنى: أَوَ حين أصابتكم مُصيبةٌ. ويعنى بالمصيبة: ما أصابتهم يوم أحد. وقوله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}. هو مِنْ صفة النَّكِرَةِ (¬4). ومعناه: قد أصبتم مثليها يوم بدر؛ وذلك [أنَّ] (¬5) المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحُد سبعين، [وقَتَلَ المسلمونَ منهم يوم بدر، سبعين] (¬6) وأسروا سبعين. هذا قول أكثرِ المفسرين: ابن ¬

_ (¬1) هذا رأي الكوفيين، ومنهم: الفراء، أنَّ (إنْ) -هنا- نافية، بمعنى (ما)، واللام بمعنى: (إلا)، بينما مذهب أهل البصرة أنَّ (إنْ) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين (إنْ) النافية. انظر: المصادر السابقة، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 656، و"الجنى الداني" 209، و"المغني" لابن هشام 306. (¬2) النَّسَق، هو: العطف. (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 487. نقله عنه بتصرف يسير. (¬4) أي: في موضع رفع؛ صفة لـ (مصيبة). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

عباس (¬1)، وقتادة (¬2)، وعكرمة (¬3)، والربيع (¬4)، والسُدِّي (¬5). وقال بعضهم (¬6): أي: أَصبتم في يوم أحد مثلها (¬7)، وفي يوم بدر مثلها (¬8). فقد أصَبتم مِثْلَيْ ما أصابكم، وقتلوا منكم في يوم أُحُد، وقتلتم منهم في يومين. وهذا اختيار الزجّاج (¬9). والأول أصح؛ لأن الكفار يوم بدر، نالوا مِنَ المسلمين -أيضًا- (¬10)؛ بقتل بعضهم (¬11). ¬

_ (¬1) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 165، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 810. (¬2) قوله في المصدرين السابقين. (¬3) قوله في المصدرين السابقين. (¬4) قوله في المصدرين السابقين. (¬5) قوله في المصدرين السابقين. وانظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 71، و"عيون الأثر" 1/ 432، 2/ 47 - 48، و"فتح الباري" 7/ 307، كتاب المغازي. باب 10 رقم الحديث: (3986). قال ابن حجر: (واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحُد، وأنَّ المراد بـ {أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يوم بدر، وعلى أن عدة من استشهد من المسلمين بأحد سبعون نفسًا). "الفتح" 7/ 307 وقد عدَّه الطبري إجماعًا. انظر "تفسيره" 4/ 164. (¬6) لم أقف على من قال بهذا القول. إلا ما ورد عن الزجاج كما سيأتي. (¬7) حيث قتل من الكفار يوم أحد ثلاثة وعشرون رجلًا. انظر: "عيون الأثر" 2/ 48. (¬8) (وفي يوم بدر مثلها): ساقط من (ج). حيث قَتَلَ المسلمون من الكفار سبعينَ -كما سبق-، ولا مَدْخَلَ للأسرى -هنا- على هذا القول؛ لأنهم قد تم فداؤهم، فلا تتم المماثلة بهم. (¬9) في "معاني القرآن" له 1/ 488. (¬10) في (ب): (تعبا). (¬11) في (أ): (بعضُهم) برفع الضاد. وفي (ب)، (ج): مهملة. والصواب ما أثبت. واستشهد من المسلمين في بدر: أربعة عشر رجلًا؛ ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. انظر: "عيون الآثر" 1/ 432.

وقوله تعالى: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}. جواب الاستفهام. ومعناه: قلتم: مِنْ أينَ أصابَنَا هذا القتلُ والهزيمة، وقد تقدم الوَعْدُ بالنُّصْرَةِ، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا، والوحي ينزل عليه [فينا] (¬1)؟. وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}. فيه ثلاثة أوْجُه: أحدهما -وهو قول أكثر أهل التأويل-: أن (¬2) معناه: أنّكم تركتم ما أمِرْتُم به، وطلبتم الغنيمةَ وتركتم مراكزكم، فَمِنْ قِبَلِكُمْ جاء الشَّرُّ. وهذا قول: الكلبي (¬3)، وعطاء (¬4)، واختيار: الفرّاء (¬5)، والزجّاج (¬6). وعلى هذا القول: أضاف إليهم المعصيةَ والهزيمةَ، وإنْ كانت مخلوقة لله -تعالى- مُرَادةً، لأن المعصيةَ تضاف إلى العاصي من حيث المباشرة والكَسْب (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج). (¬2) (أن): ساقطة من (ج). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. وقد يكون قوله هو قول ابن عباس الذي أورده ابن الجوزي في: "الزاد" 1/ 496؛ حيث إن أغلب أقوال عطاء التي يوردها المؤلف هي روايته عن ابن عباس. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 246، وقد نقل المؤلف هذا القول عنه بنصه، وهو من قوله (تركتم ما أمرتم) إلى (.. جاء الشر). (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 488. وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 311، وأبي الليث في "بحر العلوم" 1/ 313. (¬7) (الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع، أو خير، كما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. "مجموع فتاوى ابن تيمية" 8/ 387 =

والثاني: أن معنى قوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: بخرُوجِكُم مِنَ المدينة، وخلافكم على رسولكم؛ وذلك أنه دعاهم إلى التَحَصُّنِ بالمدينة، وكان (¬1) قد رأى في المنام أنَّ عليه درْعًا حَصِينَةً، فأوَّلَها: المدينة. فقالوا: كنا نَمْتَنِع في الجاهلية، ونحن اليوم أحقُّ بالامتناع، فأكرهوا رسولَ الله على الخروج. وهذا قول: قتادة (¬2)، والربيع (¬3)، وابن عباس -في رواية عطاء- (¬4)؛ لأنه قال: يريد: حيث اختلفوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). الوجه الثالث (¬6): ما روي عن علي - رضي الله عنه -، أنه قال: جاء جبريلُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم بَدْر، فقال (¬7): يا محمدُ: إنَّ الله -تعالى- قد كَرِهَ ما صَنَعَ ¬

_ = وانظر:"شرح العقيدة الطحاوية" ص 448. وقد نقل السفاريني بعض اصطلاحات المتكلمين حول الكسب، فقال: (الكسب في اصطلاح المتكلمين: ما وقع من الفاعل مقارنًا لقدرة محدثة واختيار، وقيل: هو ما وجد بقدرة محدثة في المكتسب. وقال العلَّامَةُ ابنُ حمدان -من علمائنا-: الكسب هو ما خلقه الله في محل قدرة المكتسب على وفق إرادته في كسبه ..). "لوامع الأنوار" 1/ 291. وانظر ما بعدها. وانظر للتوسع في موضوع الكسب: "شفاء العليل" 121 وما بعدها، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص 438 وما بعدها، و"المعتزلة وأصولهم الخمسة" 169 - 184، و"أفعال العباد في القرآن الكريم" لعبد العزيز المجذوب 325 وما بعدها، و"الكليات"، لأبي البقاء 161. (¬1) (وكان): ساقطة من (ج). (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 164، و"زاد المسير" 1/ 496، و"الدر المنثور" 2/ 166، وزاد السيوطي نسبته إلى عبد بن حميد. (¬3) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 165، و"زاد المسير" 1/ 496. (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) انظر ما سبق عند تفسير الآية: 152 {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}. (¬6) في (ج): (الثاني). (¬7) في (ج): (وقال).

قومُكَ في أخذهم الفداءَ من الأُسارى، وقد أمرك أن تُخَيِّرَهم بين أن يُقَدِّمُوا الأُسارى فَيَضْرِبُوا أعناقَهم، وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يُقْتَلَ منهم عِدَّتُهُم. فَذَكَرَ ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لقَومِهِ، فقالوا: يا رسول الله: عشائرُنا وإخواننا، لا؛ بل نأخذ فِدَاهم (¬1)، فنقوى (¬2) به على قتال العدوِّ، ويُستشهد منّا بعددهم (¬3). فقُتِلَ منهم يوم أحد سبعون رجلًا، عدد (¬4) أُسارى أهلِ بَدْر. فهو معنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: بأخْذِكُم الفداء، واختياركم القَتْلَ (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في: (أ)، (ب)، (ج). على التخفيف. والأصل فيها أن تكون: (فداءهم). كما هي في "تفسير الطبري". وقد وردت في بعض ألفاظ الحديث: (.. بل نفاديهم)، ووردت: (قالوا الفداء). (¬2) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج). وجاءت في المصادر التالية: (فنتقوّى). (¬3) الحديث أخرجه: الترمذي في "السنن" رقم (1567. كتاب السير. باب 18 (ما جاء في قتل الأسارى والفداء) وقال الترمذي: (حديث حسن غريب)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 166، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 144 أ، والبغوي في "تفسيره" 2/ 129، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 459 وزاد نسبة إخراجه للنسائي، ولم أهتد إليه في (سننه) المطبوعة. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 368 وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وابن مردوية. (¬4) في (ج): (بعدد). (¬5) قال الشوكاني -بعد إيراده لهذا الأثر عن علي - رضي الله عنه -: (ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق؛ ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء، بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وما رُوي من بكائه - صلى الله عليه وسلم -، هو وأبو بكر؛ ندمًا على أخذ الفداء. ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله -سبحانه-، لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه من الندم والحزن، ولا صوَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي عمر - رضي الله عنه -، حيث أشار بقتل الأسرى، وقال ما معناه: لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر). "فتح القدير" 1/ 598 - 599.

166

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعنى: مِنَ النَّصْرِ؛ مع طاعتكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترك النصر؛ مع مخالفتكم ما أُمرتم به. وقال ابن عباس (¬1): يريد: على نَصرِكُم، وعلى اتِّخاذِ الشهداءِ منكم، وتعجيلِ أوليائهِ إلى الجَنَّةِ، قديرٌ. 166 - قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} دَخَلَتْ الفاءُ في {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (¬2)؛ لأن خبر (ما) التي بمعنى (الذي)، يشبه جواب الجزاء؛ مِنْ جهة أنه مُعَلَّقٌ (¬3) بالفعل الذي في الصِّلَةِ، كتعلُّقِهِ بالفعل الذي في الشَّرْط. وقد شرحنا هذه المسألة عند قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. ومعنى قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ}: قيل: بِعِلْمِ الله (¬4). وقال ابن عباس (¬5): يريد: فبقضاء الله. وهذا أوْلَى؛ لأن الآية تَسْلِيَةٌ للمؤمنينَ مما أصابهم (¬6)، ولا تَقَعُ التسليةُ إذا كان واقعًا بِعِلْمِهِ، وإنما تقع؛ إذا كان واقعًا بقضاء الله وقدره، فحينئذٍ يرضون بما قضى عليهم. وفي هذا دليلٌ على أن الكائنات كلَّها تقع على ما قضاه الله في الأزَلِ. وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}. 167 - {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} أي: لِيظْهرَ إيمان [المؤمنين] (¬7)، ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في (ج): (بإذن). (¬3) في (ج): (متعلق). (¬4) ممن قال ذلك الزجاج، في "معاني القرآن" 1/ 488. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده ابن الجوزي في: "زاد المسير" 1/ 497. (¬6) في (أ): (أصابكم). والمثبت من: (ب)، (ج). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

بِثُبُوتِهِمْ (¬1) على ما نالَهم، ويظْهرَ نفاق المنافقين، بِفَشَلِهم، وقِلَّةِ صبرِهِمْ على ما ينزلُ بهم. وقد مضت نظائرُ لهذه الآية، وذكرنا معنى عِلْمِهِ فيما لا يزال، مع سبقِ عِلْمِهِ بالكائنات فيما لم يزل (¬2). وقوله تعالى: {نَافَقُواْ}. يقال: (نافق الرجلُ)، فـ (هو منافقٌ): إذا أظهر كلمةَ الإيمانِ، وأضْمَرَ (¬3) خِلاَفَهَا. و (النِّفَاق): اسمٌ إسْلامِيٌّ (¬4). واختلفوا في اشتقاقه: ¬

_ (¬1) في (ب): (ثبوتهم). (¬2) انظر: "تفسير البسيط"، عند تفسير قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143]، وانظر تفسير قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140]، وتفسير: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا} [آل عمران: 142]. (¬3) في (ج): (وأظهر). (¬4) يعني أن (النفاق) اصطلاح جاءت به الشريعة الإسلامية، ولم يكن معروفًا من قبل، وإن كان أصله في اللغةِ معروفًا. انظر: "اللسان" 8/ 4508 (نفق)، و"المزهر" 1/ 301. وقد ذكر د. عودة أبو عودة في كتابه "التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن" 266 أن (النفاق) بمعنى التَّلَوُّنِ والمخادعة قد عرف في الجاهلية، واستدل ببيت شعرٍ منسوب إلى طرفة، وهو: وأما رِجَالٌ نافَقُوا في إخائِهِم ... ولستُ إذا أحبَبْتُ حُرًّا أنَافِقُه ويفيد د. عودة أنَّ هذا البيت لم تتأكد نسبتُه لطرفة، كما يفيد شارح ديوانه، وإنْ ثَبَتَ فيدل على استخدام مصطلح (النفاق) في الجاهلية، ولكن لا على سبيل الشيوع والانتشار، ولا ينفي ذلك إسلامية هذا المصطلح.

قال أبو عبيد (¬1): يقال (نافق اليَرْبُوعُ) (¬2)، و (نَفَقَ) (¬3). وَ (نَافِقاءُ اليربوع): أحَدُ جُحْرَيْهِ. وله جُحْرٌ آخر يقال له: (القاصِعَاء)، فإذا طُلِبَ مِنَ النافقاء، خرج (¬4) من القاصعاء، وإذا طُلِبَ مِنَ القاصعاء، خَرَجَ (¬5) مِنَ النافقاء، فقيل للمنافق: (مُنافِقٌ)، لأن يخرجُ مِنَ الإسلامِ مِنْ غير الوجه الذي دَخَلَ فيه؛ وذلك أنه دَخَلَ عَلاَنِيَةً وخرج سِرًّا. وَحَكَى ابنُ الأنباري (¬6) عن بعضهم: أن المنافقَ مِنَ (النَّفَق)، وهو: السَّرَبُ. ومعناه: أنَّه يَتَستَّرُ بالإسلام، كما يتستر (¬7) الرجلُ في السَّرَبِ. وقال قوم (¬8): هو مأخوذ من (النافقاء)، على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيد، وهو: أن [النافقاء] (¬9) جُحْرٌ يَحْفِرُه اليَّرْبُوعُ مِن داخلِ الأرض، فإذا بَلَغَ إلى جِلْدَةِ (¬10) الأرض، رَقَّقَ التُّرَابَ، ولم يُتِم الحَفْرَ، حتى إذا رَابَهُ ¬

_ (¬1) في "غريب الحديث" له 1/ 382. نقله عنه بتصرف. (¬2) اليَرْبُوع: حيوان صغير على هيئة الجُرَذِ الصغير، وله ذنب طويل ينتهي بِخُصْلة من الشعر، وهو قصير اليدين، طويل الرجلين. والجمع: يَرَابيع. انظر (ربع) في: "الصحاح" 2/ 1215، و"المعجم الوسيط" 1/ 325. (¬3) يقال: (نَفَقَ، ونفَّق، وانتفق). انظر: "اللسان" 8/ 4507 (نفق). (¬4) في (ب): أخرج. وفي "غريب الحديث" قَصَّعَ فخرج من القاصعاء. (¬5) في (ب): (أخرج). (¬6) في "الزاهر": 1/ 230. نقله عنه بتصرف. (¬7) (بالإسلام كما يتستر): ساقط من (ج). (¬8) ذكر هذا ابن الأنباري في: "الزاهر" 1/ 230 ونقله عنه المؤلف بتصرف. وقائل هذا القول هو ابن الأعرابي، وقد نقل معنى قوله هذا الأزهري، في: "تهذيب اللغة" 4/ 3635 (نفق). (¬9) ما بين المعقوفين في (أ) (النا)، والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر القول. (¬10) في (ج): (جلد).

رَيْبٌ، دفَعَ الترابَ بِرَأسِهِ، فَخَرَجَ. فقيل للمنافق: منافقٌ؛ لأنه يُضمر غير ما يُظهر؛ بمنزلة النافقاء، ظاهِرُهُ (¬1) غير بَيِّن، وباطِنُه محفور في الأرض. قال ابن عباس (¬2): ويريد (¬3) بـ {الَّذِينَ نَافَقُوا}: عبد الله بن أُبَي وأصحابه. وقوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. قال السدّيُّ (¬4)، ومحمدُ بن إسحاق (¬5): هذا حين انصرف عبد الله بن أُبَي، قبل أن يبلغ أُحُد، بثلاثمائة مِنْ جُمْلَةِ الأَلْفِ الذين خرج بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم عبد الله بن عَمْرِو بن حرام -أبو جابر بن عبد الله- (¬6): أذَكِّرُكُم اللهَ أنْ تَخْذلوا نبيَّكم وقومَكم، عندما حضر (¬7) عَدُوُّهُم (¬8)! ودعاهم إلى القتال في سبيل الله، فذلك قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ}، يعنى: قولَ عبد الله بن عمرو: تَعَالوا قاتلوا في سبيل الله. ¬

_ (¬1) (ظاهره): ساقط من (ج). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) في (ج): (يريد) بدون واو. (¬4) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 168. (¬5) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 71 - 82، والمصدر السابق: 4/ 167 - 168. (¬6) الأنصاري. الصحابي الجليل، شهد العقبة وكان نقيبًا، وشهد بدرًا، واستشهد في أحد، وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "الاستيعاب" 3/ 26 (1633)، و"الإصابة" 2/ 350 (4838). (¬7) في (ب): (خبر). (¬8) في (ج): (عدوكم). انظر خبر انصراف ابن أبَيّ بمن معه في: "المغازي" للواقدي 1/ 219، 325، و"الطبقات الكبرى" 2/ 39، و"تاريخ الطبري" 2/ 504، و"حدائق الأنوار" 2/ 521.

وقوله تعالى: {أَوِ ادْفَعُوا}. قال السدّي (¬1)، وابنُ جُرَيْج (¬2): ادفعوا عنّا العدُوَّ (¬3)، بِتَكثير (¬4) سَوَادِنَا، إنْ لمْ تُقَاتِلُوا معنا. وهذا اختيار الفرّاء، لأنه قال (¬5): لأنهم إذا كثروا دفعوا القومَ عنهم بكثرتهم. وقال جماعةٌ من المفسرين (¬6): معناه: أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحرِيمكم. يعنى: إنْ لم تقاتلوا في سبيل الله، لأجلِ ديِنِهِ (¬7)، فقاتِلُوا للدَّفْع عن الأهل والمال. يقول: فافعلوا هذا، أو ذلك. وقوله تعالى: {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ}. هذا جواب المنافقيِن لعبد الله بن عَمرو بن حَرَام. قال محمد بن إسحاق (¬8): لَمَّا قال لهم عبد الله ما قال، قالوا: لو ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 168، و"تفسير الثعلبي" 3/ 144ب، و"زاد المسير" لابن الجوزي 1/ 497. (¬2) قوله في المصادر السابقة. وزاد ابن الجوزي نسبة هذا القول لابن عباس، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وهو قول ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" ص 108، والنحاس في: "معاني القرآن": 1/ 508. (¬3) في (ج): (العذاب). (¬4) في (ج): (وبتكثير). (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 246. نقله عنه بتصرف. (¬6) منهم مقاتل في: "تفسيره" 1/ 312، ونسبه ابن الجوزي لابن عباس، من رواية أبي صالح عنه. انظر: "زاد المسير" 1/ 498، و"المحرر الوجيز" 3/ 474، والقرطبي 4/ 266. (¬7) في (ج): (دينكم). (¬8) قوله، في: "سيرة ابن هشام" 3/ 82. نقله عنه بتصرف.

ونعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكِنَّا لا نَرَى أنْ يكون قتال؛ يعنون: لا يكون اليوم قتالٌ؛ ولو نعلم أنه يكون لاتَّبعناكم؛ وأرادوا: أن انصرافنا؛ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ (¬1) الفريقين لا يقْتَتِلان. ونافقوا بهذا القول؛ لأنه كان في قلوبهم خلاف ما تكلموا به. قالَ الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} يريد: أنَّهم [بما] (¬2) أظهروا من خذلان المؤمنين عند الحرب، صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان؛ وذلك (¬3) أنهم قبل هذا، كانوا -بظاهر حالهم- أقرب إلى الإيمان، حتى هتكوا أنفسَهم عند مَنْ تخفى عليه حالُهم مِنَ المؤمنين، الذين كانوا يحسنون الظنَّ بهم. وفي هذا دليلٌ على أنَّ مَنْ أتَى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يُطْلَق القولُ بتكفيره؛ لأن الله تعالى لم يُطْلق القول بتكفيرهم، مع أنهم كانوا كافرين؛ لإظهارهم القولَ بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وقوله تعالى (¬4): {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} قال المفسِّرون (¬5): يعنى: بإظهار الإيمانِ وإضمار الكفر. وقال بعضهم (¬6): يعنى (¬7) قولَهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ}، ولو ¬

_ (¬1) في (ج): (أن). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ب). والمثبت من (ج). (¬3) من قوله: (وذلك ..) إلى (.. إلى الإيمان): ساقط من (ج). (¬4) (وقيل): بدلًا من: (وقوله تعالى). (¬5) لم أقف على من قال بهذا القول. وقد أورده الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 435. (¬6) ممن قال ذلك الطبريُّ في "تفسيره" 4/ 169. (¬7) في (ب) وردت هنا عبارة وهي: (إظهار الإيمان). وهي زيادة لا وجه لها.

168

عَلِمُوا ما اتَّبعوهم. وذِكْرُ الأفواه -ههنا- زيادة للتوْكيد (¬1)، لأن القولَ قد يضاف إلى الإنسان، إذا كَتَبَ أو أشار به. فأعْلَمَ اللهُ أنهم يقولون بألسنتهم؛ لِيُفَرِّقَ بين قول (¬2) اللسان وقول الكتابة (¬3). 168 - قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}. في محل {الَّذِينَ} ثلاثةُ أوْجُهٍ: أحدها: النصب على البدل من {الَّذِينَ نَافَقُوا} (¬4). و (¬5) الثاني: الرفع على البدلِ من الضمير في {يَكْتُمُونَ} (¬6). الثالث: الرفع على خبر الابتداء، بتقدير: (هم الذين) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (للتأكيد). (¬2) قول: ساقط من (ج). (¬3) وذكر الماوردي فائدة للتقييد -هنا- بـ (أفواههم)، وهي: أنه (رُبما نُسِب القولُ للساكت مجازًا؛ إذا كان به راضيًا). "النكت" 1/ 436. وقال الزمخشريُّ: (وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصوير لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم، معدوم في قلوبهم). "الكشاف": 1/ 478. وقال السمين الحلبي -معلقًا على قول الزمخشري-: (وبهذا الذي قاله الزمخشري، ينتفي كونه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة). "الدر المصون" 3/ 78. (¬4) وهناك وجهان آخران للنصب، هما: النصب على الذمِّ؛ إي: أذم الذين قالوا .. ؛ أو بإضمار (أعني)، أو النصب على الصفة {الَّذِينَ نَافَقُوا}. (¬5) الواو زيادة من (ج). (¬6) في (ج): (بلتون). (¬7) وهناك وجه ثالث، للرفع، وهو: أنه مبتدأ. والخبر: {قُلْ فَادْرَءُوا}. على تقدير: قل لهم فادرءوا.

والمراد بـ {الَّذِينَ قَالُوا}: عبد الله بن أُبَيّ، وأصحابه (¬1). وقوله: {لِإِخْوَانِهِمْ}، أكثر المفَسِّرينَ (¬2) على أنَّ المرادَ بِهِ شهداءُ أُحُد، قالوا فيهم: لو أطاعونا في القعود بالمدينة، والانصراف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد الخروج، ما قُتِلوا. وعلى هذا؛ المراد بـ (الأخُوَّةِ) -ههُنا-: أخُوَّةُ النَّسَبِ، لا أخوَّةُ الدِّين (¬3). أو نقول: يجوز هذا في إطلاق اللفظ، من حيث إنهم كانوا يظهرون المَوَدّةَ والمؤاخَاةَ للمؤمنين. فالمراد (¬4) بقوله: {قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} (¬5): قالوا في إخوانهم الذين قُتِلوا، ¬

_ = ويجوز -كذلك- الجرُّ في موضع {الَّذِينَ}، إما على أنه بدل من الضمير في {بِأَفْوَاهِهِمْ}، أو من الضمير في {قُلُوبِهِمْ}. انظر هذه الوجوه في: "إعراب القرآن" للنحاس 377، و"مشكل إعراب القرآن"، لمكي 1/ 178، و"البيان" للأنباري 1/ 230 - 231، و"التبيان" للعكبري ص 219، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" 1/ 658، و"الدر المصون" 3/ 479. (¬1) هذا قول: جابر بن عبد الله، وابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن جريج، والربيع، ومقاتل، والماوردي. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 312، و"تفسير الطبري" 4/ 169 - 170، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 811، و"زاد المسير" 1/ 498، و"الدر المنثور" 2/ 167. (¬2) منهم: مقاتل، وابن إسحاق، والطبري، والثعلبي. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 312، و"سيرة ابن هشام" 3/ 72، و"تفسير الطبري" 4/ 169، و"تفسير الثعلبي" 3/ 144 ب. (¬3) قال مقاتل: (كقوله سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [هود: 61]، ليس بأخِيهم في الدين ولا في الولاية، ولكن آخوهم في النسب والقرابة). "تفسيره" 1/ 313. (¬4) في (ج): (والمراد). (¬5) (قالوا): ساقطة من (ج).

لَوْ أطاعونا؛ لأنهم بعد أن قُتِلوا لا يخاطَبُون. ومثل هذا، قولُه: {لَا (¬1) تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] الآية. وقال الكلبي (¬2): {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}، (¬3)؛ يعني: من (¬4) المنافقين (¬5). وعلى هذا التفسير: لا إشكال؛ فإن أصحابَ عبد الله بن أُبَي قالوا لقرنائهم مَنَ المنافقين: لو أطاعنا (¬6) هؤلاء -الذين خرجوا مع محمد- في القعود؛ ما قُتِلوا. وقوله تعالى: {وَقَعَدُوا} يعني: المنافقين، قعدوا عن الجهاد. والواو للحال (¬7). {لَوْ أَطَاعُونَا}؛ يعنون: شهداء أُحُد. {مَا قتلُوا}. فَرَدَّ الله عليهم، وقال: قل لهم يا محمد: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} إنْ صَدَقْتُم أنَّ الحَذَرَ ينفع مِنَ القَدَرِ. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): (ولا). والمثبت من رسم المصحف. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) (من): ساقطة من (ج). (¬5) ممن قال بهذا: ابن عباس، كما في "زاد المسير" 1/ 498، وإليه ذهب أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 314. (¬6) في (ج): (أطاعونا). (¬7) قال السمين الحلبي: (و (قد) مرادة؛ أي: (وقد قعدوا). ومجيء الماضي حالًا بالواو و (قد)، أو بأحدهما، أو بدونهما، ثابت من لسان العرب)، ثم ذكر وجهًا آخر لإعراب جملة {وَقَعَدُوا} وهي أنها معطوفة على {قَالُوا}، فتكون جملة اعتراضية بين {قَالُوا} ومعمولها {أَطَاعُونَا}. "الدر المصون" 3/ 480.

وفي هذا دليل على أن المقتول يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ، وأنَّ (¬1) المُنَافِقِينَ كَذَبُوا في أنَّهم لو قعدوا ما قُتِلُوا. ومعنى (الدَرْء) -في اللغة-: الدَفْعُ. ومنه قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أي: يدفع (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرَءُوا الحُدُودَ بالشُّبُهاتِ" (¬3). ¬

_ (¬1) في (ج): (فإن). (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 108، و"تفسير الطبري" 4/ 169. (¬3) الحديث من الأحاديث المشهورة، وقد أورده السيوطي في "جمع الجوامع" 1/ 284 رقم (874) (875)، وفي "الجامع الصغير" انظر: "فيض القدير" 1/ 293 (314) ونسب إخراجه إلى ابن عدي في جزء له من حديث أهل مصر والجزيرة، من رواية ابن لهيعة عن ابن عباس، ونسب إخراجه كذلك إلى أبي سعد، عبد الكريم السمعاني، في "ذيل تاريخ بغداد"، بسنده عن عمر بن عبد العزيز، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مُرسلاً، ونسبه -كذلك- لأبي مسلم الكجِّي في سننه، عن عمر بن عبد العزيز مرسلًا. وأورده الزركشي في: "المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر" 36 رقم (76)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" 4/ 56 رقم (1755)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" 50 رقم (46) ونسبوا إخراجه للحارثيِّ، في "مسند أبي حنيفة" له، بسنده عن مِقْسم، عن ابن عباس، مرفوعًا. ونقل المُناوي -في "فيض القدير"- قولَ الحافظ ابن حجر، عن رواية ابن عدي: (إن كان بين ابن عدي وابن لهيعة مقبولٌ، فهو حسن). وقال الزركشي عن رواية أبي مسلم الكجي: إنها معضلة. ونقل السخاوي عن شيخه ابن حجر، أن في سنده من لا يعرف. وضعفه الألباني في: ضعيف "الجامع الصغير" 1/ 117 رقم (258). وقد ورد الأثر موقوفًا على ابن مسعود من رواية سفيان الثوري، عن عصام، عن أبي وائل عنه، وكذا رواه مسدد في مسنده موقوفًا عليه، بلفظ: (ادرءوا الحدود بالشبهة). وقال عنه ابن حجر: (وهو موقوف حسن الإسناد). انظر: "فيض القدير": 1/ 294. =

169

169 - قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}. أكثر أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في شهداء أحد (¬1). ¬

_ = وورد بلفظ: (ادرءوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم ..) أخرجه -من رواية يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عائشة-: الترمذيُّ في "السنن" رقم (1424) كتاب الحدود. باب: (ما جاء في درء الحدود)، وصحح الترمذيُّ وقفَهُ على عائشة، من رواية وكيع عن يزيد بن زياد، وقال: (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهم قالوا مثل ذلك، ويزيد بن زياد الدمشقي ضعيف في الحديث). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 384. وحكم عليه بالصحة. وتعقبه الذهبيُّ بأن فيه يزيد بن زياد، شامي متروك. وأخرجه الدارقطني في "السنن" 3/ 84، والبيهقي في "السنن" 8/ 238، والخطيب في "تاريخ بغداد" 5/ 331، والديلمي في "مسند الفردوس" 82 رقم (256). وورد عن علي، بلفظ: (ادرءوا الحدود ..)، أخرجه الدارقطني في: "السنن": 3/ 84، والبيهقي في "السنن" 8/ 238 وفيه المختار بن نافع منكر الحديث. وورد عن أبي هريرة، بلفظ: (ادرءوا الحدود ما استطعتم ..) أخرجه: أبو يعلى في: مسنده. انظر: "نصب الراقي" للزيلعي 3/ 309، و"الدراية" لابن حجر 2/ 95. قال الغماري: (وفيه إبراهيم بن الفضل، ضعيف). "الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج" للغماري 256. وانظر في الكلام على هذا الحديث بألفاظه المختلفة -إضافة إلى ما ورد من مصادر-: "كشف الخفاء"، للعجلوني 1/ 73 رقم 166. (¬1) ممن قال ذلك: ابن عباس، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وقتادة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو الضحى، والربيع. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 170 - 175، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 812 - 813؛ و"زاد المسير" 1/ 499، و"تفسير القرطبي" 4/ 268 - 269، و"تفسير ابن كثير" 1/ 460 - 463. وقيل: نزلت في شهداء بدر. وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 313. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة. روى ذلك عكرمة عن إسحاق بن أبي طلحة عن =

روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَمَّا أُصِيبَ إخْوانكم يومَ أُحُد، جَعَلَ اللهُ أرواحَهم في أجواف طَيْر خُضرٍ، تَرِدُ أنهارَ الجَنَّة، وتأكل مِنْ ثمارِها، وتَسْرَحُ مِنَ الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فَلَمَّا رأوا طِيبَ مَقِيلِهم (¬1) ومطعمهم ومشربهم، قالوا: يا ليت قومنا يعلمون مما نحن فيه من النعيم، وما صنع الله عز وجل بنا؛ كي يرغبوا في الجهاد، وقال الله عز وجل: أنا مخْبِرٌ عنكم، ومُبَلغ إخوانكم، فَفَرحوا بذلك واستبشروا؛ فأنزل الله هذه الآية" (¬2). ¬

_ = أنس بن مالك. انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 184 - 187، و"تفسير الطبري" 4/ 173، و"تفسير الثعلبي" 3/ 146 أ، و"أسباب النزول"، للواحدي ص 134، و"زاد المسير" 1/ 500، و"تفسير القرطبي" 4/ 269. وقيل: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا على الشهداء وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور. فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ تنفيسًا عنهم، وإخبارًا عن حال قتلاهم. ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 147 ب، والواحدي في "أسباب النزول" ص 134 ولم يعزواه لقائل. وانظر الروايات في أسبابها في: "الدر المنثور" 2/ 169، و"فتح القدير" 1/ 600 - 601، و"تفسير ابن كثير" 1/ 463. (¬1) المقيل: هو النوم وقت القائلة، وهو: نصف النهار. يقال: (قال قَيْلا، وقائلة، وقَيْلُولة، ومَقَالا، ومَقِيلا) انظر: "القاموس" 1359 (قيل). (¬2) الحديث، أخرجه: أبو داود في "السنن" رقم (2520) كتاب الجهاد. باب فضل الشهادة، وأحمد في "المسند" (شرح الشيخ شاكر) 4/ 123، 124رقم (2388، 2389)، وهنّاد بن السري في "الزهد" 1/ 234 رقم (156)، والطبري في "تفسيره" 4/ 170 - 171، والحاكم في "المستدرك" 2/ 297 - 298. وقال: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 145 أ، والواحدي في "أساب النزول" ص132، والبيهقي في "السنن" 9/ 163، وأورده التبريزي في "مشكاة المصابيح" 2/ 1131 رقم (3853)، وابن كثير في "تفسيره" =

وقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ}، أي: (بل هم أحياءٌ)، فهو رَفعٌ بالابتداء. وخبره: قوله (¬1): {عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬2). قال أبو إسحاق (¬3): ولو قُرِئ: (أحياءً) (¬4) -بالنصب-، لجاز (¬5)، على معنى: بل احسبهم أحياءً (¬6). قال أبو علي الفارسي (¬7): لا يجوز ذلك؛ لأنه أَمْرٌ بالشَّكِّ، ولا يجوز أنْ يَأْمُرَ (¬8) الله (¬9) بالشك، ولا يجوز أن نتأول (¬10) في (الحِسْبَانِ) ¬

_ = 1/ 427 وزاد نسبة إخراجه لسفيان الثوري، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" (انظر: "صحيح الجامع الصغير" للألباني 2/ 924 رقم (5205) وصححه)، وأورده في "الدر المنثور" 2/ 168 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل". (¬1) (قوله): ساقط من (ب). (¬2) فـ {أَحْيَاءٌ} خبر لمبتدأ مقدر هو (هم)، وجملة {عِنْدَ رَبِّهِمْ} خبر ثانٍ للمبتدأ المقدر. وقيل: إنها في محل رفع صفة لـ {أَحْيَاءٌ}، وقيل في إعرابها غير ذلك. انظر: "الدر المصون": 3/ 483، و"روح المعاني" 4/ 122. (¬3) في "معاني القرآن"، له 1/ 488. نقله عنه بمعناه. (¬4) في (ج): (أحيا). وهكذا رسمت في (ج) فيما بعدها مما سيأتي منها. وقد قرأها بالنصب ابن أبي عبلة. انظر: "البحر المحيط" 3/ 113، و"تفسير الثعلبي" 3/ 148 أ، و"المحرر الوجيز" 3/ 417. (¬5) أي: لجاز من الناحية النحوية، لا من ناحية جواز القراءة بها. (¬6) وإليه ذهب الزمخشري في "الكشاف" 1/ 479. وهناك توجيه آخر للنصب، وهو: العطف على {أَمْوَاتًا}، كما تقول: (ما ظننت زيدًا قائمًا بل قاعدًا). انظر: "التبيان" للعكبري 1/ 309. (¬7) في "الإغفال" 1/ 509. نقله عنه بمعناه (¬8) في (ج): (يأمرك). (¬9) (لفظ الجلالة): ليس في (ج). (¬10) ورد في (ب) بعد قوله: (نتأول) عبارة: (هذا أن). وهي زيادة لا وجه لها.

معنى العِلْم، على أن يكون معنى (احسبهم أحياء): اعلمهم؛ لأن ذلك لم يذهب إليه [أحدٌ من أهل] (¬1) اللغة (¬2) واختلفوا في كيفية حياة الشهداء: فالأصح ما ذكرنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يُرزقون ويأكلون ويتنعمون. وقال جماعة من أهل العلم (¬3): معنى قوله: {أَحْيَاءٌ}: أن أرواحهم أُحْضِرَتْ دارَ السَّلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها (¬4) إلى يوم البعث. وقال آخرون (¬5): لا تحبسهم أمواتًا في الدين والإيمان؛ بل هم (¬6) أحياء، كما قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. [وهذا الوجه] (¬7) اختيار أبي إسحاق (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج). (¬2) قال أبو حيان -بعد أن ذكر قول الفارسي-: (وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد يقع (حسب) لليقين؛ كما تقع (ظن)، لكنه في (ظن) كثير، وفي (حسب) قليل). ثم ذكر شواهد شعرية على ذلك. "البحر المحيط" 3/ 113، وانظر: "الدر المصون" 3/ 482. (¬3) لم أقف عليهم. (¬4) في (ج): (يشهدها). (¬5) ممن قال ذلك: الأصم البَلْخي، كما في "تفسير الفخر الرازي" 9/ 95. والأصم، هو: حاتم بن عنوان الأصم، زاهد اشتهر بالورع والتقشف، من أهل بَلْخ، زار بغداد واجتمع بأحمد بن حنبل، توفي 237 هـ. انظر: "الأعلام" للزركلي 2/ 152. وقد ذكر هذا القول الزجاج في "المعاني" 1/ 488، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 148 أ، ولم يعزواه لقائل. (¬6) (هم): ساقط من (ج). (¬7) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). وفي (ج): (في هذا). والمثبت من (ب). (¬8) سياق أبي إسحاق لهذا القول لا يدل على اختياره له؛ حيث أورده مصدِّرًا له بقوله. (قال بعضهم: ..) ولم يعقب عليه. وأتبعه بأقوال أخر في الآية.

وقيل (¬1): لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش، إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء (¬2). وقوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: بحيث لا يملك لهم أحدٌ نفعًا ولا ضرًّا، إلّا (¬3) الله عز وجل. ¬

_ (¬1) لم أقف على القائل. وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 148 أ، وأورد الأقوال السابقة وغيرها، ولم يعزها لقائل. وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 270. (¬2) (أ)، (ب): (تابوا على الوضو)، وفي (ج): (ماتوا على الوضو). والمثبت من: "تفسير الثعلبي" 3/ 148 أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 270، حيث ورد فيهما هذا القول. والأثر في هذا المعنى أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" 441 رقم (1245) بسنده المتصل من طريق ابن لهيعة (قال: حدثنا عثمان بن نعيم الرعيني، عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء، قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها إلى العرش، فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كانت جنبًا لم يؤذن لها بالسجود). وأورد هذا الأثر الحكيمُ الترمذي في "نوادر الأصول" 2/ 356، موقوفًا على أبي الدرداء، ولفظه: (إن النفوس تعرج إلى الله -تعالى- في منامها، فما كان طاهرًا سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر تباعد في سجوده، وما كان جنبًا لم يؤذن لها في السجود). وأورده ابن القيِّم في كتاب "الروح" 44 موقوفًا على أبي الدرداء من طريق ابن لهيعة. وأورد الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" 2/ 355 عن عبد الله بن عمرو؛ قال: (تعرج الأرواح إلى الله -تعالى- في منامها، فما كان طاهرًا يسجد تحت العرش، وما لم يكن طاهرًا يسجد قاصيًا، فلذلك يستحب أن لا ينام الرجل إلا وهو طاهر). وذكر المعنى الغزاليُّ في "الإحياء" 1/ 343 وزاد العراقي في "تخريج الإحياء" نسبته إلى البيهقي في "الشُّعَب" موقوفًا على عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬3) في (ج): (لأن).

170

والثاني: هم أحياء عند ربهم؛ أي: في عِلْمِهِ بِعَمَلِهِم، -كذلك- كما تقول: (هذا عند الشافعي كذا)؛ أي: في عِلْمِهِ وقولِه. وقل (¬1): معنى {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: أنهم أحياء في دار كرامته، فمعنى (عند): معنى القرب والإكرام، بحضور دار السلام. 170 - وقوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الاستبشار: السرور بالبِشَارَةِ (¬2) يُبَشَّرُ بها. وأصل الاستفعال: طَلَبُ الفعل. فالمستَبْشِر بمنزلة الذي طَلَبَ السُّرُورَ فوجده بالبِشَارَةِ (¬3). وفي هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء، يقولون: إخواننا يُقْتَلُونَ كما قُتِلْنَا، فَيُصِيبونَ مِنْ كَرَامَةِ الله ما أَصبْنَا. وهذا قول: ¬

_ (¬1) لم أقف على القائل. (¬2) في (ج): (بمنزلة البشارة). بدلًا من (السرور بالبشارة). (¬3) يرى ابن عطية أن (استفعل) -هنا- ليس بمعنى: طلب البشارة، بل بمعنى الفعل المجرد، مثل: (استغنى الله) أي: غَنيَ. وقد ورد في اللغة: (بَشِرَ، واستبشر)، بمعنى واحد، وهو: فَرِح. إلا أن أبا حيان يرى أن هذا المعنى لا يتعين، وأجاز أن يكون (استبشر) فعلًا مطاوعًا لـ (أبشر)؛ أي: أبشره الله، فاستَبْشَر؛ كقولهم: (أكانه الله فاستكان)، و (أراحه فاستراح). واستظهر أبو حيان هذا؛ لأن المطاوعة تدل على الانفعال عن الغير، فحصلت له البشرى بإبشار الله له بذلك، ولا يلزم المعنى إذا كان بمعنى الفعل المجرد لعدم دلالته على المطاوعة. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 221، و"لسان العرب" 1/ 287 (بشر)، و"البحر المحيط" 3/ 115.

الحَسَن (¬1)، وابن جريج (¬2)، وقتادة (¬3)، واختيار الفرّاء (¬4)، فإنَّهُ قال: وَيَسْتَبْشَرُونَ بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، للذي (¬5) رَأَوا مِنْ ثواب الله، فهم يستبشرون بهم. والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم في الفضل؛ لأنهم لم يُقْتَلُوا في سبيل الله، إلا أنّ لهم فضلًا عظيمًا بتصديقهم النبي [- صلى الله عليه وسلم -] (¬6)، وإيمانهم بالله، عَلِمُوا ذلك بإعلام الله إيَّاهم، [أن] (¬7) أولئك الإخوان الذين خَلَّفُوهم في الدنيا، هم مرحومون عند الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالشهداء يفرحون بذلك ويستبشرون. وهذا القول، اختيار أبي إسحاق (¬8). القول الثالث: ما قاله السُّدِّي (¬9): وهو أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 174، و" النكت والعيون" 1/ 437. (¬3) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 174، و"زاد المسير" 1/ 502. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 247. نقله عنه بتصرف يسير. وهو -كذلك- قول: الربيع، وابن إسحاق، وابن زيد. أخرجه عنه الطبري وذهب إليه. انظر: "تفسيره" 4/ 174 - 175، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 814 - 815. (¬5) في (ج): للذين. (¬6) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 489. ونسبه الفخر الرازي -كذلك- لأبي مسلم الأصفهاني. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 9/ 97. (¬9) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 175، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 814، و "تفسير الثعلبي" 3/ 149أ، و"النكت والعيون" 1/ 437، و"زاد المسير" 1/ 502.

ذِكْرُ (¬1) مَنْ يَقْدَمُ (¬2) عليه من إخوانه، فَيُقَال: يَقدَمُ (¬3) عليك فلانٌ يومَ كذا، وفلانٌ يوم كذا، فَيَسْتَبْشِرُ (¬4) بهم حين يقدمون عليه، كما يستبشر أهلُ الغائب بقدومه في الدنيا. وقوله تعالى: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (¬5) موضع (أنْ): خفض، لأن المعنى: بأنْ لا خوف عليهم. هذا قول الخليل (¬6)، والكسائي (¬7)، والزجاج (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: (فيه ذكر ..) إلى (.. عليك فلان): ساقط من (ج). (¬2) في (ب): (تقدم). (¬3) في (ب): (تقدم). (¬4) في (ج): (فيستبشرون). (¬5) (ألا): كتب في (أ)، (ب)، (ج): (أن لا). وأثبتُّها وفق رسم المصحف. (¬6) انظر مذهبه في "معاني القرآن"، للزجاج 1/ 309 عند تفسير {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 23]. (¬7) انظر مذهبه في "معاني القرآن" للفراء 1/ 148، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 309. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 489. وقد ذكر الزجاج -موضحًا مذهب الكسائي والخليل- عند قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، أن موضع {أَنْ يَتَرَاجَعَا} خفض على إسقاط (في)، ومعنى إرادتها في الكلام .. ثم قال: والحذف مع (أن) سائغ؛ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضع جر على إرادة (في). "المعاني" 1/ 309. وعلى غرار هذا المثال يأتي قوله تعالى: {أَلَّا خَوْفٌ} على إرادة الباء، فتصير: (بأن لا خوف ..) كما ذكر المؤلف. وتعرب -كذلك- بدل اشتمال من (الذين)؛ أي: يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم، لأنه هو المستبشر به في الحقيقة، أما الذوات فلا يستبشر بها. انظر: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج 2/ 581، و"البحر المحيط" 3/ 115، و"الدر المصون" 3/ 486.

171

ويجوز أن يكون نصبًا، على أنه لَمَّا حُذف الجارُّ، نُصبَ بالفعل، كما قال: أمرتك الخيرَ ......... (¬1). أي: بالخير. وهذا هو القياس (¬2). وقد مضت هذه المسألة فيما تقدم. 171 - قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية. ¬

_ (¬1) مقطع من بيت شعر، وتمامه: أمَرْتُكَ الخيرَ فافعلْ ما أمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُك ذا مَالٍ وذا نَشَبِ وقد اختلف في نسبته، فنسب لعمرو بن معديكرب، ولخُفاف بن نُدْبة، ولزرَعة بن خفاف، وللعباس بن مرداس، ولأعشى طرود. فقد ورد في: "شعر عمرو بن معد يكرب" 63. ونسبته له المصادر التالية: "كتاب سيبويه" 1/ 37، و"الأصول في النحو" 1/ 178، و"المخصص" 14/ 71، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 558، و"شرح شواهد المغني" 2/ 727، و"الخزانة" 9/ 124. وورد في: "شعر خفاف بن ندبة السُّلمي" 126. ونسب لزرعة بن خفاف انظر: "خزانة الأدب" 1/ 339، 342، 343. وورد في "ديوان العباس بن مرداس" 131. ونسب لأعشى طرود في: "المؤتلف والمختلف" للآمدي 17، و"الخزانة" 1/ 342، 343. وروايته عند الآمدي: (أمرتك الرُّشْد ..) وقال الآمدي: (ويروى: بالسين المهملة)؛ أي: (وذا نسب). وورد غير منسوب في: "الكامل" للمبرد 1/ 33، و"المقتضب" 2/ 36، 86؛ 321، و"اللامات" 139، و"المحتسب" 1/ 51، 272، و"الإفصاح" للفارقي 127، 270، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 133، و"شرح المفصل" 2/ 44، 8/ 50، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" 426، و"شرح شذور الذهب" 443. والنشب: المال الأصيل، المنقول منه والثابت. انظر (نشب) في: "القاموس" 137، و"المعجم الوسيط" 928. (¬2) أو إنها مفعول لأجله، بتقديرِ: لأنهم لا خوف عليهم. انظر: "التبيان" ص 220.

172

يُقرأ: {وَأَنَّ اللَّهَ} بالفتح والكسر (¬1). فمن فتحها (¬2): جعلها خفضًا، على معنى: (وَبِأَنَّ الله)، فـ (أَنَّ) معطوفة على الباء في {بِنِعْمَةٍ}؛ والمعنى: يستبشرون بتوفير نِعْمَةِ الله عليهم، ووصول أجرهم إليهم؛ لأنه إذا لم يُضِعْهُ (¬3)، وَصَلَ إليهم. ومَنْ (¬4) كَسَرَها: استأنف، وهو يَؤُولُ إلى معنى القراءةِ الأولى؛ لأنه إذا لم يُضِعْهُ وَصَلَ إليهم. والأول أشد إبانة لهذا المعنى. 172 - قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية. [قال المفسرون (¬5): لما انصرف أبو سفيان] (¬6) وأصحابه من أحد، ندموا على انصرافهم، وتلاوموا فيما بينهم، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا [لم يَبْقَ إلا الشَّرِيدَ تركتموهم؟] (¬7) ارجعوا فاستأصِلُوهم. فَبَلَغَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أن يرهب العَدُوَّ، ويريهم من نفسه وأصحابه [قُوَّةً؛ فَنَدَبَ] (¬8) أصحابَهُ للخروج ¬

_ (¬1) قراءة {وَإِنَّ} -بكسر الهمزة- للكسائي. وقرأ الباقون: بفتحها {وَأَنَّ}. انظر: كتاب "القطع والائتناف" للنحاس 240، و"الحجة" للفارسي 3/ 98، و"النشر" 2/ 244، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 182. (¬2) قوله: (فمن فتحها ..) إلى (.. لهذا المعنى): نقله بتصرف واختصار عن "الحجة" للفارسي 3/ 98 - 99. (¬3) (يضعه): غير واضحة في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"الحجة". (¬4) من قوله: (ومن ..) على (.. وصل إليهم): ساقط من (ج). (¬5) منهم: عكرمة، وابن إسحاق، وقتادة، والسدي، وابن جريج، والحسن. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 176 - 178، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 815 - 817، و"أسباب النزول"، للواحدي: ص 172 - 173. (¬6) ما بين المعقوفين: بياض في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬7) ما بين المعقوفين: بياض في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). (¬8) ما بين المعقوفين: بياض في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).

في طلب أبي سفيان، فانتدب عِصَابَةٌ منهم، مع ما (¬1) بهم من الجرح الذي أصابهم يوم أحد، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، حتى بلغوا حَمرَاءَ الأسد -وهي مِنَ المدينة على ثمانية أميال (¬2) -، وألقى (¬3) الله عز وجل الرعبَ في قلوب المشركين، فانهزموا من غير حَرْبٍ، فذلك قولُه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬4). ومحل {الَّذِينَ}: خَفْضٌ، على النعت للمؤمنين (¬5). قال الزجّاج (¬6): والأحسن أن يكون في موضع رَفْعٍ، على الابتداء، و (¬7) يكون خبر الابتداء (¬8) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} على آخر الآية (¬9). و {اسْتَجَابُوا}، بمعنى: أجابوا (¬10). وقد مَرَّ (¬11). ¬

_ (¬1) في (ج): (معما). (¬2) قال ابن سعد في: "الطبقات الكبرى" 2/ 49: (وهي من المدينة على عشرة أميال، طريق العقيق، متياسرة عن ذي الحُليفة، إذا أخذتها من الوادي). (¬3) في (ج): (فألقى). (¬4) انظر: "المغازي" للواقدي 1/ 334 - 340، و"سيرة ابن هشام" 3/ 74 - 75، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد 2/ 48 - 49، و"تاريخ الطبري" 2/ 534، و"البداية والنهاية" 4/ 504. (¬5) في (ب): (من للمؤمنين). (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 489، نقله عنه بتصرف. (¬7) (أ)، (ب): (أو). وساقط من (ج). والمثبت من: "معاني القرآن". (¬8) (ويكون خبر الابتداء): ساقط من (ج). (¬9) وفيه وجوه أخرى من الإعراب: أنه خبر لمبتدأ مضمر، تقديره: (هم الذين)، أو إنه منصوب بإضمار أعني، أو أنه بدل من {الْمُؤْمِنِينَ}، أو من {الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ}. انظر: "الدر المصون": 3/ 488. (¬10) في (أ)، (ب): (جابوا). والمثبت من (ج). وهو الصواب؛ لأن (جابوا) لا وجه لها -هنا- لأنها بمعنى: خرقوا. يقال: (جاب الشيء جَوْبا)، و (اجتابه): خرقه. و (جاب يجوب جَوْبا): قطع وخرق انظر: "اللسان" 2/ 717 (جوب). (¬11) انظر: تفسير الآية 186 سورة البقرة.

173

وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} أي: بطاعة رسول الله، وإجابته إلى ما دعاهم إليه، واتَّقَوا معصيتَهُ ومخالفته. 173 - قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} الآية. قال المفسِّرُون: إنَّ أبا سفيان يوم أحد، حين أراد أن ينصرف، قال: يا محمد! موعِدُ ما بيننا وبينك موسمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى (¬1)، لِقابِل، إنْ شِئْتَ. فقال (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، (ذلك بيننا [وبينك] (¬4)، إن شاءَ الله). فَلَمَّا كان العام المقبل، خرج أبو سُفيان في أهل مَكَّةَ، حتى نزل [مَجَنَّة] (¬5)، ثم ألقى اللهُ الرُّعْبَ في قَلْبِهِ. فَبَدَا له الرجوع، فلقي نُعَيْمَ بنَ مَسْعُود الأشجَعِي (¬6)، فبعثه أبو سفيان، وقال: ثَبِّطْ (¬7) عنّا مُحَمَدًا، وخَوِّفْهُ حتى ¬

_ (¬1) وتسمى هذه الغزوة -كذلك- بغزوة بدر الثانية، والآخرة، والموعد. و (بدر) هو نفسه المكان الذي وقعت فيه معركة بدر الكبرى، أو الأولى. وقد حدد المشركون هذا المكان للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ انتقامًا لقتلاهم الذين قتلهم المسلمون في هذا الموضع في معركة بدر الأولى. انظر أخبار هذه الغزوة في: "سيرة ابن هشام" 3/ 221 - 222، و"المغازي" 1/ 384. (¬2) في (ج): (وقال). (¬3) (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -): ليس في: (ج). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬5) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (جنة). والمثبت من (ج)، ومصادر الخبر. ومَجَنَّة: موضعٌ، كان سوقًا للجاهلية، يقع بناحية مرِّ الظهران، قرب جبل يقال له الأصفر، على بعد مسافة من مكة. وقيل في تحديد موقع مجنة غير ذلك. انظر: "معجم ما استعجم" 4/ 1187، و"معحم البلدان" 5/ 58. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) في (ج): (نسط).

لا (¬1) يلقانا ببدر الصغرى. ولأن يكونَ الخُلْفُ مِنْ قِبَلِهِم، أحبّ إليّ مِنْ أنْ يكون مِنْ قِبَلي. فأتاهم نعَيْم [وخَوَّفَهم] (¬2)، فوجدهم يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال: قد أَتَوْكُم في بلدكم، وصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وَرَدْتُم عليهم في بَلْدَتِهِم، وهم أكثر، وأنتم أقل؟ وهذا قول: مجاهد (¬3)، ومقاتل (¬4)، وعكرمة (¬5)، والواقدي (¬6)، والكلبي (¬7). فـ {النَّاسُ} على قول هؤلاء، في قوله: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}: هو نُعَيم ابن مسعود. وهو من العَامِّ الذي أريد به الخاصُّ. وهذا (¬8) اختيار الفرّاء (¬9) والزجّاج (¬10) أن {النَّاسُ} -في هذا الموضع (¬11) -: واحدٌ. وجاز ذلك؛ ¬

_ (¬1) (لا): ساقطة من (ج). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬3) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 181، و"تفسير الثعلبي" 3/ 153 أ، و"الدر المنثور" 2/ 181 وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) قوله في "تفسيره" 1/ 315. (¬5) قوله في: "تفسير سفيان بن عيينة" 230، و"تفسير عبد الرزاق" 1/ 140، و"سنن سعيد بن منصور" 2/ 327 رقم (2914)، و"تفسير الطبري" 4/ 181، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 816، و"تفسير الثعلبي" 3/ 153 أ، و"الدر المنثور" 2/ 181 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬6) قوله في "المغازي" 1/ 327. (¬7) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" 4/ 279. (¬8) من قوله: (وهذا ..) إلى (.. وجاز ذلك): ساقط من (ب). (¬9) في "معاني القرآن" له 1/ 247. (¬10) في "معاني القرآن" له 1/ 489. وبه قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 282. (¬11) في (ج): (القول).

لأن هذا القول (¬1) جاء من قِبَل الناس، فوُضِعَ كلامٌ موْضِعَ كلامٍ؛ للإيجاز (¬2)؛ وذلك أن نُعَيْمًا (¬3) ابتدأ بقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، ثم انتشر هذا القولُ؛ وخاضَ فيه الناسُ، وتكلم به كلُّ (¬4) أَحَدٍ، و-أيضًا- فقد يُطْلَقُ لفظُ (الناس) على الواحد، كما تقول -إذا انتظرت قومًا، فجاء واحدٌ منهم-: (قد جاءَ الناسُ)؛ إمَّا لتفخيمِ الشَأْنِ، وإمَّا لابتداء الإتيان. وقال ابن عباس (¬5)، ومحمد بن إسحاق (¬6) -في قوله: {قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ} -: هم (¬7) رَكْبٌ مِنْ عَبْد القيس، مَرُّوا بِأبِي سفيان، فَدَسَّهم (¬8) على المسلمين لِيُجَبِّنُوهم (¬9) عنه، وَضَمن على ذلك لهم جُعْلًا (¬10). ¬

_ (¬1) (واحد وجاز ذلك لأن هذا القول): ساقط من (ج). (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): الإيجاز. والمثبت هو ما استصوبته. (¬3) في (ب): (فيهما). (¬4) كل: ساقطة من (ج). (¬5) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 180. (¬6) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 75، و"تفسير الطبري" 4/ 180، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 818. (¬7) هم: ساقطة من (ج). (¬8) هكذا في (أ)، (ب)، (ج). وقد تكون (فندبهم)، وهي أولى وأنسب للمعنى. (¬9) في (ب): (ليجيبوهم). (¬10) الجُعْل، والجِعال، والجُعالة، والجَعالة، والجعيلة: هو ما جُعل من عطاءٍ على عملٍ، وهو أعم من الأجرة والثواب والجمع: جُعُل، وجعائل. انظر: (جعل) في: "اللسان" 2/ 637، و"التاج" 14/ 109. وما ذكره ابن عباس، وابن إسحاق -هنا- يعنيان به ما حدث عند خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في طلب أبي سفيان والمشركين، بعد انصرافهم من أحد إلى حمراء الأسد، وكان المشركون قد عزموا على الكَرَّة على المسلمين لاستئصالهم، فلما أن علموا بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إثرهم، فَتَّ ذلك في عَضُدِهم، وحينها =

وقال السُّدِّي (¬1): {النَّاسُ} ههنا هم: المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بدر، لميعاد أبي سفيان: قد أتوكم في دياركم، فقاتلوكم (¬2) وظَفَرِوا (¬3) فإنْ أتيتموهم في ديارهم لا يَرْجِعُ منكم أَحَدٌ. ومحل {الَّذِينَ}: رَفْعٌ أو خفْضٌ، على ما ذكرنا في قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا} [آل عمران: 172] لأن هذا بدل منه. وقوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يعني: أبا سفيان وأصحابَه. وقوله (¬4): {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} أي: زادهم قولُ الناس لهم إيمانًا. أضمر المصدر، وأسند الفعل إليه. ومثله: قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]؛ أي: ما زادهم (¬5) مجيءُ النذيرِ. ومثله: قوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا} [الأحزاب: 22]؛ أي: ما زادهم رؤيتُهم لهم. ¬

_ = طلبوا من الركب من (عبد القيس) الذين مروا بهم مبتغين المدينة للمِيرَة أن يهوِّلوا من أمر جيش المشركين، ويثَبِّطوا المسلمين عن لقائهم. وهذا ما رجحه الطبري في "تفسيره" 4/ 182، وقال ابن عطية: (وهذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد)، واستصوبه "المحرر الوجيز" 3/ 426. ورجحه ابن كثير في "تفسيره" 1/ 463. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي 134 - 135. (¬1) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 154 ب، و"تفسير القرطبي" 4/ 279، و"زاد المسير" 1/ 505. (¬2) (فقاتلواكم): ساقطة من (ج). (¬3) في (ج): (فطفروا). (¬4) (أ)، (ب): (وقولهم)، والمثبت من (ج). (¬5) في (ج). (ما جاهم).

ومثله مِنْ إضمار المصدر لِدِلالَةِ الفعلِ عليه كثيرٌ. ومعنى قوله: {إِيمَانًا}: قال ابن عباس (¬1): أي: تصديقًا ويقينًا. وقال أبو إسحاق (¬2): أي: فزادهم ذلك التخويف ثبوتًا في دينهم، وإقامة على نُصْرة نبيهم. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [أي: الذي (¬3) يكفينا أمرَهم: اللهُ. قال ابن الأنباري (¬4): معنى قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ}] (¬5): كافينا الله، وأنشد: إذا كانت الهيجاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ (¬6) قال: معناه: يكفيك ويكفي الضحاكَ (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 490، نقله عنه بنصِّه. (¬3) (الذي): ساقطة من (أ)، (ب). وفي (ج): الذي. والمثبت هو ما استصوبته. (¬4) في "الزاهر" 1/ 96. نقله عنه باختصار. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬6) البيت، نُسِب لجرير في "ذيل الأمالي" 140. ولم أقف عليه في ديوانه. ونُسِب لِلَبِيد في: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج 3/ 870، ولم أقف عليه في ديوانه. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفراء 1/ 417، و"الأصول في النحو" 2/ 37 و"جمهرة اللغة" 2/ 1047، و"الزاهر" 1/ 96، و"التهذيب" 1/ 810، و"التكملة" للفارسي 324، و"الصحاح" 6/ 2429 (عصا)، و"المخصص" 16/ 14، و"سمط الآلىء" 899، و"شرح المفصل" 2/ 51، و"اللسان" 2/ 865 (حسب)، 8/ 4732 (هيج)، 5/ 2981 (عصا)، و"مغني اللبيب" 731، و"المقاصد النحوية" 3/ 84، 2/ 136. الهَيْجاء، والهَيْجا، والهَيْج، والهِياج: الحرب. انظر: "اللسان" 8/ 4732 (هيج). (انشقت العصا): أي: وقع الخلاف. انظر: "الصحاح" 6/ 2428 (عصا). (¬7) ناقل في "لسان العرب" عن ابن بَرْي معنًى آخر، فقال: (الواو في قوله: =

ومثله (¬1) قول امرىء القَيْسِ: وحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ ورِيُّ (¬2) أي: يكفيك الشِبَعُ والرِيُّ. ويقال: (أَحْسَبَني الشيءُ، إحْسابًا): إذا كفاني (¬3). فـ (حَسْبُ) مأخوذٌ من (الإحْساب)، وهو: الكِفَايَة. وهو اسمٌ فيه معنى الفعل؛ ألا ترى أنه يُعْطَفُ على المَكْني المتصل به بالنصب، كقوله: (فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ)، على معنى: يكفيك. ومثله: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: 33]. وقوله تعالى: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: الموكول إليه الأمور. (فَعِيل) ¬

_ = (والضحاك) بمعنى الباءَ، وإن كانت معطوفة على المفعول، كما تقول: (بعت الشاءَ شاةً ودرهمًا)؛ لأن المعنى: أن الضحاك نفسه هو السيف المُهنَّد، وليس المعنى: يكفيك ويكفي الضحاك سيفٌ مهنَّدٌ كما ذكر). "اللسان" 5/ 2981 (عصا). ولكن المعنى الأوَّل الذي ذكره المؤلفُ هو الأوضح والأشهر. (¬1) في (ج): ومنه. وفي "الزاهر": (ومن ذلك). (¬2) عجز بيت، وصدره: فَتُوسِعُ أهلَها أقِطًا وَسَمْنًا وهو في "ديوانه" ص 171. وقد نسب له -كذلك- في: "الزاهر" 1/ 96، و"الأمالي" للقالي 2/ 262، و"اللسان" 8/ 4835 (وسع)، 4/ 2104 (سمن). وورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" 3/ 157أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 282. وقد ورد في بعض المصادر: (فتملأ بيتنا أقطًا ..). والأقِط: شيء يصنع من اللبَن المخيض، على هيئة الجبن. والشاعر -هنا- يتحدث عن (مِعْزى)، تَدُرُّ الحليب، وتوسع أهلها بالأقط، والسَّمِن. (¬3) يقال: (أحسبني الشيءُ إحسابًا)، وهو (مُحسِبٌ): إذا كفاني. انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج 49، و"الزاهر" 1/ 96، و"الأمالي" للقالي 2/ 262. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 417.

بمعنى: (مَفْعُول) (¬1). قال ابن الأنباري (¬2): والعرب تتكلم بالوكيل، بمعنى: الكَفِيل. فتقول: (هو وكيلٌ بكذا وكذا)؛ يريدون: كفالته به. قال الشاعر: ذَكَرْتُ أبا أرْوَى فَبِتُّ كَأنَنِي ... بِرَدِّ (¬3) الأُمورِ الماضيات وَكِيلُ (¬4) أراد: كأنني برد الأمور كفيلُ. وقال الفرّاء (¬5): الوكيل: الكافي. قال الله -عز وجل-: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 2]، أي: كافيا. قال أبو بكر (¬6): والذي أختاره: مذهب الفرّاء؛ لأن (نِعْمَ) سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقًا للذي قبلها؛ كما تقول: (رازقُنا اللهُ، ونِعْمَ الرّازق). و (خالقُنا الله؛ ونعم الخالق). فيكون أحسنَ مِنْ قولك: (رازقنا الله؛ ونعْمَ الخالق)، وكذلك الآية: يكفينا (¬7) الله، ونِعْمَ الكافي. وأصلُه في اللغة: ما ذكرنا؛ أنه الموكول إليه، ثم الكافي (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج 54. (¬2) في "الزاهر" 1/ 100، نقله عنه بتصرف. (¬3) في (أ)، (ب): (بود). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت. (¬4) البيت، ورد منسوبًا لشقران السلامي، في "بهجة المجالس" 3/ 112. وورد غير منسوب في: "البيان والتبيين" 3/ 164، و"الزاهر" 1/ 100. وقد ورد في المصادر السابقة: (.. برد أمورِ الماضيات). (¬5) في "معاني القرآن" له 2/ 116. وقول الفراء -هنا-، هو من تتمة نقل المؤلف عن "الزاهر" 1/ 99 - 100. (¬6) هو ابن الأنباري، في "الزاهر" 1/ 100. نقله عنه بالمعنى. (¬7) في (ج): (ويكفينا). (¬8) أنكر الزجاج أن يكون (الوكيل) بمعنى (الكافي)؛ فقال -بعد أن ذكر رأي =

174

والكفيل؛ يجوز أنْ يُسَمَّى: وكَيلاً؛ لأن الوكيل يكفي الأمور والكفيلُ -أيضًا- موكولٌ إليها الأمر. 174 - قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} وذلك أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، خرج في أصحابه حتى وافوْا بدرَ الصُّغْرَى، وهي ماءٌ لِبَني كِنَانَة (¬1)، وكانت موضع سُوقٍ لهم، يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام. فلم يلْقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابُه، أحدًا من المشركين، ووافقوا السُّوقَ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجارات، فباعُوا واشتَرَوْا أُدمًا (¬2) وزَبِيبًا، وربحوا وأصابوا للدرهم درهمَيْنِ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين (¬3)؛ فذلك قوله: {فَانْقَلَبُوا}، أي: وخرجوا فانقلبوا. فحذف الخروجَ؛ لأن الانقلابَ يَدُلُّ عليه؛ كقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]؛ أي: فَضَرَبَه (¬4) فانْفَلَقَ. وقوله تعالى: {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} قال السُّدِّي (¬5)، ومجاهد: ¬

_ = الفراء-: (ونحن لا نعرف في الكلام: (وَكَلْتُ) ولا (وكَلْتُ إليه): إذا كَفَيْت. فلا ندري من أين له هذا القول). "تفسير أسماء الله الحسنى" 54. (¬1) انظر: "معجم البلدان" 1/ 357، وانظر تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آية: 123]. (¬2) الأُدُم: جمعٌ، ومفردها: (أُدْم)، و (إدام)، وهو: ما يُستمرأ به الخبز؛ من سائل: كالخل، والزيت، واللبن، وما أشبهه؛ أو من جامد. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 286، و"المصباح المنير" 4 (أدم)، و"المعجم الوسيط" 1/ 10 (أدم). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 182 - 183، و"تفسير النسائي" 1/ 343 - 345. (¬4) في (ج): (فضرب). (¬5) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 183، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 819، و"زاد المسير" 1/ 505 - 506.

175

النِّعمةُ -ههنا-: العافية. والفَضْلُ: التجارة (¬1). وقوله تعالى: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}. لم يُصِبْهُم قَتْلٌ وَلاَ جِراحٌ. في قول الجميع. {وَاَتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اَللَّهِ} في طاعةِ رَسُولِه. 175 - قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} (ذلك) إشارةٌ إلى التخويف؛ أي (¬2): ذلك التخويفُ الذي كان، فِعْلُ الشيطان؛ لأنه سَوَّلَهُ للمُخَوَّفِين. قاله (¬3) الزجاج (¬4). وعلى هذا (¬5)؛ الآيةُ مِنْ باب حذف المضاف، على تقدير: إنما ذلكم فِعْلُ الشيطان (¬6)، أو كَيْدُ الشيطان، أو تخويفُ الشيطان؛ لأنَّه سبب ذلك؛ بالدعاء (¬7) إليه والإغواء فيه. وقوله تعالى: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} مذهب النحويين في هذا (¬8): أنَّ {يُخَوِّفُ} قد حُذِف معه مفعولٌ (¬9) يقتضيه؛ تقديره: يخوفكم (¬10)، أو: ¬

_ (¬1) ورد قولُه في المصادر السابقة، ولكنه فسر فيها (النعمة) و (الفضل) بما أصابوا من التجارة والأجر، ولم يَرِدْ فيها أنه فسَّرَها بالعافية. (¬2) في (ج): (إلى). (¬3) في (ج): (قال). (¬4) في: "معاني القرآن" له 1/ 490. نقله عنه بنصه. (¬5) في (ج): (هذه). (¬6) في (ج): (الشيد). (¬7) في (ب): (الدعاء). (¬8) في (ب): (في هذه الآية). (¬9) من قوله: (يقتضيه ..) إلى (.. حذف منه): ساقط من (ج). (¬10) في (ب): (خوفكم).

يخوفُ المؤمنينَ. وقوله تعالى {أَوْلِيَاءَهُ} حُذِف منه الجارُّ، أي: بأوليائهِ، أو: مِن أوليائه، فَلَمَّا حُذِفَ الجار، وَصَلَ الفعلُ إلى المفعول الثاني فَنَصَبَهُ. ومثله -مِن حذفِ المفعول منه-، قولُه: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7] المعنى: إذا خِفْتِ عليه فِرْعَونَ أو الهلاكَ. والجارُّ المُظْهَرُ في قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}، بمنزلة المحذوف مِن قوله: {أَوْلِيَاءَهُ}. والتقديرُ عندهم: يُخَوِّفُكم بأوليائِهِ. قال الفَرّاءُ (¬1): ومِثْلُهُ، قولُهُ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]؛ معناه: لِيُنْذِرَكُمْ بِيَومِ التَّلاقِ. وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا} [الكهف: 2]؛ معناه: لِيُنْذِرَكُمْ بِبِأسٍ. هذا الذي ذَكَرْنَا: مذهب الفرّاء، والزّجاج (¬2)، وأبي علي (¬3). والذي يدلّ عل هذا: قراءةُ أُبَيِّ بن كعب: (يُخوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ) (¬4). وللمفسِّرِينَ في هذه الآية مذهبان، سِوَى ما ذكرنا: أحدهما: أنَّ هذا، على قول القائل: (خَوَّفْتُ زَيْدًا عَمْرًا). ومعنى الآية: يُخَوِّفكم أولياءَهُ. فحذف المفعول الأول؛ كما تقول: (أعطيتُ ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 248، نقله عنه بمعناه (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 490. (¬3) لم أقف على مصدر مذهبه. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 221، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 108، و"تأويل المشكل" له 222، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 512. (¬4) أخرج القراءة عنه بسنده: الثعلبيُّ في "تفسيره" 3/ 158 أ، وذكرها البغوي في "تفسيره" 2/ 139, وأبن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 429، وأبو حيان في "البحر" 3/ 120.

الأموالَ)؛ أي: أعطيتُ القومَ، أو الناسَ الأموالَ. قال ابن الأنباري (¬1): وهذا أشْبَه مِن ادِّعاءِ جارٍّ (¬2) ما عليه دليلٌ. قال: وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا} [الكهف 20]، معناه: لِيُنْذِرَكمْ بأسًا. وكذلك قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] [معناه: لِيُنْذِرَكُم يومَ التَّلاقِ] (¬3). والتخويفُ يتعدَّى إلى مفعولين، من غير حرف جَرٍّ؛ تقول (¬4): (خافَ زَيْدٌ القِتَالَ)، و (خَوّفْتُهُ القتالَ)؛ كما تقول: (عَرَفَ زيدٌ أخاكَ)، و (عَرَّفْتُهُ أخاكَ). وهذا مذهب ابن عباس (¬5)، ومجاهد (¬6)، وقتادة (¬7). ويَدلُّ على هذا ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد -بنصه- في "زاد المسير" 1/ 507، وورد -كما هو عند المؤلف- في: "تفسير الفخر الرازي" 9/ 105. (¬2) في (ج): (جاز). وفي "زاد المسير": (وهذا أشبه من ادِّعاء (باء) ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) (تقول): ساقطة من (ب). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 183 - 184، و"النكت والعيون" 1/ 438، وقد ورد عنه من رواية عطاء، أنه كان يقرأها: (يخوفكم أولياءه). انظر: "المصاحف" لابن أبي داود 74، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 820، و"المحتسب" 1/ 177، و"المحرر الوجيز" 3/ 328، وأوردها عنه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 182 وزاد نسبة إخراجها إلى الفريابي: وعبد بن حميد، وابن الأنباري في "المصاحف". وأورد عنه ابن عطية في "المحرر" 3/ 428 أنه قرأ: (يخوفكم أولياؤُه)، أي: يخوفكم قريش ومن معهم. (¬6) انظر: "تفسيره" 139، و"تفسير الطبري" 4/ 183، و"ابن أي حاتم" 3/ 820، و"النكت والعيون" 1/ 438، و"الدر المنثور" 2/ 182 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد ابن حميد، وابن المنذر. (¬7) انظر: "الطبري" 4/ 183، و"ابن ابي حاتم" 3/ 821، و"النكت والعيون" 1/ 438.

قراءةُ ابن مسعود: (يخوِّفُكُم أولياءَهُ) (¬1). المذهب الثاني: أنَّ معنى الآية: يُخَوَفُ أولياءَهُ [المنافقين (¬2)؛ ليقعدوا عن قتال المشركين. كأنَّ المعنى: يُخَوِّف أولياءَه] (¬3) الذين يُطيعونَهُ، وُيؤْثِرُونَ أمرَهُ، وَيعْصون رَبَّهم، ويُقِيمونَ على خِلافِهِ. فأمَّا أولياءُ اللهِ، فَإنَّهُمْ لا يَخَافُونَهُ إذا خَوَّفَهم، ولا يَنْقادُون لِمُرَادهِ منهم. وهذا قولُ: الحَسَن (¬4)، والسدِّي (¬5)، وابنِ عباس في رواية عطاء (¬6). فالمذهب الأول: فيه محذوفان، والثاني: فيه محذوفٌ واحد، والثالث: لا حَذْفَ فيه. ومعنى (الأوْلِيَاء) -في القولين الأوَّلَيْنِ-: المشركون والكفار. وقوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} الكناية (¬7) تعود إلى الأولياء في القولين الأوَّلَيْنِ. وفي الثالث: تعود إلى المشركين؛ وهم قد ذُكِروا في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]. ¬

_ (¬1) ذكر الثعلبي القراءة -بسنده عن عطاء- في "تفسيره" 3/ 158 أ، وأوردها أبو حيان في "البحر" 3/ 120. (¬2) أي: أولياءه من المنافقين. فالمنافقين -هنا- بدل من (أولياءه). (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "النكت والعيون" 1/ 438، و"زاد المسير" 1/ 507، و"تفسير القرطبي" 4/ 282. (¬5) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 183، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 820، و"النكت والعيون" 1/ 438، و"زاد المسير" 1/ 507، و"تفسير القرطبي" 4/ 282. (¬6) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. (¬7) الكناية: هي الضمير.

176

وقوله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: خافونِ (¬1) في تركِ أمري؛ إنْ كنتم مصدِّقِينَ بوعدي، وقد أعلمتكم أنِّي أنصركم عليهم (¬2)، فقد سقط عنكم (¬3) الخوف. 176 - قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}. أكثر القُرّاءِ على {يَحْزُنْكَ} -مِنَ الثلاثي-. وقرأ نافع: {يَحْزُنْكَ} -بضمِّ الياء- (¬4). واختلف أهل اللغة في هذا: فقال قومٌ: (حَزَنَ، وأحْزَنَ)، بمعنى واحد (¬5). قال الزّجاج -في باب الوفاق- (¬6): (حزَنَني الأمْرُ، وأَحْزَنَنِي). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (خافوني)، والمثبت من (ب). (¬2) في (ج): (عليكم). (¬3) في (ج): (عنهم). (¬4) وقد قرأ نافع هذه الآية، وقرأ {ولِيُحْزِن} في الآية 10 من سورة المجادلة، و {ليُحْزِنني} في الآية 13 من سورة يوسف، بضم الياء وكسر الزاي في كل القرآن، إلا قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [آية: 103] من سورة الأنبياء، فقد قرأها كباقي القراء الذين فتحوا الياءَ وضمُّوا الزايَ في كل القرآن. انظر: "السبعة" 219، و"القراءات"، للأزهري 1/ 131، و"الحجة" للفارسي 3/ 99. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 807 (حزن)، و"المقاييس" 2/ 54 (حزن)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 158 أ، و"ما جاء على فعلت وأفعلت" للجواليقي 34. قال ابن دريد: (و (حَزَنني الأمر)، و (أحْزَنَنِي)، لغتان فصيحتان، أجازهما أبو زيد وغيره. وقال الأصمعي: لا أعرف إلا حزنني يحزنني، والرجل (محزون) و (حزين)، ولم يقولوا: (مُحْزَن). "الجمهرة" 1/ 529. وفي "الصحاح" للجوهري، ينقل عن اليزيدي قوله: (حزَنه)، لغة قريش، و (أحْزَنَه) لغة تميم. 5/ 2098 (حزن) (¬6) لم أقف على هذا المصدر.

و (أمرٌ حازِنٌ ومُحزِنٌ). وقال ابن المُظَفَّر (¬1): تقول (¬2): (حَزَنَنِي)، و (هو يَحزُنُني حُزْنًا)، (فأَنَا مَحْزُونٌ)، و (هو حازِنٌ) (¬3) و (أحْزَنَنِي، فأنا مَحْزون) (¬4)، و (هو مُحزِنٌ). وحكى -أيضًا- سيبويه (¬5) -عن بعض العرب-: أنهم يقولون: (أحْزَنْت الرجلَ): إذا جعلته حزينًا. وحكى أبو زيد -في كتاب (خُبَأة) (¬6): (أحْزَنَنِي الأمرُ إحزانًا)، و (هو ¬

_ (¬1) ورد القول التالي -مع اختلاف يسير- في: "تهذيب اللغة": 1/ 807 (حزن)، من قول أبي عمرو، برواية يونس عنه، وليس من قول الليث بن المظفر، فالمؤلف ينقل هنا عن "العين" للخليل وينسب الكلام لابن المظفر. وانظر هذا المعنى في "العين" للخليل 3/ 160 (حزن). (¬2) في (ج): (يقول). (¬3) (وهو حازن): لم ترد في "تهذيب اللغة". (¬4) في "التهذيب": (وأنا مُحْزَن)، وكلا الكلمتين واردتان في اللغة. انظر: "اللسان" 2/ 851 (حزن). (¬5) في "الكتاب" 4/ 57. (¬6) لم أقف على هذا المصدر، ولم أعثر في ترجمة أبي زيد فيما رجعت إلي من مصادر على كتابٍ له بهذا الاسم. انظر: "معجم الأدباء" 3/ 378. والخُبَأة -في اللغة-: هي المرأة التي تلزم بيتها، وتستتر. والتي تَطَّلِع ثم تختبئ. انظر: "اللسان" 2/ 1085 (خبأ). وكأن الكتاب في الكلمة الغريبة المهمة، وهو ما يتناسب مع المعنى اللغوي له. وقد يكون الاسم محرفًا عن كتاب آخر له، يحتمل رسمُ اسمِهِ التحريفَ في الخط, وهو: كتاب (حِيلَة ومَحالة)؛ حيث أن رسم (حيلة) قريب من (خبأة)، فحصل فيه التحريف. والله أعلم. انظر: المصدر السابق. ومعنى (حيلة) و (مَحالة): الحِذْق وجودة النظر، والقدرة على التصرف. انظر: "القاموس" ص 989 (حول).

يُحْزِنُنِي) بضم الياء. وقال الخليل (¬1): إذا أردت تغيير (¬2) (حَزِنَ)، قلت: (أحزنته). فهذا قولُ مَن سَوَّى بينهما، وجعلهما لُغَتَيْن. وهو حُجَّةٌ لِقِرَاءةِ نافع. وروى أبو عُبَيد، عن أبي زيد، قال (¬3): لا يقولون: (حَزَنه الأمرُ). ويقولون: (يَحْزُنُه). فإذا صاروا (¬4) على (8) الماضي، قالوا: [أحْزَنَهُ] (¬5). يستعمل الماضي مِنَ الرُّبَاعي، والمضارع مِنَ الثلاثي. وهذا شاذٌّ؛ لأنه استعمل (أحزَنَ)، وأهمل (يُحْزِن)، واستعمل (يَحْزُنُ)، وأهمل (حَزَنَ). فمن قرأ بقراءة العامَّة، فَحُجَّته: أنه أشهر اللغَتَيْنِ، وأكثرهما استعمالًا. قال الأزهري (¬6): اللغة الجَيِّدة: (حَزَنَهُ، يَحْزُنُه)، على ما قرأ به أكثر القرّاء. وحجّة نافع: قولُ مَن زَعم أنهما لُغَتَان، وما حكاه سيبويه (¬7) عن الخليل، أنَّك حيث قلت: (حَزَنْتُه)، لم تُرِدْ أن تقول: [جعلتُه حزينًا، كما ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 56. (¬2) في (ب): (تعيين). (¬3) قوله، في: "تهذيب اللغة" 1/ 807 (حزن). نقله عنه بتصرف. (¬4) في (ب): (صيروا). (¬5) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (حزنه) والمثبت هو الصواب. وقد جاء في "التهذيب": (.. ويقولون: يَحْزُنُهُ. فإذا قالوا أفْعَلَهُ الله؛ فهو بالألف). وهو يتناسب مع ذكره المؤلف بعده من استعمال الماضي من الرباعي. (¬6) في "تهذيب اللغة" 1/ 807 (حزن). نقله عنه بتصرف. وانظر: قريبًا من عبارة الأزهري هذه في كتابه: "القراءات" 131. (¬7) في "الكتاب" له 4/ 56. نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين.

أنك حيث قلت: (أدْخَلته)، أردت: (جعلته داخلًا). ولكنك أردت أن تقول:] (¬1) جعلت فيه حُزْنًا. كما تقول: (كحَلْتُهُ)؛ أي: جعلت فيه كُحْلًا، و (دَهَنْته)؛ جعلت (¬2) في دُهنًا، و (فَتَنْتُه): جعلت فيه فِتْنة. فجئت بـ (فَعَلْتُهُ) على حَدِّهِ (¬3)، ولم (¬4) تُرِد بـ (فَعَلْتُهُ) -ههنا- تغيير قوله: (حَزِنَ)، و (فَتِنَ) (¬5). ولو أردت ذلك، لقلت: (أحزنته)، و (أفتنته). وهذا الذي حكاهُ، حُجَّةُ نافع؛ لأنه أرادَ تغيير (حَزِنَ)، فنقله بالهمز. قال الخليل (¬6): ومثله: (شَتِرَ (¬7) الرجلُ)، و (شَتَرْتُ عَيْنَه). فإذا أردت ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وهي في المصادر السابقة. (¬2) في (ب): (أي جعلت). ولم أثبت (أي)؛ لأنها لم ترد في بقية النسخ، ولا في مصادر النص. (¬3) ضبطت في "كتاب سيبويه": (حِدَةٍ). وقد ورد النص في كتاب "الحجة" للفارسي 3/ 100، وضبطت فيه كالتالي: (حَدِّه) كما هي مثبتة أعلاه. (¬4) في (ج): (لم) بدون واو. (¬5) هكذا ضُبِطت -هنا- بكسر التاء، وكذا عند الفارسي في "الحجة". وضَبطت في (كتاب سيبويه): (فَتَنَ) -بفتح التاء-. وأكثر مصادر اللغة التي رجعت إليها لم تشر إلى (فَتِن) بالكسر، وإنما ذَكَرَتْها بفتح التاء، إلا ما وجدته في "تهذيب اللغة" 3/ 2739 (فتن) , حيث نقل عن أبي زيد قوله: (فَتِنَ الرجلُ، يفْتَنُ، فُتُونًا: إذا وقع في الفتنة، أو تحول من حال حسنة إلى حال سيئة). (¬6) قوله في "كتاب سيبويه" 4/ 57. نقله عنه بمعناه. (¬7) في (ج): (شتر) مهملة من النقط والشكل. وهذا جاءت في بعدها مهملة من النقط والشكل. والشَّتْرُ: القطع. و (شَتَرَ ثَوْبَه): مزَّقه. و (الشَّتَرُ): الانقطاع، وانقلابٌ في جَفْنِ العين، وانشقاقُهُ، وانشقاقُ الشَّفَةِ السفلى. يقال: (شَترت عينهُ شَتَرًا)، و (شَتَرها يشْتُرُها شَتْرا)، و (أشْتَرها وشَتَّرها)، و (شَتِرَ يَشْتَر شَتَرًا). انظر (شتر) في: "اللسان" 4/ 2193، و"القاموس" 413.

تغيير (شَتِرَ الرجلُ)، قلت: (أشْتَرْتُ، كما تقول: (فَزعَ) (¬1) [و] (¬2) (أفزَعْتُهُ). وأراد بـ {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}: المنافقين، وقُرَيْظَة والنّضير -في قول ابن عباس- (¬3). ومعنى مسارعتهم في الكفر: مُظَاهَرَتُهُم (¬4) الكفَّارَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وتأويله: يُسارِعُون في نُصْرةِ الكفر. وقال الضَّحَّاكُ (¬5): يعني: كفّار قريش. فإذا قيل: معنى قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}: لا تحزن لِكفرِهم. والحزن على كفر الكافر، ومعصيةِ العاصي، طاعةٌ، فكيف نهى عنهُ؟. قيل: إنما نهى عنه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان يُفرطُ وُيسْرِفُ في الحُزْنِ على كُفْر قومِهِ، حتى كان يؤدّي ذلك إلى أن يَضُرّ (¬6) به، فنُهِي (¬7) [عن] (¬8) الإسراف فيه؛ ألا ترى إلى قوله -عز وجل-: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]. ¬

_ (¬1) في (ج): (فزع) -مهملة من النقط ولاشكل-. وكذا التي بعدها. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من: كتاب سيبويه. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد هذا القول عن الكلبي. انظر: "بحر العلوم" 1/ 317. وورد عن مجاهد، وابن إسحاق: أنهم المنافقون. انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 139، و"تفسير الطبري" 4/ 185. (¬4) المُظاهَرَةُ: المُعَاوَنَة. و (ظاهَرَ فلانٌ فلانًا): عاوَنَه. انظر: "اللسان" 5/ 2768 (ظهر). (¬5) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 158 أ، و"زاد المسير" 1/ 508. (¬6) في (ج): (نصر). (¬7) في (ج): (نهى). (¬8) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)

وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} يعنى: أنَّ عائِدَ الوَبَالِ في ذلك عليهم، لا على غيرهم. وقال عطاء (¬1): يريد: لن يضروا أولياءَ اللهِ شيئا. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} يعنى: نصيبًا في المجنة. وفي هذا رَدٌّ على القَدَرِيّة، وبيان أنَ الخيرَ والشرَّ بإرادة الله -جلَّ وعزَّ- (¬2). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره ابن الجوزي في "الزاد" 1/ 508. (¬2) إنَّ الله -تعالى- خالق الخير والشر، ولكنَّ الشرَّ في بعض مخلوقاته، وليس في خلق الله وفعله؛ لأن خلقَ الله وفعلَه، وقضاءَهُ وقَدَرَه، خيرٌ كلُّه؛ لأنه -تعالى- وضع الأمور في مواضعها، وذلك هو الخير والعدل، أما الشر؛ فهو: وضع الأمور في غير مواضعها، وذلك هو الظُّلْم، واللهُ مُنَزّهٌ عن الظلم. فأفعاله كلها تدور بين العدل والفضل والحكمة والمصلحة، ولا تخرج عن ذلك، فالله -تعالى- لا ينسب إليه الشرُّ، بل ينسب إليه الخير، وإنما صار الشرُّ شرًا، لانقطاع نسبته واضافته إلى الله تعالى، وفي الحديث: (.. والخير كله في يديك، والشر ليس إليك ..). أخرجه النسائي في "السنن" 2/ 130 كتاب الصلاة. باب: الدعاء بين التكبيرة والقراءة. فلو أضيف إليه، لم يكن شرًّا. انظر: "شفاء العليل" لابن القيم 179. وقال: (فإن قلت: لِمَ خَلَقَه وهو شر؟ قلت: خَلْقُهُ له وفِعْلُه، خيرٌ لا شرٌّ، فإن الخلق والفعل قائمٌ به -سبحانه-، والشر يستحيل قيامه به واتصافه به. وما كان في المخلوق من شر، فلعدم إضافته ونسبته إليه، والفعل والخَلْق يضاف إليه، فكان خيرًا، والذي شاءه كله خير، والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي، وهو الشر، فإن الشر كلَّه عَدَمٌ، وإنْ سبّبَه جهل وهو: عدم العِلْم، وظلمٌ وهو: عدم العدل. وما يترتب على ذلك من الآلام فهو من عدم استعداد المحل، وقبوله لأسباب الخيرات واللذات) 181 المصدر السابق، وانظر: "شرح العقيدة الطحاوية" (453) وما بعدها.

178

178 - وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} الآية. {الَّذِينَ} (¬1) -في قراءة من قرأ: {يَحْسَبَنَّ} بالياء (¬2) -، رَفْعٌ؛ بأنه فاعل (يَحْسَبُ) (¬3). وإذا كان {الَّذِينَ} فاعلًا؛ اقتضى (يَحْسَبُ) مفعولين؛ لأنّه يتعدى إلى مفعولين، أو إلى مفعولٍ يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولين، وذلك إذا جَرَى - في صلة ¬

_ (¬1) من قوله: (الذين ..) إلى (.. اللذين يقتضيهما {يَحْسَبَنَّ}: نقله -بتصرف- عن: "الحجة"، للفارسي: 3/ 101 - 102. (¬2) القراءة الواردة في قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} في الآية: 178، 180 و {لَا تَحْسَبَنَّ}، و {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم} في آية: 188 كالتالي: قرأها ابن كثير، وأبو عمرو، كلَّها بالياء، في كل القرآن. وقرأها نافع، وابن عامر (لا تحسبن) و (فلا تحسبنهم). وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب: {يَحْسَبَنَّ} في الآية: 178، 180 بالياء. وقرأوا {تَحْسَبَنَّ} و {تَحْسَبَنَّهُم} في الآية: 188، بالتاء. وكَسَرَ الكسائيُّ السينَ، وفتحها عاصم. وقرأها حمزة كلَّها بالتاء. ومن قرأ {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم} بالتاء، فتح الباءَ، ومن قرأها بالياء، ضم الباء. انظر: "السبعة" 219، 220، و"القراءات" للأزهري 1/ 131، و"الحجة" للفارسي 3/ 100 - 101، و"الكشف" 1/ 364 - 368. (¬3) يقال: (حَسِبْتُ الشيءَ): ظَنَنْتُه، (أحْسِبُه، وأحْسَبُه)، والكسر أجْوَدُ اللغتين). "تهذيب اللغة" 1/ 810 (حسب). قال الجوهري: (ويقال: (أحْسِبُه) -بالكسر-، وهو شاذٌّ؛ لأن كلَّ فِعْلٍ كان ماضيه مكسورًا، فإن مستقبله يأتي مفتوح العَيْنِ، نحو: (عَلِمَ، يَعْلَمُ)، إلا أربعة أحرف جاءت نوادر، قالوا: (حسِب يحسِب ويحسَبُ)، و (بَئِس يبأس ويَبْئِسُ)، و (يَئِس يَيْأسُ وَييئسُ)، و (نَعِمَ يَنعَمُ ويَنْعِم) فإنها جاءت من السالم بالكسر والفتح. ومن المعتَلِّ ما جاء ماضيه ومستقبله جميعًا بالكسر، نحو: (ومِقَ يمِق)، و (وفِقَ يَفِق)، و (وثِقَ يَثِق)، و (وَرع يَرعُ)، و (ورِمَ يَرِمْ)، و (ورث يرث)، و (وريَ الزندُ يَرِي)، و (وَلي يَلي). "الصحاح" 1/ 112 (حسب).

ما يتعدى إليه الحِسْبانُ-، ذِكْرُ الحديثِ والمُحَدَّث عنه، نحو: (حَسِبْتُ أن زيدًا منطلقٌ)، و (حَسِبتُ أنْ يقومَ عمرٌو) (¬1). فجرى (¬2) فيما تَعَدَّى إليه (حَسِبْتُ) الحديثُ، وهو: الانطلاقُ والقيامُ. والمُحَدَّثُ عنه، وهو: زيدٌ أو عَمْرُو. فقام المفعولُ الواحدُ مقامَ المفعولين. وفقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} قد سَدَّ مسَدَّ المفعولين اللَّذَيْن يقتضيهما {يَحْسَبَنَّ}. وقرأ حمزة: {ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا} بالتاء. و {الَّذِينَ كَفَرُوا} -في هذه القراءة- في موضع نَصْبٍ، بأنّه المفعول الأول. واختلفوا في وجه هذه القراءة: فقال الفرّاء (¬3): هو على التكرير. المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ يا محمدُ الذين كفروا، ولا تَحْسَبَنَّ أنَمَا نمْلِي لهم خيرٌ (¬4) لأنفسهم. قال: وهذا كقوله -تعالى-: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} (¬5) [محمد: 18]؛ يعنى: فهل ينظرون إلا الساعة، هل يَنْظُرُونَ (¬6) إلا أنْ تأتيهم بَغْتةً؟. وقال الزّجاج (¬7): هذه القراءة عندي، يجوز على البدل من ¬

_ (¬1) في (ج): (أن عمرو يقوم) وفي "الحجة": وحسبت أن تقومَ. (¬2) في (أ)، (ب): (جرت). والمثبت من (ج). (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 448. نقله عنه بالمعنى. وهو رأي الكسائي -كذلك-. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 380، و"تفسير القرطبي" 4/ 287. (¬4) في (ج): (خيرا). (¬5) في (ج)، و"معاني القرآن": (هل). (¬6) في (ج): (ينتظرون). (¬7) في "معاني القرآن" له 1/ 491. ناقله عنه بتصرف يسير.

{الَّذِينَ}؛ المعنى: ولا تَحسَبَنَّ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). وأنشد: فَمَا كانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ (¬2) جعل (هُلكُهُ) بدلًا من (قَيس)؛ المعنى: فما كان هُلْكَ قيسٍ هُلكَ واحدٍ. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": (لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرًا لهم). (¬2) صدر بيت، وعجزه: ولكنَّه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما وهو لعبدة بن الطبيب السعدي التميمي، وهو في "شعره" 88. وورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" 1/ 156، و"البيان والتبيين" 2/ 363، و"الشعر والشعراء" (487)، و"عيون الأخبار" 1/ 287، و"الأصول في النحو" 2/ 51، و"الأغاني" 21/ 25، 26، و"شرح القصائد السبع"، لابن الأنباري 9، و"ديوان المعاني" لأبي هلال العسكري (تصحيح: كرنكو، ن: مطبعة القدسي، القاهرة، 1342 هـ): 2/ 175، و"أمالي المرتضى" 1/ 114، و"بهجة المجالس" 1/ 514، و"شرح ديوان الحماسة" للتبريزي (ن: دار القلم) 1/ 328، و"شرح المفصل" 3/ 65. ونسبه في "الأغاني" 14/ 86 لمرداس بن عبدة. وورد غبر منسوب في: "تفسير الثعلبي" 3/ 158 ب، و"شرح المفصل" 8/ 55، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 198، و"إعراب القرآن" لنحاس 1/ 380، و"الإغفال" للفارسي 1/ 593. وقد ورد في بعض المصادر: (فلم يك قيس ..). قال الشاعر البيت في رثاء قيس بن عاصم المنقري، سيد بني تميم. والشاهد في البيت: رفع (هلكُه) على أنه بدل من (قيس) اسم (كان) ويكون حينها (هلكَ) منصوبًا على أنه خبر (كان). ويجوز أن يكون (هلكُه) مرفوعًا على الابتداء، وحينها تكون (هلك) مرفوعة على أنها خبر المبتدأ. قال ابن الأنباري: (والرواية الجيدة: (هلكُه هلكُ واحد) برفعهما جميعًا). "شرح القصائد السبع": 9.

ومثلُه -مما جُعِلَ (أنَّ) مع الفعل بدلًا من المفعول-، قولُه: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (¬1) [الكهف: 63]، وقوله -تعالى-: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} (¬2) [الأنفال: 7]، بَدَلًا مِنْ إحْدَى الطائفتين. قال أبو علي الفارسي (¬3): هذه القراءة على تقدير البدل، لا يصح إلا بنصب (خيْر) (¬4)؛ لأن (أنّ) تصير بدلًا من {الَّذِينَ كَفَرُوا} وإذا صار بدلًا منه، فكأنه قال: لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيرًا. فيلزم انتصاب (خير) (¬5) من حيثُ كان المفعول الثاني لـ (حَسِبْتُ). ألا ترى أنه أبدل (¬6) {أَنَّمَا} كما (¬7) أبدل الشاعرُ (هلكُهُ) من (قيس)، فصار التقدير: وما كان هُلْك قَيْسٍ هُلْكَ واحدٍ، انتصب (هلكَ واحدٍ) (¬8) على أنه خبرُ (كان)، ولو (¬9) لم يبدل (هلكُه) من (قيس)؛ لارتفع بالابتداء، وصار (هُلْكُ واحدٍ) خَبَرَه. والجملة في موضع نصب على خبر (كان). كما أَنه لو لم يُبْدِلْ (أنّ) من {الَّذِينَ كَفَرُوا} لكسرها ولم يَفْتَحْها، ولو كسرها لصارت (أنّ) واسمها وخبرها، في موضع نصب؛ لأنه مفعول ثانٍ لـ {تَحْسَبَنَّ}. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 107، و"التبيان" للعكبري (542). (¬2) انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 107، و"التبيان" للعكبري 2/ 404. (¬3) في: "الإغفال" 1/ 593. نقله عنه بتصرف. وانظر: "الحجة" له 3/ 107. (¬4) في (ج): (خبر). (¬5) في (ج): (خبر). (¬6) (أبدل): ساقطة من (ج). (¬7) في (ج): (كان). (¬8) (انتصب هلك واحد): ساقط من (ج). (¬9) (ولو): ساقطة من (ج).

وكما انتصب (هُلْكَ واحد) في البيت، لَمّا أبدل الأول مِنْ (قيس) بأنه خَبَرُ (كان)؛ كذلك ينتصبُ {خيرٌ لهم} في الآية، إذا أبدل الإملاء من {الَّذِينَ كَفَرُوا} بأنه مفعول ثانٍ لـ {تَحْسَبَنَّ}. فإذًا، قد جاء أنه لا يجوز أن يُقرأ {تَحْسَبَنَّ} بالتاء، إلّا أن يُكسر (إنَّ) في {أَنَّمَا نُمْلِي}، أو يُنصب {خَيْرٌ} (¬1)، مع فتح {أَنَّمَا}، فيقرأ: (أنَّمَا نُمْلي لهم خيرًا لأنفسهم). ولم يُرْوَ عن حمزةَ كسْرُ (أنّ)، ولا نَصْبُ (خَيْرٌ)، فلا تصح القراءة بالتاء، على ما قرأ به حمزةُ، عند أبي عليّ (¬2). قال ابن عباس (¬3): أراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}: المنافقين، وقُرَيْظَةَ والنَّضِير. وقال مقاتل (¬4): يعنى: مشركي مكة. وقوله: {أَنَّمَا}، (ما) تحتمل وجهين: أحدهما: أن يَكون بمعنى (الذي) (¬5)، فيكون التقدير: لا يحسبن ¬

_ (¬1) في (ج): (خبر). وقد جاء في (ج) بعد (خير) العبارةُ التالية: (فلا يصح بالياء إنما). وهي عبارة مقحمة لا وجه لها. (¬2) قال النحاس، عن قراءة حمزة لقوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ} [الآيتان: 178، 180] (وزعم أبو حاتم أنه لحنٌ لا يجوز، وتابعه على ذلك جماعةٌ). "إعراب القرآن" 1/ 379. وعَقَّب القرطبيُّ على زعم أبي حاتم، قائلًا: (قلت: وهذا ليس بشيء؛ لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلًا). "تفسيره" 4/ 288. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "زاد المسير" 1/ 805 (¬4) في "تفسيره" 1/ 317. نصه عنده -بعد أن ذكر الآية-: (أبا سفيان وأصحابه، يوم أحد). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 108.

الذين كفروا أن الذي نمليه خيرٌ لأنفسهم، وحَذَفَ (الهاء) مِنْ {نُمْلِي}؛ لأنه يجوز حذفُ الهاء مِنْ صِلَةِ (الذي)؛ كقولك: (الذي رأيتُ زيدٌ). والآخر: أن يَكون (ما) بمنزلة الإملاء، فيكون مصدرًا، وإذا كان مصدرًا (¬1)، لم تقتض راجعًا إليها (¬2). وقوله تعالى: {نُمْلِي لَهُمْ}. معنى {نُمْلِي} -في اللغة-: نُطِيل، ونُؤَخِّر. والإملاء: الإمهال والتأخير. واشتقاقه (¬3) من (المِلْوَة)، وهي: المُدَّة من الزمان. يقال: (مِلْوَةٌ مِنَ الدَّهْرِ)، و (مُلْوَةٌ، ومَلْوَةٌ، ومِلاَوَةٌ (¬4)، ومَلاَوَةٌ (¬5)، ومُلاَوَةٌ)، بمعنًى (¬6). قال العَجَّاج: وقد أُرَانِي لِلغَوَانِي (¬7) مِصْيَدا ... مُلاوَةً كأنَّ فَوْقِي جَلَدا (¬8) ¬

_ (¬1) (وإذا كان مصدرًا): ساقط من (ج). (¬2) في (ج): (إليهما). (¬3) من قوله: (واشتقاقه ..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. من طريف وتالد): هو من قول ابن الأنباري؛ حيث ورد بعض النص في: "زاد المسير" 1/ 509، و"اللسان" 7/ 4272 (ملا). ونسباه لابن الأنباري، ولم يبينا المصدر. (¬4) (أ)، (ب): وملاؤة. والمثبت من: (ج)، ومصادر اللغة. (¬5) في (ج): (ومَلاوة، ومِلاوة). (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 234، و"غريب القرآن" لابن اليزيدي 45، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 116، و"غريب الحديث" للحربي 1/ 341، و"تحفة الأريب" 388، وانظر مادة (ملا) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3438، و"الصحاح" 6/ 2496، و"اللسان" 7/ 4272. (¬7) في (ج): (الغواني). (¬8) البيت في "ديوانه" (تح: د. عزة حسن): 340. وورد منسوبًا له في: "إصلاح المنطق" 47، ومادة (جلد) في: "تهذيب اللغة" 1/ 634، و"الصحاح" 2/ 458.=

ومنه قولُ العَرَبِ: (الْبَسْ جَدِيدا، وتَمَلَّ حبيبًا) (¬1)؛ أي: لِتطل أيَّامك معه. وقال مُتَمِّم (¬2): بِودَّيَ أَنّي لو تَمَلَّيْتُ عُمْرَهُ ... بِمَالِيَ مِنْ مالٍ طَريفٍ وتَالدِ (¬3) ¬

_ = و"المقاييس" 1/ 471، و"اللسان" 2/ 654. وورد غير منسوب في: "جمهرة اللغة" 1/ 449، و"تفسير الثعلبي" 3/ 159 أ. وروايته في الديوان والجمهرة: (فقد أكونُ ..). و (الغواني): جمع غانية، وقيل في معناها: التي غَنِت بالزوج. وقيل: التي غَنِيت بحُسْنها عن الزينة وقيل: التي تُطلَب، ولا تَطلُب. وقيل: الشابَّة العفيفة؛ كان لها زوجٌ أو لم يكن. وقيل: كلُّ امرأة، فإنها تُسمَّى غانية. وقيل غير ذلك. انظر: "اللسان" 6/ 3309 (غنا). و (المِصْيَد) -بكسر الميم، وفتحها-: ما يُصاد به. "اللسان" 4/ 2534 (صيد). و (الجَلَد)، فيه قولان: أحدهما: أن يُسلخ جِلْدُ البعيرِ وغيره، وُيلْبَس غيرَه من الدواب، وُيسمَّى هذا (جَلَدا). والقول الثاني: أن يُسلخ جِلْدُ الحُوار، ثم يُحشى ثُمامًا، أو غيره من الشجر، ثم يُعطف عليه أمُّه، فترأمه. انظر: (جلد) في: "تهذيب اللغة" 1/ 634، و"المقاييس" 1/ 471. ومعنى البيت: إنَّهنَّ يَرأمْنَنِي ويَعْطِفْنَ عليَّ، كما ترأم الناقةُ الجَلَدَ. (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 234، و"الصحاح" 6/ 2497 (ملا)، و"اللسان" 7/ 4272 (ملا). وقد ورد المثل فيه: (أبليت جَدِيدًا، وتَمَلَّيتَ حبيبًا). أي: عشت معه ملاوتَكَ من دهرك، وتمتعت به. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) البيت في "شعره" 86. وقد ورد منسوبًا له، في: "الزاهر" 1/ 256. وورد غير منسوب في: "اللسان" 7/ 4272 (ملا) وردت روايته في المصادر السابقة: (بودي لو أني ..). قال في "الزاهر": (الطريف، والطارف)، وهما: المال المستحدث الذي كَسَبه الرجلُ، وجَمَعَهُ. و (التَّليد، والتالِدُ): ما ورثه عن آبائه ولم يكتسبه) 1/ 256.

وقال الأصمعي (¬1): (أمْلَى عليه الزمانُ) (¬2)؛ أي: طال عليه. و (أملَى له)؛ أي: طَوَّل له، وأمهله. قال أبو عبيدة: ومنه: (المَلاَ) (¬3): الأرض الواسعة الطويلة (¬4). قال ابن عباس (¬5) -في قوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} -: يريد (¬6): تماديهم في معاصي الله. وقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} قال ابن الأنباري (¬7): قال جماعة من أهل العلم (¬8): أنزل الله عز وجل هذه الآية في قوم يعاندون الحق، سَبَقَ في علمه أنهم لا يؤمنون، فقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} بمعاندتهم الحقَّ، وخِلاَفِهِم الرسولَ. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأيتَ اللهَ يُعْطِي على المعاصي، فإنَّ ¬

_ (¬1) قوله -بنصه-، في: "تهذيب اللغة" (3438) (ملو). (¬2) في "التهذيب": الزمن. (¬3) وهي غير مهموزة، وتكتب بالألف والياء، والبصريون يكتبونها بالألف. وقال الفراء: (والألف أجود). وكذا قال ابن الأنباري. انظر: "المقصور والممدود" للفراء 43،61، و"المنتخب" لكراع 2/ 438؛ و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 465، ومادة (ملا) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3438، و"الصحاح" 6/ 2497، و"اللسان" 7/ 4272. (¬4) لم أقف على مصدر قول أبي عبيدة، والذي ورد في "مجاز القرآن ": (ويقال للخرق الواسع في الأرض: مَلًا، مقصور) 1/ 333. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) في (ج): (مريد). (¬7) لم أقف على مصدر قوله. (¬8) لم أقف عليهم.

ذلك استدراجٌ مِنَ اللهِ لِخَلْقِهِ)، ثم تلا هذه الآية (¬1). ونحو هذا، قال الزّجاج (¬2): إن هؤلاء قومٌ، أعلَمَ اللهُ نبيَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، وأن بقاءهم يزيدهم كفرًا وإثما. والآية حجّة ظاهرة على القَدَريّة (¬3)؛ حيث أخبر الله -تعالى-، أنه يطيل أعمارَ قومٍ وُيمْهِلُهُم؛ لِيَزدادوا غَيًّا وكُفْرا. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه: أحمد في "المسند" 4/ 145، وابن أبي الدنيا في "كتاب الشكر" 80 رقم (32)، والطبراني في "المعجم الكبير" 17/ 133، والطبري في "تفسيره" 7/ 195. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 20، 10/ 245، وقال: (رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه، الوليد بن العباس المصري، وهو ضعيف). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 22 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب". وأورده في "الجامع الصغير" ورمز له بالحسن. انظر: "فيض القدير" 1/ 455. وأورده الخطيب التبريزي في: "مشكاة المصابيح" 3/ 1435 رقم (5201). وحَسَّن الحافظ العراقي سنده (انظر: "تخريج الإحياء" بهامش "إحياء علوم الدين" 4/ 132). وصححه الألباني في: صحيح "الجامع الصغير" 1/ 158 رقم (561)، وفي "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (414). ولفظ الحديث -كما عند أحمد، من رواية عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيت الله -عز وجل- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يُحب، فإنما هو استدراج"، ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. فليس في الأثر -عند من رواه- أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية من سورة آل عمران. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 491. نقله عنه بتصرف يسيِر. (¬3) سبق بيان أن المراد بـ (القدَريَّة) هم المعتزلة، الذين وافقوا القَدَرية القُدامى في نفي القدر.

والقَدَرِيّة، تأولوا الآية على وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير؛ فقالوا: التقدير: (ولا يحْسَبَنَّ الذين كفروا إنما نُملي لهم لِيَزدادوا إثما؛ إنَّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم). وهذا (¬1) إنما كان يُحتمل لو قُرِئ بِكَسْرِ {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ}، {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا}. ولم يقرأ به أحدٌ يُعرَف. ولا يجوز حملُ الآية على وجهٍ لا يجوز أن يُقرأ به (¬2). والوجه الثاني: قالوا (¬3): معنى قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}: إنما نُمْلي لهم، على أنَّ عاقبةَ أمْرِهم ازديادُ الإثم. وهذه لام العاقبة؛ كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. وهذا (¬4) الذي قالوه، خِلافُ ما ذَكَرَهُ المفسرون وأهل العلم، وعُدُولٌ عن ظاهرِ الخِطَاب، فلا يُقْبَلُ. على أن لام العاقبة يشَاكِل ما قبله؛ كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}، الآية، وهم ما التقطُوهُ لِهذا؛ ولكنْ كان الالتقاطُ سبَبَ كونِهِ عَدُوًّا لهم، كذلك في الآية، يجب أنْ يكونَ إمْلاءُ اللهِ إيَّاهم، سَبَبَ ازديادهم الإثم (¬5)، ¬

_ (¬1) من قوله: (وهذا ..) إلى (.. خير لأنفسهم): ساقط من (ج). (¬2) قال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 380 (قال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر كسر (إنَّ) يحتج لأهل القَدَر؛ لأنه كان منهم، ويجعله على التقديم والتأخير .. قال: ورأيت في مصحفٍ في المسجد الجامع، قد زادوا فيه حرفًا؛ فصار: (إنما نملي لهم ليزدادوا إيمانًا)، فنظر إليه يعقوب القارئ، فتَبيَّنَ اللَّحَقَ، فحكَّه). وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 288. (¬3) انظر: "تنزيه القرآن عن المطاعن" للقاضي عبد الجبار 83 (¬4) (أ)، (ب): (وهو)، والمثبت من: (ج)، وهو أولى وأصوب. (¬5) في (ج): (الكفر).

179

وهو ما نقول: إن الله -تعالى- يُملِي لهم، لِيَزدادوا إثمًا. 179 - قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. اختلفوا في سبب نزول هذه الآية: فقال الكَلْبيُّ (¬1): قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما بَالُكَ تَزْعُمُ أن الرَّجلَ مِنْ أهلِ النار، حتى يَدْخُلَ في دِينِكَ، فإذا انتقل إلى دينك، ادَّعَيْتَ أنه من أهل الجَنَّةِ، فينبغي أنْ تُعَرِّفَنَا الذي يَنتَقِلُ، قبل أن ينتَقِلَ. فأنزل الله -تعالى- مجيبًا لهم-: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي: ما كانَ اللهُ لِيَدَعَ المؤمِنَ (¬2)، على ما عليه الكافرُ (¬3). وأَعْلَمَ أنَّ حُكْمَ مَنْ كَفَر، أن يقال: أنه مِن أهل النار، ومَنْ آمَنَ: فهو من أهل الجَنَّة. ومعنى: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} -على هذا التفسير-: حتى يُفَرِّقَ بين المؤمن والكافر؛ بالحُكْمِ لِلْمُؤْمِنِ بالجَنَّةِ، ولِلكافر بالنار. والخِطاب في قوله: {أَنتُمْ} -على هذا الوجْهِ-، للمشركين. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي (¬4): وما كان اللهُ لِيُخْبِركم بإسلامِ مَنْ يُسْلِم قبل أن يُسْلِم؛ فَيَدُلكم على غَيْبِهِ؛ وذلك أنهم ¬

_ (¬1) قوله في: "بحر العلوم" 1/ 318، و"تفسير الثعلبي" 3/ 159 أ، و"أسباب النزول" للمؤلف 136، و"تفسير البغوي" 2/ 140، و"تفسير القرطبي" 4/ 288. وأورد هذا القول ابنُ الجوزي في "الزاد" 1/ 510 ونسبه لابن عباس. ونحو هذا القول، قال السُّدِّي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 188، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 824. (¬2) في (ج): (المؤمنين). (¬3) في (ج): (الكافرين). (¬4) أي: ساقطة من (ج).

سألوا أن يُعرَّفوا ذلك. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}: أي: يختارُ مِنَ الرُّسُل مَن يشاء بالغيب، فيُطْلِعُه على بعض عِلْمِ الغيب؛ كقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، الآية. قال الزّجاج (¬1): وإنما يُطْلِعُ الرسلَ على الغيب؛ لإقامة البرهان في أنهم رُسُلٌ، وأنَ ما أتَوا به مِن عند الله. ومعنى قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}؛ أي: بالغيب. فَحذف ذلك للعلم به؛ وذلك لاستثناء الرسولِ مِمَّن لا يُطلَعُ على الغيب. وهذا (¬2) قول جماعةٍ مِنَ المفسرين (¬3)، واختيار الفرّاء (¬4) والزّجاج (¬5). والآية مطَّرِدَة على هذا التفسير. وقال مجاهد (¬6)، ومحمد بن إسحاق (¬7): نزلت الآية في المنافقين، وتمييزهم عن المؤمنين، و-على هذا التفسير- الخطابُ للمؤمنين في قوله: {أَنْتُمْ}، رَجَعَ من الخَبَر عن المؤمنين إلى مخاطبتهم. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 492. نقله عنه بتصرف يسير. (¬2) يعني بـ (هذا): ما قاله الكلبيُّ في سبب نزول الآية، وما يترتب عليه في كون الخطاب فيها للمشركين. (¬3) منهم: مقاتل، في "تفسيره" 1/ 317 - 318. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 248. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 492. (¬6) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 187، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 824، و"النكت والعيون" 1/ 439. (¬7) قوله في: "سيرة ابن هشام" 3/ 75، و"تفسير الطبري" 4/ 187.

ومعنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين، على ما أنتم عليه مِن التباسِ المنافقِ بالمؤمنِ، والمؤمن بالمنافق، حتى يُمَيِّزَ الخبيثَ من الطَّيِّب، أي: المنافقَ مِنَ المُؤمِنِ. قال مجاهد (¬1): فَمَيّزَ الله المؤمنين يومَ أحد مِنَ المنافقين؛ حيث أظهروا النفاقَ، وتَخَلَّوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} فتعرفوا المنافقَ من المؤمنِ قبل التمييز، ولكنَّ اللهَ يختار بمعرفة (¬2) ذلك مَنْ يَشَاء مِنَ الرُّسُلِ. قال ابن عباس (¬3): يريد: أنت يا محمد ممن اصطفيتُهُ وأطلعته على هذا الغيب. وهذا معنى قول السُّدِّي في هذه الآية، فإنه قال في سبب نزولهما ما يُشاكِل هذا التفسير، وهو أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعْلِمْتُ مَنْ يُؤْمِنُ بي وَمَنْ لا يُؤمِنُ" فَبَلَغَ ذلك المنافقينَ، فاستهزؤوا، وقالوا: كيف، ونحن معه لا يعرفنا؟! فأنزل الله هذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 187، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 824، و"النكت والعيون" 1/ 439. (¬2) في (ج): (بمعرفته). (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) الحديث أورده -غير مسند-: الثعلبي في "تفسيره" 3/ 159 ب. ونَصُّه عن الثعلبي: (قال السدي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضت علي أمتي في صورها، كما عُرِضت على آدم، وأعْلِمتُ مَن يُؤْمِنُ بي ومن يكفر". فبلغ ذلك المنافقين، فاستهزؤوا، وقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر، ممن لم يُخلَق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام على المنبر خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال أقوام جهَلوني، وطعنوا في علمي، لا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به" فقام عبد الله بن حذافة السهمي، فقال: يا رسول الله. من أبي؟ قال: "حذافة". فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبياً فاعف عنا، عفا الله عنك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فهل أنتم منتهون؟ هل أنتم منتهون؟ " ثم نزل عن المنبر. فأنزل الله -تعالى- هذه الآية ..). والأثر طويل، وله عنده بقية، وأورده -كذلك- المؤلف في "أسباب النزول" 136، والبغوي في "تفسيره" 2/ 141، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 510، وكلهم نسبه للسدي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم أقف عليه في مصادر أخرى بهذا النص، وإنما ورد بنص آخر -من رواية حذيفة بن أسيد- "عُرضت علي أمتي البارحة، لَدُنْ هذه الحجرة، حتى إني لأعْرفُ بالرجل منهم، من أحدكم بصاحبه". فقال رجل من القوم: يا رسول الله، هذا عُرِض عليك مَنْ خُلِق منهم، أرأيت من لم يُخلَق؟. فقال: "صُوِّروا لي، فوالذي نفسي بيده، لأنا أعْرَفُ بالإنسان منهم بصاحبه". أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 3/ 181 رقم (3054, 3055)، والديلمي في "مسند الفردوس" 3/ 66 رقم (4185)، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" وزاد نسبته للضياء المقدسي، ورمز له بالصحة. (انظر: "فيض القدير" 4/ 414). وقال الهيثمي: (رواه الطبراني، وفيه زياد بن المنذر، وهو كذاب). "مجمع الزوائد"10/ 69. وحكم عليه الألباني بالضعف في ضعيف "الجامع الصغير" 4/ 29 رقم (3703). وهذه الرواية تختلف عما أورده الثعلبي في تفسيره، وليس فيه أنه سبب نزول الآية، ولا متعلق له بهذه الآية. كما أخرج البخاريُ حديثًا آخر من رواية أنس، نحو ما أورده المؤلف، ونصه: "سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفَوْهُ بالمسألة، فصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المنبرَ، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم، فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يُدعى إلى غير أبيه، ومَال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. ثم أنشأ عمرُ فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولًا. نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قطّ، إنما صورت لى الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط). قال =

وهذا (¬1) وجهان من التفسير لهذه الآية. وقيل فيه وجه ثالث من التفسير، وهو: إن الخطاب للمشركين والمنافقين واليهود (¬2) في قوله: {أَنْتُمْ} (¬3)؛ والمراد بـ (المؤمنين) (¬4) في قوله: {لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ}: الذين هم (¬5) في أصلاب الرجال من المشركين، وأرحام النساء من المشركات، ممن يؤمنون. ومعنى الآية: ما كان الله لِيَدَعَ أولادَكُمْ الذين جرى لهم الحكمُ بالإيمان، على ما أنتم عليه من الشِّرْك، حتى يُفَرِّق بينكم وبين مَن في أصلابكم، وأرحام نسائِكم من المؤمنين. وهذا قول الضّحاك (¬6)، وابن عباس في رواية عطاء (¬7). ¬

_ = قتادةُ: يُذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [سورة المائدة: 101]). "فتح الباري" 13/ 43، كتاب الفتن. باب التعوذ من الفتن، 13/ 265، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال. (¬1) هكذا في (أ)، (ب)، (ج). والأصوب أن يكون (هذان) إلا أني أبقيت (هذا) لاحتمال أن يريد بـ (هذا): ما سبق من قول في الآية. (¬2) في (ج): (ولليهود). (¬3) (أنتم): ساقطة من (ج). (¬4) (المؤمنين): ساقطة من (ج). (¬5) (هم): ساقطة من (ج). (¬6) قوله، في "تفسير الثعلبي" 3/ 160 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 141. وورد في "بحر العلوم"، عنه: (إن المنافقين أعلنوا الإسلام، وأسروا الكفر، وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين، فأحب أن يُمَيِّز بين الفريقين، وأن يَدُلَّ رسول الله على سرائر المنافقين، فقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. يعني: المنافق من المؤمن) 1/ 319. ورد في: "زاد المسير" 1/ 510 عن الضحاك، أن المخاطب في هذه الآية: الكفار والمنافقون. (¬7) لم أقف على مصدر قوله وفق سياق المؤلف. والذي ورد عن ابن عباس -من =

وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، لا يتعلق بأوَّلِ الآية في المعنى -على هذا التفسير-، ولكن معناه: إنه أَخْبَرَ ابتداءً، أنه لا يُطلِعُ أحدًا على عِلْمِ الغيب؛ لأنه لا يعلمه أحدٌ غيرُه، ولكن يجتبي مِن رُسُلِهِ مَنْ يَشاء، فَيُطْلَعَ على بعض عِلْمِ الغَيْب. وقيل في سبب نزول قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}: إنّ المشركين أنكروا نُبُوَّةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: ما بالنا نحن لا نكون أنبياء، فإنَّا أكثرُ أموالًا وأولادًا؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}؛ أي: لم يكن ليوحي إليكم فيجعلكم بمنزلة الرُّسُل، بظنِّكُم عند أنفسكم أنكم مستحقون ذاك (¬1)، بل يُنَبِّئ (¬2) مَنْ يَراهُ أهلًا للخصوصية والتشريف. وهذا معنى قولِ أبي إسحاق (¬3)، وابن الأنباري (¬4). قال ابن ¬

_ = رواية علي بن أبي طلحة-، قال: (يقول للكفار: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الكفر، {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة). "تفسير ابن أبي حاتم": 3/ 824 - 825. وكون الخطاب في الآية للكفار والمنافقين -وفق المعنى الذي ذكرته عن ابن عباس سابقًا-، قال عنه الثعلبي: (هو قول: ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي، وأكثر المفسرين). "تفسيره" 3/ 160 أ. (¬1) في (ج): (ذلك). (¬2) في (ج): (ينبأ). (¬3) في: "معاني القرآن" له 1/ 492. ولكن هذا القول، ليس مما تبناه الزجاج، وإنما أورده بصيغة (قيل). فقد ذكر أولا قول الكلبي -الذي ذكره المؤلف-، وصدره بقوله: (يروى في التفسير)، ثم ذكر هذا القول، قائلًا: (وقد قيل في التفسير ..) وذَكَره. (¬4) لم أقف على مصدر قوله.

الأنباري: وأوَّلُ الآية يدل على هذا، ويمكن حمله على هذا التفسير؛ وهو: أنهم أنكروا نُبُوَّةَ محمد، وما يدعوا إليه مِنْ تَرْكِ دينِ الآباءِ والأجداد. فأعلم الله -تعالى- أنه لم يكن لِيَدَعَ المؤمنين على ما عليه الكفارُ مِنَ العَمَى والحَيْرة، حتى يَنْتاشَهم (¬1) ويستنقذهم من المهالك، بإرساله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وإعطائه (¬2) إيَّاه مِنَ الدَّلائِلِ ما يكَون عَلَما لِصِدْقِهِ، وسببًا لانقياد (¬3)، [الناس] (¬4) إلى متابعته. فهذه أربعة أوجُهٍ مِنَ التفسير، في هذه الآية. فقوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ}، هذه اللام يُسمِّيها بعضُ أهل النحو، لامَ الجَحْد؛ كما تقول: (ما كنت لأفعل ذلك) (¬5). وهي في تأويل (كي)؛ ولذلك نَصَبَتْ ما بعدها. وذكرنا الكلام في (يَذَر) عند قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (¬6). ¬

_ (¬1) ينتاشهم؛ أي: يستخرجهم. وأصلها من: (النَتْش)، وهو: نتف اللحم، وجذبه قرصًا، واستخراج الشوكة ونحوها. ويقال للمنتاش: استخرجه. انظر (نتش) في: "اللسان" 7/ 4336، و"القاموس" (606). (¬2) في (أ)، (ب)، (ج): وأعطاه. والمُثبَت هو ما استصوبته. (¬3) في (ب): (للانقياد). (¬4) ما بين المعقوقين زيادة من (ج). (¬5) انظر: "اللامات"، للزجاجي 68، و"المحلى" لابن شقير 228. وهي عند الكوفيين حرف زائد، يدخل لتقوية النفي، ويرى النحاس أن الصواب تسميتها (لام النفي)؛ لأن الجحد في اللغة إنكار ما تعرفه، لا مطلق الإنكار. انظر: "المغني" لابن هشام 278. (¬6) سورة البقرة: من الآية: 234 {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} , والآية:240 {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}

قوله تعالى: {حَتَّى يَمِيزَ}. فيه (¬1) قراءتان: التشديد والتخفيف (¬2). وهما لغتان. يقال: (مِزْتُ الشيءَ بَعْضَهُ عن بَعْض)، فأنا (أمِيزُهُ مَيْزًا)، و (مَيّزْتُهُ تمييزًا) (¬3). ومنه الحديث: "مَن مَازَ أذًى عن طريق، فهو له صدقة" (¬4). ¬

_ (¬1) (فيه): ساقطة من (ج). (¬2) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر: {يَمِيزَ} بفتح الياء الأولى، وكسر الميم مع التخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: {يُمَيز} -بضم الياء الأولى، وفتح الميم مع التشديد. انظر: "السبعة" 220، و"الحجة"، للفارسي 3/ 110، و"المبسوط" لابن مهران 149 - 150. (¬3) أي: عزلته، وفرزته، وخلصته انظر: "علل القراءات" للأزهري 1/ 133، و"المجموع المغيث" 3/ 248، و"اللسان" 7/ 4307 (ميز). (¬4) الحديث من رواية أبي عبيدة بن الجراح، أخرجه: أحمد في "المسند" 1/ 159 - 196، والخطابي في "غريب الحديث" 3/ 127. وأورده ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" 4/ 380، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 300، وزاد نسبة إخراجه لأبي يعلى، والبزار، وقال: (وفيه يسار بن أبي سيف، ولم أر من وَثَّقه، ولا من جرحه، وبقية رجاله ثقات). قال البنا في: "الفتح الرباني" 19/ 197 - معلقًا على كلام الهيثمي-: (الظاهر أن النسخة التي وقعت للحافظ الهيثمي فيها يسار -بالياء التحتية، والسين المهملة-، وهو خطأ؛ ولذلك لم يجد له ترجمة، والصواب بشار بالباء الموحدة، والشين المعجمة-، كما جاء في نسختنا. وفي "تقريب التهذيب": بشار بن أبي سيف الجَرمي -بفتح الجيم- الشامي، نزل البصرة، مقبول). ولفظه -عند أحمد-: (مَن أنفق نَفَقَة فاضلة في سبيل الله، فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضًا، أو مَازَ أذًى, فالحسنة بعشر أمثالها، الصوم =

وقال الشاعر: تنفِي رُضَاضَ الحَصَا مَنَاسِمُها ... كَمَا يَمِيزَ الزُّيُوفَ مُنْتَقِدُ (¬1) و (التمييز) (¬2) ليس بمنقول بالتشديد عن (المَيْز)؛ كـ (التَّغْرِيم) مِنَ (الغرْم)؛ لأنه لو كان منقولًا لَتَعدَّى إلى مفعولين؛ كـ (التغريم)؛ فإنه [يقال] (¬3): غَرَّمْتُ زيدًا مالًا. و (التمييز) لا يتعدّى إلى مفعولين إلّا بحرف جرٍّ؛ نحو قولك: (مَيَّزت مَتَاعَكَ بعضَه من بعض). ومثل (¬4) (مَيَّز) -في أنّ التضعيف فيه ليس للنقل والتعدّي- قولُهم: (عَوَّض)، فهو بمعنى (عاض). ولو كان التضعيف فيه للنقل؛ لَتَعدّى إلى ثلاثة مَفْعولِينَ (¬5)؛ لأن (عاض) يَتَعدَّى إلى مَفْعولَيْنِ، فـ (عَوّضَ) و (عاض) لُغَتَان. وحجّة مَن قَرَأ بالتخفيف: أنَّه يَصْلُح للقليل والكثير؛ لأن (المَيْز) كـ (التميِيز)، سَوَاء، وهو -مع ذلك- خفيف في اللفظ. وإذا اجتمعت خِفَّةُ اللفظ مع استيعاب المعنى، كان المصير إليه أَوْلى. ¬

_ = جُنَّة ما لم يَخرْقها، ومَن ابتلاه ببلاءٍ في جَسَدِهِ فَهو له حِطَّة). ومعنى (مَازَ): نحَّى وأزال. (¬1) لم أهتد إلى قائله. رُضَاض الحصا: فُتَاتُه. انظر: "اللسان" 3/ 1659 (رضض). المناسم: جمع (مَنْسِم)، وهو: طرف الخُفِّ من: البعير والنعامة والفيل والحافر. انظر: "اللسان" 7/ 4415 (نسم). والمُنْتَقِد: الصيرفي الحاذق، الذي يميز الدراهم الصحيحة من الزائفة. (¬2) من قوله: (والتمييز ..) إلى (.. فعوض وعاض لغتان): نقله -بمعناه- عن "الحجة" للفارسي 3/ 111 - 113. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج). (¬4) في (ج): (ومثلى). (¬5) في (ب): (مفاعيل).

وحكى أبو زيد، عن أبي عمرٍو، أنه كان يقول (¬1): التشديد للكثرة، فأما واحدٌ مِن واحدٍ فـ (يَمِيز) -بالتخفيف-. والله -تعالى- يقول: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، فَذَكَر شيئين. و-هذا- كما قال بعضهم (¬2) في (الفَرْق) و (التَّفرِيق) (¬3). وحجّة من قرأ بالتشديد: أن التشديد للتكثير والمبالغة، ويِكثر المؤمنون والمنافقون. فالتمييز -ههنا- أَوْلى، والله -تعالى- ذَكَرَ الجِنْسَيْنِ بلفظ {الْخَبِيثَ} و {الطَّيِّبِ} وهما للجِنْس؛ فالمراد بهما: جميع المؤمنين والمنافقين، لا اثنان منهما. وقد قال الله -تعالى-: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8]. وهذا مُطَاوع [(التَّميِيِز). والذي يدل على (¬4) أن التخفيف أولى، قولُه: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} [يس: 59]، وهو مُطاوع] (¬5) (المَيْز). وقوله تعالى: {لِيُطْلِعَكُمْ}. الإطْلاعُ: أن تُطلِعَ إنسانًا على أمرٍ، لم يكن عَلِمَ (¬6) به. فيقال (¬7): ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره -بمعناه- ابنُ زنجلة في: "حجة القراءات" 182. (¬2) ذكر الثعلبي والقرطبي هذا القائل، وهو: أبو معاذ، الفضل بن خالد المروزي، أحد كبار علماء النحو، قال السيوطي: (وذكره ابن حبان في الثقات، وصنف كتابًا في القرآن). توفي سنة (211 هـ). انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 160 أ - ب، و"تفسير القرطبي" 4/ 289، و"بغية الوعاة"، للسيوطي 2/ 245. (¬3) في "تفسير الثعلبي" 3/ 160 أ، (ومثله، إذا جَعلتَ الواحدَ شيئين، قلت: (فَرَقْتُ بينهما)، ومنه: (فَرْقُ الشَّعْرِ). فإن جعلته أشياء، قلت: (فَرَّقتْه تفريقًا). وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 289. (¬4) وردت العبارة في (ج): (والذي يدل من التميين على ..). ولم أر لها وجهًا. والعبارة ساقطة من: (أ)، (ب). وما أثبتُّه هو ما استصوبته. (¬5) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج). (¬6) في (ج): (يعلم). (¬7) في (ج): (فيقال).

180

(أطلعته على كذا)؛ أي: أعلمته. ويقال: (أطْلِعْنِى طِلْعَ أمْرِكَ)؛ أي: أعلمني بما خَفِيَ منه عَلَيَّ (¬1). ويقال: (طَلَعْتُ على كذا)، و (اطَّلَعتُ)، و (أطْلَعْتُ عليه) (¬2)، و (أطْلَعْتُ غيري) (¬3). فـ (الاطلاع)، واقعٌ ومُطاوع (¬4). 180 - قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية. قُرِئ: {يَحْسَبَنَّ} بالياء والتاء (¬5). فمن قَرَأ بالياء؛ فـ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}: فاعل {يَحْسَبَنَّ}]، (¬6)، والمفعول الأول محذوفٌ؛ لدلالة اللفظ عليه؛ معناه: لا يَحسَبَنَّ الذين يبخلون بما آتاهم الله مِنْ فَضْلِهِ، البُخْلَ خيرًا لهم. فدلّ {يَبْخَلُونَ} على البخل، فَحُذِفَ؛ كقولهم: (مَنْ كَذَبَ كان شَرًّا له)؛ أي: الكذب (¬7). ومثلُه: إذا نهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه (¬8) ¬

_ (¬1) في (ج): (خفي علي منه). (¬2) (وأطلعت عليه): ساقطة من (ج). (¬3) انظر (طلع) في: "تهذيب اللغة" 3/ 2206، و"اللسان" 5/ 2689. (¬4) سبق بيان أن الفعل الواقع، هو: المتعدِّي إلى مفعول به أو أكثر. وسُمِّي بذلك؛ لأنه يقع على المفعول به. أما الفعل المُطَاوع، فيعني به -هنا- الفعل اللازم؛ لأن المطاوعة سبب من أسباب لزوم الفعل المتعدي لواحد. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" د. أحمد اللبدي 141. (¬5) قرأ حمزةُ {تَحْسَبَنَّ} بالتاء. وقرأ الباقون بالياء. انظر: "حجة القراءات"، لابن زنجلة: 183، و"التبصرة" لمكي 468. (¬6) ما يبن المعقوفين: زيادة من (ج). (¬7) انظر: "الأصول في النحو" لابن السراج 1/ 79، 2/ 167. (¬8) صدر بيت، وعجزه: وخَالَفَ والسَّفِيهُ إلى خلِافِ

أي: إلى السَّفَةِ. وأنشد الفَرّاء (¬1): هُمُ المُلوكُ وأبناءُ المُلوكِ هُمُ ... والآخِذُونَ بِهِ والسَّاسَةُ الأُوَل (¬2) قوله: (به)؛ يريد: بالمُلْكِ. فاكتَفَى منه بِذِكْرِ (المُلُوك). وقوله تعالى: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}. {هُوَ} -ههنا- فَصْلٌ (¬3)، وهو الذي يُسَمِّيه الكوفيون: ¬

_ = وقد نُسب في "إعراب القرآن"، المنسوب للزجاج 3/ 902 إلى أبي قير الأسلت الأنصاري. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفراء 1/ 104، 429، و"تأويل مشكل القرآن" 227، و"مجالس ثعلب" 1/ 60، و"تفسير الطبري" 7/ 431، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 348، 422، و"الخصائص" 3/ 49، و"المحتسب" 1/ 70، 2/ 370، و"شرح الحماسة"، للمرزوقي 244، و"أمالي المرتضى" 1/ 203، و"تفسير الثعلبي" 3/ 161 أ، و"العمدة" لابن رشيق 2/ 1034، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 103, 169، 2/ 36، 385، 507، و"البيان" للأنباري 1/ 129، 285، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي 5/ 179، و"خزانة الأدب" 4/ 364، 5/ 226. وروايته في "شرح الحماسة": (.. إذا زُجِرَ السفيهُ ..). (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 104. (¬2) البيت للقطامي. وقد ورد في "ديوانه" 30. وورد منسوبًا له في: "جمهرة أشعار العرب" 811، و"أمالي المرتضى" 1/ 203، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 103، 2/ 36، 3/ 103، و"خزانة الأدب" 5/ 227، 228، 6/ 483، 485. وقد ورد في المصادر السابقة -عدا ديوانه-: (.. وأبناء الملوك لهم ..). ويعني بها. وأبناء الملوك منهم. البيت من قصيدة قالها في مدح عبد الواحد بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وقيل: هو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وكان يكنى أبا عثمان. وقد ورد اسمُ عبد الواحد وكنيتُه في القصيدة. (¬3) في (ج): (فضل). وضمير الفَصْل، تَسْمِيَةٌ بَصْرِيَّةٌ، (لأنه فَصَل بين المبتدإ والخبر. وقيل: لأنه فصل بين الخبر والنعت. وقيل: لأنه فصل بين الخبر والتابع؛ لآن الفصل به يوضح كون الثاني خبرًا تابعًا). "همع الهوامع" 1/ 236. وانظر: "دراسة في النحو الكوفي" 239.

عماداً (¬1)؛ وذلك أنّ تَقَدمَ {يَبْخَلُونَ} بمنزلة تقدم (البُخْل)؛ فَكَأنَّه قيل: ولا يَحْسَبَنَّ الذين يَبخَلُونَ البُخْلَ -هو- خَيْرًا لهم. ومَن قَرَأ بالتَّاء فَقَال الزّجَّاجُ (¬2). معناه: ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون، فَحذف المُضَاف؛ كأنه قيل: ولا تَحسَبَنَّ بُخْلَ الباخلين [هو] (¬3) خيرًا. وأمَّا التفسير فقال ابنُ عباس -في رواية عطاء- (¬4)، وأكثر أهل التفسير -ابن مسعود (¬5)، والشعبي (¬6)، والسُّدِّي (¬7)، وغيرهم (¬8) -: نزلت ¬

_ (¬1) لأنه يعتمد عليه في الفائدة. وبعض الكوفيين يسميه: دِعَامة؛ لأنه يُدعَم به الكلام؛ أي: يُقوى به ويؤكد. وبعضهم سماه: صفة. انظر: المراجع السابقة، و"شرح المفصل" 3/ 110، و"الإنصاف" للأنباري ص 567. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 493. نقله عنه بمعناه. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬4) قوله، في: "بحر العلوم" 1/ 319، و"تفسير الثعلبي": 3/ 161 ب. إلا أنهما أطلقا العزو إليه، ولم يقيداه برواية عطاء. وفي "زاد المسير" 1/ 512 أنه من رواية أبي صالح. وورد عنه قول آخر -من رواية عطية العوفي-: إن المراد بالآية: أهل "الكتاب"، بخلوا أن يبينوه للناس. وهو قول مجاهد. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 190، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 826. (¬5) ورد قوله هذا في أثر يرفعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، في: "سنن الترمذي" رقم (3012). كتاب التفسير. ومن سورة آل عمران. وقال: (حسن صحيح)، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 12 رقم (2256)، والنسائي في "تفسيره" 1/ 347 رقم (104)، والطبري في "تفسيره" 4/ 192، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 826. (¬6) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 161 ب. (¬7) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 190، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 826، و"تفسير الثعلبي" 3/ 161 ب، و"النكت والعيون" 1/ 440. (¬8) انظر: المصادر السابقة.

الآية في الباخلين بالزكاة الواجبة (¬1) عليهم. وقوله تعالى: {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس (¬2): يريدون: الذهبَ والفِضَّةَ والحيوان والثِّمَارَ. فَفَسَّرَهُ (¬3) بالأشياء التي تَجِبُ فيها الزكاة وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} قال الحَسَن (¬4): لأنهم نالوا بهِ عذَابَ الله. وقوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أكثرُ المفسِّرينَ على أنَّ معناه: يُجْعَلُ ما بَخِلَ به مِنَ المَالِ حَيَّةً، يُطَوَّقها يومَ القيامة (¬5) في عُنُقِهِ، تَنْهَسُهُ (¬6) مِنْ قَرْنِهِ (¬7) إلى قَدَمِهِ (¬8). يَدُلُّ على هذا ما روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، [قال] (¬9): "ما مِن ¬

_ (¬1) انظر: (الموجبة). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) في (ج): (يفسره). (¬4) لم أقف على مصدر قوله. (¬5) (يوم القيامة): ساقط من (ج). (¬6) في (ب)، (ج): (تنهشه). (تَنْهَسُهُ، وتَنْهَشُه)، بمعنى واحد. ولكن (النَّهْسَ): أن يأخذه بمقدم الأسنان، و (النَّهْش): أن يأخذه بأضراسه. انظر: "القاموس المحيط" 579 (نهس)، 608 (نهش). (¬7) (القَرْنُ) من الإنسان: الجانب الأعلى منه. انظر (قرن) في: "القاموس" 1223، و"المعجم الوسيط" 2/ 737. (¬8) من قال ذلك: أبو مالك العبدي، وابن مسعود، وأبو وائل، والسُّدِّي، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 318، و"تفسير الطبري" 4/ 191 - 193. (¬9) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).

رَجُلِ لا يُؤدِّي زكاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ (¬1) له شُجاعٌ (¬2) في عنقِه يومَ القيامة"، ثُمَّ قَرَأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مِصْدَاقَهُ مِنْ كتاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3) وقال إبراهيم النَّخَعِي: معناه: يُجعَل يوم القيامة في أعناقهم، طَوْقٌ مِن نارٍ. أخبرنا إسماعِيل بن أبي القَاسِم الصوفي (¬4)، أَبَنَا (¬5) أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن علَّك الجَوْهري (¬6)، بِمَرْو (¬7)، ثنا عبد الله بن محمود ¬

_ (¬1) في (ج): (جعل الله). (¬2) الشجاع -بضم الشين وكسرها-: الحَيَّةُ الذَّكَر. وقيل: الحيةُ مطلقًا. انظر: "الفائق في غريب الحديث" 2/ 222، و"النهاية في غريب الحديث"2/ 447. (¬3) الحديث أورده المؤلف بالمعنى، وقد أخرجه: الترمذي في "سننه" رقم (3012). وقال: (حسن صحيح). والنسائي في "سننه" 5/ 11 رقم (2441). وأخرجه في "تفسيره" 1/ 346 - 347. وابن ماجه في "سننه" رقم (1784)، وأحمد في "المسند" (شرح شاكر): رقم (3577) وقال شاكر: (إسناده صحيح). والحاكم في "المستدرك" 2/ 298، 299 كتاب التفسير. باب: سورة آل عمران. وابن خزيمة 2/ 12 رقم (2256)، والطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 262 رقم (9123 - 9126). والطبري في "تفسيره" 4/ 192، وابن أبي حاتم 3/ 278. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) (أبنا): اختصار لـ (أخبرنا). وفي "تدريب الراوي": (ويكتبون من (أخبرنا): (أنا)؛ أي: الهمزة والضمير. ولا تحسن زيادة الباء قبل النون، وإن فعله البيهقيُّ وغيره؛ لأنها تلتبس برمز (حدثنا)) 2/ 87. (¬6) ويقال المروزي. أحد الحفاظ المتفق على جلالتهم، ويعد من نقاد أئمة الحديث بـ (مرو). توفي سنة (360 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 168، و"تذكرة الحفاظ" 3/ 929، و"شذرات الذهب" 3/ 37. (¬7) مَرْوُ، وتسمى: (مرو الشاهِجَان). وهي أشهر مدن خراسان، وقصبتها. والنسبة =

السَّعْدِي (¬1)، ثنا موسى بن بحر (¬2)، ثنا عَبِيدة بن (¬3) حُمَيْد (¬4) , حدّثَنِي منصور (¬5)، عن إبراهيم (¬6) -في قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} -، قال: (يُطَوَّقون بِطَوْقٍ (¬7) منْ نار) (¬8). ¬

_ = إليها: (مرْوَزي) على غير قياس. ويقال عن الثوب (مَرْوِي) على القياس. وهناك مدينة أخرى تسمى (مرو الرُّوذ). والنسب إليها: (مرْوَرُوذي) و (مرُّوذي). وهي أصغر من (مرو الشاهِجان). انظر: "معجم البلدان" 5/ 112. (¬1) هو: أبو عبد الرحمن، السعدي المروزي. الشيخ العالم الحافظ الثقة المأمون. توفي سنة (311 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" 14/ 499، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 718، و"شذرات الذهب" 2/ 262. (¬2) أبو عِمْران، المروذي، أصله عراقي، مقبول، عده ابن حجر من الطبقة العاشرة، ممن لم يَلْقَوا التابعين، وإنما رَوَوْا عن أتباع التابعين، مات سنة (230 هـ). انظر: الثقات، لابن حبان: 9/ 162، و"الجرح والتعديل" 8/ 137، و"تقريب التهذيب" ص 550 (6950). (¬3) في (ج): (عن) بدلًا من (بن). (¬4) هو: عَبِيدة بن حُمَيد التيمي، وقيل: الليثي، وقيل: الضبِّي، أبو عبد الرحمن الحذَّاء. قال ابن المديني: ما رأيت أصح حديثًا منه، وأحسن الإمام أحمد الثناء عليه جِدًا، ورفع أمره. وكان صاحب نحو وعربية وقراءة للقرآن. مات سنة: 190 هـ انظر: "الجرح والتعديل": 6/ 92، و"تاريخ بغداد" 11/ 120، و"ميزان الاعتدال" 3/ 422، و"تهذيب التهذيب" 3/ 43. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) هو النخعي. (¬7) في (ج): (يطوق). (¬8) أخرج الأثر عنه -كذلك-: سفيان الثوري في "تفسيره" 82، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 141، والطبري في "تفسيره" 4/ 192 - 193، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 828، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 185 وزاد نسبة إخراجه لسعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

وعلى هذا التَّفْسِير، يجعَل ما بَخِلُوا به مِنْ المال، طَوْقًا مِنْ نارٍ، كما جُعِلَ في التفسير الأوَّلِ حَيَّة. وقال المُؤَرج (¬1): معناه (¬2): يُلزَمُون أعمالَهم، مِثْل ما يَلْزم الطوقُ العنقَ. والعربُ تكني بالتطويق (¬3) عن الإلْزام؛ ومنه قراءة مَن قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]، (¬4)؛ أي: يَتَكَلَّفُونَه، وُيلْزَمُونَه. يُقال: (طُوِّقَ فلانٌ عَمَلَهُ، مثلَ طَوْقِ الحَمَامَةِ). قال ابنُ الأنباري (¬5): معناه -على هذا التفسير-: سَيُطَوّقُونَ جَزَاءَ ما بخلُوا به. وذِكْرُ التَّطْوِيق -ههنا- على جهة المَثَلِ، كِنَايَةً عن الإلزام، لا على أنَّ ثَمَّ أطواقًا. وقال ابن عباس -في رواية العَوْفي- (¬6): نزلت هذه الآية في اليهود الذين كتموا صِفَةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأراد بـ (البخل): كِتْمان العِلْم الذي آتاهم الله. ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) (معناه): ساقط من (ج). (¬3) في (ج): (بالطريق). (¬4) القراءة التي ذكرها المؤلف: {يُطَوَّقونه}، هي قراءة: عائشة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس، وعطاء. انظر: "صحيح البخاري" (4505) كتاب التفسير. باب: 25 فقد رواها عن ابن عباس. و"مصنف عبد الرزاق" 4/ 220، 221، 223 رقم (7573 - 7575)، (7577) رواها عن ابن عباس، ورقم (7576) عن عائشة، ورقم (7583) رواها عن ابن جبير. و" الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد بن سلام 46، 47، و"تفسير الطبري" 2/ 132، و"الدر المنثور" 1/ 326، فقد أخرجوها عمن سبق. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) هذه الرواية في: "تفسير الطبري" 4/ 190، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 826، و"تفسير الثعلبي" 3/ 162 - ب، و"أسباب النزول" للمؤلف 136 - 137.

يَدُلُّ على هذا التفسير: قولُه -تعالى-: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37]. وعلى هذا، معنى قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} أي: يُحَمَّلُون وِزْرَهُ وإثْمَهُ. وهذا القول اختيار: ابنِ كَيْسان (¬1)، وأبي إسحاق (¬2). وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قال المفسرون كلُّهم (¬3): يعني أنه يَفْنى أهلُها، وتبقى الأملاكُ والأموالُ، ولا مالكَ لها إلا اللهُ. فجرى هذا مجْرى الوِراثَةِ؛ إذْ كانَ الخلْقُ قبل ذلك يَدّعُونَ المُلْكَ، فَلَمَّا ماتُوا عنها، ولم يُخَلِّفُوا أحدًا، كانَ هو الوارث لها -جل وعَزَّ-. قال أبو إسحاق (¬4): خُوطِبَ القومُ بِمَا يَعْقِلُون؛ لأنهم يَجْعَلُون ما رَجَعَ إلى الإنسانِ ميراثًا، [إذا كان ملكًا له. وتأويله: بُطلانُ مُلْكِ جميع المَالِكين، إلّا مُلْك الله -جَلَّ وعَزَّ-] (¬5)، فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري (¬6): والعرب تقول: (وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فلانٍ): إذا ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) هو الزجاج، في "معاني القرآن" له 1/ 492. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 249، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 493، و"تفسير الطبري" 7/ 440، و"بحر العلوم" 1/ 319، و"تفسير البغوي" 2/ 143، و"تفسير القرطبي" 4/ 293. (¬4) في "معاني القرآن" له 1/ 493. نقله عنه بنصه. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده الفخرُ الرازي في "تفسيره" 9/ 119 والنيسابوري في: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" 4/ 137.

تَفَرَّد به (¬1) بعد أن كان مشاركًا فيه (¬2). وقد قال الله -تعالى- (¬3): {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، [فَذَهَبَ إلى وِراثَتِهِ عِلْمَهُ، بعد أنْ كانَ داودُ] (¬4) مشاركًا فيه (¬5)، أو (¬6) غالبًا عليه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. مَنْ قَرَأَ بالياءِ (¬7)، فلأنَّ ما قَبْلَهُ على الغَيْبَةِ، وذلك قوله: {سَيطَوَّقُونَهُ} (¬8)، {والله بِمَا يَعملون (¬9) خبير} مِنْ مَنْعِهِم الحقوقَ، فَيُجَازِيهم عليه. ومَن قرأ بالتاء؛ فَلأنَّ قبل هذه الآية خِطابًا، وهو قوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، فَيُجازِيكم عليه. ¬

_ (¬1) في (ب): (انفرد). وكذا وردت في "تفسير الفخر الرازي". (¬2) في "غرائب القرآن": (مشاركًا له فيه). (¬3) في "غرائب القرآن": (ومثله). بدلًا من (وقد قال الله تعالى). (¬4) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج). والعبارة في "تفسير الفخر الرازي": (وكان المعنى: انفراده بذلك الأمر، بعد أن كان داود ..). (¬5) في "غرائب القرآن": (مشاركًا له فيه). (¬6) في (ج) و"تفسير الفخر الرازي": (و) بدلًا من (أو). (¬7) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بالياء في {يَعْمَلُونَ}. وقرأ الباقون: بالتاء {تَعْمَلُونَ}. انظر: "السبعة" 320، و"القراءات" للأزهري 1/ 133، و"الحجة"، للفارسي 3/ 113. ومن قوله: (من قرأ ..) إلى (.. أقرب إلى الصواب): نقله -بتصرف- عن: "الحجة" للفارسي 3/ 113. (¬8) هكذا في (أ)، (ب)، (ج). وفي "الحجة": (سيطوقون). (¬9) في (ج): (تعملون).

181

والغَيْبَةُ أقرب إليه مِنَ الخطاب. 181 - وقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} الآية. قال ابن عباس (¬1) والمفسرون (¬2): نزلت هذه الآية في اليهود، حين قالوا -لَمَّا نَزَلَ قولُه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} (¬3) -: إنَّ اللهَ فقيرٌ يَسْتَقرِضُنا، ونحن أغنياء. وُيروى أن قائل هذا رجلٌ من اليهود، يقال له فِنْحاص، قال: لو كان الله غنيَّا ما استَقْرَضَنَا أموالَنَا (¬4)، وأنه (¬5) يَنهَى عن الرِّبَا، ويعطينا، ولو كان غنيًا ما أعطانا الرِّبا. وقيل: إن قائِلَه: حُييُّ بن أخْطَب (¬6). وقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أي: نأمر (¬7) الحَفَظَةَ بإثبات قولهم ¬

_ (¬1) قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 194، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 828. وأورده السيوطي في: "الدر" 2/ 186 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر. وذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 231، والسيوطي في "لباب النقول" 61، 62 وحسَّنا إسناده. (¬2) منهم: السُّدِّي، ومجاهد، وابن جريج، والحسن، وقتادة، وعكرمة، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 194 - 195، و"أسباب النزول"، للواحدي ص 137 - 138. (¬3) في (أ): (ذي). والمثبت من رسم المصحف، وبقية النسخ. (¬4) انظر: المصادر السابقة. (¬5) في (ج): (فإنه). (¬6) قال بذلك: قتادة انظر: "تفسير الطبري" 4/ 195، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 187وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. ونُسِب القولُ بهذا للحَسَن. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 163 أ، و"زاد المسير" 1/ 515. ويرى ابنُ عطيَّة أنَّ هذا القول (صدر أولا عن فنحاص، وحُيَي، وأشباههما من الأحبار، ثم تقاولها اليهود ..) , ويستدل ابن عطية بقوله تعالى: {قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا}، حيث إنهم جماعة. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 441. (¬7) في (ب): (نأمن).

182

في صحائف أعمالهم؛ وذلك أظهر في الحجَّة عليهم. وهذا كقوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [آل عمران:181] وقرأ (¬1) حمزة (¬2): {سيُكتَبُ ما قالوا} اعتبارًا بقراءة عبد الله (¬3): (وَيُقالُ ذُوقوا عذابَ الحَرِيق) (¬4)؛ ولأنَّه مِنَ التَّصَرُّف في وجوه الكلام. وقراءة العامَّة أحسنُ؛ لِجَرْيِ الكلامِ فيها على تَشَاكل (¬5). و {الْحَرِيقِ}: اسمٌ للنار الملتهبة، وهو بمعنى المُحْرِق (¬6). 182 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. أي: ذلك (¬7) العذاب بما سلف من الإجرام، وأضيف التقديم إلى أيديهم -وهو لهم في الحقيقة-؛ لِيَكون أدَلّ على تَوَلِّي الفِعْلِ؛ لأنه قد يُضافُ الفِعْلُ إلى الإنسان على أنه أَمَرَ به، وَدَعَا إليه؛ نحو قوله: {يُذَبِّحُ ¬

_ (¬1) في (ج): (وقال). وانظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 249 فقد ورد فيه معنى ما ذكره المؤلف. (¬2) وقد قرأ حمزة: {سيُكتَبُ} -بالياء-، و {قَتْلُهُم} -بضم اللام-، و {يَقُولُ} -بالياء-. وقرأ الباقون: {سَنَكتُبُ} -بالنون-، و {قَتْلُهُم} -بفتح اللام-، و {نَقُولُ} -بالنون-. انظر: "القراءات" للأزهري 1/ 134، و"الحجة" للفارسي 3/ 115، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 183. (¬3) هو ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: قراءته، في "المصاحف" لابن أبي داود 60، وهي فيه: (ويقال لهم ذوقوا)، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 249، و"تفسير الطبري" 4/ 196، و"زاد المسير" 1/ 515، و"تفسير القرطبي" 4/ 295. (¬5) في (ب): (مشاكل). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 494. (¬7) (ذلك): ساقطة من (ج).

183

أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4]، فإذا ذُكِرَت اليد، دَلَّ على تَوَلِّي الفعل؛ نحو قوله -تعالى-: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]. وقوله تعالى: {ذَلِكَ} ابتداءٌ. وخَبَرُهُ: {بِمَا قَدَّمَتْ}. وقوله تعالى: {وَأَنَّ اَللهَ}. أي: وبأن الله {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وموضع (أنَّ) (¬1): جَرٌّ (¬2). 183 - قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} الآية. قال أبو إسحاق (¬3): هذا مِن نَعْتِ (العبيد) (¬4). ويجوز أن يكون رفعًا بالابتداء؛ على معنى: هم الذين قالوا. ويجوز أن يكون بدلًا مِنَ {الَّذِينَ} الأوَّل (¬5). قال السدِّي (¬6): إن الله أمَرَ بني إسرائيلَ في التوراة: مَن جاءَكم (¬7) يَزْعُمُ أنه رسول الله، فلا تُصَدِّقوه حتى يأتيكم بِقُرْبانٍ تأكله النار، حتى يأتيكم المسيحُ ومحمد، فإذا أتَيَاكم، فآمنوا بهما، فإنهما يأتيان بغير قُرْبان. وقوله تعالى: {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}. ¬

_ (¬1) في (ج): (أجر) بدلًا من: (أن). (¬2) لأنها معطوفة على (ما) المجرورة بالياء، من قوله: {مِّمَّا عَمِلَتْ}. (¬3) في "معاني القرآن" له 1/ 494. نقله عنه بنصه. (¬4) قال ابن عطية عن هذا الإعراب: (وهذا مفسد للمعنى والرصف). "المحرر الوجيز" 3/ 443. (¬5) ويجوز أن يكون صفة لـ {الَّذِينَ} في قوله: {قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا}. ويجوز فيها النصب بإضمار فعل، مثل: (أذُمُّ)، أي: أذم الذين. انظر: "الدر المصون" 3/ 516. (¬6) قوله -بنصه- في: "تفسير الثعلبي" 3/ 164 ب. (¬7) في المصدر السابق: (من جاءكم من أحد يزعم).

القُرْبان: البِرُّ الذي تتقرب به إلى الله (¬1). وأصلُهُ المَصْدَر، من قولك: قَرُبَ قُرْبانًا (¬2). كالكُفْران والرُّجْحان، والخُسْران، ثم يُسَمَّى (¬3) به نفْسُ المُتَقَرَّب به. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -، لكَعْبِ بن عُجْرَة (¬4): "يا كعبُ: الصوم جُنَّة، والصلاة قُرْبان" (¬5)؛ أي: بها يُتَقَرَّبُ إلى الله، ويُسْتشفَعُ في الحاجة ¬

_ (¬1) انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 325، و"الكُليات" 702، 733، و"التوقيف على مُهِمَّات التعاريف" 578. (¬2) قُرْبانًا، وقِرْبانا، وقُرْبًا. انظر: "اللسان" 6/ 3066 (قرب). (¬3) في (ج): (سمي). (¬4) كعب بن عجرة القُضاعي، حليف الأنصار، صحابي، مدني، شهد عمرة الحديبية، وسكن الكوفة، مات بالمدينة سنة (51 أو 52، أو 53هـ). انظر: "الاستيعاب" 3/ 379، و"الإصابة" 3/ 297. (¬5) مقطع من حديث طويل، أخرجه: عبد الرزاق في مصنفه 11/ 345 رقم (20719). وابن حبان في صحيحه (انظر: الإحسان: 5/ 9 رقم (1723)، و10/ 372 رقم (4514). والحاكم في "المستدرك" 4/ 422. وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. والبزار (انظر: "كشف الأستار" 2/ 241 رقم 1609، وفيه: " .. الصلاة برهان، والصوم جنة"). وورد من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن كعب، أخرجه: ابن حبان في صحيحه (انظر: الإحسان: 12/ 378 رقم 5567). والطبراني في "المعجم الكبير" 19/ 162 رقم (361)، ولفظه عنده: (الصلاة برهان، والصوم جنة)، وأخرجه من طرق أخرى عن كعب، في: 19/ 105 رقم (212)، 135 رقم (298)، و141 رقم (309)، و145رقم (318)، ولفظ بعضها: (الصلاة نور)، وبعضها: (الصلاة برهان). وأخرجه الإمام أحمد في: المسند، عن جابر: 3/ 312، انظر: "الفتح الرباني" 23/ 26 - 27)، واقتصر على بعفر ألفاظه، وليس فيه هذا المقطع، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" عن جابر 5/ 247، وقال: (رواه أحمد والبزار، =

184

لَديْهِ" (¬1) قال عَطَاءَ (¬2): كانت بنو إسرائيل يَذْبَحون لله، فيأخذون الثُّرُوبَ (¬3) وأطايِبَ اللَّحْم، يضعونها في وسْطِ بَيْتٍ، والسَّقْفُ مكشوفٌ، فيقومَ النبيُّ في البيت، ويُناجي رَبَّهُ، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نارٌ (¬4) بيضاء لها دَويٌّ وحَفِيفٌ، ولا دُخانَ لها، فتأكل ذلك القربان، فقال الله -تعالى- إقامةً للحُجَّةِ عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ}، إلى آخرها. وخُوطِب [بهذا] (¬5) اليهودُ الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم يجرون مجرَى أسلافهم؛ لِرِضاهم بمذاهبهم، وكونهم على طريقتهم. وقد مضى مثل هذا في أوائل سورة البقرة (¬6). 184 - قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الآية. ¬

_ = ورجالهما رجال الصحيح ..)، وفي: 10/ 230 وقال: (رواه أبو يَعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي إسحاق بن أبي إسرائيل، وهو ثقة مأمون). وأورده المتقي الهندي في: "كنز العمال": 6/ 71 - 72 رقم (14893)، وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، والدارمي، وابن زنجويه، وسعيد بن منصور، والطبري، والطبراني، وأبي نعيم في: الحلية، والبيهقي في: الشعب. (¬1) في (ج): (إليه). (¬2) قوله، في: "تفسير الثعلبي" 3/ 165 أ، و"زاد المسير" 1/ 516. (¬3) الثُّرُوب، جمع: ثَرْب، وهو: شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء. انظر: "القاموس" 80 (ثرب). (¬4) في (ج)، و"تفسير الثعلبي": (نارا). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬6) انظر: تفسير قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. من الآية: 61 من سورة البقرة، في "تفسير البسيط".

قال ابن عباس (¬1)، والحسن (¬2)، والضحّاك (¬3)، وابن جريج (¬4): هذه الآية تعزِيَةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، في تكذيب اليهود إيَّاه، وجوابٌ لقائلٍ يقول: لو كان ما جاء به حقًّا لَصَدّق به مَن أتاه من العقلاء، وبيان أنهم إن كَذَّبوهُ، فالتكذيب عادة للأمم، وسائر الرُّسُل قد كُذّبوا كما كُذِّب. وقوله تعالى: {وَالزُّبُرِ}. معناه: الكُتُب. وهو جَمْعُ (زَبُور). والزَّبُور: الكتاب؛ بمعنى: المَزْبُور؛ أي: المكتوب. يقال: (زَبَرْتُ الكِتَابَ)؛ أي: كتبته. وكُلُّ كِتَابٍ زَبُورٌ (¬5). قال امرؤ القيس: لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِ (¬6) ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) لم أقف على مصدر قوله. (¬3) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 198. (¬4) قوله في المصدر السابق. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1506 (زبر)، و"تفسير الطبري" 4/ 198. (¬6) قوله: (عسيب) في (أ)، (ب)، (ج) لم تضبط بالشكل. البيت في "ديوانه" ص 165. وورد منسوبًا له في: "تفسير الطبري" 4/ 198، و"اللامات" 63، و"تفسير الثعلبي" 3/ 164ب، و"تفسير القرطبي" 4/ 296، و"المحرر الوجيز" 3/ 445، و"اللسان" 4/ 2434 (صرع). الطَّلَل: ما بقي من آثار الدار. وجمعها: (أطلال)، و (طُلُول). وقوله: (فشجاني) -هنا-: أحزنني، وترد بمعنى: أطربني؛ لأنها من الأضداد. والعَسيب: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة، يُكْشَطُ خوصُها. ويريد الشاعر: أنه نظر إلى هذا الطَّلَل، فأحْزَنَه، حيث خفيت آثارُه واندَرَست، فأصبحت في خفائِها كخط كتابِ في عَسِيب النخلة. =

وقال الزّجاج (¬1): الزَّبُور: كلُّ كِتَابٍ ذي (¬2) حِكْمَةٍ. وعلى هذا، يُشْبِهُ أنْ يكونَ معنى الزَّبُورِ، مِنَ: (الزَّبْرِ)، الذي هو: الزَّجْر. يقال: (زَبَرْتُ الرجلَ، أزْبُرُهُ زَبْرًا): إذا زَجَرْتُه مِنَ (¬3) الباطل (¬4). وسمّي الكتاب: (زَبُورًا)؛ لما فيه من الزَّبْر عن خلاف الحق. وبه سُمِّي زَبُورُ داود؛ لِكثرة ما فيه من المَزَاجِرِ، والمواعظ. وقرأ (¬5) ابنُ عامر (¬6): {وَبِاَلزُّبُرِ} (¬7)، ووجهه أنه أعاد الباءَ، وإنْ كانَ مُسْتَغْنًى عنه؛ لِضَرْبٍ ¬

_ = قال شارح ديوانه عن البيت: (وقوله في (عسيب يَمَان): كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة، عهودهم وصِكاكَهِم). وقيل أيضًا (في عسيبِ يَمان): فهي بمعنى: في عسيب رجلٍ يَمَانِ. انظر: "المجمل" لابن فارس 522 (شجو)، و"اللسان" 5/ 2935 (عسب). (¬1) في: "معاني القرآن" له 1/ 495. (¬2) في "معاني القرآن": ذو. (¬3) في (ج): (عن). (¬4) انظر: (زبر) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1506، و"اللسان" 3/ 1804. وقال الأزهري -ناقلًا عن أبي الهيثم-: (وأصل (الزَّبْر): طيُّ البئر؛ إذا طُوِيت تماسكت واستحكمت. والزَّبْرُ: الزجر؛ لأن من زبرته عن الغَيِّ، فقد أحكمته؛ كَزَبْرِ البِئْرِ بالطِّين). (¬5) من قوله: (وقرأ ..) إلى (.. حَسَن عربي): نقله -بمعناه- عن "الحجة" للفارسي 3/ 114. (¬6) هو: أبو عمران، عبد الله بن عامر بن تميم اليَحْصَبي. إمام أهل الشام في القراءة, أحد القراء السبعة، توفي سنة (118 هـ). انظر: "الفهرست" ص 49، و"معرفة القراء الكبار" 1/ 82، و"النشر" 1/ 144. (¬7) انظر قراءة ابن عامر في: "إعراب القراءت السبع" لابن خالويه 1/ 125، و"الحجة" للفارسي 3/ 113.

من التأكيد. ومما جاء على قياس هذه القراءة، قولُ رُؤبَة: يا دارَ عَفْراءَ وَدارَ البَخْدَنِ (¬1) فَكَرَّرَ الدارَ، والدار واحدةٌ لهما (¬2). يدلك (¬3) على ذلك: قوله: فيكِ المَهَا مِنْ مُطْفِلٍ ومُشْدِنِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (أ): (النجدو). وفي (ب): (النجدر). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت. وهذا شطر بيت من الرجز، وقد ورد في: ديوانه (ضمن مجموعة أشعار العرب: 161). تصحيح: وليم بن الورد. ط ليبسغ سنة: 1903م). وقد ورد منسوبًا له، في: "كتاب سيبويه" 2/ 188، و"شرح أبيات سيبويه" للنحاس (تح: زهير غازي) 131، و"المخصص" 3/ 29، و"إعراب القرآن" المنسوب للزجاج 453. وورد غير منسوب، في "اللسان" 1/ 220 (بخدن). وقال في "اللسان": (وبَخْدَن، وبِخْدِن، كل ذلك اسم امراة)، ثم ذكر البيت، وضَبَطَها فيه: (البِخْدِنِ). (¬2) (لهما): ساقطة من (ج). (¬3) في (ج): (يدل). (¬4) في (ج): (ومشدّن) بتشديد الدال. وهي خطأ. والبيت تكملة للبيت السابق. انظر: ديوانه (ضمن مجموعة أشعار العرب: 160)، و"شرح أبيات سيبويه" للنحاس 131. المَها: بقر الوحش. وتجمع على (مَهَوَات)، و (مَهَيَات)، ومفردها: مَهَاة. انظر: "القاموس المحيط" ص 1336 (مهو). و (المَهَا المُطْفِل): التي لها أولادٌ صِغار. و (المها المُشْدِن): التي شَدَن ولدها, أي: قوي جسمُه وترَعْرَعَ، وطَلَع قرناه، واستغنى عن أمِّه. يقال: (شَدَنَ، يَشْدُن، شُدُونًا)، فـ (هو شَادِن). انظر: "اللسان" 4/ 2217 (شدن)، و"القاموس" ص 1336 (مهو)، ص1025 (طفل). ولم يورد الفارسي، في "الحجة" هذا المقطع من البيت، وإنما أورد بدلًا منه بيتًا آخر من نفس القصيدة، وهو: أمَا جَزَاءُ العارف المُسْتَيْقِنِ ... عندكِ إلّا حاجة التَّفَكُّنِ

ولم يقل: فيكما. فكذلك كرَّرَ ابنُ عامر الباءَ، وكلا (¬1) الوجهين -مِن تكرير الباءِ وحَذْفِهِ- حَسَنٌ عربيٌّ. ومعنى (¬2) قوله: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} إلى آخرها؛ أي: بالمعجزات، وكتب المَزَاجِرِ، و {الْكِتَابِ} الهادي إلى الحق. و {الْمُنِيرِ}؛ مِنْ قولك: (أَنَرْتُ الشيءَ، أُنِيرُه، إنَارَةً)؛ أي: بَيَّنتُه، وأوضحته، وفي الحديث: (فَرَض عمرُ بن الخطاب لِلجَدِّ، ثم أنارهما زيدُ ابن ثابت) (¬3)؛ أي: أوضحها. ويقال (¬4): (نارَ الشيءُ وأنَارَ، ونَوَّرَ، واستنار) بمعنى واحد. كما (¬5) يقال: (أبَانَ الشيءُ (¬6)، وبَيَّنَ، وتَبَيَّنَ، واستَبَان) بمعنى واحدٍ. وعلى ما ذكرنا؛ (أنَارَ) يكون واقعًا ومُطاوعًا (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): (وكلي). والمثبت من: "الحجة"، للفارسي، وهو الصواب. (¬2) (معنى): ساقط من (ج). (¬3) ورد الأثر بهذا النص في: "تهذيب اللغة" 4/ 3479 (نور)، و"غريب الحديث"، لابن الجوزي 2/ 440، و"النهاية" لابن الأثير 2/ 125، و"اللسان" 8/ 4571 (نور). وأخرج نحوه عبد الرزاق، عن الزهري، قال: (إنما هذه فرائض عمر، ولكن زيد أثارها بعده، وفشت في الناس). "المصنف" 10/ 266، رقم (19060)، وانظر رقم (19061). وهكذا جاءت في "المصنف" (أثارها)، وأشار محققُه إلى ورودها في نسخة أخرى (أنارها). (¬4) من قوله: (ويقال ..) إلى (.. واستبان بمعى واحد): نقله -بنصه- عن "تهذيب اللغة" 4/ 3482 (نور). وانظر: "اللسان" 8/ 4571 (نور). (¬5) من قوله: (كما ..) إلى (بمعنى واحد): ساقط من (ج). (¬6) في "التهذيب" و"اللسان": (بان الشيء، وأبان ..). (¬7) يعني بـ (الواقع): الفعل المتعدي، و (المطاوع): الفعل اللازم. انظر تفسير قوله تعالى: {لِيُطْلِعَكُمْ} من الآية: 179 من هذه السورة.

185

185 - قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية. {ذَائِقَةُ}: فاعِلَة، مِنَ: (الذَّوْقِ). واسم الفاعِلِ إذا أضيف إلى اسمٍ، وأُريِدَ (¬1) بِهِ المُضِيّ، لم يَجُزْ إلّا الجَرُّ، نحو: (زيْدٌ ضارِبُ عمروٍ أمسِ)، فإنْ أردت به الحالَ والاستقبالَ، جازَ الجَرُّ والنَصْبُ؛ تقول: (هو ضاربُ زيدٍ غدًا)، و (ضاربٌ زيدًا (¬2) غدًا). قال الله -تعالى-: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38]. و {كاشفات ضُرَّه} (¬3)، قُرِئ بالوجهين (¬4)، لأنه الاستقبال. وروي عن الحسن أنه قرأ: (ذائقةٌ الموتَ) (¬5) -بالتنوين، ونصب الموت-، واستقصاء الكلام في هذه المسألة يأتي عند قوله: {ظَالِمِي أِنْفُسِهِمْ} في سورة النساء. ¬

_ (¬1) في (ج): (أريد) بدون واو. (¬2) في (أ)، (ب): (زيد). والمثبت من (ج)، وهو الصواب. (¬3) {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}: ليس في: (ج). (¬4) {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} -بالتنوين، ونصب الراء المشددة من {ضُرِّهِ} - هي قراءة أبي عمرو، ورواية الكسائي عن أبي بكر عن عاصم. وقرأ الباقون: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} على الإضافة. انظر: "السبعة" 562، و"التبصرة" لمكي 660، و"الكشف" له 2/ 239، وكتاب "الإقناع" 2/ 750. (¬5) لم أقف على مصدر قراءة الحسن. وقد قرأ بها: الأعمشُ، واليَزِيدي، وأبو حَيْوَة، ويحيى، وأبي إسحاق. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 165أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 297، و"البحر المحيط" 3/ 133. وذكر الزمخشريُّ، عن الأعمش، أنه قرأ: {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} -بدون التنوين، مع النصب- أنظر: "الكشاف" 1/ 485.

186

وقوله تعالى: {فَقَدْ فَازَ}. الفَوْزُ؛ معناه: الظَّفَرُ بالخير، والنجاةُ من الشَّرِّ (¬1). ألا ترى أن الله -تعالى- حَكَمَ بالفوز لِمَن أُبْعِدَ مِنَ النار، فَنَجَا مِنْ شَرِّها، وأدْخِلَ الجَنَّةَ، فَظَفِرَ بنعيمها؟. قال الزّجاج (¬2): يقال لِكُلِّ مَنْ نَجَا من هَلَكَةٍ، ولَقِيَ ما يَغْتَبِطُ به (¬3): (فازَ). فتأويل (¬4) {فَازَ}: تَبَاعَدَ مِنَ المكروه، ولَقِيَ ما يُحِب. وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} يريد: العيش في هذه الدار الفانية، تَغُرُّ الإنسان بما تُمَنِّيهِ مِنْ طولِ البقاء، وسينقطع عن قريب. فَوُصِفت بأنها متاعُ الغرُوُر؛ لأنها بمنزلة مَنْ يَغُرّ ببذل المحبوب، والتخييل [إليك] (¬5) أنه يَدُوم. و {المَتَاع} قد ذكرنا أنه كل ما يُنْتَفَع به، وُيسْتَمتَعُ (¬6). وأضافَهُ إلى {الْغُرُورِ} لأنه يَغُرّ. 186 - قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية. اللَّام، لام القَسَمِ. والنونُ دخلت مُؤَّكِدَةً. وضُمَّت الواوُ لِسُكُونها وسكون النون. ولم تكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنها واو جمع، فحركت بما ¬

_ (¬1) ورد هذا التعريف بنصه عن الليث بن المظفر، في "تهذيب اللغة" 13/ 264 (فوز). (¬2) في: "معاني القرآن" له 1/ 495. نقله عنه بتصرف. (¬3) الغِبْطَة: حسن الحال، والنعمة والسرور؛ يقال: (فلانٌ مُغْتَبِطٌ)؛ أي: في غِبْطَةٍ. وجائز أن تقول: (مُغتَبَط) -بفتح الباء-، و (قد اغْتَبَطَ، فهو مُغْتَبِط)، و (اغْتُبط، فهو مغتَبَطٌ). انظر: "اللسان" 6/ 3208 (غبط). (¬4) في (ج): (وتأويل)، وفي "معاني القرآن": فتأويله. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬6) انظر: "تفسير البسيط" تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].

كان يَجِبُ لِمَا قبلها مِنَ الضَمِّ. ومثله: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} [البقرة: 16]. وقد مَرّ مستقصًى فيه. ومعنى {لَتُبْلَوُنَّ}: لَتُخْتَبَرُنَّ. ولا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار؛ لأنه طلب المعرفة، لِيُعْرَفَ الجَيِّدُ مِنَ الرَّديء، ولكنَّ معناه -في وصف الله-: أنه يُعامِلُ العبدَ مُعامَلَةَ المُخْتَبِرِ. واختلفوا في معنى هذا الابتلاء: فقال ابن عباس -في رواية عطاء- (¬1): الخطاب للمهاجرين؛ أَخَذَ المشركون أموالَهم، وباعوا رِبَاعَهم، وعَذَّبوهم. وقال الحَسَنُ (¬2): يعنى: بالفرائض التي أوْجَبَها في الأموال، وعلى الأنفس؛ كالصوم والصلاةِ والزكاةِ والحجِّ والجهاد (¬3). وقال مقاتل (¬4): يعنى: بالحوائِجِ (¬5)، والخسران في الأموال، والأمراض في الأنفس. قال (¬6): ونزلت الآية في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) أورد هذا القولَ الثعلبيُّ، في: "تفسيره" 3/ 167 ب، قائلًا: (قال عطاء ..). (¬2) قوله، في: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 833، و"تفسير الثعلبي" 3/ 167 - ب. (¬3) ولفظه عند ابن أبي حاتم: (قال نُبْتلى -والله- في أموالنا وأنفسنا). (¬4) لم أقف على مصدر قوله، وليس هو في تفسيره. وقد أورد هذا القول -مع اختلاف يسير- الثعلبي، في "تفسيره" 3/ 167 ب، ولم يعزه لقائل. (¬5) هكذا في (أ)، (ب). وفي (ج): (بالحوائح) بدون إعجام. وفي "تفسير الثعلبي": (بالجوائح). وهي أولى بسياق الكلام والمعنى المراد؛ لأن الجوائح، هي: الشدائد التي تجتاح المال. ومفردها: جائحة. انظر: "القاموس المحيط" 276 (جوح). (¬6) في: "تفسيره" 1/ 320.

وقوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}. قال عكرمة (¬1)، ومقاتل (¬2)، والكلبي (¬3)، وابن جريجِ (¬4): بعث رسولُ اللهِ أبا بكرٍ الصدِّيقَ إلى فِنْحاص، يَسْتَمِدُّه. فقالَ فِنْحاصُ: قد احتاجَ رَبُّكُم إلى أن نُمِدَّه؟ فَهَمَّ أبو بكر أنْ يضرِبَهُ بالسيف، وقد كان رسول الله قال له -حين بَعَثَهُ-: لا تَفْتَاتَنَّ (¬5) عليّ بشيء حتى ترجع. فتذكر أبو بكرٍ ذلك، فَكَفَّ عن الضرب، ونزلت هذه الآية (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: (قال عكرمة ..) إلى (.. ونزلت هذه الآية): نقله -باختصار وتصرف- عن "تفسير الثعلبي" 3/ 165 ب. وقول عكرمة في "تفسير الطبري" 4/ 200، و"النكت والعيون" 1/ 441. (¬2) في "تفسيره" 1/ 319. (¬3) لم أقف على مصدرٍ آخر لقوله، سوى "تفسير الثعلبي". (¬4) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد عنه في الآية قولُه: (يعني اليهود والنصارى، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}، فكان المسلمون يسمعون مِنَ اليهود قولَهم. {عُزَيْرُ ابْنُ الله}، ومِنَ النصارَى قولَهم: {المَسِيحُ ابْنُ الله}، فكان المسلمون ينصبون لهم الحربَ إذْ يَسْمَعُون إشراكَهم ..). أخرجه: الطبريُّ في: "تفسيره": 4/ 200 - 201، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 835، وأورده الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 441، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 189 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. (¬5) يقال: (افْتَاتَ عليكَ فِيهِ، وفَاتَكَ بِهِ)؛ أي: أحدث شيئا دون أمرك. والمصدر: (الافتِيَات)، وهو من: (الفَوْت)، وهو: السبق إلى الشيء دون ائتمار مَنْ يُؤْتَمَر. انظر: "اللسان" 6/ 3481 (فوت). (¬6) انظر تفسير الآية: 181 والتعليق على قول ابن عباس في الهامش. وقد ورد في سبب نزولها، ما رواه الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه: (أن كعب بن الأشرف اليهودي، كان شاعرًا، وكان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وُيحرِّض كفارَ قريش في شعره، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، قدم المدينة، وأهلها أخلاطٌ: منهم المسلمون، ومنهم المشركون، ومنهم اليهود، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يستصلحهم كلَّهم، وكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر اللهُ النبى - صلى الله عليه وسلم -، بالصبر على ذلك، وفيهم أنزل الله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية.). "أسباب النزول"، للمؤلف: ص 138 - 139. وقد أخرجه: أبو داود في "السنن" رقم (3000) كتاب الخراج، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 142، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" 2/ 33، والطبري في "تفسيره" 4/ 201 عن الزهري مرسلا، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 834 أخرجه متصلًا. وأورده الثعلبيُّ في "تفسيره" 3/ 166 أ، والسيوطي في "لباب النقول" 62. وانظر: الصحيح المسند من "أسباب النزول" ص 65. وورد -كذلك- في سبب نزولها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مرَّ -وهو على حمار- على مجلس فيه عبد الله بن أبَيّ -وذلك قبل إسلامه- وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عَجَاجة الدابَّةِ، خَمَّرَ ابن أبَيّ أنفَهُ بردائه، ثم قال: لا تُغَبِّروا علينا. فسلم رسول الله ثم وقف، فنزل، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أبَيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقًا فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتساورون، فلم يزل - صلى الله عليه وسلم -، يخفضهم حتى سكتوا. ففي فِعْل ابن أبَيّ نَزَلَ قولُه تعالى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. انظر: السبب بالتفصيل في: "أسباب النزول" للمؤلف: ص 139 - 140. وقد أخرج هذه القصة: البخاريُ في "صحيحه" (4566) كتاب التفسير، باب: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، ولكن ليس فيه النص على أن هذه القصة سبب لنزول الآية. وإنما ذكر البخاريُّ القصةَ، ثم ذكر عقبها: (قال الله -عز وجل-: {وَلَتَسْمَعُنَّ}، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109]. =

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا} أي: على الأذى الذي ينالكم (¬1) منهم , كترك المفارضة. وكان هذا قبل نزول آية السَّيْفِ (¬2). قوله تعالى: {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. قال ابن عباس (¬3): مِنْ حقيقة الإيمان. ومعنى العَزم: تَوْطِينُ النفس على الأمر. ومعنى {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}؛ أي: ذلك مِمَّا يُعْزَم عليه مِنَ الأمْرِ (¬4)؛ ¬

_ = ومسلمٌ في "صحيحه" رقم (1798). كتاب الجهاد باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصبره على أذى المنافقين. وليس فيه ذكر الآية، وأن القصة سبب لنزولها. (¬1) في (ج): (الذين أنا لكم) بدلا من: (الأذى الذي ينالكم). (¬2) آية السيف، هي-في أصح الأقوال-: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5]. ودعوى النسخ على هذه الآية، لا يسلم؛ حيث إننا مأمورون بالصبر على أذى أعداء الله على كل حال، قبل القتال وأثناءه وبعده، بل إن الصَّبرَ أثناء القتال أحوج ما نكون إليه، فكيف ينسخه الأمر بالقتال؟ كما أن الآية ذكرت البلاء في الأموال والأنفس، قبل ذكر أذى أعداء الله للمسلمين، فنحن مأمورون بالصبر على جميع أنواع البلاء، فلا يعقل أن يُنسَخ فعل الصبر، ويبقى فعله محكما غير منسوخ. كما أن الآية أمرت بالتقوى مع الصبر، فقالت: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}، وجُعِل الأمران فعلين للشرط، وأشارت الآية إليهما في جواب الشرط باسم الإشارة، فقالت: {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فلا يعقل أن ينسخ فعل الشرط، ويَبقَى الآخرمحكما غير منسوخ. انظر: "النسخ في القرآن" د. مصطفى زيد 2/ 516. (¬3) أورده هذا القول، الثعلبي في "تفسيره" 3/ 167 ب، وعزاه لعطاء. ويبدو أنه من رواية عطاء عن ابن عباس. (¬4) في (ج): (الأمور).

187

لظُهُورِ رُشدِهِ، وموضع الحظِّ (¬1) فيه، فيجب التَّمَسُّكُ به (¬2). ومعنى قول ابن عباس: (مِنْ حقيقة الإيمان)؛ أي: مِمَّا عَزَمْتم عليه مِنَ الأمر، وهو الإيمانُ والتصديق لِوَعْدِ الله بالنُّصْرِةِ. 187 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. قال ابن عباس (¬3)، والسدّي (¬4)، والكلبي (¬5)، والمفسِّرون (¬6): نَزَلت في يهود المدينة، أخَذَ اللهُ ميثاقهم في التوراة، لَيُبَيِّنُنَّ شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونَعْتِهِ، وَمَبْعَثِهِ، ولا يُخْفُونَه، فَنَبَذوا الميثاقَ، ولم يَعْمَلُوا به (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج): (الخط). (¬2) العَزْمُ -في اللغة-: الجِدُّ، وما عَقَد عليه قلْبُك مِنْ أنك فاعله. و (عَزَمَ الأمْرُ): جَدَّ الأمر. و (عزائم الأمور، وعَوازِمُها): فرائضها التي عَزَمَ اللهُ علينا بفعلها، أو التي يُؤَكَد الرأي أو النية والعزم عليها. و (عزائم الله): فرائضه التي أوجبها علينا. انظر (عزم) في: "تهذيب اللغة" 3/ 2425، و"اللسان" 5/ 2932، و"الكُلِّيَّات" لأبي البقاء 650، و"المصباح المنير" 155. (¬3) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 202، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 835، و"النكت والعيون" 1/ 441، و"زاد المسير" 1/ 521، و"الدر المنثور" 2/ 189. (¬4) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 202، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 836، و"النكت والعيون" 1/ 441، و"زاد المسير" 1/ 521. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) منهم: سعيد بن جبير، وابن جريج، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 320، و"تفسير الطبري" 4/ 202، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 835 - 836، و"زاد المسير" 1/ 521، و"الدر المنثور" 2/ 190. (¬7) وذهب قتادة إلى أن الآية مَعنِيٌّ بها كل من أوتي علمًا بأمر الدين. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 461، و"ابن أبي حاتم" 948، و"الثعلبي" 3/ 168أ، و"الدر المنثور" 2/ 402، وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وهو قول محمد بن كعب، والحسن. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 168 أ، و"تفسير =

قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (¬1) يُقرأ بالياء والتاء (¬2). فَمَن قرأ بالياء؛ فلأنهم غَيْبٌ. ومن قرأ بالتاء؛ حَكَى المخاطبةَ التي كانت في وقت أخذ الميثاق. ومثل (¬3) هذه الآية: قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83]، بالياء والتاء (¬4). وقد تقدم القول في ذلك. ¬

_ = القرطبي" 4/ 304. ولا تعارض بين القولين؛ لأن الآية وإن كانت خاصة في اليهود، إلا أنَّ العِبْرَة بعموم لفظها، فيدخل فيها هم وغيرُهم مِنْ أصحابِ العِلْمِ، ولذا قال ابن عَطِيَّة: (الآية توبيخ لِمُعاصِرِي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم هو مع ذلك خبر عامٌّ لهم ولغيرهم)، ثم تابع قائلاً: (وقال جمهورٌ من العلماء: الآية عامَّةٌ في كلِّ مَنْ عَلَّمه اللَهُ عِلْما، وعلماءُ الأمَّةِ داخلون في هذا الميثاق). "المحرر الوجيز" 3/ 449 - 450، وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 304، و"تفسير ابن كثير" 1/ 472. (¬1) (أ)، (ب)، (ج): {ولا يكتمونه}. والمثبت وفق رسم المصحف الشريف. (¬2) قرأ بالياء فيهما -على الغيبة-: {لَيُبَيِّنُنَّهُ}، {ولا يَكتُمُونَه}: ابنُ كثير، وأبو عمرو، وعاصم -في رواية أبي بكر عنه-. وقرأ الباقون -نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص- بالتاء فيهما -على الخطاب-. انظر: "السبعة" 221، و"القراءات"، للأزهري 1/ 134، و"إعراب القراءات السبع" لابن خالويه 1/ 125، و"الحجة" للفارسي 3/ 106، و"الإقناع" 2/ 625. (¬3) في (ج): (وميث) بدلًا من: (ومثل). (¬4) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: {لا يَعبدون} -بالياء-. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: {لَا تَعْبُدُونَ} -بالتاء-. انظر: "الحجة" للفارسي 2/ 121، و"الكشف" لمكي 1/ 249.

وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (¬1) ولم (¬2) يقل: ولا تكتُمُنَّهُ (¬3)؛ كما قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} (¬4)؛ لأنه في معنى الحال (¬5)، لا في معنى الاستقبال المعطوفِ على ما قبله. كأن المعنى: لَتُبَيِّنُنَّه للناس غيرَ كاتِمِينَ (¬6). و (الهاء) في {لَتُبَيِّنُنَّهُ}، يعود (¬7) على محمد - صلى الله عليه وسلم -، في قول أكثر المفسرين (¬8). فهو عائدٌ على معلوم، ليس بمذكور. وفي قول الحسن، وقَتَادة (¬9): يعود على الكتاب، في قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، [ويدخُلُ فيه بَيانُ أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه في الكتاب] (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): {ولا يكتمونه}. والمثبت وفق رسم المصحف الشريف. (¬2) في (ج): (فلم). (¬3) في (ج): (ولاي كتمنه). (¬4) في (أ): (ليبيننه)، والمثبت من (ب)، ورسم المصحف الشريف. ومن قوله: (لتبيننه ..) إلى (.. كأن المعنى): ساقط من (ج). (¬5) أي: أن الواوَ واوُ الحال. والفعل بعدها منصوب على الحال. (¬6) واستحسن أبو حيان أن تكون الواو للعطف، وأن الفعل بعدها من جملة المقسم عليه، ولكنه لم يُؤَكَّد؛ لأنه منفيٌّ؛ كما تقول: (والله لا يقوم زيد). وقال: (وهذا الوجه -عندي- أعْرَب وأفصح). "البحر المحيط" 3/ 136. (¬7) في (ج): (تعود). (¬8) منهم: السدي، وسعيد بن جبير، ومقاتل. وإليه ذهب الطبري. وقال ابن الجوزي: (وهذا قول من قال: هم اليهود)، أي: المَعْنِيِّينَ بالآية. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 320، و"تفسير الطبري" 4/ 202، و"زاد المسير" لابن الجوزي 1/ 521، و"الدر المنثور" 2/ 190. (¬9) انظر قولهما في: "النكت والعيون" 1/ 442، و"زاد المسير" 1/ 531، و"تفسير القرطبي" 4/ 304. (¬10) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

قال الحسن (¬1): هذا ميثاق الله على علماء أهل الكتاب، أن يُبَيِّنوا للناس ما في كتابهم، وفيه ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإسلام، فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهورهم. وقال قتادة (¬2)، والقُرَظِيُّ (¬3): كلّ مَنْ أوتي عِلْمَ شيءٍ مِنْ كُتُبِ (¬4) الله -جل وعز- (¬5)، فقد أخذَ ميثاقُهُ: أنْ يُبَيِّنَه للناس ولا يكتُمَه. وقوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}. قال (¬6) ابن عباس (¬7): يريد: ألقوا ذلك الميثاقَ خَلْفَ ظهورهم. وقال أهل المعاني (¬8): تركوا العَمَلَ (¬9) به (¬10)، وقد كانوا ¬

_ = قال ابن الجوزي عن هذا الرأي: (وهو أصح؛ لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن مِنْ ضرورة تَبْيِينِهم ما فيه، إظهار صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -). "زاد المسير" 1/ 521. (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 203، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 836، و"معاني القرآن"، للنحاس 1/ 520، و"تفسير الثعلبي" 3/ 168 أ، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 190 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 168 أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 304. (¬4) في (ب): (كتاب). (¬5) (جل وعز): ليس في (ج). (¬6) من قوله: (قل ..) إلى (.. خلف ظهورهم): ساقط من (ج). (¬7) لم أقف على مصدر قوله. (¬8) ممن قال بذلك: الشعبي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 204، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 837. وقال به أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 111، وأبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 322. (¬9) في (ج): (العلم). (¬10) (به): ساقطة من (ج).

188

يقرأونَهُ (¬1)، فصاروا بترك العمل به، كأنهم قد ألقوه وراء ظهورهم. قال الزجّاج (¬2): يقال للذي يطرح الشيء، لا (¬3) يَعْبَأ به: قد جعلت هذا الأمر بِظَهْرٍ (¬4). وأنشد للفرزدق (¬5): تميم بن قيس: لا يكونن حاجتي بظهر ... فلا يعبأ على جوابها أي لا يتركنها تعبأ بها. وقوله تعالى {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} يعني ما كان يأخذونه من سفلتهم من المآكل التي كانوا يصيبونها منهم برياستهم في العلم. وقوله تعالى: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} قال ابنُ عبَّاس (¬6): يريد: قَبُحَ شراؤُهم وخَسِروا. 188 - قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية. قال أبو سعيد الخُدْرِي (¬7): نزلت في رجالٍ من المنافقين، كانوا ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، (ج): (يقرونه). وأثبَتُّها وفق الرسم الإملائي الحديث. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 497. نقله عنه بنصه. (¬3) في (المعاني): (ولا). (¬4) في (ج): (يظهر). (¬5) في (ج): (الفرزدق). (¬6) لم أقف على مصدر قوله. (¬7) أخرج قوله -في هذا المعنى-: البخاري في "الصحيِح" (4567) كتاب: تفسير القرآن. سورة آل عمران. باب: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}. ومسلم في "الصحيح" 4/ 205 رقم (2777) كتاب: صفات المنافقين. والطبري في "تفسيره" 4/ 205، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 839، والمؤلف في "أسباب النزول" 140. وأورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 168 ب، والسيوطي في: "الدر المنثور" 2/ 191 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".

يتخلفون عن رسول الله في الغَزْوِ، ويفرحون بقعودهم عنه. فإذا قدم اعتذروا إليه، فيقبل عذْرَهم (¬1)، وأحَبُّوا أنْ يُحْمَدوا بما ليسوا عليه مِنَ الإيمان. وقال عكرمة (¬2): هم اليهود، فرحوا بإضلال الناس، وبنسبة الناس إيَّاهم إلى العِلْمِ؛ وليسوا كذلك. وقال بعضُهم: نزلت في الذين ذَمَّهم الله -تعالى-: بِكِتْمان الحَقِّ، كتموه وفَرِحوا بذلك، وأحَبُّوا أنْ يُحْمدوا بالتمسك بالحق، وقالوا: نحن أصحاب التوراة، وأولوا العِلْمِ القديم، وكلُّ ما (¬3) قلناه واجبٌ على الناس قَبُولُهُ، واتِّباعنا فيه. وهذا يُروَى عن ابن عباس (¬4). ¬

_ (¬1) (فيقبل عذرهم): ساقطة من (ج). (¬2) قوله في "تفسير الطبري" 4/ 205 - 206، وقد ورد فيه: (عن مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير)، وذكره بمعناه، وأخرجه من طريق آخر، وفيه: (عن مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك ..). وأخرجه -منسوبًا إليه-: ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 838 (¬3) في (ج): (كلما) بدلًا من: (كل ما). (¬4) أخرج قوله -بهذا المعنى-: البخاري في "صحيحه" (4568) كتاب التفسير. تفسير سورة آل عمران. باب: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}. ومسلم في "صحيحه" رقم (2778) كتاب صفات المنافقين. والترمذي في "سننه" رقم (3014) كتاب تفسير القرآن. باب: من سورة آل عمران. وقال: (حسن صحيح غريب). والحاكم في "المستدرك" 2/ 299 وصححه، ووافقه الذهبي. والنسائي في "تفسيره" 1/ 352، والطبراني في "المعجم الكبير" 10/ 364 رقم (10730)، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 141، والطبري في "تفسيره" 4/ 206، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 838، والبغوى في "تفسيره" 2/ 150، والمؤلف في "أسباب النزول" 141. وأورده السيوطى فى "الدر المنثور" 2/ 191 وزاد نسبه اخراجه إلى عبد بن حميد =

واختلف القرّاء في هذه الآية: فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو -كلاهما-: بالياء وضمِّ الباء، مِنْ {يَحْسِبُنَّهم} (¬1). ووجه (¬2) هذه القراءة: أنهما لم يُعَدِّيا (حَسِبْتُ) إلى مفعوليه اللذين (¬3) يقتضيهما؛ لأنهما جعلا قولَهُ -تعالى- (¬4): {فَلا يَحْسِبُنَّهُم} (¬5) بدلًا مِنَ ¬

_ = وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب". وقد ورد حول سبب النزول أقوال أخرى. انظرها في: "تفسير الطبري" 4/ 205 - 208، و"تفسير البغوي" 2/ 150، و"أسباب النزول" للمؤلف 140 - 142، و"الدر المنثور" 2/ 191 - 193. قال ابن حجر عن الأثر الوارد عن أبي سعيد وابن عباس والآخرين: (ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معًا، وبهذا أجاب القرطبيًّ وغيره). وقال -عن هذين الأثرين، وعن بقية الآثار الواردة في سبب نزولها-: (ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصة، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة ففرح بها فرح إعجاب، أحب أن يحمده الناس، ويثنوا عليه بما ليس فيه. والله أعلم). "فتح الباري" 8/ 233، وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 306 - 307، و"تفسير ابن كثير" 1/ 473. (¬1) أي: قرآ: {وَلَا يَحْسِبَنَّ}، و {فلا يَحْسِبُنَّهم} بكسر السين فيهما. انظر: "السبعة" 219، و"الحجة " للفارسي 3/ 100 - 101، و"حجة القراءات" 186 - 187. وضبطت الكلمتان بفتح السين في: "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه 1/ 125. (¬2) من قوله: (ووجه ..) إلى (.. فيستقيم فيه تقدير العطف): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي 3/ 104 - 105. (¬3) في (ج): (الذين). (¬4) (تعالى): ليست في: (ج). (¬5) (أ)، (ب): (تحسِبنَهم) -بالتاء وكسر السين-. ولم ترد قراءة بهذه الصورة. وفي (ب): (تَحسَبَنَهم). وفي (ج): مهملة من النقط والشكل. ولكنَّ المؤلف -هنا- يتحدث عن توجيه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، فالصواب ما أثبَتُه، والله أعلم.

الأوَّلِ. ولَمَّا جعلاه بَدَلًا، وعُدِّي إلى مفعوليه، استُغنِيَ عن تَعْدِيَة الأولى إليهما، كما استغنى في قوله: بِأيِّ كتابٍ أم بِأيِّة سُنَّةٍ ... تَرىَ حُبَّهُمْ عارًا عليَّ وتَحْسَبُ (¬1) بتعدية أحد الفعلين إلى مفعوليه، عن تعدية الآخر إليهما. فإن قيل: لا (¬2) يستقيم تقدير البَدَلِ في قوله: {لا يَحْسِبَن (¬3) الذيِن يَفْرَحُون بِمَا أتَوْا فَلا يَحْسِبُنَّهم (¬4) بِمَفَازَةٍ}، وقد دخلت الفاءُ بينهما، ولا يدخل بين البدل والمُبْدَلِ منه، الفاءُ (¬5). قيل: إن الفاء زائدة (¬6)؛ يَدُلُّك (¬7) على ذلك: أنها لا يجوز أن تكون ¬

_ (¬1) البيت للكُمَيت. وقد ورد منسوبًا له في: "شرح هاشميات الكميت" 49، و"المحتسب" 1/ 183، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 692، و"المقاصد النحوية" 2/ 413، 3/ 112، و"منهج السالك" 2/ 35، و"التصريح"، للأزهري 1/ 259، و"خزانة الأدب" 4/ 314، 9/ 137. وورد غير منسوب في: "إعراب القرآن"، المنسوب للزجاج 2/ 432، و"أوضح المسالك" ص 77، و"شرح ابن عقيل" 2/ 55. والشاهد فيه: أنه لم يذكر مفعوليْ (تحسبُ)، اكتفاءً بدلالة الفعل السابق عليهما، وهو: (ترى). (¬2) في (ج)، و"الحجة": (كيف) بدلًا من (لأن). (¬3) (يحسبن) في (أ)، (ج): الياء غير منقوطة، والكلمة غير مشكولة. وفي (ب): (تحسبن)، والمثبت من: "الحجة" للفارسى، لأن المؤلف -هنا- يتحدث عن توجيه قراءة ابن كثير وأبي عمرو. (¬4) في (أ)، (ب): (تَحْسِبُنَّهم). ولم ترد قراءة بهذه الصورة وفي (ج): مهملة من النقط والشكل. والمثبت من "الحجة" للفارسي. (¬5) (الفاء): ساقطة من (ج). (¬6) انظر: "معاني القرآن"، للأخفش: 1/ 222. (¬7) في (ج): (بذلك).

عاطفة؛ لأن المعنى: لا يَحْسِبَنَّ الذين يفرحون بما أتوا، أَنْفُسَهم بمفازةٍ مِنَ العَذَابِ. وإذا كان كذلك، لَمْ يَجُزْ تقديرُ العطف؛ لأن الكلام لم يستقل بعدُ، فيستقيم فيه تقديرُ العَطْفِ. ولا يجوز (¬1) -أيضًا- أن تكون للجزاء، كالتي في قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬2)، ونحوها؛ لأن هذا ليس من مواضع الجزاء. وإذا لم يجز أن تكون للعطف [و] (¬3) لا لِلْجَزَاء، ثَبَتَ أنها زائدة؛ كقوله: وإذا هَلَكْتُ (¬4) فَعِنْدَ ذلك فاجْزَعِي (¬5) ¬

_ (¬1) من قوله: (ولا يجوز ..) إلى نهاية بيت الشعر (.. فاجزعي): نقله -بتصرف واختصار- عن: "الحجة"، للفارسي 3/ 108 - 109. (¬2) سورة النحل: 53 وبقيتها: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"الحجة". (¬4) في (ب): (جزعت). (¬5) عجز بيت للنَّمِر بن تَوْلَب. وصدره: لا تَجْزعي إنْ مُنْفِسا أهلكته وهو في "شعره" 72. وورد منسوبا له في: "كتاب سيبويه" 1/ 134، و"الكامل"، للمبرد 3/ 300، و"شرح الأبيات المشكلة" 90، 361، و"سمط اللآلئ" 468، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 48، 3/ 129، و"اللسان" 8/ 4503 (نفس)، 2/ 1248 (خلل)، و"المقاصد النحوية" 2/ 535، و"شرح شواهد المغني" 1/ 472، 2/ 829، و"خزانة الأدب" 1/ 314، 321، 3/ 32، 9/ 41، 43، 44، 11/ 36. وورد غير منسوب في: "المقتضب" 2/ 76، و"الحجة" للفارسي 1/ 44، 3/ 109، و"شرح المفصل" 2/ 38، و"شرح ابن عقيل" 2/ 133، و"الأزهية" 248، و"منهج السالك" 2/ 75، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي 2/ 181. ويروى: (لا تجزعي إنْ منفسٌ ..). انظر توجيه هذه الراوية في "خزانة الأدب" 1/ 314. البيت ضمن أبيات يخاطب فيها الشاعرُ زوجَه التي لامته على إسرافه وتبذيره في =

وكما أنشد (¬1) قُطْرُب (¬2): وحِينَ تَركتُ العائداتِ يَعدْنَهُ ... يَقُلْن فلا تَبْعَدْ وقلتُ لَه ابْعَدِ (¬3) وذكرنا وجْهَ زيادة الفاء في الكلام، فيما تقدم. وقوله تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} قد (¬4) تَعَدّى فيه فعلُ الفاعل إلى ضميرِهِ. وفِعْلُ الفاعل في هذا الباب، يَتَعدَّى إلى ضمير نفسه؛ نحوَ (ظَنَنْتُنىِ أخاه)، و (حَسِبْتُني ذاهبًا). ¬

_ = إكرامه لأضيافه. الجَزَع: نقيض الصبر. و (المُنْفِسُ): المال النفيس الذي له قدر. ومعنى (أهلكتُه): أفنَيتُه، وأذهبتُه. انظر: "اللسان" 1/ 616 (جزع)، 8/ 4503 (نفس). والشاهد في البيت: زيادة الفاء. قال الفارسي: (ألا ترى أن إحدى الفاءين لا تكون إلا زائدة؛ لأن (إذا) إنما يقتضي جوابًا واحدًا). وانظر حول زيادة إحدى الفاءين -هنا-: "الخزانة" 1/ 315. (¬1) في (ج): (أنشده). (¬2) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 268 - 269 (¬3) البيت لحاتم الطائي. وهو في "ديوانه" 30. وقد ورد منسوبًا له، في: "سر صناعة الإعراب" 1/ 269، و"الأزهية" 247. وورد في المصادر السابقة: (حتى تركت ..). وفي الديوان: (وحتى .. * ينادين لا تبعد). يتحدث عن شخص طعنه الشاعرُ طعنةً، تركه بين الحياة والموت. و (العائدات): اللاتي يَزُرْن المريض. انظر: "القاموس" 303 (عود). و (لا تَبْعَد): لا تهلك؛ من: (البُعْد)، وهو: الهلاك والموت؛ يقال: (بَعِدَ، بَعَدًا)، و (بَعُدَ): هلك. ومن العرب من يقول: (بَعُدَ) -في المكان-، و (بَعِد) -في الهلاك-. وقيل: (بَعِد)، و (بَعُد) فيكون مضارعها: (يَبْعَدُ) -بفتح العين-، وهكذا ضَبطتُها في البيت. انظر: "المزهر" 1/ 208 - 209. والشاهد فيه: زيادة الفاء في (فلا ..). (¬4) من قوله: (قد ..) على (.. لا يحسبن زيدًا ذاهبًا): نقله -بتصرف واختصار- عن: "الحجة" للفارسي 3/ 105 - 106.

يدل على ذلك: قُبْحُ دخولِ النَفْسِ عليها. ولو قلت: (حَسِبتُ نفسي تفعل كذا). لم يَحْسُنْ، كما يَحْسنُ: (حَسِبْتُنِي)، و (أَحْسِبُنِي) (¬1). وحُذِفَتْ واوُ الضميرِ في {يَحْسِبُنَّهم} (¬2)؛ لِدُخول النون الثقيلة، واجتماع الساكنين (¬3). و-كذلك- يُحذف عند دخول النونِ الخفيفة؛ كما تقول: (لا يَحْسِبُنْ زيدًا ذاهبًا). وقوله تعالى: {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}. في موضع المفعول الثاني. وقرأ حمزة، وعاصم والكسائي -كلاهما- (¬4): بالتَّاء، وفتحوا الباءَ من {تَحْسَبَنَّهُمْ} (¬5). ووجه هذه القراءة: أنه حذف (¬6) المفعولَ الثاني الذي يقتضيه {تَحْسَبَنَّ} الأول؛ لأن ما يجيء بَعدُ من قوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} , يدل عليه. ¬

_ (¬1) يجوز في مضارع (حَسِبَ) كسر السين وفتحها. انظر: "المزهر" 1/ 209. (¬2) في (أ): (تَحْسُبُنهم) بالتاء وضم السين. وهي خطأ واضح. وفي (ب): (تحسبنهم)، وفي (ج): مهملة من النقط والشكل. والمثبت هو ما استصوبته؛ لاتساقه مع ما سبق. (¬3) أي: سكون الواو، وأول النون المشددة. (¬4) هكذا جاءت في: (أ)، (ب)، (ج): (كلاهما) -على الرفع للمثنى-، والأصل فيها أن تكون: (كلهم)، وتعود على القراء الثلاثة. أو (كليهما) -بالنصب بالياء-، وتعود على القراءتين القرآنيتين {تَحْسَبَنَّ}، و {تَحسَبَنَّهُم}، وقد ترجع (كلاهما) على عاصم والكسائي. (¬5) أي: {تَحسَبَنَّهُم} -بالتاء وفتح الباء والسين-. إلا أن الكسائي كَسَر السين. انظر: "السبعة" 220، و"الحجة" للفارسي 3/ 101، و"حجة القراءات" 186، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 183. (¬6) من قوله: (حذف ..) إلى (.. لاتفاق الفعلين): نقله -بتصرف- عن: "الحجة" للفارسي 3/ 108.

ويجوز أن تجعل (¬1) {تَحْسَبَنَّهُمْ} بدلًا من {تَحْسَبَنَّ}، كما جاز أن تجعل (يَحسِبُنَّهم (¬2)) بدلًا من (يَحْسِبَنَّ (¬3)) في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، لاتِّفاق (¬4) الفعلين. قال أبو إسحاق (¬5): ووقعت (فَلا (¬6) تَحسَبَنَّهم) مُكَرَّرةً؛ لِطُول القصَّة. والعربُ تُعيد إذا طالت القصّة (حَسبت) وما أشبهها؛ إعلامًا أن الذي جرى متصل بالأوَّل، وتوكيد (¬7) له، فتقول: (لا تظنَنَّ زيدًا إذا جاءك وَكلَّمَكَ في كذا وكذا، فَلاَ تظُننَّه صادقًا)، فتكرره إيضاحًا للقصة. وهذا -الذي ذكره أبو إسحاق- سائغٌ في القراءتين: قراءةِ أبي عمرو، وقراءةِ حمزة. وقرأ نافعٌ وابنُ عامر: الأوَّل بالياء، والثاني بالتاء وفتح الباء (¬8). ووجه هذه القراءة: أن المفعولَيْن (¬9) اللَّذَيْن يقتضيهما الحِسْبانُ في ¬

_ (¬1) في (ب): (يجعل). (¬2) (أ)، (ب): (تحسبنهم)، وفي (ج): غير معجمة. والمثبت من "الحجة" للفارسي. (¬3) (أ)، (ب): (تحسبن)، وفي (ج): غير معجمة. والمثبت من "الحجة". (¬4) (أ)، (ب): (ولاتفاق)، ولا وجه للواو -هنا-. والمثبت من (ج)، و"الحجة"، للفارسي. (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 498. نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): (لا). والمثبت وفق رسم المصحف الشريف. وكذا جاءت في "معاني القرآن". (¬7) في (ج): (وتأكيد)، وفي المعاني؛ وتوكيدًا. (¬8) أي: {يَحْسَبَنَّ} و {تَحْسَبَنَّهُمْ}، وكسرَ نافعٌ السينَ وفتحها ابنُ عامر. انظر: "السبعة" 219 - 220، و"علل القراءات" 1/ 131، و"الحجة" للفارسي 3/ 101 (¬9) من قوله: (المفعولين ..) إلى (.. من بعد عليهما): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي 3/ 107.

قوله: {لَا يَحْسَبَنَّ الذين يفرحون} محذوفان (¬1)؛ لِدَلالَةِ ما ذكِرَ من بَعْدُ عليهما (¬2). فَلمَّا كان قوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} متَّصلًا بمفعولَيْن ظاهِرَيْنِ، جُعِلا مفعولَي قولِهِ (¬3): {لا يَحْسَبَنَّ (¬4) الذين يَفْرَحُون} , بتقدير: لا يَحْسَبَنَّ (¬5) الذين يفرحون أنْفُسَهُمْ، بمفازةٍ من العذاب، ولا تَحْسَبَنَّهم أنت -أيضًا- كذلك. وقوله تعالى: {بِمَا أَتَوْا} قال الفرّاء (¬6): يريد: [ما] (¬7) فعلوه؛ كما قال {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] أي: فَعَلْتِ. وكقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]. وقوله تعالى: {بِمَفَازَةٍ} أي (¬8): بِمَنْجَاةٍ؛ مِنْ قولهم: (فَازَ فلانٌ): إذا (¬9) نَجَا. وقال الفرّاء (¬10): أي: بِبُعْدٍ (¬11) من العذاب؛ لأن الفَوْزَ معناه: ¬

_ (¬1) في (ج): (محذوفًا). (¬2) في (ج): (عليها). (¬3) في (ج): (لقوله). (¬4) (أ)، (ب): {تَحْسَبَنَّ} -بالتاء-. وفي (ج): غير معجمة. والمُثبَت يتناسب مع السياق؛ لأن المؤلف يوجِّهُ قراءةَ نافع وابن عامر وهي بالياء. (¬5) في (أ)، (ب): {تَحْسَبَنَّ} -بالتاء-. وفي (ج): غير معجمة والمثبت يتناسب مع السياق. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 250. نقله عنه بتصرف. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وفي "معاني القرآن": بما فعلوا. (¬8) من قوله: (أي ..) إلى (.. نجا): نقله -بنصه- عن "تفسير غريب القرآن"، لابن قتيبة 1/ 109. (¬9) في "تفسير الغريب" أي. (¬10) في "معاني القرآن" له 1/ 250. (¬11) في (أ): (يبعد)، وفي (ب)، (ج): رسمت كالتي في (أ)، إلا أنَّ النقط غير =

189

التباعد من المكروه (¬1). وذكرنا ذلك في قوله: ({فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]. 189 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: بِمُلْكِ تدْبيرِهما (¬2)، وتصريفهما (¬3) على ما يشاء. وهذا تكذيبٌ لِلَّذِين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (¬4). 191 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} الآية. رُوي عن علي، وابن عباس، وقتادة (¬5): أنهم قالوا: يعني (¬6) [أنهم] (¬7) يُصَلُّون على هذه الأحوال: قِيَامًا، فإن لم يستطيعوا فقُعُودا، فإن لم يستطيعوا فَعَلَى جُنُوبِهم. وهذا اختيار الزجاج، قال (¬8): يصلون في (¬9) جميع هذه الأحوال، ¬

_ = واضحة. والمثبت هو ما استظهرت صوابه. وهي أقرب إلى رسمها في "معاني القرآن" (ببعيد)، وكذا وردت في: "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه 1/ 125 (ببعد من النار). (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 495. (¬2) في (ج): (سرها). (¬3) في (ج): (وتصريفها). (¬4) سورة آل عمران: 181. وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 209. (¬5) ذكر قولهم الثعلبي في "تفسير" 3/ 170 ب، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 527. (¬6) في (ج): (معنى). (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). (¬8) في "معاني القرآن"، له: 1/ 499. نقله عنه بنصه. ولكن ليس هذا اختيار الزجاج، وإنما أورده وعزاه لبعض المفسرين، فقال: (وقال بعضهم ..) ثم ذكره، وأعقبه بقوله: (وحقيقته عندي -والله أعلم-: أنهم موحدون الله على كل حال). وقال قبلها: (.. وإنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم) 1/ 498. وهذا هو اختياره. (¬9) في "معاني القرآن": على.

على قَدْرِ إمْكانِهِم، في صحتهم وسَقَمِهم. وقال آخرون (¬1): يريد: أنهم يذكرون الله على كل حال. وجاز (¬2) أن يعطف بـ (على) على {قِيَامًا} و {وَقُعُودًا} , لأن معناه يُنْبِئ عن حالٍ مِنْ أحوال تَصَرُّفِ الإنسان؛ كما تقول: (أنا أصِيرُ إلى زيدٍ ماشِيًا، وعلى الخيل). المعنى: ماشِيًا ورَاكِبًا (¬3). وقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ليَكُون (¬4) ذلك أزيد في بَصِيرتهم؛ لأن فكرهم يُرِيهم عِظَمَ شأنهما، فيكون تعظيمُهم للهِ عز وجل على حسب ما يقفون عليه من آثار حكمته. وقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}. أي: و (¬5) يقولون: رَبَّنا ما خلقت هذا (¬6). الإشارة بـ {هَذَا} راجعةٌ إلى ¬

_ (¬1) ممن قال به: قتادة، وابن جريج، ومجاهد. انظر. "تفسير الطبري" 4/ 210، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 842 (¬2) من قوله: (وجاز ..) على (.. وراكبًا): نقله -بتصرف- عن: "معاني القرآن"، للزجاج: 1/ 498. (¬3) أي أنَّ {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} في معنى الاسم؛ أي: (ونيَامًا)، أو (مُضْطجِعين على جنوبهم). فحسن حينها عطفها على {قِيَامًا وَقُعُودًا}، كما قال في موضع آخر: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [سورة يونس: 12] فقوله: {لِجَنْبِهِ}، أي: (مضطجعا)، فعطف على الأسماء بعدها. انظر: "معاني القرآن"، للفراء 1/ 250، و"تفسير الطبري" 4/ 210. (¬4) من قوله: (ليكون ..) إلى (.. آثار حكمته): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن"، للزجاج: 1/ 499. (¬5) (الواو): زيادة من (ج). (¬6) في (ج): (هذه).

الخَلْقِ. و {خَلَقْتَ} يدل على الخَلْقِ (¬1). وقوله تعالى: {بَاطِلًا}. أي: خلقته دليلًا على حكمتك، وكَمَالِ قُدرتِك. ومعنى الباطل: الزائِل الذاهب، الذي لا يَثْبُتُ (¬2). ولَمَّا كان خَلْقُ السَّموات والأرض خَلْقًا مُتْقَنًا، وصُنْعًا مُحْكمًا دالًا على قدرة الصانع، لم يكن باطلًا. وكثير من المفسرين يذهبون إلى أن المعنى: (ما خلقتهما لغَيرِ شيءٍ) (¬3)؛ لأنه خلقهما لِيَبْلُوَ العِبَادَ بينهما بالأمر والنهي، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي (¬4)، وانتصب قولُه {بَاطِلًا} على أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: خَلْقًا باطلًا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 210. وقال مُعلِّلًا ذلك: (يدل على ذلك قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ورغبتهم إلى ربِّهم أنْ يُقِيهم عذابَ الجحيم. ولو كان المعنِيَّ بقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، معنًى مفهومٌ؛ لأن السمواتِ والأرضَ أدلةٌ على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب الأمر والنهي). (¬2) قال ابن فارس (الباء والطاء واللام، أصلٌ واحدٌ، وهو: ذهاب الشيء، وقِلَّةُ مُكْثِهِ ولُبْثِه؛ يقال: (بَطَلَ الشيءُ، يَبْطُلُ بُطْلًا وبُطُولًا". "مقاييس اللغة" 1/ 258 (بطل). (¬3) وممن قال بهذا المعنى: مقاتل، والطبري، وأبو الليث السمرقندي، والثعلبي، والعز بن عبد السلام. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 321، و"تفسير الطبري" 4/ 210، و"بحر العلوم" 1/ 324، و"تفسير الثعلبي" 3/ 171 أ، و"فوائد في مشكل القرآن" لابن عبد السلام 109. (¬4) قال تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]. (¬5) وهذا وجه واحد من وجوه نصبه، وفيه وجوه أخرى، ذكرها أبو حيان في "البحر =

192

وقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ}. أي: تنزيهًا لك، ببراءتك عما لا يجوز في وصفك (¬1). {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. أي: قد اعترفنا بوحدانيَّتِك، وصدَّقنا أنَّ لك جَنّةً ونارًا، فقِنا عذابَ النار. 192 - قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}. الإخزاء -في اللغة- يَرِدُ على معانٍ، يَقْرُبُ بعضُها مِنْ بَعْضٍ. قال الزجاج (¬2): (أخزى اللهُ العَدُوَّ)؛ أي: أبْعَدَهُ. وقال غيرُه (¬3): الخِزْي: الهَوَانُ، و (أخزاهُ الله)؛ أي: أهانه. وقال شَمِر (¬4): أخزيته: فضحته. وفي القرآن: {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78]. ¬

_ = المحيط" 3/ 140، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 532 - 533 واستحسنا كونها حالًا من {هَذَا}. (¬1) التسبيح: تنزيه الله -تعالى- من كلِّ سُوء والتنزيه: التبعيد. فقولهم: (سبحانك)؛ أي: تنزيهًا لك يا ربنا .. أي: نَزَّهناك. انظر: "الزاهر" 1/ 144، و"مقاييس اللغة" 3/ 125 (سبح)، و"اللسان" 4/ 1914 (سبح). (¬2) لم أقف على مصدر قوله. وورد عنه في: "معاني القرآن" -عند هذه الآية-: (والمَخْزِيُّ -في اللغة-: المُذَلُّ المَحقور بأمرٍ قد لَزمَهُ بِحُجَّة، وكذلك (أخزيته)؛ أي: ألزمته حجة أذْلَلْتهُ معها). (¬3) أورد هذا القول الأزهري في: "التهذيب" 1/ 1027 (خزى) ولم ينسبه لقائل؛ حيث أورد قولَ الليث بن المظفر أولًا، ثم قال: (وقال غيره ..) وذكر القول. (¬4) قوله في: "تهذيب اللغة" 1/ 1027 (خزى). ونصه في "التهذيب": (قال شمر: قال بعضهم ..) ثم ذكره.

وقال (¬1) المُفَضَّلُ (¬2) -في قوله: {أَخْزَيْتَهُ} -: أي: أهْلَكته. وقال ابن الأنباري (¬3): معنى الخِزْي -في اللغة-: الهلاك بتَلفٍ أو انقطاع حُجّةٍ، أو بوقوعٍ في بلاء (¬4). قال جرير: تَمَّتْ تَمِيمٌ يا أُخَيْطِلُ فانْجَحِرْ ... خَزِيَ الأُخَيْطِلُ حين قُلتُ وقالا (¬5) أي: هَلَكَ بانقطاع حُجّتِهِ. ويحتمل: استحيا بانقطاعه. يقال (¬6): (خَزِيَ، يَخْزَى، خِزْيًا): إذا هلك. و (خَزِي، يَخْزى (¬7)، خَزَايةً): إذا استحيا (¬8). وتعلقت الوَعِيدِيَّةُ بهذه الآية، وقالوا: قد أخبر الله -تعالى-: أنه لا يُخزي النبيَّ والذين آمنوا معه، فوجب أن كلّ مَنْ يدخل النارَ لا يكون مؤمنًا؛ لِقَولِه: {أَخْزَيْتَهُ}. والجواب عن هذا، من وجوه: ¬

_ (¬1) في (ج): (قال) بدون واو. (¬2) قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 172 أ. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) تعرض ابن الأنباري لهذه الكلمة في "الزاهر" 1/ 374 فقال عن قولهم (أخزى الله فلانًا): (معناه: أذله الله وكسَره وأهلكه. قال أبو العباس: الأصل فيه: أن يفعل الرجل فَعْلَةً، يستحي منها وينكسر لها، ويذل من أجلها ..). (¬5) البيت في: ديوانه: 362. وهو من قصيدة يهجو فيها الأخطل، الشاعر النصراني. وروايته في الديوان: (تمت تميمي يا أخيطل فاحتجز ..). ومعنى (فانْجَحِرْ): ادخل جُحرك. من: (جَحَرَ الضبُّ): دخل جُحره و (جَحَرَ فلانٌ الضَبَّ): أدخله في جحره. انظر: "القاموس" ص 362 (جحر). (¬6) من قوله: (يقال ..) إلى (.. إذا استحيا): موجود في: "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 374. (¬7) قوله: (خزيًا: إذا هلك وخزي يخزى) ساقط من (ج). (¬8) ونصه عند ابن الأنباري: (يقال: (خَزِي يخزَى خزايَةً): إذا استحيا. و (خزِي يخزَى خِزْيا): إذا انكسر وهلك وذل).

أحدها: ما رَوَى قتادة، عن أنسٍ (¬1) -في قوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} -، قال: إنك مَنْ تُخَلِّدْ في النار. وقال الثَوْريُّ: بَلَغَنِي عن سعيد بن المسيب (¬2)، أنه قال في هذه الآية: هي خاصَّةٌ في قومٍ لا يخرُجونَ مِنَ النَّارِ بعد دُخُولِهم إيَّاها. ورُوي هذا المعنى -أيضًا- عن قتادة (¬3) نفسِهِ. فمذهب هؤلاء الثلاثة: أنَّ الآية خاصَّةٌ فيمن يدخلها للخلود فيها. يدل عليه آخرُ الآية، وهو قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} يريد: الكفار. والثاني: أن المُدخَل في النار مَخْزِيٌّ في حال دُخُولِهِ، وإن كانت عاقبتُهُ أن يخرج منها، فإن الدخول لا يقع إلّا بخزيٍ في ذلك الوقت. وهذا مذهب جابر بن عبد الله، واختيار ابن الأنباري. يَدُلُّ عليه ما روي عن عَمْرُو بن دينار، أنه قال: قَدِم علينا جابر -في عُمْرةٍ -، فسألته عن هذه الآية، فقال: وما أخزاهُ (¬4) حين أحرقه بالنار! إنّ دون ذا (¬5) لَخِزْيًا (¬6). ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 211، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 842، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 526، و"تفسير الثعلبي" 3/ 172 أ. (¬2) قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 142، و"تفسير الطبري" 4/ 211، و"تفسير الثعلبي" 3/ 172 أ، وفيها: (أخبرنا الثوري، عن رجل، عن ابن المسيب ..). وأورده ابن أبي حاتم في "تفسيره" 964 بدون إسناد. (¬3) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" 4/ 842، و"تفسير الثعلبي" 3/ 172 أ. وهو قول: سعيد بن جبير، وابن جريج، ومقاتل. انظر: "زاد المسير" 1/ 528. (¬4) (أ) , (ب): (اخزاؤه). ولا وجه لها -هنا-. والمثبت من (ج)، ومصادر الخبر التالية. وقوله: (وما أخزاه) أي: ما أشد وأكثر خزيه! أو: يا لخزيه!. (¬5) في (ب): (ذلك) وكذا وردت في مصادر الخبر. (¬6) أخرج الخبر: الحاكم في "المستدرك" 2/ 300، والطبرى في "تفسيره" 4/ 211،=

قال ابن الأنباري (¬1): وحَمْل الآية على العموم أولى من نقلها إلى خصوصٍ لا دليل عليه. والجواب الثالث: ما قال أهلُ المعاني، وهو: أنّ الإخزاءَ يحتمل معنيين: أحدهما: الإهانة والإهلاك والإبعاد، كما ذكرنا. وهذا للكفّار والثاني: الإخجال؛ يقال: (خَزِيَ خَزَايَةً): إذا استحيا، و (أخزاه غَيْرُهْ): إذا عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُخْجِلُه، ويستحيي منه. ومنه حديث يزيد بن شَجَرَة (¬2): (ولا تُخزُوا الحورَ العِين) (¬3)؛ كأنهن ¬

_ = وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 196. وقد رجح الطبريُّ هذا القول. انظر: "تفسيره" 4/ 211. (¬1) لم أقف على مصدر قوله. (¬2) هو: يزيد بن شَجَرة بن أبي شجرة الرُّهاوي. شامي من مذحج، مُخْتَلَفٌ في صُحبته، وكان معاوية (يستعمله على الجيوش، وكان أميرًا حازمًا، قتل في إحدى الغزوات سنة (55 هـ)، وقيل: (58 هـ). انظر: "الاستيعاب" 4/ 138، و"الكامل" 3/ 190، 227، و"أسد الغابة" 5/ 495، و"الإصابة" 3/ 658. (¬3) الأثر، مِنْ خُطبة ليَزيد بن شجرة، أخرجه ابن المبارك في "الزهد" 43 رقم (133)، موقوفًا على يزيد، قال: (أخبرنا زائدة عن منصور عن مجاهد، قال: كان يزيد بن شجرة مما يُذَاكرنا فيبكي ..) وذكره. وأخرجه أبو عبيد بن سلام في "غريب الحديث" 4/ 358 - 359، موقوفًا. وأورده الأزهريُّ في "تهذيب اللغة" 1/ 1027 نقلًا عن أبي عبيد، وأورده الزمخشري في "الفائق" 1/ 317، وابن الجوزي في "غريب الحديث" 1/ 277. وقد أورده -كذلك-: ابنُ الأثير في "أسد الغابة" 5/ 495، بنحوه، مرفوعًا عن يزيد، وكذا أورده ابن حجر في "الإصابة": 3/ 658، مرفوعًا عن يزيد. وعزاه، ابن حجر للخرائطي في: مكارم الأخلاق، وابن أبي شيبة، وعزاه للبغوي من طريق خالد الواسطي، ولأبي نعيم من طريق مسعود بن سعد، عن يزيد، ونسب ابن =

193

يَتَطلَّعنَ مَن يَصيرُ إليهن بالشهادة؛ يقول: فلا تُخْجِلُوهُنَّ بِفِرَارِكُم. فعلى هذا، خِزْيُ المؤمنين: الحياءُ مِنْ سائِرِ أهلِ الإيمان، بدخول النار إلى أن يخرجوا منها، وخِزْيُ الكافرين: الهلاكُ بالخلود (¬1) فيها. 193 قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} الآية. المنادي: محمد - صلى الله عليه وسلم -، في قول ابن عباس (¬2)، وابن مسعود (¬3)، وابن جريج (¬4)، وابن زيد (¬5)، والأكثرين (¬6). وقيل: عين (¬7) المُنادِي: القرآنُ؛ حِكايَةً عن مؤمني الإنس، كما حكى عن مؤمني الجنَّ: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] الآية. وهذا قول القُرَظِيِّ (¬8)، قال: لأنه ليس كلُّ أحدٍ لَقِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذين ¬

_ = حجر إخراجه لآخرين غيرهم من طرق مختلفة، ونقل عن البغوي أنه موقوف، وقال ابن حجر: (وهو الصواب). (¬1) في (ب): (في الخلود). (¬2) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 172 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 153، و"زاد المسير" 1/ 528. (¬3) قوله في: المصادر السابقة، ما عدا "زاد المسير". (¬4) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 212، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 843، و"النكت والعيون" 1/ 443، و"زاد المسير" 1/ 528، و"الدر المنثور" 2/ 196 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. (¬5) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 212، و"النكت والعيون" 1/ 443، و"زاد المسير" 1/ 528. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 321، و"تفسير القرطبي" 4/ 317، وقال: (وهذا صحيح معنى)، و"تفسير ابن جزي" 104، و"تفسير ابن كثير" 1/ 476. (¬7) هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): (عنى). (¬8) قوله في: "تفسير سفيان الثوري" 83، و"تفسير الطبري" 4/ 212، و"ابن أبي حاتم" 3/ 843، و"معانى القرآن" للنحاس 1/ 527، و"تفسير الثعلبي" 3/ 172 ب، =

قالوا: إنه النبي؛ قالوا: إن من سَمِع القرآنَ، فكأنه رأى النبي وأدركه وسمع منه؛ لأن القرآن معجزته، لم يأت به غيره، فهو دليل عليه، وكل مَن بَلَغه القرآنُ، فقد أنذره رسول (¬1) الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال تعالى: {يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} قال أبو عبيدة (¬2): هذا على التقديم والتأخير، أي: سمعنا مناديًا للإيمان ينادي. وقيل (¬3): اللام؛ بمعنى: (إلى)؛ كقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8]، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، ومثله كثير. وهذا قول أكثر النحويين (¬4). وقيل: هي (¬5) لام (أَجْل) (¬6). وقوله تعالى: {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} معنى (التكفير) في اللغة: التغطية. و (رجلٌ مُكَفَّرٌ بالسلاح)؛ أي: مُغَطَّى (¬7). ¬

_ = و"النكت والعيون" 1/ 442، و"تفسير البغوي" 2/ 153، و"زاد المسير" 2/ 196، و"الدر المنثور" 2/ 411 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والخطيب في "المتفق والمفترق". وهو قول قتادة انظر: "تفسير الطبري" 4/ 212، ورجحه الطبري، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 842. (¬1) في (ب): (النبي) (¬2) في "مجاز القرآن" له 1/ 11. نقله عنه بمعناه. (¬3) قال بذلك: الفرّاءُ في "معاني القرآن" 1/ 250، والطبري في "تفسيره" 4/ 213. (¬4) انظر -إضافةً على ما سبق-: "تأويل مشكل القرآن" 572، و"اللامات" 143، و"النكت والعيون" 1/ 443. (¬5) في (ج): (هو). (¬6) ذكره الثعلبي بلفظ (قيل: ..) ولم ينسبه لقائل. (¬7) (كَفَر) و (كَفَّر) بِمَعنى، وأصله يدل على التغطية والستر. ويقال: (فارسٌ مُكَفَّرٌ) و (مُتَكَفِّرٌ بالسلاح).

والكُفْر، منه (¬1) -أيضًا-، وقد (¬2) ذكرناه. ومعنى {كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}، أي: غَطِّها عَنّا (¬3)، حتَّى لا نراها (¬4)؛ كما تقول: (اغفر لي خطيئتي). و (الغَفْرُ) -في اللغة-: السَّتْر (¬5). وجَمَعَ بين غُفْران الذنوب، وتكفير السَّيئات؛ لأن غفرانَ الذنوبِ، تَفَضُّلُه ورحمتُه؛ وتكفيرَ السيئات بالطاعات؛ كما تقول في الأشياء الموجبة للكفَّارة، فإنها إذا كُفِّرت، صارت مُكفَّرةً بتلك الطاعةِ التي هي كفَّارةٌ لها، كالصوم في الظِّهار، وإعتاق الرَّقبة في القتل الخطأ، والإطعام في الحِنْث (¬6). فالمغفرة بفضله من غير سبب، والتكفير، بسبب (¬7) طاعة. والسَّيَئات جَمْعُ: سَيِّئَة. قال الليث (¬8): يقال: (ساءَ الشَيءُ، يَسُوءُ)، فهو (سَيِّئٌ): إذا قَبُحَ. ¬

_ = انظر: (كفر) في: "إصلاح المنطق" 126، 127، 240، و"تهذيب اللغة" 4/ 3161، و"المقاييس" 5/ 191، و"بصائر ذوي التمييز" 4/ 361. (¬1) منه: ساقط من (ج). (¬2) في (ج): (قد) بدون واو. (¬3) (عنا): ساقطة من (ج). (¬4) في (ج): (نريها). (¬5) انظر: (غفر) في: "جمهرة اللغة" 1/ 778، و"تهذيب اللغة" 3/ 2679، و"الزاهر" 1/ 192، و"معجم المقاييس" 4/ 385، و"بصائر ذوي التمييز" 4/ 136. (¬6) الحِنْثُ -هنا-: الخُلْف في اليمين. (¬7) في (ج): (سبب). (¬8) قوله في: "تهذيب اللغة" 2/ 1583 (سوأ)، وقد دمج المؤلف -هنا- بين قول أبي زيد، وقول الليث. فمن قوله: (السيء ..) إلى (.. للأنثى): هو نص قول الليث. ومن قوله: (سوأت ..) إلى (.. بما صنع): من قول أبي زيد، تصرف فيه المؤلف.

194

وقال أبو زيد: (السَّيِّىُء)، و (السَّيِّئة)، عملان قبيحان. يصير (السيِّىءُ) (¬1) نعتًا للذَّكَرِ مِنَ الأفعال (¬2)، و (السَّيِّئَةُ) للأنثى؛ ومِنْ هذا يقال: (سَوَّأتُ على فلان فعلَه) , أي: قَبَّحْتُهُ عليه، وعِبْتُهُ بما صَنَع. وقوله تعالى: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}. قال ابن عباس (¬3): يريد: مع (¬4) الأنبياء؛ والمعنى: تَوَفَّنا في جُمْلَتِهم. وكلُّ مَنْ أُخِذَ في جُمْلَةِ قومٍ صار معهم؛ فلذلك قال: {مَعَ الْأَبْرَارِ}. 194 - قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} الآية. قالوا: معناه: على ألسُنِ رُسُلِك. فهو من باب حذف المضاف (¬5). وقال الكَلْبيُّ -عن ابن عباس- (¬6): يقولون: على لِسان رُسُلِك. ومعنى الدعاء -ههنا- مع العِلْم أنه مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لا محالة-: التَّعَبُدُ؛ لمَا في ذلك من الخُضُوع لله، وإظهار الحاجة إليه؛ وذلك أن (الدعاء مُخُّ العِبَادةِ) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج): (الشيء). (¬2) في "التهذيب": الأعمال. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "زاد المسير" 1/ 529. (¬4) (مع): ساقطة من (ج). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 213، و"بحر العلوم" 1/ 324، و"تفسير الثعلبي" 3/ 173 أ، و"زاد المسير" 1/ 529. (¬6) لم أقف على مصدر قوله. (¬7) هذا نص حديث، أخرجه بهذا اللفظ: الترمذي في "السنن" 5/ 456 رقم (3371). كتاب: الدعاء. باب: (من فضل الدعاء)، عن أنس بن مالك، من طريق ابن لهيعة، وقال الترمذي: (حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة). وورد بلفظ: (الدعاء هو العبادة)، أخرجه: الترمذي في "السنن" رقم (2969) =

ومثلُهُ -مِمَّا لا يجوز غيرُه، وقد تعبدنا بالدعاء به-: قولُهُ (¬1) -تعالى- (¬2): {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، وقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] (¬3) الآية وقيل (¬4): معناه: اجعلنا مِمَّن وَعَدته بالثواب، دون الخِزْي والعِقَاب. فمعنى (آتِنَا ذلك): اجعلنا مِنْ أهلِهِ. وقيل (¬5): معناه: و (¬6) آتِنا ما ¬

_ = كتاب: "التفسير": باب (من سورة البقرة). وقال: (حسن صحيح)، رقم (3247) كتاب: التفسير. باب (ومن سورة المؤمن)، رقم (3372) كتاب: الدعاء. باب: (ما جاء في فضل الدعاء). وأحمد في "المسند" 4/ 271، والحاكم في "المستدرك" 1/ 491. وقال: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي. وابن ماجه في "السنن" رقم (3828) كتاب: الدعاء باب (فضل الدعاء). وأبو داود في "السنن" رقم (1479) كتاب: الصلاة باب (الدعاء). وابن حبان في صحيحه - انظر: "الإحسان" 3/ 172 رقم: (890). وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 21 - 22 رقم (29158). والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (714)، والطيالسي في "مسنده" 2/ 146 (838)، والبغوي في "شرح السنة" 5/ 184 رقم (1384). (¬1) في (ج): (وقوله). (¬2) (تعالى): ليست في (ج). (¬3) وانظر: "روح المعاني" 4/ 167. (¬4) ذكر معنى هذا القول: الطبري في "تفسيره" 4/ 214، والثعلبيُّ في "تفسيره" 3/ 173 أ، ولم ينسباه لقائل. (¬5) ممن قال به: ابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 213، 214، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 843. واختاره الطبري في: "تفسيره" 4/ 214. وقال الآلوسي: (وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضًا) "روح المعاني" 4/ 167. (¬6) (الواو): زيادة من (ج).

195

وعدتنا مِنَ النصْرِ لنا، والخِذْلان لِعَدُونَّا، عاجِلًا. فهم سألوا تعجيل ما وُعِدوا. وقوله تعالى: {وَلَا تُخْزِنَا} قد ذكرنا معاني (الإخزاء)، عند قوله: {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]. 195 - قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي} أي: بِأنِّي. وقوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: في الدِّينِ والنُصْرَةِ، والمُوَالاة. معناه: بعضكم يوالي بعضًا؛ كما ذكرنا في قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34]. هذا قولُ الكَلبِيِّ (¬1) وغيرِه (¬2). وقيل (¬3): معناه: حُكْمُ جَمِيعِكم حُكْمُ واحِدٍ منكم؛ فيما أفْعَلُ بكم؛ مِنْ مُجازاتِكم على أعمالكم، وتَرْكِ تضييعها لكم. يستوي في ذلك ذُكْرانُكم وإناثكم. وقوله تعالى: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا}. أحسنُ (¬4) وجوهِ القِراءَةِ: تقديمُ {قَاتَلُوا} على {قُتِلُوا} (¬5)، لأن القتال قبل القتل. وقرأ ابنُ عامر، وابنُ ¬

_ (¬1) قوله، في: تفسير "بحر العلوم" 1/ 324، و"تفسير الثعلبي" 3/ 174أ. (¬2) وهو قول: ابن عباس، والحسن، وقتادة، واختيار الطبري. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 216، و"النكت والعيون" 1/ 443، و"زاد المسير" 1/ 375. (¬3) هذا القول، أورده الطبري في تفسيره؛ مِن تتمة القول الأول، ولم يفصل بينهما. انظر: "تفسيره" 4/ 216. وأورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 174 أ، وصَدّره بـ (قيل) ولم ينسبه لقائل. (¬4) من قوله: (أحسن ..) إلى (.. للقتل الذي وقع بهم): نقله -بالمعنى- من "الحجة" للفارسي 3/ 117. (¬5) هي قراءة نافع، وعاصم، وأبي عمرو. انظر: "السبعة" 221، و"القراءات" للأزهري 1/ 135، و"الحجة" للفارسي 3/ 117، و"الكشف" لمكي 1/ 373، و"التيسير" للداني 93.

كَثير: {وَقُتِّلُواْ} -مُشَدَّدَة- (¬1)؛ لِتَكَرُّرِ القتلِ فيهم، فهو مثل: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]، ومَنْ خَفَّفَ؛ فإن التخفيف يقع على القليل والكثير. وقرأ حمزة، والكسائيُّ (¬2): {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا}، ولها وجهان: أحدهما: أن المعطوف بالواو، هو الأوَّلُ في المعنى، وإنْ كان مُؤَخَّرًا في اللفظ؛ لأن (¬3) الواوَ لا يُوجِبُ (¬4) ترتيبًا. والثاني: أن المُرادَ بقوله: {وَقتُلُواْ} , أي: قُتِلَ بعضُهم، ثم قاتل مَنْ بَقِيَ منهم، ولم يَهِنُوا، ولم يَضْعُفوا, لِلْقَتْلِ الذي وَقَعَ بهم (¬5). وقوله تعالى: {ثَوَابًا مِّن عِندِ اَللَّهِ} قال الزجاجُ (¬6): هو مصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَا قبله (¬7) , لأن معنى {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ}: لأُثِيبَنَّهُمْ. قال: ومثله: {كِتَابَ اللهِ} (¬8)، و {صُنْعَ اللهِ} (¬9)؛ لأن ما قبله ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) انظر: المصادر السابقة، و"النشر" 2/ 246. (¬3) في (ج): (فإن). (¬4) في (ج): (لا توجب). (¬5) استشهد الفارسي في هذا الموضع بقوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الآية: 146. سورة آل عمران]. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 500. نقله عنه بتصرف واختصار. (¬7) المصدر المؤكِّد، هو المفعول المطلق. وفي نصبه وجوه أخرى؛ منها: أنه منصوب على التمييز، الذي يسميه الفراء (التفسير). وقيل: منصوب على القطع؛ أي: الحال. وقيل غير ذلك. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 251، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 387، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 185، و"الدر المصون" 3/ 543 - 544. (¬8) سورة النساء: 24. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، لأن قبلها جاء قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخر الآية 23 من سورة النساء. (¬9) سورة النمل: 88. {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}.

196

بمنزلة: (كَتَبَ اللهُ)، و (صَنَعَ اللهُ) (¬1). 196 - قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} قال المفسرون: نزلت (¬2) في مشركي مَكَّة، وذلك أنهم كانوا يَتَجَبَّرُون (¬3) وَيتَنَعَّمُون. فقال بعض المؤمنين: إن (¬4) أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هَلَكْنَا من الجُوعِ والجَهْدِ, فنزلت هذه الآية. وقال الفراء (¬5): كانت اليهود تضرب في الأرض فَتُصِيبُ الأموالَ، فأنزل (¬6) الله: {لَا يَغُرَّنَكَ} (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب سيبويه" 1/ 381، و"المسائل الحلبيات" 303، وانظر: تفسير قوله تعالى: {كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} [الآية: 145]. (¬2) من قوله: (نزلت ..) إلى (.. فأنزل الله {لَا يَغُرَّنَّك}): نقله -بتصرف يسير- عن "تفسير الثعلبي" 3/ 175أ. وممن قال بذلك: مقاتل في "تفسيره" 1/ 323، وذكره أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 325 على أنه معنى الآية، ولم ينص على كونه سببًا في نزولها. وذكره المؤلف في "أسباب النزول" 143، والبغوي في "تفسيره" 2/ 154، ولم ينسباه لقائل. وذكره الآلوسي، واستظهره. انظر: "روح المعاني" 4/ 172. (¬3) في (ج)، و"تفسير الثعلبي": (يتَّجرون)، وكذا هي في: "روح المعاني"، حيث نقل الآلوسيُّ نَصَّ هذه العبارة عن الواحدي، وفيها (يتجرون). وهي أصوب وأليق بالمعنى المراد. والمثبت من (أ)، (ب)، وله وجه كذلك. (¬4) (إن): ساقطة من (ج). (¬5) في "معاني القرآن " له 1/ 251. (¬6) في "معاني القرآن": (فقال الله عز وجل). (¬7) ذكر هذا السببَ ابنُ الجوزي في "زاد المسير" 1/ 531، ونسبه لابن عباس. وذكر ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أراد أن يستلف من بعض اليهود شعيرًا، فأبى إلا على رَهْنٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء، أمينٌ في الأرض" فنزلت هذه الآية.

قال الزجاج (¬1): خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطاب الخَلْقِ في هذا الموضع؛ المعنى: لا يَغُرَّنَّكم أيها المؤمنون. وهذا قول قتادة (¬2). قال: والله ما غَرُّوا نَبِيَّ اللهِ، حتى قبضه الله. والخطاب له، والمراد غيره (¬3). وقال بعض النَحْوِيِّين (¬4): هذا خطابٌ لكل من سمعه من المكلفين؛ كأنه قيل: لا يَغُرَّنك أيُّها السامِعُ. وُيبْنى المضارعُ مع النون الشديدة؛ لأن النون لحقت حرفَ الإعراب، على جهة التأكيد، فصار بمنزلة ضمِّ الاسم إلى الاسم في (خَمْسَةَ عَشَرَ)، ونحوه. وقوله تعالى: {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}. يعني: تَصَرُّفهم للتجارات (¬5). أعلَمَ (¬6) اللهُ أن ذلك مما لا ينبغي أن يُغْبَطوا به؛ لأن مصيرهم -بكفرهم- إلى النار، ولا خير (¬7) في نَعِيمٍ (¬8) بعده النار. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 500. نقله عنه بنصه. (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 217، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 845. (¬3) (الخطاب له والمراد غيره): العبارة للثعلبي في "تفسيره" 3/ 175 أ. (¬4) لم أقف عليهم. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 251، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 117، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 500، و"تفسير الثعلبي" 3/ 175 أ، و"زاد المسير" 1/ 532. (¬6) من قوله: (أعلم ..) إلى (.. نعيم بعده النار): نقله -بتصرف يسير- عن: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 500 - 501. (¬7) في (ج): (وأخبر). (¬8) في "معاني القرآن": (بخير) بدلًا من (في نعيم).

197

197 - فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: تَقَلُّبُهُم مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وقال الفراء (¬1): ذلك متاعٌ قليل. وقال الزجاج (¬2): ذلك الكَسْبُ والرِّبْحُ الذي يربحونه، مَتَاعٌ قليل. وإنما وصفه (¬3) بالقِلَّةِ؛ لأنه فانٍ مُنْقَطِعٌ؛ ولأنَّهُ (¬4) -بالإضافة إلى نعيم الآخرة- قليلٌ. 198 - قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} الآية. قد ذكرنا التخفيفَ والتشديد في {لَكِنِ} (¬5) عند قوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (¬6)، ومعناه (¬7) -ههنا-: الاستدراك بها، خلاف المعنى المتقدم؛ وذلك أن (¬8) قوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} تَضَمَّنَ: ما لَهُم كثيرُ انتفاع؛ فجاء على ذلك: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} لَهُمْ (¬9) الخلود في النعيم المقيم. ¬

_ (¬1) قد يُفْهم قولُ الفراء هذا، من عباراته التي يقول فيها: (كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عز وجل: لا يغرنك ذلك. وقوله: {مَتَعٌ قَلِيلٌ} في الدنيا). "معاني القرآن" 1/ 251. معنى قوله: (ذلك)، أي: ضَرْبُ اليهود في الأرض، متاع قليل. (¬2) في "معاني القرآن" له 1/ 501. نقله عنه بنصه. (¬3) في (ب): (وصف). (¬4) في (ج): (وإنه). (¬5) قرأ أبو جعفر بتشديد النون المفتوحة. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر: "المبسوط" لابن مهران 151، و "تفسير الثعلبي" 3/ 175ب، و"زاد المسير" 1/ 532، و"النشر" 2/ 247. (¬6) سورة البقرة:102. وانظر: "الحجة" للفارسى 2/ 169 - 180. (¬7) في (ج): (معناه) بدون واو. (¬8) (أن): ساقطة من (ج). (¬9) (لهم): زيادة من (ب).

وقوله تعالى: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. المعنى: مِنْ تحتِ أشجارِهَا وقصورها وأبْنِيَتِها. وقوله تعالى: {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} النُّزُلُ (¬1): ما يُهيّأ لضيف أو لقوم إذا نزلوا موضعًا. ويقال: (أقمت لهم نُزُلَهم) , أي: أقمت لهم غذاءَهم (¬2)، وما يصلح معه أن ينزلوا (¬3) عليه. هذا معناه في اللغة (¬4). وقال الكَلْبيُّ في تفسيره (¬5): جزاءً وثوابًا (¬6). وانتصابه على المصدر (¬7)، في قول الزجاج، قال (¬8): هو مصدرٌ مُؤَكِّدٌ (¬9)؛ لأن خلودهم فيها: إنزالهم فيها أو نزولهم (¬10). ¬

_ (¬1) النُّزُل، والنُّزْل -بضم الزاي وتسكينها. انظر: "القاموس المحيط" (1062) (نزل). (¬2) في (ج): (عداوهم). (¬3) من قوله: (أقمت ..) إلى (.. ينزلوا عليه): هو نص قول الزجاج في: "معاني القرآن" له 4/ 306 عند تفسير الآية 62 من سورة الصافات {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا}. (¬4) انظر هذا المعنى، وبقية المعاني و (نزل) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3555، و"المقاييس" 5/ 417، و"مفردات ألفاظ القرآن" 800، و"اللسان" 7/ 4400. (¬5) في (أ)، (ب): (تفسير)، والمثبت من (ج). وقد أورد قوله هذا: الثعلبي في: "تفسيره": 3/ 175 ب وورد في: "زاد المسير" 1/ 532، ونسبه إلى ابن عباس. ويبدو أنه من رواية الكلبي عنه. (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 325، و"تفسير البغوي" 2/ 154. (¬7) أي: المفعول المطلق. (¬8) في "معاني القرآن" له 1/ 501. نقله عنه بنصه. (¬9) مؤكد: ليس في "معاني القرآن". (¬10) (أو نزولهم): ليس في "معاني القرآن".

199

وقال الفرّاء (¬1): هو نصبٌ على التفسير (¬2)، كما تقول: (هو لك: هِبَةً وبَيْعًا وَصَدَقَة). وقوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} أي: مما يَتَقَلَّبُ (¬3) فيه الكفّار في دار الدنيا. و (الأبرار) (¬4) يجوز أن يكون واحده (بارٌّ)، مثل: صاحِبٌ وأصحاب. ويجوز أن يكون واحده (بَرٌّ)، وأصلُهُ: (بَرَرٌ) (¬5)، فأدْغِمَ (¬6) للتضعيف (¬7). 199 - وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية. ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" له 1/ 251. نقله عنه بتصرف. (¬2) (التفسير) من مصطلحات الكوفيين. وهو (التمييز) عند البصريين، ويقال له كذلك: التبيين. وقد يُطلِقُ الفراءُ (التفسير) على المفعول لأجله، أو على بدل المطابقة. ولكنهما ليسا مرادان في هذا الموضع. انظر: "همع الهوامع" 3/ 62. و"دراسة في النحو الكوفي" 266 - 228، و"النحو وكتب التفسير" 1/ 189، 190. (¬3) في (أ): (ينقلب). وفي (ج): غير معجمة. والمثبت من (ب)؛ لأنها أولى وأليق بالمعنى. وكذا وردت في: "الكشاف" 1/ 491، و"تفسير القرطبي" 4/ 322، و"تفسير البيضاوي" 1/ 83 (¬4) من قوله: (والأبرار ..) إلى (للتضعيف) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 501. (¬5) (وأصله برر): ساقط من (ج). (¬6) في (ج): (وأدغم). (¬7) في "الصحاح"، و"اللسان"، و"المصباح المنير"، و"التاج": أن (الأبرار) جمع (بَرٍّ). و (بَرَرَة) جمع (بارٍّ). انظر: (بر) في: "الصحاح" 2/ 588، و"اللسان" 1/ 253، و"المصباح" 17، و"التاج" 6/ 701. وعند الراغب: أن (أبرار) جمع (بار). و (بَرَرَة) جمع (بَرٍّ). انظر: "مفردات ألفاظ القرآن": 115. وتبعه الفيروزآبادى في "بصائر ذوي التمييز" 2/ 213. وانظر: "البرهان" للزركشي 4/ 18، و"عمدة الحفاظ" 45.

اختلفوا في نزولها؛ فقال ابن عباس (¬1)، وجابر (¬2)، وقتادة (¬3): نزلت في النَّجَاشيِّ (¬4) حينَ مات، وصلّى عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. فقال المنافقون: إنه يُصَلِّي على نصرانِيٍّ لم يَرَهُ قَطُّ (¬5). ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الثعلبي" 3/ 1176، و"أسباب النزول" للمؤلف 143. (¬2) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 218، و"تفسير الثعلبي" 176 أ، و"أسباب النزول" للمؤلف 143، 144. (¬3) قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 144، و"تفسير الطبري" 4/ 218 - 219، و"تفسير الثعلبي" 3/ 176 أ، و"أسباب النزول" للمؤلف 143، 144. (¬4) هو: أصحمة بن أبحر، والنجاشي، لقبه. قال ابن عيينة عن (أصحمة)، (هو بالعربية: عطية). وهو ملك الحبشة، وقد أكرم المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده من مكة المكرمة، وأحسن استقبالهم، وأسلم ولم يهاجر. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 144، و"الإصابة" 1/ 109. (¬5) وبه قال ابن جريج في رواية عنه أخرجها الطبري في "تفسيره" 4/ 2191. وقال به أنس بن مالك، أخرجه عنه النسائي في "تفسيره" 356 رقم (108)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 846، والمؤلف في: "أسباب النزول" 144، والبزار (انظر: "كشف الأستار عن زوائد البزار" 1/ 392 رقم: 832). وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 38وزاد نسبة إخراجه للطبراني في "الأوسط"، وقال: (ورجال الطبراني ثقات)، وذكره ابن حجر في "الإصابة" 1/ 109، وزاد نسبة إخراجه لابن شاهين والدارقطني في: الأفراد. وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 481، و"الدر المنثور" 2/ 200. وبه قال الحسن البصري. ذكر ذلك ابن كثير في "تفسيره" 1/ 481، ونسب إخراج الأثر عنه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. وصلاة الرسول على النجاشي، أخرجها الشيخان، ولكن ليس فيها اعتراض المنافقين، ولا أنه سبب نزول الآية. انظر: "صحيح البخاري" (3877) كتاب: مناقب الأنصار. باب: موت النجاشي، و"صحيح مسلم" رقم (951 - 953) كتاب الجنائز. باب: في التكبير على الجنارة. وانظر: "جمع الزوائد" 3/ 38 - 39.

وقال ابن جُرَيْج (¬1)، وابن زيد (¬2): نزلت في عبد الله بن سَلامٍ وأصحابه. وقال مجاهد (¬3): نزلت في مؤمِنِي أهلِ الكتابِ، كلِّهم. و (¬4) قال الزجاج (¬5): لَمَّا ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب في قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 187] ذكر حال مَنْ آمَنَ مِنْ أهلِ الكتاب، وأخبر أنهم صَدَقُوا في حال خُشُوعٍ. وقوله تعالى: {لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أي: عَرَضًا مِنَ الدُّنياَ، كفعل اليهود الذين غَيَّروا التوراة بِثَمَن. ومعنى: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} -ههنا-: أنه لا يُؤخِّرُ الجزاءَ عَمَّن استحقه؛ لِطُول الحِسَابِ والاشتغال به؛ كما يتأخر (¬6) لذلك الحقوقُ في الدنيا. ومضى الكلام في معنى سرعة حساب الله (¬7). ¬

_ (¬1) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 219، و"تفسير الثعلبي" 3/ 176 ب، و"أسباب النزول" للمؤلف 144. (¬2) قوله في: المصادر السابقة وبه قال مقاتل في "تفسيره" 1/ 323. (¬3) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 219، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 846، و"تفسير الثعلبي" 3/ 176ب، و"أسباب النزول" للمؤلف173، وهو قول ابن عباس من رواية أبي صالح عنه. انظر:"زاد المسير" 1/ 533. وإلى هذا القول، ذهب الطبري في تفسيره، في الموضع السابق. (¬4) (الواو): زيادة من (ج). (¬5) في "معاني القرآن" له 1/ 501. نقله عنه بالمعنى. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): (يتأخر). والأصل أن يقول: تتأخر. إلا أن المُثبَتَ على معنى: يتأخر قضاء الحقوق. (¬7) انظر: تفسير الآية: 202 من سورة البقرة.

200

200 - وقوله (¬1) تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} قال الحسن (¬2): اصبروا على دينكم فلا تَدَعُوه لِشِدّةٍ. وهذا اختيار الزجّاج (¬3). وقال زيد بن أسلم (¬4): أي: على الجهاد. وهو اختيار ابن الأنباري (¬5). وقال الفرّاء (¬6): {اصْبِرُوا} مع نَبِيِّكم (¬7)، {وَصَابِرُوا} عدُوَّكم، فلا ¬

_ (¬1) في (ج): (قوله) بدون واو. (¬2) قوله في: "تفسيرالطبري" 4/ 221، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 849، و"تفسير الثعلبي" 3/ 176 ب، و"زاد المسير" 1/ 534. (¬3) في "معانى القرآن" له 1/ 501. وهو قول محمد بن كعب القرظي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 221، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 847. وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 4/ 222 وعلله بقوله: (وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل، فلذلك قلنا: إنه عنى بقوله: {اصْبِرُوا}: الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله، فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها). (¬4) قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 222، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 848، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 201، 202. وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب". وأخرجه الحاكم بنفس سند الطبري وابن أبي حاتم، إلا أنه زاد فقال: (.. عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) وفيه أن عمر بلغه أن أبا عبيدة حضر بالشام، وتألب عليه الأعداء، فكتب إليه يُصبِّره، وأنهى كتابه لهذه الآية. انظر: "المستدرك" 2/ 300. وصححه، ووافقه الذهبي. (¬5) لم أقف على مصدر قوله. (¬6) في "معاني القرآن" له 1/ 251. نقله عنه بنصه. (¬7) في المعاني: (مع نبيكم على الجهاد).

يكونن (¬1) أصْبَرَ منكم. {وَرَابِطُوا}، أي: أقيموا على جهاد عدوكم بالحرب والحُجَّةِ. قاله الزجّاج (¬2). وأصلُهُ -عند أهل اللغة-: مِن (مُرابَطَةِ الخَيْل)، وهو ارتباطها بإيزاء العَدُوِّ في بعض الثُّغُور (¬3). قال ابن قتيبة (¬4): أصل (المُرَابَطَةِ) و (الرِّباط): أن يَرْبِطَ هؤلاء خيولَهم في الثَّغْرِ، وَيربط الكفارُ خيولَهم، كلٌّ يُعِدُّ لِصَاحبه، ثم سُمِّيَ المُقامُ بالثغور (رِباطًا)؛ لوجود هذا المعنى (¬5). وكلام ابن عباس -في رواية عطاء- يَدُلُّ على هذه الجملة، فإنه قال في قوله: {وَرَابِطُوا} يريد: عَدُوِّي وعدوَّكم. حتى يرجع عن دينه إلى دينكم (¬6). وهذا اللفظ يتضمن معنى (¬7) ملازمة الجهاد. وهذا قول أكثر أهل ¬

_ (¬1) في (ج): (فلا يكون). (¬2) في: "معاني القرآن"، له: 1/ 501 - 502. نقله عنه بنصه. (¬3) هذا نص قول الأزهري في: "تهذيب اللغة": 2/ 1346 (ربط). (¬4) في: "تفسير غريب القرآن"، له: 1/ 109. نقله عنه بتصرف. (¬5) قال ابن فارس عن الرباط: هو (ملازمة ثَغْرِ العدو، كأنهم رُبطوا هناك، فثبتوا به، ولازموه). "المقاييس" 2/ 478 (ربط). وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 222، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 530، و"مفردات ألفاظ القرآن" 338 - 339 (ربط)، و"أساس البلاغة" (316) (ربط). (¬6) ورد معنى قول ابن عباس في: "زاد المسير" 1/ 534، وأورد الثعلبي في "تفسيره" 3/ 177 أقول عطاء، دون أن يرفعه لابن عباس، وفيه: ({وَرَابِطُوا}: يعني. المشركين). (¬7) (معنى): ساقط من (ج).

التفسير (¬1). وقال أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن (¬2): معنى {وَرَابِطُوا}: انتظروا الصلاة بعد الصلاة. واحتج (¬3) بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة، حيث ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة- قال: (فَذلِكُمُ الرِّبَاط)، ثلاث مرّات (¬4). وأصل هذا من الرَّبْط، وهو: الشَّدُّ (¬5). ويقال لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ على أمْرٍ: (رَبَطَ قَلْبَه عليه)، و (ربط نفسه) (¬6). قال لَبِيد: ¬

_ (¬1) هو قول: قتادة، وابن جريج، والضحاك، ومحمد بن كعب القُرَظي، ومقاتل. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 221، 222، و"تفسير مقاتل" 1/ 324. وهو الذي رجحه الطبري في "تفسيره" 4/ 223؛ مُعَلِّلًا بأنه: (هو المعنى المعروف من معاني (الرباط)، وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى يأتي بخلاف ذلك -مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه- حُجةٌ يجب التسليم لها، مِن كتاب، أو خبر من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع من أهل التأويل) 4/ 223. (¬2) قوله في: "المستدرك" للحاكم 2/ 301، و"تفسير الطبري" 4/ 222، وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 481. (¬3) من قوله: (واحتج ..) إلى (.. الصلاة بعد الصلاة): ساقط من (ج). (¬4) الحديث من رواية أبي هريرة. أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (251). كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء، والترمذي رقم (51، 52) أبواب الطهارة. باب ما جاء في إسباغ الوضوء، وقال: (حسن صحيح)، ومالك في "الموطأ" ص 118 (58) كتاب قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها. (¬5) في (ج): (الشدة). (¬6) انظر: (ربط): "تهذيب اللغة" 2/ 1346، و"مقاييس اللغة" 2/ 78، و"تفسير الثعلبي" 3/ 177 أ.

رابطُ الجَأْشِ على كُلِّ وَجَلْ (¬1) أي: صابرٌ ثابت. فقيل للصبر على الصلاة وربط النفس عليها: (رِبَاط). وقال أبو عبيدة (¬2)، وابنُ الأنباري (¬3): معنى {وَرَابِطُوا}؛ أي: اثْبُتُوا، وداوموا (¬4). وأنشد ابنُ الأنباري قولَ الأخْطَل (¬5): ¬

_ (¬1) في (ب): (رجل). وهذا عجز بيت، وصدره: يُسْئِدُ السَّيْرَ عليها راكبٌ البيت في: "ديوانه" 176. وورد منسوبًا له في: "تهذيب اللغة" 2/ 1591 (سأد)، و"الصحاح" 2/ 482 (سأد)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 177 أ، و"اللسان" 3/ 1905. ومعنى (يُسْئِد): يُغذُّ ويسرع السَّيْرَ. يقال: (أسْأدَ الرجلُ السَّيْرَ): أدْأبَهُ. و (الإسآد): الإسراع والإغذاذُ في السير، وأكثر ما يستعمل ذلك في سير الليل. وعن أبي عمرو: الإسآد: أن تسير الإبلُ الليل مع النهار. و (الوَجَلُ): الخوف. انظر (سأد) في: "الصحاح" 2/ 482، و"اللسان" 3/ 1905، و"القاموس" (1067) (وجل). (¬2) في: "مجاز القرآن" 1/ 112. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) في "مجاز القرآن": ودوموا. وورد قول أبي عبيدة في: "تفسير الثعلبي" 3/ 177 أ، وفيه: (داوموا)، كما هي عند المؤلف. (¬5) هو: غياث بن غوث بن الصلت، أبو مالك التغلبي. شاعر نَصْراني، ومات على نَصْرانِيَّتِه، كان مُقَدَّمًا عند خلفاء بني أمية، لكثرة مدحه لهم وانقطاعه إليهم. توفي سنة (90 هـ). انظر. "شرح شواهد المغني" 1/ 123، "الأعلام" 5/ 123.

ما زال فينا رِباطُ الخيْل معْلِمَةً ... وفي كُلَيْبٍ رِباطُ اللُّؤْمِ والعَارِ (¬1) قال: إنما (¬2) أراد بـ (الرِّبَاط): اللزوم والثبات. وهذا المعنى راجع إلى ما ذكرنا من الصبر ورَبْطِ النفس. ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على جهاد العدو، ويجوز أن يكون على الصلاة (¬3). ¬

_ (¬1) البيت في "شعره" 635. وورد منسوبًا له في: "الصحاح" 5/ 1990 (علم)، و"اللسان" 5/ 3084 (علم). وورد غير منسوب في: "أساس البلاغة" 1/ 316. قوله: (مُعْلِمة) -بكسر اللام، وهكذا ضبطت في شعره، والصحاح، و"اللسان"-: هي من قولهم: (أعْلَمَ الفارِسُ): جعل لنفسه علامة الشجعان. فهو مُعْلِم. والخيل المُعلِمة: المشهورة التي لها علامة في الحرب. وفي "مجاز القرآن": (مُعْلَمَة) -بفتح اللام-: وهي للبناء للمجهول، من قولهم: (أعْلَمَ الفَرَسَ): عَلَّق عليه صوفًا أحمر أو أبيض في العرب. انظر: "اللسان" 5/ 3084 (علم). وكُلَيب: هم رهط جرير، الذي يهجوه الأخطلُ في هذا البيت. (¬2) (إنما): ساقط من (ج). (¬3) والراجح أن (الرباط) -المذكور في الآية- معنيٌّ به المرابطة في الجهاد. وهو ما رجحه ابن جرير، وأكثر المفسرين. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فذلكم الرباط ..) إنما هو تشبيه المحافظة على الصلاة؛ بملازمتها والدوام عليها، والرباط في سبيل الله؛ بجامع ما في الأمرين من دوام ولزوم وانتظار. انظر: "المحرر الوجيز" 3/ 477.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة النساء من أول السورة إلى آية (83) تحقيق د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} قال ابن عباس: الخطاب لأهل مكة (¬1). وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أنثها على لفظ النفس وإن عَنَى به مُذَكَّرا كما قال: أبُوكَ خَلِيفةٌ وَلَدَتْه أُخْرى ... وأَنْت خَلِيفةٌ ذاكَ الكَماَل (¬2) وعنى بالنفس الواحدة آدم (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجد هذا القول بنصه لابن عباس في تفسير هذه الآية، لكن قال ابن الجوزي: اختلفوا في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكية، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: أنها مدنية، رواه عطاء عن ابن عباس. "زاد المسير" 2/ 1، وقد ذهب كثير من العلماء والمفسرين -ومنهم ابن عباس- إلى أن كل شيء نزل فيه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو بالمدينة. انظر "البرهان" 1/ 189، 190. فلعل المؤلف ساق هذا الرأي لابن عباس بمعناه. هذا وقد رجح المحققون من العلماء أن سورة النساء مدنية. انظر "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 1، "الإتقان" 1/ 16، 22. قال القرطبي: ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. وأما من قال: إن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مكي حيث وقع فليس بصحيح فإن البقرة مدنية وفيها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في موضعين، والله أعلم. (¬2) لم أعرف قائله، وهو غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 1/ 208، "تفسير الطبري" 4/ 224، "لسان العرب" (خلف) 2/ 1235. والشاهد من البيت أن التأنيث يقع على اللفظ. قال الفراء: فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن يقول: ولده آخر. "معاني القرآن" 1/ 208. (¬3) هذا تفسير ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وهو ظاهر. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 224، "تفسير البغوي" 2/ 159، "الدر المنثور" 2/ 206.

وقوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حواء (¬1)، خلقت من (ضلع (¬2) من أضلاع آدم، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها" (¬3). وقوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} يريد فرّق ونشر (¬4). قال ابن المُظَفَّر (¬5): البث تفريقك الأشياء، يقال بثّوا الخيلَ في الغارة، وبثّ الصياد كِلابه، وخلق الله الخلق فبثّهم في الأرض، بثث البسط إذا نشرتها (¬6)، قال الله تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (¬7) [الغاشية: 16]. قال الفراء، والزجاج: وبعض العرب يقول أَبَثّ (¬8) الله الخلق. وبثّ الحديث إذا نشره وأفشاه، وكذلك أبثه (¬9)، قال ذو الرمّة: ¬

_ (¬1) عن مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 224، والبغوي 2/ 159، و"ابن كثير" 1/ 487، و"الدر المنثور" 2/ 206. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (د). (¬3) أخرجه البخاري (3331) بنحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته (635)، ولفظه: "استوصوا بالنساء فإن المرأة خُلِقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء". ومسلم (1468) كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء. (¬4) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة (111)، "تفسير الطبري" 4/ 225. (¬5) يعني الليث كما في "تهذيب اللغة" 1/ 273 (بثث). وكلما أتى بهذه الكنية فأنما يعني: الليث. وتقدمت ترجمته ضمن مصادر الواحدي. (¬6) في "التهذيب" ومثبت البسط إذا بسطت. (¬7) انتهى من "تهذيب اللغة" 1/ 273 بتصرف، وانظر: "مقاييس اللغة" 86 - 87 (بث). (¬8) عند الفراء والزجاج: (بث). (¬9) "معاني القرآن" للفراء 1/ 252 بنصه، "معاني الزجاج" 3/ 5 بتصرف.

وأُسْقيِه حتَّى كَادَ مما أَبثُّه ... تُكَلِّمُني أَحْجَارُه وَملاعِبُه (¬1) وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قُرئ (تساءلون) بالتخفيف والتشديد (¬2)؛ فمن شدّد أراد: تتساءلون، فأدغَم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف طرفِ اللسان وأصول الثنايا واجتماعِهما في الهمس. ومن خفف، حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة فأعلَّها بالحَذْف، كما أعلَّ الأول بالإدغام (¬3)، وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف أو بالإدغام أو بالإبدال (¬4)، (فالحذف والإدغام، كالقراءتين في ¬

_ (¬1) البيت في "ديوان ذي الرمة" بشرح الباهلي 2/ 821، "الكتاب" 4/ 59، "تهذيب اللغة" 2/ 1908 (شكا)، "اللسان" 4/ 2314، وفيهما: وأشكيه بدل: وأسقيه. انظر "معجم شواهد العربية" ص 423. وهذا البيت ثاني بيت في القصيدة هو كما في الديوان والكتاب: وقفتُ على رَبعٍ لمَيَّة ناقتي ... فما زِلتُ أبكي عنده وأخاطبُه قال الباهلي: قوله: أبثه أي أُخْبِره بكل ما في نفسي، وقوله: وأسقِيه أي أدعو له بالسقيا، وملاعبُه مواضيع يلعب بها. واستشهد به المؤلف على أن أبث يأتي بمعنى: أفشى ونشر. (¬2) قراءة التخفيف (تساءلون) خفيفة السين لعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقراءة التشديد (تساءلون) مشددة السين لأبي عمرو ونافع وابن كثيرِ وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب. انظر: "السبعة" ص 226، "الحجة" 3/ 118، "المبسوط" ص 153، "النشر" 2/ 247، "البدور الزاهرة" (93). وتوجيه المؤلف للقراءة بعد ذلك من "الحجة" لأبي علي الفارسي. (¬3) انظر: "الحجة في القراءات السبعة" لابن خالويه ص 118، "حجة القراءات" ص 188، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 1/ 375. (¬4) في "الحجة": أو الإدغام والإبدال.

هذا الحرف) (¬1). والإبدال كقولهم: طست (للطس) (¬2) أُبدِلَ من السين الثانية التاء لتقاربهما، قال العجَّاج: أَإِنْ رأيتِ (هَامَتِي) (¬3) كالطَّسْتِ (¬4) وأنشد المازني في الطسّ: لو عَرَضَت لأَيْبُلِي قَسّ ... أشعثَ في هيكلِه مُنْدَسّ حَنَّ إِلَيهَا كحَنِين الطَّسّ (¬5) ومعنى: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} أي تتساءلون فيما بينكم حوائجكم ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ليس في "الحجة". (¬2) هذه الكلمات ليست في "الحجة"، ويبدو أنها ساقطة. (¬3) في (ب): (متى) ولعله تحريف. (¬4) نسبه المؤلف للعجاج تبعًا لأبي علي في "الحجة" 3/ 120، والواقع أنه ليس له وإنما هو لابنه رؤبة كما في ديوانه في "مجمع أشعار العرب" ص 23، وهو عجز بيت صدره: ويحكِ إن أسلم فأنتِ أنتِ والطست: من آنية الصفر. "اللسان" 5/ 2670 (طست). (¬5) إلى هنا انتهى أخذ المؤلف من "الحجة" 3/ 118 - 120. والرجز في "تهذيب اللغة" 3/ 2191 (طس)، "سر صناعة الإعراب" 1/ 156، "اللسان" 5/ 2671 (طس) بدون نسبة، ونسبه أبو حيان للعجاج في "البحر المحيط" 3/ 156، لكن في "البحر": لأسقُفي بدل: لأيبُلي، ولم أجده في "ديوانه". والأيبلي والأيبل هو الراهب عند النصارى أو صاحب الناقوس الذي يدعوهم به إلى الصلاة. والقس هو القسيس رئيس من رؤساء النصارى، والهيكل معبدٌ للنصارى فيه صنم على سورة مريم وعيسى -عليهما السلام- فيما يزعمون، ومُنَدسّ أي داخلٌ ومختفي، والحنين الشديد من البكاء والطرب، والطس والطسة لغة في الطست. انظر "اللسان" 3/ 1372 - 1373، 5/ 2671 (طسس)، 1/ 11 (أبل)، 8/ 1681 (هكل)،2/ 1029 (حنن).

وحقوقكم به فتقولون: أسألُك بالله والرحِم، وأنشدك اللهَ والرحم (¬1). قال ابن عباس: يريدون أن أهل مكة لم يكونوا يؤمنون بالبَعْث، وكانوا يتواصلون بالأرحام، فإذا ناشد الرجلُ الرجلَ، قال: أنشدك الله والرحم، وكذلك كان يكتب المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نناشدك الله والرحم (إلَّا) (¬2) بعثت إلينا فلانًا وفلانًا (¬3). وعلى هذا التفسير انتصب {وَالْأَرْحَامَ} بالعطف على موضع {بِهِ}، كأنه قيل: وتذكرون الأرحامَ؛ لأن معنى {تَسَاءَلُونَ بِهِ}: تذكرونه في سؤالكم ومناشدتكم، فالأرحام عطف على موضع الجار والمجرور. قال أبو علي (¬4) وعلي بن عيسى (¬5): ويكون كقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 226، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 6. (¬2) في (د): (أن لا). (¬3) لم أقف له على تخريجٍ في تفسير هذه الآية عن ابن عباس. (¬4) ما نسبه المؤلف إلى أبي علي أحد الوجهين الذين ذكرهما في نصب الأرحام، والوجه الآخر أن يكون معطوفًا على قوله: {وَاتَّقُوا}، التقدير: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}، واتقوا الأرحام أي اتقوا حقَّ الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. "الحجة" 3/ 121. وسيأتي نحوه عند المصنف قريبًا. (¬5) لعله أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد الله الرماني النحوي، وهو إمام في اللغة والنحو، صنف كتبًا كثيرة منها: "شرح كتاب سيبويه"، "معاني الحروف". وكان متهمًا بالاعتزال. توفي سنة 384 هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 355، "البلغة" ص 154، "بغية الوعاة" 2/ 180، ولم أقف على قوله.

فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلا الحَديدَا (¬1) وقال أكثر المفسرين: معنى {وَالْأَرْحَامَ} أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قاله: قتادة (¬2)، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وابن زيد (¬3) والربيع (¬4) (¬5)، والفراء (¬6)، والزجاج (¬7). ¬

_ (¬1) عجز بيتٍ صدره: معاويَ إننا بشرٌ فأسجِحْ ومعنى أسجح: سهل علينا حتى نصبر، "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 301. وقد نسب هذا البيت إلى عُقَيبة بن هبيرة الأسدي كما نسب إلى عبد الله ابن الزبير وهو من "شواهد الكتاب" 1/ 67، 2/ 292، 344، 3/ 912، "معاني القرآن" للفراء 2/ 348، "المقتضب" 2/ 337، 4/ 112، 371، "الجمل" للزجاجي ص 55، "الإنصاف" للأنباري ص 284. وقد استشهد به المؤلف عند تفسير البسملة في أول الكتاب. والشاهد منه نصبه الحديدا عطفًا على موضع المجرور بالجبال، وقد أنكر بعضهم على سيبويه استشهاده بهذا البيت لأنه من قصيدة القافية فيها مجرورة، لكن رد ذلك السيرافي بأن البيت له روايتان النصب والبحر، وكل رواية في قصيدةٍ مشاكلةٍ لها. انظر "شرح السيرافي" 1/ 300 - 303. (¬2) هو أبو الخطاب، قَتادة بن دِعَامة السّدوسِي الشيباني، ولد سنة 60 وهو أعمى، وعني بالعلم حتى صار من حفاظ التابعين وأعلمهم بالقرآن والسنة وهو من أخص تلامذة ابن عباس، توفي -رحمه الله- سنة 117 هـ، وقيل بعدها. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 96، "وفيات الأعيان" 4/ 85. (¬3) هو عبد الرحمن بن زَيد بن أَسْلم العَمري. (¬4) هو الرَّبِيع بن أنس البّكري، تقدم. (¬5) أخرج أقوالهم: ابن جرير 4/ 227 - 228 انظر: "زاد المسير" 2/ 3، و"ابن كثير" 1/ 487. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 252. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 6.

وعلى هذا التفسير انتصب الأرحام بالعطف على قوله أي: اتقوا اللهَ واتقوا الأرحامَ، أي: اتقوا حقَّ الأرحام فصلوها ولا تقطعوها (¬1). ويجوز على هذا التفسير أنْ يكون منصوبًا بالإغراء, أي: والأرحام فاحفظوها وصلوها، كقولك: الأسدَ الأسدَ (¬2) وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم، وينبئ بوجوب صلتها. وقرأ حمزة {والأرحامِ} جرًا (¬3) بالعطف على المَكْنِيّ في {بِهِ} كما يقال: سألتك باللهِ والرحمِ، ونشدتك باللهِ والرحم، وإنما حَملَه على هذه القراءة ما ورد في التفسير أن المشركين كانوا يقولون: نناشدك بالله والرحم، ونسألك بالله والرحم إلّا فعلت كذا (¬4). وضعف النحويون كلُّهم هذه القراءة واستقبحوها (¬5)، فقال أبو علي (¬6): هذا ضعيف في القياس قليل في الاستعمال، وما كان كذلك فَتركُ الأخذ به أحسن (¬7)؛ وضعفه أنَّ المشاكلة تُراعَى في باب العطف حتى ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 252، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 390، "الحجة" 3/ 121. (¬2) القول بنصب {الأرحامَ} على الإغراء لم أره عند غير المؤلف. (¬3) هذه القراءة لحمزة وحده من العشرة, انظر "السبعة" ص 226، "المبسوط" ص 153، "الحجة" 3/ 121، "النشر" 2/ 247، "البدور الزاهرة" ص 93. (¬4) انظر:"معاني القرآن" 1/ 252. (¬5) انظر: "معاني الفراء" 1/ 252، "معاني الأخفش" 1/ 430، "تفسير الطبري" 4/ 226، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 391، "معاني الزجاج" 2/ 6, "الإنصاف" 373 - 379، "إملاء ما من به الرحمن" بهامش الفتوحات الإلهية 2/ 182، "البحر المحيط" 3/ 158، "الدر المصون" 3/ 554. (¬6) في "الحجة" 3/ 121. (¬7) إلى هنا نص كلامه أبي علي، وما بعده إلى قوله: قال: ويدلك .. بمعناه. انظر "الحجة" 3/ 121 ,122.

يعطف الشك على الشكلِ، والمعطوف ينبغي أنْ يكون مُشاكلًا للمعطوف عليه، والمضمرُ المجرور قد خرج عن شبه الاسم وصار بمنزلة الحرف بدلالة أنه لا ينفصل، وذلك أن الكاف والهاء في قولك: (بِهِ وبِكَ) (¬1) (ألا) (¬2) ترى واحدًا منهما منفصلًا عن الجار، فصار كالتنوين؛ فلأن المضمر المجرور أيضا قد صار عِوَضًا من التنوين إذا اتصل باسمٍ، نحو: غلامك، وغلامه، وغلامي، وأيضًا فإنه على حرف كما أن التنوين على حرف. قال (¬3): ويدلك على أنه قد جرى عندهم مجرى التنوين حذفهم الياء من المُنَادَى المضاف (¬4) (في الاختيار) (¬5) كحذفهم التنوين (من المفرد) (¬6) وذلك قولهم: يا غلام، وهو أكثر في الاستعمال (¬7) من: يا غلامي، فشابه المضمرُ المجرور التنوينُ من هذه الوجوه. وإذا كان كذلك خرج عن حدّ الاسم وصار بمنزلة الحرف، فلم يعطف على المضمر المجرور لخروج المعطوف عليه عن شَبَه الاسم إلى شبَه الحرف، وقد ذكرنا شأن التشاكل، يُرَاعى في باب العطف فلا يُعطف الاسم على الحرف. وقال الزجاج (¬8): إجماع النحويين أنه يقبح أن يُنْسقَ باسمٍ ظاهر على اسم مُضمَر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض (¬9)، كقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا ¬

_ (¬1) في (د): (بك وبه). (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا وليس ألا. (¬3) أي: أبو على. (¬4) في "الحجة" المضاف إليه. (¬5) ليس في "الحجة". (¬6) ليس في "الحجة". (¬7) انتهى كلام أبي علي من "الحجة" 3/ 121، 122. (¬8) في "معاني القرآن" 2/ 6. (¬9) دعوى الإجماع فيها نظر، لأن ذلك رأي البصريين وأنه لا يجوز إلا في الشعر، =

بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] (¬1)، ويستقبح النحويون: مررت به وزيد (¬2)، لأن المكني المخفوض حرف متصل غير منفصل، فكأنه كالتنوين في الاسم، فقبح أن (يعطف) (¬3) باسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. هذا كلامه (¬4). وقد ذكر أبو علي وجه الشبه بينهما كما حكينا. وقال علي بن عيسى (¬5): ومما يزيد هذا الفصل بيانًا أنهم لم يستحسنوا عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع حتى يؤكد، فينفع (¬6) العطف في اللفظ على المضمر المنفصل الذي يجري مَجرى الأجنبي، وذلك نحو: اذهب وزيد، وذهبت وزيد، لا يستحسنون ذلك حتى يؤكدوه، فيقولوا: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد (¬7)؛ لأنه لما اختلط الاسم بالفعل حتى صار كبعض أجزائه لوقوع إعرابه بعده في نحو: تفعلين، وتفعلان، وتفعلون، ولإسكانهم الآخر منه إذا اتصل بالضمير مع تحريكهم نحو: ¬

_ = وأما الكوفيون فقد أجازوا ذلك. انظر "المقتضب" 4/ 152، "الأصول في النحو" 2/ 79، "الإنصاف" ص371، "شذور الذهب" ص 533. (¬1) هذا الشاهد القرآني ليس في "معاني الزجاج". (¬2) بعد هذا المقال كلام للزجاج هو: وبك وزيد، إلا مع إظهار الخافض، حتى يقولوا: بك وبزيد، فقال بعضهم: لأن المخفوض ... "معاني الزجاج" 2/ 6. (¬3) ليس في (د). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 6 بتصرف. (¬5) هذا الكلام في "الحجة" 3/ 125، لكن دون نسبة إلى علي بن عيسى هذا، وعلي هذا لعله الرماني وقد تقدمت ترجمته. (¬6) في "الحجة": فيقع. (¬7) هذا عند البصريين، لكن إذا طال الكلام حسن حذف التوكيد، أما الكوفيون فلا قُبْح في الحالين. انظر "المقتضب" 3/ 210، 279، "الإنصاف" ص380 - 381، "شذور الذهب" ص 531 - 532.

(عَلَيْطٍ) (¬1)، (لم يستجيزوا العطف عليه إلا بالتأكيد) (¬2) ليقع العطف عليه في اللفظ، فلا يكون كأنه عطف اسمًا على فِعل (¬3)، كما يصير في المجرور، كأنه عطف اسمًا على تنوين (¬4). وإذا ضَعُف في المرفوع مع أن له ضميرًا منفصلًا نحو: أنت وهو، امتنع في المجرور؛ لأن المضمَر المجرور لا منفصل له، وليس بعد الضعف إلا الامتناع. فأما الضمير المنصوب نحو: ضربته، لا يستقبح العطف عليه؛ لأنه ظاهر لم يختلط بالفعل حتى صار كبعض أجزائه، كضمير المرفوع، ولا يقوم مقام التنوين في موضع ما كضمير المجرور، وذلك أن ضمير المنصوب لا يتصل إلا بالفعل نحو: منعته وقتلته، ولا ينون الفعل قط. وضمير المجرور إما أن يَتَّصل باسمٍ فيقوم فيه مقام التنوين، أو بحرفٍ نحو: به وبك، واتصالُه بالحرف كاتصالهِ بالاسم، ألا ترى أنه لا ينفصل من الاسم، ولا يفصل بينهما كما يفصل بين الجار والمجرور الظاهر في باب المضاف والمضاف إليه نحو: كأن أصواتَ -مِن إِيغالِهِنَّ بنا- ... أَوَاخِرِ المَيْس إِنْقَاض الفَراريجِ (¬5) وإِذا اتّصلَ بالحرف لم ينفَصِل منه ولم يُفصل أيضًا بينهما بشيء، فلا فصل إذًا بين اتصاله بالاسم وبين اتصاله بالحرف. ¬

_ (¬1) في (د): (غليط)، بإعجام الغين. (¬2) في "الحجة" لم يستجيزوا العطف عليه في حال السعة إلا بالتأكيد. (¬3) انظر: "الإنصاف" ص 381. (¬4) إلى هنا نفس الكلام في "الحجة" 3/ 125، وما بعده يحتمل أن يكون من زيادة المؤلف. (¬5) البيت لذي الرمة: "ديوانه" ص 76، وهو من شواهد سيبويه 1/ 179، 2/ 166، 280، "المقتضب" 4/ 376، والأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3648 (نقض)،=

ولأبي عثمان المازني (¬1) تفسير لهذا الفصل مُقنع، وهو أنه قال: الثاني في العطف شريكٌ للأول، فإنْ كان الأول يصلح أَنْ يكون شريكًا الثاني وإلا لم يصلح أَنْ يكون الثاني شريكًا له. (بيان هذا أنك لا تقول) (¬2): مررت بزيدٍ وبك كذلك لا تقول: مررت بك وزيد. وقال سيبويه: لا يجوز عطف الظاهر على المكني المخفوض من غير إعادة الخافض إلا في ضرورة الشعر (¬3)، وأنشد: فاليَومَ قرَّبت تهجُونا وتشتُمُنا ... فاذْهَب فَمَا بِكَ والأيامِ من عَجَبِ (¬4) وأنشد الفراء أيضًا: ¬

_ = "سر صناعة الإعراب" 1/ 10، "اللسان" 8/ 4525 (نفض). قال الأزهري: وفي تقديم وتأخير، أراد كأن أصوات أواخر الميس إنقاض الفراريج من إيغال الرواحل بنا، أي من إسراعها السير بنا. والفراريج جمع فروج وهو الفتيّ من ولد الدجاج. "اللسان" 6/ 3371 (فرج)، وإنقاضها أصواتها، ففي "سر صناعة الإعراب" أصوات الفراريج وبين ابن جني فيه أن الميس خشب الرحل. والشاهد منه أنه فصل بين المضاف أصوات والمضاف إليه أواخر. (¬1) من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 6. (¬2) في "معاني الزجاج" قال: فكما لا تقول .... (¬3) معنى كلام سيبويه. انظر "الكتاب" 2/ 382 - 383. (¬4) الظاهر أن هذا البيت من الأبيات الخمسين عند سيبويه التي لم يُعرف لها قائل. انظر: "الكتاب" 2/ 383، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 390، "الإنصاف" ص 377. وقد استشهد بالبيت الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 7، وقال محققه: البيت للأعشى وينسب لعمرو بن معد يكرب، ولم أجده في ديوان الأعشى. قال عبد السلام هارون في تحقيقه للكتاب: قرَّبت: أخذت وشرهت. يقول: إن هِجاءك الناس وشتمَهم صار أمرًا معروفًا لا يتعجب منه. كما لا يتعجب الناس من فعل الدهر. والشاهد فيه أنه عطف الأيام على الكاف الخطاب دون إعادة حرف الجر.

نُعَلِّقُ في مثلِ السَّواري سيوفَنَا ... وما بَينَها والكَعْبِ غَوطٌ نَفَانِفُ (¬1) قال أبو إسحاق (¬2): وقراءة حمزة مع ضَعفِها وقُبحِها في العربية خطأ في أمر الدين عظيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحلفوا بآبائكم (¬3) فكيف يكون: تتساءلون بالله (والرحم)؟ (¬4) (¬5). يعني أن الحَلِفَ بغير الله لا يجوز، وإذا عطفت الأرحام (كالمَكْنِيّ) (¬6) عن اسم الله أوجب جواز الحَلِف بالأرحامِ، وذلك غير جائز. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 253. والبيت نسبه الجاحظ في "الحيوان" 6/ 494 لمسكين الدارمي، وانظر "الإنصاف" ص 378، "معجم شواهد العربية" ص 237. واختلفت الروايات لأول البيت بين نُعَلِّق بالنون والبناء للمعلوم فيكون سيوفَنا منصوبًا على أنه مفعول به، وبين تُعَلَّق بالتاء والبناء للمفعول ويكون سيوفُنا مرفوعًا على أنه نائب فاعل. كما أن قافيته جاءت على روايتين: نفانف، وتنائف. قال عبد السلام هارون في شرحه للحيوان: مثل السواري، عنى بها أعناق الرجال. والسارية: الأسطوانة من أساطين البيوت ونحوها. التنائف جمع تنوفة وهي المفازة، وهذه مبالغة ظاهرة أن يجعل ما بين أعناقهم وكعوبهم تنائف. والشاهد منه أنه عطف الكعب على الضمير في بينها دون إعادة الخافض. (¬2) أي الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 6. (¬3) طرف حديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- رقم (2101) كتاب الكفارات، باب: من حُلِف له بالله فليرض 1/ 679، والحاكم في كتاب الأيمان من "مستدركه" 1/ 52، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" 6/ 136 (7247). كما أخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أبو داود (3247) في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والنسائي 7/ 5 في الأيمان والنذور، باب: الحلف بالأمهات 7/ 5، وابن حبان 10/ 199 رقم (4357) (¬4) في (أ): (والأرحام)، وما أثبته هو الموافق لما في "معاني الزجاج" إلا أن فيه: وبالرحم. (¬5) انتهى من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 6. (¬6) هكذا فى (أ)، و (د)، ولعل الصواب: على المكنى.

2

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. الرقيب: الحافظ، يقال: رَقَبَ يرقُبُ رِقْبَةً وُرقُوبا (¬1). ومعناه: أنه يرقُب عليكم أعمالكم فاتقوه فيما نهاكم. 2 - قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}. قال المفسرون: الخطاب للأوصياء وأولياء اليتامى (¬2). أي أعطوهم أموالهم. وإنما يُعطى إذا بلغ، ولا يُتْمَ بعد البلوغ (¬3)، ولكن قد يُستَصحب الاسم وإن زال معناه، كقوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)} [الشعراء: 46]، أي: الذين كانوا سحرة قبل السجود. وقد كان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يتيمُ أبي طَالِب (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}. يقال: تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانَه (¬5)، قال العجّاج: مَن إِنْ تَبَدَّلتُ بِلادِي آدُر (¬6) قال أكثر المفسرين: كان ولي اليتيم يأخذ الجيّد من ماله ويجعل ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1448 (رقب)، "مقاييس اللغة" 2/ 427 (رقب) والمصدر فيهما: رُقْبانًا. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 228، "تفسير البغوي" 2/ 159. (¬3) اليتيم هو الذي مات أبوه ويسمى بذلك حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتيم. هذا من ناحية الأحكام الشرعية، أما من الناحية اللغوية فيبقى الاسم لمن مات أبوه وإن كان بالغًا، لأن اليتيم لغة مأخوذ من الانفراد ومنه الدرة اليتيمة: أي المنفردة. انظر "تهذيب اللغة" 4/ 3973، 340 (يتم). (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 7، "تهذيب اللغة" 4/ 3973 (يتم)، "تفسير القرطبي" 5/ 8 ,9، والمقصود أنه كان يقال ذلك بعدما كبر - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 294 (بدل). (¬6) لم أجده في "ديوان العجاج" برواية الأصمعي وشرحه.

مكانَه الرديء، بجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، فنهى الله تعالى عن ذلك (¬1). قال مجاهد وبَاذَان (¬2): أي: لا تجعل بدل رِزقك الحلال حرامًا تتعجّله، فتأخذه عن مال اليتيم (¬3). ومعنى هذا ما قال الفراء والزجاج: يقول: لا تأكلوا أموالَ اليتامى بدل أموالكم، وأموالهُم عليكم حرام، وأموالكم حلال (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}. قال أكثر المفسرين: لا (تضيفوا) (¬5) أموالهم في الأكل إلى أموالكم، إن احتجتم إليها فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم (¬6). قال عطاء: يريد تَربَح على يتيمك، بأن يَهوَى دابة عندك أو ثوبًا فتبيعه منه بأكثر من ثمنه، وهو غِرّ (¬7) صغير السن (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 229 - 230، "زاد المسير" 2/ 5، "تفسير ابن كثير" 1/ 487، "الدر المنثور" 2/ 207 - 208. (¬2) باذان ويقال: باذام -بالميم- هو أبو صالح مولى أم هانىء، تقدمت ترجمته. (¬3) في "تفسير مجاهد" 1/ 143 يقول: لا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحال من أموالكم. وأخرج الأثر عن مجاهد وباذان (أبي صالح) ابن جرير في "تفسيره" 4/ 231 بنحوه، انظر "الكشف والبيان" 4/ 4 ب، "تفسير القرطبي" 5/ 9، "الدر المنثور" 2/ 208. (¬4) هذا نص كلام الفراء في "معاني القرآن" 1/ 253، ونحو كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 7. (¬5) في (د): (تضيعوا) بالعين. (¬6) نص كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 7، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 111، "تفسير الطبري" 4/ 230. (¬7) كأنها في النسختين: (عن) والمُرجَّح ما أثبته لما عند الثعلبي في الحاشية التالية. (¬8) من "الكشف والبيان" 4/ 4 ب بتصرف، وانظر: "زاد المسير" 2/ 5، "القرطبي" 5/ 10.

وهذا الذي ذكره عطاء هو نوع من أكل مال اليتيِم، ولا يجوز ذلك بأي وجهٍ كان. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] الكناية تعود إلى الأكل، ودل (تأكلوا) على المصدر (¬1). والحُوب الإثم الكبير، وكذلك الحَوب والحَاب، ثلاث لغات في الاسم والمصدر، يقال: حَاب يحُوب حُوبا، وحَوبا وحَابًا وحيابًة، إذا أَثِم (¬2). قال الفراء: الحُوب لأهل الحجاز، والحَوب لتميم، ومعناهما الإثم (¬3). وقال أمية بن الأسكر الليثي (¬4) -وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه (¬5) -: وإنَّ مُهَاجِرَينِ تَكنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَد خَطِئَا وَحَابَا (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 230، "الدر المصون" 3/ 557. (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 253، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 113، "تفسير ابن جرير" 4/ 230، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 392، "مقاييس اللغة" 2/ 113، "اللسان" 2/ 1036 (حوب). (¬3) ليس في "المعاني"، فقد يكون في كتابه المصادر، وهو مفقود. (¬4) أمية بن حُرثان بن الأسْكَر -بالسين المهملة على الصحيح- الكناني الليثي، شاعر مخضرم، له صحبة، كان سيدًا في قومه، توفي - رضي الله عنه - سنة 20 هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 190، "الإصابة" 1/ 64 - 65، "الأعلام" 2/ 22. (¬5) ابن أمية هو كلاب، وقصته أنه خرج وأخٌ له في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتركا أباهما أمية وهو شيخ كبير وكان لا يصبر عن كلاب، فاشتكى أمية إلى عمر وأنشده قصيدةً كان البيت التالي منها، فكتب عمر إلي سعد بن أبي وقاص أن رحل كلاب ابن أمية فرحله، فلما قدم المدينة جمعه عمر بأبيه فجعل أميهَ يشَمُّ ابنَه ويبكي. انظر: "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي ص 108، 109، "الإصابة" 1/ 64 - 65. (¬6) البيت في "مجار القرآن" 1/ 113، "تفسير الطبري" 4/ 230، 7/ 529 لكن عجزه في الموضع الأول: لعمر الله قد خطئا وحابا، "ذيل الآمالي والنوادر" ص 109،=

وحكى الفراء، عن بني أسد أنهم يقولون للقتال: حَائِب (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي" (¬2)، قال أبو عبيد (¬3): حَوْبتي يعني: المآثم، قال: وكل مأثم حُوب وحَوب، والواحدة حَوبة، ومِن هذا قوله: ألك حوبة؟ قال: نعم (¬4). وهو عندي: كل حرمة تأثم الإنسان بتركها وتضييعها من أُمّ أو أُخت أو بِنت أو غيرهن (¬5). ويقال (¬6): تَحوَّب فلان إذا تعبّد، كأنه يُلقي الحُوب عن نفسه بالعبادة، مثل: تأثم (¬7). ¬

_ = وعجزه فيه: ليترك شيخه خطئا وخابا "الإصابة" 1/ 65 وجل ألفاظه مغايرة، حيث إنه جاء: أتاه مهاجران فرنَّخاه ... عباد الله قد عَقَّا وخَابا والشاهد: حابا أي أثما. (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 253. (¬2) جزء من دعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أخرجه أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- 1/ 227، وأبو داود (1510) كتاب الوتر، باب: ما يقول الرجل إذا سَلَّم، والترمذي (3551) كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) في "غريب الحديث" 1/ 220 وقد أخذ عنه المؤلف بتصرف. (¬4) جزء من حديث اختصره المؤلف وسياق أبي عبيد: أن رجلًا أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أتيتك لأجاهد معك. فقال: "ألك حوبة؟ " فقال: نعم. قال: "ففيها فجاهد". يُروى عن أشعث ابن عبد الرحمن عن الحسن يرفعه. "غريب الحديث" 1/ 220. ولم أقف على هذا الحديث في دواوين السنة. (¬5) "غريب الحديث" 1/ 220، 221 بتصرف. (¬6) الظاهر أنه من قول أبي عبيد، وليس في "غريب الحديث" وإنما في "تهذيب اللغة" 1/ 690 (حاب)، وفي "الغريب" 1/ 221: وقد يكون التحوب التعبد والتجنب للمأثم. (¬7) انتهى أخذه عن أبي عبيد، وانظر "تهذيب اللغة" 1/ 690 - 691 (حاب).

قال الكُميت: وصُبَّ له شَولٌ من الماء غَائرٌ (¬1) ... به كَفَّ عنه الحِيبَةَ المتَحَوِّبُ (¬2) والحِيبَة ما يُتأثم منه، يصف ذِئبًا سقاه وأطعمه (¬3). قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. الإقساط: العَدل، يقال أَقسط الرجل إذا عدل (¬4)، قال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. والقسط: العدل والنصفة (¬5)، قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]. قال الزجاجي: وأصل قَسَط وأَقْسَط جميعًا من القِسط، وهو النصيب، فإذا قالوا: قسط بمعنى: جار، أرادوا أنه ظلم صاحبه في قِسطه الذي يصيبه. ألا ترى أنهم قالوا: قاسطته فقسطتُه إذا غلبته على قِسطه، فبني قَسَط على بناء ظلم وجار وعسف وغلب، وإذا قالوا: أقسط، فالمراد به أنه صار ذا قسط وعدل، فبُني على بناء أنصف، إذا أتى بالنَّصف والعدل في قوله، وفعله، وقسمه (¬6). ¬

_ (¬1) في النسختين: (عابر) بالباء، ولعلها تصحفت عن: غابر. (¬2) البيت في "تهذيب اللغة" 1/ 691 (حاب)، "اللسان" 2/ 1036. والشَّول: هو الماء القليل. انظر "مقاييس اللغة" 3/ 230. والشاهد: المُتَحوَّب أي المتعبَّد. (¬3) من "تهذيب اللغة" 13/ 691 (حاب). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 541، "تهذيب اللغة" 3/ 2959 (قسط). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2959، "مقاييس اللغة" 5/ 85 (قسط). (¬6) الظاهر أن هذا نهاية كلام الزجاجي، ولم أعثر عليه فيما بين يديَ من مصنفاته. انظر "جمهرة اللغة" 2/ 836، "تهذيب اللغة" 3/ 2959 (قسط).

واختلف أقوال أهل التأويل في هذه الآية، فرُوي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}؟ فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حَجرِ وليّها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِروا أن يَنكحوا ما سِواهن من النساء (¬1). وعلى هذا التفسير تقدير الآية: وإن خفتم ألا تُقسطوا في نكاح اليتامى، أي: الإناث منهم، فحذف المضاف؛ لأن قوله بعد: {فَانْكِحُوا} يدل على النكاح (¬2). وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} أي: من غيرهن، وذلك أن قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} بعد ذكر خوف الحَرج مِن نِكاح اليتامى، يدل على أن المراد به من غيرهن (¬3). هذا وجه ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية. وقال ابن عباس في رواية الوالبي (¬4) وعطاء، يقول: فكما خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى وَهمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن والقيام بحقهن؛ لأن النساء كاليتامى في الضعف، والعجز (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بنحوه (2494) كتاب الشركة، باب: شركة اليتيم وأهل الميراث، ومسلم (3013) كتاب التفسير، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 145، والنسائي في "تفسيره" 1/ 360، 361، والطبري 7/ 531، وغيرهم. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8 (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 232، "تفسير البغوي" 2/ 160. (¬4) هو أبو الحسن علي بن أبي طلحة، تقدمت ترجمته. (¬5) من "الكشف والبيان" 4/ 5 ب، 6 أ، وأشار الثعلبي إلى أن هذه رواية الوالبي عن =

وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي (¬1)، واختيار الفراء (¬2). وشرح ابن قتيبة هذا القول، فقال: المعنى: أن الله -جل وعز- قال لنا: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا أكلفتموهم (¬3)، فخافوا أيضًا أنْ لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فانكحوا اثنتين، وثلاثًا، وأربعًا، ولا تتجاوزوا ذلك فتعجزوا عن العدل (¬4). وقال ابن عباس: قُصِر الرجالُ على أربع، مِنْ أجل اليتامى (¬5). ¬

_ = ابن عباس، ولم أجد رواية عطاء، وقد أخرجه ابن جرير بمعناه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في "تفسير الطبري" 4/ 233، وانظر "أسباب النزول" للمؤلف 146 - 147، "زاد المسير" 2/ 6، "الدر المنثور" 2/ 209. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 233، "الكشف والبيان" 4/ 5 ب، 6 أ، "أسباب النزول" 146 - 147، "زاد المسير" 2/ 6، "الدر المنثور" 2/ 209. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 1/ 253، واختار القول أيضًا ابن جرير في "تفسيره" 4/ 233. (¬3) هكذا في (أ)، (د) والظاهر أن هذه الكلمة مُصحّفة من (كفلتموهم) بتقديم الفاء على اللام كما عند ابن قتيبة في "مشكل القرآن" ص 72 على أن المعنى يصح على ما هو مذكور في المتن، أي: كلفتم أمرهن والقيام على مصالحهن. (¬4) انتهى من "مشكل القرآن" ص 72، والواقع أن المؤلف حذف جملة مهمة من صدر الكلام وذلك أن ابن قتيبة قال: والمعنى: أن الله تعالى قصر الرجال على أربع نسوة وحرّم عليهم أن ينكحوا أكثر منهن، لأنه لو أباح لهم أن ينكحوا من الحرائر ما أباح من ملك اليمين لم يستطيعوا العدل عليهن بالتسوية بينهن، فقال لنا: فكما تخافون .. إلى آخر ما نقله المؤلف. (¬5) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" من رواية طاوس 4/ 233، وفيه: من أجل أموال اليتامى، والثعلبي 4/ 5 ب، وانظر "الدر المنثور" 2/ 209.

وكان (¬1) العدل في اليتامى شديدًا على كافِلِهم، قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء، ولم يُطلَق لهم ما فوق ذلك لئلا يميلوا. وقال مجاهد: معنى الآية: إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانًا وتصديقًا فكذلك تحرجوا مِن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحًا طيبًا ثم بين لهم عددًا محصورًا، وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد (¬2)، وهذا القول اختيار الزجاج (¬3). وهذه أوجهٌ صحيحةٌ من التأويل لهذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) هكذا العبارة، ولعل الصواب: ولما كان العدل .. (¬2) الأثر بنحوه في "تفسير مجاهد" 1/ 144. وأخرجه ابن جرير 4/ 236، والأثر عنده إلى (نكاحًا طيبًا) وقد أخذه المؤلف من الثعلبي 4/ 6 أ، وانظره في: "معاني الزجاج" 2/ 8، "معالم التنزيل" 2/ 161، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 2/ 210. (¬3) لم أر اختيارًا للزجاج لهذا القول الأخير الذي ذهب إليه مجاهد، وإنما ساق أقوالاً، وذكر هذا القول في مقدمتها. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 8 (¬4) هذا رأي المؤلف، وبعض المفسرين ساق هذه الأقوال دون ترجيح كالزجاج في المصدر السابق، والبغوي في "معالم التنزيل" 1/ 391، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 12، مما يؤيد احتمال الآية لهذه الأوجه. لكن ابن جرير -كما تقدم- اختار القول الثاني حيث قال: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن .. "تفسير الطبري" 4/ 235، وقد علل لاختياره كعادته.

وقوله تعالى: {مَا طَابَ} ولم يقل: (من) الأصل أن (من) لما يعقل، و (ما) لما لا يعقل (¬1). ولأهل العربية في هذا قولان: أحدهما: أن (ما) ههنا عبارة عن المصدر، فقال الفراء: معناه فانكحوا الطيب لكم من النساء (¬2). وقال مجاهد: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم من النساء (¬3). قال الفراء: وهذا كما تقول في الكلام: خُذ من عبيدي ما شئت، أي: مشيئتك فإن قلت: مَن شئت، فمعناه: خذ الذي شئت (¬4). فعلى هذا (ما طاب) بمنزلة الطيب. والقول الثاني: أن (ما) و (من) ربما يتعاقبان، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، وقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} (¬5) [النور: 45]. ¬

_ (¬1) انظر: "المقتضب" 3/ 63، 4/ 217، "معاني الزجاج" 2/ 8، "حروف المعاني" للزجاجي 54، 55، "شرح شذور الذهب" 189 - 190. (¬2) هذا مُؤدَّى رأي الفراء، وليس بنصه. انظر: "معاني الفراء" 1/ 253، 254. (¬3) الذي ظهر لي أن هذا معنى كلام مجاهد في الأثر المتقدم عنه قريبًا ص 88 من قوله: (فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا) لأني لم أجد له هذا الكلام الذي أورده المؤلف هنا بنصه، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 236 - 237 ففيه ما يؤيد أن هذا معنى كلامه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 254 - بتصرف-، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 236 - 237، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 434. (¬5) انظر: "المقتضب" 4/ 185، 218، "معالم التنزيل" 1/ 161، "الإملاء بهامش الفتوحات" 2/ 185، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 12، "الدر المصون" 3/ 561. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 162: وقرأ ابن أبي عبلة (من طاب) وقرأ الجمهور (ما طاب) فقيل (ما) بمعنى من، وهذا مذهب من يُجَوَّز وقوعَ ما على أحاد العقلاء، وهو مرجوح.

وحكى أبو عَمْرو بن العلاء (¬1)، عن العرب: سبحان ما سبح له الرعد (¬2). ومعنى قوله (طاب) أي: حلّ (¬3)، وإنما أباح النكاح من اللاتي تحل دون المحرمات اللواتي ذُكِرن في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخر الآية (¬4). وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}. بدل مما طاب، ومعناه: اثنتَين، وثلاثًا (ثلاثًا (¬5)) وأربعًا (أربعًا) (¬6). قال أبو إسحاق (¬7): إلا أنه لم ينصرف لجهتين لا أعلم أحدًا من النحويين ذكرهما؛ وهي أنه اجتمع فيه علتان: أنه معدول عن اثنتين اثنتين (¬8) وثلاث ثلاث، وأنه عُدِل عن تأنيث. قال أصحابنا (¬9): إنه اجتمع علتان: أنه عَدْل (¬10)، وأنه نكرة، والنكرة أصل الأشياء (¬11)، وهذا (¬12) كان ينبغي أن يخفّفه (¬13)؛ لأنّ النكرة ¬

_ (¬1) هو زبان بن العلاء بن عمار التميمي البصري أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته. (¬2) من "الكشف والبيان" 4/ 6 ب. وقد نسب المبرد فى "المقتضب" 4/ 285 هذا القول لأبي زيد. وانظر: "تفسير القرطبي" 5/ 13. (¬3) انظر: "الطبري" 4/ 236، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8، "معالم التنزيل" 2/ 161. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8، 9، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 393. (¬5) هذا التكرير ليس في (د). والكلام من أوله للزجاج في "معاني القرآن" 2/ 9. (¬6) هذا التكرير ليس في (د). والكلام من أوله للزجاج في "معاني القرآن" 2/ 9. (¬7) أي الزجاج في "معانيه" 2/ 9. (¬8) عند الزجاج في "المعاني": اثنين اثنين بالتذكير. (¬9) لا يزال الكلام لأبي إسحاق الزجاج، والظاهر أنه يقصد البصريين من النحاة. (¬10) في "معاني الزجاج" أنه عُدِل عن تأنيث. (¬11) عند الزجاج: الأسماء. (¬12) عند الزجاج: بهذا. (¬13) عند الزجاج: نخففه وهو أولى.

تخفف ولا تعد (فرعًا (¬1)) هذا كلام أبي إسحاق (¬2). وقد أخطا لي (¬3) في موضعين من هذا الفصل أصلحهما أبو علي وذكر معنى العدل فقال (¬4): اعلم أنّ العدل ضرب من الاشتقاق، فكل معدول مشتق، وليس كل مشتق معدولًا، وإنما صار العدل ثقلًا. وثانيًا: لأنك تلفظ بكلمة وتريد بها كلمة على لفظ آخر، ألا ترى أنك تريد بعُمَر وزُفَر (عَامِرًا وَزافِرًا) (¬5)، فأنت تلفظ بكلمة وتريد أخرى، وليس كذلك سائر المشتقات، لأنك تريد بها نفس اللفظ المسموع، ولست تُحيل بها على لفظ آخر، نحو: ضارب ومضروب؛ فإنهما اشتقا من الضرب، ولا تريد بلفظ واحد منهما لفظًا غيره، كما تريد بُعمَر عامرًا، وبزُفَر زَافِرًا، وبمثنى اثنين اثنين، فصار المعدول بمخالفته سائر المشتقات ثقيِلًا؛ إذ ليس في جنس الاشتقاق شيءٌ على حِدِّهِ. وقول أبي إسحاق: إن مثنى لا ينصرف لجهتين: وهو أنه معدول عن اثنتين اثنتين، وأنه عُدِل عن تأنيث، مراده بهذا أنه لما عدل عن التأنيث كان ذلك ثقلًا آخر لما لم يكن المعدول عنه هو الأول المذكر، فزاد بذلك ثقلًا انضم إلى المعنى الأول فلم ينصرف. إلى هذا الوجه ذهب أبو إسحاق، ولو سُلِّم له أنه عُدِل عن تانيث لم يكن ثقلًا مانعًا من الصرف يدل على ذلك أن التعريف ثانٍ، كما أن التأنيث ¬

_ (¬1) في (د): (نوعًا)، وما أثبته هو الموافق لما في "معاني الزجاج". (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 9. (¬3) قد تكون: (لي) زيادة من الناسخ. (¬4) كلام أبي علي من كتابه "الإغفال" فيما أغفله الزجاج 2/ ل 63. (¬5) فى (د): (زافرًا وعامرًا).

كذلك، ولم يكن العدل عن التعريف ثقلًا معتدًا في منع الصرف، ألا ترى أنه لو كان مُعتَدًا به لوجب أن لا ينصرف (عُمر) في النكرة في قول جميع الناس، دلالة على أن العدل عن التعريف غير معتد به ثقلًا، على أنا لا نسلم أنه معدول عن تأنيث. وقوله في ذلك دعوى لا دلالة عليها، ألا ترى أنه لا يجد فصلًا بينه وبين من قَلَب هذا عليه، فقال: إنه معدول عن التذكير هو أقرب إلى الصواب؛ لأن الأصل التذكير حتى يُعلم التأنيث، ولم نعلم التأنيث هنا. فإن قال: عَلِمنا التأنيث بقوله: {مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} فجرى على النساء وهي مؤنثة، قيل: لا يدل هذا على أنّ العدل عن التأنيث، بل العدل يكون عن التذكير، وإنما جرى على النساء، من حيث كان تأنيثها تأنيث الجمع، وهذا الضرب من التأنيث ليس بحقيقي، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال، كما تقول: هي النساء، فلما كان تأنيث النساء تأنيث الجمع جرى عليه هذه الأسماء كما جرى على غير النساء مما تأنيثه تأنيث جمع؛ لأنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي، إنما هي من أجل اللفظ، فهو مثل: الدار، والنار، وما أشبه ذلك. ولو جاز لقائل أن يقول: مثنى وبابُه معدول عن مؤنث لما جرى على النساء وواحدتهن مؤنثة، لجاز لآخر أن يقول: إنه مذكر؛ لأنه جرى صفة على الأجنحة في قوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى} [فاطر: 1]، وواحدها مُذكّر. وهذا هو القول والوجه لما بينّا أنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي، على أن هذه الأسماء قد جرت المذكر الحقيقي، قال:

ولقد قتلتكم (¬1) ثناءَ وَموحَدًا ... وتركتُ مُرَّة مثل أمسِ الدَّابِرِ (¬2) فأما ذكره في قول: قال: إنه اجتمع فيه علتان، أنه عَدْل وأنه نكرة، الفصل إلى آخره، فاعلم أنه غلط بين في الحكاية عنهم، وإنما يذهبون في امتناعه من الانصراف إلى أنه معدول، وأنه صفة. وهذا لفظ سيبويه، قال (¬3) عن الخليل في (أحاد، ومثنى): إنما كان حده واحدا واحدا، واثنين واثنين، فجاء (معدولًا (¬4)) عن وجهه فتُرِك صرفه. قلت: أتصرفه في النكرة؟ قال: لا، لأنه نكرة يوصف به نكرة. وحكى الخليل، عن أبي عمرو أنه قال في قوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]: أنها صفة (¬5). فقد نصوا على الصفة كما ترى، ونحو هذا قال أبو الحسن (¬6) وغيره من أصحابنا. انقضى كلام أبي علي (¬7). ¬

_ (¬1) في النسختين: (قبلتكم) بالموحدة التحتية، وما أثبته حسب "الإغفال" والمصادر الآتية. (¬2) البيت لصَخر بن عمرو بن الشّريد السُلمي. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 115، "أدب الكاتب" ص 458، "تفسير الطبري" 4/ 237، لكن عند أبي عبيدة وابن جرير قافيته: كأمس المدبر، ومال إلى ذلك محمود شاكر في حاشيته على ابن جرير. والشاهد منه كما في "مجاز القرآن" أنه اخرج اثني مخرج ثلاث. (¬3) أي سيبويه في "الكتاب" 3/ 225. (¬4) في "الكتاب" محدودًا. (¬5) انتهى أخذ أبي علي من سيبويه في "الكتاب" 2/ 225، وانظر: "الطبري" 4/ 237. (¬6) إن كان يريد الأخفش -وهو الظاهر- فإن رأيه مغاير لما ذكر كما سيأتي. (¬7) من "الإغفال" 2/ ل 63 - 67 بتصرف.

ومن النحويين (¬1) من يذهب إلى أن العلّة المانعة للصرف في (مثنى) وبابه، أن العدل تكرر فيه؛ لأنه عُدِل لفظ (اثنين)، وعُدِل عن معناه أيضًا، وذلك لا يستعمل في موضع يستعمل (¬2) فيه الأعداد غير المعدولة. ألا ترى أنك تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز أن تقول: جاءني مثنى وثلاث، حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جُعِل بيانًا لترتيب الفعل، فإذا قال القائل: جاءني القوم مثنى مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين. وأما الأعداد غير المعدولة، فإنما الغرض فيها الإخبار عن مقدار المعدود (دون (¬3)) غيره، فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين، لإيجابها حكمين مختلفين (¬4). والواو في قوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} دالة على تفرّق الأنواع، وتجنيس المُباح من الزوجات، فمن تزوج مثنى لم يضم إليهما ثلاثًا، وكذلك من تزوج ثلاثًا لم يضم إليهن أربعًا. قال الشاعر: ولَكِنَّمَا أَهْلِي بوادٍ أَنيسُه ... ذئابٌ تَبَغَّى الناس مثْنَى وَموْحَدا (¬5) ¬

_ (¬1) كالأخفش في "معاني القرآن" 1/ 431، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 393 - 394، وقد تبعهم في ذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 151، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 563، وعبارة الأخيرين لا تختلف عن عبارة المؤلف إلا يسيرًا فيحتمل إفادتهما منه. (¬2) في "البحر"، و"الدر" (تستعمل) بالتاء. (¬3) في (د): (عن)، وما أثبته مطابق لـ"البحر"، و"الدر". (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 431، 432، "البحر المحيط" 3/ 151، "الدر المصون" 3/ 563. (¬5) البيت لساعدة بن جُؤيّة الهذلي كما في "ديوان الهذليين" 1/ 237، "الكتاب" =

فعَنى مثنى في حال، وموحد في حال أخرى، وليس (موحد) مضمومًا إلى (مثنى) في المعنى. وقال ابن الأنباري: الواو هنا معناها التفرّق، وليست واوًا جامعة، فإذا كانت بهذه الصفة قُدِّر الفعل بعدها، وكان التأويل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثلاثًا في غير الحال الأول، وانكحوا رباع في غير الحالين (¬1). وهذا معنى قول النحويين: أن الواو ههنا للبدل (¬2)، كأنه قيل: وثلاث بدلا من مثنى، ورُباع بدلًا من ثلاث (¬3). ¬

_ = 3/ 226، "اللسان" 1/ 321 (بغا). وهو من شواهد "مجاز القرآن" 1/ 114، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 432، "المقتضب"، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 10. وقد اختلفت الرواية في قافية البيت بين الرفع والنصب، فجاءت: موحدا كما عند المؤلف في "مجاز القرآن" "معاني القرآن" للأخفش، "اللسان". وجاءت موحد في "الديوان"، "الكتاب"، "المقتضب", "معاني القرآن" للزجاج، ولعل هذه أرجح لموافقتها قوافي القصيدة، انظر "ديوان الهذليين" 1/ 236 - 242. أما معنى البيت فجاء في شرحه في "الديوان": يقول: أهلي بواد ليس به أنيس: هم مع السباع والوحش في بلد مقفر. مثنى: اثنان اثنان. وموحدت واحد واحد، ومعنى تبغّى: تطلب. كما في "اللسان". (¬1) لم أقف على كلام ابن الأنباري فيما بين يديّ من مصنفاته. (¬2) إذا كان المؤلف -وهو الظاهر- يقصد أن (مثنى وثلاث ورباع) بدل مما قبلها، فهي في موضع نصب على البدل من (ما) في (ما طاب) عند بعض النحاة. انظر "إعراب القرآن" للنحاس (393)، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 189، "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 281، "الدر المصون" 3/ 562. وإن كان غير ذلك فإني لم أجد -فيما اطلعت عليه من كتب التفسير وإعراب القرآن ومعاني الحروف- أن الواو تأتي بمعنى البدل، والله أعلم. (¬3) انظر: "القرطبي" 5/ 17.

وقال صاحب النظم (¬1): الواو في هذا الفصل بمنزلة (أو)؛ لأنه لما كانت (أو) بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة (أو) (¬2). ولا تدل هذه الآية على إباحة التسع (¬3)؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات وأبلغها، وليس من شأن الخطيب البليغ أَنْ يُفرِّق العدد في مثل هذه الحال، يقول: أعط زيدًا درهمين وثلاثة وأربعة؛ لأنه يصير أعيا كلام (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}، أي: في الأربع، بالحب والجماع (¬5). ¬

_ (¬1) أي مصنف كتاب "نظم القرآن" وهو أبو علي الجرجاني. (¬2) انظر: الطبري 4/ 238، "الكشف والبيان" للثعلبي 4/ 6 ب، "معالم التنزيل" 2/ 161، "غرائب التفسير" 1/ 282، واستبعد أبو حيان أن تكون أو بمنزلة الواو، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء، والواو لمطلق الجمع فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع. انظر: "البحر" 3/ 163. وما ذكره المؤلف حول الواو هنا أقوال متقاربة من حيث المعنى. (¬3) يشير المؤلف إلى بطلان رأي الشيعة الرافضة في ذلك. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 10، والبغوي 2/ 161، والقرطبي 5/ 17، و"البحر المحيط" 3/ 163، وابن كثير 1/ 488. (¬4) من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 10 بتصرف. وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 282. (¬5) هذا رأي الضحاك كما عند الطبري 4/ 239، والفراء في "معاني القرآن" 1/ 255. انظر: القرطبي 5/ 20. والظاهر أن العدل إنما هو بالنفقة والقسمة ونحوهما، وليس الزوج مُطالبًا بالعدل في الأمور القلبية والنفسية كالحب، ويدل على ذلك أن الله -عز وجل- يقول: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، قال الطبري 5/ 313 في معناه: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثل ما لصواحبها؛ لأن ذلك مما لا تملكونه وليس إليكم.=

{فَوَاحِدَةً} أي: فلينكح كل واحد منكم واحدة (¬1). ومن قرأ بالرفع (¬2) أراد: فواحدةٌ مقنَع، أو فواحدةٌ رضا (¬3). وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. يريد من الجواري (¬4)؛ لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق كالذي يلزم في الحرائر، ولا قسمة فيهن باليوم والليلة (¬5). ومعنى الأيمان ههنا بيان، تقديره: أو ما ملكتم (¬6). ¬

_ = وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. قال أبو داود: يعني القلب أخرجه أبو داود (2134) كتاب: النكاح، باب: في القسم بين النساء، والنسائي 7/ 64 كتاب: عشرة النساء، باب: ميل الرجل إلى بعض نسائه، والترمذي (1140) كتاب النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، وابن ماجه (1971) كتاب النكاح، باب: القسمة بين النساء، وابن حبان في "صحيحه" 10/ 5 (4205). وأشار ابن حجر إلى أن فيه مقالًا، انظر: "التلخيص الحبير" 3/ 139. (¬1) هذا التقدير على قراءة النصب وهي قراءة الجمهور من العشرة انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 394، "المبسوط" / 153، "النشر" 2/ 247، "إتحاف فضلاء البشر" ص 186. (¬2) وهو أبو جعفر وحده من العشرة. انظر: "المبسوط" / 153، "النشر" 2/ 247، "الإتحاف" / 186. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 255، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 394، "الإتحاف" ص 186. (¬4) أخرج الطبري 4/ 239 عن السدي أنه قال: السراري، وانظر: القرطبي 5/ 20. (¬5) من "الكشف والبيان" 4/ 7 أبتصرف. وهذا ما دلت عليه الآية أنه لا يجب للإماء ما يجب للحرائر، ولكن الظاهر أنه يستحب. انظر: البغوي 2/ 162، القرطبي 5/ 20، ابن كثير 1/ 490. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 7 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 162.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] الإشارة في {ذَلِك} تعود إلى قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ} (¬1) أي: نكاحكم هؤلاء النسوة على قلة عددهن أقرب إلى العدل وأبعد من الظلم والجور. ومعنى {تَعُولُوا}: تميلوا (وتجورا) (¬2)، عن جميع أهل التفسير واللغة (¬3)، وروي ذلك مرفوعًا. روت عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} قال: "لا تجوروا". ورُوي: "أن لا تميلوا" (¬4). كلا (¬5) اللفظين مرويّ. قال ابن المظفر: العَول المَيل في الحكم إلى الجور (¬6). وقال أبو عبيدة، عن الأصمعي: وعال الميزان إذا مال، وإنما هو مأخوذ من الجور (¬7)، وأنشد لأبي طالب (¬8): ¬

_ (¬1) لعل هذا وهم من المؤلف، فالذي يظهر أنّ اسم الإشارة يعود إلى قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، يؤيد هذا بقية كلامه. وانظر: الطبري 4/ 238. (¬2) هكذا في (أ)، (د). والصواب: (تجوروا). (¬3) سيأتي تفصيلٌ وتعدادٌ لمن ذهب إلى ذلك من أهل التفسير والعربية قريبًا عند المؤلف، وارجع إلى مظانه هناك. (¬4) أخرج الحديث بالروايتين الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 27، قال ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث خطأ، الصحيح، عن عائشة موقوف، "تفسير القرآن العظيم" لابن أبي حاتم 3/ 860 بتحقيق حكمت بشير بابين (رسالة دكتوراه في أم القرى)، وانظر "تفسير ابن كثير" 1/ 490. (¬5) في (أ): (كلى). (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2288 (عال)، وابن المظفر هو المعروف بالليث، وتقدمت ترجمته. (¬7) من "تهذيب اللغة" 3/ 2288 (عال)، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 117. (¬8) هو عبد مناف بن قصي بن هاشم القرشي، أبن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدمت ترجمته.

بِميزانِ قسط لا يُعِلّ شَعيرةً ... ووزَّانُ صدقٍ وزنُه غيرُ عائلِ (¬1) وقال الفراء: عال الرجل يعول عَولًا وعِيالةً، إذا مال وجار (¬2). وعلى هذا القول ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، وقتادة، والربيع، والسدي، وأبو مالك (¬3)، وعكرمة (¬4)، والفراء (¬5)، والزجاج (¬6)، وابن قتيبة (¬7)، وابن الأنباري (¬8). ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة طويلة مشهورة بيّن فيها أبو طالب وقوفه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خشي قومه ودهماء العرب كما في "سيرة ابن هشام" 1/ 286 - 298، وهو في الطبري 4/ 240، "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 141، "تهذيب اللغة" 3/ 2288 (عال)، وابن كثير 1/ 490. وقوله: "لا يعل" يبدو أنه بالغين (يغل) كما عند الطبري، وفي "السيرة": يخس بدل يغل، والمعنى كما في حاشية الطبري: أي: لا ينقص. و (وزان) عند الطبري وابن الأنباري بلفظ (ووازن). وعجز هذا البيت في "السيرة"، "تهذيب اللغة"، و"ابن كثير": له شاهد من نفسه غير عائل قال ابن الأنباري: معناه: غير مائل، وهذا هو الشاهد من البيت هنا. (¬2) ليس في "معاني القرآن"، وإنما الذي فيه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}: ألا تميلوا، وهو أيضًا في كلام العرب: قد عال يعول. (¬3) هو: غَزوان الغِفاري الكوفي، تقدمت ترجمته. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 240، و"البغوي" 1/ 163، و"ابن كثير" 1/ 490، و"الدر المنثور" 2/ 211. (¬5) في "معاني القرآن" 1/ 255. (¬6) في "معاني القرآن" وإعرابه 2/ 1. (¬7) في "غريب القرآن" ص 119. (¬8) انظر: "غريب القرآن" لابن عزيز ص 33.

وأخبرني العروضي قراءةً، وسعيد بن العباس القرشي كتابةً، عن الأزهري، قال: أخبرني عبد الملك (¬1)، عن الربيع (¬2)، عن الشافعي - رضي الله عنه - (¬3) أنه قال: معناه ألّا يكثر عيالكم (¬4). وإلى هذا القول ذهب من المفسرين عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬5)، وليس قول من خطّأ الشافعي في هذا بشيءٍ، فقد روى لنا الفسوي أبو الحسين، عن حَمْد بن محمد الفقيه، عن أبي عمر (¬6) محمد بن عبد الواحد، عن أحمد بن يحيى، عن سَلَمة (¬7)، عن الفراء، عن الكسائي (¬8)، أنه قال: ومن العرب الفُصَحاء من يقول: عال يعول، إذا كثر عياله (¬9). قال الكسائي: وهي لغة فصيحة سمعتُها من العرب (¬10). ¬

_ (¬1) لم أعرفه. (¬2) هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المُرادي المَصري المُؤَذَّن، صاحب الشافعي وراوي كتبه، ثقة، أخرج له أصحاب السنن، توفي -رحمه الله- سنة 270 هـ. انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص 109، "سير أعلام النبلاء" 12/ 587، "التقريب" ص 206 رقم (1894). (¬3) السند من الأزهري إلى الشافعي في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال)، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 162، "تفسير القرطبي" 5/ 21. (¬5) أخرجه الطبري 1/ 241 بلفظ: أهون عليك في العيال. وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال)، "زاد المسير" 2/ 10، "الدر المنثور" 2/ 211. (¬6) السند من أبي عمر إلى آخره في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال). (¬7) أبو محمد سلمة بن عاصم النحوي، تقدمت ترجمته عند تفسير [البقرة: 102]. (¬8) هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي. (¬9) "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال). (¬10) هذا القول للكسائي ليس في "تهذيب اللغة".

قال الأزهري (¬1): وهذا يدل على أن الشافعي لم يخطئ من جهة اللغة؛ لأن الكسائي ثقة مأمون (¬2). قال (¬3): والمعروف من كلام العرب: عال الرجل يعول، إذا جار ومال (¬4)، وأعال (¬5)، إذا كثر عياله (¬6). وقال ابن الأنباري: وهذا القول -على قلة القائلين به- له مخرج في اللغة، وهو أن العرب تقول: قد عالت الفريضة، إذا زادت سهامها، وأعلتها أنا (إذ أردت (¬7)) في سهامها (¬8). فكذلك قوله: {أَلَّا تَعُولُوا} معناه ألا يزداد عيالكم فتضيعوا الواجب والمفترض لهم (¬9). وهذا القول وإن صح، فالاختيار القول الأول (¬10)، لقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فأطلق الآية من ملك اليمين، والأقل والأكثر منها (¬11)، وهن كلهن عيال تتصل بهن المؤونة، وسواء كثر العيال من الحرائر أو الإماء، ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال). (¬2) معنى كلام الأزهري وليس نصه. (¬3) أي الأزهري، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال) متقدم على قوله السابق. (¬4) ومال ليس في "التهذيب". (¬5) في "التهذيب": وأعال يعيل. (¬6) انتهى من "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال). وانظر: "الزاهر" 1/ 140 , 141. (¬7) هكذا في (أ)، (د). ولعل الصواب: إذا زدت. (¬8) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 396، "تهذيب اللغة" 3/ 2278 (عال). (¬9) لم أقف على قول ابن الأنباري هذا، لكن قال في "الزاهر" 1/ 140: ويقال: قد أعال الرجل يعيل فهو معيل: إذا كثر عياله. (¬10) هذا الأسلوب من الترجيح حسن من المؤلف، لما فيه من التأديب مع أئمة علم الشريعة والعربية، كالشافعي والكسائي، عكس ما نهج الزجاج -رحمه الله- في هذا، حيث رد هذا القول بشدهَ، بل وتجاهل القائلين به فلم يصرح بأسمائهم. انظر "معاني القرآن" وإعرابه 2/ 11. (¬11) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 11.

فلا معنى إذًا أن يقول: ذلك أدنى أن لا يكثر عليكم (¬1) بعد إباحة الكثير من السراري. ودليل آخر، وهو أنه قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} ولم يقل: أن تفتقروا، فكان الجواب معطوفًا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وهو الجور، لا لكثرة العيال. ذكر هذا صاحب النظم (¬2). ورُوي عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: {أَلَّا تَعْدِلُوا} ألا تضلوا (¬3). وهذا راجع إلى الأول (¬4)، لأن الميل عن الحق ضلال. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فيه قولان: أحدهما: أن هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك أنّ العرب كانت في الجاهلية لا تُعطي النساء من مهورها شيئًا، ولذلك كانوا يقولون لمن وُلدت له ابنة: هنيئًا لك النافجة. ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلًا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك، أي تعظمه (¬5). وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل إذا زَوّج ابنته من الحُلوان فنهى الله عز وجل عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله (¬6). ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: عيالكم. (¬2) أي "نظم القرآن" وهو الجرجاني، تقدمت ترجمته. (¬3) رواه الثوري في "تفسيره" ص 87 بسنده عن مجاهد، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 7 ب. انظر: "تفسير البغوي" 2/ 162، "زاد المسير" 2/ 10. (¬4) أي: تميلوا وتجوروا، قال الهواري لما ذكر القولين: وهو واحد، "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 347. (¬5) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115، 120، "تهذيب اللغة" (نفج) 4/ 3624، "الكشف والبيان" 4/ 8 أ. (¬6) لم أقف عليه.

وهذا قول الكلبي (¬1)، وأبي صالح (¬2)، واختيار الفراء (¬3)، وابن قتيبة (¬4). القول الثاني: أن الخطاب للأزواج، أُمِروا بإيفاء النساء مهورهن. وهذا قول إبراهيم (¬5)، وعلقمة، وقتادة (¬6)، وابن زيد (¬7)، واختيار الزجاج؛ قال: لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج (¬8). والصدقات والمهور، واحدتها صَدُقَة، وفيها لغات هذه أعلاها وهي لغة أهل الحجاز (¬9). وذكرنا أن موضوع (ص د ق) على هذا الترتيب، للإكمال والصحة في قوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} (¬10) [البقرة: 264]، وعلى هذا الأصل سُمي المهر: صداقًا وصَدُقة؛ لأن عقد النكاح يتم ويكمل. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 8 أ، "معالم التنزيل" 2/ 162. (¬2) أخرج قوله ابن جرير 4/ 241. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 256. (¬4) في "غريب القرآن" ص 115. (¬5) لم أقف على قول إبراهيم وهو النخعي. (¬6) انظر: "الدر المنثور" 2/ 213. (¬7) أخرج ابن جرير في "تفسيره" 4/ 241، عن قتادة في معنى (نخلة): يقول فريضة، يعني على الزواج. (¬8) أخرجه ابن جرير 4/ 241 بنحو قول قتادة. (¬9) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 12. وهذا ما اختاره ابن جرير -رحمه الله- كما في "تفسيره" 4/ 242، والبغوي 2/ 163، وهناك قول ثالث: وهو أن المراد النهي عن نكاح الشَّغار وهو رأي الحضرمي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 242، "الكشف والبيان" 4/ 8 أ، "معالم التنزيل" 2/ 163. (¬10) انظر: "معاني القرآن" للزجاج، 2/ 12، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 494، "الكشف والبيان" 4/ 8 ب.

وقوله تعالى: {نِحْلَةً}. قال ابن عباس (¬1)، وقتادة، وابن جريج، (وأبي زيد) (¬2): فريضة (¬3). وإنما فسروا النحلة بالفريضة؛ لأن النحلة معناها في اللغة: الديانة والمِلّة والشِرعة والمَذهب. قال الزجاج، عن بعضهم في قوله: {نِحْلَةً} أي: ديانة (¬4)، ومثله رُوي (¬5) عن ابن الأعرابي: نحلة: أي: دينًا وتدينًا (¬6). يقال: فلان ينتحل كذا، إذا كان يتدين به، ونِحْلَتُه كذا أي: دينه ومذهبه (¬7). فقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} أي آتوهن مهورهن، فإنها نِحلة، أي دين وشريعة ومذهب في الدين، وما هو ديانة فهو فريضة. قال ابن الأنباري: يقال: فلان (مُنْتَحِلٌ (¬8)) كذا، إذا كان يتدين به ويجعله فَرضًا على نفسه (¬9). وقال الكلبي: أي: عطية وهبة (¬10)، يقال نحلت فلانًا شيئًا أنحله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير بسنده من طريق ابن أبي طلحة 4/ 241. وانظر: "الدر المنثور" 2/ 212. (¬2) هكذا في (أ)، (د) وقد يكون تصحيفًا كما هو ظاهر، والصواب: وابن زيد. (¬3) أخرج أقوالهم الطبري 4/ 241، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 8 ب، والبغوي 2/ 163، و"الدر المنثور" 2/ 212. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 12. (¬5) الراوي الأزهري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3532 (نحل). (¬6) "تهذيب اللغة" 5/ 65 (نحل). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 12، "تهذيب اللغة" 5/ 64 (نحل). (¬8) في (د): (ينتحل). (¬9) انظر: "الزاهر" 2/ 254. (¬10) "الكشف والبيان" 4/ 8 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 163، "البحر المحيط" 3/ 166، "تنوير المقباس" بهامش المصحف الشريف ص 77.

نِحلة ونُحلاً. قال الفراء، والنحلة العطية (¬1). ومعنى هذا القول: أن الله تعالى جعل الصداق نِحلةً للنساء، بأن جعل على الرجال الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئًا من الغُرم، فتلك نحلة من الله -عز وجل- للنساء. وهذا القول اختيار الفراء (¬2). وقال أبو عبيدة: معنى قوله: {نِحْلَةً} أي: عن طيب نفس (¬3)، وذلك أن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما يَنحَل الرجلُ ولدَه شيئًا من ماله، وما أعطي من غير طلب عوض لا يكون إلا عن النفس، فأمر الله تعالى بإعطاء مهور النساء من غير مُطالبة منهن ولا مُخاصمة فيه؛ لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نِحلة (¬4). قال ابن الأنباري: وهذا القول هو المختارة لأن النَّحلة بالهبة أشهر منها بالفريضة، وحمل الشيء على الأشهر والأعرف فيه أولى (¬5). وانتصابها على المصدر في قوله (¬6) من جعلها مصدرًا بمعنى: الهبة (¬7)، وفي قول الآخرين على أنه مفعول له (¬8)، كما تقول: افعل هذا أجرًا واحتسابًا. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 1/ 256. (¬2) في "معاني القرآن" 1/ 256، وقد حكى الفراء هذا القول ولم يذكر غيره. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 117، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115. (¬4) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115 "الزاهر" 2/ 254. (¬5) هذا الترجيح من ابن الأنباري لم أقف عليه، بل وقفت على خلافه حيث قال -بعد أن أشار إلى القولين-: والقولان متقاربان، "الزاهر" 2/ 254. (¬6) هكذا ولعل الصواب: (قول). (¬7) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 188، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 242، "البحر المحيط" 3/ 166، "الدر المصون" 3/ 571. (¬8) انظر: "البحر المحيط" 3/ 166، "الدر المصون" 3/ 571.

وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا}. قال الفراء (¬1) والزجاج: المعنى فإن طابت أنفُسهن لكم عن شيء من الصداق (¬2)، فنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مُفسّرة كما قالوا: أنت حسنٌ وجهًا، والفعل في الأصل للوجه، فلما حُوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسّرًا لموقع الفعل. (ومثله: قررتُ به عينًا، وضقتُ به ذرعًا) (¬3) ووحد النفس (¬4)؛ (لأن المراد به بيان موقع الفعل وتفسير له، وذلك يعرف بالواحد دون الجميع. ومثله: عشرون درهما) (¬5). قال الفراء: ولو جمعت كان صوابًا (¬6)، كقوله: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103]، وقوله تعالى: {مِنْهُ} (مِن) ليست ههنا للتبعيض، بل هي للتجنيس، والتقدير: عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر، كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، وذلك أن المرأة لو طابت نفسُها عن جميع المهر حل للزوج أخذه كله. والخطاب في: {لَكُمْ} يجوز أن يكون للأولياء، ويجوز أن يكون للأزواج، على ما ذكرنا من القولين في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 256. (¬2) من الصدقات زيادة على الفراء. (¬3) ما بين القوسين زيادة على ما عند الفراء. (¬4) عبارة الفراء: ووحد النفس، ولو جمعتَ لكان صوابًا، وقد جاء بقية العبارة عند المؤلف في آخر كلامه كما سيأتي. (¬5) ما بين القوسين زيادة على ما عند الفراء. (¬6) انتهى من "معاني الفراء" 1/ 256، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 12، والشاهد بعد ذلك إضافة من المؤلف، والله أعلم. وانظر "الكف والبيان" 4/ 29. (¬7) من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 13 بمعناه.

وقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. قال الفراء (¬1): يقال هَنَأني الطعام، ومَرأَني (يهيئني (¬2)) ويمرئني هَنأً وَمرءًا. ومنهم من يقول: هنئني ومرئني -بالكسر- وهي قليلة، يَهْنَأني وَيْمَرأني فإذا أفردوا قالوا: أمرأني هذا الطعام (¬3)، ولا يقولون: أهنأني. وقد مَرُؤ هذا الطعام مَرْأاة، وهنؤ هُنْأة. الليث (¬4): ما كان مريئًا، ولقد مرؤ، واستمرأته، وهذا يُمرئ الطعام. وقيل: إن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجَرَب بالقَطران (¬5)، فالهنيء شفاء من المرض كالهناء شفاء من الجرب (¬6). قال المفسرون: معنى الهنيء: الطيب المَساغ الذي لا يُنغِّصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة التامّ الهضم الذي لا يضر ولا يُؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة (¬7). ورُوي عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: "إذا جادت لزوجها بالمهر طائعة، غير مُكرَهة لا يَقْضي به عليه سلطان، ولا يؤاخذه الله به في الآخرة" (¬8). ¬

_ (¬1) ليس في "معاني القرآن". (¬2) هكذا ويبدو أن الصواب: يهنئني. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" للطبري 4/ 244، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 12، "تهذيب اللغة" 4/ 3803 (هنا)، "الكشف والبيان" 4/ 9 أ. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3803 (هنأ). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 244، "تهذيب اللغة" 4/ 3803 (هنأ)، "مقاييس اللغة" 6/ 68 (هنأ)، "الكشف والبيان" 4/ 9 أ. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 244، "النكت والعيون" للماوردي 1/ 451. (¬7) ما نسبه للمفسرين هو ما حكاه شيخه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 9أ، ب. (¬8) من "الكشف والبيان" 4/ 9 ب، وقد أورده الثعلبي بسنده، ولم أقف عليه عند غيره.

5

قال الحضرمي (¬1): إن ناسًا كانوا يتأثَّمون أَنْ يرجع أحدهم في شىِء مما ساق إلى امرأته، فقال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2). 5 - قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} الآية قال ابن عباس في هذه الآية: لا تَعمَد إلى مالك الذي خَوَّلك الله وجعله لك معيشةً؛ فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أَمْسِك مالك وأَصْلِحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كِسوتهم ورِزقهم ومؤنتهم (¬3). والسفهاء: هم النساء والصبيان في قول ابن عباس (¬4)، والحسن وقتادة، وسعيد بن جبير، والسدي (¬5)، واختيار الفراء (¬6)، وابن قتيبة (¬7). وقال الكلبي: إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهةٌ مُفْسِدةٌ، وأن ولدَه سفيهٌ مُفسِد فلا ينبغي له أن يُسلِّط واحدًا منهما على ماله فيفسد (¬8). ¬

_ (¬1) لعله أبو بحر عبد الله بن زيد الحضرمي، انظر التعليق الآتي ص 347. (¬2) أخرجه ابن جرير 4/ 243، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 9 أ. (¬3) هذا الأثر ثابت، عن ابن عباس فهو من طريق ابن أبي طلحة كما في تفسير ابن عباس ص 134. وقد أخرجه منها ابن جرير في "تفسيره" 4/ 249 انظر: "معالم التنزيل" 2/ 164، "تفسير ابن كثير" 2/ 491، "الدر المنثور" 2/ 213. (¬4) يدل عليه الأثر المتقدم عنه، وأثر آخر أخرجه ابن جرير 4/ 246. (¬5) أخرج أقوال هؤلاء ابن جرير في "تفسيره" 4/ 245، وانظر: "ابن كثير" 2/ 491، "الدر المنثور" 2/ 213 - 214. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 256. (¬7) "غريب القرآن" ص 120. (¬8) من "الكشف والبيان" 4/ 10 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 164.

وقال مجاهد، وجويبر، عن الضحاك: أراد بالسفهاء ههنا النساء فقط (¬1). وقال مجاهد: من سفهاء من كُنّ، أزواجًا أو بناتٍ أو أمهاتٍ (¬2). وهذا مذهب ابن عمر (¬3). ويدل على هذا ما رَوى أبو أمامة (¬4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إنّما خُلِقت النار للسفهاء، -يقولها ثلاثًا- ألا وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيّمها" (¬5). فإن قيل: لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال: السفائه أو السفيهات في جميع السفيه (¬6)، نحو غرائب وغريبات في جمع: الغريبة. فالجواب ما قال الزجاج، وهو أن السفهاء يجوز في جمع السفيهة نحو: فقيرة وفقراء (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج الأثر، عن مجاهد بن جبير من عدة طرق، وأخرجه عن الضحاك من طريق جويبر. "تفسير الطبري" 4/ 247. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 144، وأخرجه ابن جرير 4/ 247، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 9 ب. (¬3) أخرج ابن جرير، عن مُوَرَّق قال: مرت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيئة، فقال لها ابن عمر: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}. "تفسير الطبري" 4/ 247، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 10 ب، "الدر المنثور" 2/ 214. (¬4) هو صُدَيّ بن عَجْلان بن الحارث الباهلي -مشهور بكنيته- صحابي جليل يُروى أنه شهد أحدًا، وصفين مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- سكن الشام ومات بها سنة 86 هـ. انظر: "الاستيعاب" 2/ 298، "أسد الغابة" 3/ 16، "الإصابة" 2/ 182، "التقريب" ص 276 رقم (2923). (¬5) من "الكشف والبيان" 4/ 210، وقد أورده الثعلبي بسنده، وأخرج آخره ابن أبي حاتم كما ذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 491، والسيوطي في "الدر" 2/ 213. (¬6) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: جمع السفيهة. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 13.

وقال الزُّهري، وأبو مالك، وابن زيد: عَنى بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد، يقول: لا تُعط مالك الذي هو قيامك ولدَك السفيه فيفسده (¬1) وفي الآية قول رابع، وهو أن السفهاء: الأيتام وكل من يستحق صفة سفيه من محجور عليه في المال. وهو مذهب الشافعي (¬2)، وعكرمة (¬3) , واختيار الزجاج (¬4). قال عكرمة: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تُؤتِه إيّاه وأنفِق عليه حتى يبلُغ (¬5). فإن قيل على هذا القول: كيف أضاف الأموال إلى الأولياء وهي للسفهاء؟ قلنا: إنما أضاف إليهم؛ لأنها الجنس الذي جعله الله أموالًا للناس، فصار كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، ردها إلى الجنس (¬6). ¬

_ (¬1) هذا القول عن أبي مالك وابن زيد خاصة أخرجه بنحوه ابن جرير 4/ 247، وأورده الثعلبي عن الثلاثة في "الكشف والبيان" 4/ 10 ب، وعن الزهري البغوي في "معالم التنزيل" 2/ 164. (¬2) مذهب الشافعي في جواز الحجر على الرجل البالغ إذا كان مُبَذَّرًا مفسدًا لماله، كما سيأتي عند المؤلف في الصفحة التالية، وانظر: "الأم" 3/ 194 - 195. (¬3) سيورد المؤلف أثرًا عنه، وهذا القول ورد عن سعيد بن جبير، انظر: "الكشف والبيان" 4/ 10 ب، "الدر المنثور" 2/ 213 - 214. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 13، وهذا القول اختيار ابن جرير أيضًا، انظر: "تفسير الطبري" 4/ 247. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 10 ب، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 213. (¬6) ما بين علامات التنصيص من قول: فإن قيل، إلى هنا: نقله المؤلف من الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 10 ب، 11 أ، مع أنه لم يعزُه إليه!.

قال أبو إسحاق (¬1): إنما قيل أموالكم؛ لأن معناها الشيء الذي به قِوام أمركم، كما قال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85]، ولم يكن الرجل منهم يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضًا، أي: تقتلون الجنس الذي هو جنسكم (¬2). وقال بعض النحويين: إذا اختلط المخاطب مع الغائب غُلِّب المخاطب، لذلك أضاف الأموال إليهم وهي للسفهاء، وهذا التفسير دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله من جواز الحجر على الرجل البالغ إذا كان مُبذِّرًا مُفسدًا لماله (¬3). وقوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}. قال ابن عباس: يريد قيامًا لمعايشكم وصلاح دنياكم (¬4). قال أبو عبيدة (¬5): (قِيام) مصدر، ويجيء في معناه (قِوام)، وهو الذي يقيمك، وانما أذهبوا الواو لكسرة القاف كما قالوا: صِوار وصِيار (¬6). ¬

_ (¬1) هو الزجاج في "معانيه" 2/ 13. (¬2) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 13، 14. (¬3) انظر: "الأم" 3/ 194 - 195، "تفسير ابن كثير" 2/ 491. (¬4) ثابت عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص 134، "تفسير الطبري" 4/ 249. وتحقيق المروي عن ابن عباس لسور النساء والمائدة والأنعام 1/ 153، 154، لكن بلفظ بمعنى قوامكم في معايشكم. (¬5) في "مجاز القرآن" 1/ 117. (¬6) انتهى من "مجاز القرآن" 1/ 117، ولعل فيه تصحيفًا في آخره، لأن آخر العبارة في "المجاز": كما قالوا: ضيًاء للناس وضوءًا للناس.

وبنو ضبة (¬1) تقول في جمع طويل: طِيال، والعامّة على: طِوال (¬2). وإنما أعل القيام؛ لأنه مصدر قد اعتل فعله، فاتّبع الفعل في الإعلال، ومثله من المصادر الصِّيام والعِياذ والحِياكة، ونحو ذلك فيما (¬3) قلبت الواو فيه ياء؛ لأنها مصادر جارية على الفعل في الإعلال (¬4). قال أبو علي: وأما القِوام الذي حكاه أبو عبيدة فإنه ينبغي أن يكون اسمًا غير مصدر، كالقَوام فيمن فَتح، ويجوز أن يكون مصدر قَاوم، كما أن (الغِوار مصدر غاور) (¬5) (¬6). وقرأ نافع، وابن عامر: (قِيَمًا) (¬7). قال الأخفش: قِيامًا وقِوامًا وقِيمًا وقِومًا واحِد (¬8). ¬

_ (¬1) ضبة: حي من العرب يشمل عدة قبائل كصُرَيم وعائذة وبجالة وغيرها، وهذا الاسم مشتق من الضبة أي الأنثى، أو من الضبة الحديث. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد ص 189، "اللسان" 4/ 2545 (ضبب). (¬2) من "الحجة" لأبي علي 3/ 130. وقال الأزهري: وجمع الطويل: طِوال وطِيال، وهما لغتان، "تهذيب اللغة" 3/ 2156 (طال). وانظر: "مقاييس اللغة" 3/ 434 (طول)، "لسان العرب" 5/ 2725 (طول). (¬3) في (د): (معًا). (¬4) انظر: "الحجة" 3/ 133، "المُمتِع في التصريف" 1/ 64. (¬5) كأنها في (أ) بالعين المهملة. (¬6) "الحجة" 3/ 133. (¬7) "السبعة" ص 226، "الحجة" لأبي علي 2/ 129، "الكشف" 1/ 76، "النشر" 2/ 247. (¬8) لم أجدء في "معاني القرآن"، ولعله أخذه من "الحجة" لأبي علي 3/ 130، 132، 133.

فالقِيَم عنده مصدر في معنى القِيام، وفِعَل يجيء في المصادر كالشِّبَع والرِّضَا (¬1). فإن قيل (¬2): كيف اعتلّ وهو على وزنٍ ينبغي أن يصح معه ولا يعتلّ، كما لم يعتلّ العِوض والحِول، ونحو ذلك؟ والجواب: أن هذا الوزن لما جاء في الجمع مُتَّبعًا واحدَه في الإعلال، نحو: دِيمَةٍ ودِيَم، وحِيلَةٍ وحيَل، جاء أيضًا في المصدر متّبعًا للفعل فأعِلّ كما يعل الفعل؛ لأن (المصادر (¬3)) أشد اتّباعًا لأفعالها في الإعلال (¬4) من الجمع للواحد. ولا يلزم على هذا (الوعد) و (الوزن) وبابه، فإنه لم يعل الواو فيه كما أعل في (بعد)؛ لأنه على بناء فِعَل، ولا طريق للإعلال عليه، وليس كذلك فِعَل؛ لأن الكسرة توجب الإعلال في الواو، ولا سيما إذا انضم إليها الإعلال (¬5) في الفعل. ويمكن أن يحمل القِيَم على الشذوذ كما قُلبت الواو في (ثِيَرَة (¬6))، وكما قالوا: طويل وطيال. في لغة بني ضبة، وكما قالوا: جِياد في جمع جواد، وكان حكمه أن تصح عينُه في الجمع، فكما شذّت هذه الأشياء عما عليه الاستعمال كذلك شذ قولهم: قِيَما (¬7). ¬

_ (¬1) انظر "الحجة" 3/ 130، 132، 133. (¬2) إيراد هذا الاستشكال والجواب عليه من "الحجة" لأبي علي 3/ 132، 133 بتصرف. (¬3) في (د): مصادر بدون (أل). (¬4) في "الحجة": الاعتلال. (¬5) في "الحجة": الاعتلال. (¬6) الأصل (نيره) والتصحيح من "الحجة". (¬7) انتهى جواب الإشكال من "الحجة" 3/ 132، 133 بتصرف.

وقول من قال إن (القِيَم) ههنا جمع (قِيمَة) لا وجه له (¬1). والدليل على أن قِيَما ههنا مصدر بمعنى القِيام وليس بجمع قوله: {دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161]، ولا وجه لجمع القِيمة في وصف الدين به (¬2)، ونبين ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله (¬3). وذهب الكسائي إلى أن القيام ههنا اسم بمعنى القِوام، وهو ما يقوم به الشيء، وجعلهما لغتين بمعنى (¬4). واختاره ابن قتيبة، وقال: يقال: هذا (قِوام (¬5)) أمرك وقيام أمرك: أي ما يقوم به أمرك (¬6). ويقارب قول الزجاج هذا؛ فإنه قال: المعنى في هذه الآية: التي جعلها الله تقيمكم فتقومون بها قيامًا (¬7). ومن قرأ (قِيَما) فهو راجع إلى هذا، والمعنى: جعلها الله قيمةً للأشياء، فيها (تقوم أموركم (¬8)) (¬9). ولم يرتض أبو علي هذا القول في القيم كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 3/ 133. (¬2) انظر: "الحجة" 3/ 131. (¬3) انظر: "البسيط" نسخة شستربتي 2/ ل، 138/ أ. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 11 ب. (¬5) في النسختين: (أقوام)، وهو تحريف ظاهر. (¬6) "غريب القرآن" ص 120. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 14. (¬8) في "معاني الزجاج": يقوم أمركم. (¬9) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 14 بتصرف.

وقوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}. قال ابن عباس: يريد أنفقوا عليهم منها (¬1). ومعنى الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم، يقال: رَزَق فلانٌ عيالَه كذا وكذا، أي: أجرى عليهم. وإنما قال: (فيها) ولم يقل: منها؛ لأنه أراد (جعلوا (¬2)) لهم فيها رزقًا، كأنه أوجب ذلك لهم (¬3). وقوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]. قال ابن جريج ومجاهد: أي: عِدةً جميلةً من البر والصلة (¬4). وقال ابن عباس: يِريد عدة حسنة، يقول: إذا رَبحتُ في سفري هذه فعلت (¬5) بك ما أنت أهله، وإن غنمتُ في غزاتي أعطيتُك (¬6). قال ابن زيد: هو الدعاء. يقول: عافانا الله وإياك، بَارك الله فيك (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 4/ 250، من طريق ابن جريج واسناده ضعيف. انظر "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 154. (¬2) هكذا في النسختين ولعله تصحيف، والصواب: اجعلوا كما في "الكشف والبيان" 4/ 11 ب. (¬3) "الكشف والبيان" 4/ 11 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 164. (¬4) هذا معنى ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد وابن جريج، انظر: "تفسير الطبري" 4/ 251، "الدر المنثور" 2/ 214. (¬5) في الأصل: (فقلت) وهو تصحيف ظاهر. (¬6) لم أجده عن ابن عباس، لكن رُوي نحوه عن عطاء. انظر: "الكشف والبيان" 4/ 11 ب، "معالم التزيل" 2/ 1645. (¬7) طرف أثر عن ابن زيد أخرجه ابن جرير 4/ 251، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 11 ب، "الدر المنثور" 2/ 214.

6

وكل ما سكنت إليه النفوس وأحبته من دول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر (¬1). وقال الزجاج: أي علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم (¬2). 6 - قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية. قال المفسرون: نزلت في ثابت بن رفاعة (¬3)، وفي عمه (¬4)، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتًا وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله- عز وجل-: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬5). قال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي، وابن زيد: اختبروهم في عقولهم وأديانهم (¬6). ¬

_ (¬1) كأنّ هذا من المؤلف -رحمه الله- جمع بين الأقوال وتفسير للآية بعمومها فإن العبرة بعموم اللفظ، وقد تَبع في ذلك شيخه الثعلبي كما في "الكشف والبيان" 4/ 12أ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 14. (¬3) هو ثابت بن رفاعة الأنصاري، ترجموه ضمن الصحابة -رضي الله عنهم- لهذه القصة. انظر: "أسد الغابة" 1/ 268، "الإصابة" 1/ 192. (¬4) لم أقف على ترجمته. (¬5) أخرجه ابن جرير بسنده عن قتادة مطولًا، وليس فيه التصريح بأنه سبب نزول الآية. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 259، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 12 أ، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 143، والبغوي في "معالم التنزيل" 2/ 165، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 14، وانظر "الدر المنثور" 2/ 214، وعزاه ابن حجر إلى ابن منده وقال: هذا مرسل رجاله ثقات. "الإصابة" 1/ 192. (¬6) ذكر هذا القول عنهم ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 14، وانظر:=

ومعنى هذا الابتلاء وكيفيته -على ما ذكره الفقهاء-: أن يُردّ إليه الأمر في نفقته عند مراهقة الحلم، ويعطى شيئًا نزرًا يتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه. وإن كانت جاريةً يرد إليها ما يرد إلى النساء من أمر البيت وتدبير الغزل والقطن (¬1). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد: يريد الحلم (¬2). وتقديره: حتى إذا بلغوا حال النكاح من الاحتلام. وقال آخرون: أي بلغوا مبلغ الرجال والنساء من القدرة على النكاح (¬3). قال ابن قتيبة: أي بلغوا أن ينكحوا النساء (¬4). ¬

_ = "تفسير الحسن البصري" جمع د. محمد عبد الرحيم 1/ 259، "الدر المنثور" 2/ 215. أما السدي وابن زيد فقد اقتصرا على العقول دون الأديان. كما أخرج ذلك عنهما ابن جرير في "تفسيره" 4/ 251 - 252، وأخرج عن مجاهد كقولهما، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 214. (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 12ب، "معالم التنزيل" 2/ 165. (¬2) هذه الرواية ثابتة عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص 135، "تفسير الطبري" 4/ 252، "الدر المنثور" 2/ 214 - 215، "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 154. أما عن مجاهد ففي "تفسيره" 1/ 145، وأخرجه الطبري عنه 4/ 252، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 349، "الدر المنثور" 4/ 214. وأما عن السدي فلم أقف عليه. وأما عن ابن زيد فقد أخرجه ابن جرير 4/ 252. (¬3) هذا قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 12 أ، وابن قتيبة كما سيذكر المؤلف. والظاهر أن القولين متقاربان أو متلازمان في الأعم الأغلب من الناس، فإن من احتلم فقد قدر على النكاح من هذه الناحية، ومن قدر على النكاح فقد احتلم، ويؤيد ذلك ما ذكره المؤلف -رحمه الله- من التقدير للقول الأول، والله أعلم. (¬4) "غريب القرآن" ص 120.

ومعنى النكاح هو إنزال الماء، فإذا أنزل الغلام أو الجارية فقد بلغ، سواءٌ كان عن جماع أو احتلام. وقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. معنى (آنستم) قال ابن عباس: عرفتم (¬1)، وقال عطاء عنه: يريد رأيتم (¬2). وقال الفراء: وجدتم (¬3). وقال الزجاج: علمتم (¬4). وأصل الإيناس في اللغة: الإبصار (¬5)، ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، وقال ابن حلزة (¬6): آنَست نَبأَةً وأفَزَعها القَـ ... ـنَّاص عَصرًا وقد دَنا الإمساءُ (¬7) أي أحسَّت ووجدت. ¬

_ (¬1) هذه الرواية ثابتةٌ عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة، كما في "تفسير ابن عباس" ص 135، وأخرج ذلك ابن جرير 4/ 252، وانظر: "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 155. (¬2) لم أقف علي رواية عطاء هذه، وهي بمعنى الأولى الثابتة عن ابن عباس. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 257. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 14. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 216 (أنس)، "الكشف والبيان" 4/ 12 أ، "اللسان" 1/ 150 (أنس). (¬6) هو الحارث بن حلزة بن مكروه اليشكري الوائلي شاعر جاهلي وأحد أصحاب المعلقات السبع وقد ارتجلها ارتجالًا بين يدي ملك الحيرة، توفي سنة 50 قبل الهجرة تقريبًا. انظر: "الشعر والشعراء" ص 111، "طبقات الشعراء" 1/ 151، "الأعلام" 2/ 154. (¬7) هذا البيت من معلقة ابن حلزة -وهي المعلقة السابعة- كما في "شرح المعلقات" للزوزني ص 156. قال الزوزني في شرح البيت: النبأة الصوت الخفي يسمعه الإنسان أو يتخيله، والقناص جمع قانص، وهو الصائد.

وقوله تعالى: {رُشْدًا} قال ابن عباس والسدي: هو الصلاح في العقل وحفظ المال (¬1). وقال عطاء عنه: يريد صلاحًا ومعرفة وعقلًا (¬2). وقال الزجاج. معنى الرشد: الطريقة المستقيمة التي تثقون (¬3) معها بأنهم يحفظون أموالهم (¬4). وقال الشافعي -رضي الله عنه-: الرشد: من يكون صالحًا في دينه، مصلحًا لماله (¬5). ولا يجوز دفع مال اليتيم إليه إلا بعد البلوغ وتبين العفاف وإصلاح المال منه (¬6). ¬

_ = يقول: أحست هذه النعامة بصوت الصيادين فأخافها ذلك. وقد استشهد بالبيت الثعلبي 4/ 12 أ، والألوسي 4/ 205. (¬1) الأثر عن ابن عباس ثابت من طريق ابن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص 135، وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" 4/ 252 لكن بلفظ: (رُشدًا) في حالهم والإصلاح في أقوالهم. وانظر "تفسير ابن كثير" 1/ 492، "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 155. أما عن السدي فأخرجه ابن جرير 4/ 252 أيضًا، لكن بلفظ: عقولًا وصلاحًا. (¬2) رواية عطاء هذه بمعنى رواية ابن أبي طلحة الثابتة، ولم أقف عليها. (¬3) في النسختين: يثقون بالتحتية للغيبة، والأولى بالفوقية الخطاب؛ لأن في الآية الخطاب، ولموافقة ذلك ما في معاني الزجاج. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 14. (¬5) من "الكشف والبيان" 4/ 13 ب، وعبارة الشافعي: والرشد -والله أعلم- صلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة وإصلاح المال. "الأم" 3/ 215، وانظر "معالم التنزيل" 2/ 165 - 166، "تفسير ابن كثير" 1/ 492. قال الثعلبي: فالرشد عنده -أي: الشافعي- شيئان: جواز الشهادة واصلاح المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك، "الكشف والبيان" 4/ 13 ب، وانظر "تفسير الحسن البصري" 1/ 259. (¬6) انظر: "الأم" 3/ 218، "الكشف والبيان" 4/ 12ب، "معالم التنزيل" 2/ 165.

وأبو حنيفة وأصحابه اعتبروا صلاح المال، ولم يعتبروا صلاح الدين (¬1). وهذا الاختلاف يعود إلى الاختلاف في معنى الرشد، فمن جعل معنى الرشد حفظ المال وإصلاحه يزيل الحجر عن اليتيم بالبلوغ وحفظ المال، دون الصلاح في الدين، ومن جعل معنى الرشد صلاح الدين وحفظ المال اعتبرهما في زوال الحجر عن اليتيم، وهذا هو الأولى (¬2)؛ فإن أهل اللغة قالوا في معنى الرشد: إنه إصابة الخير (¬3)، والمفسد في دينه لا يكون مصيبًا للخير. وأيضًا فإن الرشد نقيض الغي، قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، والغي: هو الجهالة والبطالة والفساد. قال طرفة: أرى قبرَ نَحَّامٍ بَخيلٍ بمالِه ... كقبر غويٍّ في البَطَالة مُفْسدِ (¬4) فجعل المفسد غويًا (¬5)، فدل هذا على أن المفسد في دينه لم يبلغ الرشد. وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 13 ب، 14 أ، "معالم التنزيل" 2/ 166، والقرطبي 5/ 37، 38. (¬2) انظر: "البغوي" 2/ 167، "القرطبي" 5/ 37، 38. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1411 (رشد)، "مقاييس اللغة" 2/ 398 (رشد)، "اللسان" 3/ 1649 (رشد). (¬4) "ديوانه" ص 26، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 62. والنَحّام: البخيل. (¬5) في (د): (غوي).

قال ابن عباس: يريد لا تبادروا في أموال اليتامى بالسرف قبل أن يبلغ الحلم والرشد (¬1). وقال المفسرون: يريد (¬2): لا تبادروا بأكل مالهم كبرهم ورشدهم حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم (¬3). و (أن) في محل النصب؛ لأنه مفعول المصدر، على تقدير: مبادرة كبرهم (¬4). ثم بين ما يحل لهم فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}. قال ابن عباس: يريد: من كان غنيًّا من الأوصياء فليستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئًا (¬5). معنى: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي: ليترك ذلك ولا يأكل. يقال: استعفف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه (¬6). وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. اختلفوا في الأكل بالمعروف: ما هو؟ فقال قوم: هو أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" ص 135، وأخرجه ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة أيضًا 4/ 254، لكن بلفظ: يعني أكل مال اليتيم مبادرًا أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله. انظر "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 155. (¬2) في (أ): (يقول). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 254، "الكشف والبيان" 4/ 15أ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 254، "معاني الزجاج" 2/ 14، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 397، "الكشف والبيان" 4/ 15 أ، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 190. (¬5) أخرجه ابن جرير بمعناه من أكثر من طريق كما في "تفسيره" 4/ 255، وانظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 156 - 157، وقد صحح المحقق إسنادًا من أسانيد ابن جرير وحسن آخر. (¬6) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115، "الصحاح" 4/ 1405 (عف)، "تفسير الثعلبي" 4/ 15 أ, "اللسان" 5/ 3015 (عف).

مال اليتيم قرضًا، ثم إذا أيسر قضاه، فإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وهذا قول سعيد بن جبير (¬1)، وعبيدة (¬2) (¬3)، ومجاهد (¬4)، وأبي العالية (¬5)، وأكثر الروايات عن ابن عباس (¬6). والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء: 114]، قالوا: يعني القرض (¬7). وما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: (ألا) (¬8) إني أنزلت نفسي من مال الله عز وجل بمنزلتي من مال اليتيم، إن ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 147، والطبري 4/ 256 بأكثر من طريق، وانظر الثعلبي 4/ 15 أ. (¬2) هو أبو عمرو عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي، مخضرم، ومن كبار أئمة التابعين فقيه مقرئ فاضل، وحديثه عند الجماعة. توفي -رحمه الله- قبل السبعين من الهجرة. انظر: "تاريخ الثقات" 124 - 125، "مشاهير علماء الأمصار" ص 99، "التقريب" ص 379 رقم (4412). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 147، 148، والطبري 4/ 255، وانظر: الثعلبي 4/ 15 أ. (¬4) "تفسيره" 1/ 146، وأخرجه عبد الرزاق 1/ 147، والطبري 4/ 256 - 257 من عدة طرق. (¬5) أبو العالية هو رفيع بن مهران الرياحي، تقدمت ترجمته. (¬6) ومنها رواية ابن أبي طلحة، انظر: "تفسير ابن عباس" ص 135، والطبري 4/ 255 والثعلبي4/ 15 أ، و"زاد المسير" 2/ 16، و"تفسير ابن كثير" 1/ 493، و"الدر المنثور" 2/ 215 - 216، و"تحقيق المروي" عن ابن عباس 158/ 159. (¬7) رُوي عن ابن عباس ومقاتل بن حيان، وقيل إن المعروف في هذه الآية عام يشمل جميع أنواع البر. وهو أولى. انظر: "زاد المسير" 2/ 200، "معالم التنزيل" 2/ 286، "الدر المنثور" 2/ 216. (¬8) ما بين القوسين غير موجود في (د).

استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت (¬1). وقال بعضهم: معنى الأكل بالمعروف هو أن يقتصد ولا يسرف، ثم لا قضاء عليه فيما يأكل. فهذا قول عطاء (¬2)، وعكرمة (¬3)، والسدي (¬4). وقال إبراهيم: هو ما سد الجوعة ووارى العورة (¬5). وذهبت عائشة وجماعة من العلماء (¬6) إلى أن المعروف هو أن يأخذ من جميع المال إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه وعمله وأجرته، وإن أتى على جميع المال، ولا قضاء عليه، وهذا طعمة من الله له (¬7). ودليل صحة هذا ما روي عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن في حجري يتيمًا أفاضربه؟ قال: "مما كنت ضاربًا منه ولدك"، قال: يا رسول الله أفآكل من ماله؟ قال: "غير متأثل مالًا، ولا واقٍ مالك بماله" (¬8) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 4/ 255، والثعلبي 4/ 15 ب. انظر: "زاد المسير" 2/ 16، "معالم التنزيل" 2/ 168، "تفسير ابن كثير" 1/ 493، "الكافي الشاف" ص 39. (¬2) هو ابن أبي رباح أخرج ذلك عنه الطبري 4/ 259. (¬3) أخرجه الطبري 4/ 260. (¬4) انظر الثعلبي 4/ 15 ب، "زاد المسير" 2/ 16. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 147، والطبري من طرق 4/ 260 كلاهما بلفظ الجوع بدل الجوعة. (¬6) منهم ابن عباس - رضي الله عنه - والإمام أحمد -رحمه الله- كما في "زاد المسير" 2/ 16. (¬7) أخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنه - كتاب: التفسير، باب: (من كان غنيًا فليستعفف) رقيم (4575) أنها قالت في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}: أنها نزلت في مال اليتيم إذا كان فقيرًا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف البخاري كتاب التفسير سورة النساء، باب: 2 {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 5/ 177. (¬8) أخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 16 أ، ب، وانظر "الكافي الشاف" ص 38.

وعلى هذا الحكم اليوم، فالقيم ممنوع من الإسراف، وإنما له أجر مثل عمله؛ لأنه أجير بالشرع. والغني يستعف كما أمره الله، وإن أخذ الأجرة حلت له في الحكم في مقابلة عمله (¬1). وقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}. هذا وصية من الله تعالى للأولياء بالإشهاد على دفع المال إذا دفعوه إلى الأيتام، لكن إن وقع اختلاف أمكن للولي أن يقيم البينة على أنه رد المال إليه (¬2). وفي هذا دليل على أن القول قول اليتيم عند التنازع، وذلك أن القيّم خير (¬3) مؤتمن من جهة اليتيم، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، ولذلك أمر بالإشهاد (¬4)، وليس بفريضة (¬5). قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} قال ابن الأنباري والأزهري: يكون بمعنى محاسبًا، ويكون بمعنى كافيًا (¬6). فمن الأول قولهم للرجل عند التهدد: حسيبه الله. ومعناه: محاسبه الله ¬

_ (¬1) هذا يدل على أن ما ذهبت إليه عائشة -رضي الله عنها- ومن وافقها هو المعمول به عند الشافعية. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 16 ب، "معالم التنزيل" 2/ 169. (¬3) المعنى يقتضي أنها: (غير) بالغين. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 44، 45. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 16 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 169، "زاد المسير" 2/ 17. وقصد المؤلف تبعًا للثعلبي بقوله: ليس بفريضة أي: الإشهاد ليس بفريضة. وقيل بفرضيته. انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 502، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 44. (¬6) هذا نص ما ذكره الأزهري عن أبي إسحاق النحوي في "تهذيب اللغة" 1/ 810 (حسب)، ونحو ما ذكره ابن الأنباري "الزاهر" 1/ 6، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 129.

على ما يفعل من الظلم (¬1). وأنشد ابن الأنباري (¬2) قول قيس المجنون (¬3): دعا المحرمون اللهَ يستغفرونه ... بمكةَ يومًا أن تُمَحَّا ذُنوبُها وناديتُ يا ربّاه أولُ سؤلتي ... لنفسي لَيلَى ثم أنت حسيبُها (¬4) قال (¬5) فمعناه: ثم أنت محاسبها على ظلمها. قالوا: فالحسيب هو المحاسب بمنزلة قول العرب: الشريب. للمشارب (¬6). وأنشد (¬7) أيضًا قول المخبل السعدي (¬8): فلا تُدخِلنَّ الدهر قبرك حَوبَةً ... يقوُم بها يومًا عليك حسيبُ (¬9) معناه محاسبك عليه الله تعالى (¬10). ومن الكفاية قولهم: حسيبك الله. ومعناه: كافي إياك الله (¬11). ¬

_ (¬1) من "الزاهر" 1/ 6 بتصرف. (¬2) في "الزاهر" 1/ 6. (¬3) هو قيس بن الملوح العامري، شاعر غزل ويعرف بمجنون ليلى بسبب أنه حجب منها مع حبه لها فهام على وجهه ينشد الأشعار، وله ديوان وأخبار. توفي سنة 65 أو 68 هـ. انظر: "ديوانه" ص 7 المقدمة، "الأعلام" 5/ 208. (¬4) "ديوانه" ص 31، لكن في البيت الأول: شعثًا بدل يومًا، وفي الثاني: يا رحمن بدل يا رباه. (¬5) أي ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 6. (¬6) "الزاهر" 1/ 6، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 129. (¬7) أي ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 5. (¬8) تقدم ترجمته. (¬9) البيت في اللسان 2/ 1036 (حوب) لكنه فيه: يدخلن بالتحتية ورفع حوبة. (¬10) في "الزاهر" 1/ 5: محاسب عليها عالم بها. (¬11) من "الزاهر" 1/ 6.

وقد ذكرنا في اللغة في هذا (¬1) قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وقال ابن عباس في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}: يريد مجازيًا للحسن والمسيء (¬2)، وهذا يعود إلى المحاسب؛ لأن الحساب إنما هو للجزاء. والباء في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ}، {وَكَفَى بِرَبِكَ} [الإسراء:17 ,65] , [الفرقان:31] في جميع القرآن (¬3) زائدة (¬4). قال الزجاج: المعنى: كفى الله، كفى ربُك (¬5). واستقصاء هذا مذكور في هذه السورة عند قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45] (¬6). ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين والعبارة ركيكة، ويحتمل أن الناسخ قدم حرف الجر. (¬2) لم أقف عليه لا عند ابن جرير ولا الثعلبي ولا غيرهما، وذكره المؤلف في "الوسيط" بتحقيق بالطيور 2/ 450، وقد ذكر ابن الجوزي أن قول ابن عباس هو أن الحسيب بمعنى الشهيد كما في "زاد المسير" 2/ 17. (¬3) انظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" ص 613، 614 (كفى). (¬4) وتفيد التوكيد عند بعض العلماء. انظر "الكتاب" 1/ 41، 92، 2/ 26، "معاني الحروف" للرماني ص 37، "الدر المصون" 3/ 586. وتعبير المؤلف بقوله: زائدة غير مناسب؛ فإن المحققين من العلماء يتحاشون مثل ذلك. قال ابن هشام: وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى إنه زائد، لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزّه عن ذلك، والزائد عند النحويين معناه الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة وبعضهم يسميه مؤكدا وبعضهم يسميه لغوًا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب. "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص 108، 109، وانظر: "البرهان" للزركشي 1/ 305، "تفسير ابن كثير" 1/ 498, "الدر المصون" 5/ 263. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 57. (¬6) تفسير هذه الآية من القسم المفقود.

7

وحسيبًا منصوب على وجهين: أحدهما الحال. المعنى: وكفى بالله في حال الكفاية والحساب، الثاني: يكون منصوبًا على التمييز، على معنى: كفى الله من الكِفاء والمحاسبين (¬1). 7 - قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} الآية. قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية لا تورث النساء ولا الصغار شيئًا وإن كانوا ذكورًا، وإنما كانت تورث الكبار ومن طاعن بالرماح وحاز الغنيمة، فأبطل الله عز وجل ذلك، وأعلم أن حق الميراث على ما ذُكر من القرض (¬2). وقوله تعالى: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}. قد ذكرنا معنى الفرض فيما تقدم (¬3). واختلفوا في انتصاب قوله: {نَصِيبًا}، فقال الفراء (¬4): لأنه اسم في موضع المصدر، كقولك: قسمًا واجبًا وحقًّا لازمًا (¬5). ولو كان اسمًا (ليس في معنى المصدر) (¬6) لم ينصب (نحو: لك عندي حق درهمًا) (¬7)، ومثله مما ينصب قولك: لك عندي درهمان هبة ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 3/ 174، "الدر المصون" 3/ 587، ورجح السمين الوجه الثاني. (¬2) ذكر السيوطي نحوه عن ابن عباس من طريق الكلبي في "لباب النقول" ص 64، "الدر المنثور" 2/ 217، وانظر: "الطبري" 4/ 262، و"الثعلبي" 4/ 16 ب، "الوسيط" بتحقيق بالطيور 2/ 451، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 148، والبغوي 2/ 169، و"زاد المسير" 2/ 18، وابن كثير 2/ 494، و"الدر المنثور" 2/ 218. (¬3) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ ل122. (¬4) في "معاني القرآن" 1/ 257. (¬5) هذا المثال ليس في معاني الفراء - حسب المطبوع. (¬6) في "معاني الفراء" جاءت كلمة: (صحيحًا) بدل ما بين القوسين هنا. (¬7) ما بين القوسين عند الفراء: ولكنه بمنزلة قولك: لك على حق حقًا، ولا تقول: لك علي حق درهمًا فكأن المؤلف تصرف في العبارة.

8

مقبوضة. فالمفروض في هذا الموضع بمنزلة قولك: فريضة وفرضاً (¬1). وقال الزجاج: هذا منصوب على الحال، المعنى: لهؤلاء أنصبة على ما ذكرناها في حال الفرض (¬2). وقال الأخفش: هو نصب على معنى: جعل لهم نصيبًا (¬3). والآية تدل على [هذا؛ لأن قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} يدل على (¬4)] معنى جعل لهم نصيبًا (¬5) 8 - قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} عنى قسمة المال بين الورثة، يقال: قسمت المال قسمًا و [قسَّمته] تقسيمًا، والقسم اسم للمقسوم، والقسيم الذي يقاسمك (...) (¬6) المقسوم أيضًا، يقال: أخذ قسمه وقسيمه ومقسمه (¬7). وهذا قد ذكره ثعلب عن ابن الأعرابي، وهو صحيح. قال الخليل: (القِسْم (¬8)) الحظّ والنصيب من الخير (¬9)، ومنه سمي ¬

_ (¬1) انتهى من "معانى الفراء" 1/ 257، وانظر: "الكشاف" 1/ 249، "الدر المصون" 3/ 588. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 15، وانظر "مشكل إعراب القرآن" 1/ 190، "الدر المصون" 3/ 589. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 422، 434، وانظر "الدر المصون" 3/ 589. (¬4) ما بين القوسين ليس فى (أ). (¬5) هذا ترجيح من المؤلف للوجه الأخير في إعراب (نصيبا) وأنه منصوب بفعل مقدر، وانظر "الإملاء بهامش الفتوحات" 1/ 358. (¬6) ما بين القوسين بياض في (أ)، (د). وهذه الكلمة جاءت في "العين" للخليل 5/ 86: القسم. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2961 (قسم). (¬8) في (أ): المقسم بالميم، وما أثبته هو الموافق لما في "العين" 5/ 86 (قسم)، "الجمهرة" 2/ 851 (قسم)، "تهذب اللغة" 3/ 2961 (قسم)، "الصحاح" 5/ 2010 (قسم)، "اللسان" 6/ 3628 (قسم). (¬9) "العين" 5/ 86 (قسم)، وانظر: "التهذيب" 3/ 2961، "الصحاح" 5/ 2010،=

الرجل: مقسما. وأنشد النضر: فما لك إلا مِقسمٌ ليس فائتًا ... به أحدٌ فاستَأْخِرَن أو تَقَدَّمَ (¬1) ويقال: قاسمت فلانًا المال مقاسمةً، وأقسمنا، وتقاسمنا المال فيما بيننا (¬2). قال النابغة (¬3): إنّا اقتَسَمْنا خُطَّتَينا بيَننا ... فحَمَلتُ بَرَّةَ واحتملتَ فَجَارِ (¬4) و (القسمة) (¬5) الاسم من الاقتسام، لا من القسم (¬6)، كالخبرة من ¬

_ = "اللسان" 6/ 3629. (¬1) لم أعرف قائله، وهو من شواهد "أساس البلاغة" 2/ 251 (قسم) لكن عجزه: به أحد فاعجل به أو تأخر وهو أيضًا في "لسان العرب" 6/ 3629 (قسم) كما عند المؤلف، لكن قافيته: (تقدما) بألف مد بعد الميم. (¬2) انظر: "العين" 5/ 86 (قسم)، "تهذيب اللغة" 3/ 2963 (قسم)، "اللسان" 6/ 3629 (قسم). (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) "ديوان النابغة الذبياني" 86، "الكتاب" 3/ 274، "الكامل" 2/ 70، "الجمل" للزجاجي ص 229، "الخصائص" 2/ 198. والنابغة يخاطب بهذا البيت زُرعة بن عمرو الكلابي، وكان قد عرض زُرعةُ على النابغة وعشيرته أن يغدروا ببني أسد فأبى، فجعل النابغة خطته في الوفاء برة من البر، وجعل خطة زرعة فجار من الفجور لأنه أراد نقض العهد. (¬5) في (د): (القسيمة). (¬6) انظر: "الصحاح" 5/ 2011 (قسم)، "اللسان" 6/ 3630 (قسم).

الاختبار. ولا يكاد الفصحاء يقولون: قَسمت بينهم قِسمة. وقد ذكر ذلك في كتاب الليث (¬1)، وليس ذلك بصحيح. وقسْمَتك ما أخذته من الأقسام، والجمع قِسَم. وقوله تعالى: {أُولُو الْقُرْبَى} (¬2) يعني: الذين يحزنون ولا يرثون (¬3). {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآية. اختلفوا في حكمها، فقال ابن عباس في رواية عطاء وعطية (¬4): هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وإباحة الثلث للميت يجعله حيث يشاء من القرابات واليتامى والمساكين (¬5). ¬

_ (¬1) في "اللسان" 6/ 3630 (قسم): الليث: يقال: قسمت الشيء بينهم قسمًا وقسمة، والقسمة مصدر الاقتسام. (¬2) في (أ)، (د): (أولي)، وهو خطأ ظاهر. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 17 ب، و"معالم التنزيل" 2/ 170، و"المحرر الوجيز" 3/ 504. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) أخرجه بنحو منه من طريق عطاء عن ابن عباس أبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 219. ومن طريق عطية العوفي -وهي طريق ضعيفه- أخرجه بمعناه ابن جرير 4/ 264، وابن أبي حاتم في "الدر المنثور" 2/ 219. وقد أشار الحافظ ابن حجر في "الفتح" 8/ 242، إلى ضعف ما رُوي عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة. وسيأتي قريبًا ما يبين ثبوت الرواية عن ابن عباس بأنه محكمة، وانظر: "الوسيط" بتحقيق بالطيور 2/ 453. وورد عن ابن عباس من طريق مجاهد أن هذه الآية نسخت بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، لكنه ضعيف. انظر: "الناسخ المنسوخ" بتحقيق د. سليمان اللاحم 2/ 156.

وهذا مذهب سعيد بن المسيب (¬1)، وأبي مالك، والضحاك (¬2). وقال في رواية عكرمة ومِقْسَم (¬3): الآية محكمة غير منسوخة (¬4). وهذا مذهب أبي موسى، وإبراهيم، والشعبي، والزهري، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، وعبيدة، وقتادة (¬5). ثم اختلف هؤلاء، فذهب بعضهم إلى أنه يجب على الوارث أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئًا من المال بقدر ما تطيب به نفسه. ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) انظر "الناسخ والمنسوخ في كتاب الله" لقتادة ص 38، والطبري 4/ 264 - 265، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 158، و"الكشف والبيان" 4/ 17 ب، وابن كثير 1/ 495، و"زاد المسير" 2/ 21، و"فتح الباري" 8/ 242، و"الدر المنثور" 2/ 219. (¬3) هو أبو القاسم مِقسَم بن بجرة -وقيل نجدة- من الموالي، ولزم ابن عباس وهو من مشاهير التابعين وحُكم عليه بأنه صدوق يُرسل، مات -رحمه الله- سنة 101 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 103، "التقريب" ص 545 رقم (6873). (¬4) أخرجه من طريق عكرمة البخاري رقم (4576) في كتاب التفسير سورة النساء، باب: 3 {إذا حضر القسمة ....}، وقال البخاري: تابعه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وكذلك أخرجه ابن جرير 2/ 263، وعن طريق مِقسَم أخرجه ابن جرير 2/ 264 بمعناه. وانظر "الكشف والبيان" 4/ 17 ب، وابن كثير 1/ 494، و"الدر المنثور" 2/ 218. قال ابن حجر عن طريق عكرمة وسعيد: وهذان الإسنادان الصحيحان عن ابن عباس هما المعتمدان. (¬5) انظر: "الطبري" 4/ 263 - 264، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 158، و"الكشف والبيان" 4/ 17 ب، 18 أ، وابن كثير 1/ 499، و"الدر المنثور" 2/ 218 - 219.

هذا إذا كان الوارث كبيرًا، فإن كان صغيرًا تولى إعطاء هؤلاء وليه (¬1). قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات (¬2)، والمساكين، واليتامى من العين، فإذا قُسِم الذهب والورق وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولًا معروفًا، كانوا يقولون: بُورك فيهم (¬3). وقال ابن عباس والسدي وغيرهما: إذا حضر القسمة هؤلاء؛ فإنْ كان الميت أوصى لهم بشيء أُنفِذ، وإن لم يوص (¬4) وكان الورثة كِبارًا رَضَخُوا لهم، وإن كانوا صغارًا اعتذر إليهم الولي، ويقول: إني لا أملك هذا المال، وإنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم. فهذا هو القول المعروف (¬5). وقال بعضهم: هذا على الندب والاستحباب، لا على الفرض والإيجاب؛ يستحب للوارث أن يقسم لهؤلاء شيئًا من التركة، فإن ترك ذلك لم يُحَرَّج (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 4/ 265. (¬2) في (أ): (القربات). (¬3) من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 16. وذكره بنحوه عنهما ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 20، وانظر "تفسير الحسن" 1/ 263. (¬4) في (د): يوص لهم. (¬5) هذا معنى قول ابن عباس والسدي وغيرهما كسعيد بن جبير. انظر الطبري 4/ 267 - 268، "زاد المسير" 2/ 20، وما ساقه المؤلف نص ما ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 17 ب، 18 أ. (¬6) أشار ابن عطية إلى أن ممن ذهب إلى الندب الحسن وسعيد بن جبير. انظر "المحرر الوجيز" 3/ 504 - 505. ولم أجد ذلك صريحًا عنهما.

9

وهذا هو الذي عليه الناس اليوم (¬1). وقوله تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي: من الميراث، رَدّ الكناية إلى معنى القسمة لا إلى اللفظ، كقوله: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76]، والصُّواع مذكر لا يُكنى عنه بالتأنيث، لكن أريد به المَشْربة والسِّقاية، فعادت الكناية إلى المعنى لا إلى اللفظ (¬2). وقال أبو علي: القسمة ههنا يراد بها المقسوم؛ لأنه إنما يُرزق من التركة المقسومة (¬3). 9 - قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية. اختلفوا في هذه الآية على قولين: أحدهما: أن معنى الآية: وليخش من لو كان له ولد صغار خاف عليهم بعده الضيعة، أن يأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه اليتامى المساكين وأقاربه الذين لا يورثون، فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميت. قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل إذا حضرته الوفاة قعد ¬

_ (¬1) قد رجح القول الأخير وهو القول بالاستحباب النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 159، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 329، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 49. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 434، "البيان" 1/ 244، "الدر المصون" 3/ 589. (¬3) قول أبي علي لم أقف عليه وهو بمعنى ما ذكر المؤلف قبله، وانظر -إضافة إلى ما سبق-: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 190، "غرائب التفسير" 1/ 285، "الإملاء" 1/ 358.

عنده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: انظر لنفسك فإنّ ولدك لا يُغنون عنك من الله شيئًا، فيُقدِّم جل ماله وَيحجب ولده، وهذا قبل أن تكون الوصية في الثلث، فكره الله ذلك منهم وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} يريد: من بعدهم. {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} يريد: صغارًا. {خَافُوا عَلَيْهِمْ} الفقر، {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} يريد: فليخافوا الله إذا تَعدَّوا عند أحد من إخوانهم وهو في الموت. {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} يريد بالسديد من القول العدل، وهو أن يأمره أن يُخَلِّف ماله لولده ويتصدق ما دون الثلث (¬1). وهذا قول أكثر المفسرين، سعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد (¬2). والقول الثاني: أن هذا وعظ لولاة اليتامى، وعظوا في تَوِليَتِهم أمرهم بأن يفعلوا كما يحبون أن يُفعل بأولادهم من بعدهم. يقول: وليخش من لو ترك ولدًا صغارًا خاف عليهم الضَّيعة، فليُحسن إلى من كفله من اليتامى، وليفعل بهم ما يحب أن يفعل بولده من بعده. وهذا قول تحتمله الآية، ولم أر أحدًا من المفسرين ذكره (¬3)، وبعض ¬

_ (¬1) أورده عن عطاء عن ابن عباس الهواري في "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 351، وأخرجه بمعناه عن ابن عباس الطبري 4/ 269 - 270 لكن من طريق ابن أبي طلحة -وهي أصح- وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 220، أيضًا إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي. وانظر: "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 175. (¬2) انظر: "تفسير القرآن" لعبد الرازق 1/ 150، والطبري 270 - 271، و"زاد المسير" 2/ 22، وابن كثير (495)، و"الدر المنثور" 2/ 220. (¬3) بل ذكره غير واحد، وهو مروي عن ابن عباس وابن زيد، واستحسنه ابن كثير. انظر "تأويل مشكل القرآن" ص 323، والطبري 4/ 270، و"معاني الزجاج" 2/ 17, و"زاد المسير" 2/ 22، وابن كثير 2/ 210.

المتأخرين حكاه، وعزاه إلى الكلبي (¬1). وليس هو في تفسيره المعروف بطريق يوسف بن بلال (¬2). وقرأ (¬3) حمزة: {ضِعَافًا خَافُوا} بالإمالة فيهما (¬4). ووجه إمالة (ضعاف) أنّ ما كان على وزن فِعال، وكان أوله حرفًا مستعليًا مكسورًا، نحو: صِفات (¬5)، وقِفاف (¬6)، وخِباث وغِلاب، يحسن فيه الإمالة، وذلك أنه تصعّد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسر، فيستحب أن لا يتصعّد بالتفخيم بعد التصوّب (¬7) بالكسر، فيجعل الصوت (¬8) على طريقة واحدة فلا يتصعّد بالتفخيم بعد التصوّب بالكسرة (¬9) التي في خفت فينحوا نحوها بالإمالة. قال سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق (¬10) أنه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا (¬11)، بالإمالة (¬12). ¬

_ (¬1) يقصد بمن حكاه وعزاه شيخه الثعلبي كما في "الكشف والبيان" 4/ 18 ب. (¬2) لم أقف له على ترجمته. (¬3) الكلام في القراءة من "الحجة" 3/ 133. (¬4) أي بإمالة العين والخاء. انظر: "الحجة" 3/ 133. (¬5) في "الحجة": ضعاف. (¬6) في "الحجة": قباب. (¬7) في "الحجة": التصويب. (¬8) في (أ)، (ب): الصوب بالباء الموحدة، والتصحيح من "الحجة". (¬9) في "الحجة": بالكسر. (¬10) لعله أبو بحر عبد الله بن زيد الحضرمي العلامة المقرئ النحوي المتوفى سنة 114هـ. انظر: "أخبار النحويين" للسيرافي ص 42، "نزهة الألباء" ص 26، "بغية الوعاة" 1/ 401. (¬11) في "الكتاب" 4/ 121 لكن فيه: صار بمكان كذا وكذا، وانظر: "الحجة" 2/ 30. (¬12) انتهى من "الحجة" 3/ 133 - 135 بتصرف، وانظر: "معاني القراءات" للأزهري 1/ 292، "الكشف" لمكي 1/ 377، "النشر" 2/ 247.

وقوله تعالى: {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} السديد: العدل والصواب من القول (¬1). قال ابن المظّفر (¬2): قال قل قولا سَدَدًا وسدَادًا وسدِيدًا (¬3) والسدَد مقصور من السداد (¬4)، وأنشد (¬5) لكعب (¬6): ماذا عليها وماذا كان ينقصها ... يوم الترّحل لو قالت لنا سدَدَا (¬7) قال الأزهري: وقرأت بخط شَمِر: يقال سدّ عليك الرجل يسدّ سدًّا إذا أتى السداد. وما كان هذا الشيء سديدًا. ولقد سد يسد سدادًا وسدودا. وقال أوس: فما جَبُنوا أنّا نَسُدّ عليهِمُ ... ولكِن لَقُوا نارًا تحُسُّ وتَسْفَعُ (¬8) ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 19 أ. (¬2) في "تهذيب اللغة" 2/ 1656 (سدد). (¬3) في "تهذيب اللغة": ... وسديدًا أي: صوابًا. (¬4) انتهى من "تهذيب اللغة" 2/ 1656 (سدد) بتقديم وتأخير لا يؤثر في المعنى. وانظر: "العين" 7/ 184، "اللسان" 4/ 1970 (سدد). (¬5) ليس في "التهذيب". (¬6) لم أعرفه. (¬7) نسبه إلى كعب -كالمؤلف- الزمخشري في "أساس البلاغة" 1/ 430 (سدد) ولم أجده في "ديوان كعب بن زهير" غير أن الجوهري في "الصحاح" 2/ 485 (سدد) نسبه إلى الأعشى، وكذا في "لسان العرب" 4/ 1970 (سدد) ولم أجده في "ديوان الأعشى الكبير" -ميمون بن قيس-. والشاهد منه: أن السدد مقصور من السداد. (¬8) البيت منسوب لأوس في "التهذيب" 2/ 1655 (سد)، "اللسان" (1969) (سدد) , 6/ 52 (حسس). غير أنه نسب إلى فروة بن مسيك المرادي في "مجالس العلماء" للزجاجي ص 143، "الخصائص" 3/ 292، ولعل الراجح الأول. والشاهد منه: نسد بالسين المهملة، وهي كذلك في "التهذيب"، وبقية المراجع بالشين المعجمة، ومعنى تَحُسّ: تُحْرِق، وتَسفَع لعل المراد: تُسَوَّد من الإحراق. انظر: "التهذيب" 2/ 1704 - 1705 (سفع)، 1/ 816 (حس)، "اللسان" 4/ 2028 (سفع).

10

يقول لم يجبنوا من الإنصاف في القتال، ولكنا جُرنا عليهم فلقونا ونحن كالنار التي لا تُبقي شيئًا (¬1). ويقال: إنه لَيَسد في القول، إذا كان يأتي القول السديد، وقد أسددت ما شئت، أي: طلبت السداد، أصبته أو لم تصبه. ويقال: سدده الله، أي: وفقه للسداد (¬2). 10 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}. سماه بما يؤول إليه في العاقبة، والعرب تُسمي الشيء باسم ما يؤول إليه عاقبته، كقوله: {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، يعني: العنب، فسماه خمرًا بما يؤول إليه (¬3). ويقولون للأمر الشديد: هو الموت، ومنه قول ابن الدُّمَينة الخثعمي (¬4): قليل قذى العينين نعلُم أنّه ... هو الموتُ إن لَم يلق عَنّا بوائقه (¬5) ¬

_ (¬1) انتهى قول الأزهري من "التهذيب" 4/ 1969 (سد). (¬2) انظر: "التهذيب" 2/ 1657 (سد)، "مقاييس اللغة" 3/ 66 (سد)، "الصحاح" 2/ 485 (سدد)، "أساس البلاغة" 1/ 430 (سدد). (¬3) انظر: " الكشف والبيان" 4/ 19 أ، "معالم التنزيل" 2/ 171، "غرائب التفسير" 1/ 285، "زاد المسير" 2/ 23. (¬4) هو عبيد الله بن عبد الله -والدُّمَينة أمه- من خثعم، يعد من الشعراء المجيدين. انظر "الشعر والشعراء" ص 489. (¬5) في "الشعر والشعراء" ص 489، ومن شواهد "مغني اللبيب" ص 471، ونسبه عبد السلام هارون إلى "ديوانه" ص 53، انظر: "معجم شواهد العربية" ص 247.

أي: السبب المؤديِ إلى الموت، وعلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الشارب من آنية الذهب والفضة: "إنما يُجرجِر في بطنه نار جهنم" (¬1). قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظُلمًا يوم القيامة ولَهَبُ النار ودُخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم (¬2). وقوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وقرئ بضم الياء (¬3). قال أبو زيد: يقال: صلي الرجل النارَ يصلاها صليً وصَلاءً، وهو صالي النار من قوم صالين وصِليّ (¬4). قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163]. قال الشاعر: والله لولا النار أن يصلاها (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- رقم (5634) في كتاب الأشربة، باب: 28 آنية الفضة، ومسلم (2065) في كتاب اللباس والزينة، باب: آنية الذهب والفضة، وغيرهما. (¬2) أخرجه ابن جرير 4/ 273، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 19 ب، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 23، وابن كثير 1/ 4119، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 221، وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم. (¬3) قراءة الضم لابن عامر وأبي بكر عن عاصم، وقراءة الفتح للباقين من العشرة. انظر: "السبعة" ص 227، "الحجة" لأبي علي 3/ 136، "المبسوط" ص 154، "الكشف" 1/ 378، "النشر" 2/ 247. (¬4) انتهى قول أبي زيد، وقد أخذه المؤلف من "الحجة" لأبي علي 3/ 136، إلا أنه حذف جملة من أثناء الكلام وهي بعد قوله: صلاء حيث جاء في "الحجة" بعدها: وهما واحد، وأصلاه الله حر النار إصلاء، وهو صالي ... إلخ. وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 2049 (صلى)، "اللسان" 4/ 2491 (صلا). (¬5) هذا من الرجز. قال ابن منظور: وقال العجاج. قال ابن بري، وصوابه الزفيان: تالله لولا النار أن نصلاها ... أو يدعو الناس علينا الله "اللسان" 4/ 2491 (صلا)، ولم أجده في "ديوان العجاج" ولا في غير "اللسان".

وقال تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم: 29, 56]، [المجادلة: 8]. قال الفراء: الصَّلاء اسم للوقود، وهو الصَّلا، إذا كسرت مددت، وإذا فتحت قصرت (¬1). قال ابن حلزة: فتنورت نارها (¬2) من بعيدٍ ... بخَزازَى هيهات منك الصَّلاء (¬3) ومن ضم (¬4) الياء فهو من قولهم: أصلاه الله حر النار إصلاءً، قال الله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 56]، وقال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26]. وأما السّعير فهو النار المُستعرة. يقال (سعرت (¬5)) النار أسعَرُها سَعرًا، وهي مسعورة وسعيرة، فالسعير معدول عن: مسعورة كما عُدِل: كف خضيب. عن: مخضوبة، وكذلك سعرت العرب سعرًا. واستعرت النار إذا استوقدت. والسعير: النار نفسها. (وسُعار النار) (¬6) حرّها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "المقصور والممدود" للفراء ص 36، 37، 62، "اللسان" 4/ 2491 (صلا). (¬2) في (د): (ناها)، وقد يكون وقع سهوًا من الناسخ. (¬3) البيت من معلقة الحارث بن حلزة اليشكري كما في "شرح القصائد المشهورات" للنحاس: 2/ 55، "شرح المعلقات" للزوزني ص 156. قال النحاس: تنورتُ النار إذا نظرتها بالليل .. وخزازى اسم موضع. والشاهد منه: الصلاء كسرت الصاد فجاءت الكلمة ممدودة. (¬4) من قوله: ومن ضم إلى آخر الكلام على القراءة من "الحجة" بلفظ مقارب، انظر "الحجة" 3/ 137. (¬5) في (د): (أسعرت)، وما أثبته هو الصواب. انظر: "الجمهرة" 2/ 314 (رسع)، "تهذيب اللغة" 2/ 1693 (سعر). (¬6) في (د): (وسعارها). (¬7) انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 714 (رسع)، "تفسير الطبري" 4/ 273 - 274، "تهذيب اللغة" 2/ 1693 (سعر)، "مقاييس اللغة" 3/ 75، 76.

11

11 - قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية. فقد ذكرنا معنى الإيصاء والتوصية في اللغة. ومعنى {يُوصِيكُمُ} ههنا: قال الزجاج: أي: يفرض (¬1) عليكم؛ لأن الوصية من الله عز وجل فرض، والدليل على ذلك: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151]، وهذا من الفرض المحكم علينا (¬2). وقوله تعالى: {فِي أَوْلَادِكُمْ}، اسم الولد يقع على ولد الصلب وعلى ولد الولد وإن سَفَل (¬3)، ثم ثبتت على هذا ميراث ولد الولد بهذه الآية (¬4). فإن قيل: بماذا يتعلق قوله: {يُوصِيكُمُ}، ولا يقال في الكلام: أوصيك لزيد كذا؟ والجواب ما قال الفراء، وهو أن الوصية قول، فمعنى قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} (¬5): يقول الله لكم، وعلى هذا أيضًا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة: 9]، أي: قال الله لهم مغفرة؛ لأن الوعد قول (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): (نفرض)، وما أثبته هو الموافق لـ"معاني الزجاج". (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 18، وانظر: "غرائب التفسير" 1/ 285، "الكشف والبيان" 4/ 22 أ، "المحرر الوجيز" 3/ 511، "الفتوحات الإلهية" 1/ 360. (¬3) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 333، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 59، وبعض العلماء يفرق فيقول: إنه حقيقةٌ في ولد الصلب مجازٌ في غيره، وبعضهم لا يفرق. وعقب القرطبي -رحمه الله- على مثل ذلك بقوله: ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه. (¬4) قوله: (ثم ثبتت)، وفي هذه الجملة اضطراب أو سقط. (¬5) في (د) زيادة: (في أولادكم). (¬6) لم أقف على رأي الفراء هذا في "معاني القرآن"، وقد أشار إليه أبو حيان في "البحر" 3/ 181، والسمين في "الدر المصون" 3/ 356.

{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وقال الكسائي: قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} بيان لما أوصى به وحكاية له، لأن الذي أوصاهم به هو هذا، ومثله قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 9] ثم ذكر ما وعدهم فقال: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ولهم مغفرة هو الذي وعدهم به، وكذلك قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35]. ويقول: بدا لي أن لعبد الله مالًا، فإذا (ألقيت) (¬1) أن قلت: بدا لي لعبد الله مالٌ (¬2)، وأنشد الكسائي على ذلك: إني سأُبدِي لك فيما أُبدي ... لي شجَنَانِ شَجَنٌ بِنَجْدِ (¬3) وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً}، يعني: فإن كن (¬4) المتروكات؛ وذلك أن اسم الولد يطلق على الإناث والذكور (¬5)، فلما فرض فريضة الذكور ¬

_ (¬1) في الأصل بالفاء، والتصحيح من (د). (¬2) لم أقف على قول الكسائي مفصلًا، وقد أشار إليه أبو حيان في "البحر" 3/ 181. انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 190، "الدر المصون" 3/ 597. (¬3) هذا البيت من الرجز، ولم أعرف قائله، وهو من شواهد "معجم مقاييس اللغة" 3/ 249 (شجن)، "الصحاح" 5/ 2142 (سجن)، "اللسان" 4/ 2202 (شجن)، والشجن: الحاجة. ولعل الشاهد منه أن: شجن بنجد تفسير وبيان لـ: لي شجنان، حيث جاء في "الصحاح"، "اللسان" بعد هذا: وشجن لي في بلاد السند، لكن في "اللسان": الهند بدل السند. والله أعلم. (¬4) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: فإن كان، انظر: الطبري 4/ 276، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 439، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 191. (¬5) انظر: "الطبري" 4/ 276، "تهذيب اللغة" 4/ 3951 (ولد)، "المحرر الوجيز" 3/ 512.

وأراد تبيين حال الإناث كنى عنهن بكناية جمع أسمائهن في الأولاد, وتقديره: الأولاد إن كن نساء فوت اثنتين فلهن ثلثا ما ترك (¬1). واجتمعت الأمة على أن للبنتين الثلثين (¬2)، إلا ما روي عن ابن عباس أنه ذهب إلى ظاهر الآية، وقال: الثلثان فرض الثلاث من البنات؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (¬3): ¬

_ (¬1) قال الطبري 4/ 276: واختلف أهل العربية في المَعنِي بقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} قال بعض نحويى البصرة بنحو الذي قلنا: فإن كان المتروكات نساء، وهو أيضًا قول بعض نحوي الكوفة وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك، فإن كان الأولاد نساء، وقال: إنما ذكر الله الأولاد فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ثم قسم الوصية فقال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً}، وإن كان الأولاد نساء، وإن كان الأولاد واحدة، ترجمة منه بذلك عن الأولاد. قال أبو جعفر: والقول الأول الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريين أولى بالصواب في ذلك عندي؛ لأن قوله: {فَإِنْ كُنَّ} لو كان معنيا به {وَالْأَوْلَادِ} لقيل: {وَإِن كَانُوا} لأن الأولاد تجمع الذكور والإناث، وإذا كان كذلك فإنما يقال: (كانوا)، لا (كن). هذا ما وضحه ابن جرير في تقدير اسم كان هنا، فالظاهر أن المؤلف قد خلط بين القولين، والله أعلم. (¬2) انظر "الإجماع" لابن المنذر ص 32، "المغني" لابن قدامة 9/ 11، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 31/ 350. هذا؛ وقد تعقب القرطبي الإجماع في هذه المسألة لخلاف ابن عباس منها. انظر "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 63، لكن العلماء الذين حكوا الإجماع حكموا على ما روي عن ابن عباس بالشذوذ كما في "المغني", "الفتاوى". (¬3) لم أقف على من خرجه، لكنه قول مشتهر عن ابن عباس وصححه عنه النحاس في: "إعراب القرآن" 1/ 439، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 63، وانظر: "تفسير الماوردي" 1/ 458، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 336, "المغني" 9/ 11، "مجمع الفتاوى" 31/ 350، "أضواء البيان" 1/ 372، "التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية" للدكتور صالح الفوزان ص 78. وقد قال الفوزان: وقيل: المشهور عنه مثل قول الجمهور.

فجعل الثلثين للنساء إذا زده (¬1) على الثلثين (¬2)، وعنده أن فرض البنتين النصف كفرض الواحدة وهذا غير مأخوذ به (¬3). ووجه الآية أن (فوق) ههنا صلة لا معنى له، أراد: فإن كن نساء اثنتين، كقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12]، يريد: فاضربوا الأعناق (¬4) وسمى البنتين نساء، لأن الابنين جماعة عند العرب. ونبين ذلك في آخر الآية (¬5). وقال أكثر المفسرين: إنما أعطينا البنتين الثلثين بتأويل القرآن لا بنص فرض، وذلك أن الله تعالى [جعل للبنت الواحدة النصف في قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، وجعل للأخت الواحدة النصف أيضًا في قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]، ثم جعل للأختين الثلثين، علمنا أن للبنتين] (¬6) الثلثين قياسًا على الأختين، كما ¬

_ (¬1) هكذا في (أ)، وفي (د): (رده)، ولعل الصواب: (زدن). (¬2) هكذا في (أ)، (د) والظاهر أن الصواب: الثنتين. (¬3) انظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 2/ 140 - 141، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 336، "المغني" 9/ 11، "مجموع الفتاوى" 31/ 350، "أضواء البيان" 1/ 372، "التحقيقات المرضية" ص 82، 83. (¬4) هذا قول في إعراب الآية، لكن خطَّأه النحاس بقوله: وهو خطأ؛ لأن الظروف ليست مما يزاد لغير معنى "إعراب القرآن" 1/ 349، كما ضعفه الكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 2/ 144، وابن عطية في "المحرر" 3/ 513، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 498. قال ابن كثير: وهذا غير مسلم، لا هنا ولا هناك، فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه، وهذا ممتنع. وقد تقدم مثل ذلك. (¬5) انظر ص 361. (¬6) يحتمل أن في الكلام سقطًا، واستقامته: وذلك أن الله تعالى لما جعل للبنت الواحدة .. علمنا أن لبنتين فسقطت لما من الكلام قبل جعل.

أن للأخوات الثلثين بما نص في البنات في قوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} الآية (1) وحرر الحسن بن يحيى (2) هذا الفصل فقال: (إن الله تعالى) (3) أمسك في هذه الآية عن ذكر البنتين، وذكر الواحدة والثلاث وما فوقها، وذكر فيِ (قوله (3)): {يَسْتَفْتُونَكَ} في آخر النساء الأخت الواحدة والبنتين (4) , وأمسك عن ذكر الثلاث وما فوقها، فتضمن كل واحدة من هاتين الآيتين ما كف عن ذكره في غيرها, ويحتمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيها على ما ذكره في غيرها ليأتلف المعنى على (ما يجب (5)) إن شاء الله (6). قال أبو إسحاق: جعل الله عز وجل كتابه يدل بعضه على بعض تفقيهًا للمسلمين وتعليمًا؛ ليعملوا فيما يحزبهم (7) في الأمور على هذه الأدلة، وقال بعضهم (8): في الآية دليل على أن للبنتين الثلثين؛ لأنه قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وكان أول العدد ذكرًا وأنثى، فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث. فلما دل هذا على أن للذكر الثلثين وللبنت الواحدة الثلث، عُلم أن

_ (1) انظر: "تفسير الماوردي" 1/ 458، "أحكام القرآن" للهراسي 2/ 140 - 141، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 337، القرطبي 5/ 63، "أضواء البيان" 1/ 371، "التحقيقات المرضية" ص 80. (2) هو صاحب "نظم القرآن" وكثيرًا ما يأخذ عنه المؤلف، لكنه لم يصل إلينا. (3) ما بين القوسين ليس في نسخة (د). (4) هكذا في (أ)، (د) والظاهر: والثنتين. (5) في (أ): (يحب) بالحاء المهملة. (6) انتهى أخذ المؤلف من صاحب النظم، وانظر: "أحكام القرآن" للهراسي 2/ 141 - 142، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 337، القرطبي 5/ 63، "فتح القدير" 1/ 431. (7) يحز بهم: ينزل بهم ويهمهم. انظر: "اللسان" 2/ 854 (حزب). (8) صرح أبو إسحاق الزجاج بالقائل في "معانيه" 2/ 19، وأنه: أبو عباس محمد بن يزيد [وهو المبرد]، وكذا قال اسماعيل بن إسحاق.

للبنتين الثلثين من حيث علم أن للذكر الثلثين. وأما مذهب ابن عباس فهو محال في القياس، حيث يجعل البنتين كالواحدة. والبنتان كالجماعة؛ لأن منزلة الاثنين منزلة الجمع (¬1)، في كثير من الأحكام، فصلاة الاثنين جماعة، والأخوان كالإخوة في حجب الأم من الثلث إلى السدس، ويجيء ذلك في آخر الآية، فالجمع بالجمع أولى أن يقاس من الجمع بالواحد (¬2). وأيضًا فإن الآية في قول مقاتل، والكلبي نازلة في أم كجّة (¬3)، وكانت لها ثلاث بنات، فنزلت في جواب ما استفتت وأجيبت في بناتها خصوصًا، وكن ثلاثًا (¬4)، ولذلك ما خصت الثلاث بالذكر في الآية دون الثنتين. ¬

_ (¬1) في (أ): (الجميع)، والى هنا انتهى أخذ المؤلف من الزجاج في "معانيه" 2/ 19 بتصرف في العبارة، وما ذكر بعد ذلك من الأمثلة ونحوها زائد عليه. (¬2) انظر: "غرائب التفسير" 1/ 285. (¬3) هي أم كجّة -بالجيم كما ضبطها ابن حجر- الأنصارية من الصحابيات -رضي الله عنهن- زوجة أوس بن ثابت الأنصاري، ولم تذكر سنة وفاتها. انظر: "تجريد أسماء الصحابة" 2/ 332، "الإصابة" 4/ 487. (¬4) لم أجد من أخرجه بلفظ ثلاث في تفسير هذه الآية، وقد أشار إليه الثعلبي عن مقاتل والكلبي في تفسير هذه الآية، وذكره مطولًا في تفسير قوه تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7]. انظر: "الكشف والبيان" 4/ 16 ب، 17 أ، 22 أ. وقد أخرجه الطبري عن السدي بلفظ: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين، كان أهل الجاهلية لا يرثون الجواري ولا الصغار من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أبو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها: أم كجة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كجة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله هذه الآية: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} "تفسير الطبري" 4/ 275. وأورد السيوطي أثر السدي وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم. انظر "الدر المنثور" 2/ 222.

وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} وقرأ نافع (واحدةٌ) بالرفع (¬1) على معنى: إن وقعت واحدة، أي: إن حدث حكم واحدة، أو إرث واحدة؛ لأن (¬2) المراد حكمها والقضاء في إرثها، لا ذاتها. والاختيار قراءة العامة؛ لأن التي قبلها لها خبر منصوب، وهو قوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً}، وكما أن الضمير هناك: إن كن المتروكات أو الوارثات نساء، كذلك ههنا: وإن كانت المتروكة واحدة (¬3). وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ} يعني: ولأبوي الميت، كناية عن غير مذكور (¬4)، وهما والداه. والأصل أن يقال: أبة (¬5)، ولكن استغنى عنها بأم، فأبوان تثنية أب وأبة، وكذلك لو ثنيت ابنًا وابنًة ولم تخف اللبس لقلت: ابنان (¬6). وقوله تعالى: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}. أو ولد ابن، واسم الولد يقع على ولد الابن (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" ص 227، "الحجة" 3/ 135، "الكشف" 1/ 378. (¬2) في (د): (فان). (¬3) انتهى من "الحجة" 3/ 136 بتصرف، وانظر "معاني الزجاج" 2/ 18، "إعراب القراءات السبع" 1/ 129، "الكشف" 1/ 378. وممن اختار قراءة النصب ورجحها على الرفع الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 293، وابن خالوية في "الحجة" ص 120، وكثير من أئمة القراءات لم يتعرضوا للموازنة أو الترجيح بين القراءتين، فهما صحيحتان، وقد قرأ بالرفع اثنان من العشرة هما نافع وأبو جعفر. انظر: "المبسوط" ص 154، "النشر" 2/ 247. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 22 أ. (¬5) من "معاني الزجاج" 2/ 23، لكن فيه: والأصل في أم، أن يقال: أبة. (¬6) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 23. (¬7) انظر: "الكشف" 4/ 22 أ، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 335.

والأب يرث من جهة التسمية السدس، ويرث بغير تسمية على جهة التعصيب. مثال ذلك: لو مات عن ابنة وأبوين، كان للابنة النصف وللأم السدس، وكذلك للأب بالتسمية لأن الله تعالى قال: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، وههنا ولد وهو البنت، والسدس الباقي للأب أيضًا بحق التعصيب (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. أكثر القراء على ضم الهمزة من (أم) في جميع المواضع. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف إذا وليتها كسرة أو ياء (¬2)، (نحو هذا) (¬3) ونحو قوله: {يَطُوفُونَ} (¬4)، {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61]، {فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]. فأما إذا كان ما قبل الهمزة غير كسر فالضم لا غير، مثل {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} [المؤمنون: 50] (¬5). وإنما جاز كسر همزة (أم) لأن الهمزة حرف مستثقل، بدلالة تخفيفهم لها، فأتبعوها ما قبلها من الياء والكسرة، ليكون العمل فيها من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 277، "معاني الزجاج" 2/ 21، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 71. (¬2) في "الحجة" 3/ 137: وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا وما ذكره المؤلف أوضح وهو الموافق لما في "السبعة" ص 228. (¬3) ما بين القوسين ليس في (د). (¬4) هكذا في (أ)، (د) وهو تحريف، والظاهر أن الصواب: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [الزمر: 6]، كما في "الحجة" 3/ 137. (¬5) ما بين القوسين زائد على ما في "الحجة" لأبي علي وإن كان من لازم كلامه.

وجه واحد (¬1). قال أبو إسحاق: إنهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله: {فَلِأُمِّهِ}، وليس في كلام العرب مثل: فِعُل بكسر الفاء وضم العين، فلما اختلطت اللام [بالاسم] (¬2) شبه بالكلمة الواحدة، فأبدل من الضمة كسرة (¬3). وأيضًا فإن الهمزة لما يتعاورها من القلب والتخفيف تشبه الياء والواو، فتتغير كما تتغير الياء والواو، وتقارب الهاء في المخرج، والهاء قد اتبع الكسرة في نحو: بهم، وبهي (¬4). كذلك الهمزة. فإن قيل: وهلا فعلوا ذلك بغير هذا الحرف، مما فيه الهمزة، نحو: أتّ وأسّ وأدّ من أسماء الرجال؟ قيل: إن هذا الحرف قد كثر في كلامهم، والتغيير إلى ما كثر أسرع، وقد يختص الشيء في الموضع بما لا يكون في أمثاله، كقولهم: أسطاع وأهراق، ولم يفعل ذلك بما أشبهه، كذلك هذا التغيير في الهمزة مع الكسرة والياء اختص به هذا الحرف، ولم يكن فيما أشبهه (¬5). ¬

_ (¬1) من "الحجة" 3/ 137 بتصرف يسير، وسيرجع المؤلف إلى الإفادة منه بعد أخذه من الزجاج. وانظر: "السبعة" ص 228، "المبسوط" ص154، "الكشف" 1/ 379. (¬2) الزيادة من "معاني الزجاج" 2/ 23 لكي يستقيم الكلام. (¬3) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 23، وانظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 400، "الكشف" 1/ 379. ويرجع المؤلف بعده إلى أبي علي في "الحجة" فكان كلام الزجاج اعتراضًا أثناء كلام أبي علي، وانظر: "الحجة" 3/ 137، 138. (¬4) هكذا الكلمة في "الحجة" 3/ 137، ولعل الأصل: به فأشبعت الكسرة في الهاء فأشبهت الياء. (¬5) انتهى من "الحجة" 3/ 137، 138.

و (أما) (¬1) من ضم الهمزة فإنه أتى بها على الأصل، ألا ترى أن الهمزة في: أد وأف وبابه مضمومة على جميع أحوالها، ولا يؤدي إلى استعمال فِعُل، لأن اللام ليست من أصل الكلمة، واللام (¬2) من (فلأمه) قديرها تقدير الانفصال (¬3). وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}. أجمعت الأمة على أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس كرجل مات عن أبوين وأخوين، كان للأم السدس، والباقي للأب. فالأخوان فما فوقهما يحجبان الأم عن الثلث إلى السدس. والأخ الواحد لا يحجب. وابن عباس يخالف في هذه المسألة: فلا تحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة إخوة. وقال لعثمان (¬4) -رضي الله عنه-: بم (¬5) صار الأخوان يردان الأم إلى السدس، وإنما قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان: يا بني إن قومك حجبوها ¬

_ (¬1) ليس في (د). (¬2) في (أ) و"الأم"، وما أثبته هو الصواب. (¬3) انظر "معاني الزجاج" 2/ 23، "معاني القراءات" 1/ 295، "الحجة" 3/ 137، "الكشف" 1/ 380. (¬4) هو أمير المؤمنين أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي الأموي سبق إلى الإسلام ولقب بذي النورين وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، اتصف - رضي الله عنه - بالحلم وصلة الرحم وكثرة العبادة والإحسان ولين الجانب، استثمهد على يد جماعة غاشمة ظالمة سنة 35 هـ وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وقد قضى في الخلافة أكثر من إحدى عشرة سنة رَضِيَ الله عَنْه وأرضاه. انظر: "تاريخ خليفة" /168 - 180، "الاستيعاب" 3/ 155 - 165، "الإصابة" 2/ 462 - 463. (¬5) في (أ) , (د): (ثم)، والصواب ما أثبته، انظر: الطبري 4/ 278.

بأخوين، ولا أستطيع نقض أمر قد كان قبلي (¬1). مقابلة بالإجماع. قال علماء اللغة: قول ابن عباس: الأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة غلط منه؛ لأن الأخوين جماعة كالإخوة، وذلك أنك إذا جمعت واحدًا إلى واحد فهما جماعة ويقال لهما إخوة (¬2). وحكى سيبويه أن العرب تقول: قد وضعا رحالهما. يريدون: رحلي راحلتيها (¬3). قال ابن الأنباري: التثنية عند العرب أول الجمع، ومشهور في كلامهم إيقاع الجمع على التثنية، من ذلك قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، وهو يريد داود وسليمان، ومنه قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يريد قلبيكما (¬4). والعرب تقول: لطمت أوجه الرجلين، وضربت أرؤسهما، وشققت بطونهما، فيجمعون في موضع التثنية (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه ابن جرير 4/ 278، وعزاه إلى البيهقي كل من ابن كثير في "تفسيره" 1/ 499، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 223، وضعفه ابن كثير وكذلك الشيخ ناصر العمار في "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 181. (¬2) من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 22 بتصرف. وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 278، "الكشف والبيان" 4/ 22 ب، "الدر المصون" 3/ 602 "تفسير ابن كثير" 1/ 499. (¬3) "الكتاب" 3/ 622، "معاني الزجاج" 2/ 22. (¬4) في (د): (قلبكما). (¬5) لم أقف على كلام ابن الأنباري، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 436، "مشكل إعراب القرآن" لابن قتيبة ص 283، الطبري 4/ 278 - 279، "معاني الزجاج" 2/ 22، "الكشف والبيان" 4/ 22 ب، "الدر المصون" 3/ 602.

قال قتادة: وإنما حجب الإخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب (لمعونة الأب) (¬1)؛ لأنه يقوم بشأنهم وينفق عليهم دون الأم (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، أي: هذه الأنصبة إنما تقسم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه، وذكر الوصية مقدمةً على الدين، وذلك تقديم في اللفظ لا في الحكم؛ لأن (أو) لا توجب ترتيبًا، وإنما هي لأحد الشيئين؛ كأنه قيل: من بعد أحد هذين (¬3) مفردًا أو مضمومًا إلى الآخر (¬4). قوله تعالى: {يُوصِي بِهَا} قرئ بكسر الصاد وفتحها (¬5). فمن كسر (¬6) فلأنه تقدم ذكر الميت المفروض فيما ترك، يبين ذلك قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} أي: لأم الميت {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} يوصيها الميت. ومن فتح الصاد فإنه يؤول في المعنى إلى يوصي، ألا ترى أن الموصي هو الميت، والذي (¬7) حسن فتح الصاد أنه ليس ¬

_ (¬1) في (د): (معونة للأب). (¬2) أخرجه ابن جرير 4/ 280 بمعناه، وقال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 499، عندما ساق هذا الأثر: وهذا كلام حسن وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 223، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬3) في (د): (مدبن). (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 23، 24، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 343، "الدر المصون" 3/ 603. (¬5) بالفتح لابن كثير وعاصم -في رواية أبي بكر- وابن عامر، وبالكسر للباقين من العشرة. انظر: "السبعة" ص 228، "الحجة" 3/ 139، "المبسوط" ص 154، "النشر" 2/ 248. (¬6) توجيه القراءتين من "الحجة" 3/ 140 (¬7) في "الحجة": وكأن الذي.

لميت (1) إنما هو شائع في الجميع، فلذلك حسن يوصى (2) (3). وقوله تعالى: {أَوْ دَيْنٍ} إن قيل: ما معنى (أو) هاهنا، وهلا كان من بعد وصية يوصي بها (ودين) (4)؟. والجواب: ما قاله الزجاج، وهو أن معناه الإباحة، كما لو قال قائل: جالس الحسنَ أو الشعبي، المعنى: أن كل واحد منهما (5) أهل أن يجالس، فإن جالست الحسن فأنت مصيب، (أو الشعبي فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب) (6)، ولو قال: جالس الرجلين، فجالست واحدًا منهما وتركت الآخر كنت غير متبع ما أمرت به. كذلك في الآية لو كان: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (و) دَيْنٍ} احتمل اللفظ أن يكون هذا (الحكم المذكور في الآية) (6) إذا اجتمعت الوصية والدين، فإذا انفرد كان حكم آخر، فإذا كانت "أو" دلت على أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كانا كلاهما (7). وقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}. في هذا قولان:

_ (1) في "الحجة": ليس لميت معين. (2) في (أ)، (د) يوصا بألف ممدودة، وهو مخالف لقواعد الإملاء المتبعة، وما أثبته هو الموافق لـ"الحجة". (3) انتهى من "الحجة" 3/ 140. (4) في (أ)، (د): أو دين، والتصويب من "معاني الزجاج". (5) في "معاني الزجاج" 2/ 24: هؤلاء. (6) ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج". (7) انتهى من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 23، 24 بتصرف يسير، وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 281، "معاني الحروف" للرماني ص 77، "رصف المباني" ص 210، إيضاح الجملة الأخيرة عند المؤلف أنه عبر بأو هنا للدلالة على أن الحكم بالنسبة للدين والوصيه في الميراث واحد لا يتغير سواء وجدا منفردين أو مجتمعين.

أحدهما: أن هذا فصل معترض بين ذكر الورّاث وأنصبائهم، وبين قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}، ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية، ومعنى هذا الفصل في قول ابن عباس والكلبي: أن الله تعالى يُشَفِّع المؤمنين بعضهم في بعض، فأطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة (¬1). فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته (¬2)، ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه، رفع الله إليه والديه، فقال الله عز وجل: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}، لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة، وسبقه إلى منزلة عالية تكون سببًا لرفعه إليها (¬3). القول الثاني: أن هذا فصل معترض بينهما، ومعناه متعلق بمعنى الآية. يقول: لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا في الدنيا فتعطونه من الميراث ما يستحق، ولكن الله تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فأفسدتم وضيعتم وأعطيتم من لا يستحق ومنعتم من يجب له الميراث، وهذا قول الزجاج (¬4)، وابن الأنباري، وجماعة من أهل المعاني (¬5)، وإليه أشار ابن عباس في ¬

_ (¬1) أخرجه عن ابن عباس ابن جرير بنحوه 8/ 49، وسنده حسن. انظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 184، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 23 أ. (¬2) في (أ): (بمسلته). (¬3) ذكر الهواري معنى ذلك من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقريبًا منه قولًا للكلبي. انظر "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 355، "الكشف والبيان" 4/ 23 أ، "معالم التنزيل" 2/ 178. (¬4) ساق الزجاج القولين من دون اختيار لأحدهما. انظر: "معاني القرآن" 2/ 24. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 281 - 282، "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 593، "الدر المنثور" 2/ 223, 224.

رواية عطاء (¬1). وقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} منصوب على التوكيد من قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ}، أي لهؤلاء الورثة ما ذكرنا مفروضًا، (ففريضة) (¬2) مؤكدة لقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. قال الحسن: كان عليمًا بالأشياء قبل خلقها، حكيمًا فيما يقدر (¬4). وقال عطاء: كان عليمًا بخلقه قبل أن يخلقهم، حكيمًا حيث فرض للصغار مع الكبار، ولم يخصّ الكبار بالميراث كما كانت العرب تفعل (¬5). وحكى الزجاج عن سيبويه، قال: كأن القوم شاهدوا علمًا وحكمة ومغفرة وتفضلًا، فقيل لهم: إن الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه الرواية. (¬2) في (أ)، (د): بفريضة، والتصويب من "معاني الزجاج" 2/ 25. (¬3) من "معاني الزجاج" 2/ 25، وتوضيح قول المؤلف -تبعًا للزجاج- بأن فريضة منصوب على التوكيد أي: أنها مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة من الوصية، وقد أطلق كل من ابن جرير والنحاس ومكي أنها منصوبة على المصدرية. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 282، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 398، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 192، "الدر المصون" 3/ 606. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 25، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 400، "زاد المسير" 2/ 29، "تفسير الحسن" 1/ 264. (¬5) لم أقف عليه عن عطاء، وانظر: الطبري 4/ 282، "الوسيط" 2/ 467. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 25، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 400، "زاد المسير" 2/ 29، ولم أقف على قول سيبويه في كتابه.

وقال الخليل: الخبر عن الله عز وجل بمثل هذه الأشياء، كالخبر بالاستقبال والحال؛ لأن صفات الله تعالى لا يجوز عليها الزوال والتقلب (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً}. قد أكثروا في الكلالة، والذي عليه الأكثرون وهو الصواب أن الكلالة ما عدا الوالد والولد (¬2). وهو قول أبي بكر، وعمر، وابن عباس، وابن زيد، وقتادة، والزهري، وابن إسحاق (¬3). وأخبرني موسى بن الفضل (¬4)، حدثنا الأصم (¬5)، عن محمد بن الجهم (¬6)، عن الفراء، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد (¬7). وأقرأني العروضي، عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري (¬8)، عن ¬

_ (¬1) من "معاني الزجاج" 2/ 25 بتصرف ودون نسبة للخليل، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 400، "زاد المسير" 2/ 30. (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 257، "مجاز القرآن" 1/ 118، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص116، "تفسير الطبري" 4/ 283، "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 356، "معاني الزجاج" 2/ 26، "الكشف والبيان" 4/ 23 ب، "زاد المسير" 2/ 30، 31، "تفسير ابن كثير" 1/ 500. (¬3) انظر: "الطبري" 8/ 53 - 75. (¬4) لم أقف له على ترجمة. (¬5) هو أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف المعقلي النيسابوري، تقدمت ترجمته. (¬6) هو أبو عبد الله محمد بن الجهم السمري، تقدمت ترجمته. (¬7) قول الفراء في "معاني القرآن" 1/ 257، وانظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3176 - 3177 (كل) حيث جاء بسند آخر. (¬8) هو أبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري الهروي، تقدمت ترجمته.

الحسين ابن فهم (¬1)، عن سلمة، عن أبي عبيدة، أنه قال: الكلالة كل من لم يرثه (ولد أو أب) (¬2). ونحو ذلك قال الأخفش (¬3). قال المنذري: وسمعت أبا العباس (¬4) يقول: الكلالة من القرابة ما خلا الوالد والولد. سموا كلالة لاستدارتهم بنسب الميت من تكلله النسب أي أحاط به واشتمل عليه (¬5). فهم بمنزلة العصبة، كالإخوة والأخوات والأعمام وأبنائهم. قال: وسمعته (¬6) مرة يقول: الكلالة من سقط عنه طرفاه، وهما أبواه (وولداه (¬7))، فصار كلا وكلالة، أي: عيالًا على الأصل. يقول: سقط ¬

_ (¬1) في (أ) كأنها: (الجهين) أو: الجهز بن فهيم، ولعل ما أثبته من (د) هو الصواب لموافقته "تهذيب اللغة" 4/ 3176 - 3177 (لكل). والحسين هذا هو أبو علي الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم البغدادي، إمام علامة عالم بالحديث والتاريخ والأدب من الفصحاء، توفي -رحمه الله- سنة 289 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 3/ 427. (¬2) في (د): (ولد ولا أب)، وما أثبته هو الموافق لـ"التهذيب"، أما "المجاز" لأبي عبيدة 1/ 118 ففيه: (كلالة) كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة اهـ، وإدخال أبي عبيدة الأخ مع الأب والابن هنا لا يوافق عليه. انظر "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 77. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3176 (كل)، ولم أر الأخفش في "معاني القرآن" تعرض لتفسير الكلالة. (¬4) هو أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، تقدمت ترجمته. (¬5) قول المنذري من "تهذيب اللغة" 4/ 3176 - 3177 (كل) بتصرف يسير، وانظر: "الصحاح" 5/ 1811 (كلل)، "اللسان" 7/ 3918 (كلل). (¬6) القائل المنذري والمسموع أبو العباس ثعلب. (¬7) في "التهذيب": وولده.

(من (¬1)) الطرفين فصار عيالًا عليهم (¬2). وقيل: لأن من لا يكون والدًا ولا ولدًا كلّت قرابته عن أن تكون قرابة ماسة. يقال: هو أكَلُّ من هذا، أي: أبعد نسبًا (¬3). وحديث جابر يفسر الكلالة، وأنه الوارث (غير الوالد والولد)؛ لأنه يقول: مرضت مرضًا أشفيت منه على الموت، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني رجل ليس يرثني إلا كلالة (¬4). أراد أنه لا والد له ولا ولد، فكل من مات ولا ولد له ولا والد فهو كلالة ورثته، وكل وارث ليس بوالد للميت ولا ولد له فهو كلالة موروثه (¬5). فالكلالة اسم يقع على الوارث والموروث إذا كانا بالصفة التي ذكرنا (¬6). ويقال: رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنه مصدر كالدلالة والوكالة، يقال: كل الرجل يكل كلالة، أي صار ¬

_ (¬1) في (د): (عن)، وما أثبته هو الموافق لـ"التهذيب". (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3176 (كل)، وانظر "اللسان" 7/ 3919 (كلل). (¬3) هذا القول في توجيه هذه الكلمة ليس في "تهذيب اللغة"، ولم أقف عليه، وانظر: "العين" 5/ 279 (كل) .. (¬4) الكلام من قوله: وحديث جابر من "تهذيب اللغة" 9/ 247، أخرجه ابن جرير 4/ 286 بنحوه، وذكره -بنصه- السمين في "عمدة الحفاظ" ص 501 (كلل)، وعبارة (غير الوالد والولد) ليست في "التهذيب". (¬5) انتهى من "تهذيب اللغة" 4/ 3176 (كل) بتصرف. (¬6) هناك خلاف: هل الكلالة اسم يقع على الوارث؟ أو المورث؟ أو عليهما "معاني الآثار" للطحاوي، كما نص عليه المؤلف؟ انظر: "تفسير الطبري" 4/ 286، ولعل الراجح ما أشار إليه المؤلف. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3177 (لكل)، "اللسان" 7/ 3918 - 3919 (كلل)، "عمدة الحافظ" ص501 (كلل).

كلًّا، وهو الذي لا ولد له ولا والد. ذكره الليث (¬1)، وهو صحيح. والدليل على أن الوارث يُسمى كلالة حديث جابر أنه قال: ليس يرثني إلا كلالة، والدليل على أن الموروث الميت يُسمى كلالة قول الفرزدق: وَرِثتُم قَناةَ المُلك لا عن كَلالةٍ ... (عن ابنَي منافٍ: عبدِ شمسٍ وهاشم) (¬2) (¬3) وقول الشاعر: يهز سلاحًا لم يرِثه كلالةً ... يَشُكُّ بِه منهَا جلودَ المَغَابنِ (¬4) يصف ثورًا وقرنه وأنه ورثه من أبيه، وجعل القرن له كالرمح من الأسلحة، وأنه يشق به مغابن الكلاب. فالكلالة في هذا البيت يحتمل أنه الوارث، ويحتمل أنه الموروث. ¬

_ (¬1) لم أقف على ما نسبه المؤلف لليث لا في "العين" ولا في "تهذيب اللغة" ولا غيرهما، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 78. (¬2) هذا الشطر الثاني من البيت ليس في (د)، وإنما اكتفى الناسخ بقوله: البيت. (¬3) البيت في "الكشف والبيان" 4/ 24 أ، "اللسان" 7/ 3918 (كلل) فيه الشطر الأول، "عمدة الحفاظ" ص 501 (كلل)، "الدر المصون" 3/ 607، وقد ذكر د. أحمد الخراط في تحقيقه للأخير أن البيت ليس في "ديوان الفرزدق"، هذا مع أني لم أجده في "معجم شواهد العربية" رغم اتفاق من عزوت إليهم على نسبته إلى الفرزدق، فقد يكون سقط من "ديوان الفرزدق" و"منتهى الطلب"، والله أعلم. (¬4) البيت للطرماح كما في "ديوانه" ص133، و"البحر المحيط" 3/ 352، و"أساس البلاغة" (كلل) و"الصحاح" (سلح)، و"المحكم" (سلح) و"اللسان" (سلح): (بزغ). والمغابن جمع مَغبِن، وهو الإبط والرُّفغ (باطن الفخذ)، وتطلق المغابن على معاطف الجلد أيضًا. انظر: "اللسان" 6/ 3211 (غبن).

قال الأزهري: ودل قول الشاعر (¬1) أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة، وهو قوله: فإنَّ أبا المرءِ أحمَى له ... وَمولى الكَلالةِ لا يَغْضَبُ (¬2) أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظُلم، وموالي الكلالة وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} الكلالة في هذه الآية الميت، وهو الموروث، والمراد به الأخ للأم إذا مات. ويورث ههنا من: وُرِثَ يُورث، لا من: أُورِثَ يُورَث (¬4). وانتصب كلالة من وجهين: أحدهما: أنه خبر كان (¬5). والثاني: على الحال. المعنى يورث في حالٍ مكللةٍ نسب ورثته، أي لا ولد له ولا والد. وهذا الوجه هو الاختيار، وهو قول الزجاج، والكلالة مصدر وقع موقع الحال، تقديره: يورث متكلل النسب (¬6). وقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} إن قيل: قد سبق ذكر الرجل والمرأة ¬

_ (¬1) في البيت اللاحق لا السابق. (¬2) لم أعرف قائله وهو من "شواهد الزجاج في معانيه" 2/ 26، "الكشف والبيان" 4/ 24 أ، "اللسان" 7/ 3918 (كلل) إضافة إلى الأزهري حيث أفاد المؤلف منه كما سيأتي العزو إليه. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3177 (كلل)، وانظر "معاني الزجاج" 2/ 26، "اللسان" 7/ 3918 (كلل). (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3176 (كلل)، وانظر: "اللسان" 7/ 3918 (كلل). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 438، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 400، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 192. (¬6) انظر: "معاني الأخفش" 1/ 438، "معاني الزجاج" 2/ 25، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 400، واقتصر الزجاج على ذكر هذا القول فقد يكون اختاره دون غيره.

في قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ثم قال: {وَلَهُ أَخٌ} فأضاف إلى الرجل وكنى عنه دون المرأة؟ قال الفراء: وذلك جائز، إذا جاء حرفان في معنى واحد بـ (أو) أسندت التفسير إلى أيهما شئت، وإن شئت أسندت إليهما (¬1)، تقول في الكلام: من كان له أخ أو أخت فليصله تذهب إلى الأخ، وفليصلها تذهب إلى الأخت، وإن قلت: فليصلهما، فذلك جائز، (وإن شئت قلت: فليصلهم) (¬2)، كقراءة من قرأ {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهم} [النساء: 135] (¬3) ذهب إلى الجميع لأنهما اثنان غير مؤقتين (¬4). وأجمع المفسرون على أن المراد (بالأخ والأخت ههنا من الأم) (¬5) (¬6)، وكذلك في قراءة سعد بن أبي وقاص (¬7): (وله أخ أو أخت من أم) (¬8). ¬

_ (¬1) في "معاني الفراء" 1/ 257: وإن شئت ذكرتهما فيه جميعًا. (¬2) ما بين القوسين ليس في "معاني الفراء". (¬3) نُسبت هذه القراءة لأبيّ -رضي الله عنه- وليست في المتواتر. انظر: "البحر المحيط" 3/ 370. (¬4) انتهى من "معاني القرآن" 1/ 257 - 258، وانظر: الطبري 4/ 287 - 288، "الكشف والبيان" 4/ 24 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 78. (¬5) في (د): (بالأخ والأخت أولاد الأم). (¬6) انظر "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 356، "تفسير الطبري" 4/ 287 - 288، "معاني الزجاج" 2/ 26، "الكشف والبيان" 4/ 24 أ، "معالم التنزيل" 2/ 180، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 349، "تفسير ابن كثير" 1/ 500. (¬7) هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أُهيب القرشي صحابي مشهور، أحد العشرة المبشرين بالجنة وآخرهم موتًا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا. كان فارسًا شجاعًا، وهو أحد الستة أهل الشورى وعرف بإجابة الدعوة، توفي - رضي الله عنه - على الأشهر سنة 56 هـ. انظر: "الاستيعاب" 2/ 171 - 174، "الإصابة" 2/ 33 - 34. (¬8) أخرجِ أبن جرير بسنده عن سعد أنه كان يقرأ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} قال سعد: لأمه وذكر هذه القراءة الثعلبي في "الكشف =

قال ابن عباس في رواية عطاء: وله أخ أو أخت من أمه (¬1). {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (وفرض) (¬2) الواحد من ولد الأم السدس، فإن كانوا أكثر من واحد اشتركوا في الثلث، الذكر والأنثى فيه سواء. هذا لا خلاف فيه بين الأمة (¬3). قال أبو إسحاق: وإنما استُدِل على أن المراد بالأخ والأخت ههنا أولاد الأم بأن ذكر في آخر هذه السورة في قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] (¬4) أن للأختين الثلثين، وأن للإخوة كل المال، فعُلم ههنا لما جعل للواحد السدس وللاثنين الثلث، ولم يزادوا على الثلث شيئًا ما كانوا، أنه يعني بهم الإخوة لأم (¬5). وقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ} أي: مدخل الضرر على الورثة (¬6). قال المفسرون: هو أن يوصي الرجل بدين ليس عليه (¬7)، يريد بذلك ضرر ¬

_ = والبيان" 4/ 24 أ، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 224. (¬1) لم أقف على هذا الأثر إلا عند المؤلف نفسه في "الوسيط" 2/ 472، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش القرآن الكريم ص 79. (¬2) في (أ): (وفوّض). (¬3) انظر: الطبري 4/ 277، "الإجماع" لابن المنذر ص 34، "الكشف والبيان" 4/ 24 أ، "معالم التنزيل" 2/ 180، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 349، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 79. (¬4) سياق الآية ليس في "معاني الزجاج". (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 26. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 24 ب. (¬7) ذكر ذلك الثعلبي عن الحسن في "الكشف والبيان" 4/ 24 ب؛ والبغوي في "معالم التنزيل" 2/ 180، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 80، "البحر المحيط" 3/ 190.

13

الورثة، فمنع الله منه. وانتصب {غَيْرَ مُضَارٍّ} على الحال، المعنى. يُوصَى بها غير مضار (¬1). وقوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد فريضة من الله (¬2). وهذا مثل ما ذكرنا في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11]. وانتصابه على المصدر من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} (¬3). وقال الفراء: يريد: فلكل واحد منهما السدس وصية من الله، كما تقول: لك درهمان نفقة إلى أهلك (¬4). وذكرنا هذا الوجه في قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: بمن يجوز في وصيته (¬5). وقال الزجاج: {عَلِيمٌ} (¬6) بما دبّر من هذه الفرائض، حليم عمّن عصاه بأن أخَّره وقبل توبته (¬7). 13 - وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} الآية. ذكرنا معنى الحدود فيما تقدم. قال ابن عباس: يريد ما حد الله من ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 27، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 192، "البيان" لابن الأنباري 1/ 246، القرطبي 5/ 80، "البحر المحيط" 3/ 191. (¬2) لم أقف على من خرجه عنه، وانظر: "تنوير المقباس" ص 79. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 275، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 398، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 192، "البيان" 1/ 246. (¬4) قول الفراء في "معاني القرآن" 1/ 258، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 275. (¬5) لم أقف له على تخريج. (¬6) في (أ): (عليهم)، والصواب ما أثبته كما في "معاني الزجاج" 2/ 27. (¬7) "معانى الزجاج" 2/ 27، وانظر: "الوسيط" 2/ 472.

14

فرائضه (¬1). وقال ابن كيسان (¬2)، والزجاج: أي: هذه التي تليت في أمر الفرائض وأمر اليتامى في أول السورة (¬3). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ} (¬4). وقرأ نافع وابن عامر بالنون، والمعنى فيه كالمعنى في الياء، ومثله قوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} [آل عمران: 150]، ثم قال: {سَنُلْقِى} بالنون [آل عمران: 151] (¬5). وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} قال أبو إسحاق: أي: ندخلهم مقدرين الخلود فيها، وهذا كما تقول في الكلام: مررت برجل معه صقرٌ صائدًا به غدًا، أي: مقدرًا الصيد غدًا، لأن الحال لا يكون إلا ما أنت فيه (¬6). 14 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. قال الضحاك: المعصية ههنا الشرك (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" ص 138، وأخرجه ابن جرير بمعناه من طريق ابن أبي طلحة 8/ 69، 72، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 33 بلفظ المؤلف. انظر: "الدر المنثور" 2/ 228، "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 197. (¬2) هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان، تقدمت ترجمته. (¬3) الذي في "معاني الزجاج" 2/ 27: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي: الأمكنة التي لا ينبغي أن تُتجاوز، ولم أقف على قول ابن كيسان. (¬4) (يدخله) ليست في (د). (¬5) "الحجة" 3/ 140، 141، وانظر: "السبعة" ص 228، وهذا القراءة عشرية قرأ بها أبو جعفر أيضًا من العشرة. انظر: "المبسوط" ص 154، "النشر" 2/ 248. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 27 بتصرف. (¬7) لم أقف عليه، وهذا القول مرجوح؛ لأن الآية عامة ولا مخصص لها، وأصوب من هذا القول الثاني لابن عباس لموافقته السياق.

15

وقال عكرمة عن ابن عباس: من لم يرض بقسم الله، ويتعدى ما قال الله يدخله نارًا (¬1)، وقال الكلبي: يعني: يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالًا (¬2). وقوله تعالى: {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] (¬3). في نصب خالد وجهان: أحدهما: أنه حال من الهاء في {يُدْخِلْهُ}، على تقدير: يدخله خالدًا في النار، إلا أنه لما تقدم ذكر النار كنى عنها (¬4). الثاني: أنه من نعت النار. في قول الزجاج (¬5)، وهذا كما يقول زيد: مررت بدار ساكن فيها، ومثله: {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]. 15 - قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} الآية. اللاتي جمع التي، وللعرب في جمع التي لغات، يقال: اللاتي، واللات، واللواتي، واللوات، واللوا، واللائي، واللاء، واللآت، واللاآت (¬6). قال الشاعر: ¬

_ (¬1) لم أجد قول ابن عباس هذا بنصه هذا ومن نفس الطريق إلا عند المؤلف هنا وفي "الوسيط" 2/ 473، لكن جاء عنه من طريق علي بن أبي طلحة أنه فسر هذه الآية بقوله: في شأن المواريث التي ذكر من قبل. "تفسير ابن عباس" ص 138، والطبري 4/ 291 وانظر "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 197. (¬2) انظر: "تنوير المقباس بهامش القرآن الكريم" ص 79. (¬3) قوله تعالى: {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ليس في (أ). (¬4) انظر "معاني الزجاج" 2/ 27، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 192، "البيان في غريب القرآن" 1/ 246، "الكشاف" 1/ 256. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 27، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 192، وقد منع الزمخشري صحة هذا الوجه. انظر: "الكشاف" 1/ 192، "الدر المصون" 3/ 615. (¬6) انظر "مجاز القرآن" 1/ 119، "معانى الزجاج" 2/ 28، "الصحاح" 6/ 2479 (لتى)، "اللسان" 7/ 3994 - 3995 (لتا)، "الدر المصون" 3/ 616.

من اللَّواتي والّتي واللاّتي ... زَعَمنَ أنَّي كَبِرَت لِداتي (¬1) فجمع بين ثلاثة أحرف للمبالغة في التوكيد، وكل واحد منها يكفي من الآخر. والعرب قد تقول في جمع النساء: التي، فتقول: ما فعل الهندات التي أمرها كذا، وقال الآخر: اللَّات كالبِيض لَّما تَعْدُ أن دَرَسَتْ ... صُفرُ الأَنَامل من قَرع القَوَاقِيزِ (¬2) وقال آخر: من اللاء لم يَحجُجْن (¬3) يَبغِين حِسبةً ... ولكنْ لِيَقْتُلن البَريء المُغَفَّلا (¬4) وقال آخر: أولئك أخْدانِي وأخلال شِيمَتي ... وأخدانُك اللَّاآت زُّينَّ بالكَتمِ (¬5) ¬

_ (¬1) قائله غير معروف، ومعنى لداتي أي: أسناني. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 119، "معاني الزجاج" 2/ 28، "الصحاح" 6/ 2479، "اللسان" 7/ 3995 (لتا). (¬2) هذا البيت للأسود بن يعفر حسب ما في "اللسان" 7/ 3995 (لتا). لكن فيه: اللأت كالبيض، قال: وُيروى: اللاء كالبيض، واللواتي، واللات بلا ياء، وقافيته في "اللسان": القوارير. (¬3) في (أ)، (د): (يحجن). (¬4) نسبه إلى عمر بن أبي ربيعة أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 119, 120، وهو في "معاني الزجاج" 2/ 28، "تهذيب اللغة" 1/ 415 (التى)، "زاد المسير" 2/ 34، بدون نسبة، ونسب في "زهر الآداب" 1/ 168، إلى الحارث المخزومي. (¬5) البيت في "اللسان" 7/ 3995، "الدر المصون" 3/ 617 بدون نسبة.

قال ابن الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان: التي، ومن الحيوان: اللاتي، كقوله: {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وقال في هذه الآية: {وَاللَّاتِي}. والعِلّة في ذلك أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد. وتأويله قوله: {أَمْوَالَكُمْ} التي (عدتكم (¬1)) التي جعل الله لكم قيامًا. وجمع الحيوان لا يُجرى مجرى الواحد، ألا ترى أنك تقول: الأموال أخذتها، والأثواب اشتريتها. وتقول في جميع الحيوان: ما فعلت الهندات اللاتي رأيتهن. فتنعتهن بالجمع (¬2)؛ لأن كل واحدة منهن يقع على عين معروفة، ولا يجري مجرى شيء كما يجري الجمع من الموات مجرى شيء و (عدّه) (¬3). ومن العرب من يُسَوِّي بين الموات وغيره في هذا المعنى، فيقول: ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا، وما فعلت الأثواب اللاتي من قصتهن كذا وكذا. والأول هو المختار (¬4). وأنشد في جمع النساء: من اللَّواتي والّتي واللَّاتي (¬5) وقوله تعالى: {يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} أي: يفعلنها، يقال: أتيت أمرًا قبيحًا، أي فعلته. قال الله تعالى: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27]، وقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] (¬6). والفاحشة: الفِعلة القبيحة، وهي مصدر عند أهل اللغة؛ كالعافية ¬

_ (¬1) هكذا في (أ)، (د)، وقد تكون: من ربكم. (¬2) في (أ): (بالجميع). (¬3) هكذا في (أ)، وفي (د): (عدة)، ولم تظهر. (¬4) لم أقف على كلام ابن الأنباري، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 401. (¬5) سبق قريبًا. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 258، "عمدة الحافظ" ص 7 (أتى).

والعاقبة، يقال: فَحَش الرجل يفحش فحشًا وفاحشةً، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل (¬1). ذكره الزجاج في باب الوفاق (¬2). وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا (¬3). وقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}. أي: من المسلمين (¬4) {فَإِنْ شَهِدُوا} بالزنا (¬5) {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}: أي: فاحبسوهن في السجون (¬6). قال المفسرون: هذا أمر كانوا يستعملونه في أول الإسلام إذا كان الزانيان ثيبين حبسا ومنعا من مخالطة الناس، وإذا كانا بِكْريَن أُوذِيا بالتعنيف والتوبيخ، فيقال لهما: انتهكتما حُرماتِ الله وعصيتماه، واستهدفتما لعقابه، هذا وما أشبهه من الكلام، ثم نَسخ الله الحبس والأذى بِرَجْم الثيِّبين وجلد البِكرين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2746، "الصحاح" 3/ 1014 (فحش). (¬2) ليس في "معاني الزجاج" حول تفسير الآية، ولم يتبين مقصود المؤلف في إحالته هذه. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 138، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 116، "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 358، الطبري 4/ 291 - 292، "معاني الزجاج" 2/ 28، "الكشف والبيان" 4/ 24 ب، البغوي 2/ 181، القرطبي 5/ 83، ابن كثير 1/ 503. (¬4) "تفسير الطبري" 4/ 292، "الكشف والبيان" 4/ 24 ب. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 24 ب. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 4/ 292، "معاني الزجاج" 2/ 28، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 401 - 402، "الكشف والبيان" 4/ 24 ب، "الدر المنثور" 2/ 229 - 230. (¬7) هذا معنى قول ابن عباس وقتادة وابن زيد والحسن وغيرهم. انظر: "تفسير ابن عباس" ص 138، "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 358، الطبري 4/ 292، "الكشف والبيان" 4/ 24 ب.

أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج (¬1) رحمه الله، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن الكارزي (¬2)، أخبرنا علي بن عبد العزيز (¬3)، أخبرنا أبو عُبَيد، حدثنا حجاج بن محمد (¬4)، عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء (¬5)، عن عطاء الخراساني (¬6)، عن ابن عباس في هذه الآية قال: نسخها قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية [النور: 2] (¬7). قال أبو عبيد: وحدثنا عبد الله بن صالح (¬8)، عن معاوية بن صالح (¬9)، ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القرشي النيسابوري، انظر: "العبر" 1/ 188. (¬2) هو محمد بن محمد بن الحسن. انظر: "الإكمال" 7/ 141 (¬3) هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي، حافظ صدوق، صنف "المُسند الكبير" وأخذا القراءات عن أبي عبيد وغيره، انتقل في آخر عمره إلى مكة حتى مات بها سنة 286 هـ وقيل بعدها بسنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 13/ 349، "غاية المنتهى" 1/ 549. (¬4) هو أبو محمد حجاج بن محمد المصيصي الأعور، أحد العلماء والرواة الثقات إلا أنه اختلط في آخر عمره لمّا قدم بغداد، وقد توفي -رحمه الله- بها سنة 206 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 464، "التقريب" ص 153 رقم (1135). (¬5) هو أبو مسعود عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخراساني ضعيف في رواية الحديث. توفي -رحمه الله- سنة 55 هـ، وقيل قبلها. انظر: "ميزان الاعتدال" 3/ 48. (¬6) عطاء بن أبي مسلم الخراساني، تقدمت ترجمته، وروايته عن ابن عباس مُرسلة. (¬7) في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 132 بنحوه مطولًا. (¬8) هو أبو صالح عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، كاتب الليث بن سعد، صاحب حديث وعلم صدوق في الرواية ثبت في الكتابة توفي -رحمه الله- سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين ومائتين للهجرة انظر: "ميزان الاعتدال" 2/ 440 - 445، "التقريب" ص 308 رقم (3388). (¬9) هو أبو عمرو معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي، من مشاهير العلم والرواية، وقد وثقه غير واحد من الأئمة وحكم عليه ابن حجر بأنه صدوق. ولي القضاء =

عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية، وفي قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} قال: كانت المرأة إذا زنت حُبست في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير (¬1)، والضرب بالنّعال، فنزلت: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، قال: وإن كانا محصنين رجما بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فهو سبيلهما الذي جعله الله لهما يعني: قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2). قال أبو عبيد: حدثنا أبو النضر (¬3)، عن شعبة (¬4)، عن قتادة، عن الحسن (¬5)، عن حِطَّان بن عبد الله الرقاشي (¬6)، عن عُبادة بن ¬

_ = وتوفي -رحمه الله- بمصر سنة 158 هـ، وقيل بعدها. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 284، "مشاهير علماء الأمصار" ص190، "التقريب" ص 538 رقم (6762). (¬1) في (د): (بالتغيير)، بالغين المعجمة. (¬2) من "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 132، 133، والأثر في "تفسير ابن عباس" ص 138، وأخرجه الطبري 4/ 292 - 293، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 167، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 230. (¬3) هو هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي بالولاء، البغدادي -وكان من مفاخر بغداد- صاحب سنة ومتفق على توثيقه في الرواية وقد توفي -رحمه الله- سنة 207 هـ. انظر "تاريخ الثقات" 2/ 323، "التقريب" ص 570 رقم (7256). (¬4) هو أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، الواسطي ثم البصري، ثقة حافظ قال عنه الثوري: أمير المؤمنين في الحديث من العلماء بالرجال ومن العباد الفضلاء، توفي -رحمه الله- سنة 160هـ انظر: "تاريخ الثقات" 1/ 456، "مشاهير علماء الأمصار" ص 177، "التقريب" ص 266 رقم (2790). (¬5) في النسختين: (الحسين)، والتصويب من الطبري 4/ 293 - 294، والبغوي 2/ 181، وابن كثير 1/ 503. (¬6) هو حِطَّان بن عبد الله الرقاشي البصري، من التابعين الثقات وكان رجلاً صالحًا، توفي -رحمه الله- بعد السبعين للهجرة في ولاية بشر على العراق. انظر "تاريخ الثقات" 1/ 308،"التقريب" رقم (1399).

الصامت (¬1)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البِكر يُجلد ويُنفى، والثيّب يُجلد ويُرجم" (¬2). وخص النساء بالذكر في هذه الآية، والحد في الزنا على النساء والرجال واحد؛ لأن المرأة أحرص على الزنا من الرجل، فخصها بالذكر، كما قدم اسمها في آية الزنا، وهو قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} (¬3) [النور: 2]. وقدم اسم الرجل في آية السرقة في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] من حيث كان الرجل أحرص على السرقة من المرأة (¬4). قال المفسرون: بعض الآية منسوخ، وهو الإمساك في البيوت، وبعضها ثابت، وهو استشهاد الأربعة (¬5). واقترن بناسخ الوحي (¬6) وحيٌ غير ¬

_ (¬1) هو أبو الوليد عُبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري الخزرجي من الصحابة الفضلاء، وقد شهد بدرًا والمشاهد بعدها وهو من النقباء في البيعة ليلة العقبة، كان من علماء الصحابة وله مناقب وقد ولي القضاء، توفي -رضي الله عنه- بالرملة سنة 34هـ، وقيل بعدها. انظر: "تاريخ خليفة" ص 168، "الاستيعاب" 2/ 355، "الإصابة" 2/ 268. (¬2) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 133، وأخرجه الطبري 4/ 293 - 294. (¬3) الحكم على جنس المرأة بأنها أحرص على الزنا من الرجل فيه نظر، ولعل الأولى أن يقال إن تخصيص المرأة بالذكر هنا وتقديم اسمها في آية النور، لأن الزنا في حق المرآة أشد؛ إذ إن العار يلحقها مدى حياتها بخلاف الرجل، ولأن الفتنة في النساء أضر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" أخرجه مسلم (2740) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: 26 أكثر أهل الجنة الفقراء ... ، وباب: الفتنة بالنساء 4/ 2097 (ح 97). (¬4) انظر "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 331. (¬5) انظر "الكشف والبيان" 4/ 25 ب. (¬6) ناسخ الوحي هنا هو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

16

متلوّ على لسان الرسول وهو التغريب والرجم (¬1). وجلد الثيب منسوخ أيضًا، فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تركه (¬2). 16 - قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}. قرأ ابن كثير (¬3): (اللَّذَانّ)، (هَذَانّ)، (هاتَينّ)، (فَذَانِّك) مشددة النون، ووافقه أبو عمرو في: (فَذَانِّك). وإنما شدد نون التثنية لأنه جعل التشديد عِوضًا من الحذف الذي لحق الكلمة، ألا ترى أن قولهم: إذًا قد حذف لامها، وقد حذفت الياء من: (اللَّذَانِّ) في التثنية. فإن قلت: إنّ الحذف في: (اللَّذَانّ)، إنما هو لالتقاء الساكنين، وما حذف لالتقاء الساكنين فهو في تقدير الثبات بدلالة قوله: ولا ذاكر الله إلا قليلًا (¬4) ألا ترى أنه نصب مع الحذف كما ينصب مع الإثبات؟ قيل: إن المحذوف (¬5) في (اللَّذانّ) لمّا لم يظهر في التثنية التي كان يلزم أن يثبت فيها ويتحرك، أشبه ما حُذف حذفًا، لغير التقاء الساكنين، فاقتضى العوض، ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى حديث عبادة المتقدم. (¬2) حكى الطبري الإجماع على ذلك في "تفسير الطبري" 4/ 294، وقال البغوي: وعامة العلماء على أن الثيب لا يُجلد مع الرجم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية ولم يجلدهما "معالم التنزيل" 2/ 182، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 503. (¬3) هو أبو مَعبَد عبد الله بن كثير بن المطلب، أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته. (¬4) عجز بيت لأبي الأسود الدؤلي، وصدره: فألفيته غير مستعتب "الكتاب" 1/ 169، "معاني القرآن" للفراء 2/ 202، "المقتضب" 2/ 312، "الحجة" 2/ 454، "سر صناعة الإعراب" 2/ 534. والشاهد منه: ذاكر الله، حيث نصب لفظ الجلاله مع حذف التنوين من ذاكر. (¬5) في "الحجة" 3/ 142. إن اللام.

وكذلك القول في: (هذان) التشديد فيه عوض من المحذوف عنه في التثنية وكان حقهما في التثنية: اللّذيان وهذيان. واتفقت هذه الأسماء من (اللذان وهذان) في هذا التعويض، كما اتفقتا في التحقير في فتح الأوائل منهما، مع ضمها في غيرهما، وفي إلحاق الألف أواخرها (¬1)، وذلك نحو: اللذيّا، واللتيّا، وهاتيّا، وهاذيّا (¬2). فأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المُبهمة ألزم (¬3)، فبحسب لزومها الحذف ألزمها العوض، ألا ترى أن اللذين (¬4) إذا قلت: اللذيّا، فحقّرت أظهرت اللام المحذوفة في التثنية في التحقير، وإذا حقّرت المُبهمة (¬5) قلت: ذيّا (¬6)، فالحذف قائم؛ لأنه كان ينبغي: ذَييّا (¬7)، الياء الأولى عين الفعل، والثانية للتحقير، والثالثة لام الفعل، فُحذفت التي هي عين الفعل، ولم يجُز أنْ تحذف التي هي لام، لأنك لو حذفتها لتحركت ياء التحقير لمجاورتها الألف، وهذه الياء لا تُحّرك أبدًا، فلما لم يُتَم المُبهم في التحقير لمجاورتها الألف، وأُتِم الموصول، خص المبهم بالعوض دون الموصول. فإن قيل: هلا وجب العوض من المنقوص في التثنية نحو: دم، ويد، وغد؟ ¬

_ (¬1) في "الحجة" 3/ 142 - والكلام من أوله في الآية منه- هذه الكلمة: أواخرهما. (¬2) لعل المراد التصغير. (¬3) قد يكون هنا سقط أو اختصار، ففي "الحجة" 3/ 142: فأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة في نحو قوله: (فذانِّك) وتركه التعويض في اللذان، فيشبه أن يكون ذلك لما رآه من أن الحذف للمبهمة ألزم، فبحسب إلخ. (¬4) في (أ)، (د): الذي، ولعل الصواب ما أثبته، كما في "الحجة" 3/ 142. (¬5) في "الحجة": المبهم. (¬6) في "الحجة": هاذيا. (¬7) فى "الحجة": هاذيبا.

قيل: هذا لا يلزم، ألا تري أنهم عوضوا في: أسطاع، وأهراق، ولم يعوضوا في: أجاد، وأقام، ونحو ذلك. وأيضًا فإن الحذف لَمَّا لم يلزم هذه الأساء المتمكنة كان الحذف كلا حذف، ألا ترى أنّ منه ما يتم في الواحد نحو: إن مع اليوم أخاه غدوًا (¬1) ومنه ما يتم في التثنية نحو: يديان بيضاوان (¬2). ونحو: جرى الدميان بالخبر اليقين (¬3) وفي الجمع نحو: أيد، ودماء، وفي التحقير نحو: دُميّ، ويُديّة، وليست المبهمة كذلك. ويمكن أن يكون أبو عمرو قَدّر (ذَانِّك) تثنية ذلك، فعوض الحرف في التثنية من الحرف الزائد الذي كان في الإفراد، والأول أشبه (¬4). ¬

_ (¬1) صدره: لا تقلواها وادلواها دلوا وانظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 284، و"المستقصى في الأمثال" 1/ 414، و"مجمع الأمثال" 1/ 304، و"الزاهر" 1/ 338، و"اللسان" (دلو)، و"جمهرة اللغة" (فلو- قلو- دغن- دمو). (¬2) جزء من شطر بيت هو: يَدَيان بَيضَاوان عند مُحَلَّم ... قد تَمْنَعَانِك أَنْ تُضام وتُضهدا ولم يعرف قائله. انظر "الحاشية في تحقيق الحجة" 3/ 143. (¬3) عجز بيت صدره: فَلَو أنّا عَلى حَجَرٍ ذُبِحنا وينسب لعلي بن بدال بن سليم وقيل لغيره. انظر: "مجالس العلماء" للزجاجي بتحقيق هارون ص 251، "الإنصاف" ص300، "معجم شواهد العرب" ص 408. (¬4) الكلام من أوله "القراءات" لأبي علي الفارسي في "الحجة" 1/ 141 - 144، =

وقوله تعالى: {يَأْتِيَانِهَا} أي الفاحشة (¬1). قال المفسرون: هذا في البِكرين يزنيان (¬2). وقوله تعالى: {فَآذُوهُمَا} قال عطاء وقتادة والسدي: يعني التَّعيير باللسان والتوبيخ، كما ذكرنا (¬3). وقال ابن عباس: يؤذيان بالتعبير ويضربان بالنعال (¬4). {فَإِنْ تَابَا} من الفاحشة، {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد، فاتركوا أذاهما (¬5). وقد ذكرنا حكم هذه الآية في الآية التي قبلها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16]. معنى التَّواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه (¬6). وذكرنا قول سيبويه والخليل في مثل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وما أشبه هذا. ¬

_ = بتصرف في العبارة وحذف لا أثر لهما في المعنى. انظر: "معاني القراءات" 1/ 296، "الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه ص 121، "حجة القراءات" ص 193. (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 122، والطبري 4/ 294. (¬2) انظر: الطبري 4/ 294 - 295، "معاني الزجاج" 2/ 29، "الكشف والبيان" 4/ 25 أ. (¬3) قول قتادة والسدي عند الطبري 4/ 296، ونسبه لعطاء الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 25 أ. انظر "معالم التنزيل" 2/ 182، "زاد المسير" 2/ 35. (¬4) هذا الأثر عن ابن عباس ثابت، فهو من طريق ابن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص 138، والطبري 4/ 296، وعزاه السيوطي أيضًا إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم في "الدر المنثور" 2/ 231، وانظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 201. (¬5) انظر: "الطبري" 4/ 298، "الكشف والبيان" 4/ 25 أ، "الدر المنثور 2/ 231. (¬6) انظر: "الطبرى" 4/ 298.

وكان أبو عبيدة يتأول في كان معنيين: المُضِيّ والاستقبال، وينشد قول جرير: فأدركت من قَد كان قبلي ولم أَدَع ... لمَن كان بَعدي في القصائدِ مَصْنَعَا (¬1) وقال ابن الأنباري: معنى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} وأشباه هذا: وكان الله أبدًا ولم يزل كذلك، وصَلحَ وضعُ الماضي في موضع الدائم؛ لأن المعنى كان مفهومًا غير مُلبِس، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة} [الأعراف: 44]، وهو يريد: ويُنادي؛ لأن المعنى مفهوم، وإنما (عبرنا للماضي) (¬2)؛ لأن الذي هو في علم الله كونه لا بد من وقوعه، فكأنه قد وقع، ولا يجوز: قام عبد الله، بمعنى: يقوم لأنه يُشكل. وذهب المبرد وابن قتيبة إلى أن (كان) في مثل هذا صلة في جميع القرآن (¬3)، وأنشد المبرد: فكيف إذا مررتُ بدارِ قوم (¬4) ... وجيرانٍ لَنا كانوا كِرام (¬5) فألغى كان. قال ابن الأنباري: ولا وجه لهذا عندي؛ لأنه لا يُلغى (¬6) الكونُ وهو عامل، والكون في البيت الذي أنشده المبرد غير عامل. ¬

_ (¬1) لم أقف على ما نسبه المؤلف لأبي عبيدة، لا في "المجاز" ولا في غيره، وأما البيت فهو في "ديوان جرير" ص 263، لكن أوله: (وأدركت) بالواو. والشاهد منه: أن (كان) الأولى للمُضي، و (كان) الثانية للاستقبال. (¬2) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: عبر بالماضي. (¬3) انظر: "المقتضب" 4/ 116وما بعدها. (¬4) في "المقتضب": فكيف إذا رأيت ديار قوم. (¬5) نسبه المبرد للفرزدق في "المقتضب" 4/ 116، وهو في "ديوانه" 2/ 290، وغير منسوب في "مجاز القران" 2/ 7 ,140، و"اللسان" 7/ 3961 (كون). (¬6) في (أ): (يلقي).

17

17 - قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}. قال الحسن: يعني: التوبة التي يقبلها الله (¬1)، فتكون (على) بمعنى عند. وقال أهل المعاني: إن الله تعالى وعَد قبول التوبة من المؤمنين في قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الآية [الأنعام: 54]، وإذا وعد الله تعالى شيئًا صدّق ميعاده ولم يجز الخلف فيه، فمعنى (على الله) أنه أوجب ذلك على نفسه بفضله (¬2). وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}. اتفقوا على أنه لم يُرِد بالجهالة ههنا أنهم يجهلون أنها ذنوب ومعاصي (¬3)؛ لأن من عمل ذنبًا وهو لا يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابًا؛ لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة. قال الكلبي: لم يَجهل أنه ذنب، ولكنه جهل عقوبته (¬4)، ومثل هذا قال الفراء (¬5). وهذا لا يصح؛ لأنه يوجب أن من علم عقوبته وكان عالمًا بالتهديد فيه وكنه العقوبة لم تكن له توبة. والصحيح في هذا ما قال المفسرون أن المعاصي كلها جهالة، ومن ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 26 ب، وانظر: "زاد المسير" 2/ 36، "تفسير الحسن البصري" 1/ 266. (¬2) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة، "معاني الزجاج" 2/ 231، 254. (¬3) أخرج ابن جرير بسنده عن قتادة -رحمه الله- أنه قال في هذه الآية: اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره، "تفسير الطبري" 4/ 298، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 26 ب، "معالم التنزيل" 2/ 184. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 26 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 184. (¬5) قال في "معاني القرآن" 1/ 259: لا يجهلون أنه ذنب، ولكن لا يعلمون كنه ما فيه كعلم العالم.

عصى ربه فهو جاهل (¬1)، يدل عليه قوله عز وجل إخبارًا عن يوسف: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، أي من العاصين (¬2). قال ابن عباس في هذه الآية: يريد أن ذنب المؤمن بجهل (¬3) منه (¬4). وقال الزجاج: معنى الجهالة ههنا، أنهم في اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية جُهّال (¬5). وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}. قال ابن عباس: يريد ولو قبل موته بفواق (¬6)، وهو قول أبي موسى الأشعري (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) كما تقدم عن قتادة ونقله الإجماع من الصحابة على ذلك. (¬2) انظر: "الدر المنثور" 2/ 232. (¬3) في (د): (جهل)، واللفظان متقاربان، وما أثبته يصح بتقدير: أن ذنب المؤمن يقع بجهل منه. (¬4) أخرج الطبري من طريق الكلبي عن ابن عباس: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء. "تفسير الطبري" 4/ 299، وانظر: "الوسيط" 2/ 478، ابن كثير 2/ 504، "الدر المنثور" 2/ 232. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 29. (¬6) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 479، ونسبه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 27 أبنصه إلى أبي موسى الأشعري، ولم أجده عن ابن عباس، لكن ثبت من طريق ابن أبي طلحة عنه أنه قال: القريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. "تفسير ابن عباس" ص 139، والطبري 4/ 300. والمراد بالفواق فواق الناقة وهو رُجوع اللبن في ضَرعها أو ما بين الحَلبتين. انظر: "اللسان" 6/ 3488 (فوق). (¬7) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حصار الأشعري، مشهور باسمه وكنيته أسلم مبكرًا واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، كان حسن الصوت بالقراءة فقيهًا مكثرًا من رواية الأحاديث مجاهدًا. توفي - رضي الله عنه - سنة 42 هـ، وقيل بعدها. انظر: "تاريخ خليفة" ص 97، 135، 211، "أسد الغابة" 3/ 367، "الإصابة" 2/ 359. (¬8) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 27 أ

18

وقال عكرمة وابن زيد: ما قبل الموت فهو قريب (¬1)، وكذلك قال الزجاج، أي: يتوبون قبل الموت؛ لأن ما بين الإنسان والموت قريب، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت (¬2). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. قال ابن عباس: يريد علم ما في قلوب المؤمنين من التصديق واليقين فحكم لهم بالتوبة قبل الموت بقدر فَوَاق ناقة (¬3). 18 - قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية. تعلقت الوعيدية (¬4) بهذه الآية، وقالت: أخبر الله تعالى أن عصاةَ أهل الصلاة إذا أهملوا أمرهم إلى انقضاء آجالهم حصلوا على عذاب الآخرة مع الكفار؛ لأنه جمعهم في قوله: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬5). والجواب: ليس الأمر على ما زعمتم، فقد قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يريد الشرك (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج قولهما بنحوه الطبري 8/ 301، وبنصه من "الكشف والبيان" 4/ 27/ أ، وانظر: البغوي 2/ 185، وابن كثير 1/ 504. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 29. (¬3) راجع ما سبق من التعليق على الأثر المتقدم عن ابن عباس. (¬4) هم قوم من المعتزلة وغيرهم غلبوا جانب الوعيد في النصوص الشرعية وأغفلوا جانب الوعد. انظر "مقالات الإسلاميين" ص 274، 276. (¬5) انظر: "الكشاف" 1/ 257. (¬6) لم أجده عن ابن عباس من رواية عطاء، لكن ثبت معناه عنه من طريق علي ابن أبي طلحة قال: قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية قال: فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة. "تفسير ابن عباس" ص 139، =

وقال عكرمة عنه في هذه الآية: هم أهل الشرك (¬1). أخبرناه أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا محمد بن الحسن الكارزي، أخبرنا على بن عبد العزيز، أخبرنا أبو عبيد (¬2)، حدثنا مُحمد بن ربيعة (¬3)، عن النّضر بن عمران (¬4)، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال الربيع بن أنس: {إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} هو المنافق، ألا ترى يتلوه الكافرون (¬5). وقال سعيد بن جبير: نزلت الأولى في المؤمنين، يعني قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآية، والوسطى في المنافقين، يعني قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ}، والأخرى في الكافرين، يعني قوله: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ} (¬6). ¬

_ = والطبري 4/ 304، وانظر: "زاد المسير" 2/ 38، ابن كثير 1/ 504 - 505، "الدر المنثور" 2/ 233. (¬1) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 233، وعزاه إلى ابن المنذر. (¬2) السند إلى أبي عبيد تقدم قريبًا. (¬3) هو محمد بن ربيعة الكلابي بن وكيع، صدوق، توفي -رحمه الله- بعد سنة 190هـ (هذا ما وجدته عنه مما يناسب المقام). انظر: "ميزان الاعتدال" 3/ 545، "التقريب" ص 478 رقم (5877). (¬4) لم أقف له على ترجمة. (¬5) أخرج الطبري بإسناده عن الربيع: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، قال: نزلت الأولى في المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين، يعني: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، والأخرى في الكفار، يعني: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}. "تفسير الطبري" 4/ 303. (¬6) لم أقف على من أخرجه عن سعيد بن جبير، وقد تقدم قريبًا أن الطبري أخرجه عن الربيع بن أنس 4/ 303، وانظر: "زاد المسير" 2/ 38.

وإذا كانت الآية نازلة إما في الكفار أو المنافقين، على قول الصحابة والتابعين الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، فلا وجه لحملها على أهل الصلاة. وبهذا الإسناد الذي ذكرنا عن أبي عبيد قال: حدثنا ابن صالح , -يعني: عبد الله-، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} قال: ثم أنزل الله بعد ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجى أهل التوحيد إلى مشيئته، ولم يُؤيسهم من المغفرة (¬1). فإن قيل: هذا على ما رَوَيتم نسخٌ للأول، ونسخ الخبر لا يجوز. قلنا: لا نَدعي (¬2) النسخ، ولفظ النسخ لم يُنقل عن ابن عباس، ولكن الآية الأولى اقتضت العموم بظاهرها، فلما نزلت الآية الثانية علمنا أن المراد بالأولى غير أهل التوحيد، من المنافقين والكافرين (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}. الذين في موضع الخفض بالعطف على الأول (¬4). ومعناه: لا توبة للكفار إذا ماتوا على كفرهم في الآخرة (¬5)، وإنما لم تقبل التوبة في الآخرة لرفع التكليف ومعاينة ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" ص 139، وأخرجه الطبري بنفس الإسناد 4/ 304، وانظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 203. (¬2) في (د): (يدعى) بالياء. (¬3) أي: أن الآية الثانية مخصصة لعموم الأولى. (¬4) انظر: "معاني الفراء" 1/ 259، والطبري 4/ 304، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 402 - 403، والثعلبي 4/ 28 أ. (¬5) انظر: "معاني الفراء" 1/ 259، والطبري 4/ 304.

ما وعدوا في الدنيا من الثواب والعقاب، ولهذا لم تقبل توبة المُحتَضر لمعاينة أحكام الآخرة. قال الزجاج: ولأنه تاب في وقت (لا يُمكنه التصرف (¬1)) فيما يُحقق التوبة (¬2). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا} أي: هيأنا وأعددنا. يقال: أعتدت الشيء فهو معتد وعتيد، وقد عتد الشيء عتادة وهو عتيد حاضر. قاله الليث، قال: ومن هنالك سميت العتيدة، التي فيها طيب الرجل وأدهانه، والعتاد ما أعده الرجل من السلاح والدواب والآلة للجهاد، ويُجمع: أعْتُدَةً، وأعتُدًا. ويقال: فرس عَتِدٌ وعَتَدٌ، وهو المُعَدّ للركوب (¬3). واختلفوا في هذا الحرف، فقال قوم: عَتَد، بناء على حدة وأصل بنفسه (¬4) ثم تُدغم التاء في الدال فيقال: أعدّ، والعدّة إنما هي العتدة ولكن أُدغمت التاء في الدال، الذي يدل على هذا قولهم: العدان، في جمع: عتود، وأصله عتدان، فعلى هذا الأصل أعتد، وأعدّ مدغم منه. وقال آخرون بناء أَعدّ من عين ودالين؛ لأنهم يقولون: أعددنا، فيظهرون الدالين، وأنشدوا قول امرئ القيس (¬5): ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج": لا يمكن الإقلاع بالتصرف. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 29. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2316، "الكشف والبيان" 4/ 28 أ، "اللسان" 5/ 2794 (عتد). (¬4) لعلها هكذا. (¬5) تقدمت ترجمته.

19

أعددتُ للحرب صارمًا ذَكرًا ... مُجرَّب الوَقع غير ذي عَتَبِ (¬1) ولم يقل أَعَتدْت (¬2). قال الأزهري: جائز أن يكون الأصل أعددت، ثم قلبت إحدى الدالين تاء، فعلى هذا الأصل أعدّ، وأعتد مقلوب (¬3) منه (¬4). قال الأزهري: وجائز أن يكون عتد بناء على حدة، وأعدّ بناء مضاعفًا، وهذا هو الأصوب عندي (¬5). 19 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} الآية. قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية (¬6) إذا مات جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها بغير صَداق، إلا الصَّداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوَّجها غيره وأخذ صَداقها، ولم يُعطِها منه شيئًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأعلم أن ذلك حرام، وأن الرجل لا يرث المرأة من الميت (¬7). ¬

_ (¬1) البيت غير منسوب عند الأزهري في "التهذيب" 3/ 2316، ولا في "اللسان" 5/ 2795 (عتد) ولم أجده في "ديوان امرئ القيس" الذي بين يدي. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2316 - 2317 (عتد) بتصرف، وانظر: "اللسان" 5/ 2794 المادة نفسها. (¬3) في (د): (مقارب). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2316 (عتد) بتصرف، وانظر: "اللسان" 5/ 2795 المادة نفسها. (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2317 (عتد) بتصرف، وانظر "اللسان" 5/ 2795 المادة نفسها. (¬6) في "أسباب النزول" للمؤلف (151)، كان أهل المدينة في الجاهلية، وكذلك عند الثعلبي 4/ 28أ. (¬7) انظر: "تفسير القرآن" لعبد الرزاق 1/ 151، والطبري 4/ 305 - 308، "معاني =

وقال بعضهم: الوراثة تعود إلى المال، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج إلى أن تموت فيرثها ما ورثت من الميت، فقال الله تعالى: لا يحل لكم أن ترثوهن أموالهن وهن كارهات (¬1). وقوله تعالى: {كَرْهًا} قرئ بفتح الكاف وضمها (¬2)، وهما لغتان، كالفَقْر والفُقر، والضَّعف والضعف، والشَّهد والشُّهد (¬3). قال أحمد بن يحيى (¬4): ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها (بعض القراء (¬5)) وفتحها بعضهم من: الكَره والكُره فرقًا في العربية، ولا في سُنَّة تُتّبع، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة، وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر (¬6). ¬

_ = الزجاج" 2/ 30، "الكشف والبيان" 4/ 28 أ، "أسباب النزول" للمؤلف ص 151، "زاد المسير" 2/ 39، ابن كثير 1/ 506 - 507، "لباب النقول" ص 65، 66. (¬1) ممن ذهب إلى ذلك ابن عباس والزهري. انظر: الطبري 4/ 306 - 307، "زاد المسير" 2/ 39، "الدر المنثور" 2/ 234 - 235. وقد اختار الطبري القول الأول وأن المراد بوراثة النساء وراثة نكاحهن. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 305 - 306. (¬2) قراءة الضم لحمزة والكسائي، والفتح لبقية العشرة. انظر: "السبعة" ص 229، "الحجة" 3/ 144، "المبسوط" ص 155، "النشر" 2/ 249. (¬3) "الحجة" 3/ 144. (¬4) هو ثعلب وقوله في "تهذيب اللغة" 4/ 3136. (¬5) في (د): بدون (بعض). (¬6) انتهى قول ثعلب من "تهذيب اللغة" 4/ 3136 (كره)، وانظر: "اللسان" 7/ 3865 نفس المادة.

قال الأزهري: وقد أجمع كثير من أهل اللغة أن الكَره والكُره لغتان، فبأي لغة قرئ فجائز، إلا الفراء (¬1). وقد ذكرنا قوله في سورة البقرة (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} ذكرنا معنى العضل في سورة البقرة (¬3). قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك: المَنهيّ عن العضل ههنا الأزواج، فهو أن يُمسكوهن إذا لم يكن لهم فيهن حاجة إضرارًا بهن حتى يَفتدين ببعض مُهورهن (¬4). وهذا القول اختيار الزجاج، قال: هؤلاء المُخاطَبون غير أولئك. وكان الرجل منهم إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها لتفتدي منه، فأَعلمَ الله عز وجل أنّ ذلك لا يَحلّ (¬5). وقوله تعالى: {تَعْضُلُوهُنَّ} يَصلح أن يكون نصبًا وجزمًا (¬6). أما النصب على أن المعنى: لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن (¬7)، ¬

_ (¬1) انتهى من "تهذيب اللغة" 4/ 3136 (كره)، ووجهة نظر الفراء كما في "التهذيب" بقول الأزهري: فإنه زعم أن الكَره ما أكرهت نفسك عليه، والكُره ما أكرهك غيرك عليه، جئتك كَرها، وأدخلتني كُرها، وانظر: الثعلبي 4/ 28 ب. (¬2) انظر: "البسيط" [البقرة: 216]. (¬3) انظر: "البسيط" [البقرة: 232]. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 151، الطبري 4/ 305، "الكشف والبيان" 4/ 29ب، البغوي 2/ 186، "زاد المسير" 2/ 40، ابن كثير 1/ 507، "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 205. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 30. (¬6) انظر: "معاني الفراء" 1/ 259، و"الطبري" 4/ 309، و"معاني الزجاج" 2/ 30. (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 360، و"الطبري" 4/ 309.

قال الفراء: وكذا هو في قراءة عبد الله (¬1). وأما الجَزْم فعلى النهي (¬2). قال الأزهري (¬3): العَضل في هذه الآية من الزوج لامرأته، وهو أن يُضارّها ولا يُحسن معاشرتها، ليضطرها بذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها، سماه الله عَضلاً؛ لأنه يمنعها حقها من النفقة وحسن العشرة، كما أن الولي إذا منع أَيِّمه (¬4) من التزويج فقد منعها (الحق الذي يجب لها عليه) (¬5) (¬6). وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. قال ابن عباس في رواية عطاء، والحسن وأبو قلابة (¬7) والسدي: الفاحشة ههنا الزنا (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 259، وانظر: "الطبري" 4/ 309، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 404. (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 259، "معاني الزجاج" 2/ 30. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2475 (عضل). (¬4) في "تهذيب اللغة": حريمته. (¬5) في "التهذيب": الحق الذي أبيح لها من النكاح، ولعل تعبير الواحدي أدق. (¬6) انتهى من "تهذيب اللغة" 3/ 2475 (عضل)، وانظر: "اللسان" 5/ 2988 - 2989 المادة نفسها (¬7) هو عبد الله بن زيد الجرمي البصري من مشاهير علماء التابعين وثقاتهم إلا أنه يدلس وفيه نصب يسير، وقد أخرج حديثه الجماعة توفي -رحمه الله- سنة 104هـ وقيل بعدها. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 30، "ميزان الاعتدال" 2/ 425، "التقريب" ص304رقم (3333). (¬8) أخرج قول الحسن وأبي قلابة والسدي الطبري 4/ 310، وأما ابن عباس فإن الثابت عنه من رواية علي بن أبي طلحة كالقول الثاني، أن المراد: هو البغض والنشوز. "تفسير ابن عباس" ص 140، وأخرجه الطبري 4/ 310. وانظر في ذلك: "تفسير الهواري" 1/ 360، 361، البغوي 2/ 186، "زاد المسير" 2/ 41، ابن كثير 1/ 507، "الدر المنثور" 2/ 235.

وهو اختيار الزجاج (¬1). وقال ابن مسعود وقتادة والضحاك: هي النشوز (¬2). ثم اختلفوا في حُكم الآية؛ فقال الأكثرون: إذا زنت امرأة تحتَ رجُلٍ، أو نَشزَت عليه، حلّ له أن يَسْأَلها الخُلع، وأن يُضارَّها ويُسيء معاشرتها لتفتدي منه بالمهر. قال أبو قلابة: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً فلا بأس أنْ يضارّها حتى تَخَتلِع منه (¬3). قال الأزهري: فجعل الله عز وجل اللواتي يأتين الفاحشة مُستَثنيات من جُملة النساء اللواتي نهى الله أزواجهن عن عضلهن ليذهبوا ببعض ما آتوهن من الصداق (¬4). وذهب بعضهم إلى أن هذا كان يجوز ثم نُسخ. قال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشةً أَخذ منها ما ساق إليها وأخرجها (¬5)، فنَسخ ذلك الحدود (¬6). وهذا الاختلاف على قول من يجعل الفاحشة الزنا، ومن جعلها النشوز فلا نَسخ عنده، وللزوج إذا نَشزت المرأة أن يُسيء (¬7) عِشرتها لترغب في الفدية. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 30. (¬2) نص قول قتادة والضحاك ومعنى قول ابن مسعود حسبما أخرج الطبري ذلك عنهم في "تفسيره" 4/ 311، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 29 أ، "زاد المسير" 2/ 41، وابن كثير 1/ 507، "الدر المنثور" 2/ 236. (¬3) أخرجه الطبري 4/ 310، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2475 (عضل). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2475 (عضل). (¬5) في (د): (ثم أخرجها). (¬6) أخرجه الطبري 4/ 311، وانظر: "زاد المسير" 2/ 41، "الدر المنثور" 2/ 236. (¬7) في (أ): (بشى) بالشين المعجمة، ولعله تصحيف.

واختلف (¬1) القراء في المبيّنة والمبيّنات، فقرئت بفتح الياء وكسرها (¬2). قال سيبويه: يقال: أبان الأمر وأبنته واستبان، واستبنته، وبيّن وبيّنته (¬3)، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. فمن فتح الياء فالمعنى عنده: يُبيَّن فحشها فهي مبينة، ومن كسر فحجته ما جاء في التفسير: فاحشة ظاهرة، فظاهرة حجة لمبيِّنة (¬4). ثم قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال ابن عباس: يريد احْجبها بما يَجِب لها عليك من الحق (¬5). وقال الزجاج: هو النُّصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول (¬6). وهذا قبل أن يأتين بالفاحشة. وقوله تعالى: {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. قال ابن عباس (¬7): يريد فيما كرهتم مما هو لله رضا. {خَيْرًا كَثِيرًا} (¬8) يريد ثوابًا عظيمًا (¬9). ¬

_ (¬1) في (د): (واختلاف). (¬2) قراءة الفتح لابن كثير وأبي بكر عن عاصم، والكسر للباقين. انظر: "السبعة" ص230، "الحجة" 3/ 145، "الكشف" 1/ 383، "النشر" 2/ 248. (¬3) قول سيبويه في "الكتاب" 4/ 63، وقد أخذه المؤلف من "الحجة" 3/ 145. (¬4) انظر: الطبري 4/ 312، "الحجة" 3/ 146، "حجة القراءات" ص 196، "الكشف" 1/ 383. (¬5) لم أقف على من خرجه عن ابن عباس، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 80. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 30، وانظر "معاني القرآن" للنحاس 2/ 47. (¬7) في "الوسيط" 2/ 484: قال عطاء. (¬8) في (أ): (خيركثير). (¬9) لم أقف عليه.

20

قال المفسرون: الخير الكثير في المرأة المكروهة أن يرزقه الله منها ولدًا صالحًا ويعطفه عليه (¬1). وقوله تعالى: {فِيهِ} الكناية تعود إلى قوله: {شَيْئًا}، ويجوز أن تعود إلى الكراههَ والكُره؛ لأن الفعل يدل على المصدر (¬2). 20 - قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} الآية. قال المفسرون: لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى مُضارّة الزوجات إذا أتين بفاحشة، بَيّن في هذه الآية تحريم المضُارة في غير حال الفاحشة، ونهى عن بَخس (¬3) حقَّها من المهر إذا أراد الرجل طلاقها وأن يتزوج غيرها، فليس المهر للمرأة موقوفًا على التمسك بها، حتى إذا أراد الاستبدال جاز له أخذه، بل هو تَمليكٌ صحيح لا يجوز الرجوع فيه (¬4). وقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}. فيه دليل على جواز المُغالاة في المهر (¬5)، فقد رُوي أنّ عمر - رضي الله عنه - قال على المنبر: ألا لا تُغالوا في مُهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابنَ الخطاب: الله يُعطينا وأنت تمنع، وتلت هذه الآية، فقال عمر: كُلّ الناس أفقه من عمر، ورجع عن ¬

_ (¬1) روى نحوه عن ابن عباس، وقال به كثير من المفسرين. انظر: الطبري 4/ 313، و"تفسير الهواري" 1/ 361، والثعلبي 4/ 29 أ، والبغوي 2/ 186، و"زاد المسير" 2/ 42، وابن كثير 1/ 508، "الدر المنثور" 2/ 236. (¬2) انظر: الطبري 4/ 313، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 194، "الدر المصون" 3/ 632. (¬3) في (د): (يحسن). (¬4) هذا من اهتمام المؤلف -رحمه الله- ببيان التناسب بين الآيات، وقليل من المتقدمين من اهتم بذلك. انظر: "البحر المحيط" 3/ 205. (¬5) زيادة المهر وكثرته شيء، والمغالاة بمعنى التنافس في زيادته شيء آخر، والآية دلت على جواز الأول دون الثاني، والله أعلم.

كراهة المُغالاة (¬1). وقوله تعالى: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا}. البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه به صاحبه على جهة المُكابرة له، وأصله من قولهم: بُهِت الرجل، إذا تحيّر، فالبهتان كذب يُحيِّر الإنسان لعِظَمه، ثم جُعل كل باطل يتحيّر من بطلانه بهتانًا، وهو اسم من البَهت، يقال: بَهَته، أي (¬2): استقبله بأمر يقذفه به وهو منه بريء (¬3)، ومنه الحديث: إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته (¬4). قال الزجاج: البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال، المعنى: أتأخذونه مباهتين وآثمين (¬5). وقال ابن عباس في هذه الآية: يريد أن أخذك إياه بعدما دخلت بها بهتان وإثم عظيم (¬6). وفُسر البهتان في هذه الآية بالظلم (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه أبو يعلى بإسناد جيد قوي، وابن المنذر، انظر: "تفسير ابن كثير"، 1/ 508، "الدر المنثور" 2/ 237. (¬2) في (د): (إذا). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 48، "تهذيب اللغة" 1/ 400، "مقاييس اللغة" 1/ 307، "الصحاح" 1/ 224، "اللسان" 1/ 368 (بهت). (¬4) لعله يريد حديث الغيبة، وفيه: "وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته". أخرجه الإمام أحمد 2/ 230، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وكذلك مسلم (2589) كتاب البر، باب: تحريم الغيبة، وغيرهما، انظر: "المعجم المفهرس" 1/ 226 (بهت) (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 31 بتصرف، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 400 (بهت). (¬6) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 415، ولم أقف على من خرّجه. (¬7) ممن فسره بذلك ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 122، والهواري في "تفسيره" 1/ 361، والطبري في "تفسيره" 4/ 314، وعزاه ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 43، إلى ابن عباس ولم أقف عليه عنه.

21

21 - وقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ}. استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حِلّه (¬1). ومضت نظائره والكلام (¬2). وقوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}. الإفضاء في اللغة معناه الوصول، يقال: أفضى إليه، أي: وَصل إليه بالملابسة معه قال الشاعر: بِلًى (¬3) وَثأًى أَفضَى إلى كُل كُثْبَةٍ (¬4) ... بَدا سَيرُها مِن ظَاهِرٍ بعد ظَاهِرِ (¬5) أي: البلى والفساد وصل إلى الخرز (¬6). وأصله من الفضاء، الذي هو السعة، يقال: فَضا يفضو، فُضُوّا وفَضاءً، إذا اتسع. والفاضي المكان الواسع. فالإفضاء الوصول باتساع المذهب (¬7). ¬

_ (¬1) انظر الطبري 4/ 314، والثعلبي 4/ 29 ب. (¬2) الظاهر أنه في الكلام حذف وتصحيف، ولعل التمام والصواب: ومضى نظائره والكلام عليه. (¬3) عند الطبري 4/ 314: بلى، ولعله هو الصواب. (¬4) عند الطبري 4/ 314: كتبه بالتاء المثناة، ولعله هو الظاهر كما سيظهر في الحاشية التالية. (¬5) البيت للطرماح كما في "ديوانه" ص 127، وآخره "من ظاهر بعد باطن"، و"المحرر الوجيز" 2/ 30. وقد أثبته محمود شاكر في تحقيقه للطبري كالتالي: [بلين] بِلًى أفضى إلى [كل] كُتبة، بدا سيرها من باطن بعد ظاهر، وقال محمود في حاشي: والكُتبة (بضم فسكون) هي الخَرَزَة المضمومة التي ضم السير كلا وجهيها من المزادة والسقاء والقربة، يقال: كتب القربة، خرزها بسيرين. وهذا بيت يصف مَزادًا أو قربًا قد بليت خرزها بلى شديدًا فقطر الماء منها، فلم تعد صالحة لحمل الماء. "تفسير الطبري" بتحقيق شاكر 8/ 125. (¬6) الطبري 4/ 314 بتصرف (¬7) انظر "العين" 7/ 63 (فضو)، "جمهرة اللغة" 3/ 261، "تهذيب اللغة" 3/ 2796 - 2797، "الصحاح" 6/ 2455 (فضا)، "أساس البلاغة" 2/ 205 (فضو)،=

وقال ابن المظفر: أفضى فلان إلى فلان، أي: وصل إليه. وأصله أنه صار في فُرجته وفَضائه (¬1). وللمفسرين في الإفضاء في هذه الآية قولان: أحدهما: أن الإفضاء ههنا كناية عن الجماع. قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} يريد الجماع (¬2). وهو قول مجاهد والسدي (¬3)، واختيار الزجاج (¬4)، وابن قتيبة (¬5)، ومذهب الشافعي؛ لأن عنده للزوج أن يرجع في نصف المهر إذا طلق قبل المسيس وإن خلا بها (¬6). القول الثاني: أن الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يُجامعها. ¬

_ = "اللسان" 6/ 3430 (فضا). (¬1) قول ابن المظفر في "العين" 7/ 63 (فضو)، "تهذيب اللغة" 3/ 2796 - 2797 (فضا). وانظر "اللسان" 6/ 3430 - 3431 (فضا). (¬2) ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فسر الإفضاء ههنا بالجماع، لكن من طريق آخر، رواه عنه بكر بن عبد الله المزني، أخرجه ابن جرير في "تفسير الطبري" 4/ 314، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 238، "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 208. ولم أقف على رواية عطاء. (¬3) أخرج ذلك عنهما الطبري 4/ 315، والأثر عن مجاهد في "تفسيره" 1/ 150، 151، وانظر: "زاد المسير" 2/ 43، وابن كثير 1/ 509، و"الدر المنثور" 2/ 238. (¬4) ليس للزجاج تصريح باختيار هذا القول دون غيره. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 31. (¬5) "غريب القرآن" ص 117. (¬6) انظر: "الأم" 5/ 215.

وهذا القول اختيار الفراء في الإفضاء (¬1)، ومذهب أبي حنيفة (¬2)؛ لأن الخلوة عنده تمنع من الرجوع في شيء من المهر بالطلاق (¬3). واللغة تحتمل المذهبين، روى ثعلب، عن ابن الأعرابي: أفضى الرجل: دخل على أهله، وأفضى: إذا جامعها (¬4). قال (¬5): والإفضاء في الحقيقة الانتهاء، ومنه قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى} أي: انتهى وأوى (¬6). وابن عباس والأكثرون على القول الأول (¬7). وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]. قال الحسن وابن سيرين (¬8) والضحاك وقتادة والسدي وعكرمة والفراء: هو قولهم عند العقد: زَوجتُكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 259. (¬2) هو النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، الإمام الكبير المشهور العلامة الثقة، إمام الرأي والمذهب الحنفي، ولد سنة 80 هـ في حياة صغار الصحابة ورأى أنس بن مالك. توفي سنة 150هـ انظر: "تاريخ الثقات" ص 314، "تاريخ خليفة" ص 425، "سير أعلام النبلاء" 6/ 390، "التقريب" ص 563 رقم (7153). (¬3) انظر: "الاختيار" لابن مودود الحنفي 3/ 103. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2796 (فضا). (¬5) أي ابن الأعرابي. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2796 (فضا)، وانظر: "اللسان" 6/ 3426 المادة نفسها. (¬7) هذا يفيد بأن القول الأول قول الجمهور، ولعل هذا ترجيح من المؤلف له. (¬8) هو أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري التابعي، إمام ثقة ثبت في الحديث وكان لا يرى الرواية بالمعنى، عابد كبير القدر، وقد أخرج حديثه الجماعة. توفي -رحمه الله- سنة 110هـ انظر: "تاريخ الثقات" ص240، "مشاهير علماء الأمصار" ص 88، "التقريب" ص 483 رقم (5947).

بمعروف أو تسريح بإحسان (¬1). قال الزجاج: التسريح بإحسان لا يكون بأن يأخذ مهرها، هذا تسريح بإساءة لا تسريح بإحسان (¬2). وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح التي يُستحل بها فروج النساء (¬3)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: الميثاق الغليظ: يريد الشهادة والخُطبة التي فيها ذكر الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنكاح (¬4). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الله في النساء، فإنكم (أخذتموهن بأمان) (¬5) الله، واستحللتم فُروجهن بكلمة الله" (¬6). والصحيح أن هذه الآية ¬

_ (¬1) أخرج أقوال المتقدمين إلى عكرمة ابن جرير في "جامع البيان" 4/ 315. وقد ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 238 أن قول عكرمة كقول مجاهد الآتي عند المؤلف، وعزاه إلى ابن أبي شيبة وقد أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 152 قول قتادة خاصة. وقد نسب نحو هذا القول لابن عباس. انظر في ذلك كله: الثعلبي 4/ 30 أ، "زاد المسير" 2/ 43، ابن كثير 1/ 509، "الدر المنثور" 2/ 238. وأما قول الفراء ففي "معانيه" 1/ 259. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 32. (¬3) الأثر عن مجاهد بنحوه في "تفسيره" 1/ 151، وأخرجه الطبري 4/ 316، وأما عن ابن زيد فقد أخرجه الطبري بلفظ: الميثاق النكاح. "جامع البيان" 4/ 316. وانظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 361، والثعلبي 4/ 30 ب، و"زاد المسير" 2/ 44، وابن كثير 1/ 509، و"الدر المنثور" 2/ 238. (¬4) لم أقف عليه، لكن أورد السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 238 أن ابن أبي حاتم أخرج عن ابن عباس: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} قال: هو قول الرجل: ملكت. (¬5) المثبت من صحيح مسلم، وورد في الأصل (أخذتم بأمانة). (¬6) جزءٌ من حديث طويل صحيح أخرجه مسلم رقم (1218) كتاب الحج، باب. حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر: "المعجم المفهرس" (حل).

22

غير ناسخة لجواز الخُلع (¬1)، وأن للزوج أن يأخذ من المُختلعة (¬2)؛ (لأن النشوز منها، فهو في حكم المُكره، لا المريد للاستبدال (¬3). وذهب بكر بن عبد الله (¬4) إلى أنه ليس للزوج أن يأخذ من المُختلعة (¬5)) شيئًا بظاهر هذه الآية (¬6). 22 - وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} الآية. قال ابن عباس وجميع المفسرين: كانت العرب يتزوج الرجل منهم امرأة أبيه من بعده التي ليست بأمه، وكان نكاحًا جائزًا في العرب، فنهى الله عنه وحرمه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 4/ 316 - 317. (¬2) يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وانظر: الطبري 4/ 316، وابن كثير 1/ 292 - 297. (¬3) انظر: "الطبري" 4/ 316. (¬4) هو أبو عبد الله بكر بن عبد الله المُزني البصري، إمام تابعي ثقة ثبت جليل كان من المتعبدين وأهل الفضل والتواضع، توفي -رحمه الله- سنة 106 هـ. انظر: "تاريخ الثقات" ص 251، "مشاهير علماء الأمصار" ص 90، "التقريب" ص 127 (743). (¬5) ما بين القوسين ليس في (د). (¬6) أخرج الطبري بسنده عن ابن عباس قال: سألت بكرًا عن المُختلعة، أيأخذ منها شيئًا؟ قال: لا، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} "جامع البيان" 4/ 317. وقد رد العلماء رأي بكر هذا. انظر: الطبري 4/ 317، و"المحرر الوجيز" 3/ 549، والقرطبي 5/ 102. (¬7) أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين. قال فأنزل الله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}. "جامع البيان" 4/ 318، وانظر: "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 209. وبنحو هذا القول قال قتادة وعكرمة وعطاء، وغيرهم. انظر: "الطبري" 4/ 318، "الدر المنثور" 2/ 239 - 240.

فقوله: {مَا نَكَحَ} يحتمل أن تكون (ما) بمعنى: مَن، فيكون المعنى: ولا تنكحوا مَن نكح. ويحتمل أن تكون (ما) بمعنى المصدر، فيكون المعنى: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، أي: كنكاح آبائكم، يعني: أن آبائهم كانوا ينكحون أزواج آبائهم، فنهاهم الله أن يكون نكاحهم كنكاح آبائهم، فيكون في التقدير الأول النهي عن التزوج بمنكوحات الآباء، وفي التقدير الثاني النهي عن أن يكون نكاحهم كنكاح آبائهم في البطلان والفساد (¬1). وقوله تعالى: {مِنَ النِّسَاءِ} عام في الحرائر والإماء، أما الحرة فتحرم بنفس العقد (¬2)، دخل بها الأب أو لم يدخل (¬3)؛ لإطلاق النهي عن نكاحها من غير تقييد، والأمَة يحرم نكاحها بوطء الأب (¬4). وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}. سلف في اللغة معناه: تقدم ومضى، يقال: سَلَف يَسلُف سُلُوفا (¬5) فهو سَالِف. وكل مال قدمته في ثمن سلعة اشتريتها بصفة معلومة فهو سَلَفٌ وسَلَم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 4/ 318 - 319، "الدر المصون" 3/ 635. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 33 أ. (¬3) ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال في هذه الآية: كل امرأة تزوجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام "تفسيره" ص 141، وأخرجه الطبري 4/ 318، وما ذكره المؤلف مُجمع عليه بين العلماء. انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 40، و"بداية المجتهد" 2/ 34، "المغني" 9/ 524، 525، والقرطبي 5/ 113، وابن كثير 1/ 509. (¬4) انظر "الكشف والبيان" 4/ 33 أ. وقيل تحرم الأَمَة بمجرد اللمس والتقبيل، وقيل: بالنظر دون اللمس. انظر: القرطبي 5/ 114، وابن كثير 1/ 510. (¬5) جاء في "الصحاح" 4/ 1376 (سلف): سلف يسلف سلفًا أي: مضى. وانظر الطبري 4/ 319، "مقاييس اللغة" 3/ 95 (سلف)، الثعلبي 4/ 33 ب، "اللسان" 4/ 2068 (سلف) وفيه المصدر: سلوفًا كما عند المؤلف. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1735 (سلف).

ويقال: سَلَفَ له عمل صالح، أي: تقدم، والسلف أيضًا من تقدم من آبائك وذوي قرابتك. ومنه قول طفيل (¬1): مضوا سلفًا قصدُ السَّبيلِ عليهمُ ... وصرفُ المنايا بالرجالِ تَقَلَّبُ (¬2) أراد أنهم تقدمونا، وقصد سبيلنا عليهم (¬3). واختلفوا في هذا الاستثناء بعد إجماعهم على أن هذا ليس بمُخرِجٍ من التحريم؛ لأنه لو كان استثناءً مُخرِجًا من التحريم لوجب أن يُقرّ ما قد مضى منه في النكاح قبل نزول الآية إذ كانوا أحياء (¬4)، وأكثرهم على أنه استثناء منقطع؛ على معنى: لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه (¬5). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6)، والكلبي (¬7)، وأبي عبيدة (¬8)، ¬

_ (¬1) هو أبو محمد طُفَيل بن كَعْب الغَنَوي، من فحول الشعراء في الجاهلية ومن أحسنهم شعرًا وأكثرهم وصفًا للخيل. توفي نحو سنة 13 قبل الهجرة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 295، "الأعلام" 3/ 228، "معجم الشعراء في لسان العرب" ص 214. (¬2) استشهد بالبيت -إضافة إلى الأزهري- ابن منظور في "اللسان" 4/ 2069 (سلف). (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1735 (سلف) بتصرف، وانظر: "الصحاح" 4/ 1376، "اللسان" 4/ 2069 نفس المادة. (¬4) المؤلف يقصد الإجماع على حُرمة بقاء عقد الزوجية على من كان فعل ذلك في نزول هذه الآية. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 369. (¬5) انظر: "الطبري" 4/ 319، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 404، والثعلبي 4/ 33 ب، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 194، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 369. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 120.

وقُطْرُب (¬1) (¬2)، وابن الأنباري (¬3)، إلا أن بعض هؤلاء قالوا: لكن ما قد سلف فدعوه واجتنبوه (¬4). وقد ذكرنا معنى الاستثناء المنقطع عند قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]. وقال المفضل: إلا ههنا بمعنى بَعْد، يعني: بعدما قد سلف فإن ذلك معفو عنه (¬5). وهذا اختيار الحسن بن يحيى الجرجاني، واحتج بقول الله عز وجل: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، أي: بعد الموتة الأولى؛ لأن أحدًا لا يدخل الجنة إلا بعد أن يذوق الموت (¬6). وقال الأخفش: في الآية محذوف استثني هذا عنه (¬7)، كأنه قيل: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء؛ فإنكم تؤاخذون به إلا ما قد سلف، أي: فليس عليكم جناح فيما مضى قبل التحريم، وحُذفت المؤاخذة؛ لأن النهي يدل عليه (¬8). ¬

_ (¬1) هو أبو علي محمد بن المُستنير بن أحمد، اشتهر بلقبه (قُطْرُب) تقدمت ترجمته. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 33 ب، "زاد المسير" 2/ 45. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 45. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 33 ب. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 33 ب. (¬6) اختيار الجرجاني قد يكون في "نظم القرآن" وهو مفقود. (¬7) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: منه بالميم. (¬8) عبارة الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 440: وقال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}؛ لأن معناه: فإنكم تؤخذون به، فلذلك قال: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}، أي: فليس عليكم جناح، فكأن في كلامه سقطًا، أو أن المؤلف تصرف في العبارة.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا}. الكناية تعود إلى النكاح، أي: ذلك النكاح، والفعل دلّ على المصدر (¬1). والمقت أشد البُغض (¬2)، مَقَته يمقُته مقتًا، فهو ممقوت ومقيت (¬3). وفي هذا قولان: أحدهما: أن هذا إخبار عما كان في الجاهلية، أُعلِمُوا أن هذا الذي حُرّم عليهم لم يزل مُنكرًا في قلوبهم، ممقوتًا عندهم، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت ومقتي (¬4)، والمقت عندهم بُغضٌ عن أمر قبيح ركبهُ صاحبه. وهذا الوجه اختيار الزجاج (¬5)، وابن الأنباري، قال أبو بكر: يريد أنهم لم يزالوا يستسمجونه (¬6)، وإن أتوه، ويسمونه المَقت؛ لبغضهم إياه فخبّر الله عز وجل بكان عما مضى من شنآنهم له قبل الإسلام الذي حَظَره. القول الثاني: أن المعنى: أنه فاحشة في الإسلام، أي: زنًا ومقت من الله لمن فعله (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 8/ 138، "زاد المسير" 2/ 45، "البحر المحيط" 3/ 209. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 32، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 53، "تهذيب اللغة" 4/ 3428 (مقت)، والثعلبي 4/ 33 ب. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3428، "الصحاح" 1/ 266 (مقت). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3428 (مقت). (¬5) في "معاني القرآن" 2/ 32، وانظر: "زاد المسير" 2/ 45. (¬6) أي يستقبحونه. قال الجوهري: سمُج الشيء بالضم سماجة: قبُح، فهو سمج، مثل ضخم فهو ضخم، وسمج، مثل خشن فهو خشن، واستسمجه عده سمجًا. "الصحاح" 1/ 322 (سمج). (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 46.

وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬1)، واختيار المبرد، ويذهب إلى أن (كان) زائدة، والمعنى: إنه فاحشة ومقت (¬2). وأنكر ذلك عليه الزجاج وابن الأنباري (¬3)، وقالا: كيف تكون زائدة وهي عاملة، وقد مر هذا، وبعض النحويين (¬4) نصر أبا العباس (¬5) وقال المعنى: هو فاحشة، وأدُخلت كان لِيَدُل أنه عند الله قبل هذه الحال كذا كان. وقوله تعالى: {وَسَاَءَ سَبِيلًا}. قال الليث: سَاء يَسُوء فعلٌ للذم ومجاوز، يقال: ساء الشيء يسوء، فهو سيء، إذا قَبُح، ويقال: سَاء ما فعل صنيعًا، أي: قبح صنيعُه صنيعًا (¬6). قال ابن قتيبة: أي: قبح هذا الفعل فعلًا وطريقًا، كما تقول: ساء هذا مذهبًا، وهو منصوب على التميز (¬7)، كما قال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (¬8). ¬

_ (¬1) قال السيوطي وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} قال: يمقت الله عليه. "الدر المنثور" 2/ 240، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 510. هذا ما وجدته عن عطاء حول هذا القول. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 32، "معاني النحاس" 2/ 51. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 33. (¬4) لعله النحاس، انظر: "معاني القرآن" 2/ 51، 52، "إعراب القرآن" 1/ 404. (¬5) في (د): (أبو)، وهو تصحيف. (¬6) من "تهذيب اللغة" 2/ 1583، وانظر: "العين" 7/ 327 (سوء). (¬7) عند ابن قتيبة: على التمييز. (¬8) "غريب القرآن" ص 117.

23

23 - قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية. الأُمَّهات جمع أمّ، وأم في الأصل أُمَّهَة، مثل: قُبَّرة وحُمَّرة، وأسقطت الهاء في التوحيد (¬1)، قال الشاعر في اللغة الأصلية: أُمَّهَتي خِنْدِفُ (وإِليَاسُ (¬2)) أَبِي (¬3) وقد يُجمع الأم: أمات (¬4)، بغير هاء، وأكثر ما يُستعمل في الحيوان غير الآدمي (¬5)، قال الراعي (¬6): كانَتْ نَجَائِبَ مُنذِرٍ ومُحَرِّقٍ ... أُمَّاتُهُنّ وطَرْقُهُنّ فَحِيلا (¬7) وقولهم أمهات، بالجمع، الهاء فيها زيادة، ووزنها فعلهات، وقول الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 202 (أم). (¬2) في (أ)، (د): والدَّوس، والتصويب من مصادر عدة ستأتي في عزو البيت وإيضاحه. (¬3) البيت لقُصَيّ بن كِلاب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في "جمهرة اللغة" 3/ 1308 (له)، وصدر هذا الرجز عنده: عِنَد تَنَاديهم بِهالٍ وهَبِيج وهال كلمة زجر للخيل. وإلياس هو ابن مضر أحد أجداد قُصَيّ، وخِنْدِفُ زوجته أم مُدركة، وهذا لقب لها من الخندفة، وهو المشي بسرعة، واسمها ليلى بنت حلوان ابن عمران ابن الحاف من قضاعة انظر "الاشتقاق" لابن دريد ص 30، 42. وقد استُشهِد بالبيِت دون نسبة في "الأمالي" للقالي 2/ 301، "تهذيب اللغة" 1/ 202 (أم)، "المحتسب" 2/ 224. (¬4) في (د): (أمهات). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 202 (أم)، "الصحاح" 5/ 1863 (أمم). (¬6) هو أبو جَندل عُبيد بن حُصين النميري، والراعي لقبه. (¬7) البيت في "جمهرة اللغة" 2/ 176 (حفل). قال ابن دريد: أي الذي طرق أمهاتهن كان فحلًا نجيبًا، والطرق الفحل، وكذلك في "تهذيب اللغة" 3/ 2747 (فحل)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 565.

أُمّهَتيِ خِندِفُ وإِليَاسُ أَبِي (¬1) أي: أمي، والهاء زائدة (¬2). وأجاز أبو بكر أن تكون الهاء أصلية، وتكون أمَّهة وزنها فُعَّلَة، وهو في هذا القول بمنزلة: تُرهَة، وأُبَّهَة، وعُلّفة، وقُبَّرة. ويقول (¬3) هذا القول ما رواه صاحب العين من قولهم: تأمّهت (¬4) أمّا، فتأمهَت يبين أنه تفعّلت، بمنزلة: تفّوهت وتنبّهت، إلا أن قولهم في المصدر -الذي هو الأصل- أمومة يقوي زيادة الهاء؛ لأن العرب تقول: أمّ بينة الأمومة، فهذا يقوي أن وزنها فُعْلَهَة. ويزيد في قوة ذلك قول الشاعر: إذا الأُمَّهاتُ قَبَحْنَ الوُجوهَ ... فَرجْتَ الظَّلامَ (¬5) بِأُمَّاتِكَا (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) تقدم قريبًا. (¬2) من "سر صناعة الإعراب" 2/ 563، 564 بتصرف. (¬3) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: وُيقوّي كما في "سر صناعة الإعراب" 2/ 564. (¬4) في (د) (أمهت) وما أثبته هو الموافق لـ"سر صناعة الإعراب"، ومعنى تأمهت: اتّخذت. (¬5) في (أ)، (د) الكلام، والتصويب من "العين" 8/ 434، "التهذيب" 1/ 202 (أم)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 564 وهو الأصل. (¬6) البيت منسوب لمروان بن الحكم كما ذكر في "معجم شواهد العربية"، "شرح شواهد الشافعية" ص 308، وهو من "شواهد العين" 8/ 434، "تهذيب اللغة" 1/ 202، "اللسان" 1/ 136 (أمم). معنى البيت: إذا قَبَحت الأمهات بفجورهن وجوه أولادهن عند الناس كشفت الظلام بضياء أفعال أمهاتك وطهارتهن. (¬7) الكلام من قوله: وأجاز أبو بكر إلى هنا من "سر صناعة الإعراب" 2/ 564 بتصرف يسير, ولم أجد ما ذكره في "العين" سوى البيت كما مر في عزوه.

إلا أن غالب الأمر يقال فيمن يَعقل بالهاء، وفيمن لا يعقل بغير هاء، أرادوا الفرق بينهما (¬1)، والقول بزيادة الهاء أولى من اعتقاد حذفها؛ لأن الهاء أحد الحروف العشرة التي تُسمى حروف الزيادة، لا حروف النقص، فلا ينبغي أن يعتقد أن الهاء هي الأصل، وأن أُمًّا محذوف من أُمَّهَة. فأما قول من قال: تأمّهت أمًّا، فيظهره مما يعارضه قولهم: أمّ بيّنة الأُمومة، بحذف الهاء، فرواية برواية، وبقي النظرة (¬2) الذي قدمناه وهو أن الهاء كثيرًا ما تُزاد في الكلام، وقلّ ما يوجد حذفها، على أن قولهم: تأمّهت، إنما حكاها صاحب العين، وفي ذلك الكتاب من الخَطَل والاضطراب مالا يدفعه نظَّار (¬3)، وذاكرت بكتاب العين يومًا شيخَنا أبا علي، فأعفى (¬4) عنه ولم يرضه، لما فيه من القول المرذول والتصرف الفاسد (¬5). وذهب ابن الأنباري إلى أن الأصل: أُمّ، ثم يقال في النداء: يا أُمّاه، فيدخلون هاء السكت. ثم إن بعض العرب يُسقط الألف وُيَشبَّه هاء السكتة بتاء التأنيث وتقدير بالإضافة بعدها، فيقول: يا أمّت كما قالوا: يا أَبَت، ثم قد تُستعمل التاء في أمّ في غير النداء، ولم يُستعمل ذلك في الأب، وهو قوله: ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 2/ 565، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 202، "الصحاح" 5/ 1863 (أم). (¬2) قد يكون الصواب: النظر بدون هاء كما في "سر صناعة الإعراب"2/ 568. (¬3) في "سر صناعة الإعراب" نظار جلد. (¬4) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: فأعرض كما في "سر صناعة الإعراب" 2/ 568. (¬5) انتهى من "سر صناعة الإعراب" 2/ 566 - 568 بتصرف بالحذف لا باللفظ، وهذا من العجيب حيث أتى المؤلف بكلام أبي الفتح ابن جني الذي لقي أبا علي الفارسي وذاكره، وكأنه هو المذاكر حيث لم يعز الكلام لقائله!

تَقَبّلتَها من أُمَّةٍ لك طَالَمَا ... (بت (¬1)) في الأسْواق عَنها خِمَارُها (¬2) وقالت العرب: هؤلاء أُمَّات زيد، وأُمّهات زيد، فأَجْرَوا الهاء الأصلية، وأصل زيادتها في باب النداء، وقد قال بعضهم: هذه أمّهتك، قال: أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وإلياسُ أَبِي فزيدت ههنا دخولها للسكت، ثم شُبَّهت بالأصلية، وزيدت بعدها؛ لأنها شبهت بتاء التأنيث. وكل امرأة رجع نسبُك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات، وبإناث رَجَعتَ إليها أو ذكور، فهن أمك (¬3). وقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ}. قد ذكرنا الكلام في أصل البنت والأخت عند قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49] (¬4). وُكلّ أنثى رجع نسبُها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور فهن بنتك. وتحريم هاتين مؤبد لم تَزالا، ولم تَحِلا قط لأحد. وقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ}. كل أنثى وَلَدَها شخصٌ وَلَدَك في الدرجة الأولى فهي أُختُك. ¬

_ (¬1) هكذا في (أ)، (د)، ولعلها: تُنوزع، كما في "التهذيب" 1/ 202، "اللسان" 1/ 136 (أم). (¬2) لم أعرف قائله وهو من شواهد الأزهري في "التهذيب" 1/ 202. (¬3) لى أجد من ذكر هذه القاعدة من المفسرين أو اللغويين، ولعل هذا من براعة المؤلف في التقصيد والتعبير، فإن هذه قاعدة تبين وتحدد الأمهات. (¬4) ذكر المؤلف فيما أشار إليه أصل اشتتاق لفظ بنت وأخت، ووزنهما وجمعهما، وعلامة التأنيث في كلام طويل.

وقوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ}. هي جمع العمَّة، وكل ذَكَرٍ رجع نسبُك إليه فأخته عمّتك، وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت أبي أمك. وقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}. مضى الكلام في الأخ والأخت عند قوله: {.يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49]. والتحديد في بنات الأخ وبنات الأخت كالتحديد في بنت الصلب، وهؤلاء محرمات بالأنساب والأرحام. قال المفسرون وأهل العلم: كل امرأة حرّم الله نِكاحها للنسب والرحم فتحريمها مُبهم، والمُبهمة لا تحلّ بوجهٍ من الوجوه. والتي كانت تحلّ ثُمّ حُرمت بسبب حَدَث، وهن اللواتي ذكرن في باقي الآية، فليست مُبهمة (¬1). وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}. هؤلاء سمين أمهات للحُرمة، كأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - سماهن الله تعالى أمهات المؤمنين في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. وكل أنثى انتسبتَ باللبن إليها فهي أمك، فالتي أرضَعَتْكَ أو رجلًا (¬2) أُرضِعت بِلبانه من زوجته أو أمّ ولده فهي أمك، وكذلك كل امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلًا أرضعك فهي أمك. وإنما يحرم الرضاع بشرطين: أحدهما: أن يكون خمس رضعات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 33، "معاني النحاس" 2/ 52، ولعل الإبهام هنا بمعنى: التأبيد، فالمُبهمة المحرمة على الأبد، وعكسها غير المبهمة. (¬2) أي: أو أرضعت رجلًا. (¬3) هذا مذهب الشافعي -رحمه الله- وأصحابه، والصحيح في مذهب أحمد؛ يدل عليه ما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان فيما أنُزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نُسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن. أخرجه مسلم (1452) كتاب الرضاع، باب: التحريم بخمس =

والثاني: أن يكون في الحولين (¬1)، وما بعد الحولين من الرضاع لا يُحَرِّم (¬2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رضاع بعد الحولين" (¬3). وقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}. وأخوات الرضاعة ثلاث الأولى: أختك لأبيك وأمك وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلِبان أبيك، سواءٌ أرضعَتها معك أو مع ولدٍ قبلك أو بعدك. والثانية: أختك لأبيك دون أمك، وهي التي أرضعَتها زوجةُ أبيك بلِبان أبيك. والثالثة: أختك لأمك دون أبيك، وهي التي أرضَعَتها أمك بلبان رجل آخر. وهاتان المرأتان -أعني: أمَّ الرضاعة وأخت الرضاعة- لولا الرضاعة لم يَحرُما، وكان الرضاع تحريمها (¬4) فصارتا في حكم المبهمات؛ إذ تأبّد تحريمها (¬5) بعد الرضع. ¬

_ = رضعات وغيره انظر: "المغني" 310، 311، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 34/ 33، 34، "تفسير ابن كثير" 511 - 512. (¬1) هذا الشرط عند جمهور العلماء. انظر: "مجموع الفتاوى" 34/ 35، "تفسير ابن كثير" 511 - 512. (¬2) أفاد المؤلف هذين الشرطين من الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 34 ب. (¬3) لم أجده مرفوعًا، وإنما جاء نحوه موقوفًا على ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنه - كما في "موطأ مالك" ص 373 (4) كتاب الرضاع، باب: رضاعة الصغير، وباب: الرضاعة عند الكبر ص 375 (ح 14)، وقد جاء في معناه حديث مرفوع، فعن أم سلمة - رضي الله عنه - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام". أخرجه الترمذي (1152) كتاب الرضاع، باب: ما جاء ما ذكر أن الرضاعة لا يحرم إلا في الصغَر دون الحولين، وقال الترمذي. هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. أن الرضاعة لا تُحَرِّم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يُحَرِّم شيئًا. (¬4) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: يحرمهما. (¬5) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: يحرمهما.

وروت عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحرمُ من الرضاعةِ ما يحرمُ من النسبِ" (¬1). فعلمنا من هذا أن السبع المحرمات بالنسب على التفصيل والبيان الذي ذكرنا محرمات باللبن، وقال أولو التحقيق من ذوي العلم: إن الحد الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة معلوم من الآية ومستنبط عنها؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر حُرمة الرَّضاع ذكر طريقة الوِلادة بذكر الأمهات، وطريقة الأخُوّة بذكر الأخوات، وكل امرأة حُرمَت بالنَسَب حُرمَت بإحدى هاتين؛ لأن الأم والبنت حرمتا بالولادة، والخمس الباقيات من المحرمات بالنسب حَرُمْنَ بطريق الأخُوّة. وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}. حد أم امرأتك كحد أمك، سواءٌ كانت من اللبن أو من النسب، فهي حرام عليك بنفس العقد على ابنتها؛ لأن الله تعالى أطلقَ التحريم ولم يُقيِّده بالدخول. هذا إجماع الأمة اليوم (¬2). وكان جماعة من الصحابة يذهبون إلى أن المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت، كالربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها، وهو قول علي وزيد (¬3) (¬4) وابن ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري رقم (2644) كتاب الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، ومسلم بنحو رقم (1444) كتاب الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة وغيرهما. (¬2) انظر: "الطبري" 4/ 320 - 321. (¬3) هو أبو سعيد أو أبو ثابت، زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد، استُصغر يوم بدر وشهد أحدًا، وكان رأسًا في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. توفي -رضي الله عنه- سنة 45هـ وقيل قبلها. انظر "الاستيعاب" 2/ 111، "أسد الغابة" 2/ 278، "الإصابة" 1/ 561. (¬4) انظِر: "الطبري" 8/ 145، "الكشف والبيان" 4/ 35 ب، "زاد المسير" 2/ 47.

عمر وابن الزُّبَير (¬1)، وجابر (¬2) -رضي الله عنه-، ورُوي ذلك عن ابن عباس (¬3)، وقال علي -رضي الله عنه-: الأمّ والابنة بمنزلة، إن لم يدخل بهذه تزوج هذه، وإن لم يدخل بهذه تزوج هذه (¬4). وهؤلاء يجعلون قول: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} منتظمًا للربائب وأمهات النساء، ويقول: أمهات النساء اللاتي لم يُدخَل بهن غيره (¬5) محرمة. والصحيح ما عليه الجماعة، روى عَمرو بن شُعَيب (¬6)، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا نكح الرجلُ المرأةَ فلا يَحلّ له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت" (¬7) ففصل بين الربيبة وأم المرأة. ¬

_ (¬1) هو أبو بكر أو أبو خبيب عبد الله بن الزُّبيرُ بن العوام القرشي الأسدي، أحد العبادلة، ومن كبار فقهاء الصحابة، ولي الخلافة تسع سنين إلى أن قتل -رضي الله عنه- سنة 73 هـ. انظر: "الاستيعاب" 3/ 39، "أسد الغابة" 3/ 242، "الإصابة" 2/ 308، "التقريب" ص303 رقم (3320). (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 35 ب. (¬3) انظر المرجع السابق. (¬4) عند ابن جرير من طريق قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي - رضي الله عنه - في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. "جامع البيان" 4/ 321. لكن تكلم في ثبوت هذا القول عن علي، انظر تعليق أحمد شاكر على "جامع البيان"، "تفسير القرطبي" 5/ 112. (¬5) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: غير بدون الضمير. (¬6) هو أبو إبراهيم عَمرو بن شُعَيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، تقدمت ترجمته. (¬7) أخرجه الطبري 8/ 146، وقال عَقِبه: وهذا خبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الحجة على صحة القول به، مُستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره، وحسن الحديث أحمد شاكر في تحقيقه للطبري. =

وقال ابن جريج: قلت لعطاء: الرجل ينكح المرأة ثم (¬1) لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها، أتحل له أمها؟ قال: لا هي مُرسلة، دخل بها أو لم يدخل (¬2). وكان عبد الله بن مسعود أفتى بنكاح أم المرأة إذا طلّق بنتها قبل المسيس، وهو يومئذ بالكوفة، فاتفق له دخول المدينة فصادفهم مجتمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخُل داره حتى حضر ذلك الرجل وقرع عليه الباب، وأمره بالنزول عن تلك المرأة (¬3). وقال صاحب النظم: في نظم هذه الآية دليل على أن الشرط بالدخول مختص به الربائب دون أمهات النساء؛ لأن قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} لفظ قائم بنفسه في المعنى المعقود في ظاهره، وليس من نظم العرب في كلامها الجاري المستعمل بينهم أن يقال: أمهات نسائي من نسائي اللاتي دخلت بهن، كما لا يقال في واحدتها: أمّ امرأتي من امرأتي التي دخلت بها، وعادتهم الجارية بينهم في هذا أن يقولوا: أم امرأتي التي دخلت بها، وأمهات نسائي اللاتي دخلت بهن. ¬

_ = وقد أورد الحديث الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 35، وابن كثير 1/ 513، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 242، وعزاه أيضًا إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "سننه". (¬1) في (د): بدون (ثم). (¬2) أخرجه ابن جرير 4/ 322 إلى قوله: مرسلة، وذكره الثعلبي كاملًا في "تفسيره" 4/ 35، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 242. (¬3) أخرجه بنحوه مالك في كتاب النكاح، باب: مالا يجوز من نكاح الرجل امرأته ص 330 (ح 23)، وانظر: "الدر المنثور" 242.

فقولك في هذا: من نسائي ومن امرأتي زيادة لا حاجة بقيام المعنى إليها، فلما لم يَجُز أن يكون قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ} طِبقًا لقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} لم يَجُز أن يكون شرطًا مُرصَدًا، ولا معطوفًا عليه، وصار هذا الشرط مخصوصًا بذكر الربائب ومقصورًا عليه، دون ذكر أمهات النساء. وقال محمد بن يزيد بن عبد الأكبر (¬1): قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} نعت للنساء اللواتي من أمهات الربائب لا غير، والدليل على ذلك إجماع الناس أن الربيبة تحلّ إذا لم يدخل بأمها، فمن أجاز أن يكون قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} نعتًا لقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُم} بقيت الربائب مطلقة، وخرج أن يكون {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِن} لأمهات الربائب، وحينئذٍ لا يجوز تَزوُّج الربيبة إذا لم يدخل بأمها. قال الزجاج: والدليل على أن ما قال أبو العباس هو الصحيح أن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدًا. لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات. على أن يكون الظريفات نعتًا (للفريقين من النساء) (¬2). وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}. الربائب جمع الربيبة، وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها: مربوبة؛ لأن الرجل هو يربّيها. يقال: رَبَبْتُ فلانًا أربُّه، وربّبته أُرَبِّبُه، وربّيته أُربِّيه، وربته فأنا أربته. كله معنى واحد، قاله الأصمعي (¬3). قال الشاعر: ¬

_ (¬1) هو المبرَّد تقدمت ترجمته رحمه الله، وكلامه هذا في "معاني الزجاج" 2/ 34. (¬2) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 34، وما بين القوسين عند الزجاج: لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء. (¬3) لم أقف على قول الأصمعي بنصه كاملًا، وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1338، "الصحاح" 1/ 131 , 132، "اللسان" 3/ 1549 (ربب).

وذاكَ لَه إذا العنقَاءُ صارت ... مُربَّبَة وشبّ ابن الخَصِيّ (¬1) وقال الراجز: والقبُر صهر ضَامنٌ زِمَّيتُ ... ليس لمنَ ضُمَّنَه تَربيتُ (¬2) وقوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}. قال المفسرون: يقول: اللاتي ربيتموهن في حجوركم. وهي جمع حِجر، وفيه لغتان، قال ابن السكيت: حَجْرُ الإنسان وحِجْرُه بالفتح والكسر (¬3). قال أهل المعاني: المراد بقوله: {فِي حُجُورِكُمْ} أي في ضمانكم وتربيتكم، ويقال: فلان في حِجر فلان، إذا كان يلي تربيته (¬4)، وذلك أن كل من ربّى صبيًّا أجلسه في حِجره، فصار الحِجر عبارةً عن التربية، كما يقال: فلان في حضانة فلان، وأصله من الحِضن الذي هو الإبط (¬5). وقال أبو عبيدة: {فِي حُجُورِكُمْ} أي: في بيوتكم (¬6). قال الأزهري: ويقال: فلان في حجر فلان، أي: في كنفه ومنعه (¬7). وحد الربيبة في رجوعها إلى زوجتك مثل حد بنتك في رجوعها إليك، وهي لا تَحرُم بمجرد العقد على الأم، وإنما تحرم بالدخول، ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام: في "ديوانه" ص405، و"ثمار القلوب" ص 267، و"دلائل الإعجاز" ص 309، و"محاضرات الراغب" 2/ 709 بلفظ "مرتعة". (¬2) من "شواهد الصحاح" 1/ 249 (ربت)، "اللسان" 3/ 1552 (ربت، زمت) , وزميت -في "اللسان"- بمعنى: الساكن، وتربيت من التربية. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 747 (حجر). (¬4) من الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 35ب. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 850 (حضن). (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 121. (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 747 (حجر).

والدخول هو الجماع ههنا بالإجماع (¬1). وقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ}. قال الليث: الحليل والحليلة الزوج والمرأة، سميا به (¬2) لأنهما يحلان في موضع واحد، والجميع (¬3) الحلائل (¬4). وقال أبو عبيدة (¬5): سميا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يُحالّ صاحبه، قال: وكل من نَازَلك أو جاورك (¬6) فهو حليلك، وأنشد: ولستُ بأطلس الثوبين يُصبِي ... حليلتَه إذا هَدَأ النِّيَامُ (¬7) قال: لم يُرِد بالحليلة ههنا امرأته، إنما أراد جارته؛ لأنها تُحالّه في المنزل. قال: ويقال: إنما سميت الزوجة حليلة؛ لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه، على معنى أنه يَحِلُّ له (¬8). يقال: حلّ فهو حليل، مثل: صح ¬

_ (¬1) دعوى الإجماع هنا لا تتم، فقد قيل: إن المراد بالدخول التجريد. انظر "جامع البيان" 4/ 322 - 323. (¬2) في (د): (بها). (¬3) في (د): (والجمع)، وما أثبته هو الموافق لما في "العين". (¬4) "العين" 3/ 27 (حل). (¬5) في (أ): هكذا، والصواب: أبو عبيد. انظر: "غريب الحديث" 1/ 343، "اللسان" 2/ 973 (حلل). (¬6) في (د): (جاز لك). (¬7) البيت لأوس بن حجر في "ديوانه" ص 75، وبغير عزو في "الزاهر" 1/ 185، و"غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 247، و"أمالي القالي" 1/ 20، و"مقاييس اللغة" (حل)، وهو من شواهد "اللسان" 5/ 2689 (طلس). ومعنى أطلس الثوبين أي: وسخهما وهو كناية عن الفاحشة والقبح، ويُصبي حليلته أي: يريد جارته التي تُحالّه في حِلته بسوء. (¬8) الظاهر أن هذا نهاية كلام أبي عبيد. انظر "غريب الحديث" 1/ 344.

فهو صحيح. وقال الزجاج: حليلة: يعني (¬1): محلة، من الحلال (¬2). وقيل: لأن كل واحد منهما يحل إزاره صاحبه (¬3). وقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}. فيه احتراز عن المُتبنَّى، وكان المتَبنّى في صدر الإسلام بمنزلة الابن. قال عطاء: وليس يحرم عليك حليلة ابن ادعيته وليس هو من صُلبِك، ونكح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة زيد بن حارثة (¬4)، فقال في ذلك المشركون: إنه تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، وقال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] (¬5). قال أهل العلم: وحليلة الابن من الرضاع ملحقةٌ في التحريم بحليلة ¬

_ (¬1) عند الزجاج: بمعنى. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 35. (¬3) "الكشف والبيان" 4/ 36 أ. (¬4) هو زيد بن حارثة بن شَراحيل الكَعْبي، كان مولى وَهَبته خديجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وُيدعى زيد بن محمد حتى نزلت: {ادعُوُهمْ لَأِبَائِهِمْ} وكان حبّ رسول الله هو وابنه أسامة، وقد روى عنه الحديث جماعة من الصحابة. توفي - رضي الله عنه - سنة 8 هـ. انظر: "أسد الغابة" 2/ 281، "الإصابة" 1/ 563، "الأعلام" 3/ 57. (¬5) عند الطبري من طريق حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} قال: كنا نحدث والله أعلم أنه نزلت في محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نكح امرأة زيد بن حارثة قال المشركون في ذلك، فنزلت {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} ونزلت: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، ونزلت: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]، "جامع البيان" 4/ 323. وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 36 أ.

ابن الصلب بالسنة (¬1)، وهي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬2). وهذا التحريم يحصل بنفس العقد، كحليلة الأب لا خلاف في هذا (¬3). فأما ما رُوي أن ابن عباس سئل عن قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} ولم يبين أدخل بها الابن أم لا؟ فقال ابن عباس: أبهموا ما أبهم الله (¬4)، فإن هذا ليس من إبهام الأمر، ولكن قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (¬5) هذا كله يسمى التحريم المُبْهم؛ لأنه لا يحل بوجه ولا سبب، ولما سئل ابن عباس عن قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وعن قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ولم يبين أنهن مدخول بهن أم لا، أجاب فقال: هذا من المبهم، أي: مما لا وجه فيه غير التحريم، سواء دخل بهن أو لم يدخل بهن. وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. أن في محل الرفع؛ لأنه بمعنى: والجمع بين الأختين، عطف على ما قبله (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 379، والقرطبي 5/ 116، وقد حكى القرطبي الإجماع في هذه المسألة. (¬2) تقدم تخريجه، وهو صحيح. (¬3) انظر: "الطبري" 4/ 323، و"البغوي" 2/ 191، و"القرطبي" 5/ 113. (¬4) لم أقف على شيء من ذلك عن ابن عباس، لكن قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم، عن الحسن ومحمد قالا: إن هؤلاء الآيات مبهمات {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ}، {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}، {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}. "الدر المنثور" 2/ 243. (¬5) في (د): {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 260، والطبري 4/ 323، "معاني الزجاج" 2/ 35 , "إعراب النحاس" 1/ 405.

ويحرم على الرجل أن يجمع في النكاح أختين بالنسب أو باللبن. ويجوز الجمع بين أختين أمتين بملك اليمين، فإذا وطئ إحداهما حَرُمَت الثانية عليه، ولا يحل له ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة (¬1). وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}. فيه قولان: قال عطاء: يريد إلا ما قد مضى في الأمم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} لما مضى، {رَحِيمًا} بمن أطاعه. قال: ويذكرون أن يعقوب عليه السلام جمع بين ليا أم يهوذا (¬2) وراحيل أم يوسف (¬3)، وكان فيما مضى حلالًا لجميع الأمم فحرمه (¬4) الله على هذه الأمة رحمة منه عليهم لما علم من شدة غَيرةِ النَّساء، بعضهن على بعض (¬5). وهذا قول السدي في رواية أسباط (¬6) عنه (¬7). وقال الكلبي: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} مضى منكم في الجاهلية فلا، تؤاخذون به بعد الإسلام (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 36 أ، "أحكام القرآن" للهراسي 2/ 250، و"البغوي" 2/ 191. (¬2) في (د): (يهود). (¬3) في "الكشف والبيان" 4/ 36 أ: وكانتا أختين. (¬4) في (أ): (فحرم). (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 36 أمختصرًا، وكذلك البغوي 2/ 192. (¬6) هو أبو يوسف أو أبو نصر أسباط بن نصر الهمذاني، مفسر، واختلفوا في توثيقه، قال ابن حجر: صدوق، كثير الخطأ يغرب، من الثامنة، وحديثه عند مسلم والأربعة. انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 157، "التقريب" ص 98 رقم (321) "الأعلام" 1/ 292. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 36 أ، "معالم التنزيل" 2/ 192. (¬8) لم أقف عليه.

وهو قول مقاتل (¬1)، واختيار أبي إسحاق (¬2). قال مقاتل في قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قال: لأنهم كانوا يجمعون بينهما (¬3). قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى: سِوى ما سلف فإنه مغفور لكم (¬5). قال أبو بكر: وهذا من الاستثناء المنقطع {إِلَّا} بمعنى: لكن، كأنه قيل: لكن ما قد سلف فأنتم غير مؤاخذين به (¬6). وقد ذكرنا هذا عند قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 150]. واعلم أن المحرمات بالنسب سبعة أصناف، ذُكِرت نسقًا في أول الآية. والمحرمات بالسبب صنفان: صنف يحرم بالرضاع، وهو الأمهات والأخوات، على ما ذكرنا من التفصيل، وصنف يحرم بسبب المصاهرة، وهو أم المرأة وحليلة الأب وحليلة الابن والربائب، على التفصيل الذي ذكرنا، وحليلة الأب لم تُذكر في هذه الآية، إنما ذكرت في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]. ¬

_ (¬1) هو مقاتل بن سليمان، ويأتي تخريج قوله بعد الحاشية التالية. (¬2) الزجاج كما سيأتي. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 245، مطولًا، وانظر: "تفسير مقاتل" 1/ 366. (¬4) انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 515، وذكر السمرقندي والقرطبي نحوه عن محمد بن الحسن. انظر: "بحر العلوم" 1/ 344، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 119. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 35. (¬6) الظاهر أنه يقصد أبا بكر بن الأنباري، ولم أقف على كلامه، وقد أشار غير واحد من الأئمة أنه من الاستثناء المنقطع. انظر: الطبري 4/ 323، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 405.

فأما الجمع بين الأختين فإنه تحريم الجمع (¬1)، لأنه يجوز نكاح الثانية بعد طلاق الأولى، ويُلحق بهذا الصنف عمة المرأة وخالتها، فكما لا يجوز الجمع بين المرأة وأختها لا يجوز الجمع بين المرأة على عمتها، وخالتها (¬2)؛ لما رُوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها لا (¬3) الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى" (¬4)، أراد الدرجة في النسب لا صِغَرَ السن وكِبَرَه. وقال أهل العلم في حد ما يَحْرُم الجمع بينه: كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين امرأة لم يَجُز لك نكاحُها لم يجز لك الجمع بينهما. فأما ملك اليمين فكل امرأة حَرُم عليك نكاحها بنسب أو لبن أو صهر، فإذا وجد ذلك المعنى في مملوكة حَرُم عليك وطؤها بملك اليمين، وكل امرأتين حرم عليك الجمع بينهما بقرابة موجودة بينهما أو بلبن، فإذا ملكت أمَتَين وبينهما مثل ذلك المعنى حَرُم عليك وطؤهما بملك اليمين، فإذا وَطِئت إحداهما لم يكن لك وطء الثانية ما لم تُحَرِّم الأولى على نفسك بإزالة الملك عنها بِبَيع أو عِتق أو هِبَة، أو بإزالة الملك عن بعضها (¬5) بكتابة ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 4/ 323. (¬2) لفظ (د): (لا تنكح المرأة على خالتها أو عمتها ولا على خالتها لا) وفيه اضطراب. (¬3) أخرجه البخاري (5108) كتاب النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها؛ ومسلم (1408) كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح. (¬4) هذه رواية أبي داود (2065) والترمذي (1126)، وأحمد (9500) من حديث أبي هريرة، وقد علقه البخاري في الباب نفسه (5108). (¬5) في (أ): (بضعها).

أو تزويج. واعلم أن التحريم الحاصل بالمُصاهرة يحصل بنكاح صحيح، فلو زنى بامرأة لم تحرم عليه أمها ولا بنتها، ولا تحرم المزنيّ بها على آباء الواطئ، ولا أبنائه، وإنما تتعلق هذه الحُرمة بنكاح صحيح، أو فاسد يجب به الصَّداق والعِدّة ويُلحق به الولد، ولا يتعلّق بالسفاح الصريح. وهذا قول عُروة، وسعيد، ومجاهد، والزهري، ومذهب مالك، والشافعي وفقهاء الحجاز (¬1). وقال أهل العراق: الزنا يتعلق به تحريم المصاهرة، حتى لو زنى الأب بامرأة ابنِه انفسخ نكاحها، وكذلك نكاح الأب إن زنى الابن بامرأته. وقالوا: لو قَبّل الأب امرأة الابن ولمسها بالشهوة انفسخ نكاح الابن، ولو قبل أجنبية أو لمسها أو وطئها فيما دون الفرج حصل تحريم المصاهرة. وهذا قول الشعبي والنخعي ومذهب أبي حنيفة (¬2). والآية حجة ظاهرة عليهم؛ لأن الله تعالى حرم أمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء، وهذه الأسماء لا تثبت بوجود الزنا، فإنّ أم المزنيّ بها لا تكون أم امرأته، ولا بنتها ربيته، وإذا زنى الابن بامرأةٍ لم تَصِر حليلته حتى تحرم على الأب (¬3). وقد قال ابن عباس: الحرام لا يحرم الحلال (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 5/ 25، والقرطبي 5/ 114، 115. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 35 أ، والقرطبي 5/ 114، 115. (¬3) انظر: "الأم" 5/ 26، والقرطبي 5/ 115. (¬4) لم أجده عن ابن عباس، وانظر "الكشف والبيان" 4/ 35 أ.

24

24 - وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. الإحصان في اللغة أصله المَنع، وكذلك الحَصَانة، ولذلك قيل: مدينة حصينة، ودرعٌ حصينة، أي: مانعة صاحبها من الجَرح. قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] معناه: لتمنعكم وتُحرِزَكم (¬1)، والحصن الموضع الحَصين لمنعه من بغاه من الأعداء (¬2). والحِصَان: الفرس لمنعه صاحبه من الهلاك، والحَصَان المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد، قال الله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]، أي: منعته من الزنا، ويقال: حَصَنَت المرأة تحصُن: إذا عفّت عن الريبة حُصنا وهي حَصان، مثل: جبنت جُبنًا وهي جبان (¬3). قال سيبويه: وقالوا أيضًا: حِصنا كما قالوا: عِلما (¬4). وقال أبو عبيد والزجاج والكسائي: حصانة أيضًا (¬5). وقال شمر: امرأة حصان وحاصِن، وهي العفيفة، وأنشد: وحاصن من حاصِنات ملسِ ... من الأذى ومن قِراف الوَقْسِ (¬6) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 843 - 844 (حصن) بتصرف. (¬2) انظر: "الطبري" 5/ 7. (¬3) انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 543 - 544 (حصن)، والطبري 5/ 7، "تهذيب اللغة" 1/ 844 (حصن). (¬4) انظر: "الحجة" 3/ 147. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 844 (حصن). (¬6) قول شمر وما أنشد في "تهذيب اللغة" 1/ 844 (حصن)، وقال الأزهري: الوقس: الجرب. ملس: لا عيب بهن. وانظر "اللسان" 2/ 902، والرجز منسوب للعجاج في "مجاز القرآن" 1/ 122، "جمهرة اللغة" 2/ 543 - 544 (حصن)، و"تفسير الطبري" 5/ 7.

فقد حصل من هذا أنه امرأة حَاصِن وحَصَان بينة الحِصن والحَصَن والحَصانة، ثلاث مصادر. وأنشد ابن السكيت (¬1): الحِصن أدنى لو تأييته ... من حثيِك التُّرب على الراكِب (¬2) وقال الزجاج: يقال: امرأة حصان بينّة الحصن، وفرس حصان: بيّن التحصن والتحصين، وبناء حصين: بيّن الحصانة، ولو قيل في كله: الحصانة، لجاز بإجماع (¬3). وأما الإحصان فإنه يقع على معان كلها ترجع إلى معنى واحد، منها الحرية، يدل على ذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] يعني: الحرائر (¬4)، ألا ترى أنه إذا قذف غير حرة لم يُجلد ثمانين، وكذلك قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] يعني الحرائر، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]، أي: الحرائر (¬5). ومنها (¬6) العفاف، وهو قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، (¬7)، وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24] [المائدة:5] ¬

_ (¬1) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق, تقدمت ترجمته. (¬2) انظر: "اللسان" 2/ 902 (حصن). (¬3) ليس في "معاني الزجاج" عند تفسيره لهذه الآية. (¬4) انظر: "الطبري" 5/ 24. (¬5) هذا رأي ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد وغيرهم. انظر "تفسير ابن عباس" ص 143، والطبري 5/ 17. (¬6) أي من المعاني التي يقع عليها لفظ الإحصان. (¬7) انظر "تفسير ابن عباس" ص 143، والطبري 5/ 19.

وقوله: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]، أي: أعفته. ومنها الإسلام، من ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] قيل في تفسيره: أسلمن (¬1). ومنها كون المرأة ذات زوج، يقال: امرأة محصنة، إذا كانت ذات زوج، والمحصنات: المتزوجات، بدلالة قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: ذوات الأزواج (¬2). ونذكر ذلك عند التفسير. وليس تبعد هذه المعاني عما عليه موضوع اللغة، فإن الإحصان هو أن يُحمى الشيء وُيمنع، والحرّة تُحَصِّن نفسها وتَحصُن هي، وليست كالأمة. والعفة أيضًا مانعة من الزنا، والعفيفة تمنع نفسها، وكذلك الإسلام مانع من الفواحش، والمحصنة ذات الزوج؛ لأن الزوج أحصنها ومنع منها. واختلف القراء في: {الْمُحْصَنَاتُ} فقرأوا بفتح الصاد وكسرها في جميع القرآن (¬3)، إلا التي في هذه الآية، فإنهم اجتمعوا على الفتح فيها (¬4). فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن، ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن (¬5). قال أبو عبيد (¬6): اجتمع القراء على نصب الصاد في الحرف الأول ¬

_ (¬1) ممن قال بذلك ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي والسدي. انظر: الطبري 5/ 20، "الدر المنثور" 2/ 255. (¬2) انظر: الطبري 5/ 1، "الكشف والبيان" 4/ 36 ب، "الدر المنثور" 2/ 246 - 247. (¬3) قراءة الكسر للكسائي، والفتح لبقية العشرة. انظر: "السبعة" ص 230، "الحجة" 3/ 146، "المبسوط في القراءات العشر" ص155، "النشر" 2/ 249. (¬4) انظر المصادر السابقة. (¬5) انظر: "حجة القراءات" ص 196، 197. (¬6) أخذ قول أبي عبيد من "تهذيب اللغة" 1/ 844 (حصن).

من النساء؛ لأن تأويلها ذوات الأزواج يُسبَين فيُحلهن السِباء (¬1) تُوطأ بملك اليمين، ويَنتقض نكاحهن. فأما ما سوى الحرف الأول فالقراء مختلفون، فمنهم من يكسر الصاد، ومنهم من يفتحها، فمن نصب، ذهب إلى ذوات الأزواج، ومن كسر ذهب إلى أنهن أسلمن فأحصنّ أنفسهن فهن محصنات (¬2). وقال الليث: أُحصِنت المرأة فهي محصنة، وهي التي أحصنها زوجها، وهن المُحصنات، والمعنى أنهن أحُصِنّ بأزواجهن (¬3). أخبرني العروضي، عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري، عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: كلام العرب كله على: أفْعَل فهو مُفْعِل، إلا ثلاثة أحرف: أَحصَن فهو مُحصَن، وألفَج فهو ملفَج (¬4)، وأَسهَب فهو مُسهَب (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): النساء، والتصويب من "تهذيب اللغة". (¬2) انتهى من "تهذيب اللغة" 1/ 844 (حصن). (¬3) انظر: "العين" 3/ 118، "تهذيب اللغة" 1/ 844 (حصن). (¬4) في النسخة (أ) وعند هذا اللفظ كتب هامش بغير خط النسخة وهو بحدود سطرين أو ثلاثة، بعضه غير واضح، وقد تبين لي منه ما يلي: ألفج بالجيم المعجمة أفلس قال رؤبة: أحسابكم في العسر والإلفاج ... شِيبت بعذبٍ طيّب المزاج وقال: جارية شبت شبابًا عَسلجا ... في حجر من لم يك عنها ملفجا يقال: عسلجت الشجرة: أخرجت عساليجها، وهي ما لان واخضر من قضبانها. وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1783 (سهب)، 4/ 3280 (لفج)، "الصحاح" 1/ 329 (عسلج)، 2/ 339 (لفج)، "اللسان" 7/ 4052 - 4053 (لفج). (¬5) في "تهذيب اللغة" 2/ 1783 (سهب) لكن رواية الأزهري، عن طريق شمر، عن ابن الأعرابي، وفيه تقديم أسهب على أحصن.

وأما التفسير فالمحصنات في هذه الآية ذوات الأزواج (¬1)، وهن محرمات على كل أحد إلا على أزواجهن، لذلك عُطِفن على المحرمات في الآية التي قبلها (¬2). ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يريد: إلا ما ملكتموهن بالسبي من دار الحرب، فإنها تحل لمالكها ولا عِدّة عليها، فتُستبرأ بحيضة وتوطأ. وهذا قول ابن مسعود (¬3)، وابن عباس، وأبي قلابة، وابن زيد، وأبيه (¬4)، ومكحول (¬5)، والزهري (¬6). قال أبو سعيد الخُدري: لما كان يوم أوْطَاس أَصَبْنا نساءً لهن أزواج في المشركين، فكرههنّ رجال منا، فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 122، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 117، والطبري 5/ 1، "الكشف والبيان" 4/ 36/ ب، "الدر المنثور" 2/ 246 - 247. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 405. (¬3) قول ابن مسعود أن المراد بقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هي المشتراة بالمال، لا المسبيّة. انظر: "الطبري" 5/ 3، "الدر المنثور" 2/ 247. (¬4) هو الإمام أبو عبد الله زيد بن أسلم، له تفسير يرويه عنه ابنه عبد الرحمن هذا. (¬5) هو أبو عبد الله مَكْحول الشامي، فقيه، كان مفتي دمشق وعالمها، من مشاهير علماء التابعين، وقد وثقه كثير من أهل العلم وأخرج له مسلم والأربعة. توفي -رحمه الله- سنة 113هـ. وقيل غير ذلك. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص114، "ميزان الاعتدال" 4/ 177، "تقريب التهذيب" 4/ 148. (¬6) أخرج الآثار عن ابن عباس، وأبي قلابة، وابن زيد، وأبيه، ومكحول، والزهري، الطبري 5/ 60201، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 247 - 248. (¬7) أخرجه مسلم بنحوه (1456) كتاب الرضاع، باب: جواز وطء المسبية بعد =

ولا يمكن حمل المحصنات في هذه الآية على الحرائر، ولا على المسلمات، ولا على العفائف؛ لأن التحريم مُحالٌ في هذه الأجناس، فتعين حملها على الوجه الرابع وهو المنكوحة. وإذا وقع السبا على الزوجين الحربيّين أو على أحدهما انقطع منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا تُوطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائلٌ حتى تحيض" (¬1). فأباح وطأهن بعد الاستبراء، لانفساخ نكاحهن. وذهب جماعة من الصحابة -بظاهر هذه الآية- إلى أن الأَمَة المنكوحة إذا بيعت وقع عليها الطلاق، وبانت من الزوج بالبيع. واحتجوا بقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا: فإذا ملكها البائع وجب أن يحل له وطؤها. وهذا يحكى عن ابن عباس وابن مسعود وأُبَيّ (¬2)، وجابر، وأنس، وسعيد بن المسيب، والحسن (¬3). ¬

_ = الاستبراء 2/ 1079 (ح 35) وغيره، وكذلك المؤلف في "أسباب النزول" ص 152 - 153 من طرق. (¬1) أخرجه الإمام أحمد 3/ 62، وأبو داود (2155) كتاب النكاح، باب: في وطء السبايا، والحاكم 2/ 195، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبي، وعندهم أن هذا الحديث في سبي أوطاس. (¬2) هو أبو المُنذِر أُبَيّ بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري، من رواة الأحاديث وقُرَّاء الصحابة وكتاب الوحي ومن أصحاب العقبة الثانية وقد شهد بدرًا وما بعدها وتوفي - رضي الله عنه - سنة 30 هـ. انظر: "الاستيعاب" 1/ 161 - 162، "الإصابة" 1/ 19، "الأعلام" 1/ 82. (¬3) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 3 - 4، وانظر: "زاد المسير" 2/ 50، "الدر المنثور" 2/ 247.

وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ فإن هذه الآية مخصوصة بملك اليمن في الحربية إذا سبيت من دار العرب، بدليل حديث بريرة (¬1)، فإن عائشة اشترتها وأعتقتها، ثم خيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت مزوجة، فاختارت الفراق (¬2)، ولو وقع الطلاق بالبيع ما خيرت. وهذا الذي ذكرنا من أن البيع لا يكون طلاقًا مذهب عمر (¬3)، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف (¬4)، وإجماع الفقهاء اليوم. وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. قال ابن عباس: يريد: هذا ما حرم الله عليكم (¬5). يعني: كتب تحريم ما ذكر من النساء عليكم. وانتصابه على مصدر جرى الفعل من غيره، كأنه قيل: حرمت هذه النساء كتابًا من الله عليكم، أي: كتابة (¬6). ¬

_ (¬1) هي مولاة عائشة -رضي الله عنهما- كانت مولاة لقوم من الأنصار، وقيل لآل بني هلال، وقيل لآل عتبة بن أبي إسرائيل، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، وقد عتقت تحت زوجها فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت سنّة. انظر: "الاستيعاب" 4/ 357، "أسد الغابة" 7/ 39، "الإصابة" 4/ 251 - 252. (¬2) أخرجه بمعناه البخاري (2536) كتاب العتق، باب: بيع الولاء وهبته، وانظر "تفسير ابن كثير" 2/ 517. (¬3) عند ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 50: ابن عمر. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 50. (¬5) لم أجده عن ابن عباس، وقد أخرجه الطبري، عن إبراهيم التيمي، "جامع البيان" 5/ 9، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" عن إبراهيم وعزاه -إضافة إلى الطبري- إلى عبد الله بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر. "الدر المنثور" 2/ 249. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 260، و"الطبري" 5/ 9، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 406.

ومعنى الكتابة ههنا التحريم؛ لأنه كتابة التحريم، أي: إثباته وتأكيده. ومثله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي} [النمل: 88]، وقد مر كثير من هذا، (وهذا) (¬1) معنى قول الفراء والزجاج (¬2). وقد كشف أبو علي عن هذا فقال: ليس انتصابه على: عليكم كتاب الله، ولكن كتاب مصدر، دل ما تقدم على الفعل الناصب له، وذلك أن قوله: {حُرِمَتْ عَلَيْكُمْ} فيه دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم فانتصب {كِتَابَ اللَّهِ} بهذا الفعل الذي دل عليه ما تقدمه من الكلام (¬3). وعلى ذلك قول الشاعر: [ما (¬4)] إِنْ يمسّ الأرض إلاَ منْكِبٌ ... مِنْه وحرفُ السّاقِ طَيَّ المِحْمَلِ (¬5) قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبًا على جهة الأمر، ويكون: {عَلَيْكُمْ} مُفسرًا له، فيكون المعنى: الزموا كتاب الله (¬6). ¬

_ (¬1) ليس في (د). (¬2) انظر: "معاني الفراء" 2/ 260، "معاني الزجاج" 2/ 36. (¬3) انظر: "الحجة" 2/ 353، "المسائل الحلبيات" ص 203. (¬4) ما بين القوسين المعقوفين ليس في النسخ واستدركته من مصادر التوثيق الآتية. (¬5) البيت لأبي كبير الهُذلي يصف شابًا جلْدًا خفيف الجسم إذا نام لا يمس الأرض إلا منكبه وحرف ساقه دون بطنه. والمقصود بالمِحمَل: محمل السيف. انظر: "الكتاب" 1/ 359، "الشعر والشعراء" ص 447، "المقتضب" 3/ 204، "الخصائص" 2/ 309، "ديوان الهذليين" 2/ 13. والشاهد منه. أن طي نصب بفعل مقدر، تقديره: طويَ طيّ المِحْمَل. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 36.

قال الفراء: وقد قال بعض النحويين: معناه: عليكم كتاب الله، واحتج بقول الشاعر: يا أيها المائح دلوى دونكا (¬1) فالدلو عِنْده في موضع نصب، كما يقال: دونك زيدًا، وهذا لا يصح عند النحويين، لأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء، لا تقول العرب: زيدًا عليك، أو زيدًا دونك. إنما تقول: عليك زيدًا، ودونك زيدًا (¬2). قال الزجاج (¬3): لأن قولك: عليك زيدًا ليس له ناصب في اللفظ متصرف، فيجوز تقديم نصبه (¬4)، وقول الشاعر: .......... دلوى دونكما (¬5) الدلو في موضع رفع، على معنى: هذه دلوي دونك، كقولك: زيدٌ فاضربوه، وإن نصبت الدلوَ أضمرت في الكلام شيئًا، كأنك تقول: خذ دلوي، أو دونك دلوي دونك (¬6). وعلى هذا يجوز أن تقول: زيدًا عليك، ¬

_ (¬1) حذف المؤلف عجز البيت، وهو عند الفراء: إني رأيت الناس يحمدونكا "معاني القرآن" 1/ 60، ونسب في الحاشية إلى شاعر جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد ورد البيت في "الأمالي للقالي" 2/ 244، "تهذيب اللغة" 4/ 3322 (ماح)، "الإنصاف" للأنباري ص 187. والمائح: هو الذي ينزل في البئر إذا قلّ الماء فيملأ الدلو. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 260. (¬3) في "معاني القرآن" 2/ 36. (¬4) في "معاني الزجاج": منصوبه، ولعله هو الصواب. (¬5) تقدم البيت قريبًا. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 36، 37.

فيكون منصوبًا بشيء مضمر قبله. وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. وقرئ: {وَأُحِلَّ} بضم الألف (¬1)، والفتح (¬2) أشبه بما قبله، لأن معنى {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: كتب الله عليكم كتابًا وأحلّ لكم فبناء الفتح للفاعل ههنا أحسن. ومن بين (¬3) الفعل للمفعول به فقال: وأحل لكم، فهو في المعنى يؤول إلى الأول، وفي ذلك مراعاةُ مُشاكلةِ ما بعد بما قبل (¬4)، وهو قوله: {حُرِّمَت}، فلما كان التحريم مبنيًّا للمفعول به كذلك الإحلال. وقوله تعالى: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قال الفراء وغيره: يقول ما سوى ذلك، كقوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] يريد: سواه (¬5). وقال الزجاج: ومعنى: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: أي: ما بعد هذه النساء التي حُرّمت حلال (¬6). وهذا الإحلال مخصوص بالسنة، وهو ما ذكرنا من تحريم تَزَوُّج المرأة على عمتها وعلى خالتها (¬7). قال أبو إسحاق: لم يقل الله عز وجل: لا أحرم عليكم غير هؤلاء، وقال: ¬

_ (¬1) وكسر الحاء، وهذه القراءة لعاصم برواية حفص وحمزة والكسائي وأبي جعفر وخلف. انظر: "المبسوط" ص 156، "الحجة" 3/ 150، "النشر" 2/ 549. (¬2) أي فتح الألف والحاء (أَحَلّ) وهذه القراءة للباقين من العشرة. انظر المصادر السابقة. (¬3) هكذا هذه الكلمة في (أ)، ولعل الصواب: بَنَى، لما في "الحجة" 3/ 150. (¬4) التعقيب على القراءتين من "الحجة" 3/ 150. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 261. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 37 (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 37، وقد تقدم الحديث في ذلك.

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، قال: وآتاهم أن الخالة كالوالدة، وأن العمة بمنزلة الوالد في وجوب الحق كالوالدة. (¬1) فإذًا العمة والخالة كالوالدة، وتَزّوج المرأة على عمتها وخالتها كتزوجها على أمها. وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}. محل {أَنْ} رفع على البدل من (ما) في قراءة من قرأ {وأُحلَّ} بضم الألف، ومن قرأ بالفتح كان محل (أن) نصبًا. قالوا: ويجوز أن يكون محلّه نصبً على القراءتين بفقد الخافض، كأنه قيل: لأن تبتغوا، ثم حذف الخافض (¬2). والمعنى: أحلّ لكم أن تطلبوا بأموالكم، إما بنكاح وصداق، أو بملك وثمن، وفي هذا دليل على أن الصداق لا يَتَقدّر بشيء؛ لإطلاق قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}، فمن ابتغى بقدر جاز أن يكون ثمنًا في بيعٍ أو أجرة في إجارة فقد استحل. وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ}. أي: متعففين عن الزنا، وهو قول ابن عباس (¬3). وقال مجاهد: ناكحين (¬4)، وهو اختيار الزجاج؛ لأنه (قال) (¬5): ¬

_ (¬1) انتهى كلام أبي إسحاق الزجاج من "معاني القرآن" 2/ 37. (¬2) انظر "معاني الفراء" 1/ 261، الطبري 5/ 11، "معاني الزجاج" 2/ 37، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 446، "الكشف والبيان" 4/ 37/ أ. (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكر المؤلف هذا القول دون نسبة لأحد في "الوسيط" 2/ 501، وانظر الطبري 5/ 11. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 152، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 5/ 11، وهو فيهما بلفظ: متناكحين. وانظر: "الدر المنثور" 2/ 249. (¬5) ما بين القوسين ليس في (أ).

عاقدين التزويج (¬1). وقال الفراء: يقول: أن تبتغوا الحلال (¬2). وقوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. أي: غير زانين. عن مجاهد (¬3)، والسدي (¬4). وقال ابن عباس: السفاح الزنا (¬5). قال الليث: السفاح والمسافحة: أن تقيم امرأة مع رجل على فجور من غير تزويج صحيح، والمُسافِحة: الزانية (¬6). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال لي جبريل: "ما بينك وبين آدم نكاح لا سفاح فيه" (¬7). وأصله في اللغة: من السَّفح وهو الصَّبّ، يقال: سفح الدمع مسفوحًا، وسفح الدم: صبّه، وفلان سفّاحٌ للدماء: أي: سفّاك (¬8). وسمي الزنا سِفاحًا، لأنه ليس ثم حرمةُ نكاح ولا عقد تزويج (¬9)، وإنما يسفح كل واحد من الزانيين نطفته، أي: يصبها ويريقها، فسمي سفاحًا لهذا المعنى. كما سمي مِذًاء من المذي، وكان الرجل في الجاهلية ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 37. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 261. (¬3) "تفسيره" 1/ 152، وأخرجه الطبري 5/ 11 بدون لفظ غير. (¬4) أخرجه الطبري 5/ 11 بلفظ: غير زناة. (¬5) لم أجده إلا في "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 82 بلفظ مجاهد. (¬6) من "تهذيب اللغة" 2/ 1700، وهو في "العين" 3/ 147 (سفح). (¬7) انظر: "العين" 3/ 147، ولم أقف عليه في المصادر الحديثية. (¬8) انظر: "العين" 3/ 147، "معاني الزجاج" 2/ 38، "تهذيب اللغة" 2/ 1699 "الصحاح" 1/ 375 (سفح). (¬9) انظر: "معاني القرآن" 2/ 38، "تهذيب اللغة" 2/ 1700 (سفح).

إذا أراد أن يفجر بالمرأة يقول لها: سافحيني، أو ماذيني (¬1). وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}. قال الحسن ومجاهد وابن زيد وأكثر المفسرين: يعني: فما انتفعتم وتلذّذتم من النساء بالنكاح الصحيح (¬2). قال أبو إسحاق: يريد فما استمتعتم به منهن على عقد التزويج الذي جرى ذكره (¬3). {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. أي: مهورهن، فإن استمتع بالدخول بها آتى (¬4) المهر تامًا، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر (¬5). والاستمتاع في اللغة: الانتفاع، وكل ما انتفع به فهو متاع (¬6). هذا التفسير هو الذي عليه إجماع الفقهاء وعلماء الأمة (¬7). وسُمي المهر في هذه الآية أجرًا لأنه أجر الاستمتاع (¬8). وانتصاب الفريضة ههنا على الحال، أي: مفروضة (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 117 - 118، "تهذيب اللغة" 4/ 326 (سفح). (¬2) أخرج الآثار عن الحسن ومجاهد وابن زيد الطبري 5/ 11 - 12 بلفظ النكاح، وقد أفاد المؤلف لفظه من "الكشف والبيان" 4/ 37/ ب، وانظر: "الوسيط" 2/ 57. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 38 بتصرف. (¬4) في (د): (إلى). (¬5) من "معاني الزجاج" بنصه 2/ 38، وانظر: "الطبري" 5/ 12، "تهذيب اللغة" 4/ 3459 (متع). "الكشف والبيان" 4/ 39/ أ. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 38، "تهذيب اللغة" 4/ 3459 (متع). (¬7) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 118، و"الطبري" 5/ 12، "معاني الزجاج" 2/ 38، "الكشف والبيان" 4/ 39 أ. (¬8) انظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 4/ 39 أ. (¬9) وقيل: مصدر في موضع الحال. انظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 406، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 195.

وقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}. قال عطاء: يريد: إذا سميت المهر بعدّة من الدنانير أو الحيوان، فلا حرج بعد ذلك أن تحطّ من عدة الدنانير أو الحيوان، إذا كان ذلك برضا المرأة (¬1). ففسر هذا التراضي بالحطّ من المهر والإبراء. وقال الزجاج: أي: لا إثم عليكم في أن تَهب المرأة للزوج مهرها، أو يهب الرجل للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول (¬2). وقيل: هذا في الخُلع، يقول: لا جناح عليكم فيما تَفتدي به المرأة نفسها (¬3). وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالاستمتاع في هذه الآية المُتعة (¬4) التي كانت مُباحةً في ابتداء الإسلام، وهو ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما قدم مكة في عمرته، تزين نساء أهل مكة، فشكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقد ورد بمعناه عن ابن عباس وابن زيد. انظر: "الطبري " 5/ 14، "زاد المسير" 2/ 54. (¬2) العبارة في "معاني الزجاج" 2/ 39: أي لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب إلا لمن دخل بها، وهذه العبارة مشكلة؛ لأن غير المدخول بها يجب لها نصف الصداق بلا هبة لقوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]، إلا أن يكون المراد بعبارة الزجاج هذه: نصف المهر الآخر، ويحتمل التصحيف من النساخ، وعلى كلٍّ فعبارة الزجاج عند المؤلف أوضح وأصوب وقد ذكرها في تفسيره الآخر "الوسيط" 2/ 502. (¬3) نحوه مَرويّ عن ابن عباس. انظر: "الطبري" 5/ 14، "زاد المسير" 2/ 52. (¬4) هذا قول لابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم. انظر: الطبري 5/ 12 - 13، "الكشف والبيان" 4/ 37 ب.

إليه العُزبة (¬1)، فقال: "استمتعوا من هذه النساء"، وروي أنه قال: "تمتعوا منهن" (¬2). وكان الرجل في صدر الإسلام يعطي المرأة دينارًا أو دراهم، أو ما كان، مما يتراضيان به، على أن يستمتع بها يومًا أو أسبوعًا، على ما يتراضيان عليه من الأجل، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليه أن يستبرئ رحمها فإن قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك في الأجر كانت المرأة بالخيار، إن شاءت فَعَلت ذلك، وإن شاءت لم تفعل (¬3). قالوا: وذلك قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي: من زيادة الأجل والأجر (¬4). ثم أجمع أكثر هؤلاء على أن هذا الحكم منسوخ (¬5)، إلا ابن عباس وعمران بن حصين (¬6)، فإنهما كانا يريان جواز نِكاح المُتعة (¬7). كان ابن عباس يُفتي بها. ¬

_ (¬1) العُزبة: من العُزوبة، أي البعد عن النكاح والتجرد عن النساء. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 228. (¬2) أخرجه بلفظه الأول أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 73، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 38 ب. (¬3) انظر: "الطبري" 5/ 13 - 14، "الكشف والبيان" 4/ 38 ب، "النكت والعيون" 1/ 471. (¬4) انظر: "النكت والعيون" 1/ 471، "زاد المسير" 2/ 55. (¬5) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 80. (¬6) هو أبو نُجيد عِمران بن حُصين بن عُبيد الخُزاعي أسلم عام خيبر وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان من فضلاء الصحابة ومجابَ الدعوة، مرض فكان على سريره ثلاثين عامًا حتى توفي - رضي الله عنه - سنة 52 هـ وكانت الملائكة تسلم عليه. انظر: "الاستيعاب" 3/ 284 - 285، "أسد الغابة" 4/ 281، "الإصابة" 3/ 26 - 27. (¬7) سيورد المؤلف ما يدل على ذلك عن ابن عباس وعمران بن حصين.

قال عمارة (¬1) مولى الشريد (¬2): سألت ابن عباس عن المُتعة، أسِفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت: فما هي؟ قال: هي المُتعة كما قال الله. قلت: هل لها من عدة؟ قال نعم، عدتها حيضة. قلت: هل يتوارثان؟ قال: لا (¬3). وروى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (¬4): أن ابن عباس كان يُفتي بها، ويغمصُ (¬5) ذلك أهلُ العراق، وأَبَى أن ينكل عن ذلك، حتى طفق بعض الشعراء يقول: أقول للركب إذْ طَالَ الثَّواءُ بنا ... يا صَاحِ هَلْ لَك في فُتيا ابن عباسِ هل لك في رَخصة الأطرافِ ناعمة ... تكون مَثواك حتى رجعة الناس (¬6) ¬

_ (¬1) هكذا في (أ)، وفي "الدر المنثور" 2/ 253: عمار، بدون تاء. (¬2) تابعي ثقة كما في ثقات العجلي. (¬3) أخرجه أبو عُبيد في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 80، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 253 بلفظه، وعزاه لابن المنذر. (¬4) هو أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهُذلي المدني تابعي ثقة ثبت أحد كبار فقهاء المدينة في عصره، جامع بين العلم والصلاح وهو معلم عمر بن عبد العزيز رحمهما الله كان ضرير البصر، وتوفي سنة 94 هـ وقيل غير ذلك. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 111، "مشاهير علماء الأمصار" ص 64، "التقريب" ص 372 رقم (4309). (¬5) غَمِصَ-بفتح الميم وكسرها- يَغمِص غمصًا، وهو الاستصغار أو العيب، انظر "الصحاح" 3/ 1047 (غمص). وفي النسخة (أ) تعليق في الحاشية كلمتين أو ثلاث، لم يتبين، والظاهر أنه شرح لهذه الكلمة الغربية. (¬6) انظر: "عيون الأخبار" 4/ 59، و"تفسير القرطبي" 5/ 133، و"الدر المنثور"=

قال: فازداد لها أهل العلم قَذرًا وبُغضًا، حين قيل فيها الأشعار (¬1) وقال عمران بن حُصين: نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل ولم ينزل آية بعدها تنسخها، وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمتعنا معه، ومات ولم يَنهنا عنه. قال رجلٌ بَعْدُ برأيهِ ما شاء (¬2). وجميع الصحابة على أن المتعة منسوخة حرام (¬3). روى الربيع بن (سَبرة) (¬4) الجهني (¬5)، عن أبيه قال: غدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو قائم بين الركن والمقام، مسندٌ ظهره إلى الكعبة، يقول: "يا أيها الناس إني كنتُ أمرتُكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرَّم عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليُخَلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" (¬6). ¬

_ =2/ 487، و"السنن الكبرى" للبيهقي 7/ 205، و"التمهيد" لابن عبد البر 10/ 117، و"أخبار مكة" للفاكهي 3/ 12. (¬1) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 81، 82، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 38 أ، "الدر المنثور" 2/ 471. (¬2) أخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 38 أ. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 38 أ. (¬4) في (د): (سبر) بالتذكير، والصواب ما أثبته. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 73. (¬5) هو الربيع بن سبرة بن معبد الجهني المدني تابعي ثقة، وثقه النسائي وابن حبان وأخرج حديثه مسلم وأهل السنن، عده ابن حجر من الطبقة الثالثة. ولم تذكر سنة وفاته. انظر: "تاريخ الثقات" 1/ 354، "تهذيب التهذيب" 1/ 592، "التقريب" ص 206 رقم (1891). (¬6) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 73، ومسلم في "صحيحه" كتاب النكاح، باب: 3 نكاح المتعة 2/ 1025 (ح 21)، وفيهما: " .. ألا وإن الله قد حرم عليكم ذلك .. " بزيادة اسم الإشارة، وهو الأصوب.

وروى الحارث بن غُزَيّة (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مُتعة النساء حرام" (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه -: لَنْ أُوتَى برجلٍ منكم نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة (¬3). وروي عن ابن الحَنفيّة (¬4): أن عليًا - رضي الله عنه - مر بابن عباس وهو يفتي بنكاح المتعة أنه لا بأس بها، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها وعن لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر (¬5). قال أبو عبيد: هذا التوقيت يرجع إلى النهي عن لحوم الحُمُر؛ لأن الرخصة في المتعة كانت في عمرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي بعد خيبر، والنهي عن المتعةُ مطلق غير مُؤَقت (¬6). ¬

_ (¬1) هو الحارث بن غزَيّة، وقيل: غزية بن الحارث الأنصاري المدني، صحابي جليل روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "الاستيعاب" 3/ 318، "أسد الغابة" 1/ 410، "الإصابة" 3/ 185. (¬2) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 75. (¬3) جزء من أثر أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 76، ومسلم (1217) كتاب الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة. (¬4) هو أبو القاسم أو أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي من أفاضل أهل البيت، ومن العلماء الثقات، عرف بابن الحنفية نسبة إلى أمه من بني حنيفة. توفي - رضي الله عنه - سنة 73 هـ وقيل بعد الثمانين. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 62، "سير أعلام النبلاء" 4/ 110، "التقريب" ص 497 رقم (6157). (¬5) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 75، والبخاري (5115) بنحوه في كتاب النكاح، باب: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخرا 6/ 129، ومسلم (1407) كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة. (¬6) انظر: "الناسخ والمنسوخ" ص 75.

وكانت عائشة إذا ذُكِر لها المتعة قالت: والله ما نجد في كتاب الله إلا النكاح والاستِسرار، ثم تتلو هذه الآيات الثلاثة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، إلى آخرها (¬1). وقال ابن مسعود: المتعة منسوخة، نسخها الطلاق والصَّداق والعِدّة والميراث (¬2). قال أبو عبيد: فالمسلمون اليوم مُجمعون على أن متعة النساء قد نُسخت بالتحريم، نسخها الكتاب والسنة (¬3). هذا قول أهل العلم اليوم جميعًا من أهل العراق، وأهل الحجاز، وأهل الشام، وأصحاب الأثر، وأصحاب الرأي: أنه لا رُخصة فيها لمضطر ولا غيره. وقد رُوي عن ابن عباس شيء شبيه بالرجوع عنها، وهو ما روى عطاء الخرساني، عن ابن عباس في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قال: نسختها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} أي: بما يُصْلِح أمر العباد (حكيمً) فيما بين (¬5) لهم من عقد النكاح الذي به حُفظت الأموال والأنساب (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 87، وذكره الثعلبي بمعناه في "الكشف والبيان" 4/ 39 أ. (¬2) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 79. (¬3) "الناسخ والمنسوخ" ص 80، وانظر: "البغوي" 2/ 193. (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 83، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 191، 192، وضعفه المحقق إسناده. (¬5) في "معاني الزجاج" 2/ 39: فرض. (¬6) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 39.

25

25 - قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الطَّول: الغنى والسعة (¬1). وقال الفراء: الطّول: الفضل، يقال: طال عليه يطول طَولًا في الإفضال. ولفلان على فلان طَول، أي: فضل (¬2). وقال ابن المظفر والزجاج: الطول: القُدرة (¬3). يقال: فلان ذو طول، أي: ذو قدرة في ماله (¬4)، وقيل في تفسير قوله: {ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] ذي القدرة. وهذه الأقوال كلها في المعنى واحد. وُيراد بالقدرة ههنا القدرة على المهر (¬5)، وأصل الطَّول من الطُّول خِلاف القِصَر (¬6)، وذلك أن الغني يُنال به معاني الأمور، كالطول في أنه يُنال به ما لا ينال بالقِصَر. واشتقاق الطائل من الطول، يقال للشيء إذا لم يكن ذا مَنٍّ يُرغب فيه: هذا شيء غير طائل (¬7). ومنه: ¬

_ (¬1) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 15. والأثر عن ابن عباس في "تفسيره" من طريق علي بن أبي طلحة ص 142، وعن مجاهد في "تفسيره" 1/ 152، وانظر: "زاد المسير" 2/ 55، "الدر المنثور" 2/ 253 - 254. (¬2) لم أجده في "معاني القرآن" للفراء، فلعله في كتابه "المصادر" وهو مفقود، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2156. (¬3) "العين" 7/ 450 (طول)، "معاني الزجاج" 2/ 40، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2156. (¬4) في "العين" 7/ 450 دون لفظ: ماله. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 40، و"تهذيب اللغة" 3/ 2156. (¬6) انظر: "العين" 7/ 450 (طول)، والطبري 5/ 15 - 16. (¬7) انظر: "العين" 7/ 450، و"تهذيب اللغة" 3/ 2156.

لقد زادني حبًّا لنفسيَ أَنَّني ... بغيضٌ إلى كُلِّ امرئ غيرِ طائلِ (¬1) وقوله تعالى:. {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} قال ابن عباس وغيره: يريد الحرائر (¬2). فمن فتح الصاد (¬3) أراد أنهن أُحصِنّ لحريتهن، ولم تُبتذل كالأَمَة، فهن محصَنات، ومن كسر الصاد (¬4) أراد أنهن أحصن أنفسهن لحريتهن، ولم يبرُزن بروزَ الأمة، فهن مُحصِنات (¬5). وتقييد المحصنات ههنا بالمؤمنات، ووصفهن بالإيمان يفيد عند من يقول بالمفهوم أن من وجد طول حرة كتابية لم يكن ممنوعًا عن نكاح الأمَة (¬6)، وإنما يُمنع إذا وجد طَول حرة مؤمنة كما ذكر الله تعالى. هذا مذهب أكثر أصحابنا (¬7). ومنهم من يقول: إذا قدر على طَول حرّة كتابية منع من نكاح الأَمَة، كما لو قدر على طول حرة مؤمنة (¬8). ¬

_ (¬1) البيت للطرماح في "ديوانه" ص 100، و"الأغاني" 12/ 50، و"الحيوان" 3/ 112، و"الشعر والشعراء" ص 585، و"ديوان الحماسة" 1/ 76، و"عيون الأخبار" 3/ 112، و"الوساطة" ص 247، و"المثل السائر" 2/ 353، و"الكشاف" 1/ 531، و"البحر" 3/ 204. (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 143، وأخرجه الطبري 5/ 17. (¬3) أي من: المحصنات، وهذه قراءة الجمهور. (¬4) قراءة الكسائي. (¬5) في توجيه القراءتين ينظر الطبري 5/ 17 - 18. (¬6) أي: المؤمنة. (¬7) انظر "المجموع شرح المهذب" 17/ 344، وقد رجح هذا القول ابن العربي من المالكية في تفسيره "أحكام القرآن" 1/ 393، وانظر: القرطبي 5/ 138. (¬8) هذا ما رجحه الشيرازي، انظر: "المجموع" 17/ 344، والقرطبي 5/ 138.

ويُحتمل هذا التقييد على غالب الحال؛ لأنّ الغالب من نكاح المسلمين مناكحة المسلمات، والخطاب ربما يأتي مقيدًا بغالب الحال، فلا يكون له مفهوم يُخالف المنظوم، كقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، ثم لم يكن الخوف مشروطًا في جواز القصر، ولكنه نزل على الغالب، وكان الغالب من أسفارهم الخوف، ولهذا نظائر (¬1). وقوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. أي: فليتزوج مما ملكت أيمانكم. قال ابن عباس: يريد جارية أخيك في الإسلام (¬2). ولا يجوز للإنسان أن يتزوج جاريةَ نفسِه بالإجماع (¬3)، ومعنى قوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هو أن يتزوج الرجل ما يملك غيره ممّن يكون على مثل حاله من الإسلام. فأباح أن ينكح بعضنا فتاة بعض، كما فسره ابن عباس. وقوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}. الفتيات: المملوكات والإماء. جمع فتاة، تقول العرب للأَمَة: فتاة، وللعبد: فتى (¬4). ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يقولن أحُدكم: عبدي، ولكن لِيَقُل: فتاي وفتاتي" (¬5). ¬

_ (¬1) هذا الاحتمال يرجح القول الأول. (¬2) بمعناه في "تفسير ابن عباس" ص143، وأخرجه الطبري 5/ 19 - 20، وانظر "الدر المنثور" 2/ 253. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 139. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 40. (¬5) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (2249) كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب، حكم إطلاق لفظة العبد.

وقال ابن السكيت: يقال: (تفتّت) (¬1) الجارية، إذا راهقت فخُدِرت (¬2) ومُنِعت من اللعب مع الصبيان. وقد فتيت تفتيةً. ويقال للجارية الحَدثة: فتاة، وللغلام: فتى (¬3). أبو عبيد: الفتاء ممدود مصدر الفِتيّ في السن. وأنشد: إذا عاش الفتى مائتين عامًا ... فقد ذهب اللذاذة والفَتَاء (¬4) فالفتاة الشابة، والفتاة الأمَة، عجوزًا كانت أو شابة (¬5)؛ لأنها كالشابة في أنه لا تُوقر توقير الكبير. وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} أفاد هذا التقييد أنه لا يجوز التزوّج بالأَمَة الكِتابية، سواءٌ كان الزوج حرًا أو عبدًا. وهذا قول مجاهد (¬6)، وسعيد (¬7)، والحسن (¬8)، ومذهب مالك (¬9)، والشافعي (¬10). ¬

_ (¬1) في النسختين: لفتت، والتصويب من "تهذيب اللغة" 3/ 2730 ("فتح الوهاب" للأنصاري). (¬2) أي: ألزمت الخِدر وسُتِرت في البيت. حاشية 2 من "تهذيب اللغة" 3/ 2730 (فتا). (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2730 (فتا). (¬4) "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 333، "تهذيب اللغة" 3/ 2730 (فتا)، والبيت للربيع بن ضبع الفزاري كما عند سيبويه 1/ 208، "اللسان" 6/ 3347 (فتا)؛ ونسبه سيبويه مرة أخرى إلى يزيد بن ضبة. انظر: "الكتاب" 2/ 162. (¬5) انظر: الطبري 5/ 18. (¬6) "تفسيره" 1/ 152، والطبري 5/ 18. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) أورد الأثر عنه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 254، وعزاه لابن أبي شيبة. (¬9) خرج قوله الطبري 5/ 18، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 195، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 140. (¬10) "الأم" 5/ 6، وانظر: "أحكام القرآن" للهراسي 2/ 289، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 140.

ومذهب أهل العراق أنه يجوز التزّوج بالأمَة الكِتابية (¬1). والآية حجة عليهم (¬2). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ}. قال الزجاج: أي: اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم متعبدون بما ظهر، (والله يتولى السرائر والحقائق) (¬3). وقوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. ذكر أهل المعاني الزجاج وابن الأنباري وغيرهما، فيه وجهين: أحدهما: كلكم بنو آدم وولده، فلا يتداخلنكم شموخ وأنفَة من تزّوج الإماء عند الضرورة، فإنكم تتساوون في أنكم بنو آدم. فعلى هذا قوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: في النسَب (¬4). والثاني: أن المعنى: بعضكم يوالي بعضًا، ويُلابس بعضًا في ظاهر الحكم، من حيث شملكم الإسلام، فاجتمعتم فيه، وصرتم متكافئين متماثلين بجمع الإسلام لكم، واستوائكم في حكمه. قال الراعي: فقُلت ما أنا مِمَّن لا يواصِلُني ... ولا ثَوائِي إلا ريثَ أَحْتَمِلَ (¬5) أي: لا ألابس من لا يواصلني ولا أواليه. والمعنى: دينكم واحد فأنتم متساوون في هذه الجهة، فمتى وقع لأحدكم الضرورة جاز له تزّوج الأمَة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 18، والقرطبي 5/ 140. (¬2) انظر: الطبري 5/ 18 - 19. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 40، وما بين القوسين زيادة على ما فيه. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 41، "زاد المسير" 2/ 75. (¬5) "ديوانه" ص 197، "أساس البلاغة" ص 186 (ريث)، وقافيته في الأساس: أرتحل. ومعنى يواصلني: يوافقنى. (¬6) انظر: "معانى الزجاج" 2/ 41

قال الزجاج: ويُقَوِّي هذا الوجه أنه ذكر ههنا المؤمنات من العبيد (¬1) والى هذا أشار ابن عباس في تفسير هذه الآية، فقال: يريد: المؤمنون بعضهم أكفاء لبعض (¬2). قالوا: وإنما قيل لهم ذلك؛ لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفتخر بالأحساب، وتُعَيِّر بالهُجنة، وتُسمي ابن الأَمَة الهَجِين، فأعلمَ الله أن أمر العبيد وغيرهم مستوي (¬3) في باب الإيمان. وإنما حرم التزّوج بالأمة إذا وُجد إلى الحرة سبيل لمعنيين: أحدهما: أن ولد الحُرّ من المملوك (¬4) مملوك لسيدها، فلا يجوز له إرقاق ولده ما دام مستغنيًا. والثاني: أنّ الأَمَة مُستَخدمةٌ في الحاجات، مُمتهنة بكثَرة عِشرة الرجال وذلك شاق على الزوج (¬5). وقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: أي: مهورهن (¬6). {بِالْمَعْرُوفِ}: من غير مَطْل وضِرَار (¬7). والإجماع على أن المهر إنما يدفع إلى مولاها؛ لأنه ملكه، وإنما أضيف الإيتاء إليهن؛ لأنه ثمن بُضعهن، وإذا آتى المولى فقد آتاها؛ لأنه وإن آتاها كان لمولاها انتزاعه منها. ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 41، دون لفظ: ويقوي هذا الوجه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مستوٍ بحذف الياء. (¬4) هكذا في (أ)، ولعل الصواب: المملوكة. (¬5) من قوله: (قالوا: ..) من "معاني الزجاج" 2/ 41 بتصرف يسير. (¬6) الطبري 5/ 19، "الكشف والبيان" 4/ 40 أ. (¬7) "الكشف والبيان" 4/ 40 أ.

وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ} قال ابن عباس وغيره: يريد عفائف (¬1). وهو الحال من قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ} (¬2). وظاهر هذا يوجب أن نكاح الزواني من الإماء حرام. واختلف الناس في نكاح الزواني من الحرائر، وسنذكر ذلك عند قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] والأكثرون على أنه يجوز نكاح الزانية، وأن قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3]، منسوخ بقوله. {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] (¬3). والذي في هذه الآية محمول على الندب والاستحباب. وقوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحَات} أي: غير زواني (¬4). {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} جمع خِدْن، والخِدنْ والخَدِين الذي يُخادنك يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن، وخِدْن الجارية مُخَدَّنها (¬5). قال قتادة والضحاك وأهل التفسير: المُسافِحة التي تؤاجر نفسها مُعلِنَةً بالزنا. يزنين بمن لقيهن من غير ميعاد، ويَسفحن (¬6) مياههن. والتي تتخذ الخِدْن هي التي تزني سرًّا (¬7). ¬

_ (¬1) من أثر في "تفسير ابن عباس" ص 143، وأخرجه الطبري 5/ 20. (¬2) أي: من الهاء والنون هن. انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 195. (¬3) ممن قال بالنسخ سعيد بن المسيب من التابعين. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 100. (¬4) انظر: الطبري 5/ 19، "الكشف والبيان" 4/ 40 أ. (¬5) "العين" 4/ 232، "تهذيب اللغة" 1/ 996 (خدن)، وآخر كلمة جاءت فيهما: مُحدثها، ولعله هو الصواب. (¬6) في (د): (يسفح). (¬7) هذا نحو قول قتادة والضحاك، وقد أخرج الأثرين عنهما الطبري 5/ 20، وانظر: ابن كثير: 1/ 518 - 99.

وكانت العرب في الجاهلية يعيبون الزنا العلانية، ولا يكادون يعيبون اتخاذ الأخدان فجاء الله بالإسلام فهدم ذلك، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬1) [الأعراف: 33]، وقال: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}. وقال الشعبي: الزنا على نحوين خبيثين، أحدهما أخبث من الآخر، فأما الذي هو أخبثهما فالسفاح، وهو الفجور بمن أتاها، والثاني: اتخاذ الخدن، وهو الزنا في السر (¬2). قال قتادة: ونهى الله عن نكاح المُسَافِحة وذات الخِدْن (¬3). وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}. قرئ بالوجهين؛ فمن ضم الألف (¬4) فمعناه: أُحصنّ بالأزواج، على معنى: تَزوجْن (¬5). قاله ابن عباس، وسعيد ابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة (¬6). ومن فتح الألف (¬7) فمعناه: أَسلَمْن (¬8). ¬

_ (¬1) هذا معنى قول لابن عباس أخرجه الطبري 5/ 19 - 20، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 254. (¬2) أخرجه الطبري بنحوه 5/ 20، وانظر: ابن كثير 1/ 518. (¬3) بمعناه عن قتادة، وهو جزء من الأثر المتقدم عنه، وقد أخرجه الطبري 5/ 20. (¬4) هذه القراءة لابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم، وأبي جعفر ويعقوب. انظر "السبعة" ص 231، "الحجة" 3/ 151، "المبسوط" ص 156. (¬5) انظر: الطبري 5/ 21، "الحجة" 3/ 148، 151. (¬6) أخرج أقوالهم الطبري 5/ 23 - 24، وابن كثير 1/ 519، وقد رجح ابن كثير هذا المعنى. (¬7) هذه القراءة لحمزة والكسائي وخلف. انظر: "السبعة" / 231، "الحجة" 3/ 151، "المبسوط" ص 156. (¬8) انظر: الطبري 5/ 21، "الحجة" 3/ 148.

كذلك قال عمر، وابن مسعود، والشعبي وإبراهيم والسدي (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} يريد: زنا (¬2). {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أي: عليهن نصف الحدّ (¬3). والمحصنات ههنا الأبكار اللاتي أحصنهن العفاف (¬4)، وحَدُّهن مائة، ويتنصف ذلك في حق الأمَة إذا زنَت (¬5). وإن حملنا المحصنات على فوات الزوج لم يَسْهُل؛ لأن حدّهن الرجم، ولا يتنصف الرجم، ولا مدخل له في هذا العبيد (¬6). ويقال لم شرط الإحصان في حد الإماء، والإحصان في قوله: {أُحْصِنَّ}، و {أَحصنَّ} على اختلاف القراءتين فُسر بالتزوج والإسلام وليس واحد منهما شرطًا في وجوب الحد على الأَمَة إذا زنت؛ فإن الكافرة إذا زنت كان حدها خمسين جلدة، وكذلك الخالية عن الزوج؟ والجواب: أن من فسر الإحصان ههنا بالإسلام قال: إنها إذا كانت كافرة لم يكن عليها سبيل، إلا بأن ترضى بحكمنا. وإذا كانت مسلمة أقمنا عليها الحد، ففائدة ذكر الإسلام راجعة إلى أصل إقامة الحد مع بيان قَدرِه. ¬

_ (¬1) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 22 - 23. (¬2) الطبري 5/ 24، "الكشف والبيان" 4/ 40 أ. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 123، والطبري 5/ 24. (¬4) لعل قصد المؤلف: الأبكار الحرائر. انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 124، والطبري 5/ 24، "معاني الزجاج" 2/ 41، والثعلبي 4/ 40 أ. (¬5) انظر: الطبري 5/ 24، والثعلبي 4/ 40 أ. (¬6) انظر "معاني الزجاج" 2/ 41

ومن فسر الإحصان بالتزوّج قال: فائدة ذكره ههنا أن الحرة المحصنة بالزوج حدها الرجم، فقيد الله تعالى حكم الأَمَة عند ذكر الحد بالإحصان، إذ لو نص على غير حالة الإحصان بالنكاح لم يبعد أن يَتوهّم مُتوهِّم وجوب الرجم عليها إذا زنت وهي متزوجة، من حيث لم يكن للرجم نصف، كما استوت الحُرّة والأَمَة في قطع السرقة لَمّا لم يكن للقطع نصف (¬1). وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}. الإشارة تعود إلى نكاح الأمَة عند عدم الطول (¬2). وذكرنا معنى العنت والإعنات في اللغة عند قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]. وفسر العنت ههنا: الزنا في قول ابن عباس وسعيد بن جبير وعطية والضحاك وابن زيد (¬3). وبيان هذا ما ذكره المُبرَّد: ذلك لمن خاف أن يحمله شدة الشبَق، والغُلمة على الزنا، فيلقى العذاب العظيم في الآخرة، والحد في الدنيا (¬4). وإنما سمي الزنا العَنَت من المشقة في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 58. (¬2) انظر: الطبري 5/ 24، "معاني الزجاج" 2/ 42، والثعلبي 4/ 40 ب. (¬3) الأثر عن ابن عباس في "تفسيره" ص 143، وأخرجه عنه وعن الباقين إلا ابن زيد الطبري 5/ 24 - 25، وانظر: "زاد المسير" 2/ 58، وقد ذكر أن هذا قول ابن زيد. (¬4) الظاهر أن هذا الكلام ليس للمبرد، فقد قال الزجاج في "معانيه" 2/ 42: قال أبو العباس -وهو المبرد-: (العنت) ههنا الهلاك، وقال غيره: معناه: ذلك لمن خشى أن تحمله الشهوة .. إلخ نحو ما ذكره المؤلف هنا. والله أعلم. انظر. "تهذيب اللغة" 3/ 2585 (عنت).

وقال عطاء: العَنَت المشقة في شدة الغُربة (¬1). وهذا اختيار الزجاج، قال: العنت في اللغة المشقة الشديدة، يقال: أَكَمةٌ عنوت، إذا كانت شاقّة المَصعد (¬2). قال الأزهري: وهذا الذي قاله أبو إسحاق صحيح، فإذا شقّ على الرجل الغربة (¬3) وغلبته الغُلمة، ولم يجد ما يتزوج به حرة، فله أن ينكح أَمَة؛ لأن غلبة الشهوة واجتماع الماء في صُلب الرجل ربما آذى (¬4). وحكى أبو إسحاق، عن بعضهم: قال: معناه أن يعشق الأمَة. قال (¬5): وليس في الآية ذكر العشق، ولكن ذا العشق يلقى عنتًا (¬6). وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. أباح الله تعالى نكاح الأمَة بشرطين: أحدهما: في أول الآية، وهو عدم الطَّول. والثاني: في آخرها، وهو خوف العنت. ثم قال مع ذلك: {وَأَنْ تَصْبِرُوا} يريد: عن تزوج الإماء. قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة (¬7). ¬

_ (¬1) هكذا هذه الكلمة في (أ)، (د) بالغين المعجمة والراء، وقد تكون: العُزبة، بالعين المهملة والزاي. انظر "تهذيب اللغة" 3/ 2585 (عنت). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 42، إلا أنه ليس فيه كلمة (المصعد)، وقد أثبتها الأزهري في "التهذيب" 3/ 2585 (عنت)، فقد يكون الواحدي أخذ عن الأزهري، ويؤيده ما بعده. (¬3) هكذا هذه الكلمة في (أ)، (د) بالغين المعجمة والراء، وقد تكون: العُزبة، بالحين المهملة والزاي. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2585 (عنت). (¬4) في (د) أدى. لعل في الكلام سقطًا أو حذفًا، فالظاهر أنه لم يتم الكلام، وفي "تهذيب اللغة" 3/ 2585 (عنت) -والكلام للأزهرى- ربما أدى إلى العلة الصعبة. (¬5) أي: أبو إسحاق الزجاج. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 42. (¬7) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 25 - 26، وانظر: "زاد المسير" 2/ 59، "الدر المنثور" 2/ 256.

26

{خَيْرٌ لَكُمْ} ألا يصير الولد عبدًا (¬1). 26 - قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية. اختلفت النحوية (¬2) في وجه اللام في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}. فقال الفراء: العرب تجعل اللام التي بمعنى (كي) في موضع (أن) في: أردت وأمرت، فتقول: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم. قال الله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]، وقال في موضع آخر: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14]، وقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} [الصف: 8]، و {أَنْ يُطْفِئُوا} [التوبة: 32]. وإنما صلحت اللام في موضع أن في: أمرت وأردت؛ لأنهما يطلبان المستقبل، ولا يصلحان مع الماضي، ألا ترى أنك تقول: أمرتك أن تقوم، ولا يصلح: أمرتك أن قمت. (وكذلك: أردت أن تقوم، ولا يصلح: أردت أن قمت) (¬3). فلما رأوا (أن) في غير هذين تكون للماضي وللمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكَي وباللام التي على (¬4) معنى كي، (وربما جمعوا بين اللام وكي) (¬5) وربما جمعوا بين ثلاثتهن، وأنشد (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 42. (¬2) هكذا في (أ)، (د). ومراده النُّحاة. (¬3) ما بين القوسين ليس في "معاني القرآن" المطبوع لديّ، فقد يكون ساقطًا منه، وهذا يدل على أهمية "البسيط" في تكميل لبعض الناقص من المصادر المتقدمة. (¬4) في "معاني الفراء" 1/ 262 بدل على: في. (¬5) ما بين القوسين ليس في "معاني الفراء" المطبوع لديّ. (¬6) عند الفراء: وأنشدني أبو ثروان.

أردت لكيما لَا ترى لي عَثرة ... ومن ذا (¬1) الذي يُعطى الكَمال فيكمُلُ (¬2) فجمع بين اللام و (بين) (¬3) كي. وقال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]. وقال الآخر (¬4) في الجمع بينهن: أردتَ لِكَيمَا أنْ تَطِير بِقِربتي ... فتتركُها شنًّا ببَيْداءَ بَلْقَعِ (¬5) وإنما جمعوا بينهما (¬6) لاتفاقهما في المعنى، واختلاف لفظهما (¬7). وأنكر الزجاج أن تقع اللام في معنى (أن)، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (ذى). (¬2) ينظر: "همع الهوامع" 2/ 371، و"خزانة الأدب" 8/ 486، و"اللسان" (أثل)، و"الأمالي" 2/ 46. (¬3) ليس في (د). (¬4) في (أ)، (د) الآ، فقد يكون سقط آخر الكلمة سهوًا من الناسخ. (¬5) البيت غير منسوب في الطبري 5/ 27، "الإنصاف" للأنباري ص 466. وجاء في حاشيته: .. وشنًا: أي يابسة متخرقة، والبيداء: الصحراء التي يبيد سالكها. أي يهلك، والبلقع الخالية. والشاهد منه أن الشاعر أظهر أن بعد: كي. (¬6) في "معاني الفراء" (بينهن) بالجمع، وكذلك بقية الضمائر. (¬7) "معاني الفراء" 1/ 261، 262، وانظر: "تفسير الطبري" 5/ 26 - 28، "معاني الزجاج" 2/ 32، 43،، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 409، "الكشف والبيان" 4/ 40 ب.

أردت لِكَيما يعلمُ الناس أنها ... سراويل سعدٍ (¬1) والوُفود شْهوُد (¬2) فلو كانت بمعنى أن لم تدخل على كي، كما لا يدخل عليها أن. (ومذهب سيبويه وأصحابه أن اللام فى خلت في هذا وأشباهه على تقدير المصدر، أي: الإرادة للبيان) (¬3)، كما قال: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، أي: إن كانت عبارتكم للرؤيا، وكذلك قوله: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] أي: الذين هم رهبتهم لربهم (¬4). وأنشدوا لكُثَيّر: أُريد لأنّسى ذِكرَها فكأنما ... تَخَيَّل لي ليلى بكل سبيلِ (¬5) أي: إرادتي لهذا. فأما التفسير، فقال ابن عباس: يريد الله ليبين لكم ما يبعدكم منه ويقربكم إلى طاعته (¬6). ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج" 2/ 43: قيس بدل: سعد، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 409. وهو الصواب كما سيأتي في الكلام على البيت. (¬2) البيت لقيس بن سعد بن عُبادة في قصةٍ أوردها المُبَرِّد في "الكامل" 2/ 152. خلاصتها: أن ملك الروم بعث رجلًا طويلا إلى معاوية - رضي الله عنه - يتحداه أن يجد أطول منه، وكان قيس بن سعد آيةً في الطول، فبعث إليه معاوية، فلما حضر وعلم الخبر خلع سراويله وأمر الرومي بلبسها فبلغت ثندوته، فخجل الرومي وضحك القوم، لكن قيسًا ليم على ذلك، فقال أبياتًا هذا مطلعها. (¬3) ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج". (¬4) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 43 بتصرف. (¬5) "ديوانه" ص 108، "المحتسب" 2/ 32، والبيت غير منسوب في "الكشف والبيان" 4/ 41 أ. (¬6) لم أقف عليه، وقد ذكر الثعلبي معناه عن عطاء. انظر: "الكشف والبيان" 4/ 41 أ، "معالم التنزيل" 2/ 198.

وقال الكلبي: يريد الله ليبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم (¬1). وقال غيره: يريد الله أن يبين لكم شرائع دينكم ومصالح أمركم (¬2). وقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. قال ابن عباس: يريد دين إبراهيم وإسماعيل، دين الحنيفية (¬3). وقال الزجاج: أي: يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء والذين اتبعوهم من قبلكم (¬4). وقال مقاتل (¬5): ويهديكم سنن الذين من قبلكم من تحريم الأمهات والبنات وكذلك كانت سنّة الذين من قبلكم (¬6). وقال الكلبي: يقول: هكذا حرمت على مَن كان قبلكم من أهل التوراة، والإنجيل، و (الزبور) (¬7)، وسائر الكتب (¬8). فالبيان على قول هذين خاص في المحرمات وإن عم اللفظ؛ لأن الشرائع مختلفة. ¬

_ (¬1) من "الكشف والبيان"4/ 41 أ، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 348، "معالم التنزيل" 2/ 198، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 82 (¬2) قال ذلك الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 41 أ، لكن فيه: أموركم بدل: أمركم. (¬3) لم أقف عليه (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 43. (¬5) هو مقاتل بن حيان كما في "الدر المنثور" 2/ 256. (¬6) ذكره بمعناه السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 348، وأورده السيوطي بلفظه في "الدر المنثور" 2/ 256، وعزاه لابن أبي حاتم في تفسيره، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 41 أ. (¬7) في (أ) كأنها: (الربيون). (¬8) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص82.

27

وقوله تعالى: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}. قال ابن عباس: حتى لا تعرفوا غيره ولا تدعوا معه إلهًا آخر (¬1). وبيان هذا المعنى ما قاله محمد بن جرير: يعني: يرجع بكم من معصيته التي كنتم عليها (¬2) قبل هذا إلى طاعته التي أمركم بها. وإذا فعل بهم ذلك لم يعرفوا غيره إلهًا (¬3). {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يُصلحكم في تدبيره فيكم (¬4). 27 - قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}. قال ابن عباس: يريد أن يخُرجكم من كل ما يكره إلى ما يُحِب ويرضى (¬5). وقال ابن كيسان: والله يأمركم بما فيه المغفرة لذنوبكم. وقال الزجاج: أي: يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم (¬6). وقوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ}. قال ابن عباس: يريد الزنا وما لم يحلّ لكم (¬7). وكذلك قال مجاهد: هم الزناة، يريدون أن يزني أهل الإسلام، وهو قوله: {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 82 (¬2) في (أ): (عليه). (¬3) انتهى من "تفسير الطبري" 5/ 27 بمعناه. (¬4) انظر: الطبري 5/ 27، "الكشف والبيان" 4/ 41 ب. (¬5) لم أقف عليه، وقد أورد المؤلف هذا التفسير دون نسبة لابن عباس في كتابه "الوسيط" 2/ 508. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 43. (¬7) أخرجه ابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 257. (¬8) الأثر في "تفسير مجاهد" 1/ 153 مختصرًا، وأخرجه الطبري بنحوه من طرق. "جامع البيان" 5/ 28، وانظر: "زاد المسير" 2/ 60 , "الدر المنثور" 2/ 257.

وقال السدي: هم اليهود؛ تقول: نكاح الأخت من الأب حلال (¬1). وهو قول مقاتل (¬2). وقال ابن زيد: هم جميع أهل الباطل في دينهم (¬3). وهذا هو الأظهر من هذه الأقاويل؛ لأنه على معنى العموم الموافق لظاهر اللفظ (¬4). وفي هذا دلالة على أن من اتبع شهوته فيما يحل لا يوصف باتباع الشهوة، ولا يُطلق عليه هذا الوصف؛ لأن الله تعالى أطلق على المُبطِلين ممن يتبعون شهواتهم (فيما) (¬5) لا يحل. والشهوات جمع شهوة، والشهوة في الأصل مصدر شهَيت الشيء أشهى شهوةً فهو شهيّ. ورجل شهوات (¬6)، ورجال شَهاوى (¬7). وقوله تعالى: {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]. أي: عن الحق وقصد السبيل بالمعصية مخصوصة (¬8)، بشّرهم الله بأن إرادته فيهم التوبة. وليس فيها دليل على أنه لا يريد كفر الكافر (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 29 بلفظ: هم اليهود والنصارى. وكذلك ابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 257. (¬2) مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 368، وانظر "زاد المسير" 2/ 60. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 29، وانظر: "زاد المسير" 2/ 60. (¬4) هذا هو اختيار ابن جرير. انظر: "تفسيره" 5/ 29. (¬5) في (أ): (فيها) بالهاء. (¬6) هكذا في (أ)، (د): بالتاء، ولعل الصواب بالنون (شهوان)، انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 355، "اللسان" 4/ 2354 (شها). (¬7) في (د): (شهاون)، والصواب ما أثبته. انظر المصادر السابقة. (¬8) يبدو أن في الكلام سقطًا. والله أعلم. (¬9) الله سبحانه يريد كفر الكافر قدرًا ولا يريده شرعًا. انظر "مجموع الفتاوى" 8/ 159.

28

28 - قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}. خص بعضهم التخفيف في هذه الآية، فقال: المراد به نكاح الأمَة عند الضرورة. وهو قول مجاهد (¬1) ومقاتل (¬2). والباقون قالوا: هذا عام في كل أحكام الشرع، وفي جميع ما يَسّره لنا وسهّله علينا إحسانًا منه إلينا، ولم يُثَقِّل التكليف علينا كما ثَقّل على بني إسرائيل بفضله ولُطفه. وعلى العموم دل كلام ابن عباس في تفسيره هذا التخفيف فقال: يريد شدة المئونة يخففها عنكم (¬3). وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]. قال ابن عباس. يَضعُف عن الصبر عن الجِماع (¬4). وبهذا قال أكثرهم. قال الكلبي وطاوس: لا يصبر عن النساء (¬5). وقال ابن كيسان والزجاج: أي: يستميله هواه وشهوته فهو ضعيف في ذلك (¬6). وقال الحسن: هو أنه خلق من ماء مهين (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 153، وأخرج الأثر عنه الطبري 5/ 30، وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر "الدر المنثور" 2/ 257. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" 1/ 368. (¬3) لم أقف عليه، وأنظر "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 83. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف 83. (¬5) ذكر قول الكلبي الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 41 ب. وأخرج الأثر عن طاوس عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 154، والطبري 5/ 30، وابن المنذر وابن أبي حاتم؛ انظر: "الدر المنثور" 2/ 257. (¬6) انظر "معاني الزجاج" 2/ 44، "الكشف والبيان" 4/ 41 ب، 42 أ، "زاد المسير" 2/ 60. (¬7) من "الكشف والبيان" 4/ 41 ب، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 60؛ وانظر: "تفسير الحسن" 1/ 271.

29

29 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. قال أهل المعاني: خص الله تعالى الأكل بالنهي عنه تنبيهًا على غيره؛ لأنه أيضًا لا يجوز جمع المال من الباطل، ولا هِبتُه، ولا التصرف فيه. ولكن المعظم والمقصود من المال الأكل والإنفاق، فنص عليه تنبيهًا على غيره، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} الآية [النساء: 10]، وكما يحرم أكل مال اليتيم بالظلم يحرم إنفاقه في غير الأكل. وقوله تعالى: {بِالْبَاطِلِ} قال ابن عباس: يريد بما لم يحله لكم (¬1). وقال الكلبي: يقول: لا تأكلوها إلا بحقها (¬2). قال أصحاب المعاني: الباطل اسم جامع لكل ما لا يَحلّ في الشرع كالربا والغصب والسرقة والخيانة وكل محرم محظور. نهى بهذه الآية عن جميع المكاسب الباطلة بالشرع. قال الزجاج: حرم الله عز وجل المال، إلا أن يُؤخذ (¬3) على السبيل (¬4) الذي ذكر من الفرائض في المواريث والمهور والتسري (¬5) والبيع والصدقات التي ذُكرت وجوهها (¬6). ثم قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وأجمعوا على أن هذا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقد ذكر المؤلف نحوه في "الوسيط" 2/ 510 دون نسبة لأحد. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في "معاني الزجاج" (يوجد) ولعل المثبت هنا أصوب. (¬4) في "معاني الزجاج" (السبل) بالجمع. (¬5) في (أ)، (د) والشرى، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 44. (¬6) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 44

استثناء منقطع؛ لأن التجارة عن تراض ليست من أكل المال بالباطل (¬1). واختلف القراء في التجارة فرفعها بعضهم (¬2)، على معنى إلا أن يقع تجارة (¬3). ومن نصب (¬4) فعلى تقدير: إلا أن تكون التجارةُ تجارة (¬5)، كما قال: أعينَيّ هَلّا تبكيان عِفاقًا (¬6) ... إذا كان طَعنًا بينهم وعناقًا (¬7) أو يكون على حذف المضاف بتقدير: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، ثم تحذف المضاف وتُقيم المضاف إليه مقامه (¬8). والاختيار الرفع لمعنيين: أحدهما: أن الرفع أدل على انقطاع الاستثناء، وأن الأول محرّم على الاطلاق، والثاني: أن من نصب أضمر التجارة، فقال: معناه: إلا أن تكون التجارة تجارة. والإضمار قبل الذكر ليس بقوي، وإن كان جائزًا (¬9)، ومعنى قوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} هو أن يكون عليه، فذلك باطل لم يدخل فيما أباحه الله من البيع (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 510، "الحجة" 3/ 152، "الكشف والبيان" 4/ 41 أ. (¬2) هذه القراءة لأبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو ابن عامر ويعقوب، انظر: "الحجة" 3/ 152، "المبسوط" ص 156. (¬3) انظر: "الطبري" 5/ 31. (¬4) قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف، انظر "الحجة" 3/ 152، "المبسوط" ص 156. (¬5) "الحجة" 3/ 152، والطبري 5/ 31. (¬6) في (د): (عباقا). (¬7) انظر: "جامع البيان" 3/ 132. (¬8) "الحجة" 3/ 152. (¬9) هكذا في (أ). (¬10) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 510. وابن جرير الطبري اختار خلاف رأي المؤلف ومال إلى قراءة النصب، هذا وإن كان كل من القراءتين صوابًا جائزًا القراءة بهما. انظر: الطبري 5/ 31 - 32.

وقال عطاء في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} يعني: ليس فيها شيء من الربا (¬1) وذلك أن البيع إذا قُصد به الربا قلّ ما يقع التراضي به، وإذا لم يوجد التراضي لم يحلّ. وذهب كثير من أهل التأويل إلى أن التراضي في التجارة أن يكون خيار المتبايعين باقيًا إلى أن يتفرقا عن المجلس (¬2). وهذا قول شريح (¬3) وابن سيرين والشعبي (¬4)، ومذهب الشافعي (¬5)، ويدل على هذا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا لا يتفرقَنّ بيعان إلا عن رضى" (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي: لا يقتل بعضكم بعضًا. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر الطبري 5/ 32، "الكشف والبيان" 4/ 42 ب. (¬3) هو أبو أمية شُرَيح بن الحارث بن قيس الكوفي القاضي الشهير، يقال إنه حكم سبعين سنة وهو ثقة، وقيل إن له صحبة، وكان قائفًا شاعرًا، مات سنة 78 هـ وقيل بعدها. انظر "مشاهير علماء الأمصار" ص 99، "سير أعلام النبلاء" 4/ 100، "التقريب" ص 265 رقم (2774). (¬4) أخرج قول شريح والشعبي الطبري 5/ 32 - 33، أما ابن سيرين فهو الراوي عن شريح كما في الطبري. (¬5) انظر: "الأم" 3/ 4، "سنن الترمذي" 3/ 539. (¬6) أخرجه الطبري من حديث أبي قلابة 5/ 34 وهو مرسل؛ لأن أبا قلابة تابعي كما نبه على ذلك أحمد شاكر -رحمه الله- وعزاه أيضا للبيهقي في "السنن الكبرى" وقد أخرج أبو داود (3458) كتاب البيوع، باب: في خيار المتبايعين حديث أبي هريرة ولفظه: لا يفترقن اثنان إلا عن تراض 3/ 737، وأخرج الترمذي (1248) كتاب البيوع، باب: 27؛ وقال: حيث غريب، والطبري 5/ 34.

وهذا قول عطاء (¬1)، والحسن (¬2)، والكلبي (¬3)، والزجاج (¬4)، والأكثرين (¬5) وإنما قال: (أنفسكم) لأنهم أهل دين واحد، فهم كالنفس الواحدة، فجرى على قول العرب: قتلنا وربّ الكعبة. إذا قتل بعضهم؛ لأن قتل بعضهم كالقتل لهم (¬6). وذهب قوم إلى أن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه، فقال أبو عبيدة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} لا تهلكوها (¬7). ويؤيد هذا حديث عمرو بن العاص (¬8)، وهو أنه احتلم في بعض أسفاره، وخاف الهلاك على نفسه من الاغتسال، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما رجع ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فتيممت وصليت، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئًا (¬9). ¬

_ (¬1) هو عطاء بن أبي رباح وقد أخرج الأثر عنه الطبري 5/ 35. (¬2) من "الكشف والبيان" 4/ 42 ب، وانظر "زاد المسير" 2/ 61، "تفسير الحسن" 1/ 272. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 83 (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 44. (¬5) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، والطبري 5/ 35، و"بحر العلوم" 1/ 249، والثعلبي 4/ 42 ب، و"زاد المسير" 2/ 61. (¬6) انظر: "الطبري" 5/ 35، "بحر العلوم" 1/ 349. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 124، وانظر: "زاد المسير" 2/ 61. (¬8) هو أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، تقدمت ترجمتة (¬9) أخرجه الإمام أحمد 4/ 203، والبخاري تعليقًا بصيغة التمريض 1/ 454 كتاب التيمم، باب: 7 إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت ..... ، وأبو داود =

30

والقول الأول أظهر، وهذا الثاني يدخل تحت دلالة الأول؛ لأنه إذا حرم عليه قتل غيره من أهل دينه؛ لأنه بمنزلة نفسه، فقد حرم عليه قتل نفسه. 30 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} الآية. كان ابن عباس يقول: الإشارة تعود إلى كل ما نُهي عنه من أول سورة النساء إلى هذا الموضع (¬1). فعلى هذا الوعيد راجع إلى جميع المحرمات السابقة في هذه السورة. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أفي كل ذلك؟ قال: لا، ولكن في قتل النفس (¬2). فالوعيد على قول عطاء خاص في قتل النفس المُحرمة، ووجهه أنه يرده إلى أقرب مذكور إليه (¬3). وقال قوم: الوعيد راجع إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة، فالوعيد بكل واحدة من الخصلتين. وهذا اختيار الزجاج، قال: وعد الله عز وجل على أكل المال ظلمًا، وعلى القتل عدوانًا النار. قال: ومعنى العدوان أن يعدوا ما أُمِر به (¬4). والأظهر هذا القول؛ لاتصال الوعيد بذكر النهي عن الأمرين. وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} يقال: يسر الشيء فهو ¬

_ = (434) كتاب الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟ والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 42/ ب، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 513. (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 62، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 83. (¬2) أخرجه بمعناه الطبري 5/ 36، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 2/ 260. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 410. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 44. لكن آخر كلام الزجاج: وعلى القتال النار.

يسير، وهو ضد عسير (¬1). ومعناه أنه قادر على المتوعد لا يتهيأ له الامتناع منه ولا الهرب عنه فيتعذر الإيقاع به (¬2). 31 - قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية. الاجتناب والتجنّب والمجانبة المُباعدة عن الشيء وتركه جانبًا (¬3)، قال: وقالت تَجَنَّبنا ولا تَقْرَبنَّنا ... فَكَيف وأنتم حاجَتِي أَتَجَنَّبُ (¬4) وسنذكر هذا ملخصًا عند قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] إن شاء الله. واختلفوا في الكبائر ما هي؟ فروى عبد الله بن عمرو (¬5) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائر: الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين، وقتال النفس" (¬6). وروى أبو هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الكبائر أولهن الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بِدارًا أن يكبَروا، وفرارٌ يوم الزحف، ورمي المحصنة، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 45. (¬2) انظر: "الطبري" 5/ 36. (¬3) انظر: "اللسان" 2/ 692 (جنب). (¬4) البيت ليزيد بن مفرغ الحميري في "ديوانه" ص 44، وبلا نسبة في "الأغاني" 18/ 278، و"الحماسة" 2/ 103، ومنسوبًا في "وفيات الأعيان" 6/ 352. (¬5) هو أبو محمد أو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي صحابي فاضل، أسلم قبل أبيه وكان عالمًا بالقرآن والكتب المتقدمة ومن كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعد من العبادلة الفقهاء، توفي -رحمه الله- سنة 65هـ. انظر: "أسد الغابة" 2/ 348، "سير أعلام النبلاء" 3/ 80، "الإصابة" 2/ 351. (¬6) أخرجه البخاري (6675) كتاب الإيمان والنذور، باب: اليمين الغموس. (¬7) أخرجه بمعناه البخاري (2766) كتاب الوصايا، باب: 23 قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} 3/ 195، ومسلم (89) كتاب الإيمان، باب: =

وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كل شيء عُصِي اللهُ فيه فهو كبيرة، فمن عمل منها شيئًا فليستغفر الله، فإن الله لا يُخلّد في النار من هذه الأمة إلا راجعًا عن الإسلام، أو جاحد فريضة، أو مكذبًا بقدر (¬1). وقال في رواية علي بن أبي طلحة: هي كل ذنب ختمه الله عز وجل بنار، أو غصب، أو لعنة، أو عذاب (¬2). وهذا قول الحسين (¬3) وسعيد بن جبير والضحاك. قالوا: كل مما جاء في القرآن مقرونًا بذكر الوعيد فهو كبير، نحو قتل النفس المحرمة، وقذف المحصنة، والربا، والزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف (¬4). وروى السدي، عن أبي مالك، قال: ذكروا الكبائر عند عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن مسعود: افتتحوا سورة النساء، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية (¬5) فهو كبيرة. ¬

_ = بيان الكبائر 1/ 92 (ح 145). وأخرجه بهذا اللفظ الثعلبي -شيخ المؤلف- في "الكشف والبيان" 4/ 44، 45. (¬1) أخرجه من أوله إلى قوله: فهو كبيرة الطبري 5/ 41. وقد ضعف هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 66. (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 144، وأخرجه ابن جرير 5/ 41. (¬3) هكذا والظاهر أن الصواب: الحسن. انظر: "زاد المسير" 2/ 66، وابن كثير 1/ 531. (¬4) أخرجه عن سعيد بن جبير والضحاك بمعناه دون التمثيل بقتل النفس وما بعده من الطبري 5/ 42، وانظر "زاد المسير" 2/ 62. (¬5) في (أ): (أنه)؛ ولعله تصحيف، فهو مخالف للآثار الواردة.

ثم قال: مصداق ذلك: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية (¬1) وإلى هذا القول ذهب مقاتل (¬2). والصحيح أنه ليس لها حدّ يعرفه العباد وتتميّز به من الصغائر تميُّزَ إشارة، ولو عُرف ذلك لكانت الصغائر مباحة، ولكن الله تعالى يعلم ذلك وأخفاه عن العباد، ليجتهد كل أحد في اجتناب ما نهى عنه رجاء أن يكون مجتنب الكبائر. ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة. يؤكد هذا ما رُوي عن ابن جبير أنه قال: سأل رجل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السّبعمائة أقرب، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار (¬3). وقال السدي: الكبائر ما رآه الناس بينهم فاحشة قبيحة. وذهب في هذا إلى معنى اللفظ، وذلك أن حقيقة الكبائر ما كَبُر وعظُم من الذنوب. قاله الزجاج (¬4). وقوله تعالى: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. السيئات المكفّرة باجتناب الكبائر هي ما دون الكبائر، والمعاصي مما يجتمع في عمله أهل الصلاح وأهل الفسق، مثل النظرة والكذبة واللمسة والقُبلة، وأشباه ذلك. وهذه تقع ¬

_ (¬1) أخرجه من طريق السدي الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 45 أ، ب، وأخرجه من طرق أخرى بنحوه الطبري 5/ 37، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد بلفظ قريب من هذا اللفظ. انظر "الدر المنثور" 2/ 260. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" بن سليمان 1/ 369، "بحر العلوم" 1/ 349. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 41، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 261. (¬4) "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 45.

مكفّرةً بالصلوات الخمس، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت (¬1) الكبائر" (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}. وقرئ (مَدخلا) (¬4) بفتح الميم. وهو بعد قوله: {وَنُدْخِلْكُمْ} محتمل أمرين: أحدهما: أن يكون مصدرًا وتضمر له فعلًا دلّ عليه الفعل المذكور، وانتصابه بذلك الفعل المضمر. والتقدير: وندخلكم فتدخلون مَدْخَلًا. والثاني: أن يكون مكانًا، كأنه قال: وندخلكم مكانًا. وهو على هذا التقدير منتصب بهذا الفعل المذكور (¬5). ومن قرأ بضم الميم جاز أن يكون مكانًا، وأن يكون مصدرًا، فإن جعلته مصدرًا جاز أن تريد مفعولًا محذوفًا من الكلام، كأنه: وندخلكم الجنة مدخلًا كريمًا، أي إدخالًا كريمًا (¬6). والأشبه على القراءتين أن يكون مكانًا؛ لأن المفسرين قالوا في قوله: {مُدْخَلًا كَرِيمًا}: هو الجنة (¬7)، ولأنا رأينا المكان وصف بالكريم، ¬

_ (¬1) في (أ): (ما اجتنب). (¬2) هذه الكلمة ليست في (د). (¬3) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر" (233) كتاب الطهارة، باب: 5 الصلوات الخمس. (¬4) هذه القراءة لأبي جعفر ونافع. انظر: "الحجة" 3/ 153، "المبسوط" ص 156، "النشر" 2/ 249. (¬5) الوجهان لهذه القراءة من "الحجة" 3/ 153، 154 بتصرف. (¬6) انظر: "الحجة" 3/ 154. (¬7) انظر: "الطبري" 5/ 45 - 46

32

وهو قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 26]، فوصف المكان بالكريم، فكذلك يكون قوله: {مُدْخَلًا} يراد به المكان مثل المقام. ويجوز أن يكون المراد به الدخول أو الإدخال؛ فإن (¬1) كان قد وصف بالكريم، ويكون المعنى: دخولًا تكرمون فيه، خلاف من قيل فيهم: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] الآية (¬2). ومعنى الكريم: الشريف الفاضل، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الحجرات: 13] أي أفضلكم، وقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] أي شرفناهم وفضلناهم، ومنه قوله: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] أي فضلت. وزدنا بيانًا لمعنى الكريم في سورة الأنفال، عند قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]. 32 - قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}. التمني في اللغة: تقدير ما يحب على جهة الاستمتاع به. وقد مضى القول فيه عند قوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. قال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله: يغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا كنا رجالًا، فجاهدنا وغزونا، وكان لنا مثل أجر الرجال. فنزلت هذه الآية (¬3). ¬

_ (¬1) في "الحجة" 3/ 154 - والكلام من قوله: والأشبه- له وجاء هذا الحرف (وإن) وهو أصوب. (¬2) انتهى من "الحجة" 3/ 154. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 156، والترمذي (3022) كتاب تفسير القرآن، باب: 5 من سورة النساء، وقال: هذا حديث مرسل، والطبري 5/ 46 - 47, والحاكم في "المستدرك" 2/ 305، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 154.

وهذا قول أكثر المفسرين. قالوا: وفي هذه الآية: أن يتمنى أحد مال غيره ومنزل غيره، فإن ذلك هو الحسد. وقد جاء: لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل: اللهم ارزقني، اللهم أعطني مثله (¬1). وهذا النهي نهي تحريم عند أكثر العلماء. وليس لأحد أن يقول: ليت مال فلان لي، وانما يجوز أن يقول: ليت مثله لي (¬2). وقال الفراء: هذا نهي أدب وتنزيه، دون تحريم (¬3). والصحيح هو الأول؛ لأنه لا يُعدل بصيغة النهي عن معناه إلا بقرينة. وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}. قال ابن عباس في رواية عطاء: {مِمَّا اكْتَسَبُوا} يريد الجهاد، وما لا يصلح للنساء. {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} يريد حفظ فروجهن، وطاعة (زوجهن) (¬4)، وحفظه إذا غاب، وترقع وتصنع في بيتها، نظرًا منها لزوجها مثل العجين والطبيخ وما يصلح في معايشه، ولها في ذلك ثواب عظيم (¬5). فالنصيب على هذا معناه الثواب، أي لكل واحد من الفريقين حظ من الثواب. ¬

_ (¬1) ذكر هذا الأثر الفراء في "معاني القرآن" 1/ 265، وقد ورد بلفظ مقارب منسوبًا لابن عباس والكلبي. انظر: الطبري 8/ 261، "بحر العلوم" 1/ 350، "الكشف والبيان" 4/ 48 ب. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 38 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 1/ 264. (¬4) في (د): (أزواجهن) بالجمع. (¬5) لم أقف عليه، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 524 دون نسبة، وثبت عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: يعني ما ترك الوالدان والأقربون: يقول: للذكر مثل حظ الأنثيين. "تفسير ابن عباس" ص 145، والطبري 5/ 49.

وقال قتادة ومقاتل والسدي: قالت الرجال: إنا لنرجو أن نُفَضَّل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فُضِّلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا. فأنزل الله عز وجل: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} من الثواب والعقاب {وَلِلنِّسَاءِ} كذلك (¬1). فسوى بين الفريقين في الثواب والعقاب، واستحقاقهم إياهما بالاكتساب. ولأصحاب المعاني في هذا وجه آخر: يقول: لكل فريق من الرجال والنساء نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يقنع به رضًى بما قسم الله له، ولا يتمنى مال غيره. وقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}. أي إن احتجتم إلى ما لغيركم (وأجبكم) (¬2) أن يكون لكم مثل ما له فاسألوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سلوا الله من فضله، فإنه يحب أن يُسأل" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج الأثر عن قتادة الطبري 47 - 48 بنحوه وذكر الأثر عنه وعن السدي الثعلبى في "الكشف والبيان" 4/ 48 ب، وانظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" 1/ 369 , "الدر المنثور" 2/ 267. (¬2) ورد في الأصل، ولعله تصحيف من الناسخ والصواب (أحبيتم). (¬3) انظر: "النكت والعيون" 1/ 478. (¬4) أخرجه الترمذي (3571) كتاب الدعوات، باب: في انتظار الفرج وغير ذلك، وتكلم في إسناده، والطبري 5/ 49، وفيه ضعف وانظر: "ضعيف الجامع" 3/ 221.

33

قال أبو علي: (من) في قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} في موضع المفعول الثاني في قول أبي الحسن، ويكون المفعول الثاني محذوفًا في قياس قول سيبويه، والصفة قائمة مقامه (¬1)؛ كأنه قيل: واسألوا الله نعمه وفضله. 33 - وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية. أراد: ولكل واحد من الرجال والنساء، جعلنا موالي. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: أي عصبة (¬2). وقال السدي: أي ورثة (¬3). ومضى الكلام في المولى، واشتقاقه في اللغة. وقوله تعالى: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فيه قولان: أحدهما: أن (من) في قوله (مما) متعلق بمحذوف، ذلك المحذوف من صفة المولى، كأنه قيل: لكل جعلنا ورثة يرثون، أو يُعطَون مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له. والوالدان والأقربون على هذا هم الذين ماتوا وورثهم المعني بقوله. {وَلِكُلٍّ}، والألف واللام في الوالدان والأقربون بدل عن الكناية، كأنه قيل: مما ترك والداه وأقربوه، كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] أي مأواه. ¬

_ (¬1) "الحجة" 2/ 214. (¬2) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 50 - 51، وأخرج قولًا لابن عباس كقول السدي الآتي وأن المراد الورثة، ونسب هذا القول لهم جميعًا الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 479، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 509. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 51 بلفظ: هم أهل الميراث، وورد نحوه عن ابن عباس انظر: الطبري 5/ 50، والقولان متقاربان، وقد رجح الماوردي الثاني، انظر: "النكت والعيون" 1/ 479.

الثاني: أن قوله: {مِمَّا تَرَكَ} في صفة (موالي) (¬1)، أي: موالي ممن تركهم وخلّفهم الميت، ثم فسر الموالي فقال: {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} أي هم هؤلاء. و (ما) على هذا القول بمنزلة (مَن)، والوالدان والأقربون هم الوارثون. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون المعنى: ولكل شخص جعلنا ورثةً ممن تركهم والداه وأقربوه، أي: تشعبت العصبة والورثة عن الوالدين والأقربين (¬2). والوالدان والأقربون (¬3) مرتفعة بالفعل الذي هو الترك. وعلى القولين اللذين ذكرنا يجوز أن يُعنى بقوله: (ولكل) المال والميراث فيكون المعنى على القول الأول: ولكل مال وميراث مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي عصبة وورثة يرثونه، وعلى هذا يكون قد فصل بين الصفة والموصوف بقوله: {جَعَلْنَا مَوَالِيَ}. وعلى القول الثاني يكون المعنى: ولكل مال مما ترك الميت جعلنا ورثة، ثم ابتدأ (فقال) (¬4): {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} أي هم هؤلاء، وقوله تعالى: {جَعَلْنَا مَوَالِيَ} فاصل أيضًا، وجملة هذا أنك إذا فسرت الكل بالشخص كان (من) في قوله (مما) متعلقًا بمحذوف، أو صفة لموالي، وإن (فسرته) بالمال كان في صفة (لكل)، مفصولًا بينه وبين الموصوف بقوله: {جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، فتدبّره تفهم إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في (أ): (موال). (¬2) انظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 412، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 196 , "الكشف والبيان" 4/ 49 أ، "غرائب التفسير" 1/ 294، "البيان" 1/ 252. (¬3) في (د): (والأقربين). (¬4) ليس في (د).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. هم الحلفاء (¬1) في قول الجميع (¬2). ويجوز أن يُعطف على: {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬3) فيكون حكم الحُلفاء كحكم الوالدين والأقربين، في كونهم وارثين أو موروثين، على ما بينّا. وقوله تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}. الكناية تعود إما إلى الموالي، أو إلى الوالدان والأقربون والحلفاء إذا جعلناهم وارثين، إلا أن المفسرين يحملون قوله: {والذين عاقدت أيمانكم} على الابتداء، ولا يعطفونه (¬4) على ما قبله. قالوا: وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل، ويقول له: دمي دمك، ويرثني وارثك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسِلمي سِلمك فلما قام الإسلام جعل للحليف السدس (¬5). واختلف القراء في قوله: {عَاقَدَت}، فقرأ أهل الكوفة (عَقَدَتْ) (¬6) بالتخفيف من غير ألف. ¬

_ (¬1) في (د): (الخلفاء)، وما أثبته هو الصواب. (¬2) انظر "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، الطبري 5/ 51 - 52، "معاني الزجاج" 2/ 46، "بحر العلوم" 1/ 351، "الكشف والبيان" 4/ 49 ب. (¬3) ممن قال بجواز العطف العكبري في "إملاء ما من به الرحمن بهامش الفتوحات الإلهية" 2/ 239، وقد استبعد أبو حيان هذا الوجه. انظر: "البحر المحيط" 3/ 238، "الدر المصون" 3/ 669. (¬4) في (أ): (ولا يعطونه). (¬5) انظر: "جامع البيان" 5/ 51 - 56، "معاني الزجاج" 2/ 46، "بحر العلوم" 1/ 351، "الكشف والبيان" 4/ 49 ب. (¬6) لعاصم وحمزة والكسائي وخلف. انظر: "الطبري" 5/ 51، "الحجة" 3/ 156, "المبسوط" ص 156، "النشر" 2/ 249.

والباقون (عَاقَدَت) بالألف (¬1). وهذا أشبه بهذا المعنى؛ لأن لكل نفر من المعاقدين يمينًا على المُخالفة (¬2)، وجعل الأيمان في اللفظ هي المعاقدة، والمعنى على الحالفين الذين هم أصحاب الأيمان، فالمعنى: والذين عاقدت حلفهم أيمانُكم. حذف الذكر للعائد (¬3) من الصلة إلى الموصول. وهؤلاء الذين قرأوا في المفاعلة حملوا الكلام على المعنى، حيث كان من كل واحد من الفريقين يمين. ومن قرأ (عَقَدَتْ) كان المعنى: عقدت حلفَهم أيمانكم، كالأول، إلا أنهم حملوا على لفظ الأيمان، لأن الفعل لم يُسند إلى أصحاب الأيمان في اللفظ، إنما أُسنِد إلى الأيمان (¬4). والأيمان ههنا يحتمل أن يكون جمع يمين من اليد، ويحتمل أن يكون من القَسَم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد، ويتحالفون عليه أيضًا (¬5). وقوله تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}. أي حظهم من الميراث. عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعامر والضحاك (¬6). ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. ¬

_ (¬1) انظر المصادر السابقة. (¬2) في (د): (المحالفين). (¬3) في (د): (العائد). (¬4) انتهى توجيه القراءتين من "الحجة" 3/ 156، 157 بتصرف، وانظر: الطبري 1/ 51. (¬5) من "الكشف والبيان" 4/ 49 أ - ب بتصرف. (¬6) أخرج الآثار عنهم إلا عامرًا الطبري 5/ 52 - 53، وعامر هذا لعله الشعبي، وقد يكون تصحف عن عكرمة، فقد أخرج له الطبري أثرًا يدل على قوله بذلك. وانظر: ابن كثير 1/ 534 - 535.

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد السراج، أخبرنا أبو الحسن الكارزي، أخبرنا علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء الخرساني، عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُم} قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول: يرثني وارثك، نسختها {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] (¬1). وقال مجاهد في هذه الآية: كان حلف في الجاهلية، فأُمِروا أن يُعطوهم نصيبهم من المشورة والنصر والرفد، ولا ميراث (¬2). وعلى هذا لا يكون في الآية نَسخٌ لقوله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ولما رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة: "ما كان من حِلف في الجاهلية فتمسّكوا به؛ فإنه لم يزده الإسلام إلا شِدّة. ولا تُحدثوا حلفًا في الإسلام" (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "شهدت حلف المطيبين (¬4) وأنا غلام مع عمومتي، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 226، وجاء نحوه عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة في "تفسيره" ص 145، وأخرجه الطبري 5/ 52. (¬2) بنحوه في "تفسيره" 1/ 154، وأخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 225، والطبري 5/ 54 بلفظ قريب من هذا اللفظ، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 49 ب. (¬3) هذا حديث مركب من حديثين أخرجهما الطبري، الأول -عن طريق قيس بن عاصم- قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام". والثاني -من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم فتح مكة: "فوا بحلف، فإنه لا يزيده الاسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حِلفا في الاسلام" "جامع البيان" 5/ 55 - 56. (¬4) هو حلف اجتمع فيه بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم. "المستدرك" 2/ 220 حاشية (1).

فما أحب أن لي حُمر النَّعم وأني أنكثُه" (¬1). وقال سعيد بن المسيب في هذه الآية: إنما أنزل الله ذلك في الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم وُيوَرِّثونهم، فأنزل الله فيهم أن يُجعل لهم نصيب من الوصية، ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة، وأبى الله أن يجعل للمدّعَين (¬2) ميراثًا ممن (¬3) ادعاهم، ولكن جعل لهم نصيبًا من الوصية مكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليهم فيه أمرهم (¬4). وبمثل هذا قال الحسن (¬5)، واختار (¬6) ابن كيسان، فقال في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}: هم (¬7) الأدعياء، وكان لهم ميراث الأولاد، فلما نزلت المواريث لم يذكروا فيها، فأوصى الله بهم (¬8). فقد حصل في قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثلاثة أقوال، الأول: من الميراث، ثم نُسخ. والثاني: من النصر، والثالث: من الوصية، ولم ينسخ على هذين. ¬

_ (¬1) الحديث من رواية عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أخرجه الإمام أحمد 1/ 190، والطبري 5/ 56، والحاكم في "المستدرك" 2/ 220، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: "صحيح الجامع" 3/ 230. (¬2) في (د): (للموصين). (¬3) في (د): (من). (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 227، والطبري 5/ 55، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 50 أ، وانظر: "المسير" 2/ 72. (¬5) لم أقف عليه، وقد أخرج الطبري عن الحسن خِلافه وأن المراد بالآية الحُلفَاء الذين يتوارثون في الجاهلية فنسخ الله ذلك. انظر: الطبري 5/ 52. (¬6) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: واختاره. (¬7) في (د): (هي). (¬8) لم أقف على قول ابن كيسان هذا.

34

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}. قال عطاء: يريد: لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ (¬1). 34 - قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}. قال المفسرون: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تطلب القصاص فنزلت هذه الآية (¬2). ومعنى {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}: متسلطون (¬3) على تأديبهن والأخذ فوق أيديهن (¬4). قال ابن عباس: يعني أمِّروا عليهن، فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله (¬5). والقوّام المبالغ في القيام، يقال: هذا قَيِّم المرأة وقوّامها، الذي يقوم بأمرها ويحفظها (¬6). أنشد الزجاج: الله بيني وبين قيِّمها ... يفرّ مني بِهَا وأتَّبِعُ (¬7) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ورد في ذلك آثار عن التابعين كالحسن وقتادة، ومن بعدهم كالسدي وابن جريج ومقاتل والكلبي. انظر: "الطبري" 5/ 85، "بحر العلوم" 1/ 351، "الكشف والبيان" 4/ 50، "أسباب النزول" للمؤلف ص 155 - 156، وذكر السيوطي بعض هذه الآثار في "لباب النقول" ص 68، وقال عَقِبها: فهذه شواهد يقوي بعضها بعضًا. وانظر "الدر المنثور" 2/ 270. (¬3) هذه الكلمة غير واضحة تمامًا، وكأنها: يُسَلّطون والمعنى واحد، وفي "الوسيط" للمؤلف 2/ 527، جاءت هذه الكلمة: مُسلطون. (¬4) انظر: "الطبري" 5/ 57، "الكشف والبيان" 4/ 50 ب. (¬5) بنحوه ثابت عن ابن عباس في "تفسيره" ص 146، وأخرجه الطبري 5/ 57، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" (271)، "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 246. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 50 ب (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 47، والبيت للأحوص بن محمد الأنصاري كما في "الشعر =

قالوا: وليس بين الزوج والمرأة قصاص إلا في النفس والجرح. وقال الزهري: لا قصاص بينهما إلا في النفس، فأما في الجِراحة فالدية ولا قِصاص (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب القصاص على الزوج باللّطْم، فلما نزلت هذه قال: "أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا، والذي أراد الله خير" ورفع القصاص (¬2). وقوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. قال ابن عباس: يريد الله بما فضل الله الرجال على النساء (¬3). قالوا: بالعقل والعلم والعزم والقوة في التصرف والجهاد والشهادة والميراث (¬4). ¬

_ = والشعراء" لابن قتيبة ص 345، وقد استشهد به ابن جني في "الخصائص" 2/ 128 دون نسبة، والبيت في الغزل. وانظر: "غرائب التفسير" 1/ 295. (¬1) معنى الأثر عنه أخرجه الطبري 5/ 58، وابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 271. (¬2) أخرجه بنحوه من حديث علي - رضي الله عنه - ابن مردويه. انظر: "الدر المنثور" 2/ 270، وابن جرير عن الحسن مرسلًا 5/ 58، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، انظر: "الدر المنثور" 2/ 270 - 271، وذكره بهذا اللفظ عن مقاتل الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 50 أ، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 155 - 156. (¬3) الأثر الوارد عن ابن عباس: فضله عليها بنفقته وسعيه، أخرجه الطبري 5/ 59 من طِريق ابن أبي طلحة، أي فضل الرجل على المرأة، فلعل المؤلف أراد معنى قول ابن عباس. وأخرج هذا الأثر ابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 271. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 47، "بحر العلوم" 1/ 351، "الكشف والبيان" 4/ 50 ب، "زاد المسير" 2/ 74.

وقوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. يريد المهور والإنفاق عليهن، فالرجل له الفضل على امرأته بما ساق إليها من المهر وبما أنفق عليها من ماله (¬1). وقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}. قال المفسرون: مطيعات لأزواجهن (¬2). وأصل القنوت دوام الطاعة (¬3). وقال الزجاج: قيمات بحقوق أزواجهن (¬4). وظاهر هذا إخبار، وتأويله الأمر لها بأن تكون طائعة (¬5). ولا تكون المرأة صالحة إلا إذا كانت مُطيعةً لزوجها؛ لأن الله تعالى قال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} أي: الصالحات من اللواتي يُطِعن أزواجهن. والقنوت لفظ الطاعة. وهو عام في طاعة الله، وطاعة الزوج (¬6). وقوله تعالى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}. قال ابن عباس: يعني لا تدخل منزله من يكره، ولا تُوطئ فراشه أحدًا غيره، وتحفظه في نفسها وفيما يحق له بما استودعها الله (¬7). وقال قتادة وعطاء وسفيان (¬8): أي حافظاتٌ لما غاب عنه أزواجهن ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 57، "معاني الزجاج" 2/ 47. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 146، "تفسير مجاهد" 1/ 155، الطبري 5/ 59، "بحر العلوم" 1/ 352، "الكشف والبيان" 4/ 51/ أ. (¬3) انظر: الطبري 5/ 59، "تهذيب اللغة" 3/ 3054، "مقاييس اللغة" 5/ 31 (قنت). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 47. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 170. (¬6) انظر: "الطبري" 5/ 59، "بحر العلوم" 1/ 352. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) لم يتبين هل هو سفيان الثوري أو سفيان بن عيينة، والراوي عن سفيان هنا هو ابن المبارك كما عند الطبري 5/ 60، وابن المبارك يروي عن الرجلين، انظر "سير أعلام النبلاء" 7/ 235، 8/ 456.

من المال، وما يجب من ضيافة (¬1) نفسها له (¬2). وقال أبو روق (¬3): يعني يحفظن فروجهن في غيبة أزواجهن (¬4). والغيب ههنا مصدر بمعنى المفعول، وهو المَغِيب عنه. وقوله تعالى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}. قال المفسرون: أي بما حفظهن الله في إيجاب المهر والنفقة لهن، وإيصاء الزوج بهن. ومعنى هذا أن الله راعاهن في حقوقهن وأوصى بهن إلى الأزواج، فعليهن في مقابله الحفظ للغيب وطاعة الله والزوج (¬5). وما في قوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} يحتمل أن يكون بمعنى الذي، والعائد (إليه) (¬6) من الصلة محذوف، على تقدير: بما حفظ الله لهن، ويكون (ما) عبارة عما راعى الله لهن من حقوقهن. ويحتمل أن يكون (ما) غير موصول، بمعنى المصدر، أي بحفظ الله (¬7)، وعلى هذا التقدير يحتمل معنيين آخرين: أحدهما: أنهن حافظات ¬

_ (¬1) هكذا في (أ)، (د) بالضاد المعجمة والفاء الموحدة، ولعل الصواب: صيانة (بالصاد والنون) كما في "زاد المسير" 2/ 75. (¬2) أخرج أقوال الثلاثة بنحو ذلك الطبري 5/ 59 - 60، وانظر "زاد المسير" 2/ 75, وابن كثير 1/ 537، "الدر المنثور" 2/ 272. (¬3) هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي، مفسر مشهور، تقدم. (¬4) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 530، ولم أقف عليه، وهو نحو قول السدى وغيره كما أخرج ذلك الطبري 5/ 61، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 207. (¬5) انظر: "معاني الفراء" 1/ 265، "معاني الزجاج" 2/ 47، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 413، "بحر العلوم" 1/ 352، "معالم التنزيل" 2/ 207. (¬6) في (د): (إلى الله). (¬7) انظر: "معاني الفراء" 1/ 265، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 413 - 414،=

للغيب بحفظ الله إياهن، أي لا يتيسر لهن حفظ الغيب إلا بتوفيق الله، وأن يحفظهن الله حتى لا يضيعن، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}. قال ابن عباس: يريد تعلمون نشوزهن (¬2). قال الفراء: وهو كالظن؛ لأن الظانّ كالشاكّ والخائف قد يرجو، فلذلك ضارع الخوف الظن والعلم، ألا ترى أنك تقول للخبر يبلغك: أما والله لقد خِفت ذاك، وأنشد: أتاني كلامٌ عن نُصيبٍ يَقولُه ... وما خِفْت يا سلَّام أنك عائِبِي (¬3) كأنه قال: وما ظننت أنك عائبي (¬4). ومضى الكلام في الخوف بمعنى العلم. ويحتمل أن يكون الخوف ههنا الذي هو ضد الأمن، كأنه قيل: تخافون نشوزهن لعلمكم بالأحوال المؤذية (¬5) به (¬6). ¬

_ = "مشكل إعراب القرآن" 1/ 197، "الكشف والبيان" 4/ 51 أ، "الدر المصون" 3/ 671. (¬1) الوجه الثاني من قوله: وأن يحفظهن الله .. ، وقد أشار إلى الوجهين السمين في "الدر المصون" 3/ 671. (¬2) أشار إلى قول ابن عباس هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 75. وانظر: "معاني الفراء" 1/ 265، "بحر العلوم" 1/ 352. (¬3) البيت لأبي الغول -علباء بن جوشن من بني قطن بن نهشل- انظر: "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص 46، "الشعر والشعراء" ص 278، وهو في "الطبري" 5/ 61 غير منسوب. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 265، 266، وانظر: "الطبري" 5/ 61، "زاد المسير" 2/ 75. (¬5) هكذا في (أ)، وفي (د) بدون إعجام الياء، فتمد تكون: (المؤذنة)، وهو الأرجح. (¬6) انظر: الطبري 5/ 62.

قال محمد بن كعب (¬1) (¬2): والنشوز ههنا معصية الزوج في قول الجميع (¬3). قال عطاء: هو أن لا تتعطّر له وتمنعه من نفسها، وتتغيّر عن أشياء كانت تفعلها به وعما كان يستلذ منها (¬4). وأصل النشوز الترفع على الزوج بالخلاف، من قولهم: نشز الشيء، أي ارتفع، ومنه يقال للمرتفع من الأرض نشز (¬5). وقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ}. قال الكلبي: فعظوهن بكتاب، وذكروهن اللهَ وما أمرهن به (¬6). وقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}. قال أبو زيد: هَجر الرجل هجرًا إذا تباعد ونأى (¬7). وقال ابن المظفر: الهَجْر من الهجران وهو ترك ما يلزمك تعاهدُه (¬8). ¬

_ (¬1) هو أبو حمزة محمد بن كعب بن سليم بن أسد القُرَظي المدني من ثقات وعلماء التابعين، وهو من الصالحين والمشاهير في التفسير ومن المكثرين منه، وقد أخرج حديثه الجماعة، توفي -رحمه الله- سنة 120هـ. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 251، "التقريب" ص 504 رقم (6257). (¬2) أخرج الأثر عنه الطبري 5/ 64. (¬3) انظر: "الطبري" 5/ 62 - 63. (¬4) الذي عند الطبري 5/ 63 عن عطاء: النشوز أن تحب فراقه، والرجل كذلك. (¬5) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، الطبري 5/ 62، "معاني الزجاج" 2/ 47، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 (نشز). (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 531 دون نسبة للكلبي، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 84. (¬7) "تهذيب اللغة" 4/ 3717 (هجر). (¬8) انظر: "التهذيب" 4/ 3718 (هجر).

قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي: المراد بالهجر ههنا أن يهجر كلامها، فلا يكلمها في المضجع (¬1). قال ابن عباس: الهَجر أن لا يجامعها، ويوليها ظهره على الفراش، (ولا يكلمها) (¬2) (¬3). وقال الشعبي ومجاهد وإبراهيم: المراد به هجر المضاجعة (¬4)، يقول: فرِّقوا بينكم وبينهن في المضاجع. وهذا اختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال في قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}: أي في النوم معهن والقرب منهن، فإنهن إن كن يحببن أزواجهن شق عليهن الهجران في المضاجع، وإن كن مبغضات وافقهن ذلك، فكان ذلك دليلًا على أن النشوز منهن (¬5). وروى أبو الضحى (¬6) ومسروق عن ابن عباس، قال: هذا كله في ¬

_ (¬1) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 63 - 64، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 208، "زاد المسير" 2/ 76، "الدر المنثور" 2/ 277. (¬2) تكررت هذه الكلمة في (د). (¬3) أخرجه الطبري 5/ 63 بمعناه (¬4) الأثر عن مجاهد في "تفسيره" 1/ 156، وأخرجه عن الثلاثة الطبري 5/ 64، وانظر: "زاد المسير" 2/ 76. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 47. (¬6) هو مسلم بن صبيح الهمداني الكوفي العطار، مشهور بكنيته، تابعي ثقة فاضل، أخرج له الجماعة، توفي -رحمه الله- سنة مائة للهجرة. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 273 - 274، "سير أعلام النبلاء" 5/ 71، "التقريب" ص 528 رقم (6601).

المضجع، إذا هي عصت أن تضطجع معه (¬1). والمعنى على هذا: واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع فعظوهن واهجروهن واضربوهن. والمضاجع جمع المضجَع، وهو الموضع الذي يُضطجع عليه. وذكرنا ذلك فيما تقدم. وذهب الكلبي وسعيد بن جبير إلى أنّ قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ} من الهجر الذي هو بمعنى القبيح من الكلام، يريد عنّفوهن وغلّظوا في القول لهن (¬2). وقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}. يعني ضربا غير مبرح بإجماع (¬3). قال ابن عباس: أدبًا بمثل اللكزة (¬4). قال القُرخي، عن علي - رضي الله عنه -: يعظُها بلسانه، فإنْ انتهت فلا سبيل له عليها، وإن أَبَت هَجَر مضجعًا، فإن أَبَت ضربها، فإن أبت أن تتّعظ بالضرب بُعِثَ الحكمان (¬5). فللزوج أن يتلافى نشوز امرأته بما أذِنَ الله له ¬

_ (¬1) الأثر عن أبي الضحى أخرجه الطبري 5/ 64، وسنده صحيح. انظر: "تحقيق المروي عن ابن عباس" 1/ 270. لكن لفظه: أنها لا تترك في الكلام ولكن الهجران في أمر المضجع فكأنه مناقض لنص المؤلف، لا سيما عند النظر إلى ما وجه المؤلف المعنى بعد هذا الأثر. وأخرج الأثر أيضًا ابن أبي شيبة انظر: "الدر المنثور" 2/ 277، أما عن مسروق فلم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه، وانظر: "القرطبي" 5/ 171. (¬3) انظر: الطبري 5/ 67 - 70، والقرطبي 5/ 172، 173. (¬4) أخرج ابن جرير 5/ 68 عن عطاء قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: السواك وشبهه يضربها به، وفي إسناده ضعف، انظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس، أما بهذا اللفظ عند المؤلف فلم أقف عليه. وانظر: القرطبي 5/ 172. (¬5) لم أقف عليه.

فيه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تضربوا إماءَ الله" (¬1). ونهى عن ضرب النساء حتى ذَئِر النساء على أزواجهن (¬2)، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت الآية في ضربهن (¬3). وقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ}. أي فيما يُلتَمس منهن. وقال السدي: أتينَ فُرشَكم (¬4). وقوله تعالى: {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}. قال ابن عباس: لا تتجنّوا عليهن العِلَل (¬5). وقال عطاء: يريد ليس لك عليها سبيل في هجرها في المضجع، ولا في ضربها (¬6). وقال الكلبي وسفيان بن عيينة: لا تُكلِّفوهن الحبّ لكم (¬7). وقال الزجاج: لا يطلب عليهن طريق عنت (¬8). وهذا جامع للأقوال ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "الأم" 5/ 193، وأبو داود (2146) كتاب النكاح، باب: في ضرب النساء، وابن ماجة (1985) كتاب النكاح، باب: ضرب النساء. (¬2) أي نَشزن ونَفرن وتغير خُلقهن واجْتَرأن عليهم. انظر "اللسان" 1481 (ذَئِر). (¬3) هذا نحو كلام لعمر بن الخطاب عقب الحديث المرفوع المتقدم. انظر "الأم" 5/ 193، "سنن أبي داود" (2146)، "سنن ابن ماجة" (1985). (¬4) لم أقف عليه، وأخرج الطبري 5/ 70 نحوه عن الثوري. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 76، وأخرجه الطبري عن قتادة 5/ 70. والمعنى: لا تتعدوا عليهن بنسبة علل لهن ليست فيهن، فإن ذلك جناية. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) عن الكلبي انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 84، أما عن سفيان فأخرجه الطبري 5/ 70 بنحوه، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 51 ب، والبغوي 2/ 208، و"زاد المسير" 2/ 76. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 48.

35

كلها 35 - قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}. قال ابن عباس: يريد علمتم (¬1). وذكرنا الخوف بمعنى العلم آنفًا. قال الزجاج: (خفتم) ههنا بمعنى: (أيقنتم) خطأ (¬2)؛ لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم يُحتج (¬3) إلى الحكمين، وإنما يُخاف الشقاق (¬4). وليس الأمر على ما قال أبو إسحاق؛ فإن الخوف ههنا بمعنى العلم صحيح، وكذلك يجب أن يكون؛ لأن بعثة الحكمين إنما تكون إذا علمنا شقاقًا بينهما، ولكن لا نعلم أيهما المتعدي الظالم، فيُبعث الحكمان ليتعرفا ذلك، وقبل وقوع الشقاق ليس حاله بعثة الحكمين. فقول أبي إسحاق: (لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم يُحتج إلى الحكمين) وهم؛ لأنا نحتاج إلى الحكمين في هذه الحالة، وحيث نعلم المُشَاقّ بين الزوجين من هو لم يُحتج إلى الحكمين. ولم يفصل الزجاج بين الحالتين، والذي في الآية إذا علمنا شقاقًا بينهما، ولم نعلم من أيهما ذلك الشقاق، وكلام ابن عباس شديد (¬5) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 532، دون نسبة لابن عباس ونسبه ابن الجوزي إلى أبي سليمان الدمشقي. انظر: "زاد المسير" 2/ 77. (¬2) عبارة الزجاج في "معانيه" 2/ 48: قال بعضهم: (خفتم) ههنا في معنى: أيقنتم؛ وهذا خطأ. (¬3) عند الزجاج في "المعاني": لم يجنح. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 48. (¬5) هكذا في (أ)، (د)، ولعل الصواب: سديد بالسين المهملة.

والمنِكر وَاهِم. والشقاق: العداوة والخلاف، كالمشاقّة. واشتقاقه من أن المشاقين (¬1) كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه (¬2). والمعنى: شقاقًا بينهما، فأضيف المصدر إلى الظرف، وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة، لحصولها فيها، كقولك: يعجبني صوم يوم عرفة، وسير الليلة المقمرة (¬3). وقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ}. قال سعيد بن جبير والضحاك: المأمور ببعث الحكمين السلطان الذي يترافع الزوجان فيما شجر بينهما إليه (¬4). والحكم بمعنى الحاكم، وهو المانع من الظلم (¬5)، ومنه المثل السائر: في بيته يُؤتى الحكم (¬6). قال ابن عباس: يريد من أهل الفضل (¬7). يعني أن الحكم يجب أن يكون فاضلًا، يعرف ما لأحد الزوجين على ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج" 2/ 48 المتشاقين. (¬2) من "معاني الزجاج" 2/ 48 بتصرف يسير، وانظر الطبري 5/ 70. (¬3) انظر: "الطبري" 5/ 70، "الدر المصون" 3/ 673. (¬4) أخرج الأثر عنهما الطبري 5/ 71، وانظر: "زاد المسير" 2/ 77، "الدر المنثور" 2/ 279 - 280. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 887 (حكم). (¬6) "الأمثال" لأبي عبيد ص 54، "مجمع الأمثال" للميداني 2/ 442. (¬7) لم أقف عليه، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 352، و"القرطبي" 5/ 175، و"ابن كثير" 2/ 539.

الآخر، ويعرف أحكام العِشرة (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِهِ}، و {مِنْ أَهْلِهَا}. أي من أقارب هذا وأقارب تلك. قال ابن عباس: فإذا التقى الحكمان قال أحدهما للآخر: ادخل على قريبتك، فقل لها تخبرك الذي نقمت على زوجها، وقل لها: ألك فيه حاجة؟، وإلا فنحن ندخل فيما بينكما حتى يفارقك، وإن كان لك به حاجة فنحن نرده إلى ما تحبين. ويقول الآخر لصاحبه: القَ قريبَك، فقل له: ألك في أهلك حاجة؟. فيخلو حَكَمُ الرجل بصاحبه، فيقول (¬2): أخبرني ما في نفسكَ، أتهواها أم لا؟ فإني لا أدري ما أقول في أمركَ، حتى أستطلع رأيكَ. فإن كان الرجل كارهًا قال: لا حاجة لي فيها، خُذ لها مني ما استطعت وفرِّق بيني وبينها. فيعرف عند ذلك أن النشوز جاء من قبله. وإن قال: إني أهواها، فأرضِها من مالي بما أرادت، ولا تفرِّق بيني وبينها، علم أنه ليس بناشز. ويخلو حكم المرأة بالمرأة، فيقول: أعلميني ما في نفسك، أتهوَين زوجكِ أم لا؟ فإني لا أدري ما أقول في أمركِ حتى أستَطلع رأيكِ فيه، فإن كانت هي الناشزة، قالت: أنشدك الله أنْ تُفرِّق بيني وبينه، أعطه ما أراد من مالى، فلا حاجة لي فيه. فإذا قالت ذلك علم أنها ناشزة. وإن لم تكن ناشزة، قالت: إني أهواه، ولكني أستزيده في نفقتي، فعِظه وحُثّه عليّ بخير، فإنه إليّ مسيء. فإذا كان النشوز من قبل المرأة أقبلا عليها، فقالا لها: يا عدو الله، ¬

_ (¬1) انظر المراجع السابقة. (¬2) في (د): (فيقول له).

أنتِ العاصية الظالمة لزوجك، المسيئة لنفسكِ، فوالله لا ينفق عليكِ أبدًا ولا يجامعك، حتى ترجعي عن فعلك وتفيئي إلى الله، فلا يأتيها زوجها ولا ينفق عليها حتى ترجع إلى الحق. وإن كان النشوز من قبل الرجل أقبلا عليه، فقالا: أنت العاصي لله المبغض لامرأتك، الظالم لنفسك، نفقتها عليك أبدًا ما دامت، ولا تدخل لها بيتًا، ولا ترى لها وجهًا، حتى تفيء إلى أمر الله وترجع عما أنت عليه. ثم يأخذانه بنفقتها ما دام على حاله حتى يرجع، فإذا رجع جَمَعَا بينه وبينها (¬1). وقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ} بين الزوج والمرأة. فالكناية في {بَيْنِهِمَا} تعود على الزوجين. وأجاز بعضهم فيما حكاه ابن حبيب (¬2) أن تعود الكناية على الحكمين (¬3). فيكون المعنى: يوفق الله صلاحًا للزوجين بين الحكمين (¬4). ومذهب عمر - رضي الله عنه - أيضًا هذا، وهو أن المعني بإرادة الإصلاح الحكمان. وقد رُوي أنه بعث حكمين بين زوجين فرجعا وأخبراه أن الزوجين لم يصطلحا، فعلاهما بالدرّة وقال: لو أردتما إصلاحًا وفق الله بينهما. ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه مختصرًا الطبري 5/ 73 من طريق ابن أبي طلحة وهو في "تفسير ابن عباس" / 147. وقد ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" دون نسبة لابن عباس بلفظ مقارب. انظر: "بحر العلوم" 1/ 352، القرطبي 5/ 175. وقد جاء نحوه عن السدي. انظر: الطبري 5/ 71. (¬2) الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 484. (¬3) هذا رأي جمهور المفسرين، انظر: الطبري 5/ 76 - 77، "زاد المسير" 2/ 77. (¬4) انظر: "النكت والعيون" 1/ 484

فرجعا وأخلصا، فإذا الزوجان قد أغلقا الباب دونهما واصطلحها (¬1) وهذه القصة تُقوي عود الكناية إلى الزوجين. هذا إذا أراد الحكمان إصلاحًا ورأيا ذلك. فإن أدى اجتهادهما إلى التفريق، فقد اختلف العلماء في ذلك: فمذهب عثمان وعلي رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والشعبي والسدي وإبراهيم وشريح: أن لهما التفريق بينهما بالطلاق إن رأياه؛ لأن التحكيم توكيل (¬2). قال عبيدة السلماني: شهدت عليًا - رضي الله عنه - وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فِئَامٌ من الناس، فقال: ما شأنهما؟ فأُخْبِرَ بالشقاق بينهما، فقال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقالت المرأة: رضيتُ بما في كتاب الله عليّ ولي (¬3). وقال الزوج: أما الفُرقة فلا. فقال علي: كذبتَ حتى تُقِرّ بمثل الذي أقرت (¬4) به (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "الطبري" 5/ 73 - 75، و"القرطبي" 5/ 176. (¬3) هنا عبارة (وقال ولي) وهي زياجة من الناسخ على الأغلب. (¬4) في (أ): أقرب بالباء الموحدة وهو تصحيف ظاهر. والصواب بالتاء المثناة كما في (د)، "الكشف والبيان" يأتي. (¬5) أخرجه الشافعي في "الأم" 5/ 195، وقال الشافعي -رحمه الله-: حديث علي ثابت عندنا، والطبري 5/ 71، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 158، والثعلبي 4/ 51 ب، وعزاه السيوطى إلى عبد الرزاق في "المصنف" وسعيد بن جبير وعبد =

والظاهر من هذا الكلام أن عليًا - رضي الله عنه - رأى الفُرقة من غير رضا الزوج، ولذلك قال: كذبت، ولم يقل: فلا أبعث الحكمين حتى ترضى. وإذا تعذر تنفيذ العقد بأحكامه فالوجه رفعه، وهذا هو الظاهر الصحيح من مذهب الشافعي -رحمه الله- الذي نص عليه في كتاب الطلاق من أحكام القرآن (¬1)، وهو اختيار المزني (¬2) (¬3). وقال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع ولا يحكمان في الفرقة إلا بأمرهما (¬4). وهذا أحد قولي الشافعي، وقد نص عليه في "المُختصر"، وقال: لا بد من توكيل الزوج في الطلاق؛ لأنّ الطلاق إلى الأزواج (¬5). قال الزجاج: وحقيقة أمر الحكمين أنهما (¬6) يقصدان الإصلاح، ¬

_ = بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 279. (¬1) انظر: "الأم" 5/ 195، و"أحكام القرآن" للشافعي جمع البيهقي 1/ 212، و"ابن كثير" 1/ 539. (¬2) هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو المزني المصري، تلميذ الإمام الشافعي، إمام علامة رأس في الفقه الشافعي وله المختصر مشهور متداول، قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي، توفي -رحمه الله- سنة 264 هـ. انظر "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص109، "سير أعلام النبلاء" 12/ 492، "طبقات الشافعية" للأسنوي 1/ 28. (¬3) "مختصر المزني" ص 186. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 159، والطبري بمعناه 5/ 72، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 28. (¬5) انظر: "مختصر المزني" ص 186. (¬6) فى (د): (أن).

وليس لهما طلاق، وإنما عليهما أن يُعَرِّفا الإمام حقيقة ما وقفا عليه؛ فإن رأى الإمام أن يُفرِّق فرّق، وإن رأى أنْ يجمع جمع، وإن وكّل الحكمين بتفريق أو جمع فهما بمنزلته. والذي فعله عليّ رحمه الله من قوله: وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، تولية منه إياهما ذلك (¬1). وقوله تعالى: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬2) معنى التوفيق في اللغة هو تيسير وَفق الشيء، وهو ما يوافقه، أي يساوي حَالَته، ويقال: حَلوبَة فلان وَفق عياله، أي يخرج من لبنها ما يكفي عياله، على معنى أن ذلك مساوٍ لقدر حاجته (¬3). قال الراعي: أما الفقير الذي كانت حَلُوبته ... وَفقَ العِيَال فلم يُترك له سَبَدُ (¬4) فالموافقة المواساة (¬5) في أمر من الأمور. والتوفيق بين النفسين إصلاحٌ بينهما لمساواة فيه. وقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، أي: على وَفق أعمالهم. ¬

_ (¬1) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 49 بتصرف يسير. (¬2) (بينهما) ليست في (أ). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3927، "اللسان" 8/ 4884 (وفق). (¬4) "ديوانه" ص 64، "تهذيب اللغة" 4/ 3927، "اللسان" 8/ 4884 (وفق). ومعنى: حلوبته: قيل: معيشته وقيل حمولته، والسبَّدَ يطلق على المال وعلى ذوات الشعر من البهائم. انظر "اللسان" 4/ 1918 (سبد). والشاهد أن وفق الشيء ما يساوي حالته أو يكفيه. (¬5) لعلها المُساواة

36

الليث يقول: لا يتوفق عبدٌ حتى يوفقه الله، وإن فلانًا موفّق رشيد (¬1). ووَفق كل شيء ما يكون متفقًا معه، كقوله: يَهوِين شَتَّى ويقَعنَ وفْقًا (¬2) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}. قال ابن عباس: يريد: عليمًا بما في قلوبهم من المودة، وخبيرًا بما يكون إذا هو طلّقها من وُجْدِه عليها، أو وُجدِها عليه (¬3). 36 - وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. قال الزجاج المعنى: أوصاكم الله بعبادته، وأوصاكم بالوالدين إحسانًا (¬4). وقال الفراء: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا. أمرهم بالإحسان (¬5). قال ابن عباس: يريد البِرّ بهما مع اللطف ولين الجانب، ولا يُغلظ لهما الجواب، ولا يُحدّ إليهما النظر، ولا يرفع صوته عليهما، كما قال الله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] يكون بين أيديهما ذليلًا مثل العبد بين يدي السيد الفظّ الغليظ، تذلّلًا لهما مع المحبة (¬6). ¬

_ (¬1) "العين" 5/ 226، "تهذيب اللغة" 4/ 3927 (وفق). (¬2) "العين" 5/ 226، وانظر: "لسان العرب" 8/ 4884 (وفق). (¬3) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 84 (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 49. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 266، وعبارته: أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. وفي "زاد المسير" 2/ 79: قال الفراء: أغراهم بالإحسان إلى الوالدين. (¬6) لم أقف عليه.

{وَبِذِي الْقُرْبَى}، القربى مصدر كالقرابة (¬1)، ومثله البُشرى والرُّجعى. قال ابن عباس: يصله ويعطف عليه (¬2). وقال الزجاج: أمر الله: عز وجل بالإحسان إلى ذوي القرابة بعد الوالدين (¬3). {وَالْيَتَامَى}، قال ابن عباس: يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم. {وَالْمَسَاكِينِ}، قال: يريد: بَذْلُ يسر، أو ردّ جميل (¬4). {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}، قال عامة المفسرين: يعني القريب في النسب، الذي يبنك وبينه قرابة، وله حقوق؛ حق القرابة وحق الجوار وحق الإسلام (¬5). ودل كلام الزجاج على أنه أراد بالقُربى ههنا قرب الدار والمعرفة والاختلاط، لأنه قال: هو الذي يقاربك ويعرفك (¬6). ويُقوي هذا أنه قابله بالجار الغريب في قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}، فكما أن الغريب لا يعرفك لبعد داره فالجار ذي القربى هو الذي يعرفك لقرب داره وأرضه من دارك وأرضك (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 77. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 84 (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 50. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: الطبري 5/ 78، "بحر العلوم" 1/ 353، "الكشف والبيان" 4/ 52/ أ, "النكت والعيون" 1/ 485. (¬6) "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 50. (¬7) عبارة الزجاج في "معانيه" 2/ 50: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} والجار القريب المتباعد. واستشهد على ذلك بيت من الشعر هو: فلا تحرمنّي نائلًا عن جَنَابة ... فإني امرؤٌ وسط القباب غريبُ وسيأتي.

والذي عليه المفسرون هو الأول. وقوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}. الجنب نعت على فعل، مثل: (أُحُد) في: ناقةٌ أُحُد، وبابٌ غُلُق (¬1)، وقارورةٌ فُتُح. وأصله من الجنابة ضدّ القرابة، وهو البُعد (¬2). قال علقمة بن عبدة (¬3): فَلا تَحْرمنِّى نَائِلًا عن جَنَابةٍ ... فإني امرؤٌ وَسْط القِبَاب غَريبُ (¬4) وقال الأعشى (¬5): أتيتُ حُريثًا زائرًا عن جنابةٍ ... وكان حُرَيثٌ عن عَطَائِيَ جَامِدًا (¬6) ¬

_ (¬1) في (أ): (علق) بالعين المهملة. (¬2) انظر: "الطبري" 5/ 80، "الحجة" 3/ 158. (¬3) هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس التميمي، شاعر جاهلي مجيد، كان يلقب بالفحل لحادثة جرت بينه وبين امرئ القيس. توفي قبل الهجرة بنحو عشرين سنة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 125، "طبقات الشعراء" 58، "الأعلام" 4/ 247. (¬4) "ديوانه" ص 31، "الكامل" 3/ 16، والاختيارين للأخفش الأصغر ص 656، وفيه: الديار بدل القباب، "الزاهر" 1/ 430. والجَنابة: البعد والغربة وهو الشاهد. والمعنى: لا تحرمني بعد غربة وبعد عن دياري. والبيت من قصيدة في فكاك أسر أخ له. (¬5) هو ميمون بن قيس بن جندل الوائلي -الأعشى الكبير- تقدمت ترجمته. (¬6) "ديوانه" 43، "الكامل" 3/ 15، "الطبري" 5/ 80، "معاني الزجاج" 2/ 50، الثعلبي 4/ 25 ب. وجاء في حاشية "ديوانه": حُرَيث: تصغير لكلمة حارث، وهو ذم للحارث بن وعلة بن مجالد الى الرقاشي. الجنابَة: البعد. وانظر "الكامل" 2/ 902، 903.

وقال آخر: كِرامٌ إذا ما جئتَهم عن جنابةٍ ... أعفّاءُ عن جار الخليطِ المجاور (¬1) ورجل جُنُب، إذا كان غريبًا متباعدًا عن أهله. وقوم أجناب، ورجل أجنَب وأجنبي، وهو البعيد منك في القرابة (¬2). وأصل الجنب التنحية والإبعاد، ومنه قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. والجانبان الناحيتان لتنحّي كل واحدة (¬3) عن الأخرى (¬4). وروى المفضَّل عن عَاصم (¬5): {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} بفتح الجيم وسكون النون (¬6)، وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أن يريد بالجنب الناحية، ويكون المعنى على هذا: ذي الجَنْب، فحذف المضاف؛ لأن المعنى مفهوم، ألا ترى أن الناحية لا يكون الجار إياها، والمعنى: ذي ناحية ليس هو الآن بها، أي: هو غريب (¬7). ¬

_ (¬1) البيت للراعي النميري في "ديوانه" ص 108، و"تاريخ دمشق" 38/ 190. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 663، "اللسان" 2/ 692 (جنب). (¬3) في (أ): (واحد) بالتذكير. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 446، "الحجة" 3/ 158. (¬5) هو أبو بكر عاصم بن أبي النجود -بهدلة- الأسدي الكوفي الإمام المقرئ وأحد القراء السبعة المشاهير الحجة، وقد أخرج حديثه الجماعة، توفي -رحمه الله- سنة 120هـ. انظر: "السبعة" ص 69، "مشاهير علماء الأمصار" ص 165، "التقريب" ص 285 رقم (3054). (¬6) "السبعة" ص 233، "الحجة" 3/ 157. وقال ابن مجاهد وأبو علي - رحمهما الله: ولم يآت بها غيره. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 307. (¬7) في "الحجة" 3/ 158: هو غريب عنها، والكلام في توجيه القراءتين لأبي علي.

والآخر: أن يكون وصفًا، مثل: ضرب وندب وفسل (¬1)، فهذا وصف جري على الموصوف، كما أن الجنب كذلك (¬2). قال ابن عباس وعامتهم: الجار الجنب هو الذي ليس بينك وبينه قرابة (¬3). وله حق الجوار، فإن كان من أهل دينك فله حق الإيمان (¬4). ومعنى وصفه بالبُعد ههنا أنه ليس من قومك، ونَسبُه بعيد عنك، ألا ترى أن مجاهدًا وقتادة قالا: هو جارك من قوم آخرين (¬5). ويحتمل أن يُراد بهذا البُعد بُعد الدار، وهو الغريب من بلد غير بلدك يجاورك، فهو متباعد عن أهله وبلده. وإلى هذا ذهب الزجاج، فإنه قال: هو الجار الغريب (¬6) المتباعد (¬7). وحكى ابن جرير عن نَوفٍ البِكَالي (¬8) أنه ذهب إلى أن المراد بهذا ¬

_ (¬1) هكذا بالفاء عند أبي علي في "الحجة"، وفي النسختين من المخطوط كأنها بالنون (نسل). (¬2) انتهى من "الحجة" 3/ 158. (¬3) "تفسير ابن عباس" ص 148. وأخرجه الطبري 5/ 79 - 80 عن ابن عباس، وهو قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد والضحاك كما أخرجه الطبري، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 52 ب، "زاد المسير" 2/ 79. (¬4) انظر: "الطبري" 5/ 79، "بحر العلوم" 1/ 353. (¬5) أخرجه عنهما عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 159، والطبري 5/ 79. (¬6) في (د): (القريب)، وكذا في "معاني الزجاج"، ولعل ما أثبته هو الأولى. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 50. (¬8) هو أبو عمرو نوف بن فضالة البكالي، تابعي صالح، شامي مستور، أخرج له البخاري ومسلم، وأما تكذيب ابن عباس له فلِمَا رواه عن أهل الكتاب، مات -رحمه الله - بعد سنة 90 هـ. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 121.

البُعد بُعد الدين، فقال في الجمار الجنب: إنه الكافر (¬1). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشرك الجار: "له حق الجِوَار وإن كان مشركًا" (¬2). وقوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والحسن والسدي والضحاك: هو الرفيق في السفر (¬3). قال عطاء عن ابن عباس: يريد صاحبك في السفر، وهو جارك إلى جانبك، فله حق الجوار وحق الصحبة (¬4). وهذا اختيار الفراء (¬5) والزجاج (¬6) وابن قتيبة (¬7). وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى (¬8) وإبراهيم: هو زوجتك تكون معك إلى جنبك (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 80 بلفظ: اليهودي والنصراني، وانظر: "زاد المسير" 2/ 79، و"ابن كثير" 1/ 540. (¬2) جزء من حديث أخرجه البزار بنحوه مطولًا، كما في "كشف الأستار" 2/ 380. وانظر: ابن كثير 1/ 541، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 53 أ، وهذا لفظه، وضعفه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 164 بقوله: رواه البزار عن شيخه عبد الله ابن محمد الحارثي وهو وضاع. (¬3) قول ابن عباس في "تفسيره" ص 148 بلفظ: الرفيق فقط، وأخرجه عن جميعهم الطبري 5/ 80 - 81، إلا الحسن، فانظر: ابن كثير 1/ 840. (¬4) الذي وقفت عليه نحو ذلك من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في "تفسيره" ص 148، وأخرجه الطبري 5/ 80. (¬5) في "معاني القرآن" 1/ 267. (¬6) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 50. (¬7) في "غريب القرآن" ص 119. (¬8) هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، تقدمت ترجمته. (¬9) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 81 - 82، وانظر: "زاد المسير" 2/ 80.

وقال ابن جريج وابن زيد: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء خيرك ونفعك (¬1). وقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيل}. هو الضيف، يجب قِراه إلى أن يبلغ حيث يريد. قال ابن عباس ومجاهد والربيع: يريد عابر السبيل، تُروِيه وتُطعِمه حتى يرحل عنك (¬2). {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني المماليك. قال ابن عباس: يريد المملوك، تُحسن رزقَه وتحتمل مساوئه وتعفو عنه فيما يُخطئ، فإن لاءمك فاحسبه وأنت مُحسن، وإن خالفك في الملاءمة فبعه لعله يوافق غيرك وتبرأ من إثمه (¬3). وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع شيئًا من الخدم فلم يوافق شيمته شيمته فليبع ويشتر حتى يوافق شيمته شيمته، فإن الناس شِيمَ، ولا تعذبوا عباد الله" (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] المختال: ذو الخيلاء والكبر (¬5). ¬

_ (¬1) ابن جرير روى نحو ذلك عن ابن عباس، وهذا لفظ ابن زيد أخرج ذلك الطبري 5/ 82، وانظر "زاد المسير" 2/ 80. (¬2) أخرجه عن مجاهد عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 159، وذلك عنه وعن الربيع، "الطبري" 5/ 83. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، وانظر الطبري 5/ 84، "بحر العلوم" 1/ 354.

37

قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه، الذي لا يقوم بحقوق الله (¬1). قال الزجاج: وإنما ذكر الاختيال ههنا، لأنَّ المختال يأنف من ذوي قراباته إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا كذلك، فلا يُحسن عشرتهم (¬2). وذكرنا اشتقاقه في اللغة عند قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: 14]. ومعنى الفخر في اللغة هو البذخ والتطاول، والفخور الذي يعدِّد مناقبه كبرًا وتطاولًا (¬3). قال ابن عباس: هو الذي يفخر على عباد الله بما خوّله الله من كرامته وما أعطاه من نعمته (¬4). 37 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}. جائز أن يكون موضع (الذين) نصبًا على البدل (¬5). المعنى: أنَّ الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا، ولا يحب الذين يبخلون. وجائز أن يكون رفعه على الابتداء ويكون الخبر: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، أي لا يظلمهم مثقال ذرة. قاله الزجاج (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 51، وانظر: "زاد المسير" 2/ 81. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2750، "أساس البلاغة" 2/ 189، "اللسان" 6/ 3361 (فخر). (¬4) لم أقف عليه، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 489. (¬5) على البدل من من قوله: (من كان مختالًا). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 416. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 51، بتصرف، وانظر: الطبري 5/ 85، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 416 - 417، "الدر المصون" 3/ 676.

والأولى أن يكون مستأنفًا، لأنَّ الآية نازلة في اليهود (¬1). ومعنى البُخل في كلام العرب منع الإحسان، وفي الشريعة منع الواجب (¬2). وفيه أربع لغات: البَخْل مثل الفَقْر، والبَخَل مثل الكَرَم، والبُخْل مثل الفُقر، والبُخُل بضمتين. ذكره المبِّرد، وقال: ونظيره أرض جرز، وفيه اللغات الأربع (¬3). وأجمعوا على أن الآية نازلة في اليهود (¬4). واختلفوا في معنى هذا البخل، فذكر فيه قولان: أحدهما: أن المراد به البخل بالعلم. وهو قول سعيد بن جبير والكلبي ومقاتل. قال سعيد: هذا في العلم ليس في الدنيا منه شيء (¬5). وقال الكلبي: هم اليهود، بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته، وأمروا قومهم بالبخل، وهو كتمان أمره (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 85، "النكت والعيون" 2/ 51، "الكشف والبيان" (4/ 54 أ)، "النكت والعيون" 1/ 487. (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 54 أ، وانظر: "المفردات" ص (38)، "عمدة الحفاظ" ص (40)، (بخل). (¬3) لم أقف على كلام المبرد فيما بين يدي من مصنفاته، وقد ذكر نحو كلامه الثعلبي في "الكشف والبيان" (4/ 54 ب)، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 51، "بحر العلوم" 1/ 354، "عمدة الحفاظ" ص (40) (بخل). (¬4) دعوى الإجماع غير مسلمة، فقد اختلف في نزولها، لكن كونها في اليهود هو قول الأكثر. انظر: "الكشف والبيان" 4/ 54 أ، "النكت والعيون" 1/ 487. (¬5) أخرج الأثر عنه: الطبري 5/ 86، والثعلبي (4/ 54 أ). (¬6) أورده المؤلف بنحوه في "أسباب النزول" ص 156، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (84).

وقال مقاتل: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} رؤوس اليهود، {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} كانوا يأمرون سفلتهم بكتمان نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). واختار الزجاج هذا القول، فقال: هم اليهود بخلوا بعلم ما كان عندهم من مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). القول الثاني: أن هذا البخل معناه البخل بالمال. وهو قول ابن عباس وابن زيد (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: ثم ذكر اليهود فقال: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} يريد يبخلون بأموالهم عمن هو دونهم من المؤمنين في المال، وهو أكرم على الله منهم (¬4). وقال في رواية غيره (¬5): نزلت في رؤساء اليهود؛ كانوا يأتون رجالًا من الأنصار ينتصحونهم (¬6)، ويقولون لهم: لا تُنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر، ولا تدرون ما يكون (¬7). وروي مثل هذا القول عن مجاهد والسدي، قالا: هم اليهود بخلوا ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 372، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 354. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 51. (¬3) انظر: الطبري 5/ 86، "زاد المسير" 2/ 82. (¬4) لم أقف على رواية عطاء، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 289. (¬5) رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. انظر: الطبري 5/ 86. (¬6) عند الطبري 5/ 86: "وينتصحون لهم" وكذا في "زاد المسير" 2/ 81، وفي "الدر المنثور" 2/ 289: "وينتصحون لهم". (¬7) أخرجه الطبري 5/ 86 بأطول من ذلك، وكذا ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 289، وذكره الثعلبي (4/ 54/ ب) , وابن الجوزي 2/ 81.

38

بما أعطوا من الرزق (¬1) وقوله تعالى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: يريد العلم بما في التوراة مما عظم الله به أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته (¬2). وقال مقاتل: يعني ما في التوراة من أمر محمد ونعته (¬3). وهذا قول عامة المفسرين، فالفضل ههنا هو ما أوتوا من العلم، برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 38 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} الآية. إن شئت عطفت الذين في هذه الآية على الذين في الآية التي قبلها، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفا على قوله: {لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (¬4). قال السدي: نزلت في المنافقين (¬5). واختاره الزجاج (¬6)، وهو الوجه؛ لذكر الرياء ههنا، وهو ضرب من النفاق، وقال بعضهم: نزلت في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). ¬

_ (¬1) المأثور عن مجاهد والسدي أن المراد كتمان صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته. انظر: الطبري 5/ 85، "النكت والعيون" 1/ 487، "زاد المسير" 2/ 82. (¬2) أخرج معناه في الأثر المتقدم عن ابن عباس من رواية سعيد بن جبير: الطبري 5/ 86. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 354. (¬4) انظر: الطبري 5/ 87، "معاني الزجاج" 2/ 51، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 416 - 417، "الكشف والبيان" (4/ 54 ب)، "معالم التنزيل" 2/ 214. (¬5) "الكشف والبيان" (4/ 54 ب)، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 214، "زاد المسير" 2/ 83. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 51. (¬7) "الكشف والبيان" (4/ 54 ب)، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 214، "زاد المسير" 2/ 83.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} معنى القرين في اللغة هو الذي يقارنك ويُصاحبك (¬1)، من قولهم: قرنت الشيء بغيره إذا شددته إليه (¬2). وقيل: إنما اتصل الكلام ههنا بذكر الشيطان تقريعًا لهم على طاعة الشيطان. وعلى هذا دل كلام أبي إسحاق؛ لأنه قال: أي من يكن عمله بما يُسول له الشيطان فبئس العمل عمله (¬3). وقال الكلبي: هذا في الآخرة، يجعل الله الشياطين قرنائهم في النار، يقرن مع كل كافر شيطان في سلاسل النار (¬4). يقول الله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} صاحبا {فَسَاءَ قَرِينًا} يقول: بئس الصاحب الشيطان. وقوله تعالى: {فَسَاءَ قَرِينًا} قد ذكرنا معنى ساء في هذه السورة. وانتصب (قرينًا) ههنا على التمييز والتفسير (¬5)؛ لأن (ساء) معناه (بئس)، و (بئس) تنصب النكرة، كقولك: بئس رجلًا زيد، لأنك إذا قلت: بئس، جاز أن تذكر رجلًا أو حمارًا، فإذا ذكرت نوعًا ميزته من سائر الأنواع (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر الطبري 5/ 88، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 417، "النكت والعيون" 1/ 487، "اللسان" 6/ 3611 (قرن). (¬2) انظر: "معجم مقاييس اللغة" 5/ 76، "أساس البلاغة" 2/ 248، "زاد المسير" 2/ 83، "اللسان" 6/ 3611 (قرن). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 51. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 354، "زاد المسير" 2/ 83، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 85. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 267، "معاني الزجاج" 2/ 52، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 417، "الكشف والبيان" (4/ 55 أ). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 267.

39

وفيه ضمير فاعل لأنه فعل، والفعل لا يخلو من الفاعل، فصار المميِّز (¬1) كالمفعول فلهذا نصب. وقد استوفينا (القول) (¬2) في (نعم، وبئس). 39 - قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} الآية. هذا احتجاج على هؤلاء الذين ذكرهم الله بأنهم لا يؤمنون بالله، والمعنى أن الإنسان يُحاسب نفسه فيما عليه وله، فإذا ظهر له ما عليه في فعل شيء من استحقاق العقاب، وما له في تركه من استحقاق الثواب عمل على ذلك في تركه والانصراف عنه. ومعنى الآية كأن الله تعالى يقول: ليتفكروا ولينظروا ماذا عليهم في الإيمان لو آمنوا؟ وهو استفهام في معنى الإنكار. ويصلح أن يكون (ما) و (ذا) اسمًا واحدًا، فيكون المعنى: وأي شيء عليهم (¬3)، ويجوز أن يكون (ذا) في معنى الذي، وتكون (ما) وحدها اسمًا، ويكون المعنى: وما الذي عليهم لو آمنوا (¬4). وقد بسطنا الكلام في تفسير (ماذا) في موضعين في سورة البقرة (¬5). وقوله تعالى: {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. قال ابن عباس: يريد بنية صادقة، يصدِّق القلبُ اللسان، ويصدق اللسانُ القلب (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): (المييز). (¬2) ليس في (د). (¬3) انظر: الطبري 5/ 88، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 417. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 417، "الكشف والبيان" (4/ 55 أ). (¬5) انظر: "البسيط" بتحقيق د. الفوزان [البقرة: 215]. (¬6) لم أقف عليه.

40

{وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} يريد: يصدقوا مما تفضل الله به عليهم (¬1). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}. تأويله: لا ينفعهم ما ينفقونه على جهة الرياء؛ لأن الله بهم عليم مجاز لهم بما يسرون من قليل أو كثير (¬2). 40 - قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية. قد ذكرنا أن الظلم يستعمل في معان كثيرة. وهو ههنا بمعنى النقص. قال ابن عباس: يريد لا ينقص مثقال ذرة (¬3). والمثقال مقدار الشيء في الثِّقل. وهو مفعال من الثقل، يقال: هذا على مثقال هذا، أي وزن هذا. ومعنى {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: أي ما يكون وزنه وزن الذرة (¬4). وأما الذرة فهي النملة الحميراء الصغيرة في قول أهل اللغة (¬5)، وهو قول ابن عباس (¬6) وابن زيد (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 550، "زاد المسير" 2/ 83. (¬2) انظر: الطبري 5/ 88. "الوسيط" 2/ 550، "زاد المسير" 2/ 83. (¬3) أورده المصنف في "الوسيط" 2/ 550 من رواية عطاء ولم أقف عليه، وانظر: "الكشف والبيان" (4/ 55/ أ). (¬4) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، والطبري 5/ 88، "معاني الزجاج" 2/ 52، "النكت والعيون" 1/ 488. (¬5) انظر: "اللسان" 3/ 1494 (ذرر). (¬6) أخرج الأثر عنه - الطبري 5/ 89، وذكره الثعلبي (4/ 55 أ)، وانظر: "زاد المسير" 2/ 85، "الدر المنثور" 2/ 290. (¬7) لم أقف على قوله، وقد خرج الطبري مثل هذا القول عن يزيد بن هارون كما في "تفسير الطبري" 5/ 89، فيحتمل أن "يزيد" تصحف من النساخ إلى "ابن زيد" والله أعلم.

وروى يزيد بن الأصم (¬1) عن ابن عباس في هذه الآية قال: أدخل ابن عباس يده في التراب، ثم رفعها، ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرَّة (¬2). والمراد من هذا: لا يظلم قليلًا ولا كثيرًا، ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس، يدل على هذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44]. قال ابن عباس: نزل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} في المنافقين، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} في المؤمنين. يقول: لا ينقص {مِثْقَالَ} (¬3) ذرة من عمل منافق إلا جازاه بها رواه عطاء عنه (¬4). وقال آخرون: هذا على العموم (¬5). ثم اختلفوا؛ فذهب بعضهم في تأويله إلى ما رواه أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإن الله لا يظلم حسنة، أما المؤمن فيثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة" (¬6). ¬

_ (¬1) هو أبو عوف يزيد بن عمرو (الأصم) بن عبيد البكائي المدني، من ثقات التابعين، وهو ابن خالة ابن عباس رضي الله عنهما توفي -رحمه الله- سنة 103هـ. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 360، "التقريب" رقم (7685). (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 85. (¬3) ليس في (د). (¬4) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقياس" بهامش المصحف ص 85. (¬5) أي عموم المؤمنين والكافرين. (¬6) أخرجه مسلم (2808) كتاب صفات المنافقين باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.

وذهب بعضهم إلى تأويل هذه الآية: إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم، بل يأخذ له ومنه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى للخصم، بل يثيبه عليها ويُضعفها له. واحتجوا بما روي عن ابن مسعود أنه قال: يُؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه. ثم يقال له: آت هؤلاء حقوقهم. فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا. فيقول الله لملائكته في أعماله الصالحة: فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعّفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته. ومصداق ذلك في كتاب الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً}. الأصل: وإن تكن (بالنون) كقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135]، وذلك أن النون إذا سكنت (¬2) للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار (تكن)، ويجوز حذف النون من تكن؛ لأنها ساكنة وهي تشبه حروف اللين، وحروف اللين إذا وقعت طرفًا سقطت، كقولك: لم أدر، وإن تدع. كذلك حُذفت هذه النون استخفافًا لكثرة الاستعمال كما قالوا: لا أدرِ ولم أبل، والأصل: لم أبال ولا أدري. ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه الطبري 5/ 89 - 90 بأكثر من طريق، وابن أبي حاتم ونقله ابن كثير 1/ 544 عنه بإسناده ثم قال: "ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح" وصحح إسناد ابن أبي حاتم أحمد شاكر في تحقيقه للطبري، وقال عن هذا الأثر: "والحديث أثر موقوف على ابن مسعود، ولكني أراه من المرفوع حكمًا، فإن ما ذكره ابن مسعود مما لا يعرف بالرأي، وما كان ابن مسعود ليقول هذا من عند نفسه، وليس هو ممن ينقل عن أهل الكتاب ولا يقبل الإسرائيليات". وانظر: "الدر المنثور" 2/ 290. (¬2) في (د): (سقطت).

ووجه شبه النون بحروف اللين أنَّ الغنة التي في النون كاللين الذي في حروف اللين، وأيضًا فإنها تحذف لالتقاء الساكنين، كما حذفوهن كلذلك في نحو: غزا القوم، وتغطي ابنك وتصبو (¬1) المرأة. ألا ترى أنك لم تظهر الألف ولا الباء (¬2) ولا الواو في اللفظ، بل حذفتهن لاجتماع الساكنين. وكذلك يفعلون في النون فيقولون: مِلآن، أي: من الآن (¬3)، وأنشد سيبويه: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (¬4) وأنشد قُطرب: لم يك الحق سوى أن هاجه ... رسم دار قد تعفى بالسِّرر (¬5) يريد بالأول: ولكن، والثاني: لم يكن، فلم يحرِّكا وحذفا. جعلوا النون أيضًا علمًا للرفع في نحو: يقومان ويقومون وتقومين، كما جعلوا الواو والألف علمًا له، نحو: أخوك وأبوك، والزيدان، ¬

_ (¬1) هكذا في: (أ) ولعل الصواب بدون ألف. (¬2) هكذا في: (أ) بالباء الموحدة، ولعل الصواب: "ولا الياء" بالمثناة التحتية، وهو كما في (د). (¬3) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 540, 540، "الخصائص" 1/ 90، "عمدة الحفاظ" ص (505) (كون). (¬4) الكتاب 1/ 27، وعزا البيت للنجاشي (قيس بن عمرو الحارثي) وهو يصف ذئبًا. انظر: "الخصائص" 1/ 310، "سر صناعة الإعراب" 2/ 440، 541 بتحقيق هنداوي "الإنصاف" ص 546 بتحقيق عبد الحميد. (¬5) البيت لحسيل بن عرفطة (شاعر جاهلي) والضمير في "هاجه" يعود على عائق في بيت قبله، "السرر" اسم موضع قرب مكة. انظر: "النوادر" لأبي زيد ص (77)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 440، 540 بتحقيق هنداوي، "الخصائص" 1/ 90.

والزيدون، إلى غير ذلك مما يطول ذكره (¬1). وقرئ قوله: (حسنةٌ) بالرفع والنصب (¬2)، فمن رفع فهي اسم كان ولا خبر لها ههنا، وهي في مذهب التمام. على معنى: وإن تحدث حسنة، أو إن تقع حسنة. ومن نصب كان المعنى: وإن لَكن فعلتُه حسنةً. والنصب حسن، لتقدم ذكر (مثقال ذرة)، فتجعل الذرة اسمًا وحسنة الخبر، على تقدير: وإن تكن الذرة حسنةً يضاعفها الله (¬3). قال ابن عباس: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} يريد: من مؤمن {يُضَاعِفْهَا} يريد: عشرة أضعافها (¬4). وقال السدي: هذا عند الحساب والقصاص (فمن بقي له من الحسنات شيء يضاعفه بسبع مائة، وإلى الأجر العظيم (¬5). ولهذا كان يقول بعض الصالحين: فُصَلت (¬6) حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها (¬7)) (¬8). وقوله تعالى: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} قال عطاء: يريد من عنده ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 2/ 440، وانظر: "الكتاب" 1/ 19. (¬2) بالرفع لأبي جعفر ونافع وابن كثير، وبالنصب لبقية العشرة انظر: "السبعة" ص 233، "الحجة" 3/ 160، "المبسوط" ص (156)، "النشر" 2/ 249. (¬3) انظر: "الحجة" 3/ 160، "إعراب القراءات السبع" 1/ 133، "معاني القراءات" 1/ 308. (¬4) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 551، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 85. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) هكذا، ولعل الصواب: "لو فضلت". (¬7) هذا القول لقتادة، أخرجه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 160، والطبري 5/ 88. (¬8) ما بين القوسين لم يتضح كاملا في (أ) بسبب الطمس والتآكل في النسخة.

أجرًا عظيمًا يتفضل عليه بأكثر من العشرة الأضعاف (¬1). وقال الكلبي: الأجر العظيم الجنة (¬2). وقال الحسن: هذا أحب إلى العلماء؛ أن لو قال: الحسنة بمائة ألف وهو كقوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ولم يقل مثل ألف شهر (¬3). وقال أبو عثمان النهدي (¬4): بلغني عن أبي هريرة (¬5) أنه قال: إن الله عز وجل يُعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. فقضي أن انطلقت حاجًا أو معتمرًا، فلقيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله عز وجل يُعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكني قلت: إن الحسنة تضاعف ألفي ألف (¬6) حسنة ثم تلا هذه الآية وقال: إذا قال الله عز جل: {أَجْرًا عَظِيمًا} فمن يقدر قدره (¬7). وسنذكر اللغات في لدن والكلام فيه في سورة الكهف إن شاء الله. ¬

_ (¬1) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 552 دون نسبة لعطاء، ولم أقف عليه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 85، وقد ورد هذا التفسير عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير وابن زيد. أخرج ذلك عنهم الطبري 5/ 91 - 92. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) هو عبد الرحمن بن مل -بميم مثلثة ولام ثقيلة- النهدي، مشهور بكنيته، من كبار الرواة الثقاة وهو من المخضرمين، وكان من العباد. توفي -رحمه الله- سنة 95 هـ. وله من العمر 130 سنة أو أكثر. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 175، "تقريب التهذيب" ص (351) (4017). (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) في (د): (ألف ألف). (¬7) أخرجه بنحوه وآخره مرفوعًا الإمام أحمد 2/ 296، والطبري 5/ 91، والثعلبي 4/ 57، وعزاه ابن كثير 1/ 545 إلى ابن أبي حاتم والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 291 إلى ابن أبي شيبة أيضًا.

41

41 - قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}. قال الزجاج والأكثرون: أي فكيف تكون حال هؤلاء القوم الذين ذكرهم الله من المنافقين والمشركين يوم القيامة، وحذف (تكون) لأنَّ في الكلام دليلًا على ما حذف. وكيف (لفظها) (¬1) لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ (¬2). والاستفهام كثيرًا ما يرد بمعنى التوبيخ، وقد (ذكرنا) (¬3) لم أجاز أن يتضمن الاستفهام التوبيخ والإنكار في مواضع مما مضى (¬4). وقال صاحب النظم: هذا فصل منسوق فيه (على ما) (¬5) قبل من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وتوكيدٌ لما تقدم من الخبر، وتحقيق لما بعده، على تأويل: إن الله لا يظلم مثقال ذرة، فكيف يظلمه إذا كان يوم القيامة؟ ففي قوله: (فكيف) طرف من الإنكار، أي أن ذلك لا يكون في وقت من الأوقات (¬6). فعلى القول الأول (¬7) في (كيف) توبيخ للقوم الذين مضى ذكرهم، وعلى القول الثاني (¬8) فيه إنكار لظلم الله أحدًا. ¬

_ (¬1) ليس في (د). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 53، وانظر: "زاد المسير" 2/ 85. (¬3) ما بين القوسين ليس في (د). (¬4) انظر مثلا [البقرة: 28، 75، 133]. (¬5) ما بين القوسين غير واضح في (أ). (¬6) الظاهر أنه انتهى كلام صاحب النظم. (¬7) الظاهر أنه يريد قول الزجاج. (¬8) أي قول صاحب النظم.

42

ومعنى قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال ابن عباس: يريد: أتيناهم (¬1). قال المفسرون: يُؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها (¬2). وقوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}. أي على هؤلاء المنافقين والمشركين الذين ذكرهم يشهد عليهم بما فعلوا (¬3). 42 - قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. يوم في قوله: {يَوْمَئِذٍ} ظرف و"يود"، وهو مضاف إلى إذ، وذلك نحو قولهم: ليلتئذ، وساعتئذ، وحينئذ. ودخل التنوين في إذ بدلًا من الإضافة، وذلك أنَّ أصل هذا أن تكون إذ مضافة إلى جملة، إما من مبتدأ وخبر، نحو: جئتك إذ زيد أمير، وقصدتك إذ الخليفة عبد الملك، قال الله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71]، وقال القطامي (¬4): إذا الفوارسُ من قيس بشكَّتها ... حولي شهودٌ وما قومي بشهاد (¬5) وإما من فعل وفاعل نحو: قمت إذ قام (¬6) زيد، وجلست إذ سار محمد. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 30]، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72]، ثم اقتطع المُضاف إليه إذ في مثل هذا، ومثله قوله: {مِنْ عَذَابِ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وعليه علامات الغرابة، لأن النص واضح. (¬2) انظر: الطبري 5/ 92، "معاني الزجاج" 2/ 54. (¬3) الأولى عدم تخصيص الإشارة، فشهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته جميعًا. انظر الطبري 5/ 92، وابن كثير 1/ 546 - 547. (¬4) هو أبو سعيد عُمير بن شيم بن عمر التغلبي، والقطامي لقبه؛ تقدمت ترجمته. (¬5) "ديوان القطامي" ص (86)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 504 بتحقيق د. هنداوي، والشكة: السلاح. (¬6) في (أ): (أقام) وما أثبته هو الموافق "سر صناعة الإعراب" 2/ 504.

يَوْمِئِذ} [المعارج:11]، و {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]. والتقدير في هذه الآية وفي غيرها: يوم إذ ذاك كذلك، فلما حذف المضاف إليه إذ عوّض منه التنوين، فدخل وهو ساكن على الذال وهي ساكنة، فكسرت الذال لالتقاء الساكنين فقيل: يومئذ. وليست هذه الكسرة في الذال كسرة إعراب، وإن كانت إذ في موضع جر بالإضافة ما قبلها إليها، وإنما الكسرة فيها لسكونها وسكون التنوين بعدها، كما كسرت الهاء في صهٍ ومهٍ لسكونها وسكون التنوين بعدها، وإن اختلفت جهتا التنوين فيهما، فكان في إذ عوضًا من المضاف إليه، وفي صه علمًا للتنكير، ويدل على أن الكسرة في ذال (إذ) إنما هي حركة التقاء ساكنين: (هي) (¬1) والتنوين قول الشاعر: نهيتُك عن طلابك أمَّ عمرو ... بعاقبة وأنت إذ صحيح (¬2) ألا ترى أن إذ في هذا البيت ليس قبلها شيء (¬3). ومضى القول في (يود) عند قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} (¬4) ¬

_ (¬1) غير واضحة في (أ)، وفي "سر صناعة الإعراب" 2/ 504 "وهما هي .. ". (¬2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي يخاطب قلبه وأنه نصحه عن حب هذه المرأة أم عمرو حتى لا يتورط فيصعب عليه الخلاص، وقوله: "بعاقبة" أي أن النصيحة كانت حتى آخر الكلام ولم يغفل عنها. انظر: "ديوان الهذليين" 1/ 68، "سر صناعة الإعراب" بتحقيق هنداوي 2/ 504, "الخصائص" بتحقيق النجار 2/ 376. (¬3) انتهى من "سر صناعة الإعراب" 2/ 504, 505، والكلام من أول توجيه إعراب الظرف يوم وإضافته لإذ إلى هنا مستفاد منه. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 425 - 426. (¬4) (لو يعمر): ليس في (د).

[البقرة: 96] (¬1). وأما النقير (¬2) فقال ابن السكيت: النقير النكتة في ظهر النواة (¬3). وقال أبو الهيثم: النقير نقرة في ظهر النواة، منها تنبت النخلة (¬4). وذكرنا طرفًا منه عند ذكر الفتيل (¬5). وأصله أنه فعيل من النقر وهو النكت، ومن هذا يقال للخشب الذي ينبذ (¬6) فيه نقير لأنه ينقر (¬7). والنقر ضرب الرحى (¬8) والحجر وغيره بالمنقار. والمنقار حديدة كالفأس يُقطع بها الحجارة (¬9). ومنه منقار الطائر؛ لأنه ينقر به (¬10). وقول أهل التفسير موافق لقول أهل اللغة في تفسير النقير، وقول أبي الهيثم مثل قول ابن عباس حرفًا بحرف (¬11). ¬

_ (¬1) إلى هنا تنتهي نسخة (أ)، (د) وفي نهايتها كتب الناسخ ما يلي في (د): "تم الجزء الثاني من "تفسير البسيط" للواحدي بحمد الله ومنِّه والصلاة على نبيه محمد وآله أجمعين، ويتلوه في الثاني قوله تعالى: {وَعَصَوُا الرَّسُولَ} [النساء: 42] تم سنة 1270". أما النسخة (أ) فقد كتب في آخرها: "كتب في مسلخ شهر ربيع الثاني من شهور سنة ست وثلاثين وستمائة". ويبدو أن كاتبه رجل يُدعى: ابن القزويني. (¬2) هذا بداية ما بعد السقط من أثناء الآية (42) إلى أثناء الآية (53) وهو بداية نسخة (ش) شستربتي. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3644، وانظر: "اللسان" 8/ 4518 - 4519 (نقر). (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3644، وانظر: "اللسان" 8/ 4519 (نقر). (¬5) الظاهر أنه عند قوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، وهذا من القسم الساقط والمفقود. (¬6) في "اللسان" 8/ 4519 (نقر): "ينتبذ". (¬7) انظر: "اللسان" 8/ 4518 (نقر). (¬8) في "ش": "بالألف الممدودة". (¬9) "تهذيب اللغة" 4/ 3644 (نقر). (¬10) انظر: "اللسان" 8/ 4517 (نقر). (¬11) انظر "تفسير ابن عباس" ص 150، والطبري 5/ 136.

54

قال الزجاج: وذكر النقير ههنا تمثيل، المعنى: لضنُّوا بالقليل (¬1). 54 - وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. (أم) ههنا كالتي في الآية التي قبلها. والمراد بالناس هنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول ابن عباس والأكثرين (¬2) وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الناس وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خلال (الخير) (¬3) ما يكون مثله في جماعة، ومن هذا يقال: فلان أمَّة وحده، أي: هو يقوم مقام أمة، قال الله تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] (¬4). قال المفسرون: إن اليهود حسدت النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح تسع نسوة، وقالوا: لو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء، فأكذبهم الله تعالى وقال: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬5) قال عطاء: يريد الفقه والعلم (¬6). وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}. قال ابن عباس في رواية العوفي: يعني ملك سليمان (¬7). والمعنى على هذا: يحسدون (محمدًا كثرة) (¬8) نسائه ويعيبونه بهن بقولهم: لو كان نبيًا لشغله أمر النبوة. أو فليحسدوه إن كانوا حسدوا محمدًا. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" ص 63، وانظر: "زاد المسير" 2/ 109. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 110. (¬3) هنا كلمة غير واضحة، واستوضحتها من "الوسيط" 2/ 588. (¬4) انظر: "الوسيط" 2/ 588. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 275، الطبري 5/ 138، "معاني الزجاج" 2/ 64. (¬6) لم أقف عليه عن عطاء، وانظر: "زاد المسير" 2/ 111. (¬7) أخرجه الطبري 5/ 140، وإسناده ضعيف، انظر: "زاد المسير" 2/ 111، وتحقيق المروي عن ابن عباس 1/ 325. وقد رجح هذا القول على غيره الطبري 5/ 141. (¬8) قد تكون العبارة: "محمدًا لكثرة".

55

وقال السدي: يعني بالملك العظيم ما أحل لداود من النساء، وهن تسع وتسعون. ولسليمان ألف، بين حرة ومملوكة (¬1). وقال الحسن وابن جريج وقتادة: الفضل في هذه الآية النبوة وكانت اليهود حسدت محمدًا ما آتاه الله من النبوة، وقد علموا أنَّ النبوة في آل إبراهيم فقيل لهم: أتحسدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت النبوة في آله، وهم آل إبراهيم (¬2). وهذا الوجه اختيار أبي إسحاق (¬3). والحكمة في هذا القول النبوة. وقال مجاهد في قوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}: النبوة (¬4). لأن الملك لمن له الأمر والطاعة، والأنبياء لهم الطاعة والأمر. وليس يحتاج في تصحيح معنى الآية إلى إضمار، ومثله من الكلام أن نقول: أتحسدون زيدًا ما أعطاه الله من المال، فعند عمرو أكثر من ذلك، أو فقد آتى عمرًا أكثر من ذلك. وتأويل هذا: فلا تحسدوا زيدًا، ولتحسدوا عمرًا. وهذا مفهوم من فحوى الكلام وإن لم يذكر. 55 - وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ}. قال ابن عباس والأكثرون: من أهل الكتاب من آمن بمحمد عليه السلام، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 140 بنحوه لكن فيه: "وينكح سليمان مائة"، وانظر: "زاد المسير" 2/ 111، "الدر المنثور" 2/ 309. (¬2) أخرجه عن قتادة بنحوه وعن ابن جريج مختصرًا: الطبري 5/ 139 - 140، أما الحسن فقد فسر الملك بالنبوة، لا الفضل، كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 309، "تفسير الحسن" 1/ 284. (¬3) الزجاج في "معانيه" 2/ 64، وانظر: "زاد المسير" 2/ 110. (¬4) "تفسيره" 1/ 162، وأخرجه الطبري 5/ 140، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 309، وهو قول الحسن كما تقدم.

{وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} أعرض عنه ولم يؤمن (¬1). وتأويل الآية: أن اليهود مهما ذُكر منهم من البُخل والجهل والحسد، فقد آمن به بعضهم. ومن قال: إن الوعيد المذكور في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا} [النساء: 47] (¬2) إنما أوعدوا به في الدنيا، قال: ذلك الوعيد صرف عنهم بإيمان هذا الفريق الذين ذكرهم الله في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} ولذا قال: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي: إن كان صرف بعض العقاب فكفى بجهنم عذابًا لمن لا يؤمن (¬3). وقال السدي وجماعة: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} أي من أمة إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه كما أنكم في أمر محمد عليه السلام كذلك (¬4). وفائدة هذا الكلام ههنا أنَّ تأويله ليس في ترك بعضكم الإيمان بمحمد عليه السلام توهين لأمره، كما لم يكن في ذلك توهين لأمر إبراهيم. وقال الفراء: لما تليت على اليهود قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54] الآية كذب بذلك بعضهم وصدق بعضهم، وهو قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} أي بالنبأ عن سليمان وداود ومما أبيح لهما من النساء {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} بالتكذيب والإعراض (¬5). ¬

_ (¬1) هذا قول مجاهد ومقاتل والكلبي، انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 162، الطبري 5/ 141, "بحر العلوم" 1/ 361، "زاد المسير" 2/ 111، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬2) من القسم الساقط. (¬3) انظر: الطبري 5/ 141. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 236، "زاد المسير" 2/ 112، "الدر المصون" 4/ 7. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 275 بتصرف.

56

وحكى الزجاج هذا الوجه أيضًا (¬1). (...) (¬2) {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} مضى الكلام في هذه الباء وفي انتصاب ما بعد كفى عند قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45] (¬3). (.....) (¬4) السعير في أول السورة (¬5). والسعير لا يدخله هاء التأنيث؛ لأنه مصروف من مسعورة، كما قالوا: كف خضيب ولحية (...) (¬6)، وذلك أنَّ نقله عن لفظ المفعول المبني على الفعل إلى فعيل يأخذه عن حيّز الأفعال فيُقرّبه من الأسماء، وذلك يوجب حذف علامة التأنيث لتقدير الفعل، وقد ارتفع. 56 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}. قال سيبويه: سوف أداة تنفيس وتهديد ووعيد، يقال: سوف أفعل وسو أفعل (بغير فاء) (¬7). وقال غيره: هي أداة التسويف، كأنها مأخوذة منه، ألا ترى أنك تقول: سوف أعطيك، معناه أعطيك وقتًا آخر لا في هذا الوقت (¬8)، وينوب ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 64، 65. (¬2) بياض في (ش) يحتمل أن يكون أصله: وقوله تعالى. (¬3) من القسم. (¬4) بياض في (ش) بقدر كلمتين تقريبًا، يحتمل أن يكون: "معنى تفسير ... " أو نحوه. (¬5) عند تفسيره للآية 10. (¬6) كلمة غير واضحة وقد تكون "دهين" أو "خضيب" مثل كف. (¬7) في "الكتاب" 4/ 233 "وأما (سوف) فتنفيس فيما لم يكن بعد" وانظر: "عمدة الحفاظ" ص (255) (سوف)، والتنفيس هو التأخير، انظر: "اللسان" 4/ 2152 (سوف). (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1597 - 1598 (ساف)، "عمدة الحفاظ" ص (255) (سوف).

عنها حرف السين، كقوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر: 26]، وفي هذه الآية قال: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ}، ويحقق ما ذكرنا قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 5]، أي في الآخرة (¬1). وقال بعضهم: سوف كلمة تعليل، وهي أيضًا كلمة العقبى كهي في هذه الآية، وكلمة تحقيق أيضًا كقوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] قيل أخَّرهم إلى وقت السحر تحقيقًا للدعاء (¬2). وذكرنا ما في الإصلاء عند قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}. قال ابن عباس: يبدَّلون جلودًا بيضًا كأمثال القراطيس (¬3). وقال معاذ بن جبل (¬4): يبدل في ساعة مائة مرة. وروى ذلك مرفوعًا عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري ط. دار الفكر 30/ 232. (¬2) انظر: ابن كثير 2/ 537. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 237، وأخرجه عن ابن عمر: الطبري 5/ 142، وابن أبي حاتم، انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 564، "الدر المنثور" 2/ 311. والقراطيس جمع قرطاس وهي الصحيفة التي يُكتب عليها. انظر: "اللسان" 6/ 3592 (قرطس). (¬4) هو أبو عبد الرحمن مُعاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري الخزرجي، أحد السبعة الذين شهدوا العقبة من الأنصار وقد شهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان من قراء الصحابة وعلمائهم وأمرائهم. توفي رضي الله عنه سنة 17هـ أو بعدها. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص (358)، "أسد الغابة" 5/ 194، "سير أعلام النبلاء" 1/ 443، "الإصابة" 3/ 426 - 427. (¬5) الأثر عن عمر ومعاذ رضي الله عنهما أخرجه ابن عدي والطبراني في "الأوسط" وابن أبي حاتم وابن مردويه، وسنده ضعيف، انظر البغوي 2/ 237، "الكافي الشاف" ص (45)، "الدر المنثور" 2/ 311.

وأما كيفية تبديل الجلود فقال جماعة من أهل المعاني: إن جلودهم إذا نضجت واحترقت جددت، بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة. وذلك أن (غير) على ضربين: غير تضادٍ وتنافٍ، كقولك: الليل غير النهار والذكر غير الأنثى. وغير تبدل، كقولك للصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره، فيكسره ويصوغ لك منه خاتمًا، فالخاتم المصوغ هو الأول، إلا أن الصياغة غير والفضة واحدة، وتقول للإنسان: جئتني بغير ذلك الوجه، إذا تغيرت حالتُه، وجاء بغير ذلك اللباس إذا غيّر قميصه بأن جعله (...) (¬1). وهذا الوجه ذكره الزجاج (¬2) وابن كيسان وابن الأنباري. ويزيدك بهذا تأنيسًا ما قال أبو العباس (¬3) أحمد بن يحيى: قال الفراء: بدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذا مكانه، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتمًا. قال أبو العباس: وحقيقته أن التبديل تغيير صورة إلى صورة أخرى، والجوهرة (¬4) بعينها، والإبدال تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى، ومنه قول أبي النجم: ¬

_ (¬1) بياض في (ش) ولعلها: بأن جعله (أبيض)، أو نحو ذلك. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 65، وانظر: الطبري 5/ 143، "زاد المسير" 2/ 113، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254. (¬3) من "تهذيب اللغة" 1/ 295 (بدل)، وقد نقل عن الأزهري نصًّا طويلاً، فيه أقوال. (¬4) جوهرة الشيء أصله، قال ابن منظور: "وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته" "اللسان" 2/ 712 (جهر).

عزلُ الأمير للأمير المبدل (¬1) ألا ترى أنه نحى جسمًا وجعل مكانه جسمًا غيره. قال أبو عمر (¬2): فعرضت هذا على المبرِّد فاستحسنه، وزاد فيه فقال. قد جعلت العرب بدلت بمعنى أبدلت، وهو قوله تعالى-: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ألا ترى أنه قد أزال السيئات وجعل مكانها الحسنات. قال: وأما ما شرط أحمد بن يحيى فهو معنى قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}، قال: وهذه هي الجوهرة بعينها باقية، وتبديلها تغيير صورتها إلى غيرها؛ لأنها كانت ناعمة فاسودت بالعذاب، فردت صورة جلودهم الأولى لمَّا نضجت تلك الصورة، فالجوهرة واحدة والصورة مختلفة. انتهى الحكاية (¬3). ويؤكد هذا البيان الذي ذكره المبرد (¬4) وما حكينا من قول ابن عباس. وقال أبو علي الفارسي: ليس ينفصل (بَدَّل) من (أبدل) بشيء، فقد يقال: تبدل في الشيء، ويكون قائمًا وغير قائم، كقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]، فقد تكون الآية المبدلة قائمة التلاوة، وربما رفعت من التلاوة. وقال: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16]، والجنتان قائمتان. ومنهم من أجرى الآية على ظاهرها، وقال: إن الله عز وجل يجدد لهم ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 294، "اللسان" 11/ 48 (بدل). (¬2) قد يكون الزاهد، ومرت ترجمته. (¬3) من "تهذيب اللغة" 1/ 294، وانظر: "الصحاح" 4/ 1632، "اللسان" 1/ 231 (بدل). (¬4) لعل هذِه الواو زائدة.

جلودًا غير الجلود التي احترقت، ويعدم المحترقة، ولا يلزم (....) (¬1) كيف جاز أن يعذِّب جلدًا لم يعصه؟ لأن الجلد لا يألم وإنما الألم هو الإنسان، فالجلد وإن بدِّل (...) (¬2) والألم واحد. والدليل على أن القصد تعذيب أصحاب الجلود لا الجلود قوله: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ولم يقل: لتذوق (¬3). و (غير) على هذا التأويل غير تنافٍ وتضادٍ. واعتمد أبو بكر (¬4) هذا القول فقال: إن الله تعالى يُلبسهم جلودًا تؤلمهم ولا تألم هي في ذاتها، فتكون جلودًا توصل الآلام والأوجاع إلى أرواحهم وقلوبهم من غير أن يلحقها هي شيء من ذلك، كما قال: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] أراد بالسرابيل القمص، وهي قولهم: ولا تجد ألمًا (¬5). ومنهم من أبعد في التأويل فقال: أراد بالجلود السرابيل في قوله: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] سميت السرابيل جلودًا للزومها جلودهم على المجاورة، كما يسمى الشيء الخاص بالإنسان جلدة ما بين عينيه ووجهه (¬6)، ومنه قوله: ¬

_ (¬1) بياض بقدر كلمتين أو ثلاث، وبمكن أن تقدر: [عليه أن يقال] كيف جاز ... (¬2) بياض بقدر كلمتين أو ثلاث، ويمكن أن يقدر: [فالإنسان لم يتغير] ... (¬3) انظر: "الطبري" 5/ 142 - 143، "معالم التنزيل" 2/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254. (¬4) لعله يقصد ابن الأنباري. (¬5) لم أقف عليه، وانظر: الطبري 5/ 143. (¬6) انظر: الطبري 5/ 143، والقرطبي 5/ 254، وقد استبعد هذا القول كالمؤلف ابن كثير في "تفسيره" 1/ 564.

وجلدة بين العين والأنف سالم (¬1) فالتبديل للسرابيل، كلما احترقت السرابيل أعيدت، وينشد على هذا قول الشاعر: كسا اللؤم تيمًا خضرة في جلودها ... فويلٌ لتيمٍ من سرابيلها الخضر (¬2) أراد بالسرابيل جلودهم. وللسدي في هذا مذهب آخر، هو أنه قال: تبدل الجلود جلودًا غيرها من لحم الكافر، يُعيد الجلد لحمًا وُيخرج من اللحم جلدًا آخر. لا يبدل بجلدٍ لم يعمل بخطيئة (¬3). ومعنى قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ} أي لانت، والنُّضج هو اللين بالحرارة، وهو دون الاحتراق (¬4). ولفظ النضج ههنا أبلغ في التعذيب من لفظ الإحراق؛ لأنها إذا احترقت لم تحس بألم، ووقع بين فنائه وإنشاء غيره مهلة؛ إذ الجمع بين المحترق وغير المحترق محال، وفي تلك المهلة ترفيه للكافر، والله تعالى يقول: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162] (¬5). ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وصدره: يلومونني في سالم وألومهم ولعله يقصد ابنه سالمًا. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254. (¬2) البيت لجرير في "ديوانه" ص162، والكتاب 1/ 333، ودون نسبة في "المقتضب" 3/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254. والسرابيل جمع سربال وهو القميص كما تقدم عند المؤلف. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 238. (¬4) الظاهر والذي عليه المفسرون أن معنى: (نضجت): احترقت. انظر: الطبري 5/ 143، "بحر العلوم" 1/ 361، "زاد المسير" 2/ 113. وعلى ما ذكر المؤلف يلزم بأن يفسر تبديل الجلود بتغيير حالتها، لا تغييرها هي. والله أعلم. (¬5) انظر: الطبري 5/ 143، والقرطبي 5/ 254.

وقوله تعالى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}. استعمل لفظ الذوق ههنا مع عظم ما نالوا من شدة العذاب إخبارًا بأن إحساسهم به في كل حال كإحساس الذائق في تجديد الوجدان من غير نقصان في الإحساس، كما يكون في الذي يستمر به الأكل فلا يجد الطعم (¬1). ويقال: ذاق يذوق ذوقًا ومذاقًا وذواقًا، والذواق والمذاق يكونان مصدرين ويكونان طعمًا، كما تقول: ذواقه ومذاقه طيب (¬2). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الذوق يكون بالفم وبغير الفم (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي هو قوي لا يغلبه شيء، وهو مع ذلك حكيم فيما دبر (¬4). وقوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}. أصل الظل الستر من الشمس، والليل يسمى ظلًا لأنه كالستر من الشمس (¬5)، ومنه: في ظل أخضر يدعو هامه البومُ (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" 1/ 275. (¬2) "العين" 5/ 201، "تهذيب اللغة" 2/ 1302 (ذوق). (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1302 (ذوق). (¬4) انظر: الطبري 5/ 143، "بحر العلوم" 1/ 362. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2245 - 2246، "اللسان" 5/ 2754 (ظلل). (¬6) عجز بيت لذي الرمة في ص (574)، "الأضداد" لابن الأنباري ص (348)، "تهذيب اللغة" 1/ 1046 (خضر)، "الصحاح" 5/ 1755، "معجم مقاييس اللغة" 3/ 461 (ظلل)، "المفردات" ص (150)، "شرح العكبري لديوان المتنبي" 2/ 153، "اللسان" في أكثر من موضع منها: 5/ 2754 (ظلل). وصدره: "قد أعسف النازح المجهول معسفه" وفي "الديوان": "أغضف" بدل "أخضر" في الشطر الثاني. وجاء في "شرحه": أعسف: أسير على غير هداية، والنازح: البعيد، والمجهول: الذى ليس له علم، أغضف: يعني الليل، وأغضف أي =

ومضى القول في هذا عند قوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57]. واختلفوا في معنى الظليل، فقال ابن عباس: {ظِلًّا ظَلِيلًا} دائمًا (¬1). ونحو ذلك قال الضحاك (¬2). ومعنى قوله: دائمًا أنَّ الشمس لا تنسخه كما تنسخ ظلال الدنيا (¬3). فهذا قول. وقال الحسن: ظل ظليل لا يدخله الحر والسمائم (¬4). وهذا اختيار ابن كيسان والزجاج. قال ابن كيسان: {ظِلًّا ظَلِيلًا} من الرياح والحر (¬5)، وكم من ظلٍّ لا يكون ظليلًا، ولذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. وقال الزجاج: معنى ظليل: يظل من الريح والحر، وليس كل ظل كذلك. أعلم الله عز وجل أن ظل الجنة ظليل لا حر (معه) (¬6) ولا برد (¬7). وقال بعضهم: معنى الظليل أنه لا خلل فيه ولا فرجة، والمراد بهذا الظل هو الجنة وهو ظل لا حر فيه ولا برد (¬8). ¬

_ = أسود، والهام: ذكر البوم [وهو نوع من الطيور] انتهى من الديوان بتصرف. (¬1) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 592 دون نسبة إلى ابن عباس، ولم أقف عليه عنه، وروى ابن أبي حاتم معناه عن الربيع بن أنس، انظر: "الدر المنثور" 2/ 311. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 255. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 238. (¬4) انظر: "الوسيط" 2/ 592، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 255، "البحر المحيط" 3/ 275، وفيهما: "السموم" بدل "السمائم". (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2248 (ظلل). (¬6) في المخطوط: "معد" والتصويب من "معاني الزجاج". (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 66. (¬8) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 66، "البحر المحيط" 3/ 275.

58

وقال مقاتل: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} يعني أكنان القصور لا فرجة فيها (¬1). وهذا غير الأول لأنه خص الظل بأكنان القصور. والظليل ليس بمبني على الفعل حتى يقال. إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل، ولم يسمع من الظل تصرف، وهذا كما يقال: رجل رجيل. 58 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الآية. أجمعوا على أنها نازلة في شأن مفتاح الكعبة (¬2) (.. (¬3) ..) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة طلب المفتاح، فقيل له: إنه مع عثمان بن طلحة الحجبي (¬4)، وكان من بني عبد الدار، وكان يلي سدانة الكعبة. فوجه إليه عليًا، فأبى دفعه إليه، وقال: لو علمت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أمنعه المفتاح. فلوى عليّ يده، وأخذ منه قسرًا، حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وصلى فيه، فلما خرج قال له العباس: بأبي أنت اجمع لي السّدانة مع السقاية. وسأله أن يعطيه المفتاح. فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله عليًا أن يرده إليه، فرده إليه علي، وألطف له في القول، فقال: أخذته مني قهرًا. ورددته علي باللطف. فقال: لأن الله أمرنا برده عليك، وقرأ عليه الآية، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 381، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 362. (¬2) انظر: ابن كثير 1/ 565. (¬3) هنا كلمة غير واضحة. (¬4) هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة (عبد الله) العبدري، الحجبي (حاجب البيت) أسلم يوم الحديبية على الصحيح، وشهد الفتح مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سكن المدينة إلى أن مات بها رضي الله عنه سنة 42 هـ انظر: "أسد الغابة" 3/ 578، "الإصابة" 2/ 460. (¬5) أخرجه الطبري بمعناه 5/ 145، وابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 312، كلاهما من طريق ابن جريج، وذكره المؤلف فى "الوسيط" 2/ 593، "أسباب =

وهذا قول محمد بن إسحاق (¬1) (¬2) وسعيد بن المسيب (¬3). وقال أبو روق: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان: أعطني المفتاح فقال: هاك بأمانة الله، فلما أراد أن يتناوله ضمّ يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت تؤمن بالله واليوم الاخر فأعطني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله. فلما أراد أنَّ يتناوله ضمَّ يده، فقال في الثالثة: هاك بأمانة الله. ودفعه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وقام النبي يطوف ومعه المفتاح، وأراد أن يدفعه إلى العباس. قال عطاء: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عثمان، هذا المفتاح على أن للعباس معك نصيبًا فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان: هاك خالدةً تالدةً، لا ينزعها عنك إلا ظالم (¬4). قال ابن يسار: ثم إن عثمان هاجر ودفع إلى أخيه (¬5) شيبة (¬6)، فهو في ولده إلى اليوم (¬7). ¬

_ = النزول" ص 162 وأنكره ابن حجر لأن عثمان الحجبي أسلم قبل الفتح. انظر: "الإصابة" 2/ 460. (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) انظر: ابن كثير 1/ 565. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) نحو هذا الأثر ورد من طريق الكلبي عن ابن عباس وهو سند واه، أخرجه ابن مردويه انظر: ابن كثير 1/ 565، "الدر المنثور" 2/ 312، "لباب النقول" ص 71، ولم أقف عليه عن أبي روق. (¬5) قد يكون الصواب: ابن عمه كما سيأتي في الترجمة الآتية. (¬6) هو أبو عثمان شيبة بن عثمان (الأوقص) بن أبي طلحة العبدري الحجبي، أسلم يوم الفتح وكان ممن ثبت يوم حنين، وقد ولي الحجابة بعد والده عثمان فاستمرت في ولده، توفي رضي الله عنه سنة 59 هـ. انظر: "تاريخ خليفة" ص 226، "أسد الغابة" 2/ 534، "الإصابة" 2/ 161. (¬7) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 238 , "الإصابة" 2/ 161.

قال ابن عباس: هذه الآية عامة في كل أمانة، البر والفاجر يؤدِّي الأمانة إلى البر والفاجر، والرحم توصل برةً كانت أو فاجرةً (¬1). وقال الكلبي: نزلت هذه الآية يوم فتح مكة، ثم صارت عامة للناس (¬2). وقال ابن عمر (¬3): أول ما خلق اللهُ من الإنسان فرجه، ثم قال: هذه أمانة خبأتها عندك، فلا تسأل منها شيئًا إلا بحقها، فالفرج أمانة (والبصر) (¬4) أمانة، واللسان أمانة، والقلب أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له (¬5). وقال ابن مسعود: إنَّ الأمانة في كل شيء؛ في الوضوء، والصلاة، والزكاة، والجنابة، والصوم، وفي الكيل والوزن، وأعظم من ذلك الودائع (¬6). فالخطاب بأداء الأمانات إلى أهلها متوجهٌ على كل مؤتمن على شيء في قول ابن عباس، والكلبي، وأبي بن كعب، والحسن وقتادة (¬7). وقال عبد الرحمن بن زيد: الخطاب بأداء الأمانات لولاة الأمر (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره بمعناه ابن كثير 1/ 565، وأخرج البيهقي نحوه عن ميمون بن مهران، انظر: "الدر المنثور" 2/ 314. (¬2) لم أقف عليه، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 362. (¬3) لعله ابن عمرو كما في "مسند الفردوس" 1/ 13. (¬4) في "مسند الفردوس ": "والسمع". (¬5) أخرجه فى "مسند الفردوس" 1/ 13 بنحوه. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 114، وانظر القرطبي 5/ 256. (¬7) انظر: "النكت والعيون" 1/ 400، "زاد المسير" 2/ 114، والقرطبي 5/ 256. (¬8) أخرجه الطبري 5/ 145 - 146، عن ابن زيد عن أبيه وانظر "زاد المسير" 2/ 114.

وقال ابن جريح: هذه الآية في رد مفاتيح الكعبة إلى عثمان (¬1). والصحيح ما عليه الجمهور، أنها عامة في جميع الأمانات (¬2)، فمن كانت عنده أمانة فعليه تأديتها إذا طالبه صاحبها. وليس عليه مؤونة نقلها إلى صاحبها؛ لأن الله تعالى لم يوجب عليه سوى التأدية. والأمانة مصدر سمي به المفعول، ولذلك جُمع لأنه أخلص اسمًا (¬3)، قال الشاعر: فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دينُ (¬4) يريد ما أمنهن عليهن. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} (¬5). الكناية في (به) تعود إلى ما في (نعما) وهو اسم بمنزلة: نعم شيئًا يعظكم به، أو وعظًا يعظكم به. وذكرنا وجوه القراءات في (نعما) في سورة البقرة. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]. أي هو سميع لما تقولون في الأمانة والحكم، بصير بما تعملون فيها (¬6)، فيكون بصير ههنا بمعنى: عليم، ويجوز أن يكون بمعنى راءٍ ذلك. وذكر فرق لطيف بين السامع والسميع، فقيل: لفظ السامع يدل على وجود المسموع؛ لأنه فاعل من قولك: سمعتُ كلام فلان فأنا سامعٌ له. ومعنى سميع أنه إذا وجد المسموع سمعه. وكذلك الفرق بين مُبصر وبصير. ¬

_ (¬1) تقدم الأثر عنه. (¬2) انظر: الطبري 5/ 146، و"معاني الزجاج" 2/ 66، و"بحر العلوم" 1/ 362, و"أحكام القرآن" للهراسي 2/ 471، والقرطبي 5/ 256. (¬3) انظر: القرطبي 5/ 256. (¬4) نسب إلى كثير عزة في "العقد الفريد" 6/ 184، ينظر: "ديوانه" ص 230، و"الأغانى" 5/ 108. (¬5) انظر: "البحر المحيط" 3/ 377. (¬6) انظر: الطبري 5/ 146.

59

59 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}. [النساء: 59]. اختلف الرواية عن ابن عباس في تفسير أولي الأمر، فقال في رواية عطاء: يريد الولاة من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان (¬1). وقال في رواية الوالبي: هم الفقهاء والعلماء، أهل الدين الذين يعلِّمون الناس معالم دينهم أوجب الله طاعتهم (¬2). وهذا قول مجاهد (¬3) والحسن (¬4) والضحاك (¬5). وقال في رواية سعيد بن جبير: نزلت في عبد الله بن حذافة (¬6) [بن قيس بن عدي] (¬7)، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في السرية (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 241. وقد أخرج الخطيب البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقه" ص 27 من رواية عطاء عن ابن عباس قال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: "العلماء حيث كانوا وأين كانوا". (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 151، وأخرجه الطبري 5/ 149، لكنه فيهما بلفظ "يعني أهل الفقه في الدين". (¬3) في "تفسيره" 1/ 162، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 166، والطبري 5/ 149 والخطيب في الفقيه والمتفقه ص (27، 28). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 166، والطبري 5/ 149، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" ص 28، وانظر: "زاد المسير" 2/ 17. (¬5) أورده السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 363، وانظر: "زاد المسير" 2/ 117. (¬6) هو أبو حذافة أو أبو حذيفة عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السهمي من قدماء المهاجرين ومن المهاجرين، وقد ثبت أمام فتنة ملك الروم لما أسر وصار سببًا في فكاك أسارى المسلمين، توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان. انظر: "أسد الغابة" 3/ 211، "الإصابة" 2/ 296، "التقريب" ص 300 رقم (3272). (¬7) بياض في (ش) والتسديد من البخاري 8/ 253، "أسباب النزول" للمؤلف ص163. (¬8) أخرجه البخاري (4584) كتاب "التفسير" سورة النساء، باب: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ومسلم (1834) كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء، والطبري 5/ 148، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 163 - 164.

وفي رواية باذان عن ابن عباس: أنها نزلت في خالد بن الوليد (¬1). بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميرًا على سرية، وفيها عمار بن ياسر (¬2)، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية، وأمر بطاعة أولي الأمر (¬3). وقال الكلبي ومقاتل والسدي: أولو الأمر أمراء السرايا (¬4). وقال ابن زيد: هم الأمراء والسلاطين، أمروا بأداء الأمانة بقوله: بحسن الطاعة لهم (¬5). ¬

_ (¬1) هو أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو القرشي المخزومي، سيف الله، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية ومقدما في الحروب، أسلم سنة سبع وشهد الفتح وحنين والفتوحات وطلب الشهادة لكنه توفي رضي الله عنه على فراشه سنة 21 هـ انظر: "أسد الغابة" 2/ 109، "الإصابة" 1/ 413. (¬2) هو أبو اليقظان عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي حليف بني مخزوم، من السابقين هو وأبوه وأمه إلى الإسلام وكانوا يعذبون فيحثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصبر، من المهاجرين وشهد المشاهد، وقد قتلته الفئة الباغية كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم صفين سنة 87 هـ انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص (43)، "سير أعلام النبلاء" 1/ 406، "الإصابة" 2/ 512. (¬3) أخرجه ابن مردويه كما ذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 326، وانظر: "زاد المسير" 2/ 116. (¬4) قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 383. وعن الكلبي انظر: "بحر العلوم" 1/ 363، "زاد المسير" 2/ 116، والقرطبي 5/ 260. أما عن السدي فقد أخرج الأثر المتقدم عن ابن عباس عنه مرسلًا. الطبري 5/ 148، وابن أبي حاتم. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 566 - 567، "الدر المنثور" 2/ 314. (¬5) أخرج ابن جرير الطبري 5/ 148 بسنده عن ابن زيد قال في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: قال أبي: هم السلاطين. قال: وقال ابن زيد في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} "قال أبي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطاعة الطاعة، وفي الطاعة بلاء ... " الحديث. هذا ما وجدته عن ابن زيد، وانظر: "زاد المسير" 2/ 116.

ولهذا قال يرعى. حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا (¬1). وقال الزجاج: وجملة أولي الأمر من يقوم بشأن المسلمين في أمر دينهم وجميع ما أدى إلى صلاحهم (¬2). قال العلماء: طاعة السلطان عن الكتاب والسنة فلا طاعة له، وإنما تجب طاعتهم فيما وافق الحق (¬3). وروي أن مسلمة بن عبد الملك (¬4) قال لأبي حازم (¬5): ألستم أمرتم بطاعتنا حيث قيل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}؟ فقال أبو ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، انظر: "الدر المنثور" 2/ 317، وذكره في "معالم التنزيل" 2/ 240. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 67. (¬3) هكذا جاءت هذِه العبارة في (ش) ولعل في الكلام سقطا بعد كلمة السلطان، كما هو ظاهر. والصواب: طاعة السلطان [واجبة بالمعروف، فإن خرج أمره] عن الكتاب والسنة .. وانظر: نحو هذا الكلام في الطبري 5/ 150، "بحر العلوم" 1/ 363، "النكت والعيون" 1/ 500، "الدر المنثور" 2/ 316 - 317. (¬4) هو أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم من أمراء بني أمية وقادتهم وكان شجاعًا من أبطال عصره، وله فتوحات كثيرة، كان أهلًا للخلافة ولم يتمكن منها. توفي رحمه الله سنة 120هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" 5/ 241، "التقريب" ص (531) رقم (6660)، "الأعلام" 7/ 224. (¬5) لعله سلمة بن دينار الأعرج التَّمار المدني المخزومي القاص الواعظ العابد الزاهد، من علماء التابعين وفضلائهم، وله كلمات مأثورة في الوعظ والحكمة، وهو ثقة أخرج حديثه الجماعة. مات في خلافة المنصور رحمه الله. انظر: "تاريخ الثقات" 1/ 420، "سير أعلام النبلاء" 6/ 96، "التقريب" ص (247) رقم (2489).

حازم: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ}؟ (¬1). قالوا: والإمام الأعظم الذي تجب طاعته على الرعية يجب أن يكون مستجمعًا لأوصاف أربعة: أحدها: العلم. والثاني: الأمانة. والثالث: الكفاية. والرابع: النسب، وهو أن يكون قرشي النسب (¬2). والإمام في الدين الذي يقتدى به ويجب قبول قوله، على ما قاله مجاهد والحسن والضحاك كان أولي (¬3) الأمر هم الفقهاء يجب أن يكون جامعًا لخلال؛ وهي العلم بكلام العرب، والعلم بكتاب الله، والعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعلم بأقاويل السلف، والعلم بالقياس، والورع في الدين. وأولو الأمر معناه: ذوو الأمر، وواحده (ذو) على غير قياس كالنساء والإبل والخيل، اسم للجمع لا واحد له من لفظه (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}. قال الزجاج: أي اختلفتم وتجادلتم، وقال كل فريق: القول قولي. قال: واشتقاق المنازعة من انتزاع الحجة، وهو أن كل واحد منهما ينتزع الحجة (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي ص 6، "الأحكام السلطانية" للقاضي الفراء الحنبلي ص 20. (¬3) هكذا في المخطوط، والصواب "أولو". (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 130، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 201، القرطبي 5/ 261. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 68، وانظر: "زاد المسير" 2/ 117.

وقال غيره: أصل المنازعة والتنازع في الخصومات من النزع الذي هو الجذب. والمنازعة في الخصومة مجاذبة الحجج فيما يتنازع فيه الخصمان (¬1). وقوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. قال ابن عباس في رواية باذان، حيث قال: إن هذه الآية نزلت في خالد بن الوليد وعمار بن ياسر، وقد حكينا ذلك، فقال في هذه الرواية في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} (وأمراؤكم) (¬2) فردوا الأمر إلى الرسول، وهو بين أظهركم، فما أمركم به الرسول فافعلوا (¬3). وقال المفسرون: معنى الآية قول (¬4) مجاهد والكلبي وقتادة والسدي وميمون بن مهران (¬5) (¬6). قال سعيد بن جبير: ما بيَّن الله في الكتاب فذلك أمر الله وقضاؤه، والسنة ما سن النبي في الدين مما لم ينزل به كتاب، يقال: كتاب الله وسنة نبيه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 242، والقرطبي 5/ 261. (¬2) كأن هذِه الكلمة في المخطوط: "وأمر لكم"، وما أثبته هو الموافق للوسيط 2/ 601. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) يبدو أن في الكلام سقطًا، ويحتمل: "معنى الآية على قول مجاهد ... ". وقد ساق المؤلف أقوالهم بعد ذلك. (¬5) هو أبو أيوب ميمون بن مهران الجزري الكوفي الأسدي بالولاء، من ثقات التابعين وكان فقيهًا فاضلًا دينًا، ولد سنة 40 هـ، وولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، ومات رحمه الله سنة 117هـ وقيل بعدها. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 117، "سير أعلام النبلاء" 2/ 71، "التقريب" ص 556 رقم، (7049). (¬6) انظر في ذلك: الطبري 5/ 151، "النكت والعيون" 1/ 500، "زاد المسير" 2/ 117، وابن كثير 1/ 568، "الدر المنثور" 2/ 315. (¬7) لم أقف عليه.

وقال قتادة: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} إلى كتاب الله {وَالرَّسُولِ} إلى سنة الرسول (¬1). وقال ميمون بن مهران: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} إلى كتابه وإلى {الرَّسُولِ} ما دام حيًا، فإذا قُبض فإلى سنته (¬2). وقال ابن مسلم (¬3): ردُّه إلى الله أن يرده إلى كتابه، ورده إلى الرسول أن يرده إلى سنته (¬4). قال علماء الأمة: هذه الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب متابعة السنة والحكم بالأخبار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعتقد الإيمان بالله ورسوله؛ لأن الله تعالى قال: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] (¬5). والمفسرون أجمعوا على أن رد المختلف فيه إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة (¬6). ولهذا كان علماء السلف يجعلون ما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته وما فعله خلفاؤه بعده مما لم ينكروا عليهم كالمنطوق به في القرآن؛ لأن الله أوجب طاعة الرسول كما أوجب طاعته، فمن أخذ بقول الرسول كان كالآخذ بما ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 151، وانظر: "زاد المسير" 2/ 117. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 151، وابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 315. (¬3) يعني ابن قتيبة. (¬4) "غريب القرآن" ص 127. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 68، وابن كثير 1/ 568. (¬6) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 29، "تفسير عبد الرزاق" 1/ 167، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص127، والطبري 8/ 150 - 151، "معاني الزجاج" 2/ 68 "بحر العلوم" 1/ 363، "الماوردي" 1/ 500.

نص عليه الله تعالى في القرآن، ألا ترى أن ابن مسعود قال: إن الله تعالى لعن في كتابه المرأة التي تصلُ شعرها بشعر غيرها. فقال بعض من سمع ذلك منه بعد زمان: لقد تدبرت الكتاب فلم أجد لعنها في موضع من الكتاب. فقال: أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" (¬1). ومثل هذا ما روي عن عكرمة أنه قال: أمهات الأولاد أحرار بالقرآن. قيل: أي القرآن؟ قال: أعتقهن عمر بن الخطاب. ألم تسمع قول الله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وإن عمر من أولي الأمر، وإن عمر قال: أعتقها ولدها وإن كان سقطًا (¬2). فجعل ما حكم به عمركما حكم به الكتاب. وردُّ المختلف فيه إلى الكتاب والسنة إنما يجب إذا كان الاختلاف قائمًا. فأما إذا وقع عليه إجماع الصحابة، أو إجماعُ يؤثر في رفع الخلاف فذلك حق، ولا نحتاج بعد ذلك إلى نظر في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك الإجماع مستند إلى الكتاب والسنة (¬3). قال أبو إسحاق: ويحتمل أن يكون معنى قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أي قولوا فيما لم تعلموه: الله ورسوله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4886) كتاب التفسير سورة الحشر باب: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، ومسلم بنحوه (2125) كتاب اللباس - باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، وغيرهما. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، انظر: "الدر المنثور" 2/ 316. (¬3) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي ص 322، 470، 472. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 68، وانظر: القرطبي 5/ 261.

قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ}. أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة وترككم التجادل خير (¬1). وقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. التأويل تفعيل من آل يؤول إذا رجع وعاد. وقال أبو عبيد: التأويل: المرجع والمصير، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا، أي: صار إليه، وأولته صيرته إليه (¬2). وقال ابن المظفر: التأول والتأويل: تفسير الكلام الذي يختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه. وأنشد: نحنُ ضربناكم على تنزيله ... فاليوم نضربكم على تأويله (¬3) وسئل أحمد بن يحيى عن التأويل، فقال: التأويل والتفسير المعنى واحد (¬4). قال الأزهري: اشتقاق التأويل من ألت الشيء أؤوله: إذا جمعته وأصلحته. فكأن التأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ واضح لا إشكال فيه. تقول العرب: أوَّل الله عليك أمرك. أي: جمعه. وإذا دعوا عليه قالوا: لا أول الله عليك شملك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 151، "معاني الزجاج" 2/ 68. (¬2) من "تهذيب اللغة" 1/ 233. (¬3) "العين" 8/ 369، "تهذيب اللغة" 1/ 233، وانظر: "اللسان" 1/ 172 (أول) والبيت من الرجز، وهو لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقد قال بعده: ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله "أساس البلاغة" 1/ 25 (أول). (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 232، وانظر: "اللسان" 1/ 172 (أول). (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 232 (أول)، وانظر: "اللسان" 1/ 172 (أول)، والقرطبي 5/ 263.

60

هذا كلام أهل اللغة في معنى التأويل. وقول المفسرين غير خارج عن معاني قول أهل اللغة. قال ابن عباس في قوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}: يريد أصدق تفسيرا (¬1). وقال قتادة والسدي وابن زيد: وأحمد عاقبة (¬2). وهذا على قول من يجعل التأويل مشتقًّا من الأَوْل بمعنى الرجوع. والعاقبة تسمى تأويلًا؛ لأنها مآل، بمنزلة ما تفرقت عنه الأشياء ثم رجعت إليه، يقال: إلى هذا مآل هذا الأمر: أي عاقبته (¬3). وهذا القول اختيار الزجاج (¬4) وابن قتيبة (¬5). قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى: وأحسن من تأولكم أنتم، دون ردكم إياه إلى الكتاب والسنة (¬6). وذكرنا طرفًا من الكلام في معنى التأويل في أول سورة آل عمران. 60 - وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية. الزَّعم والزُّعم لغتان. وأكثر ما يستعمل الزعم بمعنى القول فيما لا يتحقق (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرج ذلك عنهم الطبري 5/ 152، وذكره الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 500، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 363، والبغوي 2/ 242، وابن كثير 1/ 569، "الدر المنثور" 2/ 318. (¬3) انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 162، "أساس البلاغة" ص 1/ 25 (أول). (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 68. (¬5) انظر: "غريب القرآن" ص 127. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 68. (¬7) انظر: "العين" 1/ 364، "تهذيب اللغة" 2/ 1534 (زعم)، "زاد المسير" 2/ 120.

قال ابن المظفر: أهل العربية يقولون: زعم فلان. إذا (شك فيه) (¬1) فلم يدر لعله كذب أو باطل، وكذلك تفسير قوله: {هَذَا الله بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:136] أي بقولهم الكذب (¬2). قال شمر: روي عن الأصمعي أنه قال: الزعم الكذب وأنشد للكميت: إذا الإكام اكتست مآليها ... وكان زعم اللوامع الكذب (¬3) يريد السراب. قال شمر: والعرب تقول: أكذب من يلمع (¬4). وقال شريح: زعموا كنية الكذب (¬5). قال (¬6) شمر: الزَّعم والتزاعم أكثر ما يقال فيما يشك فيه ولا يحقق (¬7). أبو عبيد عن الأصمعي: الزعوم من الغنم التي لا يُدرى أبها شحم أم لا (¬8). ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الزعم القول يكون حقًا ويكون باطلًا (¬9). وأنشد في الزعم الذي هو حق يذكر نوحًا: نودي قم واركبن بأهلك ... إن الله موف للنَّاس ما زعما (¬10) ¬

_ (¬1) في "العين" 1/ 364 (زعم): "شك في قوله". (¬2) "العين" 1/ 364، "تهذيب اللغة" 2/ 1532 (زعم). (¬3) في "تهذيب اللغة" 2/ 1533، "اللسان" 3/ 1834 (زعم). (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1533، وانظر: "اللسان" 3/ 1836 (زعم). (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1533 (زعم). (¬6) في (ش): قاله، ولعله تصحيف، انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1533 (زعم). (¬7) من "تهذيب اللغة" 2/ 1533، وانظر: "اللسان" 3/ 1836 (زعم). (¬8) "تهذيب اللغة" 2/ 1533 (زعم). (¬9) "تهذيب اللغة" 2/ 1532 (زعم). (¬10) البيت للجعدي. "ديوانه" 136. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1533، "اللسان" 3/ 1835 (زعم)، "خزانة الأدب" 9/ 133، "الجمهرة" 2/ 816.

وهذا بمعنى التحقيق (¬1). والذي في هذه الآية المراد به الكذب؛ لأن الآية نزلت في المنافقين. قال الكلبي وغيره من المفسرين (¬2): نازع رجل من المنافقين رجلًا من اليهود، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وهو الذي يسمى الطاغوت. فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصار إليه، فحكم لليهودي على المنافق، فقال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر، فحكم أبو بكر لليهودي، فلم يرض المنافق، وقال: بيني وبينك عمر، فصارا إلى عمر، فأخبره اليهودي أنَّ المنافق قد حكم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، فلم يرض بحكمهما، فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: اصبرا، إن لي حاجة أدخل فأقضيها وأخرج إليكما فدخل فأخذ سيفه ثم خرج إليهما، فضرب به المنافق حتى برد، وهرب اليهودي. فجاء أهل المنافق، فشكا عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر عن قصته، فقال عمر: إنه رد حكمك يا رسول الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنت الفاروق (¬3). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1533 (زعم). (¬2) كابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس. انظر الطبري 5/ 154 - 155، والكلبي في هذا الأثر يروي عن أبي صالح عن ابن عباس وهو سند واه وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 166. (¬3) ذكره الزجاج في "معانيه" 2/ 69، بصيغة التمريض، يُروى، بلفظ المؤلف وأخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 81 أ، من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وكذلك المؤلف في "أسباب النزول" ص 166، وهذا الطريق من الأسانيد الواهية كما هو مشتهر، وانظر: "تفسير القرطبي" 5/ 264، "الدر المنثور" 2/ 320. وأخرجه بنحوه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود, =

وروي أن عمر لما قتل المنافق أتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ الفاروق فرق بين الحق والباطل فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر وقال: أنت الفاروق (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: الطاغوت ههنا حيي بن أخطب (¬2) وقال السدي: الطاغوت ههنا كاهن يقال له أبو بردة هلال بن عويمر (¬3)، وذلك أنه وقعت خصومة في دم بين أناس من قريظة والنضير، كانوا قد آمنوا ونافق بعضهم، واختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرضوا بحكمه، وقالوا: حتى يحكم بيننا أو بردة الكاهن، ونزلت الآية في شأنهم (¬4). وسنذكر هذه القصة عند قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، وعند قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] إن شاء الله. ¬

_ = وسنده ضعيف. انظر: "الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" ص 45، "لباب النقول" ص 73. (¬1) "الكشف والبيان" (4/ 81/ ب)، وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 666. (¬2) ذكره النحاس في "معاني القرآن" 2/ 111 مرويًا عن ابن عباس، وذكره بغير نسبة الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2196 (طغا)، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 82 أ. وقد أخرج الطبري من رواية عطية العوفي عن ابن عباس أن الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف. "تفسير الطبري" 5/ 154، وأخرجه ابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 320. (¬3) هو أبو بردة الأسلمي، دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى، ثم كلمه أبناؤه في ذلك فأجاب، وكان كاهنًا يقضي بين اليهود. انظر: "الإصابة" 4/ 19. (¬4) ذكر الكلام عن السدي بطوله الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 81 ب، 82 أ، وأشار إليه ابن الجوزي ونسبه لابن عباس من طريق عكرمة. انظر: "زاد المسير" 2/ 119.

61

والطاغوت ذو الطغيان على جهة المبالغة في الصفة. ومضى الكلام فيه. وقوله تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} قال ابن عباس: أمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم (¬1). {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} قال: يريد ضلالًا لا يرجعون عنه إلى محبة الله أبدًا، وهو النفاق (¬2). وجملة معنى الآية تعجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهل من يعدل عن حكم الله إلى حكم الطاغوت، مع زعمه بأنه يؤمن بالله ورسوله وما أنزل إليه، تفحيشًا لفعله، وتحذيرًا من مثل حاله. 61 - وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال ابن عباس: يريد في القرآن من الحكم (¬3). وقوله تعالى: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}. أي يعرضون عنك إلى غيرك. وذكر المصدر للتأكيد وبيان وقوع الصدود على الحقيقة، كما قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي ليس ذلك على بيان كالكلام، بل كلمه في الحقيقة (¬4). قال أهل العلم: وإنما صد المنافقون عن حكم رسول الله، لأنهم ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامقش المصحف ص 88 (¬2) لم أقف عليه، وانظر: "زاد المسير" 2/ 120، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 604، دون نسبة إلى ابن عباس، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 82 أ، ب بتصرف، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 364، والقرطبي 5/ 264.

62

كانوا ظالمين وعلموا أنه لا يأخذ الرشا (¬1) على الحكم، وأنه يحكم بمُرِّ الحق (¬2). وقيل: لعداوتهم للدين (¬3). 62 - قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الآية في تأويل هذه ووجه نظمها طريقان: أحدهما: أن المراد بالمصيبة ههنا نقمة من الله تنالهم عقوبة لهم بصدودهم. وفي الكلام إضمار واختصار، معناه: فكيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم مصيبةٌ مجازاةً لهم على ما صنعوا. ويتم الكلام عند قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ثم عطف قوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ} على معنى ما تقدم، لا على ظاهر اللفظ. وقد بينا في مواضع أنه يجوز العطف على ما يمكن في المعنى كقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259]، وقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا} [آل عمران: 86]، وقد سبقت الآيتان بما فيهما من القول. والتقدير في هذه الآية: أنه لما أخبر عنهم بالتحاكم إلى الطاغوت، (وصدُّوا عنك صدودًا) {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} وذلك أن المنافقين أتوا نبي الله عليه السلام وحلفوا أنهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة إلا توفيقًا بين الخصوم، أي جمعًا وتأليفًا وإحسانًا بالتقريب في الحكم، دون الحمل على مرِّ الحق. وكل ذلك كذب منهم وإفك؛ لأن الله تعالى قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63]، أي من الكذب والخيانة. ¬

_ (¬1) جمع رشوة، وجاءت في المخطوط هكذا بالممدودة، والصواب "الرشى" بالمقصورة. انظر: "اللسان" 3/ 1653 (رشا). (¬2) انظر: الطبري 5/ 155, "النكت والعيون" 1/ 501 - 502. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 121، "التفسير الكبير" للرازي 10/ 158.

وعلى هذا يكون قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} كلام معترض. وقد يفعل ذلك العرب، يدخلون بين كلام متصل فصلًا يقرب منه في المعنى، وليس هو إياه، وهو كثير في الشعر، من ذلك قول الشاعر: وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعافٍ ولا عزل (¬1) أراد: أدركتني أسنة قوم، فأدخل بينهما جملة معترضة، وهي من قبيل معنى كلامه؛ لأن إدراك الأسنة إياه من جملة الحوادث. ويسمي الرواة مثل هذا التفاتًا. وهذه طريقة صحيحة (¬2). الثاني: أن المراد بالمصيبة التي أصابتهم قتل عمر صاحبهم الذي أظهر أنه لا يرضى بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى قوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} هو أنهم طالبوا عمر بدم صاحبهم، وحلفوا: ما أردنا (بهذه) (¬3) المطالبة إلا إحسانًا وطلبًا لما يوافق الحق. وهذا المعنى الثاني اختيار أبي إسحاق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 1/ 575، و"الخصائص" 1/ 331، و"المحكم" و"اللسان" (فشل)، و"سر الصناعة" 1/ 140، و"مغني اللبيب" 2/ 387، ونسبه في "الدرر اللوامع" 4/ 25 لجويرية بن زيد ولرجل من بني عبد الدار في "شرح شواهد المغني" 2/ 807. (¬2) الظاهر أن هذا الكلام من كتاب "نظم القرآن" وهو مفقود ويؤكد هذا كلام المؤلف، وانظر: "تفسير الطبري" 5/ 156، "بحر العلوم" 1/ 364، "الكشف والبيان" 4/ 82 ب، "زاد المسير" 2/ 120، "التفسير الكبير" للرازي 10/ 158، والقرطبي 5/ 264. (¬3) كلمه غير واضحه، ولا يبعد ما أثبته. (¬4) الزجاج في "معانيه" 2/ 69، وقد أشار إليه بإيجاز. وانظر: "الكشف والبيان" 82/ ب "النكت والعيون" 1/ 502، "زاد المسير" 2/ 121، "الرازي" 10/ 158.

وقيل: معناه ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانًا وتوفيقًا (¬1). فيكون هذا كما ذكرنا في الوجه الأول. ونظم الآية على هذا المعنى أن قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} فصل منسوق على ما قبله من قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} و {أَلَمْ تَرَ} معناه ههنا تعجيب، و (كيف) أيضًا استفهام معناه التعجيب، كما تقول في الكلام: كيف رأيت فلانًا فعل كذا وكذا، إذا أردت أن تعجب المخاطب من فعله. والله تعالى عجب نبيه مما قد هم المنافقون (¬2) من التحاكم إلى الطاغوت، ثم نسق عليه خبرًا آخر عجبه مما كان منهم عند قتل صاحبهم، وتهتك أستارهم بظهور نفاقهم. والتقدير: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك كَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بالله إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا. إلا أن الفاء دخلت في أول (كيف) لأنه نسق على ما قبله ومعطوف. وكذلك دخلت ثم في قوله: {ثُمَّ جَآءُوكَ} للنسق. وهذا الوجه ذكره الحسن بن يحيى الجرجاني (¬3). والطريقة الأولى أعجب إلي وأقوى في نفسي؛ لأنه ليس يظهر وجه دخول الفاء في (فكيف) ودخول ثم في قوله: {ثُمَّ جآءُوكَ} على ما ذكره صاحب النظم، وعلى ما ذكره المتعجب منه مجيئهم حالفين، ولا يحسن ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 82 ب، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 502، "زاد المسير" 2/ 121. (¬2) هكذا جاءت هذه العبارة. والمراد: مما قد همّ به المنافقون. وقد تكون "به" ساقطة من النسخ. (¬3) صاحب كتاب "نظم القرآن".

دخول ثم على المتعجب منه إذا لم يكن قبله ما ينسق عليه، كقولك: كيف رأيت زيدًا ثم ضربك. إلا أنه قد لاح لي أن قوله: {ثُمَّ جَآءُوكَ} منسوق على المتعجب منه في قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} ويكون {جَآءُوكَ} بمعنى: يجيئونك. ومثله في الكلام: ألم تر إلى زيد يهجوك ويشتمك فكيف إذا نزلت به نازلة ثم يأتيك؟ فيصح هذا الكلام على تقديم وتأخير كأنك قلت: يهجوك ويشتمك ثم إذا نزلت به نازلة فكيف ذلك. كذلك تقدير الآية: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ويصدون عنك صدودًا، ثم يجيئونك يحلفون بالله ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا، إذا أصابتهم مصيبة فكيف؟ أي فكيف ذلك. والتقديم والتأخير كثير في الكلام، وكل هذا من مذاهب العرب وافتنانهم في مخاطباتهم، وإيقاع الماضي موقع المستقبل كثير في كلامهم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} [الروم: 51]. قال الخليل: معناه ليظلن. فأوقع الماضي موقع المستقبل (¬1)، ومنه قول الحطيئة (¬2): شهد الحطيئة عند يلقى ربه ... أن الوليد أحقُّ بالعذر (¬3) ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 398. (¬2) هو جرول بن أوس من بني قطيعة بن عبس، تقدمت ترجمته. (¬3) "ديوان الحطيئة بشرح ابن السكيت والسكري والسجستاني" ص 233، وجاء في شرحه أن المراد بالوليد هو الوليد بن عقبة بن معيط وذلك أنه لما كان واليًا على العراق شرب الخمر فصلى بالناس الغداة فلما فرغ قال: أأزيدكم؛ فعلم أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بذلك فضربه الحد.

63

أي يشهد (¬1). فهذا ما يحضرني في هذه الآية. 63 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} الآية قال أبو إسحاق: الله عز وجل يعلم ما في قلوب أولئك وقلوب غيرهم، إلا أن تخصيصهم بالذكر هنا يفيد أن المعنى أولئك الذين قد علم الله أنهم منافقون، فكأنه قيل لنا: اعلموا أنهم منافقون (¬2). وقال غيره: معنى قوله: {يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي لا يُغني عنهم كتمان ما يضمرونه، ولا يدفع عنهم شيئًا من العقاب؛ لأن الله تعالى يعلم ما في قلوبهم (¬3). فهذا كلام أهل المعاني، وقد عُلم النظم وظهرت الفائدة من غير إضمار. وأما أهل التفسير فقال الحسن ومقاتل: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم من الشرك والنفاق (¬4). وقال عطاء: كذبهم الله تعالى بهذه الآية. يريد أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (¬5). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 398. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 365، و"تفسير القرطبي" 5/ 265. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 1/ 502، "التفسير الكبير" 10/ 158. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" 1/ 385، "الكشف والبيان" 4/ 82 ب، ولم أقف عليه عن الحسن. (¬5) ذكر ابن الجوزي معناه عن ابن عباس في "زاد المسير" 2/ 122، ولم أقف عليه عن عطاء.

وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}. قال ابن عباس: يريد: فاصفح عنهم. قال: وهذا منسوخ يعني بآية السيف (¬1). وقال بعض أصحاب المعاني: معناه فأعرض عن قبول الاعتذار منهم (¬2). وقال مقاتل: معنى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تعاقبهم (¬3). وقوله تعالى: {وَعِظْهُمْ}. قال ابن عباس: يريد ذكرهم (¬4). وقال مقاتل: وعظهم بلسانك (¬5). وقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} يقال: قول بليغ، وقد بلغ القول بلاغةً، أي صار بليغًا وجيدًا وكذلك: بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ، إذا كان يبلغ بعبارة [لسانه كنه ما في قلبه] (¬6)، ويقال: أحمق بلغٌ ¬

_ (¬1) ذكر نحو ذلك غير منسوب لابن عباس كثير من المفسرين، وبعضهم ينسب القول بالنسخ إلى مقاتل. انظر: الطبري 5/ 156، "بحر العلوم" 1/ 365، "الكشف والبيان" 4/ 82 ب، "الوسيط" 2/ 605، "معالم التنزيل" 2/ 244، "زاد المسير" 2/ 122. (¬2) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 503، والبغوي في "معالم التنزيل" 2/ 244، والقرطبي 5/ 265، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 158. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 365، "الكشف والبيان" 4/ 82 ب، "زاد المسير" 2/ 122. (¬4) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 605، بلفظ: "خوفهم بالله". وذكره بنحو ما في "الوسيط" البغوي غير منسوب لأحد. انظر: "معالم التنزيل" 2/ 244. (¬5) "تفسيره" 1/ 385، وذكره في "بحر العلوم" 1/ 365، والبغوي في "معالم التنزيل" 2/ 244، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 122. (¬6) بياض في (ش) بقدر أربع كلمات تقريبًا، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 70 لأنه نقل الكلام منه. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 430، "زاد المسير" 2/ 122، والقرطبي 2/ 265.

وبلغٌ (¬1)، ومعناه أنه يبلغ مع حمقه حاجته. وقيل: إنه الذي (بلغ النهاية في الحماقة) (¬2). وأما التفسير فقال ابن عباس: يريد خوفهم بالله (¬3). وقال الحسن: أي قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق (قتلتم) (¬4): فهذا القول البليغ؛ لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ (¬5). وقال الزجاج: أعلمهم إن ظهر منهم رد لحكمك وكفر، فالقتل حقهم (¬6). وقال بعضهم: أي قل لهم في أنفسهم من الغيب بما أطلعك الله عليه من غشهم قولًا بليغًا، شديدًا باللسان، يعني: فازجرهم عما هم عليه بأبلغ الزجر، كي لا (يستمروا) (¬7) الكفر، وعظهم كي لا يغتروا بطول الإمهال (¬8). ¬

_ (¬1) يحتمل أن تكون "بلغ ملغ" بالميم أي خبيث. انظر: "الصحاح" 4/ 1316 (بلغ). (¬2) ما بين القوسين غير واضح. ويبدو أن ذلك بسبب الرطوبة التي تصيب المخطوطات مع الزمن. وقد استوضحته وأثبته بالرجوع إلى "معاني الزجاج" 2/ 70، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 430، وانظر القرطبي 5/ 265. (¬3) تقدم الكلام على أثر عن ابن عباس نحوه. (¬4) هذِه الكلمة في المخطوط: "قتلتكم"، وكذا عند القرطبي 5/ 265، وعند الماوردي: "قتلكم"، وما أثبته هو الموافق "للوسيط" للمؤلف 2/ 605، "معالم التنزيل" 2/ 244. (¬5) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 503، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 605 , لكن محققه اعتبر كلام الحسن إلى قوله: "قتلتم"، ولا أراه صوابًا. وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 244، والقرطبي 5/ 265، "البحر المحيط" 3/ 281. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70. (¬7) كأن هذِه الكلمة: "يستيسروا". (¬8) انظر: "النكت والعيون" 1/ 503، "التفسير الكبير" 10/ 159، "البحر المحيط" 3/ 281.

64

والأظهر أن قوله: ({فِي أَنْفُسِهِمْ} حقه) (¬1) التأخير؛ لأن المعنى: قولًا بليغًا في أنفسهم (¬2). 64 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية. (من) دخلت مؤكدة، المعنى: وما أرسلنا رسولًا. قاله الزجاج (¬3). وقوله تعالى: {إِلَّا لِيُطَاعَ} الذي اقتضى ذكر طاعة الرسول ههنا إعراض المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت. ومعنى: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال الكلبي: بأمر الله (¬4). يعني أن طاعة الرسول وجب (¬5) بأمر الله الذي دل على وجوب طاعته. ونحو هذا قال الزجاج، أي إلا ليطاع؛ لأن الله قد أذن في ذلك وأمر (¬6). وقال مجاهد: يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله (¬7). يريد أن الله قد بعث الرسل ليطاعوا، ولا يطيعهم إلا من شاء الله ¬

_ (¬1) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط، وما أثبته هو الأقرب. (¬2) انظر: " التفسير الكبير" 10/ 159، "الدر المصون" 4/ 18. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 430، "معاني القرآن" له 2/ 128. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88، وقد ذكره غير واحد من المفسرين غير منسوب للكلبي. انظر: "بحر العلوم" 1/ 365، "معالم التنزيل" 2/ 244. (¬5) لعل الصواب: "وجبت"، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 244. (¬6) انظر.: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 128، "معالم التنزيل" 2/ 244. (¬7) "تفسيره" 1/ 165، وأخرجه الطبري 5/ 157، وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 321.

65

وأراد ذلك منه، وهذا خلاف مذهب القدرية. ومحل قوله: {لِيُطَاعَ} نصب، لأن المعنى: وما أرسلنا رسولًا إلا مفروضًا له الطاعة (¬1). وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن عباس: يريد بعصيانهم إياك وموالاتهم الكفار حتى يُحكِّموهم ويتحاكموا إليهم (¬2). وقوله تعالى: {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} قال: يريد نزعوا وتابوا إلى الله (¬3). وقال الزجاج: المعنى في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إلى آخر الآية: ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم أنفسهم مع استغفارهم {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬4). 65 - قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية. دخول (لا) في أول الكلام يحتمل معنيين: أحدهما: أن (لا) ردّ لكلام سبق، كأنه قيل: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك. ثم استؤنف القسم بقوله: {وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (¬5). الثانى: أن (لا) توطيدٌ للنفي الذي يأتي فيما بعد، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وآخره كان أوكد وأحسن، لأن النفي يتصدر الكلام وقد اقتضى ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 4/ 18. (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 606، دون نسبة لابن عباس، وذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 123. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88 (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70. (¬5) "تفسير الطبري" 5/ 158، "الكشف والبيان" 4/ 83 ب، وانظر: "الدر المصون" 4/ 19.

القسم أن يذكر في الجواب (¬1). واختلفوا في هذه الآية، فذهب عطاء مجاهد والشعبي، أن هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق، وأن هذه الآية متصلة بما قبلها (¬2). وهو اختيار الزجاج (¬3). وقال آخرون: هذه مستأنفة، نازلة في قصة أخرى، وهي ما روي عن عروة بن الزبير: أن رجلًا من الأنصار (¬4) خاصم الزبير في شراج الحرّة (¬5) التي يسقي بها (كلاهما) (¬6)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير: "اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" وقضى للزبير على الأنصاري، فقال الأنصاري: إنك تُحابي ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 3/ 284، "الدر المصون" 4/ 19. (¬2) أخرج الأثر عن مجاهد والشعبي الطبري 5/ 159 - 160، وابن المنذر عن مجاهد. انظر: "الدر المنثور" 2/ 322. وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 83 ب، "النكت والعيون" 1/ 503، "معالم التنزيل" 2/ 245، "الرازي" 10/ 163 ونسبه الرازي إلى عطاء. واختاره ورجحه الطبري 5/ 160، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 456. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70. (¬4) قيل: هو: حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: ثعلبة بن حاطب. انظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 155، "معالم التنزيل" 2/ 245. (¬5) الشراج: جمع شرج وهو مجرى الماء، والحرة: موضع بالمدينة، أرض ذات حجارة سوداء. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 160، "اللسان" 2/ 828 (حرر). (¬6) غير واضحة في (ش)، وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 167 - 168. وقد رجح محمود شاكر في تحقيقه للطبري 8/ 519 أن تكون هذِه الكلمة: "كلاهما" وهو العشب.

للزبير: "اسق، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" (¬1). قال الزبير: والله إن هذه الآية نزلت في ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية (¬2). واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء، وحقه تمام السقي، وتمامه أن يبلغ الماء الجدر (¬3) وأقل السقي ما سمي سقيًا. قال الزهري (...) (¬4) ماء الأنهار قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يبلغ الماء الجذر" فكان ذلك إلى الكعبين. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير (....) (¬5) على المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب، ولم يعرف حق ما أمره به النبي من المسامحة (لأجل) (¬6) أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق (¬7). وقوله تعالى: {شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. يقال: شجر بينهما من خصومة (أي اختلف واختلط) (¬8). ¬

_ (¬1) "الجدر: بفتح الجيم وكسرها ... والمراد بالجدر أصل الحائط، وقيل أصول الشجر والصحيح الأول". "صحيح مسلم" 4/ 1830 حاشية (4)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 246. (¬2) أخرجه البخاري (4585) في التفسير سورة: النساء، باب: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك ..} 5/ 180، ومسلم (2357) في الفضائل، باب: وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 607، "أسباب النزول" ص167 - 168. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 163. (¬4) كلمة غير واضحة في (ش) ويمكن أن تقدر بـ: [وذلك في] ماء الأنهار. (¬5) غير واضح بقدر كلمتين، ويبدو أنها "أن يسقي" أو نحوها، انظر: "التفسير الكبير" 10/ 163. (¬6) هكذا في المخطوط، وفي "التفسير الكبير" للرازي 10/ 163: "لأجله"، وهو أصوب. (¬7) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 163. (¬8) ما بين القوسين غير واضح تمامًا، وانظر: "الوسيط" للمؤلف 2/ 609.

قال الفراء: يشجر (¬1) شجورًا وشجرًا. وشاجره في الأمر إذا نازعه في الأمر مشاجرة وشجارًا. وتشاجروا تشاجرا واشتجروا، وكل ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض، (ومنه) (¬2) يقال لخشبات الهودج شجارٌ لتداخل بعضها في بعض (¬3). قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بالمشاجرة: المنازعة (¬4). وقال الضحاك و (...........) (¬5). وقال الكلبي: فيما التبس بينهم (¬6) وذلك أن الاختلاط والتداخل يؤدي إلى الالتباس. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}. أصل الحرج في اللغة الضِّيق، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه: حرج، وجمعه حراج (¬7)، ومنه قول العجاج: عاين حيًّا كالحراج نعمه (¬8) ¬

_ (¬1) في "الوسيط" 2/ 609: (شجر يشجر). (¬2) غير واضحة تمامًا، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 163. (¬3) كلام الفراء ليس في "معاني القرآن"، فقد يكون في كتابه المفقود: "المصادر"، وانظر: الطبري 5/ 158، "تهذيب اللغة" 2/ 1830، "مقايس اللغة" 3/ 246 (شجر)، "الوسيط" 2/ 609، "التفسير الكبير" 10/ 163. (¬4) لم أقف عليه، وقد قال السيوطي: أخرج الطستي عن ابن عباس ... {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} قال: "فيما أشكل عليهم"، "الدر المنثور" 2/ 323. (¬5) ما بين القوسين بياض في (ش)، ولم أقف على قول للضحاك في تفسير هذِه الآية. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88. (¬7) انظر: الطبري 5/ 158، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 129، "تهذيب اللغة" 1/ 755، "الصحاح" 1/ 306 (حرج)، "التفسير الكبير" 10/ 164. (¬8) نسبه في "الصحاح" 1/ 306 (حرج) لرؤبة بن العجاج، وفي "اللسان" 2/ 822 (حرج). وهو صدر بيت من الرجز، عجزه: يكون أقصى شدِّه محر نجمه

وسنذكر هذا بأبلغ من هذا الشرح عند قوله: {ضَيِقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] إن شاء الله. قال ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}: يريد ضيقًا مما قضيت، يريد: يرضوا بقضائك (¬1). وكذا قال أبو العالية: حرجًا أي ضيقًا (¬2). وقال مجاهد: شكا (¬3)، أي لا تضيق صدورهم عن قضيتك. وقوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} التسليم تفعيل من السلامة، يقال: سلم فلان، أي: عوفي ولم تنشب به بلية. وسلم هذا الشيء لفلان، أي: خلص له من غير منازع ولا مشارك. فإذا ثقلته بالتشديد فقلت: سلّم له، فمعناه أنه خلصه له ولم يدع فيه (¬4). هذا هو الأصل في اللغة. وجميع معاني التسليم راجع إلى هذا الأصل، فقولهم: سلّم عليه، أي دعا له بأن يسلم. وسلم إليه الوديعة، أي أخلصها له وخلى بينها وبينه. وسلم له، أي: بذل الرضا بحكمه، على معنى: ترك السخط والمنازعة. وكذلك: سلم لفلان ما قال، أي أخلصه له ¬

_ = والشاهد أن النعم وهي الإبل كالحراج وهي الشجر الملتفة الكثيرة. (¬1) في "زاد المسير" 2/ 124 أن ابن عباس فسر الحرج هنا بالشك كقول مجاهد الآتي وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88، وعنه أيضاً: (هما وحزنًا). انظر: "البحر المحيط" 3/ 284. وممن فسر الحرج بالضيق أبو عبيدة في "مجازة" 1/ 131، والطبري 5/ 158، والزجاج في "معانيه" 2/ 70. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسيره" 1/ 164، وأخرجه الطبري 5/ 158. (¬4) انظر: "مقاييس اللغة" 3/ 90، "المفردات" للراغب 239 - 240.

من غير معارضة فيه. وكذلك: سلم إلى الله أمره، أي فوض إليه على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرًا ولا شركة وعلم أن المدبر والصانع هو الله وحده لا شريك له. هذا معنى التسليم. وأما التفسير: قال ابن عباس: ويسلموا الأمر إلى الله وإلى رسوله (¬1). وقال الزجاج: أي يسلِّمون لما يأتي من حكمه (¬2)، ولا يعارضونه بشيء (¬3). و (تسليمًا) مصدر مؤكد، والمصادر المؤكدة بمنزلة ذكر الفعل ثانيًا فإذا قلت: سلمت تسليمًا، فكأنك قلت: سلمت سلمت. وحق التوكيد أن يكون محققًا لما تذكره في صدر كلامك، فإذا قلت: ضربت ضربًا، فكأنك قلت: أحدثت ضربًا أحقه ولا أشك فيه، فكذلك {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: يسلِّمون لحكمك تسليمًا لا يدخلون على أنفسهم شكًا (¬4). وقد أخبر الله تعالى أنه لا يتم إيمانهم حتى يعتقدوا وجوب المراجعة في خصوماتهم وتحكيمه والرضا بحكمه من غير ضيق صدر ولا كراهة، وأن من تسخط حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وارتاب (....) (¬5) أو عدل إلى غيره رغبة عنه، غير مسلم له، فهو كافر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (88). (¬2) في "معاني الزجاج" 2/ 71: حكمك. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 71. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 71، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 129، "المحرر الوجيز" 4/ 121، القرطبي 5/ 269، "البحر المحيط" 3/ 284. (¬5) هنا بياض بقدر حرفين، فقد يكون الساقط: "فيه" والله اعلم. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 165.

66

66 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس والكلبي وغيرهما: يريد فرضنا وأوجبنا عليهم (¬1). قال مجاهد: يعني: على اليهود والعرب (¬2). قال المفسرون: كتب الله على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم، فقال الله: ولو كتبنا على هؤلاء ما كتبنا على غيرهم لما فعله إلا قليل منهم (¬3). وقوله تعالى: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}. قال الحسن: أخبر عن علمه فيهم، كقوله عن نوح: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] (¬4). يعني: ما يفعل ذلك إلا من قد علم الله منه ذلك وهم قليل. وقال عطاء: {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} يريد الأنصار (¬5). وقال مقاتل: كان من القليل عمار بن ياسر، وابن مسعود، وثابت بن قيس بن شماس (¬6). ونحو ذلك قال الكلبي، فقال: نزلت في ثابت بن قيس؛ لأنه قال: إن الله يعلم لو أمرني بأمرٍ أقتل نفسي لقتلت، فكان ثابت من القليل الذين استثنى (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 610 دون نسبة لأحد وكذا السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 366، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 88. (¬2) أخرج الطبري 5/ 160، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 323. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 84 أ، "الوسيط" 2/ 610، "الرازي" 10/ 167. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تفسيره" 1/ 387، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 246، والقرطبي 5/ 270. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (88)، "الكشف والبيان" (4/ 84 أ "معالم التنزيل" 2/ 246.

والظاهر في هذه الآية ما قال الحسن؛ لكون المستثنى من المكتوب عليهم، والمهاجرون والأنصار وهؤلاء الذين ذكرهم فقال: {مِنْهُمْ}، وإنما أريد بقوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} المنافقون والذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم، وهم الذين ذكروا في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية، وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} هذا هو ظاهر (....) (¬1) عطاء ومقاتل، فيمكن أن يحمل على وجهين: أحدهما: أن قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} يريد اليهود والمنافقين والمؤمنين جميعًا، ثم استثنى الصحابة الأنصار والمهاجرين والمؤمنين بقوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}، ويكون قوله بعد هذا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} اليهود والمنافقين. وقد ورد في التنزيل آي حمل بعضها على العموم وبعضها على الخصوص. وعليه (....) (¬2) أن يُحمل على قراءة من قرأ {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} بالنصب (¬3)؛ لاختلاف جنسي المستثنى منه والمستثنى، وذلك أنه في هذه الآية قبيلان: مكتوب عليهم وهم المنافقون، ومستثنى وهم الأنصار، فصار كالجنسين المختلفين، وإذا اختلف الجنسان فالاختيار النصب (¬4)، كقوله: وما بالرَّبع من أحدٍ إلا أواري (¬5) ¬

_ (¬1) بياض في (ش) بقدر كلمتين أو ثلاث، ويمكن أن تقدر بـ: [ما قاله] أو [ما ذهب إليه]. (¬2) كلمة غير واضحة في (ش)، ويمكن أن تقدر بـ: [يحتمل]. (¬3) هذِه قراءة لابن عامر خاصة وكذا هي في المصحف الشامي. انظر: "الحجة" 3/ 168، "النشر" 2/ 250. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 70، "شرح المعلقات العشر" للنحاس 2/ 158. (¬5) جملة مستفادة من بيتين من الشعر للنابغة الذبياني هما: وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيًا ما أبينها ... والنؤيُ كالحوض بالمظلومة الجلد

ويحتمل أن يكون هذا من الاستثناء المنقطع عن الأول، على أن تكون إلا بمعنى لكن، كأنه قيل: لكن قليلًا منهم، وهم الأنصار. وذكرنا معنى الاستثناء المنقطع بأبلغ الاستثناء عند قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} في سورة البقرة [الآية:150]. وقوله: {مِنْهُمْ} على هذا الكنايةُ تعود إلى المنافقين، ويقال ذلك لأن القبيلين وإن اختلفا من حيث الإيمان والكفر، فقد اتفقا بالنسب والجوار والحلف واللغة، وكونهم أهل عصر (¬1) واحد، في زمن نبي واحد، وكل هذا من الملابسة بين الفريقين، ولأن المنافقين أيضًا ادعوا الإيمان وأظهروا شعاره، فقاسمُ الإيمان يشملهم. ومثل هذا من التنزيل قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] يعني المنافقين، وهو يخاطب المؤمنين، فجعلهم منهم. وسنذكر الوجه منه إذ انتهينا إليه. ولهذا المعنى الذي ذكرنا أن القليل غير مستثنى من المنافقين اختار جماعة من القراء (....) (¬2) الوقف على قوله: {مَا فَعَلُوهُ} إشعارًا أن هذا الاستثناء منقطع من الأول (¬3). ¬

_ = "معاني الزجاج" 2/ 70، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس 2/ 158. والأواري التي يحبس بها الخيل من وتد أو حبل، الواحد: آري، واللأى: البطء , والنؤي: حاجز من تراب حول الخيمة يحول دون وصول الماء إليها. وقال: بالمظلومة الجلد، لأنهم مروا في برية فحفروا فيها حوضًا وليست موضع حوض فجعل الشيء في غير موضعه. (¬1) قد تكون هذِه الكلمة: "مصر". (¬2) غير واضح في (ش)، ولعل الكلمة تكون: [ترجيح] الوقف ... (¬3) ممن اختار هذا الوقف يعقوب. انظر: "القطع والائتناف" ص 256.

واختلف القراء في قوله: {أَنِ اقْتُلُوا} و {أَوِ اخْرُجُوا} فكسرهما عاصم وحمزة (¬1) لالتقاء الساكنين (¬2) ولم يضماهما وإن ضمت الهمزة لضم الحرف الثالث في الفعل، لأنهما (.. (¬3) ..) المنفصل في حكم المتصل (¬4). ومن قرأ بالضم فيهما (¬5) فلأنهما حلّا محل الهمزة المضمومة كما ضمت هي، وإن كانتا منفصلتين (¬6). قال أبو إسحاق: للكسرة والضمة في هذه الحروف وجهان جيدان (¬7). وأبو عمرو كان يختار الكسر في: {أَنِ اقْتُلُوا}، والضم في: {أَوِ اخْرُجُوا}. قال الزجاج: ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية (¬8). وقال غيره (¬9): فصل أبو عمرو بين النون والواو لأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير، والجمهور في واو الضمير على الضم [نحو] (¬10) {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} [البقرة: 16، 175] {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} [البقرة: 237]. وهذا قول أبي علي الفارسي (¬11). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" ص 236، "الحجة" 3/ 167. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 71، "التفسير الكبير" 10/ 166. (¬3) بياض في (ش)، ولعله: مع كونهما من ... المنفصل ... (¬4) انظر: "الحجة" 3/ 168. (¬5) هذِه القراءة لابن عامر وابن كثير ونافع والكسائي. انظر: "السبعة" ص 234، "الحجة" 3/ 167. (¬6) انظر: "الوسيط" 2/ 610. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 72. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 72. (¬9) أبو علي في "الحجة" 3/ 167. (¬10) بياض في (ش)، والتسديد من "الحجة" 3/ 167. (¬11) "الحجة" 3/ 167.

وقال الأخفش: الضم في هذه الحروف لغة حسنة، [وهي] (¬1) أكثر في الكلام وأقيس، لأن ما أجروه في كلامهم من المنفصل مجرى المتصل أكثر من أن يُقتص (¬2). وقوله تعالى: {مَا فَعَلُوهُ} الكناية تعود إلى القتل والخروج كلاهما وذلك أن الفعل جنس واحد وإن اختلف ضروبه (¬3). واختلف القراء في قوله: {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} فمن ضم وهو الوجه جعله بدلًا من الواو في {فَعَلُوُه}، وكذلك كل مستثنى من مجحود، كقولك: ما أتاني (¬4) أحد إلا زيد، ترفع زيدًا على البدل من أحد، فتحمل إعراب ما بعد إلا على ما قبلها. وكذلك في النصب والجر، كقولك: ما رأيت أحدًا إلا زيدًا، وما مررت بأحد إلا زيد. قال أبو علي: الرفع هو الأكثر والأشيع في الاستعمال والأقيس، فقدته من جهة القياس أن معنى: ما أتاني أحد إلا زيد واحد (¬5)، فكما اتفق (¬6) على: ما أتاني إلا زيد، على الرفع، وكان: ما أتاني أحد إلا زيد، بمنزلته وبمعناه، اختاروا الرفع مع ذكر أحد. وأما من نصب فقال: ما جاءني أحد إلا زيدًا، فإنه جعل النفي بمنزلة ¬

_ (¬1) بياض في (ش)، والتسديد من "الحجة" 3/ 167. (¬2) من "الحجة" 3/ 167، 168، وكلام الأخفش ليس في كتابه "معاني القرآن". (¬3) من "الكشف والبيان" 4/ 84 ب بتصرف، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 167. وقد استبعد أبو حيان والسمين كون الضمير راجعًا إلى الأمرين، وإنما لأحدهما انظر: "البحر المحيط" 3/ 285، "الدرالمصون" 4/ 22. (¬4) انظر: "الحجة" 3/ 168. (¬5) يبدو أن في الكلام حذفًا أو سقطًا، ففي "الحجة" 3/ 168: "فقوته من جهة القياس أن معنى: ما أتاني أحد إلا زيد، وما أتاني إلا زيد، واحد". (¬6) في "الحجة" 3/ 168: "اتفقوا" وهو الأنسب بالسياق.

الإيجاب، وذلك أن قوله: ما جاءني أحد، كلام تام، كما أن: جاءني القوم كذلك، فنصب مع النفي، كما نصب مع الإيجاب، من حيث اجتمعا في أن كل واحد منهما كلام تام (¬1). وذكرنا للنصب وجها آخر في معنى الآية. قال أصحاب المعاني: (....) (¬2) تجهيل من خالف ما يلزمه من التكليف مع تسهيله، ولو شدد نهاية التشديد لم يجز إلا (......) (¬3) من الحظ الجزيل. يقول الله تعالى: ولو كتبنا عليهم القتل والخروج ما فعلوه للمشقة فيه، مع أنه كان ينبغي أن يفعلوه (... (¬4) ..) وقد سهلنا تكليفهم غاية التسهيل ويسرناه نهاية التيسير. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}. قال مقاتل: ما يوعظون به من القرآن (¬5). وقال الكلبي: ما يُؤمرون به (¬6). وقوله تعالى: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} في الآخرة (¬7). وقال مقاتل: لكان خيرًا لهم في دينهم (¬8). وقال الحسن: لكان خيرًا له في العصمة وأمنع من الشياطين (¬9). وقوله تعالى: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]. قال عطاء عن ابن عباس: أشد تثبيتًا في دينهم (¬10). ¬

_ (¬1) انتهى من "الحجة" 3/ 168، 169، بتصرف. وانظر: "الوسيط" 2/ 611. (¬2) غير واضح في (ش) بسبب طمس بعض الحروف. (¬3) بياض في (ش). (¬4) كلمة غير واضحة، ويمكن أن تكون الكلمة: (سيما) وقد سهلنا. (¬5) "تفسير" 1/ 387. (¬6) "تنويرالمقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬7) انظر: "الوسيط" 2/ 611، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬8) "تفسيره" 1/ 387. (¬9) لم أقف عليه. (¬10) لم أقف عليه, وانظر: "الوسيط" 2/ 611.

67

وقال مقاتل: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} تصديقًا بأمر الله (¬1). فمعنى قول عطاء أنهم لو أطاعوا الرسول كان ذلك أشد تثبيتًا منهم لأنفسهم في الدين. وقال أبو روق: {تَثبِيتًا} تحقيقًا (¬2). 67 - قوله تعالى: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} قد استوفينا الكلام في أحكام (إذن) في قوله: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء:53] (¬3). ومعنى {مِنْ لَدُنَّا} من عندنا (¬4). وإنما ذكر من لدنا لتأكيد الاختصاص (¬5)، بأنه ما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأنه قد يؤتي ما يُجريه على يد بعض عباده، وقد يؤتي ما يختص بفعله، وذلك أشرف له وأعظم في النعمة به، ولأنه ينحتم (¬6) بما لا يقدر عليه غيره (¬7). يؤكد ما ذكرنا أن الأجر العظيم ههنا فُسر بالجنة في قول مقاتل وغيره (¬8). 68 - قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أرشدناهم إلى دين مستقيم (¬9). يريد دين الحنيفية لا دين اليهودية. ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 387. (¬2) في "الكشف والبيان" 4/ 84 ب جاء هذا الوجه من التفسير بلفظ: "تحقيقًا وتصديقا لإيمانهم" دون نسبة لأحد، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 246. (¬3) هنا جزء مفقود من الكتاب. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 366. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 169. (¬6) هكذا في (ش)، وقد تكون: (تفخيم)، والله أعلم. (¬7) انظر: "الوسيط" 2/ 612. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 387، "الوسيط" 2/ 612. (¬9) انظر: "بحر العلوم" 1/ 366، "تنوير المقياس" بهامش المصحف ص 89.

69

وقال غيره: ولأدمنا لهم اللطيفة التي يثبتون بها على الطاعة في لزوم الطريق المستقيم. كأنه يقول: ولأثبتناهم على الطريق المستقيم كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، (¬1). وقيل: ولهديناهم في الآخرة طريق الجنة (¬2). 69 - قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الآية. اختلفوا في سبب نزولها؛ فقال جماعة من أهل التفسير: إنها نزلت في ثوبان (¬3) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان بلغ من حبِّه لرسول الله ما شجاه وأثر فيه، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حاله، فقال: إني لا أكاد أصبر عنك، وأذكر الآخرة وأنت تُرفع في درجة النبيين، وأنا مع العبيد، فلا ألقاك، فنزلت الآية. وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي (¬4). وقال السدي: إن ناسًا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 125، "التفسير الكبير" 10/ 169. (¬3) هو أبو عبد الله ثوبان بن بجدد، وقيل: ابن جحدر، من حمير اليمن، أصابه السِّباء فاشتراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعتقه وخيره بين البقاء معه واللحاق بأهله فاختار البقاء معه وخدمته حتى توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فارتحل إلى مصر والشام ومات رضي الله عنه بحمص سنة 54 هـ. انظر: "أسد الغابة" 1/ 296، "سير أعلام النبلاء" 3/ 15، "الإصابة" 1/ 204. (¬4) ذكره أبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 367، وأورده غير منسوب لابن عباس الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 84 ب، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" 168 - 169، وقال الحافظ ابن حجر: "حكي ذلك عن جماعة من الصحابة" "الكافي الشاف" ص 46، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89، وقد أخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس: "أن رجلاً أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - .. " "الحديث بمعناه. انظر: ابن كثير 2/ 334 ط "الدر المنثور" 2/ 325.

الجنة في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فنزلت الآية (¬1). وقال الشعبي: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله، فقال: لأنت أحب إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي، ولولا أني آتيك فأراك , فظننت أني سأموت وبكى. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أبكاك؟ فقال: ذكرت أنك تُرفع مع النبيين، ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك، فلم يُخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ، فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} إلى قوله: {عَلِيمًا}، فقال له النبي: أبشر (¬2). وقال الحسن: إن المؤمنين قالوا للنبي: ما لنا منك إلا الدنيا، فإذا كانت الآخرة رُفعت في الأعلى (فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬3) وحزنوا، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {عَلِيمًا} (¬4). وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك، فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، وذكرتُ درجتك في الجنة، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة؟ فأنزل هذه الآية، فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى الأنصاريَّ ابنه وهو في حديقة له، فأخبره بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: اللهم أعمني فلا أرى شيئًا أبدًا بعد حبيبي، حتى ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 164، وانظر: "الدرالمنثور" 2/ 325. (¬2) أخرجه السمرقندي في "بحرالعلوم" 1/ 367، وسعيد بن منصور وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 325. وورد نحوه مرفوعاً من طريق الشعبي عن ابن عباس وعائشة وبعض التابعين. انظر: الطبري 5/ 163 - 164 "أسباب النزول" للمؤلف 169 - 170، وابن كثير 1/ 573 - 574، "الدرالمنثور" 2/ 325، "لباب النقول" ص (74). (¬3) ما بين القوسين بياض في (ش)، والتسديد من "التفسير الكبير" 10/ 170. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 170.

ألقى حبيبي. فعمي مكانه، وكان يُحب النبي - صلى الله عليه وسلم - حبًا شديدًا، فجعله الله معه في الجنة (¬1). قال الكلبي وغيره: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} في الفرائض {وَالرَّسُولَ} في السنن (¬2). قوله: {فَأُولَئِكَ} أي المطيعون. قاله الزجاج (¬3). وقوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}. أي أنه يستمتع برؤية النبيين وزيارتهم والحضور معهم، فلا يتوهمن من أجل أنهم في أعلى عليين أنه لا يراهم (¬4). وقوله تعالى: {وَالصِّدِّيقِين}. قال ابن (المظفر: هو من) (¬5) صدّق بكل ما أمر الله، لا يتخالجه في شيء منه شك، وصدق الأنبياء، فهو صديق. وهو قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 387، 388، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 170، وهذا الأثر غريب لوروده من طريق مقاتل وهو مطعون فيه، ولأن سؤال الرجل العمى لا يتفق وورود النهي عن مثله والأمر بسؤال الله العافية، ولأن فيه ما يحتاج إلى توقف وقد انقطع الوحي. (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 85 أ، "تنويرالمقباس" بهامش المصحف ص 89، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 126، إلى ابن عباس. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 73، وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1443 (رفق). (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 247، "التفسير الكبير" 10/ 171، والقرطبي 5/ 272. (¬5) ما بين القوسين غير واضح في (ش)، وأثبته حسب الرجوع إلى "العين" 5/ 56، "تهذيب اللغة" 2/ 1990 - 1991 (صدق). (¬6) "العين" 5/ 56, "تهذيب اللغة" 2/ 1990 - 1991 (صدق)، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 172.

وقال الكلبي: الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه السلام (¬1). وقال مقاتل: الصديقون [أول] (¬2) من صدّق بالأنبياء (حين عاينوهم) (¬3) (¬4). وقال الزجاج: الصديقون أتباع الأنبياء (¬5). قد ذكرنا مستقصى ما قيل في الشهيد عند قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140]. وأما تفسير الشهداء ههنا فقال الكلبي ومقاتل: هم القتلى في سبيل الله (¬6). وقال الزجاج: هم القائمون بالقسط (¬7). وقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ}. قال الكلبي: هم سائر المسلمين (¬8). وقال مقاتل: أهل الجنة (¬9). وقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}. قال الزجاج: أي حسن الأنبياء وهؤلاء رفيقًا (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 85 أ، "التفسيرالكبير" 10/ 172، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬2) بياض في (ش) والتسديد من "الوسيط" 2/ 614. (¬3) ما بين القوسين غير واضح، وما أثبته استعانة "بالوسيط" 2/ 614. (¬4) "تفسيره" 1/ 388. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 73، "تهذيب اللغة" 2/ 1443 (رفق). (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 388، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 85 أ، "معالم التنزيل" 2/ 247، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬7) ليس في "معاني القرآن وإعرابه". (¬8) في "تنوير المقباس" ص 89: "صالحي أمة محمد"، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 367, "الكشف والبيان" 4/ 85، "الوسيط" 2/ 614. (¬9) لم أقف عليه. (¬10) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 73.

ومعنى الرفيق (¬1) في اللغة: لين الجانب ولطافة الفعل، وصاحبه رفيق، وقد رفق يرفق (¬2). هذا معناه في اللغة. والصاحب يسمى رفيقًا لارتفاقك به وبصحبته، ومن هذا قيل للجماعة في السفر رفقة، لارتفاق بعضهم ببعض (¬3). قال الفراء: وإنما وحد الرفيق وهو حقه الجمع؛ لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع، ولا يجوز أن تقول: حسن أولئك رجلاً، وإنما يجوز ذلك إذا كان اسمًا مأخوذًا من فعل (¬4)، ولم يكن اسمًا مصرحًا مثل: رجل وامرأة (¬5)، ألا ترى أن الشاعر قال: وإذا هم طعموا فألأم طاعمُ (¬6) قال أبو إسحاق: لا فرق بين رفيق ورجل؛ لأن الواحد في التمييز ينوب عن الجماعة، وكذلك في المواضع التي لا تكون إلا جماعة نحو: ¬

_ (¬1) هكذا في (ش) ولعل الصواب: الرفق (بدون ياء على المصدر) وسياق الكلام يدل عليه. وانظر: "العين" 5/ 149، "تهذيب اللغة" 2/ 1443 (رفق)، "التفسير الكبير" 10/ 175. (¬2) من "العين" 5/ 149، "تهذيب اللغة" 2/ 1443 (رفق). (¬3) انظر المصدرين السابقين. (¬4) هكذا الحركة فوقية على الفاء، وقد تكون تحتية لاختلاف المصطلحات الإملائية عبر العصور. (¬5) كلام الفراء ليس في "معاني القرآن"، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 73، "تهذيب اللغة" 2/ 1443 - 1444، "اللسان" 3/ 1696 (رفق). (¬6) صدر بيت وعجزه: وإذا هم جاعوا فشر جياع وانظر: "نوادر أبي زيد" ص 152، والطبري 1/ 652، و"البحر المحيط" 1/ 332، و"معاني الفراء" 1/ 33، و"المحرر الوجيز" 1/ 134، و"الاشتقاق" لابن دريد ص 417.

70

أجمل فتى وأحسنه، المعنى: هو أجمل الفتيان وأحسنهم. ولو قلت حسن القوم مجاهدًا في سبيل الله، وحسن القوم رجلاً، كان واحدًا. فقوله {رَفِيقًا} منصوب على التمييز، وينوب عن رفقاء (¬1). وعند الفراء لا يجوز أن ينوب الواحد عن الجميع إلا أن يكون من أسماء الفاعلين، لا يجوز حسن أولئك رجلاً (¬2)، وأجازه الزجاج كما ذكرنا، قال: وهو مذهب سيبويه (¬3). وقال بعضهم: معنى قوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} حسن كل واحد منهم رفيقًا، كما قال: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] (¬4). وانتصاب {رَفِيقًا} على الحال، معنى: حسن كل منهم مرافقًا (¬5). 70 - قوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ}. أي ذلك الثواب، وهو الكون مع النبيين والصديقين فضلٌ من الله، تفضل به على من أطاعه، وكل ما يفعله الله عز وجل من منافع العباد فهو فضل وتفضّل وإفضال؛ لأنه زائد على مقدار الاستحقاق؛ لأن العبد لا يستحق على مولاه بطاعته شيئاً (¬6). بخلاف ما قالت القدرية (¬7) أن ثواب المطيع فرض على الله، فلا فضل. وقد ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 73، 74 بتصرف. وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1443 (رفق). (¬2) من "تهذيب اللغة" 2/ 1443، وانظر: "اللسان" 3/ 1696 (رفق). (¬3) من "تهذيب اللغة" 2/ 1443، وانظر: "اللسان" 3/ 1696 (رفق)، "التفسير الكبير" 10/ 175. وفي رأي سيبويه، انظر: "الكتاب" 3/ 582، 624. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 85 أ، "التفسير الكبير" 10/ 175، والقرطبي 5/ 272. (¬5) وقيل: على التمييز، ورجحه ابن جرير. انظر: "تفسير الطبري" 5/ 163، "معاني الزجاج" 2/ 73، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 432. (¬6) انظر: الطبري 5/ 164، "بحر العلوم" 1/ 367، "الوسيط" 2/ 615 "معالم التنزيل" 2/ 248، "التفسير الكبير" 10/ 175. (¬7) ومنهم المعتزلة. انظر: "الكشف والبيان" 4/ 85 ب، "التفسير الكبير" 10/ 176.

71

صرحت الآية بتكذيبهم (¬1). وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}. قال ابن عباس: يريد بخلقه (¬2). قال أهل المعاني: تأويل هذا يعود إلى أنه لا يضيعُ عنده عملُ عامل؛ لأنه عالم لا يخفى عليه شيء (¬3). 71 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} الآية. هذا حث من الله تعالى عباده المؤمنين على الجهاد. والحذر في اللغة يعني الحذر، وهو كالمثل والمثَل والعدْل والعدَل (¬4)، (والعرب تقول: فخذ حذر) (¬5). قال أهل المعاني في هذا قولين: أحدهما: أن المراد بالحذر ههنا السلاح، والمعنى: خذوا سلاحكم (¬6)، فيسمى السلاح حذرًا؛ لأنه يتقي به ويحذر. والثاني: أن يكون {خُذُوا حِذْرَكُمْ} بمعنى احذروا عدوكم (¬7)، إلا أن هذا الأمر بالحذر مضمن بأخذ السلاح؛ لأن أخذ السلاح هو الحذر من ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 85 ب، والقرطبي 5/ 273. (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "الطبري" 5/ 164. (¬3) انظر: الطبري 5/ 164. (¬4) انظر: "الصحاح" 2/ 626 (حذر)، "الكشف والبيان" 4/ 85 ب، "التفسير الكبير" 10/ 176، "اللسان" 2/ 809 - 810 (حذر). (¬5) هكذا في المخطوط، وفي "الوسيط" للمؤلف 2/ 615: "وتقول العرب: خُذ حذرك، أي أحذر". (¬6) "بحر العلوم" 1/ 367، "الكشف والبيان" 4/ 85 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 248 , "زاد المسير" 2/ 129، "التفسير الكبير" 10/ 176، ابن كثير 1/ 575. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 85 ب، "معالم التنزيل" 2/ 248، "زاد المسير" 2/ 129 "التفسير الكبير" 10/ 177.

العدو. فالتأويل يعود إلى الأول (¬1). فعلى القول الأول الأمر مصرح بأخذ السلاح، وعلى القول الثاني أخذ السلاح مدلول عليه بفحوى الكلام (¬2). وأما التفسير فقال ابن عباس: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} يريد عند لقاء العدو (¬3). وهذا يقوي القول الأول. وقد صرح مقاتل (¬4) بالقول الأول فقال: خذوا حذركم من السلاح (¬5). وقال الكلبي: خذوا حذركم من عدوكم (¬6). وهذا التفسير على القول الثاني، وكأنه اختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال في هذه الآية: أمر الله أن لا يلقي المؤمنون بأيديهم إلى التهلكة، وأن يحذروا عدوهم، وأن يجاهدوا حق الجهاد (¬7). وهذه الآية لا تدل على أن الحذر يرد شيئًا من القدر، ولكنا تعبِّدنا في الشريعة بالحذر من (.. (¬8) ..) والتوقِّي من النشر، والقدر جارٍ على ما قضي. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مر عدُّوا له أسرع المشي، وقد قال الله تعالى له: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: ¬

_ (¬1) انظر:: "التفسير الكبير" 10/ 177، وابن كثير 1/ 575. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 177. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89 (¬4) هو مقاتل بن حيان. انظر: "الدر المنثور" 2/ 326. (¬5) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم بلفظ. "عدتكم من السلاح". انظر: "الدر المنثور" 2/ 591. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 74. (¬8) كلمة غير واضحة، ويمكن أن تكون: (الخطر)، أو (العدد).

51] (¬1). وقوله تعالى: {فَانْفِرُوا}. قال الفراء: يقال: نفر القوم ينفرون نفرًا ونفيرًا (¬2) إذا هم نهضوا لقتال عدو وخرجوا لحرب (¬3). واستنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون، إذا حثهم على النفير ودعاهم إليه. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وإذا استنفرتم فانفروا (¬4). والنفير اسم للقوم الذين ينفرون (¬5)، ومنه فلان (لا في العير ولا في النفير) (¬6). وقال أصحاب العربية: أصل هذا الحرف من النُّفور والنِّفار، وهو الفزع، نفر ينظر نفورًا إذا فزع إليه (¬7). والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم. وقوله تعالى: {ثُبَاتٍ}. قال جميع أهل اللغة: الثُّبات جماعات متفرقة واحدها ثبة (¬8)، وأنشدوا لزهير: ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 86 أ، "التفسير الكبير" 10/ 177، القرطبي 5/ 274. (¬2) من "تهذيب اللغة" 4/ 3628 (نفر). (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 616. (¬4) من "تهذيب اللغة" 4/ 3628 (نفر). وحديث: "إذا استنفرتم" أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (1834) كتاب: جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، ومسلم (1353) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3628، "أساس البلاغة" 2/ 463 - 464 (نفر)، القرطبي 5/ 274. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3628 (نفر)، "جمهرة الأمثال" للعسكري 2/ 399، "مجمع الأمثال" للميداني 3/ 168. (¬7) انظر: القرطبي 5/ 274. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 132، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 127، الطبري 8/ 536، "معاني الزجاج" 2/ 75، "تهذيب اللغة" (465) (ثاب)، "اللسان" 1/ 519، (ثوب)، "عمدة الحفاظ" ص 85.

وقد أغدو على ثبة كرامٍ ... نشاوى واجدين لما نشاء (¬1) وأما أصلها واشتقاقها فقال علماء اللغة والنحو: ثبة أصلها من ثبيت الشيء، أي جمعته. ويقال: ثبيت على الرجل، إذا أثنيت عليه في حياته , وتأويله: جمع محاسنه (¬2). وأنشدوا للبيد: يُثَبِّي ثناءً من كريمٍ وقولُه ... ألا انعم على حسن التحيَّة واشربِ (¬3) وقال آخر: كم لِيَ من ذي تُدْرأٍ مذبِّ ... أشوس أبَّاءٍ على المُثَبِّي (¬4) أي الذي يعذله ويكثر لومه ويجمع له العذل من هنا وهنا. فقولهم: يثبِّي، يدل على أن اللام معتلة، وأن الثاء والباء فاء عين الفعل، وأصلها ثبوة. وثبيت لا يدل على أن المحذوف من ثبة الياء دون الواو، لقولهم: خليت، وعديت، من: خلا يخلو، وعدا يعدو، كما قالوا: قضيت وسقيت والقبيلان إذا صارا إلى هنا متساويان. ¬

_ (¬1) البيت في "ديوان زهير" ص 17، "مجاز القرآن" 1/ 132، والطبري 5/ 164، "معاني الزجاج" 2/ 75، "تهذيب اللغة" 1/ 465 (ثاب)، "اللسان" 1/ 518 - 519، "عمدة الحفاظ" ص 85 (ثوب). ومعنى "نشاوى" جمع نشوان وهو السكران، "واجدين" أي قادرين على ما يريدون من طعام وشراب. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 75، "معاني النحاس" 2/ 131، "تهذيب اللغة" 1/ 465 (ثاب)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 602، وانظر: "مقاييس اللغة" 1/ 401 (ثبي) , "التفسير الكبير" 10/ 177. (¬3) "ديوانه" ص 8، "تهذيب اللغة" 1/ 465 (ثاب)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 602 "مقاييس اللغة" 1/ 401 (ثبي)، وانظر: "معجم شواهد العربية" ص 55. (¬4) البيت غير منسوب في "سر صناعة الإعراب" 2/ 602، "اللسان" 1/ 519 (ثوب) ومعنى "ذي تدرأ": ذي قوة وعدة على دفع أعدائه في نفسه، "مذب": من الذب وهو الدفع والمنع، "أشوس": جريء على القتال الشديد.

والذي ينبغي أن يُقضى به في ثبة أن تكون من الواو، وذلك أن أكثر ما حذفت لامه إنما هو من الواو نحو: أبٍ وأخٍ وغدٍ وحمٍ (¬1). قال الزجاج: وتصغيرها ثبية، وتصغير ثبة الحوَض: ثوبية؛ لأن المحذوف من هذه عين الفعل، لأنه من ثاب، (وثبة الحوض حيث) (¬2) يثوب الماء إليه، أي يرجع (¬3). ويجمع الثبة التي هي الجماعة ثبين (¬4)، قال عمرو: وأما يوم خشيتنا عليهم ... فتُصبح خيلنا عصمًا (¬5) ثبينا (¬6) وسنذكر لم جمع بالياء والنون عند قوله: {عِضِينَ} [الحجر:91] لأن هذه نظرة عضة -إن شاء الله. وأما التفسير فقال المفسرون في الثبات نحو قول أهل اللغة، فقال مقاتل: عصبا متفرقين (¬7). وقال ابن عباس: سرايا متفرقين (¬8). ¬

_ (¬1) من الكلام على البيت الأخير إلى هنا أخذه المؤلف من "سر صناعة الإعراب" 2/ 602، 603 بتصرف يسير، وانظر: "الممتع في التصريف" 2/ 623. (¬2) في "معاني الزجاج" 2/ 75: "وثبة الحوض وسطه" وهذا أولى. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 75. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 132، والطبري 5/ 164، "معاني الزجاج" 2/ 75، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 458، وابن كثير 1/ 575. (¬5) في القرطبي 5/ 274، "الدر المنثور" 2/ 327 "عصبا" ولعله أولى. (¬6) أخرج الطستي عن ابن عباس عن مسائل نافع بن الأزرق المشهورة، وفيها هذا البيت. انظر: "الدر المنثور" 2/ 327، وأورده أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 132، والقرطبي 5/ 274، وفيها نسبته لعمرو بن كلثوم. (¬7) انظر: "الوسيط" 2/ 616، ولعله مقاتل بن حيان. انظر ابن كثير 1/ 575. (¬8) "تفسيره" ص 151، وأخرجه الطبري 5/ 165، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 326.

وقال قتادة: الثبات الفرق (¬1). وأما معنى الآية فقال العلماء: هذه الآية تدل على أن الجهاد من فروض الكفاية؛ لأن الله تعالى خيرهم بين أن يُقاتلوا جميعًا، وبين أن يقاتل بعضهم دون بعض بقوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فدل أنه ليس من فروض الأعيان (¬2). وهذا مذهب جماعة من المفسرين في الآية. وقال قوم: الآية لا تدل على ذلك؛ لأن قوله: {فَانْفِرُوا} {أَوِ انْفِرُوا} محمول على حالين مختلفين، فقوله: {انْفِرُوا ثُبَاتٍ} إذا لم ينفر معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (أو انفروا جميعًا) مع الرسول. نظيره قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إذا نفر رسول الله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] إذا لم ينفر رسول الله. وهذا قول عبد الرحمن بن زيد والكلبي (¬3). وقد ذكرنا في سورة البقرة ابتداء وجوب الجهاد، ومذاهب العلماء في وجوبه اليوم عند قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية [البقرة: 216]. ومنهم من قال: التخيير في قوله: {فَانْفِرُوا} (أو انفروا) يعود إلى صفة الخروج للقتال، يقول: انفروا جماعات متفرقة، أو انفروا جميعًا بعضكم إلى بعض، أي على أي صفة كانت من الاجتماع في النفر والوقوف ليتلاحق الآخر والأول والمبادرة وترك التفريج للتلاحق. ولهذا المعنى أراد الشاعر لما قاله: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 165، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 131، وابن كثير 1/ 575. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 617، والقرطبي 5/ 275. (¬3) انظر: القرطبي 5/ 275، "تنوير المقياس" بهامش المصحف ص 89.

72

طاروا إليه زرافات ووحدانا (¬1) ومثله قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] أي على أي الحال كنتم فصلوا (¬2). 72 - قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}. قال المفسرون: نزلت الآية في عبد الله بن أبيّ (¬3) المنافق، كان يتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لغزو (¬4). والخطاب في هذه الآية للمؤمنين، ومعنى {وَإِنَّ مِنْكُمْ} والمعنى كان من المنافقين يحتمل وجهين: أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف، والمراد: وإن من دخلائكم، أو من عدادكم، فحذف المضاف. والثاني: أنه جعل المُبطِّئ منهم في الحال الظاهرة من حكم الشريعة ¬

_ (¬1) عجز بيت صدره: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم وهو لقريط بن أنيف كما في "الحماسة" 1/ 4، وانظر: "الصناعتين" ص 285، و"خزانة الأدب" 7/ 413، و"الخصائص" 2/ 270، و"بصائر ذوي التمييز"، وهو في "التفسير الكبير" 10/ 177، و"اللسان" 8/ 4779 (وحد). (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 177. (¬3) هو أبو الحباب عبد الله بن أبي بن مالك الخزرجي المشهور بابن سلول (وهي جدته، نسب إليها، رأس المنافقين، وكان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم، توفي قبحه الله سنة 9 هـ. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 354، "الأعلام" 4/ 65. (¬4) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. انظر: "الدر المنثور" 2/ 327، وأورده الثعلبي 4/ 86 أ، والبغوي 2/ 248، وابن كثير 1/ 575. والقول بأنها نازلة في المنافقين لعموم المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" 165 - 166 "بحر العلوم" 1/ 267، "الكشف والبيان" 4/ 86 أ، "معالم التنزيل" 2/ 248، "زاد المسير" 2/ 130.

وهو حقن الدم والموارثة والمواكلة ونحو ذلك، وجعله منهم من حين الجنس والنسب (¬1). وقال الزجاج: أي ممن أظهر الإيمان (¬2). وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] (¬3). وقوله: {لَمَن} اللام فيه لام الابتداء، وإنما دخلت مكان إن، كما تقول: إن فيها لأخاك (¬4). قال الفراء: دخلت اللام في: {لَيُبَطِّئَنَّ} وهي صلة لمن على إضمار شبيه باليمين، كما تقول في الكلام: هذا الذي ليقومن، وأرى رجلاً ليفعلن ما يريد (¬5). فتدخل اللام في صلة النكرة، كما تدخلها في صلة الموصول. وقال الزجاج: (من) في هذه الآية موصولة بالجالب للقسم، كأن هذا لو كان كلامًا لقلت: إن منكم لمن أحلف والله ليبطئن (¬6). وهذا الذي قاله الزجاج معنى قول الفراء: وهي صلة لمن على إضمار شبيه باليمين. قال (¬7): والنحويون يُجمعون على أن: من وما والذي لا يوصلن ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 617، "المحرر الوجيز" 4/ 129، "التفسير الكبير" 10/ 178. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 75. (¬3) انظر تفسير الآية. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 275، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 450، الطبري 5/ 166، "معاني الزجاج" 2/ 75، "الكشف والبيان" 4/ 86 ب. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 275. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 75، وانظر: "زاد المسير" 2/ 130، "التفسير" 10/ 179، "الدر المصون" 4/ 29. (¬7) أي الزجاج.

بالأمر والنهي إلا بما يضمر معها من ذكر الخبر، وأن لام القسم إذا جاءت مع هذه الحروف فلفظ القسم وما أشبه لفظه مضمر معها (¬1). هذا كلام الزجاج. وبيان هذا: أنه يجوز أن تقول: مررت بمن تضربه، ولا يجوز: مررت بمن أضربه؛ لأن الخبر يصح أن يكون صلة والأمر والنهي لا يكونان صلة لموصول، والفرق بينهما أن الخبر يوضح الموصول كما يوضح الموصوف في قولك: مررت برجل لتكرمنه؛ لأنه قد خصصه وقوع الإكرام به في المستقبل، وليس ذلك الأمر في قولك: مررت برجل اضربه؛ لأنه لا يتخصص بالضرب في الأمر كما يتخصص في الخبر، فلذلك جاز أن يعرف بالضرب في الخبر ولم يجز في الأمر. وأما معنى التبطئة في اللغة فقال الفراء في كتاب المصادر: بطؤ بطأ مثل قبح قبحًا، وأبطأ بطأ وأبطأ فيه يبطئ إبطاء، بمعنى واحد. وقال الليث: البطء الإبطاء (¬2). فأما التَّبطئة فأكثرهم على أنه يعني الإبطاء أيضًا (¬3). ومعناها التأخر، والتشديد فيه على تكرار الفعل منه (¬4). وحكى أهل اللغة أن العرب تقول: ما أبطأ بك يا فلان عنا (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 75، 76. (¬2) " العين" 7/ 462، "تهذيب اللغة" 1/ 352. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 75، و"التفسير الكبير" 10/ 178، والقرطبي 5/ 275. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 75، و"بحر العلوم" 1/ 367، و"التفسير الكبير" 10/ 178، والقرطبي 5/ 275. (¬5) "العين" 7/ 462، "تهذيب اللغة" 1/ 352، "الصحاح" 1/ 36 (بطؤ).

وإدخالهم الباء يدل على أنه مطاوع (¬1)، وأجاز بعضهم أن يكون التَّبطئة واقعًا (¬2)، فتقول بطأت فلانًا عن كذا، أي أخرته عنه. وكلام المفسرين يدل على الوجهين فيه، فإن جعلته مطاوعًا لم يقتض مفعولًا وإن جعلته واقعًا اقتضى مفعولًا، وهو محذوف، والتقدير فيه: ليُبطئن غيره، أو ليبطئن بغيره، إن كان المعنى أنه يحبس غيره عن القتال (¬3). وأكثر المفسرين على أن المراد أنه يحتبس بنفسه ويتأخر بقعوده عن الغزو (¬4)، فقال مقاتل: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} ليتخلفن عن الجهاد (¬5). وقال الكلبي: وإن منكم لمن يتثاقل (¬6). وقال قتادة: {لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} عن الجهاد والغزو في سبيل الله (¬7). وهذا يحتمل أن يكون معناه ليبطئن غيره عن الجهاد. ¬

_ (¬1) أي: لازم لا يتعدى إلى مفعول، كما سيأتي من كلام المؤلف، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 179، "الدر المصون" 4/ 29. (¬2) أي: متعديًا إلى مفعول، كما سيأتي من كلام المؤلف، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 178، 179، "الدر المصون" 4/ 29. (¬3) انظر: الطبري 5/ 165، "الكشف والبيان" 4/ 86 أ، "زاد المسير" 2/ 130، "التفسير الكبير" 10/ 179، القرطبي 5/ 275، "الدر المصون" 4/ 29. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 75، "بحر العلوم" 1/ 367، "الكشف والبيان" 4/ 86/ أ، "معالم التنزيل" 2/ 248، "زاد المسير" 2/ 130. (¬5) ابن حيان، وأخرج الأثر عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 327، وانظر: "الوسيط" 2/ 617. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (89)، انظر: "الكشف والبيان" 4/ 86 أ، "معالم التنزيل" 2/ 248. (¬7) أخرجه الطبري 5/ 166، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 327.

وجماعة من المفسرين فسروا التبطئة ههنا بالتثبيط، وذلك يدل على أنه واقع (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}. قال ابن عباس: يريد من القتل (¬2). وقال مقاتل (¬3): {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} من العدو، وجهد من العيش. وقال الكلبي: نكبة (¬4). وقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ}. أي قال هذا المبطئ قد أنعم الله علي بالقعود. {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} يريد: حيث لم أحضر فيصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة. قال (¬5) ابن عباس (¬6) ومقاتل (¬7). وقال الزجاج: أي إذ لم أشركهم في مصيبتهم (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 179. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89، وأخرج الطبري 5/ 166 نحوه عن ابن جريج. (¬3) هو ابن حيان، وأخرج الأثر عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 327. (¬4) لم أقف عليه عن الكلبي، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 130، عن ابن عباس. (¬5) هكذا، والصواب: "قاله". انظر: "الدر المنثور" 2/ 327. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬7) هو ابن حيان، وأخرج الأثر عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 327. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 76.

73

وقال أهل المعاني: هذا القول من هذا المنافق على إظهار الشماتة بالمؤمنين، إذا أصابهم قتل وهزيمة (¬1). 73 - وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ}. قال ابن عباس: يريد إذا ظفرتم بعدوكم وغنمتم شيئًا. وقال الكلبي: فتح، أو غنيمة، أو نصر وظهور (¬2). وقوله تعالى: {لَيَقُولَنَ} أي هذا المنافق، قول نادم حاسد (¬3). {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ}؛ لأسعد مثل ما سعدوا به من الغنيمة (¬4). وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}. قرئ (يكن) بالياء والتاء (¬5)، وكلا القراءتين قد جاء التنزيل به، فمن التذكير قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67]، وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275]. وقال في آية أخرى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57]، فالتأنيث هو الأصل، والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي، سيما إذا وقع فاصلٌ بين الفعل والفاعل (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 165 - 166، "الدر المنثور" 2/ 327. وكأن في كلام المؤلف سقطًا وذلك أن التعبير يحتاج إلى كلمة: "يدل" في أول كلام أهل المعاني، أو في أثنائه، قبل: "على إظهار ... ". (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89 (¬3) "الكشف والبيان" 4/ 86 ب، وانظر: "الوسيط" 2/ 618. (¬4) انظر: الطبري 166 - 167، "بحر العلوم" 1/ 367، والمصدرين السابقين. (¬5) القراءة بالتاء: (تكن) لابن كثير وحفص عن عاصم ويعقوب، وبالياء (تكن) للباقين من العشرة. انظر: "السبعة" ص 235, "الحجة" 3/ 170، 171، "المبسوط" ص 157. (¬6) انظر: "الحجة" 3/ 171، "حجة القراءات" ص 208، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 1/ 392.

واختلف أهل العربية في موضع قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}؛ فالأكثرون على أن هذا اعتراض بين المفعول وفعله؛ لأن المعنى: ليقولن: يا ليتني كنت معهم، فكما أن قوله {قَدْ أَنْعَمَ اللَّه} {لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} في موضع نصب، يقال كذلك قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} في موضع نصب بقوله: {لَيَقُولَنَّ}، وقوله {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ} متصل في النظم بقوله: {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ} {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} (¬1). وعلى هذا الزجاج (¬2) وابن الأنباري وأبو علي (¬3) وصاحب النظم وكثير من أصحاب المعاني (¬4). ومعنى قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} قال الكلبي: أي معرفة وود في الدين (¬5). وقال مقاتل (¬6): يقول: كأنه ليس من أهل دينكم في المودة. هذا قولهما في تفسير هذه الآية. والله تعالى يعلم أنه لم يكن بين هذا المنافق وبين المؤمنين مودة خالصة، ولكن أراد بهذه المودة المذكورة ههنا ¬

_ (¬1) من "الحجة" 3/ 171 بتصرف يسير. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 76. (¬3) في "الحجة" 3/ 171. (¬4) انظر: "الكشاف" 1/ 280، "المحرر الوجيز" 130 - 132، "زاد المسير" 2/ 131، "التفسير الكبير" 10/ 179، "البحر المحيط" 3/ 293، "الدر المصون" 4/ 32. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 367، "الكشف والبيان" 4/ 86 ب. (¬6) ابن حيان، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 86 ب وانظر: "بحر العلوم" 1/ 367، 368، "الدر المنثور" 2/ 327.

مودة في الظاهر؛ لأن المنافقين كانوا يظهرون المودة للمؤمنين. قال ابن الأنباري: أي كأن لم يُعاقدكم على الإسلام ويبايعكم على الصبر والثبات فيه، على ما ساء وسر و (....) (¬1). ونحو هذا قال أبو علي: أي لا يعاضدكم قتال عدوكم، ولا يرعى الذِّمام الذي بينكم (¬2). وقال الزجاج: أي كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم، ولم يعاقدكم على الإيمان، أي كأنه لم يُظهر لكم المودة (¬3). فهذه الأقوال عن أهل المعنى تبيِّن أن المودة المذكورة في الآية يراد بها ما أظهره من المودة. وأجاز ابن الأنباري وغيره أن يكون قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} مؤخرًا إلى آخر الآية، والتقدير: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة. والمعنى على هذا التقدير أن الله تعالى لما أخبر عن هذا المنافق أنه يشمت بمصيبة المؤمنين، فيقول: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا، أو يحسدهم لما يصيبون من الغنيمة فيندم على التخلف، ويقول يا ليتني كنت معهم، قال بعد الإخبار عنه بهاتين الخلتين: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ¬

_ (¬1) غير واضح في المخطوط بقدر كلمتين، ولعلها (ونفع وضر) أو نحو ذلك. (¬2) "الحجة" 3/ 171. (¬3) هكذا هذِه العبارة وفيها ركاكة بالتكرار، وعبارة الزجاج في "معانيه" 2/ 76: "ومعنى المودة ههنا، أي كأنه لم يعاقدكم على الإيمان، أي كأنه لم يظهر لكم المودة، وجائز أن يكون والله أعلم: ليقولن: يا ليتني كنت معهم كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، أي كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم". وانظر: القرطبي 5/ 276.

مَوَدَّةٌ} أن يحسدكم ويشمت بكم (¬1). وأجاز آخرون أن يكون موضع قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} حيث ذكر في النظم والمعنى؛ لأن معنى هذا الفصل لائق بمعنى هاتين الآيتين فأينما ذكر حسن ولم يكن أجنبيًا، وعلى هذا التقدير يكون قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} في موضع الحال من القائل الذي قال: يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ كما تقول: مررت بزيد، كأن لم يكن بينك وبينه معرفة، فتكون هذه جملة في موضع الحال، أي مررت به وهذه حالك (¬2). وقال بعض أهل المعاني على هذا التقدير: يجوز أن يكون قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} من كلام المنافق بقوله للذين أقعدهم عن الجهاد: كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم لتأخذوا من الغنيمة. وإنما يقول هذا ليبغض لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وهذا وجه بعيد، وأصحاب العربية والنحو على الوجهين الأولين. وقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} قال مقاتل: أي فآخذ نصيبًا وافرًا (¬4). وذكرنا معنى الفوز فيما تقدم. وهذا القول من هذا المنافق ليس على طلب المثوبة، وتمنيه الحضور ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 179، 180، "البحر المحيط" 3/ 293، "الدر المصون" 4/ 33. (¬2) انظر: "إملاء ما من به الرحمن بهامش الفتوحات الإلهية" 2/ 283، "الدر المصون" 2/ 34. (¬3) نسب نحو هذا القول لمقاتل وأبي علي الفارسي في "البحر المحيط" 3/ 293، "الدر المصون" 4/ 33. (¬4) هو ابن حيان، وأخرج الأثر عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 327.

إنما هو على وجه الحسد للمؤمنين، عن قتادة وابن جريج (¬1). قال أبو بكر: لم يقله رغبةً في الجهاد ولا حرصًا على طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قاله حرصًا على فتنة الدنيا وميلًا إلى الازدياد منها، فلذلك نعى الله عليه هذا القول وليم به. وانتصب قوله: {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} لأنه جواب التمني بالفاء، والعلة في انتصابه عند أهل الكوفة أنَّ في التمني معنى: يسرني أن تفعل فافعل، فهذا نصب كأنه منسوق، كقولك في الكلام: وددت أن أقوم فيتبعني الناس. والتقدير في الآية: يسرني أن أكون معهم فأفوز. وهذا قول الفراء (¬2). وعند أهل البصرة انتصبت هذه الجوابات بالفاء بإضمار أن، ولا يجوز إظهارها. قالوا: وجميع ما انتصب بالفاء في الجواب إنما انتصب لمخالفة الثاني الأول، فلم يمكن عطفه عليه، فجعلت الأول بتقديره مصدره، وأضمرت بعد الفاء أن فنصبت بها الفعل، لتكون قد عطفت مصدرًا على مصدر؛ لأن أن والفعل بتقدير مصدر، وذلك قولك: ما زرتني فأحسن إليك، تقديره: ما كانت منك زيارة فإحسانٌ مني، هذا تقدير جميعه وتمثيله. والتقدير في الآية: ليت لي كونا معهم ففوزًا عظيمًا. قالوا: وإنما لم يجز إظهار أن لأن ما قبلها فيه تقدير المصدر من غير إظهار للفظه، فلما كان المعطوف عليه مقدرًا غير مظهر، اختاروا أن يكون مضمرًا بعد الفاء ليشاكل ما قبلها (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج الأثر عنهما الطبري 5/ 166 - 167، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 327. (¬2) في "معاني القرآن" 1/ 276، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 76، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 434، "الحروف" للمزني ص 66. (¬3) انظر: "معانى الحروف" للرماني ص 43 ,44، "سر صناعه الإعراب" 1/ 272 "رصف المباني" ص 368، 443، 446.

74

74 - قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. لما ذم الله تعالى المنافق بالتثبيط عن الجهاد، أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، فكأنه قال: فلا تلتفتوا إلى تثبيط المنافقين وقاتلوا في سبيل الله. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}. معناه يبيعون (¬1). يقال: وشريت بردًا ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامه (¬2) وأصله الاستبدال والاختبار، فلذلك كان بالمعنيين. وقال الشماخ: فلما شراها فاضت العين عبرةً ... وفي الصدر حزاز من اللوم حامز (¬3) والشرى في البيتين بمعنى البيع. قال ابن عباس والحسن والسدي وابن زيد: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي يبيعونها (¬4). ¬

_ (¬1) الطبري 5/ 167، "معاني الزجاج" 2/ 77، "تهذيب اللغة" 2/ 1869، (شرى)، "الكشف والبيان" 4/ 86 ب. (¬2) البيت ليزيد بن مفرغ الحميري كما في: ديوانه 213، "مجاز القرآن" 1/ 48، 304، " الكامل" 1/ 373، "معاني الزجاج" 2/ 77، "اللسان" 4/ 2252 (شرى). و"برد" كان عبدًا ليزيد وكان يحبه، فباعه فندم على ذلك، وتمنى أن لو كان بعد برد ميتًا، والهامه: الصدى يسمع على قبر الميت. انظر: "معاني الزجاج" 1/ 278 [حاشية3]. (¬3) هو من "ديوانه" ص 190، و"تفسير القرطبي" 9/ 155، و"جمهرة أشعار العرب" ص 248، و"الزاهر" 1/ 269، و"غريب الحديث" لأبي عبيد 4/ 233، و"غريب الحديث" للحربي 2/ 480، و"العين" و"المحكم" و"اللسان" و"التهذيب" و"الجمهرة" (حزز). (¬4) عن ابن عباس. انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. وعن السدي =

75

وقوله تعالى: {بِالْآخِرَةِ} قال ابن عباس: يريد بالآخرة في هذا الموضع الجنة كأن المعنى يختارون الجنة على البقاء في الدنيا فيُجاهدون طلبًا للشهادة والقتل في سبيل الله (¬1). وقال أهل المعاني: تقدير الآية يشترون الحياة الدنيا بالحياة الآخرة. كأنه قيل: يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية، فالآخرة صفة محذوفة الموصوف (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} فيستشهد {أَوْ يَغْلِبْ} فيظفر. قاله الكلبي (¬3). وقال ابن عباس: يريد كلاهما سواء (¬4). وقوله تعالى: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} قال ابن عباس: يريد ثوابًا لا صفة له (¬5). 75 - قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. قال المفسرون: هذا حض من الله تعالى على الجهاد في سبيله؛ لاستنقاذ المؤمنين من أيدي أعدائهم (¬6)، والمعنى: أيُّ شيء لكم تاركين القتال (¬7)؟ ¬

_ = وابن زيد أخرجه الطبري 5/ 167، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 327. أما عن الحسن فلم أقف عليه، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 398. (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89 (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 89. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 89 (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 89. (¬6) انظر الطبري 5/ 167 - 168، "الكشف والبيان" 4/ 86 ب، والقرطبي 5/ 279. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 77، وانظر: الطبري 5/ 167.

أي: أي شيء لكم في ما لو ترك القتال، مع هذه الأمور التي تقتضي الحرص على الجهاد؟ وهي قوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} الآية (¬1)، أي لا عذر لكم فيه. قال أبو إسحاق: و {لَا تُقَاتِلُونَ} في موضع نصب على الحال، كقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}. قال ابن عباس: يريد قومًا بمكة استضعفوا، فحبسوا وعذبوا (¬3). قال: وكنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان (¬4). وقال الكلبي: كان هؤلاء بمكة يلقون من المشركين أذًى شديدًا، وكان أهل مكة قد اجتهدوا أن يفتنوا قومًا من المؤمنين عن دينهم بالأذى لهم، وكانوا مستضعفين في أيديهم، لم يكن لهم بمكة قوة يمتنعون بها من المشركين، ولم يقدروا أن يهاجروا إلى المدينة (¬5). واختلفوا في وجه خفض المستضعفين، فذكر المبرِّد فيه وجهين: أحدهما: أن يكون عطفًا على السبيل، المعنى: ما لكم لا تقاتلون في سبيل ¬

_ (¬1) هي الآية التي تليها هذِه الآية المفسرة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 77، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 434، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 202. (¬3) أخرجه بنحوه من طريق العوفي: الطبري 5/ 169، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 328. (¬4) أخرجه عن ابن عباس: البخاري (4587) كتاب التفسير، باب: قوله {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} الآية، لكن بدون لفظ: "من النساء والولدان". (¬5) هو بمعنى الأثر المتقدم عن ابن عباس، ومر تخريجه، وأخرج الطبري 5/ 169 نحوه عن ابن زيد. وروي عن الضحاك، انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 133، "بحر العلوم" 1/ 368. ولم أقف عليه عن الكلبي.

الله وسبيل المستضعفين (¬1). ثم اختار الوجه الأول، قال: لأنَّ القوم خرجوا إلى القتال في سبيل الله وخلاص المستضعفين، لا إلى القتال في سبيل المستضعفين؛ لأن القتال في سبيل الله أن يقاتل رجاء ثواب الله في طاعة الله، ولا يجوز القتال في سبيل المستضعفين على هذا المعنى، وإذا كان كذلك فالأولى أن يكون العطف على ما عملت فيه (في) (¬2). وذكر أبو إسحاق هذا وأشار إلى نحو ما ذكرنا فقال: وقول أكثر النحويين كما اختار أبو العباس، لاختلاف السبيلين؛ لأن معنى سبيل المستضعفين كأنه: وخلاص المستضعفين، وإذا اختلف معنى السبيلين فالاختيار الأول. والوجه الثاني عند أبي إسحاق أشبه بالمعنى؛ لأن سبيل المستضعفين في سبيل الله، على معنى أن خلاصهم من سبيل الله (¬3). وأما التفسير: فقال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: معناه عن المستضعفين (¬4). وكذلك قاله مجاهد (¬5) ومقاتل (¬6). ¬

_ (¬1) الظاهر أن هنا سقطًا أو حذفًا، وكل منهما مخل بالكلام، لأنه لم يأت بالوجه الثاني. وقد ذكر الزجاج الوجه الثاني عند المبرد بقوله: "قال: وجائز أن يكون عطفًا على اسم الله، أي في سبيل الله وسبيل المستضعفين" "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 78. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 77، 78، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 434، "بحر العلوم" 1/ 368، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 203، "زاد المسير" 2/ 132. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 78، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 471. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 87 أ. وأخرج الطبري 5/ 168 من طريق عطية العوفي عن ابن عباس قال: "وفي المستضعفين". (¬5) عن مجاهد أنه قال في تفسير هذه الآية: "أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين" تفسيره 1/ 165، وأخرجه الطبري 5/ 168 وهذا رأي الحسن أيضًا. انظر: "تفسير الهواري" 1/ 399. (¬6) "تفسيره" 1/ 389.

وقال أصحاب العربية: قولهم: (عن المستضعفين) معنى، وليس بتفسير للفظ، وذلك أن المراد بالقتال صرف الأذى عنهم، فيعود التأويل إلى ما ذكرنا أن التفسير: في سبيل الله وسبيل المستضعفين. والولدان جمع الولد، ونظيره مما جاء على فعل وفعلان خرب وخربان (¬1) وورل وورلان (¬2)، كذلك ولد وولدان (¬3). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} أخبر الله تعالى أن هؤلاء لما صدوا عن الهجرة كانوا يدعون الله تعالى ويقولون: ربنا أخرجنا. قال ابن عباس: يريد إلى دار الهجرة وهي المدينة (¬4). {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يريدون مكة، في قول جميع المفسرين (¬5). {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} قال ابن عباس: يريد أنهم جعلوا لله شركًا (¬6) (¬7). قال الفراء: وخفض الظالم لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على ¬

_ (¬1) "الخرب": ذكر الحُبارى، والجمع الخِرْبان "الصحاح" 1/ 119 (خرب) وقد جاءت هذِه الكلمة عند الرازي في "التفسير الكبير" 10/ 182 "حزب وحزبان" بالزاي، ولعله تصحيف. (¬2) "الورل": دابة مثل الضبّ، والجمع: ورلان "الصحاح" 5/ 1841 (ورل) وجاءت في "التفسير الكبير" 10/ 182: "ورك ووركان" بالكاف، ولعله تصحيف. (¬3) انظر: "أساس البلاغة" ص 526 (ولد)، "التفسير الكبير" 10/ 182، "الدر المصون" 4/ 38. (¬4) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 620 دون نسبة لابن عباس، ولم أقف عليه. (¬5) الطبري 5/ 168، "معاني الزجاج" 2/ 77، "النكت والعيون" 506، "الكشف والبيان" 4/ 87 أ، "زاد المسير" 2/ 132. (¬6) هكذا جاءت بالتنوين، وفي "الوسيط" 2/ 620: "شركاء" بالمد. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90، وقد أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 620 دون نسبة لابن عباس.

القرية كانت فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها، كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، ومررت برجل حسنة عينه (¬1). وقال أبو إسحاق: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} نعت للقرية، وحدد الظالم لأنه صفة تقع موقع الفعل، يقال: مررت بالقرية الصالح أهلها: أي التي صلح أهلها (¬2). وهذه مسألة محتاج فيها إلى شرح وبيان، والنحويون يسمُّون ما كان من مثل هذا الصفة المشبهة باسم الفاعل، والأصل في هذا الباب أنك إذا أدخلت الألف واللام في الأخير أجريته على الأول في تذكيره وتأنيثه وعدده، نحو قولك: مررت بامرأة حسنة الزوج كريمة الأب، ومررت برجل جميل الجارية. وإذا لم تُدخل اللام في الأخير حملته على الثاني في التذكير والتأنيث والعدد، كقولك: مررت بامرأة كريم زوجها، ومن هذا قوله: {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}، ولو أدخلت الألف واللام على الأهل لقلت: من هذه القرية الظالمة الأهل (¬3)، ومما أجري على الأول لما لم يكن في الثاني الألف واللام قول طرفة: ومكان زَعِلٍ ظُلْمانه ... كالمخاض الجُرْب في اليوم المطر (¬4) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 277، وانظر: الطبري 5/ 168، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 434، "الكشف والبيان" 4/ 87 أ، "معالم التنزيل" 2/ 250، "زاد المسير" 2/ 132. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 77. (¬3) انظر: "الكتاب" 1/ 194 - 210، "التفسير الكبير" 10/ 183، "الدر المصون" 4/ 39. (¬4) ديوان طرفة ص 42، و"العين" 1/ 355، 4/ 229، و"تهذيب اللغة" (خدر) و"مقاييس اللغة" (زعل)، و"أساس البلاغة" (خدر)، و"الشعر والشعراء" ص 190 , وأشعار الشعراء الستة الجاهليين اختيار الشنتمري 2/ 67. لكن قافيته فيهما: "الخدر" وأوله: "وبلاد" بدل: (ومكان) وجاء في شرحهما: "بلاد". رب بلاد، وزعل:=

ولو كان في الثانية والألف واللام لقال: زعلة الظلمان. وإنما جاز أن يكون الظالم نعتًا للقرية، وهو من صفة أهلها، لأن الأهم قد يوصف بصفةٍ لسببه، كقولك: مررت برجل قائم أبوه، فالقيام للأب، وقد أجريته صفة للرجل، وكذلك: مررت برجل حسنة أمه، وإنما نعت بفعل سببه لأنه يخصه، ويُخرجه من إبهام إلى تخصيص، كما يُخرجه فعله المحض، فلما ساوى فعل سببه فعله نعت به، فقوله: من القرية الظالم نعت للقرية (¬1). والهاء في {أَهْلُهَا} يرجع إلى القرية (¬2)، والأهل فاعل الظلم (¬3)، ولذلك ارتفع، فإن ثنيت القرية أو جمعته لم يتغير لفظ الظالم؛ لأن الأهل واحد في اللفظ، والظالم بمنزلة فعل مقدم، والفعل إذا كان مقدمًا على الفاعل لم يثنَّ ولم يُجمع (¬4)، ولهذا لم يؤنث الظالم؛ لأن الفعل إنما يؤنث إذا كان فاعله مؤنثًا, ولما كان فاعل الظلم مذكرًا لم يلحقه علامة التأنيث (¬5). ¬

_ = نشيط، وظلمان: جمع ظليم: وهو ذكر النعام، والمخاض: الحوامل النوق، أو ساعات الولادة، والجرب: جمع جرباء وهي الناقة المعيبة، واليوم الخدر: الشديد البرد أو المطر والريح، وخص اليوم الخدر لأن المخاض تنضم فيه وتجتمع. ولم أجد هذا البيت في كتب النحو والأدب، مما يدل على توسع المؤلف في العربية. (¬1) انظر: الطبري 5/ 168، "معاني الزجاج" 2/ 77، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 443، "الكشف والبيان" 4/ 87 أ. (¬2) انظر: الطبري 5/ 168. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 77، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 443، "الدر المصون" 4/ 38. (¬4) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 203، "الكشاف" 1/ 281. (¬5) انظر: "الكشاف" 1/ 281, "التفسير الكيبر" 10/ 182، "الدر المصون" 4/ 38.

وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}. قال ابن عباس: يريد ولّ علينا رجلاً من المؤمنين (يوالينا) (¬1) على عدونا ويقوم بشرائعك وحدودك (¬2). وقال الكلبي: واجعل لنا من لدنك وليًا في ديننا، يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وقال بعضهم: الولي ههنا القيم بالأمر لهم حتى يستنقذهم من أيدي أعدائهم؛ لأنه يتولى الأمر بنفسه ولا يكله إلى غيره (¬4). وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. قال ابن عباس: يريد ينصرنا على عدوك وعدونا (¬5). وقال الكلبي: يريد مانعًا يمنعنا من المشركين (¬6). وقال الزجاج: أي تولنا بنصرك (¬7). قال الكلبي: فلما فتحت مكة جعل الله لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وليًّا (¬8). وقال ابن عباس: فاستجاب الله دعاءهم، وولى عليهم رسول الله عتَّاب بن أسيد (¬9)، فكان عتاب يُنصف الضعيف من الشديد، والمظلوم من ¬

_ (¬1) الكلمة غير واضحة تمامًا، وما أثبته هو الموافق لما في "الوسيط" 2/ 621، "التفسير الكبير" 10/ 183. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬4) انظر القرطبي 5/ 280. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 77. (¬8) "بحر العلوم" 1/ 368، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 87 ب، وتنوير المقباس بهامش المصحف ص 90. (¬9) هو أبو عبد الرحمن عتاب بن أسيد بن أبي العيمر الأموي. أسلم يوم الفتح, =

الظالم، وأعانهم (...) (¬1). فكانوا أعز بها من الظلمة قبل ذلك (¬2). قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:76]. قال ابن عباس: يريد في طاعة الله (¬3) وتأويل ذلك أنها تُؤدي إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه، فلذلك سُميت طاعة الله: سبيل الله. وقيل: معنى {في سَبِيلِ اَللَّهِ}: في دين الله الذي شرعه ليؤدي إلى ثوابه ورحمته، فيكون التقدير على هذا: في نصرة دين الله (¬4). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}. قال ابن عباس: يعني المشركون واليهود والنصارى (¬5). {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} قال: يريد في طاعة الشيطان (¬6). ¬

_ = واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة لما سار إلى حنين وكان رضي الله عنه صالحًا فاضلًا، توفي يوم مات أبو بكر رضي الله عنهما. انظر: "أسد الغابة" 3/ 556، "الإصابة" 2/ 451. (¬1) كلمة غير واضحة. (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 2/ 451: أورده العقيلي في ترجمة هشام بن محمد بن السائب الكلبي بسنده إليه عن أميه عن أبي صالح عن ابن عباس. اهـ وأورده السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 368 عن الكلبي، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 87 أدون نسبة، وذكره عن ابن عباس ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 133، والرازي في "التفسير الكبير" 10/ 183، والأثر في "تنوير المقباس" بهامش المصحف" ص (90). (¬3) ذكر في "بحر العلوم" 1/ 368)، "الكشف والبيان" 4/ 87 أ، والقرطبي 5/ 280 غير منسوب لابن عباس، ولم أقف عليه عنه. (¬4) انظر: الطبري 5/ 169، "الوسيط" 2/ 622. (¬5) في "تنوير المقباس": بهامش المصحف ص 90: " أبو سفيان وأصحابه". (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90.

والطاغوت ههنا الشيطان في قول ابن عباس والحسن والشعبي (¬1)، والدليل على صحة ذلك قوله في هذه الآية: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ}. قال ابن عباس: يريد عبدة الأصنام (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} معنى الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال، يقال: كاده يكيده كيدًا، إذا عمل في إيقاع الضرر به على جهة الحيلة عليه (¬3). وأما معنى ضعف كيد الشيطان، فقال ابن عباس: يعني خذلانه إياهم يوم بدر، قتلوا ببدر (¬4). وقال أصحاب المعاني: إنما وصف كيده بالضَّعف لضعف نُصرته لأوليائه بالإضافة إلى نصرة الله للمؤمنين (¬5). وقال الحسن: لما أخبر الله عن ضعف كيد الشيطان دلَّ ذلك على أنه يُظهر المؤمنين على أولياء الشيطان. فكأنه قيل: فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكم منصورون عليهم. هذا معنى قول الحسن (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على أثر عنهما أو نسبة لهذا القول إليهما. والقول بأن الطاغوت ههنا هو الشيطان قول عامة المفسرين، انظر: الطبري 5/ 169، "تفسير الهواري" 1/ 399، "بحر العلوم" 1/ 368، "الكشف والبيان" 4/ 87 ب، "معالم التنزيل" 2/ 250، "زاد المسير" 2/ 133. (¬2) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (90) بلفظ: "جند الشيطان". وانظر: "بحر العلوم" 1/ 368، "الكشف والبيان" 4/ 87 ب، "معالم التنزيل" 2/ 250. (¬3) انظر: الطبري 5/ 169 - 170، "الصحاح" 2/ 533 (كيد)، "بحر العلوم" 1/ 369 "الكشف والبيان" 4/ 87 ب. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬5) انظر: "الكشاف" 1/ 281، " التفسير الكبير" 10/ 184. (¬6) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 400.

77

وفائدة إدخال كان في قوله: {كاَنَ ضَعِيفًا} التأكيد لضعف كيده، وذلك أنَّ كان يدلُّ على لزوم الضعف كيده، خلاف العارض الذي لم يكن ثم كان، وكيده مما يلزمه صفة الضعف، وليس عارضة فيه، بدلالة كان على هذا المعنى (¬1). 77 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} الآية. يقال: كففت فلانًا عن السوء فكف يكف كفًا، سواء لفظ اللازم والمجاوز (¬2). وأكثر المفسرين على أنَّ هذه الآية نازلة في قوم من المؤمنين، استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم بمكة في قتال المشركين، فلم يأذن لهم، فلما كتب عليهم القتال بالمدينة قال فريق منهم ما أخبر الله عنهم. وهذا قول ابن عباس (¬3) والحسن (¬4) وعكرمة (¬5) وقتادة (¬6) والكلبي (¬7) والسدي (¬8). قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد (¬9) وقُدامة بن ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 184. (¬2) "العين" 5/ 283، "تهذيب اللغة" 4/ 3166 (كف). (¬3) أخرجه عنه من طريق عكرمة النسائي في "تفسيره" 1/ 394، والطبري 5/ 169 - 170، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 328. (¬4) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 401. (¬5) أخرجه الطبري 5/ 169 - 170. (¬6) أخرجه الطبري 5/ 169 - 170، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 594. (¬7) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 401، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬8) أخرجه الطبري 5/ 169 - 170، وابن أبي حاتم، انظر: ابن كثير 1/ 576، "الدر المنثور" 2/ 328. (¬9) هو أبو الأسود أو أبو عمر المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني، اشتهر بابن =

مظعون (¬1) وسعد بن أبي وقاص، كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُهاجروا إلى المدينة، يلقون من المشركين الأذى، فيشكون ذلك إلى رسول الله ويقولون: ائذن لنا في قتالهم، ويقول لهم رسول الله: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} فإني لم أؤمر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة وأمر بالقتال أمرهم أن يسيروا إلى بدر، فكرهه بعضهم، وهو طلحة (¬2) بن عبيد الله، فأنزل الله هذه الآية (¬3). وقال السدي: نزلت هذه الآية في أهل الإيمان بمكة (¬4). ¬

_ = الأسود، لأن الأسود بن عبد يغوث قد تبناه، أسلم قديمًا وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها وكان من الشجعان ومن أول من أظهروا الإسلام، توفي رضي الله عنه سنة 33 هـ انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 441، "أسد الغابة" 5/ 251، "الإصابة" 3/ 454. (¬1) هو أبو عمرو قدامة بن مظعون بن حبيب بن وهب القرشي الجُمحي، من السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا وما بعدها، توفي رضي الله عنه سنة 36هـ، وقيل بعدها. انظر: "أسد الغابة" 4/ 294، "سير أعلام النبلاء" 1/ 161، "الإصابة" 3/ 228. (¬2) هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو القرشي التيمي من السابقين إلى الإسلام، أحد أصحاب الشورى، ومن العشرة المشهود لهم بالجنة، شهد أحدًا وما بعدها وبايع بيعة الرضوان وأبلى يوم أحد بلاءً عظيمًا، واستشهد يوم الجمل سنة 36هـ. رضي الله عنه. انظر: "أسد الغابة" 3/ 85، "سير أعلام النبلاء" 1/ 23، "الإصابة" 2/ 229. (¬3) بنحوه في "تفسير الهواري" 1/ 400، "الكشف والبيان" 4/ 87 ب، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90، وهو بمعنى الأثر عن ابن عباس ومن قال به من التابعين، وتقدم تخريج ذلك. (¬4) أخرجه بمعناه الطبرى 5/ 170، وابن أبي حاتم انظر: "الدر المنثور" 2/ 328.

وقال عطاء: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} عن قتال عبدة الأصنام؛ لأنَّ الله لم يأمر بقتالهم (¬1). وقال ابن إسحاق: كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أذنت لنا أن نقاتل المشركين. فأمروا بالكف، وأداء ما افترض عليهم غير القتال، وهو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). وقوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ}. قال ابن عباس: فرض عليهم القتال بالمدينة. وقوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ}. قال: يعني عذاب الناس القتل {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} (¬3). وهو مصدر مُضاف إلى المفعول (¬4). {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}. قال ابن عباس: أو أكثر خشية (¬5). وقال الحسن: من صفة المؤمنين لما طُبع عليه البشر من المخافة، لا على كراهة أمر الله بالقتال (¬6). ودخلت {أَوْ} ههنا من غير شك، ومعناه الإبهام على المخاطب بمعنى أنهم على إحدى الأمرين من المساواة أو الشدَّة -وهذا أصل {أَوْ} (¬7) - وهو بمعنى أحد الأمرين على الإبهام (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) بنحوه في الأثر المتقدم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 87 ب، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 185. (¬5) انظر:. "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬6) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 401، "النكت والعيون" 1/ 507، "الوسيط" 2/ 624، القرطبي 5/ 281. (¬7) انظر: "معاني الحروف" للرماني ص 80. (¬8) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 136، "التفسير الكبير" 10/ 186.

وقيل: دخلت أو للإباحة، على معنى: أنك إن قلت: يخشون الناس كخشية الله، فأنت مُصيب، وإن قلت: يخشونهم أشدَّ من خشية الله، فأنت مصيب (¬1)؛ لأنه حصل لهم مثل تلك الخشية وزيادة (¬2). وقال أهل العلم: في هذه الآية دلالة على أنَّ العبد إذا خاف غير الله استحق مذمة الله تعالى، ألا ترى أن هذا خرج مخرج المذمة لهؤلاء. وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}. إنما قالوا هذا جزعًا من الموت وحصرًا على الحياة، لا إنكارًا على الله سبحانه (¬3) {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ}. قال ابن عباس: يريد: أفلا أخرتنا إلى الموت. أي هلَّا تركتنا حتى نموت بآجالنا وعافيتنا من القتل. قاله السدي (¬4). ثم أعلم الله عز وجل أنَّ متاع الدنيا قليل، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد (¬5) {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} قال الكلبي: أجل الدنيا قريب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 136. (¬2) خلاصة ما قيل -على ما ذكر المؤلف- في: (أو) هنا: أنها إما للإبهام أو للتخيير وهناك قول ثالث لم يذكره المؤلف -وهو للجمهور- أنها بمعنى (الواو) فتكون عاطفة. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 436، "الكشف والبيان" 4/ 87 ب، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 203، "الكشاف" 1/ 282، "المحرر الوجيز" 4/ 136، "زاد المسير" 2/ 135. (¬3) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 401، "التفسير الكبير" 10/ 186. (¬4) روى معناه عن السدي مقطوعًا الطبري 5/ 170، وابن أبي حاتم. انظر: "زاد المسير" 2/ 136، "تنوير المقباس" ص90، "الدر المنثور" 2/ 329. (¬5) انظر: الطبري 5/ 171، "الكشف والبيان" 4/ 88 أ. (¬6) في "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90، بلفظ: "منفعة الدنيا". انظر: "الكشف والبيان" 4/ 88 أ.

وقال الضحاك: عيش الدنيا قليل (¬1). وقال ابن زيد: يسير ينقطع (¬2). وقيل: كل ما تمتعون به من الدنيا قليل. {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}. قال عطاء عن ابن عباس: يريد الجنة خير لمن اتقى الله ولم يُشرك به شيئًا (¬3). {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} يريد لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة. قال (¬4) عطاء عن ابن عباس (¬5)، ورُوي عنه أيضًا أنه قال: هو ما تفتله بيدك ثم تُلقيه احتقارًا (¬6). ومضى الكلام في هذا (¬7)، هذا مذهب المفسرين في هذه الآية. وقال مجاهد: هذه الآية في اليهود، إلى قوله {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬8) [النساء: 83]. ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 624. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬4) هكذا في المخطوط، والظاهر الموافق للسياق: "قاله". (¬5) أخرج نحوه عن عطاء مقطوعًا الطبري 5/ 172، 6/ 129، ومن طريق علي ابن أبي طلحة في "تفسير ابن عباس" ص 149، وأخرجه الطبري 5/ 172، 6/ 129، وأخرجه الطستي وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس من مسائل نافع ابن الأزرق، انظر: "الدر المنثور" 2/ 329. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 164، والطبري 5/ 129، 5/ 172. (¬6) أخرجه الطبري 5/ 171، 5/ 129 بنحوه من طرق، وكذا عبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 329. وهذا قول أبي مالك والسدي. انظر: الطبري 5/ 172, 5/ 129. (¬7) عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49] وهذه الآية في القسم الساقط. (¬8) أخرجه الطبري 5/ 184 وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 334.

78

قال: وهؤلاء الذين قيل لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} هم الذين ذكروا في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية [البقرة: 246]. وقوله تعالى: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} قرئ بالياء والتاء (¬1)، فمن قرأ بالياء فلما تقدم من ذكر الغيبة، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ} ومن قرأ بالتاء فكأنه ضمَّ إليهم في الخطاب المسلمون (¬2)، فغلِّب الخطاب على الغيبة، ويؤكد التاء قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، وما في {قُلْ} من الخطاب (¬3). 78 - قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}. هذه الآية عند الزجاج متصلة بالأولى إلى قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}؛ لأنه قال: وأعلمهم أنَّ آجالهم لا تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون، فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة} (¬4). وقال الكلبي: نزلت هذه الآية في المنافقين حين قالوا لما استشهد من المسلمين ممن استشهد بأحد: لو كان (إخواننا قتلوا) (¬5) عندنا ما قتلوا، فأنزل الله هذه الآية (¬6). ¬

_ (¬1) قرأ بالياء أبو جعفر وابن كثير وحمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: "الحجة" 3/ 172، "المبسوط" ص 156، "البدور الزاهرة" ص 82. (¬2) في "الحجة" 3/ 172: "النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون". (¬3) من "الحجة " 3/ 172، وانظر: "حجة القراءات" ص 208، "الكشف" 1/ 393. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 79. (¬5) هكذا في (ش)، وفي "أسباب النزول" للمؤلف ص 171: "إخواننا الذين قتلوا" وهو الصواب. (¬6) ذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص 171 عن ابن عباس من رواية أبي صالح، وانظر: "زاد المسير" 2/ 137, والقرطبي 5/ 282.

وقال ابن عباس في رواية عطاء: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} يا معشر المنافقين ولو كنتم في بُروج مشيَّدة (¬1). والبروج في كلام العرب القصور والحصون. وقال ابن المظفر: البروج بيوتٌ تُبنى على سور المدينة (¬2). وبروج الفلك اثنا عشر، كل برج فيها ثلاثون درجة (¬3). وأصلها في اللغة من الظهور، ومنه يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها (¬4). والبرج سعة العين لظهورها بالاتساع (¬5). وأما قول أهل التفسير في البروج فقال ابن عباس في رواية عطاء {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} يريد الحصون، أي لا تُرام (¬6). وقال في رواية الضحاك البروج الحصون والآطام والقلاع (¬7). وقال مجاهد وابن جريج: هي القصور (¬8). وقال الربيع والسدي وقتادة: يعني بروج السماء بأعيانها (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬2) ذكر ذلك عن الليث (ابن المظفر) ابن منظور في "اللسان" 1/ 244 (برج). (¬3) انظر: "الصحاح" 1/ 299، "اللسان" 1/ 244 (برج)، "معاني القرآن" لابن العربي 1/ 461. (¬4) "مقاييس اللغة" 1/ 238، "الصحاح" 1/ 299 (برج). (¬5) "مقاييس اللغة" 1/ 238، وانظر: "اللسان" 1/ 243 (برج). (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 137، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬7) من الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 88 ب. (¬8) أخرج نحو ذلك عنهما الطبري 5/ 172، 173. (¬9) أخرج ذلك عن الربيع والسدي: الطبري 5/ 173، وابن أبي حاتم عن السدي انظر: "الدر المنثور" 2/ 329. أما قول قتادة فأنه كالأقوال المتقدمة، فقد أخرج الطبري 8/ 552 عنه أنه قال: "في قصور محصنة" وانظر: "الدر المنثور" 2/ 329.

وأما المشيَّدة فقال الفراء في المصادر: شاد بناءه يشيد شيدًا، وأشاد بناءه أيضًا إشادة، وشيد بناءه يشيده تشييدًا، إذا رفعه (¬1). وقال في المعاني (¬2): ما كان من جمع مثل: بروج مشيدة، ومثل قولك: مررت بثياب مصبغة، وأكبش مذبحة، فجاز التشديد لأن الفعل متفوق في جمع، فإذا أفردت الواحد من ذلك، فإن كان الفعل يتردد في الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف مثل قولك: مررت برجل مشجج، وثوب مخرق (¬3). جاز فيه التشديد لأن الفعل قد تردد فيه وكثر. وتقول: مررت بكبش مذبوح، ولا تقل: مذبح؛ لأن الذبح لا يتردد كتردد التخرق (¬4). وقال الزجاج في المشيد والتشييد والإشادة مثل قول الفراء (¬5). وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: المشيدة المطولة (¬6). وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قال المفسرون: هذا موقف اليهود والمنافقين عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان قد بسط عليهم الرزق، فلما كفروا أمسك عنهم بعض الإمساك، كما مضت سنة الله في الأمم، قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا} [الأعراف: 94]، فقالوا: ما رأينا أعظم ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 1/ 277، "معاني الزجاج" 2/ 79،"تهذيب اللغة" 2/ 1802 (شاد). (¬2) أي الفراء في كتابه "معاني القرآن" 1/ 277. (¬3) في "معاني القرآن": "ممزق" والمعنى متقارب. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 277 وانظر: الطبري 5/ 173. (¬5) انظر: "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 79. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 132, "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 127.

شؤمًا من هذا، نقصت أثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. فقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار، قالوا: هذا من عند الله، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: جدب وغلاء الأسعار، قالوا: هذا من شؤم محمد. وهذا كقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]. هذا قول الكلبي (¬1) وأكثر المفسرين (¬2)، واختيار الفراء (¬3) والزجاج (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} من النصر والغنيمة يقولوا هذه من عند الله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} من القتل والهزيمة (¬5). وهذا قول الحسن (¬6) وابن زيد (¬7). وعلى هذا المعنى فقوله: {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قال ابن زيد: بسوء تدبيرك (¬8). وقال ابن الأنباري: إذا أصابهم الخصب ونالوا ما يحبون من الغنائم والأموال قالوا: هذا من عند الله، لم نزل نعرفه، لا شيء لمحمد فيهن، ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 90. (¬2) انظر: الطبري 5/ 174، "تفسير الهواري" 1/ 401، "بحر العلوم" 1/ 370، "الكشف والبيان" 4/ 88 ب، "النكت والعيون" 1/ 506 - 507 "زاد المسير" 2/ 137. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 278. (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 79. (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 138. (¬6) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 401 , "النكت والعيون" 1/ 506 - 508. (¬7) أخرجه الطبري 5/ 174 - 175 , وانظر: "النكت والعيون" 1/ 506 - 508؛ "زاد المسير" 2/ 138، "الدر المنثور"2/ 330. (¬8) المرجع السابق.

وإذا أصابهم الجدب والبلاء والشر قالوا: هذا الشقاء بشؤم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي النصر والهزيمة (¬1). وقال أهل المعاني: جملة المعنى الذي تضمنته هذه الآية الحض على الجهاد، بأن الموت لا بد منه، فلا تجزعوا من الموت جزع المُعرض عن ذكره، ولا تجهلوا بإضافة المصيبة فيه إلى غير الله (¬2). وقال ابن عباس في بعض الروايات: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها (¬3). وقوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لا يفهمون القرآن (¬4). والفقه في اللغة: اللهم، يقال: أوتي فلان فقهًا في الدين، أي فهمًا (¬5)، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "وفقهه في التأويل" (¬6) أي فهمه تأويله. ¬

_ (¬1) مثل هذا مروي عن ابن زيد، انظر: "الدر المنثور" 2/ 330 - 331، ولم أقف عليه عن عطاء. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 369، "الكشف والبيان" 4/ 88 ب. (¬3) هذا الأثر من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في "تفسيره" ص151، والطبري 5/ 174 - 175، والبيهقي في "الاعتقاد على مذهب السلف" أهل السنة والجماعة ص (67، 68)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 330 - 331 أيضًا إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 370، "زاد المسير" 2/ 136. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2844، "الصحاح" 6/ 2243 (فقه). (¬6) أخرجه البخاري (143) كتاب: الوضوء، باب: (10) وضع الماء عند الخلاء 1/ 45 بلفظ: "اللهم فقهه في الدين"، ومسلم (2477) في كتاب: فضائل الصحابة، باب: (30) فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما 4/ 1927 (ح 138) بلفظ:"اللهم فقهه" وأحمد في "مسنده" 1/ 299 بلفظ: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

79

79 - قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال ابن عباس في رواية عطاء: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} يوم بدر، من النصر والغنيمة، فمن الله، {وَمَا أَصَابَكَ} يوم أُحد من القتل والهزيمة، {فَمِنْ نَفْسِكَ}، يريد: فبذنبك. وهذا من الله مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به أصحابه، والشعبي من ذلك بريء، وذلك أن الله تعالى حين بعثه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعصمه فيما يستقبل حتى يموت، فهو معصوم. انتهى كلام ابن عباس (¬1). وهذا الذي ذكره مذهب أكثر أهل التفسير والمعاني (¬2). قال أبو إسحاق: هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يُراد به الخلق، ومخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكون للناس جميعًا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لسانهم، والدليل على ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، وصار الخطاب شاملًا له ولأمته، فمعنى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي ما أصبتم من غنيمة، أو أتاكم من خصب فمن تفضل الله جل وعز، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} أي من جدب وغلبةٍ في حرب {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: أصابكم ذلك بما كسبت أيديكم (¬3). ¬

_ (¬1) ورد نحوه من طريق علي بن أبي طلحة في تفسير ابن عباس ص 152، وأخرجه الطبري 5/ 175 - 177، وانظر: "زاد المسير" 2/ 138. ولم أقف على رواية عطاء، وانظر: "تنوير المقباس" ص 90، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه من طريق عطة العوفي عن ابن عباس. انظر: "الدر المنثور" 2/ 331 - 331. (¬2) انظر: الطبري 5/ 175 - 177، "بحر العلوم" 1/ 370، "النكت والعيون" 1/ 506 - 509. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 79, 80، وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 127، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 135.

وقال الكلبي: ما أصابك من خير فالله هداك له وأعانك عليه، وما أصابك من أمر تكرهه فبذنبك، عقوبة للذنب (¬1). وقال قتادة: {فَمِنْ نَفْسِكَ} عقوبة لذنبك يا ابن آدم (¬2). وكذلك قال الحسن (¬3) والسدي وابن جريج (¬4) والضحاك في تفسير قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} فبذنبك. ويدل على صحة هذا التفسير قوله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، وقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. وقال أبو بكر بن الأنباري: ما أصابك من خصب فمن تفضل الله، وما أصابكم من جدب وغم فمن أجل ذنوبكم، فخوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعني الأمة. وهذا القول هو اختيارنا لموافقته الآثار واللغة، ودلالة الآية الأولى على صحته، ولأن الحسنة معلوم أنها تكون بمعنى الخصب، والسيئة بمعنى الجدب، قال الله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] أراد: واختبرناهم بالخصب والجدب. ونحو هذا قال ابن قتيبة (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 370. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 175 - 176، وعبد بن حميد، انظر: "الدر المنثور" 2/ 330 - 331. (¬3) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 402، "النكت والعيون" 1/ 507 - 509، "زاد المسير" 2/ 139. (¬4) أخرجه عن السدي وابن جريج: الطبري 5/ 175 - 176. (¬5) في "تفسير غريب القرآن" ص 127.

ولا تعلق للقدرية بهذه الآية؛ لأن الحسنة والسيئة المذكورتين هنا لا ترجعان إلى الطاعة والمعصية وأكساب العباد بحالٍ، ولا يجوز ذلك (¬1) قال ابن الأنباري: لأن الحسنة التي يُراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها: أصابتني، إنما يقال: أصبتها , وليس في كلام العرب: أصابت فلانًا حسنةٌ على معنى: عمل خير، وكذلك: أصابته سيئة، على معنى عمل معصية، غير موجود في كلامهم، إنما يقولون: أصاب سيئة، إذا عملها واكتسبها، واللغة تُروى، ولا تُعمل عملًا، فانفساخ قول القدرية واضح بين. وأكد الحسين بن الفضل هذا المعنى فقال: لو كانت الآية على ما يقول أهل القدر لقال: ما أصبت، ولم يقل: ما أصابك؛ لأن العادة جرت بقول الناس: أصابني بلاءً ومكروه، وأصابني فرح ومحبوب، ولا يكاد يسمع: أصابني الصلاة والزكاة، والطاعة والمعصية، فالحسنة والسيئة في هذه الآية ماستان مصيبتان، ولا ممسوستان مصابتان، وإذا كانتا بهذه الصفة لم يكن بيننا وبين أهل القدر خلاف أنهما تكونان من فعل الله تعالى وخلقه، كالخصب والجدب، والنصر والهزيمة. وإذا صح هذا كان معنى قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} على ما ذكره المفسرون وأرباب المعاني، وبطل تعلقهم بالآية. ومن المفسرين من أضمر في الآية شيئًا، وهو ما يُروى عن أبي صالح أنه قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا قدَّرتُها عليك (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 89 ب، "معالم التنزيل" 2/ 252، 253، "التفسير الكبير" 10/ 90 - 192. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 175 - 176؛ وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 330 - 331 أيضًا إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم, وقد ورد =

80

ونحو هذا روي عن زيد بن علي. وهذا لا يكاد يستقيم، لأنه إضمار ليس عليه دليل (¬1)، ولأنا قد بينا أنه لا يجوز حمل الحسنة والسيئة في هذه الآية على الطاعة والمعصية، فاستغنينا عن هذا التكلف. وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}. قال ابن عباس: يريد أنك قد بلغت رسالاتي ونصحت عبيدي (¬2). {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على ما بلغت من رسالة ربك. 80 - قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. قال ابن عباس: يريد أن طاعتكم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله (¬3). وقال الزجاج: أي من قبل ما أتى به الرسول فإنما قبل ما أمر الله جل وعز (¬4) به. وقال الحسن: جعل الله طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - طاعته، وقامت به الحجة على المسلمين (¬5). وذكر الشافعي رحمه الله في الرسالة في فرض طاعة الرسول (¬6) هذه الآية، وقال: إن كل فريضة فرضها الله تعالى في كتابه، كالحج والصلاة ¬

_ = "وأنا كتبتها عليك" قراءة عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم انظر: "إعراب القرآن" لنحاس 1/ 474، "معالم التنزيل" 2/ 253، "البحر المحيط" 3/ 301، "الدر المنثور" 2/ 330 - 331. (¬1) بل عليه دليل وهو القراءة الواردة عن الصحابة، وتعتبر تفسيرية. وتقدم قريبًا عزو ذلك عند الأثر عن أبي صالح. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 70. (¬5) "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 402. (¬6) أي: في باب فرض الله طاعة رسول الله من "الرسالة" ص 79.

والزكاة، لولا بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنَّا نعرف كيف نأتيها, ولا يمكننا أداء شيء من العبادات، وإذا كان الرسول من الشريعة بهذه المنزلة، كانت طاعته على الحقيقة طاعةً الله. هذا معنى كلام الشافعي (¬1). وقال مقاتل في هذه الآية: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "من أحبني أحب الله، وما أطاعني فقد أطاع الله" (¬2) فقال المنافقون: لقد قارف هذا الرجل الشِّرك، وهو ينهى أن يُعبد غير الله، وما يريد إلا أن نتخذه (¬3) ربًا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله تصديقًا لقول نبيه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى}. قال ابن عباس: يريد عن طاعة محمد (¬5)، وقال مقاتل: {وَمَنْ تَوَلَّى} أعرض عن طاعته (¬6). ومعنى التولِّي في اللغة الإعراض، وقد أعطينا حقه عند قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 64]. من المفسرين من يجعل التولِّي في هذه الآية إعراضًا جهارًا (¬7)، ¬

_ (¬1) انظر: "الرسالة" ص 79 - 104، "التفسير الكبير" 10/ 193. (¬2) "تفسيره" 1/ 391، وآخره أخرجه البخاري (2957) في الجهاد، باب: يقاتل من وراء الإمام، ومسلم (1835) في كتاب الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء. (¬3) في (ش): (يتخذه) بالياء، ولعل الصواب: (نتخذه) بالنون، انظر: "بحر العلوم" 1/ 370، "معالم التنزيل" 2/ 253. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 370، "الكشف والبيان" 4/ 90 أ، "معالم التنزيل" 2/ 253، "زاد المسير" 2/ 141. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬6) "تفسيره" 1/ 392 ولفظه: "أعرض عن طاعتهما". (¬7) انظر: "بحر العلوم" 1/ 370، "المحرر الوجيز" 4/ 144، "زاد المسير" 2/ 142، "التفسير الكبير"10/ 194.

ويقول: هذا في أول ما بُعث، ويقول في معنى قوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي حافظًا لهم من التولي والإعراض كما قال جل وعز: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] ثم أمر فيما بعد بالجهاد والإكراه بالسيف، ونُسخ هذا وأمثاله. وهذا معنى قول ابن زيد (¬1)، واختيار ابن قتيبة (¬2). ومنهم من يجعل التولي ههنا إضمار العداوة للرسول، والإعراض عنه في السر؛ كتولي المنافقين، ويقول في قوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي حافظًا لهم من المعاصي حتى لا تقع، حافظًا لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها؛ لأن الله هو المُجازي بها. وإلى هذه الطريقة مال أبو إسحاق؛ لأنه يقول في قوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}: تأويله والله أعلم أنك لا تعلم غيبهم، وإنما لك ما ظهر منهم (¬3). ومعنى جواب الجزاء في قوله: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ} كأنه يقول: ومن تولى فليس عليك بأس لتوليه؛ لأنك لم ترسل عليهم حفيظًا من المعاصي حتى لا تقع، أو حفيظًا لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها، فتخاف ألا تقوم بها على ما ذكرنا (¬4). وعلى هذه الطريقة لا موضع للنسخ في الآية. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 177، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 331. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 127، و"الكشف والبيان" 4/ 90 ب، والقرطبي 5/ 288. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 80، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 194. (¬4) انظر: الطبري 5/ 177، "تفسير الهواري" 1/ 402، "الكشاف" 1/ 284، "التفسير الكبير" 10/ 194.

81

81 - قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني المنافقين، في قول الحسن (¬1) والسدي (¬2)، والضحاك (¬3)، وأكثر المفسرين (¬4). قال ابن عباس: كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: طاعة، يريدون أطعناك (¬5). وقال الكلبي: كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: طاعة، يريدون: أطعناك. وقال الكلبي: كانوا يقولون طاعة لأمرك (¬6). وقال مقاتل: كانوا يقولون طاعةً لأمرك (¬7). وقال مقاتل: كانوا إذا دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: مرنا بما شئت، فأمرك طاعة (¬8). وقال النحويون: معناه: أمرُنا طاعة (¬9)، أي أمرنا وشأننا أن نُطيعك. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 402. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 178، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 332 أيضًا إلى ابن أبي حاتم. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 179، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 139. (¬4) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 402، "النكت والعيون" 1/ 509، "الكشف والبيان" (4/ 90 ب، "معالم التنزيل" 2/ 254، "زاد المسير" 2/ 142. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬6) هذان القولان للكلبي متقاربان، ويحتمل أنه تكرار في النسخ، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 370، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬7) ليس في "تفسير مقاتل"، وإنما فيه قوله التالي، ويحتمل أن هذا تكرار لقول الكلبي السابق. (¬8) "تفسيره" 1/ 392، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 370، "زاد المسير" 2/ 142. (¬9) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 451، "معاني الزجاج" 2/ 81، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 437.

وقال بعضهم: منا طاعة (¬1). وقال أبو إسحاق: والمعنى أنَّ إضمار أمرنا أجمع في القصة وأحسن (¬2). وقال الفراء: الرفع على قولك: منا طاعة، وأمرك طاعة (¬3). قال: والطاعة اسم من أطاع، يقال: أطعته إطاعة وطاعة، كقولك: أطقته إطاقه وطاقة، وأجبته إجابة وجابة. ذكر ذلك في المصادر (¬4). وقوله تعالى: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ}. قال الكلبي: خرجوا من عندك (¬5). وقوله تعالى: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ}. قال الزجاج: كل أمر فكر فيه (أو خيض) (¬6) فيه بليل فقد بيت، يقال: هذا أمر قد بيت بليل، ودبر بليل، بمعنى واحد. قاله في قوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، (¬7). وقال في هذه الآية: كل أمر قضي بليل قيل: بيت (¬8)، وهو قول أبي عبيدة (¬9) وأبي العباس (¬10) وجميع أهل اللغة، وأنشدوا: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 278، الطبري 5/ 177، "معاني الزجاج" 2/ 81، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 437. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 81. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 278. (¬4) أي الكلام على اشتقاق "طاعة" ووزنه، وقد أشار إلى أنه من ذوات الواو في "معاني القرآن" 1/ 279. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬6) في المخطوط: "وأخيض" والتصويب من "معاني الزجاج" 2/ 101. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 101، "تهذيب اللغة" 1/ 250 (بيت)، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 195. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 81. (¬9) في "مجاز القرآن" 1/ 133. (¬10) أي المبرد في "الكامل" 3/ 30.

أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني لأمر نكر (¬1) وحُكي عن الأخفش أنه قال: العرب تقول للشيء إذا قدّر: قد بيت، يشبهونه بتقدير بيوت الشعر (¬2). وقال أهل اللغة: إنما قيل للتدبير بالليل تبييت لأنه تدبير في البيوت وقت البيتوتة (¬3)، وذلك الوقت أخلى للأفكار. هذا كلام أهل اللغة في هذا الحرف. فأما كلام المفسرين، فقال عطاء عن ابن عباس في قوله: بيت طائفة منهم غير الذي تقول: "يريد أضمروا في قلوبهم غير الذي تقول" (¬4). وقوله راجع إلى معنى التقدير؛ لأن إضمارهم الشيء تقدير منهم مع أنفسهم. قال عبد الله بن مسلم (¬5): (ويقولون طاعة) بحضرتك، (فإذا خرجوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) أي قالوا وقدروا ليلًا غير ما أعطوك نهارًا (¬6). ¬

_ (¬1) البيت لعبيدة بن همام العدوي في "مجاز القرآن" 1/ 133، "الكشف والبيان" 4/ 90 ب، وغير منسوب في "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 127، "الكامل" 3/ 30، "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 81. (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 91 أ، "معالم التنزيل" 2/ 254، "التفسير الكبير" 10/ 195. وينسب نحو هذا الكلام لأبي عبيدة، انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 325 (بيت) وقد تكون آخر كلمة: "الشعر" بكسر الشين وسكون العين. (¬3) انظر: "معجم مقاييس اللغة" 1/ 325 (بيت). (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 91 أ، "الوسيط" 2/ 633، "معالم التنزيل" 2/ 254، "زاد المسير" 2/ 143، "البحر المحيط" 3/ 304. (¬5) أي: ابن قتيبة. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 127، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 254، "زاد المسير" 2/ 142.

وقال الكلبي: (بيت) غير طائفة منهم (¬1). وقال قتادة: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} يغيرون ما عاهدوا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكذلك قال الفراء في معنى التبييت، أنه بمعنى التغيير (¬3). وهذا التفسير راجع أيضًا إلى معنى التقدير؛ لأن: من قدّر شيئًا غير الأول فقد غير وبدل، وإنما يكون التبييت بمعنى التغيير إذا استعمل مع غير، يقال: بيت فلان غير ما قال إذا غيره ورجع عنه بتدبير وتقدير في نفسه. وبعضهم يقول: إن التبييت في لغة طيّ يكون بمعنى التغيير (¬4)، وينشدون: وبيت قولي عبد المليك ... قاتلك الله عبدًا كفورًا (¬5) معنى بدلت وغيرت. وهذا لا يستقيم في معنى الآية؛ لأنك لو حملت الآية عليه كان المعنى غير طائفة أو النبي، على ما تذكر في تفسير: {تَقُولُ}، وليس كذلك معنى الآية، لأنهم غيروا ما قالوه أو قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لا غير ذلك، فقد بان لك أن التبييت إنما يستعمل بمعنى التغيير إذا كان مع غير. ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 91 ب، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 402. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 178، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 80 ب، وقد عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 332 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 1/ 279. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 90 ب. (¬5) البيت للأسود بن عامر الطائي كما في "تفسير الطبري" 5/ 271 وهو غير منسوب في "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 128، "الكشف والبيان" 4/ 90 ب، "زاد المسير" 2/ 143، القرطبي 5/ 289.

وهذا ظاهر بحمد الله. والمفسرون فسروا {بَيَّتَ} بمعنى: غير، ذهابًا إلى المعنى، كما بينا. وأما قوله: {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} فيدل كلام بعض المفسرين على أن {تَقُولُ} من فعل الطائفة، ويدل كلام بعضهم على أنه مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه القول له. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أضمروا في قلوبهم غير الذي تقول (¬1). وهذا التفسير محتمل لوجهين: أضمروا غير ما قلت لهم يا محمد. وأضمروا غير ما قالوا هم، على معنى أنهم أسروا غير ما أظهروا وأضمروا الخلاف عليك. وقال الكلبي في قوله: {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}: غير ما أتيتهم به (¬2). وهذا يدل على أن القول للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحسن في معنى قوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُول}: على وجه التكذيب (¬3). وهذا أيضًا يدل على أن القول للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعنى أنهم كذبوا ما يقول لهم. وقال قتادة في هذه الآية: يغيرون ما عاهدوا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وهذا يدل على أن القول للطائفة. وقال الفراء: غير ما قالوا وخالفوا (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم الأثر وعزوه، وانظر: "زاد المسير" 2/ 143. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬3) "النكت والعيون" 1/ 510. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) "معانى القرآن" 1/ 279.

وقال عبد الله بن مسلم (¬1): قدروا ليلًا غير ما أعطوك نهارًا (¬2). وهذه الآية تقوي الطريقة الثانية في الآية الأولى، وهي أن معنى التولي في قوله: {وَمَن تَوَلَّى} إضمار العداوة والخلاف للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو إسحاق: هذا ونظائره في كتاب الله جل وعز من أبين آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم ما كانوا يخفون عنه أمرًا إلا أظهره الله عز وجل (¬3). وأكثر القراء قرأوا {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} بفتح التاء والإظهار (¬4)، لانفصال الحرفين واختلاف المخرجين (¬5). وقرأ حمزة (بيت طائفة) جزمًا مُدغمًا (¬6). قال الفراء: جزمها لكثرة الحركات، فلما سكنت التاء اندغمت في الطاء (¬7). وقال غيره (¬8): إن الطاء والتاء والدال من حيز واحد، فالتقارب الذي بينها يُجريها مجرى الأمثال (¬9) في الإدغام (¬10) الأنقص صوتًا من الحروف ¬

_ (¬1) ابن قتيبة. (¬2) "غريب القرآن" ص 127، وانظر: "زاد المسير" 2/ 142. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 81. (¬4) هذه قراءة السبعة غير أبي عمرو وحمزة. انظر: "السبعة" ص 235، "الحجة" 3/ 173. (¬5) "الحجة" 3/ 173، وانظر: "الكشف" 1/ 393، "زاد المسير" 2/ 142. (¬6) وقراءة أبي عمرو أيضاً. انظر: "السبعة" ص 235، "الحجة" 3/ 173. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 279. (¬8) أبو علي في "الحجة" 3/ 173. (¬9) في الحجة: "المثلين". (¬10) ذهب هنا كلام من الحجة حذفًا أو سقطًا، وهو: "ومما يحسن الإدغام أن الطاء تزيد على التاء بالإطباق، فحسن إدغام الأنقص .. " إلخ.

في الأزيد بحسب قبح (¬1) إدغام الأزيد في الأنقص، ألا ترى أن الضاد لا تُدغم في مقاربها، ويدغم مقاربها فيها؟ وكذلك الصاد والسين والزاي لا يُدغمن في مقاربها، ويدغم مقاربها فيها، ويدغم بعضها في بعض (¬2). وذُكر في تخصيص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت وجهان: أحدهما: أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه لم يذكرهم. والثاني: أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا، فلم يذكروا (¬3). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}. ذكر أبو إسحاق فيه وجهين: أحدهما أن معناه ويُنزله إليك في كتابه. والثاني يحفظ عليهم ليُجازوا به (¬4). وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}. قال ابن عباس: يريد فاصفح عنهم (¬5) وذلك أن الله تعالى نهى عن قتل المنافقين (¬6). وقال أبو إسحاق: أي لا تسم هؤلاء بأعيانهم، لما أحب الله من ستر ¬

_ (¬1) في المخطوط: "فتح" وما أثبته من الحجة، وهو أولى لمقابلته الحسن في إدغام الأنقص في الأزيد. (¬2) "الحجة" 3/ 173، وانظر: "الكشف" 1/ 393، "زاد المسير" 2/ 142. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 91 أ، "زاد المسير" 2/ 143، "التفسير الكبير" 10/ 195. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 81، وانظر: "زاد المسير" 2/ 143. (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 143، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬6) وذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالأمر بقتالهم وذكر ذلك عن ابن عباس. انظر "زاد المسير" 2/ 143.

أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام (¬1). وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} قال عطاء: يريد: واصبر على خلافهم (¬2). وقال ابن كيسان: اعتمد بأمرك عليه (¬3). وقال أهل اللغة: معنى (توكل على الله) أي علم أن الله كافل أمره فركن إليه وحده (¬4). وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} الوكيل في اللغة معناه الموكول إليه، وهو فعيل بمعنى مفعول (¬5). وقال ابن كيسان: وكفى باللهِ معتمدًا وملجأ. وقال عطاء: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} يريد لمن توكل عليه (¬6). وقال بعضهم: الوكيل القائم بما يُفوض إليه من التدبير. قال المفسرون: كان الأمر والمعاني [...] (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 81. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3947 (وكل). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3947، "اللسان" 8/ 4910 (وكل). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) حصل سقط وخلط في المخطوط فقد بتر الكلام وأتي مباشرة بتفسير وسط الآية 83 - 86 من هذه السورة، وقد وجدت بعد ذلك بلوحة كثيراً من تفسير الآية 82 أو أكثره أو كله، فقدمت تفسير الآية 82 في الصفحة هنا وأخرت ما قدم في المخطوط من تفسير الآية 83 وما بعده.

82

82 - قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} معنى التدبير والتدبر في اللغة النظر في العواقب (¬1)، ومنه قول الأكثم (¬2) ألا (¬3) تتدبروا أعجز (¬4) الأمور قد ولت صدورها (¬5). ويقال لمن نظر في أمر قد أدبر: استدبر فلان أمره، ويقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، أي: لو عرفت في صدره ما عرفت في عاقبته (¬6). وقال الزجاج: معنى تدبرت الشيء: نظرت في عاقبته، وسمي النحل دبرًا لأنه يعقب ما ينتفع به. والمال الكثير دبر، لأنه يبقى للأعقاب والأدبار (¬7). ومعنى الآية: أفلا يتأملون القرآن ويتفكرون فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 82، "تهذيب اللغة" 2/ 1143، "مقاييس اللغة" 2/ 324، "الصحاح" 2/ 655 (دبر). (¬2) في المخطوط: "الأكثر" والتصويب من "تهذيب اللغة" 2/ 1143 (دبر) وأكثم هو بن صيفي بن رباح بن الحارث التميمي الحكيم المشهور، أحد المعمرين، أدرك الإسلام وقصد المدينة ليسلم فمات في الطريق في نحو سنة 9 هـ. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص (210)، "أسد الغابة" 1/ 134، "الإصابة" 1/ 110، "الأعلام" 2/ 6. (¬3) في "تهذيب اللغة" 2/ 1143، "اللسان" 3/ 1321 (دبر): "لا"، ولعله هو الصواب كما سيأتي من بيان لقول أكثم. (¬4) في "التهذيب": "أعجاز". (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1143، "اللسان" 3/ 1321 (دبر)، "التفسير الكبير" 10/ 196، وقال الأزهري مبينًا قول أكثم: "يقول: إذا فاتكم الأمر لم ينفعكم الرأي، وإن كان محكمًا". (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1143 (دبر)، "التفسير الكبير" 10/ 196، "اللسان" 3/ 1321 (دبر). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 82، وانظر: "زاد المسير" 2/ 144.

قال ابن عباس: وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي (¬1). وقال الزجاج: يعني به المنافقون (¬2). وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} قال ابن عباس: يريد لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب واختلاف وباطل (¬3). وقد بين الزجاج وكشف عن هذا المعنى فقال: لو كان ما يُخبرون به مما بينوا وما يسرون فيوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لولا أنه من عند الله لكان الإخبار به مختلفًا؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل (¬4). فالاختلاف على هذا التفسير معناه الكذب. وقال قتادة وابن زيد في قوله: {اخْتِلَافًا}: أي تناقضًا من جهة حق وباطل (¬5). وهذا القول معناه كالأول؛ لأنَّ تأويله: أنه لو كان من عند غير الله لكان ما فيه من الإخبار عن الغيب بعضه حقًا وبعضها باطلًا. وقال بعض أهل المعانى: قوله: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا} أي من جهة بليغ ومرذول (¬6). يعني أنه لو كان من عند مخلوق لكان على قياس كلام ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 144، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 82. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 91 ب، "زاد المسير" 2/ 144، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 82. (¬5) هذا معنى قولهما، وقد أخرجه ابن جرير 5/ 179 - 180، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 140، "النكت والعيون" 1/ 510، "الدر المنثور" 2/ 332. (¬6) "النكت والعيون" 1/ 510، ونسبه الماوردي لبعض البصريين، وانظر: "زاد المسير" 2/ 145.

العباد، بعضه بليغ حسن وبعضه مرذول فاسد، فلما كان جميع القرآن بليغًا عرف أنه من عند الله. ومعنى الاختلاف في اللغة: أن يذهب أحد الشيئيين خلاف ما ذهب إليه الآخر، والأقوال المختلفة أن يذهب بعضها إلى الخطأ وبعضها إلى الصواب، أو بعضها إلى الحسن البليغ وبعضها إلى المرذول القبيح. وليس بحمد الله في القرآن اختلاف تناقض، ولا اختلاف تفاوت، بأن يكون بعضها حسنًا وبعضه قبيحًا. فأما اختلاف القراءات، واختلاف مقادير الآيات والسور، واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فكلٌّ صواب وكله حق، وليس ذلك اختلافًا يؤدي إلى فساد وتناقض، بل هو اختلاف يوافق بعضه بعضًا في الحسن (¬1). ¬

_ (¬1) ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جيد يوضح هذا المعنى ويؤكده، فمما قال حول ذلك: "الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يُعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبة تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمَّى ... كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأسماء القرآن. الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه .... ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملًا للأمرين، إما لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ (قسورة) الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد. ولفظ (عسعس) الذي يراد به إقبال الليل وإدباره ... " "مجموع الفتاوى" 13/ 333 - 340، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 305.

83

وقال ابن عباس في رواية الكلبي عنه في هذه الآية: أفلا يتفكرون في القرآن فيرون بعضه يُشبه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، وأن أحدًا من الخلائق لم يكن يقدر عليه، فيسلمون بذلك أنه من عند الله، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا أي تفاوتًا وتناقضًا كثيراً (¬1). فجعل الاختلاف في هذا القول اختلاف التناقض. 83 - وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} الآية (¬2) المفسرون وأرباب المعاني فوضى مختلفون في هذه الآية، ولا تكاد ترى لأحدهم متفق الصدر والعجز في معناها، وسأبين ما هو الأوفق والأليق إن شاء الله. قال أبو بكر محمد بن القاسم (¬3): نزلت هذه الآية في قوم كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وُيخبرون بما وقع بها وبما أدركت ولحقت، قبل أن يُخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضعفون قلوب المؤمنين ويؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - سبقهم إياه بالأخبار، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} أي أبدوه وأظهروه قبل إبداء الرسول إياه إلا قليلًا منهم {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أي أولي أمر السرايا، حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمراء هم الذين يُخبرون به {لَعَلِمَهُ} كل طالب علمه، واستغنوا بذلك عن الإخبار بما يغم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويؤذي المسلمين (¬4). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬2) جعلت هنا تفسير الآية (83) الذي كان مقدمًا في المخطوط على تفسير الآية (82). (¬3) ابن الأنباري. (¬4) لم أقف عليه عن ابن الأنباري.

وهذا الذي قاله أبو بكر معنى صحيح عليه كثير من المفسرين (¬1)، وأذكر من أقوالهم ما وافق هذا المعنى. قال ابن عباس: هذا في الأخبار، إذا غزت السرية من المسلمين أخبروا الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمين من عدوهم كذا وكذا، فأفشوه بينهم (¬2). وقال (السدي) (¬3): نزل هذا في أصحاب الأخبار والأراجيف كانوا إذا سمعوا من النبي خبرًا أفشوه حتى يبلغ العدو فيأخذ حذره، وكذلك كانوا يصنعون إذا كانوا غزاةً في السرايا (¬4). وقال الكلبي: {وَإِذَا جَاءَهُمْ} يعني المناِفقين {أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} حديث فيه أمن {أَوِ الْخَوْفِ} يعني الهزيمة {أَذَاعُوا بِهِ} أفشوه، ولو سكتوا عنه حتى يكون الرسول هو الذي يُفشيه، أو أولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعلي، ويقال أمراء السرايا {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يتبعونه، ويقال: يطلبون علم ذلك (¬5). قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية فغلبت أو غُلبت تحدثوا بذلك وأفشوه، ولم يقفوا في ذلك حتى يكون رسول الله يخبرهم، فأنزل ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 279، والطبري 5/ 182، "معاني الزجاج" 2/ 83، "بحر العلوم" 1/ 371، "الكشف والبيان" 4/ 93 أ، "زاد المسير" 2/ 145. (¬2) أخرجه بمعناه من طريق العوفي ومن طريق ابن جريج الطبري 5/ 182 - 183، وانظر: "زاد المسير" 2/ 145، "الدر المنثور" 2/ 333 - 334. (¬3) الكلمة بين القوسين غير واضحة تمامًا في المخطوط، وما أثبته محتمل. (¬4) أخرجه بمعناه الطبري 5/ 182 - 183، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334. (¬5) بنحوه في "بحر العلوم" 1/ 371، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91.

الله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ}. ونحو هذا قال مقاتل (¬1). فهذه الأقوال التي ذكرنا توافق المعنى الذي ذكره أبو بكر وتقاربه. فأما سوق الألفاظ على هذا التفسير، فقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ} يعني المنافقين في قول أكثرهم (¬2). قال الزجاج: وكان ضعفة من المسلمين يُشيعون ذلك معهم من غير علم منهم بالضرر في ذلك (¬3). وهذا قول الحسن أيضًا (¬4). والسدي أبهم الأمر فقال: نزل في أصحاب الأخبار (¬5). فاحتمل أن يكونوا من المنافقين وأن يكونوا من المسلمين. ومعنى {وَإِذَا جَاءَهُمْ} إذا وقع إليهم وانتهى إليهم هذا الخبر الذي هو أمر {مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} من جهة استخبار وتجسس في معنى قول المفسرين إلا في قول السدي، فإنه قال: كانوا إذا سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرًا (¬6). فعلى قوله يجيئهم الخبر بالسماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قوله لا يجوز أن يكونوا كاذبين بأن كان ما وقع إليهم من الخبر كذبًا، فقد قال ابن عباس: أفشوه بينهم من غير أن يكون شيء من ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) في "تفسيره" 1/ 393. (¬2) هذا قول ابن زيد والضحاك وغيرهما. انظر: الطبري 5/ 182 - 183، "بحر العلوم" 1/ 371، "الكشف والبيان" 4/ 92 أ، و"النكت والعيون" 1/ 511. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 83. (¬4) "النكت والعيون" 1/ 511. (¬5) انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334. (¬6) انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334. (¬7) أخرجه الطبري 5/ 182 - 183 من طريق ابن جريج، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.

وقوله: {أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}. مضى فيه كلام المفسرين. وقال الحسن: من السلم أو الحرب (¬1). وقوله تعالى: {أَذَاعُوا بِهِ}. الذيع أن يشيع الأمر (¬2). قال الفراء: يقال: ذاع الشيء يذيع ذيعانًا وذيعًا وذيوعًا (¬3). وقال أبو زيد: أذعتُ الأمر وأذعت به (¬4). ونحو ذلك قال الكسائي وأبو عبيدة (¬5) وأنشد. أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب (¬6) قال قتادة: {أَذَاعُوا بِهِ} أظهروه (¬7). وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ}. أي ردوا الأمر من الأمن أو الخوف (¬8). وتأويله: فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 404. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1262 (ذاع)، وانظر: "الصحاح" 3/ 1211 (ذيع). (¬3) ليس في "معاني القرآن"، ويحتمل وجوده في كتابه "المصادر"، وهو مفقود. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1262 (ذاع). (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 133، وانظر: الطبري 5/ 182 - 183. (¬6) البيت لأبي الأسود الدؤلي كما في "المجاز" 1/ 133، والطبري 5/ 182 - 183، وفي "معاني الزجاج" 2/ 83 دون نسبة. قال أبو عبيدة عقبه: "يقال: أثقب نارك، أي أوقدها حتى تضيء" ويقصد أبو الأسود بهذا البيت صديقًا له أفشى له سرًا، والمعنى: أشاع هذا السر وأظهره حتى صار كالنار الموقدة في مكان عال يراها كل مار. (¬7) أخرجه الطبري 5/ 182 - 183، لكن بلفظ: "سارعوا به وأفشوه". (¬8) انظر: الطبري 5/ 182 - 183، و"زاد المسير" 2/ 146. (¬9) انظر: الطبري 5/ 182 - 183، و"معاني الزجاج" 2/ 83، و"الكشف والبيان" 4/ 92 أ.

وفي أولي الأمر قولان ذكرتهما (¬1) في حكايته قول الكلبي، أحدهما اختيار الزجاج؛ لأنه قال: إلى ذوي العلم والرأي منهم (¬2). والثاني اختيار الفراء؛ لأنه قال: لو ردوه إلى أمراء السرايا (¬3). وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} يعني من هؤلاء المرجفين. وجعل أمراء السرايا وذوي العلم منهم من حيث الظاهر. وقد مضى مثل هذا في آيتين، وذكرنا الكلام هناك، إحدى الآيتين قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] والثانية قوله معنى (¬4) {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]. وقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. معنى الاستنباط في اللغة الاستخراج، يقال: استنبط الفقيه، إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه. وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما يُحفر. يقال من ذلك: أنبط في غضراء (¬5) أي استنبط الماء في طين حر. قال: والنبط (¬6) إنما سموا نبطًا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين. هذا كلام الزجاج (¬7). ¬

_ (¬1) كأن هذِه الكلمة في المخطوط: "ذكرهما". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 83. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 279. (¬4) لعل الصواب: "تعالى". (¬5) الغضراء: "طينة خضراء علكة" "الصحاح" 2/ 770 (غضر). (¬6) "النبط والنبيط: قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين، والجمع أنباط". "الصحاح" 3/ 1162 (نبط). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 83، وانظر: الطبري 5/ 182 - 183، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 438، و"تهذيب اللغة" 4/ 3497، و"الصحاح" 3/ 1162 (نبط) و"زاد المسير" 2/ 147، و"اللسان" 7/ 4325 (نبط).

وقال الفراء: ينبطونه مثل يستنبطونه، ونبط الماء ينبط وينبط نبوطًا والأنباط الذين استنبطوا الماء من الأرض (¬1). وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل إذا كان يعدُ ولا يُنجز: فلان قريب الثرى بعيد النبط (¬2). وقال غيره: يقال ذلك إذا وصف بالعز والمنعة، حتى لا يجد عدوه سبيلًا إلى أن يهضمه (¬3). قال كعب بن سعد الغنوي (¬4): قريب ثراه ما ينال عدوُّه ... له نبطًا أبي الهوان قطوبُ (¬5) وأنشده الفراء في المصادر. هذا كلام أهل اللغة. فأما قول أهل التأويل، فقال الضحاك: {يَسْتَنْبِطُونَهُ} يتبعونه (¬6). وقال عكرمة: الذين يحرصون عليه ويسألون عنه (¬7). ¬

_ (¬1) ليس في "معاني القرآن"، فيحتمل وجوده في كتابه المفقود: المصادر. (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3497 (نبط). (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3497 (نبط). (¬4) هو كعب بن سعد بن عمرو بن عقبة الغنوي، شاعر جاهلي مجيد، وقيل: أدرك الإسلام، وهو من أصحاب المراثي. انظر: "طبقات الشعراء" ص 48، و"الأعلام" 5/ 227. (¬5) البيت في "تهذيب اللغة" 4/ 3497، و"الصحاح" 3/ 1162 (نبط) دون نسبة. ونسب لكعب في "أساس البلاغة" 2/ 416، و"اللسان" 7/ 4325 (نبط)، و"الصحاح" و"اللسان": "عند" بدل قوله: "أبي". ومعنى: قريب ثراه: أي قريب خبره، انظر: "اللسان" 1/ 480 (ثرا). وقطوب: من القطوب وهو كناية عن الغضب والعبوس. انظر: "اللسان" 6/ 3667 (قطب). (¬6) أخرجه الطبري 5/ 182 بلفظ: "يتتبعونه" وذكره في "الكشف والبيان" 4/ 12 و"معالم التنزيل" 2/ 255. (¬7) "الكشف والبيان" 4/ 92 أ، و"معالم التنزيل" 2/ 255.

وقال مجاهد: هو قولهم: ماذا كان؟، وماذا سمعتم (¬1)؟. وقال أبو العالية: يتحسسونه (¬2). وكل هذه أقوال في معاني الاستنباط. وقال عطاء: يريد يستيقنونه ويعلمونه (¬3). وهذا مرتب على الاستنباط، أي يعلمونه بعد الاستنباط الذي هو السبب المؤدي إلى العلم. وقوله: {مِنْهُمْ} من صلة الاستنباط، يقال: استنبطت من فلان أمرًا. والكناية تعود على المرجفين، وهي كقوله: {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} (¬4). والمعنى: لو سكتوا وفوضوا ذلك إلى (نبي، ذكرهم الله تعالى) (¬5) لعلم ذلك الخبر كل طالب من المسلمين من غير إذاعة المنافقين، ولم يكونوا قد آذوا رسول الله بإذاعة ما يكره إذاعته. وقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}. قال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن (¬6). وقال أبو روق: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإسلام {وَرَحْمَتُهُ} ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 167، وأخرجه الطبري 5/ 182 - 183، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 182 - 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 83، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 438. (¬5) هكذا في المخطوط وهو غير واضح. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 92 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 255، و"زاد المسير" 2/ 148.

بالقرآن {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1) واختلفوا في وجه هذا الاستنباط: فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: تَمَّ الكلام عند قوله {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} ثم استثنى القليل. قوله: {أَذَاعُوا} أي أذاعوا به إلا قليلًا، يعني بالقليل المؤمنين (¬2). وهذا قول ابن زيد (¬3) والكسائي (¬4) والفراء (¬5). وقال الحسن وقتادة: الاستثناء من قوله {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} {إِلَّا قَلِيلًا} أجود (¬6)؛ لأن ما علم بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه، وإنما يستنبط القليل؛ لأن الفضائل والاستخراج في القليل من الناس (¬7). قال الزجاج: وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين؛ لأن هذا الاستنباط ليس من شيء (¬8) يُستخرج بنظر وتفكر، وإنما هو استنباط خبر، فالأكثر يعرف الخبر إذا أخبر به، وإنما القليل ههنا المبالغ في البلادة، الذي لا يعلم ما يُخبر به. فاستثناء القليل من قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 255، و"زاد المسير" 2/ 148. (¬2) بنحوه في تفسير ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وهو المراد بقول المؤلف: الوالبي. وأخرجه الطبري 5/ 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 183، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 334. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 142. (¬5) في "معاني القرآن" 1/ 279. وهذا القول اختيار الطبري، انظر: "تفسير الطبري" 5/ 183، و"زاد المسير" 2/ 148. (¬6) أخرجه بمعناه عن قتادة الطبري 5/ 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334. وذكره عنهما الماوردي 1/ 511، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 148. (¬7) هذا التعليل للنحويين، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 84. (¬8) في "معاني الزجاج" 2/ 84: "ليس بشيء" والصواب ما في المعاني، ويحتمل حصول تصحف هنا.

صحيح (¬1). وقال الفراء: استثناء (قليل) مما في {أَذَاعُوا} أوضح وأبين معنى؛ لأنهم لا يجتمعون في الإذاعة كما يجتمعون في الاستنباط ومعرفة الخبر المظهر لهم. هذا معنى قوله. ولفظه أنه يقول: الاستثناء من {أَذَاعُوا} أجود لوجهين: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض، فلذلك استحببت (¬2) الاستثناء من الإذاعة (¬3)؛ لأنه جعل القليل المستثنى البليد الذي لا يعلم ما يخبر به. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا ممن (عصم) (¬4) الله (¬5). قال ابن الأنباري: قال أصحاب هذا القول: الذين وقع عليهم الاستثناء هم الذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان والإشراك بالله عز وجل وأقاموا على التوحيد بغير رسول ولا كتاب، نحو زيد بن عمرو بن نفيل ورقة بن نوفل (¬6)، وطلاب الدين (¬7). قال: والقولان الأولان ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 84 - بتصرف-. (¬2) عند الفراء: "استحسنت". (¬3) "معاني القرآن" 1/ 279، 280، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 92 ب. (¬4) هذِه الكلمة في المخطوط: "عظم" بالظاء، والتصويب من "الوسيط" 2/ 637. (¬5) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 637، ولم أقف عليه. (¬6) هو ورقة بن نوفل بن عبد العزى القرشي، من الحكماء، اعتزل عبادة الأصنام، ولم يأكل مما ذبح عليها، واعتنق النصرانية، وقد أدرك أوائل عصر النبوة وقصته في بدء الوحي مشهورة في البخاري وغيره، وقد آمن وعد من الصحابة. انظر: "أسد الغابة" 5/ 447، و"الإصابة" 3/ 633، و"الأعلام" 8/ 114. (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 84، و"النكت والعيون" 1/ 511، 512، و"الوسيط" 2/ 637، و"زاد المسير" 2/ 148.

(أثبت) (¬1) من هذا القول؛ لأن ورقة وزيدًا وغيرهما ممن ثبته (¬2) بفضل الله ورحمته أدرك الدين (أدرك) (¬3) فنعمة الله لازمة له. ونصر الزجاج هذا القول الثالث، وأجاب عن ترجيح ابن الأنباري القولين الأولين، فقال: قبل أن ينزل القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يُبعث قد كان في الناس القليل ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا، فإن قال قائل: إن من كان قبل ذلك مؤمنًا فبفضل الله ورحمته آمن، قيل: إن المقصود بالفضل والرحمة في هذا الموضع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، وإيمان هؤلاء القليل كان قبلهما (¬4). فيصح الاستثناء إذا خصصت الفضل والرحمة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن. هذا الذي ذكرنا في هذا الآية قول أكثر المفسرين (¬5). وفي الآية قول آخر، وهو ما قال ابن عباس في رواية الضحاك في قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} يعني المنافقين، كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا، وإن أفضى الرسول إليهم سرًا أذاعوا عند العدو، فأنزل الله عز وجل ¬

_ (¬1) تكررت هذِه الكلمة في المخطوط. (¬2) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "ثبت". (¬3) هكذا هذِه الكلمة في المخطوط، ولعل الصواب: "أم لم يدركه". (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 84. (¬5) إلى هنا في المخطوط انتهى الكلام عن تفسير الآية 83، وأتى الناسخ بتفسير للآية 86 قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} الآية، وكان قد قدم في المخطوط تفسير للآية 83 من أثنائها، ويحتمل أنه بعد هذا الكلام مباشرة فجعلته بعده في الصفحة التالية.

{وَلَوْ رَدُّوهُ} يعني أمورهم في الحلال والحرام، {إِلَى الرَّسُولِ} في التصديق به، {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} يعني حملة الفقه والحكمة، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يعني الذين يفحصون عن العلم (¬1). فعلى هذا القول قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} معناه كما ذكرنا في القول الأول. وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ}. الكناية لا تعود إلى الأمر كما عادت إليه في القول الأول، لكنها عائدة إلى غير مذكور، وهو ما يعرض لهم من أمر يحتاجون فيه إلى بيان الرسول وأولي العلم من الصحابة، كأنه قيل: ولو ردوا ذلك الذي عرض لهم إلى الرسول وإلى حملة الفقه لعلموه وأخبروا بما فيه من الصواب (¬2). والكناية عن غير مذكور كثيرة إذا كان في الكلام دليل على ما لم يذكر. ونحو هذا قال الحسن وقتادة وابن جريج وابن أبي نجيح في {أُولِي الْأَمْرِ} أنهم أهل العلم والفقه (¬3). وهذا اختيار ابن كيسان، فإنه يقول في قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}: أي لو طلبوا علمه من الرسول وعلمائهم الراسخين في العلم، لعلموا صواب ذلك وخطأه (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج طرفه الطبري 5/ 183 من طريق العوفي عن ابن عباس، وابن أبي حاتم انظر: "الدر المنثور" 2/ 334. (¬2) انظر: الطبري 5/ 181 - 182. (¬3) أخرج الأثر عن ابن جريج وعن قتادة بمعناه الطبري 5/ 182، وذكره عن الحسن الهواري في "تفسيره" 1/ 403، وقد ذكره عن جميعهم الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 511، وانظر: "زاد المسير" 2/ 147، و"الدر المنثور" 2/ 333. (¬4) لم أقف عليه.

وقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الاستنباط على هذا القول هو استخراج ما خفي من العلم، كما ذكره ابن عباس (¬1). وقال قتادة في قوله: {يَسْتَنْبِطُونَهُ} "أي يفصحون (¬2) عنه ويهمهم ذلك" (¬3). وقوله: {مِنْهُمْ} على هذا القول للتبعيض، وليس صلة للاستنباط خاصٍ لبعضهم. واستثناء قوله: {إِلَّا قَلِيلًا} من قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} صحيح سائغ حسن، ولا يرد عليه ما ورد من الاعتراض في القول الأول، ويكون أحسن من الاستثناء من {أَذَاعُوا} على هذا القول (¬4). والذي ذهب إليه الحسن وقتادة من استثناء القليل من قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} (¬5) إنما قالا ذلك لأنهما ذهبا إلى هذا القول الثاني. وهذا التفسير يدل على وجوب القول بالاجتهاد عند عدم النص؛ لأن ¬

_ (¬1) الأثر من طريق العوفي عن ابن عباس: " {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم" أخرجه الطبري 5/ 182. (¬2) هكذا في المخطوط الصاد قبل الحاء، وقد أثبتها محمود شاكر عند الطبري: "يفحصون" بتقديم الحاء على الصاد، واعتبر ما في المخطوط تصحيفًا، وهذا وجيه. وهكذا في "الدر المنثور". انظر: الطبري 5/ 180، و"الدر المنثور" 2/ 333 - 334. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 180، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 84، و"معاني القرآن" للنحاس 2/ 142. (¬5) قول الحسن ذكره الهواري في "تفسيره" 1/ 404. أما قول قتادة فأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 166، والطبري 5/ 180، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334 , ونسبه لهما ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 148.

الاستنباط ليس بتلاوة، بل هو اعتبار وقياس وحكم بالمعاني المودعة في النصوص (1). وقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} إلى آخرها. فيه تذكير للمؤمنين بنعمة الله عز وجل في لطفه لهم، حتى سَلِموا من النفاق وما ذُم به المنافقون. وذكر صاحب النظم وجهًا آخر في الاستثناء، فزعم أن الاستثناء متصل بقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} دون قوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} على تأويل: ولولا فضل الله عليكم ورحمته إلا قليلًا ممن لم يُدخله في رحمته وفضله، فاتبعوا الشيطان، لاتبعتم أنتم الشيطان، فيكون الممتنع من اتباع الشيطان بفضله ورحمته، وغير الممتنع منه من لم يصبه فضل الله ورحمته، وهذا هو الصواب إن شاء الله انتهى كلامه. فإن قيل على هذا: الذين اتبعوا الشيطان كانوا أكثر من الذين امتنعوا من اتباعه فكيف يجعلهم قليلًا؟ قيل: هذا خطاب للذين أظهروا الإيمان من المخلص والمنافق، والذين نافقوا واتبعوا الشيطان كانوا أقل من المخلصين، فلذلك جعلهم قليلًا.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة النساء من آية (84) إلى آخر السورة وسورة المائدة تحقيق د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء السابع

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة النساء من آية (84) إلى آخر السورة وسورة المائدة تحقيق د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء السابع

جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي, محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان, الرياض1430هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 2 - 864 - 04 - 9960 - 978 (ج7) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 2 - 864 - 04 - 9960 - 978 (ج7)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [7]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة النساء من آية (84) إلى آخر السورة وسورة المائدة تحقيق د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد

84

84 - قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. ذكر أبو إسحاق (¬1) في الفاء في قوله: {فَقَاتِلْ} وجهين: أحدهما:- أنها جواب لقوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] فقاتل (¬2). قال علي بن عيسى النحوي: ووجه ذلك أنه محمول على المعنى، لأنه قد دل على معنى: إن أردت الفوز فقاتل (¬3). الوجه الثاني:- أن يكون متصلًا بقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:75] فقاتل في سبيل الله (¬4). وقوله تعالى: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}. قال مقاتل: "ليس عليك ذنب غيرك" (¬5). وقال الزجاج: أمره الله عز وجل بالجهاد ولو وحده؛ لأنه قد ضمن له النصر (¬6). قال أصحاب المعاني: معناه لا تكلف إلا فعل نفسك، على معنى أنه لا ضرر عليك في فعل غيرك، ولا تهتم بتخلف من يتخلف عن الجهاد فعليهم ضرر ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) أي الزجاج في "معانيه" 2/ 84. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 84، 85. (¬3) كلام علي بن عيسى النحوي ليس في "معاني الزجاج" حسب المطبوع. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 85. (¬5) "تفسيره" 1/ 393، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 372. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 85. (¬7) انظر: الطبري 5/ 185، و"الكشف والبيان" 4/ 93 ب.

وانتصاب قوله: {نَفْسَكَ} على خبر ما لم يسم فاعله (¬1). وقوله تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}. قال الكلبي: حضض المؤمنين على القتال (¬2). وقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. (عسى): حرف من حروف المقاربة، وفيه ترج وطمع، وهي من الله واجب، ومن العباد شك (¬3). وقد قال ابن مقبل -فجعله يقينا- أنشده أبو عبيدة: ظنِّي بهم كعسى وهم بِتنُوفَةٍ (¬4) ... البيت. وقد تكلمنا في هذا الحرف في سورة البقرة. وقال الزجاج: (عسى) معناها معنى الإطماع، والإطماع من الله واجب (¬5). وقال غيره: إطماع الكريم إيجاب. ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 439. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬3) من "تهذيب اللغة" 3/ 2427 (عسا). وانظر: الطبري 5/ 185، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 439، و"معانيه" 2/ 143، و"الكشف والبيان" 4/ 93 أ، و"معالم التنزيل" 2/ 256. (¬4) البيت في "مجاز القرآن" 1/ 134، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 23، و"تهذيب اللغة" 3/ 2427، و"اللسان" 5/ 2950 (عسا). وعجزه كما في "المجاز": يتنازعون جوائز الأمثال والتنوفة: الصحراء، ومعنى "يتنازعون جوائز الأمثال": يتجاذبون الأمثال السائرة. والشاهد أن "عسى" بمعنى اليقين. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 95، 181.

والبأس: الشدة في كل شيء (¬1). وقال ابن عباس في قوله: {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:84]: "يريد شدة حربهم في القتال" (¬2) يسمى بأسًا لما فيه من الشدة. والكلبي فسر البأس في قوله: {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: بالقتال (¬3). وقد أنجز الله وعده بكف بأس هؤلاء الذين ذكرهم في قوله: {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. قال الكلبي: إن أبا سفيان (¬4) لما انصرف من أحد واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسم بدر الصغرى، فلما جاء الميعاد، خرج إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعين راكبًا، فلم يوافهم أبو سفيان، ولم يكن قتال، وكفاهم الله بأس عدوهم (¬5). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا}. قال ابن عباس والكلبي: أشد عذابًا (¬6). والعذاب يسمى بأسًا لما فيه من الشدة، ومنه قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} [غافر: 29]، وقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 12]، وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84]. ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 85، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 225، و"الصحاح" 3/ 906، 907، و"اللسان" 1/ 199 (بأس). (¬2) لم أقف عليه، ونحوه في "الوسيط" 2/ 638 دون نسبة لابن عباس. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 93 أ، و"معالم التنزيل" 2/ 256، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 149، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. =

85

وقوله تعالى: {وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء:84]. يقال: نكلت بفلان، إذا عاقبته في شر أتاه، عقوبةُ تنكل غيره عن ارتكاب مثله، من قولهم: نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع (¬1). وقد ذكرنا هذه الحرف في قوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا} [البقرة: 66]. قال الحسن وقتادة في قوله: {وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}: عقوبة (¬2). ونحو ذلك قال الكلبي (¬3). وقال عطاء: أشد نقمة (¬4). وقال ابن كيسان: أشد انتقامًا (¬5). وذلك أن العقوبة نقمة وانتقام، فالانتقام معنى التنكيل لا تفسيره. 85 - قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}. اختلفوا في هذه الشفاعة، ما هي، وما معناها، فقال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد من يوحد الله مخلصًا يكن له نصيب منها، يريد الجنة" (¬6). وتفسير هذا القول ما قال الضحاك: من آمن بالتوحيد، وقاتل أهل الكفر، فقد شفع شفاعة حسنة. وقال: نزلت في أبي جهل (¬7)، فإنه لم ¬

_ = وهذا القول لكثير من المفسرين، انظر: "تفسير الهواري" 1/ 404 و"بحر العلوم" 1/ 372، و"الدر المنثور" 2/ 335. (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3665 (نكل)، وانظر: الطبري 5/ 185، و"البسيط" بتحقيق الفوزان 3/ 1023، و"اللسان" 8/ 4544 (نكل). (¬2) قول الحسن في "تفسير الهواري" 1/ 404. وأخرج قول قتادة: الطبري 5/ 185، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم انظر: "الدر المنثور" 2/ 335، وقد عزاه له ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 149. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص91. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه. وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬7) تقدمت ترجمته.

يزل يُعين المشركين على المسلمين، وهو قوله: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} (¬1). قال ابن عباس: يريد الشرك بالله (¬2). قال الضحاك: يعني من آمن بالشرك، وكفر بالتوحيد، فقد شفع شفاعة سيئة (¬3). فقول الضحاك تفسير لقول ابن عباس. والأصل في الشفاعة الشفع الذي هو ضد الوتر، وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة، فمعنى الشفاعة على ما ذكر الضحاك (¬4) أن يشفع إيمانه بالله تعالى بقتال أهل الكفر، وهو الشفاعة الحسنة. والشفاعة السيئة أن يشفع إيمانه بالشرك بكفره بالتوحيد. وابن عباس ذكر في تفسيره أحد الشفعين في كل واحد من الجانبين، حتى ذكر الضحاك الشفع الثاني. ويؤكد هذا التفسير أيضًا ما رواه المنذري عن أبي الهيثم في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً}: أي يزيد عملًا إلى عمل. قال: والشفع الزيادة (¬5). وذهب مقاتل إلى أن معنى الشفاعة ههنا الشفاعة إلى الله تعالى بالدعاء (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقد فسر ابن جرير الآية بنحو ذلك. انظر: "تفسير الطبري" 5/ 185، و"زاد المسير" 2/ 150. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في المخطوط: (للضحاك)، والظاهر أن لا مكان لحرف الجر. (¬5) من "تهذيب اللغة" 2/ 1897 (شفع)، وانظر: "اللسان" 4/ 2290 (شفع). (¬6) انظر: "النكت والعيون" 1/ 512، و"زاد المسير" 2/ 150، وفي "تفسير مقاتل" 1/ 394 " {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] لأخيه بخير" فليس فيه تخصيص الدعاء.

واعتمد في ذلك على ما رواه أبو الدرداء (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك" (¬2) فذلك النصيب، {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} هي الدعوة عليه بضد ذلك. ويؤكد هذا التفسير ما روي عن بعضهم أنه قال: كانت اليهود تدعو على المسلمين، فتوعدهم الله تعالى بهذه الآية (¬3). وقال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد: هذه الشفاعة بين الناس بعضهم لبعض (¬4). قال الكلبي: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} يصلح بين اثنين يكن له أجرٌ منها {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} يمشي بالنميمة وبالغيبة يكن له إثمٌ فيها (¬5). ¬

_ (¬1) هو الصحابي الجليل عويمر بن عامر (وقيل: ابن مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد) ابن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي، شهد أحدًا وما بعدها، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان الفارسي. توفي سنة 32 هـ أو 33 هـ انظر: "الاستيعاب" 3/ 298، و"أسد الغابة" 4/ 318، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 235، و"الإصابة" 3/ 45. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء رقم (2732)، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 1/ 510، و"زاد المسير" 2/ 150، و"التفسير الكبير" 10/ 207. (¬4) أخرج الأثر عن الحسن، ومجاهد، وابن زيد، الطبري 5/ 186. وأخرجه أيضاً عن الحسن، ومجاهد، ابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 335، وهو في "تفسير مجاهد" 1/ 167. أما الكلبي فيرى أن المراد بالشفاعة: الإصلاح بين اثنين. كما سيأتي عند المؤلف. (¬5) "بحر العلوم" 1/ 372، و"زاد المسير" 2/ 150، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91.

وقال مجاهد: (شفاعة حسنة) و (شفاعة سيئة): شفاعة الناس بعضهم لبعض (¬1). قال الحسن: ويجوز في الدين أن يشفع فيه، فهو شفاعة حسنة كان له فيها أجران، وإن لم يشفع، لأن الله تعالى يقول: {مَنْ يَشْفَعْ} ولم يقل: (من يُشَفَّع) (¬2). يؤيد (¬3) هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اشفعوا تؤجروا" (¬4). وأما الكفل فقال أبو عبيدة والفراء وجميع أهل اللغة: الكفل الحظ، ومنه قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، معناه: حظَّين (¬5). وقال الزجاج. الكفل في اللغة النصيب، أخذ من قولهم. أكفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساءً وركبتُ عليه، وإنما قيل له كفل، واكتفل البعير، لأنه لم يستعمل الظهر كله، إنما استعمل نصيبًا من الظهر (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 167، وأخرجه الطبري 5/ 186، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 335. (¬2) أخرجه الطبري 5/ 186، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 335. (¬3) كأن هذِه الكلمة في المخطوط: "ويزيد" والصواب ما أثبته. انظر: "الوسيط" 2/ 640. (¬4) الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: قول الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} الآية 7/ 80، ومسلم في كتاب: (2627) البر والصلة، باب: استحباب الشفاعة ولفظه: "اشفعوا فلتؤجروا" الحديث. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 135، وفسر الكفل بالنصيب، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 280. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 85، و"تهذيب اللغة" 4/ 3166 (كفل)، و"زاد المسير" 2/ 150.

وقال ابن المظفر: الكفل من الأجر والإثم الضِّعف، يقال: له كفلان من الأجر، ولا يقال: هذا كفل فلان، حتى تكون هيَّأت لغيره مثله، كالنصيب، فإذا أفردت فلا تقل: كفل ولا نصيب، ولكن: حظ (¬1). فأما المفسرون فقال مجاهد: الكفل: النصيب (¬2). وهو قول السدي والربيع وابن زيد (¬3). وقال الحسن والكلبي وقتادة ومقاتل: الكفل الوزر والإثم (¬4). فالقول الأول مثل قول أهل اللغة، والقول الثاني معناه: حظ من الإثم والوزر، والحظ من الإثم والوزر وزر وإثم، فلذلك قيل في تفسير الكفل: الإثم والوزر. وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85]. اختلفوا في معنى المقيت، فقال الفراء: المقيت المقتدر، والمقدِّر أيضًا، كالذي يُعطي كل رجل قوته (¬5). ونحو ذلك قال عبد الله بن مسلم: المقيت المقتدر، أقات على الشيء، إذا اقتدر عليه، وأنشد: ¬

_ (¬1) "العين" 5/ 373، و"تهذيب اللغة" 4/ 3166 (كفل). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 186، 187، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 512، و"زاد المسير" 2/ 150، و"الدر المنثور" 2/ 336. (¬4) أخرجه عن قتادة: الطبري 5/ 186، 187، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور"، وعن الحسن انظر: "تفسير الهواري" 1/ 404، و"النكت والعيون" 1/ 512، وعن الكلبي، انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91، وعن مقاتل انظر "تفسيره" 1/ 394. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 280.

وذي ضِغْنٍ كففتُ النفس عنهُ ... وكُنتُ على مساءتِه مُقِيتًا (¬1) قال أبو بكر: على هذا أهل اللغة، قال بعض فصحاء المعمرين: ثم بعد الممات ينشر من ... على النشر يا بني مُقيتُ (¬2) معناه: من هو مقتدر. ويقوي هذا القول ما قاله ابن عباس في رواية عطاء في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}: "يريد قادرًا" (¬3)، وهو قول السدي وابن زيد: المقيت: المقتدر (¬4)، واختيار الكسائي (¬5) والنضر بن شميل، وأنشد النضر: تجلَّد ولا تجزع وكن ذا حفيظةٍ ... فإني على (...) لمقيت (¬6) أي: قادر. وقال آخرون: المُقيت الحفيظ. وهو قول ابن عباس (¬7) وقتادة (¬8). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 129. ونسب البيت للزبير بن عبد المطلب كما في الطبري 5/ 188، و"النكت والعيون" 1/ 513، والقرطبي 5/ 296، وجاء في "زاد المسير" 2/ 150، و"الدر المنثور" 2/ 336 أنه لأحيحة الأنصاري، وفي "اللسان" 6/ 3769 (قوت) نسب لأبي قبيس بن رفاعة. و"ضغن" من الضغن وهو الحقد. انظر: "اللسان" 5/ 2592 (ضغن). (¬2) في "تهذيب اللغة" 3/ 3069 (قوت) وفي الشطر الأول: "ينشرني من" وفي الشطر الثاني: "هو على النشر ... "، وكذا في "اللسان" 6/ 3769 (فوت)، ولم أقف على قائله. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 151، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91، و"الدر المنثور" 2/ 336. (¬4) أخرج ذلك بنحوه: الطبري 8/ 584، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 512، و"زاد المسير" 2/ 151، و"الدر المنثور" 2/ 136. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 147. (¬6) لم أقف عليه، وما بين القوسين غير واضح في المخطوط. (¬7) "تفسيره" ص 152، وأخرجه الطبري 5/ 187. (¬8) انظر: "زاد المسير" 2/ 151.

واختيار أبي إسحاق (¬1)، لأنه مشتق من القُوت، يقال: قُتُّ الرجل أقوتُه قَوْتًا، إذا حفظت نفسه بما تقوته. والقوت اسم للشيء الذي يحفظ نفسه ولا فضل فيه، على قدر الحفظ. فمعني المقيت -والله أعلم- الحفيظ الذي يُعطي للشيء قدر الحاجة من الحفظ (¬2). وقال الكلبي في قوله: {مُقِيتًا} مجازيًا بالحسنة والسيئة (¬3). وهذا أيضًا راجع إلى معنى الحفظ؛ لأنه إنما يحفظ أعمال العباد ليجازي عليها. وحُكي بعضهم أن هذا من القوت، ومعنى المقيت الذي عليه قوت كل دابة ورزقها (¬4). قال الفراء: يقال: أقات الشيء إقاتة، وقات أهله يقوتهم قياتة وقوتًا، والقوت الاسم، وجاء في الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" و"يقيت" (¬5). قال أبو بكر: وعلى هذا القول قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} علي زائدة للتوكيد، ومن شأنهم أن يزيدوا {عَلَى} للتوكيد، وأنشد لحميد (¬6): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 85. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 85، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 3069 (قوت)، و"زاد المسير" 2/ 151. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 1/ 513، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 373. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 280. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 160، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وكذا الحاكم في "مستدركه" 1/ 415، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬6) هو أبو المثنى حميد بن ثور بن حزن الهلالي، تقدمت ترجمته.

86

أبى الله، إلاَّ أنَّ سَرْحَة مالكٍ ... على كُلِّ أفنانِ العِضَاهِ تَروقُ (¬1) قال: أراد كل أفنان العضاه تروق، وأكد الكلام بعلى. وقال: المقيت الشهيد وهذا عائد إلى معنى الحفيظ (¬2). 86 - قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} الآية. التحية تفعلةٌ من حيَّيتُ (¬3)، وكان في الأصل تَحيية، مثل التوصية والتسمية. والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الأربعة، نحو قوله: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]، ولا يكاد يأتي على: تفعيل، إلا أن ينطق بجوازه شعر (¬4)، كما قال (¬5): فهي تُنَزي دلوها تَنزيًّا (¬6) أي تنزية. ¬

_ (¬1) البيت في "أدب الكاتب" ص 418، و"المسائل الحلبيات" ص 270، و"أسد الغابة" 2/ 60. و"سرحة مالك" امرأته. والسرحة في الأصل نوع من شجر العضاه، والأفنان: الأنواع، والعضاه: نوع من الشجر له شوك عظيم، وتروق: تفوق كل الأنواع. (¬2) لم أقف على قول ابن الأنباري. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 86، وانظر: "اللسان" 2/ 1078 (حيا). (¬4) انظر: "الدر المصون" 4/ 57. (¬5) حصل في المخطوط نسخة شستربتي هنا خلط بالتقديم والتأخير، فقد بتر الكلام هنا من تفسير الآية 86 وأتى بعده بتفسير الآية 82 وذلك في لوحة 14 ب، وقد وجدت تتمة تفسير الآية 86 في لوحة 16 أفأثبته هنا بعد قوله: "كما قال:". (¬6) هذا صدر بيت، وعجزه: "كما تنزي شهلةً صبيًّا". ولم أهتد إلى قائله، وهو في "الخصائص" 2/ 302، و"الدر المصون" 4/ 57 وفيها: "باتت" بدل "فهي".

وكذلك التحية، كان: تحييه، فأدغموا الياء في الياء (¬1)، "كما استحبوا ادغام: حيّ وعيّ (¬2)، للحركة اللازمة في الياء الأخيرة، وإذا سكنت الياء الأخيرة لم يجز الإدغام بمثل: يحيي ويعيي، وقد جاء في بعض الشعر الإدغام، وليس بالوجه، وهو قوله: تمشي بسدة بيتها فتعيّ (¬3) وهذا الإدغام منكر عند البصريين" (¬4). وسنذكر هذا مشروحًا عند قوله: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] إن شاء الله. وأما معنى التحية في اللغة: فهو السلام (¬5)، وأشعار العرب ناطقة بهذا المعنى. قال عنترة (¬6): حُييت من طلل تقادم عهده ... البيت (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 86، و"تهذيب اللغة" 1/ 951، و"اللسان" 2/ 1078 (حيا)، و"الدر المصون" 4/ 57. (¬2) من عيي يعيا عن حجته، انظر: "اللسان" 6/ 3201 (عيا). (¬3) عجز بيت صدره: وكأنها بين النساء سبيكة أورده الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 651 (حي) لكن بلفظ: "فتحي" بدل "فتعي" وهو أقرب للحرف هنا. وأورده كما عند المؤلف في "اللسان" 2/ 1076 (حيا). قال الأزهري: لا يعرف قائله. وسدة البيت: بابه، انظر: "الصحاح" 2/ 486 (سدد). (¬4) من "تهذيب اللغة" 1/ 951 (حي) بتصرف يسير، وانظر: "اللسان" 2/ 1076 (حيا)، 6/ 3201 (عيا)، و"الدر المصون" 4/ 57. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 148، و"بحر العلوم" 1/ 373، و"اللسان" 2/ 1079 (حيا). (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) صدر بيت، وعجزه: أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقال الآخر: إنا محيوك يا سلمى فحيينا (¬1) ومعنى قول المصلي: "التحيات لله" أي السلام من الآفات لله (¬2). ومن هذا قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]. هذا هو (.. (¬3) ..) في التحية. ويسمى الملك أيضًا تحية (¬4)، لأن الملك يحيا بتحية الملك المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرهم، وهي قولهم في الجاهلية: أنعم صباحًا، وأبيت اللعن، وقول عمرو (¬5): [.............] حتى ... أُنيخَ على تحيَّته بجُندي (¬6) معناه: على ملكه (¬7). ¬

_ = ديوان عنترة ص 16. الطلل: ما شخص من آثار الديار، "اللسان" 5/ 2697 (طلل). (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 955 (حي)، وانظر: "اللسان" 2/ 1079 (حيا)، والقرطبي 5/ 297. (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط، وقد تكون: الكلام. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 255 (حي)، و"اللسان" 2/ 1079 (حيا). (¬5) هو أبو ثور عمرو بن معدي كرب بن عبد الله الزبيدي، تقدمت ترجمته. (¬6) عجز بيت، وصدره: أسيرها إلى النعمان حتى "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 74، و"تهذيب اللغة" 1/ 255 (حي)، و"اللسان" 2/ 1079 (حيا). وعند المؤلف في المخطوط القافية بدون ياء، وأثبتها لإجماع المصادر عليها. (¬7) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 75، و"تهذيب اللغة" 1/ 255 (حي).

وأما قول زهير بن جناب (¬1): من كل ما نال الفتى ... قد نلتُه إلا التحيهْ (¬2) فقيل فيه أنه المُلك (¬3)، وقيل البقاء (¬4)، والبقاء له تحية، لأن من سلم من الآفات بقي. وقال أبو الهيثم: يريد إلا السلام من المنية والآفات، فإن أحدًا لا يسلم من الموت على طول البقاء (¬5). قال الأزهري: (والعرب تسمي) (¬6) الشيء باسم غيره إذا كان منه أو من سببه. فالتحية بمعنى المُلك، وبمعنى البقاء صحيح. وقولهم: "حياك الله" أي أبقاك الله صحيح، من الحياة وهو البقاء (¬7). نجد من هذا أن معنى التحية في الأصل الدعاء بالحياة، ثم صار بمعنى السلام، ثم صار أيضًا اسمًا للملك والبقاء، على ما بينا. هذا كلام أهل اللغة في معنى التحية. فأما التفسير: فقال ابن عباس في قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء:86]: "يريد السلام" (¬8). ¬

_ (¬1) هو زهير بن جناب الكلبي الكناني، تقدمت ترجمته. (¬2) البيت في "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 75، و"الشعر والشعراء" ص 240، و"طبقات الشعراء" ص 37، و"تهذيب اللغة" 1/ 255 (حي)، و"اللسان" 2/ 1079 (حيا). (¬3) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 75، و"تهذيب اللغة" 1/ 255. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 955 (حي)، و"اللسان" 2/ 1078 (حيا). (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 955 بتصرف، و"اللسان" 2/ 1078 (حيا). (¬6) ما بين القوسين ليس واضحًا في المخطوط، والتسديد من "تهذيب اللغة" 1/ 956 (حى). (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 955 (حي) بتصرف، وانظر: "اللسان" 2/ 1078 (حيا) (¬8) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91.

{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} اختلفوا في هذا: فمنهم من ذهب إلى أن هذا التخيير في أهل الإسلام خاصة، وليس لأهل الكفر مدخل في رد التحية عليهم (¬1). والأكثرون والجمهور على أن قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} المراد بها المسلمون، {أَوْ رُدُّوهَا} إذا كان المسلم من غير أهل الإسلام (¬2). قال الكلبي: أمر الله المسلمين برد السلام على من سلم عليهم بأحسن مما سلم عليهم، وهو الزيادة على التحية إن كان المسلم من أهل دينهم، أو بمثل الذي سلم إن كان من غير أهل دينهم، وهو أن يقول: عليكم. ولا يزيد على ذلك (¬3). وقال أبو روق: أما (أحسن منها) فعلى أهل دينك، وأما {رُدُّوهَا} فعلى أهل الكتاب (¬4). وقال الزجاج: عن عطاء: (أحسن منها) في أهل الإسلام {رُدُّوهَا} على أهل الشرك (¬5). وقال ابن عباس: و (أحسن منها) أن يرد: ورحمة الله وبركاته، يرد ¬

_ (¬1) تفرد بهذا القول عطاء، أخرج قوله الطبري 5/ 189، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 513، والقرطبي 5/ 303، و"الدر المنثور" 2/ 337. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 280، والطبري 5/ 189، و"بحر العلوم" 1/ 373، و"الكشف والبيان" 4/ 94، و"النكت والعيون" 1/ 513. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬4) لم أقف عليه، وورد نحوه عن قتادة والحسن، انظر: الطبري 5/ 189 - 190، و"الدر المنثور" 2/ 337. (¬5) ليس في "معاني القرآن وإعرابه"، وهو خلاف المعروف عن عطاء كما مر قريباً حيث تفرد بأن هذه الآية في أهل الإسلام خاصة.

على المؤمنين خاصة (¬1). وقال: (الضحاك) (¬2): إذا قال: السلام عليكم، فقلت: عليكم السلام ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقلت: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقد حييته بأحسن منها. وهذا منتهى السلام (¬3). قال الحسن: دخل رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وعليك. ودخل آخر فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة الله، ودخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقام الأول فقال: يا رسول الله: سلمت عليك فلم تزدني على: "وعليك" وقال هذا: السلام عليكم. فزدته، وقال هذا: السلام عليكم ورحمة الله، فزدته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك لم تترك من السلام فرددت عليك، وهذان تركا شيئًا منه فزدتهما (¬4). فدل هذا الحديث على أن السلام انتهى إلى البركات (¬5). ثم أعلم أن السلام في الأصل سنة، والرد فريضة (¬6) على الكفاية، ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬2) غير واضح تماما في المخطوط. (¬3) في "الوسيط" 2/ 643، وانظر: "زاد المسير" 2/ 152. (¬4) لم أجد هذا الحديث عن الحسن إلا في "النكت والعيون" 1/ 513، وقد أخرج نحوه من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- الطبري 5/ 190، وأحمد في "الزهد" وابن المنذر والطبراني وابن مردويه، وسنده حسن. انظر: ابن كثير 1/ 583، و"الدر المنثور" 2/ 336. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 86، والبغوي 2/ 257، وابن كثير 1/ 583. (¬6) قال ابن كثير 1/ 584: "هو قول العلماء قاطبة، أن الرد واجب" وانظر: الطبري 5/ 191.

فإذا سلم رجل على جماعة فالأحسن أن يرد جميعهم جوابه، فإن رد واحد منهم أسقط القرض عن الآخرين كسائر فروض الكفايات (¬1). والسنة أن يستتبع شيئًا من كلمات السلام. والسنة في الجواب الزيادة (¬2)، ولو رد كالابتداء سقط عنه القرض، لقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا}. والسنة أن يسلِّم الراكب على الماشي والقائم على القاعد، كذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). والسنة في السلام الجهر والإفشاء، وكذلك في الجواب (¬4)، والاقتصار على الإشارة ليس من السنة (¬5). والمصافحة عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا تصافح المسلمان عند السلام تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر، كذا في الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ¬

_ (¬1) هذا مذهب مالك والشافعي، أن الرد من فروض الكفاية، وذهب آخرون إلى أن الرد من الفروض المتعينة. انظر: "التفسير الكبير" 10/ 214، والقرطبي 5/ 298. (¬2) كما دل عليه الحديث المتقدم. (¬3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير". أخرجه مسلم (2160) كتاب: السلام، باب: يسلم الراكب ... (4/ 1703) ح 1. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 213، والقرطبي 5/ 303. (¬5) هذا مذهب الشافعية، وعند بعض العلماء تكفي الإشارة إذا كان على بعد. انظر: القرطبي 5/ 303. (¬6) المأثور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقما". أخرجه أبو داود من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه (5212) كتاب: الأدب، باب: في المصافحة، والترمذي (2727) كتاب الاستئذان، باب: ما جاء في المصافحة وقال: "هذا حديث حسن غريب" وابن ماجه (2703) كتاب: الأدب، باب. المصافحة وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" 5/ 182.

ومن ورد عليه سلام في كتاب فجوابه فرض عليه في الجواب (1). ولو قال المبتدئ: عليكم السلام فقد سلم وتحتم الجواب وإن قلت العادة في اللفظ (2). وإن قال المبتدئ: السلام عليكم، فقال المجيب: السلام عليكم، فقد أجاب. وأنت في اللفظ بالخيار، وكذلك في تعريف السلام وتنكيره، وعند التحلل من الصلاة لابد من الألف واللام. وإذا استقبلك رجلٌ واحد فقل: سلام عليكم، واقصد الرجل والملكين، فيردان عليك (3). وإذا دخلت بيتًا خاليًا فسلِّم على نفسك من الله تعالى (3). وليس للمسلم أن يسلِّم على الكافر، فإن سلَّم الكافر فليقل: وعليكم، ولا يزيد على هذا (4)، وقد روي أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم -يعنون الموت-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليكم، ففطنت عائشة فقالت: وعليكم السام والذام (5) والداء واللعنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة قد رددت عليهم، وإني استجاب فيهم ولا يُستجابون" (6).

_ (1) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 215. وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يؤيد هذا. انظر: "الدر المنثور" 2/ 339. (2) انظر: القرطبي 5/ 300، 301، و"المجموع شرح المهذب" 4/ 461. (3) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 213. (4) انظر: الطبري 5/ 190، و"بحر العلوم" 1/ 373، و"النكت والعيون" 1/ 513، و"التفسير الكبير" 10/ 214. (5) الذام: أي الذم والعيب. انظر: "الفائق" 2/ 124، و"اللسان" 3/ 1516 (ذمم). (6) أخرجه بنحوه البخاري (6024) كتاب: الأدب، باب: الرفق، في الأمر كله =

ومن وضع السلام غير موضعه لم يستحق جوابًا، مر رجل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقضي حاجته، فسلم عليه، فقام رسول الله إلى جدارٍ فتيمم ورد الجواب ثم قال: لولا أني خشيت أن تقول: سلمت عليه فلم يرد علي، لما رددتُ عليك، إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تُسلِّم علي، فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك (¬1). وفي هذا دليل على أن الطهارة مستحبة لجواب السلام والابتداء بالسلام وفي جميع الأحوال، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (¬2). وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب، فلا ينبغي أن يُسلِّم لاشتغال الناس بالاستماع، فإن سلَّم فرد بعضهم عليه فلا بأس، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن (¬3). لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مسجد الخيف والناس يدخلون ويسلِّمون عليه فيرد عليهم، فقيل: كيف كان يرد عليهم؟ فقال: إشارة (¬4). ¬

_ = 7/ 80، ومسلم (2165) كتاب السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم. (¬1) هذا الحديث ذكره الرازي في "التفسير الكبير" 10/ 214، والقرطبي 5/ 304، دون عزوٍ لأحد، ولم أجد من خرجه. وقد جاء في كراهة السلام على من يقضي الحاجة: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فلم يرد عليه "يعني السلام". أخرجه الترمذي (2720) كتاب: الاستئذان، باب ما جاء في كراهية التسليم على من يبول 5/ 71، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". (¬2) أخرجه ابن ماجه (277) كتاب: الطهارة، باب المحافظة على الوضوء وغيره، وقال الألباني في "صحيح الجامع" 1/ 322: "صحيح". (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 214. (¬4) لم أقف عليه.

وقال بعض السلف. من دخل الحمام فرأى الناس متَّزرين سلَّم عليهم، وإن لم يكونوا متزرين لم يُسلِّم عليهم (¬1). والأولى ترك السلام على القارئ لاشتغاله بالتلاوة، فإن سلَّم عليه إنسان كفاه الإشارة، وإن أراد أن يرد الجواب رده ثم استأنف الاستعاذة وعاود التلاوة (¬2). ولا ينبغي أن يسلم على المؤذن عند اشتغاله بالأذان. ورد السلام يكون على الفور، فإن أخر انقضى الوقت وأثم بترك القرض، فإذا أجاب بعد فوت الوقت كان ذلك ابتداء سلام لا جوابًا (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86] قال ابن عباس: "يريد مجازيًا" (¬4) ومثله قال الحسن في الحسيب (¬5). وقال مجاهد وقتادة وأبو العالية حفيظًا (¬6). وذلك أنه يحصى العمل إحصاء الحافظ له الذي لا يشذ (¬7) عنه شيء. ويكون الحسيب بمعنى المُحاسب، وقد ذكرنا هذا في أول السورة. ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 214. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 214. وقال النووي: "وهذا الذي قاله ضعيف، والمختار أن يُسلم عليه ويجب الرد باللفظ". "المجموع" 4/ 470. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 215، و"الأذكار" للنووي ص 279. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) عن مجاهد في "تفسيره" 1/ 168 وأخرجه عنه الطبري 5/ 191، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 512، و"الدر المنثور" 6/ 339. وأما عن قتادة، وأبي العالية، فلم أقف عليه. (¬7) في المخطوط: "يشد" بالدال المهملة.

87

وقال الزجاج: أي يعطي كل شيء من العلم والحفظ والجزاء مقدار مما يحسبه، أي يكفيه (¬1). وهذا الذي قاله جامع للأقوال، لأنه بمعنى يعلم كل شيء ويحفظ كل شيء ويجازى على كل شيء، علمًا كافيًا، وحفظًا كافيًا، وجزاء كافيًا. 87 - قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} هذه لام القسم، كأنه قيل: والله ليجمعنكم (¬2)، ومعنى ليجمعنكم: أي: في الموت، أو في النشور إلى يوم القيامة، أي: ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمعن بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه (¬3). قال أبو إسحاق: جائز أن تكون سميت القيامة؛ لأن الناس يقومون من قبورهم، وجائز أن تكون سميت القيامة؛ لأنَّ الناس يقومون للحساب، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}. قال ابن عباس: "يريد موعدًا" (¬5). أي: لا يخلف لوعده. وقال مقاتل: لا أحد أصدق من الله في أمر البعث (¬6). وإنما جاء النفي ههنا بأداة الاستفهام؛ لأن جوابه يكون على معنى النفي فيما تقتضيه حجة العقل، فجاء هذا على المظاهرة برد الإنسان فيه إلى ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 86. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 87، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 373، و"زاد المسير" 2/ 152. (¬3) انظر: الطبري 5/ 191، و"معاني الزجاج" 2/ 87، و"بحر العلوم" 1/ 373. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 87 بتصرف، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 514، و"زاد المسير" 2/ 152. (¬5) أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 645، ولم أقف عليه. (¬6) "تفسيره" 1/ 394، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 312.

88

حجة عقله، وكان ذلك أبلغ من إخباره به، وهذا كما يقول القائل: ومن أفضل منِّي؟ فيقول من يصدقه ويعرف صدقه في ذلك: لا أحد أفضل منك. فكان هذا أبلغ من أن يقول: أنا أفضل الناس. ومضى مثل هذا فيما تقدم. والحديث ما يُحَدِّث به المحدث، والحديث الجديد من الأشياء (¬1) الذي لم يكن فحدث، وبه سمي حديثًا لأنه ذكرٌ لم يكن ثم حدث، وما يخبر الله تعالى به يجوز أن يسمى حديثًا على معنى حدوثه بالإخبار عنه، فقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} كقولك: ومن أصدق من الله إخبارًا أو خبرًا وقلًا وقيلًا، كلها متقارب. ومن هذا المعنى سمي القرآن حديثًا في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] لحدوث تلاوته فيما بيننا، فأما نفس كلام الله تعالى فقديم، لم يزل الباري تعالى ذكره متكلمًا. 88 - قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: نزلت في قوم قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمين، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله، ثم قالوا: يا رسول الله إنا اجتوينا المدينة، فأذن لنا حتى نتبدا (¬2). فإذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة، حتى لحقوا بالمشركين، فتكلم المؤمنون فيهم، فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لأقاموا معنا وصبروا كما نصبر، وقال قوم: هم مسلمون حتى نعلم أنهم بدَّلوا. فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية. وهذا معنى قول الحسن ومجاهد (¬3). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 756، وانظر: "الصحاح" 1/ 278 (حدث). (¬2) أي: نلحق بالبادية، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 87. (¬3) عن مجاهد بمعناه في "تفسيره" 1/ 168، وأخرجه الطبري 6/ 193. =

وإنما وصفوا بالنِّفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام واللحوق بالمشركين؛ لأنهم نُسبوا إلى ما كان عليه قبل من إضمار الكفر. وانتصاب فئتين على الحال عند البصريين (¬1). قال سيبويه: إذا قلت: ما لك قائمًا، فإنما معناه لم قمت، ونصبته على تأويل: أي شيء يستقر لك في هذه الحال (¬2). وقال الفراء: نصبه على معنى خبر كان، إذا قلت: مالك قائمًا، كأنك قلت: لم كنت قائمًا. قال: ولا تبال أكان المنصوب معرفةً أو نكرة، يجوز في الكلام أن تقول: مالك الناظر في أمرنا. وعنده يجوز: مالك القائم (¬3). قال الزجاج: مالك القائم. خطأ؛ لأن القائم معرفة، لا يجوز أن تقع حالًا، و"ما" حرف من حروف الاستفهام لا يعمل عمل كان. قال: ولو جاز: مالك القائم، لوجب أن يجوز: ما عندك القائم، وما بك لقائم، وبإجماع لا يجوز: ما بك القائم، فما لك القائم مثله لا فرق في ذلك (¬4). ومعنى الآية: ما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين. ¬

_ = وانظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 585، و"الدر المنثور" 2/ 340 - 341. وقد نسب هذا القول لكل من الحسن، ومجاهد: الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 515، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 154. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 451، و"معاني الزجاج" 2/ 88، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 442. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 88. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 281 بتصرف، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 88. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 88.

قال الزجاج: أمر الله جل وعز أن يتَّفق المسلمون على تكفير من احتال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفه فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] أي: أيّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. قال الفراء: يقول ردهم إلى الكفر (¬2)، قال: وركسهم لغة (¬3). قال أبو عبيد (¬4): يقال: ركست الشيء وأركستُه لغتان، إذا رددته (¬5). والرَّكس قلب الشيء على رأسه، (أَوْرَدُّ) (¬6) أوله إلى آخره، والارتكاس الارتداد (¬7)، وقال أمية (¬8): فاركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاةً وقالوا الإفك والزورا (¬9) ومن هذا يقال للرَّوث الركس، لأنه رد إلى حال النجاسة، ولهذا المعنى سمي رجيعًا (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 87، 88. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 281، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 153. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 281: "وهي في قراءة عبد الله وأبي {وَاللَّهُ رَكَسَهم} وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 153. (¬4) في المخطوط: "أبو عبيدة" وهو خطأ. (¬5) "غريب الحديث" 1/ 166، و"تهذيب اللغة" 2/ 1460 (ركس). (¬6) في المخطوط: "أورده" والصواب ما أثبته لاستقامة الكلام، وكما في المصادر التالية. (¬7) "العين" 5/ 310، و"تهذيب اللغة" 2/ 1460 - 1461 (ركس)، وانظر: "الصحاح" 3/ 936 (ركس)، و"التفسير الكبير" 10/ 219. (¬8) تقدمت ترجمته. (¬9) "ديوانه" ص 408، والطبري 5/ 192، و"الدر المنثور" 2/ 342. (¬10) انظر: "التفسير الكبير" 10/ 219.

وإجماع أهل اللغة أن الركس والإركاس بمعنى، وأن تأويله النَّكس والرد، والمنكوس والمركوس واحد (¬1). قال الزجاج: تأويل ركسهم في اللغة (¬2): نكسهم وردهم (¬3)، والمعنى: أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل {بِمَا كَسَبُوا} أي بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق، وذلك أن المنافق ما دام متمسكًا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى دمائهم، وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد أعلم بنفاق المنافقين، وذكر عددهم لحذيفة (¬4)، وعاش خلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أظهروا الارتداد عادوا إلى حكم الكفار، وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. وقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}. قال ابن عباس: "يريد تُرشدوا من لم يرشده الله" (¬5). ومعنى هذا أنه ليس إليكم هداية من أضل الله، وهؤلاء ممن ضلهم الله فلا يرشدهم أحد. وقال الزجاج: [أي أتقولون] (¬6) إنَّ هؤلاء مهتدون والله جل وعز قد أضلهم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 5/ 310، و"تهذيب اللغة" 2/ 1460 - 1461، و"الكشف والبيان" 4/ 95 ب و"التفسير الكبير" 10/ 219. (¬2) تكررت في (ش): (في اللغة) وهو سهو من الناسخ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 88. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 92. (¬6) طمس هذا الموضع في (ش)، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 88. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 88.

89

فمعنى {تَهْدُوا} على هذا تسموا (¬1) مهتدين وتجعلوهم مهتدين (.. (¬2) ..) وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88] قال ابن عباس: "يريد دينا" (¬3). وقال الزجاج والسدي: أي (....) (¬4). والمعنى أنه لا ينفعه هداية هاد له. 89 - قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} معنى هذه الآية صرف المؤمنين الذين كانوا يُحسنون الظنَّ بهم عما هم عليه، واخبار بما يوجب العداوة لهم والبراءة منهم. وقوله تعالى: {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} رفع بالنسق على تكفرون، لأن المعنى: ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونون، فالفاء عاطفة، ولم يقصد بها جواب التمني، ولو أراد أن تكون جوابًا، على تأويل إذا كفروا استووا، لكان نصبًا (¬5). ومثل هذا قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] (¬6). ولو قيل: فيدهنوا، على الجواب لكان صوابًا في العربية (¬7)، ومثله قوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً} [النساء: 102] ونذكره في موضعه. ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط ولعل الصواب: "تسموهم". (¬2) في المخطوط طمس يمثل كلمة أو كلمتين. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 92. (¬4) بياض في (ش) وعند الزجاج في "معانيه" 2/ 88: "أي طريقًا إلى الحجة". (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 96 أبتصرف، وانظر: "التفسير الكبير" 10/ 221، و"البحر المحيط" 3/ 314، و"الدر المصون" 4/ 62. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 96 أ. (¬7) انظر: "الكشاف" 1/ 288، و"الدر المصون" 4/ 62، 63.

ومعنى قوله: {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي في الكفر، والمراد: فتكونون وهم سواءً (¬1)، فاكتفى بذكر المخاطبين عن غيرهم؛ لوضوح المعنى بتقدم ذكرهم. وقوله تعالى: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}. نهى عن مباطنة هؤلاء وموالاتهم، وهذا الحكم جارٍ في جميع المشركين، والمنافقين، والمستسرِّين الزندقة والإلحاد، لا يجوز نُسلِّم موالاة أحدٍ منهم. وحكم المستسر بنوع من أنواع الكفر حكم المنافق، لا يُقتل ما دام يُظهر كلمة الشهادتين. ولو ثبت إلحاد أحد بإقراره ثم تاب قبلت توبته وحقن دمه بظاهر الشهادة، ولا سبيل إلى ما في قلبه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: "هلا شققت عن قلبه" (¬2). وقوله تعالى: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. ابن عباس والأكثرون قالوا: المراد بالهجرة ههنا الرجوع إلى المدينة ودار الهجرة ثانيًا، ومهاجرة دار الشرك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 196. (¬2) إنما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأسامة بن زيد، حيث كان في سرية بعثه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "فأدركت رجلًا. فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك. فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:- "أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟! ". الحديث أخرجه مسلم (96) كتاب "الإيمان"، باب: تحريم قتال الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، ح 1158/ 96. أما عن المقداد فقد ورد عن مسلم في هذا الباب بمعناه. (¬3) أخرج الأثر عن ابن عباس عن طريق العوفي عنه الطبري 5/ 196، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 274، و"الكشف والبيان" 4/ 96 أ، و"زاد المسير" 2/ 156، وابن كثير 1/ 585.

ونحو ذلك قال الزجاج: حتى يرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهذا هو الظاهر. وقال قوم: معناه حتى يخرجوا في سبيل الله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صابرًا محتسبًا، وهو هجرة المنافقين (¬2). والهجرة أنواع: فأعلاها وأفضلها هجرة المهاجرين دورهم ومساكنهم بمكة إلى المدينة، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، وذكرهم في القرآن كثير (¬3). وهجرة المنافقين ما ذكرنا. وهجرتان ثابتتان إلى يوم القيامة (¬4)، وهي هجرة من أسلم من الكفار في دار الكفر، يلزمه أن يهاجر إلى المسلمين، ولا يحل له المساكنة بين أظهرهم والاستسرار بالدين (¬5)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" (¬6). وهجرة المسلم عما نهى الله عنه (¬7)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 88، وانظر: "زاد المسير" 2/ 155. (¬2) من "الكشف والبيان" 4/ 96 أ، ولم ينسبه الثعلبي لأحد، وانظر: البغوي 2/ 260، والقرطبي 5/ 308. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 96 أ، و"البغوي" 2/ 260، و"التفسير الكبير" 10/ 221، و"القرطبي" 5/ 308. (¬4) انظر: القرطبي 5/ 308. (¬5) انظر: "الطبري" 5/ 196، و"البغوي" 2/ 260، و"التفسير الكبير" 10/ 221، والقرطبي 5/ 308. (¬6) أخرج أبو داود (2645) كتاب: الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، والنسائي واللفظله (4780) كتاب: القسامة، باب القود بغير حديدة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" 2/ 16. (¬7) "الكشف والبيان" 4/ 96 أ، وانظر: البغوي 2/ 260، و"التفسير الكبير" 10/ 221، والقرطبي 5/ 308.

90

"والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه" (¬1). ومعنى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال ابن عباس: "في طاعة الله" (¬2). قال أهل المعاني: وسبيل الله هو الطريق الذي أمر بسلوكه، وهو العمل بطاعة الله (¬3)، وإنما جُعل كالطريق لأنه يُستمر عليه في الطريق، ويؤدي إلى البغية كما يؤدي الطريق (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي: عن الهجرة ولزموا الإقامة على ما هم عليه (¬5)، {فَخُذُوهُمْ} بالأسر (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} قال ابن عباس: "يريد لا تتولوهم ولا تستنصروا بهم على عدوكم" (¬7). 90 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} الآية. الاستثناء راجع إلى القتل (¬8)، لا إلى الموالاة، لأن موالاة المشركين والمنافقين حرام بكل حال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (10) كتاب: الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده بلفظ: "والمهاجر من هجر" الحديث. (¬2) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 92. (¬3) انظر: الطبري 5/ 83، 169. (¬4) انظر: "المفردات" ص 223. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 88، وانظر: الطبري 5/ 197، و"بحر العلوم" 1/ 374، و"الكشف والبيان" 4/ 96 أ. (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 374، و"الكشف والبيان" 4/ 96 أ، والبغوي 2/ 260، و"زاد المسير" 2/ 156. (¬7) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 92. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 281، و"مجاز القرآن" 1/ 136، والطبري 5/ 197، و"معاني الزجاج" 2/ 89.

واختلفوا في معنى قوله: {يَصِلُونَ}، فالأكثرون قالوا: معنى قوله: {يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم بالحِلْف والجوار والالتجاء. وبه قال الفراء (¬1) والزجاج (¬2)، وعليه تفسير ابن عباس فإنه قال في رواية عطاء: "يريد يلجؤون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" (¬3). وقال أبو عبيدة: {يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} أي ينتسبون، ووصل واتصل إذا انتسب (¬4)، قال الأعشى: إذا اتصلتْ قالتْ: أبكرَ بنَ وائلٍ ... البيت (¬5) وبه قال ابن الأعرابي (¬6) وعبد الله بن مسلم (¬7). وكلا القولين صحيح، وإن قال بعض الناس (¬8) منكرًا قول أبي عبيدة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 281. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 89. (¬3) ذكره البغوي 2/ 260، وأخرجه بمعناه من طريق عكرمة عن ابن عباس ابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 342، وقد عزاه السيوطي أيضًا لابن جرير، ولم أجده عنده. (¬4) من "مجاز القرآن" 1/ 136 كما يدل عليه مضمون سياقه لبيت الأعشى في تفسير هذِه الآية وكلامه عليهن وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 130، و"الكشف والبيان" 4/ 96/ ب. (¬5) عجز هذا البيت هو: وبكرٌ سَبتها والأنوفُ رواغمُ وهو في ديوان الأعشى الكبير ص 180، و"مجاز القرآن" 1/ 136، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص130، والطبري 5/ 198، و"الكشف والبيان" 4/ 96 ب. والشاهد منه قوله: "إذا اتصلت" أي: انتسبت. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 235 (وصل). (¬7) ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص130. (¬8) لعله يريد الطبري كما في "تفسيره" 6/ 198 فقد رد هذا القول بشدة وتبعه في ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 4/ 164.

إن الانتساب لا يحقن الدم؛ لأنَّ الميثاق إذا عقد لقوم دخل في ذلك العهد كل من عد منهم في النسبة وانتسب إلى أبيهم. واختلفوا في القوم الذين بينهم وبين (....) (¬1) فقال الحسن: هم بنو مُدْلِج (¬2). وقال ابن عباس في رواية الضحاك: هم بنو بكر بن زيد مَناة (¬3). وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناف، وبنو مُدلج (¬4). وقال الكلبي: هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي (¬5). وزاد عكرمة: وسراقة بن مالك بن جُعْشُم (¬6)، وكان سيد بني مُدلج (¬7). ¬

_ (¬1) طمس في المخطوط بمقدار كلمتين تقريبًا , ولعله: "وبينكم ميثاق" أو "المؤمنين ميثاق". (¬2) "تفسير الهواري" 1/ 407، و"النكت والعيون" 1/ 516، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 374، و"زاد المسير" 2/ 156، و"تفسير ابن كثير" 1/ 585، و"الدر المنثور" 2/ 342. (¬3) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 2/ 261، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 158. (¬4) "تفسيره" 1/ 395، وانظر: "زاد المسير" 2/ 158. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 96 ب، و"معالم التنزيل" 2/ 260، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 92. (¬6) هو أبو سفيان سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك المدلجي الكناني، صحابي شاعر وكان قائفًا، وقصته حين أرسله أبو سفيان في طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشهورة. توفي رضي الله عنه سنة 24 هـ. انظر: "الاستيعاب" 2/ 148، و"أسد الغابة" 2/ 331، و"الإصابة" 2/ 19. (¬7) أي: زاد عكرمة على قولي مقاتل والكلبي، والأثر أخرجه الطبري 5/ 198 , عن عكرمة بلفظ: "قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي, وسراقة بن مالك بن جعشم, وخزيمة بن عمر بن عبد مناف".

وقوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} هذا وصف ثان معطوف على الوصف الأول للنكرة، وهو قوله: {قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (¬1). وحصرت معناه: ضاقت (¬2)، وكل من ضاق صدره بأمر فقد حصر ومنه قول لبيد: جَرداء يَحصُر دونَها جُرَّامُها (¬3) يصف نخلة طويلة، يضيق قلبُ صارم ثمرها إذا نظر إلى أعلاها أن يرقى فيها لطولها (¬4). وذكرنا ما في هذا الحرف عند قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] (¬5). واختلفوا في موضع قوله: {حَصِرَت} فالأكثرون قالوا: إنه في موضع الحال بإضمار قد (¬6)، وذلك أن قد تقرب الماضي من الحال حتى ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 96 ب، و"الكشاف" 1/ 288، و"المحرر الوجيز" 4/ 163، و"الدر المصون" 4/ 64. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 136، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 130، والطبري 5/ 198، و"الكشف والبيان" 4/ 96 ب. (¬3) عجز بيت للبيد وصدره كما في شعره ص (43)، و"اللسان" 2/ 195: أعرضت وانتصبت كجذع منيفة وقافيته في "اللسان": "صرامها" بالصاد، ومعنى جرداء: انجرد عنها سعفهان ويحصر: يتعب ويكل. وجرامها: قطاعها. (¬4) من "تهذيب اللغة" 1/ 837 - 838، وانظر: "اللسان" 2/ 195 (حصر). (¬5) انظر: "البسيط" (النسخة الأزهرية) 1/ ل 119، 120. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 89، و"معاني الحروف" للرماني ص 98، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 641، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 205، و"المحرر الوجيز" 4/ 165، و"البحر المحيط" 3/ 317، و"الدر المصون" 4/ 66. وقد أشار كل من أبي حيان والسمين الحلبي إلى عدم الاحتياج إلى إضمار "قد" لكثرة ما جاء بدونها.

تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها وعلى هذا قول الشاعر: أمُّ صبيِّ قد حبا أو دارج (¬1) فكأنه قال: "أم صبي حاب أو دارج" (¬2)، ولذلك عطف الاسم على الفعل. فتأويل قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} قد حصرت، والعرب كثيراً ما تجعل الفعل الماضي حالًا. قال الفراء: العرب تقول: أتاني فلان ذهب. [.. الآيات من 91 - 93 ...] (¬3). (.. (¬4) ..) وخلف الوعيد كرم، والله تعالى أكرم الأكرمين، وعندنا يجوز أن يخلف الله تعالى وعيد المؤمنين (¬5). وقد ذكرنا هذا فيما مضى من ¬

_ (¬1) هذا شطر من الرجز وقبله: "يا ليتني علقت غير خارج ... قبل الصباح ذات خلق بارج" وهو في "معاني القرآن" للفراء 1/ 214، و"اللسان" 3/ 1351 (درج)، إضافة إلى الآتي، وهو الذي أخذه منه المؤلف. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 2/ 641. (¬3) إلى هنا نهاية صفحة: (أ) من لوحة (18) في نسخة: (ش)، وفي صفحة (ب) تكميل لتفسير الآية (93) قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، فالظاهر وجود سقط هنا، وقد جعلت تفسير الآية (93) في الصفحة التالية. وهذِه الجملة كاملة عند الفراء في "معاني القرآن" 1/ 282: "أتاني فلان ذهب عقله، يريدون: قد ذهب عقله ... (¬4) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط. وهذا الكلام للمؤلف بعد سقط في المخطوط أشرف إليه آنفًا وهذا السقط من تفسير الآية (93) وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]. (¬5) في هذا القول نظر لأنه مخالف لقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] بعد قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}. =

هذا الكتاب. على أن هذا التغليظ إنما هو (.. (¬1) ..) في الردع والزجر عن إقدام على قتل (.. (¬2) ..). وإلى هذا أشار الزجاج فقال: "هذا وعيد شديد في القتل، حرم الله عز وجل به وحظر الدماء (¬3). وفي هذا يحمل (.. (¬4) ..) ابن عباس وغيره من السلف، أنهم قالوا: لا توبة للقاتل (¬5)؛ لأن (¬6) الأولى لأهل الفتوى سلوك سبيل التغليظ، [سيما في القتل] (¬7) يدل على هذا ما روي أن سفيان (¬8) سئل عن توبة القاتل، ¬

_ = قال شيخ الإسلام ابن تيمية على هذِه الآية: "دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده ... لكن التحقيق الجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وتفسير بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها". "مجموع الفتاوى" 14/ 498. وانظر: "أصول الدين" للبغدادي ص 243. (¬1) كلمة غير واضحة، وأظنها: "للمبالغة" أو نحو ذلك. (¬2) كلمة غير واضحة، والظاهر أنها: "مؤمن". (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 91. (¬4) غير واضح في المخطوط، والظاهر أنه: "ما قاله" أو "ما ذهب إليه". (¬5) قال بهذا القول إضافة إلى ابن عباس: زيد بن ثابت والضحاك بن مزاحم، وروي عن ابن عمر وأبي هريرة. انظر: الطبري 5/ 220، و"بحر العلوم" 1/ 376، و"النكت والعيون" 1/ 520. قال البغوي -رحمه الله-: "والذي عليه الأكثرون، وهو مذهب أهل السنة: أن قاتل المسلم عمدًا توبته مقبولة لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82]." ... وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل". "معالم التنزيل" 2/ 267، وانظر: ابن كثير 1/ 589. (¬6) في "الوسيط" للمؤلف 2/ 665: "فان" بالفاء. (¬7) ما بيِن القوسين غير واضح في المخطوط، والتسديد من "الوسيط" للمؤلف 2/ 165. (¬8) هو ابن عيينة.

94

فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا، قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي (الرجل قالوا له) (¬1): تُب (¬2). وسئل مسروق عن توبة القاتل فقال: "لا أغلق بابًا فتحه الله" (¬3). 94 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (¬4) الضرب في الأرض معناه السير فيها بالسفر للتجارة والجهاد (¬5). قال ابن السكيت: يقال: ضربت في الأرض أبتغي الخير (¬6). قال الزجاج: ومعنى ضربتم في الأرض أي سرتم وغزوتم (¬7). قال ابن عباس في رواية الكلبي، وغيره من المفسرين: نزلت الآية في أسامة (¬8) بن زيد وأصحابه، بعثهم رسول الله في سرية، فلقوا رجلاً كان قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبدر إليه بعضهم فقتله، قيل: إنه أسامة بن زيد، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط، والتسديد من "الوسيط" للمؤلف 2/ 665. (¬2) أورده البغوي في "معالم التنزيل" 2/ 267، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 353. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) بدأ تفسير هذِه الآية في صفحة (ب) لوحة (18) من المخطوط في أثناء الصفحة وقبله خمسة أسطر لتفسير الآية (93). (¬5) انظر: الطبري 5/ 221. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2102 (ضرب). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 91. (¬8) هو أبو محمد أو أبو زيد، أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن حبه، ولد في الإسلام، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وله عشرون سنة، كان عمر يجله ويكرمه. توفي رضي الله عنه سنة 54 هـ. انظر: "الاستيعاب" 1/ 170، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 496، و"الإصابة" 1/ 31.

واستاقوا غنمه، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة: "لم قتلته وقد أسلم؟ " قال: إنما قالها متعوذًا، فقال: "هلَّا شققت عن قلبه؟ " ثم حصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديته إلى أهله، ورد عليهم غنمه (¬1). وقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا}. وقرئ (فتثبتوا) (¬2). "يقال: تبينت الأمر، أي تأملته وتوسمته، وقد تبين الأمر، يكون لازمًا وواقعًا" (¬3). قال أبو عبيد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ["ألا إن التبين من الله -جل ثناؤه-] (¬4) ¬

_ (¬1) من طريق الكلبي في "الكشف والبيان" 4/ 104، و"معالم التنزيل" 2/ 268، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 93 بمعناه، وأخرجه من طريق العوفي عن ابن عباس الطبري 5/ 224، وعن السدي 9/ 78. واسم هذا الرجل المقتول مرداس بن نُهيك. وانظر: "بحر العلوم" 1/ 378، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 177. ولهذا الحديث أصل في "صحيح مسلم" (96) كتاب: الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله عن أسامة بن زيد قال: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فصبحنا الحرقان من جيهنة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله. فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:- "أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟! " قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ. (¬2) هذِه قراءة حمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بالأولى: "فتبينوا" انظر: "الحجة" 3/ 173، و"المبسوط" ص 157، و"النشر" 2/ 251، و"تحبير التيسير" ص 105. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 264 (بان). (¬4) ما بين القوسين قد طمست حروفه، والتسديد من "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 7، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 265 (بان).

والعجلة من الشيطان فتبينوا" (¬1) قال الكسائي: [وغيره: التبين مثل التثبت في الأمور] (¬2) والتأني [فيها، وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ] (¬3) قوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} وبعضهم: (فتثبتوا) (.........) (¬4) لأن التبين غاية الاحتياط الذي (........) (¬5) بالتبيين أبلغ. ومن قرأ بالثاء فحجته أن التثبت هو خلاف الإقدام [والمراد التأني] (¬6) وخلاف التقدم، والتثبت أشد اختصاصًا بهذا الموضع (¬7)، وهو حسن أيضًا على طريق الأمر بسبب التبين (.. (¬8) ..) والإرشاد بذكر سبب البيان. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2012) في كتاب: البر، باب: ما جاء في التأني والعجلة بلفظ: "الأناة من الله والعجلة من الشيطان". قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس ابن سهل [أحد رجال سند الحديث] وضعفه من قبل حفظه. (¬2) ما بين القوسين قد طمس حروفه في المخطوط، والتسديد من "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 227، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 265 (بان). (¬3) ما بين المعقوفين حصل عليه طمس، والتسديد من أبي عبيد في "غريب الحديث" 1/ 227. وقد مر عزو القراءتين لمن قرأ بهما من العشرة. (¬4) هنا لم تتضح بعض الكلمات في المخطوط بحدود نصف سطر تقريبًا، وعند أبي عبيد في "الغريب" 1/ 227 بعد قوله: "وبعضهم فتثبتوا" قال أبو عبيد: "والمعنى قريب بعضه من بعض". (¬5) غير واضح في المخطوط بسبب التآكل وغيره بحدود ثلثي سطر. (¬6) ما بين المعقوفين غير واضح في المخطوط، والتسديد من "الحجة" لأبي علي 3/ 174 لأن الكلام منه. (¬7) "الحجة" 2/ 174. (¬8) كلمة غير واضحة في المخطوط.

وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ}. وقرئ (السلام) (¬1)، فمن قرأ بالألف فله معنيان: أحدهما: أن يكون السلام الذي هو تحية المسلمين، أي لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية: إنما قالها تعوذًا، فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله، ولكن كفوا عنه، واقبلوا منه ما أظهره (¬2). والثاني: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم (وكف يده عنكم فلم يقاتلكم) (¬3): {لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬4). قال الأخفش: يقال إنما فلان سلام، إذا كان لا يخالط أحدًا، فكأن المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، ولم يخالطكم في القتال: لست مؤمنًا (¬5). وأصل هذا من السلامة؛ لأن المعتزل طالب للسلامة. ومن قرأ (السَّلَم) أراد الانقياد والاستسلام إلى المسلمين ومنه قوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87] أي: استسلموا, ولما يراد منهم (¬6). ¬

_ (¬1) قرأ بإثبات الألف ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بحذفها. انظر: "السبعة" ص 236، و"الحجة" 3/ 175، 176، و"المبسوط" ص 158، و"النشر" 2/ 151. (¬2) "الحجة" 3/ 176، 177، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 92، و"تهذيب اللغة" 2/ 1743 (سلم)، و"حجة القراءات" ص 209، و"الكشف" 1/ 395. (¬3) ما بين القوسين جاء في "الحجة" 3/ 177 هكذا: "وكفوا أيديهم عنكم، ولم يقاتلوكم" ولعل ما عند المؤلف أصوب، لأن نهاية الكلام جاء بالإفراد. (¬4) "الحجة" 3/ 177، وانظر: "الكشف" 1/ 195. (¬5) قول الأخفش من "الحجة" 3/ 177 ولم أقف عليه في كتابه "معاني القرآن". وانظر: "الكشف" 1/ 395. (¬6) "الحجة" 3/ 177، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 92، و"حجة القراءات" ص =

فأعلم الله عز وجل أن حق من ألقى السلام أن يُتبين أمره (¬1)، وأن يتثبت في أمره. وكذا الحكم اليوم إذا دخل جيش المسلمين بلاد الحرب أن لا يتعرضوا لمن يُرى عليه سيما الإسلام، في سلام أو كلام (.. (¬2) ..) وأن لا يتسارعوا إلى قتله إلا بعد التبين. وقوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قال أبو عبيد: جميع متاع الدنيا عرَض، بفتح الراء، يقال: "إن الدنيا عرَض حاضر، يأخذ منها البر والفاجر (¬3). والعرْض -بسكون الراء- ما سوى الدراهم والدنانير، فصار العرض من العرض، وليس كل عرض عرضًا (¬4). قال بعض أهل اللغة: إنما سمي متاع الدنيا عرضًا؛ لأنه عارض زائل غير باق ثابت (¬5)، ومنه سمَّى المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضًا لقلة لبثه (¬6). ¬

_ = 209، و"الكشف" 1/ 395. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 92، و"حجة القراءات" ص 209. (¬2) غير واضح بسبب تآكل في المخطوط بقدر كلمة أو كلمتين، ولعلها: (بالأذى) أو (بالأخذ). (¬3) أشار في "اللسان" 5/ 2887 (عرض) إلى أن هذا القول يروى حديثًا. ولم أقف عليه. (¬4) كلام أبي عبيد من "تهذيب اللغة" 3/ 2396 (عرض) بتصرف يسير، وانظر: القرطبي 5/ 340، و"اللسان" 5/ 2885 (عرض). (¬5) انظر: "المفردات" ص (331)، والقرطبي 5/ 339، و"عمدة الحفاظ" ص 353 (عرض). (¬6) انظر: المرجع السابق.

قال ابن عباس في هذه الآية: "يريد الغنائم" (¬1). وقوله تعالى: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}. يعني: ثوابًا كثيراً لمن ترك قتل من ألقى إليه السلم (¬2). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}. قال الحسن وابن زيد: كنتم كفارًا مثلهم، فمن الله عليكم فهداكم (¬3). وهذا اختيار الزجاج، لأنه قال: أعلم الله أن كل من أسلم ممن كان كافرًا فبمنزلة هذا الذي تعود بالإسلام، فقال جل وعز {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالإسلام، وبأن قبل ذلك منكم على ما أظهرتم (¬4). هذا كلامه. وظاهر قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يوهم أن المقتول كان كافرًا، وليس الأمر على هذا، وإنما التشبيه وقع لحال كفرهم بحال كفر المقتول قبل إسلامه، ثم منَّ الله عليهم بالإسلام كما من على المقتول وقَبِلَ منه ظاهر الإسلام، فيجب أن يقبلوا هم بظاهر ¬

_ (¬1) جاء معناه في أثر طويل عن ابن عباس أخرجه الطبري 5/ 223 من طريق العوفي، وأخرجه ابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 356. (¬2) من "الكشف والبيان" 4/ 105 ب، وانظر: الطبري 5/ 221. وقيل: غنائم كثيرة في الدنيا مما أذن الله فيه وأباحه. انظر: "بحر العلوم" 1/ 379، و"زاد المسير" 2/ 172. (¬3) أخرجه بنحوه عن ابن زيد الطبري 5/ 226، وانظر: "زاد المسير" 2/ 172، وأما عن الحسن فقد ذكره الهواري في "تفسيره" 1/ 413. وقد ورد مثل هذا القول عن قتادة، ومسروق. انظر: "زاد المسير" 2/ 172، و"الدر المنثور" 2/ 358 - 359. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 92.

الإسلام، وفي هذا تبكيت بهم وتعيير لهم، حيث لم يقبلوا ما أظهره الذي قتلوه من الإسلام، إذ قيل لهم: أنتم كنتم مثله في الكفر، ثم قبل ظاهر الإسلام منًا من الله عليكم. هذا قول واحد. وقال سعيد بن جبير: "كذلك كنتم من قبل تستخفون بإيمانكم عن قومكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه عن قومه، فمنَّ الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم" (¬1). والقول هو الأول، لأنه لا شك أنهم أسلموا بعد أن لم يكونوا مسلمين، فأما الاستخفاء فلم يكن عامًا فيهم كعموم الإسلام بعد أن لم يكونوا عليه. وقال مقاتل: (كذلك كنتم من قبل (¬2) (.......) (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]. قال عطية العوفي: يقول: إنكم قتلتموه على ماله (¬4). وقال بعضهم: معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} تحذير وزجر عن الإضمار بخلاف الإظهار. قال ابن عباس وغيره: ثم استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة، وأمره بعتق رقبة (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 226، وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 359. (¬2) قول مقاتل في "تفسيره" 15/ 400: (كذلك) يعني هكذا (كنتم من قبل) الهجرة. (¬3) طمس وبياض بمقدار أربعة أسطر في المخطوط. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) تقدم تخريج الأثر، لكن يشير فيه الأمر بالعتق.

95

95 - قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الضرر النقصان، وهو كل ما يضرك وينقصك من عمى ومرض وعلة. تقول: دخل عليه ضرر في ماله، أي نقصان. فمعنى قوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} أي: غير من به علة تضره وتقطعه عن الجهاد. كذا قال أهل اللغة (¬1)، وهو موافق لما قاله المفسرون؛ فإن ابن عباس قال في رواية عطاء، في قوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}: يريد ابن أم مكتومٍ الأعمى (¬2)، وقومًا من الأنصار، كان فيهم ضر من عرج ومرض، فعذرهم الله تعالى، وجعل لهم ثوابًا وافيًا (¬3). وقال الزجاج: الضرر: أن يكون ضريرًا، أي أعمى وزمنًا ومريضًا (¬4). وقرئ {غَيْرُ} رفعًا ونصبًا (¬5)، فمن رفع الراء فهو صفة للقاعدين، والمعنى على هذا: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر، أي: لا يستوي القاعدون الأصحاء والمجاهدون، وإن كانوا كلهم مؤمنين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 130، و"تهذيب اللغة" 3/ 2108. (¬2) هو عمرو وقيل عبد الله بن زائدة - وقيل: ابن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي الأعمى، اشتهر بكنيته (ابن أم مكتوم)، من المهاجرين الأولين، وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في كثير من غزواته. انظر: "أسد الغابة" 4/ 223، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 360، و"الإصابة" 2/ 351. (¬3) أخرجه من طريق العوفي بمعناه الطبري 5/ 229. (¬4) عند الزجاج في "معانيه" 2/ 93: "والضرر أن يكون ضريرًا أو أعمى أو زمنًا أو مريضًا". (¬5) قراءة الرفع لابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة ويعقوب، وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "الحجة" 3/ 178، و"المبسوط" ص 158، و"النشر" 2/ 251. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 92.

وهذا مذهب سيبويه (¬1) وقول الفراء (¬2) وأبي إسحاق (¬3) في رفع {غَيْرُ} وأنشد أبو علي على كون (غير) صفة، قول لبيد: وإذا جوزيتَ قرضًا فاجزِه ... إنما يَجزي الفتى غيرُ الجَملْ (¬4) فـ (غيرٌ) صفة للفتى (¬5). واحتج الفراء أيضًا على هذا بقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] (¬6). وذكرنا جواز كون {غَيْرُ} صفة للمعرفة في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] مستقصى مشروحًا (¬7). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون (غير) رفعًا على جهة الاستثناء، المعنى: لا يستوي [القاعدون والمجاهدون] (¬8) إلا أولو الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الذي أقعدهم عن الجهاد الضر (¬9). والكلام في رفع المستثنى بعد (.. (¬10) ..) قد مضى في قوله: {مَّا فَعَلُوهُ ¬

_ (¬1) من "الحجة" لأبي علي 3/ 179. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 283. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 92. (¬4) شعر لبيد ص 97، و"الحجة" 3/ 180، و"البحر المحيط" 3/ 330. وجاء في شرح شعره: "الجمل: لعل الكلمة جاءت متممة للقافية، وإنما أراد جنس البهيمة. والمعنى: فإذا عاملك أحد بالخير أو الشر فرد له مثل عمله سواء كان حسنًا أو قبيحًا، إنما يجزى العمل بمثله الإنسان العاقل، لا البهيمة. (¬5) "الحجة" 3/ 180. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 283. (¬7) انظر: تفسير الفاتحة (7) في "البسيط" بتحقيق الفوزان. (¬8) بياض في المخطوط والتسديد من "معاني الزجاج". (¬9) "معاني الزجاج" 2/ 92، 93. (¬10) بياض ويحتمل أن يكون الساقط: "المستثنى منه"، أو بعد "إلا".

إِلَّا قَلِيلٌ} [النساء: 66] (¬1). ومن نصب (غيرَ) جعله استثناء من القاعدين، لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، على أصل الاستثناء (¬2). وهذا الوجه اختيار الأخفش، وهو أن ينتصب (غيرَ) في القراءة على الاستثناء. قال: لأنه لا يُستثنى بها قومٌ لم يقدروا على الخروج (¬3). كما رُوي في التفسير: أنه لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين، جاء قوم من أولي الضرر، وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حالنا على ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل لنا من رخصة؟، فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] واستثنوا من جملة القاعدين (¬4). وقال الفراء: الوجه فيه الاستثناء والنصب، إلا أن اقتران غير بالقاعدين يكاد يوجب الرفع، لأن الاستثناء ينبغي له أن يكون بعد التمام، فيقول في الكلام: لا يستوي المحسنون والمسيئون إلا فلانًا وفلانًا (¬5). وقال بعض النحويين من المتأخرين: الاختيار الرفع، لأن الصفة أغلب على (غير) من الاستثناء، وليس قول من ذهب إلى اختيار النصب ¬

_ (¬1) انظر: 6/ 525 فيما سبق. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 93، و"الحجة" 3/ 180، و"معاني القرآن" 1/ 316. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 453. (¬4) أخرج البخاري (4592) في كتاب: التفسير (سورة النساء)، باب: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95]، ومسلم (1898) كتاب: الإمارة، باب: حرمة نساء المجاهدين عن البراء رضي الله عنه قال: "لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدًا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 179 - 180، و"لباب النقول" ص 78. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 283، 284.

بسبب نزوله للاستثناء بشيء، لأن غيرًا وإن كانت صفةً فهي تدل على معنى الاستثناء، لأنها في كلا (¬1) الحالين قد خصصت القاعدين عن الجهاد بانتفاء الضرر، ففي الوجهين جميعًا الرفع والنصب إنما وقع التفضيل بين القاعدين الأصحاء والمجاهدين (¬2). قال الزجاج: ويجوز أن تكون (غير) منصوبة على الحال، المعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون، كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي جاءني زيد صحيحًا (¬3). ونحو ذلك قال الفراء، قال: وهو كقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] (¬4). هذا هو الكلام في وجه القراءتين. فأما حكم الزَّمنى ففرض الجهاد موضوع عنهم، كما ذكر الله في سورة الفتح، وهو قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية [الفتح: 17]. (.....) (¬5). وقوله تعالى: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95]، عطف على قوله: {الْقَاعِدُونَ}، لأن (.............. المؤمنون) (¬6) ¬

_ (¬1) في (ش): كلي، وهو خطأ، لأن هذا الحرف لا يعرب إلا إذا أضيف إلى ضمير. (¬2) لم أعرف من قال بذلك، وكأن الفراء قد مال إلى الرفع. انظر: "معاني القرآن" 1/ 283. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 93. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 284. (¬5) غير واضح في المخطوط. (¬6) نصف سطر في المخطوط غير واضح بسبب بعض التآكل، ويمكن أن يقدر بـ: ... لأن (الآية توجه إلى أنه لا ينبغي أن يكون) المؤمنون القاعدون ... أو: لأن (ما يفهم من الآية ويراد التنبيه إليه أنه لا ينبغي أن يكون المؤمنون .. والله أعلم.

القاعدون عن الجهاد من غير عذر والمؤمنون المجاهدون سواء [إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين لأن الضرر] (¬1) أقعدهم عنه، فهم والمجاهدون سواء، إذا أتوا بشرط شرطه الله تعالى في سورة التوبة، وهو قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} إلى قوله: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. ويدل على هذا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد خلفتم بالمدينة أقوامًا، ما سرتم من مسير، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، أولئك أقوام حبسهم العذر" (¬2). صاحبه استوى بالعامل، إذا صدقت نيَّته، وصحت نصيحته لله ولرسوله. وقال بعض أهل المعاني: الآية لا تُحمل على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله (¬3)، لأن هذه الآية حض لغير (¬4) أولي الضرر على الجهاد، ولم يدخل في الحض (....) (¬5) أولوا الضرر. وقوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}. قال الكلبي: يقول: فضيلة في الآخرة (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير واضح في المخطوط بسبب التآكل، والتسديد من "الوسيط" 2/ 678. (¬2) أخرجه البخاري (4423) بنحوه من حديث أنس بن مالك في كتاب: المغازي، باب: (81)، ومسلم (1911) حديث جابر في كتاب: الإمارة، باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر. (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 186. (¬4) في المخطوط: لغيره. (¬5) كلمة غير واضحة في المخطوط ويبدو أنها: "عليه". (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 280، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 94.

وقال مقاتل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أهل العذر درجة يعني فضيلة (¬1). ونحو ذلك قال ابن جريج، قال: التفضيل الأول بدرجة واحدة على أولي الضرر، والتفضيل الثاني بدرجات على غير أولي الضرر (¬2). وهذا يُقوي ما حكينا عن بعض أصحاب المعاني، عن أن الآية لا تدل على مساواة أولي الضرر للمجاهدين، وذلك أن المعذورين بالقعود وإن كانوا في النية والهمة على قصد الجهاد، فالمجاهدون مباشرون، ومباشرة الطاعة فوق قصد الطاعة، وأما القاعدون غير المعذورين فالمجاهدون مفضلون عليهم درجات؛ لأنهم قعدوا من غير عذر. وتفسير الدرجة مضى عند قوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163]. وانتصاب الدرجة ههنا [بحذف الجار] (¬3)، لأن التقدير: بدرجة، فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل، وهو كثير (¬4). وقوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}. قال مقاتل: يعني: المجاهد والقاعد المعذور (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 401، و"الوسيط" 2/ 678، و"معالم التنزيل" 2/ 271. (¬2) قول ابن جريج جاء في أثرين عنه أخرجهما الطبري 5/ 231. وأخرج الجزء الأول منه - إضافة إلى ابن جرير: ابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 362. (¬3) غير واضح بسبب الرطوبة والخرم بمقدار كلمتين، والظاهر ما أثبته. (¬4) انظر: "الدر المصون" 4/ 77. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 401، و"الوسيط" 2/ 678، و"معالم التنزيل" 2/ 271.

96

والحسنى: الجنة في قول ابن عباس (¬1)، ومقاتل (¬2)، وغيرهما (¬3). وقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}، يريد: القاعدين غير المعذورين، وقد سبق ذكر المعذورين. قاله ابن جريج (¬4). 96 - قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَة} قال أبو إسحاق: درجات نُصب (¬5) بدلا من قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا}: وهو مفسر للأجر، المعنى: فضل الله المجاهدين درجات، {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} قال: وجائز أن يكون منصوبًا على التوكيد لقوله {أَجْرًا عَظِيمًا}، لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من الله والمغفرة والرحمة (¬6). وتفسير الدرجات ههنا: منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة. روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ببن الدرجتين كما بين السماء والأرض" (¬7). قال السدي: فضلوا سبعمائة درجة (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 401. (¬3) كقتادة والسدي، انظر: الطبري 6/ 231، و"زاد المسير" 2/ 174. (¬4) أخرجه الطبري 5/ 231 بمعناه (¬5) في "معاني الزجاج": "في محل نصب". (¬6) "معاني القرآن" وإعرابه 2/ 93، 94. (¬7) أخرجه البخاري (2790) حديث أبي هريرة مطولًا في كتاب: الجهاد، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله. (¬8) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 680، ولم أقف عليه.

97

وقال ابن مُحيريز (¬1): هي سبعون درجة، ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المُضَمَّر سبعين خريفًا (¬2) وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. يريد للفريقين جميعًا، للمجاهدين والقاعدين. 97 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية. قال الفراء: إن شئت جعلت {تَوَفَّاهُمُ} ماضيًا , ولم تضمر تاء مع التاء فيكون مثل قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70]، وإن شئت كان على الاستقبال، تريد: إن الذين تتوفاهم، وكل موضع اجتمع فيه تاءان جاز فيه إضمار إحداهما (¬3). ونحو هذا قال الكسائي والزجاج (¬4). وقوله تعالى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} في محل نصب على الحال، المعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم، وهو نكرة وإن أضيف إلى معرفة؛ لأن المعنى على الانفصال، كأنه قيل: ظالمين أنفسهم، إلا أن النون حُذفت استخفافًا، والمعنى معنى ثبوتها، هذا قول الزجاج (¬5). ¬

_ (¬1) هو أبو محيريز عبد الله بن محيريز بالتصغير، ابن جنادة القرشي، المكي نشأ يتيمًا في حجر أبي محذورة، كان ثقة من فضلاء التابعين، وشبه بابن عمر في العبادة والفضل، توفي رحمه الله سنة 99هـ، وقيل قبلها. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 117، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 494، و"التقريب" ص 322 رقم (3604). (¬2) أخرجه الطبري 5/ 234، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 107 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 175 وغيرهما. (¬3) "معانى القرآن" 1/ 284. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 94. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 94.

(.... قال أبو الفتح (¬1): الإضافة في [كثير من كلامهم] (¬2) في تقدير الانفصال والانفكاك، كما تقول [باب الحسن الوجه، والكريم الأب، كله منوى في الانفصال، وإنما تقديره: الحسن وجهه، والكريم أبوه. وكذلك اسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال، فهو وإن أضيف في اللفظ مفصول في المعنى، وذلك نحو قوله تعالى {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، و {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، و {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1]، و {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج: 9]، و {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27]، و {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47]. وعلى هذا قول جرير:] (¬3). يا (¬4) رُبَّ سائلنا لو كان يطلُبكم ... لاقى مباعدةً منكم وحِرْمانا (¬5) إنما هو ممطر لنا، وبالغًا الكعبة، وثانيًا عطفه، ورب سائل لنا، لولا ذلك لم تدخل رب عليه، ولا أجري ممطرنا وصفًا على النكرة، ولا نصب {ثَانِيَ عِطْفِهِ} على الحال. وعلى هذا: ناقةٌ عبر الهواجر، وفرس قيد الأوابد، فالإضافة في هذا كله لفظية غير معنوية (¬6). ¬

_ (¬1) ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 457. (¬2) ما بين المعقوفين غير واضح في المخطوط، والتسديد من "سر صناعة الإعراب" 2/ 457. (¬3) ما بين المعقوفين طمس في المخطوط، والتسديد من "سر صناعة الإعراب" 2/ 457. (¬4) الكلام لا يزال منقولًا من "سر صناعة الإعراب". (¬5) البيت لجرير في "ديوانه" ص 492، وأوله: "يا رب غابطنا" وكذا في "سر صناعة الإعراب" 2/ 457. (¬6) "سر صناعة الإعراب" 2/ 457، 458 (بتصرف).

فأما التفسير: فقال ابن عباس وغيره من المفسرين: نزلت في قوم كانوا قد أسلموا , ولم يُهاجروا حتى خرج المشركون إلى بدر، فخرجوا معهم، فقتلوا يوم بدر، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقالوا لهم ما ذكر الله سبحانه (¬1). وقوله تعالى: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي الملائكة قالت لهؤلاء: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي كنتم في المشركين أم في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؟. وهذا سؤال توبيخ، وإنما توجه السؤال إلى التوبيخ لأنه مما لا يصلح لصاحبه جواب عليه، ولذلك لما اعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك في دارهم حاجتهم الملائكة بالهجرة إلى غير دارهم (¬2). وخبر إن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} قوله تعالى {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} والتقدير: قالوا لهم، بحذف (لهم)، لدلالة الكلام عليها (¬3). وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} قال عطاء عن ابن عباس: "يريد مصيرهم إلى النار" (¬4) وذلك أن الله تعالى لم يرض بإسلام أهل مكة حتى يهاجروا، فقال في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] فنهاهم الله عن موالاتهم ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه: الطبري 5/ 233 - 234، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 380، و"الكشف والبيان" 4/ 107 أ، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 180، و"لباب النقول" ص (79). (¬2) انظر: الطبري 5/ 233، و "معاني الزجاج" 2/ 95، و"بحر العلوم" 1/ 381، و"الكشف والبيان" 4/ 107 ب. (¬3) انظر: "الدر الصون" 4/ 78. وذهب النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 448، إلى أن الخبر جملة {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء: 97]. (¬4) لم أقف عليه.

ومناكحتهم وكل ما يكون بين المسلمين. وإذا أسلم الأخوان (.. (¬1) ..) أحدهما، وبقي الآخر، لم يكن يرث واحد منهما حتى فتحت مكة، فرد الله المواريث إلى الأرحام فقال (¬2) [... الآيات 98 - 102 ...] خفيفة (¬3) والتحقت بالإمام في تشهده الطويل فتشهدوا وخففوا وسلم بهم. وهذا الذي ذكرنا من صفة صلاة الخوف هو مذهب ابن عباس في رواية الوالبي، ذكره في تفسير هذه الآية (¬4). وبمثله ورد حديث ابن أبي حَثْمَة (¬5) في صلاة الخوف (¬6). ¬

_ (¬1) بياض في المخطوط بقدر كلمتين، ويمكن أن يقدر (ثم هاجر). (¬2) حصل هنا سقط حيث جاء الكلام أثناء تفسير الآية (102) قوله: (وإذا كنت فيهم). (¬3) هذا الكلام جاء مباشرة بعد السقط في تفسير الآية (97) {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وهو بيان لصفة صلاة الخوف المذكورة في الآية (102) {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية. (¬4) سياق الأثر تامًا عن ابن عباس قال: "قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فهذا عند صلاة الخوف، يقوم الإِمام وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو، فيصلي الإِمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئة، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية والإمام جالس، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم فيقفون موقفهم، ثم يُقبل الآخرون فيصلي بهم الإِمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية. فهكذا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بطن نخلة". تفسير ابن عباس ص 156، وأخرجه الطبري 5/ 253 من نفس الطريق، لكن في هذِه الرواية لم ينتظر الآخرين بالسلام. (¬5) هو سهل بن أبي حثمة (عبد الله أو عامر) بن ساعدة بن عامر الأنصاري الأوسي من صغار الصحابة حيث كان عمره عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع أو ثمان سنين، وقد روى أحاديث، هذا أحدها. توفي رضي الله عنه في أول خلافة معاوية. انظر: "الاستيعاب" 2/ 221، و"أسد الغابة" 2/ 468، و"الإصابة" 2/ 86. (¬6) أخرجه البخاري (4131) كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، و"مسلم" (841) كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف.

وما سوى هذا المذهب من المذاهب في صلاة الخوف لا يُوافق الآية. واختاره (¬1) الزجاج أيضًا هذا الذي وصفنا، وزعم أنه مذهب أبي حنيفة في صلاة الخوف (¬2)، فإن ذهب إلى حديث ابن عمر، أنه صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فصف وراءه طائفةٌ منا، وأقبلت طائفة على العدو، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة وسجدتين مثل نصف صلاة الصبح، ثم انصرفوا فأقبلوا على العدو، فجاءت الطائفة الأخرى فصلَّوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ففعل مثل ذلك، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة وسجدتين" (¬3). فعنده الطائفة الأولى إذا انصرفت عن الإمام إلى القتال لا تقطع الصلاة، ويكونون في حكم المصلين إلى أن يفرغ الإمام مع الطائفة الثانية، ثم يقضون بأجمعهم ركعة واحدة، واحتج على هذا من الآية بقوله: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] قال: وهذا دليل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة، ولكنهم يصلون ركعة، ثم تكون من وراء الطائفة الثانية للحراسة (¬4). ¬

_ (¬1) لعل الصواب: "واختار". (¬2) الكلام هنا فيه اضطراب، لأن الذي اختاره الزجاج ووصفه المؤلف خلاف مذهب أبي حنيفة -كما سيأتي عند المؤلف؛ ولأن الزجاج إنما ذكر رأي الإمام مالك. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 97، 98. (¬3) أخرجه بهذِه اللفظ الإِمام أحمد في "مسنده" 2/ 150. وأخرجه بمعناه البخاري (4132، 4133) في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، و"مسلم" (839) في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، والثعلبي بلفظه في "الكشف والبيان" 4/ 113 أ. (¬4) هذا اختيار أبي حنيفة وأصحابه في صفة صلاة الخوف. انظر: "بحر العلوم" 1/ 383، و"الكشف والبيان" 4/ 113 أ، و"النكت والعيون" 1/ 524 , 525، والبغوي 2/ 278، و"زاد المسير" 2/ 186، و"المغني" لابن قدامة 3/ 301.

والتفسير بخلاف هذا؛ لأن قوله: {سَجَدُوا} يراد به الطائفة الأولى، ومعنى السجود: ههنا الصلاة، أي: إذا صلوا هم {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} أي الطائفة الثانية الذين لا يصلون (¬1)، فجعل أبو حنيفة السجود والكون من ورائكم لطائفة أخرى ....) (¬2). بأنهم لم يصلوا فائدة، وأيضاً فإن قوله: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ظاهره يدل على أن يكون جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام؛ لأن مطلق قولك: صليت مع الإِمام، أنك أدركت جميع الصلاة معه، وعنده ليس كذلك. فأما حمل السلاح في الصلاة فهو فرض عند بعض العلماء (¬3)، وسنة مؤكدة عند بعضهم (¬4)، والشرط أن لا يحمل سلاحًا نجسًا إن أمكنه (¬5)، ¬

_ (¬1) هذا ما يدل عليه حديث ابن عباس المتقدم، وكذلك سهل بن أبي حَثْمَة، وإليه ذهب الشافعي، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، واختاره الطبري. انظر: "الأم" 1/ 210، 211، والطبري 5/ 258، و"الكشف والبيان" 4/ ل 110، 111، و"النكت والعيون" 1/ 524، 525، والبغوي 2/ 277، و"المغني" لابن قدامة 3/ 299 - 301، والقرطبي 5/ 365، 366، و"شرح صحيح مسلم" للنووي 6/ 125. قال البغوي: "وكلتا الروايتين صحيحة، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح". وقال ابن قدامة: "وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز. نص عليه أحمد، ولكن يكون تاركًا للأولى والأحسن. وبهذا قال ابن جرير، وبعض أصحاب الشافعي". (¬2) طمس في المخطوط بقدر أربعة أسطر. (¬3) عند عدم المرض الذي يشق معه حمل السلاح أو التأذي بالمطر، وهذا أحد قولي الشافعي. انظر: "الأم" 1/ 219، و"أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 494، و"المغني" 3/ 311، وابن كثير 1/ 604. (¬4) هذا قول أكثر أهل العلم. انظر: "المغني" لابن قدامة 3/ 311، والقرطبي 5/ 371 "شرح صحيح مسلم" للنووي 6/ 125. (¬5) انظر: الأم 1/ 219، و"المغني" 3/ 311.

ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف أو في الصف الأول لئلا يؤذي به من أمامه (¬1)، ولا حرج على المريض، وفي حالة المطر إن وضعوا أسلحتهم طلبًا للتخفيف، وفي المطر إنما يتعذر حمل السلاح؛ لأنه يصيبه بلل المطر فيسود بالطبع، وأيضاً فإن من الأسلحة ما يكون مبطنًا فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء (¬2). قال الشافعي: "وإن كانت صلاة المغرب فصلى ركعتين بالطائفة الأولى، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، فحسن، وإن ثبت جالسًا في التشهد الأول، وأتموا لأنفسهم، فجائز" (¬3). قال: "وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالسًا في الثانية أو قائمًا في الثالثة" (¬4). وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} قال أبو علي الجرجاني: في قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} إطلاق، له أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرًا، غير مغفلٍ للحذر؛ بحسب ما يكون حالهم مع العدو. والذي نزل به الكتاب كان وجه الحذر؛ لأن العدو يومئذ (....) (¬5) كان مستقبل القبلة ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 1/ 219، و"المغني" 3/ 311. (¬2) انظر: "الأم" 1/ 219، والبغوي 2/ 280، والقرطبي 5/ 372. (¬3) "الأم" 1/ 212، و"الكشف والبيان" 4/ 111 ب بتصرف يسير، وهذا مذهب أحمد ومالك أيضًا. انظر:"المغني" لابن قدامة 3/ 309. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 111 ب، وانظر: "الأم" 1/ 213. وتمام الكلام عند الثعلبي: "حتى تتم الطائفة التي معه، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت في الأخرى". (¬5) غير واضح، وأظنه: "بذات الرقاع". وسميت هذه الغزوة بذلك لما كانوا يعصبون من الخرق على أرجلهم من الجراح وكانت هذه الغزوة سنة خمس من الهجرة. انظر: "صحيح البخاري" (4129 - 4230) و"شرح صحيح مسلم" للنووى (842, 843).

والمسلمون مستدبروها، وفي استقبالهم القبلة يومئذ استدبار منهم لعدوهم، فأمروا بأن يصيروا طائفتين، طائفة تجاه العدو، وطائفة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة (¬1). والحال الثانية والثالثة بعُسْفان (¬2) وبذي قَرَد (¬3)، كانوا بخلاف هذه الحال، لأن العدو كان مستدبرًا للقبلة والمسلمون مستقبلوها، وكان المسلمون على (.. (¬4) ..) القبلة والعدو في وجوههم فأتى بالصلاة كما أطلق له من أخذ الحذر (¬5)، ولو أتى بها في هاتين الحالتين كما أمر به يوم ذات الرقاع من تصييرهم طائفتين كان تاركًا للحذر ومغررًا بنفسه وأصحابه. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) جاءت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع في عدة أحاديث أخرجها البخاري (4129، 4130) في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842، 843) في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف. (¬2) قرية بين مكة والمدينة على بعد مرحلتين من مكة. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" الجزء الثالث، القسم الثاني ص 56. (¬3) بفتح القاف والراء اسم لماء على بعد ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر، وسمي به غزوة ذي قرد، وهي الغزوة التي أغار فيها قوم من غطفان على لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستردها، وهي قبل خيبر بثلاث. انظر: "صحيح البخاري" (4194)، و"معجم البلدان" 4/ 322، و"اللسان" 6/ 3577. (¬4) كلمة غير واضحة، وأظنها: (مستقبل). (¬5) الأثر في صلاة الخوف بعسفان أخرجه النسائي 3/ 74 في كتاب: صلاة الخوف حديث رقم (16) عن أبي هريرة، والطبري 5/ 257 - 258 عن ابن عباس ومجاهد وهو في "تفسير مجاهد" 1/ 172، وذكره الثعلبي 4/ 112 أوصفتها بنحو ما في حديث جابر الآتي. أما بذي قرد فقد قال ابن عباس: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني صلاة الخوف بذي قرد". أخرجه البخاري (4125) (سبق تخريجه)، وأخرجه مطولًا عنه النسائي حيث =

وفيما ذكره تسوية من جميع الروايات الواردة في صلاة الخوف، لأنه يقول: العلة في اختلافها اختلاف الحال. وليس هذا الذي ذكره بعيدًا عن الصواب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان وببطن النخل (¬1) لم يفرق أصحابه طائفتين، لأنهم كانوا في الصلاة متوجهين للعدو مستقبلي القبلة، فكانوا يرون العدو وهم في الصلاة، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، وفي السجود سجد الصف الأول، والثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود انحدر الصف المؤخر بالسجود (¬2). وكذا روى جابر بن عبد الله (¬3). ¬

_ = وصف ابن عباس الصلاة بقوله: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد، وصف الناس خلفه صفين، صفا خلفه، وصفا موازي العدو، فصلي بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا". "سنن النسائي" 3/ 169 كتاب: صلاة الخوف حديث رقم (5) وأخرجه بنحوه الثعلبي 4/ 113 ب. (¬1) قرية في الحجاز من أرض غطفان. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات"، الجزء الثالث، القسم الأول ص 38. (¬2) تقدم قريبًا تخريج الأثر الوارد في الصلاة بعسفان، أما ببطن النخل فإنه سيأتي في الأثر عن جابر. (¬3) قال جابر رضي الله عنه: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا من جهينة، فقاتلونا قتالًا شديدًا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم. فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك. فذكر ذلك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقالوا: أنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد. فلما حضرت العصر، قال: صفينا صفين، والمشركون بيننا وبين القبلة. قال فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرنا، وركع وركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني. ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني، فقاموا مقام الأول. فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرنا، وركع فركعنا. ثم سجد وسجد معه الصف الأول وقام الثاني، فلما سجد الصف الثاني، ثم جلسوا جميعا، سلم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". أخرجه "مسلم"، وقد سبق تخريجه.

103

103 - قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ}. يعني صلاة الخوف، قاله مقاتل (¬1) والكلبي (¬2) والزجاج (¬3). {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}. قال الكلبي: فصلوا لله (قيامًا) للصحيح، (وقعودًا) للمريض الذي لا يستطيع القيام، (وعلى جنوبكم) للمرضى الذين لا يستطيعون الجلوس (¬4). وقال مقاتل: فاذكروا الله باللسان (¬5). وقال ابن عباس: "يريد أنه ليس شيء أفضل من الذكر لله" (¬6). وقال الزجاج: أي: اذكروه بتوحيده وشكره وتسبيحه بكل ما يمكن أن يتقرب منه (¬7). ¬

_ = وهذِه الغزوة كانت بنخل كما أشار إليه المؤلف، وجاء ذلك في حديث جابر هذا عند الطبري 5/ 257. (¬1) "تفسيره" 1/ 403. (¬2) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 95. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 99. وهذا القول هو قول عامة المفسرين، ويؤيده النظر في سياق الآيات. انظر: الطبري 5/ 259، 260، و"بحر العلوم" 1/ 384، و"الكشف والبيان" 4/ 115 أ، و"النكت والعيون" 1/ 526، و"معالم التنزيل" 2/ 281، و"زاد المسير" 2/ 187. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 115، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 95. (¬5) "تفسيره" 1/ 403. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 99، وانظر: الطبري (259)، و"الكشف والبيان" 4/ 115 ب، و"زاد المسير" 2/ 187.

وهذا القول أولى من قول الكلبي؛ لأنه ذكر بعد هذا حكم صلاة الحضر، فقال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. قال أبو إسحاق: أي إذا سكنت قلوبكم، يقال: اطمأن الشيء، إذا سكن، وطأمنته وطمأنته، إذا سكنته (¬1). ويقال: طأمنت الشيء فتطامن، إذا خفضته فانخفض (...) (¬2). قال الكلبي في تفسير الاطمئنان: (.... (¬3) ....) الخوف. والأصح (...) (¬4) المراد به المقام في (البلد) (¬5) وزوال حركة السفر، وهو قول ابن عباس، قال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} يريد في أهليكم {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يعني أتموها (¬6). ونحو هذا قال الحسن (¬7) ومجاهد (¬8)، أن معنى الطمأنينة ههنا الرجوع إلى الوطن في دار الإقامة. وذكرنا عن أبي علي الجرجاني أن الطمأنينة ضد الضرب في الأرض لا ضد الخوف، وضد الخوف الأمن وهذا يدل على أن الخوف غير ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 99، وانظر: الطبري 5/ 260، و"زاد المسير" 2/ 188. (¬2) طمس لأكثر الحروف في المخطوط بمقدار سطر ونصف. (¬3) طمس ما بين القوسين في المخطوط، وفي "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 95: "رجعتم إلى منازلكم وذهب عنكم الخوف". (¬4) كلمتان غير واضحتين، وأظنهما: "والأولى أن". (¬5) هذِه الكلمة غير واضحة في المخطوط، وانظر: "الوسيط" 2/ 695. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 95. (¬7) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 419، و"النكت والعيون" 1/ 526، و"زاد المسير" 2/ 188. (¬8) أخرجه عنه: الطبري 5/ 260، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 380.

103

مشروط في جواز القصر، حيث جعل نهاية جوازه الطمأنينة في الأهل. والذين قالوا: المراد بالطمأنينة زوال الخوف، قالوا في معنى قوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: فأتموا ركوعها، غير مشاة ولا ركبان فيها، كما كنتم تفعلون في صلاة الخوف. وبه قال السدي (¬1) وابن زيد (¬2). 103 - وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي فرضا موقوتًا (¬3). قال ابن عباس: "فريضة بأوقاتها" (¬4). والمراد بالكتاب ههنا: المكتوب، كأنه قيل: مكتوبة موقوتة، ثم حذفت الهاء من الموقوتة، لما (¬5) جعل المصدر موضع المفعول، والمصدر مذكر، ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات مؤقتة، يقال: وقَّته، ووقَته، مخففًا (¬6). وقرئ: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (¬7) [المرسلات: ¬

_ (¬1) أخرجه عنه: الطبري 5/ 260، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 380. (¬2) أخرجه عنه: الطبري 5/ 260، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 380. (¬3) انظر: الطبري 5/ 261، و "معاني الزجاج" 2/ 99، و"بحر العلوم" 1/ 384. (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 157، بلفظ: "موقوتًا: مفروضًا" وأخرجه كذا الطبري 5/ 261، لكن من طريق العوفي، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 526، و"زاد المسير" 2/ 188، و"الدر المنثور" 2/ 380. (¬5) كأنها: كما. (¬6) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 130، والطبري 5/ 262، و"الكشف والبيان" 4/ 115 ب. (¬7) قراءة أبي جعفر وحده بواو مضمومة وكسر القاف مخففة. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3928 (وقت)، و"المبسوط" ص 391، و"النشر" 2/ 397. وفي مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "وقت" بواو مضمومة وتشديد القاف. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3928 (وقت).

104

11]. قال أبو عبيدة: وإن شئت قلت: أوقته (¬1). وقال الزجاج في قوله: {موقوتا}: أي مفروضًا موقتًا فرضه (¬2). 104 - قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ}. الخطاب للمؤمنين، وذكرنا معنى الوهن (¬3) في قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139]. والمراد بالقوم ههنا: أبو سفيان وأصحابه، لما انصرفوا عن أحد منهزمين، وقد قذف الله في قلوبهم الرعب، أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يسير في آثارهم بعد الوقعة بأيام، فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس لذلك، فاشتكوا ما بهم من الجراحات، فأنزل الله هذه الآية (¬4). وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران (¬5). قال ابن عباس: "يريد لا تضعفوا في طلب العدو" (¬6). وقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ}. الألم الوجع، وقد ألم يألم، فهو آلم (¬7). قال ابن عباس: "يريد يوجعون كما توجعون الجراح" (¬8). ¬

_ (¬1) ليس في "مجاز القرآن". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 99. (¬3) "الوهن: الضعف"؛ "الصحاح" 6/ 2215، و"اللسان" 8/ 4934 (وهن). (¬4) ذكره الطبري 5/ 263 عن عكرمة، كما ذكره دون عزو السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 384، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 115 ب، والبغوي في "معالم التنزيل" 2/ 282. (¬5) ذكر جميع ذلك عند قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 381. (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 188 (ألم) وفيه: "فهو ألم" بدون مد. وانظر: "الصحاح" 5/ 1863، و"اللسان" 1/ 113 (ألم). (¬8) بنحوه في "تفسير ابن عباس" ص (157)، وأخرجه أيضًا من طريق علي بن أبي طلحة: الطبري 5/ 263، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 381.

ونحو هذا قال غيره من المفسرين (¬1)، وهذا يحتمل تأويلين: أحدهما: أن المؤمنين كانت بهم جراحات، يجدون لها ألمًا يوهنهم عن المسير في آثار المشركين، والمشركون أيضًا بهم جراحات، كما بالمسلمين، فقيل للمسلمين: إنَّ ألمتم جراحكم، فهم أيضًا في مثل حالتكم من أثر الجراح. وعلى هذا دل كلام المفسرين أن المراد بالألم ههنا ألم جراح واقعة بالفريقين (¬2). والآخر: أن هذا استدعاء إلى الجهاد مما يوجب الصبر عليه والجد فيه لرجحان حالهم على حال أعدائهم، بأنهم يرجون من الله ما لا يرجونه، فقد ساووهم في الصارف عن القتال، وهؤلاء انفردوا بداعٍ ليس لهم من ثواب الله على ذلك وكرامته التي هي (أوكد وكد داع) (¬3) إلى إتباع مرضاته، فالمراد بالألم ههنا ألم جرح يقع ويحصل في أحد الفريقين، يقول: إن ألمتم جرحًا يوقعونه فيكم فهم أيضًا يألمون بما توقعونه فيهم، فلا تضعفوا ولا تجنبوا (¬4) عنهم، فقد تساويتم في وجود الآلام. وعلى هذا الثاني دل كلام أبي إسحاق، فإنه قال: أي أن تكونوا توجعون فأنهم يجدون من الوجع فيما ينالهم من الجراح والتعب كما تجدون (¬5). ¬

_ (¬1) كمجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. انظر: الطبري 5/ 262، 263. (¬2) انظر: الطبري 5/ 262، 263، و"بحر العلوم" 1/ 384، و"الكشف والبيان" 4/ 115 ب، و"النكت والعيون" 1/ 527. (¬3) هكذا ما بين القوسين في المخطوط، وقد يكون فيه تكرار، فتكون العبارة: "أوكد داع". (¬4) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: ولا تجبنوا، بباء ثم نون بعد الجيم. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 100، وانظر: الطبري 5/ 262، و"زاد المسير" 2/ 189.

وهذا المعنى أراد الشداخ بن يعمر الكناني (¬1) في قوله يحض قومه على الحرب: القوم أمثالكم لهم شعر ... في الرأس لا ينشرون إن قتلوا (¬2). يقول: هم مثلكم إن قتلتم منهم لم يجيء قتيلهم، كما لا يجيء منكم من قتل. وقوله تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}. قال الحسن وقتادة وابن جريج وأكثر أهل العلم: وتؤملون من ثواب الله ما لا يؤملون (¬3). وقال الزجاج: أي أنتم ترجون النصر الذي وعدكم الله جل وعز وإظهار دينكم على [سائر] (¬4) أديان الملل المخالفة [لأهل الإسلام] (¬5) ¬

_ (¬1) هو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر الليثي الكناني و"الشداخ" لقبه، سمي بذلك لشدخه الدماء بين قريش وخزاعة، أي وضعها تحت قدميه وإصلاحه بينهم فهو من حكام العرب، ويبدو أنه شاعر جاهلي. انظر: "المحبر" ص 33، و"الاشتقاق" ص 171، و"جمهرة أنساب العرب" ص 180، و"الأعلام" 8/ 205. (¬2) البيت في "الحماسة الكبرى" لأبي تمام 1/ 113. (¬3) أخرجه بمعناه عن قتادة وابن جريج: الطبري 5/ 262 - 263، أما عن الحسن فذكره الهواري في "تفسيره" 1/ 420. وقد قال بهذا القول أيضاً الضحاك. انظر: "معاني القرآن" للنحاس 3/ 184، واختاره الطبري 5/ 262، 264، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 384، و"الكشف والبيان" 4/ 115 ب. (¬4) طمست ما بين المعقوفين هذه الكلمة في المخطوط حيث لم يبق من كلماتها إلا السين، والتسديد من الزجاج في "معانيه" 2/ 100. (¬5) طمس ما بين المعقوفين في المخطوط والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 100.

وترجون مع ذلك الجنة، وهم لا يرجون؛ لأنهم كانوا غير مقرين [بالبعث، فأنتم ترجون من الله ما لا يرجون] (¬1). وذهب بعض المفسرين إلى أن (...) (¬2). وأنكر الفراء والزجاج ذلك، فقال: [وأجمع أهل اللغة الموثوق بعلمهم على أن الرجاء] (¬3) ههنا على معنى الأمل (¬4). وقال الفراء: "لا يعرف الرجاء بمعنى الخوف إلا مع (...) (¬5). كقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أي لا تخافون له عظمة. كقول أبي ذؤيب (¬6): إذا لسعَتْه النَّحلُ لم يَرْجُ لسعَها ... وحالفَها في بيتِ نوبٍ عواملِ (¬7) وإنما كان كذلك لأن الرجاء لما أخرج عن أصله لم يتصرف في جميع الوجوه بمعنى الخوف، إلا في النفي خاصة. قال الزجاج: وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف؛ لأن الرجاء أمل قد يخاف أن لا يتم (¬8). يريد: إنما يُرجى كونه يخاف فوته. ¬

_ (¬1) طمس ما بين المعقوفين في المخطوط، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 100. (¬2) طمس ما بين القوسين في المخطوط، والظاهر أنه: "الرجاء هنا بمعنى الخوف" أو قريب من ذلك. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 286، والطبري 5/ 264. (¬3) طمس ما بين المعقوفين في المخطوط، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 100. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 100. (¬5) طمس، وفي "معاني الفراء" 1/ 286: "ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد". (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 286، والبيت في ديوان الهذليين 1/ 143 وقافيته "عواسل" بالسين، و"تهذيب اللغة" 4/ 3476، و"الصحاح" 1/ 229، و"اللسان" 8/ 4570 (نوب). والشاهد منه: أن الرجاء بمعنى الخوف لما اقترن بنفي. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 100.

105

{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بخلقه (¬1). {حَكِيمًا} فيما حكم لأوليائه من الثواب، ولأعدائه من العقاب. 105 - قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} الآية. أجمعوا على أن هذه الآية وما بعدها من أي كثير نزلت في قصة طعمة ابن أُبيرق (¬2)، سرق درعًا ثم رمى بها يهوديًّا فلما طلبت عنده الدرع أحال على اليهودي، فرماه بالسرقة، فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهودي، وأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل قوم طعمة النبي عليه السلام أن يُجادل عن صاحبهم، وأن يبرأه، وقالوا: إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرئ اليهودي، فهمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل وأن يعاقب اليهودي. وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه (¬3)، والضحاك والسدي والحسن وابن زيد أن طعمة سرق الدرع (¬4). وقال مجاهد ومقاتل: إن طعمة استُودع درعًا, ولم تكن عليه بينة، ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 264. (¬2) هو طعمة بن أبيرق بن عمرو بن حارثة بن ظفر الخزرجي الأنصاري، ذكر في الصحابة وأنه شهد المشاهد كلها إلا بدرًا، وقد تكلم في إيمانه. انظر: "أسد الغابة" 3/ 75، و"الإصابة" 2/ 224. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 95، وقد أخرجه بمعناه عن ابن عباس من طريق العوفي: الطبري 5/ 267، وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 384. (¬4) أخرج الآثار عنهم: الطبري 5/ 267 - 270 إلا الحسن فأخرجه عنه ابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 385. وقد أخرج القصة مطولة الترمذي في كتاب: التفسير، باب: (5) ومن سورة النساء 5/ 244 عن قتادة بن النعمان. وقال: حديث غريب، وكذا الطبري 5/ 265 وذكرها المؤلف في "أسباب النزول" ص 183، والسيوطي في "لباب النقول" ص 82.

فجحدها، وكانت الدرع ليهودي. وهذا قول مقاتل وقول مجاهد، وأنه استودع درعًا، فرمى بسرقتها يهوديًا، [فنزلت] (¬1) الآية في هذه الخصومة (¬2). قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} المعنى: على وجه الحق دون الباطل، لأنه لو (......... ـعدى) (¬3) في الحكم لم يكن قد أنزل بالحق، فالحق ههنا إنما هو ما كان لأجله الكتاب حقًا، وقد يوصف بالحق على معنى: ذو الحق، كما يوصف بعدل، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 62]. وقوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، قال ابن عباس: "بما علمك الله" (¬4). ونحو ذلك قال غيره (¬5)، ومثله قوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [سبأ: 6] (¬6) أي: ويعلم. وهذا يدل أن رأيه - صلى الله عليه وسلم - كله وحيًا (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين لم تتضح بعض حروفه في المخطوط. (¬2) قول مجاهد كالقول السابق أن طعمة سرق الدرع ورمى بذلك غيره. انظر: قول مجاهد في "تفسيره" 1/ 173، والطبري 5/ 265، وقول مقاتل في "تفسيره" 1/ 404، و"الكشف والبيان" 4/ 116 ب. (¬3) طمس ما بين القوسين في المخطوط، وهو بقدر كلمتين لم يتبين منهما إلا هذان الحرفان اللذان أثبتهما، والظاهر أن العبارة: "لو كان التعدي" أو "لو قصد التعدي". انظر: "الوسيط" 2/ 697. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 95. (¬5) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 499. (¬6) تمام الآية: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وسقتها كاملة ليتضح تفسير المؤلف لها. (¬7) هكذا ولعل "كله" مصحفة عن "كان أو أنه" سقط (كان) من الكلام.

وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "لا يقولن أحدكم: [قضيت] (¬1) بما أراني الله، فإن الله تعالى لم يفعل ذلك إلا لنبيه". وكان يقول: "إنَّ رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مصيبًا، لأن الله تعالى كان يريه إياه، وهو منّا ظن وتكلف" (¬2). وقال الحسن: "رأي الأنبياء عليهم السلام وحي" ثم تلا هذه الآية (¬3). قال أبو علي: لا يخلو (أراك) من أن يكون منقولًا بالهمزة من رأيت، التي يراد بها رؤية البصر، أو رأيت، التي تتعدى إلى مفعولين، ورأيت الذي بمعنى الرأي الذي هو الاعتقاد، فلا يجوز أن يكون من الرؤية التي معناه: أبصرت بعيني؛ لأن الحكم في الحوادث بين الناس ليس مما يدرك بالبصر، ولا يجوز أن يكون من: رأيت، التي يتعدى إلى مفعولين؛ لأنه كان يلزم بالنقل أن يتعدى إلى ثلاثة، مفعولين (¬4)، وفي تعديه إلى مفعولين، أحدهما الكاف التي للخطاب، والآخر: المفعول المقدر حذفه من الصلة، تقديره: بما أراكه الله، ولا مفعول ثالثًا في الكلام، وذلك في دلالة على أنه من رأيت، التي معناها الاعتقاد والرأي، وهو يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقل بالهمزة تعدى إلى مفعولين، كما ذكرنا في التقدير (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير واضح وضوحًا تامًّا، وما أثبته قريب. (¬2) قال السيوطي: "أخرج ابن المنذر عن عمرو بن دينار أن رجلاً قال لعمر: (بما أراك الله) قال: مه، إنما هذِه للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة "الدر المنثور" 2/ 386. هذا ما وقفت عليه عن عمر رضي الله عنه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لعل هذِه الكلمة زائدة، أو مصحفة عن "مفاعيل". (¬5) من "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص 70، 71 بتصرف.

106

وقوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} قال الزجاج: أي لا تكن مخاصمًا ولا دافعًا عن خائن (¬1). وخصيمك الذي يُخاصمك، وجمعه خصماء، وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه، والخصم طرف الراوية (¬2)، وطرف الفراش، وقيل للخصمين خصمان؛ لأخذ كل واحد منهما في ناحية من الحجج والدعوى وخصوم السحابة جوانبها (¬3)، قال الأخطل (¬4): إذا طعنتْ فيها الجنوبُ تحاملتْ ... باعجازِ جرّارٍ تداعى خُصومُها (¬5) أي: تجاوب جوانبها بالرعد، وطعن الجنوب فيها سوقها إياه. والجرّار الثقيل ذو الماء، تحاملت باعجازه: دفعت أواخره (¬6). 106 - قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ}. قال مقاتل: من جدالك عن طعمة (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 101، وانظر: "زاد المسير" 2/ 192. (¬2) في المخطوط: "الرواية" وهو تصحيف، انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1042، و"اللسان" 2/ 1177 (خصم). والراوية هي المرادة. انظر:"الصحاح" 6/ 2364 (روي). (¬3) من "تهذيب اللغة" 1/ 1042 (خصم) بتصرف، وانظر: "اللسان" 2/ 1177 (خصم). (¬4) هو أبو مالك غياث بن غوث شاعر مسيحي من شعراء الدولة العباسية، توفي سنة 90 تقريبًا. انظر: "طبقات الشعراء" ص 147، و"الشعر والشعراء" ص 319، و"الأعلام" 5/ 123. (¬5) ديوان الأخطل ص 319، و"تهذيب اللغة" 1/ 1042، و"اللسان" 2/ 1177 (خصم)، والجنوب: ريح الجنوب. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 1042 (خصم). (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 405، و"الكشف والبيان" 4/ 117 أ.

وقال السدي: (مما أردت من جدالك عنه) (¬1). وقال [....] (¬2): ("من همك بقطع اليهودي" (¬3) ونحوه روي عن ابن عباس) (¬4). وقال الكلبي: من همك باليهودي أن (....) (¬5). فإن قيل: فهل كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة ذنب حتى أمر بالاستغفار؟ قيل: الأصل في هذا أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الكبائر، وذلك بإجماع العلماء (¬6). فأما الصغائر: فمن العلماء من قال: كانوا معصومين عنها (¬7)، ومنهم من قال: ما كانوا معصومين عنها (¬8). وكذلك الخلاف في جواز السهو والنسيان عليهم (¬9)، مع إجماعهم على أن السهو غير جائز عليهم في تبليغ الوحي، وأن السهو إن وقع فهو في غير الوحي، فإنَّ الله لا يقررهم على السهو، بل ينبهم، والصحيح أن السهو ¬

_ (¬1) ما بين القوسين لم يتضح جيدًا في المخطوط، وانظر: "الوسيط" 2/ 698، ولم أقف على من خرجه. (¬2) لم يتضح اسم القائل، وكأنه مجاهد. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 117 أ. (¬5) ما بين القوسين كلمة غير واضحة في المخطوط، وأظنها: "تقطعه". انظر: "الكشف والبيان" 4/ 117 أ، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96. (¬6) انظر: "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة مع شرحه ص 88، 89، و"أصول الدين" للبغدادي ص 167، 168. (¬7) انظر: "الفقه الأكبر مع شرحه" ص 88، 89. (¬8) انظر: "أصول الدين" ص 168، والقرطبي 5/ 377. (¬9) انظر: "أصول الدين" ص 168.

والنسيان جائز عليهم، وعلى هذا دلت الأخبار (¬1). فأما ذنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة فقد قيل: إنه همّ بقطع اليهودي (¬2). وقيل: إنَّه جادل عن طعمة، حتى قال للمدعي: عمدت إلى رجل مسلم ورميته بالسرقة من غير بينة (¬3). وهذا مما يؤمر بالاستغفار عنه. والذين قالوا: لا تجوز الصغائر عليهم قالوا: إنه أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كما يقول القائل: "اسْتَغْفِرِ اللهِ" مكررًا له مرات كثيرة، على جهة التسبيح من غير أن يقصد بذلك إلى التوبة من ذنبٍ كره (¬4). وقال بعض أهل العلم: استغفار الرسل إما أن يكون للأمة، واما أن يكون لذنب قبل النبوة، وإما أن يكون لزيادة الدرجة (¬5). وقد رُوي عن رسول الله أنه قال: " إن الله تعالى ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة" (¬6) معناه زيادة الدرجات. قال أبو إسحاق: عرّف الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - قصة طعمة، وأعلمه أنه خائن، ونهاه أن يحتج له، وأمره بالاستغفار مما هم به، وأن حكم بما أنزل ¬

_ (¬1) قال البغدادي: "وأما السهو والخطأ فليسا من الذنوب، فلذلك ساغا عليهم. وقد سهى نبينا - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، حتى سلم من الركعتين، ثم بني عليها وسجد سجدتي السهو". "أصول الدين" ص (168)، وانظر: "شرح الفقه الأكبر" ص 92، 93. (¬2) تقدم هذا القول عن ابن عباس وغيره. (¬3) أخرجه الطبري في الأثر الطويل عن قتادة بن النعمان 5/ 266. وتقدم قريبًا نحوه عن السدي ومقاتل. انظر ص 401. (¬4) هكذا هذه الكلمة في المخطوط ولعل الصواب: ذكره، فسقطت الذال من الناسخ. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 117 ب. (¬6) لم أقف عليه.

الله في كتابه فقال: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ} يعني طعمة ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق (¬1). والاختيان كالخيانة، يقال: خانه واختانه. وذكر ذلك عند قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] ومعنى (يختانون أنفسهم): يخونوها (¬2) بالمعصية، والعاصي خائن لأنه مؤتمن على دينه. ويجوز أن يكون المعنى: أن وبال خيانتهم راجع إليهم بالفضيحة في الدنيا والعقوبة في الآخرة، فكأنهم خانوا أنفسهم وإن خانوا غيرهم في الظاهر (بالسرقة كما يقال لمن ظلم غيره: إنه قد ظلم نفسه. وقد صرحت الآية بالنهي) (¬3) عن المجادلة عن الظالمين في القليل والكثير، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جادل عن طعمة على غير بصيرة، (.. (¬4) ..) الله تعالى بهذا، وأمره بالاستغفار، ونهاه عن المعاودة إلى مثله، فما ظنك بمن يعلم ظلم الظالم، ثم يستجيز معاونته؟! وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} قال ابن عباس: "يريد خوانًا فاجرًا" (¬5). قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع، وأثم في رميه اليهودي، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 101. (¬2) هكذا في المخطوط، والصواب: "يخونونها" بالرفع. (¬3) ما بين القوسين متكرر في المخطوط، ولعله سهو من الناسخ. (¬4) ما بِين القوسين كلمة غير واضحة في المخطوط، والظاهر أنها: فعاتبه. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 385. (¬6) من الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 117 ب بتصرف.

108

108 - قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} الاستخفاء في اللغة معناه: الاستتار، يقال: استخفيت عن فلان، أي: تواريت عنه واستترت (¬1)، قال الله تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد: 10] قال الفراء: أي مستتر (¬2). ونحو هذا قال أبو العالية في تفسير: {يَسْتَخْفُونَ} يستترون (¬3). وقال ابن عباس: يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله (¬4). وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك أن الاستحياء من الناس كان سبب الاستخفاء منهم، ففسر الاستخفاء بما أوجبه الله من سببه. قال مجاهد: {يَسْتَخْفُونَ} يعني: قوم طعمة (¬5). وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَهُمْ} قال ابن عباس: يقول علمه معهم" (¬6). قال عطاء عنه: يريد عالم بما يُخفون وما يُعلنون (¬7). قال أهل المعاني: معنى قوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ} مشاهدته إياهم كمشاهدة من يكون معهم في الظاهر (¬8). وقوله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}. قال مجاهد: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1070، و"الصحاح" 6/ 2330 (خفي)، و"الكشف والبيان" 4/ 117 ب، و"زاد المسير" 2/ 193. (¬2) لم أجده في "معاني القرآن" بل في "تهذيب اللغة" 1/ 1070 (خفي). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96. (¬5) لم أقف عليه عن مجاهد. وانظر: "بحر العلوم" 1/ 385، و"زاد المسير" 2/ 193. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: الطبري 5/ 271.

109

يُهيئون (¬1). وقال عطاء: يُضمرون (¬2). وقال أبو عبيدة: يُقدرون (¬3). وذكرنا معنى التبييت مشروحًا في قوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} [النساء:81]. والذي لا يرضاه الله تعالى من القول الذي بيتوه هو أنَّ طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع [وأحلف أنني لم أسرقها فتقبل يميني، لأني] (¬4) على دينهم، ولا تقبل يمين اليهودي. قاله الزجاج (¬5). وهو قول الحسن (¬6). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (¬7) (.. (¬8) ..) ابن عباس: "أحاط بسرائر العباد وما (...) (¬9). (محيطٌ) ههنا عليم بأعمالهم على إحاطة، لأنها ظاهرة له، لا تخفي عليه من وجه من الوجوه. وذكرنا هذا فيما تقدم (¬10). 109 - قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال الكلبي: ثم أقبل على قوم طعمة فقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} (¬11). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) فسر أبو عبيدة قوله تعالى: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81]. بقوله: "أي قدروا ذلك ليلاً "مجاز القرآن" 1/ 132. هذا ما وجدت عند أبي عبيدة. (¬4) طمس ما بين المعقوفين في (ش)، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 102. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 102. (¬6) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 422. (¬7) طمس آخر الآية في المخطوط ولم يبق إلا آخر كلمة فاهتديت بها إلى ما قبلها. (¬8) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط، ويحتمل أنه: "قال عطاء عن" لأنه كثيرًا ما يورد عن ابن عباس من طريقه. (¬9) طمس في المخطوط، ولم أقف على الأثر عن ابن عباس. (¬10) انظر: "البسيط" [البقرة: 19]. (¬11) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96.

قال الزجاج: {هَؤُلَاءِ} ههنا بمعنى الذين، المعنى: ها أنتم الذين جادلتم، لأن هؤلاء وهذا يكونان في الإشارة للمخاطبين إلى أنفسهم بمنزلة الذين، وقد يكون لغير المخاطبين بمنزلة الذين، نحو قول الشاعر: عدس: ما لعبَّاد عليك إمارةٌ ... أمنت وهذا تحملين طليق (¬1) أي الذي تحملين طليق (¬2). وقال غيره: هؤلاء إشارة إلى نفس المخاطبين على جهة البيان والتأكيد، كما تقول: فعلت أنت، وفعل هو (¬3): وذكرنا في هذا بيانًا شافيًا في قوله: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119]. ومعنى الجدل في اللغة: شدّة المخاصمة، والجدْلُ: شدة الفتل، ورجل مجدول، كأنه قد فتل (¬4). والأجدَلُ: الصقر؛ لأنه من أشد الطيور قوة. هذا قول أبي إسحاق (¬5). وقال غيره: سمى المخاصمة جدالًا، لأن كل واحد من الخصمين يريد فتل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه (¬6). ¬

_ (¬1) البيت ليزيد بن مفرغ الحميري. وهو في "الشعر والشعراء" ص 229، و"تهذيب اللغة" 3/ 2357 (عدس)، و"المحتسب" 2/ 94، و"اللسان" 5/ 2837 (عدس). وعدس كلمة زجر للبغل. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 102، بتصرف، وانظر: القرطبي 5/ 379. (¬3) نحو قول الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 454. (¬4) في "معاني الزجاج" 2/ 102: "قتل" بالقاف. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 102، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 118 أ، و"زاد المسير" 2/ 193. (¬6) لم أقف على قائله.

قال ابن عباس في قوله: {جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يريد الذين جادلوا من الأنصار، من قرابته (¬1). وفي حرف عبد الله (عنه)، يعني السارق وحده (¬2)، وفي قراءتنا: (عنهم) (¬3) يعني السارق وذويه. وقوله تعالى: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} خرج الكلام ههنا مخرج الاستفهام والمراد النفي، وجاز ذلك لأن جوابه لا يصح إلا بالنفي (¬4). ومضت نظائر كثيرة لهذا. والمراد بهذا الاستفهام التقريع والتوبيخ لمن جادل عن الخائنين. قال أبو إسحاق: كأنه قيل لهم: إن يقع (¬5) الجدال في الدنيا عن أمر هذا السارق فيوم القيامة لا ينفع فيه جدال ولا شهادة (¬6)؛ لأنه اليوم الذي يؤخذ [فيه] (¬7) بالحقائق. وقوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} معنى الوكيل في اللغة هو الذي جُعل له القيام بالأمر، ووكل إليه الأمر (¬8). وقوله: {أَمْ مَنْ يَكُونُ} عطف على استفهام معناه النفي، فهذا أيضًا ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96. (¬2) انظر: "البحر المحيط" 3/ 345، ونسب الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 118 أ، هذِه القراءة إلى أبي. (¬3) هذه هي القراءة المتواترة الموافقة لرسم المصحف. (¬4) انظر: الطبري 5/ 272، و"البحر المحيط" 3/ 345. (¬5) في "معاني الزجاج" 2/ 102: "إن يقم" بالميم. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 102. (¬7) ما بين المعقوفين غير واضح في المخطوط، وما أثبته قريب. (¬8) انظر: الطبري 5/ 272، و"مقاييس اللغة" 6/ 136، و"أساس البلاغة" 2/ 525 - 526، و"اللسان" 8/ 4909 - 4910 (وكل).

110

يكون بمعنى النفي، أي لا يكون يوم القيامة عليهم وكيل يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم (¬1). 110 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَه} قال ابن عباس: "عرض التوبة على طعمة بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} الآية (¬2). قال الزجاج: أعلم الله أن التوبة مبذولة في كل ذنب (¬3). وقال المفسرون: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} بالسرقة (¬4) {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بالشرك (¬5). والأولى أن يقال: هذا عام في كل معصية. وذكر ظلم النفس مع عمل السيئة -وكلاهما بمعنى واحد- توكيدًا وزيادةً للبيان. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ}. هذا ورد مطلقًا كما ترى من غير ذكر التوبة، وهو عند أهل العلم مقيد ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 3/ 345. (¬2) روي من طريق أبي صالح عن ابن عباس. انظر: "زاد المسير" 2/ 194. وقد ثبت عن ابن عباس ما يفيد عموم الآية لكل من تاب من ذنبه واستغفر منه، كما في الأثر عنه من طريق علي بن أبي طلحة قال: "أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا, ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. "تفسير ابن عباس" ص 158، وأخرجه الطبري 5/ 273. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 102. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 386، و"الكشف والبيان" 4/ 118 ب، و"زاد المسير" 2/ 194. (¬5) لم أجد من فسر الظلم هنا بالشرك إلا الزمخشري في "الكشاف" 1/ 297، وقد قال غير واحد إنه ما دون الشرك، انظر: "الكشف والبيان" 4/ 118 أ، و"زاد المسير" 2/ 194.

111

بالتوبة (¬1)؛ لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار (¬2). وقوله تعالى: {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]. معناه: غفورًا رحيمًا له (¬3)، لأن الله غفور رحيم، استغفر هذا الظالم أو لم يستغفر، فحذف له لدلالة الكلام عليه، وتلك الدلالة أنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا أن يكون على هذا الوجه. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} الآية الذين جادلوا عن طعمة (¬4). 111 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}. معنى الكسب: هو الفعل الذي يجتر به إلى النفس نفع، ويدفع به عنها ضر، ولذلك لم يجز في وصف الباري عز وجل. والإثم: هو القبيح الذي يوجب تبعة، والذنب: هو القبيح من الفعل، وقد يكون من غير تبعة، ولذلك يقال للصبي أذنب، ولا يقال: أثم. ومعناه: الرذل في الفعل، كالذنب الذي هو [إهلاك] (¬5) صاحبه. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} قال المفسرون: بين الله تعالى لما رغب العاصي في الاستغفار أن ضرر المعصية يلحقه، ولا يلحق الله تعالى من معصية العاصي ضرر، وأن ترغيبه إياه في الاستغفار (....) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 172، و"معاني الزجاج" 2/ 103، و"بحر العلوم" 1/ 386، و"الكشف والبيان" 4/ 118 أ، والبغوي 2/ 285، و"الكشاف" 1/ 297. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 103 (¬3) انظر: الطبري 5/ 173، و"الكشف والبيان" 4/ 118 أ. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ما بين المعقوفين غير واضح، وما أثبته قريب. (¬6) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط بسبب تآكل أو نحوه، ويمكن أن يقدر =

112

قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يريد [طعمة] (¬1) خاصة، لأن هؤلاء القوم الذين جادلوا عنه كانوا يظنون به خيرًا" (¬2). ومعنى هذا: أن الآثم إنما ضر بما فعل نفسه، لأنه لا يؤخذ غير الآثم بإثم الإثم (¬3). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} أي: بالسارق (¬4). {حَكِيمًا} بالقطع على طُعمة بالسرقة. قاله المفسرون (¬5). 112 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} قال الكلبي: لما نزلت هذه الآيات التي تقدمت عرف قوم طعمة الظالم، فأقبلوا عليه وقالوا: بؤ بالذنب واتق الله، فقال: لا والذي يُحلف به ما سرقها إلا اليهودي، فأنزل الله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} يقول يمينه الكاذبة، {أَوْ إِثْمًا} سرقته الدرع، ورميه بها اليهودي، {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} برميه البريء {وَإِثْمًا مُبِينًا} يعني: يمينه الكاذبة (¬6). وعلى هذا التفسير عادت الكناية في (به) إلى الإثم الذي هو رمي البريء لا إلى الخطيئة؛ لأنه رمى البريء بالسرقة لا بإثم اليمين الفاجرة. ¬

_ = بـ (استدعاء لما فيه مصلحته أو خبره) أو نحو ذلك، والله أعلم. (¬1) هذِه الكلمة ما بين المعقوفين غير واضحة في المخطوط، وما أثبته قريب. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 118 ب. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 118 ب. (¬5) يقصد شيخه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 118 ب. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 195، و"البحر المحيط" 3/ 346، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96.

وأما البهتان: فهو من البَهْت، وهو استقبالك أخاك بأمر تصفه به، وهو منه بريء. والاسم: البهتان (¬1)، قال: أإن رأيتَ هامتي كالطَّستِ ... ظَلِلْتَ ترمين بقولٍ بُهتِ (¬2) وذكرنا ما في هذا الحرف عند قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} [النساء: 20]. قال أبو علي الفارسي: "الخطيئة: تقع على الصغيرة والكبيرة، فالصغيرة: قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82]، والكبيرة: قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] " (¬3). فإن قلت: فكيف تقدير قوله: (خطيئةً أو إثمًا)، والخطيئة قد وقعت على الصغيرة والكبيرة، والإثم كذلك، فكأنه بمنزلة: ومن يكسب صغيرًا أو صغيرًا، أو: من يكسب كبيرًا، أو كبيرًا؟ قيل: الإثم قد وقع في التنزيل على ما يقتطعه الإنسان من مال لا يجوز له أن يقتطع من ماله (¬4)، كقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107] أي اقتطعوا بشهادتهما إثما، وإنما وقع اسم الإثم على ما يقتطعه الإنسان من غيره لوجهين: إما أن يكون أريد وذا إثم، أي ما اقتطعه مما أثم فيه من مال صاحبه أثم فيه، أو يكون سمي المقتطع إثمًا لما كان يؤدي آخذه إلى الإثم، كما سمي مظلمة لأنه يؤدي إلى الظلم. ¬

_ (¬1) "العين" 4/ 35، و"تهذيب اللغة" 1/ 400 (بهت). (¬2) مر هذا الرجز في بداية السورة. (¬3) "الحجة" 2/ 116. (¬4) قد يكون في الكلام سقط، وتمامه: "ما يقتطعه الإنسان من مال أحد لا يجوز له أن يقتطع من ماله".

113

فوقع الإثم في هذه الآية على المسروق، كما وقع عليه في قوله: {اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]، فإذا كان كذلك جاز أن يكون التقدير: ومن يكسب ذنبًا فيما بينه وبين الله سبحانه، أو ذنبًا هو من مظالم العباد. فهما جنسان، فجاز دخول (أو) في الكلام. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ}: فلان، المعنى: ثم يرم بأحد هذين، أو يكون عاد الذكر إلى الإثم وحده، كما عاد إلى التجارة في قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]. وهذا الذي ذكره أبو علي موافق لما ذكرنا من تفسير الآية. وقال ابن الأنباري: يجوز أن يعود الذكر إلى الكسب، أي: يرم بكسبه بريئًا. فدل يكسب على الكسب فكنىَّ عنه. قال: ويجوز أن تكون الهاء راجعة إلى معنى الخطيئة والإثم، فكأنه قال: ومن يكسب ذنبًا ثم يرم به بريئًا (¬1). وذكرنا معنى الخطيئة في قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81]. 113 - قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء: بالنبوة والعصمة (¬2). وقال الكلبي: بالنبوة، وبنصرك بالوحي، لهمَّت (¬3). وقال الفراء والزجاج: المعنى: لقد همَّت فأضمرت (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف على قول ابن الأنباري. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 196. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 96. (¬4) هذا نص قول الفراء في "معاني القرآن" 1/ 287، أما الزجاج فهذا معنى كلامه في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 104، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 118 ب.

وقوله تعالى: {طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} يعني قوم طعمة، هذا السارق، لأن بعضهم قد كان وقف على أنه سارق، ثم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجادل عنه، ويرمي بسرقته اليهودي (¬1). ومعنى: {يُضِلُّوكَ} يخطئوك في الحكم. قاله الزجاج (¬2) وغيره (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}. بتعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان. وقال الزجاج: لأنهم يعملون عمل الضالين (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}. لأن الضر على من شهد بغير حق (¬5). وقال الزجاج: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} مع عصمة الله إياك، ونصرة (¬6) دين الحق (¬7). وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يجوز أن يكون قوله: {وَأَنْزَلَ} ابتداءً في ذكر المنة، ويجوز أن تكون الواو للحال، مع إضمار قد، كما ذكرنا في قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 275، "معاني الزجاج" 2/ 103، " الكشف والبيان" 4/ 118 ب. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 104. (¬3) كالفراء في "معاني القرآن" 1/ 287، والنحاس في "معاني القرآن" 2/ 188، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 119 أ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 154، وانظر: "زاد المسير" 2/ 197. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 119 أ. (¬6) في المخطوط (ويضره)، وهو تصحيف ظاهر، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 104. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 104.

114

والمراد بالكتاب: القرآن، وبالحكمة القضاء بالوحي (¬1). وقال أبو إسحاق: أي بيّن لك في كتابه ما فيه من الحكمة [التي لا يقع لك معها ضلال] (¬2). 114 - قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية. النجوى في اللغة سر بين اثنين (¬3). قال الفراء: يقال: ناجيت الرجل مناجاةً ونجاءً، والقوم ينتجون ويتناجون، ويقال: نجوت الرجل نجوًا نجوًا، بمعنى ناجيته، وأنشد: فقال فريق القوم لا إذ نجوتُهم ... وقال فريق أيمن الله ما ندري (¬4) ومن هذا قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة: 7] أي سرهم. وقد يكون النجوى مصدرًا بمنزلة المناجاة (¬5)، والنجوى أيضاً القوم المنتجون اسم لهم، قال الله تعالى {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47] (¬6). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 119 أ. (¬2) ما بين القوسين طمس في (ش)، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 104. (¬3) قال الجوهري: "النجو: السر بين اثنين، يقال: نجوته نجوًا، إذا ساررته، وكذلك: ناجيته" "الصحاح" 6/ 2503 (نجا)، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 104. (¬4) هذا المستفاد من الفراء لم أجده في "معاني القرآن" عند تفسيره هذه الآية فقد يكون في كتابه المفقود: "المصادر". والبيت لنصيب بن رباح وهو من شواهد سيبويه في الكتاب 3/ 503، 4/ 148، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 106, 115، و"الإنصاف" ص 344. وفي أكثرها "لما نشدتهم" بدل: "إذ نجوتهم" وفي جميعها: "ليمن" بدل: "أيمن". (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3509 (نجو). (¬6) انظر: الطبري 5/ 276، و"الصحاح" 6/ 2503 (نجا).

وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} ذكر النحويون في محل {مَنْ} وجوها، تلك الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن تكون {مَنْ} في موضع النصب، لأنه استثناء الشيء من خلافه، فيكون نصبًا كقوله: إلا أواري (¬1). ويجوز أن يكون رفعًا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس (¬2) كقوله: إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ (¬3) وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف، فقال: التقدير: إلا في نجوى من أمر بصدقة، ثم حذف المضاف (¬4). وعلى هذا التقدير يكون من في محل النجوى، لأنه أقيم مقامه، ويجوز فيه وجهان: أحدهما: أن الخفض بدلًا من نجواهم، كما تقول: ¬

_ (¬1) من بيت للنابغة الذبياني يقول فيه: "وقفت فيها أصيلًا لا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا الأواريَّ لأيًا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد" "الكتاب" 2/ 321، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 288، والطبري 5/ 276 - 277، و"أشعار الستة الجاهلين" 1/ 188. والأواري جمع: آري، وهو محبس الدابة ومعلفها. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 288، والطبري 5/ 277، و"معاني الزجاج" 2/ 106. (¬3) عجز بيت لجران العود النميري، وصدره: "وبلدة ليس بها أنيس". "الكتاب" 2/ 322، و "معاني الفراء" 1/ 288، والطبري 5/ 277. واليعافير: جمع يعفور وهو ولد الظبية، والعيس: بقر الوحش. (¬4) لعل المقصود أن هذا رأي الزجاج، حيث وجدت نحوه في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 106، ولم أجد "مجاز القرآن" لأبي عبيدة شيئًا من ذلك.

ما مررت بأحد إلا زيد، والثاني: النصب على الاستثناء، كما تقول: ما جاءني أحدًا (¬1) إلا زيدًا، فهذا استثناء الجنس من الجنس (¬2). وإن جعلت النجوى اسمًا للقوم المنتجين كان منصوبًا على الاستثناء، لأنه استثناء الجنس من الجنس. ويجوز أن يكون في محل الخفض من وجهين: أحدهما: أن تجعله تبعًا لكثير، على معنى: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا نفر منهم. والثاني: أن تجعله تبعًا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيدًا، إن شئت أتبعت زيدًا لجماعة، وإن شئت أتبعته القوم. وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء (¬3) والزجاج (¬4) وغيرهما من النحويين (¬5). فأما التفسير: فقال ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح: المراد بالنجوى: نجوى قوم طعمة (¬6). قال مقاتل: تناجوا في شأن طعمة، فأنزل الله هذه الآية (¬7). ومعنى الآية: أن الله تعالى لم يجعل فيما يتسارون بينهم خيرًا إلا فيما استثنى من الأمر بالصدقة والحث عليها (¬8). ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط بالنصب، والظاهر أنه بالرفع على الفاعلية. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 452. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 288. (¬4) في "معاني القرآن" 2/ 106. (¬5) انظر: الطبري 9/ 202، 203، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 452، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 208، و"الدر المصون" 4/ 89. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 119 ب، و"زاد المسير" 2/ 198، و"تنوير المقباس" ص 97. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 406، و"زاد المسير" 2/ 198. (¬8) "الكشف والبيان" 4/ 119 ب، وانظر: "زاد المسير" 2/ 199.

{أَوْ مَعْرُوفٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد صلة رحم وبطاعة الله (¬1). وقال فيما روى الكلبي عن أبي صالح عنه: يقول: أقرض إنساناً (¬2). ونحو ذلك قال مقاتل، يعني بالمعروف القرض (¬3). ويقال لأعمال البر كلها معروف؛ لأن العقول تعرفها، وأهل الصلاح والدين يعرفونها لملاِبستهم لها، وعملهم بها (¬4). وقوله تعالى: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذا مما حث عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأبي أيوب الأنصاري (¬5): "ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟ " قال: نعم يا رسول الله. قال: "تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا" ذكره ابن عباس في تفسير هذه الآية (¬6). قال مجاهد: "هذه الآية عامة للناس" (¬7). يريد أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 119 ب، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 200، و"الدر المنثور" 2/ 388، وقد عزاه السيوطي إلى كل من ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) انظر: البغوي 2/ 286، و"زاد المسير" 2/ 200. (¬5) هو الصحابي الجليل خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، وقد اشتهر بكنيته، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حين قدم المدينة مهاجرًا، وقد مات رضي الله عنه غازيًا الروم سنة 50 هـ وقيل بعدها. انظر: "أسد الغابة" 2/ 94 - 96، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 402، و"الإصابة" 1/ 405 (2163)، و"التقريب" ص 188 رقم (1633). (¬6) ذكره الهيثمى في "مجمع الزوائد" 8/ 79، 80 بنحوه، وعزاه لكل من الطبراني والبزار، وذكر أن في كل من سنديهما متروكًا، وانظر: ابن كثير 1/ 610، و"الدر المنثور" 2/ 392. (¬7) انظر: البغوي 2/ 286، و"زاد المسير" 2/ 198.

115

يدل على هذا ما روت أم حبيبة (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله" (¬2). وروي أن رجلاً قال لسفيان: ما أشد هذا الحديث؟ فقال سفيان: ألم تسمع الله يقول: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} فهو هذا بعينه؟ أو ما سمعت الله يقول: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] فهو هذا بعينه (¬3). ثم أعلم الله أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند الله فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ}؛ لئلا يُتوهم أن من يفعله للناس (...... (¬4)) عليهم داخل في هذا الوعد. قال الزجاج: ونصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}. قال: وهو راجع إلى تأويل المصدر [كأنه قال: ومن يبتغ ابتغاء مرضات الله] (¬5). 115 - قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} الآية. ذكرنا معنى الشقاق والمشاقة في سورة البقرة. ¬

_ (¬1) هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشية، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما تنصر زوجها عبد الله بن جحش وهما في الحبشة، ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عامًا، وماتت سنة 44 هـ. انظر: "الاستيعاب" 4/ 401، و"أسد الغابة" 7/ 115، و"الإصابة" 4/ 305. (¬2) أخرجه ابن ماجه (3974) كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة، وابن مردويه. انظر: ابن كثير 2/ 392. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 707، و"التفسير الكبير" 11/ 42. (¬4) طمس في المخطوط بقدر ما بين أو أربع كلمات. ويمكن أن يقدر: (مراءاةً لهم وتمويهًا) عليهم ... (¬5) طمس في (ش) بمقدار ما بين المعقوفين، والتسديد من "معاني الزجاج" 2/ 106.

قال ابن عباس: "ثم حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طعمة بالقطع، فخاف على نفسه الفضيحة، فهرب إلى مكة ولحق بالمشركين، ونزل قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي: يخالفه" (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} قال ابن عباس: "يريد الإيمان بالله ورسوله" (¬2). وقال الزجاج: لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله عز وجل في أمره، وأظهر من سرقته، من الآية ما فيه بلاغ، فعادى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصار إلى مكة (¬3). وقال غيره: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} تفحيش لحال طعمة، وبيان أنه معاند للرسول ومخالف بعد ثبوت الحجة وقيام الدليل (¬4). وقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: "يريد غير دين الموحدين". وذلك أن طعمة ترك دين الإسلام، وخالف المسلمين، واتبع دين أهل مكة، عبادة الأوثان (¬5). قال العلماء: هذه الآية من أقوى الحجج على صحة الإجماع (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 120 أ، و"الوسيط" 2/ 707، والبغوي 2/ 287، و"زاد المسير" 2/ 200. (¬2) انظر. "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 106، وانظر: الطبري 5/ 277، و"الكشف والبيان" 4/ 120 أ، والبغوي 2/ 287. (¬4) لم أقف بعد البحث على قائله. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 387، و"الكشف والبيان" 4/ 121 أ، و"الأحكام" للآمدي 1/ 200، والقرطبي 5/ 386، وابن كثير 1/ 611.

واحتج به (¬1) الشافعي رحمه الله، وكان قد سئل عن دليل من كتاب الله على صحة الإجماع، فتلا هذه الآية (¬2). ووجه الاحتجاج هو أن الله تعالى أوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين (كما أوعد على مشاقة الرسول عليه السلام، فسوى بين مخالفة سبيل المؤمنين) (¬3) وبين مشاقة الرسول بعد تبين الهدى (¬4). والآية وإن نزلت في خائن الدرع فهي عامة لكل من لزمه هذا الوصف. وقوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} قال الزجاج: ندعه وما اختار لنفسه (¬5). وقال غيره: نكله إلى ما انتصر به واتكل عليه (¬6). وقال بعض المفسرين: هذا منسوخ بآية السيف، لأنه لا يقرُّ الآن عابد لوثن على ما هو عليه، ولا يولى ما تولَّى (¬7). وقوله تعالى: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} تأويله: نلزمه جهنم (¬8)، وأصله ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، فلعل الصواب: "بها". (¬2) ورد في "الرسالة" ص 471 - 476، سؤال للشافعي عن حجية الإجماع، وأجاب الشافعي رحمه الله عن ذلك محتجًا بالسنة والنظر، لكن لم يرد ذكر لهذِه الآية. وقد ذكر احتجاج الشافعي بهذِه الآية على الإجماع: الآمدي في الأحكام 1/ 200، وأبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 350، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 611. (¬3) ما بين القوسين تكرر في المخطوط، ولعله سهو من الناسخ. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 387، 388، و"الأحكام" للآمدي 1/ 200، وابن كثير 1/ 611. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 107. (¬6) انظر: الطبري 5/ 277، و"بحر العلوم" 1/ 388، و"الكشف والبيان" 4/ 120 أ. (¬7) لم أجد هذا القول في كتب التفسير ولا "الناسخ والمنسوخ". (¬8) قال الطبري 5/ 277: ("ونصله جهنم" يقول: ونجعله صلاء نار جهنم، يعني: نحرقه بها).

116

الصِّلا، وهو لزوم النار للاستدفاء (¬1). ذكرنا هذا فيما تقدم (¬2). وقوله تعالى: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} انتصب (مصيرًا) على التمييز (¬3)، كقولك: هند طابت نفسًا، وكذلك ساءت جهنم موضعًا يصار إليه (¬4). 116 - قال المفسرون: ثم إن طعمة نقب منزل الحجاج بن عُلاط (¬5) بمكة ليسرق مالاً له مدفونًا، قد عرف موضعه، فأخذ ليُقتل، ثم قيل: دعوه فإنه قد لجأ إليكم، فتركوه، وأخرجوه من مكة، فنزل في حرة بني سليم، وكان يعبد صنمًا لهم إلى أن مات، وأنزل الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] (¬6). قال ابن عباس: "يريد طعمة بن أبيرق، حيث أشرك بالله" (¬7). وهذه الآية نص صريح في أن الله تعالى لا يغفر الشرك ما أقام المشرك عليه. ¬

_ (¬1) وقال الفراء: الصِّلاء اسم للوقود، وهو الصلا. (¬2) عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 453، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 208. (¬4) انظر: الطبري 5/ 278. (¬5) هو أبو كلاب الحجاج بن علاط بن خالد بن ثويرة السلمي، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، فأسلم وسكن المدينة واختط بها دارًا ومسجدًا، وقد توفي رضي الله عنه في خلافة عمر، وقيل بعدها. انظر: "الاستيعاب بحاشية الإصابة" 1/ 385، و"أسد الغابة" 1/ 456، و"الإصابة" 1/ 313. (¬6) من "الكشف والبيان" 4/ 120 أ، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 388، والبغوي 2/ 287، و"زاد المسير" 2/ 200 ونسب هذا القول لمقاتل. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 202، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97.

فإن قيل: أليس يغفرها بالتوبة؟ فلم أطلق القول بأنه لا يغفر أن يُشرك به؟ قيل: إنه بمعنى أنَّ الله لا يغفر للمشرك به، وإذا تاب المشرك زال عنه هذا الوصف، وُيسمى مشركًا ما أقام على الشرك، ويقول (¬1) هذا الإطلاق مقيد بالآيات الدالة على قبول التوبة، كقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} [الأنفال: 38]، وقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 62]. قال أهل العلم: وكل كافر فهو مشرك، وإن لم يعبد مع الله غيره، وكل من حكمنا بكفره جاز أن نسميه مشركًا، لأنه قد بلغ بعظم جرمه مبلغ جرم المشرك في عبادة الله عز وجل، كما أن من تكبر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخضع لنبوته كافر، وإن لم يجحد نبوته. قال الزجاج: إنَّ كل كافر مشرك بالله، لأن الكافر إذا كفر بنبي فقد زعم أن الآيات التي أتى بها ليست من عند الله، فيجعل ما لا يكون إلا لله عز وجل لغير الله، فيصير مشركًا (¬2). وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. قال ابن عباس: "يغفر ما دون الشرك لأهل التوحيد" (¬3). قال العلماء من أهل التفسير: لما أخبر الله تعالى أنه يغفر الشرك بالتوبة، علمنا يقينًا أنه يغفر أيضًا ما دون الشرك بالتوبة، فهذه المشيئة في ¬

_ (¬1) هكذا هذِه الكلمة في المخطوط، ولعل الصواب: "ويكون" وتكون كلمة "مقيد" بعد ذلك منصوبة خبر يكون. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 107. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97

117

ذنوب لم يتب منها صاحبها (¬1). وإنما أبهم الله فيما دون الشرك، وقيد بالمشيئة، لئلا يأمن صاحب الكبيرة. ثم أنزل الله في أهل مكة: 117 - قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} (¬2). (إن) ههنا معناه النفي (¬3)، وهو كثير في القرآن بمعنى النفي، كقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] وأشباه هذا كثير. ويدعون ههنا معناه: يعبدون. (.........) (¬4) ابن عباس في تفسيره: "يريد: إن يعبدون" (¬5). قال الزجاج: وكذلك قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] أي اعبدوني، يدل على ذلك قوله في عقبه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] (¬6). وقوله تعالى: {إِلَّا إِنَاثًا} قال ابن عباس: يعني: عبادتهم الأوثان، اللات والعزى ومناة وأشباهها من الآلهة التي كانوا يعبدونها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 60. (¬2) انظر: الطبري 5/ 278، و"بحر العلوم" 1/ 389، و"زاد المسير" 2/ 203. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 191، و"بحر العلوم" 1/ 389. (¬4) ما بين القوسين غير واضح بقدر كلمتين، ويحتمل: "وقد قال" أو "وروي عن". (¬5) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 108، وانظر: البغوي 2/ 188. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. والثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في "تفسيره" ص 158 قال: "وقوله (إناثًا) يقول: ميتًا، وأخرجه الطبري 5/ 279 من طريق ابن أبي طلحة أيضًا وكذا ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 394.

وهذا قول السدي (¬1) ومجاهد (¬2) والكلبي (¬3) والفراء (¬4) وعبد الله بن مسلم (¬5)، وكثير من أهل التأويل (¬6). قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه، يسمونه: أنثى بني فلان، فأنزل الله تعالى: {إِلَّا إِنَاثًا} (¬7). يدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس: (إلا أُثُنًا) جمع وثن (¬8)، مثل: أسدَ وأسدْ، ثم أبدل من الواو المضمومة همزة، نحو: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] (¬9). قال الزجاج: وجائز أن يكون: أُثُن، وأصلها: أُثْن، فأتبعت الضمة (¬10). وقيل في معنى قوله: {إِلَّا إِنَاثًا}: إلا أمواتًا. وهو قول مقاتل (¬11) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 279، وانظر: "زاد المسير" 2/ 203. (¬2) سر مجاهد الإناث بالأوثان كما في "تفسيره" 1/ 174، وأخرجه الطبري 5/ 280، وانظر: "زاد المسير" 2/ 203. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. (¬4) في "معاني القرآن" 1/ 288. (¬5) ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص130. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 121 ب. (¬7) أخرجه الطبري 5/ 279، وانظر: "زاد المسير" 2/ 203، و"الدر المنثور" 2/ 394. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 1/ 288، والطبري 5/ 280. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 288، والطبري 5/ 280، و"معاني الزجاج" 2/ 108، و"زاد المسير" 2/ 202، 203. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 108 وفيه: "فأتبعت الضمة الضمة"، وانظر: "زاد المسير" 2/ 203. (¬11) "تفسيره" 1/ 407.

وقتادة (¬1) والضحاك (¬2). واختلفوا لم سمي الموات إناثًا؟ فقال أبو عبيدة: الموات لا روح فيه كالخشبة والحجر والمدر ونحوها (¬3). "وكانت آلهتهم مواتًا، والموات كلها يُخبر عنها كما يخبر عن المؤنث، تقول: من ذلك الأحجار تعجبني، كما تقول: المرأة تعجبني ولا تقول: تعجبونني، فلهذا أطلق اسم الإناث على آلهتهم إذ كانت مواتًا" (¬4). وقال غيره (¬5): لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي في القناع المنزلة تسمى إناثًا، لأن الإناث من كل شيء أرذله (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا إِنَاثًا}: "زعموا أن الملائكة بنات الله، وهم شفعاؤنا عنده" (¬7). وقال ابن زيد: " {إِلَّا إِنَاثًا} بزعمهم، وذلك أنهم زعموا أن الملائكهَ بنات الله، وأن الأصنام بنات الله، فزعموا أنها إناث" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 5/ 279، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 121 ب، و"زاد المسير" 2/ 203، و"الدر المنثور" 2/ 394. (¬2) ما وقفت عليه عن الضحاك هو أن المراد "الملائكة". أخرجه الطبري 5/ 279، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 394. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 140 بنحوه، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 121 ب. (¬4) من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 110 بتصرف يسير، وانظر. "الكشف والبيان" 4/ 121 ب، و"زاد المسير" 2/ 203. (¬5) الضمير يعود إلى أبي عبيدة أو الزجاج، وهو وإن لم يذكر الزجاج إلا أن النص الأخير منه. ولعل هذا القائل هو الطبري. انظر: "تفسير الطبري" 5/ 280. (¬6) انظر: الطبري 5/ 280. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) ما وقفت عليه عن ابن زيد كالقول الأول أن المراد الأصنام خاصة، فقد أخرج الطبري عنه قال: قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] قال:=

نظيره: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57]. وقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} قال المفسرون: كان في كل واحدة من آلهتهم شيطان يترايا (¬1) للسدنة والكهنة يكلمهم (¬2). والمعنى: ما يعبدون بعبادتهم لها إلا شيطانا مريدًا، لطاعتهم له في عبادتها، فتلك العبادة ليست للأوثان، بل هي للشيطان. وقال الزجاج: يعني بالشيطان ههنا إبليس، لأنهم إذا أطاعوه بما سول لهم فقد عبدوه (¬3). وهذا هو القول، لأن ما بعد هذه الآية يدل على أن المراد بالشيطان في هذه الآية إبليس، ويحتمل أن ما قاله المفسرون من ترائي الشيطان للسدنة أرادوا به إبليس. وقوله تعالى: {مَّرِيدًا}. قال ابن عباس: "يريد يتمرد على الله بالعصيان مرة بعد مرة" (¬4). قال ابن الأعرابي: التمرد (¬5) التطاول بالكبر والمعاصي (¬6). ¬

_ = آلهتهم، اللات والعزى ويساف ونائلة، إناث يدعونهم من دون الله". "تفسير الطبري" 5/ 279. (¬1) هكذا في المخطوط يترايا , ولعل الصواب: "يتراءى". (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 389، و"الكشف والبيان" 4/ 121 ب، و"زاد المسير" 2/ 203، و"الدر المنثور" 2/ 394. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 108. (¬4) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. وقد قال بنحو هذا القول قتادة. انظر: الطبري 5/ 280، و"الدر المنثور" 2/ 394. (¬5) في "تهذيب اللغة" 4/ 3373 (مرد): المرد. (¬6) في "تهذيب اللغة" 4/ 3373 (مرد).

118

وقال الليث: المرادة مصدر المارد، والمريد من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا ومرد على الشر (¬1)، وتمرد أي عتا وطغى (¬2). والمريد الخبيث، المتمرد الشرِّير، وشيطان مارد ومريد، واحد (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى مريد خارج عن الطاعة متملص منها، يقال: حائط ممرَّد، أي مملس، ويقال شجرة مرداء، إذا تناثر ورقها , ولذلك سُمى من لم تنبت له لحية أمرد، أي أملس موضع اللحية، ومرد الرجل يمرد مرودًا ومرادة، إذا عتا وخرج عن الطاعة (¬4). 118 - قوله تعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ} قال ابن عباس: يريد [دحره] (¬5) الله وأخرجه من الجنة (¬6). قوله تعالى: {وَقَالَ} يعني: إبليس: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} قد ذكرنا معنى الفرض عند قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]. وقال ابن السري (¬7) في هذه الآية: أصل الفرض في اللغة القطع، ¬

_ (¬1) في "العين" 8/ 37: الشيء. (¬2) "العين" 8/ 37، و"تهذيب اللغة" 4/ 3373 (مرد). (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3373، وانظر: "اللسان" 7/ 4172 (مرد). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 108، وانظر: "زاد المسير" 2/ 203. (¬5) في المخطوط: "دحر الله" وهو خطأ ظاهر. وقد جاءت العبارة كما أثبتها في "الوسيط" 2/ 710. (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 122 أ، دون نسبة لابن عباس، إلا أن ابن الجوزي نسبه إليه في "زاد المسير" 2/ 204. (¬7) هو الزجاج, انظر: "معانيه" 2/ 109.

والفُرْضة الثُّلمةُ تكون في النهر، تقول: سقاها بالفِراض والفُرض، والفرضُ: الحز الذي يكون في (المسواك) (¬1)، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة ما افترض الله عز وجل فجعله أمرًا حتمًا عليهم قاطعًا، وكذلك قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] أي جعلتم لهن قطعة من المال. قال: ومعنى مفروض في هذه الآية: أي أفترضه على نفسي (¬2). وقال الفراء: ما جعل له عليه السبيل فهو كالمفروض (¬3). وقال ابن عباس: يريد من اتبعه وأطاعه (¬4). وقال الكلبي والضحاك: [نصيبًا مفروضًا] (¬5) أي معلومًا (¬6). قال أهل العلم: إنما اتخذ الشيطان من العباد النصيب المفروض بإغوائهم (¬7) إياهم، وتزيينه لهم الفواحش حتى يرتكبوها، فيكونوا بذلك من نصيبه المفروض وحظه المقسوم، فعلى هذا كل من أطاع إبليس فهو من مفروضه (¬8). ¬

_ (¬1) غير واضحة في المخطوط، والاعتماد على "معاني الزجاج". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 109، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 132، و"معاني القرآن" للنحاس 2/ 193، و"الكشف والبيان" 4/ 122 أ، و"زاد المسير" 2/ 204. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 289، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 122 أ. (¬4) في "تنوير المقباس" ص 97: "فما أطيع فيه فهو مفروضه مأموره". وقد أورد المؤلف قول ابن عباس هذا في "الوسيط" 2/ 710. (¬5) ما بين المعقوفين قد طمس في المخطوط، والتسديد من "الوسيط" 2/ 710. (¬6) قول الكلبي في "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. أما عن الضحاك فأخرجه الطبري 5/ 281 من طريق جويبر وهو ضعيف جدًّا. (¬7) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: بإغوائه. انظر: الطبري 5/ 281. (¬8) انظر: الطبري 5/ 281، و"الكشف والبيان" 4/ 122 أ.

119

119 - قوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}. قال ابن عباس: "يريد من (¬1) سبيل الهدى" (¬2). وقال الكلبي: لأضلنهم عن الحق (¬3). {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ}. قال ابن عباس: يريد تسويف التوبة وتأخيرها (¬4). وقال الكلبي: أمنينهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث (¬5). الزجاج: أي أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون من الآخرة حظا (¬6). وقال غيره: ولأمنينهم ركوب الأهواء الداعية لهم إلى العصيان (¬7). وقيل: ولأمنينهم طول البقاء في نعيم الدنيا؛ ليؤثروها على الآخرة (¬8). وقوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ}. البتك: القطع (¬9)، وسيف باتك: قاطع، وسيوف بواتك: قواطع، والتبتيك: التقطيع (¬10). ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط: "من" بالميم، وفي "الوسيط" 2/ 710: "عن" بالعين وهو أصوب. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 204، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 97. (¬3) لم أقف عليه، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 22 ب. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 205. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 97، ونسب هذا القول لابن عباس. انظر: "زاد المسير" 2/ 205. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 109، وانظر: "زاد المسير" 2/ 205. (¬7) انظر: الطبري 5/ 281. (¬8) هذا قول الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 530. (¬9) الطبري 5/ 281، و"تهذيب اللغة" 1/ 271 (بتك). (¬10) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 271، و"مقاييس اللغة" 1/ 195، و"اللسان" 1/ 206 (بتك).

وهو في هذا الموضعِ: قطع آذان البحيرة عند جميع أهل التفسير (¬1). وقوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}. قال ابن عباس: يريد دين الله (¬2). وهو قول إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك وقتادة والسدي وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير (¬3). ومعنى تغيير دين الله على ما ذكره أهل العلم: هو أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم، وآمنوا، فمن كفر فقد غيّر فطرة الله التي فطر الناس عليها (¬4). وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، ويُنصرانه، ويمجسانه" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 173، والطبري 5/ 281، و"معاني الزجاج" 2/ 109، و"بحر العلوم" 1/ 389، و"الكشف والبيان" 4/ 122 ب، و"النكت والعيون" 1/ 530، و"زاد المسير" 2/ 205، و"الدر المنثور" 2/ 396. (¬2) "تفسيره" ص 158، وأخرجه الطبري 5/ 283 من طريق ابن أبي طلحة أيضًا. (¬3) أخرج الأقوال عنهم الطبري 5/ 283 - 285، إلا الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، أما الحسن فإنه فسره بالوشم كما سيأتي. وانظر: الطبري 5/ 285، وأما سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير فقد ذكره عنهما ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 205، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 389، و"الكشف والبيان" 4/ 122 ب، والبغوي 2/ 289. (¬4) انظر: الطبري 5/ 285، و"الكشف والبيان" 4/ 122 ب. (¬5) أخرجه البخاري (1358) كتاب: الجنائز، باب: إذا اسم الصبي فمات هل يصلي عليه؟، وفيه: "أو ينصرانه أو يمجسانه".

وقال بعضهم: معنى تغيير دين الله هو تبديل الحرام حلالًا، والحلال حرامًا (¬1). وروي عن أنس وشهر بن حوشب (¬2) وعكرمة وأبي صالح، أن معنى تغيير خلق ههنا: هو الخصاء، وقطع الآذان، وفقء العيون، لهذا كان أنس يكره خصاء الغنم (¬3). وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفًا، عوروا عين فحلها. وروى يونس (¬4) عن الحسن قال: هو الوشم (¬5). يعني ما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الواشمة والمستوشمة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 205. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) أخرج الآثار عنهم الطبري 5/ 282 - 283، لكن فيها الاقتصار على الإخصاء، دون قطع الآذان وفقء العيون، وانظر: "زاد المسير" 2/ 205. ولعل المؤلف زاد قطع الآذان وفقء العيون من "الكشف والبيان" 4/ 122 ب. (¬4) هو أبو عبد الله يونس بن عبيد بن دينار العبدي البصري، من صغار التابعين وفضلائهم، كان إماما قدوة ثبتًا فاضلًا، توفي رحمه الله سنة 139هـ. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 150، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 288، و"التقريب" ص 613 رقم (7909). (¬5) أخرجه الطبري 5/ 285، وانظر: "زاد المسير" 2/ 205، و"الدر المنثور" 2/ 396. والوشم هو: "أن يغرز الجلد بإبرة، ثم يحشى بكحل أو نيل، فيزرق أثره أو يخضر" "النهاية في غريب الحديث" 5/ 189. (¬6) أخرج البخاري (5947) كتاب: العباس، باب: المستوشمة عن ابن عمر رضي الله عنها قال: "لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة". وأخرجه مسلم (2124) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة. والواشمة التي تقوم بفعل الوشم بغيرها. والمستوشمة التي تطلب ذلك.

وقال أبو زيد: هو التحنت (¬1). وقال أبو إسحاق: معناه أن الله عز وجل خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها، فحرموها على أنفسهم، كالبحائر والسوائب والوصائب، وخلق الشمس والقمر سخرةً للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون، فغيروا خلق الله (¬2). والأظهر هو القول الأول، لأنه يدخل فيه كل ما نهى الله عنه، وكل من ارتكب محظورًا، أو أتى منهيًّا، فقد غير دين الله (¬3). قال العلماء من أهل التأويل: إن إضلال إبليس تمنية وتزيين ووسواس، ليس له من الضلالة شيء (¬4)، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق إبليس مزينًا, وليس إليه من الضلالة شيء" (¬5). ولما علم أن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا قال: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] يريد أهل النار (¬6)، وقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} الآية، ولو كان شيء من الضلالة إليه سوى الدعاء إليها لأضل جميع الخلق عن الهدى (¬7). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} يريد من يُطعه فيما يدعو إليه من الضلال، فكل من أطاعه فهو ولي له وإن لم يقصد ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 3/ 353. وهكذا هذِه الكلمة جاءت في المخطوط، وعند أبي حيان، ولم أجد لها معنى، وقد يكون الصواب: "التخنث". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 110، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 122 ب. (¬3) وهذا ما اختاره الطبري 5/ 285، والزجاج في "معانيه" 2/ 110. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 123 أ، و"زاد المسير" 2/ 204. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر. "الكشف البيان" 4/ 123 أ، و"زاد المسير" 2/ 207. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 123 أ.

120

أن يتولاه، كما يكون مطيعًا له وإن لم يقصد أن يطيعه، بموافقته لإرادته، وإجابته إلى ما دعاه إليه، فهو يعمل عملًا يُعينه عليه الشيطان، وكان الشيطان له وليًا ناصرًا معينًا. 120 - قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ} قال أهل المعاني: معنى وعد الشيطان ما يصل مفهومه إلى قلب الإنسان، من نحو ما يجده من أنه سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذتك، وستعتلي على أعدائك، فإنما الدنيا دول، فستدور لك كما دارت لغيرك (¬1). وكل هذا غرور وتمنية وتطويل للأمل، وسيهجم عن قريب علي (¬2) الأجل، وقد أبطل أيام عمره في رجاء ما لم يدرك منه شيئًا، فالعاقل من لم يعرج على هذا، وجدًّ في الطاعة ما أمكنه، وعلم أنه سينقطع عن الدنيا قريبًا، وعدّ نفسه من الموتى [وصدق] (¬3) الله في قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} أي: إلا ما يغرهم بإيهام النفع فيما فيه الضر (¬4). وذكر في عدة من كتب التفسير {يَعِدُهُمْ} ألا يلقون خيرًا، {وَيُمَنِّيهِمْ} الفقر، فلا ينفقون في خير (¬5). وهذا صحيح في المعنى، من حيث إن الشيطان قد يخوف الإنسان بالفقر، فيمسك عن الإنفاق في الطاعة، ولكنه باطل من حيث اللغة؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 2/ 289، و"زاد المسير" 2/ 207، والقرطبي 5/ 395. (¬2) هكذا في المخطوط بالياء، ولعلها: "على" بدون ياء، وانظر: "الوسيط" 2/ 713. (¬3) بياض في المخطوط، والتسديد من "الوسيط" 2/ 713. (¬4) انظر: "الوسيط" 2/ 713. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 122 ب، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 389، و"معالم التنزيل" 2/ 289، والقرطبي 5/ 395.

121

الوعد إنما يستعمل في الخير، وما يكون في الشر قيل فيه: يوعد، هذا هو الصحيح، وإن كان يستعمل الوعد في الشر نادرًا (¬1). والتمنية معناه: تسويل المنية، وهي ما يتمناه الإنسان، ولا يتمنى الفقر، إنما يتمنى الغنى وكثرة المال في غالب العادة. 121 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ}. يعني: الذين اتخذوا الشيطان وليًا من دون الله (¬2). {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}. مرجعهم ومصيرهم (¬3). {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}. يحتمل وجهين: أحدهما: لا بد لهم من ورودها. والثاني: التخليد الذي أوعد به الكفار، فلا يخرجون عنها، ولا يجدون منها ملجأ (¬4). والمحيص: المعدل، حاص عن الأمر إذا عدل عنه (¬5). قال الفراء: يحيى حيوصًا ومحاصًا وحيصًا وحيصانًا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3915، و"الصحاح" 2/ 551 (وعد). (¬2) انظر: الطبري 5/ 286. (¬3) انظر: الطبري 5/ 287. (¬4) الوجه الأول هو قول عامة المفسرين، وأن المعنى لا معدل لهم عنها، أما الوجه الثاني بأن المعنى التخليد في النار فهو حسب اطلاعي من تفرد المؤلف به، وإن كان يدخل في الوجه. انظر: الطبري 5/ 287، و"معاني الزجاج" 2/ 111، و"معاني النحاس" 2/ 197. (¬5) انظر: الطبري 5/ 287، و"معاني النحاس" 2/ 197. (¬6) ليس في "معاني القرآن"، وانظر: الطبري 5/ 287

123

123 - قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (¬1). اختلفوا في نزول هذه الآية: فقال مجاهد وابن زيد: نزلت في كفار قريش وأهل الكتاب، قالت قريش: لا نُبعث ولا نُحاسب، وقالت اليهود: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة (¬2). وقال مسروق والسدي وقتادة والضحاك: نزلت في المسلمين وأهل الكتاب (¬3). قال أهل المعاني: معنى الآية: ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} الآية، {بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَاب} أي ليس يُستحق بالأماني، إنما يُستحق بالإيمان والعمل الصالح (¬4). وهذا معنى قول الزجاج (¬5)، قال: اسم ليس مضمر، المعنى ¬

_ (¬1) هذِه هي الآية الثالثة والعشرون بعد المائة من سورة النساء، وقد ذُكرت هكذا في المخطوط بعد الآية (121) وتركت الآية (122)، ويحتمل أن المؤلف لم يتعرض لها، فقد قال في "الوسيط": "قوله عز وجل:- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 122] ظاهر إلى قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} "الوسيط" 2/ 114. (¬2) أخرجه بنحوه عن مجاهد وبمعناه عن ابن عباس وابن زيد: الطبري 5/ 289 - 290، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 123 أ. (¬3) أخرجه بمعناه عنهم الطبري 5/ 288 - 291، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 123 ب واختار الطبري القول الأول معللًا لذلك بقوله: "لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم، ذكر فيما مضى في الآي قبل قوله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} [النساء:119] وقوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} ... " "تفسير الطبري" 5/ 291. (¬4) كأن هذا ترجيح للقول الأول في المراد بالضمير في "أمانيكم"، وهو قوي. (¬5) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 111، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 197، و"بحر العلوم" 1/ 390.

ليس ثواب الله بأمانيكم (¬1). وقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} اختلفوا في معناه: فقال الحسن وابن زيد: هذا في الكفار خاصة؛ لأنه يجازون بالعقاب على الصغير والكبير (¬2). وقال الضحاك في هذه الآية: يقول: ليس لكم ما تمنيتم، وليس لأهل الكتاب ما تمنوه، من عمل سوءًا شركًا فمات عليه يُجز به النار (¬3). وقال مقاتل بن حيان: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} بلغنا أنه الشرك (¬4). وقال الحسن في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} قال: هو الكافر، لا يجزي الله المؤمن يوم القيامة عمله، ولكن المؤمن يُجزى بأحسن عمله، ويتجاوز عن سيئاته، ثم قرأ: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]، وقرأ أيضًا: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] (¬5). وقال سعيد بن جبير: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} بغير الشرك (¬6). ويدل على أن المراد بهذه الآية الكفار دون المؤمنين قوله تعالى: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 111، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 197، و"بحر العلوم" 1/ 390، و"الكشف والبيان" 4/ 123 ب. (¬2) أخرجه عنهما بمعناه الطبري 5/ 293، وسيأتي عند المؤلف سياق لأقوالهما. (¬3) أخرجه بمعناه الطبري من طرق 5/ 293، وانظر: "الدر" 2/ 399. (¬4) لم أقف عليه عن مقاتل بن حيان. وهذا القول لابن عباس وسعيد بن جبير، أخرج ذلك الطبري 5/ 293. (¬5) أخرجه بنحوه من طرق: الطبري 5/ 292، وذكره بلفظه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 124 ب، وانظر: "زاد المسير" 2/ 210، و"الدر المنثور" 2/ 399. (¬6) الوارد عن سعيد بن جبير كما في الطبري 5/ 293 إنه فسر السوء بالشرك.=

{وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ومن يكن (¬1) له في القيامة ولي ولا نصير كان من جملة الكفار؛ لأنَّ المؤمنين وعدوا النصر في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51]. وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من عمل سوءًا من مسلم وكافر، فقال عكرمة عن ابن عباس: من يعمل سوءًا يُجز به إلا أن يتوب قبل موته فيتوب الله عليه (¬2). وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين مشقة شديدة، وقالوا: يا رسول الله، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فكيف الجزاء؟ قال: منه ما يكون في الدنيا، فمَنْ يعمل حسنةً فله عشر حسنات، ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة، وقضيت له حسنات، فويل لمن غلب آحاده أعشاره، وأما ما كان جزاء في الآخرة، فإنه يؤخر إلى يوم القيامة، فيقابل من حسناته وسيئاته، فيُلقى مكان كل سيئة حسنة، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة (¬3). وقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تمرض؟ أليس تصيبك ¬

_ = وانظر: "الدر المنثور" 2/ 405، والظاهر أن كلمة "بغير" زائدة من النساخ؛ لأن كلام المؤلف في سياق أقوال الذين يرون أن الآية في الكفار خاصة. (¬1) هكذا في المخطوط والصواب: ومن لم يكن. (¬2) لم أقف عليه، والثابت والمشهور عن ابن عباس كالقول الأول أن المراد بالآية الكفار والمشركين خاصة. انظر: "تفسيره" ص 159، والطبري 5/ 293، و"زاد المسير" 2/ 210، و"الدر المنثور" 2/ 399. (¬3) "الكشف والبيان" 4/ 123 ب.

اللأواء (¬1)؟ -قال: بلى- قال: فهو ما تجزون به (¬2). وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية بكينا، وحزنا، وقلنا: يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء فقال: إنها لكم أنزلت، ولكن أبشروا، إنه لا يصيب أحدًا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفَّرَ اللهُ بها خطيئة، حتى الشوكة يُشاكها أحدكُم في قدمه (¬3). وهذا الذي ذكرنا من أن الجزاء يراد به مصائب الدنيا مذهب أبي بن كعب وعائشة ومجاهد. وقالوا: إن الآية عامة لجميع الناس (¬4). واختاره محمد بن جرير (¬5). وقال أبو إسحاق: قد أعلم الله عز وجل أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فعامل السوء ما لم يكن كافرًا مرجو له العفو والرحمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شافع لأمته مشفَّع (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} قال ابن عباس: يريد وليًا يمنعه، ولا نصيرًا ينصره (¬7). ¬

_ (¬1) اللأواء: الشدة والمشقة وضيق العيش. انظر: "اللسان" 7/ 3978 (لأى). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" 1/ 11، والطبري 5/ 294، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: معرفة الصحابة 3/ 74، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، كما أخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 123 ب، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 715. وذهب أحمد شاكر إلى أن في إسناده انقطاعًا وذلك في تحقيقه للطبري. (¬3) أخرجه مسلم بنحوه (2574) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه ... وغيره وانظر: "الدر المنثور" 2/ 400. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 210. (¬5) في "تفسير الطبري" 5/ 293. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 112. (¬7) انظر: "الوسيط" 2/ 718، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 98.

124

وتأويل هذا ظاهر في الكفار، وأما في المسلمين فإنه لا ناصر لأحد في القيامة دون الله، ولا ولي للمسلمين غير الله. وشفاعة الشافعين تكون بإذن من الله، فليس يمنع أحدٌ أحدًا غير الله تعالى. 124 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} قال المفسرون: بيّن الله بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم (¬1). وقال مسروق: لما نزل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء، فنزل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} وما بعده من قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} [النساء:125] الآية (¬2). ودخلت من في قوله: {مِنَ الصَّالِحَاتِ} للتبعيض؛ لأن أحدًا لا يطيق أن يستوعب جنس الصالحات بالعمل، فإذا عمل بعضها استحق الثواب (¬3). وقوله تعالى: {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وقرئ بفتح الياء (¬4)، لقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} [الزخرف: 70] وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]. ومن ضم فلأنهم لا يَدخُلونها حتى يُدخلوها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 296، و"الكشف والبيان" 4/ 125 أ. (¬2) أخرجه بنحوه من أكثر من طريق الطبري 5/ 288 - 229، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 125 أ، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 182، وانظر: "زاد المسير" 2/ 209، 211، و"الدر المنثور" 2/ 406. (¬3) انظر: الطبري 5/ 296، و"الكشاف" 1/ 300. (¬4) قراءة الضم لأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر ويعقوب، وقرأ الباقون بالفتح. انظر: "السبعة" ص 237، و"الحجة" 3/ 182، و"المبسوط" ص 158، و"النشر" 2/ 352. (¬5) "الحجة" 3/ 182، وانظر: "الكشاف عن وجوه القراءات السبع" 1/ 397.

125

وقوله تعالى: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} قال ابن السكيت: النقير النكتة التي في ظهر النواة (¬1). وقال أبو الهيثم: النقير نقرة في ظهر النواة، منها تنبت النخلة (¬2). ونحو هذا قال المفسرون، قال ابن عباس: يريد لا ينقصون قدر منبت النواة (¬3). قالوا: وهذا مبالغة في نفي الظلم، ووعد تبوءٍ فيه جزاء أعمالهم من غير نقصان (¬4). 125 - قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ذكرنا معنى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} في سورة البقرة [: 112]. وقال ابن كيسان في هذه الآية: يعني من توجه بعبادته إلى الله خاضعًا له (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬6). وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}، أي: موحِّد (¬7). قال ابن عباس: يريدُ وهو يوحِّدُ الله لا يُشْرِكُ بِهِ شيئًا (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3644. (¬2) المرجع السابق. (¬3) لم أجده عن ابن عباس في تفسيره هذِه الآية إلا ما جاء بنحوه في "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 98، لكن ثبت عنه تفسير النقير عند قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)} [النساء: 53] قال: "نقيرًا": "النقطة التي في ظهر النواة" "تفسيره" ص 150، وأخرجه الطبري 5/ 136. (¬4) انظر: الطبري 5/ 297. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "الكشف والبيان" 4/ 125 أ. (¬8) انظر: "زاد المسير" 2/ 211، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 98.

وهذا كما ذكرنا في سورة البقرة (¬1)، وإنما شرط في إسلام الوجه لله أن يكون محسنًا، لأن اليهود والنصارى يقرُّون بالانقياد لأمر الله وهم غير محسنين، فلا يستحقون الأجر. قال العلماء: وإنِّما صارَ الإسلامُ أحسنَ الأديانِ، لأنَّ طاعةَ الله أحسن الأعمالِ التي تكونُ من العباد، لما فيها من عبادة من لا يضيع عنده مثاقيل الذرِّ، ومَنْ لا يضيق ملكه عن شيء، فلهذا كان لا أحد أحسن دينًا ممَنْ أسلَمَ وجهَهُ لله بطاعته والانقيادِ لأمره. وقوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. يجوز أن يكون {حَنِيفًا} حالًا لإبراهيم، ويجوز أن يكون حالًا للمتَّبع (¬2)، كما تقول: رأيته راكبًا، جاز أن يكون الراكب حالًا للمرئي والرائي. وملة إبراهيم داخلة في ملتنا، وفي ملتنا زيادة على ملة إبراهيم، فمن ملة إبراهيم الكلمات العشر في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" (النسخة الأزهرية) 1/ ل 81. (¬2) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 208، و"الكشاف" 1/ 301، و"الدر المصون" 4/ 98. (¬3) قال المؤلف في "الوسيط" 1/ 201: "وأكثر المفسرين قالوا في تفسير الكلمات: إنها عشر خصال عن السنة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، فالتي في الرأس: الفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك. والتي في الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، ونتف الرفغين" ا. هـ والفرق لشعر الرأس، والرفغين: الأبطين. وأنظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 76، و"أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 36، وابن كثير 1/ 616.

قال ابن عباس: "ومن دينِ إبراهيمَ: الصَّلاة إلى الكعبةِ، والطواف بها، والسَّعي، والرَّمي، والوقُوف، والحلق" (¬1). فمن أقرَّ بهذا مع الزيادة التي أتى بها نبينا صلوات الله عليه فقد اتبع دينَ إبراهيم. وقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} قال أبو بكر بن الأنباري: الخليلُ معناه في اللغة المُحب الكامل المحبَّةِ، والمحبوب الموفي حقيقة المحبة، اللذان ليس في حبِّهما نقصٌ ولا خللٌ، فتأويل قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} واتخذ الله إبراهيم محبًا له خالص الحب ومحبوبًا له (¬2)، وشرّفه بلزوم هذا الاسم له الذي لا يستحق مثله إلا أنبياؤه ومن يشرف الله ويرفع قدره. قال (¬3): وقال بعض أهل العلم: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} أي فقيرًا إليه لا يجعل فقره وفاقته إلى غيره، ولا ينزل حوائجه بسواه (¬4). فالخليلُ على هذا القولِ فعيلٌ من الخلّة بمعنى الفقر، قال [زهير] (¬5): وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ (¬6) أراد بالخليل: الفقير (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) من "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 493 - بتصرف-. (¬3) أي ابن الأنباري. (¬4) من "الزاهر" 1/ 493، 494 بتصرف، وانظر: "زاد المسير" 2/ 212. (¬5) ما بين المعقوفين في المخطوط: "ابن نمير" والتصويب من "الزاهر" 1/ 493، والبيت لزهير بن أبي سلمى كما سيأتي تخريجه. (¬6) شعر زهير بن أبي سلمى ص 105، و"الزاهر" 1/ 493، و"معاني الزجاج" 2/ 112. (¬7) "الزاهر" 1/ 494.

ونحو هذا قال الزجاج، (...) (¬1) والمحب الذي ليس في محبته خلل، فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله؛ لأنه الذي أحبه محبة تامة، وأحب الله هو محبة تامة (¬2). قال: وقيل: الخليل الفقير، فجائز أن يكون سمي فقير الله، أي الذي يجعل فقره وفاقته إلى الله جل وعز مخلصًا في ذلك (¬3). والخلة: الحاجة، من الإخلال الذي يلحق الإنسان، والخُلّة الصداقة، لأن كل واحد من الخليلين يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه. فهذان القولان ذكرهما جميع أهل المعاني (¬4)، والاختيار هو الأول (¬5)، لأن الله جل وعز خليل إبراهيم، وإبراهيم خليل الله، ولا يجوز أن يقال: الله خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة، ولأن ابن عباس قال في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} صفيًا بالرسالة والنبوة (¬6)؛ ولأن جميع أهل المعاني ذكروا في سبب تسمية إبراهيم خليل الله: أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانُه دقيقًا، قالت له امرأته: هذا من عند خليلك المصري؛ قال إبراهيم: هذا من عند خليلي الله. والقصة مشهورة (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين غير واضح، ويبدو أنه: "الخليل الولي" والمحب ... وفي "معاني الزجاج" 2/ 112: "الخليل المحب ... ". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 112، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 125 ب. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 112، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 126 أ. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 126 أ. (¬5) انظر: البغوي 2/ 292. (¬6) في " الكشف والبيان" 4/ 125 ب من رواية الكلبي، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 98. (¬7) حاصل هذه القصة: أن إبراهيم عليه السلام أصابته حاجه فذهب يطلب الطعام عند خليل =

وقال شهر بن حوشب: إن الله قال للملائكة: إن لي في الأرض عبدًا يقال له: إبراهيم، إني أريد أن أتخذه خليلًا. (فقالت الملائكة: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك فلا تتخذ منا خليلًا) (¬1) وتتخذ من ابن آدم خليلًا. فقال الله: اختاروا منكم. فاختاروا، وأهبطه الله إلى الأرض، وقال: اذكرني بين يدي عبدي إبراهيم. وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي، فقال إبراهيم: اذكره مرة أخرى، قال: لا أذكره مجانًا. قال: لك مالي كله فاذكره. فقال الملك بصوت أشجى من الأول: الله. فقال إبراهيم: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك، وقص عليه القصة، وعرج إلى السماء، وأخبر الملائكة، فقال الملائكة: حق له أن يتخذه الله خليلًا (¬2). وقال طاوس عن ابن عباس: إن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان وضاء الوجوه، فظن الخليل أنهم أضياف، وحنذ لهم عجلًا سمينًا، وقربه إليهم وقال: كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله ¬

_ = له في مصر فلم يجد عنده شيئًا، فرجع إلى أهله فمر بأرض ذات رمل فملأ أوعيته من هذا الرمل لكي لا يغتم أهله برجوعه وليس معه شيء، فتحول هذا الرمل دقيقًا، فلما صار إلى أهله فتحوا الأوعية فعجنوا وخبزوا من ذلك الدقيق، فلما استيقظ سألهم عن ذلك، فقالت له امرأته: هذا من عند خليلك المصري. ذكرها الطبري 5/ 297 - 298، و"الزجاج" 2/ 113، والسمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 391، والثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 125 ب. وهذِه القصة من رواية الكلبي عن ابن عباس وهو متروك. انظر: البغوي 2/ 292، قال ابن كثير 1/ 617: "وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرًا إسرائيليًا لا يُصدَّق ولا يُكذب". (¬1) تكرر ما بين القوسين في المخطوط. (¬2) لم أقف عليه.

126

وتحمدوه في آخره، فقال جبريل: حق لك أن تتخذ خليلًا (¬1). وقال أهل المعاني: قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ} حث على اتباع ملته، لذلك ذكر عقيب قوله: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. 126 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قال أصحاب المعاني: لما دعا الله الخلق إلى طاعته والانقياد لأمره، بيّن سعة قدرته وكثرة مملوكاته، ليُرغب إليه بالطاعة له (¬2). وقال بعضهم: لما قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} بيّن أن ذلك إنما هو لحسن الطاعة، لا لحاجةٍ إلى الطاعة والمخالة، ولكن لمجازاة المحسن بإحسانه، وبين أنه مع ذلك عبد له. وهذا معنى قول الزجاج (¬3). وإنما قال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ولم يقل: (من)، لأنه ذهب به مذهب الجنس، والذي يعقل إذا ذكر، وأريد به الجنس ذكر بـ (ما)، كقول الشاعر: وما جرم وما ذاك السَّويق (¬4) وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} أي عالمًا علم إحاطة، وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشد عنه نوع من علمه. ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 391، والقرطبي 5/ 401. (¬2) انظر: الطبري 5/ 298، و"البحر المحيط" 3/ 357. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 114. (¬4) عجز بيت لزياد بن الأعجم، وصدره: تكلفني سويق الكرم جرم والبيت من شواهد سيبويه في الكتاب 1/ 301 دون نسبة، ونسبه لزياد بن قتيبة في "الشعر والشعراء" ص 281، كما استشهد به دون نسبة المبرد في "الكامل" 1/ 323، والزجاجي في "الجمل في النحو" ص 118. وجرم: قبيلة، والسويق: الخمر.

127

ويجوز أن يكون محيطًا بالقدرة عليه، كما قال جل وعز: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21]. وقد ذكرنا معنى المحيط فيما تقدم (¬1). 127 - قوله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} الآية. الاستفتاء طلب الفتوى، يقال: أفتى الرجل في المسألة، واستفتيته فأفتاني، إفتاء، وفتيا وفتوى اسمان من: أفتى، يوضعان موضع الإفتاء، ويقال: أفتيت فلانًا في رؤياها (¬2)، إذا عبرتها له، وأفتيته في مسألته، إذا أجبته عنها (¬3). ومعنى الإفتاء والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام (¬4)، وأصله من الفتي، وهو الشاب الحدث الذي شب وقوي، فكأنه يقويّ ببيانه ما أشكل، فيشب ويصير فتيا قويا. وذكر عن المفسرين في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أن العرب كانت لا تورث والصبيان (¬5). وهذا قول ابن عباس في ما روي الكلبي عن أبي صالح عنه (¬6)، وقول مجاهد (¬7) والضحاك ¬

_ (¬1) انظر: [البقرة: 19]. (¬2) هكذا في المخطوط، والصواب: رؤياه (¬3) انظر: "الصحاح" 6/ 2452، و"مقاييس اللغة" 4/ 474 (فتى). (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 215. (¬5) هكذا في المخطوط ولعل الصواب كما يدل عليه حرف العطف وبقية الكلام، أن هناك كلمة ساقطة وهي: (النساء)، وذلك بعد قوله: لا تورث. انظر: "الكشف والبيان" 4/ 126 ب، و"زاد المسير" 2/ 215. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 126 أ، والبغوي 2/ 293، و"زاد المسير" 2/ 215، وأخرجه بنحوه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: الطبري 5/ 299. (¬7) في "تفسيره" 15/ 175، وأخرجه الطبري 5/ 300، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 392، وانظر: "زاد المسير" 2/ 215، و"الدر المنثور" 2/ 408.

وقتادة وإبراهيم وابن زيد (¬1). والثاني: إن الآية نزلت في توفية الصداق لهن، وكانت اليتيمة تكون عند الرجل، فإن هواها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمةً لم يتزوجها ومنعها الرجال حتى تموت، فيرثها، فأنزل الله هذه الآية. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية الوالبي (¬2)، وقول سعيد بن جبير والسدي (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. قال الفراء: موضع (ما) رفع، كأنه قال: يفتيكم فيهن ما يتلى عليكم. قال: وإن شئت جعلت (ما) في موضع خفض، كأنه قيل: يفتيكم فيهن ما يتلى عليكم (¬4). وقال الزجاج: الرفع أبين، لأن المعنى: الله يفتيكم، والكتاب يفتيكم، فالخفض بعيد جدًا، لأن الظاهر لا يُعطف على المضمر، ولأن المعنى: أن ما يتلى في الكتاب هو الذي مبين ما سألوا عنه، وليس المعنى: أنه يفتي فيهن وفي الكتاب (¬5). وقال غيره: ويجوز أن تكون (ما) رفعًا بالابتداء، والخبر محذوف، ¬

_ (¬1) أخرجه عن قتادة وإبراهيم الطبري 5/ 299 - 300، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 126 ب، و"زاد المسير" 2/ 213، و"الدر المنثور" 2/ 408 - 409. (¬2) في "تفسيره" ص 159، وأخرجه الطبري 5/ 304، وانظر: "زاد المسير" 2/ 213، 214. (¬3) قولهما كالأول وأن القصد المنع من الميراث دون التعرض للنكاح، كما أخرجه عنه الطبري 5/ 299، 300، 301 وانظر: "النكت والعيون" 1/ 532، و"زاد المسير" 2/ 213. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 290. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 114 بتصرف.

على تقدير: وما يُتلى في الكتاب مبين له (¬1). قال المفسرون: والذي يُتلى في الكتاب قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، وآية الميراث في أول السورة، وعلى قول من يقول: الآية نزلت في توفية الصداق قال: الذي يُتلى في الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] (¬2). والله تعالى إنما يحيل بالبيان على وحي سبق نزول، كقوله تعالى:- {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118]، وكقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} [النساء: 140]. وقوله تعالى: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}. قال بعضهم: معناه في النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم، كما تقول: كتاب الكامل، ويوم الجمعة، وحق اليقين. فتضيف الشيء إلى نفسه وإلى صفته، كذلك تضيف اليتامى إلى النساء، وهن اليتامى، وهذا جائز عند الكوفيين (¬3). وعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته؛ لأن الصفة هي الموصوف عند النحويين في المعنى، وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائز، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت أخاك الظريف، فالأخ هو الموصوف، والظريف هو الصفة، والأخ هو الظريف في المعنى. وإنما امتنع إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الغرض في الإضافة إنما هو التخصيص والتعريف، ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" 1/ 301، و"البحر المحيط" 3/ 360، و"الدر المصون" 4/ 100. (¬2) انظر: الطبري 5/ 298 - 301، و"معاني الزجاج" 2/ 115. (¬3) انظر: "الإنصاف" للأنباري ص 352، و"البحر المحيط" س/ 362، و"الدر المصون" 4/ 104.

والشيء لا يُعرف نفسه؛ لأنه لو كان معرفة بنفسه لما احتيج إلى إضافته، وإنما يضاف إلى غيره ليعرفه، ألا ترى أنك تضيف المصدر إلى الفاعل تارة، نحو: عجبت من قيام زيد، وإلى المفعول أخرى، نحو: عجبت من أكل الخبز، وإنما جازت إضافة المصدر إليهما لأنه في المعنى غيرهما، ولا يجيزون: سررت بطالعة الشمس، كما تقول: سررت بطلوع الشمس، لأنَّ طلوعها غيرها، فجازت إضافته إليها، والطالعة هي الشمس فلا تضيفها إلى نفسها. هذا مذهبهم (¬1). وعلى هذا النساء في الآية غير اليتامى، والمراد بالنساء: أمهات اليتامى، أضيف إليهن أولادهن اليتامى (¬2). يقول (¬3) هذا أن الآية نزلت في قصة أم كحة، وكانت لها يتامى (¬4). وكذلك ما روى موسى بن عُبيدة (¬5) عن أخيه عبد الله بن عبيدة (¬6)، قال: جاءت امرأة من الأنصار، يقال لها: خولة بنت حكيم (¬7)، إلى ¬

_ (¬1) انظر: المراجع السابقة .. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 725. (¬3) هكذا في المخطوط، فيحتمل التصحيف، ولعل الصواب: يقوي هذا. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) هو أبو عبدالعزيز موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي، المدني، ضعفه العلماء، وكان من العباد الفضلاء، توفي رحمه الله سنة 153هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 213، و"التقريب" ص 552 رقم (6989). (¬6) هو عبد الله بن عبيدة بن نشيط الربذي، ضعفه بعض العلماء وحكم عليه ابن حجر بأنه ثقة، قتلته الخوارج سنة 130 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 2/ 459، و"التقريب" ص 313 رقم (3458). (¬7) هي أم شريك خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، صحابية مشهورة، يقال إنها التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "الاستيعاب" 4/ 391، و"الإصابة" 4/ 290، و"التقريب" ص 746 رقم (8575)

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أخي توفي وترك بنات ليس عندهن من الحُسن ما يُرغِّب فيهن الرجال، ولا يقسم لهن من ميراث أبيهن شيء، فنزلت فيها هذه الآية (¬1). وقوله تعالى: {اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}. قال ابن عباس: "يريد ما فُرض لهن من الميراث" (¬2). وهذا على قول من يقول: نزلت الآية في ميراث اليتامى والصغار، وعلى قول الباقين المراد بقوله: {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الصداق. وقوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}. قال أبو عبيد يحتمل هذا الرغبة والزهد، فإن حملته على الرغبة كان المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، وإن حملته على الزهد كان المعنى: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن (¬3). والمفسرون أيضًا مختلفون على هذين الوجهين اللذين ذكرهما أبو عبيد. روى ابن عون (¬4) عن الحسن وابن سيرين: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}: قال: أحدهما: ترغبون فيهن، وقال الآخر: ترغبون عنهن (¬5). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 126 ب. (¬2) أخرجه بمعناه من طرق: الطبري 5/ 299، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 127 أ. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) هو أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان، المزني، البصري، إمام قدوة حافظ من الفضلاء، ويعدّ من التابعين. توفي رحمه الله سنة 151 هـ. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 150، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 364، و"التقريب" ص 317 (3519). (¬5) أخرجه ابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 410.

ولم يبين ابن عون من الذي قال هذا والذي قال ذاك، وبيّنه غيره، قال ابن سيرين: ترغبون فيهن لما لهن، وقال الحسن: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن (¬1). وقال ابن عباس وعبيدة: "وترغبون في أن تنكحوهن رغبة في مالهن أو جمالهن" (¬2). وروي عن عائشة رضي الله عنها الوجهان جميعًا، رُوي عنها أنها قالت: "في اليتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها، ولا يؤتيها سنّة نسائها" (¬3). وروي عنها أنها قالت: "نزلت في اليتيمة يرغب وليها عن نكاحها، ولا ينكحها، فيعضلها طمعًا في ميراثها، فنهي عن ذلك". رواه مسلم في "الجامع" عن عائشة، في هذه القصة، فقالت: "ترغبون عنهن" (¬4). ففي أحد الوجهين أنكر على الأولياء عضل اليتيمة، وفي الثاني أنكر حبس صدقها (¬5). وهذه الآية تعلق بها أصحاب أبي حنيفة، في الاحتجاج على جواز نكاح اليتيمة الصغيرة (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 5/ 303 هذا الأثر عن الحسن من رواية ابن عون حيث قال الحسن: "ترغبون عنهن" فيتبين بذلك أن القول الآخر لابن سيرين. وانظر: "زاد المسير" 2/ 216. (¬2) أخرجه بمعناه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس وعن عبيدة: الطبري 5/ 303 - 304. (¬3) أخرجه مسلم بنحوه (3018) كتاب: التفسير. (¬4) أخرجه بنحوه البخاري (4600) كتاب: التفسير سورة النساء، باب: ويستفتونك في النساء، ومسلم (3018) كتاب: التفسير. (¬5) الوجه الأول اختيار الطبري 5/ 304. (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 392، و"بداية المجتهد" 2/ 6.

وعند الشافعي: ليس لغير الأب والجد تزويج الصغيرة (¬1). وعنده (¬2) يجوز للعم وابن العم وسائر الأولياء تزويجها، ثم يتوقف النكاح على اختيارها إذا بلغت (¬3). واحتجوا بقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ولا حجة لهم في الآية؛ لأنَّه يحتمل أن يكون المراد: وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن وجاز نكاحهن، بدليل ما رُوي أن قدامة بن مظعون (تزوج) (¬4) بنت أخيه عثمان بن مظعون (¬5) من عبد الله بن عمر، فخطبها المغيرة بن شعبة (¬6)، ورغب أمها في المال، فجاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها صغيرة، وإنها لا تزوج إلا بإذنها" وفرق بينها وبين ابن عمر (¬7). ¬

_ (¬1) وقد اعتبر الشافعي رحمه الله الجد أبًا إذا لم يكن ثمَّ أب. انظر: "الأم" 5/ 20، و"بداية المجتهد" 2/ 6. (¬2) أي أبي حنيفة. (¬3) انظر: "بداية المجتهد" 2/ 6، و"الاختيار" 3/ 94. (¬4) هكذا في المخطوط، والظاهر أن الصواب: "زوج". (¬5) هو أبو السائب عثمان بن مظعون بن حبيب بن حذافة الجُمحي صحابي فاضل من السابقين إلى الإسلام، وقد توفي رضي الله عنه في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فذرفت عيناه - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "الاستيعاب" 3/ 164، و"أسد الغابة" 3/ 598، و"الإصابة" 2/ 464. (¬6) هو أبو عيسى أو أبو محمد المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أسلم قبل الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان، وقد ولي فيما بعد إمرة البصرة والكوفة، توفي رضي الله عنه سنة 50 هـ انظر: "الاستيعاب" 3/ 368، و"الإصابة" 3/ 452، و"التقريب" ص 543 رقم (6840). (¬7) أخرجه بمعناه أحمد في "مسنده" 2/ 130، وابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: (14) نكاح الصغار يزوجهن غير الآباء (1878). قال في "الزوائد": إسناده موقوف، وفيه عبد الله بن نافع مولى ابن عمر متفق على تضعيفه.

ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاخ اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز. وقوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ}. يعني: الصغار من الصبيان. قال ابن عباس: يريد أنهم لم يكونوا يورثون صغيرًا من الغلمان ولا الجواري (¬1). وهو عطف على يتامى النساء، والمعنى: يفتيكم الله في المستضعفين أن تعطوهم حقوقهم، لأن ما يتلى عليهم في باب اليتامى من قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، يدل على الفتيا في إعطاء حقوق الصغار من الميراث. وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}. قال الفراء: (أنْ) في موضع خفض على: ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط (¬2). ونحو ذلك قال الزجاج، قال: المعنى: وما يُتلى عليكم في يتامى النساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط (¬3). قال ابن عباس: يريد العدل في أمورهن وفي مواريثهن (¬4). {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} يريد من حسن فيما أمرتكم به. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} يجازيكم عليه، ولا يضيع لكم شيء منه. ¬

_ (¬1) بنحوه في "تفسيره" ص 159، وأخرجه الطبري من طريق ابن أبي طلحة أيضًا 5/ 304 - 305. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 290. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 114. (¬4) انظر: "الوسيط" 2/ 726، و"زاد المسير" 2/ 216.

128

قال الكسائي: هذا على تأويل الجزاء، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6]، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات: 9]. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ}، كل هذا جزاء، غير أنه على وجه: فَعَل، ولو كان على: يفعل، لكان جزمًا (¬1). وقال أبو إسحاق: (إن) أمُّ حروف الجزاء، ولا يجوز الفصل بينها وبين ما يجزم إلا في ضرورة الشعر، نحو: إن زيد يأتك أكرمه، هذا لا يجوز إلا في الشعر، وكذلك الحكم في جميع حروف الجزاء، وذلك نحو قول الشاعر: فمتى واغلٌ يُنبهُم يُحيُوهُ ... ويُعطَفْ عليه كأسُ السَّاقي (¬2) ففصل بين متى وبين ما عمل فيه. فأما الماضي فإن غيرّ عامله في لفظه، فجاز الفصل بينه وبين إن. وارتفعت امرأة بفعل مضمر، يدل عليه ما بعدها، والمعنى: وإن خافت امرأة خافت (¬3). 128 - وقوله تعالى: {خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} قال ابن عباس ومقاتل: أي علمت (¬4). وقال الزجاج: خافت (¬5) الإقامة من بعلها على الإعراض والنشوز، ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 4/ 107. (¬2) نسبه الزجاج في "معانيه" 2/ 116، لعدي بن زيد، وكذا في الكتاب 3/ 113، و"المقتضب" 2/ 76، و"الإنصاف" ص 491، و"الدر المصون" 4/ 107. والواغل: الداخل على الشرب من غير أن يدعوه، وينبهم: ينزل بهم. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 116، 117 بتصرف. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99، و"تفسير مقاتل" 1/ 412. (¬5) في "معاني الزجاج": "إن خافت".

وليست تخاف ذلك إلا وقد بدا منه شيء (¬1). وقد ذكرنا مثل هذين الوجهين في قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34]. وأما البعل فقال الليث: البعل: الزوج، يقال: بعل يبعل بعولة، فهو باعل (¬2) مستعلج (¬3). قال الأزهري: وهذا من أغاليط الليث، إنما سُمي زوج المرأة بعلًا لأنه سيدها ومالكها, وليس من باب الاستعلاج في شيء (¬4). وروى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية (¬5): والبعل السيد في كلام العرب (¬6). ويقال للرجل: هو بعل المرأة، وللمرأة: بعله، وبعلته. ويجمع البعل: بعولة (¬7). وقد مر في سورة البقرة. وقوله تعالى: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} يقال: نشزت المرأة، تنشُزُ وتنشِزُ نشوزًا، إذا استعصت على زوجها، وأصله من قولهم: نشز الشيء، إذا ارتفع، وقد مر (¬8). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 116. (¬2) في "العين" 2/ 149: "فهو بعل" وهذا اللفظ عند المؤلف من "تهذيب اللغة" 1/ 363 (بعل). (¬3) "العين" 2/ 149، وفيه: "مستبعل" بدل "مستعلج" وما ذكره المؤلف من "التهذيب"، و"مستعلج" غير واضح المعنى، فقد يكون ما في العين هو الصواب، لا غير. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 363 (بعل). ولم يرد في "العين" الاستعلاج كما تقدم، وإنما ورد الاستبعال، فليتنبه. (¬5) يحتمل أن هذا الكلام من ابن عباس أو من المصنف والثاني أقرب. (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 363 (بعل). (¬7) نظر: "الصحاح" 4/ 1635 (بعل). (¬8) انظر فيما سبق عند تفسير الآية 34

قال أبو إسحاق: النشوز يكون من الزوجين، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض (¬1). قال المفسرون: {نُشُوزًا} ترفعًا لبغضها {أَوْ إِعْرَاضًا} عنها لموجدة وأثرة (¬2). قال الكلبي: يعني ترك مجامعتها، وإِعْرَاضًا بوجهه عنها (¬3). وقال مقاتل: {نُشُوزًا} عصيانًا - يعني: الأثرة، وهو قول ابن عباس {أَوْ إِعْرَاضًا} عنها لما به من الميل إلى أخرى (¬4). وقال الزجاج: النشوز من بعل المرأة أن يسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته (¬5). وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}. جعل الله عز وجل الصلح (جائزًا) (¬6) بين الرجل والمرأة، إذا رضيت منه بإيثار غيرها عليها. قال جميع المفسرين: هذا الصلح في القسمة والنفقة، وهو أن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة، أو قد دخلت في السن وأريد أن أتزوج عليك شابة جميلة، وأوثرها عليك في القسمة بالليل والنهار، فإن رضيت بهذا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 47، وقد ذكر الزجاج ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]. (¬2) انظر: الطبري 5/ 305، و"بحر العلوم" 1/ 392، و"الكشف والبيان" 4/ 127 ب، و"النكت والعيون" 1/ 533. (¬3) "الكشف والبيان" 4/ 127 ب، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 412، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 115. (¬6) في المخطوط: جائز (بدون نصب).

فأقيمي، وإن كرهت خليت سبيلك. فإن رضيت بذلك (كانت الواجب) (¬1) على الزوج أن يوفيها حقها من المقام عندها والنفقة، أو يسرحها بإحسان ولا يحبسها على [الحيف] (¬2)، (وليس يُجبر) (¬3) الزوج على الوطء إذا عدل في المقام والنفقة، وكل ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، وهو أن تترك له من مهرها، أو بعض أيامها (¬4). روى خالد بن عرعرة (¬5)، قال: سأل رجل عليًّا عن قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} الآية. قال: "تكون المرأة عند الرجل، فتنبو عينه عنها من دمامه أو كبر، فتفتدي منه بكره فرقته، فإن أعطته من مالها فهو له حل، وإن أعطته من أيامها فهو له حل" (¬6). واختلف القراء في قوله: (يَصّالَحَا) فقرئ: (يُصْلِحَا) (¬7) أيضًا، فمن ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "كان الواجب"، انظر: "الكشف والبيان" 4/ 127 ب. (¬2) ما بين المعقوفين في المخطوط: "الخسف"، والتصويب من "الكشف والبيان" 4/ 127 ب. (¬3) هكذا في المخطوط، والأولى: "ولا يجبر"، انظر: "الكشف والبيان" 4/ 127 ب. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 127 ب بتصرف يسير، وانظر: "تفسير ابن عباس" ص 160، والطبري 5/ 306، و"معاني الزجاج" 2/ 116، و"بحر العلوم" 1/ 293، و"النكت والعيون" 1/ 533. (¬5) هو خالد بن عرعرة التيمي، سمع عليًّا وروى عنه سماك بن حرب والقاسم بن عوف الشيباني. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 3/ 163، و"الجرح والتعديل" 3/ 343. (¬6) أخرجه بنحوه من طرق الطبري 5/ 306، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 411. (¬7) قراءة: "يصّالَحا" بتشديد الصاد المفتوحة بعدها مد لابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وأبي يعقوب، وقرأ الباقون "يُصْلحا" بضم الياء وسكون الصاد. انظر: "السبعة" ص 238، و"الحجة" 3/ 183، و"المبسوط" ص 158.

قرأ، (يَصّالحا) أراد: يتصالحا، فأدغم التاء في الصاد، وحجته أن الأشهر في الاستعمال في هذا النحو: تصالحا (¬1). وفي حرف عبد الله: (فلا جناح عليهما أن أصَّالَحا) (¬2). وانتصب (صلحًا) في هذه القراءة على المصدر، ولكنه بحذف الزوائد كما قال: وإن يَهلِكْ فذلكَ كان قَدْري (¬3) أي: تقديري. وقد يوضع الاسم موضع المصدر، كقول القطامي: وبعد عطائِكَ المائة الرِّتاعا (¬4) قال أبو حاتم (¬5): كأن المصدر على القياس: يصالحا اصالحًا وتصالحًا , ولكن هذا كقوله: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، مما يخالف المصدر المصدر (¬6). "ومن قرأ: {يُصْلِحَا} فإن الإصلاح عند التنازع والتشاجر أيضًا قد استعمل، كما استعمل: تصالحا، قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 310، و"الحجة" 3/ 183. (¬2) "الحجة" 3/ 183، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 363. (¬3) عجز بيت ليزيد بن سنان، وصدره: فإن يبرأ فلم أنفث عليه "الحجة" 2/ 129، و"حاشيته" 3/ 184. (¬4) عجز بيت للقطامي، وصدره: أكفرًا بعد رد الموت عني والمئة الرتاع من الإبل. "الحجة" 1/ 182، 3/ 184، و"الخصائص" 1/ 221. (¬5) هو سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم النحوي السجستاني، تقدمت ترجمته. (¬6) لم أقف على قول أبي حاتم، وقد أشار إليه مكي في "الكشف" 1/ 399.

جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 182]، وقال: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. والصلح على هذه القراءة اسم تعدى الفعل إليه كتعدِّيه إلى الأسماء. فقوله: (يُصلحا صلحًا) كقولك: "أصلحت ثوبًا" (¬1). وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. قال ابن عباس: "يريد أعظم لثوابه وثوابها" (¬2). وقال الكلبي: والصلح خير من النشوز والإعراض والإقامة عليهما (¬3). وقال الزجاج: الصلح خير من الفرقة (¬4). قال أهل المعاني: يقول: إن يصالحا على شيء خير من أن يتفرقا، أو يُقيما على النشوز والإعراض (¬5). وقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}. الشح: البُخل، والشحيح: البخيل، وجمعه: أشحة (¬6). قال الفراء: يقال: شح يشِحُّ، بكسر الشين. قال: وكذلك كل فعيل من النعوت إذا كان مضاعفًا، مثل: خفيف وذفيف (¬7)، فهو على فَعَل يَفْعِل، ومثله: ضنين، وقد قالوا: ضنَّ يضنُّ، واللغة العالية: يَضنُّ (¬8). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 183، 184، وانظر: "الكشف" 1/ 399. (¬2) لم أقف عيه. (¬3) لم أقف عيه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 116. (¬5) انظر: "النكت والعيون" 1/ 533، و"زاد المسير" 2/ 218. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1835 (شح). (¬7) ذفيف بمعنى: خفيف سريع. انظر: "اللسان" 3/ 1505 (ذفف). (¬8) في "تهذيب اللغة" 2/ 1836 (شح).

قال ابن عباس: "يريد والغالب على نفس المرأة الشح على نصيبها من زوجها ومالها" (¬1). وهو قول سعيد بن جبير (¬2). وقال الفراء: ضن الرجل بنصيبه ميت الشابة، وضنت الكبيرة بنصيبها منه (¬3). وهو قول جماعة من المفسرين، قالوا: شحت المرأة بنصيبها من زوجها، وشح الرجل بنصيبه من الأخرى (¬4). وقال الحسن وابن سيرين: أُحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة والشح (¬5) بحقه قبل صاحبه، فالمرأة تشحّ على مكانها من زوجها، والرجل يشحّ على المرأة بنفسه، إذا كان غيرها أحب إليه منها (¬6). وهذا قول الزجاج (¬7). وقوله تعالى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا}. قال ابن عباس: يريد حسن المعاشرة والصحبة، وتتقوا الله فإنها أمانة (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحو الطبري 5/ 310، وابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 412. (¬2) أخرجه عنه من طرق الطبري 5/ 311، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 533. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 291. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 128 ب، وانظر: الطبري 5/ 311 - 312، و"بحر العلوم" 1/ 393، و"النكت والعيون" 1/ 533، و"زاد المسير" 2/ 219. (¬5) هكذا في المخطوط، ولعل الواو زائدة من الناسخ. (¬6) ذكره عن الحسن الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 533، ولم أقف عليه عن ابن سيرين. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 116. (¬8) لم أقف عليه.

129

وقال الكلبي: "يعني تُصلحوا وتتقوا الجوز والميل" (¬1). 129 - وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}. قال المفسرون: يقول: لن تقدروا على التسوية بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع؛ لأنَّ ذلك مما لا تقدرون عليه ولو اجتهدتم (¬2). قال الضحاك: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} يعني: في الحب والجماع (¬3). وقوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}. إلى التي تحبون في النفقة والقسمة (¬4). يقول: لا تقدرون على العدل في الحب، ولكن قربوا حالهن من العدل في القسم، وما تملكون من الأمر. قال أبو عبيد: لا يقدر أحد على العدل بين الضرائر بقلبه، وليس يُؤاخذ به؛ لأنه لا يستطيعه ولا يملكه، ولكن عليه أن لا يميل بنفسه، وهو الذي وقع عليه النهي (¬5). وقال مجاهد: ولن تستطيعوا العدل بينهن فلا تتعمدوا الإساءة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬2) انظر: الطبري 5/ 312 - 313، و"بحر العلوم" 1/ 393، و"الكشف والبيان" 4/ 218 ب. (¬3) أخرجه الطبري 5/ 313 - 314 ولفظه: "في الشهوة والجماع"، وفي لفظ آخر: "في الجماع". (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 128 ب (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تفسيره" 1/ 178، وأخرجه الطبري 5/ 315، وابن المنذر والبيهقي. انظر: "الدر المنثور" 2/ 413.

قال الشافعي - رضي الله عنه -: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم فيقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، وأنت أعلم بما لا أملك" (¬1). يعني -والله أعلم- قلبه وفرط محبته لعائشة رضي الله عنها. وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: اللهم أما قلبي فلا أملك، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل (¬2). وقوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} قال ابن عباس: يريد لا أيمًا، ولا ذات بعل (¬3). وهو قول جميع أهل التفسير (¬4)، يقول: لا تميلوا إلى الثانية كل الميل، فتدعوا الأخرى كالمنوطة مثلًا، لا في الأرض ولا في السماء، كذلك هذه، لا تكون مخلية فتتزوج، ولا ذات بعل يُحسن عشرتها ونفقتها. {وَإِنْ تُصْلِحُوا} بالعدل في القسم. {وَتَتَّقُوا} الجور. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} لما ملت إلى التي تحبها بقلبك، بعد العدل في القسمة (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2134) كتاب: النكاح، باب: القسمة بين النساء، وقال أبو داود يعني القلب، والنسائي (1140) كتاب عشرة النساء، باب: (2) ميل الرجل إلى بعض نسائه 7/ 63، والترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر 3/ 437، وحكم عليه النسائي والترمذي بالإرسال، لكن آخره: "فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". (¬2) من "الكشف والبيان" 4/ 129 أ، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 365. (¬3) "تفسيره" ص 161، وأخرجه الطبري 5/ 316، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 413. (¬4) انظر: الطبري 5/ 316 - 317، و"بحر العلوم" 1/ 393، و"الكشف والبيان" 4/ 129 أ، و"النكت والعيون" 1/ 511. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 129 أ.

130

130 - قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} ذكر الله جواز الصلح بين الزوجين إن أحبا أن يجتمعا ويتآلفا، فإن أبت الكبيرة الصلح، وأبت إلا التسوية بينها وبين الشابة، فتفرقا بالطلاق، فقد وعد الله تعالى لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه -بعد الطلاق- من فضله الواسع، كما أغنى كل واحد بصاحبه قبل الطلاق. وهذا تسلية لكل واحد منهما، وهذا معنى قول الكلبي وغيره (¬1). وقال ابن عباس في قوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}: يريد يُعوض للرجل ما يحب، ويعوض المرأة ما تُحب، ويوسع عليهما (¬2). وقال الكلبي: (يُغني الله من رزقه) المرأة بزوج، والزوج بامرأة (¬3). {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء: 130]. قال ابن عباس: "يريد لجميع خلقه" (¬4). وقال الكلبي: واسعًا لهما في النكاح (¬5) يعني: حيث أباح لهما الاستبدال. وقال أصحاب المعاني: إنما جاز وصف الله بأنه واسع لما فيه من المبالغة في الصفة، وذكر أنه واسع الرزق، واسع الفضل، واسع الرحمة، وواسع القدرة. ولو ذكر على الأصل لاقتصر على واحد منها، وإذا أطلق ذهب الوهم إلى جميعها، فكان أبلغ في الصفة من هذه الجهة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 220، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬2) انظرت "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 220، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬6) انظر: "البحر المحيط" 3/ 366

131

وقوله تعالى: {حَكِيمًا} [النساء: 130]. قال ابن عباس: يريد فيما حكم ووعظ (¬1). وقال الكلبي: حكم على الزوج إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان (¬2). 131 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية. قال أصحاب المعاني: لما ذكر الله أنه يُغني من سعته، أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه، لأنه الذي يملك السموات والأرض، ولا تفنى خزائنه (¬3). ثم ذكر الوصية بتقوى الله مُجملة فقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى (¬4). {وَإِيَّاكُمْ} أوصى. {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}. قال الأخفش: أي: بأن اتقوا الله (¬5)، كقوله: أمرتك الخير ... البيت (¬6) قال الكسائي: يقال أوصيتك أن أفعل كذا، وأن تفعل كذا، كلٌّ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬3) انظر: الطبري 5/ 318، و"زاد المسير" 2/ 220، و"البحر المحيط" 3/ 366. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 99. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 459، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 209، و"الدر المصون" 4/ 112. (¬6) لعل البيت كما أشار إلى ذلك فضيلة المشرف كما يلي: أمرتك الخير لكن ما أتمرت به ... وما استقمت فما قولي لك استقم ولم أقف عليه.

133

عربي، ويقال: ألم آمرك أن ائت زيدًا، وأن تأتي زيدًا؟ قال الله تعالى: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ثم قال {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] على النهي بعد قوله: {أَنْ أَكُونَ} وهي قراءة أُبي: (ولا أكون من المشركين)، وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي} [النمل: 91] ولو كان على الأمر: أن أعبد -جزمًا-، لكان صوابًا (¬1). ثم بيّن أن نفع التقوى عائد إلى العباد، بأنه جل وعز غني عنهم وعن جميع الأشياء فقال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} أي: بما أوصيكم به. قال المفسرون: يعني: أن له ملائكة في السموات والأرض هم أطوع له منكم (¬2). {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا}. معنى الغني: الذي لا حاجة له (¬3)، والله تعالى غني بذاته، لا بشيء، ولهذا قال أصحابنا: الغني هو القادر على ما يريد؛ لأنه إنما يستغني بقدرته على ما يريد (¬4). والحميد: المحمود على نعمه (¬5). 133 - قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ}. قال أهل المعاني: في الآية محذوف، على تقدير: إن يشأ يذهبكم يُذهبكم (¬6)؛ لأنه ¬

_ (¬1) لم أقف على كلام الكسائي. (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 130 ب. (¬3) انظر: الطبري 5/ 318. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 130 ب. وهذا من تأويل الأشاعرة للصفات، حيث أول الغنى بالقدرة. (¬5) انتهى المؤلف من تفسير الآية (131)، وأتى بعدها بتفسير الآية (133) وترك ما بينهما. (¬6) انظر: الطبري 5/ 3195

134

ليس على معنى إن كانت له مشيئة ما أذهبكم، ولكن مشيئته الإذهاب. قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين (¬1). {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} قال: يريد قومًا من قريش، لم يكونوا هاجروا ثم أسلموا بعد الفتح (¬2). وقال مقاتل: يخلق غيركم، أمثل وأطوع لله منكم (¬3). وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما نزلت هذه الآية ضرب بيده على ظهر سلمان (¬4)، فقال: "قوم هذا" يعني: عجم الفرس (¬5). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} عند أهل المعاني، أن المعنى: ولم يزل الله على ذلك قديرًا, ولا يزال كذلك، لأن كل صفة استحقها القديم فهي لازمة، لا يحدث ما يوجب تغيُّرها، فبهذا عرفنا أنَّ المعنى: كان ويكون قديرًا، إلا أنه وكل إلى الاستدلال لرياضة الأفهام، فذكر بلفظ: كان (¬6). 134 - قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} قال ابن عباس: يريد متاع الدنيا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 221، و"البحر المحيط" 3/ 367. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسيره" 1/ 413. (¬4) هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويعرف بسلمان الخير، صحابي جليل، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصة إسلامه مشهورة، وكان من المعمرين، توفي رضي الله عنه سنة 34 هـ. انظر: "الاستيعاب" 2/ 194، و"أسد الغابة" 2/ 417، و"الإصابة" 2/ 62 , و"التقريب" ص 246 رقم (2477). (¬5) أخرجه الطبري 5/ 319 وبين أحمد شاكر أن في إسناده ضعفًا. وانظر: "النكت والعيون" 1/ 533 - 534. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص99

{فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال: يريد المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} لدعائكم، {بَصِيرًا} بكم، حيث جعل فيكم دينه، واستودعكم فرائضه (¬1). وقال مجاهد: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} فإن الله تعالى يُعطي على نية الآخرة ما شاء من الدنيا, ولا يعطي على نية الدنيا شيئًا من الآخرة (¬2). وقال أبو إسحاق: كان مشركوا العرب لا يؤمنون بالبعث، وكانوا مقرين بأن الله خالقهم، فكان تقربهم إلى الله عز وجل إنما هو ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرها، فأعلم الله جل وعز أن خير الدنيا والآخرة عنده (¬3). وهذا هو القول. وقال غيره: ثواب الدنيا: الغنيمة والمنفعة التي ينالها المجاهد، وثواب الآخرة: النعيم الذي (يعطه) (¬4) الله في الآخرة (¬5). وقوله تعالى: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي: فليطلب المجاهد الثوابين، فإنهما عند الله، لا يضيق ولا يمتنع بأحدهما إعطاء الآخر. وتأويل قوله {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فينبغي أن يطلب من عنده ثواب الدنيا والآخرة. عند: جواب الشرط، لأن عنده ثواب الدنيا والآخرة، وقعت هذه الإرادة أو لم تقع. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 117، وانظر: "زاد المسير" 2/ 221. (¬4) هكذا في المخطوط، والصواب: "يعطيه". (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 131 أ، و"النكت والعيون" 1/ 534.

135

135 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} القسط: العدل (¬1)، ومضى الكلام فيه (¬2). وقوّام مبالغة من قائم، كأنه قيل: كونوا قائمين بالقسط (¬3). والقائم بالشيء معناه الكفيل به الذي يأتي به على وجهه. قال ابن عباس: معناه: كونوا قوَّالين بالعدل في الشهادة، على من كانت، ولو على أنفسكم (¬4). وانتصب قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} على الحال من {قَوَّامِينَ}، ويجوز أن يكون خبر {كُونُوا}، على أن لها خبرين بمنزلة خبر واحد، ونحو هذا: حلو حامض، وجائز أن يكون صفة لقوامين (¬5). وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، قال عطاء: يريد وقولوا الحق، ولو على أنفسكم، وإن كان فيه مضرة عليكم (¬6). وشهادة الإنسان على نفسه: هو إقراره بما عليه من الحق (¬7)، وذلك الإقرار شهادة منه على نفسه، فكأنه قيل: ولو كان لأحد عليكم حق فأقروا به على أنفسكم. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 320، و"معاني الزجاج" 2/ 117، و"زاد المسير" 2/ 222. (¬2) انظر تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3]. (¬3) انظر: الطبري 5/ 321، و"زاد المسير" 2/ 222. (¬4) من "الكشف والبيان" 4/ 131، والأثر بمعناه في تفسير ابن عباس ص 161، وأخرجه الطبري 5/ 322، من طريق علي بن أبي طلحة أيضًا. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 460، و"الدر المصون" 4/ 113، وقد رجح كل منهما القول الأول. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "النكت والعيون" 1/ 534، وانظر: "زاد المسير" 2/ 222.

وقال أبو إسحاق: المعنى: قوموا بالعدل واشهدوا الله (¬1) بالحق، وإن كان الحق على نفس الشاهد، أو على والديه، أو أقربيه (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} اسم كان مضمر، على تقدير: إن يكن المشهود عليه ومن يخاصم غنيًا أو فقيرًا (¬3). قال ابن عباس: يقول: لا تُحابوا غنيًا لغناه، ولا ترحموا فقيرًا لفقره (¬4). قال عطاء: يريد يكونون عندكم سواء، لا تحيفوا على الفقير، ولا تُعظِّموا الغني، وتمسكوا عن القول فيه (¬5). يريد: يكون شأنكم العدل والصدق في القريب والبعيد، والغني والفقير. وقوله تعالى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ولم يقل به وكان الغنى والفقر صفة مشهود عليه واحد، لأن المعنى: فالله أولى بكل واحد منهما. قال الزجاج: أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا فالله أولى به، وكذلك إن يكن المشهود عليه فقيرًا فالله أولى به (¬6). فجمعهما في الكناية لهذا المعنى. ومعنى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي: أعلم بهما منكم؛ لأنه يتولى علم أحوالهما من الغنى والفقر. وهذا معنى قول الحسن: الله أعلم بغناهم وفقرهم (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج": لله , وهو الأظهر. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 118، وانظر: "زاد المسير" 2/ 222. (¬3) انظر: الطبري 5/ 323، و"معاني الزجاج" 2/ 118، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 460، و"زاد المسير" 2/ 222. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 131 ب. (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 222. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 118، وانظر: "زاد المسير" 2/ 222. (¬7) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 430، و"معالم التنزيل" 2/ 298.

وقوله تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}، أكثر المفسرين على أن هذا من العدول الذي هو الميل والجور، على معنى: واتقوا أن تعدلوا (¬1)، فحذف؛ لأن في النهي عن اتباع الهوى دليلًا على الأمر بالتقوى. وهذا معنى قول مقاتل، لأنه قال: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} في الشهادة، واتقوا الله {أَنْ تَعْدِلُوا} عن الحق إلى الهوى (¬2). وقال ابن عباس: يريد أن تميلوا عن العدل، وهو قول الكلبي أيضًا (¬3). وعند الفراء والزجاج: يجوز أن يكون {تَعْدِلُوا} من العدل على معنى: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، كما تقول: لا تتبعن هواك لترضي ربك، أي: أنهاك عن هذا كيما (¬4) ترضي ربك. قاله الفراء (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} يجوز أن يكون من لوي بمعنى المدافعة (¬6)، ويجوز أن يكون من لوى الشيء إذا قتله (¬7)، وكلاهما قريب. قال مجاهد: {وَإِنْ تَلْوُوا} تبدِّلوا الشهادة {أَوْ تُعْرِضُوا} تكتموها فلا تقيموها (¬8). ¬

_ (¬1) دعوى أن أكثر المفسرين على هذا القول فيها نظر، فلم أجد من ذهب إلى ذلك غير الطبري مع أنه أشار إليه إشارة في "تفسير الطبري" 5/ 323، وقد عزاه في "زاد المسير" 2/ 222، إلى مقاتل، وانظر: "الدر المصون" 4/ 117. (¬2) "تفسيره" 1/ 414، وانظر: و"زاد المسير" 2/ 222. (¬3) لم أقف عليهما. (¬4) في المخطوط "كما"، وهو تصحيف ظاهر، انظر: "معاني الفراء" 1/ 291. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 291، وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 118. (¬6) انظر: الطبري 5/ 325، و"معاني الزجاج" 2/ 118. (¬7) انظر: "اللسان" 7/ 4107 (لوى). (¬8) "تفسيره" 1/ 178، وأخرجه الطبري 5/ 323 من طرق، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 414 إلى البيهقي.

وهذا من ليّ اللسان، كأنه لواها من الحق إلى الباطل. ونحو ذلك قال السدي: اللي: الدفع والإعراض: الجحود (¬1). وهو من قولهم: [لوى] (¬2) حقه، إذا مطله ودفعه (¬3). وقال مقاتل: {وَإِنْ تَلْوُوا} يعني التحريف للشهادة، يلجلج بها لسانه فلا يقيمها ليبطل شهادته، {أَوْ تُعْرِضُوا} عنها فلا تشهدوا بها (¬4). وقال عطية العوفي: {وَإِنْ تَلْوُوا} "تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها، {تُعْرِضُوا} بتركها" (¬5). وفي قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا} قراءتان: إحداهما - بواوين. والأخرى تلُوا اللام (¬6). فمن قرأ بواوين فحجته: ما رُوي عن ابن عباس أنه فسر هذا بأنه القاضي، ليُّهُ وإعراضه لأحد الخصمين على الآخر (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه الطبري 5/ 424، وانظر: "زاد المسير" 2/ 223. (¬2) ما بين المعقوفين في المخطوط: "لوا" وهو خطأ في "الإملاء". (¬3) انظر: الطبري 5/ 425، و"معاني الزجاج" 2/ 118، و"الكشف والبيان" 4/ 131 ب، و"النكت والعيون" 1/ 534. (¬4) "تفسيره" 1/ 414. (¬5) أخرجه الطبري 5/ 324. (¬6) هكذا في المخطوط، ولعل في الكلام سقطًا، فإن استقامة الكلام: "بواو واحدة وضم اللام" انظر: "الحجة" 3/ 185، وهذِه القراءة لحمزة وابن عامر، والقراءة الأولى للباقين. انظر: "السبعة" ص 239، و"الحجة" 3/ 185، و"المبسوط" ص 159، و"تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة" ص 106. (¬7) "الحجة" 3/ 185، والأثر عن ابن عباس أخرجه الطبري 5/ 323، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 132 أ، و"زاد المسير" 2/ 223

قال الزجاج: وجاء في التفسير أن لوى الحاكم في قضيته: أو أعرض (¬1). {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] قال (¬2): ويقال: لويت فلانًا حقه، إذا دافعته به ومطلته. وكذلك جميع ما حكينا عن المفسرين في هذا الحرف يدل على صحة هذه القراءة. قال الزجاج: وهذا هو الأشبه على ما جاء في التفسير (¬3). وحجة من قرأ: {تلوا} بواو واحدة أن يقول: إن {تلوا} في هذا الموضع حسن، لأن ولاية الشيء إقبال عليه، وخلاف الإعراض عنه، فالمعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا، فلا تلوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرًا، فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسيء المعرض بإعراضه (¬4). وقال المبرد: إن للولاية ههنا وجهًا حسنًا، يقول: إن تلوا إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها (¬5). وقال قطرب: (إن تلوا) من الولاية، يريد: إن تلوا القيام بالحق وتتولوه، أو تعرضوا عنه فلا تقوموا به (¬6). وذكر أبو إسحاق والفراء جميعًا لهذه القراءة وجهًا آخر: وهو أنه يجوز أن يكون (تلُوا) أصله: تَلْوُوا، فأبدل من الواو المضمومة همزة، ثم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 118 لكن فيه: "أنَّ" لوى الحاكم في قضيته: "أعرض". فلعل الصواب. أي أعرض. (¬2) أي: الزجاج. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 118. (¬4) "الحجة" 3/ 185، وانظر: "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه 1/ 138. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه.

136

طرحت الهمزة، ونقلت حركتها إلى اللام، فصار تلوا، كما قيل في أدؤُرٍ: أدوُرٍ، ثم طرحت الهمزة فصار آدرُ (¬1). والوجه الأول أجمعا عليه أيضًا. 136 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال ابن عباس: فيما روى الكلبي عن أبي صالح عنه: نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب، قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل (¬2). قال الضحاك: الخطاب لليهود والنصارى، يقول: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة، وعيسى والإنجيل، آمنوا بمحمد والقرآن (¬3). وقال أبو العالية وجماعة من المفسرين: الآية خطاب للمؤمنين، وتأويل: {آمَنُوا بِالله} أي: أقيموا واثبتوا ودوموا عليه (¬4). قال الزجاج: وهذا كما قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} [الفتح: 29] المعنى: وعد الله من أقام على الإيمان من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وقال مجاهد: الآية خطاب للمنافقين، وذلك أنهم أمنوا في الظاهر بألسنتهم، وكفروا في السر بقلوبهم، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 118، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 291. (¬2) أخرجه الثعلبي 4/ 132 أ، وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 186، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100، و"الدر المنثور" 2/ 414 - 415. (¬3) أخرجه ابن المنذر بمعناه مطولاً كما في "الدر المنثور" 2/ 414 - 415، وانظر: "زاد المسير" 2/ 224. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 132 ب، وقد قال بهذا القول الحسن، انظر: "النكت والعيون" 1/ 535، و"زاد المسير" 2/ 224. (¬5) "معاني القرآن إعرابه" 2/ 119.

آمَنُوا} يعني: بالألسنة في العلانية {آمَنُوا} بقلوبكم في السر (¬1). ويدلك على هذا أن الله تعالى أخبر عنهم فقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]. وهذان القولان ذكرهما الزجاج، ثم قال: والأول أشبه، والله أعلم (¬2). وأبو بكر (¬3) الوراق اختار أيضًا أن الآية في المؤمنين، وأن معني الأمر بالإيمان: الثبات عليه، واحتج بأن العرب تقول للقائم: قم، وللقارئ: اقرأ، يريدون الثبات على ذلك العمل، وقال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، أي: أثبت على عملك (¬4). وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} قال ابن عباس: "يريد القرآن وما فيه من الأحكام" (¬5). {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} قال: "يريد كل كتاب أنزله على النبيين" (¬6). وذلك أنه اسم الجنس، فصلح للعموم. واختلفوا في قوله: (نزل) و (أنزل)، فقرئ بالضم والفتح (¬7)، فمن ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 224. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 119. (¬3) لم يتبين لي من هو، حيث إني وجدت اثنين يطلق عليهما (أبو بكر الوراق). انظر: "سير أعلام النبلاء" 13/ 179، 16/ 388. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 132 ب، و"تنوير المقباس"، بهامش المصحف ص 100. (¬6) المرجع السابق. (¬7) أي بضم النون والألف وكسر الزاي فيهما، وبفتحهما مع فتح الزاي، وقرأ بالأولى ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، وبالثانية الباقون. انظر: "السبعة" ص 239، و"الحجة" 3/ 186، 187، و"المبسوط" ص 159، و"النشر" 2/ 253.

137

ضم: فحجته قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر: 1]، فأضيف المصدر إلى المفعول به، فالكتاب على هذا منزل. وحجته في قوله: (أَنْزَل) قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 114]. ومن قرأ بالفتح: فحجته قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل: 44] (¬1). 137 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الآيةْ اختلفوا في هذه الآية، فذهب الأكثرون إلى أن المراد به اليهود. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: "هم قريظة والنضير" (¬2). ونحو ذلك قال الكلبي وقتادة: آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت بمخالفتها، ثم آمنت بالإنجيل، ثم كفرت بمخالفته (¬3). وقال بعضهم: إن اليهود آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى (¬4). وكيف ما كان الأمر فقد أخبر الله عنهم بترددهم في الكفر. وقال مجاهد وابن زيد: نزلت في المنافقين، آمنوا، ثم ارتدوا، ثم آمنوا، ثم ارتدوا (¬5). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 187 بتصرف يسير، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 320 - وقد قال الأزهري: "والمعنى واحد"، و"الكشف" 1/ 400. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) المأثور عن قتادة كما في الطبري 5/ 327 أن المراد اليهود والنصارى. وانظر: " الكشف والبيان" 4/ 133 أ، و"النكت والعيون" 1/ 535. (¬4) نسب هذا القول لابن عباس. انظر: "زاد المسير" 2/ 225، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100. (¬5) أخرج القول عنهما الطبري 5/ 327، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 536 - 537، و"زاد المسير" 2/ 225 و"الدر المنثور" 2/ 415.

واختيار أبي علي أن هذا يُعني به المنافقون، قال: فالإيمان الأول دخولهم في الإسلام، وحقنُهم الدماء والأموال به، وكفرهم بعد نفاقهم، وأنَّ باطنهم على غير ظاهرهم. (وإيمانهم بعد نفيهم نفاقهم) (¬1) بقوله: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12]، في قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14, 76]، فهذا بعد الإظهار منهم للإيمان ثانية، يدخلون به في حكم الإسلام بعد الكفر، كما أن من جاء من المؤمنات مظهرات للإسلام داخلات في حكمه، لقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] فعُلِمن مؤمنات بما أظهرنه من ذلك، فكذلك هؤلاء، يكونون مؤمنين بإظهارهم الإيمان، بعدما علم منهم النفاق، وكفرهم بعد هذا الإيمان الثاني، قولهم إذا خلوا إلى شياطينهم، أي أصحابهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] (¬2). وقوله تعالى: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} قال الكلبي وقتادة: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن (¬3). وقال مجاهد والسدي والحسن: ماتوا على كفرهم (¬4). ¬

_ (¬1) في "الحجة" لأبي علي 1/ 324: "وإيمانهم بعد يقيهم نفاقهم". (¬2) "الحجة" لأبي علي 1/ 234. (¬3) عن الكلبي انظر:"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100، أما عن قتادة فأخرجه الطبري 9/ 315. (¬4) أخرجه عن مجاهد: الطبري 5/ 327. وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 أ، وذكره عن الحسن الهواري في "تفسير كتاب الله العزيز" 1/ 431. ولم أقف عليه عن السدي. وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن ابن عباس. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 624، و"الدر المنثور" 2/ 415.

وقال أبو العالية: ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها في كفرهم (¬1). قال أبو عبيد: جعل أبو العالية إصابة الذنوب زيادة في الكفر، كما أن أعمال البر زيادةٌ في الإيمان (¬2). وقال أبو علي: ما ازدادوه من الكفر إنما هو بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] فهذا زيادة في الكفر. ويدل على أنَّ المستهزئ (¬3) باستهزائه كافر، فيزداد به كفرًا إلى كفره قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، فإذا كان المجالس مثلهم وإن لم يُظهر ذلك ولم يعتقده، فالقاتل لذلك أشد ذهابًا في الكفر (¬4). وقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إن قيل: إن الله عز وجل لا يغفر الكفر وقد أخبر به، فلم قال ههنا فيمن آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}؟ فالجواب: أن الله تعالى يغفر للكافرين (¬5) كفره إذا آمن، فإن كفر بعد إيمانه لن يغفر له الكفر الأول، لأنه إذا كفر بعد إيمانٍ قبله كفر، كان مُطالبًا بجميع كفره. وهذا جواب ذكره الزجاج (¬6)، وبه قال بعض الأصوليين (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في المخطوط: "المستهزئين"، والتصويب من "الحجة" 1/ 234. (¬4) "الحجة" لأبي علي 1/ 234، 235. (¬5) هكذا في المخطوط، والإفراد أظهر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 120. (¬7) لم أقف عليه.

وكذلك قالوا في الذنوب: أن من تاب من ذنب ثم عاد في مثله, فقال القاضي أبو بكر من أصحابنا (¬1): إن توبته الأولى انتقصت (¬2) حتى يلقى الله مؤاخذًا بحكم الزلة الأولى التي تاب عنها (¬3). وقال الآخرون -وهو الاختيار-: إنَّ حكم ما تاب عنه بات على الصحة، وإن عاد إلى مثل ما تاب عنه (¬4). وعلى هذا فالجواب أن يقال: إن هذا إخبار عن قوم انتقلوا عن الكفر إلى الإيمان، وعن الإيمان إلى الكفر (... و .... (¬5)) لحالهم، وأفردوا بذكر نفي المغفرة عنهم، وإن كان الله تعالى لا يغفر كفرًا مرة واحدة، تخصيصًا بالوعيد، كتخصيص جبريل وميكائيل من جملة الملائكة بالذكر تشريفًا وتعظيمًا، كذلك جاء هذا في نقيضه، ولا فرق بين أن يقول: إن اليهود لا يغفر الله لهم، وبين أن يقول: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لا يغفر الله لهم، لأنهم هم المعينون (¬6) بهذا الوصف. ¬

_ (¬1) لعله شيخ الواحدي: أبو بكر الحيري. (¬2) هكذا في المخطوط بالصاد المهملة، ولعلها بالضاد المعجمة. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) الراجح -حسب ما ورد به الدليل- هو القول الأول كما قال ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". أخرجه البخاري (6921) كتاب: استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله، ومسلم (120) كتاب: الإيمان، باب: هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية، وانظر: "زاد المسير" 2/ 225، والقرطبي 5/ 415. (¬5) هنا كلمة غير واضحة، ولعلها: "وتفحيش" أو "تقبيح". (¬6) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "المعنيون" بتقديم النون.

138

وأما من قال: إنه إذا كفر ثانيًا أخذ بالأول، فقد غلط (¬1)، لأنه صار بالإيمان كمن لم يكفر، كما أن التائب من الذنب صار كمن لا ذنب له، فلا يؤاخذ به بعد أن ارتفع حكمه، كما لا يؤاخذ بما لم يعمله وإن عزم على عمله. وقال الكلبي: "لم يكن الله ليغفر لهم ما أقاموا على ذلك" (¬2). وذلك أن الله تعالى أخبر أنه يغفر كفر الكافر إذا انتهى، فإذا أطلق القول بأنه لا يغفر لهم على (¬3) أن المراد به ما أقاموا عليه. وقوله تعالى: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} قال الكلبي وغيره: سبيل هدى (¬4). وقال الزجاج: معنى {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين (¬5). وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان، خلافًا لقول القدرية (¬6). 138 - قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. قال المفسرون: إن المنافقين كانوا يتولون اليهود فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب (¬7). ¬

_ (¬1) هذا الحكم فيه نظر؛ لأنه تقدم الحديث الصحيح الذي يدل على أن من كفر بعد إسلامه، أخذ بالأول والآخر. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 225، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100. (¬3) هكذا في المخطوط، ولعلها: عُلم. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 أ، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100. (¬5) "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 120. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 ب، والقرطبي 5/ 416. (¬7) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 431، و"الكشف والبيان" 4/ 133 ب.

139

ومعنى بشرهم: أخبرهم، وذكرنا هذا في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25]. وقال أبو حاتم والزجاج: معناه: اجعل وضع إخبارهم بالعذاب الأليم موضع البشارة لهم، كقول عمرو: وخيلٍ قد دَلْفتُ لهم بخيلٍ ... تحية بينهم ضرب وجيع (¬1) قال: والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف (¬2). وقال بعضهم في وجه اتصال هذه الآية: أنَّ الذين ترددوا في الكفر هم كالمنافقين في التحير في الدين (¬3). 139 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ} هذا من صفة المنافقين الذين تقدم ذكرهم. قال الكلبي: المراد بالكافرين ههنا: اليهود (¬4). وقول عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ}: يريد بني قينُقاع (¬5). ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 2/ 323، و"معاني الزجاج" 2/ 120، و"الكشف والبيان" 4/ 133 ب والخيل: الفرسان، ودلفت: زحفت، ورجيع: موجع. ووجيع. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 120، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 133 ب، و"زاد المسير" 2/ 226. (¬3) لم أقف على هذا القول. وقد قال ابن عطية: "في هذِه الآية دليل على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين" "المحرر الوجيز" 4/ 262، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 373. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 100. (¬5) لم أقف عليه.

140

وأصل العزة في اللغة: الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز، ويقال: استعز عليّ المرض، إذا اشتد مرضه وكاد أن يهلك، وتعزز اللحم، إذا اشتد، ومنه: عز عليّ أن يكون كذا، بمعنى: اشتد، وعز الشيء، إذا قل حتى لا يكاد يوجد، لأنه اشتد مطلبه، واعتز فلان بفلان، إذا اشتد ظهره به، وشاة عزوز، تحلب بشدة لضيق أحاليلها. والعزة: القوة، منقولة عن الشدة لتقارب معنييهما. والعزيز القوي المنيع، خلاف الذليل (¬1). والكلبي فسر العزة في قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} بالظهور على محمد وأصحابه (¬2). وهو راجع إلى معنى القوة، يعني: أيطلبون أن يتقووا بهم فيظهرون على المسلمين. وقوله تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي الغلبة والقوة، والمعنى أنه لا تطلق صفة العزة إلا لله -عز وجل- (¬3)، لأنه لا يُعتد بعزة أحد مع عزته، لصغرها واحتقارها في صفة عزته؛ ولأنه المقوِّي لجميع من له القوة من خلقه، فجميع العزة له؛ لأنه عزيز بعزة، ومعز من عز من عباده بما خلق له من العزة، فله العزة جميعًا من كل وجه. 140 - قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} الآية. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 329، و"معاني الزجاج" 2/ 120، 121، و"تهذيب اللغة" 3/ 2420، 2421 (عز)، و"زاد المسير" 2/ 227. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 134 أ، و"زاد المسير" 2/ 226. (¬3) لعل المراد أن العزة على وجه الإطلاق لا تكون إلا لله.

قال المفسرون: الذي نزّل في النهي عن مجالستهم ما نزل بمكة من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية [الأنعام: 68] وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن ويكذبون به فنهى الله عز وجل المسلمين (¬1). وقوله تعالى: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها , ولكن أوقع فعل السماع على الآيات والمراد بالسماع الاستهزاء (¬2). قال الكسائي: وهو كمال تقول العرب: سمعت عبد الله يُلام، وأتيت عبد الله يُلام، إنما سمع اللوم فأوقع على الملوم (¬3). وقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. أي يأخذوا في حديث غير الكفر والاستهزاء، فكنى عنه لأن الفعل يدل على المصدر. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، قال ابن عباس: "يريد إنكم كافرون مثلهم" (¬4). وهذا دليل على الوعيد لمن رضي بحالهم وما هم عليه من الكفر والاستهزاء (¬5)، أو من رضي بالكفر فهو كافر، ويدل على أن من رضي بمنكر وخالط أهله وإن لم يباشر ذلك كان في الإثم والمعصية بمنزلة ¬

_ (¬1) من "الكشف والبيان" 4/ 134 أبتصرف، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 398، والبغوي 2/ 301، و"الكشاف" 1/ 305، و"زاد المسير" 2/ 228، و"الدر المنثور" 2/ 415. (¬2) انظر: القرطبى 5/ 417، 418. (¬3) لم أقف عليه عن الكسائي، وانظر: القرطبي 5/ 418. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: الطبري 5/ 330.

المباشر، ألا ترى أن الله ذكر لفظ المماثلة في هذا الموضع (¬1)، وقد قال ابن عباس في قوله: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ}: "يريد وأنتم تسمعون وتجالسونهم ولا تغضبون" (¬2) فدل هذا أن النهي عن القعود معهم على الرضا بما هم عليه. فأما إذا قعد ساخطًا منكرًا لفعلهم فإنه لا يكون مثلهم (¬3). وقال ابن عباس في قوله في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الآية [الأنعام: 68]: "دخل فيها كل مُحدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة" (¬4). يريد أن من أحدث في الدين فقد خاض في آيات الله بالباطل. وقد ورد النهي في هذه الآية التي نحن فيه (¬5) عن القعود مع الذين يخوضون في آيات الله بالباطل، فلا يجوز القعود عند كل صاحب بدعة وإحداث في الدين، سيما في القرآن وتفسيره (¬6). وقال أهل العلم: إنما ورد النهي عن القعود مطلقًا، لأن (المجالسة) (¬7) مع قوم يقتضي المؤانسة والمشاركة فيما يجرى من المحادثة، هذا هو الغالب في العادة، وقيل من يُجالس قومًا منكرًا عليهم بأخطاء لما يجري بينهم. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 462، و"بحر العلوم" 1/ 398، والبغوي 2/ 301، والقرطبي 5/ 418. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أجد مثل هذا القول عند المفسرين، وهو خلاف ظاهر الآية. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 134 أ، وانظر: البغوي 2/ 301. (¬5) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "فيها". (¬6) انظر: الطبري 5/ 330 (¬7) هذه الكلمة غير واضحة في المخطوط، وما أثبته قريب.

141

وكل من تمكن من إزالة منكر يرى قومًا عليه كان واجبًا عليه الإزالة وإذا لم يتمكن فالأولى أن يتباعد عنهم (¬1)، فإن لم يتباعد مع سخطه لما يرى لم يضره إن شاء الله (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} يريد أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات يجتمعون في جهنم على العذاب. وأراد (جامعٌ) بالتنوين، لأنه لم يجمعهم قبل، ولكن حذف التنوين استخفافًا من اللفظ: وهو مراد في المعنى (¬3)، وقد تقدمت نظائره. 141 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الآية. وهذا أيضًا من صفة المنافقين. والتربص بالشيء أن ينتظر به يومًا (¬4)، قال الشاعر: تربَّص بها ريبَ المنونِ لعلها ... تُطَلَّق يومًا أو يموتُ حَليلُها (¬5) قال الكلبي: ينتظرون بكم الدوائر. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} أي: ظهور على اليهود. {قَالُوا} للمؤمنين. ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 398، والقرطبي 5/ 418. (¬2) هذا مخالف لظاهر هذه الآية من قوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ}. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 462. (¬4) "العين" 7/ 120، و"تهذيب اللغة" 2/ 1344 (ربص)، وفي الأخير: "يومًا ما". (¬5) في المخطوطة: "أخليلها"، والظاهر أنه تصحيف، انظر: "لسان العرب" 3/ 1558 (ربص). ولم أقف على قائل هذا البيت.

{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي أعطونا من الغنيمة. قاله المفسرون (¬1). {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ} يعني اليهود. قاله الكلبي (¬2). {نَصِيبٌ} قال ابن عباس: يريد ظفر على المسلمين (¬3). {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} قال الفراء. استحوذ عليهم، أي: غلب عليهم (¬4). وقال الليث: استحوذ عليه الشيطان، إذا غلب عليه (¬5). وقال أبو طالب: يقال أحوذ الشيء، إذا جمعه وضمه، ومنه يقال: استحوذ على كذا، إذا حواه (¬6)، قال لبيد: إذا اجتمعت وأحوذَ جانبيها ... وأورَدَها على عُوجٍ طِوَالِ (¬7) هذا هو الأصل، ثم جعلوا الاستحواذ بمعنى الاستيلاء على الشيء، لأن المستولي على الشيء بمنزلة المحيط به، وكذلك يقال: حاز الحمار أتنه إذ استولى عليها وجمعها (¬8)، ومنه قول العجاج: يحُوذُهن وله حُوذِيُّ (¬9) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 101. (¬2) الطبري 5/ 331، و"بحر العلوم" 1/ 398، و"الكشف والبيان" 4/ 134 ب. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 101. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 694 (حوذ)، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 134 ب. (¬5) "العين" 3/ 284، و"تهذيب اللغة" 1/ 694 (حوذ). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 694 (حوذ) ولم يتبين من هو أبو طالب القائل. (¬7) شعره ص 86، و"تهذيب اللغة" 1/ 694 (حوذ). (¬8) "تهذيب اللغة" 1/ 694. (¬9) "ديوانه" ص 524، والطبري 5/ 332، و"تهذيب اللغة" 1/ 694 (حوذ).

قال النحويون: هذا الحرف خرج على الأصل من بين نظائره إشعارًا بالأصل إذا استمر بالإعلال في نظائره، نحو استعاروا، واستطاروا، واستقام، وما أشبه ذلك. ويجوز: استحاذ يستحيذ على قياس: أطاب، وهو لغة (¬1). فأما معنى قوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} فقال فيه كثير من أهل المعاني والتفسير، الزجاج وغيره: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم والإخبار بعورة محمد، ونطلعكم على سر المسلمين (¬2). وهذا لا يظهر في تفسير هذا الحرف، إلا أن يقال: إن المنافقين غلبوا عليهم بهذا، حيث لم يقدروا هم على الاطلاع على عورة المسلمين ومعرفة أسرارهم إلا من جهة المنافقين، فهذا وجه لا يبعد. وأظهر من هذا ما قاله المبرد، وهو أنه قال: معناه ألم نغلبكم على رأيكم ونصرفكم عن الدخول في جملة لمؤمنين (¬3)؟ وقوله تعالى: {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. أي: (بتخذيلهم) عنكم، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم. قال أهل المعاني: ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنّة على الكافرين، أي: فاعرفوا لنا الحق في هذا عليكم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 333، و"معاني الزجاج" 2/ 122، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 462، و"تهذيب اللغة" 1/ 694 (حوذ)، و"الكشف والبيان" 4/ 134 ب. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 122، وانظر: الطبري 5/ 332، و"بحر العلوم" 1/ 399، و"النكت والعيون" 1/ 537. (¬3) انظر: البغوي 2/ 302، و"زاد المسير" 2/ 229. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 229.

142

وقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يريد المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس: يريد أنه أخّر عقاب المنافقين إلى الموت ووضع عنهم السيف في الدنيا (¬1). وقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. أي حجة يوم القيامة. قاله ابن عباس والسدي، وهو قول علي -رضي الله عنه-، أن المراد بهذا في القيامة (¬2)؛ لأنه عطف على قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قال أهل المعاني: وذلك أن الله تعالى يُظهر ثمرة إيمان المؤمنين ويصدّق موعودهم، ولم يشركهم الكفار في شيء من اللذات كما شاركوهم اليوم، حتى يعلموا أنَّ الحق معهم دونهم (¬3). 142 - قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قال ابن عباس: "يريد في الدنيا" (¬4). والمعنى: أنهم يعملون عمل المُخادع بما يظهرونه ويبطنون خلافه من النفاق. وقال الزجاج: أي: يخادعون (النبي) (¬5) بإظهارهم الإيمان وإبطانهم ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 230. (¬2) أخرج الآثار عن الثلاثة: الطبري 5/ 333، 334، وانظر: "زاد المسير" 2/ 230. (¬3) جاء عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما، أن ذلك كائن يوم القيامة وفي الآخرة. انظر: الطبري 5/ 333، 334، و"بحر العلوم" 1/ 399، و"النكت والعيون" 1/ 537 - 538، والبغوي 2/ 302. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في المخطوط: "الشيء"، وهو تصحيف ظاهر كما يدل عليه باقي الكلام، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 122.

الكفر، فجعل الله عز وجل مخادعة النبي مخادعة (الله) (¬1)، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] (¬2). وقوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي مجازيهم بالعقاب علي خداعهم (¬3). وقال ابن عباس والمفسرون: وهو خادعهم في الآخرة، وذلك أنهم يُعطون نوراً كما يُعطى المؤمنون، فإذا مضوا على الصراط طفى نورهم وبقوا في الظلمة (¬4). وقوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ}. قال ابن عباس: "يريد مع المؤمنين" (¬5). {قَامُوا كُسَالَى} أي: متثاقلين متباطئين (¬6). وهو معنى الكسل في اللغة. قال ابن عباس: "أي لا يرجون لها ثوابًا, ولا يخافون على تركها عقابًا" (¬7). {يُرَاءُونَ النَّاسَ} معنى الرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله. ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، والصواب: له، أو لله، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 123. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 122، 123. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 135 أ، والبغوي 2/ 302. (¬4) عن ابن عباس بمعناه في "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 101. وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي وعامة المفسرين. انظر: الطبري 5/ 334، و"الكشف والبيان" 4/ 135 أ، والبغوي 2/ 302، و"زاد المسير" 2/ 231. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 101. (¬7) لم أقف عليه، انظر: "زاد المسير" 2/ 231.

143

قال المفسرون: يراؤون الناس بصلاتهم لكي يراهم الناس مصلين، لا يريدون بها وجه الله (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} قال ابن عباس: "يقول إذا سمع الذاكر لله ومن يخافه ذكره معه، وأما وحده فلا يذكر الله" (¬2). وقال الحسن: "إنما قل ذلك؛ لأنهم يعملونه رياءً وسمعة، ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيراً" (¬3). وقال قتادة: إنما قل لأن الله لم يقبله، وما رد الله فهو قليل، وما قبله فهو كثير (¬4). وقال بعض أهل المعاني: أي: إلا يسيرًا من نحو التكبير وما يظهر، دون القراءة والتسبيح، لأنهم يعملونه للناس (¬5). 143 - قوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} الآية. يقال: ذبذبه فتذبذب، أي: حركه فتحرك، وهو كتحريك شيء معلق بين السماء والأرض، ولهذا تسمى معاليق الهودج ذباذب (¬6)، ويسمى الفرج ذبذبًا (لتحرك لا يتذبذب) (¬7)، يقال: ذبذبه، أي: جعله يضطرب، ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 335، و"الكشف والبيان" 4/ 135 ب، و"الدر المنثور" 2/ 417. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرجه بمعناه الطبري 5/ 335، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 135 ب، و"زاد المسير" 2/ 232، و"الدر المنثور" 2/ 417. (¬4) أخرجه الطبري 5/ 335، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 135 ب، و"زاد المسير" 2/ 232، و"الدر المنثور" 2/ 417. (¬5) "النكت والعيون" 1/ 538، وانظر: "زاد المسير" 2/ 232. (¬6) انظر: "العين" 8/ 178، و"تهذيب اللغة" 2/ 1265، و"اللسان" 3/ 1485 (ذبب). (¬7) هكذا في المخطوط، ولعله تصحيف، وقد جاء في "العين" 18/ 178 (ذب): "الذباذب ذكر الرجل، لأنه يتذبذب أي يتردد"، وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1266، و"اللسان" 3/ 1485 (ذبب).

فتذبذب أي: اضطراب (¬1)، قال النابغة: ألم ترَ أن الله أعطاكَ سورةً ... ترى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يتذَبْذَبُ (¬2) وقوله تعالى: {بَيْنَ ذَلِكَ}. أي: بين الكفر والإيمان، أو بين الكافرين والمؤمنين (¬3). وذلك يشار به إلى الجماعة. وقد ذكرنا الكلام فيه عند قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} بأبلغ شرح (¬4). وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ} [النساء: 139] الآية، وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان. قال ابن عباس: "يريد لا كافر ولا مؤمن" (¬5). وإنما أراد ابن عباس لا كافر ظاهر الكفر، بدليل قول السدي: ليسوا بمشركين مُصرِّحين الشرك (¬6)، وليسوا بمؤمنين (¬7). وقول قتادة: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين الشرك (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 335، و"زاد المسير" 2/ 232. (¬2) "ديوانه" ص 65، والطبري 5/ 335. (¬3) انظر: الطبري 5/ 336. (¬4) انظر: [البقرة: 68]. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 101. (¬6) هكذا، وقد تكون: "بالشرك". (¬7) أخرجه بنحوه الطبري 5/ 336. (¬8) أخرجه الطبري 5/ 336، وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 8/ 412 وفيه: "مصرحين بالشرك".

قال أهل المعاني: معنى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} مترددين بين الكفر والإيمان، لا إلى المؤمنين بإخلاص الإيمان، ولا إلى المشركين فيخلصوا الشرك على الإظهار والإبطان (¬1). والمُذبذب المتردد المتحرك، ويكون ذلك بتحريك الغير، ولا أحد فعل ذلك إلا الله تعالى فهو قد ذبذبهم، وصيّرهم مترددين يتذبذبون. وقوله تعالى: {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} إشارة إلى الفريقين الذين تقدم ذكرهما، وهما الكافرين والمؤمنين (¬2). وقد ذكرنا أنَّ المراد بالكافرين في هذه القصة اليهود. فإن قيل: كيف يجوز أن يُذموا بأنهم لا إلى الكافرين، وهم لا يستحقون المدح، وإن صاروا إليهم بإظهار الكفر. والجواب: أنهم تركوا ذلك الكفر بكفر أشر منه وأوضع لصاحبه، وذلك أن المنافق أشرّ من المجاهر بالكفر، والمجاهر أحسن حالًا منه، لأن المجاهر يُرجى (¬3) فلاحه بالاستدعاء إلى الحق، والمنافق ميئوس منه، فجاز أن يُذموا بترك كفر إلى كفرٍ أوضع منه. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} قال ابن عباس: "يريد من أضله الله فلن تجد له دينًا" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 5/ 336، و"الكشف والبيان" 4/ 135 أ. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 135ب. وهكذا جاء التعبير بالنصب "الكافرين والمؤمنين" والظاهر الرفع: "وهما الكافرون والمؤمنون" على أنه مبتدأ وخبر. (¬3) في المخطوط (يرجا) بالمحدودة. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 101.

144

144 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} الآية. قال المفسرون: لما ذم الله المنافقين بأنهم مرة إلى الكفار ومرة إلى المسلمين من غير أن يقرُّوا مع أحد الفريقين، نهى المسلمين في هذه الآية أن يصنعوا كصنيع المنافقين فقال: {لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} يعني (¬1) اليهود من قريظة والنضير (¬2). وذلك أنَّ الأنصار بالمدينة كان لهم رضاع وحلف ومودة، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نتولى (¬3)؟ فقال: "المهاجرين"، ونزلت هذه الآية. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬4). وقال مقاتل: "كانوا يظهرون المودة للمشركين الذين بمكة، فنهاهم الله (ذلك) (¬5) " (¬6). فعلى هذا المراد بالكافرين المشركون، والقول الأول أظهر. ومعنى الولي الذي يتولى صاحبه بالنُّصرة. وقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}. قال ابن عباس: "يريد حجة بينة" (¬7). وقال قتادة: "عذرًا مبينًا" (¬8). ¬

_ (¬1) في المخطوط معنى، بالميم بدل الياء. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 399، و"زاد المسير" 2/ 233. (¬3) في المخطوط: يتولى. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: عن ذلك. (¬6) هذا الأثر عن مقاتل لم أقف عليه. (¬7) عزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في "الدر المنثور" 2/ 418. (¬8) أخرجه الطبري 5/ 337.

145

والمعنى: أَتُرِيدونَ أَن تَجْعَلُواْ لله عَلَيْكُمْ في عقابكم حجة بموالاة الكفار، أي: أنكم إذا واليتموهم صارت الحجة عليكم في العقاب. 145 - قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} اختلفوا في معنى الدرك، فقال شمر: الدَّرك أسفل كل شيء ذي عمقٍ، كالرَّكيَّة ونحوها (¬1). وقال أبو عدنان (¬2): درك الرّكيَّة: قعرها الذي أُدرك فيه الماء (¬3). وقال الليث: الدَّرك: أقصى قعر الشيء، كالبحر ونحوه (¬4). فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم. وبهذا قال ابن عباس، فقال: معناه في أسفل النار (¬5). وكذلك قال عكرمة (¬6). وقال آخرون: الدَّرك: الطبق من أطباق جهنم. رواه ثعلب عن ابن الأعرابي (¬7). وقال الليث: الدَّرك: واحد من أدراك جهنم من السبع (¬8). وأصل هذا من الإدراك، بمعنى اللحوق، ففيه إدراك الطعام وإدراك الغلام، فالدرك ما يلحق من الطبقة (¬9). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1176 (درك). (¬2) لم أقف له على ترجمة. (¬3) "تهذيب اللغة" 10/ 110 (درك). (¬4) "العين" 5/ 327، و"تهذيب اللغة" 10/ 110 (درك). (¬5) "تفسيره" ص (163)، وأخرجه من طريق علي: الطبري 9/ 339. (¬6) لم أقف عليه (¬7) "تهذيب اللغة" 10/ 110 (درك) (¬8) "العين" 5/ 327، و"تهذيب اللغة" 10/ 110 (درك) (¬9) انظر: "العين" 5/ 328، و"تهذيب اللغة" 10/ 110 (درك)

والظاهر أن جهنم طبقات، السفلى أشدها. قال الأخفش وأبو عبيدة: جهنم أدراك، أي منازل، وكل منزلة منها درك (¬1). وقال الضحاك: (الدَّرج) إذا كان بعضها فوق بعض، و (الدَّرك) إذا كان بعضها أسفل من بعض (¬2). وقال ابن جُريج: "سمعنا أن جهنم أدراك" (¬3). وقال الفراء: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} أي: في أسفل درج النار (¬4). واختلف القراء في (الدَّرك)، فقرئ بفتح الراء وجزمه (¬5). قال الفراء: هما لغتان، وجمعهما أدراك (¬6). وقال الزجاج: اللغتان جميعًا حكاهما أهل اللغة، إلا أن الاختيار فتح الراء، لأنه أكثر في الاستعمال (¬7). وقال أبو حاتم: جمع الدَّرَك: أدراك: كقوله: أجمال وأفراس، في جمع جمل وفرس. وجمع الدَّرْك: أدْرُك، مثل: أفلُس وأكلب (¬8). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 242، ولم أجده عن الأخفش. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرجه الطبري بسنده 5/ 338، ولكن بالسياق واللفظ التالي: " ... عن ابن جريج قال: قال لي عبد الله بن كثير: قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. قال: سمعنا أن جهنم أدراك، منازل". (¬4) "معاني القرآن" 1/ 292، وانظر: "الزاهر" 1/ 518، و"تهذيب اللغة" 10/ 110 درك. (¬5) قرأ بسكون الراء عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "الحجة" 3/ 188، و"المبسوط" ص 159. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 1/ 292، و"تهذيب اللغة" 2/ 1177 (درك) (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 124 يتصرف، وانظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 1/ 401. (¬8) لم أقف عليه.

146

قال أبو علي: هما لغتان في الكلمة، مثل: الشَّمَع والشّمَع -في الصحيح-، والقصّ والقصصَ -في المضاعف-، والعيب والعاب، والذيم والذَّام -في المعتل (¬1). قال أبو بكر ابن الأنباري: قد قال الله تعالى في المنافقين: إنهم في الدرك الأسفل من النار، وقال في آل فرعون: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] فأيهما أشد عذابًا، المنافقون أم آل فرعون؟ قيل: الدرك الأسفل يجوز أن يكون هو أشد العذاب، فسمي باسمين مختلفين، كما يقول القائل: أدخل فلانًا المطبق، ثم يقول بعد ذلك: أدخله أضيق المجالس وأشدها، فيكون هذا موافقًا للأول، غير مخالف له (¬2). وقوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} أي مانعًا يمنعهم من عذاب الله، من جهة شفاعة أو غير ذلك من وجوه النصر المتوهم أنه ينفعهم. قاله الزجاج وغيره (¬3). 146 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قال المفسرون: من النفاق، {وَأَصْلَحُوا} العمل (¬4). {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} وثقوا به والتجأوا إليه (¬5). {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} من شائب رياء الناس (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 188. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 124. (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 136 ب، وانظر: الطبري 5/ 339. (¬5) "الكشف والبيان" 4/ 136 ب، وقال بعض المفسرين أن معنى {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي تمسكوا بدينه ووفوا بعهده. انظر: الطبري 9/ 341، و"بحر العلوم" 1/ 400. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 235.

147

قال علي -رضي الله عنه-: "إن المنافقين أشر من كفر بالله، وأولاهم بمقته، وأبعدهم من الإنابة إليه، لأنه شرط عليهم في التوبة الإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك على غيرهم، ثم شرط الإخلاص، لأنَّ النفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب" (¬1). ثم قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن قتيبة: حاد عن كلامهم غيظًا (¬2)، ولم يُقل: فأولئك المؤمنون، أو من المؤمنين (¬3). قال ابن عباس في قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}: "يريد أدنى منهم" (¬4). ثم أوقع أجر المؤمنين، لانضمام المنافقين إليهم فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. 147 - قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} الآية. ههنا استفهام، معناها التقرير على معنى أنه لا يُعذِّب الشاكر المؤمن (¬5). قال قتادة: "لا يعذب الله شاكرًا ولا مؤمنًا" (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن علي، وجاء نحوه في "تأويل مشكل القرآن" ص 7، و"بحر العلوم" 1/ 400. (¬2) في "الكشف والبيان" 4/ 136 ب: "غيظًا عليهم". (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 7، 8، و"الكشف والبيان" 4/ 136 ب. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تأويل مشكل القرآن" 1/ 211، و"زاد المسير" 2/ 235، و"الدر المصون" 4/ 133. (¬6) أخرجه الطبري 5/ 340.

قال الكلبي: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} يعني المنافقين (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: ما يريد الله بعذاب خلقه (¬2). وقوله تعالى {إِنْ شَكَرْتُمْ} أي: إن عرفتم (¬3) بإحسانه وإنعامه. {وَآمَنْتُمْ} قال ابن عباس: "يريد يثيبه (¬4) " (¬5). قال أهل العلم: هذا على التقديم والتأخير، أي: إن آمنتم وشكرتم؛ لأنَّ الإيمان يُقدَّم على سائر الطاعات، ولا تنفع طاعة دون الإيمان (¬6). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} معناه أنه يزكو عند (¬7) القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم الجزاء. من قول العرب: دابة شكور، إذا كان يكفيه للسِّمن العلف القليل (¬8). وقوله تعالى: {عَلِيمًا} قال ابن عباس: "أي: بنياتكم" (¬9). وقال الكلبي: وكان الله شاكرًا للقليل من أعمالكم، عليمًا بأضعافها لكم (¬10). وقال أبو روق: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} مجازيًا، يجازي على القليل الجزيل (¬11). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هكذا هذه الكلمة في المخطوط، والظاهر: "اعترفتم". (¬4) هكذا في المخطوط ولا معنى له، والظاهر أنها: "بنبيه". (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 136 ب. (¬7) هكذا في المخطوط، والظاهر: "عنده". (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1911، و"الكشف والبيان" 4/ 137 أ. (¬9) لم أقف عليه، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 400. (¬10) لم أقف عليه , وانظر: "بحر العلوم" 1/ 400، و"الكشف والبيان" 4/ 137 أ. (¬11) لم أقف عليه.

148

148 - قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} قال أهل المعاني: ولا غير الجهر أيضًا, ولكن يشبه أن تكون الحال أوجبت هذه القضية، كقوله: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] والتبيُّن واجب في الظعن والإقامة، ولكن الحال أوجبت ذلك. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}. اختلفوا في وجه هذا الاستثناء: فأبو عبيدة ذهب إلى أن هذا من باب حذف المضاف، على تقدير: إلا جهر من ظلم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (¬1). وذهب الزجاج إلى أن المصدر ههنا بمعنى الفعل، على معنى: لا يحب الله أن يُجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، فيكون (من) رفعًا بدلًا من معنى أحد، المعنى: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا المظلوم. ويجوز: إلا المظلوم أيضًا بالنصب، كقولك: ما جاءني أحد إلا زيد رفعًا، وهو الأجود، و: إلا زيدًا جائز (¬2). والذي ذكره الزجاج من أن المراد بالمصدر الفعل، هو قول الفراء أيضًا (¬3)، وذكرا جميعًا وجهًا آخر، وهو أن يكون: (إلا من) استثناء منقطعًا من الأول، ويكون موضعه نصبًا؛ لأنه استثناء ليس من الأول، والمعنى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن المظلوم يجهر بظلامته تشكيًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 142. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 126. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 1/ 293. (¬4) انظر: "معاني الفراء" 1/ 293، و"معاني الزجاج" 2/ 125, 126

وقرأ جماعة من الكبار -الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير-: إلا من ظَلم، بفتح الظاء (¬1)، ويكون الاستثناء منقطعًا، ويكون قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] كلامًا تامًا، ثم قال: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} على معنى: لكن من ظلم فدعوه وخلوه. قاله الفراء (¬2). وقال الزجاج: لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء من القول ظلمًا واعتداءً. قال: ويجوز أن يكون المعنى: لكن من ظلم اجهروا له بالسوء من القول (¬3). قال الفراء: ومثله مما يجوز أن يُستثنى الأسماء وليس قبلها شيء ظاهر قولك: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلاً، يريد بذلك الله، فجاز استثناء الرجل ولم يذكر قبله شيء من الأسماء، لأن الخصومة والمراء لا يكونان إلا من الآدميين (¬4). فأما التفسير فقال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد الضيافة، ينزل الرجل بالرجل عنده سعةٌ فلا يضيفه، فإن تناوله بلسانه فقد عذره الله" (¬5). وهذا قول مجاهد (¬6) وسعيد بن المسيب (¬7) وجميع أهل المعاني (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 1/ 3، والقرطبي 3/ 6. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 293. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 126. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 294. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: الطبري 6/ 3، و"الكشف والبيان" 4/ 137 ب، و"النكت والعيون" 1/ 431، والقرطبي 6/ 2. (¬7) لم أقف على قوله. (¬8) أهل المعاني يقولون بعموم الآية في الظلم دون خصوصها بنقص حق الضيف. انظر: الطبري 6/ 3، و"معاني الزجاج" 2/ 125، 126، و"الكشف والبيان" 4/ 127 ب.

وزعم مجاهد أن ضيفًا تضيف قومًا فأساءوا قراه، فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكو (¬1). وذهب جماعة من المفسرين إلى أن هذه الآية عامة في كل مظلوم، وله أن ينتصر من ظالمه بالدعاء عليه. يُروى ذلك عن ابن عباس (¬2) وقتادة والحسن والسدي (¬3) وابن زيد (¬4) ويمان بن رئاب (¬5). قال العلماء: للمظلوم أن يشكو من ظالمه إذا صدق في شكايته، وله أن يدعو عليه بما لا يعتدي فيه، مثل أن يقول: اللهم استخرج حقي منه، اللهم حِلْ بينه وبين ما يريد من الظلم، اللهم اكفني شره (¬6). فإن قذف إنسانٌ غيره، فليس للمقذوف، أن يقابله بمثل ذلك (¬7)، وإنما يحل له الانتصار منه بالتعزير ورفع الصوت عليه بالتظلم منه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المستبان (¬8) شيطانان" (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 6/ 2. (¬2) "تفسيره" ص 163، وأخرجه من طريق ابن أبي طلحة أيضًا: الطبري 6/ 1. (¬3) أخرج الآثار عنهم: الطبري 6/ 1، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 431، و"زاد المسير" 2/ 238. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) أخرج الطبري 6/ 1 عن الحسن أنه قال في هذِه الآية: "هو الرجل يظلم الرجل فلا يدْع عليه، ولكن ليقل: "اللهم أعني عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد". (¬7) انظر: القرطبي 6/ 2. (¬8) في المخطوط: "المستبان". (¬9) أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" 4/ 162، وصححه الألباني. انظر: "صحيح الجامع" 6/ 15 (6696).

149

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} قال ابن عباس: "سميعًا لقول المظلوم الضيافة، عليمًا بما في قلبه" (¬1). قال أهل المعاني: معنى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} التحذير من التعدي في الجهر الذي أذن فيه بما يظهر أو يضمر، فليتق الله ولا يقل إلا الحق، ولا يقذفه مستورًا فإنه عاص بذلك، والله سميع لما يقوله، عليم بما يضمره (¬2). 149 - قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} قال ابن عباس: "يريد من أعمال البر، مثل: الصدقة والضيافة والصلة" (¬3). {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} قال: "يريد يأتيك من أخيك المسلم، أو من قريبك، أو من ولدك، أو من زوجتك" (¬4). {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} لمن عفا، متجاوزًا لذنوبه. {قَدِيرًا} على ثوابه (¬5). وقال الحسن: " {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} عن ذنوب العباد، إذ لم يُعجِّل عليهم بالعقوبة، {قَدِيرًا} على العفو" (¬6). وقال الكلبي: معناه: أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: الطبري 6/ 4، و"زاد المسير" 2/ 239، والقرطبي 6/ 4 و"البحر المحيط" 3/ 385. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 239، و"البحر المحيط" 3/ 385. (¬4) لم أقف عليه، وانظر: "الوسيط" 2/ 754. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 138 أ. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم أقف عليه.

150

150 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} قال ابن عباس وغيره: يعني اليهود، آمنوا بموسى وعزير والتوراة، وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن (¬1). وقوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} معناه: يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله، وذلك لا يصح لهم؛ لأن الإيمان برسله إيمان به من حيث دعوا إلى طاعته (.. (¬2) ..) وحاولوا من ذلك ما لا يمكنهم، لأنه (¬3) لا يصح الإيمان بالله والتكذيب برسله، أو ببعض منهم، وإنما لم يصح التصديق ببعض الأنبياء دون بعض؛ لأن كل نبي قد دعا إلى تصديق من بعده من الأنبياء، فإذا كذبوهم فقد كذبوا من تقدم منهم (¬4). وقوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أي بين إيمان بعض الرسل وكفر بعض دينًا يدينون الله به. وقال أهل المعاني: يريدون أن يتخذوا مذهبًا يذهبون إليه، ويحملون الناس عليه تآمرًا وتراميًا عليهم (¬5). 151 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} معنى ذكر حق ههنا التأكيد لكفرهم، إزالة لتوهم أنَّ إيمانهم ببعض الرسل يزيل عليهم (¬6) إطلاق ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 240، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 102. وهو نحو قول قتادة والسدي. انظر: الطبري 6/ 6. (¬2) ما بين القوسين كلمة غير واضحة، وقد تكون: "ودينه". (¬3) هكذا في المخطوط، ولعلها: "ولأنه". (¬4) انظر: الطبري 6/ 5، و"الوسيط" 2/ 754. (¬5) انظر: "الوسيط" 2/ 754، و"زاد المسير" 2/ 240 (¬6) هكذا في المخطوط، والظاهر أنها: "عنهم".

152

اسم الكفر على الحقيقة (¬1). وانتصب (حقًّا) على مثل قولك: زيد أخوك حقًّا، وهو تأكيد للخبر، لأنك إذا قلت: زيد أخوك، فقد أخبرت بأخوة زيد، فإذا قلت: حقًّا، أكدت ما أخبرته، فكأنك قلت: أخبرتك بأخوة زيدٍ إخبارًا حقًّا (¬2). ولا يجوز أن ينتصب على معنى: كفروا كفرًا حقًّا، لأن الكفر لا يكون حقًّا على وجه من الوجوه (¬3). 152 - ثم نزل في المؤمنين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} إلى آخر الآية. 153 - قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} قال المفسرون: إنَّ اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت صادقًا أنك نبي ائتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى، فأنزل الله هذه الآية (¬4). وقوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} يعني السبعين الذين ذكرنا قصتهم عند قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]. وقوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني الذين خلفهم موسى مع هارون حين خرج لميقات ربه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 1/ 240، و"البحر المحيط" 3/ 385. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 466، و"البحر المحيط" 3/ 385. (¬3) قال أبو حيان على هذا القول للمؤلف: "ولا يلزم ما قال أنه لا يراد بـ (حقا) الحق الذي هو مقابل الباطل، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن". "البحر المحيط" 3/ 385. (¬4) انظر: الطبري 6/ 7، و"بحر العلوم" 1/ 4014، و"الكشف والبيان" 2/ 138أ، و"أسباب النزول" للمؤلف ص189، و"لباب النقول" ص85. (¬5) انظر: الطبري 6/ 9.

154

وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يريد: العصا، واليد، وفلق البحر (¬1). {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} أي: لم يستأصل عبدة العجل (¬2). {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} أي: حجةً بينة، قوي بها على من ناوأه (¬3) 154 - قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} معناه: بأخذ ميثاقهم، وذلك أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة، فرفع الله جبلًا فوقهم حتى قبلوا، وأخذ ميثاقهم، والجبل فوقهم. وقد بينا هذا في سورة البقرة بيانًا شافيًا (¬4). وتأويل قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} أي: بأخذ ميثاقهم، فالمعنى: بسبب أخذ ميثاقهم، ثم حذف المضاف (¬5). وقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} مضى بيانه في سورة البقرة (¬6). وقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي: لا تعتدوا باقتناص السمك فيه، قاله المفسرون (¬7). يقال: عدا عليه أشدَّ العُدْوِّ والعَدْوِ والعَدَاء والعُدْوَان، أي: ظلمه وجاوز الحد، ومنه قوله: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108] (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 756. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 402، و"الوسيط" 2/ 756، وفيه: "لم نستأصل ... " بالنون. (¬3) ناوأه أي عاداه. (¬4) انظر: [البقرة: 63]. (¬5) انظر:"الكشاف" 1/ 310، و"الدر المصون" 4/ 120. (¬6) انظر: [البقرة: 58]. (¬7) انظر: الطبري 6/ 9، و"الكشف والبيان" 4/ 138 ب، و"البحر المحيط" 1/ 402. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2347 (عدو).

واختلف القراء في هذا الحرف، فقرأ (ابن كثير) (¬1) (تَعْدُوا) ساكنة العين خفيفة (¬2)، وحجتهم قوله في هذه القصة: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] وقال: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 7] (¬3). وقرأ نافع (لا تعْدُّوا) ساكنة العين، مشددة الدال (¬4)، أراد: لا تعتدوا، وحجته قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] فجاء في هذه القصة بعينها: افتعلوا، ثم أدغم التاء في الدال، لتقاربهما, ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر (¬5). وكثير من النحويين يُنكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مُدغمًا , ولم يكن الأول حرف لين، نحو: دابةٍ، وشابةٍ، وثُمُودَّ الثوبُ، وقيل لهم. ويقولون: إن المد يصير عوضًا عن الحركة، وقد قالوا: ثوبْ بكر، وجيبْ بكر، والمد الذي فيهما أقل من المد الذي يكون فيهما إذا كان حركة ما قبلهما منهما (¬6)، وساغ فيه (¬7)، ومعنى قولنا: إذا كان حركة ما قبلهما منهما هو أن دابة حركة ما قبل حرف اللين الفتح، والفتحة من الألف وليس كذلك في ثوب بكر، لأن حرف اللين الواو والفتحة ليست من الواو، ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، والصواب: "الكثير" لأن هذِه القراءة لجميع السبعة غير نافع. انظر:"السبعة" ص 240، و"الحجة" 3/ 190. (¬2) "السبعة" ص 240، و"الحجة" 3/ 190، و"الكشف والبيان" 1/ 402. (¬3) "الحجة" 3/ 190، وانظر: "الكشف والبيان" 1/ 402. (¬4) برواية قالون. "السبعة" ص 240، و"الحجة" 3/ 190، و"الكشف والبيان" 1/ 401. (¬5) "الحجة" 3/ 191. (¬6) في المخطوط أفراد الضمير، وما أثبته هو الموافق لما في "الحجة" 3/ 191. (¬7) في "الحجة": وساغ فيه وفي نحو: "أصيم ومديق ودويبة".

وجاز: ثوب بكر، بإلإدغام، كما جاز: دابة، وشابة، وان لم يكن في: ثوب بكر، من المد ما في: دابة، وشابة. وكذلك قولهم في تصغير صم: أُصَيْمّ ومدْيقٍّ، ودويبة (¬1). فإذا جاز ما ذكرنا مع نقصان المد الذي فيه، لم يمتنع أن يجمع بين ساكنين في نحو: (تعدُّوا)، و (تَخْطّف) لأن الساكن الثاني لما كان يرتفع اللسان عنه وعن المدغم فيه ارتفاعة واحدة، صار بمنزلة حرف متحرك (¬2). وروى ورش (¬3) عن نافع: (لا تعَدُّوا) بفتح العين (¬4)، وذلك أنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين (¬5). وذهب بعض المتأولين إلى أن قوله: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} من العدو بمعنى الحضر (¬6)، والمراد به النهي عن العمل والكسب يوم السبت، كأنه قيل لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم، وقد قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}: "يريد لا تعملوا شيئًا من الأعمال يوم السبت صغيرًا ولا كبيرًا، اقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق أرزقكم رغدًا" (¬7). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 190 بتصرف، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 322 و"الكشف" 1/ 402. (¬2) "الحجة" 3/ 191. (¬3) هو أبو سعيد عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمر القبطي القرشي، مولى آل الزبير، أحد الرواة عن نافع، وقد لقبه نافع بورش لشدة بياضه. كان شيخ الإقراء بالديار المحصرية، ولد سنة 110 هـ ومات رحمه الله سنة 197هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 63، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 295، و"البداية والنهاية" 10/ 240، و"غاية النهاية" 1/ 502. (¬4) "السبعة" ص 240، و"الحجة" 3/ 190. (¬5) انظر: "الكشف" 1/ 402، و"البحر المحيط" 3/ 388 (¬6) هكذا بالضاد، ولعل الصواب: "الحظر" بالظاء. (¬7) لم أقف عليه.

155

وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا} قال ابن عباس: "يريد عهدًا مؤكدًا في النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). 155 - قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (ما) ههنا صلة مؤكدة، ومعني التأكيد بها: تفخيم شأن ما دخلت عليه بتكثير اللفظ بها. قال الزجاج: ومعنى (ما) التوكيد، أي: فبنقضهم ميثاقهم حقًّا. قال: الجالب للباء والعامل فيها قوله تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] المعنى: بنقضهم ميثاقهم والأشياء التي ذكرت بعده حرمنا عليهم طيبات (¬2). وهذا القول حسن؛ لأنَّ هذه القصة امتدت إلى قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وقوله تعالى: {فَبِظُلْم} وبدل وتفسير لما ذكر من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} و {وَكُفْرِهِمْ} و {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ} و {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى} وهذا كله ظلم من اليهود (¬3). وقال بعضهم: الجالب للباء محذوف، على تقدير: فبما نقضهم وكفرهم وقتلهم لعناهم وسخطنا عليهم. وهذا يُروى عن قتادة (¬4). ويكون الدليل على هذا المحذوف قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}؛ لأن الطبع على قلوبهم قد دل على معنى اللعن لهم والسخط عليهم. والقول هو الأول. وباقي الآية إلى قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} قد سبق تفسيره فيما مضى من الكتاب (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 102. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 127. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 127. (¬4) أخرجه الطبري 6/ 11. (¬5) تقدم في مواضع من سورة البقرة.

156

وقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} قال ابن عباس: "يريد ختم الله عليها" (¬1). قال أبو إسحاق: معنى طبع في اللغة وختم واحد (¬2). ومضى الكلام في ختم (¬3)، ويقال: طبع الله على قلب الكافر، أي: ختم عليه فلا يعي وعظًا ولا يوفق لخير (¬4). قال الحسن: إن بين الله وبين العبد حدًا، إذا بلغه طبع على قلبه، فلم يوفق لخير (¬5). وقوله تعالى: {بِكُفْرِهِمْ} قال الزجاج: جعل الله مجازاتهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم (¬6). وهذا كقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، وقد مرّ. وقوله تعالى: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} قال ابن عباس: "يريد الذين آمنوا منهم" (¬7). وقد استقصينا هذا عند قوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]. {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. 156 - قولهَ تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ} يعني: بالمسيح، جحدوا أنه نبي. قاله ابن عباس (¬8). {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حين "رموها بالزنا" (¬9). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 103. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2161 (طبع). (¬3) انظر: [البقرة: 7]. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2161، و"مقاييس اللغة" 32/ 438 (طبع). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 127. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 243، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 103. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" ص 103. (¬9) "تفسير ابن عباس" ص (163)، وأخرجه الطبري 6/ 12، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 39 أ.

157

وزعموا أن عيسى لغير رشده (¬1) وذكرنا معنى البهتان في قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} [النساء: 112]. 157 - قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} الآية. اليهود تدعى أنهم قتلوا عيسى بن مريم، وقد كذبوا في ادعائهم ذلك، واستحقوا على هذه الدعوى ما يستحقه قاتل عيسى، لأنهم أتوا ذلك الأمر على أنه قتل نبي. قاله الزجاج وغيره (¬2). قال المفسرون: إنَّ عيسى عليه السلام لما أراد الله عز وجل رفعه إليه قال لأصحابه: "أيكم يرضى أن يُلقى عليه شبهي، فيقتل ويصلب، ويدخل الجنة؟. فقال رجل منهم: أنا. فألقي عليه شبهه، فقُتل وصُلب، وهم يظنون أنهم قتلوا عيسى، فقال الله تعالى تكذيبًا لليهود: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} " (¬3). قال ابن السكيت: يقال: صَلَبَه يَصْلُبُه صَلبًا، وأصله من الصليب وهو الودك، وأنشد: ترى لِعظامِ ما جَمعت صَليبًا (¬4) ¬

_ (¬1) من قوله: "وزعموا" ليس من الأثر عن ابن عباس، ويحتمل أن المراد به أنه لما تكلم عيسى عليه السلام وهو في المهد زعموا أنه لم يرشد ولم يعقل بعد، والله أعلم. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 128، و"زاد المسير" 2/ 244. (¬3) انظر: الطبري 6/ 12 - 13، و"بحر العلوم" 1/ 402، و"الكشف والبيان" 4/ 139 أ، و"زاد المسير" 2/ 244، و"ابن كثير" 1/ 633. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 2037 (صلب)، والصيب: ودك العظام. وما أنشده عجز بيت لأبي خراش الهذلي، وصدره: جريمة ناهض في رأس نيق انظر -إضافة إلى "التهذيب"- "ديوان الهذليين" 2/ 133 و"الحجة" 3/ 196 وسيأتي.

وقوله تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي: ألقي شبهه على غيره حتى ظنوا لما رأوه أنه المسيح. وهذا قول الحسن وقتادة ووهب (¬1) ومجاهد (¬2). وقال غير هؤلاء: إنَّ الله جل وعز لما رفعه إليه خاف رؤساؤهم فتنة عامتهم بأن الله منعهم منهن، فعمدوا إلى إنسان فصلبوه ولبسوا على الناس، وذلك أنهم رأوا قتيلًا مصلوبًا من بعيد، قد أرجف بأنه المسيح، فتواطؤوا على ذلك وحكموا به (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: في قتله (¬4)، وكان اختلافهم فيه أنهم لما قتلوا الشخص المشبَّه به، كان الشبه قد ألقي على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى، فلما قتلوه ونظروا إليه قالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره (¬5). وقال السدي: إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريين في بيت، فدخل عليهم رجل منهم، فألقى الله عز وجل شبه عيسى عليه، ورفع عيسى إلى السماء من كوة في البيت، فدخلوا البيت وقتلوا ذلك الرجل على أنه عيسى، ثم إنهم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فذلك اختلافهم فيه (¬6). ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) انظر: الطبري 6/ 12 - 17، و"تفسير الهواري" 1/ 435، و"الكشف والبيان" 4/ 139 أ، وابن كثير 2/ 430، و"الدر المنثور" 2/ 423. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: الطبري 6/ 12، و"بحر العلوم" 1/ 402. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 140 أ. (¬6) أخرجه بمعناه الطبري 6/ 14، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 140 أ.

وقال أبو إسحاق: الذين اختلفوا في قتله شاكُّون, لأن بعضهم زعم أنه إله ما قُتل، وبعضهم زعم أنه قُتل، وهم في ذلك شاكُّون (¬1). وقال الكلبي: اختلافهم فيه هو أن اليهود قالت: نحن قتلناه وصلبناه، وقال بعضهم: ما قتلناه ولكن رأيناه يُرفع إلى السماء ونحن ننظر إليه (¬2). قال الله عز وجل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} منصوب على أنه استثناء ليس من الأول، المعنى: ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن (¬3). والكناية في قوله: {لَفِي شَكٍّ مِنْه} تعود إلى القتل، والمعنى: وإن الذين اختلفوا في قتل عيسى لفي شك من قتله، ما لهم بعيسى من علم قُتل أو لم يقتل (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} يجوز أن تكون الهاء راجعة إلى المسيح، كما قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}، والمعنى: ما قتلوا المسيح على يقين من أنه المسيح (¬5). وقال الحسن: معنى (يقينًا) ههنا حقًّا (¬6). فيجعله من تأكيد الخبر، وعلى هذا يتم الكلام عند قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي يقينًا ما قتلوه، على: حقًّا ما قتلوه. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن واعرابه" 2/ 128. (¬2) "الكشف والبيان" 4/ 140 أ. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 468، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 212. (¬4) انظر: الطبري 6/ 12، و"بحر العلوم" 1/ 402. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 129. وهذا الوجه رجحه السمين الحلبي، وذكر أن عليه جمهور المفسرين. انظر: "الدر المصون" 4/ 147. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 246.

158

وقال ابن الأنباري: ويجوز أن يعود معنى اليقين إلى رفع الله تعالى إياه، أي: رفعه الله إليه يقينًا بغير شك. والنصب ليقين جواب مضمر، كأنه قيل: يقينًا لقد رفعه الله إليه باليقين، ومذهب القسم ينتصب بجوابه المضمر، فحذف الجواب واكتفى بما دل عليه من قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. ولا يجوز أن تنصب يقينًا بالفعل الذي بعد (بلُ)، لأن بل أداة مانعة، فلم يعمل ما بعدها فيما قبلها (¬1). ويجوز أن تكون الهاء عائدة إلى الظن (¬2)، يريد: ما قتلوا ذلك الظن يقينًا، أي لم يزل ظنهم ولم يرتفع ما وقع لهم من الشبهة في قتله، وهذا قول ابن عباس والسدي (¬3). ويزيد هذا بيانًا ما قاله الفراء والزجاج: إنَّ الهاء ههنا للعلم، كما تقول: قتلته علمًا، وقتلته يقينًا، أي علمته علمًا تامًّا (¬4). قال ابن قتيبة: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} يعني العلم، لم يتحققوه ويستيقنوه. وأصل ذلك أنَّ القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علمًا أحيط به، وإنما كان ظنًا (¬5). 158 - وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أكثر القراء على إدغام اللام في الراء، لقرب مخرج اللام من الراء والراء متمكنة فيها، كالتكرير، ولهذا ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 246، و"الدر المصون" 4/ 148. (¬2) هذا هو الوجه الثاني. (¬3) "تفسير ابن عباس" ص 164، وأخرج قولهما الطبري 6/ 17، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 391. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 294، و"معاني الزجاج" 2/ 128 (¬5) "تأويل مشكل القرآن" ص 133، وانظر: "غريب القرآن" له ص 137.

159

لم يُجز إدغام الراء في اللام؛ لأن الأنقص يدغم في الأفضل. ويجوز الإظهار في: {بَلْ رَفَعَهُ}، لأن اللام والراء من كلمتين. ومعنى {رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سوى الله فيه حكم، وكان رفعه إلى ذلك الموضع رفعًا إليه، لأن رفع عن أن يجري عليه حكم أحد من العباد، كقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210] (¬1) ولم تخرج الأمور اليوم من حكمه فترجع إليه، ولكن المعنى أنَّ الأمور تصير بحيث لا يجري لأحد حكم فيها حقيقة ولا مجازًا سوى الله تعالى يوم القيامة. يؤكد ما قلنا أنَّ الحسن قال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إلى السماء (¬2). كما قال: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] وكانت الهجرة يومئذٍ إلى المدينة، وكذلك ما أخبر به عن (إبراهيم) (¬3) في قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] وكان ذاهبًا إلى الشام، فجعل ذهابه إلى الموضع الذي أمره ربه ذهابًا إلى ربه. {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} في اقتداره على نجاة من يشاء من عباده. {حَكِيمًا} في تدبير في النجاة. 159 - قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية. (وَإِن) بمعنى: ما النافية. قال الزجاج: والمعنى: وما فيهم أحدٌ إلا ليؤمنن به، وكذلك قوله: ¬

_ (¬1) وقد وردت هذِه الجملة في أكثر من آية. انظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" ص 301 (رجع). (¬2) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 436، و"النكت والعيون" 1/ 544. (¬3) طمست الكلمة في المخطوط , والآية في إبراهيم -عليه السلام-.

{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] المعنى: وما منكم أحد إلا واردها. وكذلك: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} (¬1) [الصافات: 164]، وأنشد: لو قلتَ ما في قومها لم تيثَم (¬2) ... يفضُلُها في حَسبٍ وميسَمِ (¬3) أي: أحد يفضلها (¬4). وقد ذكرنا فيما تقدم جواز حذف الموصول أو الموصوف من الكلام والخلاف فيه عند قوله في النساء: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} الآية [النساء: 46]. وقال الكسائي: تقول العرب: إن منهم ليقومَن -بفتح الميم-، وليقومُن -بضم الميم-، وفي قراءة أبيّ: (إلا ليُؤمنُن) بضم النون الأولى. قال: وتقول العرب: إن منهم إلا يصلح، وإن منهم إلا ليصلح، المعنى: إلا من يصلح (¬5). واختلفوا في معنى الآية: فقال ابن عباس في رواية عطاء، وعطية وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع وابن زيد: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ} بعيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ} عيسى. وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به، حتى تكون الملة واحدة (...) (¬6) الإسلام (¬7). ¬

_ (¬1) في المخطوطة زيادة كلمة (أحد) بعد (منا)، وهو خطأ. (¬2) أي: تأثم, وكذا هو في بعض روايات البيت. (¬3) البيت لحكيم بن معية كما في "خزانة الأدب" 2/ 311، وفي "معاني القرآن" للفراء 1/ 270 دون نسبة. والميسم يطلق على أثر الجمال. انظر: "اللسان" 8/ 4838 (وسم). (¬4) "معاني القرآن إعرابه" 2/ 129. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) كلمة غير واضحة في المخطوط، ويحتمل أن تكون: هي. (¬7) انظر: الطبري 6/ 18.

قال عطاء: إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله إلا آمن به، وصدقه، وشهد (¬1) أنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه (¬2). واستبعد هذا القول قوم، وقالوا: الآية عامة في جميع أهل الكتاب والذين يبقون منهم إلى وقت نزول عيسى حتى يؤمنوا به شرذمة قليلة. والأمر على ما قالوا, ولكن لا يُنكر أن يحمل هذا على العموم والمراد به الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله يؤمنون به {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} (¬3). وقال ابن عباس في رواية الوالبي وعكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: المعنى: وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته إذا عاين الملك، ولا ينفعه حينئذ إيمانه؛ لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه (¬4). فالهاء في {مَوْتِهِ} تعود إلى الكتاب (¬5)، قالوا: لا يموت يهودي ¬

_ (¬1) غير واضحة تمامًا في المخطوط، وانظر: "زاد المسير" 2/ 248. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 248. (¬3) رجح ابن جرير -رحمه الله- القول الأول وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى -عليه السلام- إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام. انظر: الطبري 6/ 21 - 23. قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 435: "ولا شك أن هذا الذي قال ابن جرير هو الصحيح، لأن المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ... ". (¬4) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 164، والطبري 6/ 19 - 23، و"النكت والعيون" 1/ 544. (¬5) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "أهل الكتاب".

160

ولا صاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى وإن احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله السبع (¬1). قال عكرمة: امتحنت ابن عباس فقلت: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم في الهواء، فقلت: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يُلجلج بها لسانه (¬2). ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أُبيّ: (قبل موتهم) (¬3). وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} قال قتادة وابن جريج: شهيدًا على أن قد بلغ رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه (¬4). 160 - قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} إلى آخر الآيتين. قال مقاتل: كان الله حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فحرم الله عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية (¬5). [الأنعام: 146]. وقال قتادة: "عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم" (¬6). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 4/ 141 أ. وقد ورد نحو هذا القول عن مجاهد كما أخرجه الطبري 6/ 20. (¬2) أخرج معناه من طريق عكرمة عن ابن عباس الطبري 6/ 20، وانظر: ابن كثير 1/ 636. وبنحو هذا اللفظ جاء عن ابن عباس لكن من طريق سعيد بن جبير، في المرجع نفسه. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 295، والطبري 6/ 20 في الأثر عن ابن عباس من طريق سعيد ابن جبير. (¬4) أخرجه الطبري 6/ 23، وهذا لفظ قتادة ومعنى كلام ابن جريج. (¬5) انظر: "تفسيره" 1/ 421، 422، و"زاد المسير" 2/ 250. (¬6) أخرجه الطبري 2/ 24، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 434.

161

وقوله تعالى: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} قال مجاهد: وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن الحق (¬1). 161 - وقوله تعالى: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يعني: ما أخذوه من الرّشى في الحكم، وغير ذلك مما يؤخذ على جهة الخيانة، وكل وجه يؤخذ به المال مما هو محظور في الدين (¬2). وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} ولم يقل: أعتدنا لهم، لأنه علم أن منهم من يؤمن؛ فيأمن العذاب (¬3). وأما وجه تحريم الطيبات عليهم، كيف كان؟ ومتى كان؟ وعلى لسان من حرم عليهم؟ فلم أجد فيه شيئًا أنتهي إليه فتركته، وذكرت اختلاف المفسرين في كيفية تحريم الإبل وألبانها عليهم عند قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية [آل عمران: 93]. 162 - قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} قال قتادة ومقاتل: (لكن) ههنا بمعنى: استدراك، والاستثناء لمؤمني أهل الكتاب (¬4). قال ابن عباس: يعني: المبالغين (¬5) في علم الكتاب منهم. يريد عبد الله ابن سلام (¬6) وعدة نفر (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 181، وأخرجه الطبري 24/ 2، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 434. (¬2) انظر: الطبري 24/ 2، و"بحر العلوم" 1/ 403، و"الكشف والبيان" 4/ 142 ب. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 4/ 142 ب. (¬4) أخرجه عن قتادة عبد بن حميد وابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 434، و"تفسير مقاتل" 1/ 422. (¬5) هكذا في المخطوط، وقد يكون الصواب: "البالغين". (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 250، 251، وابن كثير 1/ 646، و"تنوير المقباس" =

قال الزجاج: يعني: أنهم لعلمهم وثبوتهم وبصيرتهم في علمهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: والمؤمنون من أصحاب محمد عليه السلام (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} اختلفوا في وجه نصب المقيمين: فقال أبو زيد: هو نسق على الهاء والميم في (منهم)، المعنى: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين (¬3). قال الزجاج: وهذا عند النحويين رديء؛ لأنه لا يُنسق الظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا في اضطرار (¬4). وذهب بعضهم إلى أن هذا وهم من الكتاب. رُوي ذلك عن عائشة (¬5) رضي الله عنها، وأبان (¬6) بن عثمان (¬7). ¬

_ = بهامش المصحف ص 103، و"الدر المنثور" 2/ 434. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 130. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 103. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 130، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 470، 471، و"الكشف والبيان" 4/ 143 أ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 131. (¬5) أخرج الأثر عنها: الطبري 6/ 25، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 143 أ. (¬6) هو أبو سعيد أو أبو عبد الله أبان بن عثمان بن عفان الأموي، من كبار الثقات التابعين. مات رحمه الله سنة 105هـ انظر: "تاريخ الثقات" 1/ 199، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 351، و"التقريب" ص 87 رقم (141). (¬7) أخرجه الطبري 6/ 25، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 143/ أ. ومثل هذا القول لا يثبت عن الصحابة، وقد رده المحققون من العلماء كما سيأتي قريبًا.

ورُوي أيضًا أنَّ عثمان قال: أرى في المصحف لحنًا، وستقيمه العرب بألسنتها (¬1). وقال أبو حاتم والزجاج وغيرهما: وهذا القول بعيد، لأن الذين جمعوا القرآن من الصحابة كانوا أهل اللغة والقدوة، فكيف يتركون في كتاب الله شيئًا يصلحه غيرهم، وهم الذين أخذوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمعوه، ولم يكونوا ليُعلِّموه الناس على الغلط، فهذا مما لا ينبغي أن يُنسب إليهم، والقرآن محكم لا لحن فيه، ولا فيه شيء تتكلم العرب بأجود منه في الإعراب (¬2). ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه: باب المدح، وقد بينوا فيه صحة هذا وجودته. قالوا: إذا قلت: مررت بزيد الكريم، فإن أردت أن تُخلِّص زيدًا من غيره، فالخفض وجه الكلام حتى يعرف زيد الكريمُ من غير الكريم، وإن أردت المدح والثناء نصبت، فقلت: الكريمَ، كأنك قلت: أذكُرُ الكريمَ، وإن شئت على: هو الكريمُ. وجاءني قومك المطعمين في المَحْل والمُغيثون في الشدائد، على معنى: أذكر المطعمينَ وهم المغيثون، وكذلك هذه الآية، معناها: أذكر المقيمين وهم المؤتون للزكاة (¬3)، وأنشدوا قول خرنق (¬4): ¬

_ (¬1) لا يصح هذا الخبر عن عثمان، بل قال ابن تيمية: إنه باطل. انظر: "زاد المسير" 2/ 252، و"مجموع الفتاوى" 15/ 153، و"شرح شذور الذهب" ص 50. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 131. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 131، 132، وانظر: "الكتاب" 1/ 201، 2/ 62 - 66، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 470 - 471. (¬4) هي الخرنق بنت بدر بن هفان البكرية القيسية، من الشعراء في الجاهلية، وهي أخت لطِرفة بن العبد لأمه، وكانت زوجة عبد عمرو بن بشر سيد قومه، ولها =

لا يَبْعَدن قومي الذين همُ ... سُمُّ العداة وآفةُ الجُزْرِ النازِلين بِكُلِّ مُعْتَركٍ ... والطيبونَ معاقِدَ الأزْرِ (¬1) على معنى: أُذكر النازلين وهم الطيبون، رفعه ونصبه على المدح، وبعضهم برفع النازلين وينصب الطيبين، وهذا قول جميع البصريين (¬2)، وعلى هذا القول المؤرِّج والفراء (¬3) وأبو العباس (¬4). وقد ذكرنا شرح هذا الباب عند قوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} [البقرة: 177] (¬5). وقال أبو علي: نص سيبويه على أن قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاة} نصب على المدح (¬6). وكان الكسائي يذهب إلى أن (المقيمين) في محل الخفض بالعطف على ما في قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 162] والمعنى عنه: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، وتفاؤل في المقيمين الصلاة أنهم الأنبياء، وينكر أن ¬

_ = ديوان مطبوع. انظر: "الشعر والشعراء" ص (103)، و"الكامل" 3/ 40، و"الأعلام" 2/ 303، ومقدمة ديوانها. (¬1) "ديوانها" ص 43، و"الكتاب" 1/ 202، 2/ 64، و"مجاز القرآن" 1/ 143، و"الكامل" 3/ 40، و"معاني الزجاج" 2/ 132، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 407. ومعنى "لا يبعدن": لا يهلكن، والعداة: جمع عاد، و"آفة الجزر": الآفة العلة، والجزر جمع جزور، أي المكثرين لنحر الإبل. والمعترك: موضع القتال. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 132. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لعله المبرد. انظر: "الكامل" 3/ 40. (¬5) انظر: الكتاب 2/ 63 - 66. (¬6) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 470 - 471، و"الدر المصون" 4/ 154.

163

يكون منصوبًا على المدح، قال: لأنه لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتم الكلام ههنا، ألا ترى أنك حين قلت {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} كأنك تنتظر الخبر، وخبره في قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}. وقول البصريين في هذا هو الصحيح الظاهر (¬1)، وقوله: إن الكلام لم يتم، إذ الخبر قوله: {أُولَئِكَ} لا يصح، لأن الخبر إنما هو: {يُؤْمِنُونَ} مع أنه قد يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر، كما يجوز الاعتراض بالقسم، لأنه في تقدير جملة تامة. قال الفراء: والعرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص والتام واحد (¬2). وذهب قطرب إلى أن المعنى: وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين (¬3). وهذا القول في الفساد كقول أبي زيد. 163 - قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية. قال ابن عباس: إن جماعة من اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى الله إليك ولا إلى أحد بعد موسى، فكذبهم الله تعالى وأنزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (¬4). قال أبو عبيد عن الكسائي: وحي إليه الكلام يحي به وحيًا، وأوحى إليه، وهو أن يكلمه بكلام يُخفيه من غيره (¬5). ¬

_ (¬1) وهذا ما رجحه أيضًا النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 470 - 471. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "البحر المحيط" 3/ 396، و"الدر المصون" 4/ 155. (¬4) أخرجه بمعناه الطبري 6/ 28، وانظر: ابن كثير 1/ 647، و"الدر المنثور" 2/ 435. (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 3852 (وحى).

قال أبو إسحاق: أصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء، ولذلك صار الإلهام يسمى وحيًا (¬1). قال غيره (¬2): وكذلك الإشارة والإيماء والكتابة يسمى وحيًا (¬3) فالإشارة قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] أي أشار إليهم. والإلهام قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. وذكر في تقديم نوح على غيره من النبيين أنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام (¬4). وسمى بعض النبيين بعد أن ذكرهم جملةً في قوله: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} تخصيصًا وتفضيلًا، كقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} الزبور كتاب داود. قال ابن عباس: وكان (ما ....) (¬5) وخمسين سورة، ليس فيها حد ولا حكم ولا فريضة ولا حلال ولا حرام (¬6). قال أهل اللغة: الزبور الكتاب، وكل كتاب زبور، وهو فعول بمعنى مفعول، كالرسول والركوب والحلوب، وأصله من: زبرت، بمعنى كتبت (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3852 (وحى). (¬2) هو الأزهري. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3852 (وحى). (¬4) "الكشف والبيان" 4/ 143 ب. (¬5) طمس باقي الكلمة في المخطوط، وقد تكون: "مائتين". (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "العين" 7/ 362 (زبر)، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص (37)، و"تهذيب اللغة" 2/ 1506 (زبر).

164

وذكر ما فيه عند قوله: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ} [آل عمران: 184]. وقرأ حمزة: (زُبُورًا) بضم الزاي (¬1) على أنه جمع زَبْر، أوقع على المزبور الزبر (¬2)، كقولهم: ضَرْبُ الأمير، ونسج اليمن، كما يسمى المكتوب كتابًا، ثم جمع الزُّبر على زبور، وجمعه -وإن كان مصدرًا- لوقوعه موقع الأسماء، كما جمع الكتاب على كتب، لما استعمل استعمال الأسماء (¬3). 164 - قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ} الآية. قال ابن عباس: قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى فنزلت هذه الآية متضمنة ذكر موسى (¬4). قال الزجاج: (ورسلًا) منصوب من جهتين: أجودهما: أن يكون منصوبًا بفعل مضمر، يفسره الذي ظهر، المعنى: وقد قصصناهم، كما تقول: رأيت زيدًا وعمرًا كلمته (¬5)، على معنى: وكلمت عمرًا كلمته. الثاني: أن يحمل على معنى الفعل الأول؛ لمقاربة معنى: {أَوْحَيْنَا} لمعنى: أرسلنا، فكأنه قيل: أرسلناك والنبيين ورسلًا (¬6). ¬

_ (¬1) "السبعة" ص 240، و"الحجة" 3/ 193. (¬2) "الحجة": "اسم الزبر". (¬3) "الحجة" 3/ 194، وانظر: "معاني القرآن" 1/ 323، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 1/ 402. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) عند الزجاج: أكرمته. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 132 بتصرف.

قال ابن عباس: {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} يريد في القرآن في غير سورة (¬1). قال بعض المفسرين: يعني في سورة الأنعام، فإنها نزلت من قبل (¬2). قال الكلبي في هذه الآية: يقول: من الرسل من قد سميناهم لك في القرآن، وعرفناكهم إلى من بعثوا، وما رد عليهم قومهم، ومنهم من لم نُسمه لك، ولم نعرفكهم (¬3). قال أهل المعاني: الذين نوه بذكرهم ههنا من الأنبياء يدل على تفضيلهم على من لم يذكر بأسمائهم، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]. وقد ذكرنا معنى القص والقصص في قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62]. وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} أي مخاطبة من غير وسيطة، وتأكيد {وَكَلَّمَ} بالمصدر يدل على تحقيق الكلام، وأنه سمع كلام الله تعالى؛ لأن أفعال المجاز لا تؤكد بذكر المصادر، لا يقال: أراد الحائط أن يسقط إرادة. وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلامًا في محل فسمع موسى ذلك الكلام؛ لأنه حينئذ لا يكون كلام الله (¬4). قال أحمد بن يحيى: لو جاءت {وَكَلَّمَ اللَّهُ} مجردة لاحتمل ما قلنا وما قالوا، فلمَّا جاءت {تَكْلِيمًا} خرج الشك الذي كان يدخل في ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 104. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 104. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 133 , و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 473, و"زاد المسير" 2/ 256.

165

الكلام وبطل الاحتمال للشيئين (¬1). والتكليم في اللغة معناه: المخاطبة، وهو متعد يقتضي مفعولًا، والتكليم (¬2) لا يقتضيه. ومعنى تكلم: نطق وأوجد الكلام، وقال أهل اللغة: أصل هذه اللفظة التأثير في الشيء، ألا ترى أنك إذا كلمت غيرك أسمعته كلامك يؤثر فيه ما قلته، ولهذا استعملوا هذه اللفظة في الجراحة قالوا: كلمته أكلمه، إذا جرحته وأثرت فيه (¬3). 165 - قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} انتصب رسلًا على البدل من قوله: (ورُّسُلًا) (¬4)، وإن شئت قلت: أوحينا إليهم رسلًا، فيكون منصوبًا على الحال والقطع (¬5). وفي قوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} دليل على أنهم بُعثوا ببيان الطاعة والمعصية؛ لأنهم إنما يبشرون بالثواب على الطاعة، وينذرون بالعقاب على المعصية، ولا يصح ذلك إلا بعد الكشف عنهما. وفي قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس حجة في ترك الطاعة والتوحيد والمعرفة، وقد قال في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3180 (كلم). (¬2) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: التكلم. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3180، و"مقاييس اللغة" 5/ 131، و"اللسان" 2/ 3922 (كلم). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 474، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 213. (¬5) انظر: الطبري 6/ 30، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 474، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 213.

166

أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134]، فبين أنهم كانوا يحتجون بعدم الرسول لو لم يبعث إليهم (¬1). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيزًا في اقتداره على إنجاز موعوده على ألسنة رسله، حكيمًا في إرساله وجميع تدبيره. 166 - قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} الآية. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد سألنا اليهود عنك وعن صفتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود: "إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله"، فقالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله هذه الآية (¬2). قال أهل المعاني: "لكن" لا يبتدأ به، لأنه لاستدراك ما سبق ومضى، وإنما يجيء بعد نفي لشيء فيثبت ذلك الشيء به، وهذه الآية من باب الحذف والاختصار، وذلك أن اليهود لما جحدوا نبوته وأنكروا ما أنزل الله عليه قالوا: ما نشهد لك بهذا، فمن يشهد لك به؟ فترك ذكر قولهم، وأنزل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} (¬3). قال الزجاج: ومعنى {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَد} أنَ الشاهد هو المبين لما يشهد به، فالله عز وجل يبين ما أنزل إليه، ويعلم مع إبانته أنه حق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 306. (¬2) انظر: الطبري 6/ 31، و"الكشف والبيان" 4/ 145 أ، وابن كثير 1/ 651. (¬3) أخرجه الطبري 6/ 31، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 145 ب، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 189، وابن كثير 1/ 651 - 652، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 439، وعزاه إضافة إلى الطبري إلى كل من ابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 231، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 406، و"الكشاف" 1/ 314، و"رصف المباني" ص 347، و"الدر المصون" 4/ 162.

ومعنى إبانة الله تعالى ذلك نصب المعجزة له. ووجه الاحتجاج بشهادة الله على اليهود أنهم أبوا أن يشهدوا بما شهد الله به، وكفى بهذا خزيًا بهم، وأيضًا فإن الله تعالى شهادته تبين صدق نبيه بما يغني عن بيان أهل الكتاب. وقوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} فيه قولان: أحدهما: أنزله وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك، لقيامك به وعملك بالحق فيه. وفي هذا إثبات العلم لله، لأن المعنى: أنزله بعلمه الذي هو عالم به (¬1). الثاني: ما ذكره الزجاج، وهو أنه قال: معنى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي أنزل القرآن الذي فيه علمه (¬2). قال أبو علي: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أنزله وفيه علمه. والجار في موضع الحال، كما أن: خرج بعدته، معناه: خرج وعليه عدته. والعلم المعلوم، أي أنزله وفيه معلومه، كما أن الصيد يراد به المصاد في قوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]. والأيدي (¬3) والرماح إنما تلحق الأعيان، ولا تلحق الأحداث. هذا كلامه (¬4). قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} إنما تعرف شهادة الملائكة بقيام المعجزة ووضوحها، ومن قامت له المعجزة شهدت الملائكة بصدقه، ولا نحتاج مع شهادة الله تعالى في تصحيح المشهود به إلى شهادة غيره، لكن ذكرت شهادة الملائكة الذين هم عباد الله في مقابلة جحود اليهود الذين هم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 134، وانظر: "زاد المسير" 2/ 257. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 134. (¬3) في "الحجة": "فالأيدي". (¬4) "الحجة" لأبي علي 2/ 160.

167

عباد الله، على جهة الاعتياض بهذه من ذاك. ذكره بعض أهل المعاني (¬1) وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} دخلت الباء مؤكدة، المعنى: وكفي الله شهيدًا، ويجوز أن يكون المعنى: اكتفوا بالله في شهادته (¬2). وقد سبق الكلام في مثل هذا (¬3). وهذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن شهادة أهل الكتاب، فشهادة الله عز وجل والملائكة (مع ما) (¬4) فيه من الحجة على جهل من قعد عن هذه الشهادة (¬5). 167 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال عطاء والكلبي: يريد اليهود (¬6). وقوله تعالى: {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن دين الله الإسلام بقولهم: ما نعرف صفة محمد في كتابنا، وإنما النبوة والمبشر بها في ولد هارون، وما أشبه ذلك مما يصرفون به الناس عن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7). وقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} قال عطاء عن ابن عباس: يريد: أبعدهم الله من سبل الخيرات، فلا يهتدون، مثل قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88] (¬8). ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 2/ 160. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 3/ 399. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 134، وانظر: "زاد المسير" 2/ 257. (¬4) في المخطوط جاءت هكذا: "معما". (¬5) يكون في الكلام سقط، ولعل الصواب: "دليل على جهل من قعد عن هذِه الشهادة". (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 104. (¬7) الطبري 6/ 31 - 32، وانظر: "زاد المسير" 2/ 258، والقرطبي 6/ 19. (¬8) لم أقف عليه.

168

168 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: اليهود (¬1). {وَظَلَمُوا} قال ابن عباس: يريد ظلموا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بكتمان نعته (¬2). وقال مقاتل: أشركوا بالله (¬3). والأول أجود، لأن الكفر ينبئ عن الشرك. وقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} هذا فيمن علم أنه يموت على الكفر (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يدل على أنَّ الهداية إلى الله، لا إلى قدرة البشر، وعلى أنه يحسن منه أن يُخص قومًا بالهدى دون قوم. 169 - وفسر الطريق ههنا: بدين الإسلام (¬5)، فاستثنى ما يهديهم فقال: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} قالوا: يعني اليهودية، وهو طريق جهنم (¬6). وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} خالدين على الحال (¬7)، والعامل فيه معنى: (ولا ليهديهم)، لأنه بمنزلة: يعاقبهم خالدين. وانتصب (أَبَدًا) على الظرف، وهو في المستقبل نظير قط في الماضي، نحو: لا أراه أبدًا، وما رأيته قط. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 6/ 32، و"بحر العلوم" 1/ 406، و"الكشف والبيان" 4/ 145 ب، والبغوي 2/ 313، و"زاد المسير" 2/ 258. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 104. (¬3) "تفسيره"1/ 424، وانظر: "زاد المسير" 2/ 258. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 406، والبغوي 2/ 313، و"زاد المسير" 2/ 258، والقرطبي 6/ 20. (¬5) الطبري 6/ 40، و"بحر العلوم" 1/ 406، و"الكشف والبيان" 4/ 145 ب. (¬6) "الكشف والبيان" 4/ 145، وانظر: البغوي 2/ 313 (¬7) انظر: "الدر المصون" 4/ 163.

170

وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لأنه لا يتعذر عليه ولا يضره، ولأنه قادر على أن يخلق لهم العذاب والألم شيئًا بعد شيء إلى ما لا يتناهى، وذلك أنه لما وصف أنه لا نهاية لخلودهم في جهنم بين أنه لا يتعذر ذلك عليه. 170 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال ابن عباس: يريد المشركين (¬1). {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} قال: يريد بالهدى والصدق (¬2). وقال الكلبي: بشهادة أن لا إله إلا الله (¬3). والباء في {بِالحَقِّ} معناه التعدية، وهو في موضع الحال على معنى: جاء ومعه الحق (¬4). وقوله تعالى: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} قال الفراء: {خَيْرًا} منصوب باتصاله بالأمر، لأنه من صفة الأمر، ويستدل على ذلك بجواز الكناية عن الأمر قبل الخبر، كقولك: اتق الله هو خير لك، أي الاتقاء خير لك، فإذا سقطت (هو) اتصل (خير) بما قبله وهو الأمر، والأمر معرفة فنصب. هذا معنى كلامه (¬5). مفهوم هذا أنه انتصب على القطع لأنه كان يجب أن يكون مرفوعًا بهو، فلما حذفت نصب باتصاله بالمعرفة، كقوله: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 406، و"زاد المسير" 2/ 259، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 104. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 259. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 406، والقرطبي 6/ 20. (¬4) انظر: القرطبي 6/ 20، و"الدر المصون" 4/ 164 (¬5) "معاني الفراء" 1/ 295، 296 بتصرف.

[النحل:52]، كان يجب أن يكون الواصب، فلما منع الألف واللام وهو نعت لمعرفة نصب (¬1) وقال أبو عبيدة: هو نصب على ضمير جواب، تقديره: يكن خيرًا لكم (¬2). ونحو ذلك قال قطرب، فإنه قال: فآمنوا يكن الإيمان خيرًا لكم (¬3). قال الفراء: ليس نصبه بإضمار (يكن)، ألا ترى أنك تقول: اتق الله تكن محسنًا , ولا يجوز أن تقول: اتق الله محسنًا فأنت تضمر (تكن)، ولا يصلح أن تقول: انصرنا أخانا، وأنت تريد: تكن أخانا (¬4). قال الزجاج: قال الخليل وجميع البصريين: إن هذا محمول على المعنى، لأنه إذا قلت: آمن خيرًا لك، وانته خيرًا لك، فأنت تدفعه عن أمر وتدخله في غيره، (كأنك) (¬5): انته وائت خيرًا، وادخل فيما هو خير لك. فكأن معنى قوله: (آمنوا خيرا لكم): ائتوا خيرًا لكم، وأنشد جميع البصريين قول عمر بن أبي ربيعة (¬6): فواعِديهِ سَرْحَتَيْ مالِكٍ ... أو الرُّبا بينهما أسْهَلَا (¬7) ¬

_ (¬1) ذكر السمين في "الدر المصون" 4/ 164 رأي الفراء ضمن أربعة أوجه في إعراب "خيرًا" فقال: "الثاني -وهو مذهب الفراء- أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فآمنوا إيمانًا خيرًا لكم". ثم قال مضعفًا لهذا الوجه: "وفيه نظر، من حيث إنه يفهم أن الإيمان منقسم إلى خير وغيره .. ". (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 143. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 296. (¬5) يحتمل أن هنا سقطًا، وتمامه: "كأنك قلت". (¬6) هو أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، تقدمت ترجمته. (¬7) "ديوانه" ص 341، والكتاب 1/ 283، والطبري 6/ 34.

171

كأنه قال: ائتي مكانًا سهلًا (¬1). قال ابن عباس: يريد إن تكذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وتكفروا نعمة الله عليكم (¬2). {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لا تضروا إلا أنفسكم، لأن الله غني عنكم بأن له ما في السموات والأرض ملكًا له واقتدارًا عليه، فذكر ما يدل على غناه بنفسه، لأنَّ هذا مما يدل على استحقاق صفات التعظيم. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بما تصيرون إليه من إيمان أو كفر. {حَكِيمًا} [النساء: 170]، في تكليفكم مع علمه ما يكون منكم (¬3). 171 - قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يريد النصارى (¬4). ومعنى {لَا تَغْلُوا} لا تتجاوزوا حد الحق في دينكم، يقال: غلا يغلو غلوًا، إذا جاوز الحق، ومنه يقال: غلا السعر، إذا جاوز الحد في الزيادة (¬5). والنصارى غلت في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى جعلوه إلهًا. قال ابن عباس: {لَا تَغْلُوا} لا تشددوا فتفتروا (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 134، 135، وانظر: الطبري 6/ 33 - 34. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 104. (¬3) انظر:"زاد المسير" 2/ 259. (¬4) انظر: الطبري 6/ 34، و"بحر العلوم" 1/ 406، و"الكشف والبيان" 4/ 146 أ، و"زاد المسير" 2/ 260، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105. (¬5) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 133، والطبري 6/ 34، و"تهذيب اللغة" 3/ 2682 (غلا)، و"المفردات" ص 364. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 260، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105.

{وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} فليس لله ولد ولا زوجة ولا شريك. وهذا هو الحق. وقوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ذكرنا تفسير الكلمة في سورة آل عمران (¬1). وقوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} اختلفوا فيه: فقال أبي بن كعب: خلق الله تعالى أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، وكان روح فيهم، ثم ردها إلى صُلب آدم، وأمسك عنده روح عيسى، فكان روح عيسى عنده إلى أن أراد خلقه، ثم أرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها فكان منه عيسى (¬2). ومعنى قوله: {مِنْهُ} أي من عنده. ويدل على هذا التأويل قول السدي: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي مخلوق منه أي من عنده (¬3). ويجوز أن يكون معنى {مِنْهُ} على هذا القول: من خلقه وإحداثه وإنشائه، كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] أي من خلقه وإيجاده. وقال جماعة من أهل المعاني: معنى الروح ههنا النفخ، ويسمى النفخ في كلام العرب روحًا؛ لأنه ريح تخرج من الروح (¬4)، ومنه قول ذي ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45]. (¬2) أخرجه بنحوه الطبري 6/ 36. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: الطبري 6/ 35، و"الكشف والبيان" 4/ 146 ب، و"النكت والعيون" 1/ 546 - 547، و"زاد المسير" 2/ 261.

الرمه في نار اقتدحها وأمر صاحبه بالنفخ فيها فقال: فقلتُ له ارفَعْها إليك وأحْيِها ... بروحِكَ واجعله لها قيتةً قدْرًا (¬1) أحيها بروحك أي: بنفخك (¬2). وروي أن جبريل عليه السلام نفخ في درع مريم فحملت بإذن الله (¬3). ومعنى قوله: {مِنْهُ} على هذا التأويل: بأمره، لأن نفخ جبريل كان بأمر الله تعالى وإذنه، فهو منه. وهذا كقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91، والتحريم: 12] (¬4). وقيل: الروح الرحمة، وعيسى كان رحمة من الله لمن اتبعه وأطاعه (¬5). وقيل في تفسير قوله: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] أي: برحمة كذلك قال المفسرون (¬6). وكذلك قراءة من قرأ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} (¬7) [الواقعة: 89] أي: فرحمة، وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا رحمة مهداة" (¬8). وقيل: الروح ههنا جبريل، وهو عطف على الضمير في {أَلْقَاهَا}، وتأويله ألقاها الله إلى مريم وجبريل. ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 176، والطبري 6/ 36، و"الكشف والبيان" 4/ 146 ب، ومعنى "اجعله لها قيئةً قدرًا" أي اجعل فوقها من الحطب قليلًا قليلًا، فالشاعر يتحدث عن نار موقدة. (¬2) الطبري 6/ 36، و"ديوان ذي الرمة" ص 176. (¬3) انظر: الطبري 6/ 35، و"الكشف والبيان" 4/ 146 ب، و"النكت والعيون" 1/ 546. (¬4) المرجع السابق. (¬5) الطبري 6/ 36، و"الكشف والبيان" 4/ 146 ب. (¬6) انظر: "زاد المسير" 8/ 200. (¬7) القراءة بضم الراء من (روح) وهي ليعقوب من العشرة. انظر: "المبسوط" ص 361، و"النشر" 2/ 283. (¬8) صححه الألباني، وعزاه إلى ابن سعد والحكيم الترمذي عن أبي صالح مرسلًا, كما عزاه إلى الحاكم، ولم أجده عنده. انظر: "صحيح الجامع" رقم (2345).

معنى {مِنْهُ} أي: بإذنه وأمره، كقولك: قلت لفلان منك قولًا، أي بإذنك في ذلك (¬1). وهذه أوجه صحيحه في تأويل قوله: {وَرُوحٌ مِنْه} (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} قال ابن عباس: يريد قولهم: الله وصاحبته وأبيه (¬3). قال الفراء: معناه (ولا تقولوا): هم ثلاثة، كقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} [الكهف: 22] (¬4). وقال الزجاج: (ولا تقولوا) آلهتنا ثلاثة {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] (¬5). وقوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}. قد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170]. وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} قال ابن عباس: نزه نفسه أن يكون له ولد (¬6). وقال القراءة يصلح في (أن) من وعن، فإذا أُلقيتا كانت (أن) في موضع نصب. وكان الكسائي يقول: هو (¬7) في موضع خفض، في كثير من أشباهها (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 6/ 36، وانظر: "زاد المسير" 2/ 261. (¬2) قال الطبري 6/ 36: "ولكل هذِه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب". (¬3) هكذا في المخطوط، والصواب: وابنه. انظر: "تنوير المقباس" ص 105. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 296. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 135. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105. (¬7) هكذا في المخطوط، وعند الفراء: "هي". (¬8) "معاني القرآن" 1/ 296.

172

وذكرنا هذه المسألة قديمًا. وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. فيه حجة على بطلان قول النصارى، لأن تأويله: أن ذلك له ملكًا وخلقًا من غير شريك في ذلك، إذ لو كان له شريك لم يبعد وجود التمانع بينهما، فيفسد ملك السموات والأرض، وإذا استحال الشريك في وصفه استحال الولد. وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} أي: مفوضًا إليه القيام بتدبير ملكه الذي لا ملك أوسع منه. 172 - قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا} الآية. قال أبو إسحاق: معنى (لن يستنكف): لن يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدمع، إذا نحيته بأصبعك عن خدك، وأنشد: فبانوا فلولا ما تذكر منهم ... من الخُلفِ لم يُنكَف لعينيكَ مدمعُ (¬1) فتأويل: (لن يستنكف): لن ينقبض، ولم يمتنع (¬2). قال الأزهري: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا العباس، وسئل عن الاستنكاف فقال: هو أن يقول: لا. وهو من النكف والوكف. يقال: ما عليه في ذلك الأمر نكف ولا وكف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف، إذا دفع ذلك السوء وقال: لا. والمفسرون يقولون: الاستنكاف والاستكبار واحد (¬3). ¬

_ (¬1) البيت في "تهذيب اللغة" 4/ 3664، و"اللسان" 9/ 340 (نكف) دون نسبة ولم أقف على قائله. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 136، وانظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3664 (نكف). (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3664 (نكف).

174

وقال الكلبي: (لن يستنكف): لن يتعظم (¬1). وقال الأخفش ومقاتل: لن يأنف (¬2). وقال الزجاج: أي ليس يستنكف الذي تزعمون أنه إله أن يكون عبدًا لله، ولا الملائكة المقربون وهم أكثر من البشر (¬3). ومعنى قوله: {الْمُقَرَّبُونَ} أي من كرامة الله وثوابه والمواطن التي شرفها لإكرام عباده (¬4). 174 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬5). قال ابن عباس: "يريد يا أهل مكة وجميع الخلق. ويريد بالبرهان النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من البيان والبرهان" (¬6). هذا كلامه، وإنما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - برهان؛ لما معه من المعجزة التي تشهد بصدقه، والبرهان شاهد حق في نفسه، وذلك يوجب أن يكون المشهود به حقًا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حق في نفسه بدلالة المعجزة عليه. وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]. يريد القرآن، عن ابن عباس (¬7) والحسن وقتادة وابن جريج (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 458، ولم أقف عليه عن الكلبي. (¬2) هذا كقول الزجاج المتقدم، ولم أجده في "معاني القرآن" للأخفش وعن مقاتل في "تفسيره" 15/ 425. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 135، وانظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3664 (نكف). (¬4) انظر: الطبري 6/ 38. (¬5) لم يتعرض صاحب الكتاب للآية (173) بشيء. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105. (¬8) انظر: الطبري 6/ 38، و"زاد المسير" 2/ 264

175

وشبه القرآن بالنور؛ لأنه يُتبين به الأمور كما يُتبين بالنور. 175 - قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} الظاهر أن الكناية في (به) تعود على اسم الله. وقال ابن جريج: الكناية تعود على النور الذي هو القرآن (¬1). وهذا قريب من الأول في المعنى، لأن الاعتصام بالقرآن اعتصام بالله تعالى. قال ابن عباس: {وَاعْتَصَمُوا بِهِ} يريد امتنعوا به (¬2). قال أهل المعاني: الاعتصام بالقرآن: الامتناع به من معاصي الله، والاعتصام بالله: الامتناع به من زيغ الشيطان وهوى الإنسان بطاعته وطلب مرضاته (¬3). وقوله تعالى: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ}. قال ابن عباس: يريد الجنة (¬4). {وَفَضْلٍ} قال: يريد يتفضل عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا ما يوصف (¬5). {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175]، قال: يريد دينًا مستقيمًا (¬6). 176 - قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة} الآية. قد بينا معنى الكلالة واشتقاقها في اللغة في أول السورة. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 6/ 39، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 547، و"الدر المنثور" 2/ 441. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 1/ 547. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 264، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 105

قال العلماء: إن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف، وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف (¬1). ونزلت هذه الآية والنبي - صلى الله عليه وسلم - مُتجهز للحج، فهي من آواخر ما نزل من القرآن (¬2). فقد نزلت في الكلالة آيتان. والمراد بالكلالة في الآية الأولى: الموروث، والمراد في هذه الآية بالكلالة الوارث، وكل وارث سوى الوالد والولد كلالة، وكذلك كل موروث سواهما. وعند ابن عباس وأكثر المفسرين نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله، مرض بالمدينة فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عائدًا، فقال: "يا رسول الله: إني كلالة، ولا أب لي ولا ولد، فكيف أصنع في مالي؟ ". فأنزل الله هذه الآية (¬3). وفي رواية أخرى: "فقلت: إني رجل ليس يرثني إلا كلالة" وكان له تسع أخوات (¬4). قال ابن عباس في قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة} يريد من ليس له ولد ولا والد. فعلى هذا المراد بالكلالة: الموروث، وهو الظاهر؛ لأنه قال بعد هذا: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} وهذا ابتداء الفتوى في الكلالة، وقد بدأ بذكر الموروث. ¬

_ (¬1) تسمية هذِه الآية بآية الصيف جاء في أكثر من أثر. انظر: الطبري 6/ 43 - 44. (¬2) انظر: الطبري 6/ 41 - 42، و"الدر المنثور" 2/ 445. (¬3) أخرجه بمعناه البخاري (4605) كتاب: التفسير سورة النساء، باب: يوصيكم الله في أولادكم 5/ 177، ومسلم (1616) كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة والمؤلف في "أسباب النزول" ص 190. (¬4) سبق تخريجه.

ويجوز أن يكون المراد بالكلالة: الوارث، ثم بين من هُم بذكر الأخت والأختين والأخوة. وقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}. قد ذكرنا ما في هذا عند قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128]. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} قال أهل المعاني: أراد ليس له ولد ولا والد، فاكتفى بذكر أحدهما من الآخر، ودل على المحذوف أنَّ الفتيا في الكلالة. وقد بينا أن الكلالة من ليس له والد ولا ولد، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة (¬1). وزعم أبو علي الجرجاني أنَّ الوالد يجوز أن يكون داخلًا في لفظ الولد، قال: وكل من اتصل به ذكر الولادة احتمل أن يقال له: ولد، فالوالد يسمى والدا، لأنه ولد، والمولود يسمى ولدًا، لأنه ولد، وهذا مثل قولهم: الذرية، وهي اسم من (ذرا) ثم الولد يسمى ذرية، والأب أيضًا يسمى ذرية، لأن الولد ذريء منه، ومن هذا قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬2) [يس: 41] أي وآية لقريش أنا حملنا آباءهم مع نوح. قال: ووجدنا أيضًا الأسماء التي اشتقت من الأفعال جاء فعل منها بمعنى الفاعل أكثر مما جاءت بمعنى المفعول، كقولهم: حرض، من حارض، ودنف، من دانف، وضرع، من ضارع، وطلب، بمعنى طالب. وقوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ} أراد من أبيه وأمه وأبيه، لأنه سبق ذكر أولاده الأم في أول السورة. وقوله تعالى: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} هذا بيان فرضها عند إنفرادها، ولها نصف المال بالتسمية. ثم لمن باقي المال؟ ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 266. (¬2) انظر: القرطبي 6/ 28.

عند زيد بن ثابت يكون لبيت المال إذا لم يكن هناك عصبة، وهو مذهب الشافعي (¬1). وعند أهل العراق يرد عليها الباقي (¬2). فإن قيل: الله تعالى سمى لها النصف إذا لم يكن هناك ولد، فلم أعطيت النصف مع البنت الواحدة وهي ولد؟ قيل: هذا إجماع سنة (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي مع البنت كالذكر من العصبة يأخذ ما أبقت الفرائض، فهي في هذه المسألة لا بالتسمية، ولكن بأنها معها عصبة (¬4). وقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} يعني أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد، وهذا أصل في العصبيات واستغراقهم المال. وهذا الأخ من الأب والأم، أو من الأب، وقد بينا هذا لأن الأخ من الأم. وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} إلى قوله {يُبَيِّنُ اللَّهُ} ظاهر. وروي أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزل الله في أول سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الأخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ¬

_ (¬1) وبه قال مالك، انظر: "الأم" 4/ 76، و"المغني" 9/ 49. (¬2) وهو مذهب أحمد، انظر "المغني" 9/ 49. (¬3) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: بسنة. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 409، والقرطبي 6/ 29

مما جرت به الرحم من العصبة (¬1). وقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} اختلفوا في هذا، فعند الكوفيين (لا) مضمرة ههنا، على تقدير: لئلا تضلوا، أو ألا تضلوا. قالوا: ومثل هذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41] أي: لئلا تزولا، ومثله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]. وهذا قول الفراء والكسائي (¬2). وقال البصريون: المحذوف ههنا مضاف، على تقدير: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، فحذف المضاف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وبابه، قالوا: و (لا) حرف جاء لمعنى النفى فلا يجوز حذفه، ولكن قد تزاد في الكلام مؤكدة، كقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] ونحوه (¬3). وهذا القول يبعد، لأنه لم يدل على الاجتناب شيء. والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 6/ 41، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 149 أ، و"الدر المنثور" 2/ 443. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 297، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 477، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 216، و"الدر المصون" 4/ 176. (¬3) انظر: "معانى الزجاج" 2/ 137، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 477، و"الدر المصون" 4/ 176. (¬4) انتهى تفسير سورة النساء بحمد الله.

سورة المائدة

سورة المائدة

1

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ اعصمني من الزلل (¬1) سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}. العقد في اللغة معناه الجمع بين الشيئين بما يعسر انفصال أحدهما عن الآخر، كعقدة الحبل بالحبل، ثم يسمى العهد وما يؤكده الناس بينهم الأمانات والمواثيق عقدًا لإحكامه (¬2). قال أبو إسحاق: والعقود أوكد العهود، يقال: عقد فلان اليمين، إذا وَكّدها (¬3). واختلفوا في معنى العقود ههنا: فقال ابن عباس في رواية عطاء (¬4)، ¬

_ (¬1) الظاهر أن البسملة والدعاء هنا لابتداء هذا الجزء (نسخة ج) وقد صدر بـ: "الجزء الثالث من البسيط في التفسير -تأليف أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي -رحمه الله- فيه: سورة المائدة والأنعام والأعراف سبعة أحزاب" في جامعة الإمام تحت رقم 5105/ ف له صورة ميكروفيلم. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 46 - 47، و"تهذيب اللغة" 1/ 2511، و"الصحاح" 2/ 510 (عقد)، و"التعريفات" ص 153. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 139. (¬4) ثبت ذلك من طريق علي بن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص 165، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 47

ومجاهد والربيع والضحاك والسدي: هي العهود (¬1). قال ابن عباس: العقود: ما أحل الله، وما حرم الله، وما فرض الله، وما حدّ في القرآن كله (¬2). فعلى هذا العقود جمع العقد بمعنى المَعْقُود، وهو الذي أحكم، وما فرضه الله علينا فقد أحكم ذلك ولا سبيل إلى نَقْضِه بِحَال. وهذا رواية أبي الجوزاء (¬3) عن ابن عباس (¬4). وقال الكلبي: يقول: أتموا الفرائض ما افترض الله على العباد مما أحل لهم وحرم عليهم، والعهود التي بينكم وبين الناس (¬5). والعهود تسمى عقودًا؛ لأنك تقول: عهدت إلى فلان كذا وكذا، تأويله ألزمته، كذا (¬6) باستيثاق كما يعقد الشيء (¬7). والعقود التي بين الناس على ضربين: لازمة، وجائزة. واللازمة كالنكاح والبيع والإجارة (¬8)، فهذه يجب الوفاء بها على ¬

_ (¬1) أخرج الآثار عنهم الطبري في "تفسيره" 6/ 47. (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 165، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 48. (¬3) هو أوْس بن عبد الله الربعي البصري، تابعي ثقة، يرسل كثيراً، وحديثه عند الجماعة، مات -رحمه الله- سنة 83 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 278، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 371، و"التقريب" ص 116 رقم (577). (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 786 دون نسبة ولم أقف عليه. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 106. (¬6) في (ش): (ذلك). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2607 (عهد). (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 48 - 49.

معنى القيام بمقتضاها. وما كان جائزًا: فالعاقد مندوب إلى الوفاء به، ولا يجب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" (¬1). فأباح له ترك ما حلف عليه بشرط التكفير إذا رأى غير ما حلف عليه خيرًا، ففي الذي له يحلف عليه أولى أن يَجُوز (¬2) له تركه. وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}. الأكثرون على أن هذا ابتداء كلام آخر (¬3). وقال بعضهم: هذا متصل بالكلام الأول، على معنى: أوفوا بعقود من عاهدتم وتعففوا عن أموالهم بما أحل لكم من بهيمة الأنعام (¬4). والبهيمة اسم لكل ذي أربع من ذوات البَرّ والبَحر (¬5). قال ابن الأنباري: البهيمة معناها في اللغة: المُبهَمَة عن العقل والتمييز (¬6). وقال أبو إسحاق نحو هذا، فقال: كل حي لا يُمَيِّز فهو بهيمة، وإنما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بنحوه (6622) كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ومسلم بلفظه (1650) كتاب الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها. (¬2) في (ش): (يكون)، والمعنى واحد. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 412، و"الكشاف" 1/ 320. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 409 (بهم)، وانظر: "الدر المصون" 4/ 177، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 34. (¬6) لم أقف عليه.

قيل له بهيمة لأنه أبهم عن أن يميز (¬1). والأنعام جمع النَّعَم، وهي الإبل والبقر والغنم وأجناسها، في قول جميع أهل اللغة والتأويل (¬2)، ولا يدخل فيها الحافر (¬3)؛ لأنه (أخذ (¬4) من نَعمة الوطء (¬5). واختلفوا في المَعْنِي بـ (بهيمة الأنعام)، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الضأن والمعز والإبل والبقر (¬6). وهذا قول الحسن وقتادة والربيع والضحاك والسدي، قالوا: هي الأنعام كلها (¬7). وعلى هذا القول قال ابن الأنباري: إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام على جهة التوكيد والإطناب في المعنى، ولو قال: أحلت لكم الأنعام لم يسقط بسقوط البهيمة إلا زيادة التوكيد، وهذا كما يقال: نفس الإنسان (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 141. (¬2) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139، والطبري في "تفسيره" 6/ 51، و"معاني القرآن" للنحاس 2/ 248، "تهذيب اللغة" 4/ 3616 - 3617 (نعم)، و"بحر العلوم" 1/ 412. وابن قتيبة والسمرقندي زادا (الوحوش)، وهو غريب. (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 51. (¬4) زيادة في (ش). (¬5) نَعمة الوطء، بفتح النون، ولعل المراد تشبيه غير ذات الحافر بمن يمشي حافيا من قولهم: تنعم الرجل: إذا مشى حافيًا. انظر: "اللسان" 6/ 4484 (نعم). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 248، و"زاد المسير" 2/ 268، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 34. (¬8) لم أقف عليه.

وقال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشيها (¬1) كالظِّباء وبقر الوحش وحمر الوحش (¬2). وهو اختيار الفراء (¬3)، والزجاج (¬4). وعلى هذا القول قال أبو بكر: أضاف البهيمة إلى الأنعام؛ لأنه (¬5) لو أفردها فقال: البهيمة، أو البهائم وقعت على الأنعام وعلى غيرها مما حظر وحرم، فأضافها إلى الأنعام ليعرف جنس البهيمة. وقوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. أي: إلا ما يُقرأ عليكم في القرآن مما حرم عليكم، وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي (¬6). وقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. انتصب (غيرَ) على الحال من قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} (¬7) كما تقول: أحل لكم الطعام غير مفسدين فيه. ¬

_ (¬1) في (ج): (وحشها) بدون ياء. (¬2) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 106. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 298. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 140. (¬5) في (ج): (لأنها). (¬6) "تفسير ابن عباس" ص 166، وأخرج الآثار عن الجميع إلا الحسن والطبري في "تفسيره" 9/ 458. وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 443 ن "زاد المسير" 2/ 269. (¬7) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 217، و"الكشاف" 1/ 320، و"الدر المصون" 4/ 178.

2

وقال الفراء: هو مثل قولك: أحل لك هذا الشيء لا مفرطًا فيه ولا متعديًا، فإذا جعلت (غيرَ) مكان (لا)، صار النصب الذي بعد (لا) في (غير) (¬1). والمعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام، فإنه لا يحل لكم إذا كنتم محرمين. ويقال: رجل حرام، وقوم حُرُم، أي: محرمون (¬2). والإضافة في قوله تعالى: {مُحِلِّي الصَّيْدِ} على تقدير الانفصال؛ لأن ما كان من هذا الباب للاستقبال وللحال أثبتت فيه النون والتنوين، نحو: ضارب زيدًا، وضاربون زيدًا (¬3). وقد أحكمنا هذا الفصل عند قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} قال أبو إسحاق: أي الخلق له جل وعز يُحل منه ما يشاء لمن يشاء، ويُحرم ما يريد (¬4). 2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} الآية. الشعائر واحدتها: شعيرة، وهي فعيلة بمعنى مُفْعَلَة، والمُشْعَرة: المُعْلَمة، والإشعار: الإعلام من طريق الإحساس، والشعر: العلم من طريق الحس. ذكرنا ذلك في أول البقرة. وكل شيء أُعلِم فقد أشعر، ومنه السنّة في إشعار الهدي، هذا معنى ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 298. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 141، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 794 (حرم)، و"زاد المسير" 2/ 269. (¬3) انظر: "معاني الفراء" 1/ 298، و"معاني الزجاج" 2/ 141. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 142.

الشعائر في اللغة (¬1)، ثم كل شيء جُعل علماً على شيء، أو أعلم بعلامة جاز أن يُسمّى شعيرة. والهدي التي تهدى إلى مكة تسمى شعائر؛ لأنها مُشعَرةٌ بالدم (¬2)، ومنه قول الكميت: نُقَتَّلهم جيلًا فجيلًا تراهم ... شعائرَ قُربانٍ بهِم يُتَقَرَّبُ (¬3) فأما التفسير فقال ابن عباس في رواية عطاء: أن (الحَطيم بن ضبيعة -واسمه شريح (¬4)، والحطيم لقب، ويقال الحُطَم (¬5) - أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليمامة (¬6) إلى المدينة، فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، فلم يسلم، فلما خرج مرّ بسّرح المدينة فاستاق الإبل، فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: "هذا الحطيم وأصحابه، فدونكم" وكان قد قلّد ما نهب من سرح النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهداه إلى الكعبة، فلما توجّهوا في طلبه أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} يريد (ما) (¬7) أُشْعِرَ (لله) (¬8)، وإن كانوا على غير دين الإسلام (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 137، والطبري في "تفسيره" 6/ 55، و"معاني الزجاج" 2/ 142، و"تهذيب اللغة" 2/ 1884 (شعر). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1884 (شعر). (¬3) استشهد به في "مجاز القرآن" 1/ 146. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ش). (¬5) لم أقف له على ترجمة. (¬6) اليمامة: مدينة من اليمن تقع على بعد مرحلتين من الطائف وأربع مراحل من مكة. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" الجزء الثالث، القسم الثاني ص 210. (¬7) ساقطة من (ش). (¬8) في (ج): (الله). (¬9) جاء ذلك مقطوعًا عن السدي وعكرمة كما في الطبري في "تفسيره" 6/ 58، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 191، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 5، "لباب =

وهذا قول جماعة من أهل المعاني. قال أبو عبيدة: الشعائر في كلام العرب: الهدايا المُشعرة (¬1). وقال الزجاج: هي ما أشعر، أي أُعلم ليهدى إلى بيت الله الحرام (¬2). وقال جماعة: هي جميع متعبدات (الله) (¬3) التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا (¬4). قال ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج (¬5). وقال عبد الله بن مسلم: هي كل شيء جعل علمًا من أعلام طاعته (¬6). فالشعائر: العلامات والمعالم للحج نحو الصفا والمروة والمواقيت وعرفة وما أشبهها، فإن قلنا: المراد بالشعائر في هذه الآية الهدايا كان المعنى: لا تحلوها بإباحة نهبها والإغارة، وإن قلنا: إنها معالم الحج كان المعنى: لا تحلوها بتجاوز حدودها والتقصير فيها والتضييع لها. وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج، ولا يطوفون بينهما فأنزل الله: لا تستحلوا ترك ذلك (¬7). ¬

_ = النقول" ص 86. ولم أقف على رواية عطاء. وانظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن" لهبة الله بن سلامة ص 62. (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 146. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 142. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 55، و"بحر العلوم" 1/ 413. (¬5) "تفسير ابن عباس" ص 166، والطبري في "تفسيره" 6/ 54، و"تفسير مجاهد" 1/ 183. (¬6) "غريب القرآن" ص 137. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 298.

وروى أبو صالح عن ابن عباس: يقول: لا تستحلوا شيئًا من ترك المناسك كلها التي أمر الله بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ومسح الركن، والإفاضتين، من عرفات ومن جَمْع ورمي الجمار؛ لأن عامة العرب كانوا لا يرون الصفا والمروة من شعائر الله والحُمس (¬1) وعامر ابن صعصعة (¬2) وثقيف (¬3) لا يرون عرفات من شعائر الله (¬4). وقال في رواية أخرى: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتّجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (¬5). وقال الكلبي: أي لا تستحلوا ترك شيء من المناسك (¬6). وزعم بعضهم أن هذا ورد في النهي عن مجاوزة الميقات بغير إحرام (¬7). ¬

_ (¬1) الحُمس بضم الحاء وسكون الميم: قبائل من العرب تشددوا في دينهم. "الاشتقاق" ص 250. (¬2) قبيلة من العرب وتعد من الحُمس وتضم بطونًا كثيرة، نسبة إلى جدهم الجاهلي عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر، من في علان من العدنانية. انظر: "الاشتقاق" ص 293، و"جمهرة أنساب العرب" / 272، و"الأعلام" 3/ 251. (¬3) عبارة عن قبائل من العرب منهم: بنو الحُطيط وبنو غاضره وغيرهم، وينتسبون إلى قسي بن منبه. انظر: "الاشتقاق" ص 301 - 307، و"جمهرة أنساب العرب" / 266. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تفسير ابن عباس" ص 166، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 54 من طريق ابن أبي طلحة أيضاً. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 106. (¬7) انظر: "النكت والعيون" 2/ 6، و"زاد المسير" 2/ 272

وهذا معنى يحتمله اللفظ؛ لأن تقدير الآية على القول الذي يقول: إن الشعائر المعالم: لا تحلوا شعائر الله بتركها على ما بينا، والمواقيت من شعائر الله. وقوله تعالى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}. بالقتال فيه. عن ابن عباس (¬1) وقتادة (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ}. الهدي ما أُهدِي إلى بيت الله تعالى من ناقة وبقرة أو شاة (¬3)، واحدها هَدْيَةٌ، ويقال أيضًا: هَدِيّة، وجمعها هَدْيٌ (¬4)، قال: حلفت بربَّ مكة والمُصَلَّى ... وأعناق الهديَّ مُقلَّدَات (¬5) وقد مضى الكلام فيه (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا الْقَلَائِدَ}. هي جمع قلادة، وهي: ما جُعل في العنق، سواء جعل في عنق الإنسان أو البدنة أو الكلب (¬7). واختلفوا في تفسير القلائد ههنا، فقال أكثر المفسرين: هي الهدايا المُقلَّدة (¬8). ¬

_ (¬1) في "تفسيره" ص 166، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 55. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 55. (¬3) الطبري في "تفسيره" 6/ 55، 56. (¬4) انظر: "الصحاح" 6/ 2533، و"اللسان" 8/ 4642 (هدى). (¬5) البيت للفرزدق في "ديوانه" 1/ 108، و"اللسان" 8/ 4642. (¬6) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ ل 120. (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 3029 (قلد). (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 56.

وعلى هذا المراد: ولا ذوات القلائد، ثم حذف المضاف، وذكر ذوات القلائد بعد ذكر الهدي؛ لأنهم نهوا عنها مقلدة وغير مقلدة، أو أراد المقلدة مما لا يكون هديًا, ولكنها قلدت ليأمنوا بها (¬1)، على ما نذكر بُعَيد هذا. وقال ابن عباس: يقول لا تعترضوا الهدي ولا تُخيفوا من قلّد بعيره (¬2). وهذا يدل على أن المراد بالقلائد أصحابها، وهو أيضًا من باب حذف المضاف. قال المفسرون: كانت الحرب في الجاهلية قائمة بين العرب طول الدهر، يتغاورون ويتناهبون إلا في الأشهر الحرم، فمن وُجد في غير هذه الأشهر أصيب منه إلا أن يكون مشعرًا بدنة أو سائقًا هديًا أو مقلدًا نفسه وبعيره من لحاء شجر الحرم، أو مُحرِمًا بعمرة إلى البيت، فلا يُتعرض لهؤلاء، فأمر الله المسلمين بإقرار هذه الأَمَنَة على ما كانت في الجاهلية لضرب من المصلحة إلى أن نسخها (¬3). وقال ابن الأنباري: إن الرجل من العرب كان إذا خاف على نفسه عدوا، أو مُطالبا بثأر، وأراد سفرًا تقلد بشيء من لحاء شجر الحرم، فلا يلقاه أحد فيعرض له، وكان إذا خاف على بعيره قلده أيضًا فلا يتعرض له ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 299، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 137 - 138، والطبري في "تفسيره" 6/ 57، و"معاني الزجاج" 2/ 142. (¬2) أخرج الطبري في "تفسيره" 6/ 56 من طريق العوفي عن ابن عباس قال: (القلائد مقلدات الهدي، وإذا زيد الرجل هديه فقد أحرم، فإن فعل ذلك وعليه قميصه فليخلعه). هذا ما وجدته عن ابن عباس. (¬3) هذا معنى قول عطاء وقتادة ومجاهد. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 56 , 57، و"زاد المسير" 1/ 441.

من يراه من أعدائه، وإن تعرض له عُيَّر بذلك وسُبّ ولم يزل مأثورًا عليه، قال الشاعر يعيب رجلين [قتلا رجلين] (¬1) معهما شيء من لحاء شجر الحرم: أَلَم تَقْتُلا الحِرجَينِ إذ أعوَرَا لكم ... يُمِرَّانِ بالأيدي اللِّحاءَ المُضَفَّرَا (¬2) يريد باللحاء: شجر الحرم (¬3). وقال مُطَرَّف بن الشخير (¬4) وعطاء: أراد بالقلائد نفس القلائد، وذلك أن المشركين يأخذون من لحاء سَمْر مكة وشجرها فيقلدونها ويتقلدونها فيأمنون بها في الناس، فنهى الله عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من (ج). (¬2) البيت لحذيفة بن أنس الهذلي كما في "ديوان الهذليين" 3/ 19، و"المعاني الكبير" 2/ 1120، و"اللسان" 2/ 823 (حرج)، وعند الطبري في "تفسيره" 6/ 57، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 7 دون نسبة. والحرجان: رجلان أبيضان، وقد يكون ذلك لقبًا لهما. ومعنى أعورا لكم: أمكناكم من عورتهما، ويمران من أمر الحبل إذا قتله واللحاء: قشر الشجر، والمضفر: المجدول ضفائر. والشاهد منه عيب من قتل المتقلدين بلحاء شجر الحرم. (¬3) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 57، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 7. (¬4) هو أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، ثقة عابد فاضل، مات سنة 95 هـ انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 88، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 187، و"التقريب" 534 رقم (6706). (¬5) أخرج نحوه عن عطاء: الطبري في "تفسيره" 6/ 57، وذكره عن مطرف وعطاء ابن كثير في "تفسيره" 2/ 6.

والظاهر القول الأول، وهو اختيار الفراء والزجاج (¬1). قال الفراء: كانت العرب إذا أرادت أن تسافر في غير الأشهر الحرم قلد أحدهم بعيره فيأمن بذلكن فقال لا تخيفوا من قلد، وكان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر، وسائر العرب تقلد بالوبر والشعر (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}. قال الفراء: يقول: ولا تمنعوا من أمّ البيت الحرام أو أراده من المشركين (¬3). وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ}. قال ابن عباس: يريد التجارة (¬4). وقال ابن عمر: الربح في التجارة (¬5). وقوله تعالى: {وَرِضْوَانًا}. قال ابن عباس: يعني: أنهم يترضون الله بحجهم (¬6). وقال في رواية عطاء في قوله: {وَرِضْوَانًا}: يريد وإن كانوا مشركين (¬7). قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله، وإن كانوا لا ينالون ذلك فغير بعيد أن يثبت لهم بذلك القصد نوع من الحرمة (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 299، و"معاني الزجاج" 2/ 142. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 299. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 299. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 106. (¬5) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 62، وذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 7. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 62. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 62.

وقال أهل المعاني: معنى قوله: {وَرِضْوَانًا} أىِ: على زعمهم وفيما يظنون؛ لأن الكافر لا ينال الرضوان (¬1)، وهذا كقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} [طه: 97]، وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، وذلك على حكاية قولهم: نطلب الرضوان (¬2). وقد جاءت هذه الحكاية عن العرب مجيئًا متبعًا، قال زهرة اليمن (¬3) يهجو جريرًا: أبلغ كُلَيبا وأبِلغ عنكَ شاعَرها ... أني الأغرّ وأني زُهرةٌ اليمنِ (¬4) وقال جرير: ألم يَكنْ في وُسوم قَد وُسِمتَ بها ... مَن حَان موعظةً يا زُهرةَ اليَمنِ (¬5) قال أكثر (¬6) أهل العلم: هذه الآية من أولها إلى ههنا (¬7) منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 274. (¬2) انظر: "الخصائص" 2/ 461، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 405. (¬3) لم أقف على ترجمة له. (¬4) البيت في "الحجة" 2/ 183، و"المسائل الحلبيات" ص 82، 161، و"الخصائص" 2/ 461. (¬5) "ديوان جرير" ص 467، وفيه: (يا حارث اليمن)، و"الحجة" 3/ 183، و"المسائل الحلبيات" ص 82، و"الخصائص" 2/ 461. والشاهد من البيتين أن جريرًا دعا هذا الرجل بزهرة اليمن بناء على زعمه وقوله، الوسوم: جمع وسم، وهو أثر الكي، والمراد: أذى الهجاء، وحان: هلك. (¬6) لعل الصواب: بعض؛ لأن المؤلف ذكر رأي الأكثرية عقب هذا. (¬7) في (ش): (هنا).

وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة (¬1). وأكثر أهل العلم قالوا: نسخت هذه الآية قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فلا يجوز أن يحج مشرك، ولا يأمن الكافر بالأشهر الحرم والهدي والقلائد والحج (¬2). وقال الشعبي: لم ينسخ من المائدة إلا آية واحدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (¬3). وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة، وأن هذه الآية محكمة (¬4). قال أبو بكر ابن الأنباري: فمن ذهب إلى أن هذه الآية محكمة قال: ما ندبنا الله تعالى إلى أن نُخيف من يقصد بيته من أهل شريعتنا في الشهر الحرام ولا في غيره، وفصل الشهر الحرام من غيره بالذكر تعظيمًا له وتفضيلاً، وحرم علينا أخذ الهدي من المهدين وصرفه عن بلوغ محله، وحرم علينا القلائد، أي إخافة المستجيرين بالبلد الحرام. ¬

_ (¬1) هذا هو المشهور عن ابن عباس وقتادة، كما في "تفسير ابن عباس" ص 167، و"الناسخ والمنسوخ" لقتادة ص 40، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 189، والطبري في "تفسيره" 6/ 60، 61، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 235، و"النكت والعيون" 2/ 9، و"زاد المسير" 2/ 278. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 60، 61، و"معاني الزجاج" 2/ 142، و"زاد المسير" 2/ 278. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 61، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 9، و"زاد المسير" 2/ 278. (¬4) قال الطبري في "تفسيره" 6/ 60: اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا، ونحو ذلك في "النكت والعيون" 2/ 6، وقد =

هذا كلامه (1)، والظاهر ما عليه الجمهور. وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. قال أبو إسحاق: هذا لفظ أمر، معناه الإباحة؛ لأن الله عز وجل حرم الصيد على المحرم وأباحه له إذا حل من إحرامه، ليس أنه واجب عليه إذا حلّ أن يصطاد، ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] تأويله: أنه قد أبيح لك ذلك بعد الفراغ من الصلاة، ومثل ذلك في الكلام: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت ثمنها فادخلها، تأويله: فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها (2). وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ}. قال ابن الأعرابي: الجَرْم مصدر الجارم الذي يجرم نفسه وقومه شرًا (3). والمفسرون يقولون في هذا: لا يحملنكم بغض قوم (4). وهو قول ابن عباس وقتادة (5)، وقول الكسائي ويونس (6). قال أبو العباس: يقال: جرمني زيد على بغضك، أي: حملني عليه (6). وأكثر أهل اللغة والمعاني يقولون: لا يُكْسِبَنَّكم (7).

_ = نسب ما ذكره المؤلف من أنها محكمة إلى الحسن. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 235، و"زاد المسير" 2/ 277. (1) لم أقف عليه. (2) "معاني الزجاج" 2/ 143. (3) "تهذيب اللغة" 1/ 587 (جرم). (4) الطبري في "تفسيره" 6/ 63، و"معاني الزجاج" 2/ 143، و"تهذيب اللغة" 1/ 587 (جرم). (5) "تفسير ابن عباس" ص 168، وأخرجه عنهما الطبري في "تفسيره" 6/ 63. (6) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 588 (جرم). (7) انظر: "معاني الفراء" 1/ 299، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 138. قال الفراء: والمعنى متقارب.

قال الفراء: سمعت العرب تقول (¬1): فلان جريمة أهله، وخرج يجرم أهله أي: يكسبهم. قال: فالمعنى: لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا (¬2). وقال في قول الشاعر: جَرَمَتْ فَزَارَةَ بعدَها أنْ يَغْضبُوا (¬3) (فزارة) منصوبة في البيت، المعنى: جرمتهم الطعنة الغضب، أي: أكسبتهم (¬4). ومثل ذلك قال ابن الأنباري في: {يَجْرِمَنَّكُمْ}، وأنشد: نصَبنا رأسه في رأس جِذْع ... بما جَرَمَت يداه وما اعتَدَيْنَا (¬5) وقال أبو علي: تأويل: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} يكسبنكم، وهو فعل متعدًّ إلى مفعولين، كما أن (يكسبنكم) كذلك، وأما قول الشاعر في صفة عقاب: جَريمةُ ناهضٍ .... البيت (¬6). يحتمل تأويلين: ¬

_ (¬1) في (ش): (يقولون)، وما أثبته موافق لما في "معاني الفراء". (¬2) من "معاني القرآن" 1/ 299، و"تهذيب اللغة" 1/ 588 بتصرف. (¬3) عجز بيت لأبي أسماء بن الضريبة الفزاري، وصدره: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة "الكتاب" 3/ 138، و"مجاز القرآن" 1/ 147، و"المقتضب" 2/ 351، و"اللسان" 1/ 605 (جرم). (¬4) من "تهذيب اللغة" 1/ 588 (جرم). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) جزء من شطر بيت لأبي خراش الهذلي كما في "ديوان الهذليين" 2/ 133، و"الحجة" 3/ 196، و"تهذيب اللغة" 1/ 589 (جرم)، وتمام: جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا وجريمة: أي كاسبة. والناهض: فرخ العقاب، والنيق: أرفع موضع في الجبل. والصليب: ودك العظاء.

أحدهما: جريمة قوتِ ناهضٍ، أي: كاسبُ قوته، وجريم وجارم، كما قالوا: ضاربُ قداحٍ، وضريب قداح، وعريفٌ وعارفٌ. والآخر: أن لا يقدر حذف المضاف، وتضيف جريمة إلى ناهض، والمعنى: كاسب ناهض، كما تقول: بديعٌ كاسبُ مولاهُ، أي يسعى له ويردّ عليه. فَجَرمَ يستعمل في الكسب وما يُردُّ سعيُ الإنسان عليه، وأما أجرم فيقال في اكتساب الإثم (¬1). ومعنى {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانًا ولا تقترفوه. ولفظ النهي واقع على الشنآن، والمعنى بالنهي المخاطبون، كما قالوا: لا أرينك ههنا، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وكذلك: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ} [هود: 89] (أن يصيبكم) المفعول الثاني، وأسماء المخاطبين المفعول الأول، ولفظ النهي واقع على الشقاق، والمعنيّ بالنهي المخاطبون. كذلك في هذه الآية، المفعول الأول: المخاطبون، والثاني قوله {أَنْ تَعْتَدُوا}، والمعني بالنهي المخاطبون، وإن كان لفظ النهي واقعًا على الشقاق، أي: لا تكتسبوا أنتم (¬2). وقوله تعالى: {شَنَآنُ قَوْمٍ}. قال أبو زيد: شنئت الرجل أشَنؤُه شنْأً، وشنآنًا، وشُنأً، ومشنأةً، إذا أبغضتَه (¬3). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 196، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 587 - 588 (جرم). (¬2) انظر: "الحجة" 3/ 195 - 197. (¬3) "الحجة" 3/ 197.

وزاد الفراء وأبو عمرو: شنْأ، بالكسر (¬1)، وأبو عبيدة: شنآنا بالجزم (¬2)، وأبو الهيثم: شنأة، ومشنئا (¬3). وقال أبو زيد: رجل شنآنٌ، وامرأة شنآَنةٌ، مصروفان. قال: وقد يقال: رجل شنآنُ بغير صرف، لأنك تقول: امرأة شَنْأى (¬4). وفعلان قد جاء وصفًا وقد جاء مصدرًا، وهما جميعًا قليلان، فمما جاء مصدرًا في قولهم: لويته حقه ليّانًا، وشنآن في قول أبي عبيدة (¬5)، وأنشد للأحوص (¬6): وإن عَابَ فيه ذُو الشنَانِ وفَنَّدا (¬7) قوله: (ذو الشنانِ) على التخفيف القياسي، كقولك في تخفيف ظمآن، وملآن: ظمان، وملان. تحذف الهمزة وتلقي حركتها على ما قبلها. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1941 (شنأ). (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 148، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 300، و"تهذيب اللغة" 1/ 1941 (شنأ). (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1941 (شنأ). (¬4) "الحجة" 3/ 199. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 147، و"الحجة" 3/ 199. (¬6) هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري، شاعر هجاء لقب بالأحوص لضيق في مؤخر عينيه، كان معاصرًا لجرير والفرزدق، وقد نفي إلى اليمن من قبل بني أمية لمبالغته في النسيب. توفي سنة 105هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 345، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 593، و"الأعلام" 4/ 116. (¬7) عجز بيت للأحوص في "ديوانه" ص 58 وصدره: وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي والبيت في "مجاز القرآن" 1/ 147، و"الشعر والشعراء" ص 344، و"الحجة" 3/ 199. والشاهد أن شنان جاء مخففًا، ومعناه: البغض والكره، وفندا: من التفنيد وهو التكذيب.

وأما فعلان في الوصف فليس بالكثير إذا لم يكن له فعلى، ومن ذلك: شيحان (¬1). وفعلان قد جاء أيضًا مصدرًا ووصفًا، فالمصدر كالنَّقَزان، والنّغَران، والغَلَيَان، والنَّفَيَان، والغَثَيَان. والشنآن جاءت على ما جاءت عليه هذه المصادر. والوصف نحو: الزَّفَيان، والصَّمَيان، والقَطَوان من (قولك (¬2)): قطا يقطو، إذا قاربَ بين خطوه، وكبش أَلْيَانٍ، ونعجة أليانة (¬3)، وأنشد أبو زيد: وقبلك ما هاب الرجالُ ظلامَعي ... وفقَّأت عَينَ الأشوسِ (الأبيان (¬4)) وقد يجيء الاسم الذي لا يكون صفة على فَعَلان نحو: الوَرَشَان، والعلَجَان، وهو شجر يستاك به (¬5). واختلف القراء في هذا الحرف، فالأكثرون قرءوا على: فَعْلاَن (¬6)، وحجتهم أنه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان. ومن أسكن النون فإن المصدر قد جاء أيضًا على: فعلان، كما ذكرنا. وإذا كان كذلك فالمعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان، ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 201. (¬2) في (ج): (ذلك). (¬3) انظر: "الحجة" 3/ 202، 203. (¬4) في "النوادر" لأبي زيد ص 148، ونسبه لأبي المجشر الضبي شاعر جاهلي، و"الحجة" 3/ 209، والأشوس هو الرافع رأسه كثيراً. انظر: "اللسان" 4/ 2359 (شوس). (¬5) انظر: "الحجة" 3/ 202. (¬6) هذه قراءة السبعة غير أبي عمرو وابن عامر ورواية عن عاصم ونافع. انظر: "الحجة" 3/ 195، و"التيسير" ص 98.

والمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم -أي بغضكم قوما بصدهم إياكم ومن أجل صدهم أياكم- أن تعتدوا، فأضيف المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل، كقوله تعالى: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، و {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24]، ونحو ذلك (¬1). واختلفوا في قوله: {أَنْ صَدُّوكُمْ} فقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة، والباقون بفتحها (¬2). وحجة من كسر الهمزة أنه جعل (أنْ) للجزاء وإن كان الصد ماضيًا؛ لأن المراد: بالصد ههنا: ما كان من المشركين من صدهم المسلمين عن البيت في الحديبية، والماضي لا يكون فيه الجزاء، غير أنه قد يقع في الجزاء لا على أن المراد بالماضي الجزاء، ولكن المراد بالماضي ما كان مثل هذا الفعل؛ كأنه يقول: إن وقع مثل هذا الفعل لا يقع منكم كذل، وعلى ذلك قول الشاعر: إذا ما انتَسَبنْا لم تَلِدني لَئِيمةٌ ... ولم تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرَّي بِه بُدّا (¬3) فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، فكأن المعنى: إن (أنتسب (¬4)) لا تجدني (مولود لئيم (¬5))، وجواب (إن) قد أعنى عنه ما تقدم ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 211. (¬2) "الحجة" 3/ 212، و"التيسير" ص 98. (¬3) البيت لزائدة بن صعصعة يعرّض فيه بزوجته وكانت أمها سرية. انظر: "شرح أبيات المغني" 1/ 125. (¬4) في (ش): (تنسب) وهو الموافق لما في "الحجة" 3/ 213. (¬5) في (ش): (مولودًا لئيمًا)، وفي "الحجة" 3/ 213: (مولود لئيمة)، ولعله هو الأرجح.

من قوله: {لَا يَجْرِمَنَّكُم} المعنى: إن صدوكم (¬1) قوم عن المسجد الحرام فلا تكسبوا عدوانا. وأما قول من فتح فبين لا مؤونة فيه، وهو أنه مفعول له، التقدير: لا يجرمنكم شنآن قوم؛ لأن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. فأنْ الثانية في موضع نصب لأنه المفعول الثاني، والأولى منصوبة لأنه مفعول له (¬2). قال مقاتل في قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} الآية: يقول لا يحملنكم بغض كفار مكة أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام أن تعتدوا على حجاج اليمامة فتستحلوا منهم محرمًا، وتمنعوهم عن المسجد الحرام كما منعكم كفار مكة، أو تعرضوا للهدي (¬3). وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. قال الفراء: لِيعُن بعضكم بعضًا. (قال): وهو في موضع جزم؛ لأنه أمر وليس بمعطوف على (تعتدوا) (¬4). وقال الزجاج: ما مضى من هذه الآية: كله منسوخ إلا تعاون (المسلمين (¬5)) على البر والتقوى (¬6). ¬

_ (¬1) هكذا في (ش)، (ج)، وفي "الحجة" 3/ 293: (صدكم)، وهو الأولى. (¬2) انتهى من "الحجة" 3/ 212 - 214. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 449، 450. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 300. (¬5) تكررت في (ج). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 144، وانظر: "النكت والعيون" 1/ 442، و"زاد المسير" 2/ 278.

3

قال ابن عباس: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهو ما أمرت به، (والتقوى) ترك ما نهيت عنه (¬1). ونحو ذلك قال أبو العالية (¬2). وقال عطاء في البر والتقوى: يريد كل ما كان لله فيه رضي (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. قال عطاء: يريد معاصي الله والتعدي في حدوده (¬4). قال مقاتل ثم حذرهم فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تستحلوا مُحَرّمًا. {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذا عاقب (¬5). 3 - قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية. قد شرحنا هذه الآية إلى قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} في سورة البقرة (¬6). فأما المنخنقة يقال: خنقه فاختنق (وانخق (¬7)) والانخناق انعصار الحلق (¬8). قال ابن عباس: المنخنقة التي تنخنق فتموت (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسيره" ص 168، وأخرجه الطبري في "تفسيره" من طريق ابن أبي طلحة أيضًا 6/ 67. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 67. (¬3) في (ج): (رضا) بالألف، ولم أقف عليه عن عطاء. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 277. (¬5) انظر: "بحر العلوم" 1/ 414. (¬6) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ ل 105، 106. (¬7) في (ش): (والخنق). (¬8) "تهذيب اللغة" 1/ 1116، وانظر: "اللسان" 3/ 1280 (خنق). (¬9) "تفسيره" ص 169، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 68 من طريق علي أيضًا.

ورُوي عنه قتادة أنه قال: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها (¬1). وقال في رواية عطاء: يريد التي تخنق حتى تموت (¬2). وقال الحسن وقتادة والضحاك: هي التي تخنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت (¬3). وقال السدي: هي التي تدخل رأسها بين عودين في شجرة فتخنق فتموت (¬4). وقال الزجاج: هي التي تختنق برقبتها، أي بالحبل الذي تشد (¬5) به، وبأي وجه اختنقت فهي حرام (¬6). فهذه ألفاظ المفسرين في تفسير المنخنقة، وقد أجملها الزجاج بقوله: وبأي وجه اختنقت فهي حرام (¬7). وقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ}. قال الفراء: هي المضروبة حتى تموت ولم تُذكَّ (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 68 مقطوعًا على قتادة. (¬2) لم أقف على هذه الرواية" وقد ثبت عن ابن عباس نحوها كما تقدم قريبًا. (¬3) أخرجه بمعناه عن قتادة والضحاك: الطبري في "تفسيره" 6/ 68، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 11، و"زاد المسير" 2/ 279. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 68. (¬5) في "معاني الزجاج" 2/ 145 تشك، ولعله تصحيف. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 145. (¬7) المرجع السابق. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 301، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 138، و"تهذيب اللغة" 4/ 3930 (وقذ).

وقال أبو إسحاق: هي التي تقتل ضربًا، يقال: وقذتُها أقِذُها وقْذًا وقذة، وأوقذتُها إيقاذًا، إذا أثخنتها ضربًا (¬1). وذكر اللغتين أيضًا في باب الوفاة من: (فعلت، وأفعلت) أبو عبيد عن الأحمر: الموقودة والوقيذة: الشاة تُضرب حتى تموت ثم تؤكل (¬2)، وأنشد: ... إذا وَقَد النُّعاَس الرُّقَّدا (¬3) أي صاروا كأنهم سُكارى من النوم. ويقال: ضربه على موقذ من مواقذه (¬4). أبو سعيد: الوَقْذ الضرب بالفأس (¬5) على القفا فتصير هدتها إلى الدماغ فيذهب العقل، يقال: رجل موقوذ. وقد وقذه الحِلم، أي سكنه (¬6). قال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي: هي المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 145. (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3930، وانظر: "اللسان" 8/ 4889 (وقذ). (¬3) البيت للأعشى في "ديوانه" ص 54، وتمامه: يلوينني دَيني النهار واجتزي ... ترى لعظام ما جمعت صليبا (¬4) من "تهذيب اللغة" 4/ 3930، وانظر: "اللسان" 8/ 4889 (وقذ). (¬5) في (ش): (على فأس)، وانظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3930، و"لسان العرب" 8/ 4889 (وقذ). وأبو سعيد هذا لعله الأصمعي. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3930، وانظر: "اللسان" 8/ 4889 (وقذ). (¬7) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" 6/ 69، 70

وقوله تعا لي: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}. معنى التردي في اللغة التهور في مهواة (¬1). وقيل في معنى قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] أي سقط في النار (¬2). أبو زيد: يقال: ردى فلان في القليب يردى، وتردّى من الجبل تردّيا (¬3). فالمتردية: هي التي تقع من جبل، أو تطيح في بئر، أو تسقط من مُشْرِف فتموت. كذلك قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدي (¬4). وقوله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ}، قال ابن عباس: يريد التي تنطحها شاة أو كبش فتموت قبل أن تُذَكَّى (¬5). وكذلك قال الحسن وقتادة والضحاك والسدي (¬6). وأما دخول الهاء في هذه الحروف إلى: (النطيحة) فإنما دخلت لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية (¬7). وخصت لأنها من أعم ما يأكله الناس للحمه، والكلام يخرج على ما هو الأغلب والأعم ثم يلحق به غيره. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1387 (ردأ)، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 311، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 138، والطبري في "تفسيره" 6/ 70. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتية ص 138، و"تهذيب اللغة" 2/ 1387 (ردأ). (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1387، وانظر: "اللسان" 3/ 1630. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 70، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 414، و"زاد المسير" 2/ 280. (¬5) بنحوه في "تفسيره" ص 169، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 70، 71. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 70، 71. (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 70، 71.

وأما النطيحة فقال ابن السكيت: إذا كان فَعِيل نعتًا للمؤنث وهو في تأويل المفعول كان بغير هاء، نحو: لحية دهين، وكف خضيب؛ لأنها في تأويل: مخضوبة مدهونة (1). هذا كلامه وقد انتهى، وإنما كان كذلك لأن نقله عن لفظ المفعول المبني على الفعل إلى: فعيل يأخذه عن حيّز الأفعال فيقربه من الأسماء وذلك يوجب حذف علامة التأنيث، إذ التأنيث لتقدير الفعل وقد ارتفع، فعلى هذا كان يجب أن يقال: النطيح بغير هاء، وعلة دخول الهاء ما ذكره ابن السكيت، وهو أنه قال: وقد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها، تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو: النطيحة، والذبيحة، والفريسة، وأكيلة السبع، ومررت بقبيلة بني فلان (1). انتهى كلامه. قال العلماء من النحويين: إنما تحذف الهاء من الفعيله إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم تذكر الموصوف وذكرت الصفة موضع الموصوف فقلت: رأيت قبيلة بني فلان بالهاء؛ لأنك إن (2) لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة، فعلى هذا إنما أدخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهي الشاة (3). وقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}. قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئًا فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه، فحرمه الله تعالى (1).

_ (1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 70، 71 (2) في (ش): (اذً). (3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 72، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 13.

والسبُعُ: اسم يقع على ما له ناب ويَعْدُو على الناس والدواب فيفترسها، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، ومنه يقال: سبَعَ فلانًا، إذا عضه بسنه، وسبع الذئب الشاة، إذا فرسها، وهذا هو الأصل، ثم يقال: سبعه، إذا وقع فيه وعابه (¬1). ويجوز التخفيف في السبع فيقال: سَبْع (¬2). وفي الآية تقديره: وما أكل منه السَّبعُ؛ لأن ما أكله السبع قد فُقِد ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي منه. وكل هذه الأشياء المحرمة حكمها حكم الميتة، واسم الميتة يعمها، إلا أنها ذُكِرَت بالتفصيل؛ لأن العرب كانت لا تعدّ الميت إلا ما مات من مرض. قاله السدي (¬3). وقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}. الظاهر أن هذا الاستثناء من جميع هذه المحرمات التي ذكرت من قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ}. وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة (¬4). قال ابن عباس: يقول: ما أدركت من هذا كله وفيه روح، فاذبح، فهو حلال (¬5). ¬

_ (¬1) من "تهذيب اللغة" 2/ 1618 (سبع) بتصرف، وانظر: "مقاييس اللغة" 3/ 128، و"اللسان" 4/ 1925 (سبع)، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 13. (¬2) انظر: "اللسان" 4/ 1926 (سبع). (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 74. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 72، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 13/ 2. (¬5) "تفسيره" ص 169، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 72.

وقال الكلبي: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثنى من ذلك كله، أي إلا ما ذبحتم. (¬1) وحكى أبو العباس عن بعضهم أن الاستثناء مما أكل السبع خاصة (¬2). والقول هو الأول (¬3). وأما كيفية إدراكها فقال أكثر أهل العلم من المفسرين: إن أدركت ذكاته بأن يوجد له عين تطرف أو ذَنَب متحرك، فأكله جائز (¬4). قال ابن عباس وعُبَيد بن عُمَير (¬5): إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذَنَبِها أو ركضت برجلها، أو تحركت، فاذبح، فهو حلال (¬6). وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أخرج السبع الحشوة أو قطع الجوف قطعًا تؤس معه الحياة فلا ذكاة لذلك، وإن كان به حركة ورمق؛ لأنه صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 280، و"البحر المحيط" 3/ 424، و"الدر المصون" 4/ 196. (¬3) وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" 6/ 73 وانظر: "زاد المسير" 2/ 280. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 72 - 73، و"معاني الزجاج" 2/ 145، و"زاد المسير" 2/ 280. (¬5) لعله أبو عاصم عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعد من كبار التابعين، وكان قاص أهل مكة ومن العباد، وقد أُجْمِع على توثيقه. مات رحمه الله قبل ابن عمر رضي الله عنه. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" 134 (592)، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 156، و"التقريب" ص 377 (4386). (¬6) أخرجه عنهما الطبري في "تفسيره" 6/ 72 - 73 (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 73 "معاني الزجاج" 2/ 145، و"تهذيب اللغة" 2/ 1286 (ذكا).

وهو مذهب مالك (¬1) واختيار الزجاج (¬2) وابن الأنباري (¬3). واحتجوا بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، فقال أبو إسحاق: معنى التذكية: أن يدركها وفيها بقية تشخُبُ معها الأوداج، وتضطرب اضطراب المذبوح. قال: وأصل الذكاء في اللغة: تمام الشيء، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم، وهو تمام السن، (قال الخليل (¬4)): الذكاء في السن أن يأتي على قروحه (¬5) سنة، وذلك تمام استكمال القوة، وأنشد لزهير: يُفَضَّله إذا اجتَهَدا عليه ... تَمام السَّنَّ منهُ والذَّكَاء (¬6) وقيل: جَرْيُ المُذَكَّياَت غِلابٌ (¬7)، أي جري المسانّ التي قد أسنّت. وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذَّكاء. والذكاء في الفهم أن يكون تامًا سريع القبول، وذكّيت النار إنما هو من هذا، تأويله: أتممت إشعالها، فكذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ¬

_ (¬1) أخرج قوله الطبري في "تفسيره" 6/ 73. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 145. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (ش): (قال: وقال الخليل)، ولا يؤثر ذلك في المعنى. (¬5) قال الجوهري: وقرح الحافر قروحًا، إذا انتهت أسنانه، وإنما تنتهي في خمس سنين؛ لأنه في السنة الأولى حولي، ثم جذع، ثم ثنى، ثم رباع، ثم قارح. "الصحاح" 1/ 395 (قرح). (¬6) "ديوانه" ص 69، و"الكامل" 1/ 386، وفي الديوان: يفضله إذا اجتهدت، والتفصيل في السرعة لتمام السن، والذكاء حدة القلب، ويقال الذكاء في السن. (¬7) أي أن المذكي يغالب مجاريه لقوته. وهذا مثلٌ يضرب لمن يوصف بالتبريز على أقرانه في حلبة الفضل. "مجمع الأمثال" 1/ 281.

أدركتم ذبحه على التمام (¬1). قال الأزهري: وقد جود أبو إسحاق فيما فسر، وشفى وبالغ في الشفاء، ولقد كان له حظ من البيان موفور (¬2). وقال ابن الأنباري: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} معناه: إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه بقيّة من الحياة حسنة تشخب معها أوداجه عند الذبح وينهر دمه، فإذا قطع السبع بطنه وأخرج حشوته بطلت التذكية؛ لأنه بعد أن يقع به هذا لا يضطرب اضطراب المذبوح ولا ينهر ولا تشخب أوداجه. ومعنى التذكية: تتميم الشيء، فإذا قال القائل: قد ذكى فلان الشاة، فمعناه قد ذبحها الذبح التام الذي يجوز معه الأكل ولا يحرم، وإذا قيل: فلان ذكيّ، فمعناه تام الفطنة، وذكت النار تذكو، إذا استحكم وقودها، وأذكيتها أنا، والتذكية بلوغ غاية الشباب وتمام القوة، يقال: جريُ المُذكَّيات غِلابٌ، أي جري المسانّ مغالبة، وذلك أن الفرس الذي يبلغ نهاية الشباب والقوة يُحمل (¬3) على السهل والحزن للثقة به (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. النصب: جمع نِصاب مثل: حِمار وحُمُر، وجائز أن يكون واحدًا وجمعه: أنصاب، مثل: طُنُب وأطناب. قاله الزجاج (¬5) وابن الأنباري (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 145 - 146. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في النسختين (ج)، (ش) بدون إعجام، وكأنها: محمل -بالميم-. (¬4) لم أقف على كلام ابن الأنباري. (¬5) "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 146. (¬6) لم أقف عليه.

(قال أبو بكر) (¬1): ويجوز أن يكون النصب جمع نَصْب في الواحد، مثل: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن (¬2). وقال الليث: النصب جماعة النصيبة، وهي علامة تنصب للقوم (¬3) الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال: وذا النُّصبَ المنصوبَ (لا تنسُكَنّه) (¬4) ... لعاقبةٍ والله ربَّكَ فاعبُدا (¬5) هذا قول أهل اللغة. وأما التفسير: فقال ابن عباس: يريد الأصنام التي تنصب وتعبد من دون الله تعالى (¬6). وقال الكلبي: النصب: حجارة كانوا يعبدونها (¬7). وقال الفراء: النصب: الآلهة التي كانت تُعبد من أحجار (¬8). وقال الزجاج: النصب: حجارة كانت لهم يعبدونها، وهي الأوثان (¬9). ¬

_ (¬1) ليس في (ج). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "العين" 7/ 136، و "تهذيب اللغة" 4/ 3581 (نصب). (¬4) في (ج): (لا تعبدنه)، وما أثبته هو الموافق لما في "الديوان"، و"تهذيب اللغة". (¬5) من "تهذيب اللغة" 4/ 3581 نصب، والبيت في "ديوان الأعشى" ص 46، وعجزه في "الديوان": ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا. (¬6) بمعناه في "تفسيره" ص 169، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 75، وانظر: "زاد المسير" 2/ 283. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬8) من "تهذيب اللغة" 4/ 3581 (نصب)، وانظر: "معاني القرآن" 1/ 301، و"زاد المسير" 2/ 283. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 146، وانظر: "زاد المسير" 2/ 283.

وقال مجاهد وقتادة وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويُشَرّحُون اللحم عليه، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها (¬1). قالوا: وليست هي بأصنام، إنما الصنم ما يُصوَّر وُينقَش (¬2). فإذا أخذنا بهذا وهو أنهم كانوا يذبحون على هذه الحجارة فـ (على) في قوله تعالى: {عَلَى النُّصُبِ} بمعناه، وإن قلنا: إن النُّصُب أوثان كانوا يتقربون إليها بالذائح عندها فمعنى قوله تعالى: {عَلَى النُّصُبِ} أي على اسمها. وقال قطرب: معناه {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (على) بمعنى اللام: وهما يتعاقبان في الكلام، قال الله تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ} [الواقعة: 91] أي: عليك، وقال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي فعليها (¬3). قال ابن زيد: (وما ذبح على النصب) (وما أهل لغير الله به) (¬4) واحد (¬5). وقوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}. معناه: وأن تطلبوا على ما قُسِم لكم بالأزلام (¬6). قال المفسرون: وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفرًا ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 75، وانظر: "زاد المسير" 2/ 284. (¬2) هذا ما ذهب إليه ابن جريج وقرره الطبري في "تفسيره" 6/ 75، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 424. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 283. (¬4) في (ش): (أهل به لغير الله). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 75. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 75

أو غزوًا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القداح، وهي سهام مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإن خرج السهم الآمر مضى لحاجته، وإن خرج الناهي لم يمض في أمره (¬1). قال أبو عبيدة (¬2): (الاستقسام طلب القسمة، وكانوا يسألون الأزلام بأن تقسم لهم (¬3). وقال المبرد) (¬4): الاستقسام: أخذ كل واحد قسمه. وقال: الاستقسام إلزام أنفسهم ما تأمرهم به القِداح كقَسَم اليمين (¬5). وقال الأزهري: معنى قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا} أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين (¬6). وهذا أشفى العبارات. وقال ابن السكيت: يقال قسم فلان أمره يقسمه قسمًا، أي يقدره، ينظر كيف يعمل فيه (¬7)، وأنشد للبيد: فقُولا لهُ إن كَانَ يَقْسِمُ أمره ... أَلَمَّا يَعِظْك الدهُر أمُّك هَابِلُ (¬8) ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 76، ومعاني الزجاج 2/ 146. (¬2) في (ج): (أبو عبيد). (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 152. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2961، وانظر: "اللسان" 6/ 3629 (قسم). (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 2962 (قسم). (¬8) "ديوانه" ص 254، و"تهذيب اللغة" 3/ 2962 (قسم). والبيت من قصيدة يرثى فيها النعمان بن المنذر، والمراد بـ (أمك هابل): الدعاء، يقال: هبلته أمه، أي ثكلته.

وقالوا: فلان جيد القسم، أي جيد الرأي، ومعنى: قسم أمره إذا ميّل فيه الرأي: أيفعله أم لا (¬1). ويقال: تركت فلانًا يستقسم، أي يفكر ويروّي بين أمرين، ومنه الاستقسام بالأزلام، وهو طلب الرأي الذي ميل فيه من جهة الأزلام، ولذلك بني على الاستقسام. وأما الأزلام فهي أسماء هذه القداح التي كانت لقريش في الجاهلية، وقد زُلّمت أي سويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد الرجل أمرًا أتى السادن فقال له: أخرج إلي زَلمًا، فيخرجه، فإن خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زَلمان قد وضعهما في قرابه، فإذا أراد إلاستقسام أخرج أحدهما (¬2). قال الحُطَيئة: لا يزجُر الطيرُ إنْ مرَّت بِه سُنُحًا ... ولا يُفِيض على قِسْمٍ بأزلامِ (¬3) وقال طَرَفَه: أخذ الأزلامَ مقتسمًا ... فأتى أغواهُما زُلَمُه (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2962 (قسم). (¬2) من "تهذيب اللغة" 2/ 155 (زلم)، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 152، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139، والطبري في "تفسيره" 6/ 75 - 76، و"زاد المسير" 2/ 284. (¬3) "ديوانه" ص 227، و"تهذيب اللغة" 2/ 1552 (زلم). ومعنى لا يزجر: لا يتطير، وسنحا جمع سانح وهو ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك. انظر: "اللسان" 4/ 2112، ويفيض من الإفاضة وهي الضرب بالاقداح، وقوله: قسم من قولك: يقسم أمره إلي: ينظر فيه ويحيله أيفعله أم لا. (¬4) "ديوانه" ص72، و"تهذيب اللغة" 2/ 1552 (زلم).

ويقال للرجل إذا كان مخففًا رجل مُزَلَّم، وامرأة مزلّمة. ويقال: قدح مُزلَّم وزليم، إذا طرّ وأجيد قده وصنعته، وعصا مزلّمة، وما أحسن ما زلم سهمه (¬1). قال ذو الرَّمَّة: كأرحاءِ رقطٍ زَلَّمَتْها المَنَاقِرُ (¬2) أي سوَّتها وأخذت من حروفها (¬3). ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها (¬4)، ومنه قول لَبيِد: بَكَرَت تَزِلّ عن الثرى أزلامُها (¬5) وواحد الأزلام زَلَم، وزُلَم. ذكره الأخفش (¬6). وكل ما ذكرنا في الأزلام هو قول أهل اللغة (¬7) وابن عباس (¬8) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1552 (زلم). (¬2) عجز بيت لذي الرمة في "ديوانه" ص 250، وصدره: تفض الحصى عن مجمرات وقيعة واستشهد به في "الصحاح" 5/ 1943 (زلم). وأرحاء جمع رحى، والمناقر: المعادل. انظر: "اللسان" 12/ 270 (زلم). (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1552، وانظر: "اللسان" 3/ 1857 (زلم). (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1552، وانظر: "اللسان" 3/ 1858 (زلم). (¬5) عجز بيت للبيد في معلقته وصدره: حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت "ديوان لبيد" ص 310، و"شرح المعلقات السبع" ص90. ومعنى بكرت: غدت بكره، وأزلامها: قوائمها، شبهها بالقداح أي لم تعد تثبت قوائمها على الثرى لأن الطين زلق. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 461. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1552، و"اللسان" 3/ 1857 - 1858 (زلم). (¬8) انظر: "تفسيره" ص 169.

والمفسرين (¬1). وقال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن الاستقسام بالأزلام حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول المُنَجَّمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم كذا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، ولذلك دخول في علم الله عز وجل الذي هو غيب، فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله (¬2). وقد روى أبو الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة" (¬3). وذهب المؤرج وكثير من أهل اللغة إلى أن الاستقسام ههنا هو في معنى الميسر المنهي عنه، وأن الأزلام قداح الميسر. وليس الأمر كذلك عند أهل العلم الموثوق بعلمهم (¬4). وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}. قال الزجاج: أي الاستقسام هنا بالأزلام فِسق، وهو كل ما يخرج به عن الحلال إلى الحرام (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 152، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139، والطبري في "تفسيره" 6/ 76، و"زاد المسير" 2/ 284. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 146، 147. (¬3) رواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 174، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 118، وقال: رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2962 (قسم). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 147، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 78.

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}. قال المفسرون: يئسوا أن ترتدوا راجعين إلى دينهم (¬1). وقال الكلبي: نزلت لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في حجة الوداع ييئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم (¬2). وقال الزجاج: يئسوا من بطلان الإسلام، وجاءكم ما كنتم توعدون من قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] (¬3). وقوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}. قال ابن عباس: فلا تخشوهم في اتباع محمد واخشوني في عبادة الأوثان (¬4). وقال الزجاج: أي فليكن خوفكم لله عز وجل، فقد أمنتم في أن يظهر دين على الإسلام (¬5). وهو قول ابن جريج، قال: فلا تخشوهم أن يظهَروا عليكم (¬6). وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. أجمعوا على أن المراد باليوم ههنا: يوم عرفة، وأن هذه نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، والنبي - صلى الله عليه وسلم -. واقف بعرفات على ناقته العضباء. قاله ابن عباس وغيره (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 78، و"معاني الزجاج" 2/ 148. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 185، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬3) هكذا بالياء في النسختين، وفي رسم المصحف: (واخشون) بدونها. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 148. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 79، وانظر: "زاد المسير" 2/ 286. (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 80279، و"بحر العلوم" 1/ 415، و"زاد المسير" 2/ 287.

وأما معنى إكمال الدين في ذلك: فقال عطاء عن ابن عباس: اليوم أكملت لكم دينكم حيث لم يحج معكم مشرك، وخلا الموسم لله ولرسوله ولأوليائه (¬1)، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة (¬2). وقال آخرون: أكملت لكم دينكم ببيان الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. وهذا معنى قول ابن عباس (¬3)، والسدي (¬4)، وهو الاختيار؛ لأن كمال الدين يكون ببيان الأحكام. قال أرباب المعاني: والكمال على وجهين: كمال مشروح وهو بيان الرسول، وكمال مُبهَم وهو اجتهاد أهل العلم إلى قيام الساعة، (فما عُدِم نصه) (¬5) لم يُعدَم دليله من الكتاب والسنة (¬6). وقال بعضهم: كمال دين هذه الأمة أن لا يزول ولا يُنسخ، وأن شريعتهم باقية (إلى يوم (¬7)) القيامة (¬8). وقيل: الكمال هو أن هذه الأمة آمنوا بالكُلّ ولم يفرقوا , ولم يكن هذا لغيرهم (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 80، وانظر: "زاد المسير" 2/ 287. (¬3) في "تفسيره" ص 170، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 79. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 79. (¬5) لم تظهر في (ش). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم تظهر في (ش). (¬8) انظر: "زاد المسير" 2/ 288. (¬9) لم أقف عليه.

وقال الزجاج: معنى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي الآن أكملت دينكم بأن كفيتكم خوف عدوكم، وأظهرتكم عليه، كما تقول: الآن كمل لنا الملك (وكمل لنا (¬1)) ما نريد، بأن كُفِينا من كنا نخافه. قال: وقد قيل: (المعنى (¬2)) أكملت لكم فرض ما تحتاجون إليه في دينكم، وذلك جائز (حسن) (¬3). وقد شرح ابن الأنباري هذين القولين شرحًا حسنًا فقال في القول الأول للزجاج: المعنى أكملت لكم (نصر دينكم (¬4)) بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه عليه. وقال في القول الثاني: اليوم أكملت لكم شرائع دينكم من غير نقصان قبل (هذا (¬5)) الوقت، وذلك أن الله عز وجل يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر، فيكون الأمر الأول تامًا في وقته وكذلك الثاني، كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أن العشرين أكمل منها، و (الشرائع (¬6)) التي تعبد الله بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفة، وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها، (فكمل (¬7)) الله الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة، ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصًا في وقت من الأوقات (¬8). ¬

_ (¬1) غير ظاهر في (ش). (¬2) ليست في (ج). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 149، وانظر: "زاد المسير" 2/ 288. (¬4) غير ظاهر في (ش). (¬5) غير واضح في (ش). (¬6) غير ظاهر في (ش). (¬7) غير ظاهر في (ش). (¬8) لم أقف عليه.

وقوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. قال عطاء عن ابن عباس: يريد أنه حكم لهم بدخول الجنة (¬1). وقال (المفسرون (¬2)): يريد أنه أنجز لهم ما وعدهم في قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]، وكان من تمام (نعمته أن دخلوا مكة (¬3)) آمنين، وحجوا (مطمئنين (¬4))، لم يخلطهم أحد من المشركين (¬5). وقال السدي: يعني أظهرتكم على العرب (¬6). وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}. قال ابن عباس: (فمن اضطر) إلى ما حرّم مما سمي في صدر هذه السورة في مجاعة (¬7). ومعنى {اضْطُرَّ} أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة. وقال الزجاج: فمن دعته الضرورة في مجاعة (¬8). والمخمصة: المجاعة في قول ابن عباس وجميع المفسرين (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) غير ظاهر في (ش). (¬3) طمس في (ج). (¬4) غير ظاهرة في (ش). (¬5) هذا قول الحكم وقتادة وسعيد بن جبير واختيار الطبري في "تفسيره" 6/ 80، وانظر: "زاد المسير" 2/ 288. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 288. (¬7) بنحوه في "تفسيره" ص 170، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 85. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 148. (¬9) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 153، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139، والطبري في "تفسيره" 6/ 85.

وقال أهل اللغة: الخَمْص والمَخْمَصَة: خلاء البطن من الطعمام جوعًا (¬1)، وأنشدوا: يرى الخُمص تعذيبًا وإن يلق شِعبةً ... يَبِتْ قلبُه من قلة الهمّ مُبْهَمَا (¬2) وأصله من الخَمص الذي هو ضمور البطن، يقال: رجل خَميص وخُمصان، وامرأة خَمِيصة وخُمصانة، والجمع (¬3) خمائص وخُمصانات (¬4)، قال الأعشى: تبيتُون في المشتَى مِلاءً بُطونُكم ... وجاراتكم غَرثَى يَبِتْن خَمَائِصا (¬5) وقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ}. يجوز أن ينتصب (غير لمحذوف مقدر على معنى: فتناول غير متجانف و (¬6)) يجوز أن ينتصب بقوله (اضطرّ) ويكون المقدر متأخرًا، على معنى: فمن اضطر غير متجانف لإثم (فتناول {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬7). ومعنى غير متجانف لإثم) (¬8) غير متعمد، في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد (¬9). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 7/ 155. (¬2) البيت لحاتم الطائي في "ديوانه" 82، و"النوادر" لأبي زيد ص 111. (¬3) في (ش): (الجميع). (¬4) انظر: "الصحاح" 3/ 1038، و"اللسان" 3/ 1266 (خمص). (¬5) "ديوانه" ص 100، و"مجاز القرآن" 1/ 153. وفي الديوان: جوعى بدل غرثى والمعنى واحد. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 301، و"الدر المصون" 4/ 200. (¬8) ما بين القوسين ليس في (ش). (¬9) انظر: "تفسير ابن عباس" ص170، والطبري في "تفسيره" 6/ 86، و"النكت والعيون" 2/ 13.

4

وروى عن قتادة: غير مُتعرّض لمعصية (¬1). وأصله في اللغة: من الحيف الذي هو: الميل (¬2). قال الزجاج: غير مائل (¬3). وقال أبو عبيدة: غير مُنحرف (¬4). ومعنى الإثم ههنا في قول أهل العراق: أن يأكل فوق الشبع تلذذًا (¬5). وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصيًا بسفره (¬6) على ما بينا في سورة البقرة. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. قال ابن عباس: يريد غفر له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه، رحيم (بأوليائه (¬7)) حيث أحل لهم ما حرم عليهم في المخمصة إذا اضطروا إلى أكلها (¬8). 4 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الآية. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/ 86. (¬2) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 149، والطبري في "تفسيره" 6/ 86، و"الصحاح" 4/ 1339 (جنف). (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 153. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 149، و"بحر العلوم" 1/ 416. (¬6) هذا معنى قول مجاهد كما في الطبري في "تفسيره" 6/ 86، ورجحه أبو يعلى انظر: "زاد المسير" 2/ 289. (¬7) غير ظاهر في (ش). (¬8) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107.

قال سعيد بن جبير: إن عديَّ بن حاتم (¬1) وزيدَ الخَيْل (¬2) جاءا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة، وقد حرم الله عز وجل الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية (¬3). وقوله تعالى: {مَاذَا} إن جعلته اسمًا فهو رفع بالابتداء وخبره (أُحِلّ)، وإن شئت جعلت (ما) وحدها اسمًا (ويكون خبرها (¬4)) (ذا) أحل من صلة ذا؛ لأنه بمعنى: أي شيء (الذي (¬5)) أحل لهم (¬6). ومضى الكلام مستقصى في (ماذا) (¬7). وقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. ¬

_ (¬1) هو أبو طريف عدي بن حاتم بن سعد بن الحشرج الطائي ولد الجواد المشهور، أسلم سنة تسع أو عشر وكان نصرانيًا وحسن إسلامه وثبت على إسلامه في الردة، وقد شهد بعض الفتوحات وتوفي رضي الله عنه سنة 67هـ وقيل بعدها. انظر: "أسد الغابة" 4/ 8، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 162، و"الإصابة" 2/ 468. (¬2) هو أبو مكنف زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يسمى زيد الخيل، فسماه - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير كان شاعرًا خطيبًا شجاعًا من أجمل الناس، ومات رضي الله عنه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: " الاستيعاب" 2/ 127، و"أسد الغابة" 2/ 301، و"الإصابة" 1/ 572. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم، انظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 18، وإسناده ضعيف. انظر: "تهذيب التهذيب" 7/ 198، وله شاهد عن عدي عند الطبري في "تفسيره" 6/ 91، وذكر الأثر المؤلف في "أسباب النزول" ص 194. (¬4) ساقط من (ش) بسبب طمس. (¬5) غير ظاهر في (ش). (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 149، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 219. (¬7) انظر: [البقرة: 215].

قال ابن عباس: يريد من جميع الحلال (¬1). قال أهل العلم: كانت العرب تستقذر أشياء كثيرة فلا تأكلها، وتستطيب أشياء فتأكلها، فأحل الله لهم ما استطابوا مما لم ينزل بتحريمه (تلاوة) (¬2)، مثل لحوم الأنعام كلها وألبانها، ومثل الدواب التي كانوا يأكلونها من الضباب (¬3) واليرابيع (¬4) والأرانب وغيرها (¬5). وهذا أصل كبير في التحليل والتحريم، فكل حيوان استطابته العرب فهو حلال، وكل حيوان استخبثته العرب فهو حرام (¬6)، وهو في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (¬7). والطيب في اللغة: المُستَلذّ، والحلال المأذون فيه، يسمى أيضًا طيبًا تشبيها بما هو مُستَلذ، لأنهما اجتمعا بانتفاء المضرة. وقال مقاتل والكلبي: المراد بالطيبات الذبائح (¬8). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬2) غير ظاهر في (ش). (¬3) جمع ضب، وهو دويبة معروفة يشبه الوَرَل، والأنثى: ضبة. انظر: "اللسان" 4/ 2543 (ضبب). (¬4) جمع يربوع: دويبة فوق الجُرَذ. انظر: "اللسان" 3/ 1562 (ربع). (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2147، وانظر: "اللسان" 5/ 2731 (طيب). (¬6) هذا إذا وافق التشريع عند نزول القرآن وجاء على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحلال والحرام في هذا الشأن، وليس المراد أن استطابة العرب مصدر للتشريع في التحليل والتحريم في هذا المضمار، والله أعلم. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 291. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 454 و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107.

والقول الأول أولى؛ لأنه أعم في التحليل، وعليه أكثر العلماء. وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}. قال الزجاج وغيره: يريد: وصيد ما علمتم من الجوارح، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام؛ لدلالة الباقي عليه، وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولأنهم سألوا عن الصيد (¬1). هذا قول جميع أهل المعاني (¬2). ويجوز أن يقال: قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} ابتداء كلام وخبره: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فيصبح الكلام من غير حذف وإضمار، وهو قول حسن. وأما الجوارح: فهي الكواسب من الطير والسباع ذوات الصيد، والواحدة جارحة، والكلب الضاري جارحة، سميت جوارح؛ لأنها كواسب أنفسها، من: جرح واجترح، إذا اكتسب (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الطير تصيد، والكلاب، والفهود، وعناق الأرض (¬4)، وسباع الطير، مثل: الشاهين والباشِق (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 149. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 88، و"بحر العلوم" 1/ 417، والبغوي في "تفسيره" 3/ 16. (¬3) من "تهذيب اللغة" 1/ 572 (جرح)، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 154، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 464، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139، والطبري في "تفسيره" 6/ 88. (¬4) عناق الأرض: دابة من السباع أصغر من الفهد تصيد الطيور. انظر: "اللسان" 5/ 3136 (عنق). (¬5) الباشق: بفتح الشين اسم طائر جارح، انظر: "اللسان" 1/ 289

والعقاب والزُّمَّج (¬1)، فما اصطادت هذه الجوارح فقتلته فهو حلال (¬2). وقال ليث (¬3) (¬4): سئل مجاهد عن الصقر والبازي والفهد وما يَصطاد من السباع؟ فقال: هذه كلها جوارح (¬5). وهذا قول جميع المفسرين (¬6) إلا ما روي عن ابن عمر (¬7) والضحاك أنهما قالا: الجوارح الكلاب دون غيرها، وما صاد غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يحل أكله (¬8). ومثل هذا يروى عن السدي أيضًا (¬9)، وهو قول غير معمول به (¬10). ¬

_ (¬1) الزُّمَّج:- بضم الزاي وتشديد الميم المفتوحة طائر جارح دون العقاب يصاد به، وقيل: هو ذكر العقبان. انظر: "اللسان" 3/ 1860 (زمج). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (ج): الليث. (¬4) هو أبو بكر ليث بن أبي سليم أيمن أو أنس بن زنيم الكوفي الليثي، من أوعية العلم وكان صاحب سنة، صدوق في الرواية لكنه اختلط وحديثه عند مسلم والأربعة، توفي رحمه الله سنة 148هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 6/ 179، و"ميزان الاعتدال" 3/ 420، و"التقريب" 464 رقم (5685). (¬5) أخرجه بنحوه من عدة طرق عن مجاهد: الطبري في "تفسيره" 6/ 89، وانظر: "تفسير مجاهد" 1/ 186. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 89 - 90، و"النكت والعيون" 2/ 15، والبغوي في "تفسيره" 3/ 16. (¬7) في (ج): ابن عمرو. (¬8) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" 6/ 90، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 15. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 90، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 16. (¬10) قال الطبري في "تفسيره": وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال: كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وأن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم؛ لأن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} كل جارحة ولم يخصص منها شيئًا. "جامع البيان" 6/ 90 - 91، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 16.

وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ}. المُكَلَّب: الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد، ويقال للصائد مكلب؛ لأنه يعلم الكلب الصيد (¬1)، قال الشاعر: فبادَرَه عند الصبَاح مُكَلّبٌّ ... أزلّ كَسِرحَان الهَزيِمة أَغْبرُ (¬2) قال أهل المعاني: وليس في قوله: (مكلبين) دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة؛ لأنه بمنزلة قوله: مؤدبين (¬3). وقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. قال الكلبي: تؤدبونهن (¬4) لطلب الصيد أن لا يأكلن الصيد كما أدبكم الله (¬5). قال العلماء: وصفة الكلب المعلم الذي يحل صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى (¬6)، وإذا أخذ الصيد أمسك ولم يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 149، و"بحر العلوم" 1/ 417، و"النكت والعيون" 2/ 15، والبغوي في "تفسيره" 3/ 16، و"اللسان" 7/ 3911 (كلب). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 15، و"زاد المسير" 2/ 292. (¬4) في (ج): (تؤدبوهن). (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 417، والبغوي في "تفسيره" 3/ 16. (¬6) أشلاه: أي أغراه انظر: "اللسان" 14/ 2319 (شلا). (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 92، و"النكت والعيون" 2/ 15، والبغوي في "تفسيره" 3/ 16.

وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}. (قال النحويون (¬1)): دخلت (من) في قوله (مما) للتبعيض؛ لأنه إنما أحل أكل بعضه وهو اللحم دون الفرث والدم (¬2). وقال الأخفش: من ههنا زائدة، (والمعنى: فكلوا (¬3)) ما أمسكن عليكم (¬4). وقال غيره: هذا خطأ؛ لأن مِنْ لا تزاد في الواجب، وإنما تزاد في النفي والاستفهام. ومعنى (مِن) في: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] (¬5) ابتداء الغاية، أي: يكفر (عنكم أعمالكم (¬6)) التي تحبون أن تستر عنكم من سيئاتكم (¬7). قال العلماء: إذا كان الضاري وهو الكلب معلمًا كما وصفنا، ثم صاد صيدًا (فجرحه (¬8)) وقتله وأدركه الصياد ميتًا: فهو حلال وجرح ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 98 - 99، و"الدر المصون" 4/ 204. وقد رجح الطبري في "تفسيره" والسمين هذا القول. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 464، و"زاد المسير" 2/ 294، و"الدر المصون" 4/ 204. (¬5) سياق هذه الآية في مقام الرد على الأخفش؛ لأنه قد اعتبر من في آية النساء هذه كما في آية البقرة. انظر: "معاني القرآن" 2/ 464. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 9/ 569 , 570 والقرطبي في "تفسيره" 6/ 73، و"البحر المحيط" 3/ 430. (¬8) ساقط من (ش).

الجارحة كالذبح (¬1)، وكذلك الحكم في سائر الجوارح (المُعلَّمة، والسهم، والرمح، والمعراض (¬2) وما جَرَح (¬3)) تجده، فإن أصابه المعراض بعَرضه (فقتله ولم تدرك (¬4)) ذكاته فهو حرام (¬5)، (وإن صاده الكلب فجثم عليه (¬6)) فغمّه وقتله بالغم (¬7) من غير جُرح (لم يجز أكله عند كثير من العلماء، والقياس أنه حلال؛ لأنه مما أمسكه على صاحبه) (¬8)، والكلب لا يتعلم الجرح، (والذي يُتَصوّر عنده أنّ تسليمه إلى مرسله سليمًا (¬9)) عن الجرح أحسن (في الاصطياد) (¬10). هذا كله إذا لم يأكل، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء. فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي: أنه لا يحل ولا يؤكل (¬11). قال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيده فهو (ميتة، لا يحل ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 97، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 71، 72. (¬2) المعراض: السهم الذي لا ريش عليه "الصحاح" 3/ 1083 (عرض). (¬3) غير واضح في (ش). (¬4) غير واضح في (ش). (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 97، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 71، 72. (¬6) غير واضح في (ش). (¬7) الظاهر أن المراد بغمه أن يضيق عليه أنفاسه بثقله فيموت الصيد بالغم. (¬8) غير واضح في (ش). (¬9) غير واضح في (ش). (¬10) غير واضح في (ش). (¬11) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 92 - 98، و"النكت والعيون" 2/ 16، والبغوي في "تفسيره" 3/ 16.

أكله) (¬1)؛ لأنه أمسكه (على نفسه (¬2)) ولم يمسك عليك، ولم يتعلم ما علمته، فاضربه ولا تأكل من صيده (¬3). وهذا (هو الأشهر (¬4)) والأظهر من مذهب الشافعي (¬5)، ويدل عليه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك (فاذكر اسم الله (¬6)) فإن أدركته لم يقتل (فاذبح (¬7)) واذكر اسم الله، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل، فقد أمسك عليك، وإن وجدته (وقد أكل (¬8)) منه فلا تطعم منه (شيئاً فإنما (¬9)) أمسك على نفسه" (¬10). وعند سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل (¬11) (وهو أحد (¬12)) قولي الشافعي (¬13). ¬

_ (¬1) غير ظاهر في (ش). (¬2) غير ظاهر في (ش). (¬3) أخرجه بمعناه من طريق العوفي: الطبري في "تفسيره" 6/ 98، وقد ثبت نحو هذا القول لابنه في "صحيح البخاري" (5483) كتاب الذبائح والصيد، باب (7): إذا أكل الكلب 6/ 220. (¬4) غير واضح في (ش). (¬5) انظر: "الأم" 2/ 226، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 19، وذكره ابن كثير في "تفسيره" أنه رأي الجمهور واختار هذا القول الطبري في "تفسيره" 6/ 96. (¬6) غير واضح في (ش). (¬7) طمس في (ش). (¬8) غير واضح في (ش). (¬9) طمس في (ش). (¬10) أخرجه البخاري (5484) كتاب الذبائح والصيد، باب (8): الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة 6/ 220، ومسلم (1929) كتاب الصيد والذبائح، باب (1): الصيد بالكلاب المعلمة 3/ 1529 (ح 1). (¬11) وهذا رأي الإِمام مالك أيضًا. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 95 - 96، و"النكت والعيون" 2/ 15، والبغوي في "تفسيره" 3/ 17. (¬12) ما بين القوسين بياض في (ش). (¬13) انظر البغوي في "تفسيره" 1/ 17.

ولا فرق فيما ذكرنا بين الطيور المعلمة والسباع المعلمة. وقال سعيد (بن جبير (¬1)): إذا أكل الكلب (من صيده (¬2)) فلا تأكل منه، فإنما أمسك على نفسه، وأما البازي والصقر فكل وإن أكلا؛ فإنما تعليمه إذا دعوته يجيبك، ولا تستطيع ضربه حتى يدع الأكل (¬3). وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}. يعني إذا أرسلتم الكلاب. قال الكلبي وغيره من المفسرين (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} إذا أطلقت، فإن نسيت حين تطلق كلبك اسم الله فلا بأس أن تأكله، فإن المؤمن مؤمن واسم الله المؤمن، والمسلم مسلم، واسم الله السلام (¬5). وقال الحسن: إذا أرسل المؤمن كلبه (ونسي (¬6)) أن يسمي الله فإنه يأكل؛ لأن اسم الله من دينه، وهو بمنزلة شفرته إذا نسي أن يذكر اسم الله (¬7). ¬

_ (¬1) غير واضح في (ش). (¬2) بياض في (ش). (¬3) أخرج صدره الخاص بالكلب: الطبري في "تفسيره" 6/ 93، وذكره بطوله الهواري في "تفسيره" 1/ 450. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 417، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬5) لم أقف عليه، وقد ثبت عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أنه قال: إذا أرسلت جوارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حرج، و"تفسيره" ص 171، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 99، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 499. (¬6) في (ش): (فنسي). (¬7) لم أقف عليه، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 450.

5

قال العلماء: الأولى الذبح علي اسم الله، وإرسال الجوارح على اسم الله، فمن ترك اسم الله فذبيحته؛ حلال لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن يذبح على اسم الله، سمّى أو لم يُسمّ" (¬1). وهو ما فسر ابن عباس والحسن. وقالت عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الأعراب يأتوننا بلحوم الصيد، ولا ندري سموا الله عليها أم لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سموا أنتم وكلوا" (¬2). قال أهل المعاني: الهاء في قوله: (عليه) تعود إلى الإرسال (¬3)، كنّى عنه وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الكلام يدل عليه، ومثله كثير. 5 - قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. قال أهل المعاني: إنما ذكر إحلال الطيبات تأكيدًا، كأنه قيل: اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها (¬4). وقد فسرنا الطيبات في الآية الأولى. وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}. الطعام عند العرب: (اسم لما يُؤكل (¬5))، كما أن الشراب اسم لما ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه بنحوه البخاري (5507) كتاب الذبائح والصيد، باب (21): ذبيحة الأعراب ونحوهم 6/ 266، وابن ماجة (3174) كتاب الذبائح، باب: التسمية عند الذبح. (¬3) هذا معنى قول ابن عباس والسدي. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 99، و"زاد المسير" 2/ 294. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 295. (¬5) غير واضح في (ش).

يشرب، والذبائح داخلة في اسم الطعام على مقتضى اللغة. قال ابن عباس: قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ثم استثنى ذبائح أهل الكتاب فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يعني: (ذبائح اليهود (¬1)) والنصارى وإن لم يذكروا اسم الله وذكروا عيسى وعزير (¬2). وقال الشعبي وعطاء في النصراني (يذبح فيقول: باسم (¬3)) المسيح. قالا: تَحلّ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم (ما يقولون (¬4)) (¬5). ومثل هذا رُوي عن الزهري (¬6) ومكحول (¬7). وقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}. يريد أن ذبائحنا لهم حلال، فإذا اشتروها (منا كان (¬8)) الثمن لنا حلالًا، (واللحم لهم حلالًا) (¬9)، وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا. ¬

_ (¬1) غير واضح في (ش). (¬2) لم أقف عليه، وما وجدته عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم. أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 101، ويريد نصارى بني تغلب. (¬3) غير واضح في (ش). (¬4) غير واضح في (ش). (¬5) أخرجه عنهما بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 101، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 18، و"زاد المسير" 2/ 295. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 101، وانظر: "زاد المسير" 2/ 295. (¬7) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 18. (¬8) غير واضح في (ش). (¬9) غير واضح في (ش)، وانظر: "زاد المسير" 2/ 296.

وقال الزجاج: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (تأويله حل لكم أن تطعِمُوهم (¬1)) (¬2). فجعل الزجاج الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم، لا إليهم. ثم قال: لأن (الحلال والحرام والفرائض بعد (¬3)) عقد التوحيد (¬4)، إنما يعقد على أهل الشريعة (¬5). وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ}. قال مجاهد: يعني الحرائر (¬6). وقال ابن عباس: يريد العفائف من المؤمنات (¬7) وهو قول الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم والسدي (¬8). فإن حملنا الإحصان على الحرية وهو قول مجاهد لم تدخل الأَمَة ¬

_ (¬1) غير واضح في (ش). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 151، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 417، و"زاد المسير" 2/ 296. (¬3) غير واضح في (ش). (¬4) علق محقق "معاني الزجاج" عند هذا الموضع ما يأتي: أي الإيمان والعقيدة أولاً ثم التكليف بعد ذلك، وهؤلاء لا إيمان عندهم فليأكلوا ما يأكلون ولا حرج علينا في تقديم ذلك لهم. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 151، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 417. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 104، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 267، و"زاد المسير" 2/ 296. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 266، و"زاد المسير" 2/ 296، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 9/ 106 - 107، والبغوي في "تفسيره" 3/ 19.

المسلمة في هذا التحليل، وذلك ان هذا تحليل مطلق، والتحليل المطلق إنما يستمر في الحرائر المسلمات؛ فأما الأمة المسلمة فنكاحها إنما يجوز بشرطين، على ما بينا في سورة النساء، فهي غير مطلقة النكاح. وإن حملنا الإحصان على العِفّة وهو قول ابن عباس والباقين قلنا في هذه الآية إن المراد بها بيان الأولى من النكاح، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بذات الدين تربت يداك" (¬1) فالأولى أن يتزوج عفيفة، فإن تزوج زانية كُرِهَ وجاز، وسنذكر المذاهب في تزوجّ الزانية عند قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] إن شاء الله. وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. قال ابن عباس: يريد الحرائر، وأما أهل الكتاب حرام نكاحهن (¬2). هذا كلامه، وقد بينا هذا في سورة النساء. واختلفوا في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هل هو عام أم لا؟ فقال ابن عباس: هذا خاص في الذميات منهن، فأما الحربيات منهن فلا. روى مِقسَم عنه أنه قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، (ومنهم (¬3)) من لا يحل لنا. ثم قرأ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يُعطِ لم يحل (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه من حديث أبي هريرة البخاري (5090) كتاب النكاح، باب: الأكفاء في الدين. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 107. (¬3) في (ش): منهن وما أثبته هو الموافق لما عند الطبري في "تفسيره" 6/ 107. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 107، و"زاد المسير" 2/ 297. قال ابن الجوزي معلقًا على رأي ابن عباس هذا: والجمهور على خلافه.

وقال الحسن وسعيد بن المسيب: هذا عام في جميع الكتابيات حربية كانت أو ذمية (¬1). وقوله تعالى: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. قال ابن عباس: يريد الصداق والمهور (¬2). قال أهل المعاني: تقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبه، وأن من تزوج امرأة واعتقد أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني. وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر في الإجارات لا يقدر. وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. قال ابن عباس: يريد حلالًا غير حرام (¬4). {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}. قال: يريد التي يهواها فيضمها إليه من غير تزويج، هذا حرام (¬5). وقال غيره: {مُحْصِنِينَ} يعني تنكحوهن بالمهر والبينة، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} معالنين بالزنا، {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} يعني تُسرون الزنا (¬6). وقال الشعبي: الزنا ضربان خبيثان: السفاح وهو أخبثهما، وهو ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 107، وانظر: "زاد المسير" 2/ 296. (¬2) "تفسيره" ص 172، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 108. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) بمعناه في "تفسيره" ص 172، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 108. (¬5) بمعناه في "تفسيره" ص 172، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 108. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 108، والبغوي في "تفسيره" 3/ 19.

المعالنة بالزنا، والآخر: اتخاذ الخدن، وهو الزنا في السر (¬1). قال الزجاج حرم الله عز وجل الجماع على جهة السفاح، وعلى جهة اتخاذ الصديقة، وأحله على جهة الإحصان، وهو التزوج (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}. قال ابن عباس ومجاهد: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} أي بالله (¬4). ووجه هذا القول: هو أن الله تعالى يجب الإيمان به، ومن آمن به فهو مؤمن به، والله تعالى مؤمن به، والمؤمن به يجوز أن يسمى إيمانًا كما يسمى المضروب ضربًا، كقولهم: نسج اليمن، وصيد البر. وحكى عن بعضهم أنه قال: معنى هذا القول: ومن يكفر برب الإيمان (¬5). فجعله من باب حذف المضاف. والأول الوجه. قال العلماء: وليس هذا على الإطلاق، لأنه قيد في آية أخرى فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]، فأما من كفر ثم آمن ومات على الإيمان لا يقال حبطت أعماله. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في "معاني الزجاج": التزويج. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 152. (¬4) هذا لفظ مجاهد كما عند الطبري في "تفسيره" 6/ 109، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 451، أما لفظ ابن عباس فإنه قال: أخبر الله أن الإيمان هو العروة الوثقى وأنه لا يقبل عملاً إلا به، ولا يحرم الجنة إلا على من تركه. "تفسيره" ص 172، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 109 - 110. (¬5) لم أقف عليه.

وقال الكلبي: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} بشهادة أن لا إله إلا الله (¬1). فجعل كلمة التوحيد إيمانًا. وروى حِبان (¬2) عنه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} يقول: بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعلى هذا سُمي القرآن إيمانًا؛ لأنه يجب الإيمان به، وأنه من عند الله. قال مقاتل: المراد بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغني عنهن في دينهن شيئًا، وجعلهن ممن كفر بالإيمان وحبط عمله، وهي بعدُ للناس عامة، من كفر بالإيمان فقد حبط عمله (¬4). وقال أبو إسحاق: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي من بدّل شيئًا مما أحل الله فجعله حرامًا، أو أحل شيئًا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع، وقد حبط جميع ما تقرب به إلى الله عز وجل (¬5). وهذا دليل لمن جعل الطاعات إيمانًا؛ لأن تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرمه طاعة. ¬

_ (¬1) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 20، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 108. (¬2) هو أبو عبي حبان -بكسر الحاء- بن علي العنزي الكوفي، له فقه وفضل، لكنه ضعيف. توفي سنة 71 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 270، و"ميزان الاعتدال" 1/ 449، و"التقريب" ص 149 رقم (1076) رقم (1076). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "سير مقاتل" 1/ 455. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 152.

6

وقوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. قال ابن عباس: يريد الثواب (¬1). 6 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}. قال الزجاج: المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وإنما جاز ذلك لأن (في (¬2)) الكلام والاستعمال دليلًا على معنى الإرادة، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، المعنى: إذا أردت أن تقرأ (¬3). قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا اتجرت فاتجر في البزّ، وإذا آخيت فآخ أهل الحسب. تريد إذا أردت التجارة، وإذا أردت مؤاخاة الناس. قال: ويجوز أن يكون المعنى: إذا قمتم إلى الطهور، فذكر الصلاة وهو يريد الطهور؛ لأن الصلاة لا تكون إلا بطهور وهو مقدمتها التي لا تكون صلاة مُجازَةً إلا بها. قال: والأول هو المختار (¬4). وقال أبو الفتح الموصلي (¬5): معنى قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}: إذا عزمتم الصلاة (¬6) وأردتموها , وليس الغرض والله أعلم في (قمتم) النهوض والانتصاب؛ لأنهم قد أجمعوا على أنه لو غسل أعضاءه قبل ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 108. (¬2) ليست في (ج). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 152، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 268، و"بحر العلوم" 1/ 418، و"رصف المباني" ص 441. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 298. (¬5) هو ابن جني كما في "سر صناعة الإعراب" 2/ 633. (¬6) في "سر صناعة الإعراب": (عزمتم على الصلاة).

الصلاة قاعدًا أو نائمًا (¬1) لكان قد أدى فرض هذه الآية (¬2). ونظير قمتم في هذا الموضع قوله سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] وليس يراد هنا -والله أعلم- القيام الذي هو المثول، وإنما هو من: قمت (بأمرك (¬3))، وعليّ القيام بهذا الأمر، فكأنه (¬4) قال: الرجال متكلِّفون لأمر النساء ومعنيون بشؤونهن، فكذلك قوله: {إِذَا قُمْتُم} (أي (¬5)) إذا هممتم بأمر الصلاة، وتوجهتم إليها بالعناية، وكنتم غير متطهرين فافعلوا كذا، فقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} يريد: إذا قمتم إلى الصلاة ولستم على طهارة، فحذفُ ذلك للدلالة عليه، وهذا أحد الاختصارات التي في القرآن، وهو كثير جدًّا. ومثل ذلك قول طَرَفَة: فإن مُتُّ فانعِيني بما أنا أهلُه ... وشُقِّي عليَّ الجَيبَ يابنة مَعْبَدِ (¬6) تأويله: فإن مُتُّ قبلك. لابد من أن يكون الكلام معقودًا على هذا؛ لأنه معلوم أنه لا يكلفها نعيه والبكاء عليه بعد موتها (¬7). ¬

_ (¬1) في "سر صناعة الإعراب": (قائمًا أو قاعدًا)، وهو أولى. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 2/ 633. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬4) في (ج): (وكأنه). (¬5) ساقط من (ج). (¬6) "ديوانه" ص 29، والبيت من معلقته كما في "شرح القصائد المشهورات" ص 92 و"شرح المعلقات السبع" ص 68، ومعنى انعيني: أشيعي خبر موتي، ويقصد بابنة معبد ابنة أخيه معبد بن العبد. (¬7) "سر صناعة الإعراب" 2/ 634، 635.

وقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. قال أبو الفتح: كان أبو سهل بن زياد القطان (¬1) يحتج بهذه الآية على وجوب الترتيب في الطهارة. قال: لأن الفاء للترتيب، وقد قال: {فَاغْسِلُوا} فوجب أن يُرتب الغَسل على القيام، يبدأ به دون غيره. فقال أبو الفتح: قد بينا أن المراد بالقيام ههنا: العزم والإرادة، فالفاء إذًا إنما (رتب (¬2)) الغسل والمسح عَقِيب الإرادة والعزم، ولم يجعل للغسل مزية في المتقدم على المسح؛ لأن المسح معطوف على الغسل بالواو (¬3). والواو لا توجب الترتيب، وليس فيها دليل على (المبدوء به (¬4)) في المعنى؛ لأنها ليست مرتبة، ألا ترى إلى قول لبيد: أُغْلي السِّباءَ بكُلِّ أدكنَ عاتقٍ ... أو جَونةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها (¬5) قوله قدحت (أي غُرِفَت (¬6))، وإنما يُفَضّ الخَتم قبل الغرف، فقد ¬

_ (¬1) هو أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان البغدادي، الإِمام المحدث الثقة مسند العراق، وكان كثير التلاوة حسن الانتزاع لمعانيه، توفي رحمه الله سنة 350 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 15/ 521، و"البداية والنهاية" 11/ 238، و"شذرات الذهب" 3/ 2. (¬2) في "سر صناعة الإعراب": (رتبت)، وهو أصوب. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 2/ 633 بتصرف. (¬4) في (ش): (البدء به)، وما أثبته هو الموافق لـ"سر صناعة الإعراب". (¬5) "ديوانه" ص 314، والبيت من معلقته كما في "شرح القصائد المشهورات" 1/ 162، و"شرح المعلقات السبع" ص 94. ومعنى: أغلي: أشتري غاليًا، والسباء: اشتراء الخمر، والأدكن: الذي فيه دكنة كالخز الأدكن، والعاتق: الخالصة، والجونة: الخابية السوداء، وقدحت. غرفت، والفض: الكسر. (¬6) بياض في (ش).

علمت أن قُدِحَت مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وعلى هذا يتوجه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} الآية [آل عمران: 43] فبدأ بالسجود قبل الركع لفظًا وهو مؤخر عني (¬1). وإذا كان كذلك جرى قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} {وَامْسَحُوا} مجرى قولك: فاضرب زيدًا واشتم جعفرًا، فلو بدأ بالشتم قبل الضرب كان جائزًا، فالفاء لم ترتب الغَسل قبل المَسح، ولا الضرب قبل الشتم، ولم ترتب أيضًا نفس المغسول؛ لأن المغسول معطوف بعضه على بعض بحرفٍ لا يوجب الترتيب وهو الواو. وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. المِرفق مكسور من اليد والمتكأ، ومن الأمر كقوله تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16]، والارتقاء التوكؤ بمِرفقك على مَرفَق (¬2). (فأما قوله: {إِلَى} فإن أبا العباس (¬3)) (¬4) وجماعة من النحويين جعلوا (إلى) ههنا بمعنى: مع، وأوجبوا غسل المرافق (¬5)، وهو مذهب الشافعي وأكثر العلماء (¬6). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 2/ 632، 633 بتصرف. (¬2) "العين" 5/ 149، و"تهذيب اللغة" 2/ 1444 (رفق). (¬3) لعله المبرد. (¬4) في (ج): (فأما قوله فإن العباس). (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 153، و"بحر العلوم" 1/ 418، والبغوي في "تفسيره" 3/ 21، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 27، و"الدر المصون" 4/ 208. (¬6) انظر: "الأم" 1/ 25، والطبري 6/ 123، و"معاني الزجاج" 2/ 153، و"بحر العلوم" 1/ 418، والبغوي في "تفسيره" 3/ 21، و"زاد المسير" 2/ 300، =

وقال المبرد: وهو قول الزجاج: اليد من أطراف الأصابع إلى الكتف، والرجل من الأصابع إلى أصل الفخذين، فلما كانت المرافق والكعبان داخلة في تحديد اليد والرجل كانت داخلة فيما يغسل وخارجة مما لا يغسل، ولو كان: مع المرافق، لم يكن في ذكر المرافق فائدة، وكانت اليد كلها يجب أن تغسل، ولكن لما قيل: {إِلَى الْمَرَافِقِ} اقتطعت في الغسل من حد المرفق (¬1). قال الزجاج: والمرفق في الحقيقة في اللغة ما جاوز الإبرة (¬2). وهو المكان الذي يرتفق به، أي يتكَّأ عليه، فالمرافق هي في الحقيقة حد ما ينتهي إليه في الغسل، وليس يحتاج إلى تأويل (مع). انتهى كلامه (¬3). وقد حصل من قوليهما أن الحد إذا كان من جنس المحدود كان داخلًا في جملة المحدود، وهو قولهما: لما كانت المرافق والكعبان داخلة في تحديد اليد والرجل كانت داخلة فيما يغسل، ومثل هذا قولك: بعتك الثوب من هذا الطرف إلى ذاك الطرف، دخل الطرفان في البيع إذا كان من جنس المبيع. وحصل من قول الزجاج: أن المِرفق ما جاوز الإبرة، وأنه حد ما ينتهي إليه الغسل. وما جاوز الإبرة لا يجب غسله بالإجماع. ¬

_ = و"المغني" لابن قدامة 1/ 172، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 86، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 27. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 153. (¬2) الإبرة بالكسر: عظم وترة العرقب، وطرف الذراع من اليد, وما انحدّ من عرقوب الفرس. "مختار القاموس" ص 11. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 153.

وقوله تعالي: {وَامْسَحُوا (¬1) بِرُءُوسِكُمْ}. المسح مسحك شيئًا بيدك كمسحك الرشح عن جبينك، وكمسحك رأسك في وضوئك. قاله الليث (¬2). والظاهر (¬3) من مقتضى الآية أن التعميم لا يجب في مسح الرأس، وأنه غير محدود أيضًا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأنه إذا مسح البعض وإن قل، فقد حصل من طريق اللسان ماسحًا (¬4)، ولا يلتفت إلى قول من قال: إن الباء توجب التعميم؛ لأن ذلك لا يعرفه أهل النحو، بل الباء للإلصاق، كما بينا في أول الكتاب عند قوله: {بِسْمِ اللهِ}. وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. في الأرجل قراءتان: النصب والخفض (¬5). أما النصب فهو ظاهر؛ لأنه عطف على المغسول، لوجوب غسل الرجلين بإجماع، لا يقدح فيه قول من خالف. وأما الكسر فقد اختلفوا في وجهه: فقال أبو حاتم وابن الأنباري ¬

_ (¬1) في (ش): (فامسحوا). (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3388، وانظر: "اللسان" 7/ 4196 (مسح). (¬3) في (ش): (فالظاهر). (¬4) انظر: "الأم" 1/ 25، والبغوي في "تفسيره" 3/ 22، وقد قال بقول الشافعي الحسن والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو رواية عن الإمام أحمد، والرواية الأخرى عن أحمد أنه يجب مسح جميعه، وهو مذهب مالك. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 124 - 125، والبغوي في "تفسيره" 3/ 22، و"المغني" 1/ 175. (¬5) قراءة النصب لنافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص، وقرأ الباقون بالخفض، انظر: "الحجة" 3/ 214، و"النشر" 2/ 254.

وأبو علي: الكسر بالعطف على الممسوح، غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل (¬1). روي ذلك عن أبي زيد أنه قال: المسح خفيف الغسل. قالوا: تمسّحت للصلاة، وهات ما أتمسّح به للصلاة في معنى: أتوضأ (¬2). قال أبو حاتم: وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصبّ الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل، فسمي الغسل مسحًا (¬3). فعلى هذا الرأس والرجل ممسوحان؛ لأن المسح في أحدهما وهو الرأس، دون المسح في الرجل. والذي يدل على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل: ذكر التحديد وهو قوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} والتحديد إنما جاء في المغسول، ولم يجيء في الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد. ذكره الزجاج (¬4) وابن الأنباري (¬5) (وأبو (¬6) علي) (¬7). فإن قيل: إن كان المراد بالمسح الغَسل فهلا عطفت على المغسول فيكون أظهر في إيجاب الغسل؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 3/ 215، و"معانى القراءات" 1/ 327. (¬2) من "الحجة" 3/ 215 بتصرف، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 327، و"زاد المسير" 2/ 301. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 154 بنحوه. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬7) "الحجة" 3/ 215.

قيل: إن من قرأ بالكسر وجد في الكلام عاملين، أحدهما: الغسل والآخر الباء الجارة، ووجد العاملين إذا اجتمعا في التنزيل أن يحمل على الأقرب منهما دون الأبعد، وذلك نحو قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن: 7]، ونحو قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، (¬1)، ونحو قوله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19]، وقوله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، فلما رأى العاملين إذا اجتمعا حُمِل الكلام على أقربهما إلى المعمول حمل في هذه الآية أيضاً على أقربهما وهو الباء، ولم يُخَف الالتباس لشيوع الغسل في الآثار، وقيام الدلالة على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل (¬2). وهو ما قدمنا ذكره. وقال الجماعة من أهل المعاني: إن الأرجل معطوفة على الرؤوس في الظاهر، والمراد فيها الغسل، وقد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف، كما قال الشاعر: يا ليتَ بَعلَك قد غَدا ... مُتَقَلِّدًا سيفًا ورُمحًا (¬3) المعنى: وحاملًا رمحًا، وكذلك قول الآخر: ¬

_ (¬1) لعل الشاهد في الآية الأولى أن يكون التقدير: وأنهم ظنوا أن لن يبعث الله أحدًا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدًا وفي الآية الثانية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}، وهكذا في بقية الآيات. (¬2) "الحجة" 3/ 214، 215. (¬3) البيت لعبد الله بن الزبعري كما في "الكامل" 1/ 334، وبلا نسبة في "معاني الفراء" 1/ 121، و"معاني الأخفش" 2/ 466، و"معاني الزجاج" 2/ 154.

علّفتُها تِبنًا وماءً باردًا (¬1) المعنى: وسقيتُها ماءً باردًا. ذكره الزجاج (¬2). قال أبو بكر: وكما قالوا: أكلت خبزًا وماء، وهم يريدون: وشربت ماء، فحذفوا شربت، كذلك المعنى في الآية: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} واغسلوا {أَرْجُلَكُمْ}، فلما لم يذكر الغسل عطفت الأرجل على الرؤوس في الظاهر، واكتفى بقيام الدليل أن الأرجل تغسل من الآية والخبر (¬3). وهذا الذي ذكرنا مذهب أبي عبيدة (¬4) والأخفش (¬5) في هذه الآية. وقوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قد مضى الكلام في كيفية التحديد. وأما تفسير الكعبين فقال الليث: كعب الإنسان ما أشرف فوق رُسْغِه عند قدمه (¬6). وقال أبو عبيد عن الأصمعي: الكعبان الناشزان من جانبي القدم. وأنكر قول الناس أنه في ظهر القدم (¬7). ¬

_ (¬1) عجز هذا البيت: حتى شتت همالة عيناها وفي رواية: غدت همالة، ومعنى شتت: أي أقامت في الشتاء والمراد: صارت. والبيت من شواهد "تأويل مشكل القرآن" ص 213، و"الخصائص" 2/ 431، و"الإنصاف" ص 488، و"شذور الذهب" ص 240. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 154، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 466، و"تأويل مشكل القرآن" ص 213، و"زاد المسير" 2/ 301. (¬3) لم أقف على قول ابن الأنباري. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 155. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 2/ 465، 466. (¬6) "العين" 1/ 207، و"تهذيب اللغة" 4/ 3152 (كعب) (¬7) "تهذيب اللغة" 4/ 3152 (كعب).

وروى الأزهري أن واحداً (¬1) سأل أحمد بن يحيى عن الكتب، فأومأ إلى المَنْجَمَين (¬2). وقال: هذا قول أبي عمرو بن العلاء والأصمعي (¬3). ولا يعرج على قول من يقول: إن الكتب في ظهر القدم، فإنه خارج من اللغة والأخبار وإجماع الناس (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}. قال الزجاج: معناه فتطهروا، إلا أن التاء تدغم في الطاء؛ لأنهما من مكان واحد، فإذا أدغمت التاء في الطاء (سكن (¬5)) أول الكلمة، فتزيد فيها ألف الوصل فابتدأت فقلت: اطهروا (¬6). قال مقاتل: يقول: فاغتسلوا (¬7). ومضى الكلام في هذا الحرف عند قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] في الآية مشروح في سورة النساء إلى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" أنه: ابن جابر. (¬2) في "تهذيب اللغة" 4/ 3152 (كعب): فأومأ ثعلب إلى رجله إلى المفصل منها بسبابته فوضع السبابة عليه ... قال: ثم أومأ إلى المنجمين. قال ابن منظور: والمَنْجِمَان والمِنْجَمَان: عظمان شاخصان في بواطن الكعبين يقبل أحدهما على الآخر إذا صفت القدمان. ومنجما الرجَّل: كعباها. "اللسان" 7/ 4358 (نجم)، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 136. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3525 (نجم). (¬4) أخرج الطبري في "تفسيره" عن الإِمام مالك -رحمه الله- أنه قال: (الكعب) الذي يجب الوضوء إليه هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظهر القدم. "جامع البيان" 6/ 136. (¬5) في "معاني الزجاج" 2/ 155: سقط. (¬6) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 155، وانظر: "زاد المسير" 2/ 304. (¬7) "تفسيره" 1/ 455.

{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬1). ومعنى (منه) ههنا استعمال بعض تراب الصعيد في التيمم، خلافًا لمن جوز في التيمم ضرب اليد على موضع لا يعلق بيده منه غبار؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يمسح بوجهه من الصعيد، وإنما مسح بوجهه كفًّا فارغة من الصعيد وترابه، وذلك عبث (¬2). وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}. يعني: من ضيق في الدين (¬3)، ولكن جعله واسعًا حين رخص في التيمم. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}. قال الزجاج: دخلت اللام لتبيين الإرادة، المعنى: إرادته (لتطهيركم (¬4)) (¬5). قال المفسرون: يريد ليطهركم من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات؛ لأن الوضوء يكفر الذنوب (¬6). ¬

_ (¬1) الظاهر أنه عند تفسير الآية (43) من سورة النساء، وهو ضمن القسم المفقود. (¬2) هذا على القول بأن الصعيد لا يقع إلا على التراب ذي غبار، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة ومالك يجوز بكل ما كان من جنس الأرض. انظر: "الأم" 1/ 50، والطبري في "تفسيره" 5/ 108 - 109، و"المغني" 1/ 324، والقرطبي في "تفسيره" 5/ 236، و"زاد المسير" 2/ 94. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 187، و"معاني النحاس" 2/ 276، والبغوي في "تفسيره" 3/ 25. (¬4) في "معاني الزجاج": ليطهركم. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 155، وانظر: "زاد المسير" 2/ 304. (¬6) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 25، و"زاد المسير" 2/ 304

7

روى أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطهور يكفر ما قبله ويصير الصلاة نافلة" (¬1). وقوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}. أي تبيان الشرائع (¬2). وقال القرظي: أي: بغفران الذنوب، بيانه قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] فلم يتم عليه النعمة حتى غفر له (¬3). وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار (¬4). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. قال عطاء: يريد لكي تشكروا نعمتي، وتطيعوا أمري (¬5). 7 - قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. قال مجاهد: نعمة الله: النعم (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" 5/ 251، 261 بلفظ: الوضوء يكفر .. الحديث، وحسنه الألباني. انظر: "صحيح الجامع" (7156). (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 306. (¬3) أخرجه بمعناه ابن المبارك في الزهد وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان". انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 25، و"زاد المسير" 2/ 305، و"الدر المنثور" 2/ 468. (¬4) أخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال: "أي شيء تمام النعمة؟ " قال: دعوة دعوت بها أرجو بها الخير. قال: "فإن من تمام النعمة دخول الجنة، والفوز من النار" الحديث. أخرجه الترمذي (3527) كتاب الدعوات، باب (99): 5/ 541، وقال: هذا حديث حسن. وانظر: "الدر المنثور" 2/ 468. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 187، وانظر: "الدر المنثور" 469.

قال أهل المعاني: إنما لم تجمع للإشعار بعظمها من غير جهة تضاعفها (¬1). ولأن جملة النعم نعمة على طريقة الجنس، كما أن جملة الماء ماء، وجملة المنافع منفعة. وقال مقاتل: يعني: بالإسلام (¬2). وقوله تعالى: {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ}. معنى المواثقة: المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على ثقة (¬3). واختلفوا في هذا الميثاق، فقال ابن عباس: هو الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل حين قالوا: آمنا بالنبي، وأقررنا بما في التوراة، فذكّرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء (¬4). فعنده الآية خطاب لليهود. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل: هو ما أخذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى (¬5). فإن قيل على هذا: إن بني آدم لا يذكرون ذلك الميثاق، فكيف (أُمِروا (¬6)) بحفظه؟ قيل: إن الله تعالى إذ (¬7) أخبر أنه أخذ ذلك الميثاق علينا لم يبق لنا شك في أنه كان كذلك، وليس التذكر شرطًا في خبر الصادق، فجاز أن ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 306. (¬2) "تفسيره" 1/ 456. (¬3) انظر: "اللسان" 8/ 4764 (وثق). (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 173، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 140. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 187، وانظر: "تفسير مقاتل" 1/ 456، والبغوي في "تفسيره" 3/ 26، و"زاد المسير" 2/ 306. (¬6) ساقط من (ش). (¬7) في (ش): (إذا) بالمد.

يكلفنا الوفاء به بعد إنتفاء الشك بإخبار الصادق عنه، كما لو انتفى الشك بالتذكر، وغير بعيد أن يذكرنا الله ذلك الميثاق يوم القيامة. وقال جماعة من المفسرين: يعني بالميثاق: حين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في كل أمر ونهي، في اليسر والعسر، والرضا والكره، والأيمان التي أخذت عليهم يوم بيعة العقبة، ويوم بيعة الرضوان (¬1). قال السدي: هذا ميثاق قبول التوحيد والإقرار بالطاعة والاستسلام لأمره، أخذ الله ميثاقنا فقلنا: سمعنا وأطعنا على الإيمان بالله، والإقرار به وبرسله، فكل مؤمن أقر بالله ورسله، فهو داخل في هذا الميثاق، وهذا كان ميثاق الذين بايعوا محمدًا على السمع والطاعة، فيما أحبوا وكرهوا (¬2). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7]. قال ابن عباس: بخفيات القلوب، والضمير، والنيات (¬4). وقال الكلبي: بما في القلوب من النقض والوفاء (¬5). وذكرنا الكلام في معنى (ذات الصدور) في موضعين من سورة آل عمران. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني النحاس" 2/ 277، والبغوي في "تفسيره" 3/ 26، و"زاد المسير" 2/ 306. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 140 بمعناه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 108

8

8 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}. قال عطاء عن ابن عباس: يريد يقومون لله بحقه (¬1)، هذا كلامه. ومعنى القيام لله: هو أن يقوم له (¬2) بالحق في كل ما يلزمه القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر وتجنبه (¬3). واللام في (لله) أجل. وقوله تعالى: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}. قال عطاء: يريد يشهدون بالعدل، يقول: لا تُحابِ في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعدائك (¬4). وقال الزجاج: أي: تبيّنون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}. أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل (¬6)، وأراد: أن لا تعدلوا فيهم، فحذف للعلم. وقال الزجاج: لا يحملنكم بغض المشركين على ترك العدل (¬7). فإن قيل: ما وجه ظلم المشركين وقد أمر بقتلهم وسبي أولادهم وأخذ أموالهم؟ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ج): (لله). (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 420. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 156. (¬6) انظر: الطبرى في "تفسيره" 6/ 141، و"معاني الزجاج" 2/ 156. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 156.

9

قيل: إنه قد يمكن أن يظلموا بضروب كثيرة، منها: المُثلة، وقتل الأولاد صبرًا لاغتمام الآباء، وترك قبول الإسلام منهم، ونحو ذلك مما هو محرم في الدين (¬1). وقد ذكرنا ما في هذا في أول السورة. وقوله تعالى: {اعْدِلُوا} أي: في الولي والعدو (¬2). {هُوَ أَقْرَبُ} أي العدل، ودل عليه الفعل كقولهم: من كذب كان شرًا، أي كان الكذب شرًا. ومعنى {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيئات، وأقرب لاتقاء النار (¬3). 9 - قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}. موضع (لهم) يجوز أن يكون نصبًا لوقوعه مع المغفرة موقع المفعول الثاني للوعد، كما قال: وَجَدنا الصَّالِحِين لهم جزاءٌ ... وجناتٍ وعينًا سلسبيلا (¬4) فوقع: لهم جزاء موقع المفعول الثاني، ولذلك عطف عليه بالنصب. ويجوز أن يكون الموعود به محذوفًا على تقدير: وعدهم الحسنى، ثم استأنف (لهم)، فيكون موضعه رفعًا بالاستئناف، وهو مع ذلك قال على ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 420، و"الكشاف" للزمخشري 1/ 326. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 142، و"زاد المسير" 2/ 307. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 307. (¬4) البيت لعبد العزيز بن زرارة الكلابى كما في "الكتاب" 1/ 288، وهو من "شواهد المقتضب" 3/ 284. ومعنى سلسبيلا: قال الراغب: أي سهلًا لذيذًا سلسًا، وقيل: هو اسم عين في الجنة. وذكر بعضهم أن ذلك مركب من قولهم: سل سبيلا، نحو الحوقلة والبسملة ونحوهما. "المفردات" / 237 (سل).

10

المحذوف ومفسر له (¬1). وقد ذكرنا قولين آخرين في هذه الآية عند قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} [النساء: 11]. 10 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قال عطاء: يريد بني النضير (¬2) خاصة (¬3). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 10]. هذا اللفظ ينبئ عن التخليد فيها؛ لأن المصاحبة تقتضي الملازمة، كما يقال: أصحاب الصحراء، أي اللازمون لها. 11 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الآية. قال ابن عباس والكلبي ومقاتل وغيرهم: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث سرية إلى بني عامر فقُتِلوا ببئر معونة (¬4) إلا ثلاثة نفر، أحدهم عمرو بن أمية الضَّمْري (¬5)، ثم انصرف هو وآخر معه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبروه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلاهما , ولم يعلما أن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 466، و"معاني الزجاج" 2/ 156، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 221. (¬2) طائفة من اليهود كانت بالمدينة. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) بئر معونة: اسم لموضع في أرض بني سليم بين مكة والمدينة. وأطلق هذا الاسم على وقعة بين المسلمين والمشركين، وقد أشار المؤلف إليها بهذا الأثر. (¬5) هو أبو أمية عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله الضمري، صحابي مشهور له أحاديث، وكان شجاعًا، وأول مشاهده بئر معونة، وكان من أهل النجدة، مات رضي الله عنه قبل الستين. انظر: "الاستيعاب" 3/ 248، و"أسد الغابة" 4/ 193، و"الإصابة" 2/ 524.

12

معهما أمانًا، فجاء قومهما يطلبون الدية، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم حتى دخلوا على بني النضير، وكانوا قد عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني، فلزمني ديتهما، فأريد أن تعينوني"، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. وهموا باغتيالهم والفتك بهم، فآذن (¬1) الله به رسوله حتى فاتُوا بأنفسهم، فخرجوا من المكان الذي كانوا فيه، فأعلمتهم اليهود أن قدورهم تغلي، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه (¬2). قال عطاء: توامروا أن يطرحوا عليهم رحًا أو حجرًا (¬3). وقال بعض أهل العلم: بل ألقوا فأخذه جبريل (¬4). 12 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال ابن عباس: ثم أخبر الله عن نقض إسرائيل عهد الله كما نقضت هذه الطبقة فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬5). ¬

_ (¬1) فآذن: أي فأعلم. (¬2) أخرجه عن ابن عباس بنحوه من طريق الضحاك أبو نعيم في "الدلائل"، كما أخرجه من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، انظر: "الدر المنثور" 2/ 470، وذكره المؤلف عن الكلبي في "أسباب النزول" ص 196. وأخرج الأثر بمعناه عن قتادة ومجاهد ويزيد بن أبي زياد وعكرمة: الطبري في "تفسيره" 6/ 144 - 145. وانظر: "تفسير مقاتل" 1/ 458 - 460، و"بحر العلوم" 1/ 421، والبغوي في "تفسيره" 3/ 28، و"زاد المسير" 2/ 309، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 36. (¬3) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 28. (¬4) في جميع الروايات أن جبريل عليه السلام أعلمه بما عزموا عليه، وليس فيها أنه أخذ الحجر. (¬5) لم أقف عليه.

قال الكلبي ومقاتل: أخذ الله ميثاقهم على أن يعملوا بما في التوراة (¬1). وقوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}. اختلفت عبارات المفسرين في تفسير النقيب: فقال ابن عباس والحسن: الضمين (¬2). وقال قتادة: الشهيد على قومه (¬3). وقال الكلبي: {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} يعني ملكًا (¬4). وقال مقاتل: يعني شاهدًا على قومهم (¬5). وقال أبو عبيدة: النقيب: الأمين الكفيل (¬6). وقال الأخفش: النقباء: الكفلاء على قومهم (¬7). وقال المؤرج: النقباء: الأمناء (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 461، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد نسبه ابن الجوزي للحسن، وقال: ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده. "زاد المسير" 2/ 310، ونحو هذا "تفسير أبي عبيدة" النقيب بالضامن. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 156ن والطبري في "تفسيره" 6/ 148. هذا، وقد أخرج الطستي ضمن "مسائل ابن الأزرق" أن ابن عباس فسر النقيب بالوزير، انظر: "الدر المنثور" 2/ 472. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 148 بلفظ: من كل سبطٍ رجل شاهد على قومه. وانظر: "زاد المسير" 2/ 310. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. (¬5) "تفسيره" 1/ 460، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 421. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 156، وعبارته: أي ضمانًا ينقب عليهم، وهو الأمين والكفيل على القوم. (¬7) ليس في "معاني القرآن". (¬8) لم أقف عليه.

وقال أبو إسحاق: النقيب في اللغة كالأمين (¬1) والكفيل (¬2). ثم بين حقيقة الباب واشتقاقه فقال: يقال: نقب الرجل على القوم ينقُبُ نقابة فهو نقيب، إذا صار نقيبًا عليهم، وما كان الرجل نقيبًا , ولقد نقُبَ، وفي فلان مناقب جميلة، أي أخلاق، وهو حسن النقيبة، أي جميل الخليقة (¬3)، وإنما قيل للنقيب: نقيب؛ لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعلم مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. وهذا الباب كله أصله التأثير الذي له عمق ودخول، فمن ذلك: نقبت الحائط، أي بلغت في النقب آخره، ومن ذلك: النقبة من الجَرب؛ لأنه داء شديد الدخول، وذلك أنه يطلى البعير بالهناء فيوجد طعم القطران في لحمه، والنُّقْبة السراويل بغير رجلين، لما قد بولغ في فتحها ونقبها، ويقال: كلب نقِيب، وهو أن تنقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف (¬4). هذا بيان الزجاج. واختلفوا في معنى بعث النقباء: فقال الحسن: أخذ من كل سبط منهم نقيب ضامن بما عقد عليهم بالميثاق في أمور دينهم (¬5). ونحو هذا قال ابن عباس في رواية عطاء، فقال في قوله: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}: يريد ضامنين عن قومهم لله الميثاق وأن يؤمنوا بمحمد (¬6) - صلى الله عليه وسلم - ويصدقوه وينصروه (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج": كالأمير. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 157. (¬3) في "معاني الزجاج" 2/ 158: حسن الخليقة. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 157 - 159 بتصرف. (¬5) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 456، و"زاد المسير" 2/ 310. (¬6) في (ش): (لمحمد). (¬7) لم أقف عليه.

ومعنى البعث في هذا القول إقامتهم بذلك الأمر كبعث الرسل، فقوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} كقوله لو قال: بعثنا منهم اثنى عشر نبيا. وقال مجاهد والكلبي والسدي: إن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى بالقتال معهم؛ ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام، فرجعوا ينهون قومهم عن قتالهم، وكانوا قد تواثقوا فيما بينهم أن لا يفعلوا، فنكثوا العهد، وجعل كل واحد منهم ينهى سِبطه عن قتالهم إلا رجلين منهم: كالِب، ويوشَع، وهما اللذان قال الله تعالى: (فيهما) (¬1): {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الآية [المائدة: 23] (¬2). وقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ}. أي: قال الله لهم، فحذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم. واختلفوا في المعنيّ بهذا القول، فقال الربيع: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي: للنقباء (¬3). وعلى هذا دل كلام ابن عباس، فقال في قوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} أي مع النقباء، ومن أوفى بميثاق الله وعهده (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من (ج). (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 188، 189، والطبري في "تفسيره" 6/ 149 - 150 , و"تفسير الهواري" 1/ 456، و"بحر العلوم" 1/ 422، والبغوي في "تفسيره" 2/ 28 - 30. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 150 مطولًا، وانظر: "زاد المسير" 2/ 312، و"الدر المنثور" 2/ 473. (¬4) لم أقف عليه.

وقال غيرهما: {وَقَالَ اللَّهُ} لبني إسرائيل {إِنِّي مَعَكُمْ} (¬1). ومعنى {إِنِّي مَعَكُمْ} أي: بالعون والنصر والدفع عنكم. قال الكلبي (¬2). وقوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ}. ذكر أبو علي الجرجاني في تقدير الآية ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون قوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} جزاء مقدمًا على شرط، والشرط قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} وما انعطف عليه، وما انعطف عليه، ويكون قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} جوابا لقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} (¬3)، وكأنه ابتدأ شرطًا آخر بقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} وجعل جوابه {لَأُكَفِّرَنَّ}، فيحصل من هذا أن يكون قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} جزاءً لقوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} ويكون مبتدأ وشرطًا لقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ}. فمرة من وجه يكون جزاء، ومرة من وجه آخر يكون مبتدأ وشرطًا، وصار قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} مرة جزاء للشرط الأول، (ومرة شرطًا للجزاء الآخر) (¬4)، (فاشترك) (¬5) فيه الجزاء والشرط. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 150، و"بحر العلوم" 1/ 422، و"زاد المسير" 2/ 312، وقد نسبه ابن الجوزي للجمهور. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. وهذا القول لجمهور المفسرين. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 150، و"بحر العلوم" 1/ 422، والبغوي في "تفسيره" 3/ 31، و"زاد المسير" 2/ 312. (¬3) انظر: "الكشاف" 1/ 328، و"البحر المحيط" 3/ 445، و"الدر المصون" 4/ 220. (¬4) في (ج): (ومرة جزاء للشرط الآخر). (¬5) في (ج): (فاشترط).

والوجه الآخر: أن تجعل قوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} جزاء تقدم شرطًا، ثم جاء الشرط بعده وهو قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} إلى ما اتصل به، ثم تضمر شرطًا لقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ} على تقدير: إن فعلتم ذلك لأكفرن، كما قال في سورة الصف {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] ثم بين تلك التجارة ما هي فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى آخر الآية، ثم ابتدأ شرطًا آخر مضمرا وأظهر جزاءه، فدل الجزاء الظاهر على الشرط المضمر (¬1)، وهو قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} على تأويل: إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، وهذا كقوله عز وجل: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد: 15] وهذه الكاف تدل على مبتدأ قبله ولم يجر له ذكر، وإنما جرى ذكر الجنة وصفتها، وكأنه قيل: أفمن هو في هذه الجنة كمن هو خالد في النار، فدل الجواب على الإبتداء. الوجه الثالث: أن الكلام قد تم عند قوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} ثم ابتدأ فصلًا آخر بقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} فجعله شرطًا، ثم أتى بجزائه في قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ} فيكون هذا الشرط والجزاء بما يتضمنان من القصة ترجمة لقوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} لأن قوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} كلمة جامعة مجملة فصار ما بعده كالتفسير له. وقوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}. قال أبو إسحاق: العَزْر في اللغة الردّ، وتأويل عزَّرت فلانًا أي أدَّبته، إنما تأويله: فعلت به ما يرده عن القبيح ويردعه، كما أن نكلتُ به: فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاودة. فتأويل {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} نصرتموهم بأن تردوا عنهم أعداءهم، ولو كان التعزيز هو التوقير لكان الأجود في اللغة ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 3/ 445.

الاستغناء عن التوقير في قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]، والنصرة إذا وجدت فالتعظيم داخل فيها؛ لأن نصرة الأنبياء هي المدافعة عنهم والذب عن دينهم وتعظيمهم (¬1). أبو العباس عن ابن الأعرابي: العزر: النصر بالسيف، والعزر: المنع، وقال أيضًا: التعزير: التوقير، والتعزير: النصر باللسان والسيف (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} يريد وقّرتموهم (¬3). وقال السدي: نصرتموهم بالسيف (¬4). وقال مقاتل والكلبي: أعنتموهم (¬5). وقوله تعالى: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}. قال ابن عباس: يريد الصدقات للفقراء والمساكين وابن السبيل (¬6). وقال مقاتل: {قَرْضًا حَسَنًا} محتسبة، طيبة بها أنفسكم (¬7). وقال الضحاك: تبتغون به وجه الله (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 159، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2419. وقول الزجاج: ولو كان التعزير هو التوقير، فيه رد على أبي عبيدة قال: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}: نصرتموهم وأعنتموهم ووقرتموهم "مجاز القرآن" 1/ 156. وقد ذكر الزجاج معنى قوله. وما ذهب إليه الزجاج قد اختاره الطبري في "تفسيره" 6/ 151. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2419، وانظر: "اللسان" 5/ 2924 (عزر). (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد نسب لعطاء، انظر: "زاد المسير" 2/ 312، وقد تقدم استبعاد الزجاج لمثل هذا القول قريبًا. ثم إنه ورد عن ابن عباس أن المراد الإعانة والنصر. انظر: "زاد المسير" 2/ 312، و"الدر المنثور" 2/ 473. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 151، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 422. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 461، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. (¬6) لم أقف عليه، وانظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 114 (¬7) "تفسيره" 1/ 461. (¬8) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 114.

13

وقال ابن المبارك (1): حلالًا من طيب أموالكم (2). قال الفراء: القرض مصدر، ولو قيل: إقراضًا كان صوابًا، وربما أخرج المصدر على بنية الفعل الأول قبل أن يزاد فيه، وهذا من ذاك؛ لأن أصل الإقراض: قرضت، ومثله قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ} [آل عمران: 37] ولم يقل: بتقبل، وقوله: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37] ولم يقل: إنباتا (3). وقوله تعالى: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ}. أي: بعد العهد والميثاق (4). {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12]. أخطأ قصد الطريق، يعني الهدى والدين الذي شرعه لهم (4). 13 - قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} الآية. قد مضى الكلام في مثل هذا في سورة النساء. قال قتادة: ونقضهم أنهم كذّبوا الرسل بعد موسى، وقتلوا الأنبياء، ونبذوا كتاب الله، وضيعوا فرائضه (5).

_ (1) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي، إمام عالم مجاهد، جواد فقيه، محدث شهير، توفي رحمه الله سنة 181 هـ. انظر: " الجرح والتعديل" 5/ 179، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 274، و"تهذيب الكمال" 5/ 16 (3520). (2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 832 ولم أقف عليه. (3) لم أقف عليه عن الفراء، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 152، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 114. (4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 153، و"بحر العلوم" 1/ 422. (5) ذكره عن قتادة: البغوي في "تفسيره" 3/ 31، وأورد السيوطي نحوه في "الدر المنثور" 2/ 473، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

قال أهل المعاني: تقدير الكلام: فنقضوا فلعناهم بنقضهم؛ لأنه لما ذكر أخذ الميثاق عليهم اقتضى ذكر الوفاء به (أو (¬1)) النقض، فلما ذكر أن اللعن سببه النقض دل على وقوعه منهم (¬2). وقوله تعالى: {لَعَنَّاهُمْ}. قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية (¬3). وقال مقاتل: عذبناهم بالمسخ (¬4) وهو قول الحسن (¬5). وقال عطاء: أخرجناهم (¬6). وهو اختيار الزجاج، قال: باعدناهم من الرحمة (¬7). وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}. القسوة: الصلابة، والشدة في كل شيء، يقال: قسا: يقسو (¬8) فهو قاس (¬9)، يقال: حجر قاس، وأرض قاسية لا تنبت شيئًا (¬10). ¬

_ (¬1) في (ش): (و). (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 154. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 422، و"زاد المسير" 2/ 313، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. (¬4) "تفسيره" 1/ 461، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 422، والبغوي في "تفسيره" 3/ 31، و"زاد المسير" 2/ 313. (¬5) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 456، و"بحر العلوم" 1/ 422، والبغوي في "تفسيره" 3/ 31، و"زاد المسير" 2/ 313. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 313. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 159. (¬8) في (ش)، (ج): (يقسوا). (¬9) علق هنا في هامش (ج) بـ: (قسوا). والمراد المصدر. (¬10) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 158، والطبري في "تفسيره" 6/ 154، و"معاني الزجاج" 2/ 160، و"تهذيب اللغة" 3/ 2955 (قسو).

وقرأ حمزة والكسائي: (قَسِيَّة) على وزن، فعيلة، وقد يجيء فاعل وفعيل، مثل: شاهد وشهيد، وعالم وعليم، وعارف وعريف (¬1). وقال شَمر: العام القسِيّ الشديد لا مطر فيه (¬2). وذهب بعضهم: إلى أن هذا من الدراهم القسَيّة وهي الفاسدة الردية (¬3). قال الأصمعي: درهم قسِيّ، مخفف السين مشدد الياء، على مثال: شقيّ (¬4)، وهو في شعر أبي زبيد (¬5) يذكر المَساحي: لها صواهِلُ في صُمِّ السِّلام كَما ... صاح القَسِيَّاتُ في أيدي الصياريفِ (¬6) ¬

_ (¬1) من "الحجة" 3/ 216، 217، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 327، و"الكشف" 1/ 470. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2955، وانظر: "اللسان" 6/ 3633 (قسو). (¬3) انظر: "معاني القراءات" 1/ 327، و"الكشف" 1/ 408، والبغوي في "تفسيره" 3/ 31، و"اللسان" 6/ 3633 (قسو). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2955، وانظر: "اللسان" 6/ 3633 (قسو). (¬5) هو المنذر بن حرملة، وقيل حرملة بن المنذر، الطائي، شاعر جاهلي معمر، أدرك الإسلام ولم يسلم، ومات نصرانيًا بعد الستين للهجرة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 185، و"طبقات الشعراء" ص 185، و"الأعلام" 7/ 293. (¬6) "الأمالي" 1/ 28، و"تهذيب اللغة" 3/ 2955 (قسو) واستشهدوا به الطبري في "تفسيره" 6/ 155 ونسبه الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 328، إلى الشامخ، وليس في "ديوانه". وانظر: "اللسان" 6/ 3633 (قسو). والشاهد أن قسي جاء على وزن: شقي. والسلام: الحجارة، والصيارف: الصيارفة، أي للمساحي أصوات إذا وقعت على الحجارة كأصوات الدراهم إذاً انتقدها الصياريف.

وأنشد ابن السكيت: وما زوَّدوني غيرَ سَحقِ عِمامَةٍ ... وخَمس مِئي منها قَسِيٌّ وزائِفُ (¬1) قال الأصمعي: وكأنه إعراب قاس. قال أبو علي: إذا كان القَسِيّ من الدراهم معربًا لم يكن من القَسِيّ العربي، ألا ترى أن قابوس وإبليس وجالوت وطالوت، ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها يوجد العربي لا تكون مشتقة من باب القبس والإبلاس، يدل على ذلك منعهم الصرف (¬2). قال ابن عباس: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} يابسة عن الإيمان (¬3). وقال الحسن: طبع عليها (¬4). وقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}. قال ابن عباس: يغيرون كلام الله عن مواضعه من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم (¬5). ونحو ذلك قال مقاتل (¬6). وقال السدي: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} آية الرجم (¬7). وقال الزجاج: تأويل {يُحَرِّفُونَ}: يفسرون على غير ما أنزل، وجائز أن يكون: يلفظون به على غير ما أنزل (¬8). انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) نسبه في "اللسان" 6/ 3633 (قسو) لمزرد. (¬2) "الحجة" 1/ 317، 318. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) بمعناه في "تفسيره" ص 173، والطبري في "تفسيره" 6/ 155. (¬6) "تفسيره" 1/ 461، وانظر: "زاد المسير" 2/ 313 (¬7) لم أقف عليه. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 160.

وتحريفهم يحتمل تأويلين على ما قال: أحدهما: سوء التأويل، والآخر: التغيير والتبدل، وهذا مما فسرنا في سورة النساء (¬1). وقوله تعالى: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}. قال ابن عباس: تركوا نصيبًا مما أمروا به في كتابهم من اتباع محمد (¬2). وقال عطاء عنه: تركوا حظًا مما وعظوا به (¬3). ونحوه قال مقاتل، وزاد: من إيمان بمحمد، ولو آمنوا به لكان ذلك لهم حظًا (¬4). وقال قتادة: نسوا عهد الله الذي عهد إليهم، وأمر الله الذي أمرهم (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ}. يقال: لا زال يفعل كذا، كقولك: ما ينفك، وما زلت أفعل، والمضارع لا يزال لا غير، وقيل ما يتكلم به إلا بحرف نفي. وأما الخائنة، يقال: رجل خائنة، إذا بالغت في وصفه بالخيانة (¬6) ومنه قوله: ¬

_ (¬1) لعله عند الآية 46 من سورة النساء وتفسيرها من القسم المفقود. (¬2) انظر: "تفسيره" ص 173، والطبري في "تفسيره" 6/ 155، و"بحر العلوم" 1/ 422. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 461. (¬5) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 474 بنحوه، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 970 (خون)، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139, و"اللسان" 3/ 1294 (خون).

ولم تَكُن ... للغَدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصْبَعِ (¬1) وقد تكون الخائنة مصدرًا على فاعلة، ومنه قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]، وكثير من المصادر في القرآن جاء على: فاعله، نحو قوله: {لاغية} (¬2) [الغاشية: 11]، أي لغوًا، وتقول العرب: سمعت (راغية الإبل) و (ثاغية الشاء)، يعنون: رغاءها وثُفاءها (¬3). قال الزجاج: وفاعلة في أسماء المصادر كثيرة نحو: عافاه الله عافية، و {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]، و {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] (¬4). وعلى هذا دل كلام المفسرين، فقال (¬5) ابن عباس: ولا تزال تطلع على معصية منهم (¬6). فهذا يدل على أنه أراد بالخائنة الخيانة. ¬

_ (¬1) جزء من بيت لرجل من بني كلاب يخاطب قرينا أخا عمير الحنفي، وكان له عنده دم وتمام البيت: حدَّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع "مجاز القرآن" 1/ 158، والطبري في "تفسيره" 6/ 156، و"معاني الزجاج" 2/ 160، و"اللسان" 3/ 1294 (خون). ومغل الإصبع: كناية عن الخيانة والسرقة. (¬2) من قوله تعالى: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11]. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 971، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 31، و"اللسان" 3/ 1295 (خون). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 160. (¬5) في (ش): (وقال). (¬6) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 31، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 116، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109.

وقال مقاتل: يعني بالخائنة الغش للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إيمان على كذب وفجور. (¬1) وقال عطاء: {عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} مثل ما خانوك حين هموا بقتلك (¬2). قال الزجاج: ويجوز أن يكون والله أعلم {عَلَى خَائِنَةٍ} علي فرقة خائنة (¬3). وقوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}. قال ابن عباس: يعني من أسلم منهم، عبد الله وأصحابه، ولم ينقضوا العهد (¬4). وقال مقاتل: والقليل أيضًا منهم كفار (¬5). وعلى هذا القليل مستثنى من الخيانة، يريد إلا قليلًا منهم لم يخونوا، والظاهر أن المراد بالمستثنى: مؤمنو أهل الكتاب. وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}. منسوخ بآية السيف (¬6). ¬

_ (¬1) بلفظه الأول في "تفسيره" 1/ 461، وبنحو هذا القول قال مجاهد وقتادة، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 156، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 116، و"الدر المنثور" 2/ 474. (¬2) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 457، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 116. وهذا معنى قول مجاهد، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 156، و"الدر المنثور" 2/ 474. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 161، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 21. (¬4) انظر البغوي في "تفسيره" 1/ 31، و"زاد المسير" 2/ 314، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 109. (¬5) ليس في "تفسيره"، وانظر: "زاد المسير" 2/ 314. (¬6) هذا قول ابن عباس وقتادة وكثر من المفسرين. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 191، والطبري في "جامع البيان" 6/ 157، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 273، و"تفسير الهواري" 1/ 457، =

14

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]. قال عطاء: يريد المتجاوزين (¬1). وقال ابن عباس: فإذا عفوت فأنت محسن (¬2). 14 - قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}. ولم يقل: من النصارى، ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسمَّوا لها. وهذا يُروى عن الحسن (¬3). وقوله تعالى: {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ}. قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد ويتبعوه، وهو مكتوب عندهم في الإنجيل (¬4). قال الأخفش: وهذا كما تقول: من عبد الله أخذت الدرهم (¬5). وقوله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}. قال الكلبي ومقاتل: فتركوا ما أُمِروا به من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك الحظ (¬6). ¬

_ = و"بحر العلوم" 1/ 423، و"النكت والعيون" 2/ 21، والبغوي في "معالم التنزيل" 3/ 32، وقد استبعد الطبري في "تفسيره" والنحاس النسخ، وانظر: "البرهان" للزركشي 2/ 43، 44. (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 32، و"زاد المسير" 2/ 315. وقيل سموا بذلك نسبة إلى قرية كانوا بها اسمها: ناصرة. انظر: "تفسير الهواري" 1/ 457، و"زاد المسير" 2/ 315. (¬4) "تفسيرمقاتل" 1/ 462. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 467، وانظر: القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 117 (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 462، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110.

وتنكير الحظّ في الآية: يدل على أن المراد به حظ واحد، وهو ما ذكره المفسرون من الإيمان بمحمد، وإنما خص هذا الواحد مع كثرة ما تركوا مما أمروا به؛ لأن هذا هو المُعظم (¬1)، ولو وفوا بهذا الواحد ولم يتركوه لم يضرهم ترك سائر ما تركوا. وقوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. يقال: غرِيتُ بالشيء أغرى به غرًى وغراءً ممدودًا أي أُولِعت به (¬2). وقال شَمر: يقال لما يلصق به الأشياء الغِراء والغَرى بفتح الغين مقصور، وأغرى فلان بفلان إغراءً، إذا أولع به، كأنه ألصق به، فأصل الباب هو اللصوق والإلصاق؛ لأن المولع بالشيء كالملصق به. ذكره الزجاج وغيره (¬3). ثم يقال: أغريت الكلب، إذا آسدته (¬4)؛ لأنك تولعه بالصيد (¬5). فأما التفسير: فقال المؤرج: (أغرينا): حرشنا بعضهم على بعض (¬6). وقال الكسائي: سلطنا (¬7). وقال النضر: هيجنا (¬8). ¬

_ (¬1) في (ش): (العظيم). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2661، وانظر: "اللسان" 6/ 3250 (غرى). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 161، وانظر: "زاد المسير" 2/ 315، و"اللسان" 6/ 3250 (غرى). (¬4) في (ج): (أسددته)، وما أثبته هو الموافق لـ"تهذيب اللغة" 3/ 2661 (غرى). (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2661، وانظر: "اللسان " 6/ 3250 (غرى). (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 315، و"البحر المحيط" 3/ 443. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: "زاد المسير" 2/ 315، و"البحر المحيط" 3/ 443.

15

وقال الكلبي: ألقينا بينهم العداوة والبغضاء (¬1). فقوله: {بَيْنَهُمُ} ظرف للعداوة والبغضاء، أي العداوة التي بينهم أغريت بأن حرشت وهيجت، ويجوز أن يكون {بَيْنَهُمُ} بمنزلة بالصيد في قولك: أغريت الكلب بالصيد، فيكون المعنى: أغرينا العداوة والبغضاء بالحالة التي بينهم. واختلفوا في الضمير الذي في {بَيْنَهُمُ}، فقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: الضمير (¬2) يعود على اليهود والنصارى (¬3). وقال الربيع: يعود على النصارى خاصة (¬4). وذلك لما بين فرق النصارى من الاختلاف والعداوة. وهذا اختيار الزجاج (¬5)، قال: وتأويل {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} أي صاروا فَرقًا يكفر بعضهم بعضًا (¬6). وقوله تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وعيد لهم. 15 - قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}. قال ابن عباس: يريد الجميع (¬7) وهذا على تقدير: يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ووحد الكتاب؛ لأنه أخرج مخرج الجنس. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬2) تكررت الكلمة في (ج). (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 159، و"زاد المسير" 2/ 315. (¬4) الطبري في "تفسيره" 6/ 159 - 160، وانظر: "زاد المسير" 2/ 315. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 161، وقد اختاره الطبري في "تفسيره" أيضًا. انظر: "جامع البيان" 6/ 160. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 161. (¬7) لم أقف عليه، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 161، و"زاد المسير" 2/ 316.

وقال قتادة: لما ذكر نقضهم العهد وتركوا ما أمروا به دعاهم على إثر ذلك إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}. قال عطاء عن ابن عباس: يريد تكتمون مما في التوراة والإنجيل (¬2). وقال ابن عباس: أخفوا منه الرجم وأمر محمد وصفته (¬3). قال أهل المعاني: وهذا بيان لإعجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث اطلع على أسرارهم وبين ما أخفوه من غير قراءة كتبهم، فوجب الإيمان به (¬4). وقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. قال ابن عباس: يتجاوز عن كثير، فلا يخبرهم بكتمانه (¬5). فإن قيل على هذا: ما وجه بيان بعضه وترك بعضه؟ قيل: إنه بين ما فيه دلالة على نبوته من صفاته ونعته والبشارة به، وما يحتاج إلى علمه من غير ذلك مما تتفق له الأسباب التي يحتاج معها إلى استعلام ذلك، كالذي اتفق له في الرّجم، وما عدا هذين مما ليس في تفصيله فائدة فيكفي ذكره في الجملة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 160، و"الدر المنثور" 2/ 475. (¬2) لم أقف عليه من رواية عطاء، وانظر: "الوسيط" 3/ 838، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬3) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 161، والحاكم 4/ 359، وقال: هذا صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 475. (¬4) انظر: "الكشاف" 1/ 329، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 118 (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 316، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 316، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 118.

16

وفي قوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} إعجاز للنبي - صلى الله عليه وسلم - كالإعجاز فيما بينهم؛ لأنهم يعلمون بهذا أنه عالم بما يخفونه: وإن لم يبينه على التفضيل (¬1). وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ}. قال ابن عباس: يعني ضياء من الضلالة (¬2). وقال عطاء: يريد هدى (¬3). فعلى هذا أراد بالنور: الإسلام (¬4). وقال قتادة: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} يعني النبي (¬5). وهو اختيار الزجاج، قال: النور محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يبين الأشياء (¬6). وقوله تعالى: {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]. قال ابن عباس: يريد القرآن، فيه بيان لكل ما يختلفون فيه (¬7). 16 - قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ}. أي بالكتاب المبين. {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}. اتبع ما رضيه الله تعالى مما مدحه وأثنى عليه، وهو دين الإسلام، يدل على هذا قول ابن عباس: يريد من صدق ¬

_ (¬1) هكذا جاءت هذه الكلمة في النسختين (ش)، (ج) والظاهر أنها مصحفة، والصواب: التفصيل بالصاد المهملة. (¬2) في "الوسيط" 3/ 838، دون نسبة لابن عباس، ولم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) قد فسر النور هنا: بالإسلام، انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 33، و"زاد المسير" 2/ 316. (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 316. والاختلاف هنا اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، فإن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قد جاء بالإسلام. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 161، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 22. (¬7) في "الوسيط" 3/ 838، دون نسبة لابن عباس، ولم أقف عليه. وانظر: "تفسير البغوي" في "تفسيره" 3/ 33، و"زاد المسير" 2/ 316.

النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء به (¬1) ففسر (رضوان الله) بتصديق (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {سُبُلَ السَّلَامِ}. قال ابن عباس: يريد دين الإسلام، دين الله (¬3). وهو قول الحسن (¬4) والسدي، أن معنى {السَّلَامِ} ههنا الله عز وجل، والسلام من أسمائه تعالى (¬5). قال الزجاج: والسبل الطرق، فجائز أن يكون والله أعلم: طريق السلام طرق السلامة التي من سلكها سلم في دينه (¬6). قال أبو علي: ويجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: سبل دار السلام، كما قال: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} [الأنعام: 127] ويراد بها طرق الجنة؛ لأن من اتبع رضوانه فقد أوتي الهداية التي هي الإستدلال، فتكون الهداية في هذه الآية مثل التي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4 , 5]، في أنه ليس بهداية الاستدلال، ولكن الهداية إلى طرق الجنة للثواب (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وانظر: "زاد المسير" 2/ 317، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬2) في (ش): (بصدق). (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 317، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬4) "تفسير الهواري" 1/ 458، و"النكت والعيون" 2/ 22، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 448. (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 162، والبغوي في "تفسيره" 3/ 33، و"زاد المسير" 2/ 317، و"البحر المحيط" 3/ 448. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 161. (¬7) من "المسائل الحلبيات" لأبي علي الفارسي ص 20، 21، وانظر: "الحجة" 1/ 184.

17

{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. قال ابن عباس: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان (¬1) وذلك أن الكُفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام، وُيهتدى بالإيمان إلى النجاة كما يُهتدى بالنور. وقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ}. أي: بتوفيقه وإرادته (¬2). والجار من صلة الاتباع، أي: يتبع رضوانه بإذنه، ولا يجوز أن يتعلق بالهداية، ولا بالإخراج؛ لأنه لا معنى له، فدل على (¬3) أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله. وقوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]. قال الحسن: هو الذي يأخذ بصاحبه حتى يؤديه إلى الجنة (¬4). وقال ابن عباس: يعني: الإسلام (¬5). والقولان سواء. 17 - قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. قال أهل المعاني: إنما حكم بكفرهم؛ لأنهم قالوا هذا القول على جهة التدين به، ولو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 317، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 162، والبغوي في "تفسيره" 3/ 33، و"زاد المسير" 2/ 317. (¬3) في (ش): (فدل هذا على). (¬4) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 458، وذكر عن الحسن أنه قال: طريق الحق، من "النكت والعيون" 2/ 22، و"زاد المسير" 2/ 317، و"البحر المحيط" 3/ 448. (¬5) لم أقف عليه، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 33، و"زاد المسير" 2/ 317. (¬6) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 119.

فإن قيل: إنهم قالوا: هو ابن الله؟ قيل: هذا القول منهم كالقول إنه إله؛ لأنهم اتخذوه مع قولهم إنه ابن الله ربًا وجعلوه إلهًا (¬1). وقوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. قال الكلبي: فمن يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئًا (¬2). وهذا من قولهم: ملكت على فلان أمره، إذا اقتدرت عليه حتى لا يمكنه إنفاذ شيء من أمره إلا بك، وتقديره: من يملك من أمره شيئًا (¬3). وقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}. قال الكلبي: إن أراد أن يعذب المسيح ابن مريم (¬4). ووجه الاحتجاج بهذا على النصارى: أنه لو كان المسيح إلهًا لقدر على دفع أمر الله إذا أتى بإهلاكه وإهلاك غيره (¬5). وفي هذه رد على القدرية، وبيان أنه لو أراد إهلاك النبيين وأهل طاعته أجمعين كان له ذلك. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}. أراد ما بين هذين الصنفين والنوعين (¬6)، كقول الراعي: ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" 3/ 449. (¬2) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 163، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 119. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 110. (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 163، و"تفسير الهواري" 1/ 458، و"بحر العلوم" 1/ 425، و"زاد المسير" 2/ 317. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 159، 160، والطبري في "تفسيره" 6/ 163، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 119.

18

طَرَقَا فتلِك هَمَاهِمي أَقْرِيهما ... قُلُصًا لواقحَ كالقِسِيّ وحُولا (¬1) فقال: (طرقا)، ثم قال: (فتلك هماهِمي)، ولم يقل: طرقن. 18 - قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الآية. أمال اليهود فقال السدي: إنهم زعموا أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد، وكذَبُوا فيما زعموا (¬2). وقال الحسن: إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد (¬3). وهو اختيار ابن قتيبة، قال: يعنون أنه من حدبه وعطفه علينا كالأب المشفق (¬4). ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة للراعي في "جمهرة أشعار العرب" 3/ 930 وقبله: أخليد إن أباك ضاف وساده ... همان باتا جنبة ودخيلا طرقا .................. وقد استشهد به في "مجاز القرآن" 1/ 160، والطبري في "تفسيره" 6/ 163، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 119، ومعنى هماهم: الهموم، وقلصا: جمع قلوص وهي الفتية من الإبل، ولواقح: أي حوامل، والحول: جمع جائل وهي الناقة لم تحمل. والشاهد منه أن الشاعر ذكر همين في البيت الذي قبله، ثم ذكر همومًا بقوله: فتلك هماهمي، مع أنه ثنى في قوله: باتا وطرقا وأقربهما ..... (¬2) الأثر في "زاد المسير" 2/ 318، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 120، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 39. وقد عزاه ابن كثير في "تفسيره" إلى ابن أبي حاتم والطبري في "تفسيره"، لكن وجدته عند الطبري في "تفسيره" بلفظ: إنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك أدخلهم النار فيكون فيها أربعين يومًا .... فأخرجهم فذلك قوله {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. الطبري في "تفسيره" 6/ 164. (¬3) "النكت والعيون" 2/ 23، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 458، و"البحر المحيط" 3/ 450. (¬4) لم أقف عليه عن ابن قتيبة، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 33، و"البحر المحيط" 3/ 450.

وأما النصارى فقال سعيد بن المسيب: إنهم قالوا: المسيح ابن الله (¬1). ووجه هذا القول أنهم لما قالوا: المسيح ابن الله وادعوا أن المسيح منهم فكأنهم قالوا: نحن أبناء الله، كقول العرب: هذيل (¬2) شعراء، أي: منهم شعراء، وقولهم في رهط مسيلمة: قالوا: نحن أنبياء، أي قال قائلهم وتابعوه (عليه (¬3))، وذلك أنهم إذا قالوا: الواحد منهم أنه نبي، ثم افتخروا به وانتسبوا إليه، صح في اللفظ أن يقال: إنهم أنبياء (¬4). وهذا وجه ثالث في قول اليهود: نحن أبناء الله، لأنهم أيضًا قالوا: عُزَير ابن الله، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله، ذكره سعيد بن المسيب (¬5). وقيل: إنهم تأولوا قول عيسى. أذهب إلى أبي وأبيكم، وقوله: إذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء ليتقدس اسمك (¬6). وتأويل هذا: أنه في بره ورحمته وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده (¬7). وذهب بعضهم إلى أن معنى قوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} معناه: نحن أبناء ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) قبيلة ينتسبون إلى هذيل بن مدركة بن الياس، نبع منهم شعراء كثيرون. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 196 - 198. (¬3) تكرر في (ج). (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 164، 165، و"الكشاف" 1/ 329. (¬5) تقدم قريبًا. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 458، والبغوي في "تفسيره" 3/ 33.

رسله. فهو من باب حذف المضاف (¬1). قال ابن عباس: إنما قالوا هذا حين حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوبة الله (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}. يحلمه (¬3) المفسرون على قولهم: إنما نعذب أربعين يومًا، قدر الأيام التي عبد آباؤنا فيها العجل، فقيل لهم: إن كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله؟ هل رأيتم والدا يعذب ولده بالنار؟ وهل تطيب نفس حبيب بتعذيب حبيبه في النار؟ هذا معنى قول المفسرين (¬4). وقال أهل المعاني: (هذا التعذيب) (¬5) مطلق غير محمول على الأيام الأربعين؛ لأنهم مقرون أنهم معذبون بذنوبهم ولو لم يقولوا بهذا (¬6)، كذبوا بكتبهم، وأباحوا للناس ارتكاب الفواحش، والله تعالى يقول: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فجعل التعذيب بسبب ذنوبهم. وقال الربيع بن أنس في قوله تعالى: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}: لم ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 841، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 120، و"البحر المحيط" 3/ 450. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" بمعناه 6/ 164، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 486، وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل". (¬3) هذه الكلمة غير واضحة، والأقرب أنها هكذا. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 165، و"بحر العلوم" 1/ 425، والبغوي في "تفسيره" 3/ 34، و"زاد المسير" 2/ 318. (¬5) في (ش): (في هذا التعذيب). (¬6) انظر: الطبرى في "تفسيره" 6/ 164، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 120.

مسخكم؟ (¬1). قال صاحب النظم: تأويل: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ} لم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى الذين كانوا أمثالكم في الدين بذنوبهم؛ لأنه تعالى لم يكن ليأمر نبيه -عليه السلام- بأن يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، يقولون: فإنا لا نعذب، ولكن أمره بأن يحتج عليهم بما كان وعرفوه. وكثير ما يذكر لفظ المستقبل والمراد به الماضي، كقول عنترة: ولقد أمُرُّ على اللئيم يسبُني .. البيت (¬2) أي: مررت. وقد بينا هذا في مواضع (¬3) من هذا الكتاب. ثم كذبهم في زعمهم فقال تعالى: {بَلْ (¬4) أَنتُم بَشَرٌ مَمَّنْ خَلَقَ}. قال ابن عباس: لحم ودم (¬5). وقال المفسرون: كسائر بني آدم، مجزيون بالإحسان والإساءة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 319. (¬2) لم أجده في "ديوان عنترة"، وقد نسبه لمولد من بني سلول. سيبويه في "الكتاب" 3/ 24، وعجزه: فمضيت ثمت قلت لا يعنيني واستشهد به دون نسبه: ابن جني في "الخصائص" 3/ 330، والسمين في "الدر المصون" 2/ 288. (¬3) في (ش): (موضع) بالإفراد. (¬4) سقطت (بل) من: (ج). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 165، والبغوي في "تفسيره" 3/ 34، و"زاد المسير" 2/ 319.

19

وقولى تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}. قال ابن عباس: لمن تاب من اليهودية {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} من مات عليها (¬1). وقال عطاء: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} من يوحد الله {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} من لا يوحد الله (¬2). وقال السدي: يهدي منكم من يشاء فيغفر له، ويميت منكم من يشاء على كفره فيعذبه (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}. أي أنه يملك ذلك، لا شريك له فيعارضه، وهو يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء (¬5). قال أهل المعاني: دل بهذا على أنه لا ولد له؛ لأن (من (¬6)) ملك ذلك استحال أن يكون له شبيه أو شريك أو قسيم (¬7). وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: وإليه يؤول أمر العباد في الآخرة (¬8)؛ لأنه لا يملك الضر والنفع غيره، كما يملك في الدنيا بتمليكه. 19 - وقوله تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}. قال ابن عباس: يريد على ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 111. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 319. (¬3) في (ج): فيعذبه الله وما أثبته هو الموافق للمصادر في التخريج الآتي. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 165 - 166، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 486. (¬5) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 121. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 166، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 121. (¬8) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 121.

20

انقطاع من الأنبياء (¬1). قال الزجاج: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بعد إنقطاع الرسل؛ لأن الرسل كانت إلى وقت رفع الله عيسى متواترة بعضها في أثر بعض (¬2). ويقال: فتر الشيء يفتر فتورًا, إذا سكنت حدّته وانقطع عما كان عليه (¬3). وسميت المدة التي بين النبيين فترة لانقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله. وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا}. أي: لئلا تقولوا، وهو قول ابن عباس (¬4). وقال بعضهم: تأويله: كراهة أن تقولوا (¬5). وقد استقصينا شرح هذا في آخر سورة النساء عند قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. 20 - قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ}. (أنبيآء) لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؛ لأنها مبنية على علامة التأنيث، وهي الألف الممدودة كألف حمراء، فلما بنوا الاسم على علامة التأنيث حتى صارت كبعض حروفه، صار كأن التأنيث قد تكرر فيه فلم ينصرف في النكرة (¬6). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 2/ 230 عن ابن عباس من طريق أبي صالح، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 111. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 162، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 166، 167. (¬3) "العين" 8/ 114، و"تهذيب اللغة" 3/ 2735، وانظر: "الصحاح" 2/ 777 (فتر)، و"زاد المسير" 2/ 319. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 321، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 111. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 162، وانظر: "زاد المسير" 2/ 321. (¬6) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 123.

قال الكلبي: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} على عهد موس بن عمران، وهم السبعون (الذين) (¬1) اختارهم موسى من قومه، فانطلقوا معه إلى الجبل (¬2). {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يُكْتَبُ ملكًا (¬3). وقال ابن عباس: جعل لكم الحشم والخدم (¬4). وقال مجاهد: كل من لا يُدخل عليه إلا بإذنه فهو ملك (¬5) وهو اختيار الزجاج، قال: جعلكم ذوي منازل تأمرون فيها , لا يدخل عليكم فيها داخل إلا بإذن (¬6). وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جار فهو ملك (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): (الذي). (¬2) "بحر العلوم" 1/ 426، و"زاد المسير" 2/ 321. وقد أشار إليه الطبري في "تفسيره" 6/ 168. (¬3) أخرجه المؤلف في "الوسيط" 3/ 845، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 35 بصيغة التمريض وأورده ابن كثير في "تفسيره" 2/ 42، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 478، وعزاه كل منهما إلى ابن أبي حاتم، وفي "سنده" ابن لهيعة. قال ابن كثير في "تفسيره": هذا حديث غريب من هذا الوجه. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 169، بمعناه، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 35، و"زاد المسير" 2/ 321، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 42، و"الدر المنثور" 2/ 477. (¬5) في "تفسير مجاهد" 1/ 191: قال: جعل لهم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا، ومن كان كذلك فهو ملك، ونحوه في الطبري في "تفسيره" 6/ 169، بلفظ المؤلف عزاه إلى ابن عباس السمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 426، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 162. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 162. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 322.

21

وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم، وسُخَّر لهم الخدم من بني آدم (¬1). وقال السدي: يعني: وجعلكم أحرارًا تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القِبْط بمنزلة أهل الجزية فينا (¬2). قال الزجاج: ومعناه: جعلتم تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب (¬3). وقوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ما آتاهم في الدنيا من النعمة والكرامة، حيث فلق لهم البحر، وأغرق عدوهم، ونصرهم على جميع من عاداهم (¬4). وقال مجاهد: يعني: المنّ والسلوى والحجر (¬5) والغمام (¬6). 21 - قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} الآية. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 170، وانظر: "زاد المسير" 2/ 322. وهذا القول انفرد به قتادة، وقد يكون فيه نظر؛ لأن القول بأن بني إسرائيل أول من ملك الخدم يحتاج إلى تثبت واستقراء تاريخي ما لم يرد دليل سمعي بذلك، والله أعلم. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 170، وانظر: "زاد المسير" 2/ 322. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 162. (¬4) لم أقف على هذا الأثر، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" 6/ 170 - 171 من طريق عطاء عن ابن عباس قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة، وضعف أحمد شاكر وإسناده. (¬5) أي: الذي ضربه موسى فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. (¬6) "تفسيره" 1/ 191، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 170.

المقدسة معناها في اللغة: المُطهّرة (¬1)، طهرت تلك الأرض من كثير من الشرك، وجعلت مسكنًا وقرارًا للأنبياء (¬2). قال قتادة: هي الشام كلها (¬3). ومعنى المقدسة في قول قتادة المباركة (¬4)، وبه قال ابن الأعرابي من أهل اللغة (¬5). وقال عكرمة والسدي وابن زيد: هي أريحا (¬6). الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن (¬7). وقوله تعالى: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}. قال عطاء عن ابن عباس: يريد فرض عليكم دخولها (¬8). وبه قال قتادة، قال: أمروا بها كما أمروا بالصلاة (¬9). ونحو منه قول السدي: أمركم الله بدخولها (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 162، و"بحر العلوم" 1/ 427. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 323. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 172، وانظر: "زاد المسير" 2/ 323. (¬4) جاء هذا القول صريحًا عن مجاهد، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 172. (¬5) انظر: "لسان العرب" 6/ 3550 (قدس). (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 172 عن ابن زيد والسدي، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 35. وأريحا مدينة في الأردن بينها وبين بيت المقدس يوم. انظر "معجم البلدان" 1/ 165. (¬7) البغوي في "تفسيره" 3/ 35، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 111. وبهذا القول قال الزجاج. انظر: "معاني القرآن" 2/ 162، و"النكت والعيون" 2/ 25. (¬8) انظر: "زاد المسير" 2/ 324. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 173، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 36. (¬10) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 173، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 36، و"زاد المسير" 2/ 324.

22

وقوله تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}. يحتمل تأويلين: أحدهما: لا ترجعوا إلى دينكم الشرك بالله وإلى معصيته (¬1). وإلى هذا أشار ابن عباس فقال (¬2): يريد لا تعصوا ربكم (¬3). والثاني: لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها (¬4). 22 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}. قال المفسرون: هم العمالقة فرقة من عاد (¬5). وللجبار ههنا معنيان: قال الأخفش: أراد الطُّول والقوة والعظم (¬6). وكأنه ذهب في هذا إلى الجَبَّار من النخل، وهو الطويل الذي فات الأيدي، ويقال: رجل جَبَّار، إذا كان طويلًا عظيمًا قويًّا، تشبيهًا بالجبار من النخل (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "النكت والعيون" 2/ 25، و"زاد المسير" 2/ 324، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 126. (¬2) في (ش): (قال). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 173، و"النكت والعيون" 2/ 25، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 126. وقال القرطبي في "تفسيره" بعد أن ذكر الوجهين: والمعنى واحد. (¬5) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 36، القرطبي في "تفسيره" 6/ 126. (¬6) ليس في "معاني القرآن" للأخفش، وقد نسبه الأزهري إلى أبي الحسن اللحياني. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 532 (جبر). (¬7) من "تهذيب اللغة" 1/ 532 (جبر)، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 36، و"اللسان" 1/ 535 (جبر).

وهذا معنى قول قتادة: كانت لهم أجسما وخلق عجيب ليس لغيرهم (¬1). ويحتمل أن يكون معنى الجَبّار ههنا من أجبره على الأمر، إذا أكرهه عليه. قال الأزهري: وهي لغة معروفة، وكثير من الحجازيين يقولونها، وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: جبره السلطان (¬2). وجائز أن يكون الجبّار من: أجبره على الأمر، إذا أكرهه عليه. قال الفراء: لم أسمع فعَّالا من أفْعَل إلا في حرفين، وهما: جبّار من أَجْبَر، ودرَّاك من أدْرَك (¬3). وهذا الوجه اختيار الزجاج، قال في هذه الآية: تأويل الجبّار من الآدميين العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد (¬4). قال المفسرون: وبلغ من جبرية هؤلاء، أن موسى لما بعث النقباء ليتحسسوا (¬5) له أخبار هؤلاء رآهم واحد من الجبارين، فأخذهم وحملهم في كُمِّه مع فاكهةٍ كان حملها من بستانه، وأتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه، وقال معُجّبًا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 174، وانظر: "زاد المسير" 2/ 324. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 533، وانظر: "اللسان" 1/ 536 (جبر). (¬3) من "تهذيب اللغة" 1/ 532، وانظر: "اللسان" 1/ 534 (جبر). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 163، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 427، و"زاد المسير" 2/ 324. (¬5) في (ش): (ليتجسسو ا) بالجيم. (¬6) أخرج الأثر مطولًا الطبري في "تفسيره" 6/ 174، ونقله ابن كثير في "تفسيره" 2/ 43, وقال: وفي هذا الإسناد نظر.

23

وللجبار معانٍ نذكرها في مواضعها إن شاء الله. 23 - قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ}. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والربيع: هما يوشَع بن نون، وكالب بن يوفنا (¬1). {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ}. قال عطاء وقتادة: يخافون الله في مخالفة أمره بقتال الجبارين (¬2). وقوله تعالى: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}. قال الحسن: الإسلام (¬3). وقال عطاء: يريد بالصلاح والفضل واليقين (¬4). {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}. قال المفسرون: إنهما قالا لبني إسرائيل: نحن أعلم بالقوم، إنهم قد مُلِئُوا منا رعبًا، وإنا رأيناهم وكانت (¬5) أجسامهم عظيمة قوية وقلوبهم ضعيفة (¬6). قال (¬7) أهل المعاني: إنما قالا هذا القول؛ لأن الله كان قد أنعم عليهما باليقين، فعلما أن الله ينجز وعده مع حكمه بأنه كتبها لهم وما تقدم ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 174 - 175، و"بحر العلوم" 1/ 427، و"زاد المسير" 2/ 326، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 44. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 428، و"النكت والعيون" 2/ 26، و"زاد المسير" 2/ 326. (¬3) "النكت والعيون" 2/ 26، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 326 إلى ابن عباس. (¬4) "زاد المسير" 2/ 326. (¬5) في (ج): (فكانت). (¬6) فانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 178 - 179، و"بحر العلوم" 1/ 428، والبغوي في "تفسيره" 3/ 36، و"زاد المسير" 2/ 326. (¬7) في (ش): (وقال).

24

من وعد موسى إياهم، فلذلك قالا: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} (¬1). {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي عليه توكلوا في نصره إياكم على الجبارين إن كنتم مصدقين به وبما أتاكم به رسوله. 24 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا}. قال المفسرون: إن عشرة من النقباء نقضوا العهد، وقالوا لبني إسرائيل: إن الرجل الواحد من هؤلاء الجبارين يدخل المائة منا في كُمِّه، ورأينا حصونًا ممتنعة وجبابرة، فلا يدان لنا بهم، فجَبُن القوم وخافوا ولم يثقوا بنصر الله، وقالوا: إنا لسنا نقبل مشورةً في دخولها ولا أمرًا وفيها هؤلاء الجبارون، ولما أمرهم يوشع وكالب بدخول القرية عصوهما وأرادوا أن يرجموهما بالحجارة، وقالوا: يا موسى نكذب عشرة ونصدق اثنين (¬2). وقوله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ}. قال أبو إسحاق: كلام العرب: اذهب أنت وزيد، ويستقبح النحويون: اذهب وزيد؛ لأنه يقبح العطف على المضمر والمضمر (في النية) (¬3)، فكان الاسم يصير معطوفًا على ما هو متصل بالفعل غير مفارق له (¬4). وقال الفراء: ولو ألقيت (أنت) فقيل: اذهب وربك، كان صوابًا؛ لأنه في إحدى القراءتين: {إنه يراكم وقبيلُه} [الأعراف: 27]، واذهب ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 178، و"النكت والعيون" 2/ 26، والبغوي في "تفسيره" 3/ 37. (¬2) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 179 - 180، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 428، والبغوي في "تفسيره" 3/ 37. وقد سبق قريبًا كلام ابن كثير في "تفسيره" على مثل هذا الخبر. (¬3) في "معاني الزجاج" 2/ 164: في النية لا علامة له. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 164.

أنت وربك أكثر في كلام العرب، وذلك أنه العطف على الاسم المضمر المرفوع؛ لأن المرفوع خفي في الفعل وليس كالمنصوب؛ لأن المنصوب يظهر، فتقول: ضربته وزيدًا، وضربتك وزيدًا. وتقول في المرفوع: قام، وقاما، فلا ترى اسمًا منفصلًا في الأصل من الفعل، فلذلك أوثر إظهاره (¬1)، (فقيل: قام هو وعمرو) (¬2). قال (¬3): وإذا فرقت بين الاسم المعطوف بشيء قد وقع عليه الفعل حسن بعض الحسن، من ذلك قولك: (ضربت زيدًا وعمرًا (¬4))، فلو لم يكن (زيد) (¬5) لقلت: (ضربت أنا وعمرو) (¬6). ومن هذا قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، وقوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا} [النمل: 67]. قال الزجاج: وإنما جاز لأن المفعول يقوي الكلام كما يقوي الكلام دخول لا، قال الله تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] (¬7). فصار ذِكرُ لا وذكرُ المفعول عوضًا من المنفصل. واختلفوا في معنى قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا}، فقال أصحاب المعاني: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 304. (¬2) ما بين القوسين زيادة على "معاني القرآن". (¬3) أي الفراء. (¬4) في "معاني القرآن": ضربت زيدا وأنت. (¬5) في (ج): (زيدا). (¬6) في "معاني القرآن" 1/ 304: قمت أنا وأنت، وقمت وأنت قليل. وقد أنتهى إلى هنا كلام الفراء، وما بعده من أمثله لعله من المؤلف. (¬7) انتهى من "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 164.

إن كانوا قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر؛ لأنه على وجه الجهل بالله عز وجل (¬1)، وإن قالوه على وجه الخلاف لأمره ولنبيه فهو فسق (¬2). وقال الحسن: هذا القول كفر منهم بالله (¬3). وإنما أخبر عنهم بهذا إنكارًا عليهم، وتعجيبًا من جهلهم. وقال بعضهم: إنهم قالوه على المجاز، على تأويل: اذهب أنت وربك معينٌ لك، فأضمر خبر الابتداء (¬4). والأول أظهر لقيام قوله: {فَقَاتِلَا} مقام خبر الابتداء. ¬

_ (¬1) قال الطبري في "تفسيره" 6/ 180: وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا, ولكن معناه: اذهب أنت يا موسى وليُعِنْك ربك، وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب، ولعل الطبري في "تفسيره" يقصد بهذا القائل أبا عبيدة. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 160، ثم رد هذا القول بقوله: وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له لو كان الخبر عن مؤمنين، فأما قوم أهل خلاف على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل، وافتروا عليه إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم. وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قال قوم موسى لموسى: حدثنا سفيان، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إن معكم مقاتلون. "جامع البيان" 6/ 180، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 45. (¬2) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 128. (¬3) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 850، وذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 128، وأبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 456. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 160، و"بحر العلوم" 1/ 428، و"زاد المسير" 2/ 427، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 128، و"البحر المحيط" 3/ 456.

25

وحكى بعض المفسرين أنهم أرادوا بقولهم: {وَرَبُّكَ} أخاه هارون، قال: وكان أكبر من موسى (¬1). والظاهر أنهم قالوا هذا جهلًا منهم، وفسقوا بذلك؛ لأن الله تعالى قال في هذه القصة: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، يريدهم (¬2). قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن أهل الكتاب لم يزالوا غير قابلين من الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الخلاف شأنهم (¬3). 25 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}. يقول: لم يطعني منهم إلا نفسي وأخي. قال أهل المعاني: تأويله أنه لا يملك إلا تصريف نفسه في طاعة الله؛ لأن نفسه (لا تكون (¬4)) في حكم المملوك له (¬5). وذكر أبو إسحاق في إعراب قوله: {وَأَخِي} وجهين: أحدهما: أن يكون رفعًا من جهتين: الأولى: أن يكون نَسَقًا على موضع (إني)، المعنى: أنا لا أملك إلا نفسي وأخي كذلك، ومثله قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، والثانية: أن يكون عطفًا على الضمير في (أملك) وهو: أنا، والمعنى: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. والوجه الثاني: أن يكون (أخي) في موضع نصب من جهتين: إحدهما: أن يكون نسقًا على الياء، المعنى: إني وأخي لا نملك إلا ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 428، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 128، و"البحر المحيط" 3/ 456. (¬2) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 128. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 163. (¬4) لعل الصواب: تكون بدون لا، مع أن لا غير واضحة في (ج). (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 180.

26

أنفسنا، وجائز (¬1) أن يكون (أخي) معطوفًا على (نفسي) فيكون المعنى: لا أملك إلا نفسي ولا أملك إلا أخي؛ لأن أخاه إذا كان مطيعًا له فهو مالك طاعته (¬2). وقوله تعالى: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قال الكلبي: فاقض بيننا وبين القوم العاصين (¬3). 26 - قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} الآية. قال عطاء عن ابن عباس: حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس فماتوا في التِيه أجمعون، ولم يدخل بيت المقدس ممن خرج من مصر أحد، لا موسى ولا هارون ولا أحد منهم، إلا الرجلان اللذان قالا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} يوشع وكالب، دخلا بأبناء الذين خرجوا من مصر بعدما تاهوا أربعين سنة (¬4). قال الكلبي: قيل لموسى: أما إذ سميتهم فاسقين فإنها محرمة عليهم، فكانوا في التيه أربعين سنة في ستة فراسخ، وقُبِضَ هارون وموسى في التِّيه (¬5). ¬

_ (¬1) لعل هذا الجائز هو الجهة الثانية من الوجه الثاني. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 164، 165، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 223، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 128. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 112. ونسبه ابن الجوزي إلى ابن عباس، انظر: "زاد المسير" 2/ 329. (¬4) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 183 لكن من طريق عكرمة عن ابن عباس، وانظر: "زاد المسير" 2/ 330، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 130، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 44. وهذا قول, وسيأتي أن الراجح أن موسى عليه السلام: هو الذي فتح مدينة الجبارين. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 112.

وقال الحسن: لم يمت موسى في التِّيه (¬1). واختلفوا: أيضًا هل دخل مدينة الجبارين أم لا؟، فقال قوم: كان الفتح على يديه. وقال قوم إنما قاتل الجبارين يوشع، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى (¬2). فإن قيل: كيف قال: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وقد قال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؟ قيل: قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} المراد به من دخلها من أولادهم وذراريهم، فأما من مات في التيه ولم يدخلها فإنها لم تكتب لهم. والمراد: بهذا التحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، كما تقول: حرام عليك دخول داري، أي أني أمنعك ذلك فلا تدخل، ليس أنه يحرم عليه بالشرع. وقوله تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً}. قال الفراء: هي منصوبة بالتحريم، ولو نصبتها بـ (يتيهون) كان صوابًا (¬3). قال الزجاج: أما نصبه بـ (محرمة) فخطأ؛ لأن التفسير جاء بأنها ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) رجح الطبري في "تفسيره" وغيره القول الأول وأن موسى عليه السلام هو الذي فتح مدينة الجبارين. انظر: "جامع البيان" 6/ 182، والبغوي في "تفسيره" 3/ 38، و"زاد المسير" 2/ 330، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 131. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 305، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 184، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 223.

حرمة عليهم أبدًا (¬1)، كذلك قال ابن عباس في رواية عطاء وسائر المفسرين (¬2). وقوله تعالى: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}. يقال: تاه يتيه تَوْهًا وتِيها، والتِّيه أعمهما، ويقال: توهّتُه، وتيّهتُه، والواو أعم، والتَّيهاء: الأرض التي لا يُهتدى فيها، يقال: أرض تِيهٌ وتيهًا ومتيهة، يتيه فيها الإنسان (¬3). قال مجاهد والحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا (¬4). قال الزجاج: عذبهم الله عز وجل بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سيارة، لا يقرّ بهم القرار، إلى أن مات البالغون الذين عصوا الله ونشأ الصغار. فإن قيل: التيه عذاب، والأنبياء لا يعذبون، فكيف عذب موسى وهارون بالتيه؟ قيل: إن الله عز وجل سهّل عليهما ذلك كما سهل على إبراهيم النار فجعلها بردًا وسلامًا وشأنها الإحراق (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 165، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 233. وقد فصل مكي في "الإعراب" بما فيه جمع بين القولين. (¬2) لم أجده عن ابن عباس، وأخرجه الطبري في "تفسيره" عن قتادة 6/ 184. ونحوه عن غيره. انظر: "جامع البيان" 6/ 181 - 182. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 423 (تيه)، وانظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 129. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 185 عن مجاهد، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 462. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 165، 166 بتصرف يسير.

27

وقوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قال ابن عباس: يريد لا تحزن على القوم الذين عصوك وعصوني (¬1). وقال مقاتل: إنهم قالوا لموسى: ما صنعت بنا؟ وندم موسى على ما دعا عليهم، فأوحى الله إليه: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (¬2). يقال: أسي يأسى أسًى، أي: حزن (¬3). وقال الزجاج: وجائز أن يكون خطابًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي لا تحزن على قومٍ لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل (¬4). 27 - قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}. قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} يا محمد، يريد على قومك، {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} كما كان، يريد هابيل وقابيل. وكان هابيل له ضأن، وقابيل له زرع، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} فنظر هابيل إلى خير كبش في ضأنه فتقرب به إلى الله، ونظر قابيل إلى شر قمحه، فتقرب به إلى الله، فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل، ولم تحمل قربان قابيل، فعلم أن الله قد قَبِلَ من أخيه ولم يقبل منه فحسده، قال الله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} يريد هابيل {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} يريد قابيل. ويقال إن قربان هابيل هو الكبش الذي فدى الله به إسماعيل (¬5) {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ} هابيل {إِنَّمَا ¬

_ (¬1) "تفسيره" ص 176، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 186 بلفظ: لا تحزن لا غير. (¬2) بنحوه في "تفسيره" 1/ 467، 468. (¬3) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 139، والطبري في "تفسيره" 6/ 185. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 166، وانظر: "زاد المسير" 2/ 231. (¬5) كأن هذا القول اعتراض ضمن قول ابن عباس، فإنه نُسِب إلى سعيد بن جبير. انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 134.

يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. انتهى كلامه (¬1). وهذا قول جميع أهل التفسير إلا الحسن والضحاك فإنهما قالا: إن ابني آدم اللذين قربا قربانًا لم يكونا ابني آدم لصلبه، إنما كانا رجلين من بني اسرائيل (¬2). ومضى الكلام في معنى القربان في سورة آل عمران. وتقديره قوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} قرب كل واحد منهما قربانا، نجمعهما في الفعل وأفرد الاسم؛ لأنه يستدل بفعلها على أن لكل واحد قربانًا. وقيل: إن القربان اسم جنس، فهو يصلح للواحد وللعدد، على أن القربان مصدر كالرُّجحان والعُدوان والكُفران، يقال: قَرَّبْت الرجل (¬3) أقربه قُربًا وقُربانًا (¬4). وكان الرجل فيما مضى إذا رفع إلى الله حاجة قدم أمامها نسيكة، وكاذت تلك الذبيحة تسمى: قربانا، إذ (¬5) كان صاحبها يتقرب إلى الله، ¬

_ (¬1) الأثر أخرجه الطبري في "تفسيره" بمعناه من طريقين: أحدهما طريق العوفي عن ابن عباس، والثاني طريق أبي صالح عنه. انظر: "جامع البيان" 6/ 186 - 189، وذكره البغوي في "تفسيره" 6/ 42، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 333. (¬2) أخرجه عن الحسن الطبري في "تفسيره" 6/ 189، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 27، "زاد المسير" 2/ 331، ورجح كل من الطبري في "تفسيره" وابن الجوزي القول الأول، وأنهما ابني آدم لصلبه. (¬3) قربت الرجل: أي أدنيته، من القرب ضد البعد. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2915 (قرب). (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 190، "زاد المسير" 2/ 332. (¬5) في (ج): (إذا).

فسمي المتقرب به قربانًا، والمصادر لا تثنى ولا تجمع. وقوله تعالى: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}. مختصر، أي قال الذي لم يتقبل منه للثاني: لأقتلنك، فحذف لأن المعنى يدل على أن الذي لم يتقبل منه هو القائل بحسده لأخيه: لأقتلنك. قاله الفراء (¬1). ومثله في الكلام أن تقول إذا اجتمع السفيه والحليم: حمد، تنوي بالحمد الحليم. وإذا رأيت الظالم والمظلوم: أعنت، وأنت تنوي المظلوم، للمعنى الذي لا يُشكل (¬2). وقوله تعالي: {قَرَّبَا}. ليس معناه من القريب الذي هو ضد البعيد، ولكنه من قولهم قرّب قربانًا، إذا تقرب بمال له (¬3) إلى الله تعالى، وليس معنى {قَرَّبَا قُرْبَانًا} قربه إلى موضع. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. أي المتقين للمعاصي (¬4)، فأطلق للعلم بأن المراد أنها أحق ما يجب أن يُخَاف منه. قال ابن عباس: قال له هابيل: إنما يتقبل الله ممن كان زاكيَ القلب، ورد عليك لأنك لست بزاكي القلب (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 305، ولا يزال الكلام له. (¬2) انتهى من "معاني القرآن" 1/ 305، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 166، "زاد المسير" 2/ 334. (¬3) في (ش): (لنا). (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 334. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 112.

28

28 - قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} الآية. يقال في هذا: لِمَ لَمْ يدفع ابن آدم أخاه عن نفسه وإن أدّى إلى قتله؟ قيل: معناه: لئن بدأتني بالقتل فما أنا الذي أبدؤك بالقتل (¬1). وهذا يُروى عن ابن عباس (¬2) وحُذيفة (¬3). وقال الحسن ومجاهد: إنه كتب عليهم: إذا أراد الرجل قتل رجل تركه، ولم يمتنع منه (¬4). وقال أهل العلم: الدافع عن نفسه يدفع بالأيسر فالأيسر، وليس له أن يقصد القتل، بل يقصد الدفع، ثم إن أتى الدفع على القاتل ولم يمكنه الدفع إلا بقتله جاز ذلك، فمن قصد قتل رجل ظُلمًا فالمقصود إن أراد أن يستسلم للقتل جاز له ذلك (¬5). وكذلك فعل عثمان -رضي الله عنه- (¬6)، وكذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7) محمد بن مسلمة (¬8)، فقال له: "أَلْقِ كُمَّك على وجهك وكن عبد الله ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 334. (¬2) أخرج الطبري في "تفسيره" من طريق العوفي عنه في هذه الآية ما أنا بمنتصر، ولأمسكن يدي عنك. "جامع البيان" 6/ 191 - 192. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 192، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 43، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 136. (¬5) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 136، وقال القرطبي في "تفسيره": وفي وجوب ذلك [أي الدفع] عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. (¬6) حينما ترك الدفاع عن نفسه في فتنة قتله -رضي الله عنه- انظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 50. (¬7) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست في (ج). (¬8) هو أبو عبد الرحمن محمد بن مسلمة بن خالد بن عدي الأوسي الأنصاري =

29

المقتول ولا تكن عبد الله القاتل" (¬1). وإن أراد أن يدفع القاتل وجب أنْ يَقصد الدفع ولا يقصد القتل، ألا ترى أن ابن آدم قال: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}، فبان أن بسط اليد لقتل القاصد للقتل لا يجوز. وقال عبد الله بن عمرو في هذه الآية: والله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده لأخيه (¬2). 29 - قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ}. قد مضى الكلام في معنى: باء (¬3). قال ابن عباس والحسن وقتادة وابن مسعود: تحتمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي (¬4). ¬

_ = صحابي فاضل، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها إلا تبوك، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان -رضي الله عنه- مات بالمدينة سنة 46 هـ وقيل بعدها. انظر: " الاستيعاب" 3/ 433، "أسد الغابة" 5/ 112، "الإصابة" 3/ 383. (¬1) لم أقف عليه عن محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ. وقد أخرج معناه عنه ابن الأثير في "أسد الغابة" 5/ 113، وانظر: "الإصابة" 3/ 383. والحديث له شاهد من حديث خالد بن عرفطة -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا خالد إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل". أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" 5/ 292، والحاكم في "مستدركه" 4/ 517، وله شاهد آخر من حديث خباب -رضي الله عنه- عند أحمد 5/ 110. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 191، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 50، "الدر المنثور" 2/ 484. (¬3) عند قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 192 - 193، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 30، والبغوي في "تفسيره" 3/ 43، "زاد المسير" 2/ 335.

وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك (¬1). قال ابن الأنباري: وإنما فصل الإثمين وهما على واحد لاختلاف سببهما (¬2). فإن قيل: كيف قال ابن آدم: إني أريد أن تبوء بالإثمين فجاز أن يريد منه الإثم، وليس للإنسان أن يريد معصية الله من غيره كما ليس له أن يريدها من نفسه؟ والجواب: عن هذا من وجوه: أحدها ما ذكره ابن الأنباري، وهو أن قابيل لما قال لأخيه: {لَأَقْتُلَنَّكَ}، وعظه هابيل وذكره الله واستعطفه، وقال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} الآية، فلما رآه هابيل قد صمم وأخذ له الحجارة يرميه بها، قال له عند الضرورة: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فمحبتي أن يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني، فكان هذا عدلًا من هابيل (¬3). وإلى هذا أشار الزجاج فقال: أي إن قتلتني فأنا مريد ذلك (¬4). فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلا له، والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 167، وانظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 137. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف على قول ابن الأنباري، وقد ذكر ابن الجوزي له قولاً خلافه. انظر: "زاد المسير" 2/ 336، 337. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 167 (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 193، والبغوي في "تفسيره" 3/ 43.

30

وهذا التأويل قال بعضهم معناه: إني أريد أن ترو بعقاب إثمي وإثمك، ثم حذف المضاف، ومن باء بإثم باء بعقاب ذلك الإثم (¬1). وقوله تعالى: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} قال عطاء: يريد إن جهنم جزاء من قتل أخاه وظلمه (¬2). 30 - قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ}. قال الفراء: فتابعته نفسه وطاوعته (¬3). وقال المبرد: (طوعت (¬4)) فعّلت، من الطَّوع (¬5). وقال أبو عبيد: قال حدثنا يزيد (¬6)، عن ورقاء (¬7)، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} قال: شجعته (¬8). ¬

_ (¬1) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 138. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في "معاني القرآن" 1/ 305: فتابعته، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2153 (طاع)، "زاد المسير" 2/ 337. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 167، "تهذيب اللغة" 3/ 2153 (طاع). وانظر: "زاد المسير" 2/ 337. (¬6) يزيد بن هارون بن زاذان السلمي الواسطي، تقدمت ترجمته. (¬7) هو أبو بشر ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري الكوفي الإِمام الثقة الحافظ العابد المقرئ، قال ابن معين: تفسير ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أحب إلي من تفسير قتادة. مات -رحمه الله- بعد سنة 160 هـ. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 175، "سير أعلام النبلاء" 7/ 419، "غاية النهاية" 2/ 358. (¬8) الأثر بسنده من "تهذيب اللغة" 3/ 2153 (طاع)، وهو في "تفسير مجاهد" 1/ 193، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 195.

قال أبو عبيد: عنى مجاهد أنها أعانته على ذلك وأجابته إليه. ولا أرى أصله إلا من الطواعية (¬1). قال الأزهري: والأشبه عندي أن يكون معنى: (طوعت) سمحت وسهّلت له نفسه (قتل أخيه) أي جعلت نفسه قتل أخيه سهلًا وهوّنته (¬2). وتقدير الكلام: فصورت له نفسه أن قتل أخيه طوعٌ له سهلٌ عليه، فينتصب القتل على هذا من غير إضمار ولا حذف (¬3) خافض. واختار الزجاجي هذا الوجه فقال: طوّع فعل من طَاع الشيء يطوع إذا سهُل وانقاد، و {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} أي سهلت الأمر فيه عليه (¬4). وأما قول (¬5) الفراء والمبرد فانتصاب قوله: {قَتْلَ أَخِيه} على إفضاء الفعل إليه بعد حذف الخافض، كأنه قيل (¬6): فطوعت له نفسه أن انقادت في قلت أخيه ولقتل أخيه، فحذف الخافض وأفضى الفعل إليه فنصبه (¬7). هذا كلام أهل اللغة. وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عطاء: فسولت له نفسه قتل أخيه (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2153 (طاع). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2153، (طاع)، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 43. (¬3) في (ش): (حرف). (¬4) لم أقف عليه. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2153 (طاع)، والبغوي في "تفسيره" 3/ 43. (¬5) في (ش): (وأما على قول). (¬6) في (ش): (قتل). (¬7) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 138. (¬8) لم أقف عليه.

وقال قتادة: زينت له نفسه (¬1). وقال يمان (¬2): سهلت له ذلك (¬3). وقال عبد العزيز بن يحيى (¬4): أجابته إلى ذلك (¬5). وقال الكلبي: تابعته نفسه على قتل أخيه (¬6). وقوله تعالى: {فَقَتَلَهُ}. قال المفسرون: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر، وقابيل ينظر فعلّمه القتل، ثم وجد قابيل أخاه هابيل يومًا نائمًا، فرفع صخرة، فشدخ رأسه فمات (¬7). وروى مسروق عن عبد الله (¬8) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقتل نفس ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 195، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 429. (¬2) يمان بن رئاب، تقدمت ترجمته. (¬3) انظر: "الوسيط" 3/ 857، والبغوي في "تفسيره" 3/ 43، وهذا اختيار الأزهري كما تقدم، مع أن الأقوال متقاربة من حيث المعنى. (¬4) لعله عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني المكي الذي ناظر بشرًا المريسي في نفي خلق القرآن، وينسب إليه كتاب "الحيدة" في ذلك واستبعد الذهبي هذه النسبة، كان من فقهاء الشافعية، وذكر أنه صَحِب الشافعي مدة ولم يذكر تاريخ وفاته. انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص 14، "ميزان الاعتدال" 3/ 353، "طبقات الشافعية" للإسنوي 1/ 41. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه. وقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 337 إلى ابن عباس. (¬7) أخرجه بنحوه عن ابن جريج: الطبري في "تفسيره" 6/ 195، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 429، "النكت والعيون" 2/ 30، والبغوي في "تفسيره" 3/ 43، "زاد المسير" 2/ 337، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 51. (¬8) ابن مسعود رضي الله عنه.

31

ظلمًا إلا كان عى ابن آدم كفل من دمها، وذلك أنه أول من سن القتل" (¬1). وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين من اللذان يقول الله لهما: {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [فصلت: 29]؟ فقال علي: هو إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه، كانا أول من عمل بالمعصية (¬2). وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30]. قال ابن عباس: يريد خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فأسخط والديه وبقي بلا أخ، وأما الآخرة فأسخط ربه وصار إلى النار (¬3). قال المفسرون: إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل؛ لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى (¬4) بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها (¬5). 31 - قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} الآية. قال المفسرون: إن قابيل لما قتل أخاه تركه بالعراء، ولم يدر ما يصنع؛ لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فقصده السباع، فحمله في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3335) كتاب الأنبياء، باب (1): خلق آدم وذريته 4/ 104، ومسلم (1677) كتاب القسامه، باب (7): بيان إثم من سن القتل 3/ 1303 (ح 27) والمؤلف في "الوسيط" 3/ 858. (¬2) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 195 (الطبعة غير المحققة)، والحاكم 2/ 312، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 488. (¬3) انظر: "الوسيط" 3/ 857، "زاد المسير" 2/ 338، "البحر المحيط" 3/ 465. (¬4) في (ج): (فبنا). (¬5) جاء ذلك في أثر طويل رُوي عن ابن عباس. انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 45، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 139

جراب على ظهره حتى أَرْوح، فبعث الله غُرابًا يبحث في الأرض (¬1). قال ابن عباس: وكان غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، وقابيل ينظر، ثم بحث في الأرض حتى جعل له حفرة فدفنه فيها، ففعل قابيل مثل ما فعل الغراب (¬2). قال ابن قتيبة: وهذا مختصر، والتقدير: فبعث الله غُرابًا يبحث في الأرض على غراب ميت (¬3). قال الضحاك: {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} يثير التراب من الأرض (¬4). {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}. أي: جيفته، وقيل: عورة أخيه (¬5). وقوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا}. قال الزجاج: المعنى يا ويلتا تعالي، فإنه من إبّانك (¬6)، أي: قد لزمني الويل، وكذلك: يا عجبًا، المعنى: يا أيها العجب هذا وقتك. قال: والوقت في غير القرآن: يا ويلتاه (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه عن ابن عباس وغيره: الطبري في "تفسيره" 6/ 197، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 44، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 52. (¬2) بمعناه في "تفسيره" ص 176، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 197 من طرق، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 489. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 231، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 198، "معاني الزجاج" 2/ 167. (¬4) لم أقف عليه، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 198. (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 199، "النكت والعيون" 2/ 30، "زاد المسير" 2/ 338. (¬6) أي من وقتك أو زمن حاجتك. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 167 , 168 بتصرف.

32

وذكرنا زيادة بيان في قوله: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ} [هود: 72]. وقوله تعالى: {فَأُوَارِيَ}، عطف على: {أَنْ أَكُونَ}. وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]. حقيقة معنى الندم أنه وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديمًا لأنه يلازم المجلس، ويقوي هذا قولهم: نادم سادم، والسدم اللهج بالشيء، يقال: سدم به، إذا أغري به ولزمه، ويقال (¬1) لمن اهتم بالشيء الفائت: نادم سادم؛ لأن هذا الهّم ألزم للقلب من الهّم لأجل الشيء الحادث؛ لأن هذا يزول بزوال ما حدث، والفائت لا سبيل إلى رده (¬2). قال كثير من المفسرين: {مِنَ النَّادِمِينَ} على حمله والتطواف به (¬3). وقال آخرون: {مِنَ النَّادِمِينَ} على ذوات أخيه؛ لأنه لم ينتفع بقتل أخيه، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته، فندم لأجل ذلك، لا لأجل أنه جنى واقترف ذنبًا بقتله، فلم يكن ندمه على الوجه الذي يكون ندم التربة (¬4). 32 - قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا} الآية. الأجل في اللغة: الجناية، يقال: أجَلَ عليهم شرًّا بأجله أجْلًا، إذا جنى عليهم جناية. ذكره ابن السكيت (¬5)، وأبو عبيدة (¬6)، والزجاج (¬7)، ¬

_ (¬1) في (ج): (وقال). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3543، "اللسان" 7/ 4386 (ندم). (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 430، والبغوي في "تفسيره" 3/ 44، "زاد المسير" 2/ 339. (¬4) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 464، "بحر العلوم" 1/ 430، "النكت والعيون" 2/ 31، والبغوي في "تفسيره" 3/ 44، "زاد المسير" 2/ 339. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 125 (أجل). (¬6) في "مجاز القرآن" 1/ 162. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 168.

وجميع أهل اللغة، وأنشدوا: وأهلِ خِباءٍ (¬1) صالح ذات بينهم ... قد احتَربُوا في عَاجلٍ أنا آجِلُه (¬2) أي: أنا جانيه (¬3). وفي هذا المعنى أيضًا يقال: جر عليهم جريرة، ثم يقال: فعلت ذلك من أجلك، أي من جنايتك وجريرتك، كأنه يقول: أنت جررتني إلى ذلك، وأنت جنيت علي هذا (¬4). قال الزجاج: من جنايته ذلك (¬5). وقال ابن الأنباري: من سبب ذلك. قال: ويقال: فعلت ذلك من أجلك ومن جلالك ومن جلك وجرّاك وجرائك (¬6). واختلفوا في قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ}، فقال بعضهم: إنه من صلة النادمين، على معنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك، أي من أجل أنه حين قتل أخاه لم يواره (¬7). ويُروَى عن نافع أنه كان يقف على قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} ويجعله من ¬

_ (¬1) في (ش): جناء. (¬2) البيت لزُهير بن أبي سُلمى. انظر: "أشعار الستة الجاهليين" ص 303، "الدر المصون" 4/ 247، وينسب لخوات بن جبير كما في "معاني الزجاج" 2/ 168، "تهذيب اللغة" 1/ 125، واستشهد به أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 163، والطبري في "تفسيره" 6/ 200. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 164، "معاني الزجاج" 2/ 168، "تهذيب اللغة" 1/ 125 (أجل)، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 200. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 162، 164، والطبري في "تفسيره" 6/ 200. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 168. (¬6) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 125 (أجل). (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 168، "النكت والعيون" 2/ 31، "زاد المسير" 2/ 340، "البحر المحيط" 3/ 468.

تمام الكلام الأول (¬1). وعامة المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} ابتداء كلام، وليس بمتصل بما قبله (¬2). واحتج ابن الأنباري لهذا بأن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} رأس آية، ورأس الآية فصل. قال: ولأنه قد تقدم ما كشف علة الندم فاستغنى النادمون عن: (من أجل ذلك). قال: ولأن من (جعله من صلة للندم أسقط العلة للكتابة، ومن (¬3)) جعله من صلة الكتابة لا يسقط معنى الندم، إذ قد تقدم ما كشف سببه، فكان هذا أولى (¬4). وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية عطاء: بسبب قابيل قضينا على (¬5) بني إسرائيل (¬6). وقال الكلبي: من أجل ابني آدم حين قتل أحدهما صاحبه فرضنا على بني إسرائيل (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 286، والمُكتفى في "الوقف والإبتداء" ص 238، 239. (¬2) وهذا هو الراجح. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 200، "معاني الزجاج" 2/ 168، "إيضاح الوقوف والابتداء" 2/ 617، 618، "القطع والائتناف" ص 286، "زاد المسير" 2/ 340، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 146، "البحر المحيط" 3/ 468، "الدر المصون" 4/ 248. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬4) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 617، 618. (¬5) في (ج): (إلي). (¬6) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113، وورد نحوه عن الضحاك، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 200

{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ}. قال ابن عباس: بغير قود (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} قال الكلبي: أو شرك في الأرض (¬2). وقال غيره: يعني بالفساد في الأرض أن يكون محاربًا لله ورسوله، كالذين ذكرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية (¬3). قال الزجاج: {أَوْ فَسَادٍ} منسوق على نفس، المعنى: أو بغير فساد في الأرض (¬4). وقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. قال مجاهد: من قتل نفسًّا محرمة يَصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا (¬5). ونحو هذا قال الكلبي فقال: يعذب عليها كما أنه لو قتل الناس كلهم (¬6). وقال الحسن وابن زيد: يعني أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج الطبري عنه في تفسير هذه الآية: يقول من قتل نفسًّا واحدة حرمتها. "جامع البيان" 6/ 200. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 340، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 31، والبغوي في "تفسيره" 3/ 46، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 146. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 168. (¬5) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" 6/ 202، وذكره بلفظه البغوي في "تفسيره" 3/ 46، وانظر: "زاد المسير" 2/ 340. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113.

الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعًا (¬1). وحكى الزجاج: عن بعضهم أن المعنى فيه أن المؤمنين كلهم خصماء للقاتل، وقد وَتَرهم وَتر من قصد لقتلهم جميعًا (¬2). وأوصل إليهم من المكروه مثل ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول، فأذاه إياهم كأذى رجل قتلهم كلهم. وهذا اختيار ابن الأنباري، وزاد من عنده وجهًا آخر فقال: المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعًا معلوم عند الله عز وجل محدود، (فالذي يقتل الواحد يلزمه الله ذلك الإثم المعلوم) (¬3)، والذي يقتل الاثنين يلزمه الله مثل ذلك (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. قال الكلبي: من عفا عن رجل قتل رجلاً خطأ وجبت له الجنة، كما لو عفا عن الناس جميعًا، وذلك أنه كتب عليهم في التوراة: أيما رجل قتل رجلاً خطأ فهو له قود إلا أن يشاء الولي أن يعفو (¬5). وقال الحسن: عفا عن دمها وقد وجب القود عليها (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه عن ابن زيد: الطبري في "تفسيره" 6/ 202 - 203، وذكره عنه الماورد في "النكت والعيون" 2/ 32، أما الحسن فذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 47 وانظر: "زاد المسير" 2/ 340، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 54. (¬2) انتهى من "معاني الزجاج" 2/ 168، 169 حسب المطبوع، فبقية الكلام يحتمل له أو للمؤلف. (¬3) ما بين القوسين مكرر في (ش). (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 341. (¬5) انظر: "تفسير الهواري" 1/ 465، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 13. (¬6) "تفسير الهواري" 1/ 466، وأخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 203، وانظر "النكت والعيون" 2/ 32، "زاد المسير" 2/ 243.

وهذا كقول الكلبي، وهو قول ابن زيد أيضًا (¬1). وقال الزجاج: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة، أو استنقذها (¬2) من ضلال {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي أجره على الله عزّ وجلّ أجر من أحياهم أجمعين؛ (لأنه في إسدائه (¬3)) إليهم المعروف بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم (¬4). وروى ابن الأنباري هذا القول عن مجاهد بإسناد له (¬5). وقال سعيد بن جبير: في هذه الآية: من استحل قتل نفس فهو كذلك في دماء الناس لا يتحرم لها، ومن أحياها مخافة من الله وتحرجًا من قتلها فكذلك يرى دماء الناس كلهم حرامًا (¬6). وهذا كما يُروى عن قتادة والضحاك أنهما قالا في هذه الآية: عظم الله أجرها وعظم وزرها، فمن استحل قتل مسلم بغير حقه، فكأنما قتل الناس أجمعين؛ لأنهم لا يَسْلمون منه، ومن أحياها فحرمها وتورعّ عن ¬

_ (¬1) أخرج الأثر عنه الطبري في "تفسيره" 6/ 203، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 32، "زاد المسير" 2/ 342. وقال بهذا أيضًا ابن قتيبة، انظر: "غريب القرآن" ص 140. (¬2) في (ج): (واستنقذها)، وما أثبته موافق لما في "معاني الزجاج" 2/ 169، وهو أولى. (¬3) عند الزجاج: وجائز أن يكون في إسدائه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 169، وذكر نحو هذا القول عن الحسن. انظر: "تفسير الهواري" 1/ 466. (¬5) أخرج الطبري في "تفسيره" عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: من أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة، وفي رواية: من غرق أو حرق أو هدم. "جامع البيان" 6/ 203، وانظر: "زاد المسير" 2/ 342. (¬6) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 862، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 55.

قتلها, فكأنما أحيا الناس جميعاً لسلامتهم منه (¬1). قال أهل المعاني: قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} على المجاز؛ لأن المعنى: ومن نجا بها من الهلاك، والفاعل للحياة هو الله عزّ وجلّ (¬2) لا يقدر عليها غيره (¬3). وسئل الحسن عن هذه الآية فقيل: أهي كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والذي لا إله غيره وما جعل دماء بني إسرائيل (أكرم (¬4)) على الله من دمائنا (¬5). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ}. قال ابن عباس: بان لهم صدق ما جاءوهم به من الفرائض والحلال والحرام (¬6). وقال الكلبي: أي بالبيان في أن {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية (¬7). وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]. أي: مجاوزون حد الحق (¬8). ¬

_ (¬1) أخرج الأثر بمعناه عنهما الطبري في "تفسيره" 6/ 203 - 204، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 32، والبغوي في "تفسيره" 3/ 47. (¬2) في (ش): (تعالى). (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 204. (¬4) ساقط من (ج). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 204، وأورده البغوي في "تفسيره" 3/ 47، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 54. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 342. (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 205.

33

قال الكلبي: بالشرك (¬1). وقال غيره: بالقتل (¬2). وهذا عام في كل ما هو تجاوز عن الحق. 33 - قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. قال الزجاج: المعنى في: {إِنَّمَا} ما جزاؤهم إلا هذا؛ لأن القائل إذا قال: (جزاؤك دينار، فجائز أن يكون معه غيره، وإذا قال (¬3)): إنما جزاؤك دينار، كان المعنى: ما جزاؤك إلا دينار (¬4). قال ابن عباس في رواية عطاء وسعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في قصة العُرَنِيّين (¬5) وهي معروفة (¬6). فإن قيل: فكيف (¬7) لم يعذبوا بما في الآية، وفي حديثهم أنهم سُمِل ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 11/ 213. (¬3) ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج" حسب المطبوع. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 169. (¬5) أخرج ذلك عن سعيد بن جبير 10/ 246، وانظر: "زاد المسير" 2/ 343، ولم أجد شيئًا في ذلك عن ابن عباس. وقد قال بهذا القول أنس وجرير والزبير والسدي وقتادة. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 206 - 208، "النكت والعيون" 2/ 32. (¬6) أخرج مسلم (1671) كتاب القسامة، باب (2): حكم المحاربين والمرتدين 3/ 1296 (ح 9) عن أنس -رضي الله عنه- أن ناسًا من عرينة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فاجتووها. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها" ففعلوا، فصحوا. ثم مالوا إلى الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث في أثرهم. فأتي بهم. فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم. وتركهم في الحرة حتى ماتوا. وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص 196 - 197. (¬7) في (ش): (كيف).

أعينهم وقُطَّعت أيديهم وأرجلهم، وليس في الآية سمل الأعين وقطع جميع الأيدي والأرجل؟ والجواب: ما حكي عن الليث بن سعد (¬1) أنه قال: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليمًا إياه عقوبتهم، فقيل: إن جزاءهم ما ذكر في الآية، لا المُثلة، فلذلك ما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا إلا نهى عن المُثلة (¬2). ويمكن أن يقال: ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو الحد فيهم بالسنة، فلما نزلت الآية صارت تلك السنة منسوخة بالقرآن (¬3). هذا إذا جوزنا نسخ السنة بالقرآن (¬4). وإن قلنا: لا تُنسخ السنة بالقرآن -وهو الأصح من مذهب الشافعي (¬5) ¬

_ (¬1) هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري ثقة ثبت إمام مشهور، كان ورعًا فاضلًا سخيا، مات -رحمه الله- سنة 175هـ. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص 191، "سير أعلام النبلاء" 8/ 136، "التقريب" ص 464 (5684). (¬2) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 208 - 209، وأورده بلفظ المؤلف البغوي في "تفسيره" 3/ 48. وقد ذكر الطبري في "تفسيره" عن الأوزاعي أنه أنكر أن يكون نزول هذه الآية معاتبة، ونقل عنه قوله: بلى، كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، فرفع عنهم السمل، والله أعلم. وسيأتي قريبًا تخريج الحديث في النهي عن المثلة. (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 206 - 207، والبغوي في "تفسيره" 3/ 48. (¬4) هذا رأي جمهور العلماء، وهو الراجح لتظاهر الأدلة عليه. انظر: "الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل" للنحاس 118، "الأحكام في أصول الأحكام" للآمدي 3/ 150، "إرشاد الفحول" للشوكاني ص 326. (¬5) انظر: "الرسالة" ص 110، "الأحكام" للآمدي 3/ 150، 151، "إرشاد الفحول" ص 326.

رضي لله عنه- فتلك إنما نُسِخت بسنة أخرى من عنده، فنسخت الثانية الأولى (¬1). وهذا أيضًا قول سعيد بن المسيب والسدي في نزول الآية (¬2). قال عبد الله بن مسلم (¬3): المحاربون لله ورسوله هم الخارجون على جماعة المسلمين، يخيفون السبل، ويسعون في الأرض الفساد (¬4). فمعنى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يعصونهما ولا يطيعونهما، وكل من عصاك فهو حرب كذلك. وقوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}. قال مجاهد: هو الزنا والسرقة وقتل النفس وإهلاك الحرث والنسل (¬5). وقال الكلبي: يعني بالقتل وأخذ الأموال (¬6). قال العلماء: وكل من أخذ السلاح على المسلمين في أي موضع كان وكيف ما كان، في البلد أو الصحراء، أو للقتل اغتيالًا، فهو محارب لله ورسوله، فدخل المكابر في البلد في هذه الجملة. وهذا قول مالك والأوزاعي ومذهب الشافعي (¬7) -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 48. (¬2) أخرج الأثر عن السدي: الطبري في "تفسيره" 6/ 208. (¬3) ابن قتيبة. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 399. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 211، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 494، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬7) انظر: "الأم" 6/ 152، والطبري في "تفسيره" 6/ 210، "النكت والعيون" 2/ 33، "الوسيط" 3/ 865، 866، والبغوي في "تفسيره" 3/ 48، "زاد المسير" 2/ 346، 347. وقال ابن الجوزي: ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر.

وذكر الشافعي قُطّاع الطريق ثم قال: وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنبًا فحدودهم واحدة (¬1). وقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا} إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} اختلفوا في حكم (أو) ههنا، فقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: إن (أو) دخلت للتخيير، ومعناها الإباحة، أي: إن شاء الإِمام قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء نفى، أي شيء من هذه الأشياء شاء فعل (¬2). وهذا قول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد (¬3). وقال في رواية عطية: (أو) ليست للإباحة، وإنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجناية، فمن قتل وأخذ المال صُلِب، وقُتِل، ومن أخذ المال ولم يقتل قُطِع، ومن سفك الدماء وكف عن الأموال قُتِل، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ الأموال ولم يقتل نفي (¬4)، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والسدي والقرظي والربيع (¬5)، ورواية عطاء عن ابن عباس أيضًا (¬6). قال الشافعي -رضي الله عنه-: ويحدد كل واحد بقدر فعله فمن وجب ¬

_ (¬1) "الأم" 6/ 152، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 210. (¬2) بمعناه في "تفسير ابن عباس" ص 177، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 214. (¬3) أخرج الآثار عنهم: الطبري في "تفسيره" 6/ 214، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 33، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 58. (¬4) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" 6/ 212، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 33، والبغوي في "تفسيره" 3/ 49، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 58. (¬5) أخرجه أقوالهم الطبري في "تفسيره" 6/ 213. (¬6) انظر: "النكت والعيون" 2/ 33 وابن كثير في "تفسيره" 2/ 58. وقد أخرج الطبري في "تفسيره" 6/ 212 عن عطاء كالقول الأول: أن الإمام مخير فيها.

عليه القتل والصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه، ويصلب ثلاثًا ثم ينزل (¬1). قال أبو عبيد: سألت محمد بن الحسن (¬2) عن قوله: {أَوْ يُصَلَّبُوا} فقال: هو أن يصلب حيًا ثم يطعن بالرماح حتى يقتل، وهو رأي أبي حنيفة. فقيل: هذا مُثلة. قال: المُثلةَ يراد به (¬3). قال أبو عبيد: والذي أختار أن يكون الصلب بعد القتل؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة (¬4). قال الشافعي: ومن وجب عليه القتل دون الصلب: قتل ودفع إلى أهله يدفنونه، ومن وجب عليه القطع دون القتل: قطعت يده اليمنى ثم حسمت (¬5)، ثم رجله اليسرى ثم حسمت في مكان واحد، ثم خُلّي، وذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 6/ 152، والبغوي في "تفسيره" 3/ 49، "المحرر والوجيز" 4/ 427، "زاد المسير" 2/ 346، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 151، 152، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 58. (¬2) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني العلامة صاحب أبي حنيفة، أخذ بعض الفقه عن أبي حنيفة وأكمل على أبي يوسف وأخذ الحديث عن مالك، وله مؤلفات كثيرة، وقد أخذ عنه الشافعي، توفي -رحمه الله- سنة 189 هـ. انظر: "المعارف" ص 500، "الفهرست" ص 284، "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص 142، "سير أعلام النبلاء" 9/ 134. (¬3) لم أقف عليه، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 49، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 151. (¬4) لم أقف على قول أبي عبيد، وأما النهي عن المثلة فقد قال عبد الله بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النُّهبى والمثلة. أخرجه البخاري (2474) كتاب المظالم، باب (30): النهبى بغير إذن صاحبه 3/ 107. والنُّهبى: بمعنى النَّهْب وهو الغارة والسلب والاختلاس، انظر: "النهاية في غريب الحديث" 5/ 133 (نهب). (¬5) الحسم قطع الدم بالكي. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 349.

معني قوله: {مِنْ خِلَافٍ} (¬1). واختلفوا: في معنى النفي في قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}، فقال ابن عباس: هو أن يُهْدِر الإِمام دمه فيقول: من لقيه فليقتله (¬2). وقال بعضهم: هو أن يقاتَلُوا حيث توجهوا من الأرض، ويُطلبوا في أي أرض كانوا بها حتى تضيق عليهم الدنيا. حكى هذا القول أبو إسحاق (¬3) وأبو بكر وابن قتيبة، ثم قال ابن قتيبة: هذا إنما يكون فيمن لم يقدر عليه؛ لأنه لا يجوز أن يظفر الإِمام به فيدع عقوبته ثم يقول: من لقيه فليقتله، أو يجده فيتركه ثم يطلبه في كل أرض (¬4). وهو على ما قال. فأما المقبوض عليه ممن حقه النفي فقال ابن عباس في رواية عطاء: ينفوا من الأرض إلى بلاد الكفر (¬5). وهذا قول جماعة المفسرين، وهو أنهم قالوا: ينفى من بلدته إلى بلدةٍ أخرى (¬6). وقال آخرون: المراد بالنفي في هذه الآية: الحبس والسجن (¬7). ¬

_ (¬1) "الأم" 6/ 152، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 213. (¬2) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 216 - 217، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 34، "زاد المسير" 2/ 346. (¬3) أي الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 170. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 141. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 217 - 218، "النكت والعيون" 2/ 34. (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 218، "النكت والعيون " 2/ 34، "زاد المسير" 2/ 246.

قال ابن الأنباري: وأكثر اللغويين يختارون هذا القول في تفسير الآية، واحتجوا بأن المسجون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعًا من التصرف وَمحولًا بينه وبين أهله وأولي أُنسِه، مع ممارسته صنوف المكاره والأذى في السجن (¬1). وقال ابن قتيبة: ولا أرى شيئًا من هذه التفاسير أشبه بالنفي في هذا الموضع من الحبس؛ لأنه إذا حُبس ومُنع من التصرف والتقلب في البلاد فقد نفي منها كلها وأُلجئ إلى مكان واحد، وأنشد هو وأبو بكر قول بعض المسجنين (¬2): خرجنا من الدنيا ونحنُ من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السجَّان يومًا لحاجةٍ ... عَجِبْنا وقلنا جاء هذا من الدنيا (¬3) وقال الوليد بن عبيد (¬4) يذكر قومًا سجنوا: غابوا عن الأَرْضِ أَنْآى غيبةٍ وهُم ... فيها فلا وَصلَ إلا الكتبُ والرسلُ (¬5) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) عند ابن قتيبة: المسجونين. "تأويل مشكل القرآن" 1/ 141. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 1/ 141، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 432، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 153، "البحر المحيط" 3/ 471، وجاء فيها الشطر الثاني من البيت الأول: فلسنا من الأموات فيها ولا الأحياء وقد ذكر الرازي أن هذا الشعر لصالح بن عبد القدوس حين حبس بتهمة الزندقة في سجن ضيق مدة طويلة. انظر: "التفسير الكبير" 11/ 217. (¬4) هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد الملقب بالبحتري، شاعر وقته في الدولة العباسية، وله ديوان، توفي -رحمه الله- سنة 283 هـ وقيل بعدها. انظر: "الفهرست" ص 126، "سير أعلام النبلاء" 3/ 486، "البداية والنهاية" 11/ 81. (¬5) "ديوان البحتري" 3/ 1760.

فصرح بغيبتهم عن الأرض مع كونهم فيها، والمُحدثُون يُحتَجّ بهم في المعاني، ولا يحتج بهم في الألفاظ. قال أبو محمد: وليس نفي الخارب (¬1) من بلده إلى غيره عقوبةً له، بل هو إهمال وتسليط وبعث على التزيد في العبث والفساد (¬2). ومذهب الفقهاء في هذه الآية أيضًا أن المراد بالنفي: الحبس. قال الشافعي: ومن حضر منهم وكثر أو هِيب أو كان رِدءًا (¬3) عُزِّر وحبس (¬4). وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا (¬5). قال (¬6): ومن قتل وجرح أقص لصاحب الجرح ثم قتل، ولو أخذ المال وجرح أقص صاحب الجرح ثم قطع، لا يمنع حق الله حق الآدميين، ومن عفا عن الجراح كان له، ومن عفا عن النفس لم يحقن بذلك دمه، وعلى الإِمام قتله إذا بلغت جنايته القتل، ولا يقطع منهم إلا من أخذ ربع دينار فصاعدا، قياسًا على السنة في السارق (¬7). وقوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} أي: فضيحة وهوان. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا للكفار الذين نزلت في العُرَنِيّين ¬

_ (¬1) الخارب: اللص. "الصحاح" 1/ 119 (خرب). (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 401. (¬3) في "الأم" 6/ 152: ردءا للصوص أي: مساعدًا. (¬4) "الأم" 6/ 52، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 50. (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 218، "بحر العلوم" 1/ 432، "النكت والعيون" 2/ 34، "زاد المسير" 2/ 246. (¬6) أي الشافعي. (¬7) "الأم" 6/ 152 بتصرف، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 49.

34

فإنهم ارتدوا عن الإسلام (¬1). وبعض المفسرين يقول: نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكانوا مشركين (¬2)، وبعضهم يقول نزلت في قوم من أهل الكتاب (¬3). ثم بالسنة أجري حكم هذه الآية على المحاربين من المسلمين، فبقي العذاب العظيم في الآخرة للكافرين، والمسلم إذا عوقب بجنايته في الدنيا كانت عقوبته كفارة له. 34 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}. قال الزجاج: جائز أن يكون موضع (الذين) رفعًا بالإبتداء، وخبره قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، والمعنى: لكن التائبون من قبل أن تقدروا عليهم (فالله (¬4)) غفور رحيم (لهم (¬5)) وجائز ان يكون موضع ¬

_ (¬1) تقدم تخريج قصة العرنيين قريبًا. (¬2) قال السمرقندي: وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وَادَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بُردة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن، ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن، فمر أناس من بني كنانة يريدون الإسلام فمروا بأصحاب أبي بردة، ولم يكن أبو بردة حاضرًا يومئذ، فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزلت هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. "بحر العلوم" 1/ 431. ونسب هذا القول للكلبي: البغوي في "تفسيره" 3/ 47، وانظر: "زاد المسير" 2/ 344. (¬3) قال ابن عباس: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله: إن شاء أن يقتل. وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. أخرجه من طريق علي: الطبري في "تفسيره" 6/ 206، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 32، "زاد المسير" 2/ 343. (¬4) في (ش)، (ج): والله، والتصويب من "معاني الزجاج" 2/ 170. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ج)، وما أثبته هو الموافق لـ"معاني الزجاج".

(الذين) نصبًا فيكون المعنى: جزاؤهم الذي وصفنا إلا التائبين (¬1). قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}: يريد آمنوا من قبل أن تعاقبوهم {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن تاب من الشرك {رَحِيمٌ} [المائدة: 34] به إذا رجع عما يُسخط الله (¬2). وهذا قول عُظْم (¬3) أهل التفسير، أن المراد بهذا الإستثناء المشرك المحارب، إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله في هذه الآية، ولا يطالب بشيء مما أصاب لا مال ولا دم (¬4). قال أبو إسحاق: جعل التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك أدعى إلى الدخول في الإيمان (¬5). هذا حكم المشرك المحارب، وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يُطالب أيضًا بشيء بالإجماع (¬6). فأما المسلم المحارب إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه فقال السدي: هو كالكافر إذا آمن لا يطالب (¬7) بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه، فإنه يرد على أهله (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 170، 171 بتصرف، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 225 "الدر المصون" 4/ 252. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬3) عظم بمعنى: معظم. انظر: "اللسان" 5/ 3005 (عظم). (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 220، "النكت والعيون" 2/ 34، والبغوي في "تفسيره" 3/ 50. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 171. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 220 - 221. (¬7) في (ش): (لا يطلب). (¬8) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 50.

وهذا مذهب مالك والأوزاعي (¬1)، غير أن مالكًا قال: يؤخذ بالدم إذا طالب به وليه، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإِمام بشيء من ذلك (¬2)، وبهذا حكم علي -رضي الله عنه- في حارثة ابن بدر (¬3)، وكان قد خرج محاربًا (¬4)، وحكم بمثله أيضًا أبو موسى الأشعري في إمرة عثمان (¬5). ¬

_ (¬1) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، شيخ الإسلام وعالم أهل الشام أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعا وفضلًا وزهدًا، مات -رحمه الله- سنة 159 هـ. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 83، "مشاهير علماء الأمصار" ص180، "سير أعلام النبلاء" 7/ 107 - 138. (¬2) انظر: "النكت والعيون" 2/ 34، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 155، 158، و"البحر المحيط" 3/ 471. (¬3) هو حارثة بن بَدْر بن حُصَين بن قطن التميمي الغداني، تابعي، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، له أخبار في الفتوح ومع عمر، وقاتل الخوارج فهزموه وأرهقوه، فدخل سفينة بمن معه فغرقت بهم سنة 64 هـ. انظر: "الإصابة" 1/ 371، "الأعلام" 2/ 158. (¬4) وذلك أنه جاء إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- تائبًا، فأمنّه وكتب له بذلك أمانًا. أخرج الأثر: الطبري في "تفسيره" 6/ 221، وانظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 155، "الدر المنثور" 2/ 494 - 495. (¬5) ذلك أن أبا موسى -رضي الله عنه- كان على الكوفة في إمرة عثمان -رضي الله عنه- فجاءه رجل من مراد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، جاءه تائبًا، فقام أبو موسى فقال: هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب قبل أن يُقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 222 ونقله ابن كثير في "تفسيره" 2/ 59، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 494 - 495.

35

وقال الشافعي -رضي الله عنه-: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله، ولا يسقط به حقوق بني آدم ما كان قصاصًا، أو مظلمة في المال (¬1). وأما إذا تاب بعد القدرة عليه، فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه. قال الشافعي: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة (¬2). وإنما قال ذلك لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد رجم ماعز (¬3): "هلا رددتموه إلي لعله يتوب" (¬4). 35 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}. معنى {اتَّقُوا اللَّهَ} أينما ذكر: اتقوا عقابه بالطاعة؛ لأن أصل الإتقاء في اللغة الحجز بين الشيئين -قد ذكرناه قديمًا- (¬5)، يقال: أتقي السيف بالترس، وأتقي الغريم بحقه. وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}. الوسيلة فعيلة من: وسل إليه، إذا تقرب إليه (¬6)، قال لبيد: ¬

_ (¬1) "الأم" 6/ 152، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 220. (¬2) لم أجده في "الأم"، وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 158، والنووي في "شرح صحيح مسلم" 11/ 194، وقال القرطبي في "تفسيره" عقبه: والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصًا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه. (¬3) هو ماعز بن مالك الأسلمي، وقيل: إن اسمه: عريب، وماعز لقبه، له صحبة، وقصة رجمه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي مشهورة. انظر: "أسد الغابة" 5/ 8، "الإصابة" 2/ 479، 3/ 337. (¬4) أخرج هذه الرواية أبو داود (4419) كتاب الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، وانظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي 11/ 194. (¬5) انظر: "البسيط" البقرة: 189. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 226.

36

بَلَى كُلّ ذي رأيٍ (¬1) إلى الله وَاسِلُ (¬2) ومعنى الوسيلة: الوصلة والقربى (¬3). قال ابن عباس: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يريد بطاعتكم له (¬4). وقال قتادة: يقول تقربوا إليه بطاعته (¬5). {وَجَاهِدُوا} العدو، {فِي سَبِيلِهِ} في طاعته، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35] كي تسعدوا وتبقوا في الجنة. قاله ابن عباس وغيره (¬6). 36 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. خبر (إن) الجملة المذكورة مع جوابها (¬7). وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]. ¬

_ (¬1) في "ديوان لبيد" ص 256: لب. (¬2) "شرح ديوان لبيد بن ربيعة" ص 256، وجاء صدره: أرَى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم والواسل: الطالب، أي يتوسل إلى الله بالطاعة والعمل الصالح. وقد جاء بعد هذا البيت بيت لبيد المشهور: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل (¬3) جاء نحو ذلك عن كثير من التابعين. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 226. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 348، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 60. (¬5) أخرج الطبري في "تفسيره" 6/ 226، وانظر: "زاد المسير" 2/ 348، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 60. (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 432، "الوسيط" 3/ 872، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 61، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113. (¬7) تمام الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. فالجملة المذكورة جملة لو، وجوابها: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}.

37

يحتمل أن يكون في موضع الحال، ويحتمل أن يكون عطفًا على الخبر (¬1). 37 - قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ}. يحتمل إرادتهم الخروج وجهين: أحدهما: أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]. والثاني: أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم، كقوله في موضع آخر: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] (¬2)، ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّار} بضم الياء (¬3). 38 - قوله تعالي: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية. اختلف النحويون في وجه رفعها: فقال سيبويه والأخفش وكثير من البصريين: ارتفع (السارقُ والسارقةُ) على معنى: ومما نقُصّ عليك ونوحي إليك السارق والسارقة. قالوا: ومثل هذه الآية قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] وقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]. قال سيبويه: والاختيار في هذا النصب في العربية كما تقول: زيدا أضربه. وأبت العامة القراءة إلا بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر (¬4): {وَالسَّارِقُ ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 4/ 256، وقد ضعف السمين الوجه الأول. (¬2) انظر الاحتمالين عند البغوي في "تفسيره" 3/ 51، وفي "البحر المحيط" 3/ 474. (¬3) بالبناء للمفعول، وهذه القراءة ليست في المتواتر، إنما هي للنخعي وابن وثاب وأبي واقد. انظر: "البحر المحيط" 3/ 475. (¬4) هو أبو عمر عيسى بن عمر الهمداني الكوفي الأعمى القارئ الثقة، قرأ على =

وَالسَّارِقَةُ} بالنصب، ومثله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] أيضًا (¬1). فالاختيار عند سيبويه النصب في هذا. قال أبو إسحاق: والجماعة أولى بالاتباع، والدليل على أن القراءة الجيدة بالرفع قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] لم يقرأه أحد: واللذين (¬2). قال المبرد (¬3): وأختار أن يكون {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} رفعًا بالابتداء؛ لأن قصد ليس إلى أحد بعينه، فليس هو مثل قولك: زيدًا أضربه، إنما هو كقولك: من سرق فاقطع يده، ومن زنا فاجلده (¬4). وهذا قول الفراء؛ لأنه قال: وإنما يختار العرب الرفع في: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لأنهما غير مؤقتين، فوجها توجيه الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده، و (من) لا يكون إلا رفعا, ولو أردت سارقًا بعينه وسارقة بعينها كان النصب وجه الكلام (¬5). قال الزجاج: وهذا القول هو المختار (¬6). ¬

_ = عاصم بن أبي النجود وغيره وقرأ عليه الكسائي وغيره، وكان مقرئ الكوفة بعد حمزة توفي -رحمه الله- سنة 156 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 119، "غاية النهاية" 1/ 612، "التقريب" ص 440 (5314). (¬1) "الكتاب" 1/ 142 - 144، "معاني الزجاج" 2/ 171، 172، بتصرف، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 477، 478. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 172. (¬3) لا يزال المؤلف ينقل من "معاني الزجاج" 2/ 172. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 172. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 306، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 228. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 172.

وقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. دخلت الفاء في خبر السارق للشرط المنوي؛ لأن المعنى: من سرق فاقطعوا يده (¬1)، وعلى هذا أيضًا قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]، ومثله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]. والمراد بالأيدي في هذه الآية: الأيمان، قاله الحسن والسدي والشعبي (¬2). وكذلك هو في قراءة عبد الله: (فاقطعوا أيمانهما) (¬3). وإنما قال: {أَيْدِيَهُمَا} ولم يقل: يديهما؛ لأنه أراد يمينًا من هذا، أو يمينًا من هذه (¬4)، فجمع إذ ليس في الجسد إلا يمين واحدة. قال الفراء: وكل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافًا إلى اثنين فصاعدًا جمع، فقيل: هُشّمت رؤوسهما، ومُلِئتَ ظهورهما وبطونهما ضربًا، ومثله قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. قال: وإنما اختير الجمع على التثنية؛ لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين (¬5) في الإنسان، كاليدين والرجلين والعينين، واثنان من اثنين جمع، لذلك (¬6) تقول قطعت أرجلهما وفقأت عيونهما، فلما جرى الأكثر ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 349، "البحر المحيط" 3/ 482. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 228، "بحر العلوم" 1/ 433. (¬3) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" 6/ 228، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 433، و"النكت والعيون" 2/ 35، والبغوي في "تفسيره" 3/ 51. (¬4) في (ش): (هذا). (¬5) في (ش): (اثنان اثنان)، وما أثبته هو الموافق لـ "معاني القرآن". (¬6) في (ش): (كذلك).

على هذا ذهب بالواحد إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين (¬1). قال: ويجوز التثنية كقول الهُذَلي (¬2): فتخَالَسَا نفسَيهِمَا بنَوافذٍ (¬3) لأنه الأصل، ويجوز هذا أيضاً فيما ليس من خلق الإنسان، كقولك للاثنين: خليتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قمصكما. قال: ويجوز التوحيد أيضاً لو قلت في الكلام: السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما، جاز؛ لأن المعنى: اليمين من كل واحد منهما، كما قال الشاعر: كُلُوا في نِصفِ بَطنِكم تَعِيشُوا (¬4) ويجوز في الكلام أن تقول: ائتني برأس شاتين، وبرأسي شاة، فمن قال: برأس شاتين، أراد الرأس من كل شاة، ومن قال: برأسي شاة، أراد رأسي هذا الجنس (¬5). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" 1/ 307 التثنية. (¬2) هو أبو ذؤيب، تقدمت ترجمته. (¬3) عجز البيت كما عند الفراء: كنوافذ العبط التي لا ترقع وهو في "ديوان الهذليين" 1/ 20. والبيت في وصف فارسين يتنازلان، وتخالسا نفسيهما أراد كل واحد منهما اختلاس نفس الآخر وانتهاز الفرصة للقضاء عليه، والنوافذ الطعنات النافذة، والعبط جمع عبيط وهو ما يشق. (¬4) عجزه كما عند الفراء: فان زمانكم زمن خميص وهو في "الكتاب" 1/ 210 ولا يعرف قائله. والخميص من المخمصة وهي الجوع. والشاهد منه أنه استعمل المفرد للجمع: بطنكم والمراد: بطونكم. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 306 - 308 بتصرف، وانظر: "الكتاب" 1/ 210، "زاد المسير" 2/ 349.

وقال الزجاج: إنما جمع ما كان في الشيء منه واحد عند الإضافة إلى اثنين؛ لأن الإضافة تبين أن المراد بذلك الجمع التثنية لا الجمع، وذلك أنك إذا قلت: أشبعت بطونهما، علم أن للاثنين بطنين فقط، وأصل التثنية الجمع؛ لأنك إذا ثنّيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد، (وربما كان لفظ الجمع أخف من لفظ الاثنين، فيختار لفظ الجمع ولا يشتبه ذلك بالتثنية عند الإضافة إلى اثنين (¬1))؛ لأنك إذا قلت: قلوبهما، فالتثنية في (هما) قد أغنتك عن التثنية في (قلب). قال: وإن ثُنَّي ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند جميع النحويين، وأنشد: ظَهْراهُما مِثل ظُهُور التُّرسَينْ (¬2) فجاء باللغتين (¬3). وهذا كما حكينا عن الفراء في قول الهذلي: فتخالسا نفسيهما (¬4). (قال (¬5)) وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد الذي ليس من شيء إذا أردت به التثنية، كقول العرب: وضعا رحالهما، يريد رَحلَي راحلتيهما (¬6). وهذا كما حكى الفراء: فرقتما قمصكما. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج". (¬2) رجز لخطام المجاشعي أو لهميان بن قحافة وهو في "الكتاب" 2/ 48، "معاني الفراء" 3/ 17، يصف فيه فلاتين، وقبله: وَمهَمهين قَذِفين مَرْتَين ... جِبتُهما بالنَّعت لا بِالنَّعتَين ظهرهما ................ (¬3) وشبه الفلاتين بالترسين في الاستواء. والشاهد منه أنه ثَنَّى وجَمَع المضاف للمثنى. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 173، وانظر: "الكتاب" 2/ 48، 49. (¬5) ساقط من (ش). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 173، وانظر: "الكتاب" 2/ 48، 49.

قال أبو علي: (..) (¬1) اليد اليمنى وتركهم لقطع اليد اليسرى في دلالة على أن اليد اليسرى لم ترد بقوله تعالى (¬2): {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ألا ترى أنها لو أريدت بذلك لم يكونوا ليدعوا نص القرآن إلى غيره. وهذا يدل على أن جمع اليد في هذه الآية على حد جمع القلب في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. ودلت قراءة عبد الله على أن المراد بالأيدي الأيمان (¬3). فإن قيل: إن قراءة عبد الله لا تُعلم اليوم قراءة، لانقطاع النقل، فلا يلزم به حجة. قيل: قراءته تكون حجة في إيجاب العمل، كما أنه لو روى خبرًا أن المراد بالأيدي التخصيص والقصر على الأيمان وجب المصير إليه، فكذلك إذا رُوي عنه على أنه قرآن وجب قبوله والعمل به، وكان أولى من الخبر الذي يرويه. قال أهل العلم: هذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق، وتفصيل ذلك مأخوذ من السنة (¬4). أما السارق الذي يجب عليه القطع فهو البالغ العاقل (¬5) العالم بتحريم السرقة، فأما من كان حديث العهد بالإسلام لا يعلم أن السرقة حرام فلا قطع عليه. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين بياض في النسختين. (¬2) ساقط من (ج). (¬3) تقدم تخريج هذه القراءة قريبًا, ولم أقف على قول أبي علي. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 350. (¬5) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 167.

والمسروق يجب أن تكون قيمته ربع دينار (¬1)، والاعتبار بالمضروب. فإذا أخرجه من حرز مثله، بعد أن لا يكون له شبهة فيه وجب القطع، والشبهة مثل شبهة المملوك في مال السيد، والولد مع الوالد، والوالد مع الولد، وكذلك شبهة المضطر عند المخمصة، وخوف التلف. ولذلك رفع عمر -رضي الله عنه- القطع عام الرمادة (¬2). هذا جملة مذهب الشافعي -رضي الله عنه- (¬3). وعند أبي حنيفة -رضي الله عنه- لا يجب القطع فيما دون عشرة دراهم (¬4). وعند مالك -رضي الله عنه- يقطع في ثلاثة دراهم فصاعد (¬5). ودليل الشافعي ما روى الزهري عن عمرة (¬6)، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) هذا ما عليه أكثر العلماء، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 229، والبغوي في "تفسيره" 3/ 52، "زاد المسير" 2/ 350، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 160، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63. (¬2) قال ابن منظور: سمي بذلك لأن الناس والأموال هلكوا فيه كثيراً، وقيل: هو لجدب تتابع فصير الأرض والشجر مثل لون الرماد، والأول أجود. "اللسان" 3/ 1727 (رمد). (¬3) انظر: "الأم" 6/ 147 - 149، والبغوي في "تفسيره" 3/ 52، و"التفسير الكبير" 11/ 226، 227، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 229، و"بحر العلوم" 1/ 434، والبغوي في "تفسيره" 3/ 52، و"زاد المسير" 2/ 351، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63 - 64. (¬5) انظر: "المدونة" 4/ 413، والطبري في "تفسيره" 6/ 229، "زاد المسير" 2/ 351، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 160، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63. (¬6) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، أكثرت من الرواية عن عائشة -رضي الله عنها-، وهي فقيهة ثقة أخرج حديثها الجماعة، ماتت =

كان يقطع في ربع دينار فصاعد (¬1). وهذا مذهب الأوزاعي وإسحاق (¬2). وذهب ابن عباس وابن الزبير إلى ظاهر الآية، فأوجبا القطع في القليل. قال ابن عباس: في دانِق (¬3)، وقال ابن الزبير: في دِرهَم (¬4). والقطع يكون من المفصل بين الكف والساعد (¬5)، وهو الكوع والرُّسغ ويقطع في المرة الأولى يده اليمنى، وفي المرة الثانية رجله اليسرى، وفي المرة الثالثة يده اليسرى، وفي المرة الرابعة رجله اليمنى، ثم يحبس في المرة الخامسة (¬6)، والقتل منسوخ (¬7). ¬

_ = -رحمها الله- قبل سنة 100هـ، وقيل بعدها. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 507، "التقريب" ص 750 (8643). (¬1) أخرجه البخاري (6789) كتاب الحدود، باب: قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 8/ 16، 17، ومسلم (1684) كتاب الحدود، باب: حد السرقة ونصابها 3/ 1312 (ح 1). (¬2) ذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 161 عن إسحاق. (¬3) لم أقف عليه. وقد أخرج الطبري في "تفسيره" عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أخاص أم عام؟ فقال: بل عام. "جامع البيان" 6/ 229. وهذا يحتمل أنه أراد القلة أو هو موافق لما تقدم من أقوال العلماء، انظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 63. (¬4) قال السمرقندي: ورُوي عن ابن الزبير أنه قطع في نَعلٍ ثمنه درهم "بحر العلوم" 1/ 433. هذا ما وجدته عن ابن الزبير. (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 354. (¬6) هذا قول مالك والشافعي. انظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 53، "زاد المسير" 2/ 354. (¬7) هذا إذا كان القتل ثابتًا، مع أنه لم يثبت، انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 172.

وعند أبي حنيفة لا يقطع في الثالثة (¬1)، وعند الشافعي يغرم قيمة السرقة مع القطع، وعند أبي حنيفة لا غرم مع القطع، ولكن إذا وجد المسروق عنده أخذ وردّ إلى صاحبه (¬2). وقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}. قال الزجاج: نصب؛ لأنه مفعول له (¬3). المعنى: فاقطعوهم لجزاء (¬4) فعلهم، وكذلك {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}، وإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه: {فَاقْطَعُوا} لأن المعنى: {فَاقْطَعُوا} جازوهم ونكلوا بهم (¬5). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: (عزيز) في انتقامه، (حكيم) فيما أوجبه من قطع يده (¬6). قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة وبجنبي أعرابي فقرأت هذه الآية، فقلت: (نكالًا من الله والله غفور رحيم) سهوًا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد. فأعدت: والله غفور رحيم. فقال: ليس هذا كلام الله. فتنبهت وقرأت: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما ¬

_ (¬1) وهو قول أحمد أيضًا. انظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 54، "زاد المسير" 2/ 354. (¬2) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 165. (¬3) في "معاني الزجاج" 2/ 174: به. (¬4) عند الزجاج: بجزاء. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 174، وانظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 174. (¬6) أي: يد السارق.

39

قطع (¬1). 39 - قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (قال ابن عباس) (¬2) يريد إن تاب بنية صادقة، وحرم ما حرم الله، وترك ظلم الناس، فإن الله يتجاوز عنه (¬3). والصحيح من مذهب العلماء وأهل التأويل، أن القطع لا يسقط عنه بالتوبة (¬4). قال مجاهد: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} تاب الله عليه، والحد كفارة له (¬5). وقال الكلبي: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} العمل بعد السرقة والقطع، فإن الله يتجاوز عنه (¬6). وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بسارق سرق شملةً فقال: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه (¬7)، ثم ائتوني به" ففُعِل، فقال: "ويحك تب إلى الله"، فقال: تبت إلى الله. فقال: "اللهم تب عليه" (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 3/ 876، وانظر: "زاد المسير" 2/ 354. (¬2) ساقط من (ج). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 114. (¬4) انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 174، 175. (¬5) "تفسيره" 1/ 195، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 230، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 497 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬6) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 114. (¬7) الحسم في اللغة: القطع، والمراد به هنا: قطع الدم بالكي. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 349. (¬8) ذكره بنحوه أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 349، وأورده ابن كثير في "تفسيره" =

40

وقال عامر (¬1) وعطاء: إذا رد السرقة قبل القدرة عليه سقط عنه القطع، فيتوب الله عليه (¬2). 40 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}. قال ابن عباس: يريد على الذنب اليسير {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} الذنب العظيم (¬3). وبيان هذا ما قال الضحاك: (يعذب من شاء) على الصغير إذا أقام عليه، (ويغفر لمن يشاء) الكبير إذا نزع عنه (¬4). وقال الكلبي: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} من مات على كفره، {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} من تاب من كفره (¬5). وقال السدي: يهدي من يشاء فيغفر له، ويعذب من يشاء، فيميته على كفره (¬6). ¬

_ = وعزاه إلى الدارقطني من حديث أبي هريرة، وقال عقبة: وقد رُوي من وجه آخر مرسلًا، ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله. ابن كثير في "تفسيره" 2/ 64، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 497. (¬1) الشعبي. (¬2) لم أقف عليه. قال البغوي: فأما القطع فلا يسقط بالتوبة عند الأكثرين. "معالم التنزيل" 3/ 54. (¬3) ذكره بمعناه البغوي في "تفسيره" 3/ 55. (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 878 ولم أقف عليه، وقد ذكر أبو حيان له قولًا، كقول الكلبي بعده، انظر: "البحر المحيط" 3/ 485. (¬5) ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 55، ونسبه للسدي أيضًا. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 878، ولم أقف عليه.

41

والآية بإطلاقها فاضحة للقدرية في التعديل والتجويز، وقولهم بوجوب الرحمة على الله للمطيع، ووجوب العذاب للعاصي، حيث فوض الأمر فيهما إلى المشيئة. 41 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (قال أبو إسحاق: أي لا يحزنك مسارعتهم في الكفر) (¬1)، إذ كنت موعود النصر عليهم (¬2). وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}. قال ابن عباس: هم المنافقون (¬3). وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}. قال ابن عباس: يريد بني قينقاع (¬4). وقال مقاتل: يعني: يهود المدينة (¬5). وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: لو شئت جعلت تمام الكلام عند قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} ثم ابتدأت فقلت: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}، أي: هم سماعون للكذب أي: المنافقون واليهود سماعون للكذب. وإن شئت كان رفع {سَمَّاعُونَ} على معنى: ومن الذين هادوا ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 174. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 879، وابن الجوزي 2/ 357، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 498، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) لم أقف عليه، وفي "الوسيط": يعني يهود المدينة، كقول مقاتل الآتي. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 474.

سماعون، فيكون المعنى: أن السماعين منهم، ويرتفع (منهم) كمال تقول: من قومك عقلاء. والوجهان ذكرهما الفراء (¬1)، والزجاج (¬2)، واختار أبو علي الوجه الثاني، وقال: هو على تقدير: ومن الذين هادوا فريق سماعون للكذب (¬3)، وذكر أبو إسحاق في معنى قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} وجهين: أحدهما: وهو قول أهل التفسير (¬4) أن معناه: قابلون للكذب، والسمع يستعمل والمراد منه: القبول، كما يقال: لا تسمع من فلان، أي: لا تقبل منه، ومنه: (سمع الله لمن حمده)، وذلك الكذب الذي يقبلونه، وهو ما يقول لهم رؤساؤهم مما كذبوا فيه. والوجه الثاني: وهو اختيار أبي علي (¬5): أن معناه: أنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك، أي: إنما يجالسونك ويسمعون منك ليكذبوا عليك، ويقولوا إذا خرجوا من عندك: سمعنا منه كذا وكذا, ولم يسمعوا ذلك منك (¬6). وهذا قول الحسن (¬7) واختيار أبي حاتم، وكان يقول اللام في الكذب لام كي، أي: يسمعون لكي يكذبوا عليك (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 1/ 308، 309. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 175. (¬3) "الحجة" 2/ 36. (¬4) جملة اعتراضية من الواحدي. وانظر في ذلك: الطبري في "تفسيره" 6/ 235. (¬5) انظر: "الحجة" 2/ 36. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 174 بتصرف، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 306، 307، "تهذيب اللغة" 2/ 1756 (سمع)، والبغوي في "تفسيره" 3/ 55، "زاد المسير" 2/ 357. (¬7) انظر: "النكت والعيون" 2/ 38. (¬8) لم أقف عليه.

وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} قال ابن عباس وجابر وسعيد بن المسيب والسدي وابن زيد: إن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر (¬1) زنيا، وكان حدهما الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا إلى بني قريظة ليسألوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ وقالوا: إن أمرَكم بالجلد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه، فأقبل نفر من قريظة والنضير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه, فنزل جبريل بالرجم, فأخبرهم به، فأبوا أن يأخذوا به، فذلك قوله: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} (¬2). والمراد بالقوم الآخرين: أهل خيبر. وقوله تعالى: {لَمْ يَأْتُوكَ} من صفة قوله: {لِقَوْمٍ آخَرِينَ}. قال الزجاج: هم عيون لأولئك الغُيَّب (¬3). وقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}. أي: من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي: فرض فروضه، وأحل حلاله وحرم حرامه. قال المفسرون: وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفتى بالرجم لم يقبلوا ذلك وأنكروه وأبوا أن يأخذوا به، فقال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل بينك ¬

_ (¬1) خيبر: موضع بالحجاز يقع شمال المدينة على مسافة ثمانية برد، فيها سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة 7 هـ، وقيل سنة 8 هـ. انظر: "الصحاح" 2/ 642 (خبر)، "معجم البلدان" 2/ 409. (¬2) أخرجه بمعناه عن السدي: الطبري في "تفسيره" 6/ 235، وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 880، والبغوي في "تفسيره" 3/ 55، واختاره ابن كثير في "تفسيره" سببًا لنزول الآية. انظر: "تفسيره" 2/ 66. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 175.

وبينهم ابن صُوريا (¬1) -وكان أعلمهم بالتوراة- فأُحضِر وأقسم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أسألك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل في التوراة أن يرجم المحصنان إذا زنيا؟ " قال: نعم (¬2). وكانت اليهود قد ترخصت في حد الزنا، وجعلت بدل الرجم الجلد والتحميم (¬3)، فذلك تحريفهم الكلم عن مواضعه. هذا قول أهل التفسير. وقال أهل المعاني: يعني: تحريف كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سماعهم منه، يحرفونه للكذب عليه (¬4). قال أبو علي: قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} من صفة قوله (¬5): {سَمَّاعُونَ} (¬6) أي فريق سماعون يحرفون الكلم. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن صوريا، ويقال: ابن صور، الإسرائيلي، وإن من أحبار اليهود، ويقال إنه أسلم، لكنه ارتد بعد ذلك. انظر: "الإصابة" 2/ 326. (¬2) أخرجه بنحوه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، أبو داود (4452) كتاب الحدود، باب: في رجم اليهوديين، وابن ماجه (2374) كتاب الأحكام، باب (33): شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض مختصرا والحميدي في "مسنده" 2/ 541، 542. قال في "الزوائد": في إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وقد أورده الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 39، والبغوي في "تفسيره" 3/ 55، 56، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 66، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 500. (¬3) هو: أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين، ويطاف بهما. البغوي في "تفسيره" 3/ 56، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 436 فالتحميم: تسويد الوجه. (¬4) نسب هذا القول للحسن: الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 39، وانظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 36. (¬5) في "الحجة" 2/ 36: لقوله. (¬6) "الحجة" 2/ 36.

فيكون موضعه رفعًا على قول أهل التفسير، ويجوز على قول أهل المعاني: أن يكون {يُحَرِّفُونَ} حالًا من الضمير في اسم الفاعل؛ كأنه: سماعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، يعني: أنهم يسمعون كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقدرون مع (¬1) أنفسهم تحريف ما يسمعون، فيكون كقولهم: معه صقر صائدًا به غدًا، وكقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}. من باب حذف المضاف؛ لأن التقدير: من بعد وضعه مواضعه، أي: وضع الله، على قول أهل التفسير (¬3). وعلى قول أهل المعاني (¬4): من بعد وضع النبي كلامه مواضعه. وقوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}. يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} يعني: الجلد فاحذروه (¬5). قال الزجاج: أي إن أُفتِيتم بهذا الحكم المحرف فخذوه، وإن أفتاكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير ما حددنا لكم فاحذروا أنه تعملوا به (¬6). قال المفسرون: وذلك أنهم كانوا بعثوا الزانيين إلى يهود المدينة ليسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حدهما، وقالوا: إن أفتاكم بالجلد فخذوه (¬7) واجلدوا ¬

_ (¬1) لعل الصواب: في. (¬2) "الحجة" 2/ 36. (¬3) تقدم هذا القول قريبًا. (¬4) تقدم قريبًا. (¬5) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 236 - 237، "بحر العلوم" 1/ 437. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 175. (¬7) في (ش): (فخذوا).

الزانيين، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا بذلك، ثم لما افتضحوا بقول ابن صوريا، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالزانيين فرجما عند باب مسجده، وقال: "أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" (¬1). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ}. قال ابن عباس ومجاهد: ضلالته (¬2). وقال الحسن وقتادة: عذابه (¬3). وقال الضحاك: هلاكه (¬4). وقال الزجاج: قيل فضيحته، وقيل كفره، قال: ويجوز أن يكون اختباره بما يظهر به أمره (¬5). وقوله تعالى: {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. ذكرنا معناه عند قوله تعالى: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ} الآية [المائدة: 17]. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}. قال ابن عباس: أن يخلص نياتهم (¬6). وقال الزجاج: أي أن ¬

_ (¬1) بمعناه في "تفسير ابن عباس" ص 178، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 232، وأورده بنحو لفظ المؤلف البغوي في "تفسيره" 3/ 56، 57، وانظر: "زاد المسير" 2/ 358. (¬2) أورده عن ابن عباس السيوطي في "الدر المنثور" وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في "الأسماء والصفات". وانظر: "زاد المسير" 2/ 359. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 39، والبغوي في "تفسيره" 3/ 58، "زاد المسير" 2/ 359. (¬4) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 58. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 176، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 40، "زاد المسير" 2/ 359. (¬6) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 882، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 113.

42

يهديهم (¬1). قال أهل العلم: قد دلت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن. وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية (¬2). وقوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}. قالوا: خزي المنافقين هتك سترهم بإطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفرهم وخوفهم القتل، وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان الرجم وأخذ الجزية منهم (¬3). {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]. وهو الخلود في النار (¬4). 42 - قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} مضى الكلام فيه (¬5). وقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. قال الليث: السحت: كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار (¬6). وأجمعوا على أن المراد بالسحت ههنا: الرشوة في الحكم، وقالوا: نزلت الآية في حكام اليهود، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج" 2/ 176: أي أن يهينهم. (¬2) انظر البغوي في "تفسيره" 3/ 58. (¬3) انظر: "معاني النحاس" 2/ 308، والبغوي في "تفسيره" 3/ 58، و"زاد المسير" 2/ 359. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 238، والبغوي في "تفسيره" 3/ 58. (¬5) تقدم قريبًا. (¬6) "العين" 3/ 132، "تهذيب اللغة" 2/ 1637 (سحت). (¬7) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 141، والطبري في "تفسيره" 6/ 239، و"معاني الزجاج" 2/ 177، و"بحر العلوم" 1/ 438، و"معاني النحاس" 2/ 309، و"النكت والعيون" 2/ 40، البغوي في "تفسيره" 3/ 58.

وقال الحسن في هذه الآية: تلك الحكام يسمعون الكذب ممن يكذب في دعواه عندهم، ويأتيهم برشوة فيأخذونها ويأكلونه، فسمعوا كذبه وأكلوا رشوته (¬1). فأما اشتقاق السُّحت: فقال الزجاج: إن الرِّشَا التي يأخذونها يعاقبهم الله بها أن يسحتهم بعذاب، أي يستأصلهم (¬2). وذكر عن الفراء أنه قال: (أصله (¬3)) كَلَبُ الجوع، يقال: رجل مسحوتُ المعدة، إذا كان أكولا، لا يُلقى إلا جائعًا أبدًا، قال رؤبة (¬4) في قصة يونس (عليه السلام (¬5)) والحوت: يدفع عنه جوفُه المَسْحوتُ (¬6) أي: الجائع (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 239، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 58، "زاد المسير" 2/ 360. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 177، "معاني النحاس" 2/ 309. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ج)، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 241. (¬4) هو رؤبة بن العجاج عبد الله بن رؤبة التميمي، من الشعراء الرجاز. كان رأسًا في اللغة، قيل إنه توفي سنة 145 هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 394، "طبقات الشعراء" 33، "سير أعلام النبلاء" 6/ 162. (¬5) ساقطة من (ج). (¬6) عجز بيت من الرجز وصدره: والليل فوق الماء مستميت "ديوان رؤبة" ص 27، "تهذيب اللغة" 2/ 1638. ويدفع رُوي بالبناء للمفعول، والمعنى: نحى الله جل وعز جوانب جوف الحوت عن يونس، وجافاه عنه فلا يصيبه منه أذى. ورُوي بالبناء للفاعل يدفع والمعنى: أن جوف الحوت صار وقاية له من الغرق، وإنما دفع الله جل وعز عنه. (¬7) لم أقف على قول الفراء، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 241.

فالسحت حرام يحمل عليه الشره كشره المسحوت المعدة، وعلى ما قال الليث، إنه حرام يلزم منه العار، يمكن أن يقال: سمي سُحْتا؛ لأنه يسحت مروءة الإنسان. وقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}. هذا تخيير للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه، إن شاء حكم، وإن شاء ترك (¬1). واختلفوا في ثبوت هذا التخيير: فقال إبراهيم والشعبي وعطاء وقتادة: إنه ثابت اليوم لحكام المسلمين، إن شاءوا حكموا بينهم بحكم الإسلام، وإن شاءوا أعرضوا (¬2). وقال آخرون: إنه منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي وعكرمة والسدي (¬3)، ورُوي ذلك عن ابن عباس (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 242، "معاني الزجاج" 2/ 177، "بحر العلوم" 1/ 438. (¬2) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" 6/ 243 - 244، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 293، "معاني النحاس" 2/ 310، "النكت والعيون" 2/ 41، البغوي في "تفسيره" 3/ 59، وبهذا القول قال الإِمام أحمد -رحمه الله- انظر: "زاد المسير" 2/ 361، ورجحه الطبري في "تفسيره" 6/ 246. (¬3) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 134، والطبري في "تفسيره" 6/ 245 - 246، و"معاني النحاس" 2/ 310، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 294، 195، و"النكت والعيون" 2/ 45، والبغوي في "تفسيره" 3/ 59. (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 134، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 294 بإسناد صحيح، وانظر المصادر السابقة.

43

ومذهب الشافعي أنه يجب على الحاكم منا أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه؛ لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارًا لهم (¬1). فأما المُعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة، فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم، بل يخير في ذلك، وهذا التخيير الذي في هذه الآية إنما يثبت للحاكم بين المعاهدين (¬2). قال الشافعي: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وادع اليهود كافة (¬3)، فالتخيير بهذا السبب. فأما إذا قبلوا الجزية ورضوا بجريان أحكامها عليهم، فليس للحاكم أن يُعرض عنهم إذا تحاكموا إليه (¬4). قال أبو عبيد: وهذا هو الأولى عندنا؛ لأن في ردهم إلى أحكامهم معونةً على جورهم وأخذهم الرشا في الحكم (¬5). 43 - قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} الآية. هذا تعجب من الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم الزاني وحده، ثم إعراضهم وتركهم القبول لحكمه وإنكارهم ذلك، فعدلوا عما يعتقدونه حكمًا إلى ما يجحدون أنه من عند الله طلبًا للرخصة، فظهر جهلهم وعنادهم في هذه القصة من وجوه: أحدها: ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 4/ 210، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 296. (¬2) انظر: "الأم" 4/ 210، والشافعي -رحمه الله- اعتبر هؤلاء: الموادعين، أما المعاهدون فلا خيار في حقهم وسيأتي قريبًا. (¬3) "الأم" 6/ 210. (¬4) انظر: "الأم" 4/ 210، وهؤلاء هم المعاهدون. (¬5) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 242.

عدولهم عن حكم كتابهم، والثاني: رجوعهم إلى حكم من يجحدون أن يكون حكمه من (عند) (¬1) الله، والثالث: إعراضهم عن حكمه بعدما حكّموه (¬2). فبين الله تعالى حالهم في جهلهم وعنادهم؛ لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله، ومن الحافظين على أمر الله. وهذا قول ابن الأنباري وجماعة من أهل المعاني (¬3). وقوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ}. قال ابن عباس: يريد الرجم (¬4)، وكذلك قال مقاتل (¬5)، والكلبي (¬6). وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}. مذهب المفسرين أن (ذلك) إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة (¬7)، ويجوز أن يعود إلى التحكيم (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ج). (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 247 - 248، البغوي في "تفسيره" 3/ 60، "زاد المسير" 2/ 362، "التفسير الكبير" 11/ 236. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 11/ 236. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 115. وقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: يعني حدود الله، "تفسيره" ص 179، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 248. (¬5) ابن حبان. وقد أورد قوله السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 505، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 115. (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 248، "بحر العلوم" 1/ 439، "النكت والعيون" 2/ 41. (¬8) انظر: "النكت والعيون" 2/ 41، "زاد المسير" 2/ 362.

44

وقوله تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. (قال الكلبي: وما أولئك الذين يعرضون عن الرجم بالمؤمنين (¬1) " (¬2). قال أهل المعاني: ويحتمل أن يكون المعنى: وما هم بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم نبوتك (¬3). وفي هذا تجهيل لهم في تحكيم من لم يؤمنوا بحكمه كما بينا. 44 - قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}. قال ابن عباس: فيها بيان لكل شيء وضياء لكل ما تشابه عليهم (¬4). وقال الزجاج: {فِيهَا هُدًى} بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَنُورٌ} بيان أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق (¬5). وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}. قال ابن عباس: يريد النبيين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفًا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة، أن يحدوا حدودها، ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها (¬6). انتهى كلامه. ومعنى قوله: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أي: الذين انقادوا لحكم ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 887 دون نسبة، ولم أقف عليه. (¬2) ساقط من (ش). (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 41، البغوي في "تفسيره" 3/ 60، "زاد المسير" 2/ 362. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 178. (¬6) انظر: "تفسير المقباس" بهامش المصحف ص 115.

التوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة (¬1). وهذا معنى قول مقاتل؛ لأنه قال: يحكم بما في التوراة الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى -عليهما السلام- (¬2). وقال الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي: محمد - صلى الله عليه وسلم - داخل في جملة هؤلاء الأنبياء الذين ذكرهم الله؛ لأنه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة (¬3). وقال أهل المعاني: فعلى هذا يمكن أن يقال: المراد بقوله: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} محمد - صلى الله عليه وسلم -، فذكره بلفظ الجمع (¬4)، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} الآية [النساء: 54] يعني بالناس محمدًا وحده، وجاز ذلك لأنه اجتمع فيه من الفضل والخصال الحميدة ما يكون في جماعة من الأنبياء، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] على هذا المعنى (¬5). وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى في دعواهم؛ لأن بعضهم كانوا يقولون: إن الأنبياء كانوا يهودًا، وبعضهم يقولون: إنهم كانوا نصارى. فقال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} الذين ليسوا على ما ¬

_ (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 249، "بحر العلوم" 1/ 439، "زاد المسير" 2/ 363. (¬2) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 506، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (¬3) هذا معنى قولهم، وأخرج الآثار عنهم الطبري في "تفسيره" 6/ 249. وانظر: "النكت والعيون" 2/ 41، "زاد المسير" 2/ 363. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 178، "النكت والعيون" 2/ 41، البغوي في "تفسيره" 3/ 60، "زاد المسير" 2/ 364. (¬5) انظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 60، "زاد المسير" 2/ 364.

تصفونهم به من اليهودية والنصرانية (¬1). وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا}. قال ابن عباس: يريد تابوا، يعني من الكفر (¬2). واللام في قوله: {لِلَّذِينَ} من صلة قولهم: {يَحْكُمُ} أي يحكمون بالتوراة لهم وفيما بينهم (¬3). قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير، على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون (¬4). ومضى تفسير الربانيين (¬5). فأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء (¬6). واختلف أهل اللغة في واحده واشتقاقه، فقال أبو عبيد: بعضهم ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 12/ 3. (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 888، وانظر: "زاد المسير" 2/ 364. (¬3) انظر: "الدر المصون" 4/ 270. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 178، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 312، والبغوي في "تفسيره" 3/ 60. (¬5) ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، حيث إن هذه الكلمة: الربانيون أول ما وردت في القرآن في هذا الموضع. انظر: "البسيط" نسخة دار الكتب 2/ ل70. قال الطبري في "تفسيره" 6/ 249: والربانيون جمع رباني، وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبيرهم أمورهم والقيام بمصالحهم. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 178. (¬6) لم أقف عليه، وقال بهذا مجاهد وعكرمة. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 250 , 251.

يقول: حَبْر، وبعضهم يقول: حِبْر (¬1). قال: وقال الفراء: إنما هو حِبْر، يقال ذلك للعالم، وإنما قيل: كعب الحِبر، لمكان هذا الحِبر الذي يُكتب به، وذلك أنه كان صاحب كتب (¬2). وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحَبْر أو الحِبْر، للرجل العالم (¬3). وكان أبو الهيثم يقول: حَبر، بالفتح لا غير (¬4). وقال ابن السكيت عن ابن الأعرابي: حَبْر وحِبْر للعالم (¬5). وقال الليث: هو حَبْر وحِبْر، للعالم ذميًا كان أو مسلمًا بعد أن يكون من أهل الكتاب (¬6). وقال الزجاج: الأحبار هم العلماء الخيّار (¬7). وأما اشتقاقه فقال قوم: أصله من التحبير وهو التحسين، فالعالم (¬8) يُحَسِّن الحَسَن ويُقَبِّح القبيح (¬9). وحاله مع ذلك حسنة، بخلاف حال الجاهل. ¬

_ (¬1) "غريب الحديث" 1/ 60، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 721 (حبر). (¬2) "غريب الحديث" 1/ 60، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 250، "تهذيب اللغة" 1/ 721 (حبر). (¬3) "غريب الحديث" 1/ 60، "تهذيب اللغة" 1/ 721 (حبر). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 721 (حبر). (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 721 (جبر). (¬6) "العين" 3/ 218، "تهذيب اللغة" 1/ 721 (جبر). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 179. (¬8) في (ش): (والعالم). (¬9) "النكت والعيون" 2/ 42، وانظر: "العين" 3/ 218، "تهذيب اللغة" 1/ 721، "اللسان" 2/ 749 (جبر).

وقال آخرون. هو من الحِبر الذي يكتب به. وهو قول الكسائي وأبي عبيد (¬1). وقوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}. قال ابن عباس: يريد بما استودعوا من كتاب الله (¬2). في (ما) يجوز أن يكون من صلة الأحبار (¬3)، على معنى العلماء بما استحفظوا، ويجوز أن يكون المعنى: يحكمون بما استحفظوا. وهو قول الزجاج (¬4). وقوله تعالى: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}. قال عطاء عن ابن عباس: وكانوا شهداء على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له (¬5). ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنهم كانوا شهداء على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في التوراة (¬6). وقوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 60، وتقدم قوله، وانظر: "اللسان" 2/ 748 (حبر). (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 888، وانظر: "زاد المسير" 2/ 365. (¬3) الطبري في "تفسيره" 6/ 250، وانظر: "زاد المسير" 2/ 365. (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 178. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 888 دون، ولم أقف عليه. (¬6) رواه أبو صالح عن ابن عباس. انظر: "زاد المسير" 2/ 365. وأخرج الطبري في "تفسيره" 6/ 251 عن ابن عباس من طريق عطية أنه قال: يعني الربانيين، والأحبار هم الشهداء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بما قال أنه حق من عند الله، فهو نبي الله محمد , أتته اليهود فقضى بينهم بالحق.

قال الكلبي ومقاتل: فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد والرجم، واخشوني في كتمان ذلك (¬1). والخطاب لعلماء اليهود (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي}. قال ابن عباس: يريد بأحكامي وفرائضي، {ثَمَنًا قَلِيلًا} يريد متاع الدنيا قليل؛ لأنه ينقطع ويذهب (¬3). وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. اختلفوا (في (¬4)) هذا وفي الآيتين اللتين بعد هذه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. فقال جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاثة نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال: إنه كافر. وهذا قول الضحاك وقتادة وأبي صالح (¬5)، ورواية أبي الجوزاء عن ابن عباس (¬6). ¬

_ (¬1) عن مقاتل في "تفسيره" 1/ 479، وأورده في "الدر المنثور" 2/ 506 وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ. أما عن الكلبي ففي "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 115. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 251، "زاد المسير" 2/ 365، وقد ذكر ابن الجوزي قولًا آخر وهو أن الخطاب للمسلمين، قيل: لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 888 دون نسبة، ولم أقف عليه. (¬4) سقط هذا الحرف من (ج). (¬5) أخرج الآثار عنهم الطبري في "تفسيره" 6/ 252 - 253، وانظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 61، "زاد المسير" 2/ 366. (¬6) لم أقف على هذه الرواية، وقد جاء عن ابن عباس أن المراد كفر دون كفر. انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 256، وثبت عنه قوله: من جحد ما أنزل الله فقد كفر "تفسيره" ص 179، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 257.

ورواه البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم بن يحيى (¬1)، أخبرنا أبو الهيثم أحمد بن محمد بن غَوث (¬2)، حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان (¬3)، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (¬4)، حدثنا أبو معاوية (¬5)، عن الأعمش (¬6)، عن عبد الله بن مرة (¬7)، عن البراء بن عازب ¬

_ (¬1) جاء اسمه هكذا: محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى -فيحيى جد أبيه- المُزَكَّي النيسابوري المحدث الصادق المعمر، من شيوخ الواحدي، توفي -رحمه الله- سنة 427 هـ. انظر: "المنتخب من السياق" ص 32، "سير أعلام النبلاء" 17/ 551، "شذرات الذهب" 3/ 233. (¬2) لم أقف على ترجمته. (¬3) الحضرمي الملقب بـ: مُطَيّن، محدث الكوفة، شيخ حافظ ثقة جبل، يقول في سبب تلقيبه بمطين: كنت صبيًا ألعب مع الصبيان وكنت أطولهم فنسبح ونخوض فيطينون ظهري فلقبه أبو نعيم بذلك. صنف "كتاب التفسير"، "المسند"، "التاريخ"، توفي -رحمه الله- سنة 297 هـ وقيل 298 هـ. انظر: "الفهرست" ص 316، "سير أعلام النبلاء" 14/ 41، 42، "ميزان الاعتدال" 3/ 607. (¬4) عبد الله بن محمد بن القاضي العبسي الكوفي، الإِمام العلم المشهور، من أقران الإِمام أحمد وابن المديني وغيرهما، وصاحب الكتب الكبار: "المسند"، "المصنف"، "التفسير"، توفي -رحمه الله- سنة 235 هـ انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 57، "سير أعلام النبلاء" 11/ 122، "ميزان الاعتدال" 2/ 490. (¬5) هو محمد بن خازم مولى بني سعد بن مناة بن تميم، تقدمت ترجمته. (¬6) هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي الكوفي، ثقة حافظ ورع لكنه يدلس وقد أخرج حديثه الجماعة، وكان عارفًا بالقراءات. توفي -رحمه الله- سنة 147 هـ. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 432، "طبقات القراء" لابن الجزري 1/ 315، "التقريب" ص 254 (2615). (¬7) عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي الكوفي، من ثقات التابعين، وحديثه عند الجماعة، توفي سنة 100هـ، وقيل قبلها. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 59، "تهذيب =

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رجم يهوديًا ويهودية، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال: "نزلت كلها في الكفار" رواه مسلم في "الصحيح" (¬1) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية. وقال آخرون: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردًّا للقرآن، وتكذيبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كفر (¬2). قال مجاهد في الآيات الثلاث: من ترك الحكم بما أنزل الله ردًا لكتاب الله، فهو كافر ظالم فاسق (¬3). وقال عكرمة: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق (¬4). وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي (¬5)، واختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال: من زعم أن حكمًا من أحكام الله التي أتت بها الأنبياء باطل فهو ¬

_ = التهذيب" 2/ 430، "التقريب" ص 322 (3607). (¬1) "صحيح مسلم" (1700)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود، وأخرجه المؤلف في "الوسيط" 3/ 889. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 257. (¬3) لم أقف عليه، وقد ذكر نحوه غير منسوب. النحاس في "معاني القرآن" 2/ 315. (¬4) لم أقف عليه عن عكرمة، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" عنه قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، و {الظَّالِمُونَ}، و {الْفَاسِقُونَ} لأهل الكتاب كلهم، لما تركوا من كتاب الله. "جامع البيان" 6/ 253. (¬5) "تفسيره" ص 179، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 257.

كافر (¬1). قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين (¬2). وروى معنى هذا عن ابن عباس، قال طاوس: قلت لابن عباس: أكافر من لم يحكم بما أنزل؟ فقال: به كَفَرة (¬3)، وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله (¬4). ونحو هذا رُوي عن عطاء في هذه الآية، قال: هو كُفر دون كفر (¬5). وقال عبد العزيز بن يحيى الكِنَاني: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم بما أنزل الله من الشرائع، فليس هو من أهل هذه الآية (¬6). وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: هذه الآيات عامة في اليهود وفي هذه الأمة، وكل من ارتشى، وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله، فقد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 178. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في المصادر التي ستأتي عند تخريجه: كفر. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 256، والحاكم بمعناه في "المستدرك" 2/ 313، وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 891، وانظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 61، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 70. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 256، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 61. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 891، وانظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 61، "البحر المحيط" 3/ 493.

45

كفر (¬1)، وإليه ذهب السدي أيضًا (¬2). وهؤلاء ذهبوا إلى ظاهر الخطاب. 45 - قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. قال ابن عباس: يريد وفرضنا عليهم في التوراة (¬3). {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يريد من قتل نفسًا بغير، قود قتل به (¬4). قال الضحاك: لم يجعل لهم دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو (¬5) القصاص (¬6). وقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}. اختلفوا في رفع العين ونصبها، فقرأ الأكثرون بالنصب، وكذلك ما العين (¬7)، جعلوا الواو للإشراك في نصب (أنّ)، ولم يقطعوا الكلام مما قبله (¬8). ¬

_ (¬1) هذا معنى الآثار عنهم وقد أخرجها الطبري في "تفسيره" 6/ 256 - 257، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 43، "زاد المسير" 2/ 366. (¬2) أخرج قوله الطبري في "تفسيره" 6/ 257. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 115. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 258. (¬5) في (ش): (و). (¬6) لم أقف عليه عن الضحاك، وورد نحوه عن ابن عباس. أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 259، وأورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 893. (¬7) قرأ بالنصب العشرة إلا الكسائي فإنه قرأ بالرفع، ووافقه في (الجروحُ) خاصة ابن كثير في "تفسيره" وأبو عمرو وأبو جعفر وابن عامر. انظر: "الحجة" 3/ 223، "النشر" 2/ 254. (¬8) "الحجة" 3/ 223.

ومن رفع العين فإنه عطف جملة على جملة، ولم يجعل الواو للإشراك في العامل كما كان كذلك في قول من نصب، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى؛ لأن معنى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} قلنا لهم: (النَّفْسُ بِالنَّفْسِ)، فحمل (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) على هذا (¬1). والحمل على المعنى كثير في التنزيل والشعر، من ذلك قوله: بادَتْ وغَيَّرَ آيَهنّ مع البلَى ... إلا رواكدَ جَمْرُهن هبَاءُ ومُشَجَّعٌ أما سواءُ قَذالِه ... فَبَدا وغَيَّر سارَهُ المِعْزَاءُ (¬2) لما كان المعنى في قوله: إلا رواكد بها رواكد، حمل مشجّجًا عليه، فكأنه قال: هناك رواكد ومشجّج (¬3). قال الزجاج: ويجوز أن يكون: (العينُ) عطفًا على المضمر في قوله: (بالنفس (¬4))، لأن المضمر في: (بالنفس (¬5)) في موضع رفع، المعنى: أن النفس مأخوذة هي بالنفس، والعين معطوفة على: هي (¬6). ¬

_ (¬1) من "الحجة" 3/ 223، 224. (¬2) البيتان بدون عزو في "الكتاب" 1/ 173، 174، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص 84، "الحجة" 3/ 225. ومعنى بادت تغيرت وبليت، وآيهن: آثارهن، والرواكد: الأثافي، والهباء: الغبار، أي صار الجمر كالغبار لقدمه وانسحاقه، والمشجج، وتد الخباء، وتشجيجه ضرب رأسه لتثبيته، وسواء قذاله: أعلى الوتد، وساره: سائره، والمعزاء: الصلبة. (¬3) "الحجة" 3/ 225، وانظر: "الكتاب" 1/ 174. (¬4) في (ج): (أن النفس)، وفي "معاني الزجاج" 2/ 179: النفس. (¬5) في "معاني الزجاج" النفس. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 179، وانظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 193.

وأما من قرأ الجميع بالنصب ورفع (الجروحُ) (¬1) فالكلام في رفع (الجروحُ) كما ذكرنا في رفع العين. قال العلماء في هذه الآية: كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في العين والأنف والأذن والسن وجميع الأطراف، إذا تماثلا في السلامة من الشلل، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضًا في الأطراف (¬2). وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وهو كل ما يمكن أن يقتص فيه مثل: الشفتين والذكر والأنثين والألسن والقدمين واليدين وغيرها (¬3). فأما ما لا يمكن القصاص من رضة لحم، أو هيضة عظم أو جراحة في البطن يُخاف منها التلف ففيه أرش (¬4) حكومة (¬5). والقصاص ههنا مصدر يراد به المفعول، أي والجروح مُتقاصّة بعضها ببعض. وقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ}. ¬

_ (¬1) هذه قراءة ابن كثير في "تفسيره" وأبي عمرو وأبي جعفر وابن عامر. انظر: "الحجة" 3/ 223، "معاني القراءات" 1/ 329، "النشر" 2/ 254. (¬2) انظر: "الأم" 6/ 5, 50، والطبري في "تفسيره" 6/ 258، والبغوي في "تفسيره" 3/ 63. (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 258 - 259، والبغوي في "تفسيره" 3/ 63، "زاد المسير" 2/ 368. (¬4) الأرش: هو اسم للمال الواجب على ما دون النفس. "التعريفات" للجرجاني ص 17، وانظر: "اللسان" 1/ 60 (أرش). (¬5) انظر: "الأم" 6/ 80 - 83، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 204.

أي: أعطى وبذل وترك، من الصدقة، وكل ما يعطيه الإنسان من ماله أو بدنه أو عرضه فرضًا كان أو نقلًا، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضَمْضَم (¬1)؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس" (¬2). والكلام في أصل الصدقة قد مضى عند قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271]. وقوله تعالى: {بِهِ} أي: بالقصاص الذي وجب له. {فَهُوَ} أي: التصدق، {كَفَّارَةٌ لَهُ} أي: للمتصدق الذي هو المجروح، أو ولي الدم. وهذا قول أكثر أهل التأويل (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد فمن عفا فهو مغفرة له عند الله وثواب عظيم (¬4). وهذا قول ابن عمر والحسن والشعبي وقتادة (¬5). ¬

_ (¬1) هذا الرجل غير مسمى ولا منسوب، عدّ من الصحابة ويحتمل أنه ممن تقدم. انظر: "الاستيعاب" 4/ 257، "أسد الغابة" 6/ 177، "الإصابة" 4/ 112. (¬2) أخرجه بنحوه أبو داود (4887) كتاب الأدب، باب (43): ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه 5/ 199، من طرق، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 257، وابن الأثير في "أسد الغابة" 6/ 177، وابن حجر في "الإصابة" 4/ 112. (¬3) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 260 - 262، "معاني الزجاج" 2/ 179، "معاني النحاس" 2/ 317، "بحر العلوم" 1/ 440. (¬4) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 895 ولم أقف عليه، وقد ثبت عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة أنه قال: فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. "تفسير ابن عباس" ص 180، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 2/ 72 من هذه الطريق أيضًا. (¬5) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" 6/ 260 - 262، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 317، "النكت والعيون" 2/ 43 - 44

وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تصدق من جسده بشيء كفر الله -عز وجل- عنه بقدره من ذنوبه" (¬1). وقال آخرون: الكناية في قوله: {لَهُ} تعود على المتصدق عليه، أي كفارة للمتصدق عليه؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه (¬2). قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير في قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال: فهو كفارة للجارح، وأجر المتصدق على الله (¬3). وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم (¬4). وعلى هذا فالجاني إذا عفا عنه المجني عليه كان العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أن القصاص كفارة له. والقول الأول أظهر؛ لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور وهو (من)، وفي القول الثاني يعود إلى مدلول عليه وهو المتصدق عليه، دل عليه قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ} (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" 5/ 316، والمؤلف في "الوسيط" 3/ 895 من طريق شيخه الثعلبي، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 63، وصححه الألباني، انظر: "صحيح الجامع" (6151)، وأخرج الترمذي نحوه من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- (1393) كتاب الديات، باب: ما جاء في العفو، وابن ماجة (2693) كتاب الديات، باب: العفو في القصاص. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 261، "النكت والعيون" 1/ 470. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 262، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 317، "النكت والعيون" 2/ 44، والبغوي في "تفسيره" 3/ 64. (¬4) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" 6/ 261 - 262، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 44، والبغوي في "تفسيره" 3/ 64. (¬5) وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" 6/ 262.

46

46 - قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ}. مضى الكلام في: قفينا (¬1). قال الزجاج: أي جعلناه يقفوهم (¬2). والكناية في: (آثارهم) عائدة إلى (النبيين الذين أسلمو). وقوله تعالى: {ومُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ التَّوْرَاةِ}. ليس بتكرير للأول في المعنى؛ لأنه يدل أن في الإنجيل ذكر التصديق في التوراة، كما أن عيسى -عليه السلام- جاء يدعو الناس إلى التصديق بها (¬3). وقوله تعالي: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً}. قال الفراء: متبع للمصدق في نصبه (¬4). يريد أن: (مصدقًا) حال من الإنجيل (¬5)، والعامل فيه: (آتيناه) وعطف بالواو على قوله: (فيه هدى) لأن معناه: آتيناه الإنجيل هاديًا، وإن شئت قلت: تقديره: وآتيناه الإنجيل مستقرًّا فيه هدى ونور ومصدقًا، فقوله: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً} معناه: وهاديًا وواعظًا، فلذلك نصبًا (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87]. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 168، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 47. (¬3) يوضح ذلك سياق الآية وهي قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. فـ: {مُصَدِّقًا} الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، وانظر: "الوسيط" 3/ 896، "زاد المسير" 2/ 369. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 312. (¬5) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 228، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 209. (¬6) انظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 209، "الدر المصون" 4/ 284.

47

والآية تدل على أن شرع عيسى كان شرع موسى (¬1). 47 - قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ}. قال أهل المعاني: قوله: {وَلْيَحْكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير: وقلنا: ليحكم أهل الإنجيل (¬2)، فيكون هذا إخبارًا عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل. ثم حذف القول؛ لأن ما قبله من قوله: {وَكَتَبْنَا} [المائدة:45]، {وَقَفَّيْنَا} [المائدة: 46] يدل عليه. وحذف القول كثير كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ} [الرعد:23 - 24] (¬3). والثاني: أن يكون قوله: {وَلْيَحْكُمْ} ابتداء أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم (¬4). فإن قيل على هذا: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟ قيل: إن أحكام الإنجيل كانت موافقة لأحكام القرآن (¬5). وقيل: إن المراد من هذا الحكم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان في الإنجيل ذكر وجوب التصديق به، فهذا الأمر راجع إلى ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) وذلك فيما لم ينسخه شرع عيسى، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 264. (¬2) انظر: "الكشاف" 1/ 342. (¬3) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 240، قال أبو علي في آية الرعد: أي يقولون. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 265، "الحجة" 3/ 228، البغوي في "تفسيره" 3/ 65، "زاد المسير" 2/ 369. (¬5) ليس هذا على إطلاقه، بل الكثير من الإنجيل، أو الأكثر -خاصة في الفروع- منسوخ بالقرآن. انظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 209. (¬6) انظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 209.

48

والقول الأول أظهر. وقرأ حمزة: {وَلْيَحْكُمْ} بكسر اللام وفتح الميم (¬1)، جعل اللام متعلقة بقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} [المائدة: 46] لأن إيتاءه الإنجيل إنزال ذلك عليه، فصار ذلك بمنزلة قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] (¬2)، وكأن المعنى: آتيناه الإنجيل ليحكم (¬3). 48 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}. قال مقاتل: يعني القرآن، لم ينزله عبثًا (¬4). وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ}. قال ابن عباس: يريد كل كتاب أنزله الله على الأنبياء (¬5). قال مقاتل: يعني: شاهدًا أن الكتب التي أنزلت قبله أنها من الله (¬6). وقوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. اختلفت الروايات عن ابن عباس في تفسير المهيمن، فقال في رواية الوالبي: شاهدًا عليهم (¬7). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 227، "التيسير في القراءات السبع" ص 99. (¬2) في "الحجة" 3/ 288: فكأن. (¬3) "الحجة" 3/ 227، 228. (¬4) "تفسير مقاتل بن سليمان" 1/ 481. (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 370. (¬6) "تفسيره" 1/ 481. (¬7) "تفسيره" ص 181 بلفظ: شهيداً، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 266، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 65، "الدر المنثور" 2/ 513.

وهو قول السدي (¬1) والكسائي (¬2)، ورواية عطاء عنه أيضًا: شاهدًا على جميع الكتب (¬3). وقال فيما روى عنه أبو عبيدة بإسناد له: مؤتمنًا (¬4) وهو قول سعيد بن جبير (¬5). وقال في رواية عطية (عنه) (¬6): أمينًا (¬7) وهو قول قتادة (¬8) ومجاهد (¬9). وقال الحسن (¬10): مصدقًا لهذه الكتب أمينًا عليها (¬11). هذا كلام المفسرين (¬12). فأما أهل اللغة فقال المبرد: إن الهاء بدل من الهمزة، وأن أصله: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 266، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 45، والبغوي في "تفسيره" 3/ 65. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3800 (همن)، والبغوي في "تفسيره" 3/ 65. (¬3) انظر: "الدر المنثور" 2/ 513. (¬4) أخرج هذا القول لابن عباس: الطبري في "تفسيره" من طرق كثيرة في "جامع البيان" 6/ 266 - 267، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 168، "الدر المنثور" 2/ 512. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 267. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 267، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 513. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 267. (¬9) قول مجاهد أن المعنى: مؤتمن، "تفسيره" 1/ 198، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 26. (¬10) في الطبري في "تفسيره" 6/ 267: الحسين، ولعله تصحيف. (¬11) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 267، وأبو علي في "الحجة" 1/ 229، وانظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 65، و"زاد المسير" 2/ 371، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 74 - 75. (¬12) وهي متقاربة من حيث المعنى.

مؤيمن، فجعلت الهاء بدلًا من الهمزة، كما قالوا: هَرَقْت وأَرَقْت، وإياك وهياك (¬1). قال أبو إسحاق: وهذا على مذهب العربية حسن وموافق لبعض ما جاء في التفسير؛ لأن معناه مؤتمن (¬2). وقال ابن الأنباري (¬3) -وحكى قول أبي العباس- ثم قال: ومهيمن وزنه مفيعل، وقد جاء في كلام العرب حروف على مثاله، منها: المسيطر، وهو المسلّط، والمبيطر، وهو البيطار (¬4)، والمبيقر (¬5) من قوله: بأنَّ امرأ القَيسِ بنَ تَملكَ بَيْقَرا (¬6) والمديبر من الإدبار والتخلف، والمجيمر اسم جبل في قوله: كأن ذُرَى رأسِ المُجَيمر غُدْوَةً (¬7) ... ................... (¬8) ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 180، "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 86، "معاني النحاس" 2/ 318، "تهذيب اللغة" 4/ 3800 (همن). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 180، وقد قال الأزهري مثل قول الزجاج في "تهذيب اللغة" 4/ 3800 (همن). (¬3) في "الزاهر" 1/ 86، 87. (¬4) المبيطر والبيطار: معالج الدواب. انظر: "اللسان" 1/ 301 (بطر). (¬5) في "الزاهر" 1/ 87: والمبيقر من قولهم: قد بيقر الرجل يبيقر بيقرة، إذا فسد. (¬6) عجز بيت لأمرئ القيس، وصدره: ألا هل أتاها والحوادث جمة "ديوانه" ص 62، "الزاهر" 1/ 87. (¬7) صدر بيت لأمرئ القيس من معلقته، وعجزه: من السيل والأغثاء فلكة مغزل "ديوانه" ص 122، "الزاهر" 1/ 87، "شرح القصائد المشهورات" 1/ 48، 49. والأغثاء: ما يحيله السيل من الأشياء، وفكلة مغزل: أي أن الماء استدار حوله فصار كفلكة المغزل. (¬8) "الزاهر" 1/ 86، 87، وانظر: "الحجة" لأبي علي 1/ 230، والبغوي في "تفسيره" 3/ 65.

وقال الأزهري: الذي قاله المبرد في المهيمن أنه في الأصل: مؤيمن له مخرج من العربية حسن (¬1). وذلك أن آمن يؤمن كان في الأصل: آمن مؤيمن، وكذلك يفعل في الأصل: يوفعل، فاستثقلوا هذه الهمزة وحذفوها، كما حذفوا الهمزة الأصلية من: أرى ويرى، فأما المهيمن فإنهم ردوا الهمزة إلى الكلمة، ثم قلبت هاء؛ لأن الهاء أخف من الهمزة؛ لأن للهمزة ضغطة في الحلق ليست للهاء. فالمهيمن على هذا التأويل بمعنى: المؤمن، وهو المصدق، وهو الأمين، كما قال المفسرون. وقال ابن جريج: (ومهيمنًا) أمينًا على الكتب قبله، فما أخبر أهل الكتاب بأمر، فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا (¬2). هذا طرق أهل اللغة في معنى المهيمن وأصله، فالمهيمن عندهم بمنزلة الأمين. قال الأزهري: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين، يعرف به قبل الإسلام، فقال العباس فيه يمدحه: حتى احتوى بيتُك المُهَيمنُ مِن ... خِندِفَ عَلياءَ تحتَها النُّطُقُ (¬3) وبيته شرفه ومجده، أراد: حتى احتويت أنت أيها المهيمن من خِندِفَ علياء، أي: الشرف (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3800 (همن)، وما بعد ذلك فهو من تعليق المؤلف على ما يظهر، حيث إنه لا وجود له في "التهذيب"، والله أعلم. (¬2) لم أقف عليه، وقد تقدم قريبًا عن ابن عباس وغيره نحوه. (¬3) البيت في "تهذيب اللغة" 4/ 3800، "اللسان" 8/ 4705 (همن)، والنطق أوساط الجبال العالية. (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3800 بتصرف، وانظر: "اللسان" 8/ 4705 (همن).

فجعل العباس المهيمن في بيته صفة للنبي، أراد به الأمين. وقال جماعة من أهل اللغة: المهيمن: الرقيب الحافظ، يقال: قد هيمن الرجل يهيمن هيمنة، إذا كان رقيبًا على الشيء. وهو قول الخليل وأبي عبيد (¬1). وقال أبو عبيدة: المهيمن: الشاهد المصدق (¬2)، واحتج بقول حسان (¬3): إن الكتاب مهيمنٌ لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب (¬4) وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. يعني: بين اليهود بالقرآن، والرجم على الزانيين. {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. قال ابن عباس: يريد ما حرفوا وبدلوا، يعني: من أمر الرجم (¬5). وقوله تعالى: {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}. يقول: لا تتبعهم عما عندك من الحق فتتركه وتتبعهم، كما تقول: لا تتبع زيدًا عن رأيك، يعني لا تترك رأيك وتتبعه. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 179، "معاني النحاس" 2/ 318، "تهذيب اللغة" 4/ 3800 (همن)، "زاد المسير" 2/ 371، "اللسان" 13/ 437 (همن). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 168. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) في "ديوانه" ص 35، لكن صدره: أخوات أمك قد علمت مكانها (¬5) انظر: "زاد المسير" 2/ 371، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 116. وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: بحدود الله، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}. "تفسيره" ص 181، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 269.

ويجوز أن تكون (عن) في قوله: (عما) من صلة معنى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وذلك أن معناه: لا تَزغ، فكأنه قيل: لا تزغ عما جاءك (من الحق) (¬1) باتباع أهوائهم. وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬2). الشَّرعة والشريعة واحدة، وأصلها من الشرع وهو البيان والإظهار، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13] (¬3). قال ابن الأعرابي: شرع أي أظهر. قال: وشرع فلان، إذا أظهر الحق وقمع الباطل (¬4). قال الأزهري: معنى (شرع) بين وأوضح، مأخوذ من شَرَع الإهاب (¬5). قال ابن السكيت: الشرع مصدر شَرَعت الإهاب إذا شققت ما بين الرِّجلين وسلختَه (¬6). وقال غيره: الشارع والشرعة والشريعة: الطريقة الظاهرة. وتسمى معالم الدين شريعة لوضوحها (¬7). وقال قوم: أصل الشريعة من الشروع، وهو الدخول في الأمر (¬8)، والشرعة والشريعة في كلام العرب المَشْرَعَة التي يشرعها الناس فيشربون ¬

_ (¬1) في (ج): (بالحق). (¬2) في (ج): بعد (ومنهاجا): ومنها, ولعلها زائدة أو تكرار لبعض كلمة: (منهاجا). (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 168، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 143، الطبري في "تفسيره" 6/ 269، "معاني النحاس" 2/ 319. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1858. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1858. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1858، وانظر: "الصحاح" 3/ 1236 (شرع). (¬7) انظر: "معاني النحاس" 2/ 319، "النكت والعيون" 2/ 1857. (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 269، "تهذيب اللغة" 3/ 1860، "الصحاح" 3/ 1236 (شرع).

ويسقون بها (¬1). قال الليث: شرعت الواردةُ الشريعةُ، إذا تناولت الماء بفيها، والشريعة: المَشْرَعة. قال: وبها سُمّي ما شرع الله للعباد: شريعةً، من الصلاة والصوم والنكاح والحج وغيره (¬2). فعلى هذا معنى الشِّرعة والشَّريعة: الطريقة لشروع الناس فيها. والمنهاج: الطريق الواضح، ومنهج الطريق: وَضَحه، ونهج الأمر وأنهج، لغتان، (إذا وضح) (¬3). قاله الليث (¬4). وقال ابن بُزُرج (¬5): استَنْهَج الطريقُ: صار نهجًا، ويقال: نهجت لك الطريق وأنهجته، لغتان، فهو منهوج ومُنهَج، وهو نَهجٌ ومُنهج (¬6). وأما الكلام في الجمع بين الشرعة والمنهاج فقال الأكثرون: إنها بمعنى واحد، وجمع بينهما للتأكيد في اللفظ. وهذا قول مجاهد (¬7) والزجاج. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1858 (شرع). (¬2) من "تهذيب اللغة" 2/ 1858، وانظر: "العين" 1/ 252، 253. (¬3) في (ش): (إذا أوضح)، وما أثبته هو الموافق لـ"العين" 3/ 392. (¬4) "العين" 3/ 392، "تهذيب اللغة" 4/ 3672 (نهج)، وانظر: الطبري في "تفسيره" 10/ 384. (¬5) هو عبد الرحمن بن بزرج -بضم الباء- عالم لغوي له مؤلفات وتعليقات أفاد منها الأزهري في "تهذيب اللغة"، وقد عده الأزهري من متأخري الطبقة الثانية من علماء اللغة الذين اعتمد عليهم في كتابه، ولم تذكر سنة وفاته. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3672 المقدمة، "إنباه الرواة" 2/ 161، "الإكمال" لابن ماكولا 1/ 155، 156. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3672، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 269. (¬7) قال مجاهد في تفسيرهما: الشرعة: السنة. والمنهاج السبيل. "تفسيره" 1/ 198، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 271 من طرق، وانظر: "النكت =

قال الزجاج: الشرعة والمنهاج جميعًا: الطريق، والطريق ههنا: الدين، ولكن اللفظ إذا اختلف أتى به بألفاظ تؤكد بها القصة والأمر. قال: وقال بعضهم: الشرعة: الدين والمنهاج: الطريق (¬1). وقال ابن الأنباري: الشرعة: ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق الواضح كله المستمر، فصح النسق للمخالفة بينهما (¬2). وهذا قول محمد بن يزيد. حكاه الزجاج عنه (¬3). وأما التفسير: فقال ابن عباس في قوله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: سبيلًا وسنة (¬4)، ورُوي: سنة وسبيلًا (¬5). وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك في تفسير الشرعة والمنهاج (¬6). وأما معنى الآية فقال قتادة في قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} الخطاب للأمم الثلاث، أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد (عليهم ¬

_ = والعيون" 2/ 45. وقد ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 503 عن مجاهد أنه قال: الشرعة والمنهاج دين محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قول الزجاج في "تهذيب اللغة" 2/ 1857، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 441، ولم أجد في "معاني القرآن" له شيئاً من ذلك. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 372، "البحر المحيط" 3/ 503، "الدر المصون" 4/ 293. (¬3) في "تهذيب اللغة" 2/ 1857 (شرع)، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 919، "زاد المسير" 2/ 372، "البحر المحيط" 3/ 503، "الدر المصون" 4/ 293. (¬4) "تفسيره" ص 181، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 270 - 271 من طرق، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 45. (¬5) أخرج هذه الرواية الطبري في "تفسيره" 6/ 270 - 271 من طرق. (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 271 - 272، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 45.

السلام) (¬1) ولا يعني به قوم كل نبي؛ لأن الشريعة (¬2) لم تختلف من لدن موسى إلى عيسى، وإنما اختلفت على لسان عيسى، ثم لم تختلف إلى زمن محمد، ثم اختلفت على لسانه، ألا ترى أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} الآية [المائدة: 44]، ثم قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46]، ثم قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ}، ثم قال: {لكلٍ (¬3) جَعَلْنا مِنكُم شِرْعَةً ومنهَاجًا} يعني: شرائع مختلفة، للتوراة (¬4) شريعة، وللإنجيل (¬5) شريعة، وللقرآن (¬6) شريعة، والدين واحد لا يقبل الله إلا الإخلاص (¬7). وقال مجاهد: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} السبيل الجادة (¬8)، من دخل في دين محمد فقد جعل له شرعة ومنهاجًا، والقرآن له شرعة ومنهاج (¬9). وعلى هذا القول المراد (بالشرعة) (¬10) والمنهاج: القرآن، ودين محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي جعل منهاجًا للكل وندب إليه الجميع، وليس المراد ¬

_ (¬1) ساقط من (ج). (¬2) في (ش): (الشرائع). (¬3) في (ج): (ولكل). (¬4) في (ش): (التوراة). (¬5) في (ش): (الإنجيل). (¬6) في (ش): (القرآن). (¬7) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 899 مختصرًا، وأخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 6/ 270، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 66، "الدر المنثور" 2/ 513. (¬8) الجادة أي الطريق. انظر: "اللسان" 1/ 561 - 562 (جدد). (¬9) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" 6/ 270، وانظر: "زاد المسير" 2/ 373. (¬10) في (خ): (بالشرع).

الإخبار عن اختلاف الشرائع، واختصاص كل أمة بشريعة، كما ذكره قتادة. والقول الأول أظهر وعليه المفسرون، فقد قال مقاتل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} يعني: من المسلمين وأهل الكتاب (¬1). وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. قال الحسن: لو شاء لجمعكم على الحق (¬2). وقال الكلبي: ولو شاء (الله) (¬3) لجعلكم أمة واحدة على أمر واحد ملة الإسلام (¬4). {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ}. ليختبركم فيما أعطاكم من الكتاب والسنن. ومضى الكلام في ابتلاء الله عز وجل عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249]. وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}. قال مقاتل: (يقول) (¬5): سارعوا في الأعمال الصالحة (¬6). وقال الكلبي: يقول: سابقوا الأمم الماضية إلى السنن والفرائض والصالحات من الأعمال (¬7). والاستباق في اللغة بين اثنين، يجتهد كل واحد منهما أن يسبق ¬

_ (¬1) "تفسيره" 1/ 481، 482. (¬2) "النكت والعيون" 2/ 45، وانظر: "تفسير الهواري" 1/ 478. (¬3) ساقط من (ج). (¬4) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 900 غير منسوب، ولم أقف عليه. (¬5) ساقط من (ج). (¬6) "تفسيره" 1/ 482، "زاد المسير" 2/ 374. (¬7) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 116.

49

صاحبه كقوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف: 25] يعني يوسف وصاحبته تبادر إلى الباب؛ فإن سبقها يوسف فتح الباب وخرج، وإن سبقت هي أغلقت الباب لئلا يخرج يوسف (¬1). وقوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}. قال مقاتل: أنتم وأهل الكتاب {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من الدين والفرائض والسنن (¬2). وقاله الكلبي (¬3). وقال أهل المعاني: يعني أن الأمر سيؤول إلى ما تزول معه الشكوك بما يحصل من اليقين عند مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء باساءته (¬4). 49 - قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. قد ذكرنا أن هذا ناسخ للتخيير في قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. وموضع (أن) من الإعراب نصب، بمعنى: أنزلنا إليك (أن احكم بينهم) (¬5). وأعيد ذكر الأمر بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى: إما للتأكيد، وإما لأنهما حُكمان أمر بهما جميعًا؛ لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين (¬6) ثم احتكموا إليه في قتيل كان فيهم، في قول جماعة من المفسرين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1620 (سبق). (¬2) بنحوه في "تفسيره" 1/ 482. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 116. (¬4) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 272، "التفسير الكبير" 12/ 13. (¬5) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 228. (¬6) في (ش): (المحصن). (¬7) احتكامهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في زنا المحصنين ظاهر، وقد تقدم. أما احتكامهم إليه في قتيل كان فيهم فلم أقف عليه. وقد خالف في الأمر الثاني ابن الجوزي فقال: =

قال ابن عباس: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: بحدود الله (¬1). وقوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. قال ابن عباس: يريد يردوك إلى أهوائهم (¬2). قال أبو عبيد: كل من صُرِف عن الحق إلى الباطل، وأميل عن القصد فقد فُتِن (¬3). ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]. وقال قطرب: واحذرهم أن يستزلوك (¬4). قال ابن الأنباري: وقولهم (¬5): فتنت فلانةٌ فلانًا، قال بعضهم: أمالته القصد. والفتنة (¬6) معناها في كلامهم المميلة عن الحق والقصد (¬7). وقال النضر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بك من فتنة المحيا" (¬8). هو أن يعدل ¬

_ = وإنما نزلتا في شيئين مختلفين، أحدهما في شأن الرجم، والآخر في التسوية في الديات، حتى تحاكموا إليه في الأمرين. "زاد المسير" 2/ 275، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 504، وما ذكره ان الجوزي من التسوية في الديات سيأتي له ذكر عند المؤلف في الآية 50 من هذه السورة. (¬1) قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ذلك في تفسير الآية التي قبلها: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "تفسيره" ص 181، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 273. (¬2) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 901، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 116. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 901 ولم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه عن قطرب، وقد قال بذلك أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 168، وأبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 504. (¬5) في (ش): (فقولهم). (¬6) في "تهذيب اللغة" 3/ 2738 (فتن): الفتينة. (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 2738، وانظر: "اللسان" 6/ 3345 (فتن). (¬8) جزء من الحديث المشهور في الدعاء قبل السلام، وأخرجه البخاري (832) =

عن الطريق (¬1). قال مقاتل: إن رؤساء اليهود قال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه، فإنما هو بشر. فأتوه وقالوا (¬2) له: قد علمت أنا إن اتبعناك اتبعك الناس، وإن لنا خصومة فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك، ونحن نؤمن بك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله هذه الآية (¬3). فمعنى فتنتهم (إياه) (¬4) عن بعض ما أنزل الله إضلالهم إياه وإمالته عن ذلك إلى ما يهوون من الأحكام، إطماعًا منهم في الاستمالة إلى الإسلام في قول مقاتل وابن عباس (¬5) وغيرهما. قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائز على الرسل؛ لأن الله تعالى قال: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} والتعمد في مثل هذا غير موهوم على رسول الله، فتحقيق تكليف الحذر عائد إلى النسيان والخطأ (¬6). ¬

_ = كتاب الأذان، باب: الدعاء قبل السلام 1/ 202، ومسلم (589) كتاب المساجد، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2738. (¬2) في (ش): (فقالوا). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" 1/ 482، 483، "الوسيط" 3/ 901. (¬4) ساقط من (ش). (¬5) قال ابن عباس بنحو قول مقاتل المتقدم فيما أخرجه عنه الطبري في "تفسيره" 6/ 273، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص 200، وانظر البغوي في "تفسيره" 3/ 66، "الدر المنثور" 2/ 514. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 12/ 14، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 213.

50

وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}. قال ابن عباس: يريد إن لم يقبلوا منك (¬1). وقال مقاتل: أبوا حكمك (¬2). وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}. قال ابن عباس: يريد أن يبتليهم، ويسلطك عليهم (¬3). وقال مقاتل: أي: يعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء (¬4). قال أهل المعاني: وخصص بعض الذنوب لأنهم جوزوا (¬5) في الدنيا ببعض ذنوبهم، وكان مجازاتهم بالبعض كافيًا في إهلاكهم والتدمير عليهم، يقول: فإن أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يُعَجَّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم (¬6). وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]. يعني: اليهود (¬7). 50 - قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}. قال المفسرون: أي أتطلب اليهود في الزانيين حكما لم يأمر الله عز وجل به وهم أهل الكتاب، كما يفعل أهل الجاهلية (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 116. (¬2) "تفسيره" 1/ 483. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسيره" 1/ 483 وفي: والجلاء من المدينة إلى الشام. (¬5) في (ش): (جوزيوا). (¬6) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 273، "التفسير الكبير" 12/ 14، القرطبي في "تفسيره" 6/ 214. (¬7) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 273، والبغوي في "تفسيره" 3/ 66، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 214. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 180، وانظر: "زاد المسير" 2/ 376، "التفسير الكبير" 12/ 15.

قال ابن عباس: يعني بحكم الجاهلية ما كانوا من الضلالة والجور في الأحكام، وتحريفهم إياها عما كانت عليه (¬1). وقال بعضهم: إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فقيل لهم: أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل كتاب؟ وكفى بذلك خزيًا أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم (¬2). وقال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدًا، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: إخواننا بنو النضير أبُونا واحد، وديننا وكتابنا واحد، فإن قتل أهل النضير منا قتيلًا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقًا، وأرش جراحاتنا على النصف من أرش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني أحكم دم القُرَظي وفاءٌ من دم النُضَيري، ودم النُّضَيري وفاءٌ من دم القُرَظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة"، فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك، فإنك لنا عدو، وإنك ما تألو في وضعنا وتصغيرنا، فأنزل الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} يعني حكمهم الأول (¬3). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 274، "التفسير الكبير" 12/ 15، القرطبي في "تفسيره" 6/ 214. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 479، 480 بنحوه، وانظر: "التفسير الكبير" 12/ 15. وقد جاء نحو ذلك عن ابن عباس من طريق أبي صالح -وهي ضعيفة- عنه ذكر ذلك ابن الجوزي "زاد المسير" 2/ 376، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 274.

51

وقرأ ابن عامر (تَبغُون (¬1)) بالتاء (¬2)، على معنى: قل لهم يا محمد: أفحكم الجاهلية تبغون (¬3). والقراءة بالياء أظهر، لجري الكلام على ظاهره واستقامته عليه من غير تقدير إضمار، على أن نحو هذا الإضمار لا ينكر لكثرته (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. قال الزجاج: أي من أيقن تبين عدل الله في حكمه (¬5). وقال (¬6) بعض أصحاب المعاني: معناه: عند قوم يوقنون بالله وبحكمته, فأقيمت اللام مقام عند، وهذا جائز في اللغة إذا تقاربت المعاني (¬7). فإذا قيل: الحكم لهم فلأنهم يستحسونه، فكأنه إنما جعل لهم خاصة، وإذا قيل: عندهم؛ فلأن عندهم العلم بصحته. 51 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية، قال عطية. جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبرأ عنده من موالاة اليهود، فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود، لأني أخاف ¬

_ (¬1) ساقط من (ج). (¬2) "الحجة" 3/ 228، "التيسير" ص 99. (¬3) "الحجة" 3/ 228. (¬4) "الحجة" 3/ 228، 229 بتصرف. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 321، "زاد المسير" 2/ 376. (¬6) في (ش): (قال). (¬7) ذكر هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 505، لكنه قال: وهذا ضعيف، وانظر "الدر المصون" 4/ 229.

الدوائر، فنزلت هذه الآية (¬1) في النهي عن موالاتهم، ومعنى: (لا تتخذوهم أولياء) لا تعتمدوا على الاستنصار بهم متوددين إليهم، وأولياء مثل أنبياء في الامتناع عن الصرف، وذكرنا العلة المانعة عن الصرف في "أنبياء" في هذه السورة (¬2). وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، أي: في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين (¬3) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، قال ابن عباس: "يريد كافر مثلهم" (¬4)، وقال أبو إسحاق: أي: من عاضدهم على المسلمين فإنه مع من عاضده (¬5). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، قال ابن عباس: "يريد لا يرشد الكافرين ولا المشركين ولا المنافقين" (¬6)، روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً. فقال: مالك قاتلك الله؟! ألا اتخذت حنيفياً، أما سمعت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}. قلت: له دينه ولي كتابته. قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه الطبري 6/ 275، وذكره البغوي 3/ 67، والسيوطي في "لباب النقول" ص 92. (¬2) عند قوله تعالى: {إذ جعل فيكم أنبياء} الآية (20) من هذه السورة. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 10/ 399، "تفسير البغوي" 3/ 68. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181. (¬6) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬7) بمعناه عند ابن كثير 2/ 77، "الدر المنثور" 2/ 516.

52

52 - قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. قال ابن عباس: "يعني عبد الله بن أبي وأصحابه" (¬1) وهو قول مجاهد (¬2) ومقاتل (¬3) وغيرهم. وقوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}، قال ابن عباس: "يريد يسارعون إلى مودتهم" (¬4)، وقال الكلبي: "يسارعون في ولاية اليهود، ونصارى نجران؛ لأنهم كانوا أهل ريف يميرونهم ويقرضونهم" (¬5). وقال مجاهد: يسارعون في مصانعة اليهود وموأخاتهم (¬6)، وقال أبو إسحاق: يسارعون في معاونتهم على المسلمين (¬7). وقوله تعالى: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}، الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة التي تخشى كالهزيمة والدبرة والقحط والحوادث المخوفة (¬8)، قال عبد الله بن مسلم (¬9): نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه فلا يميروننا (¬10). وقال أبو عبيدة: الدوائر ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 278 - 279، "زاد المسير" 2/ 379، "الدر المنثور" 2/ 516. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 485، انظر: "زاد المسير" 2/ 378. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬5) لم أقف عليه، انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 143، "زاد المسير" 2/ 179. (¬6) أخرجه بنحوه الطبري 6/ 279. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 68. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 10/ 404، 405، "تهذيب اللغة" 2/ 1129 مادة (دار). (¬9) ابن قتيبة. (¬10) "غريب القرآن" ص 143.

تدور، والدوائل تدول (¬1)، وذكر قول حُميد الأرقط (¬2): [كنت حسبت الخندق المحفورا] (¬3) ودائراتِ الدَّهر أن تدورا (¬4) قال الكلبي: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي سنة جدبة، وقال مقاتل: "نخشى أن تصيبنا دائرة اليهود على المسلمين، وذلك أنهم قالوا، إنا نكره قتال اليهود ومفارقتهم، فإنا لا ندري ما يكون ونخشى أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا من الميرة والقرض" (¬5). وقال أبو روق: "يعنون نخشى أن ينصر محمد" (¬6). ونحو ذلك قال الزجاج: أي نخشى أن لا يتم الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ومعنى (دائرة): أي: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها (¬7). وقوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}، قال أهل المعاني: وعسى من الله واجب (¬8). لأن الكريم إذا طمّع في خير يفعله، فهو ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 169. (¬2) هو حميد بن مالك بن ربعي بن فحاش بن قيس، من بني ربيعة، شاعر إسلامي. "معجم الأدباء" 3/ 267. (¬3) ما بين المعقوفين ليس في "المجاز". (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 169. والرجز في: "تفسير الطبري" 6/ 279، "تفسير القرطبي" 6/ 217. (¬5) بمعناه في تفسير مقاتل 1/ 484، "تفسير البغوي" 3/ 68. وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 143، "زاد المسير" 2/ 379. (¬6) لم أقف عليه، وهو بمعنى ما تقدمه وما تلاه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181. (¬8) المرجع السابق.

بمنزلة الوعد به لتعلق النفس به ورجائها له، ولذلك حق لا يضيع، قال الكلبي والسدي: (أن يأتي بالفتح) يعني: فتح مكة (¬1)، وقال الضحاك: فتح قرى اليهود (¬2)، وقال قتادة: "بالقضاء الفصل" (¬3)، وقال مقاتل: "يعني نصر محمد الذي أيسوا منه" (¬4)، وقال الزجاج: فعسى الله أن يظهر المسلمين (¬5). وجمع ابن عباس هذه الأقوال في قوله فقال: "يريد بفتح الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع من خالفه" (¬6)، وقوله تعالى: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}، قال الكلبي والضحاك: خصب وسعة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (¬7). وهو اختيار الزجاج (¬8) وابن قتيبة (¬9). وقال السدي: "الجزية" (¬10)، وقال مقاتل: "القتل والجلاء لليهود" (¬11)، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: (أو أمر من عنده) ¬

_ (¬1) أخرجه عن السدي: الطبري 6/ 280 وذكره عنهما البغوي 3/ 68. وانظر: "زاد المسير" 2/ 379، "ابن كثير" 2/ 78. (¬2) البغوي 3/ 68. (¬3) "تفسير الطبري" 6/ 280، "تفسير البغوي" 3/ 68. (¬4) "تفسيره" 1/ 484، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 68. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181. (¬6) انظر: "الوسيط" 2/ 197، "تفسير القرطبي" 6/ 218، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬7) انظر: "الوسيط" 2/ 198، "تفسير البغوي" 3/ 68، "زاد المسير" 2/ 379. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181. (¬9) "غريب القرآن" ص 144، انظر: "زاد المسير" 2/ 379. (¬10) أخرجه الطبري 6/ 280، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 101، انظر: "زاد المسير" 2/ 379، "ابن كثير" 2/ 78. (¬11) "تفسيره" 1/ 484، "الوسيط" 2/ 198، انظر: "زاد المسير" 2/ 379.

53

يريد فيه هلاكهم (¬1) فهذا يحتمل هلاك اليهود وهلاك المنافقين (¬2)، وقال الحسن: "هو إطهار أمر المنافقين مع الأمر بقتلهم" (¬3). وهو اختيار أبي إسحاق (¬4) وقوله تعالى: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. قال ابن عباس: "يريد ندامة على نفاقهم" (¬5). وقال الكلبي: {فَيُصْبِحُوا} يعني أهل النفاق على ما كان منهم من ولايتهم لليهود، ودس الأخبار إليهم (نادمين) (¬6). وقال قتادة: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} من مودتهم وغشهم الإسلام {نَادِمِينَ} (¬7). 53 - قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}، اختلفوا في إدخال الواو في (يقول) فقرأ أهل الحجاز والشام: (يقول) بغير واو (¬8)، وقرأ أهل العراق: (ويقول) بالواو (¬9)، وحذف الواو ههنا كإثباتها، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها، وهو أن الذين وصفوا بقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬2) واختيار الطبري القول بالعموم. انظر: "تفسيره" 6/ 280. (¬3) لم أقف عليه. انظر: "زاد المسير" 2/ 379. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181. (¬5) انظر: "الوسيط" 2/ 198، "زاد المسير" 2/ 379، "ابن كثير" 2/ 78، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬7) أخرجه الطبري 6/ 280، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 78. (¬8) قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 229، "النشر" 2/ 254. (¬9) قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر، انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 229، "النشر" 2/ 254.

(يسارعون فيهم) إلى آخر الآية، هم الذين قال فيهم المؤمنون: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} الآية، فلما صار في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى، حسن العطف بالواو وبغير الواو، كما أن قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو؛ لأنها بملابسة بعضها ببعض ترتبط إحداهما (¬1) بالأخرى كما ترتبط بحرف العطف، ويدلك على حسن دخول الواو قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]. فحذف الواو من قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} كحذفها من قوله: {رَابِعُهُمْ} وقوله: {سَادِسُهُمْ} وإلحاقها كإلحاقها في قوله: {وَثَامِنُهُمْ}، وقد جاء التنزيل بالأمرين في غير موضع (¬2)، واختلفوا أيضاً في إعراب: (ويقول) فقرأ أبو عمرو: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} نصباً على معنى: وعسى أن يقول الذين آمنوا (¬3)، وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة، ولم يجعلها عاطفة على مفرد. ويدل على قوة الرفع قولُ من حذف الواو فقال: (يقول الذين آمنوا) (¬4). قال الزجاج: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت، أي: في وقت يظهر الله نفاقهم (¬5). ¬

_ (¬1) في (ج) و (ش): (إحديهما). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 231 - 232. (¬3) انظر: "الحجة" 3/ 231. (¬4) "الحجة" 3/ 231. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 182، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 69.

وقوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ}، يعني: المنافقين، قاله ابن عباس، والكلبي (¬1)، {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، قال عطاء: حلفوا {بِاللهِ} بأغلظ الأيمان (¬2)، ونصب {جَهْدَ} لأنه مصدر، أي: جهدوا جهد أيمانهم، وقال أبو إسحاق: أي: يقول المؤمنون للذين باطنهم وظاهرهم واحد: أهؤلاء الذين حلفوا وأكدوا أيمانهم أنهم مؤمنون، وأنهم معكم وأعوانكم على من خالفكم. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: ذهب ما أظهروه من الإيمان، وبطل كل خير عملوه بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، كما قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] (¬3)، وقال الكلبي: "بطلت حسناتهم" (¬4). وقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53]، قال عطاء عن ابن عباس: "خسروا الدنيا والآخرة، أما الدنيا فليس هم من الأنصار، وأما الآخرة فقرنهم الله مع الكفار" (¬5). وقال الكلبي: {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} مغبونين بأنفسهم ومنازلهم في الجنة، وصاروا إلى النار، وورثها المؤمنون (¬6). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117، انظر: "زاد المسير" 2/ 381. (¬2) ساقه المؤلف في الوسيط 2/ 198 ابتداء دون نسبة. وكذا البغوي 3/ 69، ونسبه ابن الجوزي "زاد المسير" 2/ 380 لابن عباس. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 181، 182، انظر: "بحر العلوم" 1/ 443، "تفسير البغوي" 3/ 69. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه، انظر: "الوسيط" 2/ 198.

54

54 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}، وقرأ أهل الحجاز والشام: (يرتدد) بإظهار الدالين (¬1). قال الزجاج هو الأصل، لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف نحو: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] ويجوز في اللغة: إن يمسكم (¬2). قال أبو علي (¬3): من أظهرهما (¬4) أن الحرف المدغم لا يكون إلا ساكناً، ولا يمكن إدغام الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لأن اللسان يرتفع عن المدغم والمدغم فيه ارتفاعة واحدة، فإذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة، وإذا لم يرتفع لم يمكن الإدغام، فإذا كان كذلك لم يسغ الإدغام في الساكن؛ لأن المدغم إذا كان ساكنًا والمدغم فيه كذلك التقى ساكنان، والتقاء الساكنين في الوصل من هذا النحو ليس من كلامهم، فلهذا أظهر من أظهر، وهو لغة أهل الحجاز (¬5)، وأما من أدغم فإنه أسكن الحرف الأول للإدغام، فاجتمع ساكنان، فحرك بالفتح، ويجوز في اللغة التحريك بالكسر، فيقال: من يرتدِّ (¬6). قال أبو إسحاق: ويجوز في العربية في هذا الحرف ثلاثة أوجه "يرتدد" بدالين، و"يرتدَّ" بفتح الدال، و"يرتدِّ" بكسر الدال (¬7). ¬

_ (¬1) قراءة نافع وابن عامر، انظر: "الحجة" 3/ 232، "النشر" 2/ 255. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 182. (¬3) الفارسي في "الحجة للقراء السبعة". (¬4) في الحجة: "حجة من أظهرهما". (¬5) "الحجة" 3/ 232 ,233. (¬6) انظر: "الحجة" 3/ 233. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 182.

قال أبو علي: وهذا لغة تميم، وإنما أدغموا لأنهم شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب، وذلك أنهم قد اتفقوا على إدغام المعرب نحو: يرتد، فلما وجدوا ما ليس بمعرب مشابهاً للمعرب في تعاور الحركات عليه تعاورها على المعرب، جعلوه بمنزلة المعرب فأدغموه كما أدغموا المعرب بيان هذا أن المعرب يتحرك أيضاً بحركتين (الرفع والنصب) (¬1) نحو: يرتَدُّ ويرتَدَّ، فشبهوا حركة البناء بحركة الإعراب، وهذا يدل على صحة ما ذهب إليه سيبويه من تشبيه حركة الإعراب بحركة البناء في التخفيف، نحو: أشربْ غير مستحقبٍ (¬2). شبه ر بْ غَ (¬3) بفخذ وعضد وسبع، فخفف كما يخفف الفخذ والسبع، ألا ترى أن بني تميم شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب في إدغامهم في الساكن المحرَّك بغير حركة إعراب، كذلك شبهوا حركة الإعراب بحركة البناء في نحو: أشربْ غير مستحقب ... (¬4). وقد جاء التنزيل بالأمرين فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115]. وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] (¬5). ¬

_ (¬1) ليس في: (ج). (¬2) من قول امرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل المستحقب: المتكسب، والواغل الداخل على القوم يشربون ولم يدع، يقول هذا حين أخذ بالثأر من قتلة أبيه يزعم أن الخمر حلت له فلا يأثم بشربها وقد نذر ألا يشرب حتى يأخذ بالثأر. انظر كتاب سيبويه 4/ 204، وحاشية "الحجة للقراء السبعة" 1/ 117. (¬3) (ر ب غ) من قوله: (أشربْ غير) من الشاهد. (¬4) سبق قريبًا. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 233، 234 باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

فأما التفسير فقال الحسن: علم الله تعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه (¬1). واختلفوا في ذلك القوم من هم: فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر - رضي الله عنه - وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومنكري الزكاة (¬2). قالت عائشة: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وارتدت العرب، واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها (¬3). قال المفسرون: وذلك أن أهل الردة قالوا: أما الصلاة فنصلي، وأما الزكاة فلا نُغصَبُ أموالنا، فقال أبو بكر: لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. والله لو منعوني عقالاً مما أدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه (¬4). والمناظرة التي جرت بينه وبين عمر في هذا معروفة (¬5). قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا: أهل ¬

_ (¬1) الأثر في الوسيط 2/ 199، البغوي 3/ 69، "زاد المسير" 2/ 380. وأخرج الطبري 6/ 282 - 283 من طرق عن الحسن أنه قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه. (¬2) أخرج الآثار عنهم: الطبري 6/ 283 - 284، وذكرهم البغوي 3/ 169، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 381، والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 517. (¬3) ذكره البغوي 3/ 71. (¬4) أخرج الأثر بنحوه البخاري (1400) كتاب الزكاة/ باب: وجوب الزكاة. ومسلم (20) كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. (¬5) جاء منصوصًا عليها في الأثر السابق في البخاري ومسلم.

القبلة. فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بُدّاً من الخروج على أثره (¬1). وقال ابن مسعود: كرهنا ذلك، وحمدناه في الانتهاء ورأينا ذلك رشداً (¬2). وقال ابن عباس: فجاهدهم أبو بكر بالسيف (¬3)، فإن قيل: إن قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} يوجب أن يكون ذلك القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب، وأبو بكر ممن كان في ذلك الوقت؟ قيل: إن من قاتل أبو بكر بهم (¬4) أهل الردة لم يكونوا في ذلك الوقت. قال قتادة: "بعث الله عصائب مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله، حتى سَبى وقتل وأحرق بالنار ناساً ارتدوا من الإسلام ومنعوا الزكاة" (¬5). وقال الكلبي: "أتى الله بخير من الذين ارتدوا فشدد بهم (الدين) (¬6)، وهم أحياء من كندة وبجيلة خمسة ألاف (¬7)، وألفان من النَخَع، وثلاثة آلاف من أفناء (¬8) الناس" (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره البغوي 3/ 69 وابن الجوزي "زاد المسير" 2/ 381. (¬2) ذكره البغوي 3/ 70. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 443، 444. (¬4) في (ج) بعد "بهم" زيادة: "هم" , وهذه الزيادة تقلب المعنى رأسًا على عقب. (¬5) أخرجه الطبري 6/ 283. (¬6) في (ج): (الذين). (¬7) في النسختين: (ألف). (¬8) هكذا في النسختين بالنون، وفي البغوي 3/ 71 بالياء (أفياء) وقد يكون أصوب جمع فئة تجوزًا، وإن كانت فئة تجمع على "فئون وفئات". انظر: "الصحاح" 1/ 63 (فيأ). (¬9) ذكره البغوي 3/ 71.

فهؤلاء قاتلوا أهل الردة بأمر أبي بكر، فحمدوا بطاعتهم له وانتهائهم إلى أمره، فليس يخرج أبو بكر عن أن يكون منهم، ثم الآية تتناول بعمومها كل من يكون منهم، ثم الآية تتناول بعمومها كل من يكون بعدهم إلى قيام الساعة، ممن يجاهد أهل الشرك والكفر والردة في سبيل الله. وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، بدأ بمحبته لأنها الجالبة والموجبة لمحبتهم، ولا يحب الله إلا من أحبه الله، ولولا محبة الله إياهم ما أحبوه، فهذا طريق في تفسير هذه الآية، وروي مرفوعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية (أومأ) (¬1) إلى أبي موسى الأشعري فقال: "هم قوم هذا" (¬2). أخبرناه الأستاذ أبو إبراهيم إسماعيل بن أبي القاسم النصر اباذي، أخبرنا الإِمام أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، حدثنا أبو عَمرو الحوضي، حدثنا شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هم قوم هذا". يعني أبا موسى الأشعري. أخرجه الحاكم في المستدرك (¬3) عن ابن السماك، حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا وهب بن جرير عن شعبة، وتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاتباع، وإذا كان ¬

_ (¬1) في (ج): (اومى). قال ابن منظور: "وأومأَ تومأَ، ولا تقل: أوميت. الليت: الإيماء أن تومئ برأسك أو بيدك ... " اللسان 1/ 201 (ومأ). (¬2) الطبري 10/ 415، وسيأتي تخريج الحديث. (¬3) 2/ 313 وصححه على شرط مسلم، كما أخرجه الطبري 6/ 284، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 518 إلى ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

قد فسر الآية وبين أن المراد بالقوم المذكور فيها الأشعرية، فليست إلا الفرقة المعروفة بالأشعرية الذين ينتسبون في مذهبهم إلى أبي الحسن الأشعري (¬1). وكان -رحمه الله- من صُلبَيهِ (¬2) نسب أبي موسى، فإنه علي بن إسماعيل ابن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري (¬3)، أتى الله به فجاهد أهل البدع الذين ارتدوا عن سنن الصحابة وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسائل المشهورة من أصول الدين التي لم يقع فيها خلاف زمن الصحابة كمسألة القدر (¬4)، وخلق الأعمال (¬5)، ورؤية الله تعالى في الجنة (¬6)، وما أشبهها، فنصرها وأوضح أدلتها، ونفى الشبه وأبطلها، فكل من انتحل مذهبه فهو من جملة قومه الذين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في إشارته إلى أبي موسى: "هم قوم هذا" (¬7)، لأن قوم ¬

_ (¬1) الجزم بذلك فيه نظر، فإن قوم أبي موسى لا ينحصر في ذريته وأصل ذريته قبل نشأة أبي الحسن رحمه الله، والأشعرية فرقة خالفت أهل السنة في كثير من مسائل العقيدة كالتأويل في الصفات وغير ذلك، على أن الأشاعرة لم يتابعوا الأشعري في جميع المسائل وإنما اشتهروا بالانتساب إليه! (¬2) هكذا في النسختين، وقد جاءت مشكولة في: (ش)، وفيها إشكال. (¬3) هكذا نسبه الذهبي وأن مولده سنة 260 هـ وقيل 70 هـ، وقال عنه العلامة، إمام المتكلمين، توفي سنة 324 هـ كان على مذهب المعتزلة ثم رجع عنه ورد عليهم. وله مصنفات كثيرة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 1/ 85 - 90، والبداية والنهاية 11/ 187. (¬4) انظر: "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري ص 227 - 240. (¬5) انظر: "مقالات الإسلاميين" ص 195، 238. (¬6) انظر: "مقالات الإسلاميين" ص 157، 217. (¬7) سبق تخريجه قريبًا.

الرجل أتباعه المقتدون به، لا أنسباؤه وأقاربه، ألا ترى أن في التنزيل كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به أتباعهم الذين آمنوا بهم، لا أنسباؤهم، كقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} الآية [الأعراف: 159]. وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. قال ابن عباس: "تراهم للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته" (¬1). وهذا كقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وقال ابن الأعرابي فيما روى عنه أبو العباس (¬2): معنى قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} رحماء رفيقين بالمؤمنين {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} غلاظ شداد عليهم (¬3). وقال ابن الأنباري: أثنى الله تعالى على هؤلاء المؤمنين بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم، ويعنفون بالكافرين ويلقونهم بالغلظة والفظاظة، وقال أبو إسحاق في هذه الآية: الفاء في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ} جواب الجزاء، أي إن ارتد أحد عن دينه الذي هو الإيمان فسوف يأتي الله بقوم مؤمنين غير منافقين (¬4). {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي جانبهم لين على المؤمنين، ليس أنهم أذلة مهانون (¬5). ¬

_ (¬1) في "بحر العلوم" 1/ 444 نسبه لعلي بن أبي طالب، في البغوي 3/ 72 لكن نسبه لعطاء! ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬2) الظاهر أنه المبرد، محمد بن يزيد. (¬3) من "تهذيب اللغة" 2/ 1290 مادة (ذل). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 182، 183. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 183، والكلام متصل للزجاج.

55

{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: جانبهم غليظ على الكافرين (¬1)، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عز وجل أن صحيح الإيمان لا يخاف في نصرة الدين بيده ولسانه لومة لائم، ثم أعلم أن ذلك لا يكون إلا بتسديده وتوفيقه فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي محبتهم لله عز وجل ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين، تفضل من الله عز وجل عليهم، لا توفيق لهم إلا به (¬2). 55 - قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية، اختلفت الروايات عن ابن عباس في نزول هذه الآية، فقال في رواية العوفي: إنها نازلة في قصة عبد الله بن أبيّ حين تولى اليهودَ، وعبادةَ بنِ الصامت حين تبرأ منهم وقال: أنا أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله والذين آمنوا (¬3). وقال جابر بن عبد الله: إن اليهود هجروا من أسلم منهم، لم يجالسوهم، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا , ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء (¬4)، فعلى ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 183، انظر: "بحر العلوم" 1/ 444، "تفسير البغوي" 3/ 72، "زاد المسير" 2/ 382. (¬3) سبق تخريج سبب النزول عند تفسير الآية (51)، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 72. (¬4) أخرجه المؤلف في أسباب النزول. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير 2/ 382.

هذا الآية عامة في جميع المؤمنين، فكل مؤمن ولي لكل مؤمن، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. والذي ذكر من قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إلى آخر الآية صفة لكل مؤمن، وهو قول الحسن في هذه الآية والضحاك (¬1)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}. قال الزجاج: إقامتها: إتمامها بجميع فروضها، وأول فروضها صحة الإيمان بها (¬2). وقوله تعالى: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]. قال ابن عباس: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} المفروضة {وَهُمْ رَاكِعُونَ} يعني صلاة التطوع بالليل والنهار (¬3)، وعلى هذا إنما أفرد الركوع بالذكر تشريفاً له (¬4)، وقال بعض أهل المعاني: إنهم كانوا في وقت نزول الآية على هذه الصفة، منهم (من) (¬5) قد أتم الصلاة، ومنهم من هو راكع في الصلاة (¬6)، فهذا على قول من جعل الآية عامة في كل مؤمن، ومنهم من قال: الآية خاصة. قال ابن عباس في رواية عكرمة: نزل قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ¬

_ (¬1) نسبه الماوردي للحسن والسدي "النكت والعيون" 2/ 48، انظر: "زاد المسير" 2/ 383. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 183. (¬3) انظر: "زاد المسير" 2/ 384، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 384. (¬5) ليست في (ج). (¬6) انظر "النكت والعيون" 2/ 49، "زاد المسير" 2/ 384.

وَالَّذِينَ آمَنُوا} في أبي بكر - رضي الله عنه - (¬1). وقال في رواية عطاء: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} يريد علي بن أبي طالب (¬2). وعلى هذا قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} قال عبد الله بن سلام (¬3): يا رسول الله: إنا رأينا علياً تصدق بخاتمه وهو راكع على محتاج، فنحن نتولاه (¬4)، وقال أبو ذر: "أما إني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً من الأيام صلاة الظهر، فسأل السائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أُشهدك أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً. وعلي كان راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللهم إن أخي موسى سألك فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلى قوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:25 - 32] فأنزلت فيه قرآناً ناطقاً: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص: 35] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أشدد به ظهري"، قال أبو ذر: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن عباس من رواية عكرمة، لكن من رواية الكلبي، وهو متروك. انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 117. وقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 383 لعكرمة. (¬2) وكذا هذا الأثر من رواية عطاء لم أقف عليه! لكن جاء من طرق أخرى كما في: "لباب النقول" ص 93، "الدر المنثور" 2/ 519 - 520، وسيأتي الكلام على هذا الأثر عند آخر سياق المؤلف له. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬4) لم أقف عليه.

فوالله ما استتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد اقرأ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} إلى آخرها (¬1). وهذا قول مجاهد والسدي وعتبة بن أبي حكيم (¬2) والكلبي. قال الكلبي: أذن بلال فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس بين ساجد وراكع، فإذا هو بسائل يطوف ومعه خاتم، فقال: "من أعطاك هذا" فأشار إلى علي وهو راكع، فنزلت هذه الآية، فلما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: كلنا يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، فلما قرأ: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} علموا أنه خاص لعلي (¬3). وقال أهل العلم في هذه الآية: إنها تدل على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة، وأن دفع الزكاة إلى السائل في الصلاة جائز مع نية الزكاة، ونية الزكاة لا تنافي الصلاة (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، حتى المؤلف لم يذكره في أسباب النزول وفيه غرابة. (¬2) الآثار عن مجاهد والسدي وعتبة أخرجها الطبري في "تفسيره" 6/ 288 - 289. (¬3) أخرجه ابن مردويه كما في "الدر المنثور" 2/ 520. وانظر: "بحر العلوم" للسمرقندي 1/ 445. وهذا الأثر في سبب نزول الآية جاء بأسانيد ضعيفة بل بعضها واه كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق هذا الأثر: وهذا إسناد لا يفرح به؛ لأنه من رواية الكلبي ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع، وليس يصح شيء منها بالكلية؛ لضعف أسانيدها وجهالة رجالها "تفسير ابن كثير" 2/ 81. (¬4) قال ابن كثير رحمه الله: وأما قوله: {وهم راكعون} فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله {ويؤتون الزكاة} أي في حال ركوعهم، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء مما نعلمه من أئمة الفتوى ... "تفسير ابن كثير" 2/ 81.

56

وقال المفسرون: وهذا وإن كان نزوله وافق عليًّا، فإنه عام في كل مؤمن، كما روى هشام، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي (¬1) عن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} من هم؟ قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناساً يقولون: هو علي. قال: فعليٌّ من الذين آمنوا (¬2). 56 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. معناه: من يتول القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين. قال ابن عباس: "يريد المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من بعدهم" (¬3). وقوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، جملة واقعة موقع خبر المبتدأ، والعائد إلى الابتداء معناها, لأن المعنى: فهو غالب، وفيها جواب للشرط ولذلك دخلت الفاء (¬4)، ومعنى الحزب في اللغة: أصحاب الرجل الذين معه على رأيه، فالمؤمنون حزب الله، والكافرون حزب الشيطان (¬5)، وقال الفراء: الحزب: الصنف من الناس (¬6). وقال ابن الأعرابي: الحزب: الجماعة (¬7)، هذا قول أهل اللغة في ¬

_ (¬1) زين العابدين، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الطبري 6/ 288، وذكره ابن كثير 2/ 81. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 202، "تفسير البغوي" 3/ 73، "زاد المسير" 2/ 383. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 506. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 800 (حزب) ونسبه لليث، انظر: "الصحاح" 1/ 109 (حزب). (¬6) من "تهذيب اللغة" نقلًا عن الفراء 1/ 801 (حزب). (¬7) "تهذيب اللغة" عنه 1/ 801 (حزب).

57

معنى الحزب، وقال الحسن: {حِزْبَ اللَّهِ} جند الله (¬1)، وقال غيره: أنصار الله (¬2)، وقال أبو روق: "أولياء الله" (¬3)، وقال أبو العالية: "شيعته" (¬4)، وقال الأخفش: حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم (¬5). وقال الكلبي في قوله: {هُمُ الْغَالِبُونَ} "فقتلوا اليهود وأجلوهم من ديارهم، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولوا الله ورسوله والذين آمنوا" (¬6). 57 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا}، قال ابن عباس: "كان رجال من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكان ناس من المسلمين يوادونهم، فأنزل الله هذه الآية" (¬7)، فعلى هذا معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم: إظهارهم ذلك باللسان، واستبطانهم الكفر، كما وصف المنافقون بمثل هذا في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. ويجوز أن يكون استهزاؤهم من غير هذا الوجه، وهو تكذيبهم واستخفافهم به كاستهزاء الكفار، وهذا فيمن لم يظهر الإيمان باللسان، ذكرنا معنى الهزء عند قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67]، والمراد ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 202، "زاد المسير" 2/ 384. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 73، "زاد المسير" 2/ 384. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 202. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ليس في "معاني القرآن"، انظر: "بحر العلوم" 1/ 445. (¬6) انظر: "الوسيط" 2/ 202. (¬7) أخرجه بمعناه الطبري 6/ 290، وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر: تفسير "الدر المنثور" 2/ 521.

بالمصدر ههنا: المفعول، وقوله تعالى: {وَالْكُفَّارَ}، قرئ جراً ونصباً، فمن جر فلأن لغة التنزيل الحمل على أقرب العاملين، وقد بينا ذلك، فحمل على عامل الجر من حيث كان أقرب من عامل النصب (¬1)، فهذا من طريق الإعراب. وأما من طريق المعنى فإن من جر (الكفار) عطفه (¬2) على الصلة، وحَسُنَ ذلك، لأن فرق الكفار الثلاث: المشرك، والمنافق، والكتابي الذي لم يسلم، قد كان منهم الهزء جميعاً، فساغ لذلك أن يكون الكفار تفسيراً للموصول وموضحاً له، والدليل (¬3) على استهزاء المشركين قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الحجر:95 - 96]. وذكرنا استهزاء المنافقين (¬4)، والدليل على استهزاء الكتابي الذي لم يسلم هذه الآية، ولو فسر الموصول بالكفار لعم الفرق الثلاث، لأن اسم الكفر يشملهم بدليل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11]، ولكن (الكفار) (¬5) كأنه على المشركين أغلب، فلذلك فصل ذكر الكتابي من الكافر. وحجة هذه القراءة من التنزيل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 234. ونسب القراءة لأبي عمرو والكسائي. (¬2) في (ج): (وعطفه). (¬3) في الحجة: "فالدليل". (¬4) تقدم قريبًا عند الكلام على أول تفسير الآية هذه، واستدلال المؤلف بآية البقرة. وقد ساقها في الحجة. (¬5) أي إطلاق لفظ "الكفار".

أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] اتفقوا على جر (المشركين) عطفاً على أهل الكتاب، ولم يعطف على العامل الرافع، إن جاز ذلك (¬1). وأما من نصب فحجته قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [آل عمران: 28] فكما وقع النهي عن اتخاذ الكفار في هذه الآية كذلك ههنا عطف الكفار على معمول الاتخاذ، فكأنه قال: لا تتخذوا الكفار أولياء (¬2)، والمراد بالكفار كل كافر من غير أهل الكتاب، قال عطاء: "هم كفار مكة وغيرهم" (¬3)، وقال الحسن: "هم مشركو العرب" (¬4). فالقول الأول عموم، وقول الحسن يدل على أن مشركي العرب هم المقصود بالكلام خصوصاً (¬5)، ولكن يدخل غيرهم في حكمهم بما صحب الكلام من الدليل. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، أي إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده فاتقوا الله، ولا تتخذوا منهم أولياء. هذا قول ابن عباس فيما روى عنه عطاء (¬6)، قال في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: إذ يأمر الله سبحانه أولياءه وأهل طاعته بتركهم (¬7)، وقال أهل المعاني: المعنى ¬

_ (¬1) من "الحجة" 3/ 234 - 236 بتصرف -ولا يزال ينقل منه في الكلام على قراءة النصب الآتية. (¬2) من الحجة 3/ 236 بتصرف يسير. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) اختار الطبري أنهم المشركون من عبدة الأوثان، واحتج بقراءة لابن مسعود - رضي الله عنه - انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291. (¬6) انظر: "بحر العلوم" 1/ 445، "زاد المسير" 2/ 385. (¬7) لم أقف على الأثر عن ابن عباس.

58

فيه أن من كان مؤمناً غضب لإيمانه على من طعن فيه، وكافأه بما يستحقه من المقت له (¬1). 58 - قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا}. أي: دعوتم الناس إليها بالأذان (¬2). والنداء: الدعاء برفع الصوت، وندى الصوت: بعد مذهبه (¬3)، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الرؤيا بالأذان: "ألقها على بلال، فإنه أندى صوتاً منك" (¬4). وقوله تعالى: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}، ذكر أهل المعاني فيه قولين: أحدهما: أنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون، تجهيلاً لأهلها وتنفيراً للناس عنها وعن الداعي إليها (¬5). وهذا معنى قول الكلبي قال: كان إذا نادي منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم سجدوا أو ركعوا استهزؤوا وضحكوا منهم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291، "بحر العلوم" 1/ 445. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3538 (ندأ). (¬4) هذا الحديث في كيفية الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - في ذلك. أخرجه، وأبو داود (499) كتاب الصلاة، باب: كيف الأذان، والترمذي (189)، كتاب: الصلاة، باب: بدء الأذان، وابن ماجه (706) كتاب: الأذان، باب: بدء الأذان , وأحمد في "مسنده" 4/ 43. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291، "بحر العلوم" 1/ 446. (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 74، "زاد المسير" 2/ 385، 386، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهي طريق واهية "الدر المنثور" 2/ 521.

59

القول الثاني: أنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب أو الهازي الكاذب، جهلاً عنهم بها. وهذا معنى قول السدي في هذه الآية: "أن رجلاً من النصارى بالمدينة كلما سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله. يقول: حُرِّق الكاذب , فدخل خادمه بنار ذات ليلة، فتطايرت منها شرارة في البيت، فاحترق هو وأهله (¬1). وقوله تعالى: {هُزُوًا وَلَعِبًا} مصدران يراد بهما المفعول. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] أي: لا يعقلون ما لهم في إجابتهم لو (¬2) أجابوا إليها، وما عليهم في استهزائهم بها (¬3)، وقيل: إنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح، ويردعه عن الفواحش، وقال الكلبي: لا يعقلون أمر الله (¬4). 59 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} الآية. قال ابن عباس: "إن نفراً من اليهود أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: "أؤمن باللهِ وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 6/ 291، وعزاه السيوطي أيضًا إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ "الدر المنثور" 2/ 521. وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 74، "زاد المسير" 2/ 386، "تفسير ابن كثير" 2/ 82. (¬2) في (ج): (ولو). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291، "زاد المسير" 2/ 386. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 118.

ولا ديناً شرًّا من دينكم، فأنزل الله هذه الآية وما بعدها" (¬1). وقوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} يقال: نَقَمتُ على الرجل أَنْقِمُ ونَقِمْتُ عليه أَنْقَمُ، والأجود فتح الماضي، وهو الأكثر في القراءة، قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8]. ومعنى نقَمت: بالغت في كراهة الشيء (¬2)، فمعنى (تنقمون) أي: تكرهون وتنكرون. وقوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]، فقال كيف ينقم اليهود على المسلمين فسق أكثرهم. قال أبو إسحاق: المعنى: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم، أي إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق؛ لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرئاسة وكسبكم بها الأموال (¬3). وهذا معنى قول الحسن: لفسقكم نقمتم علينا ذلك (¬4). قال صاحب النظم (¬5): فعلى هذا يجب أن يكون موضع "أنّ" في قوله: (وأن أكثركم) نصباً بإضمار اللام، على تأويل: ولأن أكثركم ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 6/ 292 بنحوه، وعزاه السيوطي أيضًا إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ كما في "الدر المنثور" 2/ 522. وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص 203. (¬2) هذا الكلام من أوله للزجاج في: "معاني القرآن" 2/ 186، ونقله الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3654 (نقم). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 186، 187، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 75، "زاد المسير" 2/ 387. (¬4) انظر: "زاد المسير" 2/ 387. (¬5) أبو علي الجرجاني تقدمت ترجمته.

60

فاسقون، أي: تنقمون منا ذلك لأن أكثركم فاسقون. والواو زائدة (¬1) كما زيدت في غيرها من المواضع (¬2). وقال غيره: إنما نقموا على المسلمين فسقهم؛ لأنهم لم يتابعوهم عليه. وقال بعضهم: لما ذكر ما نقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل، وليس هو مما يُنقم، ذكر في مقابلته فسقهم وهو مما يُنقم، ومثل هذا حسن في الازدواج، يقول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر، وإلا أني غني وأنت فقير، فحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة. ومعنى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن أمر الله طلباً للرئاسة وحسداً على منزلة النبوة (¬3). والمراد بالأكثر: من لم يؤمن منهم؛ لأن قليلاً من أهل الكتاب آمن. وذكر أبو علي الجرجاني قولاً آخر في قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} قال: تجعله منظوماً بقوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} على تأويل: آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون، فيكون موضع (أن) خفضاً بالياء. 60 - قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً}، هذا جواب لليهود حين قالوا: ما نعرف ديناً شراً من دينكم. كما حكينا (¬4)، يقول الله تعالى لنبيه قل لليهود: هل أخبركم بشر مما نقمتم من إيماننا ثواباً، أي: ¬

_ (¬1) في (ج): (والوا زائدة). (¬2) تقدم أن بعض المحققين كالحافظ ابن كثير رحمه الله نبهوا على خطأ مثل هذا التعبير، فلا ينبغي أن يقال: إن في القرآن زائدًا. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 187. (¬4) في سبب نزول الآية السابقة.

جزاءً (¬1)، وقيل: شر من الذين طعنتم عليهم من المسلمين (¬2)، و (مثوبةً) نصب على التمييز (¬3)، ووزنها: مفعولة، كقولك: مَقُولة، ومَجُورة (¬4)، وهي بمعنى المصدر، وقد جاءت مصادر على مفعول، كالمعقول والميسور. وقيل: هي مَفْعُلة مثل: مَكْرُمة. مضى الكلام في المثوبة في غير هذا الموضع (¬5)، وقوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}، (من) يجوز أن يكون في موضع خفض بدلاً من (شر) والمعنى: أنبئكم بمن لعنه الله. ويجوز أن يكون رفعاً بالاستئناف. قاله الفراء (¬6)، وقال الزجاج: من رفع رفع بإضمار "هو" كأن قائلاً قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنة الله، كما قال عز وجل: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج: 72] كأنه قال: هو النار (¬7). وقال الفراء: لو نصبت (من) بوقوع الإنباء عليه، كما تقول: أنبأتك خبراً، وأنبأتك زيداً قائماً، جاز، والوجه الخفض (¬8). وقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}، قال المفسرون: يعني بـ ¬

_ (¬1) انظر:"تفسير البغوي" 3/ 75. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 446. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 187، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 75. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 292، "إعراب القرآن للنحاس" 1/ 507. (¬5) يحتمل عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} (103) سورة البقرة. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 314، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 187. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 187. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 314.

(القردة) أصحاب السبت وبـ (الخنازير) كفار مائدة عيسى (¬1)، وروى الوالبي عن ابن عباس أن المسخين من أصحاب السبت؛ لأن شبابهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (¬2)، وقوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، قال الفراء: تأويله وجعل منهم القردة ومَن عبد الطاغوت (¬3)، فعلى هذا الموصول محذوف، وذلك لا يجوز عند البصريين، وقال الزجاج: (عَبَدَ) نسق على (لعنه الله)، المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت (¬4). قال ابن الأنباري: وتأخره بعد القردة والخنازير لا يُزيله عن معناه المعروف له، والعرب تقول: قد جعل منكم زيدٌ من بني (¬5) الدور، واتخذ الأموال والعقار، وعَلِمَ فنون العلم، فيردون "علم" على الفعل الملاصق لِمَنْ وإن تطاول الكلام. وقال أبو علي: قوله (عبد الطاغوت) عطف على مثال الماضي الذي في الصلة وهو قوله: (لعنه الله وغضب عليه)، وأفرد الضمير في (عَبَدَ) وإن كان المعنى على الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظ (مَنْ) دون معناه (¬6)، قال ابن عباس في قوله: (وعبد الطاغوت): "يريد كفرهم بالله، وطاعنهم للشيطان، وهو الطاغوت" (¬7)، قال الزجاج: تأويل (عبد الطاغوت) أطاعة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 75، "زاد المسير" 2/ 387. (¬2) "تفسير البغوي" 3/ 75، انظر: "زاد المسير" 2/ 387. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 314. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 189. (¬5) في (ج)، (ش): (بنا). (¬6) الحجة 3/ 238. (¬7) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 75.

فيما سول له وأغواه (به) (¬1). فلما أطاعوه طاعة المعبود جُعِلَ ذلك عبادة (¬2)، وقرأ حمزة (وعَبُدَ) بضم الباء (الطاغوتِ) بالكسر (¬3). قال الفراء: وكان أصحاب عبد الله يقرأون: (وعَبُدَ الطاغوتِ) على (فَعَل) ويضيفونها إلي الطاغوت، ويفسرونها: خدم الطاغوت (¬4). قال الزجاج: وهذه القراءة ليس بالوجه، لأن (عَبُدَ) على: فَعُلَ، وليس هذا من أمثلة الجمع (¬5)، وقال أبو بكر: عَبُدَ معناه عَبْدٌ، فضمت الباء للمبالغة، كقولهم للفَطِن فَطُنٌ، وللحَذِر: حَذُرٌ. يضمون العين للمبالغة. قال أوس بن حُجْر: أبني لُبَينَى إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمةٌ وإن أباكُمُ عَبُدُ (¬6) أراد عبداً فضم الباء (¬7)، قال الفراء: وذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر، فأما في القراءة فلا (¬8). وقال نُصيَر الرازي (¬9): عَبُدَ وهم ممن قرأه، ولسنا نعرف ذلك في العربية (¬10)، قال أبو إسحاق: ووجه قراءة حمزة: أن الاسم على: فَعُلَ، ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 187. (¬3) الحجة 3/ 236، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 187. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 314. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 187، 188. (¬6) البيت في: "معاني القرآن" للفراء 1/ 315، و"تفسير الطبري" 6/ 294، "تهذيب اللغة" 3/ 2302 (عبد)، "اللسان" 5/ 2778 (عبد). (¬7) "الزاهر" لأبي بكر بن الأنباري 1/ 374، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 188. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 315. (¬9) لم أقف على ترجمة له. (¬10) من "تهذيب اللغة" 3/ 2302 (عبد).

كما تقول: رجل حَذُر، وتأويله أنه مبالغ في الحذر، فتأويل: (عَبُدَ) أن بلغ الغاية في طاعة الشيطان، وكأن اللفظ لفظ واحد يدل على الجميع، كما تقول للقوم: منكم عَبُدُ العصا، تريد عَبِيدُ العصا (¬1). وتتبع أبو علي هذا القول فشرحه وزاده بيانًا فقال: حجة حمزة أنه يحمله على ما عمل فيه جعل، كأنه: وجعل منهم عَبُدَ الطاغوت، وليس عَبُدَ لفظ جمع؛ لأنه ليس في أبنية المجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد، ومعناه الجمع، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ} [النحل: 18] كذلك قوله: (وعبُدَ الطاغوت) جاء على: فَعُلَ، لأن هذا البناء يراد به المبالغة نحو: يَقُظ ونَدُس، فكأن تأويله أنه قد ذهب في عبادة الطاغوت والتذلل له كل مذهب، وجاء هذا البناء في (عبُدَ) لأنه في الأصل صفة وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يزيل عنه كونه صفة، كالأبرق والأبطح، فإنهما استعملا استعمال الأسماء حتى جمعا جمعها وهو: الأبارق والأباطح، كالأجادل في جمع الأجدل، ونحوه، ثم لم يُزِل عنه ذلك حكم الصفة، يدلك على ذلك تركهم لصرفه كتركهم صرف "أحمر"، إذ لم يخرج "العبد" عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يُبنى بناء الصفات على: فَعُل، نحو: لَفُظ (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ}، أي: أهل هذه الصفة (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 188. (¬2) هكذا في (ج) و (ش)، وفي الحجة: "يقظ". (¬3) الحجة 3/ 236 - 238 بتصرف. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 290، "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 189.

61

{شَرٌّ مَكَانًا} من المؤمنين (¬1). قال ابن عباس: "لأن مكانهم سقر" (¬2). ولا شر في مكان المؤمنين حتى يقال: اليهود شر مكانًا منهم، ولكن هذا على الإنصاف في الخطاب، والمظاهرة في الحجاج، كأنه مبني على كلام الخصم، وكذلك قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً} لأنهم قالوا: لا نعرف أهل دين شرًا منكم، فقيل لهم: شر منهم من كان بهذه الصفة، ومن كان بهذه الصفة فهو شر مكانًا ممن جعلتموهم شرًّا، ووصفتموهم به (¬3). وقوله تعالى: {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] قال الزجاج: أي: عن قصد السبيل (¬4). وقال ابن عباس: "يعني دين الحنيفية" (¬5). قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية عير المسلمون أهل الكتاب وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير، فنكسوا رؤوسهم وافتضحوا. 61 - قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} الآية، قال الكلبي: "يعني اليهود، يقولون: صدقنا أنك رسول الله إذا دخلوا عليه، وهم يسرون الكفر" (¬6). وقال ابن زيد: هؤلاء هم الذين قالوا: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [آل عمران: 72]، (¬7)، ومعنى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 2/ 390. (¬2) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 205. (¬3) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 205، "زاد المسير" 2/ 390. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 189. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ذكره في "تفسير الوسيط" 2/ 205، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 118. (¬7) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 75.

و {خَرَجُوا بِهِ} أي: دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كلتي حاليهم (¬1)، وهذا كما تقول: خرج زيد بثيابه، أي: وثيابه عليه، وركب البعير بسيفه، أي: وسيفه معه، وكما أنشده الأصمعي: ومُستنةٍ كاستِنَانِ الخروف ... قد قَطَعَ الحبلَ بالمِرْوَدِ (¬2) أي: قد قطع الحبل ومروده فيه، وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ: {تُنْبِتُ (¬3) بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أي تنبت ما تنبته والدهن فيه. وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية (¬4)، والجار في موضع نصب على الحال في هذا التقدير، أي يدخلون ويخرجون والكفر في قلوبهم (¬5)، ومعنى قد في قلوبهم: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} تقريب الماضي من الحال، يريد أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين (¬6)، وقوله تعالى: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أكد الكلام بالضمير تعيينًا إياهم بالكفر، وتمييزًا لهم عن غيرهم بهذه الصفة. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 61]، أي: من نفاقهم إذا أظهروا (¬7) بألسنتهم خلاف ما أضمروا في قلوبهم، فبين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 205، "تفسير البغوي" 3/ 75، "زاد المسير" 2/ 391. (¬2) البيت لرجل من بني الحارِث، وهو في الكامل للمبرد 2/ 135، و"المحتسب" 2/ 88، و"اللسان" 2/ 1140 (خرف) وفيه: "وقوله: مستنة يعني طعنة فاردمها باستنان. والاستنان والسن: المر على وجهه، يريد أن دمها مر على وجهه كما يمي المُهرُ الأرِن". والمرود: "حديدة توتد في الأرض يشد بها حبل الدابة، كما في حاشية الكامل. (¬3) بضم التاء (تُنْبِتُ) قراءة ابن كثير وأبي عمرو، انظر: "حجة القراءات" ص 484. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 508. (¬6) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس 2/ 333، "بحر العلوم" 1/ 447. (¬7) في (ج): (أظهروه).

62

أمرهم (¬1). 62 - قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، قال الكلبي: لم يكن كلهم يفعل ذلك، كان بعضهم يسارع في ذلك، وبعضهم يستحي فيكف (¬2)، ومعنى: {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ} يبادرون إليه كالمبادرة إلى الحق، قال أهل المعاني: أكثر ما تستعمل المسارعة في الخير، كقوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، وقوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 56]، وفائدة لفظ المسارعة ههنا وإن كان لفظ العجلة أدل على الذم أنهم يعملونه (¬3) كأنهم محقون فيه، وقال ابن عباس في تفسيره: يجترفون على الخطأ (¬4)، وجمع بين الإثم والعدوان؛ لأن الإثم الجرم كائنًا ما كان، والعدوان الظلم والتعدي على الناس بما لا يحل (¬5)، وذكرنا معنى أكل السحت (¬6). 63 - قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}، معنى لولا ههنا التحضيض والتوبيخ، وهو بمعنى: هلا (¬7)، ومضى الكلام في الربانيين عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]، والكلام في الأحبار قد ذكرناه (¬8) في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} [التوبة: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 296. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (ج): (يعلمونه). (¬4) نسبه محقق "تفسير الوسيط" 2/ 205 إلى تفسير ابن عباس ص 97. (¬5) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 76، "زاد المسير" 2/ 391. (¬6) عند تفسيره لقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (42) من هذه السورة. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 391. (¬8) في (ج): (ذكرنا) دون هاء الضمير.

64

31] (¬1)، قال الحسن: الربانيون: علماء أهل الإنجيل، والأحبار: علماء أهل التوراة (¬2)، وقال غيره: كله في اليهود؛ لأنه متصل بذكرهم (¬3). وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، قال العلماء وأصحاب المعاني: أنزل الله العلماء بترك النكير على سفلتهم فيما صنعوا منزلتهم، لأنه ذم أولئك بقوله: {ولبئس ما كانوا يعملون} وذم هؤلاء بمثل تلك اللفظة، فالآية تدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه (¬4)، والفرق بين الصنع والعمل من حيث اللغة أن الصنع بالجودة، يقال: سيف صنيع، إذا جود عمله، وصنع الله لفلان: أي أحسن، وفلان صنعة فلان، إذا استخلصه وأحسن إليه (¬5). 64 - قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد الإمساك عن الرزق" (¬6)، وقال في رواية الوالبي: "ليسوا يعنون بذلك أن يده موثقة، ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده" (¬7). ¬

_ (¬1) قد يكون هذا سبقًا أو وهمًا، لأن هذه الآية متأخرة ولأن المؤلف رحمه الله تكلم عن الأحبار بالتفصيل عند قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} الآية 44 من هذه السورة. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 76. (¬3) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 205. (¬4) قال الطبري رحمه الله: "وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها" ثم ساق ما يؤيد ذلك بسنده عن ابن عباس والضحاك، "تفسير الطبري" 6/ 298، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 447, "الدر المنثور" 2/ 524. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 2066 (صنع). (¬6) "زاد المسير" 2/ 392، "الدر المنثور" 2/ 525. (¬7) أخرجه الطبري 6/ 3001، وعزاه في "الدهر المنثور" 2/ 525 أيضًا إلى ابن أبي حاتم.

قال المفسرون: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية، فلما عصوا الله في محمد وكذبوا به، كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة، فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة، أي مقوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، وهذا قول الضحاك وعكرمة وقتادة والكلبي (¬1) واختيار الفراء والزجاج وابن الأنباري. قال الفراء: أرادوا ممسكة عن الإنفاق، والإسباغ علينا (¬2). وقال الزجاج: أخبر الله عز وجل بعظيم فريتهم فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي: يده ممسكة عن الإسباغ علينا، كما قال الله جل وعز: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، تأويله: لا تمسكها عن الإنفاق (¬3). وقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، أي جعلوا بخلاء وألزموا البخل، فهم أبخل قوم، فلا يُلقى يهودي أبدًا غير لئيم راضع بخيل. وهذا قول الزجاج (¬4) وابن الأنباري، قال أبو بكر: وهذا خبر أخبر الله تعالى به ودل على أن هذين الأمرين وهما الغل واللعن قد نزلا بهم، والتقدير: فغلت أيديهم، أو وغلت أيديهم، فأضمر حرف العطف لأن كلامهم تم، وكان هذا كلامًا مستأنفًا يشبه أول الفصول، والعرب تحذف حروف العطف من رؤوس الآيات ومواضع الفصول نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] أرادت فقالوا، فأضمر ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 6/ 300، "بحر العلوم" 1/ 447، "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير البغوي" 3/ 76، "زاد المسير" 2/ 391، "الدر المنثور" 2/ 525. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 315. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 189. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190.

الفاء، وقد ذكرنا مثل هذا فيما تقدم. وقال الحسن: "غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة" (¬1) أي شدت إلى أعناقهم، وتأويله أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في جهنم، قال أبو بكر: ويجوز أن يكون قوله: (غلت أيديهم) دعاءً عليهم، معناه من الله تعالى التعليم لنا، فكأنه عز (¬2) ذكره وقفنا على الدعاء عليهم، كما علمنا الاستثناء في غير هذا الموضع حين قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27] فجرى الدعاء من الله مجرى الاستثناء منه، وكلاهما توقيف وتأديب، كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]، وقد علا وعز أن يكون فوقه مدعو. وقوله تعالى: {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}، قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار (¬3). وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، حكى الزجاج عن بعض أهل اللغة أن هذا جواب لليهود، أجيبوا على قدر كلامهم فقيل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. أي هو جواد ينفق كيف يشاء. انتهى كلامه (¬4)، وفي هذا يحتاج إلى شرح وإيضاح، اعلم أن اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه: الجارحة، والنعمة، والقوة، والمِلك، وتحقيق إضافة الفعل (¬5)، تقول: ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير الوسيط" 2/ 206، وانظر: "زاد المسير" 2/ 392، وتفسير الحسن البصري 1/ 333. (¬2) في (ج): (عن). (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير الوسيط" 2/ 206، "زاد التفسير" 2/ 393. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190. (¬5) انظر: تهذيب اللغة 4/ 3975 (يدي).

لفلان عندي يد أشكره عليها، أي نعمة، قال عدي بن زيد (¬1): ولن أذكُرَ النعمان إلا بصالحٍ ... فإن لهُ عِندي يَدِيًّا وأنعُما (¬2) جمع يدًا على: يديٍّ، كالكلِيْبِ والعبيد. فقوله: (يَدِيًّا وأنعُمًا) اليدي هي الأنعم في المعنى، وحسن التكرير لاختلاف اللفظين، كقوله: أقوى وأفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ (¬3) ويستعمل اليد للقوة (¬4) وتُعنَى بها، قال الله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] فسروه: ذوي القوى والعقول (¬5)، وعلى هذا ما أنشده الأصمعي للغنوي: اعمِد لما تعلُو فما لَكَ بالذي ... لا تستطيعُ من الأمورِ يَدَانِ (¬6) يريد ليس لك به قوة، ألا ترى أنه لا مذهب للجارحة ولا للنعمة هنا، وعلى هذا ما ذكره سيبويه من قولهم: (لا يدينِ بها لك)، ومعنى هذه التثنية: المبالغة في نفي الاقتدار والقوة على الشيء، وليس المراد بالتثنية الاثنين الناقص عن الثلاثة، إنما هو الكثرة، ويستعمل بمعنى الملك، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبو زيد، فإن البيت في النوادر لأبي زيد ص 53 منسوبًا لضمرة النهشلي كما سيأتي في عزوه. (¬2) البيت في "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص 53 نسبه لضمرة بن ضمرة النهشلي. وأفاد منه في "المسائل الحلبيات" ص 30، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 240، و"اللسان" 3/ 1874 (زنم). (¬3) لم أقف على قائله. (¬4) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 27 - 97. (¬5) "النكت والعيون" 2/ 51. (¬6) البيت في "الأضداد" للأصمعي (ثلاثة كتب في "الأضداد" ص7)، و"المسائل الحلبيات" ص 28.

يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه (¬1)، قال الله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، ويستعمل بمعنى التولي للشيء وتحقيق إضافة الفعل، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أي لما توليت خلقه (¬2) تخصيصًا لآدم وتشريفًا بهذا، وإن كان جميع المخلوقات هو خالقها لا غير، ويقال: يدي لك رهن بالوفاء، إذا ضمنت له شيئًا (¬3)، وكأن معنى هذا اجتهادي وطاقتي، ويستعمل أيضًا حيث يراد النصرة، وذلك فيما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وهم يد على من سواهم" (¬4) أي نصرتهم واحدة وكلمتهم مجتمعة على من شق عصاهم (¬5). وكذلك قوله عليه السلام: "أنا وبنو (¬6) المطلب يدٌ واحدةٌ، لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" (¬7) كأنه أهل نصرة واحدة وكلمة واحدة، وقال أحمد بن يحيى: اليد الجماعة، ومنه الحديث: "وهم يد عَلَى مَنْ سواهم" (¬8)، وتستعمل اليد ¬

_ (¬1) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 29. (¬2) هنا تعسف ظاهر، والتثنية لليدين تدل على إثبات صفة اليد لله عز وجل، بل تؤكد ذلك!. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3975 (يدي). (¬4) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الإمام أحمد في مسنده 1/ 122، وأبو داود (4530) كتاب: الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟. وأخرجه ابن ماجه (2683) كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم من حديث ابن عباس ومعقل بن يسار - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 30، "تهذيب اللغة" 4/ 3977 (يدي). (¬6) في (ج): (بني). (¬7) أخرجه بنحوه الإِمام أحمد في مسنده 4/ 81 من حديث جبير بن مطعم، والنسائي 7/ 130 - 131 كتاب قسم الفيء. (¬8) تقدم تخريجه قريبًا.

للشىء الذي لا يد له تشبيهًا بمن له اليد، قال ابن الأعرابي: يد الدهر: الدهر كله، يقال: لا آتيه يد الدهر، ولد المسند، وكقول ذي الرمة: أَلاَ طَرَقَت ميٌّ هَيُومًا بِذكرِها ... وأيدي الثُّريا جُنَّحٌ في المَغَاربِ (¬1) فقوله: "أيدي الثُّريا" استعارة واتساع، وذلك أن اليد إذا مالتَ نحو الشيء ودنت إليه، دلل على قربها منه، ودَنوِّها نحوه، وإنما أراد قرب الثريا من المغرب لأفولها، فجعل له يدِيًّا جُنَّحًا نحوها، وأصل هذه الاستعارة لثعلبة بن صُعَير (¬2) في قوله: ألقت ذُكَاءُ يمِينَهَا في كافِرِ (¬3) فجعل للشمس يدًا في المغيب لما أراد أن يصفها بالغروب. ثم للبيد في قوله: حتى إذا ألقت يدًا في كافر. يعني الشمس بدأت في المغيب، واعلم أن يدًا وزنها: (فَعْلٌ)، يدل على ذلك قولهم: أَيْدٍ، وجمعهم على أفعُل يدل على أنه: (فَعْلٌ)، لأنه أفْعُلًا جمع فَعْل المختص (¬4) به كأَفلُس وأكلُب، كما دل آباء وآخاء على وزن: أخِ وأبِ فَعَلٌ لجمعهم لهما على: أفعال، نحو: أجبال وأجمال، وأفعال جمع فَعَل في الأمر الشائع وإن كان قد جاء نادرًا في جمع فَعْل، نحو: زيد وأزياد، وأنف وآناف، والدال التي هي عين الفعل في يد وإن ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 55. (¬2) ثعلبة بن صُعَير بن خزاعي المازني المري، شاعر جاهلي من شعراء المفضليات، "الأعلام" 2/ 99. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (ج): (المختصر).

كانت متحركة بالكسر فأصلها الضم، كما أنها في أكلب وأكعُب (¬1) كذلك (.......) (¬2) حركت بالضم لانقلبت الياء التي هي لام الفعل واوًا لانضمام ما قبلها، فأبدل من الضمة كسرة، فقالوا: حقوٍ وأحقِ، وظبي وأضبٍ، وجِرْوِ وأجر، والياء التي هي لام تحذف لالتقاء الساكنين هي والتنوين، واللام من يَديًا، يدل على ذلك قولهم: يديت إليه يدًا وأيديت. قال بعض بني أسد: يديت على حُسحَاس بن وَهْبِ (¬3) فيد في الأصل يَدْيٌ (¬4)، والفاء واللام من جنس واحد، وهو من باب سلس وقلق، قال أبو علي: ولا نعلم لذلك في الكلام نظيرًا. هذا قوله في أصل يدِ (¬5)، وقال أبو الهيثم: أصله يدًا مثل قفًا ورحًا، ثم ثَنَّوا على الأصل فقالوا: يديان، وأنشد: يديان بيضاوان عند مُحُلَّم ... قد تمنعانك بينهم أن تهضما (¬6) وقال آخر في الواحد: يا رُبَّ سارٍ سار ما توَسَّدَا ... إلا ذرع العنس أو كف اليدا (¬7) هذا هو الكلام في أصل هذا الحرف ومعانيه في اللغة على حد الاختصار، وقد تستعمل اليد وتستعار في مواضع كثيرة يطول بذكرها ¬

_ (¬1) في (ج): (ألعب). (¬2) بياض في (ج)، (ش). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "الممتع في التصريف" 2/ 624. (¬5) لم أقف على كلام أبي علي، وانظر: "الممتع في التصريف" 1/ 60، 409, 2/ 562، 624. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم أقف عليه.

الكلام، ولما كان الجواد يفرق المال وينفقه بيده، والبخيل يمسك اليد عن الانفاق أسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل، فقيل للجواد: فيَّاض الكف، مبسوط اليد، سبي البنان، ثرة الأنامل، في ألفاظ كثير معروفة في أشعارهم. ويقال في ضد ذلك للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل في أشباه لهذا كثيرة. واليهود لعنهم الله وصفوا الله تعالى بالبخل فقالوا: يد الله مغلولة. على ما بينا في تفسيره في أول الآية، فأجيبوا (¬1) على قدر كلامهم، ورد عليهم بضد ذلك فقيل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد، فليس لذكر اليد في الآية على هذا المعنى معنًى إلا إفادة معنى الجود والبخل (¬2)، ومعنى التثنية في قوله: {بَلْ ¬

_ (¬1) سقطت بعض أحرف هذه الكلمة في (ج). (¬2) المؤلف عفا الله عنه أول اليد هنا بالجود، والذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة إثبات صفة اليد لله عز وجل حسبما دلت عليه هذه الآية وغيرها على ما يليق بجلال الله وعظمته، قال الطبري رحمه الله في تفسيره: "ففي قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبىء عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع النعمة وصحة قول من قال: إن "يد الله" هي له صفة ... وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله وقال به العلماء وأهل التأويل "تفسير الطبري" 6/ 302، وقال البغوي في "تفسيره" 3/ 76، 77: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ويد الله صفة من صفاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم". وسيأتي في سياق المؤلف كلام أبي عبيد والزجاج وأبي بكر بن الأنباري في إثبات صفة اليد والرد على من أولها، وإن كان المؤلف لم يأبه بتقريرهم، وتعلق بما عليه الأشاعرة من التعسّف في التأويل.

يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ} المبالغة في الجود والإنعام، وهذا طريق في معنى الآية صحيح. وذهب بعض أهل اللغة أن معنى اليد في هذه الآية النعمة (¬1) قال في قوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} معناه: نعمة الله مقبوضة، وأنكر أبو عبيد والزجاج وابن الأنباري هذا القول، فقال أبو عبيد: من قال هذا فقد زعم أنه ليس لله على العباد إلا نعمتان، لأنه يلزمه أن يقول في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: نعمتاه. وقال الزجاج: هذا القول خطأ، ينقضه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى. وقال أبو بكر: هذا القول محال في هذه الآية، لأن نعم الله تعالى لا يحاط بعددها، وآلاؤه تفوق الإحصاء، فكيف يقول: نعمتاه مبسوطتان، فيوقع التثنية في الشيء الذي يُقَصِّر كل جمع عنه. الدليل على ما نَصِف قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [ابراهيم: 34، النحل: 18] (¬2). انتهت الحكاية عنهم. فهؤلاء الأئمة أنكروا هذا القول، وهو صحيح، وإن أنكروا وذهب عليهم وجه صحته. قال أبو علي فيما أصلح علي أبي إسحاق: قد دل كلام أبي إسحاق في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} على أن المراد به الإمساك، لأنه شبه ذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ¬

_ (¬1) هذا مذهب الأشاعرة!! وسبق من كلام الأئمة كالطبري، والبغوي ما يبين ضعفه ورده. (¬2) انظر: "زاد المسير" 2/ 393.

[الإسراء: 29]، وإذا كان ما حكى عن اليهود من هذا المراد به تبخيل الله تعالى عن ذلك فقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} رد لم افتروه وإبطال لما بهتوا فيه ونفي له، يدلك على ذلك عطفه بالحرف الدال على الإضراب عما قبله والإثبات لما بعده، فإذا كان المراد بالأول التبخيل والإمساك وكان هذا الثاني نفيًا للأول، وجب أن يكون المراد به إثبات النعمة التي أنكروها وادعوا أنها مقبوضة عنهم، فإنكاره على من قال: إن معنى {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} نعمته مقبوضة عني (¬1) هو الإنكار لما اعترف به، وقوله: وهذا القول خطأ ينقضه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى، فقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} لا يدل على تقليل النعمة وعلى أن نعمته نعمتان ثنتان ليس غيرهما, ولكنه يدل على الكثرة والمبالغة، وقد جاء التثنية يراد بها الكثرة والمبالغة وتعداد المَثْنَى، لا المعنى الذي يشفع الواحد المفرد، ألا ترى أن قولهم: "لبّيك" إنما هو إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك: "سعديك" إنما هو مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد بذلك طاعتين ثنتين، ولا مساعدتين ثنتين (¬2)، فكذلك الآية، المعنى فيها أن نعمته متظاهرة متتابعة، ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة، وهذا الذي ذكرناه في: "لبيك وسعديك" وأن المراد به الكثرة قول الخليل وسيبويه ومن وراءهما، فهذا وجه. وإن شئت حملت المثنى على أنه تثنية جنس، لا تثنية واحد مفرد، ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا والآخر نعمة الآخرة ونعمة الدين، فلا ¬

_ (¬1) في النسختين: (عنا). (¬2) انظر: "النكت والعيون" 2/ 51، "تفسير القرطبي" 6/ 239.

تكون التثنية على هذا مرادًا بها اثنتين، وقد جاء تثنية اسم الجنس في كلامهم مجيئًا واسعًا (¬1)، قال الفرزدق: وكُلُّ رفيقي كُلِّ رحلٍ وإن هُما ... تعاطَى القَنَا قوماهما أخوَانِ (¬2) فتأويل الرفيقين في البيت العموم والإشاعة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون رفيقان اثنان لكل رحل. وبعد، فإذا كانوا قد استجازوا تثنية الجمع الذي على بناء الكثرة كقوله: لأصْبَحَ القومُ أوتادًا ولم يجِدوا ... عندَ التفرُّق في الهيجَا جمَالينِ وكقول أبي النجم: بين رماحي مالك ونهشل ونحو ما حكاه سيبويه من قولهم: "لقاحان سوداوان" فأن يجوز تثنية اسم الجنس أجدر، لأنه على لفظ الواحد، فالتثنية فيه أحسن، إذ هو أشبه بألفاظ الأفراد، فإذا بان أن هذه التثنية لا تقتضي قول هذا القائل: نعمة الله مقبوضة ولا تنافيه، ولم ينكر اليد في اللغة بمعنى النعمة صح قوله الذي أنكره أبو إسحاق (¬3)، وبأن تحامله عليه (¬4)، انتهى كلام أبي علي (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 68،"تفسير القرطبي" 6/ 239. (¬2) البيت في "المسائل الحلبيات" ص 68 ونسبه المحقق إلى: "ديوان الفرزدق" 2/ 329. (¬3) يعني الزجاج، وقد تقدم إنكاره لتفسير اليد هنا بالنعمه، وأن الزجاج ذهب مذهب أهل السنة وهو منهم في إثبات صفات اليد لله عز وجل على ما وصف به نفسه كما في هذه الآية، ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) بل إن المؤلف ومن أخذ عنه كأبي علي الفارسي هم المتحاملون على أهل السنة في تفسير هذه الآية الجلية في إثبات صفة اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته. (¬5) لم أقف عليه فيما بين يدي من مؤلفات لأبي علي الفارسي، وكذا ما نسبه لسيبويه والخليل.

وذهب إلى هذا القول من المفسرين محمد بن مقاتل الرازي (¬1) فقال: أراد: نعمتاه مبسوطتان، نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة. وقوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، أي: يرزق كما يريد، إن شاء قتر وإن شاء وسع (¬2). وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، قال أبو إسحاق: أي كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم (¬3). وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، أي بين اليهود والنصارى عن الحسن (¬4) ومجاهد (¬5)، لأنه قد جرى ذكرهم في قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] (¬6). وقيل: أراد طوائف اليهود (¬7)، وهو اختيار الزجاج، قال: جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، كما قال جل وعز: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جَدَّهم ¬

_ (¬1) المتوفى سنة 242 هـ وهو حنفي فاضل، حدث عن وكيع لكنه غير مشهور، ولم أقف له على تفسير، انظر: "ميزان الاعتدال" 5/ 172، "معجم المؤلفين" 3/ 730. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 490، "تفسير الطبري" 6/ 300، "بحر العلوم" 1/ 448. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190. (¬4) "النكت والعيون" 2/ 52، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 77. (¬5) أخرجه عن مجاهد "تفسير الطبري" 6/ 302، "تفسير الوسيط" 2/ 207، "تفسير البغوي" 3/ 77، "زاد المسير" 2/ 394. (¬6) "تفسير الطبري" 6/ 302، "زاد المسير" 2/ 394. (¬7) "النكت والعيون" 2/ 52، "تفسير البغوي" 3/ 77.

65

وشوكتهم (¬1). وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}، أي لحرب محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وقال ابن عباس: "يريد كلما أرادوا محاربتك ردهم الله وألزمهم الخوف منك ومن أصحابك" (¬3)، وهو قول الحسن ومجاهد (¬4)، واختيار أبي إسحاق، قال: هذا مثل، أي: كلما جمعوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وأعدوا لحربهم، فرق الله جمعهم وأفسد ذات بينهم (¬5). قال قتادة: هذا عام في كل حرب طلبته اليهود، فلا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس (¬6). وقوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}، قال ابن عباس: "يريد سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم" (¬7). وقال الزجاج: أي يجتهدون في دفع الإسلام، ومحو ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتبهم (¬8). 65 - قوله (¬9) تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، قال ابن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190. (¬2) "تفسير الطبري" 6/ 304. (¬3) "تفسير الوسيط" 2/ 207، ونسبه محققه إلى تفسير ابن عباس ص 97، "زاد المسير" 2/ 394. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 77، "الدر المنثور" 2/ 526. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 190. (¬6) أخرجه الطبري 6/ 303، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 336، "تفسير البغوي" 3/ 77. (¬7) انظر: "زاد المسير" 2/ 394، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 118. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 191. (¬9) في (ش): (وقوله).

66

عباس: صدقوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - واتقوا اليهودية والنصرانية (¬1). وقال عطاء: واتقوا من الله (¬2)، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، وقال عطاء: يريد كل ما كانوا صنعوا قبل أن تأتيهم (¬3)، ومعنى التكفير: تغطية السيئة بالحسنة حتى تصير بمنزلة مالم يُعْمَل (¬4). 66 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، قال ابن عباس: "يريد عملوا بما فيهما من التصديق بك، والوفاء لله بما عاهدوا فيهما" (¬5). وقال أهل المعاني في معنى {أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} قولين: أحدهما: أقاموا أحكامهما وحدودهما، كما يقال: أقام الصلاة، إذا قام بحقوقها, ولا يقال لمن لم يوف شرائطها: أقامها. والثاني أقاموها نصب أعينهم؛ لئلا يزلوا في شيء من حدودها (¬6)، والأول الوجه، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ}، يعني القرآن في قول ابن عباس وغيره (¬7). وقيل: يعني كتب أنبيائهم (¬8)، أي لو عملوا بما في هذه الكتب ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 448، "تفسير الوسيط" 2/ 208، "تفسير البغوي" 3/ 77، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 119. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لأن الكُفْر بمعنى الستر. (¬5) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 208، "زاد المسير" 2/ 395، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 119. (¬6) انظر: "النكت والعيون" 2/ 52. (¬7) انظر: معاني القرآن للنحاس 2/ 337، "بحر العلوم" 1/ 448، "النكت والعيون" 2/ 52، "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 395. (¬8) انظر: "بحر العلوم" 1/ 448، "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 395.

وأظهروا ما فيها من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، قال ابن عباس: يريد لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض كل ما أرادوا (¬1)، وهذا قول المفسرين (¬2). وقال أهل المعاني: هذا على وجه التوسعة، لا على أن هناك فوق أو تحت، والمعنى: لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، فذكر فوق وتحت للمبالغة فيما ينالون وما يفتح عليهم من الدنيا، كما يقول القائل: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، يريد تكاثف الخير وكثرته عنده (¬3)، وهذا قول الفراء (¬4)، والزجاج (¬5)، وابن الأنباري. قال الزجاج: قد دل الله تعالى بهذا على ما أصابهم من الجدب مما عاقبهم به حتى شكوا ذلك بقولهم: يد الله مغلولة. وأعلم أن التقى سبب التوسعة في الرزق، وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} الآية [الأعراف: 96] وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقال في قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ} [نوح:10 - 11] (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه الطبري 6/ 305، "تفسير الوسيط" 2/ 208، "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 395. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 305، "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 395. (¬3) ذكر الطبري 6/ 306، هذا القول واستبعده قائلًا: "وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيداً على فساده". (¬4) معاني القرآن 1/ 315، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 337، 338، "زاد المسير" 2/ 395. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 191، "زاد المسير" 2/ 395. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 191، وانظر: "زاد المسير" 2/ 395.

67

وقوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}، قال عطاء: يريد قومًا أسلموا من اليهود والنصارى (¬1). وقال السدي: {أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} مؤمنة (¬2). وقال ابن عباس: هم العادلة غير الغالية ولا الجافية (¬3)، ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير (¬4)، وأصله من القصد، وذلك أن القاصد إلى الشيء الذي يعرف مكانه، خلاف الطالب المتحير في طلبه، فهو يمر على الاستقامة إليه، وليس كالمتحير فيه، فالاقتصاد الاستواء في العمل المؤدي إلى الغرض (¬5). وقوله تعالى: {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}، يقول: بئس شيئًا عملهم (¬6)، قال ابن عباس: "عملوا القبيح وما لا يرضي الله مع التكذيب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬7). 67 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية، روى الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله بعثني برسالته، وضقت به ذرعًا، وعرفت أن الناس مكذّبي" وكان يهاب قريشًا واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن عطاء، وهو قول كثير من المفسرين كمجاهد وابن زيد، انظر: "تفسير الطبري" 6/ 306، "بحر العلوم" 1/ 448، "تفسير الوسيط" 2/ 208، "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 395. (¬2) أخرجه الطبري 6/ 306، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 53، "الدر المنثور" 2/ 527. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 53، "تفسير الوسيط" 2/ 208، "تفسير البغوي" 3/ 78. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 395. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2972 (قصد)، "اللسان" 6/ 3642 (قصد). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192. (¬7) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 208، "تفسير البغوي" 3/ 78.

الآية (¬1)، قال ابن الأنباري: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه إشفاقًا على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعزه الله وأيده بالمؤمنين قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬2). وقال أبو إسحاق: أي لا تراقبن أحدًا ولا تتركن شيئًا مما أنزل إليك تخوفًا من أن ينالك مكروه (¬3)، قالا (¬4): والمعنى في قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرًا به، فإن أخفيت منه شيئًا في وقت لخوف يلحقك فما بلغت رسالته، فذلك وله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬5). قال ابن عباس: يقول إن كتمت آية مما أنزلت عليك لم تبلغ رسالاتي (¬6)، يعني: إنه إن ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، لأن تركه البعض محبط لإبلاغ ما بلغ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه لو لم يبلغ شيئًا مما أنزل الله، في أنه يستحق العقوبة من ربه (¬7)، وحاشا لرسول الله أن ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص 204، "تفسير البغوي" 3/ 78، "زاد المسير" 2/ 396، "الدر المنثور" 2/ 528، وعزاه السيوطي لأبي الشيخ عن الحسن. (¬2) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 208، 209. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192، انظر: "زاد المسير" 2/ 397. (¬4) أي الزجاج وابن الأنباري. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 79. (¬6) أخرجه الطبري 6/ 307، وانظر: "تفسير الوسيط" 2/ 209، "زاد المسير" 2/ 397. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 309، "بحر العلوم" 1/ 449، "النكت والعيون" 2/ 53، "تفسير البغوي" 3/ 79.

يكتم شيئًا مما أوحي إليه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئًا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] " (¬1). قال مقاتل بن حبان: هذا تحريض من الله نبيه على تبليغ الرسالة (¬2). وقال مجاهد: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: "يا رب كيف أصنع؟ أنا واحد، أخاف أن يجتمعوا علي" فأنزل الله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬3). فكل هذه الأقوال في تفسير هذه الآية تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفار، فكان لا يجاهرهم بعيب دينهم وسب آلهتهم، حتى أمنه الله تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، واختلفوا في قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فقرىء (رسالته) (¬4) على (¬5) واحدة، و (رسالاته) على الجمع (¬6)، فمن جمع قال: إن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام في الشريعة مختلفة، وكل آية أنزلها (¬7) الله على رسوله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4612) كتاب التفسير، باب: يا أيها الرسول بلغ، بنحوه، وبلفظه مسلم (177) كتاب الإيمان: باب 77 معنى قول الله عز وجل {ولقد رآه نزلة أخرى}، ولكن دون: "ولو كنتم ... "، "تفسير الطبري" 6/ 309. (¬2) بمعناه في تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 492. (¬3) أخرجه الطبري 6/ 307. (¬4) قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي "ابن كثير" وحفص عن عاصم. انظر: "الحجة" 3/ 239. (¬5) تكرر هذا الحرف في (ج). (¬6) قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. انظر: "الحجة" 3/ 239. (¬7) في (ج): (أنزله) بالتذكير.

فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع (¬1)، ومن أفرد قال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضًا فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] فوقع الاسم الواحد على الجمع كما يقع على الواحد، فكذلك الرسالة (¬2). وقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، أي: يمنعك أن ينالوك بسوء من قتل أو أسر أو قهر (¬3)، وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وكان سعدٌ وحذيفة يحرسانه، فأخرج رسول الله رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله" (¬4). وقال الزجاج في قوله: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}: أي يحول بينهم وبين أن يصيبك منهم مكروه (¬5)، فإن قيل: أليس قد شج جبينه وكسرت رباعيته؟، قلنا: كان هذا قبل نزول الآية؛ لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، أو نقول: المراد بالعصمة: أن يعصمه من قتله وأسره على ما ذكرنا أولاً (¬6). وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، قال ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 3/ 245. (¬2) "الحجة" 3/ 245، 246. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 53. (¬4) أخرجه بنحوه الترمذي (3046) كتاب: التفسير، باب: من تفسير سورة المائدة، "تفسير الطبري" 6/ 308، وعزاه في "الدر المنثور" 2/ 529 أيضًا إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 192. (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 79، "زاد المسير" 2/ 397.

68

ابن عباس: يريد لا يرشد من كذبك وأعرض عن ذكري (¬1)، وقد روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما روى الحسن، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قال: "بعثني الله برسالاته، فضقت بها ذرعًا، فأَوحَى إلى: "إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة" (¬2). 68 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ}، ذهب بعض المفسرين إلى أن الذي أُمر رسول الله بتبليغه هذه الآية (¬3)، قال مقاتل: لما نزل: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الله ما يبلغ فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} (¬4). قال ابن عباس: يقول لستم على شيء من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد، وبيان صفته ونعته، تبينونه للناس ولا تكتمونه (¬5)، وقد سبق في هذه السورة تفسير هذه الآية في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (¬6)، وفي قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا} (¬7) الآية. وقوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68]، تسلية ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 2/ 210، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 449، "النكت والعيون" 2/ 54، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 119. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 338، 339. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 492. (¬5) أخرجه بمعناه الطبري 6/ 309، وانظر: "تفسير الوسيط" 2/ 210. (¬6) الآية 66 من هذه السورة. (¬7) الآية 64 من هذه السورة.

69

للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إن كذبوك (¬1). 69 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}، قد مضى تفسير هذه الآية مشروحًا مستقصًى في البقرة (¬2). وقوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ}، اختلفوا في وجه ارتفاعه، فقال الكسائي: هو نسق على ما في {هَادُوا} كأنه قيل: هادوا هم والصابئون (¬3)، قال الزجاج: وهذا خطأ من جهتين: إحداهما أن الصابىء على هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابىء غير اليهودي، وإن جعل {هَادُوا} بمعنى: تابوا، من قوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسير قد جاء بغير ذلك، لأن معنى {الَّذِينَ آمَنُوا} في هذه الآية إنما هو إيمان بأفواهم، لأنه يعني به المنافقون؛ لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم بالله فله كذا، فجعلهم يهودًا ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يُحتج أن يقال: (من آمن منهم فلهم أجرهم) (¬4)، وهذا قول الفراء (¬5) والزجاج في الإنكار عليه، وقال الفراء: ارتفع الصابئون بالنسق على الذين، وإنما نُسِقَ على المنصوب بالمرفوع؛ لأن (إن) ضعيفة العمل، وضعفه أنه يقع على ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 310، "بحر العلوم" 1/ 449، "تفسير البغوي" 3/ 81. (¬2) عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} الآية (62) البقرة. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 194. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 194 بتصرف. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192 , 193

الاسم ولا يقع على خبره، يعني أنها تغير الاسم ولا تغير الخبر، وأيضًا فإن (الذين) حرف على جهة واحدة في الرفع والنصب والخفض، فلما لم يبين فيه عَملُ (إن) وكان عملها أيضًا ضعيفًا (¬1) رفع الصابئين بأن يرجع إلى أصل الكلام وهو الرفع قبل دخول (إن). أجاز الكسائي: "إنّ عبد الله وزيد قائمان" لضعف إن (¬2). قال الفراء: ولا أستحب ذلك لتبيين الإعراب في عبد الله، وأجازا معًا: (أنك نفسُك عالم)، (وأنا أنفسنا عالمان)، (وأنه نفسه متكلم)، (وأنهم أجمعون منطلقون)، (وأنك ومحمد في الدار)، وعند الفراء إذا دخلت (إن) على اسم لم يتبين عملها فيه يجوز أن ينسق عليه بالرفع والنصب جميعًا، وكذلك التوكيد، من ذلك أن تقول: إن قطام وهندٌ عندنا، وإن هؤلاء وإخوتُك يكرموننا، وإن هذا نفسه عالم، وذلك أن هذه الأسماء لا يتغير إعرابهنَّ ولا يظهر فيها عمل (إن)، فإذا دخلت إن على اسم يتبين عملها فيه وولي الاسم التوكيد والنعت والنسق، لم يكن فيها إلا النصب عند الفراء، كقولك: (إن زيدًا نفسه عالم)، (وإن محمدًا وأخاك منطلقان)، (وإن القوم وعبد الله عندنا)، ويجوز الرفع عند الكسائي، ومما جاء في أشعار العرب يشهد لمذهب الفراء قول بشر بن أبي خازم (¬3): وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم ... بُغاةٌ ما حيينا في شِقَاقِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (ج): (ضعيف). (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 192، 193. (¬3) هو: بشر بن أبي خازم عمرو بن عوف الأسدي، شاعر جاهلي شجاع من أهل نجد، توفي سنة 22 قبل الهجرة. "الأعلام" 2/ 54. (¬4) البيت في الكتاب 2/ 156، "معاني الزجاج" 2/ 193.

رفع أنتم بالنسق على النون والألف، إذ لم يتبين عمل (إن) فيهما، ولو نصب لقال: وإياكم. وقال آخر: يا ليتني وأنتِ بالميسُ ... ببلدةٍ ليس بها أنيسُ (¬1) رفع (أنتِ) وهو نسق على الياء إذ لم يتبين فيها الإعراب، وقال آخر: يا ليتنا وهما نخلوا بمنزلة ... حتى يرى بعضنا بعضًا ويأتلف (¬2) وأنشدوا أيضًا لضابىء البرجُمي (¬3) على هذا المذهب: فمن يكُ أمسى بالمدينة رحلُهُ ... فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ (¬4) هذا كله مذهب الكوفيين، وأنكر البصريون جميع ذلك، أما قول الكسائي فقد ذكرنا وجه بطلانه، وأما قول الفراء: نصب (إن) ضعيف، لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر "فقال أبو إسحاق: هذا غلط، لأن (إن) قد عملت عملين: النصب والرفع، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع؛ لأن كل منصوب مشبه بالمفعول، والمفعول لا يكون بغير فاعل إلا فيما لم يُسَمَّ فاعله، وكيف يكون نصب (إن) ضعيفًا وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها نحو قولك: إن أمامك زيدًا، وإن عندك عمروًا، قال الله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] ونصب (إنَّ) من أقوى المنصوبات (¬5)، ومذهب الخليل وسيبويه في هذا التقديم والتأخير، ويكون ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هو ضابئ بن الحارث بن أرطأة التميمي البُرجمي شاعر جاهلي أدرك الإسلام , حبسه عثمان - رضي الله عنه - حتى مات نحو سنة 30 هـ "الأعلام" 3/ 212. (¬4) البيت في الكتاب 1/ 75، "الإنصاف" لابن الأنباري ص 85. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 193.

(الصابئون) مرتفعًا بالابتداء، المعنى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله" إلى آخر الآية، والصابئون والنصارى كذلك أيضًا (¬1). إن عبد الله ومحمد قائم، تريد: إن عبد الله قائم ومحمد كذلك أيضًا (¬2)، وأنشدوا: عقاب عقبناه كأن وظيفها ... وخرطومُها الأعلى بنار مُلَوّح (¬3) أراد كأنَّ وظيفها مُلوِّح وخرطومها كذلك أيضاً، وعلى هذا حملوا أيضًا ما أنشده الكوفيون، أما قول بشر فالمعنى فيه: فاعلموا أنا بغاة ما بغينا في شقاق وأنتم أيضًا كذلك، وكذلك سائر الأبيات. وأما قوله: فإني وقيَّارٌ فإن رواية البصريين: "وقَيَّارًا" بالنصب، وإن رفع كان محمولًا على التقدير الذي ذكرنا، وأما ما أجازه الفراء من قولهم: إنهم أجمعون ذاهبون، فحمله سيبويه على الغلط، وقال: إن قومًا من العرب يغلطون فيقولون إنك وزيدٌ ذاهبان، وإنهم أجمعون منطلقون، فجعله غلطًا (¬4). وحكى أبو بكر بن الأنباري في الآية قولًا رابعًا لأبي عبد الله هشام بن معاوية (¬5)، وهو أن يضمر خبر (إن) ويبتدأ (الصابئون) والتقدير: إن الذين ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 193. (¬2) هذا تمثيل، وليس عند الزجاج. (¬3) لم أقف على قائله. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 193. (¬5) هو أبو عبد الله هشام بن معاوية الكوفي الضرير، نحوي، صحب الكسائي وأخذ عنه كثيرًا من النحو، وله تصانيف، توفي سنة 209 هـ انظر: "الفهرست" ص 105، "معجم المؤلفين" 4/ 64.

70

آمنوا والذين هادوا يُرحَمون على قول من قال هم مسلمون، ويعذبون على قول من قال هم كفار، فيحذف الخبر إذا عرف موضعه، كما حذف من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] (والمعنى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) (¬1) يعذبون ويعرضون على ربهم، فحذف استغناء بمعرفة المخاطبين به. ثم يرتفع (الصابئون) بمن وما بعدها، ومن حرف جزاء يرتفع بما عاد إليه (من آمن) والفاء جواب الجزاء، وهذا القول قريب من قول البصريين، غير أنهم يضمرون خبر الابتداء، ويجعلون (من آمن) خبر (إن)، وهذا على العكس من ذلك؛ لأنه جعل (من آمن) خبرًا للابتداء وأضمر خبر (إن) (¬2). 70 - قوله تعالى: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}، إن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي؟، الجواب: ليدل على أن ذلك من شأنهم، ففيه معنى: كذبوا وقتلوا، ويكذبون ويقتلون، مع أن قوله: (يقتلون) فاصلة يجب أن يكون موافقًا لرؤوس الآي. ويمكن أن يقال التقدير فيه: فريقًا كذبوا لم يقتلوه، وفريقًا كذبوا يقتلون، فيكون (يقتلون) صفة للفريق، فلم يكن فيه عطف المستقبل على الماضي، وفي الجواب الأول لم يكن (كذبوا) ولا (يقتلون) صفة للفريق؛ لأن التقدير كذبوا فريقًا ويقتلون فريقًا، والفريق غير موصوف، وفي الجواب الثاني الفريق موصوف، وذكرنا تفسير الفريقين في البقرة عند قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} [البقرة: 87]. 71 - قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، قال عطاء عن ابن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين متكرر في النسختين. (¬2) انظر: "البحر المحيط" 3/ 531 - 533.

عباس: "يريد وظنوا أن الله لا يعذبهم" (¬1). وقال الكلبي: "أي ألا يُبْتَلَوا بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل" (¬2). وقال قتادة: "وحسب القوم أن لا يكون بلاء" (¬3). وقال مقاتل: "وحسبوا أن لا يكون بلاءً، وقحط المطر" (¬4)، فحصل في الفتنة ههنا: العقوبة والعذاب عن ابن عباس، والبلية عن الكلبي وقتادة، والشديدة والقحط عن مقاتل، وقال الزجاج: وحسبوا فعلهم غير فاتن لهم، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه (¬5). وقال ابن الأنباري: قدروا أن لا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر، وظنوا أن ذلك لا يكون موبقًا لهم (¬6). واختلفوا في إعراب: (ألا تكون) فنصبه بعضهم، ورفعه آخرون، والأصل في هذا الباب أن تعرف أن الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره، نحو: العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا وقع بعده (إنّ) الثقيلة ولم يقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك أن الثقيلة معناها ثبات الشيء واستقراره، والعلم كذلك أيضًا، فإذا وقع على الثقيلة واستعمل معه كان وفقه وملائمًا له، وذلك قوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور: 25] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 2/ 211، ونسبه المحقق إلى تفسير ابن عباس ص 98. (¬2) انظر: "النكت والعيون" 2/ 55، "تفسير الوسيط" 2/ 211، "تفسير البغوي" 3/ 82، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 120. (¬3) أخرجه الطبري 6/ 312. (¬4) تفسيره 1/ 494. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195. (¬6) انظر: "زاد المسير" 2/ 401.

[التوبة: 104]، و {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] والباء زائدة (¬1)، وكذلك ما كان معناه العلم كالتبين والتيقن، وهذا ضرب. والضرب الثاني: فعل يدل على خلاف الاستقرار والثبات نحو: أطمع وأخاف وأخشى وأشفق وأرجو، فهذا ونحوه لا يستعمل بعده إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82]، و {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26] {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا} [المجادلة: 13]. والضرب الثالث: فعل يجذب مرة إلى ذاك القبيل، ومرة إلى هذا القبيل، نحو: حسبت وظننت وزعمت، وهذا النحو يجعل مرة بمنزلة: أرجو وأطمع، من حيث كان أمرًا غير مستقر، ومرة يجعل بمنزلة العلم، من حيث استعمل استعماله، وفي هذه الآية أجري مجرى العلم، لأنهم عملوا عليما حسبوا، فكأنه أجري مجرى العلم، (ويمكن) (¬2) أن يقال: إنما جعل بمنزلة العلم من حيث كان خلافه، والشيء قد يجري مجرى الخلاف في كلامهم، نحو: عطشان وريان، وكلا (¬3) الأمرين قد جاء به القرآن، فمثل قول من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ} [الجاثية: 21] {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2]. ومثل قراءة من رفع: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} [الزخرف: 80] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا ¬

_ (¬1) سبق التنبيه أن مثل هذا التعبير غير لائق في جانب كلام الله عز وجل، لئلا يتوهم أن في القرآن زائدًا. (¬2) هذه الكلمة ساقطة من (ج). (¬3) في (ج): (وكلي).

نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ} [القيامة: 3]. فهذه مخففة من الثقيلة، لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها (أن)، ومثل المذهبين في الظن قوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا} [القيامة: 25] {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا} [البقرة: 230]. ومن الرفع قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الجن: 5] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن: 7] فأنْ ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20] لأن (أن) الناصبة للفعل لا تجتمع مع (لن) ومع السين؛ لاجتماع الحرفين في الدلالة على الاستقبال، كما لا يجتمع الحرفان لمعنى واحد، فمن رفع قوله: (أن لا تكون) كان المعنى: أنَّه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت (لا) عوضًا من حذف الضمير، ولو قلت: علمت أن يقول، بالرفع، لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضًا من حذف الضمير، نحو قد والسين وسوف، كما قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20] ووجه النصب ظاهر. وقوله تعالى: {فَعَمُوا وَصَمُّوا}، أي عن الهدى فلم يعقلوه (¬1)، قال الزجاج: هذا مثل، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا ما رأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصم (¬2). وقوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، قال الحسن: "فاستنقذهم بمحمد فكذبوه" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 312، "بحر العلوم" 1/ 451، "النكت والعيون" 2/ 55، "تفسير البغوي" 3/ 82. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195، انظر: "بحر العلوم" 1/ 451. (¬3) لم أقف عليه عن الحسن , انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 341، "بحر العلوم" 1/ 451 , "زاد المسير" 2/ 401.

قال (¬1) أبو إسحاق: أي أرسل إليهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم أن الله عز وجل قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا (¬2). وقال أبو بكر: ثم تاب الله عليهم بإرساله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى الصراط المستقيم، فكانوا بذلك معرضين للتوبة وإن لم يتوبوا. وقوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ}، أي بعد تبيّن الحق لهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عمي كثير منهم، خص الله تعالى بعضهم بالفعل الآخر من العمى والصمم، إذ لم يكونوا أجمعوا على خلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وارتفع {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بإضمار فعل مقدر يدل عليه: {عَمُوا وَصَمُّوا}، كأنه قيل: عمي وصم كثير منهم. قاله الفراء (¬4) وابن الأنباري. وأجازاهما والزجاج أيضًا أن يكون جمع الفعل متقدمًا، كما حكي عن العرب أكلوني البراغيث (¬5). وذكر الزجاج وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بدلاً من الواو، كأنه لما قال: {عَمُوا وَصَمُّوا} أبدل الكثير منهم، والثاني أن يكون {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} خبر ابتداء محذوف، والمعنى: والعمي والصم كثير منهم (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}، أي: من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، قاله مقاتل (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج): (فقال). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 1/ 478. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 316. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 316، "معاني الزجاج" 2/ 195، 196. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 195، 196. (¬7) تفسيره 1/ 494.

73

73 - قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}، (قال الفراء: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}) (¬1) لا يكون إلا مضافًا, ولا يجوز التنوين في (ثالث) فتنصب الثلاثة، وكذلك قوله: (ثاني اثنين) لا يكون (اثنين إلا) (¬2) مضافًا, لأن المعنى مذهب اسم (¬3)، كأنك قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة، ولو قلت: أنت ثالث اثنين، جاز الإضافة وجاز التنوين ونصب الاثنين، وكذلك: رابعُ ثلاثةٍ، ورابعٌ ثلاثةً؛ لأنه فعل واقع (¬4). وزاد أبو إسحاق لهذا بيانًا فقال: لا يجوز في (ثلاثةٍ) إلا الخفض؛ لأن المعنى: أحد ثلاثة، فإن قلت: زيد ثالث اثنين، أو: رابع ثلاثة، جاز الخفض والنصب، أما النصب فعلى قولك: كان القوم ثلاثة فربعتهم وأنا رابعهم غدًا، ومن خفض فعلى حذف التنوين، كما قال الله عز وجل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (¬5)، وذكرنا هذه المسألة مشروحة عند قوله تعالى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. فأما معنى قول النصارى لعنهم الله: (ثالث ثلاثة) ففيه طريقان: الأظهر والأوفق للفظ طريق المفسرين، وهو أنهم قالوا: أرادت النصارى بقولهم: (ثالث ثلاثة) الله ومريم وعيسى، زعموا أن الإلهية بين الثلاثة، وأن كل واحد من هؤلاء إله، يؤكد هذا القول من مذهبهم قوله تعالى للمسيح: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ} [المائدة: 116] ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ج)، وهكذا هو في (ش)، ولعل الصواب: "ثاني". (¬3) هكذا في النسختين، ولم يتضح الأسلوب لهذه اللفظة. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 317. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 196.

ففي هذا بيان أنهم كانوا يشركون مريم وعيسى في الإلهية (¬1)، وهذا القول اختيار الزجاج، لأنه قال في معنى قوله: (ثالث ثلاثة): أنهم قالوا: الله أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة. هذا كلامه (¬2). وعلى هذا المعنى لا بد من أن يكون في الآية إضمار واختصار، لأن المعنى أنهم قالوا: إن الله ثالث ثلاثة آلهة، أو ثالث ثلاثة من الآلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد الآلهة، ومطلق ثالث ثلاثة لا يكون كفرًا، فإنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] (¬3)، والذين يحقق أنهم أرادوا بالثلاثة الآلهة قوله تعالى في الرد عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} هذا طريق في الآية. والمتكلمون حكوا عن النصارى في قولهم التثليث أنهم يقولون إن الباري سبحانه جوهر واحد، وأنه ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح قدس، وهذه الثلاثة إله واحد، قالوا: واسم الإله يتناول هذه الثلاثة الأشياء، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب: الذات وبالابن الكلمة وبالروح القدرة، فأثبتوا الذات والكلام والقدرة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله، وهو إله ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 451، "تفسير البغوي" 3/ 82، "زاد المسير" 2/ 403. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 196. (¬3) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 208، "تفسير البغوي" 3/ 82.

74

واحد (¬1)، وكل هذا فاسد لأنه يعرف ببديهة العقل فساد أن يكون ثلاثة واحدًا , ولو جاز هذا، لجاز أن يكون الواحد أربعة، والأربعة واحداً. وليس هذا موضع بسط الكلام في الرد عليهم، وعلى هذا فالذي أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} هو معنى مذهبهم؛ لأنهم وإن لم يصرحوا بأنه واحد من ثلاثة آلهة فذلك لازم لهم، وإنما يمتنعون من العبارة، لأنهم إذا قالوا: إن كل واحد (¬2) من الأقانيم إله، فقد جعلوه ثالث الآلهة، وقولهم بعد هذا وهو إله واحد مناقضة لما قالوا، وإذا كان كذلك صح أن يُخْبَر عنهم من مذهبهم ما يلزمهم، وذهب من المفسرين إلى هذا الطريق: الكلبي (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (مِنْ) دخلت مؤكدة، المعنى: وما إله إلا إله واحد (¬4). وقوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي الذين أقاموا على هذا الدين، وعلى هذا القول. قاله الزجاج (¬5). 74 - قوله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ}، قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام، وقد يرد الأمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] (¬6)، في آية تحريم الخمر. وإذا انتهينا إليها ذكرنا هذا إن شاء الله. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 313 - 314، "ابن كثير" 2/ 92. (¬2) في (ج): (واحدة) بالتأنيث. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 196. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 196، انظر: "زاد المسير" 2/ 403. (¬6) ليس في معاني القرآن، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 82، "زاد المسير" 2/ 403.

75

75 - قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، أي أنه رسول ليس بإله، كما أنهم رسل ليسوا آلهة، وإنما أتى بالمعجزات من قبل ربه كما أتوا بها من قبل ربهم، فمن ادعى له الإلهية فهو كمن ادعى لهم الإلهية؛ لتساويهم في المنزلة. وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬1). وقوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، ذكرنا معنى الصديق فيما سبق (¬2)، وقيل لمريم (صديقة) لتصديقها بآيات ربها، ومنزلة ولدها، وتصديقها ما أخبرها. قال الله تعالى في صفتها: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] (¬3). وقال الفراء: ووقع عليها التصديق (¬4) كما وقع على الأنبياء، وذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الرسالة، فكانت كالنبي (¬5). وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}، قال أهل المعاني: هذه الآية احتجاج على النصارى بأن من ولَده النساء وهو يأكل الطعام لا يكون إلهًا للعباد؛ لأن سبيله سبيلهم في الحاجة إلى الصانع المدبر، والمعنى أنهما كانا يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الآدميين، فكيف يكون إله لا ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 196. (¬2) عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 2/ 56، "تفسير البغوي" 2/ 83. (¬4) في (ج): (الصديق). (¬5) معاني القرآن 1/ 318.

يقيمه إلا أكل الطعام؟ (¬1)، وكل هذا معنى قول ابن عباس في تفسير قوله: {يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} يريد هما لحم ودم، يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان (¬2). قال عبد الله بن مسلم (¬3): هذا ألطف ما يكون من الكناية، لأنه عبر عن الحدث بالطعام، لأن من أكل الطعام لا بد له من أن يحدث (¬4)، فلما ذكر أكل الطعام صار كأنه أخبر عن عاقبته، والطعام والحدث ليسا من أوصاف الإلهية، وأنكر عمرو بن يحيى (¬5) أن يكون هذا كناية عما ذكر، وقال: كأنه لم يعلم أن في الجوع وما ينال أهله من الذلة والعجز والفاقة أدل دليل على أنهم مخلوقون، حتى ادعى على الكلام شيئًا قد أغناه الله عنه. وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ}، قال ابن عباس: نفسر لهم أمر ربوبيتي (¬6). وقوله تعالى: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، يقال: أفكه يأفكه أفكًا، إذا صرفه. والإفك: الكذب؛ لأنه صرف عن الحق، وكل مصروف عن شيء مأفوك عنه (¬7)، وأنشد ابن السكيت: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 315، "تفسير البغوي" 3/ 83. (¬2) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 213. (¬3) ابن قتيبة. (¬4) "غريب القرآن" ص 144، انظر: "زاد المسير" 2/ 404. (¬5) لم يتبين من عمرو بن يحيى هذا، ويحتمل أن عمرو تصحفت عن: (أحمد)، فيكون المقصود: أحمد بن يحيى المعروف بثعلبَ، والمؤلف كثير ما ينقل عنه. والله أعلم. (¬6) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 213. (¬7) انظر:"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 144، "تفسير الطبري" 6/ 315، "معاني =

76

إن تكُ عن أحسنِ المروءة مأ ... فوكًا ففي آخرين قد أُفِكُوا (¬1) وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، وأرض مأفوكة لم يصبها مطر (¬2)، ومعنى: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي يصرفون عن الحق الذي يؤدي إليه تدبر الآيات (¬3). وقال أبو عبيدة: أي يحرمون الحق، من قولهم: أرض مأفوكة، إذا حرمت (¬4) المطر (¬5)، وهذا كالأول؛ لأن الأرض التي حرمت المطر فقد صرف عنها المطر، وفي هذا دليل أنهم صدوا عن الإيمان وصرفوا عنه بصرفٍ لا من قبلهم. 76 - قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}، في هذه الآية إلزام النصارى على اتخاذ المسيح إلهًا عبادة ما لا ينفع ولا يضر، لأنه لا يملك ذلك إلا الله تعالى (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، قال ابن عباس: يريد سميع لكفركم، عليم بضميركم (¬7)، وفي هذا تحذير من الجزاء بالسيئة، لأنه يعلم ¬

_ = الزجاج" 2/ 197، "بحر العلوم" 1/ 452، و"الصحاح" 4/ 1573 (أفك)، "النكت والعيون" 2/ 57. (¬1) البيت لعروة بن أذينة كما في الصحاح 4/ 1573 (أفك)، و"معجم شواهد العربية" ص 257، ونسبه في "اللسان" 1/ 97 (أفك) لعمرو بن أذينة، ولعل الأول أقرب. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 315، "تهذيب اللغة" 1/ 174 (أفك)، "النكت والعيون" 1/ 479. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 57. (¬4) في (ج): (حرم) بالتذكير. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 174، 175، "تهذيب اللغة" 1/ 174 (أفك). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 315 - 316. (¬7) في "تفسير الوسيط" 2/ 214 دون نسبة لابن عباس، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 120.

77

الأعمال، ويعلم الإسرار والإعلان. 77 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}، ذُكر معنى الغلو في النساء (¬1)، وهو نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد (¬2)، قال ذو الرمة. وما زال (¬3) يغلو حب مية عندنا ... ويزداد حتى لم نجد ما يزيدها (¬4) قال الحسن: ودين الله بين الغلو والتقصير (¬5)، واختلفوا في المعني بأهل الكتاب ههنا: فقال عطاء عن ابن عباس: يريد اليهود والنصارى (¬6)، وغلو اليهود في عيسى: تكذيبهم إياه، ونسبته إلى أنه لغير رشدة، وغلو النصارى: ادعاؤهم الإلهية له (¬7)، وقال آخرون: الخطاب للنصارى دون اليهود (¬8)، وانتصاب (غيرَ الحق) من وجهين: أحدهما (¬9) على الحال والقطع من الدين، كأنه قيل: لا تغلوا في دينكم مخالفًا للحق؛ لأنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه، والثاني أن يكون منصوبًا على الاستثناء، بمعنى: لا تغلوا في دينكم إلا الحق، فيكون الحق مستثنى من المنهي عن الغلو فيه بأن يجوز الغلو فيما هو حق، على معنى اتباعه والثبات ¬

_ (¬1) عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (171) النساء. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 316. (¬3) في (ج): (وما زاد)، وفي ديوان ذي الرمة: فما زال. (¬4) "ديوانه" ص 164. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 316. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 496، "تفسير الطبري" 6/ 316، "زاد المسير" 2/ 405. (¬9) في (ج): (أحدها) بالإفراد.

عليه، قال مقاتل: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي في عيسى. وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} الأهواء جمع هوى، وهوى فَعَلٌ، وجمعه أفعال (¬1)، ومعنى الأهواء هنا: المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، وقد يشق على الإنسان النظر ويميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده فيكون ذلك هوى (¬2)، قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى هوى في القرآن إلا ذمَّهُ (¬3) كقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} [ص: 26] {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، ومثله كثير (¬4). قال أبو عبيد: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال في الخير: يريد ويحب، وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشدوا في ذم الهوى: إن الهوان هو الهوى حرم اسمه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا ومثل ذلك أيضًا: نون الهوان من الهوى مسروقة ... وأسير كل هوى أسير هوان وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي هواي على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة (¬5)، ويعني بالقوم الذين ضلوا من قبل رؤساء ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 197. (¬2) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 214، 3/ 83. (¬3) في (ج): (ذمة) بالتاء. (¬4) لم أقف عليه عن الشعبي، معناه في "معاني القرآن" للنحاس 2/ 346. (¬5) لم أقف عليه.

الضلالة من فريقي اليهود والنصارى. والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم، وأن يقلدوهم فيما هووا (¬1)، وقال الحسن ومجاهد: (الذين ضلوا من قبل) هم اليهود (¬2)، وعلى هذا (الخطاب) (¬3) للنصارى فقط، يقول: لا تؤثروا الشهوات على البيان كما فعلت اليهود حين كذبوا الرسل ونقضوا العهد، والمراد بالنهي عن اتباع اهوائهم: النهي عن اتباع (أهواء) (¬4) مثل أهوائهم في التكذيب والمخالفة على الرسل، ففي القول الأول وقع النهي على اتباع غير ما هووا، وفي هذا الثاني وقع النهي على اتباع مثل أهوائهم، والتقدير في اللفظ: لا تتبعوا مثل أهواء قوم، أي أهواء مثل أهوائهم، ثم حذف الأهواء الأول وأقيم الثاني مقامه؛ لأنه هوى مثله. والأول أظهر. وقوله تعالى: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، إن قيل: أي فائدة لهذا بعد قوله {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ}؟، قيل: معناه: ضلوا عن سواء السبيل بإضلالهم الكثير، فالمعنى: أنهم ضلوا بإضلال غيرهم، فيكون معنى هذا الثاني (¬5)، " (¬6) غير معنى الأول، وهذا معنى قول الزجاج (¬7)، ويجوز أن يكون معنى: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} تفسيرًا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الوسيط" 2/ 214، "تفسير البغوي" 3/ 83، "زاد التفسير" 2/ 405. (¬2) أخرجه عن مجاهد الطبري 6/ 316، انظر: "زاد المسير" 2/ 405. (¬3) سقطت هذه الكلمة من (ج). (¬4) في (ج): (هوا). (¬5) بعد هذه الكلمة وجد سقط في نسخة (ج) بمقدار لوحتين تقريبًا. (¬6) بداية السقط. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 198.

78

لقوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} لأنه بين في الثاني أن ضلالهم عمَّاذا كان. 78 - قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، قال أكثر المفسرين: يعني: أصحاب السبت وأصحاب المائدة، أما أصحاب السبت: فإنهم لما اعتدوا قال داود: اللهم العنهم، واجعلهم آية ومثلًا لخلقك، فمسخوا قردة، وأما أصحاب المائدة: فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، وأصبحوا خنازير. وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة (¬1). وقال ابن عباس: يريد في الزبور من يكفر من بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيل (¬2). وقيل: {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى}؛ لأن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى، وقال الزجاج: وجائز أن يكون عيسى وداود أعلما أن محمدًا نبي مبعوث، وأنهما لعنا من يكفر به (¬3)، والقول هو الأول. 79 - قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} الآية، للتناهي ههنا معنيان: أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور، أنه مفاعل من النهي، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضًا (¬4)، قال عطاء عن ابن عباس: "كان بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السبت، وفرقة نهوهم ولكن لم يدعوا مجالستهم ولا مؤاكلتهم، وفرقه لما رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 317 - 318، "بحر العلوم" 1/ 452، 453، "تفسير الوسيط" 2/ 214، "تفسير البغوي" 3/ 84، "زاد المسير" 2/ 405، 406. (¬2) أخرجه الطبري 6/ 317. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 198، انظر: "بحر العلوم" 2/ 453. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 6/ 319، "تفسير البغوي" 3/ 84، "زاد المسير" 2/ 406.

80

وبقيت الفرقتان المعتدية والناهية المخالطة، فلعنوا جميعًا" (¬1) ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم" (¬2). وروى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رضي عمل قوم فهو منهم، ومن كثر سواد قوم فهو منهم" (¬3). والمعنى الثاني للتناهي أنه بمعنى الانتهاء، يقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه، إذا كف عنه. وهو قول ابن عباس في هذه الآية: "ليس ينتهون، ولكن كانوا قومًا يعتدون" (¬4). وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، أي لبئس شيئًا فعلهم (¬5)، ويجوز أن تكون (ما) ههنا كافة لبئس كما تكف في: إنما وبعدما وربما ولكنما وكأنما وليتما ولعلّما، واللام في (لبئس) لام القسم، كأنه قيل: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون (¬6). 80 - قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: من اليهود يتولون كفار مكة، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه حين ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أبو داود برقم 4336، 4337 ومن حديث حذيفة بنحوه أخرجه الإمام أحمد 5/ 388، والترمذي وحسنه برقم 2169. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 121. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 198. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 199 , "زاد المسير" 2/ 407.

81

استجاشوا المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا ذلك في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] (¬1). وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ}، أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة (¬2). وقوله تعالى: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، محل (أن) رفعٌ، كما تقول: بئس رجلاً زيدٌ، ورفعه كرفع زيد، وفي رفع زيد وجهان: أحدهما: الابتداء، وتكون بئس وما عملت فيه خبره، والثاني: أن يكون خبر ابتداء محذوف، كأنه لما قال: بئس رجلاً، قيل: من هو؟ فقال: زيد، أي هو زيد (¬3)، وذهب ابن عباس ومجاهد والحسن إلى أن هذه الآية في المنافقين، والكناية في قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} عائدة إلى المنافقين (¬4)، وهذا القول يؤكده ما بعد هذه الآية. 81 - قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ}، إن قلنا: نزلت هذه الآية في المنافقين فالأمر ظاهر، ويجب أن يكون في المنافقين من اليهود؛ لاتصالها بما قبلها، وقبلها في ذكر اليهود لا المشركين، ويكون في هذا جمعًا بين القولين في نزول الآية الأولى، وإن قلنا: إنها ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 6/ 320، "بحر العلوم" 1/ 453، "تفسير البغوي" 3/ 84، 85. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 453، "تفسير البغوي" 3/ 85، "زاد المسير" 2/ 407. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 199، "زاد المسير" 2/ 407. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 10/ 498، "بحر العلوم" 1/ 453، "تفسير الوسيط" 2/ 216، "تفسير البغوي" 3/ 85، "زاد المسير" / 407.

82

نزلت في الذين جاهروا من اليهود بالعداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتولي للمشركين، فمعنى قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} فالمراد بالنبي: موسى عليه السلام {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} كتابه، أي: لو آمنوا بموسى وما أنزل إليه ما اتخذوا الكافرين أولياء. 82 - قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} الآية، اللام في (لتجدن) لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، عند الخليل وسيبويه (¬1)، قال المفسرون: إن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ينبغي أن يكونوا أقرب إلى المؤمنين، لأنهم يؤمنون بموسى والتوراة، والكفار كانوا يكذبون بهما، لكنهم حسدوا المؤمنين ومحمدًا عليه السلام (¬2). وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: يعني: النجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به، ولم يُرِد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للدين والمسلمين، وهذا قول مجاهد والكلبي ومقاتل (¬3)، وقال قتادة: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنوا به (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 199، "زاد المسير" 2/ 408. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 199، "الوسيط" 2/ 216. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 497، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 318، والطبري 7/ 2، و"بحر العلوم" 1/ 453، و"النكت والعيون" 2/ 58، والبغوي 3/ 85، و"زاد المسير" 2/ 408. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 3، "النكت والعيون" 2/ 58، "زاد المسير" 2/ 408.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا}، قال الزجاج: القس والقسيس رؤساء النصارى (¬1). وقال الفراء في كتاب "الجمع": يجمع القسيس قسيسين كما قال الله، ولو جمع قسوسًا كان صوابًا؛ لأنهما في معنى واحد، يعني القس والقسيس، قال: ويجمع القسيس قساوسة، جمع على مثال مَهَالبَة، وكان قساسية، فكثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوًا (¬2)، والقسوسة مصدر القس والقسيس، وقد تكلمت العرب بالقس والقسيس، أنشد المازني: لو عَرضتْ لأِيبُليٍّ قَسِّ ... أشعثَ في هيكلِه مُنْدسَّ حَنَّ إليها كحنينِ الطَّسِّ (¬3) وقال أمية: لو كان مُنفَلتٌ كانت قساوسةٌ ... يُحييهم اللهُ في أيديهم الزُّبُرُ (¬4) وقساوسة جمع قسيس، على ما ذكرنا، هذا كلام أهل اللغة في القسيس، وقال ابن زيد: "القسيسين: العُبَّاد" (¬5). وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وبقي واحد من علمائهم على الحق والاستقامة وهو قسّيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس" (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 200، و"بحر العلوم" 1/ 454، و"الصحاح" 3/ 963 (قس). (¬2) كلام الفراء من "تهذيب اللغة" 3/ 2959 (قس)، و"تفسير الطبري" 7/ 3. (¬3) الرجز منسوب للعجاج، وقد سبق ذكره عند تفسير المؤلف للآية الأول من سورة النساء. (¬4) البيت في "تهذيب اللغة" 3/ 2959 (قس). (¬5) أخرجه الطبري 7/ 3. (¬6) لم أقف عليه.

وقال قطرب: القس والقسيس: العالم بلغة الروم (¬1). وقال ورقة (¬2): بما خبَّرتنا مِن قولِ قَسٍّ ... من الرهبانِ أكرهُ أنْ يعوجا وعلى هذا فالقس والقسيس مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين، وأما الرهبان فهو جمع راهب، مثل راكب وركبان، وفارس وفرسان، قال الليث: الرهبانية مصدر الراهب، والترهيب التعبد في صومعة (¬3)، وقال أبو الهيثم: الرهبان يكون واحدًا وجمعًا، فمن جعله واحداً جعله بناء على فُعلان (¬4)، وأنشد: لو عاينت رُهبان ديْرٍ في القُلَلْ ... لأقبلَ الرُّهبانُ يعْدُو ونَزَلْ (¬5) قال: ووجه الكلام: أن يكون جمعًا بالنون، قال: وإن جمع الرهبان الواحد رهابين ورهابنة جاز، وإن قلت: رهبانيون، كان صوابًا، ينسبه إلى الرهبانية (¬6)، وأصل الرهبانية من الرهبة بمعنى المخافة (¬7). وقال جرير: رهبانُ مديَن لو رأوك تنزَّلوا ... والعُصمُ من شَعَفِ العَقُول الفادِرِ (¬8) ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 217، والبغوي 3/ 87، و"زاد المسير" 2/ 408. (¬2) الظاهر أنه ورقة بن نوفل المشهور، من أهل الكتاب. وتقدمت ترجمته. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 148 (رهب)، "اللسان" 3/ 1749 (رهب). (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1483 (رهب)، "اللسان" 3/ 1748 (رهب). (¬5) البيت دون نسبة في: "تهذيب اللغة" 2/ 1483 (رهب)، "اللسان" 3/ 1748 (رهب). (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1483 (رهب)، "اللسان" 3/ 1748 (رهب). (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 1483 (رهب)، "تفسير الطبري" 7/ 3. (¬8) البيت في الطبري 7/ 3، و"اللسان" 3/ 1748 (رهب)، وقال موضحًا البيت: "وعِلٌ عاقل: صعد الجبل، والفادر: المسن من الوعول.

فهذا جمع، ويقال: كيف مدحهم الله عز وجل بأن منهم قسيسين ورهبَانًا وليس هذان من أمور المسلمين، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهما فقال: "إني لا آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهبانًا" (¬1)؟، والجواب عن هذا ما ذكره أبو بكر محمد بن القاسم (¬2) رحمه الله فقال: إنما مدحهم الله تعالى بالتمسك بدين عيسى، وبأنهم استعملوا في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل، وكانت الرهبانية مستحسنة في دينهم، ولذلك كانوا يسمون الرئيس في دينهم قسًا وقسيسًا، فذكر الله تبارك وتعالى أسماءهم وألقابهم على سبيل ما يُعرف لهم، ومدح منهم تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، فكان تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا}، ذلك بأن منهم عليما أوصاه عيسى عليه السلام، الدليل على هذا قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} فلما دخلوا في الإِسلام [...] (¬4) ما كان قبله وألزمهم الأخذ بما يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفض ما كانوا يستعلمونه في شريعتهم. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أي عن اتباع الحق والإذعان به كما يستكبر اليهود وعبدة الأوثان) (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 9 بسنده عن أبي عبد الرحمن (وقد يكون ابن مسعود). وقد أخرج الإِمام أحمد في مسنده 6/ 226 من حديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا"، والدارمي في كتاب النكاح/ باب 3 النهي عن التبتل 3/ 1386 - 1387 برقم (2215) من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: (يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية). (¬2) ابن الأنباري. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 217، "زاد المسير" 2/ 408، 409. (¬4) بياض في (ش) بمقدار كلمة. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 4، و"زاد المسير" 2/ 409. (¬6) إلى هنا نهاية السقط الذي سبقت الإشارة إلى بدايته من نسخة (ج).

83

83 - قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ}، قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه، قرأ عليهم جعفر الطيار في الحبشة {كهيعص} , فأخذ النجاشي شيئًا من الأرض فقال: والله ما زاد على ما قال الله في الإنجيل هذا. فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة، {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} يريد الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الحق {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} صدقنا {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يريد مع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، هذا كله كلام ابن عباس وتفسيره (¬1). وقال أبو إسحاق: أي: مع من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك (¬2). 84 - قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ}، قال المفسرون: إن هؤلاء الوفد لما رجعوا إلى قومهم لاموهم على ترك دينهم، فأجابوهم بهذا (¬3). قال أبو إسحاق: موضع (لا نؤمن) نصب على الحال، المعنى أي شيء لنا تاركين للإيمان؟ (¬4)، وأراد بالقوم الصالحين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، دليله قوله تعالى: {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 5 - 6، "الوسيط" 2/ 217، 218، البغوي 3/ 87، "زاد المسير" 2/ 409، وابن كثير 2/ 98. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 200. (¬3) "بحر العلوم" 1/ 454، "الوسيط" 2/ 219، البغوي 3/ 88. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 200. (¬5) هذا تفسير ابن زيد أخرجه الطبري 7/ 7، "زاد المسير" 2/ 410. (¬6) "تفسير البغوي" 3/ 88، "الوسيط" 2/ 219،"زاد المسير" 2/ 410.

85

85 - قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا}، قال الكلبي: أي بالتوحيد (¬1)، وعلى هذا إنما علق الثواب بمجرد القول؛ لأنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة في قوله: (مما عرفوا من الحق) والبكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب ومعرفتة، والقول إذا اقترن به المعرفة والإخلاص فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: (بما قالوا): "يريد بما سألوا" يعني قولهم: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}، وقولهم: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا} الآية وهذا يدل على مسألتهم الجنة (¬3)، فعلى هذا التفسير، القول معناه: المسألة. وقوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}، قال ابن عباس: الموحدين (¬4)، وقال الكلبي: المؤمنين (¬5). 86 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا}، قال أهل المعاني: لما ذكر الله الوعد لمؤمني أهل الكتاب، ذكر الوعيد لمن كفر منهم وكذب (¬6)، وأطلق اللفظ به ليكون لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر. 87 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب (¬7) , ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 122. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 5 - 6، والبغوي 3/ 88. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 219. (¬4) "تفسير البغوي" 3/ 88، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 122. (¬5) نسبه لابن عباس في زاد المسير 2/ 410 "الوسيط" 2/ 219. (¬6) هذا وجه المناسبة لهذه الآية وما قبلها، وذكره في الوسيط 2/ 219. (¬7) الطبري 7/ 8، "الوسيط" 2/ 219، البغوي 3/ 90.

قال المفسرون. هم قوم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفضوا (¬1) الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش، ويخصوا أنفسهم (¬2)، فأُخِبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "إن لأنفسكم عليكم حقًّا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا؛ (فإني) (¬3) أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني" فأنزل الله عز وجل هذه الآية (¬4). واعلم أن شريعة نبيه عليه السلام غير ذلك، وأن الطيبات لا ينبغي أن تجتنب، وسمى الخصاء اعتداء فقال: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي لا تجبوا أنفسكم، وهذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الكلام ناقص، فقد يكون الصواب: أرادوا أن يرفضوا. (¬2) من الخصاء وهو وجاء الخصيتين وجبهما. (¬3) ساقط من (ج). (¬4) بهذا السياق وهذه التفاصيل الواردة في القصة وأنها سبب لنزول هذه يروى هذا الأثر مرسلًا فقد أخرجه الطبري من طرق عن التابعين كقتادة وغيره. "تفسير الطبري" 7/ 8 - 12، وذكره المؤلف في أسباب النزول ص 207 - 208، والسيوطي في كتاب: النقول ص 96، 97، قال محقق أسباب النزول: "ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة وقتادة وأبي قلابة بمعناه، وهي مراسيل صحيحة الإسناد، إلا أن تفصيل القصة والأشخاص وما رد عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم لم يذكر في أثر مسند صحيح وكذا أصلها، والله أعلم. قلت: لكن لهذه القصة أجل في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس - رضي الله عنه - في أمر الثلاثة الذين سألوا عن عبادته - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم تقالوها فعزموا على القيام والصيام واعتزال النساء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". أخرجه البخاري واللفظ له رقم (5063)، ومسلم برقم 1401.

88

قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وإبراهيم (¬1). 88 - قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا}، قال ابن عباس: يريد من طيبات الرزق، اللحم وغيره (¬2)، وقال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غَذَّا ونمَّا (¬3). 89 - قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، قال ابن عباس والمفسرون: إن القوم لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك، فلما نزل: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية (¬4). وقد مضى الكلام في معنى لغو اليمين وحكمه مستقصى في سورة البقرة (¬5). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، اختلف القراء في (عقدتم) فقرؤوا مخففًا، ومشددًا، وبالألف من عاقد (¬6)، يقال: عقد فلان ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 10 - 11، "الوسيط" 2/ 219، البغوي 3/ 90، "زاد المسير" 2/ 412، "الدر المنثور" 2/ 544 - 548. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 220، وعزاه المحقق للترمذي في كتاب التفسير من سورة المائدة ولم أجده. (¬3) "تفسير البغوي" 3/ 90. (¬4) أخرجه الطبري عن ابن عباس 7/ 13، "الوسيط" 2/ 220، البغوي 3/ 90، "زاد المسير" 2/ 412. (¬5) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (225) سورة البقرة. (¬6) قال أبو علي: " ... فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (بما عقَّدتُمْ) بغير ألف مشددة القاف، وكذا روى حفص عن عاصم. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (بما عَقَدتُمْ) بغير ألف خفيفة، وكذلك قرأ حمزة والكسائي". وقرأ ابن عامر: (عاقدتم) بألف. "الحجة للقراء السبعة" 3/ 251.

اليمين والعهد والحبل عقدًا، إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضًا عقَّد بالتشديد إذا وكَّد، وعاقد بالألف (¬1)، قال الحطيئة: وإن عاهدوا أوفوا وإن عاقدوا شدوا (¬2) وقال في عقد: قومٌ إذا عَقَدوا عقدًا لجارِهُم (¬3) فقال في بيت: عاقدوا، وفي بيت: عقدوا، فمن قرأ بالتشديد احتمل أمرين: أحدهما أن يكون لتكثير الفعل, لأنه خاطب بهذا الجماعة، فصار كقوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف: 23]، والآخر أن يكون عَقَّد مثل عقد في أنه لا يراد به التكثير (¬4)، وزيَّف أبو عبيد هذه القراءة فقال: التشديد للتكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن توجب هذه القراءة سقوط الكفارة في اليمين الواحدة، لأنها لم تكرر، ووهم فيما قال؛ لأن معنى تعقيد اليمين أن يعقدها في قلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدًا، ومتى ما جمع بين اللسان والقلب في قصد اليمين فقد عَقَّد اليمين، ومن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للكثير والقليل، يقال: عقدوا أيمانهم، وعقد زيد يمينه (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2512 (عقد). (¬2) "ديوانه" ص 140 وصدره: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنى وهو في تهذيب اللغة 3/ 2512 (عقد). (¬3) صدر بيت للحطيئة في ديوانه ص 128، وعجزه: شدوا العِنَاج وشدوا فوقه الكربا وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 2512 (عقد)، و"الحجة" 3/ 252. (¬4) "الحجة للقراءة السبعة" 3/ 251. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 252.

قال أبو عبيد: على هذا وجدنا الآثار كلها، يقال: الأيمان ما عُقِدتَ عليه القلوب، وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل: عافاه الله، وطارقت النعل، وعاقبت اللص، فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف (¬1)، و (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، وليست الموصولة التي تقتضي راجعًا، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الإيمان (¬2). وأما التفسير قال عطاء: "هو أن يضمر الأمر، ثم يحلف بالله لا إله إلا هو، فيعقد عليه اليمين (¬3). وقال مجاهد: ما عقد عليه قلبك وتعمدته، يعني كفارة عقدكم (...) (¬4) العقد (¬5). قال الكلبي: هو أن يحلف على اليمين، وهو يعلم أنه فيها كاذب (¬6). وقال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن اليمين يؤاخذ بها العبد، ويجب في بعضها الكفارة، وهو ما جرى على عقد (¬7). وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ}، أي: كفارة ما عقدتم يكون حنثًا، فلا ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 252. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 253، 254. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) بياض في (ج) فقط بمقدار كلمة. (¬5) أخرجه بمعناه الطبري 7/ 14، "الوسيط" 2/ 221، "زاد المسير" 2/ 413. (¬6) لم أقف عليه، وفي هذا نظر لأن اليمين الكاذبة، وهي الغموس، لا تكفر. انظر: بحر العلوم 1/ 456 وما نقله عن وهب بن منبه، "الدر المنثور" 2/ 551 وما رواه عن أبي مالك. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 201، 202.

يحتاج إلى الإضمار، وقد يكون موقوفًا على الحنث والبر فيحتاج إلى إضمار إذا حنثتم، ويستغنى عنه أنه مدلول عليه. وقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، نصيب كل مسكين مُدّ، وهو ثلثا منٍّ (¬1)، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والقاسم والحسن (¬2)، ومذهب الشافعي (¬3)، وعند أبي حنيفة يطعم نصف صاع من حنطة، وصاعًا من غير الحنطة كالشعير والتمر والزبيب (¬4)، وهو قول مجاهد، قال: كل إطعام في القرآن للمساكين فهو على نصف صاع (¬5)، وإن كان المساكين ذكورًا وإناثًا جاز ذلك، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه مغلب في كلام العرب. وقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتًا فيه سعة، وقوتًا وسطًا، وقوتًا دون ذلك، فأمر بالوسط (¬6)، وهذا يعود إلى ما ذكرنا من قدر المد؛ لأنه وسط في طعام الواحد، وليس بسرف ولا تقتير. ¬

_ (¬1) الصالح أربعة أمداد، مقدارها بالوزن الحاضر كيلوان ونصف تقريبًا، فيكون المد أقل من الكيلو. (¬2) انظر: الطبري 7/ 18 - 21، والبغوي 3/ 91، وابن كثير 2/ 101. (¬3) "الأم" للشافعي 7/ 64، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 61، والوسيط 2/ 221، وابن كثير 2/ 102. (¬4) "بحر العلوم" 1/ 456، "النكت والعيون" 2/ 61، والبغوي 3/ 91، وابن كثير 2/ 102. (¬5) لم أجده بهذا اللفظ أو قريب منه، والذي أخرج الطبري 7/ 19 عن مجاهد بلفظ: مدان من طعام لكل مسكين. والمدان: نصف صاع، فهو بمعناه. (¬6) أخرجه الطبري بمعناه 7/ 22، وانظر: زاد المسير 2/ 414.

ومثل هذا قال سعيد بن جبير: كان أهل المدينة يفرضون للصغير على قدره، وللكبير على قدره، وللوسط على قدره، فأمروا بأوسط ما يطعمون (¬1)، وهذا وسط في الشبع، لا يكون فوق الحاجة ولا دون المغني من الجوع، ويحتمل أن يريد بالأوسط ما هو أوسط في القيمة، لا يكون غاليًا كالسكر وما يغلو ثمنه من المطعومات، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة. والأوسط على هذا: الحنطة والتمر والزبيب والخبز، وهذا قول الأسود وعبيدة وشريح (¬2)، ويحتمل أن يريد الأوسط في الجنس، وهذا كالأوسط في القيمة، قال ابن عباس في رواية عطاء: كل شيء في كتاب الله أوسط فهو أفضل (¬3)، فعلى هذا يريد: من خير قوت عيالكم، فلو أنه يطعم عياله الحنطة ويقتاتها, لم يجز له أن يعطي الشعير. وقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}، الكسوة في اللغة معناها: اللباس، وهي كل ما يكتسي به (¬4)، وأما الذي يجزئ في الكفارة، فهو أقل ما وقع عليه اسم الكسوة: إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة، ومقنعة، ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم (¬5)، ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه الطبري 7/ 22، انظر: "النكت والعيون" 2/ 61، "زاد المسير" 2/ 413. (¬2) "تفسير البغوي" 3/ 91، "زاد المسير" 2/ 414. (¬3) لم أقف عليه، وانظر: القرطبي 6/ 276. (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3139 (كسو). (¬5) انظر: الطبري 7/ 23 - 24، "بحر العلوم" 1/ 456، "النكت والعيون" 2/ 61، "زاد المسير" 2/ 414. (¬6) "النكت والعيون" 2/ 61، والبغوي 3/ 91، "زاد المسير" 2/ 414.

وقوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، قيل: (رقبة) والمراد الجملة؛ لأنه مشبه بالأسير الذي يفك عن رقبته ويطلق (¬1)، والرقبة المحررة في الكفارة: كل رقبة سليمة من عيب وعاهة تمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرًا أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجزئ إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء: (أو تحرير رقبة) يريد مؤمنة (¬3). وهو قول الحسن أيضًا ومذهب الشافعي (¬4)، واحتج بأن الله تعالى قيد بالإيمان في كفارة القتل، وأطلق في غيرها، والمطلق يحمل على المقيد (¬5). قال أبو إسحاق: خُيِّر الحالف بين هذه الثلاثة، وأفضلها عند الله أكثرها نفْعًا وأحسنها موقعًا من المساكين أو من المعتق، فإن كان الناس في جدب لا يقدرون على المأكول إلا بما هو أشد تكلفًا من الكسوة والإعتاق فالإطعام أفضل؛ لأن به قوام الحياة، وإلا فالإعتاق والكسوة أفضل (¬6). وهذا إجماع من العلماء أن المكفر مخير بين هذه الثلاث (¬7). وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، قال الحسن: من كان عنده عشرة دراهم ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 26. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 28 - 29، البغوي 3/ 92، "زاد المسير" 2/ 415. (¬3) أخرج الطبري 7/ 27 عن عطاء قال: يجزئ المولود في الإِسلام من رقبة. (¬4) "الأم" 7/ 65. (¬5) "تفسير البغوي" 3/ 92، "زاد المسير" 2/ 415. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 202. (¬7) حكى الإجماع هنا الطبري 10/ 555.

فعليه أن يطعم في الكفارة (¬1). وقال عطاء الخراساني: عشرون درهما (¬2). وقال قتادة: من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته فهو غير واجد، وجاز له الصيام (¬3)، وهو مذهب الشافعي (¬4)، وعليه دل كلام ابن عباس فيما روى عنه عطاء، لأنه قال: فمن لم يجد من هذه الثلاثة شيئًا (¬5). وقال الزجاج: من كان لا يقدر على شيء مما حد في الكفارة (¬6). قال الشافعي: إذا كان عنده قوته وقوت عياله، يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين، لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام (¬7). وعند أبي حنيفة: يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة (¬8)، فجعل من لا زكاة عليه عادمًا (¬9). ¬

_ (¬1) المروي عن الحسن درهمان، كما أخرجه الطبري 7/ 29، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 62، "زاد المسير" 2/ 415. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 221، "زاد المسير" 2/ 415. (¬4) "الأم" 7/ 66، الطبري 7/ 29، "النكت والعيون" 2/ 62، "الوسيط" 2/ 221، "زاد المسير" 2/ 415. (¬5) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 122. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 202. (¬7) "الأم" 7/ 66، "الوسيط" 2/ 221، 222، "زاد المسير" 2/ 415. (¬8) "النكت والعيون" 7/ 63، "زاد المسير" 2/ 415. (¬9) وهذا القول مخالف لظاهر الآية، وما عليه جمهور العلماء.

وقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}، أي: فعليه، أو فكفارته ثلاثة أيام، قال ابن عباس والحسن: متتابعات (¬1)، وهو قول قتادة وأبي بن كعب والثوري، ومذهب أبي حنيفة (¬2)، وقال مجاهد: يخير فيهن (¬3). وقال عطاء وإبراهيم: ما لم يذكر في كتاب الله متتابعًا فصمه كيف شئت (¬4)، وهو مذهب مالك (¬5)، وللشافعي فيه قولان (¬6): أحدهما: أن التتابع يجب قياسًا على الصيام في كفارة الظهار، ولأن في قراءة عبد الله وأُبي: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (¬7). والثاني: أنه مخير، إن شاء فرق، وإن شاء تابع (¬8). وقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}، يعني: أيمانكم الكاذبة، التي حنثتم بها، فحذف النعت لأنه مدلول عليه، وإن شئت قلت: ذلك كفارة ¬

_ (¬1) أخرجه عن ابن عباس الطبري 7/ 30 - 31، "الوسيط" 2/ 222. أما الحسن فقد نسب إليه ابن الجوزي في زاد المسير 2/ 415 القول بجواز التفريق بين صيام الأيام، والله أعلم. (¬2) "بحر العلوم" 1/ 456، والبغوي 3/ 93، و"زاد المسير" 2/ 415، وزاد ابن الجوزي: وهو قول أصحابنا -يعني الحنابلة-. (¬3) هكذا نسب المؤلف لمجاهد رحمه الله القول بالتخيير وكذا في الوسيط 2/ 222 إلا أن المعروف عن مجاهد عند عامة المفسرين القول بلزوم التتابع، كما أخرج ذلك عنه الطبري 7/ 30، "بحر العلوم" 1/ 456، "النكت والعيون" 2/ 63، "زاد المسير" 2/ 415. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 30. (¬5) "تفسير البغوي" 3/ 93، و"زاد المسير" 2/ 415، وابن كثير 2/ 103. (¬6) "الأم" 7/ 66، والبغوي 3/ 93، و"زاد المسير" 2/ 415، وابن كثير 2/ 103. (¬7) "الأم" 7/ 66، والبغوي 3/ 93، وابن كثير 2/ 103. (¬8) "تفسير البغوي" 3/ 93 , وابن كثير 2/ 103.

90

حنث أيمانكم، ثم حذف المضاف، وقال أبو إسحاق: أي ذلك الذي يغطي على آثامكم (¬1). وقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، قال ابن عباس: يريد لا تحلفوا (¬2)، وقال غيره: واحفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا (¬3)، وحفظ اليمين يحتمل الأمرين (¬4). 90 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وأصلهما واشتقاقهما (¬5)، وقد قال ابن عباس في هذه الآية: "يريد الخمر من جميع الأشربة التي تخمر حتى تشتد وتسكر" (¬6). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الخمر من تسع: من البِتْع وهو العسل، ومن العنب، ومن الزبيب، ومن التمر، ومن الحنطة، ومن الذرة، والشعير، والسُلت" (¬7)، وقال في الميسر: "يريد القمار، وهو في أشياء كثيرة" (¬8). انتهى كلامه، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 203. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 222، ونسبه محققه لتفسير ابن عباس ص 100، والبغوي 3/ 93، و"زاد المسير" 2/ 416. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 31، "النكت والعيون" 2/ 63، "زاد المسير" 2/ 416. (¬4) "النكت والعيون" 2/ 63. ورجح البغوي 3/ 93 القول الثاني. (¬5) الظاهر أن ذلك عند تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]. (¬6) انظر: "الوسيط" 2/ 223، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 123. (¬7) أخرجه بمعناه أبو داود (3676 - 3677) في الأشربة، باب الخمر ما هي؟ من حديث النعمان بن بشيرِ، والترمذي (1872) في الأشربة، باب ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، وابن ماجه (3379) في الأشربة، باب مما يكون منه الخمر. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 123.

وقال الزجاج: (والميسر: القمار) (¬1) كله، وأصله أنه كان قمارًا في الجزور، وكانوا يقسمون الجزور في قول الأصمعي على ثمانية وعشرين جزءًا، وفي قول أبي عمرو الشيباني على عشرة أجزاء، وقال أبو عبيدة: لا أعرف عدد الأجزاء. وكانوا يضربون عليها بالقداح (¬2). فهذا أجل الميسر، والقمار كله كالميسر (¬3)، ويطول الكلام في كيفية قمار العرب على الجزور، فتركت ذلك، قال أبو إسحاق: وقد بينتها على حقيقتها في كتاب "الميسر". وقوله تعالى: {وَالْأَنْصَابُ}، قال ابن عباس: يريد أنصبتهم التي نصبوها يعبدونها، وواحدها نَصْبٌ (¬4)، وقال في الأزلام: إنها سهام مكتوب عليها خير وشر (¬5)، ومثل ذلك قال الفراء والزجاج وغيرهما في الأنصاب والأزلام (¬6). وقد ذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول السورة عند قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3]. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأزلام ههنا: قداح الميسر، قال ¬

_ (¬1) في (ج): (والميسر والقمار). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 175. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 203، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 356. (¬4) انظر: غريب القرآن لابن قتيبة ص 145، "النكت والعيون" 2/ 64، "الوسيط" 2/ 226، ونسبه المحقق لتفسير ابن عباس ص 88، والبغوي 3/ 94. (¬5) "النكت والعيون" 2/ 64، "الوسيط" 2/ 226، وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص 88، والبغوي 3/ 94. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 319، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 145، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 203.

الأزهري: ومن قال ذلك فقد وهم. وقوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، الرجس في اللغة: اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال: رَجِسَ الرجل رَجَسًا ورَجُسَ، إذا عمل عملًا قبيحًا، وأصل من الرَّجَس بفتح الراء وهو شدة الصوت، يقال: سحاب رجاس، إذا كان شديد الصوت بالرعد، قال الراجز: وكل رجَّاس يَسُوق الرُّجَّسَا (¬1) فكان الرجس العمل الذي يقبح ذكره جدًا ويرتفع في القبح (¬2)، قال الزجاج (¬3): بالغ الله في ذم هذه الأشياء فسماها رجسًا، وأعلم أن الشيطان يسول ذلك لبني آدم (¬4). وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ}، أي: كونوا جانبًا منه (¬5)، والهاء عائدة على الرجس (¬6)، والرجس واقع على الخمر وما ذكر بعدها، وقد قرن الله تعالى تحريم الخمر بتحريم عبادة الأوثان تغليظًا وإبلاغًا في النهي عن شربها , ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدمن الخمر كعابد الوثن" (¬7). ¬

_ (¬1) هذا الرجز منسوب للعجاج كما في حاشية "معاني الزجاج" 2/ 204، "تهذيب اللغة" 2/ 1367 (رجس). (¬2) الكلام من أوله من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 203، 204، "تهذيب اللغة" 2/ 1367 (رجس)، "زاد المسير" 2/ 417 (¬3) في (ج): (الزجاجي)، وهو تصحيف لأن الكلام للزجاج. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 203. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 206، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 356. (¬6) "تفسير البغوي" 3/ 94. (¬7) أخرجه البخاري في تاريخه 1/ 129، 3/ 515، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 12، وصححه الألبانى. انظر: "صحيح الجامع الصغير" 5/ 205 برقم 5737.

91

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أكثر ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان شرب الخمر وملاحاة الرجال" (¬1). يعني: عداوة الرجال. 91 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، قال ابن عباس: يريد سعد بن أبي وقاص ورجلاً من الأنصار كان مواخيًا لسعد، فدعاه إلى طعام فأكلوا وشربوا نبيذًا مسكرًا، فوقع بين الأنصاري وسعدٍ مراءً ومفاخرة، فأخذ الأنصاري لَحي بَعير فضرب به سعدًا حتى أثر في وجهه، فأنزل الله ذلك فيهما (¬2). قال أهل المعاني: إن الشيطان يزين لهم ذلك، حتى إذا سكروا وزالت عقولهم أقدموا من المكاره والمقابح على ما كانت تمنعه منه عقولهم (¬3)، وأما العداوة في الميسر فقال قتادة: كان الرجل يقامر في أهله وماله، فيقمر فيبقى (¬4) حريبًا (¬5) سليبًا، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء (¬6). وقوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}، وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر والقمار ألهاه ذلك عن ذكر الله جل وعز بالتعظيم، والشكر على آلائه، وعن عبادته. وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) القصة من حديث سعد في صحيح مسلم (1748) كتاب فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص، والطبري 7/ 33 - 34 من طرق، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 209. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 32. (¬4) في (ج): (ويبقى). (¬5) في ش: (حربيًا). (¬6) أخرجه الطبري 7/ 35، "الوسيط" 2/ 227.

92

قالوا - رضي الله عنهم - انتهينا ربنا (¬1)، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا حتى نزلت هذه الآية فقال: انتهينا انتهينا (¬2). قال ابن الأنباري: بُيِّن تحريم الخمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} إذ كان معناه: فانتهوا (¬3). قال الفراء: ردد علي أعرابي: هل أنت ساكت؟ هل أنت ساكت؟ وهو يريد: سكت (¬4)؟. وقال غيره: إنما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النهي؛ لأن الله تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها، وإذا ظهر قبح الفعل للمخاطب، ثم استفهم عن تركه، لم يسعه إلا الإقرار بالترك، فكأنه قيل: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما ظهر، فصار المنهي بقوله: (فهل أنتم منتهون) في محل قد عقد عليه ذلك بإقراره، فكان هذا أبلغ في باب النهي من أن لو قيل: انتهوا ولا تشربوا (¬5). ولما ذكر الأمر باجتناب الخمر وما بعدها، أمر بالطاعة فيه وفي غيره من أمر الله عز وجل (¬6) فقال: 92 - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا}، أي: المحارم والمناهي (¬7)، ¬

_ (¬1) الأثر عن بريدة أخرجه الطبري 7/ 34، "الوسيط" 2/ 227. (¬2) أخرجه أبو داود (3670) كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والترمذي (3049) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة، والطبري 7/ 33 - 34. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 227. (¬4) ليس في "معاني القرآن"، "الوسيط" 2/ 227، "زاد المسير" 2/ 419. (¬5) "تفسير البغوي" 3/ 94، "زاد المسير" 2/ 419. (¬6) وجه المناسبة للآية وما بعدها. (¬7) "تفسير البغوي" 3/ 94.

93

وقال عطاء: يريد احذروا سخطي (¬1) وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، معناه: الوعيد، كأنه قيل: فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتولِّيكم عما أدى رسولنا من البلاغ المبين، فوضع كلامَ موضع كلام للإيجاز، ولو كان على غير هذا التقدير لم يصح؛ لأن عليهم أن يعلموا ذلك تولوا أو لم يتولوا، وإنما صار هذا وعيدًا لأنهم إذا علموا أن الرسول قد بلغ ولم يطيعوه استحقوا العقاب (¬2). وأجراه بعضهم على ظاهره، وقال: معناه فاعلموا أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، فأما توفيق الطاعة والخذلان للمعصية، والثواب والعقاب فذلك ما لا يملكه الرسول (¬3). 93 - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، قال ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول الله ما نقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فأنزل الله هذه الآية (¬4). وقال عطاء: قالوا في أنفسهم: ليت شعرنا ما فعل الله في أصحابنا الذين قتلوا في سبيل الله وهي في بطونهم، وهم شهداء بدر واحد وغير ذلك. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 35 - 36. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 227، "زاد المسير" 2/ 419. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 35 - 36. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 37، ونحوه في الصحيحين عن أنس وسيأتي تخريجه قريبًا.

ونحو هذا من القول في سبب النزول، قال أنس (¬1) والبراء بن عازب (¬2) ومجاهد وقتادة (¬3) والضحاك (¬4). وقوله تعالى: {فِيمَا طَعِمُوا}، يعني: من الخمر والميسر (¬5)، وهذه اللفظة صالحة للأكل والشرب جميعًا. وقوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا}، يعني: المعاصي والشرك (¬6)، {ثُمَّ اتَّقَوْا} الخمر والميسر بعد تحريمها (¬7)، {ثُمَّ اتَّقَوْا} يعني: جميع المحرمات، هذا قول المفسرين (¬8). وقال أصحاب المعاني: الأول: عمل الاتقاء، والثاني: دوام الاتقاء والثبات عليه، والثالث: اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه (¬9). وقال ابن كيسان: لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار؟ وكيف بالقتلى في سبيل الله؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري كتاب: المظالم، باب: 21 صب الخمر في الطريق، ومسلم (1980) كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر، والمؤلف في أسباب النزول ص 211 - 212. (¬2) أخرج الترمذي (3050) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة، والطبري 7/ 37، والمؤلف في أسباب النزول ص 212. (¬3) أخرج عن مجاهد وقتادة الطبري 7/ 37، وعن قتادة المؤلف في الوسيط 2/ 228. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 39. (¬5) انظر: "الوسيط" 2/ 227، والبغوي 3/ 96. (¬6) "بحر العلوم" 1/ 458، "الوسيط" 2/ 227، البغوي 3/ 96. (¬7) "تفسير الطبري" 7/ 39. (¬8) "تفسير الطبري" 7/ 39، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 358، "زاد المسير" 2/ 420. (¬9) "تفسير الطبري" 7/ 36، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 358.

94

وهم يطعمونها؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من الأموات والأحياء في البلدان {جُنَاحَ} إثم فيما طعموا من الخمر والقمار {إِذَا مَا اتَّقَوْا} ما حرم الله عليهم {وَآمَنُوا} بالله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في إيمانهم {ثُمَّ اتَّقَوْا} إن أحدث الله لهم تحريم شيء مما أحل لهم {وَأَحْسَنُوا} فيما تعبدهم الله به (¬1). 94 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية، قد ذكرنا معنى ابتلاء الله في قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} [آل عمران: 186]، والواو في {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} مفتوحة لالتقاء الساكنين، ومعناه: ليختبرن طاعتكم من معصيتكم، أي: ليعاملنكم معاملة المختبر (¬2)، قال مقاتل بن حيان (¬3): كان هذا عام الحديبية، كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم كثيرة وهم محرمون، لم يروها قط فيما خلا، فنهاهم الله عنها ابتلاء (¬4). وقوله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إنما بَعَّض لأنه عني صيد البر دون صيد البحر (¬5)، وهو قول الكلبي، قال: أراد صيد البر خاصة (¬6). ¬

_ (¬1) هذا الأثر بمعنى ما تقدم عن أنس والبراء وابن عباس وغيرهما، وسبق تخريجها، ولم أقف عليه بهذا السياق. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 39، "معاني الزجاج" 2/ 206، "النكت والعيون" 2/ 65، "زاد المسير" 2/ 421. (¬3) قد يكون مقاتل بن سليمان، فإن نحو هذا القول في تفسيره، كما سيأتي في عزوه. (¬4) "تفسير مقاتل" بن سليمان 1/ 503 بنحوه. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 206. (¬6) "النكت والعيون" 2/ 66، "زاد المسير" 2/ 421، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 123.

قال الزجاج: ويحتمل التبعيض أن ينصرف إلى صيد الإحرام دون صيد الإحلال، فكان ذلك بعض الصيد، وجائز أن يكون قوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} للتجنيس، فتكون (من) ههنا تُبيِّن جنسًا من الأجناس، كما تقول: لأمتحنَنَّك بشيء من الوَرِق، أي بالجنس الذي هو وَرِق، ومن هذا قوله تعالى: {الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، والأوثان كلها رجس، والمعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو وثن (¬1)، وأراد بالصيد المفعول بدليل قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثًا، وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما يكون عينًا، والذي تناله الأيدي من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش، والذي تناله الرماح الكبار، وهذا قول ابن عباس والكلبي ومجاهد (¬2) والفراء (¬3) والزجاج (¬4). وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ}، قال المفسرون: ليرى الله (¬5)، وقد مضى بيان ذلك في قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143]. وقوله تعالى: {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}، قال الكلبي: أي من يخاف الله ولم يره (¬6)، والجار في محل النصب بالحال، والمعنى: من يخافه غائبًا عن رؤية الله تعالى، ومثل هذا قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق: 33] ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 206. (¬2) أخرجه عن ابن عباس ومجاهد: الطبري 7/ 39، "بحر العلوم" 1/ 458، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 359، "النكت والعيون" 2/ 66، البغوي 3/ 96، "زاد المسير" 2/ 421. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 319. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 206. (¬5) "النكت والعيون" 2/ 66، و"تفسير البغوي" 3/ 96، و"تفسير ابن كثير" 2/ 110. (¬6) هذا قول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 1/ 503، 504 "زاد المسير" 2/ 422.

95

{يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء: 49]، وقد أحكمنا هذا ومعنى الغيب في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ}، قال ابن عباس: يريد بعد نهي (¬1)، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]. قال ابن عباس: يوسع ظهره وبطنه جلدًا، ويسلب ثيابه (¬2). هذا قول أكثر أهل التفسير في هذه الآية (¬3)، وقال عطاء: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} يريد حمام مكة {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} يريد أنها تفرخ في بيوت أهل مكة في الكِواء (¬4) على الطرق وقدر القامة وأدنى من القامة وأكثر من القامة وقدر رمح، فنُهي من أخذها وأكلها {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} يريد يأخذها سرًّا عن السلطان، وعن أهل الفضل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬5). 95 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية. حرم الله تعالى قتل الصيد على المحرم، فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرمًا، لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطير، سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم (¬6)، وأما الحلال فله أن يصيد في الحل ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 2/ 66. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 228، وعزاه المحقق "لتفسير ابن عباس" ص 101، و"تفسير البغوي" 3/ 96، "زاد المسير" 2/ 422. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 40، "بحر العلوم" 1/ 458، "النكت والعيون" 2/ 66، و"تفسير البغوي" 3/ 96، "زاد المسير" 2/ 422. (¬4) الكِواء: جمع كوَّة وهي الخرق في الحائط والثقب في البيت ونحوه. انظر: "اللسان" 7/ 3964 (كوي) (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 74، "النكت والعيون" 2/ 66.

وليس له أن يصيد في الحرم، والآية هل تدل على هذا أم لا؟ أما عند المفسرين فالآية واردة في المحرمين (¬1)، وعند أهل المعاني يجوز حمل الآية على الحكمين جميعا، فإن قوله {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يصلح للمحرمين وللداخلين في الحرم، وإذا شمل اللفظ المعنيين جميعًا فهما منه (¬2)، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}، قال مجاهد والحسن وابن جريج وإبراهيم وابن زيد: هو الذي يتعمد القتل ناسيًا لإحرامه، وعليه الجزاء، فأما إذا تعمد القتل ذاكرًا لإحرامه فلا جزاء عليه، لأنه أعظم من أن يكون له كفارة (¬3)، وقال ابن عباس وعطاء والباقون: يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام (¬4)، وهذا مذهب عامة الفقهاء (¬5)، فأما إذا قتل الصيد خطأ، بأن قصد غيره بالرمي فأصابه، فهو كالمتعمد في وجوب الجزاء عند عامة أهل التفسير والفقه، وذلك أنهم ألحقوا المخطىء بالعامد في وجوب الكفارة، كما ألحقوا العامد بالمخطىء في كفارة القتل (¬6)، وقال سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئًا (¬7)، وهذا قول شاذ لا يؤخذ به، وقال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ (¬8). وقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، ارتفع {فَجَزَاءٌ} بإضمار: ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 74، "النكت والعيون" 2/ 66. (¬2) "النكت والعيون" 2/ 66، "زاد المسير" 2/ 422. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 43، "النكت والعيون" 2/ 67، البغوي 3/ 97. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 42، "زاد المسير" 2/ 422. (¬5) "تفسير البغوي" 3/ 97، "زاد المسير" 2/ 422. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 42، "الوسيط" 2/ 229، البغوي 3/ 97. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 43 بمعناه. (¬8) أخرجه الطبري 7/ 43، "الوسيط" 2/ 229.

فعليه (¬1)، أو: فاللازم له، أو: فالواجب عليه. وقال الزجاج: ويجوز أن يُرفَع (جزاء) على الابتداء، ويكون (مثل ما قتل) خبر الابتداء، ويكون المعنى: فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل (¬2)، واختلف القراء في هذا، فقرأ بعضهم بالتنوين ورفع المثل (¬3)؛ لأن المعنى: فعليه جزاء مماثلٌ للمقتول من الصيد، فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله: (فجزاء) ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل، ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة، إنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله. وإذا كان كذلك علمت أن الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى (مثل) لأنه يوجب جزاء المثلِ، والموجَبُ جزاءُ المقتول من الصيد، لا جزاءُ مثله الذي ليس بمقتول (¬4). وقوله تعالى: {مِنَ النَّعَمِ}، يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي (فجزاء) والمعنى: فجزاء من النعم مثلٌ لما قتل، ويجوز أن يكون متعلقًا بمثل، أي: مثلٌ لما قتل من النعم (¬5). وأما من أضاف الجزاء إلى مثل فقال: فجزاء مثل ما قتل، فإنه وإن كان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنهم قد يقولون: أنا نكرم مثلك، يريدون: أنا أكرمُك، وإذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى كغير ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 476. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 207. (¬3) قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (فجزاءُ مثل ما) مضافة بخفض مثل. "الحجة للقراء السبعة" 3/ 254. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 254، 255. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 255، "بحر العلوم" 1/ 458.

الإضافة، لأن المعنى: فعليه جزاءُ ما قتل، ومما يؤكد أن المثل وإن كان قد أضيف إليه الجزاء فالمعنى: فعليه جزاء المقتول لا جزاءُ مثله الذي لم يقتل قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] والتقدير: كمن هو في الظلمات, والمِثْلُ والمَثَلُ والشِّبْهُ والشَبَهُ واحدٌ، فإذا كان مَثلُه في الظلمات فكأنه هو أيضًا فيها (¬1). واختلفوا في هذه المماثلة أهي في القيمة أو بالخلقة: فالذي عليه عُظْم أهل العلم والتأويل: أن المماثلة في الخِلقَه، ففي النعامة بدنة،، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضبع كبش، وفي الظبي شاة، وفي الغزال والأرنب حَمَل، وفي الضب سخلة، وفي اليَربُوع جَفْرة (¬2). قال الشافعي بعد ما ذكر هذا الفصل: ينظر إلى أقرب ما يقتل من الصيد شبهًا من النعم بالخلقة لا بالقيمة (¬3)، وكل دابة من الصيد لم يسمها ففداؤها ما يقرب منها في الخِلقَة من النَعَم قياسًا على ما سميناه، هذا في الدواب، فأما في الطائر: فقال الشافعي: الطائر صنفان: حمام، وغير حمام، فكل ما عَبّ وهدر كالفواخت وذوات الأطواق والقُمري والدُّبسي فهو حمام، وفيه شاة، وما سواه من الطير ففيه قيمته في المكان الذي أصيب فيه (¬4)، وهذا قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس ¬

_ (¬1) الحجة 3/ 256، 257، "بحر العلوم" 1/ 458. (¬2) "الأم" للشافعي 2/ 206، والطبري 7/ 44 - 50، و"النكت والعيون" 2/ 67 , والبغوي 3/ 97، 98، والقرطبي 6/ 310، و"الدر المنثور" 2/ 579 - 581. (¬3) "الأم" 2/ 206، 207. (¬4) "الأم" 2/ 207، و"تفسير البغوي" 3/ 97.

وابن عمر والسدي ومجاهد وعطاء والضحاك (¬1). وقال إبراهيم النخعي: يُقوم الصيد المقتول بقيمة عادلة، ثم يشترى بثمنه مثله من النعم (¬2) فاعتبر المماثلة بالقيمة. والصحيح القول الأول (¬3)؛ لأن أولئك القوم حكموا في النعامة ببدنة وهي لا تساوي هناك بدنه، وفي حمار الوحش ببقرة (وهو لا يساوي) (¬4) هناك بقرة. وعند أبي حنيفة لا يجوز أن يهدى (في) (¬5) جزاء الصيد إلا ما يجوز أن يضحى به، فإذا لم يبلغ قيمة الصيد هديًا أطعم أو صام (¬6)، وهذا خلاف قول الإجماع من الصحابة. وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، قال ابن عباس: يريد يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان (منكم) أي من أهل ملتكم ودينكم، فقيهان عدلان، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به (¬7). قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر أبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 44 - 50، والبغوي 3/ 97، 98، و"الدر المنثور" 2/ 579 - 581. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 50. (¬3) وهو اختيار الطبري 7/ 50. (¬4) في (ج): (وهي لا تساوي). (¬5) ليس في (ج). (¬6) "بحر العلوم" 1/ 458، "النكت والعيون" 2/ 67، القرطبي 6/ 310. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 207، "النكت والعيون" 2/ 67، "الوسيط" 2/ 229، ونسبه المحقق لتفسير ابن عباس ص 101، والبغوي 3/ 97، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 123.

أسألك وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر: وما أنكرت من ذلك؟ قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فشاورت صاحبي، فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به (¬1). وأخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم رحمه الله، أخبرنا أبو بكر محمَّد بن أحمد بن عبدوس الحيري، أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا علي بن عبد العزيز، حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثني ابن أبي أمية، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حُجاجًا، فكنَّا إذا صلينا الغداةَ اقتدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينا نحن ذات غداة إذ (¬2) سنح لنا ظبي فابتدرنا، فابتدرته ورميته فأصاب خُشَّاءَه (¬3) فركب رَدْعَهُ (¬4) فمات، فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب، وكان حاجًا وكان جالسًا إلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فسألته عن ذلك، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، فقال: اذهب فاذبح (¬5) شاة، فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم يفجأنا إلا عمر ومعه الدِّرة فعلاني بالدرة وقال: أتقتل في الحرم وتُسَفِّه الحكم؟ قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد جيد. انظر: ابن كثير 2/ 112، كما أخرجه عبد بن حميد أيضاً. "الدر المنثور" 2/ 581. (¬2) في (ش): (إذ). (¬3) بضم الخاء وتشديد الشين، والخشاء: هو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتىء خلف الأذن (تحقيق شاكر للطبري). (¬4) ركب ردعه: إذا خر لوجهه على دمه، وأصل الردع ما تلطخ به الشيء من زعفران وغيره، وهو أثر دمه (تحقيق شاكر للطبري). (¬5) في (ش): (فاهد).

عَدْلٍ مِنْكُمْ} فأنا عمر وهذا عبد الرحمن (¬1). وجوز عمر - رضي الله عنه - أن يكون الجاني على الصيد أحد الحكمين فيما روي أن أربد (¬2) أوطأ فرسه (¬3) ففزر ظهر، فسأل عمر بن الخطاب فقال له عمر: احكم، فقال: أنت أعدل يا أمير المؤمنين فاحكم، فقال: إنما أمرتك بأن تحكم وما أمرتك بأن تزكيني، فقال: أرى فيه جَدْيًا جمع الماء والشجر، فقال: افعل ما ترى (¬4). قال العلماء: في هذه الآية دلالة على صحة الاجتهاد في الأحكام، لأن الله تعالى جعل الحكم إلى العدلين، وقد يقع في ذلك الاختلاف، فيحكم عدلان في جزاء صيد بشيء، ويحكم عدلان آخران لإنسان آخر في جزاء مثله من الصيد بشيءآخر، وكله حق وصواب. وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ}، قال الزجاج: (هديًا) منصوب على الحال، المعنى يحكم به مقدّرًا أن يهدي (¬5)، قال أبو علي: ومثله قولك: معه صقر صائدًا به غدًا، أي مقدرًا الصيد (¬6)، وقد سبق بيان هذا في مواضع من الكتاب، و {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} لفظه لفظ معرفة، ومعناه النكره، لأن المعنى: ¬

_ (¬1) أخرجه من طريق عبد الملك بن عمير عن قبيصة. الطبري 7/ 45 - 48، وكذا ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه. "الدر المنثور" 2/ 581. (¬2) هو أربد بن عبد الله البجلي، أدرك الجاهلية، ترجمه ابن حجر في الإصابة من القسم الثالث، وذكر قصته هذه. انظر: "الإصابة" 1/ 101. (¬3) أي حمل دابته حتى وطئت الصف، أي داسته (تحقيق شاكر للطبري). (¬4) أخرجه الشافعي في "الأم" 2/ 206، والطبري 7/ 49، وقال ابن حجر: إسناده صحيح. الإصابة 1/ 111. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 208، انظر: "الطبري" 7/ 50. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 1/ 268.

بالغًا الكعبة، إلا أن التنوين حذف استخفافًا (¬1)، ومثله قوله تعالى: {عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬2) [الأحقاف: 24]، وقد شرحنا هذه المسألة في قوله تعالى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} في سورة النساء [97]، والكعبة: البيت الحرام، سمي كعبة لارتفاعه وتربيعه، والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة (¬3)، قال ابن عباس: يريد إذا أتى مكة ذبحه وتصدق به (¬4)، وقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}، اختلف القراء ههنا، فنون بعضهم الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى الطعام؛ لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد (¬5)، وأضاف الآخرون الكفارة إلى الطعام (¬6)؛ لأنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء: الهدي والطعام والصيام، استجاز الإضافة لذلك، فكأنه قيل: كفارة طعام، لا كفارة هدي ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء (¬7). واختلفوا في (أو) في هذه الآية هل هي للتخيير أم لا؟ فقال ابن عباس في بعض الروايات ومجاهد وعامر وإبراهيم والسدي: إن (أو) ليس ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 208، "تفسير الطبري" 7/ 50. (¬2) في (ج): (ممكرنا). (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3152 (كعب)، والصحاح 1/ 213 (كعب). (¬4) أخرجه الطبري 7/ 51. (¬5) "الحجة" 3/ 257، 258، ونسب القراءة هذه لابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي. (¬6) بعد هذه الكلمة وجد زيادة في (ج) وهي: "لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد"، ولعل هذا سهو من الناسخ؛ لأن هذه الجملة من الكلام تقدمت في تعليل القراءة الأولى، فليتنبه. (¬7) "الحجة" 3/ 257 , 258 ونسب هذه القراءة لنافع وابن عامر.

على التخيير ولكن على الترتيب، لأنه لا يخرج حكم الجزاء عن أحد الثلاثة، إن لم يجد الجزاء بالهدي إما لعدم (الثمن) (¬1) أو لعوز النعم فالإطعام، وإن لم يجد الإطعام فالصيام، وقال ابن عباس في بعض الروايات وعطاء والحسن وإبراهيم: إن (أو) للتخيير (¬2). وإليه ذهب الشافعي (¬3). قال الزجاج: الذي يوجبه اللفظ التخيير، وهو الاختيار على مذهب اللغة (¬4)، قال الشافعي: إذا قتل صيدًا فإن شاء جزاه بمثله، وإن شاء قوم المثل دراهم، ثم الدراهم طعامًا، ثم يتصدق به، وإن شاء صام عن كل مُدٍّ يومًا (¬5)، واختلفوا كيف يقوم الصيد طعامًا، فمذهب الشافعي ما ذكرنا وهو أن يقوم مثله من النعم دراهم، ثم الدراهم طعامًا، وهو قول عطاء (¬6). وقال قتادة: يقوم نفس الصيد المقتول حيًّا، ثم يجعل طعامًا (¬7)، واختلفوا في أي موضع يعتبر قيمة الصيد، فمذهب الشافعي وأكثر الفقهاء أنه يقوم بالمكان الذي أصابه فيه، وهذا مذهب إبراهيم وحماد وأبي حنيفة (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ج). (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 53، "الدر المنثور" 2/ 583. (¬3) "الأم" 2/ 207. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 208. (¬5) "الأم" 2/ 207. (¬6) "الأم" 2/ 207، والطبري 7/ 53 عن عطاء. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 54. (¬8) "تفسير الطبري" 7/ 54.

وقال الشعبي: يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه، والعِدْل المثل، تقول: عندي عِدلُ غلامك وشاتك , إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلامًا، وإذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت: عَدْل، وربما قال بعض العرب: عِدْله وكأنه منهم غلط، لتقارب معنى العَدْل من العِدْل ولفظه (¬2). وقال أبو الهيثم: العِدلُ المثل، هذا عِدْلُه أي مثله، والعَدْل القيمة، تقول: خُد عَدْله منه كذا، أي قيمته. قال: والعِدل اسم حمْلِ معدول يحمل، أي مَسَوَّى به، والعَدْل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه حتى تجعله له مثلًا (¬3). وقال الزجاج: العَدْل والعِدلُ واحد في المعنى، وهما بمعنى المثل، كان المثل من الجنس أو من غير الجنس، ولا تقول: إن العرب غلطت وليس إذا أخطأ مخطئ وجب أن تقول: إن العرب غلطت (¬4). وقال ابن الأعرابي: عَدْل الشيء وعِدله سواء، أي مثله (¬5). قال الزجاج: وقوله تعالى: {صِيَامًا} منصوب على التمييز. المعنى: ومثل ذلك من الصيام (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 55. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 320، "تهذيب اللغة" 3/ 2358 (عدل). (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2358 (عدل). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 208، "تهذيب اللغة" 3/ 2358 (عدل). (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2358 (عدل). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 208.

وقال الفراء: ونصبك الصيام على التفسير، كما تقول: عندي رطلان عسلاً، وملء بيت قَتّا. قال: والأصل فيه أن تنظر إلى (مِنْ)، فإن حسنت فيه ثُمَّ أُلقيت نصبت، ألا ترى أنك تقول: عليه عَدْل ذلك من الصيام، وكذلك قوله تعالى: {مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} [آل عمران: 91] (¬1)، قال عطاء: يصوم لكل مُدٍّ يومًا (¬2)، وهو مذهب الشافعي (¬3)، وعند أبي حنيفة يصوم لكل نصف صاع يومًا (¬4). قال الشافعي: ولا يجزئه أن يتصدق بشيء من الجزاء إلا بمكة أو بمنى، وأما الصوم حيث شاء, لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم (¬5)، واعلم أن الجزاء إنما يجب فيما يؤكل لحمه من الدواب، وأما السباع غير المأكولة فلا جزاء في قتلها (¬6)، وكذلك الفواسق وهن خمس. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يزيد، حدثنا إبراهيم شريك، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمسٌ من الدوابِّ ليس على المحرم في قتلهن جناح، الغُرابُ والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 320، "تفسير الطبري" 7/ 57، "تهذيب اللغة" 3/ 2358 (عدل). (¬2) أخرجه الطبري 7/ 57. (¬3) "الأم" 2/ 207، "النكت والعيون" 2/ 68. (¬4) "بحر العلوم" 1/ 459، والبغوي 3/ 98. (¬5) "الأم" 2/ 207. (¬6) "الوسيط" 2/ 230. عموم السباع فيها خلاف وتفصيل. ذكره القرطبي 6/ 303، 304 فلينظر إليه. (¬7) أخرجه البخاري (1826) كتاب: جزاء الصيد , باب: ما يقتل المحرم من =

وقوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، قال ابن عباس: يريد جزاء ما صنع وعاقبته (¬1)، والوبال في اللغة: ثقل الشيء في المكروه، يقال: مرعى وبيل، إذا كان يستوخم، وماء وبيل، إذا لم يستمرأ. يقال: رعينا كلأً وبيلاً، وقال أبو زيد: استوبلت الأرض إذا لم يستمرىء بها الطعام (¬2). وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}، قال الحسن وعطاء والسدي: عما مضى في الجاهلية (¬3)، وقال آخرون: عما سلف قبل التحريم في الإسلام (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، اختلفوا في حكم من عاد: فقال عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير: إذا عاد إلى قتل الصيد محرمًا بعدما حُكِمَ عليه في المرة الأولى حكم عليه ثانيًا وهو بصدد الوعيد لقوله تعالى: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (¬5)، وعلى هذا مذهب الفقهاء، وهو قول مجاهد (¬6)، وقال ابن عباس وشريح والحسن: إن عاد لم يلزم الجزاء، ويقال له: اذهب فسينتقم الله منك (¬7). قال ابن عباس: إذا عاد في المرة الثانية لقتل الصيد لم يحكم عليه، ¬

_ = الدواب 2/ 212، ومسلم (1198) كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب وغيرهما. (¬1) "تفسير البغوي" 3/ 98. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 208، و"اللسان" 8/ 4755 (وبل). (¬3) أخرجه عن عطاء الطبري 7/ 58، و"تفسير البغوي" 3/ 98، "زاد المسير" 2/ 426 ورجح ابن الجوزي هذا القول. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 58 - 59، "بحر العلوم" 1/ 459، "النكت والعيون" 2/ 68. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 59. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 61، "بحر العلوم" 1/ 459، "النكت والعيون" 2/ 68. (¬7) "تفسير الطبري" 7/ 60 - 61، "بحر العلوم" 1/ 459.

ولكن يملأ بطنه وظهره بالسياط ضربًا وجيعًا (¬1)، وكذلك حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "وج" وهو وادٍ بالطائف، جعله حرامًا كحرمة البلد الحرام، فمن قتل صيده ملىء ظهره وبطنه جلدًا وسلب ثيابه (¬2). والفاء في قوله تعالى: {فَيَنْتَقِمُ} جواب الشرط، والتقدير: ومن عاد فإن الله ينتقم منه (¬3)، قال سيبويه في قوله تعالى: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وفي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} [البقرة: 126] وقوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ} [الجن: 13] إن في هذه الآي إضمارًا مقدرًا، كأنه: ومن عاد فهو ينتقم الله منه، ومن كفر فأنا أمتعه، ومن يؤمن فهو لا يخاف، لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط على الفعل إذا كان مستغنًى عنه مع الفعل، وإنما يحتاج إلى الفاء مثل قولك: إن تأتني فأنت مكرم (¬4). قال أبو علي: وموضع الفاء مع ما بعدها جزم، وعلى هذا قرأ بعض القراء: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] بالجزم، يحمل إياه على موضع: (فلا هادِي) (¬5)، ويقال: انتقمت منه إذا كافأه عقوبة بما صنع والنِّقمَة والنَّقْمة العقوبة والإنكار (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}، قال عطاء: منيع ذو انتقام من ¬

_ (¬1) "تفسير البغوي" 3/ 98، "زاد المسير" 2/ 427. (¬2) أخرج أبو داود (2032) كتاب: المناسك، باب: 97 عن الزبير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله". و"تفسير البغوي" 3/ 98. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 209. (¬4) انظر: "الكتاب" 3/ 69 (¬5) "الحجة" 4/ 109 , 110. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 63، "النكت والعيون" 2/ 68.

96

أهل معصيته" (¬1). 96 - قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، قال عطاء عن ابن عباس: يريد بصيده ما أصاب من داخل البحر (¬2). وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس: الحيتان وأنواعها، وكلها حلال، والضفادع وأنواعها، وكلها حرام (¬3). واختلفوا فيما سوى هذين، فقال بعضهم: إنه حرام وهو مذهب أبي حنيفة (¬4)، وقال بعضهم: حلال (¬5)، وعنى بالبحر جميع المياه، والأنهار داخلة في هذا، والعرب تسمي النهر بحرًا، والقرية التي فيها ماء جارٍ عندهم بحر، ومنه قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] (¬6)، وهذا الإحلال عام لكل أحد، محرمًا كان أو محلًا (¬7). وقوله تعالى: {وَطَعَامُهُ}، اختلفوا في طعام البحر ما هو، فقال عطاء عن ابن عباس: هو ما لفظه البحر، وقال أيضًا: هو ما حسر عنه الماء وألقاه إلى الساحل (¬8)، ونحو ذلك قال الكلبي (¬9) وعكرمة (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 230. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 63 بمعناه من طرق أخرى. (¬3) "تفسير البغوي" 3/ 100، 101، وعند مالك يباح كل ما فيه من ضفدع وغيره. "زاد المسير" 2/ 428. (¬4) "تفسير البغوي" 3/ 101، "زاد المسير" 2/ 428. (¬5) وهذا قول الجمهور. "تفسير البغوي" 3/ 101. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 64. (¬7) "تفسير الطبري" 7/ 64. (¬8) أخرجه بنحوه من طرق: الطبري 7/ 65، و"تفسير البغوي" 3/ 100، و"الدر المنثور" 2/ 586. (¬9) "النكت والعيون" 2/ 69، و "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 123. (¬10) أخرجه الطبري 7/ 66.

وقال أبو بكر الصديق: طعامه ميتته (¬1)، وعلى هذا فالصيد ما صيد بعلاج حيًا، والطعام ما يؤخذ مما لفظه البحر، أو نضب عنه الماء، أو طفا ميتًا من غير معالجة في أخذه، واختلفوا في السمك الطافي، فعند أهل الكوفة لا يحل أكله، لأنه مات حتف أنفه (¬2)، وعند غيرهم يجوز أكله (¬3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان" (¬4)، وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤُه الحل ميتته" (¬5). وقال سعيد بن جبير وإبراهيم وابن المسيب ومقاتل وقتادة: (صيد البحر) الطبري (وطعامه) المليح منه (¬6)، فسمى الطبري صيدًا لأنه صيد، وسمي المليح طعامًا؛ لأنه لما ملح وصار عتيقًا سقط عنه اسم الصيد، وحكى الزجاج عن بعضهم: (وطعامه) قال: هو كل ما يسقي الماء فنبت ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 65، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. "الدر المنثور" 2/ 585. (¬2) "تفسير البغوي" 3/ 100، والقرطبي 6/ 318. (¬3) هذا هو المرجح. وانظر: البغوي 3/ 101، والقرطبي 6/ 319، وابن كثير 2/ 114 - 116. (¬4) أخرجه الإمام أحمد 2/ 97، وابن ماجه (3218) كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد ولفظه "أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد"، والبغوي في "شرح السنة" 11/ 244. (¬5) أخرجه أبو داوود (83) كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، والترمذي (69) كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، (386) كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر. وصححه الألباني: "صحيح الجامع" 6/ 61 رقم 6925. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 66 - 68، "النكت والعيون" 2/ 69، البغوي 3/ 100.

عن ماء البحر فهو طعام البحر. أعلمهم الله أن الذي أُحِلّ لهم كثير في البر والبحر، وأن الذي حُرِّمَ عليهم هو صيد البر في حال الإحرام، وصيد الحرم بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون قد أعذر إليهم في الانتقام ممن عاد فيما حرم (عليه) (¬1) مع كثرة ما أحل له (¬2)، والاختيار أن المراد بالطعام ما نضب عنه الماء ولم يُصَد؛ لأن المملح صيد وإن عتق (¬3). وقوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}، قال عطاء: يريد منافع لكم تأكلون وتبيعون ويتزود عابر السبيل (¬4)، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: منفعة للمقيم والمسافر، فالطري للمقيم، والمالح للمسافر (¬5). قال أبو إسحاق: و (مَتَاعًا) منصوب مصدر مؤكد؛ لأنه لما قيل: (أحل لكم) (كان دليلًا على متعتم به) (¬6)، كما أنه لما قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، كان دليلًا على أنه كتب عليهم ذلك فقال: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]. وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}، ذكر في هذه السورة تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع: قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬7). وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ ¬

_ (¬1) ساقطة من (ج). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 209، "زاد المسير" 2/ 428. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 68، "بحر العلوم" 1/ 459، 460. (¬4) "الوسيط" 2/ 231. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 69، "النكت والعيون" 2/ 69. (¬6) هكذا في النسختين، وفي "معاني الزجاج" 2/ 209: (كان دليلاً على أنه قد متعهم به). (¬7) الآية الآولى من السورة.

حُرُمٌ} (¬1) وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬2)، فكل صيد صاده المحرم أو صيد له بأمره لم يحل له أكله، فإن صاده حلال بغير أمره ولا له، ولم يوجد من المحرم سبب في إتلافه بإشارة أو دلالة أو إعانة أو دفع سلاح، حل أكله عند عامة الفقهاء (¬3)، لما روي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيد البحر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم" (¬4). وكرهه بعضهم لحديث الصَّعْب بن جَثًامة، حيث أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - رِجْلَ حمار وحشي، فرده وقال: إنا محرمون (¬5)، وهذا يحمل على أنه صيد لأجله، فلذلك رده، وفي هذا مسائل كثيرة يذكرها الفقهاء في أماكنها، وشرطنا أن نشرح ما دل عليه لفظ الكتاب. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96]، قال عطاء: يريد خافوا الله الذي إليه تبعثون (¬6)، وقال غيره: (واتقوا الله) فلا تستحلوا الصيد في الإحرام (¬7)، لم حذرهم بقوله: {الَّذِي إِلَيْهِ ¬

_ (¬1) الآية السابقة (95). (¬2) هذه الآية التي يفسرها. (¬3) "تفسير البغوي" 3/ 99. (¬4) أخرجه أبو داود (1851) كتاب: المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والترمذي (846) كتاب: الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم، كتاب: الحج، باب: 25 ما جاء في أكل الصيد للمحرم 3/ 195 رقم 846، والنسائي 5/ 187، كتاب: الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد. (¬5) أخرجه البخاري (1825) كتاب: جزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا ولفظه: "إنا لم نرده إلا أنا حرم"، وكذا مسلم (1193)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم وغيرهما. (¬6) انظر: "الوسيط" 2/ 231. (¬7) "تفسير الطبري" 7/ 75.

97

تُحْشَرُونَ} أي: فيجزيكم بأعمالكم. 97 - قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} الآية. قال مجاهد: سمي البيت كعبة لتربيعها (¬1)، وقال مقاتل: سميت الكعبة كعبة لانفرادها من البنيان (¬2)، والقولان يرجعان إلى أصل واحد وهو الكعوبه بمعنى النتوّ والخروج، ويقال للجارية إذا نتا ثديها وخرج كَعَبَ وكَعاب، وكعب الإنسان سمي كَعبًا لنتوه من موضع. فالمربع كعبة لنتو زوايا التربيع، والمنفرد من البنيان كعبة لنتوه من الأرض (¬3). والبيت الحرام معناه: أن الله تعالى: حرم أن يصاد عنده وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يعضد شجره وما عظم من حرمته (¬4)، واختلف المفسرون وأصحاب المعاني في هذه الآية: فقال ابن عباس في بعض الروايات في قوله: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم (¬5). وقال سعيد بن جبير: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} صلاحًا لدينهم (¬6)، فعلى هذا القيام مصدر قولك: قام قيامًا، والمعنى أن الله تعالى جعل الكعبة سببًا لقيام الناس إليها للحج وقضاء النسك، فيصلح بذلك دينهم؛ لأنه تحط عنهم الذنوب والأوزار عندها، ويغفر لهم ما اقترفوه قبل حجها، ويكون ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 76 عن مجاهد وعكرمة، "معاني الزجاج" 2/ 210. (¬2) "تفسيره" 1/ 507. (¬3) "النكت والعيون" 2/ 69، والبغوي 3/ 103، 104، و"اللسان" 1/ 718، 719 (كعب). (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 76، "النكت والعيون" 2/ 69. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 77، و"الدر المنثور" 2/ 588. (¬6) أخرجه الطبري 7/ 77، و"النكت والعيون" 2/ 69.

هذا من باب حذف المضاف على معنى: جعل الله نَصبَ الكعبة قيامًا للناس، أي نصبها ليقوموا إليها لزيارتها (¬1). ويؤكد هذا التفسير قول عطاء في هذه الآية: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} ولو تركوا عامًا واحداً لا يحجونه ما نوظروا أن يهلكوا (¬2)، فهذا يدلك على أن معنى الآية: أن الله تعالى حث الناس على القيام إليها، وحكى أبو إسحاق هذا المعنى عن بعضهم فقال: أي مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه (¬3). وقال جماعة من المفسرين وأكثر أصحاب المعنى: القيام ههنا يراد به القِوام، وهو العماد الذي يقوم به الشيء، والتقدير فيه: جعل الله حج الكعبة البيت الحرام قيامًا لمعاش الناس ومكاسبهم، فاستتبت معايشهم به واستقامت أحوالهم لما يحصل لهم في زيارتها من التجارة وأنواع البركة (¬4)، ولهذا قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئًا للدنيا والآخرة أصابه (¬5)، فالقيام على هذا يجوز أن يكون بمعنى القوام، قلبت واوه ياء لانكسار ما قبلها، وقد ذكرنا هذا مستقصى في قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} في سورة النساء (¬6)، ووجه اختلاف القراء هناك، ويجوز ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 76 - 78، "النكت والعيون" 2/ 69. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 210. (¬4) انظر: الطبري 7/ 76، "بحر العلوم" 1/ 460، "الوسيط" 2/ 231، "زاد المسير" 2/ 430. (¬5) انظر: "الوسيط" 2/ 231. (¬6) الآية رقم (5) من النساء.

أن يكون مصدر القيام، أي قام به معاشهم قيامًا (¬1). وقوله تعالى: {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}، ذكر هذه الجملة بعد ذكر البيت؛ لأنها من أسباب حج البيت، فدخلت في جملته وذكرت معه. وهذا طريق في تفسير الآية، وقال كثير من المفسرين: هذا إخبار عما جعله الله تعالى في الجاهلية من أمر الكعبة (¬2). قال ابن عباس: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} أي أمنًا للناس، وكان أهل الجاهلية يأمنون فيه، فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم ما قتله ولا هيَّجه، وكانوا لا يغزون في الشهر الحرام، وكانوا ينضلون فيه الأسنة، ويبذعز (¬3) الناس فيه إلى معايشهم، وكان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحا شجر الحرم فلا يخاف، وكانوا توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه رحمة من الله لخلقه إلى أن قام الإِسلام، فحجزهم عن البغي والظلم (¬4). وقال قتادة: وكان هذا في الجاهلية، لو جنى الرجل كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتَنَاول ولم يُطْلب، ولو لقي قاتل أبيه في الحرم ما مسه، ولو لقي الهدي مقلدًا وهو يأكل العصب من الجوع ما مسه (¬5)، ونحو هذا قال مقاتل (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 76. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 77. (¬3) هكذا هذه الكلمة في النسختين. وقد تكون: وينبعث. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 78 نحوه عن قتادة وابن زيد، "زاد المسير" 2/ 430. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 77 - 78 بمعناه. (¬6) تفسيره 1/ 507.

وعلى هذا التفسير القيام مصدر، والمعنى أن الكعبة جعلها الله أمنًا للناس، بها يقومون أي يأمنون، ولولاها لفنوا وهلكوا وما قاموا. ذكره أبو إسحاق (¬1). وشرح عبد الله بن مسلم (¬2)، هذا التفسير الثاني في معنى الآية، وأوضحه بأبلغ بيان، فقال: إن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون، ويسفكون الدماء بغير حقها، ويأخذون الأموال بغير حلها، ويخيفون السبيل (¬3)، ويطلب الرجل منهم الثأر فيقتل غير قاتله، ويصيب غير الجاني عليه، ولا يبالي من كان بعد أن يراه كفؤًا لوليه، ويسميه الثأر المُنِيم، فجعل الله الكعبة البيت الحرام وما حولها من الحرم والشهر الحرام والهدي والقلائد قيامًا للناس أي أمنًا لهم، فكان الرجل إذا خاف على نفسه لجأ إلى الحرم فأمن يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وإذا دخل الشهر الحرام تقسمتهم الرِّحَل وتوزعتهم النُّجَعُ وانبسطوا في متاجرهم فأمنوا على أموالهم وأنفسهم. وإذا أهدى الرجل هديًا أو قلد بعيره من لحاء شجر الحرم أمن كيف تَصَرَّف (¬4) وحيث سلك، ولو تُرِكَ الناس على جاهليتهم وتغاورهم في كل موضع وكل شهر لفسدت الأرض، وفَنِيَ الناس، وتقطعت السبل، وبطلت المتاجر (¬5)، ونحو هذا قال أبو بكر بن الأنباري، فقد حصل في الآية ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 210. (¬2) ابن قتيبة في المشكل. (¬3) في المشكل: السبل. (¬4) في (ش): يصرف. وما أثبته من (ج) موافق لما في المشكل. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 73، 74.

طريقان: أحدهما: أن الله امتن على المسلمين بأن جعل الكعبة صلاحًا لدينهم ودنياهم، وقيامًا لهما بها. والثاني: أنه أخبر عما فعله من أمر الكعبة في الجاهلية، قال أبو بكر: والقيام يقال في تفسيره غير وجه: منها: الأمن, لأن الناس يقومون بالأمن ويصلح شأنهم من جهته، ويقال للقيام: العصمة، من قولهم: فلان يقوم على القوم إذا كان يكفل بمؤوناتهم، وهذا قول الربيع بن أنس في قوله: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قال: عصمة لهم (¬1)، قال: والقيام: إصلاح، من قوله عز وجل: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أي صلاحًا ومعاشًا (¬2). وقوله تعالى: {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ}، أراد الأشهر الحرم الأربعة، وخرج مخرج الواحد؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، وهو عطف على المفعول الأول لجعل، ومثل ذلك: ظننت زيدًا منطلقًا وعمرًا، وذكرنا معنى الهدي والقلائد في أول السورة (¬3). وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا} إلى آخرها, لم أر للمفسرين فيه شيئًا، وذكر أصحاب المعاني فيه قولين: أحدهما: أن الإشارة في قوله: (ذلك) إلى ما ذُكِر في هذه الآية من جعل الكعبة صلاحًا وأمنًا وقوامًا للناس، وهو قول ابن قتيبة (¬4)، وأبي ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "زاد المسير" 2/ 430، 431. (¬3) عند تفسير الآية الثانية من هذه السورة (المائدة). (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 73، 74.

علي (¬1)، وأحد قولي الزجاج (¬2)، وابن الأنباري، أما ابن قتيبة فقال: جعل الله ذلك لعلمه بما فيه من صلاح شؤونهم، وليعلموا أنه كما علم ما فيه من الخير لهم، أنه يعلم أيضًا ما في السماوات وما في الأرض من مصالح العباد ومرافقهم (¬3)، وأنه بكل شئ عليم (¬4). وقال أبو علي: أي فعل ذلك ليعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السماوات والأرض، وما يجري عليه شأنهم ومعايشهم، وغير ذلك مما يصلحهم، وأن الله بكل شيء يصلحهم، ويقيمهم عليه (¬5). وقال الزجاج في أحد القولين: إن الله جل وعز لما آمن من الخوف في البلد الحرام، والناس يقتل بعضهم بعضًا وجعل الشهر الحرام يُمتنع فيه من القتل، والقوم أهل جاهلية، دل بذلك أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض إذ (¬6)، جعل في أعظم الأوقات فسادًا ما يؤمن به (¬7)، وأراد الزجاج بقوله: أعظم الأوقات فسادًا إذا اجتمعوا بالموسم للحج. وقال أبو بكر: جعل الله هذا الوقت يؤمن فيه، وهذا البلد لا يسفك فيه دم عند المشركين الذين لا يقرؤون كتابًا ولا يدينون بدين، فيعظمونهما غير عابدين لله عز وجل ولا مصدقين لأنبيائه، يدل على أنه يعلم ما في السموات ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 260. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 210. (¬3) في (ش): (ومنافعهم) وما أثبته هو المطابق لما في "تأويل مشكل القرآن". (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 74. (¬5) "الحجة" 3/ 260. (¬6) في (ج): (إذا). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 210.

99

وما في الأرض، وأنه لا يخفى عليه خافية في أرض ولا في سماء (¬1)، فهذه أقوالهم باختلاف ألفاظها مع اتفاق معانيها. والقول الثاني: أن الإشارة في قوله: (ذلك) يعود إلى ما ذكر في هذه السورة من الأنباء والقصص، قال ابن الأنباري: إن الله تعالى خبرَّ في هذه السورة من أخبار الأنبياء وتُبَّاعهم بغيوب كثيرة، وأطع نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على أشياء من أحوال المنافقين واليهود كانت مستورة عنهم، مثل قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41] وغير ذلك، فلما دل على غيوب لم تكن تُعلَم قبل نزول السورة قال: (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض) أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم عن الله تعالى، ويدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنه لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه عازبة (¬2)، ونحو هذا قال الزجاج، وحكاية قوله يطول، قال: وهذا القول عندي أبين (¬3). 99 - قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}، لما أنذر الله تعالى في قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية، بشدة العقاب، وبشر بالعفو والغفران قال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}، والبلاغ: اسم من التبليغ كالسراح والأداء. 100 - قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}، قال بعض أهل المعاني: لما ذكر الله تعالى أن على الرسول البلاغ، بين على لسانه أنه لا يستوي عند الله تعالى الحلال والحرام. وقال المفسرون: نزلت الآية في الحجاج من المشركين الذين أراد ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 2/ 431. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 210، "زاد المسير" 2/ 431. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 210.

101

المؤمنون أن يغيروا عليهم، شريح بن ضبيعة وأصحابه (¬1)، وقد ذكرنا ذلك في أول السورة عند قوله تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]، ويقدم عليه حديث عقبة (¬2). وقوله تعالى: {الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} قال عطاء والحسن والكلبي: الحرام والحلال (¬3)، وسمي الحرام خبيثًا؛ لسوء عاقبته، وذكرنا لما سمي الحلال طيبًا في قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [سورة المائدة: 4]، وقال السدي: الخبيث المشركون، والطيب المؤمنون (¬4). 101 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، قال ابن عباس وأنس وأبو هريرة والحسن وطاوس وقتادة والسدي وعلي بن أبي طالب وأبو أمامة الباهلي - رضي الله عنهم - دخل كلام بعضهم في بعض: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا إلا أخبرتكموه" فقام رجل من بني سهم كان يُطعن في نسبه، والرجل عبد الله بن حذافة، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة بن قيس"، وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أنا؟ ويروى: "أين أبي؟ " فقال: "في النار" (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 507، و"بحر العلوم" 1/ 461، "زاد المسير" 2/ 432. (¬2) "البحر الرائق" 1/ 434. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 461، "النكت والعيون" 2/ 70، "تفسير البغوي" 3/ 104، "زاد المسير" 2/ 433، ونسبه لابن عباس. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 79. (¬5) أخرجه بنحوه من حديث أنس البخاري (7089) كتاب الفتن، باب: التعوذ من الفتن، (7294) وكتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال، ومسلم (2359) كتاب: الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم -، والطبري 7/ 80.

وقال سراقة بن مالك، ويروى عكاشة بن محصن: يا رسول الله الحج علينا في كل عام" فأعرض عنه رسول الله، حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم؟! والله لو قلتُ نعم لوجبتْ، ولو وجبتْ ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فأنزل الله هذه الآية (¬1). هذا قول المفسرين في سبب نزول الآية، وقال أصحاب المعاني: أما سؤال من سأل عن موضعه أو موضع أبيه فقال رسول الله: "في النار" فهو مما يسوء السائل بيانه، وأما من سأل عن أبيه من هو، فإنه لم يأمن أن يلحقه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير أبيه فيفتضح، ويكون قد جنى على نفسه بسؤاله فضيحةً تبقى عليه أبداً في أمر لم يكلف ذلك، ولم يؤمر بالسؤال عنه، فقد عرض نفسه بهذا السؤال لما سكوته عنه خير له، فهو منهي بهذه الآية عن مثل سؤاله في المؤتنف، إذ لا يأمن أن يكون الجواب بما يسوءه (¬2). وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من كان سببًا لتحريم حلال" (¬3)، إذ لم ¬

_ (¬1) أصل الحديث في الصحيح، دون إشارة إلى أنه سبب لنزول الآية فقد أخرج مسلم (1337)، كتاب: الحج، باب: فرض الحج من حديث أبي هريرة، وأخرجه على أنه سبب نزول للآية الترمذي (3055) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وحسنه، والطبري في "تفسيره" من طرق 7/ 8 والمؤلف في "أسباب النزول" ص 213 - 214. (¬2) "فتح الباري" 13/ 270. (¬3) أخرجه البخاري حديث سعد بن أبي وقاص (7289) كتاب: الاعتصام، باب: ما =

يؤمن أن ينزل في الحج إيجاب في كل عام لتكلف السؤال عما كان مرفوعاً عنه وغير مكلف إياه؛ لأنه كان له في ظاهر ما نزل من فرض الحج كفاية، ولو كان العدد في الوجوب مراداً لبُيِّن في التنزيل، أو على لسان الرسول، فسؤاله عن شيء كان عفا الله عنه (¬1). قالوا: وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} مؤخر في النظم مقدم في المعنى؛ لأن التقدير: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم عفا الله عنها، وإن شئت قلت: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم (¬2)، فقوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} جملتان صفتان لأشياء، وهي نكرة، ومعنى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي كف وأمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكماً، وكلام أبي إسحاق دل على هذه الجملة التي ذكرنا، لأنه قال: أعلم الله عز وجل أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، فإنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك، ولا إن ظهر وجه في المسألة عما عفا الله عنه، وفيه إن ظهر فضيحةٌ على السائل (¬3). وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل الله فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية (¬4)، وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا سئل عن ¬

_ = يكره من كثرة السؤال بلفظ: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وكذا مسلم (2358) في كتاب: الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) "تفسير الوسيط" 2/ 234. (¬2) "بحر العلوم" 1/ 462. (¬3) معاني القرآن وإعرابه" 2/ 211. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 85، وقد قالت عائشة رضي الله عنها لجبير بن نفير: هل تقرأ =

الشيء لم يجىء فيه أمر يقول: هذا من العفو، ثم يقرأ هذه الآية (¬1). وقال أبو ثعلبة الخشني (¬2): إن الله تعالى فرض فرائض فلا تستبقوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها (¬3). وأجمع النحويون على أن (أشياء) جمع شيء، وأنها غير مُجراة، واختلفوا في العلة، فقال الكسائي: هو على وزن أفعال، ولكنها كثرت في الكلام فأشبهت: فَعْلاء، فلم تصرف كما لم تصرف حمراء، قال: وجمعوها أشاوَى، كما جمعوا عَذْراء عذارى، وصَحْراء صحارى، وأشْياوات، كما قيل: حَمْراوات (¬4)، واعترض عليه الفراء والزجاج، فقال ¬

_ = سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم. قالت: فإنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه .. " أخرجه أحمد في مسنده 6/ 188. (¬1) لم أقف عليه. وقد أخرج الطبري 7/ 85 عن ابن عباس أنه قال: "لا تسألوا عن أشياء إن نُزِّل القرآن فيها بتغليظ ساءكم، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه". (¬2) صحابي مشهور، قيل اسمه: جرهم، وقيل: جرثم، وقيل غير ذلك، وأبوه قيل: عمرو وقيل: قيس، وقيل غير ذلك. منسوب إلى بني خشين. روى أحاديث. انظر: "الإصابة" 4/ 29، 30. (¬3) هكذا أخرجه الطبري 7/ 85، ونسبه كالمؤلف لأبي ثعلبة موقوفاً، وقد أخرج مرفوعاً الدارقطني في "سننه" ضمن الموسوعة الحديثية بإشراف د. التركي 5/ 326 برقم 4396، وكذا ساقه القرطبي في "تفسيره" 6/ 334 مرفوعاً، وصححه ابن كثير في "تفسيره" 2/ 120 مرفوعاً حيث قال: "وفي الحديث الصحيح" ثم ساقه وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر والحاكم الذي صححه مرفوعاً. انظر: "الدر المنثور" 2/ 593، فالأقرب والله أعلم أنه مرفوع. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للفراء 1/ 321، ومعاني الزجاج 2/ 212.

الفراء: لو كان كما قال لكان أملك الوجهين أن يُجرَى, لأن الحرف (¬1) إذا كثر به الكلام خف، وجاز أن يُجرَى كما كثرت التسمية بيزيد فأجروه في النكرة، وفيه ياء زائدة تمنع من الإجراء (¬2)، وقال الزجاج: أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قول الكسائي خطأ في هذا، وألزموه ألا يصرف أبناء وأسماء. وقال الأخفش والفراء: أشياء جمعت على أفعلاء، كما يقال: هَيْن وأهونا, ولَيْن وأليناء، وكان في الأصل أشيئاء على وزن أشبعاع، فاجتمعت همزتان بينهما ألف فحذفت الهمزة الأولى وفتحت الياء لتبقى ألف الجمع صحيحة فصار: أشياء، ووزنه عندهما: أفعِلاء (¬3)، قال الزجاج: وهذا القول أيضاً غلط؛ لأن شيئاً فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يجمع أَفِعلاء، فأما هَيّن ولَيّن فأصله: هَيين ولَيين، فجُمع أفعِلاء كما يُجمع فعيل على أفْعلاء، مثل: نصيب وأنصباء. (وقال الخليل: (أشياء) اسم للجمع كان أصله فعلاء شيئاء، فاستثقلت الهمزتان فقلبت الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجعلت لفعاء، كما قلبوا أَنْوق فقالوا أنيق، وكما قلبوا قُووس فقالوا: قِسي) (¬4)، قال الزجاج: وهذا مذهب سيبويه والمازني وجميع ¬

_ (¬1) في (ج): (الحروف). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 321. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 212 بتصرف. وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1951 (شيء). (¬4) جاء قول الخليل في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج مقتضباً جداً، فيحتمل السقط، أو أن المؤلف اعتمد على واسطة وهو "تهذيب اللغة" 2/ 1951 (شيء).

البصريين، وحكي (¬1) أن المازني ناظر الأخفش في هذا فسأله في هذا فسأله عن تصغير أشياء فقال: أقول أُشَيّاء، فقال المازني: ولو كانت أفعلاء لردت في التصغير إلى واحدها فقيل: شُيَيْئات مثل: شعيعات، وإجماع البصريين أن تصغير أصدقاء إن كان للمؤنث: صُدَيَّقات، وإن كان للمذكر صُدَيّقون (¬2)، فقطع المازني الأخفش، هذا مما ذكره النحويون في هذا الحرف، وحكى الزجاج أكثره في كتابه. ويُحتاج في هذا الحرف إلى بيان أكثر من هذا، فالذي ذهب إليه الخليل وسيبويه وأبو عثمان أن أشياء مقلوبة من شيئاء على وزن فعلاء نحو حمراء، ووزنه الآن لفعاء، والعلة المانعة للصرف بناء الحرف على همزة التأنيث، فلحق الحرف بصفراء وحمراء وبابه، والذي ذهب إليه أبو الحسن (¬3) أن وزنه أفعلاء، ثم حذفت الهمزة الأولى استخفافاً، والذي قوَّى عزمه على هذا دون أن يجعله أفعالاً ترك العرب صرفها نكرة، فلما رآها غير مصروفة جعل همزتها للتأنيث كما هي في صفراء، وأفعلاء لا ينصرف نحو أصدقاء وبابه، كذلك أشياء، فمذهب الخليل القلب، ومذهب الأخفش الحذف، والأشياء عند وزنه بعد الحذف أَفْعاء، والعلة المانعة عنده أيضًا همزة التأنيث المبني عليها الكلمة، وفي القولين جميعاً أشياء جمع على غير لفظ الواحد؛ لأن شيئاً فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يجمع على فعلاء ولا على أفعلاء، والجمع كثيراً ما يأتي على غير لفظ الواحد، كما قالوا في ¬

_ (¬1) لا يزال الكلام للزجاج. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 212، 213، "تهذيب اللغة" 2/ 1951 (شيء). (¬3) الظاهر أنه الأخفش، وليس في "معاني القرآن وإعرابه" له كلام حول هذه الآية.

جمع شاعر: شعراء، وليس قياس فاعل أن يجمع على فُعَلاء، وكذلك قالوا في جمع جمل وبقر: جامل وباقر. ويمكن أن يقال: إن أشياء لفظ وضع للجمع لا على بناء الواحد، وأما الكسائي فإنه يقول: أشياء أفعال، ولكنها لما جمعت أشياوات أشبه فعلاء التي تجمع على فعلاوات نحو: صحراء وصحراوات، ونظير أشياء في أنها أفعال أحياء في جمع حي، كذلك أشياء أفعال في جمع شيء، والعلة المانعة لصرفها شبهها بفعلاء من حيث جمعت جمعها، ويلزم على هذا القول ترك صرف أبناء وأسماء, لأنهم قالوا في جمعها: أسماوات وأبناوات، وذهب الفراء في هذا الحرف مذهب الأخفش غير أنه خلط حين ادعى أنها (كهَيّن ولَيّن) (¬1) حين جمعا أهوناء وأليناء (¬2)، وهَيْن تخفيف هَيِّن، فلذلك جاز جمعه على أفعلاء، وشيء ليس بتخفيف عن شيِّءٍ حتى يجمع على أفعلاء، وإنما زدت في البيان عن هذا الحرف؛ لأن علمه من غامض النحو ومشكله. وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}، لم أر للمفسرين في هذا بياناً، وقال صاحب النظم: الكناية في (عنها) ليست تعود على أشياء المذكورة في قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} ولكنها تعود على أشياء وأُخَر سواها لا هي، وجاز ذلك لأن المذكورة دلت عليها من حيث اجتمعتا في اللفظ، ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] يعني: آدم، ثم قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ ¬

_ (¬1) في (ج): (لهين لين). (¬2) "معانى القرآن وإعرابه" للفراء 1/ 321.

مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] يعني: ابن آدم؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار، ولكنه لما ذكر الإنسان والمراد به آدم دل ذلك على إنسان مثله وعرف ذلك بفحوى الكلام، والمعنى: (وإن تسألوا عنها) أي: عن أشياء حين ينزل القرآن فيها من فرض أو إيجاب أو نهي أو حكم أو ندب، ومست حاجتكم إلى ما هو من جملة ما نزل فيه القرآن، وليس في ظاهر ما نزل ولا في باطنه دليل على شرح ما بكم إليه حاجة، فإذا سألتم عنها حينئذٍ تبد لكم (¬1)، ومثال هذا: أن الله تعالى لما بين عدة المطلقة، والمتوفى عنها زوجها، والحامل لم يكن في عدد هؤلاء دليل على عدة التي ليست بذات قرءٍ ولا حامل فسألوا عنها، فأنزل الله تعالى (¬2) قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4]، فأما ما سوى هذا وأشباهه فما لم ينزل فيه قرآن وكان مرفوعاً عنهم، ولم يكلفوه، ولم تكن بهم حاجة إليه، فالسؤال عنه محظور بحكم هذه الآية، هذا معنى كلامه وبعض لفظه. وقوله تعالى: في {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}، قد ذكرنا أنه على التقديم، وقال بعضهم: ليس على التقديم، والمعنى: قد عفا الله عن مسألتها، أي عن مسألتكم عنها، فيكون العفو عن مسألتهم التي سلف منهم مما كرهه النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم الله أن يعودوا إلى مثلها، وأخبر أنه عفا عما فعلوا (¬3)، وجازت الكناية عن المسألة لأن (لا تسألوا) دليل عليها. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 84. (¬2) ساقط من (ج). (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 85، "النكت والعيون" 2/ 71. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 85، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 124.

102

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ}، قال عطاء: يريد لما كان في الجاهلية (حليم) عن عقابكم منذ آمنتم وصدقتم (¬1)، وقال أهل العلم في هذه الآية: الذي يجوز أن يسأل عنه هو ما يجوز أن يعمل عليه في أمر دين أو دنيا، والذي لا يجوز أن يسأل عنه هو ما لا يجوز أن يعمل عليه في أمر دين أو دنيا , ولهذا لم يجز أن يسأل: من أبي؟ لأنه لا يجوز أن يعمل في هذا إلا على أن الولد للفراش. 102 - قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}، قال ابن عباس والمفسرون: يعني قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها، وقوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها (¬2). فالكناية على هذا التفسير في قوله (سألها) تعود إلى الآيات. وهذا السؤال في هذه الآيات يخالف معناه معنى السؤال في قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} وقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا}، ألا ترى أن السؤال في الآية الأولى قد عدي بالجار، وههنا عدي بغير الجار؛ لأن معنى السؤال ههنا طلب لعين الشيء، كما تقول: سألتك درهما، أي: طلبته منك، والسؤال في الآية الأولى سؤال عن حال الشيء، كما تقول: سألتك عن شيء، أي عن حاله وهيئته وكيفيته. وإنما عطف عز وجل بقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} علي ما قبلها وليست بمثل نظمها في التأويل؛ لأنه عز وجل إنما نهاهم عن تكلف ما لم يكلفوا وهو مرتفع عنهم، وأعلمهم أنهم في هذا التكلف مثل أولئك على موسى وعيسى في تكلف (¬3) ما لم يكلفوا، وطلب ما لم يعْنِهم مما كان الإعراض ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" 7/ 85، وانظر: "زاد المسير" 2/ 436. (¬3) في (ج): (تكليف).

103

عنه أولى بهم، وأصلح لهم (¬1)، وذلك مثل سؤال قوم موسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] وقول بني إسرائيل: {لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة: 246] وقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة: 247] ألا تراهم قد سألوا ثم كفروا، وهذا معنى كلام أبي علي الجرجاني (¬2) وبعض لفظه. 103 - قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}، روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الجعل له معان في اللغة، يقال: جعل: صير، وجعل: أقبل، وجعل: خلق، وجعل: قال، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] (¬3)، وقال غيره: صيرناه. ويكون الجعل بمعنى القول والحكم على الشيء، تقول: قد جعلت زيداً على الناس، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]. وقال بعض أصحاب المعاني: جعل أحد الكلمات المشتركات التي هن أمهات الأحداث مثل: فعل وعَمِل وجعل وطفق وأنشأ وأقبل، إلا أن بعضها أعم من بعض، وأكثرها عموماً "فعل"؛ لأنه يقع على كل حركة من الإنسان قولاً أو عملاً أو هماً يهم به، والدليل على أنه يقع على القول قوله تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] ثم قال: ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 86. (¬2) صاحب كتاب النظم، يأخذ عنه المؤلف كثيراً، وهو غير متوفر. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 616 (جعل).

{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬1) [الأنعام: 148] فهذا حكايته عن القول، وعَمِلَ دون فَعَل في العموم؛ لأنه لا ينتظم معنى النية والهم والعزم والقول، ولا يقع إلا على عمل البدن، وأما (جعل) فله أحوال، منها: (جعل): صير مثل قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} [الحج: 25] أي صيرناه، ومنها: (جعل): أوجب، كقرله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي: وما أوجبنا القبلة التي أنت عليها، ومنها: (جعل): خلق، مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] أي خلق، وأما قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أي: صيرناه؛ لأن من القرآن العبراني والسرياني، فما نقل منه إلى العرب صار عربياً (بالتصيير والنقل) (¬2)، ومنها: (جعل): صلة لما بعده، مثل قوله: جعل يصرفه، نحو: طلق وأنشأ وأقبل، كلٌ منها صلة لما بعده من الفعل، فقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} أي: ما أوجبها ولا أمر بها، والبحيرة: فعيلة من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته، إذا شق أذنها، وهي بمعنى المفعولة، وخرجت مخرج النطيحة والذبيحة والنسيكة. وقد مضى الكلام في النطيحة (¬3). قال أكثر أهل اللغة والتفسير: البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، ¬

_ (¬1) في (ج)، (ش): (فعل) والظاهر أنه تصحيف، فإن هذه آية الأنعام، أما (فعل) ففي سورة النحل الآية 33 وتختلف عن هذه حيث قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. (¬2) في (ج): (لتصييره النقل). (¬3) عند تفسير الآية الثالثة من هذه السورة.

وكان آخرها سَقْباً (¬1) ذكراً شقوا أذن الناقة، وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسيبوها لآلهتهم، لا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها, ولا تطرد من ماء، ولا تمنع من مرعى، ولا ينتفع بها، إذا لقيها المُعْيي لم يركبها تحرجاً، وهذا قول أبي عبيدة (¬2) والزجاج (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا سَائِبَةٍ}، قال أبو عبيد (¬4): كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر ونذر نذراً أو شكر نعمة سيَّب بعيراً، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، وهذا القول اختيار القتيبي (¬5) والزجاج (¬6). وقال الفراء: قال بعضهم: السائبة: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سُيِّبت، فلم تركب، ولم يُجَزّ لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف (¬7)، والسائبة في اللغة: فاعلة من: ساب، إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء، وسابت الحية، وقيل: هي بمعنى المسَّيبة، لأنها تُسيَّب، ومنه قولهم للعبد أعتقتك سائبة، أي سيبتك فلا ولاء لي عليك (¬8). ¬

_ (¬1) السقب: ولد الناقة، وقيل: الذكَر من ولد الناقة .. وقيل: هو سقبٌ ساعة تضعه أمه. "اللسان" 4/ 2035 - 2036 (سقب). (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 177. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213. (¬4) هكذا في النسختين، وفي الوسيط للمؤلف 2/ 235 (أبو عبيدة). والظاهر أن الكلام لأبي عبيدة كما في "مجاز القرآن" 1/ 180 ونحوه في "النكت والعيون" 2/ 73. (¬5) في "غريب القرآن" ص 147. (¬6) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213، وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1585 (ساب) (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 322. (¬8) "تهذيب اللغة" 2/ 1585 (ساب).

وقال: ابن عباس في السائبة: هي التي تسيب للأصنام، أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء، فيجيء إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيُطِعْمون من لبنها أبناء السبيل (¬1)، ونحو ذلك قال ابن مسعود (¬2). وقال سعيد بن المسيب: السائبة: من الإبل، كانوا يسيبونها لطواغيتهم (¬3). وقال عكرمة في السائبة: كان الرجل إذا طلب الضالة، أو تبع النادّة، وأراد الحاجة قال: كذا وكذا (¬4) من مالي سائبة إن أدركت حاجتي (¬5). وقال علقمة: السائبة: من العبيد والنَّعَم وما نذر الرجل لئن عافاه الله من مرض أوْ ردَّه من سفر سالماً ليسيبن ناقة أو جملاً أو شاة للأصنام، فإذا سيبها حرم أكلها , لا يجز وبرها ولا يركب ظهرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وما ولدت فهو بمنزلتها، شقت أذنها وسميت بحيرة (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 90 مختصرا من طريق علي بن أبي طلحة، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 462، "تفسير الوسيط" 2/ 235 وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص 102، "تنوير المقباس بهامش المصحف" ص 124، "زاد المسير" 2/ 437، وعزاه السيوطي إضافة إلى ابن جرير إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. "الدر المنثور" 2/ 596 بمعناه. (¬2) "تفسير الوسيط" 2/ 235. (¬3) أخرجه بنحوه البخاري (4623) كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة المائدة، باب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ}، والطبري 7/ 92، والبغوي في "تفسيره" 3/ 108، وانظر: "زاد المسير" 2/ 438. (¬4) في (ج): (كذى وكذى). (¬5) لم أقف عليه، وانظر: "زاد المسير" 2/ 438. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 147، والطبري في "تفسيره" 7/ 89 - 91، و"بحر العلوم" 1/ 462، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 371، "النكت والعيون" 1/ 463، "تفسير البغوي" 3/ 107.

وقال محمد بن إسحاق في السائبة مثل ما قال الفراء في قوله: قال بعضهم، ثم قال محمد: والبحيرة ولد السائبة (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا وَصِيلَةٍ}، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: الوصيلة: من الغنم (¬2)، وقال مقاتل: إذا ولدت الشاة سبعة أبطن عمدوا إلى السابع، فإن كان جدياً ذبحوه للآلهة، ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقاً استحيوها فكانت من عرض الغنم، وإن ولدت في البطن السابع جدياً وعناقاً قالوا: إن الأخت وصلت أخاها فحرمته علينا، فحرما جميعاً، فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء (¬3)، ونحو ذلك قال ابن مسعود (¬4)، وقال الزجاج في الوصيلة: كانت الشاة إذا ولدت انثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم (¬5). فالوصيلة بمعنى الموصولة، كأنها وصلت بغيرها، ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها. وهذا أظهر الآية. وقوله تعالى: {وَلَا حَامٍ}، قال ابن عباس وابن مسعود: إذا نُتَجَت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حُميَ ظهره وسيب لأصنامهم، فلا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" للفراء 1/ 322، و"تهذيب اللغة" 2/ 1585 (ساب)، "زاد المسير" 2/ 439. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 147، و"تفسير الطبري" 7/ 90، و"معاني الزجاج" 2/ 213. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 510. (¬4) "تفسير الوسيط" 2/ 235. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213.

يحمل عليه (¬1)، وهذا قول أبي عبيدة (¬2) والزجاج (¬3) وأكثر أهل التفسير (¬4)، ونحو ذلك قال سعيد بن المسيب: كان الفحل يضرب الضراب المعدود، فإذا بلغ ذلك قالوا: قد حمي ظهره فترك (¬5)، وقال الفراء: الحامي الفحل من الإبل: كان إذا لقح ولد ولدِه حمى ظهره فلا يركب (¬6)، أعلم الله عز وجل أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئاً. قال ابن عباس والمفسرون، وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن عمرو بن لُحي الخزاعي كان قد ملك مكة، وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحامي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قُصْبِه" ويروى "يجز قُصْبه في النار" (¬7)، وقال قتادة: كان هذا كله تشديداً شدده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم وتغليظاً (¬8)، وأنشد ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 90، و"بحر العلوم" 1/ 462، "تفسير الوسيط" 2/ 235، "تفسير البغوي" 3/ 108، و"تفسير ابن كثير" 2/ 122. (¬2) في "مجاز القرآن" 1/ 179. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 86 - 93. (¬5) أخرجه البخاري (4623)، كتاب: التفسير، من تفسير سورة المائدة باب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ}، والطبري 7/ 90. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 322. (¬7) أخرجه من حديث أبي هريرة مختصرًا: البخاري (4623)، كتاب: التفسير، من تفسير سورة المائدة، ومسلم (2856) كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون. لكن في البخاري جاءت تسميته: عمرو بن عامر، وكذا عند الإِمام أحمد في مسنده 2/ 275، وأخرجه الطبري 7/ 88 وغيرهم. (¬8) أخرجه الطبري 7/ 90.

104

أهل اللغة في هذه الأنواع من النعم، فأنشدوا في البحيرة: مُحرَمةٌ لا يأكلُ الناسُ لحمَها ... ولا نحن في شيءٍ كذلك البحائِرُ وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شرًا: أجِدَّك أمَّا كنت في الناس ناعقًا ... تراعي بأَعْلى ذي المجازِ الوصائلا وأنشدوا في السائبة: وسائبةٍ مالي تشكُّرا ... إن (¬1) اللهُ عافا (¬2) عامرًا ومجاشعًا وأنشدوا في الحامي: حَماها أبو قابُوسَ في عزِّ مُلْكه ... كما قد حَمَى أولادَ أولادِه الفحلُ وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، قال ابن عباس: يريد عمرو بن لُحي وأصحابه، يتقولون على الله الأباطيل في تحريمهم هذه الأنعام، وهم جعلوها محرمة لا الله تعالى (¬3). وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]، قال الشعبي وقتادة: يعني الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء على الله من الرؤساء الذين حرموا هذه الأنعام (¬4) (¬5). 104 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية، ¬

_ (¬1) في (ش): (وإن). (¬2) في (ج): (عافى). (¬3) "تفسير الوسيط" 2/ 236، وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص 102، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 125. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 93، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 373، "تفسير الوسيط" 2/ 236، "زاد المسير" 2/ 440، "تفسير ابن كثير" 2/ 123. (¬5) من: "وقوله تعالى: (وأكثرهم لا يعقلون) .. " إلى هنا ليس في نسخة (ش).

105

قال ابن عباس: يعني: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من الدين والمنهاج (¬1). وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، مضى الكلام في نظيره في سورة البقرة (¬2). 105 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال النحويون: قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أمر من الله، تأويله: احفظوا أنفسكم عن ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. قاله الفراء (¬3) وابن الأنباري (¬4). ونحو ذلك قال الزجاج؛ لأنه قال: إذا قلت: عليك زيدًا، فتأويله الزم زيدًا، و {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} معناه: الزموا أنفسكم فإنما ألزمكم الله أمرها (¬5)، وهذا موافق لما قال ابن عباس في تفسيره؛ لأنه قال في قوله ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 1/ 462، "تفسير الوسيط" 2/ 236، "تفسير البغوي" 3/ 109، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 125. (¬2) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 322. (¬4) أبو بكر، وقد وهم محقق "الوسيط" 2/ 237 فنسب هذا "القول للبيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 307، وهذا الكتاب لأبي البركات بن الأنباري المتوفى سنة 577 هـ وهو متأخر عن المؤلف بقرن تقريبًا. وكلام ابن الأنباري أبي بكر هنا بمعنى ما عند أبي بركات في البيان، ولم أجده في الزاجر لأبي بكر، والذي يعتمد عليه المؤلف كثيراً. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213.

{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيتي (¬1)، والعرب تأمر من الصفات بعليك وعندك ودونك، فتعديها إلى المفعول، وتقيمها مقام الفعل، فتنصب بها على الإغراء (¬2)، تقول: عليك زيدًا (¬3)، كأنه قيل: خذ زيدًا فقد عداك وأشرف عليك، وعندك زيدًا، أي حضرك فخذه، ودونك، أي: قرب منك. فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها، وقد تقيم العرب غير هذه الأحرف مقام الفعل، ولكن لا تعديه إلى مفعول، وذلك نحو قولهم: إليك عني (¬4)، أي تأخر، كما يقولون، وراءك وراءك، بهذا المعنى. قالوا: لا يجوز أن يأمر بهذه الظروف إلا المخاطب، لو قلت عليك زيدًا، لم يحسن، وإنما كان كذلك لأن المخاطب لا يحتاج في الأمر بالفعل إلى أكثر من حروف ذلك الفعل الذي يأمره به نحو: قم واذهب، وفي الأمر للغائب يحتاج إلى إدخال اللام نحو: ليقم فلان، فكرهوا أن يقيموا هذه الظروف مقام الفعل واللام، فتكون نائبة عن شيئين، وفي المخاطبة تكون نائبة عن شيء واحد وهو الفعل وحده، وقد حكى عن العرب سماعًا: عليه رجلاً، ليس إغراءً للغائب، وهو شاذ لا يقاس عليه، وأجاز الكسائي وحده الإغراء بالظروف كلها. قال الفراء: زعم الكسائي أنه سمع: بينكما البعيرَ فخذاه، فأجاز ذلك ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 97. (¬3) انظر: كتاب سيبويه 1/ 138. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 94.

في كل الصفات، وسمع العرب تقول: كما أنت زيدًا، ومكانك زيدًا، قال الفراء: وسمعت بعض بني سليم يقول: مكانكني، يريد انتظرني في مكانك (¬1)، ولا يجوز تقديم ما نصبته حروف الإغراء عليها نحو: زيدًا عليك، لأنها طروف أقيمت مقام الأفعال وليست أفعالاً، فلا تقوى على العمل فيما قبلها (¬2). وأما سبب نزول الآية: فروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبل من أهل الكتاب الجزية وأبى من العرب إلا الإسلام أو السيف، عيَّر المؤمنين منافقوا مكة قبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية من بعض دون بعض، فنزلت هذه الآية (¬3)، يقول: لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على هدى، وقال سعيد بن جبير: نزلت في أهل الكتاب، يعني: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب (¬4). وقوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، قال الزجاج: الأجود أن يكون رفعًا على جهة الخبر، والمعنى: ليس يضركم من ضل، قال: ويجوز أن يكون موضع {لَا يَضُرُّكُمْ} جزمًا على الجواب لقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} لأنه أمر، ويكون الأصل: لا يضرركم إلا أن الراء الثانية أدغمت فيها الأولى وضمت لالتقاء الساكنين (¬5)، وشبه الفراء هذا بقوله ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 323. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 323. (¬3) ذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص 214، و"بحر العلوم" 1/ 463، و"تنوير المقباس" - الذي هو من رواية الكلبي ورواياته منكرة بهامش المصحف ص 125. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 94، و"معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 374. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 214.

تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} (لَا تَخَفُ) ولا تخافُ [طه: 77] جائزان (¬1). ويقال: هل تدل هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل: في هذا وجوه: أحدها: وهو الذي عليه أكثر الناس أن الآية لا تدل على ذلك، دل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذًا بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمعقول بالآيات في ذلك (¬2)، وخطب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وتضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب" (¬3). الوجه الثاني في تأويل الآية: ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا: قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يكون هذا في آخر الزمان، قال ابن مسعود وقرئت عليه هذه الآية: ليس هذا بزمانها ما ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 323, ولا تخف ولا تخافُ، قراءتان سبعيتان. انظر: "حجة القراءات" ص 458، 459، و"النشر" 2/ 321. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 99، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 373، و"بحر العلوم" 1/ 463. (¬3) أخرجه الترمذي (3057) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وقال: حديث حسن صحيح، والطبري 7/ 98 من طرق، قال ابن كثير 2/ 123. وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم، من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة .. متصلًا مرفوعًا ومنهم من رواه موقوفًا على الصديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولًا في مسند الصديق رضي الله عنه".

دامت قلوبكم واحدة، ولم تُلبَسوا شِيَعًا, ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شِيعًا، فامرؤٌ ونفسُه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية قال: ومن الآيات آيٌ وقع تأويلهن في آخر الزمان (¬1). وروي عن ابن عمر أنه قال: "هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم" (¬2)، ويؤكد هذا الوجه: ما روي أن أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم (¬3). الوجه الثالث في تأويل الآية: ما ذهب إليه عبد الله بن المبارك، فقال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين جميعًا، وأغراهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني: عليكم أهل دينكم {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} من الكفار، وهذا كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] يعني: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 96، وذكره ابن كثير 2/ 124، وعزاه إخراجه إلى أبي جعفر الرازي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 599 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 96 وأخذه عنه ابن كثير 2/ 124، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 599 إلى ابن مردويه أيضًا. (¬3) أخرجه الترمذي (3058) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وقال حسن غريب، وأبو داود (4341)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، والطبري 7/ 97، البغوي في "شرح السنة" 14/ 347.

أهل دينكم، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] بهذا المعنى (¬1)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء عنه، قال في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: يريد يعِظُ بعضكم بعضًا، وينهى بعضكم بعضًا، ويعلّم بعضكم بعضًا ما يقربه إلى الله ويبعده من الشيطان، و {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} من غيركم، يريد من المشركين وأهل الكتاب، والمنافقين (¬2). الوجه الرابع: أن الآية نازلة في أهل الأهواء, لأنه لا ينفعهم الوعظ ولا يتركون هواهم بالأمر بالمعروف، فإذا رأيتهم أو كنت فيهم فعليك نفسك وذرهم وما اختاروه لأنفسهم، فلن يضرك ضلالهم. وهذا الوجه يروى عن صفوان بن مُحْرِز (¬3)، ونحو ذلك قال الضحاك (¬4). والذي ذكرنا من سبب النزول يدل على أن الآية نازلة فيمن لا يؤمر بالمعروف ولا يُنْهى عن المنكر، وهم المنافقون واليهود والنصارى، فأما المسلمون فليسوا من هذا في شيء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فيما بينهم. قال أبو عبيد: والذي أذن الله في إقراره والإمساك عن تغييره بقوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إنما هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم أهل ملل يدينون بها، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإِسلام فلا يدخل في هذه الآية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 6/ 344. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هو صفوان بن مُحْرز المازني البصري، العابد، أحد الأعلام، أخذ عن الصحابة وروى عنه جماعة. كان واعظًا قانتًا، توفي سنة 174 هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 286، "تقريب التهذيب" ص 277 (2941). (¬4) لم أقف عليه، "تفسير الطبري" 7/ 971، "تفسير البغوي" 3/ 110.

106

واجبان في أهل المعاصي من المسلمين على الأبد، كذلك وجدنا أكثر أهل الحديث بلا توقيت (¬1)، وكان (¬2) ابن شبرمة (¬3)، يحد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، وذلك أنه حدث بحديث ابن عباس في الجهاد: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر (¬4)، فقال: (أما أنا) (¬5) فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما وينهاها (¬6)، قال أبو عبيد: ولا أعلم هذا يوجد فيه أجل أحسن من الذي ذهب إليه ابن شبرمة (¬7). وقوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}، قال عطاء: يريد مصيركم ومصير من خالفكم {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يريد يجازيكم بأعمالكم (¬8). 106 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية، قال المفسرون كلهم في سبب نزول هذه الآية وما بعدها: أن تميمًا الداري (¬9) ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" في القرآن العزيز - لأبي عبيد (القاسم بن سلام) ص 290. (¬2) لا يزال الكلام لأبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 294. (¬3) لم يتبين من هو. (¬4) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 3/ 363 عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} (65) سورة الأنفال. (¬5) في (ج): (أنا) بدون (أما). (¬6) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 294. (¬7) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 294. (¬8) "تفسير الوسيط" 2/ 260، "زاد المسير" 2/ 443. (¬9) هو أبو رقية، تميم بن أوس الداري، مشهور في الصحابة، كان نصرانيا فأسلم سنة 9 هـ، كان كثير التهجد، قام ليلة بآية حتى أصبح وهي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] انظر: "الإصابة" 1/ 186.

وأخاه عديًّا (¬1) وكانا نصرانيين خرجا إلى الشام ومعهما بُدَيْل مولى عمرو بن العاص، وكان مسلمًا مهاجرًا، خرجوا تجارًا، فلما قدموا الشام مرض بُدَيْل، فكتب كتابًا فيه نسخة جميع ما معه وطرحه في جوالقه، ولم يخبر صاحبيه بذلك، وأوصى إليهما، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشًا بالذهب، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، ففتشوا، فأصابوا الصحيفة بذكر ما كان معه، وفيها ذكر الإناء، فقالوا لتميم وعدي: إنا فقدنا من متاعه إناء من فضة فيها ثلاثمائة مثقال، قالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم، فدفعناه، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله هذه الآية (¬2). وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن من الآيات معنًى وإعرابًا، وسأسوقهما بعون الله مشروحتين مُبَيَّنتين إن شاء الله. وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}، اختلف النحويون في تقديره، فقال الفراء: وقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} رفع الاثنين بالشهادة، أي ليشهدكم اثنان (¬3)، وذكر الزجاج فيه قولين: أحدهما: مثل قول الفراء، والثاني: انفرد فقال: (شهادةُ) مرتفع بالابتداء ¬

_ (¬1) هو عدي بن بداء، قال ابن حبان: له صحبة، وأنكر أبو نعيم ذلك، وجاء في "تفسير مقاتل" أنه مات نصرانيًا. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 514، و"الإصابة" 2/ 467. (¬2) أخرجه البخاري (2780) كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} مختصرًا، والترمذي (3059) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة، وأبو داود (3606) كتاب: الأقضية، باب: شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر، والطبري 7/ 101 - 112 من طرق والمؤلف في "أسباب النزول" ص 214. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 323.

وخبرها (اثنان)، والمعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف المضاف، قال: ويجوز أن يكون المعنى فيما فَرضَ عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان، فيرتفع (اثنان) بشهادة والمعنى أن يشهد اثنان (¬1)، واختار أبو علي القول الأول من قولي الزجاج (¬2). وقال صاحب النظم: (شهادة) مصدر وضع موضع الأسماء، يريد بالشهادة الشهود، كما يقال: رجل عدلٌ ورضا، ورجال عدل ورضا وزَوْرٌ، وإذا جعلت الشهادة بمعنى الشهود قدرت معه حذف المضاف، ويكون المعنى: عدد شهود بينكم اثنان، واستشهد على هذا بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أراد وقت الحج، ولولا هذا التأويل لكان قوله: (أشهر) منصوبًا على تأويل: الحج في أشهر معلومات، فقدر صاحب النظم حذف المضاف من الابتداء، وقدره الزجاج من الخبر. وقوله تعالى: {بَيْنِكُمْ}، قال أبو علي: اتسع في (بين) وهي ظرف فجعل اسمًا، وأضيف إليه المصدر، وهذا يدل على أنه يجوز الاتساع في الظروف بجعلها اسمًا في غير الشعر، كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في قول من رفع، فجاء في غير الشعر، كما جاء في الشعر نحو قوله: فصادفَ بين عَيْنَيه (الجنونا) (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 214. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي 3/ 262. (¬3) هكذا في النسختين (ج)، (ش) بالنون، وفي "الحجة" لأبي علي 3/ 362 (الجبوبا) وكذا في اللسان 1/ 532 (جبب) قال في شرحه: "الجبوب وجه الأرض ومتنها" ولعل ما في "الحجة" هو الأصوب فهو الأصل، وقد نسب البيت في اللسان لأبي خراش الهذلي. (¬4) "الحجة" 3/ 362.

وقال أبو علي الجرجاني في قوله: {بَيْنِكُمْ} بمعنى: لما بينكم، وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر، ثم أضاف الشهادة إلى التنازع، لأن الشهود إنما يحتاج إليها في التنازع الواقع في ما بين القوم، والعرب تضيف الشيء إلى الشيء إذا كان منه بسبب كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] أي: مقامه بين يدي ربه. ثم حذف (ما) من قوله: ما بينكم، والعرب تحذف كثيراً ذكر (ما) و (من) في الموضع الذي يحتاج إليهما فيه كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] أي: ما ثِّم، وكما قال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] على معنى: ما بيني وبينك، ومثله قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في قول من نصب، وهذا الذي ذكره الجرجاني شرح ما أجمله أبو علي، لأنه إذا حُذف (ما) وأضيف إليه فقد جعل الظرف اسمًا متسعًا فيه، فأبو علي أجمل، والجرجاني فسر. وقوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، (إذا) ظرف يتعلق بالشهادة، وهو معمولها على تقدير: يشهدان (¬1) إذا حضر أحدكم الموت اثنان، ولا يجوز أن يتعلق بالوصية على تقدير: حين الوصية إذا حضر، أي الوصية تكون عند حضور الموت لأمرين: أحدهما: أن الوصية مصدر، ولا يتعلق بالمصدر ما يتقدم عليه، لأنه ليس له قوة الفعل، فلا يجوز: زيدًا ضربًا، بمعنى: اضرب زيدًا، كما يجوز: ضربًا زيدًا. والثاني: أن الوصية مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف؛ لأنه لو عمل فيما قبله لجاز تقديره في ذلك الموضع، وإذا قُدر ¬

_ (¬1) قد تكون: يشهد أن؛ لأن الفاعل: اثنان.

ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف، بيان هذا: أنك لو قدرت أن يكون (إذا) متعلقًا بالوصية جعلت التقدير: الوصية إذا حضر أحدكم الموت، فيحتاج أن تقدم الوصية على ما أضيف إليه وهو حين (¬1)، ومن ثَمّ لم يجز أن تقول: القتال زيدًا حين تأتي، على معنى أن يكون (زيدًا) منصوبًا بتأتي، لأنه مضاف إليه، فلا يعمل فيما قبل المضاف وهو حين. هذا معنى كلام أبي علي الفارسي (¬2)، وقد أديت المعنى وشرحت بعض ألفاظه. وقال في قوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ}: لا يجوز أن يتعلق حين بالشهادة، لأن الشهادة قد عمل في ظرف من الزمان، فلا يعمل في ظرف آخر منه، وكان تحمله على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن تعلقه بالموت، كأنه: الموت في ذلك الحين، والآخر: أن تحمله على حضر، أي: إذا حضر في هذا الحين، ويراد بالموت: حضوره في الوجهين قربه لا نزوله، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] ولا يسند إليه القول بعد الموت، الوجه الثالث: أن تحمله على البدل من (إذا) لأن ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان، فتبدله منه كما تبدل الشيء من الشيء إذا كان إياه (¬3). وقوله تعالى: {اثْنَانِ}، ذكرنا أنه خبر المبتدأ. وقوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، جملة مرتفعة لأنها صفة لقوله: {اثْنَانِ} (¬4). ¬

_ (¬1) أي ظرف زمان. (¬2) "الحجة" 3/ 263. (¬3) "الحجة" 2/ 263، 264. (¬4) "الحجة" 3/ 264.

وقوله تعالى: {مِنْكُمْ}، قال ابن عباس وعامة أهل التفسير: منكم يا معشر المؤمنين، أي من أهل دينكم وملتكم (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم، أي: من غير أهل ملتكم في قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح وإبراهيم وعَبِيدة وابن سيرين ومجاهد وابن زيد (¬2). قال شريح: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يُشهِده على وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيَّا، أو عابد وثن، أو أي كائن كان، فشهادتهم جائزة (¬3)، ولا تجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذا الموضع الواحد، وهو في الوصية في السفر، فإن شهد مسلمان بخلاف شهادتهما، أُجيزت شهادة المسلمين، وأُبطلت شهادة الكافرين. وقال الشعبي: حضر رجلاً من المسلمين الموت وهو بدَقُوقَا (¬4)، فلم يجد أحدًا من المسلمين يُشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري وكان عليها فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول ¬

_ (¬1) أخرج معناه عنه الطبري في "تفسيره" 7/ 101، وهذا قول الجمهور "بحر العلوم" 1/ 264، "النكت والعيون" 2/ 75، "زاد المسير" 2/ 446. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 103، "بحر العلوم" 1/ 464، "النكت والعيون" 2/ 75، "تفسير البغوي" 3/ 112، "زاد المسير" 2/ 446. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 104، "تفسير البغوي" 3/ 112. (¬4) قال محقق الطبري: "دَقُوقا: مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الأخبار والفتوح، كان بها وقعة للخوارج" "تفسير الطبري" 11/ 162 (ط. شاكر).

الله - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر بالله ما بدلا ولا كذبا، وأجاز شهادتهما (¬1). وقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}، الشرط متعلق بقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} والمعنى: أو شهادة آخرين من غيركم إن أنتم سافرتم، قال أبو علي: وهو وإن كان على لفظ الخبر، فالمعنى على الأمر، تأويله: ينبغي أن تُشْهِدوا إذا ضربتم في الأرض آخرين من غير أهل ملتكم (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} مع قوله: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فصلان معترضان بين الصفة والموصوف؛ لأن قوله: (تحبسونهما) من صفة قوله: (أو آخران)، والفاء في قوله: (فأصابتكم) لعطف جملة على جملة (¬3). وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} قال صاحب النظم: أي تقيمونهما وتقفونهما، كما يقول الرجل: مر بي فلان على فرس فحبس على دابته، أي: وقفه، وحبست الرجل في الطريق أكلمه، أي: وقفته. قال: ويقال إن معنى قوله: (تحبسونهما) تعبرونهما على اليمين، وهو أن يحمل الإنسان على اليمين وهو غير متبرع بها. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}، أي من بعد صلاة أهل دينهما، عن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 157, 158 رقم 290 مختصرًا، وأبو داود (3605) كتاب: الأقضية، باب: شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر، والطبري 7/ 105، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 379. (¬2) "الحجة" 3/ 265. (¬3) انظر: "الحجة" 3/ 264.

ابن عباس والسدي (¬1)، وقال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر (¬2)، وعلى هذا قال ابن قتيبة: خص هذا الوقت؛ لأنه قبل وجوب الشمس، وأهل الأديان يعظمونه، ويذكرون الله فيه، وَيتَوقَّون الحلف الكاذب وقول الزور، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها (¬3). وقال ابن الأنباري: قالوا: إنما أمرنا باستحلاف الشاهِدَين بعد صلاة العصر، لأنه وقت تعظمه اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل، فندبنا الله إلى استحلافهم في الوقت الذي يشرفونه، ويعظمونه، ويتجنبون فيه الأكاذيب. وقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}، الفاء لعطف جملة على جملة، قال أبو علي: وإن شئت جعلت الفاء للجزاء كقول ذي الرُّمة: وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ مرَّةً ... فيبدو وتاراتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ (¬4) تقديره إذا حَسَرَ بدا، وكذلك إذا حبستموهما أقسما (¬5). وقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}، أي في قول الآخَرين الّذَين ليسا من أهل من ملتكم، وغلب على ظنكم خيانتهما. قال أبو بكر (¬6): والشرط متعلق بـ (تحبسونهما)، كأنه قال: إن ارتبتم ¬

_ (¬1) أخرجه عن السدي: الطبري 7/ 109، وعزاه لهما الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 76، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 448، وقد استبعد الطبري هذا القول. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 111، و"معاني الزجاج" 2/ 216، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 378، و"بحر العلوم" 1/ 465، "النكت والعيون" 2/ 76، "تفسير البغوي" 3/ 112، 113. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 378، وانظر: "زاد المسير" 2/ 448. (¬4) "ديوانه" ص 391، وفيه (تارة) بدل (مرةً). وانظر: "المحتسب" 1/ 150. (¬5) "الحجة" 3/ 265. (¬6) ابن الأنباري.

وقدرتم أن الرجلين الذين أوصى إليهما كذبا وخانا حبستموهما بعد صلاة العصر. وقوله تعالى: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا}، قال أبو علي: (لا نشتري) جواب ما يقتضيه قوله: (فيقسمان بالله) لأن أقسمُ ونحوه يتلقى بما يتلقى به الأيمان (¬1). وقال صاحب النظم: تأويله فيقسمان بالله ويقولان هذا القول في أيمانهما. والعرب تضمر القول كثيراً كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ} [الرعد:23 - 24]، أي: يقولون: سلام. وقوله تعالى: {بِهِ ثَمَنًا} قال أبو علي: المعنى: لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنًا، فحُذِفَ المضاف وذُكِّر الشهادةٌ لأن الشهادة قول. قال: وتقدير لا نشتري به ثمنًا: لا نشتري به ذا ثمنٍ، ألا ترى أن الثمن لا يُشترى وإنما يُشترى ذو الثمن. قال: وليس الاشتراء ههنا بمعنى البيع وإن جاز في اللغة، لأن بيع الشيء إبعاد له من البائع، وليس المعنى ههنا على الإبعاد، وإنما هو على التمسك به والإيثار له على الحق (¬2). وقال غيره: معنى: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أي لا نبيع عهد الله بعرض نأخذه (¬3)، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] فمعنى {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أي لا نأخذ ولا نستبدل، ومن باع شيئًا فقد اشترى ثمنه، ومعنى الآية: لا نأخذ بعهد الله ثمنًا بأن نبيعه بعرض من الدنيا، ونستغني في هذا عن كثير من تكلف أبي علي. وهذا معنى قول ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 266. (¬2) "الحجة" 3/ 266. (¬3) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 378.

القتيبي (¬1) والجرجاني. وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، التقدير: ولو كان المشهود له ذا قربى، وخص ذو القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبونه (¬2)، وهذا مقتص من قوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين} [النساء: 135]. وقوله تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}، أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] (¬3) وقوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} أي: إنا إن كتمناها كنا من الآثمين، وهذا الذي ذكرنا في الآية قول أكثر المفسرين واختيار أعظم أصحاب المعاني (¬4). قال عبد الله بن مسلم وذكر معنى الآية على الوجه: أراد الله عز وجل أن يعرفنا كيف نشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: رجلان عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصية، وعلم جل ثناؤه أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من ¬

_ (¬1) أي ابن قتيبة. انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 378، 379. (¬2) من "الحجة" لأبي علي 3/ 266. (¬3) "الحجة" 3/ 266. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 181، الطبري 7/ 111، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 378، "بحر العلوم" 1/ 465.

المسلمين فقال: (أو آخران من غيركم) أي: من غير دينكم، إذا (ضربتم في الأرض) أي: سافرتم (فأصابتكم مصيبة الموت) وتم الكلام، فالعدلان من المسلمين للحضَر والسفَر إن أمكن إشهادهما في السفر، والذميان في السفَر خاصة إذا لم يوجد غيرهما. ثم قال: {تَحْبِسُونَهُمَا} من بعد صلاة العصر {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في شهادتهما وشككتم وخشيتم أن يكونا قد غيرا وبدلا وكتما وخانا، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أي: لا نبيعه بعرض، ولا نحابي في شهادتنا أحدًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة علمناها، فإذا حلفا بهذه اليمين على ما شهدا به قبلت شهادتهما: وأمضي الأمر على قولهما (¬1). وقال ابن الأنباري: تلخيص الآية: يا أيها الذين آمنوا ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت وأردتم الوصية، اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غير دينكم. فإن قيل: إن أهل الذمة لا يكونون عدولًا ولا تقبل شهادتهم، قيل: هذا من مواضع الضرورات التي يجوز فيها ما لا يجوز في مواضع الاختيارات، وقد أجاز الله تعالى في الضرورة التيمم وقصر الصلاة في السفر والجمع، والإفطار في شهر رمضان، وأكل الميتة في حال الضرورة، ولا ضرورة أعظم من ضرورة تبطل حقوقا وتضيع أمورًا على الميت من زكوات وكفارات أيمان وودائع للناس من ديون وحقوق، متى لم يبينها بطلت، فجاز (¬2) عند الضرورة الإيصاء إلى أهل الذمة، كما جاز في الأشياء التي وصفناها، وكما يجوز شهادة نساء لا رجل معهن في الحيض، ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 377، 378. (¬2) في (ج): (فجازت).

والحبَل، والولادة، والاستهلال. وقال أبو عبيد (¬1): مما يدل على صحة هذا القول قوله في أول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فعم في خطابه المؤمنين، فلما قال بعد ذلك {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} لم يغلب عليه إلا معنى: من غير أهل دينكم، إذ كان لم يخصص في أول الآية، ولم يخاطب قومًا مختصين من المؤمنين دون قوم (¬2). وذهب آخرون، إلى أنه لا يجوز شهادة أهل الذمة في شيء من أحكام المسلمين، ولا يقبل قولهم، ولا يثبت بشهادتهم حكم، وعليه الناس اليوم، فقالوا في قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: من حَيِّكم وقبيلتكم ورفقتكم {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير قبيلتكم ورفقتكم، وهو قول الحسن والزهري وأبي موسى، قالوا: ولا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر (¬3)، واختاره الزجاج فقال: قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، والشاهد إذا عُلِمَ أنه كذاب لم تقبل شهادته، وقد علمنا أن النصارى زعمت أن الله تعالى: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] وأن اليهود قالت: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] فعلمنا أنهم يكذبون، فكيف تجوز شهادة من هو مقيم على الكذب؟ (¬4). فهؤلاء جعلوا الآية في المسلمين. ¬

_ (¬1) ينظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 155 - 165. (¬2) ينظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 163، 164. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 106، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 377، "النكت والعيون" 1/ 494، "زاد المسير" 2/ 446. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 216.

وذهب جماعة إلى أن الآية كانت في شهادة أهل الذمة ثم نسخت، وقد بين أبو عبيد هذه المذاهب (¬1) وذكر أقواها فقال: في هذه الآية ثلاثة أقاويل: فجلّ العلماء وعظمهم يتأولونها في أهل الذمة ويرونها محكمة، وقالت طائفة أخرى: في أهل الذمة غير أنها قد نسخت، وقالت طائفة أخرى: هي لأهل الإسلام جميعًا, ولا حظ لأهل الذمة فيها (¬2). ثم ذكر بإسناده إجازة شهادة أهل الذمة، وأن الآية نزلت في ذاك عن أبي موسى وشريح والشعبي ومجاهد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم (¬3). وقال: هذا مذهب الذين رأوا الآية محكمة، ومما يزيد قولهم قوة تتابع الآثار في سورة المائدة بقلة المنسوخ وأنها من محكم القرآن وآخر ما نزل (¬4). وأما الآخرون (¬5) الذين رأوا الآية منسوخة، احتجوا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قال: ولست أدري إلى من يسند هذا القول؟ غير أنه قول مالك بن أنس وأهل الحجاز وكثير من أهل العراق غير سفيان، فإنه أخذ بالقول الأول، وأما الذين تأولوا الآية في أهل الإِسلام وأخرجوا المشركين منها فشيء يروى عن أبي موسى والحسن وابن شهاب. روى خالد عن أبي قلابة عن أبي موسى في قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ ¬

_ (¬1) ينظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 155 - 165. (¬2) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 155. (¬3) انظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 155 - 160. (¬4) "الناسخ والمنسوح في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 160. (¬5) لا يزال الكلام لأبي عبيد.

مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: كلهم مسلمون. وقال الحسن: {ذَوَا عَدْلٍ} من قبيلتكم {أَوْ آخَرَانِ} من غير قبيلتكم. وقال ابن شهاب في هذه الآية: هي في الرجل يموت في السفر فيحضره بعض ورثته ويغيب بعضهم (¬1) قال أبو عبيد: أما حديث أبي موسى فلا أراه حَفِظَ، لأن الشعبي حدث عنه إجازة شهادة أهل الذمة على الوصية. وقد ذكرناه (¬2) قبل، وأما تأول الحسن: من قبيلتكم ومن غير قبيلتكم، فقد بينا أنه لا يحتمل لعموم المؤمنين بالخطاب في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فلم يبق أحد منهم إلا وقد خوطب بها، وكيف يجوز أن يقال {مِنْ غَيْرِكُمْ} إلا من كان خارجًا منهم، وأما قول ابن شهاب: إنها في أهل الميراث، فأنى يكون هذا؟ وإنما (سما الله بشهادة) (¬3) ثم أعاد ذكرها في الآية مرارًا فقال: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} وقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ}. وهو تناولها (¬4) في الادعاء من بعض الورثة على بعض، وإنما هم مدعون ومدعى عليهم، فأين الشهادة من هذه الدعوى؟ وكيف يقال للمدعي شاهد؟ فهذان نوعان من التأويل لا أعرف لهما وجهًا، مع أن فيهما أمرين لا يجوزان في أحكام المسلمين، قال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} فهل يُعرف في حكم الإِسلام أن يُحَلَّف الشاهدان أو يجب عليهما يمين؟ أم هل يعرف في حكم الإسلام أن لا يقبل الحاكم شهادتهما ولا ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 162 , 163. (¬2) في (ج): (وقد ذكرنا). (¬3) في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز": (سماها الله لنا شهادة). (¬4) في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز": وهذا يتأولها.

ينفذها إلا بعد صلاة العصر؟ هذا ما لا يجب على شهود المسلمين، وليس الأمر عندنا إلا القول الأول عن من سمينا من الصحابة والتابعين (¬1) مع ما يروى عن ابن مسعود (¬2) أن رجلاً من المسلمين خرج في سفر فمر بقرية، فمرض ومعه رجلان من المسلمين فدفع إليهما ماله ثم قال: ادعوَا من أشهده على ما قبضتما، فلم يجدوا أحدًا من المسلمين في تلك القرية، فدعوا أناسًا من اليهود والنصارى فأشهدهم على ما دفع إليهما، ثم إن المسلِمَيْنِ قدما بالمال إلى أهله فقالوا: لقد كان معه من المال أكثر مما أتيتمونا به، قال: فاستحلفوهما بالله ما دفع إليهما غير هذا، ثم قدم ناس من اليهود والنصارى فسألهم أهل المتوفى فأخبروهم أنه هلك بقريتهم، وترك كذا وكذا من المال، فعلم أهل المتوفى أن قد عُثِروا على أن المسلمين قد استحقا إثمًا، فانطلقوا إلى ابن مسعود فأخبروه بالذي كان، فأمر المسلمين أن يحلفا بالله {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} إلى آخر الآية، ثم أمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلِمَيْنِ، ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا بالله ما شهدت به اليهود والنصارى، فحلفوا، فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلِمَيْنِ ما شهدت به اليهود والنصارى. قال: وكان ذلك في خلافة عثمان. انتهى كلام أبي عبيد (¬3). والذين يتأولون الآية في غير أهل الذمة يقولون إنما استُحلِف ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 163. (¬2) هذا الأثر متقدم في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" على ما نقله المؤلف فهو في ص 157. (¬3) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 157 - 163.

107

الشاهدان لأنهما صارا مدَّعى عليهما، ادَّعى الورثة انهما خانا في المال، وأما الحبس بعد الصلاة فهو من تغليظ الأيمان، ومذهب أهل الحجاز أن الأيمان تغلَّط في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان واللفظ، أما الزمان: فهو ما قال الله تعالى في هذه الآية، وهي صلاة العصر، وكان الناس يكثرون في المساجد بالحجاز بعد صلاة العصر. وأما المكان: فعند المقام بمكة، وعلى المنبر بالمدينة، وسائر البلاد. وأما الألفاظ: فما يؤدي إليه اجتهاد القضاة، رجعنا إلى حديث تميم وعدي وقصتهما: ولما رفعوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت الآية، أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستحلفوهما بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضا له غير هذا ولا كتما، فحلفا على ذلك، وخلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلهما، فكتما الإناء ما شاء الله أن يكتما، ثم اطُّلِعَ على إناء من فضة منقوش من ذهب معهما، فقالوا هذا من متاعه، فقالا: اشتريناه منه فارتفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. 107 - فنزل قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} الآية (¬1). قال الليث: عثر الرجل يعثرُ عُثُورًا: إذا هجم على أمرِ لم يهجُم عليه غيره، وأعثرت فلانًا على أمري، أي: أطلعته، وعَثَر الرجل يَعْثُر عَثْرة، إذا وقع على شيء (¬2). قال أهل اللغة: وأصل عثر بمعنى اطلع، من العثرة التي هي الوقوع، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، ثم إذا عثر به اطلع عليه ونظر ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 117، "تفسير البغوي" 3/ 113. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2327 (عثر).

ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفيًا عنه: قد عثر عليه. وأعثر غيره إذا أطلعه عليه، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21]، أي: أطلعنا عليهم، ومعنى الآية: فإن ظُهِر أنهما أتيا خيانة واستحقا الإثم أي: استوجباه بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحريا الحق وحنثا في اليمين، {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}، أي: مقام الشاهدين الذين هما من غيرنا. وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ}، قال الزجاج: هذا موضع من أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله {مِنَ الَّذِينَ} صفة للآخرين، وقوله: {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} صلة الذين. ومعنى {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي: استحقت الوصية عليهم، أو استحق الإيصاء عليهم، وهم ورثة الميت. ويجوز أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم الإثم، كأن المعنى من الذين جنى عليهم الإثم (¬1)، وقال بعضهم: معنى (على) ههنا معنى (في) والمعنى: من الذين استحق فيهم الإثم، أي: بسببهم استحق الحالفان اللذان من غيرنا فيهم الإثم بيمينهما الكاذبة. وقامت (على) مقام (في) كما قامت (في) مقام (على) في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وقال بعضهم: معنى (على) معنى (من) كأنه قيل: من الذين استحق منهم الإثم، وكانت (على) بمنزلة (من) كقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2] أي: من الناس (¬2). قال صاحب النظم مختارًا لهذا القول: {الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي: نيل منهم ظلم بالخيانة وهم ورثة المتوفى الموصي. انتهى كلامه، والمسند إليه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 216، 217. (¬2) "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 217.

استحق الإيصاء والإثم على ما بينا، وحذف ذلك لتقدم ذكر الوصية والإثم في قوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا}، وقوله تعالى: {الْأَوْلَيَانِ} لا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء، وقد أُخِّر كأنه في التقدير: فالأوليان بأمر (¬1) الميت آخران من أهله يقومان مقام الخائنين الذين عُثِر (¬2) على خيانتهما، كقولك: تميمي أنا، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في (يقومان)، فيصير التقدير: فيقوم الأوليان (¬3). وقد أجاز أبو الحسن الأخفش أن يكون (الأوليان) صفة لقوله (فآخران) لأنه لما وُصف (آخران) اختص بما وُصفَ به فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له بما يوصف به المعارف (¬4). وقال صاحب النظم: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله عز وجل: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] فمصباح نكرة، ثم قال: {الْمِصْبَاحُ} ثم قال: {فِي زُجَاجَةٍ} ثم قال {الزُّجَاجَةُ} وهذا مثل قولك: رأيت رجلاً، فاستفهمك إنسان فقال: من الرجل؟ فصار العود إلى ذكره معرفة، قال: ويجوز أن يكون (الأوليان) بدلاً من قوله: (آخران) وإبدال المعرفة من النكرة سائغ كثير، ومعنى الأوليان: أي: الأقربان إلى الميت. ويجوز أن يكون المعنى: الأوليان باليمين (¬5)، وإنما كانا أوليين ¬

_ (¬1) في (ج): (بالأمر). (¬2) في (ج): (عثرا). (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 267، و"معاني الزجاج" 2/ 216،217. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للأخفش 2/ 479، و"الحجة" لأبي علي 3/ 267. (¬5) انظر: "الحجة" 3/ 268.

باليمين؛ لأن الوصيين ادعيا أن الميت باع الجام (¬1) فانتقل اليمين إلى الوليين؛ لأنهما صار مُدَّعًى عليهما أن مورثهما باع الإناء، وهذا كما لو أقر إنسان لآخر بدين وادعى قضاءه حُكِمَ برد اليمين إلى الذي ادعى الدين، لأنه صار مُدَّعى عليه أنه استوفى، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر: (الأوَّلِينَ) على الجمع (¬2)، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} وتقديره: من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم. وإنما قيل لهم: الأولين فمن حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى قد تقدم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وكذلك: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ذكرا في اللفظ قبل قوله: (أو آخران من غيركم) (¬3)، وكان ابن عباس يختار هذه القراءة ويقول: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما (¬4)، أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقام الجانيين، وقرأ حفص وحده (اسْتَحَقَ) بفتح التاء والحاء، (الأوليان) على ¬

_ (¬1) في (ش): (الجازم) والأقرب ما أثبته. "تفسير الطبري" 7/ 115, و"الإصابة" 1/ 184. والمقصود بالجام ما أخذه تميم وأخوه من مال الميت وهو الإناء، والجام قال الأزهري في تعريفه: "عن ابن الأعرابي: الجام الفاثور من اللجين". "تهذيب اللغة" 1/ 525 (جام). والفاثور: الخوان أو المائدة. قال محقق الطبري 11/ 185: (ط. شاكر) "الجام إناء من فضة، وهو عربي فصيح مخوص بالذهب". (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 114، و"الحجة" 3/ 260، والنشر في القراءات العشر 2/ 256. (¬3) انظر: "الحجة" 3/ 169، و"حجة القراءات" ص 238. (¬4) أخرجه الفراء في "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 324، و"معاني القرآن وإعرابه" للنحاس 2/ 381، و"حجة القراءات" ص 238.

التثنية (¬1)، واستحق ههنا: بمعنى حق، أي: وجب، والمعنى: فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصية ميتهم وهم ورثته. وقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}، قال ابن عباس: يريد ليميننا أحق من يمينهما (¬2). وهذا ملتقى به {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} لأن معناه: فيقولان: والله لشهادتنا، وسميت اليمين ههنا شهادة؛ لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف أنه كذلك، وقد يقول القائل: أشهد بالله، أي: أقسم عليه. وقوله تعالى: {وَمَا اعْتَدَيْنَا}، قال ابن عباس: أي: فيما طلبنا من حقنا (¬3)، وقيل: وما اعتدينا فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما (¬4)، وكل ما ذكرنا في هذه الآية أكثره قول أبي علي (¬5) وأبي إسحاق (¬6). وقال عبد الله بن مسلم في ذكر معنى هذه الآية على سياق واحد موافق لما قدمنا: {فَإِنْ عُثِرَ} بعد ما حلف الوصيان {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي: حنثًا في اليمين بكذبٍ في قولٍ أو خيانةٍ في وديعةٍ، قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت، فيحلفان بالله لقد ظُهِر على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما (¬7). ¬

_ (¬1) فى رواية حفص عنه , "الحجة" 3/ 260 - 261. و"حجة القراءات" ص 238، و"النشر" 2/ 256. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 1/ 465، "تفسير البغوي" 3/ 114. (¬3) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 125. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 465، "تفسير البغوي" 3/ 114. (¬5) انظر: "الحجة" 3/ 261 - 270. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 214 - 217. (¬7) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 379، 380 باختصار.

108

رجعنا إلى قصة تميم وعدي، قالوا: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو ابن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله أنهما خانا وكذبا، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت، وغرم تميم وعدي ما أخذاه من ثمنه، فكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره (¬1)، وروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام (¬2). 108 - قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}، أشار بقوله: (ذلك) إلى ما حكم به في هذه القصة وبينه من رد اليمين، والمعنى: ذلك الذي حكمنا به أدنى إلى الإتيان بالشهادة وأقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على ما كانت، يعني تميمًا وصاحبه وكل من قام مقامهما من الخصوم، ولهذا المعنى جمع. وقوله تعالى: {أَوْ يَخَافُوا}، أي: أقرب إلى أن يخافوا (¬3)، {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} على أولياء الميت (¬4) {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا وُيغرّموا، فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم (¬5)، {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، أن تحلفوا أيمانًا كاذبة وتخونوا أمانة (¬6)، {وَاسْمَعُوا}، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 115 - 116 عن عكرمة، وكذا ابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" 2/ 603. (¬2) "القرطبي" 6/ 358. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 217، "تفسير البغوي" 3/ 115. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 514، الطبري 7/ 122، "زاد المسير" 2/ 453. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 122 - 123، "تفسير البغوي" 3/ 115. (¬6) "تفسير الطبري" 7/ 123، "بحر العلوم" 1/ 466، "تفسير البغوي" 3/ 115.

109

الموعظة (¬1)، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لا يرشد من كان على معصيته (¬2). 109 - قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ}، انتصاب اليوم يجوز أن يكون بفعل محذوف وهو: احذروا أو اذكروا، وقال الزجاج: وهو محمول على قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} (¬3)، ثم قال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ} أي: واتقوا ذلك اليوم، فدل ذكر الاتقاء في الآية الأولى على الاتقاء في هذه الآية، ولم ينصب اليوم على الظرف للاتقاء؛ لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول به كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]. وقوله تعالى: {مَاذَا أُجِبْتُمْ}، قال الكلبي: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد (¬4). قال أهل المعاني: ومعنى المسألة من الله للرسل التوبيخ للذين أرسلوا إليهم كما قال عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 , 9] وإنما تُسأل ليُوبَّخ قاتلوها (¬5). وقوله تعالى: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا}، قال ابن عباس في رواية عطاء: إن للقيامة زلازل وأهوالًا حتى تزول القلوب من مواضعها، فإذا رجعت القلوب إلى مواضعها، شهدوا لمن صدقهم وشهدوا على من كذبهم، يريد ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 123، "تفسير الوسيط" 2/ 243. (¬2) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 126. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 218. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 126. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 218، "النكت والعيون" 2/ 78، "زاد المسير" 2/ 453.

أنه عزبت عنهم أفهامهم من هول يوم القيامة فقالوا: لا علم لنا (¬1)، وهو قول الحسن، ومجاهد، والسدي، قالوا: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم (¬2)، واختار الفراء هذا القول (¬3). ونحو هذا قال الكلبي: من شدة هذه المسألة وهول ذلك الموطن، قالوا: لا علم لنا، ثم رجعت إليهم عقولهم، فشهدوا على قومهم أنهم بلغوهم الرسالة، وكيف ردوا عليهم (¬4). ومثل هذا قال مقاتل (¬5)، وسفيان الثوري (¬6). قال ابن عباس في رواية الوالبي (¬7): إنهم قالوا: لا علم لنا كعلمك، لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا (¬8)، وعلى هذا إنما نفوا العلم عن أنفسهم؛ لأن علمهم كلا علم عند علم الله تعالى، وحكى ابن الأنباري عن جماعة أنهم قالوا: معنى الآية: لا حقيقة لعلمنا، إذ كنا نعلم جوابهم وما كان من أفعالهم وقت ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في تاريخه كما في "الدر المنثور" 2/ 607 - 608، "تفسير البغوي" 3/ 116، "زاد المسير" 2/ 453. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 125، "بحر العلوم" 1/ 466، "تفسير الوسيط" 2/ 244، "تفسير البغوي" 3/ 116، "زاد المسير" 2/ 453. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 324. (¬4) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 126. (¬5) في "تفسيره" 1/ 515. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) علي بن أبي طلحة وهي من أصح الطرق عن ابن عباس. (¬8) أخرجه الطبري 7/ 126 بمعناه، "النكت والعيون" 2/ 78، البغوي 3/ 115، "زاد المسير" 2/ 453.

110

حياتنا, ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا. وإنما الجزاء والثواب يُستحقان بما تقع به الخاتمة مما يموتون عليه، فلما خفي عليهم الذي ماتت عليه الأمم لم يكن لعلمهم حقيقة، فقالوا: لا علم لنا (¬1). وذكر الزجاج هذا القول فقال: وقال بعضهم: معنى قول الرسل: لا علم لنا، أي: لا علم لنا بما غاب عنا ممن أُرسِلنا إليه، وأنت تعلم باطنهم، فلسنا نعلم غيبهم، أنت علام الغيوب (¬2)، فعلى هذا معنى قولهم: (لا علم لنا) أي: بباطن أمرهم. يدل على صحة هذا التأويل: قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، أي: أنت تعلم ما غاب، ونحن نعلم ما نشاهده، ولا نعلم ما في البواطن (¬3). 110 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} الآية، موضع (إذ) يجوز أن يكون رفعًا بالابتداء على معنى: ذاك إذ قال الله، ويجوز أن يكون المعنى: اذكر إذ قال الله (¬4). وقوله تعالى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} يجوز أن يكون (عيسى) في محل الرفع (¬5) لأنه منادى مفرد وصف بمضاف، فيكون كقول الشاعر: يا زبرقانُ أخا بني خَلفٍ ويجوز أن يكون في محل النصب؛ لأنه في نية الإضافة، ثم جعل ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 2/ 244، "زاد المسير" 2/ 453. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 218. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 126. (¬4) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 528. (¬5) انظر: المرجع السابق.

الابن توكيداً له (¬1)، وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان، نحو: يا زيدُ ابن عمروٍ، ويا زيدَ بن عمروٍ، وأنشد النحويون: يا حَكمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ برفع الأول ونصبه على ما بينا، وقوله تعالى: {نِعْمَتِي عَلَيْكَ} أراد الجمع كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ} [النحل: 18، إبراهيم: 34]، وإنما جاز ذلك لأنه مضاف فصلح للجنس، ثم فسر نعمته عليه بقوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} إلى آخر الآية. وقوله تعالى: {وَعَلَى وَالِدَتِكَ}، قال ابن عباس: يريد إذ أنبتها نباتًا حسنًا وطهرتها واصطفيتها على نساء العالمين، وكان يأتيها رزقها من عندي وهي في محرابها (¬2). وقوله تعالى: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} مضى تفسيره في سورة البقرة عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87]. وقوله تعالى: {تُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ} (تكلم) في موضع الحال، أي: أيدتك به مكلما الناس في المهد، قاله الزجاج (¬3). وقوله تعالى: {وَكَهْلًا} عطف على موضع (تكلم)، كأن المعنى: وأيدتك به مخاطبًا الناس في صغرك ومخاطبًا الناس كهلًا (¬4). وجائز أن يكون عطفًا على موضع {الْمَهْدِ} فيكون المعنى: وأيدتك به مكلمًا الناس صغيرًا وكهلًا (¬5). ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 528. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 219. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 219. (¬5) "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 528.

وقوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قيل: الكتابة (¬1) يعني الخط، وقيل: أراد الكتب، فيكون الكتاب اسم الجنس ثم فصل بذكر التوراة والإنجيل، وأما الحكمة فالعلم بما في تلك الكتب (¬2). وقوله تعالى: {فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} وقرأ نافع: (فتكون طائرًا) (¬3)، وأما الطير فواحده طائر، مثل: ضائن وضأن، وراكب وركب، والطائر كالصفة الغالبة. ولو قال قائل: إن الطائر قد يكون جمعًا مثل الحامل والباقر والسامر كان ذلك قياسًا (¬4)، ويكون على هذا معنى القراءتين واحداً. ويقوي هذا الوجه ما حكاه أبو الحسن الأخفش: طائرة فيكون طائرة وطائر من باب شعيرة وشعير. وأما قوله تعالى: {فَتَنْفُخُ فِيهَا} وفي آل عمران: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} [آل عمران: 49]، والقول في ذلك أن الضمير في قوله: {فِيهَا} يعود إلى الهيئة وتجعلها مصدرًا في موضع المهيأ، كما يقع الخلق موضع المخلوق، وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة، إنما يكون في المهيأ ذي الهيئة (¬5). ويجوز أن يعود إلى الطير؛ لأنها مؤنثة، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19]، وأما تذكير الضمير في آل عمران فقد مضى الكلام فيه مستقصى. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الكتاب. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 127. (¬3) انظر: "السبعة" ص 249. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2150 (طار)، "الحجة للقراء السبعة" 3/ 276،277. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 127، "زاد المسير" 2/ 454، 455.

111

وقوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ}. قال ابن عباس: يريد عن قتلك (¬1). وقوله تعالى: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110]، وقرأ حمزة والكسائي. (ساحر) بالألف (¬2)، فمن قرأ {سِحْرٌ} جعله إشارة إلى ما جاء به، كأنه قال: ما هذا الذي جئت به إلا سحر، ومن قرأ: (إلا ساحر) أشار إلى الشخص لا إلى الحدث الذي أتى به، وكلاهما حسن لاستواء كل واحد منهما في أن ذكره قد تقدم (¬3)، غير أن الاختيار {سِحْرٌ} لجواز وقوعه على الحدث والشخص، أما وقوعه على الحدث فسهل كثير، ووقوعه على الشخص تريد به: ذو سحر، كما جاء: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] أي: ذا البر، وقالوا: إنما أنت سيرٌ وما أنت إلا سيرٌ، وإنما هي إقبال وإدبار، فيجوز أن يريد بسحر ذا سحر، ولا يجوز أن تريد بساحر السحر. وقد جاء فاعل يراد به المصدر في حروف ليست بالكثير، نحو: عائذ بالله من شره، أي: عياذًا، ونحو العافية (¬4)، ولم تصر هذه الحروف من الكثرة بحيث يسوغ القياس عليها (¬5). 111 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} قد ذكرنا طرفًا من معاني الوحي والإيحاء في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163]، وقال ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 7/ 128، و"تفسير الوسيط" 2/ 244، والبغوي 3/ 116، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 126. (¬2) "الحجة" 3/ 270. (¬3) "الحجة" 3/ 271. (¬4) في "الحجة" 3/ 272 (العاقبة). (¬5) من "الحجة" لأبي علي 3/ 271، 272 بتصرف.

112

عامة المفسرين في {أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} ألهمتهم، كما قال جل وعز: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] أي: ألهمها وقذف في قلوبها (¬1)، ومضى الكلام في الحواريين (¬2)، وتفسير الآية ظاهر. 112 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}، قال أهل المعاني: هذا على المجاز كما يقول القائل: هل تستطيع أن تنهض معنا، أي: هل تفعل، وذلك أن المانع من جهة الحكمة قد يُجعَل بمنزلة المنامي للاستطاعة. وقال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله عز وجل، ولا يدل قولهم {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على أنهم شكوا في استطاعة الله (¬3)، إذ كان العربي يقول لصحابه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع للقيام، إنما يقصد بتستطيع معنى: هل يسهل عليك ويخف عليك، فكذلك هو في الآية هل يقبلُ ربُّك دعاءَك، وهل يسهل لك إنزال هذه المائدة علينا (¬4)، وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء (¬5). وقال أبو علي الفارسي: ليس هذا على أنهم شكوا في قدرة القديم (¬6) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 329، الطبري 7/ 128، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 383، "بحر العلوم" 1/ 461. (¬2) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52]. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 129. (¬4) "زاد المسير" 2/ 456. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 325. (¬6) القديم: مما أدخله المتكلمون في أسماء الله تعالى، وليس هو من الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب والسنة. انظر: "الطحاوية" ص 67.

سبحانه على ذلك, لأنهم كانوا مؤمنين عارفين، ولكن كأنهم قالوا: نحن نعلم قدرته على ذلك، فليفعله بمسألتك إياه؛ ليكون علَمًا لك ودلالةً على صدقك، وكأنهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقة وصحة أمره بحيث لا يعترض عليهم منه إشكال ولا ينازعهم فيه شبهة؛ لأن علمَ الضرورة لا تعترض فيه الشبه التي تعترض في علم الاستدلال، فأرادوا علم أمره من هذا الوجه، ومن ثم قالوا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة: 113]، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] بأن أعلمُ ذلك، من حيث لا يكون لشبهة ولا إشكال عليّ طريقٌ (¬1). وقرأ الكسائي: (تَسْطِّيع) (¬2) بالتاء مدغمًا (رَبَّكَ) نصبًا، أما الإدغام فإن التاء قريب المخرج من اللام؛ لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا، وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام، وإذا جاز إدغام اللام في الشين مع أنها أبعد منها من التاء، فأن يجوز في التاء ونحوها من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا أجدر، وأنشد سيبويه: تقولُ إذا استهلكتُ مالاً للذَّةٍ ... فُكَيهَةُ هشَّئٌ بكفَّيك لائقُ (¬3) وأنشد أيضاً: فذَرْ ذا ولكن هَتُّعينُ مُتَيَّمًا ... على ضوء برقٍ آخِرَ الليلِ ناصِبِ (¬4) أي هل تعين، فأدغم (¬5). ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 273، 274 بتصرف. (¬2) "الحجة" 3/ 275. (¬3) في الكتاب 4/ 458، ونسبة لطريف بن تميم العنبري، قال سيبويه: يريد: هل شيء؟ فأدغم اللام في الشين. (¬4) في "الكتاب" 4/ 459 ونسبه لمزاحم العقيلي. (¬5) "الكتاب" 4/ 458، 459، "الحجة" لأبي علي 3/ 273 بتصرف.

وأما معنى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هل تستطيع سؤال ربك (¬1)، وذكر الاستطاعة في سؤاله لا لأنهم شكوا في استطاعته، ولكن كأنهم ذكروه على وجه الاحتجاج عليه منهم، كأنهم قالوا: إنك مستطيع فما يمنعك؟ ومثل ذلك قولك لصحابك: أتستطيع أن تذهب عني فإني مشغول، أي: اذهب لأنك غير عاجز عن ذلك (¬2). و (أنْ) في قوله: {يُنَزِّلَ عَلَيْنَا} متعلق بالمصدر المحذوف على أنه مفعول (¬3)، واختار أبو عبيد هذه القراءة (¬4)؛ لأن الأولى تشبه أن يكون الحواريون شاكين، وهذه القراءة لا توهم ذلك، والمعنى في الاستفهام عن استطاعة عيسى السؤال طلب المعجزة منه، أرادوا هل تستطيع بسؤالك إظهار هذه المعجزة التي نطلبها؟ ويحتمل أن يكون مرادهم بالاستفهام التلطف في استدعاء السؤال كما تقول لصحابك: هل تستطيع أن تفعل كذا؟ وأنت عالم أنه يستطيع، ولكن قصدك بالاستفهام التلطف (¬5)، وهذه القراءة (¬6) قراءة ابن عباس، وعائشة (¬7) يروى عنها أنها قالت: كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: (هل يستطيع ربك) (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 325. (¬2) "الحجة" 3/ 273. (¬3) "الحجة" 3/ 273. (¬4) أي قراءة نصب "رَبَكَ" وهي للكسائي كما تقدم قريبًا. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 130. (¬6) أي نصب "ربك". (¬7) "معاني القرآن" للفراء 1/ 325. (¬8) أخرجه بمعناه الطبري 7/ 131، "معاني القرآن" للفراء 1/ 325.

وقال السدي في معنى القراءة الأولى: هل يطيعك ربك إن سألته (¬1)، وهذا على أن استطاع بمعنى أطاع على زيادة السين. وقال أبو إسحاق في معنى القراءة الثانية: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هل تستدعي طاعته وإجابته فيما تسأله من هذا (¬2)، قال: ويحتمل وجه مسألة الحواريين عيسى المائدة ضربين: أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن يزدادوا تبيينا (¬3) كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]. والثاني: أن يكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى (¬4)، وأما معنى المائدة فقال الزجاج: الأصل عندي أنها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها (¬5)، وقال ابن الأنباري: ويقال: إنما سميت مائدة؛ لأنها غياث وعطاء من قول العرب: ماد فلان فلانًا يميده ميدًا، إذا أحسن إليه وأفضل عليه، وأنشد: إلى أمير المؤمنين المُمتاد (¬6) أراد الذي يميد الناس أي: يعطيهم ويحسن إليهم (¬7)، فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى: معطية، وقال أبو عبيدة: المائدة فاعلة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 131. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 220. (¬3) في "معاني الزجاج": تثبيتًا. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 221. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 220. (¬6) لرؤبة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 159، 182، 183. (¬7) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 149، "زاد المسير" 2/ 457.

113

في معنى مفعولة مثل: عيشة وراضية، وأصلها مَمْيَدة، مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعطيها وتُفضل عليه بها، وتقول العرب: مادَني فلان يميدني، إذا أحسن إليه (¬1). وقوله تعالى: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال المفسرون: اتقوا الله أن تسألوه شيئًا لم تسأله الأمم قبلكم (¬2)، وقال بعض أصحاب المعاني: أمرهم عيسى بالتقوى مطلقًا، كما أمر الله المؤمنين بها في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، ونحوها من الآي. قاله أبو علي، وقول المفسرين أشبه لتعلقه بما قبله من المعنى. 113 - قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أي: نريد السؤال من أجل هذا الذي ذكرناه (¬3)، ويحتمل أن تكون الإرادة ههنا بمعنى المحبة التي هي ميل الطباع، أي: نحب ذلك (¬4). وقوله تعالى: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} قال عطاء: نزداد يقينًا (¬5) وذلك أن الدلائل كلما كثرت مكنت المعرفة في النفس. وقوله تعالى: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي: لله بالتوحيد لأجل الدليل الذي نراه في المائدة، ولك بالنبوة من جهة ذلك الدليل أيضًا، وقال ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 182. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 130، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 386، "زاد المسير" 2/ 457. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 131. (¬4) "زاد المسير" 2/ 457. (¬5) انظر: البغوي 3/ 118.

114

عطاء: يريد شهودًا (¬1) على بني إسرائيل (¬2). 114 - قوله تعالى: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا} (تكون) صفة للمائدة وليس بجواب الأمر (¬3)، وفي قراءة عبد الله: (تكن) لأنه جعله جواب الأمر (¬4). قال (الفراء) (¬5): وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع (¬6)، ومثال هذا قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [سورة مريم:5 - 6] بالجزم والرفع (¬7) و {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] بالجزم والرفع (¬8). وقوله تعالى: {عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} أي: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدًا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا وهذا قول السدي وقتادة وابن جريج (¬9)، قال كعب: نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدًا (¬10). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يقول عطية: (لأولنا) يريد من معه، ¬

_ (¬1) في (ش): (شهودًا لك). (¬2) "زاد المسير" 2/ 458. (¬3) انظر: القرطبي 6/ 367. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 325. (¬5) سقط من (ج). (¬6) "معاني القرآن" 1/ 225، وما بعده ليس عند الفراء في المطبوع. (¬7) بجزم "يرث" ورفعه. قراءتان سبعيتان، انظر: "حجة القراءات" ص 438. (¬8) بجزم (يصدق) ورفعه. قراءتان سبعيتان أيضًا، انظر: "حجة القراءات" ص 545، 546. (¬9) "تفسير الطبري" 7/ 132، "النكت والعيون" 84، "زاد المسير" 2/ 458. (¬10) "زاد المسير" 2/ 458.

(وآخرنا) يريد من يأتي بعده (¬1)، وعلى هذا التفسير معناه عائدة فضل من الله علينا ونعمة لنا، والعيد في اللغة: اسم لما عاد إليك من شئ في وقت معلوم، حتى قالوا للخيال: عيد، ولما يعود إليك من الحزن عيد، قال الأعشى: فواكبدي من لا عجِ الحُبِّ والهَوَى ... إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيمَةَ عِيدُها قال الليث: العيد كل يومِ مَجْمَع، قال: واشتقاقه من عاد يعود كأنهم عادوا إليه، وقال العجاج: كما يعود العيد نصراني (¬2) قال: وتحولت الواو في العيد ياء لكسرة العين. وقال المفضل: يقال: عاد في عيدي، أي: عادتي، وأنشد: عاد قلبي من الطويلة عيد وقول تأبط شرًّا: يا عيد مالك من شوق وإيراق (¬3) فإنه أراد الخيال الذي يعتاده. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: يسمى العيد عيدًا؛ لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد. ¬

_ (¬1) أخرجه بمعناه من طريق آخر: الطبري 7/ 132. (¬2) عجز بيت يصف فيه الثور الوحشي، وصدره: واعتاد أرباضها لها آريّ انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2270 - 2271 (عاد). (¬3) صدر بيت له، وعجزه: ومرَّ طيف من الأهوال طَراَّق

115

وقال أبو بكر (¬1): قال النحويون: يوم العيد معناه اليوم الذي يعود فيه الفرح والسرور. والعيد عند العرب الذي يعود فيه الفرح والحزن، قال: وكأن الأصل في العيد العود؛ لأنه من عاد يعود، فلما سكنت الواو انكسر ما قبلها صارت ياء (¬2) كقولهم: ميزان، وميقات وميعاد (¬3). وقوله تعالى: {وَآيَةً مِنْكَ} أي: دلالة على توحيدك وصحة نبوة نبيك (¬4). وقوله تعالى: {وَارْزُقْنَا} قال ابن عباس: وارزقنا عليها طعامًا نأكله (¬5). 115 - قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} وقرئ بالتشديد (¬6)، فمن خفف فلقوله: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} فقال: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} ليكون الجواب كالسؤال، ومن شدد فلأن نَزَّل وأنزل في القرآن قد استعمل كل واحد منهما موضع الآخر (¬7)؛ ولأنها نزلت مرات كما يروى في القصة، فكأن التشديد دل على التكرير. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} بعد إنزال المائدة. وقوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} إلى أخر الآية قال، ابن عباس: ¬

_ (¬1) ابن الأنباري كما في "تهذيب اللغة" 3/ 2271 (عاد). (¬2) إلى هنا انتهى كلام ابن الأنباري حسب ما في "تهذيب اللغة". (¬3) الكلام من قوله: "قال الليث .. " إلى هنا من "تهذيب اللغة" 3/ 2270 - 2271 (عاد). (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 468. (¬5) "تفسير الوسيط" 2/ 246. (¬6) قرأ بالتشديد نافع وعاصم وابن عامر، وقرأ الباقون بالتخفيف. "الحجة للقراء السبعة" 3/ 282، و"حجة القراءات" ص 242. (¬7) "الحجة" 3/ 382.

يعني: مسخهم خنازير (¬1)، وقال قتادة: إنهم مسخوا قردة (¬2). وقيل: أراد جنسًا من العذاب لا يعذب به غيرهم (¬3)، وقيل في قوله تعالى: {مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانهم (¬4). قال الزجاج: جائز أن يكون هذا العذاب يعجل لهم في الدنيا، وجائز أن يكون في الآخرة (¬5). واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟: فقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، وإن القوم لما سمعوا الشرط في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} استعفوا وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها. ولو نزلت لكانت عيدًا لنا إلى يوم القيامة (¬6)، وهذا أيضًا قول مجاهد أن الآية لم تنزل (¬7)، وابن عباس والباقون من العلماء على أنها نزلت (¬8)، ولكنهم مختلفون في كيفية نزولها والطعام الذي كان عليها، والذي نقتصر عليه هنا ما روى عمار ابن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزلت المائدة من السماء خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا ولا يُخبِّئوا ولا يدّخروا، فخان القوم وخّباوا وادّخروا ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 2/ 462. (¬2) أخرج ابن جرير عنه كقول ابن عباس: حولوا خنازير، الطبري 7/ 136. "النكت والعيون" 2/ 86. (¬3) "النكت والعيون" 2/ 86، "زاد المسير" 2/ 462. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 136، "النكت والعيون" 2/ 86. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 7/ 136. (¬6) أخرجه الطبري 7/ 136، "النكت والعيون" 2/ 85. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 135. (¬8) "تفسير الطبري" 7/ 133، "النكت والعيون" 2/ 85، "زاد المسير" 2/ 459, ونسب هذا القول للجمهور.

116

فمسخوا قردة وخنازير" (¬1)، والصحيح المختار قول من قال إنها نزلت، لتظاهر الآثار بذلك، ولكثرة من قال بها من العلماء (¬2). قال أبو بكر بن الأنباري: والذي نختاره تصحيح نزول المائدة لتتابع الأخبار بذلك، ولأن قوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} كلام تام وليس بجواب لشرط، وجواب الشرط قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا}، ولا يلزم قول الحسن: أنها لو نزلت لكانت عيدًا لنا إلى يوم القيامة؛ لأن وجه السؤال أن يكون يوم نزولها عيدًا لهم ولمن بعدهم ممكن كان على شريعتهم. 116 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الآية. قال النحويون: هذا عطف جملة على جملة، والجملة الأولى قوله: (إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر) (¬3). وعامة المفسرين على أن هذا القول لعيسى إنما يكون في القيامة؛ إلا السدي (¬4) وقطرب، فإنهما ذهبا إلى أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وتعلقا بظاهر قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} وإذ تستعمل لما مضى. والصحيح ما عليه العامة؛ لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3061) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة مرفوعًا وموقوفًا ورجح الوقف ثم قال: "ولا نعلم للحديث المرفوع أصلاً"، وأخرجه الطبري 11/ 228، 229. (¬2) وهذا اختيار الطبري 7/ 135، والبغوي 3/ 119، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 462، وابن كثير 2/ 135 وغيرهم. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 136 - 138. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 137، "زاد المسير" 2/ 463.

تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وأراد به يوم القيامة، وإنما خرج هذا مخرج المضي وهو للمستقبل؛ تحقيقًا لوقوعه كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] ولم ينادوا بعد، ولكنه بمنزلة ما قد مضى وفعلوا ذلك، من حيث أنه لا يعترض الشك في وقوعه (¬1). وقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ} هذا الاستفهام معناه: التوبيخ لمن ادعى ذلك على المسيح عليه السلام، قال الزجاج: وذلك أن النصارى مجمعون على أن صادق الخبر، وإذا كذبهم الصادق كان ذلك أوكد للحجة عليهم، وأبلغ في توبيخهم (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غير الله، كقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 23] و (من) زائدة مؤكدة للمعنى. وقوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد جل جلالك وتعظمت وتعاليت (¬3). وقال الزجاج: أي: برأتك من السوء (¬4). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} قال أبو علي: المعنى إن أكن الآن قلته فيما مضى. وليس كان فيه على المضي؛ لأن الشرط والجزاء لا يقعان إلا فيما يستقبل، والحروف في الجزاء تحيل معنى المضي إلى الاستقبال لا محالة، قال: وهذا الذي ذكرناه من هذا التأويل كان أبو بكر (¬5) يذهب إليه ويحكيه عن أبي عثمان. ¬

_ (¬1) ما رجحه المؤلف اختيار أكثر المفسرين، انظر: "بحر العلوم" 1/ 469، "النكت والعيون" 2/ 90، البغوي 3/ 121، "زاد المسير" 2/ 463. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 222 (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 222. (¬5) لعله أبو بكر الأنباري.

وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي، ولا أعلم ما في غيبك (¬1). وقال عبد العزيز بن يحيى (¬2): تعلم سري ولا أعلم سرك؛ لأن السر من صفة الأنفس (¬3). وقال أهل المعاني: تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، إلا أنه ذكرت النفس على مزواجة الكلام، لأن ما تخفيه كأنه إخفاء في النفس، وهذا شرح قول ابن عباس وعبد العزيز، لأن ما يخفيه الإنسان يكون في نفسه كالسر الذي يكتمه فقال عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: ما أخفيه من سري وغيبي أي: ما غاب ولم أظهره {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: ما تخفيه أنت ولم تطلعنا عليه، فلما كان سر عيسى يخفيه في نفسه، جعل أيضًا سر الله مما يخفيه الله تعالى في نفسه؛ ليزدوج الكلام ويحسن النظم. هذا طريق في شرح هذا اللفظ. وقال الزجاج: النفس في اللغة: تقع عبارة عن حقيقة الشيء، فمعنى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: تعلم ما أضمر {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: لا أعلم ما في حقيقتك وما عندك علمه، والتأويل أنك تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم، ويدل على هذا قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، قال: وهذا راجع إلى توكيد أن الغيب لا يعلمه إلا الله (¬4). وروى ثعلب عن أبي الأعرابي في معاني النفس في اللغة: أن النفس ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 2/ 247، والبغوي 3/ 122. (¬2) لعله الكناني، تقدمت ترجمته. (¬3) انظر: البغوي 3/ 122. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 222، 223.

117

تكون بمعنى (عند) فقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: ما عندي {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: ما عندك (¬1). والنفس عند المتكلمين في صفة الله تعالى عبارة عن ذاته وحقيقة وجوده، والموجود يقال له: عين وذات ونفس، وهذا لا يوجب تشبيهًا (¬2). 117 - قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ذكر أبو إسحاق في محل (أن) وجوهًا: النصب على البدل من ما، والخفض على البدل من الضمير في (بِهِ)، قال: ويجوز أن يكون بمعنى (أي) مفسِّرة لما أمره به في قوله: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: اعبدوا الله، وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب (¬3). وقوله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي: كنت أشهد على ما يفعلون ما كنت مقيمًا فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قال ابن عباس والحسن والقرظي: رفعتني (¬4)، يعنون وفاة الرفع إلى السماء من قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب اللغة" 4/ 3629 (نفس). (¬2) اختلف أهل السنة في إثبات النفس لله هل هي صفة للذات؟ أم أنها الذات؟ قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه .. وقد قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] .. فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء الله نفسه، التي هي ذاته المتصفة بصفاته، ليس المراد ذاتًا منفكة عن الصفات ولا المراد بها صفة للذات. وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات, وكلا القولين خطأ. "مجموع الفتاوى" 9/ 292، 293، وانظر: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" للمغراوي 1/ 393 - 396. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 223 بتصرف. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 1/ 469، البغوي 3/ 122، "النكت والعيون" 2/ 89.

118

وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقوله تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} قال ابن عباس والسدي وابن جريج وقتادة: الحفيظ عليهم (¬1). وقال الزجاج: أي: الحافظ عليهم (¬2)، وقال عطاء: يريد القاهر لهم (¬3) وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك أن الحافظ على الشيء قاهر له، ولو لم يكن قاهرًا لم يصح الحفظ منه. وقوله تعالى: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد شهدت مقالتي فيهم وبعدما رفعتني إليك شهدت ما يقولون بعدي (¬4)، فالشهيد على هذا معناه: المشاهد لما يكون، ويجوز أن يكون الشهيد في هذه الآية بمعنى العلم، فيكون معنى {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: شاهد عليه لعلمك به (¬5). 118 - قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية، تفسير هذه الآية واضح على قول من يقول إن هذه المخاطبة جرت بين الله تعالى وبين عيسى حين رفعه إلى السماء، يقول عيسى لله تعالى: (إن تعذبهم) على كفرهم ومعصيتهم (فإنهم عبادك وإن تغفر لهم) بتوبة تكون منهم، وهذا مذهب السدي، وقال في هذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} فتميتهم بنصرانيتهم فإنهم عبادك، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} فتخرجهم من النصرانية وترشدهم إلى الإِسلام (¬6)، وتفسير ¬

_ (¬1) أخرجه عن السدي وابن جريح الطبري 7/ 139، وعن ابن عباس ابن المنذر وعن قتادة عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 616. (¬2) ليس في معانيه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير الوسيط" 1/ 248 وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص 105. (¬5) "النكت والعيون" 2/ 89 (¬6) أخرجه الطبري 7/ 140، وكذا ابن حاتم وأبو الشيخ،"الدر المنثور" 2/ 616.

ابن عباس لهذه الآية في رواية عطاء موافق لهذا المذهب؛ لأنه قال في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} يريد تدعهم على المعاصي {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يريد تعصمهم فلا يتخذوا من دونك وليًّا ولا إلهًا ولا ربًا (¬1). {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] (العزيز) في ملكه (الحكيم) في أوليائه وأعدائه بالثواب والعقاب (¬2)، وسقط بهذا التفسير سؤال من اعترض على نظم هذه الآية بأن العزيز الحكيم لا يليق بهذا الموضع، إنما يليق به الغفور الرحيم كالذي في مصحف ابن مسعود (¬3)، وهذا التفسير الذي ذكره ابن عباس إنما يصح فيما يستقبل من الشرط على تقدير: إن تعذبهم تعذب عبادك، وإن تغفر لهم تغفر فإنك العزيز الحكيم. والشرط يكون في المستقبل دون الماضي، وإذا كان كذلك دل على أن هذه المخاطبة تكون قبل القيامة. وأما الذين قالوا إن هذه المخاطبة تكون يوم القيامة يُسأَلُ عليهم فيقال: كيف جاز لعيسى أن يقول: (وان تغفر لهم) والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب عن هذا ما قال الحسن وأبو العالية: إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم (¬4)، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية أبي الجوزاء عنه (¬5). وأما أهل المعاني فإنهم مختلفون في الجواب عن هذا: فقال أبو بكر ¬

_ (¬1) انظر: البغوي 3/ 122. (¬2) "تفسير الطبري" 7/ 140. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 1/ 469، والبغوي 1/ 123. (¬4) "تفسير الوسيط" 2/ 248. (¬5) عزاه في "الدر المنثور" 2/ 616 لأبي الشيخ، "زاد المسير" 2/ 465.

الأنباري: لما قال الله تعالى لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لم يقع له إلا أن النصارى حكت عنه الكذب فقال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} الحكاية {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لأنه ليس الحاكي للكفر كافرًا إذا لم يأخذ به، وليس في الآية أنهم اتخذوا عيسى وأمه إلهين، إنما هو استفهام عن عيسى هل أمر بذلك؟ وهل قال ذلك أم لا؟ وظاهر هذا الاستفهام يوجب أن النصارى حكوا عنه أنه أمر بذلك، فقال عيسى على اقتضاء هذا السؤال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ما حكوه كذبا (¬1)، وهذا قول المبرد، وقد حكاه الزجاج عنه فقال: قال بعضهم: إن تغفر لهم كذبهم عليّ، ثم قال: وهذا قول المبرد، ولا أدري أسمعه أم استخرجه؟ (¬2). وقال ابن الأنباري أيضاً: هذا على التبعيض، أي: إن تعذب بعضهم الذين أقاموا على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لبعضهم الذين انتقلوا عن الكفر إلى الإِسلام، فأنت في ذلك قاهر غالب عادل، لا يعترض عليك فيه معترض (¬3). والقول بالتبعيض في هذه الآية مذهب جماعة من المفسرين واختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال: والذي عندي أن عيسى قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جملتهم: إن تعذب من كفر بك فإنهم عبادك، أنت العادل عليهم، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} أي: لمن أقلع منهم وآمن فأنت في مغفرتك لهم (عزيز) لا يمتنع عليك ما تريد (حكيم) في ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 223. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 223، 224. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 224. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 224.

119

وذهب جماعة من أصحاب المعاني أن هذا على طريق تفويض الأمر إلى الله، إذ هو العالم بباطن أمرهم وظاهره، ومن أخلص التوبة منهم ومن أقام على كفره، ولم يشك عيسى في أنه يعذب الكفار، ولكن رد الأمر إلى مالكهم وإلههم، وتبرأ مما كان منهم؛ ليخرج نفسه من حالات المعترضين المقترحين، أي: إن عذبتهم يا رب لم يكن لي ولا لأحد الاعتراض عليك، وإن غفرت لهم ولست فاعلًا فذلك غير مردود عليك (¬1)، ولهذا المعنى قال: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} دون الغفور الرحيم؛ لأنه ليس قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} على معنى مسألة الغفران لهم، وإنما هو على تسليم الأمر إلى من كان أملك بهم، ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأوهم أنه دعا بالمغفرة، وهذا الذي ذكرنا من أن هذا على معنى التفويض مذهب الكلبي، فقد روى حبان عنه في هذه الآية قال: غبت عنهم وتركتهم على الحق فما أدري ما أحدثوا (¬2). 119 - قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} في الدنيا {صِدْقُهُمْ} في الآخرة؛ لأنه يوم الإثابة والجزاء، وما تقدم في الدنيا من الصدق إنما يتبين نفعه في هذا اليوم الذي نيل فيه جزاؤه (¬3). والدليل على أن المراد بالصادقين الذين صدقوا في الدنيا لا الصادقين في ذلك اليوم، أن الكفار لا ينفعهم الصدق في ذلك اليوم بما يكون من الإقرار على أنفسهم بالمعصية. قال المفسرون: هذا تصديق لعيسى بما يقول من قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} الآية، وذلك أنه كان صادقًا في الدنيا ولم يقل للنصارى اتخذوني إلهًا، ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 2/ 465، ونسب نحو هذا القول لابن الأنباري. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 141.

فنفعه صدقه (¬1)، وأما إبليس فإنه يصدق أيضًا في ذلك اليوم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] فلم ينفعه صدقه؛ لأنه كان كاذبًا في الدنيا. وهذا معنى قول قتادة (¬2). والذي ذكرنا من أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة قول عامة المفسرين إلا ما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد يومًا من أيام الدنيا؛ لأن الآخرة ليس فيها عمل، إنما فيها الثواب والجزاء (¬3)، وذهب في هذا القول إلى ظاهر الآية من أن الصدق النافع يكون في الدنيا، فلما وصف اليوم بأنه ينفع فيه الصدق جعله من أيام الدنيا، ويكون معنى الآية: (قال الله هذا) أي: هذا الكلام الذي جرى ذكره (يوم ينفع الصادقين)، أي: في يوم ينفع الصادقين صدقهم، وهذا القول يوافق مذهب السدي في أن هذه المخاطبة جرت مع عيسى حين رفع إلى السماء (¬4)، واختلف القراء في نصب {يَوْمُ يَنْفَعُ} ورفعه، فقرأ الأكثرون بالرفع، وقرأ نافع بالنصب (¬5)، واختاره أبو عبيد. فمن قرأ بالرفع قال الزجاج: فعلى خبر هذا، المعنى: قال الله تعالى اليوم يوم منفعة الصادقين (¬6). هذا كلامه، وشرحه أبو علي فقال: من رفع اليوم جعل الخبر المبتدأ الذي هو {هَذَا} وأضاف يومًا إلى {يَنْفَعُ} والجملة التي هي المبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول القول، كما تقول: قال زيد: عمرو أخوك، وما بعد القول حكايته، ومن نصب {يَوْمَ ¬

_ (¬1) معنى قول السدي عند الطبري 7/ 141. (¬2) انظر: البغوي 3/ 124. (¬3) انظر: البغوي 3/ 124. (¬4) "تفسير الطبري" 7/ 141. (¬5) النصب قراءة نافع وحده، والرفع للباقين. "الحجة" 3/ 282. (¬6) "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 224.

يَنْفَعُ} فعلى أن (يومَ) منصوب على الظرف، المعنى: قال الله هذا، وهو إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}، في {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} أي: ما قال الله هذا في القيامة، وجاء على لفظ المضي وإن كان المراد به الآتي كما قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50] (¬1)، وقد مر قُبَيْل، وليس ما قبل القول حكايته في هذا الوجه كما كان في وجه القراءة الأولى، وهذا في موضع نصب يقال: واليوم منصوب على الظرف، والعامل فيه قال، كما تقول: قال زيد هذا يوم الخميس، أي: قال زيد هذا القول في يوم الخميس. وهذا معنى قول الزجاج (¬2) وابن الأنباري وأبي علي (¬3)، وعلى هذا اليوم ظرف للقول، وأجاز أبو علي أن يكون ظرفًا لفعل مضمر غير القول، ويكون التقدير: قال الله هذا يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين، فيكون هذا المبتدأ وخبره يوم ينفع وإن كان منصوبًا على الظرف؛ لأن ظروف الزمان يجوز أن تكون أخبارًا من الأحداث كما تقول: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي: واقع في ذلك اليوم، وقوله: (هَذَا) إشارة إلى حدث يحدث في ذلك اليوم، وتكون الجملة في موضع نصب بأنها في موضع مفعول، قال: ويكون المعنى على الحكاية كما ذكرنا في قراءة من قرأ بالرفع (¬4)، وأجاز الفراء والكوفيون وجها آخر في القراءة بالنصب. قال الفراء: ويجوز أن تنصبه؛ لأنه مضاف إلى غير اسم، كما قالت العرب: مضى يومئذٍ بما فيه، ويفعلون ذلك به في موضع الخفض، ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 283. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 224، 225. (¬3) "الحجة" 3/ 283. (¬4) "الحجة" 3/ 283، 284.

وأنشد: رددنا بشعثاء (¬1) الرسول ولا أرى ... كيومئذ شيئًا ترد رسائله (¬2) قال: وكذلك وجه القراءة في قوله: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} [المعارج: 11]، و {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] قال: وما أضيف إلى كلام ليس فيه مخفوض فافعل به هكذا، كقول الشاعر: على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... وقلتُ ألمَّا تَصحُ والشيبُ وازعُ (¬3) (¬4) وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا المذهب فقال: يجوز أن يكون {يَوْمُ} رفعًا بهذا, ولا يتبين الرفع في لفظ اليوم لأن إضافته غير محضة، والعرب إذا أضافت أسماء الزمان إلى الأفعال الماضية والمستقبلة فتحوها في حال إضافتها لبعدها عن معنى الاسم، وأشبه الزمان عندهم الأداة فجعلوا اليوم مع الفعل بمنزلة الشيء الواحد، واختاروا له الفتحة لأنها أخف الحركات، فيقولون: أعجبني يوم قام أخوك، ويوم يقوم أخوك؛ لأن الإضافة إلى الفعل غير صحيحة فألزم الوقت الفتح، فعلى هذا القول {يَوْمُ} رفع لأنه خبر المبتدأ، ولكنه نُصِب لأنه مضاف إلى الفعل، فنصب كما يضاف إلى ما هو مبني مثل: يومئذ، وهذا لا يصح عند البصريين. قال الزجاج: زعم بعضهم: يعني: الفراء، أن يوم منصوب بأنه مضاف إلى الفعل، وهو في موضع رفع بمنزلة: يومئذٍ، مبني على الفتح في ¬

_ (¬1) .............. (¬2) البيت لجرير في "شرح ديوانه" ص 385. (¬3) البيت للنابغة الذبياني كما في "الكتاب" ص 53 وهو من "شواهد الإنصاف" لأبي البركات ابن الأنباري 2/ 292 "شذور الذهب" ص 112 رقم (25). (¬4) "معاني القرآن للفراء" 1/ 326، 327.

كل حال، وهذا خطأ عند البصريين، لا يجيزون: هذا يومَ آتيك، يريدون هذا يومُ آتيك؛ لأن آتيك فعل مضارع، فالإضافة إليه لا تزيل الإعراب عن جهته، ولكنهم يجيزون: ذلك يومَ نفعَ زيدًا صدقه؛ لأن الفعل الماضي غير مضارع، فهي إضافة إلى غير متمكن وإلى غير مضارع (¬1). وقال أبو علي منكرًا على الكوفيين: لا يجوز أن يكون {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ} في موضع رفع وقد فتح، لإضافته إلى الفعل؛ لأن المضاف إليه مُعَرب وإنما يكتسي المضاف البناء من المضاف إليه، إذا كان المضاف إليه مبنيًا والمضاف مبهمًا، كما يكون في هذا الضرب من الأسماء إذا أضيف إلى ما كان مبنيًا نحو: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] وصار في المضاف البناء للإضافة إلى المبني كما صار فيه الاستفهام للإضافة إلى المستفهم به، نحو: غلامُ من أنت؟ وكما صار فيه الجزاء نحو: غلامُ من تضربْ أضرِبْ. وليس المضارع في هذا كالماضي في نحو: على حين عاتبتُ المشيبَ (¬2) لأن الماضي مبني والمضارع معرب، فإذا كان معربًا، لم يكن شيء يحدث من أجله البناء في المضاف (¬3). وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} قال عطاء ومقاتل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بطاعتهم (ورضوا عنه) بثوابه وما تفضل به عليهم من الكرامة سوى الثواب (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 224، 225. (¬2) صدر بيت النابغة المتقدم قريبًا. (¬3) "الحجة" 3/ 283، 285. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 522، و"تفسير الوسيط" 2/ 249، والبغوي 3/ 124، و"زاد المسير" 2/ 467.

120

{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] قال الحسن: فازوا بالجنة ونجوا من النار (¬1). 120 - قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال مقاتل: عظَّم نفسه عما قالت النصارى من البهتان أن معه إلهًا فقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} دون كل من سواه لقدرته عليه وحده (¬2)، وقيل: إن هذا جواب (لسؤال مضمر) (¬3) في الكلام، كأنه قيل: من يعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السموات والأرض، قال الحسن: يريد خزائن السموات: وهي المطر، وخزائن الأرض: وهي النبات (¬4)، وجمع السموات ووحد الأرض تفخيمًا لشأن السموات على الأرض، والجمع قد يدل به على تفخيم الشأن كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]، و {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر: 49]، والآية تشير إلى أن الآمال يجب أن تتعلق بالله تعالى لعظم ملكه وسعة مقدرته (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 2/ 249. (¬2) "تفسيره" 1/ 522. (¬3) في (ج): (مضمن). (¬4) "تفسير الوسيط" 2/ 249. (¬5) هذا آخر تفسير سورة المائدة، وقد أعقبه المصنف مباشرة بتفسير سورة الأنعام، وذلك في نسخة (ج) (جامعة الإمام) لوحة 97 ب، ونسخة (ش) (شستربني) لوحة 88 ب.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الأنعام تحقيق د. محمد بن منصور الفايز أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثامن

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الأنعام تحقيق د. محمد بن منصور الفايز أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثامن

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, على بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ على بن أحمد الواحدي, محمد بن منصور الفايز, الرياض1430 هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 9 - 865 - 04 - 9960 - 978 (ج 8) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, على بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 9 - 865 - 04 - 9960 - 978 (ج8)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [8]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)

تفسير سورة الأنعام

تفسير سورة الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال ابن عباس: (يريد: على كل فعال، وبكل لسان، وعلى نعم الإسلام، وعلى صحة الأبدان) (¬1). قال أهل المعاني: (هذا في لفظ الخبر ومعناه الأمر، أي: احمدوا الله، وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر؛ لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين، ولو قيل: احمدوا الله، لم يجمع الأمرين) (¬2). وقد ذكرنا في (¬3) معنى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في الفاتحة ما فيه مقنع. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، قال الزجاج (¬4): (ذكر أعظم الأشياء المخلوقة؛ لأن السماء (¬5) بغير عمد ترونها، والأرض غير مائدة بنا) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 5، وأخرج ابن أبي حاتم 4/ 1258 بسند ضعيف عنه قال: (الحمد: هو الشكر والاستحذاء لله، والإقرار بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك) ا. هـ. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 143، و"تفسير الماوردي" 2/ 91، و"تفسير القرطبي" 6/ 584، وذكره الخازن في "تفسيره" 2/ 117، عن أهل المعاني. (¬3) لفظ (في): ساقط من (ش). (¬4) الزجاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السري البغدادي، إمام أكثر الواحدي من الناقل عنه، وقد تقدمت ترجمته. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 227. (¬6) في (أ): (مائدة بناها)، وعند الزجاج: (مائدة بنا).

وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، قد ذكرنا معاني جعل (¬1) في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103]، و {جَعَلَ} هاهنا بمعنى خلق، كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. قال ابن عباس: ({وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ}: ظلمة الشرك، وظلمة النفاق، وظلمة الكفر، وظلمة العصيان، {وَالنُّورَ} يريد: نور الإِسلام، ونور الإيمان, ونور النبوة، ونور اليقين) (¬2). وقال الحسن: (يعني الكفر والإيمان) (¬3). وقال السدي: (يعني الليل والنهار) (¬4) وهو اختيار الزجاج (¬5)، والأولى أن يكون هذا عامًّا في كل ظلمة ونور؛ لأن جميع ذلك مخلوق لله تعالى (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية جامعة الإِمام 3/ 79 أ. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 151، وأبو حيان في "البحر" 4/ 68، وفي "الدر" للسيوطي 3/ 6. أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: (الكفر والإيمان). (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 5 - 6، والبغوي في "تفسيره" 3/ 126، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 2، والرازي في "تفسيره" 12/ 151، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 386، والخازن في "تفسيره" 2/ 117. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 143، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1260، بسند جيد. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 227. (¬6) ذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 12/ 151، وقال: (هذا مشكل؛ لأنه حمل للفظ على مجازه، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معًا) ا. هـ. والظاهر حمل الآية على ظاهرها، والمراد أنار النهار وأظلم الليل، وهو اختيار الجمهور، قال الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية والزنادقة" ص 107؛ (يعني خلق الظلمات والنور)، وقال ابن عطية 5/ 121: (قالت فرقة: الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان, وهذا غير جيد؛ لأنه أخرج لفظٌ بيّن في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه، والنور أيضًا هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه) ا. هـ. وانظر "تفسير الطبري" 7/ 143، والسمرقندي 1/ 473، والماوردي 2/ 92 , و"البحر" 4/ 68.

قال المفسرون: (الظلمة أقدم من النور، وهي مخلوقة قبل، فلذلك قدمت في الذكر، وكذلك السموات خلقت قبل الأرض) (¬1). وقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يعني: عبدة الأوثان في قول عامة المفسرين (¬2). قال ابن عباس: (يريد: عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقروا بربوبيتي وبنعمتي) (¬3)، وقال الزجاج: (أعلم الله تعالى أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلاً، فيعبدون الحجارة [الموات (¬4)]، وهم مقرون بأن الله خالق ما وصف (¬5)، وقوله: {يَعْدِلُونَ}، العدل: التسوية؛ يقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه (¬6). ومعنى {يَعْدِلُونَ}: يشركون به ¬

_ (¬1) هذا قول قتادة أخرجه الطبري 7/ 143، وابن أبي حاتم 4/ 1259، بسند جيد، وقال السمين في "الدر" 4/ 524: (قدمت الظلمات لأنه موافق في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور) ا. هـ. والراجح عند الجمهور أن خلق الأرض قبل خلق السماء. قال ابن كثير في تفسيره 1/ 73: (هذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله الطبري عن قتادة وتوقف في ذلك القرطبي) ا. هـ ملخصًا. وانظر "تاريخ الطبري" 1/ 32 - 36، وتفسيره 1/ 192 - 194، و"الكشاف" 1/ 271، و"زاد المسير" 1/ 57، و"تفسير القرطبي" 1/ 255، و"دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" للشنقيطي ص 14 - 16. (¬2) انظر الطبري في "تفسيره" 7/ 144، والسمرقندي 1/ 473، وابن كثير 2/ 139، والظاهر أنها عامة في سائر أصناف الكفار، وهو اختيار الطبري في "تفسيره"، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 122. (¬3) في تنوير المقباس 2/ 3، قال: (يعدلون به الأصنام). (¬4) لفظ: (الموت) ساقط من (أ)، وفي (ش): (والموات). (¬5) معاني الزجاج 2/ 227. (¬6) انظر: "العين" 2/ 38، و"الجمهرة" 663، و"الصحاح" 5/ 1761، و"المجمل" 3/ 651، و"مقاييس اللغة" 4/ 246، و"المفردات" ص 551، و"اللسان" 5/ 2840 (عدل).

غيره، قاله (¬1) مجاهد. وقال الأحمر (¬2): (عدل الكافر بربه عدلاً وعدولًا إذا سوى به غيره فعبده) (¬3). وقال الكسائي (¬4): (عدلت الشيء أعدله عدولًا إذا ساويته [به] (¬5)، وعدل الحاكم في الحكم عدلاً) (¬6). والآية توجب أنه لا تجوز العبادة إلا لمن له القدرة على خلق السموات والأرض، وهو الله وحده لا شريك له (¬7). وقال صاحب النظم (¬8): (دخول ثم في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} دليل على معنى لطيف، وهو أنه عز وجل دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجب المؤمنين من ذلك، مثال (¬9) أن تقول: أكرمتك وأحسنت إليك ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 211، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 144، وابن أبي حاتم 4/ 1260 من طرق جيدة. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2360 (عدل). (¬4) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، تقدمت ترجمته. (¬5) لفظ: (به) ساقط من (ش). (¬6) "معاني النحاس" 2/ 398، و"تهذيب اللغة" 3/ 2360 (عدل). (¬7) قال الشنقيطي في "تفسيره" 2/ 180: (في قوله تعالى: {يَعْدِلُونَ} وجهان للعلماء، أحدهما: أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف والميل عنه، وعلى هذا فقوله: {بِرَبِّهِمْ} متعلق بقوله: {كَفَرُوا} ... والثاني: أن الباء متعلقة بـ"يعدلون" والمعنى يجعلون له نظيرًا في العبادة، وهذا الوجه هو الذي يدل عليه القرآن). وهذا اختيار ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 139. (¬8) صاحب النظم هو: الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، أبو علي، له كتاب "نظم القرآن" مفقود. (¬9) في (ش): (مثل).

2

ثم تشكوني وتشتمني، منكرًا لذلك عليه ومتعجبا منه (¬1)، ومثل هذا في المعنى قوله فيما بعد هذه الآية: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}) (¬2) [الأنعام: 2]. 2 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}، قال ابن عباس (¬3) والمفسرون: (يعني آدم والخلق من نسله، {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، يعني أجل الحياة إلى الموت وأجل الموت إلى البعث وقيام الساعة)، وهو قول الحسن (¬4)، وسعيد بن المسيب (¬5)، وقتادة (¬6)، ¬

_ (¬1) أفاد الجمهور أن (ثم) تفيد الإنكار والتوبيخ والاستبعاد والتراخي بين الرتبتين، فهي تفيد الإنكار والتوبيخ على قبح الكفر واستبعاد أن يعدلوا به غيره بعد وضوح آيات قدرته، إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الأدلة اختيار الباطل، ولو كان العطف بالواو لم يلزم ذلك كلزومه بثم. انظر: "تفسير البغوي" 3/ 126، وابن عطية 5/ 122، والرازي 11/ 151، والقرطبى في "تفسيره" 6/ 387، و"البحر" 4/ 68، و"الدر المصون" 4/ 524. (¬2) لم أقف عليه. وقال الكرماني في "غرائب التفسير" 1/ 351: (ثم) تتضمن الإنكار على الكفار والتعجب للمؤمنين، وكذلك قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}) ا. هـ. وقال الزمخشري في "الكشاف" 2/ 4: ({ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعاد؛ لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم) ا. هـ. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 57/ أ -بسند جيد- قال: (وروي عن مجاهد والسدي والضحاك وقتادة مثل ذلك) ا. هـ. وهذا هو قول الجمهور، ورجحه ابن عطية 5/ 124، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 387، وانظر "تفسير الطبري" 7/ 146، والسمرقندي 1/ 473. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 203، والطبري في "تفسيره" 7/ 146، بسند ضعيف. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 7، وابن الجوزي 3/ 3. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 203، والطبري في "تفسيره" 7/ 146، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1262، من طرق جيدة.

والضحاك (¬1)، ومقاتل (¬2)، واختيار الزجاج (¬3)، ونحو ذلك قال ابن عباس في رواية عطاء: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}، قال: يريد: من مولده إلى مماته، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: يريد: من الممات إلى المبعث، لا يعلم ميقاته أحد سواه. وقال: وذلك أن الله تعالى قضى لكل نفس أجلين من مولده إلى موته ومن موته إلى مبعثه، فإذا كان الرجل صالحًا واصلًا لرحمه، زاد الله في أجل الحياة من أجل الممات إلى المبعث، وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله من أجل الحياة وزاد في [أجل] (¬4) المبعث، قال: وذلك قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬5) [فاطر: 11]. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 146 بسند لا بأس به. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 549. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 228، واختاره الطبري في "تفسيره" 7/ 147، وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 14/ 489: (قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: الأجل الأول وهو أجل كل عبد الذي ينقضي به عمره. والأجل المسمى عنده هو أجل القيامة العامة) ا. هـ. (¬4) لفظ: (أجل) ساقط من (أ). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 7، والبغوي في "تفسيره" 3/ 127، و"الخازن" 2/ 118، و"البحر المحيط" 4/ 71، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 147، وابن أبي حاتم 4/ 1262، بسند جيد عنه قال: ({قَضَى أَجَلًا} يعني: أجل الموت، والأجل المسمى: أجل الساعة والوقوف عند الله) ا. هـ. وأخرج الحاكم في "المستدرك" 2/ 315 عنه في الآية قال: (هما أجلان: أجل في الدنيا، وأجل في الآخرة، مسمى عنده لا يعلمه إلا هو). قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ا. هـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص".

وقال أهل المعاني: (في قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: يجوز أن يكون الحكم بهذا الأجل كان بعد خلق آدم، ويجوز أن يكون قبله لسبق علمه (¬1) بذلك قبل أن يخلق الخالق، وعلى هذا يحمل قوله: {ثُمَّ} لسبق الخبر الثاني على الخبر الأول، كقول الشاعر (¬2): قلْ لمنْ سادَ ثم سادَ أبُوهُ ... ثُمَّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ والجد سابق للأب، والأب سابق للممدوح) (¬3). ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 14/ 490 - 492 في الآية: (إن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب، والمحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا هو فيه ولا إثبات) ا. هـ ملخصًا. (¬2) الشاهد لأبي نواس في "ديوانه" ص 222. وبلا نسبة في "رصف المباني" ص 250، و"الدر المصون" 3/ 220، و"المغني" لابن هشام 1/ 117، و"تفسير ابن كثير" 2/ 139، وفي الديوان: قلْ لمنْ سادَ ثم سادَ أبُوهُ ... قبله ثم قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ قال السمين عن الشاهد: (الترتيب يعود إلى الخبر لا إلى الوجود). وحكى ابن هشام: (أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب، والأب من قبل الابن) ا. هـ وظاهر كلام ابن القيم في "مختصر الصواعق" 2/ 130: أن البيت لشاعر لا يحتج به. وقال في ص 129 (القول بأن (ثم) تأتي لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر، فيجوز أن يكون ما بعدها سابقًا على ما قبلها في الوجود وإن تأخر عنه في الإخبار لا يثبت ولا يصح به نقل، ولم يأت في كلام فصيح، ولو قدر وروده فهو نادر، لا يكون قياسًا مطردًا تترك الحقيقة لأجله). (¬3) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 535، وقال ابن فارس في "الصاحبي" ص 216: (قوله جل ثناؤه: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} وقد كان قضى الأجل، فمعناه أخبركم أني خلقته من طين، ثم أخبرك أني قضيت الأجل، كما تقول: كلمتك اليوم ثم قد كلمتك أمس، أي: أني أخبرك بذلك ثم أخبرك بهذا) ا. هـ.

3

وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أي: بعد هذا البيان تشكون يا معشر المشركين وتكذبون بالبعث. والمرية (¬1) والامتراء: الشك. والآية حجة على منكري البعث بأن الذي ابتدأ الخلق يصح أن يعيده كما ابتدأه وقدر الأجلين له (¬2). 3 - قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} الآية، (الله) إذا جعلت هذا الاسم علمًا ثم وصلته بالمحل أوهم أن يكون الباري سبحانه في محل، كما تقول: زيد في البيت وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وتكلم أهل المعاني في هذا فقال أبو بكر (¬3): (إن وإن كان اسمًا علمًا ففيه معنى ثناء وتعظيم المعظم) (¬4) ونحو هذا، قال أبو إسحاق: فقال: ({فِي} موصولة في المعنى بما يدل عليه اسم الله عز وجل، والمعنى: هو المنفرد بالتدبير في السموات والأرض، كما تقول: هو الخليفة في الشرق والغرب) (¬5). ¬

_ (¬1) المرية والامتراء: الشك في الأمر، وقال الراغب في "المفردات" ص 766: (المرية: التردد في الأمر وهو أخص من الشك، والامتراء والمماراة: المحاجّة فيما فيه مرية) ا. هـ وانظر: "العين" 8/ 295، و"الجمهرة" 2/ 806، و"تهذيب اللغة" 4/ 3384، و"الصحاح" 6/ 2491، و"المجمل" 3/ 828، و"مقاييس اللغة" 5/ 314، و"اللسان" 8/ 4189 (مرى). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 147، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 473، والماوردي 2/ 93. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 9، وابن الجوزي 3/ 4. (¬5) انظر "معاني القرآن" 2/ 228، وهذا القول رجحه الجمهور كما أفاده السمين في "الدر" 4/ 529، وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 127: (هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازًا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى) ا. هـ وقال القرطبي في "تفسيره" =

وقال أبو على: (الظرف منتصب الموضع عندي بِيَعْلَمُ، وهو عندي إضمار القصة والحديث، كأن معناه الأمر لله بـ {يعلم} في السموات وفي الأرض سركم وجهركم، قال: وإذا جعلت الظرف متعلقًا باسم الله جاز عندي في قياس قول من جعل اسم الله أصله إلا له؛ لأن المعنى يكون وهو المعبود في السموات والأرض. [يعلم (¬1)] أي الآمر المعبود يعلم سركم وجهركم، قال: ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأسماء الأعلام وجب ألا يجوز على قوله تعلق الظرف به، إلا أن يقدر فيه ضربًا من معنى الفعل) (¬2). وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} معنى: (الكسب) (¬3) الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لم يوصف فعله القديم [جل ثناؤه] (¬4) بأنه كسب (¬5). ¬

_ = 6/ 390: (هذا القول أسلم وأبعد من الإشكال) ا. هـ وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 140: (المعنى: وهو الإله وهو المعبود في كل واحدة من السموات، ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود، فذكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد، وهذا قول محققي أهل التفسير) ا. هـ. واختاره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 139، والشنقيطي في "أضواء البيان" 2/ 181 - 183، وانظر "الفتاوى" 2/ 404. (¬1) لفظ: (يعلم) ساقط من (أ). (¬2) "الإغفال" لأبي علي ص 703 - 704. (¬3) انظر: "العين" 5/ 315، و"الجمهرة" 1/ 339، و"تهذيب اللغة" 4/ 3140، و"الصحاح" 1/ 212، و"المجمل" 3/ 785، و"مقاييس اللغة" 5/ 179، و"المفردات" ص 709، و"النهاية" لابن الأثير 4/ 171، و"اللسان" 7/ 387 (كسب). (¬4) لفظ: [جل ثناؤه] ساقط من (ش). (¬5) انظر: الرازي في "تفسيره" 12/ 156، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 390.

4

4 - وقوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}، {مِنْ} في قوله: {مِنْ آيَةٍ} لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي، كقولك: ما أتاني (¬1) من أحد، والثانية: للتبعيض، فالأول خرج مخرج عموم الآيات كأنه قيل: أي آية أتتهم هي بعض آيات ربهم (¬2)، والمراد بالآيات: الدلالات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله وصدق نبيه - صلى الله عليه وسلم - من خلق السموات والأرض وما بينهما مع المعجزات التي أتى بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو العالية في قوله تعالى: {مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}: (مثل الشمس والقمر والنجوم) (¬3). قال ابن عباس: (ومن الآيات (¬4) انشقاق القمر بمكة). وقال عطاء: ({وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ}: يريد القرآن) (¬5). ¬

_ (¬1) في (ش): (ما أبالي من أحد). (¬2) انظر: "الكشاف" 2/ 5، و"تفسير ابن عطية" 5/ 128، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 390، و"الدر المصون" 4/ 533 - 534، ونقل قول الواحدي والرازي في "تفسيره" 12/ 157. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في "تنوير المقباس" 2/ 4، نحوه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 175 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 128 بلا نسبة. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 9، والبغوي في "تفسيره" 3/ 128، والأولى العموم فتشمل الآيات الشرعية والكونية، الآية من القرآن والمعجزة كانشقاق القمر ونحوه، وهو اختيار الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 148، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 474، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 4، والرازي في "تفسيره" 12/ 157، وقد أخرج البخاري في "صحيحه" (3636)، كتاب "المناقب"، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فأراهم انشقاق القمر. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشهدوا" ا. هـ.

5

وقوله تعالى: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي: تاركين التفكر فيها. ومعنى الإعراض (¬1): الانصراف بالوجه عن الشيء، ثم يبنى عليه الانصراف بالفكر عنه. 5 - قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا} يعني مشركي مكة {بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}، قال ابن عباس: (بما جاءهم [به] (¬2) الصادق الأمين (¬3)، {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: أخبار استهزائهم وجزائه. قاله ابن عباس (¬4) والحسن (¬5). وقال الزجاج: (المعنى: سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم) (¬6). ومعنى الاستهزاء: إيهام التفخيم في معنى التحقير (¬7). 6 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} الآية. ¬

_ (¬1) انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 748، و"تهذيب اللغة" 3/ 2394، و"الصحاح" 3/ 182، و"مقاييس اللغة" 4/ 271، و"المفردات" ص 559، و"اللسان" 5/ 2894 (عرض). (¬2) لفظ: (به) ساقط من (أ). (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 4، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 10. (¬4) في "تنوير المقباس" 2/ 4 نحوه. (¬5) لم أقف عليه بنصه، ولكن معناه موجود في عامة كتب التفسير. انظر: "تفسير الطبري" 11/ 292، و"تفسير البغوي" 3/ 128، و"تفسير ابن عطية" 5/ 128، و"زاد المسير" 3/ 4، و"تفسير القرطبي" 6/ 391، و"تفسير ابن كثير" 2/ 140. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 228. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3755، و"الصحاح" 1/ 83 - 84، و"مجمل اللغة" 3/ 904، و"مقاييس اللغة" 6/ 52، و"المفردات" ص 841، و"اللسان" 8/ 4659 (هزأ).

قال أبو إسحاق: (موضع {كَمْ} نصب بأهلكنا لا بقوله: {يَرَوْا}؛ لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله) (¬1). والقرن: الأمة من الناس، وأهل كل مدة قرن؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم قرني" (¬2). واشتقاقه من الاقتران (¬3)، فالقرن: القوم المقترنون في زمان من الدهر (¬4)، وقال ابن عباس في تفسير قوله: {مِنْ قَرْنٍ}: (يريد: (من جيل ومن أمة) (¬5)، وقوله {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} قال ابن عباس: (يريد: أعطيناهم ما لم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 229، وانظر: "إعراب النحاس" 2/ 56، و"المشكل" لمكي 1/ 246، و"البيان" لابن الأنباري 1/ 314، و"التبيان" للعكبري 1/ 322، و"الفريد" للهمداني 2/ 120، و"الدر" للسمين 4/ 535. (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2651)، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، ومسلم رقم 2535، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". قال عمران: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. الحديث. وانظر شرحه في "فتح الباري" 7/ 5. (¬3) انظر: "الجمهرة" 2/ 793، و"تهذيب اللغة" 3/ 2947، و"الصحاح" 6/ 2180، و"مقاييس اللغة" 5/ 76، و"المجمل" 3/ 749، و"المفردات" ص 667، و"النهاية" لابن الأثير 4/ 51، و"اللسان" 6/ 3608 (قرن). (¬4) الجمهور على أن القرن مائة سنة، وأكثر المحققين على أنه غير مقدر بزمن معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، بل المراد أهل كل عصر، فإذا انقضى أكثرهم قيل: قد انقضى القرن، وهو اختيار الزجاج في "معانيه" 2/ 229، والنحاس 2/ 400، والرازي في "تفسيره" 12/ 131، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 391، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 328، و"مجاز القرآن" 1/ 185، و"تفسير غريب القرآن" ص 151، و"تفسير البغوي" 3/ 128، وابن عطية 5/ 129، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 5، و"البحر" 4/ 65، و "الدر المصون" 4/ 539. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 4.

نعطكم) (¬1). يعني: وسعنا عليهم في كثرة العبيد والمال والثمار والأنعام. ومعنى التمكين (¬2) من الشيء: إعطاء ما يصح به الفعل من الآلات والعدد والقوى، وهو أتم من الإقدار؛ لأن الإقدار: إعطاء القدرة خاصة، والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل بعدم الآلة، والتمكن ينافي التعذر (¬3) والانتقال من الخبر إلى الخطاب من الاتساع والتصرف في (¬4) الكلام، كما تقول: قلت لعبد الله -وقد كان شكره زيد-: ما أكرمك، أي: واجهته بهذا الخطاب، وإن شئت قلت: ما أكرمه، على الإخبار (¬5). وقوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ} ثم قال: {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} ولم يقل: نمكنكم، وهما لغتان، تقول العرب: مكنته ومكنت له، كما تقول: نصحته ونصحت له. قال صاحب "النظم": (العرب تتسع في الأفعال التي تتعدى ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 10، وابن الجوزي 3/ 6. (¬2) انظر: "الجمهرة" 2/ 983، و"تهذيب اللغة" 4/ 3436، و"الصحاح" 6/ 2205، و"المجمل" 3/ 837، و"المفردات" ص 773، و"اللسان" 7/ 4250 (مكن). (¬3) هذا قول أبي هلال العسكري في "الفروق اللغوية" ص 90، وانظر: "البحر" 4/ 66. (¬4) قال بعض أهل التفسير: في الآية رجوع من الغيبة في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا} إلى الخطاب في قوله {لَكُمْ} للاتساع وتلوين الخطاب، قال السمين في "الدر المصون" 4/ 538: (فيكون على هذا التفاتًا فائدته التعريض بقلة تمكن هؤلاء ونقص أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حل بهم الهلاك، فكيف وأنتم أقل منهم تمكينا وعددًا) ا. هـ وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 269، و"إعراب النحاس" 1/ 536، و"غرائب التفسير" للكرماني 1/ 352، و"تفسير البغوي" 3/ 128، وابن الجوزي 3/ 6، و"تفسير القرطبي" 6/ 391. (¬5) أي يجوز. قلت لزيد: ما أكرمك أو ما أكرمه. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 149، وابن عطية 5/ 130، و"البحر" 4/ 75.

بحروف (¬1) الصفات فربما عدوها (¬2) بغيرها كقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] المعنى: فإلى أين؛ وربما زادوها فيما يتعدى بغيرها كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} (¬3) [النمل: 72] ونحو هذا. قال أبو علي في قوله تعالى: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 21] وقوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 84] قال: (يجوز أن تكون اللام هاهنا على حد التي هي في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ}، {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}) (¬4). وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} قال ابن عباس: (يريد بالغيث والبركة) (¬5). ¬

_ (¬1) في: (ش): (بحرف)، والصواب ما أثبته. (¬2) في: (أ): (أعدوها)، والصواب ما أثبته. (¬3) قال السمين في "الدر" 4/ 537: قال أبو علي الجرجاني: (مكناهم ومكنا لهم لغتان) ا. هـ. (¬4) "الحجة" لأبي علي 4/ 429، وقال العسكري في "الفروق" ص 90: (الصحيح أن مكنت له: جعلت له ما يتمكن به، ومكنته: أقدرته على ملك الشيء في المكان) ا. هـ وقال السمين في "الدر" 4/ 536 - 537: (الفرق بينهما أن مكنه في كذا أثبته فيها، وأما مكن له فمعناه جعل له مكانًا) ا. هـ. ملخصًا. وانظر "المسائل العضديات" ص 67، و"الكشاف" 2/ 5، والأكثر على التسوية بينهما، ويتعدى مكن بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 186، و"نزهة القلوب" ص 399، و"غرائب الكرماني" 1/ 353، و"تفسير البغوي" 3/ 128، وابن الجوزي 3/ 6، و"تفسير القرطبي" 6/ 329، و"البحر" 4/ 76. (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1264 بسند جيد عنه قال: (يتبع بعضها بعضا) ا. هـ. وأخرج أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص 94، وابن حسنون ص 24، والوزان ص 3/ ب بسند جيد عنه قال: (متتابعًا بلغة هذيل =

والسماء [معناه] (¬1): المطر هاهنا، والمدرار: الكثير الدر وأصله من قولهم: درّ اللبن إذا أقبل على الحالب منه (¬2) شيء كثير فالمدرار يصلح أن يكون من نعت السحاب (¬3) ويجوز أن يكون من نعت المطر، ويقال: سحاب مدرار إذا تتابع إمطاره ومفعال يجيء في نعت يبالغ فيه. قال مقاتل: (مدرارًا: متتابعًا) (¬4) وقال المؤرج (¬5): (مرة بعد أخرى) (¬6). ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث (¬7) وقوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} قال ابن عباس: (يريد بكفرهم وجرأتهم عليَّ) (¬8). وقوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا} معنى الإنشاء ابتداء الإيجاد من ¬

_ = وذكر البغوي في "تفسيره" 3/ 128 عنه أنه قال: (متتابعًا في أوقات الحاجات) ا. هـ. (¬1) لفظ: (معناه) ساقط من (أ). وانظر: "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 238. (¬2) انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 11، و"تهذيب اللغة" 2/ 1171، و"الصحاح" 2/ 655، و"مقاييس اللغة" 2/ 255، و"المفردات" ص 310، و"اللسان" 3/ 1357 (در). (¬3) مثله قال الرازي 12/ 159، والأكثر على أن {مِدْرَارًا} حال من السماء، وهو الظاهر؛ لأنه بعد معرفة. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 537، و"المشكل" 1/ 246، و"البيان" 1/ 381، و"الفريد" 2/ 121، و"البحر" 4/ 76، و"الدر المصون" 4/ 541، ولعل مراد الواحدي بالنعت الحال؛ لأن أصله صفة. انظر "الأصول" لابن السراج 1/ 213، و"شرح شذور الذهب" ص 244. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 550. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) ذكره الرازي 12/ 76، عن مقاتل، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 186، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 134، و"تفسير غريب القرآن" ص 150، و"نزهة القلوب" ص 440. (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 229، والنحاس 2/ 401. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 4.

7

غير سبب (¬1) تقدم. والآية احتجاج على منكري البعث، من جهة أن الذي أهلك من قبلهم وأنشأ بعدهم قرنًا آخرين قادر على أن يهلك العالم بأسره وينشئ بعده عالمًا آخر، وقادر على الإعادة بعد الإهلاك. 7 - قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} قال الكلبي: (قال مشركو مكة: يا محمَّد، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية) (¬2). والقرطاس (¬3): كاغدٌ (¬4) يتخذ من بردي (¬5) يكون بمصر، وكل كاغدٍ قرطاس، سواء كان من جنس القراطيس المصرية أو من غيرها، وإن كان قد غلب هذا الاسم عليها، وأراد بالكتاب المصدر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3567، و"الصحاح" 1/ 77، و"المفردات" ص 807 (نشأ). (¬2) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 216، و"الوسيط" 1/ 11، والبغوي في "تفسيره" 3/ 129، وابن الجوزي 3/ 7. وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 132، و"تفسير القرطبي" 6/ 393، و"البحر" 4/ 77. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 151، و"جمهرة اللغة" 3/ 1275، و"تهذيب اللغة" 3/ 2935، و"الصحاح" 3/ 962، و"المفردات" ص 666، و"اللسان" 6/ 3592 (قرطس). والقرطاس: الصحف التي يكتب فيها، وهو بكسر القاف أكثر استعمالا وأشهر من ضمها. انظر: "البحر المحيط" 4/ 77، و"الدر المصون" 4/ 543. (¬4) الكاغد، بالفتح: القرطاس. انظر: "تاج العروس" 5/ 225. (¬5) قوله: (من بردى) عليه طمس في (أ)، والبردي، بفتح الباء وسكون الراء: نبات معروف. انظر: "اللسان" 1/ 251 (برد). (¬6) أي: بمعنى الكتابة: انظر: "تفسير القرطبي" 6/ 393، و"الدر المصون" 4/ 543.

قال ابن عباس (¬1) والسدي (¬2) وقتادة (¬3) {فِي قِرْطَاسٍ}: (يعني: الصحيفة)، وروي عن ابن عباس أنه قال: ({وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا} معلقًا من السماء إلى الأرض) (¬4) وقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} قال قتادة: (فعاينوا ذلك معاينة ومسوه بأيديهم) (¬5). وقال أهل المعاني: (اللمس (¬6) باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة، لذلك قيل: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} دون أن يقال: "لعاينوه" (¬7)؛ لأن اللمس باليد يتضمن (¬8) المعاينة وزيادة) (¬9). وقوله تعالى: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أخبر الله تعالى أنهم يدفعون الدليل، حتى لو أتاهم الدليل مدركًا بالحس لنسبوه إلى السحر. قال أبو إسحاق: (لو رأوا الكتاب ينزل من السماء لقالوا: سحر، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 151، بسند ضعيف. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 151، بسند جيد. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 203، والطبري في "تفسيره" 7/ 151، وابن أبي حاتم 4/ 1264، بسند جيد، قال ابن أبي حاتم: (وروي عن السدي نحو ذلك). (¬4) ذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 392. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 150، وابن أبي حاتم 4/ 1264، بسند جيد. وأخرج الحاكم في "المستدرك" 2/ 315، عن ابن عباس في الآية قال: (مسوه ونظروا إليه لم يؤمنوا به). (¬6) في (أ): (المس). (¬7) في النسخ: لعاينوه، والأولى "فعاينوه". (¬8) في (ش): (تضمن). (¬9) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 95، وتفسير البغوي" 3/ 129، والزمخشري 12/ 160، و"تفسير الرازي" 12/ 133، و"البحر" 4/ 77.

8

كما [أنهم] (¬1) قالوا في انشقاق القمر: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، وكذلك يقولون في كل آية يعجز عنها المخلوقون (¬2)) (¬3). 8 - وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} قال المفسرون (¬4): (طلبوا ملكًا يرونه [يقول (¬5)]: إنه رسول الله، فقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: لأهلكوا بعذاب الاستئصال)، وهو معنى قول الحسن (¬6) وقتادة (¬7) والسدي (¬8)؛ وقال مجاهد (¬9) وعكرمة (¬10): (لقامت الساعة) (¬11)؛ وقال الزجاج: (معنى قضى الأمر: أُتم إهلاكهم (¬12) وقضى ¬

_ (¬1) لفظ: (أنهم) ساقط من (ش). (¬2) في (ش): (المخلوقات)، وهو تحريف. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 229 - 230، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 2/ 402. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 151. (¬5) في (أ): (يقولون). (¬6) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 95، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 393، عن الحسن وقتادة. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 204، والطبري في "تفسيره" 7/ 151 - 152، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1265، من طرق جيدة عن قتادة. (¬8) أخرجه الطبري 7/ 151، بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم 4/ 1265 عن السدي. (¬9) "تفسير مجاهد" 1/ 212، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 151، وابن أبي حاتم 4/ 1265 من طرق جيدة. (¬10) عكرمة بن عبد الله البربري، أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس، تقدمت ترجمته. (¬11) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 151، بسند ضعيف، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1265، وذكر هذا القول ابن عطية 5/ 132 عن مجاهد وضعفه، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 402، عن مجاهد وقال: (والمعنى عند أهل اللغة: لحتم بهلاكهم، وهو يرجع إلى ذلك القول) ا. هـ. (¬12) في (ش): (أتم هلاكهم) وفي "معاني الزجاج": 2/ 230: (لتم هلاكهم).

9

على ضروب كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشيء في تمامه) (¬1). وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة. قال أهل العلم: (إنما لم ينظروا ولو نزل الملك؛ لأنه يجب أن يجروا على سنة من قبلهم ممن طلب الآيات فلم يؤمنوا، فأهلكوا بعذاب الاستئصال كثمود وعاد، لحكم الله في خلقه بذلك؛ لأنه أزجر عن التحكم بطلب الآيات، وأدعى إلى الإيمان خوفا من الإهلاك) (¬2). وقال الضحاك: (لو أتاهم ملك في صورته لماتوا) (¬3). وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} قال ابن عباس: إلا يؤخرون لتوبة ولا لغير ذلك) (¬4). 9 - وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} أي: لو جعلنا الرسول ملكًا أو الذي ينزل عليه ليشهد له بالرسالة كما يطلبون ذلك. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} (¬5) قال ابن عباس (¬6) والمفسرون (¬7): (لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته؛ لأن ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وعند الزجاج: (انقطاع الشيء وتمامه). (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 97، و"تفسير البغوي" 3/ 129. (¬3) ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 129، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 152، بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 152 - 153، وابن أبي حاتم 4/ 1266 بسند ضعيف. وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 12، وابن الجوزي "تفسيره" 3/ 8. (¬5) لفظ: (لجعلناه) عليه طمس في (أ). (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 152 - 153، وابن أبي حاتم 4/ 1266 بسند ضعيف. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 152، وذكره ابن عطية في "تفسيره" 5/ 133، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.

أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة) (¬1). قال الزجاج: (قيل: إن الملك لو نظر إليه ناظر على هيئته لصعق، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في سورة الإنس، كجبريل عليه السلام (¬2) يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) في سورة دحية (¬4) الكلبي، وكقصة نبإ الخصم إذ تسوروا (¬5) المحراب، وكما أتوا إبراهيم (¬6) ولوطًا -عليهما السلام- في صورة ¬

_ (¬1) قال القرطبي في "تفسيره" 6/ 393: (أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيقة؛ لأن كل جسم يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه) ا. هـ وقال ابن عطية 5/ 133: (أهل التأويل مجمعون أنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فالأولى في قوله: {لَقُضِيَ الْأَمْر} أي لماتوا من هول رؤيته) ا. هـ ملخصًا وانظر: "البحر المحيط" 4/ 78. (¬2) في (ش): (كان يأتي). (¬3) أخرج البخاري (3633)، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، ومسلم رقم 2451، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (إن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أم سلمة فجعل يحدث ثم قام. فقال النبي لأم سلمة: "من هذا؟ " قالت: هذا دحية) الحديث. وقال ابن حجر في "الإصابة" 1/ 473، والمناوي في "الفتح السماوي" 2/ 600: (أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر قال: (كان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سورة دحية الكلبي). وانظر: "الكافي الشافي" لابن حجر 60 - 61. (¬4) دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسوله بكتابه إلى قيصر الروم ليوصله إلى هرقل، وهو صحابي جليل مشهور، وكان جميلًا يضرب به المثل في حسن الصورة، أسلم قبل بدر، وتوفي في خلافة معاوية. انظر: "الاستيعاب" 1/ 472، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 550، و"الإصابة" 1/ 473، و"تهذيب التهذيب" 1/ 573، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 5/ 221. (¬5) قصة دواد عليه السلام مع الخصم مذكورة في سورة ص الآية 21 وما بعدها. (¬6) قصة إبراهيم عليه السلام مع الرسل مذكورة في مواضع من القرآن منها: في (سورة هود الآية: 69 وما بعدها)، وفي (سورة الحجر الآية 51 وما بعدها)، وفي (سورة الذاريات الآية: 24 وما بعدها).

الضيفان من الآدميين (¬1)) (¬2)، وكذلك قصة جبريل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه يسأله عن الإيمان والإِسلام والإحسان والقدر. والخبر صحيح مشهور (¬3). وقوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}: يقال: لبست الأمر على القوم ألبسه لبسًا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلًا (¬4). قال ابن السكيت (¬5): (يقال: لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته) (¬6). قال أهل اللغة (¬7): (معنى اللبس: منع النفس من إدراك المعنى كما هو (¬8) كالستر له، وأصله من الستر بالثوب ومنه لبس الثوب؛ لأنه ستر النفس به). قال الضحاك (¬9) في تفسير قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}: ¬

_ (¬1) قصة لوط عليه السلام مع الرسل مذكورة في مواضع من القرآن منها: في (سورة هود الآية: 77 وما بعدها) وفي (سورة الحجر 61 وما بعدها). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 231، وانظر: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" للمبرد ص 32. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (50)، كتاب الإيمان باب سؤال جبريل، ومسلم رقم (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه. (¬4) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3228. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) "إصلاح المنطق" ص 206، و"تهذيب اللغة" 4/ 3228. (¬7) انظر: "العين" 7/ 262، و"الجمهرة" 1/ 341، و"الصحاح" 3/ 973، و"المجمل" 3/ 801، و"مقاييس اللغة" 5/ 230، و"المفردات" ص 734، و"اللسان" 7/ 3987 (لبس). (¬8) في (ش): (بما هو). (¬9) ذكره في "الوسيط" 1/ 12، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 1531، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1266، بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس نحوه.

(ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي). قال الزجاج (¬1): (وكانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: إنما هو بشر مثلكم، فقال (¬2) الله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا} فرأوا الملك رجلاً لكنا قد لبسنا عليهم؛ لأنه كان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم) أي: فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان. وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه من إنزال الملك لا يزيدهم بيانًا، بل يكون (¬3) الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة بإعمالهم الشبهة. وذكر صاحب "النظم" في هذه الآية وجهًا آخر فقال: (إنهم خلطوا على أنفسهم في التماس ما التمسوا، وتكلفوا منه ما لم يحتاجوا إليه، فالتمسوا نزول ملك يخبرهم أنه نبي، وقد كان لهم فيما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والدلائل (¬4) كفاية وغنية عن نزول ملك، فقال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} الآية. يقول: لو أجبناهم إلى ما سألوا من ذلك فأنزلنا ملكًا لجعلناه رجلاً مثلهم في الخلقة والصورة، فيكون نزوله مثل طلوع الشمس من مغربها أو قيام الساعة، فلا يقبل مع ذلك إيمان، ولكن يجعله (¬5) على سورة رجل، فلبس بذلك (¬6) عليهم، أي: يعمى (¬7) عليهم؛ معاقبة لتكلفهم ما لم يكلفوا ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 231. (¬2) في (ش): (وقال)، وهو تحريف. (¬3) في (ش): (بل يكون في الأمر في ذلك)، وهو تحريف. (¬4) في (ش): (والدلالات). (¬5) في (ش): (لجعله). (¬6) في (ش): (فلبس في ذلك). (¬7) في (ش): (لعمى معاقبة لهم).

10

ولم تكن بهم حاجة إليه، وهذا كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] وكان (¬1) الطبع معاقبة لهم على الكفر بعد الإيمان، فكذلك قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي: نعاقبهم باللبس بما لبسوا على أنفسهم، فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم علي ما كان منهم من التخليط في السؤال (¬2). 10 - قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية. قال المفسرون (¬3): (هذه الآية تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتسلية له عما يرى من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به؛ إذ جعل إسوته في ذلك بالأنبياء الذين كانوا قبله، وتحذير المشركين الذين فعلوا بنبيهم ما فعل من قبلهم من مكذبي الرسل فحل بهم العذاب). وقوله تعالى: {فَحَاقَ} قال النضر (¬4): (يقال: حاق بهم العذاب كأنه وجب عليهم. قال: يقال: حاق العذاب يحيق، فهو حائق) (¬5). وقال الليث (¬6): (الحيق: ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء بعمله ¬

_ (¬1) في (ش): (فكان). (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير الماوردي" 2/ 97، و"تفسير ابن عطية" 5/ 133، و"بدائع التفسير" 4/ 142. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 153، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 475، والبغوي في "تفسيره" 3/ 131، والزمخشري في "تفسيره" 2/ 7، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 134، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 394، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 141. (¬4) النضر بن شميل المازني، أبو الحسن البصري، توفي سنة 204 هـ تقدمت ترجمته. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 708. (¬6) الليث بن نصر بن سيار الخراساني، ويقال: الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، إمام لغوي، صاحب نحو وغريب وشعر، ومن أصحاب الخليل، ويقال: إنه هو الذي ألف كتاب "العين". انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 47، و"إنباه الرواة" 3/ 42، =

فنزل ذلك به. كقول: أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم) (¬1) سلمة (¬2) عن الفراء في قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الأحقاف: 26] هو في كلام العرب عاد عليهم) (¬3). قال ابن عباس في رواية (¬4) عطاء في قوله تعالى: {فَحَاقَ} (يريد: فحَلَّ) وقال الربيع (¬5): (نزل) (¬6). وقال الفراء (¬7): (يقال: حاق بهم يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا، بفتح الحاء والياء) (¬8). ¬

_ = و"معجم الأدباء" 17/ 43، و"إشارة التعيين" ص 277، و"لسان الميزان" 4/ 494، و"البلغة" ص 178. (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 708، وانظر: "العين" 3/ 256 (حاق). (¬2) سلمة بن عاصم البغدادي، أبو محمد، إمام لغوي نحوي، تقدمت ترجمته. (¬3) "معاني الفراء" 3/ 56، وزاد فيه: (وجاء في التفسير نزل بهم). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 175 ب والواحدي في "الوسيط" 1/ 13، والبغوي في "تفسيره" 3/ 130 عن عطاء فقط. (¬5) الربيع بن أنس بن زياد البكري البصري نزيل خراسان، تقدمت ترجمته. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 175 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 13، والبغوي في "تفسيره" 3/ 130. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 13 دون (وحيقانا)، ولم أقف عليه في معناه، ولعله من كتاب المصادر المفقود. (¬8) انظر: الطبري في "تفسيره" 7/ 154، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 394، و"البحر" 4/ 80، و"الدر المصون" 4/ 546، وفي "القاموس" ص 877. قال: (حاق به يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا أحاط به). وانظر: "الصحاح" 4/ 1466، و"المجمل" لابن فارس 1/ 259، و"مقاييس اللغة" 2/ 125، و"المفردات" ص 266، و"اللسان" 2/ 1072 (حاق).

قال الضحاك: {فَحَاقَ}: (أي: أحاط) (¬1)، وهو اختيار الزجاج؛ لأنه قال في قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8]: أي: أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء ما كانوا (¬2) يستهزئون به، كما تقول: أحاط بفلان عمله وأهلكه كسبه، أي: أهلكه جزاء كسبه) (¬3). قال الأزهري: (جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط، وكأن مأخذه من الحوق (¬4)، وهو ما استدار بالكمرة (¬5). قال: وجائز أن يكون الحوق فعلًا من حاق يحيق كأنه كان في الأصل حيقًا فقلبت الياء واوًا لانضمام ما قبلها) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 175 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 13، والبغوي في "تفسيره" 3/ 130، وأبو حيان في "البحر" 4/ 80. (¬2) في (ش): (ما كانوا به). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 231 - 3/ 41، و"تهذيب اللغة" 1/ 708، وفي "معاني الزجاج" 4/ 275 - قال: (يحيق: يحيط). والأقوال متقاربة، وأكثرهم على أنه بمعنى نزل وأحاط بهم العذاب، قال الرازي 12/ 163: (في تفسيره وجوه كثيرة وهي بأسرها متقاربة) ا. هـ. وانظر "مجاز القرآن" 1/ 185، و"تفسير الطبري" 7/ 154، و"معاني النحاس" 2/ 403، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 275، و"الكاشف" 2/ 7، وابن عطية 5/ 134. (¬4) قال السمين في "الدر" 4/ 546: (حاق ألفه منقلبة عن ياء، بدليل يحيق كباع يبيع، والمصدر حيق وحيوق وحيقان، وزعم أنه من الحوق وهو المستدير بالشيء، وهذا ليس بشيء؛ لاختلاف المادة، إلا أن يراد الاشتقاق الأكبر، وأيضًا هو دعوى جردة من غير دليل) ا. هـ. ملخصًا. ونحوه قال أبو حيان في "البحر" 4/ 80، وانظر: "روح المعاني" 7/ 102. (¬5) الكمرة، بالفتح: رأس الذكر. انظر: "القاموس" ص 471. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 708 (حاق).

11

وأكثر المفسرين جعلوا الآية من باب حذف المضاف؛ لأنهم قالوا: نزل وأحاط بهم عقوبة ما كانوا به يستهزئون وجزاء ما كانوا به يستهزئون. قال الزجاج: ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] أي: لا يرجع عاقبة مكرهم إلا عليهم) (¬1)، وهذا إذا جعلت {مَا} في قوله: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن جعلت {مَا} عبارة عن العذاب الذي كان (¬2) يوعدهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمنوا استغنيت عن تقدير حذف المضاف، ويكون المعنى: فحاق بهم الذي كانوا يستهزئون به من العذاب وينكرون وقوعه (¬3). 11 - قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: (سافروا في الأرض، {ثُمَّ انْظُرُوا}: فاعتبروا، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ}: مكذبي الرسل) (¬4). قال قتادة (¬5): (دمر الله عليهم، ثم صيرهم إلى النار). قال مقاتل: ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 231، وفيه: (أي لا ترجع عاقبة مكروهة إلا عليهم) ا. هـ. (¬2) في (أ): (الذي كانوا). (¬3) انظر: الرازي في "تفسيره" 12/ 163، وذكر قول الواحدي السمين في "الدر" 4/ 6547، و (ما) في قوله: {مَا كَانُوا} موصولة ولا حاجة إلى الإضمار والمعنى، نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به وهو ظاهر كلام الطبري في "تفسيره" 7/ 153، والزمخشري 2/ 7، ورجحه أبو حيان 4/ 80، وذكر الألوسي في "روح المعاني" 7/ 102، أن هذا اختيار الواحدي، وقال بعضهم: (ما) مصدرية، والمعنى: نزل بهم عاقبة أو جزاء أو وبال استهزائهم. "إعراب النحاس" 1/ 537، و"المشكل" 1/ 246، و"البيان" 1/ 314، و"التبيان" ص 323، و"الفريد" 2/ 124. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 6، ففيه نحوه. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 154، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1268، بسند جيد.

12

(يحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية). (¬1) قال أهل المعاني: (والمكذب قد صار صفة ذم، وإن كان يجوز أن يكذب بالباطل فلا يكون ذمًّا؛ لأنه من أصل فاسد، وهو الكذب، فصار الذم أغلب عليه، كما أن الكفر صفة ذم، مع أنه قد يكفر (¬2) بالطاغوت؛ لأنه من أصل فاسد، وهو كفر النعمة) (¬3). 12 - قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال أهل المعاني: (هذا أمر من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بسؤال قومه، وذلك أن السؤال يبعث النفس على طلب الجواب وتبين ما سئل عنه) (¬4). وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ} قال صاحب النظم: (جاء السؤال والجواب من جهة واحدة، وهو محمول على أنه لما أنزل: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قيل لهم ذلك كما أمر به وأنهم أجابوا وقالوا: فلمن هو؟ فجاء الجواب: {قُلْ لِلَّهِ}، فهذا جواب عن سؤال مضمر دل عليه الكلام) (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 551. (¬2) في (أ): (تكفر) وهو تصحيف. (¬3) لم أقف على من ذكر مثل هذا المعنى، وفي القرطبي في "تفسيره" 6/ 395، قال: (والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل) ا. هـ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 154، و"الرازي" 12/ 164. (¬5) ذكره الكرماني في "غرائب التفسير" 1/ 354، والسمين في "الدر" 4/ 549، عن صاحب النظم، وهو قول أحمد بن فارس في "الصاحبي" ص 391، وقال السمين: (هذا قول بعيد؛ لأنهم لم يكونوا يشكون في أنه هو الله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوسخ، ولو أجابوا لم يسعهم أن يجيبوا إلا بذلك) ا. هـ وأكثرهم على أن {قُلْ لِلَّهِ} أمر بالجواب عقيب السؤال نيابة عنهم تقريرا لهم وتنبيهًا على أن الجواب متعين بالاتفاق، ولأنه أبلغ في التأثير، وآكد في الحجة. انظر: الطبري في "تفسيره" 7/ 154, والبغوي في "تفسيره" 3/ 130، والزمخشري في "تفسيره" 2/ 7، وابن =

وقوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} قال ابن عباس: (قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين) (¬1). وقال أهل المعاني: (8) أخبر عن عظم ملكه بأن له ما في السموات والأرض ذكر أنه أوجب على نفسه الرحمة؛ تلطفًا في الاستدعاء إلى الإنابة، واستعطافًا للمتولين عنه إلى الإقبال إليه). (¬2) وقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}، الأكثرون على أن هذا ابتداء كلام، واللام فيه لام قسم مضمر، كأنه: والله ليجمعنكم (¬3)، وجعل الزجاج {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} متصلًا بما قبل فقال في معنى قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}: (الله عز وجل تفضل على العباد بأن أمهلهم عند كفرهم به وإقدامهم على كبائر ما نهى عنه، بأن أنظرهم وعمَّرهم وفسح لهم ليتوبوا، فذلك كتبه على نفسه الرحمة) (¬4). وعلى هذا قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} يكون موضعه [نصبا] (¬5) بدلاً من {الرَّحْمَةَ}، وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وذكر الفراء المذهبين (¬6) جميعًا فقال: (إن شئت جعلت ¬

_ = عطية في "تفسيره" 5/ 136، والرازي في "تفسيره" 12/ 164، و"البحر" 4/ 81. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 14، وابن الجوزي 3/ 9. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 155، و"معاني القرآن" للزجاج 2/ 231، و"تفسير البغوي" 3/ 130. (¬3) أي جواب قسم محذوف، والجملة لا تعلق لها بما قبلها من حيث الإعراب، وإن تعلقت به من حيث المعنى، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 7/ 157، وابن عطية 5/ 139، والسمين في "الدر" 4/ 550، وابن هشام في "المغني" 2/ 407. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 231 - 232. (¬5) لفظ: (نصبا)، ساقط من (أ). (¬6) "معاني الفراء" 1/ 328، ونحوه قال الزجاج 2/ 232، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 538، و"التبيان" 1/ 325، و"الفريد" 2/ 125.

{الرَّحْمَةَ} غاية الكلام ثم استأنفت بعدها {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}، وإن شئت [جعلته] (¬1) في موضع نصب كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ} الآية [الأنعام: 54]. وعلى هذا يكون قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جوابًا لقوله: {كُتِبَ}؛ لأنه بمعنى أوجب، والقسم يوجب كما يوجب {كُتِبَ}، فلما كان معنى قوله: {كُتِبَ}، مثل معنى القسم حمل الجواب على معنى القسم، قاله الجرجاني (¬2). وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [قال الزجاج] (¬3): (معناه: ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه، كما تقول: قد جمعت هؤلاء إلى هؤلاء، أي: ضممت بينهم في الجمع) (¬4). وقال صاحب النظم: (التأويل: ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة، وقوله: {إِلَى} دليل على معنى التأخير في الجمع إلى هذا اليوم) (¬5)، وهذا القول غير ما قال الزجاج في {إِلَى}. ¬

_ (¬1) (جعلته)، ساقط من (ش). (¬2) لم أقف عليه، وهذا القول هو ظاهر كلام الأخفش في "معانيه" 2/ 261، وابن الأنباري في "البيان" 1/ 315، وانظر: "المشكل" 1/ 246، والرازي في "تفسيره" 12/ 165، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 395، و"البحر" 4/ 82. (¬3) (قال الزجاج): ساقط من (ش). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 232. (¬5) لم أقف عليه. و (إلى) لها عدة معانٍ، كما في "حروف المعاني" للزجاجي ص 65، و"معاني الحروف" للرماني ص 115، و"المغني" لابن هشام 1/ 74، والأظهر هنا قول الجمهور أنها على بابها للغاية، أي: ليجمعنكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي بمعنى في، وقيل: بمعنى اللام، وقيل: زائدة. انظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 131، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 139، والرازي في "تفسيره" 12/ 166، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 395، و"البحر" 4/ 82، و"الدر المصون" 4/ 550.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: بالشرك بالله أوبقوا أنفسهم، وكانوا كمن خسر شيئًا يهلكه. واختلفوا في إعراب {الَّذِينَ}، فزعم الأخفش (¬1): (أن موضعه نصب على البدل من الضمير في: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}، والمعنى: ليجمعن هؤلاء المشركين {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}) (¬2). قال أبو إسحاق: (والذي عندي أن قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في موضع رفع على الابتداء، وخبره: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ لأن قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} مشتمل على الجميع، على {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} وغيرهم (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني الأخفش" 2/ 269، وهو قول الطبري في "تفسيره" 11/ 281. (¬2) هنا وقع اضطراب في نسخة (أ) ص 102 حيث جاء باقي التفسير في 103 ب. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 232، وهو اختيار أكثرهم. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 538، و"المشكل" 1/ 247، و"غرائب الكرماني" 1/ 354، و"البيان" 1/ 315، و"التبيان" 1/ 325. وقال الهمداني في "الفريد" 2/ 126: (هذا فيه تأخير السبب وتقديم المسبب، فالأحسن كونه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين، والفاء على هذا للعطف) ا. هـ. بتصرف. وأكثرهم ضعف الوجه الأول؛ لأن القاعدة العامة عند النحاة ألا يبدل مظهر من مضمر بدل كل من غير إحاطة وشمول، وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} مشتمل على سائر الخلق الذين خسروا أنفسهم، فلا وجه لاختصاصه بهم، ولا يقال: رأيتك زيدًا على البدل؛ لأن ضمير المخاطب في غاية الوضوح، فلا حاجة إلى البدل منه، أفاده الهمداني في "الفريد" 2/ 126، و"السمين" 4/ 551. وانظر: "الكتاب" 2/ 385 - 389، و"المقتضب" 4/ 295 - 298، و"الأصول" 2/ 304 - 305، و"المقرب" 1/ 242، و"البحر" 4/ 82.

13

والفاء في قوله {فَهُمْ} (1) تضمن (2) معنى الشرط والجزاء كقولهم: الذي يكرمني فله درهم، دخلت الفاء؛ لأن الدرهم وجب بالإكرام، فكأن الإكرام شرطًا والدرهم، جزاء، كما تقول: من يأتني فله درهم (3). ويجوز أن يقال: إن الفاء زائدة، فإنها تزاد في مواضع، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (4). من ذلك قولهم: زيدًا فاضرب، وقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر:4: 5]، الفاء هاهنا زائدة (5). 13 - وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال الكلبي: (إن

_ (1) ذكر هذا القول كل من رجح قول الزجاج. وانظر: "تفسير ابن عطية" 6/ 13، والرازي 12/ 166. (2) في (ش): (يتضمن). (3) الفاء تربط شبه الجواب بشبه الشرط، فيجوز دخول الفاء في خبر الموصول. انظر: "معاني الأخفش" 1/ 187، و"الأصول" 2/ 272، و"المغني" 1/ 165. (4) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 171 ب و1/ 223 أ. (5) هذا قول ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 1/ 258 - 260، بتصرف واختصار، وأكثرهم على أن الفاء في {فَهُمْ} رابطة وليست زائدة، وقد اختلف في زيادة الفاء فأجازه الرماني في "معاني الحروف" ص 43 - 47 وابن هشام في "المغني" 1/ 165 - 166. وقال ابن هشام في "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص 198 - 109: (وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى إنه زائد؛ لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزه عن ذلك، والزائد عند النحويين معناه الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد لا المهمل، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة، وبعضهم يسميه لغوًا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب) ا. هـ. وانظر: "البرهان" للزركشي 1/ 305، و"الدر المصون" 5/ 263، و"موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب" لخالد الأزهري ص 167 - 170.

كفار مكة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فأنزل الله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬1). قال ابن الأعرابي (¬2): (وله ما حل في الليل والنهار) (¬3)، وهذا موافق لقول ابن عباس: (وله ما استقر في الليل والنهار من خلق) (¬4). قال أبو العباس أحمد (¬5): (أراد الساكن من الناس والبهائم خاصة، وسكن: هذا بعد تحرك، وإنما معناه -والله أعلم- الخلق) (¬6)؛ وهذا مذهب جماعة أن المراد بهذا ما كان من ذي روح، وبه قال مقاتل: (وله مما استقر في الليل والنهار من الدواب والطير في البر والبحر) (¬7). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 7، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 176 أ، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 216، عن الكلبي عن ابن عباس، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 9 - 10، عن ابن عباس. (¬2) ابن الأعرابي: محمد بن زياد الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله الأعرابي الكوفي، إمام ورع ثقة كثير السماع والرواية عالم باللغة والنحو والأدب والتاريخ والنسب، له كتب منها: "النوادر"، و"معاني الشعر"، و"تاريخ القبائل"، و"تفسير الأمثال". توفي سنة 231 هـ. وله 80 سنة. "طبقات الزبيدي" ص 195، و"تاريخ بغداد" 5/ 282، و"إنباه الرواة" 3/ 128، و"معجم الأدباء" 18/ 189، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 687. (¬3) تهذيب اللغة 2/ 1724 (سكن). (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 7، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 16. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1724 (سكن). (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 552.

قال أبو روق (من الخلق ما يستقر نهارًا وينتشر ليلاً، ومنها ما هو على الضد) (¬1). وقال بعضهم: (هذا عام في جميع المخلوقات؛ لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكن في الليل والنهار، على معنى أنهما يشملانه ويمران عليه) (¬2)، وهذا مذهب عبد العزيز بن يحيى (¬3) ومحمد بن جرير (¬4) (¬5)؛ قال عبد العزيز: (كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكني الليل والنهار) (¬6)؛ وعلى هذا ليس المراد بالسكون في الآية الذي هو ضد الحركة، بل المراد به الحلول، كما قاله ابن الأعرابي من قولهم: فلان (¬7) يسكن بلد كذا إذا كان يحله (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 176 أ، وهو قول مقاتل 1/ 552. (¬2) (عليه) ساقط من (أ)، وقال القرطبي في "تفسيره" 6/ 396: (هذا أحسن ما قيل؛ لأنه يجمع شتات الأقوال) ا. هـ. (¬3) عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي، إمام فاضل فقيه مناظر من تلاميذ الشافعي، يُنسب له كتاب "الحيدة" مطبوع. توفي سنة 240 هـ انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 449، و"ميزان الاعتدال" 2/ 639، و"طبقات السبكي" 2/ 144، و"طبقات الأسنوي" 1/ 41، و"تهذيب التهذيب" 2/ 598، و"الأعلام" 4/ 29. (¬4) محمَّد بن جرير الطبري صاحب التفسير. (¬5) "تفسير الطبري" 7/ 158. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 176 أ. (¬7) انظر: "العين" 5/ 312، و"الجمهرة" 2/ 855، و"الصحاح" 5/ 2136، و"مقاييس اللغة" 3/ 88، و"المفردات" ص 417، و"اللسان" 4/ 2052 (سكن). (¬8) هذا القول هو الراجح عند أكثر المفسرين. انظر: الزمخشري في "الكشاف" 2/ 8، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 141، والرازي في "تفسيره" 12/ 168، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 396، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 141. وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 16، عن أهل المعاني.

14

وقال جماعة من أصحاب المعاني: (في الآية محذوف، والتقدير: وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار، كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أراد: الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأنه يعرف ذلك بقرينته، كذلك هاهنا حذف ذكر الحركة واقتصر على السكون؛ لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة (¬1). قال أبو إسحاق: (هذا أيضًا احتجاج على المشركين؛ لأنهم لم ينكروا أن ما استقر في الليل والنهار لله الذي هو خالقه ومدبره، والذي هو كذلك قادر على إحياء الموتى) (¬2). 14 - قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالقهما، ابتدأ على غير مثال سبق، والفطرة ابتداء الخلقة. قال ابن عباس: (كنت ما أدري ما فاطر السموات حتى احتكم إلى أعرابيان في بئر، قال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها) (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجده بنصه في كتب المعاني ولكن معناه عند أكثرهم. انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 97، و"غرائب التفسير" للكرماني 1/ 354، و"تفسير البغوي" 1/ 131، و"زاد المسير" 3/ 10، و"البحر المحيط" 4/ 83 - 84، و"الدر المصون" 4/ 553 - 554، و"تفسير البيضاوي" 1/ 134. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 232، وذكر نحوه النحاس في "معانيه" 2/ 405. (¬3) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 206، وفي "غريب الحديث" 2/ 388، والطبري في "تفسيره" 7/ 159، قال ابن حجر في "الكافي الشافي" ص 61، والمناوي في "الفتح السماوي" 2/ 602: إسناده حسن ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر. ا. هـ. وإبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي مختلف فيه، قال ابن حجر في "التقريب" (254): صدوق لين الحفظ. ا. هـ. وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 44 من طريق آخر ضعيف، ومن طريق إبراهيم بن مهاجر أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1269 عن ابن عباس قال: فاطر السموات والأرض, =

وقرأت على أبي الفضل العروض -رحمه الله (¬1) - فقلت: أخبركم الأزهري قال: أخبرني المنذري (¬2) عن أبي العباس أنه سمع ابن الأعرابي يقول: (أنا أول من فطر هذا، أي: ابتدأه) (¬3). وقال ابن الأنباري (¬4): (أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه) (¬5). وقوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يريد: خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يكون فيه الشق والتأليف عند ضم بعض الأشياء إلى بعض، فلما كان الأصل للشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد، ففاطر السموات من الإصلاح لا غير، وقوله: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]، و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] من ¬

_ = أي: بديع السماوت والأرض. ا. هـ وذكر الأول أكثرهم. انظر: "الجمهرة" 2/ 755، و"الصحاح" 2/ 781، (فطر)، و"تفسير الثعلبي" ص 176/ أ، و"تفسير الماوردي" 2/ 97، و"تفسير ابن عطية" 5/ 141، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 11، والرازي في "تفسيره" 12/ 168. (¬1) أبو الفضل العروضي: أحمد بن محمد بن عبد الله الصفار، إمام تقدمت ترجمته. (¬2) المنذري: محمد بن أبي جعفر المنذري، أبو الفضل الهروي، تقدمت ترجمته. (¬3) "تهذيب اللغة" 13/ 326 (فطر). (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 168. (¬5) أهل اللغة والتفسير على أن الفطر بمعنى الشق والخلق والإنشاء. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 187، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 134، و"الجمهرة" 2/ 755، و"المجمل" 3/ 723، و"مقاييس اللغة" 4/ 510، و"اللسان" 6/ 3432 (فطر). وقال السمين في "الدر" 4/ 556: (الفطر: الشق مطلقًا، وقيده الواحدي بشق الشيء عند ابتدائه) ا. هـ. وأكثرهم قيده بذلك. انظر: "العين" 7/ 417، و"تفسير غريب القرآن" ص 1/ 151، والطبري في "تفسيره" 1/ 159، و"نزهة القلوب" ص 352، و"الصحاح" 2/ 781، (فطر) "تفسير الماوردى" 2/ 98، و"النهاية" لابن الأثير 3/ 357.

16

الإفساد، وأصلهما واحد (¬1). وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} قال السدي: وهو يرزق ولا يُرْزَق. (¬2) وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: وقيل لي ذلك وصارت {أُمِرْتُ} (¬3) بدلاً من ذلك؛ لأنه حين قال: {أُمِرْتُ} أخبر أنه قيل له ذلك، فقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} معطوف على ما قبله في المعنى؛ لأن معنى {أُمِرْتُ}: قيل لي (¬4). والآية حجة على المشركين من جهة أن من يُطْعَم هذا العالم الذي فطره، ولا يُطْعَم لغناه عن كل شيء، فواجب أن يستنصر منه ويؤمل النفع منه لا من غيره (¬5). 16 - قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} وقرأ (¬6) حمزة والكسائي {يُصْرَفْ} بفتح الياء وكسر الراء، وفاعل الصرف على هذه القراءة الضمير ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الزجاج في "معانيه" 2/ 233، والراغب في "المفردات" ص 640، والرازي في "تفسيره" 12/ 169. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 159، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1270 بسند جيد. (¬3) (أمرت) ساقط من: (ش). (¬4) هذا قول الأخفش في "معانيه" 2/ 270، والطبري في "تفسيره" 4/ 159، وذكره أكثر أهل التفسير. انظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 354، والزمخشري في "تفسيره" 2/ 8، والبغوي في "تفسيره" 3/ 132، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 143، و"زاد المسير" 3/ 11، و"التبيان" للعكبري 1/ 326، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 397، و"البحر المحيط" 4/ 86، و"الدر المصون" 4/ 558. (¬5) هذا معنى قول الزجاج في "معانيه" 2/ 233. (¬6) قرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم (يَصْرِفْ) بفتح الياء وكسر الراء، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الراء. انظر: "السبعة" ص 254، و"المبسوط" ص 166، و"التذكرة" 2/ 375، و"التيسير" ص 101، و"النشر" 2/ 257.

العائد إلى {رَبِّي} من قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي}، على تقدير: من يصرف هو يومئذ عنه العذاب. وحجة هذه القراءة قوله فيما بعده: {فَقَدْ رَحِمَهُ}، فلما كان ما بعده فعلًا مسندًا إلى ضمير اسم الله سبحانه، وجب أن يكون هذا أيضاً مسندًا إليه، ليتفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير، والضمير العائد إلى العذاب محذوف، والمعنى: من يصرف عنه كما هو في قراءة أُبيّ (من يصرفه) (¬1) بإثبات الهاء، وليس حذف هذا الضمير بالسهل؛ لأن {مِنْ} هاهنا جزاء وليس بموصول، فيحسن حذف العائد من الصلة، على أن الضمير إنما يحذف من الصلة إذا عاد إلى الموصول نحو: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] أي: بعثه واصطفاهم، ولا يعود الضمير المحذوف هاهنا إلى موصول ولا إلى {مِنْ} التي للجزاء، إنما يرجع إلى العذاب من قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، والذي يحمل عليه حذف هذا الضمير من يصرفه أنه لما كان في حيز الجزاء، وكان ما في حيزه في أنه لا يتسلط على ما تقدمه بمنزلة ما في الصلة في أنه لا يجوز تسلطه على الموصول، فحسن حذف الهاء منه، كما حسن حذفها من الصلة. ومن قرأ {يُصْرَفْ} (¬2) فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم ذكره. ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ ¬

_ (¬1) ذكرها أكثرهم، ففي "الحجة" لأبي علي 3/ 286: (من يصرفه عنه)، وفي "مختصر الشواذ" ص 42، و"الكشف" لمكي 1/ 425، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 397، (من يصرفه الله عنه)، وفي "الكشاف" 2/ 9، و"البحر" 4/ 86، و"الدر المصون" 4/ 559، (من يصرف الله عنه)، وذكر ابن عطية في "تفسيره" 5/ 144، (من يصرفه الله عنه. وقيل: من يصرف الله عنه) ا. هـ. (¬2) أي بضم الياء وفتح الراء.

17

مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8]، ألا ترى أن الفعل بُني للمفعول به (¬1). قال أهل المعاني في هذه الآية: (من يصرف عنه العذاب يومئذ فقد أوجب الله له الرحمة بالثواب لا محالة، فذكر الرحمة مع صرف العذاب؛ لئلا يتوهم أنه ليس [له] (¬2) إلا صرف العذاب عنه فقط) (¬3). 17 - وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ} الآية [إن] (¬4) قيل: إن المس من صفة الأجسام فكيف قال: {يَمْسَسْكَ اللَّهُ}؟ والجواب: أن يقال: الباء في بالضر للتعدية، والباء والألف يتعاقبان في التعدية، والمعنى: إن أمسك ضرًا أي: جعله يمسك، فالفعل للضر، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى كما أنك إذا قلت: ذهب عمر وزيد، كان الذهاب فعلًا لزيد غير أن عمرًا (¬5) هو المسبب له والحامل عليه. كذلك هاهنا المس للضر، والله تعالى جعله ماسًّا (¬6). ¬

_ (¬1) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 3/ 285 - 287، مع بعض التصرف والاختصار. وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 160، و"إعراب النحاس" 1/ 539، و"معاني القراءات" 1/ 346، و"إعراب القراءات" 1/ 152، و"الحجة" لابن خالويه ص 136، ولابن زنجلة ص 243، و"الكشف" 1/ 425، و"الدر المصون" 4/ 559. (¬2) (له) ساقط من (ش). (¬3) لم أقف على من ذكر هذا المعنى. وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 144، و"الفخر الرازي" 12/ 170. (¬4) (إن) ساقط من (ش). (¬5) في (أ): (أن عمروًا). (¬6) رجح أبو حيان في "البحر" 4/ 87، والسمين في "الدر" 4/ 564، أن الباء هنا للتعدية، وذكر قول الواحدي "السمين"، وانظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 398.

18

والضر اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان من فقر ومرض (¬1) وزمانة، كما أن الخير جامع لكل ما ينتفع به الإنسان (¬2). 18 - وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} قال الليث: (القهر: الغلبة والأخذ من فوق، والله القاهر القهار، قهر (¬3) خلقه بقدرته وسلطانه، فصيرهم على ما أراد طوعًا وكرهًا. يقال: أخذت الشيء قهرًا إذا أخذته دون رضا صاحبه). ومعنى {الْقَاهِرُ} في صفة الله تعالى يعود إلى أنه القادر الذي لا يعجزه شيء (¬4). ومعنى {فَوْقَ} هاهنا أن قهره قد استعلى عليهم، فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم من الاقتدار الذي لا ينفك منه أحد (¬5). ¬

_ (¬1) قال أهل اللغة: الضر، بالضم: سوء الحال، وبالفتح: ضد النفع. وبعضهم قال: هما لغتان. انظر: "العين" 7/ 6، و"تهذيب اللغة" 3/ 2108، و"الصحاح" 2/ 719، و"مقاييس اللغة" 3/ 360 "مجمل اللغة" 2/ 561، و"المفردات" ص 503، و"اللسان" 5/ 2573 (ضر). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 960، و"الصحاح" 2/ 651، و"مجمل اللغة" 2/ 308، و"المفردات" ص 300، و"اللسان" 3/ 1300 (خير). (¬3) في النسخ: -وهو خلقه- وهو تحريف، والصواب ما أثبته من نص قول الليث في في "تهذيب اللغة" 3/ 2108، وانظر: "الجمهرة" 3/ 797، و"الصحاح" 2/ 801، و"مقاييس اللغة" 5/ 35، و"المجمل" 3/ 736، و"المفردات" ص 687، و"اللسان" 6/ 3764 (قهر). (¬4) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 38، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص82، وص 525 - 530، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص 77، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص 220، و"الحق الواضح المبين" للسعدي ص 75، و"شرح أسماء الله الحسنى" للقحطاني ص 128. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 161، و"تفسير السمرقندي" 1/ 477، و"تفسير المارودي" 2/ 99، و"تفسير ابن عطية" 5/ 147، والقرطبي 6/ 399. وما ذكره =

19

و {الْخَبِيرُ} العالم بالشي. وتأويله: أنه العالم بما يصح أن يخبر به، والخبر (¬1) علمك بالشيء، تقول: لي به خبر، أي: علم، وأصله (¬2) من الخبر؛ لأنه طريق من طرق العلم. 19 - قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} الآية، قال المفسرون: (قال أهل مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن اليهود والنصارى ينكرونك (¬3)، فنزلت هذه الآية (¬4). قال أصحاب المعاني: (في هذه الآية دلالة أن (شيئًا) من أسماء الله (¬5) عز وجل، وأنه يجوز أن يسمى شيئًا؛ لأن قوله: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} جاء ¬

_ = الواحدي مجاز وهو قول المؤولة الذين ينفون عن الله تعالى العلو الذي أثبته لنفسه، ومذهب أهل السنة والجماعة أن حقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره، فالحق أنه تعالى مستعل على كل شيء بذاته وقدرته وقهره. انظر: "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" 2/ 205 - 217. (¬1) جاء في "اللسان" 4/ 1090: (خِبر) بكسر الخاء وضمها: العلم بالشيء). وانظر: "العين" 4/ 258، و"الجمهرة" 1/ 287، و"الصحاح" 2/ 641، و"المجمل" 2/ 310، و"مقاييس اللغة" 2/ 239، و"المفردات" ص 273 (خبر). (¬2) قال أبو علي الفارسي في "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 45 (الخبير عندنا من الخبر الذي يسمع؛ لأن معنى الخبير العالم) ا. هـ. وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 127، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص 1/ 125، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص 93، و"شرح أسماء الله الحسنى" ص 348. (¬3) في (ش): (ينكرون)، وهو تحريف. (¬4) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 477، و"تفسير الثعلبي" 176 أو"تفسير الماوردي" 2/ 100، و"أسباب النزول" للواحدي ص 216، و"تفسير البغوي" 3/ 13، و"تفسير الرازي" 12/ 175، وأكثرهم ذكره عن الكلبي، وبعضهم عن ابن عباس والحسن. (¬5) في (ش): (الله تعالى).

جوابه {قُلِ اللَّهُ} (¬1)، ومعنى الشهادة البينة من طريق المشاهدة، ونظم هذه الآية مثل نظم قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [الأنعام: 12]، وقد ذكرناه (¬2). وقال مجاهد: (أمر أن يسأل قريشًا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}) (¬3). وقال أبو إسحاق: (أمر الله عز وجل نبيه بأن يحتج عليهم ويعلمهم أن شهادة الله عز وجل بأنه واحد، وإقامة البراهين في توحيده ونبوة نبيه أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له أنه رسول الله، فقال: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: الله الذي اعترفتم بأنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور). (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "غرائب الكرماني" 1/ 355 - 356، و"تفسير ابن عطية" 5/ 150، و"تفسير الرازي" 12/ 176، وقال البخاري في "صحيحه"، و"كتاب التوحيد"، باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}، وسمى الله تعالى نفسه شيئًا {قُلِ اللَّهُ} ا. هـ. وانظر: شرحه في "فتح الباري" 13/ 402، وحكى الغزالي في "المقصد الأسنى" ص 148، والرازي في "شرح أسماء الله الحسنى" ص 354، الاتفاق على ذلك. (والظاهر أنه من باب الإخبار فيصح أن يخبر عنه بالشيء لكنه شيء كامل، ولا يقال شيء على سبيل الإطلاق فقط، فهو ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه لا بد أن تتضمن أسماء الله معاني حسنى، لكن يصح أن يخبر عن الله بأنه شيء، ولكن لا يدعى به ولا يسمى به): أفاده ابن تيمية في "لفتاوى" 6/ 73، وابن القيم في "بدائع الفوائد" 1/ 162، ومحمد بن صالح العثيمين في "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" ص 101. (¬2) جاء في النسخ (وقد ذكرنا) ثم صحح في أعلى السطر من (أ). (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 212، وأخرجه الطبري 7/ 162، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1271، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 2/ 43، من طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 12. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 234.

وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ}، هذا احتجاج للنبي - صلى الله عليه وسلم - على من أنكر نبوته؛ لأنه لم يأت أحد بمثله في إخباره عما سيكون وكان حقًّا، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فعصمه حين لم يقتل مع تظاهر أعدائه عليه، وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ثم أظهر دين الإِسلام على سائر الأديان، وقال لليهود -وكانوا أعز قوم في وقتهم-: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة: 61]، فهم أذلاء إلى يوم القيامة (¬1). وقوله تعالى: {وَمَنْ بَلَغَ} قال ابن عباس: (يريد من أمتي إلى يوم القيامة) (¬2). قال الفراء: (والمعنى: ومن بلغه القرآن من بعدكم. و {بَلَغَ}: صلة لمن، ونصبت {مَنْ} بالإنذار) (¬3)، والعائد إلى الموصول محذوف (¬4)، كقولك: الذي رأيت زيد، ومن ضربت عمرو، وقد مرَّ قبيل، والعلماء على أن من بلغته آية من كتاب الله فهو ممن بلغته الدعوة (¬5). ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 234. (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 20، بلا نسبة، وأخرج الطبري 7/ 163، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1271، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 24 بسند جيد عنه في الآية قال: (يعني أهل مكة ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير) ا. هـ. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 329. (¬4) هذا قول الجمهور والتقدير: ولأنذر الذي بلغه القرآن، حذف العائد لاستعمال العرب ذلك ولدلالة الكلام عليه. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 163، و"إعراب النحاس" 2/ 58، و"المشكل" 1/ 247، ابن عطية 5/ 151، و"البحر" 4/ 91، و"الدر المصون" 4/ 568. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 163، والبغوي 3/ 133، وابن كثير 2/ 142.

وكان مجاهد يقول: (حيث ما يأتي القرآن فهو داع ونذير)، ثم يقرأ هذ الآية (¬1). وقال القرظي (¬2): (من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه) (¬3). وقال النحاس (¬4): ([و] (¬5) فيه قول آخر: {وَمَنْ بَلَغَ} أي: [و] (¬6) من احتلم) (¬7)، فلا يكون إضمار الهاء. والعلماء (¬8) والمفسرون على القول الأول [وهو منفرد بهذا القول (¬9)]. وقوله تعالى: {[أَئِنَّكُمْ] (¬10) لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} هذا استفهام معناه الجحد والإنكار. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 163، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 176 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 20، والسيوطي في "الدر" 3/ 13. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 163، وابن أبي حاتم 4/ 1271 من طرق يقوي بعضها بعضًا، وهو في "تفسير مجاهد" 1/ 231، عن محمد بن كعب. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 13. (¬4) هو: أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي، أبو جعفر المصري المشهور بالنحاس. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬7) "معاني النحاس" 2/ 406، و"إعراب النحاس" 1/ 539، و"القطع والائتناف" 1/ 221، وذكر هذا القول مكي في "المشكل" 1/ 247، وابن عطية 5/ 152، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 399. (¬8) انظر: الطبري 16317، والسمرقندي 1/ 477، والماوردي 1/ 514، والرازي 12/ 178، و"البحر" 4/ 91. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬10) جاء في النسخ (قل أئنكم) بزيادة قل، وهو تحريف.

20

وقال الفراء: (ولم يقل أُخر؛ لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، وقال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، ولم يقل: الأول، ولا الأولين؛ وكل ذلك صواب) (¬1) وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَشْهَدُ} إلى آخر الآية، قال العلماء: (المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين، ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام) (¬2). ونص الشافعي على استحباب ضم التبرؤ إلى الشهادة لقوله تعالى: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} عقيب أمره نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد (¬3). 20 - قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} الآية، نصف هذه الآية مفسر في سورة البقرة، والنصف الثاني مفسر في هذه السورة. وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ} أي: يعرفونه بالنبوة والصدق، بما يجدونه (¬4) مكتوبًا عندهم في صفته ونعته، والمراد بهؤلاء الذين يعرفونه: اليهود والنصارى، و {الْكِتَابَ}: التوراة والإنجيل، وهذا قول ابن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 329، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 163، و"البحر المحيط" 4/ 92. (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 12/ 179، و"الخازن" 2/ 125. (¬3) ذكره في "روضة الطالبين" 7/ 301، عن الشافعي، وزاد: (وقال في موضع: إذا أتى بالشهادتين صار مسلمًا؛ وليس هذا باختلاف قول عند جمهور الأصحاب، بل يختلف الحال باختلاف الكفار وعقائدهم) ا. هـ وانظر: "المغني" لابن قدامة 12/ 288 - 291، و"نيل الأوطار" 7/ 230 - 235. (¬4) في (أ): (لما يجدونه).

عباس (¬1) والحسن (¬2) وقتادة (¬3) وابن جريج والسدي (¬4). وقوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قال الزجاج: ({الَّذِينَ} يجوز أن يكون رفعًا على نعت: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، وجائز أن يكون على الابتداء، ويكون {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} خبره، قال: والأشبه أن يعني بالذين خسروا أنفسهم أهل الكتاب، وجائز أن يُعنى به جملة الكفار) (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 9، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 158. (¬2) ذكره الماوردي 2/ 100، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 400. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 206، وابن أبي حاتم 4/ 1272 بسند جيد. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 164، من طرق جيدة عن قتادة وابن جريج والسدي. وهذا هو قول الجمهور ورجحه أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" 1/ 329، و"النحاس" 2/ 407، و"تفسير السمرقندي" 1/ 478، والبغوي في "تفسيره" 3/ 134، والزمخشري 2/ 10، وابن الجوزي في "تفسيره" 12/ 14، والرازي في "تفسيره" 12/ 179، وبعضهم حمله على العموم أي يعرفون التوحيد والقرآن ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو اختيار الطبري 7/ 164، وابن كثير 2/ 143، وأفاد ابن عطية 5/ 154، والسمين في "الدر" 4/ 570، صحة عودة الضمير على الكل دون تخصيص، كأنه قيل: يعرفون ما ذكرنا وقصصنا. وانظر: الماوردي 2/ 100، و"البحر" 4/ 92. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 235، ومثله ذكر النحاس في "إعرابه" 1/ 539، والرازي في "تفسيره" 12/ 179، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 400، ورجح الطبري 7/ 164، الوجه الأول، والسمين في "الدر" 4/ 570، الوجه الثاني، وانظر: "المشكل" 1/ 247، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 155، و"التبيان" 1/ 327، و"الفريد" 2/ 133، و"البحر" 4/ 93، وأفاد أبو حيان والسمين (أن الفاء في قوله {فَهُمْ} على الوجه الأول لعطف جملة اسمية على مثلها، والمراد بالذين خسروا أهل الكتاب خاصة، وعلى الوجه الثاني الفاء رابطة لما عرف من شبه الموصول بالشرط، والمراد بالذين خسروا جملة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم).

21

21 - وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} قال ابن عباس: (ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبًا فأشرك به الآلهة) (¬1). وقال أهل المعاني: (هذا استفهام معناه الجحد، أي: لا أحد أظلم منه؛ لأن جوابه كذلك، فاكتفى من الجواب بما يدل عليه، والمراد بالمفتري على الله الكذب الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (¬2) [الأعراف: 28]. وقوله تعالى {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} قال ابن عباس: (يعني القرآن ومحمدًا) (¬3). وقال أصحاب المعاني: (المكذّب بآيات الله الجاحد لها بقوله ما نصب الله آية على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كاليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ومعجزاته) (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد لا يسعد من جحد بربوبية ربه وكذب رسله) (¬5). وقال أهل المعاني: (معنى {لَا يُفلِحُ}: لا يظفر بطلبه من النجاة في آخرته، ومن لم يظفر بالنجاة هلك بالعذاب) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 21، وفي "تنوير المقباس" 2/ 9 - 10، نحوه. (¬2) انظر: الطبري 7/ 165، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 478، و"المشكل" 1/ 247، و"البيان" 1/ 316، والبغوي في "تفسيره" 3/ 135، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 156. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 10. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 165، و"القرطبي" 6/ 401، و"تفسير الخازن" 2/ 125. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 21. (¬6) الفلاح في اللغة: الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير. انظر: "العين" 3/ 233، و"الجمهرة" 1/ 555، و"تهذيب اللغة" 3/ 2826، و"الصحاح" 1/ 392، =

22

والمراد بالظالمين الذين وصفوا بالافتراء على الله والتكذيب بآياته، بين أنهم ظالمون لأنفسهم بإهلاكهم إياها. 22 - وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} العامل في {يَوْمَ} محذوف على معنى: واذكر يوم نحشرهم. وقيل (¬1): (إنه معطوف على محذوف، كأنه قيل: {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أبدًا {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ}). وقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} اختلفوا في وجه هذا السؤال فقال مقاتل: (إن المشركين في الآخرة لما رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: إذا سئلتم فقولوا: إنا موحدون، فلما جمعهم الله قال [لهم] (¬2): ({أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}) (¬3)، فعلى هذا إنما سئلوا ليعلموا أن الله تعالى يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا، وأنه لا ينفعهم الكتمان. وقال غيره من المفسرين: (إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، فقيل لهم يوم القيامة: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ¬

_ = و"المجمل" 3/ 705، و "مقاييس اللغة" 4/ 450، و"المفردات" ص 644، و"اللسان" 2/ 547 (فلح). (¬1) هذا قول الطبري في "تفسيره" 7/ 165، وعليه يكون الكلام متصلاً، وقال الكرماني في "غرائبه" 1/ 356: (هذا قول غريب)، وأكثرهم على أن قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} كلام مستأنف. وانظر: "القطع والائتناف" 1/ 221، و"المكتفي" للداني ص 248، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 156، و"التبيان" 1/ 327، و"الفريد" 2/ 133، و"البحر" 4/ 94، و"الدر المصون" 4/ 571. (¬2) لفظ: (لهم) ساقط من (ش). (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 555.

23

أنها تشفع لكم)، فكأن معنى هذا السؤال التوبيخ (¬1)؛ لأنه سؤال في وقت الحاجة إلى الإغاثة عمن كان يدعي أنه يغيث، وأضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم اتخذوها وافتعلوها من عند أنفسهم، ومعنى {تَزْعُمُونَ}: تكذبون (¬2). قال ابن عباس: (وكل زعم في كتاب الله كذب) (¬3). والعائد إلى الموصول من قوله تعالى: {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} محذوف، والتقدير {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم شفعاء، فحذف مفعول الزعم، لدلالة الكلام، وإحالة (¬4) السؤال عليه (¬5). 23 - وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} (¬6) قرئ {يَكُنْ} بالياء والتاء، و (فتنتهم) رفعًا ونصبًا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 165، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 478، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 16، والقرطبي 6/ 401. (¬2) الزَّعْم: القول من غير صحة ولا يقين، وقال الراغب في "المفردات" ص 380 (الزعم حكايته قول يكون مظنة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلون به ا. هـ. وانظر: "العين" 1/ 364، و"تهذيب اللغة" 2/ 1532، و"الصحاح" 5/ 1941، و"مقاييس اللغة" 3/ 10، و"اللسان" 3/ 1834 (زعم). (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 181، والقرطبي 6/ 401، وأبو حيان في "البحر" 4/ 94. (¬4) في (ش): (وحاله)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "غرائب الكرماني" 1/ 356، و"التبيان" 1/ 327، و"الفريد" 2/ 133، و"البحر" 4/ 94، و"الدر المصون" 4/ 572. (¬6) في (أ): (ثم لم يكن فتنتهم) قرئ (تكن) الأولى بالياء والثاني بالتاء. (¬7) قرأ حمزة والكسائي (يكن) بالياء على التذكير، وقرأ الباقون بالتاء على التأنيث، وقرأ ابن عامر وابن كثير وحفص عن عاصم (فتنتهم) برفع التاء, وقرأ الباقون =

وجملة القول في هذا أنه يجوز تذكير الفتنة؛ لأنه بمعنى الافتتان، ويجوز تأنيث {أَنْ قَالُوا} لوجهين: أحدهما: أنه بمعنى المقالة، والثاني: أن قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا} هو الفتنة في المعنى؛ لأن ذلك القول هو فتنتهم، فإذا أسند الكون إليه جاز تأنيثه، كقوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فأنث الأمثال وواحدها مثل، حيث كانت الأمثال هاهنا في المعنى (¬1) الحسنات، ومثل هذا في الشعر قول لبيد: منهُ إذا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدامُها (¬2) فأنث الإقدام لما كان (¬3) العادة في المعنى، وإذا كانت الفتنة مؤنثة وجاز تذكيرها، وإن قالوا: مذكر وجاز تأنيثه، وهما (¬4) معرفتان، كان لك ¬

_ = بالنصب. انظر: "السبعة" ص 254 - 255، و"المبسوط" ص 167، و"التذكرة" 2/ 395، و"التيسير" ص 101 - 102، و"النشر" 2/ 257 (¬1) في (ش): (في معنى). (¬2) "ديوان لبيد بن ربيعة" ص 170، و"جمهرة أشعار العرب" 132، و"الخصائص" 2/ 415، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 13، و"مقاييس اللغة" 4/ 305، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 197، و"الإنصاف" 2/ 620، و"اللسان" 5/ 2872 (عرد)، و"الدر المصون" 4/ 573، وصدره: قمضى وقدمها كانت عادة وقوله: قمضى أي: حمار الوحشي، وقدمها أي: الآتان، وعردت: حادث عن الطريق، وأصل التعريد: الفرار، وإقدامها: تقدمها. والشاهد: وكانت عادة إقدامها، حيث أنث كانت مع أن المسند إليه إقدمها، وهو مذكر؛ لأنه ذهب إلى تأثيث العادة، أو لأن الإقدام بمعنى التقدمة. انظر: "شرح القصائد" للنحاس 1/ 392. (¬3) لفظ: (لما كان)، مكرر في (أ). (¬4) انظر: "الكتاب" 1/ 51.

أن تقرأ {يَكُنْ} بالتاء والياء، وتجعل أيهما شئت من الفتنة. و {أَنْ قَالُوا} الاسم أو الخبر، إلا أن الاختيار قرأه من جعل {أَنْ قَالُوا} الاسم دون الخبر؛ لأن {أَنْ} إذا وصلت بالفعل لم توصف، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان أن يكون الاسم أحسن، كقولك: كنت القائم، كذلك إذا كانت (أن) مع اسم غيرها كانت أن يكون الاسم أولى (¬1). واختلفوا في معنى الفتنة هاهنا، فالأكثرون على أن معناه: ثم لم يكن جوابهم، وذلك لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار (¬2) إلا هذا القول، وهذا قول أبي العالية والقرظي (¬3) واختيار عبد الله بن مسلم (¬4). قال أبو العالية: {فِتْنَتُهُمْ}: مقالتهم، وقال القرظي: (إجابتهم)، وقال قتادة (¬5): {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} معذرتهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا}، وهذا راجع إلى معنى الجواب، وروي هذا ¬

_ (¬1) هذا معنى قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 3/ 288 - 290. وانظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 15/ 188، و"معاني القرآن" للزجاج 2/ 235، و"تفسير الطبري" 7/ 167، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 540، و"معاني القراءات" 1/ 347، و"إعراب القراءات" 1/ 153، و"الحجة" لابن خالويه ص 136، ولابن زنجلة ص 243، و"الكشف" 1/ 426، و"المشكل" 1/ 248، و"الدر المصون" 4/ 572. (¬2) في (ش): (الاختيار) بالياء، وهو تصحيف. (¬3) ذكره أبو حيان في "البحر" 4/ 95 عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 152، و"تأويل مشكل القرآن" ص 472. (¬5) أخرجه الطبرى في "تفسيره" 7/ 167، من طرق جيدة، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 206، والطبري في "تفسيره" بسند جيد عنه قال: (مقالتهم).

القول عن ابن عباس، [ثم قال] (¬1): {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} (يعني معذرتهم حين يسألون عن آلهتهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}) (¬2). وقال أبو إسحاق: (تأويل هذه الآية تأويل حسن في اللغة لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك، وذلك أن الله تعالى ذكر في هذه الأقاصيص التي جرت [من] (¬3) أمر المشركين، وأنهم مفتنون بشركهم، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه وانتفوا منه، فحلفوا (¬4) أنهم ما كانوا مشركين. قال: ومثل ذلك أن ترى إنسانًا يحب غاويًا فإذا وقع في هلكة بسببه تبرأ منه، فيقال له: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه) (¬5). فالفتنة هاهنا بمعنى: الشرك والافتتان بالأوثان، ويؤيد هذا الوجه ما روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} قال: (يريد شركهم في الدنيا) (¬6) وهذا القول في التأويل راجع إلى حذف المضاف؛ لأن المعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه، أي: عاقبة محبتك (¬7). ¬

_ (¬1) (ثم قال): ساقط من (ش)، ولعل الصواب: قال. (¬2) ذكره البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير: 8/ 286 "الفتح". في تفسير سورة الأنعام. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1273 بسند ضعيف، وفي رواية أخرى ضعيفة قال: (حجتهم). وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 166 بسند ضعيف عنه قال: (قولهم)، وفي أخرى ضعيفة قال: (كلامهم). (¬3) (لفظ): (من) ساقط من (أ). (¬4) في (ش): (فحلوا)، وهو تحريف. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 235 - 236. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 182، وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 144: (أي: لم تكن عاقبة شركهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه) ا. هـ. (¬7) انظر: "تفسير الرازي" 12/ 182.

واختلفوا في قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا} فقرئ {رَبِّنَا} بالنصب والخفض (¬1)، فمن خفض جعل الاسم المضاف وصفًا للمفرد، كقولك: رأيت زيدًا صاحبنا، وبكرًا جاركم؛ ومن نصب جعله منادى مضافًا، وفصل به بين القسم والمقسم عليه، والفصل بالنداء كثير في كلامهم، وذلك لكثرة النداء في الكلام، ومثله قوله تعالى: {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88]. والمعنى: آتيتهم أموالاً ليضلوا فلا يؤمنوا، ففصل بالمنادي بين فعله ومفعوله (¬2). قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 24] قال قتادة: (باعتذارهم بالباطل) (¬3). وقال عطاء: (بجحد شركهم في الآخرة) (¬4). وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} عطف على قوله: {انْظُرْ} تقديره: وكيف، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (¬5) بعبادته من الأجسام والأوثان فلم ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي (ربنا) بنصب الباء، والباقون بجرها. انظر: "السبعة" ص 255، و"المبسوط" ص 167، و"التذكرة" 2/ 396، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 257. (¬2) هذا معنى قول الفارسي في "الحجة" 3/ 291، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 330، والأخفش 2/ 270، والزجاج 2/ 236، و"إعراب النحاس" 1/ 541، و"معاني القراءات" 1/ 347، و"إعراب القراءات" 1/ 153، و"الحجة" لابن خالوية ص 137. ولابن زنجلة ص 244، و"الكشف" 1/ 427، و"التبيان" 1/ 328، و"الدر المصون" 4/ 574. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 168، بسند جيد. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 22. (¬5) أكثرهم على أن (وضل عنهم) معطوف على جملة (كذبوا)، فيكون داخلًا في حيز النظر، ويجوز أن يكون استئنافًا فلا يندرج في حيز المنظور إليه. انظر: الرازي =

25

تغن عنهم شيئًا, وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم. 25 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} قال المفسرون (¬1): (إن نفرًا من مشركي مكة -منهم النضر بن الحارث (¬2) وغيره- جلسوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، فأنزل الله هذه الآية) (¬3). وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، الأكنة: جمع كنان، وهو ما وقى شيئًا وستره، مثل عنان وأعنة (¬4). قال الليث: (كل شيء وقي شيئًا فهو كِنانة وكِنُّة، والفعل من ذلك كننتُ وأكننت) (¬5). وأنشد أبو عبيدة لعمر بن أبي ربيعة: ¬

_ = في "تفسيره" 12/ 185، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 402، و"البحر" 4/ 96، و"الدر المصون" 4/ 575. (¬1) انظر: الطبري في "تفسيره" 7/ 168، والبغوي في "تفسيره" 3/ 135. (¬2) النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف، شيطان قريش وصاحب لواء المشركين ببدر، مشرك مجاهر بالعداوة والأذي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قتل في بدر سنة 2 هـ انظر: "سيرة ابن هشام" 9/ 311، 320، 321، 2/ 286، و"جوامع السير" ص 52، 147 - 148، و"الكامل" لابن الأثير 2/ 414، و"الأعلام" 8/ 33. (¬3) انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 337، 338، و"تفسير الثعلبي" 176/ أ، والماوردي 2/ 103، و"الزمخشري" 2/ 11. وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 217، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 18، والرازي في "تفسيره" 12/ 185، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 405، وأبو حيان في "البحر" 4/ 97 عن ابن عباس، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 136، عن الكلبي. (¬4) انظر: "العين" 5/ 281، و"المجمل" 3/ 766، و"مقاييس اللغة" 5/ 123، و"المفردات" ص 442 (كن). (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 3196 (كن).

أَينا باتَ ليلةً ... بَيْنَ غُصْنَينِ يُؤبَلُ (¬1) تَحتَ عَيْنِ كِنَانُ (¬2) ... ظِلُّ برْدٍ مُرَحَّلُ يعني: غطاهم الذي يكنهم (¬3). فأما {أَنْ يَفْقَهُوهُ} فقال (¬4) الزجاج: (موضع {أَنْ} نصب على أنه مفعول له، والمعنى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}؛ لكراهة {أَنْ يَفْقَهُوهُ}، فلما حذفت اللام نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى {أَنْ} (¬5). وقوله تعالى: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، قال ابن السكيت: (الوقر (¬6): الثقل في الأذن، يقال: قد وقرت أذنه توقر، فهي موقورة. ويقال: اللهم قر أذنه، ويقال أيضًا: قد وقرت أذنه توقر وقرًا) (¬7). وأنشد الزجاج (¬8): ¬

_ (¬1) ليس في ديوانه، وهما في "اللسان" 7/ 3943، (كنن) وبلا نسبة في "الجمهرة" 1/ 166، والبيت الأخير في "الصحاح" 6/ 2188، و"تاج العروس" 18/ 484، وبلا نسبة في "تفسير الطبري" 7/ 169. (¬2) في (ش): (كناننا)، وهي رواية أكثرهم. (¬3) "مجاز القرآن" 8/ 188. (¬4) في (ش): (قال). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 236، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 541، و"البيان" 1/ 317، و"التبيان" 1/ 328، و"الفريد" 2/ 135، و"البحر" 4/ 97، و"الدر المصون" 4/ 577. (¬6) قال الطبري 7/ 170: (الوقر عند العرب بفتح الواو: الثقل في الأذن، وبكسرها: الحمل) ا. هـ انظر: "مجاز القرآن" 1/ 189، و"معاني الأخفش" 2/ 272، و"الجمهرة" 2/ 796، و"الصحاح" 2/ 848، و"المجمل" 3/ 933، و"مقاييس اللغة" 6/ 132، و"المفردات" ص 880، و"اللسان" 8/ 4889، (وقر). (¬7) "إصلاح المنطق" ص 3 - 4، و"تهذيب اللغة" 4/ 3931 (وقر). (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 237.

وِكَلاَمٍ سيِّئٍ قَدْ وُقِرَت ... أذُنِي عَنْهُ وَمَا بي مِنْ صَمَمْ (¬1) فأما التفسير فقال ابن عباس: ({وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (يعني القرآن، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} غطاء كي لا يعوه) (¬2). وقال السدي: (يعني الغطاء يكن قلوبهم فلا يعرفون الحق) (¬3). وقال الحسن: ({أَنْ يَفْقَهُوهُ} لئلا يقبلوه، كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7]، أي: لا يقبلون عن الله تعالى) (¬4). {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} قال ابن عباس: (صممًا) (¬5). وقال الضحاك: (ثقلًا) (¬6). وقال قتادة: (يسمعون (¬7) بآذانهم فلا يفقهون منه شيئًا، كمثل البهيمة تسمع القول ولا تدري ما يقال (¬8) لها) (¬9). قال أبو إسحاق: (وإنما فعل بهم (¬10) ذلك مجازاة لهم بإقامتهم على ¬

_ (¬1) الشاهد للمثقب العبدي في "ديوانه" ص 230، و"المفضليات" ص 294، وبلا نسبة في "العين" 5/ 206، و"معاني الأخفش" 2/ 272، و"الصاحبي" ص 437، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 162، وابن الجوزي 3/ 19. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 23، وفي "تنوير المقباس" 2/ 11، نحوه. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 169، وابن أبي حاتم 4/ 1275 بسند جيد. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 11، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 23. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 23. (¬7) في (أ): (يستمعون). (¬8) في (ش): (ما يقول). (¬9) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 209، والطبري في "تفسيره" 7/ 170، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1276، بسند جيد. (¬10) في (ش): (وإنما فعل ذلك بهم).

كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يسمعوا ولم يفقهوا , ولكنهم (¬1) حرموا الانتفاع به لما عدلوا عنه وحرفوا فكرهم عما عليهم (¬2) في سوء العاقبة، فكانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع). قال أصحابنا: (وهذه الآية دلالة صريحة على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح (¬3) بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا يفقه صاحبه كلام الله تعالى ولا يؤمن، كما جعل على قلوب القدرية أكنة فلم يفقهوا آيات القدر، كما لم يفقه قلوب المشركين الإيمان) (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} قال ابن عباس: (يريد كل عبرة) (¬5). ¬

_ (¬1) في (ش): (ولكن حرموا). (¬2) كذا في النسخ، ومثله عند ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 19، وعند الزجاج 2/ 237 (عماهم عليه). (¬3) في (ش): (فيشرح الصدر للهدى). (¬4) انظر: "معاني النحاس" 2/ 410، و"تفسير البغوي" 5/ 163، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 163، والرازي 12/ 186، و"البحر" 4/ 97. وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 144، في تفسير الآية: (هذه الأكنة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض معها سمعًا لا عقلاً، والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنة والوقر فهو موجب ذلك مقتضاه، فمن فسر الأكنة والوقر به فقد فسرها بموجبها ومقتضاها، وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبعض من أفعالهم وهي مجعولة لله سبحانه، كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم، والله جاعله فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإرادتها واعتقادتها، فذلك كله مجعول مخلوق له، وإن كان العبد فاعلًا له باختياره وإرادته) ا. هـ. (¬5) ذكر الرازي 12/ 187، عن ابن عباس في الآية قال: (وإن يروا كل دليل وحجة) ا. هـ.

وقال الزجاج: (أي: علامة تدلهم على نبوتك) (¬1). {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} قال ابن عباس: (لا يصدقوا بها؛ وذلك لأن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة) (¬2). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} إلى آخر الآية، فصل آخر متصل بما قبله، والمعنى: إن حالهم في البعد عن الإيمان ما ذكره الله تعالى من منعهم وصدهم عن تصديق محمد، حتى إذا جاؤوه مجادلين إياه فيقول من كفر منهم لما يسمع من القرآن: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، قال الزجاج: (أعلم الله عز وجل مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم لا يعارضون ما احتج به عليهم من الحق، حيث قيل لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] إلا بأن يقولوا: هذا أساطير الأولين، ويقولون: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [المؤمنون: 38] (¬3). فأما معني الأساطير وتفسيرها: فأصلها من السطر، وهو أن يجعل شيئاً ممتدًا مؤلفًا، ومن ذلك سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس ونحو ذلك (¬4). قال ابن السكيت: (يقال: سَطْر، وسَطَر فمن قال: سَطْر فجمعه في القليل أَسْطر والكثير سُطُور، ومن قال: سَطَر جَمَعَه أسطاراً) (¬5). ثم أساطير ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 237. (¬2) ذكره الرازي 12/ 187. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 237، والنحاس 2/ 410، و"تفسير الرازي" 12/ 188. (¬4) انظر: "العين" 7/ 210، و"الجمهرة" 2/ 713، 1193، و"الصحاح" 2/ 684، و"المجمل" 2/ 460، و"مقاييس اللغة" 3/ 72، و"المفردات" ص 409 (سطر). (¬5) "إصلاح المنطق" ص 95، و"تهذيب اللغة" 2/ 1683، وأفاد أكثرهم: (أن سطر بسكون الطاء جمعه في القلة أسطر وفي الكثرة سطور، وبفتح الطاء جمعه =

جمع الجمع، قاله اللحياني. [قال] (¬1): (وواحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة إلى العشرة، ثم أساطير جمع الجمع) (¬2). واختار الزجاج أن يكون واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث، قال ذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] (¬3)، وهو قول أبي عبيدة (¬4)، وذهب الأخفش (¬5) وأبو زيد (¬6) إلى أنه لا واحد لها مثل عباديد (¬7) وأبابيل (¬8)، قال أبو زيد: إلا أرى الأساطير إلا من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد، ولا يكون هذا المثال إلا جمعًا) (¬9). ¬

_ = أسطار؛ لأن فعل بالسكون يجمع في القلة على أفعل وبالفتح على أفعال). انظر: "البيان" 1/ 317، و"التبيان" 328، و"الفريد" 2/ 135، و"البحر" 4/ 98. (¬1) (قال) ساقط من (ش). (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1683، وليس فيه -أسطيرة- وهي في "اللسان" 4/ 2007 (سطر) عن اللحياني. (¬3) "معاني الزجاج" 4/ 58، انظر: 2/ 237. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 189. (¬5) "معاني الأخفش" 2/ 272. (¬6) أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيد البصري، تقدمت ترجمته. (¬7) في (أ): (عناديد)، ولم أقف عليها، والذي في أكثر المراجع (عباديد)، والعباديد لا واحد لها من لفظها، وهي الفرق من الناس والخيل الذاهبين في كل وجه. والعباديد أيضًا: الأكام والطرق البعيدة. انظر: "القاموس" ص 296، (عبد). (¬8) الأبابيل جمع لا واحد له، وقيل: جمع إبيل وإبول، وهي الفرق والجماعات المتفرقة والفرق التي يتبع بعضها بعضًا. انظر: "اللسان" 1/ 11 (أبل). (¬9) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 24، والرازي في "تفسيره" 12/ 188، وهو نص كلام الأخفش في "معانيه" 2/ 272، وحكاه ابن دريد في "الجمهرة" 3/ 1271 عن الأصمعي، وأكثرهم على أن أساطير جمع أسطورة، ويحتمل أنه جمع أسطارة أو أسطار. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 171، و"نزهة القلوب" ص 71، و"إعراب =

ومعني {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ما سطره الأولون (¬1). قال ابن عباس: (أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها، أي: يكتبونها) (¬2). فأما قول (¬3) من فسر الأساطير بالتُّرّهات (¬4) والبسابس (¬5) فهو معنى وليس بتفسير، وتفسيره ما ذكرنا (¬6). ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم (¬7) وإسفنديار (¬8) كلامًا لا فائدة فيه ولا طائل تحته فسرت أساطير الأولين هاهنا بالتُّرّهات والبسابس (¬9). ¬

_ = النحاس" 1/ 541، و"الألفات" لابن خالويه ص 76، و"العضديات" ص 55 و"سر صناعة الإعراب" 2/ 610، و"المشكل" 1/ 248، و"عمدة الحفاظ" ص 241، و"تاج العروس" 6/ 520 (سطر). (¬1) انظر: "غريب القرآن" ص 243. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 171 بسند جيد. (¬3) هذا قول أبي عبيدة في "المجاز" 1/ 189، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 479. (¬4) التُّرّهات بالضم وفتح الراء المشددة جمع ترهة: وهي الأباطيل، وفي الأصل الطرق الصغار المتشعبة عن الطريق الأعظم. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 437، و"الصحاح" 6/ 2229، و"اللسان" 1/ 431 (تره). (¬5) البَسَابس، بالفتح: الباطل، ويقال: ترهاتُ البسابسِ، بالإضافة. انظر: الصحاح 3/ 909، واللسان 1/ 282 (بسس). (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 104، وقال الرازي 12/ 188 (الأول قول الجمهور وتفسيرها بالترهات معنى وليس بتفسير) ا. هـ. بتصرف. (¬7) رستم الشديد بن دستان بن بريمان من ملوك الفرس. انظر أخباره في: "تاريخ الطبري" 1/ 504، و"الروض الأنف" 2/ 52، و"الكامل في التاريخ" 1/ 137. (¬8) إسفنديار بن بشتاسب: من ملوك الفرس. انظر أخباره في: "تاريخ الطبري" 1/ 562، و"الروض الأنف" 2/ 52، و"الكامل في التاريخ" 1/ 154. (¬9) أفاد أكثرهم: (أن النضر بن الحارث صاحب أسفار وقصص، فسمع بالحيرة وغيرها قصص الأعاجم وأحاديث رستم واسفنديار، وكان يحدث بها ويقول: =

26 - قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} يعني: المشركين ينهون الناس عن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ عن ابن عباس (¬1) والحسن (¬2) والسدي (¬3)، فالكناية على هذا تعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك في {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يتباعدون عنه فلا يؤمنون به، وهو قول الكلبي (¬4) قال: ينهون عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من سألهم عنه (¬5) أن يقربوه ويتبعوه)، ونحو هذا قال الضحاك (¬6) ومحمد بن الحنفية (¬7). وقال قتادة (¬8) ومجاهد (¬9): (ينهون عن القرآن ويتباعدون عن سماعه ¬

_ = أنا أحسن حديثًا من محمد، أحاديثه أساطير الأولين). انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 320، و"تفسير السمرقندي" 1/ 479، وابن عطية 5/ 164، والقرطبي 6/ 405. (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 171 بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 15. (¬2) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 521، والماوردي 2/ 104، والواحدي في "الوسيط" 1/ 25، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 405. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 171 بسند جيد. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 12، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 25. (¬5) لفظ: (من سألهم عنه) ساقط من (ش). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 176 ب، والواحدي في "أسباب النزول" ص 218، والبغوي في "تفسيره" 3/ 136، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 165، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 21. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 171، بسند ضعيف، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 15. (¬8) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 205، والطبري في "تفسيره" 7/ 172، من طرق جيدة عنه، قال: (ينهون عنه القرآن وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتباعدون عنه) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 16. (¬9) "تفسير مجاهد" 1/ 214، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 172 بسند جيد، عن مجاهد وابن زيد، وهو اختيار الرازي 12/ 189.

لئلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته). والنأي: البعد، ويقال: نأى ينأى إذا بعد، وأنأيته إذا أبعدته، ويقال أيضًا (¬1): نأيته بمعنى نأيت عنه (¬2)، وأنشد المبرد: أعاذِلُ إنْ يُصْبِح صداي بِقَفْرةٍ ... بَعِيدًا نآنِي زائِري وَقرِيبي (¬3) بمعني نأى عني. وحكى الليث: (نأيت الشيء أي أبعدته، وأنشد: إذا ما التقينا سالَ مِنْ عَبَرَاتِنا ... شآبِيبُ يُنْأى سَيْلُها بالأصابِع (¬4) أي: يُنحى ويبعد) (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ: (أيضًا) ساقط من (أ). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 189، و"معاني الأخفش" 2/ 273، و"غريب القرآن" ص 152، و"الجمهرة" 1/ 249، و"نزهة القلوب" ص 487، و"المفردات" ص 830 (نأى). (¬3) الشاهد للنمر بن تولب العكلي في "طبقات فحول الشعراء" 1/ 161، و"الكامل" للمبرد 1/ 479، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 4/ 3475، و"اللسان" 4/ 4317 (نأى)، و"الدر المصون" 4/ 582. والصدى هنا ما يبقى وهو جسده الملقى والشاهد: نآني: أصله نأى عني، أي: بعد، فأخرجه مخرج المتعدي، قال المبرد 1/ 482 - 483: (وقوله. "نآني" أي: أبعدني، والأحسن أنآنى لأن الوجه في فَعَل أفْعَلته، وهو المطرد، ويكون نآني: نأى عني) ا. هـ. بتصرف. (¬4) لم أقف على قائله وهو في: "العين" 8/ 392، و"الصحاح" 6/ 2499، و"المجمل" 3/ 851، و"مقاييس اللغة" 5/ 377، و"اللسان" 7/ 4314 (نأى)، و"الدر المصون" 4/ 582. (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 3475.

وقال عطاء (¬1) (¬2) ومقاتل: (نزلت في أبي طالب، كان ينهى قريشًا عن أذى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتباعد عنه فلا يتبعه على دينه) (¬3). قال الزجاج: (والقول الأول أشبه بالمعنى؛ لأن الكلام متصلٌ بذكر جماعة أهل الكتاب والمشركين) (¬4)، والقول الثاني عدول عن الظاهر، وما ¬

_ (¬1) عطاء هنا هو: عطاء بن دينار الهذلي مولاهم أبو الريان المصري، إمام مفسر صدوق، أخذ صحيفة في التفسير عن سعيد بن جبير ولم يسمع منه. توفي سنة 126 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 332، و"ميزان الاعتدال" 3/ 69، و"تهذيب التهذيب" 3/ 100، و"تقريب التهذيب" (4589). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 173 بسند جيد، عن عطاء بن دينار الهذلي. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 555، وهذا قول جماعة منهم سعيد بن جبير وعمر بن دينار والقاسم بن مخيمرة كما في "الوسيط" 1/ 25، و"الدر المنثور" 3/ 15، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 87، وقال: (رواه الطبراني عن ابن عباس، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة وغيره، وضعفه يحيى بن معين وغيره) ا. هـ وأخرجه الحاكم 2/ 315، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 340، والواحدي في "أسباب النزول" ص 218 من طريق واحد عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وعليه يكون هذا تمثيلاً، وهو داخل في جملة الكفار، ولعل الرواية عن ابن عباس لا تصح؛ لأن السند فيه عبد الله بن منده الأصبهاني رواه عن بكر بن بكار القيسي، وبكر ضعيف كما في "لسان الميزان" 2/ 485، وابن منده ضعفه بعضهم، ولم يسمع من بكر كما يظهر من "الجرح والتعديل" 8/ 108، و"اللسان" 5/ 70، ولأن روايته بسند منقطع أقوى، فقد أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 106، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 206، والطبري في "تفسيره" 7/ 173 , والحاكم 2/ 315، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 340 , من طرق صحيحة عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس وانظر: "الدر المنثور" 3/ 15. (¬4) معاني الزجاج 2/ 238 - 239، وهو الأظهر والأشبه بالمعنى واختيار الجمهور.

27

يقتضيه الكلام الأول، والوجه أن يقال: أبو طالب من هؤلاء الذين ذكرهم الله (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن عباس: (يريد بتماديهم في معصية الله {وَمَا يَشْعُرُونَ} أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من المعاصي) (¬2). 27 - قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} الآية. قال أصحاب العربية: (المراد بقوله: {إِذْ وُقِفُوا} الاستقبال، وإن كان بلفظ المضي؛ لأن هذه القصة كائنة، ولما تكن بعد، وجاز لفظ المضي؛ لأن كل ما هو كائن يومًا مما لم يكن بعد، فكأنه عند الله عز وجل قد كان، لسبق علمه ونفوذ قضائه وقدره به؛ إذ علمه موجب لكونه لا محالة) (¬3). وأنشدوا في مثل هذا النظم (¬4): ¬

_ = انظر: الطبري في "تفسيره" 7/ 173، و"معاني النحاس" 2/ 410، و"تفسير ابن كثير" 2/ 144. (¬1) انظر: ابن عطية 5/ 166، و"البحر" 4/ 100. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 190، وانظر: الطبري في "تفسيره" 7/ 174، و"معاني النحاس" 2/ 412. (¬3) انظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 232، و "تفسير الطبري" 7/ 174، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 118، و"تهذيب اللغة" 4/ 3937، و"المغني" لابن هشام 1/ 81، 95، وقال ابن فارس في الصاحبي ص 196: (أذ تكون للماضي ... فأما قوله جل ثنائه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} فـ (ترى) مستقبل وإذ للماضي، وإنما كان كذا لأن الشيء كائن وإن لم يكن بعد، وذلك عند الله جل ثناؤه قد كان؛ لأن علمه به سابق وقضاءه به نافذ، فهو كائن لا محالة، والعرب تقول مثل ذا وإن لم تعرف العواقب) ا. هـ. ملخصًا. (¬4) لم أعرف قائله، وهو في: "الصاحبي" ص 196، و"المجمل" 1/ 170، =

ستندم إِذْ يَأتِي عَلَيْكَ رَعِيلُنَا ... بأرْعَنَ جَرَّارٍ كثير صوَاهِلُه فوضع إذ في موضع إذا. وقد (¬1) يوضح إذا في موضع إذ كقول الشاعر (¬2): وَندْمَانٍ يَزِيدُ الكَأْسَ طيِبًا ... سَقَيْتُ إِذا تَعَرَّضَتِ (¬3) النُّجُوم وقد سبق لهذا (¬4) نظائر (¬5). وقوله تعالى: {وُقِفُوا}. يقال: وقفته (¬6) وقفًا فوقف وقوفًا، كما يقال: رجعته رجعًا فرجع رجوعًا (¬7). ¬

_ = و"مقاييس اللغة" 1/ 411، والرعيل: القطعة المتقدمة من الخيل، والأرعن: الجيش العظيم، والجرار: الثقيل السير لكثرته، والصواهل: شدة الصوت والصيال. (¬1) انظر: "الأضداد" لقطرب ص 150، و"المدخل" للحدادي ص 575. (¬2) البيت: لبرج بن مسهر الطائي في "مجاز القرآن" 1/ 21، والطبري في "تفسيره" 1/ 58، و"اللسان" 7/ 4386، (ندم)، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 280، وبلا نسبة في "الأضداد" لقطرب ص 152، ولابن الأنباري ص 199، و"الصاحبي" ص 197، و"المدخل" للحدادي ص 576، و"المغني" لابن هشام 1/ 95. (¬3) جاء في (أ): علامة ضرب على (تعرضت)، ولعلها تحريف عن تغورت كما في جميع المراجع السابقة، ويروى (سقيت وقد تَغَوَّرَت). وندمان: أي نديم: وتغورت أي غارت، وتعرضت: أي أبدت عرضها للمغيب. (¬4) في (ش): (سبق لها نظائر). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "العين" 5/ 223، و"الجمهرة" 2/ 967، و"تهذيب اللغة" 4/ 3937، و"الصحاح" 4/ 1440، و"المجمل" 3/ 934، و"المفردات" ص 881، و"اللسان" 8/ 4898 (وقف). (¬7) الفعل (وقف) متعدٍّ ولازم، وفرق بينهما بالمصدر اللازم وقوف على فعول ومصدر المتعدي وقف على فعل، وسمع في المتعدي أوقف، يقال: أوقفت عن الأمر =

قال أبو إسحاق: (ومعنى {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} يحتمل ثلاثة أوجه: جائز أن يكون عاينوها، وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم. قال: والأجود أن يكون معنى: {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها. كما تقول في الكلام: قد وقفت على ما عند فلان، تريد: قد فهمته وتبينته) (¬1)، هذا كلامه. وشرح هذا أن قوله: (جائز أن يكون عاينوها) معناه: (أنهم وقفوا عندها وهم يعاينونها، فهم موقوفون على أن يدخلوا النار، وقوله: (وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم) معناه: أنهم وقفوا فوق النار على الصراط، وهو جسر بين ظهري جهنم، والوجه الثالث معناه: أنهم عرفوا حقيقتها تعريفًا من قولك: وقفت فلانا على كلام فلان، أي: علمته معناه وعرفته. وجماعة يقولون {عَلَى} هاهنا بمنزلة (¬2) (في)، والمعنى: وقفوا في النار، كقوله تعالى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]-أي في ملك (¬3). ¬

_ = إذا أقلعت عنه. انظر: "إعراب النحاس" 2/ 61، و"التبيان" ص 328، و"الفريد" 2/ 136، و"الدر المصون" 4/ 584. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 239. (¬2) قال ابن هشام في "المغني" 1/ 144، والسيوطي في "الاتقاق" 1/ 214: (على) تكون ظرفية كـ (في) نحو قوله تعالى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، وقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص: 15] أي في حين) ا. هـ. (¬3) هذا قول الطبري 7/ 174، البغوي 3/ 137، ضعفه السمين في "الدر" 4/ 584، والظاهر أن {عَلَى} على بابها، أي: حبسوا عليها. والنار طبقات فيصح معنى الاستعلاء، وهذا هو قول الجمهور. انظر: "معاني النحاس" 2/ 412، و"تفسير السمرقندي" 1/ 479، و"تفسير الماوردي" 2/ 105، و"الكشاف" 2/ 12 , وابن عطية 5/ 168 وابن الجوزي 3/ 22، والرازي 12/ 191، والقرطبي 6/ 408، و"البحر" 4/ 101، و"الدر المصون" 4/ 584.

قال أبو إسحاق: (والإمالة (¬1) في {النَّارِ} حسنة جيدة؛ لأن ما بعد الألف مكسور (¬2)، وهو حرف كأنه مكرر في اللسان، فصارت الكسرة فيه كالكسرتين) (¬3). وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} يقتضي {لَوْ} جوابًا، وقد حذف؛ تفخيمًا للأمر وتعظيمًا، وجاز حذفه لعلم المخاطب بما يقتضي. وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر، ولو قدرت الجواب كان على تقدير: لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت أسوأ حال (¬4). ومن هذا قول امرئ القيس (¬5): فَلَوْ أنها نَفْسٌ تَمُوتُ سويةً ... ولكنَّها نَفْسٌ تَساقَطُ أَنْفُسا (¬6) ولم يقل: لفنيت ولا لاستراحت (¬7)، وكذلك قول جرير: ¬

_ (¬1) الأمالة لغة فصيحة صحيحة، وهي تقريب الفتحة نحو الكسرة والألف نحو الياء، وهي مذهب لبعض القراء كما في "السبعة" ص 149، و"المبسوط" ص 103، و"النشر" 2/ 30، وانظر: "التكملة" للفارسي ص 527، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 52، ص 63، و"المشكل" 1/ 168. (¬2) في (أ): (مكسورة). (¬3) معاني الزجاج 2/ 239، وانظر: 1/ 123، و"معاني الأخفش" 1/ 39. (¬4) حذف جواب (لو)، لدلالة المعنى عليه جائز فصيح، وهو أبلغ في التخويف؛ لأن السامع يترك مع غاية تخيله، ولو صرح له بالجواب وطّن نفسه عليه. انظر: "الكتاب" 3/ 103، و"البغوي" في "تفسيره" 3/ 137، وابن عطية 5/ 167، و"البحر" 4/ 101، و"الدر المصون" 4/ 582. (¬5) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته. (¬6) "ديوانه" ص 87، و"سر صناعة الإعراب" ص/ 648، و"اللسان" 2/ 679، (جمع) و"الدر المصون" 4/ 583، وفي المراجع -جميعة بدل سوية- والمعنى. أنه مريض لا تخرج نفسه مرة ولكنها تموت شيئًا بعد شيء. (¬7) في النسخ: (ولا لاسترحت).

كَذَبَ العَوَاذِلُ لَوْ رَأَينَ مُنَاخَنَا ... بَحزِيز رَامَةَ والمَطِيُّ سَوَامِي (¬1) ولم يقل: لرأين ما يشجيهن ويسخن أعينهن. قال أبو الفتح الموصلي (¬2): (ذهب أصحابنا إلى أن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك إذا قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك، وسكتَّ عن الجواب، ذهب تفكره (¬3) إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر وغير ذلك، فتمثلت في فكره أنواع العقوبات، وتكاثرت عليه، وعظمت الحال في نفسه، ولم يدر أيها يتقي. ولو قلت: والله لئن قمت إليك لأضربنك. فأتيت بالجواب، لم يتق شيئًا غير الضرب، ولا خطر بباله نوع من المكروه سواه، وكان ذلك دون حذف الجواب؛ لأنه يوطن نفسه على المتوعّد به في الجواب إذا عرفه، ومن وطن نفسه على شيء هان. ألا ترى قول كثير (¬4): فَقُلْتُ لها: يا عَزَّ كُلُّ مُلمةٍ ... إِذا وُطّنَتْ يومًا لها النَّفسُ ذلّتِ (¬5) ¬

_ (¬1) "ديوان جرير" ص 542، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 648، و"الدر المصون" 4/ 283، الحزيز: المكان الغليظ، وهو اسم لعدة أماكن في بلاد العرب. انظر: "معجم البلدان" 2/ 256، وفيه ذكر البيت وصدره عنده: ولقد نظرت فرد نظرتك الهوى والسوامي: الرافعة أبصارها وأعناقها. (¬2) عثمان بن جني النحوي اللغوي إمام مشهور، تقدمت ترجمته. (¬3) في "سر صناعة الإعراب" 2/ 649 (وذهب بفكره). (¬4) "ديوان كثير عزة" ص 55، و"تهذيب اللغة" 4/ 3911، و"الدر المصون" 4/ 583، وفيها: مصيبة بدل ملمة، وقد جاء ملمة في بعض نسخ "سر صناعة الإعراب" 2/ 649. (¬5) "سر صناعة الإعراب" 2/ 649، بتصرف يسير, وانظر: "معاني الأخفش" 1/ 136، و"المدخل" للحدادي ص 239.

وقوله تعالي: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} اختلف القراء في قوله: {وَلَا نُكَذِّبَ} و {وَنَكُونَ} فقرئ رفعًا ونصبًا (¬1). وللرفع وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفًا على {نُرَدُّ} {وَلَا نُكَذِّبَ}، {وَنَكُونَ} داخلا في التمني دخول {نُرَدُّ} فيه، فعلى هذا قد تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، والكون من المؤمنين. [و] (¬2) الوجه الثاني: أن تقطع {وَلَا نُكَذِّبَ} وما بعده من الأول، فيكون التقدير على هذا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} ونحن {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ضمنوا أنهم لا يكذبون، والمعنى: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نردّ: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي قد: عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدًا. قال سيبويه: (هو على قولك: فإنا لا نكذّب كما تقول: دعني ولا أعود، أي: فإني ممّن لا يعود، فإنما (¬3) يسألك الترك، وقد أوجب على نفسه أن لا يعود، تُرك أو لم يُترك، ولم يُرد أن يسألك أن يجمع له الترك وأن لا يعود) (¬4). ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم: {نُكَذِّبَ} - {وَنَكُونَ} بنصب الباء والنون فيهما، وقرأ الباقون بالرفع فيهما، وقرأ ابن عامر {نُكَذِّبَ} بالرفع و {نَكُونَ} بالنصب. انظر: "السبعة" ص 255، و"المبسوط" 167، و"التذكرة" 2/ 296، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 257. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬3) في (أ): (وإنما). (¬4) "الكتاب" 3/ 44، وزاد فيه: (الرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأول، والآخر على قولك: دعني ...) ا. هـ.

والوجهان ذكرهما الزجاج (¬1)، وشرح أبو علي (¬2) كما حكيت. والوجه الثاني أقواهما (¬3) وهو أن يكون (¬4) الرد داخلا في التمني، ويكون ما بعده إخبارًا عنهم أنهم قالوا ذلك على ما بينا. وذلك لأن الله تعالى كذبهم في الآية الثانية فقال: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وهذا يدل على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم ولم يتمنوه (¬5)؛ لأن التمني لا يقع فيه الكذب، إنما يقع في الخبر دون التمني. وهذا اختيار أبي عمرو (¬6)، وهو استدل بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] على خروج التكذيب والكون من التمني (¬7). ومن قرأ {وَلَا نُكَذِّبَ}، {وَنَكُونَ} نصبا، قال الزجاج: (نصب على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: ليتك تصير إلينا ونكرمك، والمعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى: ليت ردّنا ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 239، والوجهان ذكرهما أكثرهم. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 542، و"التذكرة" لابن غلبون 2/ 396، و"البيان" 1/ 318، وابن عطية 5/ 168. (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 293. (¬3) وهو اختيار الأخفش في "معانيه" 2/ 273، و"الطبري" في "تفسيره" 7/ 175 - 176، و"النحاس في معانيه" 2/ 273، والبغوي في "تفسيره" 3/ 137، وانظر: "الخاطريات" لابن جني ص 132، و"المحتسب" 1/ 252. (¬4) في (أ): (وأن لا يكون) وكأن لا ملحقة وعليها علامة تصحيح، ولعله تحريف من الناسخ؛ لأن سياق الكلام يرده. (¬5) في (ش): (ولم يتمنوا). (¬6) أبو عمرو: زبان بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي المازني البصري، تقدمت ترجمته. (¬7) ذكره عنه أكثرهم. انظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 293، و"الكشف" 1/ 428، و"المشكل" 1/ 249، والرازي في "تفسيره" 12/ 192, والقرطبي في "تفسيره" 6/ 409, و"الدر المصون" 4/ 587.

وقع وأن لا نكذب) (¬1). قال ابن الأنباري: (في نصب {نُكَذِّبَ} وجهان، أحدهما: أن تكون الواو مبدلة من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نُرد فلا نكذب ونكون، فتكون الواو هاهنا بمنزلة الفاء في قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)} [الزمر: 58]، يؤكد هذا الوجه ما روي أن ابن مسعود وابن أبي إسحاق (¬2) كانا يقرآن (فلا نكذب) بالفاء منصوبًا (¬3). قال: والوجه الآخر في نصب {نُكَذِّبَ} {وَنَكُونَ} الصرف (¬4) ومعناه الحال، أي يا ليتنا نرد غير مكذبين، كما تقول العرب (¬5): لا نأكل السمك ونشرب اللبن، أي: لا يأكل السمك شاربًا للبن) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 239 - 240. (¬2) ابن أبي إسحاق: عبد الله بن زيد بن الحارث الحضرمي أبو بحر البصري، تقدمت ترجمته. (¬3) ذكر قراءة ابن مسعود أكثرهم. انظر: الطبري في "تفسيره" 7/ 175، و"إعراب النحاس" 1/ 542، والحجة لابن خالويه ص 138، و"تفسير ابن عطية" 5/ 168 - 169، والرازي في "تفسيره" 12/ 192، والقرطبي، و"البحر" 4/ 102، وذكرها السمين في "الدر" 4/ 590، عن ابن مسعود، وابن أبي إسحاق، وحكى أكثرهم عن ابن أبي إسحاق أنه يقرأ: (نكذب ونكون) بالنصب بلا فاء. انظر: "الكتاب" 3/ 44، و"طبقات ابن سلام" 1/ 19 - 20، و"إعراب النحاس" 1/ 542: و"طبقات الزبيدي" ص 33. (¬4) يسمي الكوفيون هذه (الواو) واو الصرف، إرشادًا بصرفه عن سنن الكلام إلى أنها غير عاطفة، وشرط هذه الواو أن يتقدمها نفي أو طلب. انظر: "معاني الفراء" 1/ 33 - 34، 235، و"تفسير الطبري" 1/ 255، و"المغني" لابن هشام 2/ 361. (¬5) انظر: "الكتاب" 3/ 42. (¬6) ذكره السمين في "الدر" 4/ 590، وقال الطبري في "تفسيره" 7/ 176: (المعروف من كلام العرب النصب على الجواب بالفاء والصرف بالواو)، ونحوه قال ثعلب كما في "معاني القراءات" 1/ 349 , وانظر: "المدخل" للحدادي ص 333.

وشرح أبو علي كلام أبي إسحاق في هذه القراءة، فقال: (من نصب {نُكَذِّبَ} {وَنَكُونَ} أدخل ذلك في التمني؛ لأن التمني غير موجب، فهو كالاستفهام والأمر والنهي والعرض في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء على تقدير ذكر مصدر الفعل الأول، كأنه في التمثيل: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء التكذيب وكون من المؤمنين) (¬1)، فإن قيل على هذه القراءة: كيف أكذبهم الله، فقال: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، والتمني لا يدخله الكذب؟ قال ابن الأنباري: (أكذبهم في معنى التمني؛ لأن تمنيهم رجع إلى معنى نحن لا نكذب إذا رددنا، فغلّب عز وجل تأويل الكلام، فأكذبهم ولم يستعمل لفظ التمني؛ لأن القائل إذا قال: ليت لي مالاً فأتصدق به، يريد أنا أتصدق بالمال إذا وجدته وقدرت عليه، فمتى كذب أو صدق في حال التمني؛ فلأن الكلام راجع إلى معنى الإخبار) (¬2). وكان ابن عامر يرفع {وَلَا نُكَذِّبَ} وينصب {وَنَكُونَ}، وقد ذكرنا ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 3/ 94، وانظر: "المسائل المنثورة" ص 149، وهذا قول أكثر البصريين، انظر: "معاني النحاس" 2/ 413، و"الجمل" للزجاجي ص 194، و"المشكل" 1/ 250، و"البيان" 1/ 318، و"الفريد" 2/ 137، و"الدر المصون" 4/ 587 - 590. (¬2) ذكره ابن الجوزي 3/ 24، و"السمين في الدر" 4/ 588 مختصرًا وأكثرهم قال: (إن القول بأن التمني لا يدخله الكذب ليس بقوي؛ لأن هذا تمن تضمن معنى العدة، فجاز أن يدخله التكذيب، أو يكون قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إخبار عن سجية الكفار وحكاية عن حالهم في الدنيا، فلا يدخل الكذب في التمني). قال السمين في "الدر" 4/ 586: (هذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح) ا. هـ وانظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 294، و"الكشاف" 2/ 13، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 168 - 169، الرازي في "تفسيره" 12/ 191 - 192، و"الفريد" 2/ 138، و"البحر" 4/ 102.

28

وجهين في رفع {وَلَا نُكَذِّبَ}، وذكرنا وجه من قرأ بالنصب فيهما، فيحتمل أن ابن عامر أدخل {وَلَا نُكَذِّبَ} [في التمني] (¬1)، وإن كان رفعًا على ما بينا والكون داخل فيه إذا نصب، ويحتمل أنه أراد الإخبار في {وَلَا نُكَذِّبَ}، وأدخل الكون في التمني (¬2). 28 - قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} معنى {بَلْ} هاهنا رد لكلامهم وإضراب عن توهم صحة عزيمتهم على الإنابة التي كان (¬3) تمني الرجعة لأجلها، يقول الله تعالى -ليس على ما قالوا-: {بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}، فلذلك اعتذروا وتمنوا الرد، أي: إنما اعتذروا حين افتضحوا (¬4). واختلفوا في معني: {بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ}، فقال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر وذلك حين {بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}) (¬5)، وعلى هذا أهل التفسير (¬6). وحكى عن المبرد أنه قال: (بدا لهم وباله وسوء عاقبته، وكأن كفرهم لم يكن باديًا لهم إذ خفي مضرته، وهذا كما تقول لمن وقع فيما ¬

_ (¬1) لفظ: (في التمني) ساقط من (أ). (¬2) انظر: "معاني القراءات" 1/ 349، و"إعراب القراءات" 1/ 154، و"الحجة" لابن خالويه ص 138، ولأبي علي الفارسي 3/ 293، ولابن زنجلة ص 245، و"الكشف" 1/ 427، و"المشكل" 1/ 249. (¬3) في (أ): (كانت يتمنى). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 176 - 177. (¬5) ذكره الثعلبي 176 ب، والرازي 12/ 193، والقرطبي 6/ 410، و"البحر" 4/ 103. (¬6) انظر: الطبري 7/ 176 - 177، السمرقندي 1/ 480، الرازي 12/ 193.

كنت حذرته قبل ظهر لك الآن ما قلت لك، وقد كان ظاهرًا له ذلك القول قبل هذا) (¬1). وقال الزجاج: (بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور، قال: لأن المتصل بهذا: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬2)، وهذا قول الحسن قال: (بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض) (¬3)، وكل هذا بمعنى: ظهرت فضيحتهم في الآخرة وتهتكت أستارهم (¬4). وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} قال ابن عباس: (يريد إلى ما نهوا عنه من الشرك) (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي ص 176 ب، والبغوي 3/ 138، وابن الجوزي 3/ 23، و"القرطبي" 6/ 410، وابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 145 - 146. (¬2) "معني الزجاج" 2/ 240، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 2/ 414. (¬3) ذكره الماوردي 2/ 106، وابن عطية 5/ 172، وابن الجوزي 3/ 23، والرازي 12/ 194، والقرطبي 6/ 410، و"البحر" 4/ 103. (¬4) قال الرازي 12/ 194: (اللفظ محتمل لوجوه كثيرة، والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانتهكت أستارهم) ا. هـ. ومعنى الآية -والله أعلم-: ظهرت في الآخرة فضيحتهم وعاقبة أعمالهم وما كانوا يخفون من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على حق، فعاينوا ذلك عيانًا بعد أن كانوا يخفونه ويتواصون بإخفائه. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 542، و"الكشاف" 2/ 13، و"بدائع التفسير" 2/ 145، وابن كثير 2/ 144 - 445. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 12، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 26، وابن الجوزي 3/ 24، وأخرج ابن أبي حاتم 4/ 1279 بسند جيد عنه قال: (أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ا. هـ وفي "الدر المنثور" 3/ 16، قال: (أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال: (أي لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا) ا. هـ.

29

قال أبو إسحاق: (المعنى: إن أكثر أهل الكتاب والمشركين عاندوا بعد أن علموا أن أمر الله حق (¬1)، فركنوا إلى الرفاهية، وأن الشيء متأخر عنهم إلى أمدٍ، كما فعل إبليس الذي قد شاهد من براهين الله ما لا غاية بعده، فأعلم الله عز وجل أن هؤلاء لو ردوا لعادوا كما أنهم كفروا في الدنيا بعد قيام الدليل ووجوب الحجة عليهم) (¬2). وهذه الآية من الأدلة الظاهرة على تكذيب القدرية، وذلك أن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك، فقال: لو أنهم شاهدوا النار والحساب وسألوا الرجعة وردوا، لعادوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يكاد يرتاب فيما شاهد (¬3). 29 - قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} كان ابن زيد (¬4) يقول: (هذا عطف على قوله: {لَعَادُوا}، والمعنى: لعادوا إلى الشرك، لقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وأنكروا البعث) (¬5). والآخرون: (على أن هذا ابتداء، إخبار عنهم أنهم كذلك كانوا يقولون في الدنيا) (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): (أن الأمر لله حق). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 240، انظر: الطبري 7/ 176 - 177، و"معاني النحاس" 2/ 414 "بدائع التفسير" 2/ 146. (¬3) ذكره الرازي 12/ 194، وأبو حيان 4/ 104، عن الواحدي. (¬4) ابن زيد: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، تقدمت ترجمته. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 177، ابن أبي حاتم 4/ 1280، بسند جيد، وذكره أكثرهم، وهو ظاهر كلام الزمخشري 2/ 13، و"البيضاوي" 1/ 136، وقال القرطبي 6/ 411،: (يحمل هذا على المعاند ... أو على أن الله يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل) ا. هـ. (¬6) هذا قول الجمهور واختيار الطبري 7/ 177، والجمع بينهما حسن، فيقال. لما كان ديدنهم في الدنيا هو الكذب بالآخرة الذي كانوا يعبرون عنه بتلك المقولة: =

30

30 - قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} ليس يصح في هذه الآية شيء من الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] إلا وجهًا واحداً، وهو أن المعنى هاهنا: عرفوا ربهم ضرورة كما تقول: وقفته على كلام فلان، أي: عرفته إياه (¬1). وقال أصحاب المعاني في هذه الآية: (وقفوا على مسألة (¬2) ربهم لتقريرهم بما فيه توبيخ لهم على ما سلف من جحودهم، فخرج الكلام مخرج ما جرت به العادة من وقوف العبد بين يدي سيده، لما في ذلك من البلاغة بإخراج المعنى على ما جرت به العادة) (¬3). ¬

_ = {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فإنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ديدنهم ذلك ولقالوا نفس المقولة. انظر: ابن عطية 5 - 172 - 173، الرازي 12/ 194، و"الفريد" 2/ 138، و"البحر" 4/ 105، و"الدر المصون" 4/ 592. (¬1) ذكره الرازي 12/ 196، وفيه نظر؛ لأنه تحصيل حاصل والكفار يعرفون ربهم ويقرون بوجوده. وإنما ينكرون توحيد العبادة حيث يعبدون مع الله غيره، فالأولى حمل الآية على ظاهرها، أي: حبسوا على الله تعالى في الآخرة للفصل والقضاء، وأن هذا حق وليس باطلاً كما يظنون. قال السمرقندي 1/ 480: (أي: عرضوا وسيقوا وحبسوا عند ربهم وعند عذابه) ا. هـ وقال ابن كثير 2/ 145: (أي: أوقفوا بين يديه) ا. هـ (¬2) أكثرهم على أن المعنى: (حبسوا على ربهم، أي: على حكم الله وقضائه فيهم ومسألته). انظر: الطبري 7/ 178، والبغوي 3/ 138، وابن عطية 5/ 173، والقرطبي 6/ 411. (¬3) انظر: "الكشاف" 2/ 13، والرازي 12/ 196، و"الفريد" 2/ 139، و"البحر" 4/ 105، و"الدر المصون" 4/ 594، و"البيضاوي" 1/ 136.

31

وقوله تعالى: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، أي: هذا البعث، فيقرون حين لا ينفعهم ذلك، ويقولون: {بَلَى وَرَبِّنَا}، فيقول الله تعالى (¬1): {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}، وخص لفظ الذوق (¬2)؛ لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في شدة الإحساس من غير أن يصيروا إلى حال من يشم الطعام في نقصان الإدراك. وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] أي: بكفركم (¬3). 31 - قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} الآية. قال أصحاب المعاني: (إنما وصفوا بالخسران؛ لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم في ذلك البيع؛ لأنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب، وأعظم الخسران في العمل هلاك النفس، كما أن أعظم الخسران في التجارة ذهاب رأس المال) (¬4). وقوله تعالى: {بِلِقَاءِ اللَّهِ} قال ابن عباس: (يريد بالبعث والثواب والعقاب والمصير إليه) (¬5)، وقد أحكمنا شرح هذا عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، وقال بعضهم: (المعنى هاهنا كذبوا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 178، والسمرقندي 1/ 480، والبغوي 3/ 138. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1302، و"المفردات" ص 332، و"اللسان" 3/ 1527 (ذوق) وقال بعضهم: (الذوق في العذاب استعارة بليغة، والمعنى: باشروه مباشرة الذائق، إذ هي أشد المباشرات). انظر: ابن عطية 6/ 25، والرازي 12/ 196, و"البحر" 4/ 106. (¬3) انظر: الطبري 7/ 178، والسمرقندي 1/ 480، و"الدر المصون" 4/ 595. (¬4) انظر نحوه في: الطبري 7/ 179، و"المفردات" ص 281 (خسر)، والبغوي 3/ 138، وابن عطية 5/ 175، و"البحر" 4/ 106. (¬5) في "تنوير المقباس" 2/ 13 نحوه، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 27 بلا نسبة، وهو قول أكثرهم. انظر: الطبري 7/ 178، والسمرقندي 1/ 480، والبغوي 3/ 138، وابن الجوزي / 3/ 24، الرازي 12/ 197.

بلقاء جزاء الله، إلا أنه قحم اللقاء بإضافته إلى الله، وهذا كما يُقال للميت: لقي فلان عمله، أي: لقي جزاء عمله) (¬1). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}، معنى {حَتَّى} هاهنا بيان أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة، والمعنى: كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة (¬2)، والمراد بالساعة (¬3): القيامة، وقيل: (يوم القيامة الساعة؛ لسرعة الحساب للجزاء فيها، كأنه قيل: ما هي إلا ساعة الحساب للجزاء حتى جعل أهل المنزلين في منازلهم من الجنة والنار)، هذا قول بعض أهل المعاني (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر أبو علي الفارسي في "الحجة" 2/ 26 نحوه قال في الآية: (المعنى بالبعث يقوي ذلك {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31] أي: ملاقو ثواب ربهم وملاقو جزائه إن ثوابًا وإن عقابًا)، وذكر نحوه أكثرهم. انظر: "الكشاف" 2/ 13، وابن عطية 5/ 175، والقرطبي 6/ 411، و"البحر" 4/ 106. وهذا التقدير في الآية محتمل، وإن قصد به نفي الرؤية فهو مردود، والأولى حمل الآية على ظاهرها وعدم صرفها عنه. (¬2) وعلى هذا تكون حتى غاية لكذبوا، والمعنى: منتهى تكذيبهم الحسرة، ولا يجوز أن تكون غاية لخسر؛ لأن خسرانهم لا غاية له، أفاده أكثرهم. انظر: "الكشاف" 2/ 13، والرازي 12/ 197، و"الفريد" 2/ 139، و"البحر" 4/ 106، البيضاوي 1/ 136. (¬3) هذا قول أكثرهم. انظر: الطبري 7/ 178، والسمرقندي 1/ 480، والبغوي 3/ 138، وابن الجوزي 3/ 24. (¬4) هذا قول الراغب في "المفردات" ص 434، والقرطبي 6/ 412، وأبو حيان في "البحر" 4/ 106، والسمين في "الدر" 4/ 595، و"عمدة الحفاظ" ص 254.

وقال غيره: (الساعة (¬1): الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة) (¬2)، وهذا القول أصح. ألا ترى أنه قال: {بَغْتَةً} والبغت والبغتة (¬3): الفجأة. قال ابن عباس: (يريد أن الساعة لا يعلمها أحد إلا هو) (¬4) -يعني: أنها تأتي فجأة- لأنه لا يعلم أحد متى إبانها فينتظرها. وقوله تعالى: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا} قال الزجاج (¬5) وابن الأنباري (¬6): (معنى دعاء الحسرة: تنبيه الناس على ما وقع بهم من الحسرة، والعرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم يقع فيه جعلته نداء، كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، و {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ ¬

_ (¬1) جاء في (أ): تكرار لفظ: (الساعة). (¬2) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1597، وابن منظور في "اللسان" 4/ 2151 (سوع) والقاسمي في تفسيره 6/ 2285، والأقوال متقاربة. قال الزجاج في "معانيه" 2/ 246، 3/ 214: (الساعة اسم لإماتة الخلق واحيائهم). وانظر الرازي 12/ 197، والخازن 2/ 128. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 193، الطبري 7/ 178، و"معاني الزجاج" 2/ 241، 3/ 131، الزاهر 2/ 5، و"معاني النحاس" 2/ 415، و"تهذيب اللغة" 1/ 364، و"اللسان" 1/ 317 (بغت). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) أطال الزجاج في تقرير هذا الوجه في مواضع من معانيه 3/ 354، 4/ 284، وقال: (معنى الحسرة: أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له بعده حتى يبقى حسرًا، والفائدة من مناداتها كالفائدة في مناداة ما لا يعقل؛ لأن النداء باب تنبيه، وحرف النداء يدل على تمكن القصة من صاحبها، إذا قال القائل: يا حسرتاه ويا ويلاه فتأويل الحسرة والويل قد حلا به، وإنهما لازمان له غير مفارقين). وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 814 - 815. (¬6) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه في مظانه.

اللَّهِ} (¬1) [الزمر: 56]، و {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} (¬2) [هود: 72]، وهذا أبلغ من أن يقول: الحسرة علينا في تفريطنا) (¬3)، ومثله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84]؛ تأويله: يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع في زمان الأسف، فوقع النداء على غير المنادي في الحقيقة؛ لاتساع العرب في مجازها (¬4)، وهذا كقولهم: لا أريتك هاهنا، وقع النهي على غير المنهي في الحقيقة. وقال سيبويه: (إنك إذا قلت: يا عجباه (¬5)، فكأنك قلت: احضر وقال يا عجيب، فإنه من أزمانك، وتأويل يا حسرتاه: انتبهوا على أنّا قد خسرنا) (¬6)، فقد حصل للنداء هاهنا تأويلان أحدهما: أن النداء للحسرة، والمراد به تنبيه المخاطبين على قول الزجاج وأبي بكر، وعلى قول سيبويه دُعيت الحسرة على معنى أن هذا وقتك فتعالي (¬7). ¬

_ (¬1) في النسخ: (يا حسرتا ..)، وهو تحريف. (¬2) في النسخ: (يا ويلتا ..)، وهو تحريف. (¬3) معاني الزجاج 2/ 241. (¬4) هذا من كلام الواحدي، وذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 197، انظر: "معاني الزجاج" 3/ 235. (¬5) جاء في (أ): (يا عجبا). (¬6) النص عند الزجاج في "معانيه" 2/ 241، و"معاني النحاس" 2/ 415، والرازي في "تفسيره" 12/ 198، و"الفريد" للهمذاني 2/ 140، وقال سيبويه في "الكتاب" 2/ 217: (وقالوا: يا للعجب لما رأوا عجبًا، كأنه يقول: تعال يا عجيب، فإنه من أيامك وزمانك) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "معاني الفراء" 2/ 421، و"معاني الأخفش" 1/ 204، و"المقتضب" للمبرد 4/ 202 - 203. (¬7) والظاهر أن الجميع مراد في ذلك، فنداء الحسرة للتنبيه وتعظيم الأمر وتشنيعه، وكأنه يقول: اقربي واحضري فهذا وقتك وزمانك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه وهو المقصود بنداء ما لا يعقل. وهذا ظاهر كلام أكثرهم. انظر: المدخل للحدادي ص 588، و"تفسير البغوي" 3/ 138، ابن =

وقوله تعالى: {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} قال أبو عبيد: (يقال: فرطت في الشىء، أي: ضيعته) (¬1). وقوله: {عَلَى مَا فَرَّطْنَا}، أي: تركنا وضيعنا فيها. وهو قول أبي عبيدة (¬2) وأكثر أهل اللغة (¬3)، وبه قال الحسن، فقال: (على ما ضيعنا) (¬4)، والتأويل: يا حسرتنا على ما تركنا من عمل الآخرة. ¬

_ = عطية 5/ 176، وابن الجوزي 3/ 25، و"التبيان" ص 329، والقرطبي 6/ 412، و"البحر" 4/ 107، و"الدر المصون" 4/ 595، و"روح المعاني" 7/ 132، و"التحرير والتنوير" 7/ 190. (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2772 - 2773، وفي "غريب الحديث" 1/ 36، قال أبو عبيد: (قال الأصمعي: الفرط والفارط: المتقدم في طلب الماء ... ويقال: أفرطت الشيء، أي: نسيته) ا. هـ. ملخصًا. (¬2) مجاز القرآن 1/ 190، وهو قول أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" 2/ 108، و"غريب القرآن" ص 163، والطبري 7/ 179، السمرقندي 1/ 480، و"العمدة" لمكي ص 126، و"التحرير والتنوير" 7/ 191، وقال بعضهم: (التفريط هو التقصير في الشيء مع القدرة على فعله). وهو قريب من المعني الأول. انظر: "الكشاف" 2/ 14، و"البغوي" 3/ 138، ابن عطية 5/ 194، والخازن 2/ 128، و"البحر" 4/ 107، والبيضاوي 1/ 136، والثعالبي 1/ 514، والقاسمي 6/ 502. (¬3) قال أهل اللغة: (فرط بفتح الراء المخففة سبق وتقدم، وفرط بتشديد الراء المفتوحة، في الشيء، وفرطه: ضيعه وقدم العجز في التقصير، وأكثرهم. على أنه بمعنى: تقدم. ومنهم من قال: هو بمعنى قصر وضيع). انظر: "العين" 7/ 418، و"الجمهرة" 2/ 754، و"الصحاح" 3/ 1148، و"مقاييس اللغة" 4/ 490، و"المجمل" 3/ 716، و"المفردات" ص 631، و"النهاية" لابن الأثير 3/ 434، واللسان 6/ 3389، والتاج 5/ 195 (فرط). (¬4) ذكر الماوردي 2/ 106، عن الحسن في قوله: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62] قال: (مضيعون). وانظر: ابن الجوزي 7/ 192، القرطبي 15/ 271، أخرجه الطبري 7/ 179، وابن أبي حاتم 4/ 1281، بسد جيد عن السدي، وذكره =

وقال الزجاج: {فَرَّطْنَا}: قدمنا العجز) (¬1)، جعله من قولهم: فرط فلان إذا سبق وتقدم، وفرط الشيء إذا قدمه، فالتفريط عنده تقديم التقصير (¬2). وقوله: {فِيهَا} قال ابن عباس: (في الدنيا) (¬3). وروي عن الحسن أنه قال: (في الساعة) (¬4)، والمعنى: على ما فرطنا في العمل للساعة والتقدمة لها. ¬

_ = السيوطي في "الإتقان" 1/ 151، عن ابن عباس، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 557. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 242 وقال في 3/ 207: (الفرط في اللغة: التقديم) ا. هـ. وهو قول السجستاني في "النزهة" ص 352، وابن الجوزي 3/ 25. (¬2) والمعاني كلها متقاربة، فيقال: فرط أي ضيع وقدم العجز والتقصير فيما يقدر عليه. وانظر: "التصاريف" ليحيى بن سلام ص 318، و"الأضداد" لقطرب ص 114، و"ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ص 183، و"ثلاثة كتب في الأضداد" للأصمعي والسجستاني وابن السكيت وبذيلها أضداد الصاغاني ص 141، وص 241، و"الزاهر" 1/ 309، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 71، و"الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى" للرماني ص 77، و"تفسير الرازي" 12/ 164، والقرطبي 6/ 413، و"عمدة الحفاظ" ص 420. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 14، وذكره الرازي 12/ 198، وأبو حيان في "البحر" 4/ 107، والألوسي 7/ 132، وهو قول بعضهم. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 557، والسمرقندي 1/ 480، والزمخشري 2/ 14، و"الخازن" 2/ 128، والبيضاوي 1/ 136، وظاهر كلامهم عودة الضمير على الدنيا. (¬4) ذكره الرازي 12/ 199، والقرطبي 6/ 413، وأبو حيان في "البحر" 4/ 107، ورجحه ابن عطية 5/ 176، والعكبري في "التبيان" 1/ 329، والقرطبي 6/ 413، وقال الهمداني في "الفريد" 2/ 140: (هذا هو الوجه لجري ذكرها مع صحة المعنى، وإذا صح العائد إلى مذكور فلا وجه للعدول عنه إلى غيره بغير دليل) ا. هـ.

وقال السدي (في الجنة) (¬1) أي: في طلبها والعمل لها، ويحتمل أن تعود الكناية إلى معنى {مَا}، وفي قوله {مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي: يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها (¬2). وروي عن ابن جرير أنه قال: (الكناية تعود إلى الصفقة؛ لأنه لما ذكر الخسران دل على الصفقة) (¬3)، فعنده الكناية تعود إلى مدلول عليه. وقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ}، الأوزار: الأثقال من الإثم، قال ابن عباس: (يريد آثامهم وخطاياهم) (¬4). قال أهل (¬5) اللغة: (الوزر الثقل، وأصله من الحمل، يُقال: وزرت ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 7/ 179، وابن أبي حاتم 4/ 1281، بسند جيد عنه قال: (ضيعنا من عمل الجنة) ا. هـ. وقال أبو حيان 4/ 107، والسمين في "الدر" 4/ 596، والألوسي 7/ 132: (لا يخفى بعده) ا. هـ. (¬2) هذا قول ابن الأنباري في "البيان" 1/ 319، وقال الكرماني في "الغرائب" 1/ 357: (العجيب (ما) موصولة (وفيها) كناية عن (ما) وأنث حملًا على الأعمال وهذا حسن) ا. هـ. (¬3) "تفسير الطبري" 7/ 179، وزاد: (معلوم أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت) وعده الكرماني في "غرائبه" 1/ 357، من الغريب، والظاهر -والله أعلم- عودة الضمير على الدنيا؛ لأنه ظاهر الآية، ولكونها معلومة، والمعنى يقتضيها، وهي موضع التقصير، والظرفية فيها أمكن، وعودته على الساعة قوي، إلا أنه لا بد فيه من تقدير مضاف، أي: في شأنها والإيمان بها. انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 175، و"البحر" 4/ 107، و"الدر المصون" 4/ 596. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 27، والرازي 12/ 199، وأبو حيان في "البحر" 4/ 170، وأخرج الطبري 7/ 179، بسند ضعيف عنه قال: (ذنوبهم) وفي "تنوير المقباس" 2/ 14: (آثامهم). (¬5) قال أهل اللغة: (الوزر، بكسر الواو وسكون الزاي: الإثم والحمل والثقل على الظهر؛ وبفتح الواو: الملجأ). =

الشيء، أي: حملته أزره وزرًا , ثم قيل للذنوب: أوزار؛ لأنها تثقل ظهر من يحملها). وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} [الأنعام: 164] أي: لا تحمل نفس حاملة. وقال أبو عبيد: (يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: احمل وزرك) (¬1). وأوزار العرب: أثقالها من السلاح، ووزير السلطان: الذي (¬2) يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية، أي: يحمل، وقال الزجاج: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ}: (أي: يحملون ثقل ذنوبهم) (¬3). واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار، فقال المفسرون (¬4): (إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء سورة وأطيبه ريحًا، فيقول: أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]، قالوا: ركبانًا. وإن ¬

_ = انظر: "الجمهرة" 2/ 712، 1064، و"الصحاح" 2/ 845، و"مقاييس اللغة" 6/ 108، و"المجمل" 3/ 924، و"المفردات" ص 867، و"النهاية" لابن الأثير 5/ 179، و"اللسان" 8/ 4824، (وزر). (¬1) ذكره الثعلبي ص 177، والقرطبي 3/ 416، ولم أقف عليه عند غيرهما عن أبي عبيد، وجعله الرازي 12/ 199، والشوكاني 2/ 159، عن أبي عبيدة، ولعله الصواب؛ لأنه في "مجاز القرآن" 1/ 190. (¬2) هذا قول الأزهري في "تهذيبه" 4/ 3883، وانظر: "معاني الزجاج" 3/ 357، و"الاشتقاق" لابن دريد ص 396. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 242، وانظر: "غريب اليزيدي" ص 135، و"تفسير غريب القرآن" ص 152، و"نزهة القلوب" ص 71، و"معاني النحاس" 2/ 416. (¬4) ذكره أكثرهم. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 557، والسمرقندى 1/ 481، والبغوي 3/ 139، وابن الجوزي 3/ 26، والرازي 12/ 199، و"الدر المنثور" 3/ 17.

الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحًا فيقول: أنا عملك السيء، طالما ركبتني في الدنيا، فأنا أركبك اليوم، وذلك قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ})، [و] (¬1) هذا قول قتادة (¬2) والسدي (¬3). وقال الزجاج: (هذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل (¬4) ما يتحمل؛ لأن الثقل كما يستعمل في الوزن (¬5) يستعمل في الحال أيضًا، كما تقول: ثقل على خطاب فلان تأويله: كرهت خطابه كراهة اشتدت عليّ) (¬6). فعلى هذا المعنى: أنهم يقاسون عذاب آثامهم مقاساة يثقل عليهم ذلك. وقال أهل العربية: (معنى قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ}: لا تزايلهم أوزارهم، كما تقول: شخصك نصب عيني، أي ذكرك ملازم لي) (¬7). ¬

_ (¬1) لفظ (الواو) ساقط من (ش). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 28، والرازي 12/ 199، والخازن 2/ 129. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 178 - 179، وابن أبي حاتم 4/ 1281 من طرق جيدة عن السدي وعمرو بن قيس الملائي، وأخرجه الطبري 15/ 96، طبعة الحلبي، بسند ضعيف عن زيد بن أسلم العدوي. (¬4) في (ش): (الثقل)، وهو تحريف. (¬5) كذا في النسخ، وعند الزجاج 2/ 242 الوزر، ولعله تحريف. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 242، وزاد: (فتأويل الوزر الثقل من هذه الجهة) ا. هـ وانظر: "معاني النحاس" 2/ 416، وفيه: (الوزر: الإثم، وهو تمثيل) ا. هـ (¬7) ذكره الثعلبي 177 أ، عن الزجاج، وذكره بعضهم عن فرقة. انظر: الرازي 12/ 199، الخازن 2/ 129، والصواب حمل الآية على الحقيقة؛ لأن كلام الله تعالى يحمل على حقيقته ولا يصرف عنها إلا بدليل، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 177، والثعالبي 1/ 514، والألوسي 1/ 132.

32

وقوله تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ذكرنا معنى {سَاءَ} (¬1) عند قوله: {وَسَآءَ سَبِيلًا} في [النساء: 22]، قال ابن عباس: (يريد بئس الحمل حملوا) (¬2)، وقال الزجاج: (بئس الشيء شيئًا (¬3) يزرونه، أي: يحملونه) (¬4). 32 - قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، قال المفسرون: (هذا رد لقول الكفار: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬5) (¬6)، فقال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (¬7) (¬8)، قال ابن عباس: (يريد حياة المشركين وأهل النفاق وأهل الكفر بالله: {إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} يريد: باطل وغرور) (¬9)، وإنما خص ابن عباس هذا بحياة الكافر؛ لأن حياة المؤمن فيها أعمال صالحة لا تكون (¬10) لعبًا ولهوًا. ¬

_ (¬1) انظر: البسيط النسخة الأزهرية 1/ 237 أ. (¬2) ذكره الواحدي في الوسيط 1/ 28، والبغوي 3/ 139، والخازن 2/ 129. (¬3) في النسخ: (شيء). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 242، وهو قول أكثرهم. انظر: "إعراب النحاس" 2/ 63 والسمرقندي 1/ 481، والبغوي 3/ 139، وابن الجوزي 3/ 26. (¬5) في النسخ (ما هي) بدلاً من (إن)، وهو تحريف، وفي الجاثية الآية 24، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} الآية. (¬6) في (أ): (حيوتنا) بدلًا من (حياتنا). (¬7) في (أ): (الحيوة) حسب رسم المصحف. (¬8) ذكره عامة المفسرين أن الآية رد على منكري البعث. انظر: الطبري 7/ 180، وابن عطية 5/ 179، والرازي 12/ 200، والقرطبي 6/ 414، و"الخازن" 2/ 129، و"البحر" 4/ 108. (¬9) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 200، والقرطبي 6/ 415، و"الخازن" 2/ 129، وأبو حيان في "البحر" 4/ 108. (¬10) في (ب): (يكون). وانظر: "تفسير الرازي" 12/ 200.

وقال مقاتل في قوله: ({إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} يلهون في الدنيا) (¬1). وهذا يؤكد أن المراد بهذا حياة الكافر؛ لأن المؤمن لا يشتغل باللهو في الدنيا عن عمل الآخرة. وقال آخرون: (هذا عام في حياة المؤمن والكافر، والمراد بقوله: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أنها تنقضي وتفنى ولا تبقى كاللعب واللهو، يكون لذة فانية عن قريب) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} قال ابن عباس: (يريد الجنة) (¬3)، وهو قول الكلبي (¬4). {وَالْآخِرَةُ} صفة {وَلَلدَّارُ} وسميت {الْآخِرَةُ} لأنها بعد الدنيا (¬5). وقرأ ابن عامر: (ولدار الآخرة) بالإضافة (¬6). قال الفراء: (يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولهم: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين؛ فإذا اتفقا لم تقل العرب: هذا حق الحق ولا يقين اليقين، وذلك أنهم يتوهمون إذا اختلفا في اللفظ أنهما ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 558، وفيه قال: ({إِلَّا لَعِبٌ} إلا باطل، {وَلَهْوٌ} يكون في الدنيا) ا. هـ. (¬2) انظر: "الطبري" 7/ 180، والرازي 12/ 200، والقرطبي 6/ 414. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 203، وأبو حيان في "البحر" 4/ 109. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 14، وهو قول السمرقندي 1/ 481، وابن الجوزي 3/ 27، والقرطبي 6/ 415، وغيرهم. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 6/ 415. (¬6) قال ابن الجزري في "النشر" 2/ 257: (قرأ ابن عامر: (ولدار) بلام واحدة وتخفيف الدال. (الآخرة) بخفض التاء على الإضافة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون بلامين مع تشديد الدال للإدغام وبالرفع على النعت، وكذا هو في مصاحفهم) ا. هـ وانظر: "السبعة" ص 256، و"المبسوط" ص 167, و"التذكرة" 2/ 397، و"التيسير" ص 102.

مختلفان في المعنى، ولا يتوهمون ذلك إذا اتفق اللفظ) (¬1). وعند البصريين (¬2) لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه وإن اختلف اللفظ، وقالوا في قراءة ابن عامر: (لم يجعل {الْآخِرَةُ} صفة {وَلَلدَّارُ}؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولكنه جعلها صفة الساعة، وكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة، وجاز وصف الساعة بالآخرة كما جاز ذلك في اليوم في قوله تعالى: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} [العنكبوت: 36]، فإن قيل: على هذا التقدير الذي ذكرتم يكون قد أقام {الْآخِرَةُ} التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة، وذلك قبيح! قيل: لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء و {الْآخِرَةُ} صارت كالأبطح (¬3) والأبرق (¬4) في استعمالهما (¬5) أسماء. ألا ترى أنه قال تعالى ذكره: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، فليست {الْآخِرَةُ} كالصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء (¬6)، ومثل {الْآخِرَةُ} في أنها استعملت ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 330 - 331، وقال الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 351: (من قرأ: (ولدار الآخرة) فإنه أضاف الدار إلى الآخرة، والعرب تضيف الشيء إلى نعته، وهو كثير فصيح جيد) ا. هـ. بتصرف. واختار هذا التوجيه البغوي 3/ 139. (¬2) انظر: "الأصول" 2/ 8، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 67، و"الإنصاف" ص 353، و"المغني" لابن هشام 2/ 626، واختار هذا التوجيه أكثرهم. انظر: "المشكل" 1/ 251، و"البيان" 1/ 319، و"الفريد" 2/ 141. (¬3) الأبطح: مسيل والتسبيح فيه دقاق الحصى. انظر: "القاموس" ص 213، (بطح). (¬4) الأبرق: كثير التهديد والتوعد. انظر: "القاموس" ص 866. (برق). (¬5) في (أ): (استعمالها). (¬6) قال السمين في "الدر" 4/ 600، في توجيه كلام البصريين: (وحسن ذلك أيضًا في الآية كون هذه الصفة جرت مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيراً. وكذلك كل ما جاء مما توهم فيه إضافة الموضف إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك لئلا =

استعمال [الأسماء] (¬1) الدنيا. والاختيار قراءة العامة (¬2)؛ لأن الأولى أن تجعل {الْآخِرَةُ} صفة {وَلَلدَّارُ}، وإذا كانت صفة لها وجب أن يجري عليها في الإعراب ولا يضاف إليها، والدليل على كونها صفة {وَلَلدَّارُ} قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} فقد علمت بإقامتها مقامها أنها هي وليست غيرها فيستقيم أن يضاف إليها (¬3). قوله تعالى: {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} قال ابن عباس: (يريد اتقوا الله ولم يشركوا به شيئًا) (¬4). وقال مقاتل: (للذين اتقوا الشرك) (¬5). وقال الكلبي: (للذين يتقون الكفر والشرك والفواحش) (¬6). ¬

_ = يلزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنع, لأن الإضافة إما للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يعرف نفسه ولا يخصصها) ا. هـ. وانظر: "التبيان" للعكبري 1/ 330. (¬1) لفظ: (الأسماء) ساقط من (أ). (¬2) واختار قراءة العامة أيضًا الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 351، ومكي في "الكشف" 1/ 430. (¬3) هذا معنى قول أبي علي في "الحجة" 3/ 300 - 302، لكنه لم يذكر اختيار قراءة العامة. وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 246، و"تفسير ابن عطية" 5/ 179، والرازي 12/ 203، والقرطبي 6/ 415، و"البحر المحيط" 4/ 109. (¬4) ذكر الرازي 12/ 203، وأبو حيان في "البحر" 4/ 109، عنه نحوه بلفظ: (خير لمن اتقى الكفر والمعاصي)، وفي "تنوير المقباس" 2/ 15: (خير لمن اتقى الكفر والشرك والفواحش). (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 558. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 15، والمعاني متقاربة، وهي من باب التنبيه على بعض أجزاء التقوى، فأول ما يتقى الكفر، ثم الشرك؛ ثم الفواحش والمعاصي. انظر: الطبري 7/ 180، والسمرقندي 1/ 481، والبغوي 3/ 139، والقرطبي 6/ 315.

33

وقوله تعالى: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (¬1) معناه: أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار، فيعملوا لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم، فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك (¬2). وقرئ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بالتاء (¬3) على معنى قل لهم (¬4): {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، أو يكون قد وجه الخطاب في ذلك إلى الذين خوطبوا، أي {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أيها المخاطبون أن ذلك خير (¬5). 33 - قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}. معنى {قَدْ} هاهنا التوقع (¬6)، كقولك: قد ركب الأمير، لقوم يتوقعون ذلك، كأن ¬

_ (¬1) في (ش): (تعقلون)، وهي قراءة سبعية. (¬2) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 3/ 297، في توجيه القراءة بالياء. وانظر: الطبري 7/ 180، والبغوي 3/ 139. (¬3) قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم: (تعقلون) بالتاء، والباقون بالياء. انظر: "السبعة" ص 256، و"المبسوط" ص 167، و"التذكرة" 2/ 397، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 257. (¬4) في (أ): (على معنى وقل لهم). (¬5) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 297 - 300، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 350، و"إعراب القراءات" 1/ 155، و"الحجة" لابن خالويه ص 138، ولابن زنجلة ص 246، و"الكشف" 1/ 429، و"تفسير ابن عطية" 6/ 38، و"البحر" 4/ 110، و"الدر المصون" 4/ 600، ونقل قول الواحدي الرازي 12/ 167. (¬6) قد: للتوقع مع المضارع، وكذلك مع الماضي عند الأكثر، وقال ابن هشام في "المغني" 1/ 171: هي مع الماضي للتقريب؛ لأنها تدخل على ماضٍ متوقع. وانظر: "المقتضب" 2/ 334، و"حروف المعاني" للزجاجي ص 13، و"معاني الحروف" للرماني ص 445، و"رصف المباني" ص445، وقال السمين في "الدر" 4/ 601: (قد هنا حرف تحقيق) ا. هـ. وانظر. "الكشاف" 2/ 14، وابن عطية 5/ 180، و"البيان" 1/ 491، و"الفريد" 2/ 141، و"البحر" 4/ 110.

النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع تكذيب قومه إياه توقع ما يخاطبه الله تعالى في ذلك فقال: {قَدْ نَعْلَمُ} ذلك تسلية وتعزية عما يواجه به قومه (¬1). قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد تعزية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصبيره فيما تقول (¬2) قريش من تكذيبهم إياه) (¬3). وقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}. دخلت الفاء (¬4) في (إنهم) لاقتضاء الكلام الأول هذا (¬5)، كأنه قيل: إذا كان قد يحزنك الذي يقولون فاعلم أنهم لا يكذبونك. واختلفوا في معنى قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} فقال ابن عباس: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} في السر قد علموا أنك صادق: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بمحمد والقرآن في العلانية) (¬6)، وهذا قول أكثر المفسرين: أبي صالح (¬7) وقتادة (¬8) والسدي (¬9) ومقاتل، قالوا: (هذا في المعاندين الذين عرفوا صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه غير كاذب فيما يقول، ولكن عاندوا وجحدوا). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 180، وابن الجوزي 3/ 28. (¬2) في (أ): (يقول): بالياء. (¬3) لم أقف عليه. وانظر: "تنوير المقباس" 2/ 15. (¬4) لم أقف على من تكلم عن الفاء هنا. وفي الجدول في "إعراب القرآن" 4/ 7/ 100، قال في الآية: (الفاء للتعليل؛ لأن القول السابق يفيد النهي، أي: لا تحزن إنهم لا يكذبونك) ا. هـ (¬5) في (ش): (هذه). (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 15، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 29. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 181، بسند جيد، وذكره أكثرهم. (¬8) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 207، والطبري 7/ 181، وابن أبي حاتم 4/ 1283 بسند جيد. (¬9) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 29، عن ابن عباس وقتادة والسدي ومقاتل.

يدل على هذا ما قال مقاتل: (نزلت في الحارث بن عامر (¬1)، كان يكذب النبي - صلى الله عليه وسلم - في العلانية، فإذا خلا مع أهله قال: ما محمد من أهل الكذب نعلم أن الذي يقوله حق، ولا يمنعنا من أن نتبعه إلا المخافة من أن يتخطفنا الناس من أرضنا -يعني: العرب- فإنا أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم؛ فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} في العلانية أنك كذاب ومفترٍ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} في السر يعلمون أنك صادق، وقد جربوا منك الصدق فيما مضى، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بالقرآن بعد المعرفة) (¬2). ونحو هذا قال الكلبي (¬3) سواء. وقال السدي (¬4) وأبو ميسرة (¬5) (¬6) .................... ¬

_ (¬1) الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي. مشرك كان يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة وقتل في بدر مع المشركين. انظر: "السيرة" لابن هشام 2/ 357، و"جوامع السير" ص 147، و"عيون الأثر" 1/ 285. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 558. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 15، وذكره الماوردي 2/ 108، وابن الجوزي 3/ 29، و"البحر" 4/ 111، وذكره ابن الجوزي عن أبي صالح عن ابن عباس. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 182، بسند جيد، وذكره أكثرهم. انظر: "الثعلبي" ص 177 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 219، والبغوي 3/ 139، وابن الجوزي 3/ 28. (¬5) أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني، أبو ميسرة الكوفي مشهور بكنيته، إمام تابعي عابد جليل صالح ثقة مخضرم. وقال بعضهم: له صحبة. توفي سنة 36 هـ انظر: "طقات ابن سعد" 6/ 106، و"الجرح والتعديل" 6/ 237، و"الحلية" 4/ 141، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 135، و"الإصابة" 4/ 114، و"تهذيب التهذيب" 4/ 596. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 29، وأسباب النزول ص 219، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 18، وقال: (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه) ا. هـ.

وأبو يزيد (¬1) المدني (¬2) وناجية بن كعب (¬3) (¬4): (نزلت الآية في أبي جهل قال: يا محمد ما نكذبك ولا نتهمك وإنك عندنا لمصدق، ولكنا نكذب ما جئتنا به، ولا نكون تبعًا لعبد مناف، فأنزل الله هذه الآية). ¬

_ (¬1) أبو يزيد المدني نزل البصرة لا يعرف اسمه وهو تابعي ثقة، روى عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وروى عنه أيوب السختياني وغيره، وأخرج له البخاري والنسائي، توفي بعد المائة. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 458، و"الكاشف" 2/ 472 (6902)، و"تهذيب التهذيب" 4/ 609، و"تقريب التهذيب" (8452) ص 685. (¬2) أخرجه ابن حاتم 4/ 1283، بسند رجاله ثقات سوى بشر بن مبشر الواسطي فقد قال ابن حجر في "اللسان" 2/ 32 (ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في "الثقات" ا. هـ. وانظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 324، و"المغني للذهبي" 1/ 107، وذكر الرواية عن أبي يزيد: ابن كثير 2/ 146، والسيوطي في "الدر" 3/ 18، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ. (¬3) ناجية بن كعب الأسدي الكوفي، تابعي ثقة، روى عن علي وعمار رضي الله عنهما وغيرهما، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي وغيره. أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، توفي بعد المائة. انظر: "تاريخ الثقات" للعجلي 2/ 308 (1830)، و"الجرح والتعديل" 8/ 486، و"ميزان الاعتدال" 4/ 239، و"تهذيب التهذيب" 4/ 204، و"التقريب" (7065) ص 557. (¬4) أخرجه الترمذي (3064)، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام، والطبري 7/ 182، وابن أبي حاتم 4/ 1282، من طرق جيدة عن ناجية، وأخرجه الترمذي وابن أبي حاتم، والنحاس في "معانيه" 2/ 418، والحاكم 2/ 315، عن ناجية عن علي رضي الله عنه، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ا. هـ. ووافقه الذهبي وقال: (لم يخرجا لناجية شيئًا). وصححه الشيخ أحمد شاكر في حاشية "عمدة التفسير" 1/ 770، وقال: (حديث علي صحيح؛ لأن الوصل زيادة من ثقتين، فهي مقبولة على اليقين) ا. هـ. وقال الترمذي: =

وقال قتادة: (يعلمون أنك رسول، ولكن يجحدون) (¬1). وقال ابن جريج: (لا يكذبونك بما تقول، ولكن يجحدون بآيات الله). وقال عطاء: (لا يكذبونك، ولكن جحدوا ربوبيتي وقدرتي وسلطاني) (¬2). ومعنى الجحد: إنكار المعرفة. وهو ضد الإقرار (¬3). كانوا (¬4) قبل عرفوا ذلك ولم يقروا، وهذا مذهب هؤلاء المفسرين وعليه أكثر (¬5) أهل المعاني. وذكر الزجاج وجهين يوافقان هذا التفسير الذي ذكرناه: (أحدهما {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بقلوبهم، أي: يعلمون أنك صادق، وإنما جحدوا براهين الله جل وعز، قال: وجائز أن يكون {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي: أنت عندهم صدوق؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسمى فيهم الأمين قبل الرسالة، ولكنهم جحدوا بألسنتهم ما تشهد قلوبهم بكذبهم فيه) (¬6). ¬

_ = (الموقف على ناجية أصح) ا. هـ. وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي" ص 354 - رقم 590 - 591، وفي "المشكاة" 3/ 1622 - رقم (5834)، وقال: (الموقوف أصح). وانظر: "الدر المنثور" 3/ 18. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) لم أقف على من ذكره عن ابن جريج وعطاء. (¬3) انظر: "العين" 3/ 72، و"الجمهرة" 2/ 435، و"تهذيب اللغة" 1/ 541، و"الصحاح" 2/ 451، و"مقاييس اللغة" 1/ 425، و"المفردات" ص 187، و"اللسان" 1/ 547 (جحد). (¬4) في (ش): (كأنه قيل). (¬5) جاء في (أ): تكرار لفظ: (أكثر). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 242.

وقال أبو علي الفارسي: ({لَا يُكَذِّبُونَكَ}؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة، ولذلك سمي الأمين، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بألسنتهم ما يعلمونه يقينًا؛ لعنادهم وما يؤثرونه من ترك الانقياد للحق، وقد قال جل وعز في صفة قوم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}) [النمل: 14] (¬1). ونحو هذا قال ابن الأنباري (¬2)، وهذا الذي ذكرنا مذهب الجمهور في هذه الآية (¬3). وقال الضحاك: ({فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} (لا يقدرون على أن تكون رسولاً (¬4)، ولا على أن لا يكون القرآن قرآنا، وإنما يكذبونك بألسنتهم) (¬5)، فعلى هذا معن {لَا يُكَذِّبُونَكَ} لا يستطيعون أن يجعلوك كذابًا، [وحرر أبو بكر هذا القول فقال: معناه فإنهم لا يصححون عليك كذابًا] (¬6)، إذا كان الذي يظهر منك يدل الناس على صدقك، وإن كذبوا ¬

_ (¬1) "الحجة" 3/ 303. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3114، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 29، وابن منظور في "اللسان" 7/ 3841 (كذب). (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 1/ 157، و"تفسير الطبري" 7/ 181، و"معاني النحاس" 2/ 417 - 419، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 544، و"معاني القراءات" للأزهري 1/ 352. (¬4) في (ش): (يكون) بالياء. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1282، بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 18، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ والطبراني، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 87، وقال: (رواه الطبراني عن ابن عباس، وفيه بشر بن عمارة وهو ضعيف) ا. هـ (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).

كمن لم يكذب، ألا ترى أنك تقول لمن يقول ولا يجيد القول: لم يقل هذا اليوم شيئًا، لما لم يُجد كأن قوله كلا قول) (¬1). وقال غيره ما يؤكد هذا المعنى، فقال: معناه: ({فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بحجة، أي: فلا يعتد بتكذيبهم، فإنه لا حقيقة له) (¬2). واختلف القراء (¬3) في قوله: {يُكَذِّبُونَكَ} فقرؤوا مشددًا ومخففًا. قال الفراء: (معنى التخفيف -والله أعلم-: لا يجعلونك كذابًا , ولكن يقولون: إن ما جئت به باطل؛ لأنهم لم يجربوا عليه كذبًا فيكذبوه، وإنما أكذبوه، أي: قالوا: إن ما جئت به كذب. قال: والتكذيب أن يقال: كذبت) (¬4). وقال الزجاج: (معنى كذبته: قلت له: كذبت، ومعنى أكذبته: أريت (¬5) أن ما أتى به كذب. قال: ومعنى التخفيف: لا يقدرون أن يقولوا لك كذبت) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقريب منه ما نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3114، وابن منظور في "اللسان" 7/ 3841، عن ابن الأنباري في معنى الآية أنه قال: (ويمكن أن يكون {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بمعنى لا يجدونك كذابًا عند البحث والتدبر والتفتيش). ا. هـ. (¬2) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" 2/ 107، عن أبي صالح وقتادة والسدي، وانظر: "زاد المسير" 3/ 29. (¬3) قرأ نافع والكسائي (لا يكذبوك) بسكون الكاف وتخفيف الذال من أَكْذبَ، وقرأ الباقون بفتح الكاف وتشديد الذال من كذَب. انظر: "السبعة" ص 257، و"المبسوط" ص 168، و"التذكرة" 2/ 397، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 257. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 331. (¬5) كذا في النسخ، وعند الزجاج 2/ 242: (ادعيت). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 242، بتصرف يسير. ولم يشر الزجاج إلى أن ذلك معنى التخفيف.

وكان الكسائي يقرأ بالتخفيف ويحتج: (بأن العرب تقول: كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعة الأباطيل من القول (¬1)، وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب ليس هو الصانع له)، حكاه ابن الأنباري عنه (¬2). ونحو هذا حكى عنه أحمد بن يحيى، وقال: (كان الكسائي يحكي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بكذب لم يضعه هو، كأنه حكى كذبًا، وكذبته إذا أخبرت أنه كذاب) (¬3). وقال أبو علي: (لا يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً؛ لأن معنى التثقيل النسبة إلى الكذب، بأن تقول له: كذبت، كما تقول: زنيته وفسقته وخطأته، أي: قلت له: فعلت هذه الأشياء، وسقيته ورعيته قلت له: سقاك الله ورعاك الله، وقد جاء في المعنى أفعلته قالوا: أسقيته قلت له: سقاك الله (¬4). قال ذو الرمة: وأُسْقيهِ حَتَّى كَادَ ممَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلّمُنِي أَحْجَارُهُ ومَلاعبُهْ (¬5) أي: أنسبه إلى السقيا بأن أقول: سقاك الله. فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلف اللفظان، إلا أن فَعَّلْتَ إذا أرادوا أن ¬

_ (¬1) لفظ: (من القول) ساقط من (ش). (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3115. (¬3) "مجالس ثعلب" 271، و"معاني النحاس" 2/ 419، و"الحجة" لأبي علي 3/ 304. (¬4) جاء في (ش): تكرار: (ورعاك الله - إلى سقاك الله). (¬5) "ديوانه" ص 288، و"الكتاب" 4/ 59، و"النوادر" لأبي زيد ص 213، و"أدب الكاتب" ص 356، و"الممتع في التصريف" 1/ 187، و"اللسان" 4/ 2042 (سقى)، وقال الخطيب التبريزي في "شرحه" 289: (أبثه، أي أخبره بكل ما في نفسي، وأسقيه، أي: أدعو له بالسقيا، وملاعبه: مواضع يلعب فيها) ا. هـ.

ينسبوا إلى أمر أكثر من أَفْعَلْتَ (¬1). قال: ويجوز أن يكون معنى {لَا يُكَذِّبُونَكَ}: لا يصادفونك كاذبًا؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة، كما تقول: أحمدت الرجل إذا أصبته محمودًا، وأجبنته وأبخلته وأفحمته إذا صادفته على هذه الأحوال) (¬2) وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} قد مضى تفسيره (¬3)، ودخلت الباء في الآيات، والجحد تعدى بغير الجار؛ لأنه أريد بالجحد التكذيب، وبهذا يطابق المعنى الأول، كأنه قيل: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ولكن يكذبون بآيات الله. وقال أبو علي: ({وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: برد آيات الله أو إنكار (¬4) آيات الله، {يَجْحَدُونَ}، أي: يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك، ومن ذلك (¬5) قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59]، أي: ظلموا بردها أو الكفر (¬6) بها، فكما أن الجار في قوله: {فَظَلَمُوا بِهَا} من صلة ظلموا، كذلك يكون من صلة الظلم في قوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، و {يَجْحَدُونَ} محذوف ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 58. (¬2) "الحجة" 3/ 302 - 305، ولم يذكر قوله: "وأجبنته وأبخلته وأفحمته ... " وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص 138، و"إعراب القراءات" 1/ 155، و"الحجة" لابن زنجلة ص 247، و"الكشف" 1/ 430، و"المشكل" 1/ 251، و"الدر المصون" 4/ 603. (¬3) هي آية لم ترد قبل، ولعله يريد ص 174 من هذا البحث. (¬4) في (ش): (وإنكار). (¬5) في (أ): (ذلك قوله). (¬6) في (أ): (بردها والكفر بها).

34

المفعول للدلالة عليه) (¬1). 34 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الآية. قال الزجاج: (عزى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وصبره (¬2) بأن أخبره أن الرسل قبله قد كذبتهم أمم من قبله) (¬3)، قال ابن عباس: (من لدن نوح إليك {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} رجاء ثوابي، {وَأُوذُوا} حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار) (¬4). وقوله تعالى: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} معنى النصر: المعونة على العدو (¬5)، قال المفسرون: (معنى النصر هاهنا: تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم) (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 1/ 339، وقال السمين في "الدر" 4/ 604 - 605: (يجوز في هذا الجار وجهان: أحدهما: أنه متعلق بيجحدون، وهو الظاهر الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وجوز أبو البقاء أن يتعلق بالظالمين قال: كقوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}، وهذا الذي قاله ليس بجيد؛ لأن الباء هناك سببية أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيء يتعلق به تعلقًا واضحًا فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه) ا. هـ. وانظر: "التبيان" 1/ 320، و"الفريد" 2/ 142. (¬2) في (ش): (فصبر). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 243، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 183، والسمرقندي 3/ 223. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 30، وابن الجوزي 3/ 30، وأبو حيان في "البحر" 4/ 112. (¬5) انظر: "العين" 7/ 108، و"الجمهرة" 2/ 744، و"تهذيب اللغة" 4/ 3584 و"الصحاح" 2/ 829، و"المجمل" 3/ 870، و"مقاييس اللغة" 5/ 435 , و"المفردات" ص 808، و"اللسان" 7/ 4440 (نصر). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 183، والسمرقندي 1/ 482، والبغوي 3/ 140، وابن الجوزي 3/ 30، وكلهم اقتصر على هذا المعنى.

وقوله تعالى: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} قال الكلبي (¬1) وعكرمة: (يعني الآيات التي وعد فيها نصر الأنبياء على أعدائهم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] الآيات، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] (¬2)، قال ابن عباس: (يريد لا ناقض لحكمي) (¬3)، يعني: أنه قد حكم في كتابه بنصر أنبيائه، فليس ينقضه أحد، ولهذا قال الزجاج في قوله تعالى: {[و] (¬4) لا مبدل لكلمات الله}: (أي: لا يخلف وعده، ولا يغلب أحد أولياءه) (¬5). وتفسير ابن عباس يدل على أن قوله: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} معناه: لا ناقض لحكمه في كل مما حكم به من وعد ووعيد وثواب وعقاب، فليس يخص هذا الحكم الواحد، وهو نصر المرسلين، وإذا كان كذلك فالتقدير عند النحويين في الكلمات: ذوي الكلمات أي: يخبر بها عنه. يقول: لا مبدل لما أخبرت عنه بكلماتي ليس يريد أنه لا مبدل للكلمات التي هي عبارات؛ هذا معنى قول أبي علي (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 177 أ، وفي "تنوير المقباس" 2/ 15 نحوه. (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "الماوردي" 1/ 108، وابن الجوزي 3/ 31، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 147: (أي: لا مبدل لعذاب الله أو لا مبدل لمقتضى عذاب الله) ا. هـ. والظاهر العموم، وحمل الكلمات على الحقيقة أي لا مبدل لكلام الله تعالى الذي به يأمر وينهى ويشرع، وهو صفة من صفاته العلية التي لا تتناهى كسائر صفاته سبحانه وتعالى. (¬3) ذكر ابن الجوزي 3/ 31، وأبو حيان في "البحر" 4/ 112، عنه في الآية قال: (لا خلف لمواعيده)، وانظر: ابن عطية 5/ 185، والقرطبي 6/ 417. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 243، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 544. (¬6) "الحجة" 2/ 34، وفيه قال: (والكلمات تقديرها: ذوي الكلمات، أي: ما عبر =

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أي: خبرهم في القرآن كيف نجيناهم ودمرنا قومهم (¬1). قال الأخفش: ({مِن} هاهنا صلة كما تقول: أصابنا من مطر) (¬2). وقال غيره (¬3): (لا يجوز ذلك؛ لأنها لا تزاد في الواجب (¬4)، وإنما تزاد مع النفي، كقولك: ما أتاني من أحدٍ (¬5). و {مِّن} هاهنا للتبعيض وفاعل جاء مضمر، أضمر لدلالة المذكور عليه، تقديره: ولقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ (¬6). ¬

_ = عنه بها من وعد ووعيد وثواب وعقاب) ا. هـ. وانظر: تفسير ابن عطية 5/ 185. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 183، والسمرقندي 1/ 482. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 274، وفيه: (كما تقول: قد أصابنا من مطر، وقد كان من حديث) ا. هـ. وانظر: المصدر نفسه 1/ 98 - 99، 223، واقتصر على هذا القول البغوي في "تفسيره" 3/ 140. (¬3) انظر: "الكتاب" 2/ 315 - 316، 4/ 225، و"المقتضب" 4/ 136 - 138، و"الأصول" 1/ 409 - 411، و"حروف المعاني" للزجاجي ص 50. (¬4) الواجب ما تقع له حالة الوجوب، والموجب الكلام المثبت غير المنفي، وهو المراد هنا. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" للدكتور محمد اللبدي ص 238، 239. (¬5) انظر: "معاني الحروف" للرماني ص 97، و"الصاحبي" ص 271، و"المغني" 1/ 322 - 325، وقال المالقي في "رصف المباني" ص 391: (وقد تكون من زائدة عند الكوفيين في الواجب، وحكوا: قد كان من مطر وهو عند البصريين غير الأخفش مؤول، أي: حادث من مطر أو كائن من مطر، وبعد فهو قليل لا يقاس) ا. هـ. وحكى ابن فارس في "الصاحبي" زيادتها في الواجب عن أبي عبيدة أيضًا. (¬6) انظر: "غرائب الكرماني" 1/ 357، و"البيان" 1/ 320، و"التبيان" ص 330، و"الفريد" 2/ 143، و"البحر" 4/ 113، و"الدر المصون" 4/ 606، وعندهم التقدير: (ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين).

35

35 - قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} , قال المفسرون: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص على إيمان قومه ومتابعتهم إياه أشد الحرص, وكان إذا سألوه آية أراد أن يريهم الله ذلك؛ طمعاً في إيمانهم , فقال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}) (¬1) , قال ابن عباس: (أي: عن الإيمان بك وبالقرآن) (¬2). وقال الزجاج: (عظم عليك أن أعرضوا إذ طلبوا منك أن ينزل عليك (¬3) ملك فلم ينزل) (¬4). وقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} , النفق (¬5): سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1284 بسند جيد عن ابن عباس. وانظر: "البغوي" 3/ 140. (¬2) لم أقف عليه، وهذا معنى ظاهر، ولم يختلف فيه. انظر: الطبري 7/ 183، والسمرقندي 1/ 482، والبغوي 3/ 140، والقرطبي 6/ 417. (¬3) لفظ: (عليك) ساقط من (ش). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 243، وفيه تصرف واختصار. (¬5) انظر: "العين" 5/ 177، و"الجمهرة" 2/ 967، و"تهذيب اللغة" 4/ 3635، و"الصحاح" 4/ 560، و"المجمل" 3/ 877، و"مقاييس اللغة" 5/ 454، و"المفردات" ص 819، و"اللسان" 8/ 4508 (نفق). (¬6) هذا قول أهل اللغة والتفسير، وقد أخرجه الطبري 7/ 184، من طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة والسدي. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 190، و"غريب القرآن" ص 136، و"تفسير غريب القرآن" ص 153، و"معاني الزجاج" 2/ 244، و"الزاهر" 1/ 132، و"معاني النحاس" 2/ 419.

وقوله تعالى: {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}، وجواب {أَن} مضمر تقديره {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} ذلك فافعل (¬1). قال الفراء: (وإنما تفعله العرب في كل موضع يُعرف فيه معنى الجواب، ألا ترى أنك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدق. إن رأيت أن تقوم معنا. تترك الجواب لمعرفتك بمعرفته [به] (¬2)، فإذا جاء ما لا يُعرف جوابه إلا بظهوره أظهرته، كقولك للرجل: إن تقم تُصِبْ خيرًا لابد في هذا من جواب؛ لأن معناه لا يعرف إذا طرح) (¬3). وقال الزجاج: (أعلم الله عز وجل أنه بشر لا يقدر على الإتيان بآية إلا بإذن الله تعالى) (¬4)، وفي تعجيزه عن الإتيان بما سألوه أمر له بالصبر إلى أن يدخل وقت الآيات ووقت العقاب. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} أخبر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنهم إنما تركوا الإيمان وأعرضوا عنه بمشيئة الله ونافذ قضائه فيهم، وأنه لو شاء [الله] (¬5) لاجتمعوا على الإيمان, كما قال الله تعالى (¬6): {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (¬7) [يونس: 99]. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 7/ 184، والسمرقندي 1/ 482، والبغوي 3/ 141، وابن عطية 5/ 188، و"التبيان" 1/ 331، و"الفريد" 2/ 143، و"الدر المصون" 4/ 607. (¬2) لفظ: (به) ساقط من (ش) وكذا في بعض نسخ "معاني الفراء" 1/ 231 كما في حاشيته. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 331 - 332. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 244، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 420. (¬5) لفظ (الجلاله) ساقط من (أ). (¬6) في (أ) كما قال تعالى. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 185، و"معاني الزجاج" 2/ 244، و"معاني النحاس" 2/ 420، و"تفسير السمرقندي" 1/ 482.

36

وقوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، قال أهل التفسير: (أي: فإنه يؤمن بك بعضهم دون بعض، وأنهم لا يجتمعون على الهدى) (¬1). وقال أهل المعاني: (معناه: لا يشتد تحسرك على تكذيبهم ولا تجزع من إعراضهم عنك، فتقارب حال الجاهل، وغلظ الخطاب تبعيدًا وزجرًا له عن هذه الحال) (¬2). 36 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} قال مجاهد وقتادة: (يعني: المؤمنين الذين يسمعون الذكر فينتفعون به) (¬3). قال قتادة: (المؤمن حي القلب سمع كتاب الله فعقله ووعاه وانتفع به، والكافر لا يصغي إلى الحق؛ لأن الله تعالى ختم على سمعه) (¬4). وقال الزجاج: يعني: الذين يسمعون سماع قابلين) (¬5). وقال بعض أهل اللغة: (الاستجابة: الجواب بما يوافق الداعي، والإجابة قد تكون بالمخالفة، ولا يقال: استجاب إلا لمن قبل ما دُعي إليه) (¬6)، ويؤكد هذا أن ابن عباس -رحمه الله- فسر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 189، وابن الجوزي 3/ 33. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 109، وابن الجوزي 3/ 33. (¬3) تفسير مجاهد 1/ 214، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 186، وابن أبي هاشم 4/ 1285، من طرق جيدة عن مجاهد. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 186، وابن أبي حاتم 4/ 1285 بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 19. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 245، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 420 - 421. (¬6) ذكره الرازي 12/ 209، وأبو حيان 4/ 117، عن علي بن عيسى الرماني، وهو قول الهمداني في "الفريد" 2/ 144، وقال العسكري في "الفروق" ص 184: (أجاب معناه فعل الإجابة، واستجاب طلب أن يفعل الإجابة، لأن أصل الاستفعال لطلب الفعل، وصلح استجاب بمعنى أجاب؛ لأن المعنى فيها يؤول إلى شيء واحد، وذلك أن استجاب طلب الإجابة بقصده إليها، وأجاب أوقع =

37

الاستجابة هاهنا بالإيمان (¬1). وقوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} قال الحسن (¬2) ومجاهد وقتادة (¬3). (يعني الكفار)، وهو قول مقاتل قال: (يعني: كفار مكة يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} للحق المؤمنون، وأما (¬4) {الْمَوْتَى} وهم الكفار فإن الله يبعثهم في الآخرة ثم إليه يردون فيجزيهم بأعمالهم) (¬5). 37 - قوله تعالى: {وَقَالُوا} يعني: رؤساء قريش، {لَوْلَا}: هلا، {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يعني: نزول الملك يشهد لمحمد بالنبوة وصحة ما أتى به (¬6)، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} قال المفسرون (¬7): (لا يعلمون ما عليهم في الآية من النبلاء لو أنزلناها ولا ما وجه ترك إنزالها). وقال بعض أصحاب المعاني: إلا يعلمون أن الله قادر على إنزالها لا يقدر سواه عليها) (¬8). ¬

_ = الإجابة بفعلها) ا. هـ. وقال الراغب في "المفردات" ص 210، والسمين في "العمدة" ص 105: (الاستجابة قيل: هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عُبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها) ا. هـ. وفي "اللسان" 2/ 716 (جوب): (هما بمعنى واحد) ا. هـ. (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 16. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 186، وابن أبي حاتم 4/ 1285، بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 19. (¬3) سبق تخريج قول مجاهد وقتادة. (¬4) في (ش): (فأما). (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 559. (¬6) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 483، والبغوي 3/ 141، وابن الجوزي 3/ 34. (¬7) انظر: الطبري 7/ 187، والماوردي 2/ 110، والمراجع السابقة. (¬8) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 245، والمراجع السابقة.

38

38 - قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} الآية، قال ابن عباس: (يريد: كل ما دب وجميع البهائم فهو دابة) (¬1). قال الزجاج: وجميع ما خلق الله جل وعز لا يخلو من هاتين المنزلتين: إما أن يدب، وإما أن يطير) (¬2). وقال غيره من أهل المعاني: (خص ما في الأرض هاهنا بالذكر دون ما في السماء، احتجاجًا بالأظهر، وإحالة بالدليل على ما هو ظاهر؛ لأن ما في السماء -وإن كان مخلوقًا له مثلنا- فغير ظاهر) (¬3). وقوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قال الفراء والزجاج: (ذكر الجناح هاهنا تأكيد (¬4)، كقولك: نعجة أنثى، وكلمته بفي، ومشيت برجلي) (¬5). وقال الزجاج: (وقد تقول للرجل: طرفي حاجتي، وأنت تريد أسرع) (¬6)، وأراد بهذا أن الطيران قد يستعمل لا بالجناح كقول العنبري (¬7): ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 32، وابن الجوزي 3/ 34. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 245. (¬3) ذكره الرازي 12/ 212. (¬4) في (ش): (توكيد)، وهذا هو قول قطرب كما في "الزاهر" 1/ 58 - 59، ونقل عن أبي العباس أنه قال: (ليس يطير بجناحيه توكيدًا, ولكنه دخل؛ لأن الطيران يكون بالجناحين ويكون بالرجلين، فطيران الطائر من البهائم بجناحيه، ومن الناس برجليه ألا ترى أنك تقول: زيد طائر في حاجته، معناه: مسرع برجليه) ا. هـ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 1/ 332، وهو قول عامة أهل التفسير ومنهم الطبري 7/ 179، والنحاس في "معانيه" 2/ 422، والسمرقندي 3/ 227، والبغوي 3/ 141، وابن عطية 5/ 193. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 245. (¬7) العنبري: قُريَط بن أنيف العنبرى التميمي شاعر جاهلي. انظر: "الأعلام" 5/ 195.

طاروا إليه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا (¬1) فذكر الجناح ليتمحض (¬2) في الطير. وقوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال الفراء: (يقال: إن كل صنف من البهائم أمة) (¬3). وجاء في الحديث: "لولا (¬4) أن الكلاب أمة تنبح لأمرت بقتلها" (¬5)، فجعل الكلاب أمة. واختلفوا في أن البهائم والطير في ماذا شبهت بنا وجُعلت أمثالنا، فقال ابن عباس في رواية عطاء يريد: (يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني، مثل ما قال تعالى في سبحان: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ¬

_ (¬1) "الحماسة" لأبي تمام 1/ 4، وفي "عيون الأخبار" 1/ 188 الرجل من بلعنبر، وبلا نسبة في "مجال ثعلب" ص 405، و"الصناعتين" ص 285، والرازي 12/ 212، و"الدر المصون" 4/ 112، و"روح المعاني" 7/ 143، وصدره: قَوْمٌ إذا الشرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ وهو من قصيدة تُعد من عيون الشعر، اختارها أبو تمام أول مقطوعة في "الحماسة"، والزرافات، بالفتح: الجماعات، والوحدان، بالضم، جمع واحد. وفي الحماسة فقط: قاموا، بدل طاروا. (¬2) قوله: ليتمحض غير واضح في النسخ، واللفظ نفسه عند الرازي 12/ 213، والقرطبي 6/ 419. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 332. (¬4) في (أ): (ولولا). (¬5) أخرجه أحمد في "المسند" 5/ 54، 56، وأبو داود (2845) كتاب: الضحايا، باب: في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، والترمذي (1486) كتاب: الصيد، باب: ما جاء في قتل الكلاب، والنسائي 7/ 185، كتاب: الصيد، باب: صفة الكلاب التي أمر بقتلها، وابن ماجة (3205)، كتاب: الصيد, باب: النهي عن =

[الإسراء: 44]، وكقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}) (¬1) [النور: 41]، فعلى هذا جُعلت أمثالنا في التوحيد والمعرفة والتسبيح. وقال مجاهد {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: (أصناف مصنفة تُعرف بأسمائها) (¬2)، يريد: أن كل جنس من الحيوان [أمة] (¬3) تعرف باسمها كالطير والظباء والذئاب والأسود، وكل صنف من السباع والبهائم مثل بني آدم يعرفون بالإنس والناس. وقال أبو هريرة في قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: (يحشر الله تعالى الخلق يوم القيامة: البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابًا) (¬4)، وعلى هذا ¬

_ = اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية، والدارمي 2/ 1277 (2051) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها , ولكن اقتلوا كل أسود بهيم" ا. هـ. أي: خالص السواد. قال الترمذي: (حديث حسن صحيح). (¬1) ذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" 12/ 213، وأبو حيان في "البحر" 4/ 120، وفي "تنوير المقباس" 2/ 17، نحوه، وذكر الرازي بعده أن هذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 1871، وابن أبي حاتم 4/ 1285 بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 20. (¬3) لفظ: (أمة). ساقط من (أ). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 206، والطبري 7/ 189، وابن أبي حاتم 4/ 1286، والحاكم في "المستدرك" 2/ 316، والواحدي في "الوسيط" 1/ 33، وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وأخرج أحمد 2/ 235 - 363، من طرق جيدة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة" ا. هـ وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 352، وقال: (رواه أحمد، ورجاله رجال =

إنما جُعلت أمثالنا في الحشر والاقتصاص؛ واختار الزجاج هذا، قال: (يعني: أمثالكم في أنهم يبعثون. لأنه قال عز وجل: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36]، ثم أعلم أنه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في الخلق والموت والبعث) (¬1). واختار الأزهري قول ابن عباس فقال: (معنى قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في معنى دون معنى -يريد والله أعلم- أنه تعبدهم بما شاء أن يتعبدهم [به] (¬2) من تسبيح وعبادة علمها منهم، ولم يفقهنا ذلك) (¬3). وقال ابن الأنباري في هذه الآية: (يسأل السائل عن هذا فيقول: ما في هذا من الاحتجاج على المشركين؟ فيُقال له: الاحتجاج أن الله عز وجل قد ركب في الناس عقولاً، وجعل لهم أفهامًا، ألزمهم بها، تدبر أمر الأنبياء، والتمسك بطاعته، وأنه تعالى قد أنعم على الطير والدواب بأن جعل لها (¬4) فهمًا يعرف بعضها به إشارة بعض، فهدى الذكر منها لإتيان الأنثى، فصح التشبيه (¬5)؛ لأن الأمم من غير الناس يفهم (¬6) بعضها عن بعض، كما يفهم ¬

_ = الصحيح)، وله شواهد انظر: "المسند" 1/ 72، ومجمع "الزوائد" 10/ 352 - 353، والقرناء: ذات القرون، والجماء: التي لا قرون لها. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 245. (¬2) لفظ: (به) ساقط من (ش). (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 205، وهذا قول أبي عبيدة أيضاً في "مجاز القرآن" 1/ 191، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 421: (وأكثر أهل التفسير يذهب إلى أن المعنى: أنهم يخلقون كما يخلقون ويبعثون كما يبعثون) ا. هـ. ورجحه الطبري في "تفسيره" 7/ 188، والسمرقندي 1/ 483، وابن عطية 5/ 192، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 420، و"التذكرة" ص 329. (¬4) في (أ): (جعل لهم). (¬5) في (ش): (أن الأمم). (¬6) في (أ): (تفهم).

الناس بعضهم عن بعض، ويلزمهم بما يتبينونه من فهمها وهدايتها أن يستدلوا على نفاذ قدرة خالقها المركب ذلك الفهم فيها، وعلى هذا جُعلت أمثالنا في فهم البعض عن البعض) (¬1). وقال بعض أهل التأويل: (إنما مثلت الأمم من غير الناس بالناس في الحاجة وشدة الفاقة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وكِنهم ولباسهم ونومهم ويقظتهم وهدايتهم إلى مراشدهم، إلى ما لا يحصى (¬2) كثرة من أحوالهم ومصالحهم، وقد تقدم في الآية الأولى أن الله قادر على أن ينزل [كل] (¬3) آية، فجاء في هذه الآية ببيان أنه القادر على تدبير كل أمة وسد كل خلة) (¬4). وإلى قريب من هذا ذهب ابن قتيبة فقال: (يريد أنها مثلنا في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك) (¬5). فهذه أقوال المفسرين وأهل التأويل في هذه الآية. وبعد هذا كله فقد أخبرونا عن أبي سليمان البستي الفقيه -رحمه الله- أنبأ (¬6) ابن الزئبقي (¬7) نبأ ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 3/ 35، وأبو حيان في "البحر" 4/ 118 - 119، عن ابن الأنباري. (¬2) في (ش): (فيما لا يحصى). (¬3) لفظ: (كل) ساقط من (ش). (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 12/ 211 - 213، و"البحر المحيط" 4/ 120. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" ص 445. (¬6) في (ش): (أخبرنا). (¬7) ابن الزئبقي: محمد بن أحمد بن عمرو الزئبقي البصري، روى عن يحيى بن أبي طالب، وحدث عنه غير واحد من البصريين، قاله ابن ماكولا في "الإكمال" 4/ 228: لم أجد له ترجمته عند غيره. والزئبقي، بكسر الزاي وسكون الياء وفتح الباء وبعدها قاف: نسبة إلى الزئبق وبيعه، انظر: اللباب 2/ 85.

موسى بن زكريا (¬1) التستري نبأ أبو حاتم (¬2) نبأ العُتبي (¬3) قال: (كنا عند سفيان بن عيينة فتلا هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فقال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار (¬4) الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس (¬5) كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي إذا قدم (¬6) لها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن ¬

_ (¬1) موسى بن زكريا التستري أبو عمران متروك، توفي قبل 300 هـ. انظر: "سؤالات الحاكم" للدارقطني ص 156، و"ميزان الاعتدال" 5/ 330، و"المغني في الضعفاء" 2/ 683، و"لسان الميزان" 7/ 105، و"التُّسْتَري" نسبة إلى بلدة تستر من كور الأهواز من خوزستان. انظر: "اللباب" 1/ 216. (¬2) أبو حاتم: سهل بن محمد السجستاني، تقدمت ترجمته. (¬3) العتبي: محمد بن عبيد الله بن عمرو الأموي، أبو عبد الرحمن البصري، إمام علامة فصيح راوية للأخبار والأدب وشاعر مشهور، توفي نحو سنة 228 هـ. انظر: "المعارف" ص 538، و"تاريخ بغداد" 2/ 324، و"فيات الأعيان" 4/ 398، و"سير أعلام النبلاء" 11/ 96، و"الأعلام" 6/ 258. والعتبي بالضم وسكون التاء وبعدها باء: نسبة إلى جده عتبة بن أبي سفيان الأموي. انظر: "اللباب" 2/ 320. (¬4) المهتصر: الأسد. والهصر، بالفتح: الجذب والإمالة وعطف شيء رطب وكسره من غير بينونة، واهتصر النخلة: ذلل عذوقها وسواها. انظر: "القاموس" ص 498 (هصر). (¬5) تطوست المرأة: تزينت، والمطوس: الشيء الحسن. انظر: "القاموس" ص 555 (طوس). (¬6) في (ش): (التي ألقى إليها الطعام)، وفي العزلة للخطابي ص 75: (التي لو ألقي لها الطعام).

رجيعه (¬1) ولغت (¬2) فيه، فكذلك (¬3) تحد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يتحفظ (¬4) واحدة منها وإن أخطأ رجد أو حكى خطأ غيره ترواه وحفظه) (¬5). وقال أبو سليمان: (ما أحسن ما تأول أبو محمد هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعًا لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل طائر ودابة، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة وعدم من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق (¬6)، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر (¬7) البهائم والسباع، فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك) (¬8). وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس: (يريد: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم) (¬9). ¬

_ (¬1) الرجيع: الروث. انظر: "القاموس" ص 721 (رجع). (¬2) ولغ السبع في الإناء، أي: شرب ما فيه بأطراف لسانه. انظر: "القاموس" ص 790 (ولغ). (¬3) في (ش): (وكذلك). (¬4) في (ش): (يحفظ). (¬5) في (ش): (يرويه ويحفظه). (¬6) في (ش): (بلا خلاف)، وهو تحريف. (¬7) في (ش): (يعاشر) بالياء. (¬8) "العزلة" للخطابي ص 76، وروايته عن سفيان بن عيينة ضعيفة لمكان موسى التستري كما سبق. وذكره عن سفيان الرازي 12/ 214، وأبو حيان في "البحر" 4/ 120، وقال القرطبي 6/ 420، بعد ذكر قول سفيان: (استحسنه الخطابي، وهو أيضًا حسن، فإنه تشبيه واقع في الوجود) ا. هـ. بتصرف. (¬9) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 34، وابن الجوزي 3/ 35.

قال العلماء: (هذا من العام الذي أريد به الخاص؛ لأن المعنى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} بالعباد إليه حاجة إلا وقد بيناه إما نصًّا، وإما دلالة، وإما مجملاً، وإما مفصلاً، فالمجمل كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، والمفصل ما فصل بيانه مما لا يحتاج فيه إلى بيان الرسول، وهذا مثل قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬1) [النحل: 89]، أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين وما خفي على الناس فلم يعرفوا فيه دلالة من الكتاب فذاك (¬2)، لقصور علمهم، وإخراج كل ما يحتاج إليه في أمر الدين من كتاب الله، كما يروى عن ابن مسعود أنه قال: (ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه) يعني: الواشمة والمستوشمة (¬3) والواصلة والمستوصلة (¬4)، فروى أن امرأة (¬5) قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت: (يا ابن أم عبد (¬6)، تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم ¬

_ (¬1) في (أ)، (ش): (وأنزلنا)، وهو تحريف. (¬2) في (ش): (فذلك). (¬3) في (ش): (والموشومة)، قال ابن الأثير في "النهاية" 5/ 189: (الوشم: أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بصبغ فيظهر أثره. والمستوشمة والموتشمة التي يفعل بها ذلك) ا. هـ بتصرف. (¬4) قال ابن الأثير في "النهاية" 5/ 192: (الواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر زور، والمستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك) ا. هـ (¬5) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 10/ 373 - عند كلامه على هذا الحديث-: (المرأة هي أم يعقوب من بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها على ترجمة) ا. هـ. (¬6) ابن أم عبد، هو: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قد ينسب إلى أمه أم عبد بنت عبد بن سواء من هذيل صحابية رضي الله عنها. انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 431.

أجد فيه لعن [لله] (¬1) الواشمة). فقال: (لو تلوته (¬2) لوجدته، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وأن مما أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال: "لعن الله الواشمة والمستوشمة" (¬3). و (¬4) كما يروى أن الشافعي - رضي الله عنه - قال ذات يوم وهو جالس في المسجد: (لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه عن كتاب الله، فقال له رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور (¬5)، فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وأخبرنا (¬6) فلان ... وذكر الإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أنه] (¬7) قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (¬8)، وأخبرنا ¬

_ (¬1) لفظ: (الجلالة) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (لو تلوتيه لوجدتيه)، وقال ابن حجر في "الفتح" 10/ 373) - عند كلامه على الحديث-: (روى مسلم: ليِّن كنت قرأتيه لقد وجدتيه بإثبات الياء، وهي لغة، والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي) ا. هـ (¬3) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في "صحيحه" (5931)، في كتاب: "اللباس"، باب المتفلجات للحسن، ومسلم 2/ 1180، 1181 حديث رقم (2124 - 2125)، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، وانظر: شرحه في "فتح الباري" 10/ 372 - 380، 8/ 630. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬5) الزنبور -بضم الزاي المشددة وسكون النون وضم الباء-: ذباب لساع. انظر: "القاموس" ص 401 (زنبور). (¬6) في (أ): (وأخبر فلان). (¬7) لفظ: (أنه) ساقط من (ش). (¬8) حديث صحيح، أخرجه أحمد 4/ 126 - 127، والدارمي 1/ 229 - 230، وأبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2676)، وابن ماجة رقم (42 - 44)، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 29 - 30، والحاكم 1/ 95 - 97 من طرق عن العرباض =

فلان ... وذكر الإسناد إلى عمر (¬1) -رضي الله عنه- أنه قال: للمحرم قتل الزنبور) (¬2)، فأجابه عن كتاب الله مستنبطًا بثلاث درجات (¬3) ¬

_ = بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرطهما , ولم أعرف له علة)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة" لابن أبي عاصم. (¬1) الأثر عن عمر رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 443، رقم 8380 - 8381، وابن أبي شيبة 3/ 334، والبيهقي في سننه 5/ 211، بسند جيد عن سويد بن عفلة الجعفي، وانظر: "المغني" لابن قدامة 5/ 175 - 177. (¬2) روى هذه القصة البيهقي في سننه 5/ 212 عن عبيد الله بن محمد بن هارون الفريابي قال: (سمعت الشافعي بمكة يقول: سلوني ما شئتم أجبكم من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فقلت له: أصلحك الله! ما تقول في المحرم بقتل زنبورًا؟ قال: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرم بقتل الزنبور) ا. هـ. وحديث: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" حديث صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 352 (31933)، والترمذي في "المناقب" 5/ 609 - 610، حديث 3662 - 3663، وحسنه، وابن ماجة في "المقدمة" 1/ 37، حديث 97، وابن أبي عاصم في كتاب: السنة 2/ 545 - 546، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة". (¬3) نقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 12/ 216، وقال: (وأما الطريق الذي ذكره الشافعي فهو تمسك بالعموم على أربع درجات: أولها: التمسك بعموم قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمتابعة الخلفاء الراشدين. وثانيها: التمسك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". =

ومن هذا ما روي في حديث العسيف (¬1) الزاني وأن أباه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فأقول، قال: "قل"، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا ... وذكر القصة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله" (¬2)، ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت، وليس للرجم والتغريب ذكر في نص الكتاب، فجعلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب لما حكم هو بهما، وهذا يبين لك أن كل ما يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك كما لو حكم به الكتاب نصًّا) (¬3). ¬

_ = وثالثها: أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين. ورابعها: الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئًا) ا. هـ. (¬1) العسيف: الأجير سمي لأن المستأجر يعسفه في العمل. انظر: "النهاية" 3/ 236، و"فتح الباري" 12/ 139. (¬2) حديث العسيف حديث متفق عليه أخرجه البخاري (6827، 6828)، ومسلم حديث (1697 - 1698)، كلاهما في كتاب الحدود باب الاعتراف بالزنا، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل". قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ا. هـ. لفظ مسلم. وانظر: شرح الحديث في "فتح الباري" 12/ 137 - 142. (¬3) ذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 12/ 217، والقاسمي في "تفسيره" 6/ 517 - 521. وانظر البحث في هذا الموضوع في "الموافقات" للشاطبي 2/ 79، 3/ 336.

والكتاب على هذا التأويل المراد به القرآن (¬1). ومعنى {مَا فَرَّطْنَا}: ما ضيعنا وما تركنا وما قصرنا (¬2)، وقد ذكرنا هذا عند قوله: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31]. وقوله تعالى: {مِنْ شَيْءٍ} أي: شيئًا و {مِن} زائدة (¬3)، كقولك: ما جاءني من أحد، وتقديره: ما تركنا في الكتاب شيئًا لم نبينه؛ لأن معنى التفريط يعود إلى التقصير عن المتقدم فيما يحتاج إلى المتقدم فيه. وقيل: (المراد بالكتاب هاهنا الكتاب الذي هو عند الله عز وجل المشتمل على ما كان ويكون، وهو اللوح المحفوظ)، وهو قول (¬4) ابن عباس في ¬

_ (¬1) وهو قول الجمهور ورجحه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 546، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 194؛ لأنه هو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى، قال الرازي في "تفسيره" 12/ 215: (هذا أظهر؛ لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن) ا. هـ. وانظر: "تفسير الماوردي" 2/ 112، و"البحر المحيط" 4/ 120، و"تفسير القاسمي" 6/ 515 - 516. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 191. (¬3) انظر: "التبيان" 1/ 331، و"الفريد" 2/ 145 - 146، و"البحر" 4/ 120 - 121، و"الدر المصون" 4/ 612، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 12/ 218، وقال: (من للتبعض، فكأن المعنى: ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب) ا. هـ. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 188، وابن أبي حاتم 4/ 1286 بسند جيد عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2 /207، بسند جيد عن قتادة، وأخرجه الطبري بسند جيد عن ابن زيد، وهو اختيار مقاتل 1/ 560، والطبري والسمرقندي 1/ 483، والبغوي 3/ 142، والزمخشري 2/ 17، =

رواية الوالبي (¬1)، والآية على هذا التأويل عامة، وتدل على أن كل ما في الدنيا من حادث قد سبق به القضاء، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ كما قال - صلى الله عليه وسلم -. "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (¬2). ¬

_ = وابن كثير 2/ 147، وهو الظاهر -والله أعلم- قال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 147 - 150: (هو أظهر القولين وأظهر في الآية، والسياق يدل عليه) ا. هـ. (¬1) (تقدم أنه علي بن أبي طلحة: والوالِبي: نسبة إلى والب بن الحارث بن ثعلبة بطن من بني أسد، ينسب إليه جماعة منهم: سعيد بن جبير بن هشام الناس الأسدي الوالبي، أبو محمد الكوفي، تابعي إمام عابد، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، قتله الحجاج سنة 95 هـ. ولم يكمل 50 سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 256، و"الجرح والتعديل" 4/ 9، و"الحلية" 4/ 272، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 216، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 321، و"تهذيب التهذيب" 2/ 9، هذا هو المشهور في الوالبي كما في "اللباب" 3/ 350، ولكن مراد الواحدي كما في "أسباب النزول" ص 39، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى" 8/ 150، 14/ 238، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 147، أن الوالبي هو علي بن أبي طلحة ولم أجد في ترجمته من نسبه إلى ذلك؛ وهو: علي ابن سالم بن مخارق الهاشمي مولاهم أبو الحسن ابن أبي طلحة الحمصي، أصله من الجزيرة، إمام صدوق مشهور برواية التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يسمع منه، ولكنه أخذه عن الثقات من أصحاب ابن عباس، وقد أشاد العلماء بصحيفته في التفسير واعتمدوها في كتبهم، توفي سنة 143 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 458، و"الجرح والتعديل" 6/ 188، و"مشاهير علماء الأمصار" ص182، و"تاريخ بغداد" 11/ 429، و"ميزان الاعتدال" 3/ 134، و"تهذيب التهذيب" 3/ 171، ومقدمة "معجم غريب القرآن" لمحمد فؤاد عبد الباقي. (¬2) أخرج الإمام أحمد 4/ 286 - 288، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 137 - 139، حديث طويل عن ابن عباس، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد جف القلم بما هو كائن ... "، الحديث. وصححه أحمد شاكر، والألباني في تخريجهما لذلك.

39

وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن عباس: (يريد. للجزاء إما ثواب وإما عقاب) (¬1)، وهذا وقول المفسرين (¬2) (أن هذه الأمم يحشرون مع الخلق إلى الموقف يوم القيامة للحساب والجزاء). كما روينا عن أبي هريرة (¬3) وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، ومعنى {إِلَى رَبِّهِمْ} أي: إلى حيث لا يملك النفع والضر إلا الله جل (¬4) وعز، إذا لم يُمكن منه كما مكنهم في دار الدنيا. 39 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس: (يريد: ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} قال: يريد {صُمٌّ} عن القرآن لا يسمعونه، {وَبُكْمٌ} عن القرآن لا ينطقون به) (¬5) وقد أحكمنا شرح هذا في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} إلى آخر الآية، دليل على أن هؤلاء صاروا صمًّا بكمًا بمشيئة الله إضلالهم، وأنه من شاء أضل، ومن شاء هدى (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي 6/ 421، وفي "تنوير المقباس" 2/ 17، نحوه. (¬2) هذا قول الجمهور كما في "البحر" 4/ 121، ورجحه القرطبي 6/ 421، وانظر: الطبري 7/ 171، والسمرقندي 1/ 483، وابن عطية 5/ 193. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ش): (إلا الله تعالى). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 18، وأخرج الطبري 7/ 190، وابن أبي حاتم 1/ 53, تحقيق الغماري، بسند جيد عنه قال: ({صُمٌّ وَبُكْمٌ} لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه)، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 191، و"زاد المسير" 3/ 36. (¬6) انظر: الطبري 7/ 190، والسمرقندي 1/ 483، وابن عطية 5/ 195، والقرطبي 6/ 422، و"بدائع التفسير" 2/ 150.

40

40 - قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} الآية، قال الفراء: (للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان، أحدهما: رؤية العين فإذا أردت هذا عدّيت الرؤية بالضمير إلى المخاطب وتصرف سائر الأفعال تقول للرجل: أرأيتك على غير هذه الحال , تريد هل رأيت نفسك، ثم تثنى وتجمع فتقول: أرأيتما كما، وأرأيتموكم (¬1)، وللنسوة أرأيتنكن (¬2) (¬3). والمعنى الآخر: أن تقول: أرأيتك وأنت تريد أخبرني كما تقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل، أي: أخبرني، وتترك (¬4) التاء إذا أردت هذا المعنى موحدة على كل حال تقول: أرأيتك، أرأيتكما (¬5)، أرأيتكن (¬6)؛ وإنما تركت العرب التاء واحدة؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعًا من المخاطب على نفسه، فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في الكاف، وتركوا التاء على المذكر والتوحيد إذ لم يكن الفعل واقعًا. قال: والرؤية من الأفعال الناقصة التي يُعدّيها المخاطب إلى نفسه بالمكنى مثل: ظننتني وحسبتني ورأيتني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتك بمعنى قتلت نفسك، ولا أحسنت إليك ¬

_ (¬1) في (ش): (وأريتموكم)، وهو تحريف. (¬2) في (أ): (أريتنكن)، وهو تحريف. (¬3) زاد الفراء في "معانيه" 1/ 333: (وللمرأة -أرأيتك- فهذه مهموزة تخفض التاء والكاف، لا يجوز إلا ذلك) ا. هـ (¬4) في (ش): (ويترك). (¬5) في (أ): (أريتكما)، وهو تحريف. (¬6) زاد الفراء في هذا الوجه: (وتهمزها وتنصب التاء منها، وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحدة مفتوحة للواحد والواحدة والجميع في مؤنثه ومذكره) ا. هـ.

كما يقولون: متى تظنك خارجًا ومتى تراك. وذلك أنهم أرادوا الفصل بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعل الذي لا يجوز إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول: أنا أظن خارج فتلغي أظن، وقال الله تعالى: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7]، ولم يقل: رأى نفسه، وجاء في ضرورة الشعر إجراء الأفعال التامة مجرى النواقص، قال جران العود (¬1): لَقَدْ كَانَ لي في ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني ... وما كنت ألقى من رزينة أبرحُ (¬2) والعرب تقول: عدمتني ووجدتني وفقدتني، وليس بوجه الكلام) (¬3) وهذا كله صحيح، ولم يخالف إلا في الكاف التي في أرأيتك بمعنى أخبرني، فإنه قال: [(موضع الكاف نصب وتأويله رفع؛ لأن الفعل محول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في دونك إذا أُغري بها، كما تقول: دونك زيدًا، فتجد الكاف] (¬4) في اللفظ خفضًا وفي المعنى رفعًا؛ لأنها ¬

_ (¬1) جِران العَوْد، هو: عامر بن الحارث بن كلدة النُّمَيري، شاعر إسلامي وصاف. وجران العود لقب غلب على اسمه، وهو بالكسر وفتح الراء: جلد عُنُق الدابة، سمي به؛ لأنه اتخذ منه سوطًا، وأورده في شعره. انظر: "كنى وألقاب الشعراء" لابن حبيب ص 35، و"الشعر والشعراء" ص 480، و"المبهج" لابن جنى ص 169، و"الصحاح" 5/ 2091 (جرن)، و"اللباب" لابن الأثير 1/ 269، و"تاج العروس" 18/ 106 (جرن)، و"الأعلام" 3/ 250. (¬2) "ديوانه" ص 39، 40، و"الدر المصون" 4/ 622، وهذه هي رواية الفراء في "معانيه" 1/ 334، وفي المراجع: لقد كان لي عن ضرتين عدمنني ... وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ والشاهد: عدمتني: حيث جمع بين ضمير الفاعل والمفعول. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 333 - 334، بتصرف واختصار، ونصر الواحدي عند السمين في "الدر" 4/ 621 - 622 عن الفراء. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).

مأمورة، فكذلك هذه الكاف موضعها نصب وتأويلها رفع) (¬1)، قال الزجاج: (وهذا القول لم يقله النحويون القدماء وهو خطأ؛ لأن قولك: رأيتك زيدًا ما شأنه لو تعدت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أرأيت (¬2) نفسك زيدًا ما شأنه وهذا محال. قال: والذي يذهب إليه النحويون الموثوق بعلمهم أن الكاف لا موضع لها، وإنما المعنى: أرأيت زيدًا ما حاله، وإنما الكاف زيادة وهي المعتمد عليها في معنى الخطاب) (¬3). قال أبو علي: (قولهم: أرأيتك زيدًا ما فعل، بفتح التاء في جميع الأحوال، فالقول في ذلك أن الكاف في أرأيتك لا يخلو من أن يكون (¬4) للخطاب مجردًا ومعنى الاسم مخلوع منه (¬5)، أو يكون دالًّا على الاسم مع دلالته على الخطاب، فالدليل على أنه للخطاب مجردًا من علامة الاسم أنه لو كان اسمًا وجب أن يكون الاسم الذي بعده في نحو قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62]، وقولهم: أرأيتك زيدًا ما صنع لو كان الكاف اسمًا ولم يكن حرفًا للخطاب لوجب أن يكون الاسم الذي بعده الكاف في المعنى، ألا ترى أن أرأيت يتعدى (¬6) إلى مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى، وفي كون المفعول الذي بعده ليس الكاف، وإنما هو غيره دلالة على أنه ليس باسم، وإذا لم يكن اسمًا كان ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 333. (¬2) أي يصير لها فاعلان هما التاء والكاف. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 246. (¬4) في (أ): (لا تخلو من أن تكون). (¬5) في (ش): (منها)، وهي في بعض نسخ الحجة لأبي علي 3/ 308. (¬6) في (ش): (تعدى).

حرفاً للخطاب مجردًا من معنى الاسمية، كما أن الكاف في ذلك وفي هنالك وأبصرك زيدًا للخطاب، [وكما أن التاء في أنت كذلك، فإذا ثبت أنه للخطاب] (¬1)، معرى من الأسماء، ثبت أن التاء لا يجوز أن يكون بمعنى الخطاب، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب، كما لا يلحقها علامتان للتأنيث ولا علامتان للاستفهام، فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لا بد له من فاعل، وجعل في جميع الأحوال على لفظ واحد؛ لأن ما يلحق الكاف في معنى الخطاب يبين الفاعلين، فيخصص التأنيث من التذكير والتثنية من الجمع، ولو لحق علامة التأنيث والجمع التاء لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء وما كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدي إلى ما لا نظير له رفض وأجري على ما عليه سائر كلامهم في هذا النحو) (¬2). واحتج ابن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال: (لو كانت الكاف توكيدًا لوقعت التثنية والجمع بالتاء كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلما فتحت التاء في خطاب الجمع، ووقع ميسم الجمع لغيرها، كان ذلك دليلًا على أن الكاف غير توكيد، ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصراف الفعل إلى الكاف، وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها) (¬3). والصحيح مذهب البصريين، وهذا الذي قاله يبطل بكاف ذلك وأولئك؛ لأن ميسم الجمع يقع عليها، وهي حرف للخطاب مجرد من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬2) "الحجة" لأبي علي 3/ 308 - 310، وانظر: "الحلبيات" لأبي علي ص 42 - 96. (¬3) ذكره السمين في "الدر" 4/ 621، وانظر: "تفسير الرازي" 12/ 222.

معنى الاسمية (¬1). واختلف القراء في هذا الحرف وما كان من بابه ودخل عليه ألف إلاستفهام، مثل {أَرَءَيْتُمْ} [الأنعام: 46] و {أَرَءَيْتَكُمْ} [الأنعام: 40] و {أَرَءَيْتَ} [الكهف: 63] و {أَفَرَءَيْتُم} (¬2) [الشعراء: 75] فحذف الكسائي همزة الرؤية، فقرأ: (أريتكم) (¬3) كأنه حذفها للتخفيف، كما قالوا: ويلمه (¬4)، وكما أنشده أحمد بن يحيى: إن لم أُقَاتلْ فالْبِسُوني بُرْقُعا (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 274، و"تفسير الطبري" 7/ 190، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 547، و"معاني القراءات" للأزهري 1/ 353، و"المشكل" لمكي 1/ 351، و"البيان" 1/ 321، و"التبيان" 1/ 332، و"الفريد" 2/ 146، و"المغني" لابن هشام 1/ 181. (¬2) قرأ نافع: (أرأيتكم) وما أشبهه مما قبل الراء همزة وبعدها همز، بهمز الأولى وتسهيل الثانية بين الهمز والألف لتكون كالمدة في اللفظ حيث وقع، وقرأ الكسائي بهمز الأولى وإسقاط الثانية، وقرأ الباقون بهمزها جميعًا). انظر: "السبعة" ص 257، و"المبسوط" ص 168، و"التذكرة" 2/ 398، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 1/ 397. (¬3) في (أ): (أرأيتكم). (¬4) وَيْلِمِّه: بفتح فسكون وكسر اللام أو ضمها وكسر الميم المشددة وبعدها هاء لفظ مركب يقال للمستجاد ويلمه أي ويل لأمه، أدغمت لام ويل في اللام الجارة ثم حذفت لكثرة الاستعمال فصار: وي لأمه، ثم حذفت الهمزة فصار ويلمه. انظر: "الحلبيات" ص 43، و"اللسان" 8/ 4939 (ويل). (¬5) لم أعرف قائله وهو في: "الحجة" لأبي علي 3/ 211، 6/ 340، و"كتاب الشعر" لأبي علي 1/ 303، و"المحتسب" 1/ 120، و"الخصائص" 3/ 151، والرازي 12/ 184، والقرطبي 5/ 101، و"البحر" 3/ 206، و"الدر المصون" 3/ 633، وهو رجز آخره: =

[أراد] (¬1) فألبسوني بقطع الهمزة ثم حذفها. وكقول أبي (¬2) الأسود (¬3): يَا بَا المُغِيرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ (¬4) ومما يقوي هذا المذهب قول الشاعر: وَمَنْ رَأ مثلَ مَعْدَان بْنِ لَيْلَى ... إذا ما النسْعُ طالَ على المَطِيَّة (¬5) ¬

_ = فتَخاتٍ في اليَدَينِ أَرْبَعا. والشاهد: فالبسوني، حيث حذف الهمزة، والأصل: فألبسوني. والفتخات، بفتح فسكون أو بفتحتين: حاتم يكون باليد والرجل. (¬1) لفظ: (أراد) ساقط من (ش). (¬2) في (ش): (ابن)، وهو تحريف. (¬3) أبو الأسود: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي أبو الأسود البصري مشهور بكنيته وفي اسمه ونسبه خلاف، وهو إمام تابعي عابد فاضل نحوي مقرئ فقيه، ثقة، شاعر فارس شجاع، واضع علم النحو، وأول من نقط المصحف، توفي سنة 69هـ. وله 85 سنة. انظر: "طبقات الزبيدي" ص 21، و"إنباه الرواة" 1/ 48، و"معجم الأدباء" 3/ 436، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 81، و"تهذيب التهذيب" 2/ 249، و"الأعلام" 3/ 236. (¬4) ديوانه ص 134، و"الحجة" لأبي علي 3/ 211، 307، 6/ 340، و"الشعر" لأبي علي 1/ 142، 303 و"أمالي ابن الشجري" 2/ 199، و"المقرب" ص 559، و"الممتع" 2/ 620، و"رصف المباني" ص 134، و"البحر" 5/ 52، و"الدر المصون" 4/ 617، وعجزه: فَرَّجْتهُ بالمَكْرِ مِنّى والدَّهَا والشاهد يا با، حيث حذف الهمزة من أيا. (¬5) لم أعرف قائله، وهو في: "الحجة" لأبي علي 3/ 307، 6/ 424، و"الحلبيات" ص 47، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 791، و"اللسان" 3/ 1537، (رأى)، و"الدر المصون" 4/ 618، والنسع بالكسر: سير مضفر تشد به الرحال، انظر "اللسان" 7/ 4410 (نسع)، و"الشاهد" (من رأ) حيث حذف، والأصل رأى.

فهذا على أنه قلب الهمزة [ألفا] (¬1) كما قلبها في قوله: لاَ هَناك المَرْتَعُ (¬2) واجتمعت مع المنقلبة عن اللام فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. وقرأ نافع بتليين همزة الرؤية فجعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي والباقون قرؤوا بتحقيق الهمزة؛ لأن الهمزة عين الفعل، ومذهب الكسائي حسن، وبه قرأ (¬3) عيسى بن ........ ¬

_ (¬1) لفظ: (ألفا) ساقط من (ش). (¬2) "الشاهد" للفرزدق في "ديوانه" 1/ 408، و"الكتاب" 3/ 554، و"المقتضب" 1/ 303، و"الكامل" 3/ 82، و"الأصول" 3/ 469، و" أمالي ابن الشجري" 1/ 120، 2/ 464، وبلا نسبة في: أضداد ابن الأنباري ص 209، و"الحجة" لأبي علي 1/ 398، و"العضديات" ص 174، و"الشعر" 1/ 145، و"الخصائص" 3/ 152، و"المحتسب" 2/ 173، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 666، و"المقرب" ص 538، وأوله: وَمَضَتْ لمسْلَمَة الرِّكابُ مُوَدِّعًا ... فَارْعَيْ فَزَازَةُ لا هَناك المَرْتَعُ وهو من قصيدة قالها حين عُزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وتولاها عمر بن هبيرة الفزاري، فدعا ألا يهنأ قومه بولايته. والشاهد: لا هناك، والأصل: هناك، حيث أبدل الهمزة ألفًا ضرورة. (¬3) لم أستطع تحديده، وهناك: أ- عيسى بن عمر الأسدي الهمداني أبو عمر الكوفي، إمام فاضل ثقة، مقرئ أهل الكوفة في زمانه، أخذ عن عاصم، وأخذ عنه الكسائي، توفي سنة 156 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 282، و"معرفة القراء" 1/ 119، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 199، و"غاية النهاية" 1/ 612، و"تهذيب التهذيب" 3/ 363. ب- عيسى بن عمر الثقفي، أبو عمر البصري. إمام صدوق نحوي، مقرئ من أئمة اللغة، ومن أول من هذب النحو ورتبة، أخذ عنه الخليل وسيبويه وأبو عمر بن العلاء، توفي بعد سنة 3/ 364. =

عمر (¬1)، وهو كثير في الشعر، قد (¬2) تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة قال عمر (¬3): أَرَيْتُكَ إذْ هُنّا عَليْكَ أَلَمْ نَخَفْ ... رَقِيبا وَحَوْلي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ (¬4) وأنشد أبو علي (¬5): أَرَيْتَ إنْ جئْتُ به أُمْلوُدًا ... مُرَجَّلًا وَيلْبَسُ البُرُوداَ (¬6) فأما (¬7) معنى الآية فقال ابن عباس: ({قُلْ} يا محمد {إِنْ أَتَاكُمْ ¬

_ = انظر: "إنباه الرواة" 2/ 374، و"معجم الأدباء" 16/ 146، و"وفيات الأعيان" 3/ 486، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 200، و"غاية النهاية" 1/ 613، و"تهذيب التهذيب" 3/ 364. (¬1) ذكرها عنه: أبو علي في "الحجة" 3/ 307، والنحاس في "إعرابه" 1/ 547، والرازي 12/ 223، والقرطبي 6/ 423. (¬2) في (ش): (وقد). (¬3) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 125، و"الدر المصون" 4/ 166. وأريتك: أي أخبرني. وحضر: أي حاضرون. والشاهد: (أريتك) حيث خفف، والأصل: أرأيتك. (¬4) في الديوان (وقيت) بدل (رقيبا). (¬5) "الحجة" 3/ 308، و"الحلبيات" ص 46، و"العسكريات" ص 107. (¬6) الشاهد لرؤبة في ملحق ديوانه ص 173، ولرجل من هذيل في "شرح أشعار الهذليين" للسكري 2/ 651. وذكر السيوطي في "شرح شواهد المغني" 2/ 759، أنه لامرأة مجهولة، وهو بلا نسبة في: "المحتسب" 1/ 193، و"الخصائص" 1/ 136، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 447، و"اللسان" 3/ 1538 (رأى) و"الدر المصون" 4/ 616. والأملود بالضم: الناعم اللين. والمرجل بالضم: المُزيَّن. ورجل شعره، أي: سرحه، والبرود بالضم: ثوب فيه خطوط من برود العصب والوشي. انظر: "اللسان" 1/ 250 (برد). والشاهد: تخفيف أريت، والأصل أرأيت. (¬7) انظر: في توجيه القراءات "إعراب القراءات" 1/ 156، و"الحجة" لابن خالويه ص 139، ولابن زنجلة ص 250، و"الكشف" 1/ 431.

عَذَابُ اللَّهِ} يريد: الموت {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} (¬1) يريد: القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} يريد: إلى من تتضرعون (¬2) إلى هذه الأصنام، يريد: أنكم عند العذاب وعند الموت والشدائد تخلصون وتوحدون وأنتم اليوم لا تصدقوني) (¬3)، انتهى كلامه. وقال أبو إسحاق: ({السَّاعَةُ} اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، واسم للوقت الذي يبعث فيه العباد، فالمعنى: {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} التي وُعِدتم فيها البعث والفناء؛ لأن قبل البعث موت الخلق كله {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} أي: أتدعون هذه الأصنام والأحجار التي عبدتموها (¬4) من دون الله عز وجل، فاحتج الله عليهم بما لا يدفعونه (¬5)؛ لأنهم كانوا إذا مسهم الضّر دعوا الله) (¬6). وقال غيره (¬7): (الآية حجة على من عبد غير الله بأنه إن أتاه عذاب من قبل الله جل وعز لم يلجأ في كشفه إلا إليه دون كل أحد سواه؛ لأنه لا يملك كشف عظيم البلاء إلا هو). ¬

_ (¬1) في (أ): (أتيكم)، وهو تحريف. (¬2) في (ش): (يتضرعون). (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 36، والبغوي 3/ 143، وانظر: "زاد المسير" 3/ 37. (¬4) في (أ): (التي عبد من دون الله)، وهو تحريف. (¬5) في (ش): (بما لا يدفعون). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 246. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 191، والسمرقندي 1/ 483، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 422 - 423: (في هذه الآية أعظم الاحتجاج؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، فإذا وقعوا في شدة دعوا الله) ا. هـ.

41

وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ... (¬1) [قوله {أَرَأَيْتَكُمْ}؛ لأنه بمعنى أخبروا كأنه قيل لهم: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}] (¬2) أخبروا من تدعون عند نزول النبلاء بكم. 41 - قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ}. (بل) هاهنا نفي دعائهم غير الله في الشدائد وإثبات دعائهم إياه (¬3). وقوله. تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}، أي: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم (¬4). وقوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} قال ابن عباس: (يريد: تتركونهم فلا تدعونهم؛ لأنه ليس عندهم ضر ولا نفع) (¬5) قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون المعنى: أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم) (¬6)، وهذا ¬

_ (¬1) السياق يظهر أن فيه سقطًا، وفي "الوسيط" 1/ 36، ما يبين ذلك حيث قال: (وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} جواب قوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} لأنه بمعنى أخبروا ..). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 191، والسمرقندي 1/ 484، وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 247: (بل استدراك وإيجاب بعد نفي، أعلمهم الله جل وعز أنهم لا يدعون في حال الشدائد إلا إياه، وفي ذلك أعظم الحجة عليهم؛ لأنهم قد عبدوا الأصنام) ا. هـ. ملخصًا. (¬4) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 247، والنحاس في "معانيه" 2/ 423، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 284، والبغوي 3/ 143. (¬5) ذكره الرازي ف ي "تفسيره" 12/ 223، وفي "تنوير المقباس" 2/ 18 - 19 نحوه، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 484، والبغوي 3/ 143. (¬6) قال الزجاج في "معانيه" 2/ 247: ({وَتَنْسَوْنَ} هاهنا على ضربين: جائز أن يكون تنسون تتركون، وجائز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من يسهون) ا. هـ ونحوه ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 548.

42

قول الحسن؛ لأنه قال: (تعرضون (¬1) عنه إعراض الناسي، أي: لليأس في النجاة من مثله) (¬2). وقال أبو علي: (التقدير: {وَتَنْسَوْنَ} دعاء {مَا تُشْرِكُونَ}] (¬3)، فحذف المضاف أي: تتركون دعاءه (¬4) والفزع إليه، إنما تفزعون إلى الله سبحانه، قال: ويجوز أن يكون من النسيان خلاف الذكر كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، أي: تذهلون فلا تذكرونه) (¬5)، انتهى كلامه، والعائد إلى الموصول محذوف على تقدير: ما تشركون به، وحذف به للعلم (¬6). 42 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ} قال ابن عباس: (فكفروا {فَأَخَذْنَاهُمْ}) (¬7)، قال أهل المعاني: (في الآية محذوف تقديره: رسلًا فخالفوهم فأخذناهم، وحسن الحذف للإيجاز به من غير إخلال للدليل المفهوم من الكلام) (¬8). وقوله تعالى: {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قال ابن عباس: (يريد: الفقر (¬9) ¬

_ (¬1) في (ش): (يعرضون). (¬2) ذكره الرازي 12/ 223، والقرطبي 6/ 423. (¬3) لفظ: (تشركون) ساقط من (ش). (¬4) في (ش): (تركون الفزع إليه). (¬5) "الحجة" لأبي علي 2/ 191، وانظر: "الدر المصون" 4/ 632. (¬6) انظر: "الدر المصون" 4/ 632. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) هذا قول عامة أهل التفسير. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 192، والسمرقندي 3/ 230، وابن عطية 5/ 198، وابن الجوزي 3/ 38، والرازي 12/ 224, والقرطبي 6/ 424. (¬9) في (ش): (الفقرا)، وهو تحريف.

والأسقام) (¬1). وقال الحسن: (البأساء: شدة الفقر من البؤس، {وَالضَّرَّاءِ}: الأمراض والأوجاع) (¬2). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} قال الزجاج: (لعل ترج، وهذا الترجي للعباد، والمعنى: فأخذناهم بذلك ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع، كما قال في قصة فرعون: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] قال سيبويه: "المعنى: (¬3) اذهبا أنتما على رجائكما، والله عز وجل عالم بما يكون ¬

_ (¬1) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1288 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (البأساء: الفقر، والضراء: السقم)، قال ابن أبي حاتم: (وروي عن ابن عباس وأبي العالية والحسن ومرة الهمذاني وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك) ا. هـ وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 38، عن ابن عباس أنه قال: (البأساء: الزمانة والخوف، والضراء: البلاء والجوع) ا. هـ. وذكر السيوطي في "الدر" 1/ 315 عن ابن عباس أنه قال: (البأساء: الخصب، والضراء: الجدب). وذكر أيضاً في "الدر" 1/ 437 عنه أنه قال: (البأساء: الفتن، والضراء: السقم). وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 198: (البأساء: المصائب في الأموال؛ والضراء: في الأبدان، هذا قول الأكثر وقيل: قد يوضع كل واحد بدل الآخر) ا. هـ. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 191، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 136، و "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 163، و"معاني الزجاج" 2/ 248، و"معاني النحاس" 2/ 423. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 224، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1288 عن الحسن قال: (البأساء: النبلاء، والضراء: هذه الأمراض والجوع ونحو ذلك) " وقال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن أنه قال: (البأساء: الفقر, والضراء: السقم). (¬3) في (أ): (والمعنى).

وراء ذلك" (¬1)، ومعنى التضرع: التخشع وهو حال ظاهرة (¬2) تنبئ عن الانقياد للطاعة، وأصله من الضراعة وهي الذلة، يُقال: ضرع الرجل يضرع ضراعة، وهو ضارع، ورجل ضرع: ذليل ضعيف (¬3). قال أبو إسحاق: (أعلم الله نبيه أنه قد أرسل قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا) (¬4)، وهذا يكون كالتسلية لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن قيل: أليس قوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 41] يدل على أنهم تضرعوا وهاهنا يقول: {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43] ولم يتضرعوا؟ قلنا: حال أولئك [كانت] (¬5) بخلاف حال هؤلاء في التضرع، وأولئك الذين تضرعوا عند نزول الشديدة غير هؤلاء الذين وصفوا بالقسوة وترك التضرع. أو نقول: (¬6) المراد [بالتضرع] (¬7) في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} تضرعًا بالإنابة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 248، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 424، وتفسير ابن عطية 5/ 199، ولم أقف عليه في الكتاب، وفيه 2/ 148، 3/ 233: (لعل طمع وإشفاق)، وانظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص30، و"معاني الحروف" للرماني ص 123، و"المغني" لابن هشام 1/ 286. (¬2) في (أ): (ظاهر). (¬3) قال أهل اللغة: (ضَرَعَ الرجل يضرَع ضَرَعًا وضَرَاعَة إذا استكان وذل، فهو ضارع بين الضَّراعة، وتَضَرَّع إلى الله، أي: ابتهل، والضَّرَعُ بالتحريك: الضعيف). انظر: "العين" 1/ 269، و"الجمهرة" 2/ 747، و"تهذيب اللغة" 3/ 2115، و"الصحاح" 3/ 1249، و "مقاييس اللغة" 3/ 395، و"المفردات" 506، و"اللسان" 5/ 2580 (ضرع). (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 248. (¬5) لفظ: (كانت) ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (أو يقول). (¬7) لفظ: (بالتضرع) ساقط من (أ).

43

[وإخلاص الطاعة، لا (¬1)] تضرعًا بالدعاء في كشف البلية دون إخلاص الإيمان (¬2). 43 - وقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} الآية. لولا (¬3). إذا دخلت على الاسم كان تعليلًا كقولك: لولا زيد لأتيتك. جعلت العلة المانعة من الإتيان مكان زيد، وإذا دخلت على الفعل كان تخصيصًا بمنزلة هلا، كقوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10]، والتقدير في الآية: لولا تضرعوا {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا}؛ وهذا معنى قول الفراء (¬4). قال ابن عباس (¬5) والحسن (¬6) في هذه الآية: (لولا بمنزلة هلا). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قال صاحب "النظم": (قوله {وَلَكِنْ} معطوف على تأويل الكلام الأول دون اللفظ، وذلك أن في قوله: هلا تضرعوا طرفًا من الجحد، وذلك أنهم لو كانوا قد تضرعوا، ما قيل: هلا تضرعوا، فكأنه قال: فلما جاءهم بأسنا لم يتضرعوا {وَلَكِنْ قَسَتْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 12/ 224، و"الفريد" للهمداني 2/ 148، و"تفسير القرطبي" 6/ 425. (¬3) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 3 - 5، و"معاني الحروف" للرماني ص 123، و"المغني" لابن هشام 1/ 272. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 1/ 334، وفيه قال: (معنى {فَلَوْلَا} فهلا ..). (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 19، وأخرجه ابن حسنون ص 36، والوزان ص 1/ ب في "لغات القرآن" بسند جيد عنه. (¬6) لم أقف عليه عن الحسن، وهو معنى ظاهر وموجود في عامة كتب التفسير. انظر: الطبري 7/ 192، و"معاني النحاس" 2/ 424، والسمرقندي 1/ 484، وابن عطية 5/ 199.

44

قُلُوبُهُمْ} فأقاموا على كفرهم، ومعنى {تَضَرَّعُوا} تخشعوا وتذللوا وخضعوا) (¬1). وقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} معنى تزيين الشيطان: إغراؤه بالمعصية بما فيها من المتعة واللذة (¬2). قال ابن عباس: (يريد زين لهم الشيطان الضلالة التي هم عليها فأصروا على معاصي الله) (¬3). 44 - قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} قال ابن عباس: (تركوا ما وعظوا به) (¬4)، وتأويله: تركوا العمل به. وقال مقاتل: (تركوا ما دعاهم إليه الرسل) (¬5). وقال أصحاب اللغة: (وإنما كان النسيان بمعنى الترك؛ لأن التارك للشيء إعراضًا قد صيره بمنزلة ما قد نُسي) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وكتاب "نظم القرآن" للجرجاني مفقود، وعلى هذا تكون لكن استدراكًا على المعنى، ويكون التخصيص في معنى النفي، وهو ظاهر كلام الزمخشري في "الكشاف" 2/ 19، والعكبري في "التبيان" 1/ 333، والهمداني في "الفريد" 2/ 149، وانظر: "الدر المصون" 4/ 633. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 193، وابن عطية 5/ 199. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 37. (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 37، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 39، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 193، وابن أبي حاتم 4/ 1290 بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (يعني: تركوا ما ذكروا به). وانظر: "الدر المنثور" 3/ 22. (¬5) "تفسيرمقاتل" 1/ 561. (¬6) انظر: "العين" 7/ 304، و"تهذيب اللغة" 4/ 3565، و"الصحاح" 6/ 2508، و"مقاييس اللغة" 5/ 421، و"المفردات" ص 803، و"اللسان" 7/ 4416 (نسى).

وقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قال ابن عباس: (بركات من السماء والأرض، يريد النعمة والسرور) (1). وقال مقاتل: ({أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} من الخير بعد التفسير الذي كانوا فيه) (2). (3) وقال الزجاج: ({فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} كان مغلقًا عنهم من الخير، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي: حتى إذا ظنوا أنه ما كان نزل بهم لم يكن انتقامًا من الله، وأنهم لما فتح عليهم ظنوا أن ذلك باستحقاقهم {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي: فاجأهم عذابنا من حيث لا يشعرون) (4). قال الحسن: في هذه الآية (مكر بالقوم، ورب الكعبة) (5).

_ (1) قال الواحدي في "الوسيط" 1/ 37: (قال ابن عباس ومقاتل والسدي: رخاء الدنيا وبسرها وسرورها) ا. هـ. وجاء في "تنوير المقباس" 2/ 19 {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} من الزهرة والخصب والنعيم) ا. هـ وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 193 بأسانيد جيدة عن مجاهد قال: (رخاء الدنيا ويسرها على القرون الأولى)، وعن قتادة قال: (يعني الرخاء وسعة الرزق)، وعن السدي قال: (يقول من الرزق)، واللفظ عام يشمل الجميع. (2) "تفسيرمقاتل" 1/ 561. (3) هنا حصل اضطراب في ترتيب نسخة (ش) حيث وقع ص 100 ب في ص 119 ب. (4) "معاني الزجاج" 2/ 248، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 424: (التقدير عند أهل اللغة: فتحنا عليهم أبواب كل شيء مغلقًا عنهم. ا. هـ. وانظر: "معاني الفراء" 1/ 335. (5) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1291 بسند ضعيف، وذكره أكثرهم. انظر: "الوسيط" 1/ 38، وابن الجوزي 3/ 39، والرازي 12/ 226، وابن كثير 2/ 149، والبيضاوي 1/ 301، و"الفتح السماوي" للمناوي 2/ 605، وفيه (أن البيضاوي جعله من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال السيوطي: لم أقف عليه مرفوعًا , وإنما هو من قول الحسن). ا. هـ.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله" ثم تلا هذه الآية (¬1). قال أهل المعاني: (إنما أخذوا في حال الرخاء ليكون أشد لتحسرهم علي ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف في ضروب اللذة إلى حال البلية والنقمة) (¬2). وقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} قال ابن عباس: (آيسون من كل خير) (¬3)، وهو قول مقاتل (¬4). وقال الفراء: (المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند إنقطاع حجته أو لا يكون عنده جواب: [قد] (¬5) أبلس (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" 4/ 145، و"الزهد" ص 18، وابن أبي الدنيا في "كتاب الشكر" ص 80، رقم (32)، والطبري 7/ 195، والدولابي في "الكنى" 1/ 217، وابن أبي حاتم 4/ 1291، والطبراني في "الكبير" 17/ 331، رقم (913)، والواحدي في "الوسيط" 1/ 38، من طرق جيدة يقوي بعضها بعضا، وصححه أبو حيان في "البحر" 4/ 130، وحسنه محقق مرويات أحمد في "التفسير" 2/ 103، وقال الألباني في "الصحيحة" 1/ 5/ 13، رقم (414): (هو عندي صحيح بالمتابعة) ا. هـ. وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 149، و"مجمع الزوائد" 7/ 20، 10/ 245، و"الدر المنثور" 3/ 22. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 12/ 226. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 19، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 39، وابن الجوزي 3/ 39، وابن كثير 2/ 149، وروى أبو عبيد ص 95، وابن حسنون ص 36، والوزان ص 6 أ، كلهم في اللغات في القرآن، بسند جيد عنه قال: (آيسون بلغة كنانة)، وفي "البحر" 4/ 131، عنه قال: (متحيرون). (¬4) "تفسيرمقاتل" 1/ 561. (¬5) لفظ: (قد) ساقط من (ش). (¬6) في (ش): (أبليس)، وهو تحريف.

قال العجاج: يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا (¬1) أي لم يُحر إليَّ جوابًا) (¬2). وقال الزجاج: (المبلس: الشديد الحسرة اليائس الحزين) (¬3). فالإبلاس في اللغة (¬4) يكون بمعنى: اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى: انقطاع الحجة، ويكون بمعنى: الحيرة بما يرد على النفس من البلية، وهذه المعاني متقاربة (¬5). وقال ابن الأنباري: (في قوله {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} عم وجمع تأكيدًا وتشديدًا. كما يقول القائل: أكلنا عند فلان كل شيء وكنا عنده في كل سرور. يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه ومثله قوله تعالى: ¬

_ (¬1) "ديوانه" 1/ 185، و"مجاز القرآن" 1/ 192، و"الكامل" للمبرد 2/ 191، والطبري 7/ 195، 11/ 363، و"تهذيب اللغة" 1/ 385، و"الصحاح" 3/ 909، والماوردي 2/ 114، وابن الجوزي 3/ 40، والقرطبي 6/ 427، و"اللسان" 1/ 343 (بلس) وص 7/ 3854 (كرس)، والمكرس، بكسر فسكون: المتلبد من آثار الأبوال والأبعار حتى صار طرائق بعضه على بعض. وأبلس: سكت. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 330، والرجز فيه غير منسوب. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 249. (¬4) انظر: "العين" 7/ 262، و"الجمهرة" 1/ 340، و"تهذيب اللغة" 1/ 385، و"الصحاح" 3/ 909، و"مقاييس اللغة" 1/ 300، و"مجمل اللغة" 1/ 135، و"المفردات" ص 143، و"اللسان" 1/ 343 (بلس). (¬5) هذا معنى كلام الطبري في "تفسيره" 7/ 195، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص 422، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 192، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 136، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 164، وذكر مثل كلام الواحدي الرازي في "تفسيره" 12/ 226.

45

{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] (¬1). 45 - قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الدابر: التابع (¬2) [للشيء من خلفه كالولد للوالد. قال الليث: (الدبر التابع (¬3)] يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبرًا ودبورًا إذا كان آخرهم) (¬4). قال أمية بن أبي (¬5) الصلت: فَاستؤصلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلا انْتَصرُوا (¬6) وقال أبو عبيدة: ({دَابِرُ الْقَوْمِ}: آخرهم الذي يدبرهم (¬7)، وأنشد: آلُ المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ ... أَضْحَوْا رَمَادًا فلا أصْلٌ ولا طَرَفُ) (¬8) وقال الأصمعي وغيره: (الدابر: الأصل، يقال: قطع الله دابره، أي: ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 39. (¬2) انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 296، و"الصحاح" 2/ 653، و"مقاييس اللغة" 2/ 324، و"مجمل اللغة" 2/ 345، و"المفردات" ص 307، و"عمدة الحفاظ" ص 173 (دبر). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) النص في "العين" 8/ 32، والرازي 12/ 226، و"الدر المصون" 4/ 635، بلا نسبة، ولعل الواحدي تأثر برأي الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1142 حيث زعم أن العين لليث وليس للخليل. (¬5) لفظ: (أبي) ساقط من (ش). (¬6) "ديوانه" ص 389، والطبري 7/ 196، والرازي 12/ 226، والقرطبي 6/ 427، و"البحر" 4/ 141، و"الدر المصون" 4/ 635، وحص أي: لم يبق شيئًا، والحص بالفتح: حلق الشعر، انظر: "اللسان" 2/ 899 (حص). (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 192. (¬8) "الشاهد" لجرير في ديوانه ص 308، و"مجاز القرآن" 2/ 40، و"الكامل" للمبرد 3/ 135، والجذ، بالفتح: القطع المستأصل. انظر: "اللسان" 1/ 591 (جذ).

أذهب الله أصله، وأنشده (¬1): فِدًى لكُمَا رجْلَيَّ رحلي وناقتي ... غَداةَ الكُلاَّبِ إذ تُحَزُّ الدَّوابِرُ أي: يقتل القوم فتذهب (¬2) أصولهم ولا يبقى لهم أثر) (¬3). وقال ابن بزرج (¬4): (دابر الأمر: آخره. ودابر الرجل: عقبه، وقولهم: قطع الله دابرهم: دعاء عليه (¬5) بانقطاع العقب حتى لا يبقى أحد يخلفه). (¬6) فأما التفسير: فقال الكلبي: ({دَابِرُ الْقَوْمِ} غابرهم الذي يتخلف في آخر القوم) (¬7)، ونحو ذلك قال قطرب (¬8) (¬9). وقال السدي وابن زيد: ({دَابِرُ الْقَوْمِ}: أصل القوم) (¬10)، والمعنى: ¬

_ (¬1) الشاهد لوعلة بن الحارث الجرمي شاعر جاهلي. في "اللسان" 3/ 1318، و"التاج" 6/ 388 (دبر)، وهو للحارث بن وعلة الجرمي في "المفضليات" ص 165، وبلا نسبة في "الزاهر" 1/ 465، و"تهذيب اللغة" 14/ 111 (دبر)، وفي هذه المراجع: أمي وخالتي، بدل: رحلي وناقتي، وفي "الزاهر": رجلاي، بدل: رجلي، والكلاب بالضم هو يوم كلاب الثاني بين تميم واليمن حيث أكثرت تميم من قتلهم وحز عراقيبهم، وتحز أي: تقطع، والدوابر الأصول، أي: يقتل القوم فتذهب أصولهم ولا يبقى لهم أثر. انظر: حاشية المفضليات. (¬2) في (ش): (فيذهب). (¬3) النص عن الأصمعي في المراجع السابقة سوى المفضليات. (¬4) عبد الرحمن بن بزرج اللغوي، تقدمت ترجمته. (¬5) في (ش): (عليهم). (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1142. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 39، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 40 - 41. (¬8) قطرب: محمد بن المستنير بن أحمد اللغوي النحوي أبو علي البصري، تقدمت ترجمته. (¬9) ذكره الثعلبي 177 ب. (¬10) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 196، وابن أبي حاتم 4/ 1293 بسند جيد عن السدي، ولفظه: (قطع أصل الذين ظلموا)، وعن عبد الرحمن بن زيد، ولفظه: قال: (استؤصلوا)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 23.

قُطع خلفهم من نسلهم وغيرهم، فلم تبق (¬1) لهم باقية؛ لأنهم استؤصلوا بالعذاب. وأحسب الذين فسروا الدابر بالأصل ذهبوا إلى أن الأصل يبقى ببقاء النسل، فإذا انقطع النسل (¬2) انقطع الأصل وذهب، ففي قطع الدابر قطع الأصل، وحقيقة تفسير الدابر الآخر (¬3) والعقب والأصل معنى وليس بتفسير. وقوله تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الزجاج (¬4): (حمد الله عز وجل نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم) (¬5)، ومعنى هذا: أن قطع دابرهم نعمة على الرسل الذين أرسل إليهم فكذبوهم، فذكر الحمد هاهنا تعليم لهم ولمن آمن بهم ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم شر الذين ظلموا , وليحمد محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ربهم إذ أهلك المشركين المكذبين (¬6). ¬

_ (¬1) في (ش): (فلم يبق). (¬2) في (ش): (فإذا انقطع الأصل وذهب ففي قطع الدابر). (¬3) هذا قول أكثر أئمة اللغة والتفسير. انظر: المراجع السابقة في دبر، وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 137، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 164، و"معاني القرآن" للنحاس 2/ 425، و"تفسير ابن عطية" 5/ 201. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 249، وجاء بعده: [لأنه جل وعز أرسل إليهم الرسل، وأنظرهم بعد كفرهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، فبالغ جل وعز في إنذارهم وإمهالهم فحمد نفسه؛ لأنه محمود في إمهاله من كفر به وانتظاره توبته). (¬5) الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب. أي: إذا قطعت مات صاحبها، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو أزاله من أصله. انظر: "القاموس" ص 822 (شأفه). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 196، والبغوي 3/ 144، والرازي 12/ 226.

46

46 - قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} قال ابن عباس: (يريد: فلا يسمعون القرآن (¬1)، ولا يبصرون (¬2) سبل الهدى، ولا يفهمون (¬3) ثوابًا , ولا يخافون عقابًا) (¬4). وقال الكلبي: (أي {أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} فلا تسمعوا موعظة، {وَأَبْصَارَكُمْ} فلا تبصروا الحق، {وَخَتَمَ} وطبع {عَلَى قُلُوبِكُمْ} فلم تعرفوا (¬5) الحق ولم تعقلوا الهدى) (¬6)، ونحو هذا قال مقاتل (¬7). وقوله تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}) {مَنْ} رفع بالابتداء وخبره {إِلَهٌ} و {غَيْرُ} صفة له (¬8). وقوله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِهِ} قال الزجاج: (هذه الهاء تعود على معنى الفعل المعنى {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ} ما أُخذ منكم، قال: ويجوز أن يعود ¬

_ (¬1) في (أ): (فلا تسمعوا القرآن). (¬2) في (أ): (ولا تبصرون سبيل الهدى). (¬3) في (أ): (ولا تفهمون). (¬4) جاء في "تنوير المقباس" 2/ 20، قال: ({إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} فلم تسمعوا موعظة ولا هدى {وَأَبْصَارَكُمْ} فلم تبصروا الحق {وَخَتَمَ} طبع {عَلَى قُلُوبِكُمْ} فلم تعقلوا الحق والهدى) ا. هـ. (¬5) في (ش): (يعرفوا الحق). (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 20، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 192. (¬7) قال مقاتل في "تفسيره" 1/ 561 ({قُلْ} لكفار مكة يا محمَّد {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} فلم تسمعوا شيئًا {وَخَتَمَ} يعني: وطبع، {عَلَى قُلُوبِكُمْ} فلم تعقلوا شيئًا) ا. هـ. (¬8) انظر: "التبيان" 334، و"الفريد" 2/ 150، و"الدر المصون" 4/ 636. وفيها: ({مَنْ} استفهام في موضع رفع بالابتداء و {إِلَهٌ} خبر، و {غَيْرُ اللَّهِ} صفة الخبر) ا. هـ.

على السمع ويكون ما عطف على السمع داخلًا في القصة معه إذ كان معطوفًا عليه) (¬1). قال الحسين (¬2) بن الفضل (¬3): (المخاطبة للمؤمنين؛ لأن الكفار كانوا صماً بكمًا عميًا لا يعقلون؛ لأن (¬4) الله قد أخذها منهم، وكأنه يقول للمؤمنين: أرأيتم إن أخذها الله منكم فمن يردها عليكم) (¬5). واختلفوا في قوله: {بِهِ انْظُرْ} فروى المسيبي (¬6) عن نافع {بِهِ انْظُرْ} ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 249، ولم يذكر إلا الوجه الأخير فقط، وذكر الوجه الأول عن الزجاج ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 41، وقد ذكر الوجهان الاْخفش في "معانيه" 2/ 275، و"النحاس" في معانيه 2/ 426، وذكر الفراء في "معانيه" 1/ 335: (أنها تعود على الجميع السمع والبصر والختم على الأفئدة، وقال: وقد يقال: إن الهاء التي في "به" كناية عن الهدى، وهو كالوجه الأول) ا. هـ. وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 196 - 197، و"الفريد" 2/ 150، و"الدر المصون" 4/ 636. (¬2) في (ش): (الحسن)، وقد ورد كذلك في بعض المصادر. انظر: مقدمة كتاب "الأمثال" له ص 11 - 14. (¬3) الحسين بن الفضل بن عمير بن قاسم بن كيسان البجلي، تقدمت ترجمته. (¬4) في (أ): (كان الله). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) المسيبي هو: إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب المخزومي أبو محمد المدني، إمام جليل صدوق عالم بالحديث، قيم في قراءة نافع ضابط لها، محقق فقيه، ورمي بالقدر، توفي سنة 206 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 234، و"معرفة القراء" 1/ 147، و"ميزان الاعتدال" 1/ 200، و"غاية النهاية" 1/ 157، و"تهذيب التهذيب" 1/ 127، والمسيبي بالضم وفتح السين والباء المشددة وبعدها ياء نسبة إلى الجد الأعلى. انظر: "اللباب" 2/ 214.

بضم الهاء (¬1) هو على لغة من يقرأ: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] (¬2) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار {بِهِ انْظُرْ}، والباقون يكسرون الهاء (¬3). قال ابن عباس في قوله تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} (أي: لا يقدر هؤلاء الذين تعبدون أن يجعلوا لكم أسماعًا وأبصارًا وقلوبًا تعقلون (¬4) بها وتفهمون) (¬5) وهذا يدل على أن الآية في الكفار، وكذلك باقي الآية يدل على هذا، وحينئذٍ يحمل أخذ هذه الأعضاء على إذهابها أصلا يقول: إن أخذها حتى لا تبصروا ولا تسمعوا بتة من يردها عليكم (¬6). ¬

_ (¬1) روى المسيبي عن نافع {بهُ انظُر} بضم الهاء، وقرأ الباقون بكسرها. انظر: "السبعة" ص 257 - 258، و"إعراب القراءات" 1/ 72، و"التذكرة" 2/ 398. (¬2) القراءة المشهورة بكسر الهاء من {بِهِ وَبِدَارِهِ}، وقرأ شيبة بن نصاح المدني المقرئ -بالضم فيهما، انظر: "إعراب القرءات" 1/ 73، وذكر القراءة بالواو أبو علي في الحجة 3/ 310 بلا نسبة. (¬3) ما تقدم قول أبي علي في الحجة 3/ 310، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 354، و"الدر المصون" 4/ 637. (¬4) في (ش): (يعقلون بها ويفهمون). (¬5) جاء في تنوير المقباس 2/ 20 نحوه، قال: ({مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} (يعني: الأصنام) {يَأْتِيكُمْ بِهِ} بما أخذ الله منكم) ا. هـ. (¬6) الأولى العموم، وهو قول الجمهور، وأول ما يدخل في ذلك الكفار، إلا أن ظاهر الآية والسياق يدل على أن المراد الكفار والله سبحانه يخبرهم أنه كامل القدرة ولا أحد يأتي بما أخذ منهم، فيجب إفراده بالعبادة وقد يذهب الله تعالى المعاني القائمة في هذه الجوارح أو يذهب الجوارح والأعراض جميعًا فلا يبقي شيئًا. وهو قول الآكثر. انظر: الطبري 7/ 197، والسمرقندي 1/ 486، والبغوي 3/ 144, وابن عطية 5/ 202 , والقرطبي 6/ 428.

وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} قال الكلبي: (يبين لهم في القرآن الآيات) (¬1). وقال أهل المعاني: (معنى تصريف الآيات: توجيهها في الجهات التي تظهرها أتم الإظهار). وقوله تعالى: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} قال الليث: (الصدوف: الميل عن الشيء) (¬2)، وقال أبو عبيد: (صدف، ونكب: عدل) (¬3). وقال ابن عباس (¬4) والحسن (¬5) ومجاهد (¬6) وقتادة (¬7) والسدي (¬8): ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 20. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1990، وانظر: "العين" 7/ 102. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1990، وانظر: "الجمهرة" 2/ 655، والصحاح 4/ 1384، والمجمل 2/ 552، و"المفردات" ص 478، و"اللسان" 4/ 2416 (صدف). (¬4) أخرجه أبو عبيد ص 96، وابن حسنون 24، والوزان ص 3/ ب، كلهم في اللغات بسند جيد، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص 113، و"الوسيط" 1/ 40، والقرطبي 6/ 428 - "البحر المحيط" 4/ 132، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 197، وابن أبي حاتم 4/ 1294 بسند جيد عن ابن عباس قال: {يَصْدِفُونَ} (يعدلون) وذكره ابن كثير 2/ 150، والسيوطي في "الدر" 3/ 23. (¬5) ذكره القرطبي 6/ 428، وأبو حيان في "البحر" 4/ 132، عن الحسن البصري. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 214، وأخرجه الطبري 7/ 197، وابن أبي حاتم 4/ 1294 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 24. (¬7) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 206 - 207، والطبري 7/ 197 بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1294 عن قتادة وأبي مالك، وذكره أيضًا الواحدي في "الوسيط" 1/ 40، والقرطبي 6/ 428، وابن كثير 2/ 150. (¬8) ذكره القرطبي 6/ 428، وأبو حيان في "البحر" 4/ 132، وأخرج الطبري 7/ 197، وابن أبي حاتم 4/ 1294 بسند جيد عن السدي قال: {يَصْدِفُونَ} يصدون). وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 150.

47

{ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}: (يعرضون) (¬1) قال عدي بن الرقاع: إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدف (¬2) قال أبو إسحاق: (أعلم الله عز وجل أنه يُصرف لهم الآيات، وهي العلامات التي تدل على توحيده وصحة نبوة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم هم يعرضون عما وضح لهم وظهر عندهم) (¬3). 47 - قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} قال ابن عباس والحسن: (ليلًا أو نهارًا) (¬4) وقال الكلبي: (فجأة أو علانية) (¬5). قال أهل المعاني: (نقيض الجهرة الخفية، وهاهنا قوبل بالبغتة؛ لأن البغتة متضمنة معنى الخفية؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون، فخفى (¬6) سببه) (¬7). ¬

_ (¬1) هذا قول أكثر أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 192، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 137، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 1/ 164، و"تفسير السمرقندي" 1/ 486، وابن عطية 52/ 202. (¬2) "ديوانه" ص 63، والطبري 7/ 197، وابن عطية 5/ 202، والقرطبي 6/ 428، و"البحر" 1/ 117، و"الدر المصون" 4/ 636، وصدف أي: معرض. (¬3) "معاني القرآن للزجاج" 2/ 249. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 41، والبغوي 3/ 145، عن ابن عباس والحسن، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 526، وابن عطية 5/ 203، والقرطبي 6/ 429، وأبو حيان في "البحر" 4/ 132، عن الحسن فقط، وذكره الخازن في "تفسيره" 2/ 134 عن ابن عباس فقط. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 20. (¬6) في (ش): (فيخفى). (¬7) انظر: "تفسير الرازي" 12/ 228.

48

وقوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: (يريد: الذين جعلوا لله شركاء) (¬1)، قال الزجاج: (أي: {هَلْ يُهْلَكُ} إلا أنتم ومن أشبهكم؛ لأنكم كفرتم وأنتم معاندون وقد علمتم أنكم ظالمون) (¬2). 48 - قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} الآية، قال أبو إسحاق: (أي: ليس إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما يأتون من الآيات بما يبين براهينهم، وإنما قصدهم التبشير والإنذار) (¬3)، ثم ذكر ثواب المصدّق في باقي الآية وعقاب المكذب في الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: 49] ومعنى المسّ (¬4) في اللغة: التقاء الشيئين من غير فصل، وقيل: {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} لأنه يحل فيهم وكأنه مماس لهم والفرق (¬5) بينه وبين اللمس: أن اللمس مماسه بحاسّة والمسّ قد يكون بحاسّة وبغير حاسّة؛ لأن الحجر يماسّ الحجر ولا يلمسه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 145، و"تنوير المقباس" 2/ 20. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 250. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 250، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 427. (¬4) المَسُّ أصله: جَسُّ الشيء باليد ومسكه بها. انظر "العين" 7/ 208، و"الجمهرة" 1/ 135، و"تهذيب اللغة" 4/ 3398، و"الصحاح" 3/ 978، و"مقاييس اللغة" 5/ 271، و"المفردات" ص 766، و"اللسان" 7/ 4195 (مس). (¬5) في (أ): (في الفرق)، وهو تحريف. (¬6) اللمس: الجس أيضًا. وأصله: المس باليد ليعرف مَسَّ الشيء ثم كثر حتى صار كل طالب مُلتمِسا. انظر: "العين" 7/ 268، و"الجمهرة" 2/ 859، و"تهذيب اللغة" 4/ 3296، و"الصحاح" 3/ 975، و"المجمل" 3/ 774، و"مقاييس اللغة" 5/ 210، و"المفردات" ص 747، و"اللسان" 7/ 4072 (لمس). قال العسكري في "الفروق" ص 249 - 250. (الفرق بينهما أن اللمس يكون باليد =

50

50 - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} الآية الخزائن (¬1): جمع الخِزانة وهي اسم المكان الذي يُخزن فيه الشيء. وخَزَنُ الشيء إحرازُه بحيث لا تناله (¬2) الأيدي، والخزانة أيضًا عمل الخازن (¬3)، قال ابن عباس (¬4): (يريد: خزائن رحمة الله). وقال الكلبي (¬5): (أي: رزق الله). وقوله تعالى: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} قال ابن عباس: (يريد: عاقبة ما يصيرون إليه) (¬6)، وقال الكلبي (¬7): (يعني: نزول ذلك الرزق على {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (¬8) فتنكروا قولي وتجحدوا أمري). ¬

_ = خاصة للتعرف على الشيء، والمس يكون باليد وبالحجر وغير ذلك، ولا يقتضي أن يكون باليد) ا. هـ. بتصرف. (¬1) انظر: "العين" 4/ 209، و"الجمهرة" 1/ 596، و"الصحاح" 5/ 2108، و"مقاييس اللغة" 2/ 178، و"المفردات" ص 280، و"اللسان" 2/ 1154 (خزن). (¬2) في (ش): (يناله). (¬3) هذا قول الأزهري في "تهذيبه" 1/ 1027. (¬4) في "تنوير المقباس" 2/ 21: (مفاتيح خزائن الله من النبات والثمار والمطر والعذاب) ا. هـ. (¬5) ذكره الماوردي 2/ 115، وأبو حيان في "البحر" 4/ 133. والأولى العموم، ويحمل ما ورد على بيان بعض الأنواع، فالخزائن لفظ عام يشمل الغيب والرحمة والقدرة والعذاب وغيره. انظر: الطبري 7/ 199، والسمرقندي 1/ 486، والبغوي 3/ 145، والقرطبي 6/ 430. (¬6) في "تنوير المقباس" 2/ 21: (أي: من نزول العذاب {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} من السماء) ا. هـ. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) في النسخ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}، وهو تحريف.

وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} قال ابن عباس: (يريد: ما أخبركم إلا بما أنزله الله إلى) (¬1). وقال الكلبي (¬2): (أي: ما أعمل إلا بما ينزل عليّ). وقال أبو إسحاق: (أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ولا يعلم الغيب فيخبركم بما غاب عنه مما مضى ومما سيكون إلا بوحي من الله عز وجل وليس بملك يشاهد من أمور الله عز وجل ما لا يشاهده البشر: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬3)، (أي: ما أنبأتكم به من غيب فيما مضى وفيما سيكون فهو بوحي من الله عز وجل) (¬4). وقال أهل العلم (¬5) قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يدل بظاهره على (¬6) أن الرسل لا يجتهدون ولا يقيسون، والصحيح من مذهب الشافعي أنهم يقيسون ويجتهدون، وعنده أن القياس على النصوص بالوحي اتباع للوحي) (¬7). ¬

_ (¬1) لفظ: (إلى) ساقط من (أ)، والأثر لم أقف عليه. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 21. (¬3) في (أ): ({إِلَّا مَا يُوحَى} أي: إلى ما أنبأتكم به) وهو تحريف. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 250، وهذا قول الأكثر. انظر: الطبري 7/ 199، و"معاني النحاس" 2/ 427، والسمرقندي 1/ 486، والماوردي 2/ 116، والبغوي 3/ 145. (¬5) في (ش): (المعاني). (¬6) في (ش): (إلى)، وهو تحريف. (¬7) انظر: "الرسالة" للشافعي ص 39 - 40، ص 503 - 511، و"تفسير الرازي" 12/ 231، وقال القرطبي في "تفسيره" 6/ 430: (والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد والقياس على النصوص، والقياس أحد أدلة الشرع) ا. هـ.

وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} قال ابن عباس: يريد: بالأعمى: الكافر {وَالْبَصِيرُ} الذي قد أبصر دينه) (¬1). وقال قتادة: {الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}: (الكافر والمؤمن) (¬2). وقال سعيد ابن جبير (¬3) ومجاهد (¬4): (الضالّ، والمهتدي)، وقيل: الجاهل، والعالم) (¬5). (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) قال ابن عباس: (يريد: يعتبرون (¬6)) (¬7). وقال مقاتل: ((أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) (¬8) أنهما لا يستويان) (¬9). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 21، وذكره ابن الجوزي 3/ 43، و"البحر" 4/ 134. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 199 وابن أبي حاتم 4/ 1296 بسند جيد، وذكره أكثرهم، انظر: "الوسيط" 1/ 42، والبغوي 3/ 145، وابن الجوزي 3/ 43، و"الدر المنثور" 3/ 24، وهو قول مجاهد كما ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 428، والقرطبي 6/ 430. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 42، وابن الجوزي 3/ 43، وأبو حيان في "البحر" 4/ 134. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 215، وأخرجه الطبري 7/ 199، وابن أبي حاتم 4/ 1296 من طرق جيدة، وذكره أكثرهم. انظر: "الوسيط" 1/ 42، والبغوي 3/ 145، وابن الجوزي 3/ 43، و"الدر المنثور" 3/ 24. (¬5) ذكره الماوردي 2/ 117، والبغوي 3/ 145، والقرطبي 6/ 430، والظاهر العموم إلا أن السياق يرجح المؤمن والمهتدي والكافر والضال، وهو اختيار أكثرهم. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 562 والطبري 7/ 199، والسمرقندي 1/ 486، وابن عطية 5/ 205. (¬6) في (ش): (تعتبرون). (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 21، والسمرقندي 1/ 486. (¬8) في (أ): (يفكرون)، وهو تحريف. (¬9) "تفسير مقاتل" 1/ 562.

51

51 - قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} الآية، معنى الإنذار (¬1): الإعلام بموضع المخافة، وهو مما تقدم (¬2) بيانه (¬3)، وقوله: {بِهِ} قال ابن عباس: (يقول: خوَّف بالقرآن) (¬4). وقاله الزجاج (¬5)، وقال الضحاك: (بالله) (¬6). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} قال ابن عباس (¬7) والحسن (¬8): (يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من شدة الأهوال). وقال الضحاك (¬9): (يعلمون {أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}). ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 8/ 180، و"الجمهرة" 2/ 695، و"تهذيب اللغة" 4/ 3547، و"الصحاح" 2/ 825، و"مقاييس اللغة" 5/ 414، و"المفردات" ص 797، و"اللسان" 7/ 4390 (نذر). (¬2) في (ش): (يقدم)، وهو تحريف. (¬3) انظر "البسيط" 2/ 464 - 465، تحقيق الدكتور محمد الفوزان. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 22، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 42، والرازي 12/ 232. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 251. (¬6) ذكره الثعلبي 177 ب، والرازي 12/ 232، والأول أولى وهو قول الأكثر، وقال الرازي: (هو أولى لأن التخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى)، وهو اختيار مقاتل 1/ 562، والطبري 7/ 200، والنحاس في "معانيه" 2/ 428، والسمرقندي 1/ 486، والبغوي 3/ 145، وابن عطية 5/ 206. وانظر: القرطبي 6/ 430، و"البحر" 4/ 134. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 42. (¬8) ذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 431. (¬9) لم أقف عليه، وذكر الطبري 7/ 200، هذا القول وقال: (وضعت المخافة موضع العلم؛ لأنه خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك) ا. هـ. وقال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 191: (تأتي خاف بمعنى علم. وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} لأن في الخشية =

قال الفراء: {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} (علمًا بأنه سيكون، ولذلك فسر المفسرون {يَخَافُونَ}: يعلمون) (¬1). وقال الزجاج: (المراد بالذين {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي. قال (¬2): وإنما خص الذين يخافون الحشر دون غيرهم وهو - صلى الله عليه وسلم - كان ينذر جميع الخلق؛ لأن {الَّذِينَ يَخَافُونَ} الحشر الحجة عليهم أوجب، لاعترافهم بالمعاد) (¬3). وقال غيره من أهل المعاني: (هم الكفار؛ لأنهم يشكّون في الحشر، ولذلك قال: {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا}) (¬4). وقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهِمْ} أي: إلى المكان الذي جعله ربهم لمجتمعهم (¬5). ¬

_ = والمخافة طرفًا من العلم) ا. هـ وقال ابن عطية 5/ 206: (يخافَوَن على بابها وكونها بمعنى العلم غير لازم) ا. هـ وانظر البغوي 3/ 145. (¬1) "معاني الفراء" 1/ 336. (¬2) لفظ: (قال) ساقط من (ش). (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 251، و"النحاس" 2/ 428. (¬4) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 206، والرازي 12/ 232، قال ابن عطية: (الآية تعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم وكتابي والنبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بإنذار جميع الخلائق، وإنما وقع التخصيص هنا بحسب المعنى الذي قصد، ذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعًا من اليأس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة. فكأنه قيل له هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا، ودعهم ورأيهم لأنفسهم، وأنذر هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت مستقر) ا. هـ ملخصًا. (¬5) انظر "تفسير الرازي" 12/ 233.

وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} موضع {لَيْسَ} نصب بوقوعها موقع الحال، كأنه قيل: متخلّين من ولي أو شفيع والعامل فيه {يَخَافُونَ} (¬1)، قال الضحاك: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} (أي: غير الله {وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}) (¬2). وقال أبو إسحاق: (إن النصارى واليهود ذكرت أنها أبناء الله وأحباؤه فأعلم الله عز وجل أن أهل الكفر ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع) (¬3)، وهذا الذي قاله ظاهر في أهل الكفر. والمفسرون على أن الآية في المؤمنين، ويكون معنى قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} على قولهم: إن شفاعة الرسل والملائكة للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وذلك راجع إلى الله لما كان بإذن الله (¬4). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} قال ابن عباس: (كي يخافون في الدنيا وينتهوا عما نهيتهم) (¬5). ¬

_ (¬1) واختار هذا الزمخشري في "الكشاف" 2/ 21. وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 206، و"الفريد" 2/ 152، و"البحر" 4/ 135، وذكر هذا القول الرازي 12/ 2330، عن الزجاج. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 251. (¬4) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 206، والرازي 12/ 233. (¬5) ذكره الرازي 12/ 193، وفي "تنوير المقباس" 2/ 23 نحوه.

52

52 - قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية. أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن محمد الحارثي، أنبأ أبو محمد عبد الله بن محمد (¬1) بن جعفر، حدثنا أبو يحيى عبد الرحمن (¬2) بن محمد الدارمي (¬3)، حدثنا سهل بن عثمان (¬4) العسكري، حدثنا أسباط (¬5) بن محمَّد، عن ¬

_ (¬1) عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري أبو محمد الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ، إمام ورع ثقة محدث مفسر له تصانيف جيدة توفي سنة 369 هـ. وله 95 سنة. انظر: "ذكر أخبار أصبهان" 2/ 90، و"سير أعلام النبلاء" 16/ 276، و"تذكرة الحفاظ" 3/ 945، و"غاية النهاية" 1/ 447، و"طبقات الداودي" 1/ 246. (¬2) عبد الرحمن بن محمد بن سَلْم الرازي أبو يحيى الأصبهاني، إمام ثقة كثير السماع، وهو إمام جامع أصبهان، وكان من أوعية العلم، صنف التفسير والمسند، وتوفي سنة 291 هـ. وله نحو 80 سنة. انظر: "طبقات المحدثين لأبي الشيخ" 3/ 530، وذكر "أخبار أصبهان" 2/ 112، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 530، و"تذكرة الحفاظ " 2/ 690، و"طبقات الحافظ " ص 303، و"طبقات الداودي" 1/ 288. (¬3) في (أ): (ابن الدارمي). وهو: بفتح الدال وسكون الألف وكسر الراء وبعدها ميم، نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم. انظر: "اللباب" 1/ 484، ولم أجد من نسبه إلى ذلك، وقد جاء السند نفسه عند الواحدي في "أسباب النزول" ص 220، وفيه: (أبو يحيى الرازي عن سهل). (¬4) سَهْل بن عثمان بن فارس الكندي أبو مسعود العسكري نزيل الري، إمام حافظ ثقة كثير الفوائد وله غرائب. توفي سنة 235 هـ وله نحو 80 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 203، و"طبقات المحدثين" 2/ 119، و"أخبار أصبهان" 1/ 338، و"سير أعلام النبلاء" 11/ 454، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 452، و "تهذيب التهذيب" 2/ 125. (¬5) أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد القرشي أبو محمد الكوفي، إمام ثقة محدث، توفي سنة 200 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 393، و"الجرح والتعديل" 2/ 333، و"تاريخ بغداد" 5/ 46، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 355، و"تهذيب التهذيب" 1/ 109.

الأشعث (¬1) بن سوار عن كردوس (¬2)، عن عبد الله بن مسعود قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب (¬3) وخبّاب (¬4) وبلال (¬5) وعمار وغيرهم (¬6) من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء ¬

_ (¬1) أشعث بن سوار الكندي النجار القاص، أحد العلماء، على لين فيه، وقد ضعفه أكثر أئمة "الجرح والتعديل" توفي سنة 136 هـ انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 358، و"الجرح والتعديل" 2/ 271، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 275، و"ميزان الاعتدال" 1/ 263، و"تهذيب التهذيب" 1/ 178. (¬2) كُرْدُوس بن عباس الثعلبي الكوفي القاص، اختلف في اسم أبيه، وهو تابعي مقبول، توفي بعد المائة. انظر: "التاريخ الكبير للبخاري" 7/ 242، و"الجرح والتعديل" 7/ 175، و"تهذيب التهذيب" 3/ 467، و"تقريب التهذيب" 1734. (¬3) صُهَيْبُ بن سِنان بن مالك النَّمِري، أبو يحيى الرُّومي، صاحبي جليل، تقدم. (¬4) خَبَّابُ بن الأَرَتِّ بن جَندلة بن سعد التميمي، أبو عبد الله، نزيل الكوفة، صحابي جليل فاضل عابد ورع شجاع، شهد المشاهد، وكان من كبار السابقين البدريين والمعذبين بمكة، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي سنة 37 هـ. وله 73 سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 3/ 164، و"الجرح والتعديل" 3/ 395، و"الاستيعاب" 2/ 21، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 323، و"الإصابة" 1/ 416، و"تهذيب التهذيب" 1/ 539. (¬5) بلال بن رباح التيمي أبو عبد الله الحبشي، صحابي جليل فاضل عابد ورع شجاع، شهد المشاهد، وكان من كبار السابقين البدريين والمعذبين بمكة، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي سنة 17 هـ. أو بعدها, وله أكثر من 60 سنة. انظر: "للجرح والتعديل" 2/ 395، و"الاستيعاب" 1/ 258، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 347، و"الإصابة" 1/ 165، و"تهذيب التهذيب" 1/ 253، و"تهذيب ابن عساكر" 3/ 304. (¬6) في (ش): (وخباب وعمار وبلال).

عن قومك، أفنحن نكون تبعًا لهؤلاء (¬1) الذين مَنَّ الله عليهم! إطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فأنزل الله هذه الآية) (¬2). وقال خباب بن الأرت: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وعمار، وصهيب، إذ جاء عيينة بن (¬3) حصن (¬4) والأقرع (¬5) بن حابس. فقالا له: إنه (¬6) لا يحسن بنا الجلوس مع هؤلاء العبيد الفقراء، فأقمهم عنك حتى نخلو بك، فإن ¬

_ (¬1) في (ش): (نكون تبعًا لهؤلاء أهؤلاء الذين من الله عليهم). (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" 6/ 36 (3985)، تحقيق أحمد شاكر، والطبري 7/ 200، وابن أبي حاتم 4/ 1298، والواحدي في "أسباب النزول" ص 219 - 220، كلهم من هذا الطريق وصحح إسناده أحمد شاكر في "حاشية المسند"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 21: (رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير كردوس، وهو ثقة) ا. هـ وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 25، وزاد نسبته إلى: (أبي الشيخ وابن مردويه، وأبي نعيم في "الحلية")، وانظر: "كشف الأستار للهيثمي" 3/ 48. (¬3) في (ش): (ابن)، وهو تحريف. (¬4) عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري أبو مالك من الأعراب الجفاة المؤلفة قلوبهم، أسلم قبل الفتح، وشهد فتح مكة وحنينا والطائف، وارتد وتبع طليحة الأسدي، وقاتل معه وأسر وحمل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأسلم وترك فعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: "الاستيعاب" 3/ 316، و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 48، "الإصابة" 3/ 54. (¬5) الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد المجاشعي التميمي، واسمه فراس، والأقرع لقب لقرع في رأسه، وهو من المؤلفة قلوبهم، أسلم وحسن إسلامه وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف واليمامة والعراق وكان من الأشراف وسادات العرب، استشهد في خراسان، نحو سنة 31 هـ. انظر: "الاستيعاب" 1/ 193، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 124، و"الإصابة" 1/ 58، و"تهذيب ابن عساكر" 3/ 89، و"الأعلام" 2/ 5. (¬6) في (ش): (إنا لا يحسن).

وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبُد، ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك، فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك فقالا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتابًا فدعا بصحيفة وأحضر عليًّا -رضي الله عنه- ليكتب، فأنزلت هذه الآية وما بعدها، فنحّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة، وأقبل علينا، ودنونا منه) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج ابن ماجه رقم (4127) كتاب: الزهد، باب: مجالسة الفقراء، والطبري في "تفسيره" 11/ 376 - 377، وابن أبي حاتم 3/ 72/ ب، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 146، والبيهقي في "الدلائل" 1/ 352 - 353، والواحدي في "الوسيط" 1/ 42 - 44، وفي "أسباب النزول" ص 221، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 25 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي يعلى وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه ا. هـ. وذكر الحديث ابن حجر في "المطالب العالية" 14/ 651، ونقل الأعظمي في "حاشيته" عن الإمام البوصيري أنه قال: (رواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى بسند صحيح) ا. هـ. والسند هنا فيه أبو سعد الأزدي مقبول كما في "التقريب" ص 643 (8817)، وفيه أبو الكنود الأزدي مقبول أيضًا كما في "التقريب" ص 669 (8328)، وعليه يحتاج إلى متابعة، ولم أقف له على متابعة، وقد ذكره ابن عطية 5/ 207، وقال: (هذا تأويل بعيد في نزول الآية؛ لأنها مكية، وهؤلاء لم يفدوا إلا في المدينة، ويمكن أن يكون هذا وقع بعد نزول الآية بمدة، اللهم إلا أن تكون الآية مدنية) ا. هـ. بتصرف، وقال ابن كثير 2/ 151: (هذا حديث غريب، فالآية مكية والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر) ا. هـ. وذكر قول ابن كثير الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الطبري"، وقال: (هذا هو الحق إن شاء الله) ا. هـ. وأصل القصة ثابتة ولكن بدون تعيين الأقرع وعيينة، فقد أخرج مسلم (2413)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل سعد بن أبي وقاص، ابن ماجه (4128)، والنسائي في "تفسيره" 1/ 469 - 470، و"الحاكم" 3/ 319، عن سعد بن أبي وقاص قال: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفرٍ، منهم أنا وابن مسعود وبلال، فقال المشركون: تدني هؤلاء، اطردهم لا يجنزون علينا فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء أن يقع فحدث نفسه فنزلت الآية) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 274.

قال ابن الأنباري: (عظم الأمر في هذا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخوف الدخول في جملة الظالمين؛ لأنه كان قد همّ بتقديم الرؤساء وأُولي الأموال على الضعفاء وذوي المسكنة، مقدّرًا أنه يستجر بإسلامهم إسلام قومهم وحلفائهم ومن يلوذ بهم، وكان عليه السلام لا يقصد في ذلك إلا قصد الخير، ولا ينوي ازدراء بالفقراء ولا احتقارًا، فأعلمه الله تبارك وتعالى أن ذلك غير جائز) (¬1). وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر) (¬2). فالدعاء هاهنا العبادة في قول ابن عباس والحسن (¬3) ومجاهد (¬4) وقتادة (¬5) والضحاك (¬6) قالوا: (يعبدون الله بالصلاة المكتوبة). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 46، وابن الجوزي في "المسير" 3/ 47، وانظر: هذا المعنى عند الرازي 12/ 235، والقرطبي 6/ 431. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص 178/ أ، والبغوي 3/ 46، والرازي 12/ 235، وأخرج الطبري 7/ 203، وابن أبي حاتم 4/ 1298 بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 26. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 203، بسند ضعيف، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 527، والثعلبي ص 178/ أ، والرازي 12/ 235، والقرطبي 6/ 432، وابن كثير 2/ 151. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 215، وأخرجه الطبري 11/ 7/ 203، وابن أبي حاتم 4/ 1298 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 26. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 204 بسند جيد، وذكره ابن الجوزي 3/ 46، وابن كثير 2/ 151. (¬6) أخرجه الطبري 7/ 204، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1298.

وقال إبراهيم (¬1): (الدعاء هاهنا الذكر، أي: يذكرون ربهم طرفي النهار) (¬2). وروي عن إبراهيم بخلاف هذا، وهو أنه قال: (هذا في الصلوات الخمس) (¬3)، وهو قول جميع أهل التأويل (¬4) قالوا: (هذا في الصلوات المكتوبات). وقرأ ابن عامر: (بِالْغُدْوةِ) (¬5) بالواو (¬6)، وقال أبو علي: (الوجه قراءة العامة {بِالْغَدَاوةِ}؛ لأنها تستعمل نكرة وتتعرف (¬7) باللام، فأما (غدوة) فمعرفة وهو علم صيغ له واسم موضوع (¬8) للتعريف وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يُدخل عليه الألف واللام كما لا يُدخل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كتبت في المصحف بالواو لم تدل على ذلك ألا ترى أنهم قد كتبوا ¬

_ (¬1) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، تقدمت ترجمته. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 205، وابن أبي حاتم 4/ 1298 بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 26. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 204 بسند جيد وذكره الماوردي 2/ 117 وابن الجوزي 3/ 46. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 203 - 204، بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري وعن عامر الشعبي وغيرهم، والظاهر عموم ذكر الله سبحانه وتعالى، وأول ذلك الصلاة المكتوبة والنوافل وذكره تعالى طرفي النهار، وهو اختيار الطبري 7/ 205 - 206، وابن عطية 5/ 209. (¬5) جاء في (أ): (بالغداة)، والرسم القرآني (بِالْغَدَوةِ) بالواو. (¬6) قرأ ابن عامر {بِالغُدْوةِ} بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها من غير ألف، وقرأ الباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها من غير واو. انظر: "السبعة" ص 258، و"المبسوط" ص 168، و"التذكرة" 2/ 398، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 258. (¬7) في (ش): (ويتعرف)، ووضع عليها في (أ) طمس، والتصحيح من "الحجة" لأبي علي 3/ 319. (¬8) في (أ): (موضع)، وهو تحريف.

(الصلوة) بالواو وهي ألف فكذلك (الغداة). قال سيبويه: (غدوة وبكرة جُعل كل واحد منهما اسمًا للحين، كما جعلوا أم حُبين (¬1) اسما لدابة معروفة. قال: وزعم يونس عن أبي عمرو أنك إذا قلت: لقيته يومًا من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون) (¬2)، وهذا يقوي قراءة العامة، ووجه قراءة ابن عامر أن سيبويه (¬3) قال: (زعم الخليل أنه يجوز أن يقول: أتيتك اليوم غدوةً وبكرةً، فجعلهما بمنزلة ضحوة (¬4)). وأيضاً فإن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف ولام ثم أجازوا دخول اللام فيه نحو ما حكاه أبو زيد من: (قولهم: لقيته فَيْنة (¬5) غير معروف والفينة بعد الفينة) (¬6) فألحق لام المعرفة، ما استعمل معرفةً ووجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير والشيوع كما يقدر فيه (¬7) ذلك إذا ثني، [وذلك مستمر في جميع المعارف) (¬8) انتهى كلامه. قوله: (يقدر فيه التنكير كما يقدر فيه ذلك ¬

_ (¬1) أم حُبين: دويبة على خلقة الحرباء، عريضة الصدر عظيمة البطن، وقيل: هي أنثى الحرباء. انظر: "اللسان" 2/ 764 (حبن). (¬2) "الكتاب" 3/ 293، وفيه: (وهو قوله أيضًا وهو القياس .. وكذلك تقول العرب) ا. هـ. (¬3) "الكتاب" 3/ 294. (¬4) الضحوة -بفتح الضاد المشددة وسكون الحاء-: كعشية ارتفاع النهار، ولا تستعمل إلا ظرفًا إذا عنيتها من يومك فإن لم تعن بها ذلك صرفتها. انظر: "اللسان" 5/ 2556 (ضحا). (¬5) الفينة -بفتح فسكون-: الحين، والساعة، والوقت من الزمان، عرف بالعلمية والألف واللام. انظر: "اللسان" 6/ 3504 (فين). (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2727 (فان). (¬7) في (ش): (كما يقدر ذلك فيه). (¬8) "الحجة" لأبي علي 3/ 319، 6/ 140، مجموع منهما بتصرف واختصار. =

إذا ثني) (¬1)] كلام يُحتاج إلى شرحه فنقول: اعلم أن المعرفة: [لا يصح تثنيتها من قبل أن حدّ المعرفة (¬2)] أنها ما خص الواحد من جنسه ولم يشع في أُمته، فإذا شورك في اسمه فقد خرج عن أن يكون علمًا معروفًا، وصار مشتركًا فيه شائعًا، وإذا كان الأمر كذلك فلا تصح التثنية إلا في النكرات دون المعارف، وإذا صح هذا فإنك لم تُثَنّ زيدًا حتى سلبته تعريفه وأشعته في أمته فجعلته من جماعة كل واحد منهم زيد، فجرى لذلك (¬3) مجرى فرس ورجل في أن كل واحد منهما شائع لا يخص واحداً بعينه، وصار كأنه بعد نزع التعريف عنه يجوز أن يقال: الزيد والعمر كما قال ابن ميادة (¬4): وجدنا الَولِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكًا ... شَدِيدًا بأعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهْ (¬5) ¬

_ = وانظر: "معاني القراءات" 1/ 359، و"إعراب القراءات" 1/ 158، و"الحجة" لابن خالويه ص 140، ولابن زنجلة ص 251، و"الكشف" 1/ 432. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) في (ش): (ذلك). (¬4) ابن ميادة هو: الرَّمَّاح بن أَبْرَد بن ثَوْبَان بن سُرَاقَة المُرِّيُّ الغطفاني، أبو شُرَحْبِيل، مشهور بنسبته إلى أمه مَيَّادة، وهو شاعر مجيد هجَّاء. عاصر الدولة الأموية والعباسية، ومدح الخلفاء، توفي سنة 149هـ أو قبلها. انظر: "الشعر والشعراء" ص520، و"طبقات الشعراء" لابن المعتز ص 105، و"معجم الأدباء" 11/ 143، و"تهذيب ابن عساكر" 5/ 331، و"الأعلام" 3/ 31. (¬5) "ديوانه" ص 192، و"معاني الفراء" 2/ 408، وليس في "كلام العرب" لابن خالويه ص 71، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 451، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 580، و"الإنصاف" 1/ 317، و"اللسان" 3/ 1898 (زيد)، وهو يمدح الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، والأعباء جمع عبء بالكسر وسكون العين، وهو الثقل وأراد أمور الخلافة الشاقة، والكاهل ما بين الكتفين. والشاهد: (الوليد - واليزيد) حيث أدخل (أل) فيهما للمح الأصل وتقدير التنكير, وهي في الحقيقة زائدة. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 164.

وكما أنشد ابن السكيت (¬1): يا ليتَ أُمَّ العمرو (¬2) كانت صاحبي ويدلك (¬3) على أنه لا يثنى إلا بعد خلع التعريف عنه دخول اللام عليه بعد التثنية في قولك: الزيدان والعمران (¬4)، ولو كان التعريف الذي كانا يدلان عليه مفردين باقيًا فيهما لما جاز دخول اللام عليهما بعد التثنية، كما لا يجوز ذلك قبل التثنية في وجه الاستعمال وغالب الأمر، وكما نزعوه التعريف بالتثنية نزعوه أيضًا بالإضافة قال الشاعر (¬5): ¬

_ (¬1) "إصلاح المنطق" ص 262، الشاهد لحميد بن ثور الهلالي، شاعر مخضرم، في "اللسان" 5/ 2569 (ضرب) وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 3/ 2106، و"الحلبيات" ص 288، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 366، و"المنصف" 3/ 234، وهو رجز آخره: مكان من أنشأ على الرَّكائب تمنى أن تكون مصاحبة له في سفره معينة في رفع الأحمال على الجمال، وأنشأ أي: ابتدأ السير، والركوب والركائب من الركْب أصحاب الإبل. انظر شرحه في: "تهذيب إصلاح المنطق" 2/ 72. (¬2) في (ش): (أم عمر)، بالعين المهملة وكذلك في "المخصص" 1/ 168، 13/ 216، و"اللسان" 3/ 1563 (ربع) وفي "إصلاح المنطق والمخصص" 11/ 220: (أم الغَمْر) بالغين، قال ابن سيدة: (هكذا رواه ابن السكيت، وعليه لا شاهد فيه على زيادة أل) ا. هـ وفي "أمالي القالي" 1/ 146: (أم الفَيْض) وأكثر المراجع السابقة (أم العمرو) بالعين المهملة، والشاهد دخول أل على عمرو، وهو علم. (¬3) في (ش): (ويدل). (¬4) في (أ): (العمروان). (¬5) الشاهد لزيد الطائي من ولد عروة بن زيد الخيل في "الكامل" للمبرد 3/ 157، وبلا نسبة في "البصريات" 2/ 414، و"الحلبيات" ص 298، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 452، و"اللسان" 3/ 1898 (زيد)، و"مغني اللبيب" 1/ 52، والنقا: الرمل الكثيب، ويوم النقا: الوقعة التي كانت عند النقا، والأبيض: السيف، ويمان: =

لَاَ زيدُنَا يَوْمَ النَّقَا رأسَ زَيْدِكُمْ ... بِأَبْيَضَ مِنْ ماءِ الحدِيدِ يَمَانِ فإضافة الاسم يدل على أنه قد كان خلع عنه ما كان فيه من تعريفه وكساه التعريف بإضافته إياه إلى الضمير (¬1) فهذا معنى قول أبي علي: (يقدّر فيه التنكير والشيوع كما يقدّر فيه ذلك إذا ثنّى) وكل هذا يقوي قراءة ابن عامر. وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: (يطلبون ثواب الله ويعملون ابتغاء مرضاة الله، لا يعدلون بالله شيئًا) (¬2). وقال أهل المعاني: (في هذا قولين: أحدهما: أن معناه: يريدون طاعته (¬3)، كأنه بمعنى الوجه الذي وجههم فيه وهو طاعتهم له). ونحو من هذا قال الزجاج فقال: (أعلم الله أنهم يريدون ما عنده، وشهد لهم بصدق النيات، وأنهم مخلصون في ذلك له، فقال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، أي: (يريدون وجه الله عز وجل ويقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده) (¬4)، وكان الزجاج ذهب في معنى الوجه إلى الجهة والطريق -وذكرنا هذا مشروحًا في قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]- وعلى هذا {وَجْهَهُ}: جهته ¬

_ = منسوب إلى اليمن. والشاهد: زيدنا، زيدكم، حيث أجرى زيدًا مجرى النكرات فأضافه. انظر: "شرح شواهد المغني للسيوطي" 1/ 165. (¬1) ما تقدم قول ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 450 - 452، بتصرف واختصار. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 45، والبغوي 3/ 147، وأبو حيان في "البحر" 4/ 136، وفي "تنوير المقباس" 2/ 23، قال: (يريدون بذلك وجه الله ورضاه) ا. هـ. (¬3) هنا وقع اضطراب في نسخة (ش) فوقع تفسير هذه الآية في 100 ب. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 251.

التي أمر بقصدها. [و] (¬1) القول الثاني: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الله} أي: يريدونه إلا أنه يؤتى بلفظ الوجه للتعظيم بتفخيم الذكر، كما يقال: هذا وجه الرأي, وأشار أبو إسحاق إلى هذا المعنى فقال في سورة الكهف: (أي: لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه) (¬2). وقوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: (ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا على المشركين من حسابك من شيء إنما الله الذي يثيب أولياءه ويعذب أعداءه، وأنت وأصحابك قد غفر الله لهم وصاروا إلى رحمته) (¬3)، انتهى كلامه. وعلى هذا الكناية في {حِسَابِهِمْ} و {عَلَيْهِمْ} تعود إلى المشركين (¬4) الذين قالوا ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو): ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 281، وأكثرهم ذكر هذه الوجوه، قال الطبري 7/ 205: (أي: يلتمسون بذلك القربة إلى الله والدنو من رضاه) ا. هـ. وانظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 254، والماوردي 2/ 118، والبغوي 3/ 147، وابن عطية 5/ 210، وابن الجوزي 3/ 47، والرازي 12/ 236، والقرطبي 6/ 432، وهذا مجاز وتأويل والأولى الحمل على الحقيقة، قال السمرقندي 1/ 487: (يعني: يريدون بصلواتهم وجه الله تعالى) ا. هـ. وقال ابن كثير 2/ 151: (أي: يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم) ا. هـ. وقال ابن القيم في "مختصر الصواعق" 3/ 992 - 1023: (وجه الرب جل جلاله حيث ورد في الكتاب والسنة فليس بمجاز بل على الحقيقة, وصرفه عن هذا خروج عن الأصل والظاهر بلا موجب، وحمله على الثواب المنفصل من أبطل الباطل، فإن اللغة لا تحتمل ذلك، ولا يعرف أن الجزاء يسمى وجهًا للمُجازى) ا. هـ ملخصًا، وانظر: المفسرون بين التأويل والإثبات في "آيات الصفات" للمغراوي ص 59 - 74. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 487، و"الكشاف" 2/ 22، ابن عطية 5/ 210 , ورجح عودة الضمير في: {حِسَابِهِمْ} و {عَلَيْهِمْ} على المشركين والضمير في =

للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد عنه الفقراء, ومعناه: الإبعاد بينه وبينهم، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن استمالتهم بتقريبهم. يقول: ليس عليك من حسابهم من شيء إن كفروا وكذبوا فتطرد الفقراء لتدني مجلسهم منك {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: ليس ثوابك عليهم حتى تلين لهم وهو معنى قول ابن عباس: (إنما الله الذي يثيب أولياءه ويعذب أعداءه) فهذا وجه، والمفسرون (¬1) يردون الكناية إلى {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وهم الفقراء وذلك أشبه بالظاهر؛ لأن الكناية في قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} عائدة على الفقراء لا محالة، فكذلك ما قبله من الكناية أشبه أن تعود عليهم، وعلى هذا ذكروا في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [قولين] (¬2): أحدهما: ما عليك من عملهم ومن حساب عملهم من شيء، وهذا يروى عن الحسن (¬3) وابن عباس (¬4). قال أهل المعاني: (هذه القصة شبيهة بقصة (¬5) نوح عليه السلام إذ قال له قومه: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] فأجابهم نوح: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 112 - 113]، وعنوا بقولهم: {الْأَرْذَلُونَ} الحاكة والمحترفين ¬

_ = {فَتَطْرُدَهُمْ} على الضعفاء من المؤمنين، ويؤيده أن ما بعد الفاء سبب لما قبلها. (¬1) ورجح هذا القول الرازي 12/ 236، وأبو حيان في "البحر" 4/ 137، والسمين في "الدر" 4/ 644 - 645. (¬2) لفظ: (قولين) ساقط من (ش). (¬3) ذكره ابن الجوزي 3/ 47، وذكره ابن عطية 5/ 211، وأبو حيان في "البحر" 4/ 136 عن الحسن والجمهور. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ذكره الزجاج في "معانيه" 2/ 251 - 252، وانظر: "تفسير الرازي" 12/ 237.

بالحرف الوضيعة، فقال نوح: {وَمَا عِلْمِى} بعملهم، أي: وجه مكاسبهم، [ما حساب] (¬1) عملهم إلا على الله، فوض دناءة مكاسبهم إلى الله تعالى أي: أنه أعلم بعملهم وما لي ولذلك، وكذلك في هذه الآية كان هؤلاء الفقراء يعملون بالنهار لقوتهم ويرجعون إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فازدراهم المشركون لفقرهم وحاجتهم إلى الأعمال الخسيسة لقوتهم، وهمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - برفع المشركين عليهم في المجلس فقيل له: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [أي: لا يلزمك عار بعملهم {فَتَطْرُدَهُمْ}. وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}] (¬2) ذكر تأكيدًا للمطابقة وازدواج الكلام، وإن كان مستغنى عنه بالأول)، وإلى هذا المعنى أشار الزجاج (¬3). القول الثاني: ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، أي: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك وإنما يرزقك وإياهم الله الرازق، فدعهم يدنون منك ولا تطردهم (¬4). وقوله تعالى: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} جواب لقوله: {وَلَا تَطْرُدِ} في أول الآية (¬5)، ومعناه: فتكون من الضارين لنفسك بالمعصية؛ قاله ابن عباس (¬6). ¬

_ (¬1) لفظ: (ما حساب) ساقط من (أ). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من أصل (أ)، وملحق بالهامش. (¬3) لم أقف عليه في "معانيه"، وفي "الكشاف" 2/ 22 نحوه. (¬4) هذا اختيار الطبري في "تفسيره" 7/ 206. (¬5) هذا قول الطبري في "تفسيره" 7/ 206، والزجاج في "معانيه" 2/ 252، والنحاس في "معانيه" 2/ 430، ومكي في "المشكل" 1/ 253، وانظر: "الدر المصون" 4/ 646. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 23.

53

وهذا الظُّلمُ معناه: النقصان، أي: ينقص ثوابك بطردهم لو طردتهم، والظلم بمعنى: النقص معروف في اللغة (¬1) يقال: ظلم حقه، وهو كثير في القرآن -وقد ذكرنا ذلك-. وقال ابن زيد (¬2): ({فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (لهم بطردهم)، وهذا قول حسن) أي: إنهم لم يستحقوا منك الطرد فإذا طردتهم فقد ظلمتهم (¬3). 53 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية، قال المفسرون (¬4): (أي: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير كما ذكرنا في قصة نوح وكما قال في قوم صالح: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} لِلَّذِينَ (¬5) اسْتُضعِفُوا {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 76]، ابتلينا أيضًا هؤلاء بعضهم ببعضٍ، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}) [الفرقان: 20]، وهذا معنى قول ابن عباس (¬6) في رواية عطاء. ¬

_ (¬1) الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقه أو مكانه. والظلم: الميل عن القصد ومجاوزة الحق. انظر: "العين" 8/ 162، و"الجمهرة" 2/ 934، و"تهذيب اللغة" 3/ 2248، و"الصحاح" 5/ 1977، و"مقاييس اللغة" 3/ 468، و"المجمل" 2/ 601، و"المفردات" ص 537، و"اللسان" 5/ 2756 (ظلم). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1299 بسند جيد. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 12/ 237. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 206، والسمرقندي 1/ 487، والماوردي 2/ 118، وأخرجه الطبري بسند جيد عن قتادة. (¬5) هكذا جاء سياق الآية ولعله وهم، فليس فيها: للذين استضعفوا. (¬6) أخرج الطبري 7/ 206، وابن أبي حاتم 4/ 1299 بسند جيد عنه قال: (جعل بعضهم أغنياء وبعضم فقراء، فقال الآغنياء للفقراء: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} أي: هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 26، ومعاني الفتنة في "تأويل مشكل القرآن" ص 472 - 474.

وقال الكلبي: (ابتلينا الشريف بالوضيع، وابتلى هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله حمي (¬1) آنفًا أن يسلم، ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم) (¬2). قال أهل المعاني: (وإنما قال: {فَتَنّا} وهو تعالى لا يحتاج إلى الاختبار؛ لأنه عاملهم معامله المختبر) (¬3). وقوله تعالى {لِيَقُولُوا} هذه اللام تسمى لام العاقبة (¬4)، كأن المعنى: فعلنا هذا ليؤول أمرهم إلى هذا القول (¬5). ¬

_ (¬1) حمى بفتح الحاء وكسر الميم من الشيء حَمِيَّة، ورجل حمي الأنف، أي: أنف أن يضام، وفلان ذو حمية أي: غضب وأنَفَة: انظر: "اللسان" 2/ 1014 (حمى)، وأَنِف بفتح الهمزة والنون: استنكف وكره، ويقال: هو أنف بسكون النون للعضو أي: اشتد غضبه وغيظه من طريق الكناية، والمراد هنا أخذته الحِميَة من الغيرة والغضب. انظر: "اللسان" 1/ 152 (أنف). (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص 178/ أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 47، وابن الجوزي 3/ 47، وفي "تنوير المقباس" 2/ 23 (نحوه). (¬3) انظر: "المفردات" ص 623 (فتن)، و"بدائع التفسير لابن القيم" 2/ 150. (¬4) أي: لبيان عاقبة الشيء ومآله، ويسميها الكوفيون لام الصيرورة، وبعضهم يسميها لام العلة؛ لأنها مستعارة لما يشبه التعليل، قال ابن هشام في "المغني" 1/ 214: (ومن معاني اللام الصيرورة وتسمى لام العاقبة ولام المآل. وأنكر البصريون ومن تابعهم لام العاقبة) ا. هـ. وانظر: "اللامات للزجاج" ص 119، و"معاني الحروف للرماني" ص 56، و"الصاحبي" ص 152، و"اللامات للهروي" ص 182، و"رصف المباني" ص 301. (¬5) قال السمين في "الدر" 4/ 647: (الأظهر -وعليه، أكثر المعربين والمفسرين- أنها لام كي، والتقدير: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً وامتحانًا. وقيل: إنها لام الصيرورة، أي: العاقبة، ويكون ما بعدها صادرا على سبيل الاستخفاف) ا. هـ ملخصًا، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 549، و"المشكل" 1/ 253، و"التبيان" 1/ 335، و"الفريد" 2/ 154، ورجح كونها لام العاقبة ابن عطية 5/ 211.

54

وقوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني: الضعفاء والفقراء والاستفهام معناه: الإنكار (¬1) كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصّوا بمنة، فقال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أي: بالذين يشكرون نعمته إذا منّ عليهم بالهداية أي: إنما يهدي إلى دينه من يعلم أنه يشكر نعمته، هذا معنى قول المفسرين (¬2)، والاستفهام في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ} تقرير: أي أنه كذلك (¬3)، كقول جرير: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطَايَا (¬4) 54 - قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية قال ابن عباس: (نزلت في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفريد" 2/ 154. (¬2) انظر: الطبري 7/ 207، والسمرقندي 1/ 487، وابن عطية 5/ 212، و"بدائع التفسير" 2/ 151. (¬3) انظر: "الفريد" 2/ 155. (¬4) "ديوانه" ص 77، و"مجاز القرآن" 1/ 36، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 379 - 410، 418، 494، و"الشعر والشعراء" ص 307، و"الخصائص" 3/ 269، و"اللسان" 8/ 4524 (نقص)، و"المغني لابن هشام" 1/ 17، وبلا نسبة في "المقتضب" 3/ 292، الخصائص 2/ 463، و"رصف المباني" ص 136، وتكملته: وَأَنْدَى العَالَمِينَ بطُونَ رَاحِ والمطايا: جمع مطية، وهي الدابة، وأندى: أسخى، وراح: جمع راحة، وهي الكف. والشاهد: (ألستم) حيث جاءت همزة الاستفهام للإيجاب والتقرير وتحقق الكلام، أي: أنتم خير من ركب المطايا، انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 43. (¬5) ذكره القرطبي 6/ 435، عن ابن عباس، وذكره الثعلبي 178 أ، والبغوي 3/ 148، وابن الجوزى 3/ 48، والخازن 2/ 138 عن عطاء.

وقال عكرمة (¬1) والحسن (¬2): (نزلت في الذين سأل المشركون طردهم). قال عكرمة: (وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم بدأهم بالسلام، ويقول: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام" (¬3)، وقوله: {وَإِذَا جَاءَكَ} {إِذَا} ظرف للقول أي: قل سلام عليكم إذا جاؤوك، و {جَاءَكَ} في موضع جر؛ لأن {إِذَا} مضاف إليه بمنزلة (¬4) حين {جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} أي: يصدقون [بحججنا] (¬5) وبراهيننا. ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 178 أ، والواحدي في "أسباب النزول" ص 221، والبغوي 3/ 148. (¬2) لفظ: (الحسن) ساقط من (ش)، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 48، وابن الجوزي 3/ 48، عن الحسن وعكرمة، وذكره هود الهواري 1/ 525، عن الحسن، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 139: (هذا هو قول الجمهور، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص) ا. هـ (¬3) الحديث بهذا اللفظ لم أقف على سنده، وفي "الدر المنثور" 3/ 25، قال: (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} قال: كانوا إذا دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأهم فقال: "سلام عليكم" وإذا لقيهم فكذلك أيضًا) ا. هـ وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 21: في الآية (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم" قال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ا. هـ. (¬4) قال السمين في "الدر" 4/ 648: ({إِذًا} منصوب بجوابه، أي: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} وقت مجيئهم أي: أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح) ا. هـ وقال العكبري في "التبيان" 335، والهمداني في "الفريد" 2/ 155: (العامل في {إِذًا} معنى الجواب، أي: إذا جاؤوك سلم عليهم)، وذكر هذا القول السمين في "الدر" وقال: (لا حاجة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى؛ لأن كونه يبلغهم السلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرحمة وأنه من عمل سوءًا بجهالة غفر له لا يقوم مقامه السلام فقط وتقديره: يفضي إلى ذلك) ا. هـ. (¬5) في (أ): (بجحتنا).

قال الزجاج (¬1): {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (السلام (¬2) هاهنا يحتمل تأويلين أحدهما: أن يكون مصدر سلمت تسليمًا وسلامًا مثل: السراح من التسريح والأداء من التأدية، ومضى سلمت عليه سلامًا [أي] (¬3): دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه، فالسلام بمعنى التسليم. الثاني: أن يكون السلام جمع السلامة، فمعنى قولك: السلام عليكم [السلامة عليكم (¬4)]، ويؤكد هذا الوجه قول الشاعر (¬5): تُحَيَّ بالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ قَومِكِ مِنْ سَلاَمِ) والوجهان ذكرهما الزجاج وابن الأنباري، قال أبو بكر: (قال قوم: السلام الله (¬6) تعالى، ومعنى السلام عليكم: الله عليكم، أي: على حفظتكم) (¬7)، وهذا الوجه يبعد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله: ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 252. (¬2) انظر: "العين" 7/ 265، و"الجمهرة" 2/ 858، و"الصحاح" 5/ 1951، و"المجمل" 2/ 469، و"مقاييس اللغة" 3/ 90، و"المفردات" ص 421 (سلم). (¬3) لفظ: (أي) ساقط من (أ). (¬4) لفظ: (السلامة عليكم) ساقط من (ش). (¬5) الشاهد لأبي بكر بن الأسود بن شعوب الليثي، وهو شداد بن الأسود في "سيرة ابن هشام" 2/ 400، و"الروض الأنف" 3/ 117، ولعمرو بن سُمي بن كعب الليثي، وقد ينسب إلى أمه شعوب الخزاعية في كتاب "من نسب إلى أمه لابن حبيب" 49، وبلا نسبة في "تفسير غريب القرآن" ص170، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 215، و"تهذيب اللغة" 2/ 1742، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 24 - 28، و"اللسان" 4/ 2077 (سلم). (¬6) السلام اسم من أسماء الله تعالى مأخوذ من السلامة، فهو سبحانه السالم من كل ما ينافي كماله ومن مماثلة أحد من خلقه. انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي ص 53، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص 67، و"شرح أسماء الله" للرازي ص 187 (¬7) "الزاهر" 1/ 46.

{فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬1)، ولو كان معرفًا لصح هذا الوجه (¬2). وقال أبو الهيثم: (السلام والتحية بمعنى واحد معناهما: السلامة من جميع الآفات) (¬3)، فأما اللغات في السلام فقد ذكرنا ذلك في سورة هود في قوله: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]. وقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. قال ابن عباس: (يريد: قضى [لكم] (¬4) {رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}) (¬5). قال أبو إسحاق: (معنى {كَتَبَ}: أوجب ذلك إيجابًا مؤكدًا، وإنما خوطب الخلق بما يعقلون وهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخّر إنما يحفظ بالكتاب قال: وجائز أن يكون كتب ذلك في اللوح المحفوظ) (¬6) وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة. ¬

_ (¬1) في (ش): {قل سلام ....}، وهو تحريف. (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 3. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1742، و"اللسان" 4/ 2077 (سلم)، وقال أبو علي في "الحجة" 2/ 298، 4/ 359 - 363: (السلام مصدر سَلَّمْتُ، والسلام جمع سلامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى، والسلام شجر، والسلام البراءة، وأكثر استعماله بغير (أل) وذاك أنه في معنى الدعاء حمل غير المعهود، وجاء بأل محمول على المعهود) ا. هـ. (¬4) لفظ: (لكم) ساقط من (ش). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 48، وفي "تنوير المقباس" 2/ 24، قال في الآية: (أوجب {رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لمن تاب) ا. هـ (¬6) "معاني القرآن" 2/ 254، وقال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" 2/ 152: (أي. أوجبهما على نفسه الكريمة تفضلًا منه وإحسانًا وامتنانًا) ا. هـ انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 214، و"الفتاوى" 18/ 148 - 151، و"بدائع التفسير" 2/ 142.

وقوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} قال ابن عباس: (يريد: إن ذنوبكم جهل، ليس بكفر ولا جحود) (¬1). وقال الحسن (¬2) ومجاهد (¬3) والضحاك (¬4): (كل من عمل بخطيئة فهو جاهل). قال أبو إسحاق: (معنى الجهالة هاهنا يحتمل أمرين أحدهما: أنه عمله وهو جاهل بمقدار المكروه فيه، أي: لم يعرف أن فيه مكروهًا، والآخر: أنه علم أن عاقبته مكروهة، ولكنه آثر العاجل فجُعل جاهلاً بأنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة) (¬5)؛ هذا كلامه، والوجه الثاني (¬6) أقواهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية [النساء: 17]، وقد ذكرنا ما فيه هناك. وقوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} أي: رجع عن ذنبه ولم يصرّ على ما فعل {وَأَصْلَحَ} عمله {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ¬

_ (¬1) أخرج الطبري في "تفسيره" 4/ 299، بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (من عمل السوء فهو جاهل ومن جهالته عمل السوء)، وذكر القرطبي في "تفسيره" 5/ 92، نحوه عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي. (¬2) قال الماوردي في "تفسيره" 2/ 120: (قال الحسن ومجاهد والضحاك: الجهالة الخطيئة) ا. هـ. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 37: (قال الحسن وعطاء وقتادة والسدي في آخرين: إنما سموا جهالًا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميزين) ا. هـ. وذكر قول الحسن الرازي في "تفسيره" 13/ 5. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 149، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 299، 7/ 209، وابن أبي حاتم 4/ 1301، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 26 - 27. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 209، وابن أبي حاتم 4/ 1301 بسند ضعيف. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 254. (¬6) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 216، والرازي 13/ 5.

واختلف القرّاء (¬1) في قوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ} فـ {فَأَنَّهُ} فقرأ بعضهم بالفتح فيهما أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة، كأنه قيل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ}. وأما فتح الثانية فعلى أن تجعله بدلاً من الأولى كقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]، وهذا معنى قول الفراء (¬2) والزجاج (¬3). قال أبو علي: (من فتح الأولى جعلها بدلاً من {الرَّحْمَةَ}، وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرًا تقديره: فله أنه {غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون أن خبره كأنه فأمره أنه {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وعلى هذا التقدير يكون الفتح في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (¬4) [التوبة: 63] تقديره: فله أن {لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وإن شئت قدرت، فأمره أن {لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر. ¬

_ (¬1) (قرأ نافع (أَنَّهُ) بفتح الهمزة: (فَإِنَّهُ) بكسر الهمزة، وفتحهما جميعًا عاصم وابن عامر، وكسرهما الباقون). انظر: "السبعة" ص 258، و"المبسوط" ص 168، و"التذكرة" 2/ 398، و"التيسير" ص 102، و"النشر" 2/ 258. (¬2) انظر: "معاني القرآن للفراء" 1/ 336 - 337. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 253 - 254، و"الأخفش" 2/ 275 - 276، و"النحاس" 2/ 431 - 432، و"إعراب القرآن للنحاس" 1/ 538. (¬4) في (أ): (تعلموا) بالتاء.

قال: ومن ذهب في هذه الآية إلى أن التي بعد الفاء تكرير للأولى لم يستقم قوله، وذلك أن {مَنْ} لا تخلو من أن [تكون] (¬1) للجزاء الجازم الذي اللفظ عليه أو [تكون] (¬2) موصولة فلا يجوز أن يقدر التكرير مع الموصولة؛ لأنها لو كانت موصولة لبقي المبتدأ بلا خبر ولا يجوز ذلك أيضًا في الجزاء الجازم؛ لأن الشرط يبقى بلا جزاء فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه علي ما ذكرنا من تقدير: فله أو فأمره وتكون الفاء جواب الشرط، وأيضًا فإن ثبات الفاء في قوله {فَأَنَّ لَهُ} يمنع من أن يكون بدلاً، ألا ترى أنه لا يكون بين البدل والمُبدل منه الفاء العاطفة ولا التي للجزاء، فإن جاءت: إنها زائدة بقي الشرط بلا جزاء فلا يجوز إذن تقدير زيادتها هنا وإن جاءت زائدة في غير هذا الموضع) (¬3)، وأما من كسرهما جميعًا فعلى مذهب الحكاية كأنه لما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} قال: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ودخلت الفاء جوابًا للجزاء وكُسِرت إن لأنها على ابتداء وخبر، كأنك قلت: فهو {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، إلا إنْ الكلام بإنْ أوكد؛ هذا قول الزجاج (¬4). ¬

_ (¬1) في (ش): (يكون). (¬2) في (ش): (يكون). (¬3) "الحجة لأبي علي" 3/ 311 - 313. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 253 - 254، وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 15/ 276 - 277: (الأحسن في هذا أن يقال: كل واحدة من هاتين الجملتين جملة مركبة مؤكدة، فهما تأكيدان مقصودان لمعنيين مختلفين، ألا ترى تأكيد قوله. {غَفُورٌ رَحِيمٌ} بإن غير تأكيد (مَن عَمِلَ سُوء) له بأن، وهذا ظاهر لا خافاء به، وهو كثير في القرآن وكلام العرب) ا. هـ. ملخصًا.

55

وقال أبو علي: (أما كسر إن في قوله تعالى: {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن ثم حمل قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، على إرادة المبتدأ بعد الفاء وحذفه، وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر أبدل الأولى من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء) (¬1). قال الفراء: (والكسر بعد الفاء حسن؛ لأنه يحسن في موضع إن بعد الفاء هو ألا ترى أنه لو قيل: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} فهو {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لكان صوابًا، فإذا حسن دخول هو حسن الكسر) (¬2). 55 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} الآية، يقول: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين كذلك نميّز ونبيّن لك حجتنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل (¬3)، ومعنى التفصيل (¬4): التمييز للبيان، ولهذا فسر بالتبيين وهو قول ابن عباس (¬5) ¬

_ (¬1) "الحجة لأبي علي" 3/ 311 - 313. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 1/ 337، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 355 - 357، و"إعراب القراءات" 1/ 157 - 158، و"الحجة" لابن خالويه ص 139 - 140، و"الحجة" لابن زنجلة ص 252 - 253، و"الكشف" 1/ 433، و"الدر المصون" 4/ 650 - 654. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 148، الرازي 13/ 6، القرطبي 6/ 436. (¬4) الفَصْل: إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فُرجة، ويستعمل في الأقوال والأفعال، فهو أصل يدل على تمييز الشيء من الشيء وإبانته وتمييزه عنه، ويقال: تفصيل الآيات بيانها، وتفصيلها بالفواصل. انظر: "العين" 7/ 126، و"الجمهرة" 2/ 891، و"تهذيب اللغة" 3/ 2794, و"الصحاح" 5/ 1790، و"المجمل" 3/ 722، و"مقاييس اللغة" 4/ 505, و"المفردات" ص 638، و"اللسان" 6/ 3422 (فصل). (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 24.

وقتادة وابن زيد (¬1) قالوا في تفسير {نُفَصِّلُ}: (نبيّن). وقوله تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ} عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق [وليستبين] (¬2)، فترك ذكر ما هو بيّن من المعلوم وذكر ما يحتاج إلى بيانه (¬3). واختلف القراء في قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ} فقرأ بعضهم (¬4) بالتاء، ورفع السبيل على أنها فاعل الاستبانة، والسبيل (¬5) يؤنث ويذكر، فالتأنيث كقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] والتذكير كقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] ويقال: استبان الشيء (¬6) واستبنته، ومن قرأ بالياء ورفع السبيل كان الفعل أيضًا مسندًا إلى السبيل إلا أنه ذكّر السبيل وقرأ نافع {وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء (سَبِيلَ) نصبًا، والتاء ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 210 بسند جيد عن قتادة وابن زيد. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 276. (¬2) في (ش): {وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 6. (¬4) قرأ نافع: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء، و (سَبِيلَ) بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية: (وليستبين) بالياء، و (سبيلُ) بالرفع. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم في رواية: {وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء، و (سبيلُ) بالرفع. انظر: "السبعة" ص 258، و"المبسوط" ص 169، و"التذكرة" 2/ 399، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 258. (¬5) انظر: "المذكر والمؤنث للفراء" ص 87، ولابن الأنباري 1/ 423، ولابن التستري الكاتب ص 81. (¬6) هذه القراءات دائرة على تعدي استبان ولزومه وتذكير سبيل وتأنيثه، وكل ذلك لغة فصيحة، وتذكيره لغة تميم ونجد، والتأنيث لغة الحجاز، ويقال: استبان الصبح واستبنت الشيء، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، أي: لتستبينوا {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}. انظر: "معاني الفراء" 1/ 337، والأخفش 2/ 276، والزجاج 2/ 254، والزاهر 2/ 179، و"الدر المصون" 4/ 655.

56

في هذه القراءة للخطاب أي: {وَلِتَسْتَبِينَ} أيها المخاطب (¬1). قال أهل المعاني: (وخص {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بالذكر، والمعنى: {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} وسبيل المؤمنين فحذف؛ لأن ذكر أحد القبيلين يدل على الآخر، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولم يذكر البرد لدلالة الفحوى عليه. وهذا قول الزجاج (¬2) وأبي علي (¬3). ودل كلام الزجاج على وجه آخر وهو: (أن يكون سبيل المؤمنين مضمنا به الكلام؛ لأن {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} إذا بانت فقد بانت معها سبيل المؤمنين كما تقول: زيد ضاربٌ، تضمن هذا الكلام ذكر المضروب) (¬4). قال ابن عباس: ({وَلِتَسْتَبِينَ} يا محمد {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} يريد: ما جعلوا لله في الدنيا من الشرك وما بيّنت من سبيلهم يوم القيامة ومصيرهم إلى الخزي) (¬5). 56 - قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام، ومعنى {تَدْعُونَ}: تعبدون، ويجوز أن يكون المعنى: تدعونهم (¬6) في مهمّات أموركم على معنى العبادة، ومعنى {مِنْ} في قوله ¬

_ (¬1) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 3/ 314 - 316، بتصرف واختصار، وانظر: "إعراب القراءات" 1/ 158، و"الحجة لابن خالويه" ص 141، ولابن زنجلة ص 253، و"الكشف" 1/ 433. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 255. (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 316. (¬4) وذكر هذا الوجه أيضاً النحاس في "معانيه" 2/ 432 - 433، واقتصر عليه الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 358. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 50، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 50. (¬6) أي: الأصنام، وقد ذكر الوجهين ابن عطية 5/ 218، وابن الجوزي 3/ 51, والقرطبي 6/ 437.

57

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} إضافة الدعاء إلى {دُونِ} بمعنى: ابتداء الغاية؛ لأن كل عبادة كانت لغير الله فهو من جملة عبادة من يُعبد من دون الله فجعل {مِنْ دُونِ}] (¬1) على جهة ابتداء الغاية (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} قال ابن عباس: (يريد: دينكم) (¬3). قال أبو إسحاق: (إنما عبدتموها [على طريق الهوى لا] (¬4) على طريق البينة والبرهان) (¬5). وقوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} معنى {إِذًا} الشرط، المعنى: قد ضللت إن عبدتها (¬6)، وهو معنى قول ابن عباس ({قَدْ ضَلَلْتُ} إن أنا فعلت (¬7)، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}: من الذين سلكوا سُبَلَ الهدى) (¬8). 57 - قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} الآية. معنى البينة: الدلالة التي تفصل الحق من الباطل (¬9) قال ابن عباس: (يريد: على يقين من ربي (¬10). ¬

_ (¬1) لفظ: (دون) ساقط من (ش). (¬2) ذكر هذا الوجه الهمداني في "الفريد" 2/ 158. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 50، وفي "تنوير المقباس" 2/ 255 نحوه. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) "معاني القرآن" 2/ 255. (¬6) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 255، وذكره ابن عطية 5/ 218، وابن الجوزي 3/ 51. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 25، وفيه: ({قَدْ ضَلَلْتُ} عن الهدى {إِذًا} إن فعلت ذلك). (¬8) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 149. (¬9) انظر: "زاد المسير" 3/ 51. (¬10) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 50، وقال في "تنوير المقباس" 2/ 25: (على بيان من ربي وبصيرة من أمري وديني) ا. هـ.

وقال أبو إسحاق: (أنا على أمر بين لا متّبع لهوًى) (¬1). وقال بعض أهل المعاني: (البيّنة هاهنا المعجزة يعني: القرآن) (¬2) وقوله تعالى: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} هذه الهاء كناية عن البيان، أيَ: وكذبتم بالبيان؛ لأن البيّنة والبيان بمعنى واحد، ويجوز أن تكون الكناية عن معنى البيّنة، وهو ما أتاهم به من القرآن؛ لأنه هو البيّنة، فيكون المعنى: وكذبتم بما أتيتكم به، هذا قول الزجاج (¬3). وقال غيره: (معناه: وكذبتم بربي؛ لأنه قد جرى ذكره) (¬4). وقوله تعالى: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} قال ابن عباس (¬5) والحسن (¬6) (يعني: العذاب، كانوا يقولون: يا محمد، ائتنا بالذي تعدنا، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47]، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا}) الآية [الأنفال: 32]. قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون الذي استعجلوا به الآيات التي اقترحوها عليه، فأعلم الله أن ذلك عنده فقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}) (¬7). ¬

_ (¬1) "معانى القرآن" 2/ 255 - 256. (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 218. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 256. (¬4) هذا قول الطبري 7/ 211، ورجحه أبو حيان في "البحر" 4/ 142، والسمين في "الدر" 4/ 657، وانظر: ابن الجوزي 3/ 51، والقرطبي 6/ 438. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 25، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 51، وابن الجوزي 3/ 51، عن ابن عباس والحسن. (¬6) ذكره الماوردي 1/ 121. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 256، وأكثرهم على أن المراد العذاب والظاهر العموم من العذاب والآيات، انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 564، والطبري 7/ 213، و"معاني النحاس" 2/ 432، والسمرقندي 1/ 489، وابن عطية 5/ 219، والقرطبي 6/ 439، و"البحر" 4/ 142، وابن كثير 2/ 153.

قال ابن عباس: (يريد: أن ذلك عند ربي) (¬1). قال أهل المعاني: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (أي: الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب أو الحكم الذي يفصل كل حق من باطل لا يكون على هذا الإطلاق إلا لله جل وعز) (¬2). وقوله تعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ}، أي: يقول الحق، ومعناه: أن جميع ما أنبأ به وأمر به فهو من أقاصيص الحق (¬3)، كقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، هذه قراءة أهل الحجاز (¬4) وقرأ الباقون ([يَقْضِ] الْحَقَّ) (¬5) وكتب ([يَقْضِ] (¬6) الْحَقَّ) في المصاحف بغير ياء؛ لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين (¬7) كما كتبوا {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 18] و {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]. وقوله تعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ} (¬8) قال أبو إسحاق: (فيه وجهان: جائز أن يكون {الْحَقَّ} صفة للمصدر، المعنى: يقضي القضاء الحق، ويجوز أن يكون {يَقْضِ الْحَقَّ}: يصنع الحق؛ لأن كل شيء صنعه الله عز وجل فهو ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 25 وفيه: (ما الحكم بنزول العذاب إلا لله) ا. هـ (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 7. (¬3) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 257. (¬4) (قرأ ابن كثير وعاصم ونافع: (يَقُصُّ) بضم القاف وصاد مهملة مشددة مرفوعة، من القصص، وقرأ الباقون بسكون القاف وضاد معجمة مخففة مكسورة من القضاء، ولا خلاف أنه بغير ياء في الوصل). انظر: "السبعة" ص 259، و"المبسوط" ص 169، و"التذكرة" 2/ 400، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 258. (¬5) في النسخ (يقضي) بالياء، وهو خلاف الرسم. (¬6) في (أ): (يقضي) بالياء، وهو خلاف الرسم. (¬7) انظر: "الحجة" لابن خالويه ص 140، و"الكشف" 1/ 434. (¬8) في النسخ (يقضي) بالياء.

حق) (¬1)، وعلى هذا يكون (الحق) مفعولًا به وقضى بمعنى: صنع، كقول الهذلي (¬2): وَعَلَيْهَما مَسْروُدتانِ قَضاهُما ... داوُدُ ....................) (¬3) أي: صنعهما داود، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة (¬4) بقوله {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} قال: (والفصل في القضاء ليس في القصص) (¬5)، قال أبو علي: (القصص هاهنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضًا في نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]، وقال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، وقال: {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} [الأنعام: 55] فقد حمل الفصل على القول واستعمل معه كما جاء مع القضاء) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 256، وفيه زاد: (فهو حق وحِكمةٌ، إلا أن {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} يدل على معنى القضاء الذي هو الحكم، فأما قضى في معنى صنع فمثله قول الهذلي ...) ا. هـ وبمثل قول الزجاج قال الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 359 - 360، وأبو علي في "الحجة" 3/ 319. (¬2) الهذلي: خُوَيْلد بن خالد بن مُحرّث الهذلي، أبو ذؤيب، تقدمت ترجمته. (¬3) "شرح أشعار الهذليين" 1/ 39، و"مجاز القرآن" 1/ 52 - 275، و"معاني القراءات" 1/ 359، و"الحجة لأبي علي" 3/ 319، 4/ 254، و"اللسان" 1/ 418 (تبع)، و"الدر المصون" 2/ 86، وتكملته: (أو صَنَعُ السَّوابغ تُبَّعُ) وهو من قصيدة من عيون المراثي قالها في رثاء أبنائه الذين أصابهم الطاعون، المسرودتان: درعان، وأصل السَّرْد الخرز في الأديم، والصنع: الحاذق بالعمل, وتبع، بالضم: ملك تصنع له الدروع، انظر: "جمهرة أشعار العرب" 247. (¬4) ذكره أبو علي في "الحجة" 3/ 318، وابن خالويه في "إعراب القراءات" 1/ 159 , وابن زنجلة في "الحجة" ص 254. (¬5) "معاني القرآن للنحاس" 2/ 434 - 435. (¬6) "الحجة" لأبي علي 3/ 318 - 319.

58

58 - قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الاستعجال: المطالبة بتعجيل الشيء قبل وقته، ولذلك كانت العجلة مذمومة (¬1)؛ والإسراع: تقديم الشيء في وقته، ولذلك كانت السرعة محمودة (¬2) [و] (¬3) قال ابن عباس: (يقول لمحمد: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب لم أناظركم [ساعة] (¬4)، ولكن الله حليم ذو أناة لا يعجل لعجلتكم) (¬5). وقوله تعالى: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: لا نفصل مما بيني وينكم من مطالبتي لكم بإخلاص عبادة الله ومطالبتكم بتعجيل العقوبة، فلو كان الأمر بيدي لأتيتكم [بما] (¬6) تستعجلون به من العذاب (¬7)، فلا يبقي بيننا مطالبة، هذا معنى قوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، وقد ذكرنا معنى {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} عند قوله {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8]. وقال أهل المعاني (¬8): (في هذه الآية علم الله تعالى أن بعضهم يؤمن من هؤلاء الذين كانوا يستعجلون العذاب، فلذلك أخر العذاب عنهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعلم باطن أمرهم فلهذا كان يعجل عليهم بالعقوبة [لو] (¬9) كان الأمر بيده). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2342، و"المفردات" ص 548 (عجل). (¬2) "المفردات" ص 407 (سرع). (¬3) لفظ (الواو): ساقط من (ش). (¬4) لفظ (ساعة) ساقط من (أ). (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 51، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 52، وانظر: "تنوير المقباس" 2/ 25. (¬6) في (أ): (ما). (¬7) لفظ: (من العذاب) ساقط من (أ). (¬8) انظر: "زاد المسير" 3/ 52. (¬9) في (ش): (إذا).

59

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: (يريد: لا أحد أظلم منكم ما جهلتم شيئًا من أمري ولا كنت عندكم منذ ولدت إلى اليوم كاذبًا ولا ساحرًا ولا كاهنًا ولا مفتريًا) (¬1)؛ هذا كلامه يعني: أنهم ظلموه إذ كذبوه وقالوا: إنه كاذب وساحر بعد علمهم بصدقه وأمانته، فيكون في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [ضرب] (¬2) من الوعيد لهم. وقال بعض أصحاب المعاني قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} (متصل المعنى بالذي قبله كأنه قال: أنا لا أعلم وقت عقوبة الظالمين، والله عز وجل يعلم ذلك، فهو يؤخره إلى وقته) (¬3). 59 - قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية. المفاتح جمع مِفْتح وَمَفْتحٍ، فالمفتح بالكسر: المفتاح الذي يفتح به، والمفتح بفتح الميم الخزانة، وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مَفْتح (¬4). قال الفراء في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] (يعني: خزائنه) (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ش): (ذر). (¬3) انظر: "البحر المحيط" 4/ 143. (¬4) انظر: "العين" 3/ 194، و"الجمهرة" 1/ 386، و"تهذيب اللغة" 3/ 2732 , و"الصحاح" 1/ 389، و"مجمل اللغة" 3/ 710، و"مقاييس اللغة" 4/ 469 , و"المفردات" ص 621، و"اللسان" 6/ 3339 (فتح). (¬5) "معاني القرآن" 2/ 310.

قال السدي (¬1) والحسن (¬2): (و {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}: خزائن الغيب)، وخو ذلك قال ابن عباس (¬3) [والضحاك (¬4) ومقاتل (¬5) (في المفاتح أنها الخزائن). واختلفوا في معنى {الْغَيْبِ} هاهنا، فقال ابن عباس] (¬6) في رواية عطاء: (يريد: ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وما يصير إليه أمري وأمركم) (¬7). وقال مقاتل: (يعني: خزائن غيب العذاب متى ينزل بكم {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}) (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 212، وابن أبي حاتم 4/ 1304 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 277. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 52، عن ابن عباس والضحاك ومقاتل والسدي والحسن. وقال القرطبي في "تفسيره" 2/ 7: (قيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق، عن السدي والحسن) ا. هـ (¬3) ذكره الماوردي 2/ 121، والواحدي في "الوسيط" 1/ 52، وابن الجوزي 3/ 53، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 213 بسند ضعيف عن عطاء الخرساني عن ابن عباس {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} قال: هن خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 28. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف" 178 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 52، والبغوي 3/ 150، والقرطبي 7/ 2. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 564. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) لم أقف عليه. (¬8) "تفسير مقاتل" 1/ 564.

وروي عن ابن عباس: (خزائن الأرض والرزق ونزول العذاب) (¬1) , وهو قول الضحاك (¬2). وقال أبو إسحاق: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (أي: عنده الوصلة إلى علم الغيب قال: وكل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه: افتح عليَّ) (¬3)، فعلى هذا المفاتح جمع [المفتح] (¬4) بمعنى الفتح، كأن المعنى عنده فتوح الغيب أي: هو يفتح الغيب على من يشاء من عباده بذكره والبيان عنه والدلالة عليه، فيفتح لعباده ما [يشاء] (¬5) من ذلك بإعلامهم إياه ويغلق عنهم ما شاء منه بترك دلالتهم عليه. وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال مجاهد: (البر: القفار، ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي 2/ 121، وابن الجوزي 3/ 53، وأبو حيان 4/ 144، وفي "تنوير المقباس" 2/ 26 نحوه. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 178 ب، والبغوي 3/ 150، والقرطبي 7/ 2. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 257، ونحوه ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 435. (¬4) في (أ): (المُفتح)، بالضم، وفي (ش): (المَفتَح)، بسكون ثم فتح، وقال السمين في "الدر" 4/ 660، وابن حجر في "الفتح" 8/ 291: (جوز الواحدي أنه جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر) ا. هـ. زاد ابن حجر: (وهو بمعنى: الفتح، أي: عنده فتوح الغيب، أي: يفتح الغيب على من يشاء من عباده، ولا يخفى بعد هذا التأويل للحديث المذكور في الباب، وأن مفاتح الغيب لا يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى) ا. هـ والحديث المقصود هو ما أخرجه البخاري في صحيحه (4627)، كتاب التفسير باب (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وانظر: الأحاديث في هذا الباب في مرويات الإمام أحمد في "التفسير" 3/ 371 - 374. (¬5) في (أ): (ما شاء).

والبحر: كل قرية فيها ماء) (¬1) وهذا عام في كل ما في المياه والأرضين من البوادي والقفار، لا يحدث فيها شيء إلا بعلم الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} قال أبو إسحاق: (المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، فليس تأويله إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} تقديره: ولا من {حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} قالوا: يعني: في الثرى تحت الأرض (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ}، قال ابن عباس: (يريد: ما ينبت وما لا ينبت) (¬4)، وروي عنه أنه قال: (الرطب: الماء، واليابس: البادية) (¬5). وقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال صاحب "النظم" (¬6): (تم ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 178 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 53، وابن الجوزي 3/ 54. وقال الماوردي 2/ 121: (الجمهور وهو الظاهر أن: ما في البر ما على الأرض، وما في البحر ما على الماء. وقال مجاهد: البر: القفر، والبحر: القرى لوجود الماء فيها، فلذلك سميت بحرًا) ا. هـ. بتصرف. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 257، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 2/ 436. (¬3) انظر: "الدر المصون" 4/ 661. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 53، وذكره الثعلبي في "الكشف" 178 ب، والبغوي 3/ 151، عن عطاء فقط. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 62، وذكره الثعلبي 178 ب، والبغوي 3/ 151، وانظر: "زاد المسير" 3/ 54. (¬6) كتاب "نظم القرآن" للجرجاني مفقود، وذكر قوله السمين في "الدر" 4/ 662، ورجح الزمخشري 2/ 24 - 25، وأبو حيان في "البحر" 4/ 146، كونه استثناء بعد استثناء للتأكيد قال أبو حيان: (هذا الاستثناء جار مجرى التوكيد؛ لأن قوله:=

الكلام عند قوله {وَلَا يَابِسٍ} ثم استأنف خبراً آخر بقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} بمعنى: وهو {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أيضًا؛ لأنك لو جعلت قوله {إِلَّا فِي كِتَابٍ} متصلًا بالكلام الأول فسد المعنى)، وبيان فساده (¬1) في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله: {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2) [يونس: 61]، [ومعنى قوله {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3)] قال أبو إسحاق: (يجوز أن يكون الله عز وجل أثبت ذلك في كتاب من قبل أن يخلق كما قال جل وعز: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، فأعلم جل وعز أنه قد أثبت ما خلق من قبل خلقه) (¬4). قال ابن الأنباري وغيره (¬5): (وفائدة كتب الله ذلك في اللوح ¬

_ = {وَلَا حَبَّةٍ} {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} معطوف على قوله: {مِنْ وَرَقَةٍ} والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، أي: إلا كرمتها، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة) ا. هـ ملخصًا، وجعل بعضهم الاستثناء الثاني بدلاً من الأول. انظر: "غرائب الكرماني" 1/ 363، و"البيان" 1/ 324، و"التبيان" 1/ 337، و"الفريد" 2/ 161. (¬1) قال السمين في "الدر" 4/ 662: (فساد المعنى من حيث اعتقد أنه استثناء آخر مستقل، ولو جعله استثناء مؤكدًا للأول لم يفسد المعنى، وكيف يتصور تمام الكلام على قوله: {وَلَا يَابِسٍ} ويبتدأ بإلا، وكيف تقع إلا هكذا؟) ا. هـ. ملخصًا. (¬2) لفظ: {وَلَا أَكْبَرَ} ساقط من (أ). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 257، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 437: (أي: إلا يعلمه علمًا يقينًا، ويجوز أن يكون المعنى: إلا قد كتبه قبل أن يخلقه، والله أعلم بما أراد) ا. هـ. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 213، و"معاني النحاس" 2/ 437، و"تفسير الرازي" 13/ 10 - 11.

60

المحفوظ مع علمه وأنه لا يفوته شيء هو أنه عز وجل كتب هذه الأشياء وأحصاها قبل أن تكون (¬1) لتقف (¬2) الملائكة على نفاذ علمه، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء، فيكون في ذلك عبرة للملائكة الموكلين باللوح؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث من الأمور فيجدونه موافقًا له، قال أبو بكر: ويجوز أن يقال: إن الله تبارك وتعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تعظيمًا على خلقِه أمر الحساب، وإعلامًا أنه لا يفوته من جميع ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأن الذي يثبت ويكتب مما لا ثواب فيه ولا عقاب كان مما فيه الثواب والعقاب أولى بالكتب. فذكر ما ذكر تبارك وتعالى: [من هذا (¬3)] معظمًا ومخوفًا ودالًا على أنه لا يغيب عنه من أعمال العباد شيء) (¬4)، وهذا معنى قول الحسن: (يكتبه الله رطبًا، ويكتبه يابسًا، لتعلم يا ابن آدم أن عملك أولى بالإحصاء) (¬5). 60 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} قال ابن عباس: (يقبض أرواحكم في منامكم) (¬6). قال أبو إسحاق: (معنى: {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} أي: ينيمكم فيتوفى نفوسكم التي بها تميزون (¬7) كما قال جل وعز: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: ¬

_ (¬1) في النسخ (يكون) بالياء، والأولى تكون بالتاء. (¬2) في (ش): (ليقف). (¬3) لفظ: (من هذا) ساقط من (أ). (¬4) ذكره ابن الجوزي 3/ 54 - 55. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 26، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 54، وابن الجوزي 3/ 55. (¬7) في (ش): (يميزون).

42]) (¬1)، فالله جل وعز يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت. وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} قال ابن عباس: (يريد: ما كسبتم من العمل بالنهار) (¬2)، ومضى الكلام في معنى الجرح عند ذكر الجوارح (¬3). وقوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} قال ابن عباس: (يرد عليكم أرواحكم في النهار) (¬4)، وقال قتادة: (البعث هاهنا: اليقظة) (¬5)، وقال الزجاج: (أي: ينبهكم في نومكم في النهار) (¬6). وقوله تعالى: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي: أعماركم المكتوبة، وهو قوله: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]. قال السدي: يعني: أجل الحياة إلى الموت) (¬7)، وهو قول المفسرين (¬8) قال الزجاج: (أي: يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 257، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 2/ 437. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 26، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 54، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 214، وابن أبي حاتم 4/ 1305 بسند جيد عن ابن عباس قال: (ما اكتسبتم من الإثم)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30. (¬3) انظر: "البسيط" نسخة جامعة الإمام 3/ 11 ب. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 26، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 54. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 208، والطبري 7/ 215، وابن أبي حاتم 4/ 1306 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 258. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 215 بسند جيد. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 215، و"معاني النحاس" 2/ 438، و"تفسير السمرقندي" 1/ 490.

61

آجالكم) (¬1)، ومعنى القضاء: فصل الأمر على تمام، ومعنى قضاء الأجل: فصل مدة العمر من غيرها بالموت (¬2)، وفي هذه الآية حجة على النشأة الثانية؛ لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر (¬3). 61 - قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الآية. {فَوْقَ} يستعمل في كل ما يستحق أن يوصف بأفعل، ولا يراد به المكان العالي، كما يقال: هو فوقه في القدرة، أي: أقدر منه، و [هو] (¬4) فوقه في العلم، أي: أعلم [منه] (¬5)، و [هو] (¬6) فوقه في الجود (¬7)، أي: أجود يعبر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها (¬8). وقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، قال ابن عباس: (من الملائكة يحصون أعمالكم كقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]) (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 258. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2986 (قضى). (¬3) ذكر هذا المعنى الثعلبي في "الكشف" 178 ب، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 6. (¬4) لفظ: (هو) ساقط من (أ). (¬5) لفظ: (منه) ساقط من (ش)، وتكرر فيها لفظ (هو فوقه في العلم أي أعلم). (¬6) لفظ: (هو) ساقط من (أ). (¬7) في (ش): (الجيد)، وهو تحريف. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2724 (فوق)، وابن عطية 5/ 225، والقرطبي 7/ 6، وهذا تأويل وقول نفاة العلو، والحق أنها تستعمل في فوقية المكان والمكانة، والله سبحانه وتعالى مستعل على كل شيء بذاته وقدره وقهره، وقد سبق الكلام على ذلك. (¬9) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 55، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 55، وفي "تنوير المقباس" 2/ 27 نحوه.

وقال قتادة: (يحفظون عليك أجلك ورزقك) (¬1)، وروي عن السدى: (يحفظون العبد من أمر الله الذي لم يُقدر له إلى الأمر الذي قُدر له) (¬2) قال الزجاج: (الحفظة: الملائكة، واحدهم حافظ) (¬3). {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} يعني: أعوان ملك الموت، عن ابن عباس (¬4) والحسن (¬5) وقتادة (¬6) وإبراهيم (¬7) والربيع (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 216، وابن أبي حاتم 4/ 1306، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30. (¬2) لم أقف عليه. وقد أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 216، وابن أبي حاتم 4/ 1306 بسند جيد عن السدي قال: (هي المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله) وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30، وانظر: "زاد المسير" 4/ 312. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 258، وفيه: (والجمع حفظة مثل: كاتب، وكتبة، وفاعل، وفعلة) ا. هـ. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 216، وابن أبي حاتم 4/ 1307 بسند جيد، عن إبراهيم النخعي عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30، وفي "تهذيب التهذيب" 1/ 92 (النخعي لم يسمع من ابن عباس لكن مراسيله جيدة) ا. هـ. (¬5) قال أبو حيان في "البحر" 4/ 148 - 149 (قال الحسن: إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها) ا. هـ. وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 225. قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} يريد به على ما ذكر ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت يعاونونه ويأتمرون له) ا. هـ. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 209، والطبري 7/ 217، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 211، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30. (¬7) أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 108، وعبد الرزاق 2/ 1/ 209، والطبري 7/ 217، وابن أبي حاتم 4/ 1307، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 211، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 30. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 217، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 200 - 201, بسند لا بأس به، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 300.

وقال أبو إسحاق: ({تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: هؤلاء الحفظة؛ لأنه قال: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}) (¬1)، فجعل أبو إسحاق رسل الموت من الحفظة المرسلة للحفظ، وعلى هذا يجب أن يكون؛ لأن تقدير اللفظ: وهو الذي يرسل الحفظة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} توفوه، يريد: أن يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفية عند مجيء الممات (¬2)، و {حَتَّى} هاهنا هي التي يقع بعدها الابتداء (¬3) والخبر، وقد بينا شرح (¬4) ذلك عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110]. وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} قال ابن عباس (¬5) والسدي (¬6): (لا يضيعون). وقال الزجاج: (لا يغفلون ولا يتوانون، قال: ومعنى التفريط: تقدمة العجز، والمعنى: أنهم لا يعجزون) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 258. (¬2) قال الفخر الرازي في "تفسيره" 13/ 16: (الأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة، ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق) ا. هـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 148: (الأكثرون على أن {رُسُلُنَا} عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم) ا. هـ (¬3) انظر: "الفريد" 2/ 163. (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 80 ب. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 218، وابن أبي حاتم 4/ 1307 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 310. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 218 بسند جيد. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 258، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 194: (أي: لا يتوانون ولا يتركون شيئاً ولا يخلفونه ولا يغادرون) ا. هـ. وانظر: "معاني النحاس" 2/ 439، وقد تقدم بحث معنى فرط.

62

62 - قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} يعني: العباد يردون بالموت إلى الله {مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}. قد مضى الكلام في معنى المولى عند قوله: {أَنتَ مَوْلَانَا} [البقرة: 286]، {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} أي: القضاء فيهم، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يقول: إذا حاسب فحسابه سريع، ومضى الكلام في معنى سرعة حساب الله تعالى عند قوله: {والله سَرِيعُ الحِسَابِ} [البقرة: 202] في سورة البقرة. 63 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية. قرئ (¬1) قوله: {يُنَجِّيكُمْ} بالتشديد، وكذلك قوله: {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ} [(والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فإن شئت نقلت بالهمز، وإن شئت نقلت بتضعيف العين نحو: أفرحته وفرحته وأغرمته وغرمته وما أشبه ذلك، وفي التنزيل: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الأعراف: 64] وفيه (¬2): {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [فصلت: 18]، فإذا جاء التنزيل باللغتين جميعًا تبيّنت استواء القراءتين في الحسن) (¬3). ¬

_ (¬1) قرأ أبو عمرو في رواية ويعقوب: (قُلْ مَن يُنْجِيكُم) مخففة الجيم ساكنة النون، وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (قُلِ الله يُنَجَّيكُم) بفتح النون وتشديد الجيم، وقرأ الباقون بإسكان النون مع تخفيف الجيم. انظر: "السبعة" 259، و"المبسوط" ص 169، و"التذكرة" 2/ 400، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 258. (¬2) لفظ: (فيه) ساقط من (ش). (¬3) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 3/ 322 - 323، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 362، و"الحجة" لابن خالويه ص 141، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 159 - 160، و"الحجة" لابن زنجلة ص 255.

غير أن الاختيار التشديد؛ لأن ذلك كان لهم من الله غير مرةٍ (¬1). وقوله تعالى: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} سؤال توبيخ لهم وتقرير أن الله يفعل ذلك (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال ابن عباس: (من أهوالهما وكرباتهما قال: وكانت قريش تسافر في البر والبحر فإذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم) (¬3). قال أبو إسحاق (¬4): ({ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} شدائد البر والبحر، والعرب تعبر عن الشدة بالظلمة، يقولون لليوم الذي يلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل، وأنشد (¬5): بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلمُونَ بَلاَءَنا ... إذاً كَانَ يَوْمَ ذَا كَواكِبَ مظلم) ¬

_ (¬1) قال مكي في "الكشف" 1/ 436: (القراءتان متعادلتان، غير أن التشديد فيه معنى التكرير للفعل على معنى نجاة بعد نجاة) اهـ. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 258، و"تفسير الفخر الرازي" 13/ 20. (¬2) انظر: "الفريد" 2/ 164، "الدر المصون" 4/ 669. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 56، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 58، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 219، وابن أبي حاتم 4/ 1308 بسند ضعيف من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: (يقول: إذا أضل الرجل الطريق دعا الله: {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 259. (¬5) البيت لعمرو بن شأس الأسدي شاعر مخضرم، في "الكتاب" 1/ 47، وبلا نسبة في "معاني النحاس" 2/ 440، و"الكشاف" 1/ 404، والقرطبي 7/ 8، و"البحر" 4/ 122، ورواية الأكثر: أَشْنَعَا: مكان مظلم، ويروى: أشهب، وانظر: "المعاني الكبير" 2/ 973.

وقال غيره: (أراد ظلمة الليل وظلمة الغيم في البر والبحر، فجمع لفظه ليدل على معنى الجميع) (¬1). وقوله تعالى: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} تقديره: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} داعين {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬2) وقرِئ {وَخُفْيَةً} (¬3) وهما لغتان (¬4)، قال ابن عباس (¬5) والحسن (¬6): ({تَضَرُّعًا} علانية {وَخُفْيَةً} سرًّا بالنية). قال أبو إسحاق: (المعنى: تدعونه مظهرين الضراعة، وهو شدة الفقر إلى الشيء والحاجة، وتدعونه خفية أي: في أنفسكم تضمرون (¬7) فقركم وحاجتكم إليه كما تظهرون) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 565، والطبري 7/ 219، والأولى العموم، قال ابن عطية 5/ 228: (التخصيص لا وجه له، وهو لفظ عام لأنواع الشدائد) ا. هـ. ملخصًا، وانظر: "البحر" 4/ 150. (¬2) أي في محل نصب على الحال من مفعول {يُنَجِّيكُمْ} و {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} مصدر في موضع الحال. انظر: "الفريد" 2/ 165، و"الدر المصون" 4/ 669. (¬3) قرأ عاصم في رواية أبي بكر (خِفْيَة) بكسر الخاء، وقرأ الباقون بضمها. انظر: "السبعة" ص 259، و"المبسوط" ص 170، و"التذكرة" 2/ 400، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 259. (¬4) انظر: "معاني القراءات" 1/ 362، و"إعراب القراءات" 1/ 159، و"الحجة" لابن خالويه ص 141، ولأبي علي 3/ 317، ولابن زنجلة ص 255، و"الكشف" 1/ 435. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 27، وقال السيوطي في "الدر" 3/ 31، أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، قال: (السر). (¬6) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" 3/ 317، قال: (روي عن الحسن: التضرع العلانية والخفية بالنية) ا. هـ (¬7) في (ش): (يضمرون). (¬8) "معاني القرآن" 2/ 259، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" 2/ 440.

وقوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} وقرأ الكوفيون (¬1): {لَئِنْ أَنْجَانَا} حملوه على الغيبة لقوله قبله: {تَدْعُونَهُ} {لَئِنْ أَنْجَانَا} (¬2) , وقوله بعده: {قُلْ الله يُنَجِّيكُمْ} [الأنعام:64] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} [الأنعام:65] فأنجانا أولى من {أَنْجَيْتَنَا} لكونه على ما قبله وما بعده [من لفظ الغيبة، وفيه إضمار على تقدير: يقولون: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} في موضع الحال مثل {تَدْعُونَهُ}، ومن قرأ: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} فالتقدير عنده: داعين وقائلين {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا}، فواجه بالخطاب، ولم يراع ما راعاه الكوفيون من المشاكلة بما قبله وما بعده] (¬3). ويقوي هذه القراءة قوله في آية أخرى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]. وأمال (¬4) حمزة والكسائي {أَنْجَانَا} وهو مذهب حسن؛ لأن هذا النحو من الفعل إذا كان على أربعة أحرف استمرت فيه الإمالة لانقلاب الألف إلى الياء في المضارع (¬5). وقوله تعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} قال ابن عباس: (من ¬

_ (¬1) قرأ: عاصم وحمزة والكسائي {لَئِنْ أَنْجَانَا} بألف بعد الجيم من غير تاء ولا ياء وأمال الجيم، حمزة والكسائي، وفتح عاصم، وقرأ الباقون (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا] بالياء والتاء من غير ألف. انظر: "السبعة" ص 259، و"المبسوط" ص 169، و"التذكرة" 2/ 401، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 259. (¬2) جاء في (ش): تكرار قوله: (حملوه على الغيبة؛ لقوله قبله {تَدْعُونَهُ} {لَئِنْ أَنْجَانَا}). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬4) في (أ): (وأما حمزة)، وهو تحريف. (¬5) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 3/ 323 - 324، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 362، و"إعراب القراءات وعللها" 1/ 160، و"الحجة" لابن خالويه ص 141/ 142، و"الحجة" لابن زنجلة ص 255، و"الكشف" 1/ 435، وانظر: "تعريف الإمالة" ومراجعها فيما سبق.

64

المؤمنين) (¬1)، وقال عطاء عنه: (يريد: من الطائعين) (¬2)، 64 - وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (الكَرْبُ: الغم الذي يأخذ بالنفس (¬3)، يقال: كرَبه الغم، وإنه لمكروب، والكربة: الاسم، والكريب: المكروب، وأمر كارب، ذكر ذلك الليث) (¬4). قال أبو إسحاق: (أعلمهم الله تعالى أن الله الذي دعوه وأقروا به هو ينجيهم ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها من صنعتهم [و] (¬5) أنها لا تضر ولا تنفع ولا تقدر أن تنجي من كربة ويله (¬6). ثم أعلمهم أنه قادر على تعذيبهم فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] (¬7). قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: من السماء كما حُصب قوم لوط وكما رمي أصحاب الفيل، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يريد: كما خُسف بقارون) (¬8). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 27 - 28، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 58. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (ش): (يأخذ النفس). (¬4) ذكره عن الليث الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3119، وهو في "العين" للخليل 5/ 360، وانظر: "جمهرة اللغة" 1/ 327، و"الصحاح" 1/ 211، و"مجمل اللغة" 3/ 783، و"مقاييس اللغة" 5/ 174، و"المفردات" 706، و"اللسان" 7/ 3845 (كرب). (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬6) (ويله) غير واضحة في النسخ ولم ترد عند الزجاج. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 259 بتصرف. (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 28، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 58، وابن الجوزي 3/ 59.

وهو قول السدي (¬1) وابن جريج (¬2) ومجاهد (¬3) ومقاتل (¬4)، قالوا: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الصيحة والحجارة والريح والغرق بالطوفان وكل عذاب من السماء، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الرجفة والخسف. وقال في رواية عكرمة: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الأمراء {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} السفلة (¬5)، وهو قول الضحاك: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} (من قبل كباركم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: من أسفل منكم) (¬6)، ونحو هذا روى عبد الوهاب بن مجاهد (¬7) عن أبيه: ({عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}: السلاطين الظلمة، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: العبيد السوء) (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 220 بسند جيد. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 58. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر" 3/ 283، وأخرج الطبري 7/ 220 بسند جيد عنه قال: ({أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: الخسف). (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 565. (¬5) ذكره الرازي 13/ 22، عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج الطبري 7/ 220 بسند جيد عنه قال: {مِنْ فَوْقِكُمْ} يعني: من أمرائكم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني: سفلتكم) اهـ، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم 4/ 1310 - 1311 بسند جيد عنه قال: ({مِنْ فَوْقِكُمْ}: أئمة السوء، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: خدم السوء) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 31. (¬6) ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 440، والثعلبي 179 أ، والبغوي 3/ 153. (¬7) عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر المخزومي القرشي، روى عن أبيه وعطاء، وروى عنه عبد الرزاق وغيره، وهو متروك، وقيل: لم يسمع من أبيه، انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 69، و"ميزان الاعتدال" 2/ 682، و"تهذيب التهذيب" 6/ 453، و"تقريب التهذيب" ص 368 (4263). (¬8) ذكره الثعلبي 179 أ، والبغوي 3/ 153، والقرطبي 7/ 9، والظاهر: أن المراد بالعذاب من فوق الرجم وما أشبهه، ومن تحت الخسف وما أشبهه؛ لأنه =

وقوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الشيع (¬1): جمع شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شِيع وأشياع، قال الله عز وجل: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54]، وأصله من التشييع، وهو التتبع، ومعنى الشيعة: الذين يتتبع بعضهم بعضًا. قال الربيع بن أنس: (يخلطكم (¬2) فرقًا) (¬3) وقالوا (¬4) جميعًا: (يعني: يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقًا يقاتل بعضكم بعضًا ويخالف بعضكم بعضًا)، وهو قول ابن عباس (¬5) ومجاهد (¬6) ¬

_ = هو المعروف عند العرب من معنى فوق وتحت، فحمله على الأغلب والأشهر أولى، وإن كان غيره له وجه من الصحة، وهذا اختيار أكثرهم، وقال ابن عطية 5/ 231: (الأقوال في الآية كلها أمثلة لا أنها هي المقصودة؛ إذ هي وغيرها داخلة في عموم اللفظ) ا. هـ. بتصرف. وانظر: "معاني الفراء" 1/ 338، و"تفسير غريب القرآن" ص 164، والطبري 7/ 220، وابن كثير 2/ 159، و"البحر" 4/ 151. (¬1) انظر: "العين" 2/ 190، و"معاني الزجاج" 2/ 308، و"تهذيب اللغة" 2/ 1808، و"الصحاح" 3/ 1240، و"مقاييس اللغة" 3/ 235، و"المفردات" ص 470، و"اللسان" 4/ 2377 (شيع). (¬2) في (أ): (يخلكم)، ثم كتب فوقها: يجعلكم. (¬3) لم أقف عليه (¬4) يعني المفسرين، قال ابن عطية 5/ 231: (قال المفسرون: هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة) ا. هـ. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 221، وابن أبي حاتم 4/ 1311 بسند جيد، قال: (يعني بالشيع: الأهواء المختلفة). وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 32. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 216 - 217، قال: (يعني: ما فيهم من الاختلاف والفتن)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 221، وابن أبي حاتم 4/ 1311 بسند جيد، وفي رواية عند الطبري قال: (الأهواء المفترقة).

66

ومقاتل (¬1) والسدي (¬2) قال أبو إسحاق: (معنى {يَلْبِسَكُمْ}: يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق، فيجعلكم فرقًا لا تكونون فرقة واحدة، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضًا، وهو معنى قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}) (¬3). وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ} نبين لهم الآيات في القرآن، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} يَعلمون (¬4). 66 - قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} قال ابن عباس (¬5) والحسن (¬6) والسدي (¬7): (يريد: بالقرآن)، {وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قال الحسن: (لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وأعمالكم، إنما أنا منذر، والله المجازي لكم بأعمالكم) (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 565، قال: (يعني: فرقًا أحزابًا أهواء مختلفة كفعله بالأمم الخالية) ا. هـ. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 221، وابن أبي حاتم 4/ 1312 بسند جيد، قال: (يفرق بينكم). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 2/ 260، وفيه زيادة قال: (يقال: لبَسْت الأمر ألبسه: لم أبينه، وخلطت بعضه ببعض. ويقال: لبِستُ الثوب ألبَسه) اهـ، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 194، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 164، و"معاني النحاس" 2/ 441. (¬4) انظر:"تفسير السمرقندي" 1/ 492، وابن عطية 5/ 232، والقرطبي 7/ 11. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 28. (¬6) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 128، والهمداني في "الفريد" 2/ 166. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 227، وابن أبي حاتم 4/ 1313 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 37. (¬8) ذكره الماوردي 2/ 128، والواحدي في "الوسيط" 1/ 60، وابن الجوزي 3/ 612.

وقال [أبو] (¬1) إسحاق: (أي إنما أدعوكم إلى الله وإلى شريعته، ولم أؤمر بحربكم ولا أخذكم بالإيمان كما يأخذ الموكل بالشيء الذي يلزم بلوغ آخره) (¬2)، وقيل: (لست (¬3) عليكم بحفيظ: يمنعكم من أن تكفروا كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به) (¬4). قال ابن عباس (¬5) والمفسرون (¬6): (نسختها آية (¬7) القتال). ¬

_ (¬1) لفظ: (أبو) ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 260. (¬3) في (ش): (ليست)، وهو تحريف. (¬4) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 128 عن بعض المتأخرين، وانظر: "البحر المحيط" 4/ 152. (¬5) أخرجه النحاس في "ناسخه" 2/ 317 بسند ضعيف، وذكره مكي في "الإيضاح" ص 242، وابن العربي في "ناسخه" 2/ 211، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 324، والسيوطي في "الدر" 3/ 37. (¬6) وهو قول مقاتل 1/ 566، وابن سلامة في "ناسخه" ص 67، وابن العربي 2/ 211، وحكاه الرازي 13/ 24، عن ابن عباس والمفسرين. وقال ابن عطية 5/ 233: (النسخ متوجه؛ لأن اللازم من اللفظ لست الآن، وليس فيه أنه لا يكون في المستأنف) ا. هـ. وانظر: القرطبي 7/ 11. (¬7) آية السيف عند الجمهور وهو أصح الأقوال في سورة التوبة آية (5) قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، انظر: "النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 2/ 504، والظاهر عدم النسخ؛ لأن المعنى: لست عليكم حفيظًا إنما أطالبكم بالظواهر من الإقرار والعمل لا بالإسرار، فهي خبر محكم، والخبر لا يجوز نسخه، ولعدم التعارض فهذه الآية تحصر وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ والإنذار, وآية السيف تبين الوظيفة الأخرى وهي القتال إذا تعين وسيلة للدعوة، وهذا قول الأكثر، انظر: "ناسخ النحاس" 2/ 318، و"الإيضاح" لمكي ص 242، و"النواسخ" لابن الجوزي ص 324، و"المصفى" لابن الجوزي ص 31 , و"تفسير الرازي" 13/ 24، و"النسخ" لمصطفى زيد 1/ 426 - 429. وينبغي التنبيه على أن النسخ عند السلف رضي الله عنهم في الإطلاق أعم منه عند =

67

67 - قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} المستقر: يجوز أن يكون موضع الاستقرار (¬1)، ويجوز أن يكون نفس الاستقرار؛ لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج بمعنى: الإدخال والإخراج كقول الشاعر: إنَّ المُوَقَّى مِثلُ مَا وُقَّيتُ (¬2) يعني: التوقية، قال المفسرون: (يقول: لكل خبر يخبره الله وقت ومكان يقع فيه من غير خُلف ولا تأخير، وإذا جعلت المستقر مصدرًا كان المعنى: لكل وعدٍ ووعيدٍ من الله وقوع واستقرار لابد {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إذا نزل) (¬3). ¬

_ = الأصوليين، فالسلف يسمون كل رفع نسخًا، سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة، فيستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، ويطلقون على تقييد المطلق وتخصيص العموم وبيان المبهم والمجمل ورفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا، سواء كان ذلك بدليل متصل أو منفصل كل ذلك عندهم عام ومجمل ومشترك في معنى واحد، وهو مطلق التغيير، وهو في كلام الأصوليين رفع حكم شرعي بدليل شرعي آخر متأخر عنه، أفاده شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 13/ 272 - 273، 14/ 101، والشاطبي في "الموافقات" 3/ 108، والدكتور مصطفى زيد في "النسخ في القرآن" 1/ 73. (¬1) المستقر: يكون مصدرًا بمعنى: الاستقرار، واسم مكان، أي: موضع الاستقرار، واسم زمان، أي: وقت الاستقرار. انظر: الرازي 13/ 24، و"الفريد" 2/ 167، و"الدر المصون" 4/ 674. (¬2) هذا رجز لرؤبة بن العجاج في "ديوانه" ص25، و"الكتاب"4/ 97، و"المخصص" 14/ 200، وتكملته: (أَنْقَذَنيِ مِنْ خَوْفِ مَا خَشِيتُ)، والشاهد مجيء الموقى بمعنى: التوقية، انظر: "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص 186. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 227، والسمرقندي 4/ 1314، وابن عطية 6/ 72 , والرازي 13/ 21.

قال الكلبي: (لكل قول حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم) (¬1). وقال الضحاك: (لكل حديث وخبر منتهى وأجل يتبين فيه صدقه عند وقوعه) (¬2) يعني: العذاب الذي وعدهم في الدنيا [و] (¬3) الآخرة، ونظيره قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]. وقال الحسن: (لكل عمل جزاء فمن عمل عملًا من الخير جوزي به الجنة، ومن عمل عمل سوء جوزي به النار، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يا أهلِ مكة) (¬4)، وقال السدي: (استقر بهم القرار [يوم] (¬5) بدر بما كان (¬6) يعدهم من العذاب) (¬7). قال أبو إسحاق: (يقول: لا آخذكم بالإيمان على جهة الحرب واضطراركم إليه ومقاتلتكم عليه، فلكل {نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أي: وقت معلوم، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} جائز أن يكون وعدهم بعذاب الآخرة، وجائز أن يكون ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 28 - 29، وذكره الثعلبي في "الكشف" 179 أ، والبغوي 3/ 154، وأخرج الطبري 11/ 435، وابن أبي حاتم 3/ 79 ب بسند جيد عن مجاهد مثله. (¬2) ذكره شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 17/ 370 عن بعضهم. (¬3) لفظ: (الواو)، ساقط من (أ). (¬4) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 534، والثعلبي في "الكشف" 179 ب، والماوردي في "النكت والعيون" 1/ 534، وشيخ الإسلام في "الفتاوى" 17/ 371. (¬5) لفظ (يوم): ساقط من (ش). (¬6) في (أ): (بما هو يعدهم). (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 227، وابن أبي حاتم 4/ 1313 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 37.

68

وعدهم بالحرب وأخذهم بالإيمان إن شاؤوا أو أبوا) (¬1)، هذا الذي ذكرنا قول جماعة المفسرين (¬2). وقال ابن عباس في رواية عطاء {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}: (يريد: خبري وخبركم سوف يستقر عند رب العالمين، فيحكم بيني وبينكم {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من له الحجة على صاحبه) (¬3). 68 - قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الآية، قال المفسرون (¬4): (كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله والقرآن، فشتموا واستهزؤوا، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}). وهذا قول ابن عباس (¬5) وسعيد بن جبير والسدي (¬6) ومقاتل (¬7) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 260، وفيه: (وأخذهم بالإيمان شاؤوا أو أبوا، إلا أن يعطي أهل الكتاب الجزية) ا. هـ. (¬2) انظر: "معاني النحاس" 2/ 442. (¬3) لم أقف عليه، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 227، وابن أبي حاتم 4/ 1313 بسند جيد عنه قال: ({لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} يقول: حقيقة)، وأخرج الطبري بسند ضعيف عنه قال: (فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة)، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 37. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 228، و"معاني النحاس" 2/ 442، و"تفسير السمرقندي" 1/ 492، و"الكشف" للثعلبي 179 أ، و"أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 739. (¬5) سوف يأتي تخريجه. (¬6) أخرجه الطبري 8/ 228، من طرق جيدة عن سعيد بن جير والسدى ومجاهد وأبي مالك غزوان الغفاري، وقتادة، وابن جريج، وأخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1314 - 1315، من طرق جيدة عن سعيد بن جبير والسدي، وأبي مالك ومقاتل بن حيان. (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 567.

وغيرهم (¬1)، قالوا: (ومعنى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} أي: بالتكذيب والاستهزاء)، قال ابن عباس: (أمر الله رسوله فقال: إذا رأيت المشركين يكذبون بالقرآن وبك ويستهزئون فاترك مجالستهم {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} يقول: حتى يكون خوضهم في غير القرآن) (¬2). وقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} وقرأ ابن عامر (¬3): {يُنْسِيَنَّكَ} بالتشديد، وفعّل وأفعل يجريان مجرى واحداً كما بينّا ذلك في مواضع [و] (¬4) من التنزيل {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17]، والاختيار قرأه العامة لقوله تعالى (¬5): {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، قال ابن عباس: (يريد: إن نسيت فقعدت {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} وقم إذا ¬

_ (¬1) وهو قول مجاهد في "تفسيره" 1/ 217، وأخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 212 بسند جيد عن قتادة، وذكره عن عامة المفسرين، السيوطي في "الدر" 3/ 39. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 29، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 61. وأخرج الطبري 7/ 228، وابن أبي حاتم 4/ 14/ 13 بسند جيد عنه قال: (أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) ا. هـ وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 37. (¬3)) قرأ ابن عامر: {يُنْسِيَنَّكَ} بفتح النون الأولى وتشديد السين، وقرأ الباقون. بسكون النون الأولى وتخفيف السنن. انظر: "السبعة" ص 260، و"المبسوط" ص 170، و"التذكرة" 2/ 401، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 259. (¬4) لفظ: (الواو)، ساقط من (ش). (¬5) انظر: "معاني القراءات" 1/ 363، و"إعراب القراءات" 1/ 160، و"الحجة" لابن خالويه ص 142، ولأبي علي 3/ 324، ولابن زنجلة ص 256، و"الكشف" 1/ 436.

69

ذكرت) (¬1)، و {الذِّكْرَى}: اسم للتذكرة، قاله الليث (¬2). وقال الفراء: (الذكرى يكون بمعنى: الذكر، كقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} يكون بمعنى: التذكير، كقوله تعالى: {وَلَكِنْ ذِكْرَى} [الأنعام:69]) (¬3)، والكلام في الذكرى موضعه في سورة هود (¬4) عند قوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. وقوله تعالى: {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: (يعني: المشركين) (¬5). 69 - قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس: (قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} فرخص للمؤمنين في القعود معهم ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 29، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 61، وابن الجوزي 3/ 62. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1287، وانظر: "العين" 5/ 346 (ذكر)، و"مجاز القرآن" 1/ 194. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1287، وفيه: (يكون بمعنى: الذكر، وبمعنى: التذكر) ا. هـ. ولم أقف عليه في "معانيه" والذِّكْر والذِّكْرى بالكسر خلاف النسيان، وكذلك الذُّكْرَة بالضم، والذِّكر بالكسر: الصيت والثناء، وقال الراغب في "المفردات" ص 329 (الذَّكرى كثرة الذِّكر وهو أبلغ من الذِّكر. والتَّذكِرة: ما يُتذكر به الشيء، وهو أعم من الدلالة والأمارة) ا. هـ, وانظر: "الجمهرة" 2/ 694، و"الصحاح" 2/ 664، و"مقاييس اللغة" 2/ 358، و"اللسان" 3/ 1507 (ذكر). (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 48 ب. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 29 ,وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 61، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 62.

يذكرونهم ويفهمونهم، قال: ومعنى الآية {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشرك والكبائر والفواحش، {مِنْ حِسَابِهِمْ}: من آثامهم {مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى} يقول: ذكّرهم بالقرآن وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فرخص لهم في مجالستهم على ما أمروا به من المواعظ لهم) (¬1). وقال أبو إسحاق: (أي (¬2): وما عليك أيها النبي وعلى المؤمنين {مِنْ حِسَابِهِمْ} أي: من كفرهم ومخالفتهم أمر الله عز وجل {مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى}، ولكن عليكم أن تذكروهم (¬3)، قال: و {ذِكْرَى} يجوز أن تكون في موضع رفع من وجهين أحدهما: {وَلَكِنْ} عليكم {ذِكْرَى} أي: أن تذكروهم، وجائز أن يكون {وَلَكِنْ} الذين (¬4) تأمرونهم به {ذِكْرَى}) وعلى هذا التأويل الذكرى يكون بمعنى الذكر، وعلى الوجه الأول (¬5) يكون بمعنى: التذكير. قال: (يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: ذكروهم {ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: ليرجى منهم التقوى) (¬6). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 29، وذكره الثعلبي في "الكشف" 179 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 61 - 62، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 62، والرازي في "تفسيره" 13/ 26، والقرطبي 7/ 15. (¬2) لفظ: (أي) ساقط من (أ). (¬3) في (ش): (يذكروهم). (¬4) في (ش): (الذي)، وما في (أ) هو الموافق لما عند الزجاج في "معانيه" 2/ 261. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 13/ 26. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 261، وقال الفراء في"معانيه" 1/ 339: (قوله {وَلَكِنْ ذِكْرَى} في موضع نصب بفعل مضمر، ولكن نذكرهم ذكرى، أو رفع على قوله: ولكن هو ذكرى) ا. هـ. بتصرف، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 555، و"المشكل" لمكي 1/ 256، و"البيان" 1/ 325، و"التبيان" 1/ 339، و"الفريد" 2/ 167 - 168، و"الدر المصون" 4/ 676.

قال ابن عباس: (تعظونهم لعلهم يخافوني) (¬1). وقال مقاتل: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (يقول: لعلهم إذا قمتم منعهم ذلك من الخوض والاستهزاء) (¬2)، فعلى هذا يكون المعنى: ذكروهم ذكرى بترك المجالسة {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض، ونحو هذا قال مجاهد في معنى هذه الآية فقال: ({وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (إن قعدوا ولكن لا يقعدون) (¬3)، وهذان (¬4) جعلا قوله: {وَلَكِنْ ذِكْرَى} ترك القعود. قال مقاتل (¬5) وسعيد بن جبير (¬6) وابن جريج والسدي (¬7): (هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} الآية التي في النساء؛ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 567. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 217، وأخرجه الطبري 7/ 230 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 39. (¬4) في (ش): (وهذا إن جعلا)، والصواب ما أثبته، والمراد: مجاهد ومقاتل. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 567. (¬6) أخرجه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 325 بسند جيد عن أبي مالك وسعيد ابن جبير. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 230 بسند جيد عن ابن جريج، والسدي وأخرجه النحاس في "ناسخه" 2/ 319 بسند ضعيف عن الضحاك، وذكره ابن كثير 2/ 161 عن مجاهد، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص 37، وابن سلامة ص 67، وأبي منصور البغدادي 102، وابن العربي 2/ 211، قالوا: (هذا صريح أمر، وليس بخبر، وهو مأمور أن يقوم عنهم إذا استهزؤوا بآيات الله، ثم أمر بقتلهم وإقامة الحد عليهم في ذلك، فهي منسوخة بأمره بالقتال). وانظر: "الدر المنثور" 3/ 38.

70

لأن الله تعالى خوفهم فقال: إن قعدتم معهم {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] وقال غيرهم: (ليست بمنسوخة، ولكن المعنى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إذا قعدوا معهم بشرط التذكير والموعظة) (¬1). 70 - قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} الآية، قال ابن عباس (¬2) والمفسرون (¬3): (يعني: الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها). وقال الفراء: (يقال: ليس من قوم إلا ولهم عيد فهم (¬4) يلهون في أعيادهم إلا أمة محمد، فإن أعيادهم برّ وصلاة وتكبير وخير) (¬5)، وهذا قول الكلبي (¬6)، فعلى القول الأول معنى قوله {دِينَهُمْ}: الذي شرع لهم، وعلى قول الفراء المراد بالدين: العيد؛ لأنه مما يتدين (¬7) به فصار داخلًا في جملة الدين. ¬

_ (¬1) هذا هو الظاهر، واختيار النحاس في "ناسخه" 2/ 319، ومكي في "الإيضاح" ص 243، وابن الجوزي في "النواسخ" ص 325، ومصطفى زيد في "النسخ في القرآن" 1/ 440، قالوا: (الآية خبر ومحال نسخه، والمعنى فيه بين، أي: ما عليكم شيء من آثامهم إنما يلزمكم الإنذار والنهي عن المنكر، ولا يقعد معه راضيًا بقوله وفعله وإلا كان مثله) وانظر: ابن عطية 5/ 235، والقرطبي 7/ 15، وانظر: "مفهوم النسخ عند السلف" في ص 267. (¬2) ذكر نحوه بدون نسبة البغوي 3/ 155، وابن الجوزي 3/ 64. (¬3) انظر: الطبري 7/ 231، والماوردي 2/ 129. (¬4) في (ش): (عيد فلهم)، وهو تحريف. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 339. (¬6) ذكره السمرقندي 1/ 493، والقرطبي 7/ 16، وذكره الرازي 13/ 27 عن ابن عباس. (¬7) في (ش): (مما تدين به).

وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ} قال ابن عباس: (يريد: وَعِظْ بالقرآن (¬1) {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} قال: يريد ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا) (¬2)، وهو قول (¬3) الفراء قال: ({تُبْسَلَ}: ترتهن). وقال الحسن (¬4) ومجاهد (¬5) وعكرمة (¬6) والسدي: (تُسلم للهلكة)، قال الليث (¬7): (الإبسال: أن يُبسل الرجل فيخذل، واستبسل الرجل للموت: إذا وطن نفسه عليه، من هذا). وقال أبو الهيثم (¬8): (يقال: أبسلته بجريرته، أي: أسلمته بها) وينشد على هذا قول الشَّنْفَرَى: سَجِيسَ اللَّيَالِي مُبْسَلًا بِالجَرَائِرِ (¬9) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 30، وهو بلا نسبة في "الوسيط" 1/ 62، والبغوي 3/ 155، وابن الجوزي 3/ 64. (¬2) ذكره الرازي 13/ 28، وهو قول مقاتل 1/ 568، والأخفش كما ذكره السمرقندي 1/ 493. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 339. (¬4) أخرجه الطبري 7/ 231، من عدة طرق جيدة عن الحسن ومجاهد وعكرمة، وأخرجه الأزهري في "تهذيبه" 1/ 336 بسند جيد عن الحسن. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 217 - 218. (¬6) ذكره الثعلبي 179 أ، والماوردي 2/ 130، عن الحسن وعكرمة والسدي وغيرهم، وأخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1318، بسند ضعيف عن ابن عباس، وقال بعده: (وروي عن مجاهد وعكرمة والحسن والسدي مثل ذلك) ا. هـ. وهو اختيار ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 1/ 164. (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 336، وانظر: "العين" 7/ 263 (بسل). (¬8) "تهذيب اللغة" 1/ 336، و"اللسان" 1/ 285 (بسل)، وراد: (ويقال: جزيته بها). (¬9) "ديوانه" ص 48، "مجاز القرآن" 1/ 195، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 188، و"إصلاح المنطق" ص 394، و"الشعر والشعراء" ص 31، و"الزاهر" 2/ 213، =

وقال آخر (¬1): وإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدمٍ مُرَاقِ أي: إسلامي وتركي إياهم، وهذا الوجه اختيار الزجاج، قال: (معنى {تُبْسَلَ}: تسلم بعملها غير قادرة على التخلص، والمستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص) (¬2). وقال قتادة: (أن تحبس) (¬3) وهو قول ابن الأعرابي، قال في قوله تعالى: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} (¬4) (أي: تحبس في جهنم) (¬5). ¬

_ = والطبري 7/ 223، و"تهذيب اللغة" 1/ 336، والثعلبي 179 أ، و"اللسان" 1/ 285 (بسل)، وصدره: هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي وسجيس: أي أبد الليالي وطولها، ومبسلا أي: مسلما ومرتهنا، أسلم إلى عدوه بما جنى عليهم، والجرائر: الجرائم والذنوب. (¬1) الشاهد لعوف بن الأحوص الكلابي، شاعر جاهلي، في المراجع السابقة سوى الحماسة والشعر، وإصلاح المنطق، وهو في "النوادر" لأبي زيد ص 151، و"المعاني الكبير" 2/ 1114، و"الصحاح" 4/ 1634، و"المجمل" 1/ 125، و"مقاييس اللغة" 1/ 248، والماوردي 2/ 131، وبلا نسبة في "تفسير غريب القرآن" ص 1/ 165، و"معاني الزجاج" 2/ 261، و"الجمهرة" 1/ 339، و"معاني النحاس" 2/ 444، و"المخصص" 13/ 79، وبعوناه: أي جنيناه، والبعو: الجرم والجناية. يقول: رهنت بني في العرب وأسلمتهم من غير جرم. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 261، وفيه أيضًا: أي: تسلم، وقيل: ترتهن، والمعنى واحد. اهـ. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 232، وابن أبي حاتم 4/ 1318 من طرق جيدة بلفظ: (تؤخذ فتحبس). (¬4) لفظ: (أن) ساقط من (ش). (¬5) "تهذيب اللغة" 12/ 439، و"اللسان" 12/ 54 (بسل).

وروى عن ابن عباس: ({تُبْسَلَ}: (تُفضح (وأُبسلو): أُفضحوا) (¬1). ومعنى الآية: وذكرهم (¬2) بالقرآن إسلام الجانيين بجناياتهم لعلهم يخافون فيتقون، وليس قول من قال: معناه: وذكرهم كيلا {تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} بشيء البتة (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في "صحيحه" 8/ 286، كتاب: التفسير، تفسير سورة الأنعام، وأخرجه الطبري 7/ 332، وابن أبي حاتم 3/ 81 ب و82 أبسند جيد بلفظ: (تفضح - وفضحوا). وقال ابن حجر في "الفتح" 8/ 287: (أفضحوا من الرباعي، وهي لغة، يقال: فضح وأفضح، وروى عنه: فضحوا) ا. هـ. ملخصًا. وفي "مسائل نافع بن الأزرق" ص 114، قال: (تبسل تحبس) ا. هـ وهذه الأقوال متقاربة، وأكثرهم على أنه بمعنى: تسلم وترتهن، ولعل تفسيره بتفضح تفسير باللازم؛ لأن من لازم أخذهم بالعذاب بما كسبوا أن يفضحوا. وقال النحاس في "معانيه" 2/ 443: (تُسلم حسن، أي: تسلم بعملها لا تقدر على التخلص؛ لأنه يقال: استبسل فلان للموت، أي: رأى ما لا يقدر على دفعه) ا. هـ. ملخصًا. وقال ابن كثير 2/ 162: (الأقوال متقاربة في المعنى، وحاصلها الإِسلام للهلكة والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب) اهـ. وانظر: المراجع المذكورة في الحواشي، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 137، و"الوسيط" 1/ 62، و"الكشاف" 2/ 27، والبغوي 3/ 156، وابن عطية 5/ 238، وابن الجوزي 3/ 65، والقرطبي 7/ 16، و"البحر" 4/ 155، و"الدر المنثور" 3/ 39، وفيها ذكر عامة الأقوال، وانظر: "الفتاوى" 13/ 343. (¬2) لفظ: (الواو): ساقط من (ش). (¬3) لم أقف على هذا القول بنصه. وفي الطبري 7/ 233، قال: (ذكرهم كيلا تبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: الرازي 13/ 28، و"البحر" 4/ 155، و"الدر المصون" 4/ 679.

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} قال ابن عباس (¬1) وقتادة (¬2) والسدي (¬3) وابن زيد (¬4): (وإن تفد كل فداء)، وذكرنا هذا المعنى عند قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} (¬5) [البقرة: 123]، وهؤلاء قالوا: (إن تفد كل فداء من جهة المال) قال ابن عباس (¬6): (إن تفتد بالدنيا وما فيها لا يؤخذ منها) (¬7). وقال قتادة (¬8): (لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها). [و] (¬9) روي عن الحسن أنه قال: (هذا الفداء من جهة الإسلام والتوبة ولا ينفعهم ذلك في الآخرة) (¬10). ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 1/ 268 بسند جيد عنه قال: (العدل: البدل، والبدل: الفدية)، وانظر: ابن كثير 2/ 162، و"الدر المنثور" 1/ 166. (¬2) ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 455، والماوردي 2/ 131، وابن كثير 2/ 162، وأخرج ابن أبي حاتم 4/ 1319، و"تحقيق الغماري" بسند جيد عن أبي العالية، قال: (العدل: الفداء). قال ابن أبي حاتم: (وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع نحوه) اهـ. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 233 بسند جيد عن السدي وابن زيد. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1318 بسند جيد، وذكره الماوردي 2/ 131، عن السدي وابن زيد. (¬5) لفظ: (الواو): ساقط من النسخ. (¬6) في (أ): (قال ابن عباس: قال): وهو تحريف. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 62، وفي "تنوير المقباس" 2/ 30 نحوه. (¬8) أخرجه عبد الرزاق في التفسير 1/ 2/ 212، والطبري 7/ 233، 2/ 34، وابن أبي حاتم 4/ 1319، من عدة طرق جيدة. (¬9) لفظ: (الواو): ساقط من (أ). (¬10) ذكره الماوردي 2/ 131.

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} يقول: أسلموا للهلاك. وقال العوفي: (أسلموا إلى خزنة جهنم) (¬1). وقال ابن عباس (¬2): (ارتهنوا بما كسبوا)، {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} وهو الماء (¬3) الحار. قال المفسرون (¬4): قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} منسوخ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬5) [التوبة: 5]، وقال مجاهد (¬6): (ليست بمنسوخة؛ لأن قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} معناه: التهديد، كقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 179 أ. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر: الطبري 7/ 234، والسمرقندي 1/ 493، وابن الجوزي 3/ 66. (¬4) هذا قول قتادة في "ناسخه" ص 42. وأخرجه عبد الرزاق في التفسير، والطبري 7/ 231، وابن أبي حاتم 4/ 1317، والنحاس في "ناسخه" 2/ 321، وابن الجوزي في "النواسخ" ص 326 عنه من طرق جيدة، وذكره ابن الجوزي في "النواسخ" ص 326، عن السدي، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص 37، وابن سلامة ص 68، وأبي منصور البغدادي ص 102، وابن العربي 2/ 212. (¬5) في النسخ: (اقتلوا)، وهو تحريف. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 218، وأخرجه الطبري 7/ 231، وابن أبي حاتم 4/ 1317 من طرق جيدة، وهذا هو الظاهر، وإن كان النسخ جائزًا، لكن أكثرهم على أنه غير منسوخ؛ لأنه تهديد ووعيد للكفار، وليس هو بمعنى الإلزام، والمعنى: ذرهم فإن الله معاقبهم، وهو اختيار النحاس في "ناسخه" 2/ 321، ومكي في "الإيضاح" ص 244، وابن الجوزي في "النواسخ" ص 326، ومصطفى زيد في "النسخ" 1/ 480، وانظر: الطبري 7/ 231، وابن عطية 5/ 227، والقرطبي 7/ 17، وانظر: مفهوم النسخ عند السلف ص 267.

71

71 - قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} الآية {أَنَدْعُو}] (¬1) هاهنا يجوز أن يكون معناه: نطلب النجاح كالعبد إذا دعا الله تعالى بطلب نجاح حاجته (¬2). ويجوز أن يكون معناه: نعبد وهو الذي عليه المفسرون (¬3). قال ابن عباس: (يقول: أنعبد {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ما ليس عنده لنا منفعة، وإن عصينا لم يكن عنده لنا مضرة) (¬4)، قال أهل المعاني: (المعنى: ما لا يملك لنا نفعًا ولا ضرًا؛ لأنه جماد لا يقدرعلى فعل شيء أصلًا) (¬5)، وقوله تعالى: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} قال الكلبي: (أي: نرد وراءنا إلى الشرك بالله) (¬6)، قال أبو إسحاق: (ويقال لكل من أدبر: رجع إلى خلف، ورجع على عقبيه) (¬7). ¬

_ (¬1) لفظ: {أَنَدْعُو} ساقط من (أ). (¬2) قال ابن عطية 5/ 241، في الآية: (الدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئًا موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل). (¬3) انظر: الطبري 7/ 235، والسمرقندي 1/ 493، والبغوي 3/ 156. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 63، وفي "تنوير المقباس" 2/ 30 نحوه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 66 بدون نسبة. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 236، و"معاني النحاس" 2/ 445، و"تفسير ابن عطية" 5/ 241. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 30، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 63. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 262، والنص فيه: (أي: نرجع إلى الكفر، ويقال لكل من أدبر: قد رجع إلى خلف، ورجع القَهْقَرى) اهـ. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 196، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 138، و"تفسير الطبري" 7/ 235 - 236، و"معاني النحاس" 2/ 445، و"تفسير ابن عطية" 5/ 241.

وقوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} اختلف أهل اللغة في معنى (¬1) {اسْتَهْوَتْهُ} فقال الزجاج: (أي: كالذي زينت له الشياطين هواه) (¬2)، فعلى هذا معنى الاستهواء: الدعاء إلى الأمر بالهوى من هوى النفس. وقال أبو عبيدة (¬3): ({اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} استمالته). وقال الليث (¬4): (يقال للمستهام الذي يستهيمه الجن: استهوته الشياطين، فهو حيران هائم). وقال غيره: ({اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} بمعنى استغوته ودعته إلى الضلال واستتبعته (¬5)، فهوى، أي: أسرع، والعرب تقول: استهوى فلان فلانًا، واستغواه، إذا دعاه إلى الغي، وهو من قولهم: هوى يهوي إلى الشيء إذا أراده وأسرع إليه (¬6)، ومنه قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] أي: تنزع إليهم وتقعدهم) (¬7). ¬

_ (¬1) هوى أصل يدل على خُلُوٍّ وسقوط, والهَوَى بالفتح مقصور: هوى النفس؛ وهَوِيَ، بكسر الواو: أحَبَّ، وهَوَى، بالفتح أيضًا: سقط، واستهواه الشيطان: اسْتَهَامه، انظر: "البارع" ص 166، و"الصحاح" 6/ 2537، و"المجمل" 4/ 893، و"مقاييس اللغة" 6/ 15، وقال الراغب في "المفردات" ص 749 معنى الآية: (حملته على اتباع الهوى) اهـ. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 262، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 2/ 446. (¬3) ذكره أبو علي في "الحجة" 3/ 325، وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص 138، وقال أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 196: (هو الحيران الذي يشبه له الشياطين فيتبعها حتى يهوى في الأرض فيضل) اهـ. (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3814، وانظر: "العين" 4/ 105 (هوى). (¬5) في (ش): (فاستتبعته). (¬6) انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 18. (¬7) هذا قول الطبري في "تفسيره" 13/ 234، وفي "تفسير غريب القرآن" ص 237 قال: (هوت به وذهبت).

قال أبو علي الفارسي: (أرى قولهم: استهواه كذا، إنما هو من قولهم: هوى من حالق (¬1) إذا تردى منه، ويشبه به الذي يزل عن الطريق المستقيم كما أن زل إنما هو من العثار في المكان، ثم يشبه به المخطئ في طريقته، وتقول: أزله غيره، كما قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36]، وكذلك هوى هو وأهواه غيره، وتقول (¬2): أهويته واستهويته، قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: 53]، كما تقول: أزله واستزله؛ قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36]، وقال: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155]، فكما أن استزله بمنزلة أزله، كذلك استهواه بمنزلة أهواه، كما أن استجاب بمنزلة أجاب) (¬3). فأكثر أهل (¬4) اللغة على أن: استهوى من هوى يهوى، وعلى هذا يدل (¬5) كلام ابن عباس؛ لأنه قال: (كالذي استفزته (¬6) الغيلان (¬7) في الهامة) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ش): (خالق)، وهو تصحيف. (¬2) في (ش): (ويقول). (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 325 - 326 بتصرف يسير. وقال ابن عطية 5/ 242، وأبو حيان في "البحر" 4/ 157: (ذهب أبو علي إلى أنه بمعنى: أهوى من هوى يهوي إذا سقط من علو، أي: ألقته الشياطين في هوة) ا. هـ. بتصرف. (¬4) انظر: "الجمهرة" 2/ 998، و"اللسان" 8/ 4728 (هوى) والمراجع السابقة. (¬5) في (أ): (وعلى هذا كلام ابن عباس: يدل). (¬6) في (ش): (استغوته). (¬7) غيلان: جمع غول بالضم، وهو شيطان يأكل الناس، وسحرة الجن، والداهية. انظر: القاموس ص 1040 (غول). (¬8) ذكره الثعلبي 179 ب بلفظ: (استفزته)، والبغوي 3/ 156. بلفظ: (استهوته)، والسيوطي في "الدر" 3/ 40 بلفظ (أضلته) وفي "تنوير المقباس" 2/ 31 بلفظ (استزلته).

وانفرد أبو إسحاق بقوله (¬1). وقوله تعالى {حَيْرَانَ}، قال الأصمعي (¬2): (يقال: حار يحَار حيرة وحيرًا) (¬3)، وزاد الفراء: (حيرانًا وحيرورة) (¬4). ومعنى الحيرة (¬5): هي التردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه ولا يتوجه له طريق، ومنه يقال: الماء يتحيّر في الغيمِ أي: يتردد، وتحيّرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. ومنه قول لبيدٍ (¬6): ¬

_ (¬1) قال الأزهري في "تهذيبه" 4/ 3813: (جعله الزجاج من هوِي بفتح الهاء وكسر الواو يَهْوَى بالفتح) اهـ. فيكون من هوى النفس، وليس من هَوَى بالفتح يَهْوِي بكسر الواو إلى الشيء إذا أسرع إليه. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 155: (جعله الزمخشري من الهوى، وهو الميل والمودة، أي: أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمه القفر) ا. هـ. بتصرف، وانظر: "الكشاف" 2/ 28، والقرطبي 7/ 18. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 695 (حار). (¬3) في (ش): (يحار، حيرة وحيرة)، ولعل حيرة الثانية تحريف عن: وحيرًا. (¬4) ذكره الرازي 13/ 30، والمصدر: حيرورة، ذكره القرطبي 7/ 18، والشوكاني 2/ 188، وفي "البحر" 4/ 144 قال: (حارَ يحَارُ حَيْرَة وحَيْرًا وحيرانًا وحيرورة) ا. هـ. والنص عن الفراء لعله من كتاب المصادر المفقود. (¬5) انظر: "العين" 3/ 288، و"الصحاح" 2/ 640، و"مقاييس اللغة" 2/ 23، و"المفردات" ص 263، و"عمدة الحفاظ" ص 145 (حير). (¬6) "ديوانه"ص 153، و"تهذيب اللغة" 1/ 698، و"اللسان" 2/ 1067 (حار)، وتحيرت: امتلأت وأقام فيها الماء ولم يشرب، والدبار: جمع دبرة، وهي الساقية ومجاري الماء في المزرعة، والزلف: جمع زلفة، وهي مصانع الماء، والقِتْبُ -بالكسر-: السانية وأدواتها، والمحزوم: المربوط بالحزام. انظر: "اللسان" 6/ 3524 (قتب).

حَتى تَحَيَّرَتِ الدَّبَارُ كأنَّها ... زَلَفٌ وألْقَى قِتُبها المَحْزُومُ (¬1) يقول: امتلأت ماءً فتردد على جوانبها. قال ابن عباس: (هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل تائه ضال عن الطريق له أصحاب يدعونه إلى الطريق: هلم يا فلان إلى الطريق، فإن أتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في هلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى. يقول: مثل من يعبد هذه الآلهة مثل من دعاه الغيلان في المفازة باسمه واسم أبيه فيتبعها، ويرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة أو في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشًا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله) (¬2). وقال مجاهد (¬3): (هذا مثل من ضل بعد الهدى)، وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يعني بهذه الآية: عبد الرحمن (¬4) بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) في النسخ الديار. وفي (ش): (المخزوم)، وهو تصحيف وخلاف ما في المراجع. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 236، وابن أبي حاتم 4/ 1312 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 259. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 218، وأخرج الطبري 7/ 236، وابن أبي حاتم 4/ 132 من طرق جيدة نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 41. (¬4) عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي القرشي أبو محمد صحابي جليل، أكبر ولد الصديق، وشقيق عائشة رضي الله عنهما، أسلم قبيل الفتح، وكان فارسًا من أشجع قريش وأرماهم بسهم، شهد اليمامة والفتوح. وتوفي سنة 53 هـ أو بعدها. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 5/ 242، و"الاستيعاب" 2/ 382، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 294، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 471، و"الإصابة" 2/ 407، و"تهذيب التهذيب" 2/ 525.

كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه يدعوه إلى الإِسلام) (¬1) فقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} يريد: عبد الرحمن بن أبي بكر، قال الكلبي: (استفزّته الشياطين فعمل بالمعاصي {حَيْرَانَ}: ضال عن الهدى {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} يعني أبويه وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} هذا جواب لعبد الرحمن حين دعا أباه إلى دين آبائه، قال ابن عباس في رواية عطاء: (وأبو بكر يقول: أَتبع ديني، ويخبره أن دين الله الهدى الذي هو عليه) (¬3). قال أهل المعاني: (الآية من أولها إلى قوله {اَئتِنَا} إنكار على من دعا إلى الضلال وعبادة الأصنام، من آمن بالله وسلك طريق الهدى، وتشبيه حاله لو أجاب داعي الضلال بتشبيه حال التائه بسلوكه غير المحجة). وقوله بعد هذا: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وكأنه بمنزلة: لا تفعل (¬4) ذلك؛ لأن {هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 31، وذكره السمرقندي 1/ 494، والماوردي 2/ 132، وابن الجوزي 3/ 67، والقرطبي 7/ 18، وذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 568، و"معاني الزجاج" 2/ 262، والثعلبي 179 ب، و"الكشاف" 2/ 29، والرازي 13/ 30، وضعف هذا القول ابن عطية 5/ 244، وأبو حيان في "البحر" 4/ 157 لما في "صحيح البخاري" (4827) كتاب: التفسير، تفسير سورة الأحقاف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عُذري) ا. هـ. وانظر: شرحه في "فتح الباري" 8/ 576. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 31، وفي "معاني الفراء" 1/ 339، قال: (كان أبو بكر الصديق وامرأته يدعوان عبد الرحمن ابنهما إلى الإسلام فهو قوله: {إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أي: أطعنا) اهـ. (¬3) سبق تخريجه في الفقرة السابقة. (¬4) في (ش): (يفعل).

72

لا هدى غيره (¬1). وقوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال أبو إسحاق (¬2): (العرب تقول: أمرتك لتفعل، وأن تفعل، وبأن تفعل، فمن قال: بأن تفعل، فالباء للإلصاق، والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: أن تفعل، فعلى حذف الباء، ومن قال: لتفعل، فقد أخبر بالعلة التي وقع لها الأمر) (¬3). 72 - وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} قال الفراء: ({وَأَنْ} مردودة على اللام التي في قوله {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ}، والعرب تقول: أمرتك لتذهب وأن تفعل كذا، فإن في وضع نصب بالرد على الأمر) (¬4). وقال الزجاج (¬5): (موضع {أَنْ} نصب؛ لأن الباء لما سقطت أفضى ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 7/ 238، والبغوي 3/ 156، و"البحر المحيط" 4/ 157 - 158. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 262، وزاد: (أي: يدعونه ويقولون له: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: أمرنا للإسلام ...) اهـ. (¬3) انظر: "معاني الفراء" 1/ 339، والأخفش 2/ 277، والطبري 7/ 238، و"إعراب النحاس" 1/ 556، و"الدر المصون" 4/ 686. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 339، وهو قول الطبري في "تفسيره" 7/ 238، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 278. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 263. والنص فيه قال: (فيه وجهان أحدهما: أن تكون أمرنا لأن نسلم ولأن نقيم الصلاة، ويجوز أن يكون محمولًا على المعنى لأن المعنى: أمرنا بالإِسلام وبإقامة الصلاة، وموضع أن نصب لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل فنصب، وفيه وجه آخر: يجوز أن يكون محمولًا على قوله {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا}، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: يدعونه أن أقيموا الصلاة) ا. هـ. وقد ذكر هذه الأوجه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 556، ومكي في "المشكل" 1/ 256، والعكبري في "التبيان" 1/ 340.

73

الفعل) (¬1)، فعنده كأن التقدير: وبأن أقيموا ثم حذفت الجارّة، وهو قريب من قول الفراء. 73 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه (¬2)، وكل ذلك حق (¬3)، وذكرنا وجهين آخرين في قوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} في سورة يونس [5]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ} ذكر الزجاج في نصب {يَوْمَ} أوجهًا: (أحدها: أن يكون منسوقًا على الهاء في قوله: {وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 72] في الآية الأولى، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي} [البقرة: 48] والثاني (¬4): أن يكون منصوبًا بإضمار: واذكر. قال: ويدل على هذا قوله بعده: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ} [الأنعام: 74] والمعنى: اذكر {يَوْمَ يَقُولُ}، واذكر {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}، والوجه الثالث: أن يكون معطوفًا على {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، والمعنى: وخلق {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}، ويكون هذا إخبارًا عن وقوعه وكونه؛ لأن ما أنبأ الله تعالى بكونه فهو واقع لا محالة، فجاز أن يقال: المعنى وخلق يوم يقول. وإن لم يأت يوم القيامة) (¬5). ¬

_ (¬1) وهذا قول ابن الأنباري في "البيان" 1/ 326، وانظر: تفسير ابن عطية 5/ 246 - 247، و"الفريد" 2/ 171، و"البحر" 4/ 159، و"الدر المصون" 4/ 687. (¬2) في (ش): (صنعته). (¬3) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 247. (¬4) وفيه ذكر أنه الأجود. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 263، و"معاني الأخفش" 2/ 278، وقد ذكر الأوجه الثلاثة النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 557، ومكي في "المشكل" 1/ 256.

قال ابن عباس: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} (يريد: يوم القيامة) (¬1) , وذكر غير الزجاج من النحويين: (أن قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ} ينتصب بإضمار: وقدر أو قضى، والكلام دل على هذا، فيكون ذلك المقدّر معطوفًا على خلق (¬2)، وهذا أحسن من القول الثالث الذي ذكره الزجاج. واختلفوا في أن الخطاب في قوله {كُنْ} لماذا، فقال الفراء (¬3) وحكاه الزجاج (¬4): (المخاطبة للصورة خاصة، المعنى: ويوم يقول (¬5) للصور كن فيكون)، وقد ذكر الصور في هذه الآية وكان ذكره فيما بعد دليلًا على أن الخطاب له. ويذكر الاختلاف (¬6) في الصور. وقال الزجاج وحده: (وقيل: إن قوله: {كُنْ} فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت المعنى: و (¬7) يوم يقول (¬8) للشيء كن فيكون، وهذا ذكر ليدل على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال: ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون، وانتشروا فينتشرون، كأنه يأمر الحياة فتكون (¬9) فيهم ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 32. (¬2) انظر: "البيان" 1/ 326، و"التبيان" 1/ 340، و"الفريد" 2/ 172، و"الدر المصون" 4/ 690، وقال البغوي في "تفسيره" 3/ 157: (قيل: هو راجع إلى خلق السموات والأرض، والخلق بمعنى: القضاء والتقدير، أي: كل شيء قضاه وقدره قال له: كن فيكون) اهـ. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 340 وفيه: (يقال: إنه خطاب للصور خاصة) ا. هـ (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 263. (¬5) في (أ): (نقول) بالنون بدل الياء. (¬6) يريد الخلاف في معناه كما سيأتي. (¬7) لفظ: (الواو): ساقط من (أ). (¬8) في (أ) (نقول). (¬9) في (ش): (فيكون).

والموت فيحل بهم) (¬1)، وعلى هذين القولين يكون قوله بعد هذا (¬2): {قَوْلُهُ الْحَقُّ} رفع بالابتداء. وقال معًا (¬3): (يجوز أن يكون الخطاب لقوله: {الْحَقُّ} والمعنى: أنه يأمر فيقع أمره، فيرتفع {قَوْلُهُ} باسم كان و {الْحَقُّ} نعته). قال الزجاج: (وهذا كما تقول: قد قلت فكان قولك، ليس المعنى: فكان الكلام إنما المعنى أنه كان ما دل عليه القول) (¬4). وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} يجوز أن يكون نصب {يَوْمَ} على (¬5) {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ} كما قال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ويجوز أن يكون قوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدلاً من (¬6) قوله: {يَوْمَ يَقُولُ}، ويجوز أن يكون منصوبًا بقوله الحق؛ المعنى: وقوله الحق يوم ينفخ في الصور. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 263 - 264، وذكره النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 557، ومكي في "المشكل" 1/ 256. (¬2) هذا قول النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 557، قال: (وعلى هذين الجوابين {قَوْلُهُ الْحَقُّ} ابتداء وخبر) اهـ. (¬3) انظر: "معاني الفراء" 1/ 340. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 264، وخلاصة ما ذكره الواحدي رحمه الله تعالى: (أن كان تامة، وفي فاعلها أوجه: الأول: ضمير جميع ما يخلق الله تعالى. والثاني: ضمير الصور، وعلى هذا يكون {قَوْلُهُ الْحَقُّ} مبتدأ، وخبر، أو {قَوْلُهُ}: مبتدأ، و {الْحَقُّ}: نعته، والخبر: {يَوْمَ يَقُولُ}، أو: {يَوْمَ يُنْفَخُ}. والوجه الثالث: الفاعل، هو: {قَولُهُ}، و {الْحَقُّ} صفته، والواحدي عبر عن ذلك بقوله (يرتفع باسم كان). وانظر: "التبيان" 340، و"الفريد" 1/ 173، و"الدر المصون" 4/ 691. (¬5) أي ظرف لقوله {وَلَهُ الْمُلْكُ} أي: وله الملك في ذلك اليوم. قال الهمداني في "الفريد" 1/ 173: (وهو المختار للقرب ولسلامته من الاعتراض) اهـ. (¬6) في (أ): (عن) بدل (من).

فإن قال قائل: لله الملك في كل يوم وقوله الحق في كل وقت، فلم خص {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}؟ والجواب: أنه اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع لأحد ولا ضر، فكان كما قال الله تعالى: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [الانفطار: 19] والأمر في كل وقت لله عز وجل؛ ذكر هذا كله أبو إسحاق (¬1). وأما الصور فقال الفراء والزجاج: (يقال: إن الصور قرن ينفخ فيه، ويقال: الصور جمع سورة ينفخ في صور الموتى -والله أعلم-) (¬2)، قال الزجاج: (وكلاهما جائز، وأثبتهما في الحديث والرواية أن الصور قرن) (¬3). وقال أبو عبيدة: (الصور جمع سورة مثل سورة البناء وسور) (¬4). وأخبرني أبو الفضل العروضي قراءة وسعيد بن العباس القرشي كتابة قالا: أنبأنا الأزهري قال: عن أبي الهيثم أنه قال: اعترض قوم فأنكروا (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 264، ولم يذكر الوجه الثاني، وهو كونه بدلاً. وقد ذكر الأوجه الثلاثة النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 557، وانظر: " المشكل" 1/ 257، و"التبيان" 1/ 341، و"الدر المصون" 4/ 692. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 340، وفيه: (ويقال: هو جمع للصور ينفخ في الصور في الموتى. والله أعلم بصواب ذلك) اهـ. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 264، وقال بعده: (والصور جمع سورة، أهل اللغة على هذا) اهـ وانظر: "العين" 7/ 149، و"الجمهرة" 2/ 745، و"الصحاح" 2/ 716، و"المجمل" 2/ 545، و"مقاييس اللغة" 3/ 320، و"المفردات" ص 498، و"عمدة الحفاظ" ص 303، و"التاج" 7/ 110، وأكثرهم قال: (الصور بالضم: القَرْن، ويقال: هو جمع صُورَة، والصِّوَر بالكسر لغة في الصُّوَر جمع صُورة). (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 196 (416)، 2/ 162 - 163، وهو قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" 5/ 192 في "كتاب التفسير، تفسير سورة الأنعام"، وحكاه البغوي في "تفسيره" 3/ 157 عن قتادة، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 69؛ عن الحسن، وانظر: "الزاهر" 1/ 416. (¬5) في (أ): (وأنكروا).

أن يكون الصور قرنًا، كما أنكروا (¬1) العرش والميزان والصراط، وادعوا أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة، ورووا ذلك عن أبي عبيدة، قال أبو الهيثم: وهذا خطأ فاحش وتحريف لكلم الله عن مواضعه؛ لأن الله قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] فمن قرأها (¬2): {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وقرأ (¬3): {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} فقد افترى الكذب وبدل كتاب الله، وكان أبو عبيدة صاحب أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو. قال الفراء (¬4): كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحدته فواحده بزيادة هاء فيه، وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب، فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه، فإذا أفردت واحدته (¬5) زيدت فيها هاء؛ لأن جمع هذا الباب سبق واحدته، ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا: صوفَةٌ وصُوَف وبُسْره وبُسَر كما قالوا: ¬

_ (¬1) جاء عند القرطبي 7/ 20 عن أبي الهيثم قال: (من أنكر أن يكون الصور قرنًا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط وطلب لها تأويلات) اهـ، وهذا الكلام عن أبي الهيثم فيه مبالغة ونظر، خاصة وأن إمام الحفاظ قد ارتضاه في "صحيحه". قال السمين في "الدر" 4/ 694: (ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم) اهـ. (¬2) يعني بفتح الواو، وهي قراءة الحسن، ومعاذ القارئ، وأبي مجلز وأبي المتوكل، وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض، وقراءة الجمهور بسكونها. انظر: "معاني النحاس" 2/ 448، و"مختصر الشواذ" ص 38، و"زاد المسير" 3/ 69. (¬3) يعني بسكون الواو: صُورَكم. (¬4) انظر: "المذكر والمؤنث" للفراء ص 69، 101، و"المذكر والمؤنث" لابن التستري ص 52، و"الإغفال" لأبي علي الفارسي ص 1113. (¬5) في (ش): (واحد) , وهو تحريف.

غُرْفة وغُرَف وزُلْفَة وزُلَف. وأما الصور: القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال: واحدتها صورَة، وإنما تَجمع صورة الإنسان صورًا لأن واحدته لسبقت جمعه) (¬1). قال الأزهري: (قد احتج أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وهو قول أهل السنة والجماعة، والدليل على صحة ما قال أن الله تعالى إذا بعث الأموات ينشئهم كيف شاء، ومن ادعى أنه يصورهم ثم ينفخ فيهم فعليه البيان) (¬2)، انتهى كلامه. وقد ذكرنا من كلام أبي الهيثم مثل ما ذكرها هنا في جمع السور في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23]، واحتج أهل التفسير (¬3) علَى أن المراد بالصور هاهنا القرن بقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر: 68] ولم يقل: فيها، وأيضًا فإنه لا ينفخ في الصور للبعث مرتين إنما ينفخ مرة واحدة، وبما ورد في الأخبار من ذكر النفخ في القرن كقوله عليه السلام: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه" (¬4) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1960، و"اللسان" 4/ 2524 - 2525 (صور)، وذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" 13/ 33. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1960، وهذا القول هو الظاهر عند أكثر أهل العلم. وقال الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 243 - 244: (أهل اللغة على أن الصّور جمع صورة، وقيل: إنه قرن، ومذهب أهل العربية غير فاسد؛ لأنه جائز أن يُنفخ في القرن ثم يمتد النفخ بإرجاع تلك الأرواح إلى الصور فتحيا بإذن الله) ا. هـ. بتصرف. وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 239 وما بعدها، و"معاني النحاس" 2/ 447، وابن عطية 5/ 249، و"النهاية" لابن الأثير 3/ 60، والقرطبي 7/ 20، وابن كثير 2/ 163، وكلهم رجح أنه قرن، وحكى السمرقندي 1/ 494، إجماع المفسرين عليه. (¬3) انظر: "الإغفال" ص 1113. (¬4) الحديث روي من طرق يقوي بعضها بعض عن جماعة من الصحابة عن =

الحديث، قال الفراء: (والعرب (¬1) تقول: نفخ الصور ونفخ في الصور وأنشد (¬2): لَوْلَا ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ ... وَلاَ خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ) (¬3) ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 77 (2958)، وأحمد 1/ 326 , 3/ 73، 4/ 374، والترمذي (2431) كتاب: صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الصور، (3243)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الزمر، والنسائي في "التفسير" 1/ 340، والحاكم 4/ 559، وقال الترمذي: (حديث حسن)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 42: (وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني في "الأوسط" وأبي نعيم في "الحلية" والبيهقي في "البعث".)، وأخرج أبو داود (4742)، كتاب: السنة، باب: في ذكر البعث والصور، والترمذي (2430)، كتاب: صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الصور) (3244)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الزمر، وأحمد 10/ 9، 11/ 58، والدارمي 3/ 1844 (2840)، والحاكم 2/ 436، 506، 4/ 560، والنسائي في "التفسير" 2/ 244 من طرق جيدة عن عبد الله بن عمرو، أن أعرابيًّا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصور؟ فقال: "قرن ينفخ فيه"، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أحمد شاكر في "حاشية المسند"، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 42، وزاد نسته إلى ابن المبارك في "الزهد" وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث"، وهذا الحديث يُعَدُّ نصًّا في أن الصور قرن. (¬1) في (أ): (والعرب تقول والعرب)، وهو تحريف. (¬2) لم أقف على قائله، وهو في "تفسير الطبري" 7/ 241، و"الزاهر" 1/ 416، و"المعرب" للجواليقي ص 512، و"الأنساب" للسمعاني 4/ 566، و"الدر المصون" 4/ 694. وقهندز: بالضم، وقيل: بالفتح: كلمة أعجمية معربة تعني القلعة أو الحصن. انظر: "معجم البلدان" 4/ 419، و"التاج" 8/ 133، وابن جعدة هو عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي، انظر: "حاشية الطبري". (¬3) "معاني الفراء" 1/ 340.

74

74 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} قال محمد بن إسحاق (¬1) والضحاك (¬2) والكلبي: (آزر: أبو إبراهيم، وهو تارح (¬3) مثل إسرائيل ويعقوب)، وهو قول الحسن (¬4) والسدي (¬5) قالوا جميعًا: (آزر: اسم أبي إبراهيم)، وقال مقاتل بن حيان (¬6): (هو لقب [له] (¬7)). وقال سليمان (¬8) التيمي (¬9): (هو سبّ وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوّج). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 242، وابن أبي حاتم 4/ 1325 بسند جيد. (¬2) ذكره الثعلبي 179 ب، والبغوي 3/ 158، والقرطبي 7/ 22 عن الضحاك وابن إسحاق والكلبي. (¬3) في (ش): (تارخ) وأكثر المصادر تذكره بالحاء المهملة، قال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 142: (ابن عباس والجمهور على أن اسم أبيه تارح، وأهل الكتاب يقولون: تارخ بالخاء المعجمة) ا. هـ. بتصرف، وانظر: "عرائس المجالس" ص 72، و"تفسير مبهمات القرآن" 1/ 431. (¬4) ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 448، وذكره الماوردي 2/ 134، وابن الجوزي 3/ 70 عن الحسن والسدي. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 242 بسند جيد، وذكره السمرقندي 1/ 495 عن السدي والكلبي. (¬6) ذكره الثعلبي 179 ب، والبغوي 3/ 158، وابن الجوزي 3/ 71، والقرطبي 7/ 22. (¬7) لفظ: (له) ساقط من (ش). (¬8) سليمان بن طرخان القيسي التيمي أبو المعتمر البصري، إمام عابد تابعي محدث علامة، وثقه وأثنى عليه العلماء، توفي سنة 143هـ، وله 97 سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 252، و"الجرح والتعديل" 4/ 124، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 195، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 150، و"تهذيب التهذيب" 2/ 99. (¬9) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1325 بسند صعيف، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 448، والثعلبي 179 ب، والبغوي 3/ 158.

75

قال أبو إسحاق (¬1): (وليس بين النسّابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارح (¬2)، والذي في القرآن يدل على [أن] (¬3) اسمه آزر فكأن آزر لقب له، وقيل: آزر عندهم ذمّ في لغتهم، كأنه قيل: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ، كأنه عابه بزيغِه وتعوّجِه عن الحق)، ونحو هذا قال الفراء (¬4) سواء. وقال ابن الأنباري: (قد يغلب على اسم الرجل لقبه حتى يكون به أشهر منه باسمه، فيمكن أن يكون آزر اسم أبي (¬5) إبراهيم الصحيح وتارح (¬6) لقب له، وجائز أن يكون آزر لقبًا أبطل الاسم لشهرة الملقّب به، فخبّر الله تعالى بأشهر اسميه؛ لأن اللقب مضارع للاسم) (¬7). 75 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال الزجاج: (أي: ومثل ما وصفنا من قصة إبراهيم من قوله لأبيه ما قال نريه {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬8) يعني: كما أريناه استقباح ما كان عليه أبوه وقومه من عبادة الأصنام نريه الملكوت للاعتبار. ¬

_ (¬1) "معانى الزجاج" 2/ 265 بتصرف، وزاد: (وقيل: آزر: اسم صنم). (¬2) في (ش): (تارخ)، بالخاء المعجمة، وعند الزجاج بالمهملة. (¬3) لفظ: (أن) ساقط من (أ). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 340. (¬5) جاء في (أ): (أب)، في كل المواضع السابقة. (¬6) في (ش): (تارخ)، في كل المواضع السابقة. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 66، وابن الجوزي 3/ 71، والراجح أن آزر اسم أبي إبراهيم، وهو علم وليس لقب؛ لأن ظاهر القرآن والمحفوظ عن أهل العلم وغيره مجرد احتمالات ودعوى تحتاج إلى دليل، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 7/ 242 - 243، وابن كثير 2/ 168، وغيرهما، وانظر: "المعارف" لابن قتيبة ص 30، وابن عطية 5/ 5251، و"المعرب" للجواليقي ص 134، والرازي 13/ 37، والقرطبي 7/ 22. (¬8) "معانى الزجاج" 2/ 265.

والملكوت: بمنزلة الملك، إلا أن (¬1) التاء زيدت للمبالغة، كالرَّغَبُوت (¬2) والرهبوت (¬3)، ووزنه من الفعل فعلوت (¬4). كذلك قال أهل اللغة (¬5). واختلفوا في: {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما هو؟ فقال ابن عباس في رواية (¬6) عطاء: (يريد: أن الله أراه ما يكون في السموات من عجائب خلق ربه من عبادة الملائكة ومن طاعتهم ومن خشوعهم وخوفهم من الله عز وجل، وما في جميع الأرض من عصيان بني آدم وجرأتهم على الله، فكان يدعو على كل من يراه في معصية فيهلكه الله، فأوحى الله إليه: [يا إبراهيم] (¬7) أمسك عن عبادي، أما علمت أنه من أسمائي أنا الصبور) (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (لأن التاء). (¬2) الرغبوت، بفتح الراء والغين وضم الباء: من رغب بمعنى أراد. انظر: "القاموس" ص 90 (رغب). (¬3) الرَّهَبُوت، بفتح الراء والهاء، وضم الباء: من رهب بمعنى خاف. انظر: "القاموس" ص 92 (رهب). (¬4) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 265، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 197 - 198، و"تفسير الطبري" 7/ 244، و"معاني النحاس" 2/ 449. (¬5) انظر: ملك في "تهذيب اللغة" 4/ 3449، و"الصحاح" 5/ 1610، و"اللسان" 7/ 4267. (¬6) أخرج الطبري 7/ 246، وابن أبي حاتم 5/ 1326 بسند ضعيف عنه نحوه، وأخرج الطبري 7/ 247 بسند ضعيف عن عطاء نحوه، وأخرج الطبري 7/ 246، وابن أبي حاتم 4/ 1326 بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني به: الشمس والقمر والنجوم) اهـ. وفي رواية عند الطبري بسند جيد قال: (خلق السموات والأرض)، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 45. (¬7) لفظ: (يا إبراهيم) ساقط من أصل (أ) وملحق بالهامش. (¬8) الصبور صفة لله سبحانه وتعالى ومعناه: الذي يملي ويمهل ولا يعجل بالعقوبة، وأكثرهم عده =

وقد روى علي -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) في تفسير: {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مثل هذا الذي ذكره ابن عباس. وهو قول مجاهد (¬2) وسعيد (¬3) بن جبير قالا: (إنه كشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين). وقال قتادة (¬4) والضحاك (¬5): ({مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ}: الشمس والقمر ¬

_ = اسمًا من أسماء الله تعالى، ولم يثبته محمَّد العثيمين في "القواعد المثلى" ص 21 - 22. وانظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 65، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص 481، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص 133، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص 352، و"الحق الواضح" للسعدي ص 57؛ وكلهم عده من الأسماء. (¬1) ذكره البغوي 3/ 158، والقرطبي 7/ 23، والسيوطي في "الدر" 3/ 45، وقال ابن كثير 2/ 168: (روى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين عن معاذ وعلي، ولكن يصح إسنادهما) اهـ. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 201 (روى الطبراني في "الأوسط" عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وفيه علي بن أبي علي اللهبي متروك) ا. هـ. بتصرف. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 246، وابن أبي حاتم 5/ 1327 من طرق جيدة، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 218 قال: (الملكوت: الآيات)، وأخرجه الطبري من طرق جيدة، وأخرج أبو الشيخ في "العظمة" ص 297 بسند جيد عنه قال: (الشمس والقمر)، وقال ابن أبي حاتم: (وروي عن مجاهد أنه قال: يعني الشمس والقمر والنجوم) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 44. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 247 من طرق جيدة عن سعيد بن جبير وقتادة. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 212 - 213، وابن أبي حاتم 5/ 1327 من طرق جيدة. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 247 بسند ضعيف بلفظ: (الشمس والقمر والنجوم) اهـ، وهذه الأخبار لا حجة فيها وتحتاج إلى مستند، والأولى حمل الآية على ظاهرها، فالملكوت بمعنى الملك أراه الله سبحانه عظيم سلطانه، وجلى له بواطن الأمور وظاهرها، ويحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانًا، =

والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار، وذلك أن الله تعالى أراه هذه الأشياء حتى نظر إليها معتبرًا مستدلًا بها على خالقها). وقوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} قال أهل المعاني: (هو معطوف على المعنى؛ لأن معنى الآية: نريه {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ليستدل به {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (¬1)، وقيل: (هو عطف جملة على جملة بتقدير: وليكون من الموقنين أريناه) (¬2). قال أبو علي الفارسي: (اليقين (¬3) والتيقن: ضرب من العلم مخصوص، فكل علم ليس تيقنًا وإن كان كل تيقن علمًا؛ لأن التيقّن هو العلم الذي قد كان عرض لعالمه إشكال فيه، يبين (¬4) ذلك قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}) (¬5). ¬

_ = ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، وهذا اختيار الطبري 7/ 247، وابن كثير 2/ 168، وانظر: السمرقندي 1/ 495، وابن عطية 5/ 255. (¬1) هذا ظاهر قول الزجاج في "معانيه" 2/ 265، قال: (أي نريه {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لما فعل وليثبت على اليقين). (¬2) هذا قول النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 558، ومكي في "المشكل" 1/ 258، وانظر: "البيان" 1/ 328، و"التبيان" 342، و"الفريد" 2/ 177، و"الدر المصون" 5/ 7. (¬3) اليقين في اللغة: العلم وتحقق الأمر وزوال الشك. وقال العسكري في "الفروق" ص 63: (هو سكون النفس وثلج الصدر بما علم) ا. هـ. وقال الراغب في "المفردات" ص 892: (هو من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم) اهـ، وانظر "العين" 5/ 220، و"تهذيب اللغة" 4/ 398، و"الصحاح" 6/ 2219، و"مقاييس اللغة" 6/ 157، و"اللسان" 8/ 4964 (يقن). (¬4) في (أ): (تبين) بالتاء، وهو تصحيف. (¬5) "الحجة" لأبي علي 1/ 256، وزاد: (اليقين كأنه علم يحصل بعد استدلال ونظر لغموض المعلوم أو لإشكال ذلك على الناظر، فليس كل علم يقينًا؛ لأن من المعلومات ما يعلم ببداءة العقول والحواس) ا. هـ. ملخصًا.

76

76 - [و] (¬1) قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآية. يقال: جنّ عليه الليل وأجنَّه الليل، ويقال لكل ما ستر: قد جنّ وأجن، ويقال أيضًا: جَنت الليل (¬2)، ولكن الاختيار جنّ عليه الليل، وأجنه الليل (¬3)، هذا قول جميع أهل اللغة، ومعنى {جَنَّ}: ستر، ومنه الجَنَّة (¬4) والجِنُّ والجُنُون ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو): ساقط من (أ). (¬2) (جن يستعمل لازمًا ومتعديًا، وهو مما اتفق فيه أفعل وفعل، إلا أن الأجود جن عليه الليل وأجنه الليل، فيكون الثلاثي لازمًا وأفعل متعديًا). انظر: "الدر المصون" 5/ 8. (¬3) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 266. (¬4) هذه كلمات تحتاج إلى ضبط وهي على الترتيب كما يلي: الجَنَّة: بفتح الجيم والنون المشدد. البستان كثير الشجر. والجِنّ: بكسر الجيم وتشديد النون: خلاف الإنس والواحد، جِنّيٌّ. والجُنُون: بضم الجيم والنون، يقال: جُنَّ الرَّجُلُ جُنُونًا، وأَجَنَّه الله، فهو مَجْنُون. ويقال: جن عليه الليل يُجنُّ جُنونًا، أي ستره، وجن النباتُ جُنُونًا أي طال والتف. والجَنَانُ، بالفتح: القَلْبُ، والرُّوحُ، وظَلامُ الليل. والجنين، بفتح الجيم وكسر النون: الولد في البطن، وكل مستور. والمِجَنُّ، بكسر الميم وفتح الجيم: التُّرْس، وكل ما استتر به من السلاح. والجَنَنُ، بالفتح: القبر، والميت، والكفن. والجُنُنُ، بالضم: الجُنُونُ، حذفت منه الواو. والمُجَنُّ، ضبط في النسخ بضم الميم وفتح الجيم، ولم أقف على أنه المقبور، وفي "الصحاح": (جُنَّ الرجل جنونًا وأجنَّه الله فهو مجنون ولا يقال مُجَنٌّ). والجُنَّة، بضم الجيم وفتح النون المشددة: ما استتر به من السلاح، وكل ما وَقَى. والجِنَّة، بكسر الجيم: الجنون، وذلك أن يغطي العقل. انظر: "العين" 6/ 20، و"الجمهرة" 1/ 92، و"تهذيب اللغة" 1/ 673، و"الصحاح" 5/ 2093، و"المجمل" 1/ 175، و"مقاييس اللغة" 1/ 421، و"المفردات" ص 303، و"اللسان" 2/ 702، و"القاموس" ص 1187 (جن).

والجَنان والجنين، المجنُ والجنن والمُجن وهو المقبور، والجُنَّة والجِنّة، كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار، ويقال في مصدره: جَنّ جَنًّا وجنونًا وجنانًا (¬1). ويروى بيت دُريد (¬2) بالوجهين: وَلَوْلَا جَنونُ اللَّيلِ أَدْرَكَ رَكْضُنَا ... بِذِي الرَّمْثِ والأَرْطَى عِياضَ بنَ ناشِبِ (¬3) ويروى (¬4): (جنان الليل). قال بعض النحويين: ({جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي: أظلم عليه الليل (¬5) ولهذا دخلت على، كما تقول في أظلم، فأما جنّه فستره من غير تضمين معنى أظلم) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: المراجع السابقة. وقال الطبري في "تفسيره" 7/ 247: (المصدر من جن عليه: جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا، ومن أجن إجنانًا ...) اهـ. وقال السمين في 5/ 8: (مصدره جَنُّ وجَنان وجُنون) اهـ. (¬2) درَيْد بن الصِّمَّة الجُشمي من هوازن، شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته. (¬3) "ديوانه" ص 29، و"مجاز القرآن" 1/ 198، و"الأصمعيات" ص 112، و"إصلاح المنطق" ص 295، و"الجمهرة" 1/ 93، و"الأغاني" 10/ 16، و"المجمل" 1/ 175، و"مقاييس اللغة" 1/ 422، و"اللسان" 2/ 701، وهو لخفاف بن ندبة السُّلَمي في "ديوانه" ص 130، و"الصحاح" 5/ 2094. والرمث والأرطى: نبتان معروفان، وذو الرمث: وادٍ لبني أسد. يقول: لولا أن الليل سترنا لأدركنا عياض بن ناشب الفزاري بذلك المكان فقتلناه. انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" 2/ 129، و"معجم البلدان" 3/ 68، و"اللسان" 2/ 701 (جن). (¬4) ذكره أكثرهم، وهو في "الديوان" وأكثر المراجع، (ولولا جنان)، وهما بمعنى واحد، وفي "الأغاني": (ولولا سواد) بدل (جنان). (¬5) لفظ: (الليل) ساقط من (ش). (¬6) انظر: "الفريد" 2/ 177.

وقوله {رَأَى} فيه ثلاثة أوجه (¬1) من القراءة، فتح الراء والهمزة. [وفتح الراء وكسر (¬2) الهمزة نحو الإمالة. وكسر الراء والهمزة] (¬3) للإمالة، فأما من فتحهما جميعًا فعلّته واضحة؛ وهي ترك الألف على الأصل نحو: رَعَى ورمى لمَّا لم يُمِل الألف لم يمل الفتحة الفتحة التي قبلها، كما يميلها من يرى الإمالة ليميل الألف نحو: الياء. وأمّا من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسرة لتميل الألف التي في رأى نحو الياء، كما تمال الفتحة التي على الدال في هدى والميم من رمى لتميل الألف، وترك الراء مفتوحة على الأصل. وأمّا من كسرهما جميعًا فإنه كسر الراء من رأى؛ لأن المضارع منه على يفعل، وإذا كان المضارع على يفعل كان الماضي على فَعِل، ألا ترى أن المضارع في الأمر العام إذا كان على يفعل كان الماضي على فَعِلَ، وإنما فتحوا الماضي في حروف ذوات عدد اختص موضع العين منها واللام بأحد حروف الحلق، وهي متسفلة المخارج، فشابوا ذلك منها بشيء من التصعّد وهو الفتحة في العين، ليعتدل الكلام، وإذا كان الماضي كأنه على فِعِلَ كسر (¬4) الراء التي هي فاء؛ لأن العين همزة، وحروف الحلق إذا جاءت ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (رأى) بكسر الراء والهمزة. وقرأ ابن كثير وعاصم: (رأى) بفتح الراء والهمزة. وقرأ أبو عمرو: بفتح الراء وكسر الهمزة. وقرأ نافع: بين الفتح والكسر. انظر: "السبعة" ص 260، و"المبسوط" ص 170، و"التذكرة" 2/ 402، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 259. (¬2) في (ش): (وكسرة)، وهو تحريف. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) كذا في النسخ، وفي "الحجة" لأبي علي 3/ 328: (كسرة الراء)، وهو الصواب، وقد ورد في بعض نسخ "الحجة" كسر الراء كما في "الحاشية".

في كلمة على زنة فِعِل كسرت فيها الفاء لكسرة العين في الاسم والفعل, وذلك نحو قولهم في الاسم: حمار نِعرٌ (¬1) ورجل محك (¬2) وماضغ لهم، وفي الفعل نحو: شِهِدَ ولِعِبَ ونِعِمَ، فكسرة الراء على هذا كسرة مخلصة محضة، وليست بفتحة مُمالةٍ، وأما كسرة الهمزة فإنه يراد بها إمالة فتحتها إلى الكسرة لتميل (¬3) الألف نحو الياء، فإن قلت: إن الفاء إنما تكسر لتتبع الكسرة في نحو: شهد، والهمزة في رأى مفتوحة، فكيف أجيز كسره، مع أن بعدها حرفًا مفتوحًا؟. قيل: إنه فيما نزلناه وبينّاه بمنزلة الكسرة، فأتبع الفتحة الكسرة المقدرة، فإن لقي رأى ساكن نحو: {رَأَى القَمَرَ} و {رَأَى الشَّمسَ} ففيه أيضًا ثلاثة أوجه من القراءة (¬4): أحدهما: فتح الراء والهمزة معًا، وهو قراءة العامة، ووجه ذلك أنه الأصل على قراءة من فتحهما إذا لم يلقه ساكن، وأما من كان يكسرهما إذا لم يلقه ساكن ثم فتحهما عند الساكن مثل الكسائي، فوجه ذلك: أن إمالة الفتحة في الهمزة إنما كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف بطلت إمالتها لسقوطها, ولما بطلت إمالتها لسقوطها بطلت إمالة الفتحة نحو الكسرة لسقوط الألف التي كانت الفتحة الممالة تميلها نحو الياء، وأما ¬

_ (¬1) النُّعَر: داء يأخذ الإبل في رؤوسها، وحمار نَعِرٌ، بفتح النون وكسر العين: أي لا يستقر في مكان. انظر: "الكتاب" 3/ 585، و"اللسان" 7/ 4472 (نعر). (¬2) رجل محك، بفتح الميم وكسر الحاء، أي: لجُوج عسر الخُلق. انظر: "اللسان" 7/ 4147 (محك). (¬3) انظر: في (ش): (ليميل). (¬4) انظر: المراجع السابقة في قراءة (رَأَى).

فتح الراء هاهنا وقد كسره في {رَأَى كَوْكَبًا} فلأنه أخذ باللغتين فكسر هناك لما ذكرناه (¬1) وفتح هاهنا؛ لأنه جعله بمنزلة الراء في رمى (¬2) ورعى. الوجه الثاني في القراءة: كسر الراء وفتح الهمزة، وهي قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر (¬3)، أما كسر الراء فإنما هو للتنزيل والتقدير الذي ذكرنا، وهو معنى منفصل عن إمالة فتحة الهمزة، ألا ترى أنه يجوز أن يُعمل هذا المعنى من لا يرى الإمالة، كما يجوز أن يُعمله من يراها، فإذا كان كذلك كان انفصال أحدهما عن الآخر سَائغًا غير ممتنع. وروى يحيى بن (¬4) آدم عن أبي بكر (¬5): {رِأِى القمر}: بكسر الراء والهمزة معًا، أما وجه كسر الراء فقد ذكرنا، وأما إمالة فتحة الهمزة مع ¬

_ (¬1) في (ش): (ذكرنا). (¬2) في (أ): (رما، ورعا). وكذلك جاء في بعض نسخ "الحجة" لأبي علي 3/ 330. (¬3) أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الحفاظ الكوفي، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، فقيل: كنيته هي اسمه، وقيل: اسمه شعبة، وهو إمام فاضل عابد ثقة مقرئ أتقن قراءة عاصم وعرض القرآن عليه ثلاث مرات، توفي سنة 194هـ، أو قبلها، وله نحو 100 سنة. انظر: "الحلية" 8/ 303، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 495، و"معرفة القراء" 1/ 134، و"ميزان الاعتدال" 6/ 173، و"غاية النهاية" 1/ 325، و"تهذيب التهذيب" 4/ 492. (¬4) يحيى بن آدم بن سليمان الأموي أبو زكريا الكوفي إمام فاضل حافظ ثقة مقرئ فقيه من أوعية العلم، وله كتب جيدة توفي سنة 203 هـ، وله نحو 73 سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 402، و"الجرح والتعديل" 9/ 128، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 522، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 359، و"غاية النهاية" 2/ 263، و"تهذيب التهذيب" 4/ 337. (¬5) في "الحجة" لأبي علي 3/ 331: (روى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم).

زوال ما كان يوجب إمالتها من حذف الألف فلأن الألف محذوفة لالتقاء الساكنين، وما يحذف لالتقاء الساكنين فقد ينزّل تنزيل المثبت، ألا ترىَ أنهم قد أنشدوا: وَلاَ ذَاكِرِ الله إلاَّ قَلِيلا (¬1) فنصب الاسم بعد ذاكر، وإن كانت النون محذوفة لمّا كان الحذف لالتقاء الساكنين، والحذف لذلك في تقدير الإثبات من حيث كان التقاؤهما غير لازم، ومن ثم لم يرد الألف في نحو: رمت المرأة (¬2). فأما قصة الآية ومعناها، فقال السدي (¬3)، ومحمد بن إسحاق (¬4) ¬

_ (¬1) "الشاهد" لأبي الأسود الدؤلي في "ديوانه" ص 54، و"الكتاب" 1/ 169، و"معاني الفراء" 2/ 202، و"المقتضب" 2/ 312، و"اللسان" 5/ 2793، عتب، وبلا نسبة في "مجاز القرآن" 1/ 307، و"معاني الأخفش" 1/ 86، و"مجالس ثعلب" ص 123، و"الأصول" 3/ 455، و"الشعر" لأبي علي 1/ 114، و"الخصائص" 1/ 311، و"المنصف" 2/ 231، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 164، وصدره: فَاْلفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ الشاهد: حذف التنوين من ذاكر لالتقاء الساكنين أو ضرورة. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 934. (¬2) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 3/ 326 - 332، وانظر: "معاني القراءات" للأزهري 1/ 364، و"إعراب القراءات" لابن خالويه 1/ 161، و"الحجة" لابن خالويه ص 142، و"الحجة" لابن زنجلة ص 256، و"الكشف" 1/ 436. (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 236 عن السدي وابن إسحاق، وأخرجه ابن أبي هاشم 4/ 1329 عن السدي، وذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص 74، عن السدي وابن إسحاق. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 246 - 347 عن السدي وابن إسحاق وقتادة، وانظر: نحوه في "تهذيب تاريخ ابن عساكر" 2/ 137، وهذا من الإسرائيليات، والآية ظاهرة =

والعلماء بأخبار الماضين: (8) (لما شب إبراهيم في السرب [الذي ولد فيه، قال لأبويه: أخرجاني فأخرجاه، من السرب] (¬1) وانطلقا به حين غابت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم، فقال: ما لهذه بُدّ من أن يكون لها رب وخالق، ثم نظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ما لي إله غيره، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع، ويقال: الزهرة، وكانت تلك الليلة في آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر فقال: {هَذَا رَبِّي}). واختلفوا في معنى قوله: {هَذَا رَبِّي} فقال أهل التحقيق من العلماء: (إن إبراهيم عليه السلام لم يكن قط في ضلال وحيرة، وكيف يتوهم ذلك على من عصمه الله وطهّره في مستقره ومستودعه؟ وما زال في حكم الله نبيًّا والله تعالى يقول: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] أي: لم يشرك به قط، كذلك قال المفسرون، ويقول (¬2): {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} الآية. [الأنعام: 75] أفترى الله أراه الملكوت ليوقن، فلما أيقن {رَأَى كَوْكَبًا} فقال: {هَذَا رَبِّي} على الحقيقة والاعتقاد! هذا ما لا يكون أبدًا، وإنما معنى قوله: {هَذَا رَبِّي} أن قومه كانوا يعبدون النجوم ويعظمونها ويحكمون بها. ¬

_ = واضحة، وليس تفسيرها في حاجة إلى هذه المرويات قال ابن كثير في "تاريخه" 1/ 143: (الظاهر أن الموعظة لأهل حران، فإنهم يعبدون الكواكب، وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب، لما كان صغيرًا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولا سيما إذا خالفت الحق ..) اهـ. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬2) لفظ: (الواو): ساقط من (أ).

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} رأى الزهرة فقال: {هَذَا رَبِّي} يريد: أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرفهم خطأهم، وجهلهم في تعظيمهم شأن النجوم وقضائهم على الأمور بدلالاتها، فأراهم أنه معظَّم ما عظّموا، وملتمس الهدى من حيث التمسوا، وكل من تابعك على هواك وشايعك على أمرك كنت به أوثق وإليه أسكن وأركن، فأنِسوا واطمأنوا {فَلَمَّا أَفَلَ} أراهم النقص الداخل على النجم بالأفول؛ لأنه ليس [ينبغي] (¬1) [لإله] (¬2) أن يزول ولا أن يغيب فقال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي: لا أحب من كانت حالته أن يطلع ويسير على هيئة يتبين معها أنه محدث منتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، أي: لا أتخذ ما هذه حاله إلها، كما أنكم لا تتخذون كل ما قد يجري مجرى هذا من سائر الأشياء آلهة. وقيل: إنه قال: {هَذَا رَبِّي} على جهة الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك {قَالَ هَذَا رَبِّي} عندكم وفيما تظنون وفي زعمكم، كما قال الله عز وجل: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)} [القصص: 62] فأضافهم إلى نفسه حكايته لقولهم، وكقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي: عند نفسك. وجائز أن يكون هاهنا إضمار القول كأنه قال: [تقولون] (¬3): {هَذَا رَبِّي} وإضمار القول كثير كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [البقرة: 127] أي: يقولان: ربنا، وقوله تعالي: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3] معناه: يقولون ما نعبدهم، ¬

_ (¬1) في (أ): (يتبغى)، وهو تصحيف. (¬2) في (أ): (للاله). (¬3) في (ش): (يقولون).

فكأن إبراهيم قال لقومه: [تقولون] (¬1) {هَذَا رَبِّي} أي: هذا الذي يدبّرني؛ لأنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها، فاحتج عليهم بأن الذي [تزعمون] (¬2) أنه مُدَبِّر فيه أثر أنه مُدبّر لا غير). فهذه ثلاثة أوجه صحيحة في تأويل الآية، ذكرها أهل المعاني، الوجه الأول: قول الفراء (¬3)، واختيار عبد الله بن مسلم (¬4)، والثاني والثالث: ذكرهما الزجاج (¬5) وابن الأنباري (¬6) وفي قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} دلالة على أن ما غاب بعد ظهوره فليس برب، وفيه حجة على ¬

_ (¬1) في (ش): (يقولون). (¬2) في (ش): (يزعمون). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 341. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 335 - 338، وقد نقل المؤلف نص كلامه. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 267 وفيه قال: (والذي عندي في هذا القول أنه قال لهم: تقولون هذا ربي، أي: هذا يدبرني؛ لأنه فيما يروى أنهم أصحاب نجوم فاحتج عليهم بأن الذي تزعمون أنه مدبر إنما يرى فيه أثر مُدبر لا غير) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" 2/ 450. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 68 - 69، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 74، والصحيح في معنى الآية ما ذهب إليه الجمهور من أن هذا القول كان في مقام المناظرة لقومه؛ لإقامة الحجة عليهم في بطلان ما هم عليه من عبادة الكواكب والشمس والقمر؛ لأن الموافقة في العبارة على طريق إلزام الخصم من أبلغ الحجج وأوضح البراهين، ولأن الله تعالى قال في نفس القصة: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80]. وهو اختيار الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" 2/ 169. وانظر "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 560، و"تفسير البغوي" 3/ 161، وابن عطية 5/ 261، والفخر الرازي 13/ 59، و"البحر المحيط" 4/ 166.

77

أن ما تغير (¬1) بالظهور تارة والأفول (¬2) تارة كان حادثًا مدبرّا مسخرًا مصرفًا (¬3)، وذلك ينافي صفة الإله المعظم. 77 - قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} يقال: بزغ القمر: إذا ابتدأ في الطلوع، وبزغت الشمس إذا بدا منها (¬4) طلوع، ونجوم بوازغ (¬5). قال الأزهري (¬6): (كأنه مأخوذ من البزغ، وهو الشقّ، كأنه يشق بنوره الظلمة شقًّا، ومن هذا يقال: بزغ البيطار (¬7) أشعار الدابة إذا شق ذلك المكان منها [بمبزغه] (¬8)). قال الطرماح: كَبزْغِ البِيَطْرِ الثَّقْفِ رَهْصَ الكوادِنِ (¬9) ¬

_ (¬1) في (ش): (يغبر)، وهو تصحيف. (¬2) في (ش): (وبالأفول). وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 5/ 547، 6/ 284: (اتفق أهل اللغة والتفسير على أن الأفول هو: التغيب والاحتجاب). (¬3) في (ش): (ومدبرًا مسخرًا ومصرفًا). (¬4) في (ش): (فيها). (¬5) انظر: "العين" 4/ 385، و"الجمهرة" 1/ 333، و"البارع" ص 364، و"مقاييس اللغة" 1/ 244، و"المجمل" 1/ 124، و"المفردات" ص 122 (بزغ). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 328. (¬7) البَطْر: الشق، وبه سمى البَيْطار بَيْطارًا. انظر: "اللسان" 1/ 301 (بطر). (¬8) في (ش): بمبزعه: بالعين المهملة، وهو تصحيف، وعند الأزهري [بمبضعه]، وفي "اللسان" 1/ 276 (بزغ): (يقال للحديدة التي يشترط بها: مبزغ ومبضع) اهـ. (¬9) الشاهد في "ديوانه" ص 172، و"تهذيب اللغة" 1/ 328، و"اللسان" 1/ 301 (بطر)، وهو في "الصحاح" 4/ 1315 (بزغ) للأعشى وليس في "ديوانه" وأوله: يُساقطُها تَتْرَى بِكُلِّ خَميلَة قال ابن منظور في "اللسان" 1/ 276 (بزغ): (هو للطرماح يصف ثورًا طعن الكلاب بقرنيه، والرَّهْص جمع رَهْصة وهي أن يَدْوَى حافِر الدابة من حجر تطؤه، والكوادن البراذين) اهـ.

78

فأما معنى الآية: فإن إبراهيم عليه السلام اعتبر في القمر والشمس مثل ما اعتبر في النجم، وكانت حجته فيهما على قومه كالحجة في الكواكب (¬1). وقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} لا يوجب أنه لم يكن مهتديًا؛ لأن معناه: لئن لم يثبتني على الهدى، والأنبياء لم تزل تسأل الله ذلك وتعلم أنه لولا هداية الله (¬2) ما اهتدت، وإبراهيم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] 78 - قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} قال أبو بكر ابن الأنباري: (إنما قال: هذا والشمس (¬3) مؤنثة؛ لأن الشمس بمعنى: الضياء والنور، فحمل الكلام على تأويلها فذكر وأعان على التذكير أيضًا أن (¬4) الشمس ليست فيها علامة التأنيث، فلما أشبه لفظها المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين) (¬5)، وأنشد قول الأعشى (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 267. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 268، و"تفسير البغوي" 3/ 162 - 163. (¬3) انظر: "المذكر والمؤنث" للفراء ص 96، ولابن الأنباري 1/ 145، 219، ولابن التستري ص 87. وقال ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" 1/ 362: (قال الفراء: العرب تجتري على تذكير المؤنث إذا لم تكن فيه الهاء) ثم أنشد الشاهد وهو في "المذكر والمؤنث" للفراء ص 81، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 127 مع الشاهد. (¬4) (أن): كأنها في النسخ، (إذ)، والأولى ما أثبته. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 69، وابن الجوزي 3/ 76. وذكر ابن الأنباري الشاهد في "المذكر والمؤنث" 1/ 366 ونسبه للأعشى وليس في "ديوانه". (¬6) تقدمت ترجمته.

79

وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا (¬1) فذكر أبقل إذ كانت الأرض عارية من علامة التأنيث، وقيل: أراد هذا الطالع وهذا الذي أراه ربي (¬2). وقوله تعالى: {هَذَا أَكْبَرُ} أي: من الكواكب (¬3) والقمر، فلما توجّهت الحجة على قومه (¬4) قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. 79 - قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال أبو إسحاق: (أي: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل) (¬5)، وباقي الآية مفسر فيما تقدم (¬6). ¬

_ (¬1) الشاهد لعامر بن جوين الطائي شاعر جاهلي، في: "الكتاب" 2/ 46، و"مجاز القرآن" 2/ 67، و"الكامل" للمبرد 2/ 379، 3/ 91، و"الأصول" 2/ 413، و"اللسان" 1/ 61 (أرض)، 1/ 328 (بقل)، 8/ 4800 (ودق) وبلا نسبة في: "معاني الأخفش" 1/ 55، 2/ 300، و"الحجة" لأبي علي 4/ 238، و"المحتسب" 2/ 112، و"الخصائص" 2/ 411، و"المخصص" 16/ 80، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 242، و"المقرب" 1/ 303 وصدره: فَلاَ مُزْنَة وَدَقَتْ وَدْقَها والمزن: السحاب، والودق: المطر، وأبقلت: أخرجت البقل. والشاهد: حذف التاء من أبقلت للضرورة ولأن الأرض مؤنث مجازي. (¬2) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 280، والطبري 7/ 251، و"إعراب النحاس" 1/ 559، و"الدر المصون" 5/ 14. (¬3) في (أ): (الكوكب). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 251. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 268. (¬6) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 90 أ.

80

80 - قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} قال ابن عباس: (خاصمه وجادله في آلهتهم وخوفوه بها) (¬1). وقال أبو إسحاق: (ومحاجتهم إياه كانت -والله أعلم- فيما عبدوا مع الله جل وعز من الكواكب والشمس والقمر والأصنام فقال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} أي: في توحيد الله عز وجل {وَقَدْ هَدَانِ} [أي] (¬2) بيّن لي ما به اهتديت) (¬3)، وهذا الاستفهام معناه الإنكار للمحاجة في الصرف عن الهداية، والتشديد على النون لاجتماع النونين وإدغام أحدهما (¬4) في الآخر. وقرأ (¬5) نافع مخففة النون حذف إحدى النونين تخفيفًا، والتضعيف يكره فيتوصل (¬6) إلى إزالته تارة بالحذف (¬7) نحو: علماء بنو فلانٍ، وتارة بالإبدال نحو: ديوانٍ (¬8) وقيراطٍ (¬9) والمحذوف الثانية؛ لأن الاستثقال يقع ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 35، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 70، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 76. (¬2) لفظ: (أي) ساقط من (ش). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 268. (¬4) أي: إدغام نون الرفع في نون الوقاية. (¬5) قرأ ابن عامر ونافع (أتحاجوني) بتخفيف النون، وشددها الباقون. انظر: "السبعة" 261، و"المبسوط" ص 171، و"التذكرة" 2/ 403، و"التيسير" ص 104، و"النشر" 2/ 259. (¬6) في (ش): (فتوصل). (¬7) في (ش): (وبالحذف)، وهو تحريف. (¬8) ديوان، بالكسر: مجتمع الصحف والدفتر الذي يكتب فيه، وأصله دوَّان بتشديد الواو عوض من إحدى الواوين ياء؛ لأنه يجمع على دواوين. انظر: "اللسان" 3/ 1461 (دون). (¬9) القيراط: وحدة وزن معروفة، وأصله قرط بتشديد الراء، أبدل من إحدى حرفي تضعيفه ياء؛ لأن جمعه قراريط. انظر: "اللسان" 6/ 3591 (قرط).

بها , ولأن الأولى في دلالة الإعراب، وقول عمرو: تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا ... يَسُوءُ الْفَالِياتِ إذَا فَلَيْنِي (¬1) فالمحذوفة المصاحبة للياء، ولا يجوز أن يكون الأولى؛ لأن الفعل يبقى بلا فاعل. وقد جاء حذف هذه النون في كلامهم قال (¬2): أَبِالْمَوتِ (¬3) الَّذِي لابُدَّ أَنَّيَ ... مُلاقٍ لا أباكِ تُخَوّفِيني (¬4) ¬

_ (¬1) "ديوان عمرو بن معد يكرب" ص 180، و"الكتاب" 3/ 520، و"معاني الفراء" 2/ 90، و"مجاز القرآن" 1/ 352، و"الصحاح" 6/ 2457، و"اللسان" 6/ 3470, (فلا). وبلا نسبة في: "معاني الأخفش" 1/ 235، و"الجمهرة" 1/ 459، و"الحجة" لابن خالويه ص 143، "المنصف" 2/ 337، و"المغني" 2/ 621، والثغام: نبات أبيض، ويعل: يطيب، والفاليات من الفلي، وهو إخراج القمل. والشاهد: حذف النون من فلينني. (¬2) الشاهد لأبي حَيّة النميري الهَيْثم بن الربيع، شاعر أموي عباسي. في "مجاز القرآن" 1/ 352، و"معاني الأخفش" 1/ 235، و"الصحاح" 6/ 2457، و"اللسان" 2/ 1207 (خعل)، 1/ 18 (أبى)، 6/ 3470 (فلا)، وبلا نسبة في: "المقتضب" 4/ 375، و"الكامل" للمبرد 2/ 142، 3/ 218، و"الأصول" 1/ 390، و"إعراب النحاس" 2/ 197، و"اللامات" للزجاجي ص 103، و"الخصائص" 2/ 142، 3/ 218، و"المنصف" 2/ 337، وهو في "أمالي ابن الشجري" 2/ 128 للأعشى وليس في "ديوانه"، والشاهد: حذف النون من تخوفينني. (¬3) جاء في هامش (أ) تصحيح: (أبا الموت) إلى (أبي الموت). (¬4) ما سبق قول إبي علي الفارسي في "الحجة" 3/ 333 - 335، بتصرف. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 367، و"إعراب القراءات" 1/ 162، و"الحجة" لابن زنجلة ص 257، و"الكشف" 1/ 436.

81

وقوله تعالى: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} قال ابن جريج: (خوفوه آلهتهم أن يصيبه منها خبل فقال: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}) (¬1)، وقال أبو إسحاق: (أي: هذه الأشياء التي تعبدونها (¬2) لا تضر (¬3) ولا تنفع ولا أخافها {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، أي: إلا أن يشاء أن يعذبني، وموضع (أن) نصب، أي: لا أخاف إلاَّ مشيئة الله) (¬4)، والتقدير: لكن أخاف مشيئة ربي يعذبني (¬5) و (إلا) هاهنا بمعنى: لكن، والاستثناء (¬6) منقطع، وهو كما تقول: لا أخاف من السلطان شيئًا إلا أن يظلمني غيره. وقال ابن عباس (¬7): (يريد: أن المشيئة والأسقام والأمراض إليه)، وهذا يدل على أنهم قالوا له: أما تخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوءٍ. 81 - قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ} معناه: الإنكار للخوف، وهو سؤال تعجيز عن تصحيح الخوف بالبرهان. وقوله تعالى: {مَا أَشْرَكْتُمْ} يعني: الأصنام (¬8): {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} قال ابن عباس: (يريد: ما ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 253 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 49. (¬2) في (أ): (يعبدونها). (¬3) في (ش): (لا يضر ولا ينفع). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 268 - 269، وانظر: "بدائع التفسير" 2/ 152 - 156. (¬5) في (ش): (تعذبني). (¬6) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 561، و"معاني النحاس" 2/ 453، وابن عطية 5/ 266، و"التبيان" ص 244، و"الفريد" 2/ 180، و"الدر المصون" 5/ 19. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 253، وابن عطية 5/ 266.

82

ليس لكم فيه حجة) (¬1)، والسلطان قوة وحجة يتمكن بها ويتسلط، وقد برق القول فيه (¬2). وقوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أي: أحق بأن يأمن العذاب الموحّد أم المشرك (¬3). 82 - قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال ابن عباس: (هذا من قول إبراهيم لقومه) (¬4) يريد: أن هذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة، كما يسأل العالم ويجيب نفسه. وقال ابن زيد (¬5): (هذا من قول (¬6) قوم إبراهيم لإبراهيم أجابوه لما سألهم أي الفريقين أحق بالأمن؟ بما فيه حجة عليهم). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 36، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 71، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 171، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1332 بسند جيد عن ابن عباس قال: (كل سلطان في القرآن حجة)، قال ابن أبي حاتم بعده: (وروي عن أبي مالك ومحمد بن كعب وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي مثله) اهـ. (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 212 أ، ونسخة تشستربتي 2/ 32 أ، 33/ ب. (¬3) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 269، والنحاس 2/ 453، وانظر: "بدائع التفسير" 2/ 153. (¬4) ذكره القرطبي 7/ 30، وهو اختيار الرازي 13/ 60، وأبو حيان في "البحر" 4/ 171، وحكاه النحاس في "معانيه" 2/ 453 عن مجاهد. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 255 بسند جيد عن ابن جريج، وذكره ابن عطية 5/ 267، والقرطبي 7/ 30، ولم أقف عليه عن ابن زيد. (¬6) لعله يريد المشركين منهم، قال الطبري 7/ 255: (لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد) اهـ.

وقال ابن جريج: (هذا من قول الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم ومن حالفه) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال ابن عباس: (لم يخلطوا إيمانهم بشرك) (¬2). وقال سعيد بن جبير: ({بِظُلْمٍ} أي: بكفر وشرك) (¬3). وروى علقمة عن ابن مسعود: (قال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله! وأينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول (: "ليس ذلك، إنما هو [الشرك] (¬4)، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]) (¬5) ". ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 7/ 254 بسند جيد عن ابن زيد وابن إسحاق. وذكره ابن عطية 5/ 267، ولم أقف عليه عن ابن جريج، وأخشى أن يكون الناسخ أو الواحدي وهم في نسبة الأقوال، فالقول الأول مشهور عن ابن جريج. والثاني عن ابن زيد، والظاهر أن الآية خبر من الله سبحانه وتعالى وهو اختيار الطبري 7/ 255، وابن عطية 5/ 268، وابن كثير 2/ 170، قال ابن عطية: (هذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها) اهـ. وقال ابن القيم، كما في "بدائع التفسير" 2/ 153: (في هذه الآية حكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصلح منه) اهـ. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 257 من طرق جيدة، انظر: "الدر المنثور" 3/ 49، وانظر: معنى الظلم في "الزاهر" 1/ 116. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1333 بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 50. (¬4) في (ش): (شرك). (¬5) أخرجه البخاري في تفسير سورة لقمان، ومسلم (4776)، (197 - 198)، مع بعض الاختلاف؛ وانظر: شرحه في "شرح مسلم" للنووي 2/ 187 - 188, و"الفتاوى" لشيخ الإسلام 7/ 79 - 80، و"فتح الباري" 1/ 87 - 89.

83

وقال ابن جريج: (لم يختلفوا في أن الظلم هاهنا الشرك) (¬1)، وهذه الآية دليل أن من مات لا يشرك بالله وجب أن يكون عاقبته الأمن من النار (¬2). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} قال ابن عباس: (يريد: من العذاب، {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} يريد: أرشدوا إلى دين الله) (¬3). 83 - قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} الآية، أشار إلى ما جرى بينه وبين قومه من المجادلة وإلزامه إياهم الحجة حتى أفحمهم بها. قال الفراء: (وذلك أنهم قالوا له: أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟ فقال لهم: [أفلا] (¬4) تخافون أنتم ذلك منها إذ سويتم بين الصغير والكبير أن يغضب الكبير إذا سويتم به الصغير؟ ثم قال لهم: أمن يعبد إلهًا واحداً أحق أن يأمن أمّن يعبد آلهة شتّى؟ فقالوا: من يعبد إلهًا واحداً. فقضوا على أنفسهم، فذلك. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وهو قول مشهور عن عامة السلف، قال ابن أبي حاتم 4/ 1333: (روي عن أبي بكر الصديق وعمر وسلمان وحذيفة وأبي بن كعب وابن عمر وعمرو ابن شرحبيل وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد والنخعي وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي أنهم قالوا: (الظلم هاهنا الشرك) اهـ. وأخرجه الطبري 7/ 257/ 258 من طرق عن هؤلاء وغيرهم، ورجحه الطبري. وانظر: "الفتاوى" لشيخ الإسلام 7/ 97 - 82، و"بدائع التفسير" 2/ 153 - 157، و"البحر" 4/ 171. (¬2) لعل المراد الأمن من الخلود في النار. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 259، والرازي 13/ 60، والخازن 2/ 154. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 37، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 73. (¬4) في (ش): (ألا).

84

قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}) قال ابن عباس: (يريد: ألهمناها إبراهيم [وأرشدناه] (¬1) إليها) (¬2). وقوله تعالى {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قال الحسين بن الفضل: (يعني: مراتبهم بالعلم والفهم والفضيلة والعقل) (¬3). 84 - قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} قال عطاء عن ابن عباس (¬4): (يريد: من ذرية إبراهيم). وقال الفراء (¬5) وغيره (¬6): (الهاء في {ذُرِّيَّتِهِ} لنوح). قال الزجاج: (كلا القولين جائز؛ لأن ذكرهما جميعًا قد جرى) (¬7). قال العلماء بالنسب: (الأولى (¬8) أن تعود الكناية إلى نوح؛ لأنه ذكر في جملة من عُدّ من (¬9) هذه الذرية يونس ولوط، ولا شك أنهما لم يكونا ¬

_ (¬1) في (ش): (وأرشده). (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 37، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 75. (¬3) لم أقف عليه. وما ذكره هو اختيار البغوي في "تفسيره" 3/ 164، والقرطبي 7/ 30، وانظر: "زاد المسير" 3/ 78، و"تفسير الرازي" 13/ 62. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1336 بسند جيد، وذكره القرطبي 7/ 30، وأبو حيان في "البحر" 4/ 173، والسيوطي في "الدر" 3/ 52، وهو في "تنوير المقباس" 2/ 38، وقول عطاء كما في "الوسيط" 1/ 75، و"زاد المسير" 3/ 79 وذكره السمرقندي 1/ 499، عن الضحاك. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 342. (¬6) وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 573، والكلبي، كما ذكره السمرقندي 1/ 499، وذكره ابن الجوزي 3/ 79 (عن أبي صالح عن ابن عباس). (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 269. (¬8) في (أ): (الألى)، وهو تحريف. (¬9) في (ش): (في هذه). ويونس ولوط عليهما السلام ذكرا في الآية 86 من سورة الأنعام.

من ذرية إبراهيم) (¬1). 86 - وقوله تعالي: {وَالْيَسَعَ} وقرأ حمزة (¬2) والكسائي (والليسع) بتشديد اللام، والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف، واللام الواحدة أشهر في اسمه. قال الزجاج: (يقال فيه: اليسع والليسع بتشديد اللام وتخفيفه) (¬3). قال الفراء (¬4): (والتشديد أشبه بأسماء العجم من الذين يقولون: اليسع ولا تكاد العرب تُدخل الألف واللام فيما لا يجري مثل: يزيد ويعمر، فإن أدخلت أدخلت للمدح بتفخيم الاسم على طريق النادر، وأنشد: وَجَدْنَا الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدًا بأعباء الخِلافِة كاهِله) (¬5) ¬

_ (¬1) هذا اختيار الجمهور ومنهم الطبري 7/ 260، والبغوي 3/ 165، وابن عطية 5/ 269، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 173: (عود الضمير إلى نوح لأنه أقرب مذكور ظاهر لا إشكال فيه، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل عليه لوط فإنه ليس من ذرية إبراهيم، اللهم إلا أن يقال: إنه داخل في الذرية تغليبًا) ا. هـ. ملخصًا، وانظر: ابن الجوزي 3/ 79، والرازي 13/ 64، والخازن 2/ 155. (¬2) قرأ حمزة والكسائي (والليسع) بلامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة مشددة وسكون الياء، وقرأ الباقون بلام واحدة ساكنة وفتح الياء. انظر: "السبعة" ص 262، و"المبسوط" ص 171، و"التذكرة" 2/ 404، و"التيسير" ص 104، و"النشر" 2/ 260. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 269. (¬4) "معانى الفراء" 1/ 342. (¬5) البيت لابن ميادة الرماح بن أبرد، وقد سبق الكلام عليه.

قال أبو علي: (الأسماء الأعلام لا تدخل (¬1) عليها الألف واللام، وذلك أن تعليقها على من تُعلق عليه وتخصيصها يغني عن الألف واللام، فإنهما يدخلان للتعريف ولا حاجة إلى التعريف هاهنا، فأما العباس والحارث (¬2) والقاسم والحسن فإنما دخلت الألف واللام فيها على تقدير أنها صفات جارية على موصوفين، فإن لم يقدر (¬3) هذا التقدير لم يلحقوه الألف واللام، وقالوا: حارث وعباس وقاسم على المذهبين، جاء [ذلك] (¬4) في كلامهم، وقد جمع الأعشى الأمرين في بيت واحد فقال (¬5): أَتَانِي وَعِيدُ الحُوصِ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ ... فَيَا عَبْدَ عَمْرٍو لَوْ نَهَيْتَ الأَحَاوِصَا فجمع الأحوص على ضربين، حيث جعله نعتًا جمعه على فُعْل نحو: أحمرِ وحمرٍ، وحيمث جعله [اسما] (¬6) محضا جمعه على أفاعَل نحو: ¬

_ (¬1) في النسخ: (يدخل) بالياء والأولى، بالتاء كما في "الحجة" 3/ 338. (¬2) في (ش): (الحرث والقسم). (¬3) في (ش): (تقدر). (¬4) لفظ: (ذلك) ساقط من (أ). (¬5) "ديوانه" ص 99، و"إصلاح المنطق" ص 401، و"الاشتقاق" ص 296، و"تهذيب اللغة" 1/ 705، و"المبهج" ص 65، و"الصحاح" 3/ 1034، و"المخصص" 1/ 102، و"اللسان" 2/ 1051 (حوص)، والحوص: هم قوم علقمة بن علاثة بن الأحوص، والأحاوص: أولاده. وعبد عمرو بن الأحوص: زعيمهم. انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" 2/ 313. والشاهد: جمع الأحوص على الحوص بالنظر إلى كونه في الأصل وصفًا، وعلى الأحاوص بالنظر إلى الاسمية. (¬6) لفظ: (اسما) ساقط من (أ).

الأفاكل (¬1) والأرامل (¬2)، وكذلك في الحارث والعباس الوجهان جميعا, فأما قول ابن مقبل (¬3): والتَّيمُ أَلأَمُ مَنْ يَمْشي وأَلأَمُهُمْ ... ذُهْلُ بنُ تَيْمٍ بَنُو السُّودِ المَدانِيسِ (¬4) فإنه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمنزلة العباس، وذلك أن التيم مصدر، والمصادر قد أجريت مجرى أسماء الفاعلين، ألا ترى أنه قد وصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين نحو قولهم: رجل عدل، بمنزلة عادل، وجمع جمعها نحو: نور ونوار، وكما يقولون: مانع ومَنَّاع، وقالوا ¬

_ (¬1) الأفاكِل: أولاد أفكل أبو بطن من العرب، والأفْكَل عمرو بن جُعَيد الدَّيل سيد ربيعة في الجاهلية، ولَقَب للشاعر الجاهلي الأفوه الأوْدِيِّ لِرعْدة كانت فيه. انظر: "الاشتقاق" ص 325، و"اللسان" 6/ 3453 (فكل). (¬2) الأرامل: المساكين. انظر: "اللسان" 3/ 1735 (رمل). وجاء في (ش): (الأزامل). (¬3) تميم بن أُبَيِّ بن مُقْبل العجلاني، شاعر جاهلي مخضرم، أدرك الإسلام فأسلم وعُمِّر طويلاً، يتميز شعره بالمفردات الغريبة والأوصاف الجاهلية، وتوفي سنة 25هـ, وله نحو 120 سنة. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 143، و"الشعر والشعراء" ص 297، و"الإصابة" 1/ 187، و"الأعلام" 2/ 87، و"معجم شعراء لسان العرب" ص 341. (¬4) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص 252، و"كتاب الشعر" 1/ 38، و"المخصص" 16/ 102، و"اللسان" 5/ 2590 (ضغبس)، والمدانيس جمع مدناس، وهو كثير الدنس أي الوسخ في الثوب والعِرض. والشاهد: والتيم، وابن تيم: فألحق مرة ولم يلحق أخرى، وفي "الديوان" (أوْلاد ذُهْلٍ بَنُو السود)، وعليه فلا شاهدًا فيه. ونسبته إلى ابن مقبل لعلها سبقة نظر في النقل من "الحجة" للفارسي 3/ 341 حيث ذكر فيها شاهد لابن مقبل ثم آخر لجرير فذكر الواحدي وابن مقبل ثم انتقل نظره إلى بيت جرير. والله أعلم.

أيضًا: سيل وسوائل، كما يقال في جمع سائلة، فلما كان مثلها أجراه مجراها، وعلى هذا قالوا: الفضل في اسم رجل، كأنهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص. والآخر: أن يكون تيمي وتيم كزنجي وزنج ويهوديّ ويهودٍ، وفي التنزيل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} [البقرة: 113] فاليهود إنما هو جع يهودي ولو لم يكن جمعًا لم تدخل (¬1) اللام؛ لأن يهود جرت عندهم اسمًا للقبيلة، وعلى هذا ينشد (¬2): فَرَّتْ يَهُودُ وأسْلَمَتْ جيِرانَها ... صَمِّي لِمَا فَعَلتْ يَهُودُ صَمَامِ وفي حديث القسامة (¬3): "تقسم (¬4) يهود" (¬5). ¬

_ (¬1) في (ش): (يدخل). (¬2) الشاهد: للأسود بن يعفر النهشلي شاعر جاهلي. في "ديوانه" ص 61، و"مجالس ثعلب" ص 521، و"كتاب الشعر" 1/ 4، و"العسكريات" ص 144، و"المستقصى" للزمخشري 2/ 144، و"اللسان" 4/ 2502 (صمم)، وصمى: زيدي، وصمام: اسم للداهية الشديدة، وهو مثل يضرب للداهية تقع فتستفظع. انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 475، و"مجمع الأمثال" 1/ 498. (¬3) القسامة: مصدر أقْسَمَ بمعنى حَلَف، وهي الأيمان المكررة في دعوى القتل. انظر: "المغني" لابن قدامة 12/ 188. (¬4) في (ش): (يقسم) بالياء. (¬5) حديث القسامة متفق عليه، أخرجه البخاري (6898)، كتاب الديات، باب: القسامة، ومسلم (1669 - 1670)، بألفاظ مختلفة، وملخص الحديث: (أن عبد الله بن سهل الأنصاري وجد مقتولًا في خيبر فاتهموا اليهود في قتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: لا. قال: "فتحلف لكم يهود" قالوا: ليسوا بمسلمين، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فعقله من عند). والشاهد في الحديث والبيت: لفظ: يهود، حيث لم يصرف على أنه علم للقبيلة، وانظر: شرح الحديث في "شرح مسلم" للنووي 11/ 143، و"فتح الباري" 12/ 231.

ومن الصفات الغالبة التي تجرى مجرى (¬1) الحارث والقاسم قولهم: النابغة، فالنابغة وصف جرى مجرى الأعلام وغلب هذا الوصف حتى جرى مجرى العلم وسدّ مسدّه فصار يعرف به كما يعرف بالعلم مثل الحَارث ونحوه، قد نزل منزلة الاسم العلم لما غلب هذا الوصف على المسمى به فجرى الوصف الغالب مجرى العلم، ولما سدّ مسدّه وكفى منه أجري مجراه في طرح الألف واللام منه كما قال: ونابِغةُ الجَعْدِيِّ بالرَّمْلِ بَيتُهُ (¬2) فأما لام اليسع فهي زائدة) (¬3) -وقد ذكرنا زيادة هذه اللام في الذي والتي وبابهما- وفي الآن عند قوله تعالى: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} (¬4) [البقرة: 71]، ومما جاءت اللام فيه زائدة قولهم: اللات والعزّى، وسنذكر (¬5) ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله. وقولهم: الخَمْسَةَ العَشَرَ درهمًا، ¬

_ (¬1) في (أ) تكرار لفظ: (مجرى). (¬2) الشاهد لِمسْكِين الدارمي، شاعر أموي، في "ديوانه" ص 49، و"الكتاب" 3/ 244، و"المقتضب" 3/ 373، و"كتاب الشعر" 2/ 532، و"التكملة" ص 255، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 360، و"اللسان" 7/ 4834 (وسط)، وعجزه: عليه صَفِيحٌ مِنْ رُخامٍ مرصَّع. والشاهد: ونابغة؛ حيث حذف أل؛ لأنها كانت للمح الأصل، وهو الوصف بالنبوغ، فلما نظر إلى الأصل نزل منزلة الأعلام وغلبت عليه الاسمية فلم تدخل عليه أل. (¬3) "الحجة" للفارسي 3/ 337 - 345 بتصرف واختصار. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 368، و"إعراب القراءات" 1/ 163، و"الحجة" لابن خالويه ص 144، ولابن زنجلة ص 259، و"الكشف" 1/ 438. (¬4) (لفظ قالوا): ساقط من (أ). (¬5) ورد ذلك في سورة النجم آية 19، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال الواحدي في "البسيط": (اللام فيهما زائدة , وهو قول الأخفش وابن جني) اهـ.

حكاه الأخفش (¬1)، ألا ترى أنها اسم واحد، ولا يجوز أن يتعرف اسم واحد تعريفين، وإذا كان كذلك علمت زيادة اللام في الخمسة العشر درهما، ومما جاءت اللام فيه زائدة أيضًا ما أنشده الفراء (¬2): وجدنا الوليد بن اليزيد وقد ذكرناه آنفًا، فأما (الليسع) فإنه ليسع أدخلت عليه الألف واللام وهما فيه كهما في اليسَع، ألا ترى أنه لم يجيء في الأسماء الأعجمية في حال التعريف نحو: إسماعيل (¬3) وإبراهيم شيء على هذا النحو، وإذا كان كذلك كان الليسع بمنزلة اليسع في أنه خارج عما كانت عليه الأسماء الأعجمية المعربة (¬4). وقوله تعالى: {وَلُوطًا} قال ابن عباس: (وهو ابن أخيه) (¬5) يعني: ابن أخي إبراهيم صيره في هذا الموضوع ابنه. وقوله تعالى: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} يعني: وكل الأنبياء، على هذا دل كلام ابن عباس فقال: (يريد: المرسلين) (¬6)، وقيل: وكلًّا من ¬

_ (¬1) حكاه الفارسي في "الحجة" 3/ 348، ولم أقف عليه في "معانيه". وجزم الفارسي في "الحلبيات" ص 289 - 290، بزيادة اللام في (اللات والعزى)؛ لأنهما علم، وكذلك اللام في الخمسة العشر درهما؛ لأنهما اسمان جعلا اسما واحداً، وانظر: "الأصول" 2/ 312، و"التكملة" ص 262، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 365. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 342. (¬3) في (ش): نحو (إبراهيم وإسماعيل). (¬4) ما تقدم قول الفارسي في "الحجة" 3/ 348 - 450. (¬5) ذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 31، وأبو حيان في "البحر" 4/ 173. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 38، وفيه قال: (كل هؤلاء الأنبياء فضلنا بالنبوة والإسلام) ا. هـ.

87

المذكورين هاهنا فضَّلنا على عالمي زمانهم (¬1). 87 - قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}، قال أبو إسحاق: (أي: هدينا هؤلاء الذين ذكرناهم وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) (¬2)، فمن هاهنا للتبعيض (¬3)، وأعاد ذكر الهداية في (¬4) قوله: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ} بعد ما عطف على الهداية في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ}؛ لأنه إذا طال الكلام حسن أن يذكر المعنى الذي عليه الاعتماد (¬5). 88 - قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} قال ابن عباس: (يريد: ذلك دين الله الذي هم عليه، {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يريد: يرشد إليه من يشاء، {مِنْ عِبَادِهِ} يريد: من أوليائه، {وَلَوْ أَشْرَكُوا} يريد: ولو (¬6) عبدوا غيري، {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولكني عصمتك وعصمتهم، واخترتك واخترتهم (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 165، وابن الجوزي 3/ 80. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 269. (¬3) هذا قول الجمهور، وهو الظاهر؛ لأن آباء بعضهم كانوا مشركين. وهو قول البغوي في "تفسيره" 3/ 165، وابن عطية 5/ 273، وابن الجوزي 3/ 80، والقرطبي 7/ 34، وانظر: "الفريد" 2/ 186، و"الدر المصون" 5/ 30. (¬4) في (أ): (وأعاد ذكر الهداية وقوله ...). (¬5) قال السمين في "الدر" 5/ 30: (كرر لفظ الهداية توكيدًا ولأن الهداية أصل كل خير ..). (¬6) (الواو): ساقط من (أ). (¬7) في (أ): (واخترهم)، وهو تحريف. (¬8) في "تنوير المقباس" 2/ 39 نحوه، وذكر الواحدي في "الوسيط" 1/ 77, وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 80, عن ابن عباس نحوه.

89

89 - قوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قال ابن عباس: (يعني: الكتب التي أنزلها الله عليهم التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى وكتبًا أنزلها الله تعالى كثيرة، وهو أعلم بها. وقوله تعالى: {وَالْحُكْمَ} قال: يعني: العلم والفقه) (¬1)، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أي: بآياتنا؛ قاله الفراء (¬2) والزجاج (¬3). {هَؤُلَاءِ} يعني: أهل مكة، في قول ابن عباس (¬4) وغيره (¬5)، وقال عطاء عنه: (يريد: الذي كذّبوك) (¬6). {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} قال عبد العزيز بن يحيى: (يعني: أرصدنا لها قوماً وفقناهم لها، وفي هذا دليل على أنهم خلقوا للإيمان بها مخصوصين دون من كفروا فهم آمنوا بتوفيق الله؛ لأنه قال: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} ولم يقل: ¬

_ (¬1) ذكر في "تنوير المقباس" 2/ 39 نحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 166، و"زاد المسير" 3/ 81. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 342. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 270. ولم يصرح بأن المراد الآيات، ولكن يظهر من كلامه ذلك فقد قال: (أي: قد وكلنا بالإيمان بها). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 264، وابن أبي حاتم 4/ 1339 بسند جد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 312. (¬5) منهم مقاتل في "تفسيره" 1/ 574، الفراء في "معانيه" 1/ 342. وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 264، عن قتادة والضحاك وابن جريج. وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1339 عن سعيد بن المسيب. وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 455 عن مجاهد. واقتصر على هذا القول السمرقندي في "تفسيره" 1/ 499، والبغوي 3/ 166. (¬6) لم أقف عليه.

فقد قام بها، فأضاف ذلك إلى نفسه لا إليهم) (¬1)، واختلفوا في المعنى بقوله: (قومًا) فقال ابن عباس (¬2) والضحاك والسدي وابن جريج (¬3) والكلبي (¬4): (يعني: أهل المدينة الأنصار)، وهو اختيار الفراء (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: ({وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا}: اختصصنا بها المهاجرين والأنصار (¬6). [وقال الحسن (¬7) وقتادة (¬8): (هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم)] (¬9)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق قال: (يعني بذلك: الأنبياء الذي ذكروا، آمنوا بما أتى به النبي في وقت مبعثهم؛ لقوله تعالى بعد هذه الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] أي: اصبر كما صبروا، فإن قومهم قد كذبوهم فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا فاقتدِ بهم) (¬10). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وذكر نحوه الرازي 13/ 68 بلا نسبة. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1339 بسند جيد. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 264 من طرق جيدة عن ابن عباس والسدي وابن جريج، وبسند ضعيف عن الضحاك. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 52. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 39. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 342. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 81، والقرطبي 7/ 35 بدون نسبة. (¬7) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 140، وابن عطية 5/ 274، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1339 عن الحسن قال: (الأنبياء والصالحون). (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 213، والطبري 7/ 265، وابن أبي هاشم 4/ 1339 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 52. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬10) "معاني الزجاج" 2/ 270، وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" 7/ 266, والنحاس في "معانيه" 2/ 456.

وقال أبو رجاء: (يعني الملائكة) (¬1)، وهذا كالمستبعد؛ لأن اسم القوم قل ما يقع على غير بني آدم (¬2). وقال مجاهد: (هم الفرس) (¬3). وقال الزهري: (هم العجم) (¬4)، وقال أبو روق: (هم علماء أهل الكتاب الذين آمنوا) (¬5)، وقال ابن زيد: (كل من لم يكفر فهو منهم ملكًا كان أو نبيًّا، ومن الصحابة كان أو من التابعين) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 265، وابن أبي حاتم 4/ 1339 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 52. (¬2) ونحو هذا قال الرازي 13/ 68، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 158: (هذا قول ضعيف جدًّا لا يدل عليه السياق وتأباه لفظه (قوما)، إذ الغالب في القرآن بل المطرد تخصيص القوم ببني آدم دون الملائكة) اهـ وانظر: "اللسان" 12/ 505 (قوم). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ذكره الرازي 13/ 68، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 219 قال: (النبيين والصالحين)، وحكى البغوي في "تفسيره" 3/ 166 عن مجاهد قال: (يعني: الأنصار وأهل المدينة)، وذكره ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 161 عن ابن عباس ومجاهد، وقال الإمام أحمد كما في مروياته في "التفسير" 2/ 120: (هم أهل المدينة) اهـ. (¬6) ذكره الرازي 13/ 68، والخازن 2/ 156، والظاهر أن الآية عامة فيمن كفر ومن آمن إلى يوم القيامة، ويحمل ما ورد على التمثيل، وأول من يدخل كفار مكة ومن آمن من المهاجرين والأنصار، وهو اختيار ابن عطية 5/ 274، وابن كثير 2/ 174، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 158 - 162: (الإشارة بقوله: (هؤلاء) إلى من كفر به من قومه أصلاً ومن عداهم تبعاً، فيدخل فيها كل من كفر بما جاء به من هذه الأمة، والقوم الموكلون بها هم الأنبياء أصلاً، والمؤمنون بهم تبعًا فيدخل كل من قام بحفظها والذب عنها والدعوة إليها, ولا ريب أن هذا للأنبياء أصلًا وللمؤمنين بهم تبعًا، وأحق من دخل فيها من أتباع الرسول خلفاؤه في أمته وورثته، فهم الموكلون بها وهذا ينتظم في الأقوال التي قيلت في الآية) اهـ.

90

قال أهل المعاني: (هذه الآية تتضمن البيان عن أن الله تعالى سيحوط نبيه عليه السلام وينصر دينه بهؤلاء المؤمنين الذين أرصدهم للإيمان به حتى يستعلي على كل من عاداه وناوأه، ولا يضرّه كفر هؤلاء، وفيه تقريظ للمؤمنين وتقريع لهؤلاء الكافرين) (¬1). 90 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الآية، هذه الآية متصلة بالأولى على قول الحسن وقتادة والزجاج؛ لأنه في ذكر النبيين الذين تقدم ذكرهم إذ هم الموكلون بآيات الله، وعلى قول الباقين رجع إلى ذكر النبيين (¬2)، وفي قوله {هَدَى اللَّهُ} دليل على أنهم مخصوصون بالهدى؛ لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فائدة وتخصيص (¬3). وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، قال الكلبي: (فبشرائعهم وبسنتهم اعمل) (¬4)، وذكرنا قول أبي إسحاق (¬5) في هذا، ومعنى الاقتداء في (¬6) اللغة: طلب موافقة الثاني للأول في فعله. قال الليث: (القدو (¬7) أصل البناء الذي [ينشعب] (¬8) منه تصريف ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 69، والخازن 2/ 156. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 266. (¬3) ذكره الرازي 13/ 70 عن الواحدي. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 78، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 81. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 270. (¬6) انظر: "الجمهرة" 2/ 677، و"الصحاح" 6/ 2459، و"مجمل اللغة" 3/ 746 , و"مقاييس اللغة" 5/ 66، و"اللسان" 6/ 3556 (قدا). (¬7) القدو: بفح القاف، وسكون الدال وبعدها واو. (¬8) في (ش): (يتشعب).

الاقتداء ويقال: قِدوة (¬1) وقُدوة لما يُقتدى (¬2) به) (¬3)، اللحياني عن الكسائي (¬4): (يقال: لي بك قُدْوة وقِدْوة وقِدَة) (¬5). واختلف القراء (¬6) في الهاء من قوله: (اقتده)، فالأكثرون أثبتوها في الوصل والوقف ساكنة، والوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل؛ لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت (¬7) الهمزة في الصلة فكذلك ينبغي أن لا تثبت (¬8) الهاء، إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا (¬9) ¬

_ (¬1) قدوة: بكسر القاف وضمها، وسكون الدال. (¬2) في (ش): (ولما يقتدى به)، وهو تحريف. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2893 (قدا). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2893. (¬5) جاء في (ش): (يقال: لي بك قدوة وقدوة وقدوة)، وهو تحريف والصواب: قدوة، بكسر القاف وضمها، وقدة: بكسر القاف وفتح الدال بعدها هاء، كما ورد في المراجع السابقة. (¬6) قرأ حمزة والكسائي: (اقتد قل) بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر: (اقتده قل) بكسر الدال ويشم الهاء الكسر في الوصل من غير بلوغ ياء، وروي عنه: (اقتدهي قل) بياء بعد الهاء في الوصل. وقرأ الباقون: (اقتده) بهاء ساكنة في الوصل والوقف. ولا خلاف بينهم أنه بهاء ساكنة في الوقف. انظر: "السبعة" ص 262، و"المبسوط" ص 171، و"الغاية" ص 245، و"التذكرة" 2/ 404، و"التيسير" ص 105. (¬7) في (ش): (لا يثبت)، بالياء. (¬8) في (ش): (لا يثبت)، بالياء. (¬9) نقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 13/ 71، وهذا القول فيه نظر؛ لأن القراءة سبعية مأخوذة بالرواية، وقد ذكر هذا القول عن الواحدي القاسمي في "تفسيره" 6/ 619، وذكر عن الخفاجي أنه قال: (إن هذا مما لا ينبغي ذكره؛ لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليد للخط، فمن قاله فقد وهم) اهـ.

موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا. والاختيار عند النحويين (¬1) الوقف على قوله (اقتده) لتمام الكلام هاهنا ولكون (¬2) الهاء ثابتة للاستراحة؛ لأنك إن أدرجت بالهاء (¬3) خالفت القياس المستمر في حذف حرف الاستراحة، وإن أسقطت الهاء في الإدراج خالفت خط المصحف، وأما حمزة والكسائي فإنهما يقفان بالهاء ويصلان بغير هاء. قال أبو علي: (وقول حمزة والكسائي القياس، وفي ترك قول الأكثر ضرب من الاستيحاش وإن كان الصواب والقياس ما قرأ) (¬4). وقرأ ابن عامر (اقتدِه) بكسر الدال وبشمِّ الهاء الكسر من غير بلوغ ياء، قال أبو بكر بن مجاهد (¬5): (وهذا غلط لأن هذه الهاء هاء وقفٍ لا تعرب في حال من الأحوال وإنما تدخل لتتبين (¬6) بها حركة ما قبلها) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 281، و"معاني الزجاج" 2/ 270، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 564. (¬2) في (أ)، (ش): (وليكون) والصواب: ولكون. (¬3) في (ش): (أدرجت، الهاء). (¬4) "الحجة" لأبي علي 3/ 352. (¬5) أبو بكر بن مجاهد: أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي، تقدمت ترجمته. (¬6) في (ش): (يدخل لتبيين). وانظر: "البغداديات" ص 152. (¬7) "السبعة" ص 262، ونحوه قال النحاس في "إعرابه" 1/ 564، وابن خالويه في "إعراب القراءات" 1/ 164، وفي "الحجة" لابن خالويه ص 145 قال: (وهذا قول ضعيف مردود؛ لأنها قراءة سبعية)، قال أبو حيان في "البحر" 4/ 176: (تغليط ابن مجاهد غلط) اهـ، وانظر: "الدر المصون" 5/ 32.

قال أبو علي: (ليس بغلط، ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق (¬1) للوقف، وحَسُن إضمار المصدر لذكر الفعل الدال عليه كما أضمر في قوله تعالى: ({ولا تحسبن (¬2) الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم} [آل عمران: 180] وعلى هذا قول الشاعر (¬3): هذا سُرَاقَةُ لِلقُرْآنِ يَدْرُسُهُ ... والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَها ذِئبُ فالهاء كناية عن المصدر، ودل يدرسه على الدرس، ولا يجوز أن يكون ضمير القرآن؛ لأن الفعل قد تعدى إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه وإلى ضميره، كما أنك إذا قلت: أزيدًا ضربته، لم تنصب (¬4) زيدًا بضربت لتعديه إلى الضمير، فإذا لم يجز ذلك علمت أنه للمصدر، فكذلك قراءة ابن عامر: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} يكون اقتد الاقتداء، فتضمر (¬5) الاقتداء لدلالة الفعل عليه، وقياسه إذا وقف أن يُسكن الهاء؛ لأن هاء الضمير تسكن في الوقف كما تقول: اشتره) (¬6). ¬

_ (¬1) في (ش): (يلحق)، وانظر: "كتاب الشعر" 2/ 501. (¬2) قراءة المصحف بالياء، وهي قراءة الجمهور، وقرأ حمزة بالتاء. انظر: "السبعة" ص 219، و"الحجة" لأبي علي 3/ 100. (¬3) لم أقف على قائله، وهو في "الكتاب" 3/ 67، و"الأصول" 2/ 193، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 91، و"المقرب" 1/ 115، و"رصف المباني" ص 320، 382، و"اللسان" 4/ 1999 (سرق)، و"الدر المصون" 5/ 32، والرشا بضم الراء وكسرها جمع رشوة، وهو يصف مقرئًا بقبول الرشوة والحرص عليها كحرص الذئب على فريسته. والشاهد: يدرسه: حيث جاءت الهاء مفعولًا مطلقًا ترجع إلى المصدر المدلول عليه بالفعل وهو مضمون الدرس، أي: يدرس الدرس. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 587. (¬4) في (ش): (ينصب). (¬5) في (ش): (فيضمر). (¬6) "الحجة" 2/ 375، 3/ 352 - 353، وانظر: "الحجة" لابن زنجلة ص 260،=

وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} قال ابن عباس: (يريد: مالاً تعطونيه) (¬1)، وقال [الكلبي] (¬2): (جعلًا على القرآن ولا رزقًا) (¬3)، {إِنْ هُوَ} يعني: القرآن {إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: (يريد: موعظة للخلق أجمعين) (¬4) فالقرآن هو المذكر بكل ما يحتاج إليه العباد في دينهم من حجة بيّنة وموعظة بليغة (¬5). قال أهل المعاني: (قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} مما أمر به من هدى النبيين والاقتداء بهم في ذلك، وذلك أن من الاقتداء بالنبيين ترك طلب الأجر من الناس على دعائهم إلى الله عز وجل وتبيين طريق الحق لمن التمسه، فكأنه يقول: فبهدى الأنبياء حيث لم يسألوا أجرًا اقتد و {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (¬6). كما قالوا) (¬7). ¬

_ = و"الكشف" 1/ 438، وقال الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 370، في توجيه قراءة ابن عامر: (جعلها اسمًا ولم يجعلها هاء السكت؛ لأنها لو كانت عنده هاء السكت ما جرها، والمعنى: فبهداهم اقتد اقتداء، وهو مذهب حسن في اللغة) اهـ. (¬1) لم أقف عليه. وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1340 بسند ضعيف عنه قال: (يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضا من عرض الدنيا) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 53. (¬2) لفظ: (الكلبي) ساقط من (أ). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 40. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 79، وفي "تنوير المقباس" 2/ 40 نحوه. (¬5) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 72، والخازن 2/ 157، والقاسمي 6/ 619. (¬6) جاء في (ش): تكرار قوله (اقتد وقيل لا أسألكم عليه أجرًا). (¬7) انظر: الرازي 13/ 72، والخازن 2/ 157.

91

وقال أهل العلم: (وهذه الآية تدل على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشريعة الأنبياء الماضين (¬1) واحد (¬2) حيث أمر بالاقتداء بهم، وكل شيء ثبت عن نبي من الأنبياء ما لم ينسخ فعلينا الأخذ به). 91 - قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قال ابن عباس: (يقول: ما عظموا الله حق تعظيمه) (¬3). وهو قول الحسن (¬4) والفراء (¬5) والزجاج (¬6)، وروي عن ابن عباس [أيضًا (ما آمنوا أن الله على كل شيء قدير) (¬7). ¬

_ (¬1) أي في التوحيد، أما أعمال الشرائع فمختلفة، انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 276، والرازي 13/ 71 - 72، والقرطبي 7/ 35 - 36، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "الفتاوى" 19/ 7: (وشرع من قبلنا إنما هو شرع لنا فيما ثبت أنه شرع لهم دون ما رووه لنا) اهـ. (¬2) الأولى: واحدة لأنها خبر عن الشريعة فتوافقها في التأنيث. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 40، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 79، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 83، والرازي في "تفسيره" 13/ 72، والخازن 2/ 157، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 7/ 266، والجوهري في "الصحاح" 2/ 786، وابن كثير 2/ 174. وقال ابن فارس في "مقاييس اللغة" 5/ 63، في الآية: (قال المفسرون: ما عظموا الله حق عظمته، وهذا صحيح، وتلخيصه أنهم لم يصفوه بصفته التي تنبغي له تعالى) اهـ. وانظر: "مجمل اللغة" 3/ 745 (قدر). (¬4) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 141، وابن الجوزي 3/ 83، والقرطبي 7/ 37. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 343. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 271. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 268، وابن أبي حاتم 4/ 1341 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 53.

وقال أبو العالية (¬1)]: (ما وصفوه حق صفته) (¬2)، وهو قول الليث (¬3) من أهل اللغة، وقال الأخفش (¬4) وأبو عبيدة (¬5): (ما عرفوه حق معرفته) ويقال: قدر (¬6) الشيء: إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقداره، يقدره بالضم، قَدْرًا، ومنه قوله عليه السلام: " إن غمّ عليكم فاقدروا له" (¬7)، أي: فاطلبوا أن تعرفوه، هذا أصله في اللغة، ثم (¬8) يقال لكل من عرف شيئًا: هو يقدر قدره، ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته وما هو منعوت به، فقوله {مَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 79، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 83، والرازي 13/ 72، والخازن 2/ 157. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2897، وانظر: "العين" 5/ 113. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 72، والخازن 2/ 157، ولم أقف عليه في "معانيه". (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 200، وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص 139، وذكر هذا القول النحاس في "معانيه" 2/ 456 - 457، وقال: (هذا قول حسن؛ لأن معنى قدرت الشيء وقدرته: عرفت مقداره، ويدل عليه قوله جل وعلا: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]، أي: لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يُرسل رسولاً، وقيل: المعنى: وما عظموا الله حق عظمته، ومن هذا لفلان قَدرٌ، والمعنيان متقاربان) اهـ. (¬6) قدر الشيء: بفتح القاف والدال يَقْدِرُه، قَدْرًا، انظر: "الجمهرة" 2/ 635، و"اللسان" 6/ 3547 (قدر). (¬7) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري (1906)، كتاب الصوم، باب قول النبي: "إذا رأيتم الهلال" ومسلم (1080) كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فَاقْدِرُوا له"). وانظر: "شرح مسلم" للنووي 7/ 266، و"فتح الباري" 4/ 120. (¬8) لفظ: (ثم) ساقط من (ش).

قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} صحيح في المعاني التي ذكرنا (¬1). وقوله تعالى. {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس: (كان مالك بن الضيف (¬2) رأس اليهود، وكان سمنًا، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنشدك باللهِ الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر (¬3) السمين؟ "، قال: نعم. قال: "فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مأكلتك التي [يطعمك] (¬4) اليهود"، فضحك القوم فغضب مالك، وقال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}) (¬5)، وهذا قول ¬

_ (¬1) نقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 13/ 72، وذكر مثل قول الواحدي الخازن في "تفسيره" 2/ 157، وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 279: (هو من توفية القدر والمنزلة فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك، غير أن تعليله بقولهم: (ما أنزل الله) يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل) اهـ. وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 168، و"الفتاوى" 13/ 160 - 164، و"بدائع التفسير" 2/ 162. (¬2) مالك بن الضَّيْف: يهودي خاصم النبي عليه السلام، ويقال فيه: ابن الصيف بالصاد المهملة، وهما روايتان فيه، ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" 2/ 174. (¬3) حديث: "إن الله يبغض الحبر السمين" تكلم فيه أهل العلم، قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 125: (ما علمته في المرفوع). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيعلي 1/ 443، و"الكافي الشاف" ص 62، و"تمييز الطيب من الخبيث" ص 82، و"الفتح السماوي" 2/ 611، و"كشف الخفاء" 1/ 289. (¬4) في (أ): (تطعمك). (¬5) ذكره ابن الجوزي 3/ 82، والرازي 13/ 74، وأبو حيان في "البحر" 4/ 176، وذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 271، والنحاس 2/ 457، والسمرقندي 1/ 500، و"غرائب الكرماني" 1/ 370، وابن عطية 5/ 280، وفي "تنوير المقباس" 2/ 40: قال: (نزلت الآية في مالك بن الصيف) اهـ.

الحسن (¬1) وسعيد (¬2) بن جبير وعكرمة (¬3) وأكثر أهل التفسير (¬4)، وروي عن ابن عباس: (أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتابًا؟ قال: "نعم". قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابًا، فأنزل الله هذه الآية) (¬5). وقوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} قال المفسرون (¬6): (أي: تكتبونه في قراطيس مقطّعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام). (تبدونها) يعني: القراطيس (¬7) {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} قال ابن عباس: (يريد: تظهرون بعض ما فيها، {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}: مما لا تهوون) (¬8)، قرأ ¬

_ (¬1) ذكر هود الهواري 1/ 542، والقرطبي 7/ 37 عن الحسن قال: (نزلت في اليهود). (¬2) أخرجه الطبري 7/ 267، وابن أبي حاتم 4/ 1342 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 540، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 222 - 223، والرواية فيها الحديث السابق، فهو ضعيف ومرسل. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 267 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 54. (¬4) ومنهم مقاتل في "تفسيره" 1/ 574، وانظر: "الرازي" 13/ 74، والخازن 2/ 158. (¬5) أخرجه الطبري 7/ 268، وابن أبي حاتم 4/ 1342 بسند جيد، وأخرج الطبري من طرق جيدة عن محمد بن كعب وقتادة والسدي أنها نزلت في اليهود، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 54، وهو قول الزجاج 2/ 271. وقال ابن كثير 2/ 174: (قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش، واختاره الطبري، وهو الأصح؛ لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمَّد (لأنه من البشر) اهـ. (¬6) انظر: الطبري 7/ 269، وأخرج نحوه عن مجاهد وعكرمة. (¬7) انظر: الطبري 7/ 269، والسمرقندي 1/ 500، والبغوي 3/ 167، وابن الجوزي 3/ 84. (¬8) في "تنوير المقباس" 2/ 40 نحوه.

أبو عمرو وابن كثير: (يجعلونه) بالياء (¬1) وكذلك: يبدون، (ويخفون) (¬2)؛ لأنهم غيب، يدل على ذلك قوله (¬3): {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا}، {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ}، (يجعلونه)، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب أي: قل لهم {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ}. قال أبو علي: (ومعنى {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}: تجعلونه ذوات (¬4) قراطيس أي: تودعونه إياها. وقوله تعالى: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} يحتمل موضعه ضربين: أحدهما. أن يكون صفة للقراطيس؛ لأن النكرة توصف بالجمل (¬5) والآخر: أن تجعله حالاً من ضمير الكتاب من قوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} على أن تجعل الكتاب: القراطيس في المعنى؛ لأنه مكتتب فيها (¬6)، ومن ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (يجعلون قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا) بالياء في الأفعال الثلاثة على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء في الثلاثة على الخطاب. انظر: "السبعة" ص 262، و"المبسوط" ص 172، و"التذكرة" 2/ 404، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 260. (¬2) في (ش): (تجعلونه، وتبدون، وتخفون) بالتاء. وفي (أ): (يبدون) والأولى (يبدونها). (¬3) لفظ: (قوله) ساقط من (ش). (¬4) فيكون على حذف مضاف، وقال النحاس في "إعرابه" 1/ 565: (تجعلونه في قراطيس) اهـ، وعليه يكون منصوب بنزع الخافض، وهو قول مكي في "المشكل" 1/ 260، وابن الأنباري في "البيان" 1/ 331، وانظر: "التبيان" 1/ 346، و"الفريد" 2/ 188، و"الدر المصون" 5/ 35. (¬5) وهذا قول العكبري في "التبيان" 1/ 346، وقال مكي في "المشكل" 1/ 260: (تبدونها) نعت للقراطيس، وقوله: (وتخفون) مبتدأ لا موضع له من الإعراب. اهـ، وانظر: "الدر المصون" 5/ 36 (¬6) قال السمين في "الدر" 5/ 36: (وقد جوز الواحدي في: "تبدون"، أن يكون =

قرأ بالتاء فحجته قوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الأنعام: 91] فجاء علي الخطاب فكذلك يكون ما قبله) (¬1). وقال الفراء في هذه الآية: ([يقول]: (¬2) تبدون (¬3) ما تحبون وتكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم) (¬4). وقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} الأكثرون (¬5) علي أن هذا خطاب لليهود، يقول: {وَعُلِّمْتُمْ} على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}، وقال الحسن في هذا: (جعل لهم علم ما جاء به محمد عليه السلام فضيّعوه ولم ينتفعوا به) (¬6). وقال مجاهد: (هذا خطاب للمسلمين [يذكرهم النعمة] (¬7) فيما علمهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬8). ¬

_ = حالاً من ضمير الكتاب من قوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى؛ لأنه مكتتب فيها. انتهى. وقوله: على أن تجعل اعتذارًا عن مجيء ضميره مؤنثًا، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع) اهـ. (¬1) "الحجة" لأبي علي 3/ 355 - 356، وانظر: في "توجيه القراءة"، و"معاني القراءات" 1/ 370 - 371، و"إعراب القراءات" 1/ 164، و"الحجة" لابن خالويه ص 145، و"الحجة" لابن زنجلة ص260 - 261، و"الكشف" 1/ 440. (¬2) لفظ: (يقول) ساقط من (أ). (¬3) جاء في (أ): (يبدون ما يحبون ويكتمون ....) بالياء بدل التاء. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 343، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 271. (¬5) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 167، وابن الجوزي 3/ 84. وهو اختار الزمخشري في "الكشاف" 1/ 35، وأبو حيان في "البحر" 4/ 178. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 80، والبغوي في "تفسيره" 3/ 167. (¬7) في (ش): (يذكرهم بالنعمة). (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 80، والبغوي في "تفسيره" 3/ 167، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 270، وابن أبي حاتم 5/ 282 بسند جيد عنه قال: (هذه =

وقوله: {قُلِ اللَّهُ}، قال الفراء: (هذا جواب لقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} {قُلِ اللَّهُ} أي: الله أنزله) (¬1). قال أبو بكر: (فلما وضح معنى الإنزال لم يذكر إفراد الاسم، ألا ترى أن الرجل يقول للرجل: إذا قيل لك: من قام؟ فقل: زيد، تريد (¬2) فقل: زيد قام) (¬3). قال الفراء (¬4): (وإن شئت قلت: قل هو الله .. (¬5))، قال أبو بكر: (فأضمر هو في هذا الموضع كما أضمر في قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وفي قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} [النساء: 81]) (¬6). وقال أهل المعاني: (هذا من حسن تعليم السؤال والجواب). ¬

_ = للمسلمين"، وفي "الدر المنثور" 3/ 54 عن مجاهد قال: ((وعلمتم) معشر العرب {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}) (¬1) "معاني الفراء" 1/ 343. (¬2) في (ش): (يريد)، بالياء. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 343. (¬5) في (أ): (قل هو الله أحد)، ولعل زيادة (أحد) وهم من الناسخ. (¬6) لم أقف عليه. وأكثرهم على أن المعنى: قل الله أنزله، قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 10/ 559: (المعنى: قل الله أنزل الكتاب، وهو كلام تام وجملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر لدلالة السؤال على الجواب، وهو قياس مطرد كثير في كلام العرب) ا. هـ. ملخصًا. ونحوه قال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 163 - 166، وقال: (هذا معنى الآية الذي لا تحتمل غيره) اهـ، وقال ابن كثير 2/ 175: (قال ابن عباس: أي: قل الله أنزله، وورد هو المتعين، لا ما قاله بعضهم من أن المعنى لا يكون خطابك لهم إلا كلمة: الله، وهذا أمر بكلمة مفردة من غير تركيب، وهو في لغة العرب لا يفيد فائدة يحسن السكوت عليها) ا. هـ. بتصرف، وانظر: الطبري 7/ 270، والسمرقندي 1/ 500، وابن الجوزي 3/ 84، و"الدر المصون" 5/ 36.

92

وقوله تعالى: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {يَلْعَبُونَ} حال تقديره: لاعبين (¬1)، يريد: عاملين ما لا يجدي عليهم، والعرب تقول لمن كان في عمل لا يجدي عليه: إنما أنت لاعب (¬2)، وحقيقة هذا الكلام التهدد (¬3). قال المفسرون: وقوله: {ذَرْهُمْ} منسوخ بآية السيف (¬4). 92 - وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} المبارك: الذي بورك فيه، ومعنى البركة: الكثرة في كل خير (¬5)، الأزهري (¬6): (وأصل البركة الزيادة والنماء وثبوت الخير (¬7) على الازدياد والنماء)، قال أهل اللغة (¬8): وأصله الثبوت، قال اللحياني (¬9): (يقال: بَارَكت على التجارة وغيرها، ¬

_ (¬1) انظر: "المشكل" 1/ 260، و"البيان" 1/ 331، و"التبيان" 1/ 347، و"الفريد" 2/ 189، و"الدر المصون" 5/ 36. (¬2) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 271. (¬3) انظر: الطبري 7/ 271. (¬4) هذا قول ابن حزم في "ناسخه" ص 37، وابن سلامة ص 68، وابن العربي 2/ 212، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 178: (ظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخًا بآيات القتال، وإن جعل تهديدًا أو وعيدًا خاليًا من الموادعة فلا نسخ) اهـ. والظاهر عدم النسخ وأنها تهديد، وهو قول الجمهور. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 321، و"الإيضاح" لمكي ص 244، وابن عطية 5/ 283، و"النواسخ" لابن الجوزي ص 327، و"المصفى" ص 32، والرازي 13/ 78، والقرطبي 7/ 38، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 1/ 483. (¬5) انظر: "العين" 5/ 368، و"الجمهرة" 1/ 325، و"الصحاح" 4/ 1574، و"المجمل" 1/ 121، و"مقاييس اللغة" 1/ 227، و"المفردات" ص 119، و"اللسان" 1/ 266 (برك). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 319. (¬7) في (ش): (وثبوت الحكم). (¬8) انظر: "الزاهر" 1/ 53. (¬9) "تهذيب اللغة" 1/ 319.

أي: داومت وواظبت)، ومنه قول الشاعر (¬1): ولا يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إلَّا ... بَرَاكاءُ القِتالِ (¬2) أوِ الفِرَارُ أي: الثبوت في القتال، ومنه {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف: 54] أي: ثبت مما به استحق التعظيم فيما لم يزل ولا يزال. قال الكلبي: ({وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فيه مغفرة لذنوبهم، وتوبة من أعمالهم) (¬3)، قال أهل المعاني: (معنى قوله (كتاب) (مبارك) أي: كثير خيره، دائم منفعته، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية إلى ما لا يعد من بركاته) (¬4)، و (مبارك): خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة والتقدير: (¬5) ¬

_ (¬1) الشاهد لبشر بن أبي خازم الأسدي، شاعر جاهلي في "ديوانه" ص 69، و"المفضليات" ص 345، و"الاشتقاق" ص 247، وجميع كتب اللغة السابقة في (برك) سوى "المفردات"، الغمرات: بالفتح: الشدائد، والبراكاء: بفتح الباء وضمها: من البروك، وهو الثبات في العرب. (¬2) في (أ): (للقتال)، وهو تحريف. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 81، وفي "تنوير المقباس" 2/ 41 نحوه. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 306، و"الوسيط" للواحدي 1/ 81، والرازي 13/ 80. (¬5) هذا قول الثعلبي 181 أ، وقال الكرماني في "غرائبه" 1/ 371، وابن عاشور في "التحرير" 7/ 369: (هو خبر بعد خبر) اهـ. والجمهور على أنه صفة لكتاب، وقال السمين في "الدر" 5/ 38: (ما ذكره الواحدي لا يتمشى إلا على أن يكون خبرًا ثانيا، لهذا وهو بعيد جدًا، وإذا سُلم ذلك فيكون: (أنزلناه) عنده اعتراضًا على ظاهر عبارته، ولكن لا يحتاج إلى ذلك بل يجعل (أنزلناه) صفة لكتاب، ولا محذور حينئذ على هذا التقدير، وبالجملة فالوجه كونه صفة أو خبرًا لمبتدأ مضمر) ا. هـ. بتصرف. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 282، و"إعراب النحاس" 2/ 82, و"كتاب الشعر" 2/ 505، و"الإيضاح العضدي" 1/ 287، وابن عطية 5/ 283، و"التبيان" 1/ 347 و"الفريد" 2/ 190.

و (¬1) هذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]. وقوله تعالى: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال ابن عباس: (يريد: جميع الكتب) (¬2). وقال الكلبي: (موافق لما بين يديه من التوراة والإنجيل وسائر الكتب) (¬3) ونحوه قال الحسن (¬4) [وغيره] (¬5). وقوله تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} هو عطف (¬6) على معنى الكلام (¬7) قال أبو إسحاق: (المعنى: أنزلناه للبركة والإنذار، قال: ومعنى {أُمَّ الْقُرَى}: أهل أم القرى) (¬8)، فعلى هذا هو من باب حذف المضاف، قال ابن عباس وغيره: (يريد: مكة) (¬9). ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو): ساقط من (ش). (¬2) أخرج الطبري 7/ 271، وابن أبي حاتم 4/ 1344، و"تحقيق الغماري" بسند ضعيف عنه قال: (مصدق لما قبله من الكتب التي أنزلها الله والآيات والرسل الذين بعثهم الله بالآيات). (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 41. (¬4) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 142. (¬5) في (ش): (وغيرهم)، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 271 هذا القول عن قتادة والربيع بن أنس، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1344، و"تحقيق الغماري"، عن أبي العالية، ورجحه ابن عطية في "تفسيره" 5/ 284. (¬6) في (ش): (هو معطوف). (¬7) انظر: "الدر المصون" 5/ 38 - 39. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 271، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 457. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 271، وابن أبي حاتم 4/ 1345 بسند جيد، وقال الرازي في "تفسيره" 13/ 81: (اتفقوا على أن هاهنا محذوفًا، والتقدير: ولتنذر أهل أم القرى؛ واتفقوا على أن أم القرى هي مكة) اهـ.

قال الزجاج: (وسميت أم القرى؛ لأنها قبلة جميع الناس يؤمونها، قال: وجائز أن تكون سميت أم القرى؛ لأنها كانت أعظم القرى شأنًا) (¬1). وقال المفسرون: (سميت مكة أم القرى؛ لأن الأرض كلها دُحيت من تحتها، فهي أصل للأرض كلها) (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} قال ابن عباس: (يريد: جميع الآفاق) (¬3)، وقال الكلبي: (سائر الأرضين) (¬4). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قال الفراء: (الهاء تكون لمحمد وللتنزيل) (¬5)، فإن قيل: كثير ممن يؤمن بالآخرة لا يؤمن بمحمد ولا بالقرآن، فلم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ}؟ قيل: ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 271، ولم يذكر إلا الوجه الثاني فقط، والوجه الأول نسبه إلى الزجاج، ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 85. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 213، والطبري 7/ 272 بسند جيد عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1345 عن عطاء وعمرو بن دينار، وذكره ابن الجوزي 3/ 85، عن ابن عباس، وهو قول مقاتل 1/ 575، والثعلبي 181/ أ، والبغوي 3/ 168، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند جيد عن السدي قال: (أم القرى مكة سميت؛ لأن أول بيت وضع بها) اهـ. وذكره ابن أبي حاتم عن جماعة من السلف، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 179: (سميت بذلك؛ لأنها منشأ الدين، ولدحو الأرض منها , ولأنها وسط الأرض، ولكونها قبلة وموضع الحج، ومكان أول بيت وضع للناس) اهـ. انظر: الطبري 7/ 272، و"معاني النحاس" 2/ 457، والسمرقندي 1/ 501، والماوردي 2/ 142، و"الكشاف" 2/ 35، وابن عطية 5/ 284. (¬3) أخرجه الطبري 7/ 271، وابن أبي حاتم 4/ 1345 بسند جيد، وهذا المعنى متفق عليه. انظر: السمرقندي 1/ 501، وابن عطية 5/ 284، والرازي 13/ 81. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 42. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 344.

ذهب بعضهم إلى أن هذا مما أُريد به الخصوص بدليل قوله: {وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92] وهذا من صفة المؤمنين، وقال بعض أهل المعاني: (لم يعتد بإيمان أولئك الذين آمنوا بالآخرة ولم يؤمنوا بمحمد, وإنما يؤمن بالآخرة حقيقة من آمن بمحمد وبكتابه، فلذلك وصف المؤمنين بالآخرة بأنهم يؤمنون بمحمد والقرآن، ألا ترى أنه قال: {وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فبيّن أن إيمانهم بالآخرة يدعوهم إلى الإيمان به والمحافظة على صلاتهم) (¬1)، وعامة القراء (¬2) قرؤوا (ولتنذر) بالتاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [الرعد:7]. وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء جعل الكتاب هو المنذر؛ لأن فيه إنذارًا، ألا ترى أنه قال: {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52] أي: بالكتاب، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ} [الأنعام: 51]، وقال: {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45] فلا يمتنع أن يسند الإنذار إليه على الاتساع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 272، والسمرقندي 1/ 501، وابن الجوزي 3/ 85، والرازي 13/ 83. (¬2) قرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش (ولينذر) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: "السبعة" ص 263، و"المبسوط" ص 172، و"التذكرة" 2/ 404، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 260، ووقع في "التيسير" نسبة القراءة بالياء إلى أبي عمرو، ولعله تحريف أو وهم. (¬3) ما سبق قول أبي علي في "الحجة" 3/ 356، وانظر: "إعراب القراءات" 1/ 164, و"الحجة" لابن خالويه ص 145، و"الحجة" لابن زنجلة ص 261 , و"الكشف" 1/ 440.

93

93 - قوله (¬1) تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الآية معنى ألفاظ هذه الحروف، وهذا الاستفهام ذكرناه في رأس العشرين من هذه السورة. قال ابن عباس، والمفسرون: (نزلت في مسيلمة (¬2) والأسود العنسي (¬3) ادعيا النبوة) (¬4). وقوله تعالى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} قال أبو بكر بن الأنباري: (خص بعد أن عمّ؛ لأنه ليس كل من يكذب على الله يدعي أن الله عز وجل أوحى إليه وحيًا، قال: ويجوز أن يكون الأمران من صفة مدعي النبوة وصفه الله عز وجل بأمرٍ بعد أمرٍ ليدل على لعنته وجرأته على الله) (¬5). ¬

_ (¬1) جاء في (أ): تكرار لفظ (قوله). (¬2) مسيلمة بن حبيب الحنفي، أبو ثمامة الكذاب، مشعوذ جبار متنبئ معمر، قتله وحشي رضي الله عنه في موقعة اليمامة سنة 12 هـ. انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 74، و"جوامع السيرة" ص 259، 340، و"التعريف" للسهيلي ص 56، و"الأعلام" 7/ 226. (¬3) الأسود بن كعب بن عوف العَنْسي، يعرف بعيهلة، مشعوذ متنبئ جبار، من أهل اليمن أسلم ثم ارتد وادعى النبوة، وقتله فيروز الفارسي قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، انظر: "جوامع السيرة" ص 10، 339، و"التعريف والإعلام" ص 55 - 56، و"الأعلام" 5/ 111. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 43، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 458، والقرطبي 7/ 39، وأخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 13، وابن أبي حاتم 4/ 1346 بسند جيد عن قتادة، وأخرجه الطبري 7/ 272، عن قتادة وعكرمة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 56، عن ابن جريج، وهو قول أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" 1/ 344، والزجاج 2/ 271، والسمرقندي 1/ 501, والثعلبي 181 أ، و"غرائب الكرماني" 1/ 371. (¬5) ذكره ابن الجوزي 3/ 86.

وقوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (من): عطف على (من) في قوله: {مِمَّنِ} (¬1) قال ابن عباس: (يريد: المستهزئين) (¬2)، وهو قول الزجاج قال: (هذا جواب لقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]) (¬3). وقال عامة أهل التفسير (¬4): (نزلت في ابن أبي سرح (¬5) , وكان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأملَى عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ} [المؤمنون: 12] إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]، فقال ابن أبي سرح: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} تعجبًا من تفضيل خلق الإنسان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هكذا أنزلت" فشك وارتد، وقال: لئن ¬

_ (¬1) انظر: "التبيان" 1/ 348، و"الدر المصون" 5/ 40. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 82، والبغوي 3/ 169، وابن الجوزي 3/ 86، ورجح السهيلي في "التعريف" ص 56 أنها نزلت في النضر بن الحارث من المستهزئين. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 272. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 273، فقد أخرجه عن عكرمة والسدي، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 45 - 46، عن شرحيل بن سعد المدني، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 56: (عن موسى بن خلف البصري وابن جريج). (¬5) عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أبو يحيى القرشي، إمام فاضل فارس صحابي جليل أخو عثمان بن عفان رضي الله عنه من الرضاع، أسلم قبل فتح مكة، وهاجر، وكتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ارتد، ثم أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشارك في الفتوح، وتوفي سنة 36 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 496، و"الجرح والتعديل" 5/ 63، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 296، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 33، و"الإصابة" 2/ 316، و"الأعلام" 4/ 88.

كان محمد صادقًا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان (¬1) كاذبًا لقد قلت كما قال) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} يعني: الذين ذكرهم (¬3) {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}: جمع غَمْرَةٍ (¬4)، وهي شدة الموت وما يغشى الإنسان من همومه وسكراته، وغَمْرة كل شيء: كثرته ومعظمه، ومنه غَمَرة الماء وغَمَرة الحرب، ويقال: غَمَرَه الشيءُ: إذا علاه وغطاه. قال الزجاج: (يقال: لكل من كان في شيء كثير قد غَمَره ذلك، وغَمره الدَّينُ: إذا كثر عليه) (¬5)، هذا هو الأصل، ثم يقال للشدائد والمكاره: الغمرات، وجواب (لو) محذوف وقد مضت هذه المسألة في هذه السورة (¬6) بأبلغ بيان. ¬

_ (¬1) جاء في (ش): تكرار (كان). (¬2) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 223، والقرطبي 7/ 40 من رواية الكلبي عن ابن عباس، وذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "معاني الفراء" 1/ 344، والثعلبي 181 أ، والبغوي 3/ 169، والرازي 13/ 84، والظاهر أن الآية عامة يدخل تحتها كل ما ذكر قاله ابن عطية 5/ 286، وانظر: "الفتاوى" 4/ 86، 12/ 25، 15/ 156، و"الكافي الشاف" ص 60. (¬3) انظر: "زاد المسير" 3/ 87 (¬4) انظر: "العين" 4/ 416، و"الجمهرة" 2/ 781، و"البارع" ص 317، و"تهذيب اللغة" 3/ 2693، و"الصحاح" 2/ 772، و"مقاييس اللغة" 4/ 392، و"المفردات" ص 614، و"اللسان" 6/ 3294 (غمر). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 272. (¬6) قال الزجاج في "معانيه" 2/ 272: (الجواب محذوف، أي: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت لرأيت عذابًا عظيمًا) اهـ. وانظر "الدر المصون" 5/ 41.

وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قال ابن عباس: (يريد: ملائكة العذاب {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} بمقامع من الحديد) (¬1) , وقال الحسن (¬2) والضحاك: ({بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} بالعذاب). قال الضحاك: ({بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}: يضربونهم ويعذبونهم، كما يقال: بسط إليه يده بالمكروه) (¬3)، وقال مجاهد: ({بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} بالضرب يضربون وجوههم وأدبارهم) (¬4)، قال الفراء: (ويقال: {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} لإخراج أنفس الكفار) (¬5). وقوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} قال الفراء والزجاج: (أي: يقولون: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}) (¬6)، قال الفراء: (وإذا طرحت من مثل هذا الكلام أن ففيه القول مضمر) (¬7)، وذكر أبو إسحاق في معنى: {أَخْرِجُوا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 275، وابن أبي حاتم 4/ 1348 بسند جيد عن ابن عباس، قال: (البسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 85. (¬2) ذكره الماوردي في "تفسيره" 1/ 545، وابن الجوزي 3/ 87، وأبو حيان في "البحر" 4/ 181. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 275، وابن أبي حاتم 4/ 1348 بسند ضعيف عن الضحاك نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 85. (¬4) لم أقف عليه عن مجاهد. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 345، وقال ابن عطية 5/ 288 في تفسير الآية: ({بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} كناية عن مدها بالمكروه، وهو لا محالة أوائل العذاب وأماراته. وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة) ا. هـ. بتصرف (¬6) لا يوجد هذا التقدير عن الفراء في "معانيه"، ولعله مفهوم من كلامه، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 282. (¬7) "معاني الفراء" 1/ 345.

أَنْفُسَكُمُ} وجهين: أحدهما، قال: (جائز أن يكون كما تقول للذي تعذبه: لأزهقن نفسك ولأخرجن نفسك، فهم يقولون: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} على هذا المعنى) (¬1)، ومعنى هذا الكلام أن قول القائل إذا أراد تعذيب إنسان [يقول] (¬2): لأخرجن نفسك، معناه: لأذيقنك العذاب، ولأعذبنك أشد العذاب، كذلك قول الملائكة لهم {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} معناه: ذوقوا العذاب، وليس المراد من هذا أمرهم بإخراج أنفسهم؛ لأن أرواحهم ليسوا [هم] (¬3) مخرجيها حتى يؤمروا بإخراجها، وإنما [مخرجها] (¬4) ملك الموت وأعوانه، وقال بعض أهل المعاني: (هذا تغليظ لحالهم أي: أنهم بمنزلة من تولى إزهاق نفسه إكراهًا له، وهو أغلظ عليه، فلذلك يؤمرون بإخراج أنفسهم) (¬5). وأما أهل التفسير فإنهم يقولون في هذا: (إن نفس المؤمن [تنشط] (¬6) في الخروج للقاء ربه، ونفس الكافر [تكره] (¬7) ذلك، ويشق عليها الخروج؛ لأنها [تصير] (¬8) إلى أشد العذاب (¬9) كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 272. (¬2) لفظ: (يقول) ساقط من (ش). (¬3) لفظ: (هم) ساقط من (أ). (¬4) في (ش): (مخرجيها). (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 144، وابن الجوزي 3/ 87 - 88، والرازي 13/ 85. (¬6) في (ش): (ينشط) بالياء. (¬7) في (ش): (يكره) بالياء. (¬8) في (ش): (يصير) بالياء. (¬9) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 501، والبغوي 3/ 169.

لقاءه" (¬1)، وذلك يكون عند نزع الروح، وقد بُيّن ذلك في هذا الخبر، فهؤلاء الكفار [تُكرههم] (¬2) الملائكة على نزع الروح ويقولون لهم: أخرجوا أنفسكم كرهًا). والوجه الثاني الذي ذكره أبو إسحاق قال: (وجائز أن يكون المعنى: خلصوا أنفسكم، أي: لستم تقدرون على الخلاص) (¬3)، ومعنى هذا الكلام أنهم يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من العذاب على جهة التوبيخ، وهذا قول الحسن (¬4)، وجائز أن يكون هذا القول منهم للكفار في نار جهنم، وقد (¬5) غشيتهم شدائد هي كغمرات الموت، والملائكة يقولون لهم على جهة التوبيخ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} من هذا العذاب (¬6)، وجواب (لو) هنا مضمر، أي: لرأيت عجبًا أو لرأيت أمرًا فظيعًا (¬7). ¬

_ (¬1) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في "صحيحه" (6507)، ومسلم (6508)، (2683 - 2686)، البخاري في كتاب الرقاق، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، كلاهما في باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، من عدة طرق عن عبادة بن الصامت وعائشة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" اهـ. (¬2) في (أ): (يكرههم) بالياء. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 272. (¬4) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 545، والماوردي 2/ 145، وابن الجوزي 3/ 87. (¬5) في (أ): تكرار لفظ (قد). (¬6) هذا قول الحسن البصري كما ذكرنا في المصادر السابقة، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 288. (¬7) أعاد المؤلف رحمه الله تعالى ذكره مرة أخرى فقد سبق بيانه في ص 333، وقال =

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، الْهُونِ (¬1): هَوَان الشيء الحقير الهين، قال الله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل: 59] وقال ذو الإصبع (¬2): أَذْهبْ إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ ... تَرْعَى المَخَاضَ وَلاَ أُغْضِي عَلَى الهُونِ (¬3) وقالت الخنساء: تُهينُ (¬4) النُّفُوسَ وَهوْنُ النُّفُوسِ ... يَوْمَ الكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا (¬5) ¬

_ = ابن عطية في "تفسيره" 6/ 109: (جواب لو محذوف تقديره: لرأيت عجبًا أو هولًا، ونحو هذا، وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه؛ لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله) اهـ. وانظر: "كتاب الشعر" 2/ 391. (¬1) الهون: بضم الهاء. انظر: "العين" 4/ 92، و"الجمهرة" 2/ 996، و"البارع" ص 127، و"الصحاح" 6/ 2218، و"المقاييس" 6/ 21، و"المجمل" 3/ 895، و"المفردات" ص 848 (هون). (¬2) ذو الإصْبَع: حُرْثان بن الحارث بن محرث العَدْواني، شاعر جاهلي حكيم شجاع له وقائع مشهورة، لقب بذي الإصبع؛ لأن حية نهشت إصبع رجله فقطعها، وهو معمر ترك ثروة شعرية كبيرة فيها العظة والحكم والفخر. انظر: "الشعر والشعراء" ص 473، و"الإكمال" لابن ماكولا 1/ 96، و"نزهة الألباب" 1/ 278 , و"الأعلام" 2/ 173، و"معجم الشعراء في لسان العرب" ص 143. (¬3) البيت في "تفسير الطبري" 7/ 277، والماوردي 2/ 145، وابن عطية 5/ 288، و"اللسان" 8/ 4725 (هون)، و"الدر المصون" 5/ 43. والمخاض: النوق الحوامل، وأصله الطلق عند الولادة. انظر "اللسان" 7/ 4153 (مخض). (¬4) في النسخ: (تهيّن). وفي "الديوان" بالنون وفي بعض المراجع بالياء. (¬5) "ديوانها" ص 84، و"تهذيب اللغة" 4/ 3699، و"اللسان" 8/ 4725 (هون)، و"الدر المصون" 5/ 43، وهو في الطبري 7/ 277، لعامر بن جوين الطائي، =

تريد: وإهانة النفوس، قال الزجاج: ({عَذَابَ الْهُونِ} أي: العذاب الذي يقع به الهوان الشديد) (¬1)، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: الهوان والخزي) (¬2)، وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} قال: (يريد: تزعمون أن الملائكة بناته: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} يريد: عن فرائضه والسجود له لا تصلون (¬3)، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برئ من الكبر" (¬4). ¬

_ = والمشهور أنه للخنساء. والكريهة الحرب. وأبقى لها، أي: في الذكر وجميل القول. انظر "شرح ديوان الخنساء" لثعلب ص 46. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 272، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 200 واليزيدي في "غريب القرآن" ص 139، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 168، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 565: ({عَذَابَ الْهُونِ} أي: الهوان)، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 277. (¬2) في "مسائل نافع بن الأزرق" ص 131، قال: (الهوان) وفي "تنوير المقباس" 2/ 43، قال (الشديد)، وفي "الدر المنثور" 3/ 59، عن ابن عباس قال: (الهوان الدائم الشديد) اهـ. (¬3) لم أقف عليه، وقال البغوي في تفسير الآية 3/ 169: (أي: تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه) اهـ، وقال الرازي في "تفسيره" 13/ 86: (ذكر الواحدي أن المراد لا تصلون له، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برئ من الكبر") اهـ. (¬4) ذكر الحديث صاحب "كنز العمال" 7/ 308 (19017)، وعزاه للديلمي من حديث ابن عباس، ولم أقف عليه في المطبوع من "مسند الديلمي"، وقد ورد نحوه من قول جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "التواضع" (217)، (227)، (231) من طرق جيدة عن يحيى بن أبي جعدة المخزومي, قال: (من وضع وجهه لله عز وجل ساجدًا فقد برئ من الكبر) اهـ، وعن الحسن البصري قال: (السُّجُود يَذْهب بالكبر) اهـ. وعن يونس بن عبيد العبدي قال: (لا كبر مع السجود) اهـ وأخرج أبو نعيم في "الحلية" 5/ 61 عن حبيب بن =

94

94 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} الآية. قال أهل المعاني: (هذا يكون على وجهين أحدهما: أنه على الحكاية أن يقال لهم في الآخرة هذا كما دلت الآية الأولى على الحكاية، والثاني: أن المعنى على الاستقبال كأنه: تجيئوننا فرادى إلا أنه جاء على لفظ الماضي؛ لأنه بمنزلة ما قد كان لتحقيق الخبر به) (¬1). وأما {فُرَادَى} (¬2) فقال الفراء: ({فُرَادَى} جمع، قال: والعرب تقول: قوم فرادى، وفراديا هذا، فلا يجرونها (¬3) شبهت بثُلاث ورباع قال: وفرادى: واحدها فَرْد وفريد وفرد وفردان) (¬4). ¬

_ = أبي ثابت الأسدي قال: (من وضع جبينه لله تعالى فقد برئ من الكبر). وقد ورد في فضل السجود أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم (488) عن ثوبان رضي الله عنه قال: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الأعمال إلى الله، وعمل يدخلني الله به الجنة فقال: "عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة") اهـ. انظر: "مسند أحمد" 5/ 147، 148، 276، 280، 283، والدارمى (1502) كتاب الصلاة، باب: فضل من سجد لله سجدة، وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في كثرة السجود (1422 - 1424). (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 277، والماوردي 2/ 145، وابن عطية 5/ 290، وابن الجوزي 3/ 88، والرازي 13/ 86، وابن كثير 2/ 186. (¬2) انظر: "العين" 8/ 24، و"الجمهرة" 2/ 634 - 635، و"الصحاح" 2/ 518، و"مقاييس اللغة" 4/ 500، و"المجمل" 3/ 720 (فرد). (¬3) قوله: فلا يجرونها، أي: يصرفونها. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 345، وفيه: (وفرادى واحدها فَرْد وفِرد وفريد، وفراد للجمع، ولا يجوز فرد في هذا المعنى) اهـ , وأشار المحقق في الهامش إلى ورود لفظ فردان في بعض النسخ, كذلك جاء في "تهذيب اللغة" 3/ 2761، و"اللسان" 6/ 3373 (فرد) , عن الفراء لفظ (فردان).

وقال الليث: (الفَرْد: ما كان وحده، يقال: فَرَد يَفْرد، وأفردته: جعلته واحداً، ويقال: جاء القوم فُرادى (¬1)، [وعددت] (¬2) الجوز [والدراهم] (¬3) أفرادًا، أي: واحدًا واحدًا). وقال ابن قتيبة: (فرادى جمع فردان مثل: سكران وسكارى وكسلان وكسالى) (¬4)، وقال غيره: (فرادى جمع فريد مثل رديفٍ ورُدافَى) (¬5) , وذكرنا عن الفراء هذين القولين وزيادة. وأما التفسير فقال ابن عباس: (يريد: بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا شيء قدمتموه) (¬6)، وقال الحسن: (فرادى كل واحدٍ على حدة) (¬7)، وقال ابن كيسان (¬8): (ولقد جئتمونا مفردين مما كنتم تعبدون ومن المظاهرين ¬

_ (¬1) النص في "تهذيب اللغة" 3/ 2761، وفيه (جاء القوم فُرادًا)، بضم الفاء وفتح الراء مع التنوين. وجاء في "اللسان" 6/ 3374، عن الليث أنه قال: (ويقال: جاء القوم فرادًا وفرادى، منونًا وغير منون، أي: واحداً واحداً) اهـ. (¬2) في (ش): (وغدت). (¬3) في (أ): (الدرهم). (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 168، وفيه: (فرادى فَرْد، وكأنه جمع فردان، كما قيل ...) اهـ. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 277 - 278، و"المفردات" ص 629، و"الدر المصون" 5/ 44. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 44، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 84، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 88، وأبو حيان في "البحر" 4/ 182. (¬7) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص 181 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 88، وأبو حيان في "البحر" 4/ 182. (¬8) ابن كيسان محمد بن أحمد بن كيسان، تقدمت ترجمته.

لكم) (¬1)، ونحو ذلك قال أبو إسحاق قال: (كل واحد منفرد عن شريكه في الغي وشقيقه) (¬2). وقوله تعالى: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال ابن عباس: (يريد: حفاة عُرَاة كما خرجتم من بطون أمهاتكم) (¬3)، وذكر الزجاج وجهًا آخر تحتمله اللغة: (كما بدأناكم أول مرة أي: كان بعثكم كخلقكم) (¬4). وقوله تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي: ملكناكم، يقال: خوّله الشيء، أي: مَلَّكه إياه، والخَوَل (¬5) ما أعطى الله الإنسان من العبيد والنعم، قال أبو النجم (¬6): كُومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ (¬7) ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 181 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 84، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 88, وأبو حيان في "البحر" 4/ 82. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 273، وقوله: (وشقيقه) غير واضحة في الأصل وكأنها: وشفيعه. (¬3) لم أقف عليه، وأخرجه البخاري (6524) كتاب الرقاق، باب: كيف الحشر، ومسلم (2860)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنكم ملاقو الله مشاة حُفاة عراة غُرْلًا"، والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ولا يفقد منهم شيء حتى الغرلة، وهي القلفة التي تقطع عند الختان تكون معهم. وانظر: "شرح مسلم" للنووي 17/ 280 - 283، و"فتح الباري" 11/ 377 - 388. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 273، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 566. (¬5) الخول: بفتح الخاء والواو. انظر: "الجمهرة" 1/ 621، و"الصحاح" 4/ 1690, و"المجمل" 2/ 307، و"مقاييس اللغة" 2/ 230، و"المفردات" ص 304. (¬6) أبو النَّجم: الفضْل بن قدامة بن عبيد العِجْلي الكوفي، تقدم. (¬7) "ديوانه" ص 175، وهو من لاميته المشهورة في هشام بن عبد الملك، ومطلعها: الحمدُ للهِ الوْهُوبِ المْجْزِل ... أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَم يُبَخَّل كُومَ الذُّرى منْ خَولِ المخول ... تبَقَّلَتْ مِنْ أَوّلِ التَّبْقُّلِ

قال ابن عباس: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ}: (يريد: من النعيم والمال والعبيد والرباع (¬1) والمواشي) (¬2)، {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} قال ابن عباس: (يريد: شركاء لي) (¬3) و {شُفَعَاءَكُمُ}، قال المفسرون (¬4): (وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام؛ لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده). وقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قال الزجاج (¬5): (الرفع (¬6) أجود، [و] (¬7) معناه: لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز، والمعنى: لقد تقطع ما ¬

_ = انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 478، وكوم جمع كوماء، وهي الناقة عظيمة السنام، والذرى جمع ذروة السنام وأعلى كل شيء، والخول: ما أعطى من النعم، والمخول بتشديد الواو وكسرها: الله سبحانه وتعالى خولهم النعم. والشاهد في: "العين" 4/ 305، والطبري 7/ 278، و"تهذيب اللغة" 1/ 968، و"اللسان" 3/ 1293 (خول). (¬1) الرِّباع: بالكسر جمع الرَّبْع بفتح الراء المشددة وسكون الباء، وهو المنزل، والدار بعينها، والوطن، والموضع يرتعون فيه في الربيع. انظر: "اللسان" 3/ 1563، و"القاموس" ص 718 (ربع). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 84. (¬3) في "تنوير المقباس" 2/ 44 نحوه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 89. (¬4) أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 279، وابن أبي حاتم 4/ 1350 بسند جيد، عن عكرمة والسدي نحوه، وانظر: السمرقندي 1/ 502. (¬5) في (ش): تكرر (قال الزجاج: الرفع أجود ومعناه تقطع بينكم ...). (¬6) قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية (لقد تقطع بينكم) بنصب النون، وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "السبعة" ص 263، و"المبسوط" ص 172، و"الغاية" ص 245، و"التذكرة" 2/ 405، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 260. (¬7) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).

كنتم فيه من الشركة بينكم) (¬1). قال أبو علي: (هذا الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون اسمًا متصرفًا كالافتراق، والآخر: أن يكون ظرفًا، والمرفوع في قراءة من قرأ {بَيْنَكُمْ} الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسمًا، والدليل على جواز كونه اسمًا قوله تعالى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، و {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، وقال (¬2) مهلهل (¬3): كَأَنَّ رِمَاحَهُمْ أَشْطَانُ بِئْرٍ ... بِعيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ (¬4) فلما استعمل اسمًا في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو (تقطع) في قول من رفع. قال: ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفًا؛ لأنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أن يكون هذا القسم؛ لأن التقدير يصير: لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف القصد والمعنى [المراد] (¬5)، ألا ترى أن المراد: لقد تقطع وصلكم وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 273. (¬2) هذا الشاهد لا يوجد في "الحجة" لأبي علي. (¬3) مُهَلْهِل بن ربيعة التغلبي: أبو ليلى، من نجد شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته. (¬4) ليس في "ديوانه"، وهو في: "مجاز القرآن" 1/ 201، و"الكامل" للمبرد 1/ 376، والطبري 7/ 280، و"الدر المصون" 5/ 53، وبلا نسبة في "مجالس الزجاجي" ص 110، و"أمالي القالي" 2/ 132، و"إعراب القراءات" 1/ 165، و"الحجة" لابن خالويه ص 145، و"المحتسب" 2/ 190، و"اللسان" 1/ 403 (بين)، والأشطان جمع شطن بالتحريك: الحبال الطويلة الشديدة الفتل، والجال: الجانب، والناحية، والجرور: بعيدة القعر. والشاهد: بين ظرف في الأصل، فصيره اسمًا ورفعه. (¬5) لفظ: (المراد) ساقط من (أ).

بمعنى الوصل، وأصله: الافتراق (¬1) والتباين، قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو: بيني وبينه شركة، وبيني وبينه رحم وصداقة صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، لهذا جاء {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بمعنى: لقد تقطع وصلكم، وحكى سيبويه: (هو أحمر بين العينين) (¬2)، وهذا يدل على جواز استعماله اسمًا. فأما من قرأ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالنصب ففيه مذهبان أحدهما: أنه أضمر الفاعل في الفعل، ودل عليه ما تقدم من قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}، ألا ترى أن هذا الكلام فيه دلالة على التقاطع والتهاجر، فكأنه قيل: لقد تقطع وصلكم بينكم. وقد حكى سيبويه أنهم قالوا: (إذا كان غدًا فأتني) (¬3)، [فأضمر ما كانوا فيه من رخاء أو بلاء على معنى: إذا كان الرخاء أو البلاء غدًا فأتني (¬4)]، فأضمر لدلالة الحال عليه، وصار دلالة الحال بمنزلة جَرْي الذكر وتقدمه، والمذهب الآخر من انتصاب البين: شيء يراه أبو الحسن (¬5)، وهو أنه يذهب إلى: (أنه وإن نُصب يكون معناه معنى المرفوع لمّا جرى في كلامهم منصوبًا ظرفًا تركوه على ما يكون عليه في أكثر ¬

_ (¬1) هو من الأضداد، يكون البَيْنُ الفراق ويكون الوصال. انظر: كتاب "الأضداد" لقطرب ص 138، وللأصمعي ص 52، ولابن السكيت ص 204، ولابن الأنباري ص 75، و"شرح القصائد" لابن الأنباري ص 433. (¬2) "الكتاب" 1/ 195. (¬3) "الكتاب" 1/ 224. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬5) أبو الحسن هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البصري الأخفش الأوسط، تقدمت ترجمته.

الكلام، وكذلك يقول في قوله تعالى (¬1): {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] أنه على معنى الرفع، وكذلك يقول في قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] فدون: في موضع رفع عنده) (¬2)، وإن كان منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون (¬3)، ومنا الطالحون؛ فترفع) (¬4)، وذكر ابن الأنباري هذين الوجهين في علة النصب فقال: (التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذفت ما لوضوح معناها، ونصبت بين على طريق المحل والصفة، ومثله قول الشاعر: ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ من نَسَبٍ ... إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ (¬5) أراد: إلا قرابة ما بين الزنج والروم، وقال آخر: يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأُدِيرُهُمْ ... وَجِلْدَةُ بَيْن العَيْنِ وَالأنْفِ سالِمُ (¬6) ¬

_ (¬1) في النسخ: (ويوم)، وهو تحريف. (¬2) انظر: "معاني الأخفش" 1/ 237، و"الحجة" لأبي علي 1/ 250 - 251، 3/ 262، 5/ 429، 6/ 285، و"كتاب الشعر" 1/ 306، و"المحتسب" 2/ 190، وفيها كلام الأخفش وشرحه. (¬3) في (أ): (منا الطالحون ومنا الطالحون)، وهو تحريف. (¬4) "الحجة" لأبي علي 3/ 357 - 361 بتصرف واختصار، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 371، و"إعراب القراءات" 1/ 164، و"الحجة" لابن خالويه ص 145، ولابن زنجلة ص 261، و"الكشف" 1/ 440. (¬5) لم أقف على قائله، وهو في "الدر المصون" 5/ 51. (¬6) البيت لأبي الأسود الدؤلي في "ديوانه" ص 250، و"الدر المصون" 5/ 51، ولزهير في "ديوانه" ص 121، و"شرحه لثعلب" ص 250، وبلا نسبة في "أمالي القالي" 1/ 51، ونسب في "العقد الفريد" 2/ 273، 6/ 137 إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ وقال البغدادي في "الخزانة" 5/ 272 - 273: (هذا خطأ، والصواب أنَّه تمثَّل به لا أنه قاله، والبيت لزهير، وهو ثابت في ديوانه) اهـ.

أراد: وجلدة ما بين العين، قال: وفيه وجه آخر؛ وهو: أن يكون [بين] (¬1) في موضع رفع وإن نصبت في اللفظ؛ لأن أصلها المحل، فنابت عن الفاعل المرفوع، وأُقرت على أصلها من النصب، كما قالت العرب: قد افترق بين عبد الله وزيد، فجعلوا بين نائبه عن الفاعل ومقرةً على أصلها من النصب، وقالوا أيضًا: هذا ثوب بينَ الثوبين، [وبينُ الثوبين] (¬2)، فنصب بعضهم تغليبًا للأصل وهو يحكم عليها بالرفع، وأعطاها آخرون في اللفظ ما تستحقه من جهة المعنى) (¬3). وأجاز الفراء هذا الوجه أيضًا فقال: (إذا جعل الفعل لبين ترك نصبًا كما قالوا: أتاني دونك من الرجال فترك نصبًا وهو في موضع رفع) (¬4). وأما التفسير فقال ابن عباس: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (يريد: وصلكم ومودتكم) (¬5)، وقال مقاتل: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (يعني: ما تواصلتم بينكم) (¬6)، وقال الحسن: (لقد تقطع الأمر بينكم) (¬7)، وقال قتادة: ¬

_ (¬1) لفظ: (بين) ساقط من (ش)، وانظر: "التبيان" 1/ 349، و"الفريد" 2/ 194. (¬2) لفظ: (وبين الثوبين) الثانية ساقط من (ش). (¬3) ذكره الواحدي 1/ 85، وابن الجوزي 3/ 89، والرازي 13/ 87 - 88 مختصرًا. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 345، قال: (هو في موضع رفع لأنه صفة ...)، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 566، و"المشكل" 1/ 262، و"البيان" 1/ 332. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 44، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 85، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 279، وابن أبي حاتم 4/ 1350 بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (يعني: الأرحام والمنازل) ا. هـ، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 60. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 579، وفيه قال: (لقط تقطع بينكم وبين شركائكم، يعني: من الملائكة من المودة والتواصل) ا. هـ. (¬7) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 546، والواحدي في "الوسيط" 1/ 85, والسيوطي في "الدر" 3/ 60.

95

(ما بينكم من الوصل) (¬1). وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، قال ابن عباس: (ذهب عنكم ما كنتم تكذبون في الدنيا) (¬2). 95 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: بالنبات) (¬3)، قال الكلبي: (الحب ما لم يكن له نوى كالبر والشعير، والنوى: ما لم يكن له حب مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما، فلقهما الله بالنبت) (¬4). وقال الحسن (¬5) وقتادة (¬6) والسدي (¬7) وابن زيد (¬8): (فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة). وقال أبو إسحاق: (أي: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 214، والطبري 7/ 279، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 60. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 85، بدون نسبة. وانظر: "تنوير المقباس" 2/ 44. (¬3) لم أقف عليه (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 85، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 90. (¬5) ذكره هود في "تفسيره" 1/ 546، والماوردي 2/ 146، والواحدي في "الوسيط" 1/ 85، والبغوي في "تفسيره" 3/ 170، وابن الجوزي 3/ 90، وذكره شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 17/ 504 عن الحسن أنه قال: (الفلق: كل ما انفلق عن شيء، كالصبح والحب والنوى) ا. هـ. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 214، والطبري 7/ 280، وابن أبي حاتم 4/ 1351 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 61. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 280, وابن أبي حاتم 4/ 1351 بسند جيد. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 280 بسند جيد.

منهما ورقًا أخضر) (¬1)، وقال مجاهد (¬2) وأبو مالك: (يعني: الشقين الذين فيهما) (¬3)، وروي عن ابن عباس (¬4) وهو قول الضحاك ومقاتل: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (أي: خالقهما)، ذهبوا بفالق مذهب فاطر. قال مقاتل: (يعني: خالق الحب البر والشعير والذرة والحبوب كلها، {وَالنَّوَى} يعني: نوى كل ثمرة لها نوى الخوخ والتين والنبق والمشمش والغبيراء (¬5) والإجاص (¬6) وما كان من الثمار لها نوى) (¬7). قال الليث (¬8): (النَّوى: نَوَى التمر وأشباهه من كُلٍّ (¬9)، والواحدة نواة، ونَوَّت البسرة وأَنْوَت: إذا انعقدت نواتها). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 273. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 219 - 220، وأخرجه الطبري 7/ 281، وابن أبي حاتم 4/ 1351 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 61. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 281 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 61. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 281، وابن أبي حاتم 4/ 1351 بسند ضعيف عن ابن عباس والضحاك. (¬5) الغبيراء: بضم الغين، وفتح الباء، وسكون الياء، شجرة معروفة من الفواكه، سميت بذلك للون ورقها وثمرتها. انظر: "اللسان" 6/ 3207 (غير). (¬6) الإجاص: بكسر الهمزة، وفتح الجيم المشدودة، فاكهة معروفة. انظر: "اللسان" 1/ 32، مادة (أجص). (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 579، وانظر: "تفسير الرازي" 13/ 90. (¬8) النص في "العين" 8/ 394، ونقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3683 عن الليث قوله: (نَوَّت البُسرة وأَنْوَت إذا عقدت نواتها) ا. هـ. وانظر: "اللسان" 8/ 4590 مادة (نوى). (¬9) كذا في النسخ (من كُلٍّ) ولعله من أُكلٍ.

وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} قال ابن عباس: (يخرج من النطفة بشرًا حيًّا ثم يخرج النطفة الميتة من الحي) (¬1)، وهو قول الكلبي ومقاتل (¬2)، قال الكلبي: (يخرج النسمة والفروجة (¬3) والفرخ من النطفة والبيضة، ثم يخرج النطفة والبيضة من الحي) (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والعاصي من الطائع) (¬5)، وهو قول الحسن (¬6). وقال السدي: (يخرج النبات عن الحب) (¬7)، وهذا اختيار أبي إسحاق قال: معنى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} يخرج النبات: الغض الطري الخضِر من الحب اليابس، {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [أي] (¬8): ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي) (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره النحاس في "إعرابه" 1/ 566، وأخرج الطبري 7/ 282 بسند جيد عنه قال: (يخرج النطفة الميتة من الحي ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًا) ا. هـ وأخرج ابن أبي حاتم 4/ 1352، بسند ضعيف عنه قال: ({يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} , أي: يخرج النطفة بشراً) ا. هـ قال: (وروي عنه أنه قال: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}، أي: يخرج النطفة الميتة من الرجل الحي) ا. هـ (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 579 - 580. (¬3) الفروجة، والفروج: بفتح الفاء، وقد تضم وهي لغة، وضم الراء المشددة: فرخ الدجاج، انظر: "اللسان" 6/ 3370 مادة (فرج). (¬4) في "تنوير المقباس" 2/ 44 - 45 نحوه. (¬5) ذكره ابن الجوزي 3/ 370 عن ابن عباس والحسن وعطاء، وذكره الرازي 13/ 92 عن ابن عباس، وهو في "الوسيط" 1/ 86، عن عطاء فقط. (¬6) أخرجه الطبري 6/ 306 - 308 من طرق جيدة، وذكره ابن أبي حاتم 4/ 1352 عن الحسن وقتادة. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 282 بسند جيد. (¬8) لفظ: (أي) ساقط من (ش). (¬9) "معاني الزجاج" 2/ 273 , والآية عامة والأقوال متقاربة، قال ابن كثير2/ 177:=

96

وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} قال ابن عباس (¬1): (يريد: الله وحده لا شريك له يفعل هذا فكيف [تكذبون]؟) (¬2). قال الزجاج: (احتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه؛ لأنهم أنكروا البعث، فأعلمهم أنه خلق هذه الأشياء، وأنه قادر على بعثهم، ثم قال: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: فمن أين تصرفون عن الحق بعد هذا البيان) (¬3). 96 - قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} الآية: الفَلْق: مصدر فَلَقْتُ أفْلِق فَلْقًا، ويقال: سمعت ذاك من فَلْق (¬4) فيه، ذكره ابن السكيت (¬5)، وأما {الْإِصْبَاحِ} فقال الليث (¬6): (الصُّبْح والصَّباح هما أول النهار، وهو ¬

_ = (يخبر تعالى أنه {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي: يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها ,ولهذا فسره بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي: يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت، وقوله {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ} معطوف على {فَالِقُ الْحَبِّ}، وقد عبروا عن ذلك بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى وتشملها الآية) ا. هـ بتصرف، وانظر: السمرقندي 1/ 502، وابن عطية 5/ 294. (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 45، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 86، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1353 بسند ضعيف قال: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (أي: كيف تكذبون). (¬2) في (ش): (يكذبون)، بالياء. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 273. (¬4) من فَلْق: بفتح الفاء، وقد تكسر. انظر: "العين" 5/ 164، و"الجمهرة" 2/ 965، و"الصحاح" 4/ 1544، و"المجمل" 3/ 705، و"المفردات" ص 645، و"اللسان" 6/ 3462 مادة (فلق). (¬5) "إصلاح المنطق" ص 19، و"تهذيب اللغة" 3/ 2829، وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" 1/ 85. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1969، وانظر: "العين" 3/ 126، و"الجمهرة" 1/ 279،=

الإصباح أيضًا، قال الله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} يعني: الصبح، وقال: أَفْنَى رِياحًا وذَوِى رِياحِ ... تَناسُخُ الإِمْسَاءِ وَالإِصْبَاحِ (¬1) يريد: المساء والصباح). الفراء مثله في الإصباح (¬2)، وقال الزجاج: (الإصباح والصبح واحد) (¬3). وأما التفسير، فقال كثير من أهل التفسير في قوله {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: (شاقّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده) (¬4)، ولا أدري كيف قالوا هذا؛ فإن الليل يشق عن عمود الصبح لا الصبح عن الليل (¬5). ¬

_ = و"الصحاح" 1/ 379، و"مقاييس اللغة" 3/ 328، و"المجمل" 2/ 548، و"المفردات" ص 473 مادة (صبح). (¬1) لم أعرف قائله. وهو في "تهذيب اللغة" 2/ 1969، و"الكشاف" 2/ 37، والرازي 13/ 98، و"اللسان" 4/ 2388 مادة (صبح)، (البحر) 4/ 185، و"الدر المصون" 5/ 59، والإمساء والإصباح بالكسر مصدر، وبالفتح جمع مُسى وصُبْح، وجاء عند الأزهري (رباحًا، ورباح) بالباء بدل الياء. (¬2) هذه عبارة الأزهري في "التهذيب" 2/ 1969، وقال الفراء في "معانيه"1/ 346: (والإصباح مصدر أصبحنا إصباحًا، والإصباح صُبح كل يوم بمجموع) ا. هـ. ونحوه ذكر الأخفش في "معانيه" 2/ 282. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 274. (¬4) هذا قول الطبري في "تفسيره" 7/ 282، والثعلبي في "الكشف" 181 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 170، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 295، والبيضاوي 1/ 145. (¬5) قال الزمخشري في "الكشاف" 2/ 38: (فإن قلت: فما معنى فلق الصبح والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد فالق ظلمة الصبح، يعني: أنه على حذف مضاف. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره ..) ا. هـ. ملخصا. وانظر: "تفسير الرازي" 13/ 98 , و"الخازن" 2/ 163.

[وأما] (¬1) ابن عباس (¬2) والمحققون (¬3) قالوا: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} أي: خالق الإصباح كل يوم جديد). وقال الكلبي: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: خالق الصباح كل يوم) (¬4). وقال أبو إسحاق: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: (جائز أن يكون خالق الإصباح، وجائز أن يكون معناه: سياق الإصباح، وهو راجع إلى معنى خالق) (¬5)، وقال في سورة الفلق: (الفلق الخلق، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انفلاق) (¬6)، وقد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95]. وقال الليث: (الله تعالى فلق الصبح، أي: أبدأه وأوضحه) (¬7)، فعلى ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو) ساقط من (أ)، ولفظ: (قالوا) بعده الأولى أن يكون فقالوا. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 283، وابن أبي حاتم 4/ 1354 بسند ضعيف عن العوفي عن ابن عباس قال: (خلق الليل والنهار) ا. هـ، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: بالإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل) ا. هـ (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 283 بسند ضعيف عن الضحاك. وبه قال مقاتل في "تفسيره" 1/ 580، والسمرقندي 1/ 502، وانظر: "الفتاوى" 17/ 505، وقال السمين في "الدر" 5/ 57: (فسر بعضهم فالق هنا بمعنى: خالق. قيل: ولا يعرف هذا لغة، وهذا لا يتلفت إليه؛ لأن هذا منقول عن ابن عباس والضحاك، أيضاً لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب؛ لأن الفراء نقل في اللغة أن فطر وخلق وفلق بمعنى واحد) ا. هـ، وانظر: "البحر المحيط" 4/ 184. (¬4) "تنوير المقباس " 2/ 45. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 274. (¬6) "معاني الزجاج" 5/ 379. (¬7) النص في "العين" 5/ 164.

هذا المعنى {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: مبديه وموضحه، وذلك أن معنى الفلق راجع إلى الإبداء والإيضاح؛ لأن الفلق يتضمن الإبداء (¬1). وقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} السكن: معناه في اللغة ما سكنت إليه، يريد: أن الناس يسكنون في الليل سكون الراحة، بأن جعل الله تعالى ذلك لهم سكنًا (¬2). قال ابن عباس: (يريد: أن كل ذي روح يسكن فيه) (¬3)، وقال الكلبي: (يسكن فيه الخلق ويرجعوا إلى أوطانهم) (¬4)، وهو مثل قوله تعالى: {هُوَ (¬5) اَلَّذِى جَعَلَ لَكُمٌ الّيلَ لِتَسكنُواْ فِيهِ} [يونس: 67]. واختلف القراء (¬6) في قوله: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ} فقرأ الأكثرون (جَاعِلُ) بالألف؛ لأن قبله اسم فاعل وهو [قوله] (¬7): {فَالِقُ الْحَبِّ} و {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} و (جاعل) هاهنا حسن ليكون المعطوف [مثل المعطوف] (¬8) عليه، ألا ترى أن حكم الاسم أن يعطف على اسم مثله؛ لأن الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، وقرأ أهل الكوفة {وَجَعَلَ اللَّيْلَ} لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى الماضي، فلما كان فَاعِلٌ بمنزلة فَعَلَ في المعنى عطف عليه فعل؛ لموافقته له ¬

_ (¬1) في (ش): (الابتداء)، وهو تحريف، وانظر: "المفردات" ص 645. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 283. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 87. (¬5) جاء في النسخ: (وهو الذي) بالواو، وهو خطأ واضح. (¬6) قرأ عاصم وحمزة والكسائي (جَعَلَ الليلَ) بفتح العين واللام من غير ألف بينهما على أنه فعل ماض و (الليل)، بالنصب على أنه مفعول به. وقرأ الباقون (جاعِلُ الليلِ) بالألف وكسر العين ورفع اللام، و (الليلِ) بالخفض على الإضافة. انظر: "السبعة" ص 263، و"المبسوط" ص 172، و"الغاية" ص 245، و"التذكرة" 2/ 405، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 260. (¬7) لفظ: (قوله) ساقط من (ش). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).

في المعنى، ويدلك على أنه بمنزلة فَعَل أنه نزل منزلته فيما عُطِفَ عليه، وهو قوله تعالى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام: 96]، ألا ترى أنه لما كان المعنى فعل في (جاعل) حمل المعطوف على ذلك فنصب (الشَّمْسَ [والْقَمَرَ] (¬1) (¬2) وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} قال ابن عباس: (يريد: بحساب) (¬3) مثل ما قال في سورة يونس {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]، وقال الكلبي: (منازلهما بحساب لا يُجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما) (¬4). وروى شيبان (¬5) عن قتادة قال: ([يدوران] (¬6) في حساب) (¬7)، وأما ¬

_ (¬1) لفظ (القمر) مكرر في (أ). (¬2) ما تقدم قول الفارسي في "الحجة" 3/ 361 - 363، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 372، و"إعراب القراءات" 1/ 165، و"الحجة" لابن خالويه ص 146، و"الحجة" لابن زنجلة ص 262، و"الكشف" 1/ 441. (¬3) ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 461، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 45، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 284، وابن أبي حاتم 4/ 1354، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: عدد الأيام والشهور والسنين) ا. هـ، وعلى هذا يراد بالحسبان: الحساب، وهو قول الجمهور، كما ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 91. (¬4) ذكره السمرقندي 1/ 503. (¬5) شَيْبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم أبو معاوية البصري، نزل الكوفة، إمام ثقة، محدث، نحوي مقرئ، أكثر عن قتادة والحسن وغيرهما، توفي سنة 164هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 355، و"تاريخ بغداد" 9/ 271، و"إنباه الرواة" 2/ 72, و"سير أعلام النبلاء" 7/ 406، و"تهذيب التهذيب" 2/ 184. (¬6) في (أ): (تدوران)، وهو تحريف. (¬7) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 214، والطبري 7/ 284، وابن أبي حاتم 4/ 1354، بسند جيد من طريق معمر عن قتادة، ولم أقف عليه من طريق شيبان عن قتادة.

معنى الحساب فإن العروضي (¬1) والقرشي (¬2) أخبراني عن الأزهري قال: أخبرني المنذري (¬3) عن أحمد بن يحيى، أنه حكى عن الأخفش أنه قال: (معناه: بحسابٍ، فحذف الباء) (¬4)، والكلام مختصر تقديره: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب كقوله: {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] أي: من طين، وقال ثعلب: ({حُسْبَانًا} مصدر كما تقول: حَسَبْته أَحْسبُه حُسْبانًا وحِسَابًا) (¬5)، وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد: على الله حُسْباني إذا النَّفْسُ أَشْرَفَتْ ... على طَمَعٍ أَو خافَ شيئًا ضَمِيرُها (¬6) وجعله الأخفش (¬7) جمع حِسَابٍ، وهو قول أبي الهيثم (¬8) قال: (الحُسبان جمع حساب مثل: رِكَابٍ ورُكْبَانٍ، وشِهَابٍ وشُهْبَانٍ، وكذلك أحسبة مثل: شهاب وأشهبة) (¬9). ¬

_ (¬1) العروضي: أبو الفضل أحمد بن محمد الصفار، تقدمت ترجمته ترجمته. (¬2) القرشي: أبو عثمان سعيد بن العباس الهروي، تقدمت ترجمته. (¬3) المنذري: أبو الفضل محمد بن أبي جعفر الهروي، تقدمت ترجمته. (¬4) "معاني الأخفش" 2/ 282، و"تهذيب اللغة" 1/ 811. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 810. وانظر: "العين" 3/ 148، و"الجمهرة" 1/ 277، و"الصحاح" 1/ 109، و"المجمل" 1/ 233، و"مقاييس اللغة" 2/ 59، و"المفردات" ص 232 مادة (حسب). (¬6) لم أقف على قائله، وهو في "تهذيب اللغة" 1/ 810، و"اللسان" 2/ 865 مادة (حسب)، و"الدر المصون" 5/ 64. (¬7) "معاني الأخفش" 2/ 282. (¬8) أبو الهيثم: خالد بن يزيد الرازي، تقدمت ترجمته. (¬9) "تهذيب اللغة" 1/ 811، وفيه قال: (الحسبان جمع حساب، وكذلك أَحْسِبَةٌ مثل شِهاب وأَشْهبة) ا. هـ.

وهو قول أبي عبيدة (¬1) والمبرد (¬2) ذكرا ذلك في قوله تعالى: ([الشَّمْسُ] (¬3) وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:5]، ومن جعل الحسبان مصدرًا جعله كالرجحان والنقصان (¬4). فأما نصب {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فقال أبو إسحاق: (النصب على تأويل وجعل الشمس والقمر؛ لأن في {جَاعِلٌ} معنى جعل، وبه نصبت {سَكَنًا}، كما تقول: هو معطي زيدٍ درهمًا، فنصب الدرهم محمول على تأويل أعطى) (¬5)، ونحو هذا قال أبو علي (¬6). وقال الفراء: (الليل في قوله (وَجَاعِلُ الَّليْلِ) في موضع نصب في المعنى فرُد {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على معناه لما فرّق بقوله {سَكَنًا}، فإذا لم تفرق بينهما بشيء آثروا الخفض، وقد يجوز أن ينصب وإن لم يحل بينهما بشيء) (¬7)، وأنشد: بَيْنَا نَحْنُ ننظره أَتَانَا ... مُعَلّقَ شِكوة وزِنَادَ رَاعِ (¬8) ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 201، 2/ 242، وانظر: "أدب الكاتب" ص 67، و"الزاهر" 2/ 76. (¬2) ذكره السمين في "الدر" 5/ 64، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 7/ 285. (¬3) في (ش): (والشمس)، وهو تحريف. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 567، و"الدر المصون" 5/ 64. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 274. (¬6) "الحجة" لأبي علي 3/ 363. (¬7) "معاني الفراء" 1/ 346، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 201. (¬8) الشاهد لنُصَيْب الأسود، شاعر أموي في "ديوانه" ص 104، ولرجل من قيس عيلان في "الكتاب" 1/ 170 - 171، وبلا نسبة في "المحتسب" 2/ 78، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 23، و"الصاحبي" ص 212، و"أمالي ابن الحاجب" 2/ 74، و"رصف المباني" ص 105، و"اللسان" 1/ 405، (بين) وللبيت روايات مختلفة، والشكوة: وعاء لتبريد الماء. والزناد: ما تقدح به النار. والشاهد: نصب زناد حملًا على موضع شكوة. انظر: "شرح شواهد المغني" 2/ 798، و"الخزانة" 7/ 74.

وقد شرح ابن الأنباري هذا فقال: (العرب قد تجرى اسمًا على الخفض ثم تعطف عليه منصوبًا، وكذلك يقدمون المنصوب ثم يعطفون عليه المخفوض في باب فاعل، فيقولون: هو ضارب عبد الله في الدار ومحمدًا، وهو ضارب عبد الله في الدار ومحمدٍ، إذا نصبوا بعد الخفض قدروا أن المعطوف عليه منصوب وأن الفاعل منوّن، وذلك أن قولنا: هو ضارب عبد الله يجري مجرى ضارب عبد الله، وإذا خفضوا بعد النصب قدّروا أن المنصوب مخفوض وأن الاسم المبني على فاعل لا تنوين فيه، وأنشد: فنبَيْنَا نَحْنُ ننظره أَتَانَا ... مُعَلّقَ شِكوة وزِنَادَ رَاعِ فحمل على تأويل النصب أراد: معلقًا شكوةً، وقال امرئ القيس: فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ [مِنْ بَيْنِ] (¬1) مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِوَاءٍ أوْ قدِيرٍ مُعَجَّلِ (¬2) فخفض القدير وهو نسق على الصفيف تقديرًا أن الصفيف مخفوض، كأنه قال: من بين منضج صفيف) (¬3). ¬

_ (¬1) في (ش): (ما بين)، وهي رواية للبيت. (¬2) الشاهد في "ديوانه" ص 120، و"معاني الفراء" 1/ 346، و"جمهرة اللغة" 2/ 929، و"الاشتقاق" ص 233، و"اللسان" 4/ 2463، مادة (صفف)، والطهاة: الطباخون، وصفيف شواء: شرائح لحم مشوي، وقدير، أي: مطبوخ في قدْر، انظر: "شرح المعلقات" للنحاس 1/ 41. (¬3) انظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 97 - 98، وفي "معاني الفراء" 1/ 346، و"الجمل" للزجاجي ص 84 - 85، نحوه، وقال مكي في "المشكل" 1/ 263: ({وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} انتصبا عطفا على موضع (الليل) لأنه في موضع نصب وقيل: على تقدير وجعل. وأما على قراءة {وَجَعَلَ اللَّيْلَ} فهو عطف على اللفظ والمعنى) ا. هـ. وانظر: "البيان" 1/ 332، و"التبيان" 1/ 349 و"الفريد" 2/ 198، و"الدر المصون" 5/ 61.

98

وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} قال ابن عباس: (يريد: الذي قدر الأقوات في كل زمان وما يصلح فيه) (¬1)، وقال المفسرون: (يعني: {الْعَزِيزِ}: في ملكه يصنع ما أراد، {الْعَلِيمِ}: بما قدر من خلقهما) (¬2). 98 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال ابن عباس: (يريد: آدم) (¬3)، {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال ابن الأنباري: (أي: أراد: فلكم مستقر ومستودع، وبهذا الإضمار يحسن اتصال هذا الكلام بما قبله وحسن الإضمار؛ لأن الفاء يغلب على ما بعدها الاتصال بما يسبقها، فحذف ما يحذف بعد الفاء؛ إنما هو لدلالة الذي قبلها عليه للمواصلة، كقول العرب: إن تزرني فمحسن، وإن قصدتني فبار، وهم يريدون: فأنت بار، فيحذفون لوضوح المعنى) (¬4). وأما تفسير: المستقر والمستودع، فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: مستقر في الأرحام ومستودع في الأصلاب) (¬5)، وهذا التفسير على القراءتين (¬6) في المستقر، وقال في رواية سعيد بن جبير: (المستقر ما في ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 580، والطبري 7/ 285، والسمرقندي 1/ 503. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر" 3/ 66، وذكره ابن أبي حاتم 4/ 1355 عن أكثرهم. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 88 لفظ: (أي: فلكم مستقر ومستودع) فقط، والباقي لم أقف عليه. (¬5) لم أقف عليه من رواية عطاء، وهو في "تفسير عطاء الخراساني" ص 88، من قوله، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 289 بسند جيد عن عطاء فقط. (¬6) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فمُسْتَقِر) بكسر القاف وفتحها الباقون. انظر: "السبعة" ص 263، و"المبسوط" ص 172، و"الغاية" ص 246، و"التذكرة" 2/ 405، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 260.

الرحم، والمستودع ما في الصلب) (¬1)، وهذا على قراءة من كسر القاف. وقال كريب (¬2): (كتب حبر تيماء (¬3) إلى ابن عباس يسأله عن هذه، فكتب إليه المستودع: الصلب، والمستقر: الرحم، ثم قرأ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]) (¬4)، وهذا التفسير على قراءة من فتح القاف، وقال في رواية العوفي: (كل مخلوق قد فرع من خلقه فهو المستقر، والمستودع: ما في أصلاب الرجال الذي الله خالقه) (¬5)، ونحو ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 287 - 288، من عدة طرق جيدة، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 316. وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وذكره ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 289، وقال: (أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس بإسناد صحيح) اهـ. (¬2) كريب بن أبي مسلم، أبو رشدين المدني، الهاشمي، مولى ابن عباس، تابعي، إمام ثقة، موصوف بالخير والديانة، لازم ابن عباس رضي الله عنهما، وكان عنده عنه حمل بعير من الكتب، توفي رحمه الله تعالى سنة 98 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 293، و"الجرح والتعديل" 7/ 168، و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 66، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 479، و"تهذيب التهذيب" 3/ 468. (¬3) تَيْماء: بالفتح والمد، بلد في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى. انظر: "معجم البلدان" 2/ 66. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 88، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 289 بسند ضعيف وفيه قال: (المستقر: الرحم، ثم قرأ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]، وقرأ {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} [البقرة: 36]، قال: مستقرة فوق الأرض، ومستقرة في الرحم، ومستقرة تحت الأرض، حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار) اهـ. (¬5) أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 289 بسند ضعيف عن العوفي عن ابن عباس قال: (المستقر في الأرحام , والمستودع في الصلب لم يخلق وهو خالقه) ا. هـ.

هذا روى عكرمة عنه قال: (المستقر: الذي قد خُلق واستقر في الرحم, والمستودع: الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد) (¬1). وقال الوالبي (¬2) والضحاك عنه: (المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب) (¬3). وقال سعيد بن جبير: ({فَمُسْتَقَرٌّ} في بطون الأمهات {وَمُسْتَوْدَعٌ}: في أصلاب الآباء، قال: وقال لي ابن عباس: أتزوجتَ يا ابن جبير؟ قلت: لا، وما أريد ذلك يومي هذا. قال: فضرب ظهري، وقال: أما أنه مع ذاك ما كان من مستودع في ظهرك فسيخرج) (¬4). وأكثر أهل التفسير والمعاني: على أن المستقر والمستودع في الأصلاب والأرحام (¬5) وقد أحسن أبو علي شرح الحرفين كل الإحسان, ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 290، وابن أبي حاتم 4/ 1355 عن عكرمة عن ابن عباس. (¬2) الوالبي هو: علي بن أبي طلحة. والأثر عنه أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 289، وابن أبي حاتم 4/ 1357 بسند جيد. (¬3) لم أقف عليه من رواية الضحاك، وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 289 بسند ضعيف عن الضحاك من قوله. وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1357 روى عن الضحاك عن ابن عباس قال: (المستودع: المكان الذي تموت فيه) اهـ. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 288 - 289، والواحدي في "الوسيط" 1/ 88 من عدة طرق جيدة. (¬5) قال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 568: (أكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب)، وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 347، ونحوه قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 201، واليزيدي في "غريب القرآن" ص 140، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 157، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 178: (وهذا القول أظهر والله أعلم) ا. هـ، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 298، والقرطبي 7/ 46.

مع ذكر اختلاف القراءتين في المستقر فقال: (قال سيبويه: "قالوا: قرَّ في مكانه واستقر" (¬1)، فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى: القارّ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر منكم، أي: منكم مستقر، كقولك: بعضكم مستقر، أي: مستقر في الأرحام، ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به، ألا ترى أن استقر لا يتعدى، وإذا لم يتعد لم يبن منه اسم مفعولٍ به، وإذا لم يكن مفعولًا به كان اسم مكان، فالمستقر بمنزلة المقرّ، كما كان المستقر بمنزلة القارّ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر منكم، كما جاز ذلك في قول من كسر القاف، فإذا لم يجز ذلك جعلت الخبر المضمر لكم، فيكون التقدير: لكم مَقَرٌّ. فأما المستودع فإن استودع فعلٌ يتعدى إلى مفعولين، [تقول] (¬2): استودعت زيدًا ألفًا، وأودعت مثله، فاستودع مثل أَوْدَع، كما أن استجاب بمنزلة أجاب، فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان، ويجوز أن يكون المكان نفسه، فمن قرأ (فَمُستقَر) بفتح القاف جعل المستودع مكانًا ليكون مثل المعطوف عليه، أي: فلكم مكان استقرار، ومكان استيداع، ومن قرأ (فمستقِر) فالمعنى: منكم مستقر في الأرحام، ومنكم مستودع في الأصلاب، فالمستودع اسم المفعول به ليكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان) (¬3). ¬

_ (¬1) "الكتاب" 4/ 70. (¬2) في (ش): (يقول)، بالياء. (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 364 - 365، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 347، و"معاني الزجاج" 2/ 274، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 568, و"معاني القراءات" 1/ 373 , و"إعراب القراءات" 1/ 166، و"الحجة" لابن زنجلة ص 262، و"الكشاف" 1/ 442.

99

99 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} قال ابن عباس: (يريد: المطر الذي ينزل، ليس من نقطة إلا ومعها ملك) (¬1). {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} يعني: بالمطر {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} ذكر الفراء فيه قولين: (أحدهما يقول: رزق كل شيء، يريد: ما ينبت مما يصلح غذاء لكل شيء، قال: وكذا جاء التفسير، وهو وجه الكلام، قال: وقد يجوز في العربية أن [تضيف] (¬2) النبات إلى {كُلِّ شَيْءٍ} وأنت تريد بكل شيء النبات أيضًا، فيكون مثل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ [حَقُّ] (¬3) الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] واليقين هو الحق) (¬4). وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} قال أبو إسحاق: (معنى خَضِر كمعنى أَخْضَر، يقال: اخْضَرَّ فهو أخضَرُ وخَضِرٌ، مثل اعْوَرَّ فهو أَعْوَرُ وعَوِرٌ) (¬5)، وقال غيره: ومثله نَمِرَ بمعنى: أنمر، تقول العرب: أَرِنيهَا نَمِرَةً أُرِكَهَا مَطِرَةً) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي 13/ 107 عن الواحدي. (¬2) في (ش): (يضيف). (¬3) في (ش): (الحق)، وهو تحريف واضح. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 347، وعلى القول الأول يكون النبات مخصوصًا بالمتغذى به، وعليه تكون الإضافة إضافة بين متباينين إذ يصير المعنى: غذاء كل شيء أو رزقه، وعلى القول الثاني: يكون النبات عامًّا في كل ما يتغذى بالماء من الحيوان والنبات, وعليه تكون الإضافة راجعة في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، والمعنى: أخرجنا به كل شيء منبت؛ لأن النبات بمعنى المُنبت أفاد ذلك السمين في "الدر" 5/ 67 - 68، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 292، و"إعراب القرآن" للنحاس 568. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 275، وانظر: "غريب اليزيدي" ص 140. (¬6) هذا مثل قائله أبو ذؤيب الهذلي كما في "اللسان" 8/ 4545 مادة (نمر) , وهو بلا نسبه في "العين" 8/ 271، و"معانى الأخفش" 2/ 283، و"الجمهرة" =

وقال الليث: (الخضر في كتاب الله هو الزرع، وفي الكلام كل نبات من الخُضَر) (¬1)، قال ابن عباس: (يريد: القمح والسلت (¬2) والشعير والذرة والأرز) (¬3)، ويعني بهذا: ما كان رطبًا أخضر مما ينبت من هذه الحبوب. وقوله تعالى: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} يعني: من الخضر، نخرج {حَبًّا مُتَرَاكِبًا} بعضه على بعض في سنبلة واحدة (¬4). وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} قال أبو عبيد: (أَطْلَعَت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها، وطَلْعُها كُفُرَّاها (¬5) قبل أن ينشق عن الإغَريض (¬6)، والإغريض يسمى طَلْعًا أيضًا، قال: والطلع أول ما يرى من ¬

_ = 2/ 802، والطبري 7/ 292، و"إعراب النحاس" 1/ 568، و"الصحاح" 2/ 647 مادة (خضر)، ونمرة: بفتح النون، وكسر الميم: السحابة التي فيها سواد وبياض، وهو مثل يضرب في صحة مخيلة للشيء وصحة الدلالة عليه، وإذا رأيت دليل الشيء علمت مما يتبعه. انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 49، و"مجمع الأمثال" 1/ 306، و"المستقصى" 1/ 144. (¬1) النص في "العين" 4/ 175 مادة (خضر)، وفي "التهذيب" 1/ 1044 مادة (خضر)، وقال الليث: الخضِرُ في هذا الموضع الزرع الأخْضَرُ) ا. هـ انظر: "مقاييس اللغة" 2/ 195، و"المفردات" ص 285، و"اللسان" 2/ 1112 مادة (خضر). (¬2) السُّلْت: بالضم، ضرب من الشعير أبيض لا قشر له. انظر: "اللسان" 4/ 2059 مادة (سلت). (¬3) قوله: (الأرز) غير واضح في (أ)، والأثر ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 108، والقرطبي 7/ 48. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 292، والسمرقندي 3/ 503. (¬5) كُفَرَّاها: بضم الكاف، وتشديد الراء المفتوحة، وفتح الفاء أو ضمها: وعاء الطلع، وقشره الأعلى. انظر: "اللسان" 7/ 3901 مادة (كفر). (¬6) الإغريض بكسر الهمزة وسكون الغين: كل أبيض مثل اللبن، والطلع حين ينشق عنه كافوره. انظر: "اللسان" 6/ 3242 مادة (غرض).

عذق النخلة، الواحدة طلعة) (¬1)، قال أبو زيد: (أَطْلَعَ النَّخْلُ الطَّلْعَ إطْلاعًا، وطَلَعَ الطَّلْع يَطْلعُ طُلوعًا) (¬2). و {قِنْوَانٌ}، قال الزجاج: (جمع قِنْو، مثل صِنْوٍ وصِنْوَانٍ، وإذا ثنيت القِنْو قلت: قِنْوانِ، بكسر النون) (¬3). قال أبو عبيدة: (ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل صنو وصنوان، والإعراب في النون للجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير) (¬4)، قال امرؤ القيس (¬5): فَأَثتْ أَعَالِيه وآدت أُصُولُهُ ... وَمَالَ بِقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا ¬

_ (¬1) النص عن أبي عبيد في "الدر المصون" 5/ 74، ونقله الرازي في "تفسيره" 13/ 108، عن الواحدي عن أبي عبيدة، والنص عند الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2208، عن أبي زيد، وقوله: (والطلع أول ما يرى) في التهذيب من قول المفضل الضبي. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2206، وانظر: "العين" 2/ 12، و"الجمهرة" 2/ 915، و"الصحاح" 3/ 1254، و"المجمل" 2/ 585، و"اللسان" 5/ 2691 مادة (طلع). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 275، وفيه: (والقنو: العذق، بكسر العين) ا. هـ، ونحوه ذكر الأخفش في "معانيه" 2/ 283، قال: (وواحد القِنْوان قِنو، وكذلك الصنوان واحدها صِنو) ا. هـ، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 463: (القنوان: العذُوق عند أكثر أهل اللغة). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 202، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 168. (¬5) "ديوانه" ص 60، والطبري 7/ 293، و"تهذيب اللغة" 3/ 3051 مادة (قنا) , والماوردي 2/ 149، وابن الجوزي 3/ 93، و"اللسان" 6/ 3762 مادة (قنا) و"البحر" 3/ 443، و"الدر المصون" 5/ 72، وفي الديوان: سَوامقَ جَبَّار أثيث فروعُهُ ... وعالين قِنْوانًا مِنَ البُسْرِ أَحْمَرا والسوامق: العاليات، والجبار: الذيَ فات الأيدي فلم تنله، والأثيث: الكثير الملتف بعضه على بعض، وآدت، أي: تثنت ومالت.

قال أبو علي: الكسرة التي في (قنوان) ليست التي كانت في قنو، لأن وتلك قد حذفت في التكسير، وعاقبتها الكسرة التي [يجلبها التكسير، وكذلك التي (¬1)] في هجان (¬2)، وأنت تريد الجمع ليست الكسرة التي كانت في الواحد، ولكنه مثل الكسرة في ظراف (¬3) إذا جمعت عليه ظريفًا) (¬4)، وقد ذكرنا مثل هذا في الفُلك في سورة البقرة [: 164]، ونظير هذا مما يوضحه الضمة التي في آخر مَنْصُور على قول من قال: يا جارُ (¬5) ليست التي كانت فيه في قول من قال: يا جارِ (¬6)، قال ابن عباس: (يريد: العراجين (¬7) التي قد تدلت من الطلع، {دَانِيَةٌ} يريد: تدنو ممن يجتنيها) (¬8)، وروي عنه أيضاً أنه قال: (يعني: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض) (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬2) الهجان: بكسر الهاء من الإبل البيض الكرام الخالصة اللون. انظر: "اللسان" 8/ 4626 مادة (هجن). (¬3) في (ش): (في طراف إذا جمعت عليه طريفًا) بالطاء المهملة، ولعله تصحيف. (¬4) انظر: "كتاب الشعر" لأبي علي 1/ 120، و"الدر المصون" 5/ 72. (¬5) يعني: بالضمة، أفاده السمين في "الدر" 5/ 72، حين نقل قول الواحدي. (¬6) يعني: بالكسرة. ويعني: أننا حين نرخم منصورًا بقولنا: منصُ، فإن الضمة فيه على لغتي الترخيم من ينتظر ومن لا ينتظر، تختلف الواحدة منهما عن الأخرى في الفرض والتقدير، أفاده الدكتور أحمد الخراط في "حاشية الدر المصون". (¬7) العرجون: بضم العين، وسكون الراء، العِذق عامة، وقيل: هو العذق إذا يبس واعوج. انظر: "اللسان" 5/ 2871 مادة (عرجن). (¬8) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 108، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 194 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (دَانِيةٌ: تهدل العذوق من الطلع) اهـ. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 194، وابن أبي حاتم 4/ 1358، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 67.

قال أبو إسحاق: ({دَانِيَةٌ} أي: قريبة المتناول، قال: ولم يقل: ومنها قنوان بعيدة؛ لأن في الكلام دليلًا أن البعيدة السحيقة قد كانت غير سحيقة، فاجتزأ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولم يقل: وسرابيل تقيكم البرد؛ لأن في الكلام دليلاً على أنها تقي البرد؛ لأن ما ستر من الحر ستر من البرد) (¬1). وقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} الوجه: كسر (¬2) التاء؛ لأنها في موضع نصب نسقًا على قوله (خَضِرًا) أي: فأخرجنا خَضِرًا {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} وروى الأعشى (¬3) عن أبي بكر (¬4) [وجنات) رفعًا (¬5) قال أبو بكر (¬6)] ابن الأنباري: (وله مذهبان أحدهما: أن يكون الجنات مفعولة في ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 275، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" 2/ 464، والبغوي في "تفسيره" 3/ 172. (¬2) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 283، و"الزجاج" 2/ 276. (¬3) الأعشى: يعقوب بن محمد بن خليفة التميمي، أبو يوسف الكوفي، إمام عابد، مقرئ، تصدر للإقراء بالكوفة، فقرأ عليه خلق كثير، وهو من جلة أصحاب ابن عياش، توفي نحو 200 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 159، و"غاية النهاية" 2/ 390. (¬4) أبو بكر: هو شعبة بن عياش الأسدي، تقدمت ترجمته. (¬5) قرأ عامة القراء (وجناتٍ) بكسر التاء وموضعها نصب. وروى يعقوب الأعشى وعبد الحميد الرجمي عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود (وجناتٌ) بالرفع. قال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 569، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 49: (وهو الصحيح من قراءة عاصم) ا. هـ، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 294، و"مختصر الشواذ" ص 39، و"المبسوط" ص 172، و"الغاية" ص 246، و"التذكرة" 2/ 405 , و"الإتحاف" 2/ 24. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).

المعنى رفعت بمضمر بعدها، تأويله {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب: أكرمت عبد الله وأخوه، يريدون: وأخوه أكرمته أيضاً، ومثله [قول] (¬1): أكلت طعامك وطعام أخيك، قال الفرزدق: غَداةَ أحلَّتْ لابْنِ أَصْرَمَ طَعْنَةُ ... حُصَيْنٍ عَبيطَاتِ السَّدَائِفِ والخَمْرُ (¬2) فرفع الخَمر، وهي مفعولة، على معنى: والخمر أحلتها الطعنة، والمذهب الآخر: رفع الجنات بالنسق على القنوان؛ تغليبًا لمعنى الجوار، كما قال الشاعر: وزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا (¬3) فنسق العيون على الحواجب تغليبًا للمجاورة، والعيون لا تزجج، كما أن الجنات من الأعناب لا [يكنّ] (¬4) من الطلع) (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ: (قول) ساقط من (ش). (¬2) "ديوانه" 1/ 354، و"الكامل" 1/ 370، و"الإنصاف" 160، و"الدر المصون" 5/ 76، وعبيطات: جمع عبيطة بفتح العين، وهي السمينة الفتية، والسدائف جمع سديف وهو السنام. (¬3) الشاهد للراعي النميري، شاعر أموي فحل في "ديوانه" ص 150، و"تأويل مشكل القرآن" ص 213، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 148، و"الخصائص" 2/ 432، و"الإنصاف" 488، و"اللسان" 3/ 1812 مادة (زجج)، و"الدر المصون" 5/ 77، وصدره: إِذَا ما الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وفي "الديوان": (وهزة نشوة من حي صدق) وزججن: أي: رققن. انظر: "الزاهر" 1/ 52. (¬4) في (ش): (لا تكن)، بالتاء. (¬5) ذكره السمين في "الدر" 5/ 76 - 77، عن ابن الأنباري، وذكر الواحدي بعضه في "الوسيط" 1/ 90، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 347، و"معانى القراءات" =

وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} قال الفراء: (يريد: شجر الزيتون، وشجر الرمان، كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد: أهلها) (¬1) وقوله تعالى: {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، قال قتادة: (مشتبهًا ورقها مختلفًا ثمرها) (¬2)، وهو قول مقاتل (¬3) وأكثر المفسرين (¬4)، وقال الزجاج: (أي: شجره، يشبه بعضه بعضًا {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم) (¬5). وقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} قال عبد العزيز بن يحيى: (نظر الاستدلال والعبرة) (¬6)، وقال أبو روق: (اعتبروا واتعظوا) (¬7)، {إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، قال الفراء: (يقول: انظروا إليه أول ما يعقد) (¬8)، والثمر: جمع ثمرة مثل: بقرة وبقر وشجرة وشجر وجزرة وجزر، وقد كسروها على فِعال، كما قالوا: أكمة وأكام ورقبة ورقاب (¬9). ¬

_ = 1/ 374، و"الحجة" لابن خالويه ص 146، و"الحجة" لابن زنجلة ص 264، و"المشكل" لمكي 1/ 264. (¬1) "معاني الفراء" 1/ 348، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 294. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 294، وابن أبي حاتم 4/ 1359 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 67. (¬3) "تفسيرمقاتل" 1/ 581. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 294، والسمرقندي 1/ 503، والماوردي 2/ 149، وابن عطية 5/ 301، وابن الجوزي 3/ 94، والقرطبي 7/ 49. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 276، وفيه: (أي: في الطعم وفيه ما يشبه طعم بعضه طعم بعض) ا. هـ, وانظر: "معاني النحاس" 2/ 464. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 91 بدون نسبة، وانظر: "تفسير ابن عطية" 6/ 119، والقرطبي 7/ 49. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) "معاني الفراء" 1/ 348. (¬9) انظر: "الكتاب" 3/ 583، و"الحجة" لأبي علي 3/ 366.

وقرأ حمزة والكسائي (ثُمُرِه) بضم الثاء (¬1) والميم، وله وجهان: الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثُمُر، كما قالوا: خشبة وخُشُب؛ قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] وكذلك أكمة وأكم، ثم يخففون [فيقولون] (¬2): أكم (¬3) قال: ترى الأكم منه (¬4) سجدًا للحوافر (¬5) ونظيره من المعتل ساحَة وسُوْح (¬6) وقارَة وقور، ولابهَ (¬7) ولُوب، وناقة ونُوق. والوجه الآخر: أن يكون جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمارًا على ثُمرٍ، فيكون ثُمر جمع الجمع (¬8). ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي (ثُمُرِه) بضم الثاء والميم، وقرأ الباقون: بفتحهما. انظر: "السبعة" ص 262، و"المبسوط" ص 172، و"التذكرة" 2/ 406، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 260. (¬2) في (أ): (فيقول)، وهو تحريف. (¬3) في "الحجة" لأبي علي 3/ 367 - 369: (وكذلك أكمة وأكُم، وتخفيف العين كما قالوا: الأكْم في جمع أَكَمَةٍ) ا. هـ. (¬4) في (ش): (فيه). (¬5) الشاهد لزيد الخمِل الطائي شاعر مخضرم فحل في "المعاني الكبير" 2/ 890، و"الكامل للمبرد" 2/ 201، وبلا نسبة في: "تأويل مشكل القرآن" 417، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 295، و"كتاب الشعر" 1/ 183، و"الصحاح" 2/ 483 مادة (سجد)، و"الصاحبي" ص 453، و"اللسان" 4/ 1941 مادة (سجد)، وصدره: بجَيْشٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَرَاتِهِ (¬6) في النسخ: (ساجة - وسوج) بالجيم، ولعله تصحيف. (¬7) اللَّابة: الحرة والأرض التي كسيت بحجارة سوداء. انظر: "اللسان" 7/ 4092 مادة (لوب). (¬8) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 3/ 366 - 369 (بتصرف). وانظر: "معاني =

وقوله تعالى: {وَيَنْعِهِ} الينع: النضج (¬1). قال أبو عبيدة: (يقال: يَنَع يَيْنَع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل) (¬2)، وأنشد: حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا (¬3) ¬

_ = القراءات" 1/ 375، و"إعراب القراءات" 1/ 166، و"الحجة" لابن خالويه ص 146، ولابن زنجلة ص 264، و"الكشف" 1/ 443. وقراءة الجماعة بالفتح الثمر اسم جنس مفرده ثمرة، أما قراءة الضم، فالجمهور على أنه جمع ثمرة. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 294 - 295، و"معاني الزجاج" 2/ 276، و"إعراب النحاس" 1/ 570، و"الدر المصون" 5/ 80. (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 348، و"معاني النحاس" 2/ 464، و"الصحاح" 3/ 1310، و"مجمل اللغة" 4/ 943، و"المفردات" ص 894 مادة (ينع). قال الجوهري: (يَنَع الثمر يَيْنَع وَييْنِعُ يَنْعا ويُنْعا وُينُوعًا، أي: نضج؛ وأَيْنَع مثله). (¬2) نقله بهذا اللفظ الرازي في "تفسيره" 13/ 111 عن الواحدي عن أبي عبيدة. وذكره السمين في "الدر" 5/ 82 عن أبي عبيد، وفي "مجاز القرآن" 1/ 202 نحوه، لكنه ضبط بالمطبوعة بالفتح. قال: (ينعه مصدر من يَنع إذا أينع .. واحده يانع، والجمع يَنْع، ويقال: ينَع يَيْنَع ينوعًا، فمنه اليانع، ويقال: ينعت وأينعت لغتان) ا. هـ. ملخصًا. (¬3) الشاهد مختلف في نسبته، وهو للأحوص الأنصاري شاعر أموي، في "ديوانه" ص 91، وليزيد بن معاوية في "الجمهرة" 2/ 956، ونقل المبرد في "الكامل" 1/ 384 عن الأخفش أنه قال: (الصحيح أنه ليزيد) اهـ. ونسب في "اللسان" 3/ 1375 مادة (دسكر) إلى الأخطل، وفي 8/ 4971 مادة (ينع) إلى عبد الرحمن بن حسان، ونسب في "التاج" 11/ 558، إلى أبي دهبل الجمحي، وهو بلا نسبة في: "مجاز القرآن" 1/ 202، و"معاني الزجاج" 2/ 277، و"تفسير الطبري" 7/ 295، و"تهذيب اللغة" 4/ 3988 مادة (ينع)، و"زاد المسير" 3/ 95، و "الدر المصون" 5/ 82 , وصدره: (في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكرة) والدسكرة: القرية، والبناء الضخم.

100

وقال الليث: (ينعت الثمرة، بالكسر، وأينعت، فهي [تينع] (¬1) وتونع إيناعًا، ويَنعًا بفتح الياء، ويُنعًا [بضهما] (¬2)، والنعت يانِع ومونِع) (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يريد: يصدّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم. قال أبو إسحاق (¬4): (احتج الله عز وجل بتصريف ما خلق، ونقله من حالٍ إلى حالٍ بما يعلمون أنه لا يقدر عليه [المخلوقون] (¬5)، وأعلم أنه كذلك يبعثهم؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أعلمهم أن فيما قصّ عليهم دليلًا [لمن صدّق]) (¬6). 100 - قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} قال الحسن: (معناه: أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان) (¬7)، وهو اختيار الزجاج قال: (المعنى: أنهم أطاعوا الجن فيما سوّلت من شركهم فجعلوهم شركاء لله) (¬8). ¬

_ (¬1) (تينع) غير واضحة في (أ) وكأنها (تيينع أو يينع). (¬2) في (أ): (بضمه). (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 111 عن الواحدي عن الليث، وفي "الدر المصون" 5/ 82: (قال الليث بكسرها في الماضي وفتحها في المستقبل) ا. هـ. وفي "العين" 2/ 257: (يَنَعت الثمرة يُنعا ويَنَعا، وأيْنعَ إيناعًا، والنعت: يانِع ومُونِع) ا. هـ. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 277. (¬5) في (أ): (المخلوقين)، وهو تحريف. (¬6) في (ش): (لمن صدق قوله). (¬7) ذكره الماوردي 2/ 150، والواحدي في "الوسيط" 1/ 91, وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 96، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 53. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 277 , وانظر: "معانى النحاس" 2/ 465.

وذكر الفراء (¬1) وأبو إسحاق (¬2) في نصب (الجن) وجهين: (أحدهما: أن يكون الجن مفعولاً فيكون المعنى: وجعلوا لله الجن شركاء، ويكون الشركاء مفعولاً ثانياً. والثاني (¬3): أن يكون الجن بدلاً من الشركاء ومفسراً للشركاء) (¬4). وقوله تعالى: (وَخَلَقَهُمْ) يجوز أن تعود الكناية على هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء، والمعنى: وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون، ويجوز أن تعود الكناية على الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله عز وجل، المحدث الذي لم يكن ثم كان (¬5). وقوله تعالى {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ}، قال المفسرون (¬6): (يعني: كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله). قال ابن عباس: يريد: افتعلوا له بنين وبنات) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 348. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 277، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 283. (¬3) جاء في (ش): (والثاني أن يكون الجن بدلاً من الشركاء، ويكون الشركاء مفعولًا ثانيًا)، ثم ذكر الوجه الثاني على الوجه الصحيح، وهو تكرار وتداخل. (¬4) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 750، و"المشكل" 1/ 264، و"الدر المصون" 5/ 83. (¬5) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 277، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 465. (¬6) قال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 303: (الذين خرقوا البنين اليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في (جعلوا) (وخرقوا) لجميع الكفار، إذ فعل بعضهم هذا) ا. هـ، وانظر: "تفسير الرازي" 13/ 116، و"الفتاوى" 17/ 271. (¬7) أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 297، وابن أبي حاتم 4/ 1360 بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: أنهم تخرصوا)، وأخرجا عنه بسند ضعيف قال: (جعلوا له بنين وبنات بغير علم) ا. هـ، وذكر السيوطي في "الدر" 3/ 68, أنه روي عن ابن عباس أنه قال: (وصفوا لله بنين وبنات افتراء عليه) ا. هـ.

وقال قتادة (¬1) وابن زيد (¬2) ومجاهد (¬3) وابن جريج (¬4): (كذبوا). وقال الفراء: (معنى {وَخَرَقُوا}: افتعلوا ذلك كذباً وكفراً، قال: [وخَرَقوا] (¬5) واخترقوا وخلقوا واختلقوا وافتروا واحد (¬6)، يقال (¬7): خلق فلان الكلمة واختلقها واخترقها وخرّقها إذا افتعلها وابتدعها كذباً)، الليث: (تخرّق الكذب وتخلقه) (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 297، وابن أبي حاتم 4/ 1361 بسند جيد، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 215، والطبري 7/ 297 بسند جيد عن قتادة، قال: (خرصوا) ا. هـ. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 297، وابن أبي حاتم 4/ 1361 بسند جيد. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 220. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 297، وابن أبي حاتم 4/ 1360 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 68. (¬4) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 151، والقرطبي 7/ 53، وأبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 194. (¬5) لفظ (الواو)، ساقط من (أ). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 1016، و"اللسان" 2/ 1142 مادة (خرق)، ولفظ: (افتراء) - لم ترد عندهما. وذكرها الرازي في "تفسيره" 13/ 116، وفي "معاني الفراء" 1/ 348، (وقوله (وخرقوا) واخترقوا وخلقوا واختلقوا يريد افتروا) ا. هـ. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 203، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 141، و"تفسير غريب القرآن" ص 169، و"تفسير المشكل" لمكي ص 78. (¬7) هذا قول أبي الهيثم خالد بن يزيد الرازي كما في "تهذيب اللغة" 1/ 1016، و"اللسان" 2/ 1143 مادة (خرق). (¬8) "تفسير الرازي" 13/ 116، وفي "العين" 4/ 150 مادة (خرق): (والاختراق كالاختلاق وتخرق الكذب كتخلقه) اهـ.

101

وقال الزجاج: (معنى خرقوا واختلقوا: كذبوا) (¬1)، وقرأ (¬2) نافع: (وَخَرَّقُوا) (¬3) مشددة، والاختيار التخفيف؛ لأنها أكثر، والتشديد للمبالغة والتكثير (¬4). وزعمت النصارى أن المسيح ابن الله، واليهود أن عزيزاً ابن الله، فأعلم الله عز وجل أنهم اختلقوا ذلك {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: لم يذكروه عن علم، إنما ذكروه تكذباً، قاله (¬5) الزجاج، وقال غيره: معناه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم أن هذا لا يجوز على القديم جل وعز، فهو داخل في الذم لهم (¬6). 101 - قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} أي: من أين يكون له ولد ولا يكون الولد إلا من صاحبه ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 278، وفيه: (معنى خرقوا: اختلقوا وكذبوا) ا. هـ. وقال النحاس في "معانيه" 2/ 466 (قال أهل اللغة: معنى (خرقوا) اختلقوا وافتعلوا) ا. هـ، وانظر: "الجمهرة" 1/ 590، و"الصحاح" 4/ 1466، و"المجمل" 2/ 284، و"المفردات" ص 279 مادة (خرق). (¬2) قرأ نافع: (وخرَّقوا) بتشديد الراء، والباقون بتخفيفها. انظر: "السبعة" ص 264، و"المبسوط" ص 173، و"التذكرة" 2/ 406، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 261. (¬3) لفظ: (الواو)، ساقط من (ش). (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 372، و"معاني القراءات" 1/ 376، و"الحجة" لابن خالويه ص 147، و"إعراب القراءات" 1/ 166، و"الحجة" لابن زنجلة ص 264، و"الكشف" 1/ 443، ونقل قول الواحدي في اختيار قراءة التخفيف، الرازي في "تفسيره" 13/ 117. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 278. (¬6) قال الطبري في "تفسيره" 7/ 298: (تخرصوا لله كذبًا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلاً بالله وبعظمته) ا. هـ. وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 504، والماوردي 1/ 151.

102

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} احتج جل وعز في نفي الولد بأنه خالق كل شيء، وليس كمثله شيء, فكيف يكون الولد لمن لا مثل له، وإذا نسب إليه الولد فقد جعل له مثل (¬1)، فالآية متضمنة للحجة على استحالة أن يكون لله ولد؛ لأن {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا مثل له، والولد لا يصح إلا مع المماثلة. وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: (لأنه هو الخالق لخلقه) (¬2). 102 - قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ارتفع {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} على أنه خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل: هو خالق كل شيء؛ لأنه لما تقدم ذكره استغنى عن هو (¬3). وقوله تعالى: {فَاعْبُدُوهُ} قال ابن عباس: (فأطيعوه) (¬4)، وقيل: وحدوه (¬5). وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} قد ذكرنا معنى الوكيل (¬6) في صفة الله تعالى، وقال بعض أصحاب المعاني: (إنما جاز وصف القديم ¬

_ (¬1) ما تقدم هو نص كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 278، ونحوه ذكره الطبري في "تفسيره" 7/ 298، والنحاس في "معانيه" 2/ 466. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 93 بدون نسبة. (¬3) انظر: "معاني الفراء" 1/ 348، و"إعراب النحاس" 1/ 571، و"الكشاف" 2/ 41، و"التبيان" 1/ 352، و"الفريد" 2/ 206، و"الدر المصون" 5/ 91. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 93، والبغوي في "تفسيره" 3/ 173 بدون نسبة. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1362 عن ابن عباس، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 582، وقال السمرقندي في "تفسيره" 1/ 505: (يعني: وحدوه وأطيعوه) ا. هـ. (¬6) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 206/ أ، و215 أ، 218 أ، و219 أ.

103

بأنه وكيل فيما هو مالك, لأنه لما كانت منافع مملوكاته لغيره وجلّ عن أن تلحقه المنافع والمضار صحت هذه الصفة في هذه الجهة من حيث إن له أن يصرف ما هو مالك له، ثم التصريف فيما يدبره بمنزلة ما يدبره الوكيل فيما تعود منافعه على غيره، فهو على كل شيء وكيل بالحفظ له والتدبير) (¬1). 103 - قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الآية. احتج نفاة الرؤية (¬2) بهذه الآية على أهل السنة (¬3) فقالوا: أخبر الله تعالى أن الأبصار لا تدركه، وإنما قال هذا على سبيل التمدح، وما نفى عن نفسه على سبيل التمدح به وجب أن يكون ذلك على التأييد كقوله: {لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 163]، و {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] (¬4). والجواب [عن] (¬5) هذا من وجوه: أحدها: أن الإدراك غير الرؤية لأنه يصح أن يقال: رآه وما أدركه، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بعد طول بحث في كتب المعاني والتفسير. وانظر: "المقصد الأسنى" للغزالي ص 114، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص 293، و"اللسان" 8/ 4909 مادة (وكل). (¬2) نفاة الرؤية: هم الجهمية والمعتزلة والخوارج، وبعض المرجئة، قالوا: (لا يُرى الله تعالى في الدنيا ولا في الآخرة). انظر: "الفتاوى" لابن تيمية 2/ 336 - 337، و"تفسير الخازن" 2/ 166. (¬3) أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار عيانًا وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه، كما تواترت به الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "كتاب التوحيد" لابن خزيمة 1/ 437، و"الشريعة" للآجري ص 231، و"الفتاوى" لابن تيمية 2/ 336، و"تفسير ابن كثير" 2/ 180، و"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز 1/ 207. (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 104. (¬5) في (ش): (على).

ويدل على هذا قوله تعالى إخباراً عن قوم موسى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62] وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم، [و] (¬1) الدليل على ذلك قوله تعالى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61] أي: رأى أحدهما الآخر، وكان الله تعالى قد (¬2) وعد موسى أنهم لا يدركونه بقوله تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]. وقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] يريدون أنهم قد قربوا من إدراكهم إياهم، ألا ترى أن موسى نفى ذلك بقوله: (كلّا)، وهذا مذهب جماعة من المفسرين (¬3) قالوا: [معنى] (¬4) الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به، قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] قال سعيد بن المسيب في تفسير قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}: (لا تحيط به الأبصار) (¬5). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (كلت (¬6) أبصار المخلوقين عن ¬

_ (¬1) لفظ: الواو ساقط من (أ). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 299 وما بعدها، والبغوي 3/ 174. (¬3) قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 17/ 111، في شرح الآية: (الإدراك عند السلف والأكثرين: هو الإحاطة، وقال طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية عنه لا مدح فيه ..) ا. هـ، وانظر: "الفتاوى" 16/ 87 - 89. (¬4) في (أ): (معنا). (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف" 182 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 93، والبغوي 3/ 174، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 98. (¬6) كلت: يقال: كل بصره، بفتح الكاف، أي: ثقل. انظر: "اللسان" 7/ 3918 مادة (كلل).

الإحاطة به) (¬1)، وقال الزجاج: (معنى إدراك الشيء: الإحاطة بحقيقته، وقد ينظر الرجل إلى الشيء ولا يدركه)، ثم احتج على أن معنى الإدراك هاهنا الإحاطة بقوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] فقال: (أعلم الله تعالى أنه يدرك الأبصار، وفي هذا الإعلام دليل أن خلقه لا يدركون الأبصار، أي ة لا [يعرفون] (¬2) [كيف] (¬3) حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه، فأعلم جل وعز أن خلقاً من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه، فكيف به جل وعز والأبصار لا تحيط به) (¬4)، قال أصحابنا فعلى هذا نقول: الباري يُرى ولا يُدرك؛ لأن معنى الإدراك هو: الإحاطة بالرؤية بالمرئي، وإنما يجوز ذلك على من كان محدوداً وله جهات، والقديم (¬5) الذي لا نهاية لوجوده يُرى ولكن لا يُدرك، وعلى هذا القول فاقد قلنا بظاهر الآية. ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 93، وذكره الثعلبي في "الكشف" 182 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 174 عن عطاء من قوله، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 299 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (لا يحيط بصر أحد بالملك) ا. هـ. (¬2) في (أ): (أي: لا يدركون). (¬3) في (ش): (عنه). (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 278، وفيه: (فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله فغير مدفوع، وليس في هذه دليل على دفعه؛ لأن معنى هذه الآية معنى إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته، وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث) ا. هـ. وانظر: "معاني النحاس" 2/ 446 - 467. (¬5) أسماء الله توقيفية، ولفظ القديم لا يرتضي السلف تسمية الله تعالى به؛ لعدم ورود النص به، لكن يصح الإخبار به عن الله تعالى، لأن باب الإخبار والصفات أوسع من باب الإنشاء والأسماء، والله أعلم. انظر: "منهاج السنة" 2/ 123 - 131, =

الوجه الثاني: تخصيص الآية، وهو قول جماعة من المفسرين أيضاً، قال ابن عباس: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (ينقطع عنه في الدنيا) (¬1)، وقال مقاتل: (لا تراه الأبصار في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة) (¬2)، وعلى هذا القول لا فرق بين الرؤية والإدراك، وهو مذهب شيخنا أبي الحسن (¬3)؛ لأنه لا يفرق بينهما، ويقول: (معنى الآية {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} في الدنيا، قال: والدليل على أن هذه الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وهذه الآية مطلقة، وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} [القيامة: 22] مقيد، والمطلق يحمل على المقيد، فلما كان قوله {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يوجب نفي الرؤية، وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] يوجب الرؤية، ولا يجوز التضاد، قلنا: الذي نفاه أراد به في الدنيا، والذي أثبته أراد به في الآخرة) (¬4). ¬

_ = و"الفتاوى" 1/ 245 - 17/ 168، 9/ 300 "معجم المناهي اللفظية" لبكر بن عبد الله أبو زيد ص 436. (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 182 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 93، والبغوي 3/ 173، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 98. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 182 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 94، والبغوي في "تفسيره" 3/ 174، وفي "تفسير مقاتل" 1/ 582: (يقول: لا يراه الخلق في الدنيا) ا. هـ. وأخرج الواحدي في "الوسيط" 1/ 94، هذا القول عن الحسن البصري. (¬3) أبو الحسن شيخ الواحدي، لم أستطع تحديده، وفي "مقدمة البسيط" ذكر من شيوخ الواحدي: علي بن محمد بن إبراهيم الضرير أبو الحسن النحوي، وعمران ابن موسى المغربي أبو الحسن، وعلي بن محمد الفارسي أبو الحسن. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 302، وابن الجوزي 3/ 98 - 99، وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 2/ 335. (وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدًا من المؤمنين =

الوجه الثالث: ما قاله السدي وهو أنه قال: (البصر بصران، بصر معاينة، وبصر علم) (¬1)، وكذا هو في اللغة، قال الليث: (البَصَر: العين، والبَصَر: نفاذ في القلب. قال: فمعنى قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لا يدركه علم العلماء، ونظيره {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] (¬2)، وهذا وجه حسن، وأما قولهم: إن هذا على سبيل التمدح، قلنا: ليس كذلك؛ لأنه ليس في أن يستحيل أن يرى استحقاق مدح، ألا ترى أن كثيراً من الأشياء الناقصة يستحيل أن يرى كالكفر والجهل، ثم لا يجب (¬3) لها بذلك صفة مدح، فليس بأن يستحيل أن يرى تمدح؟، وإنما معنى الآية: أنه منع الرائين من رؤيته في الدنيا ولا يقدر أحد على أن يمنعه من رؤيته له، فهذا وجه التمدح، وهو معنى الآية، وعلى هذا الوجه، قال ابن عباس في قوله {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال: (يرى ولا يُرى، ولا يخفى عليه شيء ولا يفوته) (¬4). وإنما خص الأبصار بإدراكه إياها مع أنه يدرك كل شيء تحقيقاً ¬

_ = لا يرى الله بعينه في الدنيا , ولم يتنازعوا إلا في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأئمة المسلمين ..) ا. هـ، وانظر: "مرويات الإمام أحمد في التفسير" 2/ 121. (¬1) لم أقف عليه (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 340، وفيه: (قال الليث: البَصَرُ: العَيْن، إلا أنه مذكر. والبَصَر: نفاذ في القلب). وانظر: "العين" 7/ 117، و"اللسان" 1/ 290 مادة (بصر). (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 125 وما بعدها، و"الفتاوى" لابن تيمية 16/ 87 - 88، 17/ 111. (¬4) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" 2/ 49: (يرى ما لم ير الخلق ولا يخفى عليه شيء ولا يفوته) اهـ.

للمعنى الذي ذكرنا؛ لأن غير الباري لا يجوز أن يرى البصر، ولا يراه البصر، وقد يرى غير البصر، ولا يراه البصر، فلا يبعد ذلك (¬1) وذكرنا قول الزجاج في معنى {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} قال الأزهري: (اللطيف من أسماء الله عز وجل [ومعناه] (¬2) الرفيق بعباده) (¬3)، وقال عمرو بن أبي (¬4) عمرو، عن أبيه (¬5): (اللطيف الذي يوصل إليك أَرَبَك في رفق) (¬6)، وقال أبو العباس (¬7) عن ابن الأعرابي: ([يقال] (¬8): لطف فلان لفلان يلطف: إذا رفق، لطفاً، ويقال: لطف الله لك، أي: أوصل إليك ما تحب برفق) (¬9)، وقال الليث: (اللَّطف: البِرُّ والكرامة، وأمٌّ لطيفةٌ بولدها، وفلان لَطيفٌ ¬

_ (¬1) انظر: مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة في: "الإبانة" للأشعري 13/ 21، و"تفسير الماوردي" 2/ 152، والقرطبي 7/ 54 - 57، و"بدائع التفسير" 2/ 167. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3267. وانظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 44، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 138، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص 83، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص 92، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص 246. (¬4) عمرو بن أبي عمرو: هو عمرو بن إسحاق بن مرار الشيباني إمام لغوي ثقة، واسع الرواية, أخذ علم أبيه، سمع منه ثعلب وأبو إسحاق الحربي. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين 231هـ أو بعدها. انظر: "مقدمة تهذيب اللغة" 1/ 35، و"إنباه الرواة" 2/ 360، و"معجم الأدباء" 4/ 473. (¬5) هو إسحاق بن مرار الشيباني أبو عمرو الكوفي، تقدمت ترجمته. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3267. (¬7) أبو العباس هو ثعلب أحمد بن يحيى، تقدمت ترجمته. (¬8) لفظ: (يقال) ساقط من (ش). (¬9) "تهذيب اللغة" 4/ 3267، و"اللسان" 7/ 4036 مادة (لطف).

104

بهذا الأمر أي: رفيق) (¬1)، قال ابن عباس: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بأوليائه {الْخَبِيرُ} بهم) (¬2). 104 - قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية. البصائر: جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء، ومنه يقال للدم الذي يستدل به (¬3) على القتيل: بصيرة (¬4)؛ قال ابن عباس: (يريد: رشداً أو بياناً، وهدىً من ربكم) (¬5)، وقال الكلبي: (يعني: بينات القرآن) (¬6)، وقال الزجاج: (أي قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر) (¬7). وقوله تعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} قال ابن عباس: (يريد: فمن اهتدى فلنفسه {وَمَنْ عَمِيَ} يريد: عن سبيل الهدى، فعليها) (¬8)، وقال الكلبي: ({فَمَنْ أَبْصَرَ} صدّق بالقرآن، وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {فَلِنَفْسِهِ} عمل ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3268، وانظر: "العين" 7/ 429، و"الصحاح" 4/ 1427، وقد جاء في "العين" و"التهذيب": (اللطف البر والتَّكرمة ..) بدل والكرامة. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 95، والبغوي في "تفسيره" 3/ 174، و"الخازن" 2/ 168، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 304، والسمرقندي 1/ 505، والماوردي 2/ 153. (¬3) لفظ: (به) ساقط من (أ). (¬4) انظر: "الجمهرة" 1/ 312، و"تهذيب اللغة" 1/ 342، و"الصحاح" 2/ 591، و"المجمل" 1/ 127، و"المفردات" ص 127، و"اللسان" 1/ 291 مادة (بصر)، وفيها: (البصيرة جمع بصائر، وهي البرهان والدلالة والعبرة). (¬5) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" 2/ 49، قال: (بيان من ربكم يعني: القرآن)، وهو قول السمرقندي في "تفسيره" 1/ 505. (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص 182/ أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 95. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 279. (¬8) لم أقف عليه.

{وَمَنْ عَمِيَ} عن الحق فلم يصدّق، فعلى نفسه جنى العذاب) (¬1)، وقال الزجاج: (المعنى: فلنفسه نفع ذلك {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}، أي: فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن الله جل وعز غني عن خلقه) (¬2). وقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: ما أدفع عنكم ما يريد الله بكم) (¬3)، وقال الكلبي: ({وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [أي: برقيب أحصي عليكم أعمالكم (¬4)] أي: إنما أنا رسول أبلغكم عن ربي، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم) (¬5)، ونحو هذا قال الحسن: (أي: برقيب على آعمالكم حتى أجازيكم بها) (¬6)، قال أبو إسحاق (¬7): (أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم، والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال، فلما أُمر (¬8) بالقتال صار حفيظاً عليهم، ومسيطراً على كل من تولى). ¬

_ (¬1) ذكره السمين في "الدر" 5/ 92 - 93، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 505، و"الوسيط" 1/ 95، و"تفسير البغوي" 3/ 175، و"تنوير المقباس" 2/ 49. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 279، وانظر: "تفسير الطبري" 7/ 305، و"معاني النحاس" 2/ 467. (¬3) لم أقف عليه، وذكر القرطبي في "تفسيره" 7/ 58 نحوه بدون نسبة. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬5) ذكره أهل التفسير بدون نسبة. انظر: "تفسير الطبري" 7/ 305، والبغوي 3/ 175، والقرطبي 7/ 58. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 95، وأبو حيان في "البحر" 4/ 197. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 279. (¬8) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 505، والظاهر أن المعنى: لست رقيبًا عليكم أحصي أعمالكم، فالآية محكمة. وهو قول مكي في "الإيضاح" ص 242، والرازي في "تفسيره" 13/ 134 , وقال ابن حزم في "ناسخه" ص 37، وهبة الله بن سلامة =

105

105 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}، قال الزجاج: (موضع الكاف التي في أول (كذلك) نصب، المعنى: ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم) (¬1)، وقال غيره من النحويين (¬2): (المعنى: نصرف الآيات في غير هذه السورة مثل التصريف في هذه السورة، فهو في موضع صفة المصدر، كأنه قيل: تصريفاً مثل هذا التصريف) (¬3)، وذكرنا معنى تصريف الآيات في هذه السورة قبل. وقال ابن عباس في هذه الآية: (({وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ} (¬4) نبيّن الآيات في القرآن في كل وجه ندعوهم بها ونخوّفهم) (¬5). وقوله تعالى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} قال أبو بكر (¬6): (دخلت الواو في {وَلِيَقُولُوا} عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة {وَلِيَقُولُوا} فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه) (¬7). ¬

_ = في "ناسخه" ص 68: (أن الآية تتضمن ترك قتال الكفار ثم نسخت بآية السيف)، وانظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 327 - 328. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 279. (¬2) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 571، و"المشكل" 1/ 264، و"التبيان" 1/ 352، و"الفريد" 2/ 207. (¬3) قال السمين في "الدر" 5/ 93: (الكاف في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، فقدره الزجاج: ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم. وقدره غيره: نصرف الآيات في غير هذه السورة تصريفًا مثل التصريف في هذه السورة) اهـ. (¬4) في (ش): (وكذلك نصر)، وهو تحريف واضح. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 96، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 100. (¬6) أبو بكر: هو ابن الأنباري محمد القاسم، تقدمت ترجمته. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 96، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 100، والسمين في "الدر" 5/ 95, وانظر: "تفسير القرطبي" 7/ 58.

وأما (درست) (¬1). فقال أبو زيد: (درسْت أدرس دِراسة وهي القراءة، وقال: وإنما يقال ذلك إذا قرأت على غيرك) (¬2)، وقال ابن الأعرابي: (درست الكتاب أدرسُه دَرْساً ودراسةً، أي: ذللته بكثرة القراءة) (¬3). قال الأصمعي: (أصل درس الكتاب من قولهم: درس الطعام إذا داسه يدرسه دِراساً، والدِّراس الدِّياس بلغة أهل الشام. قال وأنشدني ابن ميادة (¬4): يكفيك من بعض ازدياد الآفاق ... سَمْرَاءَ مما دَرَسَ ابن مِخْرَاقْ (¬5) أي: داس: يعني حنطةً سمراء، قال: ودرس السورة من هذا، أي: يدرسها، فيخف على لسانه) (¬6)، وقال أبو الهيثم: (درست الكتاب، أي: ذللته بكثرة القراءة حتى خَفّ حِفظه عليّ، من قولهم: دَرَسْتُ الثوبَ أدرُسه دَرْساً فهو مَدْرُوس وَدَرِيس، أي: أَخْلَقْتُه، ومنه قيل للثوب الخَلَق: دِريس، لأنه قد لان. وقال كعب بن زهير (¬7): ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 7/ 227، و"ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ص 266، و"المفردات" ص 311 مادة (درس). (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 373. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 1173 بلفظ: (دَرَسْتُ الكتاب أدرُسُه دراسة) فقط. (¬4) في النسخ: ابن أبي ميادة، وهو تحريف، والصواب: ابن ميادة الشاعر المشهور الرماح بن أبرد الغطفاني. تقدمت ترجمته. (¬5) ديوانه ص 75, و"الحجة" لأبي على 3/ 373، و"الصحاح" 3/ 927، و"اللسان" 3/ 1360 درس، بلا نسبة في "الجمهرة" 2/ 628، و"تهذيب اللغة" 3/ 1174، و"المجمل" 2/ 322، و"مقاييس اللغة" 2/ 267 (درس). (¬6) ذكره الرازي 13/ 135، عن الواحدي عن الأصمعي، وفي "جمهرة اللغة" 2/ 927، و"الحجة" لأبي علي 3/ 373، بعضه عن الأصمعي، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 1174 بلا نسبة. (¬7) كعب بن زُهَيْر بن أبي سلمى المزني أبو المضراب، تقدمت ترجمته.

وفي الحِلْم إدْهان وفي العَفو دُرْسة ... وفي الصِّدق مَنْجاةُ من الشر فاصدْق (¬1) قال: الدُّرْسةُ: الرياضة، ومنه درست السورة حتى حفظتها) (¬2)، وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه، لأن المعنى فيهما يعود إلى التذليل والتليين (¬3). قال ابن عباس: {وَلِيَقُولُوا} (يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن {دَرَسْتَ} يقولون: تعلمت من يسار (¬4) [أبي فكيهة] (¬5) وجبر (¬6) مولى قريش، وقرأت علينا تزعم أنه من عند الله) (¬7)، وفي قول ابن عباس تعلّمت ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 252، و"تهذيب اللغة" 2/ 1174، و"اللسان" 3/ 1360 مادة (درس)، وفي الديوان: (وفي العفو دربة) بدل (درسة)، وعليه فلا شاهد فيه. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1174. (¬3) نقله الرازي في "تفسيره" 13/ 135 عن الواحدي. (¬4) يسار أبو فكيهة مولى صفوان بن أمية، عبد نصراني عالم بالكتب المتقدمة أسلم بمكة وزعمت قريش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعلم منه. انظر: "السيرة" لابن هشام 1/ 420، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 1/ 116، 268، و"الإصابة" 4/ 156. (¬5) في النسخ: (يسار بن فكيهة) ثم صحح في (أ) إلى (أبي)، وهو الصواب. (¬6) جبر مولى بني عبد الدار نصراني أو يهودي قرأ الكتب المتقدمة، وأسلم بمكة وزعمت قريش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعلم منه. انظر: "السيرة" لابن هشام 1/ 420، و"تفسير القرطبي" 7/ 58، و"تفسير مبهمات القرآن" 1/ 116، و"الإصابة" 1/ 221. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 49 - 50، وذكر الواحدي في "الوسيط" 1/ 96، والبغوي في "تفسيره" 3/ 175، و"الخازن" 2/ 169، وأخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 305 - 308، وابن أبي حاتم 4/ 1365، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس قال: (قرأت وتعلمت تقول ذلك قريش) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 70.

دليل على أن معنى {دَرَسْتَ} قرأت على غيرك. وأخبرنا سعيد بن (¬1) محمد -رحمه الله- أنبا ابن مقسم (¬2) العطار ببغداد عن أبي إسحاق (¬3) النحوي قال: (معناه: وليقولوا قرأت كتب أهل الكتاب) (¬4)، وقال الفراء: (يقولون: تعلمت من يهود) (¬5)، وأخبرني العروضي (¬6) عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري (¬7) عن أبي العباس (¬8) في قول الله تعالى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} قال: (معناه وكذلك نبين لهم الآيات من هنا وهنا لكي يقولوا إنك دَرَسْت، أي: تعلمت، أي: هذا الذي جئت به [عُلِّمتَ] (¬9) (¬10). وقرأ ابن كثير (¬11) وأبو عمرو (دَارسْت) وهو قراءة ابن عباس (¬12) ¬

_ (¬1) سعيد بن محمد الحيري أبو عثمان الزعفراني، إمام تقدمت ترجمته. (¬2) ابن مقسم: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن العطار، إمام مقرئ تقدمت ترجمته. (¬3) أبو إسحاق النحوي هو الزجاج إبراهيم بن السري، تقدمت ترجمته. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 279. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 349. (¬6) العروضي: أحمد بن محمد بن عبد الله السهلي أبو الفضل، تقدمت ترجمته. (¬7) المنذري: أبو الفضل محمد بن أبي جعفر الهروي إمام، تقدمت ترجمته. (¬8) أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى، تقدمت ترجمته. (¬9) في (ش): (علمته). (¬10) (تهذيب اللغة) 2/ 1173، وانظر: "مجالس ثعلب" ص 117. (¬11) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دَارَسْتَ) بألف بعد الدال وسكون السين وفتح التاء، وقرأ ابن عامر بغير ألف وفتح السين وسكون التاء، وقرأ الباقون بغير ألف وسكون السين، وفتح التاء. انظر: "السبعة" 264، و"المبسوط" ص 173، و"التذكرة" 2/ 406، و"التيسير" ص 105، و"النشر" 2/ 261. (¬12) أخرجه الطبري 7/ 305، وابن أبي حاتم 4/ 1365، من طرق جيدة عن أبن عباس ومجاهد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 69، 70.

ومجاهد (¬1)، وفسرها (قرأت على اليهود وقرؤوا عليك). وقال الزجاج (¬2) وأبو علي: (أي: دارست أهل الكتاب وذاكرتهم ويقوّي هذه القراءة قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، (¬3)، وقرأ ابن عامر: (دَرَسَتْ) أي: هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة، قد درست وانمحت ومضت، من الدرس الذي هو تعفي الأثر وامحاء الرسم (¬4). قال الأزهري: (من قرأ (دَرسَتْ) (¬5) فمعناه: تقادمت، أي: هذا الذي تتلوه علينا شيء قد تطاول ومرّ، من قولهم: درس الأثر يدرس درساً) (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 1/ 221، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 468: (قرأ علي بن أبي طالب (دارست)، وهو الصحيح من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأبي عمرو وأهل مكة) ا. هـ وانظر: "مختصر السواد" ص40، و"المحتسب" 1/ 225. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 279 - 280، وهو قول الأخفش في "معانيه" 2/ 285، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 169، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 505، ومكي في "الكشف" 1/ 444، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 572: (أحسن ما قيل في (دارست) أن معناه: دارستنا فيكون معناه كمعنى (دَرَسْتَ) وقيل: معناه دارست أهل الكتاب، فهذا مجاز) اهـ. (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 374، وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص 147، و"إعراب القراءات" 1/ 166، و"الحجة" لابن زنجلة ص 264. (¬4) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 385. (¬5) يعني: قراءة ابن عامر، بفتح السين، وسكون التاء. (¬6) "تهذيب اللغة" 12/ 1174، و"معاني القراءات" 1/ 377؛ وهو قول الزجاج في =

فأما معنى اللام في قوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} فقال أبو بكر: (وأما تصريف الآيات فليسعد بها قوم بفهمها والعمل بما فيها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها، فمن يقول للنبي: ((دارست) أو (درست) فهو شقي، ومن يتبين الحق فيها ويعمل [بها] (¬1) سعيد) (¬2)، ويقوي هذا الذي قاله أبو بكر قوله تعالى: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105] قال ابن عباس: (يريد: أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد) (¬3)، وقال أبو إسحاق: (إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا: (درست) هو تلاوة الآيات عليهم، وهذه اللام يسميها أهل اللغة: لام الصيرورة (¬4)، وهو كقوله عز وجل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه يطلبون بأخذه أن يعاديهم، ولكن كانت عاقبة الأمران صار {لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} كما [يقول] (¬5): كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، وهو لم يقصد بالكتاب أن يهلك نفسه، ولكن العاقبة كانت الهلاك) (¬6)، ومعنى هذا ¬

_ = "معانيه" 2/ 280، ومكي في "المشكل" 1/ 264، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 572: (أحسن ما قيل فيه أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت وليس يأتي محمد بغيرها) اهـ. (¬1) لفظ (بها) ساقط من (أ). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 97، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 100، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 175 بدون نسبة. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 97، والبغوي في "تفسيره" 3/ 175. (¬4) أي: التحول وهو من معاني اللام عند الكوفيين، وعند البصريين تسمى لام العاقبة، ويقال لها أيضاً: لام العلة والمآل والعرض. انظر: "البيان" لابن الأنباري 1/ 334، وما سبق من هذا البحث ص 238. (¬5) في (ش): (يقولون). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 280. وانظر: "معاني النحاس" 2/ 469 - 470، وقال أبو =

107

الكلام يعود إلى معنى قول أبي بكر، لأن المعنى: أن تصريف الآيات صار سبباً لمقالتهم هذه، وذلك للشقاوة التي لحقتهم وقضيت عليهم، وهذا يدل على أن الله تعالى جعل تصريف الآيات سبباً لضلالة قوم وشقوتهم بما قضى عليهم في الأزل من الضلالة، وهذا كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] (¬1). 107 - قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، قال الزجاج: (أي: لو شاء لجعلهم مؤمنين) (¬2)، وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى (¬3). ¬

_ = علي في "الحجة" 3/ 375: (من قال (درستْ): بسكون التاء، فالمعنى في (ليقولوا) لكراهة أن يقولوا , ولأن لا يقولوا: درست، أي: فُصِّلت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا: إنها أخبار وقد تقدمت وطال العهد بها وباد من كان يعرفها كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان: 5]، وأما من قرأ: (دارستَ) و (درستَ) أي: بفتح التاء، فاللام على قولهم كالتي في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] ولم يلتقطوه لذلك، كما لم تفصل الآيات ليقولوا (درست) و (دارست)، ولكن لما قالوا ذلك أطلق هذا عليه في الاتساع) ا. هـ ملخصًا. وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 571 - 572، بعد ذكر قول الزجاج: (وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى: (نصرف الآيات) نأتي بها آية بعد آية ليقولوا: (درست) علينا، فيذكرون الأول بالآخر، فهذا حقيقة، والذي قال الزجاج مجاز) ا. هـ. وانظر: "المشكل" 1/ 264، و"الدر المصون" 5/ 93 - 96. (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 138. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 280، وهذا أظهر الأقوال ورجحه الطبري في "تفسيره" 7/ 309، والبغوي 3/ 176، وأخرجه الطبري في "تفسيره" وابن أبي حاتم 4/ 1366 بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) انظر" "تفسير ابن عطية" 5/ 312، والرازي 13/ 138، والقرطبي 7/ 60.

108

وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: تمنعهم (¬1) مني) (¬2)، ومعنى هذا الكلام أنك لم تُبعث لتحفظ المشركين عن العذاب، إنما بُعثت مبلغاً فلا تهتم لشركهم، فإن ذلك بمشية الله (¬3). وقال مقاتل: ({وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} رقيباً إن لم يوحدوا، ومما أنت عليهم بمسيطر، نسختها آية السيف) (¬4). 108 - قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية قال [قتادة] (¬5) (¬6) والمفسرون (¬7): (كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم عن ذلك لئلا يسبوا الله). وقال الزجاج: (نهوا في ذلك الوقت قبل القتال أن يلعنوا الأصنام التي كانت يعبدها المشركون) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ش): (يمنعهم). (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 182 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 176، و"الخازن" 2/ 169 عن عطاء فقط. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 305. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 583، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص 38، وهبة الله بن سلامة ص 68، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 328 عن ابن عباس، والظاهر أنها محكمة. ورجحه مكي في "الإيضاح" ص 242، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي 2/ 212. (¬5) لفظ: (قتادة) غير واضح في (أ). (¬6) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 215 بسند جيد. (¬7) أخرجه الطبري 7/ 309، وابن أبي حاتم 5/ 312 من طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة والسدي، وهو قول مقاتل 1/ 583، والسمرقندي 1/ 506، وحكاه هود الهواري 1/ 551 عن الحسن والكلبي. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 225، و"الدر المنثور" 3/ 72. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 280.

وقال أبو بكر (¬1) بن الأنباري: (هذه آية منسوخة أنزلها الله [عز وجل] (¬2) والنبي بمكة، فلما قواه بأصحابه نسخ هذه الآية ونظائرها بقوله: {فَاقْتُلُوا (¬3) الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (¬4). وقوله تعالى: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: فيسبوا الله ظلمًا بالجهل، يقال: عَدَا (¬5) فلان عَدْوًا وعُدُوًا وعُدْوانًا وعَدَاء، أي: ظلم ظلمًا جاوز القدر (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ش): (جل وعز). (¬3) في النسخ: (واقتلوا)، وهو تحريف. (¬4) هذا قول ابن حزم في "ناسخه" ص 38، و (ابن سلامة) ص 69، والظاهر عدم النسخ وأن الآية محكمة، وهو اختيار أكثرهم، قال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 329: (لا أرى النسخ بل يكره للإنسان أن يتعرض بما يوجب ذكر معبوده بسوء أو نبيه) ا. هـ، وقال القرطبي 7/ 61: (قال العلماء: الآية حكمها باق على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يُسب الإِسلام أو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الله عز وجل فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية) ا. هـ وانظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراس 3/ 325، وابن عطية 5/ 313، وابن كثير 2/ 183. (¬5) العَدَاء: بالفتح والمد: تجاوز الحد والظلم والجور، يقال: عَدَا -بفتح العين والدال-، فلان عَدْوًا: بفتح العين وسكون الدال، وعُدُوًّا بضم العين والدال وتشديد الواو المفتوحة، وعُدْوانا، بضم العين، وسكون الدال، وعَدَاء: بفتح العين والدال. انظر: "العين" 2/ 213، و"الجمهرة" 2/ 666، و"الصحاح" 6/ 2420، و"المجمل" 3/ 652، و"مقاييس اللغة" 4/ 249، و"المفردات" ص 553، و"اللسان" 5/ 2832 مادة (عدا). (¬6) هذا كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 281، والأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 3347 مادة (عدا)، وانظر: "الزاهر" 1/ 216.

قال السدي: (معناه: لا تسبوا الأصنام فيسبوا من أمركم بما أنتم عليه من عيبها) (¬1). وقال آخرون: (معنى {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون، كما سببتم من تعبدون) (¬2). هذا معنى {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله لأنهم كانوا يقرون أن الله خالقهم وإن أشركوا به. قال الزجاج: (وعدوا) منصوب على المصدر؛ لأن المعنى: فيعدوا عدوًا (¬3)، قال: ويكون بإرادة اللام (¬4) والمعنى: فيسبوا الله للظلم) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 7/ 310، وابن أبي حاتم 4/ 1366، بسند جيد عنه نحوه، وذكره الماوردي 1/ 552، والواحدي في "الوسيط" 1/ 98. وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 743: (اتفق العلماء على أن المعنى: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو، فإن السب في غير الحُجَّة فعل الأدنياء) ا. هـ. وقال ابن الجوزي 3/ 102: (المعنى: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به) ا. هـ. وانظر: "بدائع التفسير" 2/ 170. (¬2) هذا قول الطبري في "تفسيره" 7/ 309، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 203، و"معاني الأخفش" 1/ 285، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 141. (¬3) عدوا: بفتح العين وسكون الدال، وتخفيف الواو المفتوحة. (¬4) وعليه يكون مفعولًا من أجله، أي: لأجل العدو. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 573، و"المشكل" 1/ 265، و"التبيان" 1/ 353، و"الفريد" 2/ 210، و"الدر المصون" 5/ 100. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 281 , ومثله قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2347 مادة (عدا).

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} قال المفسرون (¬1). (يعني: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام والأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخِذلان {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من الخير والشر والطاعة والمعصية)، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: زينت لأوليائي وأهل طاعتي محبتي وعبادتي، وزينت لأعدائي وأهل معصيتي كفر نعمتي وخذلتهم حتى أشركوا) (¬2)، قال الزجاج: (وهذا هو القول، لأنه بمنزلة (¬3): {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 93]، والدليل على هذا قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8] (¬4). وهذه الآية بتفسير هؤلاء دليل على تكذيب القدرية (¬5) حيث قالوا: لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه (¬6). ¬

_ (¬1) وهو الأظهر وقول الأكثر، انظر: "تفسير الطبري" 7/ 311، و"معاني النحاس" 2/ 472، والسمرقندي 1/ 506، والبغوي 3/ 177، وابن عطية 5/ 313، وابن الجوزي 3/ 103، وابن كثير 2/ 184. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 98، والقرطبي 7/ 61 - 62. (¬3) في النسخ: (بل طبع الله على قلوبهم)، وهو تحريف. وفي سورة النساء آية 155 {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم}، وفي "معاني الزجاج" 2/ 281: (الأجود أنه بمنزلة {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108]، فذلك تزيين أعمالهم، قال الله {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم}) ا. هـ. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 281. (¬5) القدرية تزعم أن العبد يخلق فعله، والكفر والمعاصي ليست بتقدير الله تعالى, وقولهم باطل. انظر مذهبهم والرد عليهم في: "الإبانة" للأشعري ص 56, و"الشريعة"، للآجري ص 128، و"شرح الطحاوية" لابن أبي العز 2/ 355. (¬6) ذكر نحوه القرطبي 7/ 62، والخازن 2/ 170، وانظر: "الفتاوى" 14/ 290، =

109

109 - [قوله تعالى] (¬1): {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية، ذكرنا معنى القسم (¬2) عند قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] والاستقسام في سورة المائدة (¬3) والإقسام من ذلك الأصل أيضًا، وذلك أن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الذي يخبر به الإنسان إما مثبتًا للشيء أو نافيًا. ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب لم يأمن المخبر بالشيء عن نفسه أن يرد خبره ولا يقبل، فأكّد خبره باليمين، ولما كان التنازع يكثر في الإقسام، والدعاوى في الأشياء لا تنقطع إلا بالتوكيد، اشتقوا لفظه من القسم، وبنوها على أَفَعَل، فقالوا: أَقْسَم (¬4) فلان بالله، يقسم إقسامًا، وأرادوا أنه حاز القسم الذي وقع التنازع فيه، بذكر الله، وبنوا الفعل على أفعل؛ لأنهم قصدوا قصد رجل أمال الشيء إلى جانبه باليمين، واسم اليمين القَسَم، والجمع الأقسام. ¬

_ = وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 170 - 171: (يضاف التزيين إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، وحذف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه، ومن أجراه على يده تارة، وهذا التزيين ابتلاء واختبار للعبد، ليتميز المطيع منهم من العاصي، وعقوبة منه له على إعراضه وإيثاره سيئ العمل على حسنه، وحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول، فتزيِن الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته) ا. هـ. ملخصًا. (¬1) في (أ): (قوله عز وجل). (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 229 ب. (¬3) انظر: "البسيط" صورة في مكتبة جامعة الإمام 3/ 9 أ. (¬4) القَسَم: بالفتح، اليَمين والحَلف، وأصله من القَسَامَة، بالفتح، وهي أيمان تقسم علي أولياء المقتول، ثم صار اسمًا لكل حَلِف؛ يقال: أَقْسَم بسكون القاف وفتح =

وهذا الذي ذكرنا في معنى القسم مذهب الزجاج وأبي علي الفسوي (¬1) وغيرهما ممن يوثق بعربيتهم، قال المفسرون: (8) (لما أُنزل قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] أقسم المشركون بالله {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وسأل المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلها الله عليهم حتى يؤمنوا، وعلم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فأنزل هذه الآية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬2)، قال الكلبي (¬3) ومقاتل (¬4): (إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه)، وقال الزجاج: (اجتهدوا في المبالغة في اليمين) (¬5)، وقال عطاء (¬6): (يريد. بأغلظ الأيمان). ¬

_ = السين، يُقْسِم: بكسر السين، إقسامًا، والجمع أقْسَام. انظر: "العين" 5/ 86، (الجمهرة) 2/ 852، و"الاشتقاق" لابن دريد ص 62، و"تهذيب اللغة" 3/ 2963، و"الصحاح" 5/ 2010، و"المجمل" 3/ 752، و"المفردات" ص 670، و"اللسان" 6/ 3630 مادة (قسم). (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 117 عن الواحدي، ولم أقف عليه عند الزجاج وأبي علي الفارسي بعد طول بحث. (¬2) ذكره الفراء في "معانيه" 1/ 349، و"النحاس" 2/ 474، والسمرقندي 1/ 506، وقال ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 103: (رواه أبو صالح عن ابن عباس) ا. هـ. وحكاه الماوردي 2/ 156، عن الكلبي، وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 228. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 51، وذكره الثعلبي 182 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 99، والبغوي 3/ 177، والرازي 13/ 143 عن الكلبي ومقاتل. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 583. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 281، وذكر النحاس في "معانيه" 2/ 472، نحوه، والجهد: بفتح الجيم، وسكون الهاء المبالغة والغاية، وقيل: الوسع والطاقة، وقيل: المشقة. انظر: "اللسان" 2/ 708 مادة (جهد). (¬6) ذكره ابن الجوزي 2/ 380، عن ابن عباس وذكره البغوي 3/ 69، بلا نسبة.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: إنه هو القادر على الإتيان بها (¬1)، وقيل: (معناه: إنها عند الله يأتي بها متى شاء، وليس لكم أن تتحكموا في طلبها) (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} قال أبو علي: (ما) استفهام وفاعل {يُشْعِرُكُمْ} ضمير ما، والمعنى: وما يدريكم إيمانهم، فحذف المفعول، وحذف المفعول كثير، والتقدير: وما يدريكم إيمانهم، أي: هم لا يؤمنون مع مجيء الآية إياهم (¬3). ونحو هذا ذكره ابن الأنباري (¬4) فقال: (كأن الكلام انقطع عند ¬

_ (¬1) هذا قول الطبري في "تفسيره" 7/ 311، والثعلبي في "الكشف" 182 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 177، وابن الجوزي 3/ 104. (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 114. (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 377: (وعليه تكون ما استفهامًا إنكاريًّا مبتدأ، وجملة (يشعركم) خبرها. و (يشعركم) مضارع فاعله ضمير يعود على ما، وكم مفعول أول، والثاني محذوف، والتقدير: وما يدريكم إيمانهم وقت مجيئها). انظر: "البيان" 1/ 530، و"الفريد" 2/ 210، و"الدر المصون" 5/ 101. (¬4) لم أقف عليه وفي إيضاح الوقف والابتداء 2/ 642 - 643، قال في الآية: (من قرأ (إنها) بالكسر وقف على (وما يشعركم) وابتدأ (إنها)، ومن قرأ (أنها) بالفتح كان له مذهبان أحدهما: أن يكون المعنى: وما يشعركم بأنهم يؤمنون أو لا يؤمنون ونحن نقلب أفئدتهم، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على (يشعركم)؛ لأن (أن) متعلقة به، والوجه الآخر أن يكون المعنى: وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، فيحسن الوقف على (يشعركم) والابتداء بأن مفتوحة، حكي عن العرب: ما أدرى أنك صاحبها، المعنى: لعلك صاحبها، وقرئ: (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) على خطاب الكفرة إليكم) ا. هـ. وقال في (الأضداد) ص 211 - 216: (لا جحد محض، وأن دخلت إيذانا بالقول إذ لم يصرح لفظه، وتكون لا بمعنى الإثبات وما للتوكيد, والمعنى: أنها إذا جاءت يؤمنون) ا. هـ. ملخصًا.

{يُشْعِرُكُمْ} بتقدير مفعول معه يراد به، أي شيء يشعركم إيمانهم، ويوقع في أنفسكم صحة ما حلف عليه الكفار)، وهذا معنى قول الزجاج: (أي لستم تعلمون الغيب، ولا تدرون أنهم يؤمنون) (¬1)، ألا ترى أنه ذكر مفعول الإشعار، وقال مجاهد: (وما يدريكم [أنكم] (¬2) تؤمنون، ثم استقبل يخبر فقال: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}) (¬3). وقوله تعالى: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} قرأ ابن كثير (¬4) وأبو عمرو (إنها) بكسر الهمزة على الاستئناف، وهي القراءة الجيدة. قال سيبويه: (سألت الخليل عن هذه القراءة، فقلت: ما منع أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما قال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ثم ابتدأ فأوجب فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) ولو قال: (وما يشعركم أنها) بالفتح كان ذلك عذرًا لهم (¬5)، انتهى كلامه. ومعنى قوله: (كان [ذلك] (¬6) عذرًا لهم) أنك لو فتحت أن وجعلتها التي في نحو: بلغني أن زيدًا (¬7) منطلق، لكان عذرًا لمن أخبر عنهم أنهم ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 282. (¬2) في (ش): (أنهم يؤمنون). وعليه يكون الخطاب للمؤمنين وهو أحد قولي مجاهد، كما في "تفسيره" 1/ 221، قال: (وما يدريكم أنهم يؤمنون، ثم أوجب عليهم أنهم لا يؤمنون) ا. هـ. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 312، وابن أبي حاتم 4/ 1368 من عدة طرق جيدة، وذكر السيوطي في "الدر" 3/ 73. (¬4) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية (إنها) بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "السبعة" ص 265، و"المبسوط" ص 173، و"التذكرة" 2/ 407، و"التيسير" 106، و"النشر" 261. (¬5) "الكتاب" 3/ 123. (¬6) لفظ: (ذلك) ساقط من (أ). (¬7) انظر: "الكتاب" 3/ 122.

لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: إن زيداً لا يؤمن، فقلت: وما يدريك أنه لا يؤمن، كانت المعنى: انه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذرًا لمن نفى الإيمان عنه، وليس المراد في الآية عذرهم وأنهم يؤمنون (¬1)، ألا ترى أن الله سبحانه قد أعلمنا في الآية الثانية أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا} إلى قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] وقرأ الباقون (أنها) بالفتح. قال الخليل: (هي بمنزلة قول العرب: أئت السوق أنك تشتري لنا شيئًا، أي: [لعلك] (¬2) فكأنه قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون) (¬3)، انتهى كلامه. وأن بمعنى (¬4) لعل كثير في كلامهم كقوله (¬5): ¬

_ (¬1) هذا شرح لأبي علي في "الحجة" 3/ 378، وقال السمين في "الدر" 3/ 102: (وقد شرح الناس قول الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره)، ثم ذكر هذا الشرح، وانظر: "تفسير الرازي" 13/ 145. (¬2) في (ش): (لعل). (¬3) "الكتاب" 3/ 123. (¬4) من معاني أن المشددة المفتوحة أنها تكون بمعنى لعل عند الأكثر. انظر: "حروف المعاني" ص 57، و"معاني الحروف" ص 112، و"الصاحبي" ص 176، و"رصف المباني" ص 207، و"مغني اللبيب" 1/ 40. (¬5) الشاهد مختلف في نسبته، وهو لحاتم الطائي في "ديوانه" ص 45، ولمعن بن أوس المزني في "ديوانه" ص 80، ولدريد بن الصمة الجشمي في "ملحق ديوانه" ص 116، والطبري 7/ 313، والثعلبي ص 182/ ب، ولحطائط بن يعفر النهشلي في "مجاز القرآن" 1/ 55، و"الحماسة" لأبي تمام 2/ 358، و"عيون الأخبار" 3/ 181، و"الشعر والشعراء" ص 147، 157 - 158، والطبري 3/ 78، و"الحجة" لأبي علي 2/ 225، و"الدر المصون" 2/ 117، وذكر في "اللسان" 1/ 158، أنن، نسبته إلى هؤلاء، وهو بلا نسبة في "الإبدال" لابن السكيت ص85، و"أمالي القالي" 2/ 79، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 236، والرازي =

أرِيني جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لأَنَّنِي ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدا وقال آخر (¬1): هَل أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لأنا ... نَرَى العَرَصاتِ أَوْ أَثَرَ الخيامِ وقال عدي (¬2) بن زيد: أَعاذِل ما يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي ... إلى ساعَةٍ في اليَومِ أو في ضُحى الغَدِ (¬3) ¬

_ = 13/ 144. والشاهد: (لأنني) أراد: لعلني، وفي الدواوين وأكثر المراجع: (لعلني) بدل (لأنني)، وعليه فلا شاهد فيه. (¬1) الشاهد للفرزدق في "ديوانه" 2/ 290، و"الحجة" لأبي علي 3/ 379، و"اللسان" 7/ 4049 مادة (لغن)، وهو لجرير في "ملحق ديوانه" ص 1039، و"اللسان" 1/ 158 مادة (أنن)، و"الدر المصون" 5/ 103، وبلا نسبة في "الإنصاف" 1/ 184، والقرطبي 4/ 154. وعائجون: أي مائلون. والعرصات: جمع عرصة، وهو وسط الدار. والشاهد: لأنا يريد: (لعنا)، وفي ديوانه الفرزدق وأكثر المراجع، (لعلنا) بدل (لأنا) وفي بعض المراجع (لِغنا) بالغين والفتح، وهي لغة في لعل. (¬2) عَدي بن زيد بن حمار بن زيد العبادي التميمي أبو عمير، من أهل الحيرة، شاعر جاهلي فصيح، نصراني، مقدم على شعراء عصره؛ لكونه أول من كتب بالعربية والفارسية لدى كسرى، قتله النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقال ابن قتيبة: (علماؤنا لا يرون شعره حجة). انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 135 - 140، و"الشعر والشعراء" ص130، و"معجم المرزباني" ص 73، و"الأعلام" 4/ 220. (¬3) "ديوانه" ص 103، و"الشعر والشعراء" ص 131، والطبري 7/ 313، و"جمهرة أشعار العرب" ص 179، و"المدخل للحدادي" ص 449، والثعلبي 182 ب، والبغوي 3/ 178، وابن الجوزي 3/ 105، والرازي 13/ 144، والقرطبي 7/ 64، و"اللسان" 1/ 158 مادة (أنن)، والخازن 2/ 172، و"الدر المصون" 5/ 103، وابن كثير 2/ 184، وفي (الديوان): (إلا تظنُّنا) بدل (أن منيتي)، وعليه فلا شاهد فيه.

وفسر علي: لعل منيتي، ويدل على صحة هذا وجودته في المعنى أنه قد جاء في التنزيل لعل بهذا (¬1) العلم كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17]، وهذا الذي ذكره الخليل من أن (¬2) بمعنى لعل مذهب الفراء أيضًا قال: (وللعرب لغة في لعل بأن، وهو وجه جيد أن تجعل أن في موضع لعل) (¬3)، ثم ذكر وجهًا آخر لهذه القراءة: (وهو أن تجعل لا صلة قال: ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] معناه: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون) (¬4)، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا (¬5). قال الزجاج: (والذي ذكر أن لا لغوٌ (¬6) غالط؛ لأن ما كان لغوًا لا يكون غير لغو، ومن قرأ (إنها) بالكسرة لم يكن لا لغوًا، فليس يجوز أن يكون معنى لفظه مرة النفي ومرة الإيجاب) (¬7). ¬

_ (¬1) في "الحجة" لأبي علي 3/ 380 (لعل بعد العلم). (¬2) هكذا في النسخ، والأولى: (من أن - أن بمعنى لعل). (¬3) "معاني الفراء" 1/ 350، وهو قول الأخفش في "معانيه" 2/ 285 قال: (قرأ بعضهم (أنها) وبها نقرأ وفسر على لعلها ..) اهـ. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 350. (¬5) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 380 عند شرح هذا الوجه. (¬6) لغو: أي زائدة وانظر: "الإغفال" ص 677. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 283، وحكى كونها زائد النحاس في "معانيه" 2/ 473، عن الكسائي ثم قال: (وهذا عند البصريين غلط؛ لأن أن لا تكون زائدة في موضع تكون فيه نافية) ا. هـ، وقال الزجاج في "معانيه": (قد أجمعوا أن معنى (أن) هاهنا إذا فتحت معنى لعل، والإجماع أولى بالاتباع) ا. هـ، وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 10/ 10 - 11 , 13/ 246، 14/ 495، في شرح الآية: (هذا استفهام نفي وإنكار، أي: وما يدريكم (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وأنا {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. على قراءة من قرآ (إنها) بالكسر تكون جزمًا =

قال أبو علي: (يجوز أن يكون لا في تأويل زائدة، وفي تأويل غير زائدة، كقول الشاعر (¬1): أَبَى جُوده لا البُخْلَ واستَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنَ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ قاتِلهْ ينشد: لا البخلِ ولا البخلَ، فمن نصب البخلَ جعلها زائدة كأنه قال: أبي جوده البخل، ومن قال: لا البخلِ أضاف لا إلى البخل. ومثل هذه الآية في أن لا فيها يجوز أن يكون زائدة ويجوز أن لا يكون قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]، (¬2)، وسنذكر ¬

_ = بأنها {إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وأشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة، وليس كذلك، لكنها داخلة في خبر أن، والمعنى: إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنا أفعل بهم هذا لم يكن قسمهم صدقًا بل قد يكون كذبًا، وهو ظاهر الكلام المعروف أنها أن المصدرية ولو كان (ونقلب) إلى آخره كلامًا مبتدأ لزم أن كل من جاءته آية قُلب فؤاده، وليس كذلك بل قد يؤمن كثير منهم، ومن فهم معنى الآية عرف خطأ من قال: أن (أن) بمعنى لعل واستشكل قراءة الفتح، بل يعلم حينئذ أنها أحسن من قراءة الكسر) ا. هـ وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 316، وابن كثير 2/ 184. (¬1) لم أعرف قائله، وهو في: "معاني الأخفش" 2/ 294، والطبري 8/ 129، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 211، و"الإغفال" ص 690، و"كتاب الشعر" 1/ 117، و"الخصائص" 2/ 35، 283، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 537، 542، وابن عطية 5/ 316، و"اللسان" 8/ 4485 مادة (نعم) و15/ 466 (لا)، و"مغني اللبيب" 1/ 248. (¬2) "الحجة" لأبي علي 3/ 380 - 381، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 379، و"إعراب القراءات" 1/ 167, و"الحجة" لابن خالويه ص 147، ولابن زنجلة ص 265، و"الكشف" 1/ 444.

الوجهين في الآية إذا انتهينا إليها إن شاء الله (¬1). واختلفوا في قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} فقرأ (¬2) بعضهم بالياء، وهو وجه القراءة؛ لأن قوله: [و] (¬3) أَقْسَمُوا بالله) الآية [الأنعام: 109] إنما يراد به قوم مخصوصون يدلك على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} الآية [الأنعام: 111] وليس كل الناس بهذا الوصف، [و] (¬4) المعني: وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوا لم يؤمنوا، فالوجه الياء؛ لأن الذين نفى عنهم الإيمان هم الغُيّب المقسمون، أي: لا يؤمنون هؤلاء الغيب المقسمون، وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء، وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالمخاطبين في (يؤمنون) هم الغُيّب المقسمون الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون (¬5). وذهب مجاهد وابن زيد (¬6) إلى أن الخطاب في قوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للكفار الذين أقسموا، قال مجاهد: (وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 250 ب. (¬2) قرأ ابن عامر وحمزة {لَا تُؤْمِنُونَ} بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "السبعة" ص 265، و"المبسوط" ص 173، و"التذكرة" 2/ 408، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 261. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬5) ما تقدم هو كلام الفارسي في "الحجة" 3/ 382 - 383، إلا أنه لم يختر القراءة بالياء بل وجه القراءة فقط. وانظر: "معانى القراءات" 1/ 380، و"إعراب القراءات" 1/ 167، و"الحجة" لابن خالويه ص 147، ولابن زنجلة ص 267، و"الكشف" 1/ 446. (¬6) ذكره ابن عطية في "تفسيره" 5/ 315، والرازي 13/ 245، والقرطبي 7/ 64، وأبو حيان في "البحر" 4/ 201.

110

جاءت) (¬1)، وهذا يقوي [قراءة] (¬2) من قرأ (تؤمنون) بالتاء، على ما ذكرنا أولاً الخطاب في قوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للمؤمنين، وذلك أنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون، وهو الوجه؛ لأنه قيل للمؤمنين: تمنون ذلك، وما يدريكم أنهم يؤمنون، على ما شرحنا وبينا (¬3). 110 - قوله تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} قال المفسرون (¬4): (نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون، حُلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة). قال ابن عباس في رواية عطاء: ({وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي، قال: وهذا كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] قال: يريد: يحول بين المؤمن وبين أن يكفر به وبين الكافر وبين أن يؤمن به) (¬5)، والتقليب (¬6) والقلب واحد وهو تحويلك (¬7) الشىء عن وجهه، ومعنى تقليب [الأفئدة والأبصار] (¬8) هاهنا، هو أن الواجب من مقتضى الآية أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فعرفوها بقلوبهم ورأوها بأبصارهم، فإذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) لفظ: (قراءة) مكرر في (أ). (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 145، فقد نقل عامة الأقوال التي ذكرها الواحدي، وكذلك نص كلام الواحدي في التوجيه، دون نسبة. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 314، والسمرقندي 1/ 507، والماوردي 2/ 156. (¬5) ذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 172. (¬6) القلب: بفتح القاف وسكون اللام. والتقليب -بفتح التاء وسكون القاف وكسر اللام-: الصرف، وتحويل الشيء عن وجهه. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 3027، و"الصحاح" 1/ 205، و"المفردات" ص 681، و"اللسان" 6/ 3713 مادة (قلب). (¬7) (تحويلك) غير واضح في (ش). (¬8) في (ش): (الأفئدة أو الأبصار).

لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله تعالى قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن يكون عليه، وهو معنى ما قاله المفسرون: (نحول بينهم وبين (¬1) الإيمان لو جاءتهم الآية) (¬2). وقد أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل (¬3) بن أبي القاسم الصوفي -رحمه الله-[أنبا] (¬4) أبو عمرو محمَّد بن (¬5) جعفر بن مطر أنبا إبراهيم (¬6) بن شريك نبا شهاب (¬7) نبا حماد (¬8) عن ¬

_ (¬1) النسخ: (وبين أهل الإيمان). وفي (أ): ضرب على - (أهل) - وهو الصواب. (¬2) ذكر ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 172، نحوه. وانظر: البغوي 3/ 178، وابن الجوزي 3/ 105، والقرطبي 7/ 65. (¬3) أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن محمد النصراباذي الواعظ. تقدمت ترجمته. (¬4) في (أ): (أنا). (¬5) محمد بن جعفر بن محمد بن مَطَر النيسابوري، أبو عمرو الزاهد، إمام علامة عابد، كان ذا حفظ، وإتقان، متعففًا قانعًا، يحيي الليل ويجتهد في متابعة السنة، ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع الكثير، وسمع منه الحفاظ الكبار، توفي سنة 360 هـ، وله 95 سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 162، و"البداية والنهاية" 11/ 271، و"شذرات الذهب" 3/ 31. (¬6) إبراهيم بن شَرِيك بن الفَضل ابن خالد الأسدي أبو إسحاق الكوفي نزيل، محدث ثقة، توفي سنة 302 هـ، أو قبلها. انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 102، و"سير أعلام النبلاء" 14/ 120، و"تاريخ الإِسلام" ص 84، و"شذرات الذهب" 2/ 238. (¬7) شهاب بن عباد العبدي أبو عمر الكوفي إمام ثقة، توفي سنة 224 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 4/ 235، و"الجرح والتعديل" 4/ 363، و"تهذيب التهذيب" 2/ 181. (¬8) حماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل البصري، إمام علامة، عابد فاضل، فقيه، ثقة، ثبت، أجمعوا على جلالته، روى عن جماعة من التابعين، وتوفي سنة =

أيوب (¬1) وهشام (¬2) ومعلى (¬3) بن زياد عن الحسن قال: (قالت عائشة رضي الله عنها: دعوة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يدعو بها: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيراً ما تدعو بها؟ قال: "إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، [وإذا] (¬4) شاء أن يزيغه أزاغه" (¬5). ¬

_ = 179 هـ، وله 81 سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 287، و"الحلية" 6/ 257، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 456، و"تهذيب التهذيب" 1/ 480. (¬1) أيوب بن كيسان السَّختيَاني، أبو بكر بن أبي تميمة البصري، إمام عابد، فقيه، ثبت، متقن، أجمعوا على إمامته ووفور علمه، روى عن جماعة من التابعين، وتوفي سنة 131 هـ، وله 65 سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 246، و"الجرح والتعديل" 2/ 256، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 18، و"تهذيب التهذيب" 1/ 200. (¬2) هشام بن حسان الأزدي أبو عبد الله البصري القردوسي، تقدمت ترجمته. (¬3) مَعلَّى بن زياد القُرْدُوسي، أبو الحسن البصري، إمام عابد، زاهد صدوق، قليل الحديث، روى عن جماعة من التابعين، وتوفي بعد المائة. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 7/ 394 (1715)، و"الجرح والتعديل" 8/ 330، و"ميزان الاعتدال" 4/ 148، و"تهذيب التهذيب" 4/ 122، و"تقريب التهذيب" ص 541 (6804). (¬4) في (أ): (وإن شاء). (¬5) سند الواحدي جيد لكنه مرسل، قال المزي في "تهذيب الكمال" 6/ 97: (الحسن رأى عائشة ولم يصح له سماع منها) ا. هـ، وذكر طريق الواحدي ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 173، وأخرجه أحمد في "المسند" 6/ 91، عن الحسن، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 100، رقم 224، 233، والآجري في "الشريعة" ص 263، 264، من طرق عن عائشة، وأخرجه الآجري عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، وصحح طريق عائشة الألباني في تعليقه على "السنة" 1/ 101 ص 104، والحديث ثابت صحيح من عدة طرق أخرى، فقد روي من طرق جيدة عن أنس، والنواس بن سمعان، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأم =

وقوله تعالى: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا} دخلت الكاف على محذوف تقديره: فلا يؤمنون {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني: أول مرة أتتهم الآيات، مثل انشقاق القمر، وغيره من الآيات، والتقدير: فلا يؤمنون ثاني مرة بما طلبوا من الآيات؛ كما لم يؤمنوا أول مرة، وهذا معنى قول ابن زيد (¬1) ومجاهد (¬2) والكلبي (¬3). والكناية في (به) يجوز أن تعود على القرآن، وعلى محمد، ويجوز أن تعود على ما طلبوا من الآيات (¬4) وقال بعضهم: معنى الكاف في قوله ¬

_ = سلمة، أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 173 ص 168 و3/ 112 و157 و4/ 182 و6/ 315، وابن ماجه 1/ 72، رقم 199 و2/ 1260، رقم 3834، والترمذي وحسنه 4/ 448، رقم 2140 و5/ 538، رقم 3522، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 98 - 104، والآجري في "الشريعة" ص 263، 264، و"الحاكم" وصححه 2/ 289 و4/ 321، وصحح أكثر طرقه الألباني في تعليقه على "السنة". وانظر: "مجمع الزوائد" 7/ 210، وأخرج مسلم 3/ 2045، رقم 2654، عن عبد الله بن عمرو قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث شاء"، ثم قال: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" ا. هـ (¬1) أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 314، وابن أبي حاتم 4/ 1369 بسند جيد عنه قال: (نمنعهم من ذلك كما فعلنا بهم أول مرة، وقرأ (كما لم يؤمنوا به أول مرة) ا. هـ. (¬2) أخرج الطبري في "تفسيره" 7/ 314، وابن أبي حاتم 4/ 1369 بسند جيد عنه قال: (نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 72. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 52. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 7/ 315، والسمرقندي 3/ 306، وابن الجوزي 3/ 106.

{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا} معنى الجزاء (¬1)، ومعنى الآية: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى، يعني: كما لم يؤمنوا أول مرة، فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية، وعلى هذا لا محذوف في الآية، وهو معنى قول ابن عباس (¬2) والعوفي (¬3) وهذه الآية حجة على القدرية الذين يكذبون بقضاء الكفر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 319، ونقل الرازي 3/ 148، السمين في "الدر" 5/ 111، هذا القول عن الواحدي، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 172: (اختلف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فقال كثير من المفسرين المعنى: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة. وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم، وهذا معنى حسن، فإن كاف التشبيه تتضمن نوعًا من التعليل، كقوله {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر. والتقليب: تحويل الشيء عن وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية وصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذ جاءتهم لأنهم رأوها عيانًا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبًا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه ..) ا. هـ ملخصًا، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 204: (الكاف في (كما) الظاهر أنها لتعليل، وهو واضح فيها وإن كان استعمالها فيه قليلاً. وقالت فرقة: هي بمعنى المجازاة، وهو معنى التعليل إلا أن تسمية ذلك غريبة لا يعهد في كلام النحويين أن الكاف للمجازاة) ا. هـ ملخصًا. (¬2) أخرجه الطبري 7/ 315، وابن أبي حاتم 4/ 1370 بسند جيد، قال: (لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا) ا. هـ , وأخرجا بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر) ا. هـ. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 146، 147.

111

وقوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون) (¬1). 111 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} الآية، كان المشركون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرنا الملائكة يشهدون لك بالنبوة، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل؟ والمسلمون يتمنون آية تأتيهم لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} كما شاؤوا ورأوهم عيانًا {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} فشهدوا لك بالنبوة (¬2) {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} وقرئ (قِبَلا) (¬3) قال أبو زيد: (يقال: لقيت فلانًا قِبَلًا ومُقَابَلة، وقَبَلاَ وقُبُلًا وقِبليًّا وقَبِيلاً، كله واحد، وهو المواجهة) (¬4)، والمعنى في القراءتين على ما قاله أبو زيد واحد وإن اختلف ¬

_ (¬1) ذكره ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 173، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 100، والبغوي 3/ 179 من قول عطاء، وأخرج الطبري 7/ 315، وابن أبي حاتم 4/ 1370، تحقيق أحمد الزهراني بسند جيد عن ابن عباس، قال: {يَعْمَهُونَ} يتمادون. وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 185. (¬2) هذا قول الفراء في "معانيه" 1/ 350، و"النحاس" 2/ 475، والسمرقندي 1/ 507، وأخرجه ابن أبي حاتم 4/ 137 بسند جيد عن مجاهد، وذكره هود الهواري 1/ 552 عن الحسن، وذكره ابن الجوزي 3/ 106، والرازي 13/ 150، عن ابن عباس. (¬3) قرأ ابن عامر ونافع (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ الباقون بضمهما. انظر: "السبعة" ص 265 - 266، و"المبسوط" ص 173، و"التذكرة" 2/ 408، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 261، 262. (¬4) "النوادر" ص 235، وقبلاً: بكسر القاف وفتح الباء، ومقابلة: بضم الميم، وفتح القاف والباء، وقبلا بالفتح، وقبلاً: بالضم. وقبليًّا: بالفتح وتشديد الياء. وقبيلاً: بفتح القاف وكسر الباء.

اللفظان، فأما من قرأ (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء، فقال أبو عبيدة (¬1) والفراء (¬2) والزجاج (¬3) وجميع أهل اللغة (¬4): (معناه: عيانًا، يقال: لقيته قِبَلًا أي: معاينةً). قال ابن الأنباري (¬5): (قال أبو ذر (¬6): قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أنبيًّا كان آدم؟ فقال: "نعم كان نبيًّا كَلَّمَهُ الله قِبلًا") (¬7). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 204. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 351. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 283، وهو قول الأخفش 2/ 286، واليزيدي في "غريبه" ص 141، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 1/ 169، والطبري 8/ 2، مكي في "تفسير المشكل" ص 79. (¬4) انظر: "العين" 5/ 166، و"الجمهرة" 1/ 372، و"تهذيب اللغة" 3/ 2826، و"الصحاح" 5/ 1795، و"المجمل" 3/ 741، و"المفردات" ص 653، و"اللسان" 6/ 3520 مادة (قبل). (¬5) ذكره السمين في "الدر" 5/ 112. (¬6) أبو ذر: صحابي مشهور، اختلف في اسمه. والمشهور: جندب بن جنادة بن السكن الغفاري، مشهور بكنيته، صحابي فاضل جليل، أحد السابقين إلى الإسلام، رأس في الزهد والصدق، والعمل والعلم، لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهد معه، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي رضي الله عنه سنة 32 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 4/ 219، و"الحلية" 1/ 156، و"الاستيعاب" 4/ 216، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 46، و"الإصابة" 4/ 62، و"تهذيب التهذيب" 4/ 519. (¬7) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ص 449 بسند ضعيف، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 198، وقال: (رواه الطبراني في الأوسط, وأحمد بنحوه، وفيه المسعودي قد اختلط) ا. هـ, وأخرجه أحمد في "المسند" 5/ 178 و179، والبخاري في "التاريخ الكبير" 5/ 447 بلفظ: (آدم نبي مكلم)، وفيه: المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة الكوفي، إمام صدوق اختلط قبل موته كما في "التقريب" 344 (3919) , وعبيد بن الخشخاش، قال ابن حجر في "التقريب" =

ومن قرأ (قُبُلًا) (¬1) فله ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون جمع قَبِيل (¬2) الذي يراد به الكفيل، يقال: قَبَلْتُ (¬3) بالرجل أقْبَل قَبَالةً، أي: كفلتُ به، ويكون المعنى: لو حُشر عليهم كل شيء فكفل بصحة ما تقول ما آمنوا (¬4). فإن قيل: إذا لم يؤمنوا مع إنزال الملائكة إليهم وأن يكلمهم الموتى، مع أن ذلك مما [يبهر] (¬5) ظهوره، ويضطرب مشاهدته، فكيف يؤمنون بالكفالة التي هي قول لا يبهر ولا يضطر، ويجوز أن لا يصدقوا بكفالتهم، وأي أعجوبة في كفالتهم حتى تذكر مع إنزال الملائكة وكلام الموتى؟ قيل: في الأشياء المحشورة ما ينطق وما لا ينطق، فإذا نطق بالكفالة من لا ينطق كان ذلك موضع بهر الآية، ومعنى {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} جمعنا (¬6) {عَلَيْهِمْ كُلَّ ¬

_ = 376 (4371) مادة (لين)، وأبو عمر الدمشقي، قال ابن حجر في "التقريب" 660 (8265) (ضعيف). وأخرجه الحاكم 2/ 262 عن أبي أمامة بلفظ: (نبي معلم مكلم)، قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ا. هـ، وفيه: ممطور الأسود أبو سلام الحبشي، قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص 215: (سمعت أبي يقول: ممطور الحبشي عن أبي أمامة مرسل) ا. هـ، وانظر: "الدر المنثور" 1/ 104، وقال ابن الأثير في "النهاية" 4/ 8: (في حديث آدم إن الله كلمه قبلا -بكسر القاف وفتح الباء- أي: عيانًا ومقابلة، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولي أمره أو كلامه أحدًا من ملائكته) ا. هـ، وانظر: مرويات الإمام أحمد في "التفسير" 2/ 124 - 125. (¬1) أي: بالضم. (¬2) قبيل: بفتح القاف وكسر البار كَرِغيف ورُغُف - أفاده السمين في "الدر" 5/ 113. (¬3) قَبَلْتُ: بالفتح، أَقْبَل: بسكون القاف وفتح الباء، قَبَالة: بالفتح. أفاده السمين في "الدر" 5/ 113. (¬4) ذكر هذا الوجه أكثرهم، وهو اختيار الفراء في "معانيه" 1/ 350. (¬5) في (ش): (يبهز)، وهو تصحيف. (¬6) في (ش): تكرر لفظ (جمعنا عليهم).

شَيْءٍ} في الدنيا. الوجه الثاني: أن يكون (قُبُلًا) جمع قبيل (¬1) بمعنى الصنف، المعنى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} [قبيلًا قبيلاً] (¬2)، والأعجوبة في هذا هو جمع الأشياء جنسًا جنسًا، وجمع الأشياء ليس في العرف (¬3) أن تجمع وتحشر إلى موضع. الوجه الثالث: أن يكون (قُبلًا) بمعنى (قِبلًا) (¬4) أي: مواجهة ومعاينة، كما فسره أبو زيد (¬5)، وهذا في المعنى كالقراءة (¬6) الأولى (¬7). ¬

_ (¬1) قبيل: بفتح القاف، وكسر الياء: وهم الجماعة، والصنف، وهذا الوجه قول الأخفش في "معانيه" 2/ 286، وأبي عبيدة في "المجاز" 1/ 204، واليزيدي في "غريب القرآن" ص 141، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 1/ 169، ومكي في "تفسير المشكل" ص 79، وقال الإِمام البخاري في "صحيحه" 8/ 296، مع فتح الباري: (قُبلا جمع قبيل، والمعنى: أنه ضروب للعذاب، كل ضرب منها قبيل) ا. هـ، وقال ابن الأنباري في قصيدة في "مشكل اللغة"، وشرحها في مجلة "مجمع اللغة" 4/ 64/ 647: (القبل، بالضم: الضروب والجماعات من العذاب، جمع قبيل) ا. هـ. (¬2) في (أ): (قبلًا قبيلًا) ولعله تصحيف. (¬3) في "الحجة" لأبي علي 3/ 386، بعد ذكر ما تقدم قال: (فموضع ما يبهر هو اجتماعها مع أن ذلك ليس في العرف). (¬4) أي يكون قبلاً: بالضم، بمعنى قبلًا بكسر القاف وفتح الباء. (¬5) وكذلك المبرد كما حكاه النحاس في "إعراب القرآن" 574 عنه. (¬6) ما تقدم: هو قول أبي علي في "الحجة" 3/ 384 - 387، بتصرف. انظر: "معاني القراءات" 1/ 380، و"الحجة" لابن زنجلة ص 267، و"الكشف" 1/ 446. (¬7) ذكر نحو ما تقدم أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" 1/ 350، والزجاج 2/ 283 , والنحاس 2/ 475، و"تفسير السمرقندي" 1/ 507، وابن عطية 5/ 321، وابن الجوزي 3/ 107، والقرطبي 7/ 66، وذكره الرازي 13/ 150، السمين في "الدر" 5/ 112، عن الواحدي.

وقوله تعالى: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} قال الزجاج (¬1): (أعلم الله جل وعز أنهم لا يؤمنون، وهو كإعلام نوح في قوله تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، قال عكرمة (¬2): (هذا في أهل الشقاء)، وقال ابن جريج (¬3): (نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين ذكروا في سورة الحجر) (¬4). قال ابن عباس في هذه الآية: (أخبر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما سبق في علمه وقضائه وقدره من الشقوة عليهم، ليعزى رسوله ويصبره، وذلك أن حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتد حين كذّبه قومه، وكفروا بالله، وصاروا إلى العذاب، ولهذا قال الله تعالى له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] (¬5). ¬

_ = وأظهر الأقوال توافق القراءتين بمعنى: المعاينة والمقابلة. وهو ظاهر كلام ابن كثير 2/ 185، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 206: (هذا القول عندي أحسن؛ لاتفاق القراءتين) ا. هـ وأخرجه الطبري 12/ 49، وابن أبي حاتم 4/ 1370، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 205، بسند جيد عن ابن عباس، وأخرجه الطبري بسند جيد عن قتادة، وحكاه الماوردي 2/ 157، عن ابن زيد وابن إسحاق، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص 24، و"الوزان" ص 3/ ب، بسند جيد عن ابن عباس قال: (قبلًا يعني: عيانًا؛ الضم بلغة تميم، والكسر بلغة كنانة) اهـ. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 283، ومثله ذكر السمرقندي 1/ 507. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 1، بسند جيد، وذكره ابن عطية 5/ 320، وقال: (هذا لا يثبت إلا بسند) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 72. (¬4) يعني قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر: 90]، وقوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، وانظر: سبب نزولها في "زاد المسير" 4/ 417 - 421. (¬5) أخرج البيهقي في "الأسماء والصفات" ص 1/ 250 بسند جيد عن ابن عباس قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويبايعوه على الهدى، =

وقال ابن الأنباري: (أقسم الكافرون أن الآية متى [أنزلت] (¬1) آمنوا بها، فقدر المؤمنون أن هذا القول صحيح منهم، فدلهم جل اسمه على أن قولهم ليس بحقٍّ، وأنه لو أحضرهم هؤلاء الآيات التي عددها ما كانوا ليؤمنوا ويعترفوا بصحة ما يشاهدون منها، إلا أن يهديهم إلى ذلك، ويسهل عليهم تبين الآيات وقبولها، وهو معنى قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}) (¬2)، وهذا نص في تكذيب القدرية (¬3). وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} قال ابن عباس: (يجهلون الحق أنه من الله) (¬4). وقيل: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أنهم لو أتوا بكل آية ما آمنوا (¬5). ¬

_ = فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له من الله الشقاوة في الذكر الأول، ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] ا. هـ وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 1، وابن أبي حاتم 3/ 103 أ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 105 بسند جيد عنه قال: ({مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} وهم أهل الشقاء {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وهم أهل السعادة الذي سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان) اهـ. (¬1) في (ش): (نزلت). (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 284. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 151، و"البحر المحيط" 4/ 26، وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 320: (وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان) ا. هـ (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 53. (¬5) ذكره أكثر المفسرين. انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 508، والماوردي 2/ 157، وابن الجوزي 3/ 107، والرازي 13/ 151، والقرطبي 7/ 67، و"البحر المحيط" 4/ 206.

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} الآية [الأنعام: 112] قوله: {وَكَذَلِكَ} منسوق على قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] أي: كما فعلنا ذلك {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، وقيل (¬1): (معناه: جعلنا لك عدًّا، كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء) فيكون قوله {وَكَذَلِكَ} عطفًا على معنى ما تقدم من الكلام، وما تقدم يدل على معناه على أنه جعل له أعداء، قال المفسرون (¬2): (وهذا تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدوًا ليعظم ثوابه على ما يكابد من أذاه). قال الزجاج (¬3) وابن الأنباري: (وعدو (¬4) في معنى: أعداء)، وأنشد أبو بكر: ¬

_ (¬1) أكثرهم على أن الكاف في محل نصب نعتًا لمصدر محذوف، واختلفت عباراتهم في تقديره، فقال الطبري في "تفسيره" 8/ 3 (يقول: وكما ابتليناك يا محمد بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسل بأن جعلنا لهم أعداء من قومهم) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 284، و"النحاس" 2/ 476، و"تفسير الماوردي" 2/ 157، وابن الجوزي 3/ 108، و"التبيان" 1/ 354، و"الفريد" 2/ 215، و"تفسير القرطبي" 7/ 67. ونقل الرازي 13/ 152، قول الواحدي بدون نسبة، وذكره السمين في "الدر" 5/ 115، عن الواحدي. (¬2) ذكر ذلك أكثرهم. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 3، وابن عطية 5/ 322، والقرطبي 7/ 67. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 284. (¬4) عدو: بفتح العين، وضم الدال. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2347، و"اللسان" 5/ 2845 مادة (عدا).

إذا أنا لم أَنْفَغ صديقي بودِّهِ ... فإنَّ عدوِّي لن يَضُرَّهُم بُغْضي (¬1) أراد: أعدائي فأدى الواحد عن الجميع (¬2) كقوله عز وجل: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] جعل {المُكْرَمِينَ} وهو جمع نعتًا للضيف وهو واحد؛ لأنه أراد بالواحد الجمع) و {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} منصوب على البدل من عدوٍّ ومفسرٍ له، ويجوز أن يكون (عدوًّا) منصوبًا على أن مفعول ثان. المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء للأنبياء (¬3). واختلفوا في معنى {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} على قولين: أحدهما: أن المعنى مردة الإنس والجن، والشيطان (¬4) كل عاتٍ ¬

_ (¬1) الشاهد للنابغة الشيباني في "ديوانه" ص 117، و"الزاهر" 1/ 216 - 217، وللنابغة الذبياني في "ملحق ديوانه" ص 231، وبلا نسبة في الرازي 13/ 154، و"البحر" 4/ 207، و"الدر المصون" 5/ 116. (¬2) "الزاهر" 1/ 216 - 218، ولم يذكر الآية، وذكر ذلك الرازي 13/ 154 عن ابن الأنباري. (¬3) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 284، والنحاس في "إعرابه" 1/ 575، والأزهري في "تهذيبه" 3/ 2347، وأكثرهم على أن في الآية وجهين: الأول: أن (عدوا) مفعول أول، و (لكل نبي) في موضع المفعول الثاني قدم، و (شياطين) بدل من عدو. والوجه الثاني: أن المفعول الأول (شياطين)، و (عدوًا) مفعول ثانٍ مقدم، و (لكل نبي) حال من (عدوًا) لأنه صفته، وقال الفراء في "معانيه" 1/ 351، والطبري 8/ 3: (نصب العدو والشياطين بجعلنا)، وجوز ابن الأنباري في "البيان" 1/ 335 جعل (شياطين) مفعولًا ثانيًا لجعل. وانظر: "التبيان" 1/ 354، و"الفريد" 2/ 215، و"الدر المصون" 5/ 115. (¬4) قال المبرد في "الكامل" 3/ 96: (زعم أهل اللغة أن كل متمرد من جنٍّ أو إنس أو سبع أو حية يقال له: شيطان، وأن قولهم: تشيطن، إنما معناه: تخبث وتنكر، وقد قال الله جل وعز: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} ا. هـ. وانظر: "العين" 6/ 237، و"الجمهرة" 2/ 867، و"تهذيب اللغة" 2/ 1878، و"الصحاح" 5/ 2144،=

متمرد من الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس في (¬1) رواية عطاء ومجاهد (¬2) وقتادة (¬3) والحسن (¬4)، وهؤلاء قالوا: (إن من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، وأن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن، وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمردٍ من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه بالمؤمن ليفتنه). يدل على هذا ما روى (إن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] (¬5) لأبي ذر: "هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس؟ " قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: "نعم، هم شر من شياطين الجن" (¬6). ¬

_ = و"المجمل" 2/ 502، و"مقاييس اللغة" 3/ 183، و"المفردات" ص 454، و"اللسان" 4/ 2265 مادة (شطن). (¬1) ذكره الرازي 13/ 154، و"تنوير المقباس" 2/ 53، نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم 3/ 371، نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 74. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 102، والبغوي 3/ 179، والرازي 13/ 154، عن مجاهد والحسن وقتادة. (¬3) أخرج عبد الرزاق 1/ 2/ 216، والطبري 8/ 5، وابن أبي حاتم 4/ 1371 بسند جيد نحوه. (¬4) ذكره هود الهواري 1/ 552، والماوردي 2/ 158، ابن الجوزي 3/ 108. (¬5) لفظ: (قال) ساقط من (أ). (¬6) أخرجه أحمد في "المسند" 5/ 178 - 179، والنسائي في "سننه" 8/ 275 في الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر شياطين الجن، والطبري في "تفسيره" 8/ 5، وابن أبي حاتم 4/ 1371، من عدة طرق، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 159 - 160: (رواه أحمد والطبراني في الكبير، ومداره على علي بن زيد، وهو ضعيف، ورواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" بنحوه، وعند النسائي طرف منه، وفيه المسعودي، وقد اختلط) ا. هـ. وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 186 طرقًا أخرى للحديث ثم قال: (فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته والله أعلم) ا. هـ. وانظر: "كشف الأستار" 1/ 93 , و"المطالب العالية" 4/ 207 (3441)، و"الدر المنثور" 3/ 73، وقوله: "قال: نعم، هم شر من شياطين الجن" لم أقف عليها.

وقال مالك (¬1) بن دينار: (إن شيطان [الإنس] (¬2) أشد عليَّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله يذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانًا) (¬3). وشرح ابن عباس هذا شرحًا شافيًا فقال (¬4) في رواية عطاء: (أما عدوّه من شياطين الجن، فالأبيض الذي كان يأتي في صورة جبريل (¬5) يوحي إليه، وأما الإنس فالوليد بن المغيرة (¬6)، ¬

_ (¬1) مالك بن دينار البصري، أبو يحيى، تابعي، إمام عابد، زاهد، ثقة، كان يكتب المصاحف، توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين ومائة 130هـ أو نحوها. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 243، و"الجرح والتعديل" 8/ 208، و"حلية الأولياء" 2/ 357، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 362، و"تهذيب التهذيب" 4/ 11. (¬2) لفظ (الإنس) ساقط من (أ)، وملحق بالهامش. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف" 183 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 102، والبغوي في "تفسيره" 3/ 180، وابن الجوزي 3/ 109، والقرطبي 7/ 68. (¬4) ذكر أبو حيان في "البحر" 4/ 207، نحوه، وقوله: (أما عدوه من شياطين الجن ..) لم أقف عليه بعد طول بحث. (¬5) عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسْلَم، فلا يأمرني إلا بخير" ا. هـ، قال الإمام النووي: (فأسلم: برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شره وفتنته، واختلفوا على رواية الفتح، قيل: أسلم من الإِسلام وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير، وهذا هو الظاهر. وقيل: أسلم بمعنى استسلم وانقاد. قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه ..) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "النهاية" لابن الأثير 2/ 395. (¬6) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومي، أبو عبد شمس القرشي، أحد المستهزئين المجاهرين بالأذى والعداوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، توفي بعد الهجرة بثلاثة أشهر, وهو والد الصحابي الجليل وسيف الله المسلول =

والعاص (¬1) بن وائل، وأبو جهل، وعتبة (¬2)، وشيبة، وأبي بن خلف، وأخوه أمية) (¬3)، وذكر أسماء المستهزئين (¬4). القول الثاني: أن الجميع من ولد إبليس، وأضيف (¬5) الشياطين إلى ¬

_ = خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 283، و"جوامع السير" ص 53، و"الكامل" لابن الأثير 2/ 48، و"الأعلام" 8/ 122 (¬1) العاص بن وائل بن هاشم السهمي، أحد المستهزئين والمجاهرين بالعداوة والأذى للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، توفي بعد الهجرة بشهرين، وهو والد الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه. انظر: "المراجع السابقة"، و"الأعلام" 3/ 247. (¬2) عتبة وشيبة: ابنا ربيعة بن عبد شمس القرشي، من المستهزئين قتلا في بدر. انظر: "المراجع السابقة"، و"الأعلام" 3/ 181، 4/ 200. (¬3) أبي، وأمية: ابنا خلف بن وهب الجمحي، من المستهزئين وأشدهم، وأكثرهم أذى للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، قتل أمية في بدر، ورمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أبيًّا بحربة فقتله. انظر: "جوامع السير" ص 54، و"الكامل" في التاريخ 2/ 148، و"الأعلام" 2/ 22. (¬4) المستهزؤون: طبقة لهم قوة ورياسة، اختلف في عددهم وأسمائهم وكيفية هلاكهم، وقد أخرج الطبري 14/ 70 - 73، والطبراني في "الكبير" 11/ 113، والبيهقي في "سننه" 9/ 8، في "الدلائل" 2/ 85 - 86 من طرق جيدة عن ابن عباس، عددهم وأسماءهم وكيفية هلاكهم، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 47، وقال: (رجاله ثقات)، وقال السيوطي في "الدر" 3/ 73: (أخرجه الطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن مردويه بسند حسن، والضياء في المختارة) ا. هـ وانظر: الماوردي 2/ 157، والزمخشري 2/ 399، وابن الجوزي 4/ 421، والقرطبي 10/ 62، وابن كثير 2/ 186. (¬5) قال السمين في "الدر" 5/ 115 - 116: (الراجح أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها , والأصل الإنس والجن الشياطين، ويحتمل أن يكون من الإضافة التي بمعنى اللام، المعنى: الشياطين التي للإنس والشياطين التي للجن، فإن إبليس =

الإنس، أي: الذي يغوونهم، وهذا قول عكرمة (¬1) والضحاك (¬2) والسدي (¬3) والكلبي (¬4) عن أبي صالح، عن ابن عباس (¬5)، وهؤلاء قالوا: (معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين: فبعث منهم فريقًا إلى الجن، وفريقًا إلى الإنس، فالفريقان شياطين الإنس والجن) (¬6). وقوله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: يُلقي وُيسرّ (¬7). ¬

_ = قسم جنده قسمين: قسم متسلط على الإنس، وآخر على الجن، كذا جاء في التفسير) ا. هـ بتصرف (¬1) أخرجه الطبري 8/ 4، من طرق، عن عكرمة والسدي، وذكره السمرقندي 1/ 508، وابن الجوزي 3/ 108، عن عكرمة. (¬2) ذكره القرطبي 7/ 68، وأبو حيان في "البحر" 4/ 207، عن الضحاك والكلبي. (¬3) ذكره ابن أبي حاتم 4/ 1372، وذكره الماوردي 2/ 158، عن عكرمة والسدي. (¬4) ذكره هود الهواري 1/ 552، وذكره البغوي 3/ 179، عن عكرمة والضحاك، والسدي والكلبي. (¬5) أخرجه الفراء في "معانيه" 1/ 351، وابن أبي حاتم 4/ 1372، بسند ضعيف، وذكره النحاس في "إعرابه" 1/ 575، وقال القرطبي 7/ 67: (قال النحاس وروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف) ا. هـ. (¬6) هذا قول غريب وليس له وجه مفهوم، كما أفاده الطبراني في "تفسيره" 12/ 52، والراجح: هو الأول عند أكثر أهل العلم، ومنهم الطبري، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 68، وابن كثير 2/ 186، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 575: (ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] فهذا يبين معى ذلك) اهـ. وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 320: (قول السدي وعكرمة لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر). (¬7) قال ابن الأنباري في "الزاهر" 2/ 341: (المعنى: يسر بعضهم إلى بعض، وهذا أصل الحرف) ا. هـ.

قال عطاء، عن ابن عباس: (يناجي بعضهم بعضًا بكذب) (¬1). ومعناه على القول الأول: ما قاله مجاهد (¬2) وقتادة (¬3): (وهو أن شياطين الجن الذين هم من جند إبليس يوحون إلى كفار الإنس ومردتهم فيغوونهم بالمؤمنين)، كما ذكرنا أن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن أغرى به شيطانًا من الإنس. وعلى القول الثاني معناه: ما قاله الكلبي، وهو أنه قال: (إن إبليس جعل فرقة من شياطينه مع الإنس، وفرقة مع الجن، فإذا التقى شيطان الإنس وشيطان الجن قال: أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضل به صاحبك، ويقول له شيطان الجن مثل ذلك، فهذا وحي بعضهم إلى بعض). قال الفراء: (حدثني بذلك حبّان (¬4)، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس) (¬5). وعلى القول الأول المراد بالجن: الشياطين من ولد إبليس، والمراد بالجن في القول الثاني: [ولد] (¬6) الجان (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وأخرج ابن أبي حاتم 4/ 1372، عن عطاء عنه قال: (يوسوس). (¬2) أخرجه الطبري 8/ 3، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 74. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ش): حيان، وكذا في "معاني الفراء" 1/ 351، وهو تصحيف، والصواب حبان بالباء، كما في "معاني الفراء" 3/ 7 و8 و53 و60 و66 و77، وهو: حِبَّان بن علي العنزى، أبو علي الكوفي، إمام فاضل، صالح فقيه، ضعفه أئمة الجرح والتعديل, توفي سنة 171 هـ، وله 60 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 270، و"ميزان الاعتدال" 1/ 449، و"تهذيب التهذيب" 1/ 345، و"تقريب التهذيب" ص 149 (1076). (¬5) إسناده ضعيف، وقد سبق تخريجه. (¬6) في (ش): (والد)، وهو تحريف. (¬7) الذي يظهر أنه على القول الأول: يكون المراد بالجن: ولد إبليس والجان، =

وقوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}، الزخرف: الباطل (¬1) من الكلام الذي زين ووشي بالكذب، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زيَّنه بالباطل والكذب، وكل شيء حسنٍ مموهٍ فهو زخرف كالنقوش، وبيت مُزَخْرَفٌ منقوش (¬2)، ومنه الحديث: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنُحِي) (¬3)، يعني بالزخرف: نقوشًا، وتصاوير زينت به الكعبة ¬

_ = وعلى القول الثاني: المراد بالجن: ولد إبليس؛ لأنه قسمهم إلى قسمين: قسم مع الإنس، وقسم مع الجن، والله أعلم. انظر: تفسير الرازي 13/ 154، فقد ذكر القول الثاني: ثم قال: (وعلى هذا القول، فالشياطين نوع مغاير للجن، وهم أولاد إبليس) اهـ. (¬1) في (أ): (الباطل من الباطل الكلام)، وعلى الباطل الثانية ضرب، وهو الصواب. (¬2) الزخرف: بضم الزاي المشددة، وسكون الخاء، وضم الراء: الزِّينة. وأصله الذَّهَب، ثم سمي كل زينة زخرفًا، ثم شبه كل مُمَوه مزور به، وبيت مزخرف، أي: مزين. انظر: "العين" 4/ 338، و"الجمهرة" 2/ 1144، و"المنجد" ص 219، و"الصحاح" 4/ 1369، و"المفردات" ص 379، و"اللسان" 3/ 1821 (زخرف). (¬3) لم أقف على سنده وهو في: "تهذيب اللغة" 2/ 1520، و"النهاية" لابن الأثير 2/ 299، و"اللسان" 3/ 1821، و"عمدة الحفاظ" ص 219، و"الدر المصون" 5/ 116، و"تاج العروس" 12/ 246 (زخرف). ومن المشهور أن البيت كان فيه تماثيل وصور، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراج التماثيل، وطمس الصور. قال ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 17: (روى عمر بن شيبة، عن عمرو بن دينار، بسند صحيح قال: (بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطمس الصور التي كانت في البيت) ا. هـ وأخرج البخاري في "صحيحه" مع فتح الباري 8/ 16، عن ابن عباس قال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط") ا. هـ وانظر: في الصور والتماثيل التي كانت موجودة في البيت عند فتح مكة , و"أخبار مكة" للأزرقى 1/ 119 - 123 و165 - 169، و"المصنف" =

وكانت مموهة بالذهب فأمر بها حتى حُتَّت (¬1) قال الزجاج: (والزخرف في اللغة: الزينة، المعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة و {غُرُورًا} منصوب على المصدر، وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى: إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور، فكأنه قال: [يَغُرّون] (¬2) غُرُورًا) (¬3)، وهذا معنى قول الضحاك: (شياطين الإنس يوحون إلى الإنس، وشياطين الجن يوحون إلى الجن) (¬4). ¬

_ = لابن أبي شيبة 7/ 403 (36894)، و"مجمع الزوائد" 6/ 176، و"المطالب العالية" 17/ 469 (4303). (¬1) هذا التوجيه ذكره أصحاب المراجع السابقة، وقوله: حُتَّت: بضم الحاء وتَشديد التاء المفتوحة، والحَثُّ بفتح الحاء: الحَكُّ والقَشْر، وفَرْكُ الشيء اليابس. انظر: "اللسان" 2/ 767 مادة (حتت). (¬2) في (أ): (تغرون). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 284، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 575، و"المشكل" 1/ 266، و"التبيان" 1/ 354، و"الدر المصون" 5/ 116، ونقل ذلك الرازي في "تفسيره" 13/ 155، 156 عن الواحدي. (¬4) سبق تخريجه. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "الفتاوى" 18/ 56 عند شرح الآية: (أخبر سبحانه وتعالى أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن، يغرون به، والغرور: التلبيس والتمويه، وهذا شأن كل كلام وعمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم، فخالف الرسل كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها ..) ا. هـ. وانظر: "بدائع التفسير" 2/ 173.

113

وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، الهاء تعود إلى إيحاء القول بالغرور، والمدلول عليه بقوله {يُوحِي} والفعل يدل على المصدر (¬1)، قال الزجاج: (أي: لو شاء لمنع الشياطين من الوسوسة للإنس والجن، ولكن الله عز وجل يمتحن بما يعلم أنه الأجزل في الثواب) (¬2) [وقوله تعالى] (¬3): {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} قال ابن عباس: (يريد: ما زين لهم إبليس وغرّهم به) (¬4). 113 - وقوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية. الصغو في اللغة معناه: المَيْل، صغى إلى كذا يصغى إذا مال إليه (¬5). أبو عبيد عن الكسائي: (صَغَوت أَصْغُو، وصغيت أصْغَى [ثم وصغيت أصغِي] (¬6) وهو أكثر الثلاث) (¬7)، ابن السكيت: (صَغَيْتُ إلى الشيء، ¬

_ (¬1) انظر: "التبيان" 1/ 354، و"الفريد" 2/ 216. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 284، وفيه: (يمتحن ما يعلم أنه الأبلغ في الحكمة، والأجزل في الثواب والأصلح للعباد) ا. هـ. وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 3، و"معاني النحاس" 2/ 477. (¬3) في (ش): وقوله تعالى: (لله هم وما يفترون)، وهو تحريف ظاهر. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 53، وذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 156، وأبو حيان في "البحر" 4/ 207. (¬5) انظر: "العين" 4/ 432، و"الجمهرة" 2/ 890، و"الصحاح" 6/ 2400، و"المجمل" 2/ 534، و"مقاييس اللغة" 3/ 289، و"المفردات" ص 485 (صغا). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 2020، وفيه: (أبو عبيد عن الكسائىِ: صَغَوْتُ بالفتح، وصَغَيْتُ. وقال شمر: صَغَوت، وصغَيت بالفتح، وصغيت بكسر العين، وأكثره صغيت بالكسر) ا. هـ. ولعل الواحدي جمع بين القولين.

أصْغى صِغيًا إذا ملت إليه، وصَغَوت أصغُو صُغُوًّا) (¬1)، الأصمعي (وصَغا) (¬2)، وزاد الفراء: (صُغيًّا مشدّدًا وصُغُوًّا) (¬3)، أبو زيد (¬4): (يقال: صَغْوهُ معه، وصِغْوُهُ وصَغَاهُ، وصَاغِية الرجل الذين يميلون إليه ويغشونه، وعين صَغْواء مائلة، قال الأعشى (¬5): ¬

_ (¬1) "إصلاح المنطق" ص 215، و"تهذيب اللغة" 2/ 2020، وصَغَيْت بالفتح، أَصْغَى صُغِيًّا بالكسر، وصَغَوت أصغُو صُغُوًّا بالضم. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 2021، وفيه: (صَغَا يَصْغو صَغْوًا وصَغًا) بالفتح. (¬3) ذكره السمين في "الدر" 5/ 119، وهو ليس في معاني الفراء، ولعله من كتاب المصادر المفقود، وصُغيا بالضم، وكسر العين، وفتح الياء المشددة، وصغوا بالضم وفتح الواو المشددة. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 2021، وفيه: (صَغْوه وصَغاه وصِغْوه معه) فقط، والباقي لابن السكيت، وصَاغية بكسر الغين، وصَغْواء بفتح الصاد وسكون الغين. والخلاصة: أن الصَّغا مادة تدل على الميل، يقال: صغوت بالواو وفتح الغين، وصغيت بالياء وكسر الغين وفتحها، فاللام واو أو ياء، ومع الياء تكسر عين الماضي وتفتح، ومضارع الأفعال الثلاثة يصغى بفتح الغين، وحكى صغوت أصغو بالضم، ومصدر الأول: صَغْو، والثاني: صُغِيٌّ بكسر الغين، والثالث: صغا بالفتح، وحكى في مصدر صغا بالفتح يصغو صغا بالفتح، فهو ليس مختصًا بكونه مصدرًا لصغي بالكسر، وحكى صِغِيًّا بكسر الغين، وفتح الياء المشددة، وصغوا بضم الغين وفتح الواو المشددة. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 284، والقرطبي 7/ 69، و"البحر" 4/ 205، و"الدر المصون" 5/ 119. (¬5) ديوان الأعشى: ميمون بن قيس ص 187، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 327، و"تهذيب اللغة" 2/ 2020، والثعلبي ص 183/ أ، و"اللسان" 4/ 2454 مادة (صغا)، و"الدر المصون" 5/ 119، وهو يصف الناقة، وصغواء: مائلة، والمؤق بالضم: طرف العين مما يلي الأنف. انظر: "اللسان" 7/ 4120 مادة (مأق)، والقطيع، بفتح القاف، وكسر الطاء: السوط يقطع من جلد، ونحوه. والقطيع المحرم. السوط الذي لم يمرن ويُليَّن بعد. انظر: "اللسان" (قطع) 6/ 3678.

ترَى عَيْنَها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤقِهَا ... ترَاقِبُ كَفِّي والقَطِيعَ المحَرَّمَا) قال ابن عباس (¬1)، والسدي (¬2)، [وابن زيد (¬3)] وغيرهم (¬4): (وَلِتَصْغَى) (ولتميل هواها)، قال ابن الأنباري: (اللام في (لتصغى) متعلقة بفعل مضمر تأويله: وفعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدتهم وليرضوا المذموم من أجل عنادهم الحق) (¬5)، وقال غيره من النحويين (¬6): ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 8/ 7، وابن أبي حاتم 4/ 1373 بسند ضعيف بلفظ (لتميل)، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص 163، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص 54، و"الوزان" 9 أبسند جيد عنه قال: (صغا مال بلغة خثعم) ا. هـ، وفي "تنوير المقباس" 2/ 53 قال: (لكي تميل إلى هذا الزخرف والغرور) ا. هـ، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 75. (¬2) أخرجه الطبري 8/ 7 بسند جيد بلفظ: (تميل إليه قلوب الكفار) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 74. (¬3) لفظ (ابن زيد) ساقط من (أ) والأثر أخرجه الطبري 8/ 7، وابن أبي حاتم 4/ 1373، بسند جيد عنه، بلفظ: (وليهووا ذلك، يقول الرجل للمرأة: صغيت إليها: هَوِيتها) اهـ. (¬4) هو قول الأكثر. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 285، و"مجاز القرآن" 1/ 205، و"غريب القرآن" ص 142، والطبري 8/ 7، والسمرقندي 1/ 508، والماوردي 2/ 159. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 103، ابن الجوزي 3/ 109. (¬6) هذا ظاهر كلام الطبري 8/ 4، والقرطبي 7/ 69، ورجحه الرازي 13/ 157، وأكثرهم على أنها لام كي الجارة، وهي معطوفة على الغرور، أي: للغرور، ولأن تصغى. قال ابن عطية 5/ 324 - 325: (اللام في الأفعال الثالثة لام كي معطوفة على (غرورًا) أو متعلقة بفعل مؤخر تقديره: فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك، فهي لام صيرورة، قاله الزجاج: ولا يحتمل أن تكون لام الأمر وضمنها الوعيد) ا. هـ. ملخصًا، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 174 - 175: (اللام على بابها للتعليل وإن كانت تعليلًا لفعل العدو، وهو ايحاء بعضهم إلى بعض فظاهر، =

(اللام متعلقة بقوله {يُوحِي}: [الأنعام:112] وتقديره: يوحي بعضهم إلى بعض [ليغروهم] (¬1) {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ})، والكناية في (إليه) تعود إلى {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} (¬2). وقوله تعالى: {وَلِيَقْتَرِفُوا} يقال: اقترف أي: اكتسب (¬3). الليث (¬4): (اقترف ذنبًا، أي: أتاه وفعله). ابن الأنباري (¬5): (قَرَف واقْتَرَف إذا كسب، ¬

_ = وعلى هذا فيكون عطفًا على قوله (غرورًا) فإنه مفعول لأجله، أي: ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه، فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء، وهو أربعة أمور: غرور من يوحون إليه، وإصغاء أفئدتهم إليهم، ومحبتهِم لذلك، وانفعالهم عنده بالاقتراف، وإن كان ذلك تعليلًا لجعله سبحانه {لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} فيكون هذا الحكم من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل، وهي غاية وحكمة مقصودة لغيرها؛ لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه، وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها، وعلى التقديرين، فاللام لام التعليل والحكمة) اهـ، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 33، و"الزجاج" 2/ 284، و"إعراب النحاس" 1/ 576، و"العسكريات" ص 100، و"كتاب الشعر" 1/ 206، و"المحتسب" 1/ 227، و"البيان" 1/ 335، و"التبيان" ص 355، و"الفريد" 2/ 216، و"الدر المصون" 5/ 117. (¬1) في (أ): (لتغروهم). (¬2) انظر: "الدر المصون" 5/ 118. (¬3) الاقتراف بسكون القاف، وكسر التاء وفتح الراء أصله قَشْرُ اللحاء والجلدة عن الجرح، ثم استعير للاكتساب حسنًا كان أو سيئًا، إلا أنه في السوء أغلب. انظر: "الجمهرة" 2/ 786، و"الصحاح" 4/ 1414، و"المجمل" 3/ 748، و"معجم مقاييس اللغة" 5/ 73، و"المفردات" ص 667، و"اللسان" 6/ 3600، و"عمدة الحفاظ" ص 453 مادة (قرف). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2941. وانظر: "العين" 5/ 146. (¬5) ذكره السمين في "الدر" 5/ 122، وفي "الزاهر" 1/ 446، قال في معنى الآية: (أي: وليكتسبوا وليلصقوا بأنفسهم) ا. هـ. ثم أنشد البيت.

وأنشد (¬1): وإِنِّي لآتٍ مَا أَتَيْتُ وإنَّنِي ... لِمَا اقْتَرفَتْ نَفْسِي عليَّ لَرَاهِبُ أي: لما اكتسبت)، ونحو ذلك قال ابن عباس (¬2) وابن زيد (¬3): (وليكتسبوا). وقال الزجاج: (وليقترفوا) (أي: ليختلقوا وليكذبوا) (¬4)، وهو معنى قول عطاء (¬5): (ليخترقوا في القرآن مثل قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]). قال مقاتل: {وَلِتَصْغَى}: (ولتميل إلى ذلك الزخرف ولغرور قلوب الذين لا يصدقون بالبعث، {وَلِيَرْضَوْهُ}: ليحبوه، {وَلِيَقْتَرِفُوا} ليعملوا ما هم عاملون) (¬6)، وهذا الآية دليل على تكذيب القدرية، إذ قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) الشاهد للبيد في ذيل "ديوانه" ص 221، و"الكشف" للثعلبي 183 أ، وبلا نسبة في "الدر المصون" 5/ 122. (¬2) أخرجه الطبري 8/ 8 بسند جيد، وهو في "تنوير المقباس" 2/ 53، و"الدر المنثور" 3/ 75، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص 161 مع ذكر الشاهد للبيد. (¬3) ذكره القرطبي 7/ 70، عن ابن عباس والسدي وابن زيد، وأخرج الطبري 8/ 8، وابن أبي حاتم 4/ 1373، 1374، بسند جيد عن ابن زيد والسدي قالا: (ليعملوا ما هم عاملون) ا. هـ. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 285، وفيه ذكر القول الأول ثم ذكر هذا، وفي "مجاز القرآن" 1/ 205، قال: (مجازه التهمة والادعاء) ا. هـ. وفي "غريب القرآن" لليزيدي قال: (يدعون الكذب) وفي تفسير "غريب القرآن" ص 158، و"تفسير المشكل" ص 79: (أي: ليكتسبوا ويدعوا) ا. هـ. وذكر هذا القول الماوردي 2/ 159، وقال: (هذا قول محتمل) ا. هـ. (¬5) لم أقف عليه. وقوله: (وليخترقوا) التَّخرُّق لغة في التخلُّق من الكذب وخَرَقَ الكذب وتَخَرَّقه اختلقه وافتعله وافتراه. انظر: "اللسان" 2/ 1142 (خرق). (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 585.

114

جعلنا لهم شياطين لتصغى قلوبهم إلى وحي الشياطين وليرضوه (¬1). وحكى أبو بكر (¬2) مثل قول الزجاج، فقال: (وقال بعضهم: تأويله: وليختلقوا ما هم مختلقون) (¬3) ثم قال: (والأول هو الأثبت في اللغة) (¬4). 114 - قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} قال ابن عباس (¬5): (يريد [قول النبي - صلى الله عليه وسلم -] يعني: أن هذا من (¬6)] قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الكلبي: (قل لأهل مكة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا}) (¬7)، والحكم (¬8) والحاكم واحد عند ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 158. (¬2) أبو بكر هو: محمد بن القاسم بن الأنبارىِ، تقدمت ترجمته. (¬3) لم أقف عليه، وفي "الزاهر" 1/ 465: (وقولهم: قد قَرف فلان فلانا، معناه: قد ألصق به عيبًا وأكسبه ذمًّا) اهـ. (¬4) وهو الراجح عند الجمهور، ومنهم الفراء في "معانيه" 1/ 351، والطبري في "تفسيره" 8/ 8، والنحاس في "معانيه" 2/ 478، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 508، والبغوي 3/ 180، وابن الجوزي 3/ 109، وحكى القول الثاني عن الزجاج الرازي في "تفسيره" 13/ 158، ثم قال: (والأول أصح) ا. هـ. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 53، وفيه: (قل لهم يا محمد: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا}) ا. هـ. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 103 عن الكلبي والعوفي، وذكر الماوردي في "تفسيره" 2/ 160، وابن الجوزي 3/ 110 نحوه بدون نسبة. (¬8) مادة (حكم) بالفتح، بمعنى المنع. ومنه الحكم، بضم الحاء وسكون الكاف، والحاكم بفتح الحاء، وكسر الكاف؛ لأنه يمنع من الظلم، ومنه الحكمة بكسر الحاء وسكون الكاف وفتح الميم؛ لأنها تمنع من الجهل. انظر: "العين" 3/ 66، و"الجمهرة" 1/ 564، و"تهذيب اللغة" 1/ 885 - 886، و"الصحاح" 5/ 1901 , و"المجمل" 1/ 246، و"مقاييس اللغة" 2/ 91، و"اللسان" 2/ 951 مادة (حكم).

أهل اللغة (¬1) لا فرق بينهما غير أن بعض أهل التأويل قال: (الحَكم أهل أن يتحاكم إليه، والحاكم من شأنه أن يحكم، فالصفة بالحَكم أمدح، وذلك أن صفة حاكم جارية على الفعل، فقد يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله، فأما من يستحق صفة حكم فلا يحكم إلا بالحق؛ لأنها صفة تعظيم ومدح) (¬2)، قال العوفي: ({أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} قاضيًا بيني وبينكم) (¬3). وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} قال ابن عباس: (يريد: مبينًا) (¬4)، وقال مقاتل: ({أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} القرآن مبينًا فيه أمره ونهيه) (¬5)، وقال أهل المعاني: (التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى وينفي أيضًا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المعنى، وذلك بالآيات التي تفصل المعاني بعضها من بعض) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر أيضًا: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ص 243، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 43، 52، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص60، و"النهاية" لابن الأثير 1/ 418. (¬2) ذكره أكثرهم. انظر: "الفروق" للعسكري ص 157، والماوردي 2/ 159، و"المفردات" ص 249، وابن عطية 326، و"الفريد" 2/ 218، والقرطبي 7/ 70، وذكره الرازي 13/ 159، عن الواحدي، وقال السمين في "الدر" 5/ 123: (الحكم أبلغ من الحاكم، قيل: لأن الحكم من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم فإنه يصدق غيره، وقيل: لأن الحكم لا يحكم إلا بالعدل والحاكم قد يجوز) ا. هـ، وانظر: "البحر" 4/ 209. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 203، عن الكلبي وعطية العوفي. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 53. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 585. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 160، وابن عطية 5/ 326، وابن الجوزي 3/ 110, و"بدائع التفسير" 2/ 176.

115

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: العلماء من أهل الكتابين {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ}، يعني: القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، أي: أن كل ما فيه بيان عن الشيء على ما هو به كترغيبه وترهيبه ووعده ووعيده وقصصه وأمثاله، وغير ذلك [مما فيه] (¬1) كله بهذه الصفة (¬2). وقوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} قال الفراء: (من الشاكين أنهم {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ}) (¬3)، ومعنى الامتراء: طلب التشكك مع ظهور الدليل، وهو من مَرْيِ الضَّرع، وهو مَسحه ليَدرَّ (¬4). 115 - قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: مواعيد ربك لأوليائه، وأهل طاعته) (¬5)، وقال مقاتل: ({وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أنه ناصر محمّد ببدرٍ) (¬6). وقال الكلبي: ({وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} وجبَ قول ربك صدقًا لقوله وعدلًا منه) (¬7)، وقال أهل المعاني (¬8): (الكلمة والكلمات معناها والله أعلم: ما جاء من وعد ووعيدٍ وثواب وعقاب، فلا تبديل فيه ولا تغيير له، ¬

_ (¬1) لفظ: (مما فيه) غير واضح في (أ). (¬2) هذا قول الأكثر. انظر: الطبري 8/ 8، والسمرقندي 1/ 509، وابن الجوزي 3/ 110. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 351. (¬4) انظر: "الزاهر" 1/ 350 - 351، وقد سبق الكلام عن معنى الامتراء. (¬5) ذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 71، وذكر أبو حيان في "البحر" 4/ 209 نحوه عن ابن عباس. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 585. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 54. (¬8) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 388، وذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 160 عن أهل المعاني.

كما قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] والتقدير: وتمت ذوات الكلمات -أي: يخبر بها عنها- فمن قرأ (¬1) (كلمات) بالجمع قال: لأن معناها الجمع، فوجب أن يجمع في اللفظ، ومن قرأ على الواحدة فلأنهم قد قالوا: الكلمة يراد بها الكثرة، كقولهم: قال زهير في كلمته، يعنون: قصيدته، وقال قُسٌّ (¬2) في كلمته، يعنون: خطبته، فقد وقع المفرد على الكثرة، فلما كان كذلك أغنى عن الجمع) (¬3). وقوله تعالى: {صِدْقًا وَعَدْلًا} قال ابن عباس: (يريد: لا خلف لمواعيده ولا في أهل طاعته (¬4) ولا في أهل معصيته)، وقال قتادة (¬5)، ومقاتل (¬6): ({صِدْقًا} فيما وعد {وَعَدْلًا} فيما حكم)، وقال بعض المفسرين (¬7): (كلمة الله أقضيته وعِداته تمت على معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي (وتمت كلمت) على التوحيد، وقرأ الباقون (وتمت كلمات) على الجمع. انظر: "السبعة" ص 266، و"المبسوط" ص 174، و"الغاية" ص 248، و"التذكرة" 2/ 408، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 262. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) هذا كلام الفارسي في "الحجة" 3/ 388 - 390، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 381، و"الحجة" لابن خالويه ص 148، ولابن زنجلة ص 268، و"الكشف" 1/ 447. (¬4) جاء في (أ)، (ش): (ولا في أهل طاعته) بالواو، ولعله تحريف، والأثر ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 104. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 9، وابن أبي حاتم 4/ 1374 بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 478، والبغوي في "تفسيره" 3/ 181. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 585. (¬7) ذكر هذا القول الثعلبي في "الكشف" 183 أ، والماوردي في "تفسيره" 2/ 160، وابن الجوزي 3/ 111 بدون ذكر الحديث.

116

"سبق القضاء وجف القلم (¬1) بالسعادة لمن آمن واتقى، والشقاوة لمن كفر وعصى" (¬2)، قال أبو علي الفارسي: (و {صِدْقًا وَعَدْلًا} مصدران ينتصبان علي الحال من الكلمة، تقديره: صادقة عادلة) (¬3). وقوله تعالى: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} قال ابن عباس: (يريد: لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خلف لموعده) (¬4)، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لتضرع أوليائه ولقول أعدائه واستهزائهم {الْعَلِيمُ} بما في قلوب أوليائه من اليقين، وبما في قلوب أعدائه من الاستهزاء والشرك (¬5). 116 - قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. قال المفسرون: (إن المشركين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكل ¬

_ (¬1) هنا في (ش): وقع اضطراب في ترتيب الأوراق، فجاء تكملة الحديث في 121 ب. (¬2) الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه بعد طول بحث، وفي معناه عدة أحاديث في "مجمع الزوائد" 7/ 185 - 201، وأخرج البخاري في "صحيحه" (5076)، و"كتاب النكاح"، باب ما يكره من التبتل والخصاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -, قال: "جف القلم بما أنت لاق". وأخرج مسلم في "صحيحه" رقم (2648)، عن جابر رضي الله عنه قال: (جاء سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فِيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: "لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: "كل عامل ميسر لعمله" اهـ. (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 388، وانظر: "إعراب النحاس" 2/ 93، و"المشكل" 1/ 226، و"البيان" 1/ 336، و"التبيان" 300، و"الفريد" 2/ 219، و"الدر المصون" 5/ 124. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 104، والبغوي في "تفسيره" 3/ 181. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 9.

الميتة) (¬1)، قال الفراء: ([ذلك] (¬2) أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فأنزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ}) (¬3). قال ابن عباس: (يريد: الذين هم (¬4) ليسوا على دينك، وهم أكثر من المؤمنين، إن تطعهم في أكل الميتة {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، يريد: عن دين الله الذي رضيه لك، وبعثك به) (¬5). وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} يعني: ظنهم في أكل الميتة، وقال عطاء: (يريد: دينهم [الذي] (¬6) هم عليه ظنٌّ) (¬7)، وقال أبو إسحاق: (ليس عند أنفسهم أنهم على بصائر؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، وتركوا التماس البصيرة من حيث يجب، واقتصروا على الظن والجهل) (¬8). وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} قال الأزهري: (أصل الخرص: التظنِّي فيما لا تستيقنه، ومنه قيل: [خرصتُ النَّخْلَ خَرْصًا إذا حَزَرْته؛ لأن الحزر فيه ظن لا إحاطة، ثم قيل (¬9)] للكذب: خَرْص [لما يدخله] (¬10) من ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 10، والبغوي 3/ 181، وابن عطية 5/ 329، وابن الجوزي 3/ 111. (¬2) في (ش): (وذلك) بالواو. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 352. (¬4) في (ش): (الذين ليسوا هم على دينك). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 105. (¬6) (الذي) ساقطة من (أ). (¬7) لم أقف عليه، وهو قول البغوي في "تفسيره" 3/ 181. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 285 - 286، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 478. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬10) في (أ): (لما تدخله)، بالتاء.

117

الظُّنُونِ الكاذبة) (¬1). قال ابن عباس (¬2): ({يَخْرُصُونَ} يكذبون ما أحله الله ولا أنزله (¬3) في كتابه)، وقال عطاء عنه: (يريد: يفترون) (¬4). 117 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} قال بعض الناس: (أعلم هاهنا بمعنى: يعلم)، ولا يجوز ذلك؛ لأنه يطابق (¬5) {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وقال بعض البصريين: (موضع (من) نصب على حذف الباء؛ لأنه قد قال في موضع: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ [ضِلَّ] (¬6)} [النحل: 125] بالباء وحذفت هاهنا) (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 1009، والخرص: بفتح الخاء وسكون الراء: الحزر في العدد والكيل، والكذب، وكل قول بالظن. انظر: "العين" 4/ 183، و"الجمهرة" 1/ 585، و"الصحاح" 3/ 1035، و"المجمل" 3/ 283، و"مقاييس اللغة" 2/ 169، و"المفردات" ص 279، و"اللسان" 2/ 1133 (خرص). (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 55، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص 42، 44، و"الوزان" ص 7، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يخرصون يعني: يكذبون) اهـ. (¬3) كذا العبارة في الأصول: ولعل الصواب: (ما أحله الله وأنزله في كتابه). (¬4) لم أقف عليه. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 206، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 142، و"تفسير غريب القرآن" ص 169، و"تفسير المشكل" ص 79. (¬5) ذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 10 - 11، ورده بنحو ما ذكر الواحدي، وذكره السمين في "الدر" 5/ 126، عن الواحدي وقال: (على هذا أعلم ليست للتفضيل، بل بمعنى: اسم الفاعل في قوته، كأنه قيل: إن ربك هو يعلم) اهـ. (¬6) جاء في الأصول: (يضل) بالياء، وهو خطأ واضح. (¬7) هذا قول الأخفش في "معانيه" 3/ 282، وذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 10، وانظر: "المحتسب" 1/ 229، و"المشكل" 1/ 267، وفيه قال: (ولا يحسن تقدير حذف حرف الجر, لأنه من ضرورات الشعر). اهـ. وانظر: "تفسير القرطبي" 7/ 72.

وقال الزجاج: (موضع (من) رفع الابتداء ولفظها لفظ الاستفهام. المعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يضلُّ عن سبيله، قال: وهذا مثل قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ (¬1) الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] (¬2). وهذا قول المبرد (¬3) والكسائي والفراء، قال الفراء: (إذا كانت من بعد العلم والنظر والدراية، مثل: نظرت وعلمت ودريت، كانت في مذهب أي، فإن كان بعدها فعل له رفعتها به، وإن كان بعدها فعل يقع عليها نصبتها، كقولك: ما أدري من قام، ترفع من بقام) (¬4)، يريد: أن من ترفع بالابتداء، وقام خبره، كذلك (من) ابتداء و (يضلّ) خبره في الآية، وتقول: ما أدري من ضربت، تنصب (¬5) (من) بـ (ضربت)؛ لأن بعدها [فعل] (¬6) يقع عليها، وقال أبو علي الفارسي: (من) معمول فعلٍ مضمر دل عليه (أعلم)، ولا يجوز أن يكون معمول (أعلم)؛ لأن المعاني لا تعمل في المعمول به، ومثل هذا في أنه لا يكون إلا محمولًا على فعل ما أنشده أبو زيد (¬7): ¬

_ (¬1) في (أ): (ليعلم)، بالياء. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 286، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 10، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 577، والأزهري في "معاني القرآن" 1/ 381، ومكي في "المشكل" 1/ 266، والكرماني في "غرائب التفسير" 1/ 382، وضعف هذا القول أبو حيان في "البحر" 4/ 210. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 105، والرازي في "تفسيره" 13/ 164، وأبو حيان في "البحر" 4/ 210، والسمين في "الدر" 5/ 127، عن المبرد والكسائي. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 352. (¬5) هذا المثال من كلام الفراء في "معانيه" 1/ 352. (¬6) في (ش): (فعلًا). (¬7) أبو زيد البصري سعيد بن أوس الأنصاري تقدمت ترجمته.

118

وأَضْرَب مِنه بالسُّيُوفِ القَوَانِسا (¬1) فالقوانس محمولة على مضمر دون أضرب هذه الظاهرة، قال. ولا يجوز أن يكون موضع (من) في قوله: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} جرًّا؛ لأن أفعل (¬2) لا يضاف إلا إلى ما هو بعض له كقولك: (أعلم الناس، وليس ربنا بعض من يضل) (¬3). 118 - قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية. هذا جواب لقول المشركين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ (¬4) ودخلت ¬

_ (¬1) البيت للعباس بن مرداس السُّلمي في "ديوانه" ص 69، و"النوادر" لأبي زيد ص 59، و"الأصمعيات" ص 205، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 246، و"اللسان" 6/ 3751 (قنس)، وبلا نسبة في "البيان" 1/ 336، و"أمالي" ابن الحاجب 2/ 158، و"البحر" 4/ 210، و"الدر المصون" 5/ 157، و"مغني اللبيب" 2/ 618، وصدره: أَكُرّ وأَحْمى لِلْحَقِيقَة مِنْهُمُ وفي المراجع: وأضرب منا، بدل: منهم. والقونس: بفتح القاف وسكون الواو وفتح النون: أعلى البيضة من السلاح. انظر: "اللسان" 6/ 3751 (قنس). (¬2) لأنه يلزم عليه محذور عظيم، وذلك أن أفعل التفضيل لا تضاف إلا إلى جنسها، فإذا قلت: زيد أعلم الضالين، لزم أن يكون زيد بعض الضالين، فهذا الوجه مستحيل في هذه الآية الكريمة انظر: "التبيان" ص355، و"الفريد" 2/ 219 - 220. (¬3) "الحجة" لأبي علي 1/ 26 - 27. وانظر: "المسائل البصريات" 1/ 542، و"كتاب الشعر" 2/ 545، و"الإغفال" ص 935 - 936، وهذا الوجه هو اختيار ابن عطية في "تفسيره" 5/ 330، وابن الأنباري في "البيان" 1/ 336، وقال السمين في "الدر" 5/ 127: (والراجح من هذه الأقوال نصبها بمضمر، وهذا قول الفارسي، وقزاعد البصريين موافقة له) اهـ. (¬4) أخرجه أبو داود رقم (2818 - 2819)، وابن ماجه رقم (3173) , والترمذي =

الفاء للعطف على ما دل عليه أول الكلام، كأنه قيل: كونوا على الهدى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، أي: مما ذُكي على اسم الله تعالى (¬1). قال الزجاج: (معناه: كلوا مما أخلصتم ذبحه لله) (¬2)، وقد ذكرنا عند قول تعالى (¬3): {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] إن التسمية لا تجب وأنها سنّة مستحبة (¬4). ¬

_ = رقم (3036)، وقال: حسن غريب، والنسائي في "سننه" 7/ 237 كتاب: "الضحايا"، باب: تأويل قول الله عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وفي "التفسير" 1/ 479، والطبري 8/ 11 - 13، والحاكم 4/ 113 - 231، 233، وصححه ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وأخرجه البيهقي في "سننه" 9/ 240، كلهم من طرق جيدة، وبألفاظ متقاربة، وأخرجه النحاس في ناسخه 2/ 354، وقال: (هذا من أصح ما مر، وهو داخل في المسند). اهـ. وجاء في بعض الروايات أن الآية نزلت في اليهود، ويمكن الجمع بينهما بأن قول المشركين مبني على إيحاء اليهود، وذكر ابن كثير 2/ 188، عدة طرق، وقال: (إسناده صحيح، وروي من طرق متعددة ليس فيها ذكر اليهود، وهذا هو المحفوظ؛ لأن الآية مكية، واليهود لا يحبون الميتة). اهـ. (¬1) ذكره السمين في "الدر" 5/ 128، عن الواحدي، وقال: (الظاهر أنها عاطفة على ما تقدم من مضمون الجمل المتقدمة، كأنه قيل: اتبعوا ما أمركم الله من أكل المذكى دون الميتة فكلوا) اهـ. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 286. (¬3) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 105 ب. (¬4) هذا قول الشافعي، ورواية عن مالك وأحمد، فمن تركها عندهم عمدًا أو سهوًا لم يقدح في حل الأكل، وذهب الجمهور إلى أنها شرط للإباحة مع الذكر دون النسيان، فيجوز أكل ما تركت عليه التسمية سهوًا لا عمدًا، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد ومالك، وذهب أحمد في رواية إلى أنها شرط مطلقًا، وهذا القول هو الظاهر من نصوص الكتاب والسنة؛ لأن الأدلة لم تفصل، ولأنه علق الحل بذكر اسم الله تعالى، وهو اختيار شيخ الإسلام "الفتاوي" 35/ 239،=

119

وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} ترغيب في اعتقاد صحة الإذن في أكل المذكاة على اسم الله تعالى، وتأكيد أن ما أباحه الشرع فهو طيب يحل تناوله، ولا يجوز استقذاره حتى لو استقذره إنسان كان غير مؤمن بظاهر هذه الآية، فإن عافت نفسه شيئًا بعد صحة عقيدته بكونه مباحاً غير مستقذر لم يضره ذلك (¬1). 119 - قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية. هذا إبلاغ في إباحة ما ذبح باسم الله. قال الزجاج: (وموضع أن نصب؛ لأن في سقطت فوصل المعنى إلى أن فنصبها، المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا، وسيبويه (¬2) يجيز أن يكون موضع أن خفضًا، وإن سقطت في، والنصب عنده أجود) (¬3)، وقد ذكرنا هذا قديمًا (¬4). ¬

_ = والشيخ صالح بن فوزان الفوزان في كتاب "الذكاة الشرعية" ص 14 - 15، والشيخ محمد بن صالح العثيمين في "رسالة في أحكام الأضحية والذكاة" ص 82 - 86، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 350 - 355، و"أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 746، و"المغني" لابن قدامة 12/ 257، 390، والقرطبي 7/ 75، و"المجموع" للنووي 8/ 410، و"تفسير ابن كثير" 2/ 189 - 190، و"نيل الأوطار" 8/ 152. (¬1) انظر: "الفتاوى" 21/ 534. (¬2) انظر: "الكتاب" 3/ 126 - 129. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 286، وفيه قال: (ولا اختلاف بين الناس في أن الموضع نصب)، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 286، و"إعراب النحاس" 1/ 578، و"المشكل" 1/ 267. (¬4) لم أقف عليه.

وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} قرئ (¬1) بالضم في الحرفين وبالفتح فيهما، وفي الأول بالفتح والثاني بالضم، فمن قرأهما بالضم فحجته قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله] (¬2) {حُرِمَتْ} تفصيل ما أجمل في هذه الآية، فكما أن الاتفاق هاهنا على {حُرِمَتْ}، كذلك يكون الذي أجمل فيه وكما وجب (حُرِّم) بضم الحاء لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] كذلك ضم (فُصل) لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم الذي قد أجمل في هذه الآية، [وأيضًا] (¬3) فإنه قد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] [و (مفصلًا)] (¬4) يدل على (فُصّل) ومن فتحهما فحجته في (فَصّل) قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} [الأنعام: 97] وحجته في (حَرّم) قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ} [الأنعام: 151]، ويؤكد الفتح قوله تعالى: {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ (¬5)} [الأنعام:119] فينبغي أن يكون الفعل مبنيًا للفاعل لتقدم ذكر اسم الله سبحانه، ومن قرأ: (فَصَّل) بالفتح فحجته قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا} [الأنعام: 97]، وحجته في ضَمِّ (حُرّم)، قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو (فصل) بضم الفاء وكسر الصاد، وقرأ الباقون بفتح الفاء والصاد، وقرأ نافع وعاصم في رواية: (حرم) بفتح الحاء والراء، وقرأ الباقون بضم الحاء وكسر الراء. انظر: "السبعة" ص 267، و"المبسوط" ص 174، و"الغاية" ص 249، و"التذكرة" 2/ 409، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 262. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) لفظ: (أيضًا) ساقط من (أ). (¬4) لفظ: (ومفصلًا) ساقط من (ش). (¬5) لفظ: (عليكم) ساقط عن (ش).

الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] (¬1) قال المفسرون (¬2). (ومعنى قوله تعالى: {وَقَدْ (¬3) فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} هو ما فصله في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية). وقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}. قال الزجاج: (أي: دعتكم الضرورة لشدة المجاعة إلى أكله) (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ}. قال أبو علي: (أي: يضلون باتباع أهوائهم (¬5)، كما قال: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176]، أي: يضلون (¬6) بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه، وغير ذلك مما يتبعونه ¬

_ (¬1) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 3/ 390 - 391، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 382، و"إعراب القراءات" 1/ 168، و"الحجة" لابن خالويه ص 148، ولابن زنجلة ص 269، و"الكشف" 1/ 448. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 12 - 13، والسمرقندي 1/ 509، و"الحجة" لأبي علي 3/ 391، ونسب هذا القول الرازي في "تفسيره" 13/ 166، إلى أكثر المفسرين، وذكره القاسمي في "تفسيره" 6/ 695 - 696، وقال: (ورد هذا بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة والأنعام مكية، فالصواب أن التفصيل إما في قوله تعالى بعد هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145] فإنه ذكر بعدُ بيسير، وهذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد، وإما على لسان الرسول ثم أنزل بعد ذلك في القرآن). اهـ. وانظر: "تفسير الرازي" 13/ 166، وابن عاشور 8/ 34. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 287، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 12، و"الحجة" لأبي علي 3/ 391. (¬5) في (أ): (هوائهم)، وهو تحريف. (¬6) في (الحجة) لأبي علي 3/ 394 - 495: (أي: يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم من اتباعهم بامتناعهم ..). اهـ. وهذا في توجيه قراءة فتح الياء.

ويأخذون به مما لا شيء يوجبه في شرع (¬1) نحو السائبة (¬2) والبحيرة (¬3) وغير ذلك مما كن يفعله أهل الجاهلية). ومن قرأ (¬4) بضم [الياء] (¬5) فحجته أنه يدل على أن الموصوف بذلك في الضلال أذهب، ومن الهدى أبعد، ألا ترى أن كل مضلٍّ ضالٌّ، وليس كل ضالٍّ مضلًّا، [إذا (¬6) كان] ضلاله مقصورًا على نفسه لا يتعداه إلى سواه، فالمضل أكثر استحقاقًا للذم، وأغلظ حالاً من الضال لتحمله إثم من ¬

_ (¬1) في "الحجة" 3/ 395: (من شرع ولا عقل) اهـ. (¬2) السائبة: المهملة، كان الرجل إذا برأ من مرضه أو قدم من سفر أو نجت دابته من مشقة سيب شيئًا من الأنعام للآلهة، والبعير يدرك نتاج نتاجه فيسيب ويترك ولا يحمل عليه، والناقة التي كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت، أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظمًا، وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ، ولا تركيب. انظر: "اللسان" 4/ 2166 مادة (سيب). (¬3) البحيرة: أصل البحر الشق، وشق الأذن كانوا إذا نتجت الناقة أو الشاة عشرة أبطن بحروها وتركوها ترعى وحرموا لحمها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال، أو التي خليت بلا راع، أو التي نتجت خمسة أبطن والخامس ذكر نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى بحروا أذنها فكان حرامًا عليهم لحمها ولبنها وركوبها، فإذا ماتت حلت للنساء، أو هي ابنة السائبة، وحكمها حكم أمها، أو هي في الشاة خاصة إذا نتجت خمسة أبطن بحرت، وهي الغزيرة أيضًا. انظر: "اللسان" 1/ 216 مادة (بحر). (¬4) قرأ عاصم وحمزة والكسائي (ليضلون) بضم الياء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر. "السبعة" ص 267، و"المبسوط" ص 174، و"التذكرة" 2/ 409، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 262. (¬5) في (أ): (بضم التاء)، وهو تصحيف. (¬6) في (ش): (إذ كان).

أضله (¬1). وقول أبي علي في تفسير: {لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ} موافق لقول ابن عباس فإنه قال: (أراد عمرو بن لحي (¬2) فمن دونه من المشركين، وهو أوّل من غيّر دين إسماعيل، واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة) (¬3)، وقد ذكرنا قصته (¬4) في سورة المائدة. وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [يريد] (¬5): لا علم لعمرو بن لحي، وقال أبو إسحاق: (أي: الذين يحلون الميتة ويناظرونكم في إحلالها، وكذلك كل ما يضلون فيه إنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بصيرة عندهم ولا علم) (¬6). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} قال ابن عباس: (يريد: ما تعدّى عمرو بن لحيّ حيث ملك مكة واتخذ الأصنام) (¬7). وقال المفسرون (¬8): (يعني: المجاوزين الحلال إلى الحرم). ¬

_ (¬1) هذا قول أبي علي في الحجة 3/ 396 - 397، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 383، و"إعراب القراءات" 1/ 168، و"الحجة" لابن خالويه ص 148، ولابن زنجلة ص 269، و"الكشف" 1/ 449. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 106، والبغوي في "تفسيره" 3/ 182، والرازي 13/ 166، بدون نسبة. (¬4) انظر: "البسيط" نسخة جامعة الإمام 3/ 80 ب. (¬5) جاء في (أ): (قال يريد) وكأن القائل هو ابن عباس رضي الله عنهما. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 287، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 13. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 13، والسمرقندي 3/ 315، والبغوي 3/ 182.

120

120 - قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} الآية. أكثر المفسرين (¬1): (على أن {ظَاهِرَ الْإِثْمِ} الإعلان بالزنا {وَبَاطِنَهُ} الاستسرار به). فقال ابن عباس: (كانت العرب يحبون الزنا، وكان الشريف يتشرف أن يزني [فيسر (¬2) ذلك]، وغيره لا يبالي أن يظهره، فحرم الله الزنا كله، فقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} مثل قوله تعالى: {[وَ] (¬3) لاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]) (¬4)، وقال الضحاك: (كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالًا ما كان سرًّا فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية) (¬5). وقال الكلبي (¬6): ({ظَاهِرَ الْإِثْمِ} الزنا، {وَبَاطِنَهُ} المُخالَّة (¬7))، وقال السدِّي: (ظاهره الزنا في الحوانيت وهم أصحاب الرايات، {وَبَاطِنَهُ} الصديقة يزني بها سرًّا) (¬8). ¬

_ (¬1) حكاه عن أكثر المفسرين البغوي في "تفسيره" 3/ 182، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 586، والفراء في "معانيه" 1/ 352، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 1/ 169، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 510، ومكي في "تفسير المشكل" ص 79. (¬2) في (ش): (فيستر ذلك). (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من النسخ. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 107، والثعلبي في "الكشف" 183 أ، عن مرة الهمذاني، والبغوي في "تفسيره" 3/ 182، بدون نسبة، وفي "تنوير المقباس" 2/ 55، و"زاد المسير" 3/ 113، نحوه عن ابن عباس. (¬5) أخرجه الطبري 8/ 14، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي 183 أ، وابن الجوزي 3/ 114. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 55. (¬7) المخالة، بالضم: المصادقة، وأصل الخُلَّة والمحبة التي تخللت القلب فصارت في باطنه. انظر: "اللسان" 1252 مادة (خلل). (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 14، وابن أبي حاتم 4/ 1377 بسند جيد.

وذهب جماعة (¬1): (إلى أن الآية عامة في كل إثم) وهو قول مجاهد وقتادة، وجميع أصحاب المعاني، فقال مجاهد: (يعني: ما ينوي من الإثم وما هو عامله) (¬2). وقال قتادة: (سره وعلانيته) (¬3)، قال ابن الأنباري: (يريد: وذروا الإثم من جميع جهاته، كما تقول: ما أخذت من هذا المال [قليلًا (¬4) ولا كثيراً]، يريد: ما أخذته من جميع الوجوه التي يجوز أن يؤخذ منها، كذلك الذنوب كلها لا تخلو من هذين الوجهين) (¬5). وقال أبو إسحاق: (الذي يدل عليه الكلام أن المعنى: اتركوا الإثم ظهر أو بطن، أي: لا تقربوا ما حرم عليكم جهرًا ولا سرًّا) (¬6)، وقال غيره (¬7): (معنى الآية: النهي عن الإثم مع البيان أنه لا يخرجه من معنى الإثم الاستسرار به، كما كانت الجاهلية ترى في الزنا أنه إثم ¬

_ (¬1) وهذا القول هو الراجح وما ذكر من باب التمثيل، وهو اختيار أكثر المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 15، و"معاني النحاس" 2/ 480، و"تفسير ابن عطية" 5/ 332، وقال الرازي في "تفسيره" 13/ 167: (هذا نهي عام في جميع المحرمات، وهو الأصح؛ لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز). اهـ. وقال القرطبي في "تفسيره" 7/ 74: (للعلماء فيه أقوال كثيرة، وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملًا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أمر ونهى ..) اهـ. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 14 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 78. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 217، والطبري 8/ 13، وابن أبي حاتم 4/ 1377 من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 78. (¬4) في (أ): (قليلاً أو كثيراً). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 107، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 114، والرازي في "تفسيره" 13/ 167. (¬6) "معاني الزجاج" 3/ 287. (¬7) ذكره الرازي 13/ 167، وانظر: السمرقندي 1/ 510.

121

[إذا أعلن] (¬1)، فإذا استتر به صاحبه لم يكن إثمًا، كما ذكره الضحاك) (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ} [إلى آخرها] (¬3) توعد على فعل الإثم بالجزاء (¬4). 121 - قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال ابن عباس (¬5): (يريد: الميتة {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3]) (¬6)، وقال الكلبي: (يعني: ما لم يُذكّ ومات قبل أن تدرك ذكاته أو ذبح لغير الله) (¬7)، وقال الزجاج: (أي: مما لم يخلص ذبحه الله) (¬8)، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الهاء تعود على الأكل المدلول عليه، يعني: وإن الأكل لفسق، أي: أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (إذا علم). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في (أ): (إلى آخره). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 15، و"معاني النحاس" 2/ 481، و"تفسير السمرقندي" 1/ 510. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 108، والبغوي 3/ 183، وابن الجوزي في 3/ 115، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 18، 19، وابن أبي حاتم 4/ 1378 بسند جيد، عن ابن عباس قال: (يريد: الميتة)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 78. (¬6) يشير إلى الآية الثالثة من سورة المائدة، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق، والموقوذة: هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، والمتردية: هي التي تقع من موضع عال أو شاهق فتموت، والنطيحة: هي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، وقد كان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونه، فحرم الله ذلك على المؤمنين. انظر: السمرقندي 1/ 414، وابن كثير 2/ 13. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 108. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 287، ومثله ذكره النحاس في "معانيه" 2/ 480. (¬9) انظر: "معاني الفراء" 1/ 352، و"تفسير الطبري" 8/ 20، السمرقندي 1/ 510، و"الدر المصون" 5/ 132.

قال [ابن عباس] (¬1): (يريد: عصيان) (¬2)، ومعنى الفسق في اللغة (¬3): الخروج عن الحق والدين (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} أي: يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدال بالباطل، وهو ما ذكرناه من أن المشركين جادلوا المؤمنين في الميتة (¬5)، وأكثر المفسرين: (على أن المراد بالشياطين هاهنا: إبليس وجنوده، وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين وأهل الضلالة ليخاصموا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في أكل الميتة) (¬6). وقال عكرمة (¬7): ({وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ} يعني: مردة المجوس {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} ¬

_ (¬1) لفظ: (ابن عباس) ساقط من (أ)، وملحق بالهامش. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 20، وابن أبي حاتم 3/ 106، بسند ضعيف. (¬3) الفسق، بكسر الفاء وسكون السين: الخروج عن الطاعة إلى العصيان والترك لأمر الله عز وجل والميل إلى المعصية. قال الراغب في "المفردات" ص 636: (وهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيراً، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه). اهـ. وانظر: "العين" 5/ 82، و"الجمهرة" 2/ 847، و"تهذيب اللغة" 3/ 2788، و"الصحاح" 4/ 1543، و"المجمل" 3/ 721، و"اللسان" 6/ 3414 مادة (فسق). (¬4) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 287، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 482. (¬5) هذا نص كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 287. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 23، من عدة طرق، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعبد الله بن كثير، وقتادة والسدي والضحاك. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 78 - 79. (¬7) أخرجه الطبري 8/ 20، وابن أبي حاتم 4/ 1379 بسند جيد، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 226، ورجح الطبري 8/ 23 - 24، العموم وتعاونهم في ذلك، لأن الله تعالى جعل للأنبياء أعداء من شياطين الإنس والجن، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 335.

من مشركي قريش، قال: وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش -وكانوا أولياءهم في الجاهلية, وكانت بينهم مكاتبة- أن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام، فوقع في أنفس ناس [من المسلمين] (¬1) من ذلك شيء، فأنزل الله هذه [الآية] (¬2). ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} يعني: في استحلال الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. قال أبو إسحاق: (وفي هذا دليل أن كل من أحل شيئًا مما حرم الله، أو حرم شيئًا مما أحل الله فهو مشرك، وإنما سمي مشركًا لأنه اتبع غير الله عز وجل، فأشرك به غيره) (¬3). فإن قال قائل: كيف أبحتم ذبيحة المسلم التارك للتسمية والآية كالنَّص في التحريم؟ قيل: إن جميع المفسرين فسروا الآية بالميتة، وأشباهها، مما ذكره ابن عباس ولم يحملها أحد على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية، وفي الآية أشياء تدل على أن الآية في تحريم الميتة، منها قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ولا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية بالإجماع، وإنما التفسيق في أكل الميتة مع اعتقاد التحريم، ومنها قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة بإجماع من أهل التفسير، لا في هذه المسألة، ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، والشرك في [استحلال الميتة ¬

_ (¬1) لفظ: (من المسلمين) مكرر في (ش). (¬2) لفظ: (الآية) ساقط من النسخ، وملحق في (أ) بأعلى السطر. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 287، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 482، عن أهل النظر, وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 15 وما بعدها، والسمرقندي 1/ 510.

122

لا في (¬1)] استحلال الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها (¬2). 122 - قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}. قرأ نافع (¬3) (مَيِّتًا) بالتشديد. قال أهل اللغة (¬4): (المَيْتُ، مخففًا: تخفيف ميِّت، ومعناهما واحد ثُقِّلَ أو خُفِّفَ، والمحذوف في (¬5) المخفف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو، أُعلت بالحذف كما أعلت بالقلب) (¬6) قال ابن عباس (¬7) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬2) ذكر مثل هذا الواحدي في "الوسيط" 1/ 109، والرازي في "تفسيره" 13/ 138، وقال الطبري في "تفسيره" 12/ 85: (الصواب: إن الله عني بذلك ما ذبح للأصنام والآلهة، وما مات أو ذبحه من لا تحل ذبيحته، وأما من قال: عني بذلك ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله فقول بعيد عن الصواب؛ لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، وكفى بذلك شاهدًا على فساده). اهـ. وانظر: البغوي 3/ 183، وابن عطية 6/ 140. (¬3) قرأ نافع (ميتًا) بتشديد الياء مع كسرها، وأسكنها الباقون. انظر: "السبعة" ص 268، و"التذكرة" 2/ 409، و"التيسير" ص 106. (¬4) الموت: ضد الحياة، يقال: ميت بفتح الميم، وكسر الياء المشددة، وأصله ميْوت على فيعل. وقيل: أصله مويت ثم أدغم ثم خفف، فقيل: ميت بفتح الميم وسكون الياء، والمعنى واحد. انظر: "العين" 8/ 140، و"الجمهرة" 1/ 411، و"البارع" ص 704، و"تهذيب اللغة" 14/ 342، و"الصحاح" 1/ 266، و"مقاييس اللغة" 5/ 283، و"المفردات" ص 781، و"اللسان" 2/ 90 (موت). (¬5) في (أ): (والمحذوف من المخفف في الياءين). (¬6) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 398 - 399، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 383، و"إعراب القراءات" 1/ 168. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 91، بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 351 - 352.

ومجاهد (¬1) ومحمد بن كعب (¬2) وجميع المفسرين (¬3): (يعني: من كان كافرًا [ضالًّا] (¬4) فهدينا). قال أهل المعاني: (قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] فلما جعل الكفر موتًا، والكافر ميتًا، جعل الهدى حياة، والهداية إحياء، وإنما جعل الكفر موتًا؛ لأنه جهل، والجهل يؤدي إلى الحيرة والهلكة، والموت كالجهل في أنه لا يدرك به حقيقة، والهدى علم وبصيرة، والعلم يهتدي به إلى الرشد ويدرك به الأمور كما يدرك الحياة (¬5). وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}. قال ابن عباس: (يعني: دينًا) (¬6)، وقال مجاهد: (يعني: الهدى) (¬7)، وقال الكلبي: (إيمانًا ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 1/ 222، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 90 - 91 من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 352. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) ومنهم مقاتل في "تفسيره" 1/ 587، والفراء في "معانيه" 1/ 253، وابن قتيبة في تفسير "غريب القرآن" ص 159، والطبري في "تفسيره" 12/ 88، والسمرقندي 1/ 511، ومكي في "تفسير المشكل" ص 79. (¬4) لفظ: (ضالًا) ساقط من (أ). (¬5) بعضه في "الحجة" لأبي علي 3/ 98، وذكره الرازي 13/ 1731 عن أهل المعاني، وانظر: "الفتاوى" 19/ 94، و"بدائع التفسير" 2/ 178. (¬6) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 23، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني بالنور: القرآن) اهـ. وأخرج بسند ضعيف عنه قال: (يقول: الهدى). وقال السيوطي في "الدر" 3/ 81: (أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: (يعني بالنور: القرآن) اهـ. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 23، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 81، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 223، قال: (يعني: الإيمان) اهـ.

{يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} مع المسلمين) (¬1)، وقال ابن زيد: (يعني: الإِسلام) (¬2)، وهذا الأقوال سواء (¬3)، قال أصحاب المعاني الزجاج (¬4) وأبو علي (¬5): (المؤمن مستضيء في الناس بنور الحكمة والإيمان فيراد بالنور هاهنا: نور الحكمة التي يؤتاها المسلم بإسلامه)، وقال قتادة: (النور هاهنا كتاب الله بينة من الله مع المؤمن، بها يعمل، وبها يأخذ، وإليها ينتهي) (¬6)، وهو قول الحسن قال: (هو القرآن) (¬7)، قال أبو علي: (ويجوز أن يراد به النور المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]) (¬8). وقوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}. قال المفسرون: (يعني: الكافر [يكون] (¬9) في ظلمات الكفر والضلالة) (¬10). ومعنى: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} كمن هو في الظلمات، والعرب (¬11) تزيد مثل في الكلام، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 353. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 23، بسند جيد. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 172، وابن كثير 2/ 192. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 288. (¬5) "الحجة" لأبي علي 3/ 399. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 23، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 81. (¬7) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 163، وابن الجوزي 3/ 117. (¬8) الحجة لأبي علي 3/ 399. (¬9) لفظ: (يكون) ساقط من (أ). (¬10) ومنهم الطبري في "تفسيره" 8/ 23، وأخرجه من عدة طرق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. (¬11) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 2 - 3.

ولا يريدون به التشبيه، كقولهم: أنا أكرم مثلك. أي: أنا أكرمك، وعلى هذا يتوجه قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ [مِنَ النَّعَمِ]} (¬1) [المائدة: 95] فيمن أضاف (¬2)؛ لأن معناه: فجزاء ما قتل، لا جزاء مثله. ومن هذا قل (¬3) في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ليس كهو شيء (¬4)، والتقدير في الآية: أفمن جعلنا له نورًا (¬5) يمشي به كمن هو في الظلمات، والمِثْل والمَثل (¬6) واحد. ويجوز أن يكون المعنى: كمن مثله الذي هو شبه له في الظلمات، وإذا كان مثله في الظلمات كان هو أيضًا فيها، فأخبر عن مثله، أي: شبهه، والمراد به: الكافر لا شبيهه، وهذان القولان معنى ما ذكره أبو علي (¬7) في هذه الآية، وقال غيره من النحويين (¬8): (معنى الآية: كمن في الظلمات، وزيد المثل لأنه يفيد أنه يُضرب به المثل في ذلك). وقال بعضهم: (التقدير كمن مثله مثل من في الظلمات، أي: كمن لو شبه بشيء كان شبيهه من في ¬

_ (¬1) لفظ: (من النعم) ساقط من (أ). (¬2) يعني: على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر (فجزاءُ مِثْلِ ما قتل)، بضم (فجزاءُ) من غير تنوين مضافة وجر (مثل). انظر: "السبعة" ص 247، و"المبسوط" ص 163، 164، و"التذكرة" 2/ 390. (¬3) كذا في النسخ، والأولى: (ومثل هذا قل في قوله). (¬4) انظر: "معاني الحروف" للرماني ص 48، 49، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 291. (¬5) في (أ): (نوران)، وهو تحريف. (¬6) المثل بكسر الميم وسكون الثاء، والمثل بالفتح، واحد، بمعنى: التسوية، انظر: "اللسان" 7/ 4132 (مثل). (¬7) انظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 256 - 257، وهو نص كلامه مع زيادة شرح من الواحدي. (¬8) لم أقف عليه.

الظلمات) وهذا قول الحسين بن الفضل (¬1)، وهو أضعف هذه الأقوال. وقوله تعالى: {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}. قال الكلبي: (ليس بمؤمنٍ أبدًا) (¬2)، واتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت في مؤمن وكافر، وأجمعوا على أن الكافر أبو جهل (¬3). واختلفوا في المؤمن من هو؟ فقال ابن عباس: (يريد: حمزة بن عبد المطلب، وذلك أن أبا جهل رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرث، وحمزة يومئذ لم يؤمن، فأخبره حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه، وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى [علا] (¬4)، أبا جهل بالفرس، وهو يتضرع إليه ويستكين، ويقول: أما ترى ما جاء به، سفه عقولنا، وسب آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له (¬5)] وأن محمدًا رسوله، فأنزل الله هذه الآية) (¬6). وقال مقاتل: (نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل، وذلك أنه قال: زاحمنا ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول الثعلبي في "الكشف" 183 ب بدون نسبة. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 112، بدون نسبة، وقال مجاهد في "تفسيره" 1/ 223: {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أي: الضلالة أبدًا). (¬3) حكى الاتفاق أيضًا ابن عطية في "تفسيره" 5/ 237. (¬4) لفظ (علا)، ساقط من أصل (أ)، وملحق بأعلى السطر. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬6) ذكره أكثرهم. انظر: الثعلبي ص 183 ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 224، والبغوي 3/ 184، وابن الجوزي 3/ 116، والرازي 13/ 172، والقرطبي 7/ 78، وذكر القصة دون ذكر الآية ابن هشام في "السيرة" 1/ 312، 376، والحاكم في "المستدرك" 3/ 192 - 193.

بنو (¬1) عبد [مناف] (¬2) في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان (¬3) قالوا. منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدًا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية، وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} الآية [الأنعام: 124]) (¬4). قال الزجاج: (على هذا القول فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هُدى، وأعطي نور الإسلام و [النبوة] (¬5) والحكمة، وأبو جهل في ظلمات الكفر) (¬6). وقال عكرمة (¬7) والكلبي (¬8): (نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل). وقال الضحاك (¬9)، ويمان: نزلت في عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأبي جهل) (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (بني)، وهو تحريف. (¬2) لفظ: (مناف)، ساقط من (ش). (¬3) كَفَرسي رهان: أي: يتسابقان إلى غاية. وفرس بالفتح: واحد الخيل. ورهان بالكسر: المسابقة على الخيل. انظر: "النهاية" لابن الأثير 3/ 428 - 429، و"اللسان" 6/ 3378 (فرس)، 3/ 1758 (رهن). (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 587. (¬5) لفظ: (النبوة) ساقط من (أ). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 288. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 22 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 81، وحكاه ابن الجوزي 3/ 116 عن ابن عباس. (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 56، وذكره السمرقندي 1/ 511، والثعلبي ص 183/ ب , والماوردي 2/ 164، والبغوي 3/ 185، عن الكلبي. (¬9) أخرجه الطبري 8/ 22 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 81. (¬10) لم أقف عليه عن يمان وحكاه النحاس في "معانيه" 2/ 483، عن السدي، والماوردي 2/ 163 عن مقاتل، والواحدي في "الوسيط" 1/ 112، عن زيد بن أسلم، والسيوطي في "الدر" 3/ 81 عن ابن عباس.

وقال الحسن (¬1): (الآية عامة [في كل مؤمن وكافر، ولم تنزل في مؤمن وكافر مخصوصين)، وهو قول الزجاج: (يجوز أن تكون هذه الآية (¬2) عامة] لكل من هداه الله، ولكل من أضله، فاعلم أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أُحيي، وجُعل مستضيئًا في الناس بنور الحكمة والإيمان, ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات الذي لا يتخلص منها) (¬3). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: زين الشيطان لهم عبادة الأصنام) (¬4). وأما وجه التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ} فالمعنى: زين لهم الكفر فعملوه كما زين لأولئك الإيمان, فشبهت حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه (¬5). وقال أبو إسحاق: (موضع الكاف رفع، المعنى: مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي 2/ 163، والواحدي في "الوسيط" 1/ 112، وابن الجوزي 3/ 116. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 288، وهذا القول هو الراجح، فالآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر، وهو اختيار القرطبي في "تفسيره" 7/ 78، وابن كثير 2/ 192، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 483: (الذي يوجب المعنى أن يكون عامًّا إلا أن تصح فيه رواية). اهـ. وقال الرازي في "تفسيره" 13/ 173: (الحق أن الآية عامة؛ لأن المعنى إذا كان حاصلًا في الكل كان التخصيص محض تحكم، إلا إذا قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة فلان بعينه". اهـ ملخصًا. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 113، والبغوي في "تفسيره" 3/ 185. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 24، والسمرقندي 1/ 511، وابن عطية 5/ 237. (¬6) ذكره السمين في "الدر" 5/ 134، وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 288، عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} (موضع الكاف نصب معطوفة على ما قبلها =

123

123 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الآية، {وَكَذَلِكَ} عطف على {كَذَلِكَ} في الآية الآولى، أي: ومثل ذلك جعلنا في كل قرية، أي: كما زينا للكافرين أعمالهم كذلك (¬1) جعلنا. قال المفسرون (¬2): (يعني: كما إن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها). قال ابن عباس: (أكابر مجرمي مكة المستهزئون المقتسمون عقاب (¬3) مكة) (¬4). قال الزجاج: (إنما جعل الأكابر المجرمين؛ لأنهم بما هم فيه من الرئاسة والسعة أدعى لهم المكر والكفر، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]) (¬5). ¬

_ = وهو قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المعنى: مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم وكذلك جعلنا) اهـ. وقال الهمداني في "الفريد" 2/ 223: (الكاف يحتمل أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فعلنا لهذه الأشياء المتقدم ذكرها، وهي إحياء الميت وجعل النور له، وذكرنا لمن مثله في الظلمات مثل تزييننا للكافرين عملهم، أو في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فعلنا هذه الأشياء فعلًا مثل فعلنا للتزيين) اهـ. (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 288، و"تفسير الطبري" 8/ 24. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 511، و"الثعلبى" 183 ب. (¬3) عقاب، بكسر العين: مرقى صعب من الجبال، وكل طريق بعضه خلف بعض، وعقب كل شيء: آخره. انظر: "اللسان" 5/ 3029 (عقب). (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 57، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 113. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 288، وزاد أيضًا قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] وانظر: "معاني النحاس" 2/ 484.

والأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم (¬1). والآية على التقديم والتأخير، تقديره: جعلنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة؛ [لأنه] (¬2) لا يتم المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل؛ لأنك إذا قلت: جعلت زيدًا، وتسكت لم يُفد الكلام حتى تقول: رئيسًا أو ذليلاً، أو ما أشبه ذلك، لاقتضاء الجعل مفعولين، ولأنك إذا أضفت الأكابر فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند البصريين (¬3). وقوله تعالى: {لِيَمْكُرُوا فِيهَا}. قال مجاهد: (هو أنهم أجلسوا على كل طريق أربعة، واقتسموا عقاب مكة، فذلك مكرهم) (¬4)، ومعنى ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 287، و"الطبري" 8/ 24، و"الدر المصون" 5/ 136. (¬2) لفظ: (لأنه) ساقط من (ش). (¬3) ذكر نص كلام الواحدي الرازي في "تفسيره" 13/ 1740 بدون نسبة، وقال مكي في "المشكل" 1/ 268، وابن الأنباري في "البيان" 1/ 338، (مجرميها) مفعول أول لجعلنا، (أكابر) مفعول ثانٍ مقدم. اهـ. وقال السنن في "الدر" 5/ 134 - 136: (جعل تصيير به، فتتعدى لاثنين، واختلف في تقديرهما، والصحيح أن يكون (في كل قرية) مفعولا ثانيًا قدم على الأول، والأول (أكابر) مضافًا لمجرميها ..) اهـ. ثم ذكر قول الواحدي، وقال: (هذان الوجهان اللذان رد بهما الواحدي ليسا بشيء، أما الأول فلا نسلم أنا نضمر المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وأما ما أورده من الأمثلة فليس مطابقًا لأنا نقول: إن المفعول الثاني مذكور مصرح به، وهو الجار والمجرور السابق، وأما الثاني فلا نسلم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها؛ لأن المجرمين أكابر وأصاغر فأضاف للبيان لا لقصد الوصف، وانظر: "غرائب التفسير" 1/ 383، و"التبيان" 357، و"الفريد" 2/ 224. (¬4) الواحدي في "الوسيط" 1/ 113، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 118، والقرطبي 7/ 79، وذكره البغوي 3/ 185 بدون نسبة.

قوله: جعلناهم (¬1) {لِيَمْكُرُوا} بيان أنهم لم يمكروا مُعاداة لله، بل جعلهم أكابر ليمكروا تكذيبًا للقدرية في مسألة التعديل والتجوير (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ}. قال ابن عباس: (يريد: ما يحيق هذا المكر إلا بهم؛ لأنهم بمكرهم يعذبون) (¬3)، كأنه قيل: ما يضرون بذلك المكر إلا أنفسهم؛ لأن وبال مكرهم يعود عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أنهم يمكرون بها (¬4)، قال ابن عباس: (لأنهم يقتلون ويصيرون إلى العذاب) (¬5). 124 - قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} الآية، قد ذكرنا قول مقاتل في سبب نزول هذه الآية، وقال غيره من المفسرين: (إن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقًّا، لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنًا وأكثر منك مالاً، فأنزل الله هذه الآية) (¬6)، وقال الضحاك: (سئل كل واحد من القوم أن يخص بالوحي والرسالة كما أخبر الله عنهم في قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] (¬7)، وظاهر الآية يدل على هذا؛ لأن الكناية في قوله: ¬

_ (¬1) هكذا العبارة في النسخ، وهي لا تستقيم، ولعل فيه سقطًا، أو الصواب: ومعنى (ليمكروا) جعلناهم ليمكروا، وفيه بيان أنهم لم يمكروا. (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 174. (¬3) لم أقف عليه، وهو نص كلام الزجاج في معانيه 2/ 288. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 24، و"معاني النحاس" 2/ 484، و"تفسير السمرقندي" 1/ 511. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 113. (¬6) ذكره أكثرهم. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 588، والسمرقندي 1/ 511 , والثعلبى 183 ب، والبغوي 3/ 185، والرازي 13/ 175، والقرطبي 7/ 80. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 113 , وابن الجوزي في "تفسيره" 13/ 175.

124

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ} تعود على الأكابر (¬1) الذين جرى ذكرهم، فعلى هذا أراد القوم أن تكون لهم النبوة والرسالة كما كانت لمحمد عليه السلام. وقال ابن عباس: ({وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} يريد: من علم الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه مما يخبرهم به {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} لن نصدق {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} يريد: حتى يوحي إلينا ويأتينا جبريل فنصدق) (¬2)، وعلى هذا: القوم لم يريدوا النبوة وإنما طلبوا أن تخبرهم الملائكة بصدق محمد كما قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء: 92]، وكما قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]. والأول أقوى (¬3) لقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} يعني: أنهم ليسوا لها بأهل، وعلى قول ابن عباس يتوجه هذا على أن (¬4) من أرسل إليه الملك وكلمه عيانًا حصلت له منزلة الرسل ومرتبة الأنبياء، وليسوا هم لهذا بأهل. ومعنى قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} هو أعلم بمن يختص بالرسالة، قال أبو علي: (لا يجوز أن يكون العامل في {حَيْثُ} {أَعْلَمُ} هذه الظاهرة، ولا يجوز أن يكون {حَيْثُ} ظرفًا؛ لأنه يصير التقدير: الله أعلم في هذا الموضع، ولا يوصف الله سبحانه بأنه أعلم في مواضع أو أوقات؛ لأنه علمه لا يختلف بالزمان والمكان، فإذا كان كذلك ¬

_ = والرازي 13/ 143. (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 288 - 289، و"تفسير الرازي" 13/ 175. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 58، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 114، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 118، والرازي 13/ 175، والخازن 2/ 180. (¬3) وهو اختيار القرطبي في "تفسيره" 7/ 80، وقال الرازي في "تفسيره" 13/ 176: (القول الأول هو المشهور، وقال المحققون: هو أقوى وأولى) اهـ. ملخصًا. (¬4) لفظ: (أن) ساقط من (أ).

كان العامل في {حَيْثُ} فعلًا يدل عليه {أَعْلَمُ} و {حَيْثُ} لا يكون ظرفاً بل يكون اسمًا، ويكون انتصابه انتصاب المفعول به [على الاتساع، ومثل ذلك في انتصاب {حَيْثُ} على المفعول به] (¬1) قول الشماخ: وَحَلأها (¬2) عَنْ ذي الأَراكَةِ عَامِرٌ ... أَخو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّواحِزُ (¬3) فحيث مفعول به؛ لأنه ليس يريد: أنه يرمي شيئًا حيث (¬4) تكوى النواحز: إنما يريد: أنه يرمي ذلك الموضع، فحيث تكوى النواحز مفعول به) (¬5). وقال الحكماء: (الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم؛ لأن الطعن كان يتسع عليهم، فيقال: إنما كانوا أكابر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬2) في النسخ: (وجلاهما)، وهو خلاف ما في المراجع الآتية. (¬3) "ديوانه" ص 65، و"المعاني الكبير" 2/ 783، و"جمهرة أشعار العرب" 2/ 828، و"البحر" 4/ 216، و"الدر المصون" 5/ 137. وحلأها، أي: منع الحُمر من الماء. انظر: "اللسان" 2/ 382 (حلا). وذو الأراكة: اسم مكان، وهو نخل وماء باليمامة. انظر: "معجم البلدان" 1/ 135. وعامر أخو الخضر، اسم وكنية لرام من أمهر الرماة وقانص مشهور يقال له: الرامي. والخضر: بضم الخاء وسكون الضاد هم ولد مالك بن مطرف المحاربي، سموا بذلك لشدة سمرتهم. انظر: "الإصابة" 2/ 261. والنواحز: الإبل المصابة بالنحاز، وهو داء من عوارضه سعال شديد، وعلاجه الكي في الرقاب والأجناب. انظر: "اللسان" 7/ 4366 (نحز). (¬4) في (أ): (حيث يكون تكوى)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "الحجة" لأبي علي 1/ 35، 3/ 244، و"كتاب الشعر" 1/ 178، و"التبيان" 357، و"الفريد" 2/ 225، و"الدر المصون" 5/ 137.

رؤساء فاتبعوا، فكان الله تعالى أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد بن المغيرة، وأكابر مكة) (¬1). وقوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ}، الصغار (¬2) الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه، قال الليث: (يقال من الصغر ضد الكبر: صَغُر (¬3) يَصْغُر صِغَرًا، فهو صغير، وأما الصَّغار فهو مصدر الصغير في القَدْر، يقال منه: صَغِر (¬4) يَصْغَر وصَغِر يَصغُر صَغَرًا وصَغَارًا، فهو صاغِرٌ، ويقال أيضًا في المصدر: صَغَرًا (¬5) وهو الذل، والصاغِرُ: الراضي بالذل، والصُّغرِ) (¬6). [قال أبو إسحاق] (¬7) (أي: هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصبهم ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 289، وحكاه الواحدي في "الوسيط" 1/ 114، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 118، و"الخازن" 2/ 180، عن أهل المعاني. (¬2) انظر: "الجمهرة" 2/ 739، و"البارع" ص 293، و"الصحاح" 2/ 713، و"المجمل" 2/ 534، و"المفردات" ص 485 (صغر). (¬3) صَغُر: بفتح الصاد، وضم الغين، يَصْغُر: بضم الغين. صِغَرًا: بكسر الصاد، وفتح العين. انظر: "العين" 4/ 372. (¬4) صَغِر: بفتح الصاد وكسر الغين. يَصْغَر: بفتح الغَين. وصَغِر: بفتح الصاد وكسر الغين. يصغرُ: بضم الغين. صُغْرًا: بالفتح. وصغارًا: بالفتح. (¬5) يقال: صغر يصغر: بضم الغين. صغرًا: بضم الصاد وسكون الغين، ويقال: صَغر يصغَر: بفتح الغين. صِغْرًا: بكسر الصاد، وسكون الغين. ويقال: صَغُر: بضم الغين وفتحها، من الذل. انظر: "اللسان" 4/ 2453 (صغر)، و"الدر السمين" 5/ 140. (¬6) "تهذيب اللغة" 8/ 23 - 24، وفيه قال الليث: (يقال: صَغر يَصْغَر صَغَرًا وصَغَارًا، فهو صاغر، إذا رضي بالضيم وأقرَّ به. ويقال: من الصغر ضد الكبر. صَغُر يَصْغُر صِغَرًا، وأما الصَّغَار فهو مصدر الصغير في القدر) اهـ. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).

صغار عند الله، أي: مذلة و {عِنْدَ} متصلة بـ {سَيُصِيبُ}، المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، قال وجائز أن يكون {عِنْدَ} متصلة بصغار فيكون المعنى: سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله لهم) (¬1). قال أبو علي: (يحتمل أن يكون {عِندَ} متصلة بـ {سَيُصِيبُ} ومعمولًا له، كما قال (¬2)، [كأنه] (¬3) سيصيب عند الله الذين أجرموا صغار، ويجوز أن يكون {عِندَ} معمولًا لصغار، والعامل فيه صغار نفسه؛ لأنه مصدر فلا يحتاج إلى تقدير محذوف في الكلام كما قدّره أبو إسحاق في قوله: صغار ثابت عند الله، لكن نفس المصدر يتناوله ويعمل فيه، والدليل على أن الصغار مصدر قوله: وإذا تكُونُ (¬4) شَديِدَة أُدْعَى لَها ... وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ هَذَا لَعَمْرِكُمْ الضغَارُ بَعَيْنِهِ ... لا أُمَّ لي إِنْ كَانَ ذاكَ ولا أبُ (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 289. (¬2) قوله: (كما قال) يريد الزجاج، في تقديره السابق. (¬3) لفظ: (كأنه) ساقط من (ش). (¬4) في (ش): (يكون). (¬5) البيتان مختلف في نسبتهما وهما في: "اللسان" 2/ 1069. (حيس) لهنى بن أحمر الكناني أو لزرافة الباهلي أو لغيرهما كما في "شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 921، وهما بلا نسبة في "معاني الفراء" 1/ 121 - 122، والأول في "الأضداد" لابن الأنباري ص 120. والشاهد في: البيت الأخير وهو: لرجل من بني مذحج في "الكتاب" 2/ 291 - 292، و"الأصول" 1/ 386، ولهنى الكناني في "الكتاب" 1/ 319، وبلا نسبة في: "معاني الأخفش" 1/ 25، و"المقتضب" 4/ 371، و"الجمل" للزجاجي ص 239، و"الحجة" لأبي علي 1/ 190، و"معاني الحروف" للرماني ص 82، و"اللمع" ص 99، و"رصف المباني" ص 338، و"المغني" 2/ 593. والحَيْسُ, بفتح الحاء وسكون الياء: الأقط يخلط بالتمر والسمن.

والتقدير فيه إذا كان مصدرًا: أن يصغروا عند الله، وعلى هذا التأويل لا وجه لتقدير ثابت في الكلام؛ لأن الفعل (¬1) نفسه يعمل فيه، ألا ترى أنك لو قلت: ضرب زيد خلفك عمرًا (¬2) حسن لكان المصدر يعمل في خلفك، ويعمل في عمرو وينتصب به، وكذلك صغار، والمعنى: صغارهم، ولم يضف المصدر إليهم؛ لأن في الكلام دليلًا عليه، كما حُذف المضاف إليه في قوله: {دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] و {بِسُؤَالِ (¬3) نَعْجَتِكَ} [ص: 24] هذا إذا جعلت صغارًا مصدرًا، فإن قدرته موصوفًا لم يكن {عِندَ} معمولًا لصغارِ ولكن يكون متعلقَّا بمحذوف، ولابد على هذا من تقدير ثابت ونحوه مما يكون صفة ثم حذف وأقيم الظرف مقامه للدلالة عليه، وهذا كقولك وأنت تريد الصفة: هذا رجل خلفك، فالمعنى: رجل ثابت أو مستقر خلفك، وكلا الوجهين جائز، ولا يجوز على واحد منهما تقديم {عِندَ} على {صَغَارٌ} كما جاز تقدير تقديمه إذا كان معمولًا لسيصيب، إلا أن الوجه الأول من هذين الوجهين أعجب إليّ، وإن كان الثاني حسنًا؛ لأن صغارًا مصدر، والمصادر تعمل أعمال الفعل وتقوم مقامه، فإذا أعملت عمل الفعل وقامت مقامه، لم يحسن وصفه كما لا يحسن وصف الفعل) (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ): (لأن الفعل يعمل نفسه يعمل فيه)، وهو تحريف. (¬2) في (أ): (عمروًا). (¬3) في النسخ: (وسؤال)، وهو تحريف. (¬4) "الإغفال" ص 965 - 698، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 353، و"معاني النحاس" 2/ 484، و"الفريد" 2/ 225، و"الدر المصون" 5/ 140.

125

125 - قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الآية، قال الليث: (يقال: شرح الله صدره فانشرح، أي: وسع (¬1) صدره لقبول الخير فتوسع) (¬2). وقال غيره: (شرح فلان أمره إذا أوضحه وأظهره، وشرح مسألةً إذا كانت مشكلةً فبيّنها) (¬3). وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي: (الشرح: الفتح، والشرح: البيان) (¬4)، فقد ثبت للشرح (¬5) معنيان: أحدهما: الفتح، ومنه يقال: شرح الكافر بالكفر صدرًا. أي: فتحه لقبوله، ومنه قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]. وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22] أي: فتحه ووسعه له، ومن هذا قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1]. قال الكلبي: ({يَشْرَحْ صَدْرَهُ} قلبه ويلينه ليقبل الإسلام) (¬6). والذي يدل على أن الشرح معناه: الفتح والتوسيع، وصف الكافر بضده من تضييق قلبه، وهو قوله تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]. قال المفسرون: (ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: كيف يشرح صدره؟ فقال: "بنور يقذف فيه حتى ينفسح وينشرح"، ¬

_ (¬1) في (ش): (أي: وسع الله). (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1851. (¬3) هذا في "تهذيب اللغة" 2/ 1851، كأنه من قول الليث. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1851. وفيه أيضًا: (الشرح الحفظ والفهم). اهـ. (¬5) انظر: "العين" 3/ 93، و"الجمهرة" 1/ 513، و"الصحاح" 1/ 378، و"المجمل" 2/ 528، و"المفردات" ص 449، و"اللسان" 4/ 2228 (شرح). (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 58.

فقيل له: وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت" (¬1). روي (¬2) ذاك عن ابن عباس (¬3) ثم قال: (وكذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4). ويروي أن ابن مسعود (¬5) كان السائل. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص 106، ووكيع 1/ 238، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 217، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 98 (34303)، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" 2/ 328، والطبري 8/ 26، وابن أبي حاتم 4/ 1384 وأبو الشيخ في "طبقات أصبهان" 1/ 452، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 512، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 398، من طرق معلولة بالإرسال أو الضعف، وأصله مرسل يروى عن عبد الله بن المسور الهاشمي المدائني ضعيف متهم بالوضع. انظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي 2/ 318، و"شرح علل الترمذي" لابن رجب 2/ 772، و"لسان الميزان" 3/ 360. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 83، وزاد نسبته إلى (سعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن المسور). وذكر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 195، عدة طرق للحديث ثم قال: (هذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً، والله أعلم). اهـ. (¬2) لفظ: (روى) ساقط من (ش). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 4/ 1384 بسند ضعيف. (¬4) هذه الزيادة لم أقف عليها. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 98 (34303)، والطبري 8/ 26، والحاكم 4/ 311، وسكت عنه، وقال الذهبي في "التلخيص": (فيه عدي بن الفضل ساقط)، وقال ابن كثير 2/ 195: (أخرجه ابن أبي حاتم)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 83، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" من طرق عن ابن مسعود.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}. وقرأ ابن كثير (¬1): (ضيقًا) ساكنة الياء، وهو من باب المَيِّت والمَيْت في أن المخفف مثل المشدد في المعنى. قال أبو علي: (والياء مثل الواو في الحذف، وإن لم تعتل بالقلب كما اعتلت الواو به اتبعت الياء الواو في هذا، كما اتبعت في قولهم: اتَّسَر من الميسر فجعلت بمنزلة اتَّعدَ) (¬2). وقال أبو بكر بن الأنباري: (الذي يثقل الياء يقول: وزنه من الفعل فَعِيل، والأصل فيه ضييق على مثال: كريم ونبيل، فجعلوا الياء الأولى ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلوها في ضاق يضيق، ثم أسقطوا الألف لسكونها وسكون ياء فعيل، فأشفقوا من أن يلتبس فعيل بفعْل فزادوا ياء على الياء ليكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق ما بين فَعِيل وفَعْل، والذين خففوا الياء قالوا: قد وضح أصل الحرف وعرف التشديد فخفف عند الثقة بأنه لا يلتبس بغيره. قال: وقال البصريون: وزنه من الفِعل فَيْعِل فأدغمت (¬3) الياء في الياء التي بعدها فوجب التشديد، ثم جاز التخفيف بعد، قال: وردّ الفراء وأصحابه هذا، وقالوا: لا يعرف في كلام العرب اسم على مثال فَيْعِل، ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير (ضيقا) بسكون الياء المخففة، وقرأ الباقون بكسر الياء المشددة. انظر: "السبعة" ص 268، و"المبسوط" ص 174، و"التذكرة" 2/ 410، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 262. (¬2) "الحجة" لأبي علي 3/ 400، وزاد: (الضَّيْق والضَّيِّق مثل المَيْت والمَيِّت في أن المحذوف مثل المُتمِّ في المعنى) اهـ وانظر: "معاني القراءات" 1/ 384، و"الحجة" لابن خالويه ص 149، ولابن زنجله ص 271، و"الكشف" 1/ 450. (¬3) جاء في الأصول: (فاندغمت)، وهو تحريف.

إنما المعروف في كلامهم فَيْعَل (¬1) نحو صيقل وهيكل، فمتى ادعى مدع في اسم معتلٍّ ما لا يعرف في السالم كانت دعواه مردودة غير مقبولةٍ) (¬2)، والحرج: الشديد الضيق، في قول جميع (¬3) أهل اللغة، ورجل حَرَج (¬4) وحَرِج: ضيق الصدر، وقال: لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ (¬5) وقد حَرِج (¬6) صدره أي: ضاق فلا ينشرح لخيرٍ، وقرئ (¬7) (حرجًا) بكسر الراء وفتحها (¬8). ¬

_ (¬1) أي: بفتح العين. والتي قبلها بكسرها. انظر: "الدر المصون" 5/ 142. (¬2) "الدر المصون" 5/ 141 - 142. وانظر: "الإنصاف" 2/ 795. وقال السمين: (وزن ضيِّق فَيْعِل كميت وسيد عند جمهور النحويين، ثم أدغم ويجوز تخفيفه) اهـ. وانظر: "معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص 169. (¬3) انظر: "الجمهرة" 1/ 436، و"الصحاح" 1/ 305، و"المجمل" 1/ 230، و"مقاييس اللغة" 2/ 50، و"المفردات" ص 226 (حرج). (¬4) (حرج) بفتح الحاء والراء، وكسر الراء. (¬5) هذا رجز لم أهتد إلى تمامه وقائله. وهو في "العين" 3/ 76، و"تهذيب اللغة" 1/ 775، و"اللسان" 2/ 821 (حرج)، و"الدر المصون" 5/ 142. (¬6) جاء في (أ): (وقد أحرج صدره)، ولعله تحريف، وأصل العبارة من "تهذيب اللغة" 1/ 775 (حرج). (¬7) قرأ نافع، وعاصم في رواية: (حرجًا) بكسر الراء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "السبعة" ص 268، و"المبسوط" ص 175، و"الغاية" ص 249، و"التذكرة" 2/ 410، و "التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 262. (¬8) في (أ): (وفتحه).

قال الفراء: (وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوَحَد والوَحِد والفرد والفَرِد والدَنَف (¬1) والدّنِف) (¬2). وقال الزجاج: (الحرجُ في اللغة: أضيق الضيق، ومعناه: أنه ضيق جدًّا، فمن قال: رجل حَرَج الصدر، فمعناه: ذو حرج في صدره، ومش قال: حَرِج جعله فاعلاً، وكذلك رجل دنَف: ذو دَنَف، ودَنِفٌ نعت) (¬3)، ونحو هذا قال أبو علي في القراءتين، قال: (من (¬4) فتح الراء كان وصفًا بالمصدر، مثل: قَمَنٍ وحَرًى ودَنَفٍ، ونحو ذلك من المصادر التي يوصف (¬5) بها , ولا يكون كبطل؛ لأن اسم الفاعل في الأمر العام من فَعِل إنما يجيء على فَعِلٍ، ومن قرأ (حَرِجًا) فهو مثل دنِفٍ وفَرِقٍ) (¬6). ¬

_ (¬1) الدنف: بتشديد الدال المفتوحة، وفتح النون وكسرها، المرض. انظر: "اللسان" 3/ 1432 (دنف). (¬2) "معاني الفراء" 1/ 353 - 354، ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" 8/ 29، وانظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 580، و"الزاهر" ص 236. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1234، وفي "معاني الزجاج" 2/ 290، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 579، نحوه، وقال السمين في "الدر" 5/ 142: (فرق الزجاج والفارسي بينهما فقالا: المفتوح مصدر، والمكسور اسم فاعل) اهـ. (¬4) قَمِنٌ بمعنى: حَرِيّ، يقال: هو قمن أن يفعل ذلك بفتح الميم أي: حَرِيٌّ وجدير، فمن قال بالفتح أراد المصدر، ومن قال بالكسر أراد النعت. انظر. "اللسان" 6/ 3745 (قمن). (¬5) في (أ): (توصف). (¬6) "الحجة" لأبي علي 3/ 401، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 384، و"إعراب القراءات" 1/ 169، و"الحجة" لابن خالويه ص 149، ولابن زنجلة ص 271، و"الكشف" 1/ 450، والفرق، بالتحريك: الخوف، ورجل فرق، أي: فزع شديد الفَرَق. انظر: "اللسان" 6/ 3401 (فرق)

وقال عبيد بن عمير (¬1): (قرأ ابن عباس (¬2) هذه الآية فقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم، قال: ما الحَرَجَة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه، فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر) (¬3). وقال (¬4) أبو الصلت الثقفي (¬5): (قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من كنانة، واجعلوه راعيًا؟ فأتوه به، فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا تصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير) (¬6). ¬

_ (¬1) عبيد بن عمير: مبهم، ولعله: عبيد بن عمير بن قتادة الليثي أبو عاصم المكي إمام واعظ مفسر مجمع على ثقته ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عن أبيه وعمر وعلي وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، توفي سنة 74 هـ، أو قبلها. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 156، و"غاية النهاية" 1/ 496، و"تهذيب التهذيب" 3/ 38، و"تقريب التهذيب" (4385). (¬2) أخرج أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص 98، وابن حسنون ص 24، والوزان 3/ ب بسند جيد عنه في الآية قال: (يعني: شاكًّا بلغة قريش). (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف" 183/ ب، والسمين في "الدر" 5/ 143، وذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 179 عن الواحدي. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬5) أبو الصلت الثقفي: تابعي مقبول، روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى عنه عبد الله بن عامر اليمامي. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري، و"الكنى" 9/ 44، و"الجرح والتعديل" 9/ 394، و"تهذيب التهذيب" 4/ 540. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 28، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 486، ومكي في "الكشف" 1/ 450، والثعلبي في "الكشف" 183/ ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 186، وذكره الرازي 13/ 183 عن الواحدي، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 84, وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ).

وقال علماء اللغة (¬1): (الأصل في الحرَج من الحرَجة: وهي شجرة تحف بها الأشجار حتى يمنع الراعي من أن يصل إليها، وجمع الحَرجة: حِرَجٌ، وجمع الحِرَجِ: حِرَاجٌ) (¬2). وقال العجاج: عَايَنَ حَيًّا كالحِرَاجِ نَعَمُهُ (¬3) حكاه ابن الأنباري (¬4). وقال أبو الهيثم: (الحِرَاجُ: غِياض من شجر السَّلَم ملتفة، واحدتها حَرَجَةٌ، والحَرَجَةُ من شدة التفافها لا يقدر أحد أن يدخل فيها أو ينفذ)، وأنشد بيت العجاج (¬5) ومعناه: عَايَنَ حَيًّا نعمة كالحراج لكثرتها وانضمام بعضها إلى بعض، وقال الليث: (أَخْرَجْتُ فلانًا صيرته إلى الحَرَج، وهو الضِّيق) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الاشتقاق" ص 419، و"الدر المصون" 5/ 143، ومراجع اللغة السابقة في معنى حرج. (¬2) قال السمين في "الدر" 5/ 143، (الحِراج: بكسر الحاء، جمع حِرْج: بكسر الحاء، وحرج: جمع حَرَجَة، بالفتح) اهـ. (¬3) الشاهد للعجاج في "ديوانه" 2/ 142، و"أمالي القالي" 1/ 66، و "تهذيب اللغة" 1/ 775، و"المجمل" 1/ 230، و"اللسان" 2/ 822 (حرج)، و"الدر المصون" 5/ 143، وصدره: حَتَّى إذا اللَّيْلُ تَجلَّتْ ظُلَمُة وهو لرؤبة في "ديوانه" ص 186، و"الصحاح" 1/ 306، وأوله: (فَصارَ إِذْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ شِرْذِمُهْ). قال القالي في "شرحه": (يقول عايَنَ هذا الجيشُ الذي أتانا حَيًّا، ويعني بالحيِّ: قومه بني سَعْد، والنَّعَمُ: الإبل) اهـ. "شرح ديوان أبي تمام" للخطيب التبريزي 2/ 95، و"الخزانة" 7/ 250. (¬4) انظر: "المذكر المؤنث" لابن الأنباري 1/ 258 - 261. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 775. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 775.

قال ابن عباس في رواية عطاء: ({وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} يريد: ضيقًا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه ونفسه، وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك) (¬1). وقال أهل المعاني: (8) (لما كان القلب محلًّا للعلوم والاعتقادات، ووصف (¬2) قلب الكافر بالضيق، وأنه على خلاف الشرح والانفساح، دلَّ أن الله تعالى صيره بحيث لا يعي علمًا ولا استدلالًا على توحيد الله والإيمان به؛ لأنه أضاف التضييق إلى نفسه فقال: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وهذا كما أن العرب إذا وصفت إنسانًا بالجبن قالت: لا قلب له، لما أريد به من المبالغة في وصفه بالجبن؛ لأن الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي يكون محل الشجاعة لو كانت، فإن لا يكون الشجاعة أولى، وأنشد أبو زيد: لَقَدْ أَعْجَبْتُمُونِي مِنْ جُسُومِ ... وَأَسْلَحَةٍ وَلَكِنْ لا فُؤَادَا (¬3) وأنشد أيضاً: وَلاَ وَقَّافَة والخَيْلُ تَرْدِي ... وَلَا خَال كَأنْبُوبِ اليَرَاعِ (¬4) وقال حسان: ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 116، والبغوي في "تفسيره" 3/ 186، والخازن 2/ 181. (¬2) في (ش): (وصف). (¬3) "الشاهد" لبرج بن مسهر الطائي كما في "النوادر" لأبي زيد ص 78، ولعامر بن جوين الطائي في "الوحشيات"، و"الحماسة الصغرى" لأبي تمام ص 233. (¬4) الشاهد لمرداس بن حصين الكلابي، شاعر جاهلي في "النوادر" لأبي زيد ص 5 - 6، وللطفيل بن عوف الغنوي، شاعر جاهلي في "الحماسة الصغرى"، و"الوحشيات" لأبي تمام ص 125. =

أَلَا أَبْلِغ أَبَا سُفْيانَ عَنّي ... فَأَنتَ مُجَوَّفٌ نَخِب هَوَاءٌ (¬1) فلما وصف الجبان بأنه لا قلب له وأنه مجوف هواء؛ لأنه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة لعدمه القلب، كذلك وصف الكافر بأنه ضيق صدره على معنى: أنه غير مشروح للإيمان) (¬2). وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} أي: يتصعد (¬3) فأدغمت التاء في الصاد، ومعنى يتصعد: يتكلف ما يثقل عليه، وقرأ (¬4) أبو بكر (¬5) (يَصَّاعَد) وهو مثل يتصعد في المعنى، وقرأ ابن كثير (يصْعد) من الصعود (¬6) والمعنى: أنه في نفوره عن الإِسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف (¬7) ¬

_ = واليَراع: القصب، ثم سمي به الجبان والضعيف. واليراع: أولاد بقر الوحش. والنعامة، وطائر صغير، ويقال لمزمار الراعي: يَراعة. انظر: "اللسان" 8/ 4955 (يرع). (¬1) "ديوانه" ص 20. والمجوف والنخب والهواء: الجبان لا قلب له. (¬2) لم أقف على من ذكر هذا فيما لدي من مراجع. وانظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 403. (¬3) لفظ: (أي: يتصعد) ساقط من (أ). (¬4) قرأ عاصم في رواية: (يَصَّاعَد) بتشديد الصاد وألف بعدها وتخفيف العين. وقرأ ابن كثير: (يصعد) بإسكان الصاد، وتخفيف العين من غير ألف. وقرأ الباقون بتشديد الصاد والعين من غير ألف. انظر: "السبعة" ص 268، و"المبسوط" ص 175، و"الغاية" ص 249، و"التذكرة" 2/ 410، و"التيسير" ص 106، و"النشر" 2/ 262. (¬5) أبو بكر بن عياش أحد الرواة عن عاصم، تقدمت ترجمته. (¬6) انظر: "إعراب القراءات" 1/ 169، و"الحجة" لابن خالويه ص 149، ولابن زنجلة ص 271. (¬7) في (أ): (يكلف) بالياء، وأصل النص من "الحجة" لأبي علي 3/ 402

ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع، كذا قال المفسرون (¬1) وأهل المعاني (¬2). قال مجاهد (¬3): ({كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من شدة ذلك عليه) (¬4)، وقال عطاء (¬5): (مثله كمثل الذي لا يستطيع الرقي إلى السماء) (¬6). وقال أبو بكر: (إذا كان ممن (¬7) أضله الله عز وجل أبغض الحق وعانده حتى يضيق منه صدره فكأنه يكلف بالشيء منه صعودًا إلى السماء يجد من ثقل ذلك عليه مثل ما يجد من الصعود إلى السماء) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 30، والسمرقندي 1/ 512، و"الكشف" لمكي 1/ 451. (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 354، و"معاني النحاس" 2/ 487، و"معاني القراءات" 1/ 385. (¬3) في (أ): (قال المجاهد)، وهو تحريف. (¬4) ذكره السيوطي في "الدر" 3/ 84، وقال: (أخرجه أبو الشيخ عن مجاهد). اهـ. (¬5) عطاء هو: عطاء بن أبي مسلم الخراساني أبو عثمان، واسم أبيه ميسرة، إمام محدث مفسر واعظ عابد مجاهد، صدوق، يهم ويدلس. توفي سنة 135 هـ، وقد أفاد الحافظ في مقدمة "فتح الباري" ص 375 - 376، إن الرواية إذا جاءت عن ابن جريج، عن عطاء في سورة البقرة وآل عمران، فالمراد به عطاء بن أبي رباح، وإذا جاء في غير ذلك فالمراد عطاء الخراساني. وابن جريج لم يسمع من عطاء الخراساني وإنما أخذ التفسير من ابنه عثمان بن عطاء. وانظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 379، و"الجرح والتعديل" 6/ 334، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 140، و"تهذيب التهذيب" 3/ 108، و"تقريب التقريب" ص 392 (4600). (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 218، الطبري 8/ 30، وابن أبي حاتم 4/ 1386 بسند جيد. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 84. (¬7) لفظ: (ممن) كذا جاء، ولعل الصواب: (من). (¬8) لم أقف عليه.

وقال أبو إسحاق: (كأنه قد كلف بأن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإِسلام من ضيق صدره عنه، قال: ويجوز أن يكون كأنَّ قلبه يصاعد في السماء نبوًا (¬1) عن الإسلام والحكمة) (¬2). وعلى هذا إنما شُبّه بالذي {يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} لبعده عن الإسلام ونفور قلبه، كما جرت العادة أن يقال لمن تباعد عن أمر ولم يلن له: فلان يَنْزُو (¬3) في اللوح ويذهب في السماء من هذا الأمر، وقال أبو علي: (من قرأ (يصَّاعد) و (يصَّعَّد) فهو من المشقة وصعوبة الشيء، ومن ذلك قوله تعالى: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]، ومن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - (¬4): "ما تصعَّدني شيء كما تصَعَّدنِي خِطْبةُ النكاح" (¬5)، أي: ما شق عليّ مشقتها، وكأن ذلك لما يتكلفه الخطيب من مدحه وإطرائه لِلْمُمْلِكَ، فربما لم يكن كذلك، فيحتاج إلى تطلب المَخْلَص، فلذلك يشق، ومن ذلك قول الشاعر (¬6): ¬

_ (¬1) في (ش): (تبرأ). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 290. (¬3) ينزو: أي ينزع. وأصل النَزْو: الوثب. انظر: "اللسان" 7/ 4402 (نزا). (¬4) في (أ): (رحمه الله). (¬5) ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 103، والطبري في "تفسيره" 8/ 31، والنحاس في "معانيه" 2/ 487، والأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 2014، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 345، وابن الجوزي 3/ 121، وابن الأثير في "النهاية" 3/ 30. (¬6) الشاهد للأعلم الهذلي حبيب بن عبد الله الهذلي. في "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 323، و"تهذيب اللغة" 2/ 2015، وبدون نسبة في "عيون الأخبار" 1/ 226، و"جمهرة اللغة" 2/ 654، و"اللسان" 4/ 2446 (صعد).

وإنَّ سِيَادةَ الأَقْوَامِ فاعْلَمْ ... لَها صعَدَاءُ مَطلبُها شديدُ (¬1) فكأن معنى (يصعد): يتكلف مشقة في ارتقاء صُعُدًا , ولا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض، ولكن المراد به الارتفاع والسمك، ويستعمل السماء في الارتفاع كما قال سيبويه: (القيدود: الطويل في غير سماء) (¬2)، يريد [به] (¬3) في غير ارتفاع) (¬4). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] قال بعض أصحاب المعاني: (وجه التشبيه في {كَذَلِكَ} أن جعله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم) (¬5) وقال الزجاج: (أي: مثل ما قصصنا عليك {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ}) (¬6). ¬

_ (¬1) جاء في المراجع السابقة: لَهَا صُعَداءُ مَطْلعُهَا طَوِيلُ وفي بعضها: (وإن سياسة) بدل: (وإن سيادة). (¬2) "الكتاب" 4/ 365. والقيدود: بفتح القاف وسكون الياء وضم الدال: الناقة الطويلة الظهر، وأصله من قاد يَقُود. انظر: "اللسان" 6/ 3544 (قدد). (¬3) لفظ: (به) ساقط من (ش). (¬4) "الحجة" لأبي علي 3/ 403 - 405، ولقد أثبت العلم الحديث أن الصاعد يضيق تنفسه في الصعود كلما ارتفع لنقص الأوكسجين، وهذا هو الوصف الدقيق لمعنى الآية الكريمة، فإن قلب الكافر والمنافق يضيق وينفر حين يدعى إلى الإِسلام، أو يتأمل فيه كما يضيق صدر من يصعد نحو السماء. وانظر: "تفسير ابن عاشور" 8/ 60، وكلام الصابوني في "حاشية معاني النحاس" 2/ 487. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 31، والسمرقندي 1/ 512، والرازي 13/ 184. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 290، وذكر قول الزجاج السمين في "الدر" 5/ 146، وقال: (أي: فيكون مبتدأ أو خبرًا أو نعت مصدر محذوف، ذلك أن ترفع مثل وأن تنصبها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يقدر لها مصدر مناسب، كما قدره الناس وهو =

قال ابن عباس: (هو الشيطان أي: نسلطه (¬1) عليهم) (¬2)، وقال مجاهد: (الرجس ما لا خير فيه) (¬3)، وقال عطاء (¬4) عن ابن عباس، وابن زيد (¬5): (الرِّجْسُ: العذاب). وقال الزجاج: (الرِّجْسُ: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة) (¬6). قال أصحابنا: (انقطع كلام أهل القدر عند هذه الآية وخرست ألسنتهم، فإنها قد صرحت بتعلق إرادة الله تعالى بالأمرين جميعًا الهداية والإضلال وتهيئته أسبابهما) (¬7). ¬

_ = مثل ذلك الجعل، أي: جعل الصدر ضيقًا حرجًا يجعل الله الرجس ..) اهـ. وانظر: "المشكل" 1/ 269. (¬1) في (ش): (هو الشيطان يسلطه عليهم). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 31 بسند جيد، وذكره الثعلبي في "الكشف" 184 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 117، وهذا القول هو اختيار الطبري. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 223. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 31، وابن أبي حاتم 4/ 1386 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 84. (¬4) ذكره الخازن في "تفسيره" 2/ 182 عن ابن عباس، وذكره الواحدي في الوسيط 1/ 117، والبغوي في "تفسيره" 3/ 187، وابن الجوزي 3/ 121، والرازي 13/ 184 من قول عطاء. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 31 بسند جيد، وهذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 206. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 290، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 488: (الرِّجْس عند أهل اللغة هو النَّتْن، فمعنى الآية -والله أعلم-: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة على الذين لا يؤمنون). اهـ. (¬7) ذكر نحو هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 121، والرازي في "تفسيره" 13/ 185.

126

126 - قوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}. قال ابن عباس: (يعني: التوحيد) (¬1)، وقال ابن مسعود: (يعني: القرآن) (¬2). وقال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيمًا) (¬3). وقال بعض أهل المعاني: (الإشارة وقع إلى البيان الذي جاء في القرآن) (¬4) وانتصب {مُسْتَقِيمًا} على الحال والعامل فيه معنى (هذا) وذلك أن ذا (¬5) يتضمن معنى الإشارة، كقولك: هذا زيد قائمًا، معناه: أشير إليه في حال قيامه، وإذا كان العامل في الحال معنى الفعل لا الفعل لم يجز تقديم الحال عليه، لا يجوز قائمًا هذا زيد (¬6)، ويجوز ضاحكًا جاء زيد، ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 118، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 121، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 32، بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (يعني: الإسلام). (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 184 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 118، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 121. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 187، عن ابن عباس، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 118، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 122، من قول عطاء فقط، وجميع ما سبق معانٍ متقاربة، وقد أخرجها الطبري في "تفسيره" 1/ 71 - 75، وابن أبي حاتم 1/ 30، بأسانيد مختلفة عن هؤلاء الأئمة وغيرهم في "تفسير سورة الفاتحة". (¬4) هذا قول الطبري في "تفسيره" 8/ 32. (¬5) في (ش): (وذلك إذ ذا)، وهو تحريف. (¬6) لأنها حال مؤكدة، وصراط الله تعالى لا يكون إلا مستقيمًا، بخلاف الحال المنتقلة نحو: جاء زيد راكبًا، ونحو هذا زيد قائمًا فيجوز أن يفارق زيد الركوب أو القيام. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 579، و"المشكل" 1/ 270، و"غرائب التفسير" 1/ 384, و"البيان" 1/ 339 و"التبيان" 358, و"الفريد" 2/ 227، و"الدر =

127

ومعنى استقامة صراط الله أنه يؤدي بسالكه إلى دار الخلود في النعيم (¬1). وقوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} قال عطاء: (يريد: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلوا مواعظ الله وانتهوا عما نهاهم الله) (¬2). 127 - قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} يعني: الجنة في قول جميع المفسرين (¬3) قال الحسن (¬4) والسدي (¬5): (السلام هو الله تعالى، وداره الجنة)، ومعنى السلام في أسماء الله تعالى: ذو السلام، أي: السلامة من الآفات والنقائص (¬6)، فعلى هذا أضيف الدار إلى السلام الذي هو اسم الله تعالى على وجه التعظيم، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة: عبد الله. ¬

_ = المصون" 5/ 147، وقد نقل هذا القول الرازي في "تفسيره" 13/ 187 - 188، عن الواحدي. (¬1) انظر: "تفسير الخازن" 2/ 182. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 118، والخازن في "تفسيره" 2/ 182. (¬3) حكاه الخازن في "تفسيره" 2/ 182، عن جميع المفسرين. وانظر: "تفسير المقاتل" 1/ 588، والطبري 8/ 32، والسمرقندي 1/ 513، والماوردي 2/ 167. (¬4) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 167، والواحدي في "الوسيط" 1/ 118، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 122، والخازن 2/ 182 عن الحسن والسدي. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 32 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 84، وقال الثعلبي في "الكشف" 184 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 187: (هذا قول أكثر المفسرين) اهـ. (¬6) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص30 - 31، و"الزاهر" 1/ 64, و"تهذيب اللغة" 2/ 1742، و"الأسماء والصفات" ص 53، و"المقصد الأسنى" ص 67، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص 187، وقال السعدي رحمه الله تعالى في "الحق الواضح المبين" ص 81: (السلام: السالم من مماثلة أحد من خلقه، ومن النقصان، ومن كل ما ينافي كماله) اهـ.

قال الزجاج: (ويجوز أن يكون الجنة سميت دار السلام؛ لأنها دار السلامة [الدائمة التي لا تنقطع) (¬1). وعلى هذا السلام جمع سلامة أو بمعنى السلامة (¬2)]. كما قيل: لذَاذ ولذَاذة ورضاع ورضاعة (¬3)، كأنه دار السلام التي لا يلقون في حلولها عنتًا ولا تعذيبًا، وسنذكر زيادة بيان في معنى السلام في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] إن شاء الله. وقوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: مضمونة لهم عند ربهم حتى يوصلهم (¬4) إليها (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 291، وذكر نحوه النحاس في "معانيه" 2/ 488. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) قال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 6: (يرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن السلام بمعنى السلامة، كما يقال: الرَّضاع والرضاعة واللَّذاذُ واللَّذاذة، فسمى نفسه جل ثناؤه: سلامًا؛ لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء والموت) اهـ. ومثله ذكر الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 215. وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 180 - 181: (في إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها، فإن تحيتهم فيها سلام. الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلامة، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر. والثلاثة متلازمة، وإن كان الثالث أظهرها، فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام، ولم يعهد ذلك في القرآن، فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن، وإضافتها إلى معنى السلامة أولى؛ لأنه أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم إلا به). اهـ. ملخصًا. (¬4) في (ش): (توصلهم)، وهو تصحيف. (¬5) انظر. "تفسير الماوردي" 2/ 167، وابن الجوزي 3/ 122، والرازي 13/ 189.

128

وقوله تعالى: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أي: يتولى إيصال المنافع إليهم ودفع المضار عنهم، وهذا يوجب إخبارًا عن كونه وليهم في الآخرة، لأنه قال: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: في الدنيا، وإن كان هو اليوم أيضًا ولي المؤمنين، وعلى هذا دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال في قوله: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ}: (أنزل بهم المحبة والكرامة والرضوان وما (¬1) لا يوصف من النعيم) (¬2)، وكل هذا يكون في الآخرة (¬3). 128 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الآية. قال المفسرون (¬4): (يعني: الجن والإنس يجمعون في موقف [يوم] (¬5) القيامة). قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: هم وقرناؤهم من الشياطين) (¬6). {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ}. قال الزجاج: (المعنى: فيقال لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} (¬7)، {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي: من إغواء الإنس وإضلالهم، عن ابن عباس (¬8)، والحسن (¬9)، وقتادة (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (ومما لا يوصف). (¬2) في "تنوير المقباس" 2/ 59 نحوه (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 2/ 167، والسمرقندي 1/ 513، والماوردي 2/ 167. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 33، والسمرقندي 1/ 513، والماوردي 2/ 168. (¬5) لفظ: (يوم) ساقط من (ش). (¬6) في "تنوير المقباس" 2/ 59 نحوه. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 291، ومثله قال النحاس في "معانيه" 2/ 489. (¬8) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 168، وابن عطية 5/ 352، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. (¬9) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 33، عن الحسن نحوه، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 559، والماوردي 2/ 168، والسيوطي في "الدر" 3/ 85. (¬10) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 218، والطبري 8/ 33، وابن أبي حاتم 4/ 1387 بسند جيد عن قتادة نحوه.

وروي عن ابن عباس في "تفسيره": (يعني: أضللتم منهم كثيراً) (¬1)، وهو قول الفراء (¬2). وقال مجاهد: (كثر من أغويتم منهم) (¬3). وقال أبو إسحاق: ({قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ} ممن أضللتموه من الإنس) (¬4). وقال غيره: ({قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} بالإغواء والإضلال) (¬5)، وهذه الأقوال معناها واحد، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ} يعني: الذين أضلوهم من الإنس. {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} قال (¬6): (معنى هذا الاستمتاع: هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفرٍ فخاف على نفسه قال (¬7): أعوذ بسيد هذا الوادي من (¬8) سفهاء قومه، فيبيت آمنًا في نفسه، فهذا استمتاع (¬9) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 33، وابن أبي حاتم 4/ 1387 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 85. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 354. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 223، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 33، وابن أبي حاتم 4/ 1387 بسند جيد، وهو قول النحاس في "معانيه" 2/ 489. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 291. (¬5) هذا قول الطبري في "تفسيره" 8/ 33. (¬6) كذا جاء في النسخ، وفي "تفسير الثعلبي" 184 أ، والبغوي 3/ 188: (قال الكلبي): والظاهر أن المراد بقوله: (قال) مقاتل؛ لأن النص في "تفسيره" 1/ 589 أو الفراء؛ لأنه في "معانيه" 1/ 354، ولأن الواحدي ذكر الرواية عن الكلبي فيما بعد. (¬7) في (أ): (فقال). (¬8) (ش): (على). (¬9) في (أ): (فهذا الستمتاع)، وهو تحريف.

الإنس بالجن (¬1)، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو: أن الإنس إذا عاذ بالجن كان ذلك تعظيمًا منهم للجن، وذلك الجني (¬2) يقول: قد سُدت الإنس والجن؛ لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه). وهذا قول الحسن (¬3) وابن جريج (¬4)، والكلبي (¬5)، وعكرمة (¬6)، واحتجوا على هذا بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]. وقال ابن عباس في رواية عطاء: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}: (يريد: في الدنيا، وما كانوا يضلونهم) (¬7)، ومعنى هذا: أن استمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي، واستمتاع الإنس (¬8) بالجن أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها حتى يسهل عليهم فعلها، وهذا القول اختيار الزجاج؛ لأنه قال: (الذي يدل عليه ¬

_ (¬1) لفظ: (الجن)، غير واضح في (ش). (¬2) في (أ): (وذلك الجن). (¬3) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 168، والرازي 13/ 191، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1387، بسند جيد عن الحسن، قال: (ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 85. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 33، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 85. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 60، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 559، والثعلبي في "الكشف" 184 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 188، والخازن 2/ 183. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 191، عن الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 119، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 123، وأبو حيان في "البحر" 4/ 220. (¬8) في (ش): (الأنسي).

اللفظ -والله أعلم- هو قبول الإنس من الجن ما كانوا يغوونهم به؛ لقوله: {اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} ومن كان يقول من الإنس: أعوذ بالجن فقليل) (¬1). وقوله تعالى: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني: الموت، في قول الحسن (¬2) والسدي (¬3)، وأكثر المفسرين (¬4) وقيل: هو البعث والحشر (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 291، وهو اختيار النحاس أيضًا في "معانيه" 2/ 490، و"إعراب القرآن" 2/ 580، والظاهر أن الآية عامة، وأن ما ذكر من باب التمثيل، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "الفتاوى" 13/ 80 - 89، قال في تفسير الآية: (الاستمتاع بالشيء هو أن يتمتع به فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه، ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء، والذكور بالذكور، والإناث بالإناث، والاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم وممالكيهم والاستمتاع بالأموال، وفي الجملة استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس، واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه، وقد وقع في الإنس والجن هذا كله) اهـ. ملخصًا. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 220: (وجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها، فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال أنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها) اهـ. (¬2) ذكره الماوردي 2/ 168، وابن الجوزي 3/ 124، عن الحسن والسدي. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 34 بسند جيد. (¬4) قال أبو حيان في "البحر" 4/ 220: (هذا قول الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما). اهـ. وهو قول الطبري في "تفسيره" 8/ 34، والسمرقندي 1/ 513. (¬5) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" (2/ 168، وابن الجوزي 3/ 124، وهو قول البغوي في "تفسيره" 3/ 188، والزمخشري 2/ 50. وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 182 - 183 في الآية: (هذا يتناول أجل الموت وأجل البعث، فكلاهما أجل الله تعالى لعباده، وكأن هذا -والله أعلم- إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة، فكأنهم يقولون: هذا أمر كان إلى وقت =

وقوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: فيها مقامكم) (¬1). قال الزجاج: (المثوى: المقام، {خَالِدِينَ فِيهَا} منصوب على الحال، المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم) (¬2). قال أبو علي: (المثوى عندي في الآية اسم للمصدر دون المكان، لحصول الحال في الكلام معملًا فيها، واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل؛ لأنه لا معنى للفعل فيه، فإذا لم يكن موضعًا ثبت أنه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها، {خَالِدِينَ} أي: هي أهل أن يقيموا (¬3) فيها ويثووا خالدين، فالكاف والميم في المعنى فاعلون، وإن كان في اللفظ خفضًا بالإضافة، ومثل هذا قول الشاعر: وَمَا هِيَ إلاَّ في إِزَارٍ وَعِلْقَةٍ ... مُغَارَ ابْنِ هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا (¬4) ¬

_ = وانقطع بانقطاع أجله، فلم يستمر ولم يدم، فبلغ الأمر الذي كان أجله، وانتهى إلى غايته، ولكل شيء آخر، فقال تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله فقد بقي زمن العقوبة، فلا يتوهم أنه إذا انقضى زمن الكفر والشرك وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت وانتهت بانتهائه، والمقصود أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله) اهـ. ملخصًا. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 119، وفي "تنوير المقباس" 2/ 60 نحوه. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 291، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 2/ 490، و"إعراب القرآن" 1/ 580. (¬3) في (أ): (تقيموا)، وهو تصحيف. (¬4) "الشاهد" لحميد بن ثور الهلالي في "الكتاب" 1/ 234 - 235، وبلا نسبة في: "الكامل" للمبرد 1/ 201، و"المقتضب" 2/ 120، و"الخصائص" 2/ 208, و"المحتسب" 2/ 266، و"أمالى" ابن الحاجب 2/ 80، و"اللسان" 5/ 3072 =

وهذا يدل (¬1) على حذف المضاف، المعنى: وما هي إلا إزارٍ وعلقة وقت إغارة ابن همام، ألا ترى أنه عدّاه بعلى إلى حيّ خثعمٍ، وإذا عدّاه ثبت أنه مصدر، إذ أسماء المكان لا تتعدى، فهو من باب قولك: أتيتك خفُوقَ النجمِ، ومَقدَم الحاجِّ، وخلافةَ فلان (¬2)، من المصادر التي استعملت في موضع الظروف للاتساع في حذف المضاف الذي هو اسم زمان على تقدير: زمان خفوق النجم أو ساعة أو وقت، وما أشبه ذلك، وإنما حسن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان في المعنى، ألا ترى أنه عبارة عن مُنَقَضٍ غير باقٍ، كما أن الزمان كذلك، ومن ثم كثر إقامتهم، ما التي مع الفعل بمعنى المصدر مقام ظروف الزمان كقولهم: لا أكلمك ما حدا (¬3) ليلٌ نهارًا وما خالفت جِرّة (¬4) دِرةً {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] ونحو ذلك، حتى إن قومًا من النحويين (¬5) يسمونها ما ¬

_ = (علق)، و"الدر المصون" 5/ 150، والعلقة، بكسر العين: قميص بلا كمين، أو الثوب الصغير. انظر: "اللسان" 5/ 3073 (علق). والشاهد في البيت: نصب مغار على الظرفية، وهو في الأصل مصدر ميمي. (¬1) في (ش): (وهذا أيضًا على حذف المضاف). (¬2) انظر: "الكتاب" 1/ 222، و"المقتضب" 4/ 343. (¬3) حدا: بالفتح تبع يقال: ما حدا الليل النهار، أي: ما تبعه. انظر: "المستقصى" للزمخشري 2/ 247، و"اللسان" 2/ 794 (حدا). (¬4) الجِرَّة: -بكسر الجيم وفتح الراء المشددة-: ما يخرجه البعير من بطنه للجنزار، والدِّرَّة: بكسر الدال المشددة وفتح الراء المشددة، كثرة اللبن وسيلانه، وهما مختلفان: الدرة تسفل إلى الرجلين، والجرة تعلو إلى الرأس. انظر: "مجمع الأمثال" 3/ 187، و"المستقصي" 2/ 245, و"اللسان" 1/ 594 (جرر) و3/ 1356 (درر). (¬5) انظر: "حروف المعاني" ص 53، و"معاني الحروف" للرماني ص 86، =

الوقت، وحقيقته ما أعلمتك) (¬1)، انتهى كلامه. وقول ابن عباس: (فيها مقامكم) (¬2)، يدل على صحة قول أبي علي. وقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} قال ابن عباس: (استثنى الله قوماً قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به) (¬3)، وعلى هذا القول يجب أن يكون (ما) بمعنى (مَنْ) (¬4). وقال أبو إسحاق: (معنى الاستثناء عندي: إنما هو من يوم القيامة؛ لأن قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} هو يوم القيامة فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا} منذ يبعثون {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} من مقدار حشرهم من (¬5) قبورهم، ومقدار مدَّتِهم في محاسبتهم) (¬6). ¬

_ = و"الصاحبي" ص 269، و"رصف المباني" ص 277، و"المغني" لابن هشام 1/ 302. (¬1) "الإغفال" ص 706 - 709، وعليه يكون (خالدين) منصوب على أنه حال مقدرة والعامل فيها (مثواكم)؛ لأنه اسم مصدر من الثواء، وهو الإقامة. انظر: "غرائب التفسير" 1/ 385، و"البيان" 1/ 339، و"التبيان" 358، و"الفريد" 2/ 228، و "الدر المصون" 5/ 149. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 119، والبغوي 3/ 189، والرازي 13/ 192، وأخرج الطبري 8/ 34، وابن أبي حاتم 4/ 1388 بسند جيد عنه، قال: (إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارًا)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 85، وقال الخازن 2/ 183: (نقل جمهور المفسرين عن ابن عباس أن هذا الاستثاء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون ويصدقون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخرجون من النار، قالوا: و (ما) تكون بمعنى من على هذا التأويل. اهـ. (¬4) أي: التي للعقلاء، وساغ وقوعها هنا؛ لأن المراد بالمستثنى نوع وصنف، وما تقع على أنواع من يعقل، أفاده السمين في "الدر" 5/ 151. (¬5) في (أ): (في). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 291 - 292، وفيه: (ويجوز أن يكون إلا ما شاء ربك مما =

129

وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عباس: (حكم للذين استثنى بالتصديق والتوبة وعلم ما في قلوبهم من البر والتقوى والإيمان) (¬1). قال أهل المعاني: (معنى هذه الآية: التحذير من إغواء الجن تزيينهم القبيح، فإنهم يقرنون مع أوليائهم من الإنس في النار) (¬2). 129 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا}. قال المفسرون: (يقول: كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، كذلك نكل بعضهم إلى بعض في النصرة والمعونة، ونسلط بعضهم على بعض، فيتولى بعضهم القيام بأمر بعض) (¬3)، وقال بعض أهل العلم: (إن الله تعالى ذكر في الآية الأولى استكثار الجن من الإنس بالاستضلال (¬4) والاستزلال (¬5)، ثم بيّن في هذه الآية أنه ولى بعضهم بعضًا حتى كان من شأنهم ما كان) (¬6). ¬

_ = يزيدهم من العذاب). اهـ. وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 34، و"معاني النحاس" 2/ 490، و"إعراب النحاس" ص 575، و"تفسير السمرقندي" 1/ 513، و"المشكل" 1/ 270، و"البيان" 2/ 340، و"التبيان" 358، و"الفريد" 2/ 228، و"الدر المصون" 5/ 150 - 153، ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص 122 - 128. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 120، والبغوي في "تفسيره" 3/ 189 بدون نسبة. (¬2) لم أقف على من ذكره فيما لدي من مراجع. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 35، والسمرقندي 1/ 513، والماوردي 2/ 169، والبغوي 3/ 189. (¬4) في (ش): (بالإضلال). (¬5) في (أ): (الاسترسال)، وهو تحريف. (¬6) لم أقف على من ذكره فيما لدي من مراجع.

130

130 - قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الآية. قال أهل اللغة: (المَعْشَر: كل جماعة أمرهم واحد، والجميع: المعَاشِر) (¬1). وقوله تعالى: {رُسُلٌ مِنْكُمْ} اختلفوا (¬2) هل كان من الجن رسول أم لا؟ فالأكثرون (¬3) على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من بني آدم. وقوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ} أراد من أحدكم وهو الإنس فحذف المضاف، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} [الرحمن: 22] أي: من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب، وجاز ذلك؛ لأن ذكرهما قد جُمع في قوله (¬4): {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: 19]، وهذا جائز في كل ما اتفق في أصله، كما ¬

_ (¬1) هذا نص كلام الخليل في "العين" 1/ 248، وفي "اللسان" 5/ 2955 (عشر): (معشر الرجل، بفتح الميم والشين وسكون العين: أهله. والمعشر: الجماعة متخالطين كانوا أو غير ذلك. والمعشر والنفر والقوم والرهط معناهم الجمع: لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء). اهـ. وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2447، و"الصحاح" 2/ 747، و"المجمل" 3/ 670، و"المفردات" ص 567 (عشر). (¬2) في (ش): (واختلفوا). (¬3) ذكره عن الأكثر الرازي في "تفسيره" 13/ 195، والخازن 2/ 184. (¬4) قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان" 2/ 211: (هذا التوجيه في آية الرحمن غلط كبير لا يجوز القول به؛ لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى؛ لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12]، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمحرجان منهما جميعًا بقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]، والحلية المذكورة في اللؤلؤ والمرجان، فقصره على الملح مناقض للآية صريحًا كما ترى). اهـ.

اتفق الجن مع الإنس في باب التمييز، فلما ذكرا (¬1) معًا جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى واحد. وهذا قول الفراء (¬2)، والزجاج (¬3) ومذهب أكثر أهل (¬4) العلم، وعليه دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال: (يريد: أنبياء من جنسكم ولم يكن من جنس الجن أنبياء (¬5) وإذا لم يكن من الجن أنبياء (¬6) ورسل، فكيف قال لهم مع الإنس: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ}؟ قال الكلبي: (كانت الرسل يبعثون إلى الجن والإنس) (¬7)، فعلى هذا قد بعث الرسل إلى الجن، ولكن لم تكن (¬8) الرسل من الجن، وتأويل (منكم) ما ذكرنا. وقال آخرون: (الرسل كانت من الإنس، ولكن الله تعالى كان يسبّب قومًا من الجن ليسمعوا كلام الرسل، ويأتوا قومهم من الجن بما سمعوا وينذرونهم، كما قال الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] وهذا مذهب مجاهد قال: (الرسل من الإنس والنذر ¬

_ (¬1) في (ش): (فلما ذكر معًا)، وهو تحريف. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 354، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 492. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 292، وكلام الواحدي أقرب إلى نص الزجاج. (¬4) ذكر الخازن في "تفسيره" 2/ 184: (أن هذا مذهب جمهور أهل العلم). وانظر: "تفسير الطبري" 12/ 12، والماوردي 2/ 170، وذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" 13/ 195. (¬5) ذكره الخازن في "تفسيره" 2/ 184 عن الواحدي عن ابن عباس. (¬6) لفظ: (أنبياء) ساقط من (أ). (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 61، وذكره الثعلبي في "الكشف" 184 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 190. (¬8) في (ش): (لم يكن).

من الجن) (¬1)، ونحو ذلك قال ابن جريج (¬2) وأبو عبيد (¬3): (هم الذين استمعوا القرآن فأبلغوه قومهم)، وعلى هذا أولئك (¬4) الذين استمعوا (¬5) وذهبوا إلى الجن فأنذروا لم يفعلوا ذلك بنص الله تعالى على إرسالهم, ولكن يجوز أن يضاف ذلك إلى الله فيقال: هم رسل الله، كما سمّى الله تعالى رسُل عيسى (¬6) رسله فقال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14]. وقال الضحاك: (من الجن رسل كما من الإنس رسل) (¬7) والآية تدل على (¬8) ذلك، والقول هو الأول، وهو ما ذكرنا أن رسل الجن لم يكونوا مرسلين بنص الله تعالى وإنما كانوا نذرًا على الوجه الذي بيّنا (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1389، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 86. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 36، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 86. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (أ): (وعلى هذا ؤلئك)، وهو تحريف. (¬5) في (أ): (استمتعوا)، وهو تحريف. (¬6) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 195. وظاهر القرآن -وهو اختيار الجمهور ومنهم ابن كثير في "تفسيره" 2/ 198 - أنهم رسل الله بعثهم إلى أهل القرية. قال ابن الجوزي في "تفسيره" 7/ 11: (هذا هو ظاهر القرآن والمروي عن ابن عباس وكعب ووهب) اهـ. (¬7) أخرجه الطبري 8/ 36، بسند جيد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 589. (¬8) ذكره عن الضحاك الماوردي في "تفسيره" 2/ 170، وابن الجوزي 3/ 125, وقالا: (وهو ظاهر الكلام). (¬9) وهذا هو الظاهر، وهو قول جمهور السلف والخلف، كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" 2/ 198: وساق عدة أدلة من الكتاب والسنة على أن الرسل من الإنس فقط، ولم يكن في الجن رسل منهم. وهو اختيار شيخ الإسلام في رحمه الله تعالى في "الفتاوى" 16/ 192، وقال في 4/ 234: (وقيل: الرسل من الإنس, والجن فيهم النذر، وهذا أشهر.) اهـ.

130

130 - وقوله تعالى: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا}. يقول: شهدنا أنهم قد بلغوا، يقول الله تعالى: (وغرتهم (¬1) الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). قال مقاتل: (حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر في الدنيا) (¬2). 131 - قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ} الآية. قال الزجاج: (ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذب بها؛ لأنه لم يكن مهلك القرى بظلم) (¬3)، فعلى هذا الإشارة وقعت إلى العقاب الذي في قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام: 128] وإلى إتيان الرسل في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] وموضع {ذَلِكَ} رفع الابتداء على معنى: ذلك الأمر، أي: العقوبة بعد تكذيب الرسل، ويجوز أن يكون موضع (ذلك) نصبًا على معنى: فعل ذلك، وهذا معنى قول الفراء (¬4) وسيبويه (¬5) والزجاج (¬6). وقوله تعالى: {أَنْ لَمْ يَكُنْ} (أن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة ويقدر معها الخافض وإضمار الهاء على تقدير: لأنه لم يكن، وهي التي في قول الأعشى: ¬

_ (¬1) في (أ): (وغرتهم الله الحياة الدنيا)، وهو تحريف واضح. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 589. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 293. (¬4) "معاني الفراء" 2/ 355، ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" 8/ 37. (¬5) لم أقف عليه في الكتاب، وقد ذكر الزجاج في "معانيه" 2/ 293, والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 580: (عن سيبويه أنه في موضع رفع بمعنى: الأمر ذلك؛ لأن ربك لم يكن مهلك القرى بظلم)، ولم أجد من ذكر عنه وجه النصب. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 292 - 293.

في فِتْيِةٍ كَسْيوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَينْتَعِلُ (¬1) وقوله تعالى: {بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}. قال الكلبي: (يقول: لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم رسلهم فينهاهم فإن رجعوا وإلا أتاهم العذاب) (¬2). وقال الزجاج: (أي: لا يهلكهم حتى يبعث إليهم الرسل كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] (¬3)، وهذا قول جميع المفسرين (¬4) والظلم على هذا ظلمهم الذي هو ذنوبهم ومعاصيهم. وقال الفراء: (يجوز أن يكون المعنى: لم يكن ليهلكهم [بظلم منه وهم غافلون، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ (¬5)] وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] أي بظلم منه) (¬6). ¬

_ (¬1) "ديوان الأعشى" ص 284، و"الكتاب" 2/ 137، 3/ 74 - 164 - 454، و"المحتسب" 1/ 308، و"المنصف" 3/ 129، و"أمالي" ابن الشجري 2/ 177 - 178، و"الإنصاف" 167، وبدون نسبة في "المقتضب" 3/ 9، و"تفسير الطبري" 8/ 185، و"الخصائص" 2/ 441، و"رصف المباني" ص 196. والشاهد إضمار اسم أن المخففة والتقدير: أنه هالك، وعجز البيت في الديوان: أَنْ لَيْسَ يَدْفَعُ عَنْ ذِي الحِيلَةِ الحِيلُ (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 121، والبغوي في "تفسيره" 3/ 190، و"الخازن" 2/ 185. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 293. (¬4) انظر: الطبري 8/ 37، والسمرقندي 1/ 514، والماوردي 2/ 172، و"بدائع التفسير" 2/ 183 - 184. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ش) وملحق بالهامش. (¬6) انظر: "معاني الفراء" 1/ 355، وفيه قال: (وقوله: {مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم وهم غافلون لما يأتيهم رسول ولا =

132

وعلى هذا يوهم (¬1) أنه لو أهلكهم وهم غافلون قبل بعث الرسل كان ظالمًا، وكذلك لو أهلكهم وهم صالحون، وليس كذلك؛ لأن له أن يفعل ما يريد، لكنه أخبر أنه لا يعذب قبل بعثه الرسل، ولا يهلك الصالحين، ولو فعل ذلك لم يكن ظلمًا , ولكنه يكون في صورة الظلم فيما بيننا، فأطلق عليه الظلم مجازًا لا حقيقة، والقول في معنى الآية هو الأول (¬2) وقد بيّنا القولين في سورة هود عند قوله تعالى: {بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. 132 - قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} الآية. قال ابن عباس: (يريد: فضائل مما عملوا {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} يريد: عمل المشركين والدرجات للمؤمنين (¬3)، فعلى هذا أثبت الدرجات للمؤمنين في (¬4) أول الآية وأوعد المشركين بأنه ليس {بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} في آخر الآية على معنى: أنه يجازيهم به، وتقدير الآية: ولكل عاملٍ بطاعة الله درجات جزاء من أجل ما عملوا، وقال آخرون: (هذا عام في كل ¬

_ = حجة، وقوله في هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم يقول: بشركهم {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} يتعاطون الحق فيما بينهم، هكذا جاء التفسير، وفيها وجه وهو أحب من ذا؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والمعنى -والله أعلم-: لم يكن ليهلكهم بظلم منه وهم مصلحون). اهـ. (¬1) في (ش): (توهم). (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 196 - 197. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 62، وفي "الوسيط" 1/ 121 نقل الواحدي عن ابن عباس في الآية قال: (يريد عمل المشركين). (¬4) لفظ: (في) ساقط من (أ).

133

عامل (¬1) عملًا طاعة كان أو معصية (¬2) على تقدير: ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته (¬3) منازل في عمله). ومثلت الأعمال (¬4) بالدرجات ليتبين أنه وإن عمّ أحد قسميها صفة الحسن، وعمّ الآخر صفة القبح، فليست في المراتب سواء، وأنه بحسب ذلك يقع الجزاء، فالأعظم من العقاب للأعظم من السيئات، والأعظم من الثواب للأعظم من الحسنات، وجملة معنى الآية: أن بعضهم أوفر وأجزل ثوابًا من بعض على قدر أعمالهم، وبعضهم أشدّ عذابًا من بعض (¬5) على قدر أعمالهم في الدنيا (¬6). وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} أي: لا يفوته شيء منها ولا من مراتبها حتى يجازي عليه بما يستحق من الجزاء (¬7). 133 - قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ}. قال ابن عباس: (يريد: عن عبادة من تولى غيره) (¬8)، وقال مقاتل: (عن عبادة خلقه) (¬9)، ومعنى الغنى عن الشيء: أنه الذي يستوي عنده عدم ذلك الشيء ووجوده (¬10). ¬

_ (¬1) وهذا القول هو الظاهر، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 38، والسمرقندي 1/ 514، والرازي 13/ 198. (¬2) في (أ): (أو معية)، وهو تحريف. (¬3) في (أ): (أو معيته)، وهو تحريف. (¬4) لفظ: (الأعمال) مكرر في (أ). (¬5) في (أ): (بعضهم). (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 172. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 38، والسمرقندي 1/ 514. (¬8) لم أقف عليه. (¬9) "تفسيرمقاتل" 1/ 590. (¬10) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 63، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 117، و"تهذيب اللغة" 3/ 2704، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 1/ 24.

134

وقوله تعالى: {ذُو الرَّحْمَةِ}. قال ابن عباس: (بأوليائه وأهل طاعته) (¬1)، وقال الكلبي: (ذو الرحمة بخلقه، وذو التجاوز) (¬2)، وقال مقاتل: (ذو النعمة فلا يعجل (¬3) عليهم بالعذاب، -يعني: كفار مكة-). وقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ}. قال الكلبي: (وينشئ من بعدكم خلقًا آخر) (¬4) {كَمَا أَنْشَأَكُمْ} مثل ما أنشاكم، أي: خلقكم ابتداء {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} -يعني: آباءهم الماضين-، وهذا وعيد لهم بالإهلاك (¬5). 134 - قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ}. قال الحسن: (أي: من مجيء الساعة؛ لأنهم كانوا يكذبون بالنشأة الثانية) (¬6)، فيجوز أن يكون (توعدون) من الإيعاد: أي ما توعدون به من العقوبة في الآخرة، ويجوز أن يكون من الوعد، لاختلاط الخير بالشر، فيكون على التغليب، إذ مجيء الساعة خير للمؤمنين، وشر على الكافرين، وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين: يقال: أعجزني فلان، أي: فاتني وغلبني فلم أقدر عليه (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 121، والبغوي في "تفسيره" 3/ 191، وابن الجوزي 3/ 127. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 121، والبغوي في "تفسيره" 3/ 191. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 590، وقد جاء في (ش)، و"تفسير مقاتل": (فلا تعجل) بالتاء. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 62. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 202، والسمرقندي 1/ 514 - 515. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 166، والقرطبي 7/ 88، وأبو حيان في "البحر" 4/ 225. (¬7) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 206.

135

قال ابن عباس: (يريد: وما يعجزني منكم أحد) (¬1). 135 - قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: على حالاتكم التي أنتم عليها) (¬2)، قال الزجاج: (المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه، يقال للرجل إذا أمرته أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أي: أثبت على ما أنت عليه) (¬3). وقال مقاتل: (على جديلتكم) (¬4)، وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا؛ لأن الجديلة (¬5) معناها: الطريقة، والطريقة يراد بها هاهنا: ما هم عليها، ومثل هذا قول مجاهد: (على وتيرتكم) (¬6)، وقول الكلبي: (على منازلكم) (¬7) وقول يمان: (على مذاهبكم) (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1390، بسند ضعيف من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: ({وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بسابقين)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 88. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 184 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 191، من قول عطاء فقط، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 39، وابن أبي حاتم 4/ 1390، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: على ناحيتكم)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 88. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 293، وفيه: (المعنى: اعملوا على تمكنكم، ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه ..) ثم ذكر ما ذكر الواحدي. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 590. (¬5) الجديلة؛ بفتح الجيم وكسر الدال: الطريقة، والناحية، والشاكلة. انظر: "اللسان" 1/ 571 (جدل). (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف" 184 ب. والوتيرة، بفتح الواو وكسر التاء: الطريقة، والصفة. انظر: "اللسان" 8/ 4760 (وتر). (¬7) ذكره الثعلبي 184 ب. (¬8) ذكره الثعلبي في "الكشف" 184 ب.

وقال أبو إسحاق: (المعنى: اعملوا على تمكنكم وجهتكم التي كنتم عند أنفسكم في العلم بها) (¬1). قال أبو علي: (المكانة في اللغة: المنزلة والتمكن، كأنه اعملوا على قدر منزلتكم وتمكنكم في دنياكم فإنكم لن تضرونا (¬2) بذلك شيئًا) (¬3)، قال ابن عباس: (وهذا وعيد وتهدد) (¬4)، يريد: أن هذا الأمر أمر وعيدٍ، كقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121]. قال الزجاج: (ومعنى هذا الأمر: المبالغة في الوعيد؛ لأن ما بعده يدل على الوعيد، وقد أعلمهم بقوله: {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أن من عمل بعملهم فالنار مصيره، فكأنه قيل لهم: أقيموا على ما أنتم عليه من الكفران رضيتم بعذاب النار) (¬5). وقرئ (مكانتكم) و (مكاناتكم) (¬6)، والوجه الإفراد؛ لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد تجمع في بعض الأحوال، والأمر العامّ على الوجه الأول (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 293، وفيه: (المعنى: اعملوا على تمكنكم). وانظر: "معاني النحاس" 2/ 493. (¬2) في (ش): (يضرونا). (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 407. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 294. (¬6) قرأ عاصم في رواية: (على مكاناتكم)، بألف بعد النون على الجمع. وقرأ الباقون (على مكانتكم) بدون ألف على التوحيد. انظر: "السبعة" ص 269، و"المبسوط" ص 175، و"الغاية" ص 250، و"التذكرة" 2/ 411، و"التيسير" ص 107، و"النشر" 2/ 263. (¬7) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 407 - 408، وانظر: "معاني القراءات" =

وقوله تعالى: {إِنِّي عَامِلٌ}. قال مقاتل: (أي: عامل على جديلتي التي أمرت بها) (¬1)، يريد {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} على مكانتي: فحذفت الثانية لدلالة الأولى في ذلك الجانب على الثانية في هذا الجانب، وجملة المعنى: اعملوا ما أنتم عاملون إني عامل مما أمرني به ربي , {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} موضع (من) نصب بوقوع العلم عليه، ويجوز أن يكون رفعًا على معنى: تعلمون أينا {تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} كقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12]، والوجهان ذكرهما الفراء (¬2). قال ابن عباس: ({مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} يعني: الجنة. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من له الجنة أنتم أم أوليائي وأهل طاعتي) (¬3)، فإن قيل: أليس الكافر أيضًا له عاقبة في الآخرة، فكيف قيل: إن (¬4) عاقبة الدار للمؤمنين؟ قيل: العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له، كما يقال: لهم الكرة، ولهم الظفر، وفي ضده يقال: عليهم الكرة والظفر (¬5). ¬

_ = 1/ 386، و"إعراب القراءات" 1/ 169، و"الحجة" لابن خالويه ص 149، ولابن زنجلة ص 272، "الكشف" 1/ 452، ونقل قول الواحدي الرازي في " تفسيره" 13/ 203. (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 590. (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 355، والنصب على أن (من) موصولة، فهي في محل نصب مفعول به، والرفع على أن (من) استفهامية، فتكون في محل رفع بالابتداء, انظر: "إعراب النحاس" 1/ 580، و"المشكل" 1/ 271، و"البيان" 1/ 342, و"التبيان" ص 359، و"الفريد" 2/ 231، و"الدر المصون" 5/ 158. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 62، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 122. (¬4) في (ش): (فكيف قيل له عاقبة الدار للمؤمنين)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 203.

136

وقرئ (¬1): (تكون) بالتاء، والياء؛ لأن العاقبة مصدر كالعافية، وتأنيثه غير حقيقي فمن أنث فكقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73] ومن ذكر فكقوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} [يونس: 57] وفي أخرى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] (¬2)، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: لا يسعد من كفر نعمتي وأشرك بي) (¬3). 136 - قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الآية، قال ابن عباس (¬4) والمفسرون (¬5): (كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم نصيبًا , وللأوثان نصيبًا، فما كان للصنم أنفق عليه، وما كان لله أطعم الضيفان (¬6) والمساكين، ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي: (من يكون له عاقبة الدار) بالياء على التذكير، وقرأ الباقون (من تكون) بالتاء على التأنيث. انظر: "السبعة" ص 270، و"المبسوط" ص 175، و"الغاية" ص 250، و"التذكرة" 2/ 411، و"التيسير" ص 107، و"النشر" 2/ 263. (¬2) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 408، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 387، و"إعراب القراءات" 1/ 170، و"الحجة" لابن زنجلة ص 272، و"الكشف" 1/ 453، ونقل هذا الواحدي الرازي في "تفسيره" 13/ 203. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 123، والبغوي في "تفسيره" 3/ 192، والخازن 2/ 187. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 40 - 41، وابن أبي حاتم 4/ 1390، والبيهقي في "سننه" 10/ 10، من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 88. (¬5) أخرج الطبري 8/ 41 - 42، من طرق جيدة عن مجاهد وقتادة والسدي نحوه، وذكر هود الهواري في "تفسيره" 1/ 562، عن الحسن والكلبي نحوه، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 591. (¬6) في (أ): (أطعم للضيفان).

ولا يأكلون من ذلك كله شيئًا، فما سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله التقطوه وردّوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير. فذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ}). قال ابن عباس: (خلق، {مِنَ الْحَرْثِ} قال: يريد التمر والقمح، وجميع ما يؤكل، (الأنعام) يريد: الضأن والماعز والإبل والبقر، {نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} يريد: بكذبهم) (¬1). وقد ذكرنا تفسير الزُّعم (¬2) والزَّعم في سورة النساء [: 60]. فإن قيل: أليس جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم: {هَذَا لِلَّهِ}؟ قلنا: إفرازهم النصيبين نصيبًا لله، ونصيبًا للشيطان، وحكمهم بذلك كذب منهم (¬3) لم يأمر الله تعالى به، وهم كانوا يفعلون ذلك تدينًا وتعبدًا واعتقادًا أن ذلك أمر به (¬4) الله تعالى وأنه يرضى به (¬5)، قال الزجاج: (وتقدير الكلام: جعلوا لله نصيبًا ولشركائهم نصيبًا، ودل على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد، وهو قوله: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}) (¬6)، وجعل الأوثان شركاءهم؛ لأنهم جعلوا لها نصيبًا من أموالهم ينفقونها عليها فشاركوها في مالهم (¬7). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 63، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 123. (¬2) يعني: بضم الزاي وفتحها. انظر: "اللسان" 3/ 1834 (زعم). (¬3) لفظ: (منهم) ساقط من (ش). (¬4) في (أ): (ذلك أمره لله تعالى فإنه يرضى به). (¬5) انظر: "تفسير الرازي" 13/ 204. (¬6) هذا قول النحاس في "معانيه" 2/ 494، وذكره عن الزجاج الرازي في "تفسيره" 13/ 204، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج". (¬7) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 581، و"تفسير الرازي" 13/ 204.

وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} معناه ما ذكرنا عن ابن عباس (¬1): أنه كان إذا اختلط شيء مما جعلوه لله بما جعلوه للأوثان لم يخرجوه ولم يردوه، وإذا كان على الضد ردّوه. وقال الحسن (¬2) والسدّي (¬3): (هو أنه إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله، ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله عز وجل). وقال مجاهد: (هو أنه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه، وإن كان على ضد ذلك تركوه) (¬4)، وزاد قتادة: (إذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزءوا لله ووفروا ما جزءوا لشركائهم) (¬5)، وزاد مقاتل: (وإن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يترك نصيب الله تركوه للآلهة وقالوا: لو شاء الله زكا نصيبه، وإن زكا نصيب الله ولم يترك نصيب الآلهة قالوا: لا بد لآلهتنا من نفقة فأخذوا نصيب الله فأعطوه السدنة، فذلك قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} يعني: من تمام الحرث والأنعام {فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} يعني: إلى المساكين) (¬6)، وإنما قال: {إِلَى اللَّهِ} لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيب الله {وَمَا كَانَ لِلَّهِ} من التمام فهو يصل إلى ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (¬2) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 562، والماوردي 2/ 174، والواحدي في "الوسيط" 1/ 124، وابن الجوزي 3/ 129. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 401، وابن أبي حاتم 4/ 1390، بسند جيد. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 223، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 40 - 41، وابن أبي حاتم 4/ 1391، بسند جيد. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 218 - 219، والطبري 8/ 41، بسند جيد. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 591.

137

آلهتهم ثم ذم الله فعلهم فقال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوا لله على جهة التبرر للأوثان (¬1). 137 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية. قال الزجاج (¬2): (أي: ومثل ذلك الفعل القبيح {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}) (¬3)، وقال أبو بكر: (وذلك إشارة إلى ما نعاه الله عليهم من قسمهم ما قسموا بالجهل، فكأنه قيل: ومثل ذلك الذي أتوه في القسم جهلًا وخطأً {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فشبه تزيين الشركاء بخطأهم في القسم) (¬4)، وهذا معنى قول الزجاج. قال مجاهد (¬5): ({شُرَكَاؤُهُمْ}: شياطينهم أمروهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة) (¬6)، وسميت الشياطين شركاء؛ لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم، وأضيفت الشركاء إليهم، لأنهم اتخذوها، كقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] (¬7). ¬

_ (¬1) في (ش): (التبرر إلى الأوثان). (¬2) في (أ): (قال الزجل)، وهو تحريف. (¬3) ذكره السمين في "الدر" 5/ 161، عن الزجاج، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج". (¬4) ذكره السمين في "الدر" 5/ 161، عن ابن الأنباري. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 224، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 40/ 41، وابن أبي حاتم 4/ 1391 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 88 (¬6) العيلة، بفتح فسكون: الفقر، وشدة الحاجة. انظر: "اللسان" 5/ 3194 (عيل). (¬7) كتبت الآية في النسخ خطأ بلفظ (أين شركاؤكم الذين كنتم تدعون من دون الله)، واستشهد الواحدي في "الوسيط" 1/ 125، على الموضوع بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر: 40].

وقال الكلبي (¬1): (كان لآلهتهم سدنة وخدام هم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم، وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا غلامًا لينحرن أحدهم كما حلف (¬2) عبد المطلب على ابنه عبد الله) (¬3)، وعلى هذا القول الشركاء هم: السدنة سمّوها شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد (¬4) والشركاء رفع بالتزيين. ولما تقدم ذكر المشركين كنى عنهم في قوله: (شركاؤهم) كقوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] لما تقدم ذكر النفس كنى عنها، ومثله {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] وأضيف المصدر الذي هو القتل إلى المفعولين الذين هم الأولاد كقوله: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، أي: من دعائه الخير فحذف ذكر الفاعل، كذلك التقدير في الآية: قتلهم أولادهم (¬5). وقرأ ابن عامر (¬6) (زُيِّنَ) بضم الزاي، (قَتْلَ) رفعًا، (أَوْلَادَهُم) ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 184 ب، والماوردي في "تفسيره" 2/ 174، والبغوي 3/ 192 - 193، وابن الجوزي 3/ 130. (¬2) انظر تفصيل ذلك في: "تاريخ الطبري" 2/ 239 - 243. (¬3) عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: أبو قثم الهاشمي القرشي، والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصغر ولد عبد المطلب وأحبهم إليه، ويلقب بالذبيح. انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 239 - 246، و"الأعلام" 4/ 100. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 410. (¬6) قرأ ابن عامر: (وكذلك زُيِّنَ (زَيَّنَ) لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) (زُيِّن) بضم الزاي وكسر الياء بالبناء للمفعول و (قَتْلُ) برفع اللام نائب فاعل (أَوْلَادَهُم) بنصب الدال مفعول للمصدر (شُرَكَائِهِم) بهمزة مجرورة على إضافة المصدر إليه وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. وقرأ الباقون: (زَيَّنَ) بفتح الزاي =

بالنصب، (شُرَكَائِهِم) بالجرّ على تقدير: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ} شركائهم أولادهم، ولكنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهو الأولاد، والمفعول به مفعول المصدر، قال أبو علي: (وهو قبيح، قليل في الاستعمال؛ لأنهم لا يفصلون بين المضاف والمضاف إليه بالظرف الذي توسعوا فيه، وفصلوا به في كثير من المواضع، نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]. ونحو قول الشاعر: عَلَى أَنَّني بَعْدَ مَا قَدْ مَضى ... ثلاثُون لِلْهَجرِ حَوْلًا كَمِيلًا (¬1) [فصل بين العدد والمعدود (¬2)]، ونحو قوله: فَلا تَلْحَني فيها فإنَّ بِحُبِّهَا ... أَخَاكَ مُصابُ القَلْبِ جَمٌّ بَلابِلُهْ (¬3) ¬

_ = والياء مبينًا للفاعل. و (قَتْلَ) بنصب اللام على المفعولية (أَوْلَادِهِمْ) بجر الدال على الإضافة (شُرَكَاؤُهُم) بهمزة مرفوعة على الفاعلية. انظر: "السبعة" ص 270، و"المبسوط" ص 175، و"الغاية" ص 250، و"التذكرة" 2/ 411، و"التيسير" ص 107، و"النشر" 2/ 263 - 265. (¬1) الشاهد للعباس بن مرداس في "ديوانه" ص 136، وهو بلا نسبة في "الكتاب" 2/ 158، و"المقتضب" 3/ 55، و"مجالس ثعلب" ص 424، و"المسائل الحلبيات" ص 258، و"الإيضاح العضدي" 1/ 242، و"المسائل البصريات" 2/ 835، و"الإنصاف" ص 265، و"الدر المصون" 5/ 163، و"مغني اللبيب" 2/ 572. وكميلاً: أي كامل. والشاهد: الفصل بين ثلاثين وبين تمييزها، وهو حولًا. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 908. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) لم أهتد إلى قائله. وهو في "الكتاب" 2/ 133، و"الأصول" 1/ 205, و"المسائل الحلبيات" ص 258، و"كتاب الشعر" 1/ 240، 270، و"المقرب" 1/ 108, =

ألا ترى أنه فصل بين أن واسمها بما يتعلق بخبرها , ولو كان بغير الظرف لم يجز، ألا ترى أنهم لا يجيزون إن زيدًا عمرًا (1) ضارب إذا نصبت زيدًا (2) بضارب (3)، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف في الكلام، وإنما يجوز في الشعر، كقوله: كَمَا خُطَّ الكِتابُ بِكَفِّ يَوْمًا ... يَهودِي يُقَارِبُ أَوْ يُزيلُ (4) فأن لا يجوز في المفعول به الذي لم يتسع فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك على ضعفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر [الفصل] (5) على حد ما قرأه، قال الطرماح:

_ = و"الدر المصون" 5/ 163، و"مغني اللبيب" 2/ 693، وقوله: (فلا تلحني) أي: تلمني. و (جَمّ)، بفتح الجيم وتشديد الميم: كثير. و (بلابله): جمع بلبلة بالفتح، وهي شدة الهم، والوسوسة. والشاهد: رفع مصاب على أنه خبر أن مع إلغاء الجار والمجرور؛ لأنه من صلة الخبر وتمامه. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 969. (1) و (2) في (أ): (عمروا). (3) جاء في النسخ: إذا نصبت عمرًا بضارب، والتصحيح من "الحجة" لأبي علي 3/ 412. (4) الشاهد لأبي حية النميري في "الكتاب" 1/ 178 - 179، و"الإنصاف" ص 349، وبلا نسبة في "المقتضب" 4/ 377، و"الأصول" 2/ 227، 3/ 467، و"الخصائص" 2/ 405، و"غرائب التفسير" للكرماني 1/ 388، و"أمالي" ابن الشجري 2/ 577، و"تفسير ابن عطية" 5/ 360، والقرطبي 7/ 93، و"البحر المحيط" 4/ 229، و"الدر المصون" 5/ 163. والشاهد: (بكف يومًا يهودي) حيث فصل بالظرف بين المضاف والمضاف إليه. (5) لفظ: (الفصل) ساقط من (أ).

يُطِفْنَ بِحُوزِي المَرَاتِعِ لَمْ يُرَعْ (¬1) ... بِوَادِيهِ مِنْ قرْعِ القِسِيِّ الكَنَائِنِ (¬2) وأنشد أبو الحسن (¬3): زَجَّ القلوصِ أبي مزَادَةْ (¬4) ¬

_ (¬1) جاء في (ش): حاشية على البيت. قال: (أي: بفحل منتحى المراتع قد حاز بمرتعه ناحية). (¬2) الشاهد للطرماح في "ديوانه" ص 486، و"تهذيب اللغة" 1/ 700 (حاز)، و"تفسير ابن عطية" 5/ 361، و"اللسان" 2/ 1046 (حوز)، و"البحر المحيط" 4/ 229، 230، و"الدر المصون" 5/ 364، وبلا نسبة في: "الحجة" لأبي علي 3/ 123، و"الخصائص" 2/ 406، و"الإنصاف" ص 347. والشاعر يصف بقر الوحش، وقوله: (بحوزي)، الحوزي: المتوحد: وهو الفحل منها، وهو من حزت الشيء إذا جمعته أو نحيته والمراتع: موضع الرتع. ولم يرع، أي: لم يخف. والقرع: الضرب. والقسي: جمع قوس. والكنائن: جمع كنانة: جراب يوضع فيه السهام. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 700 (حاز)، و"حاشية الإنصاف". والشاهد: الفصل بين المصدر المضاف (قرع)، وفاعله المضاف إليه. (الكنائن) بالمفعول به للمصدر وهو (القسي). (¬3) أبو الحسن الأخفش الأوسط: إمام لغوي، تقدمت ترجمته. (¬4) الشاهد لم أهتد إلى قائله. وصدره: فَزَجَجْتُها بِمزَجَّةٍ ...... وفي رواية: (فزججتها متمكنًا) وهو في: "الكتاب" 1/ 176، و"معاني الفراء" 1/ 358، و"تفسير الطبري" 8/ 44، و"الخصائص" 2/ 406، و"المدخل" للحدادي ص 321، و"الكشاف" 2/ 54، و"تفسير ابن عطية" 5/ 361، و"الإنصاف" ص 347، و"البيان" 1/ 342، و"تفسير الرازي" 13/ 206 و"الفريد" 2/ 233، و"المقرب" 1/ 54، و"القرطبي" 7/ 92، و"البحر المحيط" 4/ 229، و"الدر المصون" 5/ 166 - 170، وقوله: (فزججتها) الضمير للراحلة. والزج: الدفع بالرمح. والقلوص: الناقة الفتية. وأبو مزادة؛ كنية رجل.

وهذان البيتان مثل قراءة ابن عامر، ألا ترى أنه فصل فيهما بين المصدرين والمضاف إليهما بالمفعول به، كما فصل ابن عامر بين المصدر وما حكمه أن يكون مضافًا إليه، وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء وإن لم يتولوا ذلك؛ لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه فكأنهم فعلوا ذلك) (¬1). وقوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ}. قال ابن عباس: (يريد: في النار) (¬2)، والإرداء في اللغة: الإهلاك (¬3) وفي القرآن: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56]. ¬

_ = والشاهد: الفصل بين المضاف زج والمفاف إليه: أبي مزادة بالمفعول، وهو القلوص. انظر: "حاشية تفسير الطبري" 12/ 138 ط. شاكر. (¬1) "الحجة" لأبي علي 3/ 409 - 414، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 582، و"معاني القراءات" 1/ 388، و"إعراب القراءات" 1/ 171، و"الحجة" لابن خالويه ص 150، ولابن زنجلة ص 273، و"الكشف" 1/ 453، و"المشكل" 1/ 269. وقد ذكر قول أبي علي الفارسي وغيره، السمين في "الدر" 5/ 166، وقال: (وهذه الأقوال التي ذكرتها جميعًا لا ينبغي أن يتلفت إليها؛ لأنها طعن في المتواتر، وإن كانت صادرة عن أئمة أكابر، وأيضًا فقد انتصر لها من يقابلهم، وأورد من "لسان العرب" نظمه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغة). اهـ. ثم ذكر عدة أقوال وشواهد عن كبار الأئمة في جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا كان الفاصل معمولًا للمضاف المصدر. وهذا هو الحق؛ لأنها قراءة متواترة، والقراءة سنة متبعة تؤخذ بالنقل والسماع لا بالاجتهاد، فينبغي تصحيح قواعد العربية بالقراءة ولا يلتفت إلى الاعتراض عليها. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 126، والرازي 13/ 206، والخازن 2/ 188. (¬3) الرَّدَى، بالفتح: الهلاك. انظر: "الجمهرة" 2/ 1057، و"تهذيب اللغة" 2/ 1387، و"الصحاح" 6/ 2355، "المجمل" 2/ 428، و"المفردات" ص 351، و"اللسان" 3/ 1631 (ردى).

138

وقوله تعالى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}. قال ابن عباس: (يدخلوا عليهم الشك في دينهم) (¬1)، وقال الكلبي: (ليخلطوا ويشبهوا، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه) (¬2). وقوله تعالى: {وَ (¬3) لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أخبر أن جميع ما فعله المشركون كان ذلك بمشيئة الله إذ لو لم يشأ ما فعلوا (¬4). وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: وما يقولون أن لله شريكًا) (¬5). 138 - قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} معنى الحجر في اللغة: الحرام، وأصله (¬6) من المنع، ومنه سمّي العقل حجرًا لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي أي: منعه (¬7)، قال أبو إسحاق: (المعنى: ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 126، والبغوي في "تفسيره" 3/ 193، وابن الجوزي 3/ 131، والخازن 2/ 188. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 64، وظاهر سياق الواحدي في "الوسيط" والبغوي وابن الجوزي والخازن في تفاسيرهم أنه من قول ابن عباس. وانظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 280. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬4) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 516، والرازي 13/ 206، والقرطبي 7/ 94. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 65. (¬6) الحجر بكسر الحاء وضمها، وسكون الجيم: الحرام. انظر: "العين" 3/ 74، و"الجمهرة" 1/ 436، و"تهذيب اللغة" 1/ 747، و"الصحاح" 2/ 623 و"المجمل" 1/ 264، و"المفردات" ص 220، و"اللسان" 2/ 782 (حجر). (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 207، و"معاني الأخفش" 2/ 287 - 288، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 143، و"تفسير غريب القرآن" ص 171، و"تفسير الطبري" 8/ 46 و"تفسير المشكل" ص80، و"تفسير الرازي" 13/ 207، والقرطبي 7/ 94.

أنهم حرموا أنعامًا وحرثًا وجعلوه لأصنامهم فقالوا: {لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}، فأعلم الله عز وجل أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة لهم فيه، ولا برهان) (¬1). {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} قال ابن عباس: (يريد: مما سيبوا لآلهتهم) (¬2). قال الزجاج: (وهي نحو ما وصفنا من البحيرة والسائبة والحامي الذي قد حمي ظهره أن يركب) (¬3). {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} قال ابن عباس: (يريد: يقتلونها لآلهتهم، إما يقذفونها (¬4)، وإما يخنقونها بالوتر) (¬5). وقال الزجاج: (يذبحونها لأصنامهم ولا يذكرون اسم الله عليها، فأعلم الله عز وجل أن ذلك افتراء (¬6)، فقال: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي: يفعلون ذلك افتراء، وهذا يسميه سيبويه مفعول له (¬7)، أي: لا يذكرون اسم الله عليها للافتراء على الله، وهو أنهم زعموا أن الله أمرهم بذلك، قال الزجاج: ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 132، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج". (¬2) لم أقف عليه، وهو ظاهر كلام القرطبي في "تفسيره" 7/ 95. (¬3) الذي عند الزجاج في "معانيه" 2/ 294 تعريف الحامي فقط. (¬4) في (أ): (يقذوفها)، وهو تحريف. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) في (ش): (أن ذلك افتراء عليه، أي: يفعلون ذلك افتراء)، وهو قريب من نص الزجاج. (¬7) أي مفعول لأجله. انظر: "الكتاب" 1/ 367، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 584: (افتراء) مفعول من أجله ومصدر. اهـ. وانظر: "المشكل" 1/ 272، و"غرائب التفسير" 1/ 389، و"التبيان" ص360، و"الفريد" 2/ 236، و"الدر المصون" 5/ 182.

139

وحقيقته أن قوله تعالى: {لَا يَذْكُرُونَ} بمعنى: يفترون، كأنه قال: يفترون افتراء) (¬1). 139 - قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا}. قال ابن عباس (¬2) والشعبي (¬3) وقتادة (¬4): (يعني: ألبان البحائر، كانت للذكور دون النساء، فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم). وقال غيرهم من المفسرين (¬5): (يعني: أجنة البحائرِ والسوائب، ما ولد منها حيًّا فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد ميتًا أكله الرجال والنساء). وقوله تعالى: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} ذكر ابن الأنباري: في تأنيث خالصة ثلاثة أقوال: قولين للفراء، وقولًا للكسائي: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 294، و"معاني النحاس" 2/ 496 - 497. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 47، 48، وابن أبي حاتم 5/ 1395، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 90 - 91. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 48 بسند جيد، وذكره الثعلبي في "الكشف" 184ب، وابن عطية في "تفسيره". (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 219، والطبري 8/ 48، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 90. (¬5) ومنهم مجاهد في "تفسيره" 1/ 224، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 48 - 49، وابن أبي حاتم 5/ 1395 بسند جيد عن مجاهد والسدي، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 516 عن الكلبي، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 194، عن ابن عباس، وقتادة والشعبي، والظاهر هو العموم من الأجنة والألبان، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 1/ 592، والسدي، كما ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 132, ورجحه الطبري في "تفسيره" 8/ 49.

140

(أحدها: أن الهاء ليست للتأنيث، وإنما هي للمبالغة في الوصف كما قالوا: راوية وعلامة ونسَّابة، والداهية والطاغية، وأنه لمنكر ومنكرة، وكذلك تقول: هو خالصة لي، وخالص لي، وهذا قول الكسائي (¬1). وقال الفراء (¬2): (وقد تكون (خالصة) مصدرًا لتأنيثها كما تقول: العاقبة والعافية، وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] (¬3)، قال أبو بكر: فعلى هذا أنثت الخالصة؛ لأنها أجريت مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث إخبارًا عن الأسماء المذكرة كقولهم: عطاؤك عافية، والمطر رحمة، والرخص نعمة، ومعروف عندهم الرجل خالصتي، قال الشاعر (¬4): كُنتَ أمنيتي وكَنتَ خَالصتي ... وليس كلُّ امرئ بمؤتمنِ القول الثالث (¬5): للفراء (أن تأنيث (خالصة) لتأنيث (الأنعام) (¬6)، لأن ما في بطونها مثلها، فأنث لتأنيثها) (¬7)، وعلى هذا كأنه قيل: وقالوا ¬

_ (¬1) ذكره النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 584، وفي "معانيه" 2/ 498، عن الكسائي، وهو اختيار الأخفش في "معانيه" 2/ 288، والطبري في "تفسيره" 8/ 49. (¬2) هذا هو القول الثاني. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 359، وهو اختيار الكرماني في "غرائب التفسير" 1/ 388. (¬4) لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشف للثعلبي 185 أ، و"غرائب التفسير" 1/ 388، و"الدر المصون" 1/ 183. (¬5) جاء في النسخ: (القول الثاني)، وهو تحريف. (¬6) حصل في (أ) تداخل في الأقوال، فقد جاء قول أبي علي الفارسي بعد قوله: (لتأنيث الأنعام)، وهو تحريف من الناسخ. (¬7) "معانى الفراء" 1/ 358.

الأنعام التي في بطون الأنعام {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} (¬1)، وقال الزجاج: (جُعل معنى (ما) التأنيث؛ لأنها في معنى الجماعة كأنهم قالوا: جماعة {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} (¬2)، وأبين من هذا كله أن يقال: (ما) عبارة عن الألبان أو الأجنة، وإذا كان عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى، وتذكيره على اللفظ، كما جُعل في هذه الآية فإنه أنث خبره الذي هو (خالصة) لمعناه وذُكر في قوله (ومحرم) على اللفظ (¬3)، وهذا قريب مما قاله أبو إسحاق؛ لأنه جعل (ما) بمعنى الجماعة. وذكر أبو علي فيه (¬4) قولين: (أحدهما: أن (خالصة) مصدر، ويكون المعنى: ما في بطون هذه الأنعام ذو خلوص. والثاني: أن يكون صفة، وأنث على المعنى لأنه كثرة، والمراد به: الأجنة والمضامين) (¬5). وقوله تعالى: {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} يعني: النساء. قال ابن عباس: (يريدون على نسائنا) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 208، عن ابن الأنباري، وذكره بعضه ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 133، وانظر: "الدر المصون" 5/ 183. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 294 - 295، واختاره الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 1081 (خلص). (¬3) وهذا القول هو اختيار النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 584، ومكي في "المشكل" 1/ 272، وابن الأنباري في "البيان" 1/ 343. (¬4) "الحجة" لأبي علي 6/ 74، ونحوه قال ابن جني في "المحتسب" 1/ 232 , وانظر: "أمالي ابن الشجري" 3/ 31. (¬5) المضامين، بالفتح وكسر الميم: ما في بطون الحوامل من كل شيء. انظر: "اللسان" 5/ 2611 (ضمن). (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 65.

وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً}. قرأ (¬1) ابن كثير (يَكُن) بالياء (مَيْتَةٌ) رفعًا. قال أبو بكر: (الميتة: أريد بها الميت زيدت عليها الهاء للإبهام، كما قالوا: الدابة فارة، والشاة ذبحته، والأُرْويَّة (¬2) عاينته، فيذكّرون إذا (¬3) كان الحرف يقع على المذكر والمؤنث، وقراءة ابن كثير (وإن يكن ميتة) فالميتة اسم الكون، وخبر الكون مضمر يراد به: وإن يكن لهم ميتة، أو وإن يكن هناك ميتة، وذكر الفعل لأن الميتة في معنى الميت) (¬4). وقال أبو علي: (لم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي، ولا يحتاج الكون إلى خبر لأنه بمعنى: وإن وقع ميتة، أو حدث ميتة. وقرأ ابن عامر (وإن تَكُن) بالتاء (مَيْتةٌ) بالرفع، ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه في اللفظ مؤنثًا، وقرأ عاصم في رواية أبو بكر (وإن تَكُن) بالتاء (مَيْتَةً) بالنصب على تقدير: وإن تكن المذكورة أو المعينة ميتة، فأنث الفعل وإن كان المتقدم مذكرًا؛ لأنه ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية (وإن تكن) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، وقرأ ابن عامر وابن كثير (مَيْتَةٌ) بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب). انظر: "السبعة" ص270 - 271، و"المبسوط" ص 175 - 176، و"الغاية" ص 250 - 251، و"التذكرة" 2/ 412، و"التيسير" ص 107، و"النشر" 2/ 265 - 266. (¬2) الأروية، بضم الهمزة، وسكون الراء، وكسر الواو، وتشديد الياء المفتوحة: الأنثى من الوعول. انظر: "اللسان" 3/ 1787 مادة (روى)، وقال ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" 1/ 54 (الأروية: شاة الجبل) ا. هـ. (¬3) في (ش): (إذ كان). (¬4) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 208، بدون نسبة. وانظر: "معاني الفراء" 1/ 358، و"معاني الأخفش" 2/ 288، و"إعراب النحاس" 1/ 585.

حمله على المعنى. وقرأ الباقون بالياء (ميتةً) بالنصب، تأويله: وإن يكن المذكور ميتة، ذكروا الفعل؛ لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في قوله: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} [الأنعام:139] وهو مذكر، وانتصب الميتة لما كان الفعل مسندًا إلى الضمير) (¬1). وقوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} قال ابن عباس: (يريد: الرجال والنساء) (¬2)، وذكرت الكناية في قوله (فِيهِ) لما ذكرنا أن الميتة غير مختصة بالأنثى (¬3)؛ لأن المراد بالميتة هاهنا: الحيوان كيف ما كان (¬4). وقوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} قال (¬5): (يريد: سيعذبهم بما وصفوا الله به، وما أحلوا مما حرم الله، وما حرموا مما أحل الله) (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي، 3/ 415، بتصرف. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 390 - 391، و"إعراب القراءات" 1/ 171 - 172، و"الحجة" لابن خالويه ص 151، ولابن زنجلة ص 274 - 275، و"الكشف" 1/ 454 - 455، و"الدر المصون" 5/ 186. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 65، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 50، وابن أبي حاتم 5/ 1396 بسند ضعيف من طريق عطية العوفي عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 91. (¬3) في (ش): (ولأن) بالواو. (¬4) انظر: "الدر المصون" 5/ 186 - 187. (¬5) كذا ورد بدون نسبة، والظاهر أن المقصود ابن عباس رضي الله عنهما، ذكره عنه هود الهواري في "تفسيره" 1/ 565، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 127 بدون نسبة. (¬6) قال مجاهد في "تفسيره" 1/ 225: (يعني: قولهم الكذب في ذلك)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 50، من عدة طرى جيدة، عن مجاهد وأبي العالية وقتادة , وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1396 عن مجاهد، وقال: (وروي عن أبي العالية وقتادة نحو ذلك) اهـ.

وقال أبو إسحاق: (المعنى -والله أعلم-: سيجزيهم جزاء وصفهم الذي هو كذب) (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: (يريد: أنه أحكم وأعلم من أن يفعل هذا) (¬2). 140 - قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ}، قال ابن عباس (¬3) والمفسرون (¬4): (يعني: الذين كذبوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية). وقوله (¬5) تعالى: {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (سفهًا) منصوب على معنى اللام، أي: للسفه، مثل: فعلت ذلك حذر الشر، ويجوز أن يكون منصوبًا على تأويل المصدر؛ لأن قتلهم أولادهم سفه، فكأنه قال: قد سفهوا سفهًا، والوجهان ذكرهما الزجاج (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 295، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 499: (التقدير عند النحويين: سيجزيهم جزاء وصفهم الذي هو كذب) اهـ. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 127، بدون نسبة، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 50. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 66، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 134، وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (3524)، كتاب المناقب، باب قصة زمزم وجهل العرب، عن ابن عباس قال: (إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} إلى قوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} اهـ, الآية 140 - الأنعام. (¬4) ومنهم مقاتل في "تفسيره" 1/ 592، والطبري 8/ 51، والنحاس في "معانيه" 2/ 499، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 517، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 51، من عدة طرق جيدة عن عكرمة والسدي، وقتادة. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 91. (¬5) لفظ: (وقوله) ملحق في أعلى السطر من (أ). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 295، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 585، و"المشكل" 1/ 274، و"البيان" 1/ 345، و"التبيان" 361، و"الفريد" 2/ 238 - 239، =

141

وقوله تعالى: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} قال المفسرون (¬1) (يعني: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والحرث، حرموها على أنفسهم، وقالوا: إن الله أمرهم بها). ونصب (افتراء) مثل نصب (سفهًا) (¬2). 141 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ}، ذكر الزجاج وجه اتصال هذه الآية بما قبلها فقال: (احتج الله عليهم، ونبه على عظيم ما أتوه في أن أقدموا على الكذب على الله، وشرَّعُوا من الدين ما لم يأذن به فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ}، فكأنه قال: افتروا على الله، وهو المحدِث للأشياء، الفاعِل ما لا يقدر أحد على الإتيان بمثله فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} أي: أبدع) (¬3)، يقال: نشأ (¬4) الشيء ينشأ نشأً ونشأة ونشاءةً إذا ظهر وارتفع، والله ينشئه إنشاءً، أي (¬5): يظهره ويرفعه، ويبتدئ خلقه. ¬

_ = وقال السمين في "الدر" 5/ 187: "سفها" نصب على الحال، أي: ذوي سفهٍ، أو على المفعول من أجله وفيه بعد؛ لأنه ليس علة باعثة، أو على أنه مصدر لفعل مقدر، أي: سفهوا سفها، أو على أنه مصدر على غير الصدر؛ لأن هذا القتل سفه) اهـ. (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 51، وابن أبي حاتم 5/ 1397 بسند جيد، عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 194، وابن الجوزي 3/ 134. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 296. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 296. (¬4) الإنشاء: إيجاد الشيء وتربيتهِ. والنَّشْءُ والنَّشأةُ: إحداث الشيء وتربيته. يقال: نَشَأ: بالفتح - يَنْشأ نَشأ ونَشْأة ونشَاءة، وفي "اللسان" 7/ 4418 مادة (نشأ): (نَشأ يَنْشَأ نَشأ ونُشُوءًا ونَشَاءً ونَشْأةً ونَشَاءَةً: حَيي، وأنشأ الله الخلق، أي: ابتدأ خلقهم) ا. هـ وانظر: "العين" 6/ 287، و"الجمهرة" 2/ 1076، و"تهذيب اللغة" 4/ 3567، و"الصحاح" 1/ 77، و"المجمل" 4/ 868، و"المفردات" ص 807. (¬5) في (أ): (أن يظهره) ثم صحح أعلى السطر (أي).

قوله تعالى: {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} يقال: عَرَّشْتُ (¬1) الكرم أَعْرِشُه عَرْشًا، وعَرَشْتُه تَعْرِيشًا إذا عطفت العيدان التي تُرسل عليها قُضبان الكَرْم، والواحد عَرْش، والجميع عُروش، ويقال: عَرِيش، وجمعه عُرُشٌ، واعْتَرشَ العِنَبُ العَريشَ اعْتِراشًا إذا عَلاه (¬2). قال ابن عباس: (يريد: ما يعرش من الكروم. {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} يريد: أن كثيراً من الأعناب لا يُعرش) هذا قوله في رواية عطاء (¬3) وهو قول الضحاك (¬4) والفراء (¬5): (إن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم خاصّة، منه ما عُرش، ومنه ما لا يُعرش). وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: ({مَعْرُوشَاتٍ} ما انبسط على وجه الأرض، وانتشر مما يعرش، مثل: الكروم والقرع والبطيخ، {وَغَيْرَ ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 1/ 249، و"الجمهرة" 2/ 728، و"الصحاح" 3/ 1009، و"المجمل" 3/ 658، و"المفردات" ص 558، و"اللسان" 5/ 2882 (عرش). (¬2) النص في "تهذيب اللغة" 3/ 2392 (عرش). (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 52، رقم 13958 بسند ضعيف، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وهو في "تفسير عطاء الخراساني" ص 88، رقم 208، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 92، وقال: (أخرجه أبو الشيخ، عن ابن عباس، وأخرج من وجه آخر عن ابن عباس (معروشات) قال: الكرم خاصة) ا. هـ، وعلق البخاري في "صحيحه" 8/ 287، في كتاب تفسير القرآن، سورة الأنعام، عن ابن عباس قال: ((معروشات) ما يعرش من الكرم وغير ذلك) ا. هـ، وقال الحافظ بن حجر في "فتح الباري" 8/ 287، والعيني في "عمدة القارئ" 15/ 143: (وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ({مَعْرُوشَاتٍ} ما يعرش من الكرم، {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} ما لا يعرش) ا. هـ. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص 185 أ، والبغوي 3/ 195، وابن الجوزي 3/ 135. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 359 وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 296: (ومعنى المعروشات ههنا: الكروم) اهـ.

مَعْرُوشَاتٍ} ما قام على ساق وبسق (¬1)، مثل النخل والزرع وسائر الأشجار) (¬2). وقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} فسر ابن عباس: (الزرع هاهنا بجميع الحبوب التي تقتات، {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} قال: يريد بكل شيء منها طعم غير طعم الآخر) (¬3)، والأكل كل ما أكل، وهاهنا المراد به: ثمر النخل والزرع، ومضى القول في الأكل عند قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] وانتصب (مختلفًا) على الحال (¬4) أي: أنشأه في حال اختلاف أكله. ¬

_ (¬1) بَسَق، بالفتح: طال، وارتفع. انظر: "اللسان" 1/ 284 (بسق)، وجاء الأثر عند البغوي في "تفسيره" 3/ 195، وفيه (ونسق) بالنون بدل الباء، والنَّسَق: ما كان على طريقة نظام واحد. انظر: "اللسان" 10/ 7/ 4412 (نسق). (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 185 أ، والقرطبي 7/ 98، والخازن 2/ 190، وأبو حيان في "البحر" 4/ 236، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 52، بسند جيد عن ابن عباس قال: ({مَعْرُوشَاتٍ} مسموكات)، وفي رواية ({مَعْرُوشَاتٍ}: ما عرش الناس {وغير معروشات}: ما خرج في البر والجبال من الثمرات) اهـ. والظاهر أن المراد بالمعروشات: ما كانت مرفوعة على ما يحملها من دعائم كأشجار العنب وغيرها، وغير المعروشات هي المتروكة على وجه الأرض لم تعرش. وهو اختيار أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 207، وأبي حيان في "البحر" 4/ 236، والدكتور فريد مصطفى سلمان في "تفسير آيات الأحكام من سورتي الأنعام والأعراف" ص 85 - 86. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 212، وانظر: "تفسير الخازن" 2/ 190، و"البحر المحيط" 4/ 234. (¬4) حال مقدرة؛ لأن النخل والزرع وقت خروجهما لا أكل فيه، حتى يقال فيه متفق أو مختلف. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 585، و"المشكل" 1/ 274، و"غرائب التفسير" 1/ 389، و"البيان" 1/ 345، و"التبيان" 361، و"الفريد" 2/ 239 , و"الدر المصون" 5/ 187.

فإن قيل: كيف أنشأه في حال اختلاف أكله وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله، وأكله ثمره؟ والجواب: ما ذكره الزجاج وابن الأنباري (¬1) وهو: (أن الله تعالى قد دل على خلقه جميع الأشياء في غير موضع من كتابه، فكان في ذلك دليل على إنشائه هذين قبل اختلاف أكلهما، ثم دل على أنه هو المنشئ لهما في حال اختلاف طعم الثمار، فلم يجب بهذا أن يكون غير منشئ لهما فيما تقدم). قال الزجاج: (ويجوز أن يكون أنشأه ولا أكل فيه، {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}؛ لأن المعنى: مقدرًا ذلك فيه، كما تقول: لتدخلن منزل زيدٍ آكلين شاربين، والمعنى: أنكم تدخلون مقدّرين ذلك، وسيبويه (¬2) مثل هذا بقولهم: مررت برجل معه صقرا صائدًا به غدًا، فنصب صائدًا على الحال، والمعنى: مقدرًا به الصيد) (¬3). وقال أبو بكر: (ويجوز أن يكون نصب {مُخْتَلِفًا} على القطع من {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} لا على الحال، والقطع النعت، فكأنه قال: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} المختلف أكلهما فلما كان (مختلفًا) نكرةً، {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} معرفتان، لم تحمل نكرة على إعراب معرفة، فقطعت من لفظهما، أجاز الكسائي والفراء (¬4): جاءني زيد أحمر يا هذا، وقالا: أحمر ينتصب على ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن الأنباري. (¬2) "الكتاب" 2/ 52. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 296. (¬4) قال الفراء في "معانيه" 1/ 11 - 12، في إعراب قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الآية: 2البقرة] (في: (هدى) النصب من وجهين: أن تجعل (الكتاب) خبرًا، لذلك فتنصب (هدى) على القطع؛ لأن (هدى) نكرة اتصل بمعرفة قد تم خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلًا على معرفة، وإن شئت نصت (هدى) على =

القطع من زيد على أنه نعتٌ في الأصل، ودال على صاحبه، فإن نصبت على الحال استحالت المسألة، إذ كانت العمرة في الرجل لا تنتقل كما ينتقل الركوب والقيام والجلوس، فالذي ينصبُ (مختلفًا) على القطع يقول: معناه النعت. قال: وأما توحيده الهاء (¬1) العائدة على {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} فلأنه اكتفي بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعًا كقوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] والمعنى: إليهما. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (¬2) [التوبة: 62] ويجوز أن تكون الهاء مخصوصًا بها النخل؛ لأن أهل التفسير (¬3) قالوا في قوله: {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي: منه الحامض والمر والحلو والجيد والرديء، وكل هذا من نعت ضروب التمر) (¬4). ¬

_ = القطع، الحال من الهاء التي في (فيه)، كأنك قلت: لا شك فيه هاديا) ا. هـ. وانظر: "معاني الفراء" 1/ 358، وقال السمين في "الدر" 5/ 189، قال ابن الأنباري: (إن (مختلفًا) نصب على القطع، فكأنه قال: والنخل والزرع المختلف أكلهما، وهذا رأي الكوفيين) ا. هـ. (¬1) الضمير في (أكله) يعود على الزرع؛ لأنه أقرب مذكور ولقرينة الحصد، أو يعود على جميع ما سبق؛ لأن التعميم أولى، والمعنى: مختلف ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب. وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 52، وانظر: "البحر المحيط" 4/ 236 و"الدر المصون" 5/ 188. (¬2) جاء في النسخ (أن ترضوه) بالتاء، وهو خطأ واضح. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 195، ولم أقف على من خصه بالنخل. (¬4) لم أقف عليه عن ابن الأنباري.

وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}. قال أبو بكر: وهو قول غيره من المفسرين (¬1): (إن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في الشيوع، وفي أن ورقه يشتمل على الغصن ويستره من أوله إلى آخره، فأحدهما متشابه بالآخر في ورقه غير متشابه في ثمره؛ لأن طعم الزيتون غير طعم الرمان، ويجوز أن يكون التشابه وغير التشابه في كل واحد من الزيتون والرمان، وذلك أن الرمان يشبه بعضه بعضًا في اللون والخِلقة، ثم يختلف الطعم فمنه حلو، ومنه حامض، وكذلك الزيتون)، وهذا قول الفراء (¬2)، وقد مر القول في هذا. وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}: أمر إباحة (¬3)، ومضى الكلام في الثَّمَر (¬4) والثُّمُر. وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، قال الأزهري (¬5): (يريد -والله أعلم-: يوم حَصْدِه). ¬

_ (¬1) ومنهم ابن جريج، فقد أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 52، بسند جيد عنه قال: (متشابهًا في المنظر، وغير متشابه في الطعم) ا. هـ. وانظر: "تفسير مقاتل" 1/ 593، والسمرقندي 1/ 518، وابن الجوزي 3/ 94. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 359، والآية عامة، أي: متشابه في المنظر ومختلف في الطعم، كالنخل متعدد الأنواع والطعم، والرمان منه الحلو والحامض، أو متشابه في الطعم ومختلف في المنظر، والأول أدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى وإبداع مخلوقاته. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 297، و"معاني النحاس" 2/ 500. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 195، وابن عطية 5/ 370. (¬4) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة: 267. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 894 (حصد).

وقال جميع أهل اللغة: (¬1) (يقال: حِصَاد وحَصَاد وجِزاز وجَزاز وقِطاف وقَطاف وجِداد وجَداد) (¬2) قال سيبويه: (جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فِعَال، وربما قالوا فيه: فَعال) (¬3). واختلفوا في معنى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي حقٍّ هو؟ فقال ابن عباس في رواية عطاء (¬4): (يعني: زكاته، يريد به: العشر ونصف العشر مما سقى بالسواني). وهذا قول طاووس (¬5) والحسن (¬6) وسعيد بن ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 3/ 122، و"الجمهرة" 1/ 503، و"الصحاح" 2/ 465، و"المجمل" 1/ 238، و"المفردات" ص 238، و"اللسان" 2/ 894 مادة (حصد). (¬2) لفظ: (وجداد الثانية) ساقطة من (ش): والمراد أن الجميع يقال بفتح أوله وكسره، ومعنى الحصاد والجزاز والقطاف والجداد: هو قطع الثمر ووقت قطعه. انظر: "اللسان" 1/ 563 مادة (جدد)، 2/ 856 (جزز) 9/ 3680 (قطف). (¬3) "الكتاب" 4/ 12، وانظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 416، و"اللسان" 1/ 563 مادة (جدد). (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 213، عن عطاء عن ابن عباس، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 53، وابن أبي حاتم 5/ 1398، والبيهقي في "سننه" 4/ 132، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 332، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس قال: (العشر ونصف العشر)، وأخرج أبو عبيد في "ناسخه" ص 31، والطبري في "تفسيره" 8/ 54، بسند جيد عن ابن عباس قال: (حقه زكاته المفروضة يوم يكال أو يعلم كيله) اهـ. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 145، وفي "التفسير" 1/ 2/ 219، والطبري في "تفسيره" 8/ 54، والبيهقي في "سننه" 4/ 132، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 332، من عدة طرق جيدة. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 53، والنحاس في "ناسخه" 2/ 325، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 332، من عدة طرق جيدة، وأخرج أبو عبيد في "ناسخه" ص 31، والطبري في "تفسيره" من عدة طرق جيدة عن الحسن قال: (هي الصداقة من الحب والثمار) اهـ.

المسيب (¬1) والضحاك (¬2) وابن زيد (¬3) وجماعة (¬4). فإن قيل: على هذا كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل؟ فالجواب: أن معناه قدروا إخراج الواجب منه، فإن وقت الحصاد قريب من زمان التنقية الذي هو وقت وجوب الإخراج هذا في الزرع، فأما في النخل فلا اختلاف بين المسلمين أن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب فيها من الصدقة. وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ظاهر في {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} محمول عليه في وجوب الإخراج منه، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخر إلى زمان التنقية (¬5). وقال بعضهم: (هذا حق في المال سوى الزكاة، أمر الله تعالى به تأديبًا وحضًا على البر، فإن فعل فحسن، وإن لم يفعل فلا شيء على تاركه، وليس بأمرٍ حتمٍ). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 145، والطبري في "تفسيره" 8/ 54 بسند ضعيف. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 408 (1084)، والطبري في "تفسيره" 8/ 54 بسند ضعيف. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 54 بسند جيد. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 53، 54، من عدة طرق عن أنس بن مالك، وجابر ابن زيد، ومحمد بن الحنفية، وقتادة، وزيد بن أسلم. وزاد النحاس في "ناسخه"، 2/ 325 نسبته إلى مالك، وعطاء الخراساني. وزاد هود الهواري في "تفسيره" 1/ 566 نسبته إلى سعيد بن جبير، وزاد ابن كثير في "تفسيره" 2/ 203، ابن جريج. وقال الماوردي في "تفسيره" 2/ 178: (قال الجمهور: هي الصدقة المفروضة فيه العشر فيما سقي بغير آلة، ونصف العشر فيما سقي بآلة) ا. هـ. (¬5) انظر: "زاد المسير" 3/ 135 - 136.

وهذا قول عطاء (¬1) وحماد (¬2) والحكم (¬3) (¬4) ومجاهد، وإبراهيم , والربيع، قال مجاهد: (إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم منه، وإذا دسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا كدسته فاطرح لهم منه، فإذا عرفت كيله فاعزل زكاته) (¬5). وقال إبراهيم (¬6): (هو الضِّغْث) (¬7). وقال الربيع (¬8): ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 143، والطبري في "تفسيره" 8/ 59، وابن أبي حاتم 5/ 1398، والبيهقي في "سننه" 4/ 132، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 333 - 334، من عدة طرق جيدة. (¬2) أثر حماد بن زيد الأزدي، أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 59، وابن أبي حاتم 5/ 1398 بسند جيد، وذكره الثعلبي في الكشف 185 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 195. (¬3) الحكم بن عُتَيبَة الكندي، أبو محمد الكوفي، إمام عابد، ثقة، ثبت، فقيه، من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، توفي سنة 113 هـ أبو بعدها , وله نيف وستون سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" 6/ 331، و"الجرح والتعديل" 3/ 123، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 208، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 117، و"تهذيب التهذيب" 1/ 466، و"تقريب التهذيب" (1453). (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف" 185 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 195. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 225، وأخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 159، وعبد الرزاق 1/ 2/ 219، وفي "المصنف" 4/ 144 - 145، وأبو عبيد في "ناسخه" ص 31 - 32، وابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 408 (10477)، والطبري في "تفسيره" 8/ 56، 57، وابن أبي حاتم 5/ 1398، والبيهقي في "سننه" 4/ 132، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 333، من عدة طرق جيدة، وبألفاظ مختلفة. (¬6) الأثر عن إبراهيم النخعي، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 408 (10481)، والطبري في "تفسيره" 8/ 56، من عدة طرق جيدة. (¬7) الضِّغث، بكسر فسكون: ملء اليد من النبات المختلط. انظر: "اللسان" 5/ 2591 مادة (ضغث). (¬8) الأثر عن الربيع بن أنس، أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 57، بسند لا بأس به.

(لقاط السنبل) (¬1). وفي الآية قول ثالث، وهو: إن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ هذا، وهو (¬2) قول سعيد بن جبير (¬3) وعطية (¬4) والسدي، قال السدي: (نسخها العشر ونصف العشر) (¬5). وقال مقسم عن ابن عباس: (نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن) (¬6)، والقول هو الأول (¬7). ¬

_ (¬1) لَقَاط السُّنْبُل، بضم اللام وبفتحها: ما يلتقطه الناس من نُثارة الثمر، والذي تخطته المنَاجِل فيلتقطه الناس. انظر: "اللسان" 7/ 4061 مادة (لقط). (¬2) في (أ): (وهذا). (¬3) أخرجه أبو عبيد في "ناسخه" ص 32، والطبري في "تفسيره" 8/ 58، والنحاس في "ناسخه" 2/ 322، والبيهقي في "سننه" من عدة طرق جيدة. (¬4) الأثر عن عطية العوفي. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 408 (10485)، والطبري في "تفسيره" 8/ 59، وابن أبي حاتم 5/ 1398، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 334، بسند جيد. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 408 (10480)، والطبري في "تفسيره" 8/ 58، 59، من عدة طرق جيدة. (¬6) أخرجه أبو عبيد في "ناسخه" 33، بسند جيد، وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 408 (10486)، والطبري في "تفسيره" 8/ 58، والنحاس في "ناسخه" 2/ 323 بسند جيد عن ابن عباس قال: (نسخها العشر ونصف العشر) ا. هـ وقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"، والطبري في "تفسيره" القول بالنسخ عن جماعة من السلف رضي الله عنهم، ويحمل هذا على أن مفهوم النسخ عندهم أوسع كما بينا. (¬7) الظاهر -وهو قول الجمهور- أن الآية محكمة، وقد رجح هذا أبو عبيد في "ناسخه" ص 33 - 37، ومكي في "الإيضاح" ص 244 - 247، وابن العربي في "ناسخه" 2/ 217، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 371، والرازي 13/ 213، ومصطفي زيد في "ناسخه" 2/ 72 - 73، وغيرهم؛ لأنه لا تنافي بينهما وبين عامة آيات الزكاة، ولا بينها وبين ما جاء في السنة من تحديد أنصبة الزكاة ومقاديرها، =

وقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} قال أبو العباس (¬1) عن ابن الآعرابي: (السَّرَف تجاوز ما حُدّ لك) (¬2). وقال شَمِر: (سَرَف الماء ما ذهب منه في غير سقى ولا نفع قال: أرْوَت البئر النخيل وذهب بقيّة الماء سَرَفًا) (¬3)، فإن أخذت الإسراف مما قاله ابن الأعرابي فهو: مجاوزة الحد، وإن أخذت من قول شمر فهو: الإنفاق فيما لا يجدي عليك (¬4). ¬

_ = إذ أصل الزكاة شرع في أول الإسلام بدون تحديد، وفي المدينة المنورة حددت بمقاديرها المفروضة. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 761: (قد قال مالك: إن المراد به: الزكاة المفروضة، وتحقيقه في نكتة بديعة، وهي أن القول في أنها مكية أو مدنية يطول، فهبكم أنها مكية إن الله أوجب الزكاة بها إيجابًا مجملاً، فتعين فرض اعتقادها ووقف العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت، فلم تكن بمكة حتى تمهد الإِسلام بالمدينة فوقع البيان، فتعين الامتثال، وهذا لا يفقهه إلا العلماء بالأصول) ا. هـ وقد نقل الزجاج في "معانيه" 2/ 297 عن قوم إنها مدنية، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 206: (اختار ابن جريج النسخ، وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبُين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، فالله أعلم) ا. هـ، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 359، و"معاني النحاس" 2/ 500، و"البحر المحيط" 4/ 237. (¬1) أبو العباس: هو ثعلب أحمد بن يحيى، إمام تقدمت ترجمته. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1675 - 1676. (¬3) الإسراف -في اللغة-: ضد القصد والإغفال والجهل والخطأ. وأصله مجاوزة الحد في كل فعل، وهو في الإنفاق أشهر، والإسراف في النفقة التبذير، وأما السرف الذي نهى الله تعالى عنه فهو: ما أنفق في غير طاعة الله قليلاً كان أو كثيراً. انظر: "العين" 7/ 244، و"الجمهرة" 2/ 716، و"الصحاح" 4/ 1373، و"مجمل اللغة" 2/ 493، و"المفردات" ص 407، و"اللسان" 4/ 1996 (سرف). (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 178 - 179، وابن الجوزي 3/ 136.

وقد فُسر الإسراف بالوجهين (¬1) في هذه الآية. وقال ابن عباس: كان رجال يتبرعون عند الصرام، فيقول الرجل: لا أمنع سائلا حتى أمسي، فعمد ثابت بن قيس بن شماس إلى خمسمائة نخلة فجدها ثم قسمها في يومٍ واحدٍ، ولم يدخل منها إلى منزله شيئًا، فأنزل الله {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} أي: لا تعطوا كله (¬2). وهذا قول السدي (¬3) ويمانٍ والفراء (¬4)، وحكاه الزجاج أيضًا وقال (¬5): (فيكون على هذا التأويل، أن الإنسان إذا أعطى كل ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئًا فقد أسرف؛ لأنه جاء في الخبر (ابدأ بمن تعول) (¬6))، فهذا مجاوزة حد الإعطاء. ¬

_ (¬1) ذكره أكثرهم. انظر: السمرقندي 1/ 519، و"الوسيط" 1/ 129، والبغوي 3/ 195، وابن الجوزي 3/ 136، والقرطبي 7/ 110، والخازن 2/ 191، و"تنوير المقباس" 2/ 68، وأخرجه الطبري 8/ 61 بسند جيد عن ابن جريج، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 93، وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 145، وابن أبي حاتم 5/ 1399 بسند جيد، عن ابن جريج قال: (جَدَّ معاذ بن جبل -رضي الله عنه- نخله، فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منها شيء، فنزلت الآية) ا. هـ، وهذا مرسل، والأول أشهر، لكنه ضعيف؛ لأن أكثرهم قد صرح أنه من رواية الكلبي. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 61، وابن أبي حاتم 5/ 1399 بسند جيد، عن السدي قال: (لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء). (¬3) ذكره الثعلبي ص 185 بلفظ: (لا تبذروا تبذيرًا) ا. هـ. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 359. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 297. (¬6) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في "صحيحه" (1427)، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (1034)، كتاب الزكاة، حديث 1034 - 1036، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الصدقة أو خير =

وقال سعيد بن المسيب: (معناه: لا تمنعوا الصدقة) (¬1)، وهذا يتوجه على أن تأويله: لا تتجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة، وهذا ضد القول الأول، ولكنهما راجعان إلى معنى مجاوزة الحد، فالأول: مجاوزة في الإعطاء. والثاني: مجاوزة في البخل. وقال مقاتل (¬2) وعطية: (معناه: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام) (¬3)، وهذا أيضًا من باب المجاوزة؛ لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حُدّ له. وروى عطاء، عن ابن عباس في قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (لا تجعلوا لله شريكًا، إنه لا يحب من جعل له شريكًا) (¬4)، وهذا أيضًا من مجاوزة الحد. وقال إياس بن معاوية (¬5): (ما جاوزت به أمر الله فهو سرف ¬

_ = الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" ا. هـ لفظ مسلم، وأخرج البخاري أيضًا عن أبي هريرة، ومسلم عن أبي أمامة، نحوه. (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 145، والطبري في "تفسيره" 8/ 61، وابن أبي حاتم 5/ 1399 بسند ضعيف. (¬2) "تفسيرمقاتل" 1/ 593. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف" 185 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 136، عن عطية العوفي. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 68، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1399، بسند جيد عن عطاء، عن ابن عباس في قوله {وَلَا تُسْرِفُوا} قال: (في الطعام والشراب) اهـ, وأخرج أيضًا بسند جيد عن طاووس، عن ابن عباس في الآية قال: (أحل الله الأكل والشراب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة) ا. هـ واختار هذا القول ابن كثير في "تفسيره" 2/ 204. (¬5) إياس بن معاوية بن قُرة بن إياس المزني، أبو واثلة، قاضي المغيرة، تابعي، ثقة, فقيه، يضرب به المثل في الذكاء والدهاء، والعقل والفطنة، والفصاحة، توفي =

وإسراف) (¬1)، وهذا كله على الأصل الذي ذكره ابن الأعرابي، وقال الزهري: (معناه: لا تنفقوا في معصية الله) (¬2)، قال مجاهد: (لو كان أبو قبيس (¬3) ذهبًا فأنفقه رجل في طاعة الله لم يكن مسرفًا , ولو أنفق درهمًا في معصية الله كان مسرفًا) (¬4)، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي (¬5) حين قيل له: لا خير في السرف، فقال: (لا سرف في الخير) (¬6)، وهذا على الأصل الثاني في معنى السرف، وذلك أن من أنفق في معصية، فقد أنفق فيما لا يجدي عليه (¬7). ¬

_ = سنة 122 هـ، وله 76 سنة. انظر: "حلية الأولياء" 3/ 123، و"وفيات الأعيان" 1/ 247، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 155، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 2/ 178. (¬1) أخرجه الطبري 8/ 61، وذكره الثعلبي ص 185 أ، والبغوي 3/ 196، والقرطبي 7/ 110، وأبو حيان في "البحر" 4/ 238، والسيوطي في "الدر" 3/ 94. (¬2) ذكره الثعلبي ص 185 أ، والبغوي 3/ 196، وابن الجوزي 3/ 136، والرازي 13/ 214، والخازن 2/ 191، وأبو حيان في "البحر" 4/ 238. (¬3) أبو قبيس، بضم القاف، وفتح الباء، وسكون الياء، بلفظ التصغير: اسم الجبل المشرف على مكة من جهة الصفا. انظر: "معجم البلدان" 1/ 80. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1399 بسند جيد، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 519، والثعلبي ص 185/ أ، والبغوي 3/ 196. (¬5) حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، أبو عدي، فارس جاهلي وشاعر مشهور بجوده وخلقه وسماحته، ويضرب المثل بجوده، يتميز شعره بالإشادة بالسخاء والحكم الجميلة، توفي في السنة الثامنة بعد مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "الشعر والشعراء" ص 143، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 3/ 424، و"الأعلام" 2/ 151. (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف" 185 أ، والرازي 13/ 214، والقرطبي 7/ 110. (¬7) والظاهر أن الخطاب عام، والمتبادر من الآية النهي عن تجاوز الحد في الإنفاق وفي الأكل والشرب، والمسلم مطالب بالبعد عن الحرام أصلاً وليس بالإسراف فيه فقط، وهذا هو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 61، والنحاس في "ناسخه" =

142 - قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} الآية معناها: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا؛ لأن قوله: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ} نسق علي قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} [الأنعام: 141] قاله (¬1) الفراء (¬2) وأبو إسحاق (¬3). وأما الحمولة، فقال الفراء: (الحمولة: ما أطاق العمل والحمل، والفرش: الصغار) (¬4). وقال ابن السكيت: (قال أبو زيد: الحمولة: ما احتمل عليه الحيّ من بعير أو حمار أو غيره كانت عليها أحمال أو لم تكن، وأنكر أبو الهيثم ما قاله أبو زيد، وقال: الحمولة من الإبل التي تحمل الأحمال على ظهرها، فأما الحُمر والبغال فلا تدخل في الحمولة) (¬5)، وقال الليث: (الحمولة: الإبل التي تحمل الأثقال) (¬6)، وقال النابغة: ¬

_ = 2/ 336، وانظر: "القرطبي" 7/ 110، وابن كثير 2/ 204، و"تفسير آيات الأحكام من سورتي الأنعام والأعراف" للدكتور: فريد مصطفى سلمان ص 99 - 101. (¬1) في (ش): (قال)، وهو تحريف. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 359. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 298، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 586، ومكي في "المشكل" 1/ 274 - 275 (قوله: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} نصب على العصف على (جنات)، أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا) ا. هـ. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 359. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 925 مادة (حمل)، وفيه قال أبو الهيثم: (الحَمُولة من الإبل: التىِ تحمل الأحمال على ظهورها، بفتح الحاء: والحمولة: بضم الحاء: هي الأحمال التي تحمل عليها، واحدها حِمْل وأَحَمال وحُمول وحُمولة. فأما الحُمُر والبغال فلا تدخل في الحَمُولة) ا. هـ. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 925، وفيه ضبط: الحَمُولة، بالفتح، وقال: (والحُمُول, =

وأنزلت بيتي في يَفَاعٍ مُمُنَّعٍ ... نُخَالُ به راعِي الحَمُولةِ طَائِرَا (¬1) وقال عنترة: ما رَاعَني إلاَّ حَمُولَة أَهلِهَا ... وَسْطَ الدِّيار تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (¬2) وأما الفرش، فقال أبو إسحاق: (أجمع أهل اللغة (¬3) على أن الفرش صغار الإبل. قال: وقال بعض المفسرين: الفرش صغار الأنعام، وإن البقر والغنم من الفرش، قال: ويدل على هذا قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143]، فلما جاء هذا بدلاً من قوله {حَمُولَةً وَفَرْشًا} جعله للبقر والغنم مع الإبل) (¬4). قال الأزهري (¬5): ومما يحقق هذا قوله: ¬

_ = بالضم: الإبل بأثقالها). وانظر: "العين" 3/ 242، و"الجمهرة" 1/ 566، و"الصحاح" 4/ 1676 (حمل). (¬1) "ديوان النابغة الذبياني" ص 47، و"الكتاب" 1/ 368، و"الأصول" 1/ 207، و"تهذيب اللغة" 1/ 925، و"اللسان" 2/ 1004 (حمل)، و"الدر المصون" 5/ 191، وجاء في هذه المراجع: وحلت بيوتي - بدل: وأنزلت بيتي. واليفاع: المُشْرِف من الأرض. انظر: "اللسان" 8/ 4963 (يفع). وقوله: يخال طائرًا، أي: كالطائر في صغره لبعده في السماء أو كالطائر المحلق في الهواء. (¬2) "ديوانه" ص 17، والقرطبي 7/ 112، و"الدر المصون" 5/ 191، وهو من معلقته المشهورة. وراعني: أفزعني. وتسف: تأكل. والخمخم: نبت تعلفه الإبل. يقول: لما رأيت أهلها يتحملون راعني ذلك لفراقي إياها. انظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ص 304، و"النحاس" 2/ 13، و"جمهرة أشعار العرب" ص 161. (¬3) انظر: "الجمهرة" 2/ 729، و"الصحاح" 3/ 1014، و"المجمل" 3/ 715، و"المفردات" ص 629 مادة (فرش). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 298. (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2769

وَلَنا الحَامِلُ الحَمولةُ والفرشُ ... من الضَّأنِ والحُصُون السُّيوفُ (¬1) وقال الليث: (الفرش: من النعم التي لا تصلح إلا للذبح، وهي ما دون الحَمولة) (¬2). وقال الكسائي (¬3): (الحمولة ما حمل، والفرش الصغار) (¬4)، هذا قول أهل اللغة (¬5) في تفسير الحرفين. ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائله، وقد جاء في النسخ، وفي "اللسان" 6/ 3383 مادة (فرش) عن الأزهري: (والحصون السُّيوف)، وفي "تهذيب اللغة" 3/ 2769، (الحصون الشّيوف) بالشين، بدل السين، ولعله أصح لأن الشّيوف: المرتفع المزين. انظر: "اللسان" 4/ 2361 مادة (شوف). (¬2) "العين" 6/ 256، و"تهذيب اللغة" 3/ 2769. (¬3) لم أقف عليه عن الكسائي بعد طول بحث، وهو قول ثعلب في "مجالسه" ص 425، وابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص 335، وقال ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص 304: (الحمولة: الإبل التي تطيق أن يحمل عليها، والفرش: الصغار التي لا تطيق الحمل عليها، وقال بعض المفسرين: الحمولة: الإبل. والفرش: البقر والغنم، وأهل اللغة على القول الأول) ا. هـ. (¬4) لفظ: (الصغار) مكرر في (أ). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 207، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 143، و"تفسير غريب القرآن" ص 1/ 172، و"نزهة القلوب" للسجستاني ص 202، 352، و"تفسير المشكل" ص80، والظاهر أن الحمولة، ما حمل من الأنعام، والفرش: الصغار؛ لأنها دانية من الأرض، وهذا هو قول الجمهور، واختاره الطبري في "تفسيره" 8/ 64، أو الفرش: ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره، الفرش. واستحسنه ابن كثير في "تفسيره" 2/ 205، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 586: (ومن أحسن ما قيل: إن الحمولة المسخرة المذللة للحمل, والفرش: ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهد) ا. هـ، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 503، و"تفسير ابن عطية" 5/ 373، والرازي 13/ 216.

وأما (¬1) المفسرون فقال عطاء، عن ابن عباس: ({حَمُولَةً}: الحوامل، {وَفَرْشًا}: الذي ليس بحامل) (¬2). وقال ابن مسعود: (الحمولة: الكبار، والفرش: الصغار) (¬3). وقال الحسن: (الفرش: الحواشي) (¬4). وروي عن ابن عباس (¬5): (أن الحمولة: الإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش: فالغنم) (¬6)، وهذا مثل قول ¬

_ (¬1) في (ش): فأما. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 64 بسند ضعيف من طريق عطية العوفي عن ابن عباس. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 62، وابن أبي حاتم 5/ 1400 بسند جيد، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 62، وابن أبي حاتم 5/ 1400، والحاكم في "المستدرك" 2/ 317، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في التلخيص عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرش: الصغار)، وفي رواية عند الطبري قال: (الحمولة: الكبار من الإبل، والفرش: الصغار من الإبل)، وروي بسند جيد عن ابن مسعود مثله في "تفسير مجاهد" 1/ 225 - 226، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 94، وانظر: "مجمع الزوائد" 7/ 22. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 219 - 220، والطبري 8/ 63، بسند جيد عن الحسن قال: (الحمولة: ما حمل عليه، والفرش: حواشيها، يعني: صغارها). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 63، وابن أبي حاتم 5/ 1400 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 95، وعلق البخاري في "صحيحه" 5/ 192، عن ابن عباس قال: (حمولة ما يحمل عليها) ا. هـ، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 62، بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (الحمولة: الكبار، والفرش: الصغار من الإبل) ا. هـ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1401 بسند جيد عن ابن عباس قال: (الفرش: صغار الإبل)، وذكر السيوطي في "الدر" 3/ 94، عن ابن عباس أنه قال: (الفرش: الصغار من الإبل)، وفي رواية: (الفرش: ما أكل منه) اهـ. (¬6) في (أ) (وأما الفرش الغنم)، وهو تحريف.

أبي زيد في الحمولة. وقال مجاهد: (الحمولة: ما حمل عليها، والفرش: صغار الإبل) (¬1) وقال قتادة: (الحمولة: الإبل، والفرش: البقر والغنم) (¬2). وقال الربيع بن أنس: (الحمولة: الإبل والبقر، والفرش: الماعز والضأن) (¬3)، ونحو ذلك قال الكلبي (¬4). وقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}. قال ابن عباس: (يريد: أحل الله لكم الذبائح مما ذكر اسم الله عليه) (¬5). وقال أبو إسحاق: (أي: لا تُحرموا ما حرمتم مما جرى ذكره) (¬6). {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (يريد: ما زين الشيطان وشرع عمرو بن لحي)، قاله ابن عباس (¬7). وقال الزجاج: (المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يُسَوّله لكم الشيطان) (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 62، من عدة طرق جيدة عن مجاهد قال: (الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرش: ما لم يحمل)، وفي رواية قال: (الفرش: صغار الإبل). (¬2) أخرج عبد الرزق في "تفسيره" 1/ 2/ 220، والطبري 8/ 63، بسند جيد، عن قتادة قال: (الحمولة: الإبل والبقر، والفرش: الغنم)، ولم أقف عليه عن قتادة بلفظ: (الفرش: البقر والغنم). (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 63 بسند لا بأس به. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 68، وفيه قال: (الحمولة: ما يحمل عليها، مثل الإبل والبقر. والفرش: ما لا يحمل عليها، مثل الغنم وصغار الإبل) ا. هـ. (¬5) لم أقف عليه. وانظر: "معاني النحاس" 2/ 504، و"تفسير ابن عطية" 5/ 373 (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 298. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 298، وقال: (هذا هو الذي تدل عليه اللغة) ا. هـ، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 64، و"معاني النحاس" 2/ 504 - 505.

143

وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} قال ابن عباس: (يريد: بيّن العداوة، أخرج آدم من الجنة، وهو القائل: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62] (¬1). 143 - وقوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الآية. انتصب (ثمانية) بالبدل من {حَمُولَةً وَفَرْشًا} في قول الفراء والزجاج (¬2). قال الفراء: (وإن شئت أضمرت لها فعلًا) (¬3)، قال ابن قتيبة: (أي: كلوا مما رزقكم الله {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}) (¬4). قال الفراء: (الذكر زوج، والأنثى زوج) (¬5)، وهو قول ابن عباس: (يريد: بالزوج الواحد الذكر (¬6) زوج، والأنثى زوج) (¬7). وقال ابن قتيبة: (والثمانية الأزواج: الضأن، والماعز، والإبل، والبقر، [فالضأن والماعز ذكرا في هذه الآية، والإبل والبقر (¬8)] فيما ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" 2/ 68، قال: (ظاهر العداوة يأمركم بتحريم الحرث والأنعام). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 299، وهو قول الطبري في "تفسيره" 8/ 65. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 359. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 339، وفيه: (وإن شئت جعلته منصوبًا بالرد إلى الحمولة، والفرش تبيينا لها) ا. هـ، وبعضهم قدر: وأنشأ ثمانية أزواج، أو كلوا لحم ثمانية أزواج، انظر: "معاني الأخفش" 2/ 289، و"إعراب النحاس" 1/ 586، و"المشكل" 1/ 275، و"البيان" 1/ 345 - 346، و"التبيان" 361، و"الفريد" 2/ 241، و"الدر المصون" 5/ 192. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 359، وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 299: (والزوج في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر) ا. هـ، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 505. (¬6) في (ش): (يريد بالزوج: الذكر الواحد زوج، وبالأنثى: زوج). (¬7) لم أقف عليه. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).

بعدها، قال: وإنما جعلها ثمانية وهي أربعة؛ لأنه أراد ذكرًا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج، والأنثى زوج، يقع على الواحد وعلى الاثنين (¬1)، ألا ترى أنك تقول للرجل: زوج وهو واحد، وللمرأة زوج وهي واحدة، وقال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45]) (¬2). وقوله تعالى: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} يعني: الذكر والأنثى، والضأن: ذوات الصوف من الغنم (¬3). قال الزجاج: (وهي جمع ضائن وضائنة مثل: تاجرٍ وتَجرٍ) (¬4)، وتجمع الضأن أيضًا (¬5): الضِّئين والضَّئين بالكسر والفتح (¬6). ¬

_ (¬1) قال ابن الأنباري في "الأضداد" ص 373 - 375: (من ادعى أن الزوج يقع على الاثنين، فقد خالف كتاب الله جل وعز، وجميع كلام العرب إذ لم يوجد فيهما شاهد له، ولا دليل على صحة تأويله. وإنما يقال للاثنين: زوجان، قال الله عز وجل {ثمانية أزواج} الآية فكان المعنى: ثمانية أفراد أنشأ من الضأن اثنين، وكذلك ما بعدهما، فالأزواج معناها: الأفراد لا غير) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 515 - 517، و"الزاهر" 2/ 198 (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 339 - 340، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 289، و"تهذيب اللغة" 2/ 1575، و"اللسان" 3/ 1885 مادة (زوج). وقد ذكر الأخفش في "معانيه" والطبري في "تفسيره" 8/ 65: (أنه يقال للاثنين: هما زوج). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2083. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 299، وفيه: (والضأن: جمع ضائن وضَأن مثل تاجر وتَجْر). (¬5) لفظ: (أيضاً) ساقط من (أ). (¬6) أي: بكسر الضاد وفتحها، قال القرطبي في "تفسيره" 7/ 113 - 114: (الضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن، والأنثى ضائنة والجمع ضوائن وقيل: هو جمع لا واحد له، وقيل في جمعه: ضئين كعَبْد وعبيد، ويقال فيه: ضِئين، كما يقال في شَعير: شِعير، كسرت الضاد إتباعًا) ا. هـ وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 289، و"معاني النحاس" 2/ 505، و"اللسان" 4/ 2542 (ضأن) =

وقوله تعالى: {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} وقرئ (المعز) (¬1) بفتح العين، والمَعْز والمَعَزُ ذوات الشعر من الغنم، ويقال للواحد: مَاعِز، وتجمع مِعزى ومَعِيزًا (¬2) وحكى أبو زيد: (الأمعوز) (¬3). وأنشد: كالتَّيْسِ في أَمْعُوزِهِ المُتَرَبَّلِ (¬4) وقالوا (¬5): المعيز كالكَليب والضئين، قال: وَيَمْنَعها (¬6) بنو شَمَجَى بن حَزْمٍ (¬7) ... مَعِيزُهُمُ حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ ¬

_ = و"البحر المحيط" 4/ 235، و"الدر المصون" 5/ 193 - 194. (¬1) قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو: (ومن المَعَز) بفتح العين، وقرأ الباقون: بسكون العين. انظر: "السبعة" ص 271، و"المبسوط" ص 176، و"الغاية" ص 251، و"التذكرة" 2/ 412، و"التيسير" ص 108، و"النشر" 2/ 216. (¬2) النص في "تهذيب اللغة" 4/ 3420 (معز). وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 289. (¬3) جاء في "النوادر" لأبي زيد ص 78، (والأُمْعُوز: القطيع من الضباء) اهـ، وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3421، وأبو علي في "الحجة" 3/ 419، عن أبي زيد، وانظر: "اللسان" 7/ 4232 (معز). (¬4) هذا عجز بيت لربيعة بن مقروم الضبي، وصدره: أَخْلَصْتُهُ صُنْعًا فآضَ مُحَمْلَجَا وهو في "النوادر" ص 77، و"الحجة" لأبي علي 3/ 419، و"الدر المصون" 5/ 194، وقوله: محملجا: أي كثير اللحم، يقال للعير الذي دوخل خلقه اكتنازًا: محملج. انظر: "اللسان" 2/ 1006 (حملج)، وقوله: المتربل: الذي قد أكل الربل، وهو ضرب من الشجر. انظر: "اللسان" 3/ 1572 (ربل). (¬5) العبارة في "الحجة" 3/ 419، وكليب جمع كلب، وضئين جمع ضأن، انظر: "الدر المصون" 5/ 193. (¬6) الشاهد لامرئ القيس في "ديوانه" ص 169، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 587، و"الحجة" لأبي علي 3/ 419، و"تفسير القرطبي" 7/ 114، و"الدر المصون" 5/ 194، وقوله: وحنانك ذا الحنان، يعني: رحمتك يا ذا الرحمة. (¬7) كذا في الأصل، وفي سائر المراجع السابقة، (ابن جرم)، بدل حزم وهو =

وقال ابن شميل: (المِعْزى والمَعْزُ والمعيز للذكور والإناث) (¬1)، فمن قرأ (المعَز) بفتح العين فهو جمع ماعز، مثل خادم وخَدَم، وطالبٍ وطَلَبٍ، وحارس وحَرَسٍ، ومن قرأ بسكون العين فهو جمع أيضًا، جمع ماعز عليه، كما قالوا: صاحِب وصَحْب، وتَاجرٍ وتَجْرٍ، وراكبٍ ورَكْب (¬2). وأما انتصاب (اثْنَيْنِ) فمحمول على (أنشأ) [الأنعام: 141]، التقدير: (¬3) أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من كذا اثنين ومن كذا اثنين، قاله أبو علي (¬4). وقوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} نصب (الذكرين) (¬5) بقوله (حَرَّمَ) والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله (¬6). قال المفسرون: (إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يقولون: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}، {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} الآية [الأنعام: 139] كما أخبر الله تعالى عنهم في الآيات التي ¬

_ = المشهور، وبنو شمجى -بالفتح- بن جَرْم: حي من قُضاعة. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد ص 394، و"اللسان" 4/ 2321 (شمج). (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3421، وانظر: "الجمهرة" 2/ 817، و"الصحاح" 3/ 896 (معز). (¬2) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 418 - 419، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 392، و"إعراب القراءات" 1/ 172، و"الحجة" لابن خالويه ص 152، ولابن زنجلة ص 275، و"الكشف" 1/ 456. (¬3) قوله: (التقدير أنشأ) مكرر في (ش). (¬4) "الحجة" لأبي علي 3/ 418 - 419، وذهب الأكثر إلى أنه بدل من {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}. انظر: "الكشاف" 2/ 56 - 57، و"البيان" 1/ 346، و"التبيان" 361، و"الفريد" 2/ 241، و"الدر المصون" 5/ 193. (¬5) في (أ): (الذكر)، وهو تحريف. (¬6) أي الذكرين: مفعول به مقدم لحرم. انظر: "الدر المصون" 5/ 195.

مضت أنهم كانوا يحرمون أجناسًا من النعم بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فاحتج الله عليهم في هذه الآية والتي بعدها، فقال: يُقايسهم في تحريم ما حرموا: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ} من الضأن والمعز حرم الله عليكم {أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}؟ فإن كان حرّم من النعم ذكورها فكل ذكورها حرام، وإن كان حرّم الأثنيين فكل الإناث حرام (¬1). وقال الفراء: (يقول: أجاءكم التحريم فيما حرمتم من الذكرين أم من الأنثيين؟ فلو قالوا: من قبل الذكر حرم كل ذكر، ولو قالوا: من قبل الأنثى (¬2)، حرمت كل أنثى) (¬3). وقوله تعالى: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، ما في موضع نصب، نصبته باتباعه (¬4) الذكرين والأنثيين يقول: وإن كان ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من المعز والضأن فقد حرم الأولاد، وكلها أولاد، فكلها حرام، قاله الزجاج (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره عن المفسرين: الثعلبي في "الكشف" 185 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 197، والرازي 13/ 217، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 68، من عدة طرق جيدة، عن ابن عباس، ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد نحوه، وهو قول الزجاج في "معانيه" 2/ 299، والنحاس في "معانيه" 2/ 505، والنص أصله لابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص340 - 341. (¬2) في (أ): (أنثى). (¬3) "معاني الفراء" 1/ 360. (¬4) هذه عبارة الفراء في "معانيه" 1/ 360, وأم عاطفة، وما موصولة في محل نصب معطوف علي الأنثيين. انظر: "الدر المصون" 5/ 195. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 299.

وقال الفراء: (يقول: أحرّم عليكم من قِبل اشتمال الرحم، فلو قالوا ذلك لحرم عليهم الذكر والأنثى؛ لأن الرحم يشتمل على الذكر والأنثى) (¬1). وقال ابن قتيبة: (يقول: فإن كان التحريم من جهة اشتمال الرحم، فالأرحام تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فكل جنين حرام) (¬2)، وهذه الأقوال معناها واحد، وذكرتها لزيادة البيان. قال مجاهد: (يقول: إنما الأنعام ثمانية أزواج، فمن أين جاء التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى، أما اشتملت عليه الأرحام، وهي لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فإن قالوا: من قبل الأنثيين، جاء التحريم، حرم عليهم كل أنثى. فإن قالوا: من قبل الذكرين، حرم عليهم كل ذكر، وعرفوا أن الأرحام لا تشتمل (¬3) إلا على ذكر أو أنثى، فلم تحرّمون بعضًا وتحلون بعضًا؟) (¬4). وهذا معنى قول ابن عباس (¬5) والكلبي (¬6) ومقاتل (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 360. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 341. (¬3) لفظ: (لا تشتمل) ساقط من (أ). (¬4) لم أقف عليه عن مجاهد، وأخرجه الطبري 8/ 66، عن ابن جريج فقط. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 67، وابن أبي حاتم 5/ 1403 بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 95. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 68 - 69، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 569 عن الكلبي. (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 594.

144

وقوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} قال أبو إسحاق: (أي: فسّروا ما حرّمتم بعلم، أي: فأنتم لا علم لكم؛ لأنكم لا تؤمنون بالكتاب) (¬1). 144 - قوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ} إلى قوله {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} مفسر في الآية الأولى. قال أبو إسحاق في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} (أي: هل شاهدتم الله قد حرّم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول) (¬2). وقال ابن قتيبة: ({أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} حين أمر الله بهذا، فتكونون على يقين، فلما لزمتهم الحجة ولم تكن عندهم علّة موجبة لتحريم ما حرّموا، بيّن الله تعالى أنهم فعلوا ذلك كذبًا على الله في قولهم، كذا أمرنا الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬3)، قال ابن عباس: (يريد: عمرو بن لُحيّ ومن جاء بعده، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [قال: يريد: المشركين (¬4)]) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 299، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 2/ 506، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 67. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 299، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 360، و"معاني النحاس" 2/ 506. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 341، وفيه: (أي: حين أمر الله بهذا فتكونون على يقين؟ أم تفترونه عليه وتختلقونه؟ توبيخ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}) اهـ. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 132، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 139، والرازي 13/ 217، وذكره بدون نسبة البغوي في "تفسيره" 3/ 198، والخازن 2/ 132، وابن كثير 2/ 205، والآية عامة يدخل فيها كل من أدخل في دين الله تعالى ما ليس فيه, وأول من يدخل في هذا الوعيد عمرو بن لحي؛ لأنه أول من =

145

145 - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، قال المفسرون: (بيّن الله تعالى أن المحرمات مما يُطعم ما ذكر في هذه الآية، لا ما حرموا هم على أنفسهم) (¬1). وقال أبو إسحاق: (أعلم الله تعالى أن التحريم والتحليل إنما ثبت بالوحي والتنزيل، فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}) (¬2)، [أي: شيئًا محرمًا] (¬3)، {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}: على آكل يأكله. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} أي: إلا أن يكون المأكول ميتة، أو إلا أن (¬4) يكون الموجود ميتة يُضمر اسم كان مما تقدم، وقرأ (¬5) ابن كثير وحمزة (إلاَّ أَن تَكُونَ) بالتاء (ميتة) نصبًا على تقدير: إلاَّ أن تكون العين أو النفس أو الجُثة ميتةً تضمر للمحرّم اسمًا مؤنثًا، ألا ترى أن المحرم لا يخلو من جواز العبارة عنه بأحد هذه الأشياء، وقرأ ابن عامر (إلا أن تكون) بالتاء (ميتة) بالرفع على معنى: إلاّ أن تقع ميتة أو تحدث ميتة (¬6). ¬

_ = غير دين الأنبياء، كما سبق بيانه في ترجمته، وذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره". وانظر: "تفسير مبهمات القرآن" 1/ 471. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 69، والسمرقندي 1/ 520. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 300، وانظر: "معاني النحاس" 2/ 507. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬4) لفظ: (أن)، ساقط من (ش). وانظر: "معاني الفراء" 1/ 360، و"إعراب القرآن" 1/ 588. (¬5) قرأ ابن عامر، وابن كثير وحمزة (إلا أن تكون) بالتاء، والباقون بالياء، وقرأ ابن عامر (ميتة) بالرفع، والباقون بالنصب. انظر: "السبعة" ص 272، و"المبسوط" ص 176، و"التذكرة" 2/ 412، و"التيسير" ص 108، "النشر" 2/ 266. (¬6) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 423 - 424، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 392 - 393، و"إعراب القراءات" 1/ 172، و"الحجة" لابن زنجله ص 276, =

وقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قال ابن عباس: (مُهراقًا) (¬1)، وقال الضحاك: (سائلًا) (¬2)، والسفح كالصبّ، يقال: سفح الدم والدمع سفحًا، وسفح (¬3) هو سفوحًا إذا سأل. وأنشد أبو عبيدة (¬4) لُكثَيِّر: أَقولُ وَدَمْعي واكفٌ عِنْد رَسمها ... عَلَيكِ سَلاَمُ الله والدمعُ يَسْفَحُ (¬5) قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح) (¬6). ¬

_ = و"الكشف" 1/ 456 - 457. (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 71، وابن أبي حاتم 5/ 1406 بسند جيد. (¬2) لم أقف عليه بعد طول بحث، وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص 143، وابن قيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 162، ومكي في "تفسير المشكل" ص 81. (¬3) في (أ) (وسفح وهو سفوحًا)، وقاله الواحدي في "الوسيط" 1/ 132: (يقال: سفح الدم والدمع سفحا إذا صبه، وسفح هو سفوحًا إذا سأل) ا. هـ وانظر: "العين" 3/ 147، و"الجمهرة" 1/ 532، و"تهذيب اللغة" 2/ 1699، و"الصحاح" 1/ 375، و"المجمل" 2/ 464، و"اللسان" 4/ 2023 مادة (سفح). وقال السمين في "الدر" 5/ 198: (السفح: الصب، وقيل: السيلان، وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصرًا ومتعديًا، يقال: سفح زيد دمعه، ودمه، أي: أهراقه، وسفح هو، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر، ففي المتعدي، يقال: سَفْح. وفي اللازم يقال: سُفُوح) اهـ. (¬4) لم يرد في "مجاز القرآن"، وذكره عن أبي عبيدة الرازي في "تفسيره" 13/ 122، والسمين في "الدر" 5/ 198، وقال ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص 25 - 26، و"الزاهر" 2/ 166: (مسفوحًا، أي: مصبوبًا)، ثم أنشد الشاهد. (¬5) "ديوان كثير عزة"، و"تفسير الرازي" 13/ 122، و"الدر المصون" 5/ 198، وكف بالفتح أي: سأل، وفي الديوان: أقولُ ونِضْوِي وَاقِفٌ عند رمْسِها ... عليك سلام الله والعين تنفح (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 132، والبغوي في "تفسيره" 3/ 198، والرازي 13/ 122.

قال أهل العلم: (فلا يدخل في هذا الكبد والطحال لجمودهما ولا ما يختلط باللحم [من الدم فإنه غير سائل والله تعالى حرّم السائل منه) (¬1) , وسئل أبو مجلز (¬2) عما يتلطخ من اللحم] (¬3) بالدم، وعن القدر يرى فيها الدم، فقال: (لا بأس به، إنما نهي عن الدم [المسفوح) (¬4). وهو قول عكرمة (¬5) وإبراهيم (¬6) وقال أبو إسحاق] (¬7): (المسفوح: المصبوب، وكانوا إذا ذبحوا أكلوا الدم كما يأكلون اللحم) (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 124، وقال: (وعليه إجماع العلماء) اهـ، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 765، و"الفتاوى" 17/ 179، وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 97، وابن ماجه رقم (3314)، والدارقطني في "سننه" 4/ 272، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" 8/ 164 (2526). (¬2) أبو مجلز: لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي البصري، إمام تابعي، ثقة مشهور بكنيته، توفي سنة تسع ومائة 109هـ، وقيل: قبل ذلك. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 124، و"تهذيب التهذيب" 4/ 335، و"تقريب التهذيب" (7490) ص 586. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 71، 72، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 97. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 220، والطبري 8/ 71، 72، وابن أبي هاشم 5/ 1407 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 97. (¬6) قول إبراهيم النخعي، ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص 185 ب، والبغوي 3/ 198, والقرطبي 7/ 124، والخازن 2/ 195. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 300.

وقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} نسق على (¬1) {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} قال ابن عباس: (يريد: كل ما ذبح على النصب) (¬2). قال الزجاج: (فسمى ما ذكر عليه غير اسم (¬3) الله فسقًا) (¬4)، وهذا من المفعول الذي يسمى بالمصدر، والمراد: ما يفسق به عن الدين، أي: يخرج أكله عن الدين (¬5). فإن (¬6) قيل: المحرمات [من المطعومات] (¬7) أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها؟ والجواب عنه من وجوه أحدها: أن المعنى: لا أجد ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 588، و"المشكل" لمكي 1/ 276، وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 300: (هو عطف على {لَحْمَ خِنْزِيرٍ} المعنى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ} المأكول {مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (أو فسقًا)) اهـ. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 133، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 69، عند قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] بسند جيد، عن ابن عباس قال: (ما أهل به للطواغيت يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى) اهـ. (¬3) في (ش): (فسمى ما ذكر عليه اسم غير الله فسق). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 300، وزاد فيه (أي: خروجًا عن الدين). وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 185: (الضمير في قوله (فإنه) دن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه. أحدها: قربه منه. والثاني: تذكيره دون قوله: (فإنه رجس). والثالث: أنه أتى بالفاء وإن تنبيها على علة التحريم لتزجر النفوس عنه، ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه واستطابته، فنفى عنه ذلك، وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم؛ لأن كونهما رجسًا أمر مستقر معلوم عندهم ..) اهـ. (¬5) انظر: "الدر المصون" 5/ 198. (¬6) في (ش): (قال قيل)، وهو تحريف. (¬7) لفظ: (من المطعومات) ساقط من (أ).

محرمًا مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها، إلا ما ذكر في هذه الآية، وليست البحائر والسوائب من المحرمة بالوحي، وهذا معنى قول مجاهد (1) وطاووس (2). وقال الحسين بن الفضل: (وقت نزول هذه الآية لم يكن يحرم غير ما نص عليه في هذه الآية، ثم وجدت بعد محرمات سوى هذا) (3). وقال عبد العزيز بن يحيى: (يعني: في وحي القرآن، فأما وحي السنة فقد حرّم أشياء كثيرة، وكل ما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجد في القرآن فهو محرّم أيضًا بالوحي؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]) (4). وباقي الآية مفسر فيما مضى (5).

_ (1) ذكره ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 335. (2) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 220، والطبري 8/ 69، وابن أبي حاتم 5/ 1405، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 96. (3) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 220، بدون نسبة. (4) لم أقف عليه وقال القرطبي 7/ 116 - 117، الصحيح أن هذه الآية مكية، وكل محرم حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو جاء في الكتاب مضموم إليها فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر والفقه والأثر) ا. هـ، وهذا القول هو الظاهر -والله أعلم-. وانظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 338، و"الناسخ والمنسوخ" لأبي منصور البغدادي ص 103، و"الإيضاح" لمكي ص 249، و"أحكام القرآن" للكيا الهراس 3/ 245، و"تفسير البغوي" 3/ 198، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي 2/ 218، و"المصفى" لابن الجوزي ص 34، و"الفتاوى" لشيخ الإسلام 21/ 8. (5) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 105 ب.

146

146 - وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية، في الظفر لغات: ظُفُر بضم الفاء وهو أعلاها، وظُفْر بسكون الفاء، وظِفْر بكسر الظاء وسكون الفاء وهو قراءة الحسن (¬1)، وظِفِر بكسرهما (¬2) وهو قراءة أبي السمال (¬3)، ويقال له: أُظُفُور (¬4)، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) ذكرها الثعلبي 185 ب، والرازي، 13/ 223، وأبو حيان في "البحر" 4/ 244، وأكثرهم ذكر سكون الفاء فقط. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 589، و"مختصر الشواذ" ص 41، وابن عطية 5/ 382، والقرطبي 7/ 124 - 125، وقال السمين في "الدر" 5/ 251: (قرأ الحسن (ظفر) بضم فسكون، وفي رواية بكسر فسكون) ا. هـ. بتصرف. (¬2) ذكرها الثعلبي في "الكشف" 185 ب، والرازي في "تفسيره" 13/ 223، والسمين في "الدر" 5/ 201، وأكثرهم ذكر عنه كسر الظاء وسكون الفاء. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 589، و"مختصر الشواذ" ص 41، و"تفسير ابن عطية" 5/ 382، والقرطبي 7/ 124، و"البحر المحيط" 4/ 144. (¬3) في النسخ (ابن السمآل) ونقله الرازي والسمين في "الدر" عن الواحدي بلفظ (أبو السمال)، وهو الصواب كما في المراجع السابقة، وهو: (أبو السمال) بفتح السين المهملة، وتشديد الميم: مشهور بكنيته واسمه مُعتب بن هلال العَدَوي المقرئ البصري، وقيل: اسمه: مغيث. وقيل: قعنب بن أبي قعنب. قال الذهبي في "الميزان" 4/ 142، 158: (له حروف شاذة، لا يعتمد على نقله ولا يوثق به، ضعفه الساجي، وكذبه الأزدي) ا. هـ، وانظر: "غاية النهاية" 2/ 27، و"لسان الميزان" 6/ 60، 74. (¬4) انظر: "التبيان" 362، و"الفريد" 2/ 244، و"الدر المصون" 5/ 251، وقال ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" 337 - 338: (الأظفار كلها مذكرة وفي واحدها ثلاث لغات: ظُفُر بالضم، وهي اللغة العالية، وعليها أكثر الناس، وظفر بضم فسكون، وبها قرأ الحسن، وأظفور بضم الهمزة والفاء وسكون الظاء) اهـ، وفي "اللسان" 5/ 2749، قال: (وأما قراءة ظِافْر بالكسر فشاذ غير مأنوس به؛ إذ لا يعرف ظفر بالكسر) اهـ.

ما بَيْن لُقْمَتِهِ الأُولى إذا انحدرت ... وَبَيْنَ أَخْرَى تَليها قِيدُ أُظْفُورِ (¬1) واختلفوا في {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} المحرم على اليهود: فقال ابن عباس: (هو البعير والنعامة) (¬2)، وهو قول مجاهد (¬3)، واختيار الزجاج (¬4). قال ابن عباس: (النعام ذات ظفر كالإبل) (¬5). وقال قتادة: (كل ذي ظفر ليس بمشقوق الأصابع) (¬6)، وهو قول ابن جريج: (كل ذي ظفر لم يفرج قوائمه من البهائم كالبعير والنعامة والبط والأوز وحمار الوحش، وما تفرّجت قوائمه أكلوه كالدجاج والعصافير) (¬7). ¬

_ (¬1) الشاهد في "الجمهرة" 2/ 762، 1194، أنشدته أم الهيثم غيثة من بني نمر بن عامر بن صعصعة، وبدون نسبة في "كتب الفرق" للأصمعي ص 61، ولأبي حاتم السجستاني ص 28، ولثابت بن أبي ثابت ص 22، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 339، و"تهذيب اللغة" 3/ 2242، و"زاد المسير" 3/ 142، و"اللسان" 5/ 2749، و"بصائر ذوي التمييز" 3/ 536، و"الدر المصون" 5/ 201، و"تاج العروس" 7/ 162 مادة (ظفر). (¬2) أخرجه الطبري 8/ 72، والبيهقي في "سننه" 10/ 8 بسند جيد، وعلقه البخاري في "صحيحه" 8/ 295، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 100. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 226، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 73، من عدة طرق جيدة. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 301، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 73. (¬5) سبق تخريجه، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1410 بسند جيد عن ابن عباس قال: (هو الذي ليس بمتفرج الأصابع، يعني: ليس بمشقوق الأصابع منها الإبل والنعام) ا. هـ، وذكره الحافظ في "فتح الباري" 8/ 2295، وقال: (رواه ابن أبي حاتم، وإسناده حسن) اهـ. (¬6) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 221، والطبري 8/ 73، بسند جيد. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 73، بسند جيد عن ابن جريج عن شيخه القاسم بن أبي بزة المكي وقال السيوطي في "الدر" 3/ 100: (أخرجه أبو الشيخ عن ابن جريج).

وقال عبد الله بن مسلم: (أي: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي حافر من الدواب، كذلك قال المفسرون، قال: وسمى الحافر ظفرًا على الاستعارة كما قال الآخر وذكر ضيفًا: فما رَقَد الوِلْدَانُ حتى رَأَيْتُهُ ... على البَكْرِ يَمْرِيهِ بَساقٍ وحَافِرٍ (¬1) فجعل الحافر موضع القدم) (¬2). وقال عطاء، عن ابنَ عباس: (يريد: الإبل) (¬3)، وهو قول ابن زيد: (هو الإبل فقط) (¬4). وقوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}، قال المفسرون: (يعني: الثُّرُوب (¬5) وشحم الكليتين) (¬6)، وهو معنى قول ابن عباس: (يريد: شحوم الجوف) (¬7). ¬

_ (¬1) البيت لجُبَيْهاء الأسدي يزيد بن عبيد، في "اللسان" 2/ 925 مادة (حفر)، وبدون نسبة في "الحروف" لابن السكيت ص 95، و"الجمهرة" 3/ 1313/ "الصحاح" 3/ 635، و"الصناعتين" ص 301، و"المخصص" 6/ 134، و"المدخل" للحدادي ص 211، وهو لمُزرِّد بن ضرار الغطفاني في "أسرار البلاغة" ص 23. ويمريه، أي: يستخرج ما عنده من الجري، والشاعر يصف ضيفًا أسرع إليه، واستعار الحافر للقدم. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 153. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 223. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 73، بسند جيد، وذكره ابن عطية في "تفسيره" 5/ 382، وقال: (وهذا ضعيف التخصيص) اهـ. (¬5) الثروب: بالضم جمع ثَرْبٍ، وهو الشحم المبسوط على الأمعاء والمصَارين والكَرِش. انظر: "اللسان" 1/ 475 مادة (ثرب). (¬6) انظر: "معاني الفراء" 1/ 363، و"معاني الزجاج" 2/ 301، و"تفسير الطبري" 8/ 74، والبغوي 3/ 200، وابن الجوزي 3/ 142. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 71.

وقوله تعالى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} قال ابن عباس: (إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه) (¬1)، وقال قتادة: (ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما) (¬2). وقوله تعالى: {أَوِ الْحَوَايَا} وهي المباعر والمصارين، واحدتها حاوية, وحَويَّة وحاوياء (¬3)، قال ابن الأعرابي: (هي الحَوِيَّة والحاوِيةُ، وهي الدُّوارة التي في بطن الشاة) (¬4). وقال ابن السكيت: (يقال: حاويةٌ وحوايا مثل زَاوِية وَزَوَايا (¬5) ورَاوية وَرَوَايا، [قال: ومنهم من يقول: حَوِيَّة وحَوايا مثل الحَوِيَّة التي توضع على ظهر البعير ويركب فوقها] (¬6). قال: ومنهم من يقول لواحدتها: حَاوياء) (¬7). وأنشد قول جرير: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 75، وابن أبي حاتم 5/ 1410، والبيهقي في "سننه" 10/ 8 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 100، 101. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 134، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 142، والرازي 13/ 183. (¬3) انظر: "العين" 3/ 318، و"الجمهرة" 1/ 231، و"المجمل" 1/ 254، و"المفردات" ص 271 (حوى). (¬4) "اللسان" 2/ 1063 (حوا)، و"الدر المصون" 5/ 206، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 947 , عن ابن الأعرابي قال: (هي الحَوَايةُ والحاوِية، وهي الدوارة التي في بطن الشاة) اهـ. (¬5) لفظ: (زواية وزوايا) ساقط من (ش). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬7) ذكره الرازي في "تفسيره" 13/ 224، والسمين في "الدر" 5/ 206، عن ابن السكيت، وهذا القول في "تهذيب اللغة" 1/ 947، و"اللسان" 2/ 1063 (حوا)، لأبي الهيثم خالد بن يزيد الرازي.

تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ ... في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعَارِ (¬1) وأنشد ابن الأنباري (¬2): كأَنَّ نفيق الحَبّ في حاويائِهِ ... نفيق الأفاعي أو نفيقُ العقارب (¬3) قال أبو علي الفارسي: (الحوايا واحدتها حوية وحاوياء (¬4) وحاوية، فإن كان جمع حاوية (¬5) أو حاوياء كان فواعل، وإن كان جمع حويّة كان فعائل، فإن قلنا: إنه فعائل، فإنه كان في الأصل حوائي، والهمزة فيها كالهمزة في ترائب وسحائب ونحوها مما هو بين هذا الجنس، واعتراض هذه الهمزة ذكرنا علته في قول {مَعَايِشَ} في سورة الأعراف [: 10] (¬6) في قراءة من همزها، فلما جمعت حوية: حوائي وقعت في الطرف ياء ¬

_ (¬1) "ديوان جرير" ص 313، و"تهذيب اللغة" 1/ 947، و"اللسان" 2/ 163 (حوى)، و"الدر المصون" 5/ 206، وقوله: تضغو، أي: تصيح وتصوت. انظر: "اللسان" 5/ 2593 (ضغا)، والخنانيص جمع الخِنَّوْص: ولد الخنزير. انظر: "اللسان" 3/ 1278 (خنص)، وردوم: جمع ردم، وهو السد والصوت والضُّراط. انظر: "اللسان" 3/ 1628 (ردم)، ومجعار، الجَعْر: ما تيبس في الدبر من العذرة. انظر: "اللسان" 2/ 633 (جعر). (¬2) "الأضداد" لابن الأنباري ص 222، وقال: (ووا حدة الحوايا: حاوياء، وحاوية، وحَوِية) ا. هـ. وانظر: "شرح القصائد السبع" ص 212. (¬3) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص 68، و"اللسان" 2/ 1063 (حوا)، وبدون نسبة في "الصحاح" 6/ 2322، و"مقاييس اللغة" 2/ 112 (حوى) و4/ 437 (فح)، و"زاد المسير" 3/ 143، و"الدر المصون" 5/ 206، وفي "الديوان" (نفيق بدل (فحيح). (¬4) في النسخ: (وحوايا)، وهو تحريف. (¬5) في (ش): (جمع حاويا أو حاويا). (¬6) انظر: "الحجة" لأبي علي 4/ 7.

مكسور (¬1) ما قبلها، فلزم أن تقلب ألفا, إذ (¬2) قلبت فيما ليس قبله حرف اعتلال في هذا الجمع، وذلك قولهم: مداري ومهاري (¬3)، وحروف الاعتلال في حوائي (¬4) أكثر منها في مداري، فإذا قلب في مداري وجب أن يلزم هذا الضرب القلب فيقال: حواءا، فيقع الهمز بين (¬5) ألفين، وهي قريبة من ألف (¬6) فيجتمع حروف متشابهة يُستثقل اجتماعهن، فأبدلت الهمزة ياء [فصار حوايا ومثله مطايا وما كان في هذا القبيل، وأما قلت (¬7): وزنه فواعل قلبتها (¬8)] من حيث همزت عواني (¬9) وأوائل، فلما اعترضت الهمزة فيه قلبتها ياء على ما بينا في فعائل) (¬10). قال قتادة: (أرادوا ما حملت الحوايا) (¬11)، وهو قول ابن عباس: ¬

_ (¬1) في (أ): مكسورة. (¬2) في (أ): (أن قلبت) وعليه علامة خطأ، وجاءت في "الإغفال" ص 779: (إذا قلبت). (¬3) في النسخ: (قولهم: مدارًا ومهارًا)، وفي "الإغفال" (مدارى) فقط. (¬4) في النسخ: (حواى)، وفي "الإغفال" ص 799: (وحروف الاعتلال في مطائي وسمائي أكثر منها في مداري ..) ا. هـ. (¬5) في (أ): (فيقع همز بين ألفين). (¬6) كذا في "النسخ"، وفي "الإغفال" ص 799: (وهي قريبة من الألف). (¬7) كذا في (أ)، والصواب: (وإن قلت)، وفي "الإغفال" ص 804: (وإما فواعل فإنك قلبتها من حيث). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬9) كذا في "النسخ"، وفي "الإغفال" ص 804: (من حيث همزات عوائر وأوائل). (¬10) "الإغفال" ص 798 - 804 بتصرف. وانظر: شرح ذلك في "الدر المصون" 5/ 106، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص 90. (¬11) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبري 8/ 75، 76، من طرق عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي، قالوا: (الحوايا: =

({أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} من الشحم فإني لم أحرمه) (¬1)، و (الحوايا) عطف على الظهور في موضع رفع (¬2)، قال الفراء: (يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير حذف المضاف على أن تريد أو شحوم الحوايا، فتحذف الشحوم ويُكتفى بالحوايا، كما قال {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد: أهلها) (¬3). وحكى ابن الأنباري (¬4) عن أبي عبيد أنه قال: (قلت للفراء: هو بمنزلة قول الشاعر: لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا ما يُؤَنّسُهُ ... باللَّيْلِ إلاَّ نَئيمَ البُومِ وَالضُّوعَا (¬5) ¬

_ = المباعر)، وقال ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص 212: (قال المفسرون: الحوايا: المباعر، واحدها: حاوياء وحاوية) ا. هـ. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هذا قول الطبري 8/ 75، وعليه يكون التقدير: وإلا الذي حملته الحوايا فإنه غير محرم، وقال أبو حيان 4/ 244، والسمين في "الدر" 5/ 203: (هذا هو الظاهر) اهـ. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 363. (¬4) قال ابن الأنباري في "إيضاح الوقت والابتداء" 2/ 645: ({إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} وقف غير تام؛ لأن (الحوايا) منسوقة على الظهور، كأنه قال: إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا) ا. هـ، وانظر: "القطع والائتناف" 1/ 242. (¬5) الشاهد للأعشي في "ديوانه" ص 106، و"اللسان" 5/ 2621 (ضوع)، وذكره السمين في "الدر" 5/ 205، عن ابن الأنباري، والشاعر يصف قلاة. والنئيم: صوت فيه ضعف كالأنين، وهو صوت البوم. انظر: "اللسان" 7/ 4314 (نأم) والضُّوَع: طائر من طير الليل إذا أحصر بالصباح صدح، وقيل: هو ذكر اليوم، والضُّوَع صوته. انظر: "اللسان" 5/ 2620، 2621 مادة (ضوع).

فقال لي: نعم، يذهب إلى أن الضُّوَع عطف على النئيم، ولم يُعطف على البوم كما عطفت (الحوايا) على ما, ولم تعطف على الظهور (¬1). وقوله تعالى: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} يعني: شحم الأَلية، في قول جميع المفسرين (¬2)، قال ابن جريج: (كل شحم في القوائم والجنب والرأس [وفي العينين والأذنين] (¬3). يقولون: قد اختلط بعظم فهو حلال لهم، إنما حُرّم عليهم الثرب وشحم الكلية) (¬4). قال الفراء: (و (ما) في موضع نصب نسقًا على ما في الأولى التي هي نصب بالاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} (¬5)، هذا الذي ذكرنا ¬

_ (¬1) ذكره السمين في "الدر" 5/ 205 - 206 عن الواحدي، وقال بعده: (فمقتضى ما حكاه ابن الأنباري أن تكون (الحوايا) عطفًا على ما المستثناة، وفي معنى ذلك قلق بين) ا. هـ، والنصب في (الحوايا) من وجهين: أحدهما: العطف على ما في قوله (إلا ما حملت). والثاني: العطف على قوله (شحومهما)، وعلى وجه النصب تكون الحوايا محرمة عليهم بخلاف الرفع. انظر: "المشكل" لمكي 1/ 276، و"البيان" 1/ 348، و"التبيان" 1/ 362، و"الفريد" 2/ 244، و"الدر المصون" 5/ 203 - 206. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 134، والرازي في "تفسيره" 13/ 224 عن جميع المفسرين، ورجح الطبري في "تفسيره" 8/ 76، أن المراد شحم الألية والجنب وما أشبه ذلك. (¬3) في (ش): (وفي الأذنين والعينين). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 76، بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 510. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 363، وفيه قال: (ما: في موضع نصب) ا. هـ، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 589: (في هذا أقوال هذا أصحها، وهو قول الكسائي والفراء وثعلب، والنظر يوجبه أن يعطف الشيء على ما يليه، إلا أن لا يصح معناه أو يدل دليل على غيره) ا. هـ واختاره الطبري في "تفسيره" 8/ 73.

قول أكثر أهل التفسير (¬1) في هذه الآية. وقال أبو إسحاق: (قال قومٌ: حرمت عليهم الثروب، وأحل لهم ما حملت الظهور وصارت {الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} نسقًا على ما حُرّم لا على الاستثناء [في قوله {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}] (¬2) المعنى على هذا القول: حُرّمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم، وأُدخلت على طريق الإباحة كما قال عز وجل: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، فالمعنى: كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا، أو اعص هذا، وأو بليغة في هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت: لا تطع زيدًا [وعمرًا] (¬3) فجائز أن تكون [نهيتني] (¬4) عن طاعتهما معًا في حالة، فإن أطعت زيدًا على حدته لم أكن عاصيًا، وإذا قلت: لا تطع زيدًا أو [عمرًا] (¬5) أو خالدًا، فالمعنى: أن هؤلاء كلهم أهل [أن] (¬6) لا يطاع، فلا تطع واحداً منهم، ولا تطع الجماعة، ومثله: جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي، فليس المعنى: إني آمرك [بمجالسة] (¬7) واحد منهم [ولكن معنى أو معنى الإباحة، المعنى: كلهم أهل أن يجالس، فإن جالست واحداً منهم (¬8)] فأنت مصيب، وإن جالست ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 3/ 143 - 144. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) في (أ): (وعمروًا). (¬4) في (ش): (يهتدي)، وهو تحريف. (¬5) في (أ): (عمروًا). (¬6) في (ش): (لأن). (¬7) في (ش): (مجالسة). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).

147

الجماعة فأنت مصيب) (¬1)، هذا كلامه. وقوله تعالى: {ذَلِكَ} أي: ذلك التحريم {جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}، قال مقاتل: (عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء، وأخذهم الربا، واستحالال أموال الناس بالباطل، فهذا البغي) (¬2). وقال الكلبي: ({جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} عاقبناهم بذنوبهم، نظيره: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية [النساء: 160]) (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي: في الإخبار عن التحريم وعن بغيهم (¬4). 147 - قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} قال الكلبي: (وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للمشركين: هذا ما أوحي إليَّ مما كان محرمًا على اليهود، وما حُرّم على المسلمين في الآية الأولى، وقالوا له: ما أصبت وكذبوه، فقال الله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} فيما تقول {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}، لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ}: عذابه إذا جاء الوقت، {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يعني: الذين كذبوك بما تقول) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 301 - 302، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 145: (الأحسن في الآية إذا قلنا أن ذلك معطوف على (شحومهما) أن تكون أو فيه للتفصيل، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم) ا. هـ، وانظر: "الدر المصون" 5/ 204 - 205. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 595. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 71، والمعنى متقارب. وانظر: "تفسير الطبري" 12/ 206, و"معاني النحاس" 2/ 513، و"تفسير السمرقندي" 1/ 521، والبغوي 3/ 200, وابن الجوزي 3/ 144، وابن كثير 2/ 186. (¬4) انظر: المراجع السابقة. (¬5) لم أجد من ذكر هذا السبب في نزول الآية، وفي "تنوير المقباس" 2/ 71، نحوه في شرح الآية.

148

وقال ابن عباس: (يريد: الملحدين) (¬1). 148 - قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية. أخبر الله تعالى عنهم بما سيقولونه (¬2) إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك بالله، وتحريم ما لم يحرمه الله. وقوله تعالى: {وَلَا آبَاؤُنَا} عطف على المضمر المرفوع في {أَشْرَكْنَا} من غير توكيد للمضمر وهو قبيح لولا قوله: (ولا)، فإنه قام مقام تأكيد المضمر (¬3)، وهذه المسألة قد مضت بالاستقصاء (¬4). قال المفسرون (¬5) (إن المشركين جعلوا قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} حجة لهم على إقامتهم على الشرك، فقالوا: إن الله رضي منا ما نحن عليه، وأراده منا، وأمرنا به، ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه، فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال ابن عباس: (يريد: الذين من قبل قومك كذبوا أنبيائهم، وقالوا مثل ما قال هؤلاء) (¬6). فإن قيل: لم كذبوا في إضافة مشيئة شركهم إلى الله؟ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (أ): (بما سيقولو إذا لزمتهم). (¬3) انظر "معاني الزجاج" 2/ 302، و"إعراب النحاس" 1/ 590، وقد ذهب الكوفيون إلى أنه: يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل نحو (قمت وزيد). وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا على قبح في ضرورة الشعر. وأجمعوا على أنه إذا كان هناك توكيد أو فصل فإنه يجوز معه العطف من غير قبح. انظر: الكتاب 2/ 277، و"الإنصاف" 380، و"الدر المصون" 5/ 210. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر "تفسير الطبري" 8/ 780، السمرقندي 1/ 522، البغوي 3/ 201. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 72، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 145.

قيل: إنهم لم يكذبوا في ذلك، ولو كذبوا في قولهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}، لقيل: {كَذَلِكَ كَذَّبَ} بالتخفيف (¬1)، ولكن المعنى: كما [كذبك هؤلاء] (¬2)، كذب كفار الأمم الخالية أنبياءهم، ولم يتعرض لقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}، ولكن قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} لا يكون حجة لهم على أن ما هم عليه من الدين حق؛ لأن الأشياء كلها تجري بمشيئة الله تعالى، فلو كانوا على صواب؛ لأن ذلك بمشيئة الله تعالى لكان من خالفهم أيضًا وجب أن يكون عندهم على صواب؛ لأنهم أيضًا على ما شاء الله، فينبغي أن لا يقولوا إنهم ضالون، فبان أنه لا حجة لهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وإن كان الأمر على ما قالوا؛ لأنهم تركوا أمر الله وتعلقوا بمشيئته، وأمر الله تعالى بمعزل عن إرادته؛ لأنه مريد لجميع الكائنات، غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتبعه، وليس له أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر [بما يجب عليه] (¬3) الانتهاء إليه، وهذا معنى ما ذكره أبو إسحاق (¬4) وغيره من العلماء (¬5). ¬

_ (¬1) القراءة المشهورة {كَذَلِكَ كَذَّبَ} بتشديد الذال، قال الطبري في "تفسيره" 8/ 79: (ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} لقال: (كَذَلِكَ كَذَبَ الذين من قبلهم) بتخفيف الذال، وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله لا إلى التكذيب ..) ا. هـ، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 201، وابن عطية 5/ 388، والرازي 13/ 325. (¬2) لفظ: (كذبك هؤلاء)، ساقط من (ش). (¬3) في (ش): (بعد ورود الأمر لما يجب الانتهاء إليه). (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 302. (¬5) ومنهم: الطبري في "تفسيره" 8/ 78، 79، والنحاس في "معانيه" 2/ 513 - 514، والثعلبي في "تفسيره" ص 185 ب، والبغوي 3/ 201.

وقال أبو علي الجرجاني: (احتج (¬1) المشركون بأنهم أشركوا بمشيئة الله، والمراد بالمشيئة هاهنا: الأمر، وترك النهي لا الإرادة التي يقولها المؤمنون، أيضًا أن الشرك وكل كائن فهو بمشيئته، وإنما يكون لهم تعلق بهذا إذا أرادوا بالمشيئة الأمر، ألا ترى أن رجلاً لو كان معه حدث فعوتب عليه فقال: لو شاء فلان لم أفعله (¬2) لم يكن له في ظاهر هذا القول عذر، ولا تعلق إلا أن يعني به أنه أمره به، ومن عادة العرب الجارية بينهم في المحاورات إذ أمر الرجل بشيء ففعله، فيتم عليه الأمر وعاتبه عليه أن يقول له: لو شئت أنت لم أفعله، أي: أنك أنت أمرتني به فلمَ تنكره عليّ ولو نهيتني عنه لم أفعله، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن هذا محمول على الأمر قوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143]، وهذا يدل على أنهم أضافوا ذلك التحريم إلى أن الله تعالى أمرهم به لا إلى مشيئته. ولو أضافوا ذلك إلى المشيئة لقال عز وجل في الإنكار عليهم: قل أتحريم الذكرين شاء لكم أم تحريم الأنثيين، وكذلك قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144]، وهل تكون التوصية إلا أمرًا ظاهرًا لا مشيئة باطنة، ولم يكن الله ليطالبهم بأن يكونوا شهداء بمشيئته، ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144] يعني قولهم (¬3): إن الله أمرنا بتحريم هذه الأنعام، وكذلك قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150] أي: أمر بتحريمه فلما دلت هذه الآيات على أنهم أضافوا ما كانوا عليه إلى أن الله تعالى ¬

_ (¬1) في (أ): (حين احتج المشركون). (¬2) في (ش): (يفعله). (¬3) لفظ (قولهم)، ساقط من (أ).

أمرهم به كان. قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} أي: لو نهانا عن الشرك ولم يأمرنا به {مَا أَشْرَكْنَا}، فأضافوا شركهم إلى أمره، كما أضافوا التحريم، وقد صرح الله تعالى بهذا الذي ذكرنا في الإخبار عنهم في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فالمرجع على ما رتبنا وبيّنا في تأويل قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وجميع ما يتصل به إلى أنهم ادَّعوا على الله أنه أمرهم به، فكذّبهم الله في ادعائهم أمره بذلك، لا أنه كذبهم في إضافتهم مشيئة ما هم فيه إليه، ومما جاء في القرآن، من مثل هذا قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} إلى قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]، فهذا تبكيت لهم على قولهم (سَيُغْفَرُ لَنَا) (¬1)؛ لأن الكذب لا يقع إلا فيه مما ذكر في (¬2) هذه الآية، ومعنى قولهم {سَيُغْفَرُ لَنَا} أنهم ادّعوا أن الله وعدهم أن يغفر لهم، فكذّبهم الله تعالى في ادعائهم الوعد، ولا يحسن حمله إلا على هذا الوجه؛ لأنه لا يحسن أن ينكر عليهم حسن الظن بالله في الغفران وحسن الظن غير مذموم) (¬3). وقال أبو بكر بن الأنباري: (إنما عابهم الله تعالى بردّ المشيئة إليه حن استهزءوا واحتجوا على المؤمنين، وضَعّفوا أمر الرسل بردّ المشيئة إلى الله فقالوا للمؤمنين: ما نحتاج إلى اتباع الرسل؛ لأن الذي نحن عليه بمشيئة ¬

_ (¬1) في (ش): (لهم بدلًا من (لنا). (¬2) لفظ: (في) ساقط من (ش). (¬3) لم أقف عليه عن أبي علي الجرجاني.

ربنا، وعلى أنه لو شاء نقلنا عنه، فلما لم يقولوه على جهة التعظيم لله [وقالوه] (¬1) طاعنين على المسلمين، ومضعّفين أمر الأنبياء نعاه الله عز وجل عليهم وبيّن جهلهم فيه) (¬2). وهذا قول الحسين بن الفضل: (أنهم قالوا هذه المقالة تكذيبًا وتخرّصًا وجدلًا من غير معرفة بالله وبما يقولون، ولو قالوها تعظيمًا وإجلالًا لله ومعرفة منهم به لما عابهم الله بذلك؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، والمؤمنون يقولونه، ونظير هذا قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] قال الله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] أي: قولهم هذا من غير علمٍ منهم بالله، والمؤمنون يقولونه بعلم بالله منهم) (¬3). وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، قال ابن عباس: (أي: من كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرّمتم) (¬4)، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن، لا العلم واليقين {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} وما أنتم إلا خارصين، كاذبين، والمراد بلفظ الاستقبال: الاسم كما تقول: رأيته يصلي، أي: مصليًا، ويأكل أي: ¬

_ (¬1) في (ش): (وقالوا). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف" 185 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 201، والخازن 2/ 197، وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 387: (قال بعض المفسرين: إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء، وهذا ضعيف) اهـ. (¬4) ذكره الوحدي في "الوسيط" 1/ 136، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 145 بدون نسبة.

149

آكلاً، ونظير هذا قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، وقد مضى في هذه السورة. 149 - قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} قال الزجاج: (حجته البالغة تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون أجمعون) (¬1)، وهذا معنى قول المفسرين: لله الحجة البالغة بالكتاب والرسول والبيان (¬2). {فَلَوْ (¬3) شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} هذا يدل على أنه ما شاء إيمان الكافر ولو شاء لهداه، والقدرية يحملون هذه الآية ونظائرها على الإلجاء، وذلك باطل من وجوه: أحدها: أن هذا عدول عن الظاهر، والظاهر لا يدل على أن المراد لو شاء لألجأهم إلى الإيمان حتى يؤمنوا. والثاني: أن عندهم الله تعالى أراد أن يؤمن الخلق اختيارًا لا اضطرارًا، فإذا لم يؤمنوا أختيارًا حتى يلجئهم لم يرتفع مراده. والثالث: أنهم بعد الإلجاء يجوز أن يصبروا على مقاساة الشدة ولا يؤمنوا فلا يرتفع أيضًا مراده كمن صبر على مطالبة ما يقدر على أدائه حتى يهلك، وأيضًا فإن هذا الإلجاء إذا قدر الله تعالى عليه ولم يفعل حتى يؤمنوا فشركهم كان بإرادته؛ لأن عندهم لا يجوز أن يدخر الله تعالى شيئًا عن ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 303. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 79، و"معاني النحاس" 2/ 514، و"تفسير السمرقندي" 1/ 522، والبغوي 3/ 202. (¬3) في النسخ: (ولو شاء) بالواو، وقد جاء ذلك في سورة النحل، الآية 9 قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.

150

الخلق (¬1) لو فعله لآمنوا، فإذا كان إيمانهم إنما يحصل بالإلجاء ثم لم يفعل فقد أراد شركهم (¬2). 150 - قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} الآية، قال الليث: (هَلُم كلمة دعوة إلى شيء، الواحد والاثنان والجميع والذكر والأنثى فيه سواء، إلا في لغة بني سعد (¬3) فإنهم يحملونه على تصريف الفعل يقولون: هَلُمَّا هَلُمُّوا) (¬4)، ونحو ذلك قال ابن السكيت فيما أخبرناه أبو الفضل العروضي، [أخبرنا] (¬5) الأزهري، عن المنذري، عن الحَرَّاني، عنه يقول: (هَلُمَّ يا رجل، وكذلك للاثنين والجميع والمؤنت مُوَحَّد، قال الله عز وجل: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} [الأنعام:150] وقال عز وجل: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب: 18] ولغة أخرى يقال للاثنين: هَلُمَّا , وللجميعِ: هَلُمُّوا، وللمرأة: هَلُمِّي، وللاثنين: هلُمَّا , وللجميع: هَلُمْنَ، والأول أصح وإذا قال لك: هَلُمَّ إلى كذا، قلت: [إلاَمَ أَهَلُمُّ، وإذا قال لك: هَلمُّ كذا قلت: (¬6)] لا أَهَلُمُّه مفتوحة الألف والهاء، أي: لا أعطيكه) (¬7) انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) في (ش): (على الخلق). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 202، وابن عطية 5/ 390، والرازي 13/ 325، 326. (¬3) بنو سعد: هم بنو سعد العشيرة، حي من كهلان من القحطانية، وهم بنو سعد العَشيرة ابن مالك، وهو مذحج بن أَدد بن يزيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. انظر: "الاشتقاق" ص 397، و"نهاية الأرب" ص 268. (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3788، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 208. (¬5) في (أ): (انباء). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬7) "إصلاح المنطق" ص 290, وبعضه في "تهذيب اللغة" 4/ 3788, وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" 2/ 120 - 121.

قال النحويون: (¬1) (هلم على اللغة الأولى لا تصرف له وهو بمنزلة نعم وبئس، وإذا زال التصرف لم يبن عليه في الجواب إلا أهلم (¬2) وأهلم فإن هذا تصرف، وإنما تصرف هذا إلى اللغة الثانية المجراة (¬3) مجرى الأفعال المتصرفة في التثنية والجمع). فأما أصل هذه الكلمة وإعرابها، فقال الخليل وسيبويه: (إنها هاء ضمت إليها لُمّ، ومعنى لمّ، أي: جمع، ويكون معنى: ادنُ، يقال: لفلان لمه، أي: دنو، ثم جعلتا كالكلمة الواحدة) (¬4). وقال الفراء: (أصلها هل أُمَّ، أرادوا بهل: أقبل، وأُم، أي: اقصد) (¬5)، وهذا قول ابن دريد أيضًا (¬6). وقال أبو إسحاق: (وفتحت هلم (¬7)؛ لأنها مدغمة كما فتحت رُدَّ في الأمر لالتقاء الساكنين، ولا يجوز فيها هَلُمَّ بالضم كما يجوز في رُد بالضم (¬8) لأنها لا تتصرف). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 290، و"تأويل مشكل القرآن" ص 557، و"المقتضب" 3/ 202 - 203، و"الأصول" 1/ 141 - 146، و"حروف المعاني" للزجاجي ص 73 - 74، و"الخصائص" 3/ 35 - 37، و"الصاحبي" ص 279، و"المشكل" 1/ 277، و"البيان" 1/ 348، و"التبيان" 1/ 363. (¬2) في (أ): (في الجواب لا أهلم أو أهلم). وقد ضبط إلا أهلم بفتح الهاء، وضم اللام وأهَلِم: بكسر اللام. (¬3) في (ش): (والمجراة)، بالواو. (¬4) انظر: "الكتاب" 3/ 529 و3/ 332 و1/ 246. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 203. وانظر: "الصاحبي" ص 279. (¬6) "جمهرة اللغة" 2/ 988. (¬7) في (ش): (هل)، وهو تحريف. (¬8) في "معاني الزجاج" 2/ 303: (كما يجوز في رد: الفتح والضم والكسر؛ لأنها لا تتصرف) ا. هـ، وانظر: "إعراب النحاس" 2/ 105.

قال أبو علي الفارسي: (اعلم أن في قولنا: هلم، لغتين، إحداهما: وهو قول أهل الحجاز ولغة التنزيل: أن تكون في جميع الأحوال للواحد والواحدة والاثنين والثنتين، والجماعة من الرجال والنساء على لفظ واحد، لا يظهر فيه علامة تثنية ولا جمع، فيكون بمنزلة رُوَيْدَ وصَهْ ومَهْ ونحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال، وتستعمل للواحد والجميع والتأنيث والتذكير على صورة واحدة، والأخرى: أن تكون بمنزلة رُدَّ في ظهور علامات الفاعلين على حسب ما يظهر في رُدّ وسائر ما أشبهها من الأفعال، فأما الهاء اللاحق بها أولاً فهي من هَاء التي للتنبيه لحقت أولًا؛ لأن لفظ الأمر قد يحتاج له إلى استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر، فهو لذلك (¬1) يقرب من المنادى، ومن ثم دخل حرف التنبيه في قوله: (ألا (¬2) يسجدوا) [النمل: 25]، ألا ترى أنه أمر كما أن [هذا أمر] (¬3) إلا أنه كثر الاستعمال مع هاء، فغير بالحذف؛ لكثرة الاستعمال كأشياء [تغير] (¬4) لذلك بالحذف نحو: لم أُبَلْ (¬5) ولا أَدْرِ ولم يَكْ، وما أشبه ذلك مما يُغير للكثرة، ومما حسن حذف الألف من ها في هلم أنها في موضع كان يجب ¬

_ (¬1) في (ش): فهو كذلك. (¬2) جاء في النسخ (أَلَا يَا اسْجُدُوا)، وقد قرأ الكسائي بتخفيف اللام ووقف (أَلاَ يَا) ثم ابتدأ (اسْجُدُوا) وقرأ الباقون: بتشديد اللام (ألَّا يَسْجُدُوا). انظر: "السبعة" ص 480، و"المبسوط" ص 279، والاستشهاد هنا على تخفيف (ألا)، وأبو علي الفارسي يعتبر (يا) لمجرد التنبيه، انظر: "الحجة" لأبي علي 5/ 383، و"كتاب الشعر" 1/ 66. (¬3) في (أ): (هذا الأمر)، وهو تحريف. (¬4) في النسخ (يغير) بالياء، والأصح بالتاء كما في "الإغفال" ص 713. (¬5) انظر "اللسان" 1/ 9

أن يسقط في الأصل لالتقاء الساكنين، ألا ترىَ أن فاء الفعل (¬1) كانت في موضع سكون قبل الإدغام، وقد نجد الحركات التي تُلقى على الحرف لحرف غيره لا يخرج الحرف به عن أن يكون في نية سكون، يدلك على ذلك تركهم قلب الياء في جيل، فحسن الحذف لسكون الألف، [ولأن] (¬2) الفاء كأنها ساكنة إذ حركتها لغيرها كما كانت الياء في جيلٍ كأنها ساكنة، ولولا ذلك لوجب الإعلال والقلب فمن حيث لم يجب القلب حسن الحذف في الألف من هلم. فأما ما حُكي عن الفراء أنه قال في هلم: أن أصله هَلْ أُمّ، فالدليل على فساد هذا القول وفَسالته أن هل لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون بمعنى: قد، وهذا يدخل في الخبر، وإما أن يكون بمعنى: الاستفهام، وليس لواحد من الحرفين متعلق بهلم ولا له مدخل (¬3)، ألا ترى أنه يراد بها الأمر دون غيره، فلا وجه لها هنا، ألا ترى أنه لا يكون هل أضرب وأنت تأمر، وأيضاً فإن أمّ بعد هل لا يخلو من أن يكون مثله رُدَّ ومُدَّ وأنت تأمر، أو يكون مثل فُعِلَ إذا أخبرت، فلا يجوز على قوله أن يكون التي للأمر من حيث لا تقول: هل اضْرِبْ، ولا هل اقْتُلْ، ولا يجوز أن يكون بمعنى فُعِلَ؛ لأن ذلك للخبر، والخبر لا وجه له [هنا] (¬4) لأن المراد [الأمر]. وهذا ¬

_ (¬1) في "الإغفال" ص 715 (أفعل)، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود لفظ، الفعل في بعض النسخ. (¬2) في (ش): (لأن). (¬3) قال أبو علي في "العضديات" ص 223: (لا يجوز أن يكون للاستفهام لاستحالة دخول الاستفهام على الأمر، ولا يجوز أيضًا أن يكون هل التي بمعنى قد التي تدخل على الخبر؛ لأن ذلك لا تدخل على الأمر، لا يجوز قد أذهب) اهـ. (¬4) في (ش): (هاهنا).

قول فاسد جدًّا لا يجب أن يُعرّج عليه، والقول فيه ما قدمنا ذكره. وأما قول أبي إسحاق: فتحت؛ لأنها مدغمة كما فتحت رُدّ في الأمر لالتقاء الساكنين، فليس يخلو الفتح فيه من أن يكون لالتقاء الساكنين كما قال، أو من أن (¬1) يكون؛ لأنه بُني مع الحرف المضموم إليه على الفتح كخمسة (¬2)، فلو كان الفتح لالتقاء الساكنين كما قال لجاز أن يحرك بالكسر أيضًا لالتقاء الساكنين، وإذا لقيته ألف (¬3) ولام مثل غُض الطرف فلما لم يحركه لا التميميون الذين يجمعون ويثنون ولا الحجازيون الذين يفردون ولا يغيرون دل ذلك من أمرها على أن الجميع أجمعوا فيها على البناء على فتحها وحركوها لذلك، ولم يكن حركتها عند الجميع لالتقاء الساكنين، ألا ترى أن ما كان حركته لالتقاء الساكنين من هذا الضرب لا يمتنع اختلاف الحركات فيه [وأن ذلك] (¬4) مطرد في جميعه (¬5) فيخصص هذا من بين ذلك كله دلالة على أن حركته لما قلنا دون ما ذهب إليه، وهو مذهب سيبويه فإنه (¬6) قال: لا يكسر هلم البتة) (¬7). ¬

_ (¬1) لفظ: (أن) ساقط من (ش)، وفي "الإغفال" ص 720: (أو يكون لأنه بني). (¬2) أي فتحت من أجل التركيب كما فتحت خمسة عشر وبابها. انظر: "التبيان" 1/ 363. (¬3) في (ش): (الألف)، وفي "الإغفال" ص 720: (إذا لقيته الألف واللام) ا. هـ. (¬4) لفظ: (وأن ذلك) ساقط من (أ)، وفي "الإغفال" ص 721: (فإن ذلك مطرد). (¬5) كذا في "النسخ"، وفي "الإغفال" ص 721 (جمعه)، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود (جميعه). (¬6) "الكتاب" 3/ 534. (¬7) هذا ملخص ما ذكره أبو علي في "الإغفال" ص 711 - 721، ونحوه ذكر في "المسائل العضديات" ص 221، وانظر: "الدر المصون" 5/ 211 - 213.

151

فأما معنى {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} فقال الزجاج: (هاتوا شهداءكم [وقربوا شهداءكم]) (¬1) (¬2)، وهذه الكلمة تستعمل تارة بمعنى دعاء المخاطب كقولك: هلم إليّ، أي: ادن مني وتعال، وتارة تستعمل بمعنى التعدية كقولك: هلم الطعام والشراب، وبالمعنيين ورد القرآن قال الله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]. وقال في هذه الآية: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}، فإذا كان بمعنى التعدية فاشتقاقه من اللم الذي هو الجمع، وإذا (¬3) كان بمعنى دعاء المخاطب فاشتقاقه من اللمم بمعنى: الدنو (¬4). 151 - قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} قال الزجاج (¬5) وابن الأنباري (¬6): (موضع (ما) نصب بـ (أتْل)، أي: اتل الذي حرمه ربكم). قال أبو إسحاق: (ويكون {أَلَّا تُشْرِكُوا} منصوبة بمعنى طرح اللام، أي: أبيّن لكم الحرام لئلا تشركوا به شيئًا؛ لأنهم إذا حرموا ما أحل الله عز وجل فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله جل وعز فصاروا بذلك مشركين. ¬

_ (¬1) لفظ: (وقربوا شهداءكم) ساقط من (ش). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 303. (¬3) في (ش): (فإذا). (¬4) انظر: "الصحاح" 5/ 2060، و"المجمل" 4/ 907، و"المفردات" ص 844, و"اللسان" 8/ 4694 (هلم)، وقال السمين في "الدر" 5/ 213: (هلم تكون متعدية بمعنى أَحْضر، ولازمة بمعنى أقبل، فمن جعلها متعدية أخذها من اللمِّ وهو الجمع, ومن جعلها قاصرة أخذها من اللمَمِ وهو الدنو والقرب) اهـ. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 303. (¬6) لم أقف عليه.

قال: ويجوز أن يكون {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ} (¬1) محمولًا على المعنى، فيكون أتلو عليكم ألا تشركوا [والمعنى: أتلو عليكم تحريم الشرك، قال: وجائز أن يكون على معنى أوصيكم ألاّ تشركوا (¬2)] به شيئًا؛ لأن قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانًا) (¬3). قال أبو بكر: (وقال آخرون: موضع أن نصب بعلى على (¬4) معنى الإغراء، والكلام انقطع عند قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} والابتداء {عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} كما قال تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] قال: ويجوز أن يكون أن في موضع رفع بعلى، كما تقول: عليكم الصيام والحج) (¬5). وأما موضع (تشركوا) فذكر الفراء فيه قولين: (أحدهما: وهو الظاهر أنه نصب بأن، ويجوز أن يكون في موضع جزم بلا على النهي كقولك: أمرتك ألا تذهبَ إلى زيد بالنصب وأن لا تذهبْ بالجزم، كما قال الله تعالى {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ} [الأنعام: 14] فنصب أوله، ونهى في آخره. قال: والجزم في هذه الآية أحب إليّ لقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأنعام: 152] وأمّا ما نسقته على {أَلَّا تُشْرِكُوا} ¬

_ (¬1) في (ش): {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 304. (¬4) في (ش): (نصب بمعنى على معنى)، وهو تحريف. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 138، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 147، والسمين في "الدر" 5/ 216 - 217، واستبعد أبو حيان في "البحر" 4/ 250، والسمين في "الدر" 5/ 217، النصب على الإغراء قال السمين: (هذا ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره، ولأنه لا يتبادر إلى الذهن) اهـ.

من قوله: {تَقْرَبُوا} و {تَقْتُلُوا} [الأنعام: 151] فجائز أن يكون نصبًا وجزمًا على ما ذكرنا، وجائز أن يخالف بينهن فتحكم على بعض بالنصب، وعلى بعض بالجزم) (¬1). وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قد ذكرنا [أنه على] (¬2) معنى: أوصيكم {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وقال أبو بكر: (التقدير: أن لا تشركوا به شيئًا وأن تفعلوا {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فحذف الفعل لوضوح معناه) (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} قال ابن عباس: (يريد: مخافة الفقر) (¬4). وقال الزجاج: (أي: من فقر، أي: من خوف فقر) (¬5)، وقد صرح ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 364، و"تفسير الطبري" 8/ 81، 82، و"إعراب النحاس" 1/ 191، و"المشكل" 1/ 277، و"غرائب التفسير" 1/ 391، و"البيان" 1/ 349، و"التبيان" 1/ 364، و"الفريد" 2/ 248، وأطال السمين في "الدر" 5/ 213 - 218: في إعراب هذه الآية، وذكر في (ما) ثلاثة أوجه: وفي محل (أن لا تشركوا) ثلاثة أوجه، الجر من وجه واحد، والرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من ستة أوجه. (¬2) لفظ: (أنه على) ساقط من (ش). (¬3) لم أقف عليه. وانظر: "المشكل" 1/ 102، و"البيان" 1/ 84. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 82، وابن أبي حاتم 5/ 1414 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 4/ 103، وهو في "مسائل نافع بن الأزرق" ص 115، و"تنوير المقباس" 2/ 73، وأخرج أبو عبيد في "اللغات" ص 98، وابن حسنون ص 24، و"الوزان" ص 3/ ب بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: من جوع بلغة لخم) اهـ. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 304، ونحوه في "غريب القرآن" لليزيدي ص 143، و"تفسير غريب القرآن" ص 163، و"تفسير المشكل" ص 81، وقال الطبري في "تفسيره" 8/ 82: (الإملاق: مصدر من قول القائل: أملقت من الزاد، فأنا أملق إملاقًا. وذلك إذا فني زاده وذهب ماله، وأفلس) ا. هـ, وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 208.

بذكر الخوف (¬1) في قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، وهذا في النهي عن [الوأد] (¬2) كانوا يدفنون البنات أحياء، بعضهم للغيرة، وبعضهم خوف الفقر، فضمن الله (¬3) لهم الرزق. وقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] قال شمر: (أمْلق لازم ومتعدٍّ، يقال: أَمْلَق الرجلُ فهو مُملق إذا افتقر، فهذا لازم، وأملق الدَّهرُ ما بيده إذا أفسده، والإملاق: الإفساد) (¬4). وقال ابن شميل أيضًا: (ومنه قول أوس بن حجر: وَلَمَّا رَأَيْتُ الْعُدْمَ قَيَّدَ نَائِلي ... وَأَمْلَقَ ما عِندي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ (¬5) [أي: تذهب بالمال تَنَبلَّتْ بما عندي، أي: ذهبت به (¬6)]. ¬

_ (¬1) قال في الأنعام: {مِنْ إِمْلَاقٍ} لأنه فقر واقع. وفي الإسراء: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}؛ لأنه فقر متوقع. انظر: "ملاك التأويل" 1/ 353، و"فتح الرحمن" ص 181. (¬2) في (ش): (الولد)، وهو تحريف. (¬3) لفظ: (الله) ساقط من (أ). (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3448، والظاهر من إيراد الأزهري أن البيت من كلام شمر وليس من كلام ابن شميل، وأيضًا قوله: (والإملاق: الإفساد) من قول ابن شميل، وانظر: في معنى الإملاق، و"إصلاح المنطق" ص 46، 275، و"الجمهرة" 2/ 975، و"الصحاح" 4/ 1556، و"المجمل" 3/ 840، و"اللسان" 7/ 4265 (ملق). (¬5) "ديوانه" ص 94، و"تهذيب اللغة" 4/ 3448، و"اللسان" 7/ 4265 مادة (ملق)، و"الدر المصون" 5/ 218، والعُدْم -بضم فسكون-: فقدان الشيء وذهابه، والفقر، وغلب على فقد المال وقلته. انظر: "اللسان" 5/ 2848 مادة (عدم)، والخطوب: بالضم جمع خطب بفتح فسكون، وهو الشأن والأمر. انظر: "اللسان" 2/ 1194 (خطب)، وتنبل: بالفتح تأخذ الأنبل. انظر: "اللسان" 7/ 4330 (نبل). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، وملحق بالهامش.

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال ابن عباس: (كانوا يكرهون أن يزنوا علانية فيفعلون ذلك سرًا فنهاهم الله عن الزنا سرًا وعلانية) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قال: (إلا بالقود يريد: القصاص) (¬2). وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} قال الزجاج: (هذا يدل على أن معنى {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} محمول على معنى: وصاكم بأن لا تشركوا) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 83، وابن أبي حاتم 5/ 1416 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 104، وهذا من باب التمثيل، والآية عامة، وهو اختيار الجمهور، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في "الدر المنثور" 3/ 104، وقال ابن عطية في "تفسيره" 5/ 394: (الآية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي، وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء، وذهب بعضهم إلى تخصيص لا تقوم عليه حجة، بل هو دعوى مجردة) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 83، والرازي 13/ 233، والقرطبي 7/ 133. (¬2) (قال) كذا في "النسخ"، والمراد ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 139، وفي "تنوير المقباس" 2/ 73: ({إِلَّا بِالْحَقِّ} بالعدل يعني: بالقود والرجم والارتداد) ا. هـ، ولعل ما ذكره الواحدي من باب التمثيل لبعض ما أباح الشارع به قتل النفس، فهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها، وقد بينته الشريعة ومنها الردة, وقتل النفس، والزنا بعد الإحصان والحرابة، انظر: "تفسير الطبري" 8/ 84, والبغوي 3/ 203، وابن عطية 5/ 395، والقرطبي 7/ 133، وابن كثير 2/ 211. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 304، وانظر: "أضواء البيان" 2/ 277 - 278، وفيه رجح هذا الوجه.

قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] قال عطاء، عن ابن عباس (يريد: إن كنت له وصيًا فأصلحت في ماله وقمت لله في ضيعته (¬1) أكلت بالمعروف إن احتجت إليه، وإن كنت غنيًا عنه فعفّ عن أكله، وقد قال في سورة البقرة: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} الآية [البقرة: 220]) (¬2). وقال الضحاك: (هو أن يبتغي له فيه من فضل الله ولا يأخذ من ربحه شيئًا) (¬3). وقال (¬4) مجاهد: (هو التجارة فيه) (¬5). قال أبو إسحاق: ({الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} حفظ ماله عليه وتثميره بما يوجد السبيل إليه) (¬6). وهو قول السدي قال: (التي هي أحسن التثمير له) (¬7). ¬

_ (¬1) الضَّيْعة، بفتح فسكون: الحرفة، والصناعة، والمال، وسياسة الإبل والغنم. انظر: "اللسان" 5/ 2624 (ضيع). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 140، وفي "تنوير المقباس" 3/ 73، و"زاد المسير" 3/ 149، نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 84، وابن أبي حاتم 5/ 1419، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي في "الكشف" 186 أ، والماوردي في "تفسيره" 2/ 187، والبغوي 3/ 204. (¬4) في (أ): (وهو مجاهد هو التجارة فيه)، وفي (ش): (وقال مجاهد هو من التجارة فيه). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 84 بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" 2/ 517، والثعلبي في "تفسيره" 186 أ، والماوردي 2/ 187، والبغوي 3/ 203 - 304. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 305، وفيه (بما يوجد إليه السبيل). (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 84 بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1419، ورجح هذا القول الطبري في "تفسيره" 8/ 84، والبغوي 3/ 203، وابن عطية 5/ 396، وقال القرطبي في "تفسيره" 7/ 134 في تفسير الآية: (أي: بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، وهذا أحسن الأقوال =

وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال (¬1): (حتى محمولة على المعنى أي: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله)، وأما معنى الأشد وتفسيره (¬2) فقال الليث: (الأشُدُّ: مبلغ الرجل الحُنكة (¬3) والمعرفة) (¬4)، وقال أبو عبيد (¬5): (قال الفراء: الأشُد واحدها شَدٌّ في القياس، ولم أسمع لها بواحد، وأنشد: قد سادَ وَهْو فَتًى حَتَّى إذا بَلَغَتْ ... أَشُدُّه وعَلا في الأَمْرِ واجْتَمَعَا) (¬6) وقال أبو الهيثم: (واحدة الأشد: شِدَّة، كما أن واحدة الأَنعُم: نِعْمَة، والشِّدة: القوة والجلادة، والشديد: الرجل القوي، قال: وكأن ¬

_ = في هذا، فإنه جامع) اهـ. (¬1) كذا في "النسخ" والمراد الزجاج حيث جاء النص في "معانيه" 2/ 305. (¬2) انظر: "العين" 6/ 213، و"الجمهرة" 1/ 111، و"الصحاح" 2/ 493، و"المجمل" 2/ 500، و"المفردات" ص 448 (شد). (¬3) في (ش): (الحركة)، وهو تحريف. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1843. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1843، ولم أقف عليه في "معاني الفراء" بعد طول بحث، وهو في "الغريب المصنف" لأبي عبيد 1/ 379، من قوله دون ذكر الفراء، وكذا في "المخصص" 1/ 41، وحكى ثعلب في "مجالسه" 2/ 540 عن الفراء قال: (أشده: جمع شَدّ) ا. هـ. وهو في الجميع بفتح الشين، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 99: (هو موضع جميع لا واحد له من لفظه، وقال الفراء والكسائي: واحد الأشد: شد. على فُعل وأفعل مثل بحر وأبحر، وأشد مضعف مشدد) ا. هـ. وانظر: 1/ 305، 1/ 378، و"تفسير الطبري" 8/ 85. (¬6) الشاهد لعدي بن الرقاع في "الغريب المصنف" 1/ 379، و"الأفعال" لأبي عثمان السرقسطي 2/ 332، و"المخصص" 1/ 41، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" 2/ 1843، و"اللسان" 4/ 2215 (شدد)، و"الدر المصون" 5/ 221، ولم أقف عليه في "ديوانه" المطبوع.

الهاء في النعمة والشدة لم تكن في الحرف إذ (¬1) كانت زائدة وكأن الأصل نِعمٌ وشِدٌ فجمعا على أفعل (¬2) كما قالوا: رِجل وأرْجلُ، وقِدح وأقْدُح، وضِرس وأضْرُس). وحكى ابن الأنباري: (عن بعض أهل اللغة: (¬3) أن الأشد اسم واحد، ولا واحد له بمنزلة الآنك (¬4) وذكر عن جماعة (¬5) من البصريين: أن واحده: شُدّ بضم الشين مثل قولك: هو وُدّى (¬6) وهم أَوُدِّى). قال الأزهري: (وبلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال وإدراكه إلى أربعين سنة، فبلوغ الأشد [محصور الأول] (¬7) محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ ¬

_ (¬1) في (ش): (إذا كانت). (¬2) انظر: "الكتاب" 4/ 245، وفي "الخصائص" 1/ 86، حكى عن سيبويه (أنه جمع شِدة بالكسر)، وهو قول أبي زيد في "النوادر" ص 54، وانظر: "تفسير المشكل" لمكي ص 112 - 113. (¬3) في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 597 - 598: (قال الفراء: أهل البصرة يزعمون أن الأشد اسم واحد مثل الآنك ..)، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 253: (اختار ابن الأنباري في آخرين أنه مفرد لا جمع له وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعًا) ا. هـ. (¬4) يعني: أنه مفرد لا جمع، والآنك: بالمد وضم النون: الرصاص القلعي، أو خالصه، والقزدير. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 85، و"اللسان" 1/ 154 (أنك). (¬5) في "المذكر والمؤنث" 1/ 597، حكاه عن يونس بن حبيب الضبي فقط، وانظر: "تفسير الغريب" لابن قتيبة ص 215، و"نزهة القلوب" ص 78. (¬6) عند ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" 1/ 597: (بمنزلة قولهم: الرجل وُدّ والرجال أُودّ) ا. هـ. وفي "اللسان" 8/ 4793 (ودد). (الود: الحب يكون في جميع مداخل الخير) ا. هـ. (¬7) لفظ: (محصور الأول) ساقط من (ش).

أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] (¬1)، وفسر بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام في قول يحيى (¬2) بن يعمر (¬3) والسدي (¬4). وقال أبو إسحاق: (وبلوغ أشده أن يونس منه الرشدَ مع أن يكون بالغًا وحينئذ يجب دفع المال إليه) (¬5)، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول سورة النساء. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1843، وانظر: "معاني الفراء" 3/ 52، و"تفسير غريب القرآن" ص 254. (¬2) يحيى بن يَعْمَر العَدْواني: أبو سليمان البصري قاضي مرو، إمام تابعي ثقة، فقيه مقرئ، نحوي أديب فصيح عالم باللغة، يقال: إنه أول من نقط المصاحف، مات قبل المائة، وقيل بعدها. انظر: "معجم الأدباء" 20/ 42، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 441، و"غاية النهاية" 2/ 381، و"تهذيب التهذيب" 4/ 401. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف" 186 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 150، وأبو حيان في "البحر" 4/ 252. (¬4) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 58، بسند جيد عن السدي قال: (الأشد: ثلاثون سنة، ثم جاء بعدها {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}) [النساء: 6]، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 150، وقال: (فكأنه يشير إلى النسخ) ا. هـ. وعليه يكون المراد: الاحتلام، والله أعلم. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 305، ورجح هذا القول ابن عطية في تفسيره 5/ 397، وقال: (هذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع) ا. هـ وقال السمين في "الدر" 5/ 221: (المراد ببلوغ الأشد بلوغ الحلم في قول الأكثر؛ لأنه مظنة ذلك) ا. هـ ورجحه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 150، والظاهر، أن بلوغ الأشد في اليتيم مقيد بالبلوغ مع الرشد وزوال السفه، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة. انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 134 - 136، وابن كثير 2/ 212، والشنقيطي 2/ 279.

وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} كل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفي وتم يقال: درهم وافٍ، وكيل وافٍ، وأوفيته حقه ووفيته إذا تممته (¬1)، وأوفى الكيل، أي: أتمه ولم ينقص منه شيئًا (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمِيزَانَ} أي: وزن الميزان والوزن به؛ لأن المراد إتمام (¬3) الوزن لا إتمام الميزان (¬4)، كما أنه قال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}، ولم يقل: المكيال، فهو من باب حذف المضاف (¬5). وقوله تعالى: {بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل لا بخس ولا شطط (¬6). ¬

_ (¬1) لعله: (إذا أتممته) كما في تفسير الرازي 13/ 234، فقد نقل نص الواحدي بدون نسبه. (¬2) هذا من تهذيب اللغة 4/ 3924، وانظر: الصحاح 8/ 4885، و"اللسان" 15/ 398، و"وَفَى". (¬3) في (ش): (لأن المراد تمام الوزن). (¬4) الميزان: اسم آلة، وأصله مصدر ثم أطلق على الآلة. انظر: "الجمهرة" 2/ 830، و"تهذيب اللغة" 4/ 3886، و"الصحاح" 6/ 2213، و"المجمل" 4/ 924، و"المفردات" 868، و"اللسان" 8/ 4828 (وزن). (¬5) قال العكبري في "التبيان" 364: (والكيل: هاهنا مصدر في معنى المكيل، والميزان كذلك، ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف تقديره: مكيل الكيل، وموزون الميزان) ا. هـ، وذكر قول الواحدي والعكبري، السمين في الدر 5/ 221 - 222، وقال: (ولا حاجة إلى ما ادعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول، ولا من تقدير المضاف؛ لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضاً فميزان ليس مصدرًا إلا أن يعضد قوله ما قاله الواحدي، والظاهر عدم الاحتياج إلى ذلك، وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطلق على نفس المكيال حتى يقول: "ولم يقل المكيال"، والكيل والميزان: هما الآلة التي يكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر، ثم أطلق على الآلة، والميزان مفعال من الوزن لهذه الآلة ..) ا. هـ. ملخصًا. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 86، والسمرقندي 1/ 524.

وقوله تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: قد علمت ما أحل لك، وحرم عليك، فكما تحب أن يوفيك من تشتري منه، فأوف من تبيع منه) (¬1)، قال أصحاب المعاني: (أمر الله تعالى المعطي بإيفاء ذي الحق حقه الذي هو له من غير زيادة، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير نقصان، فلم يكلف نفسًا إلا ما يسعها ولا يضيق (¬2) عنها، فلو كلف المعطي الزيادة لضاقت نفسه عنها، وكذلك لو كلف الآخد الرضى بالنقصان) (¬3). وقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، قال ابن عباس: (يريد: إذا شهدتم أو تكلمتم فقولوا الحق) (¬4)، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (يريد: (¬5) ولدك وقرابتك أو من تحب فقل الحق واشهد به)، وهذا محذوف الاسم (¬6)، قال الزجاج: (ولو كان المشهود له وعليه ذا قربى) (¬7)، ومثله في المائدة: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106]. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1420، بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم فقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]) اهـ. (¬2) في (أ): (تضيق) بالتاء. (¬3) هذا قول الطبري في "تفسيره" 8/ 86، وذكره الثعلبي في الكشف ص 186/ أ، عن أهل المعاني وهذا يدل على أن الطبري من أهل المعاني عند الثعلبي والواحدي حيث لم أجد هذا المعنى عند أحد من أهل المعاني فيما لدي من مراجع. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 141. (¬5) كأنه من قول ابن عباس حسب السياق، وفي "تنوير المقباس" 2/ 74 نحوه. (¬6) أي اسم كان مستتر تقديره: هو، أي: المقول فيه. انظر: "الدر المصون" 5/ 222. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 205، وفيه: (أي: إذا شهدتم أو حكمتم فاعدلوا , ولو كان المشهود عليه أو له ذا قربى) ا. هـ.

وقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}، ذكرنا معنى الوفاء بالعهد عند قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40]. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي: ذلك الذي تقدم من ذكر مال اليتيم، وأن لا يقرب إلا بالتي هي أحسن، وإيفاء الكيل والوزن، واجتناب البخس، والتطفيف فيهما، وتحري الحق على مقدار الطاقة والاجتهاد، وهو معنى قوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} والقول بالقسط والحق ولو كان المقول فيه ذا قربى، والوفاء بالعهد لينجز (¬1) ما وعد عليه من قوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] هذا كله مما وصى به ليتذكروه (¬2)، ويأخذوا به فلا يطرحوه (¬3)، وتذكر مطاوع ذكر (¬4) تقول: ذكرته فتذكر، كما أن تفاعل مطاوع فاعل، والتذكر يستعمل في أشياء متكررة تتذكر وقتًا بعد وقت، وحالًا بعد حال، كالذي في هذه الآية فإنه أمر بأخذ بعد أخذ، ووقت (¬5) بعد وقت. و (تذكرون) إنما هو تتذكرون (¬6) مخفف بالإدغام لاجتماع (¬7) المتقاربة. ¬

_ (¬1) في (أ): (لتنجز) بالتاء. (¬2) في (أ): (لتتذكروه وتأخذوا به). (¬3) في (ش): (فلا يطرحوا)، وفي (أ): (فلا تطرحوه). وما ذكره هو نص كلام أبي علي في "الحجة" 3/ 428. (¬4) في (ش): (ذَكّره). (¬5) في النسخ (ووقتًا) وأصل النص من "الحجة" 3/ 427 - 428، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود (ووقتًا). في بعض النسخ. (¬6) في (ش): (يذكرون إنما هو يتذكرون)، بالتاء. (¬7) يعني اجتماع المتقارب وهو التاء والذال.

153

وقرأ حمزة (¬1) والكسائي (تذكرون (¬2)) خفيفة الذال، خفف بالحذف، كما خفف غيرهما بالإدغام، ويمكن أن يقال: إن الحذف أولي لأنه أخف في اللفظ، والدلالة على المعنى قائمة (¬3). 153 - قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية، قال الفراء: (تفتح (أن) من وقوع (أتل) [الأنعام: 151] عليها يعني: وأتل عليكم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} قال: وإن شئت جعلتها خفضًا يريد: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 152] وبأن (¬4) هذا صراطي)، وقال أبو علي: (من فتح (أن) فقياس (¬5) قول سيبويه أنه حملها على (فاتبعوه) والتقدير: ولأن {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} كقوله {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (¬6)} [المؤمنون: 52] قال سيبويه: ولأن هذه أمتكم، وقال في قوله: {وأن ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص: (تذكرون) بتخفيف الذال. وقرأ الباقون بتشديدها انظر: "السبعة" 272 - 273، و"المبسوط" ص 176، و"التذكرة" 2/ 412، و"التيسير" ص 108، و"النشر" 2/ 266. (¬2) في (ش): (يذكرون)، بالياء. (¬3) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 430، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 394، و"إعراب القراءات" 1/ 173، و"الكشف" 1/ 457. (¬4) في" معاني الفراء" 1/ 364 {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} وفيه أيضًا قال: (تكسر إن إذا نويت الاستئناف) اهـ. وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 646، و"القطع" للنحاس 1/ 243، و"التبيان" ص 364، و"الفريد" 2/ 251، و"الدر المصون" 5/ 224. (¬5) في (ش): (فقيا من قول). (¬6) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (وأن هذه) بفتح الهمزة وتشديد النون، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر وتشديد النون، وقرأ ابن عامر بالفتح وتخفيف النون. انظر: "السبعة" ص 446، و"المبسوط" 262.

المساجد لله [فلا تدعوا مع الله أحدًا] (¬1) [الجن: 18] المعنى: ولأن المساجد لله (¬2)، وقرأ ابن عامر (¬3): (وأن هذا) مفتوحة مخففة، والمخففة [هاهنا] (¬4) كالمشدودة، وفيه ضمير القصة والحديث، وعلى هذه الشريطة يخفف، والتقدير: وأنه هذا، كقول الأعشى: في فِتَيةٍ كسيُوفِ الهند قد علمُوا ... أَنْ هالِكٌ .............. (¬5) أي: قد علموا أنه هالك. قال: والفاء التي في قوله (فاتبعوا) مثل الفاء التي في قولك: يزيد فامرر، ومن كسر (إن) استأنف بها، والفاء (¬6) في قوله عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول زيادة) (¬7)، وذكرنا وجه ¬

_ (¬1) لفظ: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ساقط من (ش)، وانظر: القراءة في "السبعة" ص 656، و"المبسوط" 383. (¬2) "الكتاب" 3/ 126 - 127، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 592. (¬3) قرأ ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة وتشديد النون، وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد النون. انظر: "السبعة" ص 273، و"المبسوط" ص 176 - 177، و"التذكرة" 2/ 413، و"التيسير" ص 108، و"النشر" 2/ 266. (¬4) لفظ: (هاهنا) ساقط من (ش). (¬5) ديوانه ص 147، وعجزه: أن هالك كل من يحفى وينتعل. وقد سبق تخريجه. (¬6) كذا في النسخ، وهو يريد الفاء في قوله: (فاتبعوه)، ويعني بقوله: والفاء في قوله، أي: الفاء على قول من قال بالقول الثاني. وفي "الحجة" لأبي علي 3/ 437 (والفاء في قوله، (فاتبعوه) على قوله عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول زيادة) اهـ. (¬7) انظر: "الحجة" 3/ 436 - 437، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 395، و"إعراب القراءات" 1/ 173، و"الحجة" لابن خالويه ص 152، ولابن رنجلة ص 277، و"الكشف" 1/ 457، و"المشكل" 1/ 277، و"البيان" 1/ 349.

انتصاب قوله (مستقيما) عند قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} [الأنعام: 126] في هذه السورة. قال ابن عباس في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (يريد: ديني دين الحنيفية أقوم الأديان وأحسنها) (¬1). وقال مقاتل: (الذي ذكر في هذه الآيات (¬2) من أمره ونهيه {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}) (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال ابن عباس: (اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان) (¬4)، وهذا تفسير ما ذكره مجملًا في رواية عطاء قال: (يريد: مثل الذي يسلك الطريق فيأخذ بنيات (¬5) الطريق) (¬6)، وقال مجاهد {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (يعني: البدع والشبهات) (¬7)، وقال مقاتل: (يعني: طريق الضلالة فيما حرموا على ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 142، ولم أقف عليه عند غيره. (¬2) في "ش" (الآية). (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 597. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 74، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 142، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 88، وابن أبي حاتم 5/ 1422 بسند ضعيف عن ابن عباس، قال: (لا تتبعوا الضلالات) ا. هـ (¬5) بُنيّاتُ الطريق، بضم الباء وفتح النون والياء المشددة: الطُّرف الصغار تتشعب من العبادة، وهي الترهات. انظر: "اللسان" 1/ 408 (بني). (¬6) لم أقف عليه، وأخرج الطبري في تفسيره 8/ 88 بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) اهـ. (¬7) "تفسير مجاهد" 1/ 227، وأخرجه الطبري في (تفسيره) 8/ 88، وابن أبي حاتم 5/ 1422 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 106، وفي "تفسير مجاهد" زيادة لفظ (والضلالات).

أنفسهم من الأنعام والحرث (¬1). وقوله تعالى: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} قال ابن عباس: (فتضل (¬2) بكم عن دينه) (¬3). وقال مجاهد: (أي: تميل وتخالف، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} في الكتاب {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} السبل) (¬4). وقال عطاء: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: (كي تخافوا) (¬5) قال المفسرون (¬6): (هذه الآيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهن محرمات على بني آدم، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 597. (¬2) في (ش): (فيضل) بالياء. (¬3) في "تنوير المقباس" 2/ 74 نحوه. (¬4) لم أقف عليه، وهو في "الوسيط" 1/ 142 بدون نسبة، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1422 بسند جيد عن مجاهد في قوله: (لعلكم تتقون) قال: (لعلكم تطيعوا) اهـ. (¬5) لم أقف عليه، قال أهل العلم: (هذه آية عظيمة أمر الله تعالى فيها باتباع سبيله، وحذر من اتباع السبل، وهي تعم سائر أهل الملل والبدع والضلالات والأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد). أفاده ابن عطية في "تفسيره" 5/ 400، والقرطبي 7/ 137 - 138، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 213. (¬6) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 87، وابن أبي حاتم 4/ 1414، والحاكم و"صححه" 2/ 288 و2/ 317 عن ابن عباس قال: (من الآيات المحكمات قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]). وأخرج ابن الضريس في "فضائل القرآن" ص 94 - 95 بسند جيد عن كعب الأحبار قال: (أول ما نزل من التوراة عشر آيات من آخر الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ... إلى آخر السورة) ا. هـ، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 103. وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره 1/ 523: (ويقال: هذه الآيات هن أم =

154

154 - قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} الآية. قال أبو بكر (¬1). (الذي بعد (ثم) مقدم على الذي قبلها في النّية، والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن التوراة أنزلت قبل القرآن. قال: وجواب آخر وهو: أن (ثم) أوجبت تأخير الخبر بعد الخبر الأول، أي: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يريد: ثم أخبركم بعد ما أخبرتكم به عن نزول القرآن على محمد (بنزول التوراة على موسى، فدخلت (ثم) لتأخير الخبر لا لتأخير النزول) (¬2). وهذا قول أبي إسحاق، وأنكر القول الأول فقال: ((ثم) لا يكون الذي بعدها معناه التقديم، وإنما دخلت ثم للعطف على معنى التلاوة، والمعنى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وأتلو عليكم لا تقتلوا أولادكم، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ثم أتلو عليكم ما آتاه الله جل وعز موسى) (¬3). ¬

_ = الكتاب، وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ولا يجوز أن يرد عليها النسخ) اهـ. (¬1) أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم. تقدمت ترجمته. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 152. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 305 - 306، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 89، 90, و"معاني النحاس" 2/ 520، وذكر أبو حيان عدة أقوال في توجيه الآية ثم قال: (وهذه الأقوال كلها متكلفة، والذي ينبغي أن يذهب إليه أنها للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وقد ذهب إلى ذلك بعض النحاة) ا. هـ وانظر: معاني الحروف للرماني ص 105، و"غرائب الكرماني" 1/ 392، و"المغني" لابن هشام 1/ 117 - 118.

وقوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} كثر الاختلاف في هذا بين أهل المعاني، والذي يعتمد في تفسير هذا قولان مجمع على صحتهما: أحدهما: أن المعنى (تماما) من الله عز وجل على المحسنين، و {الَّذِي أَحْسَنَ} بمعنى: من أحسن، ومن أحسن هو المحسن، كأنه قيل: تمامًا على المحسن، والمحسن [يكون] (¬1) هاهنا في مذهب الجمع كما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]، وهذا كما يقول الرجل: أوصي بمالي لمن غزا وحج وللذي غزا وحج] (¬2)، يريد: الغزاة والحجاج، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن مسعود (¬3) (تماما على الذين أحسنوا). والمحسنون (¬4) هم الأنبياء صلوات الله عليهم [أجمعين] (¬5)، أو المؤمنون. وتلخيصه: آتينا موسى الكتاب تتميمًا منا على الأنبياء و (¬6) المؤمنين الكتب، وتفصيلًا منا لكل شيء، وإنما فسرنا التمام بالتتميم هاهنا لما يعود معناه إليك؛ لأنك إذا قلت: أعطيتك الشيء تمامًا، كان معناه: تممته لك (¬7). ¬

_ (¬1) لفظ: (يكون) ساقط من (ش). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬3) ذكرها الفراء في "معانيه" 1/ 365، وابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 398، والطبري في "تفسيره" 8/ 90، والنحاس في "معانيه" 2/ 519، وابن خالويه في "مختصر الشواد" ص 41. (¬4) في (ش): (فالمحسنون) بالفاء. (¬5) لفظ: (أجمعين) ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (أو المؤمنين). (¬7) هذا نص كلام ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 397 - 398.

القول الثاني: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: على الذي أحسنه موسى من طاعة الله جل وعز واتباع أمره، أو على الذي أحسنه موسى من العلم، وكتب الله القديمة، فيكون (أحسن) بمعنى: علم، والتأويل {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا} على ما أحسن من العلم والحكمة، وكتب الله المتقدمة، وأراد بقوله: (تمامًا) على ذلك، أي: زيادة على ذلك، والقولان ذكرهما الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وأبو بكر (¬3) وأبو محمد بن قتيبة (¬4). قال الزجاج: (و (تمامًا) منصوب على مفعول له وكذلك {وَتَفْصِيلًا} المعنى: آتيناه لهذه العلة أي: للتمام والتفصيل) (¬5)، والمفسرون (¬6) على هذين القولين، فالقول الأول قول مجاهد والحسن، قال مجاهد: (تمامًا ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 365 وقدم الوجه الأول. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 305 - 306. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 154، عن أبي بكر بن الأنباري. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 397 - 398، تقرير الواحدي من نصه، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 90، و"إعراب النحاس" 1/ 593، و"المشكل" لمكي 1/ 278، وذكر أبو علي الفارسي في "العضديات" 169 - 171 ثلاثة أوجه في الآية، قال: (ووجه ثالث وهو أبينها وأوضحها , ولا يختلف في جوازه على ذلك، وهو أن يكون المعنى: تمامًا على الذي أحسنه، فيكون في (أحسن) ذكر يعود على (موسى)، وتكون الهاء العائدة إلى الموصول محذوفة من الصلة، كأنه: على الأمر الذي أحسنه موسى، ومعنى (أحسن) أن يكون على ضربين أحدهما: أن يكون أحسنه بمنزلة حسنه، أي: حسنه لهم عند دعاء قومه إليه، وإقامته لهم البراهين والحجج عليه. والوجه الآخر: أن يكون (أحسن) بمنزلة علم، كأنه: تمامًا على الأمر الذي علمه ..) ا. هـ ملخصًا، وانظر: الدر المصون 5/ 227. (¬5) معاني الزجاج 2/ 306، وانظر المراجع السابقة. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 90 - 91، و"معاني النحاس" 2/ 519 و"تفسير السمرقندي" 1/ 525.

على المؤمنين المحسنين) (¬1). وقال الحسن: (تمامًا على المحسنين، و {الَّذِي أَحْسَنَ} هو المؤمن) (¬2). وقال الكلبي: ({آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} الألواح، فيها التوراة {تَمَامًا عَلَى الَّذِي} أحسنه من تبليغ رسالاته) (¬3). وهذا معنى القول الثاني. وأجاز الفراء (¬4) والكوفيون (¬5) قولاً آخر وهو: أن يكون (أحسن) اسمًا موضعه خفض على النعت للذي وهو ساد مسد الصلة، ونائب عنها، يراد به: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} من غيره، فحذفت من لبيان أمرها، وجرى (أحسن) على إعراب (الذي) كما قالت العرب: مررت بالذي أخيك، وجلست إلى الذي مثلك، فحملوا على الذي إعراب الاسم بعده، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 90 بسند جيد، بلفظ: (على المؤمنين والمحسنين) وفي "تفسير مجاهد" 1/ 228: (على المؤمن)، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 90، وابن أبي حاتم 5/ 1423، عنه بلفظ: (على المؤمنين)، وقال السيوطي في "الدر" 3/ 106: (أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال: (على المؤمنين المحسنين) اهـ. (¬2) قال النحاس في "معانيه" 2/ 519: (قال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، وأنزل الكتاب (تماما على الذي أحسن)) اهـ وذكره الثعلبي في "الكشف" 186/ أ، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 143، بلفظ: (تمامًا على المحسنين). وهي قراءة الحسن كما في "الدر المنثور" 3/ 107، وقال الماوردي في "تفسيره" 2/ 189، وابن الجوزي 3/ 154، قال الحسن وقتادة: (تمامًا لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا) اهـ. (¬3) ذكر الرازي في "تفسيره" 4/ 14، عنه قال: (أتم له الكتاب على أحسنه). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 365، وذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 90، 91، والنحاس في "إعرابه" 1/ 593، وأبو علي في "العضديات" ص 169. (¬5) انظر: "الأغفال" ص 726.

وجعلوه (¬1) يسد مسد صلته، وأنشدوا: إن الدبيري الذي مثل الحلم (¬2) فنصب مثل على الإتباع للذي، وهي سادة مسد صلته، وإنما جاز حمل (أحسن) على (الذي) و (الذي) معرفة و (أحسن) في تأويل نكرة؛ لأنه يطالب من، ومن يؤدي عن الإضافة، والمضاف معرفة، ومن كلام العرب: مررت يزيد خير منك، على أن خيرًا نعت لزيد؛ إذ كان كالمضاف من أجل صحبته من، وهذا كلام أبي بكر (¬3)، ويدل على صحة هذا القول قراءة يحيى (¬4) بن يعمر: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، والتقدير: على الذي هو ¬

_ (¬1) في (أ): (وجعلوا). (¬2) لم أهتد إلى قائله، وعجزه: مَشَّى بَأَسْلاَبِكَ فيِ أَهْلِ العَلَمْ وهو في "معاني الفراء" 1/ 365 و"تفسير الطبري" 8/ 90، وفي "العضديات" ص 168، و"الشيرازيات" 8/ 8 أ: إن الدبيري الذي مثل الزُّلَمْ ... مشى بأسلابك في أهل الحَرَمْ والزُّلم بالضم: السهو، عند الفراء والطبري: إن الزبيدي بالزاء، والدبري: الذي يسنح أخيرًا عند ذوات الحاجة، أي: شره إذا أدبر الأمر وفات، انظر: "اللسان" 3/ 1321 (دبر) و3/ 1806 (زبر) والحلم بفتحتين: دودة تقع في الجلد فتأكله. انظر: "اللسان" 2/ 980، والشاعر يصف هذا الزبيري الذي سلبه ثيابه وأمواله، وهو يمشي في الناس بأنه قمئ قصير، أفاده الشيخ محمود شاكر في حاشية "تفسير الطبري" 12/ 234 - 235. (¬3) أبو بكر بن الأنباري، لم أقف على كلامه، وانظر: المسألة في الكتاب 2/ 105 - 109 - و404، وأمالي ابن الشجري 1/ 112، والإنصاف ص 585. (¬4) القراءة برفع (أحسنُ)، وقد أخرجها الطبري في تفسيره 8/ 90 بسند جيد وذكرها النحاس في "معانيه " 2/ 520، وابن جني في "المحتسب" 1/ 234، وابن الشجري في "أماليه" 1/ 112، وذكرها سيبويه في "الكتاب" 2/ 108 بدون نسبة، وضعف =

155

أحسن، أي: الذي هو أحسن الأشياء، وأحسن من غيره، وهذا يدل على أن (أحسن) هاهنا اسم، ويعضد هذا القول [أيضًا] (¬1) ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يقول: (أتم له الكتاب على أحسنه) (¬2) فجعل الأحسن من نعت الكتاب، نظيره {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} (¬3) [الأعراف: 137]. وقال أبو إسحاق: (أجاز الكوفيون أن يكون (أحسن) في موضع خفض وأن (¬4) يكون من صفة (الذي) وهذا عند البصريين خطأ؛ لأنهم لا يعرفون الذي إلا موصولًا ولا توصف إلا بعد تمام صلتها) (¬5)، وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: (كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب) (¬6). 155 - قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الآية، مضى الكلام في هذا في هذه السورة. {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال الزجاج: (أي: لتكونوا راجين للرحمة) (¬7). قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} الآية [الأنعام: 156]، ¬

_ = ابن جني في "المحتسب" هذه القراءة؛ لقبح حذف المبتدأ العائد على الذي. (¬1) لفظ: (أيضاً) ساقط من (أ). (¬2) لم أقف عليه. وذكره الرازي في تفسيره 4/ 14 عن الكلبي. (¬3) الحسنى: نعت للكلمة، انظر: "إعراب النحاس" 1/ 593، و"الفريد" 2/ 351. (¬4) في (ش): (أو يكون)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 305. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 143، والبغوي في "تفسيره" 3/ 206، والخازن 2/ 102. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 306.

156

(أن) عند الفراء (¬1) والكسائي (¬2) متعلقة بأنزلناه على تقدير: أنزلناه؛ لأن لا تقولوا، ثم حذف الجار وحرف النفي كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. وقوله: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي: لئلا، وعند البصريين (¬3). معناه: أنزلناه كراهة أن تقولوا, ولا يُجيزون إضمار لا، لا يقولون: جئت أن أكرمك، على معنى: أن لا أكرمك (¬4) وقد ذكرنا ما في هذا في آخر سورة (¬5) النساء. 156 - قال الفراء: (ويجوز أن يكون {أَنْ} متعلقة باتقوا والتأويل: و (¬6) اتقوا {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ}) (¬7). قال ابن عباس: (يعني: التوراة والإنجيل (¬8) {عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} ¬

_ (¬1) "معانى الفراء" 1/ 366، وعليه يكون مفعولًا لأجله، انظر: "المشكل" 1/ 278. (¬2) في "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 647، قال الكسائي: ({وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}؛ لأن لا تقولوا وبأن لا تقولوا ..) ا. هـ. وانظر: القطع للنحاس 1/ 244، وذكر الثعلبي في "الكشف" 186 أ، والبغوي في "تفسيره" 3/ 206، والقرطبي 7/ 144، عن الكسائي قال: (معناه: أن تقولوا يا أهل مكة) اهـ. (¬3) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 291، و"تفسير الطبري" 8/ 93، و"إعراب النحاس" 1/ 593، وقال النحاس في "معانيه" 2/ 521: (أحسن ما قيل في هذا: كراهية أن تقولوا) اهـ. (¬4) هذا نص كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 307. (¬5) انظر: "البسيط" نسخة تشستربتي 2/ 39 ب. (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (ش). (¬7) "معاني الفراء" 1/ 366، وعليه تكون مفعولًا به العامل فيه: (واتقوا)، وجملة: (لعلكم ترحمون) اعتراضية جرت مجرى التعليل. انظر: "الفريد" 2/ 254، و"الدر المصون" 5/ 229. (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 144، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 155، والقرطبي 7/ 144 بدون نسبة.

157

وهم اليهود والنصارى (¬1)، {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} يريد: لم ندرس التوراة والإنجيل فتعرف (¬2) ما فيها) (¬3). قال الزجاج: (المعنى: وما كنا إلا غافلين عن دراستهم، أي: كنا غافلين عن تلاوة كتبهم) (¬4). قال المفسرون: (الخطاب لأهل مكة، والمراد بالآية: إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد، كيلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا {عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} وكنا غافلين عما فيهما، فقطع الله معاذيرهم بإنزال القرآن فيهم) (¬5)، وقال قتادة: ({دِرَاسَتِهِمْ} قراءتهم) (¬6). 157 - وقال [الكلبي] (¬7) والكسائي: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} لا نعلم (¬8) ما هي؛ لأن كتابهم لم يكن بلغتنا، فأنزل الله تعالى كتابًا بلغتهم، وبعث منهم رسولاً يعرفون نسبه، ويعرفونه بالصدق فقال: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام:157] أي: رسول من ربكم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] حين لم تعرفوا (¬9) دراسة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 93، وابن أبي حاتم 5/ 1425، بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) في (ش): (فيعرف) بالياء. (¬3) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 94، وابن أبي حاتم 5/ 1425، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يقول وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين) اهـ. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 307. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 93، 94، والسمرقندي 1/ 525، وابن الجوزي 3/ 154 - 155. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 94 بسند جيد. (¬7) لفط: (الكلبي) ساقط من (أ)، ولم أقف على قوله. (¬8) في: (ش): (لم يعلم). (¬9) في (ش): (لم يعرفوا).

158

الطائفتين وحين قلتم لو جاءنا {الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] (¬1). 158 - قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ}. وذكرنا الكلام في هذا في (¬2) سورة البقرة في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} الآية [البقرة: 210] قال ابن عباس: ({هَلْ يَنْظُرُونَ} إذ كذبوك (إلا أن تأتيهم (¬3) الملائكة) عند الموت لقبض أرواحهم) (¬4) ومعنى (ينظرون) ينتظرون (¬5) و (هل) استفهام معناه: النفي (¬6) أي: لا ينتظرون إلا ذلك، وهو خبر معناه النهي كقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] خبر معناه: الأمر، وهو كثير في القرآن، والمعنى: يجب أن لا ينظروا بعد تكذيبك (إلا أن تأتيهم (¬7) الملائكة) عند الموت فيقعوا في العذاب، وذكرنا وجهاً آخر عن صاحب النظم (¬8) في نظير هذه الآية في (¬9) سورة النحل (¬10). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 144، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 155. (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 126 ب. (¬3) في (أ): (يأتيهم) بالياء. وقد قرأ حمزة والكسائي: (إلا أن يأتيهم) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء، انظر: السبعة ص 274، و"المبسوط" ص 177. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 76، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 96، والسمرقندي 1/ 525. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 164. (¬6) انظر: تفسير الرازي 14/ 6. (¬7) في (ش): (يأتيهم) بالياء. (¬8) صاحب النظم هو: أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني، تقدمت ترجمته، وكتابه "نظم القرآن" (مفقود) انظر: مقدمة "تفسير البسيط". (¬9) يقصد قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33]. (¬10) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 124 أ.

وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} قال ابن عباس: (يتنزل أمر ربك فيهم) (¬1) وهذا يحمل على الأمر بقتلهم، واستقصاء هذا مذكور في سورة البقرة (¬2). وقال أبو إسحاق: (معنى {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أو يأتي إهلاك ربك إياهم، وانتقامه منهم، إما بعذاب عاجل، أو بالقيامة) (¬3). وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}. قال المفسرون عامة: (يعني: طلوع الشمس من مغربها) (¬4)، وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 145، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 144، وأبو حيان في "البحر" 4/ 258. (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 126 ب. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 307، وانظر "معاني النحاس" 2/ 522، وتفسير السمرقندي 1/ 525 - 526 والأرجح أن ذلك يوم القيامة للفصل بين العباد، وأن الله سبحانه وتعالى يأتي للفصل على وجه يليق بجلاله وعظمته، وهو قول الطبري في "تفسيره" 8/ 96، وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد وقتادة وابن جريج، واختاره البغوي في "تفسيره" 3/ 207، وابن كثير 2/ 216، والشنقيطي 2/ 283 - 284، وانظر: "تفسير القرطبي" 7/ 145، و"فتاوى شيخ الإسلام" 6/ 398 - 424. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 96، 97 من عدة طرق جيدة عن عبد الله بن مسعود، ومجاهد وقتادة والسدي، ورجحه الطبري في "تفسيره"، وابن الجوزي 3/ 157، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 108 وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4635)، في كتاب "التفسير"، الأنعام، ومسلم رقم (157)، كتاب الإيمان, باب بيان الزمن الذي لا يقبل في الإيمان -حديث- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت آمن الناس أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} "، ثم قرأ الآية. اهـ. وأخرج مسلم أيضًا - حديث رقم (158) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (ثلاث إذا خرجن {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) ا. هـ. وقال ابن =

من مكذبي محمد (إلى ذلك الوقت، والمراد بهذا بيان أن المشركين والمكذبين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا، فهم يتنعمون فيها، فإذا ماتوا أو ظهرت أمارات القيامة لم ينفعهم الإيمان؛ وحلت بهم العقوبة اللازمة لهم أبدًا. ثم قال: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} (أي: لا ينفعها الإيمان عند الآية التي تضطرهم إلى الإيمان؛ لأن الله جل وعز بعث الرسل بالآيات التي تتدبر، فيكون للمؤمن بها ثواب، ولو بعث الله على كل من لم يؤمن عذابا لاضطر الناس إلى الإيمان, وسقط التكليف والجزاء) (¬1) قاله أبو إسحاق. وقوله تعالى: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الأنعام:158] قال ابن عباس: ({قُلِ انْتَظِرُوا} يا (¬2) أهل مكة {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} بكم العذاب يوم القيامة، أو قبلها في الدنيا (¬3). ¬

_ = عطية في "تفسيره" 5/ 409: (يصح أن يراد جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية التي ترفع التوبة معها وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها وهو قول جمهور أهل التأويل، وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث: إما طلوع الشمس من مغربها، وإما خروج الدابة، وإما خروج يأجوج ومأجوج، وهذا فيه نظر؛ لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "تفسير الرازي" 14/ 7 وفيه: (أجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة) اهـ. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 308. (¬2) في (ش): (قل انتظروا إنا أهل مكة إنا متظرن ..)، وهو تحريف. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 76، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 146، وهو في "تفسير البغوي" 3/ 207 بدون نسبة.

159

وقوله تعالى: {قُلِ انْتَظِرُوا} دليل على أن قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ (¬1) إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ (¬2) الْمَلَائِكَةُ} استفهام معناه: النفي، وذلك النفي خبر يتضمن النهي على ما بينا، ألا ترى أنه أمرهم بانتظار هذه الأشياء في آخر الآية، والدليل على هذه الجملة أن المشركين والكفار في ذلك الوقت كانوا غافلين لاهين ما كانوا ينتظرون شيئًا مما ذكر في هذه الآية، وكذلك في كل وقت. 159 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} الآية. قال ابن عباس (¬3)، في رواية عطاء: (يريد: المشركين بعضهم يعبدون الملائكة يزعمون بأنهم بنات الله، وبعضهم يعبد الأصنام {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}) (¬4) [يونس: 18]. فهذا معنى {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي: فرقًا وأحزابًا في الضلالة، فتفريقهم دينهم أنهم لم يجتمعوا في دينهم الذي هو شرك على شيء واحد، ¬

_ (¬1) في النسخ: (هل ينتظرون ..)، وهو تحريف. (¬2) في (أ): (يأتيهم) بالياء. (¬3) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1430 عن ابن عباس بسند جيد في الآية قال: (أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) ا. هـ. وفي "تنوير المقباس" 2/ 77 قال: (تركوا دينهم ودين آبائهم وصاروا فرقًا، اليهودية والنصرانية والمجوسية) ا. هـ. وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 104، 105، وابن أبي حاتم 5/ 1430، والنحاس في "ناسخه" 2/ 356، عن ابن عباس بسند ضعيف قال: (اليهود والنصارى) اهـ. ملخصًا. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 7.

وقال مجاهد (¬1) وقتادة (¬2) والكلبي (¬3): (هم اليهود والنصارى)، وهو قول مقاتل (¬4) أيضًا، والسدي (¬5)، وأصح (¬6) القولين (¬7)، واختيار الفراء (¬8) والزجاج. قال الزجاج (¬9): (يعني: به اليهود والنصارى، وذلك [أن النصارى] (¬10) يكفر بعضهم بعضًا، وكذلك اليهود، وهم أهل كتاب واحد، وهو التوراة، والنصاري يكفر اليهود، واليهود يكفر النصارى) (¬11) ¬

_ (¬1) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 1/ 577، والثعلبي في "الكشف" 178 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 146، والبغوي في "تفسيره" 3/ 208، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 229 قال: (يهود)، وأخرجه الطبري في تفسيره 8/ 105 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 118. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 222، والطبري 12/ 269 - 270، وابن أبي حاتم 3/ 129 أبسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 118. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 146، وهو في "تنوير المقباس" 2/ 77. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 599. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 105، وابن أبي حاتم 5/ 1430، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 403. (¬6) في (ش): (في أصح)، وهو تحريف. (¬7) الظاهر إن الآية عامة تشمل كل أهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 105، والنحاس في "إعراب القرآن" 2/ 110، وابن كثير 2/ 219، والشوكاني 2/ 259. (¬8) "معاني الفراء" 1/ 266. (¬9) "معاني الزجاج" 2/ 308. (¬10) لفظ: (أن النصارى) ساقط من (ش). (¬11) كذا في النسخ، والصواب: (والنصارى يكفرون اليهود، واليهود يكفرون النصارى) وعند الزجاج في معانيه 2/ 308: (وبعضهم يكفر بعضًا، أعني اليهود تكفر النصارى، والنصارى تكفر اليهود) اهـ.

وعلى هذا معنى {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ما قال يمان بن رئاب: (أخذوا [ببعض] (¬1) وتركوا بعضًا، كما قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (¬2) [البقرة: 85]، فهم خلاف المسلمين (¬3) الذين وصفوا بالإيمان به كله في قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] وقال في وصفهم أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150]. ومعنى قوله {دِينَهُمْ} قال مقاتل: (هو الإِسلام الذي أمروا به) (¬4) يعني: دينهم الذي دعوا إليه وشرع لهم، فسمى شريعة الإسلام دينهم، وإن لم يجيبوا إليه، ولم يأخذوا به؛ لأنهم قد شرع لهم ذلك، ودعوا إليه، فلهذا الالتباس الذي لهم به جاز أن يضاف إليهم، وقرأ حمزة (¬5) والكسائي (فارقوا دينهم) (¬6) أي: باينوه وخرجوا عنه، وهذا يؤول إلى معنى {فَرَّقُوا} ألا ترى أنهم لما آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه فارقوه كله، فخرجوا عنه ولم يتبعوه، وعلى هذه (¬7) القراءة إن تأولنا الآية في المشركين كما قال ابن ¬

_ (¬1) لفظ: (ببعض) ساقط من (ش). (¬2) لفظ: (وتكفرون ببعض) ساقط من (ش). (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 8 بدون نسبة. (¬4) هذا نص كلام أبي علي في "الحجة" 3/ 438. (¬5) "تفسيرمقاتل" 1/ 599. (¬6) قرأ حمزة والكسائي: (فارقوا) بالألف مع تخفيف الراء، وقرأ الباقون: (فرقوا) بغير ألف مع تشديد الراء. انظر: السبعة ص 274، و"المبسوط" ص 177، و"التذكرة" 2/ 413، و"التيسير" ص 108، و"النشر" 2/ 266. (¬7) هذا نص كلام أبي علي في الحجة 3/ 438، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 396، و"إعراب القراءات" 1/ 173، و"الحجة" لابن خالويه ص 152، ولابن زنجلة 278، و"الكشف" 1/ 458.

عباس (¬1) -رضي الله عنه-، فالدين [الذي] (¬2) فارقه المشركون التوحيد الذي نصب لهم عليه أدلته؛ لأن المشركين لم يكونوا أهل كتاب، ولا ممسكين بشريعة ثم تركوها حتى يقال: (فارقوا دينهم) ولكن إضافة الدين إليهم كإضافته إلى اليهود على ما بينا، ومثل هذا قوله: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] أي: دينهم الذي دعوا إليه وشرع لهم، ألا ترى أنهم لا يلبسون عليهم دينهم الذي هو الإشراك. وقال مجاهد فيما روى عنه ليث (¬3): {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (هم من هذ الأمة) (¬4). وكذلك روي عن طاووس (¬5) وعائشة (¬6) وعن أبي هريرة (¬7) روي مرفوعًا (¬8): أنهم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة، ذلك أنهم أبدعوا في الدين، وخالفوا الجماعة العظمى، وصاروا شيعًا مختلفين. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) لفظ: (الذي) ساقط من (ش). (¬3) ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم، أبو بكر الكوفي، تقدمت ترجمته. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 8. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 105، وابن أبي حاتم 5/ 1429، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 117، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الطبري". (¬8) المرفوع جاء من ثلاثة طرق: الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عائشة، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، ليست لهم توبة. يا عائشة، إن لكل صاحب ذنب توبة =

قال أبو إسحاق: (وفي هذه الآية حث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع) (¬1). وقوله تعالى: ¬

_ = غير أصحاب البدع والأهواء ليس لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني براء" اهـ. أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1430، والطبراني في "الصغير" 1/ 203، والواحدي في "الوسيط" 1/ 147، وذكر السيوطي في "الدر" 3/ 117، وزاد نسبته إلى: (الحكيم الترمذي وأبي الشيخ وأبي نعيم في "الحلية" وابن مردويه وأبي نصر السجزي في الإبانة والبيهقي في "شعب الإيمان". وذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 219، وقال: (رواه ابن مردويه وهو غريب ولا يصح رفعه) ا. هـ. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 22، وقال: (رواه الطبراني في الصغير وإسناد جيد) ا. هـ. وقال في 1/ 188: (رواه الطبراني في الصغير, وفيه بقية بن الوليد ومجالد بن سعيد، وكلاهما ضعيف). وقال الحافظ في "التقريب" 1/ 105: (بقية صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، علق له البخاري، وروي له الباقون). الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} قال: (هم أهل البدع، وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة" اهـ. أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 105، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 117، وزاد نسبته إلى: (الحكيم الترمذي والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه)، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 219، وقال: (رواه ابن جرير، وإسناده لا يصح، فيه عباد بن كثير، متروك الحديث) ا. هـ وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 22 - 23 وقال: (رواه الطبراني في الأوسط, ورجاله رجال الصحيح، غير معلل بن نفيل، وهو ثقة) ا. هـ. الثالث: عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل: " {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} قال: هم الخوارج" اهـ. أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1429، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 117، وزاد نسبته إلى: (النحاس وابن مردويه). وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 219، والشوكاني 2/ 260، وقالا: (لا يصح رفعه) اهـ. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 308، وذكر مثله السمرقندي في "تفسيره" 1/ 527، وانظر "تفسير" ابن عطية 5/ 410، والقرطبي 7/ 149.

{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} قال الكلبي: (لست من قتالهم [في شيء]) (¬1)، وقال السدي: (يقول: لم تؤمر بقتالهم، فلما أمر بقتالهم نسخ هذا) (¬2)، كذلك قال ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4) والكلبي والسدي: إن قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} منسوخ، نسخه السيف في سورة براءة (¬5). قال ابن الأنباري: (معنى (¬6) {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬7) أنت منهم بريء، وهم منك برآء (¬8) لم تلتبس بشيء من مذاهبهم، والعرب تقول: إن كلمت فلانًا فلست منك ولست مني، يريدون: كل واحد منا برئ من صحبه. قال النابغة: إِذَا حَاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُورًا ... فَإنّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنّي (¬9) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 77. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 106، وابن أبي حاتم 5/ 1431 بسند جيد. (¬3) أخرجه النحاس في "ناسخه" 2/ 356 بسند ضعيف. (¬4) لم أقف عليه، وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 366، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 527. (¬5) آية السيف في أصح الأقوال هي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] انظر: النسخ في القرآن الكريم للدكتور/ مصطفى زيد 2/ 504. (¬6) في (أ): (يعني). (¬7) لفظ: (في شيء) ساقط من (ش). (¬8) في (ش): (وهم منك براء، وتأويلهم لم تلتبس بشيء من مذاهبهم). (¬9) ديوان النابغة الذبياني ص 127، و"الكتاب" 4/ 186، و"تفسير الماوردي" 2/ 193، والقرطبي 7/ 150، و"البحر المحيط" 4/ 260، و"الدر المصون" 5/ 236 - 237، والفجور بالضم: الريبة والكذب، والشاعر يريد نقض الحلف، انظر: "اللسان" 7/ 3352 (فجر).

160

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" (¬1) معناه (¬2): فنحن منه برآء) (¬3). 160 - قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قال ابن عباس (¬4): وقتادة (¬5) والسدي (¬6) ومجاهد (¬7) والضحاك: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 50، والدرامي 3/ 1655 (2583)، ومسلم في "صحيحه" رقم (164)، وأبو داود (3452)، وابن ماجه (2224 - 2225)، والترمذي (1315)، وقال: (حديث حسن صحيح)؛ كلهم في السنن كتاب البيوع، باب النهي عن الغش، ومسلم في باب الإيمان باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا"، وابن ماجه في كتاب التجارات باب النهي عن الغش. (¬2) قال ابن الأثير في "النهاية" 3/ 369: (الغش: ضد النصح من الغشش، وهو المشرب الكدر، وقوله: "ليس منا" أي: ليس من أخلاقنا ولا على سنتنا) اهـ. (¬3) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وعلى هذا القول تكون الآية محكمة غير منسوخة، وهو الظاهر؛ لأنها خبر، والمعنى: أنت بريء منهم، وهم منك براء، وليس إليك شيء من أمرهم، وإنما أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 106، 107، والنحاس في ناسخه 2/ 356، ومكي في "الإيضاح" ص 247، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 411، والرازي 14/ 8، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لابن حزم ص 38، ولابن العربي 2/ 213، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 337، و"النسخ في القرآن الكريم" لمصطفى زيد 1/ 441. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 109 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 119. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1431 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال بعده: (وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعلي بن حسين وسعيد بن جبير والحسن، وعطاء ومجاهد وأبي صالح ذكوان ومحمد بن كعب القرظي والنخعي والضحاك والزهري وعكرمة وزيد بن أسلم وقتادة نحو ذلك) اهـ. (¬6) لم أقف عليه، وقد رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 108، 109 من طرق عن جماعة من السلف رضى الله عنهم. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 109 بسند لا بأس به عن مجاهد والضحاك.

(يريد: شهادة أن لا إله إلا الله)، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات) (¬1)، وحذفت الهاء من {عَشْرُ}، والأمثال جمع: مثل (¬2)، والمثل مذكر؛ لأنه أريد: عشر حسنات أمثالها، ثم حذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها، وحذف الموصول كثير في الكلام، يقوى هذا قراءة من قرأ {عَشْرُ أَمْثَالِهَا} بالتنوين والرفع (¬3)، وقال أبو علي: (اجتمع هاهنا أمران، كل واحدٍ منهما يوجب التأنيث، فلما اجتمعا قوي التأنيث، أحدهما: أن الأمثال في المعنى حسنات، فجاز التأنيث، كقوله (¬4): ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 148، وابن الجوزي في تفسيره 3/ 159. (¬2) المثل: بكسر فسكون كلمة تسوية ويقال: مثل بالفتح، ويراد به الشبه، والصفة، والشيء الذي يضرب لشيء مثلا فيجعل مثله، انظر: "اللسان" 7/ 4133 (مثل). (¬3) قرأ يعقوب الحضرمي والحسن والأعمش وغيرهم: (عشر) بالتنوين (وأمثالُها) برفع اللام، صفة لعشر، أي: فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة، وقرأ الجمهور: (عشر) بغير تنوين، (أمثالِها) بالخفض على الإضافة، انظر: "تفسير الطبري" 8/ 110، و"إعراب النحاس" 1/ 595، و"مختصر الشواذ" ص 41، تفسير السمرقندي 1/ 527، والمشكل 1/ 278، و"البحر المحيط" 4/ 261، و"النشر" 2/ 266 - 267، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 220. (¬4) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 126، والكتاب 3/ 566، و"الكامل" للمبرد 2/ 251، و"الخصائص" 2/ 417، و"المخصص" 17/ 117 وصدره: فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتّقَّي والكاعب، بالكسر: التي نهد ثديها، انظر: "اللسان" 7/ 3888 (كعب)، والمعصر، بضم فسكون وكسر الصاد: التي بلغت عصر شبابها، انظر: "اللسان" 5/ 2969 (عصر) والمجن: الترس، والشاهد: معاملة شخوص معاملة المؤنث؛ لأنه أراد النساء.

ثَلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَاتٍ (¬1) ومُعْصِرُ فأراد بالشخوص: نساء (¬2)، والآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنث وإن كان مذكرًا كقول من قرأ (¬3): (تلتقطه بعض السيارة) [يوسف: 10] (¬4) والأمثال يراد: بها حسنات أمثالها من جهة المجانسة تثبت (¬5) لصاحبها، ثم الجزاء يقع لصاحبها على تلك العشر، وليس في الآية ذكر الجزاء بالحسنة، إنما ذكر أن لصاحب الحسنة الواحدة عشر حسنات (¬6). [و] (¬7) قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} قال ابن عباس: (يريد: الخطيئة، قال: وهذا للمؤمنين) (¬8) ومعنى: {إِلَّا مِثْلَهَا} إلا جزاء مثلها، يوازيها ويماثلها, لا يكون أكثر منها، وروى أبو ذر (أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ: (كاعبات)، ولم أقف عليه بهذا اللفظ، وفي المراجع: (كاعبان) بالنون. (¬2) في (ش): (نسبًا)، وهو تحريف. (¬3) قراءة العامة: (يلتقطه بعض السيارة) بالياء، وقرأ مجاهد والحسن وقتادة. (تلتقطه) بالتاء لتأنيث المعنى ولإضافته إلى مؤنث. انظر: "إعراب النحاس" 2/ 126، و"مختصر الشواذ" ص 67، و"الدر المصون" 6/ 447، و"الإتحاف" ص 262. (¬4) "التكملة" لأبي علي ص 270، وانظر: تفصيل ذلك في الكتاب 3/ 561 - 567، ومعاني الأخفش 2/ 291، والفراء 1/ 366 - 367، والزجاج 2/ 309، و"تفسير الطبري" 8/ 110، و"إعراب النحاس" 1/ 595. (¬5) في (ش): (يثبت) بالياء. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 310، و"تفسير القرطبي" 7/ 151. (¬7) لفظ: "الواو" ساقط من (ش). (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 148، والراجح أن المراد بالحسنة والسيئة العموم، وأصل الحسنات التوحيد، وأسوأ السيئات الشرك، وهو اختيار ابن عطية في "تفسيره" 5/ 412، والرازي 14/ 8، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 220.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن (¬1) الله تعالى قال: الحسنة عشر، أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، وإن لم يعملها، فإن عملها فعشر أمثالها، وإن هم بسيئة فلا تكتبوها، فإن عملها فسيئة" (¬3). وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قال ابن عباس: (لا ينقص ثواب أعمالهم) (¬4). ¬

_ (¬1) لفظ: (إن الله تعالى قال) ساقط من (ش). (¬2) في الباب أحاديث كثيرة ثابتة في الصحاح والسنن. انظر: "صحيح مسلم" رقم 203 - 208، و"تفسير ابن كثير" 2/ 220، 221، و"الدر المنثور" 3/ 119، 120، والأقراب إلى نص الواحدي هو ما أخرجه أحمد في المسند 5/ 180، ومسلم (2687)، و"الحاكم في المستدرك" 4/ 241 عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله عز وجل: الحسنة عشرًا أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها ..) الحديث. ولفظ: (فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره) ذكره الثعلبي في "الكشف" 187 أ، والقرطبي في "تفسيره" 7/ 151. (¬3) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (203)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرًا" ا. هـ. وأخرج مسلم رقم (207)، والبخاري 7/ 187 كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة أو سيئة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) اهـ. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 150، وفي "تنوير المقباس" 2/ 77 نحوه.

161

161 - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا} قال أبو إسحاق: (أما نصب {دِينًا} فمحمول على المعنى؛ لأنه لما قال: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} دل على عرفني، فكأنه قال: عرفني {دِينًا} قال: ويجوز أن يكون على البدل من معنى {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لأن معناه: هداني صراطًا مستقيمًا دينا، كما قال: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] (¬1). وقوله تعالى: {قِيَمًا} قال ابن عباس: (يريد: مستقيمًا) (¬2) ونحو ذلك قال الأخفش (¬3) والزجاج (¬4) في القيم، وهو من باب الميت (¬5) والصيب ونحوه، وقرأ أهل (¬6) الكوفة {قِيَمًا} مكسورة القاف خفيفة الياء. قال الزجاج: (وهو مصدر كالصغر (¬7) والكبر والحول والشيع). قال أبو علي: (وكان القياس أن يصحح فيه الواو كالعوض والحول، ولكنه شذ عن ¬

_ (¬1) انظر: معاني الزجاج 2/ 311، وإعراب النحاس 1/ 596، والحجة لأبي علي 3/ 440، والمشكل 1/ 279، والدر المصون 5/ 238. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 151. (¬3) "معاني الأخفش" 2/ 292. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 310، وهو قول الطبري في "تفسيره" 8/ 111، والنحاس في "معانيه" 2/ 525. (¬5) يريد قيم وزنه فَيْعِل وأصله قَيْوِم، اجتمعت الياء والواو، والأولى ساكنة، فقلبت الواو ياء وأدغمت ثم خفف اللفظ إلى قِيَم بكسر القاف وفتح الياء، ومثله مَيِّت وصَيِّب وسَيَّد ونحوه. انظر: اللسان 6/ 3785 (قوم). (¬6) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (قَيِّما) بفتح القاف وكسر الياء مشددة، وقرأ الباقون بكسر القاف وفتح الياء مخففة. انظر: السبعة ص 274، والمبسوط ص 177، والتذكرة 2/ 414، والتيسير ص 108، والنشر 2/ 267. (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 310 - 311، والنصر فيه: (مصدر كالصغر والكبر) فقط، ولفظ: (شيع) من "الحجة" لأبي علي 3/ 439، وانظر: "العضديات" ص 122.

162

القياس نحو ثيرة (¬1) وجياد في جمع جواد وكان القياس الواو (¬2)، كما قالوا: طويل وطوال) (¬3) وهذا مما ذكرناه مستقصى (¬4) في أول سورة النساء. وقوله تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {مِلَّةَ} بدل عن {دِينًا قِيَمًا} و {حَنِيفًا} منصوب على الحال {إِبْرَاهِيمَ} والمعنى: هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وهو هاهنا لإبراهيم أحسن منه لغيره لقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ قاله (¬5) أبو إسحاق (¬6). 162 - وقوله (¬7) تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي}. قال أهل اللغة (¬8): ¬

_ (¬1) ثمرة، بكسر الثاء وفتح الياء: جمع ثور ذكر البقر، قلبوا الواو ياء. انظر: "اللسان" 1/ 522 (ثور). (¬2) قال مكي في "المشكل" 1/ 279: (من قرأ (قيما) مشدد فأصله قيوم على فَيْعِل، ثم أبدل من الواو ياء، ثم أدغم، ومن خففه بناه على فعل، وكان أصله أن يأتي بالواو فيقول: قوما، كما قالوا: عوض وحول، ولكنه شذ عن القياس) اهـ. (¬3) "الحجة" لأبي علي 3/ 439 - 440. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 398، و"إعراب القراءات" 1/ 174، و"الحجة" لابن خالويه ص 152، ولابن زنجلة ص 279، و"الكشف" 1/ 459. (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 229 أ. (¬5) في (ش): (قال)، وهو تحريف. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 311، و"إعراب النحاس" 1/ 596، و"المشكل" 1/ 279. (¬7) وقع في نسخة: (ش) اضطراب في ترتيب الأوراق، فجاء الكلام على هذه الآيات في 146 ب. (¬8) النُّسْك، بضم فسكون: العبادة، والطاعة، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، واختصر بأعمال الحج. والنُّسُك -بالضم- والنسيكة: الذبيحة وانظر: "العين" 5/ 413، و"الجمهرة" 2/ 856، و"الصحاح" 4/ 1612، و"المجمل" 3/ 865، و"المفردات" ص 802، و"اللسان" 7/ 4412 (نسك)، ونص الواحدي في "تهذيب اللغة" 4/ 3562، وفيه: (النسك، بضم فسكون: الذبيحة) اهـ.

(النسك: العبادة من كل نوع، والنسك الذبيحة بعينها، تقول: من فعل كذا فعليه نسك، أي: دم يهريقه). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (النسك: سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، وقيل للمتعبد: ناسِك لأنه يخلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث) (¬1). وذكرنا طرفا من هذا (¬2) عند قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]. قال ابن عباس: {وَنُسُكِي} (يريد: ذبيحتي) (¬3)، [وقال مقاتل: (نسكي: حجي) (¬4). وقال مجاهد: (ذبيحتي] (¬5) في الحج والعمرة) (¬6). وقال الزجاج: (النسك كل ما تقربت به إلى الله عز وجل إلا أن الغالب عليه أمر الذبح) (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3562. (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 87 أ. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 151، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 161، وأبو حيان في "البحر" 4/ 262. (¬4) لعل المراد مقاتل بن حيان، فقد أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1434 بسند جيد عنه، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 151، وفي "تفسير مقاتل بن سليمان" 1/ 900 قال: (يعني: ذبيحتي) اهـ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من: (ش). (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 229، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 112، وابن أبي حاتم 5/ 1434 بسند جيد. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 151، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 161، وفي "معاني الزجاج" 2/ 311: (النسك: الذبح، والنسك: ما يتقرب به إلى الله جل وعز) ا. هـ. وانظر: "معاني النحاس" 2/ 525 - 526.

وقوله تعالى: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي: حياتي وموتي لله، أي: هو يحييني وهو يميتني، وقرأ نافع {وَمَحْيَايَ} (¬1) ساكنة الياء، ونصبها في {وَمَمَاتِي}، وإسكان الياء في {وَمَحْيَايَ} شاذ غير مستعمل؛ لأن فيه جمعًا بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحدّ في نثر ولا نظمٍ (¬2). قال الزجاج: (أما {وَمَحْيَايَ} فلا بد من فتحها لأن قبلها ساكنا) (¬3) ووجه هذه القراءة ما حكى بعض البغداديين: (أنه سمع: التقت حلقتا ¬

_ (¬1) قرأ نافع: (مَحْيايْ) بسكون ياء المتكلم، (ومَماَتِيَ) بفتح الياء، وقرأ الباقون: (مَحْيَايَ) بفتح الياء و (مَمَاتِي) ساكنة الياء. انظر: "السبعة" ص 274 - 275، و"المبسوط" ص 177، و"التذكرة" 2/ 415، و"التيسير" ص 108 - 109، و"النشر" 2/ 172 - 173. (¬2) هذا قول أبي علي في "الحجة" 3/ 440 - 441، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 399. وتسكين الياء له عدة توجيهات، فيحتمل أنه عدل بها عن أصلها استثقالًا للحركة عليها؛ لأن الياء حرف ثقيل فإذا حُرك ازداد ثقلا إلى ثقله، أو أجرى الوصل فيه مجرى الوقف، قال ابن خالويه في "إعراب القراءات" 1/ 174: (وإنما صلح الجمع بين ساكنين؛ لأن الألف حرف لين) ا. هـ وقال مكي في "المشكل" 1/ 279: (حق الياء الفتح، لكن الحركة في الياء ثقيلة، فمن أسكنها فعلى الاستخفاف، لكنه جمع بين ساكنين، والجمع بين ساكنين جائز إذا كان الأول حرف مد ولين؛ لأن المد الذي فيه يقوم مقام حركة يستراح عليها فيفصل بين الساكنين) اهـ. وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 596: (قرأ أهل المدينة (ومحيايْ) بإسكان الياء في الإدراج، وهذا لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس؛ لأنه جمع بين ساكنين، وإنما أجازه لأن قبله ألفًا، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة، ومن أراد أن يسلم من اللحن وقف على (محياي) فيكون غير لاحن عند جميع النحويين) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص 95، و"البحر المحيط" 4/ 262. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 311.

163

البطان (¬1) بإسكان الألف مع سكون لام المعرفة)، حكى أيضًا: له (¬2) ثلثا المال. ومثل هذا ما جوّزه يونس (¬3) من قوله: (اضربان زيدًا واضربنان زيدًا) (¬4)، وسيبويه (¬5) ينكر هذا من قول يونس (¬6)، قال الزجاج: (ومعنى الآية: أنه يخبر بأنه إنما يتوجه بالصلاة (¬7) وسائر المناسك إلى الله عز وجل لا إلى غيره، كما كان المشركون يذبحون لأصنامهم، فأعلم أنه لله وحده لا شريك له) (¬8). 163 - وقوله تعالى: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}. قال ابن عباس: (يقول: بذلك أوحى الله إلى. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} قال: يريد: أول من أسلم لله بقلبه ولسانه وجوارحه) (¬9). وقال قتادة: ({وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة) (¬10). وقال ¬

_ (¬1) البطان، بالكسر: الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير، وفيه حلقتان، فإذا التقتا فقد بلغ الشَّدُّ غايته، يضرب مثلًا في الحادثة إذا بلذت النهاية في الشدة والصعوبة. انظر: "الكامل للمبرد" 1/ 18، و"جمهرة الأمثال" 1/ 188، و"مجمع الأمثال" 3/ 147، و"المستقصى" للزمخشري 1/ 306. (¬2) لفظ: (له) مكرر في (ش). (¬3) يونس بن حبيب الضبي إمام، تقدمت ترجمته. (¬4) "الكتاب" 3/ 527، و"إعراب النحاس" 1/ 596. (¬5) قال في "الكتاب" 3/ 527: (هذا لم تقله العرب، وليس له نظير في كلامها, لا يقع بعد الألف ساكن إلا أن يدغم) اهـ. (¬6) ما سبق في توجيهه القراءة هو قول أبي علي في "الحجة" 3/ 440. (¬7) في: (ش): (إنما يتوجه الصلاة)، وهو تحريف. (¬8) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 311، و"معاني النحاس" 2/ 525 - 526. (¬9) ذكر الواحدي في "الوسيط" 1/ 152 عن ابن عباس قال: (بذلك أوحي إليّ) ا. هـ. ولم أقف عليه عند غيره. (¬10) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 223، والطبري 8/ 112، وابن أبي حاتم 5/ 1435 بسند جيد.

164

الكلبي: (أول من أطاع الله عز وجل من أهل زمانه) (¬1). وقال مقاتل: (أول المخلصين من أهل مكة) (¬2). 164 - قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [قال ابن عباس: (يريد سيدًا وإلها وهو سيد كل أحد) (¬3). وقال غيره: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا}]، (¬4) (من الأوثان أعبدها، وهو رب كل شيء) (¬5). قال الزجاج: (أي: هو ابتدع الأشياء كلها , ولا يقدر أحد على ابتداع شيء واحدٍ منها) (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} أي: لا تجني نفس [ذنبًا] (¬7) إلا أخذت به، وكان أثمه على الجاني نفسه. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [ذكرنا معنى الوزر (¬8) عند قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: الوليد بن المغيرة، وكان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم فقيل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى})] (¬9) أي: لا تؤخذ [كل] (¬10) نفس آثمة بإثم أخرى، لا يؤخذ أحد بذنب غيره) (¬11). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 187 أ، وأبو حيان في "البحر" 4/ 262. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 152، وفي "تفسير مقاتل" 1/ 600: (يعني: المخلصين من أهل مكة) اهـ. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 153، والبغوي في "تفسيره" 3/ 212. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 600، والطبري 8/ 113. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 311. (¬7) لفظ: (ذنبًا) ساقط من (ش). (¬8) انظر: "البسيط". (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬10) لفظ: (كل) ساقط من (أ). (¬11) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 153 - 154، والبغوي في "تفسيره" 3/ 212، =

165

وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: إنك يا محمد تخاصمهم عندي يوم القيامة بما كذبوك) (¬1). 165 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} الآية. ذكرنا [ما] (¬2) في الخليفة في سورة البقرة. قال المفسرون: ({وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ}) يا أمة محمد {خَلَائِفَ} الأمم الماضية بأن أهلكهم (¬3) وأورثكم الأرض بعدهم، فمحمد (خاتم الأنبياء، وأمته خلفوا سائر الأمم) (¬4). وقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [قال الكلبي: (فضائل في المعاش) (¬5)، وقال مقاتل: (درجات)] (¬6) في الفضل والغنى) (¬7)، وقال السدي: (في الرزق) (¬8). ¬

_ = والقرطبي 7/ 157، و"الخازن" 2/ 208، وقال السيوطي في "الدر" 3/ 123: (أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: (لا يؤخذ أحد بذنب غيره). وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 312. (¬1) لم أقف عليه. وانظر: "تنوير المقباس" 2/ 79. (¬2) لفظ: (ما) ساقط من (ش). (¬3) في (ش): (أن أهلكتهم). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 600، و"معاني الفراء" 1/ 367، و"تفسير الطبري" 8/ 114، و"معاني الزجاج" 2/ 312، و"معاني النحاس" 2/ 526، و"تفسير السمرقندي" 1/ 529. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 79 وفيه: "فضائل بالمال والخدم) ا. هـ وقال الواحدي في "الوسيط" 1/ 154: (في المعاش والغنى والرزق. قال الكلبي ومقاتل والسدي) اهـ. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬7) "تفسير مقاتل" 1/ 600 - 601. وفيه: (يعني: الفضائل والرزق ..) اهـ. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 114، وابن أبي حاتم 5/ 1436 بسند جيد.

وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} قال أبو إسحاق: (دل بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (¬1) أنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق ليختبرهم فيما رزقهم، وهو جل وعز عالم [بما يكون] (¬2) منهم قبل ذلك إلا أنه اختبرهم ليظهر منهم ما يكون عليه الثواب والعقاب) (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}. قال ابن عباس: (يريد: لأعدائه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهلاكهم وقتلهم. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} يريد: غفور لأوليائه رحيم بهم) (¬4). وقال غيره (¬5): {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} (أراد في الآخرة وجعله سريعًا؛ لأن كل ما هو آت قريب)؛ وهو معنى قول الزجاج (¬6). ¬

_ (¬1) لفظ: "الواو" ساقط من (ش). (¬2) لفظ: (بما يكون) ساقط من (ش). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 312، وانظر: تفسير الطبري 8/ 114، و"معاني النحاس" 2/ 527. (¬4) في "تنوير المقباس" 2/ 79 نحوه، وذكر البغوي "تفسيره" 3/ 212 عن عطاء قال: (سريع العقاب لأعدائه، غفور لأوليائه رحيم بهم) اهـ وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 114. (¬5) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 197، واللفظ عام يشمل الدنيا والآخرة. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 312، و"معاني النحاس" 2/ 527.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الأعراف تحقيق د. محمد بن منصور الفايز أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء التاسع

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الأعراف تحقيق د. محمد بن منصور الفايز أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء التاسع

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, على بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ على بن أحمد الواحدي, محمد بن منصور الفايز, الرياض 1430 هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 6 - 866 - 04 - 9960 - 978 (ج 9) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, على بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 6 - 866 - 04 - 9960 - 978 (ج9)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [9]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)

[تفسير] سورة الأعراف

[تفسير] (¬1) سورة الأعراف {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 1 - {المص} قال أبو إسحاق: (الذي اخترنا (¬2) في تفسيرها قول ابن عباس (¬3) -رضي الله عنه- (¬4): (إن معناها أنا الله أعلم، وأفضل)، وعلى هذا التفسير: هذه الحروف واقعة في موضع جُمل، والجمل (¬5) إذا كانت ابتداء وخبرًا فقط لا موضع لها. مثل قولك: أنا الله أعلم. لا موضع لها من الإعراب، إنما يرتفع بعض ذا ببعض؛ فالله يرتفع [بأنا] (¬6)، و (أعلم) خبر مستأنف يراد به: وأنا أعلم (¬7)، وإذا كان معنى {المص}: أنا الله أعلم كان إعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها) (¬8). ¬

_ (¬1) لفظ: (تفسير) ساقط من (أ). (¬2) في (ب): (أخبرنا)، وهو تصحيف. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 115، وابن أبي حاتم 5/ 1437، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 232 عن ابن عباس قال: (أنا الله أفصل) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 125. وفي سنده عطاء بن السائب الثقفي، صدوق اختلط فساء حفظه - انظر "تهذيب التهذيب" 3/ 103. والراجح أن الحروف المقطعة في أوائل السور حروف هجائية. ذكرت للدلالة على إعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها ليكون عجزهم أبلغ في "الحجة" عليهم وهذا اختيار جماعة من المحققين انظر: "الكشاف" 1/ 76، و"تفسير ابن كثير" 2/ 224، والشوكاني 2/ 273، والشنقيطي 3/ 3 - 7. (¬4) في (أ): (رحمه الله). (¬5) في (أ): و (الجملة). (¬6) في (ب): (يرتفع أنا). (¬7) لفظ: (الواو) ساقط من (ب)، ويريد أن قوله: "أعلم خبر بعد خبر". انظر "تفسير الرازي" 14/ 14، حيث نقل قول الواحدي. (¬8) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 313 - 314

2

2 - قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، أجمع النحويون: على أن الكتاب مرفوع بمضمر قبله، المعنى: هذا {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (¬1). وأجاز الفراء أن يكون موضع هذه الحروف المعجمة رفعًا بما بعدها، و {كِتَابٌ} مرتفع بها كالمبتدأ والخبر، والمعنى: {المص} حروف {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وأطال الكلام في بيان هذا (¬2)، ثم أنكر الزجاج (¬3) عليه هذا القول، وطال الخطب بينهما، وإذا رجعت إلى كتابيهما عرفت ما أقول. وقوله تعالى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2]. قال ابن عباس (¬4) وأبو العالية: (ضيق) (¬5). قال أبو إسحاق: (معناه: لا يضيق صدرك بالإبلاغ ولا تخافن؛ وذلك أنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أي رب إني أخاف أن يثلغوا (¬6) رأسي" (¬7)، فأعلم الله عز وجل ¬

_ (¬1) هذا نص كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 314، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 293 "إعراب النحاس" 1/ 98 , "المشكل" 1/ 281. (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 369 - 370. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 213 - 214 "إعراب النحاس" 1/ 598. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 80، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 156، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص 23 - 25، والوزان 3 ب عن ابن عباس قال: (حرج: ضيق بلغة قيس عيلان، وشك بلغة قريش). (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف" 187 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 213. (¬6) في (ب): (تبلغوا)، وهو تحريف - والثلغ: الشدخ وضرب الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. انظر "النهاية" 1/ 220. (¬7) هذا طرف من حديث طويل أخرجه أحمد في "المسند" 4/ 162، ومسلم في "صحيحه" رقم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله (قال =

أنه في أمان منهم، فقال: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} أي: فلا يضيقن صدرك من تأدية ما أرسلت به) (¬1). وقال الفراء: (لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك) (¬2). وقال مجاهد (¬3) ومقاتل (¬4): (فلا يكن في قلبك شك (¬5) في القرآن أنه من الله). وقال أبو إسحاق: (وتأويل هذا، وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الآية [يونس: 94] أن ما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو خطاب لأمته فكأنه بمنزلة: فلا تشكوا ولا ترتابوا) (¬6). قال ابن قتيبة: (وأصل الحرج الضيق، والشك في الشيء يضيق صدره؛ لأنه لا يعلم حقيقته فسمي الشك حرجا) (¬7) وأما اشتقاق هذا الحرف فقد ذكرناه في سورة الأنعام [125]. ¬

_ = ذات يوم في خطبته: "إن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة .. ". الحديث. ومعنى يثلغوا رأسي، أي: يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي: يكسر. أفاده الإِمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" 17/ 289. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 315، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 7 - 8 (¬2) "معاني الفراء" 1/ 370. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 231، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 116، وابن أبي حاتم 5/ 1438 بسند جيد. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 29. (¬5) في (أ): (شيء)، وهو تحريف. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 315، ومثله في "معاني النحاس" 2/ 7 - 8 والراجح أن المراد بالحرج في الآية الضيق لأن ذلك هو الغالب من معناه في كلام العرب وهو اختيار أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 210، والطبري في "تفسيره" 8/ 116، وابن عطية 5/ 423، وأبي حيان في "البحر" 4/ 266. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 176.

وقوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ}. قال الفراء: (اللام في {لِتُنْذِرَ} متعلق بقوله {أُنْزِلَ} على التقديم والتأخير، على تقدير {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} لتنذر به {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}) (¬1). وقال ابن الأنباري: (ويجوز أن تكون اللام صلة للكون (¬2) على معنى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ} شيء (¬3) {لِتُنْذِرَ بِهِ}، كما يقول الرجل من العرب للرجل: لا تكن ظالما ليقضي (¬4) صاحبك دينه، فتحمل (¬5) لام كي على الكون) (¬6). قال صاحب النظم (¬7): (وفيه وجه آخر: وهو أن تكون (¬8) اللام بمعنى أن، والمعنى (¬9): لا يضيق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به، والعرب تضع هذه اللام في موضع (أن) كقوله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} [التوبة: ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 370، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 315، و"تفسير الطبري" 8/ 117، و"معاني النحاس" 3/ 8. (¬2) في (ب): (ليكون). (¬3) في (ب): (شك). (¬4) في (أ): (لتقضى) بالتاء. (¬5) في (أ): (فيحمل) بالياء. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 16، وأبو حيان في "البحر" 4/ 266، ونقله السمين في "الدر" 5/ 242 - 243 عن الواحدي عن ابن الأنباري، وانظر: كلام ابن الأنباري على مادة حرج في "الزاهر" 1/ 236، و"المذكر والمؤنث" 1/ 258، و"شرح القصائد" ص 321، ص 580، و"إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 650. (¬7) صاحب "النظم"، أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني. تقدمت ترجمته، وكتابه "نظم القرآن" مفقود. (¬8) في (أ): (يكون) بالباء. (¬9) في (ب): (فالمعنى).

32] وفي موضع آخر {لِيُطْفِئُوا} [الصف: 8]، وهما جميعا بمعنى واحد) (¬1). وقوله تعالى: {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: ومواعظ للمصدقين) (¬2). قال الزجاج: (هو اسم في موضع المصدر وفيه ألف التأنيث بمنزلة دعوت دعوى، ورجعت رجعى، واتقيت تقوى) (¬3). وقال الليث: (الذكرى اسم للتذكرة) (¬4) والتفعلة مصدر كالتفعيل نحو قوله تعالى {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} [ق: 8]. وأما محل {ذِكْرَى} من الإعراب، فقال الفراء: (يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: {لِتُنْذِرَ بِهِ} وتذكر، قال: ويجوز أن يكون رفعًا بالرد على الكتاب كأنك قلت: كتاب حق وذكرى (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 16، وأبو حيان في "البحر" 4/ 266، ونقله السمين في "الدر" 5/ 242 - 244، وقال: (هذا قول ساقط جدًّا؛ كيف يكون حرف يختص بالأفعال يقع موقع آخر مختص بالأسماء. ونقل الشيخ أبو حيان في "البحر" عن ابن الأنباري وصاحب النظم: أن اللام متعلقة بما تعلق به خبر الكون إذ التقدير: فلا يكن حرج مستقرًا في صدرك لأجل الإنذار، والذي نقله الواحدي عن نص ابن الأنباري في ذلك أن اللام متعلقة بالكون وعن صاحب النظم أن اللام بمعنى أن، فيجوز أن يكون لهما كلامان) اهـ. ملخصًا. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 599، و"البيان" 1/ 353، و"التبيان" ص 367، و"الفريد" 2/ 266. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 17، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 156 بدون نسبة. وفي "تنوير المقباس" 2/ 80 نحوه. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 316. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 1286، وانظر: "العين" 5/ 346، وأصل الذكر بالكسر حفظ الشيء وجرى الشيء على اللسان، والذكر والذكرى بالكسر ضد النسيان، انظر: "الجمهرة" 2/ 694، و"الصحاح" 2/ 664، و"المجمل" 2/ 360، و"المفردات" ص 328، و"اللسان" 3/ 1507. (ذكر). (¬5) انظر: "معاني الفراء" 1/ 370.

3

وقال الزجاج: (ويجوز على أن يكون وهو {ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، قآل: ويجوز أن يكون خفضًا؛ لأن معنى {لِتُنْذِرَ}: لأن تنذر فهو في موضع خفض؛ لأن المعنى للإنذار والذكرى) (¬1). 3 - وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. قال الحسن: (يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2)؛ والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها) (¬3). ونحو هذا قال الزجاج: (أي: اتبعوا القرآن وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه مما أنزل عليه؛ لقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4) [الحشر: 7]. وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}. قال ابن عباس: (يريد: لا تتخذوا غيره أولياء، {قَلِيلًا} يا معشر المشركين {مَا تَذَكَّرُونَ} يريد: ما تتعظون) (¬5). وهذا من قول ابن عباس يدل على أن الآية خطاب ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 315 - 316، وعلى هذا فيه ثلاثة أوجه: الرفع: عطفًا على كتاب أو على إضمار مبتدأ، والنصب: على المصدر أي وتذكر ذكرى أو على العطف على موضع التنذر). والجر على العطف على المصدر المنسبك في أن المقدرة بعد لام كي أي: للإنذار والتذكير أو على الضمير في (به) وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 599، و"المشكل" 1/ 281، و"البيان" 1/ 353، و"التبيان" ص 367، و"الفريد" 2/ 266، و"الدر المصون" 5/ 244. (¬2) في (أ): (صلى الله عليه). (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 156، والرازي في "تفسيره" 14/ 18، و"الخازن" 2/ 209. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 316، ونحوه ذكر الطبري في "تفسيره" 8/ 117، والنحاس في "معانيه" 3/ 8 - 9 والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 530. (¬5) في "تنوير المقباس" 2/ 81 نحوه دون لفظ (المشركين).

للمشركين (¬1)، و {تذكرون} أصله تتذكرون فأدغم تاء تتفعل في الذال لأن التاء مهموسة والذال مجهورة (¬2)، والمجهور أزيد صوتًا من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، و {مَا} موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر، والمعنى: قليلاً (¬3) تذكركم، وقرأ حمزة (¬4) والكسائي وحفص (¬5) خفيفة الذال شديدة الكاف حذفوا التاء التي أدغمها الأولون وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة ويقوى ذلك قولهم: اسطاع (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 117، و"معاني الزجاج" 2/ 316، والنحاس 3/ 9. (¬2) الهمس: الخفاء، وهو جريان النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على مخرجه. وضده الجهر وهو الظهور والإعلان والمراد به انحباس النفس عند النطق بالحرف لقوة الاعتماد على مخرجه، انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 60، و"غاية المريد" لعطية نصر ص 139. (¬3) في (ب): قليلاً ما تذكركم. والنص من "الحجة" 4/ 5 - 7، وانظر: "الدر المصون" 5/ 246. (¬4) قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم - {قيلا ما تذكرون} بالتاء خفيفة الذال مشددة الكاف، وقرأ الباقون {تذكرون} بالتاء مشددة الذال والكاف. وقرأ ابن عامر: {قليلاً ما يتذكرون} بياء وتاء، وتخفيف الذال وتشديد الكاف، وقد روي عنه بتاءين (تتذكرون). انظر: "السبعة" ص 278، و"المبسوط" ص 279، و"التذكرة" 2/ 417، و"التيسير" ص 109، والنشر 2/ 267. (¬5) حفص عن عاصم، وحفص هو حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي، أبو عمر الكوفي، صاحب عاصم، إمام في القراءة ضابط لها بخلاف حاله في الحديث، فهو متروك الحديث مع إمامته في القراءة، توفي سنة 180هـ وله تسعون سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 173، و"معرفة القراء" 1/ 140، و"غاية النهاية" 1/ 154، و"تهذيب التهذيب" 1/ 450، و"تقريب التهذيب" ص 172 (1405). (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 316 - 317، و"إعراب النحاس" 1/ 599، و"المشكل" 1/ 281، وقد جاء في سورة الكهف [الآية: 97] قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بالتخفيف. انظر: "السبعة" ص401، و"الحجة" لأبي علي 5/ 179.

4

وقرأ ابن عامر {يَتَذَكَّرُونَ} بياء (¬1) وتاء ووجهه (¬2) أن هذا خطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) (¬3) أي: قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين (¬4) ذكروا بهذا الخطاب (¬5). 4 - وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الآية. قال أبو إسحاق: (موضع {كَمْ} رفع با لابتداء، وخبره {أَهْلَكْنَاهَا} قال: وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب؛ لأن قولك: (زيد ضربته) أجود من (زيدًا ضربته) والنصب جيد عربي أيضًا كقوله (¬6): {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] (¬7)). وقال أهل العربية (¬8) والمعاني: (الآية من حذف (¬9) المضاف لأن ¬

_ (¬1) هنا وقع اضطراب في نسخة (ب) فوقع الكلام على هذه الآيات في 140 ب. (¬2) في (ب): (ووجه)، وهو تحريف. (¬3) في (أ): (عليه السلام). (¬4) لفظ: (الذين) ساقط من (ب). (¬5) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 4 - 6. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 400، و"الحجة" لابن زنجله ص 279، و"الكشف" 1/ 460. (¬6) والنصب في هذه الآية أجود، وهي القراءة المشهورة التي عليها الجماعة لأن الفائدة فيه أثر من فائدة الرفع لأن التقدير: خلقنا كل شيء بقدر فيدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 599، و"المشكل" 2/ 701 - 703، "البيان" 2/ 406. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 318. وانظر: "إعراب النحاس" 2/ 114، و"المشكل" 1/ 281 - 282. والنصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسره ما بعده ويقدر الفعل متأخرا عن كم لأن لها صدر الكلام والتقدير: وكم من قرية أهلكنا. انظر: "الدر المصون" 5/ 248. (¬8) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 317، و"تفسير السمرقندي" 1/ 531. (¬9) الظاهر عدم الحذف لعدم الحاجة إليه؛ لأن إهلاك القرية يمكن أن يقع عليها =

التقدير: وكم من أهل قرية، يدل على هذا قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬1) فعاد بالكلام [إلى] (¬2) أهل القرية). وقوله تعالى: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} قال الفراء: (يقال: إنما أتاها العباس (¬3) من قبل الإهلاك، فكيف تقدم الهلاك؟ قيل: إن الهلاك والبأس يقعان معًا كما تقول: أعطيتني فأحسنت، فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده، إنما وقعا معًا) (¬4). وقال غيره (¬5): (هذا على مذهب الإرادة، والتقدير: وكم من قرية أردنا إهلاكها (¬6) {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]. {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬7)) [النحل: 98]. ¬

_ = نفسها ولأن القرية لا تسمى بذلك إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم ففي إهلاكها إهلاك من فيها من أهلها. أفاده الطبري في "تفسيره" 8/ 118. وقال: (هذا أولى بالحق لموافقته ظاهر التنزيل المتلو) اهـ. وهو اختيار الزمخشري في الكشف 1/ 67، وأبو حيان في "البحر" 4/ 268، والسمين في "الدر" 5/ 248. (¬1) في (ب): (هم قائلون). (¬2) لفظ: (إلى) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (الناس)، وهو تصحيف. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 371. (¬5) هذا قول مكي في "المشكل" 1/ 282 وقال السمين في "الدر" 5/ 248: (والجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين أحدهما: أنه على حذف الإرادة. والثاني: أن المعنى: أهلكناها أي: خذلناهم ولم نوِّفقهم فنشأ عن ذلك هلاكهم فعبر بالمسبب عن سببه وهو باب واسع) اهـ وانظر: "تاريخ الطبري" 12/ 300 - 301. (¬6) في (ب): (هلاكها). (¬7) في النسخ: (وإذا)، وهو تحريف.

ومعنى {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} يريد: جاءها عذابنا. قاله ابن عباس (¬1). وقوله تعالى: {بَيَاتًا} أي: ليلاً (¬2). قال الفراء: (يقال: بات الرجل وهو يبيت بيتًا، وربما قالوا: بياتا، قال: وسمي البيت بيتًا لأنه يبات فيه) (¬3). وقال الليث: (البيتوتة دخولك في الليل، قال: ومن قال: بات فلان إذا نام فقد أخطأ) (¬4). وقال ابن كيسان: (بات يجوز أن يجرى مجرى نام وأن يجرى ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 81 (¬2) هذا قول الجمهور منهم أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 210 وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 176، والطبري في "تفسيره" 8/ 118، والزجاج في "معانيه" 2/ 317، والسمرقندي 1/ 531، وقال الكرماني في غرائبه 1/ 396: (المفسرون عن آخرهم فسروا {بياتا} ليلاً) اهـ. وقال السمين في الدر 5/ 250. (قال الواحدي {بياتًا} أي: ليلاً. وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفًا لولا أن يقال: أراد تفسير معنى) اهـ. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 21، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 250 عن الفراء قال: (باب الرجل إذا سهر الليل كله في طاعة أو معصية). قال الأزهري: (وقوله تعالى {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} أي: ليلاً، والتبييت سمي بيتا لأنه يبات فيه) اهـ. ولم أقف عليه في معاني الفراء. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 250، و"العين" 8/ 138. وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم يقال للمسكن: بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه بيوت وهي بالمساكن أخص وأبيات وهي لأبيات الشعر، والبات والتبييت: قصد العدو ليلاً، والبيوت: ما يفعل بالليل، ويقال لكل فعل دبر فيه بالليل: بيت. انظر: "الجمهرة" 1/ 257، و"الصحاح" 1/ 244، و"المجمل" 1/ 139، و"المفردات" ص 151، و"اللسان" 1/ 393، (بيت).

مجرى كان) (¬1). وقال الزجاج: (يقال (¬2): بات بياتًا حسنًا وبيتة حسنة والمصدر من الأصل بات بيتًا وأصل تسمية البيت من أنه يصلح للمبيت) (¬3). وقد ذكر هذا الحرف (¬4) في قوله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ} [النساء: 108] و {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 81]. وقوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬5). قال الفراء: (وفيه واو مضمرة. المعنى: أهلكناها {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فاستثقلوا (¬6) نسقًا على أثر نسق، ولو قيل كان صوابًا). قال ابن الأنباري: (أضمرت واو الحال لوضوح معناها؛ كما تقول العرب: لقيت عبد الله مسرعًا أو (¬7) هو يركض، ولا يضرنك ظالمًا أو (¬8) أنت مظلوم، يريدون (أو وأنت) فيحذفون الواو عند أمنهم اللبس؛ لأن الذكر قد عاد على صاحب الحال، ومن أجل أن (أو) حرف عطف والواو كذلك استثقلوا جمعًا بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني) (¬9). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 250. (¬2) لفظ: (يقال) ساقط من (أ). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 317، وانظر "الزاهر" 1/ 443. (¬4) انظر: "البسيط" نسخة جستربتي 2/ 12 ب و 22 ب. (¬5) في "معاني الفراء" 4/ 372: {بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}. (¬6) لفظ: (فاستثقلوا) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (إذ هو)، وهو تحريف. (¬8) في (ب): (وأنت). (¬9) ذكره السمين في "الدر" 5/ 252.

قال: (و (أو) في هذا الموضع لا يوجب الشك، لكنها دخلت للتفصيل، والتفصيل يضارع الإباحة فيقول الرجل لصاحبه: لأكرمنك منصفًا لي أو ظالمًا، لم يحمل (أو) في هذا على شك بل يُعنى بها التفصيل) (¬1). وقال الزجاج: (لا يحتاج (¬2) إلى ضمير الواو كما تقول: جاءني (¬3) زيد راجلًا أو هو فارس لم (¬4) تحتج إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد إلى الأول، قال: و (أو) (¬5) هاهنا دخلت على جهة تصرف الشيء ووقوعه إما مرة كذا، وإما مرة كذا على تقدير: جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهارًا فاعتبروا بهلاك من شئتم منهم) (¬6). قال الليث: (القيلولة نومة نصف النهار وهي القائلة) (¬7). قال الفراء: (قال الرجل يقيلُ قيلولةَ وقيلًا وقائلة ومقيلًا) (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ب): (لا تحتاج) بالتاء. (¬3) جاء في النسخ: (كم جاءني)، ولعله تحريف. (¬4) في "معاني الزجاج" 2/ 317: (جاءني زيد راجلًا أو وهو فارس أو جاءني زيد وهو فارس) اهـ. (¬5) في (أ): (قال: الواو). (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 318، وقوله: على تقدير إلى آخره. لم يرد فيه. (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 2861، وانظر: "العين" 5/ 215 (قيل). (¬8) ذكره أبو حيان في "البحر" 4/ 264، وفي "اللسان" 6/ 3796 قيل: (قال الليث: القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة، قال: يقيل، وقد قال القوم: قيلًا وقائلة وقيلولة ومقالًا ومقيلًا الأخيرة عن سيبويه) اهـ. انظر: "الكتاب" 4/ 89، و"الجمهرة" 2/ 977، و"الصحاح" 5/ 1808، و"المجمل" 3/ 739، و"المفردات" ص 690 (قبل).

5

وقال الأزهري: (القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها، والله تعالى يقول: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]) (¬1) ومعنى الآية: أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له؛ إما ليلاً وهم نائمون أو نهارًا وهم قائلون كأنهم غافلون (¬2). 5 - قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} قال أهل اللغة: (الدعوى اسم (¬3) يقوم مقام الادعاء (¬4) ومقام الدعاء)، حكى سيبويه: (اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين) (¬5) وأنشدوا: وَإِنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي ... بِدَعْوَاكِ منْ مَذْلٍ بِهَا فَيَهُونُ (¬6) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2861 ولم يذكر الآية. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 318، و"معاني النحاس" 3/ 9. (¬3) الدعوى -بفتح الدال وسكون العين-، والادعاء -بكسر الدال وفتح العين-، والدعاء -بضم الدال وفتح العين-، انظر: "العين" 2/ 221، و"الجمهرة" 2/ 666 و 1059، و"الصحاح" 6/ 2336، و"المجمل" 2/ 326، و"المفردات" ص 316، و"اللسان" 3/ 1385 (دعا). (¬4) في (ب): (الإدغام)، وهو تحريف. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1188، وفي "الكتاب" 4/ 40، قال: (الدعوى ما ادعيت، وقال بعض العرب: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين) اهـ. (¬6) الشاهد لكثير عزة في "ديوانه" ص 227، وبلا نسبة في "تفسير الطبري" 8/ 120، و"تهذيب اللغة" 4/ 3367، و"تفسير الثعلبي" 187 ب، و"المخصص" 5/ 84، و"تفسير ابن عطية" 5/ 428، وابن الجوزي 3/ 169، و"اللسان" 7/ 4164 (مذل) "الدر المصون" 5/ 254، وفي "الديوان": إذا خدِرَتْ رجلي ذكرتكِ أشتفي ... بذكركِ من مذل بها فيهونُ ومذلت رجله - بفتح الميم وكسر الذال أي: خدرت، انظر: "اللسان" 7/ 4164 (مذل).

قال ابن عباس في معنى الآية: (فما كان تضرعهم {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فأقروا على أنفسهم بالشرك) (¬1). قال ابن الأنباري: (يريد: فما كان قولهم {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإساءة) (¬2) وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ قَالُوا}. الاختيار عند النحويين أن يكون موضع {أَنْ} رفعا بكان ويكون الدعوى نصبا (¬3) كقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [النمل: 56]، وقوله {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} [الحشر: 17]. وقوله تعالى: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (¬4) [الجاثية: 25]. ويجوز أن يكون على الضد (¬5) من هذا بأن يكون الدعوى رفعًا و {أَنْ قَالُوا} نصبًا كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا} [البقرة: 177] على قراءة (¬6) من رفع {الْبِرَّ} ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 21، وأبو حيان في "البحر" 4/ 269، وانظر "تنوير المقباس" 2/ 81، وفيه: (دعواهم - قولهم). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 157، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 168، والرازي 14/ 21. (¬3) فدعواهم: خبر مقدم و {إِلَّا أَنْ قَالُوا} اسم كان مؤخر. وهو اختيار الفراء في "معانيه" 1/ 372، والزجاج 2/ 319، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 600، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 67، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 424، قال الهمداني في "الفريد" 2/ 270: (وهذا أحسن حملًا على ما ورد من نظائره في التنزيل) اهـ. (¬4) في النسخ: (ومكان) بالواو وهو تحريف. (¬5) هذا قول مكي في "المشكل" 1/ 282، والعكبري في "التبيان" ص 369، واختاره أبو حيان في "البحر" 4/ 269. (¬6) قرأ حمزة وعاصم في رواية: {لَيْسَ الْبِرَّ} -بفتح الراء-، وقرآ الباقون {البرُ} =

والأصل في هذا الباب أنه إذا (¬1) اجتمع بعد كان معرفتان فأنت مخير في أن ترفع (¬2) أحدهما وتنصب الآخر كقولك: كان زيدٌ أخاك، وإن شئت كان زيدًا أخوك. قال الزجاج: (إلا أن الاختيار إذا كانت الدعوى في موضع رفع أن يقول: فما كانت في دعواهم، فلما قال: {كَانَ} دل أن الدعوى في موضع نصب غير أنه يجوز تذكير الدعوى، وإن كانت رفعًا فتقول: كان دعواه [باطلًا] (¬3) وباطلة) (¬4). وما حكينا من القولين في موضع الدعوى من الإعراب معنى قول الفراء (¬5) والزجاج (¬6). قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} [الأعراف: 6] قال عطاء عنه: (يُسأل الناس جميعًا عما أجابوا المرسلين، ويُسأل المرسلون عما بلغوا) (¬7). ¬

_ = بالرفع فمن رفع جعل {البر} اسم ليس و {أن تولوا} الخبر، ومن نصب جعل {البر} خبر مقدم و {أن تولوا} اسم (ليس). انظر: "السبعة" ص 176، و"الحجة" لأبي علي 2/ 270، و"المشكل" 1/ 117. (¬1) انظر "الحجة" لأبي علي 2/ 270. (¬2) في (ب): (يرفع أحدهما وينصب) بالياء. (¬3) لفظ: (باطلاً) ساقط من (ب). (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 319، وعليه يكون تذكير الفعل قرينة مرجحة لإسناد الفعل إلى (أن قالوا) ولو كان مسندا للدعوى لكان الأرجح (كانت أفاده). السمين في "الدر" 5/ 254. (¬5) انظر: "معاني الفراء" 1/ 372. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 319. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 121، وابن أبي حاتم 5/ 1439 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 126.

7

وقال ابن عباس: (يسأل الأمم عما جاءهم من الله، ويسأل (¬1) النبيين هل بلغتم رسالتي) (¬2). وقال الضحاك: ({الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الأمم الذين أتاهم الرسل يُسألون هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم، {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} يعني: الأنبياء هل بلغتم قومكم ما أرسلتم به وماذا أجابكم قومكم) (¬3). وقال السدي: (نسأل (¬4) الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل، ونسأل الرسل هل بلغوا ما أرسلوا به) (¬5). 7 - قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] قال الضحاك: (لنخبرنهم بما عملوا بعلم منا {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عن الرسل والأمم ما بلغت وما رد عليهم قومهم) (¬6). وقال ابن عباس: ({فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} ينطق لهم كتاب أعمالهم؛ يقول الله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}) (¬7) [الجاثية: 29]. ¬

_ (¬1) في (أ): (نسأل الأمم .. ونسأل النبيين) بالنون. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 81، و"تفسير البغوي" 3/ 214، وابن الجوزي 3/ 169. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 157. (¬4) في (ب): (يسال) بالياء. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 121، بسند جيد. (¬6) ذكره بدون نسبة الواحدي في "الوسيط" 1/ 158، والبغوي 3/ 214، وابن الجوزي 3/ 169. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 122، وابن أبي حاتم 5/ 1440، بسند ضعيف.

8

8 - قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} يعني: يوم السؤال {وَالْوَزْنُ} ابتداء، وخبره {الْحَقُّ} (¬1) وابن عباس (¬2) وعامة المفسرين (¬3) على أن المراد بهذا الوزن أعمال العباد. قال ابن الأنباري: (أكد الله به الاحتجاج على العباد وقطع به عذرهم وبين به (¬4) لهم عدله وأنه لا يظلم أحدًا) (¬5). وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ورد الخبر (أن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة فتوزن (¬6) به أعمال العباد خيرها وشرها) (¬7). قال ابن عباس: (يوزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل (¬8) ¬

_ (¬1) انظر "معاني الفراء" 1/ 373، و"إعراب النحاس" 1/ 600، و"المشكل" 1/ 282. (¬2) يأتي تخريجه فيما بعد. (¬3) ذكره مثله الواحدي في "الوسيط" 1/ 158، والبغوي في "تفسيره" 3/ 214، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 80/ 122، عن عمرو بن دينار والسدي. (¬4) لفظ: (به) ساقطة من (ب). (¬5) لم أقف عليه: وقال ابن الجوزي في زاد المسير 3/ 171 (في الميزان خمسة حكم - أحدها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الآخرة، والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، والرابعة: إقامة "الحجة" عليهم، والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم) اهـ. (¬6) في (ب): (فيوزن) بالياء. (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ وهو مشهور من قول ابن عباس، وسيأتي تخريجه. وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 319: (الأولى من هذا أن يتبع ما جاء بالأسانيد الصحاح فإن جاء في الخبر أنه ميزان له كفتان من حيث ينقل أهل الثقة فينبغي أن يقبل ذلك) اهـ. (¬8) في (ب): (فيثقل) بالياء.

حسناته على سيئاته، فذلك قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الناجون، قال: وهذا كما قال في سورة الأنبياء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}) (¬1) [الأنبياء: 47]. وقال مقاتل: ({وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} وزن الأعمال يومئذ العدل {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} من المؤمنين وزن ذرة على سيئاته {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}) (¬2). فأما كيفية وزن الأعمال فله وجهان: أحدهما: أن أعمال المؤمن تتصور في صورة حسنة، وأعمال الكافر تتصور في صورة قبيحة فتوزن تلك الصورة كما ذكره ابن عباس. والثاني: أن الوزن يعود إلى الصحف التي فيها أعمال العباد مكتوبة، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يوزن (¬3) يوم القيامة، فقال: "الصحف" (¬4). هذا الذي ذكرنا مذهب عامة المفسرين (¬5) وأهل العلم في هذه الآية، وكان مجاهد والضحاك والأعمش (¬6) يفسرون الوزن والميزان: (العدل ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 531 والثعلبي 187 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 158، والبغوي في "تفسيره" 3/ 315، وابن الجوزي 3/ 171، والرازي 14/ 24، والقرطبي 7/ 166، وغيرهم، وذكره السيوطي في "الدر" 8/ 129، 130، وقال: (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وأخرجه أبو الشيخ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس) اهـ. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 30. (¬3) في (ب): (ما يوزن). (¬4) لم أقف عيه. (¬5) قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 226: (يمكن الجمع بين الآثار الواردة في ذلك بأن يكون ذلك كله صحيح فتارة توزن الأعمال وتارة توزن محالها وتارة يوزن فاعلها والله أعلم). وانظر: "فتح الباري" 13/ 537 - 540. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 8/ 25، والقرطبي 7/ 165، وأبو حيان في "البحر" 4/ 270 عن الأعمش.

والقضاء) ويذهبون إلى أن هذا تمثيل وتحقيق للقسط والعدل يومئذٍ، فقال مجاهد: ({وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} والقضاء (¬1) يومئذٍ العدل) (¬2). وروى جويبر (¬3) عن الضحاك (أن الميزان العدل) (¬4). فعلى مذهب هؤلاء: الوزن والميزان عبارة عن العدل كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه أي: أنه يعادله ويساويه وليس هناك وزن في الحقيقة، وقد قال الشاعر: قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لقائِكُمُ ذا مِرَّةٍ ... عِنْدى لكلِّ مُخَاصِمٍ ميزانُه (¬5) أراد: عندي لكل مخاصم كلام يُعادل كلامه؛ فجعل الوزن مثلًا للعدل، والميزان مثلا للكتاب الذي فيه أعمال العباد من حيث أنه لا يزيد (¬6) فيه ولا يكذب ويخبر بما له وما عليه، فكنى عن الكتب بالموازين، وجعل ما يكثر في الكتاب من الحسنات بمنزلة ما يثقل في الميزان. قال أبو إسحاق: (وهذا كله في باب اللغة والاحتجاج سائغ (¬7)، ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو) ساقطة من (ب). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 122، وابن أبي حاتم 5/ 1440 بسند جيد. (¬3) جويبر -تصغير جابر-: جويبر بن سعيد الأزدي. ضعيف، تقدمت ترجمته. (¬4) ذكره الزجاج في "معانيه" 2/ 319، والأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3886، والرازي في "تفسيره" 8/ 25، والقرطبي 7/ 165، وأبو حيان في "البحر" 4/ 270. (¬5) لم أهتد إلى قائله، وهو في تفسير ابن الجوزي 3/ 170، والرازي 14/ 25، و"اللسان" 8/ 4829 (وزن). (¬6) في (أ): (لا تزيد فيه ولا تكذب). (¬7) في (ب): (شائع) وقال القرطبي في "التذكرة" ص 364: (وهذا القول مجاز وليس بشيء وإن كان شائعًا في اللغة للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي ووصفه بكفتين ولسان وإن كل كفة منهما طباق السموات والأرض) اهـ. وقال أيضًا في "تفسيره" 7/ 165: (قد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير =

والأولى من هذا (¬1) أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان) (¬2). وقال ابن الأنباري: (والقول الأول هو اختيارنا لتتابع الأخبار به واتفاق أكثر أهل العلم عليه ولشهادة ظاهر القرآن له، قال: وإنما جمع الله تعالى فقال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ولم يقل: ميزانه من أجل أن العرب توقع الجمع على الواحد فيقولون: خرج إلى البصرة في السفن، وخرج إلى مكة على البغال. قال: ويجوز أن يكون جمع الميزان إذ (¬3) كانت {مَنْ} في معنى (¬4) جمع فصرف الكلام إلى معنى {مَنْ} يدل على صحة هذا قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بالجمع تغليبًا لمعنى {مَنْ} على لفظه) (¬5). وقال غيره: (الموازين هاهنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة) (¬6). ¬

_ = تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر وصارت هذه الظواهر نصوصًا) اهـ. ونحوه ذكر ابن عطية في "تفسيره" 5/ 432، والشوكاني 2/ 277، وصديق خان 4/ 305، والقاسمي 7/ 2617. (¬1) في (ب): (والأولى أن يتبع من هذا). (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 319. (¬3) في (ب): (إذا). (¬4) في (ب): (موضع). (¬5) ذكره بدون نسبة الواحدي في "الوسيط" 1/ 158، وذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 26 عن الزجاج، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 373، و"تفسير الطبري" 8/ 123. (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 216، و"الرازي" 14/ 27، و"الدر المصون" 5/ 256.

9

9 - قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}. قال مقاتل: (يعني: الكفار) (¬1). قال ابن عباس: (يؤتى بعمل الكفار في أقبح سورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه حتى يقع في النار، ثم يقال للكافر: الحق بعملك، ثم قال: وحق لميزان لا يكون فيها رضوان الله أن يخف، وأما المؤمن فإذا خفت حسناته ثقلت بكتاب كالأنملة (¬2) فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فترجح حسناته على سيئاته) (¬3). وروي أيضًا: (أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجزته (¬4) بطاقة (¬5) كالأنملة، فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي - صلى الله عليه وسلم -: بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلواتك (¬6) التي كنت تصلي علي، قد (¬7) وفيتك أحوج ما تكون إليها) (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسيرمقاتل" 2/ 30. (¬2) الأنملة -مثلثة الهمزة والميم- المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع والجمع أنامل وأنملات وهي رؤوس الأصابع. انظر: "اللسان" 8/ 4550 (نمل). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) حُجْزته، بضم الحاء وسكون الجيم: أصلها موضع شد الإزار، ثم قيل للإزار: حُجْزة للمجاورة، وحجزة الإزار جنبته ومعقد الإزار. انظر: "النهاية" 1/ 344، و"اللسان" 2/ 786 (حجر). (¬5) البطاقة، بالكسر: الورقة ورقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما يجعل فيها إن كان عينًا فوزنه أو عدده وإن كان متاعًا فقيمته، والرقعة الصغيرة تكون في الثوب وفيها ثمنه. انظر: "النهاية" 1/ 135، و"اللسان" 1/ 302 (بطق). (¬6) في (ب): (صلاتك). (¬7) في (ب): (وقد). (¬8) ذكره الرازي في "تفسيره" 8/ 25، وقال: (رواه الواحدي في "البسيط") اهـ. =

10

وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: صاروا إلى العذاب {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}، قال: يريد: يجحدون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم) (¬1). 10 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ}، قال الزجاج: (معنى التمكين في الأرض: التمليك والقدرة) (¬2)، وهو قول ابن عباس قال: (يريد: ملكناكم (¬3) في الأرض، يريد: ما بين مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام) (¬4). ¬

_ = وذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 167. وفي "التذكرة" ص 361، وقال: (ذكره القشيري في "تفسيره") اهـ. وحديث البطاقة مشهور. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 213 - و- 221 - 223، وابن ماجه (4300) كتاب الزهد، باب: ما يرجى من رحمة الله تعالى، والترمذي حديث (2639) كتاب الإيمان, باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، والحاكم في "المستدرك" 1/ 6 - و- 529 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة فيوضع ما أحصى عليه فتمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار: قال: فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن يقول: لا تعجلوا لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان" اهـ. لفظ أحمد، قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب) اهـ. وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وقال السيوطي في "الدر" 8/ 131، والشوكاني في "تفسيره" 2/ 278، وصديق خان 3/ 307: (إسناده عند أحمد حسن) اهـ. وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 43، رقم 135. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 159 ولم أقف عليه عند غيره. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 320، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 125، و"معاني النحاس" 3/ 11. (¬3) في (ب): (مكناكم). (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 81 - 82، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 160.

وقولى تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشًا ومعيشة وعيشة ومعيشا بغير هاء (¬1) ومنه قول رؤبة: إليك أشكو شِدَّةَ المَعِيشِ (¬2) قال الليث: (العيش: المطعم والمشرب (¬3) وما يكون به الحياة، والمعيشة: ما يعاش به) (¬4)، [وقال الزجاج: (ومعنى المعايش: يحتمل أن يكون ما يعيشون به] (¬5) ويمكن أن يكون الوصلة إلى ما يعيشون به) (¬6). وقد أشار ابن عباس إلى المعنين اللذين ذكرهما الزجاج فقال في قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} (يريد: بما أفضل عليكم في الرزق وما فضلكم به على العرب، وهو أنهم ينسبون إلى الله وإلى حرمه وأمنه والعرب لهم تبع) (¬7) فقوله: (بما أفضل عليكم في الرزق) إشارة إلى [الوصلة] (¬8) إلى ما يعيشون به؛ لأنهم بذلك التفضيل توصلوا إلى المكاسب والتجارات، وعلى ما ذكره ابن عباس من التفسير تكون الآية خطابًا لقريش. ¬

_ (¬1) النص من "تهذيب اللغة" 3/ 2281، وانظر: "اللسان" 5/ 3190 (عيش). (¬2) "ديوانه" ص 78، و"الزاهر" 1/ 250، والقرطبي 3/ 81، و"الدر المصون" 2/ 420، 5/ 258، وتمامه: ومر أعوام نتفن ريشي أي أذهبن مالي، وفي "الديوان": أَشْكُو إِلَيْك شِدَّةَ المعَيشِ ... دهرًا تنقَّى المُخَ بِالتَمشِيشِ (¬3) في (ب): (والمشروب). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2281، وانظر: "العين" 2/ 189، و"الجمهرة" 2/ 872، و"الصحاح" 3/ 1512، و"المجمل" 2/ 639، و"مقاييس اللغة" 4/ 194، و"المفردات" ص 596 (عيش). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 320، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 11. (¬7) في "تنوير المقباس" 2/ 82 نحوه. (¬8) لفظ: (الوصلة) ساقط من (أ).

فأما القراءة (¬1) في المعايش فقال الفراء: (لا تهمز لأنها في الواحدة مفعلة الياء في الفعل فلذلك لم يهمز وإنما يهمز من هذا ما كانت الياء فيه زائدة، مثل: مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائل، لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارنتها ألف مجهولة أيضًا همزت. قال: ومثل معايش من الواو [مما لا يهمز (معاون) في جمع معونة، و (مناور) في جمع منارة، وذلك أن الواو] (¬2) ترجع (¬3) إلى أصلها لسكون الألف قبلها) (¬4) هذا مذهب جميع القراء في المعايش لا يهمزونها، وروى خارجة (¬5) عن نافع {معائش} بالهمز (¬6). ¬

_ (¬1) قرأ الجمهور {معايش} بالياء، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج - وزيد بن علي، والأعمش، وخارجة بن مصعب عن نافع، وابن عامر في رواية: {معائش} بالهمز، والقياس بدون همز؛ لأن الياء أصل وإذا كانت زائدة همزت مثل صحيفة وصحائف. لكن قال الفراء في "معانيه" 1/ 373: (وربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنها فعيلة بشبهها بوزنها في اللفظ وعدة الحروف كما جمعوا مسيل الماء أمسله شبه بفعيل وهو مفعل وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة، شبهت بفعيلة لكثرتها في الكلام) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 271: (رواها عرب فصحاء ثقات فوجب قبولها، وقد ردها نحاة البصرة ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة) اهـ. بتصرف. وانظر: "السبعة" ص 278، و"إعراب النحاس" 1/ 600، و"معرفة القراءات" 1/ 400، و"إعراب القراءات" 1/ 176، و"مختصر الشواذ" ص 48، و"المبسوط" ص 179، و"الدر المصون" 5/ 258. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (فترجع). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 273. (¬5) خارجة بن مُصْعَب بن خارجة الضبعي أبو الحجاج الخراساني، فقيه، مقرئ، متروك الحديث. أخذ القراءة عن نافع وغيره، وله شذوذ كثير عنه لم يتابع عليه، توفي سنة 168 هـ وله 98 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 375، و"ميزان الاعتدال" 1/ 625، و"غاية النهاية" 1/ 268، و"تهذيب التهذيب" 1/ 512. (¬6) ذكرها أكثرهم كما في المراجع السابقة في فقرة رقم (2).

قال الفراء: (ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنها فعيلة لشبهها بوزنها في اللفظ وعدة الحروف كما جمعوا مسيل الماء أمسلة (¬1) شبه بفعيل وهو مفعل) (¬2). وقال أبو إسحاق: (جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز {مَعَايِشَ} خطأ، وذكروا أن الهمز إنما يكون في هذه الياء إذا كانت زائدة نحو: صحيفة وصحائف، فأما {مَعَايِشَ} فمن العيش الياء أصلية، فأما ما (¬3) رواه نافع من همز {مَعَايِشَ} فلا أعرف له وجهًا إلا أن لفظ هذه الياء التي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصار على لفظ صحيفة فحمل الجمع على ذلك، ولا أحب القراءة بالهمز) (¬4). قال أبو علي الفارسي: (قوله: {مَعَايِشَ} العين منه ياء ووزن المعيشة من الفعل عند الخليل (¬5) وسيبويه مَفْعِلة، (وكان الأصل مَعْيِشة إلا أن الاسم وافق الفعل في وزنه؛ لأن (معيش) على وزن (يعيش) فأعل كما أعل الفعل وقد وجدنا الاسم إذا وافق الفعل في البناء أعل كما يعل (¬6) فمن ذلك إعلالهم لباب ودار ونار ونحوه، لما كان على وزن فعل أعل كما أعل ¬

_ (¬1) في (أ): (مسله) وهو تحريف. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 373 - 374. (¬3) في (ب): (فأما رواه)، وهو تحريف. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 320 - 321، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 600، 601، و"المشكل" 1/ 283 - 284. (¬5) في "الكتاب" 4/ 349، وكذا في "الإغفال" ص730 (فمعيشة يصلح أن تكون مَفْعلُة -بفتح الميم وسكون الفاء وضم العين-، أو -مفعلة- بكسر العين) اهـ. وانظر "الكتاب" 4/ 349، وص 355. (¬6) في (ب): (كما يعل الفعل)، ثم تكرر قوله: (وقد وجدنا) إلى قوله: (كما يعل).

فأما القراءة (¬1) في المعايش فقال الفراء: (لا تهمز لأنها في الواحدة مفعلة الياء في الفعل فلذلك لم يهمز وإنما يهمز من هذا ما كانت الياء فيه زائدة، مثل: مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائل، لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارنتها ألف مجهولة أيضًا همزت. قال: ومثل معايش من الواو [مما لا يهمز (معاون) في جمع معونة، و (مناور) في جمع منارة، وذلك أن الواو] (¬2) ترجع (¬3) إلى أصلها لسكون الألف قبلها) (¬4) هذا مذهب جميع القراء في المعايش لا يهمزونها، وروى خارجة (¬5) عن نافع {معائش} بالهمز (¬6). ¬

_ (¬1) قرأ الجمهور {معايش} بالياء، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج - وزيد بن علي، والأعمش، وخارجة بن مصعب عن نافع، وابن عامر في رواية: {معائش} بالهمز، والقياس بدون همزة لأن الياء أصل وإذا كانت زائدة همزت مثل صحيفة وصحائف. لكن قال الفراء في "معانيه" 1/ 373: (وربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنها فعيلة بشبهها بوزنها في اللفظ وعدة الحروف كما جمعوا مسيل الماء أمسله شبه بفعيل وهو مفعل وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة، شبهت بفعيلة لكثرتها في الكلام) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 271: (رواها عرب فصحاء ثقات فوجب قبولها، وقد ردها نحاة البصرة ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة) اهـ. بتصرف. وانظر: "السبعة" ص 278، و"إعراب النحاس" 1/ 600، و"معرفة القراءات" 1/ 400، و"إعراب القراءات" 1/ 176، و"مختصر الشواذ" ص 48، و"المبسوط" ص 179، و"الدر المصون" 5/ 258. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (فترجع). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 273. (¬5) خارجة بن مُصْعَب بن خارجة الضبعي أبو الحجاج الخراساني، فقيه، مقرئ، متروك الحديث. أخذ القراءة عن نافع وغيره، وله شذوذ كثير عنه لم يتابع عليه، توفي سنة 168 هـ وله 98 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 375، و"ميزان الاعتدال" 1/ 625، و"غاية النهاية" 1/ 268، و"تهذيب التهذيب" 1/ 512. (¬6) ذكرها أكثرهم كما في المراجع السابقة في فقرة رقم (2).

وجميع (¬1) المتقدمين من النحويين البصريين. فإذا جمع معيشة مكسرًا ردت ألف الجمع ثالثة قبل الياء والألف ساكنة والياء أيضًا ساكنة، ومن حكم الساكنين إذا اجتمعا أن يحرك أحدهما أو يحذف، فالحذف هنا لا يجوز لالتباس الجمع بالواحد، وإذا لم يجز الحذف لاجتماعهما لزم تحريك أحدهما , ولا يخلو من أن يكون الأول (¬2) أو الثاني، فلا يجوز تحريك الأول لارتفاع دلالته بتحريكه له على الجمع وإذا لم يجز تحريك الأول لزم تحريك الثاني لاجتماع الساكنين، فإذا حركت رجعت (¬3) ياء كما أن ما كان من الواو إذا (¬4) حركت في الجمع رجعت واوًا صحيحة مثل: (مقاوم) و (مقاول) في جمع (مقام) و (مقال)، أنشد النحويون (¬5): وإنَّي لَقَوَّامُ مقاوم لَمْ يَكُنْ ... جَرِيرٌ وَلاَ مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا ¬

_ = و"معجم الأدباء" 7/ 107، و"سير أعلام النبلاء" 12/ 270، و"لسان الميزان" 2/ 57. (¬1) انظر: "المنصف" 7/ 107، و"المقتضب" 1/ 261. (¬2) لفظ: (الأول) غير واضح في (أ)، وفي (ب): (الأول والثاني). (¬3) في (أ): (رجعت واوًا صحيحة ياء كما أن). (¬4) في (أ): (وإذا). (¬5) الشاهد للأخطل في "ديوانه" ص 322، و"أمالي القالي" 3/ 77، و"الخصائص" 3/ 145، وللفرزدق في "المقتضب" 1/ 260، و"المخصص" 14/ 21، وبدون نسبة في "معاني الزجاج" 1/ 206 - 2/ 320، و"إعراب النحاس" 1/ 601، و"المنصف" 1/ 306. والشاهد قوله: (مقاوم) في جمع مقامة وأصلها مجلس القوم.

فصحح الواو في الجمع لما لزم تحريكها لاجتماع الساكنين، فبان بهذا أن جمع (معيشة) على (معايش) يزيل مشابهته الفعل في البناء وعلمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال في الواحد (¬1) فيلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ. فإن قيل: هل أعل العين إذا كانت ياء أو واوًا في نحو هذا الجمع كما أعلت في قائل وبائع بقلبها همزة لما اعتلا في الفعل؟ والجواب أن إعلال (معايش) لا يلزم؛ لأن زنة الفعل قد بطلت عنه ولزم (¬2) تصحيحه كما بينا، فأما قائل وبائع فإنما لزم إعلالها؛ لمشابهتهما الفعل في الزنة وهو الأمر (¬3) من المفاعلة، ولأنهما يعملان عمل الفعل، فصار لذلك أدخل في الإعلال وأقرب إليه، ولم يكن ذلك في (معايش) وبابه، ألا ترى أنه لا شيء فيه مما يوجب الإعلال من مشابهته الفعل في زنته وحركاته وسكونه) (¬4). وقال غير أبي علي [في] (¬5) علة همز قايل وبايع: (إنما همز عين فاعل في باب ما اعتلت عينه من ذوات الواو والياء؛ لأن الواو والياء قد انقلبتا ألفين في قال وباع، فلما بني منهما فاعل اجتمعت ألف فاعل مع الألف ¬

_ (¬1) في "الحجة" لأبي علي 4/ 7: (فمعيشة موافقة للفعل في البناء ألا ترى أنه مثل يعيش في الزنة وتكسيرها يزيل مشابهته في البناء فقد علمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال في الواحد في المجمع فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ) اهـ. (¬2) في (أ): (ولزوم). (¬3) قوله: (وهو الأمر من المفاعلة) ليس في "الإغفال". (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 4/ 7 - 8، و"الإغفال" ص 730 - 740، و"معجم الإبدال والإعلال" للخراط ص 198. (¬5) لفظ: (في) ساقط من (ب).

المنقلبه عن الواو (¬1) أو الياء وهما ساكنتان فلم يمكن النطق بهما فهمزت الأخيرة منهما فقيل: قائل وبائع هذا هو الأصل، ثم يجور تحفيف الهمزة فيصير ياء؛ لأن الهمزة المكسورة إذا خففت صارت ياء (¬2). فأما (معايش) ففي تصحيح يائه ما يغني عن الهمزة) رجعنا إلى كلام أبي علي قال: (فأما قراءة هذا القارئ {معائش} بالهمز، فقال أبو عثمان: (أصل أخذ هذه القراءة عن نافع قال: ولم يكن يدري ما (¬3) العربية، وكلام العرب التصحيح في نحو هذا) (¬4). قال أبو علي: ومن أعل فهمز ياء {مَعَايِشَ} فمجازه على وجه الغلط كما حكى سيبويه (أن بعضهم قال في جمع مصيبة: مصائب فهمز وهو غلط لأن مصائب مفاعل (¬5) فتوهمها فعايل نحو: صحائف وسفائن. ¬

_ (¬1) في (ب): (عن الواو والياء). (¬2) ذكره نحو المبرد في "المقتضب" 1/ 237، وابن جني في "المنصف" 1/ 280، وانظر: "الكتاب" 4/ 345، و"التصريف" للجرجاني ص 86، و"الممتع" لابن عصفور 1/ 327، و"شرح مختصر تصريف العزي" للتفتازاني ص 131، و"شذا العرف" للحملاوي ص 74. (¬3) في (أ): (يدري العربية). (¬4) انظر: "المنصف" 1/ 307، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 271 - 272: (أما قول المازني (أصل أخذ هذه القراءة عن نافع) فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر والأعرج وزيد بن علي والأعمش، وأما قوله (إن نافعًا لم يكن يدري ما العربية) فشهادة على النفي، ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك، إذ هو فصيح متكلم بالعربية ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء، وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراء، ولا يجوز لهم ذلك) اهـ. (¬5) في "الكتاب" 4/ 356، و"الإغفال" ص 741 (وهو غلط، وإنما هو مُفْعِلة وتوهموها فَعْيِلة).

قال: ومنهم من يقول: مصاوب فيجيء به على الأصل والقياس) (¬1)، وقول (¬2) سيبويه: (وهو غلط) يعني: أنه توهم الياء التي في مصيبة -وهي (¬3) منقلبة عن العين التي هي واو- الياء التي (¬4) للمد في نحو: [سفينة وصحيفة، وهمزوا الياء المنقلبة عن الواو التي هي عين الفعل كما همزوا الياء التي للمد (¬5) في نحو] (¬6) سفائن وصحائف، ولا يشبه هذه الياء تلك، ألا ترى أن هذه منقلبة عن واو هي عين أصلها الحركة، وتلك زائدة للمد لا حظ لها في الحركة). وقد ذكرنا الكلام مستقصى في المصائب عند قوله (¬7): {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156]، (ومثل هذا مما حمل على الغلط قول بعضهم في جمع مَسِيل: مسلان، فمسيل مفعل والياء فيه عين الفعل، فتوهم من قال في جمعه: مسلان أنها زائدة للمد فجمعه على فعلان كما يجمع قضيب على قضبان، وعلى هذا (¬8) التوهم أيضًا جمعوا مسيلًا أمسلة. وقد جاء ذلك في شعر هذيل، قال أبو ذؤيب (¬9): وَأَمْسِلَةٍ مَدَافِعُها خَلِيفُ (¬10) ¬

_ (¬1) "الكتاب" 4/ 356. (¬2) في (أ): (وقال)، وهو تحريف. (¬3) (وهو)، وهو تحريف. (¬4) في "الإغفال" (التي تزاد للمد). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في "الإغفال" ص 742: صفائح. (¬7) انظر "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 98 أ. (¬8) هذا من "الحجة" 3/ 8. (¬9) أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي. تقدمت ترجمته. (¬10) "شرح ديوان الهذليين" للسكري 1/ 185، و"المخصص" 5/ 123, 10/ 107، و"الدر المصون" 5/ 259، وصدره: بَوادٍ لا أنِيسَ به يَبَابٍ ويباب بالفتح؛ خراب فقر ليس فيه أحد.

فتوهموه فعيلاً، وإنما هو مفعل (¬1)، ومثل هذا من الشواذ والغلط لا يعترض به على الشائع المطرد ولا يحمل غيره عليه، وإنما حكمه أن يعرف أصله ويبين وجه الصواب فيه، ومن أين وقع الشبه الذي جاء من أجله الغلط، فمسلان من سأل خطأ وإن كان قد قيل، فكذلك (¬2) همز (¬3) معايش غلط) (¬4)، فأما الكلام في (مدائن) فسنذكره إذا أتينا إلى قوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (¬5) [الأعراف: 111] من هذه السورة (¬6) إن شاء الله. وقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: أنكم غير شاكرين لأنعمي (¬7) [ولا] طائعين) (¬8). وتقدير هذا تقدير قوله: {قَلِيلًا مَا ¬

_ = انظر: "اللسان" 8/ 4947 (يبب)، وأمسلة، بسكون الميم وكسر السين: جمع مَسِيل وهو: مجرى الماء. انظر: "اللسان" 7/ 4205 (مسل) ومدافعها. المجاري التي تدفع إلى الأودية. انظر: "اللسان" 3/ 1394 (دفع)، وخليف بفتح الخاء وكسر اللام: الطريق بين الجبلين انظر: "اللسان" 2/ 1242 (خلف). (¬1) إلى هنا انتهى النقل من "الحجة". (¬2) في (ب): (فلذلك). (¬3) في (أ): (همزة). (¬4) انظر: "الإغفال" ص 730 - 744، و"الحجة" 4/ 7 - 8، وهو أخذ منهما مع بعض التصرف اليسير في العبارة وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 25، و"المشكل" 1/ 283، والمراجع المذكورة في "القراءة" ص 30 من هذا الجزء. (¬5) في (ب): (وأرسل فرعون في المدائن حاشرين) من هذه السورة إن شاء الله. وهذا وهم، وجاء في سورة الشعراء الآية: 53 قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}. (¬6) انظر تفسير هذه الآية في هذا الجزء ص 267. (¬7) لفظ: (ولا) ساقط من (ب). (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 160، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 172، وفي "تنوير المقباس" 2/ 82 نحوه.

11

تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]. [وقد مر] (¬1). 11 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}. قال ابن عباس: (أما {خَلَقْنَاكُمْ} فآدم (¬2)، وأما {صَوَّرْنَاكُمْ} (¬3) فذريته) (¬4). وبيان هذا ما قاله مجاهد: ({خَلَقْنَاكُمْ} يعني: آدم {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (¬5) في ظهر آدم) (¬6)، وإنما {خَلَقْنَاكُمْ} بلفظ الجمع وهو يريد آدم؛ [لأنه أبو البشر وفي خلقه خلق يخرج من صلبه، وعلى هذا أيضًا يجوز أن يكون {صَوَّرْنَاكُمْ} لآدم وحده، وهو قول يونس (¬7)، قال: (يجوز أن يكون معنى {صَوَّرْنَاكُمْ} لآدم] (¬8) كما تقول: قد ضربناكم وإنما ضربت سيدهم) (¬9)، واختار أبو عبيد (¬10) في هذه الآية قول مجاهد لقوله بعده (¬11): {ثُمَّ قُلْنَا ¬

_ (¬1) لفظ: (وقد مر) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (آدم). (¬3) في (أ): (ثم صورناكم). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 126، وابن أبي حاتم 5/ 1442 بسند جيد. (¬5) لفظ: (ثم) ساقط من (ب). (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 232، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 127، وابن أبي حاتم 5/ 1442 من طرق جيدة، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 13: (هذا أحسن الأقوال، يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صورهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود لآدم بعد، ويقوي هذا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، والحديث أنه أخرجهم أمثال الذر فَأخّذ عليهم الميثاق) اهـ. وسيأتي تخريج الحديث. (¬7) يونس بن حبيب الضبي، لُغوي. تقدمت ترجمته. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬9) ذكره الثعلبي في "الكشف" 188 أ. (¬10) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه. (¬11) في (ب): (بعد).

لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا}، وكان قوله: {لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} قبل خلق ذرية آدم وتصويرهم في الأرحام، و (ثم) يوجب التراخي (¬1) والترتيب، فمن جعل الخلق والتصوير في هذه الآية لأولاد آدم في الأرحام لم يكن قد راعى حكم (ثم) في الترتيب، إلا أن يأخذ. بقول الأخفش فإنه يقول: ((ثم) هاهنا في معنى الواو) (¬2). قال الزجاج: (وهذا خطأ لا يجيزه الخليل (¬3) وسيبويه (¬4) وجميع من يوثق بعلمه) (¬5). قال أبو عبيد (¬6): (وقد بينه مجاهد (¬7) حين قال: إن الله خلق آدم [و] صورهم (¬8) في ظهره ثم أمر بعد ذلك بالسجود) قال: وهذا بين في حديث [آخر] (¬9) وهو أنه أخرجهم من ظهر آدم في سورة الذر) (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 16، و"معاني الحروف" للرماني ص 105، وذكر عدة أوجه في هذه الآية، و"رصف المباني" ص 249، و"المغني" لابن هشام 1/ 117. (¬2) "معاني الأخفش" 2/ 294. (¬3) انظر: "العين" 8/ 218. (¬4) انظر: "الكتاب" 1/ 291، 1/ 429، 3/ 89، 3/ 501. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 321، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 12. وقال: (هذا القول خطأ على مذهب أهل النظر من النحويين، ولا يجوز أن تكون، (ثم) بمعنى الواو لاختلاف معنييهما) اهـ. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) سبق تخريجه. (¬8) لفظ: (الواو) ساقطة من (ب). (¬9) لفظ: (آخر) ساقطة من (ب). (¬10) أخرج أحمد في "المسند" 1/ 272، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 89 رقم =

[و] قوله (¬1) تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}. قال الزجاج: (وهو استثناء ليس من الأول ولكنه ممن أمر بالسجود مع الملائكة بدليل قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] فدل أن إبليس ممن أُمِر بالسجود) (¬2) ¬

_ = (202)، والنسائي في "تفسيره" 1/ 506 رقم (211)، والطبري 9/ 111، والحاكم في "المستدرك" 1/ 27 - 2/ 544، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان -يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا"، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} -إلى- {الْمُبْطِلُونَ}) [الأعراف:172, 173]. وصححه الحاكم في "المستدرك" ووافقه الذهبي في "التلخيص". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 25: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح) اهـ. وقال الشوكاني في "تفسيره" 2/ 384، وصديق خان 5/ 73 (إسناده لا مطعن فيه) اهـ. وحسن إسناده الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة" لابن أبي عاصم 1/ 89، وصححه في "السلسلة الصحيحة" رقم (1623). وفي الباب أحاديث كثيرة بمعناه، انظر: "الدر المنثور" 3/ 261. (¬1) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 14، وعلى هذا القول يكون الاستثناء منقطع، وإبليس ليس من الملائكة لكنه أمر بالسجود معهم، وذهب الجمهور إلى أن الاستثناء متصل وإن إبليس من الملائكة أو من طائفة منهم، واختاره الطبري في "تفسيره" 1/ 224، 225، والبغوي 1/ 81، وابن عطية 1/ 245، 246، وغيرهم، والظاهر والله أعلم أنه ليس من الملائكة؛ لأن الملائكة خلقت من نور وإبليس خلق من نار ولأن الملائكة مسخرة لا تعصي الله تعالى وإبليس عصى وكفر ولقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وتوجه الخطاب إليه وأمر بالسجود مع الملائكة لأنه كان في عامتهم ومعهم يعمل بعملهم ويتعبد كما يتعبدون ولكن غلب عليه الطبع الخبيث. أفاده شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في كتاب "أحكام من القرآن الكريم" 1/ 162 - 164، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 14، و"النكت والعيون" للماوردي 1/ 102، و"زاد المسير" 1/ 65.

12

12 - قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} موضع (ما (¬1)) رفع، المعنى: أي شيء منعك من السجود. قال أبو بكر (¬2): (ومعنى سؤاله الله عز وجل إبليس عن علة ترك السجود وهو عالم بذلك التوبيخ له [و] التعنيف (¬3) وليظهر أنه معاند وأنه ركب المعصية خلافاً لله عز وجل, كما يقول الرجل لعبده: ما منعك من طاعتي وقد أحسنت إليك، وما منعك من خدمتي وقد أفضلت عليك، يريد بذلك التوبيخ له) (¬4). وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬5). وأما (لا) في قوله {أَلَّا تَسْجُدَ} فقال الفراء: (المعنى: ما منعك أن تسجد وأن في هذا الموضع تصحبها (¬6) لا، وتكون صلة، وكذلك قوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] تزاد (¬7) للاستيثاق من الجحد والتوكيد له، ومثله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (¬8) [الحديد: 29] المعنى: ليعلم أهل الكتاب) (¬9). ¬

_ (¬1) {مَاَ} اسم استفهام مبتدأ وما بعدها خبرها. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 601، و"المشكل" 1/ 284. (¬2) أبو بكر بن الأنباري، إمام لغوي. تقدمت ترجمته. (¬3) لفظ: (الواو): ساقطة من (ب). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 322، وما نقله هو نص كلامه. (¬6) في (ب): (تصحتها)، وهو تصحيف. (¬7) في (ب): (يراد)، وهو تصحيف. (¬8) في النسخ: (لان لا). (¬9) في "معاني الفراء" 1/ 473 (إلا أن معنى الجحد الساقط في لئلا من أولها لا من آخرها المعنى: ليعلم أهل "الكتاب" ألا يقدرون) اهـ. وانظر: "أضداد ابن الأنباري" ص 211.

وهذا أيضًا قول الكسائي (¬1)، ونحو هذا قال الزجاج: فقال: (معنى {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} إلغاء لا وهي مؤكدة؛ المعنى: ما منعك أن تسجد، قال (¬2) ومثل إلغاء (لا) قول الشاعر (¬3): أَبَى جُوُده لا البُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنع الجودَ قَاتِلُهْ قالوا: معناه: أبى جوده البخل (¬4). [قال: وقال أبو عمرو بن العلاء: الرواية أبى جوده لا البخلِ] (¬5) والذي قاله أبو عمرو حسن، المعنى: أبى جوده (لا) التي تبخِّل الإنسان كأنه إذا قيل له: (لا) تسرف و (لا) تبذر مالك أبي جوده (¬6) هذه واستعجلت به (نعم) فقال: نعم، أفعل ولا أترك الجود، وهذان القولان في البيت هما قول العلماء) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 161، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 173، والرازي في "تفسيره" 14/ 31، وقال: (هو قول الأكثرين) اهـ. ومهم أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 211، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 1/ 176، و"تأويل المشكل" ص 244، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 601، 602، ومكي في "المشكل" 1/ 284. (¬2) في (ب): وقال مثل إلغاء. (¬3) الشاهد مشهور لا يعرف قائله، وقد تقدم تخريجه. (¬4) في (ب): (أبي جوده لا البخل) وهو تحريف. (¬5) في (أ): (لا البخل) وهو تحريف. ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في "معاني الزجاج" 2/ 323، (أبي جوده (لا) هذه). (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 323.

قال أبو علي: (وهذا البيت أنشده أبو الحسن (¬1) وقال: فسرته العرب أبي جوده البخل، وزعم يونس (¬2) أن أبا عمرو (¬3) كان يجر البخل ويجعل لا مضافة إليه، أراد أبى جوده [لا] (¬4) التي هي للبخل لأن لا قد تكون (¬5) للبخل وللجود فالتي للبخل (¬6) معروفة والتي للجود أنه لو قال له: امنع الحق أو لا تعط المساكين فقال: لا كان هذا جودًا فيه (¬7)) (¬8). وقد أجاز (¬9) أبو إسحاق في البيت قولًا آخر قال: (وهو عندي حسن أرى أن تكون لا غير لغو، وأن يكون البخل منصوبًا بدلاً من (لا) المعنى: أبي جوده (لا) التي هي البخل فكأنك قلت: أبي جوده البخل) (¬10). ¬

_ (¬1) أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش إمام مشهور. (¬2) يونس بن حبيب الضبي، إمام تقدمت ترجمته. (¬3) أبو عمرو بن العلاء النحوي القارئ، إمام، تقدمت ترجمته. (¬4) لفظ: (لا) ساقطة من (أ). (¬5) في (ب): (يكون) بالياء. (¬6) في (ب): (فالتي للبخل وللجود فالتي للبخل معروفة) وهو تحريف. ولم ترد عند الأخفش ولا عند أبي علي لفظه: (فالتي للبخل معروفة). (¬7) في "معاني الأخفش" 2/ 295، و"الإغفال" ص 692، (كان هذا جودا منه). (¬8) النص في "معاني الأخفش " 2/ 294، "الإغفال " ص 692، و"الحجة" لأبي علي 1/ 169. وانظر: إعرابه وتوجيهه في "الحجة" لأبي علي 3/ 381، و"كتاب الشعر" 1/ 117، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 542. (¬9) هذا من قول أبي علي أيضًا في "الإغفال" ص 692 - 693 والنص منه. (¬10) "معاني الزجاج" 2/ 323. وفيه: (المعنى أبي جوده البخل واستعجلت به نعم) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 273. (وقد خرجته أنا تخريجًا آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعول له). وقال السمين في "الدر" 5/ 262: (ولا حجة في هذا البيت على زيادة لا في رواية النصب، ويتخرج على وجهين: =

وحكى عن أحمد بن يحيى: (أن (لا) في هذه الآية ليست زائدة، ولا توكيدًا؛ لأن معنى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} من قال لك لا تسجد، فحمل نظم الكلام على (¬1) معناه) (¬2). وهذا القول حكاه أبو بكر (¬3) عن الفراء. وقوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (¬4)، ولم يقل: منعني من السجود أني خير منه فأتى بشيء في معنى الجواب ولفظه غير جواب؛ لأن قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [إنما هو] (¬5) جواب (أيكما خير)، ولكن الكلام في معنى الجواب لأن قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} في معنى: منعني من السجود فضلي عليه، وهذا قول الفراء (¬6) والزجاج (¬7). وزاد أبو بكر لهذا بيانًا فقال: (أما قولة إبليس لعنه الله في جواب ربه ¬

_ = أحدهما: أن تكون لا مفعولًا بها، والبخل بدل منها لأن (لا) تقال في المنع فهي مؤدية للبخل. والثاني: أنها مفعول بها أيضًا والبخل مفعول من أجله، والمعنى: أبي جوده لفظ لا لأجل البخل أي: كراهة البخل، ويؤيد عدم الزيادة رواية الجر) اهـ. وانظر: الشاهد وتوجيهه في "الأضداد" لابن الأنباري ص 211 - 216. (¬1) في (أ): (لأن لا)، وهو تحريف. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 188 أ. (¬3) انظر "الأضداد" لابن الأنباري ص 215 - 216. وقال الرازي في "تفسيره" 4/ 31: (لا هاهنا مفيدة وليست لغوًا، وهذا هو الصحيح لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب) اهـ. (¬4) لفظ: (قال) ساقط من (ب). (¬5) لفظ: (إنما هو) ساقط من (ب). (¬6) انظر: "معاني الفراء" 1/ 374. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 323.

عز وتعالى: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ففيه [معنى] (¬1) منعني من السجود له عند نفسي أنني (¬2) خير منه؛ إذ كنت ناريًا وكان طينيًا، فلما أتى بكلام فيه معنى الجواب اكتفى به، واقتصر عليه كما يقول الرجل للرجل: لمن الدار؟ فيقول: مالكها زيد، يريد هي لزيد، فيأتي بكلام يرجع إلى معنى الجواب، فخاطب الله عز وجل العرب بلسانها واختصارها، واكتفائها) (¬3). وقوله تعالى: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، قال ابن عباس: (كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى (¬4) ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس) (¬5). فإن قيل: أليس العلماء يقيسون في مسائل، قيل: القياس قياسان: قياس في مخالفة النص فهو مردود كقياس إبليس، وقياس يوافق الأصول عند عدم النص فهو مقبول كقياس العلماء يقيسون (¬6) ما لا نص فيه بما فيه ¬

_ (¬1) لفظ: (معنى) ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (أنه)، وهو تحريف. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 161، والقرطبي 7/ 170 - 171 بدون نسبة ونحوه في "معاني النحاس" 3/ 15، و"تفسير البغوي" 3/ 217. (¬4) قوله: (فعصى) غير واضحة في (أ)، وموضحة في الهامش. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف" 188 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 161، والبغوي في "تفسيره" 3/ 217، والقرطبي 7/ 171 وغيرهم، ونقله الرازي في "تفسيره" 14/ 34، عن الواحدي عن ابن عباس. (¬6) القياس لغة: التقدير، ورد الشيء إلى نظيره، واختلف في تعريفه في الشرع، فقيل: هو حمل مجهول الحكم على معلومه لمساواة بينهما في علة الحكم، والقياس الشرعي عند الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع. انظر: "الرسالة" للشافعي ص 476 وما بعدها، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 218، و"التعريفات" للجرجاني ص 181، و"إرشاد الفحول" 2/ 839 وما بعدها.

13

نص ودليل، وابن عباس يقول: (من قاس الدين بشيء من رأيه) ولا يجوز أن يقاس الدين بما يراه الإنسان من رأيه (¬1). 13 - قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}، قال: ابن عباس: (يريد: من الجنة، وكانوا في جنة عدن، وفيها خلق آدم) (¬2)، ونحو هذا قال مقاتل: ({{فَاهْبِطْ مِنْهَا} يعني: الجنة) (¬3). وقال مجاهد (¬4): ({فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [في السماء) وهذا يدل على أنه يقول: {فَاهْبِطْ مِنْهَا}، يعني: السماء. وقوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}] (¬5)، قال ابن عباس: (يريد: أن أهلها ملائكة متواضعون خاشعون، {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}، قال: يريد: ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 3/ 174، و"تفسير الرازي" 14/ 34، والقرطبي 7/ 171، و"فتاوى شيخ الإسلام" 5/ 15 - 6. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 35، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 533، وابن الجوزي 3/ 175. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 30. (¬4) ذكر بدون نسبة في "تفسير البغوي" 3/ 217، وابن الجوزي 3/ 175، والقرطبي 7/ 173، وقال: (هو الأظهر) وهذا هو قول الجمهور وهو الظاهر لأنه هو المعلوم عند الإطلاق والأصل في النصوص حملها على ما هو معلوم ومفهوم حتى يقوم دليلُ على خلاف ذلك، فآدم اهبط من السماء من جنة الخلد التي هي مأوى المتقين. أفاده شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في كتاب "أحكام القرآن" 1/ 168 وهو اختيار الواحدي في "البسيط" كما تقدم في قصة آدم من سورة البقرة، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 302 وذهب بعضهم -وهو قول المعتزلة والخوارج- إلى أن آدم كان في جنة الدنيا بأرض عدن. انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 442، وابن كثير 2/ 228. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

14

من المُذلين) (¬1)، وقد ذكرنا معنى (الصاغر) و (الصغار) عند قوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ} [الأنعام: 124]. قال أبو إسحاق: (إن إبليس قد استكبر بإبائه السجود (¬2)، فأعلمه الله عز وجل أنه صاغر بذلك) (¬3). 14 - قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: أخرني إلى يوم البعث (¬4)، قال ابن عباس: (يريد: النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين) (¬5). {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، قال أهل المعاني: (معناه: إنك مُنظر، ولكن ربما يذكر الجماعة في هذا الموضع، ولا يكون المراد به إلا تحقيق الخطاب في واحد) (¬6). قال ابن عباس: (فأبى الله ذلك عليه) (¬7). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 83، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 162. وذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 173 بدون نسبة. (¬2) في (أ): (للسجود). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 324. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 324، و"تفسير الطبري" 8/ 133. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 84، وذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 173 - 174. وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 324، والنحاس 3/ 15: (أي: أخرني فلم يجب إلى هذا بعينه فأجيب إلى النظرة إلى يوم الوقت المعلوم) اهـ. (¬6) الذي عليه أهل التفسير أن قوله: {مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي: داخل في عداد المنظرين بآجالهم إلى ذلك الوقت المعلوم، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر، أفاده الطبري في "تفسيره" 8/ 132، وابن عطية 5/ 443، 444، وابن الجوزي 3/ 175، وأبو حيان في "البحر" 4/ 274. (¬7) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 533، والقرطبي 7/ 173 - 174.

16

قال المفسرون: (إن إبليس -لعنه الله- استنظر إلى يوم البعث، وأراد أن يذوق الموت في النفخة الأولى، فلم يُعطه ذلك، وأنظره إلى يوم النفخة الأولى [لا إلى] (¬1) الثانية؛ لأنه بين مدة المهلة في موضع آخر فقال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 38] وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم) (¬2). 16 - قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، قال ابن عباس: (يريد: فبما أضللتني، مثل قول نوح: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}) (¬3) [هود: 34]. قال أبو بكر الأنباري حاكيًا عن أهل اللغة: (الإغواء (¬4) إيقاع الغَيِّ في القلب، والغَيُّ: المذموم من الفعل، وقوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي: فبما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب خروجي من الجنة، وكذلك قوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] أي: يوقع الشر في قلوبكم ¬

_ (¬1) لفظ: (لا إلى) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 132، 133، والسمرقندي 1/ 533، والماوردي 2/ 204، 205، والبغوي 3/ 217 - 218، وابن عطية 5/ 443 وقال: (هذا أصح وأشهر في الشرع) اهـ. وقال الشنقيطي في "تفسيره" 2/ 295: (طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم، وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى) اهـ. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 133 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 135. (¬4) أصل الإغواء: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسنه عنده يقال: غَوَى، بالفتح: الرجل يَغْوَى غَيًّا من الغي، خلاف الرشد، والغواية: الانهماك في الغيَّ، ويأتي الغَيَّ بمعنى الفساد والضلال والجهل والخيبة. انظر: "الطبري" 8/ 133، و"الجمهرة" 1/ 244، و"تهذيب اللغة" 3/ 2706، و"الصحاح" 6/ 2450، و"المفردات" ص 620، و"اللسان" 6/ 3320 (غوى).

ويحسن القبيح لكم لما سبق لكم عنده من الشقاء. قال: وقال بعضهم: الإغواء الإهلاك، ومنه قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] أي: هلاكاً وبلاء، ومنه أيضًا قولهم: غَوِيَ الفصيل يَغْوَى غوى (¬1)، إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه ويشارف (¬2) الهلاك والعطب، وفسروا قوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم الحق، وهذا قول تحتمله اللغة، وأهل التفسير على القول الأول) (¬3) قال أبو إسحاق: (في {أَغْوَيْتَنِي} قولان: قال بعضهم: أضللتني، وقال بعضهم: فبما دعوتني إلى شيء غَويت به، أي: غويت من أجل آدم) (¬4). قال أبو بكر: (وأما قوله عز وجل: {فَبِمَا}؛ فإن الباء تحتمل أمرين: أحدهما: القسم؛ أي: بإغوائك إياي {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} بقدرتك عليَّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم [الذي] (¬5) ¬

_ (¬1) جاء في "الزاهر" لابن الأنباري 2/ 252 (يقال: غَوى الرجل يَغْوى غَيًّا وغَواية: إذا جهل وأساء. ويقال: قد غَوِي الفصيل يَغْوَى إذا بشم من لبن أمه عند الإكثار والازدياد منه) اهـ. ونحوه في "شرح القصائد" ص 52، وفي مصادر اللغة يطلق ذلك عليه، إذا فقد اللبن حتى كاد يهلك، ويقال أيضًا: إذا أكثر من اللبن فأتخم. انظر: "العين" 4/ 456، و"البارع" ص 443 - 445، والمراجع السابقة. (¬2) في (ب): (ويشارك)، وهو تحريف. (¬3) ذكر بعضه الواحدي في "الوسيط" 1/ 162، والبغوي 3/ 218، وابن الجوزي 3/ 175، وقال: (الجمهور على أنه بمعنى: الإضلال) اهـ. وهو بدون نسبة في "تفسير الثعلبي" 188 أ، والرازي 14/ 37 (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 324، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 16، و"تفسير السمرقندي" 1/ 533، والماوردي 2/ 206. (¬5) لفظ: (الذي) ساقط من (ب).

يسلكونه إلى الجنة بأن أزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم، فإذا كان الباء قسمًا كان اللام جواب القسم، و (ما) بتأويل المصدر و {أَغْوَيْتَنِي} صلتها ولا عائد لها. قال: ويجوز أن يكون (ما) بتأويل الشرط والباء من صلة الإغواء، والفاء المضمرة جواب الشرط، والتقدير قال: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطك، فتضمر (¬1) الفاء جوابًا للشرط كما تضمرها (¬2) في قولك: إلى ما أومأت إني قابله وبما أمرت إني سامع له مطيع) (¬3). وقوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، قال الزجاج: (أي: على طريقك المستقيم، ولا اختلاف بين النحويين (¬4) في أن (على) محذوفة، ومثل ذلك قولك: ضربه زيد الظهر والبطن، والمعنى: على الظهر والبطن) (¬5). ¬

_ (¬1) في (ب): (فيضمر) بالياء. (¬2) في (ب): (يضمرها) بالياء. (¬3) ذكر بعضه الواحدي في "الوسيط" 1/ 162، والوجوه في (الباء) و (ما) في عامة المصادر. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 135، والماوردي 2/ 206، و"غرائب الكرماني" 1/ 399، و"تفسير البغوي" 3/ 218، وابن عطية 5/ 444، و"الفريد" 2/ 277، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 274، والسمين في "الدر" 5/ 264 - 265: (الظاهر أن الباء للقسم، وما مصدرية) اهـ. وذكر السمين قول ابن الأنباري في أن ما شرطية وقال: (هذا الذي قاله ضعيف جدًّا، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تحذف إلا في ضرورة شعر، فعلى رأي أبي بكر يكون قوله {لَأَقْعُدَنَّ} جواب قسم محذوف، وذلك القسم المقدر، وجوابه جواب الشرط فيقدر دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني، فوالله لأقعدن، هذا يتمم مذهبه) اهـ. (¬4) انظر: "الكتاب" 1/ 34 - 37، و"معاني الأخفش" 2/ 295. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 324، ونحوه ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 602، والمعاني 3/ 16، ومكي في "المشكل" 1/ 284.

وزاد الفراء بيانًا، فقال (¬1): (المعنى -والله أعلم-: لأقعدن لهم على طريقهم وفي (¬2)، وإلقاء الصفة (¬3) من هذا جائز، كما تقول: قعدت لك وجه الطريق، وعلى وجه الطريق؛ لأن الطريق ظرف (¬4) في المعنى، فاحتمل (¬5) ما يحتمله اليوم والليلة، والعام إذا قيل: آتيك غدًا وفي غد) (¬6). ومعنى {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} كما ذكره أبو بكر فيما حكينا (¬7) عنه، قال ابن عباس في تفسير {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (يريد: دينك الواضح) (¬8). وقال ابن مسعود: (هو كتاب الله) (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (وقال). (¬2) في "معاني الفراء" (أو في). (¬3) المراد بالصفة هاهنا -عند الكوفيين-: حرف الجر، وكذلك يطلقونه أيضًا على الظرف انظر: "معجم المصطلحات النحوية" للدكتور محمَّد اللبدي ص 241، و"حاشية تفسير الطبري" 12/ 337. (¬4) في (ب): (طرقٌ) -وهو تصحيف-، وفي "معاني الفراء" 1/ 375؛ لأن الطريق صفة في المعنى، وما ذكره الواحدي هو تفسير لذلك؛ لأن الفراء يطلق على الظرف لفظ الصفة كما سبق بيانه. (¬5) في (ب): (فاحتمله ما يحتمله) وهو تحريف. (¬6) في "معاني الفراء" 1/ 375: (آتيك غدًا أو آتيك في غد). وضعف أبو حيان في "البحر" 4/ 275، والسمين في "الدر" 5/ 266 - 268، النصب على إسقاط الخافض لأن حذف حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا , ولا يطرد حذفه، بل هو مخصوص بالضرورة. وقالا: (والأولى أن يضمن (لأقعدن) معنى ما يتعدى بنفسه فينتصب الصراط على أنه مفعول به، والتقدير: لألزمن بقعودي صراطك المستقيم) اهـ. (¬7) سبق تخريجه عن ابن الأنباري (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 84، وذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 195 عن ابن عباس. (¬9) ذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 195، وفي أكثر كتب التفسير عن ابن =

17

وقال جابر بن عبد الله: (هو الإسلام) (¬1). 17 - قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، قال ابن عباس في رواية الوالبي: ({مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} يعني آخرتهم، يقول: أشككهم فيها، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أرغبهم في دنياهم) (¬2). وهو قول قتادة، قال: (آتيهم {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن {خَلْفِهِمْ} من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها) (¬3)، ونحو هذا قال الكلبي (¬4)، وهؤلاء جعلوا الآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها فهي بين أيديهم، وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها (¬5). ¬

_ = مسعود قال: (طريق مكة). انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 206، وابن الجوزي 3/ 176، و"الدر المنثور" 3/ 135. (¬1) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 176، وابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 195، وما ذكر تنبيه على بعض أنواع الصراط، والظاهر هو العموم، فالصراط: الطريق وسبيل النجاة، وذلك دين الله الحق، والإسلام وشرائعه، وهو اختيار عامة المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 134، 135، و"معاني النحاس " 3/ 16، و"تفسير السمرقندي" 1/ 533، و"البغوي" 3/ 218، و"ابن عطية" 5/ 446. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 136، وابن أبي حاتم 5/ 1444 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 136. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 136 بسند جيد.، وابن أبي حاتم 5/ 1444 بسند جيد عن قتادة عن الحسن وقال: (وروى عن عكرمة نحو ذلك) اهـ. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 84، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 225 بسند جيد عن الكلبي، وذكره السمرقندي 1/ 533، والثعلبي 188 ب. (¬5) ذكر نحوه النحاس في "معانيه" 3/ 18.

وقال الحكم (¬1) والسدي (¬2): {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} (يعني الدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، من قبل الآخرة). وهو قول ابن عباس في رواية العوفي، قال: (أما {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} فمن قبل دنياهم، وأما {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (¬3) فأمر آخرتهم) (¬4). فهؤلاء جعلوا (بين أيديهم) الدنيا؛ لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويعمل لها والآخرة تأتي (¬5) من بعد. وقوله تعالى: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، قال الوالبي عن ابن عباس {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: (أُشَبِّه عليهم أمر دينهم، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أُشَهِّي (¬6) لهم المعاصي). وقال في رواية عطاء: ({وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} يريد: من قبل الحق، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} يريد: من قبل الباطل) (¬7). ¬

_ (¬1) الحكم بن عتيبة الكندي أبو محمد الكوفي، إمام ثقة فقيه، تقدمت ترجمته، والأثر عنه، أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 136، 137 بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1445 وقال: (روي عن مجاهد والنخعي والحكم وأبي صالح والسدي) اهـ. وذكره النحاس في "معانيه" 3/ 16 - 17، والثعلبي في "الكشف" ص 188/ ب. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 137 بسند جيد وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 533، والثعلبي 188 ب. (¬3) لفظ: (من) ساقط من (أ). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 136، 137 بسند جيد عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأخرجه الطبري أيضًا، وابن أبي حاتم 5/ 1444 بسند ضعيف من طريق عطية العوفي، وذكر النحاس في "معانيه" 3/ 17 - 18 كلا الروايتين من طريق علي بن أبي طلحة وقال: (وذلك القول لا يمتنع؛ لأن الآخرة لم تأت بعد فهي بين أيدينا وهي تكون بعد موتنا فمن هذه الجهة يقال: هي خلفنا) اهـ. (¬5) في (ب): (يأتي). (¬6) في (ب): (اشتهى)، والمشهور: (اشَهَّي) وقد سبق تخريجه. (¬7) لي أقف عليه بهذا اللفظ عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 176 عن مجاهد والسدي.

وهو قول الحكم (¬1) والسدي، قالا: ({وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الحق؛ أصدهم (¬2) عنه وأشككهم فيه، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} من قبل الباطل أخففه (¬3) عليهم، وأزينه لهم، وأرغبهم فيه). وقال (¬4) في رواية العوفي: (أما {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} فمن قبل حسناتهم، وأمما {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} فمن قبل سيئاتهم). وهو قول قتادة، قال: ({وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل حسناتهم بَطَّأَهم عنها {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله) (¬5). قال أبو بكر: (وقولُ من قال: (الأيمان كناية عن الحسنات، والشمائل كناية عن السيئات) حسنٌ؛ لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك، ولا تجعلني في شمالك، يريد اجعلني من المقدمين عندك، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه عن الحكم والسدي. (¬2) في (ب): (اصدقهم)، وهو تحريف. (¬3) في (ب): (أحققه)، وهو خلاف ما في المصادر. (¬4) أي ابن عباس من طريق عطية العوفي. وقد سبق تخريجه. وأيضًا أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 136 بسند جيد عن علي بن أبي طلحة. (¬5) سبق تخريجه، وذكر النحاس في "معانيه" 3/ 16 - 18 نحوه عن الحكم بن عتيبة. وقال: (هذا قول حسن وشرطه أن معنى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من دنياهم حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار والأمم السالفة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من آخرتهم حتى يكذبوا بها، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حسناتهم وأمور دينهم، ويدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} يعني: سيئاتهم أي: يتبعون الشهوات لأنه يزينها لهم) اهـ.

ولا تجعلني من المؤخرين، أنشدنا أبو العباس (¬1) لابن الدمينة (¬2): أَبِيِنى (¬3) أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعلْتِنى ... فَأَفْرَحَ أَمْ صَيَّرْتِني في شِمالِكِ) (¬4) وروى أبو عبيد عن الأصمعي (¬5): (هو عندنا باليمين أي: بمنزلة حسنة، وإذا خست منزلته قال: أنت عندي (¬6) بالشمال وقال: رَأَيْتُ بَنِي العَلَّاتِ لَمّا تَضَافَرُوا ... يَحُوزون سَهْمِي دُونَهْم فيِ الشَّمَائِل (¬7) ¬

_ (¬1) أبو العباس: أحمد بن يحيى الإِمام ثعلب. تقدمت ترجمته. (¬2) ابن الدُّمَيْنْةَ: هو عبد الله بن عبيد الله بن أحمد الخَثْعَمي، أبو السَّريّ، شاعر إسلامي، له شعر كثير، والدمينة أمه، توفي سنة 130 هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 489، و"الأغاني" 17/ 98، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 425، و"الأعلام" 4/ 102. (¬3) "ديوانه" ص 17، و"أمالي الزجاجي" ص 108، و"الأغاني" 17/ 96، و"دلائل الإعجاز" للجرجاني ص 90، و"بدائع التفسير" 2/ 197، وبلا نسبة في الماوردي 4/ 297، و"وضح البرهان" للغزنوي 2/ 431، وهو في "الصناعتين" ص 355 لطرفة ابن العبد وليس في "ديوانه"، وفي (ب): (أتيني) وهو خلاف ما في المراجع. (¬4) "شرح القصائد" لابن الأنباري ص 411. (¬5) في "الغريب المصنف" 1/ 318 قال أبو عبيد: (الشمائل واحدها شمال، وقد تكون من الأخلاف ومن خلفه الجسد)، وفي "اللسان" 8/ 4969 (يمن)، (اليَمين المنزلة، قال الأصمعي: هو عندنا باليمين أي: بمنزلة حسنة) اهـ. وذكره عن أبي عبيد عن الأصمعي، ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 197. (¬6) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1929، وصاحب "اللسان" 4/ 2329 (شمل) عن العرب. (¬7) لم أهتد إلى قائله. وهو في "تهذيب اللغة" 2/ 1931، و"اللسان" 4/ 2329 (شمل) , و"الدر المصون" 2/ 270 , و"بدائع التفسير" 2/ 197، وبنو العلات =

أي: ينزلونني بالمنزلة الخسيسة) (¬1)، وروى الأزهري في هذه الآية عن بعضهم: ({مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي: لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} بأمر البعث، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أي: لأضلنهم فيما يعملون؛ لأن الكسب يقال فيه: (ذلك بما كسبت يداك) وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئًا؛ لأن اليدين هما الأصل في التصرف، فجعلت مثلًا لجميع ما عمل بغيرهما) (¬2). وقال ابن الأنباري: (على هذا القول: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أي: أزهدهم فيما ينبغي أن يعملوا له مما يكسبهم ثواب ربهم، قال: والعرب تذكر (الأيمان) و (الأيدي) عند العمل والفعل فيقول: جنت عليه يده، وكسبت يده، فلما كان ذكر الأيدي مستعملًا في الأفعال والأعمال اكتفى الله تعالى بها من الأفعال) (¬3)، وقال آخرون: (ذكر الله تعالى هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد، أي: ثم لآتينهم من جميع الجهات)، وهو اختيار أبي إسحاق؛ قال: (الحقيقة -والله أعلم- أي: أنصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم) (¬4). ¬

_ = -بالفتح- بنو أمهات شتى من رجل واحد لأن الذي تزوجها على أولى قد كانت قبلها ناهل ثم عل من هذه، انظر: "اللسان" 5/ 3080 (علل). (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 41، عن الأنباري. (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3985. وذكره عن البعض الزجاج في "معانيه" 2/ 325، وصاحب "اللسان" 8/ 4969 (يمن). (¬3) لم أقف عليه. وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 356، ص 379. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 324، وهذا هو اختيار جمهور المفسرين منهم الطبري في "تفسيره" 8/ 137، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 603، وابن عطية في "تفسيره" 5/ 447، وقال القرطبي 7/ 176: (ومن أحسن ما قيل في تأويل الآية؛ =

18

وقوله تعالى: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: [أن] (¬1) أكثرهم لإبليس طائعين، ولله عاصين) (¬2). 18 - قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا}، قال الكلبي: (من الجنة) (¬3) {مَذْءُومًا}؛ قال الليث: (ذَأَمت الرجل فهو مذؤوم أي: محقور، والذَّأم: الاحتقار) (¬4). ونحو ذلك قال الأصمعي (¬5) وأبو زيد: (ذَأَمْته أذَأَمه إذا حقرته وذَمَمْته) (¬6)، وقال أحمد بن يحيى: (ذَأَمته عِبْتُه) (¬7). وقال الفراء: (ذَأَمته ذأمًا فأنا أذأمه إذا عبته) (¬8). ¬

_ = أي: لأصدنهم عن الحق وأرغبنهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة وهذا غاية في الضلالة) فالراجح في الآية أنه يأتيهم حقيقة من جميع الوجوه الممكنة من حيث لا يبصرون، ومن جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم، وانظر: "تأويل المشكل" ص 248، و"تفسير ابن كثير" 2/ 229. (¬1) لفظ: (أن) ساقط من (ب). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 164، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 138، وابن أبي حاتم 5/ 1446 بسند جيد عن ابن عباس قال: (موحدين)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 136. (¬3) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 533، والثعلبي 188 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 164، والبغوي في "تفسيره" 3/ 219. (¬4) "العين" 8/ 203، وذكره عن الليث. الرازي في "تفسيره" 14/ 43، وأبو حيان في "البحر" 4/ 265، والسمين في "الدر" 5/ 271. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1264، وفيه: (ذأمته، ودأمته: إذا حقرته وخزيته) اهـ. وفي 14/ 416، قال: (والذَّام: العيب) اهـ. (¬6) "النوادر" ص 97، و"تهذيب اللغة" 2/ 1264. (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 1264، وفيه زاد: (وذأمته أكثر من ذممته) اهـ. (¬8) "الزاهر" لابن الأنباري 2/ 3، و"زاد المسير" 3/ 178، ولم أقف عليه في "معانيه".

وقال ابن الأنباري: (المذؤوم المذموم، يقال: ذَأَمْت الرجل أَذْأَمُه وذِمْتُه أَذِيمُة ذَيْمًا وذَمَمْتُه أَذُمُّه ذَمًّا بمعنى) (¬1) وأنشد (¬2): وأقاموا حتى أبيرَوا جميعًا ... في مَقامٍ وكلُّهم مَذْؤُومُ وقال أمية في اللغة الثانية: وقالَ لإبليسَ ربُّ العبادِ ... [أن] (¬3) اخُرجْ دحيرًا لعينًا مذُوما (¬4) ¬

_ (¬1) "الزاهر" لابن الأنباري 2/ 3، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 295، و"غريب اليزيدي" ص 144، والخلاصة: أن مذءوم اسم مفعول من ذَأمه مهموز إذا عابه واحتقره ودحره وذمَّه ذأمًا، وقد تسهل همزة ذأم فتصير ألفًا فيقال: ذام. يقال: ذأمه يذأمه -كرأم- وذامه يذيمه كباعه من غير همز، فمصدر المهموز ذأم -كَرأْس-، وأما مصدر غير المهموز فسمع فيه ذام بألف، وحكى فيه ذَيْمًا كيَنْع، أفاده السمين في "الدر" 5/ 271. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 324، و"الجمهرة" 2/ 1097، و"الصحاح" 5/ 1925، و"مقاييس اللغة" 2/ 368، و"المجمل" 2/ 364، و"الأفعال" للمعافري 3/ 603 - 604، و"المفردات" ص 331، و"اللسان" 3/ 1482 (ذأم). (¬2) الشاهد لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- في "ديوانه" ص 226 برواية: لم يُوَلُّوا حَتَّى أُبِيدُوا جَميعًا ... في مَقَامِ وكلُّهمِ مَذْمُومُ وهو في "الزاهر" 2/ 3، و"زاد المسير" 3/ 178، و"الدر المصون" 5/ 271، وأبيروا -أي: أهلكوا- انظر: "اللسان" 1/ 385 (بور). وذكره ابن هشام في "السيرة" 2/ 124 ضمن قصيدة طويلة يذكر فيها عدة أصحاب اللواء يوم أحد. (¬3) لفظ: (أن) ساقط من النسخ. (¬4) الشاهد في "ديوان أمية بن أبي الصلت الثقفي" ص 235، و"تفسير الثعلبي" 188 ب، والرازي 14/ 44، و"الدر المصون" 5/ 272، وقال السمين: (أنشده الواحدي على لغة ذامه بالألف، يذيمه بالياء، وليته جعله محتملًا للتخفيف من لغة الهمز) اهـ.

وقال ابن قتيبة: ({مَذْءُومًا} [مذمومًا] (¬1) بأبلغ الذم) (¬2). وقوله: {مَدْحُورًا}؛ الدحر في اللغة (¬3): الطرد والإقصاء والتبعيد يقال: دَحَره دَحْرًا ودُحورًا إذا طرده وبعده، ومنه قوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا} [الصافات:8 - 9]، وقال أمية: وبإذنه سجدوا لآدمَ كلهمْ ... إلا لعينًا خاطئًا مَدْحورًا (¬4) وأما لفظ المفسرين في تفسير هذين الحرفين، فقال ابن عباس: ({مَذْءُومًا} ممقوتًا) (¬5)، وروى عطية عنه: ({مَذْءُومًا مَدْحُورًا} يعني: صغيرًا مقيتًا) (¬6). وقال في رواية عطاء: (يريد: صاغرًا ملعونًا) (¬7)، وكل واحد منهم أتى بلفظ قريب المعنى مما ذكره أهل اللغة. وقوله تعالى: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ}، اللام فيه لام القسم، وجوابه قوله (¬8): {لَأَمْلَأَنَّ}. ¬

_ (¬1) لفظ: (مذمومًا) ساقط من (ب). (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 176، ونحوه ذكر أبو عبيدة في "المجاز" 1/ 211، والطبري في "تفسيره" 8/ 138، ومكي في "تفسير المشكل" ص 83. (¬3) انظر: "العين" 3/ 177، و"الجمهرة" 1/ 501، و"تهذيب اللغة" 2/ 1153، و"الصحاح" 2/ 655، و"المجمل" 2/ 347، و"مقاييس اللغة" 2/ 331، و"المفردات" ص 308، و"اللسان" 3/ 1333 (دحر). (¬4) "ديوان أمية بن أبي الصلت الثقفي" ص 235، و"تفسير الرازي" 14/ 44، و"الدر المصون" 5/ 272. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 139، وابن أبي حاتم 5/ 1446 بسند جيد. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 139، وابن أبي حاتم 5/ 1447 بسند ضعيف. (¬7) لم أقف عليه، وانظر: "تفسير الماوردي" 2/ 208، والبغوي 3/ 219. (¬8) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 295، والزجاج 2/ 325، و"تفسير الطبري" =

19

وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} (¬1). قال أبو بكر: (الكناية تعود على ولد آدم لأنه حين قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] كان مخاطبًا لولد آدم فرجع إليهم) (¬2). قال ابن عباس: (يريد: من أطاعك منهم {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} قال: يريد: المشركين والمنافقين والكافرين وقرنائهم من الشياطين) (¬3). 19 - قوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬4)، الآية مفسرة في سورة البقرة (¬5). 20 - وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}، قال الليث: (الوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي من ريح تهز قصبًا أو شيئًا، كالهمس، وبه سمي صوت الحلي وسواسًا) (¬6). ¬

_ = 8/ 139، و"إعراب النحاس" 1/ 103، وفي هذه اللام وجهان: أظهرهما قول الجمهور أن اللام توطئه لقسم محذوف، و (من) شرطية في محل رفع بالابتداء {لَأَمْلَأَنَّ} جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده والثاني: أن اللام للابتداء، و (من) موصولة و {تَبِعَكَ} صلتها، وهي أيضًا في محل رفع بالابتداء، و {لَأَمْلَأَنَّ} جواب قسم محذوف، وهو وجوابه في محل رفع خبرًا لهذا المبتدأ والتقدير: للذي تبعك منهم، والله لأملأن جهنم منكم. انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 450، و"التبيان" 1/ 370، و"الفريد" 2/ 279، و"الدر المصون" 5/ 273. (¬1) في النسخ: {مِنْهُمْ}. ويحتمل أنه يريد: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ}. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 178، والرازي في "تفسيره" 14/ 44. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 165، وفي "تنوير المقباس" 2/ 84 نحوه. (¬4) لفظ: {الجَنَّةَ} ساقط من (ب). (¬5) انظر: "البسيط" البقرة: 35. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3894.

ثعلب عن ابن الأعرابي: (رجل موسْوِس، ولا يقال: موَسوَس) (¬1) [الأزهري (وإنما قيل: موسوس] (¬2)؛ لأن نفسه توسوس له (¬3). قال الله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (¬4) [ق: 16]، وقال رؤبة يصف الصياد: وَسْوَسَ يَدْعُو (¬5) مُخْلِصًا ربَّ الفَلَقْ (¬6) يقول: لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس في نفسه يخطئ أو يصيب)، قال الأخفش (¬7): {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} (يعني: إليهما) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3894، ومُوَسوِس -بكسر الواو- ولا يقال مُوَسْوَس -بفتح الواو-. انظر: "الجمهرة" 1/ 205، و"المجمل" 3/ 912، و"مقاييس اللغة" 6/ 76، و"المفردات" ص 869 (وسوس). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) في "تهذيب اللغة" 4/ 3894: (لأنه يحدث نفسه بما في ضميره) اهـ. (¬4) في (أ): (ويعلم) بالياء، وهو تصحيف. (¬5) في النسخ: (يدعوا). (¬6) "ديوان" رؤبة بن العجاج ص 108، و"تفسير الطبري" 8/ 140، "تهذيب اللغة" 4/ 3894، و"تفسير ابن عطية" 5/ 456، و"اللسان" 8/ 4831 (وسس)، و"الدر المصون" 5/ 276، وعجزه: سِرُّا وَقَدْ أوَّنَّ تَاَوِينَ العُقُقْ قال في "اللسان" 5/ 3044 (علق) في شرحه للشاهد: (أون شربن حتى انتفخت بطونهن فصار كل حمار كالأتان العقوق وهي التي تم حملها وقرب ولادها) اهـ. (¬7) "معاني الأخفش" 2/ 296، وفيه: (والعرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل) اهـ. ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" 8/ 140، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 603، والجوهري في "الصحاح" 3/ 988 (وسوس)، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 278، والسمين في "الدر" 5/ 275: (الفرق بين وسوس له ووسوس إليه أن وسوس له بمعنى لأجله، ووسوس إليه ألقى إليه الوسوسة) اهـ. (¬8) في (أ) جاء تكرار، قوله: (وسوس في نفسه) إلى آخره.

20

وقوله تعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا}، هذه اللام تسمى لام العاقبة (¬1)؛ وذلك أن الشيطان لم يقصد بالوسوسة بدو عورتهما، ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتهما، وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط، فلما بدت عوراتهما وكان ذلك بسبب معصيتهما جاز أن يقال: فعل ذلك لذلك (¬2) كما قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. 20 - قوله تعالى: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} أي: ما ستر؛ من المُواراة يقال: وَاريته فأنا أوَاريه أي: سترته، ويقال: وَارَيْت الميت في التراب أي: دفنته (¬3)، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي -رضي الله عنه- لما أخبره بوفاة أبيه (¬4) قال: (اذهب فوارِه) (¬5) قال الشاعر: ¬

_ (¬1) وهي التي يسميها الكوفيون (لام الصيرورة). انظر كتاب "اللامات" للزجاجي ص 119، ولمحمد الهروي ص 182. (¬2) هذا قول الجمهور أنها للعاقبة والصيرورة، ورجح أبو حيان في "البحر" 4/ 278، والسمين في "الدر" 5/ 276، وهو الظاهر أنها لام العلة الباعثة على أصلها؛ لأن قصد الشيطان ذلك وهو يعلم ذلك بالإلهام أو بالنظر فهو وسوس لهما لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء ولغرض الإضرار بهما؛ لأن طبعه عداوة البشر، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 457، وابن عاشور 8/ 57. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3880، و"الصحاح" 6/ 2523، و"المفردات" ص 866، و"اللسان" 8/ 4823 (ورى). (¬4) في (ب): (ابنه)، وهو تصحيف. (¬5) الحديث أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 112، 136، وأبو داود (3214) كتاب الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك، والنسائي في الطهارة، باب: الغسل من مواراة المشرك 1/ 111، وفي الجنائز 4/ 79، باب مواراة المشرك عن علي رضي الله عنه أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أبا طالب مات قال: "اذهب فواره" قال: إنه مات مشركًا. فقال: "اذهب فواره" فلما واريته رجعت إليه فقال لي: "اغتسل" =

20

علَى صدى أسود المُواري ... في التُّرْب أمسى وفي الصفيح (¬1) والسَّوأة فرج الرَّجُل والمرأة، وذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان (¬2). وقال ابن عباس: (كانا قد ألبسا ثوبًا يستر العورة منهما، فلما عصيا تهافت عنهما ذلك الثوب، وذلك قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}) (¬3) [الأعراف: 22]. 20 - وقوله تعالى: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ}، قال ابن الأنباري: (يمكن أن يكون هذا مخاطبة من إبليس لهما، ويمكن أن يكون بوسوسة أوقعه في قلوبهما، والأمران مرويان إلا أن الأغلب والأكثر مخاطبته إياهما بدليل قوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}) (¬4). وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} تقديره: (إلا أن لا تكونا) عند الكوفيين، وعند البصريين (إلا كراهية أن تكونا) فحذف المضاف (¬5). فإن قيل: كيف أطمع إبليس لعنه الله آدم في أن يكون ملكًا عند أكله من الشجرة، فانقاد له مؤملًا ذلك، وقد شاهد الملائكة متواضعة ساجدة ¬

_ = ودعا لي) اهـ. وصحح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى إسناده في الحاشية. (¬1) لم أهتد إلى قائله، وهو في "الدر المصون" 5/ 277. والصَفِيح: الحجارة العريضة. انظر: "اللسان" 4/ 2455 (صفح). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1583 (ساء)، و"المفردات" ص 441 - 442 (سوأ). (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 166، والبغوي 3/ 220، والرازي 14/ 46. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 47 بدون نسبة. (¬5) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 296، و"تفسير الطبري" 8/ 140، و"إعراب النحاس" 1/ 604، و"المشكل" 1/ 284، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 279، والسمين في "الدر" 5/ 287: (قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا} استثناء مفرغ وهو مفعول من أجله فقدره البصريون: إلا كراهة أن تكونا، وقدره الكوفيون: إلا أن لا تكونا، وإضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف) اهـ. ملخصًا.

21

له، معترفة بفضله؟ فيقال: إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلا يوم القيامة، ولم يعلم ذلك لنفسه، فعرض عليه إبليس أن يصير ملكًا في البقاء ولا يموت كما لا يموتون (¬1)، وكان (¬2) ابن عباس يقرأ: {مَلَكَيْنِ} (¬3)، ويقول: (ما طمعا في أن يكونا ملَكين، لكنهما استشرفا (¬4) إلى أن يكونا مَلِكين، وإنما أتاهما الملعون من جهة المُلك، يدل على هذا قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}) (¬5) [طه: 120]. وقوله تعالى: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، قال ابن عباس: (يريد: لا يموتان) (¬6). 21 - قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا}. قال ابن عباس: (حلف لهما) (¬7). يقال: أَقْسم (¬8) يقسم إقسامًا إذ حلف، والقَسَم اليمين، وكذلك قاسم وهو من المفاعلة التي تكون من واحد (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 219، والرازي 14/ 47، والقرطبي 7/ 178. (¬2) في (ب): (فكان). (¬3) قراءة الجمهور {مَلَكَيْنِ} -بفتح اللام بمعنى ملكين من الملائكة- وقرأ ابن عباس وغيره {مَلَكَيْنِ} -بكسر اللام-، بمعنى ملكين من الملوك، وهي قراءة شاذة. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 140، و"إعراب النحاس" 1/ 604، و"مختصر الشواذ" ص 48. (¬4) في (ب): (استسرفا). (¬5) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 47، والقرطبي 7/ 178 - 179. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 85. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 85، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 166. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2961، و"الصحاح" 5/ 2010، و"مجمل اللغة" 3/ 752، و"المفردات" ص 670، و"اللسان" 6/ 3630 (قسم). (¬9) قال البغوي في "تفسيره" 3/ 219: (أي: وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد) اهـ. وقال القرطبي في "تفسيره" 7/ 179: (وجاء فاعلت من واحد، وهو يرد على من =

قال خالد بن زهير (¬1): وَقَاسَمهُمَا بالله جَهْدًا لأَنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذاَ مَا نَشُورُهَا (¬2) قال قتادة: (حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله) (¬3). وقوله تعالى: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، قال قتادة: (قال لهما إبليس: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما) (¬4). قال أبو علي: (الجار في قوله {لَكُمَا} يتعلق بما بعدها, لأن التقدير إني لمن الناصحين لكما) (¬5) وشرح هذا وبيانه مذكور في سورة ¬

_ = قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين) اهـ. وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 72، وابن عطية 5/ 459، و"البحر المحيط" 4/ 279، و"الدر المصون" 5/ 279. (¬1) خالد بن زهير الهذلي، شاعر أموي، مشهور، جرت بينه وبين خاله أبي ذؤيب الهذلي أشعار وخصومة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 435، و"شرح أشعار الهذلين" للسكري 1/ 207، و"الخزانة" للبغدادي 5/ 76. (¬2) "شرح ديوان الهذليين" 1/ 215، و"تفسير الطبري" 8/ 141، و"تهذيب اللغة" 2/ 1726 (سلا)، و"تفسير ابن عطية" 5/ 459، و"اللسان" 4/ 2086 (سلا)، و"البحر المحيط" 4/ 279، و"الدر المصون" 5/ 279، والسَّلْوى هنا العسل، والشور أخذ العسل من الخلية، أفاده السكري والأزهري. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 141، وابن أبي حاتم 5/ 1451 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 139. (¬4) هذا تابع للأثر السابق الذي سبق تخريجه. (¬5) "الحجة" لأبي علي الفارسي 4/ 343 - 344، وزاد فيه: (يتعلق بما يدل عليه النصح المظهر، وإن لم يسلط عليه والتقدير: إني ناصح لكما من الناصحين) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 604، و"المشكل" 1/ 285، و"الدر المصون" 5/ 279.

22

هود (¬1) عند قوله {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬2) [هود: 46]. 22 - قوله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} الآية، معنى التدلية (¬3) في اللغة: التعليق، يقال: دلى فلان الشيء في مهواة، وتدلى ذلك الشيء بنفسه. قال أبو عبيدة: (دلاهما: خذلاهما وخلاهما من تدلية الدلو، وهو إرسالها في البئر) (¬4). وقال أبو إسحاق: (دلاهما في المعصية (¬5) بأن غرهما) (¬6). وذكر أبو منصور الأزهري -رحمه الله- لهذه الكلمة أصلين: أحدهما: قال: (أصله الرجل العطشان يدلي في البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء، فيكون مدلس فيها بالغرور، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعًا، فيقال: دلاه إذا أطمعه (¬7) ومنه قول أبي جندب (¬8) الهذلي: ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 32 أ. (¬2) لفظ: {بِهِ عِلْمٌ} ساقط من (ب). (¬3) انظر: "العين" 8/ 69، و"الجمهرة" 2/ 682، و"الصحاح" 6/ 2339، و"المفردات" ص 317 (دلو). (¬4) ذكر الثعلبي في "الكشف" 188ب، ولم أقف عليه في "مجاز القرآن". (¬5) في (ب): (دلاهما في المعصية غرهما بأن غرهما)، وهو تحريف. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 327. انظر: "معاني النحاس" 3/ 21. (¬7) في (ب): (إذا أطعمه)، وفي (أ): (إذا طعمه)، وهو تحريف. (¬8) أبو جُنْدَب بن مُرَّة بن قرد الهذلي، شاعر جاهلي، وهو أحد عشر إخوة كانوا جميعًا شعراء دهاة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 440، و"شرح ديوان الهذليين" 1/ 345، و"الأغاني" 22/ 221، 228، 230.

أَحُصُّ فلا أجِيرُ وَمنْ أجِرْةُ ... فَلَيْسَ كَمَنْ يُدَلَّى بالغُرُورِ (¬1) أحص: أقطع. والثاني: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}، أي جرأهما (¬2) إبليس على أكل الشجرة بغروره (¬3) [و] (¬4) الأصل فيه (¬5) دَلَّلهمَا من الدَّالّ (¬6) والدَّالَّة: وهي الجرأة) (¬7). قال شمر: (يقال: ما دَلَّك علي، أي: ما جَرَّأك علي) (¬8)، وأنشد لقيس بن زهير (¬9): أظُنُّ الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قْومِي ... وقد يسْتَجْهَلُ الرجلُ الحَليمُ (¬10) ¬

_ (¬1) "شرح ديوان الهذليين" 1/ 355، و"اللسان" 3/ 1418 (دلا)، و"الدر المصون" 5/ 281، وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1214 في شرح البيت: (أحص: أمنع، وقيل: أقطع ذلك، وقوله: كمن يدلي أي: يُطمع) اهـ. (¬2) في (أ): (أي أخبرهما)، وهو تحريف. (¬3) في (ب): (بغرور). (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (فيهما). (¬6) في (ب): (من الدلال)، وهو تحريف. (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 1214. (¬8) "تهذيب اللغة" 2/ 1221. (¬9) قَيْس بن زُهَيْر بن جَذيِمة العَبْسي، شاعر جاهلي، وفارس عبس وسيدها، ومعدود في الأمراء والدهاة والشجعان والخطباء والشعراء، وهو صاحب الفرسين داحس والغبراء، وكان شريفًا، حازمًا ذا رأي، يضرب بدهائه المثل. انظر: "معجم المرزباني" ص 178، و"الإصابة" 3/ 282 , و"الأعلام" 5/ 206. (¬10) الشاهد في "تهذيب اللغة" 2/ 1221، و"اللسان" 3/ 1413 (دليل) , و"الدر المصون" 5/ 281، وقال المرزباني في "معجمه" ص 178 في شرح البيت: (ليس قوله: وقد يستجهل الرجل الحليم بمعنى ينسب إلى الجهل، وإنما هو بمعنى =

قال محمد بن حبيب (¬1): (معناه: جَرَّأهم) (¬2). قال ابن عباس: (يريد: غرهما باليمين، وكان آدم يظن أنه لا أحد يحلف بالله كاذبًا) (¬3). وقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}، قال ابن عباس: (يريد: ظهرت عورتهما وتقلص ذلك النور عنهما، فصار أظفارًا (¬4) في الأيدي والأرجل) (¬5). قال وهب (¬6): (كان على فرج آدم نور يحول بينه وبين النظر إليه ¬

_ = يستخرج الجهل من الحليم، يريد أن حلمه جرأ عليه قومه فتوعدهم بقوله: وقد يستدعى الجهل من الحليم) اهـ. (¬1) محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو الهاشمي -مولاهم- أبو جعفر البغدادي، علامة بالإنساب والأخبار واللغة والشعر، له عدة مصنفات منها المحبر، والمؤتلف والمخلف في النسب، والمنمق، وغيرها، توفي سنة 245 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 2/ 277، و"إنباه الرواة" 3/ 119، و"معجم الأدباء" 18/ 112، و"البغية" 1/ 73، و"الأعلام" 6/ 78. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1221، وفيه: (دل على قومي أي: جرأهم) اهـ. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 167، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 180، والرازي 14/ 49، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 534، والبغوي 3/ 219، و"بدائع التفسير" 2/ 201. (¬4) في (ب): (أظفرًا). (¬5) أخرجه الطبري 8/ 143 بسند ضعيف عنه نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 139، وأخرج الحاكم في "المستدرك" 2/ 319، عن ابن عباس قال: (كان لباس آدم وحواء مثل الظفر، فلما ذاقا الشجرة، جعلا يخصفان عليهما من روق الجنة، قال: وهو ورق التين) اهـ. قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص". (¬6) وهب بن مُنبه بن كامل اليماني، تقدمت ترجمته.

فلا (¬1) يبصره، فلما عصى بدت عورته) (¬2). وقال قتادة: (كان لباس آدم وحواء في الجنة ظفرًا (¬3) كله، فلما واقعا الذنب كُشِط (¬4) عنهما، وبدت سوءاتهما فاستحيا وطفقا يخصفان الورق عليهما) (¬5). وقال الكلبي: (فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما، فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه فاستحيا) (¬6). وقوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، قال الليث: (طَفِق بمعنى علق يفعل كذا، وهو يجمع ظل وبات) (¬7). وقال الزجاج: (معنى طلق: أخذ في الفعل) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (ولا يبصره). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 143، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 231، وقال: (رواه ابن جرير بسند صحيح إليه). (¬3) قال ابن الأثير في "النهاية" 3/ 158: (وفي الحديث: "كان لباس آدم عليه السلام الظُّفُر" بتشديد الظاء والضم، أي شيء يشبه الظُّفُر في بياضه وصفائه وكثافته) اهـ. انظر "اللسان" 5/ 2750 (ظفر). (¬4) الكشط: القلع والنزع والكشف. انظر: "اللسان" 7/ 3883 (كشط). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 143 بسند ضعيف. وذكره الثعلبي في "الكشف" 188 ب، والبغوي في "تفسيره" 3/ 220. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 167، والبغوي في "تفسيره" 3/ 220. (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 2200، وفيه: (وهو يجمع معنى ظل وبات) اهـ. وانظر: "العين" 5/ 106، و"الجمهرة" 2/ 915، و"الصحاح" 4/ 1517, و"مقاييس اللغة" 3/ 413، و"المفردات" ص 521، و"اللسان" 5/ 2681 (طفق). (¬8) "معاني القرآن" 2/ 327، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 22.

وقال ابن قتيبة {وَطَفِقَا} أي: علقا وأقبلا، يقال: طفِقْت أفعل كذا) (¬1). وقوله تعالى: {يَخْصِفَانِ} أي: يطبقان (¬2) على أبدانهما الورق. وقال الزجاج: (معنى {يَخْصِفَانِ}: يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل: خَصَّاف وهو يخصِفُ) (¬3) والمِخْصَفُ مِثقَبُ ذلك، ومنه قول الهذلي (¬4): ..... رَوْثَةُ أنْفِها كالمِخْصَفِ (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص 176، وفيه (أي: جعلا وأقبلا ...). ونحوه ذكر الطبري في "تفسيره" 8/ 142، ومكي في "تفسير المشكل" ص 84. (¬2) الخصف، بفتح فسكون: الجمع والضم، وكل ما طورق بعضه على بعض، فقد خُصِف. انظر: "الجمهرة" 1/ 604، و"الصحاح" 4/ 1350، و"المجمل" 2/ 290، و"المفردات" ص 284 (خصف). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 327، ونحوه في "مجاز القرآن" 1/ 212، و"غريب اليزيدي" ص 144، و"تفسير الغريب" لابن قتيبة ص 166، و"تفسير الطبري" 8/ 142، و"نزهة القلوب" ص 311، و"معاني النحاس" 3/ 22، و"تفسير المشكل" لمكي ص 84. (¬4) هو عامر بن الحليس الهُذلي أبو كَبير، تقدمت ترجمته. (¬5) "شرح ديوان الهذليين" 3/ 1089، و"تهذيب اللغة" 1/ 1039، و"مقاييس اللغة" 2/ 186، و"اللسان" 2/ 1174 (خصف)، و"الدر المصون" 5/ 283، وهو يصف العقاب وتمامه: حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى فِرَاشِ عَزِيزِةٍ ... سَوْدَاءَ ................. وفراش العزيزة يعني: عش العقاب، والروثة: طرف الأنف، المنقار. والمخصف هو: الذي تخصف به أخفاف الإبل يريد أن منقارها حديد دقيق كأنه مِخْصَفُ.

وقال الليث: (خصف العريان على نفسه إذا أخذ ورقًا عريضًا يخصف بعضه على بعض يستتر به) (¬1). وقال الأزهري: ({يَخْصِفَانِ} أي: يطابقان بعض الورق على بعض. كما يخصف طرائق النعل بعضها على بعض) (¬2). ومنه قول العباس يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ...... طِبْتَ في الظّلال وفي ... مُسْتَودَع حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ (¬3) يعني: في الجنة حيث خصف آدم وحواء الورق. قال مجاهد: ({يَخْصِفَانِ} يرقعان كهيئة الثوب) (¬4). وقال الكلبي: (يخرزان بعضه إلى بعض) (¬5). وقال قتادة: (أقبلا وجعلا يرقعان ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب) (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 1040، وانظر: "العين" 4/ 189، وفيهما: (الاختِصَاف أن يأخذ العريان ورقًا عراضًا فَيَخْصِفُ بعضها على بعض ويستتر بها) اهـ. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 1039، وقوله: (كما يخصف النعل ..) لا يوجد فيه، وانظر: " الزاهر" 1/ 376. (¬3) تمامه: (مَنْ قَبْلها طبت ..) وهو في "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص 88، و"أمالي الزجاجي" ص 44، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 231، و"تهذيب اللغة" 1/ 1039، و"أمالي ابن الشجري" 3/ 114، و"اللسان" 2/ 1174 (خصف)، و"الدر المصون" 5/ 283. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 233، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 142، وابن أبي حاتم 5/ 1452 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 140. (¬5) في "تنوير المقباس" 2/ 85 نحوه. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 167، والبغوي في "تفسيره" 3/ 220، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1453 بسند جيد عن قتادة قال: (يوصلان عليهما من ورق الجنة) اهـ.

25

قال أبو إسحاق: (وفي هذا دليل على أن أمر التكشف وإظهار السوءة قبيح من لدن آدم، ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى التستر لقبح التكشف) (¬1). وقوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22]. قال عطاء: (بلغني أن الله ناداهما أفرارًا مني يا آدم؟ قال: بل حياء منك يا رب، ما ظننت أن أحدًا يقسم باسمك كاذبًا، ثم ناداه ربه: أما خلقتك بيدي، أما نفخت فيك من روحي، أما أسجدت لك ملائكتي، أما أسكنتك جنتي في جواري، اخرج من جواري، فإنه لا يجاورني من عصاني) (¬2). وقوله تعالى: {وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، قال ابن عباس: (بين العداوة حيث أبى السجود وقال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}) (¬3) [الأعراف: 16]. 25 - وقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} قال ابن عباس: (يريد: الأرض أرض الدنيا) (¬4)، والكناية عائدة إلى قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [الأعراف: 24]، قال الكلبي: (في الأرض تعيشون، وفي الأرض قبوركم، ومن الأرض تخرجون من قبوركم للبعث) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 327 - 328، ومثله ذكر السمرقندي في "تفسيره" 1/ 534، وابن الجوزي 3/ 180، والقرطبي 7/ 181. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 167، والرازي في "تفسيره" 14/ 49. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 167، والرازي في "تفسيره" 14/ 50. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 86. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 86، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 168.

26

26 - قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} الآية. قال سعيد بن جبير: ({أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ} يعني: خلقنا لكم) (¬1). قال أبو علي: ({أَنْزَلْنَا} هنا كقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25]. وكقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] أي: خلق) (¬2). وقال صاحب النظم: (هذا من باب التدريج (¬3) والترقي، وذلك أن الله تعالى أنزل المطر، فأنبت به النبات، فاتخذ الناس من النبات اللباس، فأوقع الإنزال على اللباس، لما كان بسبب (¬4) ما يُنزل وهو المطر) (¬5). قال ابن عباس: ([و] (¬6) ذلك أن أهل مكة كانوا يطوفون حول البيت ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 184. وانظر: "تفسير الرازي" 14/ 51، و"البحر المحيط" 4/ 282. (¬2) "الحجة" لأبي علي 4/ 12. (¬3) ذكر نحوه مكي في "المشكل" 1/ 286، والماوردي 2/ 213، وابن عطية 5/ 470، وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" 12/ 254 - 257: (قد تبين أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب ولا تعرف العرب نزولًا إلا بهذا المعنى ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابًا بغير لغتها، ومما يبين هذا أنه لم يستعمل فيما خلق من السفليات، وإنما استعمل فيما يخلق في محل عال، وأنزله الله من ذلك المحل كالحديد والأنعام، وقد قيل فيه: خلقناه، وقيل: أنزلنا أسبابه، وقيل: ألهمناهم كيفية صنعته، وهذا الأقوال ضعيفة، واللباس والرياش ينزل من ظهور الأنعام، وكسوة الأنعام منزلة من الأصلاب والبطون، فهو منزل من الجهتين، فإنه على ظهور الأنعام لا ينتفع به حتى ينزل) اهـ. ملخصًا. (¬4) في (ب): (لما كان لسبب مما ينزل). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 168 - 169. (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).

عراة، فقال الله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} (¬1) يريد: يستر عوراتكم)، ونحو هذا قال مجاهد (¬2). وقال الكلبي: (يعني: الثياب التي تستر العورة من العُري، وذلك لما ذكر من عُري آدم وحواء منّ علينا باللباس) (¬3). وقوله تعالى: {وَرِيشًا}، وقرئ: {وَرِياشًا} (¬4). قال ابن السكيت. (قالت بنو كلاب (¬5): الرياش هو الأثاث من المتاع ما كان من لباس أو حشو من فراش أو وثار (¬6)، والريش من الأموال، وقد يكون في ¬

_ (¬1) ذكره أكثر أهل التفسير بدون نسبة. انظر: "تفسير الثعلبي" 189 أ، والماوردي 2/ 213، والبغوي 3/ 221، وابن عطية 5/ 470، وسيأتي مزيد بيان له في سبب نزول قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 223، وأخرجه الطبري 8/ 146، 147، وابن أبي حاتم 5/ 1456 من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 140. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 168، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 181 بدون نسبة. (¬4) قرأ الجمهور (السبعة): {وَرِيشًا} بإسكان الياء من غير ألف، وقرأ جماعة منهم: عثمان وعلي وابن عباس والحسن، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما: {ورياشا} بفتح الياء وألف بعدها، وهو إما جمع ريش، أو مصدر راش ريشًا ورياشًا. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 147، و"إعراب النحاس" 1/ 606، و"معاني القراءات" 1/ 402، و"إعراب القراءات" 1/ 178، و"مختصر الشواذ" ص 48، و"التذكرة" 2/ 417، و"تفسير ابن عطية" 5/ 471، و"البحر المحيط" 4/ 282، و"الدر المصون" 5/ 287. (¬5) بنو كلاب: بطن من عامر بن صعصعة، كانت ديارهم في جهات المدينة ثم انتقلوا إلى الشام. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 365. (¬6) الوِثَار، بالفتح والكسر: الفراش الوطيء. انظر: "اللسان" 8/ 4763 (وثر)، وجاء في (أ): (أو دثار)؛ والدثار، بفتح الدال المشددة: ما يتدثر به والثوب الذي =

الثياب (¬1) دون المال، وإنه لحسن الريش أي: الثياب). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (كل شيء يعيش [به] (¬2) الإنسان من متاع أو مال ومأكول فهو ريش ورياش) (¬3) قال ابن الأنباري: (يقال: هما المال، ويقال: هما المعاش) (¬4). وقال أبو عبيدة: (الريش (¬5) ما ظهر من اللباس والشارة (¬6)، قال: ويقال: أعطاه رجلاً بريشه يراد: بكسوته [و] (¬7) جهازه). وقال رؤبة: ¬

_ = يستدفأ به فوق الشَّعار. انظر: "اللسان" 3/ 1326 (دثر)، والنص في "تهذيب اللغة" 2/ 1147. وانظر: "إصلاح المنطق" ص30، وذكر مثله ابن جني في "المحتسب" 1/ 246 عن أبي الحسن الأخفش. (¬1) في (ب): (النبات)، وهو تصحيف. (¬2) لفظ: (به) ساقط من (ب). (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 51، وفي "مجالس ثعلب" 1/ 35، قال: (الريش والرياش: اللباس الحسن) اهـ. وفي "تهذيب اللغة" 2/ 1318، عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (راش فلان صديقه يريشه ريشًا: إذا جمع الرَّيش وهو المال والأثاث) اهـ. (¬4) انظر: "الزاهر" 1/ 250 - 251، وفيه قال: (الرياش في قول جماعة من المفسرين: المال، وكذلك الريش، والرياش: المعاش، ويقال: الرياش ما ستر الإنسان وواراه، وقد تريش الرجل معناه: قد صار إلى معاش ومال) اهـ. ملخصًا. (¬5) في "مجاز القرآن" 1/ 213: (الرياش والريش واحد وهو ..). وأيضًا قال: (والرياش أيضًا الخصب والمعاش) اهـ. ومثله ذكر السجستاني في "نزهة القلوب" ص 251. (¬6) الشارة: الحُسن والهيئة واللباس، وما يلبس من عمامة ونحوهما. انظر: "اللسان" 4/ 2357 (شور). (¬7) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).

إِلَيكَ أشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ ... وَجَهد أَعْوَامٍ نَتَفْنَ ريِشي (¬1) أي: ذهبن بخصبي وجدتي. وقال الفراء: (يجوز أن يكون الرياش جمع الريش، ويجوز أن (¬2) يكون بمعنى الريش كما قرأ: لِبْس ولباس) (¬3). وقال الزجاج: (الرياش: اللباس، والريش: كل ما ستر الرجل في معيشته، يقال: تريش فلان أي: صار له ما يعيش به) (¬4). وأنشد (¬5): فَرِيشي (¬6) مِنْكُمُ وَهَواىَ مَعْكُمْ ... وإنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمَامَا ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 78، وقد تقدم تخريجه. (¬2) في "معاني الفراء" 1/ 375، قال: (وإن شئت جعلت الرياش مصدرًا في معنى الريش) اهـ. (¬3) ذكر نحوه الطبري في "تفسيره" 8/ 147، وابن خالويه في "إعراب القراءات" 1/ 178، وابن جني في "المحتسب" 1/ 246، والريش اسم لهذا الشيء المعروف، أو مصدر راشه يريشه ريشًا إذا جعل فيه الرَّيش. قال السمين في "الدر" 5/ 287: (ينبغي أن يكون الريش مشتركًا بين المصدر والعين، وهذا هو التحقيق) اهـ. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 328. (¬5) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص 410، وللراعي النميري، أيضًا في "ديوانه" ص 243، و"الكتاب" 3/ 187، وبلا نسبة في: "الزاهر" 1/ 250، و"معاني النحاس" 3/ 23، و"الماوردي" 2/ 214، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 375، و"ابن الجوزي" 3/ 182، و"القرطبي" 7/ 184، و"رصف المباني" ص 394، و"اللسان" 7/ 4234 (معع)، و"الدر المصون" 5/ 287، واللمَّام: الشيء اليسير، انظر: "لسان العرب" 7/ 4079 (لمم). (¬6) في (ب): (وريشي) بالواو وهي كذلك في "ديوان جرير"، والراعي وبعض المراجع، وفي هامش نسخة (أ): (وهواي فيكم بدل معكم)، وهو كذلك في "ديوان جرير".

وقال عبد الله بن مسلم: (الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، وريش الطائر ما ستره الله به) (¬1) هذا قول أهل اللغة (¬2). فأما المفسرون فقال ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4) والضحاك (¬5) والسدي (¬6): ({وَرِيشًا} يعني: مالًا). ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص 176، ونحوه ذكر اليزيدي في "غريب القرآن" ص 145، ومكي في "تفسير المشكل" ص 84. (¬2) انظر: "العين" 2/ 283، و"الجمهرة" 2/ 736، و"الصحاح" 3/ 1008، و"مقاييس اللغة" 2/ 466، و"المجمل" 2/ 409، و"المفردات" ص 372، و"اللسان" 3/ 1792 (ريش). وقال النحاس في "معانيه" 3/ 23: (الريش عند أكثر أهل اللغة ما ستر من لباس أو معيشة) اهـ. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 182: (على قول الأكثرين الريش والرياش بمعنى) اهـ. وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 12/ 255: (الصحيح أن الريش هو الأثاث والمتاع) اهـ. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 148 بسند جيد، وهو في "تنوير المقباس" 2/ 86، و"مسائل نافع بن الأزرق" ص 87، وذكر البخاري في "صحيحه" 5/ 195، عن ابن عباس قال: ({ورياشا}: المال) وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1457 بسند جيد. وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 148، وابن أبي حاتم 5/ 1457 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (الرياش: اللباس والعيش والنعيم) اهـ. انظر: "الدر المنثور" 3/ 141، ولعله يقصد باللباس هنا لباس الزينة والجمال؛ لأن اللباس الضروري لستر العورة ذكر في الآية قبل ذلك، وهذا لا يختلف مع تفسير الريش بالمال، لأنه هو وسيلة الحصول على لباس الزينة والعيش النعيم. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 148 بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" 3/ 23، وفي تفسير مجاهد 1/ 233 (الرياش المال) اهـ. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 148 بسند ضعيف، بلفظ: (رياشا)، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1457 عن مجاهد والضحاك. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 148 بسند جيد بلفظ: (رياشًا) وذكره الثعلبي في "تفسيره" 189 أ، والبغوي 3/ 222، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي =

وقال الكلبي: (المعيشة والمال) (¬1). وقال ابن زيد: (الريش: الجمال) (¬2)، وهو قول زيد (¬3) بن علي قال: (اللباس هذا الذي يلبسون {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}، والريش والرياش: الذي يتجملون به من الثياب) (¬4). وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} قُرئ (¬5) بالنصب والرفع، فمن نصب فعلى أنه حمل على أنزل من قوله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ}. وقوله: {ذَلِكَ} على هذا مبتدأ وخبره {خَيْرٌ}، ومن رفع قطع اللباس من الأول واستأنف به ¬

_ = والسدي، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 148 بسند ضعيف عن عروة بن الزبير، وقال سفيان الثوري في "تفسيره" ص 112: (الريش: المال، والرياش: الثياب) اهـ، وذكر هود الهواري في "تفسيره" 2/ 12 عن الحسن أنه قال: (الريش: المال والمتاع) اهـ. (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 86. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 148، وابن أبي حاتم 5/ 1457 بسند جيد، ولفظ ابن أبي حاتم: (الرياش). (¬3) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو الحسين المدني، إمام زاهد فقيه، فصيح، ثقة، وهو الذي ينسب إليه الزيدية، خرج في خلافة هشام بن عبد الملك فقتل بالكوفة سنة 122 هـ، وكان مولده سنة ثمانين من الهجرة. انظر: "وفيات الأعيان" 5/ 122، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 389، و "تهذيب التهذيب" 1/ 668، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 6/ 17، و"الأعلام" 3/ 59. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1456 بسند ضعيف. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 141، وفي "تفسير غريب القرآن" لزيد بن علي ص 139، قال: (الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، والرياش أيضًا: المعاش والخِصْب) اهـ. (¬5) قرأ نافع وابن عامر والكسائي {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} بنصب {وَلِبَاسُ} وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "السبعة" ص 280، و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 417، و"التيسير" ص 109، و"النشر" 2/ 268.

فجعله مبتدأ، وقوله {ذَلِكَ} على هذا صفة (¬1)، أو بدل أو عطف بيان، ومن، قال إن (ذلك (¬2)) لغو لم يكن على قوله دلالة؛ لأنه يجوز أن يكون علي أحد ما ذكرنا، و {خَيْرٌ} خبر اللباس (¬3)، ومعنى قولنا: صفة أن {ذَلِكَ} أشير به إلى اللباس كأنه قيل: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} المشار إليه {خَيْرٌ} [وقولنا: يجوز أن يكون بدلاً أو عطف بيان؛ لأن المعنى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} خير] (¬4) وكذلك (¬5) هو في قراءة عبد الله (¬6)، ثم جعل {ذَلِكَ} مترجمًا عنه ¬

_ (¬1) وأكثرهم على أنه صفة، وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 375، والطبري في "تفسيره" 8/ 150، والأزهري في "معاني القراءات" 1/ 403، وابن خالويه في "إعراب القراءات" 1/ 178، و"الحجة" ص 154. وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 606: (أولى ما قيل في النصب أنه معطوف، و {ذَلِكَ} مبتدأ، وأولى ما قيل في الرفع أن ترفعه بالابتداء و {ذَلِكَ} نعته) اهـ. (¬2) نقل قول الواحدي السمين في "الدر" 5/ 288، وقال: (قوله: (لغو) هو قريب من القول بالفصل؛ لأن الفصل لا محل له من الإعراب على قول الجمهور) اهـ، والذي قال هو فصل الحوفي كما ذكره أبو حيان في "البحر" 4/ 283، والرماني كما ذكره الهمداني في "الفريد" 2/ 286. وقال ابن هشام في "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص 108 - 109: (وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة وبعضهم يسميه مؤكدًا وبعضهم يسميه لَغْوا ولكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب) اهـ. (¬3) هذا نص كلام أبي علي في "الحجة" 4/ 12 - 13، واختيار أبي حيان في "البحر" 4/ 283، والسمين في "الدر" 5/ 288، أن يكون {وَلِبَاسُ} مبتدأ، و {ذَلِكَ} مبتدأ ثان، و {خَيْرٌ} خبر الثاني، والجملة خبر الأول، والرابط هنا اسم الإشارة. قال السمين: (وهذا الوجه هو أوجه الأعاريب في هذه الآية الكريمة) اهـ، وانظر: "وضح البرهان" للغزنوي 1/ 357. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 472. (¬5) في (أ): (ولذلك). (¬6) قرأ عبد الله بن مسعود وأبى -رضي الله عنهما-: (ولباس التقوى خير). ذكره =

وبيانًا له، وهذا كله معنى قول الزجاج (¬1) وأبي علي (¬2) وابن الأنباري (¬3). وأما معنى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد. إن ستر عوراتكم بعضكم من بعض من التقوى فلا تطوفوا عراة) (¬4) وهو قول ابن زيد (¬5) واختيار الزجاج. [قال ابن زيد: (هو ستر العورة؛ يتقي الله فيواري عورته)، وقال الزجاج: (أي] (¬6) وستر العورة (لباس المتقين) على أن يكون (لباس التقوى) مرفوعاً بإضمار (هو)، المعنى: وهو {لِبَاسُ التَّقْوَى} أي: اللباس الذي أنزل الله تعالى ليواري سوءاتكم هو {لِبَاسُ التَّقْوَى}) (¬7) وهذا وجه آخر (¬8) في رفع اللباس سوى ما ذكرنا، قال أبو بكر: (وعلى هذا، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} هو اللباس الأول، وإنما أعاده الله لما أخبر عنه بأنه خير من التعري ¬

_ = الفراء في "معانيه" 1/ 375، وابن خالويه في "إعراب القراءات" 1/ 178، و"مختصر الشواذ" ص 48، وذكرها النحاس في "معانيه" 3/ 24 عن الأعمش. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 328، وفيه {ذَلِكَ} صفة. (¬2) "الحجة" 4/ 12 - 13، وانظر "الحجة" لابن زنجلة ص280. (¬3) ذكره السمين في "الدر" 5/ 288 - 289، ونحوه ذكر مكي في "الكشف" 1/ 461، وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 652. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 150، وابن أبي حاتم 5/ 1458 بسند جيد. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "معاني القرآن" 2/ 329. (¬8) وعليه يكون {وَلِبَاسُ} خبر مبتدأ محذوف أي: هو، وقوله {ذَلِكَ خَيْرٌ} جملة أخرى من مبتدأ وخبر، وقدره النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 606، ومكي في "المشكل" 1/ 286، وستر العورة لباس المتقين، وانظر: "البيان" 1/ 358 , و"التبيان" 1/ 371، و"الفريد" 2/ 286، و"الدر المصون" 5/ 288.

إذ كان جماعة من أهل الجاهلية يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت، فجرى هذا في التنكير مجرى قول القائل: (قد عرَّفتُك الصدقَ وأبوابَ (¬1) البر، والصدقُ خير لك من غيره) فيعيد الصدق لإخباره عنه بالخبر المحدد) (¬2). وقال قتادة (¬3) والسدي (¬4) وابن جريج (¬5) [({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: الإيمان). وقال ابن عباس في رواية عطية، (¬6) ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: العمل الصالح) (¬7)، وهو قول سعيد بن جبير (¬8)، وروى الذيال (¬9) بن عمرو ¬

_ (¬1) في (ب): (واثواب). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 169، والبغوي 3/ 222، وابن الجوزي 3/ 183، وقال القرطبي 7/ 185، وأبو حيان في "البحر" 4/ 283: (قال ابن زيد: هو ستر العورة، وهذا فيه تكرار؛ لأنه قد قال: {لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}) اهـ. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 149 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 141. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 149 بسند جيد. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 149 بسند جيد، وذكره الثعلبي في "الكشف" 189 أ، والماوردي في "تفسيره" 2/ 214، والبغوي 3/ 222، عن قتادة والسدي، وذكره ابن الجوزي 3/ 183 عن قتادة والسدي وابن جريج. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 149، وابن أبي حاتم 5/ 1457 بسند ضعيف. (¬8) لم أقف عليه، وفي "الوسيط" للمؤلف 1/ 170 عن سعيد بن جبير قال: (السمت الحسن)، وجاء في أصل نسخة: (أ) سعيد بن جريج، ثم ضرب عليه وصحح إلى ابن جبير. (¬9) الذيال بن عمرو، تابعي روى عنه محمد بن موسى، وعبد الله بن داود الواسطي، وذكر ابن الأثير في "الكامل" 4/ 339 في حوادث سنة 71 هـ الذيال الكلبي، ولم أجد له سوى ما ذكرت. انظر: "تهذيب الكمال" 4/ 468، وتعليق الشيخ أحمد شاكر الملحق في "تفسير الطبري" 12/ 589 (7).

عنه (¬1) قال: (هو السمت الحسن). وقال الكلبي: ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: العفاف والتوحيد؛ لأن المؤمن لا تبدو له عورة، وإن كان عاريًا من الثياب، والفاجر لا يزال تبدو (¬2) له عورة وإن كان كاسيًا) (¬3). وقال معبد (¬4): (هو الحياء) (¬5)، وينشد على هذا (¬6): إني كأنّي أرَى مَنْ لاَ حَيَاءَ لَهُ ... وَلاَ أَمَانَةَ بين النَّاسِ (¬7) عُرْيانا قال أبو علي: (معنى الآية وتأويله: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله مما خلق له من اللباس والرياش الذي يتجمل ¬

_ (¬1) أي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- كما هو ظاهر رواية الطبري في "تفسيره" 8/ 149، وذكره الثعلبي في "الكشف" ص 189، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 183، وابن كثير 2/ 323. (¬2) في (أ): (يبدوا). (¬3) في "تنوير المقباس" 2/ 86، قال: (التوحيد والعفة)، وذكر الواحدي في "الوسيط" 1/ 170، والبغوي في "تفسيره" 3/ 222، وابن الجوزي 3/ 183 عنه قال: (العفاف). (¬4) معبد الجهني، يقال: هو معبد بن خالد، أو معبد بن عبد الله، نزيل البصرة، تابعي، صدوق مبتدع، وهو أول من أظهر القدر بالبصرة، وقد نهى جماعة من التابعين عن مجالسته وقالوا عنه: هو ضال مضل، قتل سنة 80 هـ، انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 185، و"البداية والنهاية" 9/ 34، و"تهذيب التهذيب" 4/ 115. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 149، وابن أبي حاتم 5/ 1458 من عدة طرق جيدة، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 250، والسيوطي في "الدر" 3/ 142. (¬6) الشاهد لسَوَّار بن مُضَرَّب في "النوادر" لأبي زيد ص 45، و"الحماسة" لأبي تمام 2/ 138، وبلا نسبة في "غريب القرآن" ص177، و"تفسير السمرقندي" 1/ 536، والثعلبي ص 189/ أ، وابن الجوزي 3/ 183. (¬7) في المصادر السابقة (وسط الناس) بدل (بين الناس).

به, قال: وأضيف اللباس إلى {التَّقْوَى}، كما أضيف إلى الجوع في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} [النحل: 112] (¬1) والمعنى: ما ظهر عليهم من السكينة والإخبات (¬2) والعمل الصالح، فاستعير لذلك اسم اللباس، وهذا معنى قول ابن عباس: ({ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: أزكى عند الله) (¬3). وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، قال الكلبي: (يعني: اللباس والرياش {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}) (¬4). قال ابن عباس: (يريد: من فرائض الله) (¬5)، يعني: إن ستر العورة مما أوجبه الله بآياته (¬6). وقال غيره: (أي: إنزاله اللباس وخلقه إياه مما يدل على توحيده) (¬7). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: كي (¬8) يتعظوا) (¬9). ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 4/ 13. (¬2) هذا نص كلام ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص 165، والأحسن في معنى الآية العموم، فكل ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى، وهو يصدق على كل ما فيه تقوى الله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال، فهي كلها مثل ومن لباس التقوى، وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 151، وابن عطية 7/ 39 - 40، والقرطبي 7/ 185، وأبو حيان 4/ 283. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" 2/ 87: ({مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} من عجائب الله) اهـ. (¬6) انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 182. (¬7) ذكر نحوه مقاتل في "تفسيره" 2/ 33، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 151، والسمرقندي 1/ 536. (¬8) في (ب): (كي يتعطفوا) وهو تحريف. (¬9) "تنوير المقباس" 2/ 87.

27

27 - قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، قال ابن عباس: (يريد: لا يخدعنكم)، وعنه أيضًا: (لا يضلنكم) (¬1). وقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ}، المعنى: كما فتن أبويكم، لكنه ذكر معنى فتنة الأبوين وهو إخراجهما من الجنة دون لفظ الفتنة. وقوله تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك لأنه كان بسبب منه فأسند إليه، كما تقول: أنت فعلت هذا لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب وإن لم يباشره، كذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أُسند إليه (¬2). وقوله تعالى: {لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}، قال ابن عباس: (يرى آدم سوءة حواء، وترى حواء سوءة آدم) (¬3) واللام في {لِيُرِيَهُمَا} لام المصير (¬4) كما ذكرنا في قوله: {لِيُبْدِىَ لَهُمَا} [الأعراف:20]. وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} يعني: إبليس {هُوَ وَقَبِيلُهُ} أعاد الكناية ليحسن العطف (¬5) كقوله {اُسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة:35] وقد مضت هذه المسألة (¬6) في مواضع. وأما القبيل فقال أبو عبيد عن أبي زيد: (القَبِيل (¬7) ¬

_ (¬1) ذكرهما الواحدي في "الوسيط" 1/ 170. (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 476، وابن الجوزي 3/ 184. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 53، وفي "تنوير المقباس" 2/ 87 نحوه. (¬4) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 607. (¬5) ذكر قول الواحدي السمين في "الدر" 5/ 292، وقال: (لا حاجة إلى التأكيد في مثل هذه الصورة لصحة العطف إذ الفاصل هنا موجود، وهو كاف في صحة العطف، فليس نظير {اُسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ}) اهـ. (¬6) انظر: "البسيط" البقرة: 35. (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 2876، وانظر: "الجمهرة" 1/ 372، و"المنجد" لكراع ص 303، و"الصحاح" 5/ 1797، و"المجمل" 2/ 741 (قبل).

الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعدًا من قوم شتى، وجمعه: قُبُل، والقبيلة: بنو أب واحد) (¬1). وقال ابن قتيبة: ({وَقَبِيلُهُ}: أصحابه وجنده) (¬2)، وقال الليث: ({هُوَ وَقَبِيلُهُ} أي: هو ومن كان من نسله) (¬3)، [وكذا قال المفسرون، قال ابن عباس: (هو وولده) (¬4)، وقال ابن زيد (¬5): (نسله)] (¬6) وقال قطرب: (جموعه) (¬7) وقال المبرد: (أشياعه) (¬8). ¬

_ (¬1) قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" 5/ 53، وابن منظور في "اللسان" 6/ 3519 (قبل): (وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة) اهـ. وقال الراغب في "المفردات" ص 654: (القبيل جمع قبيلة، وهي الجماعة المجتمعة التي يقبل بعضها على بعض) اهـ. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 177، ونحوه قال مقاتل في "تفسيره" 2/ 33، والنحاس في "معانيه" 3/ 24، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 213، والبخاري في "صحيحه" 5/ 195: ({وَقَبِيلُهُ} جيله الذي هو منه) اهـ، ونحوه ذكر السجستاني في "نزهة القلوب" ص 366. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2876، وانظر: "العين" 5/ 167. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 170، والبغوي في "تفسيره" 3/ 223، و"الخازن" 2/ 221. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 153، وابن أبي حاتم 5/ 1460 بسند جيد. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) لم أقف عليه. (¬8) لم أقف عليه، وقال اليزيدي في "غريب القرآن" ص 145: ({وَقَبِيلُهُ} شيعته وأمته) اهـ. وقال الماوردي في "تفسيره" 2/ 215: ({وَقَبِيلُهُ} قومه وهو قول الجمهور) اهـ. والمعاني متقاربة، والأظهر ولده ونسله وجنده. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 153، والسمرقندي 1/ 536، والبغوي 3/ 223، وابن عطية 5/ 441.

وقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، قال أبو إسحاق: (ما بعد {حَيْثُ} صلة لها , وليست بمضاف إليه) (¬1). قال أبو علي: (هذا غير مستقيم، ولا يجوز أن يكون ما بعد {حَيْثُ} صلة لها , لأنه إذا كان صلة له وجب أن يكون للموصول فيه ذكر كما أن في سائر صلات الموصولة (¬2) ذكرًا من الموصول، فخلو هذه الجملة المتصلة بـ (حيث) من ذكر يعود منها إلى (حيث) دلالة على أنها ليست بصلة، وإذا لم تكن صلة كانت إضافة. فإن قيل: نقدر العائد في هذا كما نقدر في غيره من الصلات، كما تقول: الذي ضربت زيد تريد ضربته، كذلك تقدر العائد في قولك: رأيتك حيث قام زيد. كأنك قلت: حيث زيد قائمه، أي قائم فيه، وحيث قام عمرو (¬3) أي قامه عمرو أي قام فيه، ثم اتسع فحذف الحرف فوصل الفعل، ثم حذف الراجع على هذا الحد، قيل: لو كان هكذا [لكان] (¬4) مستعملًا في كلامهم؛ ألا ترى أن جميع الموصولات إذا وقع في صلاتها حذف واتساع فإن ذلك الأصل الذي عنه وقع الحذف والاتساع مطرد في كلامهم [مستعمل] (¬5)، فلو كان الأصل في هذا أيضًا ما ذكرته لوجب أن يستعمل الأصل، فتركهم لذلك يدلك على أنه ليس بموصول، على أنا لم نعلم أحدًا قال في (حيث) الذي قاله) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 329، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 607، 608. (¬2) في "الإغفال" ص 765 (الموصولات). (¬3) في "الإغفال" ص 767: (حيث زيد قائم، وحيث قام عمرو كأنه قال: حيث زيد قائمه أي: قام فيه، وحيث قامه عمرو أي: قام فيه ...) اهـ. (¬4) لفظ: (لكان) ساقط من (أ). (¬5) لفظ. (مستعمل) ساقط من (أ). (¬6) هذا بعض ما ذكره أبو علي في "الإغفال" ص 764 - 768، وانظر: "غرائب =

فأما التفسير، فقال ابن عباس في قوله: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}: (وذلك أن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصم الله، كما قال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم) (¬1). وقال مجاهد: (قال إبليس: جُعل لنا أربع: نرى، ولا نُرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى) (¬2). ¬

_ = الكرماني" 1/ 401، وقال السمين في "الدر" 5/ 294: (أبو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى (الذي) لا يقول بذلك أحد، وإنما يزعم أنها ليست مضافة للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي الزيادة، وهو كلام متهافت، فالرد عليه من هذه الحيثية لا من حيثية اعتقاده لكونها موصولة، ويحتمل أن يكون مراده أن الجملة لما كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرة إليها كافتقار الموصول لصلته أطلق عليها هذه العبارة، ويدل على ما قلته أن مكيًا ذكر في علة بنائها فقال: (ولأن ما بعدها من تمامها كالصلة والموصول) إلا أنه يرى أنها مضافة لما بعدها) اهـ. وانظر: "المشكل" 1/ 287، و"البيان" 1/ 358 - 389. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 171، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 184، وقال الخازن 2/ 221، وصديق خان 4/ 326: (حكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك) وقد أخرج مسلم في "صحيحه" كتاب السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئى خاليا بامرأة ... إلخ، حديث رقم (2175)، عن صفية بنت حُيَيَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" اهـ. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" 15/ 7: (الذي في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها , وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال؛ بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضًا لكن لا يرونهم في كل حال) اهـ، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 477، والقرطبي 7/ 176، و"البحر المحيط" 4/ 284. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 189 أ، والرازي في "تفسيره" 14/ 54، و"الخازن" 2/ 221، والسيوطي في "الدر" 3/ 142، وصديق خان في "تفسيره" 4/ 326.

وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، قال أبو إسحاق: (معنى هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الكفار عوقبوا بأن سلطت عليهم الشياطين تزيدهم في غيهم (¬1)؛ كما قال: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية [مريم: 83]. والثاني: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: سوينا بين الشياطين وبين الكافرين في الذهاب عن الله عز وجل) (¬2). قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}، قال ابن عباس: (يريد: الشرك) (¬3). وقال مجاهد: (يعني: طوافهم بالبيت عُريا الرجال والنساء) (¬4). وقال الزجاج: (الفاحشة: ما يشتد قبحه من الذنوب) (¬5). ¬

_ (¬1) في "معاني الزجاج" 2/ 329 (تزيدهم في غيهم عقوبة على كفرهم ...). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 329 - 330. وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 153، والسمرقندي 1/ 536، والبغوي 3/ 223، وابن عطية 5/ 477. قال الطبري: (يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحدون الله ولا يصدقون رسله) اهـ. (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس، وأكثر المفسرين ذكروه عن عطاء والحسن. ومنهم الماوردي 5/ 216، والواحدي في "الوسيط" 1/ 171، والبغوي 3/ 223، وابن الجوزي 3/ 185. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 154 من عدة طرق جيدة عن مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والسدي، وأخرجه عن ابن زيد ومحمد بن كعب القرظي، وهذا هو قول أكثر المفسرين. انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 537، والماوردي 2/ 216، والقرطبي 7/ 187. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 330، وهذا هو الظاهر فيدخل في العموم الشرك، وكشف العورة في الطواف، ويحمل ما ذكر على التمثيل. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 154، والبغوي 3/ 223، وابن عطية 5/ 477.

29

29 - قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}، قال ابن عباس: (بلا إله إلا الله) (¬1)، ونحوه قال الضحاك (بالتوحيد) (¬2). وقال عطاء (¬3) والسدي (¬4): (بالعدل). قال الزجاج: (هذا رد لقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} في الآية الأولى) (¬5). وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قال أبو علي الجرجاني: (نسق الأمر على الخبر (¬6)، وجاز ذلك لأن قوله {قُلْ أَمَرَ رَبِّي} قول؛ لأن الأمر لا يكون إلا كلامًا، والكلام قول فكأنه قال: قل يقول ربي أقسطوا {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ}) (¬7) {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، أي: وجهوا ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 88، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 189 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 172، والبغوي 3/ 223، والرازي 14/ 57، والقرطبي 7/ 188، و"الخازن" 2/ 222. (¬2) ذكره الثعلبي 189 أ، والواحدي 1/ 172، والبغوي 3/ 223. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 57، وأبو حيان في "البحر" 4/ 287. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 155 بسند جيد عن مجاهد والسدي، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1462 بسند ضعيف عن ابن عباس، وقال: (روي عن مجاهد والسدي وقتادة مثل ذلك) وهو قول الطبري والزجاج في "معانيه" 2/ 330، والنحاس 3/ 25، والمعاني متقاربة، فالقسط العدل والحق والاستقامة فيحمل ما ذى على التمثيل. انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 478، وابن كثير 2/ 133. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 330، و"الفتاوى" 15/ 8 - 9، و"بدائع التفسير" 2/ 203 - 204. (¬6) ذكره السمين في "الدر" 5/ 296 - 297 عن الجرجاني صاحب النظم، وفيه: (نسق الأمر على الجر) بدل لفظ (الخبر)، والأمر {وَأَقِيمُوا} والجر {بِالْقِسْطِ}. (¬7) في "الدر المصون": (أقسطوا وأقيموا) يعني أنه عطف على المعنى) اهـ. واختار أبو حيان في "البحر" 4/ 287، والسمين في "الدر" 5/ 295 - 297، أنه معطوف على الأمر المقدر الذي ينحل إليه المصدر وهو {بِالْقِسْطِ} وذلك أن القسط =

وجوهكم (¬1) حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قال (¬2) مجاهد (¬3) والسدي وابن زيد (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: (صلوا لله وحده في كل مسجد) (¬5)، وبيان هذا القول ما قاله الضحاك، وهو أنه قال: (إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي) (¬6). ونحو هذا قال الفراء؛ يقول (¬7): (إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصل فيه، ولا تقولن: آتي مسجد قومي) (¬8). ¬

_ = مصدر فهو ينحل لحرف مصدري وفعل والتقدير: قل أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا. وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 75، وابن عطية 5/ 478، والرازي 14/ 57، و"التبيان" ص 372، و"الفريد" 2/ 288. (¬1) في (ب): (وجهوا لوجوهكم)، وهو تحريف. (¬2) في (ب): (قال)، وهو تحريف. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 234. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 155، وابن أبي حاتم 5/ 1462 من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 143. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 155 من عدة طرق جيدة عن السدي، وابن زيد، وذكره الثعلبي 189 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 185 عن مجاهد والسدي وابن زيد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 33، والقرطبي 7/ 188. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 185، والرازي 14/ 58، وأبو حيان في "البحر" 4/ 287. (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف" 189 أ، والبغوي 3/ 223، وابن الجوزي 3/ 185، و"الخازن" 2/ 222، وأبو حيان في "البحر" 4/ 287. (¬7) هنا وقع اضطراب في ترتيب نسخة: (ب)، فتقدم تفسير بعض الآيات. (¬8) "معاني الفراء" 2/ 376، وهو قول الكلبي كما ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 537، واختاره ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 177.

وقال أبو إسحاق: (أي (¬1): وقت كل صلاة اقصدوه بصلاتكم) (¬2) {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يريد: وحدوه ولا تشركوا به شيئًا (¬3). وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، قال ابن عباس: (إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا و (¬4) كافرًا، كما قال جل ثناؤه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنًا وكافرًا، فيبعث المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا) (¬5)، وهذا قول أكثر المفسرين (¬6)، واختيار الفراء (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (أي في وقت). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 330، والظاهر أن المعنى: اقصدوا عبادته وحده وتوجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي وقت ومسجد، وهو ظاهر كلام الطبري في "تفسيره" 8/ 155، وأخرجه بسند جيد عن الربيع بن أنس، وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 479، وابن كثير 2/ 233، و"بدائع التفسير" 2/ 203 - 204، و"فتح البيان" لصديق خان 4/ 329. (¬3) قال الزجاج في "معانيه" 2/ 331: (أي: مخلصين له الطاعة) اهـ. والمعنى: اعبدوه وحده حال كونكم مخلصين العبادة والدعاء له لا لغيره، وهو ظاهر كلام الطبري في "تفسيره" 8/ 155، والسمرقندي 1/ 537، وصديق خان 4/ 329. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 156، وابن أبي حاتم 5/ 1462 بسند جيد. (¬6) ومنهم مجاهد في "تفسيره" 1/ 235، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 225 - 226 بسند جيد عن مجاهد والكلبي، وأخرجه الطبري 8/ 156، 157 من عدة طرق جيدة عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والسدي وأخرجه بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1463 من عدة طرق جيدة عن مجاهد وأبي العالية، وذكره عن أبي رزين وإبراهيم النخعي وسعيد ابن جبير، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 34، وأخرجه الثوري في "تفسيره" ص 112 بسند جيد عن مجاهد. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 376.

قال عطاء: (يريد: من خلقه للجنة يعود في البعث إلى الجنة، ومن خلقه للنار يعود في البعث إلى النار) (¬1). وقال القرظي (¬2): (من ابتدأ الله خلقه على (¬3) الشقوة، صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، [وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه] (¬4)، وإن عمل بأعمال [أهل] (¬5) الشقاء؛ كإبليس والسحرة) (¬6). وقال الفراء: (يقول بدأكم (¬7) في الخلق شقيًا وسعيدًا، فكذلك تعودون على الشقاء والسعادة) (¬8)، وهذه أقوال معناها واحد. وقال الحسن ومجاهد: (كما بدأكم فخلقكم في الدنيا, ولم تكونوا شيئًا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء) (¬9)، وهذا المعنى اختيار الزجاج؛ لأنه قال: (ثم احتج عليهم بإنكارهم البعث فقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي: فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم) (¬10). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) القرظي: هو محمد بن كعب، إمام. تقدمت ترجمته. (¬3) في (أ): (إلي). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) لفظ: (أهل) ساقط من (أ). (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 157، وابن أبي حاتم 5/ 1463 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 144. (¬7) في (ب): (كما بداكم). (¬8) "معاني الفراء" 1/ 376. (¬9) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 157 بسند جيد عن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد، وأخرجه عن ابن عباس بسند ضعيف، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1463 بسند جيد عن السدي، وأخرجه عن ابن عباس بسند ضعيف. (¬10) "معاني القرآن" 2/ 331، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 158، 159، =

قال ابن الأنباري: (موضع الكاف في {كَمَا} نصب بـ {تَعُودُونَ} وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل (¬1) عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم) (¬2). ¬

_ = والزمخشرى في "الكشاف" 2/ 75 - 76، والقرطبي 7/ 188 والظاهر الجمع بين القولين، وأن الآية إعلام بالبعث، أي: كما خلقكم يعيدكم بعد الموت على ما سبق لكم في علم الله تعالى من سعادة أو شقاوة، فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، والآيات الدالة على ذلك كثيرّةً جدَّا، ومنها قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف:30]. وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] وغيرها من الآيات التي يحتج الله سبحانه فيها على النشأة الثانية بالأولى، وعلى المعاد بالمبدأ، فجاء باحتجاج في غاية الاختصار والبيان {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}. وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (4625) في كتاب التفسير آخر تفسير سورة المائدة، ومسلم رقم (2860) كتاب الجنة ونعيمها، باب: متاع الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غُرلاً" {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]) اهـ. وأخرج مسلم رقم (2878) كتاب الجنة ونعيمها، باب: الأمر بحسن الظن. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" اهـ قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 2/ 297 - 298: (في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير كل واحد منهما حق ويشهد له القرآن) اهـ. ثم حكى نحو ما ذكره الواحدي. وانظر: "معاني النحاس" 3/ 26، و"تفسير السمرقندي" 1/ 537، والماوردي 2/ 217، والبغوي 3/ 223 - 224، وابن عطية 5/ 479، وابن الجوزي 3/ 185 - 186، والرازي 14/ 58، و"بدائع التفسير" 2/ 204 - 206، و"البحر المحيط" 4/ 288. (¬1) لفظ: (الفعل) ساقط من (أ) وملحق بالهامش. (¬2) ذكره السمين في "الدر" 5/ 297.

وقال أبو علي الفارسي: (قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، ليس معنى الكلام على الظاهر؛ لأن الظاهر (تعودون كالبدء) (¬1)، وليس المعنى على تشبيههم بالبدء، إنما المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ فتقدير {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (كما بدأ خلقكم) أي: يعود خلقكم عودًا كبدئه (¬2)، فكما أنه لم يُعْنَ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه، [كذلك لم يعن بالعود من غير حذف المضاف الذي هو الخلق، فلما حذف قام المضاف إليه] (¬3) مقام الفاعل [فصار الفاعلون] (¬4) مخاطبين، كما أنه لما حذف المضاف من قوله: كما بدأ خلقكم صار المخاطبون مفعولين في اللفظ)، ومثل هذه الآية في المعنى قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (على البدء). وفي "الحجة" لأبي علي 5/ 263: (تعودون كالبدء). (¬2) في (ب): (عودًا لبدئه). وفي "الحجة" 5/ 263: (فتقدير {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} كما بدأ خلقكم يعود خلقكم أي: يعود خلقكم عودًا كبدئه) اهـ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) "الحجة" لأبي علي 5/ 263 وفيه: (فكما أنه لم يُعْنَ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه منه، كذلك لا يعني بالعود من غير حذف المضاف إليه منه فَحُذِف المضافُ الذي هو الخلق فلما حذف قام المضاف إليه مقام الفاعل وصار الفاعلون مخاطبين كما أنه لما حُذف المضاف من قوله: (كما بدأ خلقكم) صار المخاطبون مفعولين في اللفظ ومثل ذلك في المعنى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} والخلق هنا اسم الحدث لا الذي يراد به المخلوق) اهـ. وذكره السمين في "الدر" 5/ 297، وقال: (يعني: أن الأصل كما بدأ خلقكم يعود خلقكم فحذف الخلق في الموضعين فصار المخاطبون في الأول مفعولين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة، وفيِ الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة أيضًا، وقوله {كَمَا بَدَأَكُمْ} الكاف في محل نصب نعتًا لمصدر محذوف تقديره: تعودون عودًا مثل ما بدأكم، وهذا أليق بلفظ الآية الكريمة) اهـ. وانظر: =

30

30 - قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}، قال أبو بكر: (نصب (¬1) {فَرِيقًا}، {وَفَرِيقًا} على الحال من الضمير الذي في {تَعُودُونَ}، يريد: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين؛ بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء، فاتصل (فريق) وهو نكرة بالضمير الذي في {تَعُودُونَ}، وهو معرفة فانقطع من لفظه، وعطف الثاني عليه، قال: ويجوز أن يكون الأول منصوبًا على الحال من الضمير، والثاني: منصوبًا بـ (حق عليهم الضلالة)؛ لأنه بمعنى: أضلهم كما يقول القائل: عبدًا لله أكرمته وزيدًا أحسنت إليه، فتنصب زيدًا بأحسنت إليه، بمعنى (¬2): نفعته. وأنشد (¬3): أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أمْ (¬4) رِياحًا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشَابَا ¬

_ = "إعراب النحاس" 1/ 608، و"المشكل" 1/ 287، و"البيان" 1/ 359، و"التبيان" ص 372، و"الفريد" 2/ 288. (¬1) لفظ: (نصب) غير واضح في (أ). (¬2) في (ب): (إذا كان بمعنى نفعته). (¬3) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص 59، و"الكتاب" 1/ 101 - 102، و"مجاز القرآن" 2/ 175، و"الجمهرة" 1/ 290، و"الصحاح" 1/ 120 (خشب)، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 79 وبلا نسبة في "تأويل المشكل" ص 544، و"الدر المصون" 5/ 300، (وثعلبة ورياح) بنو يربوع بن حنظلة من تميم قوم جرير، (وعدلت): سويت، (وطهية، والخشاب)، بنو مالك بن حنظلة من تميم وطهية امرأة مالك، والخشاب أولاد مالك من غير طهية. انظر: "نهاية الأرب" ص 185 - 247، 296، والشاهد: ثعلبة الفوارس حيث نصب الاسم الواقع بعد همزة الاستفهام بفعل محذوف دل عليه (عدلت بهم) تقديره أهنت أو أظلمت. (¬4) في "الديوان" وأكثر المراجع: (أو) بدل: (أم). وانظر: "الخزانة" 11/ 69.

فنصب (ثعلبة) بعدلت بهم طهية، لأنه بمعنى: أهنتهم إذ (¬1) عدلت بهم من دونهم. وقال آخر: يا ليت ضيفَكُم الزبيرَ وجارَكم ... إيايَ لبَّس حبَله بحبالي (¬2) فنصب (إياي) بقوله: لبَّس حبله بحبالي؛ إذ كان معناه خالطني وقصدني. قال: وفي قراءة أبي (¬3) (تعودون فريقين فريقًا [هدى وفريقًا حق] (¬4) عليهم الضلالة) (¬5). قال الفراء: (وقد يكون الفريق الأول منصوبًا بوقوع (هدى) عليه، ويكون الثاني منصوبًا بما وقع على عائد ذكره من الفعل كقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}) [الإنسان: 31] (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): (إذا عدلت بهم). (¬2) لم أهتد إلى قائله، وهو في "الدر المصون" 5/ 300. (¬3) ذكرها أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" 1/ 376، و"إعراب النحاس" 1/ 608، و"القطع والائتناف" للنحاس 1/ 250، و"المشكل" 1/ 288، و"تفسير ابن عطية" 5/ 480، و"البيان" 1/ 359، و"التبيان" ص 373، و"الفريد" 2/ 289، والقرطبي 7/ 188، و"البحر" 4/ 288، ونسب هذه القراءة الكرماني في "غرائبه" 1/ 401 إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) ذكره السمين في "الدر" 5/ 300، وهو في "الإيضاح" 2/ 653 - 654، و"زاد المسير" 3/ 186 مختصرًا. (¬6) "معاني الفراء" 1/ 376، وقد ذكر هذه الأوجه كل المراجع السابقة وخلاصتها أن (فريقًا) الأول منصوب على أنه مفعول به مقدم لـ (هدى) أو حال من فاعل تعودون، و (فريقًا) الثاني منصوب بتقدير فعل دل عليه ما بعده أي: وأضل فريقا =

فأما التفسير، فقال ابن عباس: ({فَرِيقًا} أرشد إلى دينه وهم أولياؤه {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} يريد: أضلهم وهم أولياء الشيطان يخذلهم الله فصاروا أولياء لإبليس) (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يدل كلام ابن عباس (على أنهم إنما فعلوا ذلك بخذلان الله إياهم). وقوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: ما سن (¬2) لهم عمرو بن لحي) (¬3). قال أصحابنا: قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (يعني: بالكلمة الأزلية والإرادة (¬4) السابقة). ¬

_ = أو حال من فاعل تعودون، وأكثرهم على أن الأول منصوب بهدى، والثاني بفعل مقدر. انظر: "الكتاب" 1/ 89، و"تفسير الطبري" 8/ 159، و"الدر المصون" 5/ 299 - 300. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 173 - 174. (¬2) في النسخ: (ما بين)، ثم صحح في (أ) إلى (ما سن). (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 59، وقال: (هذا بعيد؛ بل هو محمول على عمومه). وهذا وأمثاله عن السلف -رضي الله عنهم- محمول على التمثيل وأنه داخل في المعنى. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 159، و"معاني الزجاج" 2/ 331، و"زاد المسير" 3/ 186، وقال القرطبي في "تفسيره" 7/ 188: (في هذه الآية رد واضح على القدرية ومن تابعهم) اهـ. وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 205 - 206: (أخبر الله سبحانه وتعالى عن القدر الذي هو نظام التوحيد فقال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} فتضمنت الآية الإيمان بالقدر، والشرع، والمبدأ، والمعاد، والأمر بالعدل، والإخلاص، ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر، ولم يطع هذا الأمر بأنه قد والى الشيطان دون ربه، وأنه على ضلال، وهو يحسب أنه على هدى. والله أعلم) اهـ.

31

31 - قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية، قال ابن عباس: (كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا) (¬1). قال الكلبي (¬2): (والزينة ما وارى العورة، {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} لصلاة أو طواف). وقال مجاهد (¬3) وعطاء (¬4): (ما يستر به عورته ولو عباءة). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 159، 160، وابن أبي حاتم 5/ 1464 بسند جيد، وأخرج مسلم في "صحيحه" رقم (3028) كتاب التفسير، باب: في قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ}، والنسائي في "سننه" 5/ 233 - 334 كتاب مناسك الحج، وفي "التفسير" 1/ 496، والطبري 8/ 159، 160، وابن أبي حاتم 5/ 1464، والحاكم وصححه 2/ 319 - 320، والواحدي في "الوسيط" 1/ 174، وفي "أسباب النزول" ص 228، 229 من عدة طرق عن ابن عباس قال: (كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُ فنزلت هذه الآية {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وعند الحاكم، فنزلت هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف:32]، فلعل الآيتين نزلتا معًا لهذا السبب، والله أعلم. وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 160، وابن أبي حاتم 5/ 1464 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس مثله. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 174، والبغوي 3/ 225، و"الخازن" 3/ 223. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 161، وابن أبي حاتم 3/ 143 أبسند جيد. (¬4) أخرجه الطبري 8/ 160، 161 من عدة طرق جيدة عن عطاء وسعيد بن جبير وطاوس وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة والضحاك وابن زيد قالوا: (كانوا يطوفون بالبيت عراة فأمروا أن يلبسوا الثياب). وقال الرازي في "تفسيره" 14/ 61: (أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة هاهنا لبس الثوب الذي يستر العورة) اهـ. والظاهر حمل الآية على العموم، وهو ما يتجمل ويتزين به عند الصلاة، وستر العورة واجب مأمور به مطلقًا، وهذا ظاهر كلام الجمهور. قال ابن كثير في =

قال الفراء والزجاج (¬1): (كانت الجاهلية تطوف بالبيت عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب قد أذنبنا فيها، وكانت المرأة تطوف عريانة أيضًا إلا أنها كانت تلبس شيئًا من سيور مقطعة، تسمي ذلك العرب الرهط (¬2)). قال الفراء (وهو شبيه بالحوف (¬3) يواريها بعض المواراة، قالت امرأة تطوف وعليها رهط (¬4): الْيَوَمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُ (¬5) تعني: الفرج؛ لأن تلك السيور لا تستر سترًا تامًّا). ¬

_ = "تفسيره" 2/ 235: (لهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة ولا سيما الجمعة ويوم العيد والطيب؛ لأنه من الزينة والسواك؛ لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض) ونحوه قال ابن عطية 7/ 45، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 160، 161، والسمرقندي 1/ 538، و"أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 359، 360، ولابن العربي 2/ 779، والقرطبي 7/ 189، و"البحر المحيط" 4/ 290. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 223، والنص منه. (¬2) الرَّهْط، بفتح الراء وسكون الهاء: جلد يشق من أسفله أو جلد يشق سيورًا ليمكن المشي فيه يلبسه الصغار والحائض. انظر: "اللسان" 3/ 1753 (رهط). (¬3) الحوف، بفتح الحاء وسكون الواو: هو الرهط السابق. انظر: "اللسان" 2/ 1053 (حوف) (¬4) "معاني الفراء" 1/ 377. (¬5) البيت نسبه الفراء إلى العامرية، وهي ضباعة بنت عامر بن قرط العامرية، كما ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 777، والقرطبي 7/ 889، والذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" 2/ 284، وابن حجر في "الإصابة" 4/ 353 - 354، ونسبه ابن حجر في 4/ 232 إلى أسماء بنت مخربة بن جند التميمية.

قال أصحابنا (¬1). وهذه الآية دليل على وجوب ستر العورة للصلاة والطواف بالبيت، والطواف صلاة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام" (¬2). ¬

_ (¬1) قال الفقهاء: ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع، حكاه النووي في "المجموع" 3/ 366 وهي شرط لصحة الصلاة عند الجمهور الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 778، و"المغني" 2/ 283، و"روضة الطالبين" 1/ 388، و"الفتاوى" 22/ 109، و"نيل الأوطار" 2/ 73. (¬2) الحديث أخرجه أحمد في "المسند" 3/ 414، 4/ 64، 5/ 377، والنسائي في "سننه" في كتاب المناسك، باب: إباحة الكلام في الطواف 5/ 222 عن الحسن ابن مسلم المكي عن طاوس عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه الدارمي 2/ 1165 (1889) في كتاب المناسك: باب: الكلام في الطواف، والترمذي رقم (960) كتاب المناسك، باب: الكلام في الطواف، وابن خزيمة 4/ 222 (2739)، والبيهقي 5/ 85 من عدة طرق عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 266 - 267 من طرق عن عطاء بن السائب، والقاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحاكم: (حيث صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وقد روي الحديث مرفوعًا تارة وموقوفًا أخرى، ورجح جماعة وقفه كالترمذي وغيره، وقد صححه الألباني في الإرواء 1/ 154 - 158. واستقصى طرقه، ثم قال: (وبالجملة الحديث مرفوع صحيح، ووروده أحيانًا موقوفًا لا يعله) اهـ. وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 21/ 273 - 274، 26/ 126 - 193، 211: (لا يشترط للطواف شروط الصلاة، وهذا قول أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين ليس معهم حجة إلا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة" وهذا حديث يروى موقوفًا ومرفوعًا، وأهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفًا ويجعلونه من كلام ابن عباس لا يثبتون رفعه، وبكل حال فلا حجة فيه والأدلة الشرعية تدل على خلاف ذلك، والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً فإنه لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف ..) اهـ. ملخصًا.

وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}، قال أكثر المفسرون: (كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا قوتًا, ولا يأكلون دسمًا، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل، فأنزل الله تعالى (¬1): {وَكُلُوا} يعني: اللحم والدسم، {وَاشْرَبُوا}) (¬2)، وهذا القول اختيار الفراء (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: ({وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} يريد: حلالًا) (¬4)، وهذا القول اختيار الزجاج، وبينه فقال: (إنهم ادعوا (¬5) أن الله حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام، وحرم عليهم البحيرة والسائبة، وأمرهم الله عز وجل أن يأكلوا ما (¬6) زعموا أن الله حرمه مما لم يحرمه، وأن يشربوا مما زعموا أن الله حرمه؛ لأن ألبان البحيرة [والسائبة (¬7) كانت عندهم حرامًا) (¬8)]. وقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} (¬9) معناه على القول الأول: لا تسرفوا حتى يبلغ بكم ذلك تحريم ما أحللت (¬10) لكم. أي: لا تسرفوا بحظركم ¬

_ (¬1) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 162، والسمرقندي 1/ 538، والماوردي 2/ 218، وحكاه الواحدي في "أسباب النزول" ص 230 عن الكلبي. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 277. (¬4) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 162، وابن أبي حاتم 5/ 1465 بسند جيد عن ابن عباس قال: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة). (¬5) في (ب): (إنهم دعو)، وهو تحريف. (¬6) في (ب): (مما زعموا). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من أصل (أ)، وملحق بالهامش. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 332 - 333. (¬9) الآية ساقطة من أصل (أ) وملحقة بالهامش. (¬10) في (أ): (ما أحلت)، وهو تحريف.

32

على أنفسكم ما قد أحللته لكم، أي: من اللحم والدسم، وهذا معنى قول الفراء (¬1). وقال الزجاج: (الإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله مما حرم الله عز وجل؛ أن يؤكل منه شيء، أو يأكل ما أحل الله فوق مقدار الحاجة، فأعلم الله أنه لا يحب من أسرف، ومن لم يحببه الله فهو في النار) (¬2). 32 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}. قال ابن عباس (¬3) والمفسرون (¬4): (يريد: اللباس يستر به العورة). قال أبو إسحاق: (أي: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم) (¬5). وقوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} أي: الحلالات من الرزق، يعني ما حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب، قاله ابن عباس (¬6)، وقتادة (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 337. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 333، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 162، والسمرقندي 1/ 538، والماوردي 2/ 218، والآية عامة في أكل وشرب ما أحله الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ونهى عن السرف مطلقًا ويدخل فيه من حلل حرامًا أو حرم حلال، وهذا قول عامة أهل العلم. انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 482، والرازي 14/ 62، والقرطبي 7/ 191 - 195، وابن كثير 2/ 236. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 63، وقال: (المراد بالزينة اللباس الذي تستر به العورة، وهو قول ابن عباس وكثير من المفسرين) اهـ. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 333. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 189 ب، والبغوي 3/ 225، وابن الجوزي 3/ 189 عن ابن عباس وقتادة، وذكره الماوردي 2/ 24 عن الحسن وقتادة. (¬7) أخرجه الطبري 8/ 164، وابن أبي حاتم 5/ 1467 بسند جيد.

وقال الآخرون (¬1): (يعني: ما كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام حجهم من اللحم والدسم)، وهذا كالاختلاف في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] في الآية الأولى (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال الفراء: (نصب {خَالِصَةً} على القطع (¬3) وجعلت خبر (هي (¬4)) في اللام التي في قوله {لِلَّذِينَ} والخالصة ليست بقطع من هذه اللام، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة، والمعنى والله أعلم: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} مشتركة وهي لهم في الآخرة {خَالِصَةً} على القطع) (¬5). قال أبو علي: (قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يحتمل أن يكون ظرفًا لـ (هي)، وخبرها قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} والتقدير: هي في الحياة الدنيا] (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 8/ 163 من عدة طرق جيدة عن السدي، وابن زيد، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1467 من عدة طرق جيدة عن السدي، وسعيد بن جبير. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 150. (¬2) والآية عامة في كل ما يتزين به من ملبوس أو غيره، وفي الطيبات من المآكل والمشارب التي أباحها الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنكار عام على كل من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله، ومنها ما فعله أهل الجاهلية. قال الطبري في "تفسيره" 8/ 163: (يقول الله تعالى ذكره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قل لهؤلاء من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده؛ أن تتزينوا بها وتتجملوا بلباسها والحلال من رزق الله الذي رزقه خلقه لمطاعمهم ومشاربهم، وقد أجمعوا على أن الزينة ما قلنا) اهـ. ملخصًا. وانظر: "تفسير بن عطية" 5/ 482، 483، والقرطبي 7/ 195. (¬3) يعني بالقطع الحال، أفاده السمين في "الدر" 5/ 302، وانظر: "معجم المصطلحات النحوية" ص 188. (¬4) في "معاني الفراء" 1/ 377: (وجعلت الخبر في اللام التي في الذين ..) اهـ. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 377. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

للمؤمنين مقدرًا خلوصها يوم القيامة، ويحتمل أن يكون قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متصلًا بالصلة التي هي (¬1) (آمنوا)، والمعنى {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} في حياتهم -أي: الذين لم يكفروا فيها- {خَالِصَةً}، فموضع (في) على هذا نصب بآمنوا، والعامل في الحال معنى اللام في: {لِلَّذِينَ}، والمعنى: هي تثبت وتستقر {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً}. قال: ويجوز أن يكون قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في موضع حال (¬2)، وصاحب الحال هو (هي) والعامل في الحال معنى الفعل في {لِلَّذِينَ آمَنُوا}، كما بينا، والمعنى: قل: هي تثبت لهم (¬3) مستقرة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [أي: هي ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة) (¬4)] (¬5). وقرأ نافع (¬6): {خَالِصَةً} رفعًا، قال الزجاج: (ورفعها على أنه خبر بعد خبر كما تقول: زيد عاقل لبيب، والمعنى: قل هي ثابتة للمؤمنين {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬7). قال أبو علي: (قوله: رفعها على أنه خبر بعد خبر جائز حسن، ويجوز ¬

_ (¬1) في (أ): (التي هي للذين آمنوا في حياتهم، أي: للذين لم يكفروا ..). (¬2) في (ب): قال: (وصاحب الحال). (¬3) في (ب): (قل هي يثبت ويستقر للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) هذا ملخص من "الإغفال" ص 771 - 772، و"الحجة" 4/ 15 - 17. (¬6) قرأ نافع: في {خَالِصَةً} بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "السبعة" ص 280, و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 418، و"التيسير" ص 109، و"النشر" 2/ 269. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 333.

أيضاً عندي أن لا يكون خبرًا بعد خبر، ولكن تكون {خَالِصَةً} خبر الابتداء كأنه في التقدير: قل هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا، فيكون {لِلَّذِينَ آمَنُوا} متعلقاً بخالصة, وفي موضع نصب به، والمعنى: هي تخلص للذين آمنوا يوم القيامة وإن شركهم غيرهم من الكافرين [في الدنيا)] (¬1). قال ابن عباس: (شارك المسلمين المشركون في الطيبات في الحياة الدنيا؛ فأكلوا من طيبات طعامها, ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا, وليس للمشركين فيها شيء) (¬2)، وهذا قول الحسن والضحاك وابن جريج وابن زيد (¬3). وقال عطاء في قوله تعالى: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: (يريد: إن الله جعل لهم الجنة خالصة بطاعتهم الله في الدنيا) (¬4) ففسر {الطَّيِّبَاتِ} بالجنة لأنها محل الطيبات في الآخرة. قال أبو إسحاق: (أعلم الله عز وجل أن الطيبات تخلص للمؤمنين في ¬

_ (¬1) لفظ: (في الدنيا) ساقط من (أ)، والنص من "الإغفال" ص 771، و"الحجة" 4/ 14 - 16، وانظر: في "توجيه القراءات وإعرابها"، و"تفسير الطبري" 8/ 165، و"إعراب النحاس" 1/ 609، و"معاني القراءات" 1/ 404، و"إعراب القراءات" 1/ 180، و"الحجة" لابن خالويه ص 154، ولابن زنجلة ص 281، و"الكشف" 1/ 461 - 462، و"المشكل" 1/ 288 - 290. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 164، وابن أبي حاتم 5/ 1468 بسند جيد. (¬3) أخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 164, 165 من عدة طرق جيدة عن الحسن والضحاك وابن جريج وابن زيد وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1468 عن الحسن والضحاك وقتادة وعكرمة، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 228 بسند جيد عن الحسن. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 150. (¬4) لم أقف على من ذكره.

33

الآخرة لا يشركهم فيها كافر) (¬1). وقال بعض أصحاب المعاني: (الأولى أن يكون معنى {الطَّيِّبَاتِ} في هذه الآية المستلذ من الرزق) (¬2). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}، يريد: تفسير ما أحللت من حلالي وما حرمت من حرامي، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، يريد: علموا أني أنا الله وحدي لا شريك لي (¬3). 33 - قال الكلبي: (فلما نزلت هذه الآية لبسوا الثياب، وطافوا بالبيت فيها، فعيرهم المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى (¬4) قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}) (¬5). قال ابن عباس: (يريد: سر الزنا وعلانيته) (¬6). وقال مجاهد: (ما ظهر: نكاح الأمهات ... (¬7) في الجاهلية. {وَمَا بَطَنَ} الزنا). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 333. (¬2) انظر: "معاني النحاس" 3/ 27، و"تفسير السمرقندي" 1/ 538، و"تفسير الماوردي" 2/ 219، و"ابن الجوزي" 3/ 189. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 166، والسمرقندي 1/ 538، و"الخازن" 2/ 224. (¬4) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ). (¬5) ذكره القرطبي 7/ 200، وأبو حيان في "البحر" 4/ 292. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) جاء في النسخ كلمة غير واضحة بعد لفظ (الأمهات)، ولعلها (الذوات، أو الدواب). وذكر النحاس في "معانيه" 3/ 25، والقرطبي 7/ 200 عن مجاهد قال: ({مَا ظَهَرَ} نكاح الأمهات في الجاهلية، {وَمَا بَطَنَ} الزنا) اهـ، وأخرج الطبري في "تفسيره" 8/ 166 عن مجاهد قال: ({مَا ظَهَرَ} الجمع بين الأختين وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده، {وَمَا بَطَنَ} الزنا).

وقال القرظي: ({مَا ظَهَرَ} طوافهم بالبيت عراة، {وَمَا بَطَنَ} الزنا) (¬1). وقال عكرمة: ({مَا ظَهَرَ} الظلم على الناس، {وَمَا بَطَنَ} الزنا والسرقة) (¬2). وقال مقاتل (¬3) والكلبي (¬4) نحو قول ابن عباس. وقد مضى الكلام في هذا في سورة الأنعام. وقوله تعالى: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. قال بعض أهل المعاني: (إنما ذكر هذه القبائح مع الفواحش وهي داخلة في الفواحش للبيان عن التفصيل؛ كأنه قيل: الفواحش التي منها الإثم، ومنها البغي، ومنها الإشراك بالله) (¬5). وقال ابن الأنباري: (إنما فصل الإثم لأنه قصد [به] (¬6) الأفاعيل المذمومة التي لا يجب على فاعلها الحد، والفواحش يجب على فاعلها إذا أتاها أو أكثرها الحد، فلهذه العلة فصل الإثم. قال: وهذا جواب مأثور عن ابن عباس) (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 166 بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1470 بسند جيد عن الزهري. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1471 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 151. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 34 (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 90. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 201. (¬6) لفظ: (به) ساقط من (ب). (¬7) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 191 عن ابن عباس قال: (الإثم الذنب الذي لا يوجب الحد) اهـ.

وقال عطاء عن ابن عباس: ({وَالْإِثْمَ} يريد: الخمر) (¬1). وقال الحسن (¬2): (الإثم: الخمر، تصديق ذلك قوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}) [البقرة: 219]. قال أبو بكر: (الإثم لا يكون من أسماء الخمر؛ لأن العرب ما سمته إثمًا قط في الجاهلية ولا إسلام، ولكن قد تكون الخمر داخلة تحت الإثم لقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}) [البقرة: 219] (¬3). وقال الضحاك: (الإثم: الذنب دون الحد) (¬4). وقال السدي: (الإثم المعصية) (¬5)، {وَالْبَغْيَ} ظلم الناس والاستطالة بغير حق، وهو أن يطلب ما ليس له، كذا قال جميع أهل التفسير (¬6). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 90، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 176، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 191 عن عطاء فقط، وذكره السمين في "الدر" 5/ 306 عن ابن عباس والحسن. (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 226، وابن الجوزي 3/ 191، والقرطبي 7/ 200. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 176، والسمين في "الدر" 5/ 306، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 122، قال ابن الأنباري: (ليس الإثم في أسماء الخمر بمعروف، ولم يصح فيه بيت صحيح) اهـ. وقال السمين في "الدر" 5/ 306: (الذي قاله الحذاق إن الإثم ليس من أسماء الخمر) اهـ. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 176، والبغوي 3/ 226، وابن الجوزي 3/ 191، وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 378. (¬5) أخرجه الطبري 8/ 166، وابن أبي حاتم 5/ 1471 بسند جيد. (¬6) وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 378، والطبري 8/ 166، والظاهر أن الإثم الذنب والمعصية عام في الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الإثم، والبغي: الظلم وتجاوز الحد فيه، وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما فنص على ذكرهما تأكيدًا لأمرهما وقصدًا للزجر عنهما، وذكر الخمر من باب التمثيل لأنه سبب الإثم، بل هي معظمه، فإنها مؤججة للفتن. وقال ابن كثير في =

وقوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} (¬1)، قال الزجاج: (موضع (أن) نصب، المعنى: وحرم الشرك) (¬2). وقوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، قال مقاتل: (ما لم ينزل [به] (¬3) كتابًا فيه حجة لكم بأن معه شريكًا) (¬4). وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: قولهم الملائكة بنات الله) (¬5). وقال مقاتل: (وحرم أن تقولوا (¬6) على الله أنه حرم الحرث والأنعام) (¬7). وقال أهل المعاني: (هذا عام في تحريم القول في الدين من غير يقين) (¬8). ¬

_ = "تفسيره" 2/ 236: (وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 609، 610، و"تفسير ابن عطية" 5/ 488، 489، والقرطبي 7/ 201. (¬1) في (ب): {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ}. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 334، وفيه: (المعنى: حرم الله الفواحش تحريم الشرك) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 610، و"المشكل" 1/ 290. (¬3) لفظ: (به) ساقط من (ب). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 34، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 334، و"تفسير الطبري" 8/ 166، 167. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) في (أ): (يقولوا) بالياء. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 34، وزاد فيه: (والألبان والثياب). (¬8) هذا قول الطبري 8/ 167، والبغوي 3/ 226، وابن الجوزي 3/ 192.

34

34 - قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الآية، معنى الأجل: الوقت [المؤقت] (¬1) المضروب لانقضاء المهل (¬2). وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بهذا أجل العذاب. وهو قول ابن عباس والحسن (¬3) ومقاتل. قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} (يريد: وقتًا فإذا جاء ذلك الوقت لا يؤخر عنهم العذاب، ولا يقدم قبل ذلك) (¬4). وقال الحسن: (يريد: أجل الهلاك بعذاب الاستئصال). وقال مقاتل: ({وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} بالعذاب، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} بالعذاب لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا. قال: وذلك حين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - العذاب) (¬5). القول الثاني: أن المراد بهذا الأجل أجل العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} بعد الأجل ساعة، وكأن القول الأول أقوى لقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ}، ولم يقل: ولكل أحد أجل. وعلى القول الثاني إنما قال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ}، ولم يقل لكل أحد إخبارًا عن تقارب أعمار أهل كل عصر حتى كأن لها أجلًا واحداً لتقاربها (¬6). ¬

_ (¬1) لفظ: (المؤقت) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "العين" 6/ 178، و"الجمهرة" 2/ 1043، و"التهذيب" 1/ 124، و"الصحاح" 4/ 1621، و"المجمل" 1/ 88، و"المفردات" ص 65، و"اللسان" 1/ 32 (أجل). (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 177، والرازي 14/ 67، عن ابن عباس والحسن ومقاتل، وذكره البغوي 3/ 226، عن ابن عباس وعطاء والحسن. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 91، و"الفريد" للهمداني 2/ 293. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 35. (¬6) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 68، و"الخازن" 2/ 225، وفيهما نص كلام الواحدي =

35

وقوله تعالى: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً}. قال الزجاج: (ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الأوقات) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التقدم على الأجل وقت حضوره، وكيف يحسن قوله: {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} بعد فناء الأجل؟؛ قيل: هذا على المقاربة؛ لأن العرب تقول: جاء الشتاء إذا قارب وقته. وجاء الصيف، ومع مقاربة (¬2) الأجل تصور الاستقدام، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء، والمعنى: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن (¬3) آجالهم إذا انقضت، {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} عليها إذا قاربت الانقضاء، ولفظ قوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} محتمل للمعنيين (¬4). 35 - قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} إلى آخر الآية ¬

_ = بدون نسبة. والقول الأول أظهر. وهو قول الجمهور، والثاني داخل فيه ومعلوم أن لكل إنسان أجلاً لا يتعداه. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 167، والسمرقندي 1/ 538، والماوردي 2/ 220، وابن عطية 5/ 490، 491. (¬1) "معاني القرآن" 2/ 334، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 30. (¬2) لفظ: (مع مقاربة) عليه طمس في (أ). (¬3) في (ب): (مع). (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 68، ونقله عن الواحدي السمين في "الدر" 5/ 308، وقال: (هذا بناء منه على أنه معطوف على {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} وهو ظاهر أقوال المفسرين، وهذا لا يجوز؛ لأن (إذا) إنما يترتب عليها وعلى ما بعدها الأمور المستقبلية لا الماضية، والاستقدام بالنسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه، فكيف يترتب عليه؟ ويصير هذا من باب الإخبار بالضروريات التي لا يجهل أحد معناها، وهو مستأنف معناه الإخبار بأنهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم، بل لا بد من استيفائهم إياه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقل زمان) اهـ. ملخصًا. وانظر: "البحر المحيط" 4/ 293.

مفسر ومشروح في سورة البقرة، وهو قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} الآية [البقرة: 38]، قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}: (يريد: فرائضي وأحكامي، {فَمَنِ اتَّقَى} يريد: اتقاني وخافني، {وَأَصْلَحَ} يريد: ما بيني وبينه، {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يريد: يوم الفزع الأكبر (¬1)، واختلف أهل المعاني في أن المؤمنين هل يلحقهم خوف وحزن عند أهوال القيامة، فبعضهم ذهب إلى: أنه لا يلحقهم ذلك لعموم نفيه في هذه الآية، وذهب بعضهم إلى أنه يلحقهم لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} الآية [الحج: 2]. وأما قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، معناه: أن أمرهم يؤول إلى الأمن والسرور كقول الطبيب للمريض: لا بأس عليه، أي: أن أمره يؤول إلى العافية والسلامة، وإن كان في الوقت في بأس (¬2) من علته (¬3)، وجواب قوله: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} هو ما دل عليه الكلام؛ كأنه قيل: فأطيعوهم، هذا قول الأخفش (¬4). وقال الزجاج: (جوابه في الفاء في قوله: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} (¬5)، ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 177، والبغوي 3/ 227، وفي "تنوير المقباس" 2/ 91 - 92 نحوه، وجاء عند الواحدي والبغوي عنه في قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قال: (إذا خاف الناس، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حزنوا) اهـ. (¬2) في (ب): (فلا بأس عليه)، وهو تحريف. (¬3) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 539، والرازي 14/ 69، والقرطبي 7/ 202. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 279. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 334، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 168، و"إعراب النحاس" 1/ 610، و"الكشاف" 2/ 77، و"تفسير ابن عطية" 5/ 493، و"الدر المصون" 5/ 309.

37

وقد ذكرنا هذا (¬1) مستقصى في سورة البقرة. 37 - قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. [قال الكلبي] (¬2): (فمن أكفر ممن اختلق على الله كذبًا باطلاً، فجعل له صاحبة وولداً) (¬3). وقال أبو إسحاق: (أيْ: أيُّ ظلم أشنع من الكذب على الله عز وجل) (¬4). [و] (¬5) قال ابن عباس في قوله: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (يريد: جعل لله شريكًا وجعل له ولداً) (¬6). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} اختلفوا في معناه؛ فقال الحسن والسدي وأبو صالح: (ينالهم ما كتب لهم من العذاب) (¬7)، ومثله روى حبان (¬8) عن الكلبي: {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (أي: من العذاب) (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" سورة البقرة: 38. (¬2) لفظ: (قال الكلبي) ساقط من (أ). (¬3) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 539، وقال بعده: (قال بعضهم هذا التفسير خطأ لأنه لا يصح أن يقال: هذا أكفر من هذا, ولكن معناه، ومن أشد في كفره) اهـ. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 334، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 30، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 168. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 177 بلفظ: (جعل له صاحبة وولدا وشريكًا) اهـ. (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 169 من عدة طرق عن أبي صالح والحسن والسدي، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1474 عن أبي صالح. (¬8) حبان: هو حبان بن علي العنزي الكوفي، فقيه، فاضل، ضعيف. تقدمت ترجمته. (¬9) "تنوير المقباس" 2/ 92، و"تفسير هود الهواري" 2/ 16.

والسدي بيَّن ذلك العذاب ما هو فقال: (سواد الوجوه وزرقة العيون) (¬1) , فعلى هذا معنى قوله: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} ما قضى الله عليهم في الكتاب من سواد الوجوه، وزرقة العيون (¬2)، ويؤكد هذا التأويل قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطية (¬3) قال: (ينالهم ما كتب عليهم، [وقد كتب] (¬4) لمن (¬5) افترى على الله وجهه مسود) (¬6) واحتج بالآية، واختار الفراء هذا فقال: (ينالهم ما قضى الله عليهم في الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين) (¬7). وقال الزجاج: (معنى: {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} ما أخبر الله -عز وجل- من جزائهم؛ نحو قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (¬8) [الجن: 17]، وقوله: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} الآية [غافر: 71]، فهذا نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم) (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (أ): (سواد الوجه وزرقة العين). (¬3) في (ب): (عطاء)، وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 170 بسند ضعيف عن عطية العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬4) لفظ: (وقد كتب) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (بأن يفترى). (¬6) في (ب): (مسوده)، وعند الطبراني 12/ 413: (أنه وجهه مسود) وهو أولى. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 378، ونحوه ذكر مقاتل في "تفسيره" 2/ 35. (¬8) في (ب): {نَسْلُكُهُ} بالنون وهي قراءة ابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، ونافع وقرأ الباقون {يَسْلُكُهُ} بالياء. انظر: "السبعة" ص 656، و"المبسوط" ص 384، و"التذكرة" 2/ 737، و"النشر" 2/ 392. (¬9) "معاني القرآن" 2/ 334 - 335.

وقال عبد الله بن مسلم: (أي: حظهم مما كتب عليهم من العقوبة) (¬1) فهذا كله قول من جعل {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}، العذاب، و {الْكِتَابِ} على هذا القول الظاهر أنه القرآن؛ لأنه ذكر عذابهم في القرآن في مواضع كما ذكره (¬2) أبو إسحاق، ويجوز أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد (¬3) وعطية العوفي {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (¬4) (أي: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة، ثم قرأ العوفي: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30]، يعني: أن هؤلاء ممن أدركهم ما كتب لهم من الشقاوة، وإن كان فيهم أحد كتبت له السعادة أدركته، وعلى هذا المعنى دل كلام ابن عباس في رواية عطاء؛ لأنه قال: (يريد: ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ) (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص 177، وهو قول مكي في "تفسير المشكل" ص 84. (¬2) في (ب): كما ذكر. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 235 - 236، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 169، 170 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطية العوفي، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1474 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي، وقال بعده: (وروي عن سعيد بن جبير والحسن نحوه) اهـ. (¬4) هنا وقع اضطراب في نسخة (ب) فوقع باقي تفسير الآية في ص 147ب. (¬5) ذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 209، وقريب منه ما أخرجه الطبري 8/ 170، 171، وابن أبي حاتم 5/ 1473 بسند جيد عن ابن عباس قال: (نصيبهم من الأعمال) وفي رواية عند الطبري قال: (ينالهم الذي كتب عليهم من الأعمال)، وفي رواية أخرى: (من الخير والشر)، وفي أخرى: (ما وعدوا مثله) والكل متقارب.

وقال الربيع والقرظي وابن زيد (¬1): (يعني: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فنيت وفرغوا منها {جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}) (¬2) قال بعض أهل المعاني (¬3): (وهذا القول هو وجه التأويل لذكر (حتى) على معنى الانتهاء، يعني: أنهم يستوفون أعمارهم وأرزاقهم إلى الموت)، فعلى هذا القول معنى (حتى) الانتهاء والغاية (¬4)، وعلى القولين الأولين ليست (حتى) في هذه الآية التي للغاية (¬5)، بل هي التي تدخل على الجمل وينصرف بعدها الكلام إلى الابتداء كـ (أما) (¬6) و (إذا) ولا تعلق لقوله {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} بما قبله، بل هذا ابتداء خبر أُخبر عنهم كقوله: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 171 من عدة طرق عن الربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1473، عن الربيع والقرظي. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 153، 154. (¬2) في (أ): (رسلهم). (¬3) ومنهم الطبري في "تفسيره" 8/ 172، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 237: (وهذا القول قوي في المعنى والسياق يدل عليه) اهـ. (¬4) يعني أن مجيء الرسل للتوفي كالغاية لحصول ذلك النصيب فينبغي أن يكون حصول ذلك النصيب متقدمًا على حصول الوفاة والمتقدم على حصول الوفاة ليس إلا العمر والرزق، أفاد ذلك الرازي في "تفسيره" 14/ 71. (¬5) نقل قول الواحدي السمين في "الدر" 5/ 310 ثم قال: (هذا غير مرضي منه لمخالفته الجمهور؛ إذ الغاية معنى لا يفارقها، وقوله: لا تعلق لها بما قبلها ممنوع على جميع الأقوال التي ذكرها. والظاهر أنها إنما تتعلق بقوله {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ}) اهـ. ملخصًا. (¬6) قال سيبويه في "الكتاب" 3/ 17 - 18: (حتى صارت هاهنا بمنزلة إذا، وما أشبهها من حروف الابتداء) اهـ، وانظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 64، و"معاني الحروف" للرمانى ص 119، ص164، و"المغني" لابن هشام 1/ 128.

فَيَاعَجَبِي حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبنُّي (¬1) ويؤكد القول الأول أن ذكر عظم الظلم يقتضي ذكر الوعيد (¬2) بالعذاب. ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق في "ديوانه" 1/ 419، وعجزه: كَأنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ وهو في "الكتاب" 3/ 18، و"الأصول" 1/ 425، و"نزهة الأعين" لابن الجوزي ص 244، و"المغني" لابن هشام 1/ 129 وبلا نسبة في: "المقتضب" 2/ 39، و"معاني الحروف" للرماني ص 165، و"الموضح في التفسير" للحدادي ص 56، و"رصف المباني" ص 257، و"الدر المصون" 5/ 310. وكليب: هو ابن يربوع بن حنظلة بطن من ربيعة من عامر بن صعصعة، وهو رهط جرير. انظر: "نهاية الأرب" ص 366، ونهشل: بطن من حنظلة من تميم. انظر: "نهاية الأرب" ص370. ومجاشع: بطن من دارم من تميم، وهو رهط الفرزدق. انظر: "نهاية الأرب" ص 386، والشاهد: حتى كليب، حيث جاءت (حتى) حرف ابتداء، ودخلت على الجملة الاسمية، وانظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 14، و"الخزانة" 9/ 475. (¬2) والظاهر والله أعلم هو عموم ما كتب عليهم من أجل وعمل ورزق في أم "الكتاب"، وهو اختيار ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 209 - 210، فقد ذكر عامة الأقوال التي ذكر الواحدي ثم قال: (والصحيح القول الأول وهو نصيبهم الذي كتب لهم أن ينالوه قبل أن يخلقوا، ونصيبهم يتناول الأمرين، نصيبهم من الشقاوة، ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها، ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها، ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك، فعمت الآية هذا النصيب كله، وذكر هؤلاء بعضه، وهؤلاء بعضه هذا على القول الصحيح، وأن المراد ما سبق لهم في أم "الكتاب" , ولهذا القول وجه حسن وهو أن نصيب المؤمنين من الرحمة والسعادة، ونصيب هؤلاء من العذاب والشقاوة، فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم وآثروه على غيره، كما أن حظ المؤمنين منه كان الهدى والرحمة فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة، فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم) اهـ. ملخصًا. =

وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}. قال سيبويه (¬1) والخليل: (لا يجوز إمالة حتى، وإلَّا، وأما، وهذه ألفات ألزمت الفتح، لأنها أواخر حروف جاءت لمعنى ففصل بينها (¬2) وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حُبْلَى وهدى، إلا أن (حتى) كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سَكْرى) (¬3). وقال بعض النحويين: (لم يجز إمالة (حتى) لأنها حرف لا ينصرف والإمالة ضرب من التصرف ((¬4). قال ابن عباس: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} (يريد: الملائكة يقبضون أرواحهم) (¬5)، {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سؤال تبكيت وتقريع، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي بطلوا وذهبوا، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}، اعترفوا عند معاينة الموت وأقروا على أنفسهم بالكفر، قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد: أن الموت قيامة ¬

_ = وانظر: "معاني النحاس" 3/ 30، و"تفسير السمرقندي" 1/ 539، والماوردي 2/ 221، والبغوي 3/ 227، وابن عطية 7/ 54، وابن الجوزي 3/ 193، والرازي 14/ 70، 71، والقرطبي 7/ 203. (¬1) "الكتاب" 4/ 135، وفيه قال: (ومما لا يميلون ألفه (حتى) و (أمَّا) و (إلَّا) فرقوا بينها وبين ألفات الأسماء نحو حبلى وعطشى. وقال الخليل: لو سميت رجلاً بها وامرأة جازت فيها الإمالة) اهـ. وانظر: "المقتضب" 3/ 52 (¬2) في (ب): (بينهما). (¬3) هذا نص الزجاج في "معانيه" 2/ 335، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 611، و"التكملة" لأبي علي ص 538، و"الكشف" لمكي 1/ 193. (¬4) ذكر الرازي في "تفسيره" 14/ 71 مثله. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 92، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 178.

38

الكافر، والموت راحة المؤمن) (¬1) هذا قول أهل التفسير، وذهب بعض أهل المعاني: (إلى أن هذا يكون في الآخرة، ومعنى قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} أي: ملائكة العذاب {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي: يتوفون عدتهم وفاة الحشر إلى النار، على معنى: يستكملونهم جميعًا لا يغادرون منهم أحداً). وذكر الزجاج هذه الوجه (¬2) في أحد قوليه. وهذا يحكى عن الحسن (¬3) أيضًا. 38 - قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} الآية. الله تعالى يقول ذلك، أخبر عن نفسه، كذلك قال أهل التفسير. وقال مقاتل: (هو من كلام خازن النار) (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 71. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 335 - 336، وقال: (هو أضعف الوجهين) وكذلك ذكر القولين النحاس في "معانيه" 3/ 31 - 32. (¬3) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 16، والماوردي 2/ 221، وابن الجوزي 3/ 194، والرازي 14/ 71 والأول أظهر وهو ما رجحه جمهور المفسرين، والمعنى يتمتعون في الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءهم ملك الموت وأعوانه يتوفونهم عند الموت أقروا على أنفسهم بالكفر، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 172، والسمرقندي 1/ 539، والبغوي 3/ 227، وابن عطية 5/ 496. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 36، وهو قول السمرقندي في "تفسيره" 1/ 539، وابن عطية 5/ 497، وقال ابن الجوزي 3/ 194: (إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكفار يوم القيامة) والأول أظهر وهو اختيار جمهور المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 173، والبغوي 3/ 228، والزمخشري 2/ 78، والقرطبي 7/ 204، و"البحر" 4/ 295.

وقوله تعالى: {فِي أُمَمٍ}، قال عطاء: (يريد في النار مع أمم) (¬1) وعلى هذا في الآية تقديم وتأخير ومجاز (¬2) لأن التقدير: ادخلوا في النار مع أمم قد خلت من قبلكم واستعمال (في) بمعنى (مع) (¬3) مجاوز (¬4)، ويمكن أن يقال: قوله: {فِي أُمَمٍ} من صلة {ادْخُلُوا}، وقوله (¬5) {فِي النَّارِ} من تمام (¬6) صفة الأمم، يقول: ادخلوا في أمم في النار، فلا يكون في الآية تقديم ولا تأخير ولا مجاز (¬7). وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} يعني النار {لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [قال الفراء: (يعني: التي سبقتها إلى النار، وهي أختها] (¬8) في دينها لا في النسب) (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وهو قول ابن قتيبة في "تفسير الغريب" ص 177، ومكي في "تفسير المشكل" ص 86، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 32: (قيل معنى (في) معنى (مع) وهذا لا يمتنع؛ لأن قولك: زيد في القوم معناه مع القوم، ويجوز أن تكون (في) على بابها) اهـ. (¬2) لفظ: (ومجاز) ساقط من (أ). (¬3) لفظ: (مع) ساقط من (ب). (¬4) مجاوز أي -جائز- وانظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 83، و"رصف المباني" ص 453، و"مغني اللبيب" 1/ 468، وقال الرماني في "معاني الحروف" ص 96: (زعم الكوفيون أنها تكون بمعنى (مع) والبصريون يقولون (في) على بابها) وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 13/ 348: (والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين) اهـ. (¬5) في (ب): (فقوله). (¬6) في (ب): (مع تمام). (¬7) وهذا هو الظاهر، واختيار الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 173، و"الكشاف" 2/ 78، وابن عطية 5/ 497، 498، و"البحر" 4/ 295، و"الدر المصون" 5/ 312. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬9) "معاني القرآن" 1/ 378.

قال ابن عباس: (يريد: يلعنون من كان قبلهم) (¬1). وقال الزجاج: {لَعَنَتْ أُخْتَهَا}؛ (لأنهم ضل بعضهم باتباع بعض) (¬2). قال مقاتل: (كلما دخل أهل ملة النار لعنوا أهل ملتهم، يلعن المشركون المشركين، ويلعن اليهود اليهود، وكذلك النصارى، والمجوس، والصابئون، ويلعن الأتباع القادة، يقولون: لعنكم الله، أنتم غررتمونا حتى أطعناكم) (¬3). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا}؛ {ادَّارَكُوا} أي: تداركوا، والكلام فيه كالكلام في قوله: {فَادَّارَأْتُمْ} (¬4) [البقرة: 72]، وقد مر (¬5)، ومعنى تداركوا: تتابعوا (¬6)، وتلاحقوا، قال ابن عباس: (توافوا فيها جميعًا) (¬7). قال الزجاج: (وهو (¬8) منصوب على الحال أي: مجتمعين). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 179، وابن الجوزي 3/ 194. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 336. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 36، وأخرجه الطبري 8/ 173، وابن أبي حاتم 5/ 1475 بسند جيد عن السدي. (¬4) جاء في النسخ: (ادارأتم)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "البسيط" البقرة: 72. (¬6) (اداركوا) أصله (تداركوا) فأدغمت التاء في الدال واجتلبت الألف ليسلم السكون، وتدارك القوم أي: تلاحقوا وتتابعوا ولحق آخرهم أولهم. انظر: "العين" 56/ 327، و"الجمهرة" 2/ 636، و"تهذيب اللغة" 2/ 1178، و"الصحاح" 4/ 1582، و"المجمل" 2/ 322، و"المفردات" ص 311، و"اللسان" 3/ 1363، (درك). (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 93، وفيه: (اجتمعوا في النار) اهـ. (¬8) يعني قوله: {جَمِيعًا} انظر: "معاني الزجاج" 2/ 336، و"إعراب النحاس" 1/ 611، و"المشكل" لمكي 1/ 290.

وقوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ}، يعني بالأخرى: آخر الأمم، وبالأولى: أول الأمم، وبيانه ما قاله السدي: ({أُخْرَاهُمْ} يعني: الذين كانوا في آخر الزمان، {لِأُولَاهُمْ} يعني: الذين شرعوا لهم ذلك الدين) (¬1). وقال مقاتل: ({أُخْرَاهُمْ} يعني: آخرهم دخولًا النار وهم الأتباع {لِأُولَاهُمْ} دخولًا وهم القادة) (¬2). وتأويل هذا راجع إلى معنى القول الأول؛ لأن (¬3) آخرهم دخولًا النار هم الأتباع، والأولى هم القادة، فالمعنى على القولين جميعًا: قالت الأتباع للقادة: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} (¬4). قال ابن عباس: (لأنهم شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها، {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}، قال: يريد أضعف عليهم العذاب بأشد مما تعذبنا به) (¬5). وأما معنى الضعف فقال أبو عبيدة: (هو مثل الشيء مرة واحدة) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 174، وابن أبي حاتم 5/ 1475 بسند جيد. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 36. (¬3) في (ب): (إلا أن)، وهو تحريف. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 173، و"معني الزجاج" 2/ 336، و"النحاس" 3/ 33، و"تفسير السمرقندي" 1/ 540، والماوردي 2/ 222. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 179، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 195. (¬6) في "مجاز القرآن" 1/ 214: (أي: عذابين مضعف فصار شيئين)، وفي "تهذيب اللغة" 3/ 2118، عن أبي عبيدة قال: (معناه يجعل الواحد ثلاثة) اهـ. وضعف الشيء -بالكسر- مثله، ويقال مثلاه، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، وقال الخليل في "العين" 1/ 282: (التضعيف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر) اهـ. وانظر: "الجمهرة" 2/ 903، و"الصحاح" 4/ 1390، و"المجمل" 2/ 562، و"المفردات" ص 508، و"اللسان" 5/ 2588 (ضعف).

قال الأزهري: (الذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم. وقد قال الشافعي -رحمه الله- ما يقارب هذا في رجل أوصى فقال: (أعطوا فلانًا ضعف ما يصيب ولدي، قال: يعطي مثله مرتين) (¬1). قال الأزهري: والوصايا يستعمل فيها العرف وما يسبق إلى الأفهام، فأما كتاب الله فهو عربي مبين، ويرد تفسيره إلى موضوع كلام العرب الذي هو صيغة ألسنتها، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين، وجائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه (¬2) أي: مثلاه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى قول الله (¬3) عز وجل: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ: 37]، ولم يرد مثلًا ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فأقل الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور) (¬4). ونحو هذا قال الزجاج في هذه الآية: {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} (أي: عذاباً مضاعفًا؛ لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما: المثل، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء (¬5)، أي: زيادته (¬6) إلى ما لا يتناهى). ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع" 15/ 480 - 482، و"روضة الطالبين" 5/ 195 وفيهما: (الضعف عند الشافعية هو الشيء ومثله، فإذا أوصى بضعف نصيب ابنه وله ابن واحد، فهي وصية بالثلثين) اهـ. وانظر: "تفسير الرازي" 14/ 74. (¬2) في "تهذيب اللغة" 3/ 2118 (ضعفاه). (¬3) في (ب): (قول الله تعالى). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2118. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 377، وقوله: (أي زيادته ..) غير موجود فيه. (¬6) في (ب): (أي زيادة).

فأما اللام في قوله: {لِأُولَاهُمْ}، فقال الزجاج: المعنى: (قالت أخراهم: يا ربنا هؤلاء أضلونا، لأولاهم أي تعني أولاهم) (¬1) فعلى هذا ليست اللام من صلة القول؛ لأنهم قالوا لله تعالى: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا}، ولم يقولوا لأولاهم شيئًا , ولكن اللام لإبانة (¬2) أنهم عنوا بقولهم: {هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} أولاهم وهم القادة، فاللام هاهنا لام (أجل) أي لأجلهم ولإضلالهم إياهم قالوا: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا}، فقال الله تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، قال ابن عباس: (يريد: لأولاكم ضعف ولأخراكم عذاب مضعف) (¬3). قال الزجاج: (أي: للتابع والمتبوع لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعًا أي: لكل عذاب مضاعف. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}، أي: ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب، ويجوز: ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك) (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 336، وعليه اللام للتعليل أي لأجل ولا تكون للتبليغ؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم. انظر: "الكشاف" 2/ 78، و"الدر المصون" 5/ 315. (¬2) في (أ): (ولكن اللام بإنه أنهم عنوا). (¬3) في (أ): عذاب ضعف. والأئر لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" 2/ 94، قال: (لكل واحد منهم ضعف) أهـ. وقال الماوردي في "تفسيره" 2/ 222: (أي: فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب وهذا قول الجمهور وإن ضعف الشيء زيادة مثله) اهـ. وانظر: "بدائع التفسير" 2/ 211. (¬4) هذا كله قول الزجاج "معانيه" 2/ 377، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 174، و"معاني النحاس" 2/ 33، و"تفسير السمرقندي" 1/ 540.

40

ومن قرأ (¬1) بالياء فمعناه: ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر (¬2)، فيحمل الكلام على (كل)؛ لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى (¬3). قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}، قال الضحاك: (لأنكم كفرتم كما كفرنا، فنحن وأنتم في الكفر شرع سواء، وفي العذاب أيضًا) (¬4). وقال أبو مِجْلَز (¬5): (فما لكم علينا من فضل في ترك الضلال) (¬6). 40 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}. قال أبو إسحاق: (أي: كذبوا بحججنا (¬7) وأعلامنا التي تدل على نبوة الأنبياء وتوحيد الله عز وجل) (¬8). ¬

_ (¬1) قرأ عاصم في رواية أبي بكر: {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} بالياء على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب انظر: "السبعة" ص280، و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 418، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 269. (¬2) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 337، والنحاس في "معانيه" 3/ 33. (¬3) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 17، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 405، و"الحجة" لابن زنجلة ص 281، و"الكشف" 1/ 462. (¬4) ذكره بدون نسبة السمرقندي في "تفسيره" 1/ 540، و"الثعلبي" 190 أ، والبغوي 3/ 228. (¬5) أبو مجلز: لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي البصري، إمام، تابعي، ثقة. (¬6) أخرجه الطبري 8/ 175، وابن أبي حاتم 5/ 1476 بسند جيد بلفظ: (يقول: فما فضلكم علينا، وقد بين لكم ما صنع بنا وحذرتم؟) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 154. (¬7) في (أ): (بحجتنا). (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 337، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 175، والسمرقندي 1/ 540.

{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا}، معنى الاستكبار (¬1): طلب الترفع بالباطل، وصفة مستكبر صفة ذم في جميع العباد، ومعنى {وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} ترفعوا (¬2) عن الإيمان بها والانقياد لأحكامها. وقوله تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} قرأ (¬3) أكثر القراء {تُفَتَّحُ} بالتاء والتشديد، ووجهها قوله {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] فقياس {مُفَتَّحَةً} تُفَتَّح، وقرأ أبو عمرو {تُفَتَّحُ} خفيفة، وحجته قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر: 11]، [وقرأ حمزة والكسائي {يُفَتَّحُ} بالياء خفيفة، لتقدم الفعل. ومعنى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}] (¬4) لا تصعد أعمالهم إليها (¬5). ¬

_ (¬1) الكبر -بكسر الكاف وسكون الباء- والتكبر والاستكبار تتقارب: وهو العظمة والإعجاب بالنفس وأعظمه الامتناع عن قبول الحق معاندة وبطرًا. انظر: "العين" 5/ 361، و"الجمهرة" 1/ 327، و"تهذيب اللغة" 4/ 3091، و"الصحاح" 2/ 801، و"المجمل" 3/ 776، و"المفردات" ص 696، و"اللسان" 6/ 3808 (كبر). (¬2) في (ب): (وقفوا). (¬3) قرأ أبو عمرو: {تُفَتَّحُ} بالتاء مع إسكان الفاء وتخفيف التاء الثانية، وقرأ حمزة والكسائي مثلها إلا أنه بالياء: {يُفَتَّحُ}، وقرأ الباقون: {تُفَتَّحُ} بالتاء مع فتح الفاء وتشديد التاء الثانية. انظر: "السبعة" ص 280، و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 418 - 419، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 269. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 18 - 19، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 405، و"إعراب القراءات" 1/ 180، و"الحجة" لابن زنجلة ص 282، و"الكشف" 1/ 462.

قال ابن عباس: (يريد: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به الله) (¬1)، وهذا قول أكثر المفسرين (¬2). وقال السدي (¬3) وغيره (¬4): (لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المؤمنين). يدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل: "أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، فيقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر فيقال لها: ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 112، والطبري 8/ 176، وابن أبي حاتم 5/ 1477 من عدة طرق جيدة (¬2) ومنهم الفراء في "معانيه" 1/ 379، وأخرجه الطبري 8/ 176، من طرق عن مجاهد وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 175، وابن أبي حاتم 5/ 1476 بسند جيد. (¬4) أخرجه الطبري 8/ 175، 176، وابن أبي حاتم 5/ 1476 بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس. (¬5) أخرجه ابن ماجه في "سننه" رقم (4262) كتاب الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، بسند جيد عن أبي هريرة، وأخرج أبو داود الطيالسي في "مسنده" ص 102 - 103، وعبد الرزاق في "المصنف" 3/ 580، وأحمد في "المسند" 4/ 287 - 288، وأبو داود رقم (4753) كتاب السنة، باب: في المساءلة في القبر، والطبري 8/ 177، والحاكم في "المستدرك" 1/ 37 - 40 , من عدة طرق عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- مطولًا نحوه، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) أهـ. وله شواهد وطرق أخرى ذكرها السيوطي في "الدر" 3/ 155، وانظر: مرويات الإِمام أحمد في "التفسير" 2/ 106 - 107 و175 - 178، وص 434 - 435.

وأجمل الزجاج كل هذا فقال: (أي: لا تصعد أرواحهم ولا أعمالهم إلى السماء؛ لأن أعمال المؤمنين وأرواحهم تصعد إلى السماء) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}؛ الولوج معناه: الدخول، والإيلاج: الإدخال (¬2)، وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال: (الجمل: زوج الناقة) (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 337، وهذا القول هو الظاهر واختيار جمهور المفسرين ومنهم الطبري 8/ 176، وابن عطية 5/ 502، وابن كثير 2/ 238، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية، أفاده الشوكاني في "فتح القدير" 2/ 299، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 34، و"تفسير القرطبي" 7/ 206، و"بدائع التفسير" 2/ 212. (¬2) انظر: "الجمهرة" 1/ 493، و"تهذيب اللغة" 4/ 3949، و"الصحاح" 1/ 347، و"المجمل" 4/ 937، و"المفردات" ص 882، و"اللسان" 8/ 4913 (ولج). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 229، والطبري 8/ 178، من عدة طرق جيدة إلا أنه مرسل؛ لأنه من طريق إبراهيم النخعي ومجاهد وهما لم يسمعا من ابن مسعود، انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 9 وص 205، والأثر ذكره السيوطي في "الدر" 5/ 157: (وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ والطبراني في "الكبير") وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 23 وقال: (رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يدرك ابن مسعود والأخرى ضعيفة) اهـ. (والجمل) -بالفتح وتخفيف الميم-: معروف وهو زوج الناقة وهو الظاهر وقول جمهور المفسرين وذكر أثر ابن مسعود الزجاج في "معانيه" 2/ 338، والنحاس في "معانيه" 3/ 35 وقالا: (كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعًا). وانظر: "معاني الفراء" 1/ 379، و"تفسير السمرقندي" 1/ 540، و"تفسير الماوردي" 2/ 2231.

قال الليث (¬1): (وإنما يستحق هذا الاسم إذا بزل) (¬2). والسم (¬3): ثقب الإبرة، ويقال أيضًا: بالضم، وبه قرأ (¬4) ابن سيرين، وكل ثقب في البدن لطيف فهو سم، وجمعه سموم. وقال الفرزدق: فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتى تَنَفَّسَا ... وقُلتُ لَهُ لاَ تَخْشَ شَيْئًا وَرَائِيا (¬5) ومنه قيل: السم القاتل؛ لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، و {الْخِيَاطِ} (¬6): ما يخاط به، قال الفراء: (ويقال: خِيَاط ومِخْيَط ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 655، وانظر "العين" 6/ 141، و"الجمهرة" 1/ 491، و"الصحاح" 4/ 1661، و"المجمل" 1/ 198، و"المفردات" ص 203، و"اللسان" 2/ 683 (جمل). (¬2) بَزَل البعير يَبْزُل بُزُولًا فطر نابه أي: انشق وطلع. انظر: "اللسان" 1/ 276 (بزل). (¬3) السَّمُّ -بفتح السين وضمها لغتان- قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 214: (كل ثقب فهو سَمٌّ والجميع سموم) وانظر: "الجمهرة" 1/ 135، و"تهذيب اللغة" 2/ 1761، و"الصحاح" 5/ 1953، و"المجمل" 2/ 455، و"المفردات" ص 424، و"اللسان" 4/ 2102 (سمم). (¬4) ذكرها النحاس في "معانيه" 3/ 36، وابن عطية 5/ 503، والرازي 14/ 76، والقرطبي 7/ 207، وهي قراءة جماعة منهم ابن مسعود وأبو رزين وأبو السمال وقتادة وابن محيصن وطلحة بن مصرف، انظر: "مختصر الشواذ" ص 49، و"زاد المسير" 3/ 198، و"البحر" 4/ 297. (¬5) ليس في "ديوانه"، وهو في "تفسير الطبري" 8/ 178، و"الدر المصون" 5/ 318، وصدره بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 2/ 1763، و"اللسان" 8/ 2103 (سمم) ويعني بسميه: ثقبي أنفه، أفاده الطبري. (¬6) الخَيْط، بفتح الخاء وسكون الياء: واحد الخيوط معروف وهو السلك والخياط والمِخْيَط: الإبرة وما يخيط به. انظر: "العين" 4/ 293، و"الجمهرة" 1/ 611، و"تهذيب اللغة" 1/ 964، =

كما يقال إزار ومِئْزر ولحِاف ومِلْحف وقِناع ومِقْنع) (¬1) قال الزجاج: (والمعنى: لا يدخلون الجنة أبدًا) (¬2). قال ابن الأنباري: (وإنما خص الجمل من بين الحيوان بالذكر إذ كان أكثر شأنًا عند العرب من سائر الدواب، والعرب تقدمه في القوة علي سائرها من أجل أنه يوقر بحمله وهو بارك فينهض به، ولم تر العرب أعظم منها (¬3) جسمًا فيما رأت من الحيوان) (¬4). وقال أهل المعاني (¬5): علق الله تعالى (¬6) دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط. فكان ذلك نفيًا لدخولهم الجنة على التأبيد، وذلك أن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون (¬7) ذلك الجائز الكون؛ كما يقال: لا يكون هذا حتى يَشِيبَ الغُرَاب، وحتى يَبْيَض القار (¬8) وكما قال الشاعر: ¬

_ = و"الصحاح" 3/ 1125، و"مجمل اللغة" 2/ 308، و"المفردات" ص 302، و"اللسان" 3/ 1302 (خيط). (¬1) "معاني الفراء" 1/ 379، ومثله ذكر الطبري 8/ 178. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 338، وهو قول عامة المفسرين. انظر: "الطبري" 8/ 178، و"معاني النحاس" 3/ 35، والسمرقندي 1/ 540، والماوردي 2/ 222. (¬3) كذا في النسخ: "منها" أي الجمال، والأولى (منه) أي الجمل. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 197. (¬5) ذكره الخازن 2/ 229 عن بعض أهل المعاني. (¬6) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (استحال دون). (¬8) ذكره ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 177، وقولهم: (لا يكون هذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار) يتمثل به في اليأس عن الشيء. انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 363، و"المستقصى" للزمخشري 2/ 59.

41

إذا شَابَ الغُرابُ أَتَيْتُ أهْلي ... وصارَ القارُ كاللَّبنِ الحليبِ (¬1) وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}. قال الزجاج: (أي: ومثل الذي وصفنا {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (¬2)، قال: والمجرمون -والله أعلم- هاهنا الكافرون؛ لأن الذي ذكر من قصتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها) (¬3). 41 - قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}. قال الليث: (المهاد: اسم جمع (¬4) من المهد كالأرض جعلها (¬5) الله مهادًا للعباد، وجمع المِهاد: مُهُد، وثلاثة أمْهَده) (¬6) الأزهري: (أصل المهد في اللغة التوثير، ويقال للفراش: مهاد لوثارته) (¬7). والغواشي (¬8): جمع غاشية، وهي كل ما يغشاك أي يُجللك (¬9)، ¬

_ (¬1) الشاهد في "تفسير الماوردي" 2/ 223، و"وضح البرهان" للغزنوي 2/ 73، و"تفسير الخازن" 2/ 229، و"الدر المصون" 5/ 320 من غير نسبة، وفي حاشية وضح البرهان أفاد أنه للقارظ العنزي ونسب لتميم الداري. (¬2) لفظ: (نجزي المجرمين). ساقط من (أ). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 338، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 36، والسمرقندي 1/ 541، وقال الطبري 8/ 181: (يقول: وكذلك نثيب الذين أجرموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة) أهـ. (¬4) في (ب): (أجمع). (¬5) في (أ): (جعله). (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3461، وانظر: "العين" 4/ 31 - 32، و"الجمهرة" 2/ 685، و"الصحاح" 2/ 541، و"المجمل" 3/ 818، و"المفردات" 780، و"اللسان" 7/ 4286 (مهد). (¬7) "تهذيب اللغة" 4/ 3461 (مهد). (¬8) في (ب): (والغواش). (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2667، و"الصحاح" 6/ 2446، و"المجمل" 3/ 696، و"المفردات" ص 607، و"اللسان" 6/ 3259 (غشا).

و {جَهَنَّمَ} لا ينصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف. قال بعض أهل اللغة: (واشتقاقها من الجهومة، وهي الغلظ، يقال: رجل جهم الوجه، غليظه، فسميت بهذا (¬1) لغلظ أمرها في العذاب، نعوذ بالله منها) (¬2). قال المفسرون في هذه الآية: (هذا (¬3) إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولِحاف) (¬4). فأما التنوين في {غَوَاشٍ}، فقال أبو الفتح الموصلي: (ومما يسأل عنه من أحوال التنوين قولهم: جوارٍ وغواشٍ ونحو ذلك، لأية علة لحقه التنوين، وهو غير منصرف لأنه على وزن فواعل (¬5)؟ والجواب عن ذلك: ما ذهب إليه الخليل وسيبويه (¬6)، وهو أن هذا الضرب جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضًا الجمع الأكثر الذي يتناهى إليه الجموع، فزاده ذلك ¬

_ (¬1) في (ب): (بها). (¬2) أكثر النحويين على أنها اسم لنار الله الموقدة وهي أعجمية معربة ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة، وذهب جماعة من المحققين إلى أنها عربية ومنعها للعلمية والتأنيث مأخوذة من قولهم: ركيَّة جِهنام بكسر الجيم والهاء أي: بعيدة القعر، واشتقاق جهنم من ذلك لبعد قعرها ولغلظتها، أفاده السمين في "عمدة الحفاظ" ص 104 وقال: (القول بأنها أعجمية غير مشهور في النقل، بل المشهور عندهم أنها عربية) اهـ. وانظر: "العين" 3/ 396، و"الزاهر" 2/ 146، و"تهذيب اللغة" 1/ 681، و"الصحاح" 5/ 1892، و"المفردات" ص 209، و"اللسان" 2/ 715 (جهنم). (¬3) في (ب): (على هذا). وهو تحريف. (¬4) وهو قول الطبري في "تفسيره" 8/ 182، وأخرجه من طرق عن محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 338، والنحاس 3/ 36 و"تفسير السمرقندي" 1/ 541، والماوردي 2/ 223. (¬5) كذا في "النسخ"، وعند ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 511 (مَفاعِل). (¬6) انظر: "الكتاب" 3/ 308 - 309.

ثقلاً، ووقعت مع ذلك الياء في آخره وهي مستثقلة، فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوه بحذف يائه، فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل (¬1)، وصار (غواش) بوزن (جَناح) فدخله التنوين لنقصانه عن هذا المثال، فالتنوين عندهما في (غواش) وبابه إنما هو التنوين الذي هو علم الصرف، يدلك على هذا أنك إذا صرت إلى حال النصب فجرى مجرى الصحيح؛ كما من عادة المنقوص إذا نصب نحو: قاض وغاز فأتممته لم تصرفه، فقلت: رأيت (جواريَ) و (غواشيَ) ونحو ذلك) (¬2). وقال أبو إسحاق: (زعم الخليل وسيبويه أن النون هاهنا عوض من الياء؛ لأن (غواشي) لا ينصرف الأصل (غواشي) (¬3) بالياء والضم إلا أن الضمة تحذف لثقلها في الياء، فيبقى (غواشيْ) بسكون الياء، فإذا ذهبت الضمة أدخلت النون عوضًا منها، كذلك فسر أصحاب سيبويه، فكأن سيبويه يذهب إلى أن النون عوض من ذهاب حركة الياء، والياء سقطت لسكونها، وسكون النون، فإذا وقفت فالاختيار أن تقف (¬4) بغير ياء، فتقول (¬5): (غواش) لتدل (¬6) أن الياء كانت تحذف في الوصل، وبعض العرب إذا وقف قال: (غواشي)، بإثبات الياء، ولا أرى ذلك في القرآن؛ ¬

_ (¬1) في "سر صناعة الإعراب" 2/ 511 (مفاعل). (¬2) هذا ملخص ما ذكره ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 511 - 514. (¬3) في "معاني الزجاج" 2/ 338: (الأصل غواشي بإسكان الياء، فإذا ذهبت الضمة أدخلت التنوين عوضًا منها ..) اهـ. ونص الواحدي مثل نصر الفارسي في "الإغفال" ص 778 عن الزجاج. (¬4) في (ب): (يقف) بالياء. (¬5) في (ب): (فيقول) بالياء. (¬6) في (ب): (ليدل).

لأن الياء محذوفة في المصحف) (¬1) انتهى كلامه. والذي ذهب إليه أبو إسحاق هو أن التنوين في (غواشي) إنما هو بدل من الحركة الملقاة لثقلها عن الياء، فلما جاء التنوين حذفت الياء لالتقاء الساكنين هي والتنوين، كما حذف من المنصرف في نحو: قاضٍ وغازٍ ومتقٍ (¬2) ومتعالٍ، وهذا غير مرضي ولا سائغ في القياس، وقد ترك قول سيبويه والخليل، وخالفهما إلى خلاف الصواب (¬3). قال أبو علي: (الدليل على أن الحذف لغير التقاء الساكنين أنه لو كان لذلك (¬4) لم يجب الحذف؛ ألا ترى أن الساكن [الأول هو الياء ولو ثبتت لم يلحق الساكن] (¬5) الثاني لتعاقبهما كما لم يلحق (مساجد) (¬6) ونحوه مما يكون من هذا الجمع، فقراءة الناس {غَوَاشٍ} بالتنوين دلالة على أن الياء لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ إذ الساكن الأول لو ثبت لم يجتمع معه الساكن الثاني. وحكاية أبي إسحاق في قوله: (زعم سيبويه والخليل أن النون عوض من الياء) هذا لعمري صحيح عليه نص سيبويه، إلا أن ما ذكر بعد من قوله: فإذا ذهبت الضمة أدخلت النون عوضًا منها فالقول أن النون عوض من ذهاب الضمة خلاف قول سيبويه، ألا ترى أنه قد نص على أنه عوض من ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 338 - 339، و"الإغفال" ص 778 - 779، وفيهما بعد قوله: (في المصحف "الكتاب" على الوقف) أهـ. (¬2) النص من "سر صناعة الإعراب" 2/ 512، وفيه: (قاضٍ وغازٍ ومشترٍ ومتعالٍ). (¬3) هذا نص كلام ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 512 - 513. (¬4) في (ب): (كذلك). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في (أ): (مساجده)، وهو تحريف.

الياء كما حكاه أبو إسحاق أولاً عنه، ولو كان النون عوضًا من الضمة لكان جديرًا أن يلحق الفعل أيضًا، ألا ترى أن الأفعال قد حذفت الضمة من لاماتها، وقوله: (كأن سيبويه ذهب إلى أن (¬1) النون عوض من ذهاب حركة الياء) تقدير لا وجه له مع ما حكيناه من نصه على أنه بدل من الياء، وقوله: (والياء سقطت لسكونها وسكون النون) قول لا يذهب إليه أحد، وإن (¬2) أضافه إلى سيبويه فخطأ، وإن ذهب هو إليه (¬3) ففاسد، لما ذكرنا أن الساكن الأول إذا ثبت عاقب الساكن الثاني، ولم يكن للتنوين مدخل في الكلمة، فأما ما نسبه من التفسير الذي ذكره إلى أصحاب سيبويه (¬4)، فإني لم أعلم أحدًا فسر هذا التفسير، فإن فسره مفسر كان خلاف مذهبه) (¬5). وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهًا) (¬6). ¬

_ (¬1) لفظ: (أن) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (فإن). (¬3) في (ب): تكرار قوله: (أحد وإن أضافه إلى سيبويه فخطأ، وإن ذهب إليه). (¬4) وكذلك قال النحاس في "إعرابه" 1/ 612: (التنوين عند سيبويه عوض عن الياء وعن أصحابه عوض من الحركة) اهـ. (¬5) "الإغفال" ص 781 - 788، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 298، و"المشكل" 1/ 291، و"غرائب الكرماني" 1/ 403، و"البيان" 1/ 361، و"التبيان" ص 375، و"الفريد" 2/ 301، و"الدر المصون" 5/ 322. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 95، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 180، والرازي في "تفسيره" 14/ 78. وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 199 عن ابن عباس أنه قال: (الظالمون هاهنا الكافرون) اهـ.

42

قال الزجاج: (والظالمون -هاهنا أيضًا (¬1) -: الكافرون) (¬2). 42 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. قال الزجاج: (معنى الوسع: ما يقدر عليه) (¬3). قال مجاهد: (إلا ما افترض عليها) (¬4) يعني: أن ما افترض عليها هو وسعها الذي يسعها (¬5) ويُقدر عليه ولا تعجز عنه. فقد بينه مقاتل فقال: (إلا طاقتها؛ ولا يكلف الله العباد إلا ما يطيقون) (¬6)، فقوله: (إلا طاقتها) ليس معناه: أقصى ما يطيقه؛ لأنه لو كلف ذلك لشق وتعذر، ولكن معناه: إلا مما يطيقه ولا يعجز عنه. ألا ترى أن معاذ بن جبل -رحمه الله- قال في هذه الآية: (إلا يُسرها لا عسرها ولو كلفها طاقتها لبلغ مجهودها) (¬7)، فقوله: (لو كلفها طاقتها) أراد أقصى ما تطيقه. وقد بيَّن أبو زبيد (¬8) الطائي في قوله: ¬

_ (¬1) لفظ: (أيضًا) ساقط من (ب). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 338، ومثله قال النحاس في "معانيه" 3/ 37، والسمرقندي 1/ 541، وقال الطبري 8/ 182: (كذلك نثيب ونكافئ من ظلم نفسه فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه وتكذيبه أنبيائه) اهـ. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 339، وزاد فيه: (أي: عملوا الصالحات بقدر طاقتهم) اهـ. ونحوه قال الطبري في "تفسيره" 8/ 182، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 612، والسمرقندي 1/ 541. (¬4) ذكره الخازن في "تفسيره" 2/ 229. (¬5) لفظ: (الذي وسعها) ساقط من (ب). (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 37، وفيه: (يقول: لا نكلفها من العمل إلا ما تطيق) اهـ. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 181، والرازي 14/ 79. (¬8) في (ب): (أبو زيد)، وهو تحريف. وهو: حَرْمَلَة بن المُنْذر بن مَعْدِ يَكرِب الطائي.

أُعْطِيهُم الجَهْدَ مِنّي بَلْهَ ما أَسَعُ (¬1) أن ما يسعه (¬2) دون أقصى طاقته، وأن أقصى الطاقة يسمى جهدًا لا وسعًا، وغلط من ظن أن الوسع (¬3) بذل المجهود، وأكثر أصحاب المعاني (¬4) على أن قوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} اعتراض بين الابتداء والخبر، والخبر الجملة التي هي قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، و (¬5) هذا فصل بين الابتداء والخبر بما هو من جنس هذا الكلام؛ لأنه لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل مما يسعهم ولا يعسر عليهم، وقد مضت نظائر هذا فيما تقدم (¬6)، وعلى هذا لا موضع لقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال قوم من أهل المعاني: (موضعه رفع بأنه الخبر على حذف العائد كأنه ¬

_ (¬1) الشاهد في "ديوانه" ص 109، و"الزاهر" 1/ 94، و"الصحاح" 5/ 2075، و"اللسان" 1/ 178 (أون)، و"الخزانة" 6/ 235 - 236 وبلا نسبة في "الجمهرة" 1/ 380، و"تهذيب اللغة" 4/ 3890، و"كتاب الشعر" لأبي علي 1/ 25، وأوله: حَمَّال أَثْقَال أَهْلِ الوُدَّ آوِنَةً وآونة، جمع أوان بمعنى الحين، والجهد بالفتح النهاية والغاية، وقيل: الوسع والطاقة، وَبَلْه أي دع، والوسع الطاقة والجدَة أيضًا. وقال البغدادي في "الخزانة" 6/ 237: (المعنى: أني أعطيهم فوق الوسع فتركًا للوسع، أو فدع الوسع، أي: ذكره أو فكيف الوسع لا أعطيه) اهـ. وفي "اللسان" 1/ 354 (بله) قال: (المعنى: أعطيهم ما لا أجده إلا بجهد ودع ما أحيط به وأقدر عليه) اهـ. (¬2) كذا في النسخ: (إن ما يسعه) والأولى: (أي ما يسعه). (¬3) انظر: (وسع) في "تهذيب اللغة" 4/ 3890، و"الصحاح" 3/ 1298، و"اللسان" 8/ 4834، وبمثل قول الواحدي، قال الرازي 14/ 79، و"الخازن" 2/ 229. (¬4) ذكر مثله الرازي 14/ 78، و"الخازن" 2/ 229. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬6) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه في مظانه.

43

قيل: لا نكلف نفسًا منهم إلا وسعها، وحذف العائد للعلم به) (¬1). 43 - قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، معنى نزع الشيء: قلعه عن مكانه (¬2)، والغِلُّ: الحقد الكامن في الصدر (¬3). قال أهل اللغة (¬4): (وهو الذي ينغل بلطفه (¬5) إلى صميم القلب، أي: يدخل، ومنه الغُلول، وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة، يقال: انغل في الشيء وتغلغل فيه، إذا دخل فيه بلطافة (¬6) كالحب يدخل في صميم الفؤاد). ¬

_ (¬1) ذكره أكثرهم، والأول هو قول الزجاج في "معانيه" 2/ 339، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 612، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 79، وابن عطية 5/ 505، وانظر: "البيان" 1/ 361، و"التبيان" ص 375، و"الفريد" 2/ 301، و"الدر المصون" 5/ 323، وفي "بدائع التفسير" 2/ 212 قال ابن القيم: (اعترض بين المبتدأ والخبر بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} لما تضمنه ذلك من الاحتراز الدافع لتوهم متوهم أن الوعد إنما يستحقه من أتى بجميع الصالحات، فرفع ذلك بقوله: {لَا نُكَلِّفُ}، وهذا أحسن من قول من قال: إنه خبر عن الذين آمنوا، ثم أخبر عنهم بخبر آخر فهما خبران عن مخبر واحد، فإن عدم التكليف فوق الوسع لا يخص الذين آمنوا، بل هو حكم شامل لجميع الخلق معه ما في هذا التقدير من إخلاء الخبر عن الرابط، وتقدير صفة محذوفة أي نفسًا منها، وتعطيل هذه الفائدة الجليلة) اهـ. (¬2) انظر: "العين" 1/ 357، و"الجمهرة" 2/ 817، و"تهذيب اللغة" 4/ 3552، و"الصحاح" 3/ 1289، و"المجمل" 3/ 863، و"اللسان" 7/ 4395 (نزع). (¬3) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 298، و"غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 200، و"تفسير غريب القرآن" ص 177. (¬4) انظر: "العين" 4/ 347، و"الجمهرة" 1/ 159، و"تهذيب اللغة" 3/ 2689، و"المجمل" 3/ 679، و"المفردات" ص 610، و"اللسان" ص 3285 (غلل). (¬5) في (ب): (بلفظه)، وهو تحريف. (¬6) في (ب): (بطاقة)، وهو تحريف.

قال ذو الرمة: أَصَابَ خَصاَصَةً فَبَدَا كَليلًا ... كَللا وانْغَلَّ سَائِرُهُ انْغِلالًا (¬1) ومعنى نزع الغل: إبطاله بإعدامه من الصدر. وذكر أهل التأويل هاهنا قولين محتملين: أحدهما: وهو الذي عليه المعظم (¬2) أن معناه: أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعض على بعض في دار الدنيا، وإلى هذا أشار علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: (إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله جل ذكره: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}) (¬3). وقال الحسن في هذه الآية: (يعني: الجاهلية) (¬4). والقول الثاني: أن نزع الغل إنما هو لئلا يحسد بعضهم بعضًا في تفاضل منازلهم وتفاوت مراتبهم في الجنة، واختار الزجاج هذا فقال: ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 515 هـ. وقال الخطيب التبريزي في "شرحه": (خصاصة فرحة، والكليل الضَّعيف، وانغل غاب ودخل، وكلا كقولك: لا) اهـ. (¬2) انظر: "معاني النحاس" 3/ 37، والسمرقندي 1/ 541، والماوردي 2/ 224. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 229، والطبري 8/ 183، وابن أبي حاتم 5/ 1478 بسند جيد عن قتادة عن علي -رضي الله عنه- وهو مرسل، قتادة لم يسمع من علي، انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 168، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 113 عن إبراهيم النخعي، ومن طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، قال الحافظ ابن حجر في "الشاف الكاف" ص 64: (أخرجه ابن سعد والطبري عن علي، وكلاهما منقطع، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ربعي بن حراش عن علي وهو متصل) اهـ. انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي 1/ 462، و"الفتح السماوي" للمناوي 2/ 635 - 636. (¬4) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 224؛ وأبو حيان في "البحر" 4/ 298.

(وحقيقته -والله أعلم- أنه لا يحسد بعض أهل الجنة بعضًا؛ لأن الحسد غل) (¬1). وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}. قال ابن عباس: (حمدوا الله على (¬2) ما أرشدهم إليه ووفقهم له) (¬3). وقال مقاتل: (إذا استقروا في منازلهم في الجنة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬4). ومعنى {هَدَانَا لِهَذَا} (¬5) أي: هدانا لهذا الثواب بالعمل الذي أدّى إليه، وهو معنى قول سفيان الثوري (¬6)، ونحو هذا قال الزجاج (¬7): (هدانا لما صيرنا إلى هذا (¬8)). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 339، وقال ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 364: (معناه نزعنا الحسد من قلوبهم؛ لأن أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضًا). والظاهر أنه لا يحسد بعضهم بعضًا في علو المرتبة في الجنة، وفيما كان بينهم في الدنيا، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 8/ 183، والنحاس في "معانيه" 3/ 37، وانظر "تفسير ابن عطية" 5/ 505، 506. (¬2) في (ب): (إلي). (¬3) في "تنوير المقباس" 2/ 95 نحوه، ونقل ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 201 عن ابن عباس في الآية أنه قال: (يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته) اهـ. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 38، وزاد فيه: (أي للإسلام ولهذا الخير) اهـ. (¬5) لفظ: (هدانا) ساقط من (ب). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 190 أ، والبغوي 3/ 230 بلفظ: (معناه هدانا لعمل هذا ثوابه) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 612. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 339، ومثله قال النحاس في "معانيه" 3/ 37،وقال الطبري في "تفسيره" 8/ 184: (يقول أهل الجنة الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه عنا) اهـ. وانظر "تفسير السمرقندي" 1/ 541 - 542، والماوردي 2/ 225. (¬8) لفظ: (إلى هذا) ساقط من (أ).

وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} دليل على أن المهتدي مَنْ هَدَى الله (¬1) وأن من لم يهده الله لم يهتد (¬2). وقرأ ابن عامر (¬3) {مَا كُنَّا} بغير واو، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام (¬4)، ووجه الاستغناء (¬5) عن حرف العطف [هنا أن الجملة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسُها به عن حرف العطف] (¬6)، وقد تقدم ذكر هذه المسألة (¬7). وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ})، [هذا من قول (¬8) أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانًا قالوا: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}] (¬9). ¬

_ (¬1) لفظ: (الله) ساقط من (ب). (¬2) في (ب): (لم يهتدوا) ومثله ذكر الرازي في "تفسيره" 14/ 81، و"الخازن" 2/ 230، وانظر: "تفسير القرطبي" 7/ 208. (¬3) قرأ ابن عامر: {مَا كُنَّا} بغير واوٍ قبل ما، وقرأ الباقون: {وَمَا كُنَّا} بالواو. انظر: "السبعة" ص280، و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 419، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 269. (¬4) ذكره ابن مجاهد في "السبعة" ص 280، وابن الجزري في "النشر" 2/ 269، وقال ابن أبي داود في "كتاب المصاحف" ص 45: (في إمام أهل الشام وأهل الحجاز {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} وفي إمام أهل العراق: {وَمَا كُنَّا}) اهـ. (¬5) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 25، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 407، و"الحجة" لابن خالويه ص 156، و"الكشف" 1/ 464. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 81 ب؛ 82 أ (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 185، والسمرقندي 1/ 542. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ}. قال أبو إسحاق: (أن) في موضع نصب، وهي مخففة من الثقيلة، والهاء مضمرة، المعنى: ونودوا بأنه تلكم الجنة أي: نودوا بهذا القول، قال: والأجود عندي أن تكون (أن) في معنى تفسير النداء، كأن المعنى: ونودوا أي تلكم الجنة (¬1)، المعنى: قيل لهم تلكم الجنة، كقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6] يعني (¬2) امشوا. قال: وإنما قال: {تِلْكُمُ} لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم التي وعدتم بها، وجائز أن يكون عاينوها، فقيل لهم من قبل دخولها إشارة إلى ما يرونه: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ}. وقوله تعالى: {أُورِثْتُمُوهَا} فيه قولان؛ أحدهما، وهو قول أهل المعاني (¬3): (أن معناه: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله). ¬

_ (¬1) عند الزجاج في "معانيه" 2/ 340: (ونودوا أن تلكم الجنة). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 340. وقد ذكر الوجهين أكثرهم، انظر: "تفسير الطبري" 8/ 185، 186، و"إعراب النحاس" 1/ 216، و"الكشاف" 2/ 79، و"تفسير ابن عطية" 5/ 508، و"التبيان" ص 376، و"الفريد" 2/ 302، و"البحر المحيط" 4/ 300. وقال النحاس في "معانيه" 3/ 38: (يجوز أن يكون المعنى (بأنه تلكم الجنة)، ويجوز أن تكون أن مفسرة للنداء، والبصريون يعتبرونها بأي، والكوفيون يعتبرونها بالقول، والمعنى واحد، كأنه ونودوا قيل لهم تلكم الجنة أي هذه تلكم الجنة التي وعدتموها في الدنيا، ويجوز أن يكون لما رأوها قيل لهم قبل أن يدخلوها تلكم الجنة) اهـ. وانظر: "الدر المصون" 5/ 324. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 81، 82 فقد ذكر مثله.

44

والإرث قد يستعمل في اللغة (¬1) ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي، كما يقال: هذا الأمر يورثك الشرف، ويورثك العار (¬2) أي: يصيرك إليه برحمة الله (¬3) وليس له في ذلك متعلق؛ لأن العمل الصالح لم ينالوه ولم يبلغوه إلا بالرحمة، وإذا كان العمل الصالح لا يكون إلا برحمته، فإذا دخلوا الجنة بأعمالهم فقد دخلوها برحمته، إذ لم يكن ذلك العمل [الصالح] (¬4) إلا برحمته) (¬5). 44 - قال ابن عباس: (وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من العذاب حقًّا) (¬6). وهو سؤال تعيير وتقرير. قال الزجاج: (معنى: {أَن} في قوله: {أَن قَدْ وَجَدْنَا} إن شئت كان ¬

_ (¬1) الإرث: إبقاء الشيء وانتقاله إلى الغير وأصل الميراث هو أن يكون الشيء لقوم، ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب. انظر: "العين" 8/ 234، و"تهذيب اللغة" 4/ 3868، و"الصحاح" 1/ 295، و"مقاييس اللغة" 6/ 105، و"المفردات" ص 863، و"اللسان" 8/ 4808 (ورث). (¬2) في (ب): (القار)، وهو تصحيف. (¬3) أخرج البخاري في كتاب الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل رقم (6463)، ومسلم في كتاب صفة الجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة رقم (2816 إلى 2818) من طرق عن عائشة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة". (¬4) لفظ: (الصالح) ساقط من (ب). (¬5) لم أقف عليه عن الجرجاني صاحب "نظم القرآن"، وذكر مثل ذلك الرازي في "تفسيره" 14/ 82، والقرطبي 7/ 209. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 187، وابن أبي حاتم 5/ 1482 بسند ضعيف.

تفسيرًا لما نادى به أصحاب الجنة، والمعنى: أي: قد وجدنا، وإن شئت كانت المخففة من الثقيلة خففت (¬1) أنه قد وجدنا) (¬2). وقوله: {قَالُوا نَعَمْ}. قال سيبويه: (نعم عِدَةٌ وتصديق، قال: وإذا استفهمت أجبت بنعم) (¬3) قوله (¬4): (عِدَة وتصديق) أراد أنه يستعمل عِدَة، ويستعمل تصديقًا, وليس يريد أن العِدَة تجتمع مع التصديق؛ ألا ترى أنه إذا قال: أتعطيني؟ فقال: نعم، كان عدة ولا تصديق في هذا، وإذا قال: قد كان كذا وكذا فقلت: نعم، فقد (¬5) صدقته ولا عدة في هذا، وقوله: (إذا استفهمت أجبت نعم)، يريد إذا استفهمت عن مُوجَب كما يقال: أيقوم زيد؟، فتقول: نعم، ولو كان مكان الإيجاب نفيًا لقلت: (بلى) ولم تقل (نعم). كما لا تقول في جواب (¬6) الإيجاب. بلى كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وقرأ الكسائي (¬7) (نعِم) بكسر العين، قال أبو ¬

_ (¬1) في (ب): (وخففت). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 340. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 298 - 299، و"معاني النحاس" 3/ 38، و"إعراب النحاس" 1/ 612، 613. (¬3) "الكتاب" 4/ 234. (¬4) في (ب): (أريد إذا قوله)، وهو تحريف. (¬5) في (أ): (قد صدقت). (¬6) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 20 - 21، وفيه: (كما تقول في جواب الإيجاب. قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ولم يقل نعم) اهـ وانظر: "الزاهر" 2/ 50، و"حروف المعاني" للزجاجي ص 6، و"معاني الحروف" للرماني ص 104، و"رصف المباني" ص 426. (¬7) قرأ الكسائي: {نعِم} بكسر العين حيث وقع، وقرأ الباقون بفتحها في كل القرآن. انظر: "السبعة" ص 281، و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 419، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 269.

الحسن (¬1): (هما لغتان) (¬2). قال أبو حاتم (¬3): (وليس الكسر بمعروف) (¬4). واحتج الكسائي بكلام يروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه سأل قومًا عن شيء فقالوا: نَعَم، فقال: (أما النَعَم فالإبل، فقولوا (¬5) نَعِم) (¬6). قال أبو عبيد: (ولم نر العرب يعرفون ما رووه عن عمر، ونراه مولدًا) (¬7). ¬

_ (¬1) أبو الحسن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي، إمام. تقدمت ترجمته. (¬2) "معاني الأخفش" 1/ 252، و"الحجة" لأبي علي 4/ 19، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 406، و"الحجة" لابن خالويه ص 154 - 155. (¬3) أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني البصري إمام لغوي. تقدمت ترجمته. (¬4) ذكره ابن عطية في "تفسيره" 5/ 509، والرازي 14/ 85، والسمين في "الدر" 5/ 326، وهذا قول غريب مردود لأنها قراءة سبعية، ولغة فصيحة مشهورة. انظر: "العين" 2/ 162، و"الجمهرة" 2/ 953، و"تهذيب اللغة" 4/ 3615، و"الصحاح" 5/ 2042، و"المجمل" 4/ 874، و"المفردات" ص 816، و"اللسان" 8/ 4485 (نعم). (¬5) في (ب): (فقوله: (نعم))، وهو تحريف، ونعم الأولى بالفتح، والثانية بالكسر. (¬6) هذا أثر مشهور لم أقف على إسناده، وهو في "الزاهر" 2/ 51 - 52، و"إعراب القراءات" 1/ 181، و"تفسير السمرقندي" 1/ 542، و"الحجة" لابن زنجلة ص 283، و"الكشف" لمكي 1/ 463، و"تفسير ابن عطية" 5/ 510، و"منثور الفوائد" لابن الأنباري ص 84، و"تفسير الرازي" 14/ 85، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 5/ 84. (¬7) في (ب): (مؤكدًا)، وذكره السمين في "الدر" 5/ 326 عن أبي عبيد بلفظ (مولدًا). وقال بعده: (هذا طعن في المتواتر فلا يقبل) اهـ. والمولد: الكلام المستحدث الذي لم يكن من كلامهم فيما مضى. انظر: "اللسان" 8/ 4915 (ولد).

وقال أبو إسحاق: (وفي بعض اللغات (نَعِم) في معنى (نَعَم)، موقوفة الآخر لأنها حرف جاء لمعنى) (¬1). [وقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ}؛ معنى التأذين في اللغة (¬2): النداء، والتصويت] (¬3) بالإعلام، والأذان للصلاة إعلام بها، وبوقتها (¬4)، وقالوا في معنى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} (¬5) نادى منادٍ نداء أسمع الفريقين (¬6). قال ابن عباس: (وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور) (¬7). وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ}، قال أبو علي: (يحتمل أمرين (¬8)؛ الأحسن فيه أن يكون ظرفًا لـ (مؤذن) كما تقول: أعْلَمَ وسْطَهُمْ معلم، ولا تُجعل صفة للنكرة؛ لأن اسم الفاعل إذا أُعمل عمل الفعل لم يوصف كما لا يُصغّر؛ لأن الصفة تخصيص، والفعل وما أُجري مجراه لا يلحقه تخصيص، ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 340. (¬2) انظر: "العين" 8/ 199، و"تهذيب اللغة" 1/ 140، و"الصحاح" 5/ 2068، و"المجمل" 1/ 91، و"مقاييس اللغة" 1/ 75، و"المفردات" ص 70، و"اللسان" 1/ 52 (أذن). وقال سيبويه في "الكتاب" 4/ 62: (آذنت: أعلمت، وأذَّنْتُ النداء والتصويت بإعلان) اهـ. انظر: "الحجة" لأبي علي 4/ 23، و"الزاهر" 1/ 29. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 140 (أذن). (¬5) جاء في الأصول: {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} بدون فاء، وفي سورة يوسف الآية 70: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وانظر: "تفسير الرازي" 14/ 85. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 177، والطبري 8/ 187، والسمرقندي 1/ 542. (¬7) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 85، وقال الخازن 2/ 231: (وهذا المنادي من الملائكة، وقيل: إنه إسرافيل صاحب الصور، ذكره الواحدي) اهـ. (¬8) في (أ): (يحتمل لأمرين أحسن فيه).

والتصغير كالوصف، ومن ثم لم (¬1) يستحسن (هذا ضويرب زيدًا)، كما لا يستحسن (هذا ضارب ظريف زيدًا)، ولأنك في [هذا] (¬2) تفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي، وذلك أن {مُؤَذِّنٌ} عامل في {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ}، فإذا جعلت {بَيْنَهُمْ} صفة [فقد فصلت بين العامل والمعمول بالأجنبي، وإن شئت جعلت {بَيْنَهُمْ} صفة] (¬3)؛ لأن التقدير فأذن مؤذن بينهم بأن لعنة الله، ومعنى الفعل قد يعمل في الجار ويصل إليه وإن فصل بينهما بالصفة، كما تقول: هذا مارّ [أمس] (¬4) يزيد، والأول الوجه، والجار المقدر إن شئت جعلته متعلقًا بمؤذن، وإن (¬5) جعلته متعلقًا بأذن) (¬6). وقوله: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} قرئ (¬7) (أنْ) مخففًا، (لعنةُ الله) ¬

_ (¬1) في (ب): (ومن ثم لا يستحسن). (¬2) لفظ: (هذا): ساقط من (ب). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) لفظ: (أمس: ساقط) من (أ). (¬5) في (أ): (فإن جعلته)، وفي "الحجة" 2/ 405: (وإن شئت جعلته) وهو الأولى. (¬6) "الحجة" لأبي علي 2/ 404 - 405، وزاد: (وإن شئت جعلت (بين) ظرفًا للمؤذن لا صفة وكل ذلك لا يمتنع)، وقال ابن الأنباري في "البيان" 1/ 362: (بينهم: منصوب على الظرف والعامل أذن أو مؤذن على اختلاف بين النحويين؛ فالبصريون يختارون أن يكون متعلقًا بمؤذن لأنه أقرب إليه من أذن والكوفيون يختارون (أذن) لأنه الأول والعناية به أكثر فإن جعلت بينهم وصفًا لمؤذن جاز ولكن لا يجوز أن يعمل في أن لأن اسم الفاعل إذا وصفته بطل عمله ولأنه يخرج بذلك عن شبه الفعل) اهـ. وانظر: "المشكل" 1/ 292، و"التبيان" ص 377، و"الفريد" 2/ 304، و"الدر المصون" 5/ 327. (¬7) قرأ عاصم وأبو عمرو ونافع {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} بإسكان النون مخففة ورفع {لَعْنَةُ} وقرأ الباقون بتشديد {أَنْ} ونصب {لَعْنَةُ}. انظر: "السبعة" ص 281، و"المبسوط" ص 180، و"التذكرة" 2/ 419، و"التيسير" ص110، و"النشر" 2/ 269.

45

رفعًا , وقرئ (أنَّ) مشددة (ولعنةَ الله) نصبًا، فمن شدّد فهو الأصل، ومن خفف {أَن} فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث, تقديره: أنه لعنة [الله] (¬1)، ومثل ذلك قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] التقدير: أنه، ولا تخفف (أن) هذه إلا وإضمار القصة والحديث يراد معها (¬2). قال أبو إسحاق (¬3): (ويجوز أن يكون المخففة التي هي للتفسير كأنها تفسير لما أَذَّنُوا به كما ذكرنا في قوله: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا}). 45 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، هذه الآية من نعت (¬4) قوله: {على الظالمين}، ومعنى {يَصُدُّونَ} يجوز أن يكون من (الصدّ) (¬5) ¬

_ (¬1) لفظ: (الله) ساقط من (ب). (¬2) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 23. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 407، و"إعراب القراءات" 1/ 182، و"الحجة" لابن زنجلة ص 283، و"الكشف" 1/ 463. قال الأزهري: (من خفف أن منعها عملها ورفع ما بعدها، ومن شدد النون نصب بها الاسم والمعنى واحد) اهـ. ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 14/ 85. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 341، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 298 - 299، و"تفسير الطبري" 8/ 187، و"معانى النحاس" 3/ 38، و"إعراب النحاس" 1/ 613، و"المشكل" 1/ 292، وقال: (ويجوز أن تكون في حالة التخفيف بمعنى أي التي للتفسير، فلا موضع لها من الإعراب) اهـ. (¬4) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 613، و"التبيان" ص 377، و"الفريد" 2/ 304. (¬5) الصد: الإعراض، يقال: صَد يَصُد وصددته عن الأمر إذا عدلته عنه، وصد يَصِد -بكسر الصاد- إذا ضج. انظر: "العين" 7/ 80، و"الجمهرة" 1/ 111، و"تهذيب اللغة" 2/ 1985 و"المجمل" 2/ 532، و"مقاييس اللغة" 3/ 282، و"المفردات" ص 477، و"اللسان" 4/ 2409 (صدد).

46

الذي هو المنع، ويجوز أن يكون من (الصدود) الذي (¬1) هو الإعراض. وقوله تعالى: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. قال ابن عباس: (يريد: عن دين الله وطاعة الله) (¬2). قال أهل المعاني: (سبيل الله الحق الذي دعا الله إليه) وقيل: (الطريق الذي دل الله (¬3) أنه يؤدي إلى الجنة) (¬4). وقوله تعالى: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}، قال ابن عباس: (يريد: يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظم الله) (¬5). ومعنى هذا: أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغيره، وتعظيم ما لم يعظمه الله، فأخطأوا الطريق وطلبوه ضالين معوجّين عن الطريق (¬6)، {عِوَجًا} على هذا المعنى مصدر (¬7) في موضع الحال، وقد ذكرنا معنى {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} مستقصى في سورة آل عمران (¬8). 46 - وقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}، والحجاب (¬9) الحاجز بين ¬

_ (¬1) في (أ): (والذي هو) بالواو. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 96، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1482 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (عن دين الله) اهـ. (¬3) في (ب): (الذي دل إليه). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 187، والسمرقندي 1/ 542. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 184، والبغوي 3/ 231. (¬6) انظر: "تفسير الخازن" 2/ 232 فقد ذكر مثله. (¬7) انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 511. (¬8) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 200/ ب (¬9) الحجاب، بكسر الحاء: الستر، واسم ما احتجب به، وكل ما حال بين شيئين حجاب، والجمع حجب بالضم. انظر: "العين" 3/ 86، و"جمهرة اللغة" 1/ 263، و"تهذيب اللغة" 1/ 473، و"الصحاح" 1/ 107، و"المجمل" 1/ 266 , و"المفردات" ص 219، و"لسان العرب" 2/ 777 (حجب).

الشيئين، قال الكلبي: (يعني: بين أهل الجنة وأهل النار، (حجاب) سور) (¬1) وهو الأعراف التي قال الله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} ولذلك عُرِّفت الأعراف لأنه عُني بها الحجاب المذكور (¬2) في قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}. وقوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ}، {الْأَعْرَافِ} جمع: عُرْف (¬3)، وهو كل عالٍ مرتفع، ومنه عُرف الفرس، عُرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عُرف، وذلك لأنه بظهوره أعرف مما انخفض منه (¬4)، قال عطاء عن ابن عباس: ({وَعَلَى الْأَعْرَافِ} يريد: سور الجنة، وهو سور بين الجنة والنار) (¬5). وروى أيضًا عنه أنه قال: (الأعراف شرف الصراط) (¬6). واختلفوا في الرجال الذين هم على الأعراف؛ فقال ابن عباس ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 96 وهو قول أهل التفسير. انظر: الطبري 8/ 188، والسمرقندي 1/ 542، والماوردي 2/ 225، وابن عطية 5/ 512، والبغوي 3/ 231، وابن الجوزي 3/ 204، والرازي 14/ 86. (¬2) انظر: "الدر المصون" 5/ 328 حيث نقل قول الواحدي. (¬3) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2405، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 215، و"تفسير غريب القرآن" ص 178، و"تفسير المشكل" ص 84. (¬4) انظر: "العين" 2/ 121، و"الجمهرة" 2/ 766، و"الصحاح" 4/ 1400، و"المجمل" 3/ 661، و"المفردات" ص 561، و"اللسان" 5/ 2901 (عرف). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 229، والطبري 8/ 188، 189، وابن أبي حاتم 5/ 1483، والأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2405 (عرف) من عدة طرق جيدة، وقال الرازي في "تفسيره" 14/ 87: (الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار وهذا قول ابن عباس) اهـ. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 87، والقرطبي 7/ 213، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 229 - 230، والطبري 8/ 189، وابن أبي هاشم 5/ 1483 بسند جيد عن ابن عباس قال: (الأعراف الشيء المشرف)، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 160.

والأكثرون (¬1): (هم مؤمنون إلا أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم فمنعتهم (¬2) حسناتهم من النار، ومنعتهم سيئاتهم من الجنة، فيقومون على سور الجنة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، وهم آخر من يدخل الجنة)، وهو قول حذيفة (¬3) (¬4) وابن مسعود (¬5) والكلبي (¬6) واختيار ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 229، والطبري 8/ 190، 191، وابن أبي حاتم 5/ 1483 من عدة طرق جيدة يقوي بعضها بعضًا عن ابن عباس، وأخرجه الطبري 5/ 1485 من عدة طرق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي، وسعيد ابن جبير والضحاك، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1485 عن عبد الله بن الحارث، وقال بعده: (وروي عن أبي هريرة) اهـ. وهو قول مجاهد كما في تفسير مسلم بن خالد الزنجي ص 47 - 48، وأخرجه عنه النحاس في "معانيه" 3/ 40، وزاد ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 205 نسبة هذا القول إلى الشعبي وقتادة، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 342، و"تفسير السمرقندي" 1/ 542، والماوردي 2/ 226، وابن عطية 5/ 515. (¬2) في (ب): (فمنعهم). (¬3) حذيفة بن حُسَيْل بن جابر العبسي أبو عبد الله حليف الأنصار، واليمان لقب: حسيل، وهو صحابي جليل من السابقين إلى الإسلام عالم شجاع صاحب سر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، وهو من أعيان المهاجرين شهد أحد، والمشاهد بعدها وله بها ذكر حسن وآثار شهيرة، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي -رضي الله عنه- سنة 36 هـ. انظر: "الحلية" 1/ 270، و"الاستيعاب" 1/ 393 (510)، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 361، و"تهذيب التهذيب" 1/ 367، و"الإصابة" 1/ 317، و"الأعلام" 2/ 171. (¬4) أخرجه الطبري 8/ 190، وابن أبي حاتم 5/ 1485، والحاكم في "المستدرك" 2/ 320 وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي في "التلخيص". (¬5) أخرجه الطبري 8/ 191، والبغوي 3/ 232 بسند ضعيف. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 96، و"المطالب العالية" 3/ 334.

الفراء (¬1). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أصحاب الأعراف فقال: "هم قوم (¬2) قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم النار قتلهم في سبيل الله، ومنعتهم الجنة معصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة" (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 379 - 380 وهو الظاهر، واختيار الطبري 8/ 194، والنحاس في "معانيه" 3/ 40، وقال: (وهذا القول أشهر وأعرف) اهـ، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 613، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 242: (واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو: أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله) اهـ. وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 214 - 216: (وهذا هو الثابت عن الصحابة، وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت أسانيدها وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة) اهـ. (¬2) في (ب): (هم رجال). (¬3) أخرجه ابن الأنباري في "الأضداد" ص 369، والطبري 8/ 193، وابن أبي حاتم 5/ 1484 بسند ضعيف، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 23 - 24، وقال: (رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف، وروى الطبراني نحوه وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي وهو ضعيف) اهـ. وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 242، وقال: (رواه ابن مردويه، وسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر به، وكذا رواه ابن ماجه مرفوعًا من حديث أبي سعيد الخدري، وابن عباس -والله أعلم- بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصارها أن تكون موقوفة، وفيه دلالة على ما ذكر) اهـ. وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- في "حاشية الطبري" 12/ 458 - 459: (هذا خبر ضعيف لما فيه من المجاهيل ولضعف أبي معشر) اهـ. وذكره ابن حجر في "الإصابة" 2/ 426، ترجمة عبد الرحمن المزني، وفي "المطالب العالية" 14/ 664 (3608)، والسيوطي في "الدر" 3/ 163، 164 وفيه زيادة تخريج.

وقال سليمان التيمي (¬1) وأبو مجلز (¬2): (هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: فقيل لأبي مجلز، يقول الله تعالى: ({وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} وتزعم أنت أنهم ملائكة؟، فقال: إنهم ذكور ليسوا بإناث) (¬3). وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}، قال المفسرون (¬4): (إنهم يرون أهل الجنة فيعرفونهم ببياض وجوههم، ويرون أهل النار فيعرفونهم بسواد وجوههم وزرقة عيونهم). قال أبو إسحاق: (يعرفون أصحاب الجنة لأن سيماهم إسفار الوجوه والضحِك والاستبشار كما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} [عبس:38, 39]، ويعرفون أصحاب النار بسواد وجوههم وغبرة (¬5) وزرقة ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، ولعله روى سليمان التيمي عن أبي مجلز بدلالة قوله: (قال: فقيل لأبي مجلز) والقائل هو سليمان التيمي كما أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 193، وابن أبي حاتم 5/ 1486 من عدة طرق جيدة عن سليمان التيمي عن أبي مجلز، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 164. (¬2) أبو مجلز: لاحق بن حميد السدوسي، إمام. تقدمت ترجمته. (¬3) هذا قوله رده أكثر أهل التفسير، قال الطبري 8/ 193: (هو قول لا معنى له) اهـ، وقال ابن الجوزي 3/ 206: (فيه بُعد وخلاف للمفسرين) اهـ، وقال ابن كثير 2/ 243: (رواه ابن جرير وهو صحيح إلى أبي مجلز أحد التابعين وهو غريب من قوله، وخلات الظاهر من السياق، وقول الجمهور مقدم على قوله بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه) اهـ. (¬4) هذا قول مجاهد في "تفسيره" 1/ 237، والفراء في "معانيه" 1/ 379، والطبري 8/ 194، 195، وأخرجه من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 38، والسمرقندي 1/ 543، والماوردي 2/ 226، والبغوي 3/ 233، وابن عطية 5/ 515، وابن الجوزي 3/ 206. (¬5) لفظ: (غبرة) ساقط من (ب).

عيونهم (¬1) كما قال جل ذكره: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)} [عبس: 40]) (¬2) قال ابن الأنباري: (إنما خص الله تعالى هؤلاء بمعرفة الجماعة دون الخلق؛ لأن موضعهم مرتفع عالٍ يرون فيه أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار دون الخلق، وكأن الاختصاص من أجل (¬3) هذا المعنى) (¬4) وذكرنا معنى السيما (¬5) في سورة [البقرة] (¬6). وقوله تعالى: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}، قال الكلبي: (إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها فردوا عليهم السلام، وإذا نظروا إلى النار {قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}) (¬7). وقال عطاء عن ابن عباس: {وَنَادَوْا} (يريد: أصحاب الأعراف {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬8)، فردوا عليهم السلام، فقال أصحاب الجنة لخزنة جهنم: ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها؟ فقال الملائكة: {وَهُم (¬9) يَطْمَعُونَ} (¬10) ¬

_ (¬1) لفظ: (وزرقة عيونهم) ساقط من (أ) ولا يوجد في "معاني الزجاج". (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 343. (¬3) في (ب): (من أجله)، وهو تحريف. (¬4) لم أقف عليه عن ابن الأنباري. وانظر "الأضداد" لابن الأنباري ص 368 - 370. (¬5) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 163أ. (¬6) لفظ: (البقرة) ساقط من (ب). (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 97، وهو قول أكثر المفسرين، انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 368، وتفسير الطبري 12/ 464، والسمرقندي 1/ 543، والبغوي 3/ 233، وابن عطية 5/ 516، والرازي 14/ 90. (¬8) لفظ: (أن) ساقط من (ب). (¬9) في (ب): (وهم). (¬10) ذكره السمين في "الدر" 5/ 330، وقال: (وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن) اهـ.

وقولى تعالى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} بعضه من قول أهل الجنة، وبعضه من كلام الملائكة جوابًا لأهل الجنة، على ما قال عطاء، وعلى قول الباقين هو من كلام الله تعالى، وإخباره أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون (¬1). قال حذيفة: (ولم يكن الله ليخيب طمعهم) (¬2)، وقال سعيد بن جبير: (طمعوا لأن الله تعالى سلب نور المنافقين وهم على الصراط وبقي نورهم) (¬3). وروي عن الحسن أنه قال: (هذا طمع اليقين، كقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} [الشعراء: 82]) (¬4). ¬

_ (¬1) قال النحاس في "معانيه" 3/ 39: (قال الله عز وجل: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}. قال أكثر أهل التفسير يعني أصحاب الأعراف) اهـ. فهذا إخبار من الله تعالى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها قاله الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 196، و"القطع والائتناف" للنحاس 1/ 253، والسمرقندي 1/ 543، والبغوي 3/ 233، وابن الجوزي 3/ 206. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 185، وانظر: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 655. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 196، والبغوي 3/ 232 بسند ضعيف عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 21، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 230، والطبري 8/ 196، وابن أبي حاتم 5/ 1488 بسند جيد عن الحسن قال: (والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 165، وذكره أبو حيان في "البحر" 4/ 303 عن ابن مسعود، ثم قال: (وهذا هو الاظهر والأليق بمساق الآية) اهـ. وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 516.

47

47 - قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} الآية, التلقاء (¬1): جهة اللقاء وهي جهة المقابلة، ولذلك (¬2) كان ظرفًا من ظروف المكان، هو تلقاءك، كقولك: هو حذاءك، وهو في الأصل مصدر واستعمل ظرفًا مثل البين. قرأت على أبي الحسين (¬3) بن أبي عبد الله الفسوي (¬4)، فقلت: أخبركم حمد بن محمد (¬5) قال، أخبرني أبو عمر (¬6) محمد بن عبد الواحد (¬7) أبنا ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين قالا: (لم يأت من المصادر على تِفْعال إلا حرفان: تِبْيان، وتِلْقاء، فإذا تركت هذين استوى لك القياس في كلام الناس، فقلت في كل مصدر: تَفعال -بفتح التاء- مثل تَسْيار وتَهمام، وقلت في كل اسم: تِفعال -بكسر التاء- مثل تِقصار وتِمثال) (¬8). وتفسير الآية ما ذكرنا من قول الكلبي في الآية الأولى. ¬

_ (¬1) اللِّقاءُ: مقابلة الشيء ومصادفته، والاسم التلقاء وهو مصدر نادر لا نظير له إلا التَّبْيان. انظر: "العين" 5/ 215، و"الجمهرة" 2/ 977، و"تهذيب اللغة" 4/ 3290، و"الصحاح" 6/ 2484، و"المجمل" 3/ 811، و"مقاييس اللغة" 5/ 260، و"المفردات" ص 745، و"اللسان" 7/ 4065 (لقى). (¬2) في (ب): (وكذلك قال ظرفًا)، وهو تحريف. (¬3) في (ب): (أبي الحسن)، وهو تحريف. (¬4) هو عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد الفسوي أبو الحسين بن أبي عبد الله الفارسي، أحد شيوخ الواحدي. تقدمت ترجمته. (¬5) حمد بن محمد الخطابي أبو سليمان البستي، إمام، سبقت ترجمته في ص190. (¬6) في (أ): (أبو عمرو)، وهو تحريف. (¬7) محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البَاورْدَي، تقدمت ترجمته. (¬8) ذكره الرازي 14/ 75 عن الواحدي، وقال السمين في "الدر" 5/ 331: (التلقاء في =

48

48 - قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، قال الكلبي: (وينادي أصحاب الأعراف قومًا من أهل النار من رؤساء المشركين، فيقولون (¬1) لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} وما كنتم تستكثرون (¬2) من الأموال والأولاد، وتستكبرون عن عبادة الله جل وعلا، ثم يرون في الجنة جماعة من مستضعفي المسلمين، مثل بلال، وسلمان (¬3)، وعمار، وخباب؛ فيقبلون على المشركين فيقولون: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} [الأعراف:49] أي: حلفتم وأنتم في الدنيا {لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ} برحمته, فيقول الله تبارك وتعالى لأصحاب الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} حين يخاف أهل النار {وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} حين يحزنون) (¬4). ¬

_ = الأصل مصدر، ثم جعل دالًا على المكان، أي: على جهة اللقاء والمقابلة، قالوا: ولم يجيء من المصادر على تفعال -بكسر التاء- إلا لفظتان: التلقاء، والتبيان، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوح نحو الترداد والتكرار، ومن الأسماء مكسور نحو تِمثال وتِمساح وتِقصار) اهـ. انظر: "التبيان" ص 377، و"الفريد" 2/ 306، والقرطبي 7/ 214. (¬1) في (ب): (فيقول). (¬2) في (ب): (تستكبرون)، وهو تحريف. (¬3) سلمان أبو عبد الله الفارسي، ويقال له سلمان الخير، وسلمان ابن الإِسلام، صحابي جليل، زاهد، عالم، حكيم، شهد الخندق وما بعدها، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي -رضي الله عنه- سنة 34 هـ. انظر: "الحلية" 1/ 185، و"الاستيعاب" 2/ 194 (1019)، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 505، و"الإصابة" 1/ 62، و"تهذيب التهذيب" 2/ 68، و"الأعلام" 3/ 111. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 97 - 98، وذكره ابن الأنباري في "الأضداد" ص 369 - 370، والبغوي 3/ 233، وابن الجوزي 3/ 207 - 208.

50

و (¬1) قال مقاتل بن سليمان: ({أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} من كلام الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط، وذلك أن أهل النار يقسمون أن أصحاب الأعراف داخلون معهم النار، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} يا أهل النار {لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}، ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} الآية) (¬2). قال أبو بكر بن الأنباري: (قوله: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} على تفسير الكلبي من كلام أصحاب الأعراف و {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} من كلام الله تعالى، ويحتاج هاهنا إلى إضمار (قول) بين قوله {بِرَحْمَةٍ} وقوله: {ادْخُلُوا} أي: فقال (¬3) لهم هذا كما قال: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء: 35]، وانقطع كلام الملأ (¬4) هنا، ثم قال لهم فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35]، فاتصل كلامه بكلامهم، من غير إظهار قول؛ لبيان المعنى) (¬5). 50 - قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: (لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد الإياس؛ فقالوا (¬6): يا رب إن لنا قرابات ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 39. (¬3) فقال الله لهم. (¬4) في (ب): (الملائكة)، وهو تحريف. (¬5) ذكره السمين في "الدر" 5/ 332، وذكره الرازي 14/ 91، 92 بلا نسبة، وانظر: "إيضاح الوقف والابتداء" الأبن الأنباري 2/ 657. (¬6) في (ب): (فقال)، وهو تحريف.

من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزخرفت حتى نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار (¬1) فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقًا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} الآية) (¬2). وقوله تعالى: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، قال ابن زيد والسدي: (يعني: الطعام) (¬3). قال أبو إسحاق: (أعلم الله عز وجل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب، وإن كان معذبًا، فأعلمهم أهل الجنة أن الله حرم طعامهم وشرابهم على أهل النار بقولهم (¬4): {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}) (¬5)، [و] هذا (¬6) تحريم منع لا تحريم تعبد. ¬

_ (¬1) في (ب): (أهل جهنم). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 186، والبغوي 3/ 234، وابن الجوزي 3/ 208، والرازي 14/ 92، و"الخازن" 2/ 235، وأخرج سفيان الثوري في "تفسيره" ص 113، والطبري 8/ 201، وابن أبي حاتم 5/ 1490 بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: ينادي الرجل معرفته من أهل الجنة: أغثني يا فلان فقد احترقت، فيقول الله تعالى جل ذكره: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} اهـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 166. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 201، وابن أبي حاتم 5/ 1491 بسند جيد عن ابن زيد والسدي، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 166. (¬4) في (ب): (بقوله). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 344. (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).

51

51 - قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}. قال ابن عباس (¬1): (يريد: المستهزئين المقتسمين) (¬2). قال أهل المعاني (¬3) (معنى اللهو: صرف الهمّ بما لا يحسن، كالإنسان يريد أن يصرف الهمّ والحزن عن نفسه فيشتغل بما لا يجدي عليه، وهؤلاء طلبوا صرف الهمّ عنهم بالتهزّئ بالدين وعيب المؤمنين)، وعلى هذا معنى قوله {دِينَهُمْ} أي: الدين الذي شرع لهم، وهؤلاء تلاعبوا بذلك [الدين] (¬4). وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}. قال ابن عباس: (يريد: نتركهم في جهنم كما تركوا لقاء يومهم هذا) (¬5) يريد: التكذيب بالبعث والجنة والنار، ومعنى {نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ} ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 190، وابن الجوزي 3/ 209، والرازي 14/ 93، و"الخازن" 2/ 235. (¬2) المستهزئين المقتسمين: جماعة لهم قوة وشوكة من كفار قريش نصبوا العداء للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتقاسموا عقاب مكة للصد عن ما جاء به، وقد اختلف العلماء في عددهم، وأسمائهم، وكيفية هلاكهم. انظر: "تفسير الماوردي" 3/ 172، و"زاد المسير" 4/ 421، والرازي 19/ 211، و"الدر المنثور" 4/ 198. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 40، والطبري 8/ 202، والسمرقندي 1/ 544، وأخرج الطبري 8/ 202 بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (ذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزأوا به اغترارًا بالله) اهـ. (¬4) لفظ: (الدين) ساقط من (ب). (¬5) أخرجه الطبري 8/ 202، وابن أبي حاتم 5/ 1492، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 620 بسند جيد، وقال البيهقي: (يريد والله أعلم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 167.

تركوه بالتكذيب به (¬1)، كما قال ابن عباس. وقال الزجاج: (أي: نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم) (¬2)، وهذا قول الحسن (¬3)، ومجاهد (¬4)، والسدي (¬5)، وجميع المفسرين (¬6)؛ قالوا: (إن معنى النسيان هاهنا: الترك). قال ابن الأنباري: (فاليوم نتركهم في النار على غير إغفال ونسيان، كما تركوا العمل لنا عامدين لا غافلين، فمعنى تركهم لقاء ذلك اليوم: تركهم العمل بطاعة الله لذلك اليوم) (¬7) وقال أصحاب المعاني: (معنى {نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا}: نعاملهم معاملة من نسي بتركهم (¬8) في النار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا وما ندبناهم إلى العمل به، فِعْل من نسي وغفل، فكذلك (¬9) نجازيهم بمثل فعلهم، ¬

_ (¬1) لفظ: (به) ساقط من (ب). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 341. (¬3) ذكره الرازي 14/ 93، قال: (هو قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين) اهـ، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 305، (وهو قول الحسن والسدي أيضًا والأكثرون). (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 238، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 230، والطبري 8/ 202 من عدة طرق جيدة. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1492 من طرق جيدة عن مجاهد والسدي، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 167. (¬6) انظر: الطبري 8/ 202، و"معاني النحاس" 3/ 41، والسمرقندي 1/ 544، والبغوي 3/ 234، وابن عطية 5/ 521. (¬7) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 209، وفي "الأضداد" لابن الأنباري ص 399 نحوه، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 215، و"تفسير غريب القرآن" ص 178. (¬8) في (ب): (نتركهم). (¬9) في (ب): (وكذلك).

فنوقع بهم ما يشبه النسيان بأن لا نجيب لهم دعوة ولا نرحم لهم عبرة) (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}. قال الزجاج: (أي: كجحدهم (¬2)، {وَمَا} في موضع جر نسق على {كَمَا} (¬3) و (ما) في قوله {كَمَا نَسُوا} وقوله: {وَمَا كَانُوا} بمعنى المصدر، والتقدير: ننساهم نسيانًا كنسيانهم يومهم هذا ولكونهم جاحدين بآياتنا، قاله أبو علي (¬4). قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} [الأعراف:52]، قال ابن عباس: (يريد: الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، {فَصَّلْنَاهُ} يريد: بيناه) (¬5)، والتفصيل تبيين المعاني بإظهارها مما يلتبس بها، فالتفصيل كالتبيين (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي 14/ 93، و"الخازن" 2/ 235، وقال ابن كثير في تفسير الآية 2/ 245: (أي: يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه .. وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة) اهـ. ملخصًا. (¬2) في (ب): (أي ولجحدهم). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 341. (¬4) "الحجة" لأبي علي 3/ 60 و6/ 216 - 217 و219، وهو قول الأكثر. انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 657، و"إعراب النحاس" 1/ 615، و"المشكل" 1/ 293، و"البيان" 1/ 364، و"الفريد" 2/ 309، و"الدر المصون" 5/ 336. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 99، وهو قول عامة المفسرين. انظر: الطبري 8/ 203، والسمرقندي 1/ 544 - 545، والبغوي 3/ 235، وابن عطية 5/ 522، وابن الجوزي 3/ 209. (¬6) التفصيل - التبيين، وأصل الفَصْل القطع والقضاء وإبانة الشيء عن الآخر. انظر: "العين" 7/ 126، و"الجمهرة" 2/ 891، و"تهذيب اللغة" 3/ 2795، و"الصحاح" 5/ 1790، و"مقاييس اللغة" 4/ 505، و"المفردات" ص 639، و"اللسان" 6/ 3422 (فصل).

53

وقوله تعالى: {عَلَى عِلْمٍ} أي: فصلناه بعلم لم يقع منا فيه سهو ولا غلط، وقيل: {عَلَى عِلْمٍ} في الكتاب وهو ما أودع من العلوم (¬1) وبيان الأحكام. وقوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً}، قال الزجاج: ({هُدًى} في موضع نصب أي: فصلناه هاديًا وذا رحمة) (¬2). وقوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يدل على أن القرآن جُعل هدى لقوم مخصوصين أريد به هدايتهم دون غيرهم ممن كذب به. 53 - قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}، النظر هاهنا بمعنى: الانتظار (¬3)، وقد مر في سورة البقرة (¬4)، وإنما قيل لهم {هَلْ يَنْظُرُونَ}، وإن كانوا جاحدين؛ لأنهم في منزلة المنتظر كأنهم ينتظرون ذلك لأنهم ¬

_ (¬1) أكثرهم قال: (المعنى بيناه على علم منا بما فصلناه به) اهـ. انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 40، والطبري 8/ 203، والسمرقندي 1/ 545، والماوردي 2/ 228، والبغوي 3/ 235، وابن الجوزي 3/ 210. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 341، والجمهور على نصبهما على الحال من مفعول {فَصَّلْنَاهُ} أو على أنه مفعول لأجله أي: فصلناه لأجل الهداية والرحمة. قالوا: ويجوز الجر على النعت لكتاب أو البدل منه، والرفع على تقدير مبتدأ أي: هو هدى ورحمة انظر: "معاني الفراء" 1/ 380، و"تفسير الطبري" 3/ 208، و"إعراب النحاس" 1/ 615، و"المشكل" 1293، و"البيان" 1/ 364، و"التبيان" ص 378، و"الفريد" 2/ 309، و"البحر" 4/ 306، و"الدر المصون" 5/ 366. (¬3) النَّظَر: تقليب البَصَرِ والبَصيرة لإدراك الشيء وتأمله ورؤيته، والنَّظَر: الانتظار يقال: نَظَرْتُه أي انتظَرْتْه، وأَنْظَرْتُه - أخَّرْتُه. انظر: "الجمهرة" 2/ 763، و"تهذيب اللغة" 4/ 3604، و"الصحاح" 5/ 380، و"المجمل" 3/ 873، و"مقاييس اللغة" 5/ 444، و"المفردات" ص 813، و"اللسان" 7/ 4466 (نظر). (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 126ب.

يأتيهم لا محالة، وفيه وجه آخر ذكرناه في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنعام: 158] في آخر سورة الأنعام. وقوله تعالى: {إِلَّا تَأْوِيلَهُ}. قال الفراء: (الهاء في {تَأْوِيلَهُ} للكتاب يريد: عاقبته وما وعد الله فيه) (¬1) [يعني: من البعث والنشور والعقاب والحساب. وقال مقاتل (¬2): {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} عاقبة ما وعدوا] (¬3) على ألسنة الرسل. ومضى (¬4) الكلام في التأويل في سورة آل عمران (¬5) أولاً، ثم في النساء (¬6) ثانيًا. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}. قال ابن عباس: (يريد: يوم القيامة) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 380، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 216، و"تفسير غريب القرآن" ص 178. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 40، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 616 (في معناه قولان: أحدهما: هل ينظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب، والقول الآخر: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} من النظر إلى يوم القيامة) اهـ. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 341، والطبري 8/ 204، و"معاني النحاس" 3/ 41 - 42، والسمرقندي 1/ 545، والماوردي 2/ 228. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) في النسخ: (ومعنى) والأولى (ومضى). (¬5) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 175 أ. (¬6) انظر: "البسيط" نسخة جستربتي 2/ 4 أ. (¬7) أخرجه الطبري 8/ 204، وابن أبي حاتم 5/ 1494 بسند ضعيف، وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 217 - 218 (فمجيء تأويله مجيء نفس ما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله، والجنة والنار ويسمى تعبير الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين، فإنه تفسير لها وهو عاقبتها وما تؤول إليه، فتأويل ما أخبرت به الرسل =

قال الزجاج: ({يَوْمَ} نصب بقوله {يَقُولُ} (¬1). قال: [و] (¬2) {الَّذِينَ نَسُوهُ} معناه (¬3) أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسى، وجائز أن يكون {نَسُوهُ} تركوا (¬4) العمل له والإيمان له) (¬5)، وهذا كما ذكرنا في قوله: {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51]. وقوله تعالى: {أَوْ نُرَدُّ} نسق على قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ}، كأنه قيل: هل يشفع لنا شافع، أو هل نرد {فَنَعْمَلَ}، منصوب على جواب الاستفهام [بالفاء (¬6)] (¬7)، ومعنى: {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} نوحد الله قاله ابن عباس (¬8). ¬

_ = هو مجيء حقيقته ورؤيتها عيانًا ومنه تأويل الرؤيا وهو حقيقتها الخارجية التي ضربت للرائي في عالم المثال) اهـ. (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 341، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 616، و"المشكل" 1/ 293، و"البيان" 1/ 364، و"التبيان" ص 378، و"الفريد" 2/ 310، و"الدر المصون" 5/ 337 وكلهم على أنه منصوب على الظرف والعامل فيه {يَقُولُ}. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (معنا)، وهو تحريف. (¬4) في (ب): (تركوه العمل)، وهو تحريف. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 341 - 342، وانظر: الطبري 8/ 204، و"معاني النحاس" 3/ 42، والسمرقندي 1/ 545، والماوردي 2/ 229. (¬6) لفظ: (بالفاء) ساقط من (ب). (¬7) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 342 وهو المشهور، وقول الجمهور: (فتكون جملة {أَوْ نُرَدُّ} معطوفة على جملة {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} داخلة معها في حكم الاستفهام. انظر: "معاني الفراء" 1/ 380، والأخفش 2/ 300، و"تفسير الطبري" 12/ 205، و"إعراب النحاس" 1/ 616، و"المشكل" 1/ 293، و"البيان" 1/ 364، و"التبيان" ص 378، و"الفريد" 2/ 310، و"البحر" 4/ 306، و"الدر المصون" 5/ 337. (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 99 وفيه: (فنؤمن ونعمل غير الذي كنا نعمل في الشرك) اهـ.

54

قال الله تعالى (¬1): {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: قد خسروا النعيم (¬2) وصاروا إلى الخزي والعذاب) (¬3) ومضى الكلام (¬4) في: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}. وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، يريد: سقط عنهم ما كانوا (¬5) يقولون من أن مع الله إلهًا آخر (¬6). 54 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الآية. قال الليث: (السِّتُّ والسِّتة في التأسيس على غير لفظيهما، وهما في الأصل سِدْس وسِدْسَة، ولكنهم أرادوا إدغام الدال في السين فالتقتا عند مخرج التاء فغلبت (¬7) عليهما، وبيان ذلك أنك [تصغر] (¬8) ستة سُدَيْسة، وكذلك الأسداس، وجميع تصريفهما (¬9) على ذلك) (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب) تكرار قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}. (¬2) في (ب): (خسروا النعيم)، وهو تصحيف. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 9: وفيه (غبنوا أنفسهم بذهاب الجنة ولزوم النار) اهـ. (¬4) انظر: معنى الخسران في "البسيط" البقرة: 27. (¬5) في (ب) تكرار: (يريد سقط عنهم ما كانوا يفترون يريد سقط عنهم ما كانوا يقولون ...) (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 205، والسمرقندي 1/ 545، والبغوي 3/ 235. (¬7) في (ب): (فقلبت)، وهو تصحيف. (¬8) لفظ: (تصغر) ساقط من (أ). (¬9) في (ب): (تصريفها) وعند الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1623: (تصغيرها). (¬10) "تهذيب اللغة" 2/ 1623، وانظر: "العين" 7/ 186 (ست).

ابن السكيت: (يقال: جاء فلان سادسًا، وساديًا، وساتًّا؛ فسادس على لفظ السُّدس، وساتّ على لفظ ستَّة أدغموا الدال في السين فصارت تاء مشددة، ومن قال ساديًا أبدل من السين ياء) (¬1). قال أهل التفسير: (قوله {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، أراد: في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فكيف [يكون] (¬2) يوم ولا شمس ولا سماء؟ وهذا كقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] على مقادير البكرة والعشي في الدنيا؛ إذ لا ليل ثم ولا نهار (¬3)، فإن قيل: لأي علة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، ولو خلقهن في طرفة عين كان أدل على نفاذ قدرته، والله تعالى يقول: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، والجواب: ما قال سعيد بن جبير: (قدر الله على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، وإنما خلقهن في ستة أيام تعليمًا لخلقه الرفق والتثبت في الأمور) (¬4). وقال أهل المعاني: (إن تدبير الحوادث على إنشاء شيء بعد شيء ¬

_ (¬1) "إصلاح المنطق" ص 301، و"تهذيب اللغة" 2/ 1623. وانظر: "الصحاح" 1/ 251 (ستت)، و"المفردات" ص 403 (سدس)، و"اللسان" 4/ 1935 (ستت). (¬2) لفظ: (يكون) ساقط من (ب). (¬3) قال ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 211: (أي في مقدار ذلك ولم تكن الشمس حينئذ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وكعب: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة. ولا نعلم خلافًا في ذلك) اهـ. بتصرف. وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 545، والبغوي 3/ 235، وابن عطية 5/ 525، والرازي 14/ 118، والقرطبي 7/ 219. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف" 191 أ، والبغوي 3/ 235، و"الخازن" 2/ 237.

على ترتيب، أدل على عالم مدبر يصرفه على اختياره ويجريه على مشيئته) وقيل: (أراد بذلك زيادة البصيرة للملائكة في يقينهم (¬1) لما يشاهدونه من ظهور شيء وإنشاء خلق بعد خلق) (¬2). وقال أبو بكر بن الأنباري: (إن الله (¬3) خلق السموات والأرض والليل والنهار تكرمة لآدم وذريته، وقد بيّن هذا في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الآية [البقرة: 22]، وفي قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [القصص: 73]، فلما كان خلق هذه الأشياء تكرمة لآدم وولده، وكانت الأيام سبعة أوقع في كل يوم منها ضربًا من التكرمة نبه به الملائكة على عظم شأن آدم وولده عنده، وكان خلق السموات والأرض في ستة أيام عن غير عجز من الله عز وجل أن يكون في لمحة، ولكنه تعالى أراد أن يوقع في كل يوم منها أمرًا من خلقه تستعظمه الملائكة وجميع المشاهدين له) (¬4)، وهذا معنى قول مجاهد: (إن ذلك رُتِّب على الأيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، فاجتمع الخلق فيه) (¬5). ¬

_ (¬1) في (ب): (في نفسهم). (¬2) ذكر هذه الأوجه الماوردي 2/ 230، وابن الجوزي 3/ 212، والرازي 14/ 118 و"الخازن" 2/ 237، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 617: (لأنه علم أن ذلك أصلح ليظهر قدرته للملائكة شيئاً بعد شيء) اهـ. (¬3) في (ب): (الله تعالى). (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 191، وابن الجوزي 3/ 212 مختصرًا. (¬5) أخرجه الطبري 8/ 205، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 243 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 169.

وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك بعد خلق السموات والأرض، وهذا قول الفراء (¬1) وأبي العباس (¬2) والزجاج (¬3). وقال آخرون: {اسْتَوَى} معناه استولى (¬4) واحتجوا بقول البعيث (¬5): ثم اسْتَوَى بِشْرُ على العِرَاقِ ... من غير سيفٍ ودمٍ مُهْرَاقِ (¬6) ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 25 وفيه حكى أوجه منها: (أن يستوي الرجل وينتهي شبابه أو يستوي عن اعوجاج، وبمعنى أقبل، وبمعنى صعد، وكل في كلام العرب جائز). (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1794، وفي "مجالس ثعلب" 1/ 174 و269 قال: (يقال فيه ضروب، الفراء وأصحابنا يقولون أقبل. ويقال: استوى عليه من الاستواء، والمعتزلة يقولون: استولى) اهـ. (¬3) "معاني الزجاج" 1/ 107 قال: (فيه قولان: عمد وقصد إلى السماء، كما تقول: قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى إلى بلد كذا، معناه قصد الاستواء إليه، وقد قيل أيضاً: استوى أي صعد أمره إلى السماء). (¬4) هذا قول أهل التأويل من المعتزلة والجهمية والحرورية وغيرهم، وقد اتفق أهل العلم على إبطاله وأجمعوا على أن المراد بالاستواء على العرش، إنما هو الاستعلاء والارتفاع عليه، فهو سبحانه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته ولا يلزم لهذا أي لازم باطل مما يلزم لاستواء المخلوقين. انظر: "الإبانة" ص 36، و"الأسماء والصفات" 2/ 306 - 308، و"الفتاوى" 5/ 143 - 149، و"مختصر العلو" للألباني ص 26. (¬5) البعيث: هو خداش بن بشير بن خالد المجاشعي، أبو مالك البصري المعروف بالبَعِيث، شاعر أموي مجيد وخطيب بني تميم، كانت بينه وبين جرير مهاجاة دامت نحو 40 سنة، توفي سنة 134. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 386، و"الشعر والشعراء" ص 329، و"معجم الأدباء" 3/ 289، و"الأعلام" 2/ 302. (¬6) الشاهد بدون نسبة فى "الصحاح" 6/ 2385 (سوا)، و"تفسير الماوردي" 2/ 229، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 309، و"زاد المسير" 3/ 213، والقرطبي 7/ 220، و "رصف المباني" ص 434، و"اللسان" 4/ 2163 (سوا)، و"الخازن" =

يعني: بشر بن مروان (¬1)، وعلى هذا خصّ العرش بالإخبار عن الاستيلاء عليه؛ لأنه أعظم المخلوقات. وقال الأخفش: ({اسْتَوَى} أي: علا، يقال: استويت على ظهر البيت أي: علوته) (¬2) وهذا القول اختيار ابن جرير، قال: (معناه: ارتفع ارتفاع ملك وسلطان، لا ارتفاع انتقال وزوال) (¬3)، وهذا يعود إلى معنى الاستيلاء (¬4). وقد شرحنا الاستواء في صفة الله تعالى مستقصى في سورة البقرة (¬5). ¬

_ = 2/ 339، و"الدر المصون" 1/ 243، ونسب في "تاج العروس" 19/ 551 (سوا)، إلى الأخطل، وفي هذه المراجع (قد استوى)، وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 5/ 146: (لم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة) اهـ. ونسبه ابن كثير في "البداية والنهاية" 9/ 7 إلى الأخطل، وقال: (الأخطل نصراني، والاستدلال به باطل من وجوه كثيرة) اهـ. وهو ليس في ديوان الأخطل والواحدي نسبه هنا وفي "الوسيط" 1/ 192 (إلى البعيث) وانظر: "مختصر الصواعق المرسلة" 3/ 890، 898. (¬1) بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي: أمير كان سمحًا جوادًا, ولى إمرة العراق لأخيه عبد الملك، وتوفي سنة 75 هـ، وله نيف وأربعون سنة. انظر: "سر أعلام النبلاء" 4/ 145، و"البداية والنهاية" 9/ 7، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 3/ 251، و"الأعلام" 2/ 55. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1794، وانظر: "معاني الأخفش" 1/ 55 - 56. (¬3) "تفسير الطبري" 1/ 192، واختار أن معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]: (علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات) اهـ. (¬4) الطبري -رحمه الله تعالى- رجح في معنى الاستواء ما قال به السلف، ثم أخذ يناقش المؤولين، ومن باب إلزام الحجة لهم، قال: (قل علا عليها علو ملك وسلطان) اهـ، وهذه العبارة ليست من نهج السلف في الإثبات، والله اعلم. (¬5) انظر: "البسيط" البقرة: 29.

و {الْعَرْشِ} في كلام العرب (¬1) سرير الملك، يدل على ذلك سرير ملكة سبأ, سماه الله عرشًا فقال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)} [النمل: 23]، والعرش في اللغة: قد يكون عبارة عن الملك، يقال: (¬2) ثُلَّ عَرْشُه، إذا ذهب عزه وملكه، ومنه قول زهير: تَدَاركتُما الأَحلافَ قد ثُلَّ عَرْشُهَا (¬3) غير أنه لا يسوغ أن يكون المراد بالعرش في هذه الآية الملك؛ لأنه يوجب أن الله لم يكن مستويًا على ملكه قبل خلق السموات (¬4) والأرض. ¬

_ (¬1) العرش: سرير الملك وسقف البيت، انظر: "العين" 1/ 249، و"الجمهرة" 2/ 728، و"تهذيب اللغة" 3/ 2391، و"الصحاح" 3/ 1009، و"المجمل" 3/ 658، و "مقاييس اللغة" 4/ 264، و"المفردات" ص 558، و"اللسان" 5/ 2880 (عرش). (¬2) هذا مثل يضرب لمن ذهب عزه وزال قوام أمره وساءت حاله. انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 290، و"المستقصى" للزمخشري 2/ 43، و"مجمع الأمثال" 1/ 271. (¬3) "ديوان زهير" ص 105، و"العين" 1/ 249، و"المنجد" لكراع ص 105، و"تهذيب اللغة" 3/ 2392، و"الصحاح" 3/ 1010، و"مقاييس اللغة" 4/ 265، و"اللسان" 5/ 2881 (عرش)، وتمامه: وَذُبْيَانَ قد زَلَّتْ بِأَقْدامِهَا النَّعْلُ قال ثعلب في "شرحه": (الأحلاف عبس وفزارة وثل عرشها هذا مثل أي: أصابها ما كسرها وهدمها) اهـ. (¬4) هذا هو الصحيح والآيات والأحاديث والآثار تدفع أن يكون المراد بالعرش الملك، وأهل السنة والجماعة يثبتون العرش واستواء الله تعالى عليه كيف يشاء، قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 6/ 584 - 585: (العرش موجود بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والآيات والأحاديث فيه صريحة متواترة وهو غير الكرسي والكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف) اهـ. ملخصًا. وانظر: "الأسماء والصفات" ص 272، و "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز ص 256، 257.

وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} وقرئ {يُغْشِي} (¬1) مخففا، والإغشاء (¬2). والتغشية: إلباس الشيء (¬3) الشيء، وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف، فمما جاء (¬4) بتضعيف (¬5) العين قوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 54]، ومما (¬6) جاء بنقل الهمزة: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (¬7) [يس: 9]، والمفعول الثاني محذوف على معنى: فأغشيناهم العمى أو فقد الرؤية. قال أبو إسحاق: (والمعنى: أن الليل يأتي على النهار ويغطيه ولم يقل: يغشي (¬8) النهار الليل؛ لأن في الكلام دليلًا عليه، وقد قال في موضع آخر: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (¬9) [الزمر: 5]. ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {يُغْشِي} بفتح الغين، وتشديد الشين، وقرأ الباقون بإسكان الغين وتخفيف الشين. انظر: "السبعة" ص 282، و"المبسوط" ص 180 - 181، و"التذكرة" 2/ 419، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 269. (¬2) الغِشَاء: الغطاء والإغشاء، والتغشية: تغطية شيء بشيء. انظر: "العين" 4/ 429، و"المنجد" لكراع ص 274، و"تهذيب اللغة" 3/ 2668، و"الصحاح" 6/ 2446، و"مقاييس اللغة" 4/ 425، و"المجمل" 3/ 696، و"المفردات" ص 607، و"اللسان" 6/ 3261 (غشى). (¬3) في (ب): (إلباس الشيء بالشيء). (¬4) في (ب): (فما جاء). (¬5) في "الحجة" لأبي علي 4/ 27 - 28: (غشى فعل متعدٍّ إلى مفعول واحد فإذا نقلت الفعل المتعدي إلى المفعول الواحد بالهمزة أو بتضعيف العين تعدى إلى مفعولين، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعًا) ثم ذكر نحو ما ذكره الواحدي. (¬6) في (ب): (وما جاء). (¬7) في (أ): (وهو لا ينصرون)، وهو تصحيف. (¬8) في (ب): (ويغشى). (¬9) "معاني الزجاج" 2/ 342، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 42.

قال أبو علي: (وهذا (¬1) كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، ولم يذكر تقيكم البرد للعلم بذلك من الفحوى، ومثل هذا لا يضيق، وكل واحد من الليل والنهار منتصب بأنه مفعول به، والفعل قبل النقل غشي الليلُ النهارَ (¬2)، فإذا نقلت قلت: أغشى الله الليل النهار، أو غَشَّى الله الليل النهار، فصار ما كان فاعلًا قبل النقل مفعولًا أول) (¬3). وقوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، قال الليث: (الحث: الإعجال والاتصال (¬4)، تقول: حثثت فلانًا فاحْتث وهو حثيث محثوث: جاد سريع) (¬5). قال الأعشي: تَدَلَّى حثيثًا كَأَنَّ الصِّوَارَ ... أَتْبَعَهُ أَزْرِقيٌّ لَحِمْ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ب): (فهذا). (¬2) في (ب): (بالنهار). (¬3) "الحجة" لأبي علي 4/ 28، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 408، و"إعراب القراءات" 1/ 185، و"الحجة" لابن خالويه ص 156، ولابن زنجلة ص 284، و"الكشف" لمكي 1/ 464، ونقل قول الواحدي، والرازي في "تفسيره" 14/ 117. (¬4) في (ب): (والإيصال)، وعند الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 739، عن الليث: (الإعجال في الاتصال). (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 739، وانظر: "الجمهرة" 1/ 81، و"الصحاح" 1/ 278، و"المجمل" 1/ 221، و"مقاييس اللغة" 2/ 29، و"المفردات" ص 218، و"اللسان" 2/ 773 (حثث). (¬6) "ديوانه" ص 199، وهو في "تهذيب اللغة" 1/ 740، و"اللسان" 2/ 774 (حثث)، و"الدر المصون" 5/ 342، وجاء في حاشية "الديوان" (الصوار: القطيع من بقر الوحش، وحثيثًا: سريعًا والأزرقي اللحم: الصقر، والمعنى يشبه هذا الفرس بسرعة الصقر الشره إلى أكل اللحم) اهـ.

شبه الفرس في السرعة بالبازي (¬1). قال ابن عباس: (يريد (¬2) يطلب الليل النهار لا غفلة له) (¬3). و (¬4) قال المبرد: (يعني: يطلب الليل النهار دائبًا) (¬5). وقال غيره: (معنى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} هو أن يستمر الليل في طلب النهار على منهاج من غير فتور يوجب الاضطراب، كما يكون في السوق الحثيث) (¬6)، وهذا معنى قول ابن عباس: (لا غفلة [له)] (¬7). وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}، معنى التسخير: التذليل (¬8). قال الزجاج: (وخلق هذه الأشياء جاريات مجاريها بأمره) (¬9). وقال المفسرون: (معنى تسخيرهن: تذليلهن لما يراد منها من طلوع وأفول وسير ورجوع؛ إذ لَسْنَ قادرات ولا مميزات، وإنما يتصرفن في متصرفاتهن على حسب إرادة المدبر فيهن) (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب): (شبه الفرس لسرعته بالبازي). والبازي واحد البُزاة التي تَصِيد، ضَرْب من الصُّقور. انظر: "اللسان" 1/ 278 (بزا). (¬2) لفظ: (يريد) ساقط من (ب). (¬3) ينظر: "تنوير المقباس" 2/ 100، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 193، وأخرج الطبري 8/ 206 بسند جيد عن ابن عباس قال: (يطلبه سريعًا) اهـ. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 206، والسمرقندي 1/ 546، والماوردي 2/ 230، والرازي 14/ 117. (¬7) لفظ: (له) ساقط من (ب). (¬8) انظر: "الصحاح" 2/ 679، و"المفردات" ص 402، و"اللسان" 4/ 1963 (سخر). (¬9) "معاني الزجاج" 2/ 342. (¬10) انظر: الطبري 8/ 206، والسمرقندي 1/ 546، والماوردي 2/ 230، والبغوي 3/ 236، وابن الجوزى 3/ 214، و"الخازن" 2/ 240.

وقرأ (¬1) ابن عامر (¬2): {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} رفعًا كلها، والنصب (¬3) هو وجه الكلام لقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] فكما أخبر في هذه الآية أنه خلق الشمس والقمر، كذلك يُحمل على {خَلَقَ} (¬4) في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} [الأعراف:54]، وحجة ابن عامر قوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا في اَلسَّمَاوَاتِ وَمَا في اَلأَرْضِ} [الجاثية: 13]، ومما في السماء الشمس والقمر، فإذا أخبر بتسخيرها حسن الإخبار عنها به، كما أنك إذا قلت: ضربت زيدًا استقام أن تقول: زيد مضروب (¬5). وقوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، قال أصحاب المعاني: ({لَهُ الْخَلْقُ} لأنه خلقهم، وله أن يأمر فيهم بما أحب (¬6)، وله الحكم في الخلق يأمرهم بما يشاء)، وعلى هذا [المعنى] (¬7) {الْأَمْرُ} هاهنا الذي هو نقيض ¬

_ (¬1) في أصل (أ): (وقول) ثم صحح إلى (قرأ). (¬2) قرأ ابن عامر: ({وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} بالرفع في الأربع، وقرأ الباقون بالنصب غير أن التاء مكسورة من {مُسَخَّرَاتٍ} لأنها تاء جمع المؤنث السالم. انظر: "السبعة" ص 282 - 283، و"المبسوط" ص 181، و"التذكرة" 2/ 419، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 169. (¬3) وكذا قال مكي في "الكشف" 1/ 465، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 14/ 118. (¬4) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 300، و"إعراب النحاس" 1/ 617. (¬5) هذا نص كلام أبي علي في "الحجة" 4/ 29 غير أنه لم يختر قراءة النصب. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 408، و"إعراب القراءات" 1/ 185 - 186، و"الحجة" لابن خالويه ص 156 - 157، ولابن زنجلة ص 284. (¬6) في (ب): (بما حب). (¬7) لفظ: (المعنى) ساقط من (ب).

النهي (¬1)، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله لا يجوز أن يكون مخلوقًا فقال: فرّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر) (¬2) يعني: من جعل الأمر الذي هو قوله من جملة ما خلقه فقد كفر. وقال ابن عباس في تفسير قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (يريد: لم يبق شيء، من وجد بعد ذلك شيئًا فليأخذه) (¬3)، وهذا كلامه، ومعنى هذا: أن جميع (¬4) ما في العالم لله تعالى، فالخلق له لأنه خلقهم، وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره، وهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 206، والسمرقندي 1/ 546، والماوردي 2/ 230، والبغوي 3/ 236. (¬2) "تفسير سفيان بن عيينة" ص 249، وأخرجه الثعلبي في "الكشف" ص 191/ أ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 556، وزاد السيوطي في "الدر" 3/ 171 نسبته إلى ابن أبي حاتم، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 546، والبغوي 3/ 236، والقرطبي 7/ 221، و"الخازن" 2/ 240، وفي "أصول السنة" لأبي بكر الحميدي في مجلة الحكمة 1/ 286 قال سفيان بن عيينة: (القرآن كلام الله، ومن قال مخلوق فهو مبتدع لم نسمع أحدًا يقول هذا) اهـ. وقال النحاس في "معانيه" 3/ 42 - 43 في تفسير الآية: (فرق بين الشيء المخلوق وبين الأمر وهو كلام، فدل أن كلامه غير مخلوق، وهو قول "كن") اهـ. وقال القرطبي في "تفسيره" 7/ 222: (وفي تفريقه بين الخلق والأمر دليل بيّن على فساد قول من قال يخلق القرآن؛ إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقًا لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق وذلك عِيٌّ من الكلام ومستهجن ومستغث والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه) اهـ. وهذا هو الحق وأهل السنة والجماعة من السلف والخلف متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. انظر: "الإبانة" ص 21، و"الفتاوى" 12/ 37، و"شرح الطحاوية" لابن أبي العز ص 137. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (أ): (أن جميع الخلق ما في العالم). ثم ضرب على لفظ (الخلق) وهو الأولى. (¬5) ذكره الخازن 2/ 240.

وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، قال الليث: (تفسير {تَبَارَكَ اللَّهُ} تمجيد وتعظيم) (¬1). وقال أبو العباس: ({تَبَارَكَ اللَّهُ} ارتفع، والمتبارك المرتفع) (¬2). وقال ابن الأنباري: ({تَبَارَكَ اللَّهُ} باسمه يتبرك في كل شيء) (¬3). وقال الزجاج: ({تَبَارَكَ} تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة) (¬4). وكذلك روي عن ابن عباس: (ومعنى: البركة الكثرة في كل خير، وقال في موضع آخر: ({تَبَارَكَ} تعالى وتعاظم) (¬5). وقال أصحاب المعاني: ({تَبَارَكَ اللَّهُ} أي: ثبت ما به استحق التعظيم فيما لم يزل ولا يزال) (¬6)، وأصل الحرف من الثبوت والدوام، وقد ذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 319، وانظر: "العين" 5/ 368، و"الجمهرة" 1/ 325، و"الصحاح" 4/ 1575، و"المجمل" 1/ 121، و"مقاييس اللغة" 1/ 230، و"المفردات" ص 119، و"اللسان" 1/ 226 (برك). (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 319. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 319، وفي "الزاهر" 1/ 53، قال ابن الأنباري: (فيه قولان: قال قوم: معنى تبارك: تقدس أي: تطهير، والقدس عند العرب: الطهر، وقال قوم: معنى تبارك اسمك: تفاعل من البركة أي: البركة تُكسب وتنال بذكر اسمك) اهـ. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 319، ولم أقف عليه في "معانيه". (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 319، و"تفسير السمرقندي" 1/ 546، والبغوي 3/ 236، وابن الجوزي 3/ 214، و"الخازن" 2/ 240، و"تنوير المقباس" 2/ 100. (¬6) ذكره البغوي 3/ 236، و"الخازن" 2/ 240 عن المحققين.

55

55 - قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، التضرع: التذلل والتخشع، وهو إظهار الذل الذي في النفس من قولهم: ضرع فلان لفلان، وتضرع له إذا ما تخشع له وسأله أن يعطيه، ومضى الكلام في هذا في سورة الأنعام عند قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]، والخُفية: خلاف العلانية، وهو من أخفيت الشيء إذا سترته (¬1)، ويقال: خِفية أيضًا بالكسر (¬2) وقد قرئ بالوجهين (¬3). قال الزجاج: ({تَضَرُّعًا} تملقًا، وحقيقته: أن يدعوه خاضعين متعبدين) (¬4). قال (¬5) أهل العلم: والسنة (¬6) والأدب في الدعاء أن يكون خفيًا لهذه الآية، ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خير الدعاء ما خفي" (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (أي سترته). (¬2) انظر: "العين" 4/ 313، و"الجمهرة" 1/ 617 - 618، و"تهذيب اللغة" 1/ 1070، و"الصحاح" 6/ 2329، و"المجمل" 2/ 297، و"مقاييس اللغة" 2/ 202، و"المفردات" ص 289، و"اللسان" 2/ 1217 (خفي). (¬3) قرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام آية 63: {وَخُفْيَةً} بكسر الخاء، وقرأ الباقون بضمها في السورتين، وهما لغتان مشهورتان. انظر: "السبعة" ص 283، و"المبسوط" ص 170، و"التذكرة" 2/ 400، و"التيسير" ص 103، و"النشر" 2/ 259، وانظر: في "توجيه القراءات "الحجة" لأبي علي 4/ 29 - 30، و"معاني القراءات" 1/ 362، و"إعراب القراءات" 1/ 159، و"الحجة" لابن خالويه ص 141، ولابن زنجلة ص 255، و"الكشف" 1/ 435. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 344، وفيه: (قال قوم: تضرعوا تملقًا - حقيقته ..). (¬5) لفظ: (قال) ساقط من (ب). (¬6) انظر: "الفتاوى" 15/ 10 - 28، و"بدائع التفسير" 2/ 219 - 238. (¬7) لم أقف عليه بهذا اللفظ بعد طول بحث، وروي وكيع في "الزهد" 1/ 341 =

وقال أيضًا لقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء: "إنكم لستم تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، إنه معكم" (¬1). وقال الحسن: (إن الله يحب القلب النقي والدعاء الخفي، ولقد أثنى علي زكريا فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا , ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء و (¬2) ما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬3). وقال الزجاج في قوله {وَخُفْيَةً} (أي: واعتقدوا عبادته في أنفسكم؛ لأن الدعاء معناه: العبادة) (¬4). ¬

_ = رقم 118، وابن أبي شيبة 6/ 86 (29654)، وأحمد في "المسند" 3/ 44، و"الزهد" ص 16، وابن حبان في "صحيحه" 2/ 125 رقم 797، وابن السني في "القناعة" ص 26 - 27 رقم 28 - 29 بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي" اهـ. وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة لين الحديث، كثير الإرسال. انظر: "تهذيب التهذيب" 3/ 627، وانظر: "المفاسد الحسنة" للسخاوي ص 247. (¬1) أخرجه البخاري رقم (2992) كتاب الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر رقم (2704)، عن أبي موسى الأشعري قال: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فجعل الناس يجهرون التكبير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعا قريبًا وهو معكم") اهـ. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص 45 - 46، والطبري في "تفسيره" 8/ 206، 207 بسند جيد، وأخرجه وكيع في "الزهد" 2/ 616، وابن أبي شيبة 6/ 87 (29662)، بلفظ: (كانوا يجتهدون في الدعاء ولا تسمع إلا همسًا) اهـ. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 344، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 43.

56

وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: المجاوزين ما أمروا به، قال الكلبي: ({لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بالجهر في الدعاء) (¬1). وقال ابن جريج: (من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء) (¬2). 56 - قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: بالشرك بالله، وقطع الأرحام، وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توحيد الله والتصديق بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬3). قال المفسرون (¬4): (الإفساد في الأرض: العمل فيها بالمعاصي، وسفك الدماء، وقوله تعالى: {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} أي: بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسول، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله عز وجل)، وهذا معنى قول الحسن، والسدي، والضحاك (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 100، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 195، وابن الجوزي 3/ 215. (¬2) أخرجه الطبري 8/ 207 بسند جيد، ومحبة الله تعالى لا تنتفي عمن يجهر بالدعاء لمجرد الجهر، فالدعاء مأمور به مطلقًا {الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في كل شيء دعاء كان أو غيره، وأعظمهم الذين يدعون معه غيره أو يعتدون بترك التضرع والدعاء، وكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله، والدعاء خفية أحب إلى الله تعالى وأفضل، وفيه فوائد عظيمة وكثيرة، ذكرها ابن القيم كما في "بدائع التفسير" 2/ 219 - 233، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 784، والقرطبي 7/ 223. (¬3) في "تنوير المقباس" 2/ 100 نحوه. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 207، والسمرقندي 1/ 547، والماوردي 2/ 231. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 195، والبغوي 3/ 238، و"الخازن" 2/ 241 عن الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وذكره الماوردي 2/ 231، عن الحسن والكلبى، وذكره ابن عطية 5/ 532، عن الضحاك.

وقال عطية: (معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم) (¬1)، وطى هذا معنى قوله {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب (¬2). وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، معنى الخوف (¬3) الانزعاج لما لا يؤمن من المضار، ومعنى الطمع (¬4) توقع المحبوب، قال ابن عباس: ({وَادْعُوهُ خَوْفًا} من عقابه، {وَطَمَعًا} في ثوابه) (¬5). وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. قال الفراء: (رأيت العرب (¬6) تؤنث القريبة في النسب لا يختلفون فيها، فإذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منك قريب، في القرب والبعد ذكروا وأنثوا، وذلك أن ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 191 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 195، والبغوي 3/ 238. (¬2) والآية عامة في كل فساد قل أو كثر بعد أن أصلح الله خلق الأرض على الوجه الملائم لمنافع الخلق وما جاء من تعيين نوع الفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل على التمثيل وهو قول جمهور المحققين. انظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 532، والقرطبي 7/ 226، و"بدائع التفسير" 2/ 234، و"البحر" 4/ 311. (¬3) انظر: "العين" 4/ 312، و"تهذيب اللغة" 1/ 966، و"الصحاح" 4/ 1358، و"مقاييس اللغة" 2/ 230، و"المفردات" ص 303، و"اللسان" 2/ 1291 (خوف). (¬4) انظر: "العين" 2/ 27، و"تهذيب اللغة" 3/ 2218، و"الصحاح" 3/ 1254، و"مقاييس اللغة" 3/ 425، و"المفردات" ص 524، و"اللسان" 5/ 2704 (طمع). (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 100، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 195، وهو بدون نسبة في عامة كتب التفسير. انظر: الطبري 8/ 207، والسمرقندي 1/ 547، والماوردي 2/ 231، والبغوي 3/ 238، وابن الجوزي 3/ 216. (¬6) في (ب): (القراء)، وهو تحريف.

القرب إذا لم يكن في النسب كان في معنى المكان، فكأنه في تأويل هي: في مكان قريب، فجعل القريب خلفًا من المكان، كما قال الله (¬1) تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]، ولو أنث ذلك فبُني على بعدت فهي بعيدة، وقربت فهي قريبة، كان صوابًا حسنًا. وقال عروة بن حزام (¬2): عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (¬3) فمن أنَّث جمع وثنى، ومن ذكر لم يُثنِّ ولم يجمع؛ لأنه ذهب إلى تأويل المكان) (¬4)، وهذا الذي ذكره الفراء هو مذهب أهل الكوفة، وبه قال ابن السكيت. أخبرني العروضي (¬5)، قال: أخبرني الأزهري عن المنذري (¬6) عن الحراني (¬7) عن ابن السكيت قال: (تقول العرب: هو قريب مني، وهما ¬

_ (¬1) لفظ: (الله) ساقط من (ب). (¬2) عُروة بن حِزام بن مُهاجر العُذْرى، شاعر إسلامي أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى، وعامة شعره في بنت عمه عفراء، توفي سنة 30 هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 413، و"الأغاني" 24/ 122، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 415، و"الأعلام" 4/ 226. (¬3) الشاهد في "ديوانه" ص 5، و"معاني الفراء" 1/ 381، و"تفسير الطبري" 8/ 208، و"الأغاني" 24/ 129، و"تهذيب اللغة" 3/ 2916، و"الخصائص" 2/ 412، و"تفسير الماوردي" 2/ 232، وابن عطية 5/ 534، وابن الجوزي 3/ 216، و"اللسان" 6/ 3566 (قرب)، و"البحر المحيط" 4/ 313، و"الدر المصون" 5/ 346. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 381. (¬5) العروضي: هو أحمد بن محمد الصفار. تقدمت ترجمته. (¬6) المنذري: هو محمد بن أبي جعفر الهروي. تقدمت ترجمته. (¬7) الحراني: هو عبد الله بن الحسن الأموي. تقدمت ترجمته.

قريب مني، وهم قريب (¬1) مني، وكذلك المؤنث، توحد قريبًا وتذكره؛ لأنه وإن كان فاعلًا فهو في تأويل (هو في مكان قريب مني)، وقد يجوز قريبة وجيدة بالهاء تبنيها على قربت وبعدت) (¬2). وأما مذهب البصريين فقال الزجاج: (إنما قيل: {قَرِيبٌ} لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي) (¬3). ونحو هذا قال الأخفش قال: الرحمة بمعنى الإنعام (¬4)، فلذلك ذكر. ومثل هذا قال سعيد بن جبير: (الرحمة هاهنا: الثواب) (¬5). وأما مذهب أهل الكوفة فقال الزجاج (¬6): (وهو غلط؛ كل ما قرب في مكان أو نسب فهو جار على ما يصيبه من التأنيث والتذكير) (¬7). والذي قاله الفراء هو مذهب أبي عمرو بن العلاء (¬8)، وقول الكسائي (¬9) وأبي عبيدة (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (قرايب)، وهو تحريف. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2916 (قرب)، وانظر: "إصلاح المنطق" ص 119. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 344. (¬4) في "معاني الأخفش" 2/ 300، وكذلك عند الزجاج عن الأخفش (بمعنى المطر). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 195، والبغوي 3/ 238، و"الخازن" 2/ 242، وأبو حيان في "البحر" 4/ 313. (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 345. (¬8) ذكره الثعلبي في "الكشف" 191 ب، والبغوي 33/ 238، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2915. (¬9) لم أقف عليه. (¬10) في (ب): (أبو عبيد)، وفي مجاز القرآن 1/ 216 قال: (هذا موضع يكون في =

وقال النضر بن شميل (¬1): (الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ}) (¬2) [البقرة: 275]، وهذا راجع إلى قول الزجاج؛ لأنه الموعظة أريد بها الوعظ، فلذلك ذكر (¬3) كما قال: إنَّ السَّمَاحَةَ والمُرُؤءَةَ ضمِّنا (¬4) قيل: أراد بالسماحة السخاء، وبالمروءة الكرم (¬5). ¬

_ = المؤنثة والثنتين والجميع منها بلفظ واحد ولا يدخلون فيها الهاء لأنه ليس بصفة، ولكنه ظرف لهن، وموضع والعرب تفعل ذلك في قريب وبعيد، فإذا جعلوها صفة في معنى مقتربة قالوا: هي قريبة، وهما قريبتان، وهن قريبات) اهـ. (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 191 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 196، والرازي 14/ 137، والقرطبي 7/ 227، وأبو حيان في "البحر" 313، والسمين في "الدر" 5/ 344. (¬2) لفظ: (من ربه) ساقط من (أ). (¬3) في (ب): (ذكرا). (¬4) الشاهد لزياد الأعجم في "ديوانه" ص 54، و"معاني الفراء" 1/ 128، و"الشعر والشعراء" ص 280، و"إعراب النحاس" 1/ 617، و"ذيل أمالي القالي" 3/ 9، و"المدخل" للحدادي ص 168، و"تفسير الثعلبي" 191 ب، والرازي 14/ 137، وعجزه: قَبْرًا بِمَرْوَ عَلَى الطَرِيقِ الوَاضِحِ والشاهد قوله (ضمنًا) والقياس ضمنتا؛ لأن خبر عن مؤنث وهو السماحة والمروءة. (¬5) ذكر هذه الوجوه في الآية عامة أهل اللغة والتفسير. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 208، و"إعراب النحاس" 1/ 617، و"إعراب القراءات" 1/ 187، و"تفسير السمرقندي" 1/ 547، و"الخصائص" 2/ 411 - 412، و"المشكل" 1/ 294 وقد أطال ابن القيم -رحمه الله تعالى- كما في "بدائع التفسير" 2/ 232 - 258، فذكر اثني عشر مسلكًا في الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله: (قريب) وهو مذكر، وبين ما فيها من الصحيح والمقارب والسقيم، واختار (إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر تبعًا له، ومعنى من "معانيه"، فالأصل: إن =

57

57 - قوله تعالى: {وهُوَ الذي يرسل الرياح نشرًا (¬1) بين يدي رحمته}، مضى الكلام في الرياح في سورة البقرة (¬2) بأبلغ الاستقصاء، فأما قوله: {نُشْرًا}. يقال (¬3) أنشر الله الريح مثل أحياها فنشرت هي أي: حييت والإنشار بمعنى: الإحياء يستعمل في الريح، وكذلك لفظ الإحياء (¬4). قال المرّار (¬5): وَهَبَّتْ لَهُ رِيحُ الجنُوبِ وأحْيَيَتْ ... لَهُ رَيْدَةُ يُحْي المِيَاةَ نَسِيمُهَا (¬6) ¬

_ = الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الوجود، وسوغ ذلك ظهور المعنى والرحمة صفة قائمة بالموصوف لا تفارقه، وقرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى، وقربه يستلزم قرب رحمته وهما متلازمان، ففي حذف التاء التأكيد على أن ذلك يستلزم القربين قربه وقربه رحمته، والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص، استلزم الأعم هو قرب رحمته، ففي العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله). (¬1) في (ب): {بُشْرًا}، وهي قراءة سبعية كما في "السبعة" ص 283 وستأتي. (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 101 أ. (¬3) في (ب): (فيقال). (¬4) انظر: "العين" 6/ 251، و"المنجد" لكراع ص 339، و"الجمهرة" 2/ 734، و"تهذيب اللغة" 4/ 3571، و"الصحاح" 2/ 827، و"المجمل" 3/ 868، و"مقاييس اللغة" 5/ 430، و"المفردات" ص 805، و"اللسان" 7/ 4423 (نشر). (¬5) المَرَّارُ بن سعيد بن حبيب الفقْعسي، أبو حسان، شاعر أموي مكثر. انظر: "الشعر والشعراء" ص 467، و"الأغاني" 10/ 366، و"معجم المرزباني" ص 304، و"الأعلام" 7/ 199. (¬6) الشاهد في "الحجة" لأبي علي 4/ 35 - 36، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 217، و"اللسان" 3/ 1790 (ريد)، و"البحر المحيط" 4/ 316. وَرْيدَة أي: ريح لينة. انظر: "اللسان" 3/ 1790 (ريد).

ومما يدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت كما وصفت بالحياة. قال: إني لأَرْجُو أَنْ تَمُوتَ الرِّيحُ ... فَأُقْعُدُ اليَوْمَ وأَسْتَرِيحُ (¬1) فقوله: {نُشُرًا} جمع: نشُور مثل رَسُول ورُسُل، والنشور بمعنى: المنتشر؛ كالرَّكوب معنى: المركوب، فكأن المعنى: رياح منتشرة، فمن قرأ {الرِّيَاحَ} (¬2) بالجمع حسن وصفها بقوله: {نُشُرًا} لأنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ {الرِّيح} واحدة {نُشُرًا} جمعًا كقراءة ابن كثير، فإنه أراد بالريح الكثرة كقولهم: كثر الدرهم والدينار، والشاء (¬3) والبعير، وكقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع، كقول عنترة: فِيهَا اثْنَتَانِ وأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُودًا كَخَافِيَةِ الغُرابِ الأَسْحَمِ (¬4) ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائله، وهو في "الحجة" لأبي علي 4/ 36، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 217، و"اللسان" 7/ 4295 (موت) و7/ 4423 (نشر)، و"البحر المحيط" 4/ 317، و"الدر المصون" 5/ 348. (¬2) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {الرَّيَاحَ} على التوحيد، وقرأ الباقون: {الرِّيَاحَ} بالجمع، وقرأ عاصم {بُشْرًا} بضم الباء وسكون الشين، وقرأ ابن عامر: {نُشْرًا} بضم النون وسكون الشين، وقرأ حمزة والكسائي: {نَشْرًا} بفتح النون، وسكون الشين، وقرأ الباقون: {نُشُرًا} بضم النون والشين. انظر: "السبعة" ص 283، و"المبسوط" ص 181، و"التذكرة" 2/ 420، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 269 - 270. (¬3) في (أ): (الشاة)، وأصل النص في "الحجة" لأبي علي 4/ 23 وفيه: الشاء. (¬4) "ديوانه" ص 17، و"الحجة" لأبي علي 4/ 33، و"الدر المصون" 5/ 350، والشاهد من معلقته المشهورة قال النحاس في "شرح المعلقات" 2/ 13 - 14: (الحلوبة المحلوبة يستعمل في الواحد والجميع على لفظ واحد، والخوافي أواخر =

وقرأ ابن عامر: {نُشْرًا} خفف الشين كما يقال: كُتْبٌ ورُسْل، وقرأ حمزة والكسائي {نَشْرًا}؛ والنشر مصدر نشرت الشيء ضد طويته، ويراد بالمصدر هاهنا المفعول، والرياح كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية فأرسلها الله تعالى منشورة بعد إنطوائها، فقوله: {نَشْرًا} مصدر حال من الرياح، ويجوز أن يكون النشر هاهنا الذي هو الحياة من قولهم: أنشر الله الميت فنشر. قال الأعشى: يَا عَجَبَا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (¬1) فإذا حملته على ذلك -وهو الوجه- كان المصدر يراد به الفاعل، كما تقول: أتاني ركضًا أي: راكضًا، ويجوز أن يكون انتصاب قوله: {نَشْرًا} انتصاب المصادر لا الحال من باب (صُنْعَ الله)؛ لأنه إذا قال: {يُرْسِلُ اَلريَاحَ} دل هذا الكلام على نشر الريح نشرًا، وقرأ عاصم {بُشْرًا} جمع بشيرًا على (بُشْر) من قوله: {يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] أي: تبشر بالمطر والرحمة. قال الفراء: (النُشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب) (¬2). قال ابن الأنباري: (واحدها نشور، وأصل هذا من النَّشْر ¬

_ = ريش الجناح مما يلي الظهر، والأسحم: الأسود) اهـ. وانظر: شرحه في "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 305. (¬1) "ديوانه" ص 93، و"مجاز القرآن" 2/ 70، و"الجمهرة" 2/ 734، و"الاشتقاق" ص 242، و"تهذيب اللغة" 4/ 3570، و"الصحاح" 2/ 828، و"الخصائص" 3/ 325، و"مقاييس اللغة" 5/ 430، و"اللسان" 7/ 4423 (نشر)، و"الدر المصون" 5/ 347 وصدره: حتَى يقول النَّاسُ مِمَّا رَأَوا. وفي "حاشية الديوان": (الناشر الذي بعث من قبره، والمعنى: وعندئذٍ يتعجب الناس مما يرون فيقولون: يا عجبا للميت الذي بعث من جديد) اهـ. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 381.

وهو الرائحة الطيبة) (¬1). ومنه قول امرئ القيس: ............ ونَشْرَ القُطُرْ (¬2) وقال أبو عبيدة: ({نُشُرًا} أي: متفرقة من كل جانب) (¬3). قال أبو بكر: (هي المنتشرة الواسعة الهبوب، والنشر: التفريق، ومنه نشر الثوب، ونشر الخشبة بالمنشار، والنشر المنتشر) (¬4). وقرأ حمزة والكسائي: {نَشْرًا} يجوز أن يكون من باب حذف المضاف على معنى: ذوات نشر أي: ريح طيبة (¬5). وقوله تعالى: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، قال ابن عباس: (يريد: بين يدي المطر) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "ديوانه" ص 69، و"المنجد" لكراع ص 339، و"تفسير الطبري" 8/ 209، و"تهذيب اللغة" 4/ 3571، و"الصحاح" 2/ 827، و"اللسان" 7/ 4423 (نشر)، والخزانة 9/ 231 وتمامه: كَأنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغَمَام ... ورِدحَ الخُزَامىَ ........ وفي "حاشية الديوان": (المدام: الخمر، وصوب الغمام: ماء السحاب، والخزامى: خيري البر وهو نبت حسن الريح، ونشر القطر: ريح العود الذي يتبخر به) اهـ. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 217، ومثله قال اليزيدي في "غريب القرآن" ص 146. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 218، وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 301، و"تفسير غريب القرآن" ص 178، و"معاني الزجاج" 2/ 345، و"تفسير الطبري" 8/ 209، و"نزهة القلوب" للسجستاني ص 454، و"معاني النحاس" 3/ 44. (¬5) ما تقدم في توجيه القراءات هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 32 - 39، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 409، و"إعراب القراءات" 1/ 186، و"الحجة" لابن خالويه ص 157، ولابن زنجلة ص 285، و"الكشف" 1/ 465. (¬6) لم أقف عليه.

وقال الكلبي: (قدّام مطره) (¬1). وقال أبو إسحاق: (أي: بين يدي المطر الذي هو رحمته) (¬2) قال أبو بكر: (اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة، يقال: تكون هذه الفتن بين يدي الساعة، يريدون قبيل (¬3) أن تقوم، تشبيهًا وتمثيلاً، إذ كانت يد الإنسان تتقدمانه، والرياح تتقدم المطر وتؤذن به) (¬4). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا}، يقال: أقلَّ فلان الشيءَ أي (¬5) حَمَله، وكذلك استقَلَّه (¬6)، والمعنى: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابًا ثقالًا بما فيها من الماء، قاله المفسرون (¬7). وقوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي: سقنا السحاب، والسحاب لفظه مذكر وإن كان جمع سحابة، لذلك ذكَّر الكناية، وهو من باب تمر وتمرة وجَوْز وجَوْزة (¬8). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 100، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 196، وهذا قول أكثر المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 210، والسمرقندي 1/ 547، والبغوي 3/ 238، وابن عطية 5/ 539. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 345، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 45. (¬3) في (ب): (قبيل أن يكون تقوم)، وهو تحريف. (¬4) ذكره الخازن في "تفسيره" 2/ 243، ونحوه قال الطبري في "تفسيره" 8/ 210. (¬5) في (ب): (إذا حمله). (¬6) انظر: "المفردات" ص 681، و"اللسان" 6/ 3738 (قلل). (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 210، و"معاني الزجاج" 2/ 345، و"النحاس" 3/ 45، و"تفسير السمرقندي" 1/ 547. (¬8) أصل السَّحْب الجَرُّ، ومنه السحاب لجره الماء ولجر الريح له وانسحابه في الهواء =

{لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}. قال ابن عباس: (يريد: ليس فيه نبات) (¬1). وقال الكلبي: (إلى مكان لا ينبُت) (¬2). وقال أبو بكر: (أي: سقنا السحاب لبلدِ وإلى بلدٍ محتاج إلى المطر لانقطاعها عنه) (¬3). فمنهم من يجعل اللام بمعنى إلى، كما يقال: هديته للدين وإلى الدين، ومنهم من يجعله لام أجل فيقول: سقناه لأجل بلدٍ ميتٍ (¬4)، وأما البلد فكل موضع من الأرض عامرٍ أو غير عامر خالٍ أو مسكونٍ فهو بلد، والطائفة منه (بَلْدة)، والجميع البلاد، والفلاة تسمى: بلدة (¬5)؛ قال الأعشى (¬6): ¬

_ = والجمع سحاب وسُحُب وسحائب. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1637، و"الصحاح" 1/ 146، و"مقاييس اللغة" 3/ 142، و"المفردات" ص 399، و"اللسان" 4/ 1948 (سحب). (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 101. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 197، وابن الجوزي 3/ 219. (¬4) انظر: "كتاب اللامات" للزجاجي ص 144، وللهروي ص 23، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 317: (اللام في {لِبَلَدٍ} عندي لام التبليغ كقولك قلت لك) اهـ. (¬5) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" 1/ 383. وانظر: "العين" 8/ 42، و"المنجد" ص 143، و"الجمهرة" 1/ 301، و"الصحاح" 2/ 449، و"المجمل" 1/ 134، و"مقاييس اللغة" 1/ 298، و"المفردات" ص 142، و"اللسان" 1/ 340 (بلد). (¬6) الشاهد في "ديوانه" ص 146، و"تهذيب اللغة" 1/ 383، و"تفسير الرازي" 14/ 142، و"اللسان" 1/ 341 (بلد)، و"الدر المصون" 5/ 352، وهو من معلقة أعشى قيس المشهورة، وفي "حاشية الديوان": (مثل ظهر الترس: شبهها بظهر الدرع في انبساطها وإقفارها لأنها لا شيء فوق ظهرها، وحافاتها: نواحيها، والزجل: الأصوات المختلطة) اهـ.

وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... للجِنِّ بِاللَّيْلِ في حَافَاتِهَا (¬1) زَجَلُ وقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ}، قال الزجاج وابن الأنباري (¬2): (جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء؛ لأن السحاب آلة لإنزال الماء) (¬3). وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. الظاهر أن الكناية تعود إلى الماء؛ لأن إخراج الثمرات كان بالماء، وقال الزجاج: (وجائز أن يكون فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات؛ لأن البلد ليس يخص به هاهنا بلد دون غيره) (¬4). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} أي: مثل ذلك الإخراج الذي أشرنا إليه نخرج الموتى. وقال أبو بكر: (أي: نحيي الموتى مثل ذلك الإحياء الذي وصفناه في البلد الميت، فإحياء الأموات بعد أن صاروا رفاتا في التراب كإحياء الأرض بالنبات) (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (في حافتها). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 197، وابن الجوزي 3/ 219، والرازي 14/ 142، و"الخازن" 2/ 243. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 345، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 45، والسمرقندي 1/ 548، والظاهر عودة الضمير إلى أقرب مذكور وهو بلد أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء، أفاده أبو حيان في "البحر" 4/ 317 - 318. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 345، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 45، والأول أظهر وهو اختيار الزجاج في "معانيه"، والسمرقندي 1/ 548، وابن عطية 5/ 540، 541، وقال السمين في "الدر" 5/ 351: (الأحسن هو العود على الماء ولا ينبغي أن يعدل عنه) اهـ. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 197، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 346، و"بدائع التفسير" 2/ 258.

58

وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: كي تتعظوا) (¬1). وقال الزجاج: (أي: لعلكم بما بينا (¬2) لكم تستدلون على توحيد الله عز وجل وأنه يبعث الموتى. و (لعل) ترجٍ، والله يعلم أيتذكرون أم لا، وإنما خوطب العباد على قدر علمهم وما يرجوه بعضهم من بعض) (¬3)، وقد مضت هذه المسألة في سورة البقرة (¬4). 58 - وقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} الآية. قال المفسرون: (هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض العذبة التربة وبالأرض السبخة الملحة)، وهو قول ابن عباس (¬5) ومجاهد (¬6) والحسن (¬7) وقتادة (¬8) والسدي. قال أبو بكر: (فشبه المؤمن الذي إذا سمع القرآن فوعاه وعقله وانتفع به فبان أثره عليه بالبلد الطيب؛ إذ كان البلد الطيب يُمرع ويُخصب ويحسن ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 101. (¬2) في (ب): (لما بينا). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 246، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 46. (¬4) انظر: "البسيط" البقرة: 21. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 212، وابن أبي حاتم 5/ 1503 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد والسدي. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 239، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 173. (¬7) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 25، والقرطبي 4/ 231، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 197، والماوردي 2/ 232، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي. (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 320، والطبري 8/ 212 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 173.

أثر المطر فيه، وشبه الكافر الذي يسمع القرآن ولا يؤثر فيه أثرًا محمودًا بالبلد الخبيث؛ إذ كان لا يمرع ولا يخصب ولا يتبين أثر المطر فيه) (¬1). وقال الحسين بن الفضل: (شبه الله المؤمن والكافر بالأرض، وشبه نزول القرآن بالمطر، وعلى قدر طيبة (¬2) التربة ورداءتها زكاء النبت وزيادته) (¬3). وهذا الذي ذكره أبو بكر والحسين هو (¬4) معنى قول قتادة (¬5). وقال الكلبي: (هذا مثل للمؤمن والكافر، المؤمن يعمل عمله طوعًا لله بإذن ربه من غير كد ولا عناء، والكافر لا يعمل عمله إلا في شدة وكدّ لغير الله) (¬6)، وفي قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} دليل على أن ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون ذلك إلا بتوفيق من (¬7) الله تعالى. وقوله تعالى: {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}. قال الكلبي: ({وَالَّذِي خَبُثَ} السبخة من الأرض) (¬8). قال الفراء: (يقال: خَبُث الشيء يَخْبثُ خُبْثًا وخَبَاثة) (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 197، وابن الجوزي 3/ 220 عن المفسرين. (¬2) في (ب): (طيب). (¬3) لم أقف عليه، وانظر: "الأمثال" للحسين بن الفضل البجلي ص 44. (¬4) في (أ): (وهو). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 101، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 25. (¬7) لفظ: (من) ساقط من (ب). (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 101، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 198. (¬9) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 145، عن الفراء ولم أقف عليه في "معانيه"، والخَبيث والخُبْث، الرِديء خلاف الطيب، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 973، عن الليث قال: (خَبُث الشيء يخبث خبْثًا فهو خبيث، وبه خُبْث وخباثة، وأخبث فهو مُخْبِث إذا صار ذا خُبْث وشر) اهـ. وانظر: "العين" 4/ 248 - 249، و"الجمهرة" =

وقوله تعالى: {إِلَّا نَكِدًا} النكد العسر الممتنع (¬1) من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الفراء: (النَّكَد المصدر يقال: نَكِد نَكَدًا فهو نَكِدٌ) (¬2). وقال الليث: (النكد الشؤم واللؤم وقلة العطاء وألا يهنأه من يعطاه، ورجل أنَكَد ونَكِد) (¬3). وأنشد: وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لاَ خَيرْ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ (¬4) الأزهري: (المنكود: العطاء النزر القليل) (¬5). وقال أبو بكر: (النكد معناه في اللغة: العسر المبطي البعيد الخير، وهو في صفة البلد) (¬6). وأنشد غيره: ¬

_ = 1/ 258، و"الزاهر" 2/ 139، و"الصحاح" 1/ 281، و"مقاييس اللغة" 2/ 238، و"المفردات" ص 272، و"اللسان" 2/ 1088 (خبث). (¬1) انظر: "الجمهرة" 2/ 680، و"الصحاح" 2/ 545، و"المجمل" 3/ 884، و"مقاييس اللغة" 5/ 475 - 476، و"المفردات" ص 833 (نكد). (¬2) انظر: "معاني الفراء" 1/ 382. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3660، وانظر: "العين" 5/ 331 (نكد) وقوله (من يعطاه) الأولى ما يعطاه. (¬4) لم أعرف قائله، وهو في "العين" 5/ 331، و"تفسير الطبري" 8/ 211، و"تهذيب اللغة" 4/ 3660، و"تفسير الماوردي" 2/ 232، وابن عطية 5/ 542، والرازي 14/ 145، و"اللسان" 8/ 4538 (نكد)، و"البحر المحيط" 4/ 315، و"الدر المصون" 5/ 352. (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 3660، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 46: (النَكِد في اللغة: النزر القليل) اهـ. ونحوه في "مجاز القرآن" 1/ 217، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"نزهة القلوب" ص 445، و"تفسير المشكل" ص 85. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 198 مع إنشاد الشاهد.

59

لاَ تُنْجِزُ الوعْدَ إنْ وعَدْتَ وإن ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تَافِهًا نكدَا (¬1) فقوله: نكدًا نُصب على الحال، وكذلك في الآية كما تقول: لا يخرج فلان إلا راكبًا (¬2). قال قتادة وأبو روق (¬3): ({إِلَّا نَكِدًا} إلا عسرًا). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} مضى معنى تصريف الآيات في مواضع. وقوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. قال عطاء: (يريد لنعم الله، ويوحدونه، ويطيعون أمره) (¬4). وقال بعض أهل النظر: (ذكر الشكر في آخر الآية، إشارة إلى نعمتين مذكورتين في الآية للمؤمن، وهو أن الله تعالى لم يجعله كالبلد الخبيث، والثاني: أنه أذن له في الإيمان والطاعات كما أذن للبلد الطيب في إخراج النبات) (¬5). 59 - قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا ¬

_ (¬1) لم أعرف قائله. وهو في "مجاز القرآن" 1/ 217، و"تفسير الطبري" 8/ 211، وابن عطية 5/ 542، وابن الجوزي 3/ 220، و"اللسان" 1/ 436 (تفه)، و"تفسير الخازن" 2/ 244، و"البحر المحيط" 4/ 315، و"الدر المصون" 5/ 352. (¬2) النصب على الحال هو قول الأكثر، ويجوز نصبه على المصدر على معنى ذا نكد. انظر: "إعراب النحاس" 1/ 620، و"المشكل" 1/ 295، و"البيان" 1/ 366، و"التبيان" ص 380، و"الفريد" 2/ 319، و"الدر المصون" 5/ 352. (¬3) لم أقف عليه عنهما. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 212، والسمرقندي 1/ 548، والرازي 14/ 145.

لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [قرئ: {غَيْرُهُ} (¬1)، رفعًا وخفضًا (¬2)، فأما من خفض فقال الفراء: (يجعل (غير) نعتًا للإله، وقد يرفع فيجعل تابعًا للتأويل في {إِلَهٍ}، ألا ترى أن الإله لو نزعت منه (مِن) (¬3) كان رفعًا) (¬4)، وقال أبو إسحاق: (الرفع على معنى: ما لكم إله غيره ودخلت (مِنْ) مؤكدةَ، و (مِنْ) خفض جعله صفة لإله) (¬5) فقد اتفقا كما ترى على أن (غير) في القراءتين صفة لإلهٍ، الرفع على الموضع، والخفض على (¬6) اللفظ، ولا بد من إضمار محذوف في الكلام، وهو خبر {ما}؛ لأنك إذا جعلت (غير) من صفة الإله، لم يكن للنفي خبر، والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف كقولك: (زيد العاقل)، وتسكت حتى تذكر خبره، ويكون التقدير: ما لكم من إله غيره في الوجود، ونحو ذلك لا بد من هذا الإضمار (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (قرئ غير). (¬2) قرأ الكسائي {غيرِه} بكسر الراء، وقرأ الباقون برفعها. انظر: "السبعة" ص 284، و"المبسوط" ص 181، و"التذكرة" 2/ 420، و"التيسير" ص 110، و"النشر" 2/ 270. (¬3) لفظ: (من) ساقط من (ب). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 382. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 348. (¬6) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 621، و"المشكل" 1/ 295، و"البيان" 1/ 367 , و"التبيان" ص 380، و"الفريد" 2/ 320. (¬7) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 40، وقال السمين في "الدر" 5/ 354: (في الخبر وجهان: أظهرهما أنه {لَكُمْ}، الثاني: أنه محذوف أي: ما لكم من إله في الوجود أو في العالم غير الله و {لَكُمْ} على هذا تخصيص وتبيين) اهـ.

62

وقال أبو علي: (وجه من قرأ بالرفع قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62]، فكما أن قوله: {إِلَّا اللَّهُ} بدل من قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ}، كذلك قوله: {غَيْرُ اللهِ} (¬1) يكون بدلاً من قوله {مِنْ إِلَهٍ} و (غير) يكون بمنزلة الاسم الذي بعد إلا). وعلى ما ذكره أبو علي (غير) يكون رفعًا بالاستثناء، ولا يحتاج إلى إضمار الخبر، قال: (وهذا الذي ذكرنا أولى أن يُحمل عليه من أن يجعل غير صفةً لإله على الموضع (¬2). 62 - قوله تعالى (¬3): {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي}. وقرأ أبو عمرو (¬4) {أُبَلِّغُكُمْ} مخففة من الإبلاغ، وكلا الأمرين قد جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] والتشديد قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬5) [المائدة: 67]. ¬

_ (¬1) كذا في "النسخ"، و"الحجة" لأبي علي (4/ 40) والأولى: كذلك قوله: {غَيْرُهُ} وجاء في سورهِ الأعراف الآية (3) قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}؛ قرأ حمزة والكسائي {غَيْرِ} خفضًا، وقرأ الباقون رفعًا. انظر: "السبعة" ص 284. (¬2) "الحجة" لأبي علي 4/ 40، وقال: (لأن كون (إلا) استثناء أعرف وأكثر من كونها صفة، وإنما جعلت صفة على التشبيه بغير) اهـ. وانظر: "الحجة" لأبي علي 4/ 285، و"معاني القراءات" 1/ 410، و"إعراب القراءات" 1/ 189، و"الحجة" لابن خالويه ص 157، ولابن زنجلة ص 286، و"الكشف" 1/ 467. (¬3) تنبيه: (لم يتعرض المؤلف -رحمه الله تعالى- لتفسير باقي الآية: 59 والآيتين: 60 و61). (¬4) قرأ أبو عمرو: {أُبَلِّغُكُمْ} بسكون الباء، وتخفيف اللام، وقرأ الباقون بفتح الباء، وتشديد اللام، انظر: "السبعة" ص 284، و"المبسوط" ص 181، و"التذكرة" 2/ 420، و"التيسير" ص 111، و"النشر" 2/ 270. (¬5) انظر: "الحجة" لأبي علي 4/ 41 - 42 و"معاني القراءات" 1/ 410، و"إعراب القراءات" 1/ 190، و"الحجة" لابن خالويه ص 157، ولابن زنجله ص 286، و"الكشف" 1/ 467.

وقوله تعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}. قال الفراء: (والعرب لا تكاد تقول: نصحتك، إنما يقولون: نصحت لك، فأنا أنصح لك نصيحة ونصاحةً ونصحًا وقد يجوز نصحتك) (¬1). قال النابغة: نصحتُ بَنِي عَوْفٍ فلم يَتَقَبَّلُوا ... رسولي ولم تَنْجَحْ لديهم رسَائِلي (¬2) ومعنى النصح: إخلاص النية من شائب الفساد في المعاملة وهو خلاف الغش (¬3). قال ابن عباس: (يريد: أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يريد: إني أعلم أن ربي غفور رحيم لمن رجع عن معاصيه، وأن عذابه أليم شديد لمن أصرّ على معاصيه) (¬4). وقال أهل النظر: (في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} حثٌّ لهم ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 92 فيه: (العرب لا تكاد تقول: شكرتك إنما تقول: شكرت لك ونصحت لك ولا يقولون: نصحتك وربما قيلتا قال النابغة ...) اهـ. يقال: نَصَحْتُك نُصْحا ونَصَاحة وهو باللام أفصح، والاسم النصيحة. انظر: "الصحاح" 1/ 410، و"كتاب الأفعال" للسرقسطي 3/ 192. (¬2) "ديوان النابغة الذبياني" ص 128، و"الصحاح" 1/ 410، و"تفسير الرازي" 14/ 151، و"اللسان" 7/ 4438 (نصح)، وفي "الديوان" (وصاتي) بدل (رسولي)، و (وسائلي) بدل (رسائلي)، وبنو عرف قومه وهم بنو عوف بن سعد ابن ذبيان. انظر: "نهاية الأرب" ص 344. (¬3) انظر: "العين" 3/ 119، و"الجمهرة" 1/ 544، و"تهذيب اللغة" 4/ 3582، و"المجمل" 3/ 780، و"المقاييس" 5/ 435، و"المفردات" ص 808 (نصح). (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 199، وفي "تنوير المقباس" 2/ 102 نحوه.

63

على طلب العلم من جهته، وتحذير من مخالفته) (¬1). 63 - قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: موعظة من الله) (¬2). وقوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ}. قال الفراء: ({عَلَى} هاهنا بمعنى: (مع) كما تقول: جاءنا الخير على وجهك ومع وجهك، ويجوزان جميعًا) (¬3)، وقال ابن قتيبة: (أي: على لسان رجل منكم) (¬4). وقال غيره (¬5): (معناه: ذكر من ربكم منزل على رجل)، فـ (على) من صلة الإنزال المحذوف، وعلى هذا دل كلام ابن عباس في هذه الآية؛ لأنه قال في قوله: {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ}: (يريد أوحى الله إليه، وبعثه إليكم لينذركم) (¬6). وقوله: {مِنْكُمْ} أي: يعرفون نسبه، فهو منكم نسبًا. 64 - وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}، قال ابن عباس: (عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 151. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 199، والبغوي 3/ 241. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 383، وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 214. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 179، وهو قول مكي في "تفسير المشكل" ص 85. (¬5) الظاهر أنه قول الطبري 8/ 214، قال: (أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعظة يذكركم بما أنزل ربكم على رجل منكم) اهـ. (¬6) في "تنوير المقباس" 2/ 102 نحوه. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 200، والبغوي 3/ 242، وابن الجوزي 3/ 221، والرازي 14/ 153، و"الخازن" 2/ 246.

وقال الزجاج: (أي: قد عَمُوا عن الحق والإيمان) (¬1). قال الليث: (يقال (¬2) رجل عمٍ إذا كان أعمى القلب) (¬3). وقال أبو معاذ النحوي (¬4): (رجل عم في أمره لا يبصره (¬5)، ورجل أعمى في البصر)، قال زهير (¬6): وَلَكِنِّني عَنْ عِلْمِ مَا فيِ غَدٍ عَمِ وعلى هذا الوجه فسر ابن عباس؛ حيث قال: (عميت قلوبهم) (¬7). وهو اختيار الحسين (¬8) بن الفضل فإنه قال: (عمين في البصائر وأعمى في البصر) (¬9)، ألا ترى أن قوم نوح لم يكونوا أَضِرَّاءَ مكافيف، إنما وصفوا ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 347، وهو قول الطبري 8/ 215، وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد وابن زيد. (¬2) لفظ: (يقال) ساقط من (ب). (¬3) "العين" 2/ 266، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 2576 من قول الفراء ونفطويه. (¬4) أبو معاذ النحوي: الفضل بن خالد المروزي الباهلي مولاهم إمام نحوي، لغوي، مقرئ، روى عنه الأزهري في "تهذيبه" 1/ 25 وقال: (له كتاب في القرآن حسن) اهـ. توفي سنة 211 هـ. انظر: "معجم الأدباء" 5/ 565، و"غاية النهاية" 2/ 9، و"بغية الوعاة" 2/ 245، و"طبقات المفسرين" للداودي 2/ 32. (¬5) جاء في (أ): (رجل عم لا يبصره)، ثم كتب عليه: لا بصيرة له، والنص في "تهذيب اللغة" 3/ 2577. (¬6) "ديوانه" ص 110، و"تهذيب اللغة" 3/ 2577، والرازي 14/ 153، و"اللسان" 5/ 3115 (عمى)، و"الدر المصون" 5/ 357، وأوله: (وأعلم ما في اليوم والأمس قبله)، وهو من معلقته المشهورة. انظر: "شرح ديوان زهير" لثعلب ص 49، و"شرح القصائد" لابن الأنباري ص 289، وللنحاس 1/ 125. (¬7) سبق تخريجه. (¬8) لفظ: (الحسين) ساقط من (ب). (¬9) ذكره الثعلبي في "الكشف" 191 ب.

65

بعمى القلب، وقد يكون العمي والأعمى كالخَضِر والأخضر (¬1)، وفَعِل يأتي كثيرًا في النعوت من فَعِلَ يفعل نحو: حذِرٍ وطمِعٍ وهرِمٍ وعَجِلٍ. ومن المعتل: شجي وصدٍ للعطشان، ونسي، إذا اشتكى نساه فهو أنسى ونسي. ذكره ابن السكيت (¬2). 65 - وقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} الآية. انتصب: {أَخَاهُمْ} بقوله: {أَرْسَلْنَا} في أول الكلام، وهو قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59] و (¬3) المعنى: وأرسلنا إلى عاد {أَخَاهُمْ هُودًا}، وهذا قول الفراء، والزجاج، والأخفش (¬4)، ومعنى {أَخَاهُمْ} قال ابن عباس: (يريد: ابن أبيهم) (¬5). ¬

_ (¬1) قال السمين في "الدر" 5/ 357: (عَمين: جمع عَم، قيل: عم إذا كان أعمى البصيرة غير عارف بأموره، وأعمى أي: في البصر، وقيل: عم وأعمى بمعنى كخضر وأخضر، وقيل: عمٍ فيه دلالة على ثبوت الصفة واستقرارها كفرح وضيق ولو أريد الحدوث لقيل عام كما يقال: فارح وضائق) اهـ، وانظر: "الصحاح" 6/ 2439، و"مقاييس اللغة" 4/ 133، و"المجمل" 3/ 628، و"المفردات" ص 588 (عمى). (¬2) قال ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص 155 وص180 وص370: (رجل عَمِي القلب وعم عن الصواب ورجل شج: إذا غص باللقمة ورجل صَدٍ للعطشان وصَدْيان وصاد، وإذا اشتكى الرجل نساه قلت: نَسِي يَنْسَى نسى فهو نَسٍ وقد نسيت الشيء: إذا لم تذكره، وقد أنسيته ما كان يحفظه، وأنسأته البيع: إذا أخرت ثمنه عليه) اهـ. ملخصًا. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬4) انظر: "معاني الفراء" 1/ 383، والأخفش 2/ 305، والزجاج 2/ 347، وهو قول الأكثر، انظر: "تفسير الطبري" 8/ 215، و"إعراب النحاس" 1/ 622، و"المشكل" 1/ 296، و"التبيان" ص 381، و"الفريد" 2/ 323، و"الدر المصون" 5/ 358. (¬5) ذكره القرطبي 7/ 230.

وقال الكلبي: (ليس بأخيهم في الدين، ولكنه أخوهم في النسب؛ لأنه منهم، فلذلك جعله أخاهم) (¬1). قال الزجاج: (وقيل للأنبياء: (أخوهم) وإن كانوا كفرة، يعني: أنه قد أتاهم بشر مثلهم من بني أبيهم آدم وهو أحجّ عليهم، قال: وجائز أن يكون (أخاهم)؛ لأنه من قومهم ليكون أفهم لهم بأن يأخذوا عن رجل منهم) (¬2). وقال بعض أهل النظر: (قوله تعالى: {أَخَاهُمْ} يعني: صاحبهم ورسولهم، والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أخا صداء (¬3) قد أذن [و] (¬4) إنما يقيم من أذن" (¬5) يريد (¬6) صاحبهم، ومن هذا ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 200، والرازي 14/ 154، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 177، وقال: (أخرجه ابن المنذر من طريق الكلبي عن ابن عباس) اهـ. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 247. (¬3) صُداء: اسم قبيلة من كهلان من القحطانية من اليمن. انظر: "اللباب" لابن الأثير 2/ 236، و"نهاية الأرب " ص 286، والمراد به هنا: زياد بن الحارث الصُدائي، صحابي له وفادة، انظر: "الإصابة" 1/ 557 (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 475 - 476، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" 1/ 326 - 327، وابن أبي شيبة 1/ 196 (2246)، وأحمد 4/ 169، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" ص 214، وابن ماجه كتاب الأذان والسنة فيه، باب: السنة في الأذان رقم (717)، وأبو داود كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر رقم (514)، والترمذي كتاب الصلاة، باب: ما جاء أن من أذن فهو يقيم رقم (199)، والبيهقي في "سننه" 1/ 381 وص 399 وفيه عبد الرحمن زياد بن أنعم الأفريقي قاضيها ضعيف في حففه، قاله الحافظ في "التقريب" ص 340 (3862) لكن الحديث له طرق. وقال الترمذي: (العمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم) اهـ. (¬6) لفظ: (يريد) ساقط من (أ).

66

قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] أي: صاحبتها وشبيهتها، وهذا كثير في كلامهم) (¬1). وقوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}، قال ابن عباس: (يريد: وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} قال: يريد: أفلا تخافون نقمته) (¬2). 66 - وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}. قال مقاتل: (أي: في حمق) (¬3). وقال عبد الله بن مسلم: (أي: في جهل) (¬4). قال ابن عباس: [(يريد)] (¬5) تدعونا إلى دين لا نعرفه) (¬6)، ومضى معنى السفاهة في أول سورة البقرة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 155. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 103، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 200، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1508 بسند جيد، عن ابن عباس قال: ({اعْبُدُوا اللَّهَ} وحدوه) اهـ. (¬3) "تفسيرمقاتل" 2/ 45. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 179، وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 347: (السفاهة: خِفة الحلم والرأي، يقال: ثوب سفيه إذا كان خفيفًا) اهـ، ونحوه، قال النحاس في "معانيه" 3/ 47، وقال الطبري 8/ 215: (أي: في ضلال عن الحق والصواب) اهـ. (¬5) لفظ: (يريد) ساقط من (ب). (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 200، والبغوي 3/ 242، وجاء في كتاب "اللغات" لأبي عبيد ص 152، وابن حسنون ص 25، و"الوزان" ص 4 بسند جيد عن ابن عباس قال: (سفاهة: جنون بلغة حمير). (¬7) انظر: "البسيط" البقرة: 13.

68

وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، قال ابن عباس: (يريدون كاذبًا فيما جئت به) (¬1). وقال مقاتل: (من الكاذبين فيما تقول من نزول العذاب بنا) (¬2). وقال الكلبي: (من الكاذبين في ادعائك بالنبوة) (¬3). وقال أبو إسحاق في قوله: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ}: (فكفروا به ظانين [لا] (¬4) مستيقنين) (¬5)، وهو قول الحسن، قال: (كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين) (¬6). وقال بعض أهل النظر: (الظن هاهنا معناه: العلم، والظن بمعنى العلم كثير في الكلام)، ذكرنا ذلك (¬7) في سورة البقرة. 68 - وقوله تعالى: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}. قال الضحاك: (أمين على الرسالة) (¬8). وقال الكلبي: (قد كنت فيكم قبل اليوم أمينًا) (¬9). والقولان ذكرهما الفراء (¬10)، ومعنى الأمين: الثقة في نفسه، وهو فعيل من أَمِنَ يَأمن ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 103، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 200. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 45. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لفظ (لا) عليها طمس في (ب). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 347. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 156، وأبو حيان في "البحر" 4/ 324، وقال ابن عطية 5/ 549: (هو ظن على بابه لأنهم لم يكن عندهم إلا ظنون وتخرص) اهـ. (¬7) انظر: "البسيط" [البقرة: 78]. (¬8) ذكره الثعلبي في "الكشف" 192 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 201، وابن الجوزي 3/ 222. (¬9) ذكره الثعلبي في "الكشف" 192 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 201، والبغوي 3/ 242، وابن الجوزي 3/ 222. (¬10) "معاني الفراء" 1/ 384.

69

أَمنًا فهو آمِن وأمين بمعنى واحد، ويقال أيضاً: ما كان فلان أمِينًا , ولَقَد أمن يَأمن أمانة فهو أَمِين، والمأمون: الذي يأمنه غيره (¬1). 69 - قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}. مضى الكلام في الخلفاء والخليفة (¬2) والخلائف في مواضع. قال ابن عباس: (يريد: أنكم من ولد نوح، وقد علمتم ما صنع الله بمن كذبه) (¬3). وقال غيره (¬4): (هذا معناه: تذكيرهم النعمة عليهم بأن استخلفهم الله وقال في الأرض بعد هلاك قوم نوح، يقول: اذكروا أن الله أهلكهم واستخلفكم بعدهم. {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}. قال الكلبي: (فضيلة (¬5) في الطول) (¬6) ومضى الكلام (¬7) في هذا عند قوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]. قال ابن عباس: (يريد: أنكم أجسم وأتم من آبائكم الذين ولدوكم) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 8/ 388، و"تهذيب اللغة" 1/ 209، و"الصحاح" 5/ 2071، و"مقاييس اللغة" 1/ 133، و"المفردات" ص 90، و"اللسان" 1/ 141 (أمن). (¬2) انظر: "البسيط" البقرة: 30. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر" 3/ 178. (¬4) هذا قول الأكثر. انظر: "تفسير الطبري" 8/ 216، وأخرجه من طرق جيدة عن السدي، ومحمد بن إسحاق. وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 550، والبغوي 3/ 243، وابن عطية 5/ 550، والرازي 14/ 157، والقرطبي 7/ 236. (¬5) في (ب): (فصله)، وهو تصحيف. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 104. (¬7) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 150 أ. (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 201، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1510 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (بصطة) (شدة)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 178.

قال الكلبي: (وكان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعًا) (¬1). وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ}، قال ابن عباس: (يريد: نِعَم الله عليكم) (¬2)، وواحد الآلاء: إلْي وأَلْي وألْو وألَى (¬3). قال الأعشى (¬4): ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 192 أ، و"عرائس المجالس" ص 61، والبغوي 3/ 243، وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 384، والزجاج 2/ 348، ونسبه السمرقندي 1/ 550، والواحدي في "الوسيط" 1/ 201، وابن الجوزي 3/ 222 إلى ابن عباس. وجاء عند السمرقندي عن الكلبي قال: (أطولهم مائة وعشرون ذراعًا وأقصرهم ثمانون ذراعًا) اهـ. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1510 بسند جيد وقال: (وروي عن مجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد نحو ذلك) اهـ. وهذا هو قول أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 217، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 147، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"معاني الزجاج" 2/ 348، و"تفسير الطبري" 8/ 217، و"نزهة القلوب" ص 73، و"معاني النحاس" 3/ 49، و"تفسير المشكل" ص 85 (¬3) في (ب): (واحد الآلاء: إلى وألا وإلو وإلي). وفي "تهذيب اللغة" 1/ 179، قال: (والآلاء النعم واحدتها إلْيُ، وألْيُ، وأبو، وألَى، وإلَى) اهـ. وهي جمع مفرده: (إلى) بكسر الهمزة وسكون اللام كحِمْل وأحمال، أو أُلي: بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال، أو إلى: بكسر الهمزة وفتح اللام كضلع وأضلاع وعنب وأعناب، أو ألى: بفتحها كقَفَا وأقفاء، أفاده السمين في "الدر" 5/ 360، وانظر: المراجع السابقة. "العين" 8/ 356، و"الصحاح" 6/ 2270، و"المجمل" 1/ 101، و"المفردات" ص 84، و"اللسان" 1/ 119 (ألا)، ونقل الرازي 14/ 158، عن الواحدي قال: (واحدها إلى وألو وإلي) اهـ. (¬4) "ديوانه" ص 267، و"مجاز القرآن" 1/ 218، و"معاني الزجاج" 2/ 248، و"المجمل" 1/ 101، و"تفسير الماوردي" 2/ 233، وابن عطية 5/ 551، وابن الجوزي 3/ 222، والرازي 14/ 158، و"اللسان" 1/ 119 (ألا)، و"البحر المحيط" 4/ 315، و"الدر المصون" 5/ 360.

70

أَبْيَضُ لاَ يَرْهَبُ الْهزال وَلاَ ... يَقْطَعُ رِحْمًا وَلاَ يَخُونُ إلا ونظير الآلاء الآناء، واحدها إِنْي وأُنْىً وإنًى (¬1)، وحكى الأخفش (¬2) إنْو (¬3) وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: [كي] (¬4) تسعدوا وتبقوا في الجنة) (¬5). 70 - قوله تعالى: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}. قال ابن عباس والكلبي (¬6): (يريدون من العذاب). {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إنك تأتينا من العذاب، قاله الكلبي (¬7)، وقال ابن عباس: (يريدون أن الله لم يرسلك، يعني: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬8) في نبوتك وإرسالك إلينا) (¬9). 71 - قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} الآية. يقال: وَقَعَ القولُ والحكمُ إذا وَجَبَ، ومنه قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82]. معناه: إذا وجب، ومثله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] أي: أصابهم ونزل به، وأصله من الوقوع بالأرض، يقال: وقع بالأرض مطر، ووقعت ¬

_ (¬1) قال السمين في "الدر" 5/ 360: (ومثله الآناء: جمع إنْي، أو أُنْي، أو إنًى، وقال الأخفش: إنْو، والآناء: الأوقات) اهـ. (¬2) "معاني الأخفش" 1/ 213. (¬3) في (ب): (أنوه). (¬4) لفظ: (كي) ساقط من (ب). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 201، وفي "تنوير المقباس" 2/ 104 نحوه. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 104، وهو قول أهل التفسير. انظر: الطبري 8/ 222، والسمرقندي 1/ 551، والبغوي / 243، وابن الجوزي 3/ 222. (¬7) انظر: المراجع السابقة. (¬8) جاء في (ب) تكرار قول ابن عباس والكلبي، وعليه ضرب. (¬9) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 201، وابن الجوزي 3/ 222 من قول عطاء.

73

الإبل إذا بركت (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}، قال ابن عباس: (يريد: عذابًا وسخطًا) (¬2). {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}. قال: (يريد: الأصنام التي كانوا يعبدونها) (¬3). قال المفسرون: (كانت لهم أصنام يعبدونها وسموها أسماء مختلفة، فلما دعاهم الرسول إلى التوحيد استنكروا عبادة الله وحده) (¬4). وقوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حجة وبرهان لكم في عبادتها، {فَانْتَظِرُوا}. قال ابن عباس: (يريد العذاب) (¬5)، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} الذي يأتيكم من الله في تكذيبكم آياتي. 73 - قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} الآية. الكلام في هذا كهو في قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وقد مر، والكلام في (ثمود) وجواز إجرائه يذكر في سورة (¬6) هود إن شاء الله (¬7). ¬

_ (¬1) هذا من "تهذيب اللغة" 4/ 3935، وانظر: "العين" 2/ 176، و"الصحاح" 3/ 1301، و"مقاييس اللغة" 6/ 133، و"المفردات" ص 880، و"اللسان" 8/ 4895 (وقع). (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 104، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 202، وابن الجوزي 3/ 223، وأخرج الطبري 8/ 223، وابن أبي حاتم 5/ 1511 بسند جيد عن ابن عباس قال: ({رِجْسٌ} سخط)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 179. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 105. (¬4) انظر: الطبري 8/ 223، والسمرقندي 1/ 551، والماوردي 2/ 234، وذكره البغوي 3/ 243 عن أهل التفسير. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 105. (¬6) لفظ: (سورة) ساقط من (ب). (¬7) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 35 ب وص 44 أ.

وقوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}. {آيَةً} (¬1) نَصْبٌ على الحال (¬2) أي: أشير إليها في حال كونها آية، وهذه تتضمن معنى الإشارة، و (آية) في معنى دالة، فلهذا جاز أن يكون حالاً. قال ابن الأنباري: (وهي آية لهم ولغيرهم، ولكنهم اقترحوها، فخصوا بها، وإن كانت فيها عبرة (¬3) لجميع الخلق، وكانت هذه الناقة آية من بين سائر النوق؛ لأنها خرجت من حجر صلدٍ بمخض واضطراب كاضطراب المرأة عند الولادة) (¬4). قال ابن عباس: (الآية فيها أنها كانت ترد يومًا وتغب يومًا، فإذا وردت شربت جميع الماء وتسقيهم مثله لبنًا لم يُشرب مثله قط ألذ وأحلى) (¬5)، فتوسعهم من اللبن ما يصدرون منه بريهم ومقدار حاجتهم، ¬

_ (¬1) لفظ: (آية) ساقط من (ب). (¬2) هذا قول الأكثر. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 349، و"الإيضاح العضدي" لأبي علي 1/ 234، والبغوي 3/ 247، و"الكشاف" 2/ 89، والرازي 14/ 163، و"التبيان" 1/ 382، و"الفريد" 2/ 325 - 326، و"البحر" 4/ 328، و"الدر المصون" 5/ 362. (¬3) في (ب): (غيره)، وهو تصحيف. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 202، وابن الجوزي 3/ 224، بلا نسبة وهذا هو قول الأكثر والظاهر. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 349، والطبري 8/ 224، و"معاني النحاس" 2/ 551، والسمرقندي 1/ 551، والماوردي 2/ 235، وقال ابن عطية 5/ 559 - 560: (قال الجمهور: كانت الناقة مقترحة وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم) اهـ. وقال ابن كثير 2/ 254: (وكانوا سألوا صالحًا أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم) اهـ. (¬5) لم أقف عليه.

74

وكانت آية لانفرادها من سائر بعضها بهذا الأمر الذي لم يشاهد مثله في غيرها. وقوله تعالى: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}، أي: سهل الله أمرها عليكم فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها. 74 - قوله تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}، قال أبو علي: (هذا على (¬1) حذف أحد المفعولين كأنه قيل: بَوأكم في الأرض منازل أو بلادًا) (¬2). وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا}. قال ابن عباس: (يريد: تبنون القصور بكل موضع). {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالَ بُيُوتًا}، قال: (يريد: بيوتًا من الجبال تشققونها (¬3) منها، فكانوا يسكنونها شتاء ويسكنون القصور بالصيف) (¬4). قال الزجاج: (ويروى أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتًا في الجبال؛ لأن السقوف والأبنية (¬5) كانت تبلى قبل فناء أعمارهم) (¬6). ¬

_ (¬1) لفظ: (على) ساقط من (ب). (¬2) "الحجة" لأبي علي 4/ 311. وبوأه: أنزله منزلًا وهو يتعدى لاثنين، والثاني: محذوف أي بوأكم منازل. انظر: "القرطبي" 7/ 239، و"الدر المصون" 5/ 363. (¬3) في (ب): (يشقونها). (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 106. وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 203، وابن الجوزي 3/ 225، وهو بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 1/ 552، والبغوي 3/ 247. (¬5) في (ب): (لأن السقوف في الأبنية). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 350 - 351، وذكره في "معانيه" 3/ 48، والبغوي 3/ 247.

75

75 - قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ} الآية. قال ابن عباس: (يريد الأشراف) (¬1). قال أهل اللغة (¬2): (هم الذين تملأ الصدورَ هيبتُهم)، كما رُوي في قتلى بدر (أولئك الملأ من قريش) (¬3) أي: الأشراف الذين يملؤن النفس هيبة وتعظيمًا. وقال الفراء: (الملأ القوم من الرجال ليس فيهم امرأة) (¬4). 75 - وقوله تعالى (¬5): {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} الآية. قال ابن عباس: (يريد عن عبادة الله) (¬6). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 106، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 203، وهو قول الأكثر. انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 46، و"معاني الزجاج" 2/ 346، والنحاس 3/ 46، و"تفسير السمرقندي" 1/ 552، والبغوي 3/ 247. (¬2) المَلأُ، بالفتح مهموز غير ممدود: الجماعة يجتمعون على رأي، ووجوه القوم: ورؤساؤهم وأشرافهم الذي يرجع إلى قولهم، سموا بذلك لأنهم ملاء بما يحتاج إليه أو لأنهم يملئون الصدور هيبة. انظر: "العين" 8/ 346، و"تهذيب اللغة" 4/ 3437، و"الصحاح" 1/ 73، و"مقاييس اللغة" 5/ 346، و"المفردات" ص 776، و"اللسان" 7/ 4252 (ملأ). (¬3) لم أقف على سنده، وهو في "تهذيب اللغة" 4/ 3437، و"إعراب القراءات" 1/ 193، و"النهاية" 4/ 351، و"اللسان" 7/ 4252 (ملأ) قالوا: (روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رجلاً من الأنصار مرجعه من غزوة بدر يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك الملأ من قريش لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك". أي: أشراف قريش) اهـ. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 383، ومثله قال الطبري في "تفسيره" 8/ 213. (¬5) لفظ: (وقوله تعالى) ساقط من (أ). (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 203 بلا نسبة وهو قول أهل التفسير. انظر: الطبري 8/ 232، والسمرقندي 1/ 552، والبغوي 3/ 247، وابن الجوزي 3/ 225، وفي "تنوير المقباس" 2/ 106 قال: (استكبروا عن الإيمان) اهـ.

77

{لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} (يريد المساكين) (¬1)، {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدل من قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} (¬2)؛ لأنهم المؤمنون. 77 - قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} الآية. قال الأزهري: (العقر عند العرب: كشف عرقوب البعير، ثم تجعل النحر عقرًا؛ لأن العقر سبب النحر، وناحر البعير يعقره ثم ينحره، هذا هو الأصل ثم جعل النحر عقرًا وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب) (¬3)، قال امرؤ القيس: وَيوْمَ عَقَرْتُ للِعَذارَى مَطيِّتي (¬4) وقوله تعالى: {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}، يقال: عتَا يَعْتُو عُتُوًا (¬5) إذا ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 204 بلا نسبة، وهو قول الأكثر. انظر: "المراجع السابقة"، وفي "تنوير المقباس" 2/ 107، قال: (استضعفوا قهروا) اهـ. (¬2) انظر: "المسائل البصريات" لأبي علي 2/ 831، و"غرائب الكرماني" 1/ 413، و"الكشاف" 2/ 90، و"البيان" 1/ 367، و"زاد المسير" 3/ 225، و"التبيان" 1/ 382، و"الفريد" 2/ 327، و"الدر المصون" 5/ 365. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 2514. والعَقْر: النحر والجرح والقتل، وعَقَرته: أصبت عُقْرَه أي: أصله، وعَقَرت البعير: نحرته، وعقر الفرس بالسيف: إذا ضربت قوائمه. انظر: "العين" 1/ 149، و"الجمهرة" 2/ 768، و"الصحاح" 2/ 753، و"المجمل" 3/ 621، و"المفردات" ص 577، و"اللسان" 5/ 3034 (عقر). (¬4) "ديوانه" ص 112، و"تهذيب اللغة" 13/ 2514، و"مقاييس اللغة" 4/ 9, و"اللسان" 5/ 3034، و"البحر" 4/ 315، و"الدر المصون" 5/ 366، والبيت من معلقته المشهورة وعجزه: (فَيَا عَجَبًا مِن رَحْلِها المَتحمِّل). قال النحاس في "شرح القصائد" 1/ 9: (العذارى: جمع عذراء، والمطية: الراحلة) اهـ. وانظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ص 33. (¬5) جاء أيضاً: عتيَّا بالكسر. انظر: "العين" 2/ 226، و"الجمهرة" 2/ 1032، و"تهذيب اللغة" 3/ 2313، و"الصحاح" 6/ 2418، و"المجمل" 3/ 646, و"مقاييس اللغة" 4/ 225، و"المفردات" ص 546، و"اللسان" 5/ 2084 (عتا).

استكبر، ومنه يقال: جبار عَاتٍ. قال مجاهد: (العتو (¬1): الغلو في الباطل). قال ابن عباس: (عقروا الناقة عُتُوًا وتكذيبًا بما جاء به صالح) (¬2). وقال الكلبي (¬3) ومقاتل (¬4): ({وَ (¬5) عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}: عصوا الله وتركوا أمره في الناقة). وقوله تعالى: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، أصل: {ائْتِنَا} (¬6) اأتنا بهمزتين (¬7) أحدهما للوصل، والثانية للأصل، إلا أنه لما لم يجز اجتماع همزتين في موضع واحدة من كلمة واحدة لينت الثانية، فإذا وصل بكلام قبله سقط ألف الوصل فظهرت همزة الأصل في قوله: {يَا صَالِحُ ¬

_ (¬1) في (ب): (العتو والعلوا)، وهو تحريف، والعلو والغلو كلاهما صحيح وله وجه، وهو في "تفسير مجاهد" 1/ 239، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1515 ب بلفظ: (غلوا في الباطل)، وأخرجه الطبري 9/ 232 من عدة طرق جيدة بلفظ (علوا)، وفي رواية: (علوا عن الحق لا يبصرون) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 184 بلفظ (غلوا). (¬2) في "تنوير المقباس" 2/ 107 نحوه، وقال الزجاج في "معانيه" 2/ 351: (أي: جاوزوا المقدار في الكفر) اهـ، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 49، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 218، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 147، و"نزهة القلوب" ص 325. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 107. (¬4) في "تفسير مقاتل" 2/ 47، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} يعني: التوحيد) اهـ. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬6) لفظ: (ائتنا) ساقط من (ب). (¬7) انظر: مذهب القراء في الهمزتين في كلمة واحدة في "السبعة" ص 139، و"المبسوط" ص 112، و"التذكرة" 1/ 152.

78

ائْتِنَا} (¬1) في قراءة من قرأ بالهمز (¬2). 78 - وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}. قال الفراء والزجاج (¬3): (هي الزلزلة الشديدة) وهو قول الكلبي (¬4). قال الليث: (يقال: رَجَف الشيء يَرْجُف رَجْفًا وَرَجَفَاناَ كَرَجَفان البعير تحت الرَّحْل، وكما يرجُف الشجر إذا رجفته الريح، وَرَجفت الأرض إذا تزلزلت) (¬5). وقال عمر بن أبي ربيعة (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: كلام أبي علي الفارسي في توجيه ذلك في "البغداديات" ص 77، 80. (¬2) قال أبو حيان في "البحر" 4/ 331: (قرأ ورش والأعمش {يَا صَالِحُ ايتنا}، وأبو عمرو إذا أدرج أبدل همزة فاء {ائْتِنَا} واوًا لضمة حاء صالح، وقرأ باقي "السبعة" بإسكانها، وقرأ عيسى بن عمرو وعاصم الجحدري {أوتنا} بهمز وإشباع ضم) اهـ. بتصرف، وانظر: "الكتاب" 4/ 338، و"مختصر الشواذ" ص 49، و"تفسير ابن عطية" 5/ 567، و"الدر المصون" 5/ 367. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 384، والزجاج 2/ 351، وهو قول أكثرهم، انظر: "الزاهر" 2/ 320، و"نزهة القلوب" ص 241، و"معاني النحاس" 3/ 49، و"تفسير السمرقندي" 1/ 552، والبغوي 3/ 248، وابن عطية 5/ 567. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 107، وذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص 165، والواحدي في "الوسيط" 1/ 204، وقال الطبري 8/ 233: (الرجفة: الصيحة التي زعزعتهم وحركتهم للهلاك؛ لأن ثمود هلكت بالصيحة فيما ذكر أهل العلم) اهـ. وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد والسدي. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1371، وانظر: "العين" 6/ 109، و"الصحاح" 4/ 1362 , و"المجمل" 2/ 422، و"مقاييس اللغة" 2/ 491، و"المفردات" ص 344، وفي "العين": (الرجفة: كل عذاب أنزل فأخذ قومًا فهو رجفة وصيحة وصاعقة) اهـ. (¬6) ليس في "ديوانه"، وهو في "الدر المصون" 5/ 368، وبلا نسبة في تفسير الثعلبى 192 ب، والقرطبي 7/ 242، و"البحر" 4/ 315.

ولَمَّا رَأَيتُ الحجَّ قد حان وقتهُ ... وَظلَّتْ جِمال القومِ بالقومِ تَرْجُفُ وقال أبو عبيدة: (الرجف من قولهم: رجفت بهم الأرض إذا تحركت) (¬1)، يذهب إلى أنها الزلزلة، وأنشد (¬2): تحنَّى العِظامُ الرَّاجفاتُ مِنَ البلى ... وليس لداء الرُّكبْتَيْنَ طَبيبُ وقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} يعني: بلدهم، لذلك وحد الدار، كما يقال: دار الحرب، ومررت بدار البزازين (¬3)، وجمع في موضع آخر فقال: {فِي دِيَارِهِمْ} [هود: 67] لأنه أراد منازلهم التي ينفرد كل واحد منهم (¬4) بمنزله، وقوله تعالى: {جَاثِمِينَ}، قال أبو عبيدة: (الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل) (¬5)؛ قال جرير: عَرَفْتُ المُنَتَأى وعَرَفْتُ مِنْهَا ... مَطَايَا القِدْرِ كَالحِدَإ الجُثُومِ (¬6) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف على قائله، وهو في "الزاهر" 1/ 189 - 2/ 320، و"اللسان" 3/ 1595 (رجف)، و"الدر المصون" 5/ 368. (¬3) البَّزَّاز: بالفتح نسبة إلى من يبيع البَزَّ وهو الثياب. انظر: "اللباب" 1/ 146، و"اللسان" 1/ 274 (بز). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 233، و"غرائب الكرماني" 1/ 413. (¬5) ذكره ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص 240، وابن الجوزي 3/ 226، والسمين في "الدر" 5/ 369، وفي "مجاز القرآن" 1/ 218 و2/ 116 قال: (أي: بعضهم على بعض جثوم على الركب) اهـ. ملخصًا. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 147، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"نزهة القلوب" ص 190، و"معاني النحاس" 3/ 49، و"تفسير المشكل" ص 85. (¬6) "ديوانه" ص 411، و"مجاز القرآن" 1/ 218، والطبري 8/ 233، وابن عطية 5/ 567، و"الدر المصون" 5/ 369: (والمنتأى: حفر النؤي، ومطايا القدر: الأثافي التي يركبها القدر، والحدأ: جمع حِدأة طائر خبيث معروف) أفاده أحمد شاكر في "حاشية الطبري".

وقال أبو العباس: (الجاثم المبارك على رجليه كما يجثم الطير) (¬1). قال الزجاج: (معنى {جَاثِمِينَ} قد خمدوا من شدة العذاب) (¬2). وهو قول ابن عباس: ({جَاثِمِينَ} يريد: خامدين ميتين) (¬3). وقال الكلبي: (احترقوا بالصاعقة فأصبحوا ميتين قد همدوا رمادًا لا يتحركون) (¬4)، وهو قول الفراء: (صاروا رمادًا جاثمًا) (¬5). وقال ابن الأنباري: (قال المفسرون: معنى {جَاثِمِينَ}: بعضهم على بعض، أي: عند نزول العذاب بهم سقط بعضهم على بعض) (¬6). قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} الآية [الأعراف: 79]. قال المفسرون: (إن صالحًا أقبل عليهم بالدعاء إلى توحيد الله وطاعته، فلما خالفوا ونزل بهم العذاب تولى عنهم لليأس منهم) (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 539. وانظر: "العين" 6/ 100، و"مجالس ثعلب" ص 485، و"الجمهرة" 1/ 415، و"الصحاح" 5/ 1882، و"المجمل" 1/ 207، و"مقاييس اللغة" 1/ 505، و"المفردات" ص 187، و"اللسان" 1/ 545 (جثم). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 351. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 108، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 205. (¬4) ذكره الزجاج 2/ 351، والماوردي 2/ 2361 دون نسبة، وقال الطبري 8/ 233: (يعني: سقوطًا صرعى لا يتحركون لأنهم لا أرواح فيهم، والعرب تقول للبارك: جاثم) اهـ. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 384. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 205، وذكره ابن الجوزي 3/ 226 عن المفسرين، وانظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ص 240. (¬7) انظر: "معاني الفراء" 1/ 385، والطبري 8/ 234، والسمرقندي 1/ 553، والماوردي 2/ 236، وابن عطية 5/ 568، وابن الجوزي 3/ 227.

80

وقوله تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}. قال ابن عباس: (يريد قد خوفتكم من الله ومن عقابه) (¬1)، وخطابه إياهم (¬2) بعد كونهم جاثمين كخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلى بدر، وقيل له: أتكلم هؤلاء الجيف؟ قال: "ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يقدرون على الجواب" (¬3). 80 - قوله تعالى: {وَلُوطًا}، ذكر الفراء في كتاب المصادر (¬4) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 108، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 206. (¬2) ذهب الفراء والطبري والسمرقندي وغيرهم إلى أنه أعرض عنهم قبل نزول العذاب؛ لأنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرهم. انظر: "المراجع السابقة"، و"الحلبيات" لأبي علي ص 306، ورجح البغوي 3/ 248، وابن كثير 2/ 2561 أن هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه بعد هلاكهم وهم يسمعون ذلك؛ لأن الفاء تدل على حصول التولي بعد موتهم، قال القاسمي في "تفسيره" 7/ 2789: (وهو المتبادر لظهور الفاء في التعقيب والله أعلم)، وانظر: "تفسير الرازي" 14/ 167. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (1370)، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل القليب فقال: "وجدتم ما وعد ربكم حقاً" فقيل له: أتدعوا أمواتًا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون") اهـ، وأخرجه من وجه آخر برقم (3980، 3981) كتاب المغازي، باب: قتل أبي جهل. (¬4) "كتاب المصادر" للفراء مفقود. انظر: "مقدمة المذكر والمؤنث" للفراء ص 23، قال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 624: (زعم الفراء أن لوطأ مشتقًا من لُطْتُ الحوض) اهـ. وقال الراغب في "المفردات" ص 750: (لوط اسم علم واشتقاقه من لاَط الشيء بقلبي يَلُوط لَوْطا وليطا أي: لصق) اهـ. وأكثرهم على أنه أعجمي معرب. انظر: "المعرب" للجواليقي ص 563، وقال السمين في "عمدة الحفاظ" ص 528: (لوط علم للنبي المشهور، والظاهر أنه لا اشتقاق له لعجمته إلا أنهم قالوا: يجوز أن يكون مشتقاً من لاط الشيء بقلبي يلوط لوطًا أي: لصق) اهـ.

81

اشتقاق هذا الاسم، وأنكر عليه ذلك أبو إسحاق وقال: (الاسم الأعجمي لا يقال إنه مشتق كإسحاق، لا يقال إنه مشتق من السُّحق، وكتاب الله لا ينبغي أن يُقدم على تأويله إلا برواية صحيحه أو حجة واضحة) (¬1). وقال النحويون: (إنما صرف لوط لخفته بأنه على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط) (¬2). وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}، يعني: إتيان الذكران، في قول جميع المفسرين (¬3)، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، قالوا: (ما نزا (¬4) ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط)، قال الزجاج: (وفي هذه الآية دليل على أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط) (¬5). 81 - قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} الآية كلهم قرءوا: {إِنَّكُمْ} بالاستفهام، إلا نافعًا فإنه رأ: {إِنَّكُمْ} بغير ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 351 - 352. (¬2) انظر: "العين" 7/ 452، و"تهذيب اللغة" 4/ 3219، و"اللسان" 7/ 4099 (لوط). وفي "الكتاب" 3/ 235. قال سيبويه: (وأما لوط فينصرف على كل حال لخفته) اهـ، وقال الجوهري في "الصحاح" 3/ 1158 لوط: (لوط: اسم ينصرف من المعجمة والتعريف، وإنما لزم الصرف، لأن الاسم على ثلاثة أحرف أوسطه ساكن وهو على غاية الخفة فقاومت خفته أحد السببين) اهـ. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 234، و"معاني النحاس" 3/ 50، و"تفسير السمرقندي" 1/ 553، والبغوي 3/ 255، وابن عطية 5/ 569. (¬4) في (ب): (ما يرى). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 352.

استفهام (¬1)، فمن استفهم كان (¬2) هذا استفهامًا معناه الإنكار، كقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80]، وكل واحد من الاستفهامين (¬3) جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء، فمن ألحق حرف الاستفهام جملة، نقلها به من الخبر إلى الاستخبار، ومن لم يُلحقها بقَّاها على الخبر (¬4). وقوله تعالى: {شَهْوَةً}، مصدر. قال أبو زيد: (شَهِي يَشْهى شهوةً، وشَها يشهو إذا اشتَهَى) (¬5). قال الشاعر: وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوم قلتُ له ارْتَحِلْ ... إذا ما النُّجُومُ أَعْرَضَتْ وَاسْبَكَرَّتِ (¬6) ¬

_ (¬1) يقرأ هنا بالاستفهام والإخبار، فقرأ نافع وحفص عن عاصم {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} بكسر الهمزة على الخبر، وقرأ الباقون بهمزتين على لفظ الاستفهام، غير أن ابن كثير يسهل الثانية بين الهمزة والياء، وأبا عمرو يفعل كذلك ويدخل بين الهمزتين ألفاً فيمد. انظر: "السبعة" ص 285 - 286، و"المبسوط" ص 181 - 182، و"التذكرة" 1/ 153 - 154، و"التيسير" ص 111، و"النشر" 1/ 369 - 371. (¬2) في (أ): (فمن استفهم هذا كان استفهاما). (¬3) لفظ: (الاستفهامين) غير واضح في (ب). (¬4) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 48، وقال الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 413: (هي لغات كلها جائزة وكل ما قرئ به فهو معروف معانيها متفقة ولا اختلاف في جوازها) اهـ، وانظر: "إعراب القراءات" 1/ 192 - 193، و"الحجة" لابن خالويه ص 158، ولابن زنجلة ص 287 - 288، و"الكشف" 1/ 468. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1948، وأصل الشَّهْوَة: نزوع النفس إلى ما تريده انظر: "العين" 4/ 68، و"الجمهرة" 2/ 883، و"البارع" ص 97، و"الصحاح" 6/ 2397، و"المجمل" 2/ 513، و"مقاييس اللغة" 3/ 220، و"الأفعال" للسرقسطي 2/ 363، و"المفردات" ص 468، و"اللسان" 4/ 2354 (شها). (¬6) لم أعرف قائله، وهو في "تفسير الطبري" 8/ 235، و"اللسان" 4/ 2354 (شها)، و"الدر المصون" 5/ 372، واسبكرت أي: جرت وطالت، واسبكر الرجل اضطجع وامتد. انظر: "اللسان" 4/ 1929 (سبكر).

82

وانتصابها على المصدر؛ لأن قوله: {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} معناه: أتشهونهم شهوة، وإن [شئت] (¬1) قلت: إنها مصدر (¬2) وقع موقع الحال (¬3). قال الحسن: (كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم، وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء) (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: (استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض) (¬5). وقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}. معنى {بَلْ} هاهنا إضطراب عن الأول إلى جميع المعايب من عبادة الأوثان، وإتيان الذكران، وترك ما قام به البرهان (¬6). وعلى هذا المعنى دل (¬7) كلام ابن عباس حيث قال: (يريد جمعتم مع الشرك معصية لم يفعلها خلق قبلكم) (¬8). 82 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} (¬9). يعني: لوطًا واتباعه؛ لأنه قال في غير هذه السورة: {أَخْرِجُوا ¬

_ (¬1) لفظ: (شئت) ساقط من (ب). (¬2) في (أ): (مصادر)، وهو تصحيف. (¬3) شهوة مفعول من أجله أي لأجل الاشتهاء أو مصدر في موضع الحال أي مشتهين أو باقٍ على مصدريته ناصبه: {لَتَأْتُونَ} لأنه بمعنى أتشتهون. انظر: "التبيان" ص 382، و"الفريد" 2/ 330، و"الدر المصون" 5/ 372. (¬4) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 29، والثعلبي 194 أ، والبغوي 3/ 255، وابن عطية 5/ 570، والقرطبي 7/ 145. (¬5) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 168. (¬6) انظر: "التبيان" ص 382، و"البحر" 4/ 334، و"الدر المصون" 5/ 372. (¬7) لفظ: (دل) ساقط من (ب). (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 108، وذكر السيوطي في "الدر" 3/ 186 نحوه. (¬9) في "النسخ": {فَمَا كَانَ}، وهو تحريف، وقد جاء بالفاء في الآية: 56 من (النمل) والآية: 24 و29 من (العنكبوت).

آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬1) [النمل: 56]، أي (¬2): عن إتيان الرجال في أدبارهم، عن ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4)، وقتادة (¬5). والعرب (¬6)، تقول: تطهير الرجل إذا تنزه عن الإثم وعما يوقعه فيه، فمعنى قوله: {يَتَطَهَّرُونَ} أي: يتنزهون عما كانوا يأتونه (¬7) من المناكير. قال أهل المعاني: (هذه الآية بيان عن حال الجهال في ردهم على نبيهم أقبح جواب، واعتلالهم أفسد اعتلالٍ حين جعلوا تنزههم عن الفاحشة سببًا للمباعدة). وهذا معنى قول قتادة: (عابوهم والله بغير عيبٍ) (¬8). ¬

_ (¬1) لفظ: {مِنْ قَرْيَتِكُمْ} ساقط من النسخ. (¬2) لفظ: (أي) ساقط من (ب). (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 235 بسند ضعيف، وهو في "تنوير المقباس" 2/ 109، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 186. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 240، وأخرجه الطبري 8/ 235، وابن أبي حاتم 3/ 164 ب من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 186. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 207 عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وهو قول عامة أهل التفسير. انظر: "معاني الفراء" 1/ 385، والزجاج 2/ 353، والنحاس 3/ 51، والسمرقندي 1/ 553، والماوردي 2/ 237، والبغوي 3/ 255. (¬6) طهر: أصل يدل على نقاء وزوال دَنَس، والطهْر خلاف الدَّنَس، والتطهير: التنزه والكف عن الإثم وكل قبيح، وفلان طاهر الثياب: إذا لم يكن دَنِس الأخلاق. انظر: "العين" 4/ 19، و"الجمهرة" 2/ 761، و"تهذيب اللغة" 3/ 2226، و"الصحاح" 2/ 727، و"مقاييس اللغة" 3/ 428، و"المجمل" 2/ 588، و"المفردات" ص 525، و"اللسان" 5/ 2713 (طهر). (¬7) في (ب): (يأتوه). (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 235 بسند جيد عن قتادة بلفظ: (عابوهم بغير عيب وذموهم بغير ذم) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 186.

83

83 - وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}. قال المفسرون (¬1): ({أَهْلَهُ} ابنتاه)، وهو قول ابن عباس (¬2). وقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ}، يعني: زوجته، وجاز أن يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته، ولم يجز أن يقال: مرؤها: بمعنى زوجها؛ لأن الرجل بمنزلة المالك لها, ليست المرأة بمنزلة المالكة للرجل، فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح، والرجل إذا أُضيف إلى المرأة بالاسم العام لم يعرف الزوجية (¬3). وقوله تعالى: {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. يقال: غَبَرَ الرجل يَغبُر غبُورًا إذا مكث وبقي (¬4)، قال الهذلي (¬5): ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 385، والزجاج 2/ 353، و"تفسير السمرقندي" 1/ 553، والماوردي 2/ 237، وابن عطية 5/ 571، وابن الجوزي 3/ 228، وقال الطبري 8/ 236، والبغوي 3/ 256 (وأهله: المؤمنين به) اهـ. وقال ابن كثير 2/ 258: (يقول: فأنجينا لوطًا وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط إلا امرأته فإنها لم تؤمن به) اهـ. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 109، وذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 171. (¬3) ذكره الرازي 14/ 171، لكن فيه: (فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح، والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام تعرف الزوجية) اهـ. (¬4) وهو من الأضداد غير: بقي ومضى، والغابر الباقي، والغابر الماضي. انظر: "العين" 4/ 413، و"الجمهرة" 1/ 320، و"البارع" ص 312، و"تهذيب اللغة" 3/ 2627، و"الصحاح" 2/ 765، و"مقاييس اللغة" 4/ 408، و"المجمل" 3/ 690، و"المفردات" ص 601، و"اللسان" 6/ 3205 (غير). (¬5) الهذلي: هو أبو ذؤيب خويلد بن خالد، تقدمت ترجمته.

فَغَبَرْتُ بَعْدَهُم بِعيشٍ نَاصِبٍ ... وَإخَالُ أَنّي لاَحِقٌ مُسْتَتْبَعُ (¬1) يعني: بقيت. قال المفسرون (¬2): (إنها كانت من الباقين في عذاب الله)، وهو قول الحسن (¬3) وقتادة (¬4)، ويجوز أن يكون المعنى: من الغابرين عن النجاة، أي: من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة. يقال: بقي فلان عن هذا الأمر أي: لم يدركه، وإلى هذا أشار أبو إسحاق (¬5) وابن الأنباري. وقال أبو بكر: (أي: لم تسر مع لوط وأهله، ولم تدخل في جملة الناجين، وأقامت في الموضع الذي نزل بأهله العذاب) (¬6). فعلى هذا يحتمل تأويلين: أحدهما: من الغابرين في موضع الهلاك، والثاني: من الغابرين عن النجاة كما ذكرنا (¬7). ¬

_ (¬1) "شرح أشعار الهذليين" 1/ 8، و"المفضليات" ص 421، و"جمهرة أشعار العرب" 2/ 684، و"تفسير الثعلبي" 194 أ، والرازي 14/ 171، و"البحر" 4/ 315، و"الدر المصون" 5/ 373، قال السكري في "شرحه": (فغبرت، بقيت، ناصب، ذو نصب أي: جهد وتعب، إخال: أظن، وهي هاهنا يقين، لاحق: مُلحِق، مستتبع: مُستلْحَق أي: مذهوب بي إلى ما صاروا إليه) اهـ. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 533، والماوردي 2/ 237، والبغوي 3/ 256، وابن عطية 5/ 571. (¬3) لم أقف عليه (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 233، والطبري 8/ 236، وابن أبي حاتم 5/ 1519 بسند جيد. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 353. (¬6) "الزاهر" 2/ 324، وفيه: (الغابر: الباقي وهو الأشهر عندهم، وقد يقال أيضًا: للماضي وقوله: {الْغَابِرِينَ} أراد في الباقين) اهـ. وانظر: "الأضداد" ص 129، و"نزهة القلوب" ص 343. (¬7) وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 218، والطبري 8/ 236: (أي: من المعُمرين قبل هلاكهم ثم هلكت لما جاءهم العذاب) اهـ. والأكثر في اللغة أن =

84

84 - قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} الآية. يقال: مطرتنا السماء وأمطرتنا، والأول أفصح (¬1) وأمطرهم الله مطرًا وعذابًا، وكذلك أمطر عليهم (¬2). قال ابن عباس (¬3) والمفسرون (¬4): (أمطر الله عليهم حجارة من السماء). كما قال في آية أخرى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]. 85 - قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}. قال المفسرون (¬5): ¬

_ = يكون الغابر: الباقي، أفاده النحاس في "معانيه" 3/ 52، وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 147، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"تفسير المشكل" ص 85. (¬1) انظر: "العين" 7/ 425، و"الجمهرة" 2/ 760 و 3/ 1259، و"تهذيب اللغة" 4/ 3412، و"الصحاح" 2/ 818، و"مقاييس اللغة" 5/ 332، و"المجمل" 3/ 834، و"المفردات" ص 770، و"اللسان" 7/ 4223 (مطر). (¬2) قال السمين في "الدر" 5/ 374 - 375 قال بعضهم: (مطر في الرحمة، وأمطر في العذاب، وهذا مردود بقوله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فإنهم إنما عنوا بذلك الرحمة وهو من أمطر رباعيًا وَمَطَر وأمْطَر بمعنى واحد يتعديان لواحد يقال: مطرتهم السماء وأمطرتهم، و (أمطرنا) ضُمِّن معنى (أرسلنا) ولذلك عدي بعلى) اهـ. بتصرف. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 109، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 228. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 237، والسمرقندي 1/ 553، والبغوي 3/ 256، وابن عطية 5/ 573. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 8/ 237، والسمرقندي 1/ 554، والبغوي 3/ 256، وابن عطية 5/ 573، وابن الجوزي 3/ 228، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 258: (مدين تطلق على القبيلة وهم من سلالة مدين بن إبراهيم، وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة) اهـ. وانظر: "تاريخ الطبري" 1/ 326 - 327، و"عرائس المجالس" ص 164 - 165، و"معجم البلدان" 5/ 77، 78، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 157، و"البداية والنهاية" 1/ 184، وقال الخازن 2/ 261: (أكثر المفسرين على أن مدين اسم رجل وهو الصحيح لقوله =

(مدين: اسم ولدٍ لإبراهيم، وهو مدين بن إبراهيم الخليل، وشعيب بعث إلى أولاد مدين، ومدين صار اسمًا للقبيلة، كما يقال: بكر وتميم). قال الزجاج: (ولم يصرف (مدين) لأنه اسم للقبيلة، وهو أعجمي) (¬1). وقوله تعالى: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}. قال عطاء عن ابن عباس: (هو شعيب ابن توبة بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن) (¬2). وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. قال بعض أهل التفسير: (البينة شعيب) ومعناه: قد جئتكم بالرسالة، ومجيء البينة هاهنا مجيء شعيب. وبهذا قال الفراء؛ فإنه قال: (لم يكن له آية إلا (¬3) النبوة) (¬4)، وأنكر الزجاج ذلك وجعله (غلطًا فاحشًا؛ لأن شعيبًا دعا إلى أنه رسول، ولا سبيل إلى علم ذلك إلا بمعجزة (¬5). ولو ادعى مدعٍ النبوة بغير آية ¬

_ = {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} يعني في النسب لا في الدين) اهـ. (¬1) قال الزجاج في "معانيه" 2/ 353: (مدين لا ينصرف لأنه اسم للقبيلة أو البلدة، وجائز أن يكون أعجميًّا) اهـ. وقال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 625: (لم تنصرف لأنها اسم مدينة وقيل: إنها اسم قبيلة وقيل: للعجمة وأصحها الأول) اهـ. وانظر: "الفريد" 2/ 331، و"الدر المصون" 5/ 375. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 194 أ، والبغوي 3/ 256 من قول عطاء فقط، والمشهور أنه شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 325، و"تفسيره" 8/ 237، و"عرائس المجالس" ص 164، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 157، و"البداية والنهاية" 1/ 185، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 6/ 319. (¬3) في (أ): (لم يكن له آية النبوة) ثم صحح في الهامش (إلى إلا النبوة). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 385. (¬5) في (ب): (إلا المعجزة).

لم تقبل منه (¬1)، ومعجزة شعيب لم تذكر في القرآن) (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: ({قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يريد موعظة) (¬3) {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}. قال المفسرون: (إن قوم شعيب كانوا أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان (¬4). فأمرهم شعيب بتوحيد الله وإتمام الكيل والوزن) (¬5). قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}. أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها ببعثه شعيب. وهذا معنى قول ابن عباس (¬6)، وإلى هذا أشار الزجاج، فقال: (أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي وبخس الناس بعد أن أصلحها الله عز وجل بالأمر بالعدل، وإرسال الرسول) (¬7). وتفسير هذا ¬

_ (¬1) في (ب): (لم يقبل منه ومعجز شعيب لم يذكر في القرآن). (¬2) هذا كله كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 353 - 354، وقال ابن كثير في "البداية" 1/ 185: ({قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (أي: دلالة، وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به، وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالًا) اهـ. وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 256، والزمخشري 2/ 93، وابن عطية 5/ 574، والرازي 14/ 173. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 208 من قول عطاء فقط. وانظر "الخازن" 2/ 261. (¬4) في (ب): (وبخس المكيال والميزان). (¬5) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 555، والرازي 14/ 174، وفي "الدر المنثور" 3/ 189، أن ابن عباس قال: (كانوا قومًا طغاة بغاة أهل بخس في مكايلهم وموازينهم مع كفرهم بربهم وتكذيبهم نبيهم) اهـ. ملخصًا. (¬6) ذكره السيوطي في "الدر" 3/ 189، وانظر: "تهذيب تاريخ ابن عساكر" 6/ 319 - 320. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 354، ونحوه ذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 237، والنحاس =

86

سابق في قوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]. 86 - قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، قال الكلبي: (ولا تقعدوا على طريق الناس تخوفون أهل الإيمان بشعيب بالقتل) (¬1)، ونحو ذلك قال السدي (¬2) ومقاتل (¬3)، وقتادة؛ قالوا: (إن مفعول الإيعاد مضمر على معنى: توعدون من أتى شعيبًا وأراد (¬4) الإيمان به)، والإيعاء إذا أطلق اقتضى الشر (¬5). ¬

_ = في "معانيه" 3/ 52، والسمرقندي 1/ 555، وقال ابن عطية 5/ 574: (هو لفظ عام يشمل دقيق الفساد وجليله، وكذلك الإصلاح عام، والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد وإلى النبوات والشرائع بالإصلاح) اهـ. بتصرف. (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 110، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 208 عن السدي وقتادة والكلبي. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 238 بسند جيد عن السدي وقتادة ومجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1521، عن السدي ومجاهد. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 48، وذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 238، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة، وذكره القرطبي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي. وقال: (وهو ظاهر الآية) اهـ، وهو قول عامة أهل التفسير. انظر: "معاني الفراء" 1/ 385، والزجاج 2/ 354، والنحاس 3/ 53، و"تفسير الطبري" 8/ 238، والسمرقندي 1/ 555. (¬4) في (ب): (وأراد به الإيمان به). (¬5) قال أهل اللغة: الوَعْد يستعمل في الخير والشر، ويقال في الخير: الوَعدُ والعِدَة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا أدخلوا الباء في الشر جاءوا بالألف أوعدته بالشر. انظر: "العين" 2/ 222، و"الجمهرة" 2/ 668، و"الزاهر" 2/ 129 , و"تهذيب اللغة" 4/ 3915، و"الصحاح" 2/ 551، و"مقاييس اللغة" 6/ 125، و"المجمل" 3/ 931، و"المفردات" ص 875، و"اللسان" 8/ 4871 (وعد).

وقوله تعالى: {بِكُلِّ صِرَاطٍ}. يقال: قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، وهذه الحروف تتعاقب (¬1) في هذا الموضوع لاجتماع معانيها فيه، وذلك أنك إذا قلت: قعد بمكان كذا فـ (الباء) للالتصاق، وهو قد لاصق المكان، و (على) للاستعلاء، وهو قد علا المكان، و (في) للمحل، وهو قد حلّ المكان. وقوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} (¬2) (¬3). قال ابن عباس: (كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيبًا كذّاب فلا يفتنكم عن دينكم) (¬4). وقال مقاتل: (وتصدون عن دين الله من آمن به) (¬5). وقال الكلبي: (وتصرفون عن دين الله الإِسلام من آمن بشعيب) (¬6). فالكناية في {بِهِ} يجوز أن تعود إلى {سَبِيلِ اللَّهِ}؛ لأن المراد به دين الله على قول مقاتل، وعلى قول الكلبي الكناية تعود إلى شعيب، وقال عكرمة: ¬

_ (¬1) انظر: "حروف المعاني" ص 47، و"معاني الحروف" للرماني ص 36، والصاحبي ص 132، و"مغني اللبيب" 1/ 101. وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 13/ 342: (والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 306، و"تفسير الطبري" 8/ 239، و"إعراب النحاس" 1/ 625، و"الدر المصون" 5/ 376. (¬2) في (ب): (ويصدون) بالياء، وهو تصحيف. (¬3) في (أ): (من آمن باللهِ)، وهو تحريف. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 238، وابن أبي حاتم 5/ 1521 بسند جيد. (¬5) "تفسيرمقاتل" 2/ 48. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 110.

({مَنْ آمَنَ بِهِ} (¬1) يعني: بالله) (¬2). وقوله تعالى: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}. قال مجاهد: (يلتمسون لها الزيغ) (¬3). وقال السدي: (وتبغون هلاك الإِسلام). وقال قتادة (¬4): (وتبغون عوج السبيل عن الحق)، [و] (¬5) قال الحسن: (لا تستقيمون على طريق الهدى) (¬6). قال ابن زيد: (وتبغون اعوجاج السبيل) (¬7). وقال أبو إسحاق: (أي: وتريدون الاعوجاج والعدول عن القصد) (¬8). وقد ذكرنا مستقصى معنى {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} في سورة آل عمران [: 99]. ¬

_ (¬1) في (ب): (من آمن بي). (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير ابن عطية" 5/ 576. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 339: (والظاهر أن الضمير عائد على {سَبِيلِ اللَّهِ} وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث وقيل: عائد إلى الله. وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهو بعيد لأن القائل {وَلَا تَقْعُدُوا} هو شعيب، ولا يسوغ أن يكون من باب الالتفات إذ لا يحسن أن يقال: يا هذا أنا أقول لك، لا تُهِن من أكرمه أي: من أكرمني) اهـ. بتصرف، وانظر: "الدر المصون" 5/ 377 - 378. (¬3) أخرجه الطبري 8/ 239، وابن أبي حاتم 5/ 1522 من عدة طرق جيدة عن مجاهد وقتادة والسدي. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 233 بسند جيد. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 208، وانظر: "الخازن" 2/ 262. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 354، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 219 - 220، و"إعراب النحاس" 1/ 626.

وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}. قال الزجاج: (يحتمل ثلاثة أوجه: كثر عددكم، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالمقدرة بعد الضعف) (¬1)، ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل في قلة الغناء، وإلى هذه المعاني أشار ابن عباس فقال: (فكثركم بعد القلة وأعزكم بعد الذلة) (¬2). وقوله تعالى: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. قال الكلبي: (يعني: آخر أمر قوم لوط) (¬3). وقال في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}، (فكثر عددكم، وذلك أنه كان مدين بن إبراهيم وزوجه ريثاء (¬4) بنت لوط، فولدت حتى (¬5) كثر عدد أولادها) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 355، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 54. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 110، وذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 239، -وهذا هو قول الأكثر- قال أبو حيان في "البحر" 4/ 340: (والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص، أو إلى الفقر والغنى، أو إلى قصر الأعمار وطولها، أقوال ثلاثة أظهرها الأول، وقيل: المراد مجموع الأقوال فإنه تعالى كثر عددهم وأرزاقهم وطول أعمارهم وأعزهم ..) اهـ. وانظر: "تفسير الطبري" 8/ 239، والسمرقندي 1/ 555، والبغوي 3/ 257، والزمخشري 2/ 94، وابن عطية 5/ 576. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 110، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 109. (¬4) في (ب): (ربتاء) بالباء والتاء، وقد اختلف العلماء في ذلك فقال (بعضهم: كان زوج بنت لوط، وذهب البعض إلى أنه ابن بنت لوط). انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 247. (¬5) في (ب): (حين)، وهو تحريف. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 209، وهو قول السمرقندي 1/ 554 - 555، والرازي 14/ 176، وذكره الماوردي 2/ 239، وعنده (زينا بنت لوط) وعند الرازي (رئيا).

88

88 - قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. قال الزجاج (¬1) وابن الأنباري (¬2) وجماعة أصحاب المعاني (¬3): (هذا يحتمل وجهين (¬4): أحدهما أن المعنى: (أو لتصيرن إلى ملتنا)، فوقع (العود) على معنى الابتداء كما تقول العرب: قد عاد عليَّ من فلان مكروه، يريدون قد صار إليَّ منه المكروه ابتداءً وأنشدوا على هذا: فإنْ تكُنِ الأيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إليَّ فقَدْ عادَتْ لهنَّ ذُنوبُ (¬5) أراد: لقد صارت لهن ذنوب ولم يخبر أن ذنوبًا كانت [لهن] (¬6) قبل الإحسان، والثاني: أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه على الكفر موافقين لقومهم، فخاطبوا شعيبًا بخطاب أتباعه وغلَّبوا خطابهم على خطابه لكثرتهم وانفراده. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 355. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 230 - 231 عن ابن الأنباري. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 1، و"معاني النحاس" 3/ 54 - 55، والسمرقندي 1/ 555، والماوردي 2/ 240. (¬4) في (ب): (في هذا وجهين). (¬5) الشاهد لكعب بن سعد الغنوي في: "الاختيارين" ص 753، و"جمهرة أشعار العرب" ص 251، و"أمالي القالي" 2/ 149، و"ديوان المعاني" 2/ 179، وبلا نسبة في "تفسير الماوردي" 2/ 240، وابن عطية 6/ 2، و"البيان" لابن الأنباري 1/ 368، وابن الجوزي 3/ 231، والرازي 14/ 177، و"الخازن" 2/ 362، وفي "الأصمعيات" ص 99، نسب إلى عزيقة بن مسافع العبسي، وقال الشيخ أحمد شاكر وعبد السلام هارون -رحمهما الله تعالى- في "حاشية الأصمعيات" ص 94: (القصيدة مرثية مشهورة لكعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، لم يخالف في ذلك أحد فيما علمنا) اهـ. (¬6) لفظ: (لهن) ساقط من (ب).

89

ومعنى الآية: ليكونن أحد الأمرين: إما الإخراج من القرية، أو عودكم في ملتنا , ولا نُقارّكم (¬1) في مخالفتنا (¬2)، وذكرنا الكلام في هذا مشروحًا عند قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [إبراهيم: 13] في سورة إبراهيم. فقال شعيب: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}. [وهذا مختصر معناه: أو لو كنا كارهين] (¬3) تجبروننا عليه؟ كقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. ومعناه: يتبعونهم وإن كانوا بهذه الصفة؟ وقد ذكرنا (¬4) ذلك. 89 - قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، معنى العود هاهنا: الابتداء كما ذكرنا، والذي عليه أهل العلم (¬5) والسنة ¬

_ (¬1) في (أ): (ولا نقاركم على مخالفتنا). (¬2) قال أكثرهم: (عاد تكون بمعنى صار ولا إشكال في ذلك، والمعنى: لتصيرن في ملتنا بعد إن لم تكونوا، وتكون بمعنى رجع إلى ما كان عليه، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على دينهم وأجيب على ذلك بأوجه منها: - إن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل الإبهام والتلبيس على العامة. - إن المراد رجوعه إلى حال سكوته عنهم قبل بعثته. - تغليب الجماعة على الواحد لأنهم لما صحبوه سحبوا عليه حكمهم في العود. قال صديق خان في "فتح البيان" 4/ 410: (الأولى ما قاله الزجاج أن العود بمعنى الابتداء). ورجح شيخ الإِسلام في "الفتاوى" 15/ 29 - 31 أن شعيبًا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم لظاهر الآية ولأنه هو المحاور لهم، وذكر عدة أدلة على ذلك. وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 257، والزمخشري 2/ 96، وابن عطية 6/ 3، والرازي 14/ 177، و"البحر" 4/ 342، و"الدر المصون" 5/ 379 - 380. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 104 أ. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 2، و"معاني النحاس" 3/ 55، والسمرقندي 1/ 555، والماوردي 2/ 240، والبغوي 3/ 257، وابن عطية 6/ 2.

في هذه الآية: إن شعيبًا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع في ملتكم (¬1) بعد إذ وقفنا على أنها ضلالة تُكسبُ دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله (¬2)، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، وهذا من شعيب وقومه استسلام للمشيئة، ولم يزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وكثيرًا ما كان يقول (¬3) نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك" (¬4). وقال أبو إسحاق: (المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن ¬

_ (¬1) في (ب): (ملتهم). (¬2) في (ب): (راجعة إليه). (¬3) في (ب): (وكثير ما كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول). (¬4) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (2654) كتاب القدر، باب: تعريف الله القلوب كيف يشاء، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ مُصَرَفَ القُلُوب صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ" اهـ، وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 168 (30396)، وأحمد في "المسند" 2/ 168 و173، وابن ماجه كتاب المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية رقم (199)، رقم 3834، والترمذي كتاب القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن رقم (2140)، (3522)، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 101 - 104، والآجري في "الشريعة" 2/ 730، والحاكم في "المستدرك" 2/ 288 - 289، من عدة طرق جيدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قال الترمذي: (حديث حسن)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة"، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/ 261 رقم (1689).

[يكون] (¬1) قد سبق في علم الله جل وعز و (¬2) في مشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، قال: وهذا مذهب أهل السنة)، ثم ذكر وجهين آخرين، هما من قول من لا يؤمن بإرادة الله تعالى الخير والشر: أحدهما: إن هذا على طريق التبعيد، كما يقال: لا نفعل ذلك إلا أن يبيض القار ويشيب الغراب (¬3)، وهذا لا يصح مع قوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]، وقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام: 39]، وآيات كثيرة تصرح بأن الله تعالى يشاء [كل] (¬4) ما يحدث في العالم. والثاني: أن في ملتهم ما يجوز التعبد به من وجوه البر الذي كانوا يتقربون به إلى الله تعالى (¬5)، ويكون معنى الآية: وما يكون لنا أن نعود في بعض ملتكم، وفي معنى من معاني شرائعكم إلا أن يردنا الله إليه بأن يتعبدنا به). قال ابن الأنباري: (و (¬6) هذا قول مُتَنَاولُهُ بعيد؛ لأن فيه تبعيض الملة) (¬7). وقال الزجاج: (والقول هو القول (¬8) الأول؛ لأن قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ¬

_ (¬1) لفظ: (يكون) ساقط من (ب). (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬3) انظر: شرح ذلك فيما تقدم (سورة الأعراف: آية 40 من هذا المجلد). (¬4) لفظ: (كل) ساقط من (أ). (¬5) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ). (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬7) ذكره السمين في "الدر" 5/ 383. (¬8) لفظ (القول) ساقط من (أ).

اللَّهُ مِنْهَا} أنه النجاة من الكفر ومن أعمال المعاصي، لا من أعمال البر) (¬1). وقوله تعالى: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} منصوب على التمييز (¬2). قال ابن عباس: (يريد يعلم ما يكون قبل أن يكون) (¬3). وقوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:89]. قال ابن عباس (¬4)، والحسن، وقتادة (¬5)، والسدي: (احكم واقض). قال الفراء: (وأهل عُمَان يسمون القاضي الفاتح والفتاح) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 355 - 357، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 2، و"إعراب النحاس" 1/ 626، والسمرقندي 1/ 555 - 556، والماوردي 2/ 239 - 240، والبغوي 3/ 257، وابن عطية 6/ 4، و"البحر" 4/ 343 - 344، وقال ابن كثير في معنى الآية 2/ 259: (هذا رد إلى الله مستقيم فإنه يعلم كل شيء وقد أحاط بكل شيء علمًا) اهـ. وانظر: "بدائع التفسير" 2/ 261، ونقل قول الواحدي الخازن في "تفسيره" 2/ 263. (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 357، و"الفريد" 2/ 333، و"الدر المصون" 5/ 383. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 210، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 231. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 2 - 3 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي. وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1523 بسند جيد عن ابن عباس وفي "صحيح البخاري" 8/ 297 كتاب التفسير، في تفسير سورة الأعراف قال ابن عباس: (الفتاح: القاضي، {افْتَحْ بَيْنَنَا}: اقض بيننا). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/233 بسند جيد وهو قول الأكثر. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 220، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 148، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 179، و"تفسير الطبري" 12/ 563، و"الزاهر" 1/ 93، و"نزهة القلوب" ص 126، و"معاني النحاس" 3/ 55، و"تفسير المشكل" ص 85. (¬6) "معاني الفراء" 1/ 385، وجاء في "مجاز القرآن" 1/ 221، والطبري 9/ 2 - 3، =

وروي أبو العباس عن ابن الأعرابي: (الفتاح: الحكومة، ويقال للقاضي: الفَتَّاح لأنه يفتح مواضع الحق) (¬1). وروي عن ابن عباس أنه قال: (ما كنت أدري قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} حتى سمعت ابنة ذي يزن (¬2) تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك) (¬3). قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} أي: أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف، فجائز أن يكون يسألون بهذا أن ينزل بقومهم من العذاب والهلكة ما يظهر أن الحق معهم) (¬4). ¬

_ = (أن هذا لغة مراد بطن من كهلان من القحطانية) وفي "تهذيب اللغة" 3/ 2732، (أنها لغة أهل اليمن). (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2732، والفَتْح أصله من فتح الباب بعد إغلاقه ثم كثر واتسع فيه حتى سمي الحاكم فاتحًا لأنه يفتح المستغلق بين الخصمين ويفتح الباب إلى الحق ويبينه. انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 39، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 189. (¬2) ذو يَزَن -ملك من ملوك اليمن- اسمه النعمان بن قيس الحِمْيَري، وقيل: عامر بن أسلم بن غَوْث، ويزن وادٍ باليمن أضيف إليه، انظر: "معجم البلدان" 5/ 436، و"نزهة الألباء" لابن حجر 1/ 313. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 2 - 3، وابن أبي حاتم 5/ 1523 بسند جيد عن قتادة عن ابن عباس، لكن قتادة لم يسمع من ابن عباس. انظر: "المراسيل" ص 168، وذكر الأثر عن ابن عباس. وابن دريد في "الجمهرة" 1/ 386، والسمرقندي 1/ 556، والثعلبي في "الكشف" 194 ب، والماوردي 2/ 241، والرازي 14/ 180 , والسيوطي في "الدر" 3/ 191. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 358.

92

وعلى هذا فالفتح يراد به الكشف والتبيين، ويؤكد هذا ما روى سعيد (¬1) عن قتادة في هذه الآية قال: (اقض بيننا وبين قومنا) (¬2). 92 - قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا}. هذا ترجمة وتفسير للأسماء المكنية التي في قوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} (¬3) [الأعراف: 91] علي تأويل: فأصبح {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} {فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:67 - 68] , مثل قوله: {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]، قاله أبو علي الجرجاني (¬4). وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}. يقال: غني (¬5) القوم في دارهم: إذا طال مقامهم فيها، والمغاني: المنازل التي كان بها أهلوها، واحدها ¬

_ (¬1) سعيد بن أبي عروبة العدوي مولاهم أبو النضر بن مهران البصري، إمام حافظ ثقة من أثبت الناس في قتادة، وله تصانيف، واختلط في آخر عمره، توفي سنة 157 هـ أو قبلها. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 65، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 413، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 177، و"تهذيب التهذيب" 2/ 33. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ب): {فىِ دِيَارِهِمْ} والجمع جاء في سورة هود: 67 و94 {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) الغِنَى مقصور مكسور الأول من اليسار وكثرة المال والغناء ممدود ومفتوح الأول النفع والكفاية، والغناء ممدود مكسور الأول من الصوت، وغَني القوم في دارهم: أقاموا كأنهم استغنوا بها، ومَغَانيهم: منازلهم. انظر: "العين" 4/ 450، و"الجمهرة" 2/ 964، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 119، و"البارع" ص 419، و"تهذيب اللغة" 3/ 2703، و"الصحاح" 6/ 2449، و"مقاييس اللغة" 4/ 397، و"المجمل" 3/ 687، و"المفردات" ص 615، و"اللسان" 6/ 3308 (غنى).

مَغْنى، قال الأسود (¬1) بن يعفر: وَلَقَد غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ... فيِ ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأَوتادِ (¬2) أراد: أقاموا فيها. قال المفسرون (¬3): (كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوا فيها). قال الزجاج: (ويكون {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}: كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، كما قال الشاعر: غَنينا زمانًا بالتصَعْلُكِ والغِنى ... وكُلاًّ سَقَاناهُ بكَأسَيهِما الدّهْرُ (¬4) قال: فمعنى (غنينا زمانًا) أي: عشنا زمانًا، بالتصعلك وهو الفقر) (¬5). ¬

_ (¬1) الأسْوَد بن يَعْفُر بن عبد الأسود النَّهْشَلي، أبو الجراح، أعشى نَهْشل، شاعر جاهلي مقدم فصيح فحل جواد، كان ينادم النعمان بن المنذر، ولما أسن كف بصره. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 143 و147، و"الشعر والشعراء" ص 152، و"الأغاني" 13/ 17، و"الأعلام" 1/ 330. (¬2) الشاهد في "المفضليات" ص 217، و"الحماسة البصرية" 2/ 412، و"وضح البرهان" للغزنوي 1/ 362، و"تفسير الرازي" 14/ 182، و"الخازن" 2/ 264، و"الدر المصون" 5/ 387، وهو من قصيدته الدالية المشهورة التي كانت مثار إعجاب الخلفاء والولاة، انظر: "الأغاني" 13/ 22. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 5، وأخرجه من عدة طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 55، والسمرقندي 1/ 556، والماوردي 2/ 240، والبغوي 3/ 259. (¬4) الشاهد لحاتم الطائي في "ديوانه" ص51، و "معاني الزجاج" 2/ 258، و"تفسير الثعلبي" 1/ 6، وابن عطية 6/ 11، وابن الجوزي 3/ 232، والقرطبي 7/ 252، و"البحر" 4/ 346، وفي "الديوان": غنينا زمانًا بالتصعلك والغنى ... كما الدّهرُ في أيّامِه العُسْرُ واليُسرُ كَسَينا صُرُوفَ الدَّهرِ لِينًا وغِلظَة ... وكُلا سَقَاناه بكأسيهما الدهرُ (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 258.

ووافقه ابن الأنباري على هذا المعنى، فقال في قوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}: (كأن لم يستغنوا فيها، يقال: غني الرجل يغنى (¬1): إذا استغنى) (¬2) وعلى هذا هو من الغنى الذي هو ضد الفقر، وليس من الإقامة (¬3) في شيء، يؤكد هذا المعنى ما روي عن قتادة أنه قال في هذه الآية: (كأن لم ينعموا فيها) (¬4). ووجه التشبيه في: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أن حال المكذبين يشبه حال من لم يكن قط في تلك الديار، كما قال الشاعر: كأنْ لم يكُن بينَ الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكَّةَ سَامِرُ بَلَى نحنُ كنَّا أهلَهَا فأبادَنا ... صُروُفُ الليالي والجُدُودُ العَواثرُ (¬5) ¬

_ (¬1) لفظ: (يغنى) ساقط من (ب). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) قال ابن عطية في "تفسيره" 6/ 10: (الذي استقريت عن العرب أن غنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضي) اهـ. والمشهور عن أهل اللغة والتفسير أنها لمطلق الإقامة، قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 221: (أي: لم ينزلوا فيها ولم يعيشوا فيها) وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 148، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"نزهة القلوب" ص 487، و"تفسير المشكل" ص 86. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/233، والطبري 9/ 5، وابن أبي حاتم 5/ 1524 بسند جيد بلفظ: (كأن لم يعيشوا فيها كأن لم ينعموا فيها) اهـ. (¬5) البيتان في "السيرة" لابن هشام 1/ 126، و"العقد الفريد" 5/ 59، و"شرح القصائد" لابن الأنباري ص 256، و"الأغاني" 15/ 10 - 16 - 23، و"وضح البرهان" للغزنوي 1/ 362، و"الروض الأنف" 1/ 127، والرازي 14/ 182 , و"معجم البدان" 2/ 225، و"الحماسة البصرية" 2/ 411، و"اللسان" 2/ 792 =

93

وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} إبانة عن سوء حال المكذب نبيًا من أنبياء الله في أنه بمنزلة من لم يستمتع بالدنيا؛ إذ حصل في العذاب وصار إلى الخسران. وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}، هذا ابتداء منقطع من الفصل الأول، جملة من المبتدأ والخبر (¬1). قال ابن الأنباري: (ووقع التكرير لتعظيم الذم لهم و (¬2) تفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم، فيقول الرجل [للرجل] (¬3): أخوك الذي ظلمنا، أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا) (¬4). 93 - قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ}، قال الكلبي: (خرج من بين أظهرهم ولم يعذب قومُ نبي حتى يخرج من بينهم) (¬5). ¬

_ = (حجن) والبيت الأول في "الصحاح" 5/ 1097 (حجن)، و"الأفعال" للسرقسطي 3/ 554، وابن عطية 6/ 9، و"البحر" 4/ 346، وعند الأكثر هما لعمرو بن الحارث الجُرْهُمي، وقيل هما لمُضَاض بن عمرو الجرهمي، وقيل هما للحارث الجرهمي. (والحَجُون) جبل بأعلى مكة. انظر: "معجم البلدان" 2/ 225 (والصَّفَا) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق، انظر: "معجم البلدان" 3/ 411، والعواثر: جمع عاثرة، وهي الحادثة التي تعثر بصاحبها. انظر: "اللسان" 5/ 2807 (عثر). (¬1) انظر: "البيان" 1/ 368، و"التبيان" 1/ 384، و"الفريد" 2/ 333 - 334، و"الدر المصون" 5/ 385 - 387. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) لفظ: (للرجل) ساقط من (ب). (¬4) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 233، وهو عند الرازي 14/ 182 بدون نسبة. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 112، وذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 182.

وقال أهل المعاني: (أعرض عنهم إعراضَ آيِسٍ منهم لما نزل العذاب بهم، وذلك أنه كان مقبلًا عليهم بالوعظ والدعاء إلى الحق، فلما تمادوا في غيهم، فأخذهم الله عز وجل ببأسه، تولى عنهم) (¬1). وقوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}. أي: كيف يشتد حزني (¬2). يقال: أسِيت (¬3) على الشيء آسَى (¬4) أسًى إذا اشتد حزنه عليه. قال امرؤ القيس: يَقُولونَ لاَ تَهْلِكْ أَسًى وتَجَمَّلِ (¬5) وقوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى} استفهام معناه الإنكار، أي: لا آسى عليهم. ومعنى الآية: أن شعيبًا -عليه السلام- يتسلى عنهم بما يتذكر من حاله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 6، والسمرقندي 1/ 556، وقد سبق لمثل هذا زيادة بيان. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 222، و"معاني الزجاج" 2/ 359، و"نزهة القلوب" ص 73، و"معاني النحاس" 3/ 56. (¬3) الأسى مفتوح مقصور: الحزن. انظر: "العين" 7/ 332، و"الجمهرة" 1/ 238، و"تهذيب اللغة" 1/ 163، و"الصحاح" 6/ 2268، و"مقاييس اللغة" 1/ 106، و"المفردات" ص 77، و"اللسان" 1/ 82 (أسَى). (¬4) في (ب): (أسًا). (¬5) "ديوانه" ص 111، و"طبقات فحول الشعراء" 1/ 59، و"الشعر والشعراء" ص 64، و"جمهرة أشعار العرب" ص 95، و"الصناعتين" ص 229، وهو من معلقته المشهورة وأوله: وُقوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ قال النحاس في "شرح المعلقات" 1/ 5: (الصحب الجماعة ومطيهم، واحده مطية وهي: الراحلة، والأسى: الحزن، وتجمل أي: أظهر جميلًا) اهـ. وانظر: "شرح القصائد" لابن الأنبارى ص 24.

94

معهم في مناصحته لهم، وبتأديته رسالة ربه إليهم، وأنه لا ينبغي له أن يأسى عليهم مع تمردهم في كفرهم (¬1). 94 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ}، قال ابن عباس: [(يريد] (¬2) في مدينة) (¬3)، والقرى (¬4) في كتاب الله كلها المدائن، وقوله: {مِنْ نَبِيٍّ} محذوف الصفة، والتقدير: من نبي (¬5) فكُذب، أو فكذبه أهلها، إلا أخذناهم. كذلك قال أهل التفسير (¬6)، وعلى هذا يصح المعنى. وقوله تعالى: {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}. قال ابن عباس: (يريد: الفقر والأسقام) (¬7). وقال السدي: (يعني: الفقر والجوع) (¬8). قال (¬9) أبو إسحاق: (قيل: {بِالْبَأْسَاءِ} كل ما نالهم من شدة في أموالهم، {وَالضَّرَّاءِ}: ما نالهم من الأمراض، قال: وقيل: على العكس من ذلك) (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 6، والسمرقندي 1/ 556. (¬2) لفظ: (يريد) ساقط من (أ). (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 211. (¬4) قال الزجاج في "معانيه" 2/ 359: (يقال لكل مَدينة: قَرية، سميت قرية لاجتماع الناس فيها) اهـ. وانظر: "الزاهر" 2/ 100 - 101. (¬5) لفظ: (نبي) ساقط من (أ). (¬6) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 556 - 557، والبغوي 3/ 259، وابن عطية 6/ 13، وابن الجوزي 3/ 233، والرازي 14/ 183. (¬7) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1525، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 7، والماوردي 2/ 242، وقد سبق له زيادة تخريج. (¬8) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 2. (¬9) في (ب): (وقال). (¬10) "معاني الزجاج" 2/ 359، وقال ابن عطية 6/ 13: (البأساء المصائب في =

95

وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: كي يستكينوا ويرجعوا) (¬1). 95 - قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}، مضى الكلام في حقيقة التبديل عند قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]، ومعنى: {السَّيِّئَةِ} و {الْحَسَنَةَ} هاهنا: الشدة والرخاء. عن ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) وقتادة (¬4) ومجاهد (¬5). قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: بدل البؤس والمرض الغنى والصحة) (¬6). وقال أهل اللغة: (السيئة (¬7) كل ما يسوء صاحبه، والحسنة (¬8) ما يحسن عليه أثره). ¬

_ = الأموال والهموم وعوارض الزمن، والضراء المصائب في البدن كالأمراض ونحوها، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة ..) اهـ. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 2، والواحدي في "الوسيط" 1/ 211 بلا نسبة. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 7، وابن أبي حاتم 5/ 1526 بسند جيد. (¬3) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 242، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 233، والطبري 9/ 7 بسند جيد. (¬5) ذكره الماوردي 2/ 242، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 240 - 241: (مكان الشر الرخاء والعدل والعافية والولد) اهـ، وأخرجه الطبري 9/ 7، وابن أبي حاتم 5/ 1526 بسند جيد، وفي رواية عند الطبري قال: (السيئة الشر، والحسنة الخير) اهـ. (¬6) في "تنوير المقباس" 2/ 113 نحوه، وذكره المؤلف في "الوسيط" 1/ 211 بلا نسبة. (¬7) انظر: "العين" 7/ 327، و"تهذيب اللغة" 2/ 1583، و"مقاييس اللغة" 3/ 113، و"المفردات" ص 441 (سوء). (¬8) انظر: "العين" 3/ 143، و"تهذيب اللغة" 1/ 821، و"المفردات" ص 235 (حسن).

وقال أبو علي: (السيئة والحسنة قد جاءتا في التنزيل على ضربين: أحدهما: سيئة مأخوذ بها، وحسنة مُثَاب عليها, لقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} (¬1) [الأنعام: 160]، والثاني: لما يستثقل (¬2) في الطباع أو يُسْتَحفُّ (¬3) كما في هذه الآية، وكقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} الآية [الأعراف: 131]، وكذلك الفساد، قد يكون (¬4) فسادًا معاقبًا عليه كقوله: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} الآية [القصص: 77]، ويكون على غير ذلك، كقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ} [الروم: 41] يعني: الجدب) (¬5) والمعنى: أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء تارة (¬6). وقوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} (¬7). قال أبو عبيد: (قال الكسائي: يقال: قد عفا الشعر وغيره إذا كثر، يَعْفُو فهو عافٍ، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى ¬

_ (¬1) نص الآية (160) من سورة الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. (¬2) في (ب): (ما يستثقل). (¬3) في (ب): (ويستخف). (¬4) (وقد يكون). (¬5) "الحجة" لأبي علي 5/ 103. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 7، و"معاني النحاس" 3/ 56، والسمرقندي 1/ 557. (¬7) العفُوّ على فَعُول: الكثير العفو وهو: ترك العقوبة، وعفا الشيء: إذا درس ونقص، وعفا إذا زاد وكثر، وأعفيت الشعر وعفوته: إذا كثرته وزدت فيه. انظر: "العين" 2/ 258، و"الأضداد" لقطرب ص 114، و"الجمهرة" 2/ 938، و"أشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 134، و"الصحاح" 6/ 2431، و"مقاييس اللغة" 4/ 56، و"المجمل" 3/ 615، و"المفردات" ص 574 (عفا).

عَفَوْا} يعني: كثروا، وفي بعض الحديث: (إذا عفا الوَبَر وبرأ الدبر حلت العمرة لمن اعتمر) (¬1). ويقال للشعر إذا طال ووَفَى: عما (¬2) ومنه قول زهير: أَذَلكَ أم أَقَبُّ البَطْنِ جأبٌ ... عليه من عَقِيقَتِهِ عِفَاءُ (¬3) وقد عَفَّيت الشيء وأعْفَيتهُ لغتان إذا كثرته (¬4) ومنه قوله عليه السلام أنه: ¬

_ (¬1) هذا طرف من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرج البخاري رقم (1564) كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد، وفي رقم (3832) كتاب مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، ومسلم في "صحيحه" كتاب الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام رقم (1240)، عن ابن عباس قال: (كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من الفجور ويجعلون المحرم صفر، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر ..) قال الإمام النووي في "شرح مسلم" 3/ 308 - 309: (يعني: أهل الجاهلية، والدبر: يعنون دبر ظهور الإبل بعد انصرافها من الحج فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج، وعفا الأثر أي: درس وامحى والمراد أثر الإبل وغيرها في سيرها عفا أثرها لطول مرور الأيام) اهـ, وانظر: "النهاية" 3/ 266. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2490، عن أبي عبيد عن الكسائي، وانظر: "الكامل المبرد" 1/ 430. (¬3) الشاهد في "شرح ديوان زهير" لثعلب ص 75، و"تهذيب اللغة" 3/ 2490، و"اللسان" 5/ 3020 (عفا)، و"الدر المصون" 5/ 389، (والأقب الضامر، والجأب، الغليظ، وعقيقته وبره، والعفاء: صغار الوبر والريش، وهو هنا شعر الحمار الذي ولد وهو عليه، يقول: أذلك الظليم أم هذا الحمار يشبه ناقتي أفاده ثعلب وقال ويروي: أذلك أم شَتِيم الوجهِ جأْب، وشتيم كريه الوجه صاحب شر) اهـ. وهو كذلك في "ديوانه" ص 15. (¬4) في (ب): (إذا كثر به).

"أمر أن تحفى الشوارب وتُعفي اللِّحى" (¬1)، يعني: توفر وتكثر) (¬2). وقال ابن الأنباري (¬3): (يقال: عما الشيء: إذا زاد وكثر، وأنشد للبيد: ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنهَا ... بأسْوُقِ عَافيَاتِ اللَّحْمِ كُوم (¬4) أراد: كثيرات اللحم)، فمعنى قوله: {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثروا (¬5)، في قول ابن عباس (¬6)، ومجاهد (¬7) والسدي وابن زيد (¬8). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في "صحيحه" رقم (5893) كتاب اللباس، باب: إعفاء اللحى، ومسلم كتاب الطهارة، باب: خصال الفطرة رقم (259)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى". وفي رواية لمسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى. (¬2) أبي عبيد في "غريب الحديث" 1/ 93، ونحوه قال ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 428 - 429، و"شرح القصائد" ص 21 - 22، وانظر: "النهاية" 3/ 226، 1/ 410. (¬3) "الأضداد" لابن الأنباري ص 87، و"الزاهر" 1/ 429، و"شرح القصائد" ص 21. (¬4) "ديوانه" ص 186، و"مجاز القرآن" 1/ 222، و"تهذيب اللغة" 3/ 2493، و"اللسان" 5/ 3021 (عفا)، و"الدر المصون" 5/ 389 وبلا نسبة في "الكامل" للمبرد 1/ 430، و"تفسير ابن عطية" 6/ 15. (¬5) وهو قول عامة أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 222، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 148، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"الكامل" للمبرد 1/ 430، و"تفسير الطبري" 9/ 8، و"معاني الزجاج" 2/ 359، و"نزهة القلوب" ص 325، و"معاني النحاس" 3/ 56، و"تفسير السمرقندي" 1/ 557، و"تفسير المشكل" ص 86. (¬6) ذكره البخاري في "صحيحه" 5/ 195، في تفسير سورة الأعراف، وأخرجه الطبري في "تفسيره" 8/ 9، وابن أبي حاتم 5/ 1526 من عدة طرق جيدة. (¬7) "تفسير مجاهد" 1/ 241، وأخرجه الطبري 9/ 8 من عدة طرف جيدة. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 8، من عدة طرف جيدة عن السدي وابن زيد، وأخرجه عن إبراهيم النخعي والضحاك، وذكره الماوردي 2/ 242، عن ابن عباس ومجاهد والسدي.

قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: حتى كثروا فسمنوا، وكثرت أموالهم) (¬1). وروى عنه أيضاً: (حتى جموا) (¬2). وقوله تعالى: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}، يعني: لما صاروا إلى الرخاء {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا} من الدهر الشدة والرخاء، وتلك عادة الدهر، ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم ولم يقلعوا (¬3) عن الكفر بما مسهم من الضراء، والله تعالى أخذهم بالضراء ليعتبروا ويقلعوا عن الكفر، وتكذيب الأنبياء فلم يعتبروا، وقالوا من غرّتهم وجهلهم: قد أصاب آباءنا في الدهر مثل ما أصابنا. وهذا معنى قول المفسرين (¬4) في هذه الآية؛ قال ابن عباس: وهذا كما قال في سورة الأنعام: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية (¬5) [الأنعام: 44]. ¬

_ (¬1) قوله: كثروا، وكثرت أموالهم، سبق تخريجها، أما قوله: (سمنوا)، فلم أقف عليها عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1527، بسند جيد عن الحسن قال: (حتى سمنوا). وذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 32، والماوردي 2/ 242، عن الحسن. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 8 بسند ضعيف، وذكره الثعلبي 6/ 2، وجَمّ الشيء واستجم: كثر، ومال جَمٌّ: كثير. انظر: "اللسان" 2/ 686 (جمم). (¬3) في (ب): (ولم يفعلوا)، وهو تحريف. (¬4) هذا كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 359 - 360، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 57، والماوردي 2/ 243، والبغوي 3/ 260، وابن عطية 6/ 14، وابن الجوزي 3/ 234، والرازي 14/ 183 - 184، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 8، والسمرقندي 1/ 557، وابن كثير 2/ 260. (¬5) لم أقف عليه.

وقوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}. قال المفسرون (¬1): (لما فسدوا على الأمرين جميعًا أخذهم الله بغتة آمن ما كانوا؛ ليكون أعظم في الحسرة. وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. قال ابن عباس: (يريد بنزول العذاب) (¬2). وقال أبو إسحاق: (بيّن الله عز وجل تأولهم بخطئهم في قولهم: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}، وقد علموا أن الأمم قد أهلكت قبلهم بكفرهم، وإنما أخبر الله تعالى بهذا عن الأمم السالفة لتعتبر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (¬3) [الأعراف:96]، قال ابن عباس: (وحدوا الله واتقوا الشرك) (¬4). وقال عطاء عنه: (يريد آمنوا بالله وحده، وصدقوا أنبياءه، وخافوا الوعيد) (¬5). وقوله تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. قال المفسرون: (بركات السماء بالقطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 9، والسمرقندي 1/ 557، والبغوي 3/ 260. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 114، وهو قول الأكثر، انظر: السمرقندي 1/ 557، والثعلبي 2/ 1 ب، و"الوسيط" للواحدي 1/ 212، والبغوي 3/ 260، وابن الجوزي 3/ 234، والرازي 14/ 184. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 360. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 114، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 212. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 360، والنحاس 3/ 57، و"تفسير السمرقندي" 1/ 557، والماوردي 2/ 243، والبغوي 3/ 260، وابن عطية 6/ 16 - 17، وقال أبو حيان =

97

وقال ابن عباس: (يريد: الأمطار والخصب وكثرة المواشي والأنعام) (¬1) ومضى الكلام في معنى (¬2) البركة والمبارك. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} يعني: الرسل، {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالجدوبة والقحط، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفر والمعصية. قال ابن عباس: (يعني: مدائن معروفة أهلكت بالجدب) (¬3). قال أصحاب المعاني: (والآية بيان أن الإيمان بالله والاتقاء يوجب إسباغ الإنعام، والتكذيب يوجب الإهلاك والعذاب). 97 - قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الآية. هذه ألف الاستفهام ومعناها: الإنكار [عليهم أن يأمنوا، وقد ذكرنا قديمًا لم (¬4) دخل الاستفهام معنى الإنكار، (¬5)، والفاء في {أَفَأَمِنَ} للعطف، وهو عطف جملة على جملة (¬6). قال ابن عباس: (يعني: مكة وما حولها) (¬7). ¬

_ = في "البحر" 4/ 348: (الظاهر أن قوله: {بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لا يراد بها معين، ولذلك جاءت نكرة، والمعنى: لأتيناهم بالخير من كل وجه) اهـ. بتصرف. (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 114، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 212. (¬2) انظر: لفظ: (مبارك) في "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 199 ب. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "البسيط" البقرة: 75 قوله تعالى: {أفتطمعون}. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 307، والزجاج 2/ 360، و"المسائل المنثورة" لأبي علي الفارسي ص 197، و"تفسير الزمخشري" 2/ 98، وابن عطية 6/ 18، و"البحر" 4/ 348 - 349. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 114، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 212.

98

قال الزجاج: (أفأمنت الأمة التي كذبت النبي - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا}) (¬1)، فعلى هذا المراد بأهل القرى الذين كذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكفروا به، وقال آخرون: (هذا عام و (¬2) معناه البيان عما ينبغي أن يكون عليه العباد من الحذر لبأس الله عز وجل وسطواته (¬3) بالمبادرة إلى طاعته واتباع مرضاته) (¬4) 98 - قوله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الآية. قرأ أكثر القراء (¬5) {أَوَأَمِنَ} بفتح الواو، وهو حرف العطف دخلت على همزة الاستفهام، كما دخل في قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51]، وقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا} [البقرة: 100]. وهذه القراءة أشبه بما قبله وما بعده؛ لأن ما قبله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97]، وما بعده: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99]، {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} (¬6) [الأعراف: 100]. ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 360، ومثله قال النحاس في "معانيه" 3/ 58. (¬2) لفظ (الواو) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (وسلطانه). (¬4) وأكثرهم على الأول وأنه وعيد للكافرين المعاصرين للرسول أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم السابقة. انظر: "تفسير البغوي" 3/ 260، وابن عطية 6/ 17، والقرطبي 7/ 253، و"البحر" 4/ 249. (¬5) يقرأ: {أَوْ أَمِنَ} بإسكان الواو وتحريكها، فقرأ ابن عامر ونافع وابن كثير: {أَوْ أَمِنَ} بإسكان الواو غير أن ورشًا يلقى حركة الهمزة من {أَمِنَ} على الواو من {أَوْ} على أصله، وقرأ الباقون بفتح الواو. انظر: "السبعة" ص 286، و"المبسوط" ص 182، و"التذكرة" 2/ 421، و"التيسير" ص 111، و"النشر" 2/ 270. (¬6) قال أبو علي في "الحجة" 4/ 55: (فكما أن هذه الأشياء في هذه الآيات حروف عطف دخل عليها حرف الاستفهام كذلك يكون قوله: {أَوَأَمِنَ}) اهـ.

وقرأ نافع وابن عامر: {أَوَأَمِنَ} ساكنة الواو، و (أو) يستعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون بمعنى أحد الشيئين كقولك: زيدٌ أو عمرو جاء، كما تقول: أحدهما جاء، وهي إذا كانت للإباحة والتمييز كذلك أيضاً؛ لأنها لأحد الشيئين كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، ويدلك على أنها ليست بمعنى الواو أنه إذا جالس أحدهما فقد ائتمر (¬1) الأمر ولم يخالف، وإنما جاز له الجمع بين مجالستهما من حيث كان كل واحد منهما مجالسته بمعنى مُجالسة الآخر، ليس من حيث كانت (أو) بمعنى (الواو). والضرب الثاني: أن يكون للإضراب (¬2) عما قبلها. كقولك: (أنا أخرج) ثم تقول: (أو أقيم)، أضربت عن الخروج وأثبتَّ الإقامة. كأنك قلت: (لا بل أقيم)، كما أنك في قولك: (إنها لإبل أو (¬3) شاء) مُضرِب عن الأول، فوجه هذه القراءة: أنه جعل (أو) للإضراب، لا على أنه أبطل الأول، ولكن كقوله: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ} [السجدة:1 - 3]، فكأن المعنى في هذه الآية: أأمنوا هذه الضروب من معاقبتهم والأخذ لهم، وإن شئت جعلت (أو) هاهنا التي لأحد الشيئين، ويكون المعنى: أفأمنوا إحدى هذه العقوبات (¬4). ¬

_ (¬1) في (ب): (فقد أتم الأمر) وائْتَمر الأمر أي امتثله، انظر: "اللسان" 1/ 127 (أمر). (¬2) في (ب): (الإضراب)، وهو تحريف. (¬3) النص كله من "الحجة" لأبي علي 4/ 54، وفيه في قولك: (إنها الإبل أم شاء). (¬4) ما تقدم هو نص كلام أبي علي في "الحجة" 4/ 53 - 55، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 414، و"إعراب القراءات" 1/ 196، و"الحجة" لابن خالويه ص 158، ولابن زنجلة ص 289، و"الكشف" 1/ 468.

99

وقوله تعالى: {ضُحًى}، الضحى (¬1) صدر النهار في وقت انبساط الشمس، وأصله الظهور من قولهم: ضَحَا للشمس (¬2): إذا برز لها. قال أبو الهيثم (¬3): (والضُّحَى على فُعَل حين تطلع الشمس فيصفو ضوؤها) (¬4). قال الحسن: (والمعنى: إنهم لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلاً ولا نهارًا) (¬5). وقوله تعالى: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}. قال الزجاج: (يقال لمن كان في عمل لا يُجدي عليه أو في ضلال: (إنما أنت لاعب)، وإنما قيل لهم {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي: وهم في غير ما يجدي عليهم) (¬6). 99 - قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} الآية. قد ذكرنا معنى المكر في اللغة، ومعنى مكر الله في سورة آل عمران عند قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]. ¬

_ (¬1) الضحى: أصل يدل على بروز الشيء وظهوره، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار وسمى الوقت به، والضحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس، والضحاء بالفتح والمد لقوة ارتفاعها قبل الزوال. انظر: "العين" 3/ 265، و"الجمهرة" 2/ 1050، و"الصحاح" 6/ 2406، و"مقاييس اللغة" 3/ 391، و"المجمل" 2/ 574، و"المفردات" ص 502، و"اللسان" 5/ 2559 (ضحى). (¬2) في "تهذيب اللغة" 3/ 2094: (يقال: ضَحِيَ بفتح ثم كسر يَضْحَى إذا برز الشمس). (¬3) أبو الهيثم خالد بن يزيد الرازي لغوي، تقدمت ترجمته. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2094 (ضحى). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 212. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 360، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 58، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 557، والبغوي 3/ 260، وابن عطية 6/ 18، والرازي 14/ 185، والقرطبي 7/ 254، و"البحر" 4/ 349، وأكثرهم قال: (ساهون لاهون في غاية الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي).

100

قال المفسرون: (معنى مكر الله: استدراجه إياهم بالنعمة والصحة، وذلك مما يبطرهم ويحملهم على المعصية والتمادي في الغي فيكون في الحقيقة إضرارًا بهم من حيث لا يشعرون) (¬1). وقال الزجاج في هذه الآية (¬2): (أي: فأمنوا (¬3) عذاب الله أن يأتيهم بغتة). وهذا القول غير الأول. 100 - قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد (¬4): (أولم يتبين)، والمراد بقوله: {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} كفار مكة ومن حولهم، قاله ابن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 9، والبغوي 3/ 260، وابن عطية 6/ 18. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 360، وهو قول النحاس في "معانيه" 3/ 58، و"السمرقندي" 1/ 557، والمكر: إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي لمن يستحقه عقوبة له. وهو صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، والمكر يحمل حقيقة على بابه. انظر: "الفتاوى" 3/ 111 - 112، وقال ابن القيم (كما في "بدائع التفسير" 2/ 261): (قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله على مكر السيئات بمكره به {إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع إغترار، فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة وفترة). اهـ. (¬3) في (ب): (أي أفأمنوا) وهو الأنسب بالسياق، وعند الزجاج في "معانيه" 2/ 360: (أي وأمنوا). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 10 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1529 بسند جيد عن مجاهد، وهو في "تفسيره" 1/ 241 قال ابن أبي حاتم: (وروي عن السدي وعطاء الخراساني مثل ذلك)، وهذا القول هو قول عامة أهل التفسير واللغة. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 223، و"معاني الأخفش" 2/ 307، والزجاج 2/ 361، و"تفسير الطبري" 9/ 9، و"معاني النحاس" 3/ 58، و"تفسير السمرقندي" 1/ 558.

عباس (¬1) ومجاهد (¬2)، و (¬3) أما فاعل الهداية في قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ} فقال (¬4) الزجاج: (كأن المعنى: أولم يبين الله أنه لو يشاء) (¬5). وقال غيره: [المعنى (¬6) أولم يهد لهم مشيئتنا) فـ (أن) (¬7) في قوله: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ} في موضع رفع لأنه فاعل (يهد)، والمعنى: أولم يهد لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم؛ كما قال في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [السجدة: 26]، وهذا هو قول أبي عبيد (¬8). وقوله تعالى: {أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}. قال ابن عباس: (يريد أخذناهم) (¬9). وقال الكلبي (¬10) ومجاهد (¬11): (عذبناهم). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 115، وذكره أبو حيان في "البحر" 4/ 350. (¬2) لم أقف عليه، وهو قول السمرقندي 1/ 558، والقرطبي 7/ 254. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (قال الزجاج فقال المعنى أو لم يبين)، وهو تحريف. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 361، وهو قول السمرقندي 1/ 558. (¬6) لفظ: (المعنى) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (وأن) بالواو. (¬8) في (ب): (أبو عبيدة) ولم أقف عليه عنهما، وقال السمين في "الدر" 5/ 393: (الأظهر في فاعل يهدي أنه المصدر المؤول من أن وما في حيزها والمفعول محذوف والتقدير: أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك، فقد سبكنا المصدر من أن ومن جواب لو) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 627، و"المشكل" 1/ 296 - 197، و"غرائب الكرماني" 1/ 415، و"البيان" 1/ 369، و"التبيان" ص 384، و"الفريد" 2/ 336، وفي الجميع الفاعل قوله: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ}. (¬9) لم أقف عليه. (¬10) "تنوير المقباس" 2/ 115. (¬11) لم أقف عليه.

وقوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. قال ابن الأنباري: (هذا فعل مستأنف و (¬1) منقطع من الذي قبله؛ لأن قوله أصبنا ماضٍ، {وَنَطبَعُ} مستقبل) (¬2). وقال أبو إسحاق: (المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم) (¬3). قال أبو بكر: (ويجور أن يكون معطوفاً على أصبنا إذ كان بمعنى: نصيب، والتأويل: أن لو نشاء نصيبهم ونطبع، فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال؛ كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10] والمعنى: يجعل؛ يدل علي ذلك قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}) (¬4) [الفرقان: 10]. قال الفراء: (وجاز أن تُرد (يَفْعَلُ) على (فَعَلَ) في جواب (لو) كما قال: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ} [يونس: 11]، قوله: {فَنَذَرُ} مردودة على {لَقُضِيَ} وإذا جاءك جواب (لو) آثرت فيه (فَعَلَ) على (يَفْعَلُ)، وعطف (فَعَلَ) على (يَفْعَلُ)، و (يفعل) على (فَعَلَ)، جائزة لأن التأويل كتأويل الجزاء) (¬5). وفي قوله: ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 213، والسمين في "الدر" 5/ 394. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 361 وفيه: (لأنه لو حمل على {أَصَبْنَاهُمْ} لكان و (لطبعنا) لأنه على اللفظ الماضي وفي معناه. ويجوز أن يكون محمولًا على الماضي ولفظه لفظ المستقبل، كما {أَنْ لَوْ نَشَاءُ} معناه: لو شئنا) اهـ. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 213، وابن الجوزي 3/ 235، وأبو حيان في "البحر" 4/ 351، والسمين في "الدر" 5/ 394. (¬5) انظر: "معاني الفراء" 1/ 386، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 350 - 351: (الظاهر أنها جملة مستأنفة أي: نحن نطبع على قلوبهم والمعنى: إن من أوضح الله =

101

{وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} تكذيب للقدرية، ودليل على أن الله تعالى إذا شاء وطبع على قلبٍ فلا يعي خيراً ولا يسمع هدى (¬1). 101 - قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا}، قال ابن عباس: ({تِلْكَ الْقُرَى} التي أهلكتْ أهلها، يعني: قرى قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وشعيب، {نَقُصُّ عَلَيْكَ} نتلو عليك من أخبارها كيف أهلكت. قال: يعزي نبيه بما صنعوا بأنبيائهم، وما صنع الله بهم) (¬2). وقال أهل المعاني: (إنما قصّ الله أنباء القرى لما في ذلك من الاعتبار بما كانوا عليه من الاغترار بطول الإمهال مع اتساع النِعَم حتى توهموا أنهم على صواب) (¬3). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}. قال ابن عباس: (يريد: الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم) (¬4). وقوله تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}. قال ابن ¬

_ = له سبل الهدى وذكر له أمثالًا ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق) اهـ، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 627، و"الكشاف" 2/ 99، وابن عطية 6/ 20، والرازي 14/ 187, و"الفريد" 2/ 336، و"الدر المصون" 5/ 395. (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 187. (¬2) في "تنوير المقباس" 2/ 115 نحوه، وذكره الثعلبي 6/ 3/ أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 214، والبغوي 3/ 261، والقرطبي 7/ 255، و"الخازن" 2/ 266 بلا نسبة، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 352: (الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرى هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين) اهـ. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 10، والرازي 14/ 188. (¬4) لم أقف عليه.

عباس (¬1) والسدي (¬2): (فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهأ وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب). وقال مجاهد: (فما كانوا -لو أحييناهم بعد هلاكهم- ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم) (¬3). وقال آخرون: ({وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات والآيات التي سألوها، فما كانوا ليؤمنوا -بعد ما رأوا العجائب- بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب) (¬4). وهذا الوجه كأنه اختيار أبي إسحاق؛ لأنه ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 3، والبغوي 3/ 261، وابن الجوزي 3/ 236، والرازي 14/ 188، والقرطبي 7/ 255، و"الخازن" 2/ 267، عن ابن عباس والسدي. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 11، وابن أبي حاتم 5/ 1530 بسند جيد. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 241، وأخرجه الطبري 9/ 11، وابن أبي حاتم 5/ 1530، 170 أبسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 194، ورد هذا القول الطبري في "تفسيره" 9/ 12، وقال: (وهو تأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ولا من خبر عن الرسول صحيح) اهـ. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 2/ 329: (هو قول بعيد من ظاهر الآية) اهـ. (¬4) ذكر هذا القول الثعلبي في "تفسيره" 6/ 3 ب، وابن الجوزي 3/ 236، وهو اختيار الواحدي في "الوسيط" 1/ 213، والبغوي 3/ 261، واختار الطبري 9/ 11، أن المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما سبقَ في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به ولم يؤمنوا به؛ لاستحالة التغيير فيما سبق به العلم الأزلي، وأخرجه بسند جيد عن أبي بن كعب والربيع بن أنس، وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 2/ 329: (ومعنى الآية: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم وهذا القول حكاه ابن عطية واستحسنه ابن كثير وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية ووجهه ظاهر لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة) اهـ. وانظر: =

102

قال: (هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون، كما قال عز وجل لنُوح: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، واحتج على هذا بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}، قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم، قال: والكاف في {كَذَلِكَ} نصب؛ المعنى: مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا أبداً) (¬1). 102 - قوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}. قال ابن عباس: (يريد الوفاء. بالعهد الذي عاهدهم وهم في صلب آدم حيث يقول: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}) (¬2) [الأعراف: 172]، ونحو هذا قال مجاهد (¬3) ومقاتل (¬4). قال أصحاب المعاني: (إذا أُخذ على الإنسان العهد فنقضه قيل: ليس له عهد، أي: كأنه لم يعهد إليه، فلما أخذ الله تعالى (¬5) على هؤلاء العهد بالتوحيد والمعرفة، وأقروا بذلك، فلما خالفوا ذلك لم يكن لهم عهد، فقال الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} (¬6). ¬

_ = "تفسير ابن عطية" 6/ 21، و"بدائع التفسير" 2/ 262، وابن كثير 2/ 262. (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 361 - 362، والأخفش 2/ 317، والنحاس 3/ 59، و"إعراب النحاس" 1/ 627. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 214، وابن الجوزي 3/ 236، والرازي 14/ 188، والقرطبي 7/ 255، وأبو حيان في "البحر" 4/ 354. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 12، عن أبي بن كعب ومجاهد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 195. (¬4) "تفسيرمقاتل" 2/ 52. (¬5) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" / 606 (عهد)، و"إعراب النحاس" / 67، و"تفسير الرازي" 14/ 88.

103

وروي عن ابن مسعود: (أن العهد هاهنا معناه: الإيمان, كقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (¬1) [مريم: 87]. يعني: آمن، وقال: لا إله إلا الله) (¬2). وقوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}. (¬3) قال الزجاج: (دخلت {إِنْ} واللام على معنى التوكيد واليمين) (¬4). قال ابن عباس: (يريد: لعاصين) (¬5). وقال الضحاك: (لناقضين) (¬6). 103 - قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ}، الكناية يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين (¬7) جرى ذكرهم، ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم إهلاكهم (¬8). ¬

_ (¬1) لفظ: (الرحمن) ساقط من (ب). (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 88، وأبو حيان في "البحر" 4/ 354، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 223، (أي: وفاء ولا حفيظة). (¬3) لفظ: (أكثرهم) مكرر في (أ). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 362، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 627، و"المشكل" 1/ 297، و"التبيان" ص 385، و"الفريد" 2/ 337، و"الدر المصون" 5/ 399. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 214 بدون نسبة (¬6) لم أقف عليه، وهذا القول هو قول السمرقندي في "تفسيره" 1/ 558، والثعلبي 6/ 4 أ، والبغوي 3/ 261، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 223، (أي: الكافرين) وقال الطبري 9/ 12: (أي: ما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم تاركين عهده ووصيته) وانظر: الماوردي 2/ 244. (¬7) وهو قول الأكثر. انظر: الطبري 9/ 13، والسمرقندي 1/ 558، والبغوي 3/ 262، وابن الجوزي 3/ 237، والقرطبي 7/ 256. (¬8) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 558 - 559، و"الكشاف" 2/ 100، والرازي 14/ 189، و"البحر" 4/ 254، وقال ابن عطية 6/ 24: (الضمير عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم وعلى أممهم) اهـ، والجمع أولى.

105

وقوله تعالى: {فَظَلَمُوا بِهَا} (¬1)، (قال ابن عباس (¬2): (فكذبوا بها) يعني: بالعصا والتسع الآيات) (¬3). وقال أبو إسحاق: (قوله: {فَظَلَمُوا بِهَا} أي: فظلموا بالآيات التي جاءتهم؛ لأنهم إذا جاءتهم الآيات فكفروا فقد ظلموا أبين الظلم؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فجعلوا بدل الإيمان بها الكفر، فذلك معنى: {فَظَلَمُوا بِهَا} (¬4)، وقوله: {فَانْظُرْ} أي: بعين قلبك كيف كان عاقبتهم وكيف فعلنا بهم. 105 - قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، وقرأ نافع (¬5) {حَقِيقٌ عَلَى} مشددة الياء, و {حَقِيقٌ} على هذه القراءة يجوز أن يكون بمعنى: فاعل. قال شمر: (تقول العرب: حَق عليَّ أن أفعل ذلك) (¬6). وقال الليث: (حَق الشيء معناه: وجب، ويحِق عليك أن تفعل كذا، وحقيق عليَّ أن أفعله، فهذا بمعنى: فاعل) (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من (ب) تفسير قوله تعالى: {فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} الآيات 103, 105 الأعراف, وهو سقط من الناسخ حيث جاء في نصف ص 159 أتفسير باقي الآية 105 بعد الآية 103. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 214، وابن الجوزي 3/ 237. (¬3) انظر: تفصيل ذلك في "عرائس المجالس" ص 190، و"تفسير ابن كثير" 2/ 263. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 362، ومثله قال النحاس في "معانيه" 3/ 60. (¬5) قرأ نافع: {حَقِيقٌ عَلَى} بتشديد الياء مع فتحها على أنها ياء إضافة وقرأ الباقون {عَلَى} بتخفيف الياء وإسكانها على أنها حرف جر. انظر: "السبعة" ص 287، و"المبسوط" ص 183، و"التذكرة" 2/ 421، و"التيسير" ص 111, و"النشر" 2/ 270. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 875 (حق). (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 876، وانظر: "العين" 3/ 6 (حق).

قال الزجاج: (والمعنى: واجب علي ترك القول على الله جل وعز إلا بالحق) (¬1). ونحو هذا قال ابن عباس في تفسيره هذه الآية فقال: (يقول: الواجب علي {أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (¬2)، ويجوز أن يكون بمعنى: مفعول. قال الليث: (وحقيق فعيل في موضع مفعول) (¬3). قال شمر: (وتقول العرب: حق عليّ أن أفعل كذا، وإني لمحقوق عليَّ أن أفعل خيراً، أي: حقّ عليّ ذاك، بمعنى: استحق) (¬4)، هذا معنى كلامه، وعلى هذا تقول: فلان مَحْقُوق عليه أن يفعل كذا، ومَحْقُوق بأن يفعل كذا، ومَحْقُوق أن يفعل كذا (¬5) قال الأعشى: لَمَحْقوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لصْوتِهِ ... وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ مُوفَّقُ (¬6) ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 362. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 876 (حق). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 374. (¬5) انظر: "الجمهرة" 1/ 100، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 178، والصحاح 4/ 1460، و"مقاييس اللغة" 2/ 15، و"المجمل" 1/ 215، و"المفردات" ص 246، و"اللسان" 2/ 941 (حق). (¬6) "ديوانه" ص 120، و"العين" 3/ 6، و"مجاز القرآن" 1/ 44، والصاحبي ص 359، و"الصناعتين" ص 143، و"أمال ابن الشجري" 2/ 56، و"اللسان" 2/ 941 (حق)، و"الدر المصون" 5/ 405، وقبله: وَإنَّ امْرءًا أَسْرى إلَيْكِ وَدُونَهُ ... فَيَافٍ تَنُوفَاتٌ وَبَيْداءُ خَيْفَقُ يقول: إن الذي قطع في سبيلك الليالي الطوال وتفصله عنك الصحارى والقفار التي يخفق فوقها السراب لمن البديهي أن تستجيبي له لأنه أقرب للرشد والصواب، أفاده في "حاشية الديوان".

وقال جرير (¬1): قصِرْ فإِنَّكَ بالتَقصِيرِ مَحْقُوقُ وحجة نافع في تشديد الياء أن حق يُعَدى بعلى. قال الله تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: 31]، وقال: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [الإسراء: 16]. فحقيق يُوصل بعلى من هذا الوجه أيضاً، فإن {حَقِيقٌ} بمعنى: واجب، فكما أن (وجب) يتعدى بعلى كذلك تعدّى {حَقِيقٌ} به إذا أريد به ما أريد بواجب، وقراءة العامة {حَقِيقٌ عَلَى} مرسلة الياء، و {حَقِيقٌ} على هذه القراءة بمعنى: محقوق، و {عَلَى} بمعنى الباء (¬2). قال الفراء: (والعرب تجعل الباء (¬3) في موضع على فتقول: رميت على القوس وبالقوس، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة) (¬4). قال الأخفش: (هذا كما قال: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 312، و"تهذيب اللغة" 1/ 876، و"اللسان" 2/ 941 (حق)، و"الدر المصون" 5/ 405، وصدره: قُلْ للأُخَيْطلِ إِذْ جَدّ الجِراءُ بنا وفي "الديوان" (أقصر) بدل (قصر) وهو هنا يهجو الأخطل والجراء: الإقدام والشجاعة. انظر: "اللسان" 1/ 581 (جرأ). (¬2) ما تقدم في توجيه القراءة قول أبي علي في "الحجة" 4/ 56 - 57، وانظر: "معاني المفردات" 1/ 414، و"الحجة" لابن خالويه ص 159، ولابن زنجلة ص 289، و"الكشف" 1/ 469 - 470. (¬3) انظر: "مغني اللبيب" 1/ 104 وسبق: أن (الظاهر عدم التناوب والأولى التضمين). قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 224: (مجازه حق علي أن لا أقول إلا الحق، ومن قرأها {حَقِيقٌ} على أن لا أقول ولم يضف {عَلَى} إليه فإنه يجعل مجازه حريص على أن لا أقول أو فحق أن لا أقول) اهـ. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 386، وذكر مثله الطبري في "تفسيره" 9/ 13.

[الأعراف:86] (¬1)، وكما وقعت الباء في قوله: {بِكُلِّ صِرَاطٍ} موقع على، كذلك {عَلَى} وقعت موضع الباء في قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} ويؤكد هذا الوجه قراءة عبد الله: {حقيق بأن لا أقول} (¬2) و {حَقِيقٌ} على هذه القراءة يرتفع بتقدير: أنا حقيق بأن لا أقول، وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء، وخبره {أَنْ لَا أَقُولَ} (¬3). ومعنى قوله: {إِلَّا الْحَقَّ}) (¬4)]؛ قال ابن عباس: (يريد: أنه لا إله غيره) (¬5). ومعنى هذا: أن موسى يقول: واجب عليّ أن لا أقول في وصف الله إلا ما هو الحق، وهو توحيده وتنزيهه عن الشرك. وقوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. قال ابن عباس: (يريد بالعصا) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني الأخفش" 2/ 307. (¬2) قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في "معاني الفراء" 1/ 386، والنحاس 3/ 61، و"مختصر الشواذ" ص 50، و"إعراب القراءات" 1/ 197، و"تفسير ابن عطية" 6/ 25، والرازي 14/ 191، وذكرها البغوي 3/ 262، والقرطبي 7/ 256 عن أبي ابن كعب والأعمش. وانظر: "الكشاف" 2/ 100، و"البحر" 4/ 355. (¬3) انظر: "إعراب النحاس" ص 628، و"المشكل" 1/ 297، و"البيان" 1/ 369، و"التبيان" ص 385، و"الفريد" 2/ 338، و"البحر" 4/ 355، و"الدر المصون" 5/ 401، وعلى قراءة العامة {حَقِيقٌ} عند الواحدي خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنا، وعلى قراءة نافع أكثرهم على أنه صفة لرسول أو خبر، وقوله: {أَنْ لَا أَقُولَ} فاعل بحقيق كأنه قال: يحق، ويجب أن لا أقول). قال السمين: (وهذا أعرب الوجوه لوضوحه لفظًا ومعنى) اهـ. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب)، كما سبق الإشارة إليه. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 215 دون نسبة. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 215، وابن الجوزي 3/ 237.

107

وقوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. أي: أطلق عنهم وخلهم، وكان (¬1) فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من نحو ضرب اللبن، ونقل التراب (¬2). 107 - قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي: العصا، وهي مؤنثة, والثعبان: الحية الضخم الذكر في قول جميع أهل اللغة (¬3)، وهو أعظم الحيات في قول الفراء (¬4). وقوله: {مُبِينٌ}. قال الزجاج: (أي: بين أنه حية لا لبس فيه) (¬5). 108 - قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ}، معنى النزع في اللغة: قلع الشيء وإخراجه عن مكانها المتمكن فيه (¬6)، قال ابن عباس: (يريد: إخراج يده) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (وقال وكان). (¬2) أخرج الطبري في "تاريخه" 1/ 386 عن محمَّد بن إسحاق قال: (كان فرعون يعذب بني إسرائيل ويجعلهم خدمًا وخولًا وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يزرعون له، ومن لم يكن في صنعة فعليه الجزية) اهـ، وانظر: "عرائس المجالس" ص 167، و"البداية والنهاية" 1/ 237. (¬3) انظر: "العين" 2/ 111، و"الجمهرة" 1/ 260، و"تهذيب اللغة" 1/ 480، والصحاح 1/ 92، و"مقاييس اللغة" 1/ 378، و"المجمل" 1/ 159، و"المفردات" ص 173، و"اللسان" 1/ 481 - 482 (ثعب). (¬4) "معاني الفراء" ص 387، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 225، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 148، و"معاني النحاس" 3/ 61. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 363، وفيه: (أي مبين أنها حية). (¬6) انظر: "العين" 1/ 357، و"الجمهرة" 2/ 817، و"تهذيب اللغة" 4/ 3552 والصحاح 3/ 1289، و"مقاييس اللغة" 5/ 415، و"المجمل" 3/ 863، و"المفردات" ص 798، و"اللسان" 7/ 4395 (نزع). (¬7) أخرجه الطبري 9/ 15، وابن أبي حاتم 5/ 1533 بسند جيد.

108

قال الزجاج: (والمعنى: إخراجها من جيبه ومن جناحه، يدل على ذلك قوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الآية (¬1) [النمل: 12]، وقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} الآية [طه: 22] (¬2). 108 - وقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}، قال ابن عباس: (وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض) (¬3). 110 - قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ}. قال ابن عباس: (يريد: من ملككم) (¬4). قال المفسرون: (لما قال موسى لفرعون: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] وآراه الآية، قال الأشراف من قومه: إن هذا ساحر يريد أن يخرجكم معشر القبط من أرضكم ويزيل ملككم بتقوية أعدائكم بني إسرائيل عليكم) (¬5). قوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}. ذكر أبو إسحاق فيه ثلاثة أوجه: (إحداها (¬6) أن يكون هذا جواباً من فرعون لما قال الملأ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} قال فرعون مجيباً لهم: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) لفظ: (الآية) ساقط من (ب). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 363 وفيه: (يدل على أن معنى نزع يده إخراجها من جيبه وإخراجها من جناحه، وجناح الرجل عضده وقيل: جناح الرجل عِطفُه) اهـ. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 4 ب، 5 أ، وابن الجوزي 3/ 238، والرازي 14/ 196، والقرطبي 7/ 257، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 216 عن الكلبي. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 16، والسمرقندي 1/ 559، والثعلبي 6/ 5 أ، والبغوي 3/ 263. (¬6) في (أ): (أحد لها)، وهو تحريف.

(يريد: تشيرون به عليّ) (¬1)، فعلى هذا أضمر القول، وتم كلام الملأ عند قوله: {مِنْ أَرْضِكُمْ}. والتقدير: قال {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، وهذا (¬2) الوجه ذكره الفراء (¬3) أيضاً. قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} من قول الملأ (¬4)؛ كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه)، قال: (وجائز أن يكون الخطاب لفرعون وحده؛ لأنه يقال للرئيس المطاع: ما ترون (¬5) في هذا، أي: ما ترى أنت وحدك) (¬6). قال ابن الأنباري على هذا الوجه: (والملوك الغالب عليها (¬7) أن يكون لها أتباع يأتمرون بأمرها (¬8) ويقفون عند قولها (¬9)، فلما كان هذا معروفاً للملوك خاطبوه وهو واحد بخطابه ومعه أتباعه وأهل مملكته) (¬10). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 117، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 216، وابن الجوزي 3/ 238، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1533 بسند جيد عن ابن عباس قال: (استشار الملأ فيما يرى) اهـ. (¬2) في (أ): (وعلى هذا). (¬3) "معاني الفراء" 1/ 387 ولم يذكر غيره، وهو قول أكثرهم. انظر: الطبري 9/ 16، والسمرقندي 1/ 559، والثعلبي 6/ 5 أ، والبغوي 3/ 263. (¬4) وهو اختيار ابن عطية 6/ 30 قال: (الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم إلى بعض) اهـ. (¬5) في (أ): (ما ترى)، وهو تحريف. (¬6) في "معاني الزجاج" 2/ 264 - 265: (أي ما ترى أنت وجندك). وانظر: "إعراب النحاس" 2/ 142. (¬7) في (ب): (عليهم). (¬8) في (ب): (بأمرهم). (¬9) في (ب): (قولهم). (¬10) لم أقف عليه، وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 416 - 419.

111

111 - وقوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، وقرئ {أرجِئه} مهموزاً (¬1)، وهما لغتان قرئ بهما، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخرته، ومنه قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} [التوبة: 106]، {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، قرئ في الآيتين (¬2) باللغتين (¬3)، وكان حمزة وعاصم يقرآن بغير همزة، وجزم الهاء من {أَرْجِهْ}؛ قال الفراء: وهي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، أنشدني بعضهم: فَيُصْلِحُ اليَوْمَ وَيُفْسدُهْ غَدَا (¬4) ¬

_ (¬1) فيها ست قراءات ثلاث مع الهمز وهي: أ- قراءة ابن كثير وهشام عن ابن عامر: (أرجئهو) بهمزة ساكنة متصلة بواو في الوصل. ب- قراءة أبو عمرو: (أرجئه) بضم الهاء من غير إشباع. ج- قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة وكسر الهاء من غير إشباع. وثلاث من غير همز وهي: أ- قراءة عاصم وحمزة بكسر الجيم وسكون الهاء وصلًا ووقفًا: {أَرْجِهْ}. ب- قراءة الكسائي بكسر الهاء متصلة بياء في الوصل: (أرجهي) وهي رواية عن عاصم ونافع. ج- قراءة نافع بكسر الهاء من غير إشباع: {أَرْجِهْ}. انظر: "السبعة": ص 287، و"المبسوط" ص 183، و"التذكرة" 2/ 421، و"التيسير" ص 111. (¬2) في (ب): (بالآيتين). (¬3) قرأ نافع وحمزة والكسائي في آية التوبة 106: {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} وفي آية الأحزاب 51: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} بغير همز فيها، وقرأ الباقون بالهمز: (مرجئون) و: (ترجئ)، وروي عن عاصم الوجهان فيهما، وانظر: "السبعة" ص 287 و523، و"المبسوط" ص 196، 301، و"التذكرة" 2/ 443، و"التيسير" ص 119، و"النشر" 1/ 406. (¬4) هذا رجز لدويد بن زيد بن نهد القضاعي في "طبقات فحول الشعراء" 1/ 31 - 32، و"الشعر والشعراء" ص 48، و"جمهرة الأمثال" 1/ 84، وبلا نسبة في "معاني الفراء" =

قال: وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون: هذه طلحهْ قد أقبلت وأنشد: لَمَّا رَأى (¬1) أَنْ لَا دَعَةْ وَلَا شِبَعْ (¬2) ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس ولا الاستعمال. قال الزجاج: (وهذا شعر لا يعرف قائله، ولا هو بشيء، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت؛ لأن الشاعر قد يجوز أن يخطئ) قال: (وهذا مذهب لا يعرج عليه) (¬3). ¬

_ = 1/ 388، و"تفسير الطبري" 9/ 16، وابن عطية 6/ 31، والرازي 14/ 198، وقبله: أَنْحَى عَليَّ الدَّهْرُ رِجْلًا وَيدَا ... يُقْسِمُ لاَ يُصْلِحُ إِلا أَفْسَدَا فَيُصْلِحُ اليَوْمَ ويُفْسِدُهْ غَدُا (¬1) هذا رجز لمنظور بن حبَّة الأسدي في "تهذيب إصلاح المنطق" 1/ 282 - 283، و"شذا العرف" ص 136، وبلا نسبة في "معاني الفراء" 1/ 288، و"إصلاح المنطق" ص 95، و"تفسير الطبري" 9/ 17، و"تهذيب اللغة" 3/ 2 (ضجع)، و"المحتسب" 1/ 107، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 321، و"الخصائص" 3/ 163، و"المنصف" 2/ 329، و"الصحاح" 6/ 2358 (رطا)، و"المخصص" 8/ 24، و"كنز الحفاظ" 1/ 302، و"اللسان" 5/ 2554 (ضجع) وعجزه: مَالَ إِلى أرْطَأةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ وهو يصف الذئب، والحقف: ما اعوج من الرمل. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 388، ومثله قال الطبري 9/ 17. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 365 - 366. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 308، و"إعراب النحاس" 1/ 360، و"معاني القراءات" 1/ 415، و"إعراب القراءات" 1/ 198، و"الحجة" لابن خالويه ص 159، ولأبي علي الفارسي 4/ 60، ولابن زنجلة ص 289، و"الكشف" 1/ 470، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 360: (وما ذهب إليه من غلط هذه القراءة وأنها لا تجوز قول فاسد؛ لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها =

فأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}: (يريد: أرجئ أمره وأمر أخيه ولا تعجل) (¬1)، ففسره بالتأخير، وهو قول الحسن (¬2). قال الزجاج: (تفسير {أَرْجِهْ} آخره)، وقال: (ومعنى آخره: أخر أمره، ولا تعجل في أمره بحكم فتكون عجلتك حجة عليك) (¬3). وقال أهل المعاني (¬4): (إنهم طلبوا معارضة المعجزة بالحيلة توهماً من أنهم يقابلون السحر بالسحر على طريق المكيدة). وقال الكلبي وقتادة (¬5) في تفسير {أَرْجِهْ}: (احبسه)، قال الكلبي: (احبسه وأخاه هارون حتى تنظر في أمره ولا تقتلهما (¬6) ولا تؤمن بهما) (¬7). قال أصحاب النظر: (القول في تفسير {أَرْجِهْ} هو الأول؛ لأن فرعون قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى أمر العصا، مع أن الإرجاء في اللغة ¬

_ = الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية فلا وجه لإنكارها) اهـ. وقال السمين في "الدر" 5/ 412: (تسكين هاء الكناية لغة ثابتة له شواهد كثيرة) اهـ. بتصرف. (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1533 بسند ضعيف بلفظ: (أخِره وأخاه)، وذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 245، والقرطبي 7/ 257. (¬2) ذكره الماوردي 2/ 245، وهو قول أكثرهم، قال الطبري 9/ 16: (الإرجاء في كلام العرب التأخير) اهـ، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 225، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 148، و"تفسير غريب القرآن" ص 179، و"نزهة القلوب" ص 73، و"معاني النحاس" 3/ 62، و"تفسير المشكل" ص 86. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 365. (¬4) انظر: الرازي 14/ 198. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 17، وابن أبي حاتم 5/ 1533 بسند جيد عن قتادة. (¬6) في (ب): (ولا تقبلهما). (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 117، وهو قول السمرقندي 1/ 559.

التأخير لا الحبس) (¬1). وقوله تعالى: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}. قال الليث: (المدينة فَعِيلة تهمز في الفعائل؛ لأن الياء زائدة، ولا تهمز ياء (المعايش) لأنها مفاعل والياء أصلية، ونحو ذلك قال الفراء (¬2) وغيره، قال: وكل أرض يبنى بها حصن فهي مدينة) (¬3). وقال أبو القاسم الزجاجي (¬4): (اختلف أصحابنا في المدينة فمنهم من يجعلها (فَعِيلة)، ومنهم من يجعلها (مَفْعِلة)، ومنهم من يجعلها مَفْعُولة، أما من قال: إنها فعيلة ذهب إلى قولهم: مَدَن بالمكان يمدن مدُوناً: إذا أقام به، ويستدل بإطباق القراء على همز {الْمَدَائِنِ} وهي فعائل كصحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والياء إذا كانت زائدة في الواحدة همزت في الجمع كقبيلة وقبائل، وإذا كانت (¬5) من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معيشة ومعايش. قال ابن الأنباري: (مدن الرجل إذا أتى المدينة) (¬6). وهذا يقوي قول من يقول: إنها فعيلة والميم فيها أصل، وكذلك قولهم في الجمع: مُدن هو ¬

_ (¬1) هذا قول الثعلبي في "الكشف" 5/ 6. (¬2) لم أقف عليه في "معانيه". (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3363، وانظر: "العين" 8/ 53، و"الجمهرة" 2/ 683، والصحاح 6/ 2201، و"مقاييس اللغة" 5/ 306، و"المجمل" 3/ 826، و"المفردات" ص 763، و"اللسان" 7/ 4161 (مدن). (¬4) أبو القاسم الزَّجَّاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النحوي، تقدمت ترجمته. (¬5) في (ب): (كان). (¬6) لم أقف عليه.

على فُعل، والميم أصل، والمدن (¬1) في الحقيقة: جمع المدين؛ لأن المدينة لا تجمع على مُدن، ولكن تجمع على المداين ومثل هذا سُفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوها على سفن، كذلك المدن، وأما من قال إنها مفعلة فإنه يقول: معنى المدينة: المملوكة من دانه يدينه أي: ساسه وأذاله (¬2)، فقولنا: مدينة من (دان) مثل معيشة، وجمعها مداين على مفاعل كمعايش غير مهموز يكون اسماً للمكان والأرض التي دانهم (¬3) السلطان أي: ساسهم وقهرهم، وقال المبرد (¬4): (مدينة أصلها (مَدْيونة) من دانه يدينه: إذا قهره وأذله فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الواو المزيدة (¬5) التي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو لأنها زائدة، وحذف الزائد أولى من حذف الأصلي، ثم كسروا الدال لتسلم الياء فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط (¬6) ذوات الواو بذوات الياء، وكذلك المبيع والمخيط والمكيل) (¬7). وكان الأخفش (¬8) يذهب إلى أن المحذوف الياء لأنها من نفس الكلمة فهي أولى بالحذف من الواو التي جلبت للمعنى وهي واو المفعول، فقال له ¬

_ (¬1) في (ب): (مدن). (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): (وأذاله)، ولعله وأذله. (¬3) في (ب): (ذانهم). (¬4) لم أقف عليه في كتبه، وذكره الرازي 14/ 199، والسمين في "الدر" 5/ 413. (¬5) في (ب): (والمزيدة). (¬6) في (أ): (فتختلط). (¬7) لم أقف عليه في كتبه، وذكره عند الرازي 14/ 199، والسمين في "الدر" 5/ 413. (¬8) قال الأخفش في "معانيه" 2/ 293: (إنما يهمز ما كان على مفاعل إذا جاءت الياء زائدة في الواحد والألف والواو التي تكون الهمزة مكانها نحو مدائن لأنها فعائل، ومن جعل المداين من دان يدين لم يهمز لأن الياء حينئذ من الأصل) اهـ.

أبو عثمان المازني (¬1): (فإذا كان المحذوف الياء عندكم، فلم قلبت الواو ياء وقبلها حرف مضموم؟) فقال: (كسرت ما قبل الواو لتنقلب الواو ياء فيفرق بين ذوات الواو (¬2) وذوات الياء)، فالياء في قولنا: مبيع ومخيط هي ياء يبيع ويخيط عند سيبويه (¬3). وعند الأخفش (¬4) هي واو (مبيوع) قلبت ياء لانكسار ما قبلها، والمدينة (¬5) على رأي المبرّد (مفعوله) وتأنيثها من جهة المعنى، والمراد: الأرض المدينة أو البقعة أو البلدة التي اساسها السلطان. وقال الفراء: (تقول العرب: دنته أدينه إذا ملكته، والمدينة الأرض التي ملكها سايسها (¬6) ومن هذا يقال للأمة مدينة أي: مملوكة وهي في الأصل مديونة (¬7). ومنه قول الأخطل (¬8): ربَتْ وزكى في كومها ابنُ مَدِينَةٍ ... يَظَلُّ على مِسحاتِهِ يَتركَّلُ (¬9) ¬

_ (¬1) انظر: "المصنف" 1/ 296 - 301 و311 - 314. (¬2) لفظ: (فيفرق بين ذوات الواو) مكرر في (ب). (¬3) انظر: "الكتاب" 4/ 348 - 349. (¬4) انظر: "المصنف" 1/ 297. (¬5) في (ب): (فالمدينة). (¬6) في (ب): (أسايسها). (¬7) لم أقف عليه. وانظر: "الصحاح" 6/ 2201 (مدن). (¬8) ما الأخطل: غِيَاث بن غَوْث بن الصَّلت التغلبي، شاعر نصراني، تقدمت ترجمته. (¬9) "ديوانه" ص 224، و"العين" 8/ 53، و"المعاني الكبير" 1/ 472، و"الجمهرة" 2/ 684، و"تهذيب اللغة" 4/ 3363، و"المصنف" 1/ 312، و"الصحاح" 4/ 1713 (ركل)، و"مقاييس اللغة" 1/ 334، و"اللسان" 7/ 4116 (مدن) ورواية "الديوان": ربتَ وربَا في حَجرِها ابن مدينة وهو يصف الخمر، وابن مدينة أي: العالم بأمرها، ويتركل أي: يفتت الرمل, أفاده في "حاشية الديوان".

يعني: ابن أمةٍ. فهذا ذكر اختلافهم في هذا الحرف) (¬1)، والصحيح أنها (فعيلة) لاجتماع القراء على همز {الْمَدَائِنِ}، والذين قالوا: إنها مفعلة أو مفعولة. قالوا: إنما همزت المدائن تشبيهاً بالقبائل والصحائف كما همز نافع {المعائش}، وقد ذكرنا ذلك مستقصًى عند قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: 10]. وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}: (يريد: في مدائن صعيد مصر (¬2) رجالاً يحشروا إليك ما في الصعيد من السحرة) (¬3). قال الكلبي: (وكانت له مدائن فيها السحرة عُدَّة للأشياء؛ إذا حزبه أمر أرسل إليهم) (¬4). قال ابن عباس: (وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد) (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي 14/ 199، والسمين في "الدر" 5/ 413 عن الزجاجي ولم أقف عليه فيما لدي من كتبه، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 342: (المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة، ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا (مدائن) بالهمز ولا يحفظ فيه مداين بالياء، ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة، ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فُعُل قالوا: مدن كما قالوا: صحف في صحيفة) اهـ، ونحوه قال السمين في "الدر" 5/ 412. (¬2) الصعيد بمصر بلاد واسعة كبيرة فيها عدة مدن عظام. انظر: "معجم البلدان" 3/ 408. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 217، وأخرج الطبري 9/ 18، وابن أبي حاتم 5/ 1534، عن ابن عباس في قوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} قال: (الشرط). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 5 ب، والبغوي 3/ 263 بلا نسبة. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 217، والرازي 14/ 199، وذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص 185، عن عطاء.

112

112 - قوله تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}، وقرئ (¬1) {سَحَّار}؛ فمن قرأ {سَاحِرٍ} فحجته قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} [طه: 70] {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} [الشعراء: 40]، والسحرة جمع ساحر مثل كاتب وكتبه، وفاجر وفجرة، ومن حجته أيضًا (¬2) قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، واسم الفاعل من سحروا ساحر، ومن قرأ {سَحَّار} فحجته أنه قد وصف بـ (عليم) ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به؛ فحسن لذلك أن يذكر بالاسم (¬3) الدال على المبالغة في السحر (¬4). 113 - قوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} الآية. في الكلام محذوف يدل عليه باقي الكلام وهو: فأرسل وجاء السحرة، ولا يجوز أن يتأول على أنهم تسامعوا، وجاءوا من غير أن يرسل؛ لأنه خلاف ظاهر الكلام والقصة (¬5). وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} قال ابن عباس: (يريد: المال ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي: (سَحَّار) على وزن فعال بتشديد الحاء وألف بعدها، وقرأ الباقون: {سَاحِرٍ} على وزن فاعل بتخفيف الحاء وكسرها وألف قبلها. انظر: "السبعة" ص 289، و"المبسوط" ص 183، و"التذكرة" 2/ 422، و"التيسير" ص 112، و"النشر" 2/ 270. (¬2) لفظ: (أيضاً) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (أن يذكر الاسم). (¬4) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 64، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 416، و"إعراب القراءات" 1/ 199، و"الحجة" لابن خالويه ص160، ولابن زنجلة ص 291، و"الكشف" 1/ 471. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 18.

والجوائز) (¬1)، ولم يقل: فقالوا (¬2) لأن المعنى: لما جاءوا قالوا، فلم يصح دخول الفاء على هذا الوجه. وقرأ ابن كثير ونافع (¬3): {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} مكسورة الألف على الخبر، والاستفهام أحسن في هذا الموضع؛ لأنهم يستعملون (¬4) عن الأجر وليس يقطعون على أن لهم الأجر. ويقوي ذلك إجماعهم في الشعراء (¬5) على الهمز للاستفهام، وحجة ابن كثير ونافع أنهما أرادا همزة الاستفهام ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ، وكثيراً ما تحذف همزة الاستفهام من اللفظ، وهي ثابتة في المعنى كقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22]، فذهب (¬6) كثير من الناس إلى أن معناه: (أو تلك) الاستفهام (¬7) وقد جاء ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" 2/ 117: (أي: هدية تعطينا) اهـ. (¬2) ذكره السمين في "الدر" 5/ 413 - 414، عن الزمخشري ثم قال: (وهذا قد سبقه إليه الواحدي والأظهر أن الجملة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها استئناف جواب لسؤال مقدر ولذلك لم تعطف بالفاء) اهـ، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 631، و"الكشاف" 2/ 102. (¬3) قرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم {إِنَّ لَنَا} بهمزة واحدة مكسورة على لفظ الخبر، وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة والباقون بهمزتين على الاستفهام. انظر: "السبعة" ص 289، و"المبسوط" ص 183، و"التذكرة" 1/ 152 - 154، و"التيسير" ص 112، و"النشر" 1/ 372. (¬4) كذا في النسخ: (يستعملون)، ولعلها: (يستعلمون أو يسألون). (¬5) آية الشعراء هي قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 41]. (¬6) في (ب): (يذهب). (¬7) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 426، و"معاني الزجاج" 4/ 86 - 87، و"تفسير الطبري" 19/ 68 - 69، و"إعراب النحاس" 2/ 484، 485، قال الأخفش: =

114

ذلك في الشعر (¬1): أَفْرَحُ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاً (¬2) وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}، {نَحْنُ} يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المتصل في {كُنَّا}، ويجوز أن يكون فصلاً بين الخبر والاسم فلا موضع له حينئذٍ (¬3). 114 - قوله تعالى: {قَالَ نَعَمْ}، هذه إجابة من فرعون للسحرة في سؤالهم المال والأجر على الغلبة، ووعد منه إياهم بذلك (¬4). وقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، معطوف على معنى الجملة؛ ¬

_ = (قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} فيقال: هذا استفهام كأنه قال: أو تلك نعمة تمنها. ثم فسر فقال: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وجعله بدلًا من النعمة) اهـ. (¬1) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 65 - 66، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 417، و"إعراب القراءات" 1/ 200، و"الحجة" لابن خالويه ص 161، و"الكشف" 1/ 472. (¬2) الشاهد: لحضرمي بن عامر الأسدي في "أمالي القالي" 1/ 67، و"اللسان" 1/ 613 (جزأ) و7/ 47 (شص)، وبلا نسبة في "العين" 8/ 329، و"أدب الكاتب" ص 179، و"الكامل" للمبرد 1/ 62، و"الجمهرة" 1/ 379، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 93، و"تهذيب اللغة" 2/ 1874، و"الصحاح" 3/ 1043 (شص)، و"مقاييس اللغة" 5/ 383، و"الدر المصون" 1/ 258، قال ابن منظور في "اللسان" 1/ 613 (جزأ) في شرحه للبيت: شصائص جمع شصوص وهي الناقة قليلة اللبن، نبلًا أي: صغارًا، يريد: أأفرح فحذف الهمزة على طريق الإنكار أي: لا وجه للفرح بموت الكرام من إخواني لإرث شصائص لا ألبان لها) اهـ. (¬3) انظر: "البحر" 4/ 361، و"الدر المصون" 414 - 415. (¬4) انظر: الطبري 9/ 19، والسمرقندي 1/ 560.

115

كأنه قيل: نعم (¬1) لكم ذلك، {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (¬2). قال ابن عباس: (يريد: أشرككم في ملكي وأوليكم على أرضي) (¬3). وقال الكلبي: ({وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عندي في المنزلة، يعني: أول من يدخل علي وآخر من يخرج) (¬4). وقال الزجاج: (أي: ولكم من الأجر المنزلة الرفيعة عندي) (¬5). 115 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}. روى أبو العباس (¬6) عن سلمة (¬7) عن الفراء قال: (قال الكسائي في باب إِمَّا وأَمَّا: إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة، وإذا كنت (¬8) مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة، تقول من ذلك في المفتوحة: أَمَّا الله فاعبد (¬9)، وأما الخمر فلا تشربها، وأما زيد فقد خرج، وتقول (¬10) في ¬

_ (¬1) لفظ: (نعم) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "الفريد" 2/ 341، و"البحر" 4/ 361، و"الدر المصون" 5/ 415. (¬3) في "تنوير المقباس" 2/ 117، نحوه وأخرج الطبري 9/ 19، وابن أبي حاتم 5/ 1535 بسند جيد عن ابن عباس قال: (قالوا: فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم) اهـ. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 6 أ، والبغوي 3/ 265، و"الخازن" 2/ 271. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 366، وفيه: (أي: لكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي) اهـ. (¬6) أبو العباس: هو ثعلب أحمد بن يحيى، إمام، تقدمت ترجمته. (¬7) سلمة بن عاصم البغدادي، صاحب الفراء، إمام، تقدمت ترجمته. (¬8) في (ب): (وإذا كان)، وهو تحريف. (¬9) في (أ): (فاعبدوا). (¬10) في (ب): (فتقول).

النوع الثاني إذا كنت مشترطاً: إِمَّا تعطينّ زيداً فإنه يشكرك، قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ} [الأنفال: 57]. وتقول في الشك: لا أدري من قام إمَّا زيد وامَّا عمرو. وتقول في التخيير (¬1): لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها) (¬2)، والفرق بين (إما) إذا كانت للشك وبين (أو) إنك إذا قلت: جاءني زيد أو عمرو فقد يجوز أن يكون بنيت كلامك على اليقين، ثم أدركك الشك فقلت: أو عمرو. فصار الشك فيهما جميعاً. فأول الاسمين (¬3) في (أو) يجوز أن يكون خبراً يحسن السكوت عليه، ثم يعترض الشك فيستدرك بالاسم الآخر، ألا ترى أنك تقول: قام أخوك، وتسكت، ثم تشك فتقول: أو أبوك، وإذا ذكرت (إمّا) فإنما تبني كلامك على الشك من أوله فليس يجوز أن تقول: ضربت إما (¬4) عبد الله وتسكت (¬5)، وأما (¬6) دخول (أن) في قوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} [الأعراف:115] وسقوطها من قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106]، ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" 1/ 207: ذكر (إذا كنت مخيرًا أو مختارًا فهي المكسورة تقول في التخيير: تعلم إما الفقه وإما النحو، وتقول في المختار: لي بالكوفة دار وأنا خارج إليها فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها). (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 207، (إما، وأما)، وذكره الرازي 14/ 202، عن الفراء والكسائي. (¬3) في (أ): (فالأول أسمين)، وهو تحريف. (¬4) في (ب): (أبا)، وهو تحريف. (¬5) ما تقدم هو قول الفراء في "معانيه" 1/ 389، وانظر: "الكتاب" 1/ 95 و142، و3/ 332، و4/ 235، و"حروف المعاني" ص 63 - 64، و"معاني الحروف" 129 - 131، و"الصاحبي" ص206، و"المغني" لابن هشام 1/ 55، 61. (¬6) في (ب): (في أما).

116

قال الفراء: (أدخل {أَنْ} في {إِمَّا} في هذه الآية لأنه في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب كقول القائل: اختر ذا أو ذا. كأنهم قالوا: اختر أن تُلقي أو نلقي، وقوله تعالى: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ليس (¬1) فيه أمر بالتخيير؛ ألا ترى أن الأمر لا يصلح هاهنا فلذلك لم يكن فيه أن) (¬2). وأما التفسير فقوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ}، فقال ابن عباس: (يريد: عصاه، {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أي: ما معنا من الحبال والعصي) (¬3)، فمفعول الإلقاء محذوف من الموضعين جميعاً (¬4). 116 - قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا}، يقال على هذا: لم جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وهو كفر منهم؟ والجواب: إن معناه: ألقوا إن كنتم محقين، وألقوا على ما يصح، ¬

_ (¬1) لفظ: (ليس) ساقط من (ب)، قال الهمداني في "الفريد" 2/ 341: (دخلت أن في آية الأعراف لأنه أمر كأنه قيل: اختر إما أن تلقي أنت وإما نحن، والأمر مستقبل و (أن) عَلَم للاستقبال فدخلت لتحقيق هذا المعنى، ولم تدخل في آية التوبة لأنه خبر والخبر لم يحتج إلى أن) اهـ. ملخصًا. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 389، وقال السمين في "الدر" 5/ 415 - 416: (إنما أتى هنا بأن المصدرية بخلاف آية التوبة؛ لأن أن وما بعدها هنا إما مفعول وإما مبتدًا والمفعول به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحًا بل لا بد أن ينضم إليه حرف مصدري يجعله في تأويل اسم وأما آية التوبة فالفعل بعد إما، إما خبر ثان لآخرون وإما صفة له، والخبر والصفة يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري) اهـ. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1535 بسند جيد. (¬4) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 631، وقال السمين في "الدر" 5/ 416: (حذف مفعول الإلقاء للعلم به والتقدير: إما أن تلقي حبالك وعصيك لأنهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفعلهم، أو نلقي حبالنا وعصينا) اهـ.

ويجوز دون ما يفسد (¬1) ولا يجوز (¬2). وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا}، يعني: تلك العصي والحبال، وهي مذكررة في قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} [طه: 66] في سورة طه. وقوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}. قال ابن عباس: (يريد: حيث رأوها حيات) (¬3)، قال العلماء من أصحاب المعاني (¬4): ({سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي: قلبوها عن صحة إدراكها بما تخيل من الأمور المموهة بلطف الحيلة التي تجري مجرى الخفّة والشعبذة مما لا يرجع إلى حقيقة، والمُحدث في العين ذلك التخيل هو الله عز وجل عندما أظهروا من تلك المخاريق، إلا أنه منسوب إليهم لأنهم عرضوها بما لو لم يعملوه لم يقع، كمن جعل طفلاً تحت الثلج فهو القاتل له في الحكم، والله خلق الموت فيه وأماته) (¬5). وقوله تعالى: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}. قال المبرد: (أرهبوهم، والسين زائدة) (¬6). وكذلك قال المؤرج: (أفزعوهم) (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (ما يفسده)، وهو تحريف. (¬2) وقيل: إن هذا تهديد أي: ابتدئوا بالإلقاء فسترون ما يحل بكم من الافتضاح، وقيل: أمرهم بذلك ليبين كذبهم وتمويههم، انظر: "تفسير الرازي" 14/ 203، والقرطبي 7/ 259. (¬3) لم أقف عليه (¬4) لفظ: (المعاني) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 203، وفيه قال: (قال الواحدي: بل المراد {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي: قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات) اهـ. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 218، والرازي 14/ 203، والسمين في "الدر" 5/ 416. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 218.

117

وقال الزجاج: (أي استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس) (¬1). وقوله تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. قال أهل التفسير: (وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً، فإذا هي حيات قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً) (¬2). قال أهل المعاني: (قوله: {بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، أي: عظيم الشأن عند من يراه من الناس بما يملأ الصدر بهوله ويوفي على غيره من السحر ببعد مرام الحيلة فيه وشدة التمويه به فهو لذلك عظيم). 117 - قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}. قال ابن عباس: (يريد: وألهمنا موسى {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} (¬3)، {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} أي: فألقاها {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ}، وقرأ حفص (¬4): {تَلْقَفُ} مخففاً. قال ابن السكيت: (اللقف (¬5) مصدر لقفْت الشيء ألقفه لقفًا إذا أخذته ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 366، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 63، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 225، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 179. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 20، وأخرج عن السدي وابن إسحاق والقاسم بن أبي بزة بسند جيد نحوه. وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 560. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 204، عن الواحدي عن ابن عباس. (¬4) قرأ حفص عن عاصم: {تَلْقَفُ} بإسكان اللام وتخفيف القاف، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف. انظر: "السبعة" ص 290، و"المبسوط" ص 148، و"التذكرة" 2/ 423، و"التيسير" ص 112، و"النشر" 2/ 271، وانظر في توجيه القراءات: "معاني القراءات" 1/ 418، و"إعراب القراءات" 1/ 200، و"الحجة" لابن زنجلة ص 292، و"الكشف" 1/ 473. (¬5) انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 966، و"الصحاح" 4/ 1428، و"المجمل" 3/ 812، و"المفردات" ص 744، و"اللسان" 7/ 4062 (لقف).

فأكلته أو ابتلعته، ورجل ثقف لقف سريع الأخذ) (¬1). وقال اللحياني: (ومثله ثقْف لَقْفُ، وثَقِف (¬2) لقف، وثقيف لقيف بين الثقافة واللقافة) (¬3). قال الفراء: (لقِفت الشيء ألقفه لقفاً ولقفاناً). قال: (وهو في التفسير يبتلع) (¬4). وقال الليث: (لقفني تلقيفاً فلقفته والتقفته وتلقفته) (¬5). وقال أبو عبيدة: (تلقف وتلقم واحد) (¬6) وأنشد: أنت عَصَا موسى التي لم تَزَلْ ... تلقف ما يأْفِكُه السَّاحرُ (¬7) قال ابن عباس في قوله: {تَلْقَفُ} (يريد: تبتلع) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 3288، وفيه: (ويقال: رجل ثقف لقف إذا كان ضابطًا لما يحويه قائمًا به) اهـ. وانظر: "إصلاح المنطق" ص 64. (¬2) في (أ): (وثقف ولقف)، وهو تحريف. (¬3) في "تهذيب اللغة" 1/ 489: (روى أبو عبيد عن الأحمر، إنه لثَقْف لقْف، وثَقِف لَقِف، وثقيف لقيف بين الثقافة واللقافة) اهـ. وذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 204، عن اللحياني. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 390، و"تهذيب اللغة" 7/ 4062. (¬5) "تهذيب اللغة" 7/ 4062 وفيه: (لقَّفَني تلقِيفًا فلقفْتُه والتَقفْتُه) اهـ، وفي "العين" 5/ 164: (لقفني تلقيفًا فلقفته وتلَقَّفْتُه والتَقَفْتُه أعم) اهـ. (¬6) "الحجة" لأبي علي 4/ 66، وفي "مجاز القرآن" 1/ 225: (أي: تلهم ما يسحرون ويكذبون. أي: تلقمه) اهـ. (¬7) لم أقف على قائله وهو في "معاني الزجاج" 2/ 366، و"تفسير الماوردي" 2/ 246، والقرطبي 7/ 260، و"الدر المصون" 5/ 417. (¬8) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1536 بسند جيد.

118

قال المفسرون: (لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم) (¬1). وقوله تعالى: {مَا يَأْفِكُونَ}. معنى الإفك في اللغة: قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذب: إفك؛ لأنه مقلوب عن وجهه (¬2). قال ابن عباس: {مَا يَأْفِكُونَ} (¬3) (يريد: يكذبون) (¬4). وقال الزجاج: (معنى {يَأْفِكُونَ}: يأتون بالإفك (¬5): وهو الكذب، وذلك أنهم زعموا أن عصيهم وحبالهم حيات، وكذبوا في ذلك، إنما جعلوا فيها الزئبق وصوروها يصور الحيات، فاضطرب الزئبق لأنه لا يستقر. قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}) (¬6) [طه: 66]. 118 - قوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ}. قال مجاهد: (ظهر) (¬7)، وهو قول الحسن (¬8) وغيره (¬9)، وقال الفراء: (فتبين الحق من السحر) (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 21. وقد أخرج عن قتادة والسدي وابن إسحاق، والقاسم بن أبي بزة، وابن عباس نحوه. (¬2) انظر: "العين" 5/ 416، و"تهذيب اللغة" 1/ 174، و"الصحاح" 4/ 1572، و"المجمل" 1/ 99، و"مقاييس اللغة" 1/ 118، و"المفردات" ص 79، و"اللسان" 1/ 97 (إفك). (¬3) لفظ: (ما) ساقط من (ب). (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 204. (¬5) في (ب): (يأتون في الأفك). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 366. (¬7) "تفسير مجاهد" 1/ 242، وأخرجه الطبري 9/ 22 من عدة طرق جيدة. (¬8) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 246، والواحدي في "الوسيط" 1/ 219، والبغوي 3/ 265، والرازي 14/ 205، عن مجاهد والحسن. (¬9) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1536 بسند جيد عن ابن عباس. (¬10) "معاني الفراء" 1/ 391.

119

قال أهل المعاني: (الوقوع: ظهور الشيء بوجوده نارلاً إلى مستقره) (¬1). قال المفسرون: (وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا وعادت إلى حالها الأولى ولم تُفقد، فلما فُقدت علموا أن ذلك أمر من أمر الله تعالى، فذلك قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). {مَا} يجوز أن يكون بمعنى (الذي)، فيكون المعنى: بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر، أي: زال وذهب بفقدانها، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر كأنه قيل: بطل عملهم (¬3). 119 - قوله تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ}، قال ابن عباس: (يريد: فرعون وملأه وجيشه) (¬4)، ومعنى {هُنَالِكَ} أي: عند ذلك المجمع، وهو ظرف مبهم، و (هنا) و (هناك) و (هنالك) كقولك: (ذا) و (ذاك) و (ذلك) (¬5)، ودخلت اللام في (هنالك) للدلالة على بعد المكان المشار إليه، كما دخلت في (ذلك) لبعد المشار إليه، فـ (هناك) لما بعد قليلاً، و (هنالك) لما كان أشد بعداً، والكاف للمخاطبة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 205. (¬2) هذا قول الفراء في "معانيه" 1/ 391. (¬3) انظر: "الفريد" 2/ 342، و"الدر" للسمين 5/ 417، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 14/ 205. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1536 بسند جيد. (¬5) انظر: "الكتاب" 2/ 78، وقال السمين في "الدر" 5/ 418: (هنالك يجوز أن يكون مكانًا أي: غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر. قيل: ويجوز أن يكون زمانًا، وهذا ليس أصله، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى ..) اهـ. ملخصًا.

120

وقوله تعالى: {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}، أي: انصرفوا ذليلين، والصاغر: الذليل من الصغر والصَغار، وقد ذكرنا ذلك (¬1). 120 - قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: خروا لله عابدين سامعين مطيعين) (¬2). وقال مقاتل: (ألقاهم الله ساجدين) (¬3). وقال الأخفش: (من سرعة ما سجدوا كأنهم أُلقوا؛ لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين، وكأن ملقياً ألقاهم) (¬4). وقال غيره (¬5): (ألقاهم ما رأوا من عظيم آيات الله عز وجل؛ بأن دعاهم إلى السجود له). 121 - قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، قيل في التفسير: (إن موسى قال للسحرة: أتؤمنون بي إن غلبتكم؟ فقالوا: لنأتين اليوم بسحر لا يغلبه سحر، ولئن غلبتنا لنؤمنن بك، فلما غلبهم {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}) (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 124. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 219. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 6 ب، والبغوي 3/ 266، وفي "تفسير مقاتل" 2/ 54: قال: ({وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} لله) اهـ. (¬4) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 561، والثعلبي 6/ 6 ب، والبغوي 3/ 266، ولم أقف عليه في "معانيه". (¬5) هذا قول الطبري في "تفسيره" 9/ 22، وانظر: "تفسير الماوردي" 2/ 246. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 22، عن ابن عباس، وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

122

122 - قوله تعالى: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين؛ لأن فيه معنى الذي دعى إلى الإيمان به موسى وهارون، وقيل: خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. وقيل في التفسير: (إنهم لما {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال لهم فرعون: إياي يعنون. قالوا: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (¬1). 123 - قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}. قال الكلبي: (يقول: صدقتم بموسى من قبل أمري إياكم) (¬2). ونحو ذلك قال الفراء (¬3). وفي: {آمَنْتُمْ} ثلاثة أوجه من القراءة (¬4): إحداها: تحقيق الهمزتين وهو مذهب أهل الكوفة، وأصل {آمَنْتُمْ} أآمنتم على (أفعلتم) إحدى الهمزتين للإفعال، والثانية ألفان فخففت الثانية فدخلت هاهنا همزة الاستفهام واجتمعت مع همزة أفعل فحققهما الكوفيون، وقرأ أبو عمرو ونافع بهمزة بعدها ألف ممدودة تكون في التقدير ألفين، فالهمزة همزة الاستفهام، والألفان الأولى منهما الهمزة التي هي في (¬5) أفعلتم خففت، ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 561، والثعلبي 6/ 6 ب، والبغوي 3/ 266. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 118، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 45، وذكره عن مقاتل الثعلبي 6/ 7 أ، والبغوي 3/ 266. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 391. (¬4) قرأ حفص عن عاصم: {آمَنْتُمْ} بهمزة واحدة غير ممدودة على لفظ الخبر، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {أءامنتم} بهمزتين، وقرأ الباقون: {ءَآمَنْتُمْ} بهمزة واحدة ممدودة. انظر: "السبعة" ص290، و"المبسوط" ص 184، و"التذكرة" 2/ 423، و"التيسير" ص 112، و"النشر" 1/ 368. (¬5) لفظ: (في) ساقط من (ب).

والثانية (¬1) المنقلبة عن فاء الفعل. وقرأ حفص {أامنتم} بلفظ الخبر من غير مد، ووجه (¬2) الخبر أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم (¬3)، والإنكار عليهم، وكذلك أيضاً وجه الاستفهام يوبخهم به وينكره عليهم (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ}. قال الكلبي: (لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع) (¬5)، أي: أنكم تواطأتم على هذا الأمر لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها وتتغلبوا عليها بسحركم. وقوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، قال ابن عباس: (يريد تهدداً (¬6) منه للذين آمنوا بالله) (¬7). قال أهل المعاني: (معنى التهديد في هذا اللفظ: أن فيه معنى أقدمتم بالجهل على سبب الشر، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما (¬8) يظهر لكم مما (¬9) يؤدي إليه إقدامكم على ما فعلتم، وهذا أبلغ من الإفصاح به) (¬10). ¬

_ (¬1) في: (أ): (والثالثة)، وهو تحريف. (¬2) في (ب): (ولفظ الخبر). (¬3) لفظ: (لهم) ساقط من (ب). (¬4) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 68 - 71. وانظر: "معاني القراءات" 1/ 419، و"إعراب القراءات" 1/ 201، و"الحجة" لابن خالويه ص 161، ولابن زنجلة ص 293، و"الكشف" 1/ 473. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 219، وابن الجوزي 3/ 243. (¬6) في (ب): (يريد تهديدًا). (¬7) لم أقف عليه. (¬8) في (ب): (من). (¬9) في (ب): (ما). (¬10) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 23.

124

124 - قوله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} الآية. استعمل لفظ التقطيع هاهنا لمكان الأيدي وهي جمع. وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}. قال عبد العزيز بن يحيى: (على مخالفة، وهو أن يقطع من كل شق طرف كاليد اليمنى مع الرجل اليسرى) (¬1). قال سعيد بن جبير: (وفرعون أول من فعل ذلك) (¬2). 125 - قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}. هذا جواب السحرة لفرعون لما توعدهم بالقطع والصلب. قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد: راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص) (¬3). وقال غيره (¬4): (راجعون إلى ثواب ربنا وجنته، ولكنه فخم بالإضافة إلى لله، وهذا يدل على أنهم صبروا على وعيده بما توقعوا من الله تعالى من عظيم الثواب). 126 - قوله (¬5) تعالى: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا}. يقال: نقمتُ أنقِم إذا بالغت في كراهية الشيء، وقد مرّ عند قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59]. قال (¬6) عطاء عن ابن عباس: (يريد: ما لنا عندك من ذنب ولا ركبنا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1537 بسند جيد، وذكره الثعلبي 7/ 6 أ، وأخرجه الطبري 9/ 23 بسند لا بأس به عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 220. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 24، والسمرقندي 1/ 561. (¬5) في: (ب) (وقوله). (¬6) في: (ب) (وقال).

منك مكروهاً تعذبنا عليه {إِلَّا أَنْ آمَنَّا} (¬1). وقال الضحاك: وما تطعن علينا (¬2) {إِلَّا أَنْ آمَنَّا}، أي. إلا إيماننا {بِآيَاتِ رَبِّنَا}. يعنون: ما أتى به موسى من الآيات في العصا واليد، آمنوا بها أنها من عند الله لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى (¬3). قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، معنى الإفراغ في اللغة: الصّب، يقال: درهم مُفْرَغ إذا كان مصبوباً في قالب ليس بمضروب، وأصله من إفراغ الإناء؛ وهو صب ما فيه أجمع حتى يخلو الإناء، وهو من الفراغ، فاستعمل في الصب على التشبيه بحال إفراغ الإناء (¬4). قال مجاهد: (اصبب علينا الصبر عند الصلب والقطع حتى لا نرجع كفاراً) (¬5). وقال الزجاج: (أي: أنزل علينا صبراً يشتمل علينا) (¬6)، وإنما ذكر لفظ الاشتمال لمعنى (¬7) الإفراغ وهو أنك إذا صببت شيئاً على شيء شمله وعمّه. ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 220، والرازي 14/ 209، وذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 7 أ، والبغوي 3/ 266 من قول عطاء فقط. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 7 أ، والبغوي 3/ 266. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 24، والسمرقندي 1/ 561. (¬4) انظر: "العين" 4/ 408، و"تهذيب اللغة" 3/ 2777، و"الصحاح" 4/ 1324، و"مقاييس اللغة" 4/ 493، و"المفردات" ص 632، و"اللسان" 6/ 3396 (فرغ). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 220، وابن الجوزي 3/ 243، والرازي 4/ 209. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 367، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" 3/ 64. (¬7) في (ب): (بمعنى).

127

وقوله تعالى: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}. قال مجاهد: (مخلصين بالعبادة) (¬1) وقال ابن كيسان: (أي: على دين موسى) (¬2). 127 - قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} الآية. هذا إغراء من الملأ وتحريض لفرعون على موسى، وإنكار أن يتركه مقيماً على مخالفته. قال سعيد بن جبير: (كان فرعون قد ملئ رعباً من موسى، وكان إذا رآه بال كما يبول الحمار، ولم يعلم قوم فرعون ذلك الرعب من فرعون، فأنكروا عليه خلاف عادة الملوك في السطوة لمن خالف عليهم، وشقِّ العصّا ولم يعلموا أنه غير قادر على قهره) (¬3). وقوله تعالى: {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}. قال ابن عباس: (يريد: يعبدوا الله ويوحدوه) (¬4). وقال غيره: (أراد بالإفساد في الأرض دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته وتجهيلهم إياه) (¬5)، وهذا راجع إلى ما قاله ابن عباس؛ لأن عبادة الله وتوحيده تتضمن مخالفة فرعون وتجهيله. وقوله تعالى: {وَيَذَرَكَ}. قال ابن الأنباري: (إنه ينتصب على الصرف (¬6) عن الأول، يراد به {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} وقد ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 119. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 24، 25، والسمرقندي 1/ 562، والماوردي 2/ 248. (¬6) واو الصرف: هي واو المعية عند الكوفين. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" ص 125.

ترك أن يطيعك وأن يعبد ألهتك). وهذا قول الفراء (¬1)، واحتج على هذا بقراءة أبيّ: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوا أن يعبدوك) (¬2). قال أبو بكر: (وقال بعض النحويين: الواو نائبة عن الفاء، والتقدير: فيذرك وآلهتك) (¬3)، وهذا قول أبي إسحاق، قال: (نصب {وَيَذَرَكَ} على جواب الاستفهام بالواو، والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى) (¬4). قال أبو بكر: (وحمله بعض الناس على إعراب (يُفسدوا)، وفي هذا بُعدٌ؛ لأن توحيده مع جمع (يفسدوا) يدل على انقطاعه منه) (¬5). وقوله تعالى: {وَآلِهَتَكَ}. قال أبو بكر: (كان ابن عباس ينكر قراءة العامة ويقرأ: (وإلاهتك) أي: عبادتك، ويقول: (¬6) إن فرعون كان يُعبد ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الفراء" 1/ 391، وهو قول الطبري في "تفسيره" 9/ 25. (¬2) ذكر القراءة أيضًا عن أبي: أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 127، والطبري في "تفسيره" 9/ 25، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 632، وابن عطية 6/ 42، والقرطبي 7/ 262، وأبو حيان في "البحر" 4/ 367، وجاء عند الجميع إلا النحاس: (وقد تركوك أن يعبدوك). (¬3) انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 663، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 221، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 419 - 420. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 367، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 632. (¬5) قال ابن الأنباري في "الإيضاح" 2/ 663: (قال اليزيدي: {وَيَذَرَكَ} منصوب على معنى: {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} وليذرك وآلهتك) اهـ. وقال السمين في "الدر" 5/ 423: (في النصب وجهان: أظهرهما أنه على العطف على {لِيُفْسِدُوا}، والثاني: النصب على جواب الاستفهام) اهـ. (¬6) أخرج الطبري 9/ 25، 26، وابن أبي حاتم 5/ 1538 من طرق جيدة عن ابن عباس أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} بكسر الألف، وقال: (إنما كان فرعون يُعْبدَ ولا يَعْبُد) =

ولا يَعبد) (¬1)، وبه قرأ الضحاك وابن مسعود والشعبي وابن أبي إسحاق (¬2). قال الزجاج: (والمعنى: ويذرك وربوبيتك فـ (إلاهتك) بمنزلة ربوبيتك) (¬3). وقرأ العامة {وَآلِهَتَكَ} على جمع إله مثل إزار وآزرة، وقد مرّ مستقصًى شرحه في أول الكتاب (¬4)، وعلى هذه القراءة فقد روي عن ابن عباس أنه قال: (كان فرعون صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬5) [النازعات: 24]، ونحو ذلك قال الزجاج، فقال: (إن فرعون كان له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه) (¬6). ¬

_ = اهـ وأخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 172، القراءة بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 200. (¬1) ذكره عن ابن الأنباري السمين في "الدر" 5/ 424، وانظر: "تفسير الرازي" 14/ 211. (¬2) ذكرها الثعلبي في "الكشف" 6/ 7 ب، 6/ 8 أعن ابن مسعود وابن عباس وابن أبي إسحاق والضحاك والشعبي، وذكرها البغوي 3/ 267، و"الخازن" 2/ 273، عن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك وذكرها عن ابن مسعود وابن عباس أكثرهم. انظر: "مختصر الشواذ" ص 55، و"المحتسب" 1/ 256، وابن عطية 6/ 43، وابن الجوزي 3/ 244، و"البحر" 4/ 367 وهي قراءة مجاهد كما أخرجه الطبري 9/ 26 بسند جيد. (¬3) لم أقف عليه في "معانيه"، وذكره عن الزجاج ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 244. (¬4) انظر: "البسيط" تفسير البسملة من الفاتحة. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 7 ب، وابن الجوزي 3/ 244، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 221 من رواية الكلبي عن ابن عباس. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 367.

128

وقال الحسن: (كان فرعون يعبد الأصنام) (¬1)، فعلى هذا كان يَعبد ويُعبد. وقال السدي: (كان يعبد ما يستحسن من البقر، وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء، أمر قومه أن يعبدوها، وعلى ذلك أخرج السامري عجلاً) (¬2)، ونحو هذا روي عن سليمان التيمي (¬3). وقوله تعالى: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}. قال ابن عباس: (كان فرعون قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل، فلما أتاه موسى بالرسالة -وكان من أمره ما كان- أمر بإعادة القتل عليهم، فذلك قوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} (¬4). قال أهل المعاني: (إنما دعي فرعون إلى قتل موسى، لكنه لم يطمع في ذلك لما رأى من قوة أمره وعلوّ شأنه، فعدل عن ذلك إلى إضعاف بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نساءهم للمهنة والخدمة) (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: وإنا على ذلك قادرون) (¬6). 128 - قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، وهم الذين اتبعوه وآمنوا به. قال ابن عباس: (لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل)، {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (وذلك أنهم شكوا إلى موسى إعادة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 25، وابن أبي حاتم 5/ 1538 من عدة طرق جيدة، وذكره الثعلبي 6/ 7 ب، والماوردي 2/ 248، والبغوي 3/ 267. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 25 بسند جيد. (¬3) أخرج ابن أبي حاتم 5/ 1538 بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" 3/ 65. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 8 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 221، والبغوي 3/ 267. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 248، والرازي 14/ 211، 212. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 221.

129

قتل أبنائهم، فقال موسى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} على ما يفعل بكم). قاله ابن عباس (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. هذا إطماع من موسى قومه في أن يورثهم الله أرض فرعون وقومه، أي: يعطيهم بعد إهلاكهم، وذلك معنى الإرث، وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف. وقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. قال ابن عباس: (أي: الجنة لمن اتقى الله في الآخرة) (¬2). وقال غيره: (العاقبة (¬3) هاهنا النصر والظفر) (¬4)، ومعنى العاقبة: ما تؤدي إليه البادئة (¬5) من خير أو شر، إلا أنه إذا قيل: العاقبة له فهو في الخير (¬6). 129 - قوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا}. قال ابن عباس: (أي: بالقتل الأول، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بالرسالة، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادة القتل ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 8 أ، والبغوي 3/ 267 - 268، وأخرج الطبري 9/ 27 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل) اهـ. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 119، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 221. (¬3) في: (ب) (وقال غيره معنى العاقبة)، وهو تحريف. (¬4) هذا قول الثعلبي في "الكشف" 6/ 8 أ، والبغوي 3/ 267، وانظر: "الماوردي" 2/ 249، والظاهر من الآية مجموع الأمرين النصر والظفر والجنة. (¬5) في: (ب) (التادية). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2504، و"اللسان" 5/ 3022 (عقب)، وقال الراغب في "المفردات" ص 575: (العاقبة إطلاقها يختص بالثواب وبالإضافة قد تستعمل في العُقوبة) اهـ.

عليهم والإتعاب في العمل). {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ}، قال (¬1): (وعسى من الله واجب) (¬2)، قال سيبويه: (عسى (¬3) طمع وإشفاق) (¬4). قال الزجاج: (وما طمع الله عز وجل فيه فهو واجب، وهو معنى قول المفسرين: عسى من الله واجب) (¬5). وقوله تعالى: {أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ}، يعني: فرعون وقومه. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}، قال ابن عباس: (يملككم ما كان يملك فرعون) (¬6). وقوله تعالى: {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. قال أبو إسحاق: (أي: يرى ذلك بوقوع ذلك منكم؛ لأن الله لا (¬7) يجازيهم على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم) (¬8)، وهذه الآية تسلية من موسى لقومه بما وعدهم عن ربه من إهلاك فرعون وقومه وجعلهم بدلاً منهم ليعملوا بطاعته، ثم حقق الله ذلك، فغرق فرعون وقومه واستخلفهم في ديارهم وأموالهم. ¬

_ (¬1) لفظ: (قال) ساقط من (ب). (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 120، وأخرج البيهقي في "سننه" 9/ 13 بسند جيد عنه قال: (كل عسى في القرآن فهي واجبة) اهـ. وذكره السيوطي في "الإتقان" 2/ 241. (¬3) في (ب): (وعسى). (¬4) "الكتاب" 4/ 233. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 367، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 225. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 222 بلا نسبة، ونقل ابن الجوزي 3/ 246 عن ابن عباس أنه قال: (أرض مصر) اهـ. (¬7) لفظ: (لا) ساقط من (ب). (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 367.

130

130 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية. السنين: جمع السنة (¬1)، وقد ذكرنا (¬2) كيف كانت السنة في الأصل والاختلاف فيها عند قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]. قال أبو علي الفارسي: (السنة على معنيين؛ أحدهما: يراد بها الحول والعام، والآخر: يراد بها الجدب، وهو (¬3) خلاف الخصب، فمما أريد به الجدب هذه (¬4) الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم سنين كسني يوسف" (¬5)، وقول عمر -رضي الله عنه-: (إنا لا نقطع في عام السنة) (¬6). أي: في عام الجدب. ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 4/ 8، و"الجمهرة" 1/ 135، و"تهذيب اللغة" 2/ 1782، و"الصحاح" 6/ 2235، و"المجمل" 2/ 474، و"مقاييس اللغة" 3/ 103، و"المفردات" ص 429، و"اللسان" 4/ 2127 (سنة). (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 156 أ. (¬3) لفظ: (هو) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (في هذه الآية). (¬5) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الاستسقاء، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (1006)، ومسلم رقم (675) عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب المساجد، باب: استحباب القنوت، وأخرجه البخاري برقم (4821) كتاب التفسير، باب: يغشى الناس في تفسير سورة الدخان، ومسلم رقم (2798) كتاب صفة الجنة والنار، باب: الدخان، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬6) الأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 242، وابن أبي شيبة 5/ 516 (28577) بسند ضعيف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا يقطع في عذق، ولا في عام السنة) اهـ، وأورده الحافظ في "تلخيص الحبير" 4/ 70 وقال: (أخرجه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في "جامعه" عن أحمد بن حنبل وقال: سألت أحمد عنه فقال: العذق النخلة وعام سنة عام المجاعة، فقلت لأحمد تقول به؟ قال: إي لعمري) اهـ، وذكره الألباني في "إرواء الغليل" 8/ 80 وقال: (ضعيف أخرجه ابن أبي شيبة) اهـ.

وقول حاتم (¬1): فإنَّا نُهِينُ المالُ منْ غَيْرِ ظنَّهٍ ... ولا يَشْتَكِينا في السنينَ ضَرِيرُها أي: لا يشتكينا الفقر في المحل لأنا نسعفه ونكفيه، ولما كانت السنة يعني بها الجدب اشتقوا منها كما يشتق من الجدب فقيل: أسنتوا كما يقال: أجدبوا) (¬2). قال الشاعر (¬3): وَرِجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ وقالوا في جمع السنة: سنون وسنين، وإنما جمعت هذا الجمع للنقصان الذي لحقها، وقد مرّ بيان هذا في هذا الكتاب (¬4). قال أبو زيد: (وبعض العرب يقول: هذه سنين ورأيت سنيناً فيعرب النون) (¬5). ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص62، و"البحر المحيط" 4/ 369، و"الدر المصون" 5/ 427، وفي الديوان (وما) بدل (ولا). (¬2) "الحجة" لأبي علي 2/ 369 - 372. (¬3) الشاهد لعبد الله بن الزِّبَعْرَى في "ديوانه" ص 53، و"الصحاح" 5/ 2058 (هشم)، والقرطبي 7/ 264، و"اللسان" 4/ 2111 (سنن)، ولمطرود بن كعب الخزاعي في "الاشتقاق" ص 13، و"تهذيب اللغة" 4/ 3764 (هشم) ولبنت هاشم بن عبد مناف في "العين" 3/ 405، و"المبهج" لابن جني ص 60، و"اللسان" 8/ 4668 (هشم) وبلا نسبة في "النوادر" لأبي زيد ص 167، و"الكامل" للمبرد 1/ 209، و"المقتضب" 2/ 311، 315، و"سر صناعة الإعراب" 535، والرازي 14/ 214، و"البحر" 4/ 369، و"الدر المصون" 5/ 427، وصدره: عَمْرُو العُلاَ هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وعمرو هو ابن هاشم جد النبي - صلى الله عليه وسلم - سمي هاشمًا؛ لأنه هشم الخبز فجعله ثريدًا، ومسنتون: أي أصابتهم سنة وقحط وعجاف: هزل وضعف. انظر: "حاشية ديوان عبد الله بن الزبعرى" ص 52 - 54. (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الآزهرية 1/ 73 أو 156 أ (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1782 وزاد: (وبعضهم يجعلها نون الجمع فيقول: هذه سنون،=

ونحو ذلك قال الفراء (¬1)؛ فمن ذلك قول الشاعر (¬2): دَعَاني مِنْ نَجْدٍ فَإنَّ سِنِينَهُ ... لَعِبْنَ بِنَا شِيبًا وَشَيَّبْننَا مُرْدًا وقال أبو إسحاق: (السنين في كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السنة، [ومعناه: جدب السنة] (¬3) وشدة السنة) (¬4). قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ}، (يريد: بالجوع) (¬5). وقال الفراء: ({بِالسِّنِينَ} بالقحط والجدوبة عاماً بعد عام) (¬6). قال ابن عباس (¬7) وقتادة (¬8) والمفسرون (¬9): (السنون لأهل البوادي، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأهل القرى). ¬

_ = ورأيت سنين، وهذا هو الأصل لأن النون نون الجمع والسنة سنة القحط) اهـ. (¬1) "معاني الفراء" 2/ 92 وفيه: (وهي لغة كثيرة في أسد وتميم وعامر وأنشدني بعض بني عامر) ثم ذكر الشاهد. (¬2) الشاهد للصمة بن عبد الله القشيري في "ديوانه" ص 60 وبلا نسبة في "مجالس ثعلب" ص 147، 266، و"الحجة" لأبي علي 2/ 374، و"التكملة" لأبي علي ص 503، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 261، والرازي 14/ 214، و"اللسان" 7/ 4346 (نجد)، و"الدر المصون" 5/ 426، والشاهد: (فإن سنينه) حيث نصب سنين بالفتحة ولم يعاملها معاملة المذكر السالم في نصبها بالياء انظر: "الخزانة" 8/ 58. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 368 وفيه: (وشدة السنة ونقص الثمرات) اهـ. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 120 وفيه: (بالقحط والجوع عامًا بعد عام) اهـ. (¬6) "معاني الفراء" 1/ 392. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 29، وابن أبي حاتم 5/ 1542 بسند جيد. (¬9) انظر: "الكشف" للثعلبي 6/ 9 أ، والبغوي 3/ 268 والرازي 14/ 214.

131

وقال الزجاج: (إنما (¬1) أخذوا بالضر لأن أحوال الشدة ترق القلب وترغب فيما عند الله وفي الرجوع، ألا ترى إلى قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}) (¬2) [فصلت: 51]. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: كي تتعظوا) (¬3). وقال أهل المعاني: (في العل) من الله تعالى أن معناه: أنه عاملهم معاملة الشاك إظهاراً للعدل بعد معرفته وعلمه أنَّهم يذّكرون أم لا. كما جاء الابتلاء والاختبار من الله تعالى للعبد على هذا التقدير) (¬4). 131 - قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ}، قال ابن عباس (¬5) والمفسرون (¬6): (معنى {الْحَسَنَةُ} يريد بها: الغيث والخصب والثمار والمواشي والألبان والسعة في الرزق، والعافية والسلامة). وقوله تعالى: {قَالُوا لَنَا هَذِهِ}. أي: أنَّا مستحقوه (¬7) على العادة التي ¬

_ (¬1) في (ب): (وإنما). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 368. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) نقل هذا القول الرازي 14/ 215، عن الواحدي، وقال الطبري 9/ 28 في تفسير الآية: (يقول: عظة لهم وتذكيرًا لهم لينزجروا عن ضلالتهم ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة) اهـ، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 67. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 120، وذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 215. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 29، وأخرج عن مجاهد وابن زيد من طرق جيدة نحوه، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 368، و"تفسير السمرقندي" 1/ 563، والثعلبي 6/ 9 أ، والماوردي 2/ 251. (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 179، و"تأويل مشكل القرآن" ص 391.

جرت لنا من نعمنا وسعة أرزاقنا في بلادنا , ولم يعلموا أنه من الله فيشكروا عليه، ويقوموا بحق النعمة فيه. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يريد: القحط والجدب والمرض والبلاء والضرّ، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، أي: يتشاءموا، وقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، والتطير: التشاؤم في قول جميع المفسرين (¬1). وقوله تعالى: {يَطَّيَّرُوا} هو في الأصل يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاءة لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا (¬2). وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}. قال ابن عباس: (يريد شؤمهم عند الله) (¬3)، يريد من قبل الله، أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله وجرأتهم (¬4) عليه. وقال الكلبي: (يقول إن الذي أصابهم هو من الله) (¬5)، وهذا قول ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 29، وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد وابن زيد. وانظر: "معاني النحاس" 3/ 568، و"تفسير السمرقندي" 1/ 563، والثعلبي 6/ 9 أ، والماوردي 2/ 251. (¬2) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 368. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 223، والبغوي 3/ 269 بلفظ: (شؤمهم عند الله ومن قبل الله). وأخرج الطبري 9/ 30 بسند جيد عن ابن عباس قال: (يقول مصائبهم عند الله) اهـ. وفي رواية قال: (الأمر من قبل الله) اهـ، وذكره الثعلبي 6/ 9 أ، والبغوي 3/ 269 عنه أنه قال: (طائرهم ما قضى الله عليهم وقدر لهم) اهـ. (¬4) في (ب): (وجرأتهم على الله عليه)، وهو تحريف. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 120.

أكثر المفسرين (¬1) في الطائر أن معناه هاهنا: الشؤم، ومثل هذا قوله تعالى في قصة ثمود وتشاؤمهم بنبيهم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل: 47]. قال الفراء: (كما تشاءمت اليهود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فقالوا (¬2): غلت أسعارنا، وقلت أمطارنا مُذْ أتانا) (¬3). قال الأزهري: (وقيل للشؤم: طائر وطَيْر وطِيَرة؛ لأن العرب كان من شأنها عِيَافَةُ الطير وزجرها، والتَّطيُّر ببارحها، وبِنَعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فَسَمَّوا الشؤم طَيْراً وطائِراً وطِيَرَة لتشاؤمهم بها. ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طِيَرَتهم باطلة فقال: "لا طِيَرة ولا هام" (¬4)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5) يتفاءل ولا يَتَطَير (¬6)، وأصل الفأل الكلمة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 29، 30، و"معاني الزجاج" 2/ 368 - 369، والنحاس 3/ 68، و"تفسير السمرقندي" 1/ 563، والماوردي 2/ 251. (¬2) لفظ: (فقالوا) ساقط من (أ). (¬3) "معاني الفراء" 1/ 392. (¬4) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري رقم (5770) كتاب الطب، باب: لا هامة، ومسلم رقم (2220) كتاب السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" اهـ. والهامة: طائر معروف. وقيل إن عظام الميت وروحه تنقلب هامة تطير، والصفر: داء يأخذ البطن. انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 14/ 310. (¬5) في (أ): (عليه السلام). (¬6) أخرج البخاري رقم (5757) كتاب الطب، باب: الفأل. ومسلم رقم (2223 - 2224) كتاب السلام، باب: الطيرة والفال، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: =

الحسنة يَسمعُها عليل فيتأول فيها ما يدل على برئه، والطيرة مضادة للفأل، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطِّيَرة واحد (¬1)، فأثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل واستحسنه، وأبطل الطِّيَرة ونهى عنها) (¬2). وقال أبو عبيدة في قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}: (أي: حظهم) (¬3)، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: (طائرهم ما قُضِي عليهم وقُدر لهم) (¬4). والعرب تقول: أطرت المال وَطيَّرته بين القوم فَطَار لكل (¬5) منهم سَهْمُه، أي: صار له (¬6). ومنه الحديث: "أطره خُمراً بين نسائك" (¬7) أي: ¬

_ = "لا طيرة وخيرها الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم". وفي رواية لمسلم قال: "أحب الفأل الصالح" وأخرجا عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة" اهـ. (¬1) في (أ): (واحدًا). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2150 (طير). (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 226 وفيه: (مجازه إنما طائرهم وتزاد (ألا) للتنبيه والتوكيد، ومجاز طائرهم حظهم ونصيبهم) اهـ. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ب): (فطار لكل واحد منهم سهمه). (¬6) النص من "تهذيب اللغة" 3/ 2150. (¬7) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (2071) كتاب اللباس والزينة، باب: استعمال إناء الذهب والفضة، وأبو داود 4/ 322 رقم (4043)، والنسائي 8/ 197 - 198 كتاب الزينة، باب: ذكر الرخصة للنساء في لبس السيراء، وباب النهي عن لبس الإستبرق، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فبعث بها إلى فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه فقال: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء". وفي رواية: (فأمرني =

فرقة، وطائر كل واحد ما يطير له أي: يخصه، ومنه قول لبيد: تَطِيرُ عَدَائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً ... وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلَامِ (¬1) الأشراك: الأنصباء واحدها شرك أي: قسم المال للذكر مثل حظ الأنثيين فطارت الأنصاب شفعاً ووتراً لمستحقيها، وخلصت الرئاسة للذكور من الأولاد (¬2)، وليس هذا من باب الشؤم والتطير في شي، وكلا القولين قد حكاه الزجاج؛ فقال في قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}: (ألا إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا (¬3) ما ينالهم في الدنيا). [قال: (وقال بعضهم (¬4): {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} حظهم، والمعنى واحد) (¬5)، فجعل تفسير قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} ما وعدوا في الآخرة مما ينالهم في الدنيا] (¬6)، يريد: أن جميع ما يصيبهم في الدنيا والآخرة هو من الله تعالى، وجعل معنى القولين في الطائر واحداً وإن اختلف الأصلان؛ لأن المعنى فيهما: ما يصيبهم من شرّ وضرّ. ¬

_ = فأطرتها بين نسائي) اهـ. وحلة سيراء: أي: مضلعة بالحرير، وأطرتها: أي قسمتها بأن شققتها بينهن، أفاده الخطابي في "حاشية سنن أبي داود". (¬1) "ديوانه" ص 200، و"تهذيب اللغة" 3/ 2150، و"الدر المصون" 5/ 429، وتطير: أي تخرج، والعدائد: المال والميراث وقيل: الأنصباء. والأشراك: الشركاء، والزعامة: الرياسة والحظ من المغنم. (¬2) هذا من "تهذيب اللغة" 3/ 2150. (¬3) في النسخ: (إلى ما ينالهم في الدنيا)، وهو تحريف. (¬4) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 226. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 369. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

132

وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. قال الكلبي (¬1): (يعني: أهل مصر لا يعلمون أن الذي أصابهم من الله تعالى (¬2). 132 - قوله تعالى: {وَقَالُوا} يعني: آل فرعون لموسى {مَهْمَا تَأْتِنَا}؛ اختلف النحويون (¬3) في أصل {مَهْمَا} على قولين: أحدهما: أن أصلها (ما ما) الأولى هي (ما) الجزاء، والثانية: هي التي (¬4) تزاد توكيداً للجزاء، كما تزاد في سائر حروف الجزاء كقولهم: أمَّا ومتى وكيفما (¬5)، قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} [الأنفال: 57] وهو كقولك: إن تثقفنهم، ثم أبدلوا من ألف (ما) الأولى هاء (¬6) كراهة لتكرار اللفظ فصار (مهما)، هذا قول الخليل (¬7) ومذهب البصريين. وقال الكسائي: (الأصل مه (¬8) التي بمعنى: الكف، أي: اكفف دخلت على (ما) التي للجزاء كأنهم قالوا: اكفف ما تأتنا به من آية) (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ). (¬3) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 532، و"الأصول" لابن السراج 2/ 159 و220، و"حروف المعاني" للزجاجي ص 20، و"الصاحبي" ص 275، و"مغني اللبيب" 1/ 330. (¬4) لفظ: (التي) ساقط من (ب). (¬5) في النسخ: (كقولهم: أما، ومتى ما وكيفما). وأصل النص في "تهذيب اللغة" 4/ 3460 وفيه: (مثل إنما ومتى وكيفما). (¬6) في (ب): (ما)، وهو تحريف. (¬7) انظر: "الكتاب" 3/ 59 - 60، و"العين" 3/ 358. (¬8) في (ب): (الأصل فيه التي بمعنى الكف)، وهو تحريف. (¬9) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 9 ب عن الكسائي، وقال سيبويه في "الكتاب" 3/ 60 بعد ذكر قول الخليل السابق: (وقد يجوز أن يكون مَهْ كإذ ضم إليها ما) اهـ.

133

قال الزجاج: (والتفسير الأول هو الكلام، وعليه استعمال الناس) (¬1). وقال بعضهم: (هي كلمة على حيالها يجازى بها فيجزم ما بعدها على تقدير إن) (¬2). 133 - قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ}. اختلفت الرواية عن ابن عباس في تفسير {الطُّوفَانَ}؛ فقال في رواية عطاء: (الموت (¬3)) (¬4) قال: (وكل طوفان في القرآن هو الغرق سوى هذا) (¬5). وهو قول مجاهد (¬6). وروي ذلك مرفوعاً، أخبرناه العروضي رحمه الله قراءة وسعيد بن العباس القرشي (¬7) كتابة قالا: أبنا (¬8) الأزهري، أبنا المنذري عن أبي بكر الخطابي (¬9) عن محمد بن يزيد (¬10)، عن يحيى بن يمان (¬11) عن المنهال بن ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 369، ونحوه قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3460 قال: (والقول الأول أقيس) اهـ. وانظر: "البيان" 1/ 371، و"التبيان" ص 387. (¬2) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 633، و"المشكل" 1/ 299، و"غرائب الكرماني" 1/ 419، و"الدر المصون" 5/ 431. (¬3) في (ب): (هو الموت). (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس، وإنما ذكره أكثرهم من قول عطاء بن أبي رباح، وقد أخرجه الطبري 13/ 51 من عدة طرق جيدة عن عطاء، وذكره النحاس في "معانيه" 3/ 69، والثعلبي في "تفسيره" 6/ 9 ب، والماوردي 2/ 251 عن عطاء. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 244، وأخرجه الطبري 9/ 31 من عدة طرق جيدة. (¬7) لفظ: (القرشي) ساقط من (ب). (¬8) في (ب): (أخبرنا الأزهري أخبرنا المنذري). (¬9) لم أستطع معرفته بعد طول بحث. (¬10) محمد بن يزيد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي الكوفي، قاضي المدائن، إمام، فقيه، مقرئ، محدث، صدوق، فيه لين. توفي سنة 248 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 129، و"تاريخ بغداد" 3/ 375، و"سير أعلام النبلاء" 12/ 153، و"ميزان الاعتدال" 4/ 68، و"تهذيب التهذيب" 3/ 735. (¬11) يحيى بن يمان العجلي أبو زكريا الكوفي، إمام، عابد، مقرئ، محدث، =

خليفة (¬1) عن الحجاج (¬2) عن الحكم بن ميناء (¬3) عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطوفان الموت" (¬4). وقال في رواية الضحاك (¬5): (الطوفان الغرق). ¬

_ = صدوق، يخطئ، وتغير بآخر عمره. توفي سنة 189 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 14/ 120، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 356، و"ميزان الاعتدال" 4/ 416، و"تهذيب التهذيب" 4/ 401. (¬1) المنهال بن خليفة العجلي، أبو قدامة الكوفي، ضعيف، روى عن عطاء بن أبي رباح، وحجاج بن أرطأة وغيرهما، وروى عنه وكيع وعبد الله بن المبارك وغيرهما. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 357، و"ميزان الاعتدال" 4/ 191، و"تهذيب التهذيب" 4/ 162، و"تقريب التهذيب" ص 547 (6917). (¬2) حجاج بن أرطأة بن ثور النخعي أبو أرطأة الكوفي، القاضي، إمام، فقيه، صدوق، كثير الخطأ والتدليس، توفي سنة 145 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 153، و"تاريخ بغداد" 8/ 230، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 68، و"ميزان الاعتدال" 1/ 458، و"تهذيب التهذيب" 1/ 356. (¬3) الحكم بن ميناء الأنصاري المدني من أولاد الصحابة، روى عن بلال وعائشة وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم، وهو إمام ثقة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 127، و"تهذيب التهذيب" 1/ 470، و"تقريب التهذيب" ص 176 (1463). (¬4) هذا حديث ضعيف، أخرجه الطبري 9/ 31، 32، وابن أبي حاتم 5/ 1544، والأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2154، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 268، وقال: (هو حديث غريب)، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 519 وزاد نسبته (إلى أبي الشيخ وابن مردويه). وضعفه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في "حاشية الطبري" لضعف المنهال بن خليفة العجلي. (¬5) قوله: وقال، أي: ابن عباس رضي الله عنهما وقد أخرجه الطبري 9/ 31، وابن أبي حاتم 5/ 1545 بسند ضعيف.

وقال في رواية أبي ظبيان (¬1): (الطوفان أمر من أمر الله [طاف] (¬2) بهم) ثم قرأ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} (¬3) [القلم: 19]. وروي عنه أيضاً أنه قال: (الطوفان هو الماء؛ أرسل الله عليهم السماء) (¬4)، وهذا القول اختيار الفراء فقد قال: (أرسل الله عليهم [السماء] (¬5) سبتاً (¬6) فلم تقلع ليلاً ولا نهاراً، فضاقت بهم الأرض من تهدم بيوتهم وشغلهم عن ضياعهم فسألوه أن يرفع عنهم فرفع فلم يتوبوا) (¬7)، وهذه الأقوال غير خارجة عن مذهب أهل اللغة (¬8)؛ فقال الليث (¬9): (الطوفان الماء الذي يغشى كل مكان، وشبه العجاج ظلام الليل بذلك فسماه طوفاناً حيث يقول: وَعمَّ طُوفَانُ الظلامِ الأثأبَا (¬10) ¬

_ (¬1) أبو ظبيان هو حصين بن جندب بن عمرو بن الحارث الجنبي الكوفي، إمام، تابعي، ثقه، فقيه، روى عن جرير بن عبد الله، وأسامة بن زيد، وابن عباس وغيرهم، توفي سنة 90 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 224، و"الجرح والتعديل" 3/ 190، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 362، و"تهذيب التهذيب" 1/ 441. (¬2) لفظ: (طاف) ساقط من (أ). (¬3) أخرجه الطبري 9/ 31، وابن أبي حاتم 5/ 1544 بسند لا بأس به. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 32، ص 61، وابن أبي حاتم 5/ 1545 من عدة طرق جيدة. (¬5) لفظ: (السماء) ساقط من (ب). (¬6) أي أسبوعًا من السبت إلى السبت. (¬7) "معاني الفراء" 1/ 392. (¬8) انظر: "المنجد" لكراع ص 255، و"البارع" ص 682، و"الصحاح" 4/ 1397، و"المجمل" 2/ 589، و"مقاييس اللغة" 3/ 432، و"المفردات" ص 532، و"اللسان" 5/ 2723 (طوف). (¬9) النصر في "العين" 7/ 458. (¬10) "ملحق ديوان العجاج" 2/ 268، و"المنجد" ص 255، و"البارع" ص 682، =

وقال أبو إسحاق: (الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً محيطاً مطيفاً بالجماعة كلها كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة، يقال له: طوفان، وكذلك القتل الذريع طوفان، والموت الجارف طوفان) (¬1) انتهى كلامه. وهو فعلان (¬2) من الطواف (¬3)؛ لأنه يطوف حتى يعم، قاله الأخفش، قال: (وواحدته في القياس طوفانة) (¬4). وأنشد: غيَّرَ الْجِدَّةَ من آياتها ... خُرُقُ الرِيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ (¬5) وقال أبو العباس: (الطوفان مصدر مثل الرجحان والنقصان، ولا حاجة به إلى أن نطلب له واحداً) (¬6). وأكثر المفسرين على أن معناه هاهنا: المطر الكثير (¬7)، فقد قال ابن ¬

_ = و"تهذيب اللغة" 3/ 2154،و"الصحاح" 4/ 1397، و"المجمل" 2/ 589، و"مقاييس اللغة" 3/ 432، و"اللسان" 5/ 2724 (طوف)، و"الدر المصون" 5/ 433، وأوله: حتَّى إذا مَا يَوْمُهَا تَصَّبْصَبَا وفي "العين" قال: (الأثأب: شجر شبه الطرفاء إلا أنه أكبر منه) اهـ. (¬1) "معاني الزجاج" 4/ 164، و"تهذيب اللغة" 3/ 2154. (¬2) وعليه يكون اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة، أفاده السمين في "الدر" 5/ 432. (¬3) في (ب): (من الطوف)، وهو تحريف. (¬4) "معاني الأخفش" 2/ 308 وزاد فيه: (وهي من طاف يطوف) اهـ. (¬5) البيت لحسيل بن عرفطة الأسدي، شاعر جاهلي، في "النوادر" لأبي زيد ص 77، و"تفسير الطبري" 9/ 32، والماوردي 2/ 252، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 3/ 2154، و"الصحاح" 4/ 1397، و"المنصف" 2/ 228، و"تفسير ابن عطية" 6/ 49، و"اللسان" 5/ 2724، و"البحر" 4/ 373، و"الدر المصون" 5/ 433. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2154، وجعله السمين في "الدر" 5/ 432، من قول المبرد في آخرين. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 226، و"تفسير غريب القرآن" ص 180، و"معاني النحاس" 3/ 69، و"تفسير المشكل" ص 86.

عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق (¬1): (لما أبى (¬2) فرعون وقومه الإيمان دعا عليهم موسى، فقال: يا رب إن عبدك فرعون بغى وعتا، وإن قومه قد نقضوا عهدك، رب فخذهم بعقوبة، فأرسل الله عليهم السماء بالماء فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، ودام ذلك عليهم سبعة أيام، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن لك، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا، فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع، فقالوا: هذا ما كنا (¬3) نتمنى وما كان ذلك الماء إلا نعمة علينا، فبعث الله عليهم الجراد) وهو معروف، والواحدة: جرادة (¬4) ونبت مجرود قد أكل الجراد زورقه (¬5). [وقال اللحياني: (أرض جَرِدَة ومَجرُودَة قد لحسها الجراد) (¬6) وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 34، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1550 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 234، بسند جيد عن قتادة. (¬2) في (ب): (لما أتى)، وهو تصحيف. (¬3) لفظ: (كنا) ساقط من أصل (أ)، وملحق بالهامش. (¬4) الذكر والأنثى فيه سواء يقال: جرادة ذكر وجرادة أنثى، كنملة وحمامة، مشتق من الجَرْد، أفاده السمين في "الدر" 5/ 434. (¬5) زورقه: أي: خضرته، انظر: "اللسان" 3/ 1827 (زرق). وفي أصل (أ): (زورقها ثم صحح إلى زورقه)، ولعله ورقه، وفي (ب): (ونبت مجرود قد أكل الجراد والزرع) اهـ. وعند الرازي 14/ 218: (ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه) اهـ. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 573 (جرد).

أصاب الجراد الزرع] (¬1) قيل: جُرِد الزرع، وأصل هذا كله من الجَرْد وهو: أخذك الشيء من الشيء جرفاً وسحقاً، ومن هذا يقال للثوب الذي قد ذهب زِئْبِرُه (¬2): جَرْد، وأرض جَرْداء: لا نبات فيها، ومكان أجْرَد (¬3). قالوا: (فأكلت الجراد عامة زروعهم (¬4) وثمارهم حتى إن كانت لتأكل الأبواب والسقوف حتى تقع دورهم ولا تدخل بيوت بني إسرائيل فعجّوا وأعطوا موسى عهد الله لئن كشف الله ذلك أن يؤمنوا، فدعا موسى فكشف الله الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، وكان قد بقيت من غلاتهم بقية. فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا، فبعث الله عليهم القُمّل). واختلفوا فيه. فقال ابن عباس في رواية عطاء: (هو الدبى) (¬5) [ومثل ذلك روى الوالبي عنه (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) الزئبر، بالكسر مهموز: ما يعلو الثوب الجديد ويظهر من درز الثوب. انظر: "اللسان" 3/ 1799 (زأبر). (¬3) انظر: "العين" 6/ 75 - 77، و"المنجد" ص 165، و"الجمهرة" 1/ 446، و"الصحاح" 2/ 455، و"المجمل" 1/ 186، و"مقاييس اللغة" 1/ 452، و"المفردات" ص 191، و"اللسان" 1/ 587 (جرد). (¬4) في (ب): (زرعهم). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 228 من رواية عطاء عن ابن عباس. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 32، 33 من عدة طرق جيدة عن علي بن أبي طلحة، وعطية العوفي، والضحاك عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1546 من طرق عن عكرمة والضحاك عن ابن عباس.

وهو قول مجاهد (¬1) والسدي وقتادة (¬2) والكلبي (¬3) قالوا: (القمل الدبى (¬4): الصغار التي لا أجنحة لها] (¬5)). وقال عكرمة: (هي بنات الجراد) (¬6). وهذا القول هو اختيار الفراء قال: (القُمّل الدبا التي لا أجنحة لها) (¬7). وقال (¬8) في رواية سعيد بن جبير: (القُمّل: هو السوس الذي يخرج من الحنطة). وهو قول الحسن وسعيد بن جبير قالا (¬9): (القُمّل: دواب سود صغار) (¬10). وهو قول الليث في القُمَّل. قال: (هو الذّر الصغار) (¬11). ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 1/ 244. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 33 من طرق جيدة عن مجاهد وقتادة والسدي، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 234 بسند جيد عن قتادة. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 121. وذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 38 - 39، والثعلبي 6/ 10 أ، والواحدي في "الوسيط" 1/ 228، والبغوي 3/ 270. (¬4) الدبى: قال في "اللسان" 3/ 1325 (دبى): (الدبى الجراد قبل أن يطير، وقيل: هو أصغر ما يكون من الجراد والنمل، وقيل: هو نوع يشبه الجراد) اهـ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) أخرجه الطبري 9/ 33 بسند ضعيف. (¬7) "معاني الفراء" 1/ 392، وانظر: "الزاهر" 1/ 222. (¬8) قوله: (وقال) أي ابن عباس، وقد أخرجه الطبري 9/ 32، وابن أبي حاتم 5/ 1547 بسند جيد عنه. (¬9) في (ب): (قال)، وهو تحريف. (¬10) أخرجه الطبري 9/ 33 بسند ضعيف عن سعيد بن جبير والحسن، وأخرجه الطبري 9/ 33، عن سعيد بن جبير بسند جيد من وجه آخر. (¬11) "تهذيب اللغة" 3/ 3047، وانظر: "العين" 5/ 176.

وقال ابن السكيت: (القُمَّل شيء يقع في الزرع ليس بجراد فيأكل السنبلة وهي غضة قبل أن تخرج، فيطول الزرع ولا سنبل له) (¬1)، [قال] (¬2) الأزهري: (وهذا هو الصحيح) (¬3). وذكره عطاء (¬4). قالوا: (فتتبع القُمّل ما بقي من حروثهم وأشجارهم فأكله ولحس الأرض كلها) هذا على قول من قال: إنه الدبى، ومن قال: إنه السوس، فقال سعيد بن جبير: (كان الرجل يخرج عشرة أقفزة (¬5) إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة). وقال أبو عبيدة (¬6) والأخفش (¬7): (القُمل عند العرب: الحمنان وهي ضرب من القردان). وروى أبو عبيد عن أبي الحسن العدوي (¬8): (القمل ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 3047. (¬2) لفظ: (قال) ساقط من (ب). (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 3047، وانظر: "الجمهرة" 2/ 974، و"الصحاح" 5/ 1805، و"المجمل" 3/ 734، و"مقاييس اللغة" 5/ 29، و"المفردات" ص 684، و"اللسان" 6/ 3743 (قمل). (¬4) ذكره ابن أبي حاتم 5/ 1547، والثعلبي 6/ 10 أ، والبغوي 3/ 270 عن عطاء الخرساني قال: (هو القَمْل) اهـ. (¬5) القفيز: من المكاييل معروف، وهو مكيال تتواضع الناس عليه. انظر: "اللسان" 6/ 3701 (قفز)، والأثر أخرجه الطبري 9/ 34 بسند جيد فيه: (فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة) اهـ. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 226. (¬7) ذكره الثعلبي 6/ 10 أعن الأخفش ولم أقف عليه في "معانيه". (¬8) أبو الحسن الأعرابي العدوي، لعله علي بن الحسن بن عبيد بن محمد الشيباني أبو الحسن المعروف بابن الأعرابي البغدادي، صاحب أدب ورواية للأخبار، روى عن أبي خالد يزيد بن يحيى الخزاعي وأبي العتاهية الشاعر وغيرهم، انظر: "تاريخ بغداد" 11/ 373، و"اللباب" لابن الأثير 1/ 74.

دواب صغار من جنس القردان إلا أنها أصغر منها، واحدتها قُمَّلة) (¬1) ويؤكد هذا القول ما روي عن أبي العالية (¬2) في تفسير هذا الحرف قال: (أرسل الله الحمنان على دوابهم فأكلها حتى لم يقدروا على الميرة) (¬3). قالوا: (وكان القمل يدخل (¬4) بين ثوب أحدهم وبين جلده (¬5) فيعضه، وأخذت أشعارهم وأبشارهم ولزم جلودهم كأنه الجُدري عليهم، ومنعهم النوم والقرار، وكل هذا من فعل القُراد، فصرخوا وصاحوا إلى موسى: إنا نتوب ولا نعود فادعُ لنا ربَّك، فدعا (¬6) موسى، فرفعَ الله القملَ عنهم، فنكثوا وعادوا لأخبثِ أعمالِهم، فدعا موسى عليهم فأرسل الله عليهم الضفادع يدخل في طعامهم وشرابهم وأوانيهم وفرشهم، فكان أحدهم يُصبح وهو (¬7) على فراشه متراكب، ويجلس الرجل إلى ذَقَنه في الضفادع ويهمّ أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، فبكوا وشكوا إلى موسى وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود، فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع فعادوا لكفرهم وتكذيبهم، فدعا عليهم موسى فأرسل الله (¬8) عليهم ¬

_ (¬1) "معاني النحاس" 3/ 70، و"تهذيب اللغة" 3/ 3047، وقال بعده النحاس: (وليس هذا بناقض لما قاله أهل التفسير لأنه يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم وهي كلها تجتمع في أنها تؤذيهم) اهـ. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 6/ 10 ب. (¬3) الميرة: الطعام يمتاره الناس ونحوه مما يجلب للبيع. انظر: "اللسان" 7/ 4306 (مير). (¬4) في (ب): (دخل)، وهو تحريف. (¬5) في (ب): (جلدهم). (¬6) في (ب): (لدعا)، وهو تحريف. (¬7) في (أصل) (أ): (وهي) ثم صحح في الأعلى إلى (وهو) وهو الأولى. (¬8) لفظ: (الله) ساقط من (ب).

134

الدم، فسأل النيل عليهم دمًا، وصارت مياههم كلها دمًا، فكان الإسرائيلي إذا اغترف صار ماء، والقبطي يغترف دمًا) (¬1). وقوله تعالى: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ}. قال المفسرون: (كان العذاب يمكث (¬2) عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فذلك معنى قوله: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} (¬3). وقال مجاهد: {مُفَصَّلَاتٍ}: مبينات ظاهرات) (¬4). قال الزجاج: (و {آيَاتٍ} منصوبة على الحال (¬5)، [وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا}. قال ابن عباس (¬6): (يريد: عن عبادة الله)] (¬7). 134 - قوله (¬8) تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ}، ذكرنا معنى {وَقَعَ} ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ب): (نكث)، وهو تحريف. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 39، 40، أخرجه عن ابن عباس وابن جريج وابن إسحاق من طرق جيدة، انظر: "معاني الفراء" 1/ 393 والزجاج 2/ 370، و"تفسير السمرقندي" 1/ 565، الماوردي 2/ 253. (¬4) ذكره الهمداني في "الفريد" 2/ 349، القرطبي 7/ 271، أخرج الطبري 9/ 40 بسند ضعيف عن مجاهد قال: (معلومات) اهـ. وقال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 180: (أي: بين الآية والآية فصل ومدة) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" 3/ 71. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 370 انظر: "إعراب النحاس" 1/ 634، و"المشكل" 1/ 299، و"البيان" 1/ 371، و"التبيان" ص 388، و"الفريد" 2/ 349، و"الدر المصون" 5/ 434. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 229، "الرازي" 14/ 218 بلا نسبة، وفي "تنوير المقباس" 2/ 122 (أي: عن الإيمان ولم يؤمنوا) اهـ. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) في (ب): (وقوله تعالى).

عند قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 71]. وذكر (¬1) الكلام في {الرِّجْزُ} عند قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [البقرة: 59] في البقرة، وهو اسم للعذاب الذي كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده، في قول ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) ومجاهد وقتادة (¬4). وقال سعيد بن جبير: {الرِّجْزُ} معناه هاهنا: الطاعون، وهو العذاب السادس؛ أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد) (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ: (وذكر) ساقط من (ب). (¬2) أخرجه الطبري 9/ 34، 35 بسند ضعيف، أخرج الطبري 9/ 41، ابن أبي حاتم 5/ 1550، عن ابن عباس بسند جيد قال: (الطاعون). (¬3) ذكره الماوردي 2/ 253، عن الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 41 من عدة طرق جيدة عن مجاهد وقتادة وابن زيد، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1550 بسند جيد عن مجاهد، أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 234 بسند جيد عن قتادة. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 40 بسند لا بأس به. والظاهر أن المراد به العذاب المتقدم الذكر من الطوفان وغيره وهو قول الجمهور. قال ابن عطية 6/ 53 بعد ذكر قول سعيد بن جبير المتقدم: (هذا ضعيف، هذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت) اهـ. وقال الرازي 14/ 219: (القول الأول أقوى؛ لأن لفظ الرجز مفرد محلى بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق، وأما غيرها فمشكوك فيه، فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه) اهـ. وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 227، و"تفسير غريب القرآن" ص 180، و"تفسير الطبري" 9/ 41، و"معاني الزجاج" 2/ 370، والنحاس 3/ 71، و"تفسير السمرقندي" 1/ 565.

وقوله تعالى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}. معنى العهد (¬1) في اللغة: المتقدم في الأمر، ومن هذا يقال للوصية: عهد؛ لأنه يتقدم فيه بالوثيقة، فمعنى قوله: {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}، (أي: بما أوصاك وتقدم إليك أن تدعوه به)، وهو قول أبي العالية (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس (¬3): (بما نبأك واستخصك). وقال المؤرج: (بما أعلمك) (¬4). وكل هذا يعود معناه إلى [معنى] (¬5) الوصية والتقدم (¬6). وقوله تعالى: {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، كانوا قد اخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد (¬7)، فوعدوا موسى -على دعائه بكشف العذاب عنهم- الإيمان به، والتخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين يشاء. وذكرنا هذا عند قوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] ¬

_ (¬1) أصل العهد حفظ الشيء ومراعاته، والعهد: الوصية والتقدم إلى صاحبك بشيء. واليمين والأمان والموثق والذمة انظر: "العين" 1/ 102، الجمهرة 2/ 668، و"تهذيب اللغة" 3/ 2606، و"الصحاح" 2/ 515، و"المجمل" 3/ 634، و"مقاييس اللغة" 4/ 167، و"المفردات" ص 591، و"اللسان" 5/ 3148 (عهد). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 230 دون نسبة. (¬3) ذكره البغوي 3/ 272 عن عطاء فقط. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لفظ: "معنى" ساقط من (ب). (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 227، و"تفسير الطبري" 9/ 41، والماوردي 2/ 253، ابن الجوزي 3/ 252. (¬7) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 370 , وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 41 و"معاني النحاس" 3/ 71.

135

135 - قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ}. قال ابن عباس (¬1): (يريد: إلى الأجل الذي غرقهم (¬2) الله فيه). وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}، أي: ينقضون العهد ولا يوفون بما عاهدوا، وأصل النكث أن تنكث أخلاق (¬3) الأخبية والأكسية فتغزل ثانية، وهي تسمى: أنكاثًا وواحدها نِكْثُ، والذي ينكثها نكاث، ثم يقال: نكَث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث مخيط الصوف بعد إبرامه (¬4). 136 - قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}، معنى الانتقام في [اللغة] (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1550 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 207. (¬2) في (ب): (عرفهم) وكذلك جاء عند الواحدي في "الوسيط" 2/ 230 وقال البغوي 3/ 272: (يعني إلى الغرق في اليم) اهـ. وقال ابن عطية 6/ 54: (الأجل يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك، والموت هذا اللازم من اللفظ كما تقول: أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتا بعينه، وقيل: الأجل هنا: الغرق؛ لأن أكثر هذه الطائفة مات منه فالإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وبقي بمصر خلق لم يغرق فأين الغرق من هؤلاء؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} المؤجل {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلاً، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعدا ما) اهـ. بتصرف. (¬3) الأخلق: اللين الأملس المصمت، وثوب خلق بال. انظر: "اللسان" 2/ 1247. (¬4) انظر: "العين" 5/ 351، و"الجمهرة" 1/ 431، و"تهذيب اللغة" 4/ 3658، و"الصحاح" 1/ 295، و"المجمل" 3/ 884، و"مقايس اللغة" 5/ 475، و"المفردات" ص 822، و"اللسان" 8/ 4536 (نكث) (¬5) لفظ: "اللغة" ساقط من (ب).

سلب النعمة بالعذاب (¬1)، قال الليث: (انتقم إذا كافأه عقوبة بما صنع) (¬2). وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، أي: في البحر (¬3) وأظنه (¬4) قد مرَّ. وقوله تعالى: {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}؛ اختلفوا في الكناية في {عَنْهَا}؛ فقيل: إنها تعود إلى النقمة التي دلت عليها (انتقمنا)، والمعنى: وكانوا عن النقمة قبل حلولها {غَافِلِينَ} (¬5)، وعلى هذا دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال في قوله: {عَنْهَا}: (عما يراد بهم من الغرق) (¬6). وقيل: الكناية تعود إلى الآيات، وهو اختيار الزجاج لأنه قال: (أي: كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الجمهرة" 2/ 977، و"الصحاح" 5/ 2045، و"المجمل" 3/ 880، و"مقاييس اللغة" 5/ 464، و"المفردات" ص 822، و"اللسان" 8/ 4531 (نقم). (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3654، وانظر: "العين" 5/ 181. (¬3) هذا هو قول أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 227، و"تفسير غريب القرآن" ص 180، و"تفسير الطبري" 9/ 42، و"معاني الزجاج" 2/ 371، والنحاس 3/ 72، و"تفسير السمرقندي" 1/ 565، وانظر: "العين" 8/ 431، و"تهذيب اللغة" 4/ 3984، و"الصحاح" 5/ 2065، و"مقاييس اللغة" 6/ 153، و"المفردات" ص 893، و"اللسان" 8/ 4966 (يمم). (¬4) الظاهر أن لم يمر لأن أول موضع ورد فيه لفظ {الْيَمِّ} في هذه الآية، وانظر تعريف البحر عند الواحدي في "البسيط" البقرة: 50. (¬5) هذا هو قول الطبري في "تفسيره" 9/ 42، والبغوي 3/ 273. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 371، والنقمة من الآيات، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 3/ 252، والرازي 14/ 220.

137

فإن قيل على هذا: إن الغفلة حال تعتري الإنسان تنافي (¬1) الفطنة، وليست من فعل الإنسان، فلم جاء الوعيد على الغفلة؟ والجواب: أنهم تعرضوا (¬2) لها حتى صاروا لا يفطنون بها، وقيل: إن الغفلة هاهنا المراد بها الإعراض (¬3) عن الآيات، وهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها (¬4). 137 - قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ} الآية. معنى أورثناهم الأرض أي: مكناهم فيها بعد إهلاك من كان بها مع الحكم بأن لهم أن (¬5) يتصرفوا فيها (¬6). وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}. معنى الاستضعاف في اللغة: طلب الضعف (¬7) بالاستطالة والقهر، ثم كثر حتى صار استضعفته ¬

_ (¬1) في (ب): (تعتري الإنسان ما في الفطنة)، وهو تحريف. (¬2) في (ب): (يعرضوا). (¬3) في (أ): (الإعراب). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 42، وابن عطية 6/ 55، والرازي 14/ 221، وقال السمين في الدر 5/ 438: (قال الجمهور: إنهم تعاطوا أسباب الغفلة فذموا عليها كما يذم الناسي علي نسيانه لتعاطيه أسبابه) اهـ. (¬5) لفظ: (أن) ساقط من (ب). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 76. (¬7) الضَّعْف والضُّعْف بالفتح والضم لغتان خلاف القوة، وقيل: الضعف بالفتح في العقل والرأي، والضُعف بالضم في البدن، واستضعفته: وجدته ضعيفًا، وأضعفته أي: صيرته ضعيفًا. انظر: "العين" 1/ 281، و"الجمهرة" 2/ 903، و"تهذيب اللغة" 3/ 2119، و"الصحاح" 4/ 1390، و"المجمل" 2/ 562، و"مقاييس اللغة" 3/ 362، و"المفردات" ص 506، و"اللسان" 5/ 2587 (ضعف).

بمعنى: وجدته ضعيفًا بامتحاني إياه، كأنه طلب حال ضعفه بمحنته فوجده. قال مقاتل (¬1)، والمفسرون (¬2): {يُسْتَضْعَفُونَ} أي: بقتل الأبناء واستحياء النساء. وقوله تعالى: {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}. [قال ابن عباس (¬3) وغيره (¬4): (يريد: مشارق أرض الشام ومصر، ومغاربها] (¬5)، أي: جهات الشرق بها (¬6) والغرب)، وهو قول الحسن وقتادة (¬7). وقال مقاتل: (مشارق الأرض المقدسة ومغاربها) (¬8)، فالأرض على هذا مخصوصة. وقال الزجاج: (فكان منهم داود وسليمان ملكا الأرض) (¬9)، ذهب إلى أن الأرض هاهنا اسم الجنس ولم يخص (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 59. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 43، والماوردي 2/ 254، والبغوي 3/ 273. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 123. (¬4) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 565، والماوردي 2/ 254، والبغوي 3/ 273، وابن الجوزي 3/ 253. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) لفظ: (بها) ساقط من (ب). (¬7) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 234 - 235، والطبري 9/ 43، وابن أبي حاتم 5/ 1551 من عدة طرق جيدة عن الحسن وقتادة، وهو قول سفيان الثوري في "تفسيره" ص 113. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 526. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 59، وزاد فيه: (وهي الأردن وفلسطين) اهـ. (¬9) "معاني الزجاج" 2/ 371، وهو قول النحاس في "معانيه" 3/ 72. (¬10) أكثرهم على أن المراد: الشام؛ لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون والمتصفة بأنها التي بارك فيها، وهو اختيار الطبري 9/ 43، وابن عطية 6/ 56، والرازي 14/ 221.

وقوله: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: بإخراج الزروع والثمار والنبات والأشجار والعيون والأنهار. وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}. قال ابن عباس: (يريد: مواعيد ربك التي لا خلف فيها ولا ناقض لها (¬1). ونحو ذلك قال الزجاج (¬2) وغيره: (يعني: ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض). قال مقاتل: (وهي الكلمة التي في القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {يَحْذَرُونَ} (¬3) [القصص: 5, 6] وقال أهل المعاني: (معنى تمام الكلمة الحسنى: إنجاز الوعد الذي (¬4) تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وإنما كان الإنجاز تمامًا (¬5) للكلام لتمام (¬6) النعمة به، وإنما قيل: {الْحُسْنَى} لأنه وعد بما يحبون) (¬7). وقوله تعالى: {بِمَا صَبَرُوا}. قال ابن عباس: (يريد: على عذاب فرعون وصنيعه بهم) (¬8)، وهذا إخبار عن حسن عاقبة الصبر على الحق. ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 231. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 371 وهو قول الطبري 9/ 44، وأخرجه بسند جيد عن مجاهد. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 59، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 72 - 73: (قيل: يعني بالكلمة: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]) اهـ. (¬4) في أصل (أ): (التي ثم صحح إلى الذي). (¬5) في (أ): (تمام). (¬6) لفظ: (لتمام) ساقط من (ب). (¬7) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 254، والرازي 14/ 222 (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 123، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 231 بلا نسبة.

وقوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا}. قال الليث (¬1): (الدمار استئصال الهلاك، يقال: دَمَرَ القومُ يَدْمُرُون دَمَارا، أي: هلكوا ودَمَرَهم مَقَتَهم ودمَّر عليهم تدميرًا) (¬2). وقوله تعالى: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ}. قال ابن عباس: (يريد: المصانع (¬3)، {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}، أي: يسقفون من القصور) (¬4) ونحو ذلك. قال مجاهد: (أي: يبنون البيوت والقصور والمساكن) (¬5). قال الزجاج (¬6): (يقال: عَرَشَ يعرُش [ويعرِش] (¬7) إذا بني). وقال مقاتل: (أهلكنا ما عمل فرعون وقومه بأرض مصر وما بنوا من المنازل والبيوت) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1225، وانظر: "العين" 8/ 39، و"الجمهرة" 2/ 638، و"الصحاح" 2/ 659، و"المجمل" 2/ 335، و"مقاييس اللغة" 2/ 300، و"المفردات" ص 318، و"اللسان" 3/ 1420 (دمر). (¬2) في "تهذيب اللغة" (ودمرهم الله تدميرًا). (¬3) ذكره الرازي 14/ 222. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 231، وأخرج الطبري 9/ 44، وابن أبي حاتم 5/ 1552، عن ابن عباس بسند جيد قال: (يبنون). (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 245، وأخرجه "الطبري" 9/ 44، و"ابن أبي حاتم" 5/ 1552 من طرق جيدة، وفيه: (يبنون البيوت والمساكن ما بلغت وكان عنبهم غير معروش) اهـ. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 371. (¬7) لفظ: (ويعرش) ساقط من (ب)، وهو بكسر الراء، والثاني بضمها عَرش يَعْرش ويَعْرُش. وانظر: "اللسان" 5/ 2881 (عرش). (¬8) "تفسر مقاتل" 2/ 60.

138

138 - قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}، يقال: جاوز الوادي إذا قطعه وخلفه وراءه، وجاوز بغيره عبر به (¬1). {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}، قال ابن عباس: (يعبدونها مقيمين عليها) (¬2). قال الزجاج: (يواظبون عليها و (¬3) يلازمونها، يقال لكل من لزم شيئًا وواظب عليه (¬4): عكَف يعكُف ويعكِف، ومن هذا قيل لملازم المسجد: معتكف) (¬5)، وكل واحد من الكسر والضم في عينى الكلمتين لغة مثل: يعرُش ويعرِش ويبطُش (¬6) ويبطِش. ¬

_ (¬1) الجوز: قطع الشيء يقال: جُزْت الموضع سلكته وسرت فيه وأَجَزتْه خلفته وقطعته وأجزْته نَفذتُه، وجَاوَزْت الشيء إلى غيره وَتَجاوَزته بمعنى جزته. انظر: "العين" 6/ 165، و"تهذيب اللغة" 1/ 519، و"الصحاح" 3/ 870، و"المجمل" 1/ 203، و"مقاييس اللغة" 1/ 494، و"المفردات" ص 211، و"اللسان" 2/ 724 (جوز). (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 123، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 231. (¬3) (الواو) ساقطة من (ب). (¬4) في (ب): (عليها)، وهو تحريف (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 371، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 73، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 227، و"تفسير غريب القرآن" ص 180. (¬6) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 74 - 75 والضم والكسر في {يَعْرِشُونَ} و {يَعْكُفُونَ} لغة وقراءة سبعية، قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: {يَعْرِشُونَ} بضم الراء، وقرأ الباقون بكسرها، وقرأ حمزة والكسائي: {يَعْكُفُونَ} بكسر الكاف، والباقون بضمها. انظر: "السبعة" ص 292، و"المبسوط" ص 184، و"التذكرة" 2/ 424، و"التيسير" ص 113، و"النشر" 2/ 271، وانظر توجيه القراءة في "معاني القراءات" 1/ 421، و"إعراب القراءات" 1/ 204، و"الحجة" لابن خالويه ص 162، ولابن زنجلة ص 294، و"الكشف" 1/ 475.

قال قتادة؛ (¬1): (كان أولئك القوم من لخم (¬2) وكانوا نزولا بالرقة) (¬3) وقال ابن جريج: (كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل) (¬4). وقوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، قال عطاء: (يريد: من دون الله. {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} يريد: جهلتم نعمة ربكم وما صنع بكم) (¬5). قال أهل المعاني: (هذه الآية تخبر عن جهل عظيم من بني إسرائيل؛ حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى غرّقهم الله في البحر بكفرهم وعبادتهم غيره، فلم يردعهم ذلك عن أن قالوا لنبيهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 232، والبغوي 3/ 273، وابن الجوزي 3/ 254، وأخرج الطبري 9/ 45، وابن أبي حاتم 5/ 1553 بسند ضعيف عن قتادة قال: (على أصنام لهم على لخم). (¬2) لَخْم: قبيلة من كهلان، ولخم أخو جُذام عم كندة وهم حي من اليمن ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية، ونزلوا الحيرة وهم آل عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وقيل هم آل المنذر. انظر: "اللسان" 7/ 4018 (لخم)، و"نهاية الأرب" ص 367. (¬3) الرَّقَّة، بالفتح: مدينة مشهورة على الفرات من بلاد الجزيرة بينها وبين حَران ثلاثة أيام، ويقال لها: الرقة البيضاء. انظر: "معجم البلدان" 3/ 59. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 45 بسند جيد. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 232، عن ابن عباس قال: (جهلتم نعمة ربكم فيما صنع بكم). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 45، والسمرقندي 1/ 566، وابن الجوزي 3/ 254.

139

139 - قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ}. قال الليث: (التَّبار (¬1) الهلاك، تَبِرَ الشيءُ يَتْبَرُ تبارًا، والتتبير الإهلاك) (¬2). ومنه قوله: {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} (¬3) [الفرقان: 39]. قال المفسرون: {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} مهلك ومدمر (¬4). وقوله تعالى: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: أن عملهم للشيطان، وليس لله فيه نصيب) (¬5). قال أهل المعاني (¬6): (ومعنى البطلان انتفاء الشيء بعدمه أو بعدم معناه، والمعنى في بطلان عملهم: إنه لا يعود عليهم بنفع ولا بدفع ضر، فكأنه بمنزلة ما لم يكن من هذا الوجه، وهذا بيان عن حال من عمل لغير الله كيف يصير أمره إلى الهلاك وعمله إلى الشيطان (¬7)). ¬

_ (¬1) التبر: الكسر والإهلاك وتبرة تتبيرًا أي: كسره وأهلكه وكل شيء كَسَرته فقد تبرته. انظر: "الجمهرة" 1/ 253، و"الصحاح" 2/ 600، و"المجمل" 1/ 153، و"مقاييس اللغة" 1/ 362، و"المفردات" ص 162، و"اللسان" 1/ 416 (تبر). (¬2) "العين" 8/ 117، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 425، عن الليث قال: (تَبِر الشيء يَتْبِرُ تَبارًا). (¬3) جاء في النسخ: (تبرناهم تتبيرًا)، وهو تحريف. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 227، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 150، و"تفسير غريب القرآن" ص180، و"تفسير الطبري" 9/ 46، وأخرجه بسند جيد عن السدي، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 371، والنحاس 3/ 73، و"تفسير السمرقندي" 1/ 566، والماوردي 2/ 255. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 233. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 46، والرازي 14/ 224 (¬7) في: (ب): (إلى البطلان).

140

140 - قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا}، يقال: بغيت (¬1) فلانا شيئا وبغيته له، قال الله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] أي: يبغون لكم، وقال كعب بن زهير: إذا ما نَتَجْنَا أَرْبَعًا عام كُفْأَةٍ ... بَغَاها خَنَاسِيرًا فأهْلَكَ أَرْبَعا (¬2) أي: بغى لها خناسير وهي الدواهي، وفي انتصاب قوله: {إِلَهًا} وجهان: أحدهما: الحال كأنه قيل: أطلب لكم غير الله معبودًا، ونصب (غير) في هذا (¬3) على المفعول به. [الثاني: أن ينصب: {إِلَهًا} على المفعول به] (¬4)، و (غير) على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة، كما تقول: أبغيكم إلهًا غير الله (¬5). ¬

_ (¬1) البغي: بالفتح طلب الشيء. يقال: بَغَيْت الشيء أبغيه: إذا طلبته، وَبَغَيتك الشيء: إذا طلبته لك، وأَبغْيتُك الشيء: إذا أَعْنتُك على طلبه، وأبغيتك الشيء أيضًا جعلتك طالبًا له. انظر: "العين" 4/ 453، و"الجمهرة" 1/ 371، و"البارع" 434، و"الصحاح" 6/ 2282، و"المجمل" 2/ 129، و"مقاييس اللغة" 1/ 271، و"المفردات" ص 136، و"اللسان" 1/ 322 (بغي). (¬2) "ديوانه" ص 43، و"إصلاح المنطق" ص 113، و"تهذيب اللغة" 1/ 367، و"اللسان" 1/ 322 (بغى)، والكفأة: نتاج عام واحد، والخناسير: الدواهي والمصائب. يقول: إنه لا حظ له إذ أنتج أربع نوق عدت عليه عوادي الزمن فأهلكتها , ولم تبق منها شيئًا. انظر: "حاشية الديوان"، و"تهذيب إصلاح المنطق" 1/ 315. (¬3) في (ب): (ونصب غير في هذا الوجه على المفعول به). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) قال السمين في "الدر" 5/ 445: (في نصب (غير) وجهان أحدهما: أنه مفعول به لأبغيكم تقديره: أبغي لكم غير الله أي: أطلب لكم، وفي (إلهًا) على هذا وجهان: =

وقوله تعالى: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: أكرمكم من بين الخلائق أجمعين) (¬1). وفي هذا قولان: أحدهما تخصيص {الْعَالَمِينَ} بأن يقال: عالمي زمانهم، وهو قول الحسن (¬2) والمفسرين (¬3)، والثاني: التفضيل (¬4)، وهو أن يقال: أراد بقوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ما خصهم (¬5) به من الآيات وإرسال موسى وهارون نبيين منهم، وإهلاك عدوهم في البحر وإنجائهم منهم، إلى غير ذلك مما فضلوا فيه خاصًا على جميع العالمين، ثم غيرهم يفضلهم في غير هذه الآيات، مثال هذا: رجل يعلم علماً واحداً ففاخره إنسان يعلم كثيرا من العلوم ولا يعلم ذلك العلم الواحد، فصاحب العلم الواحد يفضل عليه (¬6) بذلك العلم الواحد، ثم يفضل صاحب العلوم ¬

_ = أحدهما: وهو الظاهر أنه تمييز لغير. والثاني أنه حال. وفيه نظر. والثاني من وجهي غير: أنه منصوب على الحال من (إلها) و (إلهًا) هو المفعول به لأبغيكم، والأصل: أبغي لكم إلهًا غير الله، فغير الله صفة لإله، فلما قدمت صفة النكرة عليها نصت حالاً) اهـ. ملخصًا. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 635، و"المشكل" 1/ 301، و"البيان" 1/ 373، و"التبيان" ص 389، و"الفريد" 2/ 354. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 233. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 46، والسمرقندي 1/ 566، وقال ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 254: (قال المفسرون منهم ابن عباس ومجاهد: العالمون هاهنا عالمو زمانهم) اهـ. (¬4) في (ب): (والثاني تخصيص الفضل وهو أن يقال ..). (¬5) في (ب): (ما خصصهم). (¬6) قوله: (يفضل عليه بذلك العلم الواحد) مكرر في (ب).

141

ويصير حقيقة الفضل له، ولكن لا ينكر تفضيل الأول عليه بما خُص به, وهذا قول أهل النظر (¬1)، وهذه الأية تضمنت توبيخا لهم حين (¬2) طلبوا إلها غير الله، وهو الذي ينال كل الخير وكل النعم منه. 141 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}. مفسر إلى آخر الآية في سورة البقرة (¬3). 142 - قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً}، قال أبو على الفارسي (¬4) وغيره من النحويين (¬5): (تقدير الآية: وواعدنا موسى انقضاء ثلاثين ليلة يترقب بعدها المفاجأة). وقد بينا هذا بيانًا شافيا في سورة البقرة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 14/ 225، وقال ابن عطية في "تفسيره" 6/ 62: (العالمين لفظ عام يراد به تخصيص عالم زمانهم لأن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم بإجماع، اللهم إلا أن يراد بالفضل كثرة الأنبياء منهم فإنهم فضلوا في ذلك على العالمين بالإطلاق) اهـ. (¬2) في (ب): (حتى). (¬3) انظر: "البسيط" البقرة: 49. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 64 - 65، و"الإغفال" ص 1102. (¬5) انظر: "معاني الأخفش" 1/ 93، و"معاني الزجاج" 1/ 133، و"تفسير الطبري" 1/ 280، و"إعراب النحاس" 1/ 635، و"المشكل" 1/ 94، قال الطبري 1/ 280 في معنى آية البقرة 52: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. المعنى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها، فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد، وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة أي: رأس الأربعين - وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل وخلاف ظاهر التلاوة) اهـ. وقال ابن عطية 6/ 65: (وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد) اهـ. (¬6) انظر: "البسيط" البقرة: 52.

قال ابن عباس (¬1) والمفسرون (¬2): (كانت (¬3) تلك الثلاثين ذو القعدة، أمره الله تعالى أن يصوم فيها ويتفرد للعبادة، ويعمل فيها بما يقربه إلى الله عز وجل ليكلمه، فلما انسلخ الشهر استاك موسى لمناجاة ربه يريد إزالة (¬4) الخلوف) (¬5). وقال أبو العالية: (أكل من لحاء شجرٍ فأوحى الله إليه: يا موسى لا كلمتك حتى يعود فوك على (¬6) ما كان عليه، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك، وأمره بصيام عشرة أيام من ذي الحجة ليكلمه بخلوف فيه، فذلك قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}) (¬7). وقوله تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. الميقات (¬8) ما قدر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1556 بسند جيد، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 234، وابن الجوزي 3/ 255، والسيوطي في "الدر" 3/ 214. (¬2) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 236، والطبري 9/ 47 - 48 من طرق جيدة عن مجاهد نحوه، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 372، والنحاس 3/ 74، و"تفسير السمرقندي" 1/ 567، وابن كثير 2/ 271. (¬3) في النسخ: (كان) والأولى (كانت). (¬4) في (ب): (يريد لإزالة الخلوف). (¬5) الخلوف، بالضم: تغير رائحة الفم لتأخر الطعام. انظر: "اللسان" 2/ 1241 (خلف). (¬6) في (ب): (يعود فوك كما كان عليه). (¬7) ذكره الثعلبي في "الكشف" 196 أ، والبغوي 3/ 275. (¬8) الميقات: مصدر الوقت، وهو الوقت المضروب للفعل والموضع. قال السمين في "الدر" 5/ 446 - 447: (الفرق بين الميقات والوقت، أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت للشيء من غير تقدير عمل أو تقديره) اهـ. وانظر: "العين" 5/ 199 , و"تهذيب اللغة" 4/ 3928، و"الصحاح" 1/ 269، و"مقاييس اللغة" 6/ 131، و"المفردات" ص 879، و"اللسان" 8/ 4887 (وقت).

ليعمل فيه عمل من الأعمال، ولهذا قيل: مواقيت الحج، وهي المواضع التي (¬1) قدرت للإحرام به، فمعنى قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. أي: تم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى وعبادته أربعين ليلة (¬2). قال أبو علي الفارسي: (هذا كقولك: تم القوم عشرين (¬3) رجلاً، والمعنى: تم القوم معدودين هذا العدد، كذلك تم الميقات معدودًا هذا العدد (¬4)، وقد جاء (الميقات) في موضع (الميعاد)، كما جاء (الوقت) في موضع الوعد في قوله: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 38]، ومما يبين تقاربهما قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} (¬5) [الأعراف: 142]، وفي الأخرى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]، وقال: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج: 2]، وقال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 38]، وقال: {إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬6) [الواقعة: 50]، فإن قيل فلم قال: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، وقد دل ما تقدم على هذا؟، قيل: للبيان الذي لا يجوز معه توهم (¬7) أتممنا الثلاثين بعشر منها. كأنه كان عشرين ليلة ثم أتم بعشر فصار ثلاثين (¬8). ¬

_ (¬1) في أصل: (أ): (الذي) ثم صحح إلى (التي). (¬2) لفظ: (ليلة) ساقط من (أ). (¬3) في النسخ: (عشرون)، وهو تحريف. (¬4) وعليه يكون نصب: أربعين على الحال أي: تم ميقات ربه معدودًا أربعين ليلة. انظر: "المشكل" 1/ 301، و"البيان" 1/ 374، و"التبيان" ص 390، و"الفريد" 2/ 356، و"الدر المصون" 5/ 447. (¬5) لفظ: (فتم) ساقط من (ب). (¬6) "الحجة" لأبي علي 2/ 65. (¬7) جاء في هامش (أ) زيادة: (توهم مضاف للجملة ..) وزيادة كلام لم أستطع معرفته. (¬8) أكثرهم على أن الجملة تأكيد وإيضاح، وقيل: إنها لإزالة توهم أن تكون عشر =

143

وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}. يقال: (¬1) خَلَفَ فلان مكان فلان يَخْلُفُ (¬2) إذا كان في مكانه. قال المفسرون: (فلما أراد موسى الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومي) (¬3). وقال الفراء: (يقال: خلفتك، أي: كنت خليفتك، فأنا أخلفك خلافة) (¬4). وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ}. قال ابن عباس: (يريد: الرفق بهم والإحسان إليهم) (¬5)، فعلى هذا معناه: وأصلح أمرهم، {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}، (أي: طريق العاصين). قاله ابن عباس والكلبي (¬6)؛ كأنه يقول: لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره. 143 - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا}، قال الزجاج: (أي: في الوقت الذي وقتنا له) (¬7)، {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}. قال المفسرون: (خص الله ¬

_ = ساعات، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين، وقال السمين في "الدر" 5/ 448: (الجملة الظاهر أنها للتأكيد، وقيل: هي للتأسيس لاحتمال أن يتوهم متوهم بعشر ساعات أو غير ذلك وهو بعيد جدًّا) اهـ. ملخصًا. وانظر: "معاني النحاس" 3/ 74، و"إعراب النحاس" 1/ 635، و"المشكل" 1/ 301، و"تفسير الماوردي" 2/ 256، وابن عطية 6/ 66، وابن الجوزي 3/ 255، الرازي 14/ 226، و"الفريد" 2/ 355، و"البحر" 4/ 381. (¬1) في (ب): (فقال)، وهو تحريف. (¬2) الخلافة: النيابة عن الغير، وخلف فلان فلانا قام بالأمر عنه. انظر: "العين" 4/ 265، و"تهذيب اللغة" 1/ 1089، و"الصحاح" 4/ 1354، و"مقاييس اللغة" 2/ 210، و"المفردات" ص 294، و"اللسان" 2/ 1235 (خلف). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 48، والسمرقندي 1/ 567، والبغوي 3/ 275. (¬4) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 234، والبغوي 3/ 275، والخازن 2/ 281. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 125. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 372، ونحوه قال الطبري 9/ 49، والنحاس في "معانيه" 3/ 74.

تعالى (¬1) موسى عليه السلام بأن أسمعه كلامه من غير أن يكون بينهما أحد، فلما سمع كلام الله تعالى {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}) (¬2). قال الزجاج: (المعنى: أرني نفسك انظر إليك) (¬3)، وهذا يقطع بأن موسى سأل رؤية الباري، ولو كانت الرؤيا لا تصح في وصفه ما سأل موسى ذلك؛ لأنه كان أعلم بالله من أن يسأله ما يستحيل في وصفه، وليس يحتمل قوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} إلا أنه سأله أن يريه نفسه لينظر إليه، وليس يصح أن يقال: إنه سأل أمرًا عظيما على تقدير: أرني أمرًا، أنظر إلى أمرك، ثم حذف المفعول والمضاف؛ لأن سياق الآية يدل على بطلان هذا، وهو قوله: {لَنْ تَرَانِي} {فَسَوْفَ تَرَانِي} {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ}. ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف، ولأنه لو سأل آية وأمرًا لأعطاه الله تعالى ما سأل كما أعطاه سائر الآيات، وأي معنى لإحالته على استقرار الجبل ووقوعه مغشيًا عليه، وتوبته بعد ذلك، هذا كله لا يكون في سؤاله أمرًا وعلامة (¬4). قال أبو إسحاق: (ليس في الكلام دليل على أن موسى أراد أن يرى أمرًا عظيما من أمر الله عز وجل؛ لأن الله تعالى أراه من الآيات ما لا غاية بعده: العصا، واليد، وفرق البحر، فكان يستغنى بما أراه عن أن يطلب أمرًا من أمر الله عز وجل عظيما , ولكنه لما سمع كلام الله تعالى (¬5) {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ ¬

_ (¬1) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 49 - 50، وقد أخرجه من طرف جيدة عن السدي وابن إسحاق والربيع بن أنس وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 373، والسمرقندي 1/ 567. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 373. (¬4) انظر: "بدائع التفسير" 2/ 264 - 266. (¬5) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).

إِلَيْكَ}، أي: قد سمعت كلامك فأنا أحب أن أراك) (¬1) وقوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي}. هذا (¬2) أيضًا دليل على جواز الرؤية، لأنه لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى، ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان: ناولني هذا لآكل، فإنه يقول: (هذا لا يؤكل)، ولا يقول: لا تأكل، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال: لا تأكل، أي: هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكل. وفي قوله: {لَنْ تَرَانِي} إبطال قول من يقول: إن موسى سأل الرؤية لقومه؛ لأنهم (¬3) قالوا {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، فسأل موسى الرؤية ليتبين لهم أن ذلك لا يجوز، وذلك أنه لو كان سؤال الرؤية لقومه لقال (¬4): لن يروني، ولقال موسى: أرهم (¬5)، فلما قال {أَرِنِي} وقيل له: {لَنْ تَرَانِي} بطل أن يكون السؤال لقومه، وقول من قال: إن (لن) (¬6) للتأبيد دعوى على أهل اللغة، وليس يشهد لذلك كتاب ولا نقل ولا إسناد ولا أصل (¬7)، ولكن معنى قول: {لَنْ تَرَانِي} أي: في الدنيا كما قال عبد العزيز ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 374 وزاد فيه: (وهذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة) اهـ. (¬2) في (ب): (في هذا أيضًا دليل). (¬3) انظر: "الكشاف" 2/ 113. (¬4) في (أ): (قال)، وهو تحريف. (¬5) في (ب): (أراهم)، وهو تحريف. (¬6) لفظ: (لن) ساقط من (ب). (¬7) لن: حرف يدل على النفي في المستقبل، قال ابن هشام في "المغني" 1/ 284: (لن حرف نفي واستقبال ولا تفيد توكيد النفي ولا تأبيده خلافا للزمخشري وكلاهما دعوى بلا دليل) اهـ. انظر: "العين" 8/ 350، و"الكتاب" 4/ 220، و"حروف المعاني" ص 8، و"تهذيب اللغة" 4/ 3303، و"معاني الحروف" ص 100، و"رصف المباني" ص 355، و"اللسان" 7/ 4082 (لن).

بن يحيى الكناني: قال: (قوله: {لَنْ تَرَانِي} جواب قول موسى {أَرِنِي} فلا يقع على الآخرة؛ لأن موسى لم يقل: أرني في الآخرة، إنما سأل الرؤية في الدنيا فأجيب عما سأل) (¬1)، والجواب يكون على وفق السؤال؛ كيف وقد نص ابن عباس في رواية عطاء في قوله: {لَنْ تَرَانِي}. قال: (لن تراني في الدنيا) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}. قال مقاتل: (لما قال موسى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال له ربه: {لَنْ تَرَانِي}، ولكن اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك، وهو الجبل {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} أي: سكن وثبت {فَسَوْفَ تَرَانِي}، وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي) (¬3). قال الكلبي (¬4) وغيره (¬5): (والجبل في قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} ¬

_ (¬1) (ولا أصل) ساقط من (ب)، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 14/ 233. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 196 أ. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 125. وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 236، وابن الجوزي 3/ 256، وهذا هو الحق ومذهب أهل السنة والجماعة. قال ابن كثير 2/ 272: (استدل المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة بهذه الآية وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة) اهـ. وانظر: "الإبانة" للأشعري ص 13 - 21، و"تفسير الماوردي" 2/ 257، وابن عطية 6/ 68، وابن الجوزي 3/ 256، والقرطبي 7/ 278. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 61. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 125، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 237.

أعظم جبل بمدين (¬1) يقال (¬2) له: زبير (¬3)) (¬4). قال أصحابنا: (علَّقَ الله تعالى جواز الرؤية على استقرار الجبل، واستقراره كان جائزًا , ولكن لم يفعل الله، كذلك الرؤية كانت جائزة، ولكن الله لم يخلقها لموسى، وضدّ هذه الآية قوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. علق دخولهم الجنة بما يستحيل وجوده فلا يدخلونها قط). وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}. قال الزجاج (¬5) وجميع أهل اللغة (¬6): (أي: ظهر وبان، ومنه يقال: جلوت العروس إذا أبرزتها، وجلوت المرآة والسيف إذا أخرجته من الصدى) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 3/ 257، عن ابن عباس، ذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص 201، عن السدي، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 567، والماوردي 2/ 258. (¬2) مدين: مدينة على بحر القلزم محاذية لتبوك. انظر: "معجم البلدان" 5/ 77. (¬3) في (ب): (فقال زبير)، وهو تحريف. (¬4) الزبير، بفتح الزاء وكسر الباء: اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام. انظر: "معجم البلدان" 3/ 132، و"اللسان" 3/ 1806 (زبر). وقد أجمع أهل التفسير على أن جبل المناجاة هو الطور، فكأن الزبير اسم آخر له أو لموضع معين من الطور والله أعلم. انظر: "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 2/ 727 - 728. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص 196 عن المتكلمين من أهل السنة، وانظر: "زاد المسير" 3/ 256. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 373، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 624، قال الزجاج: (أي: ظهر وبان وهو قول أهل السنة والجماعة) اهـ. (¬7) انظر: "العين" 6/ 180، و"الجمهرة" 1/ 492، و"الصحاح" 6/ 2303، و"المجمل" 1/ 193، و"مقاييس اللغة" 1/ 468، و"المفردات" ص 200، و"اللسان" 2/ 670 (جلا).

وقوله تعالى: {جَعَلَهُ دَكًّا}. قال أبو إسحاق: (يجوز {دَكًّا} بالتنوين و {دَكًّاءَ} بغير تنوين، أي: جعله مدقوقًا مع الأرض، يقال: دككت الشيء إذا دققته، أدكه دكا، والدكاء والدكاوات الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها لا تبلغ أن تكون جبلًا) (¬1)، فعلى هذا الدك مصدر والدكاء (¬2) اسم. أخبرني العروض رحمه الله عن الأزهري قال: أخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: (قال الأخفش في قوله: {جَعَلَهُ دَكًّا} (¬3) بالتنوين، كأنه قال: دكه دكًا مصدر مؤكد (¬4)، قال: ويجوز جعله ذا (¬5) دك كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. قال: ومن قرأ (¬6) {دَكًّاءَ} ممدودة أراد جعله مثل دكاء فحذف (مثل)، قال: والدكاء الناقة التي لاسنام لها) (¬7)، فمعنى (¬8) قوله: {جَعَلَهُ دَكًّاءَ} أي: مثل دكاء في أنه بقي أكثره. ¬

_ (¬1) هذا قول ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص180، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 52، و"نزهة القلوب" ص 158، و"تفسير المشكل" ص 87. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 373. (¬3) الدّك - الدق وكسر الشيء وتفتيته، ومنه الناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها. انظر: "العين" 5/ 274، و"الجمهرة" 1/ 114، و"الصحاح" 4/ 1583، و"المجمل" 2/ 318، و"مقاييس اللغة" 2/ 258، و"المفردات" ص 316، و"اللسان" 3/ 1404 (دك). (¬4) في (ب): (مؤكدة). (¬5) في "تهذيب اللغة" 2/ 1212: (ويجوز جعله أرضًا ذات دك) اهـ. (¬6) قرأ حمزة والكسائي {دَكًّاءَ} بالمد والهمز من غير تنوين، وقرأ الباقون: {دَكًّا} بالقصر والتنوين من غير مد ولا همز. انظرة "السبعة" ص 293، و"المبسوط" ص 185، و"التذكرة" 2/ 425، و"التيسير" ص 113، و"النشر" 2/ 271 - 272. (¬7) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 309. (¬8) في (ب): (ومعنى).

قال أبو العباس: (ولا حاجة به إلى إضمار (مثل)، والمعنى: جعل الجبل أرضًا دكاء) (¬1). فحصل من هذه الأقوال أن من قرأ {دَكًّا} بالتنوين كان الدك مصدرًا بمعنى المفعول على قول (¬2) أبي إسحاق، وعلى قول الأخفش ويكون مصدرًا مؤكدًا؛ لأنه يقول معنى قوله: {جَعَلَهُ دَكًّا}. أي: دكه دكًا، ويجوز على قوله أيضًا أن يكون بمعنى: ذا دكٍ، أي: ذا كسر فحذف المضاف، ومن قرأ بالمدّ فعلى قول الأخفش (الدكاء) الناقة الذاهبة السنام، والمضاف محذوف، وعلى قول أبي العباس (الدكاء) الأرض غير الغليظة المرتفعة، ولا حاجة إلى تقدير المضاف (¬3). فأما التفسير فقال المفسرون (¬4): (ساح في الأرض فهو يذهب حتى الآن). وهو قول الحسن (¬5) وسفيان (¬6)، وأبي بكر (¬7) الهذلي (¬8)، وهذا ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1212 (دك). (¬2) لفظ: (قول) ساقط من (ب). (¬3) أكثرهم على أن من قرأ بالمد جعله صفة أي: جعل الجبل أرضًا ملساء دكاء ومن قرأ بالقصر والتنوين جعله مصدرًا. انظر: "الحجة" لأبي علي 4/ 75، و"معاني القراءات" 1/ 422، و"إعراب القراءات" 1/ 205، و"الحجة" لابن خالويه ص 163، و"الكشف" 1/ 475. (¬4) أكثرهم على أن معنى جعله: {دَكًّا} أي: مستويًا ألصقه بالأرض. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 228، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 150، و"تفسير غريب القرآن" ص 180، و"نزهة القلوب" ص 227، و"تفسير المشكل" ص 87 (¬5) ذكره الماوردي 2/ 258، عن الحسن وسفيان الثوري. (¬6) "تفسير سفيان الثوري" ص 113، وأخرجه الطبري 9/ 53، وابن أبي حاتم 5/ 1561 من طرق جيدة عن سفيان الثوري. (¬7) أبو بكر الهذلي البصري مشهور بكنيته وهو سلمى بن عبد الله بن سلمى، وقيل اسمه: روح، روى عن الحسن البصري والشعبي وعكرمة وغيرهم، وهو علامة إخباري متروك الحديث، توفي سنة 167 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 497، و"المغني" في الضعفاء 2/ 773، و"تهذيب التهذيب" 4/ 498. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 53 بسند جيد.

على قراءة من قرأ بالمد، وقال الكلبي (¬1): {جَعَلَهُ دَكًّا} أي: كسرا جبالا صغارًا) (¬2). وروي هذا المعنى مرفوعًا عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله {جَعَلَهُ دَكًّا}: (صار لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة، أحد وورقان، ورضوى (¬3)، ووقع ثلاثة بمكة ثور (¬4) وثبير وحراء) (¬5). وهذا التفسير يقوي قراءة من قرأ بالتنوين، والتفسير الموافق للقراءتين مما روي عن (¬6) ابن عباس أنه قال: (جعله ترابًا) (¬7). ونحو ذلك قول ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 225، وذكره الثعلبي 196 ب، والبغوي 3/ 278. (¬2) في (ب): أي: (كسرا جبالا لا صغار)، وهو تحريف. (¬3) أحد، بالضم: جبل أحمر بالمدينة المنورة في شمالها بينه وبينها قرابة ميل، انظر: "معجم البلدان" 1/ 109، وورقان بالفتح ثم الكسر جبل عظيم أسود على يمين المصعد من المدينة إلى مكة، انظر: "معجم البلدان" 5/ 372، ورضوى -بالفتح ثم السكون- جبل بالمدينة قرب ينبع، انظر: "معجم البلدان" 3/ 51. (¬4) ثور، بالفتح ثم السكون: جبل مشهور بمكة خلفها على طريق اليمن، انظر: "معجم البلدان" 2/ 86، وثبير، بالفتح ثم الكسر وسكون الياء: جبل بمكة. انظر: "معجم البلدان" 2/ 72، وحراء، بالكسر والتخفيف والمد: جبل مشهور على ثلاثة أميال من مكة انظر: "معجم البلدان" 2/ 233. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1560، والواحدي في "الوسيط" 2/ 237 - 238 بسند ضعيف جدًّا، فيه، الجلد بن أيوب البصري متروك الحديث، انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 420، و"المغني" في الضعفاء 1/ 135 "لسان الميزان" 2/ 133، وذكر الحديث ابن كثير في "تفسيره" 2/ 272، وقال: (هذا حديث غريب بل منكر) وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 24، نحوه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (وراه الطبراني في "الأوسط" وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك) اهـ. وذكره الشوكاني في "فتح القدير" 2/ 358، وزاد نسبته إلى (أبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والديلمي) وانظر: "الدر المنثور" 3/ 221 - 222. (¬6) في (ب): (ما روي عن أنس عن ابن عباس)، وهو تحريف. (¬7) أخرجه الطبري 9/ 53، وابن أبي حاتم 5/ 1560 بسند جيد.

مسروق: (صار صحراء (¬1) ترابًا) (¬2). وقوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}. قال الليث: (الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان) (¬3). والصعقة الغشية، يقال: صعِق الرجل وصعَق، فمن قال: صعِق، قال: فهو صعِق، ومن قال: صعَق قال: فهو مصعوق، ويقال أيضا: صعق إذا مات، ومنه قال: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] فسروه الموت، ومنه قوله: {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] أي: يموتون، ويقال: أصعقته الصيحة أي: قتلته. وأنشد الفراء: أُحَادَ وَمَثْنَى أَصْعَقتها صوَاهِلُهْ (¬4) أي: قتلها صوته (¬5). ¬

_ (¬1) في: (ب): (صر صخرا ترابا) وهو تحريف. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف" 196 ب. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 2018، وانظر: "العين" 1/ 128، و"تأويل مشكل القرآن" ص 501. (¬4) الشاهد لابن مقبل في "ديوانه" ص 252 وصدره: ترى النُّعَرات الزرق تحت لَبَانه وهو في: "إصلاح المنطق" ص 205، و"المعاني الكبير" ص/ 606، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 302، و"الصحاح" 4/ 1507 (صعق)، و"المخصص" 8/ 184، و"اللسان" 4/ 2450 (صعق)، وبلا نسبة في "معاني الفراء" 1/ 255، 345، و"مجالس ثعلب" ص 128، و"التكملة" لأبي علي ص 425، والنُّعَرَات جمع نُعَرَة؛ ذباب يسقط على الدواب، واللبان الصدر، وصواهلة جمع صاهلة، وهو الصهيل والشاعر يصف فرسا بشدة صهيله وأنه يقتل الذباب. (¬5) النص كله من "تهذيب اللغة" 8/ 2012 - 2019، وانظر: "الجمهرة" 2/ 885، و"المجمل" 2/ 533؛ و"مقاييس اللغة" 3/ 285، و"المفردات" ص 484 (صعق).

فأما التفسير: فقال ابن عباس (¬1)، والحسن (¬2)، وابن زيد (¬3): (مغشيًّا عليه). وقال قتادة: (ميتًا) (¬4). والذي يدل على صحة قول ابن عباس قوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ}. قال الزجاج: (ولا يكاد يقال للميت: قد أفاق من موته، ولكن يقال للذي يغشى عليه والذي قد ذهب عقله: قد أفاق من علته؛ لأن الله عز وجل قال في الذين ماتوا: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (¬5) [البقرة: 56]. وقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ}. أي: تنزيهًا لك (¬6) من السوء. {تُبْتُ إِلَيْكَ}. أي: من مسألتي الرؤية. قاله (¬7) الكلبي (¬8) ومجاهد (¬9)، والمعنى: من مسألتي الرؤية في الدنيا؛ لأن هذه القصة وقعت من مسألته الرؤية في ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 53، وابن أبي حاتم 5/ 1561 من طرق جيدة. (¬2) ذكره الماوردي 2/ 258، وابن الجوزي 3/ 257 عن ابن عباس والحسن وابن زيد، وذكره البغوي 3/ 278 عن ابن عباس والحسن. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 53 بسند جيد. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 53، وابن أبي حاتم 5/ 1561 بسند جيد، وذكر النحاس في "معانيه" 3/ 75 عن قتادة أنه قال: (أي: مغشيًا عليه) اهـ. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 373 ومثله ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 2018 (صعق)، وهذا القول أظهر وهو اختيار الجمهور، قال ابن الأنباري في "الزاهر" 2/ 121: (فيه قولان: أحدهما: قد غُشي عليه، والقول الآخر قد مات. والأول هو الكثير المشهور) اهـ. وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص 180، والطبري 9/ 53، وابن عطية 6/ 71، وابن الجوزي 3/ 257، والرازي 14/ 235. (¬6) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 374. (¬7) في (ب): (قال)، وهو تحريف. (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 125. (¬9) أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 113، عبد الرزاق 1/ 2/238، والطبري 9/ 55، وابن أبي حاتم 5/ 1562 من طرق جيدة.

الدنيا. وقال أهل العلم: (إن الرؤية وإن كانت جائزة فإن موسى سألها من غير استئذان من الله تعالى، فلذلك (¬1) تاب لأنه كان بغير إذن، وهذا إجماع من الأمة أن توبته لم تكن عن معصية؛ لأن عندنا سأل الرؤية لنفسه، ولا يكون هذا (¬2) السؤال عندنا معصية (¬3)، وعند من خالفنا (¬4): سأل الرؤية لقومه مع علمه أن ذلك لا يكون، أو سأل أمرًا عظيمًا، وكل واحد من هذين لا يكون معصية) (¬5). وقوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. قال مجاهد: (وأنا أول قومي إيماناً) (¬6)، وقاله السدي أيضًا (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (فكذلك)، وهو تحريف. (¬2) في (ب): (لهذا)، وهو تحريف. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 55، وابن عطية 6/ 71. (¬4) انظر: "الكشاف" 2/ 112 - 116. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 2/ 259، وابن الجوزي 3/ 257، وقال القرطبي 7/ 279: (أجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية، فإن الأنبياء معصومون، وأيضًا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة، وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة وهذا لا يقتضى التوبة، فقيل: أي تبت إليك من قتل القبطي، وقيل: قالها على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات) اهـ. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 56، وابن أبي حاتم 5/ 1562، من طرق جيدة. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 197 أ، والواحدي في "الوسيط" 2/ 238، والبغوي 3/ 279، عن مجاهد والسدي، وأخرجه الطبري 9/ 56، من طرق جيدة عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج الطبري 9/ 55، وابن أبي حاتم 5/ 1562، من طرق جيدة عن ابن عباس قال: (أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد من خلقك في الدنيا) اهـ.

144

وقال أبو العالية: (وأنا أول من آمن أنه لا يراك أحد قبل يوم القيامة) (¬1). واختاره الزجاج فقال: (أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا) (¬2). 144 - قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ}. الاصطفاء (¬3): استخلاص الصفوة لما لها من الفضيلة. ومعنى {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ}. قال ابن عباس: (يريد: فضلتك على الناس) (¬4). وقال الزجاج: (أي: اتخذتك صفوة على الناس) (¬5). {بِرِسَالَاتِي}، وقرئ (¬6) {برسالتي}، والرسالة تجري مجرى ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 55، بسند لا بأس به، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 568. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 374، وهذا هو الظاهر وهو اختيار الطبري 9/ 56، وقول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى قال في الرد على الجهمية ص 96: (يعني: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات)، وانظر: "مرويات الإِمام أحمد في التفسير" 2/ 197، وقال ابن كثير 2/ 273: (وهذا قول حسن له تجاه) اهـ. وانظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 281. (¬3) الصَّفْو والصفاء: ممدود خلوص الشيء من الشوب نقيض الكدر وصفوة كل شيء خالصه وخيره، والاصطفاء الاختيار وتناول صفوة الشيء، افتعال من الصفوة: واستصفيت الشيء إذا استخلصته. انظر: "العين" 7/ 162، و"الجمهرة" 2/ 893، و"تهذيب اللغة" 2/ 2022، و"الصحاح" 6/ 2401، و"مقاييس اللغة" 3/ 292، و"المجمل" 2/ 535، و"المفردات" ص 487، و"اللسان" 14/ 2468 (صفو). (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 14/ 236. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 374. (¬6) قرأ نافع وابن كثير (برسالتي) بغير ألف بعد اللام على التوحيد، وقرأ الباقون {بِرِسَالَاتِي} بألف بعد اللام على الجمع. انظر: "السبعة" ص 293، و"المبسوط" ص 163، و"التذكرة" 2/ 425، و"التيسير" ص 113، و"النشر" 2/ 272.

145

المصدر، فيجوز إفرادها في موضع الجمع وإن لم يكن المصدر من (أرسل) (¬1)، وقد تقدم الكلام في هذا (¬2). وقوله تعالى: {وَبِكَلَامِي}. هذا يدل على أنه سمع كلام الله عز وجل من غير واسطة؛ لأن ما يكون بواسطة يدخل في حد الرسالة، وأشار أبو إسحاق إلى أن معنى اصطفائه: هو تخصيصه بكلامه من غير واسطة؛ لأنه قال: (لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله عز وجل) (¬3) أي: تفضيله موسى (¬4) أنه سمع كلام الله من غير ملك، وإنما كان كلام الله تعالى لموسى من غير واسطة بينه وبينه فضيلة وشرفًا؛ لأن من أخذ العلم عن العالم المعظم كان أجلّ رتبة ممن أخذه عن واحد عنه، كما نقول في الأسانيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أقربها إليه أعزها وأجلها (¬5). وقوله تعالى: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ}. قال ابن عباس: (يريد: ما فضلتك وكرمتك). وقوله {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. (يعني: لأنعمي والطائعين لي) (¬6). 145 - قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ}. قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 77، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 336، و"إعراب القراءات" 1/ 207، و"الحجة" لابن خالويه ص 163، ولابن زنجلة ص 295، و"الكشف" 1/ 467. (¬2) انظر: "البسيط" نسخة جامعة الإمام 3/ 58 ب. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 375. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 279، والرازي 14/ 192. (¬5) انظر: "معرفة علوم الحديث" للحاكم ص 112 - 113، وقال ابن الصلاح في "علوم الحديث" ص 256: (طلب العلو سنة وتستحب الرحلة فيه، وهو يبعد من الخلل وأجل أنواع العلو القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف) اهـ. (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 239.

(يريد: ألواح التوراة) (¬1). واختلفوا في الألواح (¬2) من أي شيء كانت، وكيف كانت الكتابة. فقال الربيع (¬3): (كانت الألواح من بُرْد) (¬4). وقال الحسن: (كانت من خشب نزلت من السماء) (¬5). وقال وهب: (كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها منها بيده) (¬6). وقال ابن جريج: (كانت من زمرد (¬7) أمر الله جبريل حتى جاء بها من ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1563 بسند جيد، وذكره السمرقندي 1/ 569، والواحدي في "الوسيط" 2/ 239 والبغوي 3/ 280 - 281، والخازن 2/ 287. (¬2) قال محمد أبو شهبة في كتاب "الإسرائيليات والموضوعات" في كتب التفسير ص 201 - 203: (ذكر في الألواح مم هي وما عددها، أقوالًا كثيرة، وفيها ما يخالف المعقول والمنقول وهي متضاربة يرد بعضها بعضًا مما نحيل أن يكون مرجعها المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي من الإسرائيليات حملها عنهم بعضهم بحسن نية وليس تفسير الآية متوقفا على كل هذا الذي رووه والذي يجب أن نؤمن به أن الله أنزل الألواح على موسى وفيها التوراة وما ذكروه لا يجب علينا الإيمان به والأولى عدم البحث فيه؛ لأنه لا يؤدي إلى فائدة ولا يوصل إلى غاية) اهـ. ملخصًا. (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 197 ب، والبغوي 3/ 281، وأخرجه الطبري 9/ 66، وابن أبي حاتم 5/ 1563 بسند جيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية. (¬4) البُرْد، بالضم: ثَوْب مخطط وأكسية يتلحف بها. انظر: "القاموس" ص 341 (برد). (¬5) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 260، والبغوي 3/ 281، وابن عطية 6/ 74، وابن الجوزي 3/ 258، والرازي 14/ 236، والخازن 2/ 287. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 197 ب، والبغوي 3/ 281، وابن الجوزي 3/ 258، والرازي 14/ 236، والخازن 2/ 287. (¬7) انظر: "القاموس" ص 285 (زمرد)، وص 325 (ورد).

عدن) (¬1). ونحو ذلك قال مجاهد (¬2) ومقاتل (¬3). وقال الكلبي (¬4): (كانت من زبرجدة (¬5) خضراء). وأما الكتابة، فقال: ابن جريج: (كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور فكتب به الألواح) (¬6). وقال مقاتل: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} كنقش الخاتم) (¬7). قال عطاء عن ابن عباس: (وكانت الألواح يومئذ ستة، ثم صارت أربعة وعشرين مِمّ ضُمَّ إليها من الوصايا والمواعظ) (¬8). وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، قيل: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح (¬9). وهذا معنى قول ابن عباس: (يريد: مما افترض وأحلّ وحرّم ونهى وأمر) (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 66، بسند جيد، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ص 197/ ب، والبغوي 3/ 281، والخازن 2/ 287، والسيوطي في "الدر" 3/ 224. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 66، من طرق جيدة بلفظ: من زمرد وفي رواية (من زمرد أخضر). (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 63، وفيه: (كانت من زمرد وياقوت). (¬4) ذكره الثعلبي 197 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 239، والبغوي 3/ 281، والخازن 2/ 287. (¬5) الزَّبَرْجَد، بالفتح جَوْهر. انظر: "القاموس" ص 364 (زبرجد). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص 197/ ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 239، والبغوي 3/ 281، والرازي 14/ 236، والخازن 2/ 287. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 62، وفيه: (نقرا كنقش الخاتم) اهـ. (¬8) لم أقف عليه. (¬9) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 57، و"معاني الزجاج" 2/ 375، والنحاس 3/ 76. (¬10) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 239، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1563 بسند جيد عن ابن عباس قال: (كان الله عز وجل كتب في الألواح ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر أمته وما ادخر لهم عنده ولا يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم) اهـ.

وقوله تعالى: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، قال ابن عباس: (يريد: هداية إلى كل أمر هو لله رضي) (¬1). وقال الكلبي: {مَوْعِظَةً} نهي عن الجهل {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [من الحلال والحرام (¬2). وقال مجاهد:] (¬3) {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} مما أمروا به ونهوا عنه (¬4) والتفصيل معناه: التبيين (¬5)، ذكرنا ذلك في قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (¬6) [الأنعام: 55]. وقوله تعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}. قال ابن عباس (¬7) ومقاتل (¬8) والكلبي (¬9): (بجد)، وقال الزجاج: {بِقُوَّةٍ} في دينك وحجتك) (¬10). ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" 2/ 126، نحوه، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 240 دون نسبة، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1565 بسند جيد عن ابن عباس في قوله: {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (قال: تبيانًا لكل شيء) اهـ. (¬2) قال الماوردي في "تفسيره" 2/ 260: (قيل الموعظة: النواهي، والتفصيل: الأوامر وهو معنى قول الكلبي) اهـ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 246، وأخرجه الطبري 9/ 57 من طرق جيدة. (¬5) قال محمد أبو شهبة في كتاب "الإسرائيليات والموضوعات" في كتب التفسير ص 203: (المحققون من المفسرين سلفًا وخلفًا على أن المراد: أن فيها تفصيلًا لكل شيء مما يحتاجون إليه في الحلال والحرام والمحاسن والقبائح مما يلائم شريعة موسى وعصره وإلا فقد جاء القرآن الكريم بأحكام وآداب وأخلاق لا توجد في التوراة قط) اهـ. (¬6) لفظ: {سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} ساقط من (ب). (¬7) أخرجه الطبري 9/ 58 بسند ضعيف، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1565 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (بجد وحزم). (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 63، وفيه: (يعني: التوراة بالجد والمواظبة عليه) اهـ. (¬9) "تنوير المقباس" 2/ 126. (¬10) "معاني الزجاج" 2/ 375، ومثله قال النحاس في "معانيه" 3/ 77.

وقال أهل المعاني: (بصحة عزيمة؛ لأنه لو أخذه بضعف نية لأداه إلى فتور العمل به) (¬1). وقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: يحلّوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويعملوا بمحكمها، ويقفوا عند متشابهها) (¬2). وذكر أبو إسحاق في هذا وجهين: (أحدهما: أنهم أُمروا بالخير ونهوا عن الشرّ، وعرّفوا ما لهم في ذلك، فقيل: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}. قال: ويجوز أن يكون ما أمرنا به؛ من الانتصار بعد الظلم، ونحو القصاص في الجروح؛ فهذا كله حسن، والعفو أحسن من القصاص، والصبر أحسن من الانتصار، ونظير هذه الآية قوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬3) [الزمر: 18]. وقال قُطرب (¬4): {يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}، أي: بحسنها وكلها حسن؛ كقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]). وقول الفرزدق: ¬

_ (¬1) ذكره البغوي 3/ 281، والخازن 2/ 288. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 240، والبغوي 3/ 281، والخازن 2/ 288، وأخرج الطبري 9/ 58 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (أمر موسى أن يأخذها بأشد مما أمر به قومه) اهـ. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 375، ونحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 823 (حسن). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 197 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 240، والبغوي 3/ 281، وابن الجوزي 3/ 259، والرازي 14/ 237.

بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ (¬1) وقال أهل المعاني: (أحسنها الفرائض والنوافل وهي ما يستحق عليها الثواب، وأدونها في الحسن المباح؛ لأنه لا يستحق عليه حمد ولا ثواب) (¬2). وقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}. قال ابن عباس (¬3) في رواية عطاء والحسن (¬4) ومجاهد (¬5): (هي جهنم). أي: فلتكن منكم على ذُكْر ¬

_ (¬1) "ديوانه" 2/ 155، و"الكامل" 2/ 308، والصاحبي ص 434، وابن الجوزي 3/ 259، والرازي 14/ 237، و"اللسان" 6/ 3808 كبر، و"الدر المصون" 5/ 454، و"الخزانة" 8/ 242، وأوله: (إن الذي سمك السماء بني لنا) والشاهد فيه (أعز وأطول) حيث استعمل صيغتي التفضيل في غير التفضيل إذ لو كانتا للتفضيل لكان الفرزدق يعترف بأن لمهجوه وهو جرير بيتا دعائمه عزيزة طويلة وهذا لا يقصده الشاعر. (¬2) انظر: "معاني النحاس" 3/ 77، و"تفسير السمرقندي" 1/ 569، والماوردي 2/ 260 - 261، والبغوي 3/ 281، وابن عطية 6/ 75، وابن الجوزي 3/ 259، وقال الطبري في معنى الآية 9/ 58: (يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها والعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه) اهـ. وانظر: "الفتاوى" لشيخ الإسلام 6/ 16، و12/ 17. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 126، وذكره الرازي 14/ 238، عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 240 عن عطاء والحسن ومجاهد، وذكره البغوي 3/ 281 - 282، والخازن 2/ 289، عن عطاء والحسن، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1566 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (دار الكفار) اهـ. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 59، وابن أبي حاتم 5/ 1566 من طرق جيدة، وذكره النحاس في "معانيه" 3/ 77، والثعلبي 197 ب. (¬5) ذكره الماوردي 2/ 261، وابن عطية 6/ 77، وابن الجوزي 3/ 260، والقرطبي 7/ 282 عن مجاهد والحسن، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 246 قال: (مصيرهم في الآخرة) اهـ، وأخرجه الطبري 9/ 59، وابن أبي حاتم 5/ 1566 من طرق جيدة, وهذا القول ظاهر وهو اختيار الطبري 9/ 59، وابن كثير 2/ 275؛ لأن الجملة =

لتحذروا أن تكونوا منهم، وهي (¬1) تتضمن وعيدًا وتهديدًا لمن خالف أمر الله، كما تقول لمن تخاطبه: سأريك غدًا إلى ما يصير حال من خالف أمري (¬2). وقال قتادة: (سأدخلكم الشام فأريكم (¬3) منازل الكافرين الذين كانوا سكانها من الجبابرة والعمالقة، أي: لتعتبروا بها، وما صاروا إليه من النكال فيها) (¬4). وهذا معنى قول الكلبي: {دَارَ الْفَاسِقِينَ} ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا) (¬5). ¬

_ = متصلة بما قبلها، فهي من تمامها، وأولى الأمور أن يختم الأمر بالعمل بالوعيد على من ضيعه. وقال ابن كثير: (هذا أولى والله أعلم لأن هذا كان بعد إنفصال موسى وقومه عن مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم) اهـ. (¬1) في (ب): (وهو). (¬2) هذا قول الطبري 9/ 59. (¬3) في (ب): (وأيكم). (¬4) ذكره الثعلبي 197 ب، والماوردي 2/ 261، والواحدي في "الوسيط" 2/ 241، والبغوي 3/ 282، وابن عطية 6/ 77، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 236، والطبري 9/ 59، وابن أبي حاتم 5/ 1566 من طرق جيدة عن قتادة قال: (منازلهم) اهـ. وقال ابن الصلاح في "علوم الحديث" ص 281: (بلغنا عن أبي زرعة الرازي أن يحيى بن سلام المفسر حدث عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {دَارَ الْفَاسِقِينَ} قال: مصر، واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة: مصيرهم) اهـ. (¬5) ذكره الثعلبي 197 ب، والبغوي 3/ 282، وابن عطية 6/ 77، والرازي 14/ 238، والخازن 2/ 289، وذهب الزمخشري في "تفسيره" 2/ 117، وابن عطية 6/ 77، والقرطبي 7/ 282 إلى أن المراد: منازل القرون الذين أهلكوا ومنها مصر دار فرعون وقومه، ويمكن الجمع بين القولين بأن الآية تضمنت الوعد للمؤمنين بدخول الأرض الموعودة ومنازل القرون الماضية والوعيد للفاسقين بهلاكهم ودخولهم جهنم. والله أعلم.

146

146 - قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. قال ابن عباس: (يريد: الذين يتجبرون على عبادي، ويحاربون أوليائي. ويستحلون محارمي حتى لا يؤمنوا بما جئت به) (¬1)، فالآيات على قول ابن عباس: هي القرآن، و {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} هم: المشركون. قال (¬2) ابن الأنباري: (والمعنى على هذا {سَأَصْرِفُ} {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} عن قبول آياتي والتصديق بها لعنادهم الحق؛ عوقبوا بأن حرموا الهداية وسُتِرَ عنهم الحق. وهذا كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]). وذكر قولًا آخر، قال: (المعنى: {سَأَصْرِفُ} عن إبطال {آيَاتِيَ} وعن الاعتراض عليها هؤلاء الكفرة، كما تقول: وهو يمنعنى من زيد، أي: من ضربه، وأذاه، وكما قال عبد المطلب لما قصدت الحبشة البيت: (إن لهذا البيت (¬3) ربا سيمنع منه) (¬4). أي: سيمنع من تخريبه وقتل أهله) (¬5). وقال ابن جريج: (الآيات خلق السموات والأرض، يعني: أصرفهم ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 241، والبغوي 3/ 282، والخازن 2/ 289. (¬2) في: (ب): (كما قال). (¬3) هذه كلمة سارت مسير الأمثال، وذلك أن أبرهة الحبشي لما سار لهدم الكعبة وأشرف على مكة وجد إبلا لعبد المطلب وأخذها فذهب عبد المطلب إليه وكلمه في الإبل فعجب أبرهة منه وقال: (أتكلمني في الإبل ولا تكلمني في بيت فيه عزك وشرفك؟ فقال عبد المطلب: (أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه) وفي رواية (يحميه). انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 51، و"الروض الأنف" 1/ 69, و"السيرة النبوية" لأبي شهبة ص 167 - 169. (¬4) في: (ب): (عنه). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 241.

عن الاعتبار بما فيها) (¬1). وهو قول ابن زيد (¬2) ومقاتل (¬3). قال أبو إسحاق: (أي: أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية {آيَاتِيَ}). قال: ومعنى: {يَتَكَبَّرُونَ} أنهم يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم، وهذه الصفة -أعنى: المتكبر- لا تكون إلا لله عز وجل (¬4) خاصة؛ لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد مثله، فبذلك يستحق أن يقال له: المتكبر، وليس لأحد أن يتكبر لأن الناس في الحقوق سواء وليس لأحد ما ليس لغيره، وهو المكبر جل وعز، فأعلم أن هؤلاء {يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (¬5). وقال غيره من أهل المعاني (¬6): (التكبر: إظهار كبر النفس على غيرها)، وصفة متكبر صفة ذم في جميع العباد، وصفة مدح (¬7) في القديم جل وعز؛ لأنه يستحق إظهار الكبر على من سواه لأن ذلك حق، وهذا المعنى في صفة غيره باطل. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 60 بسند جيد. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص 197/ ب، عن ابن زيد وابن جريج. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 63، والأكثر على أن الآية عامة أي: سأمنع وأصد عن النظر في الآيات الكونية والشرعية والتفكر والاستدلال بها، انظر: الطبري 9/ 60، و"معاني النحاس" 3/ 78، والسمرقندي 1/ 569، والبغوي 3/ 282، وابن عطية 6/ 78، وابن الجوزي 3/ 260. (¬4) في (أ): (جل وعز). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 376. (¬6) انظر: "معاني النحاس" 3/ 79، و"تفسير السمرقندي" 1/ 569، والماوردي 2/ 262. (¬7) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 35، و"اشقاق أسماء الله" للزجاجي ص 155، 241، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص 93.

وقال أحمد بن يحيى: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ} من الكِبَر لا من الكِبْر (¬1)، أي: يتفضلون ويرون أنهم أفضل من غيرهم) (¬2)، وهذا الذي قاله أحمد قريبٌ من الأول بل هو بعينه معنى. وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ} حجة على القدرية (¬3)، و (¬4) دليل ذلك أن له أن يصرف عن الإيمان من شاء. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} قال ابن عباس: (يريد سبيل الهدى والبيان الذي جاء من الله، {لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} قال: يريد: لا يتخذوه دينا، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} يريد: طاعة الشيطان وضلالته، {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} يريد: دينا) (¬5). وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قال الزجاج: {ذَلِكَ} يصلح أن يكون نصبا على معنى: فعل الله بهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (¬6). ¬

_ (¬1) قوله: (من الكِبَر، هو: بكسر الكاف وفتح الباء لا من الكِبْر هو بفتح الكاف وسكون الباء والتكبر التعظم، وكبَر، بكسر الكاف وفتح الباء الهرم ضد الصغر، وكِبْر، بسكون الباء: العظمة، وكبُر، بفتح الكاف وضم الباء: عظم. انظر: "العين" 5/ 361، و"الجمهرة" 1/ 327، و"الصحاح" 2/ 801، و"المجمل" 3/ 776، و"مقاييس اللغة" 5/ 153، و"المفردات" ص 696، و"اللسان" 5/ 125 (كبير). (¬2) "تهذيب اللغة" 10/ 210 - 211 (كبر). (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 3 - 4. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 241 - 242 بدون نسبة، وانظر: "تفسير الطبري" 13/ 114 - 115، و"معاني الزجاج" 3/ 376، والنحاس 3/ 79، والسمرقندي 1/ 570، والماوردي 2/ 57. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 376، وفيه: (ذلك يصلح أن يكون رفعا أي أمرهم ذلك، ويجوز أن يكون نصبا ..) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 390، والسمين في =

147

وقوله تعالى: {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: جحدوا الإيمان بها والنظر فيها والتدبر لها (¬1). 147 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ}، قال ابن عباس: (يريد: الثواب والعقاب) (¬2). وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك أن تفسيره: ولقاء (¬3) الدار الآخرة، وهي موعد الثواب والعقاب، ومن أنكرها فقد أنكر الثواب والعقاب (¬4). قوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، أي: صارت كأنها لم تكن. قال ابن عباس: (يريد: ضل سعيهم) (¬5) وقوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. لا بد فيه من تقدير محذوف، أي: إلا بما [كَانُواْ] (¬6)، أو على {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أو جزاء {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ¬

_ = "الدر" 5/ 457 - 458: (الأظهر أنه مبتدأ خبره الجار بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، وجوز فيه النصب فقدره ابن عطية 7/ 162، فعلنا ذلك، فجعله مفعولا به، وقدره الزمخشري 2/ 117، صرفهم الله ذلك الصرف بعينه، فجعله مصدراً) اهـ، وانظر: "الفريد" 2/ 360. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 61، و"معاني الزجاج" 2/ 376، النحاس 3/ 80 (¬2) لم أقف عليه. (¬3) قال الطبري 9/ 61 في معنى الآية: (يقول: وهؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحق وكل مكذب حجج الله ورسله وآياته وجاحد أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته ومنكر لقاء الله في آخرته ذهبت أعمالهم فبطلت ..) اهـ. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 283. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لفظ: (كانوا) ساقط من النسخ، وقال الواحدي في "الوسيط" 2/ 242 في تفسير الآية: (أي بما كان أو على ما كانوا يعملون) اهـ. وقال السمين في "الدار" 5/ 458 - 459: (قال الواحدي: هنا لا بد من تقدير محذوف أي: إلا بما كانوا أو على ما كانوا أو جزاء ما كانوا، قال السمين: لأن نفس ما كانوا يعملونه لا يجزونه إنما يجزون بمقابله، وهو واضح). اهـ.

148

148 - قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ}، قال المفسرون (¬1): (أي: من بعد إنطلاقه ومجيئه إلى الجبل (¬2) للميقات). {مِنْ حُلِيِّهِمْ}، قال الليث: (الحَلْي كل حلية حليت بها امرأة, والجمع حُلِي، وتحلت المرأة اتخذت حُليًا ولبسته، وحَلَّيتها أنا أي: ألبستها (¬3) واتخذته لها مخال (¬4) قال (¬5): ولغة حَلِيت المرأة أي: لَبِسَتْه) (¬6) وأنشد: وحَلْي الشَّوَى منها إذا حَلِيَتْ به ... على قَصَباتٍ لا شِخاتٍ ولا عُصْلِ (¬7) وقال ابن السكيت: (حَلَيْت المرأة وأنا أحليها إذا جعلت لها حليًا. وبعضهم يقول: حلوتها، بهذا المعنى) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 62، و"معاني النحاس" 3/ 50، والسمرقندي 1/ 570. (¬2) في (ب): (إلى الجبل والميقات). (¬3) في النسخ: (أي لبسته) وهو تحريف. (¬4) لفظ (لها مخال) ساقط من (ب)، ولم ترد في "تهذيب اللغة" 1/ 889، ولعلها مَحال بالحاء المهملة، وهو ضرب من الحُلي، انظر: "القاموس" ص 1365 (محل). (¬5) لفظ: (قال) ساقط من (أ). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 889، وانظر: "العين" 3/ 296. (¬7) الشاهد لذي الرمة في "ديوانه" ص 57، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 889، "اللسان" 2/ 985 (حلى)، قال الخطيب التبريزي في "شرحه": (يريد بالشوى: يديها ورجليها، والقصبات: العظام التي فيها المخ، ولا شخات أي: لا دقاق , ولا عصل، معوجة) اهـ. (¬8) "إصلاح المنطق" ص 139، و"تهذيب اللغة" 1/ 8890 والحلى بفتح الحاء وسكون اللام جمع (حُلِي) بضم الحاء وكسر اللام: وهو ما تزين به من مصوغ المعادن أو الحجارة. انظر: "الصحاح" 6/ 2318، و"مقاييس اللغة" 2/ 94، و"المجمل" 1/ 247 , و"المفردات" ص 254 (حلى).

قال الزجاج: (ويقرأ (¬1) {مِنْ حُلِيِّهِمْ}، فمن قرأ من {حُلِيِّهِمْ} فهو جمع حَلي مثل حقوٍ (¬2) وحُقيّ، ومن كسر الحاء أتبع الحاء كسرة اللام) (¬3). قال أبو علي الفارسي: (يقال: حَلْي وحُلي مثل ثَدْي وثُدِي، ومن الواو حَقْو وحُقِي، وحِلي على وزن (فعول) قلبت واو فعول ياء لوقوعها قبل الياء التي هي لام، كما أبدلت واو مفعول في (مَرْمِي)، وأبدلت من ضمة عين (فُعُول) كسرة، كما أبدلت ضمة عين مفعول في (مَرْمى) وإن كانت اللام واوًا أبدلت منها الياء، وذلك نحو حَقْوٍ وحقي، وإنما أبدلت الواو ياء لإدغامها في الياء، فأما الحاء التي هي فاء في الحُلي، فإنها بقيت مضمومة كما كانت مضمومة في كُعُوب وفُلُوس، ومثال هذا مما أبدلت الواو منها ياء، وأبدلت في ضمتها الكسرة قولهم: أدحي النعام (¬4) وآري الدابة (¬5)، هما (فاعول) إلا أن اللام من أدحي واو قلبت ياء، ومن آري ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي: {حِلِيِّهِمْ} -بكسر الحاء واللام والياء مع تشديد الياء- وقرأ الباقون مثلها إلا أنهم ضموا الحاء {حُلِيِّهِمْ}، وقرأ يعقوب: {حَلْيِهم} -بفتح الحاء وسكون اللام وكسر الياء مع تخفيفها-، انظر: "السبعة" ص 294 "المبسوط" ص 185، و"التذكرة" 2/ 425، و"التيسير" ص 113، و"النشر" 2/ 272. (¬2) الحَقْو: الكَشْح، والإزار أو مقعده، والحقو: الخاصرة وجانب الشيء، والحَقْو: الموضع المرتفع عن السيل وموضع الريش من السهم. انظر: "اللسان" 2/ 948 (حقو). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 286 وفيه: (فمن قرأ {حَلْيِهِمْ} بالفتح فالحَلْي: اسم لما يحسن به من الذهب والفضة، ومن قرأ {حُلِيِّهِمْ} بضم الحاء فهو: جمع حَلْى مثل حَقْو وحُقَيِّ، ومن كسر الحاء أتبع الحاء كسر اللام) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 310. (¬4) أدحي النعام: مبيضها في الرمل. انظر: "اللسان" 3/ 1338 (دحى). (¬5) آري الدابة: محبس الدابة. انظر: "اللسان" 1/ 68 (أرى).

ياء، والكسرة في البناءين مبدلة (¬1) من ضمةٍ. فأما قراءة من كسر الحاء من (¬2) {حُلِيِّهِمْ} فوجه ذلك أن الكسر من الجموع قد غير عما كان الواحد عليه في اللفظ والمعنى، ألا ترى أن الاسم المكسر في الجمع يدل بالتكسير على الكثرة، فغير الفاء أيضًا في التكسير، وذلك أنه لما غير الاسم تغييرين وهو إبدالك الواو ياء، وابدال الضمة كسرة، قوي هذا التغيير على تغيير الفاء، ومثال هذا: الاسم المنسوب إليه، فإنه تغير عما (¬3) كان عليه لفظًا ومعنى، فتغير اللفظ ما لحقه من الزيادات، وتغير المعنى هو أنه صار صفة، وكان قبلُ اسمًا فقوي التغيير للنسب على تغيير الفاء حتى قالوا: بِصْري بكسر الباء، ودُهري بضم الدال في النسبة إلى البصرة وإلى الدهر، فهذا وجه كسر الحاء، وقد جاء حرفان نادران من هذا القبيل ولم تقلب الواو ياء في الجمع، وذلك ما حُكي من قولهم: إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرة، وما أنشده أحمد بن يحيى: وأصبحتَ من أدنى حُمُوَّتِها حمًا (¬4) ¬

_ (¬1) في (ب): (مبدوله). (¬2) لفظ: (من) مكرر في (ب). (¬3) في (ب): (كما كان)، وهو تحريف. (¬4) الشاهد لعبد الله بن عجلان، شاعر جاهلي، كما في "الشعر والشعراء" ص 479، وصدره: ألا إن هندًا أصبحت منك محرمًا وهو بلا نسبة في "العين" 3/ 312، و"تهذيب اللغة" 1/ 909، و"اللسان" 2/ 1013 (حمى)، وأوله عندهم: لقد أصبحت أسماء حجراً محرمًا والشاعر كانت له زوجة فطلقها وتزوجها أخوه يقول: أصبحت أخًا زوجها بعد ما كنت زوجها.

فجاءت الواو في الحُمُوَّة مصححةً وكان القياس أن ينقلب ياء من حيث كان جمعًا , ولحاق تاء التأنيث في الحموة على حد عمومة وخيوطة، ومما يؤكد كسر الفاء في {حُلِيِّهِمْ} قولهم: قِسيٌّ من جمع (قوس)، ألا ترى أنا لا نعلم أحدًا يسكن إلى روايته حكى فيه غير الكسر في الفاء، فهذا مما يدل على تمكن الكسرة في هذا الباب الذي هو الجمع، وأما ما كان من هذا النحو واحداً كالمُضي والصُلي مصدر صَلِيَ، فإن الفاء منه لا يكسر كما كُسِر في المجموع؛ لأن الواحد لم يتغير فيه المعنى كما تغير في الجمع، على أن أبا عمر (¬1) حكى عن أبي زيد (أوَى إليه إويًا بالكسر) (¬2)، فأما قوله: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]، وقال في أخرى (¬3): {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] فإن الواو في (العتو) لما كان طرفًا أبدل في الجمع، ولا يلزم فيه البدل كما يلزم في الجمع) (¬4). ¬

_ (¬1) في النسخ: "عمرو" والتصحيح من "الحجة" لأبي علي 4/ 86 وهو: صالح بن إسحاق الجرمي مولاهم أبو عمر البصري، إمام نحوي، لغوي، صدوق، ورع، فقيه، أخذ عن أبي زيد وأبي الحسن الأخفش وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم وله مصنفات مفيدة منها "الفرخ" في النحو، والأبنية، والعروض، توفي سنة 225 هـ. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ص 84، و"تاريخ بغداد" 9/ 313، و"أنباه الرواة" 2/ 80، و"معجم الأدباء" 12/ 5، و"وفيات الأعيان" 2/ 485، و"البلغة" ص 113. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 236 (أوى). (¬3) في (أ): (أخريهم)، وهو تحريف. (¬4) "الحجة" لأبي علي 4/ 80 - 88 مع بعض الاختصار، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 423، و"إعراب القراءات" 1/ 207، و"الحجة" لابن خالويه ص 164، ولابن زنجله ص 296، و"الكشف" 1/ 477.

وكانت قصة الحلي والعجل على ما ذكره المفسرون (¬1): (إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي، فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم، فلما أخرجهم الله من مصر وغرقهم بقيت تلك الحلي في أيديهم، فجمع السامري ذلك الحلي، وكان رجلاً مطاعًا فيهم ذا قدر، وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلهًا يعبدونه كما رأوا قوم فرعون يعبدون أصنامًا، فصاغ السامري عجلاً، وجعله في بيت، وأعلمهم أن إلههم وإله موسى عنده، فذلك قوله: {عِجْلًا جَسَدًا}. قال الزجاج: (والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط) (¬2). وقال الفراء: (كان جسدًا مجوفًا) (¬3). وأكثر أهل التفسير (¬4) على: أنه صار جسدًا ذا لحم ودم، قال وهب: (جسدًا لحمًا ودمًا) (¬5). [و] (¬6) قال قتادة: (جعله الله جسدًا لحمًا ودمًا له خوار) (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج الطبري في "تفسيره" 9/ 62 قصة الحلي والعجل بسند ضعيف عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ومن طرق جيدة عن مجاهد والسدي وابن زيد وابن إسحاق. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 377، و"إعراب القراءات" لابن خالويه 1/ 208 , و"تفسير السمرقندي" 1/ 570. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 377 ومثله قال النحاس في "معانيه" 3/ 80 - 81. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 393. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 283، وذكر هذا القول ابن عطية 6/ 82، وقال: (وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك) اهـ. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف" 197 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 243. (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (¬7) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 236، وابن أبي حاتم 5/ 1568 بسند جيد.

وقال عطاء: (قال الله تعالى لموسى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} [طه: 85]، قال موسى: يارب هذا السامري أخرج لهم عجلًا من حليهم، فمن (¬1) جعل له جسدًا؟ يريد الجسم (¬2) واللحم والدم، ومن جعل له خوارًا؟ قال الله [تعالى] (¬3): أنا، قال موسى: وعزتك وجلالك ما أضلهم غيرك، قال: صدقت يا حكيم الحكماء) (¬4). وقال الحسن: (قبض السامري قبضة [تراب] (¬5) من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في (¬6) العجل، فتحول لحمًا ودمًا) (¬7). قال أبو إسحاق: (ويقال في التفسير: إنه سمع صوته مرة واحدة فقط) (¬8). وهذا يروى عن ابن عباس (¬9) كما قاله الحسن وأبو إسحاق (¬10): (إن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب أثر فرس جبريل، ثم ألقاها في العجل وأنه خار خورة واحدة ولم يثن). وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}. قال ابن ¬

_ (¬1) في (ب): (من جعل). (¬2) في (ب): (يريد بالجسم اللحم والدم). (¬3) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ). (¬4) لم أقف عليه، وهو أثر غريب منكر. (¬5) لفظ: (تراب) ساقط من (أ)، وملحق أعلى السطر في (ب). (¬6) في (أ): (ذلك التراب في فيِ العجل). (¬7) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 46، والواحدي في "الوسيط" 2/ 243. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 377، ومثله قال الفراء في "معانيه" 1/ 393. (¬9) أخرجه الطبري 9/ 62 من طرق ضعيفة، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1568 من طرق جيدة. (¬10) ليس في "معاني الزجاج" 2/ 377 أنه أخذ من أثر الفرس، ولعل الواحدي يقصد أنه خار مرة واحدة فقط.

149

عباس: (يريد: لا يرشدهم إلى دين) (¬1)، يريد: العجل. قال أصحابنا: (هذا يدل على أن من لا يكون متكلمًا لا يجوز أن يكون إلهًا، وأن الإله هو الذي يتكلم ويهدي السبيل) (¬2). وقول: {اتَّخَذُوهُ} أي: إلهًا ومعبودًا، كقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51]. أي: إلهًا. وقد مر. وقوله تعالى: {وَكَانُوا ظَالِمِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: مشركين) (¬3). قال أهل المعاني: (وهذه الآية إخبار عن جهل بني إسرائيل في اتخاذهم العجل إلهًا وهو لا يهديهم سبيلاً، ولا يستطيع كلامًا فيدعو إلى رشدٍ أو يصرف عن غيّ) (¬4). 149 - قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}، قال ابن عباس (¬5) والمفسرون (¬6): (أي: ندموا على عبادتهم العجل). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 243 بلا نسبة. وقال الزجاج 2/ 378 في معنى الآية: (أي: لا يبين لهم طريقًا إلى حجة) اهـ. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 62. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 243، وابن الجوزي 3/ 262. (¬4) قال الطبري 3/ 117 في معنى الآية: (يخبر جل ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل، وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السموات والأرض ومدبر ذلك لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير ...) اهـ. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 128، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 244. (¬6) انظر "مجاز القرآن" 1/ 228، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 150، و"تفسير غريب القرآن" 180 - 181، و"تفسير الطبري" 9/ 62، والسمرقندي 1/ 571، والبغوي 3/ 283، وقال الرازي 7/ 15: (اتفقوا على أن المراد اشتد ندمهم على عبادة العجل) اهـ.

قال الفراء: (يقال: سُقِط في يده وأُسْقِط من الندامة، وسُقط أكثر وأجود) (¬1). وقال الزجاج: (يقال للرجل النادمِ على ما فعل الخَسِرِ على ما فرط منه: قد سُقِط في يده وأُسْقِط) (¬2). قال الأزهري: (وإنما حَسَّنَ قولَهم: سقط في يده، بضم السين غير مسمًّى فاعله الصفةُ وهي قولهم: (في يده)، ومثله قول امرؤ القيس: فدع عنك نهبًا صيح في حَجَراته ... ولكن حديثًا ما حديث الرواحل (¬3) أي: صاح المنتهب في حجراته، وكذلك (¬4) المراد: سقط الندم في يده) (¬5) انتهى كلامه. فقد بان بقول المفسرين وأهل اللغة أن قولهم: (سُقط في يده) معناه: نَدِم، وأن هذا اللفظ يستعمل في صفة النادم، فأما القول في أصله ومأخذه فلم أر لأحد من الأئمة فيه شيئًا أرتضيه إلا ما ذكره أبو القاسم الزجاجي، وهو أنه قال: (قوله: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} بمعنى (¬6) ندموا، نظمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب، ولم يوجد ذلك في أشعارهم، والذي يدل على صحة ذلك أن شعراء الإسلام لما سمعوا هذا النظم واستعملوه في ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 393 وفيه زاد (وأسقط لغة). وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 310. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 378، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 81. (¬3) "ديوانه" ص 135، و"اللسان" 4/ 2039 (سقط)، و"الدر المصون" 5/ 461، وفي "الديوان" (دع) بدل فدع، والنهب: الغارة والسلب، وحجراته: نواحيه، والرواحل: النوق. (¬4) في (ب): (ولذلك)، وهو تحريف. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1713 (سقط). (¬6) في (ب): (معناه).

كلامهم خفي عليهم وجه الاستعمال؛ لأن عادتهم لم تَجْرِ بِهِ، فقال أبو نواس (¬1): ونشوة سقطت منها في يدي (¬2) وأبو نواس هو العالم النّحْرِير (¬3) فأخطأ في استعمال هذا اللفظ؛ لأن فُعِلتْ لا يبنى إلا من فعل (¬4) متعدٍّ وسُقط لازم لا يُعدى إلا بحرف الصفة. لا يُقال: سُقِطت كما لا يقال: رُغِبتُ، وغُضبتُ، إنما يقال: رُغِب فيّ، وغضْبَ عليّ، وذكر أبو حاتم (¬5): (سُقط فلان في يده، بمعنى: ندم)، وهذا خطأ مثل قول أبي نواس؛ لأنه لو جاز: سُقط فلان في يده، لجاز: سقطت في يدي، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان النظم: ولمّا سُقطوا في أيديهم، أو سقط القوم في أيديهم. ¬

_ (¬1) أبو نُواس: هو الحسن بن هانئ الحكمي مولاهم أبو علي البصري، شاعر مشهور، عالم باللغة، فصيح، أخذ عن أبي زيد وأبي عبيدة وغيرهما، وهو شاعر مجيد، لكن فسقه ظاهر، أكثر من النظم في المجنون والخمر والغلمان، وغلب عليه اللهو، وذكر عنه التوبة في آخر عمره. توفي سنة 195 هـ أو بعدها وقد قارب الستين سنة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 538، و"تاريخ بغداد" 7/ 436، و"وفيات الأعيان" 2/ 95، "لسان الميزان" 7/ 115، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 4/ 257، و"الإعلام" 2/ 225. (¬2) ليس في "ديوانه"، ولم أقف على تكملته. ونقله السمين في "الدر" 5/ 462 عن الواحدي، وذكره الميداني عن الزجاجي في "مجمع الأمثال" 2/ 331. (¬3) النّحْرِير: الحاذق الماهر العاقل المجرب وقيل: الرجل الفطن المُتْقِن البصير في كل شيء، انظر: "اللسان" 7/ 4365 (نحو). (¬4) انظر: "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" للصفدي ص 314. (¬5) أبو حاتم: هو سهل بن محمد بن عثمان السجستاني. تقدمت ترجمته؛ والنص عنه في "مجمع الأمثال" 2/ 331، وانظر "اللسان" 4/ 2038، و"التاج" 10/ 283 (سقط).

وحقيقة معنى السقوط (¬1): نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ولهذا قالوا: سقط المطر، وسممى الجليد سَقِيطًا , ويقال: سقط من يدي شيء، وأسْقَطت المرأة ولدها، ومنه سَقْط النار والولد، وسِقْطا الخِبَاء: جانباه اللذان يسقطان على الأرض، هذا أصل، ثم توسعوا واستعاروا هذه اللفظة حيث لا يكون هناك نزول من أعلي إلى أسفل تشبيهًا، فقالوا للخطأ من الكلام: سَقَط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، ويقال للرجل إذا أخطأ: كان ذلك منه سَقطة (¬2)، شبهوا ذلك [بـ] السقطة (¬3) على الأرض، ومعنى {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: سقط الندم في أيديهم، ولم يذكر الندم، وقيل: سُقط، على ما لم يُسم فاعله، كما يقال: رُغب في فلان، على ما بيَّنا، وذكر اليد هاهنا لوجهين: أحدهما: أنه يقال للذي يحصل على شيء، وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد: قد (¬4) حصل في يده مكروه، يُشَبَّه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد بالذكر لأن مباشرة الذنوب بها، فاللائمة ترجع عليها لأنها هي الجارحة العظمى فيسند إليها ما لم تباشره كقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، وكثير من الذنوب لم تقدمه اليد (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: (سقط) في "العين" 5/ 71، و"الجمهرة" 2/ 835، و"الصحاح" 3/ 1132، و"المجمل" 2/ 466، و"مقاييس اللغة" 3/ 86، و"المفردات" ص 414. (¬2) في (ب): (سقطًا). (¬3) لفظ: (الباء) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (فقد)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 286.

الوجه الثاني: أن الندم حدث يحصل في القلب (¬1)، وأثره يظهر في اليد؛ لأن النادم (¬2) يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42]. فتقليب الكف عبارة عن الندم؛ لأن من ندم على شيء قلب كفيه وصفق اليمنى على اليسرى تحسرًا على ما فعل. ومن هذا أيضاً قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27]، أي: ندمًا وتحسرًا على كفره بالله، فلما كان أثر الندم يحصل في اليد من الوجه الذي ذكرنا أضيف سقوط الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فعل النادم هو تقليب الكف وعض الأنامل واليد، كما أن السرور معنى في القلب يستشعره الإنسان، والذي يظهر من حاله الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه، والقراءة المشهورة {سُقِطَ} على ما لم يسم فاعله، وهذا الفاعل إذا ظهر لا بد من أن يكون الندم على ما ذكره الزجاج وغيره) (¬3)، هذا الذي ذكرناه معنى كلامه، وبعض لفظه، وهو صحيح واضح لا غبار عليه. ¬

_ (¬1) في (ب): (يحصل بالقلب). (¬2) انظر: "مجمع الأمثال" 2/ 331. (¬3) لم أقف عليه عن الزجاجي في كتبه بعد طول بحث عنه وذكره الميداني في "مجمع الأمثال" 2/ 331، عن الزجاجي مختصرًا، ونقله السمين في "الدر" 5/ 462 - 463، وجعل الكلام في ذكر اليد من قول الواحدي، وقال الرازي في "تفسيره" 15/ 8: (حكى الواحدي عن بعضهم أن هذا مأخوذ من السقيط، وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج، ومعنى سقط في يده أي: وقع في يده السقيط والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى، فصار مثلًا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل وكانت الندامة آخر أمره) اهـ. ملخصًا. وانظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 216، و"المستقصى" 2/ 119.

150

[و] (¬1) قوله تعالى: {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} أي: وعلموا أنهم قد ابتلوا بمعصية الله، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} الآية. وهذا الندم والاستغفار إن كان بعد رجوع موسى إليهم. 150 - قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}، اختلفوا في معنى: الأسف؛ فقيل الأسف: الشديد الغضب، وهو قول أبي الدرداء (¬2)، وعطاء عن ابن عباس (¬3) واختيار الزجاج (¬4)، واحتجوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]. أي: أغضبونا، واختاره ابن قتيبة أيضاً فقال: (يقال: آسفني فأسفت أي: أغضبني فغضبت، ومنه قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (¬5). و (¬6) قال ابن عباس (¬7) والسدي (¬8) والحسن (¬9): (الآسف الحزين)، ¬

_ (¬1) لفظ: (الواد) ساقط من (ب). (¬2) أخرجه الطبري 9/ 64 بسند ضعيف، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 197 ب، والبغوي 3/ 284 وابن الجوزي 3/ 263، والرازي 15/ 10، والقرطبي 7/ 286، ابن كثير 2/ 276، والسيوطي في "الدر" 3/ 235. (¬3) ذكره الرازي 15/ 10. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 378 واختاره أكثرهم. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 228، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 150، "تفسير الطبري" 9/ 64، و"معاني النحاس" 3/ 82، و"نزهة القلوب" ص 74. (¬5) "تفسير غريب القرآن" ص 173. (¬6) (الواو): ساقطة من (ب). (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1569 من طرق جيدة، وذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 262، والسيوطي في "الدر" 3/ 235. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 63 بسند جيد، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 197 ب، والبغوي في "معالم التنزيل" 3/ 284، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 286 - 287 عن ابن عباس والسدي. (¬9) أخرجه الطبري 9/ 64 بسند جيد، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 263 =

ونحو ذلك قال الكلبي (¬1)، والقولان متقاربان (¬2)؛ لأن الغضب من الحزن؛ والحزن من الغضب، فإذا (¬3) جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت، وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، يسمى أحدهما: حزنًا، والآخر: غضبًا، وأصلهما أن يصيبك ما تكره. يدل على هذا ما قاله الليث: (الأسَفُ في حال الحُزن، وفي حال الغَضَب إذا جاءك أمر ممن هو دونك فأنت أسف [أي: غضبان، وقد آسَفَك، وإذا جاءك أمر ممن هو فوقك (¬4) فحزنت له ولم تطقه فأنت أسف] (¬5) أي: حزين) (¬6). ومن هذا قال القائل (¬7): فحُزْنُ كل أخي حزنٍ أخو الغضب فبين مقاربة ما بينهما، وعلى هذين المعنيين استعملت العرب الأسف. قال الأعشى: ¬

_ = والرازي 14/ 10 عن ابن عباس والحسن والسدي. (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 128، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 244 عن الكلبي والسدي. (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 6/ 86، ونقل قول الواحدي، الرازي 15/ 10. (¬3) في (ب): (وإذا). (¬4) في "العين" 7/ 311: (ممن هو فوقك أو من مثلك فأنت أَسِف)، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 161، عن الليث: (وإذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه ..). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 161. (¬7) "الشاهد" لأبي الطيب المتنبي في "ديوانه" ص 436 وبلا نسبة في "المفردات" ص 75 (أسف)، و"الدر المصون" 5/ 466، و"عمدة الحفاظ" ص 16، و"بصائر ذوي التمييز" للفيروزأبادي 2/ 185 وأوله: (جزاك ربك بالأحزان مغفرة). وانظر شرح البيت في "شرح ديوان" المتنبي للواحدي ص 611.

أرى رجلاً منهم أسيفًا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفًّا مخضبا (¬1) يقول: كأن يده قطعت واختضبت بدمه فغضب لذلك، فهذا في الغضب، وأما في الحزن فما روى في حديث عائشة -رضي الله عنها (¬2) - أنها قالت: إن أبا بكر رجل أسيف (¬3). قال أبو عبيد: (الأسيف: السريع الحزن والكآبة (¬4)، قال: ويقال من هذا كله: أسفت آسف أسفا) (¬5)، فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل {أَسِفًا} حزينًا لأن الله فتنهم، وقد كان قال له: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 85]. ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 80، و"مجالس ثعلب" ص 38، و"تهذيب اللغة" 1/ 161، و"مقاييس اللغة" 1/ 103، و"اللسان" 1/ 79، و"الدر المصون" 5/ 466، وفي "الديوان" (رجلاً منكم) بدل (منهم). (¬2) في: (أ): (عنهما). (¬3) أخرجه البخاري (664) في الأذان باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، وفي باب: من أسمع الناس تكبير الإمام، رقم (712) وفي باب الرجل يأتم بالإمام وبأتم الناس بالمأموم رقم (713)، وفي كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]، وأخرجه مسلم رقم (418) كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرها رقم (3384)، عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقلت: (إنه رجل أَسيف ..) الحديث. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 161، و"غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 100 قال: (سريع الحزن والبكاء) اهـ. (¬5) "غريب الحديث" 1/ 100، و"تهذيب اللغة" 1/ 161، وزاد: (والأسف: الغضبان المتلهف على الشيء ومنه قوله تعالى: {غَضْبَانَ أَسِفًا} اهـ. وانظر: "المنجد" ص 108، و"الصحاح" 4/ 1330، و"المجمل" 1/ 95، و"مقاييس اللغة" 1/ 103، و"المفردات" ص 75 (أسف).

وقال الكلبي: {أَسِفًا} حزينًا لعبادة العجل (¬1). وقوله تعالى: {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} (¬2) (¬3). أي: بئسما عملتم بعدي، يقال: خلّفه بما يكره، وخَلَفه بما يحب إذا عمل خلفه ذلك العمل. قال ابن عباس: (يريد: اتخاذهم العجل وكفرهم بالله) (¬4). وقوله تعالى: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}. معنى العَجَلة (¬5): المتقدم بالشيء قبل وقته، ولذلك صارت مذمومة، والسرعة غير مذمومة؛ لأن معناها: عمل الشيء في أقل أوقاته. قال الفراء (¬6) والزجاج (¬7): (يقال: عجلت الشيء إذا سبقته، وأعجلته أي: استحثثته). ومعنى {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} (¬8). قال ابن عباس: (يعني: ميعاد ربكم فلم تصبروا له) (¬9). ¬

_ (¬1) في النسخ: (إنا قد فتنا)، وهو تحريف. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 128، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 244. (¬3) في (ب) تكرار: (من بعدي). (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 244. (¬5) انظر: "العين" 1/ 227، و"الجمهرة" 1/ 482، و"تهذيب اللغة" 3/ 2341، و"الصحاح" 5/ 1759، و"المجمل" 3/ 649، و"مقاييس اللغة" 4/ 237، و"المفردات" ص 548، و"اللسان" 5/ 2821 (عجل). (¬6) "معاني الفراء" 1/ 393، ومثله قال الطبري 9/ 64. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 378. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬9) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 245، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 264، والرازي 15/ 11.

وقال الحسن (¬1): (وعد ربكم الذي وعدتم من الأربعين ليلة، وذلك أنهم قدروا أنه مات لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة). وقال عطاء (¬2): (يريد: تعجلتم سخط ربكم). وقال الكلبي: (أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم) (¬3). وقوله تعالى: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ}. قال ابن عباس: (يريد: التي فيها التوراة) (¬4). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يرحم الله أخي موسى ما المُخبَر كالمعاين، لقد أخبره الله بفتنة قومه، فعرف أن ما أخبره ربه حق، وإنه على ذلك لمتمسك بما في يديه، فرجع إلى قومه ورآهم (¬5) فألقى الألواح" (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي 2/ 263، والواحدي في "الوسيط" 2/ 245، والبغوي 3/ 284، وابن الجوزي 3/ 264، والرازي 15/ 11. (¬2) ذكره الرازي 15/ 11. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 228، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 245، والبغوي 3/ 284، والرازي 15/ 11. (¬4) ذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "الوسيط" 1/ 245، والبغوي 3/ 284، وابن الجوزي 3/ 264، والرازي 15/ 11. (¬5) في (ب): (ورآلهم) وهو تحريف. (¬6) أخرج أحمد في "المسند" 4/ 147 رقم 2446 - تحقيق أحمد شاكر، وابن أبي حاتم 5/ 1570، والحاكم في "المستدرك" 2/ 321 من طرق جيدة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت" اهـ. واللفظ لأحمد. وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي في "التلخيص". وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 235، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد والبزار وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه). =

وقوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}. قال الكلبي: (بذؤابة أخيه، وشعره بيده اليمنى، ولحيته باليسرى) (¬1). وقال ابن الأنباري: (8) رجع موسى فوجدهم مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه، وأقبل على أخيه هارون بالملامة، ومد يده إلى رأسه لشدةٍ موجدته عليه، إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى بنو إسرائيل إليه من الأمر العظيم ليرجع فيتلافاهم، وهذا بيِّن في قوله: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} [طه: 92]، فأعلمه هارون أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفًا على نفسه من القتل، وهذا بيّن في قوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}، فكان مد موسى يده إلى رأس أخيه عند توهمه أنه قد عصى الله بمقامه وتركه اللحوق به، وتعريفه ما أحدث قومه بعده، فلما سمع [موسى] (¬2) اعتذار هارون، زال عنه ما كان لحقه مما توهمه على أخيه، و {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} (¬3) الآية) (¬4). ¬

_ = وأخرج أحمد 3/ 254 رقم 1842، والقضاعي في "مسند الشهاب" 2/ 201 - 202 رقم 1182 - 1184، والخطيب في "تاريخ بغداد" 3/ 360 - و8/ 28 من طرق جيدة، عن أنس وأبي هريرة وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الخبر كالمعاينة" اهـ. وانظر: "المفاسد الحسنة" للسخاوي ص 414، و"كشف الخفاء" 2/ 168. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 245. (¬2) لفظ: (موسى) ساقط من (ب). (¬3) لفظ: ({وَلِأخَى}) ساقط من (أ). (¬4) ذكر الواحدي في "الوسيط" 2/ 245 عن الكلبي نحوه. وذكره ابن الجوزي 3/ 264 بلا نسبة.

وقوله تعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} قرئ بكسر الميم وفتحها (¬1)، [فـ] من (¬2) كسر الميم فقال الزجاج: (فإنه أضاف إلى نفسه بعد أن جعلها (¬3) اسمًا واحداً)، فعلى هذا قولهم: يا ابن أُمِ، بمنزلة يا غلامِ أقبل، تحذف الياء؛ لأن النداء باب حذف، وتبقى الكسرة دليلًا على المحذوف. قال الفراء: (وذلك أنه كثر في الكلام، فحذفت العرب منه الياء، ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه إلا قولهم: يا ابن عمِّ ويا ابن أم، وذلك أنه يكثر استعمالهما (¬4) في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا (¬5) الياء فقالوا: يا ابن أبي، ويا ابن أخي، ويا ابن خالتي) (¬6). انتهى كلامه. ومعنى هذا: إن الياء لا تحذف إلا من المنادى إذا أضفته إلى نفسك نحو: يا غلام، ولا تحذف من الاسم مع المضاف إليه المنادى إذا أضفته إلى نفسك نحو (¬7): يا غلام غلامي (¬8) لا يجوز حذف الياء هاهنا، وكذلك ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} بكسر الميم، وكذلك في آية {يَبْنَؤُمَّ} [طه: 94]، وقرأ الباقون بفتحهما. انظر: "السبعة" ص 295، و"المبسوط" 185، و"التذكرة" 2/ 426، و"التيسير" ص 113، و"النشر" 2/ 272. (¬2) لفظ: (الفاء) ساقط من (ب). (¬3) في (أ): (جعلهما)، وفي "معاني الزجاج" 2/ 278 (جعله). (¬4) في (ب): (استعمالهم). (¬5) في (ب): (بينوا). (¬6) "معاني الفراء" 1/ 394. (¬7) لفظ: (نحو) ساقط من (ب). (¬8) في (ب): (يا غلام يا غلامي).

يا ابن أبي، ويا ابن أخي، وجاز في يا ابن أم، ويا ابن عم لكثرتهما (¬1) في الكلام، فجعل الابن مع الأم والعم اسمًا واحداً وحذفت الياء كما حذفت من يا غلام، وقد جاء يا ابن أمي بإثبات الياء على الأصل كقول أبي زبيد: يا ابن أمي ويا شُقَيِّقَ نفسي ... أنت خَلَّيْتَني لدهر كؤودِ (¬2) قال سيبويه: (فهذا بمنزلة القصوى الذي استعمل فيه الأصل الذي رفض في غيره) (¬3). وهذا الذي ذكرنا قول البصريين والكوفيين بلا اختلاف بينهما. فأما (¬4) من فتح فقال: {ابْنَ أُمَّ} فمذهب البصريين (¬5) فيه أنهم جعلوا: ابن وأم شيئًا واحداً نحو: خمسة عشر، ومذهب الكوفيين أنهم ¬

_ (¬1) في (ب): (لكثرتها). (¬2) "ديوانه" ص 48، و"الكتاب" 2/ 213، و"تفسير الطبري" 9/ 67، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 293، و"الحجة" لأبي علي 4/ 90، و"اللسان" 4/ 2301 (شقق)، وبلا نسبة في: "المقتضب" 4/ 250، و"معاني الزجاج" 2/ 379، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 639 - 640، و"إعراب القراءات" 1/ 209، و"التفسير" للماوردي 2/ 264، و"الأمالي" لابن الشجري 2/ 294، وهذه هي رواية النحاة في كتبهم والشاهد: يا ابن أمي، حيث أثبت الياء وهو قليل، والرواية في الديوان: يا ابن خنساء شق نفسي يا ... لجلاج خليتني لدهر شديد وهو من قصيدة طويلة يرثى بها ابن أخته لجلاج، انظر: "الاختيارين" للأخفش ص 5418، و"جمهرة أشعار العرب" ص 262. (¬3) هذا نص قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 4/ 90، ولم أقف عليه عن سيبويه، وانظر: "الكتاب" 2/ 213 - 214. (¬4) في (ب): (وأما). (¬5) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 310، و"الزجاج" 2/ 278، و"إعراب النحاس" 1/ 460.

قالوا: يا ابن أم ويا ابن عم فنصبوا كما ينصب المفرد في بعض الأحوال نحو: يا حسرتا ويا ويلتا، فكأنهم قالوا: يا أماه ويا عماه، وهذا قول الفراء (¬1)، وعلى هذا الفتحة في (ابن) كالفتحة في المنادي المضاف والفتحة في (أم) كالفتحة في أمّاه وعمّاه، والصحيح قول البصريين، وهو أن الفتحة في ابن كالفتحة في خمسة من قولهم: خمسة عشر، والفتحة في أم كالفتحة (¬2) في عشر. فإن قيل: لما لا يجوز أن يكون المراد يا ابن أمّا فحذف الألف كما حذفت ياء الإضافة في: يا غلام؟ قيل: ليس مثله، ألا ترى أن من حذف الياء من يا غلام أثبتها في يا غلام غلامي فلو كانت الألف مقدرة في يا ابن أم لم تحذف كما لم تحذف في قوله (¬3): ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 394، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 67 - 68. (¬2) هنا في: (أ) وقع تكرار وخلط ففيها: (والصحيح قول البصريين وهو أن الفتحة في ابن كالفتحة في خمسة من قولهم خمسة عشر والفتحة في أم كالفتحة في أماه وعماه والصحيح قول البصريين وهو أن الفتحة في ابن كالفتحة في خمسة من قولهم خمسة عشر والفتحة في أم كالفتحة في عشر فإن قيل ..). (¬3) "الشاهد" لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي في "ديوانه" ص 134، و"الكتاب" 2/ 214، و"النوادر" ص 19، و"الأصول" 1/ 342، و"الجمل" للزجاجي ص 160، و"الصحاح" 5/ 1992 (عمم) "الأمالي" لابن الشجري 2/ 295، و"اللسان" 5/ 3111 (عمم)، وبلا نسبة في "المقتضب" 4/ 252، و"الحجة" لابن خالويه ص 165، و"الحجة" لأبي علي 4/ 91، و"البغداديات" ص 506، و"العسكريات" ص 135، و"معاني الحروف" للروماني ص 148، و"المحتسب" 2/ 238، و"المدخل" للحدادي ص 547، و"رصف المباني" ص 235، و"الدر المصون" 5/ 468، وهو رجز بعده. لا تسمعيي منك لومًا واسمعي =

يا ابنة عمَّا لا تلومي واهجعي فالألف لا تحذف حيث تحذف الياء، ألا ترى أن من قال: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] فحذف الياء من الفواصل لم يكن عنده في نحو {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2] إلا الإثبات. فإن قيل: فما تقولون (1) في بيت الكتاب: رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ (2) وهو يريد: المعلى؟ وفيما أنشد أبو الحسن: فلست بمدرك ما فات مني ... بلهفَ ولا بليتَ ولا لو اني (3)

_ = الشاهد فيه: يا ابنة عما، والأصل يا ابنة عمي فقلب الياء ألفًا كراهة اجتماع الكسرة والياء. (1) في (ب): (فما تقول). (2) الشاهد: للبيد بن ربيعة في ملحق "ديوانه" ص 199، و"الكتاب" 4/ 188، و"مجاز القرآن" 2/ 160، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 448، و"كتاب الكتاب" لابن درستويه ص 104، و"الحجة" لأبي علي 1/ 141، و"البغداديات" ص 506، و"الخصائص" 2/ 293، و"الأمالي" لابن الشجري 2/ 293، و"اللسان" 3/ 1603 (رجم)، وبلا نسبة في "الجمهرة" 1/ 466، و"العسكريات" ص 133، و"المحتسب" 1/ 342، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 522، و"المقرب" 2/ 29، وصدره: وقبيل من لكيز شاهد والشاهد: ابن المعل، والأصل المعلى فحذف للضرورة، وقبيل: القبيلة، وشاهد أي حاضر، ولكيز من عبد قيس، ومرجوم: لقب رجلاً من عبد قيس، وابن المعلى هو جد الجارود بن بشير بن عمرو بن المعلى، أفاده عبد السلام هارون -رحمه الله تعالى- في حاشية الكتاب 4/ 188. (3) لم أعرف قائله وهو في: "معاني الأخفش" 1/ 65، و"الحجة" لأبي علي 4/ 92، =

يريد: بلهفى، فحذف الألف؟ قال أبو علي الفارسي: (والجواب: أن ذلك يجوز في الشعر (¬1) ولا يجوز في الاختيار وحال السعة، ولا ينبغي أن جمل قوله: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ} (¬2) [طه: 94] على هذا) (¬3). وقال أبو علي في هذه المسألة في سورة طه: (من (¬4) قال: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ} [طه: 94] أراد يا ابن أمَّا فحذف الألف كما يحذف الياء من غلامي في النداء [إذا قال: يا غلام وحذف الياء، من المضاف إليه، وإن كانت لا تحذف من المضاف إليه] (¬5) إذا قال: يا غلام غلامي، كما تحذف من المضاف إذا قال: يا غلام؛ لأن هذا الاسم قد كثر استعماله فيغير عن أحوال النظائر، والفتحة في {ابْنَ} على هذا نصبة كما أنها في قولك: يا غلام أمي، كذلك. قال: ويجوز أن يكون جعل ابن وأمّ جميعًا بمنزلة اسم واحد فبناهما على الفتح، والفتحة في الأول ليست بنصبة كما كانت في الوجه الأول، ولكنها بمنزلة الفتحة في خمسة من خمسة عشر، والاسمان في موضع ضم بالنداء، فهذان وجهان. ومن قال: {قَالَ يَبْنَؤُمِ} بالكسر، احتمل أيضًا ¬

_ = و"العسكريات" ص 134، و"كتاب الشعر" 1/ 282، و"الخصائص" 3/ 135، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 521، و"المحتسب" 1/ 277، و"الأمالي" ابن الشجري 2/ 293، و"الإنصاف" 1/ 390، و"المقرب" 1/ 181، و"الممتع" 2/ 622، و"اللسان" 7/ 4087 (لهف). (¬1) في (ب): (والجواب أن ذلك يجوز في الاختيار وحال السعة)، وهو تحريف. (¬2) "الحجة" لأبي علي 4/ 92، وما قبله منه أيضاً. انظر: "الحجة" 4/ 89 - 93. (¬3) أي: بالفتح. (¬4) في (ب): (ما قال)، وهو تحريف. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

151

أمرين: أحدهما: أن يكون أضاف ابنا إلى أم، وحذف الياء من الثاني، وكان الوجه إثباتها مثل: يا غلام غلامي، والآخر: أن يكون جعل الاسم الأول مع الثاني اسمًا واحداً وأضافه إلى نفسه، ثم حذف الياء، كما تحذف من أواخر المفردة نحو: يا غلام) (¬1). قال المفسرون (¬2): (وكان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، وإنما قال. {يَا ابْنَ أُمَّ} ليستعطفه عليه ويرققه) (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي}). قال الكلبي: (استذلوني وقهروني) (¬4). {وَكَادُوا} وهمّوا أن {يَقْتُلُونَنِي} {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} يعني: أصحاب العجل. {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الذين عبدوا العجل، أي: في موجدتك (¬5) عليّ، وعقوبتك لي لا تجعلني معهم (¬6). 151 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي}. قال الكلبي: (رب اغفر لي ذنبي أي: ما صنعت إلى أخي) (¬7)، يريد: ما أظهرت من الموجدة على هارون وهو بريء مما يوجب العتب عليه؛ لأنه لم يكن منه تقصير في ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 5/ 248، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 425، و"إعراب القراءات" 1/ 280، و"الحجة" لابن خالويه ص 164، ولابن زنجلة ص 297، و"الكشف" 1/ 478. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 68، والسمرقندي 1/ 571، والبغوي 3/ 284. (¬3) في (ب): (ويرفقه). (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 129، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 246. (¬5) وَجَدت عليه مَوْجِدَة أي: غضبت، ووجدت عليه أي: حزنت وانظر: "اللسان" 8/ 4770 (وجد). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 69، والسمرقندي 1/ 571. (¬7) "تنوير المقباس" 2/ 129.

152

الإنكار على عبدة العجل. إذ بلغ الأمر به أن (¬1) هموا بقتله لشدة إنكاره. وقوله تعالى: {وَلِأَخِي}. إنما استغفر لأخيه لأنه ظنه مقصرًا في الإنكار على عبدة العجل، وإن لم يقع ذلك التقصير منه، [و] (¬2) كأنه يقول: اغفر لأخي إن قصر في الإنكار، كذلك (¬3) قال أهل المعاني (¬4) في استغفار موسى لأخيه هاهنا. وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ}. قال عطاء عن ابن عباس (¬5): (يريد: في سعة جنتك). وقوله تعالى: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. إخبار عن موسى أن الله تعالى بهذه الصفة، وهو يدل على قوة طمع الداعي في نجاح طلبته لأن من هو {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يُؤمل منه الرحمة. 152 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} الآية، قد ذكرنا (¬6) في مواضع أن المفعول الثاني من مفعولي الاتخاذ محذوف على تقدير: اتخذوا العجل إلهًا (¬7) ومعبودًا، يدل على هذا المحذوف قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88]، وللمفسرين، وأهل المعاني، في هذه الآية طريقان: ¬

_ (¬1) في (أ): (إذا بلغ الأمر به لاهموا) وهو تحريف. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (لذلك)، وهو تحريف. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 69، و"معاني النحاس" 3/ 83، والسمرقندي 1/ 571. (¬5) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" 2/ 129: (قال: في جنتك)، وذكر الواحدي في "الوسيط" 2/ 246 عن عطاء قال: (أي: في جنتك) اهـ. (¬6) انظر: "البسيط" البقرة: 51. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 70، و"معاني الزجاج" 2/ 379 , والنحاس 3/ 84.

أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل: الذين باشروا عبادة العجل. وقوله تعالى: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: في الدنيا) (¬1)، يعني: أولئك تيب (¬2) عليهم بقتلهم أنفسهم فلا يلحقهم الغضب في الآخرة، وتفسير هذا الغضب في الدنيا قاله أبو العالية؛ قال: (هو ما أمروا به من قتلهم أنفسهم) (¬3). وقوله تعالى: {وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قال الزجاج: (الذلة لحقتهم بأنهم رأوا أنهم قد ضلوا فذلوا) (¬4). وعلى هذا معنى قوله: {سَيَنَالُهُمْ} -وقد نالهم الغضب و [الذلة] (¬5)، وهذه السين للاستقبال- هو أن هذه الآية إخبار (¬6) عما أخبر الله به موسى حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل، أخبره أيضًا أن أولئك سينالهم غضب وذلة، ويُحتاج إلى تقدير محذوف كأنه قيل: وقلنا لموسى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} الآية، والقول كثيراً ما يُضمر في الكلام. الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مذهب ابن عباس وعطية العوفي، قال ابن عباس: (هم الذين أدركوا النبي وآباؤهم الذين عبدوا العجل) (¬7). وقال في قوله (¬8): ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ب): (تبت). (¬3) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 أ، والبغوي 3/ 285. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 379، وفيه: (والذلة ما أمروا به من قتل أنفسهم). (¬5) لفظ: (الذلة) ساقط من (أ). (¬6) في (ب): (هو أن هذه الأخبار) وهو تحريف. (¬7) ذكره الخازن 2/ 292. (¬8) في (ب): (في قولهم) وهو تحريف.

{سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ}: (عذاب في الآخرة)، {وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قال: (وهي الجزية) (¬1). وقال العوفي: (أراد سينال أولادهم الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب وذلة)، قال: (وهو ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء) (¬2). وعلى هذا الطريق تحمل الآية على وجهين: أحدهما: أن العرب تُعيّر الأبناء بمعاير الآباء وتنسبها إليهم، كما تفعل ذلك في المناقب، وهو كثير في أشعارهم يقولون للأبناء: فعلتم كذا وكذا، وإنما فعل ذلك من مضى من آباءهم، كذلك هاهنا الله تعالى وصف [هؤلاء] (¬3) اليهود الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - باتخاذ العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك تعييرًا لهم كعادة (¬4) العرب. الوجه الثاني: أن الآية من باب حذف المضاف على ما ذكره عطية العوفي، والمعنى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} الذين باشروا ذلك {سَيَنَالُهُمْ} (¬5) أي: سينال أولادهم ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 أ، والبغوي 3/ 285، وابن الجوزي 3/ 265، الخازن 2/ 292. (¬2) ذكره الثعلبي 198 أ، والواحدي في "الوسيط" 2/ 248، والبغوي 3/ 285، وابن الجوزي 3/ 266، الخازن 2/ 292. (¬3) لفظ: (هؤلاء) سقط من (ب). (¬4) في (ب): (لعادة). (¬5) لفظ: (سينالهم) سقط من (أ). (¬6) والقول الأول أظهر وهو أن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهًا لا لمن بعدهم =

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}. قال ابن عباس: (يريد: كذلك أعاقب من اتخذ إلهًا من دوني أو تولى غيري) (¬1). وقال أهل المعاني: (كل مفترٍ في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا، يؤكد هذا ما روي عن مالك بن أنس (¬2) [رحمه الله] (¬3) أنه قال: (ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية) (¬4)، والمبتدع مفتر في دين الله. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا}، قال ابن عباس (¬5): (يريد: الشرك، مثل قوله في النساء: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [النساء: 18]، {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} (¬6) أي: رجعوا عنها وتركوها، ¬

_ = من ذراريهم، وهو اختيار الجمهور، انظر: "تفسير الطبري" 9/ 69 - 70، و"معاني الزجاج" 2/ 379، و"تفسير ابن عطية" 6/ 90، والقرطبي 7/ 291 - 292، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 84: (وهذا القول أصح لأن الجزية لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذريتهم) اهـ. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 248، وابن الجوزي 3/ 266. (¬2) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني من تابعي التابعين، إمام حافظ ثقة، ثبت فقيه محدث، إمام دار الهجرة واحد أئمة المذاهب المتبوعة، أجمع العلماء على إمامته وجلالته وعلو مرتبته في الفقه والحديث، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير توفي -رحمه الله- سنة 179 هـ، وله 86 سنة انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 75، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 48، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 207، و"تهذيب التهذيب" 4/ 8 (¬3) لفظ: (رحمه الله) ساقط من (ب). (¬4) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ص 198، وذكره ابن الجوزي 3/ 266، والرازي 15/ 13، والقرطبي 7/ 292، والخازن 2/ 293، وأخرج الطبري 9/ 70، وابن أبي حاتم 5/ 1571، من عدة طرق جيدة عن أبي قلابة وسفيان بن عيينة نحوه. (¬5) لفظ: ({ثُمَّ تَابُوا}) ساقط من (أ). (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 129، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 248.

154

قال ابن عباس: (يعني: قبل حلول العذاب وقبل الموت). وقوله: {وَآمَنُوا}، قال: (يريد: صدّقوا أنه لا إله غيري ولا شريك معي) (¬1). 154 - قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}، قال المفسرون (¬2)، وأهل اللغة (¬3): (أي: سكن)، والسكوت أصله السكون والإمساك عن الشيء، وإنما يقال: سكت إذا أمسك عن الكلام، وجاز {سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}، ولا يجوز صمت هاهنا؛ لأن {سَكَتَ} بمعنى: سكن وصمت (¬4) معناه: سدّ فاه عن الكلام. قال أصحاب النظر: (وإنما قيل لسكون الغضب: سكوت، وليس الغضب مما يجوز أن يتكلم (¬5) لأنه لما كان بفورته (¬6) دالًا على ما في النفس للمغضوب عليه، كان بمنزلة الناطق بذلك، فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة الساكت عما كان متكلمًا). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 229، و"معاني الأخفش" 2/ 311، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 150، و"تفسير غريب القرآن" ص 181، و"تفسير الطبري" 9/ 71، و"نزهة القلوب" ص 264، و"معاني النحاس" 3/ 85، و"تفسير السمرقندي" 1/ 572، و"تفسير المشكل" ص 87 (¬3) انظر: "العين" 5/ 305، و"الجمهرة" 1/ 398، و"تهذيب اللغة" 2/ 1718، و"الصحاح" 1/ 253، و"المجمل" 2/ 468، و"مقاييس اللغة" 3/ 89، و"المفردات" ص 416، و"اللسان" 4/ 2046 (سكت). (¬4) انظر: "العين" 7/ 106، و"تهذيب اللغة" 2/ 2051، و"الصحاح" 1/ 256، و"المجمل" 2/ 540، و"معجم المقاييس" 3/ 308، و"اللسان" 4/ 2493 (صمت). (¬5) في (ب): (يتكلم به). (¬6) في (ب): (لأنه كان نفورته)، وهو تحريف.

وقال عكرمة: (المعنى: سكت موسى عن الغضب) (¬1) فقلب؛ كما قالوا: أدخلت القلنسوة (¬2) في رأسي، والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، قال أبو إسحاق: (والقول الأولى، الذي معناه: سكن، وهو قول أهل العربية) (¬3). وقوله تعالى: {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ}؛ لأنه كان قد ألقاها. وقوله تعالى: {وَفِي نُسْخَتِهَا}. قد ذكرنا معنى النسخ (¬4) فيما تقدم، وهو: اكتتابك كتابًا عن كتاب حرفًا بحرف، تقول: نَسَخْتُه وانْتَسَخْته، فالأصل نُسْخةٌ، والمكتوب عنه نُسخةٌ؛ لأنه قام مقامه (¬5). قال ابن عباس (¬6) وعمرو بن دينار (¬7): (لما ألقى موسى الألواح تكسرت، فصام أربعين يومًا، فردت عليه، وأعيدت الألواح، وفيها الذي في الأولى) (¬8). فعلى هذا معنى: {وَفِي نُسْخَتِهَا}. أي: فيما (¬9) نسخ منها، ¬

_ (¬1) ذكره الرازي 15/ 14، والقرطبي 7/ 293. (¬2) القَلَنْسُوة: من ملابس الرؤوس معروفة، انظر: "اللسان" 6/ 3720 (قلس). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 379، وقال الخازن 2/ 293: (والقول الأول أصح لأنه قول أهل اللغة والتفسير) اهـ. وقال السمين في "الدر" 5/ 472: (القول بالقلب ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه مع ما في القلب من الخلاف) اهـ. (¬4) انظر: "البسيط" النسخة الزهرية 1/ 78 ب. (¬5) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3558 (نسخ). (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 أ، والبغوي 3/ 285، والرازي 15/ 15, والقرطبي 7/ 293، والخازن 2/ 293. (¬7) عمرو بن دينار لعله: عمرو بن دينار الجمحي، أبو محمَّد المكي الأثرم، تقدمت ترجمته. (¬8) ذكره الثعلبي 198 أ، والبغوي 3/ 285، الخازن 2/ 293. (¬9) في (ب): (أي وفيما).

وإن كانت الألواح لم تتكسر، وأخذها موسى بعينها بعد ما ألقاها، فمعنى: {وَفِي نُسْخَتِهَا}. أي: وفي المكتوب فيها، وذلك المكتوب انتسخ من أصل فيسمى نسخة. وقوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ}. قال ابن عباس (¬1) وغيره (¬2): (هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب). {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}. قال: (يريد: الخائفين من ربهم) (¬3). واختلفوا في وجه دخول اللام في قوله {لِرَبِّهِمْ}؛ فقال الكسائي: (8) تقدم المفعول على الفعل حسنت اللام) (¬4)، قال: (وهذا مما مات من الغريب، وقد كان يقال: لك أكرمت، ولك حدثت (¬5)، فمات ولو قلت: (أكرمت لك) تريد: أكرمتك، كان قبيحًا، وهو جائز، كما تقول: هو مكرم لك، وهو ضارب لك، بمعنى: مكرمك وضاربك، فحسن في موضع وقبح في آخر والأصل واحد) (¬6). قال النحويون: (لمّا تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فيه، فصار بمنزلة ما لا يتعدى، فأدخل اللام) (¬7). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 130، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 أ، والخازن 2/ 293. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 71، و"معاني النحاس" 3/ 85، والسمرقندي 1/ 572. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 135، وذكره ابن الجوزي 3/ 267، والخازن 2/ 293. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 أ، والبغوي 3/ 286. (¬5) في (ب): (ولك حديث). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "اللامات" للزجاجي ص 147، و"الهروي" ص 34، وقال ابن هشام في "المغني" 1/ 217: (هي لام التقوية، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إما بتأخر نحو {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أو بكونه فرعا في العمل) اهـ.

155

وقال أبو علي الفارسي -وهو قول أكثر النحويين-: (قد يزاد بحروف الجر في المفعول، وإن كان الفعل متعديًا، وذلك نحو: قرأت السورة، وقرأت بالسورة (¬1)، وألقى يده، وألقى بيده، وفي القرآن {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، وفي موضع آخر {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ} [النور: 25] (¬2). فعلى هذا قوله: {لِرَبِّهِمْ} (¬3) اللام صلة وتأكيد كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]. وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73]، وقال بعضهم: إنها (¬4) لام أجلٍ، والمعنى: هم (¬5) لأجل ربهم (¬6) {يَرْهَبُونَ}. لا رياء ولا سمعة. 155 - قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}، الاختيار: افتعال من لفظ الخير، يقال: اختار الشيء أي: أخذ خيره وخياره (¬7)، وأصل اختار (اختير)، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفًا نحو: قال وباع، وفي الأسماء (دار) و (ناب)، أصلهما (¬8) دَوَرٌ ونَيَبٌ، ولهذا استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما: (مختار) والأصل (مُختَيِر) و (مُختَيَر)، فقلبت الياء فيهما ألفًا فاستويا في اللفظ (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (نحو قرأت السورة وألقى يده، وفي القرآن) وهو تحريف. (¬2) "الإيضاح العضدي" 1/ 197 - 198، وانظر: "المسائل العسكريات" ص 128. (¬3) في (ب): ({لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}). (¬4) في (ب): (وقال بعضهم ألها لام)، وهو تحريف. (¬5) في (ب): (والمعنى والذين هم). (¬6) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 311، و"تفسير الطبري" 9/ 71، و"إعراب النحاس" 1/ 641، و"التبيان" ص 391، و"والفريد" 2/ 367، و"الدر المصون" 5/ 472. (¬7) في (ب): (وختاره). (¬8) في (ب): (أصلها). (¬9) انظر: "العين" 4/ 301، و"البارع" ص224، و"تهذيب اللغة" 1/ 959، 960، =

قال جماعة النحويين (¬1): (معناه: واختار موسى [من] (¬2) قومه، فحذفت (من) ووصل الفعل فنصب، يقال: اخترت من الرجال زيدًا [واخترت الرجال زيدًا] (¬3). وأنشدوا قول الفرزدق (¬4): منَّا الذي اختير الرِّجالَ سماحة ... وجودًا إذا هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ قال الفراء: (وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طُرحت (من)؛ لأنه مأخوذ من قولك: هؤلاء خير القوم، وخير من القوم، فلما جازت الإضافة مكان (من) ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلاً، واخترت منكم رجلاً) (¬5) وأنشد للراعي (¬6): ¬

_ = و"الصحاح" 2/ 651، و"المجمل" 2/ 308، و"مقاييس اللغة" 2/ 233، و"المفردات" ص 301، و"اللسان" 3/ 1299 (خير). (¬1) انظر: "الكتاب" 1/ 37، و"معاني الأخفش" 2/ 312، و"المقتضب" 4/ 330، و"معاني الزجاج" 2/ 380، و"إعراب النحاس" 2/ 154. (¬2) لفظ: (من) ساقط من (ب). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "ديوانه" 2/ 418، و"الكتاب" 1/ 39، و"الكامل" 1/ 33، و"تفسير الطبري" 9/ 74، و"الأمالي" لابن الشجري 2/ 131، و"اللسان" (3/ 1299 (غير)، و"الدر المصون" 5/ 474 وبلا نسبة في "معاني الأخفش" 2/ 312، و"المقتضب" 4/ 330، و"معاني الزجاج" 2/ 380، و"إعراب النحاس" 1/ 642، وانظر شرحه في "الخزانة" 9/ 123 - 125. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 395. (¬6) الرّاعي: هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل النميري أبو جندل البصري، شاعر أموي، لقب بالراعي؛ لكثرة وصفه الإبل، وتوفي بعد سنة 90 هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 298، و"الشعر والشعراء" ص 265، و"الأغاني" 24/ 168، و"الأعلام" 4/ 188.

فقلت (¬1) له (¬2) اخترها قلوصًا سمينه ... وناب علينا مثلُ نابك في الحيا أراد: اختر منها، قال أبو علي: (والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني، من ذلك قولك: اخترت من الرجال زيدًا (¬3)، ثم يُتسع فيقال: اخترت الرجال زيدًا، وأستغفر الله من ذنبي، [وأستغفر الله ذنبي] (¬4)، وكذلك أمرت زيدًا الخير، وأمرته بالخير. قال الشاعر: أستغفر الله ذنبًا لست مُحْصِيَه (¬5) ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 259، و"الدر المصون" 5/ 473، وبلا نسبة في "معاني الفراء" 2/ 395، و"تفسير الطبري" 9/ 75، والقلوص: الفتية من الإبل، والناب: المسنة، والحيا: الخصب والمطر لإحيائه الأرض فتخصب، والحيا: الشحم والسمن، وصدره في الديوان، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 521: فقلت لرب الناب خذها ثنية (¬2) في (أ): (فقلت لها)، وهو تحريف. (¬3) النص في "الإيضاح العضدي" 1/ 200 وفيه: (فمن ذلك قولك: اخترت زيدًا من الرجال ..). (¬4) لفظ: (واستغفر الله ذنبي) ساقط من (ب)، وفي "الإيضاح": (واستغفرت الله ذنبي). (¬5) لم أعرف قائله وهو في "الكتاب" 1/ 37، و"معاني الفراء" 1/ 233، و"أدب الكاتب" ص 419، و"تأويل مشكل القرآن" ص 229، و"المقتضب" 4/ 331, و"الأصول" 1/ 178، و"الخصائص" 3/ 247، و"الصاحبي" ص 291، و"المخصص" 14/ 71، و"اللسان" 6/ 3274 (غفر)، و"الدر المصون" 5/ 474، وعجزه: ربُّ العباد إليه الوجه والعمل =

وقال آخر: أمرتُك الخير فافعل (¬1) ما أُمِرت به) (¬2) وقوله تعالى: {سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا}. قال السدي: (أمر الله موسى أن يأتيه (¬3) [في] ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى سبعين رجلاً ليعتذروا) (¬4). وقال ابن يسار (¬5): (اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا، ويسألوه التوبة على (¬6) من ورائهم من قومهم) (¬7). ¬

_ = والشاهد: أستغفر الله ذنبًا حيث حذف حرف الجر من ثاني مفعولي (استغفر) الذي تعدى إليه بواسطة الحرف، والأصل: أستغفر الله من ذنب. انظر: "الخزانة" 3/ 111. (¬1) في (أ): (وافعل). (¬2) الشاهد مختلف في نسبته وهو في ديوان عمرو بن معد يكرب ص 63، والعباس بن مرداس ص 131، و"خفاف بن ندبة" ص 126، ونسب إلى زرعة بن السائب أو أعشى طرود، وهو في "الكتاب" 1/ 37، و"معاني الأخفش" 2/ 312، و"الكامل" للمبرد 1/ 33، و"المقتضب" 4/ 331، و"تفسير الطبري" 9/ 74، و"الأصول" 1/ 178، و"البغداديات" ص 283، و"المحتسب" 1/ 51، و"المخصص" 14/ 71، و"الأمالي" لابن الشجري 2/ 558، و"الدر المصون" 5/ 474 وعجزه: فقد تركتك ذا مالٍ وذا نشب والنشب: المال الثابت كالضياع ونحوها، والشاهد (أمرتك الخير)، حيث حذف الجار، والأصل أمرتك بالخير. انظر: "الخزانة" 9/ 124. (¬3) لفظ: (في) ساقط من (ب). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 72 بسند جيد. (¬5) ابن يسار: هو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، إمام تقدمت ترجمته. (¬6) في (ب): (عن من ورائهم). (¬7) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 72 بسند جيد.

وقال وهب: (إنهم لم يصدقوا موسى أنه يسمع كلام الله وقالوا: يحضرك طائفة منا حتى يكلمك، فيسمعوا كلامه فنؤمن، وتذهب التهمة) (¬1) وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}. قال ابن عباس: (يريد: ماتوا) (¬2). قال الزجاج: (والرجفة الحركة الشديدة، يقال: إنهم رجف بهم الجبل فماتوا) (¬3). قال ابن يسار، والسدي: (إنما أخذتهم الرجفة لأنهم قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}) (¬4) [النساء: 153]. وقال ابن عباس: (إنهم قالوا في دعائهم: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدًا قبلنا ولا تعطيه أحدًا بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة) (¬5). وروى أبو الجوزاء (¬6) عنه قال: (إنما أخذتهم الرجفة لأنهم كانوا [لم] (¬7) ينهوا عن عبادة العجل) (¬8). ونحو ذلك قال قتادة وابن جريج (¬9) والقرظي (¬10) قالوا: (إنهم لم ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 أ. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 130، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 573. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 380، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 86. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 72 بسند جيد عن السدي وابن إسحاق. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 72، وابن أبي حاتم 5/ 1574 بسند جيد. (¬6) أبو الجوزاء البصري: هو أوس بن عبد الله الربعي. تقدمت ترجمته. (¬7) لفظ: (لم) ساقط من (ب). (¬8) أخرجه الطبري 9/ 73، 74 من طرق جيدة (¬9) أخرجه الطبري 9/ 74 بسند جيد عن قتادة وابن جريج. (¬10) ذكره الثعلبي 198 ب، والبغوي 3/ 286 عن قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي.

يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهوهم عن المنكر). وقال وهب: (لم تكن تلك الرجفة موتًا , ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم، وتنقص ظهورهم، وخاف موسى عليهم الموت، فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة) (¬1). وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}. قال الزجاج: (أي: لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة) (¬2). وقال السدي: (قال موسى: يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، وليس معي رجل واحد، فما الذي يصدقونني به أو يأمنوني (¬3) عليه بعد هذا، فأحياهم الله) (¬4). فمعني قوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ} {وَإِيَّايَ} أن موسى خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم، ولم يصدقوه أنهم ماتوا، فقال لربه: لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، وكانوا (¬5) بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني. وقوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}. قال الفراء: (ظن موسى ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 ب، والبغوي 3/ 286، والخازن 2/ 294. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 380. (¬3) في (ب): (أو يأمنونني علي). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 76، وفي "التاريخ" 1/ 428 بسند جيد، وذكره الثعلبي 198 ب، والرازي 15/ 18. (¬5) في (ب): (وكان).

أنهم أُهلكوا باتخاذ [أصحابه] (¬1) العجل، [فقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}، يعني: عبدة العجل] (¬2)، وإنما أهلكوا لمسألتهم الرؤية، وقولهم (¬3): {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (¬4) [النساء: 153]، و (¬5) هذا قول الكلبي (¬6) وجماعة. وقال قوم: (لا يجوز أن يُظن بموسى أن الله -عز وجل- يهلك قومًا بذنوب غيرهم، ولكن قوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} استفهام على تأويل الجحد، وأراد: لست تفعل ذلك كما تقول: أتهين من يكرمك؟ أي: لست تهين من يكرمك)، وهذا قول ابن الأنباري (¬7) , [و] (¬8) على هذا أنكر موسى أن يكون سبب إهلاكهم فعل السفهاء، وكأنه لم يعلم سبب إهلاكهم، وأنكر أن يكون فعل السفهاء سبب الإهلاك (¬9). [و] (¬10) قال المبرد: (هذا استفهام استعطاف أي: لا تهلكنا) (¬11). ¬

_ (¬1) لفظ: (أصحابه) ساقط من (ب). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (وقوله تعالى). (¬4) "معاني الفراء" 1/ 395. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬6) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 49، والخازن 2/ 295. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 249، وابن الجوزي 3/ 269، والسمين في "الدر" 5/ 476. (¬8) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬9) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 642، و"معاني النحاس" 3/ 87 (¬10) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬11) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 ب، والواحدي في "الوسيط" 1/ 249، والبغوي 3/ 287، وابن الجوزي 3/ 269، والرازي 15/ 19.

156

وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ}. الكناية في قوله {هِيَ} تعود إلى الفتنة، [كما تقول: إن هو إلا زيد، وإن هي إلا هند، والمعنى: إن تلك الفتنة] (¬1) التي وقع فيها السفهاء لم تكن {إِلَّا فِتْنَتُكَ} أي: اختبارك، وابتلاؤك، وهذا تأكيد لقوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} لأن معناه: لا تهلكنا بفعلهم، فإن تلك الفتنة كانت اختبارًا منك وابتلاءً أضللت بها قوماً فافتتنوا، وهديت قومًا فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك (¬2)، فذلك معنى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} (¬3). وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر (¬4). 156 - قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً}. أي: أوجب لنا، والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب، وقد مضى ذلك، وسؤالهم الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله عنهم في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201]. ومضى تفسير هذه الآية. و (¬5) قال ابن عباس في الآية في هذه السورة: (يريد: اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة)، {وَفِي الْآخِرَةِ}، قال: (يريد: حسنة، يعني: الجنة) (¬6). وقول ابن عباس: (يريد: حسنة)، يعني: إن تقدير الآية: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 76، و"معاني النحاس" 3/ 88، و"إعراب النحاس" 1/ 642، و"تفسير السمرقندي" 1/ 573. (¬3) لفظ: ({وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ}) ساقط من (ب). (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 19، والقرطبي 7/ 296، والخازن 2/ 295. (¬5) (الواو) ساقطة من (ب). (¬6) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 250.

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} حسنة. وقوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}. قال جميع المفسرين (¬1) وأهل المعاني (¬2): (تبنا ورجعنا إليك بتوبتنا). قال الليث: (الهَوْد التوبة) (¬3). وقوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ}. قال ابن عباس: (يريد: على الذنب اليسير) (¬4). وقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. قد ذكرنا (¬5) قديمًا أن رحمة الله تعالى إرادته الخير (¬6)، وإرادته الخير تنقسم إلى أقسام كثيرة، وكل خيرٍ من خير الدنيا والآخرة أصاب أحدًا فذلك من رحمته، ثم من تلك الخيرات ما هو أعم وأوسع، ومنها ما هو أخصّ. والأحسن في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه الحسن وقتادة (¬7)، وهو: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 77، 78، وأخرجه من طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وقتادة والسدي والضحاك وأبي العالية، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 573، والماوردي 2/ 266. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 229، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 151، و"تفسير غريب القرآن" ص 181، و"معاني الزجاج" 2/ 380، و"نزهة القلوب" ص 478، و"معاني النحاس" 3/ 88، و"تفسير المشكل" ص 87. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3689، وانظر: "العين" 4/ 76، (هود)، و"الزاهر" 2/ 214 (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 250. (¬5) انظر: "البسيط" تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) أول الكتاب. (¬6) الرحمة: صفة من صفات الله تعالى تثبت له كما أثبتها لنفسه ولا يلزم من إثباتها مشابهة صفة المخلوقين ولا نؤولها بإرادة الخير كما يفعل أهل التأويل. انظر: "تفسير الطبري" 9/ 80، و"مختصر الصواعق" لابن القيم 3/ 869. (¬7) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 243، الطبري 9/ 80، وابن أبي حاتم 5/ 1578 بسند جيد عن الحسن وقتادة.

(أن رحمته وسعت في الدنيا البار والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة)، وقد بين [عطية العوفي] (¬1) هذا أحسن بيان فقال: (إن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن، فيعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه) (¬2). وهذا اختيار الزجاج (¬3)، وذكر أبو بكر بن الأنباري وجهين في هذه الآية: أحدهما: (أن الرحمة يراد بها الصنع والأفضال، وما يخلو من صنع الله وأفضاله مؤمنٌ ولا كافر، كالمطر يسمى الرحمة، وما خرج منه كافر ولا غيره)، وهذا معنى ما ذكرنا عن المفسرين أنهم قالوا: (رحمته وسعت في الدنيا البار والفاجر). الوجه الثاني: (أن رحمته (¬4) تسع كل شيء يجوز أن يدخل فيها، وأن يكون مستحقًا لها (¬5)، كقولهم: فلان يحسن كل شيء، يريدون من الأشياء التي يحسنها أمثاله، ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]، يعني: مما يجوز أن يفتح عليهم، وكذلك (¬6): {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]. معناه: من الأشياء التي يمكن أن يؤتاها مثلها. ¬

_ (¬1) لفظ: (عطية العوفي) ساقط من (ب). (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 198 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 250، والبغوي 3/ 287. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 380. (¬4) في (ب): (أن رحمته وسعت تسع)، وهو تحريف. (¬5) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 213. (¬6) في (ب): (وكذلك في).

وهذا مذهب جماعة المفسرين (¬1)، وهو أنهم قالوا: هذا من العام الذي أريد به (¬2) الخاص) (¬3). وقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، يعني: فسأوجبها في الآخرة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وهذا معنى قول المفسرين (¬4): (وهي يوم القيامة للمتقين خاصة)، وهذا تخصيص بعد التعميم باللفظ. وبيان [ذلك] (¬5) أن ذلك يجب في الآخرة لمن اتصف بما ذكر في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية. قال ابن عباس: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (يريد: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬6). وقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: صدقات الأموال عند محلها) (¬7). وروي أيضًا عنه أنه قال في قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: (يطيعون الله ورسوله) (¬8)، كأنه ذهب إلى ما يزكي النفس ويطهرها من الأعمال (¬9)، وبه ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 80، والسمرقندي 1/ 573، والماوردي 2/ 267. (¬2) في (ب): (منه). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 271، وفيه قال ابن الأنباري: (أن الرحمة تسع كل الخلق إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدر دخولهم فيها لوسعتهم) اهـ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 80 (¬5) لفظ: (ذلك) ساقط من (ب). (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 79، 80، 82، وابن أبي حاتم 5/ 1580 من عدة طرق جيدة. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1580 بسند ضعيف، وقال الماوردي في "تفسيره" 2/ 267، وابن الجوزي 3/ 271 (هذا هو قول الجمهور) اهـ. ورجحه ابن عطية 6/ 99. (¬8) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 81، وابن أبي حاتم 5/ 1580 بسند جيد، ولفظ ابن أبي حاتم قال: (يعني: طاعة الله والإخلاص). (¬9) هذا توجيه الطبري 9/ 81، وانظر الماوردي 2/ 267 , وابن الجوزي 3/ 271.

قال الحسن (¬1). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}. قال: (يريد: بما أنزلت (¬2) على محمد والنبيين قبله يصدّقون) (¬3). قال المفسرون (¬4): (إن وقد بني إسرائيل سألوا الله تعالى فقالوا: {وَاكْتُبْ لَنَا} إلى قوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}. فسألوه النعمة في الدنيا والآخرة، وتقربوا إليه بالتوبة من المعاصي، فأخبرهم الله تعالى أنه واسع الرحمة بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، فكانوا هم من جملة من وسعتهم الرحمة، ثم خص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بذكرهم وأوجب لهم الرحمة بقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}). ولهذا قال نوف (¬5) البكالي: (ألا تحمدون ربًّا (¬6) حفظ غيبتكم وأخذ لكم بسهمكم (¬7)، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم) (¬8). وروى عطاء أيضًا عن ابن عباس أيضاً في هذه الآية أنه قال: (هذه الوفادة صارت للصالحين من أمة محمد) (¬9)، ثم زاد في البيان أن المراد ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي 2/ 267، وابن الجوزي 3/ 271. (¬2) كذا في (النسخ): (بما أنزلت) والأولى (بما أُنزل). (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 132. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 81، وقد أخرجه من عدة طرق جيدة عن قتادة، وابن جريج، وأبي بكر الهذلي ونوف البكالي. (¬5) نوف بن فضالة الحميري البكالي أبو يزيد الشامي. تقدمت ترجمته. (¬6) في (ب): (ربنا). (¬7) في (ب): (لسهمكم). (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 237 - 238 والطبري 9/ 83 من عدة طرق جيدة. (¬9) أخرجه الطبري 9/ 82, 83, وابن أبي حاتم 5/ 1580، من عدة طرق جيدة.

بقوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} هذه الأمة، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}. [والأمي] (¬1) الذي لا يكتب ولا يقرأ في قول جميع المفسرين (¬2)، قال الزجاج: (معنى {الْأُمِّيَّ}: الذي هو على خِلْقَة الأُمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته) (¬3). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسُب" (¬4). قال الأزهري: ([وقد] (¬5) قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الأمي؛ لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولاً وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة؛ لأنه تلا عليهم كتاب الله منظومًا تارة بعد تارة بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها أو نقص، فحفظه الله على نبيّه كما أنزله وأبانه من سائر من بعثه إليهم بهذه الآية، وفي ذلك أنزل الله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ¬

_ (¬1) لفظ: (والأمي) ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 80، و"معاني النحاس" 3/ 89، والسمرقندي 1/ 574. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 381، والأُمَّة -بضم الهمزة وفتح الميم المشددة-، انظر: "اللسان" 1/ 138 (أمم) وجبلته -بالكسر- أي خلقته، وقال الزجاج في "معانيه" 1/ 159: (معنى الأمي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة أُمَّته أي: لا يكتب فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه) اهـ. وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 204: (قيل للذي لا يكتب: أمي؛ لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نُسب إلى ما ولد عليه أي: هو على ما ولدته أُمه عليه) اهـ. (¬4) أخرجه البخاري رقم (1913) في كتاب الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكتب ولا نحسب"، مسلم رقم (1080) كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان، عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما. (¬5) لفظ: (قد) ساقط من (ب).

الآية (¬1) [العنكبوت: 48]. وقد مضى صدر من الكلام في معنى الأمّي عند قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78]. وقوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}. أي: يجدونه بنعته وصفته، وهو مذكور في الكتابين بنعوته وصفاته، قد عرف ذلك أهلهما. وقوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. قال الزجاج: (يجوز أن يكون {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} استئنافًا، ويجوز أن يكون المعنى {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} أنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}) (¬2). وعلى هذا يكون الأمر بالمعروف، وما ذكر بعده، من صفته التي (¬3) ذكرت في الكتابين. وقال أبو علي فيما استدرك عليه: إلا وجه لقوله {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا} أنه {يَأْمُرُهُمْ} إن كان يعني: إن ذلك مراد؛ لأنه لا شيء يدل على حذفه، ولأنا لم نعلمهم حذفوا هذا في شيء. قال: وتفسير الآية: إن وجدت فيها المتعدي إلى مفعولين و {مَكْتُوبًا} مفعول ثانٍ، والمعنى: يجدون ذكره أو اسمه مكتوبًا. قال سيبويه: (تقول إذا نظرت في هذا الكتاب (¬4): هذا عمرو، وإنما المعنى: هذا اسم عمرو، وهذا ذكر عمرو، وقال: إن هذا يجوز على سعة ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 204 (أم). (¬2) "الإغفال" لأبي علي ص 817، وفي "معاني الزجاج" 2/ 381، قال: (قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} يجوز أن يكون {يَأْمُرُهُمْ} مستأنفًا) اهـ. (¬3) في (ب): (الذي). (¬4) في "الكتاب" 3/ 269، و"الإغفال" ص 818: (تقول إذا نظرت في الكتاب).

الكلام) (¬1)، فالمفعول الأول في الآية قائم مقام المضاف إليه، يدل على (¬2) هذا أن المكتوب عندهم الاسم والذكر لا الرسول نفسه، ألا ترى أن المفعول الثاني هاهنا يجب أن يكون الأول كقوله: وجدت زيدًا منطلقًا، فالمنطلق في المعنى هو الأول، فلو جعلت الهاء في قوله {يَجِدُونَهُ} المفعول الأول دون تقدير حذف المضاف لم يكن المفعول الثاني هو الأول فلا يستقيم ذلك، فأما قوله (¬3): {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} فهو عندي تفسير لما كُتب، كما أن قول: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9]. تفسير لوعدهم، وكما أن قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] تفسير للمثل، ولا يجوز أن يكون حالاً من المفعول الأول، ألا ترى أنه إذا كان المعنى: يجدون ذكره أو اسمه، لم يجز أن يكون يأمرهم حالاً منه، لأن الاسم والذكر لا يأمران إنما يأمر المذكور والمسمى) (¬4). فأما تفسير المعروف، فقال عطاء عن ابن عباس: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} يريد: مكارم الأخلاق وخلع الأنداد، وصلة الأرحام) (¬5). وقال الكلبي: (أي: بالتوحيد وشرائع الإِسلام) (¬6). ¬

_ (¬1) "الكتاب" 3/ 269. (¬2) في (ب): (يدل على أن هذا أن)، وهو تحريف. (¬3) في النسخ: (قولهم)، وهو تحريف. (¬4) "الإغفال" ص 817 - 820، وانظر: "الدر المصون" 5/ 479 - 481، وذكر رد الفارسي على الزجاج، وقال: (وهذا الرد تحامل منه عليه لأنه أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن) اهـ. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 253، وابن الجوزي 3/ 272، وذكره الثعلبي 199 أ، والبغوي 3/ 289، والقرطبي 7/ 299، الخازن 2/ 298، عن عطاء فقط. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 132.

وقوله تعالى: {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}. قال عطاء: (يريد: عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام، والكفر بما أنزل الله على النبيين) (¬1). وقال الكلبي: (هو ما لا يعرف في شريعة ولا سنة) (¬2). وقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}. قال عطاء: (يريد: ما حُرّم عليهم في التوراة والإنجيل من لحوم الإبل وشحوم الضأن والمعز والبقر) (¬3). وقيل (¬4): (هي الحلالات التي كان أهل الجاهلية تحرمها من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي). وقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}. قال عطاء عن ابن عباس (¬5): (يريد: {المَيْتَةَ وَالدَّمَ} وما ذكر (¬6) في المائدة [3] إلى قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}. [و] (¬7) قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}. ذكرنا معنى (الإصر) في ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 199 أ، والبغوي 3/ 289، والقرطبي 7/ 299، والخازن 2/ 298، وجعله الواحدي في "الوسيط" 2/ 253، وابن الجوزي 3/ 272، من قول ابن عباس. (¬2) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 574، بلا نسبة. (¬3) لم أقف عليه، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 381، النحاس 3/ 89. (¬4) هذا هو قول الطبري 9/ 84، والثعلبي 199 أ، والماوردي 2/ 269، والبغوي 3/ 289. (¬5) ذكره الرازي في "تفسيره" 15/ 24، وأخرج الطبري 9/ 84، وابن أبي حاتم 5/ 1583 بسند جيد عن ابن عباس قال: (هي لحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله) اهـ. (¬6) في (ب): (وما ذكره) وهو يريد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] (¬7) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).

آخر سورة البقرة. واختلف (¬1) القراء هاهنا، فقرءوا: {إِصْرَهُمْ} {وآصَارهم} (¬2)، قال أبو علي الفارسي: (الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه، ويدل على ذلك إضافته وهو مفرد إلى الكثير، كما قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} (¬3) [البقرة: 20]. ومن جمع أراد ضروبًا من العهود (¬4). مختلفة، والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما تجمع سائر الأجناس) (¬5). قال ابن عباس: (يريد: العهد (¬6) الثقيل الذي كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة) (¬7). وهو قول الحسن والضحاك والسدي ومجاهد (¬8)، والمعنى: ويُسقط عنهم ثقل العهد الذي أُخذ عليهم. ¬

_ (¬1) في (ب): (واختلفوا). (¬2) قرأ ابن عامر: (آصَارهم) -بفتح الهمزة والصاد، وألف بعدها على الجمع- وقرأ الباقون: {إِصْرَهُمْ} -بكسر الهمزة وسكون الصاد من غير ألف بعدها على الإفراد-، انظر: "السبعة" ص 295، و"المبسوط" ص 185، و"التذكرة" 2/ 426، و"التيسير" ص 113، و"النشر" 2/ 272. (¬3) في (ب): (فلو شاء)، وهو تحريف. (¬4) في "الحجة" لأبي علي 4/ 94: (أراد ضروبًا من المآثم مختلفة). (¬5) "الحجة" لأبي علي 4/ 93، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 425، و"إعراب القراءات" 1/ 210، و"الحجة" لابن خالويه ص 165، ولابن زنجلة ص 298، و"الكشف" 1/ 479. (¬6) في: (أ): (يريد: بالعهد). (¬7) أخرجه الطبري 9/ 85، ابن أبي حاتم 5/ 1583 من عدة طرق جيدة. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 85، من عدة طرق عن مجاهد والحسن والسدي والضحاك، وذكره الثعلبي 199 أ، والبغوي3/ 289، عن هؤلاء.

قال الزجاج: (والإصر ما عقدته من عقد ثقيل) (¬1). وقال سعيد بن جبير: (هو شدة العبادة) (¬2). وقال ابن جريج: (من أَتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب وضع عنه ما كان عليه من التشديد في دينه) (¬3). وقوله تعالى: {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}. قال المفسرون (¬4): (وهي الشدائد التي كانت في العبادة؛ كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم). قال ابن قتيبة: {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ} تحريم الله عليهم كثيراً مما أطلقه الله لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعله أغلالًا لأن التحريم يمنع، كما يقبض الغُل اليد فاستعيرت) (¬5). وقال الزجاج: (الأغلال تمثيل؛ ألا ترى أنك تقول: قد جعلت هذا طوقًا في عنقك، وليس هناك طوق، وإنما تأويله: أني قد وليتك هذا وألزمتك القيام [به] (¬6)، فجعلت لزومه (¬7) كالطوق في عنقك. قال: ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 381، وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص 181، و"نزهة القلوب" ص 123، و"تفسير المشكل" ص 87. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 85، وابن أبي حاتم 5/ 1583، من عدة طرق جيدة. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 85 بسند جيد عن ابن جريج عن مجاهد، وذكر النحاس في "معانيه" 3/ 90، وقال: (الأقوال فيه متقاربة أي: ما يثقل عليهم) اهـ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 85، وقد أخرجه من طرق عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" ص 148، وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص 181، وقال القرطبي 7/ 300: (الأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال، هذا قول جمهور المفسرين) اهـ. (¬6) لفظ: (به) ساقط من (ب). (¬7) في: (أ): (لزومه له) وفي "معاني الزجاج" 2/ 381 (لزومه لك).

{وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}؛ أنه من قَتَل قُتِل لا تقبل في ذلك ديةٌ، وكان عليهم إذا أصاب جلودهم شيء من البول أن يقرضوه، وكان عليهم أن لا يعملوا في السبت) (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح (¬2)، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعًا لله) (¬3)، فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة. وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ}، قال ابن عباس: (يعني: من اليهود) (¬4)، {وَعَزَّرُوهُ}، (يريد: وقروه) (¬5)، وقد ذكرنا الكلام في معنى التعزير مستقصى عند قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12]. {وَنَصَرُوهُ} أي: على عدوه، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}، قال المفسرون (¬6): (يعني: القرآن). وقال عطاء: (يريد: الهدى والبيان والرشاد) (¬7). وقال الزجاج: (أي: اتبعوا الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور) (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 381، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 91. (¬2) المسُوح جمع مِسْح: وهو الكساء من الشعر، انظر: "اللسان" 7/ 4198 (مسح). (¬3) ذكره الرازي 15/ 25، بلا نسبة. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 132. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 85، وابن أبي حاتم 5/ 1585 بسند جيد عن ابن عباس قال: (حموه ووقروه) وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 147، و"اللسان" 5/ 2925 (عزر). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 86، والسمرقندي 1/ 574، والماوردي 2/ 269. (¬7) ذكره الرازي 15/ 25، بلا نسبة. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 382، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 91.

159

159 - قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ}، قال ابن عباس: (يريد: يدعون إلى الحق) (¬1). قال الزجاج: (أي: يدعون الناس إلى الهداية بالحق) (¬2). {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال ابن عباس: (يريد: يعملون) (¬3). وقال الزجاج: (وبالحق يحكمون) (¬4)، والعَدْل: الحكم بالحق، يقال: هو يقضى بالحق، ويعدل، وهو حكم عادل (¬5)، ومنه قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129]. وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]. واختلفوا في هذه الأمة العادلة من قوم موسى، فأكثر المفسرين قالوا: (إنهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتركوا تحريم السبت، يجمعون، ولا يتظالمون، ولا يتحاسدون، لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منّا إليهم، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يستقبلون قبلتنا)، وهذا معنى قول عطاء والكلبي والربيع والضحاك وابن جريج والسدي (¬6). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 133، وهو قول الأكثر، انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 575، الثعلبي 199 أ، والبغوي 3/ 290، وابن الجوزي 3/ 274، والرازي 15/ 32. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 382. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 133. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 382. (¬5) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" 3/ 2358، وانظر: "العين" 2/ 38، و"الجمهرة" 2/ 663، و"الصحاح" 5/ 1760، و "مقاييس اللغة" 4/ 246، و"المجمل" 3/ 651، و"المفردات" ص 551، و"اللسان" 5/ 2838 (عدل). (¬6) أخرجه الطبري 9/ 88، بسند جيد عن ابن جريج والسدي، وذكره الثعلبي 199 أ، عن عطاء، والكلبي، والربيع، والضحاك، وابن جريج، والسدي، وذكره البغوي 3/ 290، الخازن 2/ 300، عن الكلبي، والضحاك والربيع، وذكره الماوردي =

160

وقال أهل النظر (¬1): (هم قوم كانوا مستمسكين بالحق في وقت ضلالتهم بقتل أنبيائهم)، وقيل (¬2): (إنهم من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كابن سلام (¬3) وغيره من مؤمني أهل الكتاب). 160 - قوله تعالى (¬4): {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}، قد مضى الكلام في معنى (الأسباط) في سورة البقرة. قال الفراء: (إنما قال: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} والسبط ذكر؛ لأن [ما] (¬5) بعده {أُمَمًا} فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان (اثني عشر) لتذكير السبط كان جائزًا) (¬6). ¬

_ = 2/ 270، وابن الجوزي 3/ 274، عن ابن عباس والسدي، وهذا قول غريب ضعفه: ابن عطية 6/ 109، والرازي 15/ 31، والخازن 2/ 300، الألوسي 9/ 85، وقال محمد أبو شهبة في "الإسرائيليات والموضوعات" ص 206: (هذا من خرافات بني إسرائيل وأسانيدها ضعيفة واهية، وليس هناك ما يشهد لها من عقل ولا نقل صحيح، وهي مخالفة للمعقول، والمشاهد الملموس) اهـ. بتصرف. (¬1) انظر: "إعراب النحاس" ص 644، و"تفسير الماوردي" 2/ 270، وابن الجوزي 3/ 275. (¬2) هذا قول الكلبي كما ذكره الماوردي 2/ 270، وابن الجوزي 3/ 274، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 291، والظاهر أن الآية عامة تشمل الذين تمسكوا بالحق وبه يعدلون في زمن موسى عليه السلام والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو اختيار محمد أبو شهبة في "الإسرائيليات والموضوعات" ص 208. (¬3) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الخزرجي أبو يوسف الإسرائيلي، تقدمت ترجمته. (¬4) في (ب): (وقوله تعالى) بالواو. (¬5) لفظ: (ما) ساقط من (ب). (¬6) "معاني الفراء" 1/ 397.

واحتج النحويون على هذا بقول الشاعر: وإنَّ قريشاً كلها عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر (¬1) ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك (¬2) أنث، والبطن مذكر. وقال الزجاج: (المعنى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} فرقة، {أَسْبَاطًا} [من نعت فرقة، كأنه قال: جعلناهم أسباطًا وفرقناهم أسباطًا، فتكون {أَسْبَاطًا}] (¬3) بدلاً من {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ}) (¬4)، فحصل من هذا أن التأنيث في العدد [إنما وقع لتقدير الفرقة في الكلام، ولهذا جمع الأسباط، وإن كان العدد] (¬5) لا يفسر بالجمع؛ لأن الأسباط في الحقيقة نعتُ المفسر المحذوف وهو الفرقة، ويجوز أن يكون الأسباط كما ذكر بدلاً من العدد، فيكون المعنى: قطعناهم أسباطًا. ¬

_ (¬1) "الشاهد" للنواح الكلابي وهو في "الكتاب" 3/ 565 لرجل من بني كلاب، وبلا نسبة في: "معاني الفراء" 1/ 126، و"الكامل" للمبرد 2/ 250، و"المقتضب" 2/ 146، و"تفسير الطبري" 9/ 88، و"الأصول" 3/ 477، و"الأمالي" للزجاجي ص 75، و"الصاحبي" ص 425، و"الخصائص" 2/ 417، و"المخصص" 17/ 117، و"الإنصاف" ص 618، و"اللسان" 7/ 3910 (كلب)، و"الدر المصون" 5/ 236، و"الشاهد": (عشر أبطن) حيث أنث أبطن وحذف الهاء من عشر حملًا للبطن على معنى القبيلة بقرينة ذكر القبائل بعدها. انظر: "الخزانة" 7/ 395، وفي المراجع السابقة: وإن كلابًا هذه عشر أبطن ولم أقف على رواية الواحدي إلا عند الثعلبي 6/ 11 ب، والقرطبي 7/ 303، و"الدر المصون" 5/ 486. (¬2) في (ب): (كذلك) وهو تحريف. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 382 - 383 وزاد: وهو الوجه. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 313، و"إعراب النحاس" 1/ 664، و"المشكل" 1/ 303. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

وقد ذكرنا في أول الكتاب (1) أن البدل يقدر فيه تكرير العامل، ونص أبو علي على هذا القول فقال: (ليس الأسباط بتفسير، ولكنه بدل من {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ}) (2). وقوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ}. بَجْسُ الماء وانبجاسه، انفجاره، يقال: بَجَسَ الماء يبجس [بجسا] (3) وانبجس وتبجس: إذا تفجر هذا قول أهل اللغة (4) والمفسرين (5) في معنى معنى الانبجاس والانفجار (6) وأنهما سواء، وفرق قوم بينهما (7)، فقالوا: (الانبجاس: خروج الجاري بقلة، والانفجار: خروجه بكثرة)، وهذا يروي عن أبي عمرو

_ (1) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه في "مظانه". (2) كتاب "التكملة" ص 261، وقال السمين في "الدر" 5/ 484: (تمييز {اثنتي عشرة} محذوف لفهم المعنى، تقديره: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} فرقة و {أسباطا} بدل من ذلك التمييز لأن أسباط مذكر وجمع) اهـ. (3) (بجسا) ساقط من (أ). (4) انظر: "العين" 6/ 58، و"الجمهرة" 1/ 267، و"تهذيب اللغة" 1/ 277، و"الصحاح" 3/ 907، و"المجمل" 1/ 116، و"مقاييس اللغة" 1/ 199، و"اللسان" 1/ 212 (بجس). (5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 230، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 151، و"تفسير غريب القرآن" ص 182، و"تفسير الطبري" 9/ 89، و"نزهة القلوب" ص 126، و"معاني النحاس" 3/ 92، و"تفسير المشكل" ص 87 (6) انظر: "العين" 6/ 111، و"الجمهرة" 1/ 463، و"تهذيب اللغة" 3/ 2743، و"الصحاح" 2/ 778، و"المجمل" 3/ 712، و"مقاييس اللغة" 4/ 475, و"المفردات" ص 625، و"اللسان" 6/ 3351 (فجر). (7) قال الراغب في "المفردات" ص 108: (الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع) اهـ. وانظر: "عمدة الحفاظ" ص 39، و"الدر المصون" 5/ 487 - 488.

163

ابن العلاء (¬1)، ويؤكد هذا الفرق ما قال عطاء: (كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى -عليه السلام- مثل ثدي المرأة فيعرق أولاً ثم يسيل) (¬2)، وباقي الآية مفسر (¬3) في سورة البقرة. 163 - قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ}، قال أهل المعاني: (سلهم سؤال توبيخ على ما كان منهم في أمر القرية من فاحش الخطيئة (¬4) وشنيع السيئة، والسؤال قد يكون للتقرير والتوبيخ، كما تقول لمن تلومه على جفائه: هل شتمتك؟ هل ضربتك؟ وأنت تعلم أنك لم تفعل، وإنما تسأله لتُقرره وتوبخه. ومعنى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب عن هذه القرية، وقد أخبره الله بقصتها، تقريرهم بقديم كفرهم، وسلوكهم مسلك أسلافهم في المخالفة وارتكاب المعصية وأن يعلمهم ما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي)، وهذا معنى قول المبرد (¬5) والزجاج (¬6) وغيرهما (¬7)، وتلك القرية هي أيلة (¬8) في رواية ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 12 أ، والبغوي 3/ 292، والرازي 15/ 33، والسمين في "الدر" 5/ 488. (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 12 أ. (¬3) انظر: "البسيط" البقرة: 60. (¬4) في (ب): (الخطايا). (¬5) انظر: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" للمبرد ص 42. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 384. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 183 - 184، و"تأويل مشكل القرآن" ص 179، و"معاني النحاس" 3/ 92. (¬8) أيلة، بالفتح: مدينة على ساحل بحر القلزم -البحر الأحمر- مما يلي الشام، وقيل: هي مدينة عامرة في بلاد الشام بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم، انظر: "معجم البلدان" 1/ 292.

عكرمة والوالبي عن ابن عباس (¬1)، وقال في رواية (¬2) عطاء: (هي الطَبريَة) (¬3). وهو قول الزهري (¬4). وقوله تعالى: {الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}. الحضور نقيض الغيبة، أي: التي هي مجاورة البحر، وبقربه وعلى شاطئه (¬5)، كقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. والحضرة (¬6) قرب الشيء، تقول: كنت بحضرة الدار. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 90 - 91 من عدة طرق جيدة عن عكرمة وعلي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1597، والحاكم في "المستدرك" 2/ 322، عن عكرمة عن ابن عباس، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص". (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس. (¬3) طبرية: مدينة في الأم من أعمال الأردن مطلة على بحيرة طبرية المشهورة، انظر: "معجم البلدان" 4/ 17. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1597، والنحاس في "معانيه" 3/ 93، بسند جيد، وذكره الثعلبي 6/ 12/ ب، والماوردي 2/ 271، والمشهور أنها أيلة وهو قول الأكثر، فقد أخرجه الطبري 9/ 90 - 91، من طرق عن ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير والسدي وقتادة، وقال ابن أبي حاتم 5/ 1597: (وروى عن سعيد بن جبير والضحاك) اهـ، وزاد والماوردي 2/ 271 نسبته إلى عكرمة، وزاد ابن الجوزي 3/ 276 نسبته إلى ابن مسعود والحسن، وحكاه الأزهري في "تهذيبه" 1/ 233، عن الليث، وحكاه هود الهواري 2/ 53 عن الكلبي، وقال الرازي 15/ 36: (الأكثرون على أن تلك القرية أيلة) اهـ، وهو اختيار ابن كثير 2/ 286، ورجح الطبري 9/ 91: أنها مدينة حاضرة البحر دون تحديد، لعدم الدليل القاطع، وهذا هو الظاهر لوجود الخلاف في تحديدها , ولأنه لا يترتب على تحديدها كبير فائدة. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 91. (¬6) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" 1/ 847، وانظر: "العين" 3/ 101, و"الجمهرة" 1/ 515، و"الصحاح" 2/ 632، و"مقاييس اللغة" 2/ 75، =

وقوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}. قال ابن عباس: (يريد: يصيدون الحيتان ويفعلون ما نهوا عنه) (¬1). والمعنى: إذ يظلمون في السبت، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} (¬2) [البقرة: 65]، وقوله: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} (¬3) [النساء: 154]. وموضع {إِذْ} نَصْب؛ لأن المعنى: سلهم إذ عدوا (¬4)، وحقيقة السؤال وقع عن الاعتداء لا عن القرية؛ لأن التوبيخ (¬5) يقع به، وإنما ذكرت القرية لأنهم بها اعتدوا. وقوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ}. موضع {إِذْ} نصب أيضاً بـ"يعدون"، المعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان (¬6). ¬

_ = و"المجمل" 1240، و"المفردات" ص 241، و"اللسان" 2/ 906 (حضر). (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 257، وأخرج الطبري 9/ 92، ابن أبي حاتم 5/ 1598 والحاكم في "المستدرك" وصححه 2/ 322 - 323 من عدة طرق جيدة نحوه. وهو قول أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 230، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 151، و"تفسير غريب القرآن" ص 182، و"تفسير الطبري" 9/ 92، و"معاني الزجاج" 2/ 184، النحاس 3/ 93، و"تفسير السمرقندي" 1/ 577، و"تفسير المشكل" ص 87 (¬2) لفظ: (منكم) ساقط من (أ). (¬3) انظر: "البسيط" نسخة جستربتي 2/ 33 ب. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 384، و"إعراب النحاس" 1/ 645، و"المشكل" 1/ 304. (¬5) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 645 (¬6) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 384، وانظر: "البيان" 1/ 376، و"التبيان" 1/ 393، و"الفريد" 2/ 375، و"الدر المصون" 5/ 492.

وقوله تعالى: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}. أي: ظاهرة على الماء، قاله الزجاج (¬1) وشرَّع جمع: شارع وشارعة. قال شمر: (وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة دنت من الطريق، ونجوم شوارع دنت من المغيب) (¬2)، وعلى هذا الحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يُمكنهم صيدها. قال ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4) والمفسرون (¬5): (إن اليهود أُمروا باليوم الذي أمرتم به، يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت، فابتلوا به، وحُرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا (¬6) وإن عصَوا ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 384، وهو قول أهل اللغة والتفسير. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 230، و"تفسير غريب القرآن" ص 182، و"تفسير الطبري" 9/ 92، و"نزهة القلوب" ص 290، و"معاني النحاس" 3/ 93، و"تفسير السمرقندي" 1/ 577، و"تفسير المشكل" ص 87. (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 1859، وانظر: "العين" 1/ 252، و"الجمهرة" 2/ 727، و"الصحاح" 3/ 1236، و"المجمل" 2/ 526، و"مقاييس اللغة" 3/ 262، و"المفردات" ص 450، و"اللسان" 4/ 2239 (شرع). (¬3) أخرجه الطبري 9/ 91، وابن أبي حاتم 5/ 1598، والحاكم في "المستدرك" 2/ 322 - 323، وصححه من عدة طرق جيدة عن ابن عباس نحوه. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 248، وذكره الرازي 15/ 37، عن ابن عباس ومجاهد. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 91، وأخرجه 13/ 190 - 198، من طرق عن عبد الله بن مسعود والحسن وقتادة، وابن زيد، وأبي صالح ماهان الحنفي، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 384، النحاس 3/ 93، و"تفسير السمرقندي" 1/ 577، والثعلبي 6/ 13 أ، والماوردي 2/ 272، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 257، و"الخازن" 2/ 302، عن المفسرين. (¬6) كذا في النسخ: (لم يؤجروا) وكذلك عند الثعلبي 6/ 13/ أ، والأقرب أنه: (إن أطاعوا أجروا).

عُذّبوا، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر إلى السبت المقبل، بلاء ابتلوا به، فذلك معنى قوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ}). يقال: سبتت اليهود، أي: قامت بأمر سبتها. قال الفراء: (ومعنى {يَسْبِتُونَ} يفعلون سبتهم، {وَيَوْمَ} منصوب بقوله: {لَا تَأْتِيهِمْ}) (¬1). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ}، في قوله: {كَذَلِكَ} وجهان ذكرهما الزجاج وابن الأنباري، أحدهما: قال الزجاج: (أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم، وموضع (¬2) الكاف نصب بنبلوهم) (¬3). وقال أبو بكر: (ذلك) إشارة إلى ما بعده يراد به: {نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان وينقطع الكلام عند قوله: {لَا تَأْتِيهِمْ} (¬4). الوجه الثاني: قال الزجاج: (ويحتمل على بُعدٍ أن يكون {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ}. أي: لا تأتيهم شرعًا، ويكون {نَبْلُوهُمْ} مستأنفًا) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني الفراء" 1/ 398، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 92، و"إعراب النحاس" 1/ 645، و"المشكل" 1/ 304، و"التبيان" 1/ 394، و"الفريد" 2/ 375، و"الدر المصون" 5/ 493. (¬2) في (أ): (فموضع). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 385، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 645. (¬4) انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 667، و"القطع" للنحاس 1/ 264، و"المكتفى" للداني ص 277. (¬5) في (ي): (وهم لا يسبتون)، وهو تحريف.

164

وقال أبو بكر: (وعلى هذا الوجه {كَذَلِكَ} راجعة على الشروع في قوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}. والتقدير: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ} (¬1) الإتيان بالشروع، وموضع الكاف على هذا الوجه نصب بالإتيان على الحال، أي: لا تأتي مثل ذلك الإتيان) (¬2). وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: بعصيانهم رب العالمين خُذلوا) (¬3). وقال الزجاج: (أي: شددت عليهم المحنة بفسقهم) (¬4). 164 - وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} الآية. قال أهل التفسير (¬5): (افترق أهل القرية ثلاث فرقٍ؛ فرقة صادت وأكلتْ، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}). قال الزجاج: (لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 385، وزاد: (وذلك القول الأول قول الناس وهو الجيد) اهـ. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 257، والسمين في "الدر" 5/ 493 - 494، وقال الهمداني في "الفريد" 2/ 375: (الكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما: نبلوهم بلاءً مثل ذلك البلاء الشديد ويوقف على {تَأْتِيهِمْ}، وهو الوجه وعليه الجمهور، والثاني: لا تأتيهم إتيانًا مثل ذلك الإتيان الذي يأتي يوم السبت ويوقف على {كَذَلِكَ}) اهـ. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 136. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 385. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 93 - 98 من عدة طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 239، وابن أبي حاتم 5/ 1600، والحاكم وصححه 2/ 322، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس، وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 577، والثعلبي 6/ 14 أ، والماوردي 2/ 272 - 273.

فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، أي: موعظتنا إياهم {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} والمعنى: أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرًا إلى الله تعالى) (¬1)، والمعذرة مصدر كالعذر. و (¬2) قال أبو زيد: (عذرته أعذِره عُذرًا ومعذِرةً وعُذرَى) (¬3)، ومعنى عذره في اللغة (¬4): قام بعذرهِ، وقبل (¬5) عذره، يقال: من يعذرني، أي: من يقوم بعذري، وعذرت فلانًا فيما صنع، أي: قمت بعذره، فعلى هذا معنى قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله، فإنا إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر، قلنا: قد فعلنا، فنكون بذلك معذورين. وقال الأزهري: (المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر، وأقيم مقام الاعتذار، كأنهم قالوا: موعظتنا اعتذار إلى ربنا، فأقيم الاسم مقام الاعتذار، يقال: اعتذر فلان اعتذارًا وعذرة (¬6) ومعذرة من ذنبه فعذرته) (¬7). وذكرنا معنى الاعتذار وأصله (¬8) في اللغة في سورة براءة عند قوله (¬9): ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 385، و"تفسير الطبري" 9/ 92، و"معاني النحاس" 3/ 94، و"تهذيب اللغة" 3/ 2365 (عذر). (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) "الحجة" لأبي علي 4/ 97، و"تفسير الرازي" 15/ 38. (¬4) انظر: "العين" 2/ 93، و"الجمهرة" 2/ 692، و"الصحاح" 2/ 737، و"المجمل" 3/ 654، و"مقاييس اللغة" 4/ 253، و"المفردات" ص 555، و"اللسان" 5/ 2854 (عذر). (¬5) في (ب): (وقيل). (¬6) لفظ: (وعذرة) ساقط من (ب). (¬7) "تهذيب اللغة" 3/ 2365 (عذر). (¬8) لم أقف عليه. (¬9) في النسخ عند قوله: "قل {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} "، وهو تحريف وفي سورة التوبة قال الله تعالى: {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة: 94].

{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} الآية [التوبة: 66]. وقال ابن الأعرابي: (يقال: لي في هذا الأمر عُذر وعذرى ومعذرة, أي: خروج من الذنب) (¬1). قال أبو علي: (لم يريدوا أن يعتذروا عذرًا مستأنفًا من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}؟ فقالوا: {مَعْذِرَةً} أي: موعظتنا معذرة (¬2)، ومن نصب {مَعْذِرَةً} (¬3) فقال سيبويه (¬4): "لو قال رجل لرجل: معذرةً إلى الله، وإليك من كذا وكذا لنصب (¬5) ") (¬6). قال الزجاج (¬7): (المعنى: نعتذر معذرةً). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2365 (عذر). (¬2) هذا قول سيبويه في "الكتاب" 1/ 320، وحكاه الفارسي في "الحجة" عنه أيضًا 4/ 98، وهذا التوجيه على قراءة الرفع عندهما. (¬3) قرأ حفص عن عاصم: {مَعْذِرَةً} بالنصب وقرأ الباقون بالرفع، انظر: "السبعة" ص 296، و"المبسوط" ص 186، و"التذكرة" 2/ 427، و"التيسير" ص 114، و"النشر" 2/ 272. (¬4) "الكتاب" 1/ 320، وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 668. (¬5) في (ب): (وكذا النصب)، وهو تحريف. (¬6) "الحجة" لأبي علي 4/ 98، وعليه قراءة الرفع خبر لمبتدأ مضمر أي: موعظتنا معذرة، وعلى قراءة النصب مفعول لأجله، أي: وعظناهم لأجل المعذرة، أو على المصدر أي: نعتذر معذرة، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 427، و"إعراب القراءات" 1/ 410، و"الحجة" لابن خالويه ص 166، و"الحجة" لابن زنجلة ص 300، و"الكشف" 1/ 481، و"الدر المصون" 5/ 495. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 386، وفيه قال: (ويجوز النصب على معنى يعتذرون معذرة) وانظر: "معاني الفراء" 1/ 398، و"تفسير الطبري" 9/ 93، و"إعراب النحاس" 1/ 645، و"تفسير المشكل" 1/ 304 , و"البيان" 1/ 376، و"التبيان" 1/ 394، و"الفريد" 2/ 376.

وقوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. أي: جائز عندنا أن ينتفعوا بالمعذرة فيتقوا الله ويتركوا العَدْو (¬1). وقال بعضهم (¬2): (وكانوا فرقتين: فرقة نهت عن السوء، وفرقة عملت بالسوء)، وهذا قول الكلبي (¬3)، وحكاه الزجاج (¬4)، وعلى هذا فالذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ} الفرقة المعتدية. قال الكلبي: (المعتدية نحو من سبعين ألفًا أتاهم طوائف نحو من اثني عشر ألفًا، وهم الذين كرهوا الصيد في السبت، وقالوا: انتهوا قبل أن ينزل بكم العذاب، فإنا قد علمنا أن الله منزل بكم بأسًا عاجلًا إن لم تنتهوا، فقالوا لهم: فلم تعظوننا إذًا إن كنتم قد علمتم أن الله منزل بنا عذابه) (¬5). والقول الأول (¬6) أصح؛ لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} خطابًا من الناهية المعتدية لقالوا: ولعلكم (¬7) تتقون. ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 385. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 92 بسند جيد عن ابن زيد، وانظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 578. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 239، وحكاه الطبري في "تفسيره" 9/ 92، وهود الهواري 2/ 53 - 54 عن الكلبي. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 386. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 13 - 14، والبغوي 3/ 293، والقرطبي 7/ 307. (¬6) هذا قول الثعلبي 6/ 14 أ، ونقله الرازي في "تفسيره" 15/ 39، عن الواحدي، واختاره ابن عطية 6/ 117، والخازن 2/ 303، وقال القرطبي 7/ 307: "القول الأول قول جمهور المفسرين وهو الظاهر من الضمائر في الآية) اهـ. (¬7) في (ب): (ولعلهم).

165

165 - قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}، قال ابن عباس: (أي: تركوا ما وعظوا به) (¬1)، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، يعني: الفرقة الناهية، واختلفوا في الفرقة الممسكة غير الناهية الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ}، فقال ابن عباس في رواية عطاء بن السائب (¬2): (أسمع الله يقول: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} إلى قوله {يَفْسُقُونَ}، فليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}) (¬3). فمذهبه في هذه الرواية الوقف في الفرقة الممسكة. وروي عنه أيضًا أنه قال: (كانوا أثلاثًا؛ ثلثًا نهى، وثلثًا قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}، وثلثا أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1601 بسند جيد وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 258، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 99، و"معاني الزجاج" 2/ 386، والنحاس 3/ 94، و"تفسير السمرقندي" 1/ 577، الثعلبي 6/ 14/ ب، والماوردي 2/ 272. (¬2) عطاء بن السائب بن يزيد الثقفي أبو يزيد الكوفي، إمام تابعي عابد من كبار العلماء، ثقة ساء حفظه في آخر عمره توفي سنة 136هـ، انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 338، و"الجرح والتعديل" 6/ 332، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 110، و"تهذيب التهذيب" 3/ 103، ومقدمة "فتح الباري" ص 425. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 1/ 2/ 239 - 242، والطبري 9/ 98، والحاكم صححه 2/ 322 - 323 من عدة طرق جيدة. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 97، وابن أبي حاتم 1600 من طرق جيدة وذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 287 - 288، وقال: (نص الله على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحًا فيمدحوا , ولا ارتكبوا عظيمًا فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم فروي عن ابن عباس بإسناد جيد أنه قال: (ما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم)، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم =

وهذا قول ابن زيد أيضاً، قال: (كانوا ثلاث فرقٍ؛ فرقة اعتدت، وفرقة نهت، وفرقة لم تنه، وقالت {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}، فنجت الناهية، وهلكت الفرقتان. قال: وهذه الآية أشد آية في القرآن في ترك النهي عن المنكر) (¬1). وروى ابن جريج عن عكرمة قال: (دخلت على ابن عباس وهو ينظر في المصحف ويبكي قبل أن يذهب بصره، فقلت: ما يبكيك؟ فذكر قصة أصحاب أيلة، ثم قرأ قوله (¬2): {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}. الآية، وقال: أسمع الله ذكر الذين نهوا ولا أسمع الذين سكتوا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها ولا نغيرها. قال (¬3) عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا حين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}، وإن لم يقل الله: أنجيتهم، لم يقل أيضًا أهلكتهم، ولم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا، قال: فأعجبه ذلك من قولي، فرضي، وأمر لي ببردين فكسانيهما) (¬4). ¬

_ = بعد ذلك والله أعلم) اهـ. بتصرف. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" 17/ 382: (أنجى الله الناهين، وأما أولئك الكارهون للذنب الذين قالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا} فالأكثرون على أنهم نجوا؛ لأنهم كانوا كارهين فأنكروا بحسب قدرتهم، وأما من ترك الإنكار مطلقًا فهو ظالم يعذب) اهـ. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 13 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 260، والبغوي 3/ 294، والخازن 2/ 303. (¬2) لفظ: (قوله) ساقط من (ب). (¬3) في (أ): (وقال). (¬4) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 240 - 242، والطبري 9/ 64، وابن خالويه في "إعراب =

وهذا أيضًا مذهب الحسن ويمانٍ. قال الحسن: (نجت فرقتان، وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان) (¬1). وقال يمانٍ: (نجت الطائفتان؛ الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ}، والذين قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، وأهلك الله أهل معصيته) (¬2). وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، أي: شديد من العذاب، قاله ابن عباس (¬3) والحسن (¬4) ومجاهد (¬5) وقتادة (¬6) وابن زيد (¬7). ¬

_ = القراءات" 1/ 212 - 214، والحاكم 2/ 322 - 323 وصححه من طرق جيدة. وأخرج الطبري 9/ 95، وابن أبي حاتم 5/ 1600 بسند جيد عن ابن عباس قال: (نجت فرقتان، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير) اهـ. (¬1) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 55، والواحدي في "الوسيط" 1/ 260، والبغوي 3/ 294، وابن عطية 6/ 116، والرازي 15/ 38 - 39، والقرطبي 7/ 307، والخازن 2/ 302. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 14 أ، والبغوي 3/ 294. (¬3) أخرجه أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص 106، و"ابن حسنون" ص 25 بسند جيد، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 240 - 242، الطبري 9/ 100 - 101، وابن أبي حاتم 5/ 1602 بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (أليم وجيع) اهـ. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 248، وأخرجه الطبري 9/ 101، وابن أبي حاتم 5/ 1602 من طرق جيدة بلفظ: (أليم شديد) اهـ. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 239، والطبري 9/ 101 من طرق جيدة بلفظ: (موجع). (¬7) أخرجه الطبري 9/ 101 بسند جيد وهو قول أهل اللغة والتفسير. انظر: "مجاز =

قال ابن الأعرابي: (البَئِس (¬1) والبَيِس على فَعِل العذابُ الشديد) (¬2). ونحو ذلك قال الزجاج (¬3). قال أبو علي: {بَئِيسٍ} على وزن فعيل يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون فعيلًا من بؤس يبؤس بأسًا: إذا اشتد. والآخر: ما قاله أبو زيد قال: يقال من البؤس وهو الفقر: بَئِسَ الرجل يبأس بؤسًا وبأساء وبئيسًا (¬4) إذا افتقر فهو بائس أي: فقير (¬5). فوصف العذاب ببئيس وهو مصدر على فعيل كالنذير والنكير والشحيح، والتقدير: بعذاب ذي بئيس أي: ذي بؤس. وقرأ نافع (¬6): (بيس) جعل (بيس) الذي هو فعل اسمًا، فوصف ¬

_ = القرآن" 1/ 231، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 152، و"تفسير غريب القرآن" ص 182، و"معاني الزجاج" 2/ 386، و"نزهة القلوب" ص 141، و"معاني النحاس" 5/ 93، و"تفسير السمرقندي" 1/ 577، والثعلبي 6/ 14 ب، والماوردي 2/ 272، وقال الطبري 9/ 101: (أجمعوا على أن معناه: شديد) اهـ. (¬1) في النسخ: البيئيس، والبئيس، وهو تصحيف. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 411 (بئس) وانظر: "العين" 7/ 316، و"الصحاح" 3/ 907، و"المجمل" 1/ 141، و"مقاييس اللغة" 1/ 328، و"المفردات" ص 153، و"اللسان" 1/ 199 (بأس). (¬3) في "معاني الزجاج" 2/ 386، قال: (بئيس أي: شديد يقال: بئس يبؤس بأسًا إذا اشتد) اهـ. وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 411 (بئس). (¬4) في (ب): "وبيسا" وهو كذلك في "الحجة" لأبي علي 4/ 100 عن أبي زيد. (¬5) هذا وما قبله من قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" 1/ 411 (بئس) وذكره الجوهري في "الصحاح" 3/ 907، وقال: (حكاه أبو زيد في كتاب "الهمز") اهـ. (¬6) قرأ نافع: (بيس) بكسر الباء وسكون الياء من غير همز، وقرأ ابن عامر: {بَئْسَ}، بكسر الباء وبعدها همزة ساكنة، وقرأ الباقون: {بَئِيسٍ} بفتح الباء وبعدها همزة مكسورة وبعدها ياء ساكنة، وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ: (بَيْئسَ) على وزن =

به (¬1)، ومثل ذلك قوله: "إن الله ينهى عن قيلَ وقال" (¬2). ويروى "قيلٍ وقالٍ" (¬3)، ونحوه: مُذ شُبَّ (¬4) إلى دبَّ، ومذ شبِّ إلى ¬

_ = فيعل، بفتح الباء وبعدها ياء ساكنة وبعدها همزة مفتوحة-. انظر: "السبعة" ص 296، و"المبسوط" ص 186، و"التذكرة" 2/ 427، و"التيسير" ص 114، و"النشر" 2/ 272. (¬1) في (ب): (فوصف به العذاب ببيس) ولا يوجد ذلك في "الحجة" لأبي علي 4/ 100. (¬2) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (14771) كتاب الزكاة، باب: قول الله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ}، ومسلم رقم (1715) كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة السائل من غير حاجة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" اهـ. وفيهما قيلَ وقالَ -بالفتح-. (¬3) يريد الرواية الأولى بالفتح والثانية بالكسر منونًا، وقد أخرج مسلم رقم (1715) كتاب الأقضية، باب النهي عن كثر المسائل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله نهى عن ثلاث: قيلٍ وقالٍ وكثرة السؤال وإضاعة المال" اهـ. وفيه قيل وقال بالكسر منونًا. قال النووي في "شرح مسلم" 12/ 16: (اختلفوا في حقيقة قيل وقال على قولين: أحدهما: أنهما فعلان، فقيل مبني لما لم يسم فاعله، وقال فعل ماض، والثاني: أنهما اسمان مجروران منونان لأن القيل والقال والقول والقالة كلها بمعنى) اهـ. وانظر: "فتح الباري" 12/ 407. (¬4) في "الحجة" 4/ 101: (مِنْ شب إلى دب ومن شب إلى دب) وأشار المحقق إلى ورود (مد) في بعض النسخ وهذا من أمثال العرب تقول: "أعييتني من شب إلى دبَّ ومن شب إلى دُبِّ" أي: من لدن شببت إلى أن دببت على العصا هرمًا، وهو مثل يضرب للبغيض ولمن يكون في أمر عظيم غير مرضى فيمتد فيه أو يأتي بما هو أعظم منه. انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 54، و"مجمع الأمثال" 1/ 198، و"المستقصى" 1/ 257.

دبِّ (¬1)، فكما استعملت هذه (¬2) الألفاظ أسماءً وأفعالاً، كذلك (بيس) جعله اسمًا بعد أن كان فعلاً، فصار وصفًا مثل نِقضٍ (¬3) ونضوٍ (¬4). وقرأ ابن عامر: {بِئْسَ} (¬5)، وهو مثل قراءة نافع إلا أنه حقق الهمزة، وروى أبو بكر (¬6) عن عاصم (بيأس)، وهو وصف مثل ضيغم (¬7) وحيدرٍ (¬8)، وهو بناء كثير في الصفة (¬9). ¬

_ (¬1) أي بالفتح والكسر مع التنوين وعدمه، فمن نونه جعله بمنزلة الاسم بإدخال من عليه، ومن لم ينونه جعله على وجه الحكاية للفعل، أفاده الميداني في "مجمع الأمثال" 1/ 198. (¬2) في (ب): (هذا)، وهو تحريف. (¬3) نِقْض، بكسر النون وسكون القاف، وهو المهزول من الإبل والخيل، انظر: "اللسان" 8/ 4524 (نقض). (¬4) نضو - بكسر النون وسكون الضاد: المهزول من جميع الدواب وقد يستعمل في الإنسان، انظر: "اللسان" 7/ 4457 (نصا). (¬5) في: (أ): (ييئس)، وفي (ب). (بيس)، وهو تصحيف. (¬6) أبو بكر: هو أبو بكر بن عياش الأسدي أحد الرواة عن عاصم، إمام، تقدمت ترجمته. (¬7) ضيغم، بفتح الضاء وسكون الياء وفتح الغين: الأسد والواسع الشدق والذي يعَضَ، واسم الشاعر ضيغم الأسدي. انظر: "اللسان": 5/ 2592 (ضغم). (¬8) حيدر: بفتح الحاء وسكون الياء وفتح الدال اسم، انظر: "اللسان" 2/ 803 (حدر). (¬9) "الحجة" لأبي علي 4/ 100 - 102، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 428، و"إعراب القراءات" 1/ 211، و"الحجة" لابن زنجلة ص 300، و"الكشف" 1/ 481، وقال ابن خالويه في "الحجة" ص 166: (هذه القراءات لغات مشهورات مستعملات في القراءة) اهـ.

166

166 - قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} الآية. نظم الآية لا يصح إلا بتقدير محذوف؛ لأن معنى العتُو (¬1): الإباء والعصيان، وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنهم أبوا ما نهوا عنه، وهو صيد الحيتان في السبت، ولكن التقدير: فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه ثم حذف المضاف؛ وإذا أبوا ترك المنهي عنه كان ذلك ارتكابًا (¬2). وقوله تعالى: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} مفسر في سورة البقرة (¬3). 167 - قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ}، اختلفوا في معنى {تَأَذَّنَ}، فقال أهل اللغة (¬4): (تأذن بمعنى أذن أي: أعلم)، ونحو ¬

_ (¬1) عَتَا: أي: استكبر وجاوز الحد، وقال الزجاج 2/ 386: (العاتي الشديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل موعظة) اهـ. وانظر: "العين" 2/ 226، و"الجمهرة" 2/ 1032، و"تهذيب اللغة" 3/ 2313، و"الصحاح" 6/ 2418، و"المجمل" 3/ 646، و"مقاييس اللغة" 4/ 225، و"المفردات" ص 546، و"اللسان" 5/ 2794 (عتا). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 101، و"إعراب النحاس" 1/ 648، و"تفسير السمرقندي" 1/ 578، والرازي 15/ 40، والخازن 2/ 303، قال الطبري: (أي: تمردوا فيما نهوا عنه وتمادوا فيه) اهـ. وقال النحاس: (أي: تجاوزوا في معصية الله جل وعز) اهـ. (¬3) انظر: "البسيط" البقرة: 66. (¬4) الأذان: الإعلام، وأذن بمعنى عَلِمَ، وأذن له أذنا استمع، وتأذن فلان أعلم وآذن، وتأذن الأمير في الكلام أي: تقدم وأعلم ونادى فيهم بالتهديد والنهي، وقال الخليل في "العين" 8/ 200: (الأذان اسم للتأذين، والتأذن من قولك: تأذنت لأفعلن كذا يراد به إيجاب الفعل في ذلك أي: سأفعل لا محالة وتأذنت تقدمت كالأمير يتأذن قبل العقوبة ومنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ}) اهـ. وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 139 - 140، و"الصحاح" 5/ 2068، و"المجمل" 1/ 91، و"مقاييس اللغة" 1/ 75، و"المفردات" ص 70، و"اللسان" 1/ 51 (أذن).

ذلك قال الحسن (¬1)، وقال ابن عباس: (وإذ قال ربك) (¬2)، وهو معنى وليس تفسير، وذلك أن الإعلام يكون بالقول ففي أعلم معنى قال. وقال في رواية عطاء: (حتم ربك) (¬3). وقال الزجاج: (معناه: تألى ربك) (¬4). وأكثر أهل اللغة على (أن التأذن بمعنى: الإيذان وهو الإعلام) (¬5). وقال أبو علي الفارسي: (قال سيبويه: (آذن أعلم وأذَّن نادى وصاح للأعلام، منه قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44]. قال: وبعض العرب يجري أذنت مجرى آذنت فيجعل أذن وآذن بمعنى" (¬6). فإذا كان أَذَّن ¬

_ (¬1) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 56، والماوردي 2/ 273، وابن الجوزي 3/ 279. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 137، وذكره الثعلبي 6/ 15 ب، والبغوي 3/ 295. (¬3) ذكره ابن الجوزي 3/ 279، وأبو حيان في "البحر" 4/ 413 عن عطاء فقط، وجاء عند الثعلبي 6/ 15 ب، والبغوي 3/ 295 عن عطاء قال: (حكم ربك). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 387، وتألى أي: حلف وأقسم. (¬5) وهو قول أهل التفسير أيضًا، قال النحاس في "معانيه" 3/ 96: (قال أهل التفسير: معناه: أعلم ربك، وهذا قول حسن لأنه يقال: تعلم بمعنى أعلم) اهـ. وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 231: (أي: أمر من الإذن وأحل وحرم ونهى) اهـ. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 152، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 182، و"تفسير الطبري" 9/ 102، و"نزهة القلوب" ص 158، و"تفسير السمرقندي" 1/ 578، و"تفسير المشكل" ص 87 (¬6) في "الكتاب" 4/ 62 قال سيبويه: (وقد يجيء فعلت وأفعلت في معنى واحد نحو: آذنت وآذنت أعلمت وأذنت النداء والتصويت بإعلان، وبعض العرب يجري أذنت وآذنت مجرىَ سمَّيت وأسميتُ) اهـ. وانظر: "الحجة" لأبي علي 2/ 404.

أعلم في لغة بعضهم فَتَأَذَّن تَفَعَّل من هذا وليس تفعل هنا بمنزلة تَقَيَّس (¬1) وتَشَجَّع (¬2)، ولكنه بمنزلة (فعَّل) كما أن تَكَبَّر في قوله: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]. ليس على حد (تكبَّر زيد) إذا تعاطى الكبر، ولكن {الْمُتَكَبِّرُ} بمنزلة الكبير، كما أن قوله (¬3): {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] تقديره: علا وليس على حد (تغافل) و (تناسى) إذا أظهر (¬4) شيئًا من ذلك ليس فيه، فبناء الفعلين يتفق والمعنى يختلف، كذلك {تَأَذَّنَ} بمنزلة عَلِمَ، ومثل (تَفَعَّلَ) في أنه يراد به (فَعَل)، قول زهير: تَعَلَّمْ أن شرَّ الناس قوم ... ينادى في شعارهم يسار (¬5) ليس يريد: تعلَّم هذا عن جهل، كما يريدون بقولهم: تعلم الفقه، وإنما يريد به: اعلم، كذلك {تَأَذَّنَ} معناه عَلِم، ومما يدل على أن معناه العلم وقوع لام اليمين بعده، كما يقع بعد العلم في نحو: علم الله لأفعلن، وكأن المعنى في {تَأَذَّنَ}، علم {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، فتعلق (¬6) الجواب به كما يتعلق بالقسم من حيث استعمل ¬

_ (¬1) تقيس - بالفتح. يقال: تقيس الرجل أي: انتسب إلى قبيلة قيس. انظر: "اللسان" 6/ 3794 (قيس). (¬2) انظر: "الكتاب" 4/ 71. (¬3) في: (أ): (قوله): {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهي الآية [النحل:1]، وفي "الحجة" 2/ 411، كما أن قوله عز وجل: {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} [الإسراء: 43]. (¬4) في (ب): (ظهر). (¬5) "ديوانه" ص 51، و"معاني الزجاج" 2/ 387، الثعلبي 6/ 15 ب، وابن عطية 6/ 124، و"ووضح البرهان" للغزنوي 1/ 368، والقرطبي 7/ 309 وتعلم أي: اعلم، والشعار العلامة. ويسار: اسم راعي إبل له، انظر: "شرح ديوان زهير لثعلب" ص 219. (¬6) في (ب): (يتعلق).

استعمال القسم) (¬1). وقد ذكرنا استعمال العلم بمعنى القسم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102]، في سورة البقرة. وقوله تعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ}، يعني: على اليهود. وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} فيه تقديم وتأخير، أي: ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة] (¬2). قال ابن عباس (¬3) والحسن (¬4) وسعيد بن جبير (¬5) وقتادة (¬6): (هم العرب؛ محمد وأمته بعثهم الله على اليهود يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية)، ومعنى البعث هاهنا: إرسالهم عليهم وأمرهم بذلك. ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 2/ 404 - 412. وانظر ابن عطية 6/ 124، والقرطبي 7/ 309، و"الدر المصون" 5/ 500 ومعنى الآية: علم الله ليبعثن، ويقتضي أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر عزمت عليه غاية العزم: علم الله لأفعلن كذا، وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو {لَيَبْعَثَنَّ} أفاده ابن عطية والسمين وقالا: (قالت فرقة: تأذن أعلم، وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبة تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم وبين ذلك فرق بين التعدي وغيره) اهـ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) أخرجه الطبري 9/ 102 - 103 من طرق جيدة عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1604 من طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد. (¬4) ذكره الماوردي 2/ 273، عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة. (¬5) أخرجه أيضًا النحاس في "معانيه" 3/ 97 بسند جيد عن سعيد بن جبير، وذكره الثعلبي 6/ 15 ب. (¬6) أخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 239 - 240 بسند جيد عن قتادة.

168

وقال عطاء: (يريد: بُخْتُ نصَّر (¬1) وغيره إلى اليوم) (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ}. قال ابن عباس: (يريد: في الدنيا والآخرة) (¬3). ومعنى هذا: أنه سريع العقاب لمن استحق تعجيله؛ لأنه لا يتأخر عن وقت إرادته. عاقب اليهود في الدنيا بسوء العذاب (¬4). 168 - قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا}، قال ابن عباس: (يريد: فرقناهم في جميع البلاد) (¬5). قال أهل المعاني (¬6): (فرقهم الله تعالى فتشتت أمرهم، ولم تجتمع لهم كلمة) (¬7). ¬

_ (¬1) بخت نصر: قائد وملك من ملوك بابل قبل الميلاد، قال في "القاموس" ص 621 (نصر): (بخت نصر بالتشديد أصله بوخت ومعناه: ابن ونصر كبقم صنم وكان وجد عند الصنم ولم يعرف له أب فنسب إليه - خرب بيت المقدس) اهـ. وانظر أخباره في "تاريخ الطبري" 1/ 538 - 560، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 261 - 271. (¬2) ذكره الرازي 15/ 42، والقرطبي 7/ 309 بلا نسبة. والقول الأول هو قول أهل التفسير كما ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 261 وهو اختيار القرطبي 7/ 309، والظاهر أن الآية عامة. قال ابن عطية 6/ 125: (الصحيح أنها عامة في كل من حال اليهود معه هذه الحال) اهـ. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 103، والسمرقندي 1/ 578. (¬5) أخرج الطبري 9/ 104، وابن أبي حاتم 5/ 1605 بسند جيد نحوه، وفي "الدر المنثور" 3/ 255، و"مسائل نافع بن الأزرق" ص 164 عن ابن عباس قال: ({أُمَمًا} أي: فرق). (¬6) لفظ: (قال أهل المعاني فرقهم الله تعالى) ساقط من (أ). (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 231، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 182، و"تفسير الطبري" 9/ 104، و"معاني النحاس" 3/ 98، و"تفسير الماوردي" 2/ 274.

وقوله تعالي: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ}. قال ابن عباس (¬1) ومجاهد (¬2): (يريد: الذين أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به). وقال الكلبي: (يعني: الذين ذكرهم في قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: 159]، وهم الذين وراء الصين) (¬3). وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}، قال: (يريد: الذين كفروا) (¬4). وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ}، أي: عاملناهم معاملة المبتلي المختبر. {بِالْحَسَنَاتِ}، وهي: النعيم والخصب والعافية، {وَالسَّيِّئَاتِ} وهي: الجدب والشدائد (¬5). قال أهل المعاني: (وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلارتباطها والازدياد (¬6) منها، وأما النقم فلكشفها، والسلامة منها) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 261، والبغوي 3/ 295، والرازي 15/ 42، والخازن 2/ 304 عن ابن عباس ومجاهد. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1605 بسند جيد. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 137، وذكره الثعلبي 6/ 15 ب، والبغوي 3/ 295، ورجح الطبري 9/ 104، الخازن 2/ 304: أنهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى -عليه الصلاة والسلام -، قال الخارن: (هذا هو الصحيح ويدل عليه قوله بعد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف:169] والخلف بعد الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل) اهـ. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 137. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 104، و"معاني النحاس" 3/ 98، والسمرقندي 1/ 578، والماوردي 2/ 274. (¬6) في (أ): (ولازديادها وأما). (¬7) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 3/ 280، والرازي 15/ 43، والخازن 2/ 304.

169

وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: كي يتوبوا) (¬1). قال أهل المعاني: (إنهم مارَّون على وجوههم في جهة الباطل , فدعوا إلى الرجوع عنه إلى جهة الحق، والانصرافُ عن الباطل رجوعٌ إلى الحق). 169 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، قال ابن عباس: (فخلف من بعد هؤلاء الذين قطعناهم خلف من اليهود) (¬2). وقال في رواية عطاء: (يريد: نسلًا منهم) (¬3). يعني: أولاد هؤلاء الذين فرقهم في البلاد. وقوله تعالى: {خَلْفٌ}. قال الزجاج: (يقال للقرن الذي يجيء في أثر قرن: خلف، والخلف ما أخلف عليك بدلاً مما أخذ منك، ويقال في هذا: خلف أيضًا) (¬4). وقال الفراء: {خَلْفٌ} أي: قرن بجزم اللام، والخَلَف ما استخلفته، تقول: أعطاك الله خلفا مما ذهب لك (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 137، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 262. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 138، وذكره ابن الجوزي 3/ 280. (¬3) لم أقف عليه، ورجح الطبري 9/ 105: (أن المراد خلف سوء من اليهود؛ لأنه لا دليل يوجب صحة القول به على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم)، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 98: (قال مجاهد: يعني: النصارى، وقال غيره: يعني: أبناءهم , وهذا أولى القولين، والله أعلم لأنه يقال لولد الرجل: خلفه) اهـ. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 388، وزاد: (فأما ما أخلف عليك بدلا مما ذهب منك فهو الخلف بفتح اللام) اهـ. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 399، وزاد: (وأنت خلف سوء سمعت من العرب) اهـ.

وقد توافقا في هذا القول، وقال أحمد بن يحيى: (الناس كلهم يقولون: خَلَف صدق وخَلَف سوء، وخَلْف (¬1) للسوء لا غير، وأبو عبيدة (¬2) معهم، ثم (¬3) انفرد وحده فقال: ويقال للصدق أيضًا: خَلْف) (¬4). قال الأزهري: (وأخبرني المنذري بإسناده عن الفراء قال: الخَلْف يذهب به إلى الذم، والخَلَف خلف صالح، وقد يكون في الرديء خَلْف وفي الصالح خَلْف لأنهم يذهبون به (¬5) إلى القرن، قال: فأرى الفراء قد أجاز في الصالح خَلْف كما أجازه أبو عبيدة) (¬6)، وعلى هذا ينشد لحسان: لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع (¬7) وقال ابن السكيت: (يقال: هذا خلف صدق، وهذا خلف سوء، وهؤلاء خلف سوء، جمعه وواحده (¬8) سواء، وأنشد (¬9): ¬

_ (¬1) أي: بسكون اللام. (¬2) في "مجاز القرآن" 1/ 232، قال: (خلْف ساكن ثاني الحروف وإن شئت حركت الحرف الثاني وهما في المعنى واحد كما قالوا: أثر وأثر وقوم يجعلونه إذا سكنوا ثاني حروفه إذا كانوا مشركين وإذا حركوه جعلوه خلفًا صالحًا) اهـ. (¬3) لفظ: (ثم) ساقط من (ب). (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 1086 (خلف). (¬5) لفظ: (ب) ساقط من النسخ. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 1086 (خلف). (¬7) "ديوانه" ص 48، و"سيرة ابن هشام" 3/ 308، و"تفسير الطبري" 9/ 104، والثعلبي 6/ 16 أ، وابن عطية 6/ 127، والقرطبي 7/ 311، و"اللسان" 2/ 1239 (خلف)، والخازن 2/ 305، و"البحر" 4/ 415، و"الدر المصون" 5/ 503، وفي "الديوان": (لنا القدم الأولى إليك وخلفنا)، بسكون اللام. (¬8) في (ب): (وواحد سواء)، وهو تحريف. (¬9) الشاهد للبيد في "ديوانه" ص 36، و"العين" 4/ 266، و"الكامل" للمبرد 4/ 33، =

وبقيتُ في خَلْفٍ كجلد الأجرب) (¬1) وقال أصحاب العربية (¬2): (الخلفُ المستعمل في الذم مأخوذ من الخَلَف، وهو الفساد، يقال للرديء من القول: خلف، ومنه المثل: نطق خلفًا (¬3)، وخَلَف النبيذ يخلف خُلُوفًا وخلفًا إذا فسد، وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته). وقال النضر: (الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد، فأما في القرن الصالح فتحريك اللام لا غير، وأنشد (¬4): إنا وجدنا خلفًا (¬5) بئس الخلف) (¬6) ¬

_ = و"جمهرة أشعار العرب" ص 69، و"تفسير الطبري" 9/ 105، و"الجمهرة" 1/ 615، و"أمالي القالي" 1/ 158، و"الصحاح" 4/ 1354 (خلف)، و"ديوان المعاني" 2/ 198، و"تفسير الثعلبي" 6/ 16 أ، وخلف بسكون اللام وصدره: ذهب الذين يعاشُ في أكنافهم (¬1) "إصلاح المنطق" ص 13 و 66، و"تهذيب اللغة" 1/ 1086 (خلف). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 104، و"أمالي القالي" 1/ 158. (¬3) هذا من أمثال العرب المشهورة يضرب للرجل يطيل الصمت ثم يتكلم بالخطأ يقال: سَكَتَ ألفا ونطق خلفاً، أي: سكت عن ألف كلمة ونطق بواحدة رديئة، انظر: "إصلاح المنطق" ص 66، و"أمالي القالي" 1/ 158، و"جمهرة الأمثال" 1/ 509، و"مجمع الأمثال" 1/ 330، و"المستقصى" 2/ 119. (¬4) لم أقف على قائله، وهو في كتب "الفرق": لقطرب ص 68، وللأصمعي ص 78 و79، ولأبي حاتم السجستاني ص 36، ولثابت بن أبي ثابت ص 44، و"الكامل" للمبرد 3/ 372 - 373، و"الجمهرة" 1/ 607، و"تهذيب اللغة" 1/ 1050 , و"الصحاح" 4/ 1352، و"تفسير القرطبي" 7/ 311، و"اللسان" 2/ 1238 , و"تاج العروس" 12/ 174 (خضف)، وعجزه: عبدًا إذا ما ناء بالحمل خضف (¬5) في (ب): (خلفنا) وكذا في "الدر المصون" 5/ 305، وفي غيره (خلفًا). (¬6) "تفسير الثعلبي" 6/ 16 أو"البحر" 4/ 416، و"الدر المصون" 5/ 503، وفي =

فجمع اللغتين في المذموم، وأكثر أهل اللغة (¬1) على هذا إلا الفراء وأبا عبيدة فإنهما أجازا في الصالح جزم اللام (¬2). وقوله تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى}. قال أبو عبيد: (جميع متاع الدنيا عَرَض بفتح الراء، يقال: إن الدنيا عرض حاضر، وأما العَرْض بسكون الراء، فما خالف العين (¬3)، الدراهم والدنانير التي هي الثمنات، وجمعه عُروض، وكأن العَرْض من العَرَضِ وليس كل عَرَض عَرْضًا) (¬4). ¬

_ = "تهذيب اللغة" 1/ 1092: (قال النضر بن شميل: الخلف يكون في الخير والشر وكذلك خلف) اهـ. (¬1) انظر: "العين" 4/ 265، و"الجمهرة" 1/ 615، و"الصحاح" 4/ 1354، و"المجمل" 2/ 300، و"مقاييس اللغة" 2/ 210، و"المفردات" ص 293، و"اللسان" 2/ 1241، (خلف)، وقال السمين في "الدر" 5/ 503: (هذا قول جماعة أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيدة) اهـ. بتصرف. (¬2) والحاصل أن خلف بفتح اللام وإسكانها، قيل: بمعنى واحد وقيل: الساكن في الطالح، والمفتوح في الصالح، وأكثرهم على جواز الفتح والسكون في الرديء، وأما الصالح فبالفتح فقط، قال المبرد في "الكامل" 4/ 33: (قلما يستعمل خلف بالسكون إلا في الشر) اهـ. وقال الماوردي 2/ 274: (هو بالتسكين في الذم، وبالفتح في الحمد وهذا أظهر وفي قول الشعراء أشهر) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 313، و "تفسير غريب القرآن" 1/ 182، و"نزهة القلوب" ص 219، و"تفسير المشكل" ص 88، و"زاد المسير" 3/ 280، و"البحر" 4/ 415. (¬3) في "تهذيب اللغة" 3/ 2395: (فما خالف الثمنين: الدنانير والدراهم من متاع الدنيا وأثاثها) اهـ. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2395 وفيه: (فكل عَرْض داخل في العَرَضَ، وليس كل عَرَض عَرْضًا) اهـ. وانظر: "العين" 1/ 271، و"مجاز القرآن" 1/ 232، و"معاني الأخفش" 2/ 313 - 314، و"الجمهرة" 2/ 747، و"الصحاح" 3/ 1082، و"المجمل" 2/ 659، و"مقاييس اللغة" 4/ 269، و"المفردات" ص 559 , و"اللسان" 5/ 2877 (عرض).

قال ابن عباس (¬1): (يأخذون الطمع إذا عرض لهم حلالًا أو حرامًا من الرشى (¬2) وغيرها). وقال عطاء عنه: (يريد: ما أشرف لهم من الدنيا) (¬3)، و {الْأَدْنَى} تذكير (الدنيا) وأراد عرض هذه الدار الدنيا، فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت (¬4)، وفي {الْأَدْنَى} قول آخر (¬5) لمجاهد نذكره بعيد. قال المفسرون: (ذم الله تعالى بهذه الآية اليهود {وَرِثُوا الْكِتَابَ} فقرؤوه، وعلموه، وضيعوا (¬6) العمل به، وخالفوا حكمه، يرتشون في حكم الله وتبديل كتابه وتغيير صفة رسوله) (¬7). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 138، وفي "زاد المسير" 3/ 281، عن ابن عباس قال: (يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام) اهـ. انظر: "الدر المنثور" 3/ 255 - 256. (¬2) الرُّشَي: جمع رشوة، انظر: "اللسان" 3/ 1653 (رشا)، وقال الماوردي 2/ 275، في معنى الآية: (يعني: الرشوة على الحكم في قول الجميع) اهـ. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 106، بسند ضعيف، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 262، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1608 بسند جيد عن عطاء نحوه. (¬4) هذا قول الثعلبي 6/ 17 أ، والأدنى: الأقرب، والدنو غير مهموز مصدر دنا يدنو إذا قرب. انظر: "العين" 8/ 75، و"تهذيب اللغة" 2/ 1233، و"الصحاح" 6/ 2341 , و"المجمل" 2/ 336، و"مقاييس اللغة" 2/ 303، و"المفردات" ص 318، و"اللسان" 3/ 1436 (دنا). (¬5) لفظ: (آخر) ساقط من: (أ). (¬6) في (ب): (وضيعوه العمل وخالفوا)، وهو تحريف. (¬7) هذا قول الثعلبي 6/ 16 ب، عن المفسرين، وانظر البغوي 3/ 296، والقرطبي 7/ 311.

{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}. قال ابن عباس (¬1) والمفسرون (¬2): (كانوا يتمنون على الله المغفرة، يقولون: ما عملنا بالليل كفر عنا [بالنهار, وما عملنا بالنهار كفر عنا] (¬3) بالليل) و (¬4) قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}، قال ابن عباس: (إذا أصابوا عرضًا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه) (¬5). وقال مجاهد: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى}، ما أشرت لهم اليوم شيء من الدنيا حلال أو حرام أخذوه وتمنوا على الله المغفرة، وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه) (¬6)، فالأدنى على هذا عبارة عن اليوم الأدنى، وهو اليوم الذي هم فيه. ونحو هذا قال قتادة (¬7) والسدي (¬8) وقالوا: (هذا إخبار عن إصرارهم على الذنوب). وقال الحسن: (هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وأنهم لا يشبعهم شيء) (¬9). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 138. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 107، و"معاني الزجاج" 2/ 388، و"تفسير السمرقندي" 1/ 578، والثعلبي 6/ 16 ب. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 138، وهو قول الطبري 9/ 106، والسمرقندي 1/ 578. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 249، وأخرجه الطبري 9/ 107، وابن أبي حاتم 5/ 1607 من طرق جيدة. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 240، بسند جيد. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 106، من طرق جيدة عن قتادة والسدي. (¬9) ذكره والماوردي 2/ 275، وابن الجوزي 3/ 281، والرازي 15/ 44.

وقوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. قال عطاء عن ابن عباس: (وكّد الله في التوراة {أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، فقالوا الباطن). قال ابن عباس: (يعني: قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا}، فذلك قولهم على الله غير الحق) (¬1). وقال ابن جريج: (أي: فيما يرجون على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يزالون يعودون لها ولا يتوبون منها، فذلك قولهم على الله غير الحق) (¬2). وقال الزجاج: (قوله: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ} يدل على إصرارهم على الذنب، والله عز وجل وعد بالمغفرة في العظائم التي توجب النار مع التوبة، فقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}) (¬3). وبيان هذا ما قاله بعض المفسرين قال: (ليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار) (¬4)، وقوله تعالى: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي: فهم ذاكرون لما (¬5) أخذ عليهم لأنهم قد قرؤوه (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 263، وابن الجوزي 3/ 281. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 106 بسند جيد عن ابن جريج عن ابن عباس، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي إمام، لم يسمع من ابن عباس، انظر: "سير أعلام النبلاء" 6/ 334، و"تهذيب التهذيب" 2/ 601. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 388، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 107، و"معاني النحاس" 3/ 100، والسمرقندي 1/ 578. (¬4) ذكره البغوي 3/ 296، وابن الجوزي 3/ 281، والرازي 15/ 44. (¬5) في (ب): (ذاكرون ما أخذ عليهم). (¬6) هذا قول الزجاج في "معانيه" 2/ 388، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 107، و"معاني النحاس" 3/ 100، والسمرقندي 1/ 579.

170

170 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}، يقال: مسَّكت (¬1) بالشيء، وتمسكت به، واستمسكت به، وامتسكت به (¬2)، وروى أبو بكر عن عاصم (¬3) {يُمْسِكُونَ} مخففه، وحجته قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]، وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (¬4) [الأحزاب: 37]، {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬5) [المائدة: 4]، والتشديد أقوى , لأن التشديد للكثرة، وهاهنا أريد به الكثرة لأنه قال في موضع آخر: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119]. والإيمان بكل الكتاب يوجب التمسك الذي هو للكثرة (¬6)، ولأنه يقال: أمسكته، وقيل ما يقال: أمسكت به (¬7). ¬

_ (¬1) مسك أصل يدل على حبس الشيء، وإمساك الشيء التعلق به وحفظه، واستمسكت بالشيء إذا تحريف الإمساك. ويقال: أمسكت عنه كذا أي: منعته، انظر: "العين" 5/ 318، و"الجمهرة" 2/ 855، و"تهذيب اللغة" 4/ 3396، و"الصحاح" 4/ 1608، و"المجمل" 3/ 830، و"مقاييس اللغة" 5/ 320، و"المفردات" ص 768، و"اللسان" 7/ 4203 (مسك). (¬2) لفظ: (به) ساقط من (أ). (¬3) قرأ: أبو بكر عن عاصم {يُمَسِّكُونَ} بسكون الميم وتخفيف السين، وقرأ الباقون بفتح الميم وتشديد السين، انظر: "السبعة" ص 297، و"المبسوط" ص 186، و"التذكرة" 2/ 428، و"التيسير" ص 114، و"النشر" 2/ 273. (¬4) لفظ: ({زَوْجَك}) ساقط من (أ). (¬5) في (أ): (وكلوا)، وكذا في "الحجة" لأبي علي 4/ 1036، وفي (ب): (كلوا)، وهو تحريف. (¬6) في (ب): (الذي هو الكثرة). (¬7) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 103 - 104، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 429، و"إعراب القراءات" 1/ 214، و"الحجة" لابن خالويه ص 166، ولابن زنجلة ص 301، و"الكشف" 1/ 482.

قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وقال عامة المفسرين (¬2): (نزلت في مؤمني أهل الكتاب). فعلى قول عطاء المراد بالكتاب: القرآن، وعلى قول المفسرين المراد به: التوراة، وأما معنى التمسك بالكتاب؛ فقال الفراء (¬3): (معناه (¬4): يأخذون بما فيه). وقال الزجاج: (أي: يؤمنون به ويحكمون بما فيه (¬5). وقال غيره: (التمسك بالكتاب ارتباط به على ما بيّن فيه، كالقابض على الشيء الذي يرجو النجاة من قبله والفوز من جهته) (¬6). وقوله تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}. إنما ذكرت {الصَّلَاةَ} مع دخولها في التمسك بالكتاب للبيان عن جلالة موقعها، وعظم منزلتها في طاعة الله، وأنها من أوكد الأمور التي يجب المحافظة عليها (¬7)، واختلف النحويون (¬8) في إعراب الآية، فقال قوم: هذه الآية معطوفة على ما قبلها، والتقدير: ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 17 ب، والبغوي 3/ 297، عن عطاء فقط. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 249، وأخرجه الطبري 9/ 108، وابن أبي حاتم 5/ 1609، من طرق جيدة عن مجاهد وابن زيد وهو اختيار السمرقندي 1/ 279، وابن الجوزي 3/ 282، والقرطبي 7/ 21، والخازن 2/ 306. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 399. (¬4) في (ب): (معناه يحكمون يأخذون بما فيه). (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 389، ومثله قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3397 (مسك). (¬6) قال الطبري 9/ 108 في معنى الآية: (الذي يعملون بما في كتاب الله)، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 100، و"تفسير السمرقندي" 1/ 279. (¬7) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 45، والخازن 2/ 306، و"البحر" 4/ 417. (¬8) انظر: "الكشاف" 2/ 128، وابن عطية 6/ 129، والرازي 15/ 45.

{وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}، وقال الأكثرون منهم: {وَالَّذِينَ} مبتدأ، ثم اختلفوا في خبره، فقال قوم (¬1): خبره محذوف تقديره: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} نعطيهم أجرهم، ودل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}؛ [لأن فيه معنى التعليل فكان في ذكر العلة ما يغني عن المعلول. وقال الزجاج: (الذي أختار أن يكون التقدير: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}] (¬2) منهم) (¬3)، فعلى هذا الخبر قوله: {إِنَّا}، والعائد إلى المبتدأ محذوف وهو (منهم). قال ابن الأنباري: (وخص {الْمُصْلِحِينَ} بأن وعدهم حفظ الأجر إذ كان منهم من لم يُصلح فتكاملت آثامه بتضييعه وصايا ربه وإقدامه على تكذيب النبيين ودفع ما يقف على نعته من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -). قال أبو بكر: (وقال بعض النحويين الراجع إلى المبتدأ قوله: {الْمُصْلِحِينَ}، وتلخيص المعنى: إنا لا نضيع أجرهم فأظهرت كنايتهم بالمصلحين كما يُقال: عليُّ لقيتُ الكسائي. وأبو سعيد رويت عن الخدري (¬4)، يراد (¬5): لقيته ورويتُ عنه، وأنشد: ¬

_ (¬1) انظر: "غرائب التفسير" 1/ 426، و"البيان" 1/ 379، و"التبيان" ص 395، و"الفريد" 2/ 382، و"الدر المصون" 5/ 507. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 388، وهو قول النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 648 - 649، ومكي في "المشكل" 1/ 305. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) في (ب): (يقال لقيته)، وهو تحريف.

171

فيا ربَّ ليلى أنت في كلِّ موطنٍ ... وأنت الذي في رحمة الله أطمع (¬1) أراد في رحمته (¬2) فأظهر الهاء) (¬3)، وهذان الوجهان ذكرهما أبو بكر؛ معنى قول الزجاج (¬4) في هذه الآية، والأول منهما (¬5) اختياره (¬6). {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]. 171 - قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ}، اختلفت (¬7) عبارات أهل اللغة (¬8) والتفسير (¬9) في معنى {نَتَقْنَا}؛ فقال الليث: (النَّتق الجذب، تقول: نتقت الغرب من البئر نتقًا إذا جذبته بمرَّة جذبة، وبعث الله الملائكة فنتقوا جبل طور فاقتلعوه من أصله حتى أطلعوه على عسكر بني إسرائيل) (¬10). ¬

_ (¬1) الشاهد بلا نسبة في "زاد المسير" 3/ 283، و"مغني اللبيب" 1/ 210 - 2/ 504 - و546، وقال السيوطي في "شرح شواهد المغني" 2/ 559: (قيل: إنه لمجنون بني عامر) اهـ. وهو ليس في "ديوانه". (¬2) في (ب): (في رحمته أطمع فأظهر). (¬3) ذكره ابن الجوزي 3/ 282 - 283. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 388 - 389. (¬5) في (ب): (منها). (¬6) قال أبو حيان في "البحر" 4/ 418: (والظاهر أن قوله: {وَالَّذِينَ} استئناف مرفوع بالابتداء وخبره الجملة بعده، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف) اهـ. (¬7) في (ب): (اختلف)، وهو تحريف. (¬8) انظر: "الجمهرة" 1/ 408، و"مقاييس اللغة" 5/ 387، و"المجمل" 3/ 854, و"المفردات" ص 790، و"اللسان" 7/ 4377 (نتق). (¬9) أخرج الطبري 82/ 110 من طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة قالا: (أي: رفعنا)، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1610 من طرق جيدة عن ابن عباس وعطاء. (¬10) "العين" 5/ 129 - 130، وفي "تهذيب اللغة" 4/ 3505، قال الليث: (النتق =

وقال (¬1) الفراء في كتاب "المصادر": (يقول: علّقنا (¬2) الجبل فوقهم فرفعناه، نتقهُ ينتقهُ نتقًا) (¬3). وقال في المعاني: {نَتَقْنَا} رفعنا (¬4). وقال بعض أهل اللغة (¬5): (أصل النتق: الزعزعة والنفض، ومن هذا يقال: نتقت السقاء إذا نفضته لتقلع منه زبدته) (¬6)، وإلى هذا القول ذهب مجاهد وابن قتيبة، قال مجاهد: {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} كما تنتق الزبدة) (¬7). وقال ابن قتيبة: {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} أي: زعزعناه، ومنه يقال: نتقت السقاء، أي: نفضته لتقلع الزبدة منه). وقال أبو عبيدة: (أصل النتق: قلع الشيء من موضعه والرمي به، يقال: نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبّه، وامرأة ناتق منتاق إذا كثر ولدها, لأنها ترمي بأولادها رميًا) (¬8). ¬

_ = الجذب ونتقت الغَرْب من البئر إذا جذبته بمرة) اهـ. والغَرْب بفتح الغين وسكون الراء: الدلو العظيمة، انظر: "اللسان" 6/ 3227 (غريب). (¬1) في (ب): (فقال). (¬2) في (ب): (علقت). (¬3) ذكره الثعلبي 6/ 17/ ب، وذكره الطبري 9/ 110 عن بعض الكوفيين. (¬4) "معاني الفراء" 1/ 399، وزاد: (رفع الجبل على عسكرهم فرسخًا فرسخًا) اهـ. (¬5) ذكره في "تهذيب اللغة" 4/ 3505 بلا نسبة، وهو في أكثر المراجع المذكورة. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 109، وابن أبي حاتم 5/ 1610 بسند ضعيف. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 182، وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 152، و"معاني النحاس" 3/ 101. (¬8) ذكره الرازي 15/ 45، والسمين في "الدر" 5/ 509، وذكره الطبري 9/ 110، عن بعض البصريين، وقال الشيخ أحمد شاكر في "الحاشية" (يعني: أبا عبيدة) وفي "مجاز القرآن" 1/ 232 قال: (أي: رفعنا فوقهم) اهـ. وفي "الصحاح" 4/ 1558 (قال أبو عبيدة: أي: زعزعناه) اهـ.

وأحسن العبارات وأجمعها (¬1) أن يقال: معنى {نَتَقْنَا الْجَبَلَ}: رفعناه باقتلاع له من أصله. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} قال عطاء عن ابن عباس: (كأنه سقيفة) (¬2)، والظلة (¬3): كل ما أظلك من سقف بيت، أو سحابة، أو جناح حائط، والجمع ظلل وظلال (¬4). أما (¬5) تفسير الآية وقصتها فقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الآية [البقرة: 63]. وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}. قال المفسرون (¬6): (علموا ¬

_ (¬1) هذا هو الظاهر واختيار أكثرهم، انظر: "تفسير الطبري" 9/ 159، و"نزهة القلوب" ص 445 - 446، و"تفسير السمرقندي" 1/ 579، و"تفسير المشكل" ص 88، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 283، والرازي 15/ 45، والقرطبي 7/ 313، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 418: (النتق الجذب بشدة وفسره بعضهم بغايته وهو القلع) اهـ. وقال السمين في "الدر" 5/ 509 - 510: (اختلفت فيه عبارات أهل اللغة وكلها معان متقاربة) اهـ. بتصرف. وقال ابن عطية 6/ 130: (أي: اقتلعنا ورفعنا. وقد جاء في القرآن بدل هذه اللفظة في هذه القصة بعينها {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: 63]) اهـ. (¬2) ذكره الرازي 15/ 45، وذكره الثعبي 6/ 18 أ، والبغوي 3/ 297 عن عطاء فقط. (¬3) انظر: "العين" 8/ 148، و"الجمهرة" 1/ 153، و"تهذيب اللغة" 3/ 2246، و"الصحاح" 5/ 1755، و"المجمل" 2/ 599، و"مقاييس اللغة" 3/ 461، و"المفردات" ص 535 (ظلل). (¬4) في (ب): (ظلل وأظلال)، وفي "اللسان" 5/ 2755 (ظلل): (كل شيء أظلك فهو ظلَّة ويقال: ظلُّ وظلال وظلة وظلل، والظلُّ بالكسر جمعه أظلال وظلال وظلول) اهـ. (¬5) في (ب): (فأما). (¬6) انظر: السمرقندي 1/ 579، والثعلبي 6/ 18 أ، والماوردي 2/ 276، والبغوي 3/ 297، وابن الجوزي 3/ 283 , والخازن 2/ 306، وذكره عن المفسرين الرازي 15/ 45.

172

وأيقنوا)، وقال أهل المعاني: (قوي في نفوسهم {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} إن خالفوا) (¬1)، وهذا هو الأظهر (¬2) في معنى الظن، ومضى الكلام فيه عند قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]. 172 - وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}، قال الزجاج: (موضع {إِذْ} نصب، المعنى (¬3) واذكر {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}) (¬4)، وقوله تعالى: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}، قوله: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من قوله {مِنْ بَنِي آدَمَ}، والمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. قاله الزجاج (¬5)، وهو معنى قول الكناني (¬6)؛ قال: (لم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا جميعًا من ظهره؛ لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، لذلك (¬7) قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}، واستغنى عن ذكر ظهر آدم لما عُلم أنهم كلهم بنوه ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي 2/ 276، والرازي 15/ 45. (¬2) واختاره أيضًا الرازي 15/ 45، وقال ابن عطية 6/ 133، و"أبو حيان" 4/ 420: (قال المفسرون معناه: أيقنوا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرجاء) اهـ. (¬3) في (ب): (والمعنى). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 390، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 649، و"المشكل" 1/ 305، و"البيان" 1/ 379، و"التبيان" ص 395، و"الفريد" 2/ 383. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 390، وفيه: (والمعنى: وإذ أخذ ربك ذريتهم وذرياتهم جميعًا) اهـ. وقال السمين في "الدر" 5/ 511: ({مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من قوله {مِنْ بَنِي آدَمَ} بإعادة الجار، والظاهر أنه بدل بعض من كل) اهـ. وهذا قول الأكثر، انظر: "المشكل" 1/ 306، و"البيان" 1/ 379، و"التبيان" ص 395، و"الفريد" 2/ 383. (¬6) الكناني: حجر الإمام عبد العزيز بن يحيى المكي، تقدمت ترجمته. (¬7) في (ب): (كذلك)، وهو تحريف.

وأخرجوا من ظهره، فترك ذكر ظهر آدم وذكر ظهور (¬1) بنيه) (¬2). وقوله تعالي: {ذُرِّيَّتَهُمْ}. وقرئ (¬3) {ذُرِّيَّتَهُمْ} جمعًا، وقد ذكرنا معنى الذرية والكلام فيها عند قوله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]. وبينا أن الذرية تقع على الواحد والجمع، فمن أفردها هاهنا فلأنه قد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع، فصار كالبشرة فإنه يقع على الواحد كقوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]، وعلى الجمع كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]. وقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]. وكما لم يجمع (بشر) بتصحيح ولا تكسير كذلك لا تجمع الذرية، ومن جمع قال: إن الذرية إن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعًا فجمعه أيضًا حسن لأنك قد رأيت المجموع المكسرة قد جُمعت نحو: الطرقات والجُزرات (¬4) وصَوَاحبات يوسف (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ: (وذكر ظهور) ساقط من (ب). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 266 - 267، وهو عند الثعلبي 6/ 19 أ، والبغوي 3/ 299 بلا نسبة. (¬3) قرأ ابن عامر وأبو عمرو ونافع: {ذُرِّيَّتَهُمْ} بألف على الجمع مع كسر التاء، وقرأ الباقون: {ذُرِّيَّتَهُمْ} بجر ألف على التوحيد مع فتح التاء، انظر: "السبعة" ص 298، و"المبسوط" ص 186، و"التذكرة" 2/ 428 "التيسير" ص 114، و"النشر" 2/ 273. (¬4) الجُزرات: بالضم جمع الجمع كطُرق وطرقات، وهي جمع جُزُر والجُزُر جمع جَزُور وهي الناقة المجزورة: أي المعدة للذبح، انظر: "اللسان" 1/ 614 (جزر) (¬5) صَوَاحبات يوسف: أي مثلهن في الإلحاح، جمعوا (صواحب) جمع السلامة, انظر: "اللسان" 4/ 2400 - 2401 (صحب)، وقد أخرج أحمد في "المسند" 4/ 412، وابن ماجة رقم (1232 - 1235) كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة النبي في مرضه، والنسائي 1/ 293 (906) كتاب الإمامة من طرق جيدة، =

وأما تفسير الآية ففيه مذهبان: أحدهما -وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر- ما روى مسلم (¬1) بن يسار الجهني: (أن عمر - رضي الله عنه - سُئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية [فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية] (¬2) فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون". ¬

_ = باب: الائتمام بالإمام، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، فقال: " إنكن صواحبات يوسف مروه فليصل بالناس" الحديث. وأصله في "الصحيح" أخرجه البخاري رقم (6641) كتاب الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الإمامة، ومسلم رقم (418 - 420)، وفيه: "إنكن صواحب يوسف" كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر، قال ابن حجر في "الفتح" 2/ 153: (صواحب جمع صاحبة والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن) اهـ. وما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 4/ 105 - 106، وقال الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 429: (المعنى واحد في الذرية والذريات) اهـ، وانظر: "إعراب القراءات" 1/ 214، و"الحجة" لابن خالويه ص 167، ولابن زنجلة ص 301، و"الكشف" 1/ 483. (¬1) مسلم بن يسار الجهني البصري تابعي روى عن نعيم بن ربيعة الأزدي، وقيل: روى عن عمر رضي الله عنه وروى عنه عبد الحميد بن عبد الرحمن العدوي، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حجر في "التقريب" 531 (6654): (مقبول). انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 7/ 276، و"تاريخ العجلي" 2/ 278 (1723)، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 514، و"ميزان الاعتدال" 4/ 108، و"تهذيب التهذيب" 4/ 74. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 898، وأحمد 1/ 289، رقم 311 تحقيق أحمد شاكر، وأبو داود 5/ 79 رقم 4703، والترمذي كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأعراف رقم 3075، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 87 رقم 196، والنسائي في "تفسيره" 1/ 504 رقم 210، والطبري 9/ 113، وابن أبي حاتم 5/ 1612، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 650، والآجري في "الشريعة" 2/ 743، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص 143، 144، والحاكم في "المستدرك" 1/ 27 - 2/ 324 - و544، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 145، والبغوي في "تفسيره" 3/ 297، والواحدي في "الوسيط" 2/ 161 من طرق جيدة عن مسلم عن عمر، وهو مرسل، وقال الترمذي: (حديث حسن ومسلم لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم بين مسلم وعمر رجلاً مجهولًا) اهـ، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم) وقال البيهقي والذهبي في "التلخيص": (فيه إرسال). وقال الألباني في ظلال الجنة في "تخريج السنة" لابن أبي عاصم 1/ 87: (إسناده ضعيف لانقطاعه) اهـ. وقد أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 8/ 98، وأبو داود 5/ 80 رقم 4704، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 88 رقم 201، والطبري في "تفسيره" 9/ 113 - 114، عن مسلم عن نعيم بن ربيعة الأزدي عن عمر، وقال الألباني في "ظلال الجنة": (إسناده ضعيف لجهالة نعيم) اهـ. والحديث له شواهد مرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يجعله صحيحًا لغيره، وذكر الأحاديث ودرجاتها الألباني في "الصحيحة" 4/ 158 - 163 وقال: (وجملة القول أن الحديث صحيح بل هو متواتر المعنى وجاء عن الإمام إسحاق بن راهويه أنه قال: أجمع أهل العلم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد واستنطقهم وأشهدهم) اهـ. =

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته (¬1) إلى يوم القيامة" (¬2). وذكر حديثًا طويلًا. وقال ابن عباس في رواية عطاء في: قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (يريد: نفض (¬3) آدم فأراه ذريته مما خلق إلى يوم القيامة) (¬4). وقال ابن عباس أيضاً: (إن الله خلق آدم ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربنا، ثم أعادهم في صلبه حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة) (¬5) ¬

_ = وقال النحاس في "معانيه" 3/ 101: (أحسن ما قيل في الآية ما تواترت به الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله جل وعز مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته أمثال الذر فأخذ عليهم الميثاق) اهـ. (¬1) في (ب): (من ذريتي) ثم صحح إلى ذريته في أعلى السطر. (¬2) أخرجه الترمذي كتاب التفسير، باب: وفي تفسير سورة الأعراف رقم (3076)، وابن أبي حاتم 5/ 1614، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص 144، والحاكم 2/ 325، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) اهـ، وقال ابن منده: (هذا حديث صحيح) اهـ، وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 603. (¬3) في النسخ: (نقص) وعلى (أ) تصحيح لم أستطع قراءته ولعلها (نفض). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 111 بسند جيد. (¬5) أخرجه الطبري في 9/ 116، وابن أبي حاتم 14/ 16 بسند جيد، وقد أخرج الطبري 9/ 111 - 118، وابن أبي حاتم 5/ 1614 من طرق كثيرة جيدة نحوه.

وقال أبو العالية: (جمعهم يومئذٍ، ثم صورهم، ثم استنطقهم وأخذ عليهم العهد والميثاق، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. فقال الله تعالى: فإني أرسل إليكم رسلًا يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد أنك إلهنا وربنا , ولا رب ولا إله غيرك) (¬1). وقال ابن جريج: (ضرب الله ظهر آدم فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، وخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار أمثال الخردل في سورة الذر) (¬2). وقال القرظي: (أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواحُ قبل أن يخلق أجسادها) (¬3). وقال مقاتل: (إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" 5/ 135، والطبري 9/ 111، وابن أبي حاتم 5/ 1615، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص 143، 144، والحاكم 2/ 323 - 324 عن أبي العالية عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-، وقال الحاكم: (حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) اهـ ووافقه الذهبي. وقال أحمد شاكر في "حاشية الطبري" (إسناده صحيح) اهـ. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 25 وقال: (رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور وبقية رجاله رجال الصحيح) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 650. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 114 بسند لا بأس به، عن ابن جريج عن الزبير بن موسى المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 259، وذكره القرطبي 7/ 316، عن ابن جريج. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 117 بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 259.

قَالُوا بَلَى}، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادها جميعًا في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} (¬1) [الأعراف: 102] (¬2). وهذا أيضاً قول عكرمة (¬3) والكلبي وسعيد بن جبير و [سعيد (¬4) بن المسيب] والضحاك (¬5) وأبي صالح (¬6)، هذا كلام أهل التفسير في هذه الآية. فأما أصحاب المعاني فقال أبو إسحاق: (جائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال (¬7) الذَّر فهمًا يعقل به، كما قال: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]. وكما قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79]) (¬8). ¬

_ (¬1) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 72 - 74. (¬3) ذكره الرازي 15/ 47، عن عكرمة والكلبي وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والضحاك. (¬4) لفظ: (سعيد بن المسيب) ساقط من (أ)، وذكره عنه ابن القيم في كتاب "الروح" ص 215. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 114، 117 من طرق جيدة عن سعيد بن جبير، وعطاء والنضر ابن عربي الباهلي والضحاك والسدي والكلبي، وانظر: "الرد على الجهمية" لابن منده ص 144. (¬6) ذكره ابن القيم في كتاب "الروح" ص 214، عن السدي، عن أبي صالح، عن ناس من الصحابة. (¬7) في (ب): (جعل الأمثال)، وهو تحريف. (¬8) "معاني الزجاج" 2/ 390، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 101.

وقال أبو بكر بن الأنباري: (مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية هو: أن الله عز وجل أخرج ذريات آدم من صلبه وأصلاب أولاده، وهم في صور الذر، وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعوه، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولًا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلاً حتى خوطب (¬1)، وكما فعل ذلك بالبعير (¬2) لما سجد، وبالنخلة (¬3) حين سمعت، وانقادت ¬

_ (¬1) ذكره الخازن 2/ 309، عن ابن الأنباري وفيه: (كما جعل للجبال عقولًا حتى خوطبوا بقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] اهـ. وأخرج الحاكم في "المستدرك" 2/ 620 عن علي رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله) قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وانظر: "صحيح مسلم" رقم (2277) من حديث جابر بن عبد الله، كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. (¬2) أخرج أحمد في "المسند" 6/ 76، عن عائشة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له ..) الحديث، وانظر: "البداية والنهاية" 6/ 123 - 151. (¬3) أخرج البخاري رقم (2095) في "البيوع" -باب النجار- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه - قال: (قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على منبر صنع له، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها، وبكت على ما كانت تسمع من الذكر حتى كادت أن تنشق فنزل النبي حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت) وأخرج ابن ماجه رقم (4028) كتاب الفتن، باب: الصبر على البلاء، بسند جيد عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزين فقال، ما لك؟ فقال: "فعل بي هؤلاء ما فعلوا" قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: "نعم" قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه , قال: قل لها فلترجع، فقال لها فرجعت حتى عادت إلى مكانها ..) وأخرج الحاكم =

حين دعيت) (¬1). وقال صاحب النظم: (ليس بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته" و [بين] (¬2) الآية اختلاف بحمد الله؛ لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته؛ لأن ذرية آدم ذرية لذريته بعضهم من بعض. قال: وحصل الفائدة بهذا الفصل، أنه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم، وبالرسل المنفذة إليهم، مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والمثلات المنقولة إليهم أخبارها) (¬3). وقال جماعة من المفسرين: (إن أهل السعادة من الذرية أقروا طوعًا، وإن أهل الشقاوة أقروا تقية وكرهًا، وذلك معنى قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي ¬

_ = في "المستدرك" 2/ 620 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: بم اعرف أنك رسول الله؟ فقال: "أرأيت إن دعوت عذق هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟ " قال: نعم، فدعا العذق فنزل وجعل ينقز على الأرض حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له: "ارجع" فرجع حتى عاد مكانه) قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وانظر: "الصحيح المسند من دلائل النبوة" للوادعي ص 73 - 197. (¬1) ذكره الخازن 2/ 309، وابن القيم في كتاب "الروح" ص 220، وذكره الألباني في "الصحيحة" 4/ 161 وقال: (في كلامه إشارة لطيفة إلى طريقة الجمع بين الآية والحديث، وهو قوله: إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده) اهـ. وانظر: "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص 145 - 147. (¬2) لفظ: (بين) ساقط من (أ). (¬3) ذكره الخازن 2/ 310، وابن القيم في كتاب "الروح" ص 216.

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (¬1) [آل عمران: 83]. وقال مقاتل: من مات صغيرًا دخل الجنة بمعرفته بالميثاق (¬2) الأول، ومن بلغ العقل لم يُغن عنه الميثاق الأول شيئًا حتى يؤمن، وكان الميثاق الأول حجة عليهم) (¬3) , وهذا الذي ذكره مذهب من يقول: إن أطفال المشركين يدخلون (¬4) الجنة، فأما من لا يحكم لهم بالجنة، فإنه يقول: من كان من أهل الشقاوة من الذرية السوداء أقرّ بالمعرفة كرهًا فلم يغن ذلك عنه شيئًا. فأمَّا سوق ألفاظ الآية وما بعدها من هذه القصة على هذا التفسير فقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}. قال الزجاج (¬5): (المعنى قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وهو إيجاب للإقرار عليهم بربوبيته). وقوله: {قَالُوا بَلَى}. قال ابن عباس: (هو جواب منهم له وإقرار له بالربوبية ولأنفسهم بالعبودية) (¬6). وقوله تعالى: {شَهِدْنَا} قال الكلبي: (8) (لما أقروا، قال الله للملائكة: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 579 - 582، و"الرد على الجهمية" لابن منده ص 143، والبغوي 3/ 298. (¬2) في (أ): (بمعرفته في الميثاق). (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 74. (¬4) قال القرطبي في "تفسيره" 7/ 317: (هذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار, والصحيح أن أطفال المشركين في الجنة) اهـ. وانظر: "التذكرة" ص 598. (¬5) هذا قول ابن الجوزي 3/ 284، ولم أقف عليه عن الزجاج، وانظر: "الزاهر" 2/ 50. (¬6) أخرج ابن منده في "الرد على الجهمية" ص 144 من طرق جيدة عن ابن عباس في الآية قال: (أخذ عليهم كلهم عهودهم على الإيمان والمعرفة له، والتصديق به وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا) اهـ.

اشهدوا. فقال: {شَهِدْنَا}) (¬1). و (¬2) قال ابن عباس في رواية عطاء: (قالت (¬3) الملائكة: شهدنا على إقراركم) (¬4). وقال السدي: (هذا خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم) (¬5). فعلى هذه الأقوال (¬6) يحسن الوقف على قوله: {بَلَى}؛ لأن كلام الذرية قد انقطع. وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. يجوز أن يتعلق {أَن} بقوله {شَهِدْنَا}، أي شهدنا عليهم بالإقرار لئلا تقولوا، فأسقط (لا) (¬7) كما قال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. يريد: لئلا تميد. وكما قال القطامي (¬8): رأينا ما يرى البصراء فيها ... فآلينا عليها أن تباعا (¬9) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 140، وذكره هود الهواري 2/ 58، والواحدي في "الوسيط" 2/ 268، والبغوي 3/ 300، وابن الجوزي 3/ 285. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) في (أ): (قال). (¬4) لم أقف عليه. وانظر: "الرد على الجهمية" لابن منده ص 143. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 118 بسند جيد، وذكره الثعلبي 6/ 49 ب، و"الواحدي" 2/ 268، والبغوي 3/ 300، وانظر: الطبري 9/ 118. (¬6) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 52 (¬7) لفظ: (لا) ساقط من (أ). (¬8) تقدمت ترجمته. (¬9) "ديوانه" ص 43، و"تفسير الطبري" 9/ 118، و"الدر المصون" 5/ 513، وهو يصف ناقته يقول: لا تباع لما رأينا من حسنها.

أراد: أن لا تباعا، هذا مذهب الكوفيين (¬1)، وعند البصريين المحذوف مضاف بتقدير: شهدنا كراهة أن تقولوا، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. ويمكن أن تعلق {أَن} بـ (أشهدهم) وهذا أوضح في التأويل، والمعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} لئلا تقولوا، أو (¬2) كراهية أن تقولوا , ولا يصح الوقف على {شَهِدْنَا} لتعلق {أَن} بما قبله، هذا كله كلام أبي بكر (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 651، و"المشكل" 1/ 306، و"البيان" 1/ 379، و"التبيان" ص 395، و"الفريد" 2/ 384، و"الدر المصون" 5/ 513. قال السمين: (قوله: {أَن تَقُولُواْ} مفعول لأجله، والعامل إما {شَهِدْنَا} أي: شهدنا كراهة أن تقول، هذا تأويل البصريين، وأما الكوفيين فقاعدتهم تقدير (لا) النافية أي: لئلا تقولوا) اهـ. (¬2) في (أ): (لئلا تقولوا وكراهية أن تقولوا). (¬3) "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 669 - 670، وقال الداني في "المكتفى" ص 278 - 280: (قال جماعة: {شَهِدْنَا} وقف كافٍ وهو من قول بني آدم أي: شهدنا أنك ربنا وإلهنا وهو قول أُبي وابن عباس. وقال ابن الأنباري: ليس بوقف لأن {أَن} متعلقة بما قبلها، وقال جماعة التمام على {بَلَى} و {شَهِدْنَا} من قول الملائكة وهو قول مجاهد والضحاك والسدي، وقيل هو من قول الله تعالى والملائكة وهو قول أبي مالك ويروي عن السدي أيضًا ومن قرأ: {أَنْ تَقُولُوا} بالتاء فالوقف على {بَلَى} لأن (أن) متعلقة بما قبل {بَلَى} من قوله {وَأَشْهَدَهُمْ}) اهـ. ملخصًا. وقال النحاس في القطع 1/ 265 - 266: (على القراءة بالتاء يجب أن يكون الوقف على {بَلَى} لأن {شَهِدْنَا} عند أهل التأويل ليس من كلام الذين قالوا {بَلَى} ومن قرأ بالياء فأكثر أهل التأويل يقول: التقدير: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أن يقولوا، أي: كراهة أن يقولوا أو لأن يقولوا. فالكلام على هذا متصل) اهـ. ملخصًا.

وقال بعضهم: قوله: {شَهِدْنَا} من كلام الذرية، والمعنى: شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار، وهو معنى قول (¬1) مقاتل، وعلى هذا لا يحسن الوقف على {بَلَى} ولا يتعلق {أَنْ تَقُولُوا} بشهدنا، وإنما يتعلق بقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (¬2)، وذكر صاحب النظم] (¬3) وجهًا آخر في قوله: {شَهِدْنَا} عن بعضهم، وهو: (أن يكون قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} إلى قوله: {قَالُوا بَلَى}. تمام قصة الميثاق، ثم ابتدأ عز وجل خبرًا آخر يذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال: {شَهِدْنَا} بمعنى: نشهد، كما قال الحطيئة (¬4): شَهِدَ الخُطَيْئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّه (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 72، وفيه: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بإقرارهم {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} إنك ربنا، قال الله للملائكة: اشهدوا عليهم بالإقرار، قالت الملائكة: قد شهدنا) اهـ. (¬2) ذكره في الواحدي السمين في "الدر" 5/ 513، وقال: (كأنه رأى أن التركيب يصير {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} سواء قرئ بالغيبة أو الخطاب والشاهدون هم القائلون في المعنى فكان ينبغي أن يكون التركيب شهدنا أن نقول نحن، وهذا غير لازم لأن المعنى: شهد بعضهم على بعض فبعض الذرية قال: شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك) اهـ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) الحطيئة: جرول بن أوس بن مالك الغطفاني أبو مليكة. تقدمت ترجمته. (¬5) "ديوانه" برواية وشرح ابن السكيت ص 110، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 398، و"وضح البرهان" للغزنوي 2/ 351، و"اللسان" 2/ 866 (حسب)، و"الدر المصون" 5/ 514، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ص 388، و"المدخل" للحدادي ص 234، وعجزه: أن الوليد أحق بالعذر والوليد هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي يقال: إنه سكر فأمر بجلده فقال الحطيئة هذه الأبيات، والشاهد: شهد الحطيئة يريد: يشهد فوضع الماضي موضع المستقبل.

أي: يشهد، فيكون تأويله نشهد (¬1) {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: إنكم ستقولون ذلك، فتكون القصة الأولى خبرًا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم، والقصة الثانية خبرًا عن المشركين خاصة) (¬2). واختلف القراء في قوله: {أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172]، {أَوْ تَقُولُوا} [الأعراف: 173]، فقرأ (¬3) أبو عمرو بالياء (¬4) جميعًا؛ لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} لئلا يقولوا، وقرأ الباقون بالتاء؛ لأنه قد جرى في الكلام خطاب، وهو قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}، وكلا (¬5) الوجهين حسن؛ لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى (¬6). قال المفسرون: (هذه (¬7) الآية تذكير بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق، واحتجاج عليهم؛ لئلا يقول الكفار {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} الميثاق {غَافِلِينَ} لم نحفظه ولم نذكره)، فإن قيل: كيف يحتج عليهم ¬

_ (¬1) في (ب): (يشهد) بالياء. (¬2) ذكره ابن القيم في كتاب "الروح" ص 229، والسمين في "الدر" 5/ 513 - 514. (¬3) قرأ أبو عمرو: {يَقُولوا يَوْمَ القِيامَة} [الأعراف: 172]، {أو يَقُولوا إنَّما أَشْرَكَ} [الأعراف: 173] بالياء فيهما على الغيبة، وقرأهما الباقون بالتاء على الخطاب، انظر: "السبعة" ص 298، و"المبسوط" ص 186، و"التذكرة" 2/ 429، و"التسير" ص 114، و"النشر" 2/ 273. (¬4) في (أ): (فقرأ أبو عمر وجميعًا بالياء). (¬5) في: (أ): (فكلا). (¬6) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 107، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 429 , و"إعراب القراءات" 1/ 215، و"الحجة" لابن زنجلة ص 302، و"الكشف" 1/ 483. (¬7) في (أ): "وهذه".

بميثاق لا يذكرونه؟ قيل: (¬1) نسيانهم لذلك لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى عن أخذ ذلك عليهم على لسان صاحب المعجزة، وإذا صح ذلك بقول الصادق قام في النفوس مقام الذكر، فالاحتجاج به قائم صحيح (¬2). قال عوف (¬3): (وسيذكرون الميثاق يوم القيامة) (¬4). قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} الآية [الأعراف:173]، قال المفسرون: (هذا قطع لعذر الكفار فلا يستطيع أحد من الذرية أن يقول يوم القيامة: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ}، أي: قبلنا، ونقضوا العهد. {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} صغارًا وكبارًا فاقتدينا (¬5) بهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، أي: أفتعذبنا بما فعل المشركون المكذبون بالتوحيد، وإنما اقتدينا بهم وكنا في غفلة عن الميثاق، وعما نطالب به الآن من التوحيد، وآباؤنا أشركوا، وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا، فجرينا على مذهبهم واقتدينا بهم، فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنب في ذلك لهم، كما (¬6) قالوا في موضع آخر: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 118، وابن الجوزي 3/ 285. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 581، والبغوي 3/ 300، وابن الجوزي 3/ 285. (¬3) لعله: عوف بن أبي جميلة العبدي أبو سهل الأعرابي البصري واسم أبيه رزينة، إمام ثقة من علماء البصرة ومن صغار التابعين رمى بالقدر والتشيع، توفي سنة 146 هـ أو 147 هـ، وله 86 سنة، انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 15، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 383، و"ميزان الاعتدال" 3/ 305، و"تهذيب التهذيب" 3/ 336، و"تقريب التهذيب" ص 433 برقم (4219). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في (ب): (فاقتديناهم)، وهو تحريف. (¬6) لفظ: (كما) ساقط من (ب).

الآية [الزخرف: 22]. فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام , ويكون الآباء على الإشراك بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق بالتوحيد على كل واحد من الذرية)، هذا هو الكلام على مذهب أهل الأثر (¬1). فأما مذهب أهل النظر، فقال أبو إسحاق: (وقال بعضهم: إن الله عز وجل أخرج بني آدم بعضهم من ظهور بعض، ومعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أن كل بالغ يعلم أن الله عز وجل واحد، لأن كل ما خلق الله دليل على توحيده، فمعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} دلهم بخلقه على توحيده) (¬2). وشرح أبو بكر هذا فقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ} ذريات (¬3) {بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} أي: أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفًا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتبهم في الوجود {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أنه ربهم بما أظهر من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما ينبه على أنه بارئه ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، يريد: هم بمنزلة الشاهدين وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقول الرجل: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد: قد عرفته، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت، ومن هذا الباب أيضًا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] , ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 118، والبغوي 3/ 300، والرازي 3/ 171، والخارن 2/ 311. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 390. (¬3) كذا في النسخ، وهو تفسير وليس قراءة.

يريد: أعلم وبين, فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من يشهد عند الحكام وغيرهم) (¬1). وزاد صاحب النظم لهذا المذهب بيانًا حكايته عن بعضهم، فقال: (إن الله عز وجل لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن، صار ما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن عنده، إذ علمُه بكونه مانعٌ من غير كونه، فسايغ في مجاز العربية أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضعَ الواقع لسبق علمه بوقوعه، وكما قال عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50] وأمثاله، فيكون تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}: وإذ يأخذ ربك، وكذلك قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: ويشهدهم بما يركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب، فكل من ولد وبلغ الحنث وعقل الضر والنفع وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل (¬2) على حدوثه وضعفه وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد من خالق هو غيره ليس كمثله، وكل (¬3) من بلغ وعقل فقد أخذ عليه العهد والميثاق إذ جعل فيه السبب الذي به يؤخذ الميثاق وهو العقل، واحتج أصحاب هذا القول بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72]، قالوا: فالأمانة هاهنا عهد وميثاق، وامتناع السموات والأرض من حملها خلوهما من العقل الذي يكون به الفهم، ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 3/ 286، وابن القيم في كتاب "الروح" ص 221. (¬2) في النسخ: (والدليل)، وهو تحريف. (¬3) في (ب): (ليس كمثله وهو من بلغ)، وهو تحريف.

وحمل الإنسان إياها (¬1) لمكان (¬2) العقل فيه). قال صاحب النظم: (ونحن إلى ما روي (¬3) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذهب إليه أهل العلم والسنة من السلف الصالح، أَمْيَلُ وله أَقْبَلُ وبه آنَسُ (¬4) والله عز وجل ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى بمنّه) (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ: (إياها) ساقط من (أ). (¬2) في (ب): (مكان)، وهو تحريف. (¬3) انظر: بعض الأحاديث في مرويات الإِمام أحمد في "التفسير" 2/ 209 - 215. (¬4) هذا هو الظاهر فالراجح أن الله سبحانه وتعالى مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد بلسان المقال لثبوته مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقوفاً على غيره من الصحابة رضي الله عنهم والأحاديث فيه صحيحة بل متواترة المعنى، وقد ذكرها الطبري 9/ 111 - 118، وابن كثير 2/ 293، والسيوطي في "الدر" 3/ 258 - 265، والشوكاني 2/ 383 - 385، والألباني في "الصحيحة" 1/ 68 - 71، رقم 47 - 50، وص 97 رقم 172، و4/ 158 رقم 1623، قال الشوكاني 2/ 383: (هذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقوفاً على غيره من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) اهـ. وقال الألباني في الصحيحة 4/ 162: (جملة القول أن فيه أحاديث صحيحة بل متواترة المعنى وأنه لا تعارض بينها وبين آية أخذ الميثاق فالواجب ضمها إليها وأخذ الحقيقة من مجموعها وبذلك تنجو من مشكلتين بل مفسدتين كبيرتين: الأولى: رد الأحاديث بزعم معارضتها للآية والأخرى: تأويلها تأويلًا يبطل معناها أشبه ما يكون بتأويل المبتدعة) اهـ. بتصرف وهو اختيار جمهور المفسرين ومنهم: النحاس في "معانيه" 3/ 101، والسمرقندي 1/ 579 - 582، وابن الجوزي 3/ 283 - 286، والرازي 15/ 46 - 52، والخازن 2/ 307 - 311 , والألوسي 9/ 99 - 109، الشنقيطي 2/ 334 - 338. (¬5) ذكره ابن القيم في كتاب "الروح" ص 228.

174

174 - و (1) قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}، أي: و (1) كما بينا في (2) أمر الميثاق نبين الآيات ليتدبرها العباد فيرجعوا إلى مدلولها ويعملوا بموجبها دون ما سولت لهم أنفسهم ودعت إليه أهواؤهم، وهو معنى قوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: ولكي يرجعوا عمّا هم عليه من الكفر والضلالة إلى التوحيد والطاعة (3)، وقيل: إلى ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد، والرجوع إلى ذلك الميثاق رجوع إلى التوحيد (4). 175 - قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} الآية. قال ابن عباس (5) وابن مسعود (6) ومجاهد (7): (نزلت في بلعم بن

_ (1) لفظ: (الواو) ساقط من (أ). (2) لفظ: (الفاء) ساقط من (ب). (3) هذا قول أكثرهم، انظر: "تفسير الطبري" 9/ 119، والسمرقندي 1/ 582، والثعلبي 6/ 19 ب، والبغوي 3/ 300، وابن الجوزي 3/ 286. (4) ذكره الرازي 15/ 53، والخازن 2/ 311. (5) أخرجه الطبري 9/ 120، وابن أبي حاتم 5/ 1617 من طرق جيدة. وفيهما قال: (هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم) وفي رواية عند الطبري (بلعم بن باعر) وعند ابن أبي حاتم (بلعم بن باعوراء). وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 267 بلفظ: (بلعم بن باعوراء). (6) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/243، والنسائي في "التفسير" 1/ 510، والطبري 9/ 120، وابن أبي حاتم 5/ 1616، والحاكم في "المستدرك" 2/ 325 من طرق جيدة، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 25، وقال: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 267، والكل بدون ذكر قصته وجاء عند النسائي، والطبراني، ورواية عند الطبري (بلعم) وعند الحاكم (بلعم بن باعوراء) وفي الباقي (بلعم بن أبر). (7) "تفسير مجاهد" 1/ 250، وأخرجه الطبري 9/ 120 من طرق جيدة بدون ذكر قصته.

باعوراء (¬1))؛ دعا على موسى وقومه، وكان عنده اسم الله الأعظم , فقصد موسى بلده الذي هو فيه، وغزا أهله وكانوا كفارًا، فلم يزل قوم بلعم به حتى دعا عليهم، وقيل (¬2) (أجبره (¬3) ملكهم على (¬4) ذلك، وكان مجاب الدعوة بذلك الاسم الذي كان عنده، فأستجيب له، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه، فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ قال: بدعاء بلعام، قال: فكما سمعت دعاءه عليَّ فاسمع دعائي عليه، فدعا موسى عليه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة (¬5) بيضاء (¬6) ¬

_ (¬1) بلعم بن باعور: مختلف فيه فقيل: هو من مدينة الجبارين وقيل: من أهل اليمن وقيل: من الكعنانين، وهو: بلعم بن باعور بن سموم بن فرستم بن مآب بن لوط ابن هارون، أوتي العلم والحكمة، انظر أخباره في: "تاريخ الطبري" 1/ 427، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 200، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 1/ 496. (¬2) هذا قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 75. (¬3) في (ب): (أجبر)، وهو تحريف. (¬4) لفظ: (على) ساقط من (أ). (¬5) في (ب): "نُخامة" وعند الثعلبي 6/ 21 ب، و"الوسيط" 2/ 270، والبغوي 3/ 302 (حمامة). (¬6) أخرج الطبري 9/ 123،122، وابن أبي حاتم 5/ 1617 بسند جيد عن ابن عباس قال: (هو رجل من مدينة الجبارين يقال: له بلعم يعلم اسم الله الأعظم فلما نزل بهم موسى أتاه قومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرده عنا، قال: إني إن دعوت عليه ذهبت دنياي وآخرتي , فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخ مما كان عليه) اهـ. وذكره الرازي 15/ 54، عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، وذكر الخازن 2/ 311، 313، هذا ونحوه وقال: (هذا من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخبار إذا خالف الأصول وسبب وقوع بني إسرائيل في التيه عبادة العجل أو قولهم لموسى: =

فهذا (¬1) قصته. قال عطاء عن ابن عباس: (أعان أعداء الله على أوليائه) (¬2) يعني: بدعائه. وقوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}. قال ابن زيد: (هو أنه كان لا يسأل شيئًا إلا أعطاه إياه) (¬3). وقال عكرمة (¬4): (أوتي كتابًا من كتب الله تعالى (¬5)). وقيل (¬6): (هو أنه لما أراد أن يدعو عليهم، قيل له في المنام: لا تدعُ عليهم، ثم هم ثانيًا، فكلمته أتان له قد ركبها، حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع عن ذلك)، وقال أهل المعاني: ({آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}. علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عالمًا بها). وقوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: خرج من محبة الله (¬7) إلى معصيته، ومن رحمة الله إلى سخطه) (¬8). ¬

_ = {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138] لا دعاء بلعم عليهم، وعلى تقدير صحة القصة فموسى دعا عليه لعلمه بكفره ومقابلة لدعائه عليه) اهـ. بتصرف. (¬1) في (ب): (فلهذا)، وهو تحريف والأولى فهذه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 122 بسند جيد وذكره الثعلبي 6/ 23 أ، والبغوي 3/ 304. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1618 بسند جيد. (¬5) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ). (¬6) أخرجه الطبري 9/ 125 - 126 من طرق عن السدي وغيره. (¬7) انظر: الطبري 9/ 124، والرازي 15/ 54 (¬8) ذكره الرازي 15/ 54 بلا نسبة، وأخرج الطبري 9/ 124، وابن أبي حاتم 5/ 1618 بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (نزع منه العلم) وفي "تنوير المقباس" 2/ 140: ({فَانْسَلَخَ مِنْهَا} فخرج منها) اهـ.

ومعنى {انْسَلَخَ} خرج من المِسْلاَخ (¬1) وهو القشر والجلد، ويقال: الحية تنسلخ (¬2) عن جلدها، ثم يقال لكل من فارق شيئًا: انسلخ منه. وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}. قال عبد الله (¬3) بن مسلم: (أي: أدركه؛ يقال: أتبعت القوم إذا لحقتهم). قال أبو عبيد: (يقال: أتبعت القوم مثال أفعلت (¬4) إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ويقال: ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم أي: حتى أدركتهم) (¬5). وقال أبو زيد: (تقول: رأيت القوم فأتبعتهم إتباعًا إذا سبقوك فأسرعت نحوهم، ومرُّوا على فاتبعتهم اتباعًا إذا ذهبت معهم ولم يسبقوك) (¬6)، فعلى هذا معنى: أتبعه الشيطان أي: أسرع خلفه (¬7)، {فَكَانَ مِنَ ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 4/ 198، و"الجمهرة" 1/ 598، و"تهذيب اللغة" 2/ 1730، و"الصحاح" 1/ 423، و"المجمل" 2/ 470، و"مقاييس اللغة" 3/ 94، و"المفردات" ص 419، و"اللسان" 4/ 2063 (سلخ). (¬2) في (أ): (سلخت)، ساقط وملحق بأسفل السطر، وكأنه سلخت الحية عن جلدها. (¬3) "تفسير غريب القرآن" ص 182، وزاد: (وتبعتهم سرت في إثرهم) اهـ. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 153، و"تفسير المشكل" ص 88. (¬4) لفظ: (أفعلت) غير واضح في (ب) وكأنه (افتعلت). (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 425، وزاد: (واتبعتهم مثل: افتعلت إذا مروا بك فمضيت معهم وتبعتهم تبعًا مثله) اهـ. (¬6) "الحجة" لأبي علي 5/ 167، وأصل تبع: التلو والقفو، وهل تبعه، وأتبعه بمعنى أو بينهما فرق؟ قيل: بكل منهما وأبدى بعضهم الفرق بأن تبعه مشى في أثره, وأتبعه إذا وازاه في المشي، وقيل: اتبعه بمعنى استتبعه وقال الخليل في "العين" 2/ 88: (وأتبع فلان فلانًا إذا تبعه يريد شرًا، قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}) اهـ وانظر: "الجمهرة" 1/ 245، و"الصحاح" 3/ 1189، و"مقاليس اللغة" 1/ 362، و"المجمل" 1/ 153، و"المفردات" ص 162، و"اللسان" 1/ 416 - 417 (تبع). (¬7) قال الطبري 9/ 123 - 124: (أي: صيره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" 3/ 105، و"تفسير السمرقندي" 1/ 582, والماوردي 2/ 280.

الْغَاوِينَ}؛ لأنه أدركه فأضله، هذا الذي ذكره أبو زيد حقيقة معنى الإتباع. قوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}. قال ابن عباس: (فأطاع الشيطان وكان من الضالين) (¬1). و (¬2) قال أهل المعاني: (هذا بيان عن حال من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والعمى، ومال مع الهوى حتى تلاعب به الشيطان، فصار إلى الهلاك والردى، وخاب في الآخرة والأولى، قصّ الله قصته ليحذر الناس من مثل حاله) (¬3). وقال عبد الله بن عمرو (¬4) (¬5) وسعيد بن المسيب، وزيد بن ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 141، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 270، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 391، والماوردي 2/ 282، وابن الجوزي 3/ 289. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) انظر: الرازي 15/ 55. (¬4) عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم السهمي القرشي أبو محمد صحابي إمام عابد زاهد أحد السابقين المكثرين واحد العبادلة الفقهاء أسلم قبل أبيه وهاجر قبل الفتح وشهد الفتوح وكتب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا كثيرًا، وكان مجتهدًا في العبادة صوامًا قوامًا تاليًا لكتاب الله تعالى، وله مناقب وفضائل ومقام راسخ في العمل والعلم، وثناء الأئمة عليه كثيرة، توفي رضي الله عنه سنة 65 هـ. وله 72 سنة، انظر: "الحلية" 1/ 283، و"الاستيعاب" 3/ 86 (1636)، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 79، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 71، و"الإصابة" 2/ 351، و"تهذيب التهذيب" 2/ 393. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/243، والنسائي في "التفسير" 1/ 508، 511، الطبري 9/ 122، وابن أبي حاتم 5/ 1616، من طرق جيدة وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 25، وقال: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) اهـ. وذكره ابن حجر في "الفتح" 7/ 154، وقال: رواه ابن مردويه بإسناد قوي) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 265، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر =

أسلم (¬1)، وأبو روق (¬2): (نزلت هذه الآية في أمية (¬3) بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت، ورجا ¬

_ = وأبي الشيخ) وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 294: (قد روى من غير وجه عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية يشبهه؛ فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ولكنه لم ينتفع بعلمه فإنه أدرك زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتدحهم ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله، وقد جاء في بعض الأحاديث "أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه" فإن له أشعارًا ربانية وحكمًا وفصاحة ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام) اهـ. (¬1) زيد بن أسلم العدوي العمري مولاهم أبو عبد الله المدني، إمام تابعي ثقة، عالم عابد مفسر فقيه وكان من العلماء الأبرار له حلقة للعلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله تفسير رواه عنه ابنه عبد الرحمن، توفي رحمه الله تعالى سنة 136 هـ، انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 554، و"الحلية" 3/ 221، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 316، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 132، و"تهذيب التهذيب" 1/ 658، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 5/ 442. (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 21 ب، وابن الجوزي 3/ 287، والرازي 15/ 54، عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبي روق، وذكره البغوي 3/ 303، والخازن 2/ 313، عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 227، والقرطبي 7/ 320، عن زيد بن أسلم. (¬3) في النسخ: (أمية بن الصلت) وهو تحريف، وقد تقدمت ترجمته. وفيها بيان حاله وأخباره، وانظر: " السيرة النبوية" للدكتور/ مهدي رزق الله أحمد، ص 72، 76، والقول بأنه بلعام أشهر وعليه الأكثر، أفاده ابن الجوزي 3/ 288، والقرطبي 7/ 321، وابن حجر في "الفتح" 7/ 154، والظاهر العموم كما رجحه الطبري 9/ 123، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 422 - 423: (اختلف المفسرون في ذلك وطولوا في قصته وذكروا ما الله أعلم به والجمهور على أنه شخص معين والأولى في مثل هذا أن يحمل على التمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض) اهـ. بتصرف.

176

أن يكون هو، فلما أُرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده، ثم مات كافرًا , ولم يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "آمن شعره وكفر قلبه" (¬1)، يريد: أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار. 176 - قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}. قال ابن عباس: ({لَرَفَعْنَاهُ} بعلمه بها) (¬2)، أي بالآيات، يعني وفقناه للعمل بها، فكنا نرفع بذلك منزلته. وقال عطاء (¬3) عنه: (يريد: لعصمتُه عن معاصي). وهو اختيار الزجاج لأنه قال: (أي: لو شئنا أن نحول فيما بينه وبين المعصية لفعلنا) (¬4). وهذا كالقول الأول، لأنه إذا لم يعصمه عن المعصية لم يوفقه للعمل بالآيات، ولو وفقه عصمه عن المعصية، ولو عصمه أستحق الرفعة بالآيات. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}. ¬

_ (¬1) قال الألباني في "الضعيفة" 4/ 52 رقم 1546: (ضعيف أخرجه ابن الأنباري في المصاحف وفي إسناده أبو بكر الهذلي متروك، وأخرجه الخطيب وابن عساكر في "التاريخ" وإسناده ضعيف فيه الكلبي متهم بالكذب) اهـ. بتصرف، وانظر: "الجامع الصغير" للسيوطي 1/ 4، و"كشف الخفاء" للعجلوني 1/ 19 - 20. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 127، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي 6/ 23 ب، والبغوي 3/ 304، والخازن 2/ 315، وقال ابن الجوزي 3/ 290: (هاء الكناية تعود إلى الإنسان المذكور وهو قول الجمهور والمعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلته بما علمناه) اهـ. وهو اختيار الطبري 9/ 127، والسمرقندي 1/ 583. (¬3) ذكره الثعلبي 6/ 23 ب، والبغوي 3/ 304، والخازن 3/ 315، عن عطاء فقط، وانظر: "تفسير الماوردي" 2/ 280. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 391، وهو قول النحاس في "معانيه" 3/ 106.

قال الفراء: (ركن إليها وسكن). قال: (ويقال: خلد إلى الأرض بغير ألف وهي قليلة) (¬1). ونحو ذلك قال الزجاج (¬2) والكسائي (¬3) في خلد وأخلد (¬4)، وقال أصحاب العربية: (أصل الإخلاد اللزوم على الدوام، وكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به) (¬5). قال مالك (¬6) بن نويرة: ¬

_ (¬1) هنا في (ب) وقع اضطراب في ترتيب الأوراق فوقع الوجه ب من ص 177 في 185 ب. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 399. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 153، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 182، و"تفسير الطبري" 9/ 128، و"تفسير المشكل" ص 88. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 391. وقال الأخفش في "معانيه" 2/ 315: إلا نعلم أحدًا يقول: خلد، وقوله {أَخْلَدَ} أي: لجأ إليها) اهـ. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 1080 (خلد). انظر: "العين" 4/ 231، و"المنجد" لكراع ص 78، و"الجمهرة" 1/ 579، و"الصحاح" 2/ 469، و"المجمل" 2/ 299، و"مقاييس اللغة" 2/ 207، و"المفردات" ص 291، و"اللسان" 2/ 1225 (خلد). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 233، و"تفسير الطبري" 9/ 128، و"نزهة القلوب" ص 74، و"الدر المصون" 5/ 516. (¬6) مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد اليربوعي التميمي، أبو حنظلة، شاعر فحل، وفارس مغوار، من أرداف الملوك في الجاهلية. يقال له: الجفول، وسمي ذا الخمار نسبة إلى فرسه، أدرك الإسلام فأسلم، وولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقات قومه بني يربوع فبقي كذلك حتى وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم اضطرب عمله ولم يحمد، ورأى خالد بن الوليد ما استوجب قتله عنده فقتله، وقيل: ارتد فقتل في حروب الردة، انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 204، و"الشعر والشعراء" ص 209، و"الأغاني" 15/ 289، و"معجم المرزباني" ص 232، و"الإصابة" 3/ 357، و"الأعلام" 5/ 267.

بأبناء حيٍّ من قبائل مالكٍ ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا (¬1) قال ابن عباس: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} (¬2)، يريد: مال إلى الدنيا) (¬3). وقال مقاتل: (رضي بالدنيا) (¬4). وقال الزجاج: (ولكنه سكن إلى الدنيا) (¬5). فهؤلاء فسروا {الْأَرْضِ} في هذه الآية بالدنيا، وذلك لأن الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من العقار والرباع (¬6) والضياع كلها أرض، وسائر متاعها يستخرج من الأرض، فالدنيا كلها هي الأرض (¬7)، فصلح أن يعبر عنها بالأرض لأنها هي (¬8). ¬

_ (¬1) "الشاهد في الأصمعيات" ص 193، و"تفسير الطبري" 9/ 128، والثعلبي 6/ 23 ب والرازي 15/ 56، و"بدائع التفسير" لابن القيم 2/ 310، و"الدر المصون" 5/ 516. (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 141، وذكره الرازي 15/ 56. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 75، وفيه: (رضي بالدنيا وركن إليها) اهـ. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 391، وقال أيضًا: (المعنى: أنه سكن إلى لذات الأرض) اهـ. وقال الطبري 13/ 261: (سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ومال إليها وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" 3/ 106، والسمرقندي 1/ 583، والماوردي 2/ 282. (¬6) "الرِّباع": جمع ربع، وهي الدار والمحلة والموضع يرتع فيه في الربيع، انظر: "القاموس" ص 718 (ربع). (¬7) جاء في (ب) بعد قوله: (كلها هي الأرض) تكرار قوله: (سائر متاعها) إلى (كلها هي الأرض) وعليه ضرب. (¬8) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 1/ 290، والرازي 15/ 56، والخازن 2/ 315، وقال القرطبي 7/ 322: (كأن المعنى: لزم لذات الأرض، فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض) اهـ.

وقوله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}. قال ابن عباس: (يريد: ما زين له الشيطان) (¬1). وقال ابن زيد: (كان هواه مع القوم) (¬2). وقال أهل المعاني: (انقاد لما دعاه إليه الهوى، والهوى يدعو إلى أمور تجر إلى الهلاك، فكان القابل لدعاه متبعًا له) (¬3). وقال أهل (¬4) العلم: (هذه الآية من أشد الآي على أصحاب العلم، وذلك أن الله تعالى أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه، والانسلاخ عنها، ومن الذي سلم من هاتين الخلتين، إلا من عصمه الله) (¬5). وقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}، قال الليث: (اللَّهث لهث الكلب عند الإعياء وعند شدة الحر، وهو إدلاع اللسان من العطش) (¬6). وقال الفراء (¬7) في "المصادر": ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) أخرجه الطبري 9/ 128، وابن أبي حاتم 5/ 1620 بسند جيد. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 361. (¬4) قال النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 652: (في هذه الآية أعظم الفائدة لمن تدبرها، وذلك أن فيها منعًا من التقليد لعالم إلا بحجة يبينها؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وأن لا يقبل منه إلا بحجة) اهـ. (¬5) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 304، وابن الجوزي 3/ 209، والرازي 15/ 56، الخازن 2/ 315. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3306، وانظر: "العين" 4/ 42 (لهث). (¬7) لم أقف عليه.

(يقال اللهْثُ واللهَث واللهثان) (¬1). قال مجاهد: (هذا مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به) (¬2). و (¬3) قال ابن عباس: (معناه: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لهث) (¬4). وقال الحسن: (هو المنافق لا يُنيب (¬5) إلى الحق، دُعي أو لم يدع، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث طردًا وتركًا) (¬6). وروي معمر (¬7) عن بعضهم قال: (هو الكافر؛ ضال إن وعظته وإن لم ¬

_ (¬1) قال السمين في "الدر" 5/ 517: (يقال لهث يلهث -بفتح العين في الماضي والمضارع-، لهثًا ولهثًا -بفتح اللام وضمها- وهو خروج لسانه في حال راحته وإعيائه، وأما غيره من الحيوان فلا يلهث إلا إذا أعيا أو عطش) اهـ. وفي "الصحاح" 2/ 292: (اللهثان بالتحريك العطش وبالتسكين العطشان وقد لهث لهثًا ولهاثًا مثل سمع سماعًا ولهث بالفتح يلهث لهثًا ولهاثًا بالضم، إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش وكذلك الرجل إذا أعيا) اهـ. وانظر: "الجمهرة" 1/ 433، و"المجمل" 3/ 796، و"مقاييس اللغة" 5/ 214، و"المفردات" ص 748، و"اللسان" 7/ 4083 (لهث). (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 251، وأخرجه الطبري 9/ 129، وابن أبي حاتم 5/ 1620 من طرق جيدة. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 129، وابن أبي حاتم 5/ 1620 بسند جيد. (¬5) في (ب): (لا يثبت). (¬6) ذكره الثعلبي 6/ 24 أ، وفيه: (لا ينيب)، وأخرج الطبري 9/ 129 بسند جيد عن الحسن في الآية قال: (هذا مثل الكافر ميت الفؤاد) اهـ. (¬7) معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي. تقدمت ترجمته.

تعظه) (¬1)، فهذا قول المفسرين في تفسير هذا المثل، ويحتاج إلى الشرح حتى يتبين وجه التمثيل بين هذا الكافر وبين الكلب، وهو أن يقال: أراد أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب؛ فإنه إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثًا، وإن ترك وربض كان أيضًا لاهثًا، فهو [في الحالتين لاهث كهذا الكافر] (¬2) في الحالتين ضال، وذلك أن بلعام زُجر ونهي عن الدعاء على موسى في ينزجر ولم ينتفع بالزجر، يبين هذا ما قاله أبو إسحاق قال: (ضرب الله تعالى للتارك لآياته والعادل عنها أحسن (¬3) شيء في أخس أحواله مثلًا فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}، إذا كان الكلب لهثان؛ لأن التمثيل به على أنه على كل حال حملت عليه أو لم تحمل، فمعناه: فمثله كمثل الكلب لاهثًا) (¬4). فقد بين أبو إسحاق أنه مثل بالكلب إذا كان لاهثًا، واللهث في الكلاب طباع، وقد كشف ابن قتيبة عن هذا المعنى فقال: (كل شيء يَلهثُ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 129، بسند جيد عن معمر عن بعضهم، وذكره الثعلبي 6/ 24 أ، وقال الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الطبري": (كأنه يعني بقوله عن بعضهم الكلبي ولذلك نكّره) اهـ. وقد أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 244، عن معمر عن الكلبي، وذكره هود الهواري 2/ 60 عن الكلبي. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (أ): (أخس شيء في أخس أحواله)، وفي (ب): (أحسن شيء في أحسن أحواله) وعند الزجاج في "معانيه" 2/ 391: (أحسن مثل في أخس أحواله). (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 391، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 106.

إنما يلهث من إعباء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلًا لهذا الكافر (¬1) فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث) (¬2) انتهى كلامه، وهذا التمثيل لم يقع لكل كلب إنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك بأخس ما يكون وأبشعه (¬3) ثم قال عز من قائل: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}. فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: أهل مكة كانوا يتمنون هاديًا يهديهم وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه كذبوه) (¬4)، والتمثيل بينهم وبين الكلب كالتمثيل الأول فإنهم لم يهتدوا لما تركوا، ولم يهتدوا أيضًا لما دعوا بالرسول والكتاب، وزجروا بالوعيد، وكانوا ضالين عن الرشد في الحالتين كهذا الكلب اللاهث في الحالتين لاهث طرد أو ترك (¬5). ¬

_ (¬1) في "تأويل مشكل القرآن" ص 369: (لمن كذب بآياته). (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 369. (¬3) في (ب): (كأنها أشنعه) وقال القرطبي 7/ 323: (هذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به وقيل: هو في كل منافق والأول أصح) اهـ. وانظر: "تفسير الطبري" 13/ 273، والسمرقندي 1/ 583، و"بدائع التفسير" 2/ 312 - 314. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 272، والرازي 15/ 57، وذكره البغوي 3/ 305 بلا نسبة. (¬5) في (ب): (ترك وطرد)، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 129، والسمرقندي 1/ 583.

177

وقوله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ}. قال عطاء (¬1): (يريد: قصص الذين كفروا وكذبوا أنبيائهم. {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. يريد: يتعظون) (¬2). 177 - قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ} الآية. قال الليث: (ساء يسوء فعل لازم ومجاوز، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وهاءه يسوءه مساءة، ويقال: ساء ما فعل صنيعًا، [أي: قبُح صنيعه صنيعًا، ومن هذا الباب قوله: {سَاءَ مَثَلاً}] (¬3) أي: قبح مثلهم) (¬4). قال ابن عباس (¬5): يريد: بئس مثل القوم {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}. فأما: تقدير الآية في الإعراب، فأكثر النحويين (¬6) قالوا: (تقديره: ساء مثلًا مثل القوم] (¬7) ثم حذف المضاف)، وهو قول أبي إسحاق (¬8)، ¬

_ (¬1) لفظ: (عطاء) ساقط من (ب). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 272، وابن الجوزي 3/ 291، وذكره الرازي 15/ 57، بلا نسبة. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "تهذيب اللغة" 1583، مع بعض الاختلاف والزيادة، وانظر: "العين" 7/ 327، و"الجمهرة" 1/ 237، و"الصحاح" 1/ 55، و"مقاييس اللغة" 3/ 113، و"المفردات" ص 442، و"اللسان" 4/ 2138 (ساء). (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 142، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 272. (¬6) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 652، و"التبيان" ص 396، و"الدر المصون" 5/ 518. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) "معاني القرآن" 2/ 291، وهو قول الأخفش في "معانيه" 2/ 315، وأبو علي الفارسي في "الإيضاح" ص 128، وقال ابن الشجري في "أماليه" 3/ 183: (ساء بمنزلة (بئس) وقوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ}) الصواب أن تقديره: (ساء مثلاً مثلُ القوم ومن زعم أن التقدير، ساء مثلاً هم القوم، فقد أخطأ خطأ فاحشًا) اهـ. بتصرف.

وعلى هذا انتصب {مَثَلًا} على التمييز، و {سَاءَ} هاهنا بمنزلة (بئس)، ألا ترى أن ابن عباس فسره به، ولو قلت: (بئس) رجلاً زيد، نصبت رجلاً على التشبيه بالمفعول، وهو بمعنى التمييز؛ لأنك إذا قلت: (بئس) جاز أن تذكر شيئًا آخر سوى مثلاً، ورجلًا (¬1) من حمار وفرس، وأي ما كان (¬2)، فإذا ذكرت نوعًا ميزته من سائر الأنواع، وفي (ساء) ضمير فاعل لأنه فعل والفعل لا يخلو من فاعل فصار المميز كالمفعول، وارتفع {الْقَوْمُ} لأنه أقيم مقام المضاف، والمضاف كان يرتفع كما يرتفع (زيد) في قولك: بئس رجلاً زيد، وارتفاعه من وجهين: أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون (بئس) وما عملته فيه خبره، والثاني: أن يكون لما قلت: بئس رجلاً، قيل لك: من هو، فقلت: زيد، أي: هو زيد، فيكون رفعه على أنه ابتداء محذوف (¬3). وقال بعضهم: (تقدير الآية (¬4): ساء مثل القوم، ثم حول الفعل من المثل إلى القوم فخرج المثل مفسرًا كقولهم: قَرَّ بِهِ عينًا، وضاق به (¬5) ذرعًا، وطاب زيدٌ نفسًا، وألم رأسه، ووجع بطنه) (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب): (ورجلًا بين حمار وفرس). (¬2) انظر: "الكتاب" 2/ 175 - 179. (¬3) ذكره أبو علي في "الإيضاح" ص 126 - 128، وانظر: "البيان" 1/ 380، و"الفريد" 2/ 386. (¬4) ذكره الثعلبي 6/ 24 ب، وقال مكي في "المشكل" 1/ 306: (في {سَاءَ} ضمير الفاعل و {مَثَلًا} تفسير و {الْقَوْمُ} رفع بالابتداء وما قبله خبره أو رفع على إضمار مبتدأ تقديره: ساء المثل مثلاً هم القوم الذين. مثل: نعم رجلاً زيدُ) اهـ. وانظر: "غرائب الكرماني" 1/ 428 (¬5) لفظ: (به) ساقط من (ب). (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 24 ب

178

قال أهل المعاني: (هذه الآية بيان عن ذم المكذب بآيات الله بأن مثله أسوأ مثل وأن نفسه ظلم وحظه خسر) (¬1). 178 - قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ}. قال ابن عباس (¬2): (يريد: من يرشده الله (¬3) إلى دينه). وقال ابن كيسان (¬4): (يريد: من يتول الله تنبيهه وإرشاده {فَهُوَ الْمُهْتَدِي})، يجوز إثبات الياء فيه على الأصل، ويجوز حذفها استخفافًا كما قيل في بيت الكتاب: وطرتُ بمنصلي (¬5) في يعملاتٍ ... دوامي (¬6) الأيدِ يخبطن السريحا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 142. (¬3) في (ب): (من يرشد الله). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) الشاهد لمضرس بن ربعي الأسدي في "اللسان" 1/ 509 (ثمن)، 4951 (يدي) وبلا نسبة في: "الكتاب" 1/ 27 و4/ 190، و"الجمهرة" 1/ 512، و"الإغفال" ص 880، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 519 - 772، و"الخصائص" 2/ 269 - 3/ 133، و"المنصف" 2/ 73، و"الصحاح " 5/ 2089 (ثمن) و6/ 2539 (يدي)، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 289، و"الإنصاف" ص 429، و"تفسير الرازي" 15/ 59، و"اللسان" 2/ 1593 (خبط)، و"الدر المصون" 5/ 520، و"المغني" لابن هشام 1/ 225، وهو لمضرس أو ليزيد بن الطثرية في "اللسان" 1/ 615 (جزر) , و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 598، و (المنصُل: السيف، ويعملات: جمع يعملة وهي الناقة القوية على العمل، والسريح: جلود أو خرق تشد على الأخفاف حين تحفى الناقة، والشاهد: الأيد، حيث حذف الياء للضرورة والأصل الأيدي). (¬6) في (ب): "دوام" وكذا في بعض نسخ "سر صناعة الإعراب" 2/ 519 كما أشار محققه في الحاشية.

ومن أبياته أيضًا: كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عصف الأثمد (¬1) قال أبو الفتح (¬2): (يريد: كنواحي، فحذف الياء لأنه شبه المضاف إليه بالتنوين فحذف الياء لأجله كما يحذفها لأجل التنوين، لأنهما يتعاقبان، كما شبه الأول لام المعرفة في الأيد بالتنوين من حيث كانت هذه الأشياء من خواص الأسماء، ومتعقبة عليها فحذف الياء لأجل اللام كما يحذف لأجل التنوين. قال: هكذا أخذت من لفظ أبي علي) (¬3). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: من يضله (¬4) الله ويخذله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يريد: خسروا الدنيا والآخرة) (¬5). ¬

_ (¬1) "الشاهد" لخفاف بن ندبة الأسدي في "ديوانه" ص 514، و"الكتاب" 1/ 27، و"الإنصاف" ص 430، و"اللسان" 1/ 460 (تيز)، 4951 (يدي)، و"شرح شواهد المغني" 1/ 354، وبلا نسبة في: "المنصف" 2/ 229، "سر صناعة الإعراب" 2/ 772، و"الصحاح" 6/ 2539 (يدي)، و"تفسير الرازي" 15/ 59، و"الدر المصون" 5/ 520، و"المغني" لابن هشام 1/ 105، وعصف الأثمد: ما سحق من حجر الكحل، وهو يصف شفتي المرأة ويشبهها بنواحي الريش يقول: (مسحت اللثتين بعصف الأثمد فقلب). والشاهد: "كنواح" والأصل كنواحي حيث حذف الياء للضرورة (¬2) أبو الفتح: عثمان بن جني، نحوي مشهور. تقدمت ترجمته. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 2/ 772 - 773، وانظر: قول أبي علي الفارسي في "الإغفال" ص 880 - 881. (¬4) في (ب): (يضلله). (¬5) ذكره "الواحدي" 2/ 272، والرازي 15/ 59 بلا نسبة.

179

179 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: لا يعقلون بها ثوابًا ولا يخافون عقابًا) (¬2). وقال الكلبي: (لا يعقلون بها الخير والهدى) (¬3). {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا}. قال عطاء: (يريد: سبيل الهدى والرشاد)، {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}. قال: (يريد مواعظ الله والقرآن) (¬4). قال مقاتل: ({لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآية. يقول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [البقرة: 7]، فمن ثم لم تفقه قلوبهم، ولم تبصر أعينهم، ولم تسمع آذانهم) (¬5). وقال أهل المعاني: (إنما نفى عنهم الإدراكات لأنهم يعرضون في جميع ذلك إعراض من لا يدرك فهم في تركهم الحق وإعراضهم عنه بمنزلة من لا يفقه ولا يبصر ولا يسمع) (¬6). وهذه الآية صريح في الرد على القدرية؛ لأن الله تعالى ذكر أنه خلق كثيراً من الإنس والجن للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية ¬

_ (¬1) هنا في (ب): رجوع إلى الأصل في ترتيب الأوراق فوقع تفسير الآية في 177 ب. (¬2) ذكره القرطبي 7/ 324 بلا نسبة. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 274. (¬4) ذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 25 أ، والواحدي في "الوسيط" 2/ 274، والبغوي 3/ 306، والقرطبي 7/ 324، والخازن 2/ 317. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 76. (¬6) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 3/ 292، والخازن 2/ 317.

بالشقاوة والعذاب، ومن خلقه الله لجهنم، فلا حيلة له في الخلاص (¬1). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ}. قال الكلبي: (شبههم بالأنعام في المأكل والمشرب) (¬2). وقال مقاتل: (يأكلون ويشربون لا يلتفتون إلى الآخرة كما تأكل الأنعام وتشرب لا همة لها إلا الأكل، فهي تسمع ولا تعقل، كذلك الكافر) (¬3). وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. قال عطاء: (يريد (¬4) إن الأنعام تعرف ربها وتحذر الهلاك) (¬5)، وقال الكلبي: (لأن الأنعام مطيعة لله، والكافر (¬6) غير مطيع لله) (¬7). قال مقاتل: (هم أخطأ طريقًا من الأنعام؛ لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه) (¬8). وقال أبو إسحاق في قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}: (وذلك أن الأنعام تُبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم (¬9) أكثرهم أنه معاند فيقدم على النار) (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 60 - 61، والقرطبي 7/ 324. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 76. (¬4) لفظ: (يريد) ساقط من (أ). (¬5) في القرطبي 7/ 325 قال عطاء: (الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه) اهـ. (¬6) لفظ: (والكافر) ساقط من (ب). (¬7) ذكره الرازي 15/ 65، والقرطبي 7/ 325، والخازن 2/ 318 بلا نسبة. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 76. (¬9) في (ب): (وهؤلاء لا يعلم)، وهو تحريف. (¬10) "معاني الزجاج" 2/ 392, وانظر: "معاني النحاس" 3/ 107.

180

قال مقاتل: (يعني: كفار مكة) (¬1). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. قال عطاء: (عما أعد الله لأوليائه (¬2) من الثواب، وما أعد لأعدائه من العقاب) (¬3). وقال الكلبي: (عن أمر الآخرة، وما فيها من العذاب) (¬4). 180 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. قال المفسرون: (هي ما ذكره أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة غير واحدة" (¬5)، ثم ذكرها (¬6)، وكل اسم ورد به ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 76. (¬2) في (ب): (عما أعد الله أوليائه)، وهو تحريف. (¬3) ذكره الرازي 15/ 65، وأبو حيان في "البحر" 4/ 428. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 142، وذكره "الواحدي" 2/ 275، وابن الجوزي 3/ 292 بلا نسبة. (¬5) أخرج البخاري في "صحيحه" رقم (2736) كتاب الشروط، باب: ما يجوز من الاشتراط والثُّنْيَا في الإقْرار، ورقم (7392) كتاب الدعوات، باب: لله مائة اسم غير واحدة، ورقم (6410) كتاب التوحيد، باب: لله عز وجل مائة اسم غير واحد، ومسلم رقم (2677) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة" وفي رواية لمسلم: "من حفظها". (¬6) الحديث الذي فيه ذكر الأسماء، أخرجه ابن ماجه كتاب الدعاء رقم (3860) , والترمذي رقم (3507) كتاب الدعوات عن رسول الله، والحاكم في "المستدرك" 1/ 16 - 17، والبيهقي في "سننه" 10/ 27، وفي "الأسماء والصفات" ص 15 - 19، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة" ثم سرد الأسماء وفيها اختلاف وزيادة ونقص، وقال =

التوقيف (¬1) فهو داخل في هذا، ألا ترى أن الله تعالى ذكر الأسماء بلفظ التعريف، فدل أنها محصورة، محدودة، معلومة بالشرع (¬2). ¬

_ = الترمذي: (هذا حديث غريب، وذكر الأسماء ليس له إسناده صحيح) اهـ. وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 6/ 379 - 382، و8/ 96 - 97، و22/ 482: (إسناده ضعيف وتعيينها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) اهـ. وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 298: (الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه) اهـ. وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 802 - 816، و"فتح الباري" 11/ 214 - 229، و"تلخيص الحبير" 4/ 172 - 174، و"الدر المنثور" 3/ 269 - 270. (¬1) أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا يجوز تسميته بما لم يرد به السمع بل يجب الوقوف فيها على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك من الأمور الغيبية، ولأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء ولأن تسميته بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص، أفاده الشيخ: محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في "القواعد المثلى" ص 13، وانظر: "شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص 36. (¬2) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في "القواعد المثلى" ص 13 - 14: (أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به والحديث لا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعون اسمًا من أحصاها دخل الجنة أو نحو ذلك، فمعنى الحديث أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاها دخل الجنة وعلى هذا فيكون قوله: "من أحصاها دخل الجنة" جملة مكملة لما قبلها وليست مستقلة ونظير هذا أن تقول: عندي مدّة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدفة) اهـ. وقال النووي في "شرح مسلم" 17/ 7 - 8: (اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما =

وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا}؛ دعاؤه بها تعظيمه بذكرها؛ كقولك: يا قدير يا عليم يا كريم، قال أبو إسحاق (¬1): إلا ينبغي أنا تدعوه بما لم يصف به نفسه أو لم يسم به نفسه، فلا ينبغي أن يقال: سَخيٌّ بمعنى: جواد، ولا رفيق بمعنى: رحيم، ولا جلد بمعنى: قوي؛ لأنه لم يصف نفسه بهذه الألفاظ). وقال غيره: (في هذه الآية دليل على أن من أفضل الدعاء أن تدعوا الله بالأسماء الحسنى كما ذكر الله وأمر به) (¬2). وقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}. وقرأ (¬3) حمزة: {يُلْحِدُونَ}، ووافقه عاصم (¬4) والكسائي في النحل، قال الفراء: (يُلحدون ويَلْحَدُونَ لغتان، يقال: لحدت لحدًا وألحدت) (¬5). ¬

_ = مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصرها) اهـ. وانظر: "الأسماء والصفات" ص 27، و"الفتاوى" لشيخ الإسلام 6/ 381، و"فتح الباري" 11/ 214. (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 2/ 392، وفيه بعض الاختلاف ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 108. (¬2) انظر: "بدائع التفسير" لابن القيم 2/ 316. (¬3) قرأ حمزة: {يُلْحِدُونَ} هنا، وفي النحل: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ} [النحل: 103]، وفي فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} [فصلت: 40] بفتح الياء والحاء في الثلاثة، ووافقه الكسائي في النحل، وقرأ الباقون جميع ذلك بضم الياء وكسر الحاء، انظر: "السبعة" ص 298، و"المبسوط" ص 186، و"التذكرة" 2/ 429، و"التيسير" ص 114، و"النشر" 2/ 273. (¬4) كذا في النسخ وعند الرازي 15/ 71، وهو وهم أو تحريف من الناسخ، فعاصم يقرأ بضم الياء وكسر الحاء في الثلاثة المواضع كما سبق، وانظر: سورة النحل في "السبعة" ص 375، و"المبسوط" ص 226، و"التذكرة" 2/ 464. (¬5) ذكره الرازي 15/ 71، ولم أقف عليه في "معانيه" وفي "تهذيب الأزهري" 4/ 3243 =

قال أهل اللغة (¬1): (معنى الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد)، وقال ابن السكيت: (الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس فيه، قال: قد ألحد في الدين ولحد) (¬2)، وقال غيره من أهل اللغة: (الإلحاد العدل عن الاستقامة والانحراف عنها، ومنه اللَّحد الذي يحفر جانب القبر خلاف الضريح الذي يحفر في وسطه) (¬3)، والأجود قراءة العامة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25]. والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم: ملحد، ولا تكاد تسمع (¬4) العرب ¬

_ = (لحد) "معاني القراءات" 1/ 430، قال الفراء: (يقرأ {يُلْحِدُونَ} -بالفتح- أي: يميلون إليه وبالضم أي يعترضون) اهـ. بتصرف. وانظر: كتاب "الأفعال" للسرقسطي 2/ 411. (¬1) لفظ: "اللغة" غير واضح في (ب). (¬2) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 3242. وانظر: "العين" 3/ 182، و"الجمهرة" 1/ 505، و"الصحاح" 2/ 534، و"مقاييس اللغة" 5/ 236، و"المجمل" 3/ 803، و"المفردات" ص 737، و"اللسان" 7/ 4005 (لحد). وقال ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 143 - 144: (الملحد في كلام العرب: الجائر عن الحق ويقال: قد لحدت الرجل إذا أدخلته اللحد وألحدته إذا صنعت له لحدًا، ويقال: قد ألحد الرجل ولحد: إذا جار، وفرق الكسائي بينهما فقال: ألحد: جار، ولحد: ركن) اهـ. (¬3) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 108، ونحوه ذكر اليزيدي في "غريب القرآن" ص 153. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 233، و"تفسير غريب القرآن" ص 183، و"نزهة القلوب" ص 509، و"تفسير المشكل" ص 88. (¬4) ذكره السمين في "الدر" 5/ 523، عن الواحدي وقال: (امتناعهم عن مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلته ومن كلامهم لحده اللاحد) اهـ.

لاحدًا، فمن جمع بينهما في قراءته فكأنه أراد الأخذ بكل واحدة من اللغتين (¬1). قال ابن عباس ومجاهد (¬2): ({الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} هم المشركون، عدلوا بأسماء الله عما هي عليه فسموا بها أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، واشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان). وقال أهل المعاني: (الذين يلحدون في أسماء الله الذين (¬3) يسمون الله بما لم يسمّ به نفسه، ولم ينطق به كتاب، ولا دعا إليه رسول) (¬4). يدل على صحة هذا ما روى عن ابن عباس أنه قال: ({يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أي: يكذبون) (¬5). ¬

_ (¬1) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 4/ 108، وانظر: "إعراب القراءات" 1/ 215، و"الحجة" لابن خالويه ص 168 , ولابن زنجلة ص 303، و"الكشف" 1/ 484 وقال الطبري في "تفسيره" 9/ 134: (الصواب أنهما لغتان بمعنى واحد، غير أن قراءة الضم أشهر وأفصح) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 315، و"إعراب النحاس" 1/ 653، و"معانيه" 3/ 108. (¬2) أخرج الطبري 9/ 133 - 134 بسند ضعيف عن ابن عباس ومجاهد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1623، بسند ضعيف عن ابن عباس نحوه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 25 ب، والماوردي 2/ 282، والواحدي في "الوسيط" 2/ 276، والبغوي 3/ 307، والخازن 2/ 319، عن ابن عباس ومجاهد، وقال ابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 143: (قال المفسرون: هو اشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز) اهـ. (¬3) لفظ: (الذين) ساقط من (ب). (¬4) ذكره الثعلبي 6/ 25 ب، والبغوي 3/ 307، والخازن 2/ 319، عن أهل المعاني. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 134، وابن أبي حاتم 5/ 1623 بسند جيد.

181

وقال زيد بن أسلم: (يميلون عن الحق) (¬1). فكل من سمّى الله بما لم يرد به توقيف فقد كذب في ذلك (¬2) التسمية ومال عن الحق (¬3). وقوله تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة (¬4). 181 - قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} الآية. روى قتادة وابن جريج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنها هذه الأمة" (¬5). وروي أيضًا أنه قال: "هذه لكم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها" (¬6). وقال الربيع بن أنس: (قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية فقال: "إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم" (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 25 ب. (¬2) كذا في النسخ: (ذلك)، والأولى (تلك). (¬3) قال أهل العلم: (الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع أحدها: أن يسمى الأصنام بها، والثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله، والثالث: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، الرابع: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها وأنها مجرد أعلام فقط وألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوًا كبيرًا)، أفاده ابن القيم في "بدائع التفسير" 2/ 314، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 653، و"أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 816، والقرطبي 7/ 328. (¬4) لفظ: (أي جزاء ما كانوا يعملون) ساقط من (ب). (¬5) أخرجه الطبري 9/ 135 من طرق جيدة عن ابن جريج وقتادة وهو مرسل، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 272، وقال: (أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن جريج، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة) اهـ. وذكره الثعلبي 6/ 26 أ، والماوردي 2/ 283، عن قتادة وابن جريج. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 135 بسند جيد عن قتادة وهو مرسل وتابع لما سبق عن قتادة. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1623، وهو مرسل، وأخرج البخاري رقم (7311) =

182

وقال ابن عباس: (يريد: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) (¬1). وقوله تعالى: {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. قد ذكرنا ما فيه عند قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} [الأعراف: 159]. 182 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، قال الكلبي: (يعني: أهل مكة كذبوا بمحمد والقرآن) (¬2). وقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}. الاستدراج في اللغة (¬3): ¬

_ = كتاب التوحيد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين"، ومسلم رقم (1921) كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله" اهـ. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 277، والبغوي 3/ 308، وابن الجوزي 3/ 294، والرازي 15/ 72، والخازن 2/ 420، وذكره الثعلبي 6/ 26 أ، عن عطاء فقط، وأكثرهم على أنه في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال "النحاس" 1/ 653: (دل الله جل وعز بهذه الآية أنه لا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق) اهـ، وانظر: السمرقندي 1/ 585، ابن عطية 6/ 158، و"البحر" 4/ 430. (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 143. وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 277، وهو قول السمرقندي 1/ 586، وذكره ابن الجوزي 3/ 294، والرازي 15/ 73، والقرطبي 7/ 329، عن ابن عباس، والظاهر العموم وأول ما يدخل كفار مكة، وهو اختيار الرازي 15/ 73، والخازن 2/ 320، قال الخازن: (هذا أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه) اهـ. (¬3) انظر: "العين" 6/ 77، و"الصحاح" 1/ 313، و"مقاييس اللغة" 2/ 275, و"المجمل" 2/ 325، و"المفردات" ص 311، و"اللسان" 3/ 1352 (درج).

الأخذ بطيِّ منزلةٍ (¬1) وأصله من الدرج، وهو لفُّ الشيء، يقال: درجته وأدرجته ودرجته، وأدرجت المرأة صبيها في المعاوز (¬2)، وأدرج الميت في أكفانة، وأدرجت الكتاب في الكتاب إذا طويته فيه (¬3)، والاستدراج هو طي منزلة بعد منزلة، ويجوز أن يكون من الدرجة فيكون معنى الاستدراج في الأمر: أن يحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى مقصوده، وهذا معنى الاستدراج في اللغة، وهو معنى قول المفسرين (¬4) وأهل المعاني (¬5). وقال أبو عبيدة (¬6): والمؤرج (¬7): (الاستدراج أن آتيه من حيث لا يعلم)، وهو معنى قول ابن عباس (¬8): (سنمكر بهم من حيث لا يعلمون). وقال الكلبي: (يزين لهم أعمالهم فيهلكهم) (¬9). ¬

_ (¬1) لفظ: (بطي منزلة) ساقط من (ب). (¬2) المعاوز، جمع معوز -بكسر الميم وسكون العين وفتح الواو-: وهو الثوب الخلق وخرقة يلف بها الصبي. انظر: "اللسان" 5/ 3169 (عوز). (¬3) ما تقدم في "تهذيب اللغة" 2/ 1168 (درج). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 135، والسمرقندي 1/ 586، والماوردي 2/ 283. (¬5) انظر: "معاني النحاس" 3/ 109. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 233 وزاد: (ومن حيث تلطف له حتى تغتره). ونحوه قال اليزيدي في "غريب القرآن" ص 154. (¬7) ذكره الثعلبي 6/ 26 ب. (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 277، وذكره الثعلبي 6/ 26 ب، والبغوي 3/ 308 عن عطاء. (¬9) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 1/ 586، والثعلبي 6/ 26 ب والبغوي 3/ 308، والخازن 2/ 320.

وقال الضحاك: (كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة) (¬1). وقال الأزهري: (قيل في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}: سنأخذهم قليلاً من حيث لا يحتسبونه، وذلك أنه جل وعز يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه أنسًا به (¬2)، ثم يأخذهم علي غرّتهم أغفلَ ما يكونون (¬3)، ولهذا قال عمر (¬4) -رضي الله عنه- لما حُمل إليه كنوز كسرى: "اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا؛ فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ") (¬5). وقال عبد الله بن مسلم: (الاستدراج أن يُدنيهم من بأسه قليلاً، ومنه يقال: درجت فلانًا إلى كذا، واستدرج فلانًا حتى تعرف ما عنده، يراد: لا تجاهره ولا تهجم عليه بالسؤال، ولكن استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، قال: وأصل هذا من الدرجة، وذلك أن الراقي فيها والنازل منها ينزل مِرْقاة مرقاة، فاستعير (¬6) هذا منها) (¬7). والاية وعيد للمكذب بآيات الله عز وجل بأنه يستدرجه إلى العذاب من حيث لا يعلم ما إليه يصير (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 26 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 277، والبغوي 3/ 308، وابن الجوزي 3/ 295، والقرطبي 7/ 329، والخازن 2/ 320، وقال السجستاني في "نزهة القلوب" ص 264 عند شرح كلمة {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}: (جاء في التفسير كلما جددوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيانهم الاستغفار) اهـ. (¬2) في (ب): (أنسيأبهم)، وهو تحريف. (¬3) في (ب): (ما يكون)، وهو تحريف. (¬4) ذكره الرازي 15/ 73، والخازن 2/ 320، ولم أقف على إسناده بعد طول بحث. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1168 - 1169 (درج). (¬6) في (ب): (واستعير). (¬7) "تأويل مشكل القرآن" ص 166. (¬8) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 653.

183

183 - قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ}، الإملاء في اللغة (¬1) الإمهال وإطالة المدة، وهو نقيض الإعجال، والمليُّ زمان طويل من الدهر، ومنه قوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]. أي: طويلاً، ويقال: مُلوة، ومِلوة (¬2)، وملاوة من الدهر أي: زمان طويل (¬3). فمعنى {وَأُمْلِي لَهُمْ}. أي: أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، قال ابن عباس (¬5): (يريد: إن مكري شديد)، والمتين من كل شيء القوي (¬6)، وقد متن متانة (¬7)، ومعنى ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 234، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 154، و"تفسير غريب القرآن" ص 183، و"نزهة القلوب" ص 101، 115، و"تفسير المشكل" ص 88. (¬2) لفظ: (وملوة) ساقط من (ب). (¬3) النص في "تهذيب اللغة" 4/ 3438 (ملا)، ومُلوة بالضم، ومِلوة بالكسر، ومَلاوة بالفتح. وانظر: "العين" 8/ 344، و"الصحاح" 6/ 2496، و"المجمل" 3/ 841، و"مقاييس اللغة" 5/ 352، و"المفردات" ص 776، و"اللسان" 7/ 4252 (ملا). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 135، و"معاني النحاس" 3/ 109، والسمرقندي 1/ 586. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 277، والبغوي 3/ 308، وابن الجوزي 3/ 295، والرازي 15/ 74، والخازن 2/ 321، و"البحر" 4/ 431. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 234، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 154، و"تفسير غريب القرآن" ص 183، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 55، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 194. (¬7) انظر: "العين" 8/ 131، و"الجمهرة" 1/ 410، و"تهذيب اللغة" 4/ 3338، و"الصحاح" 6/ 2200، و"مقاييس اللغة" 5/ 294، و"المفردات" ص 758، و"اللسان" 7/ 4130 (متن).

184

كيد (¬1) الله هنا: استدراجه إياهم (¬2). قال المفسرون: (نزلت في المستهزئين من قريش؛ قتلهم الله عز وجل في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم حتى صاروا إلى الاغترار بطول السلامة وإسباغ النعمة) (¬3). 184 - وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ}. قال أصحاب المعاني: (التفكير طلب المعنى بالقلب كطلب الشخص بالعين) (¬4)، وتقدير الآية {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} فيعلموا {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ}، كذلك قال ابن كيسان (¬5) وغيره، فحذف (يعلموا)؛ لأن التفكر مؤدٍ إلى العلم، فقام مقامه وأغنى عن ذكره، وذكر صاحب النظم أن بعض أهل العربية قال: (إن قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} تمام الكلام واتصاله بما قبله، وقوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} نفي مبتدأ) (¬6). وإلى هذا مال ابن الأنباري؛ لأنه قال: ({أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} وقف التمام. ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 5/ 396، و"إعراب النحاس" 1/ 654، و"نزهة القلوب" ص 385، و"تهذيب اللغة" 4/ 3076، و"الصحاح" 2/ 533، و"المفردات" ص 728 (كيد). (¬2) انظر: "القواعد المثلى" لابن عثيمين ص 20، و"المفسرون بين التأويل والإثبات" للمغراوي ص 13. (¬3) ذكره الثعلبي 6/ 26 ب، والبغوي 3/ 308، والقرطبي 7/ 330، والخازن 2/ 321، و"البحر" 4/ 431، وقد اختلف العلماء في المستهزئين من حيث عددهم وكيفية هلاكهم، انظر: "مجمع الزوائد" 4/ 46، و"الدر المنثور" 3/ 272. (¬4) ذكره الرازي 15/ 75، وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2818، و"المفردات" ص 643 (فكر). (¬5) لم أقف عليه، وضعف هذا القول أبو حيان 4/ 432، والسمين 5/ 525. (¬6) ذكر هذا القول أبو حيان في "البحر" 4/ 432، والسمين في "الدر" 5/ 525 بلا نسبة.

قال: ومثل هذا قوله (¬1): {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] ثم تبتدئ {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ}، وقوله في سبأ: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46] ثم تبتدئ: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}) (¬2)، وقد قيل: إن قوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}، إلى آخر الآية كلام معترض بين كلامين، على نظم {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}، {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ} (¬3) [الأعراف: 185]، وأدخل بينهما قوله: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}، فلما انقضى هذا رجع إلى المبتدأ الأول وهو قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} فجاء به على لفظ سواه، وهو قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} [ومعناهما جميعًا واحد؛ لأن قولك: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}، {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} واحد، والمعنى] (¬4): أولم يتفكروا في خلق السموات والأرض (¬5)، ¬

_ (¬1) لفظ: (قوله) ساقط من (ب). (¬2) "الإيضاح" لابن الإنباري 2/ 671، ومثله ذكر النحاس في "القطع والائتناف" 1/ 267، والداني في "المكتفي" ص 281. (¬3) لفظ: (السموات) ساقط من (أ). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) لفظ: (الأرض) ساقط من (ب)، ولم أقف على هذا القول فيما لدي من مراجع، وأما إعراب الآية: فما نافية و {بِصَاحِبِهِمْ} خبر مقدم، ومن مزيدة {جِنَّةٍ} مبتدأ أي: ما جنة بصاحبهم، وقيل: ما استفهامية مبتدأ، والخبر {بِصَاحِبِهِمْ} أي: أي شيء استقر بصاحبهم من الجنون وجملة {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في محل نصب مفعول به لفعل التفكر بعد إسقاط الخافض لأن التفكر من أفعال القلوب فيجوز تعليقه، وهذا هو اختيار أبي حيان في "البحر" 4/ 431، والسمين في "الدر" 5/ 525، قال أبو حيان 4/ 432: (هذا هو الظاهر وفي الآية تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما يثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدل عنه) اهـ. وانظر: "غرائب الكرماني"1/ 429، و"التبيان" ص 396، و"الفريد" 2/ 388، و"الجدول في إعراب القرآن" 9/ 121.

والجِنَّة (¬1) حالة من الجُنون كالجِلسة والرِّكبة ودخول {مِّن} في قوله {مِّن جِنَّةٍ} يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون. قال الحسن (¬2) وقتادة (¬3): (إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قام ليلاً على الصَّفا يدعو قريشًا فخذًا (¬4) فيقول: "يا بني فلان يا بني فلان" (¬5)؛ يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن (¬6) صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى الصباح، فأنزل الله تعالى هذا الآية)، وحثهم على التفكر في أمر الرسول ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال. ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 234، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 154، و"تفسير غريب القرآن" ص 183، و"تهذيب اللغة" 1/ 671، و"الصحاح" 5/ 2093 (حسن). (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 278، وابن الجوزي 3/ 296، والرازي 15/ 75، و"البحر" 4/ 431، عن الحسن وقتادة، وذكره الخازن 2/ 321 عن المفسرين. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 136، وابن أبي حاتم 5/ 1624 بسند جيد عن قتادة مرسلًا. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 273، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة)، وذكره الثعلبي 6/ 26 ب، والبغوي 3/ 309، و"الكشاف" 2/ 133، عن قتادة وقال ابن حجر في "الكافي الشاف" ص 669: (أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى قتادة) اهـ. وقد أخرج الطبري 19/ 118 - 123 من عدة طرق جيدة نحوه عن جماعة منه الصحابة، وعن قتادة والحسن وغيرهما بدون ذكر الآية وذلك عندما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 273. (¬4) فخذ الرجل: نفرة من حيه الذين هم أقرب عشيرته إليه فهو فرقة من الجماعات أولها الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ، انظر: "اللسان" 6/ 3360 (فخذ). (¬5) لفظ: (يا بني فلان) ساقط من (أ). (¬6) لفظ: (إن) ساقط من (ب).

185

185 - قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. قال أهل المعاني: (حثهم الله على النظر المؤدي إلى العلم، فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ ليستدلوا على أن لها صانعًا مدبرًا دبرها علي ما أراد) (¬1)، قال الزجاج: (والمعنى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} فيما دلهم الله به على توحيده) (¬2)، ومضى الكلام في معنى (¬3) {مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام. وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}، أي: وفيما خلق الله من الأشياء كلها، قال ابن عباس: (يريد: من جليل وصغير) (¬4). وقوله تعالى: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}، أي: وفي (أن) لعل آجالهم قريبة، فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار. و (أن) في (¬5) {وَأَنْ عَسَى} بمعنى: أنه، فهو مخفف (¬6) من الثقيل كقول الأعشى (¬7): ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 136، والبغوي 3/ 309، وابن عطية 6/ 162، وابن الجوزي 3/ 296، والرازي 15/ 76، والقرطبي 7/ 330. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 392. (¬3) لفظ: (معنى) ساقط من: (أ). (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 278، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 816. (¬5) في (ب): (وإن في عسى أن)، وهو تحريف. (¬6) هذا هو الظاهر فأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وجملة: {عَسَى أَنْ يَكُونَ} خبرها، وهذا اختيار أبي حيان في "البحر" 4/ 432، والسمين في "الدر" 5/ 526، وانظر: "التبيان" ص 397، و"الفريد" 2/ 389. (¬7) "ديوانه" ص 147 والبيت: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل هذه رواية النحاة. أما الديوان ففيه: أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل وقد سبق تخريجه والكلام عليه.

186

قد علموا ... أن هالك ....... أي: أنه هالك، وقد بينا ذلك في مواضع. قال الزجاج: (أي: إن (¬1) كانوا يسوّفون بالتوبة فعسى {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}) (¬2) قال ابن عباس: (يريد: قتلهم يوم بدر، ويوم أحد) (¬3) وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. قال: (يريد: فبأي (¬4) قرآن غير ما جاء به محمد يصدقون) (¬5)، وقال أهل المعاني: (هذا دليل على أن محمدًا خاتم الرسل وأن الوحي ينقطع بعد القرآن) (¬6). 186 - قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ}، قال المفسرون: (ذكر علة إعراضهم عن الإيمان والقرآن وهو إضلال الله إياهم) (¬7). وقوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ} رَفْعٌ بالاستئناف، وهو مقطوع مما قبله (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (أي إذ كانوا)، وهو تحريف. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 392. (¬3) ذكره القرطبي 7/ 334، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 78. (¬4) في (ب): (يريد فبغير قرآن). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 145، وذكره "الواحدي" 2/ 279، والبغوي 3/ 309، والقرطبي 7/ 334، بلا نسبة. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 136، والسمرقندي 1/ 586، والبغوي 3/ 309. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 137، والثعلبي 6/ 27 أ، والبغوي 3/ 309، وابن الجوزي 3/ 296، والقرطبي 7/ 334، والخازن 2/ 321. (¬8) هذا على قراءة الرفع، أما الجزم فلا يوقف على ما قبله ولا يبتدأ به لأنه معطوف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: {فَلَا هَادِيَ لَهُ} فلا يقطع من ذلك , أفاده الداني في "المكتفى" ص 281، وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 672، و"القطع والائتناف" ص 267، و"التذكرة" لابن غلبون 2/ 429.

وقرأ (¬1) أبو عمرو بالياء لتقدم اسم الله (¬2) سبحانه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء والجزم، ووجه ذلك فيما يقول سيبويه (¬3): (إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: {فَلَا هَادِيَ لَهُ}؛ لأن موضع الفاء مع ما بعدها جزم بجواب الشرط). فحمل {وَيَذَرُهُمْ} على الموضع، والموضع جزم، كقول أبي دواد (¬4): فأبلوني بليتكم (¬5) لعلي ... أصالحُكم وأستدرجْ نويَّا (¬6) ¬

_ (¬1) قرأ عاصم وأبو عمرو: {وَيَذَرُهُم} بالياء ورفع الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء وقرأ الباقون بالنون ورفع الراء، انظر: "السبعة" ص 198، و"المبسوط" ص 187، و"التذكرة" 2/ 429، و"التيسير" ص 115، و"النشر" 2/ 273. (¬2) أي: قراءة الياء على الغيبة لتقدم اسم الله تعالى وهو على لفظ الغيبة كما في "الحجة" لأبي علي 4/ 109، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 393، و"إعراب النحاس" 1/ 654. (¬3) "الكتاب" 3/ 90، وفيه ذكر قراءة الجزم وقال: (وذلك لأنه حمل الفعل على موضع الكلام؛ لأن هذا الكلام في موضع يكون جوابًا؛ لأن أصل الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء ولكنهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره) اهـ. (¬4) أبو دواد الإيادي: جارية بن الحجاج، شاعر جاهلي قديم يضرب به المثل في الجود والإجارة، وأكثر أشعاره في المدح والفخر وأوصاف الخيل، انظر: "الشعر والشعراء" ص 140، و"الأغاني" 16/ 402، و"الأعلام" 2/ 106. (¬5) في (ب): (بلوتكم). (¬6) "ديوانه" ص 350، و"العسكريات" ص 115، و"العضديات" ص 120، و"الخصائص" 1/ 176، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 701، و"تفسير ابن عطية" 6/ 164، و"شرح شواهد المغني" 2/ 839، وبلا نسبة في "معاني الفراء" 1/ 88 - 3/ 168، و"تأويل مشكل القرآن" ص 56، و"إعراب النحاس" 3/ 439، و"الخصائص" 2/ 424، و"الأمالي" لابن الشجري 1/ 428، و"البيان" 1/ 380، و"اللسان" 5/ 3082 (علل)، و"مغني اللبيب" 4232، و"الدر =

حمل (أستدرجْ) على موضع الفاء المحذوفة من قوله: (فلعلي أصالحكم)، والموضع جزم، والحمل على الموضع كثير (¬1). قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ}، قال ابن عباس: (إن قومًا من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا عن الساعة متى تكون إن كنت نبيًا؟) (¬2)، وقال الحسن (¬3) وقتادة (¬4): (هم قريش، لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: أسرَّ إلينا متى الساعة؟). ¬

_ = المصون" 5/ 528، ونسبه ابن هشام في "المغني" 2/ 477 للهذلي، والبيت قاله في قوم جاورهم فأساءوا جواره يقول: أحسنوا لعلي أرجع إلى جواركم، وقول: فأبلوني، أي اصنعوا بي جميلاً، وأستدرج، أي أرجع أدراجي من حيث أتيت، ونويا: يريد نواي وهي النية، والمراد: الوجه الذي يقصده، والشاهد: وأستدرج، حيث جزم على المعنى على تقدير جزم أصالحكم. (¬1) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 4/ 109 - 110 وأكثرهم على أنه جزم عطف على محل قوله: {فَلَا هَادِيَ لَهُ} وقيل: إنه سكون تخفيف لتوالي الحركات. انظر: "معاني القراءات" 1/ 431، و"إعراب القراءات" 1/ 216، و"الحجة" لابن خالويه ص 167، ولابن زنجلة ص 303، و"الكشف" 1/ 485، و"البحر" 4/ 433، و"الدر المصون" 5/ 528. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 137 بسند لا بأس به، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 274، وزاد نسبته إلى (ابن إسحاق وأبي الشيخ) وذكره الثعلبي 6/ 17 أ، والماوردي 2/ 187، وابن عطية 6/ 165 - 166، وابن الجوزي 3/ 297، والرازي 15/ 80، والخازن 2/ 321 عن ابن عباس، وهو في "سيرة ابن هشام" 2/ 198 - 199 بلا نسبة. (¬3) ذكره الماوردي 2/ 187، والواحدي في "الوسيط" 2/ 280، والرازي 15/ 80 , عن الحسن وقتادة. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 137 - 138 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 274، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد) وذكره أكثرهم، واختار الطبري 9/ 138، عدم التخصيص، ولا يبعد حصول السؤال من الجميع، أو أن اليهود أمروا قريش أن تسأل عن ذلك. والله أعلم.

وقوله تعالى: {عَنِ اَلسَّاعَةِ}. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: التي لا بعدها ساعة) (¬1). وقال الزجاج (¬2): (الساعة (¬3) هاهنا الساعة التي يموت فيها الخلق)، وقد ذكرنا فيما تقدم معنى الساعة، وقوله تعالى: {أَيّاَنَ} معناه: الاستفهام (¬4) عن الوقت الذي لم يجيء، وهو سؤال عن الزمان (¬5) على جهة الظرف للفعل كقول الراجز (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 145. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 293، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 654. (¬3) لفظ: (الساعة) ساقط من (ب). (¬4) انظر: "الكتاب" 4/ 235، و"تأويل مشكل القرآن" ص 522، و"حروف المعاني" للزجاجي ص 12، و"نزهة القلوب" ص 74، و"تهذيب اللغة" 1/ 243 (أيان)، و"المحتسب" 1/ 268، و"الصحاح" 5/ 2076 (أين)، و"الصاحبي" ص 201، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 419، والسمين في "الدر" 5/ 529: (أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف ويليه المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي وأكثر استعمالها في الاستفهام، وقد تأتي شرطية جازمة لفعلين وذلك قليل فيها). قال أبو حيان: (وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق). وقال السمين: (الفصيح فتح همزتها وهي قراءة العامة وقرئ بكسرها وهي لغة سليم) اهـ. وانظر: "الإتقان" للسيوطي 1/ 214. (¬5) في (ب): (وهو سؤال عن السؤال على جهة الظرف) وهو تحريف. (¬6) لم أقف على قائله وهو في: "مجاز القرآن" 1/ 234، و"تفسير الطبري" 9/ 138، والثعلبي 6/ 27 ب، والماوردي 2/ 284، وابن عطية 6/ 166، و"الفريد" للهمداني 2/ 390 , والقرطبي 7/ 335، و"اللسان" 13/ 4 (أبن)، و"البحر" 4/ 419، و"الدر المصون" 5/ 529 وتمامه: أما ترى لنجحها إبانا

أيان تقضي حاجتي أيانا أي: متى أوان قضائها. وقوله تعالى: {مُرْسَاهَا}. المرسى: مفعل من الإرساء وهو الإثبات، يقال: رسا (¬1) الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره، قال الله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]. والمرسى (¬2) هاهنا مصدر بمعنى: الإرساء كقوله: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]. أي: إجراؤها وإرساؤها (¬3)، فمعنى {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى يقع إثباتها، قال قتادة (¬4) والسدي (¬5): ({مُرْسَاهَا} قيامها)، وهو معنى وليس تفسير. وقال الزجاج: (متى وقوعها) (¬6). ¬

_ = وإبان كل شيء بالكسر والتشديد وقته وحينه الذي يكون فيه انظر: "اللسان" 1/ 12 (ابن). (¬1) في (ب): "رسى". (¬2) في (ب): "والمرسا". (¬3) انظر: "العين" 7/ 290، و"تهذيب اللغة" 2/ 1403، و"الصحاح" 6/ 2356، و"المجمل" 2/ 377، و"مقاييس اللغة" 2/ 394، و"المفردات" ص 354، و"اللسان" 3/ 1647 (رسا). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 138 بسند جيد عن قتادة، وذكره النحاس في "معانيه" 3/ 110، والثعلبي 6/ 27 ب، والبغوي 3/ 309، عن قتادة. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1626 بسند جيد عن السدي، وذكره الماوردي 2/ 284، وهو قول الطبري 9/ 138، والسمرقندي 1/ 587. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 293 وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص 154، والنحاس في "إعرابه" 1/ 654.

وقال ابن قتيبة: (متى ثبوتها) (¬1)؛ وذلك أنها إذا أثبتت وقعت وثبتت (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}. أي: العلم بوقتها و (¬3) وقوعها، وهذا من باب إضافة المصدر (¬4) إلى المفعول، والمعنى: أنه مستأثر بذلك العلم فلا يعلمها إلا هو، قال أهل المعاني: (والمعنى في إخفاء أمر الساعة وعلمها عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر في المعصية) (¬5). وقوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}. قال الزجاج (¬6) وابن مسلم (¬7): (لا يظهرها في وقتها إلا هو)، وهو معنى قول مجاهد (¬8): (لا يأتي بها إلا هو)، وقال المبرد: (لا يقيمها عند ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" 1/ 183، وهو قول مكي في "تفسير مشكل القرآن" ص 88، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 234. (¬2) "المعاني متقاربة"، وقد أخرج الطبري 9/ 138، وابن أبي حاتم 5/ 1626 من طرق جيدة عن ابن عباس قال: (منتهاها) قال الطبري: (وهو قريب من معنى من قال: قيامها لأن انتهاءها بلوغها وقتها، وأصل ذلك الحبس والوقوف) اهـ. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬4) انظر: "التبيان" 1/ 397، و"الفريد" 2/ 391، و"الدر المصون" 5/ 530. (¬5) ذكره الرازي 15/ 80 - 81، والخازن 2/ 322، عن المحققين. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 393. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 184، وهو قول أكثرهم. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 235، و"غريب القرآن" ص 155، و"تفسير الطبري" 9/ 138، و"نزهة القلوب" ص 479، و"معاني النحاس" 3/ 110، و"تفسير المشكل" ص 88. (¬8) "تفسير مجاهد" 1/ 252، وأخرجه الطبري 9/ 138، وابن أبي حاتم 5/ 1627 من طرق جيدة, وأخرج الطبري بسند جيد عن قتادة والسدي نحوه.

وقتها إلا هو) (¬1)، نظيره قوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58]. والتجلية (¬2) إظهار الشيء، والتجلي ظهوره، وقد مر. وقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قال ابن عباس (¬3): (يريد: ثقلت على أهل السموات وأهل الأرض) (¬4)؛ يريد: كلهم خائفون من الله، المحسن والمسيء؛ وهذا معنى قول الحسن (¬5)؛ يقول: (إذا جاءت ثقلت على السموات والأرض وأهلهما (¬6)، أي: كبرت وعظمت لما فيها من انتشار النجوم، وتكوير الشمس، وتسيير الجبال). ونحو من ذلك قال ابن جريج (¬7)، وقتادة والكلبي (¬8): (ثقل علمها ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وانظر: "الكامل" للمبرد 1/ 442 و2/ 496، 1052. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 625، و"الصحاح" 6/ 2303، و"مقاييس اللغة" 1/ 468 (جلا). (¬3) أخرج أبو عبيد في كتاب: "اللغات" ص 107، و"ابن حسنون" ص 26، بسند جيد عن ابن عباس قال: ({ثَقُلَتْ} خفيت بلغة قريش) اهـ. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 145، وزكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 281، وابن الجوزي 3/ 298، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1627 بسند ضعيف عن ابن عباس في الآية، قال: (ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 274. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 245، والطبري 9/ 139، وابن أبي هاشم 5/ 1627 بسند ضعيف، وذكره هود الهواري 2/ 63، والثعلبي 6/ 27 ب، والمارودي 2/ 285، والبغوي 3/ 310، وابن عطية 6/ 167، والرازي 15/ 81. (¬6) في (ب): (وأهلها). (¬7) أخرجه الطبري 9/ 139، بسند جيد عن ابن جريج، وقتادة والسدي، وذكره ابن عطية 6/ 167، وابن الجوزي 3/ 298، والقرطبي 7/ 335، عن ابن جريج، وقتادة والسدي، وذكره الماوردي 2/ 285، عن ابن جريج والسدي. (¬8) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 244، بسند جيد عن قتادة والكلبي، وأخرجه ابن أبي حاتم 2/ 285، بسند جيد عن قتادة.

على أهل السموات وأهل (¬1) الأرض (¬2)، فلم يطيقوا إدراكًا لها) (¬3)، وهو قول السدي (¬4)، واختيار الفراء وابن قتيبة. [قال الفراء: (ثقل علمها على أهل الأرض والسماء أن يعلموه) (¬5). وقال (¬6) ابن قتيبة: (أي] (¬7) خفي علمها على أهل السموات والأرض وإذا خفي الشيء ثقل) (¬8)، وذكر أبو إسحاق القولين جميعًا فقال: (قال بعض القوم: ثقل علمها على أهل السموات (¬9) والأرض، وقال قوم: ثقل وقوعها على أهل السموات والأرض، ثم أعلم الله عز وجل كيف وقوعها فقال: ¬

_ (¬1) لفظ: (أهل) ساقط من (ب). (¬2) في (ب) جاء بعد قوله: (والأرض) تكرار قوله: "وأهلها أي كبرت وعظمت، إلى (والأرض). (¬3) إدراكًا لها: أي تحديد وقتها، وأصل الإدراك اللحوق، وأدرك الشيء أي بلغ وقته، انظر: "اللسان" 3/ 1363 (درك). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 139، وابن أبي حاتم 5/ 1627، بسند جيد، وذكره الرازي 15/ 81. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 399، وهو قول ابن الأنباري في "الإيضاح" 2/ 673. (¬6) في (أ): (فقال). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) "تفسير غريب القرآن" ص 184، وهو قول أكثرهم، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 235، و"نزهة القلوب" ص 184، و"معاني النحاس" 3/ 111، و"تفسير المشكل" ص 88، والظاهر أن الأقوال متقاربة والمعنى: ثقل علمها على أهل السماء والأرض وعظم شأنها وثقل وقوعها، والرب تقول لكل شيء عظيم أو نفيس أو خطير: ثقيل، انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 490 (ثقل). (¬9) في (ب): خلط فجاء: "على أهل الأرض والسماء أن يعلموه، وقال ابن قتيبة: أي على أهل السموات والأرض، وقال قوم .. ".

{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، أي: فجأة) (¬1) على غفلهَ منكم وذلك أشدّ لها كما قال (¬2): وأفظع شيء حين يفجؤك (¬3) البغتُ و (¬4) قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}. قال الفراء (¬5): (جاء في التفسير عن ابن عباس (¬6)، كأنك حفيّ بهم إذا سألوك حين يسألونك عنها ¬

_ (¬1) لم يذكر الزجاج في "معانيه" 2/ 293 إلا القول الثاني مع أنه قال: (قيل: فيه قولان قال: قوم ثقل وقوعها ..). (¬2) "الشاهد" ليزيد بن صبة الثقفي في "مجاز القرآن" 1/ 193، و"الكامل" للمبرد 1/ 151، و"اللسان" 1/ 317 (بغت)، و"عمدة الحفاظ" ص 56، وبلا نسبة في: "العين" 4/ 397، و"الجمهرة" 1/ 255 - 2/ 1043، و"الزاهر" 2/ 6، و"البارع" ص 356، و"تهذيب اللغة" 1/ 364، و"الصحاح" 1/ 243، و"المجمل" 1/ 130، و"مقاييس اللغة" 1/ 272 (بغت)، و"تفسير الماوردي" 2/ 285، وأوله: ولكنَّهم بانوا ولم أدر بغتة. (¬3) في النسخ: (يفجأك)، وهو خلاف ما في المراجع. (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) لم أقف عليه، وفي "معاني الفراء" 1/ 399 قال: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} مقدم ومؤخر ومعناه: يسألونك عنها كأنك حفي بها، ويقال: في "التفسير" كأنك حفي أي: كأنك عالم بها) اهـ. وقال أبو علي الفارسي في "البصريات" ص 1/ 465: ({حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: عالم بها) اهـ. (¬6) أخرج الطبري 9/ 140، 141، وابن أبي حاتم 5/ 1628 بسند جيد عن ابن عباس قال: (أي: كأنك يعجبك سؤالهم إياك: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}) اهـ. وأخرجا عنه بسند ضعيف قال: (أي: كأنك بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم) اهـ. وأخرج الطبري بسند ضعيف عنها قال: (أي: قرب منهم وتحفى عليهم) اهـ. وقال اليزيدي في "غريب القرآن" ص155: (أي: عالم بها والمعنى: يسألونك =

أي: فرح بهم). لعلى هذا التقدير: يسألونك عنها كأنك حفي بهم أي: بارّ بهم لطيف. قال ابن الأعرابي: (يقال: حَفِي بي حفاوة، وتحفى بي تحفيًا، والتحفي: الكلام واللقاء الحسن) (¬1)، ومنه قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]. أي: بارًا لطيفًا يجيب (¬2) دعائي إذا دعوته، وهو (¬3) قول الحسن (¬4) وقتادة (¬5) والسدي (¬6)، ويؤيد هذا القول ما روي في "التفسير": (إن قريشًا قالت لمحمد: إن بيننا وبينك قرابة، فأسر إلينا متى الساعة؟ فقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ}) (¬7)، أي: كأنك صديق لهم، بار بهم، فهم يدلون إليك بالقرابة في طلب علم الساعة يعني: أنك لا تكون حفيًّا ¬

_ = كأنك تحفي. وجاء عن ابن عباس أنه قال: كأنك حفي بهم أي: فرح بهم حين يسألونك. ويقال للقاضي والحاكم: الحافي، وقد تحفينا إلى فلان إذا تحاكمنا) اهـ. (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 859، وانظر: "العين" 3/ 305، و"مجالس ثعلب" ص 350، و"المنجد" لكراع ص 117، "الجمهرة" 1/ 557، و"الصحاح" 6/ 2316، و"المجمل" 1/ 243، و"مقاييس اللغة" 2/ 83، و"المفردات" ص 245، و"اللسان" 2/ 935 (حفاً). (¬2) في (ب): (ويجيب). (¬3) في (ب): (وهذا). (¬4) ذكره هود الهواري 2/ 63، والرازي 15/ 82. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 245 بسند جيد. وذكره ابن عطية 6/ 167، والرازي 15/ 82. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 141 بسند جيد، وذكره الرازي 15/ 82. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 245، والطبري 9/ 140، وابن أبي حاتم 5/ 1628 من طرق جيدة عن قتادة وهو مرسل.

بهم ما داموا على كفرهم، وقال (¬1) في رواية عطاء: ({كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، يريد: خابرٌ بأمرها) (¬2). وهو قول مجاهد (¬3). والضحاك وابن زيد (¬4) ومعمر (¬5) قالوا: (معناه: كأنك عالم بها). واختاره ابن قتيبة، وعلى هذا القول {حَفِيٌّ} فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال، ومن أكثر (¬6) السؤال والبحث عن الشيء علمه، فحقيقة معنى {حَفِيٌّ عَنْهَا} [كأنك أكثرت المسألة، قال ابن قتيبة: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}] (¬7)، (أي: معنيُّ بطلب علمها، ومنه يقال: تحفى فلان بالقوم) (¬8). ¬

_ (¬1) يعني ابن عباس بعد ذكر رواية الفراء عنه. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1628 بسند ضعيف، وأخرج ابن حسون في كتاب "اللغات" ص 34، و"الوزان" 6 أبسند جيد عنه قال: (عالم بلغة قريش) اهـ. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 251 - 252. وأخرجه الطبري 9/ 1416، وابن أبي حاتم 5/ 1628 من طرق جيدة، وفي رواية عند الطبري قال: (حفي بهم حين يسألونك) وفي رواية: (استحفيت عنها السؤال حتى علمتها)، وصحح هذه الرواية ابن كثير في "تفسيره" 2/ 301، وجاء في رواية عند ابن أبي حاتم قال: (حفي بهم تشتهي أن يسألونك عنها). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 141 من طرق جيدة عن الضحاك وابن زيد، وذكره الثعلبي 6/ 28 أعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 141 بسند جيد عن معمر بن راشد الأزدي عن بعضهم، ولعله الكلبي كما أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 245 عن معمر عن الكلبي، وذكره الماوردي 2/ 285، عن مجاهد والضحاك وابن زيد ومعمر. (¬6) في (ب): (ومن كبر)، وهو تحريف. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) "تفسير غريب القرآن" ص 184، ومثله قال السجستاني في "نزهة القلوب" ص 203، ومكي في "تفسير المشكل" ص 88.

وقال أبو عبيدة: (هو (¬1) من قولهم: تحفى فلان بالمسألة أي: استقصى) (¬2). وقال ابن الأنباري: ({كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، أي: سؤول عنها، والحفي الشديد السؤال، ومن ذلك قول الأعشى (¬3): فإن تسألي عني في ربَّ سائلٍ ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا) (¬4) وذكر أبو إسحاق القولين وقرب بينهما فقال: ({كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} أي: كأنك فرح بسؤالهم، يقال: قد تحفيت بفلان في المسألة (¬5) إذا سألت عنه سؤالًا، أظهرت فيه المحبة والبر، قال: وأحفى فلان بفلان في المسألة فإنما تأويله: الكثرة، قال: وقيل: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} كأنك أكثرت المسألة عنها) (¬6)؛ فالقولان راجعان إلى كثرة السؤال؛ لأن العالم بالشيء هو الذي أكثر السؤال عنه حتى تيقنه، واللطيف البار بالإنسان بكثير (¬7) السؤال عنه ¬

_ (¬1) في (أ): (وهو). (¬2) "تفسير الرازي" 15/ 82، وفي "مجاز القرآن" 1/ 235 قال: (أي: حفي بها ومنه قولهم: تحفيت به في المسألة) اهـ. (¬3) "ديوان الأعشى الكبير" ص 151، و"العين" 3/ 306، و"تهذيب اللغة" 1/ 859، و"الصحاح" 6/ 2316، و"المجمل" 1/ 243، و"مقاييس اللغة" 2/ 83، و"الفريد" 2/ 392، و"تفسير القرطبي" 7/ 336، و"اللسان" 2/ 935 - 936 (حقاً)، و"الدر المصون" 5/ 532، وحفي أي: سأل عن حاله مبالغ في إكرامه والتلطف به، وأصعد أي: ذهب في البلاد. (¬4) "شرح القصائد" ص 447، و"الزاهر" 1/ 348، و"تهذيب اللغة" 1/ 859، قال في "شرح القصائد" أي: كأنك معني بها مستقصٍ في السؤال عنها. (¬5) في (ب): (بالمسألة). (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 393 - 394. (¬7) في (ب): (بكثرة)، وهو تحريف.

وعن أحواله (¬1). قاما قوله {حَفِيٌّ عَنْهَا}، والحفاوة إنما توصل بالباء كقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]. قال الفراء (¬2) والزجاج (¬3) وابن الأنباري (¬4): (هو على التقديم والتأخير، أي {يَسْأَلُونَكَ} عنها (¬5) {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} فعن من صلة السؤال)، وقال قوم (¬6): (معنى {حَفِيٌّ} سؤول) كما ذكرنا، وإذا كان بمعنى: السؤال صح أن يوصل بعن كبيت (¬7) الأعشى. وقال أبو علي الفارسي: (الآية تحتمل أمرين، أحدهما: أن تجعل ¬

_ (¬1) والراجح -والله أعلم- أن المعنى: كأنك عالم بها وقد أخفى الله علمها على خلقه لأنه ظاهر الآية، قال ابن كثير 2/ 302: (هذا القول أرجح في المقام) اهـ. وقال الشوكاني في "تفسيره" 2/ 398 - 399، وصديق خان في "فتح البيان" 5/ 94: (هذا هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي) اهـ. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 399، وهو قول الداني في "المكتفى" ص 282. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 393 وهو قول النحاس في "معانيه" 3/ 111، وانظر: "القطع" للنحاس 1/ 268. (¬4) "الزاهر" 1/ 348 وهو قول اليزيدي في "غريبه" ص 155، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص 203، وحكاه النحاس في "إعرابه" 1/ 654 - 655، والثعلبي 6/ 28/ أعن أهل التفسير، وقال السمين في "الدر" 5/ 531: (لا حاجة إلى التقديم والتأخير لأن هذه كلها متعلقات للفعل فجملة {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} حال من مفعول {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} معترض وصلتها محذوفة أي: حفي بها أو عن بمعنى: الباء ويضمن معنى شيء يتعدى بعن أي: كأنك كاشف بحفاوتك عنها) اهـ. بتصرف. (¬5) في (ب): (عنهما)، وهو تحريف. (¬6) وهو قول الطبري 9/ 142، وحكاه النحاس في "إعرابه" 1/ 655، عن المبرد قال: (المعنى {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بالمسألة عنها أي: مُلح) اهـ. (¬7) في (ب): (كقول).

{عَنْهَا} متعلقًا بالسؤال كأنه {يَسْأَلُونَكَ} عنها {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بها فحذف الجار والمجرور، وحسن ذلك لطول الكلام بِعَنْهَا التي من صلة السؤال، قال (¬1): ويجوز أن يكون {عَنْهَا} بمنزلة بها، وتصل الحفاوة مرة بالباء، ومرة بعن، كما أن السؤال يوصل بهما) (¬2)، وذكرنا (¬3) ذلك في قوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}. أعاد هذا لأن هذا الثاني وصل (¬4) بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، أي: لا يعلمون أن علمها عند الله حين سألوا محمدًا عما لم يطلعه (¬5) الله عليه ولا أحدًا من خلقه (¬6)، وهذا معنى قول ابن عباس (¬7). ¬

_ (¬1) هذا هو الثاني وذكر الطبري 9/ 140 - 142 مثله. (¬2) "الحجة" لأبي علي 2/ 214، وانظر: "غرائب الكرماني" 1/ 430، و"التبيان" ص 397، و"الفريد" 2/ 391، و"البحر" 4/ 435. (¬3) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 1/ 83 أ. (¬4) في (أ): (واصل). (¬5) في (ب): (لم أطلعه عليه)، وهو تحريف. (¬6) في (ب): (خلقي)، وهو تحريف. (¬7) أخرجه الطبري 9/ 142، وابن أبي حاتم 5/ 1629، بسند ضعيف عن ابن عباس في الآية قال: (لما سأل الناس محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة سألوه سؤال قوم وكأنهم يرون أن محمدًا حفي بهم فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده استأثر بعلمها فلم يُطلع عليها ملكًا ولا رسولاً) اهـ. وكرر الجواب لتقرير الحكم، وتأكيده ولكل أن ذلك الجواب لا يرجى غيره، وأن الحصر في قوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} حقيقي، ولما تضمنه قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} من الزيادة والإنكار، وقيل: السؤال الأول: عن وقت قيام الساعة، والثاني: عن مقدار شدتها ومهابتها. انظر: "الكشاف" 2/ 134 - 135، مع "حاشية ابن المنير" عليه , وابن عطية 6/ 169، والرازي 15/ 82، وابن عاشور 9/ 205 - 206.

قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} الآية [الأعراف:188]. اختلفوا في وجه تفسير هذه الآية، فقال (¬1) مقاتل: (هذه الآية متصلة بما قبلها, ومعنى قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} لا أملك أن أسوق إليها خيرًا أو أدفع عنها سوءًا حين ينزل بي، فكيف أعلم وأملك علم الساعة) (¬2). وقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}. أي: إلا ما شاء الله أن يملكني إياه بالتمكين منه. وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}. أي: من معرفته حتى أجيب في كل ما أُسأل عنه من الغيب في الساعة وغيرها، وحتى لا يخفى علي شيء، وتم الكلام (¬3) هاهنا. ثم قال: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. أي: ليس بي جنون، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} (¬4) [الأعراف: 184] فقال: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ¬

_ (¬1) في (ب): (فقال مقال مقاتل هذه ..). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 78، وذكره الثعلبي 6/ 28 ب. (¬3) قال الداني في "المكتفى" ص 282: (قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] وقف تام وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] كافٍ. وقوله: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أكفى منه وقوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] تام) اهـ. ونحوه قال ابن الأنباري في "الإيضاح" 2/ 673 والنحاس في "القطع" 1/ 268، وذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" 15/ 84 - 85، وقال: (هذا عندي بعيد جدًا، يوجب تفكيك نظم الآية) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 437: (هذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لو {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:188] فقط، وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمران، لا أحدهما، فيكون إذ ذاك جوابًا قاصرًا) اهـ. (¬4) في (ب) كما ذكرنا في قوله: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} وهي الآية (46) من سورة سبأ، وانظر: "البسيط النسخة الأزهري" 4/ 170 ب سورة سبأ تفسير الآية (46).

إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. قال ابن عباس: ({نَذِير} لمن لا يصدق بما جئت به، {بشِيرٍ} لمن اتبعني وآمن بي) (¬1)، وعلى هذا فلم يذكر إحدى الطائفتين لدلالة الكلام عليه كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. ويجوز أن يكون نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ للمؤمنين مخصوصًا هاهنا، وإن كان بعث إلى الكافة بالتبشير والإنذار؛ لأن نفع ذلك عاد إلى المؤمنين فاختصوا به واختص بهم كما قال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (¬2) [النازعات: 45]. وقد مضى (¬3) لهذا ما يشبهه (¬4) من النظائر. وقال ابن عباس: (إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري (¬5) لتربح عليه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل (¬6) منها، فأنزل الله هذه الآية) (¬7). فعلى هذا معنى قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا}، أي: اجتلاب نفع بأن أربح، {وَلَا ضَرًّا} أي: دفع ضر بأن أرتحل عن الأرض التي تريد أن ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 282، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1630، بسند جيد عنه قال: (نذير من النار ومبشر بالجنة) اهـ. (¬2) في: (أ): (إنما أنا منذر)، وهو تحريف. (¬3) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة الآية (119). (¬4) في (ب): (ما يشبه)، وهو تحريف. (¬5) في (ب): (فنشتري من الرخيص لنربح عليه). (¬6) في (ب): (فيرتحل). (¬7) ذكره الثعلبي 6/ 28 أ، والبغوي 3/ 310، وابن الجوزي 3/ 299، والخازن 2/ 323، و"البحر" 4/ 435 - 436، عن ابن عباس، وذكره السمرقندي 1/ 587، والواحدي في "الوسيط" 2/ 282، و"أسباب النزول" ص 232، عن الكلبي.

تجدب (¬1)، {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن أملكه، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي: ما يكون قبل أن يكون، {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، [أي: لاحتجزت في زمان الخصب لزمن الجدب. {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}، وما أصابني الضر والفقر. وقال ابن جريج (¬2): ({لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}، يعني: الهدى والضلالة. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} متى أموت. {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}] (¬3) من العمل الصالح على حسب علمي به) أي: إن من يعلم الغيب إنما يعمل الأفضل لعلمه بعلوه على الأدون. {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}، أي: واجتنبت ما سيكون من الشر واتقيته. قاله ابن زيد (¬4) وهذا مذهب الحسن (¬5) الكلبي (¬6)، وقد حصل في تفسير هذه الآية ثلاثة (¬7) أوجه، وفيها تكذيب ¬

_ (¬1) هذا قول الفراء في "معانيه" 2/ 400، ورواه ابن أبي حاتم 5/ 1629، بسند ضعيف عن ابن عباس، وذكره الماوردي 2/ 285 - 285، وقال: (هذا قول شاذ) اهـ. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 142، بسند جيد، وذكره الثعلبي 6/ 28 أ، والماوردي 2/ 285، والبغوي 3/ 311، والسيوطي في "الدر" 3/ 276. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 143، وذكره الثعلبي 6/ 28 ب، والبغوي 3/ 311، والسيوطي في "الدر" 3/ 276. (¬5) في (ب): "الحسين" وهو تصحيف. وذكره الماوردي 2/ 286، وابن الجوزي 3/ 300، والقرطبي 7/ 337، عن الحسن البصري. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 146. (¬7) والظاهر العموم وعدم التعيين في النفع والضر والغيب وتحمل الأقوال على التمثيل لا الحصر وهذا هو اختيار الجمهور. انظر: الطبري 142 - 143، و"معاني الزجاج" 2/ 394، و"النحاس" 3/ 112 , و"إعراب النحاس" 1/ 655، و"تفسير ابن عطية" 6/ 170، وابن الجوزي 3/ 299، والرازي 15/ 83 - 84، والقرطبي 7/ 339، و"البحر" 4/ 437.

189

للقدرية (¬1) حيث جوّزوا أن يستبد الإنسان بقدرة يجتلب بها المنافع ويدفع بها المضار. 189 - و (¬2) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، قال ابن عباس (¬3) والمفسرون (¬4): (يعني: آدم). {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} كما قال في سورة النساء: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]. وقوله تعالى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}. قال ابن عباس: (يريد: ليأنس بها ويأوي إليها) (¬5). قال أهل المعاني: (والحكمة في أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم هو أن يكون آدم إليها أميل، ولها آلف وأحب؛ إذ الشكل إلى شكله أحب (¬6)، ولذلك كانت الأشياء تحن إلى أشكالها، وتهرب من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 83 - 84 (¬2) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 146، وذكره الرازي 15/ 85، والسيوطي في "الدر" 3/ 278. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 143، وأخرجه بسند جيد عن قتادة والسدي، وبسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1630 بسند ضعيف عن الضحاك، وقال ابن أبي حاتم: (وروي عن مجاهد وأبي مالك وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك) اهـ. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 394، و"النحاس" 3/ 113، و"تفسير السمرقندي" 1/ 588، والثعلبي 6/ 28 ب، والماوردي 2/ 75، وقال القرطبي 7/ 337: (قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم) اهـ. (¬5) ذكره الثعلبي 6/ 28 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 282، والبغوي 3/ 311، والقرطبي 7/ 337، الخازن 2/ 324 بلا نسبة، ونحوه قال الطبرى 9/ 143، وانظر: السمرقندي 1/ 588، والماوردي 2/ 75. (¬6) لفظ: (أحب) غير واضح في (أ)، وكأنه: (أجذب)

أضدادها) (¬1)، وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}. قال المفسرون (¬2): (جامعها)، قال أبو إسحاق: (كنى به عن الجماع أحسن كناية) (¬3) , والغِشيان (¬4) إتيان الرجل المرأة، وقد غَشِيها وتغشاها إذا علاها، ومثله تَجلَّلها (¬5). وقوله تعالى: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}، قالوا (¬6): (يريد: النطفة والمني)، والحمل (¬7) ما كان في البطن أو على رأس الشجر (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: الرازي 15/ 89، و"البحر" 4/ 439. (¬2) انظر: الطبري 9/ 143، السمرقندي 1/ 588، والثعلبي 6/ 28 ب، والماوردي 2/ 75. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 395، وانظر: "معاني النحاس" 3/ 113. (¬4) انظر: "العين" 4/ 429، و"تهذيب اللغة" 3/ 2669، و"الصحاح" 6/ 2446، و"مقاييس اللغة" 4/ 425، و"المفردات" ص 606، و"اللسان" 6/ 3262 (غشى). (¬5) تَجَلَّلَه، بالفتح: علاه، وجلال كل شيء، بالكسر: غطاؤه، انظر: "العين" 6/ 17، و"تهذيب اللغة" 1/ 641، و"الصحاح" 4/ 1658، و"اللسان" 2/ 664 (جلل). (¬6) انظر: الطبري 9/ 143، و"معاني الزجاج" 2/ 395، والسمرقندي 1/ 588، والثعلبي 6/ 28 أ، والماوردي 2/ 75. (¬7) لفظ: (والحمل ما كان في) غير واضح في: وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 236، و"معاني الأخفش" 2/ 315، و"غريب القرآن" ص 155، و"نزهة القلوب" ص 203 - 208، و"إعراب النحاس" 1/ 656. (¬8) الحمل، بفتح الحاء: وما ذكر هو قول الزجاج والمشهور عن أهل اللغة أما الحمل بالكسر فهو ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة، وحكي في حمل الشجرة لغتان الفتح والكسر وقيل: ما ظهر فهو حمل بالكسر، وما بطن فهو بالفتح، وقيل: ما كان لازمًا للشيء فهو حمل بالفتح، وما كان بائنًا فهو بالكسر، قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 925: (الصواب الأول)، وانظر: "العين" 3/ 240, و"الجمهرة" 1/ 566، و"الصحاح" 4/ 1676، و"المجمل" 1/ 252، و"مقاييس اللغة" 2/ 106، و"المفردات" ص 257، و"اللسان" 2/ 1002 (حمل).

190

وقوله تعالى: {فَمَرَّتْ بِهِ}. أي: استمرت بذلك الحمل الخفيف، وقامت وقعدت لم يُثقلها. قال الكلبي (¬1) والزجاج (¬2): وقوله: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}. أي: صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها. {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}. يعني: آدم وحواء (¬3). {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} بشرًا سويًا مثلنا، وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهيمة أو شيئًا سوى الإنسان، ويأتي بيان هذا في الآية الثانية. 190 - قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}. قال المفسرون (¬4): (لما حملت حواء أتاها إبليس في غير صورته التي عرفته حواء، وقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت ما أدري. قال: إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلبًا أو خنزيرًا، وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك، فخافت حواء، فذكرت ذلك لآدم، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها، وقال: إن سألت الله أن يجعله خلقًا سويًّا ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 146، وهو قول الأكثر، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 236، و"تفسير غريب القرآن" ص 184، و"تفسير الطبري" 9/ 144، وقد أخرج من طرق جيدة نحوه عن مجاهد والحسن وقتادة والسدي، وانظر: "نزهة القلوب" ص 203، و"معاني النحاس" 3/ 113، والسمرقندي 1/ 588، والثعلبي 6/ 28 ب، والماوردي 2/ 75. (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 395، وهو قول الفراء في "معانيه" 1/ 400. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 144، و"معاني الزجاج" 2/ 395، و"النحاس" 3/ 114، والسمرقندي 1/ 588، والثعلبي 6/ 28 ب، والماوردي 2/ 75. (¬4) ذكره عن المفسرين ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 258، والواحدي في "الوسيط" 2/ 283، وانظر: "معاني الفراء" 1/ 400، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 184، و"معاني الزجاج" 2/ 395، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 45، والقرطبي 7/ 338.

مثلك، ويسهل عليك خروجه حتى تلقيه من بطنك سهلاً أتسمينه (¬1) عبد الحارث؟ ثم لم يزل بها حتى غرّها، فلما ولدت ولدًا سويَّ الخلق سمته عبد الحارث برضا آدم وعلمه، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا})، أي: لما آتاهما ولدًا سويًا {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} قال ابن عباس (¬2). (يريد: في تسميتهما (¬3) عبد الحارث). و (¬4) قال الفراء: ({جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} إذ قالت: عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدًا إلا لله (¬5). قال: ولم تعرفه أنه إبليس) (¬6). وذكر ابن زيد (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خدعهما مرتين، خدعهما (¬7) في الجنة، وخدعهما في الأرض") (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): "تسميه". (¬2) أخرجه الطبري 9/ 146، وابن أبي حاتم 5/ 1633 - 1634، من طرق يقوي بعضها بعضًا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ضعيف عن ابن عباس عن أبي بن كعب، وأخرج أيضًا من طريق جيد رجاله رجال الصحيح عن ابن عباس قال: (في هذه الآية ما أشرك آدم وإن أولها شكر وإن آخرها مثل) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 277، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وفيه: (وآخرها مثل ضرب لمن بعده). (¬3) في (ب): (في تسميتها). (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (إلا الله)، وهو تحريف. (¬6) "معاني الفراء" 1/ 400. (¬7) لفظ: (خدعهما) ساقط من (ب). (¬8) أخرجه الطبري 9/ 150، وابن أبي حاتم 5/ 1635 بسند جيد عن عبد الرحمن بن زيد وهو مرسل ضعيف وعند ابن أبي حاتم: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خدعهما مرتين"). قال زيد بن أسلم: (خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض). وذكره الثعلبي 6/ 30 ب، والواحدي في "الوسيط" 2/ 283، والبغوي 3/ 313 , والسيوطي في "الدر" 3/ 277.

وهذا الذي ذكرنا معنى قول سعيد بن جبير (¬1) والكلبي (¬2) وأكثر أهل التفسير (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 147، وابن أبي حاتم 5/ 1634 من طرق جيدة. (¬2) لفظ: (والكلبي) ساقط من (ب)، وقد أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 245، بسند جيد عن الكلبي، وذكره هود الهواري 2/ 65، والثعلبي 6/ 29 أ. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 146 - 149، والسمرقندي 1/ 588، والثعلبي 6/ 28 ب، والماوردي 2/ 286 - 287، و"الدر المنثور" 3/ 277، وقال الطبري: (أجمع أهل التأويل على أن المعني بذلك: آدم حواء، وأنهما {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} في الاسم لا في العبادة) اهـ. بتصرف. وقد أخرج أحمد والترمذي رقم (3077) كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأعراف، والطبري 9/ 146، وابن أبي حاتم 5/ 1635، والحاكم في "المستدرك" 2/ 545 كلهم عن عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسموه عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره) اهـ. قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عمر عن قتادة ورواه بعضهم ولم يرفعه) اهـ. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" 6/ 89، وقال: (هذا لا أعلم يرويه عن قتادة غير عمر وحديثه عن قتادة مضطرب وهو مع ضعفه يكتب حديثه) اهـ, وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي في "التلخيص" وقال في "الميزان" 3/ 179: (هو حديث منكر) اهـ، والحديث ضعيف لأن فيه عمر بن إبراهيم العبدي قال الحافظ في "التقريب" ص 410 رقم (4864): (صدوق، في حديثه عن قتادة ضعف) اهـ. وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 304 - 305، و"البداية والنهاية" 1/ 96: (الحديث معلول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن عمر وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، الثاني: أنه روى موقوفًا على سمرة، كما أخرجه الطبري 13/ 310، وهذه علة قادحة في الحديث، وهو أشبه، والمقطوع أن رفعه خطأ والصواب وقفه، الثالث: أن الحسن البصري فسر الآية بغير هذا فلو كان =

واختلف القراء في قوله: {شُرَكَاءَ}. فقرأ نافع (¬1) وأبو بكر. ¬

_ = عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه وقد أخرج تفسيره الطبري 9/ 148 بأسانيد صحيحة ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض من آمن من أهل الكتاب) اهـ. مجموع بتصرف. أما الآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فجزم ابن كثير في "تفسيره" 2/ 306 أنها مأخوذة عن أهل الكتاب قال: (روى الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، وقد تلقى هذه الآثار عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة وكأنه والله أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب، وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وأخبارهم على ثلاثة أقسام، فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافة من الكتاب والسنة أيضاً، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته وهو الذي لا يصدق ولا يكذب، وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر، فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث) اهـ. ملخصًا. وكذلك ضعف الحديث وجعل الروايات من الإسرائيليات ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 819 - 820، والقرطبي 7/ 337، والألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1/ 348 رقم 342، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين في القول المفيد على كتاب "التوحيد" 3/ 67، ومحمد أبو شهبة في الموضوعات والإسرائيليات في كتب "التفسير" ص 209 - 215، وانظر: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" 2/ 614، و"الدر النضيد على أبواب التوحيد" ص 285، و"تخريج الأحاديث المنتقدة في كتاب التوحيد" للشيخ فريج صالح البهلال ص 109. (¬1) قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: (جَعَلاَ لَهُ شِرْكَا) بكسر الشين وسكون الراء وتنوين الكاف من غير مد ولا همز، وقرأ الباقون: {شُرَكَاءَ} بضم الشين وفتح الراء والمد وهمزة مفتوحة من غير تنوين جمع شريك. =

{شِرْكاً} بكسر الشين، وهذا يتوجه على حذف المضاف بتقدير: جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك، فإذا جعلا له ذوي شرك فقد جعلا له شركاء، فالقراءتان تؤولان إلى معنى واحد، والضمير في: {لَهُ} يعود إلى اسم الله كأنه {وجَعَلَا} لله {شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}. قال أبو الحسن (¬1): (وكان ينبغي لمن قرأ: (شركًا) أن يقول المعنى: (جعلا لغيره شركًا)؛ لأنهما لا ينكران أن الأصل لله عز وجل، فالشرك إنما يجعل (¬2) لغيره)، حكاه الزجاج (¬3) وأبو علي هذا (¬4) عن أبي الحسن، ثم قال الزجاج (¬5): (هذا على معنى: جعلا له ذا شرك، فحذف ذا، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وقال أبو علي: (يجوز أن يكون الكلام على ظاهرة ولا يقدر حذف المضاف في قوله: {جَعَلَا لَهُ}، وأنت تريد لغيره، ولكن (¬6) تقدر حذف المضاف إلى شركٍ، كما ذكرنا (¬7) فلا يحتاج إلى تقدير: جعلا لغيره شركًا؛ ¬

_ = انظر: "السبعة" ص 299، و"المبسوط" ص 187، و"التذكرة" 2/ 430، و"التيسير" ص 115، و"النشر" 2/ 273. (¬1) "معاني الأخفش" 2/ 216. (¬2) في (أ): (يجعله). (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 396. (¬4) كذا في الأصول أي: حكاه أبو علي عن الأخفش، و"الحجة" 4/ 111 - 112، وفي "معاني الأخفش" 2/ 316: (قال بعضهم: (شركًا) لأن الشرك إنما هو الشركة، وكان ينبغي في قول من قال هذا أن يقول: فجعلا لغيره شركًا فيما آتاهما) اهـ، وذكر النحاس في "إعرابه" 1/ 656. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 396، ومثله قال النحاس في "إعرابه" 2/ 656 - 657. (¬6) لفظ: (ولكن) ساقط من (أ). (¬7) جاء بعده في "الحجة" 4/ 112: (فيكون المعنى: جعلا له ذوي شرك وإذا جعلا له ذوي شرك وإن في المعنى مثل جعلا لغيره شركًا) اهـ.

لأن تقدير حذف المضاف من شرك بمنزلة جعلا لغيره شركًا) (¬1)، وتقدير (¬2) حذف المضاف من {شركًا} أحسن وأولى من تقدير حذفه من قوله: {لَهُ} (¬3). قال الزجاج: (ومن قرأ {شركًا} فهو مصدر شركت الرجل (¬4) أشركه شركًا) (¬5)، ومن قرأ {شُرَكَاءَ} فحجته (¬6) قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16]، وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس، أوقع الجمع موقع الواحد، وذلك أن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين (¬7)، فإن قيل: كيف أضيف الشرك إلى آدم وحواء مع منزلتهما من دين الله؟، والجواب عن هذا: ما روي عن قتادة أنه قال: (أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة) (¬8)، يعني: أنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما، لكنهما ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 4/ 111 - 112. (¬2) انظر: "المشكل" 1/ 307، و"البيان" 1/ 381، و"التبيان" 1/ 398، و"الفريد" 2/ 394، و"الدر المصون" 5/ 535. (¬3) لفظ: (له) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (شركت بالرجل)، وهو تحريف. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 396. (¬6) هذا من "الحجة" لأبي علي 4/ 112، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 431, و"إعراب القراءات" 1/ 216، و"الحجة" لابن خالويه ص 168، لابن زنجلة ص 304، و"الكشف" 1/ 486. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 149. (¬8) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 245، والطبري 9/ 147، وابن أبي حاتم 5/ 1634 , و"الداني في المكتفى" ص 283 من عدة طرق جيدة وذكره يحيى بن سلام في "التصاريف" ص 106، السمرقندي 1/ 588، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 279 , وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر) قال: و (أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله) وذكره الثعلبي 6/ 30 أعن المفسرين.

قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد مضافًا إلى من لا يراد أنه مملوك له كقوله (¬1): وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا يريد: أنه خاضع له مطيع، ولم يرد أن الضيف ربه، وقد يقع الاشتراك في الاسم مع وقوع اختلاف في المعنى كما يقال لمملوك زيد: هذا عبد زيد، ثم يقال: إنه عبد الله، فقد جمعهما اللفظ، والمعنى مختلف (¬2)، يدل على صحة هذا المعنى ما روي أنه قيل لسعيد بن جبير: (أشرك آدم؟ فقال: معاذ الله، ولكن حواء لما حملت أتاها إبليس فقال: أخبريني عن الذي في بطنك أتلدينه من عينك أم من فيك أم من أنفك؟ قالت: لا علم لي (¬3) بذلك. قال: فإن سألت الله عز وجل أن يسهل أمر الولادة عليك أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم، وخبرها أن اسمه الحارث، فلما ولدت سمت الولد عبد الحارث، فذلك قول الله عز وجل: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}) (¬4). ¬

_ (¬1) البيت لحاتم الطائي في "ديوانه" ص 44، و"تفسير الثعلبي" 6/ 30 أ، والقرطبي 7/ 339، وهو لقيس بن عاصم المنقري في "الكامل" للمبرد 2/ 179، وللمقنع الكندي في "أمالي القالي" 1/ 281، وبلا نسبة في: "عيون الأخبار" 1/ 266، و"الوسيط" للواحدي 2/ 284، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 353، والرازي 15/ 88، والخازن 2/ 325 وعجزه: وما فيَّ إلا تلك من شيمة العبدِ (¬2) ذكر الطبري في "تفسيره" 9/ 148: (إجماع أهل التأويل على أن المراد الشرك في الاسم لا في العبادة). (¬3) لفظ: (لي) ساقط من (ب). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 148، و"التاريخ" 1/ 149 بسند ضعيف.

قال أبو علي: (فعلى هذا التقدير: جعل أحدهما، فحذف المضاف كقوله: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]) (¬1)، وهذا يوضح أن حواء ما قصدت الإشراك بالله من حيث الكفر، ولكن قصدت بالتسمية أن الحارث كان سبب سلامة الولد وسلامة أمه، وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله: {آتَاهُمَا}. ثم قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). فعاد إلى الخبر عن الكفار ونزه نفسه عن إشراكهم فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: أهل مكة) (¬3). وقال عبد الله بن مسلم: (وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 112 - 113 وزاد فيه: (فيكون الذي جعل له شركًا أحدهما ويخرج آدم من أن ينسب إليه ذلك) اهـ. وهذا القول رجحه صديق خان في "فتح البيان" 5/ 99 - 103، وأطال في تقريره قال: (الجاعل هو حواء دون آدم ولم يشرك آدم قط، وعلى هذا فليس في الآية إشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث وصونًا لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل الآية يرده كله ظاهر الكتاب والسنة، والقول بأنها سمته بإذن آدم يحتاج إلى دليل ولعلها سمته بغير إذنه ثم تابت من ذلك، وصحة إطلاق المثنى على المفرد شائع في كلام العرب وفي القرآن من ذلك الكثير، ولكنهم لم يذهبوا إليه في هذا الآية مع كونه ظاهر الأمر وواضحه , ومع أنهم ذكروه وذهبوا إليه في مواضع من القرآن والحديث، وهذا عجيب منهم غاية العجب) اهـ. ملخصًا. (¬2) في (ب): (تعالى)، وهو تحريف. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 284، وذكره الثعلبي 6/ 30 أ، والبغوي 3/ 314 بلا نسبة.

والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك بالعقد والنية من ذريتهما فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولو كان أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان، وهذا يدلك (¬1) على العموم) (¬2)، ونحو هذا قال مقاتل، قال: (انقطع الكلام (¬3) عند قوله: {فِيمَا آتَاهُمَا}. ثم ذكر كفار مكة فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ}) (¬4). قال (¬5) السدي: (هذا من الموصول والمفصول يعني: قوله: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} في شأن آدم وحواء، ثم قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. قال: عما يشرك المشركون، لم يعنهما) (¬6). وقال أبو بكر: (قال طائفة من أهل العلم: الذين جعلوا لله شركاء اليهود (¬7) والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء عليهما السلام، وتأويل الآية: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} جعل أولادهما له شركاء، فحذف المضاف) (¬8). وهذا معنى قول الحسن وقتادة وعكرمة، قال الحسن: ¬

_ (¬1) في (ب): (يدل). (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 259. (¬3) قال الداني في "المكتفى" ص 282: (قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا} وقف كافٍ عند أصحاب الوقف وهو عندي تام لأنه انقضاء قصة آدم وحواء عليهما السلام، وقوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يريد مشركي العرب) اهـ. وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 674، و"القطع" للنحاس 1/ 268. (¬4) "تفسيرمقاتل" 2/ 80. (¬5) في (ب): (ثم قال). (¬6) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 246، والطبري 9/ 149، وابن أبي حاتم 5/ 2635 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 179، وهذا القول هو اختيار الطبري في "تفسيره" 9/ 148، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين في "القول المفيد على كتاب التوحيد" 3/ 67. (¬7) لفظ: (اليهود) ساقط من (ب) (¬8) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 304.

(عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يعن آدم) (¬1). وروى سعيد (¬2) عن قتادة أنه كان يقول هذه الآية ويقول: (هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصّروا) (¬3). وقال عكرمة: (جعلها لمن بعد آدم ممن أشرك بالله) (¬4). ويتوجه قول هؤلاء على ما ذكرنا من حذف المضاف، وهو اختيار ابن كيسان؛ لأنه قال: (هم الكفار جعلوا له شركاء، سموا أولادهم عبد العزى، وعبد اللات، وعبد مناة) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 245، والطبري 9/ 148، من طرق جيدة، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 305: (أخرجه ابن جرير عن الحسن بأسانيد صحيحة وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية) اهـ. (¬2) سعيد هو راوية قتادة وأثبت الناس فيه، سعيد بن أبي عروبة البصري، إمام ثقة، تقدمت ترجمته. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 148، وابن أبي حاتم 5/ 1634 بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 279، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد، وابن المنذر). (¬4) ذكره النحاس في "معانيه" 3/ 116، والثعلبي 6/ 30 ب، والبغوي 3/ 314، والقرطبي 7/ 339. (¬5) ذكره الثعلبي 6/ 30 ب، والبغوي 3/ 314، والخازن 2/ 325، وهذا القول هو الظاهر الذي عليه أهل التحقيق، وقد استحسنه البغوي 3/ 314، والخازن 2/ 325، وقال النحاس في "معانيه" 3/ 116: (هذا القول أولى والله أعلم، من أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام مثل هذا) اهـ. وقال في "إعرابه" 2/ 167: (هذا قول حسن)، وقال القرطبي 7/ 339: (هذا قول حسن وهو الذي يعول عليه) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 440: (من جعل الخطاب للناس وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء أو جعل الخطاب لمشركي العرب ولقريش فيتسق الكلام اتساقًا حسنًا من غير تكَلف تأويل ولا تفكيك). =

191

191 - قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئًا {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يريد وهم مخلوقون (¬1)، يعني: الأصنام) (¬2). فإن قيل: كيف وحد {يَخلُقُ} وجمع فقال: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وجعل الواو والنون في جمع غير الناس؟ فقال ابن الأنباري: (أما الجمع بعد التوحيد فسائغ (¬3) من قبل أن ما يقع على الواحد والاثنين والجميع و (¬4) المؤنث بلفظهما، وأوقعها الله عز وجل على الأصنام المعبودة من دونه فوحد {يَخلُقُ} للفظها وبيّن معناها في قوله جل وعز {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وأما جمعه الفعل بالواو والنون وأصحابه غير ناس (¬5) فالحجة فيه أن الأصنام لما ادعى عابدوها أنها تعقل وتميز ووصفوها بالسمع والخلق، أجريت مجرى الناس، فجعلت علامة جمعها كعلامة جمع أفعال الناس، وجرى هذا مجرى قوله عز وجل: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]. ¬

_ = وقد اختار هذا القول الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 305 - 306، وأطال في تقريره فأجاد وأفاد -رحمه الله تعالى-، وانظر: "الكشاف" 2/ 138، وابن عطية 6/ 174 - 176، والرازي 15/ 86. (¬1) في (ب): (وهم المخلوقون). (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 147، و"معاني الفراء" 1/ 400. (¬3) في (ب): (فشائع). (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) انظر: "الكتاب" 2/ 47، و"المقتضب" 2/ 244، و"المغني" لابن هشام 2/ 365.

192

وقول الشاعر (¬1): تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا) (¬2) قال أصحابنا: (هذه الآية تدل على أن من لا يقدر على الخلق لا يستحق العبادة، ولا يقدر على خلق القليل والكثير غير الله، فلا يستحق العبادة غيره، والقدرية تقول: إن العباد يخلقون أفعالهم وهي مخلوقة لهم لا لله) (¬3). 192 - قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}. قال ابن عباس: (يريد: إن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها) (¬4). ¬

_ (¬1) "الشاهد" للنابغة الجعدي في "ديوانه" ص 4، و"الكتاب" 2/ 47، و"مجاز القرآن" 2/ 38، و"الصاحبي" ص 419، و"وضح البرهان" للغزنوي 1/ 450، و"اللسان" 7/ 4474 (نعش)، وبلا نسبة في: "مجاز القرآن" 1/ 276 و2/ 83 - و93، و"معاني الأخفش" 2/ 424، و"المقتضب" 2/ 224، و"تهذيب اللغة" 4/ 3611، و"الصحاح" 3/ 1022 (نعش)، و"دلائل الإعجاز" ص 137، و"المغني" لابن هشام 2/ 365، وفي "الديوان": شربت بها والديك، وقوله: تمززتها، يعني: الخمر، أي: تمصص الشراب قليلاً قليلاً، مزه يمزه، أي مصه، وبنو نعش: أي بنات نعش وهي منازل القمر شبهت بحملة النعش في تربعها وتصوبوا، دنوا من الأفق للغروب، والشاهد: تذكير بنات نعش لأنه أخبر عنها بالدنو والتصوب كما يخبر عن العقلاء، انظر: "شرح شواهد سيبويه" للنحاس ص 114، و"اللسان" 7/ 4474 (نعش)، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 783، و"الخزانة" 8/ 82. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 304، وانظر: "تفسير الطبري" 19/ 59, و"الدر المصون" 5/ 536. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 90. (¬4) "تنوير المقباس" 2/ 147، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 284.

193

وقال أهل المعاني في قوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا}: (النَّصر المعونة (¬1) على العدو، يقول (¬2): هذه الأوثان لا تستطيع معونتهم على عدوهم وهم يعبدونها عبادة من يقدر على ضرهم ونفعهم) (¬3)، وقال الحسن في قوله: {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}: (أي: ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم (¬4) بكسر أو نحوه) (¬5). 193 - قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى}. يخاطب المؤمنين؛ يقول: إن تدعوا المشركين إلى الهدى، وهو قول ابن عباس والكلبي (¬6)، قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد: إني خذلتهم، وأمليت لهم في الضلالة) (¬7)، فدل هذا الكلام على أن المراد بقوله: {لَا يَتَّبِعُوكُمْ}. المشركون. قال الكلبي: (وإن تدعوا المشركين إلى الإِسلام) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 7/ 108، و"الجمهرة" 2/ 744، و"تهذيب اللغة" 4/ 3584، و"الصحاح" 2/ 829، و"مقاييس اللغة" 5/ 435، و"المفردات" ص 808، و"اللسان" 7/ 4439 (نصر). (¬2) في (أ): (يقال). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 150، والسمرقندي 1/ 588، والبغوي 3/ 314، وابن عطية 6/ 177، والرازي 15/ 91. (¬4) كذا في: (ب)، و"الوسيط" 2/ 284، عن الحسن، وفي: (أ) وكذا عند البغوي 3/ 314، عن الحسن: (من أراد بهم بكسر) والأولى: (ممن أرادهم). (¬5) انظر: "الدر المنثور" 5/ 536. (¬6) "تنوير المقباس" 2/ 147، وهو اختيار البغوي 3/ 315. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) ذكره السمرقندي 1/ 588، عن الكلبي قال: (يعني: الآلهة وإن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر لا يتبعهم آلهتهم) اهـ.

وقال: قوم (¬1): (وإن تدعوا الأصنام التي عبدوها لا يتبعونكم لأنها لا تعقل). وهو اختيار الفراء (¬2)، والآيات السابقة إخبار عن المشركين، وهذه الآية خطاب للمؤمنين، الدليل على ذلك أن المشركين لا يدعون أحدًا إلى الهدى (¬3). وقوله تعالى: {لَا يَتَّبِعُوكُمْ}. وقرأ نافع (¬4) بالتخفيف، وهما لغتان اتبعه اتباعًا وتبعه تبعًا، والمراد به: تركهم الانقياد للحق والإذعان للهدى، والوجه قراءة العامة؛ لأن (اتَّبَع) أكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم أجمعوا على افتعل في قوله: {وَاْتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬5) [الأعراف: 176]. ¬

_ (¬1) هذا قول الجمهور وحكاه النحاس في "إعرابه" 1/ 657، عن الأخفش، وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 150، والثعلبي 6/ 31 أ، والزمخشري 2/ 137، وابن عطية 6/ 177 - 178، والرازي 15/ 91، والخازن 2/ 326، وابن كثير 2/ 307. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 401. (¬3) قال أبو حيان في "البحر" 4/ 441، والسمين في "الدر" 5/ 537: (الظاهر أن الخطاب للكفار وضمير النصب للأصنام، والمعنى: وإن تدعو آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعونكم على مرادكم) قال السمين: (ويجوز أن يكون الضمير للرسول والمؤمنين، والمنصوب للكفار أي: وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان) اهـ. (¬4) قرأ نافع: {يَتَّبِعُوكُمْ} بسكون التاء وتخفيفها وفتح الباء، من تبع، وقرأ الباقون بفتح التاء وتشديدها وكسر الباء من اتبع، انظر: "السبعة" ص 299، و"المبسوط" ص 187، و"التذكرة" 2/ 340، و"التيسير" ص 115، و"النشر" 2/ 274. (¬5) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 4/ 113 - 114، والجمهور على أنهما بمعنى واحد، وقال بعض أهل اللغة: تبعه مخففًا إذا مضى خلفه ولم يدركه والمعنى: لا يلحقوكم، واتبعه مشددًا إذا مضى خلفه فأدركه، والمعنى لا يسيرون على أثركم ولا يركبون طريقتكم في دينكم، انظر: "معاني القراءات" 1/ 432، و"إعراب القراءات" 1/ 219، و"الحجة" لابن خالويه ص 169، ولابن زنجلة ص 305، =

وقوله تعالي: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}. مثل قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. وذكرنا ما فيه، وهناك عطف الفعل على الفعل، وهاهنا عطف الاسم على الفعل؛ لأن المعنى: أدعوتموهم أم صَمَتُّم، فهما جملتان الأولى مركبة من فعل وفاعل، والثانية من مبتدأ وخبر، ويعود معناها إلى معنى الأولى؛ لأن معناها: صمتم، وقال الفراء: (قوله (¬1): {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}. ولم يقل: أم صمتُّم. وأكثر كلام (¬2) العرب أن يقولوا: سواء عليَّ أقمت أم قعدت، ويجوز سواء عليَّ أقمت أم أنت قاعد. قال: وأنشدني الكسائي: سواء عليك الفقر أم بتَّ ليلة ... بأهل القباب من نمير بن عامر (¬3) ¬

_ = و"الكشف" 1/ 486، و"الدر المصون" 5/ 537، وفيه: (هما لغتان وهو أظهر) اهـ. (¬1) وكذلك حكى سيبويه في "الكتاب" 3/ 64: (عن الخليل أن الآية بمنزلة أم صمتم) وهو قول ابن السراج في "الأصول" 2/ 161، وأبي علي في كتاب "الشعر" 1/ 281 - 2/ 544، وقال في "العسكريات" ص 97، و"البصريات" 1/ 711: (اعلم أن بعض الجمل قد تقوم مقام بعض فمن ذلك قوله عز وجل: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} فهذه التي من الابتداء والخبر موقعة موقع التي هي من الفعل والفاعل ألا ترى أنها معادلة كما هو كذلك فقد عادل بالابتداء والخبر الجملة التي هي من الفعل والفاعل والمعنى: أم صمتم) اهـ. (¬2) في "معاني الفراء" 1/ 401: (وعلى هذا أكثر كلام العرب أن يقولوا ..) اهـ. (¬3) لم أقف على قائله وهو في: "تفسير الطبري" 9/ 151، وابن عطية 6/ 178، و"البحر" 4/ 442، و"الدر المصون" 5/ 538، وعند الفراء والطبري وأبي حيان: سواء عليك النفر، يريد النفر من مني في أيام الحج وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، والشاهد: سواء عليك الفقر أم بت ليلة حيث عادلت أم بين المفرد في قوله: الفقر، وجملة قوله: بت ليلة، وقال أبو حيان: (عطف الجملة الفعلية على =

وأنشد بعضهم: ..... أو أنت بائت) (¬1) وقال غيره من أهل المعاني (¬2): (إنما قال: {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ولم يقل: أم صمتم لإفادة الماضي والحال، و (¬3) ذلك أن المقابلة بـ (دعوتم) قد دلت على معنى الماضي، واللفظ قد دل على معنى الحال). وقال صاحب النظم: (قوله {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} ظاهر هذا النظم أن الاستواء واقع بالداعين، وهو (¬4) في المعنى واقع بالمدعوين (¬5)؛ لأن حال الداعي في الدعاء والصمات مختلفة، وإنما يتفق ويستوي على المدعوين لأنها أصنام لا تسمع ولا تجيب، فاستوى (¬6) عليها الدعاء والصمات، ¬

_ = اسم مقدر بالفعلية إذ الأصل سواء عليك أنفرت أم بت فأوقع النفر موقع أنفرت) اهـ. والقباب، بالكسر، جمع قبَّة -بالضم- بناء من بيوت العرب معروف، انظر: "اللسان" 6/ 3507 (قبب)، ونمير بن عامر بن صعصعة، انظر: "نهاية الأرب" ص 385. (¬1) "معاني الفراء" 1/ 40، ومثله قال الطبري 9/ 151. (¬2) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 657، و"غرائب الكرماني" 1/ 431، و"الكشاف" 2/ 138، و"التبيان" ص 398، و"الفريد" 2/ 395، و"الدر المصون" 5/ 538، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 442: (الآية من عطف الجملة الاسمية على الفعلية، وكانت الجملة الثانية اسمية لمراعاة رؤوس الآي، ولأن الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار، فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يحدث بقوا ساكتين فقيل: لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة) اهـ. (¬3) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (وهي)، وهو تحريف. (¬5) في (أ): (واقع بالمدعو). (¬6) في (ب): (واستوى).

وإنما جاز ذلك وحسن لأنه إذا استوى عليها الدعاء والصمات كان مرجع هذا الاستواء إلى الداعين لأنهم إنما يدعون ليجابوا، وإذا لم يجابوا بشيء استوى عليهم الدعاء والصمات. وقوله تعالى: {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} تأويله: أم صمتم، وإنما جاز هذا النظم لأن رؤوس الآيات كانت على النون (¬1)، وهذا النظم وإن كان قليلاً فقد تكلمت العرب بمثله. قال الأعشى (¬2): إن تركبوا فظهور (¬3) الخيل عادتنا ... وإن نزلتم فإنا معشر نزل ¬

_ (¬1) مجموع فواصل آيات الأعراف: (ن، م، د، ل) الدال في الآية الأولى، واللام في الآيتين 105, 134، والميم في الآيات 16، 73، 59، 109، 112، 116، 141، 153، 167، 200، والباقي بالنون. (¬2) "ديوانه" ص 149، و"الكتاب" 3/ 51، و"المحتسب" 1/ 195، و"الصاحبي" ص 470، و"الأمالي" ابن الشجري 2/ 219، و"الدر المصون" 4/ 82، و"المغنى" 2/ 693، والرواية عندهم: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل وأوله في الديوان: قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا ويروى: قالوا الطرادُ. وهو من معلقته المشهورة، والشاهد: عطف الجملة الاسمية، أو أنتم تنزلون على جملة الشرط (إن تركبوا)، وقيل: هو عطف توهم كأنه قال. أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون في الحرب فنحن معروفون بذلك، انظر: "شرح القصائد" للنحاس 2/ 153، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 2/ 565 - 568، و"الخزانة" 8/ 552. (¬3) لفظ: (فظهور)، (ونزلتم) لم أقف عليها إلا في هذه الرواية.

194

معناه: إن تركبوا ركبنا، وإن تنزلوا نزلنا، فأجاب الشرطين وهما فعلان بخبرين اسمين؛ لأن فيهما دليلًا على الفعل المضمر) (¬1). 194 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2). قال المفسرون (¬3): (يعني: الأصنام)، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: الملائكة) (¬4)، وهذا القول ضعيف من جهتين أحدهما: إن المشركين في ذلك الوقت كانوا يعبدون الأصنام لا الملائكة، ولأنه قال بعد هذه الآية {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الآية [الأعراف:195]. فدلت هذه أنه يريد الأصنام التي هي جماد لا توصف بالأيدي الباطشة والأرجل الماشية (¬5)، وقد مضى القول في أن الأصنام لما جمعت جمع ما يعقل في قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191]. ومعنى الدعاء المذكور هاهنا يحتمل أن يكون العبادة، ويحتمل أن يكون التسمية، كأنه قيل: إن الذين تدعون آلهة من دون الله، ومعنى {مِنْ دُونِ اللَّهِ} غير الله. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (أ): (يدعون) بالياء والمشهور بالتاء، وذكر ابن خالويه في "الشواذ" ص 48، أنه قرئ بالياء. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 151، و"معاني النحاس" 3/ 117، والسمرقندي 1/ 589، والثعلبي 6/ 31 أ. (¬4) لم أقف عليه، وحكاه البغوي 3/ 315، والخازن 2/ 326 عن مقاتل، وقالا: (والأول أصح) اهـ. وفي "تفسير مقاتل" 2/ 81 قال: (يعني: تعبدون {دُونِ الله} من الآلهة {إنهم عباد أمثالكم} وليسوا بآلهة). (¬5) انظر: "البحر" 4/ 443 - 444.

وقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}. قال الكلبي: (مملوكون أمثالكم) (¬1)، وقال الأخفش: ({عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} في التسخير) (¬2) فعلى هذا معنى {عِبَادٌ} أي: مسخرون مذللون لأمر الله، ومنه سمي الرقيق عبدًا؛ لأنه مسخر بذلك، وقال قطرب: (مخلوقة أمثالكم) (¬3). فأما وصفها بأنهم {عِبَادٌ} وهي موات كالحائط والباب والثوب، فقال أبو بكر بن الأنباري: (الأصنام وإن كانت (¬4) مواتًا تجري مجرى الباب والثوب والحائط في أنها غير حيوان، فإن المشركين لما ادعوا أنها تعقل وتميز، وتضر وتنفع أجريت مجرى الناس، ولذلك قال: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا}، ولم يقل: فادعوهن فليستجبن، ولهذا أيضاً قال: {إِنَّ الَّذِينَ} ولم يقل: التي)، وقد سبق (¬5) بيان هذا، (فإذا صيرت الأصنام كالناس فأوقع عليها {الَّذِينَ} وقيل في جمعها: فليفعلوا صلح أن يقال لها (¬6) {عِبَادٌ}، وامتنع ذلك في الأبواب والحيطان والثياب، إذ كانت هذه الأنواع (¬7) ما وصفت قط بما يوصف به الناس من العقل والتمييز) (¬8). وقوله تعالى: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ}. قال ابن عباس: (يريد: ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 148، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 285، وهو قول الطبري 9/ 151، والسمرقندي 1/ 589، والبغوي 3/ 315. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 285، ولم أقف عليه عند غيره. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (ب): (كان). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لفظ: (لها) ساقط من (ب). (¬7) في (أ): (الأبواب)، وهو تحريف. (¬8) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير الرازي" 15/ 92.

فاعبدوهم هل يثيبونكم (¬1) أو يجازونكم) (¬2). وقال أهل المعاني: (معنى هذا الدعاء: طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم، وذلك ما يُئِس منه من قبلهم، وعبادة من هذه صفته جهل وسخف، واللام في: {فَلْيَسْتَجِيبُوا} لام الأمر على معنى التعجيز، وهو طلب الفعل إن أمكن) (¬3). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. أي: إن صدقتم أن لكم عند الأصنام منفعة أو ثوابًا أو شفاعة أو نصرة، قاله ابن عباس (¬4)، وسلك صاحب النظم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} طريقة أخرى؛ فقال: (تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ} {إِنَّ} على استفهام، وفي الاستفهام طرف من الإنكار كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] إلا أنه استثقل همزتان فاقتصر على إحداهما، وقد تستفهم العرب بغير الألف، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] بمعنى: أو تلك على الإنكار، ولا يجوز أن يكون هذا خبرًا؛ لأن تعبيده بني إسرائيل لم يكن منّة عليه، ومثله قول الشاعر (¬5): أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودًا شصائصًا نبلا أراد: أأفرح لأنه ينتفي من ذلك، ولا يرضى أن يقال له ذلك، وإنما ¬

_ (¬1) في (ب): "يثبتونكم". (¬2) "تنوير المقباس" 2/ 148، وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 285، والبغوي 3/ 315، والقرطبي 7/ 342. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 92. (¬4) ذكره البغوي 3/ 515 بلفظ: ({إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إن لكم عندها منفعة). وذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 285 بلا نسبة. (¬5) الشاهد لحضرمي بن عامر الأسدي، وقد سبق.

195

قال عز وجل منكراً عليهم أن تكون الأصنام عبادًا أمثالهم لقصورها عن أن تكون مثل العباد في الفهم والسمع والبصر، فحقرها وضعفها بهذا الخبر عن أن تبلغ مبلغ العباد فكيف مبلغ الآلهة، ثم قال عز وجل: فإن كان كما تقولون أنها تنفع وتضر {فَادْعُوهُمْ} إلى آخر الآية) (¬1). 195 - قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا}، قال ابن عباس: (يريد: مثل بني آدم ممن جعلت فيه الروح. {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} مثل ما يبطش بنو آدم) (¬2)، ومعنى البَطش (¬3): التناول عند الصولة، والأخذ الشديد في كل شيء: بَطش، ومنه قوله عز وتعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12]. قال أهل المعاني في هذه الآية: (إنما أنكر عليهم عبادة من لا رجل له يمشي بها , ولا يد (¬4) يبطش بها , لأن من عبد جسمًا هذه صفته فقد عبد ما لا شبهة في اليأس من ضره ونفعه، فهو ألوم (¬5) ممن عبد من له جارحة يمكن أن ينفع بها أو يضر، فقد عرفهم بهذا أنهم مفضلون عليهم (¬6) فكيف يعبدون من هم أفضل منه، فالقصد بالآية بيان جهالتهم في عبادة الأصنام (¬7) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 286 بلا نسبة. (¬3) انظر: "العين" 6/ 240، و"الجمهرة" 1/ 342، و"تهذيب اللغة" 1/ 349, و"الصحاح" 3/ 996، و"مقاييس اللغة" 1/ 262، و"المفردات" ص 129, و"اللسان" 6/ 301 (بطش). (¬4) لفظ: (ولا يد) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (فهو اليوم)، وفي (أ): (اللوم). (¬6) في (ب): (عليه). (¬7) لفظ: (الأصنام) ساقط من (ب).

حيث كانوا أفضل من معبوديهم بما خلق الله لهم من هذه الجوارح التي لم يخلقها لمعبوديهم) (¬1). وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ}. قال ابن عباس (¬2): (يريد: الذين تعبدون (¬3) من دون الله، {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وشركاؤكم)، وهذا يتصل بما قبله اتصال استكمال الحجة عليهم؛ لأنهم لما فزعوا بعبادة من لا يملك ضرًا ولا نفعًا، قيل لمحمد: قل لهم معبودي يملك الضر والنفع فلو اجتهدتم في كيدي لم تصلوا إلى ضري لدفعه عني. قال الحسن (¬4): (إنهم كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ})، واختلفوا في إثبات الياء (¬5) في {كِيدُونِ} وحذفها، فقرءوا بالوجهين، ومثله: {فَلَا تُنْظِرُونِ}، والقول في ذلك أن الفواصل وما أشبه الفواصل من الكلام التام تجري مجرى القوافي ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 151، والسمرقندي 1/ 589، والماوردي 2/ 287، والبغوي 3/ 315، وابن عطية 6/ 180، والرازي 15/ 92 - 93، وقال ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 306: (في الآية تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين وتوبيخ لهم حيث عبدوا من هم أفضل منه) اهـ. (¬2) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 6 بلا نسبة. (¬3) في (أ): (تدعون). (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 286، وابن الجوزي 3/ 306، والرازي 15/ 93، والخازن 2/ 327. (¬5) قرأ أبو عمرو (ثُمَّ كِيدُونِي) بإثبات الياء وصلًا وحذفها وقفًا وهي رواية عن ابن عامر ونافع، وقرأ ابن عامر في رواية بإثبات الياء في الوصل والوقف، وحذفيها الباقون في الحالين، وقرأ يعقوب وحده: (فَلَا تُنظِرُونِي) بإثبات الياء في الوصل والوقف، وحذفها الباقون في الحالين، انظر: "السبعة" ص 299، و"المبسوط" ص 188, و"التذكرة" 2/ 432، و"التيسير" ص 115، و"النشر" 2/ 275.

لاجتماعهما في أن الفاصلة آخر الآية، كما أن القافية آخر البيت، وقد ألزموا (¬1) الحذف هذه الياءات إذا كانت القوافي كقوله: فهل يمنعني ارتيادي البلاد ... من قدر الموت أن يأتِيَنْ (¬2) وكذلك الياء التي هي لام كقوله: يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل (¬3) ومن أثبت فلأن الأصل الإثبات (¬4). ومعنى قوله: {فَلَا تُنْظِرُونِ}. أي: لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، وهذه الآية تدل على صحة ما قال صاحب النظم في الآية الأولى، ألا ترى أنه بيّن فضل الآدمي على الأصنام في هذه الآية لما بقي (¬5) بالأولى، أن تكون الأصنام أمثالهم. ¬

_ (¬1) في (ب): (وقد لزموا)، وهو تحريف. (¬2) الشاهد للأعشى الكبير في "ديوانه" ص 359، و"الكتاب" 3/ 513 و4/ 187، و"الحجة" لأبي علي 3/ 219، و"المحتسب" 1/ 349، و"تفسير ابن عطية" 6/ 182، و"الدر المصون" 3/ 92، والشاهد حذف الياء من الفعل (يأتيني). (¬3) الشاهد للبيد في "ديوانه" ص 142، والرازي 15/ 93، و"اللسان" 7/ 4072 - 4073 (لمس)، وهو في "تفسير ابن عطية" 6/ 182 للأعشى ولعله تحريف أو وهم، ويلمس: يطلب، والأحلاس: جمع حلس، وهو كساء رقيق يوضع على ظهر البعير، والمصل المصلي يعني أنه لا يعقل من غلبه النعاس فهو يطلب الأحلاس مائلًا جانبه كأنه يهودي يصلي على شق وجهه، والشاهد حذف الياء من الاسم، وهو المصلي. (¬4) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 115، وانظر. "إعراب القراءات" 1/ 219، و"الحجة" لابن خالويه ص 169. (¬5) كذا في "الأصول": يريد أنه ما بقي في الآية السابقة دليل على أن الأنام أمثالهم بل هم أفضل.

196

196 - قولهم تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} الآية. قرأ القراء (¬1): {وَلِيِّيَ} بثلاث ياءات، ياء (فعيل) وهي ساكنة، والثانية لام الفعل وهي مكسورة قد أدغمت (¬2) الأولى فيها فصارتا ياء مشددة، والثالثة ياء الإضافة. وروي عن أبي عمرو بالإدغام (¬3) الكبير: {وَلِيِّيَ اللَّهُ} بياء مشددة، ووجه ذلك (¬4) أنه حذف الياء التي هي لام فعيل، كما حذفت اللام من قولهم: (ما بليتُ به بالةً) (¬5)، وكما حذفت الهمزة التي هي لام في قول أبي ¬

_ (¬1) اختلف عن أبي عمرو، فقرأ بحذف الياء وإثبات ياء واحدة مفتوحة مشددة، وقرأ بكسر الياء المشددة بعد الحذف، وقرأ الباقون بياءين الأولى مشددة مكسورة، والثانية مخففة مفتوحة. انظر: "السبعة" ص 300، و"المبسوط" ص 97، و"النشر" 2/ 274 - 275. (¬2) في (أ): (قد أدغمتا الأولى فصارتا). (¬3) في (أ): "في الإدغام" وقال ابن الجزري في "النشر": 2/ 274: (بعضهم يعبر عنه بالإدغام وهو خطأ إذ المشدد لا يدغم في المخفف وبعضهم أدخله في الإدغام الكبير ولا يصح ذلك لخروجه عن أصوله ولأن راويه يرويه مع عدم الإدغام الكبير) اهـ. (¬4) قال ابن الجزري في "النشر": 2/ 274: (اختلف في توجيه الرواية عن أبي عمرو، فخرج فتح الياء على حذف لام الفعل في ولي وهي الياء الثانية وإدغام ياء فعيل في ياء الإضافة وقد حذفت اللام كثيراً في كلامهم وهو مطرد في اللامات في التحقير، وقد قيل في تخريجها غير ذلك وهذا أحسن، وأما كسر الياء فوجهها أن يكون المحذوف ياء المتكلم لملاقاتها ساكنًا كما تحذف ياءات الإضافة عند لقيها الساكن، والرواية الحذف وصلًا ووقفًا أجري الوقف مجرى الوصل) اهـ. (¬5) (ما باليتُ به بالة) أي: لم أكترث به، والشاهد: بالة حيث حذف الياء تخفيفاً , والأصل بالية، وفي "الكتاب" 4/ 406: (حكي عن الخليل أن من الحذف قولهم: ما أباليه بالة كأنها بالية بمنزلة العافية) اهـ، وفي "النهاية" لابن الأثير 1/ 156 قال: (وفي حديث ابن عباس: (ما أباليه بالة) أي: لم أكترث به)، وفي "اللسان" 1/ 356 (بلا) ,ذكر حديث ابن عباس، وقال: (ومن كلام الحسن: لم يبالهم الله =

الحسن (¬1) (من أشياء) كما حذفت الهمزة من قولهم: سواية إذا أردت به سوائية مثل الكراهية، وكما استمر الحذف في التحقير في هذه (¬2) اللامات نحو: عُطيّ في تحقير عطاء بدليل قولهم: سميَّة في تصغير سماء، فلما حذفت اللام أدغمت ياء فعيل في ياء الإضافة فقلت: {وَلِيِّيَ اللَّهُ}. فهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة (¬3) ولا يجوز أن يدغم الياء التي هي لام في ياء الإضافة؛ لأنه إذا فعل ذلك انفك الإدغام، ويذهب سيبويه إلى (إنك إذا قلت هذا: وليُّ يزيد، وعدو وليد، لم يجز إدغام الياء التي هي لام في ياء يزيد لانفكاك الإدغام من وليّ) (¬4)، وكأن أبا عمرو في قوله: {وَلِيَّ اللَّهُ} شبه (¬5) المنفصل وهو ياء الإضافة بالمتصل، فحذف إحدى الياءات عن {وَلِيَّ} كما يحذف من عُطيّ، والباقون أجازوا اجتماع ثلاث ياءات؛ لأن ¬

_ = بالة، أي: لا أكترث بهم) اهـ. وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (6434) كتاب الرقاق، باب: ذهاب الصالحين، عن مرداس الأسلمي الأسلمي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة") اهـ. وفي "النهاية" 1/ 156: (أي: لا يرفع لهم قدرًا أو لا يقيم لهم وزنًا، يقال: ما باليته وما باليت به أي: لم أكترث به) اهـ. (¬1) قول الأخفش في "الحجة" لأبي علي 4/ 118، وقال الأزهري في "تهذيبه" 2/ 1951 (شيء): (لم يختلف النحويون في أن (أشياء) جمع شيء وأنها غير مجراة، وقال الفراء والأخفش أصل أشياء أفعلاء إلا إنه كان في الأصل أشيئاء على وزن أشيعاع فاجتمعت همزتان بينهما ألف، فحذفت الهمزة الأولى). وانظر: "اللسان" 4/ 2369 - 2370 (شيء)، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص 157. (¬2) لفظ: (في هذه) ساقط من (ب). (¬3) في (ب): (فتحة بالإضافة)، وهو تحريف. (¬4) "الكتاب" 4/ 442. (¬5) في (ب): (شبهه)، وهو تحريف.

ياء الإضافة منفصل، ولم يجروا المنفصل مجرى المتصل، ولا يجوز في عُطيّ إلا الحذف لأنه متصل (¬1). ومعنى {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} أي: الذي يتولى حفظي وتصرفي هو الله لا غيره، {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} يريد: القرآن، أي: أنه يتولاني وينصرني، كما أيدني بإنزال الكتاب (¬2). {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [قال ابن عباس: (يريد: الذين لا يعدلون بالله شيئًا ولا يعصونه) (¬3)، وفي هذا مدح الصالحين] (¬4) بأن الله عز وجل يتولاهم بنصره فلا يضرهم (¬5) عداوة من عاداهم، وفي ذلك يأس المشركين من أن يضره كيدهم ومكرهم. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} الآية [الأعراف: 197] معنى هذه الآية قد مضى في مثلها من قوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} [الأعراف: 192]. وإنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع، وهاهنا ذكر على جهة الفرق بين صفة من تجوز له العبادة ومن لا تجوز، كأنه قيل: إن ناصره الله ولا ناصر لكم ممن تعبدون (¬6). ¬

_ (¬1) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" 4/ 116 - 120، وانظر: "معاني القراءات" 1/ 432، و"إعراب القراءات" 1/ 217، و"الحجة" لابن خالويه ص 168، و"البحر" 4/ 446، و"الدر المصون" 5/ 542. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 152، و"إعراب النحاس" 1/ 659، والسمرقندي 1/ 589. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 286، والبغوي 3/ 315 - 316، والخازن 2/ 327. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (ولا يضرهم). (¬6) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 95، والخازن 2/ 327، وقال ابن عطية 6/ 184: (إنما كرر لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنًا من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستوليًا على عقولها فأوعب القول في ذلك لطفًا من الله تعالى بهم) اهـ.

198

198 - قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}. ذهب الحسن (¬1) إلى أن المراد بهذا (¬2): المشركون، فيكون المعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى {الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا} أي: لا يعقلوا (¬3) بقلوبهم، {وَتَرَاهُمْ}، يا محمد {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} بأعينهم (¬4) {وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} بقلوبهم، والأكثرون (¬5) على أن المراد بالآية الأنام وبيان صفات ما هي عليه من النقص، وظاهر النظم يدل على هذا المقدم (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 287، والبغوي 3/ 316، والخازن 2/ 327، وأخرجه الطبري 9/ 152 بسند جيد عن السدي ومجاهد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 81. (¬2) لفظ: (بهذا) ساقط من (ب). (¬3) في (أ): (أي يعقلوا). (¬4) لفظ: (بأعينهم) ساقط من (ب). (¬5) وهو إختيار أكثرهم قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 307: (هذا هو الأولى وقاله قتادة واختاره الطبري 9/ 153) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 657، والسمرقندي 1/ 589، والثعلبي 6/ 31 أ، والبغوي 3/ 316، و"الكشاف" 2/ 138، والقرطبي 7/ 334، والخازن 2/ 327، وقال أبو حيان في "البحر" 4/ 447: (تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير للأصنام ونفى عنها السماع لأنها جماد لا تحس وأثبت لها النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر، وقال الحسن ومجاهد والسدي الضمير يعود على الكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ولا حصلوا منه بطائل وهذا تأويل حسن ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازًا ويحسن هذا التأويل الآية بعد هذه {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] أي: الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعوا وينظرون إليك وهم لا يبصرون فتكون مرتبة على العلة الموجبة لذلك وهي الجهل) اهـ. (¬6) في (ب): (التقدم) والظاهر أنه يرجح اللأول والله أعلم وهو ظاهر من تقديم قول الحسن هنا، وكذلك في "الوسيط" 2/ 287.

وقوله تعالى (¬1): {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}. قال الفراء: (يريد: الآلهة أنها صور لا تبصر ولم يقل: وتراها لأن لها أجسامًا وعيونًا، والعرب تقول للرجل والقريب من الشيء: هو ينظر وهو لا يراه، والمنازل تتناظر إذا كان بعضها بإزاء بعض) (¬2)، فمعنى {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} هاهنا: يقابلونك، ونحو هذا قال ابن الأنباري (¬3) فقال: (المعنى: {وَتَرَاهُمْ} يقربون منك ويدنون وهم غير مبصرين)، وذكر وجهًا آخر فقال: (معنى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} يخيل إليك أنهم يبصرون وهم غير مبصرين) (¬4). وشرح أبو علي الجرجاني هذه الوجه واختاره فقال: (قوله: {وَتَرَاهُمْ}، أي: تحسبهم، والرؤية على وجهين أحدهما: العلم وهو كثير كقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29] أي: ما أعلمكم إلا ما أعلم، والآخر: الشك كقوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 2] أي: تحسبهم كذلك. ومنه قول الشاعر (¬5): ترى الأكم منه سجدًا للحوافر ¬

_ (¬1) جاء في النسخ بعد قوله: (المقدم). قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}. وقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} وهو تكرار. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 401. (¬3) "الزاهر" 1/ 352، وفيه قال: (معناه: يواجهونك، يقال: الجبل ينظر إليك، والحائط يراك، أي: يواجهك ويقابلك) اهـ. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 287. (¬5) البيت لزيد الخيل وصدره: بجمع تضل البلق في حجراته وقد سبق تخريجه والكلام عليه.

199

أي: تحسبها كأنها ساجدة، وليس للرؤية التي هي العلم هاهنا معنى فتأويل قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} (¬1): تحسبهم {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}؛ لأن لها أعينًا مصنوعة مركبة بالجواهر حتى يحسب الإنسان أنها تنظر إليه) (¬2)، فمعنى الوجه الأول: {وَتَرَاهُمْ} يقابلونك، والوجه الثاني: تحسبهم يرونك {وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (¬3). 199 - قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ}، قال أهل اللغة: (العفو (¬4) الفضل وما أتى بغير كلفة). وقد ذكرنا هذا عند قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] في سورة البقرة. قال مجاهد: (أمر أن يأخذ عفو أخلاق الناس) (¬5)، وهو قول الحسن (¬6) وعروة (¬7) بن الزبير (¬8) وقتادة (¬9)، والمعنى: اقبل الميسور من ¬

_ (¬1) لفظ: (إليك) ساقط من (ب). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) والمعنى متقارب، قال الطبري 9/ 153: (أي: يقابلونك ويحاذونك وهم لا يبصرونك لأنه لا أبصار لهم، وقيل: {تَرَاهُمْ} ولم يقل: تراها لأنها صور مصورة على صور بني آدم عليه السلام) اهـ. ونحوه قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 307، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 659، والسمرقندي 1/ 589، والبغوي 3/ 316، وابن عطية 7/ 232، وابن الجوزي 3/ 307، والرازي 15/ 95. (¬4) هذا من "تهذيب اللغة" 3/ 2489 (عما). (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 253، وأخرجه الطبري 9/ 153، وابن أبي حاتم 5/ 1637، والنحاس في "معانيه" 3/ 119 من طرق جيدة (¬6) ذكره الماوردي 2/ 288، والواحدي في "الوسيط" 2/ 288، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 307. (¬7) عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، تقدمت ترجمته. (¬8) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 145، والطبري 9/ 153 - 154 من طرق جيدة، وذكرِه ابن أبي حاتم 5/ 1637. (¬9) لم أقف عليه.

أخلاق الناس، ولا تستنقص عليهم فيستنقصوا عليك، ويتولد منه البغضاء والعداوة (¬1). وقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}. العرف والعارفة والمعروف واحد، وهو: كل ما تعرفه النفس من الخير (¬2) وتبسأ به (¬3) وتطمئن إليه (¬4). قال مقاتل (¬5) وعروة (¬6) والضحاك (¬7): (وأمر بالمعروف) وهو قول الكلبي (¬8). وقال أهل المعاني: (المعروف ما يعرف صوابه عند (¬9) ذوي العقول السليمة) (¬10). ¬

_ (¬1) هذا من "تهذيب اللغة" 3/ 2489 (عفا)، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 236، و"غريب القرآن" ص 155، و"تفسير غريب القرآن" 1/ 186، و"تفسير الطبري" 9/ 154 - 155. (¬2) لفظ: (من الخير) ساقط من (أ). (¬3) تبسأ به أي: تأنس به. انظر: "اللسان" 1/ 279 (بسأ). (¬4) هذا من "تهذيب اللغة" 3/ 2404 (عرف). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 81 (¬6) أخرجه عبد الرزاق 1/ 2/ 245، والطبري 9/ 155 من طرق جيدة. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 288 عن الضحاك، وأخرجه وابن أبي حاتم 5/ 1638 بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس وقال: (وروي عن عروة والسدي وسفيان الثوري نحوه) وأخرجه الطبري 9/ 156 من طرق جيدة عن السدي وقتادة. (¬8) "تنوير المقباس" 2/ 149، وذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 67، وهذا قول الأكثر، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 236، تفسير سورة الأعراف "تفسير غريب القرآن" ص 186، و"تفسير الطبري" 9/ 156، و"معاني الزجاج" 2/ 396، و"نزهة القلوب" ص 336، و"معاني النحاس" 3/ 120، و"تفسير السمرقندي" 1/ 589, وقال النحاس في "ناسخه" 2/ 363: (هذا هو المعروف في اللغة). (¬9) لفظ: (عند) ساقط من (ب). (¬10) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 659، و"إحكام القرآن" لابن العربي 2/ 823 - 826.

وقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. قال: لم أمره بالإعراض عنهم مع وجوب النكير عليهم بما يردعهم عن جهلهم؟ قيل: إن هذا في حال اليأس من صلاحهم، فيعمل على طريق الاستخفاف بهم، وصيانة النفس عن مقابلتهم (¬1) على سفههم (¬2). قال عكرمة: (لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبريل ما هذا؟ " قال: "لا أدري حتى أسأل", فذهب، ثم رجع فقال: (يا محمد إن ربك يقول: هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك") (¬3) وتفسير جبريل (¬4) عليه السلام لهذه الآية موافق لظاهرها لأن في وصل القاطع عفوًا عن جريمة القطيعة، وإعطاء المحارم من جملة المعروف، والعفو عن الظالم إعراض عن جهله وظلمه. ¬

_ (¬1) في (ب): (عن). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 156، و"النا سخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 364. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 246، والطبري 9/ 155، وابن أبي حاتم 5/ 1638 بسند جيد عن أمي بن ربيعة المرادي وهو مرسل، وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 308: (هو مرسل على كل حال، وقد روي له شواهد من وجوه أخر فقد رواه ابن مردويه مرفوعاً عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة) اهـ. وقال ابن حجر في "الفتح" 8/ 306، وفي "الكافي الشاف" ص 66: (رواه الطبري مرسلًا وابن مردويه موصولاً من حديث جابر وقيس) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 628، وزاد نسبته: (إلى ابن أبي الدنيا وابن المنذر وأبي الشيخ) اهـ. وأخرجه السمرقندي 1/ 590 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الماوردي 2/ 288، عن ابن زيد، وذكره الرازي 15/ 96 عن عكرمة، وانظر مرويات الإمام أحمد في "التفسير" 2/ 228. (¬4) ذكره الرازي 15/ 96، عن أهل العلم.

قال قتادة (¬1): (في هذه الآية أخلاق أمر الله بها نبيه عليه السلام ودلَّه عليها). وقال عبد الله بن الزبير (¬2): (ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 156 بسند جيد. (¬2) عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي أبو بكر القرشي المكي المدني، صحابي، إمام، عالم، عابد، وأول مولود في المدينة بعد الهجرة، وكان فارسًا شجاعًا له مواقف مشهودة، شهد اليرموك وفتح المغرب وغيرهما , وله قدر كبير في العلم والعبادة والشرف والجهاد، وفضله وثناء الأئمة عليه كثير، تولى الخلافة تسع سنين، وقتل رضي الله عنه في ذي الحجة سنة 73 هـ. انظر: "الحلية" 1/ 329، و"الاستيعاب" 3/ 39 رقم (1553)، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 266، و"وفيات الأعيان" 3/ 71، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 363، و"الإصابة" 2/ 309، و"تهذيب التهذيب" 2/ 333. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" 5/ 198، تفسير سورة الأعراف وأبو داود كتاب التفسير، باب: خذ العفو وأمر بالعرف رقم (4643)، والنسائي في "التفسير" 1/ 512 رقم 215، والطبري 9/ 154، ووقع في طبعتنا (أبي الزبير) والصواب: (ابن الزبير)، وابن أبي حاتم 5/ 1637 كتاب الأدب، باب: باب في التجاوز في الأمر، والنحاس في "ناسخه" 2/ 360، والواحدي في "الوسيط" 2/ 287، وفي رواية عند البخاري قال: (أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس) اهـ. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 25: (رواه الطبراني في "الأوسط" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ورجاله ثقات) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" 3/ 280، وقال النحاس في "ناسخه" 2/ 360 بعد الحديث: (هذا أولى ما قيل في الآية لصحة إسناده، وأنه عن صحابي يخبر بنزول الآية، وإذا جاء الشيء هذا المجيء لم يسع أحدًا مخالفته، والمعنى عليه: خذ العفو، أي: السهل من أخلاق الناس، ولا تغلظ عليهم، ولا تعنف بهم، وكذا كانت أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه ما لقي أحدًا قط بمكروه في وجهه، ولا ضرب أحدًا بيده) اهـ. وانظر: شرح الحديث في "فتح البارى" 8/ 305.

وقال الصادق (¬1): (ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية) (¬2). وقال عبد الله بن مسلم: (جمع الله تعالى بهذه الآية لنبيه - صلى الله عليه وسلم - كل خلق عظيم؛ لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالعرف (¬3) تقوى الله وصلة الأرحام، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن الحُرمات، وإنما سمي هذا وما أشبهه عرفًا ومعروفًا؛ لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئن إليه، وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السفيه، ومنازعة اللجوج) (¬4)، فهذا الذي ذكرنا طريقة حسنة في هذه الآية (¬5). وللمفسرين (¬6) طريق آخر فيها، قال ابن عباس: ({خُذِ الْعَفْوَ} أي: (ما (¬7) عفا لك من أموالهم، وهو ما فضل من العيال والكلّ (¬8)، يقول: ما أتوك به عفوًا فخذه، ولا تسأل ما وراء ذلك، وكان هذا قبل بيان فريضة ¬

_ (¬1) الصادق هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، تابعي إمام عابد عالم ثقة، تقدت ترجمته. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 32 أ، والبغوي 3/ 316، والزمخشري 2/ 139، والرازي 15/ 96، والقرطبي 7/ 345، والخازن 2/ 328. (¬3) في (ب): (بالمعروف). (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 4، 5. (¬5) لفظ: (الآية) ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (والمفسرين)، وهو تحريف. (¬7) في (ب): (مما عفا لك). (¬8) الكل، بالفتح واللام: اليتيم، والكلُّ الذي هو عيال وثقل على صاحبه. والكلُّ: الوكيل، وكلَّ الرجل إذا تعب، وكلَّ عنه نبا وضعف، انظر: "اللسان" 7/ 3919 (كلل).

الصدقة، فلما نزلت آية وجوب الزكاة نُسخت هذه) (¬1). وهذا قول السدي (¬2) ومقاتل (¬3) والكلبي والضحاك (¬4). قال الكلبي: (هو فضل المال كان يأخذه بعد الكل والعيال، ليس فيه شيء مؤقت، ثم نزلت الزكاة المفروضة بعد ذلك فنسخت الفضل) (¬5). وقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: بلا (¬6) إله إلا الله)، وقال السدي: (بالفضل (¬7) من المال، نسخته الزكاة). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 9/ 154، وابن أبي حاتم 5/ 1638 بسند جيد، وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عنه بسند جيد قال: ({خُذِ الْعَفْوَ} الفضل). (¬2) أخرجه الطبري 9/ 154 بسند جيد. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 81. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 154 بسند ضعيف وذكره النحاس في "ناسخه" 2/ 358 - 359، والماوردي 2/ 288، عن ابن عباس والسدي والضحاك، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1638 بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس قال: (خذ الفضل: أنفق الفضل) اهـ. (¬5) "تنوير المقباس" 2/ 149، وذكره هود الهواري 2/ 67، عن الكلبي، وذكره الثعلبي 6/ 31/ ب، والبغوي 3/ 316، عن ابن عباس والسدي والضحاك، وهو قول أبي عبد الله محمد بن حزم في "ناسخه" ص 38، وهبة الله بن سلامة في "ناسخه" ص70، والظاهر عدم النسخ، وأن المعنى: أقبل الميسور من أخلاق الناس، وقد يدخل فيه فضل المال ومكان عن ظهر غنى فالآية محكمة وهو اختيار الجمهور، انظر: "تفسير الطبري" 9/ 155، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 360، و"الإيضاح" لمكي ص 253، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 342، و"زاد المسير" 3/ 308، و"النسخ في القرآن" للدكتور/ مصطفى زيد 2/ 732. (¬6) في (ب): (يريد لا إله إلا الله)، والأثر ذكره الثعلبي 6/ 31 ب، والبغوي 3/ 316، والقرطبي 7/ 346، والخازن 2/ 328، عن عطاء فقط. (¬7) في (ب): (الفضل) وقد سبق تخريج الأثر، والظاهر أنه في تفسير قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} وليس في قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} لأنه محكم.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. قال الضحاك: (وأعرض عن المشركين) (¬1). وقال مقاتل (¬2) والكلبي (¬3): (عن جميع من جهل عليك، وجهل أمرك من مشركي مكة، مثل أبي جهل وغيره، نسخة آية السيف) (¬4)، فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} على قول عطاء (¬5)، والأحسن الطريقة الأولى (¬6). قال ابن زيد (¬7): نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيف يا رب والغضب"؟ فنزل قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ}) (¬8) [الأعراف: 200]، نزغ الشيطان وساوسه ونخسه في القلب بما يسول ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 81 - 82، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص 38. (¬3) "تنوير المقباس" 2/ 149، وهو قول هبة الله بن سلامة في "ناسخه" ص70. (¬4) هي الآية -5 من سورة التوبة، وقد سبق ذكرها. (¬5) سبق تخريجه، وهو عندهم موصولًا بقوله: (يريد بلا إله إلا الله قال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أبي جهل وأصحابه نسخها بآية السيف, وقال القرطبي 7/ 347: (قال عطاء وابن زيد: هي منسوخة بآية السيف، وقال مجاهد وقتادة هي محكمة وهو الصحيح) اهـ. والذين قالوا بالنسخ جماعة ذكرهم المؤلف ولم يذكر عطاء معهم. (¬6) أي أن الآية محكمة والمعنى: إنه عام فيمن جهل، أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم وإن وجب الإنكار عليهم، وهذا هو الصحيح واختيار الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" 9/ 153 - 156، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 363، و"الإيضاح" لمكي ص 2536، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 3414، و"تفسير ابن عطية" 185 - 187، وابن الجوزي 3/ 308، والرازي 15/ 96 - 97، و"البحر" 4/ 448، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 2/ 833. (¬7) أخرجه الطبري 9/ 156 - 157 بسند جيد عن عبد الرحمن بن زيد وهو مرسل، وذكره الثعلبي 6/ 32 أ , والواحدي في "الوسيط" 2/ 289، والبغوي 13/ 317 (¬8) لفظ: (نزغ) ساقط من (ب).

للإنسان من المعاصي (¬1)، روي أبو عبيد عن أبي زيد: (نزغت بين القوم إذا أفسدت) (¬2). وقال الليث: (النزغ أن تنزغ بين قوم فتحمل بعضهم على بعض بفساد ذات بينهم) (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: يعرض لك من الشيطان عارض) (¬4). وقال مقاتل: (وإما (¬5) يفتنك الشيطان فتنة) (¬6). وقال الزجاج: (المعنى: إن نالك من الشيطان أدنى وسوسة) (¬7). وقال عبد الله بن مسلم: (وإما يستخفنك الشيطان. قال: ويقال: نزغ بيننا فلان أي: أفسد) (¬8). وقال بعض أهل المعاني: (معنى النزغ: الإزعاج، وأكثر ما يكون عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، وهذه نزغة من الشيطان للخصلة الحاملة عليه) (¬9)، وموضع (¬10) {يَنْزَغَنَّكَ} جزم بـ "إِنْ" ¬

_ (¬1) النص في "تهذيب اللغة" 4/ 3552، وانظر: "الجمهرة" 2/ 820، و"الصحاح" 4/ 1327، و"مقاييس اللغة" 5/ 416، و"اللسان" 7/ 4397 (نزغ). (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3552. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 3552، وانظر: "العين" 4/ 384، و"البارع" ص 330. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 289. (¬5) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬6) "تفسيرمقاتل" 2/ 82. (¬7) "معاني الزجاج" 2/ 396، ونحوه قال النحاس في "معانيه" 3/ 120. (¬8) "تفسير غريب القرآن" ص 186، ونحوه في "مجاز القرآن" 1/ 236، و"غريب القرآن" ص 156، و"تفسير المشكل" ص 89. (¬9) انظر: الرازي 15/ 97. (¬10) {يَنْزَغَنَّكَ} مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والنون للتوكيد حسن تأكيده بالنون لما دخلت عليه ما، انظر: "إعراب النحاس" 1/ 660.

201

التي للجزاء إلا أنه لا يتبين فيه الإعراب لأنه مبني مع نوع التأكيد بالفتح إذ كانت مشددة ولا بد (¬1) من تحريك ما قبلها في الجزم لالتقاء الساكنين (¬2). وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: اطلب النجاة من تلك البلية بالله، ومضى معنى (¬3) الاستعاذة والعوذ، {إِنَّهُ سَمِيعٌ} لدعائك {عَلِيم} بما عرض لك. 201 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا}، قال ابن عباس: (يريد: المؤمنين) (¬4). وقال الكلبي: ({إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الكفر والشرك والفواحش) (¬5)، {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ}، وقرئ (¬6) {طَيْف}، اختلفوا في الطيف، فقيل: إنه مصدر. قال أبو زيد: (طاف يطوف طوفًا وطوافًا، إذا أقبل وأدبر، وأطاف يُطيف إطافة إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم، وطاف الخيال ¬

_ (¬1) في: (أ): (مشددة أبد من تحريك) وهو تحريف. (¬2) انظر: "الكتاب" 3/ 514 - 519. (¬3) انظر: "البسيط" البقرة: 67، النسخة الأزهرية 1/ 84/ أ. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 290، وذكره الثعلبي 6/ 32/ ب، والبغوي 3/ 317 بلا نسبة. (¬5) ذكر الواحدي في "الوسيط" 2/ 290 عن ابن عباس قال: (يريد: المؤمنين الذين اتقوا الكفر والشرك والفواحش) اهـ. وقال السمرقندي 1/ 590: (يعني: اتقوا الشرك والفواحش) اهـ. (¬6) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (طيف) بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف ولا همز، وقرأ الباقون {طَائِفٌ} بألف بحد الطاء وهمزة مكسورة بعدها. انظر: "السبعة" ص 301، و"المبسوط" ص 187، و"التذكرة" 2/ 430، و"التيسير" ص 115، و"النشر" 2/ 275.

يطيف طيفًا إذا ألم في المنام) (¬1)، ونحو هذا قال الزجاج (¬2)، وأنشدوا (¬3): أنَّى ألمَّ بك الخيال يطيف قال ابن الأنباري: (وجائز أن يكون الطيف أصله طيِّف إلا أنهم أستثقلوا التشديد فحذفوا إحدى اليائين وأبقوا (¬4) ياء ساكنة) (¬5). فعلى القول الأول هو مصدر، و (¬6) على ما قاله أبو بكر من باب هَيّن وهَيْن، ومَيّت ومَيْت (¬7)، ويشهد بصحة قول أبي بكر قراءة سعيد بن ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 4/ 120، وليس فيه (وطوافًا) وفي "مجمل اللغة" 2/ 589 قال: (طاف يطوف طوفًا وطوافًا). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 396 وفيه: (يقال: طفت أطوف وطاف الخيال يطيف). (¬3) الشاهد لكعب بن زهير في "ديوانه" ص 49، و"اللسان" 5/ 2739 (طيف) وبلا نسبة في: "مجاز القرآن" 1/ 237، و"تفسير الطبري" 9/ 157 - 158، و"نزهة القلوب" ص 312، و"إعراب القراءات" 1/ 219، و"الصحاح" 4/ 1397، و"مقاييس اللغة" 3/ 432، و"الكشاف" 2/ 139، و"تفسير ابن عطية" 6/ 190 - 191، و"الفريد" 2/ 398، و"البحر" 4/ 449، و"الدر المصون" 5/ 546 وتمامه: (ومطافة لك ذكرة وشعوف). وأنى أي: كيف، وأم نزل والإلمام الزيارة، والذكرة -بالضم والكسر نقيض النسيان وهو حفظ الشيء أو الشيء يجري على اللسان والشعف- إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، وشعفه الهوى إذا بلغ منه، والشعوف الولوع بالشيء حتى لا يعدل عنه، قال في "اللسان" 4/ 2285 - 2286 شعف في شرح بيت كعب: (يحتمل أن يكون جمع شعف ويحتمل أن يكون مصدرا وهو الظاهر) اهـ. وانظر: "اللسان" 4/ 2279 (ذكر) حيث شرح فيه بيت كعب "شرح شواهد الكشاف" 4/ 457. (¬4) في (ب): (واتقوا) وهو تصحيف. (¬5) ذكره الرازي 15/ 99، عن الواحدي عن ابن الأنباري. (¬6) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬7) قال السمين في "الدر" 5/ 546: (طيف قيل: إنه مخفف من فيعل والأصل طيف =

جبير (¬1) {إِذَا مَسَّهُمْ طَيَّفٌ} بالتشديد، هذا هو الأصل في الطيف (¬2) ثم يسمّى الجنون والغضب والوسوسة طيفًا لأنه لمة من الشيطان (¬3) يشبه بلمّة الخيال. قال الأزهري: (الطَّيف في كلام العرب الجنون، رواه أبو عبيد عن الأحمر (¬4). وقال الهذلي (¬5): ¬

_ = بتشديد الياء فحذف عين الكلمة كقولهم في ميِّت ميت وفي هين هين ثم طيف الذي هو الأصل يحتمل أن يكون من طاف يطيف أو من طاف يطوف والأصل طيوف فقلب وأدغم وهذا قول ابن الأنباري) اهـ. وانظر: "معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص 176 (طاف)، وص 252 (ميت)، وص 271 (هين). (¬1) ذكرها النحاس في "إعرابه" 1/ 660، والسمرقندي 1/ 590، والثعلبي 6/ 32 ب، ومكي في "الكشف" 1/ 487، وابن عطية 6/ 190 - 191، والرازي 15/ 99، والقرطبي 7/ 349، و"البحر" 4/ 449، وذكرها ابن خالويه في "مختصر الشواذ" ص 253، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وذكرها ابن زنجلة في "الحجة" ص 306 عن ابن مسعود. وذكرها ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 309 عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري والضحاك. (¬2) لفظ: (في الطيف) مكرر في (أ). (¬3) في (أ): (من الشيطان أن يشبه)، وهو تحريف. (¬4) الأحمر هو خلف بن حيان، لغوي. تقدمت ترجمته. (¬5) الهذلي هو أبو العيال بن أبي غثير، مشهور بكنيته، شاعر مخضرم، أسلم مع من أسلم من هذيل، وعمر إلى خلافة معاوية، وهو فصيح مقدم. انظر: "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 407، و"الشعر والشعراء" ص445، و"الأغاني" 24/ 162، و"الإصابة" 4/ 146.

وإذا بها وأبيك طيف جنون (¬1) وقيل للغضب: طيف لأن عقل من استفزه يعزب حتى يصير في صورة المجنون الذي زال عقله) (¬2). وأما الطائف فيجوز أن يكون بمعنى: الطيف، مثل العافية والعاقبة، ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلةٍ، قال الأعشى (¬3): وتصبح (¬4) من غبِّ السرى وكأنما (¬5) ... ألم بها من طائف الجن أولق قال الفراء (¬6) في هذه الآية: (الطائف والطيف سواء، وهو ما كان ¬

_ (¬1) "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 415، و"معاني القراءات" 1/ 433، و"الصحاح" 4/ 1397، و"اللسان" 5/ 2739 (طيف)، وبلا نسبة في "البارع" ص 683، و"الحجة" لأبي علي 4/ 121، وصدره: ومنحتني فرضيت حين منحتني وجاء في "الأغاني" 24/ 266 (رأي) بدل (حين)، (والله) بدل (وأبيك)، وفي المراجع (فإذا) بدل (وإذا). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 2155 (طيف). (¬3) "ديوانه" ص 118، و"مجاز القرآن" 1/ 236، و"الحجة" لأبي علي 4/ 121، و"مقاييس اللغة" 3/ 432، و"تفسير ابن عطية" 6/ 191 - 192، و"اللسان" 5/ 2722 (طوف)، و"البحر" 4/ 449، و"الدر المصون" 5/ 547، وبلا نسبة في: "الجمهرة" 1/ 1092، و"تهذيب اللغة" 1/ 184 (ألق)، و"إعراب القراءات" 1/ 218، و"الحجة" لابن خالويه ص 168، وغب الشيء: عاقبته وما يليه, والسرى: السير ليلاً، وألم به خالطه، والطائف ما يلم بالإنسان ويطوف وبه، وأولق أي: جنّ. (¬4) في: (أ): (ويصبح)، وهو تصحيف. (¬5) في: (أ): (ولا نما)، وهو تحريف. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 2155، وفي "معاني الفراء" 1/ 402: ({طَائِفٌ}، وقرأ إبراهيم النخعي (طيف) وهو اللمم والذنب) اهـ.

كالخيال، والشيء يُلم بك). وقال الليث: (طائف الشيطان، وطيف الشيطان ما يغشى الإنسان من وساوسه) (¬1). ومنهم من قال: (الطيف كالخطرة، والطائف كالخاطرة (¬2). وهذا أكثر لأن المصدر على فَعْل أكثر منه على فاعل (¬3)، وقال أبو عمرو (¬4): (الطائف ما يطوف حول الشيء، وهو هاهنا ما طاف به من وسوسة الشيطان، والطيف اللمة والوسوسة) (¬5)، فأما التفسير، فقال ابن عباس في ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2155، وفيه قال الليث: (كل شيء يغشى البصر من وسواس الشيطان فهو طيف والطائف العاس بالليل) اهـ. وانظر: "العين" 7/ 459، و"الجمهرة" 1/ 922. (¬2) لفظ: (كالخاطرة) ساقط من (ب). (¬3) هذا قول أبي علي في "الحجة" 4/ 121، وانظر: "الحجة" لابن زنجلة ص 305، و"الكشف" 1/ 487. (¬4) أبو عمرو بن العلاء، إمام، مقرئ، لغوي. سبقت ترجمته. (¬5) ذكره الثعلبي 6/ 32 ب، والماوردي 2/ 289، والواحدي في "الوسيط" 2/ 290، والبغوي 3/ 317، وابن الجوزي 3/ 309 - 310. وفي "تفسير الطبري" 9/ 157 - 158، و"معاني النحاس" 3/ 120 عن أبي عمرو قال: (الطيف الوسوسة) اهـ. وفي "معاني النحاس" عن الكسائي قال: (الطيف اللمم والطائف كل ما طاف حول الإنسان) اهـ. وقال النحاس في "إعرابه" 660: (كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف، ومعناه في "اللغة": ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم، وكذا معنى طائف) اهـ. ونحوه قال في "معانيه" 3/ 120، وقال الأزهري في "معاني القراءات" 1/ 433 - 434: (المعنى في الطيف والطائف واحد، وهو في كلام العرب له معنيان أحدهما: الجنون، وقد جعله بعض المفسرين في هذا =

رواية عطاء: (إذا مسهم عارض من وسوسة الشيطان) (¬1). [وروي عنه (¬2): (نزغ من الشيطان)] (¬3). وقال مجاهد (¬4) وسعيد بن جبير (¬5): (هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ). وروى ليث (¬6) عن مجاهد قال: (هو الرجل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه) (¬7). ¬

_ = الموضع جنونًا لأن الغضب الشديد يعتريه شيء من الجنون، والمعنى: إذا مسهم غضب يخيل إلى من رآه في تلك الحالة بعد ما كان رآه ساكنًا أنه مجنون، والطيف في غير هذا الخيال الذي تراه في منامك، ومن قرأ: {طَائِفٌ} أراد به تغير حالة الغضبان إذا ثار ثائره فكأنما طاف به شيطان استخفه حتى تهافت فيما يتهافت فيه المجنون من سفك الدم الحرام والتقحم على الأمور العظام) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 316، و"غريب القرآن" ص 156، و"الدر المصون" 5/ 545. (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 290، وأخرج الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1640 بسند جيد عنه قال: (الطائف اللَّمة من الشيطان) اهـ. (¬2) أخرجه الطبري 9/ 158 بسند ضعيف، وذكره الثعلبي 6/ 32 ب. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 290 عن سعيد بن جبير ومجاهد، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 254. وأخرجه الطبري 9/ 158 من طرق جيدة قال: (الغضب). (¬5) ذكره الثعلبي 6/ 33 أ، والبغوي 3/ 318، وأخرج الطبري 9/ 158 بسند جيد عنه، قال: (الغضب)، وذكره ابن أبي حاتم 5/ 164 عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن بن زيد. (¬6) ليث بن أبي سليم الكوفي. تقدمت ترجمته. (¬7) ذكره الثعلبي 6/ 33 أ، والواحدي في "الوسيط" 2/ 290 , والبغوي 3/ 318.

ونحو ذلك قال الكلبي (¬1)، وروى الحكم (¬2) عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: (الطيف الغضب) (¬3). وقال أهل المعاني: (ينبغي للعاقل إذا أحس من نفسه إفراطًا في الغضب أن يذكر غضب الله على المسرفين فلا يقدم على ما يوبقه) (¬4). وقوله تعالى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: استعاذوا فأبصروا عظمة الله تعالى) (¬5). وقال السدي: (معناه: إذا زلُّوا تابوا) (¬6)، وقال مقاتل: (يقول: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر (¬7) وعرف أنها معصية فأبصرها ففزع من مخافة الله) (¬8)، فعلى هذا معنى (¬9) {مُبْصِرُونَ} أي: يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر. ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" 2/ 150 قال: (الطائف: الريب والوسوسة) اهـ. وذكر الثعلبي 6/ 32 ب عن الكلبي قال: (ذنب) اهـ. (¬2) الحكم هو: الحكم بن أبان العدني، أبو عيسى، إمام، عابد، سيد أهل اليمن، وهو صدوق له أوهام. توفي سنة 154 هـ وله حوالي 80 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 113، و"ميزان الاعتدال" 1/ 569، و"تهذيب التهذيب" 1/ 461، و"تقريب التهذيب" ص 174 رقم (1438). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1640 بسند ضعيف، وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2155 (طيف). (¬4) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2155 (طيف). (¬5) لم أقف عليه. وأخرج الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1641 بسند ضعيف عنه في الآية قال: (إذا هم منتهون عن المعصية آخذون بأمر الله عاصون للشيطان) اهـ. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 158، ابن أبي حاتم 5/ 1641، بسند جيد. (¬7) في (ب): (تذكروا وعرف)، وهو تحريف. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 82. (¬9) لفظ: (معنى) ساقط من (أ).

وقال أبو إسحاق: (أي: تفكّروا فيما أوضح الله لهم من الحجة فإذا هم على بصيرة) (¬1). وقال الفراء: ({فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} أي: منتهون إذا أبصروا) (¬2). وقوله: {فَإِذَا هُمْ}. معنى (إذا) هاهنا: المفاجأة، كقولك: خرجت فإذا زيد، و (إذا) في قوله {إِذَا مَسَّهُمْ} (¬3) بمنزلة الجزاء في أن لها جوابًا كجوابه، والفرق (¬4) بينها وبين الجزاء أن (إذا) عبارة عن الوقت كقولك: آتيك إذا احمَرَّ البُسْرُ، وليس كذلك (إنْ) كقولك: آتيك إن كان (¬5) كذا، فهذا شرط لا عبارة فيه (¬6) عن زمان ما , ولهذا قال الشافعي: (إذا قال لامرأته: إذا لم أطلقك فأنت طالق (¬7)؛ طلقت في الوقت، وإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق؛ لم يقع الطلاق ما لم يطلقها) (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني الزجاج" 2/ 396. (¬2) "معاني الفراء" 1/ 402، والمعاني متقاربة، والمعنى: تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره، أفاده الطبري 9/ 159، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 661، والماوردي 2/ 289، وابن الجوزي 3/ 310، و"البحر" 4/ 450. (¬3) في (ب): (وإذا مسهم)، وهو تحريف. (¬4) في (ب): (فالفرق). (¬5) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 57 وص 63، و"معاني الحروف" للرماني ص 74، وص 115، و"الصاحبي" ص 176 وص 193، و"رصف المباني" ص 186، و"المغني" لابن هشام 1/ 27 وص 87. (¬6) لفظ: (فيه) ساقط من (ب). (¬7) لفظ: (طالق) ساقط من (ب). (¬8) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 224 (إن)، وفي "روضة الطالبين" 6/ 121 قال: (أدوات التعليق تقتضي الفور في طرف النفي إلا لفظة (إن) فإنها للتراخي) اهـ. وذكر في "المجموع" 17/ 188 قول الشافعي، وقال: (هذا هو الصحيح لأن =

202

202 - قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ}، اختلفوا في هذه الكناية، فالأكثرون على أن المراد بها: الشياطين، وهو قول الحسن (¬1) وقتادة (¬2) والسدي (¬3) والضحاك (¬4) والكناني (¬5) واختيار الزجاج (¬6)، قال: (يعني به: الشياطين؛ [لآن الكفار إخوان الشياطين] (¬7) لاجتماعهم على الضلالة)، وعلى هذا المراد بالإخوان: الكفار، وعادت الكناية إلى الشياطين لأنهم قد ذكروا في قوله {طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201]، و (¬8) هو اسم جنس. وقال آخرون: المراد بالإخوان: الشياطين، فقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ}، أي: إخوان المشركين من الشياطين، وهذا قول ابن عباس (¬9) في رواية عطاء، ¬

_ = (إذا) اسم لزمان مستقبل ومعناه: أي وقت، ولهذا يجاب به عن السؤال عن الوقت فيقال: هل ألقاك فتقول: إذا شئت، كما تقول: أي وقت شئت، فكان على الفور، كما لو قال: أي وقت لم أطلقك فأنت طالق، وليس كذلك! فإنه لا يستعمل الزمان، ولهذا لا يجوز أن يقال متى ألقاك فتقول: إن شئت، وإنما يستعمل في الفعل ويجاب بها عن السؤال عن الفعل، فيقال: هل ألقاك فتقول: إن شئت، فيصير معناه: إن فاتني أن أطلقك فأنت طالق، والفوات يكون آخر العمر) اهـ. (¬1) ذكره هود الهواري في "تفسيره" 2/ 68، وذكره القرطبي 7/ 315 عن الحسن وقتادة والضحاك. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 245 - 246، والطبري 9/ 160، بسند جيد. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1641 بسند جيد. (¬4) ذكره النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 661. (¬5) الكناني: هو الإِمام عبد العزيز بن يحيى المكي، ولم أقف على قوله. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 397. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬9) أخرجه الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1642 بسند ضعيف، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1641 بسند جيد عنه قال: (إخوان الشياطين يمدونهم في الغي).

ومجاهد (¬1) والكلبي، وابن مسلم (¬2) وابن جريج (¬3) ومقاتل (¬4)، قال الكلبي: (لكلّ كافرٍ أخ من الشياطين) (¬5). وهذا القول اختيار الفراء (¬6) وأبي بكر؛ قال: (والكناية على هذا تعود إلى الجاهلين في قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وهم المشركون، {وَإِخْوَانُهُمْ} وهم الشياطين) (¬7). و (¬8) قوله تعالى: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}. هذا من فعل الشياطين على القولين جميعًا، قال مقاتل: (يدعونهم إلى المعصية) (¬9)، وقال أبو بكر: (أي: يزينونه لهم ويريدون منهم لزومه والإقامة عليه) (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 1/ 254، وأخرجه الطبري 9/ 160 بسند جيد. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 187، ونحوه قال مكي في "تفسير المشكل" ص 89. (¬3) أخرجه الطبري 9/ 159 بسند جيد. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 82 (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 291، والبغوي 3/ 318، والخازن 2/ 329. (¬6) "معاني الفراء" 1/ 402. (¬7) ذكره ابن الجوزي 3/ 311، وقال النحاس في "إعرابه" 1/ 661: (أحسن ما قيل في هذا قول الضحاك {وَإِخْوَانُهُمْ} أي: إخوان الشياطين وهم الفجار، وعلى هذا يكون الضمير متصلاً، فهذا أولى في العربية، وقيل للفجار: إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم) اهـ. ونحو قال القرطبي 7/ 351، وقال السمين في "الدر" 5/ 548: (الضمير في ({وَإِخْوَانُهُمْ} يعود على الشياطين لدلالة لفظ الشيطان عليهم, والضمير المنصوب في (يمدوهم) يعود على الكفار والتقدير: وإخوان الشياطين يمدهم الشياطين، وهذا قول الجمهور وعليه عامة المفسرين) اهـ. وانظر: "تفسير السمرقندي" 1/ 590، وابن عطية 6/ 192 - 193، وابن الجوزي 3/ 310، والرازي 15/ 100. (¬8) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬9) "تفسير مقاتل" 2/ 82. (¬10) ذكره ابن الجوزي 3/ 310 - 311 بلا نسبة.

وقال أهل المعاني: (يطولون لهم الإغواء حتى يستمروا عليه) (¬1)، وذكرنا معنى المدّ في قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] واختلف القراء (¬2) في قوله: {يَمُدُّونَهُمْ} فقرءوا من المدّ والإمداد جميعًا، وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22]. وقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] وما كان خلافه يجيء على مددت قال: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، فالوجه هاهنا قراءة العامة وهو فتح الياء ومن ضم الياء استعمل ما هو للخير في ضده كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] (¬3). وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}، قال الليث: (الإقصار الكف عن الشيء) (¬4). وقال أبو زيد: (أقصر فلان عن الشيء يقصر إقصارًا إذا كف عنه وانتهى) (¬5). ¬

_ (¬1) هذا قول ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 187، الثعلبي 6/ 33 ب، ومكي في "تفسير المشكل" ص 89، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 237، و"غريب القرآن" ص 156، و"معاني النحاس" 3/ 121. (¬2) قرأ نافع {يَمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الميم من مدَّ، انظر: "السبعة" ص 301، و"المبسوط" ص 188، و"التذكرة" 2/ 340، و"التيسير" ص 115، و"النشر" 2/ 275. (¬3) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" 4/ 122 - 123، وانظر: "إعراب النحاس" 1/ 661، و"معاني القراءات" 1/ 434، و"الحجة" لابن زنجلة ص 306، و"الكشف" 1/ 487. (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 2972: وانظر: "العين" 5/ 57 (قصر). (¬5) "تهذيب اللغة" 3/ 2972: وانظر: "الجمهرة" 2/ 742، و"الصحاح" 2/ 792، و"المجمل" 3/ 756، و"مقاييس اللغة" 5/ 96، و"المفردات" ص 672، و"اللسان" 6/ 3645 (قصر).

قال ابن عباس: (يريد: لا يألون في ضلالتهم) (¬1). وقال ابن زيد: (لا يسأمون ولا يفترون) (¬2)، وقال الضحاك (¬3) (الشياطين يمدون المشركين (¬4) في الضلالة {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}. يعني: المشركين، بخلاف ما قال في المؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]) ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان: ({ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} عن الضلالة، ولا يبصرونها كما أقصر المتقي عنها حين أبصرها) (¬5). وهو قول ابن جريج: (لا يقصر الإنسان من أهل الشرك كما يقصر الذين اتقوا) (¬6). فعلى قول ابن عباس قوله: {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} من (¬7) فعل الشياطين وعلى قول الباقين من فعل المشركين، وقال قوم: إنه من فعلهم جميعًا. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وأخرج الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1643 بسند ضعيف عنه قال: (لا يسأمون) اهـ. (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 33 أ. (¬3) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 292، والبغوي 3/ 318 عن الضحاك ومقاتل، وذكر النحاس في "إعرابه" 1/ 661، عن الضحاك قال: (أي: إخوان الشياطين وهم الفجار: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} أي: لا يتوبون ولا يرجعون) اهـ. (¬4) في (ب): (يمدون المشركين والضلالة)، وهو تحريف. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 82. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1643 بسند جيد عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير المكي. (¬7) لفظ: (من) ساقط من (ب).

203

قال مقاتل (¬1) بن حيان: ({ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} عن المعصية هؤلاء وهؤلاء) (¬2). وقال الفراء: ({ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} يعني: المشركين وشياطينهم) (¬3). وروي مثل هذا عن ابن عباس قال: (لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين يمسكون عنهم) (¬4). 203 - قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ}، قال الكلبي (¬5): (يعني: أهل مكة {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} سألوكها، وكانوا يسألونه الآيات تعنتًا، فإذا أبطأت {قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}). قال الفراء: (العرب تقول: اجتبيت الكلام (¬6) واختلقته، وارتجلته (¬7) إذا افتعلته من قبل نفسك) (¬8). ¬

_ (¬1) في: (أ) تكرار لفظ: (مقاتل). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني الفراء" 1/ 402. (¬4) أخرجه الطبري 9/ 159، وابن أبي حاتم 5/ 1642 بسند جيد، وذكره ابن الجوزي 3/ 311 وقال: (وعليه يكون قوله: {يُقْصِرُونَ} من فعل الفريقين، وهذا على القول المشهور) اهـ. (¬5) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 292، والبغوي 3/ 318، وابن الجوزي 3/ 311، الخازن 2/ 330. (¬6) لفظ: (الكلام) ساقط من (ب). (¬7) في (ب): (وارتجلته وافتعلته)، وهو تحريف. (¬8) حكاه الطبري 9/ 161 , عن الفراء، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 527، عن الفراء في الآية قال: (هلا اجتبيتها هلا اختلقتها وافتعلتها من قبل نفسك، وهو في كلام العرب جائز أن تقول: لقد اختار لك واجتباه وارتجله) اهـ. وفي "معاني الفراء" 1/ 420: (يقول: هلا افتعلتها، وهو من كلام العرب جائز أن يقال: اختار الشيء وهذا اختياره) اهـ. وأشار المحقق في الحاشية إلى وجود سقط في النسخ.

وقال أبو زيد: (الاجتباء تقوله العرب في الكلام يبتدئه الرجل من نفسه) (¬1). وقال الزجاج (¬2): ({لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} أي: هلا اختلقتها، وأتيت بها (¬3) من قبل نفسك). ونحو هذا قال المفسرون، و (¬4) روي عن ابن عباس: (لولا أحدثتها فأنشأتها) (¬5). وقال مجاهد (¬6): (لولا اقتضبتها (¬7) وأخرجتها من نفسك). وقال ابن زيد (¬8): (لولا تقولتها وجئت بها من عندك). ¬

_ (¬1) حكاه الطبري 9/ 162، عن أبي عبيدة عن أبي زيد، وذكره الثعلبي 6/ 33 ب، وانظر: "اللسان" 1/ 542 (جبى). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 397، ونحوه في "تفسير غريب القرآن" ص 187، و"معاني النحاس" 3/ 121. (¬3) لفظ: (بها) ساقط من (أ). (¬4) لفظ: (الواو) ساقط من (ب). (¬5) أخرجه الطبري 9/ 161 بسند جيد. وفي رواية قال: (لولا تلقيتها)، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1643 بسند جيد عنه قال: (لولا أخذتها وتلقيتها فأنشأتها) وفي رواية بسند ضعيف قال: (هلا افتعلتها من تلقاء نفسك) وفي رواية عند الطبري وابن أبي حاتم بسند ضعيف قال: (لولا تقبلتها من الله) اهـ. (¬6) أخرجه الطبري 9/ 161 بسند جيد، وفي "تفسير مجاهد" 1/ 254، وأخرجه ابن أبى حاتم 5/ 1643 بسند جيد قال: (لولا ابتدعتها من قبل نفسك). (¬7) في (ب): (قتضيتها)، والأولى "اقتضبتها" كما في المراجع. واقتضب الكلام ارتجله من غير تهيئة أو إعداد له، انظر: "اللسان" 6/ 3660 (قضب). (¬8) أخرجه الطبري 9/ 161 بسند جيد.

وقال قتادة (¬1): (هلا افتعلتها (¬2) [وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك). وقال الضحاك: (افتعلتها] (¬3) من تلقاء نفسك) (¬4). قال الزجاج: (فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أن الآيات من قبل الله عز وجل لقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} (¬5) [الأعراف:203] , أي: (¬6) لو كنت آتي بالآيات من قبل نفسي للزمني تعجيل ما تطلبون مني، لكن ليس الأمر كذلك لأني {أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}. وقوله تعالى: {هَذَا} أي: هذا القرآن الذي أتيت به {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}. ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 33/ ب، وأخرج عبد الرزاق 1/ 2/ 247، والطبري 9/ 161 بسند جيد عنه قال: (لولا جئت بها من نفسك)، وفي رواية عند الطبري بسند جيد عنه قال: (لولا تلقيتها من ربك)، وأخرج الطبري 9/ 161، وابن أبي حاتم 5/ 1644 بسند جيد عنه قال: (لولا أتيت بها من قبل نفسك، هذا قول كفار قريش) اهـ. (¬2) في (ب): (فعلتها). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) أخرج الطبري 9/ 161، وابن أبي حاتم 5/ 1643 بسند جيد عنه قال: (لولا أخذتها فجئت بها من السماء) اهـ، والمعاني متقاربة، واختار الطبري 9/ 161 أن المعنى: (هلا أحدثتها من نفسك) اهـ، واختار النحاس في "معانيه" 3/ 121: (جئت بها من عند نفسك قال: وكذلك هو في اللغة يقال: اجتبيت الشيء وارتجلته واخترعته واختلقته إذا جئت به من عند نفسك) اهـ. وقال ابن الجوزي 3/ 312: (هلا افتعلتها من تلقاء نفسك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد والفراء والزجاج وابن قتيبة في آخرين وهو أصح) اهـ. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 200، و"تفسير غريب القرآن" ص 187، والسمرقندي 1/ 591، والماوردي 2/ 290. (¬5) "معاني الزجاج" 2/ 397. (¬6) لفظ: (أي) ساقط من (أ)

قال ابن الأعرابي (¬1): (البصيرة الثبات في الدين). وقال غيره: (البصيرة العبرة، يقال: أما لك بصيرة في هذا أي: عبرة تعتبر بها (¬2) وأنشد (¬3): في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر أي: عبر) (¬4). وقال الفراء (¬5) والزجاج (¬6): (البصيرة في الدين، وأصلها من ظهور الشيء وبيانه). وقال أهل المعاني (¬7) في قوله: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}: (هذا القرآن، وهذا الوحي دلائل من ربكم تقود إلى الحق، وتهدي إلى الرشد من استدل بها دون من أعرض عنها متعاميًا عما فيها، ومن هذا يقال للطريقة من الدم (¬8) يستدل به على الرميَّة: بصيرة). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 342. (¬2) في (أ): (تعتبرها)، وهو تحريف. (¬3) البيت لقس بن ساعدة الإيادي في كتاب "المعمرين" لأبي حاتم السجستاني ص 96، و"العقد الفريد" 4/ 215، و"البيان" للجاحظ 1/ 294، و"الأغاني" 15/ 237، و"معجم المرزباني" ص 199، وبلا نسبة في "العين" 7/ 118، و"تهذيب اللغة" 1/ 342، و"اللسان" 1/ 291 (بصر). (¬4) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" 1/ 342. (¬5) لم أقف عليه عن الفراء. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 397. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 162. (¬8) في (ب): (الذم) وهو تصحيف، والرمية، هي الطريدة التي يرميها الصائد. انظر: "اللسان" 3/ 1740 (رمي).

204

وقال المفسرون (¬1): (هذا القرآن حجج وبيان وبرهان من ربكم، وأصلها من ظهور الشيء حتى يبصرها الإنسان فيهتدي إليها وينتفع بها (¬2)، فمعنى البصيرة في أصل اللغة (¬3) ما يبصر به الشيء، ويدخل في هذا العبرة والحجة والدليل والبرهان). 204 - قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. الإنصات السكوت للاستماع، يقال: نَصَتَ وأَنصت وانتصت بمعنى واحد (¬4)، وقد ورد الإنصات متعديًا في شعر الكميت (¬5) بمعنى الإسكات وهو قوله (¬6): أبوك الذي أجدى علي بنصره ... فأنصت عني بعده كلَّ قائل (¬7) ¬

_ (¬1) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 6/ 33 ب، والبغوي 3/ 318، ونحوه قال أكثرهم، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 237، و"تفسير الطبري" 9/ 162، و"نزهة القلوب" ص 140، و"تفسير السمرقندي" 1/ 591. (¬2) لفظ: (بها) ساقط من (ب). (¬3) انظر: "الجمهرة" 1/ 312، و"الصحاح" 2/ 591، و"مقاييس اللغة" 1/ 253، و"المجمل" 1/ 127، و"المفردات" ص 127 (بصر). (¬4) انظر: "العين" 7/ 106، و"الجمهرة" 1/ 401، و"الصحاح" 1/ 268، و"المجمل" 2/ 870، و"مقاييس اللغة" 5/ 434. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) لفظ: (قوله) ساقط من (ب). (¬7) البيت للكميت في "البحر" 4/ 438، و"الدر المصون" 5/ 551 وهو للراعي النميري في "ديوانه" ص 78، و"مجاز القرآن" 2/ 47، و"الجمهرة" 1/ 398، 3/ 1261، و"الاشتقاق" ص 110، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" 4/ 3582، و"اللسان" 7/ 4437 (نصت).

قال الأصمعي (¬1): (يريد: فأسكت عني) (¬2). واختلف المفسرون في وجه نزول الآية على قولين أحدهما: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، قال أبو هريرة: (كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية وأُمروا بالإنصات) (¬3). وقال قتادة: (كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي، وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأنزل الله هذه الآية) (¬4) ونحو هذا قال معاوية (¬5) بن قرة (¬6). وقال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة؛ سلام على فلان، سلام على فلان، فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الآية) (¬7). القول الثاني: أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام، قال ابن عباس: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية) (¬8). ¬

_ (¬1) وقع هنا في (ب) اضطراب في ترتيب الأوراق حيث وقع باقي تفسير الآية في 186 ب. (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 3582. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 8380، الطبري 9/ 163، وابن أبي حاتم 5/ 1645، والبيهقي في "سننه" 2/ 155 من طرق ضعيفة. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 247، والطبري 9/ 164 من طرق جيدة. (¬5) معاوية بن قرَّة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري، إمام تابعي عابد عالم ثقة، والد القاضي إياس أدرك كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم، توفي سنة 113 هـ وله 76 سنة، انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 378، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 153، و"تهذيب التهذيب" 4/ 111، و"تقريب التهذيب" ص 538 (6769). (¬6) أخرجه البيهقي في "سننه" 2/ 155 بسند جيد. (¬7) أخرجه الطبري 9/ 162 بسند ضعيف لانقطاعه. (¬8) أخرجه الطبري 9/ 165 بسند جيد

وروى عن أبي هريرة مثل ذلك (¬1) قال: (نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة) (¬2). وروي أيضًا عن ابن مسعود (¬3) مثل هذا، وقال الكلبي: (كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار فأنزل الله هذه الآية) (¬4). وفي الآية قول ثالث: وهو أنها نزلت في السكوت للخطبة؛ أُمِروا بالإنصات للإمام يوم الجمعة، وهذا قول سعيد (¬5) بن جبير ومجاهد (¬6) وعطاء (¬7) وعمرو (¬8) بن دينار، وزيد بن أسلم (¬9) والقاسم ¬

_ (¬1) في (ب): (مثل هذا). (¬2) أخرجه الطبري 9/ 163، وابن أبي حاتم 5/ 1645، والدارقطني في "سننه" 1/ 326، والواحدي في "الوسيط" 2/ 293، وفي "أسباب النزول" ص 233 بسند ضعيف كما قال الدارقطني. (¬3) أخرجه الطبري 13/ 346، وابن أبي حاتم 5/ 1646 بسند جيد عنه، قال: (لعلكم تقرأون مع الإِمام قالوا: نعم، قال: ألا تفقهون ما لكم لا تعقلون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}) اهـ. قال الشيخ أحمد شاكر في "الحاشية": (فيه بشير بن جابر لم أعرفه وفي المخطوطة (بسير) غير منقوطة ولم أعرف له وجه) اهـ. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 247 بسند جيد. (¬5) ذكره البغوي 3/ 319، والرازي 15/ 102، والخازن 2/ 330 عن سعيد بن جبير وعطاء، وأخرج الطبري 9/ 165 بسند جيد عنه قال: (يوم الأضحى والفطر والجمعة وفي الصلاة) وقال البخاري في القراءة خلف الإمام ص 64: (ذكر عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن الآية في الصلاة إذا خطب الإِمام يوم الجمعة) اهـ. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 226 - 227، الطبري 9/ 165 من طرق جيدة. (¬7) ذكره الماوردي 2/ 290، وأخرج الطبري 9/ 165 من طرق جيدة. (¬8) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 233، وابن الجوزي 3/ 313، عن سعيد ابن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار. (¬9) ذكره الثعلبي 6/ 34 ب، والقرطبي 7/ 353، عن سعيد بن جبير ومجاهد وعمرو ابن دينار وزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة.

بن مخيمرة (¬1) وجماعة. واحتج ابن المبارك (¬2) لهذا القول بأن قال: (لا ترى خطيبًا يخطب يوم الجمعة فأراد أن يقرأ في الخطبة (¬3) آية من قوارع القرآن إلا قرأ هذه الآية قبل قراءته ثم قرأ القرآن) (¬4). واختار الفراء (¬5)، وأبو إسحاق (¬6) القول الأول، وقالا: (كان الناس يتكلمون في الصلاة المكتوبة، يأتي الرجل القوم فيقول: كم صليتم؟ فيقول الناس: كذا وكذا، فنهوا عن ذلك، فحرم الكلام في الصلاة لما نزلت هذه الآية). ولا حجة في الآية لمن أبى وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة خلف الإِمام؛ لأن قوله: {وَأَنْصِتُوا} على القول الأول أمر بالإنصات عن الكلام الذي لا يحل في الصلاة، وعلى القول الثاني أمر بالإنصات عن رفع الأصوات خلف الإِمام، وفي القول الثالث أمر بالإنصات لاستماع القرآن ¬

_ (¬1) القاسم بن مخيمرة الهمداني، أبو عروة الكوفي نزيل الشام، تابعي إمام عابد فاضل معلم محدث ثقة، توفي سنة 100 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 120، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 201، و"تهذيب التهذيب" 3/ 421، و"تقريب التهذيب" 3/ 421. (¬2) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي. تقدمت ترجمته. (¬3) لفظ: (الخطبة) ساقط من (ب). (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 34 ب، وهذا القول ضعفه أكثرهم، قال البغوي في "تفسيره" 3/ 320: (الأولى أنها في القراءة في الصلاة؛ لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات حالة ما يخطب الإمام) وضعفه ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 828، والقرطبي 7/ 353. (¬5) "معاني الفراء" 1/ 402. (¬6) "معاني الزجاج" 2/ 398.

في الخطبة، وقد قال الأوزاعي (¬1): (إن الله أمر بالإنصات عن الكلام لا عن قراءة القرآن لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة) (¬2). فإن احتج بعموم اللفظ ولم يقصر الآية على سببها قيل له: حكم الآية ممتثل (¬3) عند الشافعي (¬4) -رضي الله عنه-؛ لأن السنة أن يسكت الإِمام ويتنفس فيقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام، كما قال أبو سلمة (¬5): (للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت) (¬6)، على أن الإنصاف هو ترك ¬

_ (¬1) الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي أبو عمرو الشامي الدمشقي، إمام تابعي عابد فاضل فقيه حافظ ثقة، شيخ الإِسلام وعالم أهل الشام أجمعوا على إمامته وجلالته وعلوّ مرتبته وكمال فضله وأقاويل الأئمة فيه كثيرة مصرحة بورعه وزهده وغزارة فقهه وقيامه بالحق، توفي رحمه الله تعالى سنة 157 هـ وله 69 سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 1/ 184، و5/ 266، و"الحلية" 6/ 135، و"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 298، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 107، و"تهذيب التهذيب" 2/ 537. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) كذا في النسخ: "ممتثل" ولعل المعنى أي: قائم ومتصور. انظر: "اللسان" 7/ 4135: (مثل). (¬4) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 77، و"روضة الطالبين" 1/ 347، و"المجموع" 3/ 363. (¬5) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وهو إمام تابعي عالم عابد فقيه ثقة مكثر اتفقوا على جلالته وإمامته وعظم قدره وارتفاع منزلته توفي رحمه الله تعالى سنة 94 هـ، وله 72 سنة، انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 93، و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 240، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 287، و"تهذيب التهذيب" 4/ 531. (¬6) أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام"، وذكره ابن قدامة في "المغني" =

الجهر، والعرب تسمي تارك الجهر منصتًا وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يُسمع أحدًا، وأيضًا فإن الفاتحة مخصوصة بالقراءة من بين غيرها بالسنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها" (¬1). ¬

_ = 2/ 266، وابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 208، وقال ابن قدامة في "المغني" 1/ 163: (يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة سكتة يستريح فيها ويقرأ فيها من خلفه الفاتحة كي لا ينازعوه فيها، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وإسحاق، وكرهه مالك وأصحاب الرأي) اهـ. وانظر: "سنن البيهقي" 2/ 195، و"نيل الأوطار" 2/ 276. (¬1) أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام"، وأبو داود في "سننه" رقم (323)، والترمذي رقم (311)، و"النسائي" 2/ 141 - كتاب "الافتتاح"- باب: قراءة أم القرآن في الجهرية، والدارقطني 1/ 318، والحاكم في "المستدرك" 1/ 238 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرءون وراء إمامكم. قلنا: إي والله. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها") اهـ. قال الترمذي: (حديث حسن وله شواهد والعمل عليه في القراءة خلف الإِمام عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق) اهـ. وقال الدارقطني: (إسناده حسن) اهـ. وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" 1/ 231 وحسنه وقال: (صححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي) اهـ. وقال البيهقي في "سننه" 2/ 163: (يقرأ المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب في السرية والجهرية وهو أصح الأقوال على السنة وأحوطها وبالله التوفيق) اهـ. وهذا هو الظاهر وحديث عبادة نص في ذلك، وهو اختيار الشيخ محمد بن =

فالمأموم ينصت إلا عن الفاتحة. للخبر، على أنا نقول: إن جاز لغيرنا أن يُعدّي الآية إلى غير السبب النازل فيه جاز لنا أن نأوّلها بما ذكره أبو إسحاق، وهو أنه قال: (يجوز أن يكون: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (¬1) اعملوا بما فيه، {وَأَنْصِتُوا} لا تجاوزه إلى غيره؛ لأن معنى قول القائل: سمع الله دعاءك تأويله: أجاب الله دعاءك، وفعل ما أردت؛ لأن الله عز وجل سميع لم يزل) (¬2)، وعلى هذا فلا معنى لترك القراءة في الآية وليست الآية من ترك القراءة في شيء. وذهب قوم من أهل الظاهر (¬3) إلى أن هذه الآية عامة، ويجب الإنصاف لقارئ الطريق، ومعلم الصبيان، وليس الأمر على (¬4) ما ذهبوا إليه؛ فإن هذا الإنصات إنما يجب في الصلاة، وعند الخطبة يوم الجمعة، ¬

_ = صالح العثيمين قال في "مجموع دروس الحرم المكي" 2/ 236: (الصحيح من أقوال أهل العلم أن قراءة الفاتحة واجبة على الإِمام والمأموم والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية والدليل حديث عبادة فتكون الأحاديث مخصصة للآية وتحمل الآية في غير الفاتحة لأنه لا بد من قراءتها) اهـ. (¬1) في النسخ: (استمعوا). (¬2) "معاني الزجاج" 2/ 398. (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة 2/ 259، و"الفتاوى" لشيخ الإِسلام 23/ 265 وص 330، و"نيل الأوطار" 2/ 243 - 257، وقال النحاس في "إعرابه" ص 662: (الإنصات في اللغة عام يجب أن يكون في كل شيء إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء) اهـ. ونحوه في "معانيه" 3/ 122، وقال القرطبي 7/ 353 - 354: (الصحيح أن الإنصات عام في الصلاة والخطبة لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات وحكي عن النقاش إجماع أهل التفسير أن هذا في الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة) اهـ. (¬4) في (ب): (إلى ما ذهبوا).

205

على ما ذكرنا عن الأئمة والسلف (¬1)؛ يدل على هذا ما روى الجريري (¬2) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز (¬3) قال: (رأيت عبيد بن عمير (¬4) وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقصّ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، فنظرا إليّ وقالا: إنما ذلك في الصلاة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. ثم أقبلا علي حديثهما) (¬5). 205 - قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ}، الخطاب في هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيره داخل فيه لأنه عام لسائر المكلفين. قال ابن عباس: (يعني بالذكر القراءة في الصلاة) (¬6). {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} قال: (يريد: يتضرع إليّ ويخاف مني) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 165، 166، والسمرقندي 1/ 591، والماوردي 2/ 290، وابن عطية 6/ 196 - 197، وابن الجوزي 3/ 312، والرازي 15/ 102 - 104، وابن كثير 2/ 311، و"الدر المنثور" 3/ 285 - 287. (¬2) الجريري: سعيد بن إياس الجريري، أبو مسعود البصري، إمام، محدث من كبار العلماء، ثقة، اختلط قبل موته بثلاث سنين. توفي سنة 144 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 1، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 153، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 155، و"تهذيب التهذيب" 2/ 7، و"تقريب التهذيب" ص 233 (2273). (¬3) طلحة بن عبد الله بن كريز بن جابر بن ربيعة الخزاعي الكعبي، تقدمت ترجمته. (¬4) عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، إمام مجمع على ثقته، وكان قاضي أهل مكة. تقدمت ترجمته. (¬5) أخرجه الطبري 9/ 163 بسند جيد. (¬6) ذكره الثعلبي 6/ 35 أ، والواحدي في "الوسيط" 2/ 294، والبغوي 3/ 321، وابن الجوزى 3/ 313، الخازن 2/ 332. (¬7) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 294، والبغوي 3/ 321.

ومعناه: (¬1) استكانة لي وخوفًا من عذابي. {وَخِيفَةً} قال الزجاج: (أصلها خوفة. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها) ذكر ذلك في سورة طه (¬2). {وَدُونَ الْجَهْرِ} دون الرفع {مِنَ الْقَوْلِ} من القرآن. قال (¬3): (يريد: لا ترفع بذلك صوتك، تسمع نفسك، وإن جاوزك إلى من هو إلى جانبك فلا بأس). {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. قال: (يريد: بكرة وعشيًا، يريد: الصلوات) (¬4). فعلى (¬5) هذا القول الآية وردت في القراءة في الصلوات كلها لقوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]. وقد مر، فأمر ان يقرأ في نفسه في بعضها وهو صلاة الإسرار، ودون ¬

_ (¬1) في (ب): (ومعنا)، وهو تحريف. (¬2) "معاني الزجاج" 3/ 367: (والخيف بالكسر جمع خيفة من الخَوْف، فأصله خوفة سكنت الواو إثر كسر فقلبت ياء) انظر: "إعراب النحاس" 1/ 662، و"تهذيب اللغة" 1/ 966 (خاف)، و"الحجة" لأبي علي 3/ 317، و"اللسان" 3/ 1290 (خوف)، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص 103. (¬3) كأنه يعني بقال ابن عباس رضي الله عنهما , ولم أقف عليه عنه. (¬4) ذكره الواحدي في "الوسيط" 2/ 295 عن ابن عباس. (¬5) قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 312 - 313: (المراد بالآية الحض على كثرة الذكر من العباد {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون ليقتدي بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، وزعم أن المراد بها: أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة، وهذا بعيد منافٍ للإنصات المأمور به، ثم إن المراد بذلك في الصلاة أو الصلاة والخطبة ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان سواء كان سرًا أو جهرًا فهذا الذي قيل لم يتابع عليه) اهـ. بتصرف.

الجهر في بعضها وهو ما يرفع فيها (¬1) الصوت بالقراءة والمسنون دون الجهر لقوله: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. وقال قتادة (¬2): (أمر الله بذكره ونهى عن الغفلة، أما {بِالْغُدُوِّ} فصلاة الصبح، وأما بالعشي فصلاة العصر)، وعلى هذا القول الآية مقصورة على الصلاتين. وقال مجاهد (¬3) وابن جريج (¬4): (أمر أن تذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء بالدعاء). وعلى هذا الآية وردت في ذكر الله تعالى بالقلب، وترك الصياح في الدعاء (¬5). وقوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. الغَدْو مصدر، يقال: غَدوت أغدُو (¬6) غدوًا وغدوَّا ومنه قوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] أي: غدوها للسير، ثم سمي وقت الغدو غدوًا كما يقال: دنا الإصباح، أي: وقته، ودنا الإمساء، ويجوز أن يكون الغدو هاهنا جمع غدوة، قال الليث: ¬

_ (¬1) في (أ): (ما يرفع فيه الصوت). (¬2) أخرجه الطبري 9/ 168 بسند جيد، وفيه {وَالْآصَالِ} بالعشي، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 288، وزاد نسبته إلى (عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة). (¬3) أخرجه الطبري 9/ 166 بسند ضعيف، وذكره الثعلبي 6/ 35 أ، والبغوي 3/ 321 عن مجاهد وابن جريج وليس فيه عند الطبري: (ويكره رفع الصوت ..). (¬4) أخرجه الطبري 9/ 167 بسند جيد. (¬5) قال النحاس في "معانيه" 3/ 123: (لم يختلف في معنى قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أنه في الدعاء. وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 166، والسمرقندي 1/ 591، والماوردي ص 290. (¬6) في (أ): (غدوت أغدوا).

(الغدوُّ جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة) (¬1). قال الراجز (¬2): جرَّت عليه كلَّ ريح ريدة ... هو جاء سفواء نؤوج الغدوة وأما {وَالْآصَالِ}، فقال الفراء: (واحدها أُصُل، وواحد الأصل أصيل. قال: ويقال: جئناهم مؤصلين، أي: عند الآصال) (¬3). وقال الزجاج: (الآصال العشيات جمع الجمع) (¬4). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 2636، وليس فيه: (وواحد الغدوات غدوة). انظر: "العين" 4/ 437، و"الجمهرة" 2/ 671، و"البارع" ص 425، و"الصحاح" 6/ 2444، و"المجمل" 2/ 692، و "مقاييس اللغة" 4/ 415، و"المفردات" ص 603، و"اللسان" 6/ 3220 (غدا). (¬2) الشاهد لهميان بن قحافة السعدي، شاعر، وراجز، أموي في "الصحاح" 2/ 479 (ريد) وهو لعلقمة بن عبدة التيمي الفحل، شاعر، جاهلي في "تهذيب إصلاح المنطق" 1/ 280، وهو في "اللسان" 3/ 1790 (ريد) لهميان أو علقمة وبلا نسبة في: "إصلاح المنطق" ص 94، و"المخصص" 9/ 86 و 15/ 81 قال التبريزي في "تهذيب إصلاح المنطق في شرح الشاهد": (ريح ريدة لينة الهبوب والهوجاء التي تهب بشدة، والسفواء الخفيفة، والنؤوج المصوتة في هبوبها أخبر أنها تهب في وقت الغدوة) اهـ. (¬3) ذكره النحاس في "إعرابه" 1/ 662 - 663، والرازي 15/ 109، والقرطبي 7/ 356، ولم أقف عليه في معانيه وهذا القول هو قول الأكثر. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 239، و"معاني النحاس" 3/ 121، وفي "معاني الأخفش" 2/ 317، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 156: (الآصال، واحدها أصيل). وانظر: "تفسير الطبري" 9/ 167، و"نزهة القلوب" ص 88. (¬4) "معاني الزجاج" 2/ 398 وفيه: (الآصال: جمع أُصل والأصل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع وهي العشيات) اهـ. وانظر: "معجم الإبدال والإعلال" للخراط ص 22.

ومنه قول النابغة (¬1): وقفت فيها أصيلًا كي (¬2) أسائلها أي: عشية، ويقال: الأصيل (¬3) مأخوذ من الأصل وهو أسفل كل شيء، وما بعد العصر ينتهي إليه النهار إلى آخر النهار، فقيل لذلك الوقت: أصيل (¬4). ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 9، و"الكتاب" 2/ 321، و"معاني الفراء" 1/ 480، و"المقتضب" 4/ 414، و"الجمل" للزجاجي ص 235، و"اللمع" لابن جني ص 122، و"الصحاح" 4/ 1623 (أصلَ)، و"الإنصاف" ص 148، والقرطبي 7/ 356، و"اللسان" 1/ 89 (أصل) وعجزه: عيت جوابًا وما بالربع من أحد (¬2) في (ب): (أصيلًا لا أسائلها) ورواية الأكثر. (أصيلانًا). قال النحاس في "شرح القصائد المعلقات" 1/ 158 في شرح البيت: (يروى: أصيلًا كي أسائلها، وهو واحد وجمعه أصُل وجمع أصل آصال ويروى: أصيلانًا وفيه قولان: أحدهما: أنه تصغير أصلان، وأصلان جمع أصيل. والثاني: أنه بمنزلة قولهم: على الله التكلان، وقولهم: غفران، وهذا هو الصحيح، والأول خطأ لأن أصلانًا لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد وهو حكم كل جمع كثير. وقوله: عيت أي: عجزت عن الإجابة، والربع المنزل في الربيع ثم كثر استعماله في كل منزل) اهـ. بتصرف. ورواية أصيلال أصله: أصيلان أبدل النون لاما على غير القياس. (¬3) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" 1/ 168. وانظر: "العين" 7/ 156، و"المجمل" 1/ 97، و"مقاييس اللغة" 1/ 109، و"المفردات" ص 78 (أصل). (¬4) في (ب): (أصل).

206

206 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}، قال ابن عباس (¬1) وغيره من المفسرين (¬2): (يعني: الملائكة)، قال الزجاج: (تأويله أنه من قرب من رحمة الله ومن فضله فهو عند الله جل وعز) (¬3). فعلى هذا قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} يراد به: قرب الرحمة والفضل لأقرب المكان (¬4). وقال غيره من أهل المعاني: (هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله عز وجل، يراد بذلك: أنهم بالمكان الذي كلامه وشرفه وجعل الأمور تصدر عنه). وقال بعضهم: (إنما قيل في صفة الملائكة {الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} لأنهم رسل الله إلى الإنس، كما يقال: إن عند الخليفة جيشًا عظيمًا وإن كانوا متفرقين في البلدان) (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 2/ 151. (¬2) قال القرطبي 7/ 356: (يعني: الملائكة بإجماع) اهـ. وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص 188، والطبري 9/ 168، و"معاني الزجاج" 2/ 398، و"إعراب النحاس" 2/ 173، و"تفسير السمرقندي" 1/ 592، والثعلبي 6/ 35 أ، والماوردي 2/ 79. (¬3) "معاني الزجاج" 2/ 398. (¬4) انظر: "تفسير ابن عطية" 6/ 199. (¬5) ذكر هذه الأقوال النحاس في "إعرابه" 1/ 663، والثعلبي 6/ 35 أ، والرازي 15/ 111، والقرطبي 7/ 356، والذي عليه أهل السنة والجماعة وهو ظاهر الآية أن عندية الملائكة عند ربهم عندية فوقية ومن لوازمها عندية القرب والمكانة والتشريف وما ذكره الواحدي وغيره تأويلات ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من صحيح اللغة. انظر: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" للمغراوي ص 98.

وقوله تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. جاء هذا على الجواب لمن استكبر من الناس عن عبادة الله، كأنه قيل: من هو أكبر منك أيها الإنسان لا يستكبر عن عبادة الله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 168، والسمرقندي 1/ 592، والماوردي 2/ 291. إلى هنا انتهى الموجود في نسخة: (ب) وجاء في نسخة: (أ): (تمت المجلدة الثالثة بحمد الله وجميل صنعه، يتلوها في الرابعة -إن شاء الله تعالى- سورة الأنفال، في الثامن والعشرين من ذي الحجة لشهور سنة ست وستمائة هجرية 606هـ. والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين. غفر الله لصاحبه وكاتبه ولمن قال آمين من العالمين. بقلم الفقير إلى الله عثمان بصليق الشافعي).

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الأنفال إلى آية (92) من سورة التوبة تحقيق د. إبراهيم بن علي الحسن أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء العاشر

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الأنفال إلى آية (92) من سورة التوبة تحقيق د. إبراهيم بن علي الحسن أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء العاشر

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, على بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ على بن أحمد الواحدي, إبراهيم بن علي الحسن, الرياض1430هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 3 - 867 - 04 - 9960 - 978 (ج 10) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, على بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430هـ ردمك 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 3 - 867 - 04 - 9960 - 978 (ج10)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)

تفسير سورة الأنفال

تفسير سورة الأنفال 1 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية، قال المفسرون: نزلت الآية حين اختلف أهل بدر في الغنائم، وكان الشبان في ذلك اليوم قتلوا وأسروا، والأشياخ وقفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المصاف، فقال الشبان: لنا الغنائم؛ لأنا أبلينا، وقال الأشياخ: كنا ردءًا لكم، ولو انهزمتم لانحزتم (¬1) إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا (¬2). وقال عبادة بن الصامت (¬3): فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا؛ فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى ¬

_ (¬1) في (ح): (للجوتم)، ومعناهما متقارب. (¬2) هذا معنى أثر عن ابن عباس رواه بلفظ مقارب أبو داود (2737)، كتاب الجهاد، باب في النفل، وسنده صحيح. ورواه أيضًا النسائي في "تفسيره" 1/ 515 (217)، والطبري في "تفسيره" 9/ 172، والحاكم في "مستدركه" 2/ 132، وصححه ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وقال: على شرط البخاري، وانظر الأثر أيضاً في: "تفسير الثعلبي" 6/ 37 ب، وهو مخطوط في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة وله سورة في مكتبة جامعة الإِمام بالرياض (332 - 340)، و"تفسير البغوي" 3/ 323، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 234 - 235. (¬3) هو أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري من سادات الأنصار، وكان أحد النقباء في بيعة العقبة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، توفي عام 34 هـ وقيل غير ذلك. انظر: "سير أعلام النبلاء" 2/ 5، و"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 27.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بيننا على السواء (¬1). والنفل: الغنيمة (¬2) وجمعه الأنفال، ونفلت فلانا نفلاً: أعطيته، والإمام ينفل الجند: إذا جعل لهم ما غنموا، قال الأزهري: وجُماع معنى النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل، وسميت الغنائم أنفالًا لأن ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 322، وفيه: فقسمه رسول الله فينا عن براء. يقول: على السواء. وروى نحوه مطولًا الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير، سورة الأنفال 2/ 326. ورواه أيضًا بلفظ مقارب ابن جرير في "تفسيره" 9/ 172 - 173. (¬2) هذا باعتبار اللغة؛ قال عنترة كما في "ديوانه" ص 193: إنا إذا حمس الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال وقال أوس بن حجر كما في "ديوانه" ص 124: نكصتم على أعقابكم يوم جئتمو ... تزجون أنفال الخميس العرمرم وروى البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنفال 8/ 306 عن ابن عباس قال: الأنفال: الغنائم اهـ. ولكن ينبغي التنبيه إلى أن للشارع استعمالا آخر للنفل وهو ما يعطاه المقاتل من الغنيمة زيادة على قسطه منها لنكايته في العدو، أو شجاعته أو اشتراكه في سرية، ونحو ذلك، وقد جاء هذا في أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلًا كثيراً فكانت سهامهم اثنى عشر بعيرًا أو أحد عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا. رواه البخاري في "صحيحه" (3134) كتاب الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، وعن معن بن يزيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نفل إلا بعد الخمس". رواه أحمد في "المسند" 3/ 470 وسنده صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" 2/ 1254 (7552). وهذا هو اصطلاح الفقهاء في النفل، انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد 1/ 395، و"المغني" لابن قدامة 13/ 53، كما رجّح عدد من المفسرين أن هذا المعنى هو المراد في الآية، وسيأتي بيان ذلك عند الرد على من قال إن الآية منسوخة.

المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، وصلاة (¬1) التطوع نافلة؛ لأنها زيادة أجر للمؤمن (¬2) على ما كتب له من ثواب ما فرض عليه (¬3). ونذكر استقصاء النافلة عند قوله تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] إن شاء الله (¬4). وأما معنى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} فقوله: {يَسْأَلُونَكَ} إخبار عمن لم يسبق ذكره إيجازًا واختصارًا؛ لأن حالة النزول كانت تدل على من سأل وتنبيء عنه، ومثله في القرآن كثير. وأكثر أهل العلم قالوا: معنى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} أي: عن حكمها وعلمها سؤال استفتاء (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" وسميت صلاة التطوع ... إلخ. (¬2) في "تهذيب اللغة" لأنها زيادة أجر لهم على ما كتب من ثواب ما فرض عليهم. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري (نفل) 4/ 3636. (¬4) قال في هذا الموضع: {نَافِلَةً لَكَ} معنى النافلة في اللغة: ما كان زيادة على الأصل، ذكرنا هذا في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} ومعناها أيضاً في هذه الآية الزيادة، قال مجاهد: النافلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - خالصة؛ من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهي نافلة له، من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل له خاصة وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم .. وذهب قوم إلى أن معنى النافلة: التطوع الذي يتبرع به الإنسان، وقالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة عليه، ثم نسخت عنه فصارت نافلة، أي: تطوعًا وزيادة على الفرائض .. (¬5) في (ح): (استقصاء)، وهو خطأ. (¬6) ذكر هذا القول وجهًا في تفسير الآية أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" 3/ 325، والثعلبي في "الكشف والبيان" 6/ 37 ب؛ واختاره السمين الحلبي كما في "الفتوحات الإلهية" 2/ 225، ولم أجد من ذكره عن مفسري الصحابة والتابعين, =

قال الزجاج: وإنما سألوا عنها لأنها كانت حرامًا على من كان قبلهم (¬1). وقيل: (عن) معناه (من) أي: يسألونك من الأنفال أن تعطيهم، فهذا سؤال استعطاء، يدل على هذا المعنى ما روي عن الخليل أنه كان يقول: (عن) هاهنا زيادة صلة، معناه: (يسألونك الأنفال) (¬2)، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود، وهو قول الضحاك وعكرمة (¬3). ¬

_ = وهو قول فيه نظر من عدة أوجه: أولاً: أن الجواب يحدد السؤال، فقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} دليل على أنهم سألوا لمن الأنفال؟، ومن المستحق لها؟ أو أنهم سألوا أن يعطوا منها. ثانيًا: أن أسباب النزول تعين على فهم المراد، وما ورد في أسباب النزول الآية يدور حول ثلاثة أمور: أ- أن بعض الصحابة سألوا شيئًا من الغنيمة، وهذا ما رجحه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 168. ب- أن بعض الصحابة أراد أن يستأثر بما حازه من غنيمة فنزلت الآية تأنيبًا لهم، وهذا معنى سبب النزول الذي ذكره المؤلف في مطلع السورة، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 291 - 295. ثالثًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعد قومًا شيئاً من الغنيمة فاختلف أصحابه -رضي الله عنهم- في ذلك بعد انقضاء الحرب، فنزلت الآية لنزع الغنيمة من أيديهم وتسليمها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع فيها ما يشاء، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم بالعدل. انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 171، وابن أبي حاتم 5/ 1649 - 1653. وبهذا يتبين أن ما ورد من أسباب نزول للآية لا يدل على أن السائل سأل عن حكم الأنفال -كما يقول المؤلف- وإنما سأل عن الأنفال، أو سأل أن يعطى منها. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج 2/ 399. (¬2) انظر: "البحر المحيط" 5/ 269، و"الدر المصون" 5/ 555، دون تعيين القائل. (¬3) رواه عنهما ابن جرير في "تفسيره" 9/ 175.

وقال صاحب النظم (¬1): قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} ليس في هذا بيان أنهم [عن أَيشِ (¬2)] (¬3) سألوا من حكم الأنفال، فلما قال: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} دل ذلك على أن السؤال وقع عن الأنفال لمن هي (¬4). وقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي: أنها لله لا شك في ذلك، وللرسول يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها , ولا مشاجرة فيما يراه منها (¬5)، قال سعد بن أبي وقاص: لما كان يوم بدر جئت بسيف (¬6)، قلت: يا رسول الله، هب هذا لي، فقال: "هذا ليس لي ولا لك لكن اذهب فاطرحه ¬

_ (¬1) هو: أبو علي الجرجاني، وقد سبق التعريف به وبكتابه. (¬2) بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الشين المعجمة، ومعناها: أي شيء، قال الفيومي في "المصباح المنير" 1/ 311: وقالوا: أي شيء، ثم خففت الياء، وحذفت الهمزة تخفيفًا، وجعلا كلمة واحدة فقيل: أيش، قاله الفارابي اهـ. وفي "المعجم الوسيط" 1/ 34: أيش: منحوت من (أي شيء) بمعناه، وقد تكلمت به العرب اهـ. وقال العلامة السهانفوري في "بذل المجهود" 1/ 324: أيش هذا: مخفف أي شيء، قال في "مرقاة الصعود": حكى أبو علي الفارسي في تذكرته: حكى أبو الحسن والفراء أنهم يقولون: أيش لك، والقول فيه عندنا إنه أي شيء لك؟ حذف همزهُ فألقى حركته على الياء فتحرك بالكسر فكره به فسكن فلحقه تنوين فحذف لالتقاء الساكنين، قال: فإن قلت: بقي الاسم على حرف واحد، قيل: حسنه الإضافة اللازمة، فصار لزوم الإضافة مشبهًا له بما في نفس الكلمة، حتى حذف منها كما قيل: فيم، وبم، كذلك أيش اهـ. وقال محمود خطاب في "المنهل المورود" 1/ 65: أيش هذا: بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، وكسر الشين المعجمة، أصلها: أي شيء هذا، فخففت الياء وحذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال وجعلا كلمة واحدة، وهو استفهام إنكاري. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬4) سبق التنبيه إلى أن كتاب "نظم القرآن" للجرجاني مفقود. (¬5) هكذا في جميع النسخ. (¬6) ساقط من (م).

في القبض" (¬1)، فلما نزل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سعد، إنك سألتني السيف وليس لي، وإن قد صار لي فاذهب فخذه" (¬2). وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: بطاعته واجتناب معاصيه، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}. قال المفسرون (¬3): أمروا بالطاعة والجماعة وترك المفارقة والمخالفة، ومعنى (ذات بينكم). قال أحمد بن يحيى (¬4): أي: الحالة التي بينكم (¬5)؛ فالتأنيث عنده للحالة، وهو قول الكوفيين (¬6). وقال الزجاج: معنى ذات بينكم: حقيقة وصلكم، والبين: الوصل (¬7)، فذات عنده بمعنى النفس كما يقال: ذات الشيء ونفسه، ¬

_ (¬1) القبض بفتح الباء بمعنى: المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 4/ 6. (¬2) روى الحديث بألفاظ مقاربة الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 178، وأبو داود (2740) كتاب الجهاد، باب: في النفل، والترمذي (3274) أبواب تفسير القرآن، سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح، والحاكم في "المستدرك" كتاب قسم الفيء 2/ 132، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه عليه الذهبي. وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (1748) كتاب "فضائل الصحابة" باب: في فضل سعد بن أبي وقاص. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 400، و"تفسير السمرقندي" 2/ 4، والبغوي 3/ 326. (¬4) هو: أحمد بن يحيى الشيباني، أبو العباس، الملقب بـ (ثعلب). (¬5) انظر: كلام أبي العباس ثعلب في "تهذيب اللغة" 2/ 1299 (ذات)، وفي "لسان العرب" 3/ 1476 (ذات). (¬6) ذهب الكوفيون إلى أن الاسم في (ذا) الذال وحدها وما عداها تكثير لها، وذهب البصريون إلى أن الذال ليست هي الاسم فيها بل هي بكمالها الاسم. انظر "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 535 , و"تفسير ابن جرير" 9/ 177. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه", له 2/ 400.

وذكرنا معنى (ذات) مستقصى عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} [آل عمران: 119 - 120]. وقال صاحب النظم: (ذات) كناية عن الخصومة والمنازعة هاهنا، وهي الواقعة بينهم. وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال ابن زيد: أسلموا لله ولرسوله [في الأنفال (¬1)] فإنهما يحكمان فيها ما أرادا ويضعانها حيث أرادا (¬2). وقال أبو إسحاق (¬3): أي: اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها (¬4). هذا الذي ذكرنا معنى الآية وتفسيرها، فأما حكمها فقال مجاهد وعكرمة والسدي (¬5): هي منسوخة (¬6)، نسخها قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]، فكانت الغنائم يومئذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فنسخها الله بالخمس، وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي عنه. ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 178 باختلاف يسير. (¬3) إذا أطلق المؤلف هذه الكنية فمراده الزجاج. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 400. (¬5) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكبير الكوفي المفسر، اختلف علماء "الجرح والعديل" في توثيقه، فقال ابن أبي حاتم: لا يحتج به، وقال الذهبي: حسن الحديث، وقال ابن حجر: صدوق يهم، وقد أخرج له الجماعة إلا البخاري، توفي سنة 127 هـ. انظر. "الكاشف" أ 1/ 75 , و"تقريب التهذيب" ص 520 (6481)، و"طقبات المفسرين" للداودي 1/ 110. (¬6) أخرج آثارهم ابن جرير في "تفسيره" 9/ 175.

وقال ابن زيد: الآية ليست بمنسوخة؛ لأن الأنفال لله -لا شك مع الدنيا بما فيها والآخرة-، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله عز وجل بوضعها فيها (¬1). والقول هو الأول؛ لأن قوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} تمليك له إياها وذلك التمليك نسخ بالخمس (¬2)، وابن زيد ذهب إلى أن معنى قوله لله والرسول أن الحكم فيها له، وهذا لم ينسخ. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 176. (¬2) هذا القول فيه نظر، والراجح أن الآية محكمة غير منسوخة، وبيان ذلك من وجوه: أولاً: لا يصح القول بنسخ الآية اعتمادًا على قول السلف بأن هذه الآية منسوخة حتى نتحقق من وجود التعارض، وعدم إمكانية الجمع، ومعرفة التاريخ؛ لأن عادة السلف التوسع في إطلاق لفظ النسخ، فيطلقونه على بيان المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، ونحو ذلك، كما يطلقونه على المعنى المعروف عند الأصوليين وهو رفع الحكم الكلي للآية. انظر: "الموافقات في أصول الأحكام" للشاطبي 3/ 73. ثانيًا: أن الراجح من أقوال المفسرين أن المراد بالأنفال في الآية: ما يعطى المقاتل زيادة على نصيبه من الغنيمة لسبب من الأسباب، وقد رجح ذلك ابن جرير 9/ 175 - 176، وابن كثير 2/ 313 - 316، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 3/ 149. ويشهد لهذا الترجيح "أسباب النزول" فهي وإن كانت متعددة لكنها تعود في الجملة إلى قضية واحدة وهي تنفيل بعض المقاتلين شيئًا من الغنيمة، ومن أصرح ذلك ما رواه أبو أمامة عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سألته عن الأنفال، قال: فينا يوم بدر نزلت، كان الناس على ثلاث منازل: ثلث يقاتل العدو، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى، وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه، فقال الذين جمعوه وأخذوه قد نفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل امرئ ما أصاب فهو لنا دونكم. الحديث رواه الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال 2/ 326، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا" قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = عليهم قال المشيخة: كنا ردءًا لكم، لو انهزمتم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ} الحديث. رواه أبو داود في "سننه" كتاب الجهاد، باب: النفل 3/ 77، وسنده صحيح، ورواه الحاكم في "المستدرك" كتاب قسم الفيء 2/ 131، وصححه ووافقه عليه الذهبي وقال: هو على شرط البخاري. وقد ثبت في "صحيح البخاري" 6/ 246 كتاب الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلًا فله سلبه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل -يوم بدر- القاتل سلب قتيله. فإن قيل: قد ثبت عن ابن عباس أنه فسر الأنفال بالغنائم، كما في "صحيح البخاري" 8/ 306 كتاب: التفسير، باب: قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ...}. فالجواب: أن تفسيره هذا معارض بما ثبت عنه أيضًا أنه فسرها بالتنفيل فقد روى الإمام مالك عن القاسم بن محمد أنه قال: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال: فقال ابن عباس: الفرس من النفل، والسلب من النفل، قال: ثم عاد الرجل لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضاً. انظر: "الموطأ" كتاب الجهاد، ما جاء في السلب في النفل ص 301. وقد روى الأثر نفسه الإِمام عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/249 عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد، ورجال سنده كلهم أئمة. وبما سبق يتبين لنا القول الراجح في المراد بالأنفال، وأنها الزيادة فيما يعطى المقاتل على نصيبه من الغنيمة، وعلى ضوء ذلك تكون الآيتان المدعى فيهما ناسخ ومنسوخ تبينان موضوعين مختلفين فكيف يكون بينهما تعارض؟ ثالثا: القول بأن غنيمة بدر كانت خالصة لرسول الله، وقد قسمها بين المسلمين ولم يخمسها؛ لأن آية الخمس متأخرة في النزول عن آية الأنفال. انظر: "كتاب الأموال" لأبي عبيد ص 426، قول فيه نظر من وجهين: أ- أن تخميس غيمة بدر ثابت في حديث علي - رضي الله عنه - حيث قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني شارفًا من الخمس. رواه البخاري (3091) كتاب الخمس، باب فرض الخمس 4/ 176. والشارف: المسنة من النوق. وروى الدارقطني في "سننه" كتاب السير 4/ 110 (26) عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - =

2

2 - قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية. يقال: وجل يوجل وجلًا فهو وجل وأوجل: إذا فرق وخاف، وقال معن بن أوس (¬1): لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول (¬2) ¬

_ = قال: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر أربعة أسهم، سهمين لفرسي، وسهمًا لي، وسهمًا لأمي من ذوي القربى. ومعلوم أن نصيب ذوي القربى إنما هو من الخمس. فإن قيل: عدم تخميس غنيمة بدر ثابت عن ابن عباس -كما ذكر الواحدي- وعن عبادة بن الصامت كما روى ذلك الحاكم بسند صحيح "المستدرك" 3/ 326. فالجواب: أن المثبت مقدم على النافي؛ لأن عند المثبت زيادة علم. رابعًا: أنه على القول بأن المراد بالأنفال: الغنائم، فإنه لا تعارض بين الآيتين، ووجه ذلك أن اللام في قوله تعالى: {وَالرَّسُولِ} إما أن تكون للتمليك، أو للاختصاص وبيان حق التصرف والقسمة والحكم، فإن كانت للتميك فالآية الثانية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} مخصصة لعموم الأولى، وليست ناسخة لها؛ لأنها لم ترفع جميع حكمها وإنما أبقت بعض الغنيمة لله والرسول. أما إن كانت اللام للاختصاص وبيان حق التصرف والحكم والقسمة فإن الثانية مبينة لإجمال الأولى، فالأولى حكمت بأن حق التصرف والقسمة مختص بالله ورسوله، والثانية بينت حكم الله وقسمته للغنيمة. وبهذا يتبين عدم صحة دعوى النسخ بأي وجه من الوجوه. والله أعلم. (¬1) هو: معن بن أوس بن نصر المزني، شاعر فحل، أدرك الجاهلية والإسلام، توفي سنة 64هـ. انظر: "الإصابة" 3/ 499، و"خزانة الأدب" 7/ 260، و"الأعلام" 7/ 273. (¬2) البيت في "ديوانه" ص 28، وهو مطلع لاميته المشهورة باسم لامية العجم، والتي يستعطف بها صديقه، وكان معن طلق أخته وتزوج بأخرى، فآلى أخوها أن لا يكلمه. والشاعر يريد في البيت: أنه يؤثر أن يكون هو السابق في الوفاة، وهو وجل أن يبقى بعد وفاة صاحبه فيتألم لفراقه، ويذوق مرارة ذلك. انظر: "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 3/ 4132 و"خزانة الآدب" 8/ 291.

قال المفسرون وأهل المعاني (¬1): هذه الآية تتضمن وصف المؤمنين بوجل القلوب عند ذكر الله (¬2). قال الزجاج: تأويله: إذا ذكرت عظمة الله جل وعز وقدرته وما خوف به من عصاه وجلت قلوبهم أي: فزعت (¬3). يقول: إنما المؤمن الذي إذا خوف بالله فرق قلبه وانقاد لأمره خوفًا من عقابه، ومفهومه: ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزل في كتابه، والإشارة فيه إلى إلزام أصحاب بدر طاعة الرسول فيما يرى من قسمة الغنيمة. قال ابن عباس: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: خافت قلوبهم وخشعت لذكر الله (¬4). وقال مجاهد: فرقت قلوبهم (¬5). ¬

_ (¬1) المراد بأهل المعاني: اللغويون الذين تكلموا عن معاني القرآن من جهة اللغة والنحو كالفراء وأبي عبيدة والأخفش والزجاج والنحاس وأبي عبيد وابن قتيبة وابن الأنباري والأزهري، قال الزركشي في "البرهان" 1/ 192: قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني، فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله، وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني، الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا. وانظر نحو هذا القول في: "الإتقان" للسيوطي 1/ 149. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 179، والسمرقندي 2/ 4، ولم أجده عند أهل المعاني. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 400. (¬4) "تنوير المقباس" ص 177 مختصرًا، وقد روى ابن أبي حاتم عنه مثل قول مجاهد. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1655، و"الدر المنثور" 3/ 297. (¬5) رواه ابن جرير 13/ 386، وابن أبي حاتم 5/ 1655، وهو في "تفسير مجاهد" ص 351.

فإن قيل: قوله: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وقوله في آية أخرى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} الرعد: 28. كيف يجمع بينهما والآيتان متدافعتان؛ لأن الوجل خلاف الطمأنينة؟ قيل: هذا جهل وذهاب عما عليه الآيتان لأن الاطمئنان إنما يكون من (¬1) ثلج اليقين (¬2)، وشرح الصدور، ولمعرفة التوحيد والعلم به، وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل الموعود به، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة أو عند خوف الزيغ عن الهدى وما يستحق به الوعيد، فتوجل القلوب لذلك فكل واحدة من الحالتين غير صاحبتها فليس هنا إذًا تضاد ولا تدافع وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين اجتمعا في آية واحدة وهو قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]؛ لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا فانتفى عنهم الشك والارتياب فهو معنى قوله: {تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وهذا كله كلام أبي علي الفارسي (¬3). وقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. قال ابن عباس: يريد تصديقًا ويقينًا (¬4)، وزيادة الإيمان الذي هو التصديق (¬5) يكون على وجهين: ¬

_ (¬1) في (س): (عن). (¬2) في (ح): (النفس)، وهما بمعنى. يقال: ثَلَجَ قلبه وثَلِجَ: تيقن. انظر: "اللسان" (ثلج) 1/ 500. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 1/ 222. (¬4) رواه بنحوه ابن جرير 9/ 179، وابن أبي حاتم 5/ 1656 أمن رواية علي بن أبي طلحة. (¬5) التصديق بعض الإيمان, فإن كان المؤلف يريد أن يبين كيفية زيادة هذا البعض فكلامه مقبول، وإن كان يريد أن يفسر الإيمان بالتصديق فقط فكلامه محل نظر إذ إن الثابت عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان: تصديق الجنان، وقول اللسان، =

4

أحدهما: وهو الذي عليه عامة أهل العلم أن ذلك يكون بانشراح الصدور ووضوح الدليل، فكل من زاده الله شرح الصدر واتضاح الدلائل زاده معرفة ويقينًا، وما من آية ظهرت له إلا زاد تصديقه لقوة المعرفة التي تقوي بها البصيرة؛ لأنه يكون من الشك أبعد، واليقين مهما كان احتمال الشك عنه أبعد كان أقوى، وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح" (¬1). ¬

_ = وعمل الأركان. وزيادة الإيمان تكون بزيادة أحد هذه الثلاثة، فزيادة التصديق تكون بما ذكره المؤلف رحمه الله وزيادة الإيمان بالقول والعمل تكون بزيادة ما يحبه الله ويرضاه من القول والعمل والإحسان فيه. قال الإمام البخاري رحمه الله كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للإمام اللالكائي 5/ 889. وقال أبو عمر بن عبد البر المالكي: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمانا، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعة لا تسمى إيمانًا، قالوا إنما الإيمان: التصديق والإقرار، إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح من الإخلاص. "التمهيد" 9/ 238 - 243. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" 7/ 505. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلاف صوري. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الدمشقي 2/ 462. (¬1) الصحيح أنه من كلام عمر -رضي الله عنه-، ولا يصح رفعه. انظر: "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكانى ص 235.

يريد أن معرفته بالله أقوى وإلا فكان غيره من الصحابة يصدق الرسول كما يصدق هو. الوجه الثاني في زيادة التصديق: أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله، يصدقون بالأول والثاني والثالث، وكل ما يأتي من عند الله؛ فيزيد تصديقهم؛ لأن من صدق إنسانًا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد، وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬1)، يدل على صحة هذا قول مقاتل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}: تصديقًا مع تصديقهم (¬2) بما أنزل عليهم من قبل ذلك من القرآن (¬3). فعلى هذا ما من آية استأنفوا بها تصديقًا إلا ازدادوا إيمانا. وقوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. قال ابن عباس: يريد بالله يثقون، لا يرجون غيره (¬4). 4 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الإشارة في قوله (أولئك) إلى من وصف بالأوصاف التي تقدمت. قال ابن عباس: يقول: (برئوا من الكفر) (¬5)، وقال الكلبي: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} صدقًا منهم لأنه لم يكن يوم بدر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الصادق في إيمانه (¬6). ¬

_ (¬1) يعني الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 401. (¬2) في "تفسير مقاتل": تصديقًا مع إيمانهم مع تصديقهم ... إلخ. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" 118 أ. (¬4) رواه مختصرًا ابن جرير 9/ 179، وابن أبي حاتم 5/ 1656 أ. (¬5) رواه ابن جرير 9/ 180، وابن أبي حاتم 5/ 1657 ب. (¬6) في "تنوير المقباس" ص177 عن الكلبي عن ابن عباس: صدقًا يقينًا.

وقال مقاتل: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} لا شك في إيمانهم كشك المنافقين (¬1)، وقال أهل المعاني: أولئك الذين أخلصوا الإيمان لا كمن كان له اسمه على ظاهر الحال وهم عن ذلك بمعزل لما يشوبه من الفساد (¬2). فأما وجه انتصاب قوله (حقًّا) فمذهب الفراء فيه أنه انتصب على معنى أخبركم بذلك حقًا (¬3)، أي: إخبارًا حقًا، وهذا كما ذكرنا في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151]، فعنده أن هذا نصب من نية الخبر، ومذهب سيبويه وأصحابه أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف دل عليه الكلام (¬4)، قال المبرد: (حقوا حقًّا) (¬5)، ومعنى حقوا حقًا أي: أتوا ما وصفوا به وفعلوه حقًّا صدقًا، من قول العرب: حققته حذره وأحققته أي: فعلت ما كان يحذر (¬6)، وقال الزجاج: (حقًا) منصوب بمعنى دلت (¬7) عليه الجملة وهي قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي: أحق ذلك حقًّا (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 118 أ. (¬2) ذكر معنى ذلك ابن جرير في "تفسيره" 9/ 180 ولم أجد من ذكره من أصحاب المعاني كأبي عبيدة والفراء والأخفش والزجاج والنحاس والأزهري. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 154. (¬4) انظر: "كتاب سيبويه" 1/ 383. (¬5) قال المبرد في "المقتضب" 3/ 266: هذا باب ما وقع من المصادر توكيدًا، وذلك قولك: هذا زيد حقًّا؛ لأنك لما قلت: هذا زيد، فخبرت، إنما خبرت بما هو عندك حق، فاستغنيت عن قولك: أحق ذلك، وكذلك: هذا زيد الحق لا الباطل؛ لأن ما قبله صار بدلاً من الفعل. (¬6) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (حقق) 1/ 216. (¬7) في (ح) و (س): (دل)، وما أثبته من (م) وهو موافق للمصدر التالي. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 401 وقد تصرف الواحدي في عبارة الزجاج.

ومعنى هذا كأنه قال: أخبركم بذلك أحقه حقًا، ومعنى هذا راجع إلى معنى قول الفراء، فعلى قول الزجاج والفراء يعود هذا التأكيد المذكور بقوله (حقًا) إلى إخبار الله تعالى، وعلى قول المبرد يعود إلى تأكيد إيمانهم وتحقيقه، وعلى هذا فكل من استجمع شرائط الإيمان واعتقادها فهو مؤمن في الحال على الحقيقة من غير استثناء (¬1)، وإنما الاستثناء للحالة المقابلة؛ لأن العبد على غير أمن من العاقبة فيرجو الموافاة على الإيمان إن شاء الله [والناس مختلفون في هذا فأهل الحديث ذهبوا إلى أن المؤمن يقول: أنا ¬

_ (¬1) يعني يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل الكلامية التي أشغلت الفكر الإسلامي دون طائل، وقد انقسمت الأمة في هذه المسألة على ثلاث أقوال: أ- قيل إن ذلك محرم، وهو مذهب المرجئة والجهمية الذين يرون أن الإيمان شيء واحد لا تفاضل فيه، فالاستثناء في الإيمان شك فيه -كما يرون-. ب- أن ذلك واجب؛ لأن في تركه تزكية للنفس، وشهادة لصاحبها بأنه من الأبرار المتقين. وهذا قول بعض من ينتسب للحنابلة. ج- أنه محرم إذا كان للشك، جائز فيما عدا ذلك، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد جوزوا الاستثناء في الإيمان لاعتبارات ثلاث: 1 - أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، والمؤمن لا يستطيع أن يجزم بذلك. 2 - أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، فلا عبرة بالإيمان قبل الموافاة عليه، فالمستثني لا يشك في إيمانه وإنما أراد عدم علمه بالعاقبة. 3 - تعليق الأمر بمشيئة الله تعالى، والإخبار أن إيمانه وعدمه مرهون بمشيئة الله كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 7/ 429 - 460، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 494 - 498.

مؤمن إن شاء الله] (¬1) لا على الشك فيما يجب عليه الإيمان به، ولكن على معنى: أن المؤمن الحقيقي من يكون من أهل الجنة، قالوا: وجميع عمر العبد كطاعة واحدة يتوقف بعضها على بعض في الصحة، فإذا شرع في صلاة أو صوم فما لم يفرغ منها ولم يخرج منها على الصحة لا يقال: إنه مصل على الحقيقة وصائم على الحقيقة، وكذلك ما لم تحصل موافاته على السلامة والإيمان لا يعلم أنه مؤمن على الحقيقة (¬2)، فأما في علم الله فيجوز أن يكون مؤمنًا على الحقيقة ولكنا لا ندري ذلك. وقال قوم من أصحابنا (¬3) وهو مذهب الإمام أبي إسحاق الإسفراييني رحمه الله: إنه يكون في الحال مؤمنًا على الحقيقة وإن جاز أن يتغير في العاقبة (¬4)، وليس سلامة العاقبة من شرط استحقاق الاسم على الحقيقة، وتغير (¬5) الأحكام في المستقبل لا يمنع ثبوتها في الحقيقة في الحال كالحركة إذا وجدت بالمحل أوجبت له حكم المتحرك، وجواز (¬6) وجود السكون لا يمنع من استحقاق حكم المتحرك وكذلك في جميع الأسماء المشتقة من معان، قالوا: والأصل في هذا أن الأسامي مبقاة على استعمال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا التعليل يذكره بعض المتأخرين من أصحاب الحديث، ولكنه ليس قول السلف، وإنما المأثور عن السلف بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات كلها فلا يشهدون لأنفسهم بذلك لما فيه من تزكية النفس بلا علم. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 7/ 439. (¬3) يعني الأشاعرة، ومنهم أبو المعالي الجويني في كتاب "الإرشاد" ص 336. (¬4) في (ح) و (س): (الباني)، من غير نقط. (¬5) في (ح): (لغير)، وهو خطأ. (¬6) في (ح): (وهو جواز)، وهذا خطأ من الناسخ.

أهل اللغة، وأهل اللغة لم يطلقوا هذا الاسم بشرط موافاة العاقبة، فللرجل أن يقول: أنا مؤمن حقًا، وأنا مؤمن على الحقيقة، أموت على الإيمان إن شاء الله، وهذا مذهب مخالفينا في هذه المسألة (¬1). وقوله تعالى: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم (¬2)، ونحو هذا قال أهل المعاني: لهم مراتب بعضها أعلى من بعض على قدر أعمالهم (¬3). وقوله تعالى: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قال أهل اللغة: الكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن (¬4)، والكريم: المحمود فيما يحتاج إليه فيه، فالله تعالى يوصف بأنه كريم (¬5)، وقال تعالى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} [النمل: 29]، {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]، ونذكر شرح كل واحد في موضعه، فالرزق الكريم: هو الشريف الفاضل الحسن الممدوح. قال هشام بن عروة: يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب (¬6) وهنيء العيش (¬7). ¬

_ (¬1) يعني المعتزلة والكرامية، انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 7/ 441. (¬2) ذكره أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" 6/ 39 أ. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 401، وروى نحوه ابن جرير 9/ 181 عن عبد الله بن محيريز الجمحي. (¬4) "تهذيب اللغة" (كرم) 4/ 3132، و"لسان العرب" (كرم) 7/ 3861. (¬5) كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]. (¬6) في (م): (المأكل والمشرب). (¬7) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 39 أ، واعتمده ابن جرير تفسيرًا للجملة من الآية =

5

5 - وقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} الآية، اختلفوا في متعلق الكاف في قوله (كما) قال المفسرون: لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال: من قتل قتيلًا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا، ليرغبهم في القتال، فلما أظفر الله بالمشركين وأمكن منهم قال سعد بن عبادة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقوك (¬1) بأنفسهم ولم يتأخروا عن القتال جبنًا ولا بخلًا ببذل مهجهم (¬2)، ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال، فمتى أعطيت هؤلاء مما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون (¬3) وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة لما سمعوا، فأنزل الله عز وجل: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} أي امض لأمر الله في الغنائم كما مضيت لأمره (¬4) في الخروج وهم له (¬5) كارهون (¬6)، وهذا قول الفراء (¬7) وأبي إسحاق (¬8). ¬

_ = دون أن ينسبه إلى أحد. انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 181. (¬1) في (ح): (وقومك)، وهو خطأ. (¬2) في (م): (أنفسهم ومهجهم). (¬3) في "مفاتح الغيب" 8/ 129: فأمسك المسلمون عن الطلب. (¬4) في (م): (له). (¬5) ساقط من (ح). (¬6) انظر: "تفسير الثوري" ص 115، و"المصنف" للصنعاني 5/ 239 ولم يذكرا ما بعد الآية الأولى، وذكره الرازي في "تفسيره" 8/ 129. (¬7) انظر "معاني القرآن" له 1/ 403، وفيه: قام سعد بن معاذ، بدل سعد بن عبادة. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 399.

قال أبو إسحاق: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} ويكون تأويله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون كذلك تنفل من رأيت (¬1) وإن كرهوا، قال: وموضع الكاف في (كما) نصب، المعنى: الأنفال (¬2) ثابتة (¬3) مثل إخراج ربك إياك من بيتك بالحق (¬4). وعلى هذا: الكاف تتعلق بقوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا يدل على أن الله نزعها من أيديهم، ويكون التأويل: نزعها الله من أيديهم بالحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، والكاف بمعنى: مثل، وهو نعت مصدر محذوف على تقدير: الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتًا بالحق مثل إخراج ربك من بيتك بالحق، فالعامل في الكاف: معنى قوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}. قال أبو بكر بن الأنباري: والآية مفتتحة بحرف يتعلق بآية قبلها، وهو سائغ جائز إذ كان أواخر الآيات مجراها مجرى أواخر الأبيات (¬5)، وغير مستنكر أن تفتتح الأبيات (¬6) بألفاظ تتعلق بما قبلها، من ذلك قول امرئ القيس: وقوفًا بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل (¬7) ¬

_ (¬1) عند الزجاج: رأينا. (¬2) في (ج): (أنفال). (¬3) عند الزجاج: ثابتة لك. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 399 - 400. (¬5) في (ح): الأثبات)، وفي (س): (الآيات)، وكلاهما خطأ. (¬6) في (ح): (الأثبات)، وفي (س): (الآيات)، وكلاهما خطأ. (¬7) انظر "ديوانه" ص 3.

قال أبو عباس (¬1): كان أصحابنا ينصبون (وقوفًا) على القطع من: الدخول، وحومل، وتوضح والمقراة (¬2). وقال غيره: نصبه على الحال من الضمير الذي في (نبك) أي: قفا نبك في حال وقوف (¬3) صحبي (¬4)، ولا يختلف أهل اللغة والنحو في تعلق "وقوف" بما ليس بحاضر معه في بيته. وقال ابن قتيبة: يريد أن كراهتهم لما فعلته في الغنائم ككراهتهم للخروج معك، كأنه قال: هذا من كراهتهم كما أخرجك وإياهم ربك وهم كارهون (¬5). وعلى هذا (الكاف) متعلق بمحذوف يدل عليه باقي الكلام؛ لأن ¬

_ (¬1) يعني المبرد، وانظر قوله في "شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات" لأبي بكر الأنباري ص 24، وقد ذكر أبو بكر الأنباري أن أبا العباس لم يرتض ما ذكره عن أصحابه، بل مال إلى القول بأن (وقوفًا) نصب على المصدر و (قفا) والتقدير: قفا كوقوف صحبي على مطيهم. (¬2) قال الأعلم الشنتمري في "شرح ديوان امرئ القيس" ص60: الدخول وحومل: بلدان، وتوضح والمقراة: موضعان. وقال ابن بليهد في "صحيح الأخبار" 1/ 16: الدخول وحومل باقيان بهذا الاسم إلى يومنا هذا، أما الدخول فهو ماء عذب معروف الآن بهذا الاسم يقع شمالي الهضب المعروف بين وادي الدواسر ووادي رنية، أما حومل فهو جبل قريب من الدخول، والمقراة: وادٍ ينصب على جهة الجنوب بين الهضب والسوادة، وقد حرف اليوم إلى القمرا. وتوضح: أرض قريبة من الهضب، يقال لها اليوم (التوضيحات) تقع عن جبل الحمل جنوبًا، والحمل جبل يقع جنوبي الهضب اهـ باختصار. (¬3) في (ح): (وقوفي)، وهو خطأ. (¬4) "شرح القصائد السبع لابن الأنباري" ص 24، ولم يعين القائل. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 221.

مجادلتهم في الأنفال وتشبيه تلك القصة بإخراج الله إياه على كره منهم يدل على كراهتهم، ثم قال: ومن تتبع هذا من كلام العرب وأشعارهم وجده، قال الشاعر (¬1): فلا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر يريد: لا تدفنوني ولكن (¬2) دعوني للتي إذا صيدت يقال لها: خامري أم عامر (¬3)، يعني الضبع لتأكلني، فحذف وأبقى من الكلام ما يدل على المحذوف (¬4). وقال بعضهم: (الكاف) متعلق بما بعده وهو قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} وهذا يحكي عن الكسائي (¬5) وهو معنى قول مجاهد (¬6)، يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك هم ¬

_ (¬1) هو: عمرو بن مالك الشنفرى -وهو شاعر جاهلي واحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم- وقد وقع في الأسر فأنشد هذا البيت مع أبيات. انظر: "طبقات الشعراء" ص 31، و"الحماسة بشرح التبريزي" 3/ 63، و"الأغاني" 21/ 136. (¬2) كرر ناسخ (ح) بعد (لكن) الشطر الثاني من البيت. (¬3) خامري: أي استتري، وأم عامر: الضبع، وهو مثل يضرب للأحمق، والعرب تقول: إن الضبع من أحمق الدواب وهي تصدق ما يقال لها، فلا يزال الصائد يروضها بكلمات حتى يوثق يديها ورجليها، ثم يسحبها , ولو شاءت أن تقتله لأمكنها. انظر: "فضل المقال في شرح كتاب الأمثال" ص 187، و"مجمع الأمثال" 1/ 332. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 221 باختصار. (¬5) ذكر ذلك عنه النحاس في "معاني القرآن" 3/ 131، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 6/ 220، 222، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 322. (¬6) روى ابن جرير 9/ 181 عن مجاهد قال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}، كذلك يجادلونك في الحق: القتال، اهـ. وقد بين ابن جرير معناه بمثل ما ذكر المصنف، ورواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 39 ب بلفظ المصنف.

يكرهون القتال ويجادلونك فيه (¬1). وهذا الوجه اختيار صاحب النظم، وقد سلك في تحقيق هذا التشبيه طريقًا حسنًا فقال: ظاهر هذا النظم يدل على أنه شبه مجادلتهم في الحق وهو مذموم عنده بإخراج الله تعالى إياه من بيته، وهو غير مذموم لأنه من فعله عز وجل، وإذا كان كذلك فلابد من أن نقدر في التشبيه تحريفًا عن موضعه ويكون التشبيه واقعًا في المعنى الباطن على قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لأن الذم وقع على كراهة المؤمنين للخروج كما هو واقع على مجادلتهم في الحق، ويكون التقدير: كما كانت كراهتهم لإخراج الله إياك بالحق يجادلونك في الحق بعد ما تبين، ويجوز أن يدخل حرف التشبيه على شيء، والمراد به ما بعده مما هو متعلق به داخل في قصته (¬2)، كما نقول في حرف الاستفهام، فإنه يدخل على شيء والمستفهم عنه غيره كقوله عز وجل: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. والمعنى: أفهم الخالدون إن مت؛ لأن الاستفهام في الحقيقة واقع على [الخلود دون الموت، وفي ظاهر اللفظ وقع على الموت، وكذلك قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} [آل عمران: 144] الاستفهام في الحقيقة واقع على الانقلاب، وهو في الظاهر واقع على الموت والقتل، كذلك في هذه الآية دخل حرف التشبيه في الإخراج وهو في الحقيقة واقع ¬

_ (¬1) هذا القول رجحه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 182، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" 3/ 132، وجعله ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز" 6/ 220 أحد الوجهين المقبولين في تفسير الآية، والوجه الآخر قول الفراء وأبي إسحاق الذي ذكره المصنف. (¬2) قال الزركشي في "البرهان" 3/ 425: قد تدخل الآداة على شيء؛ وليس هو عين المشبه، ولكنه ملتبس به, واعتمد على فهم المخاطب.

على الكراهة] (¬1). وقال أبو عبيدة: الكاف بمعنى حرف القسم، و (ما) بمعنى (الذي) والتقدير: والذي أخرجك من بيتك بالحق يجادلونك. قال أبو بكر (¬2): وهذا بعيد؛ لأن (الكاف) ليست من حروف الأقسام (¬3)، وأما التفسير فقوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} أي أمرك بالخروج من المدينة ودعاك إليه {مِنْ بَيْتِكَ} يعني المدينة قاله مجاهد والحسن، وابن جريج، وعامة المفسرين (¬4)، قالوا: إن الله تعالى أمر نبيه بالخروج من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) يعني الأنباري، انظر: "البحر المحيط" 5/ 460. (¬3) ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 459 - 463، خمسة عشر قولًا في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} ولم يرتض واحدًا منها بل رجح قولًا جديدًا لم يسبق إليه وهو أن الكاف ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل وأن هناك حذفًا، والتقدير: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} أي بسبب إظهار دينه وقد كرهوا خروجك تهيبًا للقتال، وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله، وأمدك بملائكته. وفي هذا القول نظر من عدة أوجه: أ- عدم اعتماده على المأثور عن السلف وهم أعلم بالتأويل. ب- البعد بين هذه الآية -التي يرى أبو حيان أن فيها حذفًا- والآية التي يراها دليلًا على الحذف وهي قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} إذ يفصل بينهما ثلاث آيات. ج- إن كراهتهم للخروج، وجدالهم لرسول الله لا يصلح علة للنصر، بل علة للفشل كما جاء في السورة نفسها الآية 46: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}. د- إن الأصل عدم التقدير. عـ- إن أبا حيان اعتمد هذا القول بناءً على رؤيا منامية. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 182، والثعلبي 6/ 39، وابن عطية 6/ 222، ونسبه لجمهور المفسرين، وذكر عن ابن بكير أن المعنى كما أخرجك ربك من مكة وقت الهجرة اهـ. وفيه نظر لا يخفى.

المدينة لطلب عير (¬1) قريش، وكره ذلك طائفة من المؤمنين لأنهم علموا أن قريشًا تمنع عيرها منهم، وأنهم لا يظفرون بالعير عفوًا دون القتال فذلك قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي الخروج معك. قال أهل المعاني: وهذه الكراهة من المؤمنين كانت كراهة الطبع؛ للمشقة التي تلحق في السفر (¬2)، لا كراهة أمر الله ورسوله (¬3). وقيل: كانت الكراهة قبل أن علموا أن الله أمر به وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزم على ذلك، هذا قول عامة أهل التفسير (¬4) في هذه الآية. ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) الأولى أن يقال: كراهة الطبع للقاء العدو والقتال؛ لأنهم علموا أن قريشًا لن تترك عيرها كما ذكر ذلك المؤلف بناء على أن هذه الكراهة للخروج من المدينة لتلقي العير، والذي يظهر من سياق قصة بدر كما ذكرها ابن هشام في "السيرة" 2/ 313، وكما يدل عليه قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أن هذه الكراهة إنما حدثت لبعض المؤمنين بعد تحققهم من ذوات العير، ورغبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة الفير؛ ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 183 عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - في لقاء القوم، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس فتعبوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، وكره ذلك أهل الإيمان؛ فأنزل الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، وهذا الأثر وإن كان سنده ضعيفاً ولكنه يتقوى بما جاء بمعناه بأسانيد صحيحة. انظر: "المفسر ابن عباس وتحقيق ما روي عنه". رسالة ماجستير أعدها حمد القرعاوي ص 296. (¬3) لم أقف على مصدره. (¬4) لم أجد أحدًا من المفسرين ذكر هذا القول وهو مرجوح بدلالة قوله تعالى في الآية نفسها {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} مما يشير إلى أنه لا عذر لهم في جدالهم وكراهتهم، قال أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 463: وفي قوله: {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} إنكار عظيم عليهم؛ لأن من جادل في شيء لم يتضح كان أخف عتبًا، أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار.

وقوله تعالى: {بِاَلحَق} أي بالوحي، كأنه أوحى إليه وأمره بالخروج لأن جبريل نزل وأخبره بعير قريش وأمره بالمسير إليها، هذا معنى قول الكلبي (¬1)، قال عطاء عن ابن عباس: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} يريد الهجرة من مكة إلى المدينة (¬2)، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} يريد لتركهم مكة وديارهم وأموالهم. ¬

_ (¬1) روى الثعلبي في "تفسيره" 6/ 39 ب عن الكلبي قال في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} قال: امض على الذي أخرجك ربك من بيتك، وروى الثعلبي أيضاً في "تفسيره" 6/ 40/ ب قصة خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لعير قريش عن ابن عباس وابن زيد وابن يسار والسدي وفيه: فنزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشًا، وروى نحو ذلك ابن جرير في "تفسيره" 9/ 187 عن ابن عباس وابن جريج. (¬2) ذكر هذا القول دون نسبة إلى ابن عباس: البغوي في "تفسيره" 3/ 328، وابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" 3/ 322 وهو ضعيف لما يأتي: 1 - مخالفته لسياق الآيات فما قبل هذه الآية وما بعدها حديث عن غزوة بدر. 2 - مخالفته لأسباب نزول هذه الآية، انظرها في "تفسير ابن كثير" 2/ 319 مع التنبه إلى أن كل سبب بمفرده لا يخلو من مقال فبعضها من كلام مجاهد وبعضها من كلام السدي، وما رفع منها ففي سنده عبد الله بن لهيعة، وقد اختلط بعد احتراق كتبه، كما أنه مدلس وقد عنعن. انظر: "إتحاف ذوي الرسوخ بمن رمي بالتدليس من الشيوخ" ص 33، ولكن مجموع الروايات وأقوال المفسرين مع دلالة السياق يشهد أن الآية نزلت في الخروج إلى بدر. 3 - أن الواحدي لم يذكر سند هذه الرواية حتى يحكم عليه صحة وضعفًا ولم أجد من أسندها. 4 - أن هذا القول مخالف للقول الثابت عن ابن عباس وهو ما رواه البخاري في (4645) كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال عن سعيد بن جبير؛ قال: قلت لابن عباس -رضي الله عنه- سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر اهـ. فلم يخصص منها شيئًا.

6

6 - قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} قال المفسرون: إن عير قريش أقبلت من الشام فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وقال: إن الله، ينفلكموها، فخرجت طائفة كارهة، فلما التقوا أمروا بالقتال ولم يكونوا أعدوا له أهبة، فشق ذلك عليهم وقالوا: هلا أخبرتنا فكنا (¬1) نعد له (¬2)، قال ابن عباس وابن إسحاق: وكان جدالهم نبي الله قولهم: لم تعلمنا قتالًا فنستعد له إنما خرجنا للعير (¬3). وقوله تعالى: {فِي الْحَقِّ} أي في القتال، عن ابن عباس (¬4)، ومجاهد (¬5). وقوله تعالى: {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} (¬6) قال السدي: بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به (¬7). وقال أبو صالح عن ابن عباس: يجادلونك في القتال بعد ما أمرت به (¬8). ¬

_ (¬1) في (س): (لكنا). (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 183، والسمرقندي 2/ 5، والبغوي 3/ 328. (¬3) ذكره عنهما الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 296، وبمعناه ابن جرير 9/ 183 - 184، ولم أجد قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية"، ويبدو أن هذا القول لابن جرير تفسيرًا لقول ابن عباس وابن إسحاق. انظر ابن جرير 9/ 183 - 184. (¬4) رواه ابن جرير 9/ 183 - 184 من رواية الكلبي. (¬5) رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 182، وانظر: "تفسير الإمام أحمد" ص 352. (¬6) في (س): (ما بعد)، وهو خطأ. (¬7) رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 184، وابن أبي حاتم 5/ 1659 - 1660، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 300. (¬8) رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 184.

وقال أبو إسحاق: يجادلونك في الحق بعد ما تبين وعدهم الله عز وجل أنهم يظفرون بأهل مكة أو (¬1) بالعير (¬2)، يريد أن هذا التبين كان بوعد الله إياهم الظفر (¬3). قال أهل المعاني: إنما كانت تلك المجادلة طلبًا للرخصة لأنهم لم يستعدوا للقتال، وقيل عددهم [وكانوا رجالة] (¬4)، ولم يكن فيهم إلا فارسان؛ فخافوا، وحال الصعوبة تخيل إلى النفس الشبهة، وإن كانت الحال ظاهرة والدلالة واضحة (¬5). وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، قال ابن إسحاق: كراهة للقاء القوم (¬6)، يريد أنهم لشدة كراهتهم للقتال كأنهم (¬7) ¬

_ (¬1) في (ح): (وبالعير)، وهو كذلك في "معاني القرآن وإعرابه" وهو خطأ، والصواب (أو) كما في (م) و (س). لأن الله وعدهم إحدى الطائفتين، ولم يعدهم الطائفتين كلتيهما. (¬2) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 401. (¬3) يعني أن الله وعدهم الظفر بأحد الأمرين كما قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7]. فلما فاتهم العير تبين لهم أنه لا بد من مواجهة النفير وأنهم سيظفرون بهم تحقيقًا لوعد الله. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني كالفراء والأخفش وأبي عبيدة والزجاج والنحاس والأزهري وابن قتيبة، وهؤلاء وأمثالهم ممن تكلم عن معاني القرآن من جهة اللغة والنحو هم مراد الواحدي بقوله: قال أهل المعاني، قال الزركشي في "البرهان" 1/ 292 قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله. وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني: الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا. وقد ذكر نحوًا من ذلك السيوطي في "الإتقان" 2/ 3. (¬6) "السيرة النبوية" 2/ 313. (¬7) في (م): (كانوا).

7

يساقون إلى الموت عيانًا، فذلك معنى قوله: {وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، وقال صاحب النظم: أي: يعلمون أنه واقع بهم، ومنه قول النبي (¬1) - صلى الله عليه وسلم -: "من انتفى من ابنه وهو ينظر إليه" (¬2) أي: يعلم أنه ابنه، وقوله عز وجل: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أي: يعلم (¬3). 7 - قوله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} إحدى: تأنيث أحد على غير بنائه (¬4)، كأنهم استأنفوا للمؤنث بناءً كصفراء من أصفر، وعطشى (¬5) من عطشان، و (الطائفتان) العير والنفير في قول المفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) رواه النسائي في "سننه" كتاب الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء من الولد 6/ 179 بلفظ: "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز وجل منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة". وبهذا اللفظ رواه أيضًا أبو داود (2263) "سننه" كتاب الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء، والدارمي في "سننه" كتاب النكاح، باب: من جحد ولده وهو يعرفه 2/ 204 (2238)، والحاكم في "المستدرك" كتاب الطلاق 2/ 203، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. أقول: مدار الحديث على عبد الله بن يونس، وهو مجهول الحال لم يرو عنه إلا يزيد بن الهاد. انظر: "الكاشف" 1/ 610، و"تقريب التهذيب" ص 330 (3722). (¬3) هذا قول في تفسير الآية وتحتمل معنى آخر وهو: يوم يرى عمله مثبتًا في صحيفته خيرًا كان أو شرًّا. "زاد المسير" 9/ 13. (¬4) انظر: "لسان العرب" (وحد) 8/ 4779. (¬5) في (ح) كتبت هكذا: (عطشا). (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 184، و"تفسير السمرقندي" 2/ 6، و"تفسير البغوي" 3/ 328، و"الدر المنثور" 3/ 300 - 301، والمراد بالعير: الإبل التي تحمل تجارة قريش مقبلة من الشام وفيها أربعون رجلاً بزعامة أبي سفيان بن حرب , وأما =

قوله تعالى: {أَنَّهَا لَكُمْ} (أن) في موضع نصب على البدل من (إحدى) قاله الفراء (¬1) والزجاج (¬2)، قالا: ومثله قوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ} [محمد: 18] فـ (أن) في موضع نصب كما نصبت الساعة، ومثله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25] (أن) في موضع رفع بـ (لولا) (¬3)، وقال أبو علي الفارسي: (إحدى) في موضع نصب بأنه المفعول الثاني و (أنها لكم) بدل منه، والتقدير: وإذ (¬4) يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين، أو ملك إحدى الطائفتين، ونحو هذا مما يدل عليه (لكم). وقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} قال ابن عباس: يريد التي ليس فيها حرب ولا قتال (¬5)، وقال الزجاج: أي تودون أن الطائفة التي ليست فيها حرب ولا سلاح -وهو (¬6) الإبل- تكون لكم، و (ذات الشوكة) أي: ذات السلاح (¬7). ¬

_ = النفير فهم كفار قريش الذين نفروا بزعامة أبي جهل لحماية عيرهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. انظر. "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 244 - 247 (¬1) "معاني القرآن" له 1/ 404. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" له 2/ 402. (¬3) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع، والزجاج لم يذكر الآية الأولى وهي قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ}. (¬4) في (م): (والله)، وهو خطأ. (¬5) "تنوير المقباس" ص 177 بمعناه. (¬6) في "معاني القرآن وإعرابه": وهي، والمقصود: الإبل التي مع أبي سفان وهي العير. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 1/ 2/ 402.

وتأنيث (ذات) لأن المراد بها الطائفة , والمعنى: وتودون أن الطائفة غير ذات الشوكة تكون لكم، وأما (الشوكة) فهي هاهنا السلاح (¬1)، وأصلها: النبت الذي له حد، شبّه السلاح به، ومنه يقال: رجل شائك السلاح إذا كان حديد السنان والنصل، وهو فاعل من الشوك، ثم يقلب شائك فيقال: شاكي السلاح، كما يقال: جرف هار، وهاير، ومنه قول زهير: لدى أسد شاكي السلاح ضبارم (¬2) ... له لبد أظفاره لم تقلم (¬3) قال أبو عبيد: الشاكي والشائك (¬4) جميعًا: ذو الشوكة والحد في سلاحه (¬5). وكما يوصف الرجل بهذا يوصف السلاح أيضًا به، فيقال: سلاح (¬6) شاك وشائك، قال عنترة: ¬

_ (¬1) انظر: "جمهرة اللغة" (ش ك و) 2/ 878، و"الصحاح" (شوك) 4/ 1595. (¬2) الضبارم، بضم الضاد: الأسد الشديد الخَلق، ويطلق على الرجل الشجاع الجريء على الأعداء. انظر: "لسان العرب" (ضبرم) 4/ 2548. (¬3) "ديوانه" بشرح أبي العباس ثعلب ص 23، وفيه: شاكي السلاح مقذف، وكذلك هو في رواية الشنتمري في "شرح الديوان" ص 21. والمقذف: الغليظ اللحم، واللبد: الشعر المتراكب على زبرة الأسد، كما في المصدرين السابقين. (¬4) في (م): (الشائك والشاكي). (¬5) "لسان العرب" 4/ 2362 - 2363 (شوك). (¬6) ساقط من (س).

فتعرفوني أنني أنا ذاكم ... شاك سلاحي في الحوادث معلم (¬1) ومنه قول المجدث (¬2): وألبس من رضاه في طريقي ... سلاحًا يذعر الأبطال شاكا (¬3) وهذا من قولهم: هو شاك السلاح بحذف الياء، كما قالوا رجل مال (¬4): ذو مال، ونال من النوال (¬5)، وكبش صاف (¬6): ذو صوف، وكذلك رجل شاك (¬7)، وسلاح شاك (¬8)، فأما قولهم: شاكّ في السلاح بالتشديد مع (في) فمعناه: ذو شكة، والشكة: السلاح (¬9). ¬

_ (¬1) نسب المؤلف هذا البيت لعنترة، وليس في "ديوانه"، ولم أجد من نسبه له، والصحيح أنه لطريف بن تميم العنبري. كما في "الأصمعيات" ص 128، و"شرح شواهد الشافعية" ص 270، و"كتاب سيبويه" 3/ 466، و"معاهد التنصيص" 1/ 204. (¬2) لم يتبين لي من هو ولم يذكر في "كتاب ألقاب الشعراء" من سمي بالمجدث أو ما يقاربه. (¬3) انظر البيت بلا نسبة في "البحر المحيط" 4/ 455، و"الدر المصون" 5/ 569. (¬4) في "لسان العرب" 7/ 4300 (مول). رجلٌ مال: ذو مال، وقيل كثير المال، كأنه قد جعل نفسه مالاً، وحقيقته: ذو مال. (¬5) في "لسان العرب" 8/ 4583 (قول): رجل نال -بوزن بالٍ-: جواد، وهي في الأصل: نائل. (¬6) في "لسان العرب" 4/ 2527 - 2528 (صوف): (كبش أصوف وصَوِف، على مثال (فَعِل) وصائف وصافٌ وصاف، الأخيرة مقلوبة، وصوفا في كل ذلكَ: كثير الصوف. (¬7) بضم الكاف وكسرها. انظر "لسان العرب" 4/ 2309 (شكك). (¬8) في "القاموس المحيط" 4/ 2362 - 2363 (شوط): رجل شاكُ السلاح، وشائكه، وشوكه، وشاكيه، حديده. وفي "لسان العرب" 10/ 454 (شوك): رجل شاكي السلاح وشاكُ السلاح، برفع الكاف، مثل جرف هارٍ وهارٌ، ومن قال: شاك السلاح، بحذف الياء فهو كما يقال: رجل مال ونال: من المال والنوال، وإنما هو مائل، ونائل. (¬9) في "لسان العرب" 4/ 2309 (شكك): الشاكُّ في السلاح: وهو اللابس السلاح التام.

وقوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} قال ابن عباس: {يُحِقَّ الْحَقَّ} يظهر الإسلام (¬1)، وقال أهل المعاني (¬2): معنى يحق الحق: يظهره ويعليه لأن الحق حق حيث كان، ولكنه إذا لم يكن ظاهرًا أشبه الباطل؛ لأن من صفة الحق ظهوره، فإظهاره تحقيق له من هذا الوجه (¬3). وقوله تعالى: {بِكَلِمَاتِهِ}، قال ابن عباس: أي بعداته (¬4)، وقال عطاء عنه (¬5): موعود من الله قد سبق في علمه، ووعد نبيه بذلك في سورة الدخان: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} (¬6) يريد: ننتقم له من أبي جهل (¬7)، فـ (كلماته) على هذا ما قد أخبر به من إظهار الحق وإعزازه ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 3/ 324، وقد ورد نحوه في التفسير المنسوب لابن عباس والمطبوع باسم "تنوير المقباس من تفسير ابن عباس" ص 177. وهذا الكتاب مع عدم صحة نسبته إلى ابن عباس فإن جامعه -والمشهور أنه الفيروز أبادي- قد رواه بشده عن محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذه هي سلسة الكذب. انظر: "الإتقان" 3/ 215. (¬2) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني، وقد ذكر نحو هذا القول أبو السعود في تفسيره "إرشاد العقل السليم" 4/ 7. (¬3) بين الراغب الأصفهاني أن إحقاق الحق على ضربين: أحدهما: بإظهار الأدلة والآيات، والثاني: بإكمال الشريحة وبثها في الكافة. انظر: "المفردات في غريب القرآن" ص 125 (حقق). (¬4) لم أجد من رواه عنه، وقد ذكر هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 324 دون أن ينسبه لأحد، ومعناه: بوعوده السابقة بأن يظهر الدين. (¬5) ساقط من (س)، وفي (ح): وقال: طاعته موعد ... إلخ. وهو خطأ، ولم أجد من ذكر هذه الرواية. (¬6) الآية 16. (¬7) هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أحد طواغيت قريش وأبطالها =

8

بقوله (¬1): {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬2) على ما تقدم به وعده (¬3). وقال بعضهم: (بكلماته) أي بأمره إياكم أن تجاهدوهم (¬4). قوله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} قد ذكرنا الكلام في معنى (الدابر) فيما تقدم (¬5)، قال أبو إسحاق: أي: ظَفَركم بذات الشوكة أقطع (¬6) لدابرهم (¬7)، وفي هذا بيان عن النعمة عليهم بالظفر بقريش حين خرجوا (¬8) يحمون العير، وإن كرهوا هم ذلك، وأن ما أراد الله لهم كان خيرًا مما أرادوا هم. 8 - قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} اللام في صلة قوله (يقطع) أي: يقطع دابرهم ليحق الحق، قال ابن عباس: يريد أن يحق الله مواعيده للمؤمنين (¬9)، وذكرنا أن معنى إحقاق الحق إظهاره وإعلاؤه على غيره (¬10). ¬

_ = ودهاتها في الجاهلية، وكان أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قتل يوم بدر سنة 2 هـ. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 215 - 417، و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 206، و"الأعلام" 5/ 87. (¬1) الجار والمجرور متعلقان بقوله: أخبر. (¬2) التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9. (¬3) الذي ذهب إليه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 188 - 189، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 145 أن المراد بـ (كلماته): آياته المنزلة في قتال الكفار، وذهب مقاتل في "تفسيره" 118 ب إلى أن المراد بذلك ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) انظر: التعليق السابق. (¬5) انظر: "تفسير البسيط" الأنعام: 45. (¬6) في (ح): (أو قطع)، وهو خطأ. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 402. (¬8) في (م): (دخلوا)، وهو خطأ. (¬9) ذكر نحوه ابن الجوزي دون نسبة إلى ابن عباس، انظر: "زاد المسير" 3/ 324. (¬10) انظر: تفسير الآية السابقة.

9

وقوله تعالى: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي: يعدمه ويهلكه؛ لأن الباطل باطل، وكان الكفر باطلاً قبل بدر، ولكن معنى إبطاله ههنا: إعدامه, كما أن معنى إحقاق الحق: إظهاره، وإلى هذا [أشار ابن عباس في معنى (يبطل الباطل) فقال: يريد: {وَيَقْطَعَ (¬1) دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] ألا ترى أنه] (¬2) أشار إلى إعدامهم وإهلاكهم (¬3)، وقال صاحب النظم: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي: يفني الكفر، والآية بيان عن إرادة الله تعالى إظهار الحق وإعدام الباطل به على كره من المشركين، وإعزاز للمسلمين. 9 - قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية، يجوز أن يكون العامل في (إذ)، (ويبطل الباطل) فتكون الآية متصلة بما قبلها (¬4)، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير: واذكر إذ، بمعنى التذكير بالنعمة (¬5). وقوله تعالى: {تَسْتَغِيثُونَ} أي تطلبون منه المغوثة (¬6) [والغوث والإغاثة] (¬7)، ويقول الواقع في بلية: أغثني، أي: فرج عني، ومعنى الإغاثة والغوث والمغوثة: سد الخلة في وقت الحاجة (¬8)، وقال المفسرون (¬9): ¬

_ (¬1) في (س): (قطع). (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في (ح). (¬3) لم أجد من روى عن ابن عباس ما ذكره الواحدي سوى الفيروز أبادي في "تنوير المقباس" ص 177، حيث قال: (ويبطل الباطل): يهلك الشرك وأهله. (¬4) وهذا ما ذهب إليه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 189. (¬5) في (ج) و (س): التذكر. (¬6) في (م): (المعونة). (¬7) ما بين المعقوفين مكرر في (ح). (¬8) انظر: "معجم مقاييس اللغة" (غوث) 4/ 400. (¬9) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 189، والثعلبي 6/ 41 ب، والبغوي 3/ 332.

{تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، وذلك أن المهاجرين والأنصار لما رأوا أنفسهم في قلة عدد استغاثوا، قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (¬1)، قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف (¬2) استقبل القبلة (¬3) ومد يده يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، الله إن تهلك هذه العصابة من أهل (¬4) الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه، فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} (¬5). وذكرنا معنى الإمداد في آخر سورة الأعراف وفي سورة آل عمران. وقوله تعا لي: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وقرأ نافع (¬6) بفتح الدال (¬7)، ¬

_ (¬1) من (م). (¬2) النيف: من واحد إلى ثلاث، وكل ما زاد على العقد فهو نيف. انظر" "لسان العرب" 8/ 4579 (نوف). ورواية المصنف هذه موافقة لرواية الإمام أحمد في "المسند"، وفي "صحيح مسلم": ثلاثمائة وتسعة عشر، وفي "سنن الترمذي": ثلاثمائة وبضعة عشر. (¬3) ساقط من (ح). (¬4) ساقط من (م). (¬5) رواه بلفظ مقارب مع زيادة: مسلم في "صحيحه" (1863) كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/ 1383 (1863)، والترمذي (3275) "كتاب تفسير القرآن"، سورة الأنفال، وأحمد في "المسند" 1/ 30. (¬6) هو: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم المدني، أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته. (¬7) انظر: كتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني ص 116، و"تقريب النشر في القراءات العشر" لابن الجزري ص 118، وقد قرأ بالفتح أيضاً أبو جعفر ويعقوب، انظر: المصدر السابق، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" للدمياطي ص 236.

قال الفراء: أما (مُرْدِفين) متتابعين، و (مُرْدَفين) فُعل بهم (¬1)، وقال الزجاج: يقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده، ومعنى (¬2) (مردفين) يأتون فرقة بعد فرقة (¬3). واختلف أهل اللغة في (ردف وأردف) والأكثرون على أنهما بمعنى. [قال] (¬4) ثعلب عن ابن الأعرابي (¬5): يقال: (ردفته وأردفته واحد) (¬6). وقال أبو عبيد عن أبي زيد (¬7): ردفت الرجل وأردفته: إذا ركبت خلفه، وأنشد: إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 404. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: فمعنى. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 402. (¬4) إضافة من المحقق. (¬5) هو: محمد بن زياد بن الأعرابي أبو عبد الله الكوفي الهاشمي مولاهم، تقدمت ترجمته. (¬6) "تهذيب اللغة" 2/ 1394 (ردف)، ونصه: ردفته وأردفته بمعنى واحد. (¬7) هو: سعدي بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيد البصري، صاحب النحو واللغة، كان صدوقًا علامة حافظًا لنوادر والشعر، توفي سنة 214 هـ. انظر: "مراتب النحويين" ص 73، و"نزهة الألباء" ص 101، و"إنباه الرواة" 2/ 30, و"سير أعلام النبلاء" 9/ 494. (¬8) البيت لحزيمة بن نهد بن زيد بن ليث القضاعي، وهو شاعر جاهلي قديم. وحزيمة: بالحاء المهملة المفتوحة، وكسر الزاي، وانظر: " الأغاني" 13/ 78، و"معجم ما استعجم" 1/ 19، و"المعارف" ص 342. وقيل إن البيت لخزيمة -بالخاء المعجمة- ابن مالك بن زيد. انظر "اللسان" (ردف) 3/ 1625. والمعنى: إذا الجوزاء تبعت الثريا، وذلك إبان اشتداد الحر وجفاف المياه، وتفرق الناس في طلبها، فحينئذٍ تغيب عنه محبوبته فتسيء ظنونه، وتشتد همومه. (¬9) انظر: قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" 2/ 1394 (ردف).

ومعناه: جاءت على ردفها، أي: تبعتها ورؤيت (¬1) خلفها. وفصل آخرون بينهما، فقال الزجاج: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبته خلفي، وأردفت الرجل: إذا جئت بعده (¬2). وقال شَمِر: ردفت وأردفت: إذا فعلت ذلك بنفسك، فإذا فعلت بغيرك: فأردفت لا غير (¬3). فمن قرأ (مردِفين) بكسر الدال (¬4) فمعناه: أن بعضهم في إثر بعض، كالقوم الذين ترادفوا على الدواب؛ كما ذكره الفراء (¬5) والزجاج (¬6)، وهو قول قتادة والسدي: متتابعين (¬7)، واختار أبو حاتم هذه القراءة، وقال: معناه: بألف من الملائكة جاءوا بعد المسلمين على آثارهم، يقال: ردفه وأردفه: إذا جاء بعده؛ كما قال: أردفت الثريا: أي جاء (¬8) بعدها (¬9). وروي عن أبي عمرو: أردف بعضهم بعضًا: من الإرداف، وهو أن يحمل الرجل صاحبه خلفه (¬10)، وأنكر أبو عبيد هذا وقال: لم يسمع هذا في صفة الملائكة (¬11). ¬

_ (¬1) في (س): (وردفت). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 402. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 1394 (ردف). (¬4) وهي قراءة السبعة غير نافع، انظر: كتاب "السبعة" ص 304، و"التيسير في القراءات السبع" ص 116، و"تقريب النشر" ص 118. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 404. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 402. (¬7) رواه عنهما ابن جرير 9/ 191، وابن أبي حاتم 5/ 1663. (¬8) هكذا في جميع النسخ. (¬9) انظر: قول أبي حاتم في "الوسيط" 2/ 446. (¬10) انظر قول أبي عمرو في: "تفسير ابن جرير" 9/ 191، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 307. (¬11) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 199, و"الدر المصون" 5/ 576.

ومن قرأ بفتح الدال فمعناه: بألفٍ أردف الله المسلمين بهم وأمدهم بهم، وهو قول مجاهد, قال: الإرداف: إمداد المسلمين بهم (¬1)، واختار أبو عبيد هذه القراءة (¬2)، وروي عن الفراء وأبي عبيدة قالا: من فتح الدال أراد: جيء بهم بعدهم وأمدوا بهم، فهم ممدون بهم (¬3)، وتفسير ابن عباس يدل على القراءتين لأنه قال: مع كل ملك ملك (¬4) , وهذا يحتمل الوجهين؛ لأنك إن كسرت كان معناه: متتابعين، وإن فتحت كان المعني: أنهم جعلوا كذلك، قال أبو علي: من كسر الدال احتمل وجهين أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، كما تقولي: أردفت زيدًا دابتي، فيكون المفعول الثاني محذوفًا من الآية، وحذف المفعول كثير (¬5). ويقوي هذا الوجه الذي ذكره أبو علي ما قال عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يريد ألفًا بعد ألف (¬6). ¬

_ (¬1) في "تفسير الإمام مجاهد" ص 352، و"تفسير ابن جرير" 13/ 413، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" 4/ 30، عن مجاهد في قوله تعالى: {مُرْدِفِينَ} قال: ممدّين اهـ. فلعل المصنف ذكر قول مجاهد بالمعنى. (¬2) انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 307. (¬3) في "معاني القرآن" للفراء 1/ 404: (مردَفين): فعل بهم اهـ. "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 241: ومن قرأها بفتح الدال وضعها في موضع (مفعولين) من أردفهم الله من بعد من قبلهم وقدامهم. (¬4) رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 192 بإسناد فيه قابوس بن أبي ظبيان، وهو ضعيف لا يحتج به كما في الكاشف 2/ 334. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 124. (¬6) أكثر المؤلف من ذكر رواية عطاء عن ابن عباس بل بنى عليها تفسيره هذا وكذلك, و"الوسيط" , و"الوجيز", ولم أجد لها ذكرًا في كتب التفسير كـ"تفسر عبد الرزاق" , =

قال: والوجه الآخر في (مردفين) أن يكونوا جاءوا بعد المسلمين، قال الأخفش: تقول العرب: بنو فلان يردفوننا، أي: يجيئون بعدنا (¬1)، وقال أبو عبيدة: (مردفين) جاءوا بعد، وردفني وأردفني واحد (¬2)، قال أبو علي: وهذا الوجه كأنه أبين لقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية، فقوله (مردفين) جائين بعد لاستغاثتكم (¬3) ربكم وإمداده إياكم، ومن فتح الدال ¬

_ = و"ابن جرير"، و"ابن أبي حاتم"، و"الثعلبي"، و"البغوي"، و"الدر المنثور"، وغيرها. وقد يذكرها في أحيان قليلة الفخر الرازي وابن الجوزي، وهما يكثران النقل من "البسيط"، وفي القلب شيء من صحة هذه الرواية لما يأتي: 1 - أن هذه الرواية مفسرة لجميع آيات القرآن، وهذا غير معهود عن السلف، قال الخليلي: هذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية ورواتها مجاهيل. "الإتقان" 2/ 241. 2 - أن الإِمام الشافعي رحمه الله قال: لم يثبت في التفسير عن ابن عباس إلا شبيه بمائة حديث. انظر: المصدر السابق ص 242، ولعل الشافعي لم تصح عنده رواية علي بن أبي طلحة الوالبي إذ هي في الأصل منقطعة، لكن عرفت الواسطة وهو ثقة. انظر: "التفسير والمفسرون" 1/ 78. 3 - أن هذه الرواية قد تخالف الرواية الصحيحة عن ابن عباس. أقول: تبين لي فيما بعد أن هذه الرواية موضوعة، وقد تقدم ذلك عند الحديث عن مصادر المؤلف، في مقدمة التحقيق. (¬1) "الحجة للقراء السبعة"4/ 125، و"فتح الباري" 8/ 307، ولم أجده في "معاني القرآن". (¬2) قول أبي عبيدة هذا ذكره بنصه أبو علي الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 125، ونص قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 241 (مردفين) مجازه: مجاز فاعلين، من أردفوا، أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول: ردفني. أي جاء بعدي، وهما لغتان. (¬3) في (ح): (استغاثتكم).

10

فهم مردَفون، على: أردفوا الناس أي: أُنزلوا بعدهم (¬1). 10 - قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} قال الفراء هذه (الهاء) للإرداف أي: ما جعل الله [الإرداف إلا بشرى (¬2)، وقال الزجاج: أي: ما جعل الله المدد] (¬3) إلا بشرى (¬4)، وهذا أولى لأن الإمداد بالملائكة كانت البشرى (¬5)، وقال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في العريش قاعدًا يدعو وكان أبو بكر قاعدًا على يمينه معه، ليس معه غيره، فخفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نعسة نعسها ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر فقال: أبشر بنصر الله فلقد رأيت في منامي بقلبي -والأنبياء إذا ناموا لا تنام قلوبهم ينظرون بها كما ينظرون بأبصارهم وهم مستيقظون- جبريل يقدم الخيل فبشره بإمداد الله إياهم بالملائكة (¬6)، وهذه الآية مفسرة ومشروحة في سورة آل عمران. ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 125، وقد تصرف الواحدي في عبارة أبي علي واختصرها. (¬2) اهـ. كلام الفراء. انظر: "معاني القرآن" 1/ 404. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬4) اهـ. كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 403. (¬5) هكذا في جميع النسخ، وعبارة الرازي في "تفسيره" 15/ 131: وهذا أولى لأن الإمداد بالملائكة حصل بالبشرى، وفي كلتا العبارتين غموض. (¬6) رواه بلفظ مقارب عن ابن عباس ابن إسحاق، انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 266 - 268، وروى البخاري أوله بمعناه في "صحيحه" (2915) كتاب الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك روى البخاري بعضه بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب"، "صحيح البخاري" (3995) كتاب المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا، كما روى قضية رؤية النبي بقلبه عن أنس بلفظ: فيما يرى قلبه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نائمة عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، و"صحيح البخاري" كتاب الأنبياء، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه ولا ينام قلبه 5/ 33.

11

11 - قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ}. قال الزجاج: (إذ) موضعها نصب على معنى: وما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت، قال: ويجوز أن تكون على (¬1): اذكروا إذ يغشيكم (¬2) النعاس (¬3). واختلف القراء في {يُغَشِّيكُمُ} فقرؤوا (¬4) من غشي ومن أغشى ومن غشّى (¬5)، فمن قرأ (يغشاكم) فحجته قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى} [آل عمران: 154] فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس أو الأمنة التي هي سبب النعاس؛ كذلك في هذه الآية، ومن قرأ (يُغْشِيكم) أو (يُغَشّيكم) فالمعنى واحد، وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] وقال {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 54] وقال: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} [يونس: 27]،وإسناد الفعل في هذا إلى الله تعالى أشبه بما بعده من قوله (وينزل) (ويذهب). وقوله {أَمَنَةً} منصوب مفعول له كقولك: فعلت ذلك حذر الشر، والتأويل: إن الله جل وعز أمنهم أمنًا حتى غشيهم النعاس بما وعدهم من النصر (¬6). ¬

_ (¬1) عبارة الزجاج هكذا: ويجوز على أن يكون. (¬2) في (ح) و (س): (يغشاكم)، وما في (م) موافق للمصدر التالي. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 403. (¬4) في (ج): (فقريء). (¬5) إذا كان الفعل (غشي) فالقراءة (يغشاكم)، وإذا كان الفعل (أغشى) فالقراءة (يُغْشِيكم)، وإذا كان الفعل (غشى) فالقراءة (يُغَشّيكم) والقراءة الأولى لابن كثير وأبي عمرو، والثانية لنافع، والثالثة لعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "التبصرة في القراءات" ص 221، و"تقريب النشر" ص 118، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 236. (¬6) التعليل بأن الأمن بسبب وعدهم بالنصر يحتاج إلى دليل ولم أجده، ويشكل على =

قال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنةً من الله، وفي الصلاة من الشيطان (¬1). وغشيان النعاس أصحاب بدر، كغشيانه إياهم يوم أُحد، وقد ذكرنا الكلام فيه وفي قوله {أَمَنَةً}، في سورة آل عمران. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ذكر أهل التفسير (¬2) أن المسلمين لما بايتوا المشركين ببدر أصابت جماعة منهم جنابات احتاجوا لها إلى الماء فساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء وغلبوهم عليه (¬3)، فوسوس إليهم الشيطان أن ذلك عون من الله للعدو، وقال لهم: كيف ترجون الظفر عليهم وقد غلبوكم على الماء (¬4) وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين وتزعمون أنكم أولياء ¬

_ = هذا التعليل نزول الأمن عليهم بعد معركة أحد كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154]، ثم إن التعبير بقوله (أمنة منه) في قصة بدر، وبقوله: {أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} في قصة أحد ما يؤكد أن الأمن فيض من الله، ونفحة من نفحات رحمته على عباده المؤمنين سواء وعدوا بالنصر أم لم يوعدوا. (¬1) رواه ابن جرير 9/ 193 - 194، والسمرقندي 2/ 9، والثعلبي 6/ 42 ب، والبغوي 3/ 334. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 13/ 412 - 426، والثعلبي 6/ 43 أ، و"الدر المنثور" 4/ 32، 33. (¬3) في (ج): (إليه). (¬4) تضاربت الروايات فيمن غلب على الماء، فالمشهور أن المسلمين غلبوا عليه، وصنعوا حوضًا كبيرًا، وقد روى ذلك البيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 321 عن ابن شهاب وعروة بن الزبير وعاصم بن عمر وموسى بن عقبة، ورواه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 2/ 259 - 260 عن رجال من بني سلمة، وكلا الإسنادين غير متصل. وروى ابن جرير 9/ 195 عن ابن عباس أن المشركين هم الذين غلبوا على الماء، =

الله وفيكم نبيه؟! فأنزل الله تعالى مطرًا أسال منه الوادي حتى اغتسلوا وتطهروا وزالت الوسوسة؛ فذلك قوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجنابة، {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي وسوسته التي تكسب عذاب الله وغضبه، ولذلك سمى الوسوسة رجزًا (¬1)، ومضى الكلام في الرجز وأن معناه العذاب (¬2)، ومن المفسرين من يحمل رجز الشيطان على الجنابة وهي من الشيطان (¬3). ¬

_ = لكن سند هذه الرواية مسلسل بالضعفاء, وهم أسرة العوفي، انظر: "تفسير ابن جرير" 1/ 263 حاشية (1)، وقد أبدع المحقق في بيان ذلك. وهناك رواية أخرى عن ابن عباس عند ابن جرير 9/ 196 تفيد أن المشركين غلبوا على الماء أول الأمر، وسندها ضعيف أيضًا لأن أحد رجالها مدلس وهو ابن جريج، ولم يصرح بالتحديث. انظر: "إتحاف ذوي الرسوخ بمن رمي بالتدليس" ص 37. والذي صح عن ابن عباس ما رواه ابن جرير 9/ 195 من رواية علي بن أبي طلحة أنه قال: نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء .. إلخ. لكن هذه الرواية ليست نصًّا في غلبة المشركين على الماء لاحتمال وصول المسلمين إليه بعد نزول المطر، وأما قوله: (وقد غلبكم المشركون) فهو من وسوسة الشيطان لا حقيقة. والله أعلم. (¬1) قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 471 الرجز: العذاب. قال تعالى -حكايته عن قوم فرعون-: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134] أي العذاب، ثم قد يسمى كيد الشيطان رجزًا؛ لأنه سبب العذاب، قال الله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}. (¬2) البقرة: 59. (¬3) انظر: "البحر المحيط" 5/ 283، و"تفسير الفخر الرازي" 15/ 138.

12

وقال عطاء: رجز الشيطان: تخويفه إياهم بالعطش (¬1)، وهذا أيضًا نوع من الوسوسة. وقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} قال ابن عباس: باليقين والعز والنصر (¬2)، ومعنى الربط في اللغة: الشد، ذكرنا ذلك في قوله: {وَرَابِطُواْ} [آل عمران:200] ويقال: لكل من صبر عل أمر: ربط قلبه، كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب، ويقال: رجل رابط الجأش، قال الأصمعي: هو الذي يربط نفسه يكفها بجرأته (¬3) وشجاعته (¬4)، ومنه قول لبيد: رابط الجأش على كل وجل (¬5) ويشبه أن يكون (على) هاهنا صلة، والمعنى وليربط قلوبكم بالصبر (¬6) وما أوقع فيها من اليقين فتثبت ولا تضطرب. وقوله (¬7): {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} قال المفسرون: وذلك أن المسلمين كانوا [قد نزلوا] (¬8) على كثيب تغوص فيه أرجلهم، فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام (¬9)، والكناية تعود على الماء. ¬

_ (¬1) لم أعثر عليه فيما بين يدي من مراجع. (¬2) لم أجد من ذكره عن ابن عباس، وقد ذكر ابن الجوزي عنه أنه قال: بالصبر، انظر: "زاد المسير" 3/ 328. (¬3) في "تهذيب اللغة": لجرأته. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ربط) 2/ 1346. (¬5) هذا عجز بيت وصدره: يُسْئِد السير عليها راكب انظر: "ديوانه" ص 176، ومعنى: يسئد: يغذّ ويسرع، كما في المصدر نفسه. (¬6) في (م): (النصر)، واللفظ ساقط من (س). (¬7) من (م). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬9) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 194، و"تفسير الثعلبي" 6/ 43 أ.

قال الزجاج: وجائز أن يكون (به): بالربط؛ لأن (يربط) يدل عليه، فكأنه قال: ويثبت بالربط أقدامكم (¬1). 12 - قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ} قال أبو إسحاق: إذا (¬2) في موضع نصب على: وليربط إذ يوحي، قال: ويجوز أن يكون على: اذكروا (¬3). ومعنى (يوحي ربك) أي: يلقي إليهم من وجه يخفى، هذا حقيقة معنى الإيحاء (¬4). وقوله تعالى: {إِلَى الْمَلَائِكَةِ} يعني الذين أمد الله بهم المسلمين، وقوله تعالى: {أَنِّي مَعَكُمْ} أي بالعون والنصرة، كما يقال: فلان مع فلان أي معونته معه (¬5). وقوله تعالى: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، قال عطاء عن ابن عباس: يريد ادعوا لهم، ولا يمدن أحد منهم سيفه ليضرب به إلا بادرتموه بسيوفكم (¬6)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 404 بتصرف. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 404. (¬4) انظر: "الصحاح" (وحي) 6/ 2520. (¬5) هذه بعض معان المعية الخاصة، وليسر ذلك من التأويل المذموم بل هو مقتضى لغة العرب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (مع) في كلامهم لصحبته اللائقة، وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها، فكون نفس الإنسان معه لون وكون علمه وقدرته وقوته معه لون، وكون زوجته معه لون، وكون أميره ورئيسه معه لون، وكون ماله معه لون، فالمعية ثابتة في هذا كله مع تنوعها واختلافها. "مختصر الصواعق المرسلة" ص 394. (¬6) لم أعثر على مصدره، وفي معناه نظر، إذ لو ثبت هذا لما قتل أحد من المسلمين لكن الواقع أنه استشهد في معركة بدر أربعة عشر رجلا. انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 354 - 355.

وقال مقاتل: يعني بشروهم بالنصر، وكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم ويرى (¬1) الناس أنه منهم (¬2) (¬3). وقال عبد العزيز بن يحيى: شجعوهم وقووا عزمهم في الجهاد (¬4)، وهذا معني قول الزجاج: جائز أن يكونوا يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوبهم تقوى بها (¬5)، قال أبو روق: هو أن الملك كان يتشبه بالرجل الذي يعرفونه فيأتي الرجل منهم ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن، فيتحدث بذلك المسلمون ويزدادون جرأة (¬6)، وهذا اختيار الفراء (¬7) وابن الأنباري، وقال الزجاج: وجائز أن يكونوا يرونهم مددًا فإذا عاينوا نصر الملائكة ثبتوا (¬8). وذكر أبو بكر (¬9) وجهًا آخر فقال: معناه اقتلوا المشركين وأفسدوا صفوفهم فإنكم إذا فعلتم ذلك ثبّتم المؤمنين، وهذا معنى قول المبرد: (وازروهم) (¬10)، وهو قول الحسن قال: (فثبتوا الذين آمنوا) بقتالكم ¬

_ (¬1) في (ح): (فيرى). (¬2) في (س): (منكم). (¬3) "تفسير مقاتل" ل 119 أ. (¬4) لم أعثر عليه، وقد ذكره الثعلبي 6/ 43 أبلا نسبة. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 404، ونص عبارة الزجاج: جائز أن يكون أنهم يثبتوهم ... إلخ. (¬6) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 43 ب، والأثر مرسل لأن أبا روق من صغار التابعين ولم يسنده إلى صحابي. (¬7) انظر: "معاني القرآن" له 1/ 405. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 404. (¬9) هو: ابن الأنباري. (¬10) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 43/ب, وهو قول ابن إسحاق, انظر "السيرة =

المشركين (¬1). وقوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}، قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي (¬2). وقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، قالوا: جائز أن يكون هذا أمرًا للملائكة وهو الظاهر، وجائز أن يكون أمرًا للمؤمنين (¬3)، ومعناه: فاضربوا الرؤوس؛ لأنها فوق الأعناق. قال عطاء عن ابن عباس: يريد كل هَامَة وجمجمة (¬4)، وقال عكرمة: معناه: فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق (¬5)، [وقال الفراء: "علمهم مواضع الضرب فقال: اضربوا الرؤوس (¬6)] (¬7) "، ¬

_ = النبوية" 2/ 273 - 274، ومعنى (وازروهم): أعينوهم. انظر: "القاموس المحيط" فصل: الواو، باب: الراء ص 492. (¬1) "زاد المسير" 3/ 329، و"الوسيط" 2/ 448، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 1/ 399 جمع وتوثيق د/ محمد عبد الرحيم. (¬2) رواه البغوي في "تفسيره" 3/ 334، وانظر: "الوسيط" 2/ 448. (¬3) رجح هذا القول ابن جرير 13/ 430، والسمرقندي 2/ 10، والرازي 15 - 140، وانظر القولين في "تفسير الثعلبي" 6/ 43 ب، والبغوي 3/ 334، وابن الجوزي 3/ 329، والرازي 15/ 140، وقتال الملائكة يوم بدر ثابت في "صحيح مسلم"، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة رقم (1763) 3/ 1383. (¬4) انظر: "تفسير القرطبي" 7/ 378، وبمعناه عند الثعلبي 6/ 43 ب، والهامة: أعلى الرأس، وقيل: الرأس، وقيل غير ذلك. انظر: "لسان العرب" (هوم) 12/ 624. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 43 ب، ورواه ابن جرير 13/ 430، وابن أبي حاتم 3/ 231 ب مختصرًا بلفظ: الرؤوس. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 405، ونصر عبارة الفراء: اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (س).

وقال أبو بكر (¬1): أراد به الرؤوس، وذلك أن الملائكة حين أمرت بالقتال لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس فعلمهم الله تعالى أن يضربوا الرؤوس. قال قطرب (¬2): يعني ما فوق الأعناق (¬3). ونصب (فوق) يكون بالظرف. وقوله تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يعني الأطراف من اليدين والرجلين، عن ابن عباس (¬4)، وابن جريج (¬5)، والسدي (¬6). وفي رواية: (كل بنان) من الأصابع إلى الذراع (¬7)، قال الليث (¬8): ¬

_ (¬1) يعني: ابن الأنباري، وانظر قوله هذا في: "زاد المسير" 3/ 329، وفي "تفسير البغوي" 3/ 335. (¬2) هو: محمد بن المستنير أبو علي المعروف بقطرب النحوي اللغوي المعتزلي أحد أئمة اللغة والنحو، تتلمذ على سيبويه وغيره من علماء البصرة، توفي سنة 206 هـ. انظر: "نزهة الألباء" ص 76، و"إنباه الرواة" 3/ 219، و"مراتب النحويين" ص 109. (¬3) لم أجد من ذكر هذا القول عنه، ولعله في كتابه "معاني القرآن" وهو من الكتب التي لم أعثر عليها، وانظر نحو هذا القول في: "النكت والعيون" 2/ 302. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 199، وابن أبي حاتم 5/ 1668، والثعلبي 6/ 43 ب. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 199، والثعلبي 6/ 43 ب. (¬6) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1668، وابن كثير 2/ 324. (¬7) لم أجد هذه الرواية في كتب التفسير. (¬8) هو: الليث بن نصر بن سيار الخرساني اللغوي النحوي، وقيل: الليث بن المظفر، وقيل: الليث بن رافع، كان من أكتب الناس في زمانه، بارعًا في الأدب، بصيرًا بالشعر والغريب والنحو، من تلامذة الخليل بن أحمد وراوي كتاب "العين" عنه, بل قيل إنه هو مؤلفه، وجزم الأزهري بذلك وتبعه المؤلف. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 28، و"إنباه الرواة" 3/ 42، و"لسان الميزان" 4/ 494، و"بغية الوعاة" 2/ 270، وانظر: الرد علي الأزهري في نسبة كتاب العين لليث، وصحة نسبته في مقدمة كتاب "العين" 1/ 19.

البنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، والبنان في كتاب الله هي (الشوى) وهي الأيدي والأرجل (¬1). وبنحو هذا قال الفراء، قال: يعني الأيدي والأرجل (¬2)، قال أبو بكر (¬3): البنان أطراف الأصابع، اكتفى الله به من جملة اليد والرجل، والعرب تكتفي ببعض الشيء من كله، وأنشد لعنترة: عهدي به (¬4) مدّ النهار كأنما ... خُضب البنان ورأسه بالعظلم (¬5) يعني قتيلاً مضرجًا في دمه، وأراد بالبنان [جملة أطرافه. وقال عطية والضحاك: كل كان: مفصل (¬6)، وهو اختيار أحمد بن يحيى، قال: البنان] (¬7) كل طرف ومفصل (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (بنن) 15/ 468، والنص في كتاب "العين" (بن) 8/ 372، وتفسير (الشوى) بالأيدي والأرجل قول لأهل اللغة، وقيل: ظاهر الجلد كله. انظر: "تهذيب اللغة" (شوى) 11/ 442، و"لسان العرب" (شوى) 14/ 447. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 405 بتصرف. (¬3) هو: ابن الأنباري، وقد ذكر بعض قوله هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 330، كما ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 448. (¬4) في (س): (بها). (¬5) "ديوانه" ص 27 بمثل رواية المصنف، وانظر: "شرح ديوانه" للشنتمري ص 213، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 609، و"اللسان" (شدد) 4/ 2214، و"الدر المصون" 5/ 580، وفيها جميعًا: شد النهار، وهو بمعنى رواية الديوان، أي: ارتفاعه، انظر: "اللسان" (مدد) 7/ 4158. والعِظْلم: بكسر العين: قال الجوهري في "الصحاح" (عظلم) 5/ 1988: نبت يصبغ به، وفي "اللسان" (عظلم) 5/ 3004: صبغ أحمر. (¬6) رواه عنهما ابن جرير 9/ 199، وابن أبي حاتم 5/ 1668. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) "فصيح ثعلب" ص 46 بنحوه.

13

قال أبو الهيثم (¬1): وكل مفصل (¬2) بنانة (¬3)، وقال الزجاج في هذه الآية: أباحهم الله عز وجل قتلهم بكل نوع يكون في الحرب (¬4). 13 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الإشارة تعود إلى ما أمر به من ضربهم؛ يقول: ضرب أعناقهم وبنانهم بما ارتكبوا من الشقاق، وذكرنا معنى الشقاق فيما تقدم (¬5). وقال أبو إسحاق: شاقوا: جانبوا وصاروا في شق غير شق المؤمنين (¬6)، والشق: الجانب، وقال ابن قتيبة: شاقوا: نابذوا وباينوا (¬7). وقال ابن عباس: {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يريد: حاربوا الله وحاربوا رسوله (¬8)، وهذا معنى وليس بتفسير؛ وذلك أن المحارب: مباين مخالف، يدل على هذا أنه قد باين (¬9) من لا يحارب: فيقال: قد شاق، فحقيقة معنى ¬

_ (¬1) هو: خالد بن يزيد الرازي أبو الهيثم، اشتهر بكنيته، من أئمة اللغة بارعًا حافظًا عالماً ورعًا كثير الصلاة، صاحب سنة، توفي عام 276 هـ انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 45 - 46، و"إنباه الرواة" 4/ 188، و"بغية الوعاة" 2/ 329. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) "تهذيب اللغة" (بن) 1/ 391. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 405. (¬5) انظر: البسيط (النسخة الأزهرية) 1/ 91 أ، ونص قوله في هذا الموضع: ("شقاق": أي خلاف وعداوة، وتأويله: أنهم صاروا في شق غير شق المسلمين، والعداوة تسمى شقاقًا،؛ لأن كل واحد من المعادين يأتي بما يشق على صاحبه، أو لأن كل واحد صار في شق غير شق صاحبه). (¬6) اهـ كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 405. (¬7) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 188. (¬8) "الوسيط" 2/ 448. (¬9) في (م): تباين اهـ. والضمير في قوله (أنه) ضمير الشأن، و (من) فاعل (باين) والمعنى: إن من لا يحارب من الكفار قد باين، ويقال له: قد شاق الله ورسوله، فتبين أن تفسير ابن عباس المشاقة بالمحاربة من باب التمثيل.

14

الشقاق: الانفصال، من قولهم: انشق انشقاقًا وشقه شاقًّا، والشقان: الجانبان انفصل أحدهما عن الآخر، وشاقه شقاقًا: إذا صار في شق عدوه بأن باينه وخالفه. وشاقوا الله: مجاز، وحقيقته (¬1): شاقوا أولياء الله (¬2)؛ ألا ترى أن أبا إسحاق قال: صاروا في شق غير شق المؤمنين (¬3). 14 - قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} قال مقاتل: يعني القتل يوم بدر وضرب الملائكة الوجوه والأدبار (¬4) فعنده الإشارة تعود إلى ما ذكر (¬5)، والصحيح أن الإشارة بقوله {ذَلِكُمْ} تعود على (¬6) ما عاد عليه (¬7) قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} وهذا قريب مما قاله (¬8)؛ لأن قتلهم يوم بدر حصل بذلك الضرب. ¬

_ (¬1) في (ح): (وحقيقة). (¬2) بل مشاقة الله لا تقتصر على مشاقة أوليائه فهي تعني مخالفته وسبه بادعاء الشركاء والولد له، ومحاربة دينه، وترك شرعه، وغير ذلك من أنواع المشاقة، قال الإمام ابن كثير 2/ 325: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، أي: خالفوهما فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتّباعه في شق. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 405. (¬4) "تفسير مقاتل" 119 ب، وقد تصرف الواحدي في عبارته. (¬5) في (ح): (ما ذكره). (¬6) في (خ) و (س): (إلي). (¬7) في (ح): (إليه). (¬8) الفرق بين قول مقاتل وما رجحه الواحدي هو أن مقاتل يرى أن الإشارة تعود إلى القتل والضرب، والواحدي يرى أن الإشارة تعود إلى الضرب فقط وهو ما ذكره ابن جرير 13/ 433 والخلاف يسير؛ لأن ضرب الأعناق يعني القتل لا سيما من ملك.

وأما محل {ذَلِكُمْ} من الإعراب فقال الزجاج: هو رفع على إضمار الأمر، المعنى: الأمر ذلكم فذوقوه، ولا يجوز أن يكون {ذَلِكُمْ} ابتداء، و {فَذُوقُوهُ} الخبر، من قِبلِ أن ما بعد الفاء لا يكون خبرًا للمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسمًا موصولاً، أو نكرة موصوفة، نحو: الذي يأتيني فله درهم، وكل رجل في الدار فمكرم، فأما: زيد فمنطلق، لا يجوز إلا أن نجعل زيدًا خبرًا لابتداء محذوف، على معنى: هذا زيد منطلق، أي: فهو منطلق، وعلى هذا قول الشاعر (¬1): وقائلة خولان فانكح فتاتهم (¬2) أي: هؤلاء خولان، وهذا الذي ذكرته معنى قول أبي إسحاق مع شرح أبي علي (¬3)، وقال غيره: يجوز أن يكون محل {ذَلِكُمْ} نصبًا بذوقوا، كما تقول: زيدًا فاضربه (¬4). ¬

_ (¬1) هذا البيت من شواهد سيبويه في "الكتاب" 1/ 139 وهو من أبياته الخمسين التي لم يعرف قائلوها، وعجز البيت: أكرومة الحيين خلو كما هيا وخولان: قبيلة باليمن، وهم أبناء خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث. والأكرومة: الكريمة، والحيان: حي أبيها وحي أمها يعني: أنها كريمة النسب من جهة أبيها ومن جهة أمها، خلو: أي لا زوج لها، كما هي: أي بكر كما هي خلقتها الأولى. انظر: "خزانة الأدب" 1/ 455، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 273. (¬2) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 407. وقد نقله الواحدي بالمعنى كما أشار لذلك بقوله: وهذا الذي ذكرته معنى قول أبي إسحاق. (¬3) "الإغفال". (¬4) ممن جوز ذلك الزمخشري في "الكشاف" 2/ 148، وأبو البقاء في "التبيان" ص 406. وقد بين أبو حيان ضعف هذا الوجه، انظر:"البحر المحيط" 4/ 472.

15

وقوله تعالى: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ}، قال الفراء: إن شئت جعلت {أَن} رفعًا بالعطف على {ذَلِكُمْ} (¬1)، وهو قول أبي إسحاق، قال: المعنى: الأمر {ذَلِكُمْ} والأمر {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} (¬2)، قال الفراء: ويجوز أن [عمرًا قائمًا، بل يلزمه أن يقول مبتدئًا: عمرًا منطلقًا؛ لأن المخبر مُعلم، ولا (¬3) يجوز إضمار (اعلم)] (¬4) هاهنا؛ لأن كل كلام تخبر به فأنت مُعلم (¬5)، فاستغنى عن إظهار العلم (¬6) وإضماره، وهذا القول لم يقله أحد من النحويين (¬7). ومعنى الآية وعيد للكافرين بعذاب النار بعد ما نزل بهم من ضرب (¬8) الأعناق وكل بنان. 15 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا}. الزحف: معناه في اللغة: الدنو قليلاً قليلاً، يقال: زحف إليه يزحف زحفًا، إذا مشى قليلاً، ويقال أيضًا: أزحفت (¬9) للقوم: إذا دنوت لقتالهم، وكذلك تزحّف وتزاحف، قال الأعشى: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 405 بالمعنى. (¬2) نص كلام الزجاج: المعنى: الأمر ذلكم وأن الله، والأمران الله موهن، و"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 407. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه": ولكنه لم يجز. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬5) زاد محقق "معاني القرآن وإعرابه" بعد هذه الكلمة لفظ: به. (¬6) في "معاني القرآن وإعرابه": أو. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 408. (¬8) في (ح): (ضروب). (¬9) في (س): (زحفت).

لمن الظعائن سيرهن تزحف (¬1) ويقال: أزحف لنا عدونا ازحافًا، أي: صاروا يزحفون [إلينا زحفًا لقتالنا، ويقال أيضًا: ازدحف القوم ازدحافًا] (¬2) إذا مشى بعضهم إلى بعض، وقال أحمد بن يحيى (¬3): الزحف: المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء، ومنه الزحاف في الشعر: يسقط ما بين الحرفين حرف فيزحف (¬4) أحدهما إلى الآخر (¬5). وقال الأزهري: أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم، وشبه بزحف الصبي مشي الفئتين تتلاقيان (¬6) للقتال فتمشي كل فئة مشيًا رويدًا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب وهي مزاحف أهل الحرب (¬7) انتهى كلامه. فالزحف مصدر كما بينّا، ثم تسمى الفئة التي تريد أن تلقى الأخرى للقتال زحفًا، قال الليث: الزحف: جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة، فهم الزحف، والجميع: الزحوف (¬8). ¬

_ (¬1) وعجزه: مثل السفين إذا تقاذَفَ تجدف والبيت لم أجده في "ديوان الأعشى"، وقد نسب إليه في "تفسير الثعلبي" 6/ 46 ب، وابن الجوزي 3/ 331، و"الدر المصون" 5/ 584. وهو في "تاج العروس" (زحف) من غير نسبة. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬3) هو: أبو العباس (ثعلب). (¬4) في (م) و (س): (فزحف). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (زحف) 2/ 1516. وقد ذكر الواحدي عبارة ثعلب بالمعنى. (¬6) في "تهذيب اللغة": تلتقيان. (¬7) "تهذيب اللغة" (زحف) 2/ 1516. (¬8) "تهذيب اللغة" (زحف) 2/ 1516 , والنص في كتاب "العين" (زحف) 3/ 163.

16

فقوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} نصب على الحال، ويجوز أن يكون حالاً للكفار، ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون. والزحف: مصدر موصوف به كالعدل والرضا , ولذلك لم يجمع، قال أبو إسحاق في هذه الآية: إذا واقفتموهم (¬1) للقتال فلا تنهزموا (¬2). ومعنى {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم. 16 - قوله تعالى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} الآية، معنى التحرف في اللغة: الزوال عن جهة الاستواء، يقال: تحرف وانحرف واحرورف، وذكرنا هذا عند قوله {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، قال أبو عبيد (¬5): التحيز: التنحي، وفيه لغتان: التحيز والتحوز (¬6). الليث: يقال: مالك تتحوز إذا لم تستقر على الأرض، والاسم منه: التحوز (¬7)، وأصل هذا من الحوز وهو الجمع، يقال: حزته فانحاز وتحوز تحيزًا (¬8): إذا انضم واجتمع، ويقال من هذا: الحية تتحوز: إذا انطوت ¬

_ (¬1) يعني: إذا وقفتم معهم في موقف واحد. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 405 باختصار. (¬3) من الآية 46 من سورة النساء، والآية: 13 من سورة المائدة. (¬4) انظر: "تفسير البسيط" 3/ 564، تحقيق محمد المحيميد. (¬5) في (م): (أبو عبيدة). (¬6) "تهذيب اللغة (جاز) 5/ 178، ونُسب هذا القول في "لسان العرب" (حوز) 5/ 340، وفي "البحر المحيط" 5/ 291 إلى أبي عبيدة. ولم أجده في "مجاز القرآن" له. (¬7) "تهذيب اللغة" (حاز) 1/ 700، والنص في كتاب "العين" (حوز) 3/ 274. (¬8) ذكر الواحدي عن أبي عبيد أن في الكلمة لغتين: التحوز والتحيز، فكان الأولى أن يقول: تحوز تحوزًا، وتحيز تحيزًا، لكن جاء في اللغة ما يدل على صحة عبارة =

واجتمعت، ثم سمي التنحي تحيزًا؛ لأن المتنحي عن جانب ينضم عنه ويجتمع إلى غيره، فلا يبسط فيه. فأما التفسير فقوله: {يَوْمَئِذٍ} وأي: يوم لقاء الكفار، والإشارة تعود إلى قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. وقوله تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي: منعطفًا مستطردًا، كأنه يطلب عورة تمكنه إصابتها فينحرف عن وجه وُيرى أنه منهزم (¬1) ثم يكر. قال السدي: أما المتحرف: فالمستطرد يريد العودة (¬2)، والمتحيز: إلى إمام وجنده إذا لم يكن له بهم طاقة (¬3). وظاهر الآية نهي عن الانهزام بين يدي الكفار إلا أن يكون مستطردًا أو منضمًا إلى جماعة يريدون العود إلى القتال. واختلف المفسرون في هذه الآية فقال الحسن وقتادة والضحاك: هذا الوعيد خاص فيمن كان ينهزم يوم بدر (¬4)، وهو قول أبي سعيد الخدري، ¬

_ = الواحدي، قال ابن منظور: ومن كلامهم: مالك تحوز كما تحيز الحية، وتحوّز تحيز الحية، وتحوّز الحية. "لسان العرب" (حوز) 2/ 1046، وفي المصدر نفسه 2/ 1046: وتحوّز عنه وتحيّز: إذا تنحى، وهي (تفعيل) أصلها (تحيوز) فقلبت الواو ياء لمجاورة الياء، وأدغمت فيها. اهـ. (¬1) في (م): (ينهزم). (¬2) في (ح): (العورة)، يعني عورة العدو وموطن ضعفه، وما أثبته موافق لتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم. (¬3) رواه ابن جرير 9/ 201، وابن أبي حاتم 5/ 1670 بنحوه. (¬4) انظر أقوالهم في: "المصنف" للصنعاني 5/ 251، و"تفسير ابن جرير" 13/ 438، وابن أبي هاشم 3/ 232/ ب، والثعلبي 6/ 37/ أ، وابن كثير 2/ 307، وزاد ابن كثير نسبة هذا الرأي إلى: عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع وسعيد بن جبير وعكرمة، قال ابن كثير: وهذا كله لا ينفي أن يكون =

وقال: إنما كان ذلك يوم بدر خاصة، لم يكن لهم أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض مسلم ولا للمسلمين فِئَة، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم لبعض فئة (¬1). وقال ابن عباس: الآية عامة في كل من انهزم عن العدو (¬2). ¬

_ = الفرار من الزحف حرامًا على غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم اهـ. ويظهر للمتأمل لأقوال من يرى أن الآية خاصة في أهل بدر أنهم يعنون ما عناه أبو سعيد الخدري في قوله الذي ذكره الواحدي، فأهل بدر ليس لهم فئة يفيئون إليها كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". رواه مسلم (1773)، كتاب الجهاد، باب: الإمداد بالملائكة (1763)، وما بقي في المدينة من المسلمين يومئذ أقل من أن يغزوا عدوًا أو يصدوا مهاجمًا. وللعلماء قاعدة عظيمة في أصول التفسير وهي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا قال ابن جرير 13/ 440: نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، ومما يؤكد ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه" كتاب الوصايا، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} الآية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وذكر منهن: التولي يوم الزحف. (¬1) رواه بلفظ مقارب ابن جرير 13/ 437، ورواه مختصرا أبو داود في "سننه" (2646) كتاب الجهاد، باب: في التولي يوم الزحف، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. (¬2) هذا معنى أثر عن ابن عباس من رواية الوالبي، انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 203، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 377، وانظر: صحيفة علي بن أبي طلحة ص 239. وقول ابن عباس هذا مقيد بقول الله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثين فقد فر". رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 93 (11151)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 328: رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ. ورواه سعيد بن منصور في "سننه" 5/ 226 (1001) موقوفًا على ابن عباس.

فأما حكم الآية: فالمتحرف عن جانب إلى جانب لمكايد القتال غير منهزم، وأما المتحيز، فهو الذي ينهزم [من العدو] (¬1) وينوي التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم، أو يستمد ويعود إلى القتال فهذا أيضًا مستثنى من الوعيد، وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة عنه جاز له التحيز إذا نوى العود والاستعانة قلّ العدو أو كثر (¬2)، روى جرير (¬3)، عن منصور، عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين هلكت؛ فررت من الزحف، فقال عمر: أنا فئتك (¬4)، وقال أيضًا: أنا فئة كل مسلم (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) هكذا يرى الواحدي جواز الفرار من الزحف إذا نوى العودة دون قيد آخر، وهذا مذهب جمهور العلماء. انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 201، و"أحكام القرآن" للهراسي 3/ 154، و"الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني" ص 413، و"المغني" 13/ 187، وبعض العلماء يرى أن الجيش إذا بلغ اثنى عشر ألفاً فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر عددهم، ما لم يغلب على ظنهم استئصال العدو لهم. انظر: "زاد المسير" 3/ 332، و"أحكام القرآن" للهراسي 3/ 154، و"تفسير القرطبي" 7/ 382. (¬3) جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي أبو عبد الله الرازي القاضي، ولد بأصبهان ونشأ في الكوفة ونزل بالري، كان ثقة محدثًا ناشرًا للعلم، يرحل إليه، مات سنة 188 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 9/ 9، و"تهذيب التهذيب" 1/ 297، و"تقريب التهذيب" ص 139 (916). (¬4) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 47 أ. (¬5) رواه الصنعاني في "المصنف" 5/ 252، وابن جرير 9/ 203، والثعلبي 6/ 47 أ، والبغوي 3/ 338.

وأما إذا لم ينو الالتجاء إلى فئة من المسلمين، وانهزم هزيمة على الحقيقة؛ فإن كان المشركون أكثر من ضعف المسلمين لم يعص ولم يأثم, وإن كانوا ضعفهم أو أقل استحق الوعيد وعصى وأثم. فإن قيل: إن قوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} يدل على أن المنهزم إذا عصى بالهزيمة بقي في النار خالدًا (¬1)، قلنا: قد ذكرنا أن الآية مخصوصة بأهل بدر على قول الأكثرين، قال يزيد بن أبي حبيب (¬2): أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، ثم كان يوم حنين بعد ذلك فقال: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 27] (¬3). ¬

_ (¬1) في (م): (مخلدًا). (¬2) هو: يزيد بن أبي حبيب أبو رجاء المصري، الإِمام الحجة، مفتي الديار المصرية، كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى والعلم مع كونه مولى حبشيًّا، مات سنة 1328 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 4/ 336، و"الكاشف" 2/ 38 (6289)، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 31، و"تهذيب التهذيب" 4/ 408. (¬3) رواه البغوي 3/ 337، ورواه أيضًا مع زيادة ابن جرير 9/ 202، وما جاء في حادثتي أحد وحنين يؤكد تحريم الفرار من الزحف حيث وصف بأنه استزلال من الشيطان وأن الله قد عفا عن الفارين، أما سياق يزيد بن أبي حبيب للآيتين في قصة حنين فقد يفهم منه أن التوبة على الصحابة الفارين وليس الأمر كذلك بل على من أسلم من كفار هوازن بدلالة السياق حيث قال الله تعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وعلى فرض أنه على الصحابة الفارين فإنها تأكيد على تحريم الفرار وأنه من كبائر الذنوب التى تحتاج إلى توبة.

17

وإن قلنا الآية عامة فقوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} لا يفيد التخليد فيكون منتهى مكثه في جهنم إلى الشفاعة والرحمة. قال أبو إسحاق: {مُتَحَرِّفًا} منصوب على الحال، [وكذلك {أَوْ مُتَحَيِّزًا}] (¬1) قال: [ويجوز أن يكون النصب فيهما على الاستثناء، أي: إلا رجلاً متحرفًا أو متحيزًا (¬2)، قال] (¬3): وأصل متحيز: متحيوز، فأدغمت الياء في الواو (¬4). 17 - وقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}، قال المفسرون: يعني يوم بدر (¬5)، قال مجاهد: اختلفوا يوم بدر فقال هذا: أنا قتلت، وقال هذا: أنا قتلت! فأنزل الله عز وجل هذه الآية (¬6) وأما معنى إضافة القتل إلى الله فقال أكثر أهل المعاني (¬7): الله قتلهم بتسبيبه ذلك من المعونة عليه، وتشجيع القلب، وإلقاء الرعب في قلوب ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج. (¬2) ليس هناك فرق بين الإعرابين من حيث المعنى، فهو مستثنى على كلتا الحالتين، وإنما الفرق في تقدير المستثنى منه، فعلى الإعراب الأول هو مستثنى من عموم الأحوال، والتقدير: ومن يولهم دبره في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أو التحيز، وعلى الإعراب الثاني هو مستثنى من عموم الرجال، والتقدير: وأي رجل يولهم دبره إلا رجلاً متحرفًا أو متحيزًا. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 406. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 201، والثعلبي 6/ 47 ب. (¬6) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 48 ب، ورواه بلفظ مقارب ابن جرير 9/ 204، وابن أبي حاتم 5/ 1672، والبغوي 3/ 339. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 406، و"معاني القرآن" لأبي جعفر النحاس 3/ 141، و"الكشاف" 2/ 149.

المشركين، وكل هذا كان (¬1) أبلغ في قتلهم من تعمد القاصد إليه وهذا المعنى أراد أبو إسحاق، فقال: أضاف الله عز وجل قتلهم إليه لأنه هو الذي تولى نصرهم، وأظهر في ذلك الآيات المعجزات (¬2)، وقال الحسين بن الفضل (¬3): الجرح كان إليهم، وإخراج الروح كان إلى الله تعالى، يقول: فلم تميتوهم (¬4) ولكن الله أماتهم (¬5). وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قال المفسرون (¬6): إن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العريش، وأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه؛ فلم يبق مشرك إلا دخل عينه منها شيء، وشغل بعينه؛ فكان ذلك سبب هزيمتهم، وقال عكرمة: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل (¬7). ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 406. (¬3) هو: الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري، العلامة المفسر الإمام اللغوي المحدث، إمام عصره في معاني القرآن وكان آية في ذلك، توفي سنة 282 هـ. انظر: "العبر" 1/ 406، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 414، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 159، وللسيوطي ص 37. (¬4) في (ح): (تميتيهم)، وفي (س): (تميتموهم). (¬5) "تفسير الثعلبي" 6/ 48 ب، ونص العبارة فيه: قال الحسين بن الفضل: أراد به: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم، وأنتم جرحتموهم؛ لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 204، والثعلبي 6/ 47 ب، والبغوي 3/ 339, و"الدر المنثور" 3/ 317. (¬7) رواه ابن جرير في "تفسيره" 9/ 204. ومثل هذا لا يعرف بالرأي , فإن كان عكرمة سمعه من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فله حكم الرفع وإلا فهو مردود.

فأما معنى نفيه ما أثبت من رمي الرسول وإسناد ذلك إلى نفسه، فقال أهل المعاني (¬1): إنه لم يعتد برميه مع رمي الله إياهم، وهكذا كل ما لا يعتد به نحو: تكلمت ولم تتكلم، ولم تصنع شيئًا (¬2)، فهذا معنى (¬3) نفي الرمي عن الرسول. ومعنى إسناده إليه فلأنه كان منه التسبيب والتسديد. واحتج أصحابنا (¬4) بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وكذلك الأفعال المتولدة من اكتساب العباد، وقالوا: الرمي فعل واحد أضافه الله إلى نبيه، وأثبته له ثم وصف به نفسه، وكان من الله الإنشاء والإيجاد بالقدرة القديمة، ومن الرسول الحذف والإرسال، وهكذا جميع أفعال العباد المكتسبة، من الله تعالى الإيجاد، ومن العباد الاكتساب (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني. (¬2) يعني: إذا تكلم إنسان بكلام غير مفيد قيل له: لم تتكلم، وإذا صنع شيئًا غير محقق للغرض المطلوب، قيل له: لم تصنع شيئًا. (¬3) ساقط من (س). (¬4) يعني الأشاعرة، انظر: "تفسير الرازي" 15/ 139، ولم أجد الاستدلال بالآية فيما بين يدي من كتب العقيدة الأشعرية، وانظر المعنى في: "الإبانة" للأشعري ص 23، و"تمهيد الأوائل" للباقلاني ص 341، و"كتاب الإرشاد" للجويني ص 174، و"غاية المرام" للآمدي ص 207. (¬5) يشير المؤلف رحمه الله إلى قضية طالما أشغلت الفكر الإسلامي، وتحددت فيها الآراء, وكثر حولها الجدال، وهي علاقة الخالق -سبحانه- بأفعال العباد. والمؤلف سار على مذهب جمهور الأشاعرة القائلين بنظرية الكسب رغبة في تحقيق الوسطية بين المعتزله القدرية القائلين: إن الإنسان يخلق أفعاله, وبين الجهمية الجبرية القائلين: إن الإنسان مجبور على أفعاله وأنه كالريشة في مهب الريح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وخلاصة مذهب جمهور الأشاعرة بينه الزنجاني في "شرح المواقف" ص 237 بقوله: أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارًا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنًا لهما، فيكون الفعل مخلوقًا لله إبداعًا وإحداثا، ومكسوبًا للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقرنته لقدرته وإرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلًا له. وقول الزنجاني هذا يفسر معنى كسب العباد عند الأشاعرة، والذي عرفه الآمدي في "غاية المرام من علم الكلام" ص 223 بقوله: إنه المقدور بالقدرة الحادثة، أو المقدور القائم بمحل القدرة، ويوضح هذه النظرية قول الشهرستاني في "الملل والنحل" بهامش "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم 1/ 128: المكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة أو الحاصل تحت القدرة الحادثة، ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، غير أن الله تعالى أجرى سننه بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها ومعها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، وسمي هذا الفعل كسبًا، فيكون من الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد مجعولًا تحت قدرته اهـ. وإذ قد تبين معنى قول المؤلف: "وهكذا جميع أفعال العباد المكتسبة، من الله تعالى الإيجاد، ومن العباد الاكتساب" فإن لي حول ذلك وقفتين: الأولى: الاستدلال بهذه الآية على نظرية الكسب ونفي أثر قدرة العبد استدلال باطل؛ فإن واقعة الحال وأسباب النزول وأقوال الصحابة المعاصرين لنزول القرآن وتلاميذهم، تفسر مراد الله، وتوضح معناه. قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" 2/ 327: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم: أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي: بل هو الذي أظفركم عليهم، ثم قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه" ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الجملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي هو الذي بلّغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه -يعني يوم بدر- فقال: "يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين. ثم ذكر الإمام ابن كثير عدة روايات بهذا المعنى ثم قال: وقد روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر اهـ. واذ قد تبين معنى الآية وسبب نزولها فإنه لا يصح حملها على كل رمية أو كل فعل صادر من كل إنسان. فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب! فالجواب: أن عموم اللفظ هنا ليس أفعال الإنسان كلها، بل كل رمية بلغت ذلك المبلغ، وأثرت ذلك التأثير. الثانية: مذهب أهل السنة والجماعة في أفعال العباد أن قدرة العبد لها أثر في فعله كأثر الأسباب في مسبباتها فهو الموجد لفعله باختياره، والله تعالى هو خالق أفعال العبد باعتبار أن خالق الأسباب هو خالق مسبباتها، فالسحاب -مثلاً- سبب المطر، والماء سبب الإنبات، وقد جرت العادة أنه لولا السحاب ما نزل الماء، ولولا الماء ما حصل الإنبات، ومع ذلك فالله تعالى هو المنزل للماء، المنبت للشجر، فكذلك قدرة العبد هي سبب فعله، والله تعالى خالق العبد وخالق فعله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" 8/ 487: الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات. وقد أحسن إمام الحرمين الجويني المنتسب للمذهب الأشعري في عرض قول أهل السنة والرد على أئمة المذهب الأشعري حيث قال: الركن الأول في قدرة العبد وتأثيرها في مقدورها، فنقول: قد تقرر عند كل حَاظٍ بعقله، مرقى عن مراتب =

وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن كفًا من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بشر، وأنه جلّ وعزّ تولى إيصال ذلك إلى أبصارهم، فقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي لم يصب رميك ذلك

_ = التقليد في قواعد التوحيد أن الرب -سبحانه وتعالى- مطالب عباده بأعمالهم في حياتهم، وداعيهم إليها، ومثيبهم ومعاقبهم عليها في مآلهم، وتبين بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم به، فمن أحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله، أو مستقر على تقليده، مصمم على جهله ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع، والتكذيب بما جاء به المرسلون، فإن زعم زاعم ممن لم يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلاً، فإذا طولب بمتعلق الله تعالى بفعل العبد تحريمًا وفرضًا، ذهب في الجواب طولًا وعرضًا، وقال: لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. قيل: ليس لم جئت به حاصل، كلمة حق أريد بها باطل، ومن زعم أن لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه، فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته أن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات، وهذا خروج عن حد الاعتدال، إلى التزام الباطل والمحال، ثم قال: إن قائلًا لو قال: العبد مكتسب، وأثر قدرته الاكتساب، والرب -تبارك وتعالى- مخترع وخالق لما العبد مكتسب، قيل له: فما الكسب؟ وما معناه؟ وأديرت الأقسام المقدرة على هذا القائل، فلا يجد عنها مهربًا. فإن قيل: لم لا تذكرون قولًا مقنعًا في الرد على من يزعم أن العبد مخترع، خالق لأفعاله؟ قلنا: المسلمون بأجمع قاطبة قبل أن ظهرت البدع والآراء ونبغ أصحاب الأهواء، على أنه لا خالق إلا الله تعالى، ثم قال: قدرة العبد مخلوقة لله -تبارك وتعالى- باتفاق العالمين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا , ولكنه مضاف إلى الله -تبارك وتعالى- تقديرًا وخلقًا، وإذا كان مُوقع الفعل -يعني القدرة- خالقًا لله فالواقع به مضاف خلقًا إلى الله تعالى وتقديرًا اهـ. باختصار من كتاب "العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية" للجويني ص 43 - 50.

[ويبلغ ذلك] (¬1) المبلغ، بل إنما الله تولى ذلك (¬2). وروى أبو عمرو (¬3) عن أبي العباس (¬4) أنه قال: معناه: وما رميت الرعب والفزع في قلوبهم إذ رميت بالحصى، وهذا عدول عن الظاهر. وقال المبرد: معناه: ما رميت بقوتك إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت (¬5). وقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، قال المفسرون: أي ينعم عليهم نعمةً عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والمثوبة (¬6). وقال محمد بن إسحاق: أي ليعرف المؤمنين نعمته (¬7) عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرتهم وقلة عدد المؤمنين (¬8). وقال أبو إسحاق: أي: لينصرهم نصرًا جميلاً، ويختبرهم بالتي هي أحسن (¬9). وذكرنا معنى البلاء في سورة البقرة، وقال صاحب النظم: وليبلي المؤمنين فعل ذلك. وذكرنا نظائر هذا في سورة آل عمران [126]، عند قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 407. (¬3) في (م) و (س): (أبو عمر). وهو أبو عمرو بن العلاء، تقدمت ترجمته. (¬4) هو: ثعلب، وانظر قوله هذا في: "تهذيب اللغة" (رمى) 2/ 1476. (¬5) المصدر السابق نفسه. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 49 أ، والبغوي 3/ 340، وبنحو ذلك قال الإمام ابن جرير 9/ 206، والماوردي 2/ 305 ونسبه للمفسرين. (¬7) في (ح): وقال: نعمته ... إلخ، وفي "السيرة النبوية": من نعمته. (¬8) "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 268 مع اختلاف يسير. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 407.

18

قُلُوبُكُم بِهِ}، فاللام (¬1) تتعلق بمحذوف والكناية في قوله {مِنْهُ} (¬2) تعود إلى اسم الله تعالى. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، قال ابن عباس: {سَمِيعٌ} لدعائهم، {عَلِيمٌ} بنياتهم (¬3). 18 - قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} الكلام في {ذَلِكُمْ} ومحله من الإعراب، ومحل {أَن} كما ذكرنا في قوله: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} [الأنفال: 14]، وحكى صاحب النظم عن بعض النحويين أنه قال: معنى (ذلك) أنه نقيض (لا) فكما أن (لا) ينفي ما قبله فـ (ذلك) يثبت ما قبله على (¬4) مناقضته، وكذلك (كلا): نفي لما قبله (¬5)، و (كذلك): تثبيت لما قبله، على مناقضة (كلا). وإذا كان كذلك فالمعنى في قوله: {ذَلِكُمْ} إثبات ما ذكر قبله من القتل والرمي، وإبلاء المؤمنين بلاءً حسنًا، وتقدير الإعراب: الأمر ذلكم، والحق ذلكم (¬6). ¬

_ (¬1) يعني في قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ} والتقدير: فعل ذلك ليبلي. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) انظر نحوه في: "تنوير المقباس" ص 179، وانظر: "الوجيز" 6/ 251 وقد ذكر المؤلف في مقدمته أنه اعتمد قول ابن عباس. (¬4) في (ج): (عن). (¬5) المشهور عند علماء اللغة أن (كلا) لا تقتصر على مجرد النفي بل تتضمن الزجر والردع، قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 558: (كلا: ردع وزجر)، وفي "لسان العرب" (كلا) 7/ 3908، قال الأخفش: معنى (كلا) الردع والزجر، قال الأزهري: وهذا مذهب سيبويه، وإليه ذهب الزجاج في جميع القرآن، وروى ابن شميل عن الخليل أنه قال: كل شيء في القرآن (كلا): رد، يرد شيئًا ويثبت آخر. (¬6) وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء العكبري في "التبيان" (406)، وكذلك =

وفي قوله: {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} وجوه من القراءة: التشديد مع التنوين، والإضافة، والتخفيف معهما (¬1) أيضًا، ومثله قوله: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38]، بالتنوين، وبالإضافة (¬2) أيضًا. قال أهل المعاني: وتوهينه كيدهم يكون بأشياء: بإطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريقَ كلمتهم، ونقض ما أبرموا باختلاف عزومهم (¬3). قال ابن عباس: يهنئ (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إني قد أوهنت كيد ¬

_ = الزمخشري في "تفسيره" 2/ 150 لكنه قدره بلفظ: الغرض ذلكم. (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو جعفر وأبو عمرو (مَوهّنٌ) بفتح الواو، وتشديد الهاء، مع التنوين، ونصب الدال في (كيد) مفعول به. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف، وشعبة عن عاصم (موْهِنٌ) بسكون الواو، وتخفيف الهاء، مع التنوين، ونصب الدال في (كيد) أيضًا. وقرأ حفص عن عاصم (موْهنُ) بسكون الواو، وتخفيف الهاء من غير تنوين، وخفض الدال في (كيد) على الإضافة. انظر: كتاب "السبعة" ص 304، و"تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة" للجزري ص 118، و"المستنير في تخريج القراءات المتواترة" 1/ 256. ومن الجدير بالتنبيه أن المؤلف ذكر من وجوه القراءة: التشديد مع الإضافة، ولم أجد من ذكر ذلك في القراءات المتواترة أو الشاذة، لكن الزجاج ذكر جواز ذلك من الناحية اللغوية. انظر: "معاني القرآن" 2/ 407. (¬2) بالتنوين قرأ أبو عمرو ويعقوب، وقرأ الباقون بالإضافة. انظر: "تحبير التيسير" ص 173، و"تقريب النشر" ص 168. (¬3) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني، وقد ذكره بحروفه الفخر الرازي في "تفسيره" 15/ 141. (¬4) في (ح): (يعني).

19

عدوك حتى قُتلت جبابرتهم (¬1) وأُسر (¬2) أشرافهم" (¬3). 19 - قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} الأكثرون على أن هذا خطاب للمشركين (¬4)، وذلك أن أبا (¬5) جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر (¬6)، وروي أنه قال: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأحنه (¬7) الغداة (¬8). وقال السدي: إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله هذه الآية (¬9)، فمعنى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} إن تستنصروا لأهدى الفئتين فقد جاءكم النصر، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬10)، والحسن ومجاهد والزهري والسدي ¬

_ (¬1) في "تفسير الرازي": خيارهم. (¬2) هكذا في جميع النسخ، وفي "تفسير الرازي"، و"الوسيط" (أسرت). (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 141، وبنحوه في "الوسيط" 2/ 450. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 207، وابن أبي حاتم 5/ 1675، والثعلبي 6/ 49. (¬5) في (ح): (أبو). وهو خطأ. (¬6) روى نحوه ابن جرير 9/ 209، عن يزيد بن رومان، وبمعناه ابن أبي حاتم 5/ 1675، عن عطية العوفي. (¬7) أحنه: أهلكه، و (الحين) بفتح الحاء: الهلاك، انظر: "القاموس المحيط" (حين) (1192)، و"لسان العرب" (حين) 2/ 1074. (¬8) رواه ابن جرير 207/ 9 - 208، عن الزهري وروى نحوه عن الصحابي عبد الله بن ثعلبة العدوي وكذلك رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 328، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ورواه أيضاً أحمد في "المسند" 5/ 431. (¬9) رواه الثعلبي 6/ 49 ب، والبغوي 3/ 342، وبنحوه ابن جرير 9/ 208. (¬10) رواه بمعناه ابن جرير 9/ 207، وابن أبي حاتم 5/ 1675 من رواية علي بن أبى طلحة.

والضحاك والعوفي (¬1). ومضى الكلام في معنى الاستفتاح عند قوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} (¬2)، والاستفتاح على قول هؤلاء (¬3): الاستنصار. وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق؛ فقال الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} ان تستقضوا فقد جاءكم القضاء (¬4)، واختار الفراء القول الأول (¬5)، وذكر أبو إسحاق القولين جميعًا، وقال: كلا القولين جيد (¬6). وقوله تعالى: {وَإِنْ تَنْتَهُوا}، قال ابن عباس: يريد عن الشرك بالله {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬7). {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، قال الحسن: وإن يعودوا لقتال محمد نعد عليهم بالقتل والأسر والهزيمة مثل يوم بدر (¬8). ¬

_ (¬1) روى أقوالهم عدا الحسن البصري ابن جرير 9/ 207 - 208. (¬2) البقرة: 89، وانظر النسخة الأزهرية 1/ 70 ب، وقد قال هناك ما نصه: يستفتحون على الذين كفروا: قال ابن عباس والسدي: هو أنهم إذا حزبهم أمر، وظهر لهم عدو قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، وكانوا يسألون النصر بمحمد وبكتابه. (¬3) في (س): (على هذا القول). (¬4) رواه الثعلبي 6/ 49 ب، والبغوي 3/ 342، ورواه مختصرًا ابن جرير 9/ 207 , وابن أبي حاتم 5/ 1675. (¬5) انظر: كتابه "معاني القرآن" 1/ 406. (¬6) انظر: كتابه "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 408. (¬7) ذكره ابن الجوزي 3/ 335 بلفظ: عن قتال محمد - صلى الله عليه وسلم - والكفر، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 179 بلفظ: عن القتال والكفر. (¬8) لم أجد من ذكره عنه وقد ذكره بلا نسبة الثعلبي في "تفسيره" 6/ 49ب،=

وهو قول ابن عباس (¬1) وغيره (¬2). {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا} أي جماعتكم شيئًا {وَلَوْ كَثُرَتْ} في العدد، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قرئ بكسر {أَن} وفتحه (¬3)، فمن كسر فهو منقطع مما قبله، ويقوي ذلك أن في حرف عبد الله: والله مع المؤمنين (¬4). ومن فتح فوجهه: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} [ولأن الله مع المؤمنين، أي لذلك لن تغني عنكم فئتكم شيئًا] (¬5)، قال الفراء: فيكون موضعها نصبًا لأن الخفض يصلح فيها (¬6). ¬

_ = والمؤلف في "الوسيط" 2/ 451. (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 336، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 179. (¬2) هو قول ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" 2/ 314، وعروة بن الزبير كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1676، وابن جرير في "تفسيره" 9/ 209، والسمرقندي في "تفسيره" 2/ 12. (¬3) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وحفص عن عاصم بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر. انظر: كتاب "السبعة" ص 305، وكتاب "التيسير" ص 116، و"تقريب النشر" ص 118، و"تحبير التيسير" ص 118. (¬4) انظر: كتاب "المصاحف" للسجستاني ص 62، و"تفسير الثعلبي" 69/ 50 أ، و"الكشاف" 2/ 151، و"تفسير السمرقندي" 2/ 12، و"المحرر الوجيز" 6/ 254 - 255، و"البحر المحيط" 5/ 298، فهؤلاء وافقوا المؤلف في نص قراءة ابن مسعود، وخالفه ابن جرير الطبري في "تفسيره" 9/ 210، والفراء في "معاني القرآن" 1/ 407، فذكر أن لفظ قراءة ابن مسعود وإن الله لمع المؤمنين. هذا: ولم يذكر قراءة ابن مسعود ابن خالويه في "مختصره في شواذ القرآن"، ولا ابن جني في "المحتسب في تفسير شواذ القرآن". (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) "معاني القرآن" 1/ 407.

قال ابن عباس في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يريد: وإن كانوا قليلًا، ولا غالب لمن كان الله معه، وقال أيضًا: وأن الله مع المؤمنين في النصر لهم (¬1). وقال أبيّ بن كعب وعطاء الخرساني: قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [خطاب لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن تستنصروا الله وتسالوه الفتح فقد جاءكم الفتح، (¬2) والنصر، ثم عاد إلى خطاب الكفار فقال: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬3). ومن أهل المعاني من يجعل جميع الآية خطابًا للمؤمنين على هذا القول (¬4) فيقول: معنى قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} أي عن المنازعة في الأنفال، {وَإِنْ تَعُودُوا} إلى مثل ما كان منكم من المنازعة فيها نعد للإنكار عليكم، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئًا مع منع نصر الله لكم. ¬

_ (¬1) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 179، وإسناده واهٍ؛ لأنه من رواية الكلبي وهو كذّاب مجمع على تركه. انظر: "تهذيب التهذيب" 3/ 569 - 570. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬3) ذكره عنهما الثعلبي 6/ 49 ب مختصرًا ورواه كذلك ابن أبي هاشم 5/ 1675 عن عطاء، وهو قول ضعيف لما يأتي: أولاً: أن في هذا القول تفكيك للضمائر فبعضها يعود إلى المؤمنين وبعضها يعود إلى الكافرين دون ملجيء لذلك، والأصل تناسق الضمائر. ثانيًا: صحة سبب نزول الآية في أبي جهل وكفار قريش كما تقدم، قال القرطبي 7/ 387: الصحيح أنه خطاب للكفار. (¬4) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 306، وابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 335، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 6/ 254، والرازي في "التفسير الكبير" 15/ 142، وهو قول ضعيف جدًّا لعدة أمور منها: =

20

والوجه ما عليه عامة المفسرين أن الآية بأسرها خطاب للمشركين (¬1) 20 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال أهل المعاني: إنما خص المؤمنين بالأمر دون غيرهم من المكلفين؛ لأن غيرهم بمنزلة من لا يعتد به لتركهم العمل بما يجب عليهم، مع أن إفرادهم بالخطاب إجلال لهم ورفع من أقدارهم (¬2)، قال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: يريد: أطيعوا الله والرسول فإن طاعة الرسول طاعة لي، ولا تعرضوا عنه وقد سمعتم موعظتي وما أعددت لأوليائي وأهل طاعتي من الثواب، وما أعددت لأعدائي وأهل معصيتي من العقاب (¬3). وقال ابن عباس أيضاً: لا تولوا عن رسول الله وأنتم تسمعون ما نزل من القرآن، وتسمعون المواعظ (¬4). ¬

_ = أولاً: مخالفته لما صح عن الصحابة -رضي الله عنهم- في سبب نزول الآية. ثانيًا: في قوله تعالى: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} ما يؤكد أن المخاطبين أعداء الله محاربون له. ثالثًا: في قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} ما يفيد أن الخطاب لغيرهم؛ ولو كان لهم لكان المعنى: وإن تعودوا أيها المؤمنون للمنازعة نعد للإنكار والله معكم، وهذا غير مراد قطعًا لأن الآية إنكار على المخاطبين، ولذا اضطر الرازي 8/ 147 لما جوزّ هذا الوجه أن يقيد المؤمنين بقوله: فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب. اهـ. ولا عصمة إلا للأنبياء. (¬1) وقد اقتصر عليه ابن جرير 13/ 450، وأبو الليث السمرقندي 2/ 12، وابن كثير 2/ 308، وصححه القرطبي 7/ 387. (¬2) انظر: "البحر المحيط" 4/ 479، وقد ذكر أنه قول الجمهور، ولم أجده فيما بين يدي من كتب أهل المعاني. (¬3) لم أقف على مصدره. (¬4) رواه بلفظ مقارب الثعلبي 6/ 50 أ، وأنظر: "الوسيط" 2/ 451.

وقال ابن إسحاق: لا تخالفوا أمره وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه (¬1). وقال غيره من أهل المعاني: وأنتم تسمعون دعاءه لكم، نهاهم الله عز وجل عن التولي في هذه الحال، ويسعهم الانصراف في غيرها (¬2). وهذا القائل حمل التولي على الانصراف، والأولى أن يحمل ذلك على مخالفة الأمر؛ لأنه وإن أقبل على الرسول بوجهه ولم يعتقد طاعته لم يكن مطيعًا. وقد حصل في الآية وجهان: [أحدهما: لا تولوا] (¬3) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: لا تنفضوا عنه، وقد ذم قوماً بالانفضاض عنه في قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] الآية، وفي قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63]. والثاني: أن معنى قوله: {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} ولا تعرضوا عن أمره، وتلقوه بالطاعة والقبول، كما قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]. وذكر أبو علي الفارسي الوجهين (¬4) جميعًا (¬5)، كما حكيناه. ¬

_ (¬1) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 314. (¬2) انظر: هذا القول في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 234، و"البرهان" للحوفي 11/ 35 ب، ورده أبو السعود في "تفسيره" 4/ 14 - 15. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬4) ساقط من (م). (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 2/ 234.

21

وعلى الوجه الأول: الخطاب لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يسمعون كلامه. وعلى الثاني: الخطاب عام لكل من بلغته دعوته، وعلى هذا فالله تعالى أوجب طاعة الرسول على من سمع ما أتى به، فدل هذا على أن من لم يسمع ذلك ممن لم تبلغه الدعوة لم تجب الطاعة عليه. 21 - قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، قال ابن عباس: يعني اليهود، قريظة والنضير وبني قينقاع (¬1)، وهو قول الحسن (¬2). وقال مقاتل: يعني المنافقين (¬3) الذين يظهرون الطاعة ويسرون المعصية، ويقولون سمعنا سماع قابل، وليسوا كذلك، وهو قول ابن إسحاق (¬4). وقيل: هو من صفة المشركين، جُعلوا بمنزلة من لم يسمع؛ لأنهم لم ينتفعوا بالمسموع، وهذا اختيار أبي إسحاق، قال: ومعنى قوله: {سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أنهم (¬5) استمعوا سماع (¬6) عداوة وبغضاء فلم يتفهموا (¬7)، ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 337، وانظر: "الوسيط" 2/ 451. (¬2) ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 479 - 480 بلفظ: هم أهل الكتاب. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 119 أ. وما بعد كلمة (المنافقين) من كلام المؤلف توضيحًا لقول مقاتل. (¬4) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 314. (¬5) في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: لأنهم. (¬6) في المصدر السابق: استماع. (¬7) في (ح): (يتفقهوا). والمثبت موافق للمصدر.

22

ولم يتفكروا [فيما سمعوا] (¬1) فكانوا بمنزلة من لم (¬2) يسمع (¬3). 22 - قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، قال ابن عباس (¬4) ومجاهد (¬5) ومقاتل (¬6): يريد المشركين، نفرًا من بني عبد الدار، وبني عبد العزى، كانوا صمًا عن الحق؛ فلا يسمعونه، بكمًا عن التكلم به. وكل ما دب على وجه الأرض فهو من جملة الدواب (¬7)، بين الله تعالى أن هؤلاء الكفار شر ما دب على الأرض من الحيوان. 23 - قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أي لو خلق فيهم خيرًا؛ لأن ما خلقه الله يعلمه، وما لا يعلمه الله فهو ما لم يخلقه على معنى أنه لا يعلمه مخلوقًا (¬8)، كما قال تعالى: {أتنبئون الله بما لا يعلم [في الأرض} [يونس: 18] أي: بما لم يجعله ولم يخلقه، ومعنى الآية: ولو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين زائد عما في المصدر. (¬2) في (ح) و (م): (لا)، وما أثبته من (س) موافق للمصدر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 408. (¬4) رواه مختصراً البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنفال 6/ 118، وابن جرير 13/ 460، وابن أبي حاتم 3/ 235 ب. (¬5) رواه ابن جرير13/ 461 بمعناه. (¬6) "تفسير مقاتل" 119 ب، وقد أورد المؤلف قول مقاتل بمعناه. (¬7) في "لسان العرب" (دبب) 3/ 1314: الدابة: اسم لما دب من الحيوان مميزة وغير مميزة, ثم قال في الصفحة التالية: وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب. (¬8) يشير المؤلف إلى تعلق علم الله بالكون من ناحية الوجود والعدم , وذلك قسمان: أحدهما: جملة الموجودات. الثاني: جملة المعدومات. فالموجود يعلمه الله موجودًا، والمعدوم لا يعلمه الله موجودًا، بمعنى أنه يعلمه معدومًا.

علم الله أنهم يصلحون بما يورده] (¬1) من حججه وآياته لأسمعهم إياها ولم يخلف (¬2) عنهم شيئًا منها. وقال ابن جريج وابن زيد: لأسمعهم الحجج والمواعظ سماع تفهيم وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون (¬3). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {لَأَسْمَعَهُمْ}: يريد: لهداهم (¬4). {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} رجع تبارك وتعالى إلى ما سبق في علمه وقضائه وقدره فأخبر بما كان قبل أن يكون، ومعنى قوله (¬5): (لهداهم) أي: لأسمعهم ما يهتدون به سماع تفهيم. وشرح أبو علي الجرجاني هذا القول شرحًا شافيًا فقال: إن الله يعلم ما يكون، وما لا يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، فتأويل قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أي ليس فيهم خير فلا يسمعهم؛ لأنه جبلهم على ذلك، وهذا مثل قولك للرجل: لو علمت أنك تفهم لأخبرتك، أي: أنك لا تفهم، ثم قال: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} -أي إسماع الإفهام الذي ينفع (¬6) ويجدي إذا كان في الإنسان خير، وكان سعيدًا- {لَتَوَلَّوْا} أيضًا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: يخف. (¬3) ما ذكره المؤلف هو قول ابن زيد كما رواه بلفظ مقارب ابن جرير 9/ 212، وأما قول ابن جريج فنصه: ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لقالوا {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] ولقالوا {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 203] ولو جاءهم بقرآن غيره لتولوا وهو معرضون. (¬4) رواه بمعناه الفيروزأبادى في "تنوير المقباس" ص 179 من رواية الكلبي وهو واهٍ. (¬5) أى ابن عباس في قوله السابق. (¬6) في (م): (ينتفع به).

{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} إخبارًا منه عز وجل عما لا يكون لو يكون كيف يكون (¬1)، ومثل هذا قوله إخبارًا عن المنافقين: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} (¬2) [الحشر: 11] فقال الله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} (¬3) [الحشر: 12] فأعلمنا أن ذلك لا يكون منهم, ثم قال: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} [الحشر: 12] فأعلم عز وجل عما لا يكون بأنه لو كان كيف يكون. وسلك أبو إسحاق في معنى هذه الآية طريقة حسنة فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} جواب كل ما يسألون عنه، ثم قال (¬4): {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} أي لو بين لهم كل ما يختلج (¬5) في نفوسهم {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لمعاندتهم (¬6). واختاره ابن الأنباري وشرحه فقال: ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه مما يقترحون ويطالبون (¬7) من المعجزات، ولو ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) حذف الجرجاني أو المؤلف بعض الآية ونصه: {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} وقد فعل ذلك الرازي أيضًا في "تفسيره" 15/ 150 وهو كثير النقل من تفسير الواحدي "البسيط". (¬3) في جميع النسخ: (ولئن). وهو خطأ. (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه": ثم قال جل وعز. وفي (م): (وقوله). (¬5) في المصدر السابق: يعتلج. اهـ, والكلمتان متقاربتان في المعنى، ففي "لسان العرب" (خلج) 3/ 1223: اختلج الشيء في صدري وتخالج: احتكأ مع شك، وأصل الاختلاج: الحركة والاضطراب. وفي المصدر نفسه (علج) 5/ 3065: اعتلج القوم: اتخذوا صراعًا وقتالاً، واعتلج الموت: التطم، وهو منه، وأعتلج الهمّ في صدره، كذلك على المثل. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 409. (¬7) ساقط من (ح).

24

أسمعهم ذلك وأجابهم إلى ما يحبون منه لأعرضوا لعنادهم الحق، وحرصهم على إبطال أعلامه. قال أصحابنا (¬1): وفي الآية دليل واضح على أن المقادير والكفر والإِسلام والخير والشر سابقة ماضية، وأن الشقي لا ينتفع بدعوة الرسول واستماع الحق. 24 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}، قال ابن عباس: أجيبوا لله وللرسول بالطاعة (¬2)، وقال عطاء عنه: سارعوا إلى ما دعاكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه (¬3) من طاعتي (¬4). قال أبو عبيدة والزجاج: معنى استجيبوا: أجيبوا (¬5)، وأنشد قول الغنوي: ¬

_ (¬1) يعني الأشاعرة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة، انظر: "مقالات الإسلاميين" للأشعري 2/ 346، و"عقيدة السلف وأصحاب الحديث" للصابوني ص 284، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 353، و"القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة" ص 247. (¬2) لم أجد من ذكره عن ابن عباس سوى الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 179، وقد ذكر القول دون نسبة أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 245، والبخاري في "صحيحه" كتاب التفسير 8/ 307 والزجاج في "معاني القرآن" 2/ 409، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 338. (¬3) ساقط من (س). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 245، و"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 409، وقد ذكر هذا المعنى ابن منظور في "لسان العرب" (جوب) 2/ 716، فقال: الإجابة والاستجابة بمعنى. وقال الراغب في "المفردات" (جوب) ص 102: الاستجابة قيل هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عبر به عن الإجابة لقله انفكاكها منها.

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (¬1) وقوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال السدي: هو الإيمان والإسلام، وفيه الحياة (¬2)، وعلى هذا معنى الآية: أجيبوا الرسول إذا دعاكم إلى الإيمان, والإيمان حياة القلب، والكفر موته، ويدل عليه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ} (¬3) قيل: المؤمن من الكافر، وقال قتادة: يعني: القرآن، أي: أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة (¬4)، وعلى هذا القول: القرآن يحيي؛ لأنه سبب الحياة بالعلم، والجاهل حياته موت؛ لأنه يعيش بجهل (¬5)، والقرآن لما كان سببًا للإقتداء كان فيه الحياة النافعة. والأكثرون على أن معنى قوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} هو الجهاد (¬6) وهو ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت، وصدره: وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى والبيت للغنوي كما في "الأصمعيات" ص 96، و"نوادر أبى زيد" ص 37، و"مجاز القرآن" 1/ 67، و"شواهد الكشاف" 4/ 330. (¬2) رواه بلفظ مقارب ابن جرير 9/ 213، وابن أبي حاتم 5/ 1680، والثعلبي 6/ 50 ب. (¬3) الأنعام: 95، يونس: 31، الروم: 19. (¬4) رواه بلفظ مقارب ابن جرير 9/ 214، والثعلبي 6/ 50 ب. (¬5) هذا التعليل فيه نقص بيّن، والأولى أن يقال: إن القرآن يحيي؛ لأنه شامل لجميع ما ذكره المفسرون من أسباب الحياة، فالقرآن داعٍ إلى الإيمان, وداع إلى العمل، وداعٍ إلى الجهاد، وداع إلى الحق، وداع إلى النعيم المقيم، وكل واحد من هذه الأمور سبب للحياة المذكورة في الآية. (¬6) هذا قول عروة بن الزبير وابن إسحاق وابن قتيبة، ولم يذكر المفسرون غيرهم. انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 214، والثعلبي 6/ 50 ب، والبغوي 3/ 344، والماوردي 2/ 307، و"الدر المنثور" 3/ 320.

قول ابن إسحاق (¬1)، واختيار أكثر أهل المعاني (¬2). قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم (¬3)، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف (¬4) أمرهم، واجترأ عليهم عدوهم. وقال أبو إسحاق: أي لما يكون سببًا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة (¬5)، وسبب هذه الحياة: يعني الجهاد. وقال ابن قتيبة: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني الشهادة؛ لأن الشهداء {أَحْيَاءُ عِندَ رَبِهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬6)، وسبب الشهادة: الجهاد، وقال مجاهد: {لِمَا ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية" 2/ 268. (¬2) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 151، وقد نسب الواحدي هذا القول لأكثر أهل المعاني ولم أجد من ذكره منهم سوى ابن قتيبة بينما اختار قولًا غيره كل من الفراء وأبي عبيدة والزجاج والنحاس، ولم يتعرض لتفسير الآية كل من الأخفش واليزيدي والأزهري، وقد يقال: إن ذلك يعود إلى كثرة الكتب المؤلفة في معاني القرآن التي اطلع عليها الواحدي ولم تصل إلينا , ولكن يشكل عليه أن المفسرين القدامى المهتمين بعزو الأقوال إلى أصحابها لم يعزوا هذا القول إلا لابن إسحاق وابن قتيبة. انظر: الثعلبي 6/ 50 ب، والبغوي 3/ 344، وابن الجوزي 3/ 339. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 407. وجملة: بجهاد عدوكم، ليست موجودة في المطبوعة، وكذلك ذكر ابن الجوزي 3/ 339 قول الفراء دون هذه الجملة، فإما أن تكون موجدة في بعض النسخ دون بعض، وإما أن تكون زيادة من الواحدي للتوضيح. (¬4) في (س): (لضعف). (¬5) اهـ. قول أبي إسحاق الزجاج، وما بعده من كلام الواحدي، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 409. (¬6) آل عمران: 169، ولم أجد قول ابن قتيبة هذا فيما بين يدي من كتبه، وقد ذكره الثعلبي 6/ 50 ب، والبغوي 3/ 344، ولابن قتيبة قول آخر في معنى الآية ونصه: =

يُحْيِيكُمْ} أي للحق (¬1)، وهذا يحتمل كل ما ذكرنا من القرآن والإيمان والجهاد. وحكى أبو علي الجرجاني في قوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني الجنة، واحتج بأن الحياة الدائمة النافعة حياة الجنة كقوله عز وجل: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، أي: الحياة الدائمة، وهذا معنى قول عطاء (¬2). وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، قال ابن عباس والضحاك: يحول بين الكافر وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته (¬3)، وقال عطاء عنه: يحول بين المؤمن وبين أن يكفر به، ويحول بين الكافر وبين أن يؤمن به (¬4). ¬

_ = (لما يحييكم) أي إلى الجهاد الذي يحيي دينكم ويعليكم. انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 151. (¬1) رواه ابن جرير 9/ 213، وابن أبي حاتم 5/ 1679، والثعلبي 6/ 50 ب، والبغوي 3/ 344. (¬2) لم أجد من ذكره عنه، وقد ذكر القول دون تعيين القائل السمرقندي 2/ 12، وأبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 481. (¬3) رواه عن ابن عباس بلفظ مقارب: الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير 2/ 328، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ورواه أيضًا ابن جرير 9/ 215، والثعلبي 6/ 51 أ، والبيهقي في كتاب "الاعتقاد" ص 67، وهو من رواية علي بن أبي طلحة الصحيحة. انظر: "صحيفة علي بن أبي طلحة" ص250. أما قول الضحاك فقد رواه عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/ 257، وابن جرير 9/ 215، والثعلبي 6/ 51 أوغيرهم. (¬4) روى نحوه البغوي في "تفسيره" 3/ 344 من قول عطاء، ورواه بمعناه السمرقندي 2/ 13 من رواية الكلبي عن ابن عباس.

ونحو هذا قال سعيد بن جبير (¬1). وقال (¬2) في رواية خُصيف (¬3): يحول بين قلب الكافر وأن يعمل خيرًا. وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه (¬4). قال ابن الأنباري: وهذا مذهب مجاهد (¬5)، واختيار الفراء (¬6)، أي: فالأمور مردودة إليه، والسعيد من أسعده، والشقي من أصله وأشقاه، و {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. ¬

_ (¬1) رواه الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/ 257، وابن جرير 9/ 215، والبغوي 3/ 344. (¬2) ظاهر السياق يدل على أن القائل سعيد بن جبير ويحتمل أن يكون ابن عباس، وخصيف يروي عن سعيد مباشرة وعن ابن عباس بواسطة كما في "تفسير ابن جرير" 4/ 154 - 155، ولكن أئمة التفسير يروون هذا القول عن خصيف عن مجاهد كما في "تفسير ابن جرير" 9/ 216، والثعلبي 6/ 51/ أ، والواحدي اختصر عبارة شيخه الثعلبي فوقع في هذا الخلل، فقد ذكر الثعلبي قول ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير ثم قال: وقال مجاهد يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري، وروى خصيف عنه: قال: يحول بين قلب الكافر وأن يعمل خيرًا، وقال السدي: .. إلخ، كما هو موجود في نص الواحدي. (¬3) هو: خصيف بن عبد الرحمن الجزري أبو عون الحضرمي الأموي مولاهم، رأى أنس بن مالك -رضي الله عنه-، كان شيخًا صالحًا فقيهاً عابدًا، إلا أنه كان سيء الحفظ، ويخطئ كثيراً، ضعفه أحمد والجمهور، ووثقه ابن سعد وابن عدي، وقال الحافظ ابن حجر: الإنصاف فيه قبول ما وافق الثقات في الروايات، وترك ما لم يتابع عليه، توفي سنة 137 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 3/ 228 (766)، و"الكاشف" 1/ 373 (1389) , و"تهذيب التهذيب" 1/ 543، و"تقريب التهذيب" ص 193 (1718). (¬4) رواه ابن جرير 9/ 217، والثعلبي 6/ 51 أ. (¬5) انظر: المصدرين السابقين نفس الموضع. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 407.

قال أصحابنا (¬1): وهذه الآية دليل على أن القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه (¬2) حال بينه وبين قلبه (¬3) وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه. ¬

_ (¬1) يعني الأشاعرة، انظر: كتاب "تمهيد الأوائل" ص 318، و"الغنية" ص 127، و"تفسير الخازن" 2/ 175، وهذا مذهب أهل السنة قاطبة. انظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لأبي القاسم اللالكائي 4/ 578، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 8/ 459، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص 106 - 107. (¬2) يعني الإرادة الكونية المستلزمة لوجود المراد، أما من ناحية الإرادة الشرعية فإن الله تعالى يريد إيمان الكافر ولا يريد كفر المؤمن، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. وانظر تفصيل الإرادتين والفرق بينهما في: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 8/ 440، 475 - 480، و"مدراج السالكين" للإمام ابن القيم 1/ 275 - 281، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص 69، 70. (¬3) الله جل جلاله لا يحول بين العبد وبين الإيمان إلا بسبب من العبد نفسه كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. وقال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. والله تعالى لا يظلم أحداً، وقد مكن العباد من الهداية والطاعة، كما مكنهم من الكفر والمعصية، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا أراد العبد الطاعة التي أوجبها عليه إرادة جازمة كان قادرًا عليها، وكذلك إذا أراد ترك المعصية التي حرمت عليه إرادة جازمة كان قادرًا على ذلك، وهذا مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، ثم قال: فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله لكن مع قوله ذلك فيجب أن تعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، وأن الله خالق كل شيء فهو خالق العباد وقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، فهو رب كل شيء ومليكه لا يكون شيء إلا بمشيئته وإذنه وقضائه وقدره. "مجموع الفتاوى" 8/ 437, 440.

قال قتادة: معنى ذلك أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره (¬1)، قال أبو بكر: فيكون المعنى على هذا: أنه تعالى أقرب إلى المرء من قلبه، ولا تخفى عليه خافية، يدل على ذلك قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬2). وقال الزجاج: معناه: واعلموا أن الله مع المرء في القرب بهذه المنزلة (¬3). وفي هذا تحذير شديد للعباد. وحكى الزجاج قولًا آخر وهو أن المعنى: أنه يحول بين الإنسان وما يسوف به نفسه بالموت (¬4). ويكون المعنى على هذا أن الله (¬5) يحول بين المرء وما تمنى بقلبه من البقاء وطول العمر فيسوف بالتوبة، ويقدم المعصية، أي: فاعملوا ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من تأميل البقاء، وطول الأجل، فإن ذلك لا يوثق به. وحكي عن مجاهد أنه قال: يحول بين المرء وعقله (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 9/ 217، والثعلبي 6/ 51 ب. (¬2) ق: 16. وهذا القول بناءً على أحد القولين في المراد بالآية وأنه قرب الله تعالى، وفي الآية قول آخر وهو أن المراد بالقرب قرب الملكين الموكلين بالإنسان، انظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 330، و"شرح حديث النزول" لشيخ الإِسلام ابن تيمية ص355، وهو القول الراجح بدلالة السياق. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 409. (¬4) المصدر السابق. (¬5) في (ح): (المرء)، وهو خطأ. (¬6) رواه ابن جرير 9/ 216 , ورواه بمعناه ابن أبي حاتم 5/ 1618, والثعلبي 6/ 51

قال أبو بكر (¬1): معناه: فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تأمنون زوال العقول الذي ترتفع معه (¬2) المحنة (¬3)، وتحصلون على ما قدمتم قبله (¬4) من العمل فإن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. والقلب هاهنا كناية عن العقل كما قال في غير هذا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. وحكى هو (¬5): {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} بالموت فاعملوا قبل وقوعه، وأنتم أصحاء تصلون إلى الازدياد من الحسنات (¬6). وذكر أبو إسحاق قولًا آخر حاكيا وهو: أنهم كانوا يفكرون في كثرة عدوهم، وقلة عددهم؛ فيدخل (¬7) قلوبهم الخوف؛ فأعلم الله عز وجل أنه يحول بين المرء وقلبه؛ بأن يبدلّه بالخوف أمنًا (¬8)، ويبدل عدوهم -بظنهم أنهم ¬

_ (¬1) هو: ابن الأنباري كما في "زاد المسير" 3/ 339. (¬2) أي مع زوال العقول. (¬3) المعنى: أنه إذا زال العقل ارتفع مع زواله الامتحان والتكليف، وئبت للإنسان ما قدم قبل زواله من خير أو شر. هذا وقد نقل ابن الجوزي قول ابن الأنباري مختصرًا فقال: قال ابن الأنباري: المعنى: يحول بين المرء وعقله، فبادروا الأعمال؛ فإنكم لا تأمنون زوال العقول، فتحصلون على ما قدمتم. "زاد المسير" 3/ 339. كما نقله الفخر الرازي بمعناه فقال: .. والمعنى: فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون، فإنكم لا تأمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف. "تفسير الفخر الرازي" 15/ 149. (¬4) أي قبل زوال العقول. (¬5) يعني: ابن الأنباري. (¬6) ذكره بمعناه ابن الجوزي 3/ 340، كما ذكره الثعلبي 6/ 51ب , بمعناه دون نسبة. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه": فيدخل في. (¬8) في المصدر السابق: الأمن.

25

قادرون عليهم- الجبن والخوف (¬1) (¬2). قال أبو بكر: وذلك أن المسلمين يوم بدر لما رأوا قلتهم في العدة, وكثرة المشركين جزع بعضهم فقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أي: أنه قادر على (¬3) أن يحوّل الجزع من قلوبكم إلى قلوب المشركين، والشجاعة من قلوبهم إلى قلوبكم حتى يكون ذلك سبب ظفركم بهم (¬4). وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: للجزاء على الأعمال. 25 - قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الآية (¬5)، معنى الفتنة هاهنا: البلية التي يظهر فيها باطن (¬6) أمر الإنسان، وأصلها من الاختبار -كما ذكرنا قبل (¬7) - وسميت البلية فتنة لأنها كالاختبار للناس (¬8)؛ فمن تعرض لها وأثارها دل على سوء دخلته، ومن قعد عنها وطلب إماتتها دل على صلاح نيته وحسن سريرته. وهذه الآية محتملة وجهين من التفسير والإعراب: ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: الخور. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 409 - 410. (¬3) ساقط من (س). (¬4) ذكر هذا القول عن ابن الأنباري بمعناه مختصرًا ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 340، وبنحوه الثعلبي 6/ 51 ب، ولم يعين القائل. (¬5) ساقط من (س) وكتب الناسخ بدله: للمؤمنين. (¬6) يعني: ما أخفاه (¬7) انظر: "تفسير البسيط" [الأعراف: 155]. (¬8) في (م): (للإنسان).

أحدهما: أن هذا أمر باتقاء الفتنة التي تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح جميعًا ولا تقتصر على الذين ظلموا دون غيرهم، وهذا مذهب ابن عباس؛ لأنه قال في هذه الآية: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب (¬1)؛ فعلى هذا الفتنة هو إقرار المنكر وترك التغيير له، ونحو هذا قال أبو روق والكلبي وابن زيد. قال أبو روق: تصيب الصالح والطالح (¬2). وقال الكلبي: تصيب الظالم والمظلوم، ولا يكون بالظلمة وحدهم خاصة، ولكنها عامة (¬3). وقال ابن زيد: الفتنة: الضلالة (¬4)، يعني افتراق الكلمة، ومخالفة بعضهم بعضاً. ووجه الإعراب على هذا التفسير ما ذكره الفراء (¬5) وحكاه الزجاج عنه (¬6)، وهو أن قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} جزاء فيه طرف من النهي، نحو قولك: أنزل عن الدابة لا تطرحك، ولا تطرحنَّك (¬7)، فهو جواب الأمر بلفظ ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 9/ 218، وابن أبي حاتم 5/ 1682، وهو من رواية علي بن أبي طلحة الصحيحة. (¬2) ذكره هذا القول من غير نسبة: أبو حيان في "البحر" 4/ 482 - 483، ولم أجد من ذكره عن أبي روق. (¬3) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 179 مختصرًا عن الكلبي عن ابن عباس. (¬4) رواه ابن جرير 8/ 219، وابن أبي حاتم 5/ 1681. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 1/ 407. (¬6) لم يصرح الزجاج باسم الفراء بل قال: زعم بعض النحويين ... إلخ. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 410 (¬7) في (ح) و (س): (ولا تطرحك) , وهو خطأ.

النهي، المعنى: إن تنزل عنه (¬1) لا يطرحك (¬2)، فإذا أتيت بالنون الخفيفة والثقيلة كان أوكد للكلام. وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا القول فقال: إن قال قائل كيف دخلت النون في قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} وهو خبر ولا وجه لدخولها في الأخبار. فالجواب: أن هذا الكلام تأويله تأويل الخبر؛ إذ كان (¬3) المعنى: واتقوا فتنة إن لا تتقوها (¬4) لا تصيب الذين ظلموا (¬5)، أي: لا تقع بالظالمين دون غيرهم لكنها تقع بالصالحين والطالحين، فلما ظهر الفعل ظهور النهي، والنهي راجع إلى معنى الأمر؛ إذ القائل إذا قال (¬6): لا تقم، يريد دع القيام، ووقع هذا جوابًا للأمر أو كالجواب له، فأكد له شبه النهي فدخلت النون المعروف دخولها في النهي، ومثل (¬7) هذا قوله تعالى: ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وهو كذلك في أصل "معاني القرآن وإعرابه" كما أشار المحقق إلى ذلك، لكنه جعل الضمائر كلها بالتذكير وهو صواب إذ في "لسان العرب" (دبب) 3/ 1314: الدابة: التي تركب، وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب، وهو يقع على المذكر والمؤنث، وحقيقته الصفة اهـ. وكذلك ذكر أبو علي الفارسي الجملة بالتذكير، انظر: "الإغفال" ص 835. (¬2) في (ح) و (س): (لا تطرحك). (¬3) في (م): (لو كان)، وهو خطأ. (¬4) في "زاد المسير": إن لا يتقوها ... إلخ. (¬5) يعني: خاصة. (¬6) في "زاد المسير": يقول، وسقط: إذا. (¬7) ذكر ابن الجوزي إن التمثيل بالآية المذكورة لقول آخر عن ابن الأنباري في سبب دخول النون، فقال: الثاني أنه نهي محض، معناه: لا يقصدن الظالمون هذه الفتنة فيهلكوا، فدخلت النون لتوكيد الاستقبال، كقوله: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}. انظر: "زاد المسير" 3/ 342، وسيذكر المؤلف هذا القول عن ابن الأنباري شرحه للوجه الثاني في الآية.

{ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ [سُلَيْمَانُ} (¬1) [النمل: 18] تأويله: إن تدخلوا لا يحطمنكم] (¬2)، فدخلت النون على الخبر لشبهه لفظ النهي، قال: وسبيل النون الشديدة والخفيفة أن تدخلا في ستة مواضع: في الأمر، والنهي، والاستفهام، وجواب اليمين، و (إما) إذا كانت جزاء، و (ما) إذا كانت صلة، كقولك: قومن، ولا تقومن، وهل تقومن، وإما تقومن أقم، والله لتقومن، وعن قليل ما تندمن (¬3). ¬

_ (¬1) اهـ. ما نقله ابن الجوزي من كلام ابن الأنباري، انظر: "زاد المسير" 3/ 343 باختصار واختلاف يسير. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬3) هذه المواضع التي ذكرها المؤلف اقتصر عليها جمهور النحاة، وذهب بعض المحققين كابن هشام إلى جواز التوكيد في مواضع أخرى منها: أ- بعد (لا) النافية، كقوله تعالى في الآية المذكورة: {لَا تُصِيبَنَّ} على أحد القولين في معناها، وكقول النابغة الذبياني يخاطب عمرو بن هند: لا أعرفنك معرضا لرماحنا ... في جف تغلب واردي الأمرار ومنع الجمهور من ذلك لأن النفي يضاد التوكيد. ب- بعد (لم)، كقول الشاعر: يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخًا على كرسيه معممًا جـ- بعد أداة جزاء غير (إما) كقول الشاعرة ابنة مرة الحارثي: من تثقفن منهم فليس بآئب ... أبدًا وقتل بني قتيبة شافي ويرى سيبويه أن هذا الوجه والذي قبله خاص بالضرورة الشعرية، كما جوز ابن جني في "اللمع" ص 316 قياس دخول نون التوكيد في النفي. انظر تفصيل ما سبق بيانه في: "كتاب سيبويه" 3/ 511 - 521، و"أوضح المسالك" 3/ 126 - 135، و"النحو الوافي" 4/ 167 - 184، وانظر أيضًا: "البحر المحيط" 4/ 483 - 484، حيث دليل على جواز دخول نون التوكيد على المنفي بـ (لا).

الوجه الثاني (¬1): أن هذا أمر باتقاء فتنة تقتصر على الظالم وتصيبه بليتها، وهذا الوجه مروي في التفسير أيضًا عن ابن عباس، روي عنه أنه قال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [في الرؤوس دون الأتباع، وروى عطاء عنه: يريد: لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (¬2)] (¬3) وقال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير (¬4). وقال الزبير: لقد قرأناها زمانا وما ندري من عني بها، فإذا نحن المعنيون بها (¬5)، وقال ابنه عبد الله: لقد خوفنا بها ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) يعني في سبب دخول النون في قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} والوجه الأول ما ذكره قبل هذا الوجه، وكلا الوجهين لابن الأنباري كما في "زاد المسير" 3/ 343. (¬2) وردت قراءة شاذة بهذا اللفظ، رويت عن علي وزيد بن ثابت وأبي جعفر الباقر والربيع بن أنس وأبي العالية وابن جماز، انظر: "المحتسب" 1/ 277. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬4) رواه ابن جرير 9/ 218، والثعلبي 6/ 52 أ، وإيراد هذا القول وما بعده من الأقوال التي تشير إلى أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمل بعد قول المؤلف إن معنى الآية أمر باتقاء فتنة تقتصر على الظالم -أمر في غاية الخطورة، إذ يفهم منه أن من قيل أن الآية نزلت فيهم- وهم أهل يوم الجمل ظالمون، وهذا مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد عدالتهم ونزاهة قصدهم، والترضي عنهم، وسلامة الصدور نحوهم، وأن المقتتلين في يوم الجمل وصفين مجتهدون منهم المصيب المأجور، ومنهم المخطئ المعذور. انظر: "العواصم من القواصم" ص 248، و"منهاج السنة النبوية" 4/ 448 - 450. وسيأتي مزيد بيان لذلك. (¬5) رواه ابن برير 9/ 218، وابن أبي حاتم 5/ 1682، وبمعناه أحمد في "المسند" 1/ 165، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 321، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد ونعيم بن حماد في "الفتن" وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 99. رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح.

وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة (¬1). وقال السدي: نزلت هذه الآية في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجول فاقتتلوا (¬2). قال الحسن أيضًا: الذين ظلموا منكم خاصة فلان وفلان، وهو يوم الجمل خاصة (¬3)، ونحو هذا قال مقاتل والضحاك (¬4) وقتادة (¬5): أن هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابتهم الفتنة يوم الجمل (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجد من روى هذا القول عن عبد الله بن الزبير، بل رواه بنحوه عن أبيه -رضي الله عنهما- الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/ 257، وابن جرير 9/ 218 , وذكره ابن كثير 2/ 331 بلفظه ونسبه لابن جرير ولم أجده فيه. (¬2) رواه ابن جرير 9/ 218، والثعلبي 6/ 52 ب، وبمعناه ابن أبي حاتم 5/ 1682، والبغوي 3/ 346. (¬3) لم أجد من رواه بهذا اللفظ، وقد رواه بمعناه مع تسمية من نزلت فيهم ابن جرير 9/ 218، والثعلبي 6/ 52 أ، وذكره هود بن محكم الهواري في كتابه "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 82، بلفظ: يعني أصحاب النبي عليه السلام. وسيأتي توضيح المراد منه. (¬4) رواه البغوي 3/ 346، وعبد بن حميد كما قال السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 46. (¬5) رواه البغوي 3/ 346. (¬6) هذا القول وما روي عن السلف بمعناه يحتاج إلى إيضاح من عدة نقاط: أولاً: ليس ما وقع بين الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الجمل سبب لنزول الآية؛ لأن العلماء اشترطوا في السبب أن يقع أيام نزول الآية متقدما عليه، انظر: "البرهان في علوم القرآن" 1/ 26، و"الإتقان في علوم القرآن" 1/ 42، و"مناهل العرفان" 1/ 101. ثانيًا: للسلف مفهوم في معنى قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، أوسع من اصطلاح المتأخرين، قال الزركشي في "البرهان" 1/ 31: عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم؛ لا أن هذا كان السبب في نزولها اهـ. وقد سبقه شيخ الإِسلام ابن تيمية فقال في "مقدمة أصول التفسير" ص 16 ما نصه: وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن =

ووجه إعراب الآية على هذا القول ما ذكره أبو إسحاق، وهو أن قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} [نهي بعد أمر، والمعنى: اتقوا فتنة، ثم نهى بعد، ثم (1) قال {لَا تُصِيبَنَّ}] (2) الفتنة الذين ظلموا أي: لا يتعرضن [الذين ظلموا] (2) لما ينزل بهم معه العذاب (3) (4).

_ = هذا داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا. ثالثًا: على قول من قال من السلف: إن هذه الآية نزلت في أهل يوم الجمل من الصحابة، وقول الزبير: نحن المعنيون بها، يكون معنى الآية: إن هناك من ظلم، وهم قتلة عثمان -ومعلوم أنهم ليسوا من الصحابة- فعمت العقوبة وأصابت من لم يظلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس المعنى أن بعض الصحابة ظلم، فأصابت العقوبة الجميع، كما قد يفهم من سياق المؤلف للأقوال، إذ من الثابت أن كلا الطرفين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقعة الجمل يريد الإصلاح، وإنما أثار الفتنة، وأوقد نار الحرب أولئك البغاة الذين قتلوا عثمان -رضي الله عنه- وكرهوا اتفاق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفًا من سيف الحق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" 4/ 465: لما طلب طلحة والزبير الانتصار من قتلة عثمان، قامت قبائلهم فقاتلوهم؛ ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة، كما أشار به على على طلحة والزبير، واتفقوا على ذلك، ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر، فأثاروا الفتنة، وبدأوا بالحملة على عسكر طلحة والزبير، وقالوا لعلي: إنهم حملوا قبل ذلك، فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء دفعًا عن نفسه، ولم يكن لعلي ولا لطلحة والزبير غرض في القتال أصلاً، وإنما كان الشر من قتلة عثمان. (1) هكذا، وفي "الإغفال": فقال: وهو الصواب. (2) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (3) في "الإغفال": من العذاب. (4) هذا قول أبي إسحاق الزجاج كما في "الإغفال" ص 836، وليس في "معاني القرآن وإعرابه"، وقد ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 46 - 47 أن لهذا الكتاب عدة نسخ مختلفة المخارج، وقد عارض بعضها ببعض حتى حصل منها نسخة أخرى اهـ. والجدير بالذكر أن أبا على الفارسي سمع نسخته من المؤلف, كما في "الإغفال" ص 1.

وشرح أبو بكر هذا القول فقال: قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} نهي محض معناه: لايقصدن الظالمون هذه الفتنة فيهلكوا فلفظ النهي كأنه للفتنة، وهو للذين ظلموا، ومثله قوله: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} [النمل: 18] أمرتهم بالدخول ثم نهتهم أن يحطمهم سليمان فقالت: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} فلفظ النهي لسليمان ومعناه للنمل، كما تقول: لا أرينك هاهنا، فلفظ النهي لنفسك ومعناه: لا تكونن هاهنا فإني أراك (¬1). قال صاحب النظم: تأويل هذا: واتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا منكم خاصة (¬2)، يريد أن في نهيه بقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} [إخبارًا أن تلك الفتنة مصيبة (¬3) للذين ظلموا، كما تقول: اتق بلية لا تصيبن] (¬4) المتعرض لها، يفهم من هذا أنك أمرت باتقاء فتنة تصيب من تعرّض لها، فقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} نهي في موضع وصف النكرة، وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا، يؤكد هذا ما روي في حرف عبد الله: واتقوا فتنة أن تصيب الذين ¬

_ (¬1) انظر: قول ابن الأنباري مختصرًا في "زاد المسير" 3/ 342. (¬2) ذكره القرطبي في "تفسيره" 7/ 393 وهذا القول مرجوح، والأول هو الراجح لأمرين: أولاً: موافقته للظاهر المتبادر من الآية. ثانيًا: أنه مؤيد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث". رواه البخاري (7292) كتاب الفتن، باب: قول النبي: "ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب". ومسلم (28801)، كتاب الفتن، باب: اقتراب الفتن. وروى الترمذي في "سننه" (2168) كتاب الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه". قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (¬3) ساقط من (ح). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (س)

ظلموا (¬1)، واختار أبو علي الفارسي الوجه الثاني، وقال: إنه قول أبي الحسن (¬2)، ولا يصح عندنا إلا قوله، دون القول الأول، وقال: إنه نهي بعد أمر، واستغني عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما استغنى عن ذلك بقولهم (¬3): {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، و {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]، ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي، [ودخول النون هاهنا يمنع (¬4) أن تكون {لَا تُصِيبَنَّ} جوابًا للأمر] (¬5)، وأطال الكلام في إبطال القول الأول ونصرة قول أبي الحسن (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر هذه القراءة ابن عطية في "المحرر الوجيز" 6/ 262 - 264، وأبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 482 - 483، وقراءة ابن مسعود المشهورة: (واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا). انظر: "مختصر في شواذ القرآن" لابن خالوية ص 49، و"زاد المسير" 3/ 342، و"الجامع لأحكام القرآن" 7/ 393، و"البحر المحيط" 4/ 482 - 483. (¬2) يعني الأخفش الأوسط، وانظر قوله في كتابه "معاني القرآن" 1/ 347. وهو: سعيد بن مسعدة البلخي ثم البصري، إمام النحو، وأبرع تلاميذ الخليل بن أحمد وسيبويه كان من أعلم الناس بالكلام، وأحذقهم بالجدل لكنه كان معتزليًّا، وله كتب كثيرة في النحو والعروض ومعان القرآن وغيرها، توفي سنة 215هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "أخبار النحويين البصريين" ص 66، و"طبقات النحويين واللغويين" ص 72، و"نزهة الألباء" ص 107، و"إنباه الرواة" 2/ 36، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 206. (¬3) يعني المختلفين في شأن أصحاب الكهف، وفي "الإغفال": بقوله. (¬4) في (ح): (لمنع)، وهو خطأ. (¬5) ما بين المعقوفين معنى كلام أبي علي الفارسي ونصر كلامه: ومما يدل على أن لفظ أمر فلا يجوز أن يكون جزاء دخول النون فيه، والنون لا تدخل في الجزاء. (¬6) انظر: "الإغفال" ص 837، وعمدة أبي علي الفارسي في إبطال القول الأول دخول =

26

وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [قال عطاء: يريد لمن عطّل حدوده وانتهكها (¬1)، وفي قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}] (¬2) حث على لزوم الاستقامة خوفًا من الفتنة ومن عقاب الله بالمعصية فيها. 26 - قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} الآية، قال أبو علي: هذا من الذكر الذي يكون عن النسيان، والمعنى: قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن بتلك الحال المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة فتشكروا عليه (¬3) (¬4)، قال الكلبي (¬5) والفراء (¬6): نزلت في المهاجرين خاصة. وقال عكرمة: يعني النبي ومن معه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة (¬7). وقال الكناني: يعني حين كانوا بمكة في عنفوان (¬8) الإِسلام قبل أن يكملوا أربعين (¬9). ¬

_ = النون على قوله تعالى: {لَا تُصِيبَنَّ} وهو منفي، وقد سبق توجيه المؤلف لذلك، وذهب أبو حيان إلى قياس دخول النون على المنفي وذكر له شواهد عدة، انظر: "البحر المحيط" 4/ 482 - 485. (¬1) لم أجد من ذكره. (¬2) ساقط من (س). (¬3) أي: على موضع النعمة. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 428. (¬5) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص180 عنه عن ابن عباس. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 407. (¬7) رواه ابن جرير 9/ 219 - 220، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 310، و"معالم التنزيل" 3/ 347. (¬8) عنفوان الشيء: أوله، انظر: "الصحاح" (عنف) 4/ 1407، و"مجمل اللغة" (عنف) 3/ 632. (¬9) ذكره الثعلي 6/ 53 أبلا نسبة.

وقوله تعالى: {فِي الْأَرْضِ}، قال ابن عباس (¬1) والكلبي (¬2): في أرض مكة. وقوله تعالى: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}، قال ابن عباس: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} إذ أخرجتم منها، والناس هاهنا: العرب (¬3) يريد المشركين، ونحو ذلك قال الكلبي (¬4) وغيره (¬5)، وقال عكرمة وقتادة: هم كفار قريش (¬6)، وقال وهب: يعني فارسًا والروم (¬7). وقوله تعالى: {فَآوَاكُمْ} أي جعل لكم مأوى ترجعون إليه وتسكنون فيه، قال ابن عباس: فضمكم إلى الأنصار (¬8)، وقال السدي والكلبي والكناني: فآواكم إلى المدينة دار الهجرة (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 3/ 343، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 453. (¬2) ذكره الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص180 عنه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير القرطبي" 7/ 394. (¬3) ذكره ابن الجوزي 3/ 343 بمعناه. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق الصنعاني" 1/ 2/ 258، وابن جرير 9/ 220، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص180 عنه عن ابن عباس. (¬5) كالسدي فيما رواه عنه ابن جرير 9/ 220، وقتادة فيما رواه عنه ابن أبي حاتم 5/ 1682. (¬6) رواه بمعناه ابن جرير 9/ 219 - 220، ورواه البغوي 13/ 347 عن عكرمة بلفظ: كفار العرب. وانظر: القرطبي 7/ 394. (¬7) رواه ابن جرير 13/ 478، وابن أبي حاتم 3/ 238 أ، والثعلبي 6/ 53 أ، والصنعاني 1/ 2/ 258، ولم يذكر الروم، وذكره السيوطي في "الدر" 4/ 47, وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ. (¬8) ذكره القرطبي 7/ 394، وبمعناه ابن الجوزي 3/ 343 ن والفيروزأبادي ص 180 وأبو حيان 5/ 306. (¬9) رواه ابن جرير 13/ 479 عن السدي، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" =

27

{وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ}، قال ابن عباس: يريد بقوته (¬1)، وقال السدي: وأيدكم بالأنصار (¬2)، وقال الكلبي والكناني: وأيدكم بنصره يوم بدر بالملائكة (¬3). {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني الغنائم ببدر في قول ابن عباس (¬4) والكلبي (¬5) والكناني (¬6)، يريد أحلّها لكم ولم تحل لأحد قبلكم. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، قال عطاء: يريد: كي تطيعوا (¬7)، قال أهل المعاني: وهذا تذكير بالنعمة في تقويتهم بعد الضعف، وأمنهم بعد الخوف، ونصرهم على أعدائهم، وبسط أرزاقهم (¬8). 27 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الخون ¬

_ = 3/ 343 إلى ابن عباس والأكثرين، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 180 عن الكلبي عن ابن عباس. (¬1) رواه الفيروزأبادي ص 180 بلفظ: أعانكم وقواكم بنصرته يوم بدر. (¬2) رواه ابن جرير 9/ 220 بمعناه، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 322، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬3) رواه البغوي 3/ 347 عن الكلبي، وكذلك المؤلف في "الوسيط" 2/ 453، ونسبه ابن الجوزي 3/ 343 إلى الجمهور. (¬4) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 180، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 485. (¬5) رواه البغوي 3/ 347. (¬6) لم أجد من ذكره عنه. (¬7) لم أجد من ذكره عنه. (¬8) لم أجده فيما بين يدي من كتب أهل المعاني، وانظر معناه في: "تفسير ابن جرير" 9/ 219، و"البحر المحيط" 4/ 485.

والخيانة والمخانة: خون الحق (¬1) الذي قد ضمن فيه التأدية، وخان: يتعدى إلى مفعولين، نحو: اعطى، ويجوز أن يقتصر على أحدهما، ويدلك على تعدي (خان) إلى مفعولين قول أوس: خانتك ميّة ما علمت كما ... خان الإخاء خليلَه لبد (¬2) قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3)، والزهري (¬4) والكلبي (¬5) وعبد الله [بن أبي قتادة (¬6)] (¬7): نزلت هذه الآية في أبي لبابة (¬8) حين بعثه رسول الله ¬

_ (¬1) أي تنقصه وعدم الوفاء به، قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" (خون) 2/ 231: الخاء والواو والنون أصل واحد، وهو التنقص، يقال: خانه يخونه خونًا: وذلك نقصان الوفاء. (¬2) "ديوانه" ص 22. قال ابن منظور: لبد: اسم آخر نسور لقمان بن عاد وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أُهلكوا خُيّر لقمان بين بقاء سبع بَعْرات سمْر، من أظْبٍ عفر، في جبل وعر، لا يسمها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلص بعده نسر، فاختار النسور، فكان آخر نسوره يسمى لبدًا، وقد ذكرته الشعراء. "لسان العرب" (لبد) 7/ 3984. (¬3) ذكرها ابن الجوزي 3/ 344، وأبو حيان 4/ 486، ورواها مختصرة الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 180 من رواية الكلبي. (¬4) رواه عنه ابن جرير 9/ 221، والثعلبي 6/ 53 ب، ورواه مختصراً مالك في "الموطأ" ص 321، ورواه عن الزهري، عن كعب بن مالك الإمام الصنعاني في "المصنف" 5/ 407. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 53 ب، ورواه مختصرًا الفيروزأبادي ص180 عنه عن ابن عباس. (¬6) رواه ابن جرير 9/ 222، وابن أبي حاتم 5/ 1684، وابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 3/ 254، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 323 - 324، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وسعيد بن منصور وأبي الشيخ. (¬7) في (ح): (بن أبي، وقتادة)، وهو خطأ وما أثبته موافق للمصادر السابقة، وهو عبد الله بن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري السلمي المدني تابعي ثقة قليل الحديث، توفي سنة 99 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 1/ 3/ 175، و"الكاشف" 1/ 586، و"تهذيب التهذيب" 2/ 404. (¬8) هو: أبو لبابة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري أحد نقباء الأنصار، شهد بيعة =

- صلى الله عليه وسلم - إلى قريظة لما حاصرهم، وكان أهله وولده فيهم قالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي: إنه الذبح فلا تفعلوا، فكانت تلك منه خيانة لله ورسوله (¬1). وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك (¬2). وقال ابن زيد: نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون؛ يظهرون الإيمان ويسرون الكفر (¬3)، ونحو هذا قال محمد بن إسحاق، أي: لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفونه (¬4) في السر إلى غيره (¬5). ¬

_ = بيعة العقبة، وكذلك بدرًا وقيل: بل استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خرج إلى بدر، وكانت راية بني عمرو معه يوم الفتح، توفي في خلافة علي، ويقال بعد سنة 50 هـ. انظر: "أسد الغابة" 5/ 284، و"الإصابة" 4/ 168، و"تهذيب التهذيب" 4/ 578. (¬1) جميع روايات الأثر التي ذكرها المؤلف ضعيفة، فروايتا عطاء والكلبي عن ابن عباس ساقطتان، وروايتا الزهري وابن أبي قتادة مرسلتان، وقد رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 406، عن الزهري، عن كعب بن مالك، والزهري لم يدرك كعبًا الذي مات سنة 40 هـ، والزهري ولد سنة 50 هـ. على أقل تقدير. انظر: "تهذيب التهذيب" 8/ 384، 9/ 387، وقال ابن جرير 13/ 483: جائز أن تكون نزلت في أبي لبابة، وجائز أن تكون نزلت في غيره، ولا خبر عندنا بأي ذلك كان يجب التسليم له بصحته. (¬2) رواه ابن جرير 13/ 483 مختصرًا. (¬3) رواه مختصرًا ابن جرير 13/ 483. (¬4) في "السيرة النبوية": تخالفوه اهـ. وهو الصواب لأنه معطوف على الفعل المجزوم. (¬5) "السيرة النبوية" 2/ 669.

وقال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته (¬1). وقوله تعالى: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}، قال الفراء: إن شئت جعلت (وتخونوا) جزمًا على النهي، وإن شئت جعلته صرفًا (¬2) ونصبته كقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله (¬3) (¬4) والجزم مذهب الأخفش (¬5) (¬6)، ويدل على صحته ما روي في حرف ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 9/ 223، وابن أبي حاتم 5/ 1683 - 1684، والثعلبي 6/ 54 أ. (¬2) الصرف: أن يصرف المتكلم الفعل الثاني عن معنى الفعل الأول المتقدم عليه، وانظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 275، وقال الفراء في "معاني القرآن" 1/ 33: فإن قلت: وما الصرف؟ قلت: أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصرف. (¬3) هذا صدر بيت، وعجزه: عار عليك إذا فعلت عظيم وقد اختلف في قائله، فقيل: هو الأخطل، وهذا رأي سيبويه في "الكتاب" 3/ 42، وقيل: المتوكل الليثي، وقيل: الطرماح بن حكيم، وقيل: سابق البربري، انظر: "الخزانة" 8/ 564، و"معجم شواهد العربية" 2/ 887. قال في خزانة الأدب، الموضع السابق: والصحيح أنه لأبي الأسود الدؤلي اهـ. وهو في "ديوانه" ص 404، ونسب إليه في "شرح التصريح" 2/ 238، و"شرح شذور الذهب" ص 310، و"همع الهوامع" 2/ 13. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 1/ 408 بتصرف. (¬5) هو: أبو الحسن سعيد بن مسعدة. تقدمت ترجمته. (¬6) ذكر مذهبه هذا الثعلبي 6/ 54 أ، ولم يتعرض الأخفش لتفسير الآية في كتابه "معاني القرآن"، ولكنه ذكر رأيه في مثلها وهي قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] , هو في هذه المواضع يذهب إلى جواز =

عبد الله، (ولا تخونوا أماناتكم) (¬1)، وقد ذكرنا الوجهين بالشرح في قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42]. وذهبت طائفة إلى أن قوله: {وَتَخُونُوا} جواب للنهي بالواو (¬2)، والعرب تجاوب بالواو كما تجاوب بالفاء (¬3)، ومنهم من يجعل الواو بدلاً من الفاء، وكلا الوجهين قد شرحنا في قوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]، في قراءة من قرأ بالنصب (¬4). والأمانة هاهنا: مصدر سمي به المفعول (¬5) ولذلك جمع، قال ابن عباس في رواية الوالبي: الأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، يعني الفرائض، يقول: لا تنقصوها (¬6) (¬7). ¬

_ = النصب والجزم، حيث قال: إن شئت جعلت (وتكتموا الحق) نصبًا، إذا نويت أن تجعل الأول اسمًا فتضمر مع (تكتموا)، (أن) حتى تكون اسمًا، وإن شئت عطفتها فجعلتها جزمًا على الفعل الذي قبلها. "معاني القرآن" للأخفش 1/ 71، وانظر تفاصيل الخلاف في المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 448. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 408، و"تفسير الرازي" 15/ 52، ولم يشر إليها أصحاب القراءات الشاذة. (¬2) ساقط من (م). (¬3) ذكر هذا القول الثعلبي 6/ 54 أ، ومكي في "مشكل إعراب القرآن" ص 314، والرازي 15/ 152، وأبو حيان 4/ 486. (¬4) وهي قراءة حفص وحمزة ويعقوب، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 143، و"إرشاد المبتدئ" ص 307، و"تحبير التيسير" ص 108. (¬5) ساقط من (ح). (¬6) في (ح): (لا تنقضوها)، وكذلك في "تفسير الثعلبي" وابن كثير، وما أثبته موافق لمصادر تخريجه عدا الثعلبي وابن كثير. (¬7) رواه ابن جرير 9/ 223، وابن أبي حاتم 5/ 1684، والثعلبي 6/ 54 أ، وانظر: =

وقال الكلبي: أما خيانة الله ورسوله: فمعصية الله ورسوله، وأما خيانة الأمانة: فكل أحد مؤتمن على ما افترض الله عليه إن شاء خانها، وإن شاء أداها لا يطلع عليه أحد إلا الله (¬1). وقال قتادة في قوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} إن دين الله أمانة (¬2)، فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده (¬3). وهذه الأقوال توجه على قول من قال: موضع (¬4) {وَتَخُونُوا} جزم وعلى هذا الوجه قول ابن زيد: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} قال: يعني دينكم، وقد فعل ذلك المنافقون (¬5). وقال السدي: إذا خانوا الله ورسوله فقد خانوا أماناتهم (¬6)، وهذا يتوجه على قول من يقول بالصرف، أو يجعل الواو جوابًا للنهي، بمعنى: لا تخونوا الله والرسول فتخونوا أماناتكم، أي إنكم إذا خنتم الرسول فقد خنتم أماناتكم. واختار أبو علي الجزم وقال: يمكن أن يكون هذا من باب حذف المضاف، فيكون المعنى: ولا تخونوا ذوي أماناتكم، قال: وهذا أشبه بما ¬

_ = "زاد المسير" 3/ 345، و"الوسيط" 2/ 453، وابن كثير 2/ 333، وصحيفة علي ابن أبي طلحة ص 251. (¬1) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" للشيخ هود بن محكم 2/ 29. (¬2) في (ح)، و (س): هي أمانة، وأثبت ما في (م) لموافقته لما في المصدرين التاليين. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 54 ب، والبغوي 3/ 348. (¬4) في (س): (في قول من قال في موضع)، وهو خطأ. (¬5) رواه ابن جرير 13/ 485، وابن أبي حاتم 3/ 238 ب، والثعلبي 6/ 54 أ. (¬6) رواه ابن جرير 13/ 484، والثعلبي 6/ 54 أ، والبغوي 3/ 348.

28

قبله, وذوو الأمانة: نحو المودع والمعير والموكل والشريك ومن يدك في ماله يد أمانة لا يد ضمان (¬1)، ثم حذفت المضاف (¬2)، وقد ذكرت إحدى مفعولي الخيانة، ولم تذكر الثاني وهو المنهي عن الخيانة فيه (¬3)، وإذا لم (¬4) تقدر حذف المضاف فقد ذكرت المنهي عن الخيانة فيه ولم تذكر صاحب الأمانة، كقولك: أعطيت درهمًا. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أنها أمانة من غير شبهة، وقيل: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [ما في الخيانة، خلاف الجهال بتلك المنزلة (¬5)، وقال صاحب النظم: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}] (¬6) أن ما فعلتم من الإشارة إلى الحلق خيانة لله ورسوله (¬7). 28 - قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي محنة (¬8)، يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه فيستحق الثواب أو العقاب. ¬

_ (¬1) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 1/ 218. (¬2) يعني لفظ (ذوي) في قوله: والمعنى: ولا تخونوا ذوي أماناتكم، وقد ساق المؤلف العبارة على وجه الخطاب للتمثيل، ولا يخفى أنه لا يعني الجملة القرآنية، إذ لا يصح أن يخاطب بشر بأنه حذف شيئًا من القرآن. (¬3) ساقط من (س). (¬4) ساقط من (س). (¬5) ذكر هذا القول الماوردي في "النكت" 2/ 311 ولم يعين القائل. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) ذكر هذا القول المؤلف في "الوسيط" 2/ 454، كما ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 348 لكن من غير نسبة. (¬8) انظر: "الصحاح" (فتن) 6/ 2175.

قال المفسرون: وكان لأبي لبابة مال وأهل وولد في قريظة، ولذلك مال إليهم في إطلاعهم على أن حكم سعد فيهم القتل (¬1). وقال ابن زيد: فتنة: اختبار اختبرتم بها، وقرأ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] (¬2). وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، قال ابن عباس: يريد لمن نصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وأدى أمانته، ولم يخن نفسه ولا ربه ولا نبيه ولا أحدًا من المؤمنين (¬3). وهذه الآية بيان عن حال الأموال والأولاد في الافتتان بهما حتى يركب الإنسان كل (¬4) عظيم لغلبة الهوى فيهما، فيحرم عظيم الأجر لما لا يبقى (¬5) عليه من عاجل النفع. قال عبد الله بن أبي قتادة (¬6): ذكر الله تعالى أن مناصحة أبي لبابة وخيانته إنما كانت لأن أهله كان فيهم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 53 أ، والبغوي 3/ 347، وابن الجوزي 3/ 345، و"أسباب النزول" ص 238 - 239 للمؤلف، و"الجامع لأحكام القرآن" 7/ 396. (¬2) رواه ابن جرير 9/ 224، وابن أبي حاتم 5/ 1685، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 324. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 454، وذكره مختصرًا من غير نسبة البغوي في "تفسيره" 3/ 348. (¬4) ساقط من (م). (¬5) في (ح): (لم يبق)، والصواب ما أثبته، والمعنى: يُحرم الإنسان عظيم الأجر لأجل ما لا يدوم عليه من المتاع العاجل بل سيرحل عنه. (¬6) تابعي من أبناء الأنصار. تقدمت ترجمته. (¬7) لم أجد من ذكره بهذا اللفظ، وقد رواه ابن جرير 9/ 222 بلفظ: نزلت في أبي لبابة , وزاد ابن أبي حاتم 5/ 1684: حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح.

29

29 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} الآية، قال أصحاب المعاني: إنما جاز الشرط في خبر الله تعالى مع علمه أنهم يتقون أو لا يتقون لأنه يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك للمظاهرة في العدل (¬1)، وعلى هذا المعنى أيضًا يتوجه ابتلاء الله العباد للبيان (¬2) أن الجزاء على ما يظهر من الفعل دون ما في المعلوم مما لم يقع بعد. واتقاء الله عز وجل: الامتناع عن معاصيه بأداء فرائضه (¬3)، واختلفوا في هذه الآية فمنهم من قال: إنها ابتداء خطاب من الله تعالى للمؤمنين، وليست تتصل بما قبلها (¬4). ¬

_ (¬1) لم أجده عند أهل المعاني، وقد ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" 15/ 153، وقال القرطبي رحمه الله: كان الله عالمًا بأنهم يتقون أم لا يتقون، فذكر بلفظ الشرط؛ لأنه خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضًا. "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 396. ولا يخفى أن استعمال الشرط يفيد عظيم فائدة التقوى في الحصول على الفرقان، وتكفير السيئات، وغفران الذنوب، فيسعى المؤمن لتحقيق كمالها، ويحذر من التفريط فيها. (¬2) هكذا، والمعنى: مستقيم. (¬3) هكذا، ومعلوم أن أداء الفرائض بعض التقوى، ولو قال المؤلف رحمه الله تقوى الله: الامتناع عن معاصيه وأداء أوامره، لكان أشمل، قال الإمام البغوي 3/ 348: إن تتقوا الله: بطاعته وترك معصيته. وقال الإِمام ابن كثير 2/ 314: من اتقى الله بفعل أوامره، وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، وقال القرطبي 7/ 396: فإذا اتقى العبد ربه، وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه وترك الشبهات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال .. إلخ. والمقصود أن تقوى الله أعم من أداء الفرائض. (¬4) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 14، وإليه ذهب ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 9/ 325.

ومنهم من قال: إنها متصلة بقصة الخيانة، يقول: إن تتقوا الله باجتناب خيانته، وخيانة رسوله، وخيانة أمانته يجعل لكم فرقانًا (¬1)، وقد ذكرنا معنى الفرقان في اللغة وأنه مصدر لـ (فرق) نحو (¬2) الرجحان والنقصان (¬3). واختلفت عبارات المفسرين في تفسير الفرقان هاهنا وكلها راجع إلى معناه في اللغة، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: مخرجًا من الشبهات مثل قوله في البقرة: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (¬4)، يريد المخرج من الشبهات، وأراد هاهنا بالمخرج: أن الله تعالى يجعل لكم فرقانًا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم بنصره إياكم عليه، وهذا قول مقاتل (¬5). وقال عكرمة (¬6) والسدي (¬7) وعبد الكريم الجزري (¬8): (فرقانًا: ¬

_ (¬1) إلى هذا القول يميل ابن جرير 9/ 224، والثعلبي 6/ 54 ب، وابن الجوزي 3/ 346. (¬2) في (ح): (بعض)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: 53. (¬4) البقرة: 185، وقد روى قول ابن عباس من رواية ابن أبي طلحة مختصرًا ابن جرير 1/ 146، وابن أبي حاتم 5/ 1686، ولفظها: الفرقان: المخرج. (¬5) هذا قول مقاتل بن حيان كما في: "تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1686، والثعلبي 6/ 54 ب، والبغوي 3/ 349، وهو أيضًا قول مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" 12 أ. (¬6) رواه ابن جرير 9/ 225، والثعلبي 6/ 54 ب. (¬7) رواه ابن جرير 9/ 225. (¬8) هو: عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد التابعي الإمام الحافظ عالم الجزيرة, كان ثقة ثبتاً كثير الحديث، توفي سنة 127 هـ.

نجاة) (¬1)، يريدون أن الله تعالى يفرق بينكم وبين ما تخافون فتنجون، وقد جمع مجاهد بين معنى القولين (¬2) فقال: مخرجًا في الدنيا والآخرة (¬3)، يعنى: مخرجًا في الدنيا من الشبهات، ونجاة في الآخرة. [وقال الضحاك: (بيانًا) (¬4)، وهو معنى قول من قال: مخرجًا من الشبهات] (¬5). وقال ابن زيد وابن إسحاق: هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل (¬6). ¬

_ = انظر: "التاريخ الكبير" 3/ 2/ 88، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 80، و"تهذيب التهذيب" 2/ 602. (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 258، عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد، ولم أجد من ذكره عنه. (¬2) في (س): (المعنيين). (¬3) رواه ابن جرير 9/ 225، وابن أبي حاتم 5/ 1686، والثعلبي 6/ 54 ب، وعزاه السيوطي في "الدر" 3/ 324، إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ. وانظر: "تفسير مجاهد" ص 354. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 54 ب، والبغوي 3/ 349. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬6) رواه عن ابن زيد بمعناه الثعلبي 6/ 54 ب، وابن جرير 9/ 226 فيما يظهر بالمقارنة بينه وبين تفسير الثعلبي, إذ أن اسم القائل وسنده ساقط من المخطوطة والمطبوعة كما ذكر المحقق، وبقي القول بنصه كما في "تفسير الثعلبي"، وقد ذكره أيضًا الماوردي 2/ 311، وابن الجوزي 3/ 346، وزادا نسبته إلى ابن إسحاق كالواحدي. والواقع أن بين قولي ابن زيد وابن إسحاق اختلافًا بيِّنًا في المعنى، وإن اشتركا في بعض الألفاظ، فقد جاء قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" 2/ 315، و"تفسير ابن جرير" 9/ 226، والثعلبي 6/ 54 ب، والبغوي 3/ 349 بلفظ: أي: فصلاً بين الحق والباطل؛ ليظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم.

وقال الكلبي: (نصرًا) (¬1) وهو اختيار الفراء، قال: يقول: فتحًا ونصرًا كقوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، يعني يوم الفتح والنصر (¬2)، يريد أن يعز المؤمنين وينصرهم ويدل من خالفهم ويخذلهم فرقًا بينهم وبينهم. وقوله تعالى: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، قال عطاء: يريد تفضل على أوليائه بالعصمة بعد ما كفّر سيئاتهم (¬3)، وقال أهل المعاني: أي أنه ابتدأكم بالفضل العظيم فلا يمنعكم ما وعدكم على طاعاتكم (¬4). وقيل: إنه الذي يملك الفضل العظيم فاكتفوا بالطلب من عنده دون غيره (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 54 ب. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 408. (¬3) لم أجد من ذكره، وفي متنه نظر إذ ليس كل ولي معصومًا، بل العصمة مقصورة على الأنبياء، وقد خاطب الله تعالى أصحاب النبي -وهم من خير أولياء الله- بقوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، وأخبر عنهم بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] ووصف عباده المتقين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]. ثم إن في متن الأثر تناقض وذلك أن ظاهره يدل على أن الأولياء معصومون في وقت دون وقت أو في حال دون حال؛ حيث أثبت لهم سيئات، وهذا يناقض العصمة. (¬4) لم أجده. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 454 دون نسبة.

30

30 - قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذه الآية راجعة إلى قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [مُسْتَضْعَفُونَ}] (¬1) يذكرهم الله عز وجل حالهم بمكة ونعمته على رسوله بإبطاله مكر المشركين، وهذه السورة مدنية، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: إن مشركي قريش توامروا (¬2) في دار الندوة فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون، وقال بعضهم: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، قال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربونه (¬3) بأسيافهم ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا تقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، وأوحى الله عز وجل إلى نبيه بذلك وأذن له بالخروج إلى المدينة فخرج إلى الغار، فذلك قوله: {لِيُثْبِتُوكَ} (¬4). ¬

_ (¬1) في (ح) و (س): (فكثركم) موضع (مستضعفون)، ولا يوجد آية بهذا اللفظ، وفي (م): {اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] وهي خطاب لقوم شعيب، وكلام المؤلف يدل على أنه أراد ما أثبته، وقد اضطررت لتغيير نص المؤلف لكون الخطأ في آية من كتاب الله. (¬2) هكذا في جميع النسخ، وهي لغة في تآمروا، قال مسجد الدين الجزري: آمروا النساء في أنفسهن: أي شاوروهن في تزويجهن، ويقال فيه: (وامرته، وليس بفصيح). "النهاية في غريب الحديث" (أمر) 1/ 66. (¬3) هكذا في جميع النسخ، والصواب: فيضربوه؛ لأنه معطوف على منصوب. (¬4) هذا معنى أثر رواه عن ابن عباس، الإمام ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 2/ 93 , وأحمد 1/ 348، وابن جرير 9/ 226، والثعلبي 6/ 55 أ، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 100. فيه عثمان بن عمرو والجزري، وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ. وقد روى قضية حصار بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحاولة قتله ودخوله الغار الإمام أحمد =

قال ابن عباس ومجاهد ومقسم (¬1) وقتادة: (ليوثقوك ويشدوك) (¬2)، وكل من شُّد فقد أُثبت؛ لأنه لا يقدر على الحركة، ومن هذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحة منعته الحركة: قد أُثبت فلان فهو مثبت. وقال عطاء وعبد الله بن كثير (¬3) وابن زيد: (ليسجنوك) (¬4)، وهو لفظ الفراء (¬5) والزجاج (¬6) وابن قتيبة (¬7) وابن الأنباري، قال أبو بكر: يريد: ليثبتوك في بيت، فحذف المحل لوضوح معناه. وقوله تعالى: {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي: بأجمعهم قتلة رجل واحد كما قال اللعين أبو جهل، {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي: من مكة إلى طرف من أطراف الأرض. ¬

_ = 1/ 331، والحاكم 3/ 133، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وانظر: قول قتادة ومجاهد وغيرهما في "تفسير ابن جرير" 9/ 226 - 230، وابن أبي حاتم 3/ 239، 240، و" الدر المنثور" 4/ 50 - 53. (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) رواه عنهم ابن جرير 9/ 226، والثعلبي 6/ 56 أ، وقد جمع الواحدي بين قولين، فقتادة يقول: ليشدوك، وغيره يقول: ليوثقوك. والقولان بمعنى واحد. (¬3) هو: عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله الداري المكي الإمام العلم، مقرئ مكة، وأحد القراء السبعة، كان ثقة فصيحًا واعظًا كبير الشأن، مات سنة 120 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 5/ 318، و"معرفة القراء الكبار" 1/ 86، و"غاية النهاية في طبقات القراء" 1/ 443. (¬4) رواه عنهم ابن جرير 9/ 226، ورواه عن عطاء وابن كثير الإمام ابن أبي حاتم 5/ 1688، والثعلبي 6/ 56 أ. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 409، ولفظه: ليحبسوك في البيت. (¬6) لم يتطرق الزجاج لتفسير الكلمة في كتابه "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 410، ولم أجد من ذكره عنه. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 189.

31

وقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}، قال أبو إسحاق: ومكر الله عز وجل إنما هو (¬1) مجازاة ونصر للمؤمنين (¬2)، وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله (¬3). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، قال عطاء عن ابن عباس: إنه مكر أفضل مما مكروا (¬4)، وقال محمَّد بن إسحاق: قال الله: مكرت لك بكيدي المتين حتى خلصتك منهم (¬5). وتلخيص معنى قوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي أفضل المجازين بالسيئة العقوبة (¬6)؛ وذلك أنه أهلك هؤلاء الذين دبروا لنبيه الكيد، وخلصه منهم، وقد ذكرنا معنى المكر في قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في سورة آل عمران [54]. 31 - قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا}، قال ابن عباس والمفسرون: كان النضر بن الحارث (¬7) خرج إلى الحيرة تاجرًا فاشترى ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 410. (¬3) رواه البغوي 3/ 350. (¬4) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص180، من رواية الكلبي. (¬5) "السيرة النبوية" 2/ 669. (¬6) قال الراغب الأصفهاني: المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ومذموم، وهو أن يتحرى به فعل قبيح، قال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، و"المفردات" (مكر) ص 471. (¬7) هو: النضر بن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار بن قصي القرشي، كان من شجعان قريش ووجوهها واحد شياطينها وممن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له إطلاع على أخبار الأمم السابقة وكتب الفرس، أصيب ببدر مع المشركين فامتنع عن =

32

أحاديث كليلة ودمنة (¬1)، فكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين (¬2) وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، فلما قص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، إن هذا إلا ما استطر الأولون في كتبهم (¬3). فذمهم الله تعالى بدفعهم الحق الذي لا شبهة فيه بادعائهم الباطل في زعمهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} تكذبا وافتراء بعد ما أبان التحدي إفكهم وأنهم عجزة عن سورة مثله؛ وذكرنا معني الأساطير في سورة الأنعام (¬4). 32 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}، قال أبو إسحاق: القراءة بنصب (الحق) على خبر كان، ودخلت (هو) للفصل، ولا موضع لها وهي بمنزلة (ما) المؤكدة، ودخلت ليعلم أن ¬

_ = الطعام والشراب حتى مات، وقيل: قتل صبرًا بعد الانصراف من المعركة. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 319، و"الكامل" لابن الأثير 2/ 73، و"زهرة الآداب" 1/ 33، و"جمهرة الإنساب" ص 126، و"نسب قريش" ص 255. (¬1) "كليلة ودمنّة" كتاب وضعه الفيلسوف الهندي بيدبا لأحد ملوك الهند، وجعله على ألسنة البهائم والطيور، وقد نقل من اللغة الهندية إلى الفهلوية الفارسية، ثم نقله عبد الله بن المقفع إلى اللغة العربية، ومنها ترجم إلى سائر اللغات الحية، انظر: "التمهيد لكتاب كليلة ودمنة" بقلم جورجي زيدان. (¬2) هم رهط من قريش تحالفوا على أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والافتراء عليه، وإذاعة ذلك بكل طريق، وإخبار النزاع إليهم به. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 195، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 127، و"الدر المنثور" 3/ 327. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 50 أمختصرًا، ومثله البغوي 3/ 351، وكذلك ابن إسحاق في "السيرة" 1/ 319، ورواه ابن جرير 9/ 231 بمعناه عن ابن جريج والسدي. (¬4) انظر: "تفسير البسيط" الأنعام: 25.

33

(الحق) ليس بصفة لـ (هذا)، وأنه (¬1) خبر، قال: ويجوز: هو الحق، رفعًا، ولا أعلم أحدًا قرأ بها (¬2)، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها , ولكن القراءة سنة (¬3). وقولى تعالى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}، قال الليث: مطرتنا السماء وأمطرتنا وأمطرهم الله مطرًا و (¬4) عذابًا (¬5). وقال أبو عبيدة: ما كان من العذاب يقال فيه: أمطر، ومن الرحمة: مطر (¬6)، قال المفسرون: قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد حقًا من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: ببعض ما عذبت به الأمم (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن وإعرابه": أو أنه، وهو خطأ ينبغي تصويبه. (¬2) لعله يعني من القراء المعتبرين، وإلا فقد قرئ بها شذوذًا، وهي قراءة الحسن بن سعيد المطوعي عن الأعمش، وكذلك زيد بن علي، انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص 49، و"الكشاف" 2/ 155، و"البحر المحيط" 5/ 310، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 236. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 411، وقد اختصر الواحدي كلام الزجاج. (¬4) في "تهذيب اللغة" وكتاب "العين": أو. (¬5) "تهذيب اللغة" (مطر) 13/ 341، والنص بنحوه في كتاب "العين" (مطر) 7/ 425. (¬6) "مجاز القرآن" ص 245. وقد ذكر الواحدي قول أبي عبيدة بمعناه. (¬7) رواه ابن جرير 13/ 505 - 506، عن سعيد بن جبير ومجاهد عطاء وكلها مراسيل، وقد أسنده ابن أبي حاتم 3/ 241 أعن ابن عباس، ولكن بسند ضعيف إذ فيه راو لم يسم، والثابت أن القائل هو أبو جهل، كما رواه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنفال 6/ 119، ويمكن الجمع بين القولين بأن كليهما قال ذلك، هذا لو صح ما روي عن النضر بن الحارث.

قال أهل العلم وأصحاب التأويل في هذه الآية: يجوز أن يكون هذا القول عنادًا منهم، وذلك أن المعاند قد تحمله شدة عداوته للمحق (¬1) على إظهار مثل هذا القول لتوهم أنه على بصيرة من أمره، ويجوز أن يكونوا قالوا هذا على شبهة تمكنت من نفوسهم، ولو عرفوا بطلان ما هم عليه ما قالوا مثل هذا القول؛ فقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} مع علمهم أن الله قادر على ذلك يدل على أنهم لم يعتقدوا ولم يعرفوا أن ما أتى به محمد هو حق من عند الله، وإذا لم يكن هو الحق عندهم لم يصبهم هذا النبلاء الذي طلبوه عند أنفسهم؛ لأنهم شرطوا كونه حقًّا (¬2). قال عطاء: ثم حاق بالنضر ما سأل من العذاب الأليم يوم بدر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله صبرًا (¬3). وقال أهل المعاني: هذه الآية ذم لهم في دفع الحق بأغلظ ما يكون من المناصبة له (¬4) حتى طلبوا إمطار الحجارة من السماء به (¬5) إيهامًا أنهم على غاية الثقة فيه أنه ليس بحق (¬6). ¬

_ (¬1) في (ح): (للحق). (¬2) انظر: "النكت والعيون" 2/ 313، و"المحرر الوجيز" 6/ 279، و"الكشاف" 2/ 155، و"البحر المحيط" 4/ 488 - 489. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 57 أ، والبغوي 3/ 351 دون ذكر القتل، وقد رويا قتله صبرًا عن سعيد بن جبير، ورواه أيضًا عنه أبو عبيد في كتاب "الأموال" ص 171، وابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 372. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) ساقط من (س). (¬6) لم أقف عليه.

33 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية، هذه اللام تسمى لام الجحود، تدخل في النفي دون الإيجاب لتعلق ما دخلت عليه بحرف النفي، كقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 179]، كما دخلت (الباء) في خبر (ما) ولم تدخل في الإيجاب، ولعل هذا مما سبق الكلام فيه. قال المفسرون: ما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين وأنت فيهم، مقيم بين أظهرهم (¬1)، قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا، ويلحق بحيث أمر (¬2). وقال أهل المعاني: لم يجز أن يعذبوا مع كون النبي فيهم؛ لأن إرساله رحمة للعالمين يقتضي أن لا يعذبوا وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة بأخذه (¬3) عنهم (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم المؤمنون يستغفرون (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 57 ب، وقد نسب هذا القول إلى سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى وأبي مالك والضحاك، ورواه بمعناه ابن جرير 9/ 234 - 239، عن جمع عن مفسري الصحابة والتابعين وغيرهم. (¬2) رواه ابن جرير 9/ 235، وابن أبي حاتم 5/ 1692، والثعلبي 6/ 58 أ، والبغوي 3/ 353. (¬3) في المصدر التالي: بإخراجه. ولم أجده عند أهل المعاني، وانظره في: "النكت والعيون" 2/ 314. (¬4) رواه عنهم ابن جرير 9/ 235 - 236، والثعلبي 6/ 57 أ. (¬5) في (ح): (المستغفرون).

وهذا قول أبي مالك والضحاك وابن أبزى (¬1)، وإحدى الروايات عن ابن عباس، قال: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يعني المسلمين (¬2). قال ابن الأنباري على هذا القول: أي: وما كان الله معذبهم والمؤمنون بين أظهرهم يستغفرون، فأوقع العموم على الخصوص، ووصفوا بصفة بعضهم كما يقال: قتل أهل المحلة (¬3) رجلاً، وأخذ أهل البصرة فلانًا , ولعله لم يأخذ منهم إلا رجل (¬4) أو رجلان، وكما تقول العرب: قتلناكم وهزمناكم، يريدون البعض، وعلى هذا قراءة من قرأ: {فإن قتلوكم فاقتلوهم} (¬5). ¬

_ (¬1) هناك ثلاثة رجال بهذا الاسم: عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الصحابي وابناه سعيد وعبد الله. والمذكور هو: سعيد كما نص على ذلك ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1692، وقد روى الأثر ابن جرير عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى، وجعفر من رواة سعيد، وهو تابعي ثقة حسن الحديث، توفي بعد المائة الأولى من الهجرة. انظر: "التاريخ الكبير" 3/ 494 (649)، و"تهذيب التهذيب" 2/ 29، و"تقريب التهذيب" ص 238 (2346). (¬2) روى هذا القول عن المذكورين ابن جرير 9/ 234 - 235، والثعلبي 6/ 57 - 58 أ، ورواه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 382 - 384، عن الضحاك وابن أبزى. (¬3) في "زاد المسير" 3/ 350: المسجد. (¬4) نقل ابن الجوزي قول ابن الأنباري هذا إلى هذا الموضع، مع تقديم بعض الجمل على بعض، انظر: "زاد المسير" 3/ 350. (¬5) البقرة: 191، وقد قرأ حمزة والكسائي وخلف بحذف الألف، والباقون بإثبات انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 113, و"التبصرة في القراءات" ص 159 و"النشر" 2/ 227.

وروي عن (¬1) عبد الوهاب (¬2)، عن مجاهد في قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: وفي أصلابهم من يستغفر (¬3)، قال أبو بكر: والمعنى على هذا القول: وما كان الله مهلكهم وقد سبق في علمه أنه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه؛ فوصفوا بصفة ذراريهم وأولادهم وغلبوا عليهم كما غلب بعضهم على كلهم في القول الأول (¬4). وقال قتادة والسدي وابن زيد: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: لو استغفروا لم يعذبوا (¬5)، كأنه استدعاء إلى الاستغفار يقول: إن القوم لم يكونوا يستغفرون ولو كانوا يستغفرون لم يعذبوا؛ لأنهم لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين؛ ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار هاهنا بمعنى الإسلام فقال: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: يسلمون (¬6)، يقول: لو أسلموا لما عذبوا، وهذا قول عكرمة (¬7)، قال أبو بكر: ومعنى هذا القول: وما كان الله معذبهم لو كانوا يستغفرون؛ فأما ليسوا يستغفرون ¬

_ (¬1) من (ح). (¬2) هو: عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر المكي المخزومي بالولاء، مجمع على تركه، وكذبه سفيان الثوري، وروايته عن أبيه مرسلة، توفي بعد المائة. انظر: "التاريخ الكبير" 3/ 2/ 98، و"الضعفاء الصغير" ص 156، و"تهذيب التهذيب" 6/ 395، و"تقريب التهذيب" 1/ 528. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 58 ب، والبغوي 3/ 354. (¬4) انظر: "زاد المسير" 3/ 351 مع اختلاف يسير في بعض الكلمات. (¬5) رواه عنهم ابن جرير 9/ 236، والثعلبي 6/ 58/ ب، ورواه البغوي 3/ 353، عن قتادة والسدي. (¬6) هذا نص قول مجاهد، انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 237، والثعلبي 6/ 58 ب, والبغوي 3/ 353، و"تفسير الإمام مجاهد" ص 354. (¬7) انظر: المصادر السابقة، عدا "تفسير مجاهد"، نفس المواضع.

فإنهم مستحقون للعذاب، قال: وهذا كقول العرب: ما كنت لأكرمك وأنت تهينني، وما كنت لأهينك وأنت تكرمني، يريد: ما كنت لأهينك لو أكرمتني؛ فأما إذ (¬1) لست تكرمني فإنك مستحق لإهانتي، قال: وهذا قول يختاره اللغويون (¬2)، ويذهب إليه المفسرون (¬3)، وهو المختار عندنا. وقال ابن عباس في رواية الوالبي: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان (¬4)، وشرح أكثر من (¬5) هذا في رواية عطاء فقال: يريد أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا، منهم أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (¬6)، والحارث بن ¬

_ (¬1) في (ح) و (س): (إذا). (¬2) لم أجد من اختار هذا القول من اللغويين سوى الزمخشري في "الكشاف" 2/ 156، فابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 71 اختار أن المراد: وفيهم قوم يستغفرون، وهم المسلمون واستحسنه أيضًا النحاس في "معاني القرآن" 3/ 150، واختار الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 412 المعنى القائل: وما كان الله ليعذبهم ومنهم من يؤول أمره إلى الإسلام، وقال أبو علي الفارسي في "الحجة" 4/ 348: وهم يستغفرون أي: ومؤمنوهم يستغفرون ويصلون. بينما لم يتطرق لمعنى الآية كل من: الفراء، وأبي عبيدة، والأخفش، واليزيدي، والأزهري. (¬3) رجحه ابن جرير 9/ 238، وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد كما في "تفسير الثعلبي" 6/ 58 ب، والبغوي 3/ 353. (¬4) رواه ابن جرير 9/ 237 , وابن أبي هاشم 5/ 1692، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 381، والثعلبي 6/ 58 ب، والبغوي 3/ 353. (¬5) ساقط من (س). (¬6) هو: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، واحد اللذين يشبّهون به، واسمه المغيرة، وقيل: اسمه كنيته، وكان شاعرًا، وممن يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويهجوه، ثم أسلم قبيل الفتح، وشهد حنينًا وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مات بالمدينة سنة عشرين للهجرة.

هشام (¬1) وحكيم بن حزام (¬2)، وعدد كثير، وهذا الاقول اختيار الزجاج، قال: وما كان الله معذبهم وفيهم من يؤول أمره إلى الإِسلام (¬3). والتعذيب في هذه الآية يراد به تعذيب الاستئصال (¬4). قال أهل المعاني: ودلت هذه الآية على أن في الاستغفار أمانة وسلامة من العذاب، كما في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت (¬5) لهم سلامة من تعجيل ¬

_ = انظر: "المحبر" ص 46، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 202، و"الإصابة" 4/ 90 (538) (¬1) هو: الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أبو عبد الرحمن، أخو أبي جهل وابن عم خالد بن الوليد، كان حربًا على الإسلام مع أخيه، ثم أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وكان خيرًا شريفًا كبير القدر، مات في طاعون عمواس سنة 18/هـ وقيل: بل قتل في معركة اليرموك. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 419، و"الإصابة" 1/ 293 (1504)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 473. (¬2) هو: حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي القرشي، أبو خالد المكي، وعمته خديجة أم المؤمنين. كان من أشراف قريش وعقلائها ونبلائها وأجوادها، ومع ذلك تأخر إسلامه إلى يوم الفتح، وشهد حنينًا والطائف وكان من المؤلفة، توفي سنة 60 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "التاريخ الكبير" 3/ 11 (42)، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 44، و"الإصابة" 1/ 349 (1800). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 412. (¬4) يعني العذاب الذي يبيدهم كعذاب الأمم السابقة في عاقبة أمرهم، أما ما دون ذلك كنقص الأموال والأنفس والثمرات، فلا يمنع وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131 - 132]، فوجود موسى -عليه السلام- لم يحل دون أخذ آل فرعون بالسنين، وترادف العقوبات عليهم. (¬5) كذا في جميع النسخ.

34

العقوبة عليهم؛ وذلك أن الذنوب سبب البلاء فلا يبعد أن يكون الاستغفار سبب دفعه؛ ولهذا قال ابن عباس: كان فيهم أمانات: نبي الله والاستغفار (¬1)، وقال أبو موسى: إنه كان فيكم (¬2) أمانات: النبي (¬3) والاستغفار، فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد مضى، وأما الاستغفار فهو فيكم إلى يوم القيامة (¬4). 34 - وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} الآية، معنى (ما) هاهنا: إيجاب (¬5) العذاب عليهم، ومخرجها مخرج الاستفهام، وهو أبلغ في معنى الإيجاب، أي: لا جواب لمن سأل عن مثل هذا يصح في نفي العذاب عنهم، والمعنى: لم لا يعذبهم الله وهذا فعلهم (¬6)؟ وموضع (أن) في قوله: (ألا) نصب على معنى: أي شيء في ألاّ يعذبهم الله، إلا أنه لما حذف الجار عمل معنى الفعل. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 9/ 235، وابن أبي حاتم 5/ 1692، وذكره السيوطي في "الدر" 3/ 328، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. (¬2) في (س): (فيهم). (¬3) في (م): (نبي الله). (¬4) رواه ابن جرير 9/ 236 مع زيادة: دائر، ولفظه: فهو دائر فيكم، والثعلبي 6/ 58/ ب، والبغوي 3/ 353 مع زيادة: كائن، ولفظهما: فهو كائن فيكم، وقد روى الأثر مرفوعًا الترمذي (3277) "سننه"، و" أبواب تفسير القرآن" (3277)، وقال: هذا حديث غريب، وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر يضعف في الحديث. (¬5) في (ح): (لإيجاب). (¬6) قال أبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 490: الظاهر أن (ما) استفهامية، أي: أي شيء لهم في انتفاء العذاب، وهو استفهام معناه التقرير، أي: كيف لا يعذبهم وهم يتصفون بهذه الحالة، وقيل (ما) للنفي، فيكون إخبارًا، أي: وليس لهم أن لا يعذبهم الله، أي ليس ينتفي العذاب عنهم مع تلبسهم بهذه الحال.

قال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} يريد المقيمين على الشرك حتى ماتوا أو قتلوا ببدر (¬1)، وكذلك قال عطية (¬2)، والضحاك (¬3)، والكلبي (¬4)، وغيرهم (¬5) قالوا: قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} يعني: المشركين خاصة بعد خروج من عنى بقوله: (وهم يستغفرون) من بينهم. واختلفوا في هذا العذاب، فقيل: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر (¬6)، وقال ابن أبزى (¬7): هذا العذاب لحقهم يوم فتح مكة (¬8)، وقال ابن عباس: هذا عذاب الآخرة، والذي في الآية الأولى: عذاب الدنيا (¬9) وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [قال أبو إسحاق: مفعول الصد محذوف، المعنى: وهم يصدون عن المسجد الحرام ¬

_ (¬1) رواه بنحوه ابن أبي حاتم 5/ 1693، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 339. (¬2) رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 328. (¬3) رواه ابن جرير 9/ 234 - 235، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 383. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 234 - 235 (¬6) رواه ابن جرير 9/ 237، وابن أبي حاتم 5/ 1693، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 381، عن ابن عباس. (¬7) هو: سعيد بن عبد الرحمن. تقدمت ترجمته. (¬8) رواه ابن جرير 9/ 234 , وابن أبى حاتم 5/ 1693. (¬9) رواه ابن جرير 9/ 235.

أولياءه (¬1)] (¬2)، وقال الكلبي: صدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يطوفوا، قال ابن إسحاق: أي: إياك ومن آمن بك (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام؛ فرد الله عليهم (¬4)، وقال الكلبي: وما كانت قريش أولياء المسجد الحرام، إن أولياء المسجد إلا (¬5) المتقون الكفر والشرك والفواحش (¬6)، وأوجز أبو علي القول في معنى الآيتين فقال في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}: أي: عذاب الاستئصال؛ لأن أمم الأنبياء إذا أُهلكوا (¬7) لم يكن أنبياؤهم فيهم، وعلى هذا قال: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان: 21]، وقال: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود: 81]، الآية، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: ومؤمنوهم يستغفرون ويصلون، {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي: بالسيف في (¬8) صدهم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 412، ولم يذكر أبو إسحاق الزجاج أن المفعول محذوف، بل ذكر المعنى مباشرة، فلعل الواحدي عبر عما فهمه من عبارة الزجاج، أو أن هناك سقطًا في بعض النسخ، ويرجح الأول أن ابن الجوزي نقل قول الزجاج في "زاد المسير" 3/ 352، ولم يذكر ما ذكره الواحدي. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬3) "السيرة النبوية" 2/ 366، ونص قول ابن إسحاق: أي من آمن بالله وعبده، أي أنت ومن اتبعك. (¬4) رواه البغوي 3/ 354، وانظر: "زاد المسير" 3/ 352، و"الوسيط" 2/ 458. (¬5) ساقط من (م). (¬6) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 181، عن الكلبي، عن ابن عباس، وهو في "تفسير السمرقندي" 2/ 16 مختصرًا. (¬7) في (م) و (س): (هلكوا). وما أثبته موافق لما في "الحجة". (¬8) ساقط من (ح).

عن المسجد الحرام المسلمين من غير أن يكون لهم عليه (¬1) ولاية (¬2) , وهذا معنى قوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} وهذا العذاب غير الأول، وإنما هو عذاب بالسيف، وليس بانتقام عام شامل كالأول. وقال عطاء عن ابن عباس: وما كانوا للنبي بأولياء (¬3)، {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} يريد: المهاجرين والأنصار، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يريد: غيب علمي، وما سبق في قضائي وقدرتي (¬4). ¬

_ (¬1) في (س): (عليهم)، وكذلك هو في "الحجة"، وأثبت ما في (ح) و (م) لأنه أصح في المعنى ولأن به يستقيم معنى قول الواحدي: وهذا معنى قوله (وما كانوا أولياءه). (¬2) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 348. (¬3) سبق بيان وهاء هذه الرواية، وهذا القول لا يدل عليه السياق إذ ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في هذه الآيات بضمير الغائب، وللمفسرين في عود هاء الكناية في هذه الكلمة قولان: 1 - أنها ترجع إلى المسجد، وهو الراجح لأنه أقرب مذكور، وقد نسب ابن الجوزي 3/ 352 هذا القول إلى الجمهور، واختاره الثعلبي 6/ 58/ ب، والبغوي 3/ 354، والزمخشري 2/ 156، وابن كثير 2/ 339. والمعنى: وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام وأهله، وإنما أولياؤه المتقون وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به. 2 - أنها ترجع إلى الله تعالى، وهذا اختيار ابن جرير 9/ 239. والمعنى: وما كان المشركون أولياء الله. (¬4) لم أجد أحدًا ذهب إلى هذا المعنى، ولا دلالة في الآية عليه، والذي عليه المفسرون أن المعنى: ولكن أكثرهم لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، أو لا يعلمون أن أولياء المسجد هم المتقون، انظر: " تفسير ابن جرير" 9/ 239، وابن الجوزي 3/ 352، وأبي السعود 4/ 20، وذهب السمرقندي 2/ 16 إلى أن المعنى: لا يعلمون توحيد الله.

وقول من قال: إن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها, ليس بشيء، وهذا يروى عن الحسن وعكرمة (¬1)، وقال أهل العلم وأصحاب المعاني: هذا غلط؛ لأن الخبر لا ينسخ (¬2). وذكر أبو إسحاق الزجاج معنى آخر لهذه الآية هو أليق بما قبلها وهو أنه قال في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}: المعنى: وأي شيء لهم في ترك العذاب، أي في دفعه عنهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬3). ومعنى هذا الكلام: وأي شيء لهم في ترك عذابهم، أي: إنا وإن تركنا عذابهم يكفيهم من الخسارة في حالتهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام، وأنهم حرموا موالاة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو أراد الله بهم خيرًا ما فعلوا ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه عنهما ابن جرير 9/ 238، ورواه عن الحسن جمع من المفسرين منهم النحاس في: "الناسخ والمنسوخ" 2/ 381، والثعلبي 6/ 58 ب، والبغوي 3/ 354. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 238، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 381، و"المحرر الوجيز" 6/ 286. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 412. (¬4) هذا فهم الواحدي لعبارة الزجاج، والذي أراه أن الزجاج لم يقصد هذا المعنى, وإنما مراده: وأي شيء يدفع عنهم العذاب وهم يصدون عن المسجد الحرام. ويدل على هذا المعنى كلامه اللاحق، فقد قال بعد تفسير الآية: فأعلم الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن ليعذبهم بالعذاب الذي وقع بهم من القتل والسبي وهو بين أظهرهم، ولا ليوقع ذل العذاب بمن يؤول أمره إلى الإسلام منهم، وأعلمه أنه يدفع العذاب من جملتهم الذي أوقعه بهم. "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 412, فالجملة الأخيرة تفسير لقوله السابق الذي ذكره الواحدي.

وشرح صاحب النظم المذهبين في قوله: {وَمَا لَهُمْ} شرحًا شافيًا فقال: قوله (¬1): {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أصحاب العربية اختلفوا في معنى هذه الكلمة وفي قولهم: ما لزيد قائمًا؟ فزعم بعضهم أن قولك: مالك وما لزيد؟ استفهام عن حال أنكرتها، فإذا قلت: ما لزيد قائمًا؟ فكأنك قلت: ما له في القيام؟ أي: أي شيء [له فيه من نفع أو غيره؟ وهذا وجه قول الزجاج (¬2)، قال: وقال بعضهم: إن قولك: (مالك)، مثل قولك: (لم)، وأصل (لم): (لما)، أي: لأي شيء] (¬3) كان هذا؟ إلا أنهم إذا جعلوا (ما) مع حرف الصفة في موضع الاستفهام حذفوا ألف (ما) مثل قوله عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، و {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، و {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]. ثم إنهم قدموا (ما) وأخروا اللام، واللام (¬4) لا تقوم بنفسها إلا مضافة إلى شيء، فلما تأخرت هاهنا أضافوها إلى (¬5) الاسم المستفهم عنه، فقالوا: مالك قائمًا؟ بمعنى: لم قمت؟ أو لم أنت قائم؟ واحتجوا بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا} [ص: 62] بمعنى: لم لا نرى رجالًا؟ فإذا أضفت اللام إلى المستفهم عنه لم يحتج إلى فعل لدلالة النعت بانتصابه على الفعل مثل قولك: مالك قائمًا؟ وإذا أضفت اللام إلى نفسك وأنت مستفهم فلابد من إظهار فعل يدل على الاستفهام مثل قولك: مالي أراك قائمًا؟، كما قال ¬

_ (¬1) ساقط من (س). (¬2) يعني قول الزجاج في تفسير الآية: المعنى: أي شيء لهم في ترك العذاب، و"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 412. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) (¬4) ساقط من (س). (¬5) ساقط من (ح).

تعالى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]، ولا يجوز: مالي قائمًا؟ وأنت تريد أن تستفهم عن غيرك، فإن أنت (¬1) عنيت نفسك جاز، مثل قولك: مالي ضعيف؟ أي: لِمَ أنا ضعيف؟ فقوله عز وجل: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] يكون معناه على ما رتبنا: لم لا يعذبهم الله؟ إلا أن اللام منقولة عن موضعها إلى غيره (¬2)، و (أن) في قوله: {أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} زيادة مقحمة (¬3)، ألا ترى أنه قال في موضع آخر: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] بلا (أن)، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 104]، فزاد (أن)، ومنه قول الشاعر (¬4): مالك لا تذكر أم عمرو ... إلا لعينيك غروب تجري ولو قال: مالك أن لا تذكر كان (أن) زيادة. ¬

_ (¬1) ساقط من (م) و (س). (¬2) سبق قول أبي علي الجرجاني: ثم إنهم قدموا (ما) وأخروا اللام واللام لا تقوم بنفسها إلا مضافة إلى شيء اهـ، وهو يعني هنا: أن اللام في قوله تعالى: {مَا لَهُمْ} نقلت عن موضعها وأخرت عن (ما) إذا الأصل: لِمَ، ثم أضيفت اللام إلى الاسم المستفهم عنه فصارت الكلمة: مالهم، ثم زيدت (أنَ)، فإذا أعدنا الكلمة إلى أصلها، وحذفنا الزيادة، صارت الجملة: لم لا يعذبهم. (¬3) ذهب الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 349 أيضًا إلى القول بزيادة (أن) وقد رد عليه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 675 بقوله: لو كان كما قال لرفع (يعذبهم) و (أن) في موضع نصب، والمعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا، فدخلت (أن) لهذا المعنى اهـ. والجدير بالتنبيه أن قول بعض النحاة عن شيء في كتاب الله: زيادة مقحمة، مما ينافي الأدب مع القرآن إذ العبارة توحي بأن هذا اللفظ مما لا فائدة له، والحق أنه ما من لفظ في كتاب الله إلا جيء به لمعنى، كالتوكيد أو الإشارة إلى معنى خفى. (¬4) لم يتبين لي من هو، والرجز بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (غرب) 3/ 3643. و"لسان العرب" (غرب) 6/ 3228.

35

35 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}، الحراني (¬1) عن ابن السكيت (¬2) قال: المكاء: الصفير, يقال: مكا يمكو مكْوًا ومُكوًّا (¬3): إذا جمع يديه ثم صفر فيهم (¬4). قال: والأصوات مضمومة إلا حرفين: النداء والغناء (¬5). هذا معنى المكاء في اللغة، ثم [يقال: مكت است الدابة تمكو مكاءً: إذا نفخت بالريح، ذكره أبو عبيد عن أبي زيد (¬6)] (¬7) ويقال للطعنة إذا فهقت (¬8): مكت تمكو، قال عنترة: ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن الحسن بن أحمد أبو شعيب الحراني، لغوي محدث مؤدب صدوق، لازم ابن السكيت مدة إحدى وعشرين سنة، وتوفي في بغداد سنة 295 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 435، و"إنباه الرواة" 2/ 115، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 536، و"البداية والنهاية" 11/ 107. (¬2) هو: شيخ العربية يعقوب بن إسحاق بن يوسف البغدادي النحوي المشهور بابن السكيت، أخذ عن أبي عمرو الشيباني والأصمعي وأبي عبيدة والفراء وغيرهم، وكان حجة في العربية مع التدين والفضل، له نحو عشرين مصنفًا نافعًا، أشهرها "إصلاح المنطق"، توفي سنة 244 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 14/ 273، و"إنباه الرواة" 4/ 56، و"نزهة الألباء" 2/ 138, و"بغية الوعاة" 2/ 549. (¬3) في "المشوف المعلم": مكاءً. وانظر: "لسان العرب" (مكا) 7/ 425. (¬4) "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" (م ك و) 2/ 730 مختصرًا، وهو كذلك في "تهذيب اللغة" (مكا) 4/ 3432. (¬5) "تهذيب اللغة"، الموضع السابق. (¬6) المصدر السابق 4/ 3432 بنحوه (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) في "لسان العرب" (فهق) 6/ 3480: الفهق: اتساع كل شيء ينبع منه ماء أو دم، وطعنة فاهقة: تفهق بالدم.

تمكو فريصته كشدق الأعلم (¬1) أراد: تصفر فريصته بالدم، قال الأصمعي: قلت لمنتجع بن نبهان (¬2): ما تمكو فريصته؟ فشبك أصابعه وجعلها على فمه ونفخ فيها (¬3)، وأراد بالأعلم: البعير. فأما المكاء: فهو (فعال) من مكا إذا صفر، وهو طائر يألف الريف، وجمعه المكاكي (¬4). وأما التصدية: فهو التصفيق، يقال: صدّى يصدي تصدية: إذا صفق بيديه، وأصله من الصدى وهو الصوت الذي يرد عليك الجبل، وأنشد ابن قتيبة (¬5): ضنت بخدّ وجلت عن خدّ ... وأنا من غرو الهوى أصدّي (¬6) أي: أصفق بيدي من عجيب الهوى. ¬

_ (¬1) عجز بيت من معلقة عنترة وصدره: وحليل غانية تركت مجدلًا وهو في "ديوانه" ص 207، و"تفسير الطبري" 9/ 240، و"شرح القصائد السبع الطوال" ص 340. (¬2) هو: المنتجع بن نبهان الأعرابي، وهو من بني نبهان من طيِّئ، لغوي أخذ عنه علماء زمانه، وأكثر عنه الأصمعي. انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص 157، و"إنباه الرواة" 3/ 323. (¬3) انظر: "شرح القصائد السبع الطوال" ص 341. (¬4) في (ح): المكائي، وهو خطأ. ففي "الصحاح" (مكا) 6/ 2495: المكاء: بالمد والتشديد: طائر، والجمع: المكاكي، والمكَاء: مخفف، الصفير. وفي"لسان العرب" (مكا) 7/ 425: المكَّاء: بالضم والتشديد: طائر في ضرب القنبرة إلا أن في جناحيه بلقًا، سمي بذلك لأنه يجمع يديه ثم يصفر فيها صفيرًا حسنا. (¬5) انظر: "غريب القرآن" ص 190. (¬6) الرجز لبشار بن برد كما في "ديوانه" 2/ 222, وهو بلا نسبة في "غريب القرآن" =

وقال أبو عبيدة: أصلها: تصددة، فأبدلت الياء من الدال، قال ومنه قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] أي: يعجون (¬1)، وأنكر أبو جعفر الرستمي (¬2) هذا القول على أبي عبيدة، وقال: إنما هو من الصدى وهو الصوت، فكيف يكون مضعفًا (¬3). وقال أبو علي: ليس ينبغي أن يقال هذا خطأ؛ لأنه قد ثبت بقوله {يَصُدُّونَ} وقوع هذه الكلمة على الصوت أو ضرب منه، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون (تصدية) منه، فيكون (¬4) (تفعلة) من ذلك، وأصله (¬5): تَصْددَه، مثل: (التحلة) (¬6)، (والتعلّة) (¬7). ألا ترى أن أصلهما: ¬

_ = لابن قتيبة ص 190، و"زاد المسير" 3/ 353، وقد ترك ابن قتيبة بيتًا بين هذين البيتين ونصه كما في الديوان: ثم انثنت كالنفس المرتد وقد تحرف في الديوان قوله: غرو، إلى عرق، واحتار المحققان في توجيهه. والغرو: العجب، وغروت: عجبت، ويقال: لا غرو: أي ليس بعجب، انظر: "الصحاح" (غرا) 6/ 2446. (¬1) انظر: قول أبي عبيدة في "سر صناعة الإعراب" 2/ 762، ولم يذكره في "مجاز القرآن" 1/ 246. (¬2) هو: أحمد بن محمد بن يزديار بن رستم أبو جعفر النحوي الطبري، البغدادي، كان متصدرًا لإقراء النحو، ومؤدبًا لأولاد الوزير ابن الفرات، وصنّف عدة كتب وكان حيًّا عام 304 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 5/ 115، و"إنباه الرواة" 1/ 163، و"بغية الوعاة" 1/ 387. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 2/ 762. (¬4) في المصدر السابق: فتكون. (¬5) في المصدر السابق: أصلها. (¬6) التحلية: ما كفر به اليمين. انظر: "لسان العرب" (حلل) 2/ 975. (¬7) التعلة: ما يتعلل به، ومنه تعلة الصبي أي ما يعلل به ليسكت, المصدر السابق (علل) 5/ 3079.

تحلله وتعلله، فلما قلبت الدال الثانية من (تصدده) تخفيفًا اختلف اللفظان (¬1)؛ فبطل الإدغام (¬2). قال (¬3): ويمكن أن تكون (التصدية) مصدرًا من (صدّ) إذا منع، من قوله (¬4): صددت الكأس عنا أم عمرو بني الفعل منه على (فعّل) للتكثير على حد: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} (¬5)، والمصدر من (فعّل) على (تفعيل) و (تفْعلة) إلا أن (تفعلة) في هذا كالمرفوض في (¬6) مصدر التضعيف كأنهم عدلوا عنه إلى (التفعيل) نحو: التحقيق، والتشديد، والتخفيف، لما يكون فيه من الفصل بين المثلين في الحرف الذي بينهما، كما لم يجعلوا شديدة في النسب، كحنيفة وفريضة، وكما لم يجعلوا شديدًا وشحيحًا كفقيه وعليم في الجمع لما كان يلتقي من (¬7) التضعيف، فعدلوا عنه إلى (أفعِلاء) و (أفعِلة) نحو: أشداء وأشحة؛ لما لم يظهر المثلان في ذلك، فلما خرج المصدر على ما هو مرفوع (¬8) في هذا النحو أبدل من المثل الثاني الياء، وكأن التصفيق منع من المصفق ¬

_ (¬1) في "سر صناعة الإعراب": الحرفان. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 2/ 762. (¬3) يعني أبا علي الفارسي. (¬4) صدر بيت لعمرو بن كلثوم، وعجزه: وكان الكأس مجراها اليمينا انظر: "ديوانه" ص 65، و"كتاب سيبويه" 1/ 222. (¬5) يوسف: 23. (¬6) في "الحجة": من. (¬7) في "الحجة": في. (¬8) هكذا في جميع النسخ، والصواب: مرفوض، بدلالة قوله السابق إلا أن (تفعلة) في هذا كالمرفوض وكما في"الحجة".

للمصفق به [وزجر له] (¬1)، وفي الحديث: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء" (¬2)، هذا كله كلام أبي علي (¬3). واختار الأزهري مذهب أبي عبيدة فقال: صدى: أصله صدد (¬4)، فكثرت الدالات فقلبت إحداهن ياء، كما قالوا: قصّيت أظفاري، قال ذلك أبو عبيد (¬5)، وابن السكيت (¬6)، وغيرهما (¬7)، قال: ومثل هذا قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 6] أصله: تصدد، من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك (¬8). فقد صح إذن مذهب أبي عبيدة في هذا الحرف بموافقة الإمامين أبي عبيد وابن السكيت. وأما التفسير فقال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك وقتادة: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) رواه البخاري (1203، 1204) "صحيحه" أبواب العمل في الصلاة، باب: التصفيق للنساء، ومسلم (422) "صحيحه" كتاب الصلاة، باب: تسبيح الرجل وتصفيق المرأة. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 147 - 148. (¬4) في "تهذيب اللغة": صد ويصدّد. (¬5) انظر: "لسان العرب" (صدد) 4/ 2411. (¬6) انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص 503. (¬7) قال ابن سيده: التصدية: التصفيق والصوت، على تحويل التضعيف، ونظيره: قصيت أظفاري في حروف كثيرة، قال: وقد عمل فيه سيبويه بابًا، وقد ذكر منه يعقوب وأبو عبيد أحرفًا. "لسان العرب" (صدد) 4/ 2410. (¬8) "تهذيب اللغة" (صد) 2/ 1985. وقد تصرف الواحدي بعبارة الأزهري. (¬9) رواه عن المذكورين جميعًا ابن جرير 9/ 240 - 243، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 6796.

قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون (¬1). وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف ويستهزءون به ويصفرون يخلطون عليه طوافه وصلاته (¬2). وقال مقاتل: كان إذا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد يقومون علي يمينه ويساره بالصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته (¬3)، وقال حسان يذكر ذلك ويذمهم به (¬4): إذا قام الملائكة ابتعثتم ... صلاتكم التصدي والمكاء (¬5) فعلى ما ذكره مجاهد ومقاتل كان التصدية والمكاء إيذاء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قول ابن عباس كان ذلك نوع عبادة لهم، واختار أبو إسحاق هذا [فقال: أعلم الله أنهم كانوا مع صدهم أولياء المسجد الحرام كان تقربهم إلى الله بالصفير والتصفيق (¬6)] (¬7)، وهذا القول أشبه بظاهر اللفظ؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ} وكأنهم جعلوا ذلك صلاة لهم. قال ابن عرفة (¬8) وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 9/ 241، والثعلبي 6/ 59 أ، والبغوي 3/ 355. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 59 أ، والبغوي 3/ 355، ورواه بمعناه ابن جرير 9/ 242، وابن أبي حاتم 5/ 1697. (¬3) "تفسير مقاتل" ل 121 أ، وقد نقل الواحدي معنى قوله. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) البيت لحسان كما في "لسان العرب" (مكا) 7/ 4251 وليس في "ديوانه". (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 412 مع تصرف يسير. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬8) هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة =

الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية] (¬1) فألزمهم ذلك أعظم الأوزار، وهذا كقولك: زرت عبد الله فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة فاستحق بذلك عيبي ولائمتي، وأنشد أبو بكر: قلت (¬2) أطعمني عُميم تمرًا ... فكان تمرك كهرة (¬3) وزبرًا (¬4) أي: أقام الصياح عليّ مقام إطعامي التمر (¬5)، قال (¬6): وفيه وجه آخر وهو أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له، كما تقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء، يريد من السخاء عيبه فلا عيب له، وأنشد: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا (¬7) ¬

_ = الأزدي، المعروف بنفطويه، الإمام الحافظ النحوي، كان عالمًا بالحديث والعربية، مبرزًا في الفقه الظاهري، توفي سنة 323 هـ. انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص 154، و"إنباه الرواة" 1/ 211، و"نزهة الألباء" ص 194، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 75. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) في (ح): (قلت له)، وفي (م): (فقلت). (¬3) في (ح): (نهرة). (¬4) لم أهتد لقائله. (¬5) انظر: قول ابن الأنباري مختصرًا في "تفسير البغوي" 3/ 355. (¬6) يعني ابن الأنباري، انظر: قوله هذا في"زاد المسير" 3/ 354. (¬7) البيت للنابغة الجعدي في رثاء أخيه، انظر: "ديوانه" ص 173, و"كتاب سيبويه" 1/ 367، و"الخزنة" 3/ 334.

36

وقوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}، قال ابن عباس والحسن والضحاك وابن جريج وابن إسحاق: يريد عذاب السيف يوم بدر (¬1)، وقال بعضهم: يقال لهم في الآخرة: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} (¬2). وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم، ومُوقِع بكم ما أوقع يوم بدر، قاله ابن إسحاق (¬3)، وقال مقاتل: فذوقوا العذاب ببدر بما كنتم تجحدون توحيد الله (¬4). 36 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية، قال سعيد بن جبير (¬5)، وابن أبزى (¬6)، ومجاهد (¬7)، والحكم (¬8) بن عتيبة (¬9): ¬

_ (¬1) ذكره عنهم سوى ابن عباس -رضي الله عنه- الماوردي 2/ 316، وانظر قول ابن عباس في: "تنوير المقباس" ص 181، وانظر قول الضحاك وابن جريج في: "تفسير الطبري" 9/ 244، وقول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" 2/ 317. (¬2) انظر: "النكت والعيون" للماوردي 2/ 316، و"البحر المحيط" 4/ 491. (¬3) نص عبارة ابن إسحاق في "السيرة النبوية" 2/ 317: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون: أي لما أوقع بهم يوم بدر من القتل. (¬4) "تفسير مقاتل" ل 121 أمع اختلاف يسير. (¬5) رواه ابن جرير 9/ 244 , وابن أبي حاتم 5/ 1697، وابن سعد وعبد بن حميد وأبو الشيخ وابن عساكر كما في "الدر المنثور" 3/ 334. (¬6) رواه ابن جرير، الموضع السابق، والثعلبي 6/ 59 ب. (¬7) رواه ابن جرير 9/ 245، وعبد بن حميد وأبو الشيخ كما في" الدر المنثور" 4/ 334. (¬8) رواه ابن جرير، الموضع السابق، وابن أبي حاتم 5/ 1697، والثعلبي 6/ 59 ب، والبغوي 3/ 356. (¬9) في (ح) و (س): (عيينة)، وكذلك في "النكت والعيون" 2/ 317، و"تفسير البغوي" 3/ 356، وفي" تفسير الثعلبي" 6/ 59 ب: عتبة، والصواب: عتيبة كما في "تفسير ابن جرير" 9/ 245، و"الدر المنثور" 4/ 334: وهو: الحكم بن عتيبة -مصغر عتبة- أبو محمد الكندي الكوفي تابعي ثقة ثبت فقيه كان صاحب سنة وإتباع, وعبادة وفضل، وهو من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، توفي سنة 115 هـ أو قبلها. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 331، و "تذكرة الحفاظ" 1/ 117، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 208، و"تهذيب التهذيب" 1/ 467.

نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من أحابيش كنانة (¬1). وقال مقاتل (¬2) والكلبي (¬3): نزلت في المطمعين يوم بدر، وكانوا اثنى عشر رجلاً من كبار قريش (¬4). وقوله تعالى: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [إن قيل: لم يعلموا أنها سبيل الله فكيف قيل: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}] (¬5) قيل: إنهم قصدوا إلى الصد عنها وهي (¬6) سبيل الله (¬7). وقوله تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا} أخبر أنهم ينفقون أموالهم، ثم قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا} بمعنى: فسيقع الإنفاق الذي يكون حسرة بذهاب الأموال وفوت المراد، ونصر الله عز وجل المسلمين حتى يغلبوهم. ¬

_ (¬1) هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة وعقيل والديش والحيا والمصطلق. انظر: "المحبر" ص 267. (¬2) "تفسيره" ل 121 أ، وانظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 60 أ، والبغوي 3/ 356. (¬3) " تفسير الثعلبي"، والبغوي، الموضعين السابقين. (¬4) القول بنزول الآية في المطعمين يوم بدر أولى من القول بنزولها في المنفقين يوم أحد؛ لأن سورة الأنفال تتحدث على وجه العموم عن غزوة بدر، ولقول ابن عباس فيما رواه البخاري في "صحيحه" (4645) لما سئل عن سورة الأنفال، قال: نزلت في بدر اهـ. وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالكفار في كل زمان ينفقون أموالهم ليصدوا عن دين الله، وليطفؤا نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وينصر أولياءه، ويخذل أعداءه. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (س) (¬6) في (س): (وعن). (¬7) يعني أن غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يعلموا أنه =

37

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} خص الكفار ولم يقل: وإلى جهنم يحشرون؛ لأنه كان فيهم من أسلم (¬1). 37 - قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية فيها طريقان للمفسرين: أحدهما: أن المراد بالخبيث والطيب (¬2) في هذه الآية: الكافر والمؤمن، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي (¬3) ومرة الهمداني (¬4)، وعلى هذا (اللام) في قوله: (ليميز) متعلق بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي: إنما يحشرون إليها للميز بين المؤمن والكافر، قال الوالبي عن ابن عباس: ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة (¬5)، وقال مُرّة: يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حيث (¬6) خلقه طيبًا من الكافر الذي خلقه خبيثًا في علمه السابق (¬7). ¬

_ = كذلك، ويمكن أن يقال بأن زعمائهم كانوا يعلمون ذلك كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]. (¬1) يعني سيسلم، وعبارة الثعلبي 6/ 60 أ: خص الكفار لأجل من أسلم منهم. (¬2) ساقط من (س). (¬3) سيذكر المؤلف روايته ورواية مرة. (¬4) هو: مرة بن شراحيل الهمداني أبو إسماعيل الكوفي، المفسر أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، كان عالمًا كبير الشآن بصيرًا بالتفسير، توفي سنة 76 هـ أو قريبًا من ذلك. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 116، و"حلية الأولياء" 4/ 161، و "تذكرة الحفاظ" للذهبي 1/ 67، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 74، و"طبقات المفسرين" للداودي 2/ 317. (¬5) رواه بنحوه ابن جرير 9/ 246. (¬6) في" تفسير الثعلبي": حين. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 60 أ.

وقوله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}، قال مرة: يلحق بعضهم ببعض فيجعلهم في جهنم (¬1). وقوله تعالى: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا}، قال الليث: الركم: جمعك شيئًا فوق شيء حتى تجعله ركامًا مركومًا كركام الرمل والسحاب ونحو ذلك من الشيء المرتكم بعضه على بعض (¬2). قال المفسرون: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي: يجمعه حتى يصير كالسحاب المركوم فيجعله في جهنم (¬3). ووحد الخبر (¬4) لتوحيد قوله: {الْخَبِيثَ}. وروى عطاء عن ابن عباس للآية معنى آخر على هذا الطريق وهو أنه قال في قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} يريد أنه أخر أجل هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكل أمة قبل أمة محمد إذا كذبوا نبيهم لم يؤخروا وعذبوا، فجعل الله ميقات هذه الأمة إلى يوم القيامة فقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} قال: يريد المؤمن والكافر، يريد أن في أصلاب الكفار مؤمنين، وكذلك يميزون يوم القيامة كما قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} [يس: 59]، {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} يريد في جهنم يضيقها عليهم، {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} مثل ما يدرج الثوب، يريد: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (¬5) مثل قوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32] كلما يسلك الخرز (¬6) في الخيط، يريد يدخل من دبره ويخرج من حلقه ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في "تهذيب اللغة" (ركم) 2/ 1463، والنص في كتاب "العين" (ركم) 5/ 369 (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 60 ب، والبغوي 4/ 356، وبنحوه في" تفسير ابن جرير" 9/ 246 - 247. (¬4) ساقط من (م). (¬5) الرحمن: 41، ونصها: فيؤخذ. (¬6) في (ح): (الخرزة).

ويجمع بين ناصيته وقدميه (¬1). الثاني: أن المراد بالخبيث والطيب: نفقة الكافر على عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونفقة المؤمن في جهاد المشركين، وهو قول الكلبي وابن زيد، واختيار أبي إسحاق (¬2) وابن الأنباري (¬3)، قال الكلبي: يعني العمل الخبيث من العمل الطيب فيثيب على الخبيث النار وعلى الطيب الجنة (¬4). وقال ابن زيد: يعني الإنفاق الطيب في سبيل الله من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان، فتجعل نفقاتهم (¬5) في قعر جهنم ثم يقال لهم: الحقوا بها (¬6). وقال أبو إسحاق: أي: ليميز ما أنفقه المؤمنون في طاعة الله مما أنفقه المشركون في معصية الله (¬7). قال أبو بكر (¬8): فإن قيل على هذا: فأي فائدة في إلقاء أموالهم في جهنم وهي لا تستحق تعذيبًا ولا تجد ألمًا (¬9)؟ ¬

_ (¬1) ظاهر سياق المؤلف أن الكلام السابق من قوله. روى عطاء، إلى هنا من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ولم أجد من روى هذا الأثر أو بعضه، وقد سبق بيان أن رواية عطاء عن ابن عباس مفقودة، وهي موضوعة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 412. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 60 أ, والبغوي 3/ 356، وذكره السمرقندي 2/ 17. (¬5) في (ح): (نفاقهم)، وهو خطأ. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 60 أ، وذكره ابن الجوزي 3/ 356 دون قوله: فيجعل ... إلخ. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 412. (¬8) يعني ابن الأنباري، ولم أقف على قوله هذا. (¬9) في (ح): (إثمًا)، وهو خطأ.

فيقال: إن الله تعالى يجعل أموالهم الحرام في النار ليعذبهم بها، ويوصل الآلام إليهم من جهتها كما قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35]، وقد ذكر الزجاج هذا بعينه وقال في قوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي: يجعل ما أنفقه المشركون بعضه على بعض ويجعل ذلك عليهم في (¬1) النار فيعذبون به كما قال الله تعالى: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] الآية (¬2). قال أبو بكر: وجواب آخر وهو أن الله تعالى يدخل أموالهم جهنم (¬3) لتعززهم بها وافتخارهم بجمعها وأنه لا شيء كان أجلّ عندهم منها، فأراهم هوانها عليه، والحال الدنية التي أصارها إليه، قال: ويكشفه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانت القيامةُ تزيَّنت الدُّنيا بأحسنِ هيئتها وتزخرفت بأجملِ زخارفها وقالت: يا ربِّ هبني لوليٍّ من أوليائك، فيقول الله تعالى: أنت أقل شأنًا عندي من ذلك، ثم يأمر بها إلى النار" (¬4) فيرون أنه يفعل ذلك بها ليُري المؤثرين بها قلتها عنده وهوانها عليه. قال: واللام في قوله: {لِيَمِيزَ} متعلقة بالكلام المتقدم {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لكي يمييز الله الخبيث من الطيب (¬5). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يعني الذين كفروا وأنفقوا أموالهم في طاعة الشيطان هم الذين غبنت صفقتهم وخسرت تجارتهم أنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 413. (¬3) في (س): (إلى جهنم). (¬4) لم أعثر عليه في مظانه من كتب الترغيب والترهيب والموضوعات. (¬5) لم أقف على قول أبي بكر ابن الأنباري هذا.

38

38 - قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [قال الكلبي] (¬1): يعني أبا سفيان وأصحابه (¬2). {إِنْ يَنْتَهُوا}، قال ابن عباس: يريد عن تكذيبك (¬3) وعن الشرك بالله (¬4). وقال الكلبي: عن قتال محمد وأصحابه (¬5). {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} سلف: معناه في اللغة: تقدم، يقال: سلف يسلف سلوفًا، وأسلف في الشيء إذا قدم الثمن فيه، والسالفة: العنق لتقدمها على البدن، والسلافة من الخمر: أخلصها؛ لتقدمها بالتحلب من غير عصر (¬6)، قال ابن عباس: ما قد سلف: يريد من الزنا والشرك والقتل والربا وكل مكروه (¬7). ¬

_ (¬1) ساقط من (س). (¬2) ذكره ابن الجوزي 3/ 356، عن أبي صالح، عن ابن عباس، ومن الجدير بالتنبيه أن البغوي أفاد في مقدمة "تفسيره" 1/ 36: أن المراد بتفسير الكلبي هو ما رواه عن أبي صالح، عن ابن عباس. قلت: وقد تقدمت ترجمة الكلبي وبينت فيها أنه متروك متهم بالكذب، وقد مرض يومًا فقال لأصحابه: كل شيء حدثتكم عن أبي صالح كذب. انظر: "الإتقان" 4/ 239، و"التفسير والمفسرون" 1/ 81. (¬3) في (ح): (تكذيهم). (¬4) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 181، وذكره بمعناه دون نسبة الماوردي 2/ 318، وابن الجوزي 3/ 357. (¬5) رواه الفيروزأبادي في الموضع السابق، بنحوه، عن الكلبي، عن ابن عباس. (¬6) في"تهذيب اللغة" (سلف) 2/ 1736: والسلافة من الخمر. أخلصها وأفضلها, وذلك إذا تحلب من العنب بلا عصر ولا مرث، وكذلك من التمر والزبيب ما لم يعد عليه الماء بعد تحلب أوله. (¬7) الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 181 بنحوه.

قال صاحب النظم: قوله: {إِنْ يَنْتَهُوا} بالياء إنما جاز وحسن لأنه أمره بمخاطبة (¬1) قوم غيّب فقال: قل لهم ما يكون هذا معناه، ولو كان بالتاء لكان الأمر واقعًا على هذا اللفظ بعينه لأنه يكون حكاية (¬2)، وقد ذكرنا مثل هذا في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12]. قال العلماء: وهذه الآية كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يجب ما قبله" (¬3)، وإذا أسلم الكافر الحربي لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية، وما كان له (¬4) من جناية على نفس أو على مال فهو معفو عنه، وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه (¬5)، وما أظرف ما قال يحيى بن معاذ (¬6) في هذه الآية: إن ¬

_ (¬1) في (ح) و (س): (مخاطبة). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" 6/ 300، ولم ينسبه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 199، 204، 205 بلفظ: "فإن الإسلام يجب ما كان قبله" ورواه مسلم في "صحيحه" (192) كتاب الإيمان "باب: كون الإسلام يهدم ما قبله بلفظ: "إن الإسلام يهدم ما كان قبله". (¬4) من (م). (¬5) انظر: كتاب "الأم" للشافعي 6/ 54، و"شرح صحيح مسلم" للنووي 2/ 138، و"تفسير القرطبي" 7/ 402، وقد ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 319 الإجماع على ذلك، قلت: ويدل عليه ما رواه مسلم (120) "صحيحه" كتاب: الإيمان, باب: هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية، عن عبد الله، قال: قلنا: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية"، وروى أيضًا (121) كتاب: الإيمان, باب: كون الإسلام يهدم ما قبله؛ عن ابن عباس، أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ، وذكر الحديث وفيه بيان لعفو الله عنهم. (¬6) هو: يحيى بن معاذ الرازي الواعظ، من كبار العباد, وأئمة الزهاد، له مواعظ مشهورة, وكلمات تجري مجرى الحكم , وكان حكيم زمانه, وواعظ عصره, =

توحيدًا لم يعجز عن هدم (¬1) ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب (¬2). وقوله تعالى: {وَإِنْ يَعُودُوا}، قال ابن عباس: يريد: إلى تكذيبك (¬3)، وقال الكلبي: {وَإِنْ يَعُودُوا} لقتالك {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} بنصر الله رسله ومن آمن على من كفر (¬4)، وقال قتادة: مضت السنة من الله في الأولين من الأمم بنصر الله الرسل، ومضت السنة مثل ذلك في هذه الأمة يوم بدر (¬5)، وهو كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] الآيات. ¬

_ = توفي سنة 258 هـ. انظر: "صفة الصفوة" 4/ 83، و"العبر" 1/ 371، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 15، و"البداية والنهاية" 11/ 31. (¬1) في (ح): (حمل)، وهو خطأ فاحش. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 60 ب، والبغوي 3/ 356، وابن الجوزي 3/ 357. قلت: هذا الرجاء بمعنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فهدم التوحيد لما بعده من ذنب معلق بمشيئة الله، أما الجزم به لكل موحد فهو منقوض بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، ومن السنة الأحاديث الدالة على تعذيب الزناة ومانعي الزكاة ونحوهم، وكذلك الأحاديث الدالة على إخراج الموحدين من النار بعد عذاب طويل. انظر: "معارج القبول" 2/ 422 - 425. (¬3) لم أقف عليه، وفي معناه نظر؛ لأن لفظة (يعودوا) تتضمن الرجوع إلى حالة تحوّل عنها الإنسان، وهم لم ينفكوا عن التكذيب والكفر. انظر: "المحرر الوجيز" 6/ 300. (¬4) ذكره باختصار السمرقندي في "تفسيره" 2/ 18، ورواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 181، عن الكلبي، عن ابن عباس. (¬5) رواه بنحوه ابن جرير 15/ 247 [طبعة الحلبي].

39

وقال السدي وابن إسحاق: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} بنصر الله الرسل، والمؤمنين يوم بدر (¬1). 39 - قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن زيد وابن إسحاق: (أي شرك) (¬2)، وقال الربيع: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه (¬3)، وقال عروة بن الزبير: كان المؤمنون يفتنون عن دين الله في أول ما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، وآمنت به طائفة فكانت فتنة شديدة، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهي: لما بايعت الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة (¬4) توامرت (¬5) قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم فأصاب المؤمنين جهد شديد؛ فأنزل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجده عنهما بهذا اللفظ. وقد روى ابن جرير 9/ 248 قول السدي بلفظ: فقد مضت سنة الأولين، من أهل بدر، ونص قول ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" 2/ 318: فقد مضت سنة الأولين، أي من قتل منهم يوم بدر. ثم إن في عبارة المؤلف قلق، ولعل الصواب: كيوم بدر. (¬2) انظر: أقوال المذكررين سوى ابن إسحاق، في "تفسير ابن جرير" 9/ 248 - 249 , وابن أبي حاتم 5/ 1701، وابن كثير 2/ 341، وانظر: قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" 2/ 318. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 61 أ، والبغوي 3/ 357. (¬4) في (س): (يوم العقبة). (¬5) توامرت: لغة غير فصيحة في تآمرت، انظر: "النهاية في غريب الحديث" (أمر) 1/ 66، و"لسان العرب" (أمر) 1/ 129. (¬6) رواه ابن جرير 9/ 250، وقد ذكر المؤلف قول عروة بمعناه مع تصرف وزيادات.

قال الزجاج: أي حتى لا يفتنوا (¬1) الناس فتنة كفر، ويدل على أن معنى {فِتْنَةٌ}: كفر: قوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬2). قال أهل المعاني: وإنما كان الكفر فتنة لأنه يخلّص صاحبه بالفساد الذي ظهر منه ممن يجب أن يتولى على ظاهره (¬3)؛ إذ أصل الفتنة: تخليص الشيء من غيره، من قولهم: فتنتُ الذهب في النار: إذا خلصته من الغش الذي كان فيه (¬4). وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، قال ابن عباس: يريد: الدين الذي أرسلتَ به دينًا حنيفيًا (¬5)، وقال الربيع: ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويُخلع ما دونه من الأنداد (¬6)، وقال ابن زيد: لا يكون مع دينكم كفر (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن وإعرابه": يفتن. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 413. (¬3) يعني أن الكفر يميز ويفصل بين الكافر الذي تحرم موالاته وبين المؤمن أو المنافق الذي يجب أن يتولى على ظاهره، ويوكل باطنه إلى الله تعالى. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أجده بهذا اللفظ، وقد رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 181، بلفظ: حتى لا يبقى إلا دين الإِسلام، ورواه ابن أبي حاتم 5/ 1701، بلفظ: يخلص التوحيد لله عز وجل، ورواه ابن جرير 9/ 248 بلفظ: حتى لا يكون شرك. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 61 أ، ورواه ابن جرير 9/ 248 - 249 بنصه لكن عن ابن جريج، والنص نفسه مذكور في "السيرة النبوية" 2/ 318 قولًا لابن إسحاق، وقد رجح محمود شاكر في تعليقه على رواية ابن جريج أن القول لابن إسحاق وأن في"تفسير ابن جرير" سقطًا ولا دليل على هذا الترجيح إذ لا مانع أن يكون القول لأحد الثلاثة ثم يعتمده غيره فيعتبر قولًا له، وبما أن الرجال الثلاثة كانوا في عصر واحد (توفي الربيع بن أنس عام 140هـ أو قبلها، وتوفي ابن إسحاق وابن جريج عام 150 هـ أو بعدها) فإنه يتعذر معرفة السابق بالقول. (¬7) رواه ابن جرير 9/ 249.

قال أهل العلم: أمر الله تعالى بالقتال إلى أن يعم الإسلام الدنيا كلها ولا يبقى على وجه الأرض كافر، فتكليف القتال ممدود إلى هذا الميعاد (¬1)، لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 4/ 241، و"أحكام القرآن" للشافعي ص 46، و"تفسير أبي الليث السمرقندي" 2/ 18، وهو قول فيه نظر لدلالة الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فجعل تكليف القتال ممدودًا حتى إعطاء الجزية لا الإسلام، وأما السنة فأحاديث أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس، ومنها: ما رواه مسلم في"صحيحه" (1731) كتاب الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء ضمن وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمراء الجيوش والسرايا، وفيها: " .. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم .... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم"، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله .. " الحديث: فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟ فالجواب من وجوه: أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية وإلغاء المعاهدة متأخرًا عن هذه الأحاديث. ثانيها: أن يكون من العام الذي خص منه البعض. ثالثها: أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: "أقاتل الناس" أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: "أمرت أن أقاتل المشركين". رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتال، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها. سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام؛ وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام, وهذا أحسن. "فتح الباري" 1/ 77 باختصار وبمثل هذا توجه الآية, والله أعلم.

40

ومنهم من قال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} يعني في جزيرة العرب لا يعبد غير الله (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، ققال ابن عباس: يريد: عالم بمن ينتهي، بصير بأعمالهم (¬2)، والمراد بالانتهاء هاهنا: عن الشرك، لا عن القتال؛ لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال كان فرضًا على المؤمنين قتالهم (¬3). قال أهل المعاني: فإن انتهوا فإن الله يجازيهم مجازاة البصير بهم (¬4)، وبأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها (¬5)، وقال صاحب النظم: قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا} راجع [بالمعنى إلى قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} ثم اعترض قولٌ سواه فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ} ثم] (¬6) رجع إلى ما قبله فقال: {فَإِنِ انْتَهَوْا}. 40 - قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا}، قال ابن عباس: يريد عن الإيمان (¬7)، وقال الكلبي: أبوا أن يَدَعُوا الشرك (¬8) وقتال محمد (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 302، و"تفسير الفخر الرازي" 15/ 164. (¬2) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 181. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 248 - 250، فقد ذهب إلى هذا القول وردّ على من قال إن المراد الانتهاء عن القتال. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬7) "تنوير المقباس" ص181. (¬8) في (ح): (إلى الشرك)، وهو خطأ يخل بالمعنى. (¬9) لم أقف عليه.

41

{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} [قال ابن عباس: يريد ناصركم يا معشر المؤمنين (¬1)، وقال الزجاج: المعنى: فإن أقاموا على كفرهم وعداوتكم (¬2) {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ}] (¬3) أي: هو الموالي (¬4) لكم، ولا تضركم معادتهم (¬5). وهذا تطييب لنفوس المؤمنين عند إعراض الكافرين بأن العاقبة لهم، ودائرة السوء (¬6) على عدوهم؛ لأن الله ناصرهم ومعينهم. 41 - قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية، الغنم: الفوز بالشيء، يقال: غنم يغنم غنمًا فهو غانم. والغنيمة في الشريعة: ما أُوجف عليها بالخيل والركاب من أموال المشركين، وأُخذ قسرًا (¬7). وقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ}، قال الكسائي والفراء: (فأن) منصوبة مردودة على قوله: {وَاعْلَمُوا} بمنزلة قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ} [الحج: 4]، وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ} [التوبة: 63] (¬8). واتفق فقهاء الأمة على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين الذين ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 181. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه": عداوتهم. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬4) في (ح) و (س): (المولى)، وما أثبته موافق للمصدر. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 314. (¬6) في (ح): (دائر بالسوء). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (غنم) 3/ 2703 (¬8) انظر: قول الفراء في كتابه "معانى القرآن" 1/ 411، وقد ذكره المؤلف بمعناه.

باشروا القتال، للفارس عند الشافعي ثلاثة أسهم وللراجل سهم (¬1) , وعند أبي حنيفة وأهل العراق للفارس سهمان وللراجل سهم (¬2). وأما الصبيان والعبيد والنساء وأهل الذمة إن خرجوا بإذن الإمام فلهم الرضخ (¬3) على ما يرى الإمام، والصحيح أن الرضخ من رأس الغنيمة (¬4). وهذا الذي ذكرناه لم يتناوله لفظ الآية، غير أنه لا بد من ذكره في معرفة كيفية قسم الغنيمة، والذي ذكر في الآية هو الخمس الباقي؛ لأن الغانمين إذا أخذوا أربعة أخماس بقي خمس واحد. واختلفوا في هذا الخمس وفي مصرفه، فقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، ¬

_ (¬1) انظر تفصيل مذهب الإمام الشافعي في: كتاب "الأم" 4/ 190، و"حاشية الجمل على شرح المنهج" 4/ 95، وبمثله قال الإمام أحمد وأكثر أهل العلم كما في "المغني" 13/ 85. (¬2) قال السرخسي في "المبسوط"10/ 40: إذا قسم الغنيمة ضرب للفارس بسهمين وللراجل بسهم في قول أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- وهو قول أهل العراق، وفي قولهما -يعني أبا يوسف ومحمد بن الحسن- والشافعي -رحمهم الله تعالى- يضرب للفارس بثلاثة أسهم وهو قول أهل الشام وأهل الحجاز. وانظر أيضًا: "بدائع الصنائع" 9/ 4364. (¬3) الرضخ: العطية أو العطية القليلة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (رضخ) 2/ 228، و"لسان العرب" (رضخ) 3/ 1658، وعرّفه الفقهاء بأنه: ما دون السهم لمن لا سهم له من الغنيمة، انظر: "حاشية الروض المربع" 4/ 278. (¬4) رجح شيخ الإسلام الأنصاري في "شرح المنهج" أن الرضخ يؤخذ من الأخماس الأربعة لا من رأس الغنيمة, انظر: "حاشية الجمل على شرح المنهج" 4/ 95, وهما قولان للشافعي, ووجهان في مذهب الإمام أحمد, انظر: "المغني" 13/ 99.

قال الحسن (¬1)، وقتادة وعطاء وإبراهيم: هذا افتتاح كلام (¬2)، قال الزجاج: ومعنى افتتاح كلام: أن الأشياء كلها لله عز وجل فابتدأ وافتتح الكلام بأن قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬3) كما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬4). ¬

_ (¬1) المراد هنا وفي الموضعين التاليين: الحسن بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب، كما في "سنن النسائي" كتاب: قسم الفئ، باب: قسم الفيء 7/ 133، و"المصنف" لعبد الرزاق 5/ 238، و"المستدرك" للحاكم 2/ 128، و "تفسير ابن جرير" 10/ 3، وهو من أئمة التابعين وعلماء أهل البيت، توفي سنة 100هـ أو قبلها. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 130. (¬2) رواه عنهم ابن أبي حاتم 5/ 309، والثعلبي 6/ 61 ب، والبغوي 3/ 357، ورواه ابن جرير بهذا اللفظ عن الحسن بن محمد بن الحنفية 10/ 3، وهو مراد الواحدي لا الحسن البصري، كما رواه ابن جرير عن البقية بمعناه 10/ 3. (¬3) فسر ابن جرير معنى قول المفسرين: هذا افتتاح كلام بعبارة أوضح من عبارة الزجاج حيث قال عند تفسير قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]: فبدأ -جل ثناؤه- بنفسه، تعظيمًا لنفسه وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدؤا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدبًا خلقه بذلك، واعترض بذكر الله وصفته على ما بينت كما قال جل ثناؤه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} افتتاحًا باسمه الكلام اهـ. " تفسير ابن جرير" 10/ 3 باختصار، وبه يتبين أن معنى: افتتاح كلام، أي افتتاح الكلام بذكر الله، وابتداء باسمه على سبيل التعظيم والتبرك كالبسملة. وقال الحافظ في "فتح الباري" 6/ 218: أجمعوا على أن اللام في قوله تعالى: {لله} للتبرك إلا ما جاء عن أبي العالية. (¬4) الأنفال: 1. وإلى هنا انتهى كلام الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 414, وفي النسخة التي اعتمد عليها المحقق خطأ في قوله: بأن قال: (فأن الله) حيث كتبه الناسخ هكذا: فإن قال قائل (فإن لله ..) إلخ وظن المحقق أن ذلك شرط وأن =

وهذا مذهب الشافعي (¬1)، وهو رواية الضحاك عن ابن عباس (¬2)، ومثله روى عطاء عنه؛ لأنه قال: يريد الخمس الذي لله (¬3) هذا مواضعه, يعني من ذكر بعد قوله {لله} (¬4) وهؤلاء جعلوا قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ترتيبًا لافتتاح الكلام، والمعنى: فأن للرسول خمسه [ولمن ذكر بعده، فجعلوا سهم الله وسهم الرسول واحد. وقال الربيع وأبو العالية: قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}] (¬5) ليس لافتتاح الكلام، وله معنى صحيح وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب يده في هذا الخمس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، وهو الذي يسمى لله (¬6)، فعلى قولهما يكون لله تعالى سهم في خمس الغنيمة وهو للكعبة. ¬

_ = جواب لم يذكر. والصواب ما ذكره الواحدي. (¬1) يعني أنه لا يجعل لله نصيباً معينًا. انظر: "الأم" للشافعي 4/ 207، ونصه: (لله) مفتاح كلام، كل شيء له، وله الأمر من قبل ومن بعد. (¬2) رواها ابن جرير 10/ 3، والثعلبي 6/ 61 ب، وفي سند ابن جرير: نهشل بن سعيد بن وردان، متروك وكذّبه إسحاق بن راهويه، كما في"التقريب" ص 566 (7198). (¬3) اللفظ ساقط من (ح). (¬4) اللفظ ساقط من (ح). (¬5) ساقط من (ح). (¬6) رواه ابن جرير 10/ 4، وأبو عبيد في كتاب "الأموال" ص 21، عن أبي العالية، ورواه الثعلبي 6/ 61 ب، عنه أيضًا وعن الربيع بن أنس، وهو حديث مرسل, ورواه ابن المنذر بمعناه عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" 3/ 336، وقد ضعف هذا القول ابن جرير في "تفسيره" 10/ 4، وذكر أنه مخالف لاتفاق أهل العلم.

وقوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ} اختلفوا في سهم الرسول من الخمس قال جماعة من المفسرين منهم إبراهيم (¬1)، وعطاء (¬2)، والحسن (¬3)، وقتادة (¬4): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل سهمه من الخمس ويصنع فيه ما شاء، وكان له خمس الخمس. وقال ابن عباس: لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخمس شيئًا بل جعل سهمه من الخمس لذوي القربى، قال: كان الخمس يقسم على أربعة فربع لله وللرسول ولذوي القربى، فما كان لله وللرسول فهو لذوي القربى (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 61 ب، وبمعناه ابن جرير 10/ 3. (¬2) رواه النسائي في "السنن"، كتاب قسم الفيء 7/ 132، وابن جرير 10/ 3، والثعلبي 6/ 61 ب. (¬3) هو: ابن محمد بن الحنفية، وقد رواه بنحوه الثعلبي في الموضع السابق، وبمعناه عبد الرزاق في "المصنف" كتاب الجهاد، باب: ذكر الخمس 5/ 238، والنسائي في المصدر السابق، الصفحة التالية، وابن جرير 10/ 7، ولفظهم: فأن لله خمسه وللرسول وذي القربى، قال: هذا مفتاح كلام، ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... إلخ. (¬4) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 4، والثعلبي 6/ 61 ب. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 4، بلفظ مقارب وكذلك الثعلبي 6/ 61 ب، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 336، أيضًا إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وهو من رواية علي بن أبي طلحة. أقول: قول ابن عباس هذا مخالف لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس ليس لي من هذا الفيء مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم". رواه أبو داود (2756) كتاب الجهاد، باب. في الإمام يستأثر بشيء من الفيء، وأحمد 2/ 184 فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص بسهمه ذوي القربي.

ومذهب الشافعي: أن الخمس يقسم على خمسة أسهم: سهم لله ولرسوله يصرف إلى مصالح المسلمين، والأهم السلاح والكراع (¬1)، قال الزجاج: ويرى الشافعي في سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصرف في مثل ما كان يصرفه فيه، والذي يروى: أنه كان يصرف الخمس في عدة المسلمين (¬2) نحو: اتخاذ السلاح الذي تقوى به شوكتهم (¬3). قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى}، قال مجاهد: هم بنو هاشم (¬4)، وقال الشافعي - رضي الله عنه -: هم بنو هاشم وبنو المطلب خاصة (¬5) دون سائر قريش، يقسم ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "الأم" 4/ 196 ولفظه: والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله، من سد ثغر، وإعداد كراع أو سلاح، أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام. (¬2) روى البخاري في "صحيحه" (2904) كتاب الجهاد، باب: المجن، ومسلم في "صحيحه" (1757) كتاب الجهاد، باب حكم الفيء عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله. والكُراع: اسم للخيل أو للسلاح أو لهما كما في "اللسان" (كرع) 7/ 3858، وروى ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 337 عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 414، وقد تصرف الواحدي في العبارة. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 62 أ، وبنحوه ابن جرير 10/ 6، ولمجاهد رواية أخرى بأن ذوي القربى هم قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين لا تحل لهم الصدقة. انظر: "سنن النسائي" 7/ 134، و"تفسير ابن جرير" 10/ 6، والرواية الأولى مردودة لحديث جبير بن مطعم الآتي. (¬5) ساقط من (ح).

سهم خمس الخمس حيث كانوا للذكر مثل حظ الأنثيين (¬1)، وهم الذين حرمت عليهم الصدقات المفروضات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أغناكم عن أوساخ الناس بهذا الخمس" (¬2). واحتج الشافعي بما روى الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير ابن مطعم (¬3) قال: لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر ضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة (¬4)، فقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، ثم شبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى يديه بالأخرى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "الأم" 4/ 196، و"تفسير الثعلبي" 6/ 62 أ. (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" (1072) كتاب الزكاة، باب: ترك استعمال آل النبي على الصدقة بلفظ: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس"، ورواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 3/ 337 بلفظ: "رغبت لكم عن غسالة الأيدي؛ لأن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم". (¬3) هو: جبير بن مطعم بن عدي بن عبد مناف بن قصي، شيخ قريش في زمانه، كان من الطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة وكان موصوفًا بالحلم ونبل الرأي مع الشرف، نوفي سنة 59 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 223 (2274)، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 95، و"الإصابة" (1091). (¬4) يعني أن عثمان من بني عبد شمس، وجبير من بني نوفل، وعبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب جميعهم بنو عبد مناف. انظر: "السيرة النبوية" 2/ 59. (¬5) رواه البخاري في "صحيحه" (3140) كتاب الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام مختصرًا، ورواه النسائي في "سننه" كتاب قسم الفيء 7/ 131, وأحمد في "المسند" 4/ 81 مع اختلاف يسير.

وقال بعضهم: هم قريش كلها (¬1). واختلفوا في سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذي القربى [بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرنا مذهب الشافعي فيه، وهو أن سهم الرسول يجعل اليوم في مصالح المسلمين، وسهم ذي القربى] (¬2) يقسم بينهم، وقال ابن عباس والحسن: يجعلان في الخيل والسلاح والعدة في سبيل الله (¬3)، وكذلك روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: أنهما كانا يجعلان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح (¬4)، وهذا حجة الشافعي (¬5)، وقال أهل العراق -وهو مذهب أبي حنيفة-: سهم الرسول وسهم ذوي القربى مردودان على الخمس، ¬

_ (¬1) رواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" ص 418 (851)، وابن جرير 10/ 6، عن ابن عباس قال: كنا نقول: إنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. وأصل الحديث في "صحيح مسلم" كتاب الجهاد، باب: النساء الغازيات يرضخ لهن، دون قوله (وقالوا: قريش ..) إلخ. وقد تفرد برواية هذه الجملة أبو معشر وفيه ضعف كما في "التقريب" ص 559 (7100)، و"أضواء البيان" 2/ 363، وقد أخذ بهذا الرأي الفقيه أصبغ الأموي كما في "فتح الباري" 6/ 346. (¬2) ساقط من (س). (¬3) رواه عنهما ابن جرير 10/ 6، والثعلبي 6/ 62 أ، ورواه أيضًا عن الحسن بن محمد، النسائي في "سننه" 7/ 133، وعبد الرزاق في "المصنف" 5/ 238، والحاكم في "المستدرك" 2/ 128، وأبو عبيد في كتاب"الأموال" ص 416 (847)، وفي سند أثر ابن عباس نهشل بن سعيد وهو متروك، كما في "التقريب" ص 566 (7198). (¬4) رواه الشافعي في كتاب "الأم" 4/ 178، عن مالك بن أوس، ورواه النسائي في "سننه" 7/ 133، كتاب: قسم الفئ، وعبد الرزاق في "المصنف" 5/ 238 , والحاكم في "المستدرك" 2/ 128، وابن جرير في "تفسيره" 10/ 6، عن الحسن بن محمد، ورواه أيضًا ابن جرير 10/ 7، عن ابن عباس بمعناه. (¬5) انظر: كتاب "الأم" 4/ 178.

والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى والمساكين وابن السبيل (¬1). وقول: {وَالْيَتَامَى} (¬2): وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم. {وَالْمَسَاكِينِ} (¬3)، قال ابن عباس: يريد: المحتاجين وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ}، قال ابن عباس: هو الفقير الضعيف (¬4) الذي ينزل بالمسلمين (¬5)، وقال عطاء عنه: يريد عابر السبيل (¬6). وقال أهل المعاني: كل من مات أبوه وهو صغير فهو يتيم، ولا يتم بعد البلوغ، وكل ولد يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإنه يتيم من قبل أبيه (¬7). وابن السبيل: المنقطع في سفره، وإنما قيل: ابنه، بمعنى (¬8) أنه أخرجه إلى هذا المستقر (¬9) لَقىً (¬10) محتاجًا كما يخرجه أبوه إلى مستقره من الدنيا لقىً محتاجًا. ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "المبسوط" 5/ 9، 10، و"بدائع الصنائع" 9/ 4362. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) في (ح): (واليتامى وابن السبيل)، وهو خطأ. (¬4) هكذا. وانظر: التعليق الآتى. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 63 أبهذا اللفظ، ورواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" ص 408 (835)، وابن جرير 10/ 8، وابن أبي حاتم 5/ 1706 بلفظ: الضيف الفقير .. إلخ. وبهذا يتبين أن التصحيف كان في رواية الثعلبي واعتمدها الواحدي. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (يتم) 4/ 3973. (¬8) في (ح): (لمعنى). (¬9) في (ح): (السفر). (¬10) في "مجمل اللغة" (لقى) 3/ 811: اللَّقى: الشيء الملقى الطريح، وفي "لسان العرب" (لقا) 7/ 4066: اللقى: كل شيء مطروح متروك.

والمسكين (¬1): المحتاج الذي من شأنه أن تسكنه الحاجة عما ينهض به الغني. ومذهب الشافعي -رضي الله عنه- في القسم بين (¬2) هؤلاء، قال أبو إسحاق: لا يرى الشافعي أن يترك صنفًا من هذه الأصناف بغير (¬3) حظ في القسمة، ويرى أن يفضل بعضهم على بعض على قدر الحاجة (¬4). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ}، قال أبو إسحاق: يجوز أن تكون (إنْ) معلقة بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} أي: أيقنوا أن الله ناصركم (¬5) إذ كنتم قد شاهدتم من نصره ما شاهدتم (¬6)، قال: ويجوز أن يكون المعنى (¬7): {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يأمران فيه بما يريدان {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} أي: فاقبلوا ما أمرتم به في الغنيمة (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) في (ح): (عن). (¬3) في (ح): (لغير). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 414، وانظر: كتاب "الأم" 4/ 196. (¬5) في "معاني القرآن": نصركم. (¬6) اختصر الواحدي عبارة الزجاج فخفي المعنى، ونص عبارته: يجوز أن تكون (إن كنتم) معلقة بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}، {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فأيقنوا أن الله نصركم إذ كنتم قد شاهدتم من نصره ما شاهدتم. "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 416، والمعنى: اعلموا أن الله مولاكم وناصركم إن كنتم آمنتم به وبما أنزل على عبده. (¬7) نص عبارة الزجاج: ويجوز أن يكون: (إن كنتم آمنتم باللهِ) معناها: أعلموا .. إلخ. (¬8) المصدر السابق 2/ 416، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه المناسب للسياق الموافق لغرض الآية وهدفها، بل قال ابن عطية 6/ 313: هذا هو الصحيح.

وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا} يعني الملائكة الذين نصر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في معنى قول الزجاج (¬1)، وفي معنى قول مقاتل (¬2): يعني ما أنزل عليه في شأن الغنيمة يوم بدر، وهو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية؛ لأنه قال: يريد إن كنتم آمنتم بالله فأقرّوا بحكمي وما أنزلت على النبي في الغنيمة يوم الفرقان. والذي أنزل عليه يوم الفرقان قوله: {يَسْأَلُونَكَ}، ويجوز أن يكون المعنيّ (¬3) بالإنزال هذه الآية. وقوله تعالى: {عَلَى عَبْدِنَا}، قال ابن عباس: يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}: يريد اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل وهو يوم بدر (¬4). وقال الزجاج: لأن الله أظهر فيه من نصره بإرداف الملائكة والإمداد بهم المسلمين (¬5) ما كان فيه فرقان بين الحق والباطل (¬6). وقوله تعالى: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، قال ابن عباس: يريد حزب الله ¬

_ (¬1) لم أجد في كلام الزجاج ما يمكن أن يفهم منه ما ذكره المؤلف إلا قوله: وقوله جل وعز: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}: هو يوم بدر؛ لأن الله عز وجل أظهر فيه من نصره بإرداف الملائكة، والإمداد بهم للمسلمين ما كان فيه فرقان بين الحق والباطل. "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 416، ولم يرد للملائكة ذكر في "تفسير الزجاج" لقوله تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وقد سبق ذكره في التعليق على قول الزجاج الأسبق. (¬2) يعني ابن حيان، وقد روى قوله ابن أبي حاتم 5/ 1706، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 339. (¬3) في (س): (الغنيمة)، وهو خطأ. (¬4) "تنوير المقباس" ص 182 بنحوه. (¬5) في "معاني القرآن وإعرابه": للمسلمين. (¬6) المصدر السابق: 2/ 416.

42

وحزب الشيطان (¬1)، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، قال: يريد: قدير على نصركم وأنتم أقلة (¬2) وأذلة (¬3). 42 - قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} يجوز أن تتعلق (إذ) بمضمر معناه: واذكروا إذ أنتم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26]، فأضمر هاهنا، ويجوز أن تتعلق بالمصدر الذي هو (الفرقان) في قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} المعنى: يوم فرق الله بين الحق والباطل إذ أنتم بهذا الموضع. وأما العدوة: فقال ابن السكيت: عِدوة الوادي وعُدوته: جانبه والجمع عِدىً وعُدَى (¬4)، وقال الليث: العُدوة: صلابة من شاطئ الوادي ويقال: عِدوة (¬5). وقرئ باللغتين جميعًا (¬6). قال الأخفش: الكسر كلام العرب، لم يسمع منهم غير ذلك (¬7)، قال أحمد بن يحيى: الضم في العُدوة أكثر اللغتين (¬8). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 182 بمعناه (¬2) في (ج): (قلة). (¬3) "تنوير المقباس" ص 182 بمعناه (¬4) "تهذيب إصلاح المنطق" ص 295، و"تهذيب اللغة" (عدا) 3/ 2348. (¬5) "تهذيب اللغة" (عدا) 3/ 2348، والنص في كتاب "العين" (عدو) 2/ 216. (¬6) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين، والباقون بضمها. انظر: كتاب "السبعة" ص 306، و"تحبير التيسير" ص 118. (¬7) "الحجة" 4/ 129، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 361، والفخر الرازي 15/ 167, وأبي حيان 4/ 499، وهو مخالف لقوله في "معاني القرآن" 1/ 350، فقد ذكر اللغتين ورجح القراءة بالضم. (¬8) انظر: "زاد المسير" 3/ 361، ولم أجده في "فصيح ثعلب".

و {الدُّنْيَا}: تأنيث الأدنى، وضده القصوى، وهو تأنيث الأقصى، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصى يقصو (¬1) قصوًّا، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى. وأما الكلام في اختلاف (الدنيا) و (القصوى) بالياء والواو وهما من باب واحد، فقال الحراني عن ابن السكيت: ما كان من النعوت مثل العليا والدنيا فإنه يأتي بضم أوله وبالياء؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضمة أوله، وليس (¬2) فيه اختلاف إلا أن أهل الحجاز قالوا: القصوى، فأظهروا الواو -وهو نادر- أخرجوه على القياس إذ سكن ما قبل الواو، وتميم وغيرهم يقولون: القصيا (¬3)، ونحو هذا حكى الليث عن الخليل فقال: كل شيء جاء على (فعلى) من بنات (¬4) الواو فإن العرب تحوله إلى الياء نحو: الدنيا من دنوت، وأشباه ذلك غير القصوى، ويقال: القصيا لغة فيه، وجاءت: الفتوى لغة في الفتيا (¬5) لأهل المدينة خاصة (¬6). ¬

_ (¬1) في (ح): (يقصى)، والصواب ما أثبته، إذ في كتب اللغة: كل شيء تنحى عن شيء فقد قصى يقصو قصوًا. انظر: كتاب "العين" (قصو) 5/ 187، و"تهذيب اللغة" (قصا) 3/ 2969، و"لسان العرب" (قصا) 6/ 3657، أما الفعل (يقصى) فهو مضارع (قصي) بالكسر يقال: قصي فلان عن جوارنا يقصى قصًا، أي: بعد، انظر: "لسان العرب" (قص) 6/ 3608. (¬2) في "تهذيب اللغة": فليس. (¬3) "تهذيب اللغة" (قصا) 3/ 2969. وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص 346. (¬4) يعني: ذوات، كما في "اللسان" 6/ 3657، مادة (قصا). (¬5) في كتاب "العين": الفتيا لغة في الفتوى. (¬6) كتاب "العين" (قصو) 5/ 187، وقد تصرف الواحدي بعبارة الخليل بالحذف والزيادة.

قال المفسرون جميعًا: إذ أنتم نزولٌ بشفير (¬1) الوادي الأدنى إلى المدينة وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكة (¬2). وكان الجمعان قد نزلا الوادي الذي ببدر على هذه الصفة قد اكتنفا شفيريه. قال أهل المعاني: معنى (¬3) الآية: اذكروا إذ كنتم بشط الوادي الأقرب (¬4) إلى المدينة وهم بالشط الأبعد منها، وهذا كان من لطيف صنع الله لهم؛ لأن الرجل كلما كان أقرب من داره كان أربط لجأشه (¬5). وقوله تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، قال ابن السكيت: الركب أصحاب الإبل، وهم العشرة فما فوقها (¬6). ويقال: سفل يسفل سفاله وسفلًا فهو سافل، نقيض علا يعلو، قال المفسرون: يعني أبا سفيان وأصحابه وهم العير التي خرجوا ليأخذوها، كانت في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر (¬7). قال أبو إسحاق: الوجه أن تنصب (أسفل) -وعليه القراءة- أراد: مكانًا أسفل، ويجوز الرفع على أن تريد: والركب (¬8) أشد ¬

_ (¬1) أي: حده وحرفه، انظر: "مقاييس اللغة" (شفر) 3/ 200. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 10، والثعلبي 6/ 63 أ، و"الدر المنثور" 3/ 341. (¬3) ساقط من (ح). (¬4) ساقط من (ح). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" (رك ب) 1/ 309، والنص باختصار في "تهذيب إصلاح المنطق" ص 114. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 10، والثعلبي 6/ 63 أ، والبغوي 3/ 363. (¬8) ساقط من (ح).

تسفلًا (¬1)، ونحو هذا قال الفراء سواء (¬2). وقوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}، قال ابن إسحاق: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليأخذوها، وخرجت قريش تمنعه، فالتقوا ببدر ولم يشعروا (¬3)، فقال الله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} لكثرتهم وقلتكم، يعني: لو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخرتم وفنقضتم الميعاد، هذا معنى قول المفسرين (¬4). وقيل: لو تواعدتم من غير لطف الله لكم لاختلفتم بالعوائق والقواطع (¬5). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} في الكلام حذف واختصار يدل عليه الفحوى، تقديره: ولكن جمعكم الله من غير ميعاد: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} وإن شئت أخرت المقدر فقلت: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} جمعكم من غير ميعاد، قال ابن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 417 مع التقديم والتأخير والحذف. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 1/ 411. (¬3) في "السيرة النبوية" 2/ 319، كلام يشبه هذا من حيث المعنى، ثم تبين لي أن ابن إسحاق هذا ليس صاحب السيرة بل هو عمير بن إسحاق أبو محمد مولى بني هاشم، تابعي متكلم فيه، لينه ابن معين، وقال الحافظ ابن حجر: مقبول. انظر: "الكاشف" 2/ 96 (4282)، و"التقريب" ص 431 (5179)، وأثره هذا رواه ابن جرير 7/ 11 بلفظ مقارب. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 11، والثعلبي 6/ 63 ب، والبغوي 3/ 363، وابن الجوزي 3/ 362. (¬5) هذا قول أحمد بن عمار المهدوي المفسر، انظر. "المحرر الوجيز" 6/ 319 , وقد ذكر هذا القول أيضًا الماوردي 2/ 322 دون نسبة.

عباس: يريد: ليتم الله لنبيه وللمؤمنين موعده؛ ليقر عين نبيه وأعين المؤمنين (¬1)، وقال أهل المعاني: ليفصل (¬2) الله أمرًا كان مفعولًا في علمه وحكمه من عز الإِسلام وعلو أهله على عبدة الأوثان بتدبيره ولطفه (¬3). قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} فهذه اللام مكررة على اللام في قوله: {لِيَقْضِيَ} المعنى: ولكن فعل ذلك ليهلك، وأكثر أهل العلم على أن المراد بالهلاك هاهنا: الكفر والضلال، وبالحياة: الاهتداء والإسلام (¬4). قال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على مثل ذلك (¬5)، وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة، ويهتدي (¬6) من اهتدى على بينة (¬7)، قال الزجاج: جعل الله عز وجل المقاصد للحق بمنزلة الحي، وجعل الضال بمنزلة الهالك (¬8). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 182 بمعناه. (¬2) في (ح): (ليقضي). (¬3) ذكر معنى هذا القول أبو الليث السمرقندي 3/ 341، وابن عطية 6/ 320، وأبو حيان 4/ 501، ولم أجده عند أهل المعاني. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 12، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 159، و"تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1708، والسمرقندي 2/ 19، وابن عطية 6/ 321، وابن كثير 2/ 328، وقد ذهب ابن جرير إلى أن المعنى: ليموت من مات عن حجة ويعيش من عاش عن حجة. (¬5) "السيرة النبوية" 2/ 319 مع اختلاف يسير. (¬6) في (ح): (يهدى)، وهو كذلك في "تفسير البغوي"، وما أثبته موافق لـ"تفسير الثعلبي" وهو أولى لأن الكلمة تفسير لقوله تعالى: {يَحْيَى} ولموافقته لقول قتادة: من اهتدى. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 63 ب، والبغوي 3/ 363. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 418.

وذهب آخرون إلى أن معنى الهلاك هاهنا: الموت (¬1)، وقال (¬2): وأفعل ما فعلت يوم بدر ليكون موت من يموت على بينة رآها وحجة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى؛ لما سبق من وعده ببعثة الرسول قبل العذاب في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وقوله تعالى: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} قرئ بيائين، وقرئ بياء واحدة مشددة (حيّ) (¬3)، قال أبو إسحاق: أما من أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد، وأما من أظهر فلأن الحرف الثاني ينتقل من (¬4) لفظ الياء تقول: حيي يحيى والمحيا، فعلى هذا يجوز الإظهار (¬5)، هذا كلامه وشرحه أبو علي فقال: من أدغم فلأن الياء قد لزمتها الحركة، فصار (¬6) بلزوم الحركة له مشابهًا للصحيح، ألا ترى أن من حذف الياء من (جوار) في الجر والرفع لم (¬7) يحذفها إذا تحركت بالفتح لمشابهتها بالحركة سائر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 12، والماوردي 2/ 322، وابن الجوزي 3/ 363، والبغوي 3/ 363. (¬2) هذا قول الثعلبي، انظر: "تفسيره" 6/ 63 ب. (¬3) قرأ نافع وأبو بكر، عن عاصم والبزي، عن ابن كثير بالفك وعدم التشديد، وقرأ باقي السبعة بالإدغام والنطق بياء واحدة مشددة انظر "إرشاد المبتدي" ص 347، و"تحبير التيسير" ص 118، و"الوافي في شرح الشاطبية" ص280. (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه": عن. (¬5) المصدر السابق 2/ 418. (¬6) يعني الحرف، ولذا ذكّره وهو كذلك في بعض نسخ "الحجة للقراء السبعة"، وجاء في بعضها: فصارت، بالتأنيث، وكذا في موضعين بعده، ونصه: فصارت بلزوم الحركة لها مشابهة ... إلخ. وهذا ما اختاره المحققان للحجة. (¬7) ساقط من (ح).

الحروف الصحيحة، وقالوا في الوقف: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26] فلم تحذف كما حذفت الياء من قوله: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَال} [الرعد: 9] وهذا يدلك على أنها بالحركة قد صارت في حكم الصحيح، وإذا صار كذلك جاز الإدغام فيها كما جاز في الصحيح، وعلى هذا جاء ما أنشد من قوله (¬1): عَيُّوا بأمرهم كما ... عيّت ببيضتها الحمامه وقال المتلبس (¬2): فهذا أوان العرض حي ذبابة ... زنابيره والأزرق المتلمس (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لعبيد بن الأبرص كما في "ديوانه" ص 138، و"أدب الكاتب" ص 54، و"الحيوان" 3/ 189، و"شرح أبيات سيبويه" 2/ 430، و"لسان العرب" (حيا) 2/ 1080. (¬2) هو: جرير بن عبد العزى -أو عبد المسيح- من بني ضبيعة من ربيعة، شاعر جاهلي من أهل البحرين، وهو خال طرفة بن العبد، صاحب المعلقة وكان ينادم ملك العراق عمرو بن هند ويمدحه ثم هجاه فأراد عمرو قتله ففر إلى الشام، وتوفي نحو سنة 50 ق هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 99، و"الأعلام" 2/ 119. (¬3) البيت في "ديوانه" ص 123، وانظر: "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 2/ 622، و"المعاني الكبير" 2/ 406. قال المرزوقي في الموضع السابق: يروى (جُنّ ذبابه) أي كثر ونشط، والعرض: واد من أودية اليمامة، وكأنه قال: وهذا الذي ذكرت هو في هذا الأوان، وقوله (حيّ ذبابه) أي عاش بالخصب فيه، وزنابيره يرتفع على أنه بدل من الذباب, وذباب الروض قد تسمى زنابير وقوله (والأزرق) إشارة إلى جنس آخر غير الأول، وهو ما كان أخضر ضخمًا, والمتلمس: الطالب اهـ. باختصار.

فجعلوا هذه الأشياء في الإدغام بمنزلة: شموا وعضوا وعبرة هذا: أن [كل موضع لزمت الحركة الياء الأخيرة التي هي لام جاز الإدغام فيه] (¬1)، فأما قوله: {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، فلا يجوز فيه الإدغام؛ لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم مع الرفع، وإذا لم تلزم لم يجز الاعتداد بها، كأشياء (¬2) لم يعتد بها لما لم تلزم، نحو الضمة في: هذه فَخِذٌ، وإن لم يكن في الكلام ضمة قبلها (¬3) كسرة لما كانت غير لازمة، وهذا النحو كثير، [وإنما شرطنا لزوم الحركة في المدغم فيه لأن المتحرك لا يدغم في الساكن؛ وذلك أن (¬4) المتحرك أقوى من الساكن، ولا يدغم الأقوى في الأضعف، إنما يدغم الأضعف في الأقوى] (¬5). وأما من أظهر فقال: (حيي) ولم يدغم فلأن حركة اللام في (حيي) تزول لاتصالها بالضمير إذا قلت: حَيِيت، فصار زوال الحركة عن اللام في هذا البناء بمنزلة زوال حركة النصب عن المعرب لحدوث إعراب آخر فيه، ويقوي البيان في هذا ما حكاه يونس عن العرب: أحيياء، وأحييه وفي جمع حي، فبينوا، مع أن الحركة غير مفارقة، فإذا لم يدغموا ما لم تفارقه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين نصه في "الحجة" هكذا: كل موضع يلزم ياء يخشى فيه الحركة، جاز الإدغام في اللام من حيي اهـ، ولم يظهر لي معناه، وقد نقل ابن عطية هذا القول بلفظ مغاير أيضًا ونصه: قال أبو علي: وعبرة هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز. "المحرر الوجيز" 6/ 323. (¬2) في (ح): (شيئًا). (¬3) في (س): (ما قبلها). (¬4) ساقط من (ح). (¬5) ما بين المعقوفين ليس من كلام أبي علي في "الحجة" كالكلام السابق واللاحق له , بل ذكره أبو علي في كتابه "الإغفال" ص 827، وقد ذكره الواحدي بمعناه.

43

الحركة فلأن لا يدغموا ما تفارقه الحركة كان (¬1) أولى (¬2). وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، قال ابن عباس: يريد: سميع لدعائكم وابتهالكم وتضرعكم، عليم بنياتكم وحبكم لربكم ونصرتكم لنبيكم وطاعتكم لله (¬3). 43 - قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}، قال مجاهد: أرى الله (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، وكان ذلك تثبيتًا (¬5) لهم (¬6)؛ لأنهم اجترؤا بذلك على حرب عدوهم، وهذا قول الكلبي (¬7) ومقاتل (¬8) وأكثر أهل التفسير قالوا: قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} يعني رؤيا النوم (¬9). قال محمد بن إسحاق: وكان ما أراه من ذلك نعمة عليهم؛ لأنه شجعهم بها على عدوهم (¬10). ¬

_ (¬1) ساقط من (ح) و (س). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 140 - 143، مع تصرف كثير بالحذف والزيادة والتقديم والتأخير. (¬3) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 182 مختصراً. (¬4) في (ح): (أري النبي). (¬5) في (ح): (تثبيت). (¬6) رواه ابن جرير 10/ 12، وعبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/ 260، وابن أبي حاتم 5/ 1709. (¬7) ذكره ابن الجوزي 3/ 362، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهو سند الكلبي المعروف. (¬8) انظر: "تفسيره" ل 121 أ. (¬9) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 12، والسمرقندي 2/ 20، والثعلبي 6/ 64 أ، والبغوي 3/ 364، والماوردي 2/ 323، ونسبه للجمهور. (¬10) "السيرة النبوية" 2/ 319.

وكانت، تلك الرؤيا بشارة له وللمؤمنين بالغلبة. قال أهل المعاني: وإنما جاز أن يريه الله الشيء في النوم على خلاف ما هو لأن الرؤيا تخيّل للمعنى من غير قطع عليه، وإن جاء معه قطع من الإنسان (¬1). وروي عن الحسن وابن جريج أنهما ذهبا إلى أن هذه الإراءة كانت في اليقظة، وقالا: المراد بالمنام هاهنا: العين التي هي موضع النوم (¬2). قال أبو إسحاق: وكثير من أصحاب النحو يذهبون إلى هذا المذهب، ومعناه عندهم: إذ يريكم الله في موضع منامك أي: بعينك ثم حذف الموضع وأقام المنام مقامه (¬3). ¬

_ (¬1) يعني أن الرؤيا رمز وإشارة للمعنى، وتحتاج إلى تأويل، وقد يقطع الإنسان ويجزم بتأويلها ولكن هذا لا يغير من حقيقتها شيئًا، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 1709: يحتمل أنه رآهم قليلاً عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم اهـ. وأقول: يستدرك على ما ذكره المؤلف عن أهل المعاني الذي لم أقف على مصدره أن رؤيا الأنبياء حق ويقطع على معناها. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1709، عن الحسن وفي سنده سهل السراج، قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" 1/ 25 (2663): صدوق له أفراد، كان القطان لا يرضاه، ورواه البغوي 3/ 363، وفي سنده عمرو بن عبيد المعتزلي، قال الحافظ في "التقريب" ص 424 (5071): كان داعية إلى بدعة، اتهمه جماعة، وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 348 قول الحسن هذا ثم عقبه بقوله: هذا القول غريب اهـ. وقال الزمخشري في "الكشاف" 2/ 161: هذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته اهـ. ولم أجد من ذكره عن ابن جريج. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 419، وهو أحد قولي أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 247، وإليه ذهب المازني والنقاش كما في "المحرر الوجيز" 6/ 325، وهو قول ضعيف من وجوه: =

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا} أي: لو أراك الله يا محمد القوم كثيرا في اليقظة -على قول الحسن-، أو في المنام -على قول الباقين- فأخبرت بذلك أصحابك لجبنوا ولم يقدموا على الحرب؛ وذلك قوله: {لَفَشِلْتُمْ}، قال أبو إسحاق: لتأخرتم عن حربهم وكِعْتم (¬1) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} معنى التنازع في الأمر: الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه، وهذا ما سبق بيانه (¬3)، يقول: لاضطرب أمركم، واختلفت كلمتكم، قال الكلبي: واختلفتم فيما بينكم (¬4). وقال ابن عباس: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} يا محمد {فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} لتحتقرهم وتجترئ عليهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ} ولكن هذه منتي عليك وعلى المؤمنين حيث أراكهم الله قليلًا , ولم يكن منهم ¬

_ = 1 - أن في الآية تصريح بالمنام، وحمله على العين التي بها المنام عدول عن الظاهر بلا دليل، انظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 348. 2 - أنه تعالى صرح في الآية التالية برؤية العين فقال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} فعلى هذا القول تكون الآيتان بمعنى واحد، إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطب في هذه الآية، والأصل عدم التكرار. 3 - أنه مخالف لما رواه مجاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآهم في منامه قليلاً فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. رواه ابن جرير 10/ 12، وهذا الحديث وإن كان مرسلًا لكن يعضده موافقته لظاهر الآية، وعلى الأقل هو تفسير ثابت عن مجاهد. (¬1) أي جبنتم، يقال: كعت عن الشيء أكيع وأكاع لغة في كععت: إذا هبته وجبنت عنه. انظر: "لسان العرب" (كوع) 7/ 3956. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 319. (¬3) انظر: تفسير آل عمران: 152، النساء: 59. (¬4) "تنوير المقباس" ص 182، عن الكلبي, عن ابن عباس.

44

فشل ولا منازعة (¬1) يريد الاختلاف وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}، قال ابن عباس: يريد: عصمكم (¬2) كأنه يريد: سلمكم من المخالفة فيما بينكم، وقال ابن عباس أيضًا: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم (¬3). [وقال أبو روق: سلم: أتم أمرهم بالظفر على عدوهم (¬4)] (¬5). وقال الكلبي: ولكن الله سلمكم من الهزيمة يوم بدر (¬6). والأظهر أن المعنى: ولكن الله سلمكم من التنازع والفشل على ما حكينا عن ابن عباس أولاً. قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، قال ابن عباس: علم ما في صدوركم من اليقين والحب لله والطاعة لرسوله (¬7)، قال الكلبي: أي لما في صدور المؤمنين من أمر عدوهم (¬8). 44 - وقوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} إن قلنا في الآية الأولى إنه أراهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فهذه الثانية كررت لأنها في اليقظة، وإن قلنا أن ¬

_ (¬1) ذكره مختصرًا المؤلف في "الوسيط" 2/ 463، وانظر بعض معناه في: "تنوير المقباس" ص 482. (¬2) رواه بمعناه ابن أبي حاتم 5/ 1709، وذكره كذلك القرطبي 8/ 22. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 13، والثعلبي 6/ 64 أ، وابن أبي حاتم 5/ 1709. (¬4) رواه ابن أبي حاتم 5/ 1710 مختصرًا عن أبي روق، عن ابن عباس، وذكره القرطبي 8/ 22 ولم يعين القائل. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) رواه البغوي 3/ 363 مختصراً. (¬8) رواه بمعناه مختصراً الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 182، عن الكلبي، عن ابن عباس.

الأولى كانت في اليقظة على ما حكينا عن ابن جريج والحسن، فهذه الثانية كررت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد في الأولى بالذكر وعمم هو وأصحابه في هذه، وهذا الذي ذكرنا معنى قول ابن الأنباري وأبي إسحاق (¬1). قال أبو إسحاق: هذه رؤية الإلتقاء، وتلك رؤية النوم، وعلى مذهب الحسن: الأول خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والثاني خطاب له ولجميع من شاهد الحرب (¬2). وقوله تعالى: {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا}، قال مقاتل: لما التقوا ببدر قلّل الله المشركين في أعين المؤمنين تصديقًا لرؤيا رسوله (¬3). وقال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً (¬4) فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا! (¬5). وقوله تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}، قال ابن عباس: ليجترؤا عليكم ولا ينهزموا ولا يرجعوا عن قتالكم (¬6)، كما قال أبو جهل ذلك اليوم: إنما محمد وأصحابه أكلة جزور (¬7)، خذوهم أخذًا واربطوهم ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج 2/ 419، ولم أقف على قول ابن الأنباري. (¬2) المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة، وقد تصرف الواحدي في النص المنقول. (¬3) "تفسير مقاتل" ل 122 أ. (¬4) في (م): (رجلاً منهم). (¬5) رواه ابن جرير 10/ 13، وابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 374، وابن أبي حاتم 5/ 1710. (¬6) روى نحوه مختصرًا الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 182، وسنده واهٍ, وانظر: "الوسيط" 2/ 463. (¬7) يعني الناقة الواحدة تكفيهم طعامًا لقلتهم.

بالحبال (¬1)، قال الكلبي: استقل المؤمنون المشركين والمشركون المؤمنين ليجترئ بعضهم على بعض (¬2). قال أبو بكر بن الأنباري: إنه قلل المؤمنين في عيون الكافرين ليغتروا بقتلهم فلا يتأهبوا لملاقاتهم ولا يلبسوا من السلاح ما يمنعهم، فإذا لابسهم المسلمون ألفوهم غير مستعدين فظفروا بهم (¬3)، وقيل: إنه قللهم في أعينهم ليحملوا عليهم من غير جبن فيغلبهم المسلمون في قلة عددهم عندهم فيكون ذلك آية للمشركين، ومنبهًا لهم على نفاذة قدرة الله تعالى (¬4). فإن قيل: ما المعنى الذي به قللوا في أعينهم مع رؤيتهم لهم؟ قيل: لطف من ألطاف الله تعالى صدهم به عن رؤية الجميع بحيث ستر بعضهم دون بعض (¬5). وقال بعض المفسرين: تقليل المسلمين في أعين المشركين كان في أول الأمر فلما نشب القتال وحمي الوطيس (¬6) كثُر المسلمون في أعينهم (¬7)، ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 14، عن السدي، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 361، عن عكرمة. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 64 ب، والبغوي 3/ 364، وذكره ابن الجوزي 3/ 564، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (¬3) لم أقف عليه، وقد ذكره بلا نسبة ابن الجوزي 3/ 364. (¬4) انظر: "زاد المسير" 3/ 364. (¬5) ذهب الزمخشري أيضًا إلى هذا التعليل، انظر: "الكشاف" 2/ 161، ولا داعي له، إذ لا شك في قدرة الله على تقليلهم بغير هذا السبب. (¬6) الوطيس: كلمة تطلق على المعركة والتنور والحجارة المدورة والضراب في الحرب ووطء الخيل والإبل، وقولهم: حمي الوطيس. عبارة عن اشتباك الحرب وشدتها وقيامها على ساق. انظر: "لسان العرب" (وطس) 1/ 4866. (¬7) ذكر معنى ذلك الزمخشري 2/ 161، وابن كثير 2/ 349، وأبو حيان 4/ 502.

وذلك قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13]. وقوله تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، قال ابن عباس: يريد ما وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة وبعدما هاجر (¬1)، وكذلك سبق في علمه في اللوح المحفوظ. وقال الكلبي: كان مفعولًا في علمه بنصر الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله (¬2)، وقال ابن إسحاق: {كَانَ مَفْعُولًا} [في علمه] (¬3) للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد النعمة عليه (¬4). وقال بعض أهل المعاني: إنما كرر: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [لآن معناه في الأول: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} , {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}] (¬5) من الالتقاء على الصفة التي حصلتم عليها، ومعناه في الثاني: يقلل كل فريق في عين صاحبه ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا من إعزاز الدين وأهله (¬6). وقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، قال ابن عباس: وبعد هذا إليّ مصيركم فأكرم أوليائي وأعاقب أعدائي (¬7). ¬

_ (¬1) لم أجد من خرّج هذا القول، ومعناه: أن الله تعالى وعد رسوله بنصره وهزيمة أعدائه وهو في مكة كما قال تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، ثم حقق هذا الوعد بعد ما هاجر إلى المدينة، انظر: "تفسير البغوي" 7/ 434. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 64 ب، وبنحوه البغوي 3/ 364. (¬3) من (م). (¬4) "السيرة النبوية" 2/ 319، و"تفسير ابن جرير" 10/ 14. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬6) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وقد ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" 5/ 170. (¬7) "الوسيط" 2/ 463.

45

45 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}، قال الكلبي: إذا لقيتم جماعة العدو فأثبتوا لعدوكم (¬1)، قال أهل المعاني: المراد: فئة كافرة وحذفت لأن الخطاب للمؤمنين وهم لا يحاربون إلا فئة من المشركين أو الباغين، فحذف للإيجاز من غير إخلال بالمعنى (¬2). وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}، قال ابن عباس: أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم، ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق (¬3) ينفق الأموال [سخاءً، والآخر من المشرق إلى المغرب] (¬4) يضرب بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجرًا (¬5)، وقال قتادة: أمر الله بذكره أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف (¬6). ومن المفسرين من خص هذا الذكر بالدعاء للنصر والظفر فقال: معناه: ادعوا الله بالنصر عليهم، والظفر بهم، والتوقع لما وعدته من نصر ¬

_ (¬1) المصدر السابق، الصفحة التالية. (¬2) انظر: "الكشاف" 2/ 161. (¬3) في (م): من المشرق إلى المغرب. وما أثبته موافق لـ"تفسير الرازي". (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) ذكر نحوه الفخر الرازي في "تفسيره" 5/ 171. قلت: وقد دل على أن الذاكر لله تعالى أفضل من المنفق ومن المجاهد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله". رواه الترمذي في "سننه" (3377) كتاب الدعاء، باب: ما جاء في فضل الذكر، والحاكم في "المستدرك" كتاب الدعاء 1/ 496، وصححه ووافقه الذهبي، كما صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" 1/ 513 (2629). (¬6) رواه الثعلبى 6/ 64 ب , وبنحوه ابن جرير 10/ 14، وابن أبي حاتم 5/ 1711, وانظر: "الدر المنثور" 3/ 343.

46

المؤمنين (¬1). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، قال ابن عباس: يريد: كي تسعدوا أو تبقوا في الجنة فإنما هما خصلتان: إما الغنيمة وإما الشهادة (¬2). 46 - قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، قال ابن عباس: يريد: أن طاعة الرسول طاعة الله، ولا تختلفوا فيذهب جَلَدكم وجِدكم (¬3)، وقال مجاهد: نُصْرتكم، وذهبت ريح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نازعوه يوم أحد (¬4)، وقال السدي: (جرأتكم) (¬5)، وقال مقاتل: (حدتكم) (¬6)، وقال النضر: (قوتكم) (¬7)، وقال الأخفش: (دولتكم) (¬8)، وقال الزجاج: (صولتكم) (¬9)، وقال أهل المعاني (¬10): الريح هاهنا: كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، والعرب تقول: هبّت ريح فلان: إذا جرى أمره على ما يريد، وركدت ريحه: إذا أدبر أمره، ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول دون الجملة الأخيرة: الثعلبي 6/ 64 ب، والبغوي 3/ 364، وأشار إليه دون نسبة ابن الجوزي 3/ 365. (¬2) "تنوير المقباس" ص 182 بمعناه (¬3) المصدر السابق ص 183 بمعناه، ورواه الثعلبي 6/ 64 ب مختصرًا عن عطاء. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 15، وابن أبي حاتم 5/ 1712، والثعلبي 6/ 64 ب. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 64 ب، ورواه البغوي 3/ 364 بلفظ: جراءتكم وجدكم. (¬6) هذا قول مقاتل بن حيان كما في "تفسير البغوي" 3/ 364، ورواه أيضًا الثعلبي 6/ 64 ب. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 64/ ب، والبغوي 3/ 364. (¬8) قوله هذا غير موجود في كتابه "معاني القرآن"، وقد ذكره عنه الثعلبي 4/ 64 ب، والبغوي 3/ 364، والسمرقندي 2/ 20، وهو اختيار اليزيدي في "غريب القرآن وتفسيره" ص 158، والنحاس في "معاني القرآن" 3/ 162. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 425، وقد سقط قول الزجاج من (س). (¬10) انظر: "البرهان" للحوفي 11/ 75 ب.

وهذه بلاغة حسنة، قال عبيد (¬1): كما حميناك يوم النعف من شطب ... والفضل للقوم من ريح ومن عدد (¬2) وقال ابن زيد (¬3) وقتادة (¬4): يعني ريح النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله يضرب بها وجوه العدو، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرتُ بالصبا" (¬5). ¬

_ (¬1) هو: عَبيد -بفتح العين- بن الأبرص بن عوف الأسدي، شاعر جاهلي عظيم الذكر عظيم الشهرة معاصر لامرئ القيس وله معه مناظرات ومناقضات، وهو من أصحاب المجمهرات التي تلي المعلقات، توفي نحو سنة 25 ق هـ. ويقال: إن النعمان بن المنذر قتله يوم بؤسه. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 138، و"الشعر والشعراء" ص 161، و"الأعلام" 4/ 188. (¬2) "ديوانه" ص 49، و"تفسير ابن جرير" 10/ 15. والنعف: المكان المرتفع في اعتراض، وقيل: هو ما انحدر عن السفح وغلظ وكان فيه صعود وهبوط، وشطب: جبل معروف. انظر: "لسان العرب" (نعف) و (شطب). (¬3) رواه الثعلبي 6/ 64 ب، والبغوي 3/ 364، ورواه ابن جرير 10/ 16، وابن أبي حاتم 5/ 1712 بلفظ: الريح: النصر ... إلخ. (¬4) رواه البغوي 3/ 364، ورواه مختصرًا ابن جرير وابن أبي حاتم، نفس الموضعين السابقين ولفظهما: ريح الحرب. (¬5) رواه البخاري في "صحيحه" (753) كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا"، ومسلم (900) في "صحيحه" كتاب الاستسقاء، باب: في ريح الصبا والدبور. والصبا: ريح معروفة تقابل الدبور، وهي تهب من موضع مطلع الشمس إذا أستوى الليل والنهار، وقيل من مطلع الثريا إلى مطلع نبات نعش. انظر: "لسان العرب" (صبو) 4/ 2398.

47

47 - قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} , قال ابن عباس (¬1)، ومجاهد (¬2)، وقتادة (¬3)، وابن جريج (¬4)، والضحاك (¬5)، والسدي (¬6)، والقرظي (¬7): هم قريش لما خرجوا ليحموا (¬8) عيرهم، لفظ ابن عباس: يريد: النفير ليحوزوا العير، خرجوا بالقيان (¬9)، والمعازف والمغنيات، يشربون الخمور، وتعزف عليهم القيان، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف بن إيماء الكناني (¬10)، -وكان صديقًا لأبي جهل- إليه بهدايا مع ابن له فلما أتاه قال: إن أبي ينعمك صباحًا ويقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن خف معي من قرابتي ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج أثره (¬2) رواه بمعناه ابن جرير 10/ 80، وابن أبي حاتم 5/ 1713 - 1714، وذكره بنحوه ابن كثير في "تفسيره" 2/ 350. (¬3) انظر: المصادر السابقة. نفس المواضع. (¬4) ذكره "جامع تفسير ابن جرير" 10/ 80، ونسبه إلى ابن جرير، ولم أجده في الموضع الذي أحال إليه، بل رواه ابن جريج عن مجاهد وعبد الله بن كثير، انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 80. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 80، وذكره ابن كثير 2/ 350. (¬6) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع. (¬7) رواه ابن جرير، الموضع السابق، بمعناه. (¬8) في (ح): (ليجمعوا)، وهو خطأ. (¬9) القيان: جمع قينة، وهي الأمة المغنية. انظر: "لسان العرب" (قين) 6/ 3799. (¬10) في "السيرة النبوية": الغفاري، وكلاهما صواب؛ لأن غفار من بني كنانة. انظر: "فتح الباري" 7/ 446. وخفاف: هو ابن إيماء بن رحضة الغفاري، كان إماء بني غفار وخطيبهم وشهد الحديبية، مات في خلافة عمر -رضي الله عنه-. انظر: "الإصابة" 1/ 452، و"فتح الباري" 7/ 446.

فعلت (¬1)، فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرًا إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله (¬2) من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور وتعزف فيها القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد (¬3)، قال المفسرون: فوردوا بدرًا وسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان (¬4). وقوله تعالى: {بَطَرًا}، قال الزجاج: البطر: الطغيان في النعمة (¬5)، ¬

_ (¬1) في ثبوت هذا القول عن خفاف بن إيماء شك، وذلك أن الحافظ ابن حجر أشار إلى أنه أسلم قبل أبيه "الإصابة" 1/ 92، وأبوه أسلم قبل الهجرة كما في "صحيح مسلم" (2473) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر قال أبو ذر في قصة إسلامه: حتى أتينا قومنا غفارًا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم إيماء بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وفي هذا النص دليل على أن غفارًا أسلمت كلها قبل وقعة بدر، وهذا ما يؤكد عدم صحة القصة المذكورة عن خفاف. والله أعلم. (¬2) في (ح): (به). (¬3) لم أجد من رواه بهذا السياق، وقد رواه دون قصة خفاف بن إيماء، بلفظ مقارب ابن جرير 10/ 16 - 17، والثعلبي 6/ 65 أ، وابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" 2/ 320، وروى ابن إسحاق أيضًا قصة خفاف في موضع آخر 2/ 621 لكنه قال: خُفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه إيماء بن رحضة الغفاري. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 65 ب، والبغوي 3/ 366، وابن الجوزي 3/ 366، والنص مختصرًا في "تفسير ابن جرير" 10/ 16 - 17. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 150. ولم يفسر الزجاج هذه الكلمة في سورة الأنفال، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 341.

وقال الليث: يقال: بطر فلان نعمة الله: أي: مرح حتى جاوز، وترك الشكر (¬1)، قال أهل المعاني: معنى (البطر): الخروج عن موجب النعمة من شكرها والقيام بحقها إلى خلافه (¬2). قوله تعالى: {وَرِئَاءَ النَّاسِ} معنى الرياء: إظهار الجميل ليُرى مع إبطان القبيح، راءي يرائي رياء ومراءاة، والفرق بينه وبين النفاق: أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء عصيان (¬3)، والنفاق كفر (¬4)، ¬

_ (¬1) النص في كتاب "العين" 7/ 422 مع اختلاف يسير، والمؤلف يرى -كالأزهري- أن كتاب "العين" لليث بن المظفر. (¬2) في "البرهان" للحوفي 11/ 76 أ: البطر: التقوية بنعم الله وما ألبسه من العافية على المعاصي. (¬3) يعني كبيرة من الكبائر التي لا تخرج من الملة، وإلا فمعلوم أن النفاق والشرك وسائر المكفرات من العصيان؛ إذ أصل العصيان: الخروج عن الطاعة، انظر: "المفردات في غريب القرآن" (عصا) ص 337. وما ذهب إليه المؤلف كون الرياء مطلقًا من كبائر الذنوب هو ظاهر قول الجمهور، وقد دل عليه قول شداد بن أوس: كنا نعد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرياء الشرك الأصغر. رواه الحاكم في "المستدرك" كتاب الرقاق 4/ 329، وصححه ووافقه الذهبي، وذهب بعض العلماء أن ذلك مقيد باليسير، أما كثير الرياء فشرك أكبر ونفاق. انظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" ص 533، و"معارج القبول" 2/ 492. (¬4) النفاق قسمان: الأول: النفاق الأكبر، وهو ما ذكره المؤلف وهو كفر مباين لدين الإسلام، الثاني: النفاق الأصغر، وهو من كبائر الذنوب، ويسمى النفاق العملي وهو المذكور في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". رواه البخاري (33) كتاب الإيمان, باب: إعلان المنافق، ومسلم (58) كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، والترمذي في "سننه" (2631) كتاب الإيمان, باب: ما جاء في علامة المنافق , وأعقبه بقوله: إنما كان =

وقال قتادة: هؤلاء أهل مكة خرجوا ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك" (¬1)، وقال المفسرون: نهى الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصرة الدين، ومؤازرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يكونوا كالذين خرجوا فخرًا وخيلاء ورياء (¬2). وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قال أبو علي الجرجاني: قوله: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} سبب لخروجهم، أي أن البطر والرياء يحملهم على ذلك، ثم عطف عليه قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهو فعل مضارع منسوق على المصدر فيحتمل هذا النظم وجوهًا (¬3) منها: أن يكون قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بمنزلة: وصدًا، إلا أنه رد إلى المضارع والمراد به المصدر، كما تقول في الكلام: أتيته ماشيًا ومشيًا وأمشي، ثلاثتها بمعنى واحد، ويجوز أن يكون قوله: {بَطَرًا وَرِئَاءَ} حالاً على تأويل: بطرين ومرائين، فيكون قوله: {وَيَصُدُّونَ} حالاً صرفت إلى الاستقبال، بمعنى: وصادين، ويجوز أن يكون قوله: {بَطَرًا وَرِئَاءَ} بمنزلة ¬

_ = هذا عند أهل العلم نفاق العمل اهـ. وانظر: الفرق بين القسمين في "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 11/ 140 - 145. (¬1) رواه مطولًا ابن جرير 10/ 17، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 344، وقد روى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" 2/ 261، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 110 مرسلًا من حديث الزهري وموسى بن عقبة، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحو هذا الأثر، انظر: "تفسير مجاهد" ص 356. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 65 ب، والبغوي 3/ 366، وذكر معناه ابن جرير 10/ 16. (¬3) ساقط من (س).

48

يبطرون ويراؤن، فصح عطف المضارع عليه (¬1)، وقد يوضع المصدر موضع الفعل المضارع، سيما والمراد به الحال (¬2). ومعنى قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قال ابن عباس: يريد يضلون (¬3) عند دين الله (¬4)، قال أهل المعاني: وصدهم عن سبيل الله هو معاداة أهلها، وقتالهم عليها، وتكذيبهم بإجابة (¬5) الداعي إليها (¬6). 48 - قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} كان هذا التزيين على ما قاله ابن عباس (¬7) وابن إسحاق (¬8) والسدي (¬9) والكلبي (¬10): ¬

_ (¬1) انظر: أحكام عطف الفعل على الاسم وعكسه في: "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" 3/ 61، و"النحو الوافي" 3/ 648 - 658. (¬2) لا يعني صحة إقامة الفعل مقام الاسم وعكسه أن المعنى واحد فيهما، بل الاسم يدل على الثبوت والتمكين والاستمرار، والفعل يدل على الحدوث والتجدد فاختيار الاسم في قوله تعالى: {بَطَرًا وَرِئَاءَ} يدل على ثبوت هذه السمة فيهم وتمكنها منهم حتى كأنها جبلة فيهم، أما اختيار الفعل في قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فللدلالة على تجدد هذا العمل حينًا بعد حين، أو لتجدد ذلك بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن" ص 140. (¬3) في (م): (يصدون)، وما أثبته موافق لـ"الوسيط". (¬4) "الوسيط" 2/ 465. (¬5) هكذا في جميع النسخ، ولفظ (بإجابة) زائد، وعبارة المؤلف في "الوسيط" 2/ 465: ويصدون عن سبيل الله، بمعاداة المسلمين وتكذيب الداعي إليها. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير ابن جرير" 18/ 10، وابن أبي حاتم 5/ 1714، والثعلبي 6/ 65 ب. (¬8) "تفسير ابن جرير" 10/ 19، والثعلبي 6/ 65 ب، والنصر مختصرًا في: "السيرة النبوية" 2/ 250 , عن ابن إسحاق، عن عروة بن الزبير. (¬9) "تفسير ابن جرير" 10/ 18، والثعلبى 6/ 65 ب. (¬10) "تفسير الثعلبي"، الموضع السابق.

إن قريشًا لما أجمعت المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة (¬1)، ومدلج (¬2) من الحرب، وكانوا قد قتلوا الفاكه بن المغيرة (¬3)، وعوفًا (¬4) أبا عبد الرحمن بن عوف ومالك بن الشريد (¬5) وكانوا يطلبونهم بدم، وكاد هذا أن يثنيهم عن الخروج من مكة، فتبدا لهم إبليس في جند من الشيطان معه رايته، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ثم المدلجي، وكان من أشرافهم، فقالوا: نحن نريد قتال هذا الرجل ونخاف من قومك فقال لهم: أنا جار لكم من قومي، فلا غالب لكم اليوم من الناس، ومعنى الجار هاهنا: الدافع عن صاحبه الشر كما يدفع الجار عن جاره، والعرب تقول: أنا جار لك من فلان، أي: حافظ لك من معرّته فلا يصل إليك منه مكروه. وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} [قال ابن عباس: التقى الجمعان (¬6)، قال الزجاج: توافقتا حتى رأت كل واحدة ¬

_ (¬1) قبيلة كبيرة مشهورة وهم بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. انظر: "السيرة النبوية" 1/ 1، و"نهاية الأرب" ص 366. (¬2) هم بنو مدلج بن مرة بن تيم بن عبد مناف بن كنانة. راجع: "الروض الأنف" 2/ 233، و"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 19 (3115)، و"نهاية الأرب" ص 372. (¬3) هو: الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أحد الفصحاء المقدمين من قريش في الجاهلية. انظر: "المحبر" ص 175، 297، و"التبيين في أنساب قريش" ص 189. (¬4) هو: عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري. انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 416 (5179)، في ترجمة ابنه عبدالرحمن. (¬5) لم أعثر على ترجمته. (¬6) "تنوير المقباس" ص 183.

الأخرى (¬1)] (¬2). {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} النكوص: الإحجام عن الشيء، نكص ينكص نكوصًا ونكيصًا: إذا تأخر عن الشيء وجبن، وأنشد أبو عبيدة (¬3) قول الكميت: فما نفع المستأخرين نكيصهم ... ولا ضر أهل السابقات التعجل (¬4) وزاد الكسائي: نكصانًا (¬5)، وقال الزجاج: نكص على عقبيه: رجع بخزي (¬6)، وقال القتيبي: رجع القهقرى (¬7)، وقال ابن عباس: [رجع موليًا (¬8)، وقال الضحاك: ولى مدبرًا (¬9)، وقال قطرب: رجع من حيث جاء (¬10). قال الكلبي عن ابن عباس:] (¬11) لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذًا بيد الحارث بن هشام، فرأى عدو الله ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 421. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) انظر قول أبي عبيدة في معنى (النكوص) في "مجاز القرآن" 1/ 247، 2/ 60، ولم أقف على إنشاده البيت. (¬4) انظر: البيت في "هاشميات الكميت" ص130. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 421. (¬7) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص190. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 19 من رواية ابن جريج عنه بلفظ: رجع مدبرًا، ورواه أيضًا 10/ 19 من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: فولى مدبرًا. (¬9) رواه الثعلبي 6/ 65 ب، والبغوي 3/ 366. (¬10) أخرجه الثعلبي 6/ 65 ب. (¬11) ما بين المعقوفين ساقط من (م).

الملائكة حين نزلت من السماء -وهو روحاني يراهم- نكص على عقبيه فقال له الحارث: يا سراق أفرارًا من غير قتال، فقال (¬1) له: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} ودفع في صدر الحارث وانطلق (¬2)، وانهزم الناس (¬3)، قال الحسن في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} أي: جبريل معتجرًا (¬4) ببرد (¬5)، يمشي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يده اللجام يقود الفرس، ما ركب (¬6). وقال محمد بن إسحاق: رأى جندًا من الملائكة، أيد الله بهم رسوله والمؤمنين (¬7). وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}، قال قتادة وابن إسحاق: صدق عدو الله في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} وكذب في قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} والله ما به مخافة الله (¬8)، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه (¬9)، وقال الكلبي: خاف أن يأخذه ¬

_ (¬1) ساقط من (س) (¬2) ساقط من (س). (¬3) رواه الثعلبي 6/ 66 أ، والبغوي 3/ 366. (¬4) الاعتجار: أن يلف العمامة على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئًا تحت ذقنه. انظر: "النهاية في غريب الحديث" (عجر) 3/ 185، و"لسان العرب" (عجر) 5/ 2815. (¬5) في (ح): (برداء)، وما أثبته موافق للمصادر التالية. (¬6) رواه ابن جرير 10/ 20، والثعلبي 6/ 66 أ، والبغوي 3/ 366. (¬7) "السيرة النبوية" 2/ 309. (¬8) كفر إبليس كفر إباء واستكبار لا كفر جحود وإنكار؛ ولذا لا يستبعد خوفه من عقاب الله فيما دون الهلاك. (¬9) ذكر هذا القول عنهما: الثعلبي 6/ 66 أ، والواقع أنه دمج قوليهما مع اختلافهما في اللفظ. =

جبريل ويعرفهم حاله فلا يطيعون (¬1)، ولا معنى لهذا؛ لأن إبليس غير مرئي فيعرف بالرؤية، وكيده الوسوسة والتخييل (¬2). وقال عطاء: إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك (¬3)، وقال أبو إسحاق: ظن أن الوقت الذي انظر إليه قد حضر (¬4)، واختار ابن الأنباري هذا القول وقال: يعني (¬5) أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر فيقع بي العذاب، لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد انقضى (¬6)، فقال ما قال اشفاقًا على نفسه (¬7) (¬8). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} يجوز أن يكون متصلًا بما أخبر به عن إبليس، ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله: {أَخَافُ اللَّهَ} فقال الله. {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬9). ¬

_ = انظر قول قتادة في: "تفسير ابن جرير" 10/ 19، و"الدر المنثور" 3/ 345، وانظر قول ابن إسحاق في: "السيرة النبوية" 2/ 309، و"تفسير ابن جرير" 10/ 19. (¬1) رواه الثعلبي 6/ 66 ب، والبغوي 3/ 367. (¬2) يعني أنه لن يظهر لهم عند كيده بالوسوسة، فالتعريف به لا يفيد ولا يمنع من كيده. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 66 ب، والبغوي 3/ 366، قلت: هذا القول فيه نظر لأن الله وعد إبليس بالإنظار إلى يوم يبعثون. (¬4) "معاني القرآن واعرابه" 2/ 421. (¬5) في (ح): (معنى)، وهو خطأ. (¬6) في (م) و (س): (تقضى). (¬7) ذكر بعض هذا القول مع اختلاف يسير ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 367. (¬8) في هذا القول أيضًا نظر؛ لأن إبليس يعلم أنه إذا انقضى وقت الإنظار لن يفيد الهرب، والظاهر أن إبليس خاف عقاب الله فيما دون الهلاك. (¬9) ذكر نحو هذا القول الثعلبي 6/ 66 ب، والبغوي 3/ 367، وابن الجوزي 3/ 367.

49

49 - قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: المنافقون من الأوس والخزرج، والذين في قلوبهم مرض قوم (¬1) من قريش، كانوا مسلمين ولم يهاجروا، فلما خرجت قريش لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، وقد ذكرهم الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} في سورة النساء: [97] (¬2)، قال محمد بن إسحاق: ثم قتل هؤلاء جميعًا مع المشركين يوم بدر (¬3). وقوله تعالى: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، قال ابن عباس: إذ خرج ثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل (¬4). وقال الوالبي عنه: إنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم (¬5) لا يشكون في ذلك، قال (¬6) الله تعالى (¬7): {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬8) أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) ذكره بنحوه ابن الجوزي 3/ 367، ومختصرًا السمرقندي 2/ 21، وأبو حيان 4/ 505 - 506، وروى نزول آية النساء فيهم ابن جرير 5/ 234 - 235، وقد صح عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة أن الذين في قلوبهم مرض هم المشركون. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1716 - 1717، وابن الجوزي 3/ 368. (¬3) "السيرة النبوية" 2/ 283 بمعناه. (¬4) ذكره الرازي 15/ 176. (¬5) في (ي): (سيهتزمون). (¬6) في مصادر تخريجه: (فقال). (¬7) في (م) زيادة نصها: (وقوله)، وهي خطأ. (¬8) ذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 352، وانظر: "صحيفة علي بن أبي طلحة" ص 255، وقد روى الأثر بحروفه ابن جرير 10/ 21 - 22، عن ابن جريج.

50

وبقضائه فإن الله حافظه وناصره؛ لأنه عزيز لا يغلبه شيء، فجاره منيع، ومن يتوكل عليه فهو مكفي، وقال عطاء عنه: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} يريد قوي منيع, {حَكِيمٌ} في خلقه يفعل بأعدائه ما شاء من شدة العقاب، وبأوليائه النعيم والسرور (¬1). 50 - قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} أكثر المفسرين على أن الآية عامة في جميع من قتلوا من المشركين ببدر (¬2)، وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الذين [ذكروا في الآية الأولى وهم الذين] (¬3) تركوا الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلوا مع المشركين (¬4). وجواب (لو) محذوف بتقدير: لرأيت أمرًا عظيمًا، وأمرًا عجيبًا، وحذف الجواب في القرآن كثير، قد سبق الكلام فيه في مواضع (¬5)، والمرئي بقوله: (ترى) مدلول عليه، مفهوم من الكلام؛ لأنه يفهم منه: ولو ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقد ذكره بنحوه في "الوسيط" 2/ 466 من غير نسبة. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 22 - 23، والبغوي 3/ 368، وابن عطية 6/ 449 - 340، وقد رجح ابن كثير 2/ 353 أنها عامة في حق كل كافر. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬4) بالمقارنة بما في "السيرة النبوية" يتبين وهم الواحدي رحمه الله في نسبة هذا القول لابن إسحاق، فابن إسحاق ذكر أن هؤلاء المذكورين الذين تركوا الهجرة نزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، أما ما يتعلق في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} فقد ذكر أنها عامة في الكفار كلهم حيث قال: ثم ذكر الله تعالى أهل الكفر، وما يلقونه عند موتهم، ووصفهم بصفتهم وأخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - عنهم. انظر: "السيرة النبوية" 2/ 283. (¬5) انظر مثلاً: "تفسير البسيط" [البقرة: 103].

ترى الملائكة يضربون من الكفار الوجوه والأدبار، وبناؤه على المفهوم أحسن من التصريح لأنه أفخم. ومعنى {يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا}: يقبضون أرواحهم على استيفائها؛ لأن الموت إنما يكون بإخراج الروح على التمام، وهذا يقتضي أن الإنسان هو الروح؛ لأنه قال: {يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا} فهذا يوجب أن الإنسان هو الروح، ولولا هذا لم يكن قد توفاه الملك وإنما توفي بعضه وهو الروح، إلا أن يجعل من باب حذف المضاف فيقال: المعنى: يتوفى أرواح الذين كفروا وأنفسهم (¬1). وقوله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} مضارع معناه الحال، قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم (¬2)، ونحو هذا قال مُرة وابن جريج: أي: مقاديمهم ومآخيرهم (¬3)، وتقديره: يضربون أجسادهم ¬

_ (¬1) في "لسان العرب" (وفي) 8/ 4886: الوفاة: الموت، وتوفي فلان وتوفاه الله: إذا قبض نفسه، وفي "الصحاح": إذا قبض روحه، وقال غيره: توفي الميت: استيفاء مدته التي وفيت له وعدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا اهـ. فإذا عرف أن الوفاة تطلق على قبض الروح لم يلزم من قول القائل: توفي الله الإنسان، أن الإنسان هو الروح ولا أن يجعل ذلك من باب حذت المضاف، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الخلاف في المسألة التي ذكرها المصنف فقال: تنازع الناس في مسمى (الإنسان) هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعًا، وإن كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة، وهذا تارة. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 12/ 67. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 22، والثعلبي 6/ 67 أ، والبغوي 3/ 368، وفي سنده انقطاع بين ابن جرير وابن عباس، انظر: "الكشاف" 2/ 185. (¬3) رواه عنهما الثعلبي 6/ 67 أبلفظ: (وجوههم) ما أقبل منهم، (وأدبارهم) ما أدبر منهم، وبنحو هذا اللفظ رواه البغوي 3/ 368 عن ابن جريج.

كلها (¬1)، وقال الحسن: قال رجل يا رسول الله: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك (¬2)، قال: "ذلك ضرب الملائكة" (¬3). وقوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} فيه إضمار أي: ويقولون ذوقوا، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه من جهة أن عقابهم لهم يقتضي أن يقولوا لهم ما يسوؤهم، وحذف القول في القرآن كثير كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [البقرة: 127] أي: ويقولان (¬4) ربنا، ومثله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا} [السجدة: 12] أي: ويقولون ربنا، قال ابن عباس: يقولون لهم هذا بعد الموت (¬5)، ونحو ذلك قال الحسن (¬6) وغيره (¬7). وقال بعضهم: كان قول الملائكة لهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} في الدنيا وذلك أنه كان مع الملائكة مقامع كلما ضربوا التهبت النار في ¬

_ (¬1) هذا التقدير عدول عن ظاهر الآية بلا دليل، وليس هو التقدير الدقيق لقول مرة وابن جريج. وقد ذكر الزمخشري في "الكشاف" 2/ 163 علة تخصيص الوجه والدبر فقال: وإنما خصوهما بالضرب لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد. (¬2) الشراك: سير النعل الذي يكون على وجهها. انظر: "لسان العرب" (شرك) 4/ 2250. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 22، والثعلبي 6/ 67 أ، وهو حديث مرسل، وقد اختلف العلماء في مراسيل الحسن البصري، والإمام أحمد يرى أنها من أضعف المراسيل. انظر: "شرح علل الترمذي" 1/ 290. (¬4) في (ج) و (س): (ويقولون). (¬5) رواه البغوي 3/ 368. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 67 أ، والبغوي 3/ 368. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" ل 123 أ، وابن الجوزي 3/ 369 , والزمخشري 2/ 163.

51

الجراحات، فذلك قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬1) والصحيح أن هذا يقوله الملائكة لهم في الآخرة (¬2) 51 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} هذا إخبار عن قول الملائكة لهم، وأما محل {ذَلِكَ} فيجوز أن يكون رفعًا وخبره: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ويجوز أن يكون خبره محذوفًا على تقدير: ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم، [ويجوز أن يكون محل ذلك نصبًا على معنى: فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم] (¬3) وهذا معنى قول الفراء (¬4). و {ذَلِكَ} في هذه الآية بمعنى: هذا، أي: هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق بما قدمت أيديكم، وذكرنا جواز أن يكون (ذلك) بمعنى: هذا عند قوله: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]. وحكى صاحب النظم في معنى (ذلك) أنه نقيض (لا) فكما أن (لا) ينفي ما قبله (¬5)، فـ (ذلك) تثبيت لما قبله على مناقضته [وكذلك (كلا) نفي لما قبله و (كذلك) تثبيت لما قبله] (¬6) على مناقضته (كلا). ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول دون نسبة الثعلبي 6/ 67 أ، والبغوي 3/ 368، والزمخشري 2/ 163، وابن الجوزي 3/ 369، وعزاه الرازي في "تفسيره" 15/ 178 إلى ابن عباس، وعندي شك في هذا العزو، وذلك أن الرازي فسر هذه الجملة بما ذكره الواحدي هنا تمامًا لكنه أسقط هو أو أحد النساخ قول ابن عباس السابق وما بعده، وعزا هذا القول إلى ابن عباس. (¬2) وهذا ما ذهب إليه ابن جرير 10/ 22، والثعلبي 6/ 67 أ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (س). (¬4) انظر: "معاني القرآن" 1/ 413. (¬5) في (س): (قبلها). (¬6) ما بين المعقوفين من (م).

ومعنى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، قال ابن عباس: جرحت قلوبكم (¬1)، قال أهل المعاني: إنما قال: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} مع أن اليد لا تعقل شيئًا للبيان عن أن اعتقاد الكفر بالقلب بمنزلة ما يعمل باليد في الجناية، ولذلك لم يذكر القلوب وإن كان بها معتمد العصيان؛ لأنه قصد إظهار ما تقع به الجنايات في غالب الأمر وتعارف الناس. وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} في محل (أن) وجهان: أحدهما: النصب، بمعنى: وبأن الله، قال الفراء: وهذا إذا جعلت (ذلك) نصبًا (¬2)، فإن جعلت (ذلك) في موضع رفع (¬3) جعلت (أن) في موضع رفع (¬4) أيضًا بمعنى: وذلك أن الله (¬5). ومعنى {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، قال ابن عباس: يريد: تبين سبيل (¬6) الهدى، وعرفتم سبيل الرشاد، وتربصتم عن الهجرة، وشككتم في ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وما قدمت الأيدي أعم من كسب القلوب. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 23. (¬2) أي تجعله مفعولًا به، والتقدير: فعلنا ذلك. (¬3) إما مبتدأ خبره الجملة بعده كما قال أبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 506، أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر ذلك، كما قدره النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 681. (¬4) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 413، وقد تصرف الواحدي في عبارته. (¬5) في محل (أن) وجه ثالث وهو الخفض عطفًا على (ما) في قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ}. انظر: "مشكل إعراب القرآن" ص 317، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 681، و"تفسير ابن جرير" 10/ 23، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 390، وقد رد هذا الوجه أبو السعود في "تفسيره" 4/ 27. (¬6) ساقط من (م) و (س).

قدرة الله ونصره رسوله (¬1)، وهذا الذي ذكره ابن عباس إشارة إلى أن العذاب الذي وقع بهم وقيل لهم: (ذوقوا) استحقوه بكفرهم، وجعل ذلك جزاءً على ما سلف من إجرامهم. والصحيح أن قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ابتداء كلام لا يعود معناه إلى ما قبله من قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ} لأن قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} ليس (¬2) بتعليل للعذاب ولا موجب له؛ لأن معناه: نفي الظلم، وإيجاب الحكم بالعدل، لا أنه سبب تعذيبهم فقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} سبب أوجب الحكم بالتعذيب، وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} نعت لهذا الحكم أنه عدل، وأنه ليس بجور، وإذا كان كذلك لم يحسن أن يقدر في (أن) الباء (¬3)، فيقال: المعنى: وبأن الله، والوجه أن تكون (أن) في موضع رفع، ولهذا قال الكسائي: لو كسرت ألف (أن) على الابتداء كان صوابًا (¬4). فإن قيل: في هذه الآية الله تعالى نفى الظلم عن نفسه، ومن نسب إليه خلق الأفعال ثم استجاز منه العقبة على الذنوب فقد نسب الظلم إليه (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (س): (ليس بظلام أي: بتعليل .. إلخ)، وهو خطأ. (¬3) ذهب إلى تقديرها الفراء في "معاني القرآن" 1/ 413، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 681، والزمخشري 1/ 163، وصرح بأن الباء سببية. وكذلك السمين الحلبي في "الدر المصون" 5/ 619. (¬4) يعني من الناحية اللغوية، ولا تجوز القراءة بذلك لعدم ثبوتها، وقد ذكر في قول الكسائي هذا الفخر الرازي في "تفسيره" 15/ 179. (¬5) هذا قول المعتزلة، انظر: "تفسير الرازي" 15/ 179، و"الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار ص 345.

قيل: إن له أن يتصرف في ملكه بما يشاء، ومن كان له أن يتصرف في ملكه كما يشاء استحال نسبة الظلم إليه، ولهذا نفى الله -تعالى ذكره- الظلم عن نفسه كيلا يتوهم متوهم أنه مع خلقه كفر الكافر وتعذيبه له ظالم، فنفي ذلك وقال إنه {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ومن لم يسلك هذه الطريقة نسب العجز إلى الباري سبحانه وتعالى (¬1). ¬

_ (¬1) يقرر المؤلف طريقة الأشاعرة في نفي الظلم عن الله تعالى، وقد اتفق المسلمون على أن الله منزه عن الظلم، ولكن تنازعوا في معناه الذي يجب تنزيه الرب عنه على ثلاثة أقوال: الأول: قول المعتزلة، فقد ذهبوا إلى أن الظلم الذي ينزه عنه الخالق من جنس الظلم الذي ينهى عنه المخلوق، فشبهوا الله بخلقه، وأوجبوا عليه جنس ما يجب على المخلوق. الثاني: قول الأشاعرة وطوائف من أهل الكلام وبعض أهل الحديث: إن الظلم من الله تعالى ممتنع لذاته، لأن الظلم -عندهم-: التصرف في ملك الغير، أو الخروج عن طاعة من تجب طاعته، وهذان ممتنعان في حق الله تعالى. الثالث: قول كثير من أهل السنة وبعض أهل الكلام: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فالظلم ممكن لذاته، يمتنع وقوعه من الرب تعالى ولا يفعله؛ لكمال عدله ورحمته وغناه، وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، فالله تعالى لا يضع الأشياء في غير مواضعها، كأن يبخس المحسن شيئًا من إحسانه، أو يحمل عليه من سيئات غيره، أو يعاقبه بلا موجب للعقاب، ونحو ذلك، وهذا القول هو الحق الذي دلت عليه النصوص واللغة. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 8/ 505 - 510، 17/ 175 - 180, 18/ 137 - 156، و"مختصر الصواعق المرسلة" ص 189 - 206، و"غاية المرام في علم الكلام" ص 244، 245، و"لسان العرب" (ظلم) 5/ 2757. وقول المؤلف رحمه الله: (ومن كان له أن يتصرف في ملكه كما يشاء استحال نسبة الظلم إليه) مردود لما يأتي: أولاً: ما جاء في الحديث القدسي. "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته =

52

52 - قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} المشبه محذوف تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون، قال الأخفش والمؤرج وأبو عبيدة: كعادة آل فرعون (¬1)، [وقال أبو إسحاق: معناه: عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون] (¬2) في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق (¬3). وأصل الدأب في اللغة: إدامة العمل، يقال: فلان يدأب في كذا، أي: يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه (¬4)، ثم سمي العادة دأبًا؛ لأن ما هو ¬

_ = بينكم محرمًا". رواه مسلم (2577) كتاب البر والصلة، باب: تحريم الظلم، وأحمد في "المسند" 5/ 160. ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن الظلم ممكن غير مستحيل ولكن الله تنزه عنه وحرّمه على نفسه. ثانيًا: أن الله تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه كقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] ولا يليق بالله تعالى أن يتمدح بنفي المستحيل، وبالأمر الذي لا تمكن القدرة عليه، إذ ليس فيه مدح ولا ثناء ولا فائدة، وإنما يكون المدح بترك الأفعال المذمومة المقدور عليها، فتبين من ذلك أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم، لكنه لا يفعله لأنه حرمه على نفسه، وتنزه عن فعله. ثالثا: أن الله تعالى: قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، ومعلوم بداهة أن الخوف من الشيء يستلزم تصور وجوده وإمكانه، أما ما لا يمكن وجوده فيستحيل الخوف منه، فعلم أن ظلم الله لعباده ممكن غير مستحيل، لكنه لا يفعله تنزهًا، فعباده واثقون بعدله، آمنون من جوره. انظر تفصيل ما سبق ذكره في: "مختصر الصواعق المرسلة" ص 189 - 206، و"الأصول الخمسة" للهمداني ص 345 - 354، و"غاية المرام" ص 244. (¬1) ذكره عنهم الثعلبي 6/ 67 ب، وانظر قول أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" 1/ 247، وقول الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 209. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 420. (¬4) انظر: "مجمل اللغة" (دأب) 2/ 342، و"لسان العرب" (دأب) 3/ 137.

53

عادة فهو مواظب عليه (¬1). قال المفسرون: يريد أن أهل بدر كذبوا كما كذب آل فرعون ونزل بهم كما نزل بآل فرعون (¬2)، قال ابن عباس: يريد: هكذا كان دأب آل فرعون أيقنوا أن فرعون كذاب عاد في الأرض وأن موسى نبي من الله فكذبوه، كذلك أنتم جاءكم محمد بالصدق والدين فكذبتموه وجحدتم نبوته فأنزل الله بكم عقوبته كما أنزل بآل فرعون (¬3)، وذلك قوله: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ومضى الكلام في {كَدَأْبِ} مستقصى في سورة آل عمران [11]. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} أي قادر لا يغلبه شيء {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن كفر به وكذب رسله. 53 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً} الآية، (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من أخذ الله بالعذاب لمن كفر بآيات الله، فـ (ذلك) ابتداء وخبره {بِأَنَّ اللَّهَ} وهو كما تقول: العقاب بذنوب العباد. وقوله تعالى: {لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً} الآية، أكثر النحويين يقولون: إنما حذفت النون لأنها تشبه بما فيها (¬4) من الغنة حروف اللين، ووقعت طرفًا فحذفت تشبيهًا بها كما تقول: لم يدع، ولم يرم، ولم يك (¬5). وهذا ينتقض بقولهم: لم يزن، ولم يخن، ولم يسمع حذف النون في ¬

_ (¬1) انظر: "معانى القرآن وإعرابه" 2/ 420. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 67 ب، والبغوي 3/ 368، وابن الجوزي 3/ 370. (¬3) رواه بمعناه مختصرًا البغوي 3/ 368، وذكر نحوه ابن الجوزي 3/ 370. (¬4) في (س): (بما قبلها)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 184، و"حاشية الصبان" 1/ 245.

مثل هذا الموضع إلا من (كان) , وذلك أن (كان) و (يكون) أم الأفعال، من أجل أن (¬1) كل فعل فيه معنى (كان) على ما تصرف منه، ففي (ضرب) معنى: كان ضربٌ، وفي (يضرب) معنى: يكون ضربٌ، فلما قويت بأنها أم الأفعال، وكثر استعمالها للحاجة إليها احتملت هذا الحذف، ولم تحتمله نظائرها، وهذا تعليل ذكره علي بن عيسى النحوي (¬2)، وسنذكر تمام هذه المسألة في سورة هود عند قوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} [هود: 109] إن شاء الله تعالى (¬3). قال الكلبي: إن الله تعالى أطعم أهل مكة من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمدًا رسولاً، وكان هذا كله مما أنعم عليهم، ولم يكن يغير عليهم ذلك لو لم يغيروا هم، وتغييرهم كفرانها، وترك شكرها، فإذا غيروا ذلك غير الله ما بهم فسلبهم النعمة، وأخذهم بالعقاب (¬4)، وقال السدي: نعمة الله: محمد عليه السلام أنعم به على قريش فكفروا به وكذبوه فنقله إلى الأنصار (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) لم أقف على هذا القول في كتب الرماني المطبوعة، ولعله في شرحه لكتاب سيبوبه وهو لا يزال مخطوطًا , ولم أتمكن من الاطلاع عليه. (¬3) انظر: النسخة (ح): 3/ 45 ب، حيث قال: (لا تك): أصلها لا تكن، وإنما حذفت النون عند سيبويه لكثرة استعمال هذا الحرف، قال أبو إسحاق في قوله: (ولم يك من المشركين): ذكر الحيلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال ومع ذلك أشبهت النون حروف اللين بأنه تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غنة تخرج من الأنف؛ فلذلك حملت الحذف. (¬4) رواه مختصرًا الثعلبي 6/ 68 أ، وذكر السمرقندي 2/ 22 طرفًا منه. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 24، وابن أبي هاشم 5/ 1718، والثعلبي 6/ 68 أ، والبغوي 3/ 369.

54

فعلى هذا هم غيّروا هذه النعمة عليهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بتكذيبهم وقصدهم قتله، فغير الله عليهم ما أعطاهم من نعم الدنيا وأخذهم بعذاب الآخرة. وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، قال ابن عباس: يريد: سميع لقولكم، عليم بنياتكم (¬1). 54 - قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} يجوز أن تكون الكاف متعلقة بمحذوف قبلها كما ذكرنا في الأولى، ويجوز أن تتعلق بما بعدها وهو قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} يعني: أهل مكة كذبوا بآيات ربهم كصنيع آل فرعون في التكذيب بما جاء به موسى، ثم قال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} فذكر عقوبة الفريقين لما شبّه فعل أحدهما بفعل الآخر، ثم قال: {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} يعني آل فرعون وأهل مكة، والمفسرون على أن قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} من فعل آل فرعون والذين من قبلهم (¬2)، قال ابن عباس: يريد: الذين كذبوا قبل قوم فرعون (¬3)، والوجه الأول (¬4) صحيح مرضي قوي، ويمكن أن يحمل عليه الأول من قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا} (¬5) الآية. ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" ص 184: (سميع) لدعائكم (عليم) بإجابتكم. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 24، والثعلبي 6/ 68 أ، وابن الجوزي 3/ 371. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) وهو أن المراد بالمكذبين هم أهل مكة، وعطف قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} على قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} يدل على أن المكذبين المهلكين هم آل فرعون ومن قبلهم لا أهل مكة، ثم شبه أهل مكة بهم في التكذيب والعذاب. (¬5) الأنفال: 52. والمعنى على هذا الرأي: حال أهل مكة كحال الأمم السابقة؛ إذ كفر أهل مكة فعوقبوا كحال السابقين. والذي عليه المفسرون أن الكفر من صفة آل فرعون ومن قبلهم وشبه بهم أهل مكة. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 23، والسمرقندي 2/ 22 , وابن الجوزي 3/ 370.

55

55 - قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ}، قال ابن عباس: يريد: الإنس خاصة (¬1)، {عِنْدَ اللَّهِ} أي: في معلوم الله وفي حكمه، {الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} معنى (الفاء) في (فهم) عطف جملة على جملة، وكلاهما من صلة (الذين)، كأنه قيل: كفروا مصممين على الكفر فهم لا يؤمنون (¬2). قال سعيد بن جبير ومقاتل: نزلت هذه الآية في يهود قريظة (¬3)، وكذلك مما بعدها من قوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ}، قال أبو بكر بن عبدس (¬4): يريد: عاهدتهم، و (من) صلة (¬5)، وقال غيره (¬6) دخلت (من) لأن المعنى: أخذت منهم العهد. ويمكن أن تجعل (من) للتبعيض (¬7)؛ وذلك أن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم. ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" ص 284: (الخلق والخليقة) اهـ. وفي "لسان العرب" (دبب): الدابة اسم لما دب من الحيوان، مميزة وغير مميزة، وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب. (¬2) انظر: "البرهان" للحوفي 11/ 89 أ. (¬3) رواه بمعناه أبوالشيخ عن سعيد كما في "الدر المنثور" 3/ 347، وانظر: قول مقاتل في "تفسيره" ص 123 أ. (¬4) هكذا في (ح) و (س) وفي (م): عياش، وكلاهما خطأ، والصواب: عبدوس، كما في "تفسيرالثعلبي" 6/ 68 أ. وهو: الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس النيسابوري النحوي الفقيه، من شيوخ الحاكم أبي عبد الله، وله تفسير ذكره الثعلبي في مقدمة تفسيره، توفي سنة 396 هـ. انظر: "إنباه الرواة" 3/ 56، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 57. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 6/ 68 أ، وضعف هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 508. (¬6) هو: أبو سهل محمد بن محمد بن الأشعث، كما في "تفسير الثعلبي" 6/ 68 أ، وضعف هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 508. (¬7) انظر: "زاد المسير" 3/ 372.

57

وقوله تعالى: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}، قال بعض أهل المعاني (¬1): إنما عطف المستقبل على الماضي للبيان أن من شأنهم نقض العهد مرّة بعد مرّة، قال ابن عباس (¬2)، والكلبي (¬3)، ومجاهد (¬4)، وسعيد ابن جبير (¬5)، ومقاتل (¬6): هم قريظة نقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعانوا عليه مشركي مكة ثم اعتذروا وقالوا: أخطأنا ونسينا فعاهدهم ثانية فنقضوا العهد يوم الخندق، فذلك قوله: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}، قال ابن عباس: يريد: لا يخافون النقمة مني (¬7). وقال أهل المعاني: نقضوا العهد من غير أن يتقوا عقاب الله في عاجل أمرهم وآجله (¬8). 57 - قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}، قال الليث: ثقفنا فلانًا في موضع كذا أي: أخذناه، ومصدره: الثقف (¬9). وقال ابن دريد: ثقفت الشيء: حذقته، وثقفته: إذا ظفرت به (¬10)، واحتج بالآية، ونحو هذا قال ¬

_ (¬1) هو: الحوفي في "البرهان" 11/ 89 أ. (¬2) ذكره بنحوه السمرقندي 2/ 23. (¬3) رواه مختصرًا البغوي 3/ 369. (¬4) رواه بمعناه ابن جرير 10/ 25، وابن أبي حاتم 5/ 1719، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 347. (¬5) رواه بمعناه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 347. (¬6) انظر: "تفسيره" 123 أ. (¬7) في "تنوير المقباس" ص 184 (وهم لا يتقون): عن نقض العهد. (¬8) هذا قول الحوفي في "البرهان" 11/ 89 ب. (¬9) "تهذيب اللغة" (ثقف) 1/ 489، والنص في كتاب "العين" (ثقف) 5/ 138 مختصرًا. (¬10) "جمهرة اللغة" لابن دريد (ثقف) 1/ 429، و"تهذيب اللغة" (ثقف) 1/ 489.

ابن قتيبة: تظفر بهم (¬1)، وقال الزجاج: تصادفنهم (¬2). وأصله: الإدراك بسرعة، قال مقاتل: فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم (¬3). وهذا الحرف مما تكلمنا فيه عند قوله: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} في سورة البقرة (¬4). وقوله تعالى: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} معنى التشريد في اللغة: التفريق على اضطراب، يقال: شرد يشرد شرودًا، وشرّده تشريدًا (¬5)، ومعنى قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} ما قاله الزجاج وهو: إفعل بهم فعلًا تفرق به (¬6) من خلفهم (¬7) ثم اختلفوا في ذلك الفعل الذي يفعل بهم، فقال عطاء: أثخن فيهم القتل حتى يخافوك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن (¬8)، وقال ابن عباس: نكل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد (¬9)، وجميع ما قيل ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص 179. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 420. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 123 ب مع اختلاف يسير. (¬4) الآية 191، وانظر النسخة الأزهرية 1/ 118 ب، حيث قال: (ثقفتموهم: قال الليث: ثقفنا فلانًا في موضع كذا: أي أخذناه، ومصدره الثقف، وقال الفراء في "المصادر": ثقف يثقف ثقفًا، وربما ثقل فقيل: ثقفًا، قال المفسرون: أي حيث وجدتموهم، وقال الزجاج: معنى الآية: لا تمتنعوا من قتلهم في الحرم وغيره. (¬5) قال ابن فارس: (شرد) الشين والراء والدال أصل واحد وهو يدل على تنفير وإبعاد، وعلى نفار وبعد في انتشار. "معجم مقاييس اللغة" (شرد) 3/ 269. (¬6) في (م): (بهم). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 420. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 68 ب. (¬9) ذكره ابن الجوزي 3/ 373، ورواه ابن جرير 10/ 25 - 26، وابن أبي حاتم 5/ 1719 بلفظ: نكل بهم من بعدهم.

في هذا يعود معناه إلى هذا القول (¬1)، ولقد أوجز من قال: فرق جمع كل ناقض بما تبلغ من هؤلاء (¬2)، وقال مقاتل: فنكل بهم من بعدهم من العدو وأهل عهدك {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} النكال فلا ينقضون العهد (¬3). ومعنى نكل بهم: أي افعل بهم فعلًا ينكل غيرهم عنك بسبب ذلك الفعل خوفًا منك، وقال صاحب النظم: معنى {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} اقتلهم ليخافوك غيرهم فيتفرقوا عنك، وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} معنى راجع إلى (مَنْ خَلْفَهُم)؛ لأنهم إذا قتلوا فليس لذكر قوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} معنى، فهو منظوم بقوله: {مَنْ خَلْفَهُمْ} والتأويل: فشرد بقتلهم والإنكاء (¬4) فيهم (مَنْ خَلْفَهُم) أي من بعدهم، يكن ذلك تخويفًا وعظة لهم، وهذا معنى قول ابن عباس: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لكي يتعظوا (¬5). ¬

_ (¬1) اختلاف المفسرين في ذلك الفعل إنما هو اختلاف تنوع وتمثيل، وإذا تبين لنا أن هذه الآية نزلت في بني قريظة فالأولى تفسير التشريد بما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم من قتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم؛ وذلك لأمرين: أ- أن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتثال لأمر ربه وهو أعلم بمراده ب- أن سعد بن معاذ لما حكم فيهم بأن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قضيت بحكم الله". رواه البخاري (3804) كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ، ومسلم (1768) كتاب: الجهاد، باب: جواز قتال من نقض العهد، والظاهر أن حكم الله هو المذكور في هذه الآية. (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 68 ب دون ذكر قائله، وروى ابن جرير 10/ 26، عن ابن زيد لفظا مقاربًا ونصه: أخفهم بما تصنع بهؤلاء. (¬3) "تفسير مقاتل" 123 ب. (¬4) الإنكاء: إكثار الجراح والقتل في العدو حتى يهن ويضعف. انظر: "لسان العرب" (نكي) 8/ 4545، وفي (س): والإنكال، وهو خطأ. (¬5) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 184 بنحوه.

58

58 - قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}، قال ابن عباس: يريد: تعلمن (¬1)، وقد ذكرنا الخوف بمعنى العلم عند قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} [البقرة: 229] وقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] (¬2). ومعنى (خيانة) أي نقضًا للعهد، وقوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}، قال الزجاج: أي انبذ عهدهم الذي عاهدتهم (¬3) عليه، أي: ارم به إليهم، {عَلَى سَوَاءٍ} أي: لتكون أنت وهم سواء في العداوة (¬4)؛ فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب، وقال ابن قتيبة: يقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضًا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء (¬5). هذا معنى الآية، فأما حكمها فإن حملنا الخوف على العلم كما ذكره ابن عباس فلا إشكال فيه، والإمام إذا علم الخيانة ونقض العهد ممن هادنهم من المشركين بأمر ظاهر مستفيض استغنى عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب لأنه حينئذ لا يكون خائنًا إذا ناصبهم الحرب، وإن علم الخيانة بأمارات ظاهرة تلوح وتتضح له من غير أمر مستفيض، فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ العهد إليهم، وهذا هو (¬6) المعني بالآية. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬2) قال في هذا الموضع: (إلا أن يخافا: أي يعلما، وإنما كان الخوف بمعنى العلم؛ لأن الخوف مضارع للظن، وحكى الفراء: العرب تقول للرجل: قد خرج غلامك بغير إذنك، فيقول له: قد خفت ذاك، يريد: قد ظننته وتوهمته ..). (¬3) في (ح) و (س): (عاهدتم)، وهو خطأ. (¬4) اهـ. كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 420. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" ص 21. (¬6) ساقط من (ح).

قال المفسرون وأهل العلم (¬1): إذا ظهرت آثار الخيانة من عدوك وخفت وقوعهم بك فألق إليهم السلم وآذنهم بالحرب، وذلك كالذي كان من قريظة إذ أجابوا (¬2) أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العهد الذي كانوا عاهدوه، فكان ذلك موجبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوف الغدر منهم به وبأصحابه، وكذلك الحكم في كل قوم كانوا أهل موادعة للمؤمنين ظهر للإمام منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريظة، فحق على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب. وإذا اشتهرت دلائل النقض أغنت عن النبذ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم (¬3) يرعهم إلا جيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران، وذلك على أربعة (¬4) فراسخ من مكة. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، قال ابن عباس: يريد الذين خانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وقال الزجاج: الذين يخونون في عهودهم (¬6) وغيرها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 10/ 27، والزمخشري 2/ 165، والبغوي 3/ 370، و"المغني" 13/ 158، والنص للحوفي في "البرهان" 11/ 94 إلى قوله: وإذا اشتهرت. (¬2) في (ح): (جابوا). (¬3) في (ح): (ثم لم). (¬4) في (ح): (أربع). (¬5) "تنوير المقباس" ص 184 بمعناه. (¬6) في (م) و (س): (عهدهم). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 420 بتصرف.

59

59 - قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}، قال الزجاج: معناه لا تحسبن من أفلت من هذا (¬1) الحرب قد سبق إلى الحياة (¬2) (¬3). {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعجزونني، وما أعجز عن خلقي، ولا أضعف (¬4)، وقال ابن الأنباري: معنى الآية هو: أن أولئك الذين انهزموا من ذلك (¬5) العرب أشفقوا من هلكة تنزل بهم في ذلك الوقت، [فلما لم (¬6) تنزل طغوا وبغوا، فقال الله عز وجل: لا تحسبن] (¬7) أنهم سبقونا بسلامتهم الآن فإنهم لا يعجزوننا فيما يستقبلون من الأوقات (¬8). وذكرنا فيما مضى أن الحسبان يقتضي مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما، إلا أن المفعول الثاني خبر عن الأول، والفعل الذي هو (حسبت) متعلق بما دلت عليه الجملة. والآية بيان عن اقتدار الله عز وجل الذي لا ينفع معه حسبان للنجاة من ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن وإعرابه": هذه، قال ابن منظور: العرب: نقيض السلم، أنثى، ... وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير .. قال: والأعرف تأنيثها. "لسان العرب" (حرب) 2/ 815 - 816 (¬2) في (م): (الخيانة). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 421. (¬4) "تنوير المقباس" ص 184 بمعناه، وفي "البرهان" للحوفي 11/ 95 أ: لا يفوتون. (¬5) في "الوسيط" 2/ 468: (يوم بدر) بدلاً من قوله: (من ذلك الحرب). وانظر: التعليق السابق رقم (5). (¬6) ساقط من (ح). (¬7) نص ما بين المعقوفين في "زاد المسير" هو: فلما سلموا قيل: لا تحسبن ... إلخ. (¬8) " الوسيط" 2/ 468، وذكره ابن الجوزي "زاد المسير" 3/ 374 باختصار.

العقاب، وأكثر القراء قرؤوا {تَحْسَبَنَّ} بالتاء (¬1) على مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - و {الَّذِينَ كَفَرُوا} المفعول الأول، و {سَبَقُوا} المفعول الثاني، وموضعه نصب، والمعنى: لا تحسبن الذين كفروا سابقين، ومن قرأ بالياء (¬2) فقال أبو إسحاق: وجهها ضعيف عند أهل العربية (¬3)؛ إلا أنها جائزة على أن ¬

_ (¬1) وبها قرأ ابن كثير وشعبة، عن عاصم وأبو عمرو ونافع والكسائي ويعقوب وخلف. انظر: الغاية في القراءات العشر ص 162، و"تقريب النشر" ص 119، و"تحبير التيسير" ص 118. (¬2) وبذلك قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وحمزة. انظر: المصادر السابقة نفس المواضع. (¬3) وصف الزمخشري أيضًا هذه القراءة بأنها ليست نيرة، في "الكشاف" 2/ 165، وتضعيف قراءة متواترة يُعلم قطعاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقاها عن ربه وأقرأها أصحابه وهم أهل العربية، من خطل القول، سببه الغلو في أقيسة علماء اللغة، وقصور العلم عن الإحاطة بالأوجه القوية للقراءة، وقد ذكر الواحدي عدة أوجه لهذه القراءة وهناك أوجه أخرى منها: أ- أن الفاعل ضمير يعود إلى المذكورين في الآية السابقة والتقدير: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، وهذا اختيار أبي جعفر النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 682. ب- أن الفاعل ضمير يعود للكفار لتقدم ذكرهم في قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وفي قوله: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ}، و {لَا يَتَّقُونَ}، و {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، ذكره مكي بن أبي طالب في "مشكل إعراب القرآن" ص 318. ج - أن الفاعل محذوف يفهم من السياق والتقدير: ولا يحسبن حاسب أو أحد. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 421، و"البحر المحيط" 4/ 510 - 511، و"التحرير والتنوير" 10/ 54. وإذا تبين أن لهذه القراءة أكثر من وجه قائم على تقدير المحذوف، حسن التنبيه إلى أن أسلوب الحذف من الأساليب البلاغية العاليه لتذهب النفس في تقدير المحذوف كل مذهب لائق بالمقام.

يكون المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا؛ لأنها في حرف ابن مسعود (أنهم سبقوا) (¬1) فإذا كانت كذلك فهي بمنزلة قولك: حسبت أن أقوم، وحسبت أقوم، على حذف (أن)، ويكون أقوم وقام ينوب عن الاسم والخبر، هذا كلامه (¬2). وحذف (أن) قد جاء في غير شيء (¬3) كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64]، قال سيبويه: حذف (أن) والمعنى: أن أعبد (¬4). وهو كثير في الشعر (¬5)، فإذا وجهته على هذا سد (أن سبقوا) مسد المفعولين؛ كما أن قوله: {أحسبت الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2] كذلك، وذكر أبو الحسن (¬6) وجهًا آخر: وهو أنه أضمر فاعلًا (¬7) للحسبان، ¬

_ (¬1) ذكر هذه القراءة عنه، الزمخشري في "الكشاف" 2/ 165، وأبو حيان في "البحر" 4/ 510 - 511، ولم يذكرها ابن أبي داود في "المصاحف"، ولا ابن جني في "المحتسب" ولابن خالويه في "المختصر". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 421. (¬3) يعني في أكثر من موضع. (¬4) هذا القول مفهوم من عبارة سيبويه، حيث جعل الآية بمنزلة قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى بعد بيان أن (أن) محذوفة في قوله (أحضر). انظر: "كتاب سبويه" 3/ 100، و"الحجة" 4/ 155، وضعف السيرافي هذا الوجه. انظر: "حاشية كتاب سيبويه" 1/ 452، ط/ بولاق. (¬5) انظر بعض الأبيات في "الحجة" 4/ 156. (¬6) يعني الأخفش الأوسط, انظر قوله في: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 155، لم يذكره في كتاب "معاني القرآن". (¬7) في (م): (فاعلاً آخر).

وجعل (الذين كفروا) المفعول الأول (¬1)، وقال: التقدير: ولا يحسبن النبي الذين (¬2) كفروا، وذكر أبو علي وجهًا ثالثًا وقال: يجوز أن يكون أضمر المفعول الأول، التقدير: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أو إياهم سبقوا (¬3). وأكثر القراء على كسر (إن) (¬4) في قوله: {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} وهو الوجه (¬5)؛ لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول، كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] وتم الكلام ثم قال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} فكما أن قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} منقطع من الجملة التي قبلها، كذلك قوله: {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}. وقرأ ابن عامر: (أنهم) بفتح الألف (¬6)، جعله متعلقًا بالجملة الأولى فيكون التقدير: لا تحسبهم سبقوا لأنهم لا يفوتون (¬7) فهم (¬8) يجزون على كفرهم (¬9). وقال أبو عبيد: لا أعرف لفتح (أن) وجهًا إلا أن تجعل (لا) صلة، ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) في (ح): (والذين)، وهو خطأ. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 155. (¬4) هذه قراءة الجمهور، ولم يخالف إلا ابن عامر الذي قرأ بالفتح، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 162، و"التبصرة في القراءات" ص 212، و"تقريب النشر" ص 119. (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 157، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 312، و"إعراب القراءات" لابن خالويه 1/ 230. (¬6) انظر التخريج السابق لقراءة الجمهور. (¬7) في (ح): (يقولون)، وهو خطأ. (¬8) في (س): (منها)، ولا معنى له. (¬9) انظر هذا التوجيه في: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 158، و"حجة القراءات" ص 312.

60

فتقول: لا تحسبن أنهم يعجزون (¬1)، قال ابن الأنباري: فتح (أن) بتكرير الفعل، التقدير: لا يحسبن الذين كفروا سبقوا لا يَحْسبُنَّ أنهم يعجزون، و (لا) توكيد للكلام، كقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] (¬2). وهذا الوجه من كون (لا) زيادة ذكره الفراء (¬3) وأبو إسحاق (¬4) أيضًا. 60 - قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الآية، قال الليث:] (¬5) القوة: من تأليف قاف، وواو، وياء؛ فأدغمت الياء في الواو، ويقال: قوي الرجل يقوى قوة فهو قوي، وجمع القوة: قوى، قال تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] (¬6). وقد يسمى ما يتقوى به على أمر قوة، كالذي في هذه الآية، قال ابن عباس: يريد السلاح والقسي (¬7) (¬8)، وقال مقاتل: السلاح ¬

_ (¬1) ذكر بعض هذا القول الرازي في "تفسيره" 15/ 184 وأشار إليه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 683، وأبو حيان في "البحر المحيط" 4/ 510، والسمين في "الدر المصون" 5/ 625. (¬2) انظر: قول ابن الأنباري في "زاد المسير" 3/ 374 بنحوه. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 415. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 422، وقد ضعف أبو إسحاق الزجاج هذا الوجه، وعلل ذلك بقوله: لأن (لا) لا تكون لغوًا في موضع يجوز أن تقع فيه غير لغو. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) "تهذيب اللغة" (قوى) 3/ 3070، وقد اختصر الواحدي القول وغيّر ترتيب بعض الجمل، والقول أيضًا في كتاب "العين" (قوي) 5/ 236 مختصرًا. (¬7) القسي: جمع قوس والقوس معروفة، من آلات الرمي، انظر: "لسان العرب" (قوس) 6/ 3773. (¬8) "تنوير المقباس" ص 184، ولم يذكر القسي.

والنشاب (¬1) (¬2)، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} فقال: "ألا إن القوة الرمي" ثلاثًا (¬3)، قال أهل التحقيق (¬4): الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، ولا نخص شيئًا دون شيء (¬5)، فكل ما هو من آلة الغزو والجهاد فهو من جملة ما عني الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، كما روي ليث، عن مجاهد أنه رؤي مع (¬6) جوالق (¬7)، وهو يتجهز للغزو فقيل: ما ¬

_ (¬1) النشاب: النبل والسهام. انظر: "لسان العرب" (نشب) 7/ 4420. (¬2) "تفسير مقاتل" 123 ب، ولفظه: السلاح: وهي الرمي. (¬3) رواه مسلم (1917) كتاب: الإمارة، باب: فضل الرمي، وأبو داود (2513) كتاب: الجهاد، باب: في الرمي، والترمذي (3083) كتاب تفسير القرآن، سورة الأنفال، وأحمد 4/ 157 وغيرهم. انظر: "الدر المنثور" 3/ 349. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 32، و"البرهان" للحوفي 11/ 96 أ. (¬5) الأولى أن يعطى تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مزية وخصوصية فيقال: إن الحديث دليل على فضل الرمي وأنه أعظم القوة، وأنكأ للعدو، وأجل ما يحقق النصر، فينبغي أن يخص بمزيد اهتمام، فهذا الحديث الآخر: "الحج عرفة" فهو يدل على أن هذا المذكور أفضل المقصود وأجله، ولا ينفي اعتبار غيره، وذهب الإمام النووي إلى الوقوف على ظاهر الحديث حيث قال: هذا تصريح بتفسيرها -يعني القوة- ورد لما يحكيه المفسرون من الأقوال سوى هذا. "صحيح مسلم بشرح النووي" 13/ 64، ومثله الشوكاني في "تفسيره" 2/ 466 حيث قال: والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعين. وأقول: إن من يتأمل حال الحرب في عصرنا الحديث يشهد أن تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - القوة بالرمي من آياته التي تشهد أنه لا ينطق عن الهوى، فالقوة في هذا العصر تكاد تنحصر في الرمي. (¬6) هكذا في جميع النسخ، والصواب: معه، وفي "تفسير ابن جرير": لقي رجل مجاهدًا بمكة ومع مجاهد جوالق، وفي "تفسير ابن أبي حاتم" ومعه جوالق. (¬7) الجوالق: بكسر الجيم واللام وبضم الجيم وفتح اللام وكسرها: وعاء. انظر =

هذا؟ قال: هذا من القوة (¬1). وتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة بالرمي لا يدل على أن المراد بالقوة الرمي دون غيره من السيف والرمح، بل الرمي أحد معاني القوة، ولم يقل: هو الرمي دون غيره. وتمام (¬2) الخبر: "ألا إن الله سيفتح لكم الأرض وستكفون المؤونة (¬3)، فلا يعجزن أحدكم أن يلهو بأسهمه" (¬4). وهذه الآية دليل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعلم الفروسية والرمي فريضة، غير أنها من فروض الكفايات. وقوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ذكرنا في آخر سورة آل عمران أن أصل الرباط من مرابطة الخيل وهو ارتباطها بإزاء العدو (¬5)، وأكثر المفسرين على أن المراد برباط الخيل هاهنا: ربطها واقتناؤها للغزو، وهي من أقوى عدد الجهاد (¬6)، وقد روي أن رجلاً قال لابن سيرين: إن فلانًا ¬

_ = انظر: "القاموس المحيط" باب: القاف، فصل: الجيم ص 872. (¬1) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 30، من رواية رجاء بن أبي سلمة، أما رواية ليث فهي عند ابن أبي حاتم 5/ 1722 لكن بلفظ: القوة: ذكور الخيل. (¬2) في (ح): (وتمام الله الخير)، وهو خطأ. (¬3) أي مؤونة القتال وتعب الجهاد. انظر: "تحفة الأحوذي" 8/ 474، وتطلق المؤونة أيضاً على النفقة كما في "لسان العرب" (مون) 7/ 4302، لكن السياق يدل على أن الأول هو المراد. (¬4) رواه الترمذي (3083) كتاب تفسير القرآن، باب: سورة الأنفال، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 348. ورواه بنحوه مسلم (1918) في "صحيحه" كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي. (¬5) انظر: "البسيط" آل عمران: 200. (¬6) يعني في وقتهم.

أوصى بثلث ماله للحصون، فقال ابن سيرين: يُشترى به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها، فقال (¬1): الرجل أوصى للحصون. فقال: هي الخيل، ألم تسمع قول الشاعر (¬2): ولقد علمت على تجنبى (¬3) الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر (¬4) القرى (¬5) وقال عكرمة: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الإناث (¬6)، وهو قول الفراء، قال: يريد إناث الخيل (¬7). ووجه هذا القول: أن العرب تسمي الخيل إذا ربطت بالأفنية وعُلّفت: رُبُطًا، واحدها: ربيط (¬8)، وتجمع (¬9) الرُّبُط رباطًا (¬10)، وهو جمع الجمع (¬11)، فمعنى الرباط هاهنا: الخيل المربوطة في سبيل الله، وفسر ¬

_ (¬1) في (ج) و (س): (وقال). (¬2) البيت لأشعر الجعفي، انظر: "لسان العرب" (حصن) 3/ 903، و"شرح شواهد الكشاف" 4/ 404. (¬3) في "لسان العرب" (حصن) 3/ 903: توقي. (¬4) في (ح): (مدن)، وهو خطأ. (¬5) ذكر الأثر الزمخشري في "الكشاف" 2/ 166 بلفظ مقارب، ولم يخرجه الزيلعي في كتابه "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف". (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الجهاد، باب: الخيل 12/ 483، وابن جرير 10/ 30، وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان كما في "الدر المنثور" 3/ 349. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 416. (¬8) في (ج): (ربيطة). (¬9) في (م): (والجمع). (¬10) في (ج): (ربطًا). (¬11) انظر: "تهذيب اللغة" (ربط) 2/ 1346.

بالإناث لأنها أولى ما تربط لتناسلها ونمائها بأولادها، فارتباطها أولى من ارتباط الفحول. وقوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [قال مجاهد] (¬1): قال ابن عباس: يريد: تخيفون به (¬2). والكناية تعود إلى (ما) في قوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} ويجوز أن تعود إلى الإعداد؛ لأن قوله: {وَأَعِدُّوا} يدل عليه. وقوله تعالى: {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، قال مجاهد ومقاتل: يعني: مشركي مكة وكفار العرب (¬3). وقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، قال مجاهد ومقاتل: يعني: قريظة (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من (م) و (س). (¬2) لفظ الرواية عن ابن عباس: (تخزون به). إذ بهذا اللفظ رواه الثوري في "تفسيره" ص 120، والطبري 10/ 30، عن مجاهد، عن ابن عباس، وكذلك رواه الثعلبي 6/ 69/ ب، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "فتح القدير" للشوكاني 2/ 468، بل أشار ابن خالويه في كتابه "مختصر في شواذ القرآن" ص 50، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 166 إلى أن ابن عباس ومجاهد كانا يقرآن: (تخزون به)، وقد ذكر الحوفي في "البرهان" 11/ 95 ب رواية ابن عباس بلفظ مقارب لما ذكره المؤلف ونصه: (تخوفون به). (¬3) انظر قول مقاتل في: "تفسيره" 123 ب، ولفظه: كفار العرب، ورواه ابن أبي حاتم 5/ 1723 بلفظ: (من المشركين). ولم أجد فيما بين يدي من مراجع إشارة إلى قول مجاهد، ومن الجدير بالتنبيه أن تحديد الأعداء هنا وفي الموضع بعده إنما هو باعتبار ملابسات النزول وأسبابه، والعبرة بعموم اللفظ وصلاحيته لكل زمان ومكان. (¬4) رواه عن مجاهد الإمام ابن جرير 10/ 31، وابن أبي حاتم 5/ 1723، والثعلبي =

وقال السدي: هم أهل فارس (¬1)، وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم (¬2)، قال الحسن: لا كل منافق علم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ونظير هذه الآية قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (¬3)، ودل كلام ابن عباس في رواية عطاء على هذا المعنى فقال: يريد قومًا معه (¬4)، وهذا يدل على أنه أراد المنافقين (¬5). وروى ابن جريج عن سليمان بن موسى (¬6) قال: هم كفار الجن، قال: وبلغني أنه لا يقرب جني صاحب فرس أبدًا (¬7)، وهذا التفسير مع هذا ¬

_ = 6/ 69 ب، والبغوي 3/ 373، وهو في "تفسير مجاهد" ص 357، ورواه عن مقاتل بهذا اللفظ البغوي 3/ 373، وفي "تفسير مقاتل" 123 ب، والسمرقندي 2/ 24، وابن الجوزي 3/ 375: اليهود. (¬1) رواه ابن جرير 10/ 31، والثعلبي 6/ 69 ب، والبغوي 3/ 373. (¬2) رواه عنهما البغوي 3/ 373، ورواه عن ابن زيد الإمام ابن جرير 10/ 32 - 33، والثعلبي 6/ 69 ب، وذكره الهواري 2/ 103، عن الحسن مختصرًا. (¬3) التوبة: 101، ولم أقف على قول الحسن هذا. (¬4) لم أقف على مصدره، وسبق أن رواية عطاء مكذوبة على ابن عباس. (¬5) في (ح): (المنافقون). (¬6) هو: سليمان بن موسى الأشدق الدمشقي الأموي مولاهم، الإمام الكبير، ومفتي دمشق، وفقيه أهل الشام في زمانه، توفي سنة 119 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 2/ 38، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 433، و"تهذيب التهذيب" 2/ 111. (¬7) رواه بمعناه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 359 انظر: "تفسير الرازي" 15/ 186، وذكره الثعلبي 6/ 69 ب بلا نسبة.

المعنى روي مرفوعًا، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنهم الجن" (¬1) في (¬2) قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} ثم قال: "إن الشيطان لا يخبل أحدًا في دارٍ فيها فرس عتيق" (¬3). قال بعض المفسرين (¬4): وهذا القول هو الأولى بالصواب؛ لأن الله تعالى قال: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس، وأما المنافقون فلم تكن تروعهم (¬5) خيل المؤمنين وسلاحهم (¬6)؛ لأنهم كانوا يعدون أنفسهم من جملتهم، ويؤكد هذا ما روي عن الحسن أنه قال: إن صهيل الخيل يرهب الجن (¬7)، ومع هذا فقول من قال: إنهم المنافقون قريب؛ لأنهم يُرهبون (¬8) بعدد المسلمين، ويوجسون الخليفة بظهورهم على عدوهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 4/ 15 أ، قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 335: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه. (¬2) ساقط من (ح) و (س). (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" 17/ 189 (506)، والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن المنذر وابن قانع في "معجمه" وأبو الشيخ وابن منده والروياني في "مسنده"، وابن مردويه وابن عساكر كما في "الدر المنثور" 3/ 359، قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 356: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه. (¬4) هو الإمام ابن جرير، انظر "تفسيره" 10/ 32 - 33، وقد ذكر الواحدي قوله بمعناه. (¬5) في (ح): (تردعهم)، وما أثبته موافق لتفسير ابن جرير. (¬6) إلى هنا انتهى قول ابن جرير، وفي قوله: أما المنافقون فلم تكن تروعهم خيل المؤمنين. نظر؛ لأن سبب النفاق قوة المؤمنين وضعف الكافرين الذين بين ظهرانيهم فيسترون كفرهم، ومتى ما شعروا بقوتهم وضعف المؤمنين انقضوا عليهم وأظهروا كفرهم. (¬7) ذكره الزمخشري 2/ 166، والرازي 15/ 186، لكن الزمخشري لم ينسبه للحسن. (¬8) في (ح): (يرتبون)، وهو خطأ.

وقال قوم من أهل التأويل: هم كل عدو للمسلمين لا يعرفون عداوته (¬1) وقال المبرد (¬2): في قوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} اكتفى للعلم بمفعول واحد لأنه أراد: لا تعرفونهم (¬3)، وأنشد (¬4): فإن الله يعلمني ووهبًا ... وأنا سوف يلقاه كلانا وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال ابن إسحاق وغيره: من آلةٍ وسلاح وصفراء وبيضاء في طاعة الله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} (¬5)، ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" 2/ 330، ونسبه لبعض المتأخرين، ورجحه القرطبي في "تفسيره" 8/ 38 فقال: لا ينبغي أن يقال فيهم شيء؛ لأن الله سبحانه قال: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}؛ فكيف يدعي أحد علمًا بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله في هذه الآية: "هم الجن"، قلت: والحديث لم يصح كما سبق بيانه، وهذا القول أعم الأقوال إذ يدخل فيه كل من لا يعلم المؤمنون عداوته كالمنافقين، والمتربصين بالمؤمنين الدوائر، والدول التي ظاهرها المسالمة، وباطنها العداء والمحاربة. (¬2) في (ح): (المبرك). (¬3) انظر قول المبرد دون إنشاد البيت في: "المقتضب" 3/ 189. (¬4) البيت للنمر بن تولب العكلي كما في "ديوانه" ص 395، و"شرح المفصل" ص 213، وكان وهب المذكور نازع النمر بن تولب الشاعر في بئر، فقال في ذلك قصيدة منها البيت المذكور وقبله: يريد خيانتي وهب وأرجو ... من الله البراءة والأمانا (¬5) لم أجد هذا القول لابن إسحاق، ونص قوله في "السيرة النبوية" 2/ 320، و"تفسير ابن جرير" 10/ 33: أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا، وقال ابن جرير 10/ 33: في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع ... يخلفه الله عليكم. وانظر أيضًا "تفسير السمرقندي" 2/ 24.

61

قال ابن عباس: يريد: يخلف لكم (¬1)، والمعنى: يوفر لكم أجره، أي: لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة وعاجل خلفه في الدنيا. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، قال ابن عباس: يريد: لا تنقصون من الثواب، وتلا قوله: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] (¬2). 61 - قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} الآية، قال النضر: جنح الرجل إلى فلان وجنح له: إذا تابعه وخضع له (¬3)، والرجل يجنح: إذا أقبل على الشيء يعمله بيده، وأنشد قول لبيد: جنوح الهالكيّ على يديه ... مكبًا يجتلي (¬4) نقب النصال (¬5) وقال أبو زيد: جنح الرجل يجنح جنوحًا: إذا أعطى بيده، أو عدل إلى ما يحب القوم (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره بمعناه الرازي في "تفسيره" 15/ 187، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 184. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 15/ 187. (¬3) إلى هنا انتهى قول النضر بن شميل فيما نقله عنه الأزهري، وقد نقله الواحدي بمعناه، ونصه: جنح الرجل إلى الحرورية، وجنح لهم: إذ تابعهم وخضع لهم اهـ. وقد نسب الأزهري ما بعده مع الاستشهاد بالبيت المذكور إلى الليث، وهو بنصه في كتاب "العين" (جنح) 4/ 83 انظر: "تهذيب اللغة" (جنح) 1/ 665 - 666. (¬4) في (م): (يحتكى). (¬5) البيت في "ديوان لبيد" ص 105ن ونسب إليه أيضًا في "سيرة ابن هشام" 2/ 321، و"تهذيب اللغة" (جنح) 1/ 665، و"لسان العرب" (جنح) 2/ 697. والهالكي: الحداد، نسبة للهالك بن عمرو الأسدي أول من عمل الحدادة من العرب، والنقب: الصدأ، انظر: "لسان العرب" (هلك) و (نقب). (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 158 , ولم أجده في كتاب "النوادر في اللغة" لأبي زيد.

والمفسرون وأهل المعاني قالوا في هذه الآية: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه (¬1)، قال ابن الأنباري: [تأويل الآية] (¬2): وإن مالوا إلى المسالمة وترك القتال فمل إلى ذلك (¬3). وأنث الهاء في (لها) لأنه قصد بها قصد (الفَعْلَة) و (الجنحة) كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 153] أراد من بعد فَعْلَتهم، ويجوز أن تكون الهاء والألف للسلم في لغة من يؤنثه (¬4)، أنشد أبو العباس (¬5)، عن سلمة (¬6)، عن الفراء: فلا تضيقن إن السلم واسعة ... ملساء ليس بها وعث ولا ضيق (¬7) ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 191، و"تفسير ابن جرير" 10/ 33، و"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 422، و"الحجة للقراء السبعة" 4/ 158، و"تفسير الثعلبي" 6/ 69 ب، والبغوي 3/ 373، والزمخشري 2/ 166. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) قال ابن فارس في "مجمل اللغة" (سلم) 2/ 468: السلم: الصلح يذكر ويؤنث اهـ. وقال الزمخشري في "الكشاف" 2/ 166: والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب. (¬5) هو: أحمد بن يحيى (ثعلب)، تقدمت ترجمته. (¬6) هو: سلمة بن عاصم النحوي الكوفي، أبو محمد، راوية الفراء وناشر كتبه، كان أديبًا فاضلًا عالمًا؛ مع ورعٍ شديد، وتأله عظيم، وكثرة عباده، توفي بعد سنة 270 هـ. انظر: "مراتب النحويين" ص 149، و"إنباه الرواة" 2/ 56، و"طبقات القراء" لابن الجزري 1/ 311، و"بغية الوعاة" 1/ 596. (¬7) لم أعثر على قائله، وهو بلا نسبة في "المذكر والمؤنث" للفراء ص20، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 485، و"شرح القصائد السبع" ص 262، و"شرح المعلقات" للتبريزي ص 168، و"اللمع" لابن جني ص 310.

والقولان للفراء (¬1) ذكرهما أبو بكر، قال: وأما قوله: (لها) وهو يريد: إليها؛ فلأن (اللام) تنوب عن (إلى)، و (إلى) عنها، وأنشد (¬2): ومكاشح لولاك أصبح جانحًا ... للسلم يرقى حَيّتي وضِبابي (¬3) والكلام في السلم قد مضى في سورة البقرة [208]. قال مجاهد (¬4)، والكلبي (¬5) في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}: يعني: قريظة. وقال الحسن: يعني: المشركين وأهل الكتاب (¬6). ¬

_ (¬1) قال الفراء في "معاني القرآن" 1/ 416: (فاجنح لها): إن شئت جعلت (لها) كناية عن السلم لأنها مؤنثة، وإن شئت جعلته للفعلة كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولم يذكر قبله إلا فعلاً، فالهاء للفعلة. (¬2) أنشد أبو بكر البيت في "المذكر والمؤنث" 1/ 486، ولم يذكر ما قبله في هذا الكتاب. (¬3) البيت لإبراهيم بن هرمة كما في "ديوانه" ص 70. والمكاشح: المضمر العداوة. ومعنى يرقى: يتعوذ. والضباب: قال في "لسان العرب" (ضبب) 4/ 2543 الضَّب والضَّب: الغيظ والحقد، وقيل: هو الضغن والعداوة، وجمعه ضباب، قال الشاعر: فما زالت رقاك تسل ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي والمعنى: لولا المخاطب لجنح الخصم للسلم ومال إليه، وصار يتودد للشاعر ليسل غيظه وحقده. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 34 وابن أبي حاتم 5/ 1725، والثعلبي 6/ 70 أ، وهو في "تفسير مجاهد" ص 357. (¬5) "الوسيط" 2/ 469، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 184 عنه، عن ابن عباس. (¬6) ذكره هود بن محكم "تفسيره" 2/ 102 دون ذكر أهل الكتاب، وكذلك المصنف في "الوسيط" 2/ 469.

وأكثر المفسرين على أن هذا منسوخ (¬1) وهو قول قتادة (¬2)، وعكرمة (¬3)، والحسن (¬4)، وابن زيد (¬5) قالوا: نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29]، ونحو ذلك روى عطاء الخرساني، عن ابن عباس (¬6)، وقال ¬

_ (¬1) لعله يعني مفسري السلف وقد ذهب كثير من المتأخرين إلى أنها محكمة كابن جرير 10/ 34، والسمرقندي 2/ 24، والزمخشري 2/ 166، وابن كثير 2/ 356 وغيرهم؛ لإمكان الجمع بين الآيات فالمشركون يقاتلون كافة حتى يجنحوا إلى السلم، ولا يجوز للمسلمين أن يبدؤا بطلب الصلح ابتداءً وقت قوتهم وعلوهم، ومال بعضهم إلى القول بالنسخ كالكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 3/ 165، والثعلبي 6/ 69/ ب، والبغوي 3/ 373 إذ لم يذكروا غير القول به، وجوّزه ابن الجوزي 3/ 376 بناءً على من أريد بهذه الآية، ويحسن التنبيه إلى ما سبق بيانه إلى أن اصطلاح السلف في النسخ أوسع من اصطلاح المتأخرين فلا ينبغي الاغترار به، والحكم على رفع حكم الآية من جميع الوجوه بناءًا عليه، وانظر في القول بنسخ هذه الآية: "تفسير الطبري" 10/ 34، و"الإيضاح" لمكي ص 259، و"تفسير ابن كثير" 2/ 356 - 357، و"النسخ في القرآن الكريم" 1/ 566. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 1/ 361، وابن جرير 10/ 34، وابن أبي حاتم 5/ 1725، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 385. (¬3) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في الموضعين السابقين. (¬4) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير البغوي" 3/ 373. (¬5) رواه ابن جرير 1/ 34، وابن أبي حاتم، الموضع السابق. (¬6) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 194، وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" ص 347، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1725 أ. والبيهقي في "السنن الكبرى" كتاب السير، باب: ما جاء في نسخ العفو عن المشركين 9/ 20، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 360، وفي سنده عثمان بن عطاء الخرساني، ضعيف كما في "الكاشف" 2/ 222، ثم إن أباه لم يسمع من ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" 3/ 71 - 72.

بعضهم (¬1): الآية غير منسوخة ولكنها تتضمن الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه, فإذا رأى الإمام مصالحتهم والقوة (¬2) للمسلمين فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة، إذ لا يجوز أن تمضي سنة كاملة ولا يكون للإمام فيها غزوة إما بنفسه وإما ببعض سراياه، وإن كانت القوة -والعياذ بالله- للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين، [ولا تجوز الزيادة عليها (¬3)، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه هادن أهل مكة عشر سنين (¬4)] (¬5)، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة (¬6). وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} قال مجاهد: وثق بالله (¬7)، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال عطاء: يريد لقولكم {الْعَلِيمُ} بما في قلوبكم من الوفاء، وقلوبهم من النقض (¬8). ¬

_ (¬1) لعله القشيري فقد نقل عنه القرطبي 8/ 40 بعض هذا القول، وهو صاحب تفسير كبير اسمه: "التيسير في التفسير"، فرغ منه قبل عام 410 هـ، ووصف بالجودة. انظر: "معجم المفسرين" 1/ 300، وانظر: معنى هذا القول في كتاب "الأم" 4/ 236، 269، 270. (¬2) في (ج): (والعزة). (¬3) انظر: أحكام الصلح مع الكفار في كتاب "الأم" 4/ 268 - 272، و"المغني" 13/ 155 - 163، و"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 39 - 41. (¬4) روى ذلك الإمام أحمد 4/ 325 في ثنايا قصة صلح الحديبية، وكذلك ابن إسحاق في "السيرة" 3/ 366، وأصل القصة في "الصحيحين"، و"صحيح البخاري" (4180)، (4181) كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية 5/ 258، و"صحيح مسلم" كتاب الجهاد، باب: صلح الحديبية 3/ 1409 (1783). (¬5) ساقط من (س). (¬6) انظر: "السيرة النبوية" 4/ 10. (¬7) لم أقف عليه، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 469، والسمرقندي في "تفسيره" 2/ 24 بلا نسبة. (¬8) لم أقف عليه، وقد ذكر في المصدرين السابقين، الموضوع نفسه، بلا نسبة.

62

62 - قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ}، قال الكلبي: أي بالصلح لتكف عنهم (¬1)، وقال أبو إسحاق: أي: إن أرادوا بإظهار الصلح خديعتك {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي: فإن الذي يتولى كفايتك الله (¬2). {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} يريد: قواك وأعانك بنصره يوم بدر، قاله الكلبي (¬3) وغيره (¬4). {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس وغيره: يعني الأنصار (¬5)، وهذا بيان عما ينبغي أن يكون عليه المحق من الثقة بالله إذا خاف مكر المبطل به في أن يكفيه شر كيده لئلا يضطرب أمره في تدبيره. ¬

_ (¬1) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 185 عنه، عن ابن عباس مختصرًا. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 422. (¬3) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 185 عنه، عن ابن عباس. (¬4) هذا أيضًا قول مقاتل في "تفسيره" ص 123/ ب، وانظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 35، و"زاد المسير" 3/ 376. (¬5) رواه ابن مردويه، عن ابن عباس، كما في "الدر المنثور" 2/ 357، ورواه ابن جرير 10/ 35، والثعلبي 6/ 70 أ، عن السدي، وهو قول مقاتل كما في "تفسيره" 123 ب، وابن جرير، الموضع السابق، والسمرقندي 2/ 24. وقد يقال: أي حاجة مع نصر الله لنصر المؤمنين؟ فالجواب: إن النصر والتأييد كله من الله تعالى، لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. والثاني: ما يحصل بواسطتها. فالأول هو المراد من قوله: {أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}، والثاني هو المراد بقوله: {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}. انظر: "تفسير الرازي" 15/ 189.

63

63 - قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، قال الليث: كل شيء ضممت بعضه إلى بعض فقد ألفته تأليفًا (¬1)، وقال غيره (¬2): التأليف: جمعٌ على تشاكل، ولهذا قيل: هذه الكلمة تأتلف مع هذه ولا تأتلف مع تلك, قال ابن عباس والمفسرون: يعني بين قلوب الأوس والخزرج وهم الأنصار (¬3). وقوله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، قال عطية: يعني للعداوة التي كانت بينهم (¬4)، {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}، قال ابن عباس: يريد: إن قلوبهم بيده يؤلفها كيف شاء (¬5)، {إِنَّهُ عَزِيزٌ} أي: قدير لا يمتنع عليه شيء {حَكِيمٌ} عليم بما يفعله (¬6). ¬

_ (¬1) كتاب "العين" (ألف) 8/ 336. (¬2) هو: الحوفي في "البرهان في علوم القرآن" 11/ 101 ب، وقد اختصر المؤلف قوله. (¬3) رواه ابن مردويه، عن ابن عباس والنعمان بن بشير، كما في "الدر المنثور" 3/ 362، ورواه ابن جرير 10/ 35 - 36، عن السدي وبشير بن ثابت وابن إسحاق، كلهم بمعناه وهو قول الفراء 1/ 417، والثعلبي 6/ 70/ أ، والبغوي 3/ 474 وغيرهم. (¬4) لم أقف عليه، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 469 بلا نسبة. (¬5) "تنوير المقباس" ص 185 بمعناه. (¬6) تفسير الحكمة بالعلم معروف في اللغة. قال الجوهري: الحكيم: العالم وصاحب الحكمة. انظر: "الصحاح" (حكم) 5/ 1901، والمشهور في معنى الحكمة: وضع الأشياء في مواضعها من الإتقان، قال ابن الأثير في "النهاية" (حكم) 1/ 418: الحكيم: فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل، وقال ابن جرير 1/ 558: الحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.

64

قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أن تأليف قلوب المؤمنين من الآيات العظام، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، ونصرة بعضهم لبعض بحيث لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل (¬1) عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره؛ فألف الإيمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، فأعلم الله عز وجل أن هذا ما تولاه منهم إلا هو (¬2). 64 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قال أهل المعاني: كرر في {حَسْبُكَ اللَّهُ} بعد ما ذكر في قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}؛ لأن المعنى هناك: إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم، والمعنى هاهنا عام في كل كفاية تحتاج إليها (¬3). روى سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في إسلام عمر (¬4)، وقال سعيد بن جبير: أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وكذلك في "الوسيط" 2/ 469، باعتبار معنى القبيلة، وفي "معاني القرآن": فيقاتل عنه حتى يدرك ثأره، بالبناء للمجهول. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 423، وقد نقل الواحدي قوله بتصرف واختصار. (¬3) لم أجد من ذكر هذا القول من أهل المعاني، وقد ذكره بمعناه الفخر الرازي 15/ 191، والقرطبي 8/ 42. (¬4) رواه المصنف في "أسباب النزول" ص 241 - 242، والطبراني في "المعجم الكبير" 12/ 60 (12470)، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 362، وهو موضوع؛ إذ مداره على إسحاق بن بشر الكوهلي، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 101 (11032): هو كذاب اهـ. وقال ابن أبي هاشم في "الجرح والتعديل" 2/ 214 (734): كان يكذب، يحدث عن مالك وأبي معشر بأحاديث موضوعة. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 70 أ، والبغوي 3/ 374، وهو مرسل، ثم إن في سندهما إبراهيم =

قال أهل التفسير فعلى هذا القول هذه الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وعن ابن عباس أيضًا: نزلت هذه الآية [بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، قال: وسورة الأنفال كلها مدنية غير هذه الآية] (¬2)؛ ¬

_ = ابن نصر، قال ابن حجر في "تعجيل المنفعة" ص 22: كذبه ابن معين، وقال صالح جزرة: كان يكذب عشرين سنة، وأشكل أمره على أحمد حتى ظهر بعد، وقال النسائي: ليس بثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ. باختصار. وفي السند المذكور أيضًا جعفر بن أبي المغيرة، قال عنه الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص 141 (960): صدوق يهم، والأثر رواه ابن أبي حاتم 5/ 1728، وفي سنده جعفر المذكور، ويحيى الحماني: شيخ حافظ، لكنه متهم بسرقة الحديث كما في "تقريب التهذيب" ص 593 (7591). وعلى فرض صحة السند فإن المتن لا يصح لما يأتي: 1 - قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 358 معلقًا على هذه الرواية: وفي هذا نظر لأن هذه الآية مدنية وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة. وقال أبو سليمان الدمشقي: هذا لا يحفظ، والسورة مدنية بإجماع. "زاد المسير" 3/ 377. 2 - أن الثابت تاريخيًا أن عدد المهاجرين إلى أرض الحبشة من المؤمنين ثلاثة وثمانون رجلاً سوى النساء والأبناء. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 343 - 363 وإسلام عمر كان بعد هذه الهجرة. 3 - أن المعنى الصحيح للآية -كما سيأتي إيضاحه-: يا أيها النبي يكفيك الله ويكفي أتباعك، بينما هذا الأثر يقتضي أن يكون المعنى: يكفيك الله ويكفيك أتباعك من المؤمنين مثل عمر. انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 25، وهذا المعنى فاسد كما سيأتي بيانه. (¬1) هذا قول القشيري، كما في "تفسير القرطبي" 8/ 42، وانظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 25، وابن عطية 6/ 362، والرازي 15/ 191. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).

فإنها نزلت بالبيداء (¬1) (¬2). وقال مقاتل في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني الأنصار (¬3)، وقال عطاء، عن ابن عباس: يعني المهاجرين والأنصار (¬4). واختلفوا في محل (من) في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ}. نحو اختلاف المفسرين فقال الفراء: الكاف في (حسبك) خفض و (من) في موضع نصب على معنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك، كما قال الشاعر: إذا كانت الهيجا وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند (¬5) قال: وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا: حسبك وأخاك حتى يقولوا: حسبك وحسب أخيك، ولكنا أجزناه؛ لأن في (حسبك) معنى واقع من الفعل فرددنا (من) (¬6) على تأويل (الكاف) لا على لفظها (¬7) كقوله: {إِنَّا ¬

_ (¬1) الأرجح في تعريف المكي والمدني أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة أم بسفر من الأسفار. انظر: "الإتقان" 1/ 36، وعلى هذا فالآية مدنية أيضًا. (¬2) ذكره مختصرًا الماوردي 2/ 331، والقرطبي 8/ 430، عن الكلبي، وذكره ابن عطية 6/ 362 بلا نسبة. (¬3) لم أجد من ذكره عنه، وقد ذكر الأنصار في الآية السابقة مرتين، انظر "تفسيره" 123 ب. أما قوله في هذه الآية فنصه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} وحسب من اتبعك من المؤمنين الله عز وجل. (¬4) "تنوير المقباس" ص 185 بنحوه من رواية الكلبي، وكلا الروايتين موضوعتان. (¬5) البيت لجرير كما قال البغدادي في "ذيل الأمالي" ص 140، وليس في "ديوانه"، وانظره بلا نسبة في: "خزانة الأدب" 7/ 581، و"سمط اللآلئ" 2/ 899، و"لسان العرب" (حسب) 2/ 865. (¬6) ساقط من (س). (¬7) يعني: إن لفظ (الكاف) في محل جر بالإضافة، وتأويلها في محل نصب مفعول به؛ لأن معنى (حسبك) يكفيك.

مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: 33] فرد الأهل على تأويل (الكاف) (¬1). وهذا الوجه من الإعراب في محل (من) على قول ابن زيد [وإحدى الروايتين عن الشعبي، قال ابن زيد] (¬2) إن الله حسبك وحسبهم (¬3)، وقال الشعبي في رواية: حسبك الله وحسب من شهد معك (¬4)، قال الفراء: وإن شئت جعلت (من) في موضع رفع وهو أحب الوجهين إليّ (¬5)، قال (¬6) الزجاج ومن رفع فعلى العطف على الله عز وجل، والمعنى: فإن حسبك الله وتُبّاعك (¬7) من المؤمنين (¬8). وذكر الكسائي الوجهين أيضًا في محل (من) (¬9). فإذا قلنا أن في محل (من) رفع فهو معنى قول الشعبي: حسبك الله وحسبك من اتبعك (¬10)، ونحو ذلك قال الحسن (¬11). وقال بعض أهل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 417 مع اختلاف يسير. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 47، وابن أبي حاتم 5/ 1727. (¬4) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 417. (¬6) في (ح): (وهو قول). (¬7) بضم التاء وتشديد الباء. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 423. (¬9) انظر: "عناية القاضي" للخفاجي 4/ 289، و"محاسن التأويل" 8/ 3032. (¬10) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 362 أنه أخرجه البخاري في "تاريخه"، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولم أجد هذه الرواية في "تفسير ابن أبي حاتم"، بل ذكر عنه الرواية الأولى. (¬11) انظر: "تفسير القرطبي" 8/ 43، و"البحر المحيط" 4/ 516، و"الدر المصون" 5/ 632، وفي هذا القول نظر من عدة أوجه منها: =

المعاني: قد عني الله جل ثناؤه الوجهين جمعيًا بالآية (¬1). ¬

_ = أولاً: نظائر هذه الآية تدل على أن المعنى الصحيح للآية هو: يا أيها النبي يكفيك الله وحده ويكفي أتباعك المؤمنين، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وقال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]، وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، ومعلوم أن خير ما يفسر القرآن القرآن نفسه، وقد ذهب إلى هذا المعنى الصحيح جمهور المفسرين، انظر: "زاد المسير" 3/ 377. ثانيًا: قال الإمام ابن القيم في سياق بيان أوجه التقدير في الآية: وفيه تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون (من) في موضع رفع عطفا على اسم (الله) ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك، وهذا -وإن قاله بعض الناس- فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن (الحسب) و (الكفاية) لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]؛ ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟ هذا من أمحل الأمحال، وأبطل الباطل. "زاد المعاد" 1/ 36. ثالثًا: قال جمال الدين القاسمي بعد أن ذكر رد الخفاجي قول ابن القيم محتجًا بأن الفراء والكسائي رجحا وجه الرفع: أقول: هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة، كما هو دأبه، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة لما ضعفه، والفراء والكسائي من علماء العربية، ولأئمة التأويل فقه آخر، فتبصر ولا تكن أسير التقليد. "محاسن التأويل" 8/ 3032. (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 614 - 685 بمعناه.

65

65 - قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} الآية، معنى التحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء، قال ابن عباس: يريد: الحث على نصر دين الله (¬1)، وذكر أبو إسحاق في اشتقاقه وجهًا بعيدًا فقال: تأويل التحريض في اللغة: أن يحث الإنسان على شيء حثًا يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه، والحارض: الذي قد قارب الهلاك (¬2). أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا حارضين أي: هالكين، فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض (¬3). وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قال ابن عباس: يريد: الرجل بعشرة (¬4). وقال الليث: قلت للخليل: ما معنى العشرين؟ قال: جماعة (¬5) عِشر (¬6)، قلت: والعِشْر كم يكون؟ قال: تسعة أيام، قلت: فعشرون ليست ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 185 بمعناه (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 423. (¬3) قال صاحب القاموس في مادة (حرض) ص 639: الحَرَض: الفساد في البدن وفي المذهب وفي العقل، والرجل الفاسد المريض، كالحارضة والحرِض ككتف، والكالّ المعيي، والمشرف على الهلاك اهـ. وفي "مجمل اللغة" (حرض) 1/ 226: الحرض: المشرف على الهلاك، قال الله -جل ثناؤه-: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} وحرضت فلانًا على كذا: إذا أمرته به، وهو من الأول؛ لأنه إذا خالف فقد هلك، كذا فسر بعض أهل العلم قوله تعالى: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}. (¬4) رواه بنحوه البخاري في "صحيحه" (4653) كتاب التفسير، باب: الآن خفف الله عنكم، وابن جرير 10/ 38، وابن أبي حاتم 5/ 1728. (¬5) في (ح): (جمع جماعة عشر)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬6) بكسر العين وإسكان الشين، قال الخليل في كتاب "العين" (عشر): العِشْر: ورد =

بتمام إنما هو عشران ويومان، قال: لما مر من العِشر الثالث يومان جمعته بالعشرين، قلت: وإن لم يستوعب الجزء الثالث؟ قال: نعم، ألا ترى إلى قول أبي حنيفة (¬1): إذا طلقها تطليقتين وعُشْر تطليقة فإنه يجعلها ثلاثًا (¬2)، وإنما من التطليقة الثالثة جزء، فالعشرون هذا قياسه (¬3). قال النحويون: وهذا خطأ فاسد من الكلام، ولم يقل الخليل هذا (¬4)، ومتى كان كلام العرب قياسًا على قول أبي حنيفة، ولكن (عشرين) ¬

_ = الإبل اليوم العاشر، وفي حسابهم: العِشْر: التاسع، وإبل عواشر: وردت الماء عشرًا. (¬1) هو: النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي، التيمي مولاهم، الإمام، فقيه الملة، وعالم العراق، وصاحب المذهب المشهور، ولد سنة 80 هـ في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك، عني بطلب الآثار, وصار إليه المنتهى في الرأي وغوامض الفقه، توفي سنة 150 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 13/ 323، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 390، و"تهذيب التهذيب" 4/ 229. (¬2) انظر: مذهب أبي حنيفة في احتساب بعض التطليقة تطليقة كاملة في "تحفة الفقهاء" للسمرقندي 2/ 268، و"بدائع الصنائع" 4/ 1885، وكتاب "المبسوط" 6/ 139. (¬3) "تهذيب اللغة" (عشر) 3/ 2445 - 2447 مع اختلاف يسير، كتاب "العين" للخليل (عشر) 1/ 246 بمعناه. (¬4) الراوي عن الخليل هو الليث بن المظفر راوي كتاب "العين" للخليل، وقد أثنى عليه خصمه ومتتبع زلاته وهو الأزهري صاحب "تهذيب اللغة" فقال عن كتاب "العين" الذي ينسبه لليث: فلا تشكن فيه من أجل أنه زل في حروف معدودة، هي قليلة في جنب الكثير الذي جاء به صحيحًا، كما نقل وصف الإمام إسحاق بن راهويه الرجل بالصلاح. انظر: "مقدمة تهذيب اللغة" 1/ 28 - 29، وانظر: تحامل النحاة البصريين على =

كأنه في الظاهر جمع (عشر) و (ثلاثون) جمع (ثلاث)، و (أربعون) جمع (أربع)، وليس الأمر كذلك؛ لأن (العِشْر) غير معروف إلا في إظماء الإبل، ولو كان (ثلاثون) جمع ثلاث لوجب أن يستعمل في (تسعة) وفي (اثنى عشرة) وفي كل عدد [الواحد من تثليثها ثلاث] (¬1) وكذلك القول في (الأربعين) (¬2) و (خمسين) إلى (التسعين) كالقول في (ثلاثين)، فقد ثبت أن (ثلاثين) ليس جمع (ثلاث)، وكذلك سائر العقود، ولكن (عشرين) و (ثلاثين) جار مجرى (فلسطين) في أنه اسم موضوع على سورة الجمع لهذا العدد، فإن (¬3) اعتقد له واحد وإن لم يجر به استعمال [كأن (عشرًا) و (ثلاثًا) و (ثلاث): جماعة] (¬4) فكأنه قد كان ينبغي أن تكون فيه الهاء فعرض من ذلك الجمع بالواو والنون، وعاد الأمر فيه إلى قصة (أرض) و (أرضون) (¬5) وقد ذكرنا الكلام فيه. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ¬

_ = الليث في "مقدمة كتاب العين" 1/ 18 - 27 للدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي. (¬1) هكذا في جميع النسخ، والعبارة مضطربة، ونص ما بين المعقوفين في "سر صناعة الإعراب": الواحد من تثليثها فوق العشرة نحو (ثلاثة وثلاثين)؛ لأن الواحد من تثليث هذه (أحد عشر). (¬2) في "سر صناعة الإعراب": أربعين. (¬3) في (ج): (فإنه). (¬4) نص ما بين المعقوفين في "سر صناعة الإعراب": فكأن (ثلاثين) جمع (ثلاث) و (ثلاث): جماعة. (¬5) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 626، 627، وقد تصرف الواحدي في عبارته كثيراً وزاد بعض الجمل.

قرئ (يكن) (¬1) بالياء والتاء (¬2)، فمن قرأ بالياء فلأنه يراد بالمائة المذكر لأنهم رجال في المعنى فحمل الكلام على أنهم مذكرون في المعنى، يدلك على ذلك قوله: (يغلبوا) كما جاء: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فأنث الأمثال على المعنى لما كانت حسنات. ومن قرأ بالتاء حمل الكلام على اللفظ، واللفظ مؤنث، وكان أبو عمرو يقرأ هذا بالياء، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ} بالتاء (¬3)؛ لأن التأنيث هاهنا أشد مشاكلة لقوله: (صابرة) من التذكير، وقرأ الأول بالياء؛ لأنه أخبر عنه بقوله: {يَغْلِبُوا} فكان التذكير أشد مشاكلة لـ {يَغْلِبُوا} (¬4). وأما الكلام في (مائة) فقال الفراء: إنها منقوصة من آخرها نحو: السنة وبابها، قال: وقد أتم بعض الشعراء المائة فقال (¬5): ¬

_ (¬1) ساقط من (ح) و (س). (¬2) في قوله {يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ}، وقوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ}: قرأ الكوفيون بالياء في الموضعين، ووافقهم البصريان في الموضع الأول فقط، والباقون بالتاء على التأنيث في الموضعين. انظر: "التبصرة في القراءات" ص 212، و"تحبير التيسير" ص 118، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 238. (¬3) انظر: تخريج القراءة في التعليق الأسبق، وكتاب "السبعة"ص 308، و"التيسير" ص 117. (¬4) القراءة سنة ينقلها السابق للاحق، وليس للقراء إنشاؤها وابتداؤها, ولعل المؤلف يقصد بيان سبب اختيار أبي عمرو لهذه القراءة دون غيرها. (¬5) البيت لتميم بن مقبل كما في "المقاصد النحوية" 2/ 376، ولم أجده في "ديوانه" ولا "ذيله"، وله أو لأبي شبل الأعرابي كما في "الدرر اللوامع" 1/ 130، وانظره بلا نسبة في: "تذكرة النحاة" ص 508، و"لسان العرب" (ضربج) 5/ 2570.

فقلت والمرء قد تخطيه مُنْيَته (¬1) ... أدنى عطيته إياي مئيات (¬2) مثل: مِعْيات (¬3)، فأخرج الياء (¬4). ابن السكيت: أمأت الدراهم: إذا صارت مائة، وأمأيتها أنا، وجمع مائة: مئين، ومئ (¬5) مثل: مِعٍ، وأنشد: وما زودوني غير سحق عمامة ... وخمسمئٍ منها قسي وزائف (¬6) ¬

_ (¬1) في (ح): (ميتته)، وفي "لسان العرب": مُنْيَتُه، مفرد أماني، وضبطه صاحب "المعجم المفصل" 1/ 136 هكذا: مُنِيَّته، مفرد منايا، والصواب ما ورد في اللسان بدلالة سياق الأبيات ونصها: قد كنت أحجو أبا عمرو أخًا ثقة .. حتى أمت بنا يوماً ملمات فقلت ولا مرء قد تخطيه مُنْيَتُه ... أدنى عطياته إياي مئيات فكان ما جاد لي لا جاد من سعة ... دراهم زائفات ضربجيات انظر: "لسان العرب" (ضربج) 2/ 315. (¬2) في "الدرر اللوامع": ميآت، وما أثبته موافق لـ "تذكرة النحاة"، و"لسان العرب". (¬3) في (ح): (ميعاد). (¬4) لم أقف على مصدره. (¬5) هكذا وهو موافق لما في "إصلاح المنطق"، وفي "المشوف المعلم": مئي، مثل: مِعي، وانظر ما ذكره ابن منظور في: رد (مئٍ) في "لسان العرب" (مأي) 7/ 4124، وقال الأخفش: قولهم: ثلاث مئي، فإنهم أرادوا بمئي جماعة المائة، كتمرة وتمر، تقول فيه: رأيت مئْيًا، مثل: معْيًا، وقولهم: رأيت مِئًا، مثل: مِعًا، خطأ؛ لأن الميء إنما جاءت في الشعر. (¬6) البيت لمزرد بن ضرار كما في "ديوانه" ص 53، و"إصلاح المنطق" ص 300، و"الصحاح" للجوهري (مأى) 6/ 2489، "لسان العرب" (مأى) 7/ 4124، ونص الشطر الأول في الديوان: فكانت سراويل وجردٌ خميصة ... والسحق: الخَلقِ البالي. ودرهم قسي: رديء، وقيل: هو ضرب من الزيوف لرداءة فضته وصلابتها. انظر: "لسان العرب" (سحق) و (قسا).

قال: ولو قلت: مِئات على وزن مِعَات جاز (¬1). وذكر أبو علي الفارسي في "المسائل الحلبية" (¬2): إن (مائة) وزنها (فِعْلَة) وأصلها: مِئْيَة فحذفت اللام منها، وجمع للنقص الذي لحقه بالواو والنون، ومثله (رئة) في حذف اللام منه ويدل على ذلك قولهم: رأيت الرجل: إذا ضربت (¬3) رئته، وأنشد أبو زيد: فغظناهم حتى أتى الغيظ منهم ... قلوبًا وأكبادًا لهم، ورئينا (¬4) فهذا مثل مئين، فأما ما أنشده أبو زيد (¬5): وحاتم الطائي وهاب المئي فالقول في المئي: إنها جمع مائة على (فعول) وقلبت الواو ياءً كما قالوا: حقو وحقين ودلو ودلي، وفي التنزيل: {حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} [طه: 66]، وقالوا (¬6): إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة فشذ هذا الحرف، وصحت ¬

_ (¬1) "إصلاح المنطق" ص 300، و "المشوف المعلم" 2/ 709. (¬2) في "المسائل الحلبيات" ص 61، بعض هذا القول من قوله: يدل على ذلك .... إلى آخر البيت الأول، ولم أجد أول القول فيها، والنسخة المطبوعة فيها نقص كبير، كما أشار المحقق في المقدمة (ص: د). (¬3) في (ج): (أصبت). (¬4) البيت للأسود بن يعفر وهو في "ديوانه" ص 63، وذكره أبو زيد في "نوادر اللغة" ص 24 ونسبه له. (¬5) "نوادر اللغة" ص 91، ونسبه لامرأة من بني عقيل، وقبله: حيدة خالي ولقيط وعلي وانظر: "المسائل العسكريات" ص 177، و"لسان العرب" (مأي) 7/ 4124، و"خزانة الأدب" 7/ 375، ونسبه في "المفاسد النحوية" 4/ 565 لقصي بن كلاب. (¬6) يعني العرب، قال ابن منظور في "لسان العرب" (نحا) (4371): في بعض كلام العرب: إنكم لتنظرون في نحو كثيرة، أي في ضروب من النحو.

الواو فيه، ومثله: سَنَة وسني، أنشد أبو زيد (¬1): يأكل أزمان الهزال والسني وهذا على لغة من جعل اللام من (سنة) واوًا ثم أبدل من الواو ياءً، كما أبدلت في حِقِي وعِصِي (¬2)، وقلب واو (فعول) ياءً لوقوعها ساكنة قبل الياء التي في موضع اللام، ثم أبدل من الضمة كسرة كما أبدلت منها في (مرمى) ونحوهن فصار مثل عصي، وصار (مائة) في قوله: وهاب المئي، [في موضع اللام] (¬3)، مثل (خلي) ثم خففت الياء لوقوعها في القافية، والحروف المشددة إذا وقعن حرف روي خففن، كما أنشد سيبويه (¬4): ولا أسمع أجراس المطي ¬

_ (¬1) "نوادر اللغة" ص 91، وهو تابع للرجز السابق، وقبل هذا البيت: ولم يكن كخالك العبد الدعي (¬2) حقي وعصي: جمعا حقو وعصا، والحقو: الخصر ومشد الإزار من الجنب. "اللسان" (حقو) 2/ 948، ويقصد بالإبدال فيهما أن أصلهما: حُقُوْوُ وعُصُوْوُ، على وزن (فعول) ثم قلبت الواو الأخيرة ياء، فصارا في التقدير: حُقُوْي، وعُصُوْي ثم قلبت الواو ياء لسكونها ووقوعها قبل ياء مسبوقة بساكن، فصار: حُقُييْ، وعُصُيْ، ولكي تسلم الياء أبدلت حركة الحرف السابق لها كسرة، وأدغمت الياء في الياء، ثم جاز إبدال ضمة الفاء كسرة إتْباعًا لكسرة العين. انظر: "المقتضب" 1/ 183 فقد نص على الميزان الصرفي لجمع (عصا). (¬3) ساقط من (م) و (س). (¬4) انظر "كتاب سيبويه" 3/ 95، وهو بعض عجز بيت نصه: متى أنام لا يؤرقني الكرِي ... ليلاً ولا أسمع أجراس المطي وهو من شواهد سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها، وهو أيضًا بلا نسبة في "جمهرة اللغة" (ركي) 2/ 801، و"خزانة الأدب" 10/ 323، و"الصحاح" (شمم) 5/ 1962، و"لسان العرب" (شمم) 4/ 2333، و"المنصف" 2/ 191.

قال (¬1): ويجوز في (الميء) وجه آخر وهو أن مائة (فِعْلَة) و (فَعَلٌ) قد عاقبت (فِعْلا) نحو: شَبَهٌ، وشِبْهٌ، وبابه، و (فَعَل) جمع على (فُعْل) كقولهم: أسَد وأَسْد، ووَثَن، ووثْن، كذلك جمعوا (فَعَلًا) على (فُعْلٍ) حيث كان بمنزلته لتعاقبهما على الكلمة الواحدة (¬2)، ثم أبدل من ضمة الفاء كسرة كما قالوا: مِغيرة ومِنتن، وأتبعوا العين حركة الفاء، وحذفوا اللام التي هي محذوفة (¬3) من (مائة) فصار: (مئٍ) وعلى هذا يحمل قوله (¬4): وخمسمئٍ منها قسي وزائف فإن قيل: فلم لا يكون (المئي) على فِعِل؟ قيل: لا يستقيم ذلك لقلة هذا الوزن في الآحاد، ألا ترى أن سيبويه إنما حكى منه الإِبِل (¬5)، والمراد بالمئي الجمع، ولا يعلم شيئًا من الجمع على (فِعِل)، فإذا لم يجيء في الجمع البته وكان مجيئه في الآحاد على ما ذكر من القلة لم يكن للحمل عليه مساغ. ¬

_ (¬1) يعني الفارسي في "المسائل الحلبيات"، ولم أجده فيها, ولعله من الجزء الناقص، انظر "مقدمة المحقق" (ص: د)، وكذلك لم أجده في كتبه الأخرى التي بين يدي. (¬2) قال أبو علي الفارسي في كتاب "التكملة" ص 412: وكسروا حروفًا على (فُعْل) كما كسّروا عليه (فَعَلًا) نحو: أَسَد وأُسْد، وذلك أن (فُعْلًا) مثل (فَعَلٌ) في نحو: البُخْل والبَخَل، والسُّقْم والسَّقَم، اهـ ومعنى كسروا: جمعوا جمع تكسير. (¬3) في (ح): (منير)، قال الجوهري في "الصحاح" (نتن) 6/ 2210: نتن الشيء وأنتن بمعنى، فهو مُنتن ومِنتن، كسرت الميم اتباعًا لكسرة التاء؛ لأن (مِفْعِلاً) ليس من الأبنية. اهـ. وفي "كتاب سيبويه" 4/ 109: وأما الذين قالوا: مِغِيرة ومِعِين فليس على هذا , ولكنهم أتبعوا الكسرة الكسرة، كما قالوا: مِنتن. (¬4) سبق تخريجه في أول الأنفال. (¬5) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 574.

وقوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، قال ابن (¬1) إسحاق: أي: لا يقاتلون على بينة (¬2) ولا حق ولا معرفة (¬3)، وقال المفسرون (¬4): معنى قول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} أي: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون علي غير احتساب، ولا طلب ثواب؛ فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خشية أن (¬5) يقتلوا، وقال أهل المعاني: معنى {لَا يَفْقَهُونَ} أي هم على جهالة، خلاف من يقاتل على بصيرة يرجو به ثواب الآخرة (¬6)، وقال ابن عباس والمفسرون: هذه الآية نسخها قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية (¬7)، وقال الوالبي عن ابن عباس: في هذه الآية أمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك عليهم فرحمهم فقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية (¬8)، وقال عطاء عنه: لما نزلت هذه الآية ضج المهاجرون، وقالوا: يا رب نحن جياع وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، ¬

_ (¬1) في (م) و (س): (أبو)، وهو خطأ. (¬2) هكذا، وفي "السيرة النبوية"، و"تفسير ابن جرير" 10/ 41: نية. (¬3) "السيرة النبوية" 2/ 322 وفيها: ولا معرفة بخير ولا شر. (¬4) اللفظ لأبي إسحاق الثعلبي، انظر "تفسيره" 6/ 70 ب، ونحوه في "تفسير ابن جرير" 10/ 38، والزمخشري 1/ 167. (¬5) في (ح): (لئن لا)، وهو خطأ. (¬6) ذكر نحوه الحوفي في "البرهان" 11/ 102 ب. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 38 - 41، وابن أبي حاتم 5/ 1729، والثعلبي 6/ 70 ب، و"الدر المنثور" 3/ 362 - 364، فقد ذكروه عن ابن عباس وسعيد ابن جبير والحسن البصري ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وزيد بن أسلم وعطاء الخرساني والضحاك. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 39.

66

وقال الأنصار: شغلنا بعدونا، وواسينا إخواننا، فنزل التخفيف (¬1)، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرة لمائة إذ المسلمون قليل فلما كثروا خفف الله عنهم (¬2)، ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر (¬3). 66 - قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية، قال أهل العلم بالتفسير: هذه الآية نزلت بعد الأولى بمدة طويلة وإن كانت إلى جنبها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث المسلمين غزاة على حكم الآية الأولى، والمسلمون يصابر الواحد منهم العشرة من الكفار، بعث حمزة في ثلاثين راكبًا قبل بدر فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب (¬4)، قال ابن عباس: فلما تضرعوا واشتكوا إلى الله ضعفهم نزل: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} (¬5)، قال ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكر هذه الرواية بلفظها سوى الفخر الرازي 15/ 195، وقد روى هذا الأثر عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس مختصراً ابن جرير 10/ 39، وابن إسحاق في "السيرة النبوية" 2/ 323. ورواه بمعناه من طريق آخر البخاري (4653) كتاب التفسير، باب: الآن خفف الله عنكم 6/ 122، وأبو داود (2646) كتاب الجهاد، باب: في التولي يوم الزحف. (¬2) رواه بمعناه ابن جرير 10/ 40، ورواه في الموضع نفسه بلفظه عن ابن عباس. (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" 11/ 113 (11151)، ورجاله ثقات كما في "مجمع الزوائد" 5/ 591، ورواه بنحوه الصنعاني في "المصنف" 5/ 252، والبيهقي في "السنن الكبرى" 9/ 130. (¬4) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 229 - 234، و"الكشاف" 2/ 167، ونسب القول لابن جريج، وانظر أيضًا: "تفسير الرازي" 15/ 194. (¬5) لم أجده بلفظه، وقد ورد معناه في روايات كثيرة، انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 39 - 41، و"الدر المنثور" 3/ 362 - 364.

الكلبي: هون الله عليكم (¬1)، {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [وقرئ (ضُعفًا) (¬2)] (¬3)، قال سيبويه: وهما لغتان مثل: (الفَقْر والفُقر) (¬4). وقوله (¬5): {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قال ابن عباس: صار الرجل برجلين (¬6)، وذهب بعض المفسرين (¬7) إلى قوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شرط وجزاء محض، يعني أن المائة إذا صبرت غلبت مائتين من المشركين، وكل مائة من المسلمين لا تغلب مائتين من المشركين فإنها ليست بصابرة، ولو كانت صابرة لغلبت المائتين وعدًا من الله، وهذا معنى قول مجاهد: إن صبروا غلبوهم (¬8)، والآية على هذه الطريقة معناها الإخبار، ولو وقفت مائة صابرة في مقابلة مائتين (¬9) لغلبوهم بكل حال؛ فإن الخبر من الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، والصحيح أن هذا خبر معناه الأمر والتكليف، أي: إذا كانت منكم ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 185، عن الكلبي، عن ابن عباس. (¬2) قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد، وقرأ الباقون بضمها. انظر: كتاب "السبعة" ص 308، و"التبصرة في القراءات" ص 212، و"تقريب النشر" ص 119. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬4) انظر: "كتاب سيبويه" 4/ 31، 33. (¬5) ساقط من (ح) و (س). (¬6) رواه مطولًا ابن جرير 10/ 39، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"، وابن المنذر والطبراني في "الأوسط"، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 363. (¬7) هو: محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهاني كما في "تفسير الرازي" 15/ 195، وانظر: "الكشاف" 2/ 167. (¬8) رواه مطولًا ابن جرير 10/ 41. (¬9) في (ح): (ألف).

مائة فليصابروا ليغلبوا المائتين كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]. ألا ترى أن المفسرين كلهم اتفقوا على أن قوله في الآية الأولى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} أمر لا خبر بدليل ورود النسخ عليه والنسخ لا يجوز وروده على الخبر (¬1)، وصاحب النظم قد أحسن في شرح هذا المشكل فقال: الخبر خبران: خبر ماض وخبر مؤتنف، والشرط بينهما موقوف؛ لأنه غير ماض ولا واجب، وإنما هو شيء منتظر، وربما أظهرت العرب الشرط والجزاء على صورة الخبر (¬2) فيغلط فيه الناقد البصير فكيف من دونه وقد جاء الجزاء دون الشرط على سورة الخبر ومعناه، نحو قول القطامي: والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطىء الهبل (¬3) فقوله: من يلق خيرًا شرط ومعناه الخبر؛ لأن معناه: من لقي خيرًا قالوا له ما يشتهي، وتأويل الآية: إن يصبر منكم عشرون لمائتين من المشركين يغلبوهم، فهو شرط محض وجزاء خالص، والشرط غير واجب فكيف يكون خبرًا؟ والخبر واجب إما ماضيًا وإما منتظرًا وهذا شيء وعده المؤمنين (¬4) بما شرط إذا فعلوه. فإن قيل: فقد كان يجب على العشرين أن يصابروا المائتين كما يجب الآن على المائة أن يصابروا المائتين والشرط غير (¬5) واجب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 41، والثعلبي 6/ 70 ب، والبغوي 3/ 375، والسمرقندي 2/ 25. (¬2) في (ج): (خبر). (¬3) البيت في "ديوانه" ص 25، ونسبه إليه أيضًا ابن قتيبة في كتاب "المعاني الكبير" 3/ 1266. (¬4) في (م) و (س): (للمؤمنين). (¬5) ساقط من (م).

قيل: إن الله تعالى كان قد أنزل قبل هذا قوله (¬1): {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إلى قوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] فعظم الفرار من الزحف، وهول في العقاب، ولا يقع العقاب إلى في واجب، ولم يصف الله تعالى حالة الفرار كيف هو أو كم من كم؟، ثم بينه بقوله عز وجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] فأعلم أن عشرين إذا صبروا أوجب لهم غلبة مائتين بشريطة الصبر، ووعده ناجز لا خلف فيه، فكان في ذلك بيان لكيفية الفرار التي حرمها، والصفة التي يكون المولي بها فارًّا مستوجبًا للعقاب إلا أنه ثقل عليهم ثبوت الواحد للعشرة فخفف ذلك عنهم بالآية الأخرى، فعلى ما ذكر: الآيتان لفظهما شرط، والشرط كما ذكر لا يكون واجبًا إلا أن الوجوب استفيد من تحريم الفرار، وتحريم الفرار مجمل فبيّن في الآيتين أنه مع كم يجب أن يصبر، ومن كم يجوز الفرار. وهذا طريق حسن في هاتين الآيتين، والحكم في هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مُشْرِكَيْن عبدًا كان أو حرًا فالهزيمة عليه حرام ما دام معه سلاح يقاتل، فإن لم يبق سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له (¬2) الهزيمة، والصبر أحسن، وقف جيش مؤته وهم ثلاثة آلاف، وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب (¬3)، ثم ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) ساقط من (ح). (¬3) هو: جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، أبو عبد الله وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيد الشهيد الكبير الشأن، هاجر إلى الحبشة، ثم قدم منها يوم فتح خيبر، وولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيادة جيش مؤتة بعد زيد، واستشهد فيها سنة 8 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 1/ 206، و"تهذيب التهذيب" 1/ 308.

67

عبد الله بن رواحة (¬1)، وقفوا في مقابلة مائتي ألف من المشركين، مائة من الروم، ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ} فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا أن يريد الله ذلك (¬4)؛ لأن معنى الإذن: الإطلاق في الفعل، فما لم يطلق الله لهم الغلبة لم يغلبوا. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، قال ابن عباس: يريد الذين صبروا على دينهم وعلى طاعة الله (¬5). والمعنى: ومعونته مع الصابرين، ولكن فخّم بذكر الله عز وجل تشريفًا له. 67 - قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية، قال عكرمة (¬6)، عن ابن عباس: لما أسروا الأسارى يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء، وأحد شعراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهد بيعة العقبة وبدر، وأمّره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جيش مؤته بعد زيد وجعفر فقتل فيها سنة 8 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 1/ 230، و"تهذيب التهذيب" 2/ 333. (¬2) لَخْم: بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة، قبيلة عربية كبيرة، ينسبون إلى لخم وهو مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد، وأما جُذام فبضم الجيم بعدها ذال غير مشددة، قبيلة عربية كبيرة أيضًا وهم إخوة للخم وينسبون إلى عمرو بن عدي بن الحارث، وقيل: هم من ولد أسد بن خزيمة. انظر: "فتح الباري" 8/ 75. (¬3) انظر تفاصيل معركة مؤته في: "السيرة النبوية" لابن هشام 3/ 429 و"الفصول في سيرة الرسول" ص 193، و"فتح الباري" 7/ 510 - 516. (¬4) في (ح): (وذلك)، وهو خطأ. (¬5) "الوسيط" 2/ 470، وفي "تنوير المقباس" ص 185: الصابرين في الحرب. (¬6) هو: عكرمة بن عمار العجلي كما في سند مسلم وأحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وليس عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس كما هو المتبادر , وقد رواه عكرمة هذا =

"ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ "، فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن نأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم فتمكن عليًا من عقيل (¬1) حتى يضرب عنقه، وتمكن حمزة (¬2) من أخيه العباس حتى يضرب عنقه، وتمكنّي من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر حتى يعلم ربنا أنه ليس في قلوبنا للكفار هوادة، قال عمر: فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر (¬3). ¬

_ = عن أبي زميل، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، كما في رواية مسلم. انظر: مصادر تخريج الأثر التالية. (¬1) هو: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي أخو علي بن أبي طالب، شهد بدرًا مشركًا، وأخرج إليها مكرهًا فأسر ولم يكن له مال ففداه عمه العباس، ثم أسلم قبل صلح الحديبية، وشهد مؤته، وتوفي في أول خلافة يزيد بن معاوية. انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 50 (230)، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 218، و"تهذيب التهذيب" 2/ 129. (¬2) هو: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، الإمام البطل الضرغام أسد الله، وسيد الشهداء، وعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشهد في معركة أحد سنة 3 هـ. انظر: "الاستيعاب" 1/ 423 (559)، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 171، و"الإصابة" (1826). (¬3) رواه بنحوه مسلم في "صحيحه" (1763) كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، 3/ 1383 - 1385 (1763)، وأحمد في "المسند" 1/ 30، 32، وابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 366، وابن جرير 10/ 44.

قال ابن مسعود: ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم (¬1) اليوم عالة فلا ينفلتن (¬2) أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق" (¬3)، وعن عبيدة السلماني (¬4) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في أسارى بدر: "إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم"، وكانت الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء نستمتع به، ونتقوى به على عدونا، ويستشهد منا بعدتهم (¬5). ¬

_ (¬1) في (ح): (هل أنتم)، ولا داعي لهذه الزيادة وليست موجودة في مصادر تخريجه. (¬2) في (م): (يفلتن)، وفي (س): (يلفتن)، والأخير خطأ. (¬3) رواه مطولًا الترمذي في "سننه" (3084) كتاب تفسير القرآن، باب: سورة الأنفال، وأحمد 1/ 383، وابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 370، وابن جرير 10/ 44، والواحدي في "أسباب النزول" ص 242، وفي "الوسيط" 2/ 471، والحاكم في "المستدرك" كتاب المغازي 3/ 22، وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 117: فيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات. (¬4) هو: عبيدة بن عمرو، وقيل: ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي، أبو عمرو الكوفي، أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولم يلقه، كان من أئمة العلم، فقيهًا محدثًا ثقة، توفي سنة 72 هـ على المشهور. انظر: "الكاشف" 1/ 694 (3647)، و"تهذيب التهذيب" 3/ 45. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 14/ 368 (18533)، والترمذي (1567) كتاب السير، باب: ما جاء في قتل الأسارى أو الفداء، وقال: حديث حسن غريب ورواه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" الإحسان 11/ 118 (4795)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 140، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 360، بعد سياق الحديث: هذا حديث غريب جدًا، ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلاً، فالله أعلم. اهـ. وقال العلامة علي القاري في "مرقاة المفاتيح" 4/ 251: قال التوربشتي: هذا الحديث مشكل جدًا لمخالفته ما يدل على (كذا) ظاهر التنزيل، ولما صح من=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الأحاديث في أمر أسارى بدر أن أخذ الفداء كان رأيًا رأوه فعوتبوا عليه، ولو كان هناك تخيير بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليه، وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وأظهر لهم شأن العاقبة بقتل سبعين منهم بعد غزوة أحد عند نزول قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165]، وممن نقل عنه هذا التأويل من الصحابة علي -رضي الله عنه- فلعل عليًا ذكر هبوط جبريل في شأن نزول هذه الآية وبيانها، فاشتبه الأمر فيه على بعض الرواة، ومما جرأنا على هذا التقدير سوى ما ذكرناه هو أن الحديث تفرد به يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سفيان، من بين أصحابه، فلم يروه غيره، والسمع قد يخطئ، والنسيان كثيرًا يطرأ على الإنسان، ثم إن الحديث روي عنه متصلًا وروي عن غيره مرسلاً، فكان ذلك بما يمنع القول بظاهره. وقال الطيبي: أقول -وبالله التوفيق-: لا منافاة بين الحديث والآية؛ وذلك أن التخيير في الحديث وارد على سبيل الاختبار والامتحان، ولله أن يمتحن عباده لما شاء، امتحن الله تعالى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} الآيتين [الأحزاب: 28، 29]، وامتحن الناس بتعليم السحر في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، وامتحن الناس بالملكين، وجعل المحنة في الكفر والإيمان بأن يقبل العامل تعلم السحر فيكفر، ويؤمن بترك تعلمه، ولعل الله تعالى امتحن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بين أمرين: القتل، والفداء، وأنزل جبريل-عليه السلام- بذلك هل هم يختارون ما فيه رضا الله تعالى من قتل أعدائه، أم يؤثرون العاجلة من قبول الفدية، فلما اختاروا الثاني عوتبوا بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}. قلت -بعون الله- (القائل علي القاري): إن هذا الجواب غير مقبول؛ لأنه معلول ومدخول؛ فإنه إذا صح التخيير، لم يجز العتاب والتعيير، فضلاً عن العذاب والتعزير، وأما ما ذكره من تخيير أمهات المؤمنين، فليس فيه أنهن لو اخترن الدنيا لعذبن في العقبى ولا في الدنيا، وغايته أنهن يحرمن من مصاحبة المصطفى، لفساد اختيارهن الأدنى بالأعلى، وأما قضية الملكين وقضية تعلم السحر، فنعم امتحان من الله وابتلاء، لكن ليس فيه تخيير لأحد؛ ولهذا قال المفسرون في قوله تعالى: =

قال عبيدة: طلبوا الخيرتين (¬1) كلتيهما فقتل منهم يوم أحد (¬2)، فعند ابن عباس وجميع المفسرين: نزلت الآية في فداء أسارى بدر، فادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف، فأنزل الله هذه الآية ينكر على نبيه ذلك، يقول: ما كان لنبي أن يحبس كافرًا قدر عليه من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ قبل الإثخان في الأرض، قال قتادة: كان هذا يوم بدر فاداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف أربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ، وكان أول قتال قاتل المشركين (¬3). قال صاحب النظم: (كان) يقع في الكلام في أحوال مختلفة: منها أن يكون دلالة على المضي كقولك: كان زيد قائمًا، فمعناه كان فيما مضى. ومنها أن يكون بمعنى وقع وحدث كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]. ¬

_ = {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] إنه أمر تهديد لا تخيير، وأما قوله: أم يؤثرون الأعراض العاجلة من قبول الفدية، فلما اختاروه عوتبوا بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} الآية، فلا يخفى ما فيه من الجرأة العظيمة، والجناية الجسيمة، فإنهم ما اختاروا الفدية إلا للتقوية على الكفار، وللشفقة على الرحم، ولرجاء أنهم يؤمنون، أو في أصلابهم من يؤمن، ولا شك أن هذا وقع منهم اجتهادًا وافق رأيه - صلى الله عليه وسلم - غايته أن اجتهاد عمر وقع أصوب عنده تعالى، فيكون من موافقات عمر -رضي الله عنه-. وانظر: قول الطيبي في شرحه "مشكاة المصابيح" 8/ 19. (¬1) يعني: الغنيمة والشهادة. (¬2) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 46، والثعلبي 6/ 72 ب. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 71 ب، وبنحوه ابن جرير 10/ 45، ومختصراً ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 367.

وقد يكون ماضيًا وراهنا، مثل قوله -عز وجل- في مواضع: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1) أي: كان وهو كذلك، ومنه قول الشاعر: له في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم (¬2) أي: ولكل ذي (¬3) حسب أروم في كل وقت وزمان. ويكون بمعنى الاستقبال كقول عدي (¬4): واستيجاب ما كان في غد معناه: ما يكون في غد، وقد يكون زيادة كقوله (¬5): وجيران لنا كانوا كرامِ ¬

_ (¬1) النساء: 96، 100، 152، الفرقان: 70، الأحزاب: 5، 50، 59، 73، الفتح: 14. (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى وهو في "ديوانه" ص 152، وانظر: "لسان العرب" (أرم) 1/ 66، وهو يمدح هرم بن سنان المري. وأرم: جمع أرومة، وهي الأصل، والذاهبين: الموتى. انظر: "شرح الديوان" ص 206، 211. (¬3) ساقط من (ح). (¬4) لم يتبين لي من هو، والمعروف أن البيت للطرماح بن حكيم كما في "ذيل ديوانه" ص 572، و"لسان العرب" مادة (كون) 7/ 3962، و"معجم شواهد العربية" ص 113، و"المعجم المفصل" 1/ 263، ونص البيت: فإني لآتيكم تشكر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان في غد (¬5) عجز بيت، وصدره: فكيف ولو مررت بدار قوم والبيت للفرزدق وهو في "شرح ديوانه" 2/ 835، ونسب إليه أيضًا "خزانة الأدب" 9/ 222، و"كتاب سيبويه" 2/ 153، و"لسان العرب" (كنن) مادة (كون) 7/ 3961. وقد ذهب سيبويه إنى زيادة (كان) أيضاً. انظر: الموضع السابق، وقال ابن منظور=

ويكون بمعنى صار، كقوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] معناه: فصارت، وإذا كان بمعنى صار حسن دخول (كان) عليه، مثل قولك: كان زيد كان مريضا، بمعنى كان صار مريضًا، فالأول للمضي (¬1)، أي: كان ذلك فيما مضى، والثاني للمصير إليه، فقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ} مثل هذا المعنى، أي: ما كان لنبي أن يصير له أسرى، على النفي والتنزيه، أي ما يجب وما ينبغي أن يستأسر أحدًا، ولكن يقتلهم حتى يثخن في الأرض. قال: وقد قيل: إن معنى (كان) وجب وانبغى، على تأويل: ما انبغى لنبي وما وجب له أن يكون له أسرى. قال أبو عبيد: يقول: لم يكن لنبي ذلك فلا يكن لكم (¬2). وقرأ أبو عمرو (¬3): (أن تكون) بالتاء (¬4)، على لفظ الأسرى؛ لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنث اللفظ، ومن قرأ بالياء فلأن الفعل متقدم، والأسرى مذكّرون في المعنى، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل، وكل واحد من ذلك إذا انفرد يذكر (¬5) الفعل معه، مثل: ¬

_ = قال أبو العباس: إن تقديره: وجيران كرام كانوا لنا، قال ابن سيده: وهذا أسوغ؛ لأن (كان) قد عمل في موضع الضمير وفي موضع (لنا) فلا معنى لما ذهب إليه سيبويه أنها زائدة هنا. "لسان العرب"، الموضع السابق. (¬1) في (ح): (للماضي). (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 15/ 197. (¬3) لفظ (عمرو) ساقط من (ح). (¬4) قرأ أبو عمرو من السبعة بتاء التأنيث، وقرأ الباقون بالياء على التذكير. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" ص 359، و"التبصرة في القراءات" ص 213. (¬5) بياض فى (ح).

جاء الرجال، وحضر قبيلتك، وحضر القاضي امرأةٌ (¬1)، فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى، والكلام في الأسرى والأسارى قد مضى في سورة البقرة (¬2). قوله تعالى: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، قال الفراء: حتى يغلب على كثير من الأرض (¬3)، وقال الزجاج: معناه: حتى يبالغ في قتل أعدائه، قال: ويجوز أن يكون: حتى يتمكن في الأرض، والإثخان في كل شيء: قوة الشيء (¬4) وشدته، يقال: قد أثخنه (¬5) المرض: إذا اشتدت قوقه عليه، وكذلك: أثخنه الجراح، قال أبو عبيدة: حتى يغلب ويبالغ (¬6). وروى ثعلب (¬7)، عن ابن الأعرابي: أثخن: إذا غلب وقهر (¬8). ¬

_ (¬1) امرأة: فاعل مؤخر. (¬2) انظر: النسخة الأزهرية 1/ 68ب، وقد قال في هذا الموضع: أسير: (فعيل) في معنى (مفعول) فجمعه يكسر على (فعلى) نحو: لديغ ولدغى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وإذا كان كذلك فالأقيس: الأسرى، وهو أقيس من الأسارى، كما أن الأسارى أقيس من قولهم: أُسراء، وأطال الكلام حول هذه الكلمة. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 418، وفيه زيادة (في) قبل (الأرض)، وذكر الواحدي هذا القول في "الوسيط" 2/ 372، دون هذه الزيادة أيضًا. (¬4) في (ح): (قوته). (¬5) في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 425 (أثخنته)، ولم يُذكر في المطبوعة الكلام الذي بعده مما يدل على أن في المخطوطة التي اعتمد عليها المحقق سقط، وكلام الزجاج ينتهي عند قوله: قوته عليه، بدلالة "زاد المسير" 3/ 380. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 250. (¬7) ساقط من (ح). (¬8) "تهذيب اللغة" (ثخن) 1/ 475.

قال ابن عباس: حتى يثخن فيهم القتل (¬1)، وقال مجاهد: الإثخان: القتل (¬2)، وقال الكلبي: حتى يغلب في الأرض (¬3). وقال أهل المعاني: الإثخان ههنا معناه: تغليظ الحال بكثرة القتل، والثخانة: الغلظ، وكل شيء غليظ فهو ثخين (¬4). وقوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} مضى الكلام في العرض عند قوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]، قال ابن عباس: تريدون الفداء (¬5)، ونحو ذلك قال المفسرون (¬6)، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، قال ابن عباس: يريد لكم الجنة (¬7)، قال محمد بن إسحاق: أي بقتلهم، لظهور الدين الذي يريد إظهاره، الذي تدرك به الآخرة (¬8). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، قال ابن عباس: يريد منيع (¬9) قوي حكيم في خلقه (¬10). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 185 بنحوه، ورواه ابن أبي حاتم 5/ 1732 بلفظ: حتى يظهر على الأرض. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 43، وابن أبي حاتم 5/ 1732، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 367. (¬3) "تنوير المقباس" ص 185 عنه، عن ابن عباس، ولفظه: حتى يغلب في الأرض بالقتال. (¬4) القول للحوفي في "البرهان" 11/ 107 أ. (¬5) "تنوير المقباس" ص 185 بنحوه، وفي "تفسير الثعلبي" 6/ 72 أ، أثرًا طويلًا عنه وفيه: أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذ الفداء. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 42 - 44، والثعلبي 6/ 72 ب، والبغوي 3/ 376. (¬7) "زاد المسير" 3/ 381، و"الوسيط" 2/ 472. (¬8) "السيرة" لابن هشام 2/ 323. (¬9) ساقط من (ح). (¬10) لم أقف له على مصدر، وفي "تنوير المقباس": (عزيز): بالنقمة من أعدائه، (حكيم): بالنصرة لأوليائه.

68

قال أهل التفسير (¬1): يقول: إن أنتم طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم؛ لأن الله {عَزِيزٌ} لا يقهر ولا يغلب، {حَكِيمٌ} في تدبير أمور خلقه. والآية بيان عما يجب أن يجتنب من اتخاذ الأسرى للمن والفداء قبل الإثخان في الأرض بالقتل الذي يدعو إلى الحق، ويصد عن الشرك، مع الإعراض عن العمل للدنيا إلى العمل للآخرة بالباقية، قال الوالبي، عن ابن عباس في هذه الآية قال: ذلك يوم بدر، والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله بعد هذا في الأسارى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فجعل الله النبي والمؤمنين بالخيار، إن شاءوا [قتلوهم وإن شاءوا] (¬2) استبعدوهم، وإن شاءوا فادوهم (¬3). 68 - قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية، قال عطاء عن ابن عباس: لولا كتاب من الله سبق يا محمد أن الغنائم لك ولأمتك حلال {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬4)، ونحو هذا قال سعيد ابن جبير (¬5). ¬

_ (¬1) اللفظ لابن جرير في "تفسيره" 10/ 42. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 42، والثعلبي 6/ 71 ب، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 209، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 390، والبيهقي في كتاب "السنن الصغرى" كتاب السير، باب: ما يفعل بالرجال البالغين من أهل الحرب بعد الأسر 3/ 384 (3550). (¬4) لم أجد من ذكر هذه الرواية، وقد رواه ابن أبي حاتم 5/ 1734 من رواية الوالبي بلفظ: لولا كتاب من الله سبق، يعني في الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ورواه أبن جرير 10/ 45 من رواية العوفي بلفظ: كان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال. (¬5) رواه ابن أبي حاتم 5/ 1734.

وقال قتادة: سبق لهم الخير، وأنه سيحل لهم الغنائم (¬1)، وهذا قول عطية (¬2)، والأعمش (¬3). ورواية الوالبي وابن (¬4) الجوزاء، عن ابن عباس: أن الكتاب الذي سبق هو أن الله كتب أنه يحل الغنيمة وفداء الأسارى لمحمد ولأمته (¬5). وقال الحسن: إنهم أخذوا الفداء قبل أن يؤمروا به فعاب الله ذلك عليهم وقال: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} في أنه أطعم هذه الأمة الغنيمة (¬6). وقال محمد بن إسحاق: لولا كتاب من الله سبق أني لا أعذب إلا بعد النهي -ولم يكن نهاهم- لعذبتكم فيما صنعتم (¬7)، وهو قول ابن مسعود (¬8). ونحو هذا قال مجاهد فقال: لولا كتاب من الله سبق، لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] سبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة (¬9). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 47. (¬2) هو: العوفي، وقد روى قوله ابن جرير 10/ 45 عنه، عن ابن عباس. (¬3) انظر: قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 2/ 262، وابن جرير 10/ 45 - 46. (¬4) هكذا، والصواب: أبو، انظر: "الوسيط" 2/ 472. (¬5) انظر: "الوسيط" 2/ 472، ورواه ابن أبي حاتم 5/ 1734 من رواية الوالبي، ورواه ابن جرير 10/ 45 من رواية عطية العوفي. (¬6) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 45. (¬7) "سيرة ابن هشام" 2/ 323. (¬8) انظر: "الوسيط" 2/ 472، ولم أقف عليه في مصدر آخر. (¬9) رواه ابن جرير 10/ 47 وفيه زيادة.

وقال ابن زيد: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم (¬1)، وقال جماعة من المفسرين: سبق أنه لا يعذب أحدًا ممن شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقال أبو علي الفارسي: المراد بقوله: {لَوْلَا كِتَابٌ} ما في الآية الأخرى من قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54] الآية (¬3). وقال ابن زيد: لم يكن أحد من المسلمين ممن حضر إلا أحب الغنائم غير عمر جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله: مالنا والغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو عذبنا في هذا الأمر ما نجا غيرك" (¬4). وقال ابن إسحاق: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو نزل عذاب من السماء لم ينج إلا سعد بن معاذ لقوله: يا رسول الله: كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 47، وابن أبي حاتم 5/ 1734. (¬2) هذا قول مجاهد والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 46 - 47، وابن الجوزي 3/ 382. (¬3) "المسائل الحلبيات" ص 305 - 306. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 48، وابن أبي حاتم 5/ 1735، والأثر ضعيف؛ لأن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم من الطبقة الثامنة (الطبقة الوسطى من أتباع التابعين)، وهو ضعيف. انظر: "تقريب التهذيب" ص 340 (3865). (¬5) رواه ابن جرير 10/ 48، عن ابن إسحاق، ولم أجده في مظانه في "سيرة ابن هشام"، وقد روى ابن إسحاق قول سعد دون قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 269.

69

وروى عطاء، عن ابن عباس [و] (¬1) قال (¬2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر، ولو بعث بعدي نبي لبعث عمر" (¬3)؛ لأنه أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل الأسارى (¬4). 69 - قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}، قال المفسرون: لما نزل قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ} الآية، أمسكوا عن مد أيديهم إلى شيء من الغنائم فنزل: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} (¬5)، قال الزجاج: ودخلت الفاء على تقدير: قد أحللت لكم الغنائم فكلوا، قال: و {حَلَالًا} منصوب على الحال (¬6). وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال ابن عباس: يريد: غفر لكم ما أخذتم من الفداء ورحمكم لأنكم أولياؤه (¬7). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وهي زيادة لا معنى لها. (¬2) ساقط من (م) و (س). (¬3) لم أجده بهذا السياق، وقد ذكر شطره الأول المصنف في"الوسيط" 2/ 473، وذكره الزمخشري 2/ 168 دون ذكر الراوي، ورواه ابن جرير 10/ 48، عن ابن زيد، كما رواه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عمر كما في "الدر المنثور" 3/ 366 وروى شطره الثاني الترمذي في"سننه" كتاب المناقب 5/ 619 (3686)، وأحمد في"المسند" 4/ 154، والحاكم في"المستدرك" كتاب معرفة الصحابة 3/ 85 وصححه، ووافقه الذهبي. (¬4) هذا التعليل للشطر الأول فقط كما هو ظاهر. (¬5) هذا معنى أثر عن أبي هرير -رضي الله عنه-، ورواه ابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 368 - 369، وانظر: "الوسيط" 2/ 473، و"تفسير البغوي" 3/ 377. (¬6) هذا القول غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، تحقيق د/ عبد الجليل عبده شلبي. وقد ذكره بلفظ مقارب ابن الجوزي 3/ 382. (¬7) "الوسيط" 2/ 473.

70

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا" (¬1). 70 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}، قال المفسرون يعني أسرى المشركين الذين أخذ منهم الفداء {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}: إسلامًا (¬2). قال الزجاج: إرادة للإيمان (¬3)، قال أهل المعاني: معنى الخير ههنا: البصيرة في فى دين الله، وحسن النية في أمر الله (¬4)، {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} من الفدية. قال أبو إسحاق: فجائز أن يكون: يجازيكم في الآخرة، وجائز أن يكون: يخلف عليكم في الدنيا (¬5)، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: ما كان من كفركم به، وقتالكم رسوله. قال ابن عباس وغيره: نزلت هذه الآية في العباس، كان أحد العشرة (¬6) الذين ضمنوا طعام أهل بدر، وكان خرج بعشرين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3124)، كتاب الخمس، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحلت لكم الغائم"، ومسلم (1747)، كتاب الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة واللفظ له. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 48 واللفظ له، و"تفسير الثعلبي" 6/ 73 ب، والبغوي 3/ 378. (¬3) ليس موجودًا في كتاب "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع. (¬4) لم أقف عليه، وفي "البرهان" للحوفي 11/ 116 أ: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا. (¬5) ليس موجودًا في كتاب "معاني القران وإعرابه" المطبوع. (¬6) ذكر ابن إسحاق أن المطعمين في بدر اثنا عشر رجلاً هم: العباس بن عبد =

71

أوقية (¬1) من ذهب ليطعم به الناس، فأخذت منه في العرب، ولم تحسب من فدائه، وكلف فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، فقال العباس: يا محمد تركتني أتكفف قريشًا ما بقيت؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال العباس -بعدما أسلم-: فأبدلني الله عشرين عبدًا أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، ومما أحب أن لي بها جميع أموال أهل (¬2) مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي (¬3). 71 - قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}، قال المفسرون: نزلت في العباس وأصحابه من الأسارى (¬4). ¬

_ = المطلب، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام بن خويلد، والنضر بن الحارث، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر السهمي، وسهيل بن عمرو. انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 311. (¬1) الأوقية: اسم لأربعين درهمًا، انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 2178، و"لسان العرب" (وقي) 1/ 4903. (¬2) ساقط من (س). (¬3) رواه الثعلبي 6/ 73 أ- ب وفيه زيادة، وبنحوه المصنف في "أسباب النزول" ص 245، عن الكلبي. وقد روي الأثر بمعاه بعدة روايات مطولًا ومختصرًا، فرواه أحمد في "المسند" 1/ 353، وابن جرير 10/ 49 - 50، وابن أبي حاتم 5/ 1736، والحاكم في "المستدرك" كتاب معرفة الصحابة 3/ 324، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 102: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" باختصار ورجال "الأوسط" رجال "الصحيح"، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وأصل قضية فداء العباس في "صحيح البخاري" (3049) كتاب الجهاد، باب. فداء المشركين 4/ 161. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 50، وابن أي حاتم 5/ 1737، والثعلبي 6/ 73 أ.

قال ابن عباس: إنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا (¬1)، يقول الله تعالى: إن خانوك في هذا وكان قولهم خيانة. وقال ابن جريج: أراد بالخيانة هاهنا: الخيانة في الدين وهو الكفر (¬2)، يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل أن كفروا بالله: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ببدر، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى القتال، وأرادوا الخيانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال الحسن: وإن يريدوا خيانتك مرة أخرى فيرجعوا إلى الكفر بعد ما مننت عليهم، ويخونوك بالقتال معك (¬3)، والعون عليك: {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} وقاتلوك {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} فإن رجعوا مرة أخرى أمكنك المرة الأولى (¬4). وقال ابن كيسان: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} يعني: نكث ما أعطوا من أنفسهم لئلا يقاتلوك {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} فأعطوا العهود فيما كان ينزل بهم من البلاء، ويسألونه الرزق، ويقولون: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} [يونس: 22] و {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] فامكن منهم (¬5)، وهذا القول يدل على أن أولئك الأسارى عاهدوا أن لا يقاتلوه. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 50. (¬2) رواه البغوي 3/ 379 بنحو، وانظر: "الوسيط" 2/ 473. (¬3) كذا في جميع النسخ. (¬4) ذكره هود 2/ 105 بمعاه. (¬5) لم أقف على مصدره، وقد ذكره مختصرًا الرازي في "تفسيره" 15/ 206 من غير نسبة.

72

وقال تعالى: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} قال الأزهري: يقال: أمكنني الأمر يمكنني (¬1) فهو ممكن، ولا يقال: أنا أُمكنه، بمعنى أستطيعه، يقال: لا يمكنك الصعود إلى الجبل، ولا يقال: أنت تمكن الصعود إلى الجبل (¬2). ومفعول الإمكان محذوف على معنى: فأمكن المؤمنين منهم، أو فأمكنك منهم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليم بخيانةٍ إن خانوها، حكيم في تدبيره عليهم، ومجازاته إياهم، قاله أبو إسحاق (¬3). 72 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني المهاجرين الذين هجروا قومهم وديارهم إلى المدينة في نصرة الدين، {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} يعني الأنصار أسكنوا المهاجرين (¬4) ديارهم ونصروهم على أعدائهم {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: يعني في الميراث، جعل الله تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام (¬5)، وكانوا يتوارثون في الهجرة والنصرة، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر، ولم ينصر، وهو ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) "تهذيب اللغة" (مكن) 4/ 3447 بتصرف يسير. (¬3) ليس موجودًا في كتابه"معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، وقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 384. (¬4) في (ح): (أمكنوا للمهاجرين). (¬5) رواه عن ابن عباس البخاري كتاب الفرائض، باب: ذوي الأرحام (6747)، وأبو داود (2921) كتاب الفرائض، باب: نسخ ميراث العقد، وانظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 51 - 54، والثعلبي 6/ 74 ب، والسمرقندي 2/ 28، والبغوي 3/ 379، وابن الجوزي 3/ 385، و"الدر المنثور" 3/ 370 - 372.

قوله (¬1): {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، وقال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة والإسلام (¬2)، وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه (¬3)، وهذا قول مجاهد (¬4)، والحسن (¬5)، والكلبي (¬6)، والسدي (¬7). وقرئ قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ} بكسر الواو وفتحه (¬8)، قال الزجاج: من فتح (¬9) جعلها من النصرة والنسب، قال: والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة؛ ليفصل بين المعنيين، وقد يجوز كسر (الولاية)؛ لأن في تولي بعض القوم بعضًا جنسًا من الصناعة نحو: القِصارة (¬10)، والخياطة، ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) في (م): بالإسلام والهجرة. (¬3) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 262، وابن جرير 10/ 53، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 394، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" 3/ 371 - 372. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 52، وأشار إليه ابن كثير 2/ 363 - 364. (¬5) رواه ابن جرير 14/ 80، وذكره الهواري 2/ 107 بغير سند. (¬6) "تنوير المقباس" ص 186 عنه، عن ابن عباس. (¬7) رواه ابن جرير 10/ 53. (¬8) قرأ حمزةُ وحده بكسر الواو، والباقون بفتحها، انظر: كتاب "السبعة" ص 309، و"الغاية" ص163، و"تحبير التيسير" ص119. (¬9) في (م): (فتحها). (¬10) القصارة: حرفة القصار، قال ابن منظور: قصر الثوب قِصَارة، عن سيبويه، وقصَّره، كلاهما: حوَّره ودقَّه، ومنه سمي القصار، وقصرت الثوب تقصيرًا، مثله، والقصّار والمقصّر: المحور للثياب؛ لأنه يدقها بالقَصَرَة التي هي القطعة من الخشب، وحرفته القِصَارة. "لسان العرب" (قصر) 6/ 3649. وفي "المعجم الوسيط" (قصر) 2/ 267: القصّار: المبيض للثياب، وهو الذي يهيئ النسيج بعد نسجه ببله ودقه بالقصرة، والقصرة: مدقة القصار.

فهي مكسورة، قال: والولاية على الإيمان واجب (¬1)، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، ويقال: وليٌّ بين الولاية، ووال بين الولاية (¬2). قال الفراء: وقد سمعنا الفتح في المعنيين جميعًا (¬3)، قال أبو علي: الفتح أجود هاهنا؛ لأن الولاية هاهنا من الدين (¬4)، والكسر في السلطان، قال أبو الحسن: وكسر الواو لغة في الأخرى (¬5). قال ابن عباس والمفسرون: ثم نسخ هذا الحكم بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬6). قال أبو بكر بن الأنباري: كان الله تعالى تعبدهم في أول الهجرة بأن لا يرث المسلمين (¬7) المهاجرين إخوانُهم الذين لم يهاجروا، ولا يرثون هم إخوانهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فصار الثاني هو المعمول به، ورفض الأول. ¬

_ (¬1) في"تهذيب اللغة": واجبة. (¬2) أقوال الزجاج السابقة ساقطة من كتاب "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، وقد ذكر أكثرها الأزهري في "تهذيب اللغة" (ولي) 4/ 3955، وذكر بعضها ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 385. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 419. (¬4) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 4/ 166. (¬5) "معاني القرآن" لأبي الحسن الأخفش 1/ 352 وقد اختصر الواحدي عبارته فلم يظهر المعنى، ونص قوله: ما لكم من ولايتهم من شيء، وهو في (الولاء)، وأما في (السلطان) فـ (الوِلاية)، ولا أعلم كسر (الواو) في الأخرى إلا لغة اهـ. يعني بالأخرى (الولاية) من الولاء، وقد نص الفراء أيضًا على ثبوت هذه اللغة، انظر: "معاني القرآن" 1/ 419. (¬6) هذا بعض أثر ابن عباس السابق. (¬7) مفعول به مقدم.

73

وقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: إن (¬1) استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم وانصروهم، إلا إن استنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تغدروا، ولا تنقضوا العهد، وهذا يدل على أن ولاية الإيمان واجبة. وقال بعض المفسرين: لما نزل قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} قام الزبير فقال: هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا؟ فنزل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ} (¬2). قال قتادة: في هذه الآية نُهي المسلمون عن النصر على قوم بينهم ميثاق، فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة (¬3) وحقًا (¬4). 73 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، قال السدي: قال رجل: نورث ذوي أرحامنا من المشركين، فنزلت: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} الآية (¬5)، وقال محمد بن إسحاق: حض الله المؤمنين على التواصل؛ فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) لم أجده فيما بين يدي من المصادر إلا في "تفسير الرازي" 15/ 210 - 211. (¬3) يعني إذا كان المسلم منهيًّا عن نصرة أخيه المسلم على الكافر ذي الميثاق، فنصرته على أخيه المسلم إذا اقتتلا أشد نهيًا. (¬4) رواه ابن أبي حاتم 5/ 1740، وأبو الشيخ كما في"الدر المنثور" 3/ 372. (¬5) رواه عن السدي، عن أبي مالك الإمام سفيان الثوري في "تفسيره" ص 122، وابن جرير 10/ 55، وابن أبي حاتم 5/ 1741. (¬6) "سيرة ابن هشام" 2/ 324.

ثم قال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ}، وهو أن يتولى المؤمن الكافر (¬1) دون المؤمنين، وقال ابن جرير: يقول: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين تكن فتنة (¬2). فحصل في الكناية في قوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} قولان: أحدهما: أن الكناية تعود إلى الموالاة، وذلك أن قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} معناه: بعضهم (¬3) يوالي بعضًا، وهذا يدل على المصدر، فكني عنه، كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42] أي: مجيء النذير، وقد مرّ مثل ذلك كثيرًا (¬4)، وهذا على قول ابن إسحاق (¬5)، ومعنى قول ابن عباس؛ لأنه قال في قوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ}: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به (¬6). قال ابن الأنباري (¬7): فتكون الهاء عائدة على التوارث، أي: إن لا تفعلوا التوارث على ما حد الله لكم تكن فتنة في الأرض، وهذا القول كالأول؛ لأن الوراثة كانت بالولاية، فسواء عادت الكناية إلى التوارث، أو إلى الموالاة فالمعنى واحد. وعلى معنى قول ابن جرير تكون الكناية راجعة على التناصر، قال أبو بكر: معناه: إن لا تناصروا ويعن بعضكم بعضًا على أعدائكم يكن ترككم ذلك فتنة وفسادًا، فكنى عنهما لتقدم ما يدل عليهما. ¬

_ (¬1) في (س): (المؤمنين الكافرين)، وهو خطأ. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 56. (¬3) ساقط من (م). (¬4) انظر: مثلًا: "تفسير البسيط" البقرة: 45، 174. (¬5) يعني الذي سبق ذكره. (¬6) رواه ابن جرير 10/ 55، وابن أبي حاتم 5/ 1741، من رواية علي بن أبي طلحة. (¬7) هو: أبو بكر، ولم أعثر على كتابه في "معاني القرآن".

والقولان في رجوع الكناية ذكرهما الفراء (¬1)، والزجاج (¬2)، ولابد من تقدير تقديم وتأخير في الكلام؛ لأنا إن قلنا: تعود إلى الموالاة فكأن قيل (¬3): أولئك بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة، [وإن قلنا] (¬4): تعود على (¬5) التناصر فكأنه قيل: فعليكم النصر إلا تفعلوه تكن فتنة. ومعنى الفتنة في هذه الآية: الشرك في قول ابن عباس (¬6). قال أهل المعاني (¬7): وذلك أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليًا يدعو غيره ممن لا يكون مؤمنا إلى مثل ذلك لحسن التواد والتعاطف، ولم يتبرأ من الكافر بما يصرفه عن كفره أدى ذلك إلى الضلال، وكذلك في التناصر، وذلك أن المسلمين كانوا قليلًا، ولم يكن مسلم إلّا وله أقارب من الكفار فإذا هجر أقاربه الكفار، ونصر أقاربه المسلمين كان ذلك أدعى إلى الإسلام وترك الكفر لأقاربه الكفار. وقال أهل العلم في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} هذا دليل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، هو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 419. (¬2) هذا مما سقط من "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع. (¬3) في (ح): (قال)، وما أثبته موافق لما بعده. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (س). (¬5) في (ح): (إلى). (¬6) "تنوير المقباس" ص 186، ورواه ابن جرير 9/ 248، وابن أبي حاتم 5/ 1701، عند تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]. (¬7) لم أجده في كتب أهل المعاني التي بين يدي، وذكره ابن الجوزي 3/ 386، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 474 من غير نسبة.

74

مذهب عامة الفقهاء (¬1)؛ فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. 74 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، قال المفسرون: أولئك الذين [حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة، خلاف من أقام بدار الشرك (¬2). وقال أهل المعاني: أولئك الذين] (¬3) حقق الله إيمانهم بالبشارة التي بشرهم بها في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [ولم يكن لمن لم يهاجر، ولم ينصر مثل هذا (¬4). ومعنى قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}] (¬5)، قال ابن عباس: يريد: في الجنة ثواب عظيم (¬6). قال أهل المعاني: الرزق الكريم: طعام الجنة لا يستحيل في أجوافهم نجوًا، ولكن يصير كالمسك رشحًا (¬7). ¬

_ (¬1) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وداود الظاهري وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد. انظر: "المغني" 9/ 156، و"حاشية الجمل على شرح المنهج" 4/ 25. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 74 ب، والبغوي 3/ 380، و"زاد المسير" 3/ 387، و"الكشاف" 2/ 170. (¬3) ما بين المعقوفين ساق من (م). (¬4) لم أقف على مصدره. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" 186 بنحوه. (¬7) "البرهان" للحوفي 11/ 124 أ، وذكر نحوه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 57، وقد ثبت هذا المعنى بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء ورشح كرشح المسك" رواه مسلم (2835)، كتاب الجنة، باب: في صفات الجنة وأهلها.

75

75 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}، قال ابن عباس: يريد: الذين هاجروا بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية (¬1) التي فيها الصلح (¬2). وقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، قال ابن عباس: يريد: إن أولي الأرحام لم يكونوا يتوارثون، وكان من واخى بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالميراث، كان إذا أسلم الأخوان فهاجر أحدهما فمات (¬3) لم يرثه الذي لم يهاجر، وكان الذي واخى بينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالميراث وإن كان بعيدًا (¬4) في النسب حتى فتحت مكة فرد الله المواريث إلى أولي الأرحام فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} يريد: في فرائض الله، هذا كلام ابن عباس (¬5). قال أصحابنا (¬6): فليس في الآية حجة لمن قال بتوريث العمة والخالة وذوي الأرحام؛ لأن الله تعالى أراد بهذه الآية نقل الموارثة عن الحلف إلى القرابة. ¬

_ (¬1) يعني إلى المدينة بعد صلح الحديبية، انظر: "تفسير ابن عطية" 6/ 394، والقرطبي 8/ 58. (¬2) ذكره ابن الجوزي 3/ 387، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 360. (¬3) ساقط من (ح). (¬4) في (ح): (بعيد). (¬5) رواه بلفظ مقارب: البغوي 3/ 379، ورواه بمعناه ابن جرير 10/ 51 - 52، وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 374. ورواه مختصرًا الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 284، ورجاله رجال "الصحيح" كما في "مجمع الزوائد" 7/ 102. (¬6) يعني أئمة الشافعية، انظر. "الأم" للشافعي 4/ 106، و"مختصر المزني" ص 153، و"الحاوي الكبير" للماوردي 8/ 73، 174، و"المجموع" للنووي 16/ 53، 55.

وهذا إجماع من المفسرين أن قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} نسخ للميراث بالهجرة والحلف (¬1). ومعنى قوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ}، قال الزجاج: أي في حكم الله كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] أي: حكم الله (¬2)، قال الزجاج: وجائز أن تكون هذه الأشياء (¬3) مكتوبة في اللوح المحفوظ، كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} إلى قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 224، وللنحاس 2/ 394، و"تفسير ابن جرير" 10/ 52، والبغوي 3/ 381، وقول المؤلف: هذا إجماع من المفسرين، فيه نظر، فقد ذهب الإمام ابن جرير إلى أنه ليس في الآيات ناسخ ولا منسوخ، فعند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، قال: وهذه الآية تنبيء عن صحة ما قلنا: إن معنى قوله الله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في هذه الآية، وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث؛ لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار، والخبر عما لهِم عنده، دون من لم يهاجر، بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الآية، ولو كان مراداً بالآيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم، لم يكن عقيب ذلك إلا الحث على إمضاء الميراث على ما أمر، وفي صحة ذلك كذلك الدليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيء ولا منسوخ. "تفسير الطبري" 10/ 57، وانظر: "النسخ في القرآن" 2/ 737. (¬2) هذا القول ليس موجودًا في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، وقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 387، والمصنف في "الوسيط" 2/ 474. (¬3) (ح): (الآية)، وهو خطأ. (¬4) ليس موجودًا في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، ومراده أن معنى (في كتاب الله) أي في اللوح المحفوظ، ولا يريد جواز ذلك وجواز عدمه كما قد يتبادر إلى الذهن من عبارته.

وذكر أبو علي وجهين آخرين فقال: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي فيما فرض لهم من السهام في المواريث (¬1)، وذلك في سورة النساء، وذكرنا أن (كتب) بمعنى فرض يأتي في القرآن عند قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وهذا يقوي قول من لا يقول بتوريث ذوي الأرحام (¬2)؛ لأنه لم يفرض لهم سهم في الميراث عند ذكر فرض السهام، قال: ويجوز أن يُعْنَى بالكتاب ههنا: التنزيل، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، قال: وأن يحمل الكتاب على المكتتب أولى، وذلك كقوله في سورة الأحزاب [6]: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} إلى قوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} والمسطور إنما يسطر في صحف أو ألواح، فَرَدُّ المطلق منهما إلى هذا المقيد أولى؛ لأنه أمر واحد (¬3). وقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، قال ابن عباس: يريد: كل شيء خلق، وكل شيء فرض، وكل شيء حد (¬4). ¬

_ (¬1) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 2/ 456. (¬2) وهم: زيد بن ثابت ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وداود الظاهري وابن جرير، وهؤلاء يجعلون الباقي إذا لم يكن للميت من يعصبه لبيت المال. انظر: "المغني" 9/ 82، و"الشرح الكبير" 4/ 49. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 456 بتصرف. (¬4) لم أقف على مصدره، وفي "تنوير المقباس": "إن الله بكل شيء من قسمة المواريث وصلاحكم وغيرهما (عليم) "، وفي "الوسيط" 2/ 474: "إن الله بكل شيء: مما خلق وفرض وحد (عليم) ". ولم ينسبه.

سورة براءة (التوبة)

سورة براءة (التوبة)

تفسير سورة براءة اختلفوا في سبب ترك التسمية في أول هذه السورة، فروي بطرق مختلفة عن ابن عباس أنه قال: "قلت لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- ما حملكم على (¬1) أن عمدتم (¬2) إلى الأنفال وهي من (¬3) المثاني، وإلى براءة وهي من (¬4) المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم الله ووضعتموها في السبع الطول (¬5)؟ فقال: كانت الأنفال مما نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وكانت براءة آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتهما شبيها بعضها ببعض، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتقدم إلينا فيهما (¬6) بشيء؛ فلذلك قرنا بينهما ولم نكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وكانتا تدعيان ¬

_ (¬1) في (ى): (إلى). (¬2) في (ج): (عهدتم). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) ساقط من (ح). (¬5) بضم الطاء وفتح الواو جمع طولى، ورواية المصنف موافقة لما في "سنن الترمذي" و"صحيح ابن حبان"، و"تفسير الطبري"، وفي بقية المصادر: الطوال، والمراد بالسبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، وقيل: آخرها: براءة. والمراد بالمئين: ما ولي السبع الطوال؛ سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية قليلاً أو تقاربها. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 45 - 46، و"الإتقان" 1/ 220. (¬6) في (م): (فيها).

القرينتين فوضعناهما في السبع الطوال" (¬1). وروي أيضًا عن ابن عباس قال: "سألت علي بن أبي طالب لِمَ لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟، قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان (¬2) (¬3)، وبهذا قال سفيان بن عيينة: "التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت [في المشركين] (¬4) ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (786) كتاب: الصلاة، باب من جهر بها - يعني البسملة، ورواه مع زيادة الترمذي (3086) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن، وابن حبان كما في "الإحسان" 1/ 231 رقم (43)، والحاكم في "المستدرك"، كتاب التفسير، تفسير سورة التوبة 2/ 221، 330، وقال في الموضع الثاني: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه أيضًا بتلك الزيادة أحمد في "المسند" 1/ 57، 69، والطبري في "تفسيره" 1/ 45، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 396، وقد علق العلامة أحمد شاكر على هذا الحديث بكلام نفيس، وجزم بأن هذا الحديث ضعيف جدًا، بل لا أصل له؛ لأن إسناده يدور على "يزيد الفارسي" وقال: يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولاً، حتى شبه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن، الثابتة بالتواتر القطعي، قراءة وسماعًا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه، وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك، فلا علينا إذا قلنا: إنه حديث لا أصل له، تطبيقًا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث". انظر: المسند للإمام أحمد (بشرح أحمد شاكر) 1/ 329 رقم (399). (¬2) قوله: ليس فيها أمان، يعني على وجه التغليب، وإلا فقد ورد الأمان فيها في عدة مواضع، كما في الآيات: 2، 4، 6، 7، 29. (¬3) رواه الحاكم في"المستدرك"، كتاب التفسير، سورة الأنفال 2/ 330، ورواه بمعناه أبو الشيخ وابن مردويه، كما في "الدر المنثور" 4/ 377. (¬4) في (ح): (بالمشركين).

والمنافقين بالسيف ولا أمان لهم" (¬1)، وبقريب من نحو هذا قال المبرد، وهو أنه قال: لم (¬2) تفتتح (¬3) هذه السورة ببسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن التسمية افتتاح للخير، وأول براءة وعيد ونقض عهود فلذلك لم تفتتح بالتسمية" (¬4)، وسئل أبيّ بن كعب عن هذا فقال: "إنها نزلت في آخر القرآن وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر في أول كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يأمر في سورة براءة بذلك، فضمت (¬5) إلى سورة الأنفال لشبهها بها" (¬6). قال الزجاج: "يعني أن أمر العهود مذكور في الأنفال، وهذه نزلت بنقض العهود فكانت ملتبسة بالأنفال بالشبه" (¬7)، وكان قتادة يقول: "إنهما سورة واحدة" (¬8). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 75 ب، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 390 بلفظ مقارب دون ذكر المشركين. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (م): (تفتح). (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 427، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 180. (¬5) في (ح) و (ى): (وضمت). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 427، و"زاد المسير" 3/ 390، و"المحرر الوجيز" 6/ 398. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 427. (¬8) لم أتمكن من تخريجه عن قتادة، وهو قول ضعيف لما يأتي: أ- مخالفته لما ثبت عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- من أن براءة سورة مستقلة، فقد روى البخاري عن البراء قال: (آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] وآخر سورة نزلت: براءة). "صحيح البخاري" (4654)،كتاب التفسير، باب: قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ب- كثرة أسماء سورة براءة التي تزيد على العشرة وكثير منها ثابت عن الصحابة -رضي الله عنهم-. انظر: "الكشاف" 2/ 171، و"زاد المسير" 3/ 389، و"الدر المنثور" =

1

ونحو هذا روى الزهري عن سعيد بن المسيب (¬1). 1 - قوله -عز وجل-: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، ومعى البراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة، ومن هذا يقال: برئت من الدين، وليس فيها إلا لغة واحدة، كسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل، ويقال: بريء إلى فلان من كذا، أي: أخبره أنه (¬2) بريء منه. ومعنى {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: براءة الله، فلما نون أدخل "من" كما تقول: هذا فضل الله، ورحمة الله، ثم ينون فتدخل "من"، فتقول: فضل من الله ورحمة منه. قال المفسرون: "أخذت العرب تنقض عهودًا بينهم (¬3) وبين ¬

_ = 2/ 376 - 377، ولم أجد من قال: إن هذا الأسماء تطلق على سورة الأنفال. ج- حديث أبي هريرة في تأمير أبي بكر على الحج سنة ثمان وفيه: (ثم أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة). رواه البخاري (4655)، كتاب التفسير، باب قوله {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ}. فالحديث يوحي بأنها سورة مستقلة، وأن أولها قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ}. د- حديث علي -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة" الحديث، رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "المسند" 1/ 151. قال أحمد شاكر: إسناده حسن. انظر: "المسند" بشرح أحمد شاكر 2/ 322 رقم (1296). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 104 رقم (11039): (فيه محمد بن جابر السحيمي، وهو ضعيف، وقد وثق. اهـ. والحديث نص في بيان أول سورة براءة. (¬1) لم أعثر على مصدر هذا القول. (¬2) في (ى): (أني). (¬3) في (م): (بينها).

2

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وأن ينبذ ذلك إليهم ففعل ما أمر به" (¬1). قال أبو إسحاق: "أي قد بريء الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا" (¬2). والخطاب في {عَاهَدْتُمْ} لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[والمتولي للعقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-] (¬3) والمعنى: إلى الذين عاهد (¬4)، ولكن أدخلوا في الخطاب لأنهم راضون بفعله، فكأنهم عقدوا وعاهدوا. و {بَرَاءَةٌ} ترتفع على وجهين: أحدهما: على خبر الابتداء، على معنى: هذه الآيات براءة من الله، وعلى الابتداء (¬5)، ويكون الخبر: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ}؛ لأن براءة موصولة بـ"من" و {مِنَ اللَّهِ} صفة لها، والوجهان ذكرهما الزجاج (¬6)، واختار الفراء الوجه الأول، ومثله بقولك إذا نظرت إلى رجل: جميلٌ والله، تريد: هذا جميل والله (¬7). 2 - قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} الآية (¬8)، قال ابن ¬

_ (¬1) انظر نحو هذا القول في: "معاني القرآن وإعرابه" للفراء 1/ 420، و"تفسير الثعلبي" 6/ 76 أ، و"زاد المسير" 3/ 390. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 428 بمعناه. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى). (¬4) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي (ح): (عاهدتم، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "تفسير ابن جرير" 10/ 58 - 59. (¬5) هذا هو الوجه الثاني للرفع. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 428. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 420. (¬8) ساقطة من (م).

الأنباري: "قال اللغويون (¬1): أصل السياحة الضرب في الأرض، والاتساع في السير، والبعد عن المدن ومواضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب، وقيل للصائم: سائح، لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب" (¬2)، قال الفراء: "يقال: ساح يسيح سياحة وسيوحًا" (¬3). قال الزجاج: "معناه: اذهبوا فيها وأقبلوا وأدبروا" (¬4). قال ابن الأنباري: "ويضمر القول على تقدير: فقل لهم: سيحوا، ويكون هذا رجوعًا من الغيبة إلى الخطاب، كقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} ثم قال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ ...} الآية [الإنسان: 22]. قال المفسّرون: "هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدّة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة أشهر (¬5)، ومن كانت ¬

_ (¬1) في (ح) و (ى): (النحويون). (¬2) انظر: "لسان العرب" (سيح) 4/ 2167. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 429. (¬5) هذا القول غير صحح؛ بل من كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر فعهده باقٍ إلى إتمام مدته ويدل على ذلك لأدلة التالية: أ- قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]. ب- قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7]. جـ- عن زيد بن أثيع قال: "سألنا عليًا: بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر في الحجة، قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا". رواه الترمذي (871)، ئ ب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانًا، وقال: حديث حسن، ورواه أيضًا أحمد في=

مدته أقل أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة، ومن لم يكن له مدة جعل له خمسين يوما أجلًا" (¬1). وروى الوالبي عن ابن عباس في هذه الآية قال: "حدّ الله للذين عاهدوا رسول الله أربعة أشهر يسيحون فيها حيثما شاؤا، وأجل من ليس له عهدٌ عند انسلاخ الأشهر الحرم، من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره بأن يضع السيف فيهم حتى يدخلوا في الإسلام" (¬2)، قال (¬3) "ولم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت "براءة" وانسلخ الأشهر الحرم، ومدّة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة" عادت إلى أربعة أشهر، من يوم أذّن بـ"براءة" إلى عشر من ربيع الآخر وذلك أربعة أشهر". وقال محمد بن إسحاق: "من كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر أمهل تمام الأربعة، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود قصر به على أربعة أشهر، ليرتاد لنفسه ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل ¬

_ = "المسند" 2/ 32 (تحقيق: أحمد شاكر) وقال المحقق: إسناده صحيح، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (1101)، والقول بأن صاحب العهد عهده باق إلى تمام مدته ذهب إليه ابن جرير 10/ 65، وابن كثير 2/ 366. (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للفراء 1/ 420، و"تفسير البغوي" 4/ 8، ونحوه في تفسير الثعلبي 6/ 75 أ، وابن جرير 15/ 59 - 61، والماوردي 2/ 338، ونسبه لابن عباس والضحاك وقتادة (¬2) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 60، وابن أبي حاتم 6/ 1746، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 380. (¬3) يعني ابن عباس، وهذا القوك ليس من رواية الوالبي الصحيحة كما يبدو من صنيع المؤلف بل من رواية العوفي وهي ضعيفة جدًا. انظرها في: "تفسير ابن جرير" 10/ 60.

حيثما أدرك، وأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يومًا، وابتداء هذا الأجل يوم النحر وانقضاؤه إلى عشر (¬1) من شهر ربيع الآخر لمن كانت مدته أربعة أشهر" (¬2). وقال الزهري: "الأربعة أشهر شوال، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم؛ لأن هذه الآية نزلت في شهر شوال" (¬3). وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}، قال ابن عباس: "يريد: حيثما كنتم وحيثما توجهتم لا يعجز الله عن نقمته فيكم" (¬4). وقال الزجاج: "إي وإن أُجلتم هذه الأربعة أشهر فلن تفوتوا الله" (¬5)، وقال غيره (¬6): "المعنى أنكم فائتين كما يفوت ما يعجز عنه لأنكم حيثما (¬7) كنتم في ملك الله وسلطانه". ¬

_ (¬1) في (جـ): (عشرين)، وهو تصحيف بين، والصواب ما أثبته. (¬2) لم أجد هذا القول في "السيرة النبوية"، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 75 أمنسوبًا إلى محمد بن إسحاق وغيره، وذكر بعضه ابن جرير 10/ 59 شارحًا به قول محمد بن إسحاق. والذي يظهر لي أن أصل القول لابن جرير موضحًا به قول ابن إسحاق، ونقله عنه الثعلبي بهذا المعنى وزاد عليه زيادات، فتوهم الواحدي أنه قول ابن إسحاق، والله أعلم. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 240، وابن جرير 10/ 62، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 412، وهو قول مردود بدلالة أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إنما قرأ على المشركين هذه الآية في ذي الحجة، يوم الحج الأكبر، فيجب أن يكون هذا اليوم أول الشهور. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس، الموضع السابق. (¬4) "الوسيط" 2/ 476، وفي "تنوير المقباس" (187): "غير فائتين من القتل". (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 429. (¬6) ذكر نحو هذا القول: ابن جرير 10/ 67. (¬7) في (م): (حيث).

3

وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} قال ابن عباس: "بالقتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة" (¬1)، وقال الزجاج: "هذا ضمان من الله -عز وجل- نصرة المؤمنين (¬2) على الكافرين" (¬3). والإخزاء (¬4): الإذلال بما فيه الفضيحة والعار، والخزي: النكال (¬5) الفاضح. 3 - وقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} الآية، أذان: رفع بالعطف على براءة قاله الفراء (¬6)، والزجاج (¬7)، ومعنى الأذان: الإعلام في قول المفسرين (¬8) وأهل المعاني (¬9). قال الأزهري: "يقال: آذنته أوذنه إيذاناً وآذانًا، فالأذان اسم (¬10) يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي" (¬11). قال أبو علي: قوله: {مِنَ اللَّهِ} صفة لـ {وَأَذَانٌ} وكذلك {إِلَى النَّاسِ} (¬12). ومعناه: للناس، كما يقال: هذا غلام من فلان لك واليك، وأراد ¬

_ (¬1) "الوسيط" 2/ 476، و"تفسير الرازي" 16/ 220. (¬2) في (م): (نصرة للمؤمنين)، وفي"معاني القرآن" للزجاج: بنصرة المؤمنين. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 429. (¬4) في (ح): (والآخر)، وفي (م): (والأخرى)، وكلاهما خطأ. (¬5) في (ى): (والنكال). (¬6) "معاني القرآن" 1/ 420. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 429. (¬8) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 67، والسمرقندي 2/ 33، والزمخشري 2/ 173. (¬9) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 429، و"غريب القرآن وتفسيره" لليزيدي ص 161، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 95. (¬10) في (م): (أهم). (¬11) "تهذيب اللغة" (أذن) 1/ 139. (¬12) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 405.

بالناس: المؤمن والمشرك؛ لأن الكل داخلون في هذا الإعلام. وقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}، قال أبو علي: "يجوز أن يتعلق الظرف بالصفة ويجوز أن يتعلق بالخبر الذي هو: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ولا يجوز أن يتعلق بـ"أذان" لأنك قد وصفته والموصوف إذا وصفته لم يتعلق بشيء" (¬1). واختلفوا في يوم الحج الأكبر فقال ابن عباس في رواية عكرمة: "إنه يوم عرفة" (¬2)، وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاووس وإحدى الروايتين عن علي -رضي الله عنه- (¬3)، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة فقال: "أما بعد إن هذا يوم الحج الاكبر" (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: "يوم الحج الأكبر يوم النحر" (¬5)، وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وابن زيد وإحدى الروايتين عن علي وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير (¬6). وروى ابن جريج عن مجاهد قال: "يوم الحج الأكبر أيام منى ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 406. (¬2) رواه ابن جرير 1/ 69، والثعلبي 6/ 77 ب. (¬3) رواه عنهم جميعًا ابن جرير 10/ 67 - 69 إلا أنه قال: طاوس عن أبيه، ورواه عنهم أيضًا عدا طاوس، الثعلبي 6/ 77 ب، 78 أ، ورواه أيضًا عنهم ابن أبي حاتم 6/ 1747 إلا أن روايته عن علي مرفوعة، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 3/ 396، وابن كثير 2/ 369. (¬4) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 382، ورواه ابن جرير 10/ 69، وابن أبي حاتم 6/ 1748 عن محمد بن قيس مرسلًا. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 70 من رواية عكرمة، 10/ 72 من رواية سعيد بن جبير. (¬6) أخرج آثارهم ابن جرير 10/ 69 - 74، والثعلبي 6/ 78 أ.

كلها" (¬1)، وهو مذهب سفيان الثوري، وكان يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث (¬2) يراد به الحين والزمان؛ لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أيامًا كثيرة (¬3). فمن قال: إنه يوم عرفة احتج بأن معظم الحج يقضى فيه وهو الوقوف، ومن قال: إنه يوم النحر احتج بأن أعمال الحج وقضاء المناسك يوم النحر؛ لأن في ليلة نهار (¬4) يوم النحر الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها تعمل أعمال الحج، فالحج كله يوم النحر (¬5)، ومعنى الحج الأكبر: الحج بجميع أعماله، والحج الأصغر: العمرة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6)، والزهري (¬7) والشعبي (¬8). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 74، والثعلبي 6/ 78 ب. (¬2) يوم بعاث: بضم الباء: يوم كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وبعاث: حصن للأوس. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 183، و"لسان العرب" (بعث) 1/ 307. (¬3) ذكره بلفظه الثعلبي 6/ 78 ب، ورواه مختصرًا ابن جرير 10/ 74. (¬4) ساقطة من (م). (¬5) قلت: بل أقوى من هذا التعليل ما رواه البخاري تعليقاً عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بهذا، وقال: "هذا يوم الحج الأكبر". "صحيح البخاري"، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى 3/ 574، ورواه موصولًا أبو داود في "سننه" 1945، كتاب المناسك، باب يوم الحج الأكبر، والحاكم في "المستدرك"، كتاب التفسير، تفسير سورة التوبة 2/ 331 مطولًا، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 477. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 79 أ، والبغوي 4/ 12، ورواه بمعناه إخبارًا عن قول أهل الجاهلية عبد الرازق 1/ 2/ 266، وابن جرير 10/ 76. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 76، والثعلبي 6/ 79 أ، والبغوي 4/ 12.

قالوا: الحج الأكبر: الوقوف بعرفة والحج الأصغر: العمرة لنقصان عملها عن (¬1) عمل الحج. قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، قال أبو علي: "لا بد من تقدير الجار في قوله {أَنَّ اللَّهَ} فتقول: بأن الله، لأن (¬2) {اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لا يكون الإعلام، كما يكون الثاني الأول في نحو قولك: خبرك أنك خارج (¬3)، وخبر الابتداء يجب أن يكون الأول إذ له فيه ذكر، و {وَأَذَانٌ} ابتداء فلا يكون {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ} خبره إلا بتقدير الجار، ومعنى الآية: إن الله بريء من عهد المشركين، فهو من باب حذف المضاف، و"ورسوله" رفع بالابتداء وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضاً بريء، ودل الخبر عن الله على الخبر عن الرسول ومثله. فإني وقيارٌ بها لغريب (¬4) وقوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ} رجع إلى خطاب المشركين، قال ابن عباس: "يريد: فإن رجعتم عن الشرك إلى توحيد الله" (¬5)، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} من الإقامة على الشرك {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} يريد: عن الإيمان {فَاعْلَمُوا ¬

_ (¬1) في (م): (من). (¬2) في "الحجة": لأن "أن الله .. ". (¬3) أ. هـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 2/ 406. (¬4) عجز بيت وصدره. فمن يك أمسى بالمدينة رحله والبيت لضابئ بن الحارث البرجمي كما في "الأصمعيات" (ص184)، "وخزانة الأدب" 9/ 326، و"الشعر والشعراء" ص219، و"كتاب سيبويه" 1/ 75، و "نوادر أبي زيد" (ص20)، وقوله: قيار، هكذا بالرفع، وهو كذلك في بعض المصادر، قال الجوهري في "الصحاح" (قير) 2/ 801: قيار: اسم جمل ضابئ بن الحارث، ثم ذكر البيت ثم قال: برفع قيار على الموضع. (¬5) "تنوير المقباس" (ص187) بنحوه من رواية الكلبي، وحاله لا تخفى.

أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي: إنكم لا تفوتون بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه في الدنيا، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، قال المفسرون: "لما فتح الله مكة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة ثمان من الهجرة وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى غزاة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم فأمر الله رسوله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحج ثم قال: "إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك" (¬1) فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر تلك السنة أميرًا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًا فقال: "اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن بذلك فى الناس إذا اجتمعوا" فخرج علي -رضي الله عنه- على ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العضباء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فرجع أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال: "لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض؟! " (¬2)، قال: بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميرًا على الحج، وعليّ ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلما كان قبل ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 61 - 62 مرسلًا عن مجاهد، وطواف المشركين عراة مخرج في "صحيح البخاري" (1665)، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، وفي "صحيح مسلم" (1219)، كتاب الحج، باب في الوقوف. (¬2) رواه ابن جرير (10/ 65) عن السدي، ورواه بنحوه 10/ 64 عن ابن عباس، وروى صدره بمعناه الترمذي (3090)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: حديث حسن غريب من حديث أنس، وكذلك رواه أحمد في المسند 1/ 3.

التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة، فقال المشركون: "نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب" (¬1). وذكر أبو إسحاق السبب في تولية علي تلاوة براءة على المشركين قال: "وذلك لأن العرب جرت عادتها في عقد عهدوها (¬2) ونقضها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، وكان جائزًا أن تقول العرب إذا تُلي عليها نقض العهد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا خلاف ما يعرف فينا في نقض العهود، فأزاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلة في ذلك" (¬3). وقال عمرو (¬4) بن بحر: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا بكر أميرًا على الحاج وولاه الموسم وبعث عليًّا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 6/ 76 أونسبه إلى محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما، وقد ذكر الزمخشري في "تفسيره" 2/ 172 نحو هذا الأثر، وعلق عليه ابن حجر بقوله: "هذا ملفق من مواضع". انظر: حاشية "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" للزيلعي 2/ 49. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه": عقودها. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 428. (¬4) في (ح): (عمر)، وهو: عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان الجاحظ، البصري المعتزلي، العلامة المتبحر في فنون الأدب وصاحب التصانيف المشهورة، كان أحد الأذكياء الحفاظ، لكنه كان ماجنًا قيل الدين، كثير الكذب وتوليد الحكايات، توفي سنة 255 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 12/ 212، و"نزهة الألباء" ص 148، و"سير أعلام النبلاء" 11/ 526.

4

بكر الإمام وعلي المؤتم، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع، وكان أبو بكر الدافع بالموسم ولم يكن لعلي أن يدفع حتى يدفع أبو بكر، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يبلغ عني إلا رجل مني" (¬1) فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل ذلك تفضيلًا منه لعلي على غيره في الدين، ولكن عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعارفه من بعض، وكعادتهم في عقد الحلف وحل العقد، وكان السيد منهم إذا عقد لقوم حلفًا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العقد غيره أو رجل من رهطه دنيا (¬2) كأخ أو عم فلذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك القول (¬3). 4 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية، قال أبو إسحاق: "الذين" في موضع نصب، أي: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم أي ليسوا داخلين في البراءة" (¬4)، قال المفسرون (¬5) في هذه الآية: "هؤلاء قوم مخصوصون أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإتمام عهده وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ومن اتبعهم وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر باتمامها لهم". وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} أي من شروط العهد شيئًا {وَلَمْ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3090)، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة، وأحمد في "المسند". (¬2) في "لسان العرب" (دنا): (قالوا: "هو ابن عمي دنية، ودنيًا، منون، ودنيا، غير منون، ودنيا، مقصور: إذا كان ابن عمه لحا .. وكأن أجل ذلك كله (دنيا) أي: رحمًا أدنى إليّ من غيرها". (¬3) انظر قول الجاحظ في كتابه العثمانية ص 129 بنحوه، و"زاد المسير" 3/ 392. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 430 باختصار يسير. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 79 ب، والبغوي 4/ 12، وهو قول السدي رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 383 - 384.

5

يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا}، قال ابن عباس: "ولم يعاونوا عليكم عدوًا" (¬1)، وقوله (¬2): {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} معناه: إلى انقضاء مدتهم، ومعنى المدة زمان طويل (¬3) للفسحة؛ لأنه من مددتُ له في الأجل للمهلة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي: يحب من اتقاه بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. 5 - قوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، قال الليث: "يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه فصرت في آخر يومه (¬4)، وانسلخ (¬5) الشهر" (¬6)، وكشف أبو الهيثم (¬7) عن هذا المعنى فقال: "يقال: أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه (¬8) لباسًا منه ثم نسلخه عن أنفسنا [بعد تكامل النصف منه جزءًا فجزءًا حتى نسلخه عن أنفسنا] (¬9) كله فينسلخ، وأنشد (¬10): إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي (¬11) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 187. (¬2) ساقط من (ح) و (ى). (¬3) في "لسان العرب" 7/ 4158 (مدد): المدة: طائفة من الزمان تقع على القليل والكثير، ومادّ فيها أي أطالها. (¬4) في كتاب"العين" و"تهذيب اللغة": في آخر يوم منه. (¬5) في النسخة (ح): (فانسلخ). وما أثبته موافق لكتاب "العين" و"تهذيب اللغة". (¬6) "تهذيب اللغة" (سلخ) 2/ 1730، والنص في كتاب"العين" (سلخ) 4/ 198. (¬7) تقدمت ترجمته. (¬8) في (ى): (نفسه)، وهو خطأ. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬10) البيت بغير نسبة في: "تهذيب اللغة" (سلخ) 2/ 1731، و"أساس البلاغة" (سلخ) 2/ 453، و"لسان العرب" (سلخ) 4/ 2063. (¬11) اهـ كلام أبي الهيثم، انظر: "تهذيب اللغة" (سلخ) 2/ 1731.

واختلفوا في معنى الأشهر الحرم هاهنا فمنهم من حملها على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ويحل (¬1) القتال بانسلاخ المحرم على الإطلاق عند من جعل تاريخ (¬2) الأشهر الأربعة من أول شوال وهو وقت نزول براءة (¬3)، ومن قال: إن تاريخ الأشهر الأربعة من يوم النحر حمل قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [على التخصيص، ومعناه: فإذا انسلخ الأشهر الحرم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}] (¬4) الذين أمهلناهم خمسين يومًا وهم الذين لم يكن لهم ذمة سابقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا على قول من يقول الأشهر الحرم هذه الثلاثة التي تعرف بالحرم (¬5) ومنهم من قال: المراد بالأشهر الحرم شهور العهد (¬6)، قيل لها: حرم لأن الله تعالى حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، فإذا مضت قد (¬7) حل قتالهم عامًا مطلقًا، وهذا قول الحسن (¬8)، ومجاهد (¬9)، ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) في (م): (من تاريخ). (¬3) هذا قول الزهري وحده، وقد سبق تخريجه، وانظر رد هذا القول هناك، وفي "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 412. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى). (¬5) روى هذا القول ابن جرير 10/ 60 - 61، عن ابن عباس والضحاك وقتادة. (¬6) يعني شهور السياحة التي ذكرها الله بقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. إذ أن هذا هو قول جميع من نسب إليهم المؤلف هذا القول، وذكر الشوكاني في تفسيره 2/ 337 احتمالاً آخر للمراد بها، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}. (¬7) في (ح): (ذلك)، وفي (ى): (دلل)، ولا معنى لهما. (¬8) ذكره عنه الهواري 2/ 114، والماوردي 2/ 340، وابن الجوزي 3/ 398. (¬9) رواه ابن جرير 10/ 79، والثعلبي 6/ 79 ب، والبغوي 4/ 13، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 384 - 385، وهو في "تفسير مجاهد" ص 363.

وابن إسحاق (1)، وابن زيد (2)، وعمرو بن شعيب (2)، والسدي (3). وقوله تعالى: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} يوجب تعميم الحل والحرم، قال الفراء: "في الأشهر الحرم وغيرها في الحل والحرم" (4) {وَخُذُوهُمْ} أي (5) بالأسر، والأخيذ: الأسير {وَاحْصُرُوهُمْ} معنى الحصر: المنع عن الخروج من محيط، قال ابن عباس: يريد: إن تحصنوا فاحصروهم" (6)، وقال الفراء: "حصرهم: أن يمنعوا من البيت الحرام" (7)، وقال ابن الأنباري: "يريد: أن احبسوهم واقطعوهم عن البيت الحرام". وقوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، من قولهم: رصدت فلانًا أرصده: إذا ترقبته، قال المفسرون (8): يقول: اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى تجارة، قال أبو عبيدة في قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ} المعنى: كل طريق" (9)، وقال أبو الحسن الأخفش: " (على) محذوفة، المعنى: على كل مرصد، وأنشد (10):

_ (1) انظر: "السيرة النبوية" 4/ 204. (2) رواه ابن جرير 10/ 79، والثعلبي 6/ 79 ب. (3) رواه ابن جرير 10/ 79، وابن أبي حاتم 6/ 1752 - 1753. (4) "معاني القرآن" 1/ 421. (5) ساقط من (م). (6) ذكره ابن الجوزي في"زاد المسير" 3/ 398. (7) "معاني القرآن" 1/ 421. (8) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 78، والسمرقندي 2/ 34، والثعلبي 6/ 79 ب، والبغوي 4/ 13. (9) "مجاز القرآن" 1/ 253 بمعناه. (10) البيت لرجل من قيس، كما في كتاب "المعاني الكبير" 1/ 386، وهو بلا نسبة في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 85، و"لسان العرب" (رخص) 3/ 1616.

نغالي اللحم للأضياف نيئًا ... ونرخصه إلا نضج القدور المعنى نغالى باللحم (¬1)، فحذف الباء هاهنا فكذلك حذف (على)، قال الزجاج: " {كُلَّ مَرْصَدٍ} ظرف، كقولك: ذهبت مذهبًا، وذهبت طريقًا، وذهبت كل طريق، فلست تحتاج أن تقول في هذا إلا بما تقوله في الظروف نحو: خلف وأمام وقدام" (¬2). قال أبو علي: "ذهب أبو الحسن إلى أن المرصد اسم للطريق كما فسره أبو عبيدة، وإذا (¬3) كان اسمًا (¬4) للطريق كان مخصوصًا، وإذا كان مخصوصًا وجب ألا يصل الفعل الذي لا يتعدى إليه إلا بحرف جر (¬5) نحو: ذهبت إلى زيد، وقعدت على الطريق، إلا أن يجيء في ذلك اتساع فيكون الحرف معه محذوفًا كما حكاه سيبويه (¬6) من قولهم: ذهبت الشام ودخلت البيت فالأسماء المخصوصة إذا تعدت إليها الأفعال التي لا تتعدى فإنما هو على الاتساع، والحكم في تعديها إليها والأصل أن يكون بالحرف، وقد غلط أبو إسحاق في قوله (¬7): {كُلَّ مَرْصَدٍ} ظرف كقولك ذهبت مذهبًا في أن جعل الطريق ظرفًا كالمذهب وليس الطريق بظرف، ألا ترى [أن الطريق] (¬8) مكان مخصوص كما أن البيت والمسجد مخصوصان، وقد نص ¬

_ (¬1) اهـ كلام الأخفش، انظر: "معاني القرآن" له 1/ 353. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 431. (¬3) في (ح): (فإذا)، وما أثبته موافق لما في "الإغفال". (¬4) في (ح): (اسم). (¬5) كلمة (جر) ليست موجودة في "الإغفال". (¬6) انظر: "كتاب سيبويه" 1/ 414. (¬7) في "الإغفال": قوله -عز وجل-. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ي)، وفي "الإغفال": إلا أنه مكان ... إلخ.

سيبويه على اختصاصه (¬1) والنص به ليس كالمذهب والمكان، ألا ترى أنَّه حمل قول ساعدة (¬2): لَدْنٌ بهز الكف (¬3) يعسل متنه ... فيه (¬4) كما عسل الطريق الثعلب (¬5) على أنه حذف الحرف اتساعًا، كما حذف عنده من ذهبت الشام (¬6)، وقال أبو إسحاق في هذا المعنى خلاف ما قاله هنا، [وهو أنه قال في قوله -عز وجل- (¬7): {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16]: أي على طريقك، قال: ولا اختلاف بين النحويين أن (على) محذوفة" (¬8)، وإذا كان كذلك بلا خلاف لم يجز أن يجعله ههنا مثل ما هو ظرف (¬9) بلا خلاف من ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب سيبويه" 1/ 35. (¬2) هو: ساعدة بن جؤية الهذلي، من شعراء هذيل المجيدين، وشعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة، وهو من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وقد أسلم، ولم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "خزانة الأدب" 1/ 476، و"سمط اللآلئ" ص 115، و"الأعلام" 3/ 70. (¬3) في (ى): (الكهف). (¬4) ساقطة من (م). (¬5) البيت لساعدة بن جؤية كما في "شرح أشعار الهذليين" ص 1120، و"كتاب سيبويه" 1/ 36، و"لسان العرب" (عسل) 5/ 2946، و"نوادر أبي زيد" ص15. ورواية المصدر الأول: لذٌ. أي تلذ الكف بهزه. ومعنى: لدن: أي لين. والمتن: الظهر، ويعسل: يضطرب، وعسل الطريق الثعلب: أي اضطرب في الطريق. والشاعر يصف سنانًا مرهفًا يهتز في الكف. انظر: "شرح أشعار الهذليين" ص 1119، 1120، و"لسان العرب" (عسل) 5/ 2946. (¬6) انظر: "كتاب سيبويه" (1/ 35، 36). (¬7) في"الإغفال": ألا ترى أنه قال في قوله "لأقعدن .... " إلخ. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 324. (¬9) في "الإغفال": مبهم ظرف.

قوله: ذهبت مذهبًا، وإذا كان الصراط [اسمًا للطريق وكان اسمًا مخصوصًا ومما لا يصح أن يكون ظرفًا لاختصاصه فالمرصد] (¬1) أيضًا (¬2) مثله في الاختصاص، وأن لا يكون ظرفًا، كما لم يكن الصراط والطريق ظرفًا" (¬3). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا}، قال ابن عباس: "يريد: من الشرك" (¬4)، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} قال أصحابنا (¬5): هذه الآية دليل على أن تارك اصلاة يقتل؛ لأن الله أباح في دماءهم، ثم قال: "فإن تابوا" يعني من الشرك "وأقاموا الصلاة" وهذا اللفظ للفعل لا للاعتقاد؛ ولأن الاعتقاد مندرج تحت التوبة، فإذا لم يقم الصلاة بقي دمه على الإباحة، وإن تاب من الشرك بحكم ظاهر الآية، ودل الظاهر على التسوية بين الصلاة والزكاة فاقتضى الإجماع ترك الظاهر في الزكاة. وقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}، قال ابن عباس: "يريد: زكاة الأموال من العين والمواشي والثمار" (¬6)، وقوله تعالى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} قيل: يعني: إلى البيت الحرام، وقيل: إلى التصرف في أمصاركم للتجارة وغيرها، وقوله (¬7): {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تاب وآمن. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (هاهنا). (¬3) انظر: "الإغفال"، سورة التوبة، المسألة الأولى ص 848 - 852. (¬4) "تنوير المقباس" 187. (¬5) يعني أئمة الشافعية. انظر: "كتاب الأم" 1/ 424، و"أحكام القرآن" للهراس 3/ 177. (¬6) لم أقف عليه، وقد ذكره في "الوسيط" 2/ 479 بلا نسبة. (¬7) ساقط من (ح) و (ى).

6

6 - قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} الآية، قال الفراء: {اسْتَجَارَكَ} في موضع جزم وإن فرق بين الجازم والمجزوم بـ"أحد" وذلك سهل في (إن) خاصة دون حروف الجزاء؛ لأنها شرط وليست باسم، فلم يحفلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب، فأما المنصوب فمثل قولك: إن أخاك ضربت ظلمت، والمرفوع مثل قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] ولو حولت "هلك" إلى (يهلك) (¬1) لجزمته (¬2)، ونحو هذا قال الزجاج، فقال: وإنما يجوز الفصل في باب (إن) لأن (إن) أم الجزاء، لا تزول (¬3) عنه إلى غيره، فأما أخواتها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر، قال الشاعر (¬4): فمتى واغل يزرهم (¬5) يحيوه ... وتُعطفْ عليه كأس الساقي (¬6) قال ابن عباس: " {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} ممن لم يكن له عهد" (¬7)، وقال محمد بن إسحاق: "أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم" (¬8)، وقال سعيد بن جبير: "جاء رجل من المشركين إلى علي بن ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": إن يهلك. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 422. (¬3) في (ح) و (ي): (لا تزال)، والمثبت من (م) وهو موافق لـ "معاني القرآن وإعرابه". (¬4) البيت لعدي بن زيد العبادي، كما في ملحق "ديوانه" 156، و"خزانة الأدب" 3/ 46، و"كتاب سيبويه" 3/ 113. (¬5) في النسخة (ح) و (م): (ينبهم)، وأثبت ما في النسخة (ى) لأنه موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه"، والواغل: الداخل على القوم في شرابهم أو طعامهم ولم يدع. انظر: "مجمل اللغة" (وغل) 4/ 931، و"القاموس المحيط"، باب اللام، فصل الواو ص 1069. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 432. (¬7) لم أقف على مصدره. (¬8) "السيرة النبوية" 4/ 202.

أبي طالب: فقال: إن (¬1) أراد الرجل منا أن يأتي محمدًا بعد انقضاء هذا الأجل فيسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟! فقال علي: لا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} الآية (¬2)، وقال الزجاج: "المعنى: إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره" (¬3). وقوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}، قال السدي (¬4) ومقاتل (¬5): "يعني القرآن"، وقال عطاء عن ابن عباس: "يريد: ما أعد (¬6) الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب وما افترض في دينه من الصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت وجميع الفرائض" (¬7). وقوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} قال: "يريد: الموضع الذي يأمن فيه" (¬8) يريد: إذا لم يتب، فإن تاب {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وقال ابن زيد: "يقول: إن لم يوافقه ما تتلو (¬9) عليه فأبلغه مأمنه" (¬10). وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} يعني: يفعل كل هذا لأنهم جهلة، لا يعلمون دين الله وتوحيده وما افترض عليهم، وقال ¬

_ (¬1) في (ح): (إذا)، وما أثبته موافق للمصدر الثاني. (¬2) "تفسير الثعلبي" 6/ 81 أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 431. (¬4) رواه ابن جرير 14/ 80، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 386. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 126 أ. (¬6) في (ي): (ما عطا)، وسقطت (ما) من النسخة (ح). (¬7) لم أعثر عليه. (¬8) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 187. (¬9) في (ح): (يتلى)، والمثبت موافق لـ"تفسير ابن جرير". (¬10) رواه ابن جرير 10/ 80، وبنحوه ابن أبي حاتم 6/ 1756.

أبو إسحاق "أي: الأمر ذلك، أي: وجب أن يعرّفوا ويجاروا؛ لجهلهم بالعلم فربما يتبينون به الإسلام" (¬1). وهذا بيان عن حال الطالب للعلم (¬2)، وليس له عهد من الإمام، حتى يسمع الدليل على الحق، ثم يُردّ إلى مأمنه لينظر في أمره، وقال الحسن في هذه الآية: "إن استعاذك فأعذه حتى يسمع كلام الله، فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله، فإن أسلم فقد دخل في عز الإسلام وإن أبى فأبلغه مأمنه ولا تعرض له" (¬3). وقال أهل العلم: "الكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنومًا مع ماله إلا أن يدخل مستجيرًا لغرض شرعي، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان (¬4)، فيجب تبليغه مأمنه، وهو أن يبلغ محروسًا في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة له (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 431. (¬2) في (ى): (طالب العلم). (¬3) لم أعثر عليه في مظانه من كتب التفسير. (¬4) أمان المجنون لا يصح بالإجماع كالصبي غير المميز، أما الصبي المميز فللعلماء في أمانه قولان: الأول: لا يصح أمانه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. الثاني: يصح أمانه، وهو قول مالك، والرواية المشهورة عن أحمد، وهو الصحيح، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم". رواه البخاري (3179)، كتاب الجزية، باب: إثم من عاهد ثم غدر 4/ 217، ومسلم (1370)، كتاب الحج، باب فضل المدينة. وانظر: "المهذب" 2/ 235، و"المغني" 13/ 77. (¬5) ساقط من (م).

7

أمان (¬1)، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام، ولماله أمان فأمان ماله أمانه (¬2) " (¬3). 7 - قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، قال الفراء: "هذا على التعجب [كما تقول: كيف] (¬4) يستبقى مثلك؟ أي لا ينبغي أن يستبقى، قال: وإذا استفهمت بشيء من حروف الاستفهام فلك أن تدعه استفهامًا ولك أن تنوي به الجحد، من ذلك قولك: هل أنت إلا كواحد (¬5) منا؟! [معناه: ما أنت إلا واحد منا" (¬6)] (¬7) وقال غيره من أهل المعاني: "في الآية محذوف تقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد" (¬8). وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، قال الزجاج: "أي: ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينكثوا"، قال: "وموضع "الذين" نصب بالاستثناء" (¬9). واختلفوا في المعنيّ بقوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} والذي يشهد له ظاهر اللفظ أنهم بنو ضمرة وبنو كنانة الذين ذكروا في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (أمان). (¬3) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" 2/ 263 بنحوه (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) في (م): (واحدًا). (¬6) "معاني القرآن" 1/ 423. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) هذا القول للحوفي في "البرهان" 11/ 142 ب، وذكره الرازي 15/ 229، والقرطبي 8/ 78 دون تعيين القائل. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 432.

عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 4] وهو قول السدي (¬1) وابن إسحاق (¬2) والكلبي (¬3) قالوا: "هم قبائل بني جذيمة (¬4) وبنو مدلج (¬5) وبنو ضمرة (¬6) وبنو الدئل (¬7) من بني بكر (¬8). وكذلك قال ابن جريج (¬9). قال محمد بن إسحاق: "هم قبائل من بني بكر (¬10) الذين (¬11) كانوا دخلوا في عهد قريش مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش، فلم يكن نقضه إلا هذا الحي من قريش (¬12) فأمر ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 81 أ، والبغوي 4/ 15، ورواه ابن جرير 10/ 81 بلفظ: هم بنو جذيمة بن الدئل، ورواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 3/ 386 بلفظ: هم بنو خزيمة بن فلان. (¬2) انظر: "السيرة النبوية" 4/ 202 وسيذكر المؤلف لفظه. (¬3) سقط اسم الكلبي من النسخة (ح)، وانظر قوله في: "تفسير الثعلبي" 6/ 81 أ، والبغوي 4/ 15. (¬4) هم بنو جذيمة بن عامر بن عبد كنانة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" 187. (¬5) هم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة انظر: المصدر السابق، نفس الموضع. (¬6) هم بنو ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. المصدر السابق ص 185، و"نهاية الأرب" ص 293. (¬7) هم بنو الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 184، و"نهاية الأرب" ص 61. (¬8) هم بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص180، و"نهاية الأرب" 180، وليس لبكر من هذه القبائل سوى بني ضمرة وبني الدئل، أما بنو جذيمة وبنو مدلج فهم أبناء أخويه. (¬9) لم أقف على من ذكره، وقد رواه ابن جرير 10/ 81 عنه عن محمد بن عباد. (¬10) في السيرة النبوية: من بني بكر. (¬11) ساقط من (ح) و (ى). (¬12) في المصدر السابق زيادة. وبنو الدئل من بني بكر. اهـ. وهو الصواب.

8

النبي -صلى الله عليه وسلم- باتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر" (¬1). وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}، قال ابن عباس: "يريد ما أوفوا بعهدهم أوفوا بعهدكم" (¬2)، وقال الزجاج: "أي ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم" (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يعني من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه، والوفاء بعهده لمن عاهده. 8 - قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} الآية، قال الفراء (¬4) والزجاج (¬5) وابن الأنباري وجميع أهل المعاني (¬6): "أي كيف يكون لهم عهد وحالهم ما وصف في قوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا} الآية، ولكنه حذف ما يتعلق به (كيف)؛ لأنه قد ذكر قبل هذا في الآية المتقدمة فاكتفى به، قال الفراء: "وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل، وأنشدوا (¬7): ¬

_ (¬1) المصدر السابق 4/ 544. (¬2) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص188. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 432، وجملة: فأقيموا أنتم ليست من كلام الزجاج. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 424. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 433. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 3/ 186، و"إعراب القرآن" له 2/ 6، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب ص 324، و"البرهان" للحوفي 11/ 143. قلت: قوله "جميع أهل المعاني" فيه نظر؛ فإن الأخفش الأوسط قدر المضمر بقوله: كيف لا تقتلونهم. انظر: "معاني القرآن" له 1/ 355، وجوز أبو البقاء أن يكون المقدر: كيف تطمئنون إليهم. انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص 415. (¬7) في "معاني القرآن": كما قال الشاعر.

وخبرتماني أنما الموت في القرى ... فكيف وهذي هضبة وكثيب (¬1) (¬2) أي فكيف مات وليس بقرية، وأنشد أبو إسحاق (¬3) وأبو بكر قول الحطيئة: فكيف ولم أعلمهُم خذلوكمُ ... على معظَم ولا أديمكمُ قدُّوا (¬4) أراد: فكيف يكون ما تقولون حقًّا والأمر على ما أصف. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه، قال الليث: "الظهور: الظفر بالشيء" (¬5)، وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9]، أي: ليعليه (¬6)، قال ¬

_ (¬1) البيت لكعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثي فيها أخاه أبا المغوار الذي مات في البادية، وكان أخوه فرّ به من وباء المدينة انظر: "الأصمعيات" ص97، و"شرح أبيات سيبويه" 2/ 269، و"كتاب سيبويه" 3/ 487، و"لسان العرب" (تفسير هذا) 6/ 3780 (قول). يقول الشاعر: لقد أخبرني الناس أن الموت يكون في القرى حيث الوباء، فكيف مات أخي في الصحراء حيث الهضاب والكثبان وطيب الهواء. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 424. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 433. (¬4) "ديوانه" ص 140، وفيه: على موطن، ونسب إليه أيضاً في "معاني القرآن" للفراء 1/ 424، و"معاني القرآن" للزجاج 2/ 479، و"الدر المصون" 6/ 16. وقوله: على معظم: أي أمر عظيم. والأديم: الجلد، وقده: شقه، والمراد: لم يطعنوا في أعراضكم ولم يأكلوا لحومكم بالغيبة. (¬5) "تهذيب اللغة" (ظهر) 3/ 2259 ت والنص في كتاب "العين" (ظهر) 4/ 37. (¬6) ساقط من (ى).

أهل المعاني: "الظهور: العلو بالغلبة (1)، وأصله خروج الشيء إلى حيث يصلح أن يدرك" (2)، قال ابن عباس: "يريد: أن يقدروا عليكم" (3). وقوله تعالى: {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}، قال الليث: "رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوبًا (4)، وهو أن ينتظره، ورقيب القوم حارسهم" (5)، وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي لم تحفظه، وقيل: لم تنتظر (6)، وهذان معنيان يرجعان إلى واحد، وهو أن معنى الرقوب: العمل في الأمر على ما تقدم به العهد، فالحفظ والانتظار داخل في هذا، قال ابن عباس: "لا يحفظوا" (7)، وقال الضحاك: "لا ينتظروا" (7)، وقال قطرب: "لا يراعوا" (7). واختلفوا في معنى الإل (8)، فقال أبو عبيدة: "الإل: العهد" (9)، وقال الفراء: "الإل: القرابة" (10)، وقال إسحاق: "وقيل (11): الإل: الحلف،

_ (1) ساقط من (ى). (2) في "المفردات" (ظهر) ص 318: ("ظهر الشيء: أصله أن يحصل شيء على ظهر الأرض ثم صار مستعملًا في كل بارز مبصر". اهـ. باختصار. (3) "تنوير المقباس" ص 188 بمعناه. (4) في "تهذيب اللغة" وكتاب العين: رقبانًا. (5) "تهذيب اللغة" (رقب) 2/ 1448، ونحوه في كتاب "العين" (رقب) 5/ 154. (6) هذا قول ابن جريج، والأول قول ابن عباس، رواه عنهما ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 4/ 548. (7) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 81 ب، والبغوي 4/ 15. (8) في (ى): (الأول)، وهو خطأ. (9) "مجاز القرآن" 1/ 253 ونص قوله: العهد والعقد واليمين. (10) "تهذيب اللغة" (أل) 1/ 184، و"لسان العرب" (ألل) 1/ 112. (11) ساقط من (ي).

يعني الجوار، وقيل: الإل: اسم من أسماء الله -عز وجل-" (¬1). وأما قول المفسرين: فقال ابن عباس والضحاك: "قرابة" (¬2)، وهو رواية منصور (¬3) عن مجاهد (¬4)، وقال قتادة: "الإل: الحلف" (¬5)، وقال السدي وابن زيد: "هو العهد" (¬6)، وهو إحدى الروايات عن مجاهد (¬7)، وقال في سائر الروايات: "الإل هو الله -عز وجل-" (¬8)، وهو قول أبي مجلز (¬9) (¬10)، وبكل هذه المعاني في الإل جاءت الأشعار، قال حسان: لعمرك إن إلك من قريش ... كإل السقب (¬11) من رأل النعام (¬12) يعني القرابة، وقال أوس بن حجر: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 433. (¬2) رواه عنهما ابن جرير 10/ 84، والثعلبي 6/ 81 أ، وابن أبي حاتم 6/ 1758. (¬3) هو ابن المعتمر. (¬4) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1758 من رواية ابن أبي نجيح. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 84، والثعلبي 6/ 81 أ، والبغوي 4/ 15. (¬6) رواه عنهما ابن جرير 10/ 84، والثعلبي 6/ 82 أ. (¬7) هي رواية ابن أبي نجيح وخصيف عنه. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 85، و"تفسير الإمام مجاهد" ص 365. (¬8) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 83، والثعلبي 6/ 82 أ، وابن أبي حاتم 6/ 1758. (¬9) هو: لاحق بن حميد الشيباني السدوسي البصري، من كبار التابعين، إمام ثقة، مشهور بكنيته، توفي سنة 106هـ على القول المشهور. انظر: "الكاشف" 3/ 217، و"تهذيب التهذيب" 4/ 582، و"تقريب التهذيب" ص 586 (7490). (¬10) رواه ابن جرير 10/ 83، والثعلبي 6/ 82 أ، قال ابن حجر في"فتح الباري" 6/ 267: "عن مجاهد: الإل: الله، وأنكره عليه غير واحد". (¬11) في (ح): (السيف)، وهو خطأ. (¬12) "ديوانه" ص 216، و"تفسير ابن جرير" 10/ 85، و"لسان العرب" (ألل) 1/ 113. =

لولا بنو مالك والإل مرقبة ... ومالك فيهم الإلاء والشرف (¬1) يعني الحلف، وقال آخر (¬2): وجدناهم كاذبًا إِلّهم ... وذو الإِلّ والعهد لا يكذب يعني العهد، وفي حديث أبي بكر أنه قال: "إن هذا الكلام لم يخرج من إل" (¬3)، يعني الله -عز وجل-. قال أبو إسحاق: "وليس عندنا بالوجه قول من قال: الإل اسم من أسماء الله معروفة ومعلومة كما تُليت في القرآن، وسمعت في الأخبار، ولم يسمع الداعي يقول في الدعاء يا إل، قال: وحقيقة "الإل" عندي على (¬4) ما توجبه اللغة: تحديد الشيء (¬5)، فمن ذلك الألة: الحربة (¬6) وأذن مؤَلَّلة (¬7)، فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة والجوار من (¬8) هذا، ¬

_ = والسقب: الذكر من ولد الناقة، كما في "الصحاح" (سقب) 1/ 148، والرأل: ولد النعام، كما في المصدر نفسه (رأل) 4/ 1703. والمعنى: ما قرابتك من قريش إلا كقرابة ولد الناقة من ولد النعام، فأنت دعي ملصق فيهم. (¬1) "ديوانه" ص31، وتفسير الثعلبي 6/ 81 ب. (¬2) لم أهتد إلى قائله، وهو بلا نسبة في "تفسير الطبري" 10/ 85، والثعلبي 6/ 82 أ، و"البرهان" للحوفي 11/ 145 ب، و"الدر المصون" 6/ 17. (¬3) ذكر هذا الأثر أبو عبيد في غريب الحديث 1/ 100، والثعلبي في "تفسيره" 6/ 82 أ، ونصه عنده: إن ناسًا قدموا على أبي بكر -رضي الله عنه- من قوم مسيلمة فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرءوا، فقال أبو بكر: إن هذا ... إلخ. (¬4) ساقطة من (ى). (¬5) في (ى): (تحديدًا للشيء)، وما أثبته موافق لسائر النسخ، و"معاني القرآن وإعرابه"، و"تهذيب اللغة". (¬6) في (ح): (الجزية)، وهو خطأ. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه"، و"تهذيب اللغة". آذن مؤللة: إذا كانت محددة. (¬8) في"معاني القرآن وإعرابه" و"تهذيب اللغة": على.

إذا (¬1) قطت في العهد: بينهما إلّ، [فتأويله أنهما قد حددا في أخذ العهود] (¬2) (¬3)، وكذلك في الجوار والقرابة، وقال الأزهري: "إيل من أسماء الله -عز وجل- بالعبرانية، فجائز أن يكون أعرب فقيل: إل (¬4) " (¬5). وقال بعض أهل المعاني: "الأصل في جميع ما فسر به الإل: العهد، وهو مأخوذ من قولهم ألّ يؤلّ (¬6) إلا، إذا صفا وبرق ولمع، ومنه الألّه للمعانها، وأذن مؤللة: مشبهة بالحربة في تحديدها، فالعهد سمي إلا (¬7) لظهوره وصفائه من شائب الغدر" (¬8). وقوله تعالى: {وَلَا ذِمَّةً} الذمة: العهد، وجمعها ذمم وذمام، وهو كل حرمة تلزمك إذا ضيعتها المذمة، وقال أبو عبيدة: "الذمة: ما يتذمم منه" (¬9). يعني ما يجتنب فيه الذم، يقال: تذمم فلان أي: ألقى عن نفسه الذم، نحو: تحوب (¬10) وتأثم وتحرج، وذُكر في التفسير الوجهان في معنى ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ و"تهذيب اللغة"، وفي"معاني القرآن وإعرابه": فإذا. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، كما يظهر بالمقابلة مع هذا النص ومع "تهذيب اللغة" و"لسان العرب" (ألل). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 434، و"تهذيب اللغة" (أل) 1/ 184 - 185 مع اختلاف يسير. (¬4) في"تهذيب اللغة": إسرائيل. (¬5) "تهذيب اللغة" (أل) 1/ 184 - 185، وقد نسب الأزهري الجملة الأولى لابن السكيت. (¬6) في (ى): (يؤول). (¬7) في (ح) و (ى): (الإل). (¬8) ذكر نحو هذا القول الرازي في "تفسيره" 15/ 231. (¬9) "مجاز القرآن" 1/ 253، ونص قوله: "الذمة: التذمم ممن لا عهد له". (¬10) تحوب: قال أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 221: "قد يكون التحوب: التعبد=

الذمة، فقال الأكثرون: العهد، وهو قول ابن عباس (¬1)، ومن فسر الإلّ بالعهد قال: "إنما كرر لاختلاف اللفظين للتأكيد والمعنى واحد" (¬2)، وهو مذهب المبرد (¬3)، وحكى محمد بن جرير (¬4): "إن الذمة في هذا الموضع: التذمم ممن لا عهد له". وقوله تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ] (¬5)}، قال ابن عباس: "يريد: يقولون بألسنتهم كلاما حلوًا، وفي القلب (¬6) ضمير لا يحبه الله" (¬7)، وقال سعيد بن جبير: "يرضونكم بالحسن من القول وتأبى قلوبهم الوفاء به" (¬8). وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}، قال ابن عباس: "يريد: كاذبون" (¬9)، وقال غيره: "ناقضون العهد" (¬10)، وقال أهل المعاني: ¬

_ = والتجنب للمأثم" اهـ. وفي "لسان العرب" (حوب) 2/ 1036، يقال: "تحوب: إذا تعبد، كأنه يلقي الحُوب عن نفسه، كما يقال: تأثم، وتحنث". (¬1) رواه ابن جرير 10/ 84، وابن أبي حاتم 6/ 1758. (¬2) هذا قول ابن زيد، انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 84، و"البرهان" للحوفي 11/ 145 أ. (¬3) لم أقف على مصدره. (¬4) يعني الطبري، انظر: "تفسيره" 10/ 85، والقول لأبي عبيدة كما في "مجاز القرآن" 1/ 253. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) في (ى): (قلوبهم). (¬7) "تنوير المقباس" ص 188 بمعناه. (¬8) لم أقف على مصدره. (¬9) ذكره ابن الجوزي 3/ 403 بمعناه. (¬10) هذا قول ابن جرير باختصار، انظر: "تفسيره" 10/ 85.

9

"الكفار كلهم فاسقون وتخصيص أكثرهم ههنا (¬1) على وجهين: أحدهما: أنه أراد المتمردين، والثاني: أنه وضع الخصوص موضع العموم" (¬2). 9 - قوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أي استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، ومضى الكلام في حقيقة معنى هذا في مواضع (¬3)، قال مجاهد: "أطعم أبو سفيان بن حرب حُلفاءه وترك حلفاء النبي -صلى الله عليه وسلم-" (¬4)، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلك الأكلة (¬5). قوله تعالى: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي: فأعرضوا عن طاعة الله، وقال عطاء: "كان أبو سفيان يعطي البعير والناقة والطعام ليصد الناس بذلك عن متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-" (¬6)، وعلى هذا: معنى "فصدوا عن سبيله": منعوا الناس (¬7) به عن الدخول في الإسلام، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي من اشترائهم (¬8) الكفر بالإيمان. 10 - قوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} يعني هؤلاء الناقضين للعهد الذين اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، وهذا ذم لهم بترك ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) انظر: "البحر المحيط" 5/ 13. (¬3) انظر: "البسيط" آل عمران: 77، 187، 199، المائدة: 44. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 86، وابن أبي حاتم 6/ 1759، وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" 3/ 387، وانظر: "تفسير الإمام مجاهد" ص 365. (¬5) هذا التعليل من كلام المؤلف، ولعل المقصود أن أبا سفيان اشترى ذمم حلفائه بمثل ذلك الإطعام، فنقضوا عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬6) ذكره الثعلبي 6/ 82 ب. (¬7) ساقط من (ح) و (ى). (¬8) في (ى): (اشتراء).

11

المراقبة للعهد والذمة للمؤمن، وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}، قال الكلبي: "أي المعتدون للحلال إلى الحرام بنقض العهد" (¬1). 11 - قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا}، قال ابن عباس: "يريد: عن الشرك" (¬2). {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} قال ابن مسعود: "أُمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جميعاً ولم يُزك فلا صلاة له" (¬3)، وقال ابن زيد: "افترضت الصلاة مع الزكاة جميعًا ولم يفرق بينهما وأبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة" (¬4)، وقال: "يرحم الله أبا بكر ما كان (¬5) أفقهه" (¬6). وقال أهل العلم: "هذه الآية دليل على أن الصلاة والزكاة مقرونتان بالشهادة في كف السيف وحقن الدم ودليل على أن المؤاخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعًا لأن الله تعالى شرطهما في إثبات المؤاخاة ومن لم يكن من أهل وجوب الزكاة وجب عليه أن يقر بحكمها فإذا أقر بحكمها دخل في الصفة التي تجب بها الأخوة" (¬7). وقوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ}، قال الفراء: "معناه: فهم إخوانكم، يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنيًا عنه كقوله (¬8): {فَإِنْ لَمْ ¬

_ (¬1) رواه الفيرزأبادي في "تنوير المقباس" ص 188 عن الكلبي عن ابن عباس. (¬2) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 87، والثعلبي 6/ 82 ب، والبغوي 4/ 16. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 87، والثعلبي 6/ 82 ب. (¬5) (كان) ساقطة من (ى). (¬6) هذا الأثر تابع للأثر السابق. وانظره في المصدرين السابقين. (¬7) انظر نحو هذا القول في كتاب "الأم" 1/ 424، و"أحكام القرآن" للهراسي 3/ 177، و"الإكليل استنباط التنزيل" ص116. (¬8) في (ى): (قوله)، وفي "معاني القرآن": ومثله.

12

{تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5] أي: فهم إخوانكم" (¬1). قال أبو حاتم: "قال أهل البصرة أجمعون: "الإخوة" في النسب، و"الإخوان" في الصداقة، قال: وهذا غلط، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء: إخوة وإخوان قال الله سبحانه (¬2) وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] لم يعن (¬3) النسب، وقال -عز وجل-: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسب" (¬4). قال ابن عباس: "حرمت هذا الآية دماء أهل القبلة" (¬5). {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [أي: نبينها، يعني آيات القرآن {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}] (¬6) أنها من عند الله. 12 - قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} يقال: نكث فلان عهده: إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه (¬7)، وهو الغزل من الصوف والشعر يُبرم وُينسج، فإذا أخلقت (¬8) النسيجة قطعت ونكثت (¬9) خيوطها المبرمة وخلطت بالصوف وميشت (¬10)، ثم غزل ثانية، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 425. (¬2) في (ح): (قال الله تعالى)، وفي "تهذيب اللغة": قال الله جل وعز. (¬3) في (ى): (يعني). (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 128 بنحوه. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 87 وفي سنده رجل لم يسم. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) في (م): (انبرامه). (¬8) في (ى): (اختلفت)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة" (نكث) 4/ 3658، وفي "مجمل اللغة" (نكث) 4/ 884: النكث: أن تنقض أخلاق الأكسية، وتغزل ثانية. (¬9) في (م): (ونكث). (¬10) الميش: خلط الشعر بالصوف، انظر: "تهذيب اللغة" (ماش) 4/ 3326، و"القاموس المحيط"، فصل الميم، باب الشين ص 606.

ومنه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] والأيمان: جمع يمين، بمعنى الحلف والقسم، وقيل للحلف يمين باسم اليد، وكانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا أو تعاقدوا، وقيل: سمي القسم يميناً ليمن البرّ فيه. قال (¬1) المفسرون: يعني مشركي قريش، يقول: "إن نقضوا عهودهم" (¬2). وقوله تعالى: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} [قال ابن عباس: يريد: اغتابوكم وغمصوا عليكم في دينكم] (¬3)، يقال: طعنه بالرمح يطعنه، وطعن بالقول السيىء (¬4) يطعن (¬5)، قال الليث: "وبعضهم يقول: يطعُن بالرمح ويطعَن بالقول، فيفرق بينهما" (¬6)، وقال الزجاج: "وهذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام؛ لأن العهد معقود عليه ألا يطعن فإن طعن فقد نكث" (¬7). ¬

_ (¬1) في (ى): (وقال). (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 87 - 89، والبغوي 4/ 17، و"زاد المسير" 3/ 404. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي) والغمص: الاحتقار والاستصغار. انظر: "لسان العرب" (غمص) (7/ 61. (¬4) في (م): (السيء الذي). (¬5) بضم العين. قال الكسائي: لم أسمع أحدًا من العرب يقول: يطعَن بالرمح ولا في الحسب، وإنما سمعت "يطعُنُ". وقال الفراء: سمعت أنا "يطعَن" بالرمح. انظر: "تهذيب اللغة" (طعن) 3/ 2195. (¬6) "تهذيب اللغة" (طعن) 3/ 2195، ونحوه في كتاب "العين" (طعن) 2/ 15، وقد رد الخليل هذا القول، وقال: كلاهما مضموم. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 434.

قال أصحابنا (¬1): "إذا بلغنا عن طائفة من أهل الذمة الطعن في ديننا انتقض بذلك عهدهم لقوله: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}. قال ابن عباس والمفسرون: "هم رؤوس قريش وصناديدها" (¬2)، وقال الزجاج: "أئمة الكفر: رؤساء الكافرين وقادتهم لأن الإمام متبع (¬3)، وذكرنا معنى (¬4) الإمام عند قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (¬5)} (¬6) وفي: ¬

_ (¬1) يعني أئمة الشافعية انظر: "روضة الطالبين" 10/ 337. (¬2) انظر أقوال المفسرين سوى ابن عباس في: "تفسير ابن جرير" 10/ 88، وابن أبي حاتم 6/ 1761، وروياه عن ابن عباس بلفظ مغاير، قال: يعني أهل العهد من المشركين، وأثر ابن عباس الذي ذكره المصنف ذكره أيضًا في "أسباب النزول" ص 246، ورواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 388، والبغوي 4/ 17، قال القرطبي 8/ 84: هذا بعيد؛ فإن الآية في سورة "براءة" حين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم". قلت: ومما يؤيد قول القرطبي -رحمه الله- ما رواه ابن جرير 10/ 88، وابن أبي حاتم 6/ 1761 عن حذيفة قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد، وأصله في صحيح البخاري (4658)، كتاب التفسير: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ..}. ولا يقال إن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة ثم ضمت إلى سورة "براءة" لثبوت بعث علي -رضي الله عنه- بصدر سورة "براءة" وقت نزولها، وثبوت أن المبعوث معه كان أربعين آية. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 65، وقد صحح المحقق السند كما في المصدر نفسه 5/ 170. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 434. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) ساقط من (ح). (¬6) من الآية: 124 من سورة البقرة. وانظر "النسخة الأزهرية" 1/ 85 أ، وقد قال هناك: "الإمام: كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، والنبي إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين ... إلخ".

"أئمة" قراءتان (¬1) بتحقيق الهمزتين، وقلب الثانية ياء (¬2). قال أبو إسحاق: "الأصل في أئمة أَأْمِمَة (¬3)؛ لأنها جمع إمام، مثل: قال وأمثلة، ولكنّ الميمين لما اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وأُلقيت حركتها (¬4) على الهمزة فصارت أئمة فأبدل من الهمزة المكسورة الياء (¬5)؛ لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، هذا هو الاختيار عند جميع النحويين (¬6)، وذكرنا وجه هذا عند قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]. قال الزجاج: ومن قرأ بهمزتين فينبغي (¬7) أن يقرأ أَأْدم بهمزتين، والإجماع أن آدم فيه همزة واحدة، والاختلاف يرد إلى الإجماع وليس "أئمة" باجتماع الهمزتين من مذهب (¬8) أصحابنا (¬9) وإلا ما يحكى عن ابن ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر والكوفيون (أئمة) بتحقيق الهمزتين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع على المشهور عنه (أيمة) بهمزة بعدها ياء. انظر: كتاب "السبعة" ص 312، و"إرشاد المبتدئ" ص 350، و"التبصرة في القراءات" 214. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (ى): (أممة)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن واعرابه" و"تهذيب اللغة" (أم) 1/ 206. (¬4) في (ى): (لحركتها)، وما في (ح) موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه" و"تهذيب اللغة" (أم) 1/ 206. (¬5) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 435. (¬6) نسبه للنحويين أيضًا الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 434، وانظر: "كتاب سيبويه" 3/ 443، و"المقتضب" 1/ 159، و"تهذيب اللغة" (أم) 1/ 206، و"الخصائص" لابن جني 3/ 143، و"أوضح المسالك" 3/ 324 - 326. (¬7) في (ح): (فينبغي له)، والزيادة غير موجودة في "معاني القرآن وإعرابه" ولا في "تهذيب اللغة" (أم). (¬8) في (م): (مذاهب). (¬9) يعني البصريين، انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 551، وكتاب "التكملة" ص 219.

أبي إسحاق (¬1) أنه كان يُجيز اجتماعها" (¬2). واختلفوا في التفضيل في الإمامة فعند المازني يقال: "هذا أومّ من هذا بالواو؛ لأن الأصل أأمّ فلم يمكن أن يبدل من الهمزة الثانية ألفاً لاجتماع الساكنين فجعلت واوًا مفتوحة كما قالوا في جمع آدم: أوادم، وآخر: أواخر (¬3). وعند الأخفش يقال: أيمّ (¬4)؛ لأن الهمزة الثانية من هذه الكلمة كلما تحركت (¬5) أبدل (¬6) منها ياء، نحو: أيمة، قال الزجاج: "والقياس ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن وإعرابه": ابن إسحاق، وفي "تهذيب اللغة" (أم)، و"لسان العرب" (أمم): أبي إسحاق، وما ذكره الواحدي موافق لما في "الحجة للقراء السبعة" 1/ 274. والصواب ما ذكره الواحدي؛ إذ هو عبد الله بن أبي إسحاق زيد بن الحارث الحضرمي مولاهم البصري النحوي المقرئ، من قدماء النحويين، وهو أول من مد القياس في النحو، وشرح العلل، وتوسع في ذلك، توفي سنة 117هـ، وقيل 129 هـ. انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص31، و"غاية النهاية" 1/ 410. وانظر: مذهب ابن أبي إسحاق في اجتماع الهمزتين في "كتاب سيبويه" 3/ 443، و"المقتضب" 1/ 159، و"إعراب القرآن للنحاس" 2/ 7، و"الحجة" 1/ 274. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 434 - 435 بتصرف. (¬3) انظر رأي المازني في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 435، و"لسان العرب" (أمم) 1/ 133، هكذا نقل عن المازني وفي "المنصف شرح التصريف" 2/ 318: قال أبو عثمان -يعني المازني-: "والقياس عندي أن أقول في "هذا أفعل من هذا" من "أممت" وأخواتها: هذا أيم من هذا". (¬4) انظر: "معاني القرآن" له 1/ 355، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 435، وفي "المنصف شرح التصريف" 2/ 315، سألت أبا الحسن -يعني الأخفش- عن. "هذا أفعل من هذا من أممت، أي قصدت" فقال: أقول: "هذا أوم من هذا". (¬5) في (ح): (تحرك). (¬6) في (ي): (أبدلت).

هو الأول" (¬1). قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}، قال الفراء: "أي لا عهود لهم" (¬2)، وفيه قراءتان: فتح الهمزة وكسرها (¬3). قال الزجاج: "من قرأ: {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} فقد وصفهم بالنكث في العهود وهو أجود القراءتين (¬4) " (¬5). والذي يقوي الفتح قوله: {قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] ولأنه إذا قال: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} عُلم أنه لا إيمان لهم، فالفتح في قوله: {لَا أَيْمَانَ} أولى؛ لأنه لا يكون تكريرًا إذ لم يقع عليه دلالة من الكلام الذي تقدمه كما وقع على الكسر. ومعنى {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم صادقة؛ لأنه قد أثبت لهم الأيمان في قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [وفي قوله: {قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}] (¬6) [التوبة: 13] فالمنفي هاهنا غير الموجب هناك؛ لأن معنى المنفي: لا أيمان لهم يفون بها، ولا أيمان لهم صادقة كما قال (¬7): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 435. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 425. (¬3) قرأ ابن عامر بكسر الهمزة من كلمة "إيمان" وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "كتاب السبعة" ص312، و"الغاية في القراءات العشر" ص164، و"التبصرة في القراءات" ص 214، و"تقريب النشر" ص 120. (¬4) كلا القراءتين سبعيتان متواترتان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد خفي ذلك على الإمام ابن جرير -رحمه الله- فرد قراءة ابن عامر، وزعم أن القراءة بها لا تجوز. انظر: "تفسيره" 10/ 89، وانظر الرد عليه في كتاب: "القراءات المتواترة التي أنكرها ابن جرير" ص 452. (¬5) اهـ. كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 435. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) لم أهتد إلى القائل، والبيت بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 6/ 83 أ، و"الجامع=

وإن حلفت لا ينقض النأيُ عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين أي ليس لها (¬1) يمين تقي بها. ومن قرأ بالكسر فقال الفراء: "يريد: أنهم كفرة لا إسلام لهم" قال: "وقد يكون المعنى: لا تُؤمنوهم، فيكون مصدر قولك: آمنته إيماناً" (¬2). وذكر أبو إسحاق أيضًا الوجهين (¬3). وشرح أبو علي هذا فقال: "الإيمان ههنا يراد به الذي هو ضد التخويف، أي: ليس لأئمة الكفر من المشركين إيمان كما يكون لذوي الذمة من أهل الكتاب؛ لأن المشركين لا يقرون على دينهم، فلا يكون على هذا: الإيمان الذي هو خلاف الكفر، فيكون تكريرًا لدلالة ما تقدم من قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} على أن أهل الكفر لا إيمان لهم" (¬4). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}، قال ابن عباس: "يريد: كي ينتهوا عن الشرك بالله" (¬5). وقال الزجاج: "أي ليرجى منهم الانتهاء" (¬6). ¬

_ = لأحكام القرآن" للقرطبي 8/ 81، و"الدر المصون" 6/ 26، والنأي: البعد كما في الصحاح (نأي) 6/ 2499. (¬1) ساقط من (ح). (¬2) "معاني القرآن" 1/ 425، وفي "لسان العرب" (أمن) 1/ 141: "يقال: آمن فلانٌ العدو إيمانًا، فأمن يأمن والعدو مؤمن". (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 435، 436. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 178 باختصار وتصرف. (¬5) ذكر الأثر المصنف في "الوسيط" 2/ 481. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 436.

13

13 - قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية، قال ابن عباس: "هذا تحريض من الله لأوليائه على أعدائه" (¬1)، وقال الزجاج: "هذا على جهة التوبيخ، ومعناه: الحض على قتالهم" (¬2). قال أهل المعاني: "إذا قلت: ألا (¬3) تفعل كذا (¬4)، فإنما [تستعمل ذلك في فعل تقدر وجوده، وإذا قلت: ألست تفعل؟] (¬5) فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده، والفرق (¬6) بينهما أن (لا) يُنفى بها المستقبل، فإذا (¬7) دخلت عليها الألف صار (¬8) تحضيضًا [على فعل ما يستقبل] (¬9)، و (ليس) إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا (¬10) دخلت عليها الألف صار (¬11) لتحقيق الحال" (¬12). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص188 بمعناه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 436. (¬3) في (ى): (لا). (¬4) في (ح): (ألا تفعل ذلك كذا). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) في (ح): (والفرقة). (¬7) في (ى): (وإذا). (¬8) هكذا في جميع النسخ، وكذلك في "تفسير الرازي" 15/ 235، والسياق يقتضي أن يقول: صارت. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬10) في (م): (وإذا). (¬11) كذا في جميع النسخ وكذلك في "تفسير الرازي" 15/ 235 - 236، والسياق يقتضي أن يقول: صارت. (¬12) ذكره عن أهل المعاني الرازي في "تفسيره" 15/ 235 نقلاً عن الواحدي. وانظر في (ألا) "شر المفصل" 8/ 113، و"المغني" ص77، و "همع الهوامع" 2/ 70.

وقوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفارة ليكون ذلك زجرًا لغيرهم، قال محمد بن إسحاق والسدي والكلبي: "نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة" (¬1). وقوله تعالى: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}، قال المفسرون: "كانوا هموا بذلك بأن (¬2) يخرجوه من مكة على حالة فظيعة فصان الله رسوله عنها، وأمره بالهجرة إلى المدينة، وحين جلسوا (¬3) في دار الندوة للمكر به، كان من رأي بعضهم إخراجه من مكة" (¬4). فبان بهذا أنهم قصدوا إخراجه، وهموا به فلم يمكنهم الله من ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: قول السدي في "تفسير ابن جرير" 10/ 90، وابن أبي حاتم 6/ 1762، وانظر قول الكلبي في: "تفسير هود بن محكم" 2/ 117، والقرطبي 8/ 85 بمعناه، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص188، عن الكلبي عن ابن عباس. أما قول محمد بن إسحاق فلم أجده بهذا المعنى، ولفظه كما في "السيرة النبوية" 4/ 10، و"تفسير ابن جرير" 10/ 90: "ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجهاد أهل الشرك، ممن نقض من أهل العهد الخاص، ومن كان من أهل العهد العام، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً إلا أن يعدو فيها عاد منهم فيقتل بعدائه، فقال: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ...} الآيات" اهـ. ومعلوم أن أهل مكة أسلموا قبل نزول هذه الآيات فالقول بأنها نزلت فيهم فيه نظر. (¬2) في (م) و (ى): (وأن). (¬3) في (ح): (حبسوا)، وهو خطأ. (¬4) انظر: "السيرة النبوية" 2/ 93، 94، و"الكشاف" 2/ 177، و"زاد المسير" 3/ 405، وفي الآية أقوال أخرى انظرها في "المحرر الوجيز" 6/ 428، و"البحر المحيط" 5/ 16. (¬5) لعله يعني على الحالة الفظيعة التي ذكرها؛ وإلا فقد أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من مكة كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا} [الممتحنة: =

قوله تعالى: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، قال ابن عباس: "يريد: بالقطيعه والهجرة والعداوة" (¬1)، وذكر المفسرون في هذا قولين: أحدهما: أنه أراد بدؤكم بالقتال يوم بدر (¬2)؛ لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا ومن معه، والثاني: أنه أراد أنهم قاتلوا حلفاءك خزاعة فبدؤا بنقض العهد وهذا قول الأكثرين (¬3)، واختيار الفراء (¬4) والزجاج (¬5). وقوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ}، قال الزجاج: "المعنى: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم؟ {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} أي: فمكروه عذاب الله أحق أن يخشى في ترك قتالهم (¬6) {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: مصدقين بعقاب الله وثوابه" (¬7)، ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه دون غيره. ¬

_ = 1]. وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أني أخرجت منك ما خرجت"، رواه الإمام أحمد 4/ 305، وغيره وسنده صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" 2/ 1192، ولذا قال المفسرون: هموا بإخراج الرسول وفعلوا، انظر: "تفسير ابن جرير" 10 - 89 - 90، وابن عطية 6/ 428 - 429. (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ذكر هذا القول ابن جرير 10/ 90، ورواه عن السدي وهو قول مقاتل، انظر: "تفسيره" 126 ب، وانظر أيضاً: "تفسير الثعلبي" 6/ 83 ب، والبغوي 4/ 18. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 90، وابن أبي حاتم 6/ 1762، والثعلبي 6/ 83 أ، وابن الجوزي 3/ 405، و"الدر المنثور" 3/ 389. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 425. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 436. (¬6) قوله: "في ترك قتالهم" ليس موجودًا في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع. (¬7) ا. هـ. كلام الزجاج. المصدر السابق، نفس الموضع.

14

14 - قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} " [قال مقاتل: وعدهم الله النصر بهذه الآية" (¬1)، ومعنى: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}] (¬2) يقتلهم بسيوفكم ورماحكم، في معنى قول ابن عباس والمفسرين (¬3). وقوله تعالى: {وَيُخْزِهِمْ}، قال ابن عباس: "بعد (¬4) قتلكم إياهم" (¬5). وهذا يدل على أن هذا الإخزاء وقع بهم في الآخرة، وقال آخرون: "معناه: يذلهم بالقهر والأسر" (¬6). وقوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، قال ابن عباس والسدي ومجاهد: "يعني بني خزاعة" (¬7)، وذلك حين أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكوا (¬8) فيهم (¬9)، فشفى الله صدورهم من بني بكر واستوفى ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 126 ب. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 90 - 91، والثعلبي 6/ 83 ب، والسمرقندي 2/ 36. وانظر قول ابن عباس في: "تنوير المقباس" ص 189، ولا يخفى ضعف سند هذا التفسير إذ هو من رواية الكلبي الباطلة. انظر: "الإتقان" 4/ 239. (¬4) في (ى): (يريد)، والصواب ما أثبته من غيرها بدلالة استنباط المؤلف من الرواية. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 90 - 91، والسمرقندي 2/ 36، والثعلبي 6/ 83 ب، والبغوي 4/ 18. (¬7) انظر: قول ابن عباس في "زاد المسير" 3/ 406، و"تنوير المقباس" (ص 189)، وانظر: قول السدي ومجاهد في "تفسير ابن جرير" 10/ 91، وابن أبي حاتم 6/ 1763 ب، و"الدر المنثور" 3/ 389. (¬8) بغير همز، يقال: نكيت في العدو أنكي نكاية فأنا ناك: إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك، أما بالهمز فيقال: نكأت القرحة: إذا قرفتها وقشرقها. انظر: "القاموس المحيط" (نكى) 1340، و"لسان العرب" (نكى) 8/ 4545. (¬9) في (م): (نكأوا عليهم).

ثأرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين حين استووا في القتل، وذلك أنه لما جاء المستغيث من خزاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنشد (¬1): اللهمَّ إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا (¬2) .. الأبيات. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا نُصرت إن لم أنصركم" (¬3) وغضب لهم، وخرج إلى مكة ونصر الله رسوله وشفى صدور خزاعة. ¬

_ (¬1) هو: عمرو بن سالم الخزاعي سيد خزاعة، وقد انحاز هو وقبيلته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخلوا في عقده وعهده وذلك حين تم صلح الحديبية بين المسلمين وكفار قريش، بينما دخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، واستمرت الهدنة بين القبيلتين عدة أشهر، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً، وبيتوهم على ماء لهم قرب مكة، وأعانتهم قريش، وأمدوهم بالسلاح للضغن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فركب عمرو بن سالم وقدم المدينة وأخبره بما كان من بني بكر وقريش، وأنشد: اللهم إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنا والدًا وكنت ولدًا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يداً فانصر رسول الله نصرًا عندًا ... وادع عباد الله يأتوا مددًا .. إلى أن قال: هم بيتونا بالهجير هجدًا ... وقتلونا ركعًا وسجدًا انظر: "السيرة النبوية" 4/ 10، و"الاستيعاب" 3/ 259، و"مجمع الزوائد" 6/ 240، و"الدر المنثور" 3/ 389. (¬2) في (ى): (الألتدا)، وهو خطأ، والأتلد: الأقدم. انظر: "لسان العرب" (تلد) 1/ 439. (¬3) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 237 - 241 بألفاظ مقاربة وقال في أحدها: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش، عن أبيه، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح" وقال الهيثمي في لفظ آخر: "رواه الطبراني في الصغير والكبير، وفيه يحيى بن سليمان بن نضلة، وهو ضعيف".

15

قال أبو إسحاق: "وفي هذه الآية، دليل على تثبيت النبوة؛ لأنه وعدهم النصر ووفى به، فدل به على صدق ما أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1)، ودلّ كلام أبي إسحاق (¬2) في تفسير قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أن هذا يراد به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا حلفاؤه من خزاعة؛ لأنه قال: "فيه دليل على أنهم اشتد غضبهم لله عز وجل" (¬3)، فعنده الشفاء إنما هو من داء الغضب لله ولدينه ورسوله، وعند غيره من المفسرين: الشفاء من داء الحقد لخزاعة على بني بكر وقريش (¬4). 15 - قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}، قال المفسرون: "يعني: كربها ووجدها بمعونة قريش بكرًا عليهم" (¬5). {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} يعني (¬6) من المشركين كأبي سفيان وعكرمة ابن أبي جهل (¬7) وسهيل بن عمرو (¬8)، تاب الله عليهم، وهداهم للإسلام. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 436 بنحوه. (¬2) (إسحاق) ساقط من (ى). (¬3) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬4) هذا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 91، وابن أبي حاتم 6/ 1763، و"الدر المنثور" 3/ 389. (¬5) هذا نص قول الثعلبي في "تفسيره" 6/ 83 ب، ومثله البغوي 4/ 18، وبنحوه قال ابن جرير 10/ 91. (¬6) من (م). (¬7) هو: عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي المكي، الشريف الشهيد، كان سيد بني مخزوم بعد قتل أبيه، ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، وقتل في معركة أجنادين أو اليرموك سنة 13 هـ أو 15هـ. انظر: "المعارف" ص188، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 323، و"البداية والنهاية" 7/ 4، 32، و"الإصابة" 4/ 496. (¬8) هو: سهيل بن عمرو بن عبد شمس العامري القرشي خطيب قريش وفصيحهم، =

قال الزجاج: "قوله تعالى: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} ليس بجواب لقوله: {قَاتِلُوهُمْ} ولكنه مستأنف؛ لأن {يَتُوبُ} ليس من جنس ما يجاب به {قَاتِلُوهُمْ} " (¬1). وقال الفراء: "رفع قوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} لأن معناه ليس من شروط الجزاء، إنما هو استئناف، كقولك للرجل: ائتني أعطك، وأحبُّك بعد وأكرمُك، استئناف ليس بشرط للجزاء، ومثله قوله: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24] تم الجزاء ههنا، ثم استأنف: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} (¬2) " (¬3). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، قال ابن عباس: "يريد: "عليم" بنيات المؤمنين وحبهم لله "حكيم" فيما قضى في الذين نقضوا القضية (¬4) " (¬5). ¬

_ = ومن أشرافهم، أسلم بعد فتح مكة وحسن إسلامه، وكان سمحًا جوادًا مفوهًا، كثير الصلاة والصوم والصدقة، مات في طاعون عمواس سنة 18هـ، وقيل: بل قتل في معركة اليرموك سنة 13هـ أو 15هـ. انظر: "المعارف" 161، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 194، و"الإصابة" 3/ 93. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 437. (¬2) قوله (يمح) كتبت في جميع النسخ هكذا: "يمحو" بإثبات الواو، وهي في رسم المصحف العثماني وفي "معاني القرآن" للفراء بإسقاط الواو، قال العكبري في "التبيان في إعراب القرآن" ص 416: و"يمح": مرفوع مستأنف، وليس من الجواب؛ لأنه يمحو الباطل من غير شرط، وسقطت الواو من اللفظ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف حملاً على اللفظ). وانظر أيضاً: "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 347 فقد ذكر نحو ذلك. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 426 بتصرف يسير. (¬4) في (ى): (العهد). (¬5) في "تنوير المقباس" ص 189: "والله عليم" بمن تاب وبمن لم يتب منهم "حكيم" فيما حكم عليهم.

16

16 - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} الآية، قال الفراء: "هذا من الاستفهام الذي يتوسط الكلام فيجعل بـ"أم" ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذي لم يتصل بكلام، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بـ"هل" (¬1) " وهذا مما قد (¬2) أحكمناه (¬3) في سورة البقرة (¬4). قال ابن عباس: "الخطاب في هذه الآية للمنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج معه إلى الجهاد تعذيرا، والنفاق في قلوبهم" (¬5). ومعنى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي: العلم الذي يجازي عليه؛ لأنه إنما يجازي على ما عملوا (¬6)، قاله الزجاج (¬7)، وهذا مما ذكرناه في سورة البقرة عند قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} (¬8) وفي سورة آل عمران [142]. {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، قال ابن عباس: "يريد: بنية صادقة" (¬9). ¬

_ (¬1) اهـ. "معاني القرآن" 1/ 426. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (ى): (حكيناه). (¬4) انظر: "البسيط" البقرة: 214. (¬5) ذكر الأثر عنه ابن الجوزي في: "زاد المسير" 3/ 406 بمعناه. (¬6) قال ابن الجوزي في المصدر السابق، الصفحة التالية: "ولما يعلم الله" أي: ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم، وقد كان يعلم ذلك غيبًا، فأراد إظهار ما علم ليجازي عليه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 437. (¬8) من الآية: 143 من سورة البقرة، وقال في هذا الموضع: "إلا لنعلم" والله تعالى عالم لم يزل، ولا يجوز أن يحدث له علم، واختلف أهل المعاني في وجه تأويله، فذهب جماعة إلى أن العلم له منزلتان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للحلم بعد الوجود؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب ... الخ). (¬9) لم أقف على مصدره.

وقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}، قال الكفراء: "الوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم فيفشون إليهم أسرارهم" (¬1). وقال أبو عبيدة: "كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم: وليجة" (¬2). وأصله من الولوج، فوليجة الرجل: من يختصه بدخلة أمره دون الناس، يقال هو وليجتي وهم وليجتى للواحد والجمع. قال ابن عباس في قوله: {وَلِيجَةً} "يريد: أولياء من المشركين" (¬3). وقال قتادة: "خيانة" (¬4)، وقال الضحاك: "خديعة" (¬5). وهذان القولان ليسا تفسيرًا للوليجة، بل هما تفسير لعلة اتخاذ الوليجة، كأنهما قالا: ولم يتخذوا وليجة للخيانة والخديعة؛ لأن اتخاذ الوليجة من الكفار خيانة وخديعة، قال ابن عباس: "إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلافًا للظاهر ولا الظاهر خلافًا للباطن، إنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، الأحقاف: 13] (¬6) ". ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 426. (¬2) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 254. (¬3) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 482، وروى ابن أبي حاتم 6/ 1764، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 390 عنه قال: الوليجة: البطانة من غير دينهم. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 84 أ، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 390، و"فتح القدير" 2/ 343، وقد تصحف في "الدر" إلى: حنانة. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 84 أ. (¬6) لم أقف عليه في مظانه.

17

وقال أبو (¬1) إسحاق: "لما فرض القتال تبين المنافق من غيره، ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم فأنزل الله هذه الآية" (¬2). وتقدير لفظ الآية مع المعنى: ولما يعلم الله المجاهدين والممتنعين من اتخاذ الوليجة. 17 - قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية، قال ابن عباس: "لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا؟ قال له علىّ: ألكم محاسن؟! فقال: نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله -عز وجل- ردًا على العباس {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} (¬3). ومعنى ما كان لهم ذلك: أنه أوجب على المسلمين منعهم عن ذلك، وأكثر المفسرين حملوا العمارة ههنا على دخول المسجد الحرام (¬4) والقعود فيه (¬5)، وهو قول ابن عباس والحسن، قال (¬6) في رواية عطاء: "يريد: لا يدخلوه ولا يقعدوا فيه كما كانوا قبل ذلك" (¬7). ¬

_ (¬1) في (ى): (ابن)، وهو خطأ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 437. (¬3) ذكره الثعلبي 6/ 84 أ، والمصنف في "أسباب النزول" ص 246 بغير سند، ورواه مختصرًا بن جرير 10/ 95، وابن أبي حاتم 5/ 1765 من طريق الوالبي. (¬4) من (م). (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 84 ب، والبغوي 4/ 20، والسمرقندي 2/ 38، والآية التالية وسبب النزول الذي ذكره المؤلف يدلان على أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من البناء والترميم. (¬6) لفظ: (قال) ساقط من (ح). والقائل ابن عباس، وسيأتي قول الحسن وتخريجه. (¬7) لم أقف عليه فيما بين يديّ من مصادر.

وقال الحسن: "يقول (¬1): ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام" (¬2). وقال الكلبي: "ما كان للمشركين أن يدخلوا المسجد وهم مشركون" (¬3). وذهب آخرون إلى (¬4) العمارة المعروفة من رم المسترم (¬5) من أبنية المسجد (¬6)، وهذا محظور على الكافر يمنع منه ولا يمكن. واختلف القراء في قوله: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} فقرأ أبو عمرو وابن كثير على التوحيد (¬7) وحجتهما قوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ومن جمع فحجته أن المشركين ليسوا بأولياء لمساجد المسلمين، لا المسجد الحرام ولا غيره [وإذا لم يكونوا أولياءها لم يكن لهم عمارتها، إنما عمارتها للمسلمين الذين هم أولياؤه (¬8) فدخل في ذلك المسجد الحرام وغيره، (¬9)، ويدل على ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 84 ب، والمصنف في "الوسيط" 2/ 482، والبغوي 4/ 20. (¬3) لم أقف عليه يما بين يديّ من مصادر. (¬4) في (ح): زيادة (أن) بعد (إلى). (¬5) في (ى): (المستهدم، وهما بمعنى واحد، قال في "لسان العرب" (رم) 3/ 1736: "الرم: إصلاح الشيء الذي فسد .. واسترام الحائط: أي حان له أن يرم إذا بعد عهده بالتطيين". (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 93، والبغوي 4/ 19، وابن الجوزي 3/ 409، والقرطبي 8/ 90. (¬7) وكذلك يعقوب، وقرأ باقي العشرة بالجمع. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 164، و"تقريب النشر" ص120، و"تحبير التيسير" ص 119. (¬8) هكذا في (ى) و (م) و"الحجة للقراء السبعة" 4/ 180 الذي نقك المؤلف النص منه، والسياق يقتضي أن يقول: أولياؤها. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).

أنهم ليس لهم عمارة المسجد قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، قال الفراء في هذه الآية: "ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، ألا ترى الرجل على البرذون (¬1) فتقول: قد أخذتَ في ركوب البراذين؟ وترى الرجل كثير الدراهم فتقول: إنه لكثير الدرهم (¬2)، وتقول العرب: عليه أخلاق نعلين، وأخلاق ثوب، ومنه قول الشاعر (¬3): جاء الشتاء وقميصي أخلاق (¬4) وقوله تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}، قال الزجاج: "شاهدين" (¬5) حال، المعنى: ما كانت (¬6) لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر" (¬7). ¬

_ (¬1) قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (برذن) 1/ 307: "البراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العراب". (¬2) في (ح) و (ى): (الدراهم، وهو خطأ). (¬3) صدر بيت وعجزه: شراذم بعجب منه التواق ولم أهتد إلى قائله، وقال البغدادي في "الخزانة" 1/ 234: "نسب أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات هذا البيت إلى بعض الأعراب" اهـ. والبيت بلا نسبة في "لسان العرب" (توق). وثوب أخلاق -بالجمع- إذا بلي كله. وثوب شراذم: قطع، والتواق: اسم ابن الشاعر. انظر: "خزانة الأدب"، الموضع السابق. (¬4) اهـ. كلام الفراء من "معاني القرآن" 1/ 427 مع اختلاف يسير. (¬5) في (ح): زيادة "على أنفسهم بالكفر" وهذه الزيادة غير موجودة في المصدر. (¬6) في (ى): (كان). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 437.

ومعنى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}: قال ابن عباس في رواية الضحاك: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر: سجودهم لأصنامهم وإقرارهم أنها مخلوقة" (¬1)، وقال في رواية عطاء: "يريد: حين اتخذوا لله شفعاء وأنداداً" (¬2)، وهذا معنى القول (¬3) الأول. وقال الحسن: "لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بكفرهم" (¬4) يعني أن (¬5) فيما يخبرون به دليلًا على كفرهم، لا أنهم يقولون نحن كفار، ولكن كما تقول للرجل: كلامك يشهد أنك ظالم، وقال السدي: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: مشرك" (¬6). وذكر ابن الأنباري في هذا وجهين: أحدهما: أنه قال: شهادتهم على أنفسهم بالكفر عدولهم عن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حق لا يخفى على مميز، ولا يرتاب به عاقل، فكانوا (¬7) في ذلك بمنزلة من شهد على نفسه بالكفر. والثاني: أنهم آمنوا بأنبياء (¬8) شهدوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالصدق فلما آمنوا ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 85 أ، وفي سنده جويبر وهو ضعيف جداً، ثم إن الضحاك لم يلق ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" 2/ 226، ورواه البغوي 4/ 20 مختصرًا. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (ى): (قول). (¬4) رواه الثعلبي 6/ 85 أ، والبغوي 4/ 20. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 93، وابن أبي حاتم 6/ 1765، والثعلبي 6/ 85 أ، والبغوي 4/ 20. (¬7) في (م): (كانوا). (¬8) في (ي): (بالأنبياء).

بهم وكذبوه دلوا على كفرهم (¬1)، وجرى ذلك مجرى الشهادة منهم على أنفسهم بالكفر" (¬2). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، قال ابن عباس: "يريد: أن أعمالهم لغير الله" (¬3). وقال الزجاج: "أي كفرهم قد أذهب ثواب أعمالهم" (¬4). ودلت هذه الآية مع ما ذكرنا من التفسير في العمارة أن الكافر ممنوع من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها (¬5) لم تقبل وصيته، ويمنع عن دخول المساجد، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد ومنعهم منها للآية، وقد أنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد ثقيف في المسجد وهم كفار (¬6)، وشد ثمامة (¬7) بن أثال ¬

_ (¬1) هذا الوجه يصح في حق أهل الكتاب دون مشركي العرب فإنهم ما كانوا يؤمنون بالأنبياء، ولا يعرفون الوحي، كما قال تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]. (¬2) ذكر قول ابن الأنباري بلفظ مقارب ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 408. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 437. (¬5) أي بالعمارة، وفي (ى): (لها)، أي للمساجد، وأثبت ما في (م) و (ح) لموافقته ما في"تفسير الرازي" 16/ 7 - 8 نقلاً عن الواحدي. (¬6) انظر: "مسند الإمام أحمد" 4/ 218، و"سنن أبي داود"، (3025) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف. (¬7) هو: ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي أبو أمامة اليمامي الصحابي، كان سيد أهل اليمامة، وقد حاصر أهل مكة أقتصاديًا ولما ارتد أهل اليمامة في فتنة مسيلمة ثبت هو على إسلامه وقاتل المرتدين من أهل البحرين، وقتل غيلة سنة12هـ. =

18

الحنفي على سارية من سواري المسجد وهو كافر (¬1)، وليس في الآية حجة لمن جعل دخول الكافر المسجد وصلاته فيه إيمانًا منه؛ لأنا (¬2) لا نأمن أن تكون صلاته قبل سماع الشهادتين منه سخرية واستهزاءً، ولا يكون فعله (¬3) عمارة للمسجد ما لم تتقدم منه كلمة الإيمان، وإن حملنا العمارة على عمارة البناء سقط هذا الاستدلال. 18 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي: إنما يعمرها بحقها من آمن بالله، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان؛ فإن الله -عز وجل- يقول {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} " (¬4)، وهذا يدل على أن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه. ¬

_ = انظر: "الاستيعاب" 1/ 287 (282)، و"الإصابة" 1/ 203 (961). (¬1) رواه البخاري (469)، كتاب الصلاة، باب دخول المشرك المسجد 1/ 202. (¬2) (لأنا) ساقط من (ح). (¬3) يعني دخوله المسجد وصلاته فيه. (¬4) رواه الترمذي في "سننه" (3093)، كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة، وقال: حديث حسن غريب، ورواه أيضًا الدارمي في "سننه"، كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات، رقم (1223) 1/ 302، وأحمد في "المسند" 3/ 68، 76، والحاكم في "المستدرك"، كتاب الصلاة 1/ 212 وصححه، وتعقبه الذهبي بأن في سنده دراجًا وهو كثير المناكير. قلت: وجميع أسانيد هذا الحديث في مصادره السابقة تدور على دراج بن سمعان عن أبي الهيثم وهي ضعيفة. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في "التقريب" ص 201 (1824): (صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. وضعف الحديث أيضًا الألباني في "ضعيف الجامع الصغير وزياداته" رقم (608) 1/ 184.

وقوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَآتَى الزَّكَاةَ}، قال ابن عباس: "يعني المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان" (¬1)، والإيمان بالله يجمع الصلاة والزكاة، ولكنهما من أوكد أقسام الإسلام وما أوجبه الإيمان، فذكرهما، قال الزجاج: "ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا (¬2)؛ لأن في قوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} دليل على تصديقه؛ لأن المعنى: وآتى الزكاة التي أتى بتحديدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال أهل المعاني: "يريد من كان بهذه الصفة كان من أهل عمارة المسجد، وليس المعنى أن من عمرها كان بهذه الصفة" (¬4)، غير أنه قلَّ من يعمرها إلا وقد جمع هذه الصفات، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخبر الذي ذكرنا. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}، قال الزجاج: "تأويله: لم يخف في باب الدين إلا الله جل وعز" (¬5). وقال أهل المعاني: "يعني: لا يترك هذه العبادات لخشية أحد ولكن يخشى الله فيقيم ذلك، والخشية من غير الله المنهي عنها أن يترك أمر الله لخشية غيره، فأما أن يخشى الناس خشية لا تؤديه إلى ترك أمر الله فليس بمنهى عنه" (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدره. (¬2) في (ى): (في هذه الآية)، وما أثبته موافق لما في المصدر التالى. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 438 بتصرف. (¬4) انظر: "زاد المسير" 3/ 409، و"الوسيط" 2/ 484، ولم أجده في كتاب أهل المعاني. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 438، وليس فيه لفظ (جل وعز). (¬6) ذكر العلماء أن الخشية والخوف أربعة أقسام: =

19

وقوله تعالى: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي فأولئك هم المهتدون، وعسى من الله واجبة، ولكن ذكر بلفظ "عسى" ليكونوا على رجاء وطمع وحذر، وابن عباس والمفسرون يقولون: "عسى واجبة من الله" (¬1)، ومعنى الاهتداء ههنا الإمساك بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة. 19 - قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية، ذكر المفسرون أقوالًا في نزول هذه الآية فقال ابن عباس في رواية الوالبي: "قال العباس: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فأنزل الله هذه الآية" (¬2)، وقال في رواية العوفي: "إن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير من الإيمان ¬

_ = الأول: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، ومن خاف غيره هذا الخوف فهو مشرك شركًا أكبر. قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]. الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الطاعة من غير عذر إلا خوف الناس، فهذا محرم. الثالث: خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة، وهذا من أعلى مراتب الإيمان. الرابع: الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو أو سبع ونحو ذلك، فهذا لا يذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى-عليه السلام- في قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 22]. انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص 486، و"فتح المجيد" ص 352. (¬1) رواه عن ابن عباس، ابن جرير 10/ 94، وابن أبي حاتم 6/ 1766 من طريق علي ابن أبي طلحة الوالبي وهو في صحيفته ص260، وقد ذهب إلى هذا القول الثعلبي 6/ 85 ب، والبغوي 4/ 20، والماوردي 2/ 348، والقرطبي 8/ 91 وغيرهم، ولم أجده عن الحسن. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 86 أ، والبغوي 4/ 22، وبنحوه ابن جرير 10/ 95، وابن أبي حاتم 6/ 1768.

والجهاد، فأنزل الله هذه الآية" (¬1). وقال الحسن والشعبي والقرظي: "افتخر علي والعباس وطلحة بن شيبة (¬2): فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه؛ ولو أشاء بتُّ فيه، وقال العباس: [أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي] (¬3): أنا صاحب الجهاد، فأنزل الله هذه الآية" (¬4). والسقاية: الموضع الذي يتخذ فيه (¬5) الشراب في المواسم وغيرها، ومنه قوله تعالى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70]، يعني إناء، قاله الليث (¬6)، قال: وسقاية الحاج: سقيهم الشراب" (¬7). فالسقاية يجوز أن تكون اسمًا، ويجوز أن تكون مصدرًا، كالرعاية ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 95، وابن أبي حاتم 6/ 1768، والثعلبي 6/ 86 أ. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "طلحة بن شيبة لا وجود له، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة". انظر: "منهاج السنة" 5/ 18. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) ذكر الأثر عنهم الثعلبي 6/ 86 أ، والواحدي في "أسباب النزول" 248، والبغوي 4/ 22، ورواه ابن جرير 10/ 96 عن القرظي بلفظه، وعن الحسن والشعبي بمعناه مختصرًا، وفي سند ابن جرير عن القرظي علتان: جهالة أحد رواته، والإرسال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5/ 18 - 19: "هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، بل ودلالات الكذب عليه ظاهرة". (¬5) في (ح): (منه). (¬6) "تهذيب اللغة" (سقي) 2/ 1715، والنص موجود بنحوه في كتاب "العين" (سقي) 5/ 189. (¬7) المصدرين السابقين، نفس الموضع.

والحماية (¬1)، فإن جعلته اسمًا فالمعنى: أجعلتم أهل (¬2) سقاية الحاج أو (¬3) أصحابها؟ ثم حذفت المضاف، وإن جعلته مصدرًا فهو مصدرٌ يراد به الفاعل على تقدير: أجعلتم ساقي الحاج [أو سقاة (¬4) الحاج] (¬5) وعمار (¬6) المسجد، كمن آمن (¬7)، وإن شئت تركتها مصدرًا وأضمرت المضاف في قوله: {كَمَنْ آمَنَ} فقلت: التقدير: أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن؟ وهذه الوجوه ذكرها الفراء (¬8) والزجاج (¬9) وابن الأنباري (¬10)، وقد استقصينا ما في هذا عند قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (¬11)، قال الحسن: "وكانت ¬

_ (¬1) في (ى): (والرعاية)، وهو خطأ. (¬2) "أهل" ساقط من (ى). (¬3) في (ى): (و). (¬4) في (ح): (سقاية). وهو خطأ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) في (ح) و (ى): (وعمارة)، وهو خطأ. (¬7) قال ابن جني: ولست أدفع مع هذا أن يكون "سقاية الحاج" جمع ساق، و"عمارة المسجد الحرام" جمع عامر، فيكون كقائم وقيام، وصاحب وصحاب، وراع ورعاء، إلا أنه أنث (فعالًا) على ما مضى فصار كحجارة وعيارة ... إلخ". "المحتسب" 1/ 286. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 427 وقد ذكر وجهًا واحداً وهو أن "السقاية" و"العمارة" مصدر يكفي من الاسم. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 438، وقد ذكر وجهًا واحداً، وهو أن المضاف محذوف، والتقدير: أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد. (¬10) في كتابه "معاني القرآن" ولم يُعثر عليه حتى الآن. (¬11) من الآية: 177 من سورة البقرة. وانظر "النسخة الأزهرية" 1/ 107 ب وقد قال في هذا الموضع: "ولكن البر من آمن بالله" البر مصدر، ولا يخبر عن المصادر بالأسماء و (من) اسم، واختلف النحويون وأهل المعاني في وجهه، وقال أبو عبيدة: البر ههنا بمعنى البار، والفاعل قد يسمى بالمصدر .. وحكى الزجاج أن معناه: ذا البر فحذف كقوله "هم درجات عند الله" أي ذو درجات، وقال قطرب والفراء: معناه: ولكن البر بر من آمن فحذف المضاف ..).

السقاية نبيذ زبيب" (¬1) وقوله تعالى: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، قال ابن عباس: "يريد: تجميره وتخليقه (¬2) " (¬3). وقوله تعالى: {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} قال العوفي عن ابن عباس: "أخبر أن عمارتهم المسجد الحرام، وقيامهم على السقاية لا ينفعهم عند الله مع الشرك (¬4) بالله، [وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيه خير مما هم عليه" (¬5)] (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي قد هدى المؤمنين الذين وصفهم، ولم يهد الذين سووا بهم (¬7)، وقال مقاتل: "لا يستوون عند الله في الفضل" (¬8)، وقال الكلبي: "في الثواب" (¬9)، وقال الأشتر بن ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 86 ب، وابن الجوزي 3/ 410. (¬2) التجمير: التبخير بالعود، والتخليق: الطلي بالخلوق، والخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه العمرة والصفرة. انظر: "لسان العرب" (جمر) 2/ 675 و (خلق) 2/ 1247. (¬3) ذكر الأثر ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 411، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 486. (¬4) في (م): (الشريك). (¬5) رواه الثعلبي 6/ 86 أبهذا اللفظ، ورواه ابن جرير 10/ 95 بنحوه مع تقديم ما بين المعقوفين على ما قبلها. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) يعني التسوية المذكورة في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية، وعبارة المؤلف ليست على إطلاقها فإن ممن سوي بهم العباس وشيبة بن عثمان، وقد هداهما الله تعالى. (¬8) "تفسير مقاتل" ص 127 ب. (¬9) "تنوير المقباس" ص189 عنه عن ابن عباس.

20

عبد الله (¬1). "الذين زعموا أنهم أهل العمارة سماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئًا". 20 - ثم نعت المهاجرين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاج، فإن قيل: إنهم كانوا كفارًا فكيف جاز في صفة المؤمنين أنهم أعظم درجة عند الله منهم، ولا درجة لهم عند الله؟ قيل: هذا على ما كانوا يقدرون هم لأنفسهم وإن كان ذلك التقدير خطأ (¬2)، كقوله (¬3): {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، وقال الزجاج: "المعنى: أعظم من غيرهم درجة" (¬4)، فيدخل في هذا كل ذي درجة ويحصل للمهاجرين المزية. وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} معنى الفوز في اللغة: الظفر بالبغية وإدراك الطلبة (¬5)، قال الزجاج: "والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير" (¬6)، وهذا مما قد سبق (¬7). ¬

_ (¬1) هكذا في (م) و (ى) وفي (ح): (الأشترين عند الله)، ولم أجد فيما بين يدي من مصادر من اسمه الأشتر بن عبد الله، وأرجح أن في النص تصحيف، والصواب: وقال -يعني الكلبي-: الأشرين عند الله الذين زعموا .. الخ، ويؤكد هذا أن الأثر قد رواه ابن جرير 10/ 95، وابن أبي حاتم 6/ 1769 عن ابن عباس من طريق العوفي دون قوله "الأشرين عند الله"، وقد روي عن العرب صيغة أفعل التفضيل "أشر" وإن كانت لغة قليلة ورديئة كما في "الصحاح" (شرر) 2/ 695، و"لسان العرب" (شرر) 4/ 2232. (¬2) في (ح): حقًّا، والصواب ما أثبته من (ى) و (م). (¬3) (كقوله) ساقط من (ح). (¬4) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 438. (¬5) انظر: "الصحاح" (فوز) 3/ 890، و"تهذيب اللغة" 3/ 2718 (فاز). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 439. (¬7) انظر: "البسيط" آل عمران: 185.

21

21 - قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} الآية، قال أبو إسحاق: "أي: يعلمهم في الدنيا مالهم في الآخرة" (¬1) [وقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} النعيم: نقيض البؤس، وهو لين العيش من النعمة (¬2)، وهي اللين، والمقيم: الدائم الذي لا يزول ولا يبرح (¬3)، وهذه الآية والتي بعدها (¬4) في المهاجرين خاصة] (¬5). 23 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية، قال ابن عباس في رواية الضحاك: "لما أمر الله المسلمين بالهجرة وكان قبل فتح مكة من آمن ولم يهاجر، لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانوا كفارًا" (¬6)، وقال في رواية أبي صالح (¬7): "لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لناس بالهجرة إلى المدينة فمن الناس من يوافقه أهله وزوجته وأقاربه على الهجرة، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: ننشدك الله أن تضيعنا، فيرق فيجلس ويدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية" (¬8)، فقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} أي: بطانة وأصدقاء، تؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 439. (¬2) انظر: "الصحاح" (نعم) 5/ 2042. (¬3) انظر: "لسان العرب" (قوم) 6/ 3781. (¬4) يعني قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ودليل التخصيص الآية السابقة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ...} إلخ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬6) رواه الثعلبي 6/ 87 أمطولاً، وفي سنده جويبر ضعيف. (¬7) هو: باذام. تقدمت ترجمته، وقد روى تفسيره الكلبي. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 87 أ، والبغوي 4/ 24 مختصرًا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

24

وقال ابن عباس: "يريد: لا تتولوهم في شيء من أمورهم، لا في النكاح ولا في الميراث ولا في الطعام ولا في الشراب ولا في السلام ولا في الكلام حتى يؤمنوا ويوحدوا الله" (¬1). وقوله تعالى: {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} الاستحباب: طلب المحبة، ثم يقال: استحب كذا بمعنى أحبه كأنه طلب محبته، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. وقوله (¬2): {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، قال ابن عباس: "يريد: مشرك مثلهم" (¬3)، وقال الحسن: "من تولى المشرك فهو مشرك، وذلك أنه راض بشركه كما أن من تولى الفاسق فهو فاسق لرضاه بفسقه" (¬4). 24 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية، قال ابن عباس في رواية الضحاك: "لما أمر المسلمون بالهجرة ومجانبة أقاربهم الكفرة قالوا: يا نبي الله، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين نقطع آباءنا وعشائرنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا فأنزل الله هذه الآية" (¬5). وقوله تعالى: {وَعَشِيرَتُكُمْ} عشيرة الرجل: أهله الأدنون، وهم الذين يعاشرونه وقريء "وعشيراتكم" بالجمع (¬6)، وذلك أن كل واحد من ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) من (م). (¬3) "تفسير الرازي" 16/ 18، والقرطبي 8/ 94. (¬4) لم أقف على مصدره، وقد ذكره من غير نسبة هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 121. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 87 أمطولاً، وانظر: "زاد المسير" 3/ 411 وسنده ضعيف؛ لأن الضحاك لم يلق ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" 2/ 226. (¬6) وهي قراءة شعبة عن عاصم وحده، وقرأ حفص عن عاصم وباقي القراء العشرة بالإفراد. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 164، و"التبصرة في القراءات" ص 214، و"تقريب النشر" ص 120.

المخاطبين له عشيرة، فإذا جُمعت قيل: "وعشيراتكم"، ومن أفرد قال: العشيرة واقعة على الجمع فاستغنى عن جمعها، ويقوي ذلك أن الأخفش قال: "لا تكاد العرب تجمع عشيرة: عشيرات، إنما يجمعونها (¬1) عشائر" (¬2). وقوله تعالى: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} الاقتراف: الاكتساب، قال ابن عباس: "يريد [كسبتموها" (¬3). وقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قال ابن عباس] (¬4): "يريد: فتربصوا بما تحبون فليس لكم عند الله ثواب في إيمانكم" (¬5)، ومعنى (¬6): {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} يعني فتح مكة في قول مجاهد (¬7) ومقاتل (¬8) والأكثرين (¬9)، ومعنى هذا: إن كنتم تؤثرون المقام في دوركم ¬

_ (¬1) في (ج): (يجمعونه). (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 180، و"الوسيط" 2/ 486، و"زاد المسير" 3/ 412، و"لسان العرب" (عشر) 5/ 2955، وقول الأخفش هذا ليس موجودًا في كتابه "معاني القرآن". (¬3) "الوجيز" 6/ 446. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 487. (¬6) ساقط من (ى). (¬7) رواه ابن جرير 10/ 99، وابن أبي حاتم 6/ 1772، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 157، والقول في "تفسير مجاهد" ص 366. (¬8) "تفسير مقاتل" ص 127 ب. (¬9) لم يذكره ابن جرير وابن أبي حاتم والماوردي والسيوطي إلا عن مجاهد، وزاد الثعلبي مقاتل، وقد ذكر ما ذكره المصنف من أنه قول الأكثرين. البغوي 4/ 487، وابن الجوزي 3/ 413. قال الشيخ ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 10/ 154: =

25

وأهليكم وتتركون الهجرة فأقيموا غير مثابين حتى يفتح الله مكة فيسقط فرض الهجرة، ولا يكون الأمر بالتربص أمر إباحة (¬1) بل هو أمر تهديد، وقال الحسن: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي: من عقوبة عاجلة أو آجلة" (¬2)، وهذا أقرب؛ لأنه أليق بالوعيد. وقوله (¬3): {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الخارجين عن طاعته إلى معصيته، وهذا أيضًا تهديد لهؤلاء بحرمان الهداية. 25 - قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} الآية، النصر: المعونة على العدو خاصة، والمواطن، وهو كل مقام أقام به الإنسان لأمر، ومثله الوطن (¬4)، والأوطان: كالمواطن، وأوطن فلان أرض كذا: أي: اتخذها محلا ومسكنًا يقيم فيها (¬5)، قال الزجاج: "في مواطن: أي في أمكنة" (¬6)، وقال الفراء: "مواطن لا تنصرف؛ لأنه مثال لم يأت عليه شيء من الأسماء المفردة (¬7)، وأنه غاية للجمع إذا انتهى الجمع إليه فينبغي ¬

_ = (ومن فسر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل؛ لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح). وانظر ما يؤكد قوله في: "تفسير ابن جرير" 10/ 98. (¬1) في (ى): (أمرًا بإباحة)، والصواب ما أثبته. (¬2) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 349، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 181، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 413. (¬3) من (م). (¬4) في (ى): (الموطن). (¬5) انظر: كتاب "العين" (وطن) 7/ 454، و"تهذيب اللغة" (وطن) 4/ 3911. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 439. (¬7) يعني الأسماء التي تدل على الواحد، قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 440: "ومعنى ليس على مثال الواحد: أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاء على لفظه، وأنه ألا يجمع كما يجمع الواحد جمع تكسير". =

أن لا يجمع، ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات ولا دنانيرات ولا مساجدات، وربما اضطر إليه الشاعر فجمعه وليس يوجد [في الكلام] (¬1) ما يجوز في الشعر، قال الشاعر (¬2): فهن يجمعن حدائداتها فهذا من المرفوض (¬3) إلا في الشعر" (¬4). انتهى كلامه. ومعنى هذا أن الجمع من العلل المانعة للصرف، وهذا النوع من [الجمع غاية] (¬5) المجموع، فكأن الجمع قد تكرر فيه فصارت هذه العلة تقوم مقام علتين فأوجبت ترك الصرف. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}، قال الزجاج (¬6): "أي: وفي يوم حنين، أي: ونصركم في يوم حنين" (¬7)، ونحو ذلك قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) هو: الأحمر كما في "لسان العرب" (حدد) 2/ 800، وانظر البيت بلا نسبة في: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 439، و"الخصائص" 3/ 236، وكتاب "الحلل" (ص 405)، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 2/ 305، و"خزانة الأدب" 1/ 208. ورواية البيت في جميع هذه المصادر: فهن يعلكن ... إلخ. والبيت ضمن أبيات في وصف الخيل منها: أصبحن في قرح وفي داراتها ... سبع ليال غير معلوفاتها فهن يعلكن ... إلخ. (¬3) في (ى): (الفروض)، وهو تصحيف. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 428 بتصرف يسير. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) ساقط من (ى). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 439.

"ونصركم يوم حنين" (¬1)، قال قتادة: "حنين: واد بين مكة والطائف قاتل عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن وثقيفًا" (¬2). وجرى (¬3) (حنين) لأنه اسم مذكر [سمي به مذكر] (¬4) نحو: بدر وأحد وحراء وثبير (¬5)، وربما جعلت العرب حنين (¬6) وبدرًا اسمًا للبلدة والبقعة فلا يُجْرونه (¬7) نحو قول الشاعر (¬8): ألسنا أكثر الثقلين رحلًا ... وأعظمهم ببطن حراء نارًا وقال آخر (¬9): نصروا نبيهم وشدوا أزره ... بحنين حين تواكل الأبطال ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص190بمعناه. (¬2) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1772. (¬3) إجراء الاسم عند الكوفيين: صرفه وتنوينه، وعدم إجرائه: منع صرفه. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي)، وليس موجودا في "معاني القرآن" للفراء. (¬5) ثبير: جبل معروف عند مكة المكرمة انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (ثبر) 1/ 207. (¬6) هكذا في جميع النسخ، والأولى: حنينًا؛ لأنه صرف بدرًا بعده. (¬7) بضم الياء وإسكان الجيم. (¬8) هو: جرير كما في "كتاب سيبويه" 2/ 24، و"لسان العرب" (حرى) 2/ 853، وليس في ديوانه، وانظر البيت بلا نسبة في: "الصحاح" (حرا) 6/ 2312، و"المقتضب" 3/ 359، و"الدر المصون" 6/ 37، وصدر البيت عند سيبويه والمبرد هكذا: ستعلم أينا خيرٌ قديمًا قال ابن بري: هكذا أنشده سيبويه، وهو لجرير، وأنشده الجوهري: ألسنا أكرم الثقلين طرًّا .. " اهـ "لسان العرب"، الموضع السابق. (¬9) هو: حسان بن ثابت -رضي الله عنه- والبيت في "ديوانه" ص 194، و"لسان العرب" (حنن) 2/ 1032، وبلا نسبة في "الصحاح" (حنن) 5/ 2105، ورواية الديوان والفراء وغيرهما هكذا: يوم تواكل الأبطال.

هذا قول الفراء وكلامه (¬1). قال المفسرون: "لما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، خرج متوجهًا إلى حنين لقتال هوازن وثقيف" (¬2). وقوله تعالى: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}، قال قتادة: "كانوا اثنى عشر ألفاً" (¬3). وقال مقاتل: "كانوا أحد (¬4) عشر ألفًا وخمسمائة" (¬5). وقال الكلبي: "كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط" (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى حنين في ستة عشر ألفًا، وكان معه رجل من الأنصار يقال له: سلمة بن سلامة بن وقش (¬7) فعجب لكثرة الناس، فقال: لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله تعالى: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} " (¬8). ¬

_ (¬1) يعني من قوله: وجرى (حنين)، انظر: "معاني القرآن" 1/ 429. (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1772 - 1773، والثعلبي 6/ 88 أ، والبغوي 4/ 25، وانظر الآثار الواردة في غزوة حنين في "الدر المنثور" 3/ 404 - 408. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 100، والثعلبي 6/ 88 أ، والبغوي 4/ 26. (¬4) في (ى): (إحدى)، والصواب ما أثبته، وهو موافق لما في "تفسير مقاتل". (¬5) "تفسير مقاتل" ص127 ب. (¬6) "تفسير الثعلبي" 6/ 88 أ، والبغوي 4/ 26، والرازي 15/ 21. (¬7) هو: سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة الأشهلي الأنصاري شهد العقبتين وبدرًا وأحدًا والمشاهد، توفي سنة 34 هـ، وقيل سنة 45 هـ. انظر: "التاريخ"الكبير" 4/ 68 (1986)، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 355، و"الإصابة" 2/ 95 (3381). (¬8) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 487، وذكر بعضه الزمخشري في الكشاف 2/ 182، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 413.

وقوله تعالى: {فَلَمْ (1) تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} معنى الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة. وقوله: {فَلَمْ (1) تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} أي لم تعطكم شيئًا يدفع حاجتكم، قال الزجاج: "أعلمهم الله أنهم ليس بكثرتهم يغلبون، وأنهم إنما يغلبون بنصر الله إياهم" (2)، فوكلوا ذلك اليوم إلى كثرتهم؛ فانهزموا ثم تداركهم الله بنصره حتى ظفروا. وقوله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} يقال: رحب يرحب رحبًا ورحابة، قال ابن شميل: "ضاقت عليه بما رحبت (3): أي: على رحبها وسعتها" (4)، فمعنى قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} أي برحبها، ومعناه: مع رحبها، و"ما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر كقوله: {لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 26، 27] أي بمغفرته لي، ومعنى الآية: إنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعًا يصلح لكم لفراركم عن عدوكم. قال ابن عباس: "يقول: هي واسعة، ولكم فيها رحاب ومتسع، فضاقت عليكم لموضع العجب" (5). قال الزجاج: "جعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة أن رَعَبهم (6)

_ (1) في (ي): (فلن)، وهو خطأ محض. (2) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 440. (3) هكذا، وفي "تهذيب اللغة": "ضاقت عليهم الأرض بما رحبت" ... إلخ. (4) "تهذيب اللغة" (رحب) 2/ 1387. (5) "تنوير المقباس" ص190 بمعناه مختصرًا. (6) بفتح العين غير المشددة، أي: أفزعهم وأخافهم، و"لسان العرب" (رعب) 3/ 1667.

حتى ولّوا مدبرين" (¬1). قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا (¬2) على الغنائم فاستقبلونا (¬3) بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث" (¬4)، قال البراء: "والذي لا إله إلا هو ما ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دبره قط، لقد رأيته، وأبو سفيان آخذ بالركاب (¬5)، والعباس آخذ بلجام الدابة، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب" وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يألو، وكانت بغلة شهباء، ثم قال للعباس: " [ناد: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، وكان العباس رجلاً صيتًا، فجعل ينادي: يا عباد الله] (¬6)، يا أصحاب (¬7) الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقًا واحداً (¬8)، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده كفًا من الحصباء فرماهم بها، وقال: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 440. (¬2) في (ى): (وانحنينا)، وفي "الصحيحين": فأكببنا. (¬3) في (ى): (فاستقبلوا). (¬4) رواه مختصرًا البخاري في "صحيحه" (4315)، كتاب: المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...}، ومسلم في "صحيحه" (1776)، كتاب الجهاد والسير. (¬5) الركاب: موضع في سرج الدابة، وهو كالغرز للرجل. انظر "القاموس المحيط"، فصل الراء، باب الباء 9155، و"لسان العرب" (ركب) 3/ 1713. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) في (ح): يا معشر أصحاب الشجرة. (¬8) العنق: الجماعة الكثيرة من الناس، وجاء القوم عنقًا عنقًا: أي طوائف. انظر: "لسان العرب" (عنق) 10/ 273.

26

" شاهت الوجوه"، فما زال أمرهم مدبرًا، وحدهم كليلًا حتى هزمهم الله، ولم يبق منهم أحدٌ يومئذٍ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب" (¬1). 26 - فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} السكينة: ما يسكن إليه القلب والنفس، قال الليث: "السكينة: الوداعة والوقار" (¬2)، وقيل (¬3): السكينة: الأمنة والطمأنينة" (¬4)، وهي المراد ههنا؛ لأن الرعب يوجب الاضطراب والهزيمة، وضده الأمنة التي توجب الطمأنينة والوقار، قال ابن عباس: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ}: يريد رحمته"، يعني أن تلك السكينة إنما أنزلت عليهم من رحمة الله. وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} قال (¬5): يريد الملائكة" وقال ¬

_ (¬1) هذا الأثر ملفق من عدة روايات، وليس للبراء وحده كما يدل عليه صنيع المؤلف، وهو نقله عن الثعلبي مع التصرف، والثعلبي صرح بأنه لفقه من عدة روايات فقال: (وكانت قصة حنين على ما ذكره المفسرون بروايات كثيرة لفقتها ونسقتها لتكون أقرب إلى الأفهام، وأحسن للنظام). "تفسير الثعلبي" 6/ 88 أ، بل إن الثعلبي ميّز قول البراء من قول غيره، وعلى أي حال فهذا الأثر ملفق من الروايات التالية:- 1 - رواية البراء، وقد رواها الثعلبي 6/ 88/ ب بلفظ المؤلف، وهي تنتهي عند لفظ "عبد المطلب" وبنحوها رواها البخاري (4315)، كتاب: المغازي، باب قول الله تعالى: {ويوم حنين ..} 5/ 310، ومسلم (1776)، كتاب الجهاد والسير. 2 - رواية العباس بن عبد المطلب، رواها مسلم (1775)، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، وأحمد في "المسند" 1/ 207. 3 - رواية قتادة، رواها ابن جرير 10/ 104. 4 - رواية سلمة بن الأكوع، رواها مسلم (1777)، كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين. (¬2) كتاب "العين" (سكن) 5/ 313. (¬3) في (ى): (وقال)، وأثبت ما في (ح) و (م) لعدم وجود هذا القول في كتاب العين. (¬4) هذا قول ابن جرير 10/ 104، والثعلبي 6/ 91 ب. (¬5) يعني ابن عباس، كما صرح بذلك في "الوسيط" 2/ 488، وذكره أيضًا ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 416.

سعيد بن جبير: "أمدّ الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة" (¬1)، وقال سعيد بن المسيب: "حدثني رجل كان (¬2) في (¬3) المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم إذ (¬4) انتهينا إلى صاحب (¬5) البغلة الشهباء (¬6)، فتلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا" (¬7). وقال الزجاج: "أنزل الله -عز وجل- عليهم السكينة حتى عادوا وظفروا، فأراهم الله في ذلك اليوم من آياته ما زادهم تثبيتًا بنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم" (¬8). وقوله تعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال ابن عباس: "يريد بأسيافكم ورماحكم" (¬9). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1774، وذكره بغير سند الثعلبي 6/ 89 أ، وابن الجوزي 3/ 416. (¬2) لفظ: (كان) ساقط من (ح)، وهو موجود في مصادر التخريج التالية. (¬3) في (ى): (من)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لمصادر التخريج التالية. (¬4) هكذا في جميع النسخ، وكذلك في "تفسير الثعلبي"، وفي "الوسيط": حتى إذا. وفي "تفسير الرازي" وأبي حيان: فلما. (¬5) (إلى صاحب) مكرر في (ى). (¬6) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انظر: "صحيح مسلم" (1775) كتاب: الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، و"تفسير الثعلبي" 6/ 89 ب. (¬7) ذكره الثعلبي 6/ 89 ب، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 488، والرازي في "تفسيره" 16/ 22، وأبو حيان في "البحر" 5/ 25. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 440. (¬9) لم أقف عليه إلا في "الوجيز" للمؤلف 6/ 450، وفي "تنوير المقباس" ص190: "وعذب الذين كفروا": بالقتل والهزيمة.

27

وقال غيره: "أي بالقتل والأسر، وسبي العيال، وسلب الأموال، مع الصَّغار والإذلال" (¬1)، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}. 27 - قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فيهديه إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف منه، قال ابن عباس: "يريد ممن كان في علم الله أن يهديه للإسلام" (¬2)، {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن اهتدى {رَحِيمٌ} لمن آمن. 28 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية، قال الفراء: "لا تكاد العرب تقول: نجس إلا وقبلها رجس، فإذا أفردوا قالوا: نجس لا غير، ولا يجمع ولا يؤنث، وهو مثل دنف (¬3) " (¬4). وقال الليث: "النجس: الشيء القذر من الناس ومن كل شيء (¬5)، ورجل نجس وقوم أنجاس، ولغة أخرى (¬6): رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس" (¬7)، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي أخباث أنجاس. ¬

_ (¬1) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 6/ 91 ب دون قوله: مع الصغار والإذلال، وبلفظ الثعلبي ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 416، ونسبه للبعض دون تحديد، وقال ابن جرير 10/ 104 "بالقتل وسبي الأهلين والذراري، وسلب الأموال والذمة". (¬2) "تنوير المقباس" ص191 بمعناه. (¬3) الدنَف (بفتح النون): (المرض الملازم، وبكسرها: المريض الذي براه المرض حتى أضفى على الموت. "لسان العرب" (دنف) 3/ 1432. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 430. (¬5) في "تهذيب اللغة": ومن كل شيء قذرته، وفي كتاب "العين": وكل شيء قذرته فهو نجس. (¬6) يعني في الكملة أخرى باعتباره مصدرًا فلا يثنى ولا يؤنث ولا يجمع. (¬7) "تهذيب اللغة" (نجس) 4/ 3519 - 3520، ونحوه مختصرًا في كتاب "العين" (نجس) 6/ 55.

قال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد لا يغتسلون من الجنابة، ولا يتوضؤون لله، ولا يصلون له" (¬1)، ونحو هذا قال قتادة: سماهم نجسًا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون" (¬2). قال أهل العلم وأصحاب (¬3) المعاني: "هذه النجاسة التي وصف الله بها المشركين نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سموا نجسًا على الذم، ولو كانت أعيانهم نجسة لما طهرهم الإسلام، ولكن شركهم يجري مجرى القذر في أنه يوجب نجسهم فسموا نجسًا لهذا المعنى" (¬4)، وقال أبو علي: معنى قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي: ليسوا من أهل الطهارة وإن لم تكن عليه (¬5) نجاسة من نحو البول والدم والخمر، والمعنى: إن الطهارة الثابتة للمسلمين هم خارجون عنها (¬6)، ومباينون لها، وهذه الطهارة هي ما ثبتت لهم في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 488، والرازي في "تفسيره" 16/ 25. (¬2) رواه البغوي 4/ 31، ورواه مختصرًا عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/271، وابن جرير 10/ 105، وابن أبي حاتم 6/ 1775. (¬3) في (ح): (إلى أصحاب)، وهو خطأ بين. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 92 أ، والبغوي 4/ 31، وابن الجوزي 3/ 417، وأحكام القرآن للهراسي 4/ 36، و"أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 913، و"تفسير ابن كثير" 2/ 382. (¬5) أي على أحدهم. (¬6) ساقط من (ح). (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 307.

وقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [قال المفسرون: "أراد منعهم من دخول الحرم وذلك أنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام" (¬1)] (¬2). وقال بعضهم: "المراد بالمسجد الحرام: الحرم" (¬3)، وهو كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] وإنما رفع من بيت أم هانئ (¬4) (¬5)، وهذا مذهب عطاء، وقال: الحرم كله قبلة ومسجد" (¬6)، وتلا هذه الآية. وقوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، قال قتادة: "يعني عام حج بالناس أبو بكر، وتلا علي سورة براءة" (¬7)، وقال عطاء عن ابن عباس: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 105، والثعلبي 6/ 92 أ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) هذا قول ابن عباس وسعيد بن جير ومجاهد وعطاء وابن شهاب كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1776، ورواه ابن جرير 10/ 105، والثعلبي 6/ 92 أعن عطاء. (¬4) هي: أم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب، بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت علي أمير المؤمنين -رضي الله عنه-، اسمها فاختة، وقيل: فاطمة، وقيل: هند، لها أحاديث في الكتب الستة، وتوفيت بعد سنة 50 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 528، و"الإصابة" 4/ 503. (¬5) رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- من بيت أم هانئ رواه الطبراني في الكبير 24/ 432، 434، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 246: "فيه عبد الأعلي بن أبي المشاور، متروك كذاب" اهـ. ورواه أيضاً ابن جرير 15/ 2 (طبعة الحلبي) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن السائب الكلبي، والكلبي متهم بالكذب. (¬6) رواه ابن جرير 10/ 105، والثعلبي 6/ 92 أ. (¬7) رواه ابن جرير 10/ 106، وابن أبي حاتم 6/ 1776، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 408.

"يريد: يوم الفتح" (¬1)، وقال الزجاج: "هذا وقع سنة تسع من الهجرة، أُمر المسلمون بمنع المشركين من الحج" (¬2). فأما الكلام في حكم هذه الآية: فروى جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (¬3): "لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد رجل من المسلمين" (¬4). قال أصحابنا (¬5): "الحرم حرام على المشركين، ولو كان الإمام بمكة فجاء رسول من المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة، وإن دخل مشرك الحرم متواريًا فمرض فيه أخرجناه مريضًا، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز، وإن التجؤا إلى مكة لم يجز لنا نصب القتال عليهم، إنما أحلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار، فإن بدؤنا فيها بالقتال حلت المدافعة، فأما من وجب عليه القصاص أو الحد فلاذ بالحرم (¬6) ¬

_ (¬1) "الوجيز" 6/ 453 وفيه نظر إذ أن الثابت أن المشركين لم ينهوا عن الحج إلا في السنة التاسعة، كما في "صحيح البخاري" (4655)، كتاب: التفسير، سورة براءة، باب: قوله "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 441. (¬3) (قال) ساقط من (ى). (¬4) ذكره الثعلبي 6/ 92 أبدون سند، ورواه بمعناه أحمد في "المسند" 3/ 392، وابن أبي حاتم 6/ 1776 ولفظهما: "لا يدخل المسجد الحرام" وفي سنده ثلاث علل: أ- أشعث بن سوار الكندي، قال في "تقريب التهذيب" ص 113 (524): (ضعيف). ب- شريك بن عبد الله، قال في التقريب ص 266 (2787): (صدوق يخطئ). ج- عنعنة الحسن البصري، وهو مدلس كما في إتحاف ذوي الرسوخ (ص 22). (¬5) يعني الشافعية: انظر "المهذب في فقه الإمام الشافعي" 2/ 258، وبعض القول في "الأم" (4/ 252، 253، 413). (¬6) ساقط من (ح).

فالحرم لا يعيذ (¬1) عاصيًا (¬2) عندنا (¬3)، وقد مضى الكلام في هذا، فأما جزائر العرب فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لئن عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب" (¬4)، فلا يجوز تمكين المشركين من استيطانها بعدما أجلاهم عمر -رضي الله عنه- بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويجوز لهم الاجتياز بشرط ألا يقيم المجتاز [في موضع] (¬5) أكثر من ثلاثة أيام، هذه سنة عمر فيهم (¬6). وقد أكثروا في تحديد جزيرة العرب، وقد قال الشافعي -وهو أعلم الناس بذلك-: "جزيرة العرب: مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها" (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): (لا يصير)، وهو خطأ. (¬2) ذهب المحققون من العلماء إلى التفريق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في الحل ثم لاذ بالحرم فالأول يقام عليه الحد والثاني لا يقام عليه الحد؛ بل الحرم يعيذه ويحميه، قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 444: "وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث، وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم"، ثم ساق ابن القيم أدلة الفريقين، وفند أدلة القول المرجوح، وبين الفرق بين الجاني في الحرم واللاجيء إليه، فانظره هناك فإنه بحث قيم. (¬3) يعني الشافعية، انظر: "الأم" (4/ 413، 414). (¬4) رواه بنحوه مسلم في (1767)، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأبو داود (3039)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب، والترمذي (1606)، كتاب السير، باب في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأحمد في "المسند" 1/ 32. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) رواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف، كتاب أهل الكتاب، باب لا يدخل مشرك المدينة رقم (9977) 6/ 51، وانظر "المغني" 13/ 244. (¬7) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" 2/ 257، والشافعي -رحمه الله- إنما فسر بذلك الحجاز، ونص عبارته: "وإن سأل من تؤخذ منه الجزية أن يعطيها =

وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} العيلة: الفقر، يقال (¬1): عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر، قال ابن عباس: "يريد خفتم حاجة" (¬2)، قال مجاهد (¬3) ومقاتل (¬4) وقتادة (¬5) والمفسرون (¬6): "لما منع المشركون من دخول الحرم قال المسلمون: إنهم كانوا يأتون بالمير (¬7) ويتبايعون، فالآن تنقطع المتاجر ويضيق العيش فأنزل الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قال ابن عباس: "يريد: يتفضل عليكم بما هو أوسع وأكثر" (¬8)، قال مقاتل: "أسلم أهل جدة وصنعاء ¬

_ = ويجري عليه الحكم على أن يسكن الحجاز لم يكن ذلك له، والحجاز: مكة والمدينة واليمامة مخاليف كلها" كتاب "الأم" 4/ 251، ثم قال في الصفحة التالية بعد أن بين أن اليمن ليست بحجاز: فأما سائر البلدان -ما خلا الحجاز- فلا بأس أن يصالحوا على المقام بها". وفي"تهذيب اللغة" (جزر) 1/ 596: "جزيرة العرب: محالها، سميت جزبرة لأن البحرين بحر فارس، وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات، وهي أرض العرب ومعدنها". (¬1) (يقال) ساقط من (ح). (¬2) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 191. (¬3) رواه بمعناه ابن جرير 10/ 108، وابن أبي حاتم 6/ 1777، وهو في "تفسير مجاهد" ص 367. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 128 أبمعناه. (¬5) رواه بمعناه ابن جرير 10/ 108، وابن أبي حاتم 6/ 1777، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 408. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 105 - 109، وابن أبي حاتم 6/ 1777، و"الدر المنثور" 3/ 408 - 410. (¬7) المير: جمع ميرة، وهي جلب الطعام. انظر: "لسان العرب" (مير) 7/ 4306. (¬8) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 488.

29

وجرش (¬1) وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله ما كانوا يتخوفون" (¬2)، وقال الضحاك وقضادة: "أغناهم الله عما خافوا من العيلة بالجزية" (¬3)، وقوله تعالى: {إِنْ شَاءَ} قال أهل المعاني: "شرط المشيئة في الغنى (¬4) لأنه علم أن فيهم من لا يبلغ هذا الغنى (¬5) الموعود، وقيل لتنقطع الآمال إلى الله -عز وجل- كما قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، قال ابن عباس: "عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين" (¬6). 29 - وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، قال مجاهد: "نزلت حين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحرب الروم فغزا (¬7) بعد نزولها غزوة تبوك" (¬8)، وقال الكلبي: "نزلت في قريظة والنضير من اليهود وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتالهم ¬

_ (¬1) جرش: مدينة في اليمن وفي الأردن، انظر: "معجم البلدان" 2/ 127، والمراد بها هنا التي باليمن؛ لأن أهلها أسلموا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما بلاد الأردن والشام فلم تفتح إلا في عهد أبي بكر وعمر. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 6/ 92 ب، وهو في "تفسير مقاتل" 128 أبلفظ: "فكفاهم الله ما كانوا يتخوفون فأسلم أهل نجد وجرش وأهل صنعاء فحملوا الطعام". (¬3) رواه عنهما ابن جرير 10/ 107 - 108، وابن أبي حاتم 6/ 1777. (¬4) في (ى): (المعنى). (¬5) في (ج): (المعنى). (¬6) ذكره ابن الجوزي في"زاد المسير" 3/ 418، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 488. (¬7) في (ى): (فغزوا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لأنه أسد في انتظام الكلام، ولموافقته لما في تفسير الثعلبي. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 92 ب وهو كذلك في تفسير مجاهد ص 367.

فصالحوه، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين" (¬1). وإذا كانت الآية نازلة فيهم فمعنى قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} أن إقرارهم عن غير معرفة فليس بإيمان، وهذا معنى قول أبي إسحاق: "إنهم لا يؤمنون بالله إيمان الموحدين، فأعلم الله -عز وجل- أن ذلك غير إيمان، وأن إيمانهم بالبعث ليس على جهة الإيمان لأنهم لا (¬2) يقرون بأن (¬3) أهل الجنة يأكلون ويشربون (¬4) " (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، قال ابن عباس: "يريد من الميتة والدم ولحم الخنزير" (¬6)، وقال الكلبي: "يعني الخمر" (¬7)، وقوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}، قال الكلبي: "ولا يعبدون عبادة الحق" (¬8)، والحق هو الله تعالى، وروى شيبان (¬9) عن قتادة: الحق هو الله ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 6/ 92 ب. (¬2) (لا) ساقطة من (ح). (¬3) في (ى): (أن)، وما أثبته موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه". (¬4) قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" 2/ 382: "لما كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد الرسل، ولا بما جاؤوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانًا صحيحًا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه"ا. هـ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 441، وقد اختصر المؤلف كلام الزجاج. (¬6) لم أقف على مصدره. (¬7) لم أقف على مصدره، وقد رواه ابن أبي حاتم 6/ 1778، عن سعيد بن جبير. (¬8) في "تنوير المقباس" عنه عن ابن عباس ص 191: ("لا يخضعون لله بالتوحيد"). (¬9) هو: شيبان بن عبد الرحمن التيمي مولاهم، أبو معاوية البصري، المؤدب، كان =

ودينه الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]: (¬1) [وقال أبو عبيدة: معناه] (¬2) ولا يطيعون الله طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكًا أو ذا سلطان فقد دان له، ومنه قول زهير (¬3): لئن حللت (¬4) بجوٍ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك (¬5) أي في طاعة عمرو، وطى هذا التقدير: لا يدينون دين أهل الحق، أي طاعة أهل الإسلام فحذف المضاف، وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، قال ابن عباس: "يريد من اليهود والنصارى والصابئين" (¬6)، ¬

_ = معلمًا صدوقًا ثقة صاحب كتاب، روى عن قتادة والحسن البصري وغيرهما، وتوفي سنة 641 هـ. انظر: "الكاشف" 1/ 491، و"تقريب التهذيب" ص 369 (2833)، و"تهذيب التهذيب" 2/ 475. (¬1) انظر قول قتادة في تفسير الثعلبي 6/ 93 أ، والبغوي 4/ 34. (¬2) ما بين المعقوفين من (م). (¬3) البيت في "شرح ديوانه" ص 183، و"تفسير ابن جرير" 10/ 109. و"جو": موضع في ديار بني أسد، و"عمرو": هو عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء، و"فدك": قرية معروفة شمال الحجاز. والشاعر يخاطب الحارث بن ورقاء الأسدي، الذي أغار على إبل زهير، وأسر راعيه وكانت بنو أسد تحت نفوذ عمرو بن هند ملك العراق، فهدد زهير الحارث بهجاء لاذع إن لم يرد الإبل والراعي، يقول بعد البيت المذكور: ليأتينك مني منطق قذع ... باق، كما دنس القبطية الودك انظر: "شرح الديوان" ص 164، 183. (¬4) (حللت) ساقط من (ى). (¬5) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 255. (¬6) "تنوير المقباس" ص191، دون ذكر الصابئين، وقد اختلف المؤرخون والمفسرون في حقيقة دين الصابئة، والصححيح أن هذا الاسم يطلق على فرقتين: الأولى: الصابئة الحرانية، وهؤلاء هم امتداد قوم إبراهيم -عليه السلام-، ويذكر الدكتور =

وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}، قال الحسن: "قاتل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - أهل هذه (¬1) الجزيرة من العرب على الإسلام ولم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة (¬2) -يعني الجزية- في شأن أهل الكتاب وهو قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (¬3). والجزية هي (¬4): ما يعطي المعاهد على عهده، وهي (فِعْلة) من جزى يجزي إذا قضى ما عليه، وقوله: {عَنْ يَدٍ}، قال ابن عباس: "هو أنهم ¬

_ = النشار نقلاً -عن البيروني- أن هؤلاء الوثنيين عباد الكواكب إنما تسموا باسم الصابئة أيام المأمون بفتوى شيخ فقيه من أهل حران حتى ينجوا من القتل أو إلزامهم بالإسلام. الثانية: الصابئة على وجه الحقيقة، وهؤلاء قوم من اليهود تخلفوا ببابل بعد عودة قومهم إلى فلسطين، ووضعوا مذهبًا ممتزجًا من اليهودية والمجوسية، ويتجهون في صلاتهم نحو القطب الشمالي ولا يزال لهم وجود في العراق. انظر: "المصنف" للصنعاني 6/ 124، و"الملل والنحل" للشهرستاني (الهامش في) 2/ 95، و"المغني" 13/ 203، و"تفسير الرازي" 16/ 31، و"نشأة الفكر الفلسفي" د. النشار 1/ 209 - 219. (¬1) ساقط من (ي). (¬2) هذا يوحي بأن جهاد أهل الكتاب من أجل الجزية، والواقع أن الهدف من القتال نشر نور الله في الآفاق، والقضاء على الحواجز التي تحول دون إبلاغ الناس كلام الله، والجزية ضريبة على المعاهد الذي رغب البقاء على دينه، وهي في مقابل حمايته والدفاع عنه، وتأمين الأمن له في ظل الدولة الإسلامية. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 93 ب، لكنه لم يقل: يعني الجزية ورواه أيضًا ابن أبي شيبة وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 412 لكن لفظهما "على هذه الأمة" بدل "على هذه الطعمة" وبه يزول الإشكال. (¬4) ساقط من (ى).

يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانًا، ولا يرسلون بها" (¬1). وهو قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: ذليلون مقهورون يتلتلون بها تلتلة (¬2)، يريد أنهم يُجرّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه (¬3) بالعنف حتى يؤدوها من يدهم، وروى يحيى بن آدم (¬4) عن عثمان البُري (¬5) في قوله: {عَنْ يَدٍ} قال: "نقد (¬6) ليس بنسيئة" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 94 ب، ورواه مختصرًا البغوي 4/ 33، وأشار إليه ابن جرير 10/ 110 بقوله: وذلك قول روي عن ابن عباس من وجه فيه نظر. (¬2) في (ى): (ثلثله)، والتلتله: الشدة والعنف في السوق، انظر: "لسان العرب" (تلل) 1/ 442. (¬3) (فيه) ساقط من (ى). (¬4) هو: يحيى بن آدم بن سليمان، أبو زكريا الأموي مولاهم الكوفي، العلامة الحافظ المجود، كان ثقة، كثير الحديث، من كبار أئمة الاجتهاد، توفي سنة 203 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 8/ 261، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 359، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 522، و"تهذيب التهذيب" 4/ 337. (¬5) هو: عثمان بن مقسم البري، أبو سلمة الكندي مولاهم البصري أحد فقهاء البصرة المفتين، على ضعف في حديثه وبدعة فيه، وقد تركه النسائي والقطان وابن معين وغيرهم. انظر: "التاريخ" 6/ 252، وكتاب "الضعفاء الصغير" ص 164، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 325، و"ميزان الاعتدال" 3/ 453. ملحوظة: عثمان المذكور روى له الترمذي (1941)، كتاب: البر، باب: ما جاء في الخيانة والغش حديثًا من طريق زيد بن الحباب عن أبي سلمة الكندي عن فرقد. وقد اعتبر ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص 646 (8146) أبا سلمة مجهولاً، والصحيح أنه هو عثمان البري. انظر: السير، الموضع السابق. (¬6) هكذا في جميع النسخ، وفي "تهذيب اللغة": نقدًا. ومراد المؤلف: عن نقد، كما في "معالم التنزيل" 4/ 33. (¬7) "تهذيب اللغة" (يدى) 4/ 3975، ولفظه: قال: نقدًا عن ظهر يد، ليس بنسيئة.

وذكر أهل المعاني في قوله: {عَنْ يَدٍ} أقوالاً:- روى أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: "كل من انطاع (¬1) لمن قهره فأعطى عن غير طيبة نفس فقد أعطى عن يد" (¬2)، ومعنى هذا أنه أعطى عن ذل واستسلام كما يقال: أعطى فلان بيده: إذا ذل واعترف بالانقياد، ودل على هذا قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال القتيبي: "يقال أعطاه عن يد، وعن ظهر يد: إذا أعطاه مبتدئًا غير مكافيء" (¬3)، وهذا بالعكس أولى؛ فإنهم يبذلون الجزية دفعًا عن رقابهم ومكافأة للمسلمين بإقرارهم على دينهم، ولكن المعنى ههنا "عن يد" أي عن غير مكافأة [منكم إياهم] (¬4) بما أعطوا من المال (¬5)، وذكر أبو إسحاق فيه أوجهًا (¬6): أحدها (¬7): {عَنْ يَدٍ} أي عن ذلٍ واعترافٍ للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم. والثاني: {عَنْ يَدٍ} عن قهر وذلٍ، كما تقول اليد في هذا لفلان أي: الأمر النافذ لفلان (¬8). ¬

_ (¬1) في (م): (أطاع). (¬2) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 256. (¬3) اهـ. كلام القتيبي، انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 184. (¬4) في (ح): (ومنكم أتاهم)، وهو خطأ. (¬5) ابن قتيبة ينفي مكافأة أهل الذمة للمسلمين، بل يدفعون الجزية بلا مقابل، والمؤلف ينفي مكافأة المسلمين لهم، فهم إذا دفعوا الجزية لا يرد المسلمون مكافأة لها. (¬6) في (ي): (وجهًا). (¬7) في (ى): (آخر). (¬8) ساقط من (ى).

والثالث: {عَنْ يَدٍ} أي: عن إنعام عليهم بذاك؛ لأن قبول الجزية منهم (¬1) وترك أنفسهم لهم نعمة عليهم ويد من المعروف جزيلة (¬2) " (¬3). وحكى غيره: {عَنْ يَدٍ} أي: عن جماعة، لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله" واليد: جماعة القوم، يقال: القوم على يد واحدة أي هم مجتمعون (¬4)، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) "وهم يد على من سواهم" (¬6) يعني هم جميعاً، كلمتهم ونصرتهم واحدة على جميع الملل، وقال أبو علي: "ويجوز {عَنْ يَدٍ}: عن ظهور عليهم وغلبة لهم من قولهم: لا يد لي (¬7) به أي لا قوة لي عليه" (¬8). وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} قد ذكرنا قولًا واحداً فيه عن ابن عباس، وهو أنهم يمشون بها من غير ركوب ولا توكيل (¬9)، وقال عطاء: "يريد ذليلًا قائمًا على رجليه وهو صاغر" (¬10)، يعني أنه يعطي ذلك عن قيام ¬

_ (¬1) في (ى): (منكم). (¬2) ساقط من (ح). (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 442 بنحوه، والنص منقول من "تهذيب اللغة" (يدي) 14/ 240. (¬4) في "لسان العرب" (يدي) 8/ 4954: "يد الرجل: جماعة قومه وأنصاره، عن ابن الأعرابي". (¬5) من (م) وفي سائر النسخ: عليه السلام. (¬6) رواه ابن ماجه (1683)، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، وأحمد في "المسند" 2/ 215، وسنده حسن كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (6712) 2/ 1137. (¬7) في (ى): (له). (¬8) لم أجده فيما بين يدي من كتب أبي علي الفارسي. (¬9) تقدم تخريجه. (¬10) لم أجد من ذكره.

ولا يجلس، وهذا قول عكرمة (¬1)، وقال الكلبي: "هو أنه إذا أعطى الجزية صفع في قفاه" (¬2)، وقيل: معنى الصغار ههنا: "هو إعطاؤهم إياها" (¬3). فأما حكم هذه الآية: فاعلم أن المشركين فريقان: فريق هم عبدة الأوثان، وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ويجب قتالهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وفريق هم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والصابئون (¬4) والسامرة (¬5) وهذان الصنفان (¬6) سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا، وكذلك المجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬7)، ويروى أنه ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 109، والبغوي 4/ 33. (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 94 أ، والبغوي 4/ 33. (¬3) ذكر هذا القول من غير نسبة ابن جرير 10/ 109، والثعلبي 6/ 94 أ، والبغوي 4/ 34، والماوردي 2/ 352، وابن الجوزي 3/ 421. (¬4) سبق التعريف بهم. (¬5) السامرة: فرقة من اليهود لهم توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود وينكرون نبوة من عدا موسى وهارون ويوشع بن نون عليهم السلام والنبي المنتظر، وقبلتهم جبل بنابلس، ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس، وهم فرقتان: الدوستانية الألفانية، والكوسانية، والأولى لا تقر بالبعث في الآخرة. انظر: "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 1/ 98، و"الملل والنحل" (بهامش الفصل) 2/ 58. (¬6) يعني الصابئين والسامرة. (¬7) رواه مالك في "الموطأ"، كتاب الزكاة (42) 1/ 233، ومن طريقه رواه الشافعي في "الأم" 4/ 246، والبيهقي في "السنن الصغير"، كتاب الجزية رقم (3703) 4/ 4، و"الكبرى"، كتاب الجزية، باب المجوس 9/ 319، وابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الجهاد، باب ما قالوا في المجوس رقم (12697) 12/ 243، وهو حديث ضعيف كما في "فتح الباري" 6/ 261، و"إرواء الغليل" رقم (1248) 5/ 88.

عليه الصلاة والسلام أخذ الجزية من مجوس هجر (¬1)، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية. وأما قدرها فقال أنس: "قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كل محتلم دينارًا" (¬2)، وقسم عمر -رضي الله عنه- على الفقراء من أهل الذمة اثنى عشر درهمًا، وعلى الأوساط (¬3) أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهما (¬4)، قال أصحابنا: "وأقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي (¬5)، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير، والاختيار في الابتداء إليهم، فإذا قبلوا وجب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3157)، كتاب الجزية، باب: الجزية والموادعة (1586)، وأبو داود، (2501) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية من المجوس والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، والدارمي، كتاب الجهاد، باب في أخذ الجزية من المجوس، رقم (2501) 2/ 307، وأحمد في "المسند" 1/ 191. (¬2) ذكره الثعلبي 6/ 93 ب مع أثر عمر الذي بعده، بغير سند، والحديث مشهور عن معاذ، فقد رواه عنه أبو داود (1576)، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والترمذي (623)، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، والنسائي، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر 5/ 25، والحاكم 1/ 398 قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬3) في (ح): (الأوسط). (¬4) رواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" (ص 50)، وابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الجهاد، باب ما قالوا في وضع الجزية رقم (12689) 12/ 241 بنحوه عن محمد ابن عبد الله الثقفي. (¬5) هذا مذهب الشافعي -رحمه الله- انظر: "الأم" 4/ 253 - 256، وفي المسألة أقوال للفقهاء انظرها في كتاب "الأموال" لأبي عبيد ص 49 - 52، و"المغني" 13/ 209 - 212.

على الإمام تقريرهم في بلاد الإسلام، إلا أن يخاف فتنة، فالمصلحة مفوضة إلى اجتهاده، فإن قبل الواحد منهم أربعة دنانير ثم بدا له وأراد أن يقر في بلاد الإسلام بدينار واحد لم يكن له إلى ذلك سبيل، فإن نقض العهد كلفناه (¬1) الخروج إلى دار الحرب، فإن قبل بعد النقض دينارا واحدا لزمنا (¬2) تقريره (¬3)، قال المفسرون: "وإنما أقر هؤلاء على دينهم بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل؛ ولأن في أيديهم كتابهم فربما يتفكرون وينظرون فيعرفون صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى" (¬4). ومصرف الجزية مصرف الفيء ولا يجوز صرف شيء منها إلى مصرف الصدقات (¬5). ¬

_ (¬1) في (ح): (كلفنا). (¬2) في (ى): (ألزمناه). (¬3) انظر: كتاب "الأم" 4/ 267، وهذا بناء على أن الاختيار في الابتداء إليهم، وناقض العهد يعتبر مبتدئًا. (¬4) انظر: "لباب التأويل في معاني التنزيل" 2/ 215، و"تفسير الرازي" 16/ 32. (¬5) قال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب في فقه الإمام الشافعي" 2/ 248، 249: "اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- فيما يحصل من مال الفيء بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال في أحد القولين: يصرف في المصالح؛ لأنه مال راتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصرف بعد موته في المصالح كخمس الخمس، فعلى هذا يبدأ بالأهم، وهو سد الثغور، وأرزاق المقاتلة، ثم الأهم فالأهم، وقال في القول الثاني: هو للمقاتلة ... ولا يعطى من الفيء صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال؛ لأن الفيء للمجاهدين". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اتفق العلماء على أن يصرف منه -يعني الفيء- أرزاق الجند المقاتلين، الذين يقاتلون الكفار، فإن تقويتهم تذل الكفار، فيؤخذ منهم الفيء، وتنازعوا هل يصرف في سائر مصالح المسلمين، أم تختص به =

30

30 - قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} الآية، قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة (¬1): "أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة من اليهود: سلام بن مشكم (¬2) والنعمان بن أوفى (¬3) وشاس (¬4) بن قيس ومالك ابن الصيف (¬5) فقالوا: كيف نتبعك وأنت (¬6) قد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم ¬

_ = المقاتلة؟ على قولين للشافعي، ووجهين في مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور في مذهبه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: أنه لا يختص به المقاتلة، بل يصرف في المصالح كلها" ثم قال: " .. فيصرف منه إلى كل من للمسلمين به منفعة عامة كالمجاهدين، وكولاة أمورهم، من ولاة الحرب، وولاة الديوان، وولاة الحكم ... ويصرف منه إلى ذوي الحاجات منهم أيضاً". "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (28/ 565، 566). (¬1) هكذا قال الواحدي تبعًا للثعلبي في "تفسيره" 6/ 94/ ب، والصواب: أو عكرمة كما في "تفسير ابن جرير" و"تفسير ابن أبي حاتم". (¬2) هو أحد بني النضير وزعيم من زعمائها، وصاحب كنزهم الذي يعدونه لنوائبهم، وقد شمر عن ساعد الجد في العداوة لرسول الله، والسعي لإطفاء نور الله، وزوجه زينب بنت الحارث التي وضعت السم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر: "السيرة النبوية" 2/ 136، 173، 197، 422، 423. (¬3) أبو أنس، من أحبار يهود بني قينقاع، كما في "السيرة النبوية" 2/ 137، 200. (¬4) في (ى): (شماس، وفي (ح): (شاتين، والصواب ما أثبته من (م) وهو موافق لمصادر تخريج الأثر. وهو شاس بن قيس من أحبار يهود بني قينقاع الذين ناصبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العداء، وكان شيخًا قد عمي، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، وهو الذي سعى لتذكير الأوس والخزرج بما كان بينهما من حروب في الجاهلية حتى كاد الحيان أن يقتتلا. انظر: "السيرة النبوية" 2/ 137، 196. (¬5) من أحبار يهود بني قينقاع، وكان ممن يتعنت في سؤال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للبس الحق بالباطل. انظر: "السيرة النبوية" (2/ 137، 174، 197) (¬6) ساقط من (ح).

أن عزيرًا بن الله؟ فأنزل الله في قولهم هذه الآية" (¬1). وقال عبيد (¬2) بن عمير: "إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء (¬3) " (¬4)، فعلى هذا أوقع الله عليه (¬5) اسم الجماعة على مذهب العرب في قولها: ركبت البغال ولعله (¬6) لم يركب إلا واحداً قاله ابن الأنباري (¬7)، وقال غيره: "إذا كان فيهم من يذهب إلى هذا القول جاز أن ينسب إليهم كما تقول: المعتزلة تقول كذا، وإن كانت طائفة منهم تقوله" (¬8). وأما السبب الذي لأجله قالوا هذه المقالة فقال ابن عباس في رواية عطية: "إن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت، وأنساهم التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فنزل نور من السماء فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب (¬9) من جوفه [من التوراة] (¬10)، فنادى في قومه: قد ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 110 - 111، وابن أبي حاتم 6/ 1781، وابن إسحاق في "السيرة" 2/ 202، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 413. (¬2) في (م): (عبيدة)، وهو خطأ. (¬3) من أحبار يهود بني قينقاع الذين نصبوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - العداوة، وهو القائل: إن الله فقير ونحن أغنياء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. انظر: "السيرة النبوية" (2/ 137، 187، 201). (¬4) ذكره الثعلبي 6/ 95 أ، والبغوي 4/ 36، ورواه ابن جرير 10/ 110 عن عبد الله ابن عبيد بن عمير. (¬5) في (م): (عليهم). (¬6) ساقط من (ى). (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: "المحرر الوجير" 6/ 461، و"تفسير الطبري" 10/ 110. (¬9) ساقط من (ى). (¬10) ما بين المعقوفين من (ح).

رد الله إليّ التوراة، وطفق يعلمهم، ثم إن التابوت نزل بعد ذلك فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أُوتي عزير هذا إلا لأنه (¬1) ابن الله" (¬2)، فسبب هذه المقالة عند جميع المفسرين تجديد عزير التوراة لهم عن ظهر قلبه بعد ذهابها عنهم، وإن اختلفوا في كيفية الذهاب، فابن عباس في رواية عطية ذهب إلى ما ذكرنا، وذهب الكلبي إلى قتل بُخْتُنَصَّر (¬3) علماءهم (¬4)، وذهب السدي إلى أن العمالقة ظهرت عليهم فقتلوهم (¬5). واختلف القراء في"عزير" فقرؤوه بالتنوين وبغيره (¬6)، قال أبو إسحاق: "الوجه إثبات التنوين؛ لأن "ابن" (¬7) خبر، وإنما يحذف التنوين ¬

_ (¬1) في (ى): (أنه). (¬2) رواه ابن جرير 10/ 111، وابن أبي حاتم 6/ 1781، والثعلبي 6/ 95 أ، والبغوي 4/ 37، وسنده ضعيف جدًّا، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب. (¬3) أحد ملوك بابل الجبابرة قبل ميلاد عيسى-عليه السلام- وهو الذي هدم بيت المقدس، وفي القاموس (نصر): (بُختُنصَّر: معروف وهو الذي كان خرب بيت المقدس -عمره الله تعالى- قال الأصمعي: "إنما هو (بُوخَتْنَصَّر) فأعرب، وبوخت: ابن، ونصَّر: صنم، وكان وجد عند الصنم، ولم يعرف له أب، فقيل هو ابن الصنم" اهـ. وانظر شيئًا من أخباره في "تاريخ الطبري" 1/ 538 - 560، و"الكامل" لابن الأثير 1/ 147 - 154، و"البداية والنهاية" 2/ 34 - 39. (¬4) رواه مطولًا الثعبي 6/ 96 أ، والبغوي 4/ 37، وهو من الإسرائيليات التي لا يعرف صدقها من كذبها، والأولى تنزيه كتب التفسير منها. (¬5) رواه مطولًا ابن جرير 10/ 111، وابن أبي حاتم 6/ 1781، وهو من الإسرائيليات التي تسللت إلى كتب التفسير، وفي بقية الخبر مبالغات تبدو عليها سيما الكذب. (¬6) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين. انظر: "الغاية" ص 164، و"التبصرة" ص214، و"تقريب النشر" ص 120. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه". ابنًا.

في الصفة نحو قولك: جاءني زيد بن عمرو، فيحذف التنوين لالتقاء الساكنين ولأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد، فإذا كان خبرًا فالتنوين، [وقد يجوز حذف التنوين] (1) على ضعف لالتقاء الساكنين وقد قرئت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1،2] فحذف (2) التنوين (3) لسكونه وسكون اللام (4)، وفيه وجه آخر أن يكون الخبر محذوفًا ويكون معناه: عزير ابن الله معبودنا (5) فيكون "ابن" نعتا (6)، ولا اختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود" هذا كلامه (7). وقد شرح أبو علي وأبو الفتح (8) ما ذكره أبو إسحاق وهو أن من نون "عزيرًا" جعله مبتدأ وجعل "ابن" خبره، وإذا كان كذلك فلا بد من إثبات التنوين في حال السعة والاختيار؛ لأن "عزيرًا" ونحوه ينصرف عجميًا كان أو عربيًا، وأما من حذف التنوين فإن حذفه على وجهين: أحدهما: أنه

_ (1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (2) في "معاني القرآن وإعرابه": بحذف. (3) يعني تنوين "أحد" وقد رواها هارون عن أبي عمرو، وقرأ بها أيضًا أبان بن عثمان وزيد بن علي ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وآخرون، وحكم عليها ابن خالويه بالشذوذ. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" (ص700)، و"مختصر في شواذ القرآن" ص 183، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 852، و"البحر المحيط" 10/ 571. (4) يعني اللام في لفظ الجلالة المذكور في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} وفي "معاني القرآن وإعرابه": وسكون الباء في قوله: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} اهـ. (5) في (ى): (معبودًا)، وهو خطأ من الناحية الإعرابية. (6) وهذا الوجه ضعيف؛ لأنه لا دليل على الخبر المحذوف. (7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 442 بنحوه. (8) (وأبو الفتح) ساقط من (ى) وهو ابن جني.

جعل الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد نحو قولهم: لا رجل ظريف، وحذف التنوين ولم يحرك لالتقاء الساكنين كما يحرك في زيد العاقل؛ لأن الساكنين كأنهما التقيا في تضاعيف كلمة واحدة فحذف الأول منهما ولم يحرك لكثرة الاستعمال، ولا يجوز إثبات التنوين إذا كان الابن صفة وإن كان الأصل؛ لأنهم جعلوه من الأصول المرفوضة كما أن إظهار الأول من المثلين في نحو ضننوا لا يجوز في الكلام، وإذا كان "عزير" مع "ابن" بمنزلة اسم مفرد، والاسم المفرد لا يكون جملة مستقلة مفيدة في هذا النحو فلا بد من إضمار جزء آخر يقدر انضمامه إليه ليتم جملة وتجعل الظاهر [إما مبتدأ و] (¬1) إما خبر المبتدأ فيكون التقدير: صاحبنا أو نسيبنا أو نبينا عزير ابن الله، إن قدرت المضمر المبتدأ، وإن قدرته بعكس ذلك جاز، فهذا أحد (¬2) الوجهين. فإن قلت (¬3): فإن من أجرى ابنا صفة على عزير ولم ينون فقد أخبر عنه أيضًا بأنه ابن كما أخبر عنه من نون عزيرًا فأي فرق بين الحالين (¬4)؟ والجواب عن ذلك: أنك إذا قلت: زيد ظريف فجعلت ظريفًا خبرًا عن زيد، فقد استأنفت الآن تعريف هذه الحال وإفادتها للسامع، وإذا قلت: هو زيد الظريف، فإنما أخبرت عن ذلك المضمر بأنه زيد، وأفدت هذا من حاله ثم حليته بالظريف، أي هو زيد المعروف قديمًا بالظرف، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (م): (آخر). (¬3) الإشكال والجواب عليه لابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 533، وما قبله لأبي علي في "الحجة" 4/ 181 - 183. (¬4) في (ى): (الحالتين).

وليس غرضك أن تفيد الآن أنه حينئذٍ (¬1) استحق عندك (¬2) الوصف بالظرف فهذا أحد الفروق بين الخبر والوصف، فكذلك أيضًا لو كان تقديره: هو عزير الذي عرف قديما بأنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا (¬3) جاز حذف التنوين وساغ، بل وجب ذلك، وليس المعنى كذلك، إنما ذكر الله عنهم أنهم أخبروا بهذا الخبر، واعتقدوا هذا الاعتقاد (¬4). الوجه الآخر: أن لا تجعلهما اسما واحداً ولكن تجعل الأول المبتدأ والآخر الخبر، فيكون المعنى فيه على هذا كالمعنى في إثبات التنوين، وتكون القراءتان (¬5) متفقتين، إلا أنك حذفت التنوين لالتقاء الساكنين، كما تُحذف حروف اللين لذلك في نحو: رمى القوم، وقاضي البلد، ويدعو الإنسان، كذلك (¬6) حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهو مراد؛ لأنه ضارع حروف اللين بما فيه من الغنة، ألا ترى أنه قد جرى مجراها في نحو: لم يك زيد منطلقا، وقد أدغم [في الياء والواو كما أدغم] (¬7) كل واحد منهما في الآخر بعد قلب الحرف إلى ما يدغم فيه (¬8)، وأبدلوا الألف من النون ¬

_ (¬1) في (ى) زيادة (أنه) بعد كلمة (حينئذٍ). (¬2) في (ح): (عند). (¬3) في (ح): (كثيراً). (¬4) اهـ. كلام أبي الفتح ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 533 بتصرف. وما بعده من كلام أبي علي وأبي الفتح. (¬5) في (ى): (القراءتين). وهو خطأ. (¬6) في (ح): (لذلك). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) اختصر الواحدي عبارة أبي علي اختصارًا مخلاً ونصها: "في نحو: لم يك زيد منطلقًا، وفي نحو: صنعاني، وبهراني، وقد أدغم .. "إلخ، فقول أبي علي. وقد أدغم .. إلخ إنما هو في كلمتي صنعاني وبهراني.

نحو: رأيت زيدًا، و {لَنَسْفَعًا} [العلق: 15] فإذا اجتمعت النون مع حروف اللين في هذه المواضع وشابهتها جاز أن تتفق معها في الحذف لالتقاء الساكنين، وعلى هذا ما يروى من قراءة بعضهم: "أحدُ الله" (¬1)، وقد جاء ذلك في الشعر كثيراً، قال حميد (¬2): حميدُ الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع وقال ابن الرقيات (¬3): تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلةُ العذراءُ (¬4) وأنشد أبو زيد (¬5): ¬

_ (¬1) يعني بحذف التنوين من (أحد) وقد سبق تخريج القراءة والآية قبل عدة أسطر. (¬2) البيت لحميد الأمجي نسبة إلى (أمَج) وهي بلدة قرب المدينة، وكان معاصرًا لعمر ابن عبد العزيز. والشاهد في البيت حذف التنوين من (حميد). انظر: "الكامل" 1/ 252، و"المقتضب" 2/ 313، و"المسائل العسكريات" (ص 177)، و"معجم البلدان" (أمج) 1/ 250. (¬3) هو: عبيد الله أو عبد الله بن قيس بن شريح العامري القرشي، شاعر قريش في العصر الأموي، ويعرف بابن قيس الرقيات لأنه كان يتغزل بثلاث نسوة، يقال لهن جميعًا: رقية، وكان أكثر شعره الغزل، توفي سنة 85 هـ تقريبًا. انظر: "الأغاني" 4/ 154، و"سمط اللآلي" (ص 294)، و"الشعر والشعراء" (ص 359). (¬4) البيت في ديوانه (ص 95) وقبله: كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارةٌ شعواء والخدام: جمع الخدمة، وهي الخلخال، والعقيلة: المرأة الكريمة. والشاهد: عدم تنوين "خدام". انظر: أمالي ابن الشجري 2/ 163. (¬5) "نوادر أبي زيد" ص 321 وقبله: =

إذا غطيف السلمي فرا وأنشد أبو العباس (¬1): عمرو (¬2) الذي هشم الثريد لقومه وقال آخر (¬3): وحاتم الطائي وهاب المئي ¬

_ = لتجدني بالأمير برًّا ... وبالقناة مدعسًا مكرًا إذا غطيف .. الخ. وانظر: الأبيات في "معاني القرآن" للفراء 1/ 431، و"الأمالي الشجرية" 3/ 53، و"ضرائر الشعر" ص 106، واللسان (دعس) 3/ 1380. (¬1) يعني المبرد، وقد تقدمت ترجمته، وانظر البيت في كتابيه: "الكامل" 1/ 252، و"المقتضب" 2/ 312، وقد اعترض علي بن حمزة في كتابه "التنبيهات على أغاليط الرواة" على المبرد في رواية هذا البيت، وقال: الرواية: عمرو العلا. قلت: قد ذكر المبرد البيت بهذه الرواية في "المقتضب" 2/ 316، ولا شاهد في هذه الرواية لأنه مضاف. (¬2) في (ح): (وعمرو)، وهو هاشم بن عبد مناف جد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال السهيلي في "الروض الأنف" 1/ 94: "ذكر أصحاب الأخبار أن هاشمًا كان يستعين على إطعام الحاج بقريش فيرفدونه بأموالهم ويعينونه، ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشًا أمر الرفادة، فاحتمل إلى الشام بجميع ماله، واشترى به أجمع كعكًا ودقيقًا، ثم أتى الموسم فهشم ذلك الكعك هشيمًا، ودقه دقًا، وصنع للحاج طعامًا مثل الثريد، وبذلك سمي هاشمًا، ودقه دقًا؛ لأن الكعك اليابس لا يثرد وإنما يهشم هشمًا، فبذلك مُدح حتى قال شاعرهم فيه: وهو عبد الله بن الزبعرى .. "، وذكر البيت ضمن أبيات، وذُكر البيت أيضًا في اللسان (سنت، مح) منسوبًا لابن الزبعرى، وفي "هشم" لابنة هاشم، وفي "الاشتقاف" لابن دريد ص13 لمطرود الخزاعي، وفي "نوادر أبي زيد" ص 167 بلا نسبة. (¬3) تقدم تخريج البيت.

وأنشدوا أيضًا (¬1): والله لو كنت لهذا خالصًا ... لكنت عبدًا آكل الأبارصا أي آكلاً" (¬2)، وهو في الشعر كثير. قال أبو علي: "الوجه في هذه القراءة: الحمل على الوجه الأول؛ لأنه لم يستمر (¬3) حذف التنوين في الكلام، وإن حصلت المشابهات بين النون وحروف (¬4) اللين (¬5) " (¬6). وقال أبو الفتح: الاختيار: الوجه الثاني، وإن كان فيه ضرورة؛ لأنه أشبه، لموافقته معنى (¬7) قراءة من نون وجعل "ابنًا" خبرًا عن"عزير" (¬8). وقوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، قال المفسرون في سبب شرك النصارى بهذه الكلمة: "إنهم كانوا على الحق بعدما رفع ¬

_ (¬1) البيت غير منسوب في كتاب "الحيوان" 4/ 300، و"أدب الكاتب" ص 166. قال البطليوسي في "الاقتضاب" ص 355: ("هذا البيت لا أعلم قائله، ولا ما يتصل به، والظاهر من معناه أن قائله سليم خطة ولم يرضها ورأى قدره يجل عنها، فقال: لو كنت ممن يرضى بما سمتموني إياه، وأهّلتموني له لكنت كالعبد الذي يأكل الوزغ" اهـ، وانظر البيت أيضًا في "المنصف" 2/ 332، و"الصحاح" (برص) 3/ 1530، و"اللسان" (برص) 1/ 258. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 181 - 186، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 532 - 536. (¬3) في "الحجة": يستقر. (¬4) في (ى): (حرف). (¬5) ساقط من (ح). (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 186. (¬7) في (ى): (مع). (¬8) "سر صناعة الإعراب" 2/ 532 بمعناه.

عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولس (¬1) قتل جملة من أصحاب عيسى (¬2)، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإني أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه (¬3)، وأظهر الندامة مما كان صنع، ووضع على رأسه التراب (¬4)، وقال: نوديت من السماء: ليست لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج، وتعلم الإنجيل، فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور (¬5)، وعلمه أن عيسى ومريم ¬

_ (¬1) هو: شاول اليهودي ولد في طرسوس ونشأ في مدينة القدس، وكان من أشد أعداء النصارى، ثم انتقل فجأة إلى النصرانية، وتسمى باسم بولس، وكان قوي الشخصية دائب الحركة، مؤثرًا ذكيا، وقد استطاع بمكره وكيده أن يحرف كثيراً من تعاليم المسيح وأن يطمس معالمها الصحيحة، يقال: إنه قتل في اضطهادات نيرون للنصارى سنة 66 م. انظر: "الديانات والعقائد في مختلف العصور" 3/ 254، و"محاضرات في النصرانية" لأبي زهرة ص 82. (¬2) جاء في أول الإصحاح التاسع من سفر أعمال الرسل: "أما شاول (اسم بولس قبل تنصره) فكان لم يزل ينفث تهددًا وقتلًا على تلاميذ الرب". انظر: "محاضرات في النصرانية" ص 87. (¬3) عرقب الدابة: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها، وعرقوبا الفرس: ما ضم ملتقى الوظيفين (ما فوق الرسغ إلى مفصل الساق) والساقين من مآخرهما من العصب. انظر: "القاموس المحيط"، فصل: العين، باب الباء 1/ 103، و"لسان العرب" (عرقب) 5/ 2909، انظر: معنى (الوظيفين) في كتاب "العين" (وظف) 8/ 169، و"تهذيب اللغة" (وظف) 4/ 3913. (¬4) في (ى): (فوضع التراب على رأسه). (¬5) لم أقف له على ترجمة.

والإله كانوا ثلاثة (¬1)، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت (¬2)، وقال: لم يكن عيسى بإنس ولا جسم ولكنه ابن الله، وعلم رجلاً يقال له: يعقوب (¬3) ذلك، ثم دعا رجلاً يقال له: ملكا (¬4) فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتي فادع الناس إلى نحلتك، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وإني غدًا أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه (¬5)، ودعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد طائفة من الناس، واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا" (¬6)، فجميع النصارى من الفرق الثلاث. ¬

_ (¬1) يعني آلهة. (¬2) قال أبو البقاء الكفوي في "الكليات" ص 798: ("اللاهوت: الخالق، والناسوت: المخلوق، وربما يطلق الأول على الروح والثاني على البدن وربما يطلق أيضاً على العالم العلوي، والثاني على العالم السفلي .. " الخ. والمراد به هنا اجتماع العنصر الإلهي والعنصر الإنساني في المسيح كما يزعم النصارى. انظر: "محاضرات في النصرانية" ص 168. (¬3) لم أقف له على ترجمة. (¬4) لم أقف له على ترجمة. (¬5) ذكر بعض المؤرخين أن بولس قتل في اضطهادات الإمبراطور نيرون للنصارى. انظر: "محاضرات في النصرانية" ص89. (¬6) ذكره الثعلبي 6/ 96 ب، والبغوي 4/ 37، والرازي 16/ 34، والخازن 2/ 215 وهذا من الإسرائيليات التي ينبغي تنزيه كتب التفسير منها، وليس لدى المؤرخين مستند يثبت صحة هذا، والمعروف أن تأليه عيسى -عليه السلام- حدث بسبب المجامع الكنسية بعد اعتناق الرومان الديانة النصرانية بعد الميلاد بثلاثمائة سنة. انظر: "البداية والنهاية" 2/ 96.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}، قال ابن عباس: "يريد: كذبا منهم وافتراءً"، وقال أهل المعاني: "أي يقولونه بألسنتهم من غير علم وليس يرجع قولهم إلى معنى صحيح (¬1) فهو لا يجاوز الفم، والمعنى الصحيح ما رجع إلى اضطرار (¬2) أو (¬3) برهان" (¬4)، قال الزجاج: "المعنى: إنه ليس فيه برهان ولا بيان إنما هو قول بالفم لا معنى تحته صحيح، لأنهم (¬5) معترفون بأن الله لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدًا، فإنما هو تكذيب (¬6) وقول فقط" (¬7)، وقال ابن الأنباري: "القول يكون باللسان ويكون بالقلب، وقول القلب هو الذي يقع عليه اسم الظن، ولهذا المعنى ذهبت العرب بالقول مذهب الظن، فقالوا (¬8): أتقول عبد الله خارج؟، ومتى تقول: محمد منطلق؟ يريدون متى تظن، قال الشاعر (¬9): أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا؟ ولو لم يقل: {بِأَفْوَاهِهِمْ} لجاز أن يذهب الوهم إلى قول القلب وقد ¬

_ (¬1) في (ح): (معنى علم صحيح). (¬2) في (ح): (الاضطرار). (¬3) في (ى): (وبرهان). (¬4) انظر: "مفاتيح الغيب" 16/ 37، و"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 118 ولم أقف عليه عند أهل المعاني. (¬5) لفظ: (نهم) ساقط من (ى). (¬6) في"معاني القرآن وإعربه": تكذب، وهو أولى، قال ابن منظور: "تكذّب فلان: إذا تكلف الكذب". "لسان العرب" (كذب) 7/ 3841. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 443. (¬8) في (ح): (وقالوا). (¬9) البيت لعمر بن أبي ربيعة وهو في "ديوانه" ص 394. وانظر: "خزانة الأدب" 2/ 439، و"شرح أبيات سيبويه" 1/ 179، و"كتاب سيبويه" 1/ 124.

بين الله -عز وجل- هذا في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] الآية، فلم كذب الله قول ألسنتهم بل كذب قول قلوبهم. وقوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} المضاهاة: المشابهة، قال الفراء: " [يقال ضاهيته] (¬1) ضهًا ومضاهاة" (¬2)، هذا قول أْكثر أهل اللغة في المضاهاة (¬3)، وقال شمر: "قال قالد بن جنبه (¬4): المضاهاة: المتابعة، فلان يضاهي فلانًا أي: يتابعه" (¬5)، قال ابن عباس: "يريد (¬6): يتشبهون بقول الأمم الخالية" (¬7)، وهذا قول مجاهد والحسن واختيار أبي علي، قال مجاهد: "يضاهئون قول المشركين حين قالوا: اللات والعزى ومناة بنات الله" (¬8)، وقال الحسن: "شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة" (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 36، وفي"تهذيب اللغة" (ضهي) 3/ 2141: قال الفراء: "يضاهون: يضارعون قول الذين كفروا" وسقط لفظ "يضارعون" من كتابه "معانى القرآن" 1/ 433. (¬3) انظر: "الصحاح" (ضهى) 6/ 2410، و"القاموس"، فصل الضاد، باب الواو والياء 1306. (¬4) لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر. (¬5) "تهذيب اللغة" (ضهى) 3/ 2142. (¬6) ساقط من (ح). (¬7) رواه مختصرًا بمعناه ابن جرير 10/ 112، وابن أبي حاتم 6/ 1783، والثعلبي 6/ 97 أ، والبغوي 4/ 38. وذكره البخاري في "صحيحه" معلقًا 8/ 316، كتاب التفسير، باب: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. (¬8) رواه الثعلبى 6/ 97 ب، والبغوي 4/ 38 (¬9) المصدرين السابقين، نفس الموضع.

وقال أبو علي: "يشبه أن يكون "الذين (¬1) كفروا": المشركين الذين لا كتاب لهم لأنهم ادعوا في الملائكة أنها بنات الله، قال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57] وقال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)} [النجم: 21] وقال: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] (¬2). وقال ابن الأنباري: "يشابهون في قولهم قول (¬3) المشركين إذ زعموا أنهم يعبدون ثلاثة: الله وعيسى ومريم، وقال المشركون: نعبد اللات والعزى ومناة" (¬4)، وعلى ما ذكر ابن الأنباري: الفعل في {يُضَاهِئُونَ} يرجع إلى النصارى دون اليهود، وهو قول قتادة والسدي إلا أنهما جعلا المشابهة من وجه آخر وهو أنهما قالا: "ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالت النصارى: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود: عزيرٌ ابن الله" (¬5) فجعلا (¬6) {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} اليهود، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي قال: "ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم (¬7) " (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) اهـ كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 186. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) ذكره مختصرًا دون تعيين القائل القرطبي في "تفسيره" 8/ 118. (¬5) رواه عنهما الثعلبي 6/ 97 ب، والبغوي 4/ 38، ورواه الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/ 271 عن قتادة، ورواه ابن جرير 10/ 112، وابن أبي حاتم 6/ 1783 مختصراً عن قتادة بلفظه، وعن السدي بمعناه. (¬6) في (ح) و (م): (فجعل)، وهو خطأ. (¬7) في (ى): (قولهم)، وهو خطأ. (¬8) لم أجد من ذكره عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد أخرج رواية الوالبي ابن جرير 10/ 112، وابن أبي حاتم 6/ 1783، والثعلبي 6/ 97 أ، والبخاري تعليقًا في "صحيحه" 8/ 316 كتاب التفسير باب: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} جميعهم بلفظ =

وقال الزجاج: "معناه (¬1): يشابهون في قولهم هذا من تقدم من كفر منهم، أي إنما قالوه اتباعًا لمن تقدم منهم، الدليل على هذا قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] أي قبلوا فهم أن (¬2) العزير والمسيح ابنا الله" (¬3)، وهذا اختيار ابن قتيبة؛ لأنه قال: "يريد أن من كان في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى يقولون ما قاله أولوهم" (¬4)، فأما قول المفسرين في معنى: {يُضَاهِئُونَ} فقد ذكرنا قول ابن عباس، وقال مجاهد: "يواطئون" (¬5)، وقال الحسن: "يوافقون" (¬6). وقرأ عاصم {يُضَاهِئُونَ} مهموزًا (¬7)، قال أحمد بن يحيى (¬8): لم يتابع عاصمًا أحد (¬9) على الهمز (¬10) " (¬11)، قال الليث: "وربما همزوا ¬

_ = "يشبهون". أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد أخرجه ابن جرير 10/ 112، وابن أبي حاتم 6/ 1783، عن قتاد فلعل المؤلف -رحمه الله- وهم فنسبه لابن عباس. (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ساقط من (ح). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 443. (¬4) "تفسير غريب القرآن" (ص 184). (¬5) رواه الثعلبي 6/ 97 ب، والبغوي 4/ 38. (¬6) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع. (¬7) انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 165، وكتاب "إرشاد المبتدي" ص 352، و "تقريب النشر"، باب الهمز المفرد ص 34. (¬8) أبو العباس ثعلب. (¬9) في (م): (أحد عاصمًا). (¬10) يعني من أصحاب القراءات المتواترة، وقد قرأ بها من غيرهم طلحة بن مصرف. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 210، و"المحرر الوجيز" 6/ 465، و"البحر المحيط" 5/ 403. (¬11) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 186، و"زاد المسير" 3/ 425.

فيه" (¬1)، وحكى ابن الأنباري: "ضاهيت وضاهأت" (¬2)، قال أبو علي (¬3): "يشبه أن يكون ما قرأ به عاصم من الهمز لغة (¬4) فيكون في الكلمة لغتان، مثل أرجيت وأرجأت" (¬5). وقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: "لعنهم" (¬6). قال الأزهري: "وليس هذا من القتال الذي هو بمعنى المحاربة بين اثنين؛ لأن قولهم: قاتله بمعنى لعنه، من واحد" (¬7)، وقال ابن جريج: " {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي قتلهم الله، وهو بمعنى التعجب" (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (ضهي) 3/ 2141، والنص في كتاب "العين" (ضهي) 4/ 70. (¬2) "زاد المسير" 3/ 425. (¬3) في (ى): (أبو عبيد)، والصواب ما أثبته إذ النص في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 187 من قول أبي علي الفارسي. (¬4) هذا من عجيب القول إذ كيف لا يجزم بثبوت اللغة بقراءة متواترة، وأمثاله من اللغويين يثبتونها ببيت شعري، أو جملة منقولة عن أعرابي، وقد أثبت الفراء أن الهمز لغة أهل الطائف، وذكر ابن جرير 10/ 113 أنها لغة ثقيف، كما أثبت الخليل بن أحمد اللغتين في الكلمة. انظر: كتاب "العين" (ضهي) 4/ 70، و"تفسير ابن جرير" 10/ 213، و"الحجة" 4/ 187، و"لسان العرب" (ضهي) 5/ 2617. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 187. (¬6) رواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير 10/ 113، وابن أبي حاتم 6/ 1783، والثعلبي 6/ 97، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 415، وقد نسب هذا القول إلى المفسرين أبو منصور الأزهري في "تهذيب اللغة" (قتل) 2/ 2884. (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 2884. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 97 ب، ورواه البغوي 4/ 38 بلفظ: قتلهم الله، وذكره القرطبي 8/ 119: بلفظ: هو بمعنى التعجب.

وقال أهل المعاني: "عاداهم الله" (¬1)، فعبر عن هذا بالمقاتلة لما بين المقاتلين (¬2) من العداوة، وقال ابن الأنباري: "وهذا تعليم لنا الدعاء عليهم، معناه: قولوا إذا دعوتهم عليهم: قاتلهم الله، أي لعنهم الله" (¬3)، كذا قال المفسرون في: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، والمقاتلة أصلها من المقتول أُخبر عن الله بها كانت بمعنى اللعنة؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. وقوله تعالى: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} الإفك: الصرف، يقال: أُفك الرجل عن الخير أي قلب وصرف، ورجل مأفوك: أي مصروف عن الخير، يقول: كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله الولد (¬4)؟! وهذا التعجب (¬5) إنما هو راجع إلى الخلق، والله لا يتعجب من شيء (¬6)، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى ¬

_ (¬1) هذا قول ابن الأنباري كما في "تهذيب اللغة" (قتل) 2/ 2884، و"زاد المسير" 3/ 425. (¬2) كذا في جميع النسخ، وهو يريد المتقاتلين. (¬3) لم أقف على مصدره. (¬4) في (ى): (ولدًا). (¬5) في (ى): (التعجيب)، وأثبت ما في النسخ الأخرى لأنه أسد في المعنى ولموافقته لما في "تفسير الرازي" 16/ 36 الذي نقل تفسير الجملة عن الواحدي بلفظه دون أن يشير لذلك. (¬6) مذهب السلف إثبات العجب لله كغيره من الصفات الثابتة في الكتاب أو السنة، وإن لم تعرف كيفيتها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك -يعني أحاديث الصفات- كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل". وقال: وأما قوله -يعني النافي صفة التعجب-: "التعجب استعظام للمتعجب منه"!!. فيقال: نعم. وقد يكون بجهل بسبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره، =

31

عجيب نبيه من تركهم الحق وإتيانهم الباطل (¬1) في زعمهم. 31 - قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}، قال أبو عبيد: الأحبار: "الفقهاء" (¬2)، واختلفوا في واحده فبعضهم يقول: حَبْر، وبعضهم يقول حِبْر، قال: وقال الفراء: "إنما هو حِبْر، يقال ذلك للعالم". وقال الأصمعي: "لا أدري أهو الحَبر أو الحِبر للرجل العالم" (¬3). ¬

_ = والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه، بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيمًا له، والله تعالى يعظم ما هو عظيم، إما لعظمة سببه، أو لعظمته، فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم". "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 3/ 141، 6/ 123. وقد دل على صفة العجب قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] بضم التاء على قراءة الكوفيين غير عاصم كما في "الغاية" ص 249، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "عجيب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل". رواه البخاري (3010)، كتاب الجهاد، باب الأسارى في السلاسل 4/ 145، انظر: "تفسير ابن جرير" 23/ 43 (ط الحلبي)، و"قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر" ص 69. (¬1) في (ج): (بالباطل). (¬2) لم أجده إلا في "تفسير الرازي" 16/ 37، وهو كثير النقل من "البسيط" للواحدي، ويغلب على الظن أنه وهم من المؤلف فإن عبارة أبي عبيد في "غريب الحديث" 1/ 60 نصها: وأما الحبر من قول الله تعالى: {مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} فإن الفقهاء يختلفون فيه فبعضهم يقول: حَبْرٌ، وبعضهم يقول: حِبْرٌ، وقال الفراء: "إنما هو حِبْرٌ يقال للعالم ذلك". فلعل المؤلف نظر نظرة عجلى إلى هذا النص وحسب أن كلمة (الفقهاء) فيه تفسير للأحبار، لا سيما أنه موطن اشباه، والله أعلم. (¬3) ا. هـ. كلام أبي عبيد، و"غريب الحديث" 1/ 61، وانظر: قول الفراء أيضًا في "تهذيب اللغة" (حبر) 1/ 721، و"تفسير ابن جرير" 10/ 113 - 114 ولم أجده في "معاني القرآن".

وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبار حَبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر (¬1) (¬2). ابن السكيت عن ابن الأعرابي: حِبْر وحَبْر للعالم (¬3). [وقال الليث: "هو حِبْر وحَبْر للعالم] (¬4) ذميا كان أو مسلما بعد (¬5) أن يكون من أهل الكتاب" (¬6). والكلام في الرهبان قد مضى عند قوله: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] (¬7). وقال أهل المعاني: "الحبر: العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها، والراهب: الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية، وكثير استعماله في متنسكي النصارى" (¬8). قال ابن عباس في قوله تعالى: {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}: فقهاؤهم ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) "تهذيب اللغة" (حبر) 1/ 721. (¬3) "إصلاح المنطق" ص 32، والمصدر السابق، نفس الموضع. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) في عبارة النسخة (ى) اضطراب، ونصها: ذميًّا كان أو مسلمًا بعد حبر وحبر أن يكون ... إلخ. (¬6) "تهذيب اللغة" (حبر) 1/ 721، والنص في كتاب "العين" (حبر) 3/ 218، وانظر إطلاق الحبر على العالم المسلم ولو لم يكن من أهل الكتاب في "صحيح البخاري" (6736)، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابن. (¬7) انظر: النسخة (ح) 2/ 67 أحيث قال: (وأما الرهبان فهو جمع راهب، مثل راكب وركبان، وفارس وفرسان، قال الليث: الرهبانية مصدر الراهب، والترهب: التعبد في صومعة .. وأصل الرهبانية من الرهبة بمعنى المخافة). (¬8) انظر: "تفسير الرازي" 16/ 37.

وعبادهم" (¬1). وقال الضحاك: "علماؤهم وقراؤهم" (¬2). وقال عدي بن حاتم: "انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ من سورة براءة فقرأ هذه الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم! وكان عدي نصرانيا، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه (¬3)؟ " فقلت بلى، فقال: "فتلك عبادتهم" (¬4). وقال أبو البختري (¬5) في هذه الآية: "أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو ¬

_ (¬1) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 490، ورواه ابن أبي حاتم 6/ 1784 بلفظ: الأحبار: القراء، وفي "تنوير المقباس" ص191: "اتخذوا أحبارهم": علماءهم. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 114، وابن أبي حاتم 6/ 1784. (¬3) في (م): (فتستحلونه). (¬4) رواه الترمذي (3095)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب آداب القاضي، رقم (20350) 10/ 198، وابن جرير 10/ 114، وابن أبي حاتم 6/ 1784، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 415، وزاد نسبته إلى ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه، وفي سند الترمذي والبيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم غطيف بن أعين، وهو ضعيف كما في "تقريب التهذيب" ص 443 (5364)، وكتاب "الضعفاء والمتروكين" ص324، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. لكن للحديث طرق انظرها في: "كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" 2/ 66. (¬5) هو: سعيد بن فيروز الطائي مولاهم، أبو البختري الكوفي، تابعي فقيه ثقة، وكان مقدم الصالحين القراء الذين ثاروا على الحجاج في فتنة ابن الأشعث، وقتل في وقعة الجماجم سنة 83 هـ. انظر: "سيرأعلام النبلاء" 4/ 279، و"تهذيب التهذيب" 2/ 38، و"شذرات الذهب" 1/ 92.

أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية" (¬1). وقال الربيع: "قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك (¬2) الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه، (فقالوا (¬3): لن نسبق أحبارنا بشيء) (¬4)، فما أمرونا به ائتمرنا، وما نُهينا (¬5) عنه انتهينا، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم" (¬6). قال أهل المعاني: "معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث (¬7) أطاعوهم في كل شيء، كقوله: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] أي كنار" (¬8). وهذا بيان أن مخالف أمر الله في التحريم والتحليل كالمشرك في عبادة الله، لأن استحلال ما حرم الله كفر بالإجماع، وكل كافر مشرك، ومن اعتقد طاعة أحد لعينه أو لصفة فيه فأطاعه في خلاف ما أمر الله فهو من الذين ذكروا في هذه الآية أنهم كانوا يعتقدون وجوب طاعة أحبارهم، ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 98 أ، ورواه بمعناه ابن جرير 10/ 115. (¬2) من (م). (¬3) في (ى): (فقال). (¬4) ما بين القوسين تحرف في تفسير ابن جرير (تحقيق: شاكر) هكذا: "قال: لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى" وأشار المحقق إلى أنه لم يهتد للصواب، وحذفت الجملة برمتها في طبعة الحلبي، فليصحح. (¬5) هكذا في جميع النسخ، والأولى: نهونا، كما في تفسير ابن جرير والثعلبي. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 98ب، وبنحوه ابن جرير 10/ 115، وأشار إليه ابن أبي حاتم 6/ 1784. (¬7) ساقط من (ح). (¬8) ذكره الثعلبي 6/ 98 ب، والقرطبي 8/ 120 منسوبا إلى أهل المعاني دون تعيين.

32

فأخبر الله تعالى أنهم اتخذوهم أربابًا. وقوله تعالى: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}، قال ابن عباس: "يريد: اتخذوه ربًا" (¬1). [وقوله -عز وجل-] (¬2) {وَمَا أُمِرُوا}، قال: يريد في التوراة والإنجيل" (¬3)، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} وهو الذي {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (¬4) سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه نفسه أن يكون له ولدٌ، أو شريك، قال الزجاج: "معناه: تنزيها له عن شركهم" (¬5). 32 - وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، قال ابن عباس: "يريدون أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم" (¬6)، فمعنى نور الله في قول أكثرهم: الإسلام (¬7)، يعني أنهم يكذبون به، ولعرضون عنه، يريدون إبطاله بذلك. وقال الكلبي: "يردون (¬8) القرآن بألسنتهم تكذيبًا له" (¬9)، وقوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}. ¬

_ (¬1) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 490، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 191 بلفظ: اتخذوا المسيح ابن مريم إلهًا. (¬2) من (م). (¬3) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 490، ورواه الفيروزأبادي ص 191 بلفظ: في جملة الكتب. (¬4) في (م): (وهو الذي لا إله غيره). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 444. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 426، والمصنف في "الوسيط" 2/ 491، وبنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 192. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 116، وابن أبي حاتم 6/ 1784، والثعلبي 6/ 98 ب. (¬8) في (ح): (يريدون)، وهو خطأ. (¬9) رواه الثعلبي 6/ 98 ب، والبغوي 4/ 39.

قال الفراء: "لم يجىء عن العرب حرف على (فعل) (يفعل) مفتوح العين في الماضي والغابر إلا وثانيه أو ثالثه أحد حروف الحلق، غير أبى يأبى، جاء نادرًا" (¬1)، ويقال: رجل أبيٌّ، وأبيان (¬2)، وأباء: ذو إباء شديد، وأخذه إباء (¬3): إذا كان يأبى الطعام فلا يشتهيه. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}، قال ابن عباس: "إلا أن يظهر دينه" (¬4). قال الفراء: "دخلت (إلا) لأن في (أبيت) طرفًا من الجحد، ألا ترى أن (أبيت) كقولك: لم أفعل (¬5)، ولا أفعل، ولولا ذلك لم يجز دخول (إلا) كما إنك لا تقول: ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك، [دون أن تقول: ضربت القوم، وذهب القوم] (¬6) وأنشد: فهل (¬7) لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله إلا أن أكون لها ابنما (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (أبى) 1/ 113، وقد زاد اللغويون: قلى يقلى، وغشى يغشى، وشجى يشجى، وجبى يجبى. انظر: المصدر السابق، نفس الموضع. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (ح): (إباءة)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "تهذيب اللغة" (أبى) 1/ 113. (¬4) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 192. (¬5) في النسخة (ح) اضطراب وتحريف، ونص قول الفراء فيها: ودخلت (إلا) أن في أثبت طرفًا من الجحد ألا ترى أن أثبت لقولك لم أفعل ... إلخ، وما في (م) و (ى) موافق لما في "معاني القرآن". (¬6) ما بين المعقوفين ليس موجودًا في "معاني القرآن" 1/ 433. (¬7) في "معاني القرآن": وهل. (¬8) في (ح) و (م): (ابنا، والصواب ما في (ي) كما في "معاني القرآن" 1/ 433. (¬9) البيت للمتلمس، وهو في "ديوانه" ص30 وانظر: "الأصمعيات" ص 245، و"خزانة الأدب" 10/ 58، و"المقاصد النحوية" 4/ 568، و"المقتضب" 2/ 93.

33

وقال الزجاج: "دخلت (إلا) ولا جحد في الكلام، وأنت لا تقول: ضربت إلا زيدا؛ لأن الكلام غير دال على المحذوف، وإذا قلت: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فالمعنى: ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره، والحذف مستعمل مع الإباء" (¬1)، وأنكر قول الفراء فقال: "لو جاز ما قال على أن فيه طرفًا من الجحد لجاز: كرهت إلا أخاك، ولا دليل ههنا على المكروه ما هو؟ ولا من هو؟ فـ (كرهت) مثل (أبيت) [إلا أن أبيت] (¬2) الحذف مستعمل معها (¬3) " (¬4). 33 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}، قال ابن عباس: "يريد: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (¬5) {بِالْهُدَى} قال: بالقرآن (¬6)، وقيل: بالبيان الذي يؤدي إلى نعيم الثواب في الجنة" (¬7)، {وَدِينِ الْحَقِّ}، قال ابن عباس: "يريد الحنيفية" (¬8)، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [قال ابن عباس: "ليظهر الرسول على الدين كله" (¬9)] (¬10) يعني (¬11): ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 444. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من: (ح). (¬3) ساقط من: (ح). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 444 وأكثر الجمل منقولة بالمعنى. (¬5) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 192. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 99 أ، والفيروزأبادي ص 192. (¬7) ذكره بنحوه الثعلبي في الموضع السابق، ولم يعين القائل. (¬8) رواه الفيروزأبادي ص 192 بلفظ: "دين الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله". (¬9) رواه ابن جرير 10/ 117، وابن أبي حاتم 6/ 1786، والبيهقي في "سننه" 9/ 306، والثعلبي 6/ 99 أوهو من رواية علي بن أبي طلحة. (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬11) من (م).

عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء. وقال في رواية عطاء: "ليعليه على جميع الأديان" (¬1)، وعلى هذا اختلفوا: فقال أبو هريرة والضحاك: "ذلك عند خروج عيسى" (¬2). وقال السدي: "ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في دين الإسلام، أو أدى الخراج" (¬3)، وقال الكلبي: "لا تقوم الساعة حتى يكون ذلك" (¬4). وقال أهل المعاني: "معناه: ليعلي دين الإسلام على كل دين بالحجة ¬

_ (¬1) رواه بمعناه ابن أبي حاتم 6/ 1786 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب النكاح، رقم (13986) 7/ 280 من رواية عكرمة. قال الإمام الشافعي: "فقد أظهر الله جل ثناؤه دينه الذي بعث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره بأن جماع الشرك دينان: دين أهل الكتاب، ودين الأميين فقهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأميين .. وقتل من أهل الكتاب وسبق حتى دان بعضهم الإسلام، وأعطى بعضٌ الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه - صلى الله عليه وسلم - وهذا ظهور الدين كله". "سنن البيهقي الكبرى"، كتاب السير، باب ظهور دين النبي 9/ 301. (¬2) رواه عن أبي هريرة الإمام ابن جرير 10/ 116، وفي سنده راوٍ لم يسم. ورواه أيضاً عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 176، وذكره عنه بغير سند الثعلبي 6/ 99 أ، والبغوي 4/ 40 وقد روياه في نفس الموضع عن الضحاك. وقد جاء في "الصحيحين" ما يشهد له من بعض الوجوه، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". رواه البخاري (2476)، كتاب المظالم، باب كسر الصليب، ومسلم (155)، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى -عليه السلام- ... (¬3) رواه الثعلبي 6/ 99 أ، وذكره القرطبي 8/ 121. (¬4) رواه الثعلبى في الموضع السابق.

34

والغلبة" (¬1)، وقد صح ظهوره عليها فحجة هذا الدين أقوى الحجج، والغلبة لهذا الدين على سائر الأديان؛ فإن أهل الإسلام يغزون أهل سائر الملل، [وأهل سائر الملل] (¬2) لا يغزون أهل الإسلام (¬3). وقيل: أراد في جزيرة العرب (¬4)، وحصل ذلك بإجلاء أهل الذمة منها، وظهور الدين فيها كلها. 34 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} قال ابن عباس: "يريد أن كثيراً من الفقهاء والعباد من أهل ¬

_ (¬1) رواه بنحوه الثعلبي 6/ 99 ب، عن الحسين بن الفضل الموصوف بأنه إمام عصره في معاني القرآن كما في "طبقات المفسرين" للسيوطي ص 37، وهو أيضاً قول النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 14. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) هذا يوم كان المسلمون أمة واحدة معتصمين بحبل الله، مستمسكين بدينه، وكان الله يدافع عنهم، ويعلي شأنهم، ويقذف الرعب في قلوب أعدائهم، أما اليوم بعد أن طال على المسلمين الأمد، وقست قلوبهم، وتفرقت كلمتهم، وقذف في قلوبهم الوهن -حب الحياة وكراهية الموت- فقد تسلط عليهم الأعداء، وأصبحت بلاد المسلمين نهبًا لكل طامع، وصدق فيهم قول نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذٍ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل". رواه أحمد 5/ 178 بسند صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (8183). (¬4) ذكره بمعناه الثعلبي 6/ 99 ب، والبغوي 4/ 40، وبلفظه القرطبي 8/ 122، وأبو حيان 5/ 33، ولم يعين أحد منهم القائل. وهذا القول فيه نظر؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وذلًا يذل الله به الكفر". رواه أحمد في "المسند" 4/ 6،103/ 4.

الكتاب" (¬1)، وقال السدي: "أما الأحبار فمن اليهود، وأما الرهبان فمن النصارى" (¬2). وقوله تعالى: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} هو ما ذكرنا في مواضع من أخذهم الرشى (¬3) في الحكم وما كانوا يصيبونه من المآكل من سفلتهم، وخافوا ذهاب ذلك عنهم بتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- لو صدقوه، فصرفوا الناس عن الإيمان به، فذلك قوله (¬4): {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قال ابن عباس: "يريد قريظة والنضير وصدهم (¬5) عن طاعة الله" (¬6)، قال أهل المعاني: "أراد بقوله: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يتملكونها، فوضع يأكلون موضعه؛ لأن الأكل عرّضهم لذلك" (¬7). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ذكر في محل "الذين" قولان: أحدهما: النصب بالعطف على اسم إن، فيكون المعنى ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي 2/ 46 بلفظ: الأحبار: العلماء، والرهبان: أصحاب الصوامع، وبنحوه في "تنوير المقباس" ص 292. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 117، وابن أبي حاتم 6/ 1787، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 417. (¬3) الرشى: بضم الراء وكسرها، جمع رشوة، وهي ما يعطاه من يعين على الباطل. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (رشا) 2/ 226، و"لسان العرب" (رشا) 3/ 1653. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) في (ح) و (ى): (فصدهم). (¬6) في "تنوير المقباس" ص 192: ("ويصدون عن سبيل الله": عن دين الله وطاعته. (¬7) انظر: "زاد المسير" 3/ 428، و"مفاتيح الغيب" 16/ 43 ولبم أجد من ذكره من أهل المعاني.

ويأكلها الذين يكنزون. والثاني: الرفع بالاستئناف (¬1)، والقولان مبنيان على سبب النزول. واختلفوا في نزول الآية، فالأكثرون على أن قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} إلى آخره مستأنف نازل في هذه الأمة، قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} يريد: من المؤمنين" (¬2)، وقال السدي: "أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهم أهل القبلة" (¬3)، وروي عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية فقال: هم أهل الكتاب، وهي خاصة [عامة] (¬4)، قال أهل العلم: "أراد أن الآية نازلة في أهل الكتاب وهي خاصة] (¬5) فيمن لم يؤد الزكاة من المسلمين، عامة في جميع أهل الكتاب من أنفق ومن (¬6) لم ينفق؛ لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا" (¬7)، وقال أبو ذر: "كنت بالشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب، فقلت: إنها لفينا وفيهم" (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 14 - 15، و"البحر المحيط" 5/ 36، و"الدر المصون" 6/ 41. (¬2) ذكره بنحوه ابن الجوزي 3/ 429. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 118، وابن أبي حاتم 6/ 1788. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 120 من رواية العوفي. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬6) من (م). (¬7) القول لابن جرير، انظر: "تفسيره" 10/ 121، والمتبادر إلى الذهن أن معنى قول ابن عباس -إن صح عنه -: هي خاصة في أهل الكتاب، عامة فيمن فعل فعلهم من المسلمين. (¬8) رواه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب ما ذكر في الكنز .. =

وأصل الكنز في كلام العرب: الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز، على ظهر الأرض كان أو في بطنها، يدل على ذلك قول الهذلي (¬1): لا دَرَّ دَرّي إن أطعمت نازلكم ... قِرْف الحتيّ وعندي البر مكنوز (¬2) وقال الليث: "يقال: كنز الإنسان مالاً يكنزه، والكنز: اسم للمال إذا أحرز في وعاء" (¬3)، يقال: كنزت البر في الجراب فاكتنز، واختلفوا في المراد بهذا الكنز، وترك هذا الإنفاق، فالذي عليه الأكثرون -وهو الإجماع اليوم- أن المراد بهذا الكنز هو جمع المال الذي لا تؤدى زكاته (¬4). ¬

_ = 3/ 212، ورواه مطولاً البخاري (1406)، كتاب: الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، وابن جرير 10/ 121 - 122، والثعلبي 6/ 103 ب. (¬1) هو: المتنخل الهذلي، وهو مالك بن عويمر أو عمرو بن عثمان بن حبيث الهذلي، أبو أثيلة، شاعر مجيد، من نوابغ شعراء هذيل. انظر: "خزانة الأدب" 2/ 135، و"الشعر والشعراء" ص 438، و"الأعلام" 5/ 264. (¬2) البيت منسوب للمتنخل في "شرح أشعار الهذليين" 3/ 1263، و"جمهرة اللغة" (برر) 1/ 67، و"شرح أبيات سيبويه" 1/ 550، و"لسان العرب" (برر) 1/ 254، كتاب "المعاني الكبير" 1/ 384، ونسب البيت لأبي ذؤيب الهذلي في كتاب "الحيوان" 5/ 285، و"شرح شواهد الشافية" ص 488، ونسب أيضًا للمتلمس، وهو في ملحق "ديوانه" ص 291. قال ابن قتيبة: "يقال: لا در در فلان: أي لا كانت له حلوبة ولا رزق، والحتي: سويق المقل، والقرف: ما انقشر منه" كتاب "المعاني الكبير" 1/ 384. (¬3) "تهذيب اللغة" (كنز) 4/ 3192، ونحوه في كتاب "العين" (كنز) 5/ 321. (¬4) انظر: "المصنف" للصنعاني 4/ 106 - 108، ولابن أبي شيبة 3/ 190، و"تفسير ابن جرير" 10/ 117 - 122، وابن أبي حاتم 6/ 1788 - 1789، والثعلبي 6/ 100 أ - 101 ب، و"الدر المنثور" 3/ 417 - 419.

ومعنى قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يؤدون زكاتها وهذا مذهب عمر وابنه وجابر، وقول ابن عباس (¬1) والضحاك (¬2) والسدي (¬3)، قال ابن عمر: "كل ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز، وإن كان فوق الأرض" (¬4)، وقال عمر: "ما أدي (¬5) زكاته فليس بكنز" (¬6)، وقال جابر: "إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز" (¬7). وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "يريد: الذين لا يؤدون زكاة أموالهم" (¬8). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج قول ابن عباس ومن ذكر قبله. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 100 أ. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 118، والثعلبي 6/ 100 أ. (¬4) رواه الصنعاني في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب إذا أديت زكاته فليس بكنز، رقم (7141) 4/ 107، وابن جرير 10/ 118، وابن أبي حاتم 6/ 1788، والثعلبي 6/ 100 أ، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الزكاة، باب تفسير الكنز رقم (7230) 4/ 139، ورواه مختصرًا مالك في "الموطأ"، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الكنز 1/ 218، وابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب ما قالوا في المال الذي تؤدى زكاته فليس بكنز 3/ 190. (¬5) في (ى): (ما أدري). (¬6) رواه الصنعاني وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي في المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬7) المصادر السابقة، نفس المواضع، عدا ابن جرير وابن أبي حاتم، ورواه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الزكاة، باب الدليل على أن من أدى فرض الله ... إلخ رقم (7239) 4/ 141. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 121، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 417، وهو من رواية علي بن أبي طلحة.

وذهب آخرون إلى أن المراد بهذا جمع المال وإن أديت الزكاة، قال (¬1) علي -رضي الله عنه-: "كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه (¬2) الزكاة أو لم تؤد" (¬3)، وقال عبد الواحد بن زيد (¬4): "كل ما فضل من المال عن حاجته (¬5) صاحبه إليه فهو كنز" (¬6)، وروى ثوبان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لما نزلت هذه الآية: "تبًا للذهب تبًا للفضة يقولها ثلاثًا" قالوا: يا رسول الله: فأي المال نتخذ؟ قال: "لسانا ذاكرًا، وقلبا شاكرًا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه" (¬7). ¬

_ (¬1) في (ى): (وقال)، وهو خطأ. (¬2) في (ح): (عنه). (¬3) رواه الصنعاني في "المصنف"، كتاب الزكاة، باب كم الكنز؟ رقم (7150) 4/ 109، وابن جرير 10/ 119، وابن أبي حاتم 6/ 1788، والثعلبي 6/ 100 ب. (¬4) هو: عبد الواحد بن زيد القاص، أبو عبيدة البصري، عابد قاص مشهور، له حكايات في الزهد والرقائق، لكنه لبس له علم بالحديث، قال البخاري: منكر الحديث، يذكر بالقدر، وقال الجوزجاني: سيء المذهب، ليس من معادن الصدق، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه. انظر: "حلية الأولياء" 6/ 155، و"صفة الصفوة" 3/ 217، و"تعجيل المنفعة" 1/ 830. (¬5) ساقط من (ح). (¬6) "تفسير الثعلبي" 6/ 100 ب. (¬7) رواه الترمذي (3094)، كتاب تفسير القرآن، سورة براءة، وابن ماجه، (1856) كتاب النكاح، باب أفضل النساء، وأحمد في "المسند" (5/ 278، 282، 366)، وابن جرير 10/ 119، والواحدي في "أسباب النزول" (ص 250)، وصححه الألباني كما في "صحيح ابن ماجه" (1505)، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" 2/ 71: حديث ضعيف لما فيه من الاضطراب.

وعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل الكعبة، فلما رآني قد أقبلت قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة، [هم الأخسرون ورب الكعبة] (¬1) " قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: "الأكثرون، إلا من قال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم" (¬2). وروي هنا أيضًا عن جماعة من الصحابة أنهم ذهبوا إلى أن (¬3) هذه الآية فيمن ادخر المال عن الإنفاق في سبيل الله بعد الزكاة أيضًا (¬4). والصواب: القول الأول؛ لأنه لا وعيد لمن جمع المال من الحلال وأدى الزكاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه" (¬5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نعما بالمال الصالح للرجل الصالح" (¬6)، وقول ابن عمر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) رواه البخاري (6638)، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي؟ ومسلم (990)، كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، والترمذي (617)، كتاب الزكاة، باب ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منع الزكاة من التشديد، والنسائي، كتاب الزكاة، باب التغليظ في حبس الزكاة 5/ 10، 11. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) ذكر منهم علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو هريرة وعمار بن ياسر. انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 101 أ، وابن كثير 2/ 388، وبعض الأسانيد إليهم ضعيفة. (¬5) حديث ضعيف، رواه أبو داود في "المراسيل" عن الحسن عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في "تلخيص الحبير" 2/ 160، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الزكاة، باب الدليل على أن من أدى فرض الله ... إلخ رقم (7241) 4/ 142، وانظر "ضعيف الجامع الصغير"، رقم (5379). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 202، وذكره البغوي في "شرح السنة"، كتاب الرقاق، باب استحباب طول العمر ... 7/ 319 بغير سند.

-وسئل عن هذه الآية-، فقال: "من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، وما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه" (¬1)، فعلى هذا من كان له دراهم أو دنانير فدفنها تحت الأرض وهو (¬2) يؤدي زكاتها فهو بمعزل عن (¬3) الوعيد المذكور في هذه الآية، ولا يطلق اسم الكنز بالشرع على ذلك المال (¬4)، وإن كان له مال فوق الأرض وهو لا يؤدي زكاته فذلك المال بالشرع يسمى (¬5) كنزًا، ولحقه الوعيد. وقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال الفراء والزجاج: "إن شئت جعلت الكناية (¬6) راجعة إلى مدلول عليه، وهو الكنوز كأنه قال: ولا ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1787)، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، والبيهقي في "السنن الكبرى"، باب تفسير الكنز .. رقم (7229) 4/ 139، ورواه البخاري (1404) مختصرًا، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز. (¬2) من (م). (¬3) في (ى): (من). (¬4) ومما يؤيد ذلك ما يأتي: أ- أن الله تعالى شرع الوصية والمواريث، ولو كان انفاق جميع المال واجبًا لما كان لمشروعية ذلك فائدة. ب- نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- سعدًا أن يتصدق بجميع ماله، بل وأن يتصدق بأكثر من الثلث وذلك في مرضه الذي غلب على ظنه موته فيه، ثم تعليل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: " .. فالثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم" رواه البخاري في "صحيحه"، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير .. 4/ 47، وهذا الحديث كان بعد فتح مكة كما جاء في أوله، فهو مبين ما استقر عليه الإسلام. (¬5) في (م): (يسمى بالشرع) ... إ الخ. (¬6) يقصد الضمير في قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} بالإفراد، وهو يعود إلى الذهب والفضة، وكان الظاهر أن يقول: ولا ينفقونهما.

ينفقون الكنوز" (¬1)، قال الزجاج: "ويجوز أن يكون محمولًا على الأموال (¬2)؛ لأن الأموال هي الذهب والفضة، قال: ويجوز أن تكون: ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهمب لأنه داخل في الفضة" (¬3)، وهذا معنى قول الفراء: "وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] فجعله (¬4) للتجارة، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] (¬5) فجعله للإثم، وأنشدوا (¬6): نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرأي مختلف (¬7) وأنشد الفراء للفرزدق: إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبي (¬8) وكان وكنت غير غدور (¬9) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 434، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 445. (¬2) اهـ. كلام الزجاج، المصدر السابق، نفس الموضع. (¬3) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬4) في (ج): (فجعلها). (¬5) قد كرر ناسخ (ح) ذكر هذه الآية وزاد بعد الموضع الأول قوله: فجعله للتجارة. (¬6) عبارة الفراء: وقال الشاعر في مثل ذلك. (¬7) البيت لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي كما في "مجاز القرآن" 1/ 39، و"شرح أبيات سيبويه" 1/ 279، و"شرح شواهد الإيضاح" ص128، و"اللسان" (فجر) وقيل: هو لقيس بن الخطيم، كما في "زيادات ديوانه" ص239، و"تلخيص الشواهد" ص 205، و"الدرر اللوامع" 5/ 314، و"كتاب سيبويه" 1/ 75، ونسب في "الإنصاف" ص 85 لدرهم بن زيد الأنصاري. (¬8) في (ح): (وأتى). (¬9) البيت للفرزدق كما في: "الإنصاف" 8555، و"شرح أبيات سيبويه" 1/ 226، و"كتاب سيبويه" 1/ 76، و"لسان العرب" (قعد) 6/ 3688 وليس في ديوانه.

ولم يقل غدورين، وذلك لاتفاق المعنى يكتفى بذكر الواحد" (¬1). وهذا أيضًا مذهب أبي عبيدة قال: "صار الخبر عن أحدهما كالخبر (¬2) عنهما، وأنشد قول ضابيء البرجمي (¬3): فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب (¬4) (¬5) وإلى هذا ذهب صاحب النظم وزاد بياناً فقال: "الذهب والفضة في أنهما جميعًا ثمنان للأشياء كلها (¬6) ويكنزان، وهما جميعًا جوهران يدخران يجريان في عامة الأمور مجرى واحداً، فاقتصر في الكناية عن أحدهما دون الآخر؛ إذ (¬7) في ذكر أحدهما ذكر لهما (¬8) جميعًا"، وقال أبو بكر بن الأنباري: "اكتفى بإعادة الذكر على الفضة لأنها أقرب إلى العائد وأعم وأغلب، كقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: 45] ردّ الكناية إلى الأغلب والأقرب" (¬9). وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي ضع الوعيد بالعذاب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 434. (¬2) في (ى): (عن الآخر). (¬3) هو بن الحارث بن أرطاة البرجمي التميمي. تقدمت ترجمته. (¬4) البيت لضابىء البرجمي كما في "الأصمعيات" ص 184، و"الإنصاف" ص 85، و"خزانة الأدب" 9/ 326، و"كتاب سيبويه" 1/ 75، و"لسان العرب" (قير) 6/ 3793، و"نوادر أبي زيد" ص 20. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 257 بنحوه. (¬6) ساقط من (ى). (¬7) ساقط من (ى). (¬8) في (ح) و (ى): (ذكرهما). (¬9) ذكر قول ابن الأنباري بلفظ مقارب الثعلبي في "تفسيره" 6/ 102 أ.

35

الأليم موضع (¬1) البشرى بالنعيم، ويجوز أن يكون المعنى: فأخبرهم؛ لأن أصل البشرى: ما يظهر في بشرة الوجه من فرح أو غم، إلا أنه أكثر (¬2) في الفرح، وكلا القولين بما مضى الكلام فيه (¬3). 35 - وقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية، "يوم" ظرف للعذاب الأليم في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى}: قال الأصمعي: "أحميت الحديدة في النار فأنا أحميها إحماءً حتى حميت تحمى (¬4) حميا" (¬5)، وذلك إذا أوقدت عليها، وقوله: {عَلَيْهَا} ليس منه (¬6) صلة الإحماء؛ لأنه يقال: أحميت الحديدة ولا يقال: على الحديدة، إلا إذا جعل (على) من صلة معنى الإحماء، وهو الإيقاد فمعنى قوله: "يحمى عليها" أي يوقد عليها، أنشد ابن السكيت (¬7): إن كنت جلمود بصر (¬8) لا أؤبسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع (¬9) ¬

_ (¬1) في (ى): (مع). (¬2) في (م): (كثر). (¬3) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: 97. (¬4) ساقط من: (ى). (¬5) اهـ. كلام الأصمعي، انظر: "تهذيب اللغة" (حمي) 1013. (¬6) ساقط من (ح). (¬7) انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص83، و"تهذيب اللغة" (أبس) 1/ 107. (¬8) في (ح): (نصرًا)، وهو خطأ. (¬9) البيت لعباس بن مرداس. انظر "ديوانه" ص 86، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص 83، و"لسان العرب" (أبس) و (بصر). والجلمود: الصخر الغليظ، والبصر: الحجارة الرخوة تضرب إلى البياض، =

والكناية (¬1) في {عَلَيْهَا} تعود إلى ما عادت في قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} (¬2)، قال ابن عباس: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي: على الكنوز" (¬3)، وقوله تعالى: {فَتُكْوَى بِهَا} معنى الكي في اللغة: إلصاق الحار من نار (¬4) أو حديدة بالعضو حتى يحترق الجلد، يقال: كوى البيطار (¬5) بالمكواة يكوي كيًا، وقوله تعالى: {جِبَاهُهُمْ} جمع الجبهة وهي مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، والأجبه: الرجل العريض الجبهة، وجبهت الرجل: إذا استقبلته بمكروه، كأنك ضربت به جبهته. والجنوب: جمع الجنب، وهو الجانب المشبك بالعظام المقوسة، قال المفسرون: "من كان له مال في الدنيا لم يؤد زكاته أحمي دراهمه ودنانيره في نار جهنم وكوي بها في هذه المواضع، لا يوضع دينار مكان دينار ولا درهم مكان درهم، ولكن يوسع جلده، فيوضع بكل درهم ودينار ¬

_ = ومعنى أؤبسه: أذللَه. انظر: "لسان العرب" (أبس، بصر، جلمد)، قال ابن السكيت: "يقول: إني أقدر عليك على كل وجه، ولو كنت حجرًا لا يذلل لأوقدت عليه حتى يتفتت". "تهذيب إصلاح المنطق" ص 83. (¬1) ساقط من (ح). (¬2) في (ى): (زيادة نصها: "إلصاق الحار من النار"، ولا معنى لها في هذا الموضع، وسيأتي موضعها عند قوله تعالى: {فَتُكْوَى بِهَا}. (¬3) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 492، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 192. (¬4) في (ي): (بالنار). (¬5) البيطار: "معالج الدواب". انظر: "لسان العرب" (بطر) 1/ 301.

كية على جلده" (¬1)، وهذا معنى قول ابن مسعود (¬2) وابن عباس (¬3)، وكان أبو ذر يقول: "بشر الكانزين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم" (¬4)، ولهذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع [بالكي؛ لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وكان أبو بكر الوراق (¬5) يقول: خُصت هذه المواضع] (¬6)؛ لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه وطوى عنه كشحه (¬7)، وولاه ظهره" (¬8). وقوله تعالى: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} أي: يقال لهم: هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم وبخلتم به عن حق الله، وإضمار القول كثير في القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 102 ب، والبغوي 4/ 44، و"الدر المنثور" 3/ 419 - 420. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 124، وابن أبي حاتم 6/ 1790، والثعلبي 6/ 102 ب، والطبراني وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 419. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 104: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". (¬3) رواه مختصرًا ابن المنذر، كما في "الدر المنثور" 3/ 419. (¬4) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 273، وابن جرير 10/ 123. (¬5) هو: محمد بن إسماعيل بن العباس، أبو بكر الوراق، الإمام المحدث، كان حافظًا ثقة من شيوخ الدارقطني والبرقاني، ولد سنة 293 هـ، وتوفي سنة 378 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 2/ 53، و"سير أعلام النبلاء" 16/ 388، و"شذرات الذهب" 3/ 92. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف، وقيل غير ذلك، وطوى عنه كشحه: أي قاطعه وعاداه، وقيل: أعرض عنه وتباعد. انظر: "مجمل اللغة" (كشح) 3/ 786، و"لسان العرب" (كشح) 7/ 3880. (¬8) ذكره البغوي 4/ 44، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 493، وبمعناه الثعلبي 6/ 102 ب.

وقوله تعالى: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} من باب حذف المضاف، أي: ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون، وحديث أبي هريرة يفسّر هذه الآية، وهو ما أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (¬1) [رحمه الله قال (¬2): أنا (¬3) أبو محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني قال: أخبرنا (¬4) أبو يحيى أحمد بن محمد بن إبراهيم] (¬5) السمرقندي (¬6) قال: ثنا محمد بن نصر المروزي (¬7) قال: ثنا محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب (¬8) قال: ثنا عبد العزيز بن المختار (¬9) قال: ثنا ¬

_ (¬1) هو الثعلبي، شيخ المؤلف، وقد تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخه. (¬2) سقطت كلمة: (قال) من (ح) و (م) في جميع السند على عادة المحدثين. (¬3) في (م): (حدثنا) في جميع السند دون اختصار الكلمة. (¬4) في (ى): (أنا)، على عادة المحدثين. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حازم أبو يحيى السمرقندي الكرابيسي، روى عن محمد بن نصر وابن خزيمة، اتهم في إكثاره من الرواية عن ابن نصر، وقد ثبت أن ابن نصر أجاز له بما صح عنده عنه. انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 129، و"لسان الميزان" 1/ 251. (¬7) هو: محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، الإمام شيخ الإسلام أبو عبد الله الحافظ، إمام عصره في الحديث بلا مدافعة، وكان من أعلم أهل زمانه بالاختلاف، وأكثرهم صيانة في العلم، مع حسن العبادة، وجودة التصنيف، توفي سنة 294 هـ. انظر: "تذكرة الحفاظ" 2/ 650، و"البداية والنهاية" 11/ 102، و"تهذيب التهذيب" 3/ 717. (¬8) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب محمد بن عبد الله الأموي، أبو عبد الله البصري، إمام ثقة محدث فقيه، من رجال مسلم، توفي سنة 244 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 2/ 344، و"سير أعلام النبلاء" 11/ 103، و"تهذيب التهذيب" 3/ 634. (¬9) هو: عبد العزيز بن المختار الأنصاري، أبو إسحاق الدباغ البصري، مولى حفصة =

36

سهيل (¬1) عن أبيه (¬2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فتكوى بها جبينه وجنباه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (¬3). 36 - قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} الآية، قد ذكرنا معنى العدة والشهر في سورة البقرة (¬4)، قال أبو إسحاق: "أعلم ¬

_ = بنت سيرين، ثقة مكثر، من رجال البخاري ومسلم، وهو من الطبقة السابعة الذين توفوا بعد سنة 100 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 658، و"تقريب التهذيب" 359/ 4120، و"تهذيب التهذيب" 2/ 593. (¬1) هو: سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان، أبو يزيد المدني، محدث مكثر، وثقه الجمهور وضعفه ابن معين وغيره، وقد تغير حفظه بآخره، وهو من رجال مسلم، وروى له البخاري مقرونًا بغيره، توفي سنة 138 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 471، و"تقريب التهذيب" 259/ 2675، و"تهذيب التهذيب" 2/ 128. (¬2) هو ذكوان، أبو صالح السمان الزيات، مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، تابعي ثقة ثبت من أجل الناس وأوثقهم، كثير الحديث، مات سنة 101هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 386، و"تقريب التهذيب" 203 (1842)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 579. (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" (987)، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، وأبو داود في "سننه" (1658)، كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، وأحمد في "المسند" 2/ 262، 383. (¬4) انظر النسخة الأزهرية: (1/ 112 ب) وقد قال هنا: (والعدة: (فعله) من العد، وهو بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس: عدة، وعدة المرأة من هذا) اهـ. وقال في نفس النسخة (1/ 113 ب): (الشهر مأخوذ من الشهرة، تقول: شهر الشيء يشهره شهرًا، إذا أظهره، وسمي الشهر شهرًا لشهرة أمره في حاجة الناس إليه في معاملاتهم ... إلخ).

الله -عز وجل- أن عدة شهور المسلمين التي تُعبدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهراً، على منازل القمر، واستهلال الأهلة، وكان أهل الكتاب يعملون على أن السنة ثلثمائة وخمس وستون يومًا وبعض يوم، على هذا يجري أمر النصارى واليهود، فأعلم الله -عز وجل- أن سني المسلمين على الأهلة" (¬1). قوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ}، قال الواقدي: "يعني اللوح المحفوظ" (¬2)، وهو قول عامة أهل التأويل (¬3)، ونحو هذا يحكى عن ابن عباس {فِي كِتَابِ اللَّهِ} قال: "في الإمام (¬4) الذي عند الله كتبه يوم خلق السموات والأرض" (¬5). قال أبو علي الفارسي: " [لا يجوز تعلق] (¬6) الكتاب بالعدة؛ لأن فيه (¬7) فصلاً بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر، ولكنه يتعلق بمحذوف على أن يكون صفة للخبر تقديره: "اثنا عشر شهرًا مكتوبًا في كتاب الله"، قال: والكتاب لا يكون إلا مصدرًا، ولا يجوز أن يعني به كتاب من الكتب؛ وذلك لتعلق اليوم به، وسائر الظروف لا تتعلق بأسماء الأعيان؛ لأنه لا معاني في أسماء الأعيان للفعل، (لا تقول: غلامك يوم الجمعة)، على أن يتعلق اليوم بالغلام، فبهذا يعلم أنه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 145 باختصار وتصرف. (¬2) لم أجده في كتابه "المغازي". (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 124 - 129، والثعلبي 6/ 105 أ، وابن الجوزي 3/ 432. (¬4) في (م): (الأيام)، وهو خطأ. (¬5) ذكر، ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 432، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 494. (¬6) في (ح): (يجوز أن لا يعلق)، وما أثبته موافق لما في "الحجة للقراء السبعة". (¬7) في (ف): (فيها)، وما أثبته موافق لما في "الحجة".

مصدر" هذا كلامه (¬1). ويمكن أن يكون الكتاب اسمًا على ما ذكره أهل التفسير (¬2)، ويضمر للظرف ما (¬3) يتعلق به على أن يكون المعنى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ}: كتبه يوم خلق السموات والأرض، على ما يحكى عن ابن عباس (¬4)، وذكر أبو علي هذه الآية في "المسائل الحلبية"، فقال: "الفائدة في قوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} بعد قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} أن في {كِتَابِ اللَّهِ} من الاختصاص ما ليس في قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} ألا ترى أنه قد توصف أشياء بأنها عنده ولا توصف بأنها في كتابه كقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] ففي {كِتَابَ اللَّهِ} معنى زائد على ما في {عِنْدِ اللَّهِ} فجرى في هذا المعنى مجرى قولك: خرج من الدار من البيت (¬5) و {عِنْدِ اللَّهِ} متعلق بالمصدر الذي هو العدة وهو العامل فيه. وقوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ (اثني عشر) قال: ويجوز أن يكون متعلقا بـ"حرم" على تقدير: منها أربعة حرم في كتاب الله، أي: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض، والمعنى: أن الحرم منها في كتاب الله أي فيما فرض كونه (¬6) حرمًا أربعة أشهر لا أكثر ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 458 بتصرف، والجملة التي بين القوسين مزيدة في كلام أبي علي. (¬2) سبق ذكر قول ابن عباس وعامة أهل التأويل. (¬3) في (ح): (وما). (¬4) سبق تخريجه عند ذكر أول الآية. (¬5) في (ى): (خرج من البيت)، والصواب ما في (ح) و (م)، وهو موافق لما في المسائل الحلبيات. (¬6) في (ى): (من كونه)، وما في (ح) و (م) موافق لما في "المسائل الحلبيات".

منه (¬1)، فإذا نسأتم أنتم المشهور فجعلتم (¬2) أكثر من أربعة أشهر وحللتم ما حرم الله وحرمتم ما أحل الله كان ذلك زيادة في الكفر، كما ذمهم الله بفعل ذلك" (¬3). وقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (¬4)، في قول الجميع، ومعنى الحرم: أنه يعظم انتهاك المحارم فيها بأشد (¬5) مما يعظم في غيرها، وكانت العرب تعظمها حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه لم يهجه. قال أهل المعاني: "وفي جعل بعض المشهور أعظم حرمة من بعض فوائد من المصلحة في الكف عن الظلم فيها لعظم منزلتها في حكم خالقها، فربما أدى ذلك إلى ترك الظلم رأسًا؛ لانطفاء الثائرة في تلك المدة" (¬6). ¬

_ (¬1) في "الحلبيات": منها. (¬2) هكذا في جميع النسخ، وفي "الحلبيات": جعلتم، وتصرف الواحدي يغيّر المعنى الذي يريده أبو علي؛ فمعنى عبارة أبي علي: إن الله حرّم أربعة أشهر فقط فإذا نسأتم المشهور كانت الحرم أكثر من أربعة، بينما جملة (فجعلتم أكثر من أربعة أشهر) في عبارة الواحدي تفسير لمعنى النسيء ولا يتم بها المعنى، ولذا اضطر لزيادة جملة (كان ذلك زيادة في الكفر) ليتم المعنى، وهذه الجملة بهذا المعنى مقحمة في كلام أبي علي. (¬3) "المسائل الحلبيات" ص 307 بتصرف. (¬4) في (ح) و (ى): (رجب والمحرم ... إلخ. (¬5) في (ى): (أشد)، وقد أثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "الوسيط" 2/ 494. (¬6) ذكره بنحوه الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 360، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 434 دون نسبة، ولم أجده في كتب أهل المعاني التي بين يدي.

وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97] (¬1) الآية. وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الدين له معان كثيرة في اللغة، ومناه ههنا (¬2): الحساب، ومنه قيل: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت" (¬3) أي: حاسبها، و"القيم": معناه المستقيم، وقد ذكرناه عند قوله: ¬

_ (¬1) انظر النسخة (ح) 2/ 74 أحيث قال: (اختلف المفسرون وأصحاب المعاني في هذه الآية، فقال ابن عباس في بعض الروايات: "قوله {قيامًا للناس} قيامًا لدينهم ومعالم لحجهم"، وقال سعيد بن جير: " {قيامًا للناس} صلاحًا لدينهم" فعلى هذا، القيام مصدر قولك: قام قيامًا والمعنى: إن الله جعل الكعبة سببًا لقيام الناس إليها للحج وقضاء النسك، فيصلح بذلك دينهم، لأنه يحط عنهم الذنوب والأوزار عندها .. وقال جماعة من المفسرين وأكثر أصحاب المعاني: القيام ههنا يراد به القوام، وهو العماد الذي يقوم به الشيء، والتقدير فيه: جعل الله الحج للكعبة البيت الحرام قيامًا لمعاش الناس ومكاسبهم ..) إلخ. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) هذا بعض حديث رواه الترمذي (2459)، كتاب صفة القيامة، وابن ماجه (2460) في "السنن"، كتاب الزهد، باب ذكر الموت، وأحمد في "المسند" 4/ 124، والحاكم في "المستدرك"، كتاب الإيمان 1/ 57، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الجنائز، باب ما ينبغي لكل مسلم .. رقم (6514) 3/ 517، والبغوي في "شرح السنة"، كتاب الرقاق، باب الاجتناب عن الشهوات، رقم (4011) 7/ 333. قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، وتعقبه الذهبي بقوله: لا والله، أبو بكر واه. قلت: والحديث في جميع المصادر السابقة يدور على هذا الراوي الضعيف وهو أبو بكر ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، قال الحافظ في "تقريب التهذيب" ص 623 (7974): "ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط".

{دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161]. قال المفسرون وأهل المعاني: "ذلك الحساب المستقيم الصحيح، والعدد المستوي" (¬1). وقال الحسن: " {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}: الذي (¬2) لا يبدل ولا يغير" (¬3)، فالقيم على هذا بمعنى (¬4): القائم الدائم الذي لا يزول. قال أهل العلم: "فالواجب على المسلمين بدليل هذه الآية أن يعتبروا به في بيوعهم، ومُدد ديونهم، وأحوال زكاتهم، وسائر أحكامهم، السنة العربية بالأهلة، ولا يجوز لهم (¬5) اعتبار السنة العجمية والرومية (¬6) (¬7). قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: "تحفّظوا من أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإن الحسنات فيها ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 194، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 206، و"النكت والعيون" 2/ 360، و"زاد المسير" 3/ 432. (¬2) في (ى): (أي). (¬3) ذكره الفخر الرازي في "تفسيره" 16/ 53. (¬4) في (ج): (معنى). (¬5) ساقط من: (ى). (¬6) السنة العجمية هي السنة الفارسية وهي اثنا عشر شهرًا، كل شهر ثلاثون يومًا عدا شهر واحد فإنه خمسة وثلاثون يومًا، وأما السنة الرومية فهي أيضًا اثنا عشر شهرًا، لكن الشهور مختلفة فشهر ثمانية وعشرون يومًا، وشهر ثلاثون يومًا وشهر واحد وثلاثون يومًا، وتعرف اليوم بالسنة الميلادية. انظر تفصيل ما سبق في: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 936. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 445، و"أحكام القرآن" لإلكيا الهراسي 4/ 199، و"تفسير الرازي" 16/ 55، و"الجامع الأحكام القرآن" للقرطبي 8/ 133.

تضعف والسيئات فيها تضعف (¬1) " (¬2)، فعلى هذا القول: الكناية تعود إلى الحرم، وهو قول قتادة، قال: "الظلم في الأشهر الحرم أعظم وزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، فاصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس، ومن الأرض والمساجد، والأيام والشهور والليالي، فعظموا ما عظم الله" (¬3). ¬

_ (¬1) السيئة لا تضعف بالمعنى المتبادر للتضعيف، وإنما يجزى بمثلها من غير زيادة كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، ولكن السيئة تعظم لسبب من الأسباب فيعظم جزاؤها، ومن ذلك: حرمة الزمان كما في هذه الآية وحرمة المكان كالحرم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ومن ذلك أيضًا مكانة الشخص، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]، وكون الشخص ممن يقتدى به، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، وغير ذلك من أسباب عظمة السيئة، وعلى هذا يحمل قول ابن عباس المذكور -ولا يصح عنه- وقد جاء ذلك مصرحًا به في رواية الوالبي الصحيحة، ونصها: "ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرمًا، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم". انظر تخريج الرواية في الهامش التالي. (¬2) "الوسيط" 2/ 494، وقد سبق بيان أن رواية عطاء مكذوبة ورواه بمعناه من رواية الوالبي الإمام ابن جرير 10/ 126، وابن أبي حاتم 6/ 1793، وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" 3/ 425 وفيه زيادة. (¬3) ذكر المؤلف قول قتادة بمعناه، وقد أخرجه ابن جرير 10/ 127، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 425، ورواه مختصرًا ابن أبي حاتم 6/ 1793، والثعلبي 6/ 105 ب.

وقال محمد بن إسحاق: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} بأن تجعلوا حرامها حلالاً، وحلالها حرامًا كما فعل أهل الشرك في النسيء" (¬1)، وعلى هذا: الكناية تعود إلى الشهور كلها [وقد روي عن ابن عباس أنه (¬2) قال: " {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (¬3): في الشهور كلها" (¬4)] (¬5)، وحكى الزجاج القولين جميعًا، وقال: "من قال في الأربعة: أراد تعظيم شأن المعاصي فيهن كما قال تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وهذه الأشياء لا تجوز في غير الحج، ولكنه -عز وجل- عرّف الأيام التي تكون فيها المعاصي أكثر إثمًا وعقابًا" (¬6)، واختار الفراء أن تكون الكناية راجعة إلى الأربعة لقوله: {فِيهِنَّ} ولم يقل (فيها) كما قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} لما عادت الكناية إلى كلها، قال: وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة يقولون: لثلاث خلون، إلى العشرة [(فإذا جُزت العشرة) (¬7) قالوا: خلت، ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة] (¬8): (هن) و (هؤلاء) (¬9) فإذا جزت العشرة قالوا: (هي) و (هذه) إرادة أن تُعرف ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 206. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) رواه ابن جرير 10/ 126، وابن أبي حاتم 6/ 1792، واللفظ له، وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" 3/ 425. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 446 بنحوه. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (ى). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬9) من (م).

سمة القليل من الكثير، قال: "ويجوز في كل واحد ما جار في صاحبه"، وأنشد: أصبحن في قُرح وفي داراتها ... سبع ليال غير معلوفاتها (¬1) (¬2) ولم يقل: غير معلوفاتهن وهي سبع، وكل صواب؛ إلا أن المؤْثر ما فسرت لك (¬3). والأصل في هذا أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة، ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة، كما قال حسان: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى (¬4) ... وأسيافنا يقطرن من نجدة (¬5) دما (¬6) فقال: يلمعن ويقطرن؛ لأن الأسياف والجفنات جمع قلة، ولو جمع جمع (¬7) الكثرة لقال: تلمع وتقطر، هذا هو الاختيار، ويجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر، كقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب (¬8) ¬

_ (¬1) في (ى): (معروفاتها)، وهو خطأ. (¬2) سبق تخريج هذا الرجز عند تفسير الآية 25 من سورة براءة. وقد بين ابن منظور في "لسان العرب" 6/ 3574 أن (قُرْح) بضم القاف وسكون الراء: اسم وادي القرى أو سوق فيه. والدارات: جمع دارة وهي كل أرض واسعة بين جبال. المصدر نفسه (دور) 4/ 296. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 435 باختصار. (¬4) في (ى): (في الضحى)، والمثبت موافق لديوانه. (¬5) في (م): (حدة)، والمثبت موافق لديوانه. (¬6) انظر: "شرح ديوان حسان" ص 221 وقال الشارح: الجفنات: القصاع، والغر: البيض من كثرة الشحم وبياض اللحم، يصف حسان قومه بالندى والبأس. (¬7) ساقط من (ى). (¬8) انظر: البيت في "ديوان النابغة" ص 32، ونسب إليه أيضًا في "إصلاح المنطق" ص 24، و"خزانة الأدب" 3/ 327، و"كتاب سيبويه" 2/ 326.

فقال: بهن والسيوف جمع كثرة، وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: " {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} باستحلال القتل والغارة فيهن" (¬1)، وهذا يوجب ترك القتال في الأربعة الحرم، وبقاؤها على ما كانت قبل الإسلام، وقد ذكرنا الخلاف في هذا الحكم في سورة البقرة (¬2)، في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، قال ابن عباس: "كافة: جميعًا" (¬3)، يريد: قاتلوهم كلهم ولا تُحابوا (¬4) بعضهم بترك القتال؛ كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، ويجوز أن يكون المعنى: قاتلوهم بأجمعكم، مجتمعين على قتالهم كما يفعلون هم، يريد: ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 105 ب، والبغوي 4/ 45. (¬2) انظر النسخة الأزهرية: 1/ 132 أحيث قال: (وأما حكم القتال في الشهر الحرام اليوم فالعلماء فيه مختلفون، قال ابن جريج: "حلف لي عطاء بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام، إلا أن يقاتلوا"، وروى أبو الزبير عن جابر قال: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغزوا في الشهر الحرام إلا أن يغزا، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ"، وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وقال ذلك سليمان بن يسار، وهو مذهب قتادة وغيره من العلماء، يرون القتال في الشهر الحرام، قال أبو عبيدة: والناس اليوم بالثغور جميعًا على هذا القول). (¬3) رواه ابن جرير 10/ 128، وابن أبي حاتم 6/ 1793، وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" 3/ 425، وهو من رواية علي بن أبي طلحة. (¬4) في (ى): (تخافوا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لـ"الوسيط" 2/ 494، و"تفسير الرازي" 16/ 54، والمحاباة: قال الخليل في كتاب "العين" (حبو) 3/ 309: "الحباء: عطاء بلا مَنٍّ ولا جزاء، حبوته أحبوه حباء، ومنه أخذت المحاباة". وفي "لسان العرب" (حبو) 2/ 766: "حابى الرجل حباء: نصره واختصه ومال إليه".

تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتجادلوا، وكلا المعنيين يحتمله قوله (¬1): جميعًا، والمعنى الثاني يوجب تعين فرض القتال على كل أحد، ونذكر الخلاف فيه في قوله -عز وجل-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] الآية. قال الفراء: "كافة يقول: جميعًا، والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال، فتقول: كافّين أو كافات للنسوة، ولكنها (كافة) بالهاء والتوحيد؛ لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها في مذهب مصدر مثل: الخاصة والعاقبة والعافية (¬2)؛ لذلك لم تُدخل فيها العرب الألف واللام؛ لأنها في (¬3) مذهب قولك: قاموا معًا، [وقاموا جميعًا" (¬4)] (¬5). وقال الزجاج: {كَافَّةً} منصوب على الحال، وهو مصدر على (فاعلة) كما قالوا: العاقبة والعافية، ولا يجوز أن يثنى ويجمع، كما أنك إذا قلت: قاتلوهم عامة لم تثن ولم تجمع، وكذلك (خاصة)، هذا مذهب النحويين" (¬6). ¬

_ (¬1) يعني ابن عباس. (¬2) من (ى). (¬3) في (ى): (من)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته و"معاني القرآن" للفراء. (¬4) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 436. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 446 باختصار. انظر نسبة القول للنحويين في: "تهذيب اللغة" (كف) 4/ 3164، و"لسان العرب" (كفف) 7/ 3905، وانظر توضيح المسألة في: "البحر المحيط" 2/ 120، و"الكليات" لأبي البقاء ص 775.

37

وقد أحكمنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] (¬1). وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، قال ابن عباس: "يريد مع أوليائه الذين يخافونه فيما كلفهم من أمره ونهيه" (¬2)، قال الزجاج: "تأويله أنه ضامن لهم النصر" (¬3). 37 - قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال أبو زيد: "نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها نسأ: إذا أخرتها عنه (¬4)، وأنساته الدين إنساءً: إذا أخرته عنه، واسم ذلك النسيئة والنسء" (¬5). قال (¬6) [أبو عبيد عن الأصمعي: "أنسأ الله فلانا أجله [ونسأ في أجله] (¬7): [أي أخره" (¬8)] (¬9)، [وذكر الزجاج في باب الوفاق: "نسأ الله في ¬

_ (¬1) انظر: النسخة الأزهرية: 1/ 126 ب حيث قال: ومعنى (الكافة) في اللغة: الحاجزة المانعة، يقال: كففت فلانًا عن السوء فكفّ يكف كفًّا .. وقيل لطرف اليد كف لأنه يكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: كف بصره من أن ينظر، فالكافة معناها المانعة، ثم صارت اسمًا للجملة الجامعة؛ لأنها تمنع من الشذوذ والتفرق. (¬2) "الوجيز" 6/ 486 مختصرًا. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 447، والمراد أن هذه معية خاصة لأوليائه، تستلزم النصر والتأييد والحفظ والرعاية. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) "تهذيب اللغة" (نسأ) 4/ 3566 بلفظ مقارب، وبعضه في "الحجة" 4/ 193. (¬6) من (ى). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) "تهذيب اللغة" (نسأ) 4/ 3566، وهو في "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 23 من غير نسبة. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (م) و (ى)، وهو كذلك غير موجود في المصدرين التاليين.

أجله وأنسأ أجله: أي أخره" (¬1)] (¬2)، فالنسيء في اللغة: معناه: التأخير على ما ذكره أهل اللغة (¬3). وكان النسيء في الشهور: تأخير حرمةٍ لشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، قال الفراء: "النسيء: المصدر، ويكون المنسوء، مثل قتيل ومقتول" (¬4). وقال الأزهري: "النسيء في هذه الآية بمعنى الإنساء، اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من أنسأت، قال: وقد قال بعضهم: نسأت في هذا الموضع بمعنى أنسأت، ومنه قول عمير بن قيس بن جذل الطعان (¬5): ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) اهـ. كلام الزجاج، انظر: كتاب "فعلت وأفعلت" ص 40، و"معاني القرآن وإعرابه" 1/ 190 ولعل الزجاج ذكره في كتاب آخر فيه باب الوفاق، ولم أعثر عليه. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) انظر أيضًا: "الصحاح" (نسأ) 1/ 76، و"مجمل اللغة" (نسى) 3/ 766. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 437. (¬5) هو: عمير بن قيس أحد بني علقمة بن فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، وجذل الطعان: لقب لجده علقمة، وقيل: بل لقب له، والأول هو الظاهر من مصادر تخريج البيت، وسمي بذلك لثباته في الحرب كأنه جذل شجرة واقف، وقيل: لأنه كان يستشفى برأيه ويستراح إليه كما تستريح البهيمة الجرياء إلى الجذل تحتك به. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 45، و"الروض الأنف" 1/ 251. (¬6) انظر البيت منسوبًا لعمير بن قيس في "سيرة ابن هشام" 1/ 46، و"تهذيب اللغة" (نسأ) 4/ 3556، و"لسان العرب" (نسأ) 7/ 4403. (¬7) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (نسأ) 4/ 3556.

قال أبو علي: "النسيء: مصدر كالنذير والنكير، ولا يجوز أن يكون (فعيلا) بمعنى (مفعول)؛ لأنه إن (¬1) حمل على ذلك كان معناه (¬2): إنما المؤخَّر زيادة في الكفر (¬3)، والمؤخر الشهر؛ وليس الشهر نفسه زيادة في الكفر إنما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، فأما نفس الشهر فلا" (¬4)، فقد وافق أبو علي الأزهريَّ في أن النسيء موضوع (¬5) موضع المصدر. وهذا قراءة العامة (¬6)، وروي عن ابن كثير (¬7) من طريق شبل (¬8): ¬

_ (¬1) ساقط من: (ى). (¬2) في (ى): (المعنى). (¬3) في (ح): (بالكفر). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 193. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) "كتاب السبعة" (ص 314)، و"التبصرة في القراءات" ص 215، و"تقريب النشر" ص 34، وقد أفاد المصدران الأخيران أن ورشًا وافق الجمهور في إحدى الروايتين عنه، وله رواية أخرى لفظها: (إنما النسىُّ) بغير همز ولا مد، والياء مشددة. (¬7) هو: عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله الداري أبو معبد المكي، إمام المكيين في القراءة، واحد القراء السبعة، كان فصيحًا بليغًا مفوهًا، عليه سكينة ووقار، توفي سنة 120هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 86، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 318، و"تقريب التهذيب" ص318 (3550)، و"غاية النهاية" 1/ 443. (¬8) في (ى): (ابن شبل)، والصواب ما في (ح) و (م) كما في كتاب "السبعة في القراءات" ص 314، و"الحجة للقراء السبعة" 4/ 193، وهو شبل بن عباد المكي، صاحب ابن كثير، ومقرئ مكة، وأحد شيوخ حمزة الزيات، كان ثقة من رجال البخاري، توفي بعد سنة 150 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 129، و"الكاشف" 1/ 478، و"تقريب التهذيب" ص 263 (2737).

(النَّسء) بوزن النسع (¬1)، وهو المصدر الحقيقي كقولهم: نَسَأت: أي أخرت، وروي عنه أيضًا (النسي) مخففة الياء (¬2)، ولعله لغة في (النسء) بالهمز مثل: أرجيت وأرجأت (¬3)، وروي عنه أيضًا (النسيُّ) مشددة الياء بغير همز (¬4)، وهذا على التخفيف القياسي، كما أن (مقروة) في (مقرؤة) في (مقرؤة) تخفيف قياسي (¬5). فأما معنى "النسيء" في هذه الآية، قال العلماء وأهل التفسير: "إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان ذلك ما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وكانت العرب أصحاب حروب وغارات، فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يُغيْرون فيها، وقالوا: لئن (¬6) توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئًا لنهلكن، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمونه، ويستحلون المحرم، [وكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرمون صفر وهم يريدون به المحرم] (¬7)، ويقولون: هو أحد الصفرين" (¬8). ¬

_ (¬1) كتاب "السبعة" ص 314، و"الحجة للقراء السبعة" 4/ 191، و"إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 1/ 247. (¬2) انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع، لكن ابن خالويه جعلها بالألف المقصورة على وزن: الدُّمى. (¬3) كررت الكلمة في (ى). (¬4) انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬5) انظر: "الحجة" 4/ 194، و"لسان العرب" (قرأ) 6/ 3618. (¬6) في (ح): (التي). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬8) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 48، والثعلبي 6/ 106 ب، والبغوي 4/ 45، وابن الجوزي 3/ 435، والرازي 16/ 57، وقد رواه ابن حاتم في "تفسيره" 6/ 1794 بمعناه عن السدي.

ولقد تأول بعض الناس قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صفر" (¬1) على هذا (¬2). قال أبو عبيدة: "كانوا يؤخرون المحرم وذلك نسء الشهور، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة، إذا اجتمعت العرب للموسم فينادي مناد: أن افعلوا ذلك، لحرب أو لحاجة وليس كل سنة يفعلون ذلك، فإذا أرادوا أن يحلوا المحرم نادوا: هذا صفر وإن المحرم الأكبر صفر (¬3)، فيذهب الناس إلى منازلهم إذا نادى المنادي بذلك، وكانوا يسمون المحرم وصفر صفرين، ويقدمون صفرًا سنة ويؤخرونه" (¬4). قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد: "أول من نسأ النسيء: بنو مالك بن كنانة (¬5)، وكانوا ثلاثة (¬6): أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5717) في "صحيحه"، كتاب الطب، باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن، ومسلم (2220) في "صحيحه"، كتاب السلام، باب لا عدوى .. ، وتفسير البخاري للحديث هو المشهور عند العلماء، انظر: "فتح الباري" 10/ 171. (¬2) هذا تأويل الإمام مالك -رحمه الله- انظر: "فتح الباري" 10/ 171، وقد ذكر التأويل من غير نسبة أبو عبيد في غريب الحديث 1/ 26، والثعلبي في "تفسيره" 6/ 106 ب. (¬3) نص عبارة أبي عبيدة: (نادى مناد: إن المحرم في صفر، وكانوا يسمون المحرم وصفر: الصفرين، والمحرم صفر الأكبر، وصفر المحرم الأصغر). (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 258 بمعناه مع الزيادة وتقديم بعض الجمل. (¬5) هم بنو مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 10، و"نسب قريش" ص 11. (¬6) لم يذكر من الثلاثة في هذه الرواية سوى واحد، وكذلك ابن جرير 10/ 130 - 131، والثعلبي 6/ 107 أ، والبغوي 4/ 46، وقد ذكر المفسرون والعلماء أكثر من ثلاثة منهم: 1 - عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، رواه الثعلبي 6/ 107 ب، والبغوي 4/ 47 عن بن عباس بسند واه. =

الكناني (¬1)، كان يوافي الموسم على حمار فيقول: إني لا أعاب ولا أحاب (¬2) ولا مردّ لما أقول: إن آلهتكم قد أقسمت لتحرمنّ -وربما قال: لتحلّن- هذا الشهر -يعني: المحرم-، فيحلونه (¬3) ويحرمون صفرًا، وإن ¬

_ = 2 - أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني الحارث بن مالك الكناني، رواه ابن جرير 10/ 131 عن قتادة، وانظر: "المحبر" (ص 133)، و"أمالي القالي" 1/ 240. 3 - الحارث بن ثعلبة، ذكره عن مجاهد الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 1/ 275. 4 - نعيم بن ثعلبة، رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" (ص 193) من رواية الكلبي عن ابن عباس، ورواه الثعلبي 6/ 107 أ. 5 - 9 - القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم الكناني، ثم ابنه عباد بن حذيفة، ثم ابنه قلع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ذكرهم ابن إسحاق في "السيرة النبوية" 1/ 45. 10 - أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني، وكان آخرهم وفي زمنه أبطل الله النسيء، انظر: "تفسير ابن جرير" 7/ 130، و"السيرة النبوية" 1/ 45، و"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 246. (¬1) هو: جنادة بن عوف بن أمية بن قلع من بني فقيم ثم من بني مالك بن كنانة، أبو ثمامة الكناني، نسأ الشهور أربعين سنة، وكان أبعد النسأة ذكرًا، وأطولهم أمدًا، وقد أسلم، وأدرك زمن عمر-رضي الله عنهما-. انظر: "السيرة النبوية" 1/ 45، و"الإصابة" 1/ 246. (¬2) أحاب: بالحاء المهملة في (ح) و (م)، وكذلك في "المحبر" ص 157، وهو من الحوب، أي الإثم، انظر: "لسان العرب" (حوب)، والمعنى: لا أنسب إلى الإثم، وفي النسخة (ى) و"معاني القرآن" للفراء 1/ 436: أجاب، وفي "تفسير الثعلبي": أخاب من الخيبة، أي: لا يُخيّب لي قول ولا يرد، أما معنى أجاب، فأقرب ما وجدت من معانيه أنه من المجاوبة: أي التحاور، والمعنى: لا أحاور ولا أجادل فيما أقول، وقد ذكر ابن منظور في "لسان العرب" (جوب): (أن المجاوبة والتجاوب: التحاور. (¬3) ساقط من: (ى).

حرموه أحلوا صفرًا" (¬1)، وقال الكلبي: "أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة (¬2)، وكان من بعده جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (¬3)، ونحو هذا قال الفراء (¬4)، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: "أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق (¬5) " (¬6)، قال أبو بكر بن الأنباري: "وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة، ويشرف ولده والمنتمون إليه، بعلوه وترئيس (¬7) العرب إياه. قال الشاعر (¬8) مفتخرًا بذلك: وكان الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حرامًا ¬

_ (¬1) ذكر الأثر عنهم جميعًا الثعلبي 6/ 107 أوهو لفّقه من رواياتهم جميعًا، وذكر الإمام ابن جرير تلك الروايات مفصلة، انظر "تفسيره" 10/ 129 - 132. (¬2) لم أقف له على ترجمة، ولم يذكره سوى الكلبي وحاله لا تخفى. (¬3) ذكره الثعلبي 6/ 106 أ، والبغوي 4/ 46. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 1/ 436. (¬5) جد جاهلي قديم، وزعيم من طواغيت العرب، وقد صح في شأنه أمور منها: أ- أن اسمه عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، رواه البخاري في (3520)، كتاب المناقب، باب قصة خزاعة ب- أنه جد خزاعة القبيلة العربية المعروفة، رواه البخاري في الموضع السابق، لكن بعض العلماء يرى أن الحديث تصحف على بعض الرواة فقال: أبو خزاعة، والصواب: أخو خزاعة وهذا هو المشهور، انظر: "البداية والنهاية" 2/ 189. ج- أنه أول من غير دين إبراهيم عليه السلام فقد روى مسلم في "صحيحه" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، وبحر البحيرة، وغير دين إسماعيل". (¬6) رواه الثعلبي 6/ 107 ب، والبغوي 4/ 47. (¬7) في (م): (وتزيين)، ولا معنى له. (¬8) سبق تخريج هذا البيت عند تفسير أول الآية.

وقال آخر (¬1): نسؤا المشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول وأكثر العلماء على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر على ما ذكرنا (¬2)، وقال جماعة من العلماء: "ربما كانوا يحتاجون إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، وكذلك تتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل (¬3) " (¬4)، فذلك حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في ¬

_ (¬1) لم أهتد إليه، والبيت بلا نسبة في كتاب "الأمالي" للقالي 1/ 4، و"تفسير ابن عطية" 6/ 489، و"البحر المحيط" 5/ 40، و"الدر المصون" 6/ 47. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 1/ 130 - 132، وابن أبي حاتم 6/ 1794، والثعلبي 6/ 106، والبغوي 4/ 45، وابن الجوزي 3/ 435، و"السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 44 - 45. (¬3) في (ح): (دهور طويلة). والمثبت موافق لما في "تفسير الثعلبي". (¬4) هذا معنى قول عبد الله بن عمرو كما في "الدر المنثور" 3/ 426، وقول مجاهد كما في "تفسير ابن جرير" 10/ 131، وقول ابن أبي نجيح كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1794، والعبارة للثعلبي في "تفسيره" 6/ 106 ب، واعتبره الرازي 16/ 57 هو الصحيح في تفسير الآية، وأقول: إن المتأمل في مجموع الروايات الواردة في هذه القضية يتبين له أن النسيء عند العرب على ضربين: الأول: تأخير تحريم شهر محرم إلى صفر؛ لحاجتهم إلى الغزو والنهب، وهذا هو المذكور في هذه الآية بدلالة قوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}. الثاني: تأخيرهم الحج عن وقته، ليكون ثابتًا في فصل من فصول السنة، كالأشهر في السنة الشمسية، فقد روى الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 425 عن عبد الله بن عمرو "أن العرب كانوا لا يصيبون الحج -يعني =

حجة (¬1) الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث (¬2) متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" (¬3)، ¬

_ = في شهر ذي الحجة- إلا في كل ست وعشرين سنة مرة". وروى عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 275، وابن جرير 10/ 131 عن مجاهد قال: " .. فكانوا يحجون في كل شهر عامين" ومما يدل على هذا النوع من النسيء ما روي أن حجة أبي بكر -رضي الله عنه- سنة تسع كانت في ذي القعدة، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 82: ذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد أن حجة أبي بكر وقعت في ذي القعدة، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في "الإكليل" ا. هـ وأنكر الإمام ابن كثير في "تفسيره" 2/ 393 ذلك بشدة. هذا وقد بين الرازي في "تفسيره" 16/ 56 - 57 أن غرضهم من ذلك هو المواءمة بين موسم الحج ومواسم التجارة في سائر البلدان. واختار الإمام أبو عبيد القول الثاني؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض" وليس في التفسير الآخر استدارة. انظر: "غريب الحديث"، له 1/ 291، 293. (¬1) في (ى): (خطبة حجة الوداع). (¬2) هكذا في النسخ، وهو موافق لرواية البخاري (7447) كتاب التفسير، سورة براءة، ورواية أبي داود وأحمد، قال الحافظ ابن حجر: (قال ابن التين: الصواب: ثلاثة متوالية؛ يعني لأن المميز الشهر، قال: ولعله أعاده على المعنى، أي ثلاث مدد متواليات. انتهى، أو باعتبار العدة، مع أن الذي لا يذكر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث). "فتح الباري" 8/ 325، والجدير بالتنبيه أن البخاري روى الحديث في موضع آخر بلفظ: ثلاثة. (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" في عدة مواضع منها كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (4662)، وكتاب التفسير، سورة براءة (7447)، وكتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، ورواه أيضًا مسلم (1679)، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء، وأبو داود (1947)، كتاب المناسك، باب الأشهر الحرم، وأحمد في "المسند" 5/ 37.

أراد إن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، فهذا الذي ذكرنا أكثر قول (¬1) أهل اللغة في النسيء والمفسرين. وقال قطرب: "معنى النسيء وأصله: من الزيادة يقال: نسأ في الأجل وأنسأ: إذا زاد فيه (¬2)، وكذلك قيل للبن: النسيء؛ لزيادة الماء فيه ونُسئت المرأة: إذا حبلت، جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن، وقيل للناقة: نسأتها: أي زجرتها ليزداد سيرها، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء" (¬3)، وهذا مذهب قتادة من المفسرين قال: "إنهم عمدوا فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم فقرنوه بالمحرم في التحريم، وأشركوا بينهما في الاسم فقالوا للمحرم وصفر: صفران" (¬4)، والصحيح: القول الأول، وأن أصل النسيء: التأخير، ونُسِئت المرأة: إذا حبلت؛ لتأخر حيضها، ونَسَأتُ الناقة معناه: زجرتها عن التأخير، ونَسَأتُ اللبن: إذا أخرته حتى كثر الماء فيه (¬5)، وقول قتادة: "أنهم زادوا صفرا في الحرم، فذلك يعود إلى تأخيرهم التحريم من المحرم إليه ولم يزيدوه (¬6) زيادة أصل تبلغ به عدد الحرم خمسة أشهر؛ لأن الله تعالى قال: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} فبين أنهم لم يزيدوا في العدد وإنما نقلوا التحريم من موضعه. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) ذكر قول قطرب الرازي 16/ 55 - 56، وبنحوه الثعلبي 6/ 106 أ. (¬4) رواه بمعناه مختصرًا ابن جرير 10/ 131، والثعلبي 6/ 106 أ، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 16/ 426. (¬5) من عادة اللبن أن الماء يطفو فوقه إذا ترك فترة. (¬6) في (ي): (ولا يزيدونه).

وقوله تعالى: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قال ابن عباس: يريد زيادة في كفرهم حيث أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله (¬1)، قال أهل المعاني: والزيادة في الكفر هو منه وفي معناه؛ لأنه كفر، كالزيادة في الدار هي منها؛ لأنها تصير معها دارًا واحدة (¬2). وقوله تعالى: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذه قراءة العامة (¬3)، وهو حسن؛ لإسناد الضلال إلى الذين كفروا؛ لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم حسن إسناد الضلال إليهم، وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضًا؛ لأن المضل لغيره ضال بفعله إضلال غيره. وقرأ أهل الكوفة {يُضَلُّ} بضم الياء وفتح (¬4) الضاد (¬5)، ومعناه: أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور، فأسند ¬

_ (¬1) ذكره المصنف في "الوسيط" 2/ 495، ورواه بمعناه مطولاً ابن جرير 10/ 130 من رواية علي بن أبي طلحة. (¬2) انظر: "تفسير الأصفهاني" 4/ 35 ب بمعناه ولم أجده في كتب أهل المعاني التي بين يدي، وقد زاد القرطبي هذا المعنى إيضاحًا فقال: قوله تعالى: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعًا من الكفر، فإنها أنكرت وجود الباري -تعالى- فقالت: (وما الرحمن) في أصح الوجوه، وأنكرت البعث فقالت: (من يحيى العظام وهي رميم) وأنكرت بعثه الرسل فقالوا: (أبشرًا واحدًا نتبعه) .. إلخ. "تفسير القرطبي" 8/ 139. (¬3) يعني بفتح الياء وكسر الضاد، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، انظر: "كتاب السبعة" ص 314، و"الغاية في القراءات العشر" ص 165، و"تقريب النشر" ص120. (¬4) في (ي): (وضم)، وهو خطأ. (¬5) هذه قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص. انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع.

الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} أي: زين لهم ذلك حاملوهم وداعوهم (¬1) إليه، وقرأ أبو عمرو في رواية أوقية (¬2) من طريق ابن مقسم (¬3): (يُضِلُّ بهِ الذين كَفَروا) بضم الياء وكسر الضاد (¬4)، وله ثلاثة أوجه: أحدها: يضل الله به الذين كفروا، والثاني: يضل الشيطان (¬5) به الذين كفروا، والثالث: وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بذلك، وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان فيبنى الفعل لهما، والكناية في (به) تعود إلى النسيء. وقوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}، قال ابن عباس: يريد: إذا قاتلوا فيه أحلوه وحرموا مكانه صفرًا، وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه (¬6)، والكناية في {يُحِلُّونَهُ} و {وَيُحَرِّمُونَهُ} تعود إلى النسيء (¬7)، أي: يحلون التأخير عاما، وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم، ويحرمون ¬

_ (¬1) في (ح): (ودعواهم)، وهو خطأ. (¬2) هو: عامر بن عمر بن صالح أبو الفتح الموصلي، المعروف بأوقية، مقرئ حاذق، وتولى قضاء الموصل، توفي سنة 250 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 220، و"غاية النهاية" 1/ 350. (¬3) هو: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن البغدادي، أبو بكر ابن مقسم العطار، كان إمامًا مقرئًا نحويًا، ثقة، ومن أحفظ الناس لنحو الكوفيين، وأعرفهم بالقراءات، وصنف في التفسير والمعاني، توفي سنة 354 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 2/ 206، و"إنباه الرواة" 3/ 100، و"غاية النهاية" 2/ 123. (¬4) انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 165، و"البحر المحيط" 5/ 40. (¬5) في (م): (الشياطين). (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 495، و"الوجيز" 6/ 491. (¬7) وإلى هذا ذهب أيضًا ابن جرير 10/ 130، والثعلبي 6/ 108 أ، والبغوي 4/ 47.

التأخير عامًا، وهو العام الذي يدعون (¬1) المحرم على تحريمه. وقوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، قال أهل اللغة: ليوافقوا. يقال: واطأت فلانًا على كذا: إذا وافقته عليه (¬2)، قال الزجاج: المواطأة: الموافقة على الشيء (¬3)، وقال المبرد: يقال: واطأت القوم على كذا، وتواطئوا (¬4) هم: إذا اجتمعوا على أمر واحد، كأنّ كل واحد (¬5) يطأ حيث يطأ صاحبه، والإيطاء (¬6) في الشعر من هذا، وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد (¬7). قال ابن عباس: ليواطؤا أربعة أشهر؛ لأن الله حرم منها أربعة (¬8). قال المؤرج: هو أنهم لم يحلوا شهرًا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرًا من الحلال (¬9)، [ولم يحرموا شهرًا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرًا ¬

_ (¬1) في (ي): (الذي يريدون أن يدعوا .. إلخ). ولم أثبت هذه الزيادة لثلاثة أسباب: أ- عدم وجودها في (ح) و (م). ب- أن الرازي نقل الجملة منسوبة للواحدي وليس فيها هذه الزيادة، انظر: "مفاتيح الغيب" 16/ 59. جـ- كثرة الأخطاء والسقط في النسخة (ي). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (وطئ) 4/ 3912، و"الصحاح" (وطأ) 1/ 81. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 447 ولفظه: المواطأة: المماثلة والاتفاق على الشيء. (¬4) في (ي): (وواطؤهم). (¬5) في (ح): (أحد). (¬6) في (ح): (ولا يطأ)، وهو خطأ. (¬7) انظر معنى الإيطاء في "تهذيب اللغة" (وطئ) 4/ 3912، و"طبقات فحول الشعراء" 1/ 72، ولم أقف على مصدر قول المبرد. (¬8) رواه بمعناه مطولاً ابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 426. (¬9) في (ح): (الحرم)، والصواب ما في (م) و (ي)، وهو موافق لما في "تفسير الثعلبي".

38

من الحرم] (¬1) لئلا تكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله، فتكون موافقة للعدد، فذلك المواطأة (¬2). وقال الزجاج: يجعلون صفرًا كالمحرم في العدد، ويقولون: إن هذه أربعة (¬3) بمنزلة أربعة (¬4)، وقال الفراء: يقول (¬5): لا يخرجون من تحريم أربعة أشهر (¬6) (¬7). وقوله تعالى: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}، قال ابن عباس والحسن: يريد، زين لهم الشيطان هذا (¬8). وقوله (¬9): {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، قال: يريد: لا يرشد كل كفار أثيم. 38 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، أجمع المفسرون على أن هذه الآية حثٌ لمن تثاقل عن غزوة تبوك، وذلك كان في زمان (¬10) عسرة من الناس، وجدب من البلاد، وشدة من الحر، حين أخرفت النخل، وطابت الثمار، فعظم ذلك على الناس وشق عليهم الخروج إلى القتال، فأنزل الله هذه الآية (¬11) يحرض ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬2) انظر: قول مؤرج في "تفسير الثعلبي" 6/ 108 أ. (¬3) في (ي): (الأربعة)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه". (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 447. (¬5) في (ي): (يقولون)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن". (¬6) ساقط من (م). (¬7) "معاني القرآن" 1/ 437. (¬8) انظر: "تفسير البغوي" 4/ 47، والرازي 16/ 58، و"الوسيط" 2/ 495. (¬9) من (م). (¬10) في (ي). (زمن)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لـ"الوسيط" و"تفسير الثعلبي". (¬11) ساقط من (ج).

أولياءه على ذلك (¬1)، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ} استفهام معناه التوبيخ، كقولك لمن تستبطئه في أمر: مالك متباطئًا عن هذا الأمر؟!. وقوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا} يقال: استنفر الإمام الناس لجهاد (¬2) العدو (¬3) فنفروا ينفرون نفرًا ونفيرًا: إذا حثهم ودعاهم إليه، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا استنفرتم فانفروا" (¬4)، وأصل النفر: الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه (¬5)، واسم ذلك القوم الذين يخرجون: النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 133، وابن أبي حاتم 6/ 1796، والسمرقندي 2/ 49، والثعلبي 6/ 108أ، والبغوي 4/ 48، و"أسباب النزول" ص250 - 251، و"الوسيط" للمؤلف 2/ 495، وذكر الزجاج أيضًا إجماع المفسرين على ذلك، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 447. (¬2) في (ي): (للجهاد). (¬3) ساقطة من (ي). (¬4) رواه البخاري (2825) في عدة مواضع، منها كتاب: الجهاد، باب: وجوب النفير، ورواه مسلم (1353)، كتاب: الإمارة، باب: تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه، والنسائي في "سننه" كتاب: البيعة، باب: ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة 7/ 146، والترمذي (1590) كتاب: السير، باب: ما جاء في الهجرة، وأبو داود (1479) كتاب: الجهاد، باب: الهجرة هل انقطعت، وأحمد في "المسند" 1/ 226. (¬5) عبارة الطبري 10/ 133: لأمر هاجه على ذلك، وعبارة "الوسيط" 2/ 496: لأمر أوجب الخروج. (¬6) قال الأزهري: قيل هذا المثل لقريش من بين العرب، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة، ونهض منها ليلقى عير قريش سمع مشركو قريش بذلك فنهضوا ولقوه ببدر ليأمن عيرهم المقبل من الشام مع أبي سفيان، فكان من أمرهم بما كان، ولم يكن تخلف عن العير والقتال إلا زمن أو من لا خير فيه، فكانوا يقولون لمن لا =

وقوله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}، قال ابن عباس: يريد أحببتم المقام (¬1)، وقال الزجاج: معناه تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قال: ويجوز: اثاقلتم إلى شهوات الدنيا (¬2)، وهذا نحو قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 176] وقد مر. واثاقلتم: أصله: تثاقلتم [ومعناه: تباطأتم] (¬3)، وهو نحو قوله: {فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72] و {اطَّيَّرْنَا} [النمل: 47] وقد مرّ. وقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}، قال ابن عباس: يريد: قدّمتم الدنيا على الآخرة (¬4) يريد بالآخرة الجنّة، قال الزجاج: "أي رضيتم بنعيم الحياة الدنيا من نعيم الآخرة، وقال أبو علي الفارسي: المعنى (¬5): أرضيتم بالحياة الدنيا بدلاً من الآخرة، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (¬6) أي بدلاً منكم (¬7). قال الراعي: ¬

_ = يستصلحونه لمهم: فلان لا في العير ولا في النفير، فالعير من كان منهم مع أبي سفيان، والنفير: من كان منهم مع عتبة بن ربيعة قائدهم يوم بدر. "تهذيب اللغة" (نفر) 4/ 3628. (¬1) "تنوير المقالة" ص 193 بمعناه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 447. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 496. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 447. (¬6) ساقط من (ح). (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 24.

39

أخذوا المخاض من الفصيل غُلَّبة ... ظلمًا ويكتب للأمير فصيلاً (¬1) أراد: بدلاً من الفصيل. {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قال ابن عباس: يريد: الدنيا كلها (¬2). {إِلَّا قَلِيلٌ} عند شيء من الجنة (¬3)، وقال الزجاج: أي ما يتمتع به في الدنيا قليل عند ما يتمتع به أولياء الله في الجنة (¬4). 39 - قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، قال مقاتل: إلا تنفروا مع نبيكم إلى الجهاد يعذبكم عذابًا أليمًا (¬5)، وروي عن ابن عباس أنه قال: هذا العذاب المتوعد به على ترك النفير هو إمساك المطر (¬6)، قال: استنفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا من الأحياء فتثاقلوا عنه فأمسك عنهم المطر (¬7)، وقال الزجاج: هذا وعيد شديد في التخلف عن ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الراعي" ص 145، و"جمهرة أشعار العرب" ص 336، و"شرح أبيات المغني" الشاهد رقم (529) 1/ 342. والمخاض: الناقة الحامل. والفصيل: ولد الناقة المفصول عن الرضاعة. انظر: "لسان العرب" (مخض وفصل). والشاعر يشكو جباة الزكاة ويذكر ظلمهم. (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 496، ورواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 193. (¬3) روى مسلم في (2858)، كتاب: الجنة، باب: فناء الدنيا عن المستورد بن شداد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه -وأشار يحيى (أحد الرواة) بالسبابة- في اليم فلينظر بم ترجع". (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 448. (¬5) "تفسير مقاتل" 129 أ، ولفظه: إلا تنفروا في غزاة تبوك إلى عدوكم يعذبكم عذابًا أليمًا. (¬6) هذا هو معنى أثر ابن عباس التالي. (¬7) رواه ابن جرير 10/ 134، والحاكم في "المستدرك" 2/ 118، وصححه، ووافقه =

الجهاد (¬1)، قال عكرمة والحسن: هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] (¬2)، قال المفسرون: الصحيح أن هذه الآية خاصة فيمن استنفره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وقوله تعالى: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}، قال ابن عباس: يريد: من التابعين بإحسان (¬4)، وهذا كالاستعتاب من الله تعالى لأولئك القوم، والتوعد لهم أنهم إن تركوا الغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أتى الله بقوم آخرين ينصر بهم الدين، وهم التابعون في قول ابن عباس (¬5)، وقال سعيد بن ¬

_ = الذهبي، ورواه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: الجهاد، باب: النفير، رقم (17943) 9/ 83، ورواه مختصرًا أبو داود (2506)، كتاب: الجهاد، باب: في نسخ نفير العامة بالخاصة. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 448. (¬2) رواه عنهما ابن جرير 10/ 135، وابن أبي حاتم 6/ 1797 - 1798، والصواب أن هذه الآية، وكذلك الآية التالية {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} محكمتان غير منسوختين؛ لأنه لا تنافي بينهم وبين الآية المدعى أنها ناسخة، وذلك لإمكان توجيه كل آية لحالة غير التي للأخرى، فالآيتان الأوليان لبيان حكم النفير حالة كون الجهاد فرض عين كحالة غلبة العدو على بلاد الإسلام، أو استنفار الإمام قومًا معينين، أو احتيج للجميع، أو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- خارجاً للجهاد. أما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فهي لبيان حكم النفير حالة كون الجهاد فرض كفاية، فالآية تبين أن النفر في هذه الحالة واجب على بعضهم دون بعض. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 436، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي 2/ 249، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب ص 273، و"زاد المسير" 3/ 438، و"تفسير ابن كثير" 2/ 395. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 135، وابن الجوزي 3/ 438، والرازي 16/ 59. (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 16/ 61. (¬5) سبق ذكره وتخريجه.

40

جبير: هم أبناء فارس (¬1)، وقال أبو روق: هم أهل اليمن (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} الكناية في قول الحسن راجعة إلى الله تعالى (¬3) أي: لا تضروا الله لأنه غني عنكم، وعن كل شيء، وفي قول الباقين: تعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، أي: لا تضروه لأن الله عصمه عن (¬5) الناس، ولأنه لا يخذله إن تثاقلتم عنه. 40 - قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال أبو إسحاق: أعلمهم (¬6) الله أنهم إن تركوا نصره فلن يضره ذلك شيئًا، كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة (¬7)، وهم به الكفار ما هموا، فتولى الله تعالى نصريه ورد كيد من ناوأه خائبًا، ومعنى قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أعانه على أعدائه حين مكر به المشركون، وهو أن بعث إليه جبريل حتى أمره بالخروج (¬8)، وجعل كيدهم في تباب، وأراد بقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} حين قصدوا إهلاكه، وذكرنا ذلك في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 109 أ، والبغوي 4/ 48. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 109 أ، والبغوي 4/ 48، والرازي 16/ 61. قال الشوكاني في "فتح القدير" 2/ 526: ولا وجه للتعيين بدون دليل أقول: إن مراد السلف التمثيل لا الحصر، والله أعلم. (¬3) انظر: "زاد المسير" 3/ 438، و"تفسير الرازي" 16/ 61، والماوردي 2/ 363. (¬4) انظر المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬5) كذا، والأصح أن يقول: من. (¬6) في (م): (أعلم)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬7) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 448. (¬8) رواه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 4/ 206 وفي سنده راوٍ لم يسم.

[الأنفال: 30] الآية، وأضاف إخراجه إلى الكفار لأنهم لما هموا بقتله صعب عليه المقام، واحتاج (¬1) إلى الخروج من مكة، فأضيف الإخراج إليهم لما كانوا السبب في خروجه، قال ابن عباس في قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: يريد: من مكة هاربًا منهم (¬2)، وأما قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} [الأنفال: 5] يريد: أمره إياه بالخروج (¬3). وقوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي واحد اثنين، قال الزجاج: وهو نصب على الحال، المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين أي نصره منفردًا (¬4) إلا من أبي بكر (¬5) (¬6)، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله -عز وجل- أهل الأرض جميعًا في هذه الآية غير أبي بكر (¬7)، قال ابن عباس: والجمع في قوله: ¬

_ (¬1) في (ج): (فاحتاج). (¬2) "تنوير المقباس" ص 193 بمعناه. (¬3) عبارة المؤلف توحي بأنه يرى أن الإخراج المذكور في الآيتين واحد، وهو الإخراج من مكة، ومن ثم جمع بين الآيتين، والصحيح أن الإخراج المذكور في آية الأنفال إنما هو من المدينة إلى بدر. انظر: "تفسير ابن جرير" 9/ 182. (¬4) في (ي): (مفردًا)، وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه". (¬5) في (ي): (هو أبو بكر)، وهو خطأ. (¬6) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 449. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 110 أ، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 435، وفي سند الثعلبي داود بن المحبر وهو متروك، كما في "تقريب التهذيب" 200 (1811)، كما أن في متن هذا الأثر نظرًا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله تعالى هو الذي كف أيدي أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن نصرته في مكة كما أفاد ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77]. الثاني: أنه ليس في الآية ما يفيد أن الصحابة -رضي الله عنهم- كلفوا بنصرة نبيهم بمكة فتخلوا عنه حتى تكون عتاباً، أما قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} فهو إخبار عن مستقبل، وقد قام الصحابة بذلك خير قيام وفدوه بالنفس والمال، ويكفي شاهدًا على ذلك أنه لم =

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} هو وأبو بكر (¬1)، ويقال: فلان ثاني اثنين أي هو أحدهما مضاف، ولا يقال: هو ثان اثنين بالتنوين، وقد مرّ تفسيره مشبعًا في قوله: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] (¬2)، وقال صاحب النظم: (ثاني اثنين) أي: أحد اثنين ولو ذهب فيه مذهب الفعل كما تقول: كان واحداً فثنيته أي صيرته اثنين بنفسي لقيل: (ثاني واحد)، وكذلك قوله: (ثالث ثلاثة) أي: أحد ثلاثة، ولو ذهب به مذهب الفعل لقيل: (ثالث اثنين). وقوله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}، الغار: نقب في الجبل عظيم، قال قتادة: هو غار في جبل بمكة يقال له: ثور (¬3)، قال مجاهد: مكثا في ¬

_ = يتخلف عنه في غزوة تبوك من المؤمنين الصادقين الذين لا عذر لهم سوى بضعة نفر على الرغم من بعد الشقة وحرج الموقف. الثالث: أن هناك من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شارك أبا بكر في نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أيام هجرته منهم علي بن أبي طالب الذي نام في فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسجى ببردته، وعرض نفسه للخطر، وعبد الله بن أبي بكر الذي كان يتحسس أخبار المشركين ثم يخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وكذلك بنتا أبي بكر اللتان جهزتا الراحلتين، وعامر ابن فهيرة الذي كان يرعى حولهما الغنم فيشربان من لبنها. انظر: "صحيح البخاري" (3905) كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، و"مسند الإمام أحمد" 1/ 331. (¬1) في (ي): (هو أبو بكر)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "الوسيط" 2/ 497، ولم ينسبه فيه لأحد، وانظر: قول ابن عباس في "تنوير المقباس" ص 193 بنحوه. (¬2) انظر النسخة (ج) 2/ 65 أوقد قال هنا: قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}. قال الفراء: ثالث ثلاثة لا يكون إلا مضافًا ولا يجوز التنوين في (ثالث) فينصب الثلاثة، وكذلك قوله: (ثانى اثنين) لا يكون (اثنين) إلا مضافًا؛ لأن المعنى مذهب اسم، كأنك قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة، ولو قلت أنت: ثالث اثنين، جاز الإضافة وجاز التنوين ونصب الاثنين ... إلخ. (¬3) رواه ابن جرير10/ 136، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 435.

الغار ثلاثًا (¬1)، وقال عروة بن الزبير: وكان عامر بن فهيرة (¬2) يروح عليهما بغنم لأبي بكر (¬3)، وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر (¬4) يختلف إليهما (¬5)، فلما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخروج جاءهما بناقتين (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 136، والثعلبي 6/ 109 ب، وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" 3/ 436. (¬2) هو: عامر بن فهيرة التيمي مولاهم، يقال: إن أصله من الأزد، أو من عنز بن وائل، استرق في الجاهلية فاشتراه أبو بكر الصديق، ثم أعتقه، وهو من السابقين إلى الإسلام وممن كان يعذب في الله، وقد هاجر وشهد بدرًا وأحدًا واستشهد يوم بئر معونة سنة 4 هـ. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 272، و"الإصابة" 2/ 256 (4415)، و"تهذيب التهذيب" 2/ 270. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 136، والثعلبي 6/ 109 ب، وقد رواه موصولاً عن عروة عن عائشة الإمام البخاري (3905) في "صحيحه"، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمن حديث الهجرة الطويل. (¬4) هو: عبد الرحمن بن أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان القرشي التيمي، أبو محمد، أكبر ولد أبي بكر الصديق، تأخر إسلامه إلى أيام صلح الحديبية ثم أسلم وحسن إسلامه، كان رجلاً صالحًا شجاعًا راميًا لم يجرب عليه كذبة قط، توفي فجأة قرب مكة سنة 58 هـ. انظر: "المعارف" ص 102، و"الإصابة" 2/ 392 (2588). وانظر التعليق التالي. (¬5) الثابت في "صحيح البخاري" (3905)، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي كان يختلف إليهما عبد الله بن أبي بكر، وهو الصواب، وقد أسلم قديمًا مع آل أبي بكر، أما أخوه عبد الرحمن فقد تأخر إسلامه، كما مر في ترجمته. (¬6) في "صحيح البخاري" في الموضع السابق، حديث الهجرة الطويل وفيه: واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلاً من بني الديل .. أمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 109 ب.

وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} خطب أبو بكر -رضي الله عنه-، فقال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ فقال رجل: أنا، [قال: اقرأ] (¬1) فلما بلغ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} بكى أبو بكر، وقال: أنا صاحبه (¬2)، قال المفسرون: وهذه الصحبة كانت بأمر الله؛ لأن جبريل لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج قال: "ومن يخرج معي؟ " قال: أبو بكر (¬3) (¬4)، قال الحسين ابن الفضل: من أنكر أن يكون عمر أو عثمان أو أحد (¬5) من الصحابة كان صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كذاب مبتدع، ومن أنكر أن يكون (¬6) أبو بكر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان كافرًا؛ لأنه رد نص القرآن (¬7). وقوله تعالى: {لَا تَحْزَنْ}، قال ابن عباس: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر معه إلى الغار ليلاً، وأصبح المشركون يطلبونهما فاقتصوا الأثر إلى الغار، فحزن أبو بكر، وقال: أتينا يا رسول الله، فقال: "اللهم أعم أبصارهم" فعميت أبصارهم، وجعلوا يضربون يمينًا وشمالاً حول الغار (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1800. (¬3) في (ج): تكررت جملة: (قال: أبو بكر). (¬4) ذكره الزمخشري في "الكشاف" 2/ 190 بصيغة التمريض، وذكره الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" 3/ 75 ولم يذكر من أخرجه. (¬5) في (ج): (واحد)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط". (¬6) ساقط من (ي). (¬7) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 49، و"الوسيط" 2/ 99. (¬8) أخرجه ابن عساكر كما في "الدر المنثور" 3/ 433 بنحوه، وذكر الثعلبي 6/ 109 ب قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما بعده، عن الزهري.

وقال المفسرون: قال أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خاف (¬1) الطلب: يا رسول الله: إن قتلتُ فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة، وكان حزنه شفقة (¬2) على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخوفًا أن يُطِّلَع عليه (¬3)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزن إن الله معنا" (¬4)، قال الزجاج: لما أصبح المشركون اجتازوا بالغار فبكى أبو بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما يبكيك؟ " فقال: أخاف أن تقتل فلا يعبد الله بعد اليوم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" أي إن الله -عز وجل- يمنعهم منا وينصرنا، قال: أهكذا يا رسول الله؟ قال: "نعم" فرقأ دمع أبي بكر وسكن (¬5)، وقال أبو بكر: قلتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار: لو [أن واحداً] (¬6) نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (¬7) فهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. ¬

_ (¬1) في (ي): (ضاق). (¬2) في (ج): (شفقته)، والصواب ما أثبته بدلالة السياق. (¬3) في هذا أبلغ الرد على الرافضة الذين ينتقصون أبا بكر بحزنه المذكور، وانظر تفصيل ذلك في: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 953. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 109 أ، والبغوي 4/ 49. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 448، وقد روى الأثر بمعناه مختصرًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1798 - 1799 ولفظه: فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت، فقال: "ما يبكيك؟ " فقلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. لكن هذا في مسيرهما إلى المدينة وليس في الغار. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) رواه بنحوه البخاري (4381) كتاب التفسير، باب قوله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}، ومسلم (2381) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق.

وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} اختلفوا في رجوع الكناية من (عليه)، فقال أبو روق: على النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، قال الزجاج: لأن الله ألقى في قلبه ما سكن به وعلم أنهم غير واصلين إليه (¬2)، وقال ابن عباس: على أبي بكر، فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت (¬3) السكينة عليه من (¬4) قبل ذلك (¬5)، قال أهل المعاني: وهذا أولى لأنه الخائف الذي احتاج إلى الأمن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان آمناً؛ لأنه كان قد وعد بالنصر، فكان ساكن القلب (¬6)، وقال عطاء، عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} يريد: رحمته على نبيه وعلى صاحبه (¬7)، وعلى هذا: الكناية راجعة إليهما، وهو مذهب المبرد، قال: ويجوز أن تكون عليهما فاكتفى بذكر أحدهما كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] (¬8). وذكر ابن الأنباري هذه الأقوال في رجوع الكناية، ونصر مذهب المبرد، وقال: التقدير: فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما، فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعًا كما قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1801 عن حبيب بن أبي ثابت، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 440 عنه وعن علي وابن عباس. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 449، وهذا أولى لأن في القول الثاني تفكيك للضمائر. (¬3) في (ج): (كانت). (¬4) ساقط من (ج). (¬5) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1801، والثعلبي 6/ 110 ب، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" وابن عساكر في "تاريخه" كما في "الدر المنثور" 3/ 439. (¬6) ذكره بمعناه ابن قتيبة في "غريب القرآن" 2/ 12، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" 3/ 210، وفي "إعراب القرآن" 2/ 215. (¬7) ذكره مختصرًا الماوردي في "النكت" 2/ 364، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 43. (¬8) لم أجده في كتب المبرد التي بين يدي.

أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] الآية، وكما قال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] (¬1). وقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}، قال ابن عباس: يريد: وقواه بجنود لم تروها (¬2)، يريد: الملائكة يدعون الله له (¬3)، وقال الزجاج: أيده بملائكة يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه (¬4)، وقال غيره: يعني ما كان من تقوية الملائكة لقلبه بالبشارة بالنصر من ربه، ومن إلقاء اليأس في قلوب المشركين حتى انصرفوا خائبين (¬5)، وهذه الأقوال على أن هذا التأييد بالملائكة كان في الغار، والكلام في الكناية في قوله: (وأيده) كالكلام في الكناية في (عليه) غير أنه لا يجوز أن تكون الهاء في (وأيده) عائدة على أبي بكر خاصة؛ لأن المؤيد بالجنود هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاختيار أن تكون الكناية الأولى راجعة على أبي بكر، والثانية راجعة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال الكلبي: وأيده بجنود لم تروها أي: قواه وأعانه بالملائكة يوم بدر (¬6)، ونحو هذا قال مجاهد، قال: ذكر الله ما كان في أول شأنه (¬7)، ¬

_ (¬1) ذكر قول ابن الأنباري باختصار ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 441 ولم أجده في كتبه المطبوعة. (¬2) "الوسيط" 2/ 449، وبمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 193. (¬3) هذا التخصيص لا دليل عليه، وليس في سياق الرواية ما يشعر به. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 449. (¬5) ذكر معنى هذا القول مختصرا ابن عطية في "تفسيره" 6/ 500. (¬6) رواه البغوي في "تفسيره" 4/ 53، وانظر: "الوسيط" 2/ 449. (¬7) رواه ابن جرير 10/ 136، وابن أبي حاتم 6/ 1801، وعزاه إلى السدي، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ولفظه عندهم: قال: ذكر=

ومعنى قول الكلبي: أن الله تعالى أخبر أنه صرف عنه كيد أعدائه ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر، ومعنى قول مجاهد: أن هذه السورة من آخر ما نزل في القرآن، ويوم بدر كان في حدثان قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم-المدينة، فذكر في هذه السورة (¬1) ما كان من نصره إياه في أول شأنه وهو يوم بدر (¬2). وقوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}. قال ابن عباس: (السفلى) كلمة (¬3) الشرك، و (العليا) لا إله إلا الله (¬4)، وكان هذا يوم بدر، وهذا قول مقاتل (¬5)، واختيار الفراء (¬6)، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد ما كادوا به النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكروا جعله في ضلالة وندامة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ}: يريد: موعد الله ومكره هو ¬

_ = ما كان في أول شأنه حين بعث يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين، وهو في "تفسير مجاهد" 369 بلفظ: قال: ذكر ما كان من أول شأنه حين أخرجوه، فالله ناصره كما نصره وهو ثاني اثنين. (¬1) في (ي): (تكرار لبعض ما سبق ذكره، ولفظ الزيادة: من آخر ما نزل في القرآن، وذكر في هذه السورة. (¬2) هذا معنى قول مجاهد عند المؤلف، والمتأمل في لفظي قول مجاهد -وقد سبق ذكرهما في التعليق الأسبق- يظهر له أن معناه: لقد ذكر الله تعالى نصرته لعبده في أول شأنه حين بعث إذ كان ثاني اثنين في الغار، فالله ناصره بعد ذلك كما نصره في تلك الحادثة. (¬3) في (ج): (كلمة السفلى: الشرك). (¬4) رواه ابن جرير 10/ 137، وابن أبي حا تم 6/ 1801، والثعلبي 110/ 6 ب، والبيهقي في كتاب: "الأسماء والصفات"، باب: ما جاء في فضل الكلمة الباقية .. 1/ 184 وهو من رواية علي بن أبي طلحة، ولفظ: "وكان هذا يوم بدر" ليس من كلام ابن عباس حسب المصادر السابقة. (¬5) انظر: "تفسيره" 29 أ. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 1/ 438، ولم يذكر الفراء أن ذلك كان يوم بدر.

الأعلى (¬1)، وهذا اختيار ابن كيسان، قال: {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه فلم ينالوا أملهم، {وَكَلِمَةُ اللَّهِ}: وعد الله أنه ناصره هو الحق (¬2) (¬3). والاختيار في قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} هو الرفع (¬4)، وهو قراءة العامة (¬5) على الائتناف من غير در الفعل الذي هو (جعل)، قال الفراء: ويجوز: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالنصب (¬6) ولست أستحب ذلك لظهور اسم الله؛ لأنه لو نصبها والفعل فعله كان أجود الكلام أن يقال: وكلمته هي العليا، ألا ترى أنك تقول: قد أعتق أبوك غلامه، ولا تكاد تقول: أعتق أبوك غلام أبيك، وقال الشاعر في إجازة ذلك: متى تأتي زيدًا قاعدًا عند حوضه ..... لتهدم ظلمًا حوض زيد تقارع (¬7) ¬

_ (¬1) ذكره مختصرًا ابن الجوزي في "الزاد" 3/ 441، وأبو حيان في "البحر" 5/ 44، وأشار إليه المصنف في "الوسيط" 2/ 499. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وهو الحق. (¬3) "الوسيط" 2/ 449 دون جملة: هو الحق. (¬4) على الابتداء و (هي) الخبر، أو تكون فصلاً والخبر (العليا). (¬5) قرأ بها العشرة غير يعقوب، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 165، و"تقريب النشر" ص 120، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 242، وهذه القراءة أبلغ لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت بخلاف الجملة الفعلية التي تدل على الحدوث والتجدد، ولأن كلمة الله في ذاتها عالية ثابتة فلا حاجة إلى جعلها كذلك. (¬6) وقرأ بها يعقوب والحسن والأعمش في رواية المطوعي. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص 242 عطفًا على (كلمة الذين كفروا)، والمعنى: وجعل كلمة الذين كفروا، وجعل كلمة الله هي العليا. (¬7) لم أهتد إلى قائله. وانظر البيت بلا نسبة في: "شرح أبيات معاني القرآن" ص 214.

41

فذكر زيدًا مرتين ولم يكن عنه في الثانية، والكناية وجه الكلام (¬1). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، قال ابن عباس: عزيز في ملكه، حكيم في خلقه (¬2). وقال ابن كيسان: عزيز في انتقامه من أهل الكفر، حكيم في تدبيره خلقه (¬3). 41 - قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية، اختلفوا في تفسير الخفاف والثقال، فقال ابن عباس في رواية عطاء: شبانا وكهولاً (¬4)، وهو قول أنس والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية (¬5)، ومقاتل بن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 438 وقد رد النحاس قول الفراء هذا فقال: قرأ الحسن ويعقوب (وكلمةَ الله) بالنصب عطفًا على الأول، وزعم الفراء أن هذا بعيد؛ قال: لأنك تقول: أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول: غلام أبي فلان. قال أبو جعفر: الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشده سيبوبه: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ..... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وهذا جيد حسن؛ لأنه لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق: إن في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 1 - 2] فهذا لا إشكال فيه. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 752. (¬2) لم أعثر على مصدره. (¬3) لم أعثر على مصدر هذا القول، وقد ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 442، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 499 من غير نسبة. (¬4) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1802 بغير سند وبصيغة التمريض. (¬5) هو: شمر بن عطية بن عبد الرحمن الأسدي الكاهلي الكوفي، راوٍ صدوق، له أحاديث صالحة، وثقه النسائي وابن معين وغيرهما، توفي بعد سنة 100 هـ. انظر: "الكاشف" 1/ 490، و"تقريب التهذيب" 2681 (2821)، و"تهذيب التهذيب" 2/ 179.

حيان والحسن، هؤلاء قالوا: شبانًا وشيوخًا، وشبانا وشيبًا (¬1)، وروى عطاء عنه أيضًا: (رجّالة وركبانا) (¬2) وهو قول عطية (¬3)، وروى طاوس عنه: نشاطًا وغير نشاط (¬4)، وروي عنه أيضًا: {خِفَافًا} أهل الميسرة من المال، {وَثِقَالًا}: أهل العسرة (¬5)، وهو اختيار الزجاج، قال: موسرين ومعسرين (¬6). وعلى العكس من هذا قال أبو صالح: {خِفَافًا} من المال، أي فقراء، {وَثِقَالًا} منه، أي أغنياء (¬7)، وهو اختيار الفراء قال: "الخفاف: ذوو العسرة وقلة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة (¬8) ". قال أهل المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل حال، وفي كل أحد؛ لأنه ما من أحد إلا وهو ممن تخف عليه الحركة أو تثقل، فهو ممن ¬

_ (¬1) ذكره عنهم جميعًا الثعلبي 6/ 110 ب، وكذلك -عدا أنس- الإمام ابن جرير 10/ 138، وابن أبي حاتم 6/ 1802. والجدير بالتنبيه أن في تفسير ابن جرير: بثمر بن عطية، وذكر المحقق أن في اسمه اضطرابًا ولم يهتد للصواب، والصواب: شمر بن عطية،، كما ذكره الواحدي وابن أبي حاتم والثعلبي، فليصحح. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 442، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 449. (¬3) ذكره الثعلبي 6/ 111 أ، والبغوي 4/ 53. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 139، من وراية العوفي وكذلك ابن أبي حاتم 3/ 1803، وذكره الثعلبي 6/ 111 أدون ذكر الراوي عنه. (¬5) ذكره البغوي 4/ 53 بصيغة التمريض، وكذلك ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 442، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 499. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 499. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 111 أ، وبنحوه ابن جرير 10/ 139، والبغوي 4/ 53. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 439.

أمر في هذه الآية بالنفير (¬1) ألا ترى إلى (¬2) ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه شهد بدرًا ثم لم يتخلف عن غزوة للمسلمين (¬3)، وكان يقول: قال الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ولا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلاً (¬4)، وقيل للمقداد بن الأسود، وهو يريد الغزو وكان قد كبر وأسن: قد أعذر الله إليك، يعني: في القعود عن (¬5) الغزو، فقال: أبت علينا سورة براءة {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (¬6) وروي أيضًا أن أبا طلحة (¬7) قرأ هذه الآية فقال لبنيه: جهزوني جهزوني، فقالوا: لقد غزوت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر وعمر حتى ماتوا فنحن نغزو عنك، فقال: لا، جهزوني جهزوني (¬8)، ما أرى الله إلا يستنفرنا شبانا وشيوخًا (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 499، وبمعناه النحاس في "معاني القرآن الكريم" 3/ 212. (¬2) في (ج): (أن). (¬3) بل ذكرت المصادر التالية أن أبا أيوب -رضي الله عنه- تخلف عامًا واحداً، وذكر بعضها أنه ندم على ذلك. (¬4) رواه ابن جرير 14/ 138، والحاكم في "المستدرك"، كتاب "معرفة الصحابة" 3/ 458، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 2/49. (¬5) في (ج): (في). (¬6) رواه ابن جرير 10/ 139 - 140، والحاكم في "المستدرك" كتاب: معرفة الصحابة 3/ 349، وقال: صحيح الإسناد، وابن أبي حاتم 6/ 1802. (¬7) هو: زيد بن سهل بن الأسود النجاري الخزرجي، أبو طلحة الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بني أخواله، وأحد أعيان البدريين، واحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، توفي سنة 34 هـ. انظر: "المعارف" 154، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 27، و"الإصابة" 1/ 566. (¬8) ساقط من (ج) و (م). (¬9) رواه الحاكم في "المستدرك"، كتاب: معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي طلحة =

وهذه الآية مما دل بظاهره على وجوب (¬1) الجهاد بكل حال، قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس في هذه الآية: نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] (¬2) الآية، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن الجهاد كان واجبًا على الأعيان، وهل ذلك يجب (¬3) اليوم كما كان يجب؟ ذكرنا الاختلاف فيه في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] (¬4). ¬

_ = 3/ 353، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) كتاب: المناقب، ذكر الموضع الذي مات فيه أبو طلحة، رقم (7184) 16/ 512، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1802، وصححه الحاكم، وقال: على شرط مسلم، وقال الذهبي: على شرط الشيخين. (¬1) في (ج): (وجود)، وهو خطأ. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1803، والبغوي في "تفسيره" 4/ 54 بغير سند، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: السير، باب: النفير .. رقم (17938) 9/ 81 وفي سنده عثمان بن عطاء الخرساني، قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" 385 (4502): (ضعيف. اهـ. وفيه علة أخرى وهي الإرسال؛ فإن عطاء الخرساني لم يسمع من ابن عباس كما في "العبر" 1/ 140، و"تهذيب التهذيب" 3/ 71، 72، وقد سبق بيان التحقيق في نسخ هذه الآية عند قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ}. (¬3) في (ي): (وهل يجب ذلك). (¬4) انظر: "النسخة الأزهرية" 1/ 131 أوقد قال في هذا الموضع: اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فمذهب عطاء أن المعني بهذا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة دون غيرهم؛ لأنه قال: كان القتال مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فريضة .. وقال بعضهم: كان الجهاد في الابتداء من فرائض الأعيان، ثم صار فرض كفاية، لقوله عز وجل {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ولو كان القاعد مضيعًا فرضًا ما كان موعوداً بالحسنى، وقال بعضهم: لم يزل الجهاد فرض كفاية، غير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير، لوجوب طاعته، .. والإجماع اليوم على أنه من فروض الكفاية، إلا أن =

وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال أهل العلم: هذا يدل على أن الموسر يجب عليه الجهاد بالمال إذا عجز عن الجهاد ببدنه لزمانة (¬1) أو علة، فوجوب الجهاد بالمال كوجوب الجهاد بالبدن على الكفاية (¬2)، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} قيل: ذلكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم (¬3)، وقيل: معناه: أن الخير فيه لا في تركه (¬4)، فـ (خير) هاهنا ليس بالذي يصحبه (من)، وليس للتفضيل؛ لأن (خيرًا) (¬5) تستعمل بمعنيين: أحدهما (¬6) بمعنى: هذا خير من ذاك، والثاني أنه بمعنى: خير في نفسه، كقوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات: 8] ومثله كثير. ¬

_ =أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين على كافة المسلمين إلى أن يقوم بكفايتهم من يصرف وجوههم. (¬1) الزمانة: العاهة والبلوى، انظر: "القاموس المحيط"، فصل الزاي، باب: النون ص 1203، و"مختار الصحاح" (ز م ن) ص 275. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 3/ 443، والرازي 16/ 70 - 71، والخازن 2/ 228، و"حاشية الروض المربع" 4/ 256، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء .. فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 28/ 87. (¬3) هذا قول ابن جرير، انظر "تفسيره" 10/ 140. (¬4) ذكر هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 366، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 444. (¬5) في (ج): (ص). (¬6) في (ج): (أحد).

42

وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: قال ابن عباس: إن كنتم تعلمون ما لكم من الثواب (¬1) والجزاء، وقيل: [إن كنتم] (¬2) تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير (¬3). 42 - وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} الآية، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك (¬4)، قال الكلبي: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك أبدى الله نفاقهم، وأنزل هذه الآية (¬5)، قال الزجاج والمبرد وغيرهما: لو كان ما دعوا إليه أو (¬6) لو كان المدعو إليه سفرًا قاصدًا، فحذف اسم (كان) لدلالة ما تقدم من الكلام عليه (¬7) و {عَرَضًا قَرِيبًا} يريد: من عرض الدنيا، قاله ابن عباس (¬8)، وقال الضحاك: غنيمة قريبة (¬9). ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره سوى المؤلف في "الوجيز" 1/ 465. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬3) لم أهتد إلى القائل. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 141، والثعلبي 6/ 111 ب، والبغوي 4/ 54، وابن الجوزي 3/ 444، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 251. (¬5) ذكره بمعناه الهواري في "تفسيره" 2/ 134. (¬6) في (ج): (و). (¬7) انظر: قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 449، وانظر أيضًا: "تفسير الطبري" 10/ 141، والثعلبي 6/ 111 ب، والبغوي 4/ 54، وابن الجوزي 3/ 444، وأبي حيان 5/ 45، ولم أجد مصدر قول المبرد، ولعله في كتابه "معاني القرآن" الذي لم أعثر عليه. (¬8) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1804، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 194. (¬9) لم أجد من ذكره عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم في المصدر السابق، نفس الموضع عن الضحاك عن ابن عباس.

وقال الكلبي: مالاً قريبًا (¬1)، ومضى الكلام في العرض عند قوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]. وقوله تعالى: {وَسَفَرًا قَاصِدًا}، قال الليث: القصد (¬2): استقامة الطريقة يقال: قصد يقصد قصدًا فهو قاصد (¬3)، قال ابن عباس: سفرًا قاصدًا يريد: قريبًا (¬4)، وقال الكلبي: هينا (¬5)، وقال الزجاج: أي سهلاً قريبًا (¬6)، وقال أهل المعاني: وسفرًا قاصدًا سهلاً باقتصاده من غير طول في أمره، وإنما قيل للعدل قصد لأنه مما ينبغي أن يقصد (¬7)، وقال المبرد: قاصدًا: ذا قصد، أي ذا اعتدال في غير طول، أو ذا لين وسهولة واستقامة، كقولهم: لابن (¬8) ورامح (¬9) وتامر (¬10). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}، قال الليث: الشقة: بعد مسير إلى أرض بعيدة، يقال: شقة شاقة (¬11)، قال الضحاك: {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ¬

_ (¬1) ذكره الهواري في "تفسيره" 1/ 134 بنحوه. (¬2) ساقط من (ج). (¬3) "تهذيب اللغة" (قصد) 3/ 2971، والنص في كتاب: "العين" (قصد) 5/ 54. (¬4) "تنوير المقباس" 194 بمعناه. (¬5) ذكره الهواري في "تفسيره" 2/ 134. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 449. (¬7) ذكر نحو هذا القول الرازي في "تفسيره" 16/ 72، ولم أجد من ذكره من أهل المعاني. (¬8) لابن: أي ذو لبن. انظر: "لسان العرب" (لبن) 7/ 3989، (رمح) 3/ 1724. (¬9) رامح: أي ذو رمح. انظر: المصدر السابق (رمح) 3/ 1724. (¬10) الكلمة ساقطة من (ي)، ومعناها: ذو تمر. انظر: الممدر السابق، نفس الموضعين. (¬11) "تهذيب اللغة" (شق) 2/ 1906، والنص في كتاب: "العين" (شق) 5/ 7 دون قوله: يقال .. إلخ.

الشُّقَّةُ}: المسافة (¬1)، وقال الكلبي: يعني السفر إلى الشام (¬2)، وقال الزجاج: بعدت عليهم الغاية التي تقصدها (¬3)، ونحوه قال ابن كيسان (¬4)، وقال قطرب: الشقة: السفر البعيد؛ لأنه يشق على الإنسان (¬5)، وقال غيره: الشقة: القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها (¬6). وقوله تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، قال الكلبي: يعني: لو قدرنا وكان لنا سعة في المال (¬7)، قال أهل المعاني: وفي هذا دلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر أنهم سيحلفون، ثم جاءوا فحلفوا كما أخبر أنه سيكون منهم (¬8). وقوله تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}، قال ابن عباس: بالكذب والنفاق (¬9)، وقوله (¬10): {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، قال قتادة: لأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكن كانت تبطئة من عند أنفسهم زهادة في ¬

_ (¬1) لم أعثر على من خرجه، وقد رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1804 عن الضحاك عن ابن عباس بلفظ: المسيرة. (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 500. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450. (¬4) انظر قوله في "تفسير الثعلبي" 6/ 111 ب. (¬5) انظر قوله في المصدر السابق، نفس الموضع. (¬6) هذا قول علي بن عيسى الرماني. انظر: "البحر المحيط" 5/ 45. (¬7) لم أجد من ذكره عنه، وقد ذكره من غير نسبة المؤلف في "الوسيط" 2/ 500، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 444، والماوردي في "النكت والعيون" 2/ 367. (¬8) القول للحوفي في كتابه "البرهان" 11/ 185 أ، وانظر: "الكشاف" 2/ 191، و"مفاتيح الغيب" 16/ 75. (¬9) ذكره الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 194 بلفظ: بالحلف الكاذبة. (¬10) من (م).

الخير (¬1)، وقال الحسن: لكاذبون: أي مستطيعون (¬2) للخروج (¬3) (¬4)، وقال مجاهد: أي ذلك الذي قالوا بألسنتهم مخالف لما في قلوبهم (¬5). فإن قيل: أليس عندكم لو استطاعوا لخرجوا وإذ (¬6) لم يخرجوا فلأنهم لم يستطيعوا، والله تعالى قد كذبهم في قولهم (¬7) لم نستطيع، فبان أنهم استطاعوا ولم يخرجوا؟ (¬8) قلنا: الاستطاعة ههنا معناه: الزاد والسلاح والمركوب وكانوا مياسير ذوي عدة فاستطاعتهم كان بالعدة وكُذّبوا في قولهم: لم نستطع (¬9). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 141، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 441. (¬2) في (ي): (مستطيعين). (¬3) ساقط من (ج). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أعثر عليه في المصادر التي بين يدي. (¬6) في (ج): (فإذا). (¬7) في (ج) و (ي): (قوله)، وهو خطأ. (¬8) ذكر الرازي أن ممن اعترض هذا الاعتراض أبا على الجبائي والكعبي. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 16/ 72 - 73. (¬9) يشير المؤلف -رحمه الله- إلى خلاف محتدم بين المعتزلة والأشاعرة في باب الاستطاعة والقدرة، وفي المسألة عدة أقوال أبرزها: الأول: قول المعتزلة، وهو أن الاستطاعة قبل الفعل، يقول عبد الجبار الهمداني: وجملة ذلك أن من مذهبنا أن القدرة متقدمة لمقدورها، وعند المجبرة أنها مقارنة له. "شرح الأصول الخمسة" ص 398، وانظر أيضًا: "مقالات الإسلاميين" 1/ 300، و"الفرق بين الفرق" ص 137، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 633. الثاني: قول الأشاعرة ومن وافقهم، وهو أن الاستطاعة تكون مع الفعل، ولا يجوز أن تتقدمه البتة، يقول الجويني في "الإرشاد" ص 219. والدليل على أن الحادث =

43

43 - وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، قال المفسرون: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطائفة في التخلف عنه فأنزل الله هذه الآية (¬1)، قال الحسين بن الفضل: هذا من لطيف المعاتبة ولو لم يفتتح الخطاب بالعفو ما كان يقوم لقوله: {لِمَ (¬2) أَذِنْتَ لَهُمْ} فطيب الله نفسه بتصدير العفو، وذلك أنه أذن لهم من غير مؤامرة (¬3)، ولم (¬4) يكن (¬5) له أن يمضي (¬6) شيئاً ¬

_ = مقدور، وأن الاستطاعة تقارن الفعل، أن نقول: القدرة من الصفات المتعلقة، ويستحيل تقديرها دون متعلق لها، فإن فرضنا قدرة متقدمة، وفرضنا مقدوراً بعدها في حالتين متعاقبتين فلا يتقرر على أصول المعتزلة تعلق القدرة بالمقدور، فإنا إذا نظرنا إلى الحالة الثانية فلا تعلق للقدرة فيها، فإذا لم يتحقق في الحالة الأولى إمكان، ولم يتقرر في الحالة الثانية اقتدار، فلا يبقى لتعلق القدرة معنى. أهـ. وانظر أيضًا: "غاية المرام من علوم الكلام" ص 245، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 633. الثالث: قول عامة أهل السنة ومحققي المتكلمين، وهو أن الاستطاعة قسمان: أ- استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، وسلامة الآلات والتمكن وانتفاء الموانع، فهذه قد تتقدم الفعل، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وكذا في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، فالمراد من الاستطاعة في الآيتين استطاعة الأسباب والآلات وانتفاء المانع. ب- استطاعة للعبد تكون موجبة للفعل، محققة له، فيها يتحقق وجوده، ويظهر كيانه، وهذه الاستطاعة مقارنة للفعل لا تتقدمه. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 8/ 372، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 633. (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 142، وابن أبي حاتم 6/ 1805، والسمرقندي 2/ 53، وابن الجوزي 3/ 445. (¬2) ساقط من (ج). (¬3) يعني: من غير أمر الله له بذلك. (¬4) ساقط من (ج). (¬5) في (ج): (لكن). (¬6) في (ج): (ينهي).

إلا بوحي (¬1)، قال قتادة وعمرو بن ميمون (¬2): اثنان فعلهما رسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون (¬3) وقوله تعالى: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، قال ابن عباس: يريد في التخلف (¬4)، قال أهل المعاني: وهذا يدل على أنه فعل ما لم يؤذن له فيه، لأنه لا يقال: لم فعلت: فيما أذن له في فعله (¬5). وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي: حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه ومن لا عذر له، فيكون إذنك لمن أذنت له على عذر، وقال ابن عباس: وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف يومئذ المنافقين، وما عرفهم إلا بعدما نزلت (¬6) سورة (¬7) براءة (¬8)، وقال أهل المعاني: هذه الآية بيان عما توجبه العجلة في الأمر قبل التبين من التنبيه على ما ينبغي من التثبت حتى تظهر الحال فيعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عنه، وكتاب الحسين بن الفضل في معان القرآن مفقود. (¬2) هو: عمرو بن ميمون الأودي، أبو عبد الله الكوفي، أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يلقه، كان ثقة عابداً كثير الحج، وتوفي سنة 74 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 89، و"تهذيب التهذيب" /307 - 308. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 142، والثعلبي 6/ 111 ب، والبغوي 4/ 54، وابن الجوزي 3/ 445، والقرطبي 8/ 154. (¬4) "تنوير المقباس" 194 بنحوه. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 21. (¬6) في (ي): (بعد نزول). (¬7) ساقط من (ي). (¬8) ذكره بنحوه البغوي 4/ 55، وإبن الجوزي 3/ 445، والقرطبي 8/ 155، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 501.

44

الإبعاد (¬1)، وذكر ابن الأنباري وغيره من أهل الحقائق في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} وجها آخر سوى ما ذكرنا، وهو أنه قال: لم يأت النبي -صلى الله عليه وسلم- مأثمًا ولم يخاطب بالذي خوطب به لجرم أجرمه، لكن الله تعالى وقره (¬2) ورفع من شأنه بافتتاح الكلام بالدعاء له (¬3) كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريمًا عنده: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك، ألا زرتني؟ وعافاك الله، ألا عرفت حقي؟ فلا يقصد فيما يفتتح به من الدعاء إلا قصد التبجيل لمخاطبه والرفع لمحله (¬4). 44 - وقوله تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية. قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد (¬5)، [وقال الزجاج:] (¬6) أعلم الله نبيه أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي بمعناه ولم ينسبه لأحد. انظر: "تفسيره" 16/ 73. (¬2) في (ي): (وفقه)، وهو خطأ. وما أثبته موافق لـ"زاد المسير". (¬3) ساقط من (ج). (¬4) ذكر أكثره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 445 عن ابن الأنباري، واعتبره النحاس قولاً مرجوحًا في الآية. انظر: "إعراب القرآن" له 2/ 217، وحكاه القرطبي في "تفسيره" 8/ 154، عن مكي والمهدوي، وضعفه الشوكاني في "فتح القدير" 2/ 532، وقبله الكرماني في "غرائب القرآن" 1/ 455. (¬5) رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم 6/ 1806، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 439. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450، وبقية النص: في التخلف عن الجهاد.

وقوله تعالى: {أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}، قال: موضع (أن) نصب، المعنى: لا يستأذنك هؤلاء في أن يجاهدوا (¬1)، ولكن (في) حذفت فأفضى الفعل فنصب (أن) (¬2). قال سيبويه: ويجوز أن يكون موضعه (¬3) جرًا لأن حذفها هاهنا جاز من ظهور (أن) فلو أظهرت المصدر لم تحذف (في)، لا يجوز: لا يستأذنك القوم الجهاد (¬4) [حتى تقول: في الجهاد، ويجوز: لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا] (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 21 هذا التقدير عن الزجاج ثم قال: قال غيره: هذا غلط، وإنما المعنى ضد هذا، ولكن التقدير: (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) في التخلف لئلا يجاهدوا، وحقيقته في العربية: كراهة أن يجاهدوا كما قال جل وعز: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. وانظر: "الكشاف" 2/ 192 وحاشيته، فقد جوّز الزمخشري ما ذهب إليه الزجاج، وزاده إيضاحًا ابن المنير، واعتبره أدباً إسلاميًا يجب أن يقتفى فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه أن يسدي إليه معروفًا. وأقول: إن أسباب النزول وسياق الآيات لا سيما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} يدل على ضعف هذا القول، فما كان الله ليعاتب نبيه على إذنه لهم بالجهاد، بل على إذنه بالتخلف عن الجهاد، وهذا يدل على أنهم استأذنوه القعود لا في الجهاد. (¬2) القول للزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450. (¬3) في "معاني القرآن وإعرابه": موضعها. (¬4) في (ج): (أن يجاهدوا)، والصواب ما أثبته وهو موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه". (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬6) انظر قول سيبويه في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 450 ولم أجده في مظانه في كتاب سيبويه، كما أن الأستاذين د/ محمد عبد الخالق عضيمة، وعبد السلام هارون لم يذكرا هذه الآية في فهرسيهما لكتاب سيبويه، وقد ذكر سيبويه النصب على نزع الخافض في عدة مواضع في كتابه منها: 1/ 38، 159، 3/ 127، 135، 137 ومن أقواله في كتابه 3/ 154: واعلم أن اللام ونحوها من حروف =

قال أصحاب الحقائق (¬1): ليست هذه الآية على ظاهرها؛ لأن ترك الاستئذان عن (¬2) الإمام في الجهاد مذموم، وهؤلاء محمودون في هذه الآية بترك الاستئذان (¬3)، وهاهنا إضمار وهو أحد شيئين: أحدهما: أن يكون التقدير: لا يستأذنك هؤلاء أن يجاهدوا فحذف (لا)، والثاني: لا يستأذنك هؤلاء كراهية أن يجاهدوا (¬4)، وقد ذكرنا نحو هذا في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وفي غيره من المواضع، والذي دل على هذا المحذوف ذم المنافقين وسياق القصة، وهو قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} إنما كان ذلك إذنًا في القعود عن الجهاد لا في الجهاد، ويدل عليه أيضًا ما بعده من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي في القعود عن الجهاد. وقال صاحب النظم: ظاهر نظم (¬5) هذه الآية والتي بعدها يوهم أن الاستئذان في الجهاد مذموم، وهذا غير سائغ في المعنى؛ لأن الذم إنما وقع على من يستأذن في القعود عن الجهاد، فالتأويل: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر في القعود عن الجهاد، فجاء هذا النظم على سبق ¬

_ =الجر قد تحذف من (أن) كما حذفت من (أنَّ)، جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت: فعلت ذلك حذر الشر، أي لحذر الشر، ويكون مجرورًا على التفسير الآخر. (¬1) أهل الحقائق عند المؤلف هنا هم أهل المعاني كابن الأنباري كما بين ذلك من قبل. (¬2) هكذا في جميع النسخ، والصواب: (من)، عبارة المؤلف في "الوسيط" 3/ 501: .. وإلا فالاستئذان من الإمام في القعود عن الجهاد غير مذموم. (¬3) في (ي): (الإيذان). (¬4) ذكر بعض هذا القول النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 21، والرازي في "تفسيره" 16/ 76. (¬5) ساقط من (ي).

العلم من الجميع إلى أنه (¬1) لا يقع الذم في مثل هذا إلا على من يستأذن (¬2) في ترك الجهاد والقعود عنه، ومثله قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] فهذا أيضًا ظاهره أنهم يرغبون في نكاحهن والمعنى على خلافه؛ لأن هذا ورد في عضل الولي (¬3) عن التزويج وامتناعه من أن يتزوجها، والعرب تقول: رغبت أن أفعل كذا بمعنى: عن أن أفعله، ورغبت أن أفعله [بمعنى في أن أفعله] (¬4) ولا يعرف ذلك إلا بالاعتبار بمكانه (¬5) الذي وقع به، والقصة التي حدث فيها، من ذلك قول الخنساء: يا صخر ورّاد ماء قد تناذره .... أهل الموارد ما في ورده عار (¬6) ظاهر قولها: ما (¬7) في ورده عار، أن معناه [: ما على من ورده عار] (¬8) ومعناه في الباطن: ما في ترك ورده مخافة عار؛ لأنها عنت: ماء ورده في موضع مخوف يتناذره الناس ويتحامونه، تقول: فهو يرد هذا الماء لشجاعته وجرأته، وإن ترك ورده تارك لم يكن عليه عار لهول ما فيه. ¬

_ (¬1) في (ي): (لأنه). (¬2) في (ي): (يستأذنك). (¬3) في "الصحاح" (عضل) 5/ 1767: عضل الرجل أيمه: إذا منعها من التزويج. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬5) في (ج): (لمكانه)، وهو خطأ. (¬6) انظر: "ديوان الخنساء" ص 48، ومعنى تناذره: أنذر بعضهم بعضًا، والموارد: جمع مورد، وهو المنهل والماء الذي يورد للسقيا. وهي تعني الموت، أي لإقدامه وشجاعته. انظر: "الكامل" 4/ 48، و"أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء" ص75. (¬7) لفظ: (ما) ساقط من (ج). (¬8) نص ما بين المعقوفتين في (ي) هكذا: (على ما ورده عار)، وهو خطأ ظاهر.

45

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}، قال ابن عباس: يريد: ليس فيهم منافق (¬1). قال أهل المعاني: لم يخرجهم من (¬2) صفة المتقين إلا لأنه علم أنهم ليسوا منهم (¬3). 45 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية، أجمعوا على أن هذا الاستئذان في القعود عن الجهاد، وإخبار أن من فعل ذلك غير مؤمن بالله (¬4). وقوله تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}، قال ابن عباس: يريد: شكوا في دينهم، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، قال: يريد في شكهم يتمادون (¬5) (¬6). وقال أهل المعاني: هذه صفة الشاك المتحير في دينه الذي ليس (¬7) على بصيرة من أمره، لا يجد ثقة الإيمان لما هو عليه من الحيرة ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" ص 194: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} الكفر والشرك. (¬2) ساقط من (ج). (¬3) "البرهان" للحوفي 11/ 192 ب بنحوه. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 143، والسمرقندي 2/ 53، والبغوي 4/ 55، وقول المؤلف: وإخبار أن من فعل ذلك غير مؤمن بالله، ليس على إطلاقه، فإن الاستئذان في التخلف عن الجهاد قد يكون عن ريبة وشك ونفاق، وقد يكون جنباً أو كسلاً، وقد قيد بعض العلماء الآية بزمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450: أعلمه -جل وعلا- أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان في التخلف عن الجهاد. وانظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 143، والرازي 16/ 76 - 77، والقرطبي 8/ 155. (¬5) في (م): (يتمارون)، وما أثبته موافق لـ"الوسيط" و"الوجيز". (¬6) "الوسيط" 2/ 501، و"الوجيز" 6/ 508 - 509، ونحوه في "تنوير المقباس" ص 194. (¬7) في (ي): (ليس له).

46

والاضطراب حتى زهد في الجهاد، واستأذن في المقام بما لا يجوز من الاعتذار، وقال أبو إسحاق: أعلم الله -جل وعز- أن من ارتاب وشك في الله وفي البعث فهو كافر (¬1). 46 - وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}، قال ابن عباس: يريد: من الزاد والماء وما يركبون؛ لأن سفرهم بعيد، وفي زمان شديد (¬2)، وقال الزجاج: فتركهم العدة دليل على إرادتهم التخلف (¬3)، وقال غيره: هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على أخذ العدة لو أرادوا الخروج إلى الجهاد (¬4). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} الانبعاث: الانطلاق في الأمر، يقال: بعثت (¬5) البعير فانبعث، وبعثته لأمر كذا فانبعث: أي نفذ فيه (¬6)، ومنه الحديث في عقر الناقة: "فانبعث لها رجل عارم (¬7) " (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 78، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 48، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 446. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450. (¬4) ذكر ذلك من غير تعيين الرازي في: "تفسيره" 16/ 78، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 501، و"الوجيز" 6/ 510 - 511. (¬5) في (م): (بعث). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (بعث) 1/ 354، و"الصحاح" (بعث) 1/ 273. (¬7) عارم: أي خبيث شرير، والعُرام: الشدة والقوة والبطش. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (عرم) 3/ 223. (¬8) رواه مطولاً البخاريَ (4942)، كتاب: التفسير، سورة الشمس وضحاها، ومسلم (2855)، كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، والترمذي (3343)،كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الشمس وضحاها، =

قال ابن عباس في تفسير {انْبِعَاثَهُمْ}: يريد: خروجهم معك ونحوه قول (¬1) الزجاج: (كره الله أن يخرجوا معكم) (¬2)، قال أصحابنا: معنى: (كره الله): لم يرد الله؛ لأن الكراهة للشيء ضد الإرادة له (¬3). وقوله تعالى: {فَثَبَّطَهُمْ} التثبيط: ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله، قال ابن عباس: يريد: فخذلهم وكسلهم عن الخروج (¬4)، وعنه أيضًا: (فحبسهم) في رواية الضحاك (¬5)، والأول في رواية عطاء، وقال الحسن: (خذلهم) (¬6)، وهذا ظاهر في أن الله تعالى يخلق الخذلان والكفر، ألا ¬

_ = وأحمد في "المسند" 4/ 17. (¬1) في (ج): (قال). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450. (¬3) انظر: "رسالة إلى أهل الثغر" للأشعري ص231، وكتاب: "أصول الدين" للبغدادي ص 102. وهذا القول من تأويل الأشاعرة لصفات الله الفعلية وردّها إلى الإرادة، ومذهب السلف إثبات صفة الكراهة، بناء على قاعدتهم بأن الله يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيًا وإثباتًا، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. انظر: "عقيدة السلف" للصابوني ص 189، 223، وكتاب: "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 113، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 3/ 3، 17، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 685، و"مدارج السالكين" 1/ 278، و"معارج القبول" 1/ 346، 356. (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 501، و"الوجيز" 1/ 466، وبنحوه أبوحيان في "البحر المحيط" 5/ 48. (¬5) أخرجها ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1807، ومثلها رواية الكلبي كما في"تنوير المقباس" ص 194. (¬6) لم أعثر عليه.

تري (¬1) أنه (¬2) أضاف حبسهم ومنعهم من الخروج إلى نفسه في قوله: {فَثَبَّطَهُمْ} (¬3). وقوله تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، قال ابن عباس: يعني: أولى الضرر والزمنى (¬4)، وقال عطية: يعني الصبيان والنساء (¬5)، واختلفوا في أن هذا القول ممن كان؟ فقال بعضهم: رسول الله قال لهم لما (¬6) استأذنوا: اقعدوا مع الخالفين غضبًا منه عليهم، ولم يقصد بذلك سوى الوعيد فاغتنموا هذه اللفظة، وقالوا: قد أذن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬7)، فقال ¬

_ (¬1) في (ج): (ألا تراه). (¬2) ساقط من (ج) و (م). (¬3) وهذا مذهب أهل السنة قاطبة، انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 640، ولكن يجدر بالتنبيه أن الله تعالى لا يخلق الكفر في نفس إنسان إلا إذا باشر أسباب ذلك كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. (¬4) لم أجد من ذكره إلا المؤلف في "الوجيز" 1/ 466. (¬5) ذكره الثعلبي 6/ 135، والبغوي 4/ 81، عند تفسير قوله تعالى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} دون تعيين القائل. (¬6) في (ج): (كما)، وهو خطأ. (¬7) ذكر هذا القول مختصرًا النحاس في: "إعراب القرآن" 2/ 22، والماوردي في "النكت والعيون" 2/ 368، والخازن في "تفسيره" 2/ 230، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 156. ولا يخفى ضعف هذا القول لما يأتي: أ- أن الأصل في اللفظ الحقيقة، ولا يجوز تجريد نفظ كلام الله من حقيقته إلا ببرهان قاطع، وليس ثمت برهان. ب- أن الآية صُدّرت بقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} المشعر بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالف الأولى، فدد ذلك على أنه أذن للمنافقين بالقعود إذنًا حققيًّا لا صوريًّا. جـ- أن جميع من ذكر هذا القول لم يسنده إلى شاهد حال، وإنما قيل على وجه الظن والتخمين.

الله تعالى: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} والمراد لفظ الإذن لا حقيقته (¬1)، وقال مقاتل: وحيًا إلى قلوبهم (¬2)، يعني أن الله ألهمهم أسباب الخذلان، وأوحى إلى قلوبهم: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} ويجوز أن يكون بعضهم قال لبعض (¬3). وقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} الآية، قال ابن زيد: هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن حزنه على تخلف من تخلف عنه من المنافقين فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} (¬4)، وقال الزجاج: أعلم الله تعالى لم كره خروجهم بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} الآية (¬5)، قال ابن عباس: لو خرجوا معكم (¬6). وقوله تعالى: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} الخبال: الفساد والشر في كل شيء (¬7)، وهو مما ذكرناه في سورة آل عمران [118]، والمراد بالخبال هاهنا: الاضطراب في الرأي، وذلك (¬8) بتزيين أمر لفريق وتقبيحه عند فريق ليختلفوا فتفترق كلمتهم ولا تنتظم، يقول: لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم، هذا معنى قول المفسرين (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): (لا حقيقة الإذن). (¬2) "تفسير مقاتل" ص 129. (¬3) وهذا ما اعتمده البغوي في "تفسيره" 4/ 55، وانظر: "الكشاف" 2/ 193. (¬4) هذا معنى أثر ابن زيد، وقد رواه ابن جرير 10/ 145، وابن أبي حاتم 6/ 1807. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 450. (¬6) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" 194 من رواية الكلبي، وسنده لا يخفى. (¬7) انظر: "الصحاح" (خبل) 4/ 1682، و"الكشاف" 2/ 194. (¬8) ساقط من (ي). (¬9) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 144، والثعلبي 6/ 112 أ، والبغوي 4/ 56.

قال ابن عباس في قوله: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} يريد: عجزًا وجبنا (¬1)، يعني: أنهم يجبنونهم (¬2) عن لقاء العدو بتهويل الأمر عليهم، وقال الكلبي: "إلا شرًّا" (¬3) وقال مرة (¬4): "إلا غشًّا" (¬5)، وقال يمان (¬6): "إلا مكرًا" (¬7)، وقال الضحاك: "إلا غدرًا" (¬8). قال أصحاب النحو والعربية: هذا أمر الاستثناء المنقطع بتقدير: ما زادوكم قوة لكن طلبوا لكم الخبال، وذلك أنهم لم يكونوا على خبال فيزداودا ذلك (¬9)، ويجوز أن يكونوا (¬10) على تلون في الرأي لما يعرض في النفس، فكانوا يصيرونه خبالاً (¬11) فلا يكون استثناء منقطعًا. ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 501، وذكره أيضا الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 368 بلفظ: فسادًا. (¬2) في (م): (يجبنوهم). (¬3) رواه الثعلبي 6/ 112 ب. (¬4) في (ي): (المرة) والصواب ما أثبته، وهو مرة الهمداني. (¬5) لم أجده. (¬6) هو: يمان بن رئاب (بكسر الراء) البصري الخراساني، وهو ضعيف في باب الرواية. (¬7) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 80. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 112 ب. (¬9) انظر: "البحر المحيط" 5/ 49، و"الدر المصون" 6/ 59، وقد أنكر الزمخشري ذلك في "كشافه" 2/ 194، فقال: ("إلا خبالاً": ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون؛ لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستنثى منه، كقولك: ما زادوكم خيرًا إلا خبالاً، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً؛ لأن الخبال بعض أعم العام كأنه قال: ما زادوكم شيئًا إلى خبالاً). (¬10) في (ي): (يكون). (¬11) المعنى: أنه قد يطرأ على نفوس الصحابة شيء من اختلاف الرأي ونحوه، فإذا =

وقوله تعالى: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، قال النضر: وضع البعير إذا عدا، وأوضعته أنا: إذا حملته عليه (¬1)، ونحو ذلك قال أبو زيد (¬2)، وأنشد الليث (¬3): لماذا (¬4) تردّين امرأ جاء لا يرى .... كودّك ودًا قد أكل (¬5) وأوضعا (¬6) وقال الفراء: العرب تقول: أوضع الراكب، ووضعت الناقة، وربما قالوا للراكب: وضع، وأنشد: إني إذا ما كان يوم ذو فزع .... ألفيتني محتملاً بزّي (¬7) أضع (¬8) ¬

_ = وُجد هؤلاء المفسدون ضخموا هذا العارض، وتلونوا في آرائهم لتفريق الصف، وتصيير الخبال. (¬1) انظر قول النضر بن شميل في: "تهذيب اللغة" (وضع) 4/ 3905. (¬2) انظر: "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص 221. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (وضع) 4/ 3905. ولم أجده في مادة (كل) و (وضع) من كتاب: العين. (¬4) في "تهذيب اللغة" بماذا. (¬5) في (ج): (أذل)، وأثبت ما في (م) و (ي) لموافقته ما في المصدر السابق. (¬6) لم أهتد إلى قائله، وانظر البيت بلا نسبة في: "تهذيب اللغة" (وضع) 1/ 3905، و"لسان العرب" (وضع) 8/ 4859. (¬7) هكذا في جميع النسخ و"تهذيب اللغة"، وفي "معاني القرآن" للفراء 1/ 440، و"لسان العرب" (وضع): (بذي. والبز: الثياب، انظر: "لسان العرب" (بزز) 1/ 274. أما علي رواية الفراء فقد قال المحقق في حاشية الموضع السابق: قوله: بذي، كأنه يريد: بذي الناقة، أو بذي الفرس، وقد يكون المراد: محتملاً رحلي -على صيغة اسم الفاعل- بالبعير الذي أضعه، فذي هنا موصول على لغة الطائيين. (¬8) لم أهتد لقائلهما، والبيت الثاني بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (وضع) 1/ 3905، و"لسان العرب" (وضع) 8/ 4859، وهما بلا نسبة أيضًا في "شرح أبيات معاني القرآن" ص 201.

وقال الأخفش: يقال: أوضعت (¬1) وجئت موضعًا ولا توقعه على شيء، قال: وقد يقول بعض قيس (¬2): أوضعت بعيري، فلا يكون لحنا (¬3)، وقال أبو عبيد: فيما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أفاض من عرفة وعليه السكينة، وأوضع في وادي محسر (¬4)، الإيضاع: سير مثل الخبب (¬5)، فحصل من هذه الأقوال أن الإيضاع في قول أكثر أهل اللغة معناه حمل البعير على العدو، حتى لا يجوز أن يقال: أوضع الرجل: إذا سار بنفسه سيرًا حثيثًا، [وعند الأخفش وأبي عبيد يجوز أن يقال: أوضع بمعنى سار سيرًا حثيثًا] (¬6) من غير أن يراد أوضع ناقته أو بعيره، وأكثر ما جاء في الشعر (أوضع) إنما جاء من غير إيقاع على شيء، قال لبيد (¬7): ¬

_ (¬1) في (ج): (وضعت)، وأثبت ما في (م) و (ي) لموافقته لـ"تهذيب اللغة". (¬2) هو جد قديم، وهو قيس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وبنوه قبائل كثيرة منه "هوازن" و"سليم" و"غطفان" و"باهلة". انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 232، و"الأعلام" 5/ 207. (¬3) انظر: قول الأخفش في "تهذيب اللغة" (وضع) 1/ 3905. (¬4) رواه النسائي في "سننه"، كتاب: مناسك الحج، باب: الأمر بالسكينة في الإفاضة 5/ 258، والدارمي في "سننه"، كتاب: المناسك، باب: الوضع في وادي محسر رقم (1891) 2/ 84، وأحمد في "المسند" 3/ 332، 367، 391، وبنحوه الترمذي (886) كتاب: الحج، باب: ما جاء في الإفاضة من عرفات. (¬5) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 460. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬7) لم أجد من ذكر البيت للبيد سوى الرازي 16/ 81 وهو ناقل النص من الواحدي بدلالة السياق، والمشهور أنه لامرئ القيس وهو في "ديوانه" ص 43 ونسب إليه أيضاً في "الصحاح" (سحر) 2/ 679 مع الشك في ذلك، وعبارته: ويُنشد لامريء القيس، وذكر البيت، كما نسب إليه أيضًا في "البحر المحيط" 5/ 49، و"الدر المصون" 2/ 31، و"لسان العرب" (سحر) 4/ 1952 وبعده في الديوان: =

أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب أرد: مسرعين، ولا يجوز أن يريد: موضعين (¬1) الإبل أو المطية؛ لأنه لم يرد السير في الطريق، وقال عمر بن أبي ربيعة: تبالهن (¬2) بالعرفان لما عرفنني ..... وقُلن امرؤ باغ أكلَّ وأوضعا (¬3) والآية أيضًا تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد. وقوله تعالى: {خِلَالَكُمْ} أي: فيما بينكم، ومنه (¬4) قوله: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: 33]، وقوله: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 5]، وأصله من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين، وجمعه خلال (¬5). ومنه قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43] (¬6)، وقرئ: ¬

_ = عصافير وذبان ودود .... وأجرأُ من مجلحة الذئاب وينسب البيت أيضًا لزهير وهو في "ديوانه" ص 100 (طبعة دار صادر ودار بيروت عام 1379 هـ) وبعده: كما سحرت به إرم وعاد ...... فأضحوا مثل أحلام النيام ومعنى (نسحر): (نعلل، أو نخدع، وقوله: (لحتم غيب): (في المصادر السابقة: لأمر غيب، وهو يريد الموت، انظر: "البحر المحيط" و"لسان العرب"، نفس الموضع السابق. (¬1) في (ي): (موضعين لحتم)، وهو خطأ. (¬2) في (ج): (تناهلن)، والصواب ما أثبته كما في "شرح الديوان"، وفيه: تباهلن: تصنعن البله وتكلفنه، وأكل: أتعب راحلته، وأوضع: أي سار أشد السير. (¬3) انظر: "شرح ديوانه" ص 171. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) في (ج): (خلا)، وهو سهو من الناسخ. (¬6) الودق: المطر. انظر: "تفسير البغوي" 6/ 54.

(من خَلله) (¬1) وهي مخارج مصب القطر، وقال الأصمعي: "تخللت القوم: إذا دخلت من (¬2) خللهم وخلالهم" (¬3)، ويقال: جلسنا خلال بيوت الحي، وخلال دورهم، أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور. قال أهل المعاني: ومعنى الإيضاع هاهنا: إسراعهم في الدخول بينهم للتضريب (¬4) ينقل الكلام على التحريف (¬5)، وعلى هذا المعنى دل كلام المفسرين، قال عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} يريد: أضعفوا شجاعتكم (¬6)، يعني: بالتضريب بينهم لتفترق الكلمة فتجبنوا عن العدو، وقال الحسن: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} بالنميمة لإفساد ذات بينكم (¬7)، هذا هو المعنى الصحيح، وقال الكلبي: يعني ساروا بينكم يبغونكم العنت (¬8)، وعلى هذا قوله: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} عبارة عن سيرهم فيما بينهم ¬

_ (¬1) بفتح الخاء وبلا ألف على الإفراد، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري، عن أبي عمرو والزعفراني والأعمش، انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص 102، و"البحر المحيط" 6/ 464، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 325. (¬2) في (م): (تخللت بين). (¬3) تهذيب اللغة" (خل) 1/ 1097. (¬4) في"لسان العرب" (ضرب) 5/ 2568: ضربت الشيء بالشيء وضربته: خلطته، وضربت بينهم بالشر: خلطت، والتضريب بين القوم: الإغراء. (¬5) ذكر معناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 448 عن الحسن ولم أجده فيما بين يدي من كتب أهل المعاني. (¬6) لم أجده بهذا اللفظ، وانظر المعنى في: "الوجيز" 6/ 512. (¬7) ذكره ابن الجوزي في: "زاد المسير" 3/ 448، وابن القيم كما في "التفسير القيم" 2/ 358. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 112 ب، والبغوي 3/ 56، لكنه تصحف في "تفسير البغوي"، فقال: العيب.

فقط، وقوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} حال لهذا السير ولهم، وقال أصحاب العربية في قوله: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}: أي أوضعوا مراكبهم خلالكم (¬1)، وهو قول أبي الهيثم (¬2)، ونحوه الكسائي: خيبوا (¬3) ركائبهم فيما بينكم (¬4). ولا يكون في (¬5) هذا ذمًا لهم إلا أن يحمل هذا على معنى قول الكلبي، وقال ابن الأعرابي: أي: لأسرعوا في الهرب خلالكم (¬6)، ونحوه قال ابن الأنباري: أسرعوا الفرار في أوساطكم (¬7)، وهذا قول بعيد؛ لأن لفظ الآية ليس يدل على معنى الهرب، [وأي فائدة لقوله في (¬8) {خِلَالَكُمْ} لو أراد بالإيضاع: الهرب] (¬9)، وقال أبو إسحاق: أي: ولأسرعوا فيما يخل بكم (¬10)، وهذا راجع إلى القول الأول وهو أنه إسراع بالنميمة، والنميمة (¬11) مما يخل بهم. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 440، و"تهذيب اللغة" (وضع) 4/ 3906، و"لسان العرب" (وضع) 8/ 4859. (¬2) انظر: قوله في "تهذيب اللغة" (وضع) 4/ 3906. (¬3) الخبب: ضرب من العدو. انظر: "مجمل اللغة" (خب) 2/ 277. (¬4) لم أجده فيما بين يدي من مصادر. (¬5) في (ي): (على). (¬6) لم أجده فيما بين يدي من مصادر. (¬7) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 112 ب، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 49. (¬8) كذا. ولا معنى لذكر لفظ (في). (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 451. (¬11) ساقط من (ي).

وقوله (¬1): يخل بكم، ليس من لفظ الخلال (¬2)، ولا بتفسير له، بل هو مضمن في الإيضاع يعني: ولأوضعوا مخلين بكم بالنميمة، وليس الخلال من الإخلال في شيء، هذا معنى قول أبي إسحاق (¬3)، وكتب في المصاحف {وَلَأَاوْضَعُوا} بزيادة ألف ومثله: {أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] في بعضها، قال الفراء: وهو من سوء هجاء الأولين، وقال الزجاج: إنهم كانوا في ذلك الزمان يكتبون الفتحة ألفًا ولم يكن ذلك من هجاء العرب، والكتابة بالعربية ابتدئ به بقرب نزول القرآن فوقع فيه زيادات في أمكنة (¬4) ¬

_ (¬1) يعني الزجاج في قوله السابق. (¬2) في (ي): (الخيال)، وهو خطأ. (¬3) يعني الذي تقدم ذكره. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 452، ووافقه الزمخشري أيضاً في "الكشاف" 2/ 194 وخالفهم الإمام أبو عمرو الداني الذي بين أن زيادة الألف هنا لفائدة فقال: أما زيادة الألف في (لأاوضعوا) و (لأاذبحنه) فلمعان أربعة، هذا إذا كانت الزائدة فيهما المنفصلة عن اللام، وكانت الهمزة هي المتصلة باللام، وهو قول أصحاب المصاحف: فأحدها: أن تكون صورة لفتحة الهمزة، من حيث كانت الفتحة مأخوذة منها. والثاني: أن تكون الحركة نفسها، لا صورة لها، على مذهب العرب في تصوير الحركات حروفًا. والثالث: أن تكون دليلًا على إشباع فتحة الهمزة وتمطيطها في اللفظ؛ لخفاء الهمزة، وبعد مخرجها، وفرقًا بين ما يحقق من الحركات، وبين ما يختلس منهن، وليس ذلك الإشباع والتمطيط بالمؤكد للحروف، إذ ليس من مذهب أحد من أئمة القراءة، وإنما هو إتمام الصوت بالحركة لا غير. والرابع: أن تكون تقوية للهمزة وبيانًا لها. وإذا كانت الزائدة من إحدق الألفين المتصلة في الرسم باللام، وكانت الهمزة هي المنفصلة عنها وهو قول الفراء وأحمد بن يحيي من النحاة -فزيادتها لمعنيين: =

وقوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: يبغون لكم، قال كعب بن زهير: إذا ما نتجنا أربعًا عام كفأة ... بغاها خناسيرًا فأهلك أربعًا (¬1) أي: بغى لها خناسير، وهي الدواهي، ومعنى بغى هاهنا: طلب. الأصمعي: يقال ابغني كذا أي: اطلبه لي، ومعنى ابغني وابغ لي سواء، وإذا قال: أبغني فمعناه أعنيِّ على بُغائه (¬2). أبو عبيد عن الكسائي: أبغيتك (¬3) الشيء، إذا أردت: أعنته على ¬

_ = أحدهما: الدلالة على إشباع فتحة اللام وتمطيط اللفظ بها. والثاني: تقوية للهمزة، وتأكيدًا لها وبيانًا. "المحكم في نقط المصاحف" للداني ص 176، 177. (¬1) البيت في "شرح ديوان كعب بن زهير"، ونسب إليه أيضًا في "تهذيب اللغة" (بغى) 1/ 367، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص 292. وفي المصدر الأخير: نتج فلان إبله كَفأة وكُفأة: وهو أن يفرق إبله فرقتين، فيُضرب الفحل العام إحدى الفرقتين، ويدع الأخرى، فإذا كان العام المقبل أرسل الفحل في الفرقة التي لم يكن أضربها الفحل في العام الماضي، وترك التي أضربها في العام الماضي؛ لأن أفضل النتاج أن يُحمل على الإبل الفحول عاما، وتترك عامًا .. ونتج الرجل الناقة: إذا ولدت عنده، يقول: إذا نُتجت أربع من إبله أربعة أولاد، هلك من إبله الكبار أربع، فيكون ما هلك منه أعظم مما أصاب، والخناسير: الهُلاك، لا واحد له وفي (بغاها) ضمير من الجد -يعني: الحظ- هو الفاعل. "تهذيب إصلاح المنطق" 291 - 292 مختصرًا. وقال السكري في "شرح الديوان" ص 227: يقول: إنه من شؤم حظه إذا نتج أربع نوق أتت الدواهي فأهلكتهن. (¬2) "تهذيب اللغة" (بغى) 1/ 367. (¬3) في (ج) و (ي): (بغيتك)، هنا أثبته من (م) وهو موافق لمصدري تخريج القول.

طلبه، فإذا أردت أنك فعلت ذلك له (¬1) قلت: بغيته، وكذلك أعكمتك (¬2)، وأحلبتك (¬3): إذا أعنته، وعكمتك العكم (¬4): أي فعلته لك (¬5)، ونحو هذا قال الفراء (¬6)، ومعنى الفتنة هاهنا: النفاق في قول ابن عباس (¬7)، والشرك، في قول محمد بن مسلم (¬8)، باختلاف كلمتهم وافتراقهم فيما بينهم وذلك شرك ونفاق، وهو أن يختلفوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬9)، وقال الكلبي: يبغونكم العنت، يبطئونكم (¬10) (¬11). ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) في (ج): (علمتك، وما في (ي): (موافق لما في "تهذيب اللغة" "لسان العرب"، يقال: عكم المتاع يعكمه عكمًا: شده بثوب، وهو أن يبسطه ويجعل فيه المتاع ويشده، ويسمى حينئذ عكمًا، والعكام، ما عكم به، وهو الحبل الذي يعكم عليه. "لسان العرب" (عكم) 5/ 306. (¬3) كذا في جميع النسخ، وكذلك في "تفسير الثعلبي"، ولفظ "تهذيب اللغة" و"لسان العرب": أحملتك، أي: أعنتك على حمل المتاع، ومعنى أحلبتك: أعنتك على حلب الناقة ونحوها كما فسره الثعلبي في "الكشف والبيان" 6/ 112 ب. (¬4) في (ج): (علمتك العلم)، والصواب ما أثبته وهو موافق لمصدري تخريج القول. (¬5) انظر: قول الكسائي في "تهذيب اللغة" (بغى) 1/ 367، و"لسان لعرب" (بغا) 1/ 322. (¬6) انظر: "معاني القرآن" له 1/ 440. (¬7) لم أقف على مصدر هذا القول. (¬8) يعني ابن قتيبة، انظر: "تفسير غريب القرآن"، له ص 196. (¬9) قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" 2/ 397 - 398 عند تفسير قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}: فليحذر وليخشى من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا (أن تصيبهم فتنة) أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة. (¬10) في (ي): (يبغونكم الفتنة يثبطونكم). (¬11) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 112 ب، والبغوي في "تفسيره" 4/ 56 بلفظ: العنت والشر.

وقوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، هذا قول مجاهد (¬1) وابن زيد (¬2) والكلبي (¬3)، وقال قتادة: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم (¬4)، وقال ابن إسحاق: وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة [فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم (¬5)، ومعناه على هذا: وفيكم أهل سمع لهم وطاعة] (¬6) لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم (¬7) بتثبيطهم إياهم عن (¬8) السير معكم، وكل هذا إخبار عن حال المنافقين من حرصهم على خبال المؤمنين وطلب الغوائل لهم (¬9). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، قال ابن عباس: (يريد المنافقين) (¬10). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير10/ 146، وابن أبي حاتم 6/ 1809، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 443. (¬2) رواه ابن جرير10/ 146، وابن أبي حاتم 6/ 1809. (¬3) لم أقف على مصدر قوله. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 146، والثعلبي 6/ 112 ب. (¬5) "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 208. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬7) في (ي): (عليك). (¬8) في (ي): (على). (¬9) المنافق لا يخرج للجهاد إلا تقية وخوفًا من المسلمين، أو طمعًا في غنيمة، ثم هو ذو قلب حائر يبث الخور والضعف في الصفوف، وذو نفس خائنة تمثل خطرًا على الجيش، فمثله لا يزيد المسلمين قوة، بل فوضى واضطرابًا، وفتنة وتفريقًا، وهي العامل الأساسي في انهيار الجيوش وهزيمتها. (¬10) "تنوير المقباس" ص 194، و"الوسيط" 2/ 501.

48

48 - قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ}، قال ابن عباس: "طلبوا لك العنت والشرمن قبل تبوك" (¬1)، قال العوفي وابن جريج: وهو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة (¬2) ليفتكوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقال كثير من المفسرين: يعني: طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك قبل هذا، وهو ما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه (¬4)، فمعنى الفتنة هاهنا: الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة، وهو الذي طلبه المنافقون للمؤمنين فسلمهم الله منهم (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 195، بنحوه وهو في "زاد المسير" 3/ 448 مختصرًا. (¬2) المراد بذلك: ليلة هبوط العقبة في غزوة تبوك كما سيأتي. (¬3) ذكره عن ابن جريج الإمام القرطبي في "تفسيره" 8/ 157، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 50، وقد روى القصة الإمام أحمد في "المسند" 5/ 453 عن أبي الطفيل، قال: لما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك، أمر مناديًا فنادى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذ العقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوده حذيفة، ويسوق به عمار إذا أقبل وهي متلثمون على الرواحل غشوا عمارًا وهو يسوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة: "قد قد" حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما هبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل، ورجع عمار، فقال: "يا عمار هل عرفت القوم؟ " فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: "هل تدري ما أرادوا؟! " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أرادو اأن ينفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطرحوه" الحديث، وأصله في "صحيح مسلم" (2779/ 11)، كتاب: صفات المنافقين. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 147، والثعلبي /113 أ، والبغوي 4/ 56، وكان عبد الله بن أبي انخزل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بثلث الجيش. انظر: "السيرة النبوية" 4/ 208. (¬5) وهذا ما اعتمده الشوكاني في "تفسيره" 2/ 534، ويري ابن جرير أن الفتنة: صد =

49

وقوله تعالى: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} تقليب الأمر: تصريفه وترديده للتدبير يعني: اجتهدوا في الحيلة عليك، والكيد بك، قال ابن عباس وابن إسحاق: "أداروا (¬1) لك الأمور، وبغوا لك الغوائل ليخذلوا عنك أصحابك ويردوا عليك أمرك" (¬2). وقوله تعالى: {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} إلى آخره، أي: حتي أخزاهم الله بإظهار الحق، وإعزاز الدين على رغم منهم وكره (¬3). 49 - وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي}، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: نزلت في جد بن قيس (¬4) المنافق، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أرادوا غزو تبوك: "هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر -[يعني: ¬

_ = المؤمنين عن دينهم، وحصرهم على رده إلى الكفر بالتخذيل عنه، و"تفسير ابن جرير" 10/ 147. (¬1) في (ي): (إذا رأوا)، وسقط لفظ (لك) من (م). (¬2) لفظ ابن عباس: بغوا لك الغوائل، كما في "زاد المسير" 3/ 448، و"تنوير المقباس" ص 195، ولفظ ابن إسحاق: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}: أي: ليخذلوا عنك أصحابك، ويردوا عليك أمرك) كما في "السيرة النبوية" 4/ 208. (¬3) في (م): (على كره منهم ورغم). (¬4) هو: جد بن قيس بن صخر بن خنساء أحد بني جشم بن الخزرج ثم من بني سلمة، كان سيد بني سلمة، وروى الطبراني وابن منده بسند قوي -كما يقول الحافظ ابن حجر- أنه ممن شهد بيعة العقبة، وذكر عنه عدة روايات تصمه بالنفاق، لكن أسانيدها لا تخلو من ضعف، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} قال: هم نفر ممن تخلف عن غزوة تبوك منهم أبو لبابة ومنهم جد بن قيس ثم تيب عليهم، مات الجد في خلافة عثمان. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 2/ 286، و"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 228 (1110).

الروم] (¬1) - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ " وكان (¬2) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرض المؤمنين على غزاة بني الأصفر، وقال: "إن الله تعالى أمرني أن أغزوهم"، وقال (¬3): "إنكم لن تغزوا أكرم أحسابًا (¬4)، ولا أصبح وجوهًا، ولا أعذب أفواهًا منهم (¬5) ". فقال جد: ائذن لي في القعود عنك، وأعينك بمالي فقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألا أصبر عنهن، فأنزل الله هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} (¬6). قال ابن عباس: يريد جد بن قيس، {ائْذَنْ لِي} في التخلف، {وَلَا تَفْتِنِّي}، قال: يريد لصباحة وجوههم، وعذوبة أفواههم (¬7)، يعني: لا تفتني ببنات الأصفر، [فإني مستهتر (¬8) بالنساء، وهذا قول مجاهد (¬9)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬2) في (ج): (قال). (¬3) في (ج): زيادة لا معنى لها، ونصها: (إن الله تعالى). (¬4) في (ج): (أجسامًا). (¬5) ساقط من (ج). (¬6) رواه بنحوه الطبراني في "الكبير" (12654) 12/ 122 من طريق الضحاك عن ابن عباس، وإسناده ضعيف كما في "مجمع الزوائد" 7/ 106، ورواه مختصرًا ابن جرير من طريق حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس. وفي سنده انقطاع بين ابن عباس وابن جريج، ورواه مختصرًا أيضًا الطبراني في "الكبير" رقم (11052) 11/ 63 دون ذكر الاسم، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 106 فيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف. (¬7) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 277 عن الكلبي. (¬8) في (م): (مشتهر)، ومعناهما متقارب، إذ الاستهتار، الولوع بالشيء والإفراط فيه انظر: "لسان العرب" (هتر) 5/ 249. (¬9) رواه ابن جرير 10/ 148 وهو مرسل.

وقتادة (¬1)، وابن جريج (¬2)، واختيار الفراء (¬3)، والزجاج (¬4)، قال ابن عباس: اعتل جد بن قيس بقوله: ولا تفتني ببنات الأصفر] (¬5) ولم يكن له علة إلا النفاق، وكراهة الخروج (¬6)، وقال الحسن: {وَلَا تَفْتِنِّي} لا تهلكني في ضيعتي ومالي بالخروج معك (¬7)، ونحو هذا قال ابن زيد: {وَلَا تَفْتِنِّي} أي: إن لم تأذن لي افتتنت وعصيت (¬8)، وقال الضحاك: إلا تحرجني) (¬9)، وقال قتادة: (لا تؤثمني) (¬10)، وقال أبو العالية: (لا تعرضني ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عن قتادة، لكن روى ابن جرير 10/ 148 عنه تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَفْتِنِّي} قال: ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا، ولم يذكر الجد، وقد روى عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/286 بسند صحيح ما يدل على أن قتادة يرى أن الجد بن قيس من المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وقد تيب عليه، وليس من المنافقين. (¬2) المذكور في "كتب التفسير" قول ابن جريج، عن ابن عباس، انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 148. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 440. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 451 ولم يسم المنافق الذي قال ذلك. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬6) رواه البغوي 4/ 57 بنحوه، وفي تفسير البغوي إشكال علمي أفقده بعض قيمته العلمية، حيث أنه ذكر أسانيده في المقدمة فقط، فإذا كان المفسر كابن عباس مثلاً له عدة أسانيد بعضها صحيح، وبعضها ضعيف أو مكذوب، اختلطت الأقوال ببعضها، ولم يستطع الباحث الحكم على الأثر ما لم يرد في كتاب آخر الأسانيد مفصلة، ومثل البغوي أبو إسحاق الثعلبي. (¬7) أشار إلى معناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 449. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 149. (¬9) رواه أبو الشيخ مطولاً كما في "الدر المنثور" 3/ 445. (¬10) رواه ابن جرير 10/ 149، والثعلبي 6/ 113 أ.

للفتنة) (¬1)، فقول قتادة وأبي العالية يحتمل الوجهين (¬2). وقوله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}، قال ابن كيسان: يريد أن اعتلالهم بالباطل هو الفتنة لأنها الشرك والكفر (¬3)، وقال الزجاج: أعلم الله أنهم قد سقطوا في الإثم (¬4)، وقال قتادة: فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والرغبة بنفسه عنه أعظم (¬5)، قال المفسرون: أي في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬6)، قال أهل المعاني: وهذا بيان عما يوجبه التعليل (¬7) بالباطل من أنه ينقلب على صاحبه حتى يقع به (¬8)، وجمع الكناية في قوله: {سَقَطُوا} لأنه أراد جدًّا وأصحابه من المنافقين المتخلفين. وقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} يقول (¬9): هي من ورائهم يصيرون إليها بأعمالهم الخبيثة، وقال يمان: هي محدقة بمن كفر بالله جامعة لهم (¬10). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) يعني الفتنة بالنساء أو الفتنة بالتخلف وعصيان أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) ذكره في "الوسيط" 2/ 502. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 452. (¬5) هذا اللفظ رواه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 148 عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وغيره، والنص في "سيرة ابن هشام"، أما ما روي عن قتادة في هذه الجملة فلفظه: "ألا في الإثم سقطوا". انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 149. (¬6) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 54، والثعلبي 6/ 13 أ، والبغوي 4/ 57. (¬7) في المصدر التالي: (التعلل)، وهو أصوب. (¬8) "البرهان في علوم القرآن" للحوفي 11/ 197. (¬9) من (م). (¬10) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 502.

50

50 - قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، قال ابن عباس والمفسرون: يريد النصر والغنيمة {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} من القتل والهزيمة (¬1)، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}، قال ابن عباس: يريد: قد أخذنا حذرنا حين تخلفنا (¬2)، ونحو ذلك قال مجاهد (¬3)، ووَال الزجاج: أي قد عملنا بالحزم في التخلف (¬4)، قال أهل المعاني: كأنه قيل: قد أخذنا أمرنا عن مواضع الهلكة، فسلمنا مما وقعوا (¬5) فيه (¬6). وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذه المصيبة {وَيَتَوَلَّوْا}، قال الكلبي: (عن الإيمان) (¬7)، {وَهُمْ فَرِحُونَ}: معجبون بذلك (¬8) وهذا بيان عما توجبه العداوة من الاغتمام بتجدد النعمة والفرح بلحاق المصيبة. 51 - قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي: لن يصبنا خير وشر وشدة ورخاء إلا وهو مقدر علينا، مكتوب في اللوح ¬

_ (¬1) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "التنوير المقباس" ص 195، وبمعناه ابن جرير 10/ 150، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي كما في "الدر المنثور" 3/ 445، واعتمده الثعلبي في "تفسيره" 6/ 13 ب، والبغوي 4/ 57، والسمرقندي 2/ 55 وغيرهم. (¬2) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 195، وانظر: "الوجيز" 6/ 517. (¬3) رواه ابن جرير10/ 150 وابن أبي حاتم 6/ 1811، وهو في "تفسير مجاهد" ص 370. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 452. (¬5) في (ج): (وقعنا)، وهو خطأ. (¬6) "البرهان" للحوفي 11/ 201 بنحوه. (¬7) لم أقف عليه في مصدرآخر. (¬8) ساقط من (ي).

المحفوظ، وهذا معنى قول الحسن (¬1)، ومقاتل (¬2)، ونظير هذه الآية قوله: (ما أَصابَ (¬3) مِنْ مُصِيْبَةٍ في الأَرْضِ ولا في أَنْفُسِكُم (¬4)) الآية [الحديد: 22]، وقال ابن عباس: يريد: ما قضى الله لنا من الشهادة (¬5)، وهذا كأنه جواب لهم عن شماتتهم بهم (¬6) إذا أصابتهم مصيبة، أي إن أعظم ما يصيبنا القتل وهو شهادة لنا، فليس يصيبنا غير هذا، وعلى هذا القول {مَا كَتَبَ اللَّهُ} مخصوص هاهنا بالشهادة، وفي القول الأول عام في كل ما يصيب. قال الزجاج: وفيه وجه آخر: {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي: بين الله لنا في كتابه من أنا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضاً، أي فقد كتب الله ما يصيبنا وعلمنا ما لنا فيه من الحظ (¬7). والأكثرون من المفسرين على القول الأول (¬8)، وقالوا: هذا يدل على أن أمر (¬9) العباد يجري على تقدير قد أحكم، وتدبير قد أبرم (¬10)، ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 371. (¬2) انظر: "تفسيره" ص 130 أ. (¬3) في (ي): (ما أصابكم)، وهو خطأ. (¬4) في (ج): (ولا في السماء)، وهو خطأ. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 450، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 195 مختصرًا. (¬6) من (م). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 452 بتصرف وهذا القول فيه بعد وتكلف، والظاهر هو القول الأول وأنه عام في كل مصيبة، وهو الذي تدل عليه نظائر الآية. (¬8) وهو ما اعتمده ابن جرير10/ 150، والثعلبي 6/ 13 ب، والبغوي 4/ 57، وابن كثير 2/ 399. (¬9) في (ج): (من)، هو خطأ. (¬10) في (في): (أدبر).

52

فلا يحدث في الكائنات شيء إلا وقد جرى به قضاء سابق. وقوله تعالى: {هُوَ مَوْلَانَا}، قال ابن عباس: (ناصرنا) (¬1)، وقيل: الذي يتولى حياطتنا ودفع الضرر عنا (¬2)، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، أي: وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم على الرضا بتدبيره والثقة بحسن اختياره، قال أصحاب المعاني: وهذا بيان عما يوجبه إظهار شماتة الأعداء من الإقرار بأنه لا يصيب العبد إلا ما قضى (¬3) عليه والتسليم لأمره، والتوكل عليه. 52 - قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الآية، يقال: فلان يتربص بفلان الدوائر: إذا كان ينتظر وقوع (¬4) مكروه (¬5) به، وهذا مما سبق الكلام فيه (¬6)، وقال أهل المعاني: التربص: التمسك بما ينتظر به مجيء حينه، وكذلك قيل: تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره (¬7)، وابن عباس والمفسرون يقولون في التربص هاهنا: الانتظار (¬8) والحسنى: تأنيث الأحسن. ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 371 من غير نسبة. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 503، و"البحر المحيط" 5/ 52. (¬3) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي أن يقول: ما قضى الله عليه. (¬4) ساقط من (م). (¬5) في (ي): (المكروه). (¬6) انظر: "تفسير البسيط" المائدة: 52. (¬7) انظر معنى التربص في: "تهذيب اللغة" (ربص) 2/ 1344، و"لسان العرب" (ربص) 3/ 1558. (¬8) "البرهان" للحوفي 11/ 203 أ، و"تنوير المقباس" ص 195، و"الوسيط" 2/ 503، عن ابن عباس، وانظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 151، والثعلبي 6/ 114 أ، والبغوي 4/ 57.

قال ابن عباس وجميع المفسرين في: {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يعني الغنيمة والفتح، أو (¬1) الشهادة والمغفرة (¬2)، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرج إلا إيمانًا بالله وتصديقًا لرسوله أن يرزقه الشهادة، أو يرده إلى أهله مغفورًا نائلاً ما نال من أجر وغنيمة" (¬3). أخبرناه (¬4) الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (¬5)، قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن المفسر (¬6) قال (¬7): أنبأ أبو بكر محمد ابن أحمد بن جعفر العدل (¬8)، ثنا أبو (¬9) عبد الله محمد بن إبراهيم ¬

_ (¬1) في (ج): (و). (¬2) أخرجه ابن عباس الإمام ابن جرير 10/ 151، وابن أبي حاتم 6/ 1812، وهو قول مجاهد وقتادة وابن جريج. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 151، والبغوي 4/ 57. (¬3) رواه بنحوه البخاري (3123)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحلت لكم الغنائم" رقم، ومسلم (1876) كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد، ورواه بلفظه الثعلبي في "تفسيره" 3/ 114 أ. (¬4) في (ج): (أخبرنا). (¬5) هو: الثعلبي المفسر. (¬6) هو: الحسن بن الحسن بن حبيب بن أيوب، أبو القاسم النيسابوري الواعظ المفسر، كان إمام عصره في معاني القرآن وعلومه، أديبًا نحويًّا، عارفًا بالمغازي والسير، وسمع الحديث الكثير، وله مصنفات في القراءات والتفسير والآداب، توفي سنة 406 هـ. انظر: "العبر" 2/ 212، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 144. (¬7) ساقط من (ج) و (م). (¬8) لم أقف على ترجمة له فيما بين يدي من مصادر. (¬9) ساقطة من (ي).

العبدي (¬1)، ثنا أبو بكر أمية بن بسطام (¬2)، أنبأ يزيد بن زريع (¬3)، عن روح ابن القاسم (¬4)، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث. وأخبرناه أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن إبراهيم بن يحيي التميمي (¬5) أنبا أبو عمرو إسماعيل بن أبي أحمد السلمي (¬6)، أنبا، ¬

_ (¬1) هو: محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن العبدي، أبو عبد الله البوشنجي المالكي النيسابوري الإمام العلامة الحافظ، ذو الفنون، شيخ أهل الحديث في عصره بنيسابور، ارتحل في طلب الحديث ولقي الكبار، وصنف، وسار ذكره، وبعد صيته. توفي في غرة محرم سنة 291 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 13/ 581، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 657، و"تهذيب التهذيب" 3/ 489. (¬2) هو: أمية بن بسطام بن المنتثسر، أبو بكر العيشي البصري، الحافظ الثقة، حدث عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ومات سنة 231 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 11، و"سير أعلام النبلاء" 11/ 9، و"تهذيب التهذيب" 1/ 187. (¬3) هو: يزيد بن زريع العيشي، أبو معاوية البصري، ثقة ثبت حافظ، إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وهو من رجال الصحيحين والسنن الأربع، توفي سنة 182 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 382، و"تقريب التهذيب" 601 (7713)، و"تهذيب التهذيب" 4/ 411. (¬4) هو: روح بن القاسم التميمي العنبري، أبو غياث البصري، كان ثقة ثبتًا حافظًا متقنًا، وهو من رجال الكتب الستة، توفي سنة 141 هـ. انظر: "الكاشف" 1/ 399، و"تقريب التهذيب" 211 (1970)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 616. (¬5) تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخ الواحدي. (¬6) هو: إسماعيل بن نُجيد بن أحمد بن يوسف السلمي، النيسابوري، الصوفي، كبير الطائفة، وصنمه الذهبي بقوله: شيخ عصره، ومسند مصره. سمع عبد الله بن أحمد ابن حنبل ومحمد بن إبراهيم العبدي وغيرهما، وروى عنه جماعة منهم أبو منصور =

العبدي فذكره بإسناده، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ}، قال ابن عباس: ننتظر بكم (¬1)، {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} (¬2)، قال: يريد بقارعة من السماء (¬3)، وقال الكلبي: بعذاب من عنده كما أصاب الأمم الخالية (¬4). وقوله تعالى: {أَوْ بِأَيْدِينَا}، قال ابن عباس: يريد بإذن الله لنا في قتلكم فنقتلكم (¬5)، وقال ابن كيسان: أي إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم (¬6). وقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}، قال ابن عباس: فانتظروا (¬7) إنا معكم منتظرون (¬8)، وقال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان ¬

_ = البغدادي وأبو عبد الله الحاكم، وتوفي سنة 365 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 146، و"تاريخ الإسلام" (وفيات سنة 365 هـ) ص 235، و"الإكمال" لابن ماكولا 1/ 188. (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 503، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 195. (¬2) في (ي): (زيادة نصها: كما أصاب الأمم الخالية. اهـ. وهي التباس من الناسخ بسبب الجملة التالية. (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 114 أبلفظ: الصواعق، ومثله ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 451. (¬4) لم أجد من نسبه للكلبي، وقد اعتمده الثعلبي في "تفسيره" 6/ 114 أ، والبغوي 4/ 58، والقرطبي 8/ 160 وغيرهم. (¬5) ذكره ابن جرير في "تفسيره" 10/ 151، مختصرًا من رواية ابن جريج وهي منقطعة. (¬6) لم أجد من ذكره عنه، وقد اعتمده الثعلبي في"تفسيره" 6/ 114 أ. (¬7) في (ج): (وانتظروا). (¬8) "تنوير المقباس" ص 195.

53

إنا معكم متربصون مواعبد الله، من إظهاره دينه واستئصال من خالفه (¬1) وكان الشيطان يمني المنافقين موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]. وقال أبو إسحاق: يقول أنتم تربصون بنا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم إحدى السوأتين (¬2) فبين ما تنتظرونه وننتظر (¬3) فرق عظيم (¬4). وقال أهل المعاني: ومعنى صيغة الأمر في قوله: فتربصوا التهدد (¬5)، وذلك أن تربصهم تمسك بما يؤدي إلى الهلاك، وتربص المؤمنين تمسك بما يؤدي إلى النجاة، وهذا بيان عما يوجبه اختلاف أحوال المحق والمُبطل. 53 - قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، قال ابن عباس: نزلت في جد بن قيس حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به (¬6)، قال الفراء والزجاج: هذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم، وأنشدا قول كُثّير: ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 114 أ، والبغوي 4/ 58. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه": الشرتين. وفي "الوسيط" 2/ 0503 السوأتين أيضاً لكن المحققين أبدلوا اللفظ إلى: الشرين. (¬3) في (ج): (وينتظرون)، وفي "معاني القرآن وإعرابه": وننتظره. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 452. (¬5) انظر: "مفاتيح الغيب" 16/ 90 ولم أجده عند أهل المعاني. (¬6) رواه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 152 بسند منقطع. ورواه أيضًا الثعلبي 6/ 114 أ، والبغوي 4/ 58، وقد سبق بيان أن أسانيد الثعلبي والبغوي لا يتميز غثها من سمينها وصحيحها من ضعيفها بسبب اكتفائهما بذكر الأسانيد في المقدمة.

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ..... لدينا ولا مقلية إن تقّلت (¬1) (¬2) قال الزجاج: فلم يأمرها بالإساءة ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها (¬3)، ووقوع الأمر في موقع الخبر كوقوع لفظ الخبر في معني الأمر في الدعاء كقولك: غفر الله لفلان ورحمه، ومعناه: اغفر له وارحمه. قال الفراء: ومثل هذه الآية في قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الآية (¬4)، ونذكره في موضعه إن شاء الله (¬5)، وقال ابن عباس في قوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} يريد: طائعين أو كارهين (¬6). وقوله تعالى: {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} الآية، قال (¬7): يريد [أنه (¬8) لا يتقبل من أعدائه صدقاتهم ونفقاتهم (¬9)، {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} قال: ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" 1/ 53، ونسب إليه في "لسان العرب" (قلا) 6/ 3731، و"زاد المسير" 3/ 451، ومعنى (تقلت) أي: تقلبت بمعنى: تبغضت. انظر: "اللسان"، الموضع السابق. (¬2) الكلام السابق كله للزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 453، وللفراء نحوه في "معاني القرآن" 1/ 441. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه"، الموضع السابق. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 441. (¬5) قال في هذا الموضع: (.. ثم ذكر أن استغفاره لا ينفعهم، فقال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ}. قال قتادة ومقاتل: نزلت هذه الآية بعد قوله: {أَسْتَغْفَرَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، ولك أنها لما نزلت قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرني ربي فلأزيدنهم على السبعين"، فأنزل الله هذه الآية). (¬6) "تنوير المقباس" ص 195 بمعناه. (¬7) ساقط من (ج) والقائل ابن عباس. (¬8) ساقط من (ج). (¬9) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 504.

54

يريد] (¬1) عاصين لله على غير طريقة الإسلام (¬2). 54 - وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} وقرئ: يقبل بالياء (¬3)، فمن قرأ بالتاء فلأن الفعل مسند إلى مؤنث، ومن قرأ بالياء ذهب إلى أن النفقات (¬4) بمعنى الإنفاق (¬5)، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275]. قال الفراء والزجاج وجميع النحويين: موضع (أن) الأولى نصب، والثانية في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} رفع، والتقدير: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم (¬6)، قال أهل العلم: وهذه الآية دليل على أن الكافر لا يقبل له عمل ولا يكتب له معروف، فإن أسلم كتب له ما أتاه من طاعة في الشرك (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) "الوسيط"، الموضع السابق. وفي "تنوير المقباس" ص 195: منافقين. (¬3) قرأ حمزة والكسائي وخلف (أن يقبل) بالياء، والباقون بالتاء. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 165، و"إرشاد المبتدي" 353، و"تحبير التيسير" ص 120. (¬4) في (ي): (النفاق)، وهو خطأ. (¬5) ذكر أبو علي الفارسي في "الحجة" 4/ 196 وجهًا آخر للقراءة بالياء وهو أن التأنيث غير حقيقي. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 442، و"معاني القرآن واعرابه" للزجاج 2/ 453، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 25، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ص 330. (¬7) انظر: "المحرر الوجيز" 6/ 524، و"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 161، و"صحيح مسلم بشرح النووي" 2/ 140، و"فتح الباري" 1/ 99، وقد ذكر النووي رحمه الله أقوالاً كثيرة ثم قال: (وذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أن الحديث -يعني: حديث حكيم الذي ذكره المؤلف- على ظاهره، وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه =

قال حكيم بن حزام لرسول (¬1) الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنت فقد أسلمت على ما قدمت من الخير" (¬2). قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} مضى الكلام في (كسالى) في سورة النساء [142]. قال عطاء عن ابن عباس: يريد إن كان في جماعة صلى، وإن كان ¬

_ = كتب الله تعالى له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل سيئة زلفها" .. قال ابن بطال رحمه الله تعالى: بعد ذكره الحديث: "ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء، لا اعتراض لأحد عليه" .. ثم قال النووي: وأما قول الفقهاء لا يصح من الكافر عبادة، يعتد بها، فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة، فإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة رد قوله بهذه السنة الصحيحة)، و"صحيح مسلم بشرح النووي" 2/ 140 - 143، وقال الحافظ ابن حجر: قال المازري: (الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه؛ لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفاً لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك)، ثم نقل رد النووي هذا القول، ثم قال: والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلاً من الله وإحسانًا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولاً، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقًا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا، وهذا قوي، و"فتح الباري" 1/ 99. قلت: والقول الأخير سالم من الاعتراضات وما قيل في غيره من مخالفة القواعد، وله نظائر في الشريعة ككون الدعاء يرد القضاء، وصلة الرحم تزيد العمر أي أن ذلك معلق بذلك، فإن دعا رد عنه القضاء، وإن وصل رحمه زاد عمره وإلا فلا. (¬1) في (ج): (يا رسول). (¬2) رواه البخاري في (1436)، كتاب: الزكاة، باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم، ومسلم (123)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، وأحمد في "المسند" 3/ 402.

55

وحده لم يصل (¬1)، يريد إن صلى لم يرجُ لها ثوابًا، وإن تركها لم يخف عليها عقابًا، هذا معنى يأتونها (¬2) كسالى، فإن قيل: أي صلاة تصح لهم حتى ذُموا بالكسل عنها؟ قيل: إنما ذمّوا بأنهم صلوها (¬3) على غير الوجه الذي أمروا به من النفاق الذي يبعث على الكسل عنها، دون الإيمان الذي يبعث على النشاط لها (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}، قال المفسرون: وذلك أنهم يعدون الإنفاق مغرمًا ومنعه مغنمًا (¬5)، وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله؛ لأن الله ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم" (¬6) فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق. 55 - قوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} الآية، معنى الإعجاب، ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 90 ونسبه للمفسرين. (¬2) في (ي): (يأتوها)، والصواب ما أثبته. (¬3) في (ي): (صلوا). (¬4) في (م): (بها). (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 114 ب، والبغوي 4/ 58، وابن الجوزي 3/ 452. (¬6) هذا الحديث جزء من خطبة خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وقد رواه بلفظ المصنف الإمام أحمد في "المسند" 5/ 262، ورواه بنحوه الترمذي (616)، كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما ذكر في فضل الصلاة، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان)، كتاب: السير، باب: طاعة الأئمة، رقم (4563) 10/ 426، والحاكم في "المستدرك" كتاب: الزكاة 1/ 389، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

السرور بما يتعجب منه، قال المفسرون: يقول لا تستحسن (¬1) ما أنعمنا عليه من الأموال الكثيرة والأولاد، فإن العبد إذا كان مستدرجًا كثر ماله وولده (¬2)، قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} هو أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبي (¬3) عامر (¬4)، غسلته الملائكة وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ (¬5)، شهد بدرًا وكان من الله بمكان، وهم بشرٌ كثيرٌ صالحون أبرياء من النفاق (¬6)، يريد أن صلاح أولادهم لأنفسهم وهم لا يغنون عن هؤلاء شيئًا، وعلى هذا يحتمل (¬7) أن يكون المعنى في أموالهم (¬8) ما ينفقون منها في سبيل الله ولا ينفعهم ذلك فإنه لا يقبل منهم (¬9). ¬

_ (¬1) في (ي): (ما يستحسن). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 114 ب، والبغوي 4/ 59. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي الأوسي الأنصاري، المعروف بغسيل الملائكة، وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب، ويذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- حسده وعاداه، وخرج إلى مكة ثم إلى الروم للتأليب على المسلمين، وكان ابنه حنظلة حسن الإسلام، واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبيه فلم يأذن له، ولما سمع الهيعة يوم أحد خرج وعليه جنابة فقتل فغسلته الملائكة. انظر: "الاستيعاب" 1/ 432، و"الإصابة" 1/ 360 - 361. (¬5) هو: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك الخزرجي الأنصاري، والده رأس المنافقين المعروف بابن أُبي بن سلول، وكانت سلول جدة له فعرف بها. كان عبد الله الابن حسن الإسلام، وشهد بدرًا، واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبيه فنهاه، واستشهد باليمامة في قتال مسيلمة الكذاب سنة 12 هـ. انظر: "الاستيعاب" 3/ 71، و"الإصابة" 2/ 335 - 336. (¬6) لم أقف على مصدره. (¬7) في (ي): (محتمل). (¬8) في (ي). (أولادهم)، وهو وهم من الناسخ. (¬9) حكى هذا القول القشيري كما في "البحر المحيط" 5/ 54 والمعنى المشهور أن =

[وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا}، قال النحويون: في الآية مقدر كأنه قيل: إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم، فتكون هذه اللام لام العاقبة (¬1)، ويجوز أن تكون هذه اللام بمعنى (أن) تعاقبها (¬2)] (¬3). وقوله تعالى: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قال مجاهد (¬4)، وقتادة (¬5)، والسدي (¬6): المراد بهذا: التقديم، على تقدير: أموالهم (¬7) وأولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، وهذا يروى عن ابن عباس أيضًا: رواه الوالبي (¬8)، ومن المفسرين من أقره في موضعه (¬9)، قال ¬

_ = الآية كقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 153، وابن عطية 6/ 525، وابن كثير 2/ 399. (¬1) ذكر أبو حيان أن هذا القول للرماني المعتزلي، واستنكره. انظر: "البحر المحيط" 5/ 54. (¬2) يعني أن اللام و (أن) تعتقبان وتحل إحداهما مكان الأخرى، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] أي: أن يبين لكم. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬4) رواه الثعلبي 6/ 114 ب، والبغوي 4/ 59. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 153، وابن أبي حاتم 6/ 1813، والثعلبي والبغوي، نفس الموضعين السابقين. (¬6) رواه ابن أبي حاتم والثعلبي، نفس الموضعين السابقين. (¬7) اختصر المؤلف الجملة، وفي "تفسير الثعلبي" والبغوي وغيرهما: فلا تعجبك أموالهم ... إلخ. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 153، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 447. (¬9) منهم الإمام ابن جرير حيث قال في "تفسيره" 10/ 153: (وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويل الذي ذكرنا عن الحسن؛ لأن ذلك هو الظاهر من =

الحسن: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله (¬1)، وقال ابن زيد: يعذبهم بها في الحياة الدنيا بالمصائب فيها، فهي لهم عذاب وللمؤمن أجر (¬2)، وقيل: بالتعب في جمعه والوجل في حفظه والكره في إنفاقه (¬3)، والقولان ذكرهما الفراء (¬4)، والزجاج (¬5). وقوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: وتموت أنفسهم) (¬6)، يقال: زهقت نفسه فهي تزهق: أي تذهب (¬7)، قال الكسائي: زهقت نفسه وزهقت لغتان (¬8)، وقال أبو زيد: (زهقت نفسه وزهق الباطل، وزهق إذا سبق، ليس في شيء منه زهق) (¬9)، قال الزجاج: المعنى وتخرج أنفسهم وهم على الكفر (¬10). ¬

_ = التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دل عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته)، واختاره أيضًا ابن كثير في "تفسيره" 2/ 399، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 164. (¬1) رواه ابن جرير 10/ 153، والثعلبي 6/ 114 ب، والبغوي 4/ 59. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 153، وابن أبي حاتم 6/ 13. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 69/ 115 أ، والبغوي 4/ 59، ولم يعينا القائل. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 442. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 454. (¬6) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 196. (¬7) انظر: "الصحاح" (زهق) 4/ 1493. (¬8) "تهذيب اللغة" (زهق) 2/ 1571. (¬9) المصدر السابق، نفس الموضع، بنحوه، والمقصود أن الفعل (زهق) دائمًا مفتوح الهاء، وقال الجوهري في "الصحاح" (زهق) 4/ 1493 حكى بعضهم: زهقت نفسه تزهق زهوقًا بالكسر، لغة في زهقت. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 454، لكن بلفظ: وتخرج أنفسهم، أي: يغلظ عليهم المكروه حتى تزهق أنفسهم.

56

قال أصحابنا: وهذا نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين (¬1). 56 - قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}، قال أبو إسحاق: أي يحلفون بالله أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمنون فأكذبهم الله بقوله: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} (¬2)، قال ابن عباس: يريد أنهم ليسوا بأنصار ولا كرامة (¬3)، وقال الزجاج: لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (¬4). 57 - وقوله تعالى: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: [يفرقون أن] (¬5) يظهروا (¬6) ما هم عليه فيقتلوا، قال الضحاك: أي إنما يحلفون تقية (¬7)، والفرق: الخوف، ومنه قيل: رجل فروقة وهو الشديد الخوف. قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} الملجأ: المكان الذي يتحصن فيه، ومثله اللجأ مقصور ومهموز (¬8)، قال الزجاج (¬9): وأصله من لجأ إلى ¬

_ (¬1) انظر: معنى هذا القول في "رسالة إلى أهل الثغر" ص 252، و"الغنية في أصول الدين" ص 130، وكتاب: "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص192، و"تفسير الرازي" 16/ 95، والإرادة المذكورة هي الإرادة الكونية التي تستلزم الوقوع، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، أما من ناحية الإرادة الشرعية فالله لا يريد الكفر، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56] وهذه الإرادة لا تستلزم الوقوع. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 454 بنحوه. (¬3) "تنوير المقباس" ص 196 بمعناه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 454. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) في (ي): (نظهر). (¬7) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1814، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 447. (¬8) في (ي): (مقصور مهموز)، وما أثبته موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه". (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 454.

كذا يلجأ لجأ، بفتح اللام وسكون الجيم، ومثله: إلتجأ (¬1)، وألجأته إلى كذا أي: اصطررته (¬2) إليه، قال ابن عباس: يريد مهربًا (¬3). وقوله تعالى: {أَوْ مَغَارَاتٍ} هي جمع مغارة، وهي الموضع الذي تغور فيه أي: تستتر، قال أبو عبيدة: كل شيء غرت فيه فغبت فهي مغارة (¬4) لك (¬5)، ومنه (¬6) غار الماء في الأرض وغارت العين، قال عطاء، عن ابن عباس: يعني سراديب (¬7). وقوله تعالى: {أَوْ مُدَّخَلًا}، قال الزجاج: أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً؛ لأن التاء مهموسة والدال مجهورة، وهما من مكان واحد (¬8)، وهو (مفتعل) من الدخول كالمتلج (¬9) من (¬10) الولوج، ومعناه ¬

_ (¬1) كررت الكلمة في (ي). (¬2) في (ي): (أضررته)، وهو خطأ. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 504، ورواه ابن جرير 10/ 155، وابن أبي حاتم 6/ 1814، بلفظ: الملجأ: الحرز في الجبال، كما رواه الثعلبي 6/ 115 أ، والبغوي 4/ 59، عن عطاء بلفظ المؤلف. (¬4) في (ي): (مغارات). (¬5) عبارة أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 262: (ما يغورون فيه فيدخلون فيه ويغيبون). اهـ. أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد عزاه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 115 أإلى الأخفش. (¬6) في (ي): (مثله)، وما أثبته من (ح) و (م) موافق لما في "تفسير الثعلبي". (¬7) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 504، والقرطبي 8/ 165، ورواه ابن جرير 10/ 155، وابن أبي حاتم 6/ 1814 بلفظ: (الغيران في الجبال)، كما رواه الثعلبي 6/ 115/ أ، والبغوي 4/ 59 بلفظ المؤلف عن عطاء. (¬8) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 455، وقد نقله الواحدي بمعناه. (¬9) في (ج): (المبتلج). (¬10) في (ي): (في).

المسلك الذي يتدسس بالدخول فيه، قال قتادة: سربا (¬1)، وقال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع (¬2)، وقال الضحاك: مأوى (¬3)، وقال الحسن: وجهاً يدخلونه (¬4). وقوله تعالى: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}، قال ابن قتيبة: لرجعوا إليه (¬5) [وأدبروا إليه] (¬6)، يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف، وولى غيره: إذا صرفه (¬7). وقوله تعالى: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون إسراعًا لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال: جمح الفرس، وهو فرس جموح وهو (¬8) الذي إذا حمل لم (¬9) يرده اللجام (¬10)، قال ابن عباس: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} (¬11): يريد مثل ما يجمع الفرس (¬12)، قال ابن كيسان والزجاج وغيرهما: معنى الآية ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 155، والثعلبي 6/ 115 أ، والبغوي 4/ 59. (¬2) رواه عنهما الثعلبي 6/ 115 أ، كما رواه عن الكلبي، البغوي 4/ 59. (¬3) رواه الثعلبي، في المصدر السابق، نفس الموضع، ورواه ابن أبي حاتم 6/ 1815 عن الضحاك عن ابن عباس. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 115 ب، والبغوي 4/ 59 ولفظه عندهما: (وجهًا يدخلونه على خلاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم) اهـ. فالحسن -رحمه الله- يقصد أن هؤلاء المنافقين يتحينون الفرصة للخلاف والمشاقة والمعاندة، لا يقصد محسوسًا يسلكونه. (¬5) اهـ. كلام ابن قتيبة، انظر: "تفسير غريب القرآن" له ص 196. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬7) في (ي): (أصرفه). (¬8) في (ج): (وهذا)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة". (¬9) في (ي): (لا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "تهذيب اللغة". (¬10) انظر: "تهذيب اللغة" (جمح) 1/ 645. (¬11) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬12) في "تنوير المقباس" ص 196: يهرولون هرولة.

58

أن هؤلاء المنافقين لا بصيرة لهم في الدين ولا احتساب، وإنما هم فيه كالمسخرين، حتى لو وجدوا أحد هذه الأشياء التي ذكرت لأسرعوا إليه طلبًا للفرار (¬1). 58 - وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية، قال أبو سعيد الخدري: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم مالاً إذ جاءه ابن ذي (¬2) الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير (¬3)، أصل الخوارج، فقال: ¬

_ (¬1) لم أعثر على هذا القول في مظانه من كتب التفسير، ولم يذكره الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه"، ومعناه في "البرهان" للحوفي 11/ 209 أمنسوبًا لابن عباس ومجاهد وقتادة. (¬2) في (ج) و (ي): (ابن الخويصرة. وآثرت ما في (م) لموافقته لما في "صحيح البخاري"، و"تفسير الثعلبي"، و"أسباب النزول" للمؤلف. (¬3) هو: حرقوص بن زهير السعدي التميمي، ذكره الطبري في "تاريخه" 4/ 76 فقال: (إن الهرمزان الفارسي -صاحب خوزستان- كفر ومنعه ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جمعه، فكتب سلمى ومن معه بذلك إلى عتبة بن غزوان، فكتب عتبة إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمدّ المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، وكانت له صحبة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمَّره على القتال وعلى ما غلب عليه، فاقتتل المسلمون والهرمزان، وانهزم الهرمزان، وفتح حرقوص سوق الأهواز، ونزل بها، وله أثر كبير في قتال الهرمزان، وبقي حرقوص إلى أيام علي، وشهد معه صفين، ثم صار من الخوارج، ومن أشدهم على علي بن أبي طالب، وكان من الخوارج لما قاتلهم علي، فقتل يومئذ سنة 37 هـ. اهـ. وانظر: "أسد الغابة" 1/ 474، و"الإصابة" 1/ 320. وعندي شك أن ابن ذي الخويصرة هو حرقوص المذكور، فقد روى البخاري في "صحيحه"، (6933) كتاب استتابة المرتدين، باب: من ترك قتال الخوارج للتألف 9/ 30 عن أبي سعيد قال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:فقال. "ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟! " قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: "دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة .. "الحديث فهذا يفيد: =

اعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟! " فنزلت هذه الآية (¬1). وقال الكلبي: نزلت في المؤلفة قلوبهم وهم المنافقون (¬2)، قال رجل منهم يقال له أبو الجواظ (¬3): لم تقسم بالسوية فأنزل الله هذه الآية (¬4). ونحو ذلك قال ابن زيد. هؤلاء المنافقون قالوا: والله (¬5) ما يعطيها محمد إلا من (¬6) أحب ولا يؤثر ¬

_ = أولاً: أن اسم ابن ذي الخويصرة عبد الله. ثانيًا: أن عمر -رضي الله عنه- كان حاضرًا القصة وكان شديدًا على الرجل، فهل يليق بالفاروق أن يوليه قيادة الجيوش، وإمرة ما فتح بعد أن سمع نعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!. ويؤكد هذا الشك ما ذكر الحافظ ابن حجر عن الهيثم بن عدي قال: إن الخوارج تزعم أن حرقوص بن زهير كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه قتل معهم يوم النهروان، قال: فسألت عن ذلك، فلم أجد أحدًا يعرفه. "الإصابة" 1/ 320. (¬1) رواه بنحوه مطولاً البخاري في "صحيحه" في عدة مواضع منها (6933) كتاب استتابة المرتدين .. باب: من ترك قتال الخوارج للتألف، ومسلم (148)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، وأحمد في "المسند" 3/ 56، ورواه بلفظ المؤلف مطولاً الثعلبي في "تفسيره" 6/ 116 أ، ومن طريقة المؤلف في "أسباب النزول" ص 248. (¬2) المؤلفة قلوبهم في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسوا منافقين، بل صنفان: الأول: كفار صرحاء فأعطاهم النبي تأليفًا لهم على الإسلام كصفوان بن أمية. انظر: "الإصابة" 2/ 187. الثاني: حديثو عهد بإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وعيينة بن حصن وغيرهم. انظر: "المعارف" ص 192. (¬3) لم أجد له ترجمة، والكلبي كذاب لا يوثق بروايته، انظر: "تهذيب التهذيب" 3/ 569. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 116 ب، والبغوي 4/ 60، وذكره المؤلف بغير سند في "أسباب النزول" ص 253 - 254. (¬5) ساقط من (ي)، وما أثبه موافق لـ "تفسير ابن جرير". (¬6) في (ي): (لمن)، وما أثبته موافق لـ"تفسير ابن جرير".

بها (¬1) إلا هواه (¬2). قال الليث: اللمز كالغمز في الوجه، رجل لمزة يعيبك في وجهك [ورجل همزة يعيبك بالغيب (¬3)] (¬4)، وقال الزجاج: يقال: لمزتُ الرجل ألمزه بكسر الميم، ولَمُزت بضم الميم (¬5): [إذا عبته] (¬6) وكذلك همزته أهمزه: إذا عبته، والهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم (¬7)، وكذلك قال ابن السكيت، ولم يفرق بينهما (¬8)، وكذلك قال الفراء (¬9). قال الأزهري: وأصل الهمزة واللمز الدفع، قال الكسائي: يقال: همزته ولمزته ولهزته (¬10): إذا دفعته (¬11). ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). واللفظ ثابت في (ج) و (م) و"تفسير ابن جرير". (¬2) رواه ابن جرير 10/ 157. (¬3) "تهذيب اللغة" (لمز) 4/ 3296، ونحوه في كتاب "العين" (لمز) 7/ 272. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) اضطرب قول الزجاج في النسخة (ج) ونصه فيها: (يقال: لمزه الرجل بكسر الميم، واللُمزة بضم الميم: إذا عبته) وما أثبته موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه". (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 455، وتفسير الهمزة اللمزة ليس فيه، بل في "تهذيب اللغة" (لمز) 4/ 3296. (¬8) انظر: "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (لمز) 2/ 682، و (همز) 2/ 810 حيث لم يفرق ابن السكيت بينهما، وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" (لمز) 4/ 3296. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 289 وعبارته: .. يهمز الناس ويلمزهم: يغتابهم ويعيبهم. (¬10) في (ي): (ونهرته)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "تهذيب اللغة". (¬11) "تهذيب اللغة" (لمز) 4/ 3296، والكسائي يعني أن أصل تلك الكلمات: =

قال ابن عباس في رواية عطاء: يلمزك يغتابك (¬1). وقال قتادة: يطعن عليك (¬2). وقال الكلبي: {يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي: يعيبك في أمرها، ويطعن عليك فيها (¬3). وقال أبو علي: المعنى في حذف الإضافة والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات (¬4). وقال أهل المعاني: هذه (¬5) الآية بيان عما يوجبه الخلق الدني (¬6) من الشره إلى الصدقة حتى يعيب ما لا عيب فيه إذا لم يعطه ما يرضيه (¬7). وقال جويبر عن الضحاك في هذه الآية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره، وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه، وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً سخطوا (¬8). ¬

_ = الدفع كما بينه أبو منصور الأزهري في الموضع نفسه، ولا يعني أن معنى الآية كذلك. (¬1) رواه الثعلبي 6/ 116 ب عن عطاء. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 156. (¬3) ذكره مختصرًا الرازي في "تفسيره" 16/ 98، ونحوه في "تنوير المقباس" ص 196 عنه عن ابن عباس. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 198. (¬5) ساقط من (ج). (¬6) في (ج): (الذي)، وهو خطأ. (¬7) القول بنصه للحوفي في "البرهان" 11/ 211 أ. (¬8) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1816.

59

59 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا} الآية، جواب (لو) محذوف بتقدير: لكان خيرًا لهم، وأعود عليهم (¬1)، قال ابن عباس: ولكن غلب عليهم النفاق، ولم يحق الإيمان في قلوبهم، فيتوكلوا على الله حق توكله (¬2). ثم إن الله تعالى بين لمن الصدقات فقال: 60 - {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية، قال ابن عباس: يريد صدقات الأموال (¬3). وذكرنا معنى الصدقة عند قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] الآية (¬4). واختلفوا في معنى الفقير والمسكين، والكلام في اشتقاقهما قد سبق (¬5)، فأما معناهما: فقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد (¬6) والزهري ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1816. في "لسان العرب" (عود) 5/ 3157: قال الليثُ: هذا الأمر أعود عليك: أي أرفق بك وأنفع؛ لأنه يعود عليك برفق ويسر. (¬2) لم أقف على مصدره. (¬3) لم أقف على مصدره. (¬4) انظر: "النسخة الأزهرية" 1/ 161 أحيث قال: الصدقة تطلق على الفرض والنفل، والزكاة لا تطلق إلا على القرض، قال الزجاجي: (ص د ق) على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال، من ذلك قولهم: رجل صدق النظر، وصدق اللقاء وصدقوهم القتال، وفلان صادق المودة .. وسمى الله تعالى الزكاة صدقة؛ لأن المال بها يصح ويكمل، فهي سبب لكمال المال. (¬5) ذكر الكلام في اشتقاق المسكنة عند تفسير الآية 61 من سورة البقرة، وذكر اشتقاق الفقير عند قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، وأصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر، فصرف من مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح. انظر: "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2812 - 2813، و"اللسان" (فقر) 6/ 3444. (¬6) هو: جابر بن زيد الأزدي اليحمدي مولاهم، البصري، المعروف بأبي الشعثاء، كان عالم أهل البصرة، في زمانه، وفي طبقة الحسن البصري وابن سيرين، ومن كبار تلاميذ ابن عباس، كان لبيبًا مجتهدًا في العبادة، توفي سنة 93هـ. =

ومجاهد وابن زيد: الفقير: المتعفف الذي لا يسأل الناس (¬1)، والمسكين الذي يسأل (¬2)، وهذا اختيار الفراء، قال: الفقراء أهل الصفة لم تكن لهم عشائر ولا مال كانوا يأوون إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمساكين: الطوافون على الأبواب (¬3) (¬4). وسئل أبو العباس عن تفسير الفقير والمسكين فقال: قال أبو عمرو بن العلاء فيما روى عنه (¬5) الأصمعي: الفقير [الذي له ما يأكل، والمسكين الذي لا شيء له (¬6). وقال يونس (¬7):] (¬8) الفقير يكون له بعض ما يقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وقال (¬9): قلت لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين، قال: فالمسكين أسوأ حالاً من الفقير، والفقير الذي له بلغة من العيش (¬10)، ¬

_ = انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 204، و"حلية الأولياء" 3/ 85، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 481، و"تهذيب التهذيب" 2/ 279. (¬1) ساقط من (م). (¬2) أخرج آثارهم بألفاظ متقاربة ابن جرير 10/ 158 - 160، والثعلبي 6/ 117 أ، كما خرج أكثرها السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 449 - 450. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 443 بتصرف ويعني الفراء التمثيل بأهل الصفة لا الحصر. (¬4) رجح هذا القول أبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 446 وأيده بالحجج النقلية واللغوية، ورد ما يمكن أن يعترض به عليه. وقد قال قبل ذلك: إن قول من قال: المسكين كذا، والفقير كذا، لم يقل إنه لا يقال لغيره مسكين ولا فقير. وانظر أيضًا: "تفسير الطبري" 10/ 159 - 160 فهو يؤيد هذا القول. (¬5) في (ج): (عن)، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة". (¬6) "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2812. (¬7) هو: يونس بن حبيب البصري. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬9) ساقط من (ي)، والقائل يونس كما بينه الأزهري المصدر التالي. (¬10) انظر أقوال يونس في "تهذيب اللغة" (فقير) 3/ 2813.

ونحو هذا قال ابن السكيت (¬1) وابن قتيبة (¬2)، وهو مذهب أهل العراق (¬3)، واحتجوا على هذا بقول الراعي: أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد (¬4) فسماه فقيرًا، وله حلوبة تكفيه وعياله (¬5). وقال محمد بن مسلمة (¬6) (¬7): الفقير الذي له المسكن يسكنه والخادم ¬

_ (¬1) انظر: "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (فقر) 2/ 572. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن"، له ص 196. (¬3) انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 901، و"المغني" لابن قدامة 9/ 306، 307، و"تفسير البغوي" 4/ 62، و"حاشية ابن عابدين" 2/ 339. (¬4) انظر: "ديوانه" ص 64 ونسب إليه أيضاً في: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 511، و"لسان العرب" (فقر)، و"المخصص" 12/ 285. والسبد: الوبر، والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد، انظر: "لسان العرب" (سبد) 4/ 1918، والشاعر يشكو السعاة والعاملين على الصدقات من قبل عبد الملك بن مروان، ويقول: إنهم لم يرحموا أحدًا حتى الفقير الذي لا يملك إلا ناقة حلوبًا على قد عياله، أخذت منه، ولم يترك له شيء. (¬5) ذكر الأزهري أنه لا حجة في هذا البيت؛ لأن المعنى: كانت لهذا الفقير حلوبة فيما مضى دون الحالة الحاضرة. انظر: "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2813، وسبقه أبو بكر بن الأنباري في "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 128. (¬6) في (ي): (سلمة)، وما أثبته موافق لمصدري تخريج القول. (¬7) هو: محمد بن مسلمة بن الوليد، أبو جعفر الواسطي الطيالسي، محدث معمر، قال الدارقطني: لا بأس به، وقال الخطيب: رأيت أبا القاسم اللالكائي والحسن بن محمد الخلال يضعفانه، قال: وله مناكير، توفي سنة 282 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 305، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 395. أقول: هذا ما ترجح لدي أنه المذكور، ولست على يقين بذلك وأستبعد أن يكون هو محمد بن مسلمة ألأنصاري الصحابي كما جزم بذلك مفهرس "تفسير القرطبي" 22/ 326؛ ألأن النص في "تفسير الثعلبي" طويل، وفيه تعليلات لم يعهد مثلها في =

يخدمه (¬1)، والمسكين الذي لا ملك له (¬2)، وهؤلاء قالوا (¬3): كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيًا عن غيره، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألا ترى كيف حض على إطعامه وجعل الكفارات من الأطعمة له ولا فاقة أعظم من سد الجوعة. وقال الشافعي: الفقراء: الزمنى الضعاف الذي لا حرفة لهم وأهل الحرفة الضعيفة التي لا تقع حرفته من حاجتهم موقعًا، [والمساكين: السؤال ممن لهم حرفة تقع موقعًا] (¬4) ولا تغنيه وعياله (¬5)، فالفقير أشدهما حالاً عند الشافعي وإلى هذا ذهب جماعة (¬6)، وقال أحمد بن عبيد (¬7): المسكين أحسن ¬

_ = كلام الصحابة، ونص قوله: .. (والمسكين: الذي لا ملك له، قال: وكل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه، وإن كان غنيًا عن غيره، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]، والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألم تر كيف حض على إطعامه ..) إلخ. انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 117 ب. (¬1) هذا خلاف ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك. "صحيح مسلم" (2979) كتاب: الزهد. (¬2) "تفسير الثعلبي" 6/ 117 ب، والقرطبي 8/ 171. (¬3) في "تفسير الثعلبي" القائل هو: محمد بن مسلمة. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬5) "الأم" 2/ 110. (¬6) ساقط من (ج). وانظر: "كتاب الأموال" ص 717 - 719؛ و"المغني" 9/ 306، و"لسان العرب" (فقر) 6/ 3444 - 3445. (¬7) هو: أحمد بن عبيد بن ناصح الديلمي ثم البغدادي، أبو جعفر النحوي، المعروف =

حالاً من الفقير؛ لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل: مطبوخ وطبيخ ومجروح وجريح (¬1). وقال خالد بن يزيد (¬2): كأن الفقير إنما سمي فقيرًا لزمانة تصيبه مع حاجة شديدة، تمنعه الزمانة من التقلب في الكسب على نفسه فهذا هو الفقير (¬3)، ولا حال في الإقلال والبؤس هي أوكد من هذه الحال، وأنشدوا للبيد: لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم (¬4) كالفقير الأعزل (¬5) ¬

_ = بأبي عصيدة، من نحاة الكوفة، كان نحويًّا محدثًا رأسًا في العربية من أهل الصدق، وهو من تلاميذ الأصمعي ومن شيوخ أبي بكر بن الأنباري، توفي سنة 278 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 4/ 258، و"نزهة الألباء" ص 158، و"وإنباه الرواة" 1/ 119. (¬1) ذكره بنحوه أبو بكر بن الأنباري في كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 128، وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2813، (سكن) 2/ 1724. (¬2) هو أبو الهيثم الرازي. (¬3) اهـ. كلام خالد بن يزيد في "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2813. (¬4) في (ي): (الفقير)، وهو خطأ. (¬5) البيت في "ديوان لبيد" ص34، وفي "شرحه" ص 274، ونسب إليه أيضًا في "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2813، و"لسان العرب" (فقر) 6/ 3445. ولبد: هو النسر السابع من نسور لقمان بن عاد، والأعزل من الخيل: المائل الذنب. والشاعر يذكر قصة متداولة عند العرب؛ إذ يقال أن لقمان بن عاد خُيّر في عمره، فاختار أن يكون كعمر سبعة أنسر، فكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في فجوة في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش الفرخ خمسمائة سنة أو أقل أو أكثر، فإذا مات أخذ آخر مكانه، حتى هلكت ستة، فأخذ السابع وسماه لبدًا، وكان أطولها عمرًا حتى ضرب به المخل، فقيل: طال الأبد على لبد، ثم هلك النسر، فمات لقمان، وقد زعموا أنه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. انظر: "شرح ديوان لبيد" ص 274، و"مجمع الأمثال" 1/ 429.

قال ابن الأعرابي في هذا البيت: الفقير: المكسور الفقار يضرب مثلاً لكل ضعيف لا ينفذ في الأمور (¬1). وقال قتادة: الفقير: الزمن المحتاج، والمسكين: الصحيح المحتاج (¬2)، فجعل الفقير أسوأ حالاً، ومما يدل على صحة هذا القول أن الله ابتدأ بذكرهم، فدل أنهم أولى الأصناف بالصدقات لسوء حالهم، وما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعوذ من الفقر (¬3)، وروي عنه أنه قال: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا (¬4)، واحشرني في زمرة المساكين" (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (فقر) 3/ 2813. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 158، وابن أبي حاتم 6/ 1819 - 1820، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 449، وزاد: عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ. (¬3) رواه أبو داود (1544) كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، والنسائي في "سننه" كتاب: الاستعاذة، الاستعاذة من القلة 8/ 261، وابن ماجه (2842)، كتاب: الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحمد في "المسند" 2/ 305، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: الدعاء 1/ 541. وقال: صحيح الإسناد. اهـ. ولفظ الحديث عنده وعند أحمد: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة .. " الحديث. (¬4) قال ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين. "النهاية في غريب الحديث" (سكن) 2/ 385، ونحوه في "السنن الكبرى" للبيهقي 7/ 19. (¬5) رواه الترمذي (2352) كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وقال: حديث غريب، وابن ماجه (4126)، كتاب: الزهد، باب. مجالسة الفقراء، والحاكم في "المستدرك" كتاب: الرقاق 4/ 322، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو وهم منهما؛ لأن جميع أسانيد الحديث لا تخلو من قادح، ولذا قال الألباني بعد أن ذكر من صححه: (وهذا عجيب منهم، خاصة الذهبي فقد أورد يزيد بن خالد هذا في "الضعفاء" ص 207، =

فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان؛ لأنه يتعوذ من الفقر ثم يسأل حالاً أسوأ منه، ولا تناقض بينهما؛ لأنه تعوذ بالله من الضر (¬1)، وسوء الحال، وسأله الخضوع وأن لا يجعله من الجبارين. والمسكنة حرف مأخوذ من السكون، يقال: تمسكن الرجل: إذا لان وتواضع وخشع، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبأس وتمسكن" (¬2) يريد: تواضع وتخشع، فيجوز أن يكون الرجل يملك شيئًا، وله حالة من الدنيا، ويكون مسكيناً على ما ذكرنا، ألا ترى أن الله تعالى استجاب دعاء نبيه -عليه السلام- وأعاذه من الفقر؛ لأنه قبضه موسرًا غنيًا بما أفاء عليه، وإن كان لم يضع درهمًا على درهم، والله -عز وجل- يقول: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]. هذا الذي ذكرنا كلام ابن قتيبة في هذين الحديثين (¬3). واحتد ابن الأنباري لهذه (¬4) الطريقة بقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ ¬

_ = و"الميزان" 6/ 95، وساق أقوال الأئمة فيه، وكلها تتفق على تضعيفه، وساق له أحاديث فيما أنكرت عليه هذا أحدها). ثم ساق الألباني شاهدين ضعيفين للحديث ثم قال: (والخلاصة: أن جميع طرق الحديث لا تخلو من قادح، إلا أن مجموعها يدل على أن للحديث أصلاً، فإن بعضها ليس شديد الضعف كحديث أبي سعيد وعبادة، والأحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الحسن. يعني: الحسن لغيره). انظر: "إرواء الغليل" رقم (8611) 3/ 358 - 363. (¬1) في (ج): (الضرر). (¬2) هذا بعض حديث رواه أبو داود (1296)، كتاب: الصلاة، باب: في صلاة النهار، وابن ماجه (1325)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. (¬3) انظر: "تأويل مختلف الحديث" ص 196. (¬4) في (ج): (بهذه).

لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] الآية، فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير (¬1)، وبقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 14 - 16]، ومسكين ذو متربة: هو الفقير الذي قد لصق بالتراب من شدة الفقر، والمسكين الذي ليس بذي متربة هو أحسن حالاً من الفقير؛ لأنه ذو مال، ونعت الله تعالى هذا المسكين بأنه ذو متربة يدل على أن ثم مسكينًا ليس بذي متربة يخالف المنعوت ولا يبلغ منزلته في شدة الفقر. وأما احتجاجهم ببيت الراعي، قلنا: قد ذكر الفقير وحده وكل فقير أفردته بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه، وكذلك إطلاق الفقير على المسكين، وإنما يتبين مقصود هذه المسألة عند الجمع بينهما وفائدة هذا الخلاف لا تبين في تفريق الصدقات، وإنما تبين في الوصايا، وهو أن رجلاً لو (¬2) قال: أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين وجب (¬3) دفع المائتين إلى من هو أسوأ حالاً من الفريقين. ومن الناس من سوى بين الفقير والمسكين وقال: هما واحد إلا أنه ¬

_ (¬1) ليس في هذا دليل على ما ذكر؛ لأن العرب تطلق لفظ المسكين على الذليل الخاضع، فإن كان الذي أذله هو الفقر، كان فقيرًا مسكينًا، وإن كان الذي أذلة غير الفقر، فهو مسكين غير فقير، كما أشار إلى ذلك المؤلف، قال ابن عرفة بعد أن ذكر نحو ما سبق: "إذا كان مسكينًا قد أذله سوى الفقر فالصدقة لا تحل له، إذ كان شائعًا في اللغة أن يقال: ضرب فلان المسكين، وظلم المسكين، وهو من أهل الثروة واليسار". "لسان العرب" (فقر) 6/ 3444. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) في (ج): (يوجب).

ذكر (¬1) بالصفتين لتأكيد أمره (¬2). والظاهر من هذه الأقوال الذي يوافق اللغة قول قتادة، هو أن الفقير ذو الزمانة سنة من أهل الحاجة، والمسكين الصحيح منهم، وهو في اللغة (مفعيل) من السكون مثل المنطيق من النطق، ومضى الكلام فيه عند قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61]. وحدّ الفقير والمسكين الذي يجوز دفع الزكاة إليه هو من لا يفي دخله بخرجه. وقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}، قال ابن عباس: يريد الذين يستخرجونها (¬3). وقال الزهري وابن زيد: هم السعاة لجباية الصدقة (¬4). وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أمثالهم، وهو مذهب الشافعي (¬5)، وقول عبد الله بن عمرو (¬6)، وابن زيد (¬7)، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثُّمُن من الصدقات (¬8). ¬

_ (¬1) في (ي): (ذكرنا). (¬2) ذكر القرطبي في "تفسيره" 8/ 169، 170 أن هذا أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب أبو يوسف وابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وانظر: "حاشية ابن عابدين" 2/ 339. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1821 بلفظ: السعاة أصحاب الصدقة. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 160 مختصرًا عن الزهري، وبمعناه عن ابن زيد. (¬5) انظر: "الأم" 2/ 111. (¬6) في (ي): (عمر)، والصواب ما أثبته، وانظر قوله في "تفسير ابن جرير" 10/ 161، والثعلبي 6/ 118 ب. (¬7) رواه ابن جرير 10/ 161، والثعلبي 6/ 118 ب. (¬8) رواه ابن جرير 10/ 160 - 161 بإسنادين ضعيفين، ففي سنده عن مجاهد مجهول، ومسلم بن خالد الزنجي قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص 529 (6625): صدوق كثير الأوهام، وفي سنده عن الضحاك ضعيف، وهو جويبر.

والصحيح أن الهاشمي والمطلبي (¬1) لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات [بعمالة منها؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي أن يبعث أبا رافع (¬2) عاملاً على الصدقات] (¬3)، وقال: "أما علمت أن مولى القوم منهم؟! " (¬4). وقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، قال ابن عباس: هم قوم من أشراف العرب استألفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليردوا عنه قومهم ويعينوه على عدوه، منهم عباس بن مرادس السلمي، وعيينة بن حصن الفزاري (¬5)، والأقرع بن حابس ¬

_ (¬1) الهاشمي: نشة إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي، والمطلبي: نسبة إلى المطلب بن عبد مناف بن قصي. انظر: "السيرة النبوية" 1/ 118. (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - موليان بهذا الاسم، أبو رافع عبد أبي أحيحة، وقد أعتق كل من بنيه نصيبه منه سوى واحد فإنه وهب نصيبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، والثاني أبو رافع القبطي وقد أفاد الذهبي أنه هو المذكور في حديث الصدقة، واختلف في اسمه، فقيل: أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل غير ذلك، والأول أشهر، كان عبدًا للعباس فوهبه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أن بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه، وكان ذا علم وفضل، وقد شهد غزوة أحد وما بعدها، وتوفي بالكوفة سنة 40 هـ. وقيل قبل ذلك: انظر: "المعارف" ص 85، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 16، و"الإصابة" 4/ 67 - 68 (396). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬4) رواه النسائي في "سننه"، كتاب: الزكاة، باب: مولى القوم منهم 5/ 107، والترمذي (657)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في كراهية الصدقة للنبي .. ، وأبو داود (1650)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على بني هاشم، وأحمد في "المسند" 6/ 8، والحديث بنحوه دون ذكر أبي رافع في "صحيح البخاري" (6761)، كتاب: الفرائض، باب: مولى القوم من أنفسهم. (¬5) هو: عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، أبو مالك، زعيم فزارة وغطفان، أسلم قبل فتح مكة وشهدها، وشهد حنينًا والطائف، ثم ارتد في عهد أبي بكر ثم عاد إلى الإسلام، وكان من المؤلفة قلوبهم، وفيه جفاء البادية، مع حمق وتيه، توفي في خلافة عثمان -رضي الله عنه-.

التميمي (¬1)، والحارث بن هشام المخزومي، وأبو سفيان بن حرب الأموي، وجماعة (¬2)، وهذا قول الكلبي (¬3) والأكثرين (¬4). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيهم سهمًا من الزكاة، فأما اليوم فقد أغنى الله المسلمين عن ذلك إنما كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة، وهذا قول الحسن (¬5) والشعبي (¬6)، فإن رأى الإمام على مقتضى الحال يريد أن يؤلف قلوب قوم على الإسلام فله الإعطاء إذا كانوا مسلمين، إذ لا يجوز صرف شيء من زكاة الأموال إلى المشركين، فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات (¬7). ¬

_ = انظر: "المعارف" ص 171، و"الإصابة" 3/ 54 (6151). (¬1) هو: الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد المجاشعي الدارمي التميمي، من زعماء بني تميم، أسلم قبل فتح مكة وشهد فتحها وحنينًا والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامه، وكان حكيمًا شريفًا في الجاهلية والإسلام، قتل بجوزجان في خلافة عثمان رضي الله عنهما. انظر: "السيرة النبوية" 4/ 135، 141، 143، و"الإصابة" 1/ 58. (¬2) ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" 16/ 111، وروى ابن جرير 10/ 161 عن ابن عباس قال: (هم قوم كانوا يأتون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أسلموا .. فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح؛ وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه). وانظر: "إرواء الغليل" 3/ 369. (¬3) رواه الثعلبي 6/ 118. (¬4) مثل يحيي بن أبي كثير، ومجاهد. والحسن، وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير والشعبي، انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 161 - 162، و"الدر المنثور" 3/ 450 - 451. (¬5) رواه ابن جرير 10/ 162، والثعلبي 6/ 116. (¬6) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1822. (¬7) انظر: كتاب "الأم" للإمام الشافعي 2/ 97، ومذهب الإمام أحمد جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة ولو كانوا مشركين، انظر: "المغني" 9/ 318.

وقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}، قال ابن عباس: (يريد المكاتبين) (¬1)، وقال الزجاج: (كأن يعاون المكاتب حتى يفك رقبته) (¬2). وهذا على حذف المضاف؛ لأن المعنى: وفي فك الرقاب، وقد مضى مثل هذا في سورة البقرة [177] في قوله تعالى: {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}. وسهم الرقاب موضوع في المكاتبين (¬3) ليعتقوا به، وهذا مذهب الشافعي (¬4) والليث بن سعد (¬5). ومذهب مالك (¬6) وأحمد (¬7) وإسحاق (¬8): أنه موضوع (¬9) لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون. ومذهب (¬10) أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 196، و"تفسير الرازي" 16/ 112، و"الوسيط" 2/ 506. (¬2) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 456. (¬3) المكاتب: العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا دفع ثمنه لسيده عتق. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (كتب) 5/ 159، و"لسان العرب" (كتب) 6/ 3817. (¬4) انظر: كتاب "الأم" 2/ 113. (¬5) انظر: "فتح الباري" 3/ 332. (¬6) هذه إحدى الروايات عن الإمام مالك، انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 967، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 8/ 182. (¬7) هذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد، لكن لا يعني ذلك أن المكاتبين لا يعانون من الزكاة عنده، بل يعان منها المكاتب ويعتق منها العبيد، واستحب أن لا يعتق الفرد من زكاته رقبة كاملة انظر: "المغني" 9/ 391 - 321. (¬8) انظر قوله في: "المغني" 9/ 320، و"فتح الباري" 3/ 332، والمذكور هو إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي أبو يعقوب المروزي. (¬9) في (ى): (موضع)، والصواب ما أثبته بدلالة ما قبله. (¬10) من هنا إلى قوله: فيعتقون، مكرر في (ح).

ولكن يعطى منها رقبة ويعان بها مكاتب (¬1)، وهذا قول سعيد بن جبير (¬2) والنخعي (¬3). وقال الزهري: (سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم، فيعتقون، من الذكور والإناث) (¬4). قال أصحابنا: (والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب (¬5)) (¬6)، وهذا معنى تغيير اللفظ على ما ذكره صاحب "النظم"، وهو أنه قال: قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} فصل جاء بنظم له معنى خاص دون ما بعده، وذلك أن الله تعالى قصد به دفع الصدقات إلى هؤلاء ليعملوا فيما يعطون ما شاؤوا في نفقاتهم وغيرها، ثم ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 906. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 179 كتاب: الزكاة، باب: في الرقبة تعتق من الزكاة، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"، باب: سهم الرقاب والغارمين ص 723، ولفظه عند أبي عبيد: (لا تعتق من زكاة مالك فإنه يجر الولاء). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 179، كتاب: الزكاة، باب: في الرقبة تعتق من الزكاة، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"، باب: سهم الرقاب والغارمين ص 723، ولفظه عند أبي عبيد: (قال: يعان منها في الرقبة ولا يعتق منها)، ورواه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 452، ولفظه: (لا يعتق من الزكاة رقبة تامة، ويعطى في رقبة، ولا بأس أن يعين بها مكاتبًا). (¬4) ذكره عن الزهري، الثعلبي في "تفسيره" 6/ 120 أ، والصواب أن الزهري رواه عن عمر بن عبد العزيز كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1824، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 451. (¬5) في (ح): (بإذن عبد المكاتب)، وهو خطأ ولا معنى له. (¬6) انظر: "روضة الطالبين" 2/ 315.

قال: {وَفِي الرِّقَابِ} إلى آخر الآية (¬1) فجاء هذا بنظم غير ذلك النظم، فكأنه -عز وجل- أمر بأن يوضع ما يقدر لهم في المواضع التي بها استحقوا الصدقة دون أن يدفع إليهم فيصرفوه في غيره، فيجب أن يوضع في الرقاب بأن يؤدى عنهم، وكذلك: {وَالْغَارِمِينَ} ويصرف ما أوجب للسبيل وابنه إلى ما يحتاجون إليه من آلة ونفقة، دون دفعه إليهم، وإنما قلنا هذا على ظاهر النظم لأنه لم يجعله فصلين بنظمين مختلفين إلا وقد قصد به معنيين متغايرين. وقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ}، قال ابن عباس: (يريد أهل الدين) (¬2)، وقال مجاهد (¬3) وقتادة (¬4) والزهري (¬5): (الغارمون: الذين لزمهم الديون في غير معصية ولا إسراف). قال الشافعي: (وهم صنفان: صنف أدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد، فيعطون في غرمهم، وصنف أدانوا في حمالات وصلاح ذات بين، ولهم عروض إن بيعت أضر بهم فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم (¬6)، وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية، فأما من أدان في معصية الله فلا أرى أن ¬

_ (¬1) في (ى): (آخرها). (¬2) "تنوير المقباس" 196. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا في الغارمين منهم 3/ 207، وابن جرير 10/ 164، وابن أبي حاتم 6/ 1824. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 164، والثعلبي 6/ 120 ب. (¬5) رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير في المصدرين السابقين، نفس الموضع. (¬6) "الأم" 2/ 97 بتصرف يسير واختصار، والكلام التالي ذكره الشافعي في كتاب "الأم" 2/ 113.

يعطى)، قال الزجاج: (لأن ذا المعصية إن أدي عنه الدين كان ذلك تقوية له على المعاصي) (¬1). وأصل الغرم في اللغة: لزوم ما يشق ويتعذر، والغرام: العذاب اللازم أو (¬2) العشق أو الشر اللازم، وفلان مغرم بالنساء: -إذا كان مولعًا بهن- من هذا (¬3). وقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: الغزاة والمرابطين، عند عامة المفسرين (¬4)، قال الزجاج: (أي للمجاهدين حق في الصدقة) (¬5). ومذهب الشافعي في هذا: أن المغازي يجوز أن يعطى وإن كان غنيا إذا طلب (¬6) وهو مذهب مالك (¬7) وإسحق (¬8) وأبي (¬9) عبيد (¬10). وقال أبو حنيفة وصاحباه (¬11): (لا يعطى المغازي إلا أن يكون ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 456. (¬2) في (ح): (و). (¬3) انظر: "اللسان" (غرم) 6/ 3247. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 165، وابن أبي حاتم 6/ 1824 - 1825، و"الدر المنثور" 3/ 452. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 456. (¬6) "الأم" 2/ 98. (¬7) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 969، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 8/ 185. (¬8) انظر: "المغني" 9/ 326. (¬9) في (ى): (ابن)، وهو خطأ. (¬10) كتاب: "الأموال"، له ص 726. (¬11) هما أبو يوسف ومحمد بن الحسن.

محتاجًا (¬1)، واحتج (¬2) الشافعي بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله (¬3)، أو ابن السبيل (¬4)، أو رجل كان له جار فتصدق عليه فأهداها له" (¬5). وقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ}، قال ابن عباس: (يريد عابر السبيل) (¬6)، قال المفسرون: (المسافر المنقطع يأخذ من الصدقة وإن كان ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 907، و"المغني" 9/ 326. (¬2) في (ح): (واحتاج). (¬3) في (ح): (سبيل)، دون لفظ الجلالة. (¬4) هكذا ذكر الواحدي: (ابن السبيل) ومثله ابن جرير 10/ 165، والثعلبي 6/ 120 ب، ولم يذكره الشافعي ولا غيره ممن أخرج الحديث ممن سيأتي ذكرهم، وإنما ذكروا مكانه (الغارم). ورواية ابن جرير ضعيفة للإرسال ولضعف ابن وكيع، فهو ساقط الحديث كما بينه ابن حجر في "التقريب" ص 245 (2456)، أما الثعلبي فقد ذكر الحديث بغير سند. (¬5) انظر: "الأم" 2/ 98، وقد ذكر الواحدي رواية ابن جرير، ولفظه عند الشافعي: (لا تحل الصدقة إلا لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني) ولفظه عند غيره: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، لغاز ..) إلخ، رواه أبو داود (1635)، كتاب: الزكاة، باب: من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، وابن ماجه (1841)، كتاب: الزكاة، باب: من تحل له الصدقة، وأحمد في "المسند" 3/ 56، والحاكم في "المستدرك"، كتاب: الزكاة 2/ 407، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬6) في (ح): سبيل، وقد روى الأثر ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" بلفظ: المسافر.

غنيًا في بلده (¬1)، وهذا قول مجاهد (¬2) والزهري (¬3)، وقال الزجاج: (هو الذي قطع عليه الطريق) (¬4). قال الشافعي: (ابن السبيل المستحق للصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية، فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة) (¬5)، قال أصحابنا: (ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل كالمجتاز ببلدك) (¬6). وقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}، قال الزجاج: (منصوب على التوكيد؛ لأن قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لهؤلاء كقوله: فرض الله الصدقات (¬7) لهؤلاء) (¬8). {فَرِيضَةً}، قال ابن عباس: (يريد أن الله تبارك وتعالى افترض هذا على الأغنياء في أموالهم) (¬9) {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} بما حكم فيهم (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 165، و"الدر المنثور" 3/ 452. (¬2) رواه ابن جرير 10/ 166. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا في الغارمين من هم 3/ 207، وابن جرير 10/ 166. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 456. (¬5) "الأم" 2/ 98. (¬6) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" 1/ 173، و"روضة الطالبين" 2/ 325. (¬7) في (ى): (الصدقة الصدقات)، وهذه الزيادة لا معنى لها، وليست في "معاني القرآن وإعرابه". (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 457. ومراد الزجاج أن المعنى: فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة. (¬9) "الوجيز" 6/ 546. (¬10) في (ح): (فيه).

فأما حكم هذه الآية فقال قوم: قاسم الصدقة له أن يضعها في أي هؤلاء الأصناف شاء، وإنما سمى (¬1) الله الأصناف الثمانية (¬2) إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، وهذا قول عمر وحذيفة وابن عباس وابن جبير وعطاء وأبي العالية وإبراهيم (¬3)، ومذهب أبي حنيفة (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) في (ى): أسمي، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "تفسير الثعلبي". (¬2) في (ح): الثلاثة، وهو خطأ. (¬3) روى أثر إبراهيم ومن قبله ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الزكاة، باب: ما قالوا إذا وضع الصدقة في صنف واحد 3/ 182، وابن جرير 10/ 166 - 167، وابن أبي حاتم 6/ 1817، والثعلبي 6/ 121 أ، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: قسم الصدقات، باب: من جعل الصدقة في صنف واحد 7/ 11، 12. (¬4) انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 908. وهو أيضًا مذهب الحنابلة كما في "المغني" 4/ 127. (¬5) قلت: ومن أقوى أدلة هذا القول حديث سلمة بن صخر الذي ظاهر من امرأته ثم واقعها، وفيه: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له: فليدفعها إليك)، رواه أبو داود رقم (2213)، كتاب: الطلاق، باب: في الظهار، والترمذي رقم (3299)، كتاب التفسير، باب: ومن سورة المجادلة، وابن ماجه رقم (2062)، كتاب: الطلاق، باب: الظهار، وأحمد 4/ 37، والحاكم 2/ 203، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في "إراوء الغليل" 7/ 179: (وبالجملة فالحديث بطرقه وشاهده صحيح). والشاهد فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه صدقة بني زريق كلها ولم يقسمها على الأصناف الثمانية. وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، رواه البخاري (1395)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، فلم يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم الزكاة على الأصناف الثمانية.

وكان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول: ذكر الله تعالى ثمانية أصناف فبين أن كل صنف منهم يستحق سهمه فلا يجوز حرمان صنف موجود، وكيف يجوز مع هذه القسمة (¬1) التي تولاها سبحانه ثم أكدها بقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} فإذا تولى رب المال قسمها فإن عليه وضعها في ستة أصناف [لأن سهم] (¬2) المؤلفة ساقط، وسهم العاملين (¬3) يبطل بقسمة إياها، ولا يجزئه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس، ولا يصرف منها سهم ولا شيء منه عن أهله ما دام من أهله أحد (¬4) يستحقه، ولا يخرج من بلد وفيه أهله، وترد حصة من لم يوجد من أهل السهمان على من وجد منهم) (¬5)، وهذا قول عمر (¬6) بن عبد العزيز (¬7) وعكرمة (¬8) والزهري (¬9). ¬

_ (¬1) في (ى): (التسمية). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) في (ى): الغارمين، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في كتاب: "الأم". (¬4) ساقط من (ح). (¬5) انظر: أول قول الشافعي إلى قوله (فريضة من الله) في كتاب: "الأم" 2/ 94 - 96 بمعناه، وانظر: بقية قوله في المصدر نفسه ص 106 بتصرف. (¬6) هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، أبو حفص، أمير المؤمنين، وخامس الخلفاء الراشدين، ومضرب المثل في العدل وحسن السياسة، وكان أحد الأئمة المجتهدين، توفي سنة 101هـ. انظر: "العبر" 1/ 91، و"تقريب التهذيب" ص 415 (4940). (¬7) رواه ابن أبي حاتم مفرقًا في مواضع من "تفسيره"، انظر 4/ 59 أ- 60 ب- 61 أ، وانظر أيضاً "تفسير الثعلبي" 3/ 121 ب. (¬8) ذكره الثعلبي 6/ 121 ب، والبغوي 4/ 65، وقد روى عنه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 183 مثل قول الجمهور. (¬9) ذكره الثعلبي 6/ 121 ب.

61

قال أصحابنا: (أقل عدد كل صنف ثلاثة فصاعدًا، للفظ الجمع في (¬1) الآية، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث، وهو ثلث سهم الفقراء، يضمنه لفقير واحد أو (¬2) أكثر) (¬3). وأما كيفية قسمها فهو أن تنظر فإن وجدت خمسة أصناف وقد لزمك أن تتصدق بعشرة دراهم، جعلت العشرة خمسة أسهم، كل سهم درهمان، ولا يجوز التفاضل، ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين، وأقل عددهم ثلاثة ولا تلزمك التسوية بينهم، ولك أن تعطي فقيرًا درهمًا، وفقيرًا خمسة أسداس، وفقيرًا سدس درهم، هذه صفة قسم الصدقات على مذهب الشافعي (¬4). 61 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}، قال المفسرون: (نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث (¬5) وجماعة معه، كانوا يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبلغون حديثه إلى المنافقين ويعيبونه، ويقولون فيما بينهم: نقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له ونقول: ما قلنا فيصدقنا؛ لأنه أذن، فأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} (¬6) ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) في (ح): (و). (¬3) انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" 1/ 173، و"روضة الطالبين" 2/ 329. (¬4) انظر: "الأم"، كتاب: قسم الصدقات 2/ 94 وما بعدها، و"روضة الطالبين" 2/ 330. (¬5) هو: نبتل بن الحارث بن قيس الأوسي، أخو بني عمرو بن عوف، ذكره ابن إسحاق في المنافقين، على وجه الظن من غير سند واعتمد قوله من جاء بعده. وقال الحافظ ابن حجر: (يحتمل أن يكون أبو عبيدة اطلع على أنه تاب). انظر: "السيرة النبوية" 4/ 208، و"تفسير ابن جرير" 10/ 168، و"الإصابة" 3/ 549. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 168، والثعلبي 6/ 122 أ، والبغوي 4/ 67، و"السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 208، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 254.

يعني (¬1) من المنافقين من يوذيه بنقل حديثه، وعيبه {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يسمع من كل أحد ما يقول ويقبله، وقال (¬2) الحسن: (قالوا: ما هذا الرجل إلا أذن، من شاء صرفه كيف شاء، ليست له عزيمة (¬3). وقرأ نافعٌ (أذن) بالتخفيف (¬4)، مثل عنق وظفر وطنب، وكل ذلك يجيء فيه (¬5) التخفيف، والأذن في الأصل عبارة عن جارحة مخصوصة، ويجوز أن يطلق على الجملة، ويوصف به، كما قال الخليل في الناب من الإبل: (إنه سميت به لمكان الناب البازل (¬6) فسميت الجملة كلها به (¬7)) (¬8). وكما قالوا للربيئة (¬9)، وهو عين القوم، ويجوز أن يجري الاسم وصفًا للشيء إذا وجد معنى ذلك الاسم فيه (¬10)، وذلك كما أنشد أبو عثمان (¬11): ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (قال). (¬3) ذكره عن الحسن، الشيخ هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 145، والرازي في "تفسيره" 16/ 116، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 507. (¬4) انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص 315، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 243. (¬5) في (ى): (في). (¬6) قال الجوهري في "الصحاح" (بزل) 4/ 1633: (بزل البعير يبزل بزولاً: فطر نابه، أي انشق، فهو بازل، ذكرًا كان أو أنثى وذلك في السنة التاسعة، وربما بزل في السنة الثامنة، والبازل أيضًا: اسم للسن التي طلعت). (¬7) في (ح): (بها). (¬8) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 483، و"الحجة للقراء السبعة" 4/ 199. (¬9) قال ابن فارس في "مجمل اللغة" (ربو) 2/ 417: (الربيئة: عين القوم، يكون فوق مربأ من الأرض)، ونحوه في "تهذيب اللغة" (ربا) 1/ 1334. (¬10) ساقط من (ح). (¬11) هو: بكر بن محمد، أبو عمان المازني.

مئبرة العرقوب إشفى المرفق (¬1) فوصف المرفق بالإشفى لما أراد من الدقة (¬2) والهزال، وخلاف الدرم (¬3). وقال آخر (¬4): فلولا الله والمهر المفدى ... لأبت وأنت غربال الإهاب فجعله غربالًا لكثرة الخروق فيه من آثار الطعن، فكذلك {هُوَ أُذُنٌ} أجرى على الجملة اسم الجارحة لإرادة (¬5) كثرة استعمالها (¬6) في الاصغاء بها، ويجوز أن تكون (فعلا) من أذن يأذن: إذا استمع، ويكون معناه: إنه كثير الاستماع، وفي التنزيل: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (¬7) أي استمعت، وقالوا: ائذن لكلامي: أي استمع له، وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائله، وانظر الرجز بلا نسبة في: "الخصائص" 2/ 221، 3/ 195، و"المخصص" 15/ 106، و"الممتع في التصريف" 1/ 74. والمئبر: ما رقّ من الرمل، وإبرة الفرس: ما انحد من عرقوبيه. اللسان (أبر). والإشفى: المثقب. المصدر السابق (شفا). يقول: إنها حادة العرقوب، حادة المرفق بسبب الهزال. (¬2) في (ى): (الذمة)، وهو خطأ. (¬3) الدرم في الكعب: أن يوازيه اللحم حتى لا يكون له حجم، ودرم الكعب والعرقوب والساق درمًا: استوى، والأدرم: الذي لا حجم لعظامه، وكل ما غطاه الشحم واللحم وخفي حجمه فقد درم. انظر: "اللسان" (درم) 3/ 1366. (¬4) البيت لمنذر بن حسان كما في "المقاصد النحوية" 3/ 140، وهو بلا نسبة في "الخصائص" 2/ 221، و"الدرر اللوامع" 2/ 136، و"شرح الأشموني" 2/ 362، و"لسان العرب" (غربل) 6/ 3231، و"المخصص" 15/ 106. (¬5) في (ح) و (ي): (لإرادته). (¬6) في (م): (استعماله لها). (¬7) الآية: 2 والآيه: 5 من سورة الانشقاق.

يتغنى بالقرآن" (¬1)، ومنه قول عدي (¬2): في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار (¬3) ويقوي هذا الوجه أن أبا زيد قال: رجل أُذُنٌ، ويَقَنٌ: إذا كان يصدق بكل ما يسمع (¬4)، فكما أن يَقَنٌ صفة كبطل (¬5)، كذلك أُذُن كأنُف. وقوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي مستمع خير وصلاح ومصغ إليه، لا مستمع شر وفساد، وروى الأعشى (¬6) والبرجمي (¬7): (أذنٌ ¬

_ (¬1) الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم في "صحيحه"، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، (رقم 234) 1/ 546، وبنحوه رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من لم يتغن بالقرآن، (رقم 42) 6/ 328. (¬2) هو: عدي بن زيد بن حمار العبادي التميمي، شاعر جاهلي، من دهاة العرب، كان يسكن الحيرة، ويحسن الفارسية فاتخذه كسرى ترجمانًا بينه وبين العرب، وعلماء العربية لا يرون شعره حجة لتأثره بالعجم، قتله النعمان بن المنذر نحو سنة 25 ق هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 137، 140، و"الشعر والشعراء" ص 130، و"الأعلام" 4/ 220. (¬3) البيت لعدي بن زيد كما في "ديوانه" ص 95، و"شرح حماسة التبريزي" 4/ 24، والمرزوقي ص 1451، و"اللسان" (شور) 4/ 2356. والماذي: العسل الأبيض، والمشار: المجتنى. انظر: "لسان العرب"، الموضع السابق. (¬4) "النوادر في اللغة"، له ص 321، و"الحجة للقراء السبعة" 4/ 201. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) هو: يعقوب بن محمد بن خليفة الكوفي، أبو يوسف الأعشى، أجل تلاميذ شعبة، كان قارئًا مجيدًا ضابطًا، توفي نحو سنة 200 هـ. انظر: "معرفة الاقراء الكبار" 1/ 159، و"غاية النهاية" 2/ 390. (¬7) هو: عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي التميمي، أبو صالح الكوفي، مقرئ ثقة، من تلاميذ شعبة، توفي سنة230هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 202، و"غاية النهاية" 1/ 360.

خيرٌ) (¬1) على وصف الأذن بـ (خير) ومعناه: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، و {خَيْرٍ} في القراءة الأولى بمعنى صلاح (¬2)، وفي الثانية بمعنى أصلح، قال أبو إسحاق: (من قرأ (أذنٌ خيرٌ) بالتنوين، فالمعنى: قل من يسمع منكم، ويكون قريبًا منكم، قابلًا للعذر، خير لكم (¬3). والقراءة هي الأولى؛ لأن ما بعده يؤكده، وهو قوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يسمع ما ينزله (¬4) الله جل وعز عليه (¬5) فيصدق به ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به، فهو أذن خير، لا أذن شر، وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} (يريد: يسمع كلام جبريل فينهاكم عن معاصي الله، ويأمركم بطاعته، ولتطرحوا عنكم ما علم الله في قلوبكم من النفاق) (¬6)، وقال الفراء في قوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}: أي يصدق بالله، و {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ويصدق المؤمنين أراد: لكنه لا يصدقكم إنما يصدق المؤمنين، قال: وهو كقوله: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] أي يرهبون ربهم (¬7). ¬

_ (¬1) يعني بالرفع والتنوين في الكلمتين، وقد روى هذه القراءة الأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 165، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 319، و"تفسير البغوي" 4/ 67. (¬2) في (ى): (صاد). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 457. (¬4) في (ح): (ما بين). (¬5) من (م). (¬6) هذا الأثر من رواية عطاء التي لم أعثر على مصدرها. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 444.

ويقال: آمن به وآمنه وآمن له، أي: صدقه، وقال أبو علي: اللام في {لِلْمُؤْمِنِينَ} على حدها في قوله {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] أو على المعنى؛ لأن معنى يؤمن: يصدق، فعدى باللام كما عدي مصدق به في نحو: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] (¬1). قال المفسرون (¬2): وهذا تكذيب من الله للمنافقين، كأنه قال: إن محمدًا يصدق الله ويصدق المؤمنين، قال: وهو كقوله: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]. وتكلم صاحب "النظم" في هذه الآية فأفاد، وهو أنه قال: من قرأ بترك الإضافة فقوله: {أُذُنٌ} رفع بالابتداء في الظاهر، وموضعه في الباطن نصب على الحال؛ لأن تأويله: قل هو أذنًا خير لكم، أي: إذا كان أذنًا خير لكم، و (خير) بمنزلة (أفعل) لأنه يقبل منكم ما تقولون فيما تعتذرون به، وليس ذلك راجعًا عليه بعيب، ويكون قوله: (هو) -لو ظهر- مبتدأ، وقوله تعالى: (أذنًا) (¬3) بعده حال. وقوله تعالى: {خَيْرٌ لَكُمْ} خبر للمبتدأ، كما تقول في الكلام: هو حافظًا خير لك (¬4)، [أي: في حال الحفظ خير لك] (¬5)، فلما كف -عز وجل- ذكره (هو) وضع ما بعده من الحال موضعه فصار مبتدأ، كما تقول في الكلام: هو حافظ خير لك، والعرب تضمر (هو) في الكلام، كقوله: {سَيَقُولُونَ ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 204. (¬2) القول للإمام ابن جرير، انظر: "تفسيره" 10/ 169، وانظر معناه في: "تفسير الثعلبي" 6/ 122 ب، والبغوي 4/ 67. (¬3) يعني في حالة التأويل. (¬4) في (ح): (لكم)، وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته للموضعين بعده. (¬5) ما بين المعقوفتين ساقط من (ى).

ثَلَاثَةٌ} [الكهف: 22] الآية (¬1). ومن قرأ بالإضافة في (خير) ليس على (أفعل) وتقديره (¬2) تقدير (فضل) و (نفع) [بمعنى: قل هو أذن نفع] (¬3) لكم، لما (¬4) تجدون فيه وعنده من السهولة والمسامحة فيما يبلغه عنكم، ثم بين الله -عز وجل- ذلك بقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدقهم كما قال -عز وجل-: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] أي: لا تصدقوا، والمؤمنون هاهنا: المنافقون (¬5) الذين آمنوا بألسنتهم ولم (¬6) يخلصوا بقلوبهم، فقبل - صلى الله عليه وسلم - ظاهرهم، وخلطهم بالمؤمنين في الأحكام، ومنه قوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] [فسماهن مؤمنات بإقبالهن إلى الهجرة ثم قال: {فَامْتَحِنُوهُنَّ}] (¬7) ولا يقع الامتحان إلا على من لا يُعرف إيمانه، ثم قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي بما يظهرن من الإيمان بألسنتهن. وأما قوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فهم (¬8) المخلصون؛ لأن الرحمة لا تنال إلا من أخلص إيمانه، وقد يحتمل أن يكون قوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدق المؤمنين المخلصين فأما غير المخلصين فإنه يسمع منهم ¬

_ (¬1) انظر: قول صاحب النظم في "تفسير الرازي" 16/ 117 - 118 وقال: هذا الوجه شديد التكلف. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط عن (ح). (¬4) في (ح): (ما). (¬5) في (ى): (المنافقين)، وهو خطأ. (¬6) في (ح): (وإن لم). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬8) ساقط من (ح).

ما يقولون ولا يظهر لهم التكذيب، ويكل أمرهم إلى الله -عز وجل (¬1) -، والله أعلم بما أراد من ذلك. وقوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}، قال الزجاج: (أي وهو رحمة؛ لأنه كان سبب إيمان المؤمنين) (¬2)، فجعله الرحمة لكثرة هذا المعنى منه، وعلى هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وقرأ حمزة (ورحمةٍ) بالجر (¬3)، عطفا على خير، كأنه: أذن خير ورحمة، أي مستمع رحمة، وجاز هذا كما جاز مستمع خير، ألا ترى أن الرحمة من الخير، فإنه قيل: فهلا (¬4) استغنى بشمول الخير للرحمة وغيرها عن (¬5) تقدير عطف الرحمة عليه؟ فالقول: إن ذلك لا يمتنع، كما لم يمتنع {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، ثم خص فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] كذلك الرحمة، وإن كانت من الخير، لم يمتنع أن تُعطف عليه (¬6) فتخصص (¬7) الرحمة بالذكر من بين ضروب الخير لغلبة ذلك في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثرته، قال أبو عبيد: (هذه القراءة بعيدة في مذهب ¬

_ (¬1) وهذا الوجه هو اختيار ابن جرير في تفسيره 10/ 169 حيث قال: يقول جل ثناؤه: إنما محمد - صلى الله عليه وسلم - مستمع خير، يصدق بالله وبما جاء من عنده، ويصدق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله. (¬2) اهـ. كلام الزجاج، كما في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 457. (¬3) كتاب: "السبعة" ص 315، وكتاب: "التيسير" ص 118. (¬4) في (ى): (هلا)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقة لما في "الحجة للقراء السبعة"؛ لأن النص منقول منه حرفيًّا. (¬5) في (ى): (من)، وأثبت ما في (ح) للسبب السابق. (¬6) ساقط من (ى). (¬7) في (ح): (فتخص).

62

النحو (¬1)؛ لأنه تباعد عن الذي عطفته عليه) (¬2). قال أبو علي: (البعد بين (¬3) الجار وما عطف عليه لا يمنع من العطف، ألا ترى أن من قرأ {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] إنما يحمله على: ({وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وعلم قيله (¬4)) (¬5). 62 - قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والطعن عليه أنهم بما أتوا ذلك، قال الزجاج: (حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم) (¬6). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ولم يقل: يرضوهما لأن المعنى يدل عليه، فحذف استخفافًا؛ لأن رضا الرسول - صلى الله عليه وسلم - برضا الله -عز وجل-. وهذه المسألة قد مضت عند قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وفي (¬7) غيرها من الآيات (¬8). وقوله تعالى: {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}، قال الزجاج: (أي إن كانوا ¬

_ (¬1) في (ى): (النحويين). (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 16/ 118 ولم أجد قول أبي عبيد في مصدر آخر، وانظر اختياره لقراءة الجمهور في "تفسير الثعلبي" 6/ 122 ب. (¬3) في (م): (من). (¬4) يعني أنه قد بعد ما بين المعطوف والمعطوف عليه، فإن قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} من الآية 85 من السورة نفسها. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 204. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 458 مع تصرف يسير. (¬7) ساقط من (ى). (¬8) انظر مثلاً: تفسير الآية: 20، والآية: 24 من سورة الأنفال.

63

على ما يظهرون، فكان (¬1) ينبغي ألا يعيبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكونوا بقبولهم (¬2) قوله، وترك عيبه مؤمنين (¬3)) (¬4)، وهذا تهجين لهؤلاء السفهاء بطلب مرضاة العباد مع ترك مرضاة رب العباد، والرسول المبعوث لصلاح العباد (¬5). 63 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} الآية، قال ابن عباس والكلبي: (نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك (¬6)، قال أهل المعاني: معنى قولك: ألم تعلم [لمن لا يعلم] (¬7): [الاستبطاء له] (¬8) في تخلفه عن ذلك العلم (¬9). وقوله تعالى: {أَنَّهُ} (¬10) الكناية فيه ضمير الشأن والقصة، قال أبو علي الجرجاني: (وذلك أن (أن) يتضمن ما بعده من المبتدأ والخبر، ويشتمل عليهما (¬11) حتى يصير معهما (¬12) قصة وشأنًا، مثل قولك: زيد ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) في (ى): (بقولهم)، وفي "معاني القرآن وإعرابه": بتوليهم النبي. (¬3) في (ى): (المؤمنين)، والصواب ما أثبته وهو موافق لما في "معاني القرآن وإعرابه". (¬4) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 458. (¬5) في (ى): (المبعوث من رب العباد). (¬6) ذكره عن الكلبي سببًا لنزول الآية السابقة الثعلبي 6/ 123 أ، والبغوي 4/ 68، وابن الجوزي 3/ 461، وفي "تنوير المقباس" ص 197: (ألم يعلموا): يعني جلاسًا وأصحابه. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) في (ح) و (ى): (الاستطالة). (¬9) ذكره بمعناه مع النسبة إلى أهل المعاني، الرازي في "تفسيره" 16/ 119، والخازن في "تفسيره" 2/ 238 ولم أجده في كتبهم التي بين يدي. (¬10) ساقط من (ي). (¬11) في (ح): (عليها). (¬12) في (ح): (معها)، وفي (ى): (معًا).

مريض، فإذا أردت أن تعلم غيرك مرضه قلت: اعلم أن زيدًا (¬1) مريض، ولو قلت: اعلم زيدًا مريضًا، كان العلم واقعًا على زيد نفسه دون المرض وانتقل المعنى عما كان عليه، فإذا قلت: اعلم أنه زيد مريض فقد تضمن (أن) ما بعده من المبتدأ والخبر، وجمع معناهما في الهاء التي وقع عليها (¬2) (أن) وعمل (أن) فيها، وشغل بها عن غيرها، فصارت الهاء كناية عن القصة والشأن، وارتفع ما بعدها من المبتدأ والخبر لشغلك (أن) بالهاء، وصار ما بعد الهاء من المبتدأ والخبر بيانا لما في الهاء من نية تلك القصة لأنها مبهمة، فقوله -عز وجل-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ} الهاء (¬3) قد تضمنت ما بعدها من المبتدأ وخبره، وما بعدها من قوله: {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} مبتدأ، ولذلك (¬4) جزم لأنه شرطٌ مبتدأ (¬5). وقوله تعالى: {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال الليث: (حاددته أي: عاصيته (¬6) وخالفته، والمحادة كالمجانبة والمخالفة والمعاداة، وذكر الزجاج اشتقاقه من الحد، قال: (ومعنى حاد فلان فلانًا: أي: صار في حد غير حده، كقولك: شاقه، ومعنى: {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ى): (زيد)، وهو خطأ. (¬2) في (ح): (عليهما). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) في (ح): (وكذلك)، وهو خطأ. (¬5) (من) الجازمة شرطية، وهي اسم باتفاق. انظر: "أوضح المسالك" 3/ 189. (¬6) اهـ. الكلام المنسوب لليث، انظر: "تهذيب اللغة" (حد) 1/ 760، والنص في كتاب: "العين" للخليل (حد) 3/ 20. (¬7) ذكر الزجاج بعفر معنى هذا القول في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 458، والبعض الآخر في المصدر السابق: نفسه 5/ 136.

قال ابن عباس: (يعني من يخالف الله ورسوله بتكذيب نبيه، والإظهار باللسان خلاف ما في القلب) (¬1)، وقال الأخفش: {يُحَادِدِ اللَّهَ}: يحارب الله) (¬2)، وقال قطرب: (يعاند الله) (¬3)، وقال الزجاج: (يعاد (¬4) الله) (¬5). {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [المعنى: فله نار جهنم] (¬6) ولكنه لما طال الكلام أعيد (أن) ليكون أوكد، ويجوز كسر (فإن) على الاستئناف بعد الفاء، والقراءة بالفتح (¬7)، هذا معنى كلام أبي إسحاق (¬8)، والكلام في إعراب هذه الآية يأتي (¬9) في قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 3/ 462، و"الوسيط" 2/ 507. (¬2) لم أجده، وقد ذكره من غير تعيين القائل الرازي 16/ 119 - 120، و"الخازن" 2/ 238. (¬3) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع، دون تعيين القائل. (¬4) في (م): (يضاد)، وفي "معاني القرآن": يعادي، وذكره الرازي 16/ 120 بمثل ما أثبته. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 458. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) يعني القراءة المتواترة، وقد قرأ ابن أبي عبلة وأبو رزين وأبو عمران وغيرهما بالكسر، انظر: "المحرر الوجيز" 6/ 552 - 553، و"زاد المسير" 3/ 462، و"البحر المحيط" 5/ 64. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 459 لكنه قال: (القراءة بالفتح والكسر). وكذلك قال أبو البقاء العكبري في "التبيان في إعراب القرآن" ص 423، وأنكر قراءة الكسر ابن جرير في "تفسيره" 10/ 170 - 171، ولا شك أنها شاذة، انظر التعليق السابق. (¬9) في (ح): (بأن). (¬10) انظر: "النسخة الأزهرية" 4/ 3 أحيث قال: (قال أبو إسحاق: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} (أنه) في موضع رفع {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} عطف عليه، والفاء الأجود فيها أن =

64

64 - قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} الآية، قال مجاهد والكلبي: (كان المنافقون يعيبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بينهم، يقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا، فأنزل الله هذه الآية) (¬1). وقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} إخبار عنهم بما كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم، قال الزجاج: (ويجوز أن يكون لفظه خبرًا ومعناه أمرًا) (¬2)، وهذا بعيد، وآخر الآية دليل على أن المراد بقوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} (¬3) الخبر وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}. وقوله: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} الظاهر أن الكناية عائدة على المنافقين، والوجه أن ترجع إلى المؤمنين، [والمعنى: أن تنزل على المؤمنين، (¬4) سورة تنبئهم بما في قلوب المنافقين (¬5)، [ونحو هذا قال الحسن (¬6). ¬

_ = تكون في معنى الجزاء، وجائز كسر (إن) مع الفاء، وتكون جزاء لا غير، .. وحقيقة (أن) الثانية أنها مكررة على جهة التوكيد؛ لأن المعنى: كتب عليه أنه من تولاه أضله) ثم ذكر رأي أبي علي الفارسي وأطال في ذلك. (¬1) رواه عن مجاهد بنحوه ابن جرير 10/ 171، وابن أبي حاتم 6/ 1829، والثعلي 6/ 123 أولم أجد من ذكره عن الكلبي. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 459 بنحوه. (¬3) من (ى). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) في (ى): (قلوبهم). (¬6) ذكر عن الحسن عدة أقوال بهذا المعنى، فروى عنه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 123 أأنه قال: (كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة حفرت في قلوب المنافقين فأظهرته)، وذكره عنه الهواري في "تفسيره" 2/ 147 بلفظ: (كانت تسمى حافرة، أنبأت بما في قلوب المنافقين)، وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 463: في =

وقوله تعالى: {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}] (¬1) قال ابن عباس: (يريد: ينزل الله في تلك السورة [ما استتروا به من الناس) والمعنى: يظهر] (¬2) ما في قلوبهم من الحسد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وما كانوا ينطوون (¬3) عليه من العداوة لهم. وقوله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} أمر وعيد {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} مظهر {مَا تَحْذَرُونَ} ظهوره، قال عطاء عن ابن عباس: (أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلاً فأنزل الله أسماءهم، وأسماء آبائهم وعشائرهم في القرآن، ثم نسخ تلك الأسماء رأفة منه ورحمة؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين، والناس يعير بعضهم بعضًا) (¬4)، فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهار ذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}، وقال بعضهم: (إن الله أخرج ذلك حيث ألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- معرفتهم فقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] (¬5)، قال عطاء ومقاتل وقتادة: (كانت تسمى هذه السورة الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، أثارت مخازي المنافقين وفضحتهم) (¬6) فإن قيل: أكان ¬

_ = قوله (يحذر المنافقون) قولان: أحدهما: أنه إخبار من الله -عز وجل- عن حالهم، قاله الحسن .. إلخ. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) في (ى): (ينطون)، بلا نقط في جميع الحروف. (¬4) رواه البغوي في "تفسيره" 4/ 68 بنحوه. (¬5) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 196 ولم يعين القائل، واعتمد هذا القول المؤلف في "الوسيط" 2/ 507. (¬6) رواه عن قتادة بلفظه الثعلبي 6/ 123، والبغوي 4/ 68، وبنحوه ابن جرير 10/ 171، وابن أبي حاتم 6/ 1829، وانظر: قول مقاتل في "تفسيره" 131 أمختصرًا، ولم أجد من ذكره عن عطاء.

65

المنافقون يحذرون هذا وهم ينطوون (¬1) على الكفر ومجانبة الإيمان؟. قيل: هذا لا يلزم على مذهب الزجاج، حيث جعل (¬2) قوله: (يحذر) بمعنى الأمر (¬3)، وإن جعلته خبرًا فالمنافقون كانوا ينحرفون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حسدًا له (¬4) وبغيًا، وقلوبهم تشهد بصدقه، وهم يخافون نزول سورة عليه يكشف فيها أمرهم، إذا كانوا لا يشكون في نزول الملائكة عليه، وأن الله يطلعه من الغيب على ما هو مستور عن غيره، هذا كلام ابن الأنباري (¬5)، وقد أشار الزجاج إلى هذه الجملة حيمث قال في قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ}: (ويجوز أن يكون خبرًا عنهم؛ لأنهم كانوا يكفرون عنادًا وحسدًا) (¬6). 65 - وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}، قال ابن عمر، وزيد بن أسلم والقرظي: (قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فقال له عوف بن مالك (¬7): كذبت، ولكنك منافق [لا خير فيك] (¬8)، لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهب عوف ليخبره فوجد القرآن قد ¬

_ (¬1) في (ى): (يبطنون)، بلا نقط. (¬2) في (م): (يجعل). (¬3) انظر: "معاني القرآن واعرابه" 2/ 459. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) ذكره ابن الجوزي 3/ 463 بمعناه مختصرًا، وأشار إلى أن محمد بن القاسم بن الأنباري اختاره. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 459. (¬7) هو: عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي، صحابي مشهور، من مسلمة الفتح، وقيل: إنه شهد الفتح، وكانت معه راية أشجع، توفي سنة 73 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 101، و"الإصابة" 3/ 182، و"تقريب التهذيب" ص 433 (5217). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (م).

سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عناء الطريق، قال ابن عمر: كأني انظر إليه متعلقًا بنسعة (¬1) ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو (¬2) يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه (¬3). وقال قتادة والحسن: "إن المنافقين قالوا في غزوة تبوك أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات (¬4)، فأطلع الله (¬5) نبيه على ما قالوا (¬6) " (¬7)، فقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}، قال الزجاج: (عما كانوا فيه من الاستهزاء) (¬8). ¬

_ (¬1) النسع: سير عريض، تشد به الرحال، والقطعة منه نسعة، وسمي نسعًا لطوله "القاموس المحيط"، فصل النون، باب: العين ص 766. (¬2) ساقط من (م). (¬3) ذكره عنهم بنحو هذا اللفظ الثعلبي في "تفسيره" 6/ 123 ب، ورواه عنهم ابن جرير بألفاظ مختلفة. انظر: "تفسيره" 10/ 172 - 173، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1829 - 1830. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) في (ح): (قاله). (¬7) ذكره عنهما بهذا اللفظ الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 378، ورواه عن قتادة مطولًا ابن جرير 10/ 172، وابن أبي حاتم 6/ 1830، والثعلبي 6/ 124 أ. (¬8) لم يذكر الزجاج هذا القول عند تفسير هذه الآية في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 459.

وقال غيره: هذا سؤال تأنيب كقولك للإنسان: لم فعلت هذا القبيح (¬1)؟ وكذلك قيل لهم: لم طعنتم في الدين بالباطل والزور؟ فأجابوا بما لا عذر فيه، بل هو وبال على المجيب، وهو قولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} وأصل الخوض الدخول في مائع، مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار في كل دخول فيه تلويث وأذى، فمعنى {نَخُوضُ}: أي: في الباطل من الكلام كما يخوض الركب يقطعون به الطريق، {وَنَلْعَبُ}، فأجابهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: حدوده وفرائضه {كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}. وذكر الكلبي ومقاتل بن سليمان وغيرهما في سبب نزول هذه الآية غير ما ذكرنا أولاً، وهو أنهم قالوا: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا من غزوة تبوك في مسيره، وثلاثة نفر (¬2) يسيرون بين يديه، فجعل رجلان منهم يستهزآن بالقرآن ورسول [الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) والثالث يضحك، فنزل جبريل وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمؤمنين: "أتدرون ما يتحدث به هؤلاء النفر الثلاثة (¬4)؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنهم يستهزؤن بالله ورسوله وبالقرآن، نزل علي جبريل فأخبرني بذلك، ولئن أرسلت إليهم فسألتهم مم كانوا يضحكون؟ ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب ونضحك"، ثم قال لعمار بن ياسر: "انطلق فاسألهم عما كانوا (¬5) يضحكون ¬

_ (¬1) لم أعثر فيما بين يدي من المصادر على هذا القول. (¬2) في "تفسير مقاتل": النفر الأربعة، وقد جاء في السيرة النبوية 4/ 209 تسمية اثنين منهما هما وديعة بن ثابت، ومخشي بن حمير. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) في (ح): (الثلاثة النفر). (¬5) من (م).

66

ويتحدثون، وقل لهم: [احترقتم أحرقكم الله"، فأتبعهم عمار فلحقهم، وقال لهم:] (¬1) مم تضحكون وتتحدثون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب ونضحك بيننا، فقال: صدق الله ورسوله (¬2)، احترقتم أحرقكم الله (¬3). 66 - قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا}، قال المفضل بن سلمة: (معنى الاعتذار هو أثر الموجدة، من قولهم اعتذرت المنازل إذا درست) (¬4)، يقال: مررت بمنزل معتذر بال. قال ابن أحمر في الاعتذار بمعنى الدروس: قد كنت تعرف آيات فقد جَعَلت ... أطلال إلفك بالودكاء تعتذر (¬5) وأخذ الاعتذار من هذا؛ لأن من اعتذر شاب اعتذاره بكذب (¬6) يعفي على ذنبه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (صدق رسول الله). (¬3) "تفسير مقاتل" 131 أبنحوه، وذكره بلفظ مقارب ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 464 عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه عن الكلبي مختصرًا عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 282، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 456، وروى بعضه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1830 عن كعب بن مالك، وانظر: "السيرة النبوية" 4/ 209. (¬4) اهـ. كلام المفضل، انظر: "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2368. (¬5) البيت لابن أحمر كما في "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2368، و"لسان العرب" 5/ 2859، و (ودك) 10/ 509. والودكاء: موضع، أو رملة. انظر: "لسان العرب"، الموضع السابق الأخير. والشاعر يذكر شيخوخته وزوال شبابه، إذ يقول في بيت سابق: بان الشباب وأفنى ضعفه العمر ... لله درك، أي العيش تنتظر يقول: عشت ضعف عمر رجل، فما معنى البقاء والانتظار، ثم إن الآيات والعلامات في بقايا وأطلال المكان الذي كنت آلفه قد بدأت تندرس وتزول. (¬6) في (ح): (بكدر)، وأتبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "تهذيب اللغة" (عذر).

وقال ابن الأعرابي: (اعتذرت إليه: هو قطع ما في قلبه) (¬1)، ومنه عذرة الغلام لقُلفته، وهي ما يقطع عند الختان، وعذرة الجارية سميت عذرة بالعذر وهو القطع، قاله اللحياني (¬2)، لأنها إذا خفضت (¬3) قطعت نواتها، وإذا افترعت (¬4) انقطع حاتم عذرتها، ومن هذا يقال: اعتذرت المياه إذا انقطعت، وعلى هذا معنى العذر (¬5): قطع اللائمة عن الجاني، فالقولان قريبان من السواء لأن هو أثر الموجدة قطع له. وقوله تعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، قال أبو إسحاق: (تأويله: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان) (¬6). وقوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}، قال المفسرون: (الطائفتان كانوا ثلاثة نفر هزيء اثنان وضحك واحد على ما بينا) (¬7)، فالطائفة الأولى الضاحك، والأخرى الهازئان، قال مجاهد في ¬

_ (¬1) اهـ. كلام ابن الأعرابي، انظر: "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2368. (¬2) انظر قوله في: "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2368. (¬3) الخفض للجارية: كالختان للغلام. "لسان العرب" (خفض). (¬4) في "لسان العرب" (فرع) 6/ 3395: افترع البكر: افتضها، والفرعة: دمها، وقيل له: افتراع لأنه أول جماعها. (¬5) ساقط من (ح). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 459، وقول الزجاج هذا بناء على أنهم كانوا كفارًا منافقين قبل هذا القول، لكن لفظ الآية أعم بما ذكره الزجاج، فالاستهزاء بالله أو رسوله أو شيء بما جاء به الإسلام يعد باب من أبواب الكفر الأكبر؛ لأنه يدل على الاستخفاف والاستصغار، وأساس الإيمان تعظيم الله تعالى وما يمت إليه بسبب بأقصى ما يمكن. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 173، و"الدر المنثور" 3/ 456 - 457.

قوله، تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، أقلها واحد (¬1)، وقال عطاء: أقلها اثنان (¬2). وقال أبو إسحاق: (الطائفة في اللغة: أصلها الجماعة؛ لأنها المقدار الذي يطيف بالشيء، وقد يجوز أن يقال (¬3) للواحد: طائفة يراد نفسٌ طائفة) (¬4). وقال ابن الأنباري: (العرب توقع الجمع على الواحد فتقول: خرج فلان إلى مكة على الجمال، والله تعالى يقول (¬5): {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. قال: ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفا فتدخل الهاء للمبالغة) (¬6). وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس قال: (الطائفة: الواحد فما فوقه) (¬7)، قال الكلبي: (الذي ضحك هو المعفو عنه) (¬8)، وقال محمد بن ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 18/ 69 (ط. الحلبي) وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، والبغوي في "تفسيره" 6/ 8، وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في "الدر المنثور" 3/ 457. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، والبغوي 6/ 8 (¬3) في (ى): (تكون)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن واعرابه" 2/ 460. (¬5) ساقط من (ح). (¬6) انظر: "زاد المسير" 3/ 466 مختصرًا. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 245 وسنده واهٍ؛ إذ هو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. (¬8) رواه بمعناه عبد الرزاق في"تفسيره" 1/ 2/ 282، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 456، وذكره بلفظ مقارب ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 364.

67

إسحاق: (الذي عفي عنه رجل واحد يقال له: مخشي (¬1) بن حُمير الأشجعي (¬2)، أنكر (¬3) عليهم بعض ما سمع، وجعل يسير مجانبًا لهم، فلما نزلت هذه الآية بريء من النفاق) (¬4). 67 - قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}، قال ابن عباس: (أي على دين بعض) (¬5). قال أبو علي: (أي بعضهم يلابس بعضا، ويوالي بعضا، وليس المعنى على النسل (¬6) والولادة؛ لأنه قد يكون من نسل المنافق مؤمن، ومن نسل المؤمن منافق) (¬7). وقال أبو إسحاق: (هذا يتلو قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: 56] أي ليس المنافقون من المؤمنين) (¬8). ¬

_ (¬1) في السيرة النبوية: مخشن، وقد أشار ابن هشام في موضع سابق 4/ 524 إلى الاختلاف في اسمه، وأثبت ابن حجر في "الإصابة" 3/ 391 ما ذكره المؤلف، ولم يشر إلى الخلاف، بل إن ابن جرير رواه في "تفسيره" 10/ 173 عن ابن إسحاق بلفظ المؤلف، وهذا يدل على أنه الراجح في اسمه. (¬2) هو: مخشي بن حُمير -مصغرًا- الأشجعي، كان ممن نزل فيه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} فكان ممن عفي عنه، فقال يا رسول الله: غير اسمي واسم أبي، فسماه عبد الله بن عبد الرحمن، فدعا ربه أن يقتل شهيداً حيث لا يعلم به، فقتل يوم اليمامة ولم يعلم له أثر. انظر: "السيرة النبوية" 4/ 209، و"الإصابة" 3/ 391. (¬3) في (ح): (نكر). (¬4) "السيرة النبوية" 4/ 209. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 467، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 508. (¬6) في (ح): (النسك)، وهو خطأ. (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 1/ 172. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 460.

وقال غيره من أهل المعاني: (معنى {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} يضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق (¬1)، كما تقول للإنسان (¬2): أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا ينفصل) (¬3)، وقد ذكرنا هذا عند قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25]. وقوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: بالنفاق والتثبيط عن الجهاد في سبيل الله، والتكذيب برسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬4)، وقال الضحاك: (يأمرون بالكفر بمحمد) (¬5)، ونحوه قال الزجاج (¬6). {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}، قال ابن عباس: (عن اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬7)، وقال عطاء عنه: (الإخلاص لله بنية صادقة) (¬8)، وقال الزجاج: (عن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-) (¬9). وقال الضحاك: (عن الإسلام وأداء الصدقات إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬10). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 379، والبغوي في "تفسيره" 4/ 71، دون تعيين القائل. (¬2) في (ح): (يقول الإنسان). (¬3) لم أجده عند أهل المعاني، وانظر معناه في: "تفسير الرازي" 16/ 126. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1831 من رواية علي بن أبي طلحة بلفظ: التكذيب، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 197 من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه بلفظ: (بالكفر ومخالفة الرسول). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 460. (¬7) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 197 بلفظ: (عن الإيمان وموافقة الرسول). (¬8) رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1832 من رواية علي بن أبي طلحة. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 460. (¬10) لم أجد من أخرجه فيما بين يدي من المصادر.

وقوله تعالى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}، قال ابن عباس: (عن النفقة في سبيل الله) (¬1)، وهو قول الحسن (¬2) ومجاهد (¬3). وقال قتادة: (لا يبسطونها بخير) (¬4)، وقال القرظي: (يقبضون أيديهم عن كل خير) (¬5). وقال الزجاج: (أي: لا يصدقون ولا يزكون) (¬6). والأصل في هذا أن (¬7) المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء، فقيل لمن بخل ومنع: قد قبض يده، وقد ذكرنا هذا المعنى (¬8) مستقصى في (¬9) قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] (¬10). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 3/ 467، و"تنوير المقباس" ص 197. (¬2) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 379، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 467. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 174، وابن أبي حاتم 6/ 1832، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 233. (¬4) رواه ابن جرير 14/ 338، وابن أبي حاتم 4/ 65 أ، وبنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/283. (¬5) لم أجد من ذكره فيما بين يدي من المصادر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 460. (¬7) ساقط من (ى). (¬8) ساقط من (ى). (¬9) في (ى): (عند). (¬10) انظر النسخة (ج) 2/ 61 ب وقد قال في هذا الموضع: (قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: [قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد الإمساك عن الرزق) وقال في رواية الوالبي: ليسوا يعنون بذلك أن يده موثقة، ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده) .. قال الفراء: (أرادوا ممسكة عن الإنفات والإسباغ علينا).

68

وقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، قال ابن عباس: (تركوا ما أمرهم [به من] (¬1) طاعته (¬2)، وحضهم عليه من الجهاد في سبيله، فتركهم وخذلهم في الشك في قلوبهم) (¬3)، وقال الضحاك: ([تركوا أمر الله فتركهم من كل خير) (¬4)، وقال أهل المعاني: (معناه:] (¬5): تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي بالسهو عنه، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته، وجاء هذا على مزاوجة الكلام) (¬6). {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: العاصون الله (¬7) والخارجون عن أمره وطاعته. 68 - قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} الآية، يقال: وعده بالخير وعدًا، ووعده بالشر وعيدًا، وقوله تعالى: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} [العامل في الحال محذوف بتقدير: أن يصلوها (¬8) {خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} (¬9)، قال الزجاج وغيره: (هي كفاية (¬10) ذنوبهم، ووفاء ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (بطاعته). (¬3) رواه بنحوه ابن أبي حاتم 6/ 1832 وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 458، ولفظ ابن أبي حاتم: (تركوا الله فتركهم من ثوابه وكرامته). (¬4) رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 458. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) انظر موضوع مزاوجة الكلام وتشابه الألفاظ مع اختلاف المعنى في: "تأويل مشكل إعراب القرآن" ص 277، و"الحجة للقراء السبعة" 1/ 315. (¬7) في (ى): (لله). (¬8) في (ح): (أي يصلونها). (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬10) في (ى): (كناية)، والصواب ما في (ح) و (م).

69

لجزاء عملهم، كما يقال: عذبتك حسب فعلك، وحسب فلان ما نزل به، أي ذلك على قدر فعله) (¬1) (¬2). 69 - قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هذا الرجوع من الخبر إلى الخطاب، قال الفراء: (فعلتم كأفعال الذين من قبلكم) (¬3)، يعني أن قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} وصف لهم بهذه الأفعال، ثم قال: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي فعلتم هذه الأفعال [كأفعال الذين من قبلكم] (¬4) فيكون المعنى على حذف المضاف، وقال الزجاج: (موضع الكاف نصب، أي وعدهم الله -عز وجل- على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم (¬5)) (¬6)، فعلى هذا: قوله: {كَالَّذِينَ} أي: كوعد الذين، والكاف متعلق بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ}. وقال غيره (¬7): (شبه المنافقون في عدولهم عن أمر الله للاستمتاع بلذات الدنيا بمن قبلهم) فعلى هذا: الكاف في محل الرفع بأنه خبر (¬8) ابتداء محذوف على تقدير: أنتم كالذين من قبلكم (¬9). قال ابن عباس: (يريد الأمم الخالية) (¬10). ¬

_ (¬1) في (ح): (فعلك). وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "معاني القرآن وإعرابه". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 460. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 446. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) في المصدر التالي: قبلهم. وهو أولى لتناسق الضمائر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 460. (¬7) هو الحوفي في "البرهان" 11/ 233 أ. (¬8) في (ح): (في خبر). (¬9) هذا أحد قولي الزمخشري في "كشافه" 2/ 201، وانظر: "تفسير القرطبي" 8/ 200، و"البحر المحيط" 5/ 68 (¬10) رواه بمعناه ابن جرير 10/ 176، وابن أبي حاتم 6/ 1834.

وقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ}، قال: (يريد: بنصيبهم في الدنيا) (1)، قال الفراء: (يقول رضوا بنصيبهم في الدنيا من (2) أنصبائهم (3) في الآخرة) (4)، وقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} يعني: أن هؤلاء استمتعوا بنصيبهم من الخير العاجل، وباعوا بذلك الخير الآجل فهلكوا بشر استبدال، وقال الفراء: (أي أردتم ما أراد الذين من قبلكم) (5). وقوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، قال: يريد: كخوضهم الذي خاضوا (6)، فـ (الذي) صفة مصدر محذوف، دل عليه الفعل، قال ابن عباس: (يريد في الطعن علي أنبيائهم)، وقال أهل المعاني: (يعني في كل باطل؛ لأن الخوض الدخول فيما يؤدي إلى تلويث صاحبه). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي: بطلت حسناتهم في الدنيا بأنها لا تقبل منهم، وفي الآخرة بأنهم لا (7) يثابون عليها، وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد في الدنيا مقتهم المؤمنون، وفي الآخرة العذاب والخزي) (8)، ويروى عنه: الخاسرون أنفسهم ومنازلهم وخدمهم في الجنة، وورثها المؤمنون) (8).

_ (1) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص198، وذكره ابن الجوزي 3/ 467. (2) ساقط من (ى). (3) في (ح): (أصابهم). (4) "معاني القرآن" 1/ 446. (5) المصدر السابق: السابق، نفس الموضع. (6) اهـ. كلام الفراء، المصدر السابق، نفس الموضع، وانظر: "المسائل العضديات" ص 170، حيث نسب هذا التقدير للبغداديين أيضاً. (7) ساقط من (ح). (8) لم أقف عليه.

70

70 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية، احتج الله -عز وجل- على الكفار والمنافقين بالكفار الماضية، أي أنهم إذا هلكوا بعلة التكذيب فلم يأمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم؟ قال الزجاج: (أي ألم يأتهم خبر الذين أهلكوا في الدنيا بذنوبهم (¬1) فيتعظوا؟) (¬2) وهذا الاستفهام للتنبيه والتحذير والتوبيخ. وقوله تعالى: {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ}، قال ابن عباس: (يريد: نمرود بن كنعان (¬3)) (¬4). وقوله تعالى: {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} مدين (¬5): اسم البلد الذي كان فيه قوم شعيب [قال المفسرون: يعني قوم شعيب] (¬6) أهلكوا بعذاب يوم الظلة (¬7). وقوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قال المفسرون: يعني (¬8) قريات قوم لوط (¬9)، وهي جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب (¬10)، ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 461. (¬3) يقال: إنه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وكان أحد ملوك إلى الدنيا، وقد طغا وبغى وتجبر، وادعى الربوبية، وأنكر الخالق جل جلاله وسعى لإحراق إبراهيم -عليه السلام-، ويذكر أن سبب هلاكه بعوضة دخلت في منخره. والله أعلم. انظر: "تاريخ ابن جرير" 1/ 233 - 242، و"البداية والنهاية" 1/ 148. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 468، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 509. (¬5) ساقط من (ح). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 177، والثعلبي 6/ 126 أ، والبغوي 4/ 72. (¬8) ساقطة من (ى). (¬9) انظر المصادر السابقة، نغسر المواضع. (¬10) قال ابن فارس: أئتفكت البلدة بأهلها: انقلبت. "مجمل اللغة" (أفك) 1/ 99.

71

وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بأهلها (¬1) فصار أعلاها أسفلها و (المؤتفكات) معطوفة على (مدين) يعني: وأصحاب المؤتفكات. ويقال: أفكه فائتفك أي: قلبه فانقلب (¬2). وقوله تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، قال عطاء عن ابن عباس: (لوط وحده) (¬3) فعلى هذا قال المفسرون: (كان لوط قد بعث في كل قرية رسولاً يدعوهم إلى الله) (¬4)، ويجوز أن يكون هذا من الجمع الذي أريد به الواحد كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] ولم يكن في عصره سواه رسول، وقال آخرون: (الكناية في الرسل تعود إلى جميع الأمم المذكورة) (¬5). وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد ليهلكهم حتى يبعث إليهم نبيا ينذرهم) (¬6) {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [قال أبو إسحاق: (أعلم الله -عز وجل- أن تعذيبهم كان باستحقاقهم وأن ذلك عدل منه) (¬7)] (¬8). 71 - قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، قال ابن ¬

_ (¬1) من (ى). (¬2) انظر: "لسان العرب" (أفك) 1/ 97. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ذكر هذا التوجيه ابن جرير 10/ 178، والقرطبي 8/ 202، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 70. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 178، وابن الجوزي 3/ 468، وهود بن محكم 2/ 150، واستظهر هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 458. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 468، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 509. (¬7) "معاني والقرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 461. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

عباس: (يريد في الرحمة والمحبة) (1). قال أبو علي: (المعنى فيه أن بعضهم يوالي بعضًا ولا يبرأ بعضهم من بعض كما يبرؤون ممن خالفهم وشاقهم، ولكنهم يد واحدة في النصرة والموالاة، فهم أهل كلمة واحدة لا يفترقون، ومن ثم قالوا في خلاف الولاية: العداوة، ألا ترى أن العداوة من عدا الشيء: إذا جاوزه، فمن ثم كانت (2) خلاف الولاية) (3). وقوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، قال ابن عباس: (بأنه لا إله إلا الله) (4) {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يريد: عن الشرك بالله) (4)، قال أبو العالية: (كل ما ذكر الله في كتابه من الأمر بالمعروف فهو الدعاء إلى الإسلام، والنهي عن المنكر: النهي عن عبادة الأوثان) (5). وقال بعض أهل المعاني: [ذكر الله المنافقين] (6)، فقال: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} وذكر المؤمنين فقال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وذلك أن المعنى في المنافقين: أن بعضهم يضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق، ولا يكون بينهم موالاة؛ لأن قلوبهم تكون مختلفة، ولا تكون كقلوب المؤمنين في التواد والتعاطف) (7).

_ (1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 509، ورواه بمعناه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 459. (2) في (ح): (كأنه)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (3) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 233. (4) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 198. (5) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 179، والثعلبى 6/ 126، والفيروزأبادي ص 198. (6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (7) ذكر هذا القول بنحوه القرطبي في "تفسيره" 8/ 203، وبمعناه ابن عطية في "المحرر الوجيز" 3/ 58، ولم ينساه لأحد.

72

72 - قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد قصور الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام) (¬1)، ونحوه قال الحسن (¬2). وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، قال الأزهري: (العدن مأخوذ من قولك: عدن فلان بالمكان إذا أقام به يعدن عدونًا، قال ذلك أبو زيد وابن الأعرابي. وقال شمر: تقول العرب: تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه، قال: ومنه المعدن لإنبات الله -عز وجل- الجوهر فيه وإنباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت) (¬3)، ونحو هذا قال أبو عبيدة وغيره من أهل اللغة: (إن معنى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: جنات إقامة) (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 509، كما ذكره من غير نسبة القرطبي في "تفسيره" 8/ 204، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 71. (¬2) روى ابن جرير في "تفسيره" 10/ 179، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1839 - 1840 أثرًا نحو هذا الأثر عن الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي سنده جسر بن فرقد، قال البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 246: (ليس بذاك) وذكره الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكون"، رقم (146) ص 171، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 106 بعد أن ساق الخبر: رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه: جسر بن فرقد، وهو ضعيف، وقد وثقه سعيد بن عامر، وبقية رجال الطبراني ثقات. (¬3) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (عدن) 3/ 2362 - 2363 وقد تصرف الواحدي في عبارته. (¬4) انظر: قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 263، وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" (العدن) ص 156، و"مجمل اللغة" (عدن) 3/ 652.

قال ابن مسعود: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: (بطنان الجنة) (¬1)، قال الأزهري: (وبطنانها وسطها، وبطنان الأودية: المواضع التي يستنقع فيها ماء السيل فيكرُم نباتها واحدها بطن) (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: (هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن) (¬3). وقال الضحاك: (هي مدينة الجنة، وفيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها) (¬4). [وقال مقاتل والكلبي: (عدن: أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم، والجنان حولها] (¬5) محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها (¬6) أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض) (¬7). وقال عبد الله بن عمرو (¬8): (إن في الجنة قصرًا يقال له: عدن، حوله ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 181، وابن أبي حاتم 6/ 1840. (¬2) "تهذيب اللغة" (عدن) 3/ 2362 - 2363. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 510، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 469، ورواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 127 أعن عطاء. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 182، والثعلبى 6/ 127 أ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬6) في (ى): (يتركها)، وهو خطأ مخالف للنسختين الآخرين ولمصادر تخريج الأثر التالية. (¬7) رواه عنهما الثعلبي في "تفسيره" 6/ 127 أ، والبغوي 4/ 73، وهو في "تفسير مقاتل" ص 132 أمختصرًا. (¬8) في (ح): (عمر). وما أثبته موافق لمصادر تخريج الأثر.

البروج والمروج (¬1)، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمس آلاف حبرة (¬2)، لا يدخله (¬3) إلا نبي أو صديق أو شهيد) (¬4)، فعلى قول المفسرين وأهل الأثر: جنات عدن مخصوصة من سائر الجنات، كما ذكرنا (¬5)، وعلى قول أهل اللغة: هي عامة؛ لأن الجنات كلها جنات إقامة، إذ أهلها مخلدون فيها لا يظعنون عنها. وقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، قال ابن عباس: (أي أكبر مما يوصف) (¬6)، وقال أبو إسحاق: (أي أكبر مما هم فيه من النعيم) (¬7)، وقال أهل المعاني: (إنما صار الرضوان أكبر من الثواب؛ لأنه لا يوجد شيء منه إلا بالرضوان، إذ هو الداعي إليه، والموجب له) (¬8)، وقال الحسن: (لأن ما يصل إلى قلبه من السرور برضوان الله -عز وجل- أكبر من جميع ذلك) (¬9). ¬

_ (¬1) في (ى): (المروح)، وفي (م): (البرج)، وفي "تفسير الطبري" (في كلا الطبعتين): (الروح). وما أثبته من (ح) وهو موافق لما في "تفسير الثعلبي والبغوي". (¬2) الحبرة: بكسر الحاء وفتح الباء، وبفتحهما: ضرب من برود اليمن منمر، والحبرة: الوشي، والحبير من البرود: ما كان موشيًا مخططًا. "لسان العرب" (حبر) 2/ 749، فكأن المراد: على كل باب ستور موشية، وفي (م): (خيرة). (¬3) في (ح): (لا يدخلها)، وما أثبته موافق لما في مصادر التخريج. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 182، والثعلبى 6/ 126 ب، والبغوي 4/ 73. (¬5) في (ح) و (ى): (ذكروا). (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 469، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 511. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 461. (¬8) ذكره نحوه مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 469، ولم أقف عليه عند أهل المعاني. (¬9) ذكره بنحوه هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 152.

73

73 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: (أمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان) (¬1)، وزاد عطاء عنه بيانًا فقال: (يريد جاهد الكفار بالسيوف والرماح والنبل، والمنافقين باللسان وشدة الانتهار وترك الرفق) (¬2)، ونحو هذا قال ابن جريج والضحاك: (بتغليظ الكلام) (¬3). وقال عبد الله (¬4) في قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فمن لم يستطع فليكفهر في وجهه (¬5) إذا لقيه (¬6). قال أبو إسحاق: (لما كشفت حال المنافقين أمر بجهادهم، والمعنى: جاهدهم بالحجة، فالحجة على المنافق جهاد لهم) (¬7)، وعلى هذا الاحتجاج على المنافقين والملحدين والرادين للكتاب (¬8) والسنة، والمخالفين لهما من الجهاد. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 10/ 183، وابن أبي حاتم 6/ 1841 - 1842، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي كما في "الدر المنثور" 3/ 462. (¬2) ذكر بعض هذا الأثر ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 470، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 512. (¬3) رواه عنهما الثعلبي 6/ 127 ب، ورواه عن الضحاك أيضًا البغوي 4/ 74، وبمعناه ابن جرير 10/ 183، وابن أبي حاتم 6/ 1842. (¬4) يعني ابن مسعود كما في مصادر تخريج قوله. (¬5) فليكفهر في وجهه: أي ليلقه بوجه عابس قطوب لا طلاقة فيه ولا انبساط. انظر: "لسان العرب" (كفهر) 7/ 3907. (¬6) رواه ابن جرير 10/ 183، وابن أبي حاتم 6/ 1841، والثعلبي 6/ 127 ب، والبغوي 4/ 74، وانظر: "الدر المنثور" 3/ 462. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 461. (¬8) في (ح): (الكتاب).

74

وقوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يقال: غلظ الشيء يغلظ غلظا في الخلقة، ثم يقال: رجل غليظ: إذا كان فظا، وغلظ له القول وأغلظ: إذا لم يرفق به، وهذا نحو قوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، قال أهل المعاني: (وهي قوة القلب على إحلال الألم بصاحبه، كما (¬1) أن الرقة ضعف القلب عن ذلك) (¬2). قال ابن عباس: (يريد شدة الانتهار، والنظر بالبغضة، والمقت) (¬3). وقال ابن مسعود: (هو أن تكفهر في وجوههم) (¬4)، قال عطاء: (وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصفح) (¬5). 74 - قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية، نزلت حين بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المنافقين يسيؤون فيه القول ويطعنون فيه، وفي الدين والقرآن، فأنكر ذلك عليهم فحلفوا ما قالوا فكذبهم الله تعالى فقال: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (¬6) يعني سبهم الرسول، وطعنهم في الدين، وقال قتادة: (قالوا (¬7): {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: ¬

_ (¬1) في (ى): (على). (¬2) "البرهان" للحوفي 11/ 234 مختصرًا. (¬3) "زاد المسير" 3/ 470. (¬4) سبق تخريجه عند تفسير أول هذه الآية. (¬5) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 127 ب، والبغوي 4/ 74، وذهب إلى هذا القول القرطبي في "تفسيره" 8/ 205، والصواب عدم النسخ، وقد سبق بيان ذلك وذكر أقوال بعض العلماء عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 185، والثعلبي 6/ 127 ب، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 256. (¬7) ساقطة من (ي).

8] فسعي بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعاهم فحلفوا ما قالوا) (¬1)، وكان هذا في غزوة تبوك (¬2)، وقال السدي: (قالوا: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجًا يباهي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬3). وقوله تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}، قال ابن عباس ومجاهد: (هم المنافقون بقتل المؤمن الذي أنكر عليهم طعنهم في الرسول (¬4)، قال (¬5): وهو عامر بن قيس (¬6) الذي سعى بهم، وقال السدي: (هو أنهم لم ينالوا ما ¬

_ (¬1) رواه بنحوه ابن جرير 10/ 186، وابن أبي حاتم 6/ 1842 - 1843، والثعلبي 6/ 12 ب. (¬2) قوله: (وكان هذا في غزوة تبوك) ليس من كلام قتادة وفيه نظر؛ لأن القائل: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) عبد الله بن أُبي كما في "صحيح البخاري" (3518)، كتاب: المناقب، باب: ما ينهى عن دعوى الجاهلية، و"صحيح مسلم" (2772)، كتاب: صفات المنافقين، وقد بين الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 6/ 547 أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وكذلك ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" 3/ 334 - 336 ثم إن أبيا كان ممن تخلف عن غزوة تبوك، كما في المصدر السابق 4/ 407 - 208. (¬3) رواه الثعلي في "تفسيره" 6/ 12 ب، وبنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1843 - 1844. (¬4) ذكره عن ابن عباس -رضي الله عنه- ابن الجوزي 3/ 470، ورواه الثعلبي 6/ 128 أعن الكلبي، كما رواه عن مجاهد الإمام ابن جرير 10/ 187، وابن أبي حاتم 6/ 1854، والثعلبي 6/ 12 ب، والبغوي 4/ 75. (¬5) ساقط من (ى): والقائل ابن عباس كما في تفسير الثعلبي وابن الجوزي، ولم يصح عنه لأنه من رواية الكلبي. (¬6) هكذا رواه الكلبي عن ابن عباس، وقد روى ابن أبي حاتم 6/ 1843، 70/ أعن ابن عباس، وكعب بن مالك أن المؤمن هو: عمير بن سعد، وكذلك أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن عروة، كما في "الدر المنثور" 4/ 464، وانظر: "السيرة النبوية" 4/ 208، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 2/ 256: =

هموا به من عقد التاج على رأس عبد الله بن أبي) (¬1)، وقال الكلبي: (هموا أن يفتكوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً ويغتالوه فأعلمه الله ذلك فأمر من نحاهم عن طريقه وسماهم رجلاً رجلاً، وكانوا خمسة عشر رجلاً) (¬2)، وهذا اختيار أبي إسحاق (¬3). وقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قال ابن عباس: (يريد مما كانوا غنموا حتى صارت لهم العقد (¬4) والأموال من العين (¬5) والحيوان) (¬6). ¬

_ = (عامر بن قيس الأنصاري، ابن عم الجلاس بن سويد، ذكره موسى بن عقبة في "المغازي"، وأنه أحد من سمع الجلاس بن سويد يقول: إن كان ما يقول محمد حقًا لنحن شر من الحمر، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فحلف الجلاس ما قال ذلك، فنزلت {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} الآية، وكذلك ذكره أبو الأسود عن عروة، ونقله الثعلبي عن قتادة والسدي، والقصة مشهورة لعمير بن سعد). وعمير بن سعد هو: عمير بن سعد بن عبيد الأوسي الأنصاري، كان يتيمًا في حجر الجلاس بن سويد، وشهد فتوح الشام، وكان يعجب عمر بن الخطاب، ويسميه نسيج وحده، وولاه حمص، فقام بعمله خير قيام مع الزهد والورع، وتوفي في خلافة عمر وقيل غير ذلك. انظر: "سير أعلام النبلاء" 2/ 103، و"الإصابة" 3/ 32. (¬1) رواه بمعناه الثعلبي 6/ 12 ب. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 12 ب، وذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 512. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 461. (¬4) في"تهذيب اللغة" (عقد) 3/ 2512. العقد: كل ما يعتقده الإنسان من العقار فهو عقدة له. وفي "القاموس المحيط" فصل العين، باب: الدال ص300: العقدة: الولاية على البلد، ج: كصرد، والضيعة والعقار الذي اعتقده صاحبه ملكًا. (¬5) العين: الدينار والذهب. انظر: "القاموس المحيط" (عين) ص 1218، و"لسان العرب" (عين) 6/ 3198. (¬6) ذكره المؤلف فى "الوسيط" 2/ 512

وقال الكلبي: (كانوا قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم-، في ضنك من عيشهم لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، استغنوا بالغنائم) (¬1)، وذكرنا معنى {نَقَمُوا} عند قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] (¬2). قال أهل المعاني في هذه الآية: (إنهم عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر الغني أن نقموه فهذا معنى قوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ} (¬3) ويجوز أن يكون المعنى: إنهم بطروا النعمة (¬4) بالغني فنقموا بطرُا وأشرًا (¬5)، وقال ابن قتيبة: (أي: ليس ينقمون شيئًا ولا يتعرفون من الله إلا الصنع (¬6)، [وهذا كقول الشاعر: ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا] (¬7) وهذا ليس مما ينقم، وإنما أراد: إن الناس لا ينقمون عليهم (¬8) شيئا كقول النابغة: ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 129 أ، والبغوي 4/ 75، وذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 512، وابن الجوزي 3/ 472، والقرطبي 8/ 208. (¬2) انظر: النسخة (ح) 2/ 40 أوقد قال في هذا الموضع: (قوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} يقال: نقمت على الرجل أنقم، ونقمت عليه أنقم، والأجود فتح الماضي، وهو الأكثر في القراءة، قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8] ومعنى نقمت: بالغت في كراهة الشيء، فمعنى (تنقمون) أي تكرهون وتنكرون). (¬3) "البرهان" للحوفي 11/ 245 بمعناه. (¬4) في (ح): (ذو النعمة). (¬5) في (ى): (شرًّا). (¬6) في (ح): (لصنيع)، وما في (ى) موافق لما في "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة، والصنع: مصدر قولك: صنع إليه معروفًا وجميلًا. انظر: "اللسان" (صنع). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) والبيت لابن قيس الرقيات. (¬8) في (ح): (عليه)، وما أثبته موافق لما في "تفسير غريب القرآن".

ولا عيب فيهم غير إن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب (¬1) أي ليس فيهم عيب) (¬2). وقوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}، قال الكلبي: (لما نزلت هذه الآية قام (¬3) الجلاس بن سويد (¬4)، وكان ممن طعن علي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: أسمع الله قد عرض علي التوبة، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه بما قلته فقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توبته) (¬5)، ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا عن الإيمان، قال ابن عباس: ([يريد كما تولى ابن أبي) (¬6). {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالقتل، قال الزجاج] (¬7): (لأنهم (¬8) أمر بقتلهم) (¬9) وفي {الْآخِرَةِ}: بالنار، {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، قال عطاء: (يريد لا يتولاهم أحد من الأنصار) (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان النابغة الذبياني" ص 44، و"إصلاح المنطق" ص 29، و"خزانة الأدب" 3/ 327. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 198. (¬3) في (ى): (قال). (¬4) هو: جلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري، كان من المنافقين ثم تاب وحسنت توبته، وكان زوج أم عمير بن سعد، وكان عمير في حجره، فسمعه يقول: لئن كان محمد صادقًا لنحن شر من الحمير، فبلغ عمير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل في الجلاس قرآن، ثم تاب وأحسن لعمير. انظر: "الاستيعاب" 1/ 330، و"الإصابة" 1/ 241. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 128 أ، والبغوي 4/ 74. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 472، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 512. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬8) في (م): (لأنه). وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬9) اهـ. كلام الزجاج، و"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 462، وعذاب الله في الدنيا أشمل من القتل، ولعل مراد الزجاج أن المنافق إذا أظهر كفره جاز قتله. (¬10) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 512 عن ابن عباس.

75

75 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية، المعاهدة: معاقدة بعزيمة تتحقق بذكر الله، نحو: علي عهد (¬1) الله لأفعلن كذا، قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: (أتى ثعلبة بن حاطب (¬2) مجلسًا من الأنصار ¬

_ (¬1) في (ح): (عبد)، وهو خطأ جلي. (¬2) هو: ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف الأوسي الأنصاري صحابي جليل شهد بدرًا وأحدًا، واختلف في وفاته فقيل: إنه قتل يوم أحد، وقيل: يوم خيبر، وقيل: مات بعد ذلك، وهو بريء من هذه القصة المفتراة، وللعلماء في تبرئته منها طريقتان: الأولى: بيان زيف هذه القصة، وهذا دليل على براءة هذا الصحابي البدري منها، وسيأتي بيان ذلك. الثانية: أن صاحب هذه القصة رجل آخر غير البدري موافق له في الاسم، وهذا رأي الحافظ ابن حجر حيث ذكر في "الإصابة" 1/ 198 رجلين بهذا الاسم، أحدهما البدري، والآخر صحاب القصة وهو ممن شارك في بناء مسجد الضرار، ثم قال: (وفي كون صاحب القصة إن صح الخبر ولا أظنه يصح هو البدري قبله نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: (إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضًا أن ابن مردويه روى في "تفسيره" من طريق عطية عن ابن عباس في الآية المذكورة، قال: وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسًا فأشهدهم فقال: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الآية، فذكر القصة بطولها، فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب، والبدري اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية"، وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقًا في قلبه، وينزل فيه ما نزل؟ فالظاهر أنه غيره). ومحاولة الحافظ ابن حجر إثبات شخصية تلصق بها القصة إنما هو لتبرئة البدري، وهو بريء منها دون هذه المحاولة التي لم تستند إلى برهان علمي لما يأتي: 1 - أن الحافظ ابن حجر قال في الكلام السابق: (إن صح الخبر وما أظنه يصح)، وجزم بعدم صحته في "تخريج أحاديث الكشاف" فقال: (هذا إسناد ضعيف جداً) اهـ. والخبر الضعيف جدًا لا يثبت شيئاً. =

فأشهدهم وقال: (لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فابتلاه الله، فلم يف بما قال) (¬1). ¬

_ = 2 - أن حديث ابن عباس الذي ذكره باطل كما سيأتي، فكيف يؤكد المغايرة بين الشخصين. 3 - أن ابن الكلبي -وهو هشام بن محمد المؤرخ النسابة- متروك. انظر: "المغني في الضعفاء" 2/ 711 بل متهم بالوضع والاختلاق، كما في كتاب "التنبيه على حدوث التصحيف" ص 118، 119 فخبر مثله لا يؤكد شيئًا ولا يقويه. وبهذا يتأكد أنه لا يوجد إلا شخص واحد بهذا الاسم، وقد جزم بذلك الإمام الذهبي فلم يذكر في كتابه "تجريد أسماء الصحابة" 1/ 66 سوى البدري، ونسبة القصة إليه محض اختلاق كما سيأتي بيان ذلك. (¬1) الأثر عن ابن عباس رواه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 189، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1847، بسند مسلسل بالضعفاء وبعضهم أشد ضعفًا من بعض، ومنهم: أ- الحسين بن الحسن بن عطية العوفي، قال ابن معين والنسائي وأبو حاتم: ضعيف، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا يتابع عليها .. لا يجوز الاحتجاج بخبره، وقال الجوزجاني: واهي الحديث، وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث. انظر: "تاريخ بغداد" 8/ 29، وضعفاء العقيلي 1/ 250، و"المجروحين" لابن حبان 1/ 246، و"الكامل" 3/ 237 (492)، و"طبقات ابن سعد" 7/ 331، و"لسان الميزان" 2/ 278. ب- الحسن بن عطية بن سعد العوفي، قال ابن حبان في كتاب "المجروحين" 1/ 234: (منكر الحديث، فلا أدري البلية في أحاديثه منه أو من أبيه أو منهما معًا؟ لأن أباه ليس بشيء في الحديث، وأكثر روايته عن أبيه، فمن هنا اشتبه أمره، ووجب تركه). وقال البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 301: (ليس بذاك). وقال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص 162 (1256): (ضعيف). جـ- عطية بن سعد العوفي قال ابن حبان في كتاب "المجروحين" 2/ 176: (لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب) اهـ. =

وقال أبو أمامة الباهلي: (عاود ثعلبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرارًا كل ذلك يقول: ادع الله أن يرزقني مالاً ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" حتى قال: والذي بعثك بالحق نبيًا (¬1) لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ارزق ثعلبة مالًا" فاتخذ غنمًا وكثر ماله حتى اشتغل به عن الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخرج عن المدينة، ومنع الزكاة، وبلغ من أمره ما قص الله في كتابه) (¬2). ¬

_ = ومن عجائبه أنه كنى الكلبي المتهم بالكذب أبا سعيد، ثم حدث عنه بهذه الكنية فيتوهم من يسمعه أنه يحدث عن أبي سعيد الخدري، ذكر ذلك عنه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 3/ 114، ثم ذكر من ضعفه ومنهم علي بن المديني وأحمد وأبو داود والساجي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن عدي، وشذ ابن سعد فقال: (ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة ومن الناس من لا يحتج به). وبهذا يتبين أن خبر ابن عباس هذا ضعيف جدًّا. وأما أثر سعيد بن جبير فقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 130 ب بغير سند، إذ أن الثعلبي ذكر أسانيده في المقدمة ولم يذكر سنده إلى سعيد بن جبير. وأما أثر قتادة فقد رواه ابن جرير 10/ 190 بلفظ: (ذكر لنا أن رجلاً من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار فقال: لئن آتاه الله مالاً ليؤدين إلى كل ذي حق حقه، فأتاه الله مالاً فصنع فيه ما تسمعون). وفي هذا الأثر مجهول، إذ لم يسم قتادة من حدثه به، ثم إنه ليس في هذا الأثر ذكر لثعلبة ولا لغيره. (¬1) ساقط من (ى). (¬2) هذا بعض أثر طويل رواه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 189، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 289، والطبراني في "المعجم الكبير" 8/ 260 رقم (7873)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1847 - 1849، وغيرهم كما في "الدر المنثور" 3/ 467 وفي سنده عدة رجال مجروحين منهم: أ- معان بن رفاعة السلامي الدمشقي، وثقه أحمد وعلي بن المديني ودحيم، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن معين: ضعيف، وقال الجوزجاني: ليس بحجة، وقال ابن حبان: منكر الحديث، يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = مجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلما صار الغالب في رواياته ما ينكره القلب استحق ترك الاحتجاج به، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. ولخص الحافظ ابن حجر حاله فقال في "التقريب": (لين الحديث، كثير الإرسال). انظر ترجمته في: "الضعفاء" للعقيلي 4/ 256، و"الكامل" 8/ 1808، و"الميزان" 5/ 259 (8619)، و"تهذيب التهذيب" 4/ 104. ب- علي بن يزيد الألهاني الشامي، قال البخاري: (منكر الحديث) وقال النسائي: (متروك) وكذلك قال الأزدي والدارقطني والبرقي، وقال الحاكم أبو أحمد: (ذاهب الحديث) وقال الساجي: (اتفق أهل العلم على ضعفه). وقال ابن حبان: (إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم) اهـ. وعلق الحافظ ابن حجر على هذا القول بقوله: (وليس في الثلاثة من اتهم إلا علي بن يزيد). انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 3/ 301، و"الكامل" 6/ 1338، و"المجروحين" 2/ 110، و"تهذيب التهذيب" 3/ 199، 334. جـ- القاسم بن عبد الرحمن الشامي أبو عبد الرحمن الدمشقي، كان عابدًا متقشفًا وثقه البخاري وابن معين والترمذي وغيرهم، وقال الإمام أحمد: (منكر الحديث، ما أرى البلاء إلا من قبل القاسم)، وقال ابن حبان: (يروي عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعضلات، ويأتي عن الثقات بالأشاء المقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها). انظر: "الضعفاء" للعقيلي 3/ 476، و"المجروحين" 2/ 211، و"تهذيب التهذيب" 8/ 280. وبهذا يتين تهافت هذا الخبر، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 108 (فيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك). وقال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشافي" ص 77: (رواه الطبراني والبيهقي في "الدلائل" و"الشعب" وابن أبي حاتم، والطبري وابن مردويه كلهم من طريق علي ابن يزيد الألهانى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، وهذا إسناد ضعيف جداً). =

وقوله تعالى: {لَنَصَّدَّقَنَّ}، قال الزجاج: (الأصل: لنتصدقن ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها) (¬1). قال الليث: (المتصدق: المعطي والمتصدق: السائل) (¬2)، وأنكر ذلك (¬3) أهل اللغة، ولم يجيزوا أن يقال للسائل: متصدق، قال ذلك الفراء (¬4) والأصمعي (¬5) وغيرهما، فالمتصدق المعطي، قال الله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]. وقوله تعالى: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم، والنفقة في الخير، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد الحج) (¬6)، لأن ثعلبة كان مسكينًا فعاهد الله لئن وسع الله عليه (¬7) ليصدقن وليحجن. ¬

_ = وقال القرطبي في "تفسيره" 8/ 210: (ثعلبة بدري أنصاري، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان .. فما روي عنه غير صحيح). وقال العلامة محمود شاكر في تعليقه على "تفسير ابن جرير" 14/ 373: (ضعيف كل الضعف، وليس له شاهد من غيره، وفي بعض رواته ضعف شديد). (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 462. (¬2) "تهذيب اللغة" (صدق) 2/ 1991 وقد وهم الأزهري في فهم عبارة كتاب "العين"، إذ نص العبارة فيه: والمتصدق: المعطى للصدقة، وأصدق: أخذ الصدقات من الغنم، قال الأعشى: ودَّ المصَدّق من بني عمرو ... أن القبائل كلها غنم كتاب "العين" (صدق) 5/ 57. فهو يريد بالمصدق العامل على الصدقات وليس السائل بدلالة استشهاده ببيت الشعر، ثم هو لم يقل المتصدق، كما قال الأزهري. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) "تهذيب اللغة" (صدق) 2/ 1991. (¬5) المصدر السابق، نفس الموضوع. (¬6) ذكره الزمخشري في "الكشاف" 2/ 203. (¬7) في (ي): (علينا).

77

وقال الضحاك: (نزلت هذه الآيات في رجال من المنافقين سماهم، بسط الله لهم الدنيا فبخلوا بها بعدما عاهدوا أن يتصدقوا) (¬1). 77 - قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} الآية، قال الليث: (يقال أعقبت (¬2) فلانًا ندامة: إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، وأنشد للهذلي (¬3): أودى (¬4) بني وأعقبوني حسرة ..... بعد الرقاد وعبرة لا (¬5) تقلع (¬6) قال الأزهري: (ويقال: أكل فلان أكلة أعقبته سقمًا، وأعقبه الله خيرًا بإحسانه (¬7) بمعنى عوضه وأبدله، وهو معنى قول النابغة (¬8): ومن أطاع فأبدله (¬9) بطاعته ...... كما أطاعك واد لله على الرشد (¬10) ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 131 أ. (¬2) في (ح): (أعقب). (¬3) هو: أبو ذؤيب. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 6، و"خزانة الأدب" 1/ 420، و"كتاب العين" (عقب) 1/ 179، و"لسان العرب" (عقب) 5/ 3024. (¬4) أودى: هلك، و"لسان العرب" (ودى) 1/ 3895. (¬5) في (م) و (ى): (ما)، وما أثبته موافق لـ"الشرح" و"الخزانة". (¬6) لم أجد هذا النص المنسوب لليث في "تهذيب اللغة" (عقب) ولا في كتاب "العين" (عقب)، وقد استشهد الخليل بالبيت المذكور في نفس الموضع على أن (أعقب) لغة في (عقب) وقال في نفس الموضع: (أعقب هذا ذاك: أي صار مكانه، وأعقب عزه ذلًا: أي: أبدل منه). كتاب: "العين" (عقب) 1/ 180 فلعل المؤلف فهم من هذا القول ما ذكره عن الليث، وأغلب النحاة -لاسيما البصريين- ينسبون كتاب "العين" لليث بن المظفر، انظر: مقدمة كتاب "العين" 1/ 19. (¬7) في (ح): (بإحسانًا)، وما أثبته موافق للمصدر. (¬8) هو الذبياني، انظر "ديوانه" ص 21 والشاعر يخاطب النعمان بن المنذر ممدوحه. (¬9) في (ح): (فأعقبهم)، وفي "الديوان"، و"تهذيب اللغة": (فأعقبه). (¬10) أهـ. كلام الأزهري، وقد جمع المؤلف بين قولين له، انظر: "تهذيب اللغة" (عقب) 3/ 2506، 2508.

فإن (¬1) شئت قلت في قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} صير عاقبة أمرهم ذلك، وإن شئت قلت (¬2): عوضهم وأبدلهم والمعنى واحد؛ لأنه التصيير إلى حالة (¬3) مخصوصة في العاقبة بخير أو بشر، فالخير ما ذكره النابغة، والشر ما ذكره الله في هذه الآية، قال عطاء عن ابن عباس: (فأعقبه الله نفاقًا حتى مات) (¬4). وقال مجاهد: (أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس) (¬5). قال الزجاج: ([والمعنى: أضلهم بفعلهم، قال: ويجوز أن يكون لما قال: {بَخِلُوا بِهِ} قال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا}، (¬6) أي فأعقبهم بخلهم نفاقًا) (¬7). وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} هذا دليل على أنه مات منافقا، فقد روي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقته فقال: "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك" ثم لم يقبلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، ومات في خلافته (¬8)، فمن قال: ¬

_ (¬1) في (ى): و (إن). (¬2) في (ح): (قلت في قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} وعوضهم .. إلخ). (¬3) في (ى): (حالة واحدة). (¬4) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 475، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" 199. (¬5) لم أجد من ذكره عن مجاهد سوى المؤلف هنا وفي "الوسيط" 2/ 514، وقد رواه بلفظ مقارب ابن جرير 10/ 191 عن عبد الرحمن بن زيد. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 462 بمعناه. (¬8) هذا بعض حديث أبي أمامة الذي سبق تخريجه وبيان ضعفه الشديد، وهذا النص يؤكد بطلان القصة إذ أن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

أعقبهم الله (¬1) رد الضمير في {يَلْقَوْنَهُ} إلى اسم الله عز وجل، ومن قال: أعقبهم بخلهم، رد الضمير إليه، بمعنى: يلقون جزاء بخلهم (¬2). وقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} هذا بيان عما يوجبه الكذب مع إخلاف الوعد من النفاق، فمن أخلف في المواثيق مع الله فقد تعرض للنفاق، وكان جزاؤه من الله إفساد قلبه بما يكسبه (¬3) النفاق، فأما ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" (¬4)، فقد أجرى هذا الخبر على ظاهره الحسن (¬5) وعبد الله بن عمرو (¬6) ومحمد بن كعب (¬7)، وقال عطاء بن أبي (¬8) رباح: (حدثني جابر بن ¬

_ (¬1) في (ى): (بخلهم)، وهو خطأ واضح بدلالة السياق. (¬2) قال ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 475: في الضمير في (أعقبهم) قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله، فالمعنى: جازاهم الله بالنفاق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى: أعقبهم بخلهم بما نذروا إانفاقًا. قاله الحسن. (¬3) في (ى): (كسبه)، وفي (م): (يكسب). (¬4) رواه مسلم (109)، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، وأحمد في "المسند" 2/ 397، ورواه مختصرًا البخاري (33)، كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، والترمذي (2631)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في علامة المنافق. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 192 - 193، والثعلبي 6/ 132 وفي سنده محمد المحرم، منكر الحديث كما قال البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 248، ثم إن في آخر الحديث ما يفيد رجوع الحسن عن رأيه. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 191 - 192 وليس في خبره ما يشعر أن عبد الله بن عمرو أجراه على ظاهره، بل ذكر آية المنافق، واستشهد على قوله بالآية المذكورة. (¬7) انظر: المصدر السابق، الصفحة التالية. (¬8) ساقط من (ح).

عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة، الذين حدثوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فكذبوه، وائتمنهم على سره (¬1) فخانوه، ووعدوا أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه) (¬2) فعنده هذا الحديث خاص في المنافقين (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) رواه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 192، والثعلبي في "تفسيره" 6/ 133 أ، وفي سنده محمد المحرم، وهو منكر الحديث كما قال البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 248. وقد قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 1/ 91: (منهم من ادعى أنها للعهد -يعني ال في المنافق- فقال: إنه ورد في حق شخص معين، أو في حق المنافقين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة). (¬3) للعلماء في توجيه الحديث عدة أجوبة منها: أولًا: قال النووي في "شرح صحيح مسلم" 2/ 47: (هذا الحديث ليس فيه بحمد الله إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر). ثانيًا: ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث من أحاديث الوعيد التي قصد بها الترهيب، وظاهرها غير مراد، وهذا ما ارتضاه الخطابي كما في "فتح الباري" 1/ 90. ثالثًا: أن النفاق قسمان، نفاق العمل، وهو المذكور في الحديث، وهو غير مخرج من الإسلام، ونفاق الاعتقاد وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر وهو مخرج من الإسلام، وهذا الوجه عليه كثير من المحققين، قال الترمذي في "سننه" 5/ 20 بعد إيراد الحديث: (وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق =

79

79 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} الآية، مضى الكلام في اللمز عند قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]. والمطوعون: المتطوعون (¬1)، والتطوع التنفل، وهو الطاعة لله عز وجل فيما ليس بواجب، ومضى الكلام في إدغام التاء في الطاء عند قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158] (¬2)، وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (¬3)، قال المفسرون: حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة فجاء عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، بصدقة عظيمة، وجاء رجل يقال له: أبو عقيل الأنصاري (¬4) بصاع من تمر وكان قد أجر نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخل رجل، فأخذ أجرته فجعل نصفها صدقة لوجه الله تعالى ونصفها ¬

_ = التكذيب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هكذا روي عن الحسن البصري شيئًا من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب) اهـ. وانظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 11/ 140، 28/ 435، و"فتح الباري" 1/ 90. (¬1) في (م): (والمطوعين المتطوعين). (¬2) انظر: "النسخة الأزهرية" 1/ 100 أوقد قال هنا: (الوجه الثاني من القراءة (يطوع) بالياء وجزم العين، وتقديره يتطوع، إلا أن التاء أدغم في الطاء لتقاربهما). (¬3) انظر: "النسخة الأزهرية" 1/ 135 ب وقد قال في هذا الموضع: (حتى يطهرن) أي: يتطهرن، ومعناه يغتسلن بالماء بعد النقاء من الدم، فأدغمت الثاني بالطاء، هذه قراءة أهل الكوفة). (¬4) أبو عقيل الأنصاري، صحابي أنصاري معروف بكنيته، واختلف في اسمه اختلافًا كثيراً، فقيل: الحبحاب، وقيل: الحثحاث، وقيل: هذا لقب له واسمه سهل بن رافع، وقيل: هو عبد الرحمن بن بيحان، وقيل: هو أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي شهد بدراً، واستشهد باليمامة، وقيل غير ذلك. انظر: "فتح الباري" 8/ 331، و"الأصابة" 4/ 136 (776).

لعياله، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر نفسه، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاعه، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} يعني أبا عقيل، وقال عطاء عن ابن عباس: هو سهل بن نافع (¬2). قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المقل (¬3). وقال الزجاج: (إلا جهدهم) و (جهدهم) بالفتح والضم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 194 - 198، و"الدر المنثور" 3/ 469 - 472، وقد روى نحوه البخاري (4668)، كتاب: التفسير، باب: قوله الذين يلمزون المطوعين، ومسلم (1018)، كتاب: الزكاة، باب: الحمل أجرة يتصدق بها، والنسائي، كتاب: الزكاة، [باب] جهد المقل 5/ 59. (¬2) هكذا في النسخ التي بين يدي، ولم يذكر ابن حجر في "الإصابة" أحدًا من الصحابة بهذا الاسم، فلعل في اسمه تصحيف والصواب سهل بن رافع، أحد بني النجار الأنصاري الخزرجي، فقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في "الإصابة" 2/ 87: (يقال: إنه صاحب الصاع قال ابن منده: شهد أحدًا، ومات في خلافة عمر، وروى عيسى بن يونس عن سعيد بن عثمان البلوي عن جدته بنت عدي عن أمها عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، خرج بزكاته صاع تمر وبابنته عميرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله لي ولها بالبركة فما لي غيرها فوضع يده عليها فدعا له). وقد رجح الحافظ في "فتح الباري" 8/ 331 تعدد من جاء بالصاع فلمزه المنافقون. (¬3) "تهذيب اللغة" (جهد) 1/ 675 والنص في كتاب: "العين" للخليل بن أحمد (جهد) 3/ 386. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 462، والقراة بالفتح شاذة قرأ بها الأعرج وعطاء ومجاهد. انظر: "مختصر في شواذ القرآن" من كتاب "البديع" لابن خالويه ص 54.

قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم (¬1)، وحكى (¬2) ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال: الجُهد: الطاقة، تقول: هذا جهدي أي طاقتي، والجهد: المشقة، تقول: اجهد جهدك (¬3). وقال الشعبي: الجهد في العمل، والجهل في القوت (¬4). وقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} الكناية تعود إلى الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقوله تعالى: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} خبر الابتداء الذي هو قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} ومعناه: جازاهم جزاء سخريتهم، ومضى الكلام في هذا (¬5)، قال ابن عباس: (يريد حيث صاروا إلى النار) (¬6). وقال صاحب "النظم": قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} صفة للمكني المتصل بقوله في الآية التي قبل هذه: {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] ولا يحتمل أن يكون قوله: (الَّذِينَ (¬7) يَلْمِزُونَ) مبتدأ؛ لأنه لم يجيء له جواب، وقوله تعالى: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} لا يحتمل أن يكون جوابًا لأنه فعل ماض (¬8)، وهذه السخرية لا تكون إلا في الآخرة، فكان هذا القول دعاء، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 447 بمعناه. (¬2) في (م): (وقال). (¬3) "تهذيب إصلاح المنطق" (جهد) ص 227، و"المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (جهد) 1/ 171 بنحوه. (¬4) رواه ابن جرير 10/ 198، وبمعناه ابن أبي حاتم 6/ 1853. (¬5) انظر: "البسيط" البقرة: 212. (¬6) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 215. (¬7) ساقط من (ى). (¬8) ذهب النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 206، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 215 إلى أن (الذين يلمزون) مبتدأ و (سخر الله منهم) خبره، وذكر أبو البقاء العكيري عدة وجوه في الخبر: =

80

وقد قال بعضهم (¬1): {الَّذِينَ} مبتدأ منقطع مما قبله وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} خبره، دعاء كان أو خبرًا، في الدنيا كان أو في الآخرة. 80 - قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، قال الفراء: (ظاهر الآية أنه أمر ونهي، خيره بينهما، وإنما (¬2) هو على تأويل الجزاء، بمعنى إن تستغفر لهم أو لا تستغفر لهم) (¬3)، وقد ذكرنا هذا عند قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53] الآية، وقال غيره من أهل المعاني: (معنى صيغة الأمر والنهي في هذه الآية: المبالغة في اليأس من المغفرة بأنه لو طلبها طلب المأمور بها، أو (¬4) تركها ترك المنهي عنها لكان ذلك سواء في أن الله لا يوقعها (¬5)) (¬6). وقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال المتأخرون من أهل التفسير: (السبعون عند العرب غاية مستقصاة؛ لأنه جمع سبعة والسبعة تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار (¬7) ¬

_ = الأول: (فيسخرون) ودخلت الفاء لما في (الذين) من الشبه بالشرط. الثاني: أن الخبر (سخر الله منهم). الثالث: أن الخبر محذوف، تقديره: منهم الذين يلمزون. انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص 425. (¬1) انظر التعليق السابق. (¬2) في (ى): (وانهما)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 441 بمعناه. (¬4) في (ح): (و). (¬5) في (م): (يرفعها). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم يتبين لي مراده بذلك، والبحار المعروفة أكثر من سبعة.

والأقاليم (¬1) والنجوم (¬2) والأعضاء (¬3)) (¬4)، وذكر في بعض الكتب (¬5): (إن تستغفر لهم سبعين مرة) إنما خص هذا العدد لأنه يروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قيل: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء صلاتك على حمزة) (¬6). وقال الأزهري: (العرب تضع التسبيع (¬7) في موضع التضعيف، حكى أبو عمرو أن رجلاً أعطى أعرابيًا درهمًا، فقال (¬8): سبع الله له الأجر، قال: أراد التضعيف، وفي نوادر الأعراب: سبع الله لفلان تسبيعًا وتبع له تتبيعًا، أي: تابع له الشيء [بعد الشيء] (¬9). ¬

_ (¬1) لم يتين لي المراد بذلك، ولا يمكن أن يقال: إن مراده القارات السبع؛ لأن ثلاثًا منها على الأقل لم تكشف إلا بعد وفاة المؤلف بدهر. (¬2) يعني النجوم السيارة في المجموعة الشمسية، وقد كان المعروف منها زمن المؤلف سبع. انظر: "تفسير الرازي" 16/ 148. وقد اكتشف فيما بعد غيرها. (¬3) لعله يعني الأعضاء السبعة التي يسجد عليها المصلي، وذكر ابن عطية في "المحرر الوجيز" 6/ 582 - 583 نحو هذا القول، وفسر الأعضاء بالجوارح التي بها يطيع الإنسان ربه ويعصيه، وهي عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه، وفيه نظر لأن الطاعة والمعصية ليست محصورة بهذه الأعضاء فالأنف قد يشم ما حرم الله، والقلب قد يحمل حقدًا وحسدًا واحتقارًا لمسلم، والمرأة قد تعصي ربها بإبداء زينتها ووجهها لأجنبي. (¬4) هذا القول للثعلبي، انظر: "تفسيره" 6/ 134 ب. (¬5) في (ى): (بعض أهل الكتب)، وهو خطأ. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 134 ب، ولم يذكر سنده. (¬7) في (ح): (السبع). (¬8) في (ى): (فقال له)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لما في "تهذيب اللعة". (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

قال: والأصل في هذا: قول الله عز وجل: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]، وقال عليه السلام "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" (¬1) فلما ذكر الله تعالى ورسوله هذا العدد في موضع التضعيف صار أصلاً فيه، فقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} من باب التكثير والتضعيف لا من باب حصر العدد، ولم يرد الله أنه (¬2) إن زاد على السبعين غفر لهم، ولكن المعنى: إن استكثرت من الدعاء بالاستغفار للمنافقين لم يغفر الله لهم (¬3). هذا الذي ذكرنا في هذه الآية مذهب أهل اللغة وأصحاب المعاني (¬4)، وأما المفسرون فإنهم أجروا الآية على ظاهرها، فقالوا: إن قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} تخيير، وقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} حصر بهذا العدد (¬5)، ورووا في هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يوافق هذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (41، 42)، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء، ومسلم (164)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنسائي في "سننه"، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء 8/ 105، وابن ماجه (1638)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في فضل الصيام، وأحمد في "المسند" 1/ 446. (¬2) ساقط من (ى) و (م). (¬3) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (سبع) 2/ 1617. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (سبع) 2/ 1617، و"لسان العرب" (سبع) 3/ 1924. (¬5) نسبة المؤلف هذا القول للمفسرين على وجه العموم فيه نظر، إذ هم فريقان في هذه المسألة، فبعضهم ذهب إليه، وقد ذكر القرطبي بعضهم في "تفسيره" 8/ 220 حيث قال. (وقالت طائفة - منهم الحسن وقتادة وعروة: إن شئت استغفر لهم، وإن شئت لا تستغفر) اهـ. واعتمد هذا القول السمرقندي في "تفسيره" 2/ 65، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 515، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 6/ 580، وابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 990 ولم تذكر كتب الرواية كـ"تفسير ابن جرير" وابن أبي حاتم =

المذهب، وهو ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الصلاة علي عبدالله بن أبي قال له عمر: أتصلي على عدو الله القائل يوم كذا: كذا وكذا؟! فقال: "إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} " (¬1). ¬

_ = و"الدر المنثور" قولاً لأحد المفسرين السابقين بهذا المعنى، وإنما ذكرت عن جمع من مفسري السلف -منهم عروة وقتادة- رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتخيير، فلعل من نسب هذا القول إلى الرواة بناء على أن الراوي لا يخالف روايته، وهذا ليس على إطلاقه. وقد خالف هذا القول كثير من المفسرين، فابن جرير قال في تفسير الآية 10/ 198 هذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعاه: إن استغفرت لهم يا محمد أو لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وقال الثعلبي في "تفسيره" 6/ 134/ ب: (لفظه أمر، ومعاه جزاء، تقديره: إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم). وقال البغوي في "تفسيره" 4/ 79: (لفظه أمر، ومعاه خبر، تقديره: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم .. وذكر عدد السبعين للمبالغة في اليأس عن طمع المغفرة). وقال الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 386: (قوله {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ليس بحد لوقوع المغفرة بعدها، وإنما هو على وجه المبالغة بذكر هذا العدد). وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 195، 204، وابن كثير 2/ 414. وعلى أي حال فالقول بأن قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} تخيير للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الصحيح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني خيرت فاخترت"، وهذا الحديث نص في هذه المسألة فلا ينبغي العدول عنه. (¬1) رواه البخاري (4670)، كتاب: التفسير، باب: قوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، ومسلم (2400)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر، والنسائي، كتاب: الجنائز، [باب] الصلاة على المنافقين 4/ 67، والترمذي (3097)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة 5/ 279، وأحمد في "المسند" 1/ 16.

81

وقال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله رخص لي فسأزيدن (¬1) على السبعين لعل الله أن يغفر لهم" (¬2)، ونحو هذا قال عروة بن الزبير والحسن وقتادة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأزيدن علي السبعين" فأنزل الله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] (¬3)، قال مقاتل: (فصار قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} منسوخًا بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} (¬4). فهذا الذي ذكرنا من قولهم يدل على أنهم جعلوا قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ [أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ] (¬5)} تخييرًا، وقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} حصرًا لهذا العدد لا تكثرًا. 81 - قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ}، قال ابن عباس وغيره: (يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك) (¬6)، والمخلف: ¬

_ (¬1) في "تفسير البغوي": (فلأزيدن)، وفي "تفسير الثعلبي": (فسأزيد). (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 134 ب، والبغوي في "تفسيره" 4/ 79، وهو ضعيف لإرساله، وقال القشيري: لم يثبت أنه قال: "لأزيدن على السبعين". "تفسير القرطبي" 8/ 219. (¬3) رواه ابن جرير 10/ 198 - 200 عن عروة وقتادة، ورواه عن عروة أيضًا ابن أبي حاتم 6/ 1854، وأشار القرطبي في "تفسيره" 8/ 220 إلى قول الحسن، وأقوالهم هذه مراسيل. (¬4) "تفسير مقاتل" 133 أبنحوه. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) "تنوير المقباس" ص 200، وبنحوه قال قتادة والضحاك وابن الجوزي وغيرهم. انظر: "زاد المسير" 3/ 478، و"الدر المنثور" 3/ 474.

المتروك خلف (¬1) من مضى. وقوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: المدينة) (¬2) فعلى هذا، المقعد: اسم المكان، وقال مقاتل: (بمقعدهم: بقعودهم) (¬3)، وعلى هذا هو اسم للمصدر، قال أبو علي: (المقعد هاهنا: مصدر في معنى القعود ولا يكون اسمًا للمكان؛ لأن أسماء الأماكن لا يتعلق بها شيء) (¬4). وقوله تعالى: {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، قال قطرب والمؤرج: (يعني مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سار وأقاموا) (¬5)، واختاره الزجاج، فقال: (معناه: مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وهو منصوب؛ لأنه مفعول له، المعنى: بأن قعدوا لمخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬6)، وعلى هذا القول: فالخلاف مصدر مضاف (¬7) إلى المفعول به. وزعم أبو عبيدة: أن معناه: بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬8)، ونحو هذا قال الأخفش: إن (خلاف): في معنى (¬9): خلف، وأن يونس روى ذلك عن ¬

_ (¬1) في (ح): (وخلف). (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 149. (¬3) المصدر السابق، نفس الموضع، ولعل هذا القول لمقاتل بن حيان؛ لأن مقاتل بن سليمان لم يذكره في "تفسيره". (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 114. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 135 أ، و"البحر المحيط" 5/ 79، و"الدر المصون" 6/ 91. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 463. (¬7) في (م): (يضاف). (¬8) "مجاز القرآن" 1/ 264. (¬9) في (ح): (بمعنى).

عيسى (¬1) قال: ومعناه: بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬2)، ولقوي هذا الوجه قراءة من قرأ (خَلْفْ رَسُولِ اللهِ) (¬3) وعلى هذا القول، الخلاف (¬4): اسم للجملة كالخلف، وهو على حذف المضاف كأنه خلاف خروج (¬5) رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحو هذا قال ابن عباس في رواية عطاء قال: (يريد بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك) ففسر الخلاف ببعد، وذكر المضاف المحذوف، و (خلاف) بمعنى (خلف) مستعمل، أنشد أبو عبيدة (¬6) للأحوص (¬7): ¬

_ (¬1) هو: عيسى بن عمر الثقفي، أبو عمر البصري، العلامة، إمام النحو، وشيخ الخليل بن أحمد، كان مقرئًا نحويًّا عالمًا ثقة، وهو من أوائل من وضع النحو وصنف فيه، توفي سنة 149 هـ على قول القفطي، وقال الذهبي: لعله بقي إلى بعد سنة160 هـ. انظر: "أخبار النحويين البصريين" ص 49، و"إنباه الرواة" 2/ 374، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 200. (¬2) ذكر قول الأخفش هذا وروايته الرازي في "تفسيره" 16/ 149، وأشار إليه أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 79، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 6/ 91، أما الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 362 فقد نسب هذا القول إلى غيره، ورجح هو أن (خلاف) بمعنى خالفة، وأنه مصدر (خالفوا). (¬3) هي قراءة شاذة قرأ بها ابن عباس وأبو حيوة وعمرو بن ميمون، انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص 54، و"البحر المحيط" 5/ 79. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) ساقط من (ح). (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 264. (¬7) هو: عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري، الملقب بالأحوص لضيق مؤخر عينيه، كان شاعر هجاء وغزل، وجعله ابن سلام في الطبقة السادسة من الإسلاميين، وكان معاصرًا لجرير والفرزدق، وتوفي سنة 105 هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 148، 655، و"الشعر والشعراء" ص 345، و"الأعلام" 4/ 116.

82

عَقَبَ الربيعُ خلافهم فكأنما ..... بَسَطَ الشواطبُ بينهن حصيرًا (¬1) وقوله تعالى: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} يعني مع محمد إلى تبوك: {لْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: يفهمون ويعقلون أن مصير المنافقين إليها) (¬2)، وهذا ذم للمنافقين بفرحهم بالقعود عن الجهاد، والفرار من حر الشمس إلى حر الجمر. 82 - قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قال أبو رزين (¬3): (يقول الله تعالى: مقامهم (¬4) في الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا (¬5) بكاء (¬6) لا ينفعهم فذلك الكثير) (¬7). وقال الحسن: (قوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} وعيد من الله لهم، يقول: فإن ذلك منهم قليل لأن الدنيا كلها قليل يفنى وينقطع، [فضحكهم قليل فيها، ¬

_ (¬1) نسب المؤلف البيت للأحوص، والصحيح أنه للحارث بن خالد المخزومي كما في "ديوانه" ص 63، و"مجاز القرآن" 1/ 164، و"الأغاني" 15/ 128، و"لسان العرب" (خلف) 2/ 1237. ورواية "الديوان": عقب الرذاذ. والشواطب: النساء اللواتي يشققن الخوص، ويقشرن العسب، ليتخذن منه الحصر. انظر: "اللسان" (شطب) 4/ 2261. (¬2) "تنوير المقباس" ص 200 مختصرًا. (¬3) هو: مسعود بن مالك الأسدي مولاهم، أبو رزين الكوفي، تابعي ثقة، من رجال مسلم، توفي سنة 85 هـ. انظر: "الكاشف" 2/ 257، و"تهذيب التهذيب" 4/ 63، و"تقريب التهذيب" ص 528 (6612). (¬4) ساقط من (ح). (¬5) في (ح): (يكون)، وهو خطأ. (¬6) في (ح): (نكالًا)، وهو وهم من الناسخ. (¬7) رواه بنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1855، وابن جرير10/ 202 وابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" 3/ 474.

وسرورهم وفرحهم قليل لأنه ينقطع] (¬1)، وكل شيء ينقطع فهو قليل. {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} في النار لا انقطاع له (¬2)، قال ابن عباس: (إن أهل النفاق ليبكون (¬3) في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع) (¬4)، وقال أبو موسى: (حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت) (¬5). قال صاحب "النظم": (هذا فصل (¬6) جاء مجيء الأمر وتأويله الخبر، أي (¬7): أنهم سيضحكون قليلا وسيبكون كثيراً، يدل (¬8) على ذلك قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وقال أبو إسحاق: ({جَزَاءً} مفعول له، المعنى: وليبكوا لهذا الفعل) (¬9). وقال ابن عباس: في قوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (أي: في الدنيا من النفاق والتكذيب) (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) رواه ابن جرير 10/ 202 مختصرًا، وذكر بعضه ابن أبي حاتم 6/ 1856 بغير سند، ورواه بمعناه مختصرًا عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 284. (¬3) في (ى): (ليبكوا). (¬4) رواه الثعلبى 6/ 135 ب. (¬5) رواه أحمد في كتاب: "الزهد" 2/ 152، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 261، ورواه الحاكم عنه مرفوعًا "المستدرك" 4/ 605، وقال: صحيح الإسناد، قلت: في سنده محمد بن الفضل عارم، قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص502 (6226): ثقة ثبت تغير، في آخر عمره. (¬6) هكذا في النسخ ولعل الصواب: (فعل). (¬7) ساقط من (ى). (¬8) في (م): (دل). (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 463، وعبارته: جزاء لهذا الفعل. (¬10) "تنوير المقباس" ص 200 بمعناه.

83

83 - قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ}، قال ابن عباس: (يريد: إن ردك الله إلى المدينة) (¬1) ومعنى الرجع: تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعًا، كقولك: رددته ردًّا. وقوله تعالى: {إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد المنافقين خاصة) (¬2)، قال المفسرون: (إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين بل كان بعضهم مسلمين (¬3) مخلصين معذورين، وبعضهم لا عذر له (¬4) ثم عفى الله عنه) (¬5). وقوله تعالى: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}، قال (¬6): (يريد للغزو معك). وقوله (¬7): {فَقُلْ (¬8) لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} إلى غزاة. قال ابن عباس: (وذلك أنه لم يكن يومئذ بقي أحد من المشركين إلا لحق بالشام، وصار في مملكة الروم، ودخل في الإسلام سائرهم) (¬9)، {وَلَنْ (¬10) تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} قال: (يريد: من أهل الكتاب) (¬11)، {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 516، وبمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 200. (¬2) "تنوير المقباس" ص 200 بنحوه. (¬3) من (م). (¬4) في (ح): (لهم)، وما أثبته موائم لما بعده. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 135 ب، والبغوي 4/ 81، وابن الجوزي 3/ 479، والقرطبي 8/ 217. (¬6) القائل ابن عباس، وانظر: "الوسيط" 2/ 516، و"تنوير المقباس" ص 200. (¬7) من (م). (¬8) في (ى) و (م): (قل). (¬9) لم أقف عليه. (¬10) في (ح): (ولم)، وهو خطأ. (¬11) "الوسيط" 2/ 516 ولا دليل على هذا التخصيص.

لم (¬1) تخرجوا إلى تبوك. وقوله تعالى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} ذكروا في المخالفين قولين: قال الأخفش وأبو عبيدة: (الخالف الذي خلفني فقعد بعدي) (¬2)، ومنه قولهم: (اللهم اخلفني في أهلي) (¬3). وقال المؤرج: (الخالف من يخلف) (¬4). وقال ابن قتيبة: ({مَعَ الْخَالِفِينَ} واحدهم خالف، وهو من يخلف الرجل (¬5) في قومه وماله) (¬6). وقال الفراء: ({مَعَ الْخَالِفِينَ} من الرجال) (¬7)، يريد الذين يخلفون في البيت فلا يبرحون، وهذا القول هو معنى ما ذكره المفسرون. قال ابن عباس: ({مَعَ الْخَالِفِينَ} [مع الرجال] (¬8) الذين تخلفوا بغير (¬9) عذر) (¬10)، يريد الذين خلفوا من سار فأقاموا بعدهم. ¬

_ (¬1) في (ى): (لن)، وهو خطأ. (¬2) انظر: قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 265، وذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 151 عن الأخفش، ولم أجده في كتابه "معاني القرآن". (¬3) روى الدارمي في "سننه" 2/ 373 حديث دعاء المسافر وفيه: (اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا بخير). (¬4) لم أجد من ذكره. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) "تفسير غريب القرآن"، له ص 199. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 447. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬9) في (ى): (من غير)، وما أثبته موافق لرواية الثعلبي. (¬10) رواه الثعلبي 6/ 135 ب، والبغوي 4/ 81، وبنحوه ابن المنذر كما في "الدر المنثور"، ورواه مختصرًا ابن جرير10/ 204، وابن أبي حاتم 6/ 1857.

وقال الحسن (¬1) والضحاك (¬2) وقتادة (¬3): (يعني النساء والصبيان)، وهؤلاء هم الذين يخلفون الذاهبين إلى السفر والغزو فعلى هذا القول، الخالف: كل من تأخر عن الشاخص. القول الثاني في المخالفين: أن معناه: المخالفين، قال الفراء: (يقال: عبد (¬4) خالف وصاحب خالف: إذا كان مخالفًا) (¬5). وقال الأخفش: (فلان خالفة أهل بيته: إذا كان فاسدًاً) (¬6). وقال أبو عبيدة: (فلان خالفة أهله أي: مخالفهم لا خير فيه) (¬7). وقال الليث: (هذا رجل خالفةٌ: أي مخالف كثير الخلاف، وقوم خالفون، وكذلك رجل راوية ولحانة ونسابة ونحو ذلك، فإذا جمعت (¬8) قلت: الخالفون والراوون) (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 388، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 516، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 480، وذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 218 بلفظ: مع النساء والضعفاء من الرجال، وذكره هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 158 بلفظ: مع النساء. (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 135 ب. (¬3) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 388، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 516، وقد رواه ابن جرير 10/ 204 بلفظ: مع النساء. (¬4) في (ى): (عبده)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 447. (¬6) لم أجده عن الأخفش، وانظر: المعنى في "لسان العرب" (خلف) 2/ 1240. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 265. (¬8) في (ى): (اجتمعت)، وما أثبته موافق لكتاب "العين". (¬9) كتاب "العين" (خلف) 4/ 269 وذكره باختصار الأزهري في "تهذيب اللغة" (خلف) 1/ 1091.

84

وقال الأصمعي: (يقال: خلف فلان عن كل خير، فهو يخلف خلوفًا إذا فسد ولم يفلح (¬1) فهو خالف وخالفة (¬2)) (¬3)، فجاء من هذه الأقوال أن الخالف يكون بمعنى المخالف وبمعنى الفاسد، وكلاهما يجوز في الآية، وقول ابن عباس في هذه الآية: {مَعَ الْخَالِفِينَ} مع الرجال الذين تخلفوا) (¬4)، يجوز أن يكون من هذا؛ لأن من تخلف عنك فقد خالفك، وقال جماعة من المفسرين: (يريد مع أهل الفساد) (¬5)، وهذا معنى ما ذكرنا من قولهم خلف فلان: إذا فسد، ومثله خلف اللبن وخلف النبيذ. وهذه الآية دليل على أن من ظهر منه نفاق وتخذيل لا يجوز للإمام أن يستصحبه في الغزو، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره الله به (¬6) من مباعدتهم عن الجماعة التي تصحب في السفر وتنصر على العدو من أهل الطاعة (¬7). 84 - وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}، {مَات} (¬8) في موضع جر؛ لأنه صفة للنكرة كأنه قيل: على أحد منهم ميت، و {أَبَدًا} ظرف لـ {تُصَلِّ}، كأنه قيل: ولا تصل أبدًا على أحد منهم. ¬

_ (¬1) في (ى): (يخلف)، وما أثبته موافق لـ"تهذيب اللغة". (¬2) في "تهذيب اللغة": وهي (خالفة). (¬3) "تهذيب اللغة" (خلف) 1/ 1088. (¬4) سبق تخريجه قبل عدة أسطر. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 204، والثعلبي 6/ 135 ب، والرازي 16/ 151. (¬6) ساقط من (ح). (¬7) انظر: "المغني" لابن قدامة 13/ 15، و"حاشية الروض" 4/ 263. (¬8) ساقط من (ح).

قال عامة المفسرين: (لما مرض عبد الله بن أبي أرسل (¬1) إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله أن يكفنه في قميصه الذي يلي بدنه ويصلي عليه، فلما مات فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهد دفنه، ودلاه في قبره، فما لبث إلا يسيرًا حتى نزلت هذه الآية، ثم كُلم رسول -صلى الله عليه وسلم- فيما فعل بعبد الله بن أبي، فقال: "وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه" فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قال أبو إسحاق: ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما أجاز الصلاة عليه لأن ظاهره كان الإسلام فأعلمه الله عز وجل أنه إذا علم منه النفاق فلا صلاة عليه) (¬3)، وقال ¬

_ (¬1) هذه رواية قتادة كما في "تفسير ابن جرير" 10/ 206ورواية "الصحيحين" عن ابن عمر أن السائل عبد الله بن عبد الله بن أبي، وجمع الثعلبي في "تفسيره" 6/ 13 أبين الأمرين بأن عبد الله بن أبي طلب ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما مات عبد الله انطلق ابنه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاه إلى جنازة أبيه. اهـ. ويؤيد ذلك ما رواه ابن جرير وابن ماجه والبزار وأبو الشيخ وابن مردويه (كما في "الدر المنثور" 3/ 475). عن جابر قال: مات رأس المنافقين بالمدينة، فأوصى أن يصلي عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يكفنه في قميصه، فجاء ابنه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبي أوصى أن يكفن في قميصك ..) إلخ، فتبين من مجموع الروايات أن ابن أبي طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وحرص عليه، وأوصى به، وأن ابنه نفذ وصيته، وشفع له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تم الأمر. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 463، و"تفسير ابن جرير" 10/ 204 - 206، والثعلبي 6/ 136 أ، والبغوي 4/ 81، و"الدر المنثور" 3/ 476، وأصل القصة في "صحيح البخاري" (4670)، كتاب: التفسير، باب: قوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، و"صحيح مسلم" (2400)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 464.

85

أنس: (أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه (¬1)، وقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ (¬2) مَاتَ أَبَدًا} الآية (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، قال الزجاج: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له) (¬4)، وقال الكلبي: (لا تدفنه ولا تله) (¬5)، وهذا من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه. 85 - قوله تعالى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ} قد تقدم تفسير هذه الآية في قوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 55]. قال أهل المعاني: (إنما كرر هذه الآية للبيان عن قوة هذا المعنى فيما ينبغي أن يحذر منه مع أنه للتذكير به في موطنين يبعد أحدهما عن الآخر فتجب العناية بأمره، قالوا: ويجوز أن يكون في فريقين من المنافقين، فيجري مجرى قول القائل: (لا تعجبك حال زيد، لا تعجبك حال عمرو) (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) رواه ابن جرير 10/ 205، وأبو يعلى وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 476، وفي سند ابن جرير ضعيف بل متروك، وهو يزيد بن أبان الرقاشي كما في "تهذيب التهذيب" 4/ 403، ثم إن في الأثر علة قادحة لمخالفته رواية "الصحيحين" السابقة وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى عليه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 464، والحديث رواه أبو داود (3221)، كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عن القبر للميت، وهو حديث صحيح كما في "صحيح الجامع وزياداته"، رقم (4760) 2/ 865. (¬5) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" 16/ 153. (¬6) انظر: "تفسير الرازي" 16/ 155 - 156، و"الخازن" 2/ 251، ولم أجده في كتب أهل المعاني.

86

86 - قوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} موضع (أن) نصب بحذف حرف الجر على تقدير: بأن آمنوا، كأنه قيل بالإيمان. قال أهل المعاني: (ومعنى الأمر للمؤمنين بالإيمان: الدوام عليه والتمسك به في مستقبل الأوقات) (¬1)، مع أن هذا أمر عام يدخل فيه أمر المنافقين بالإيمان، ثم الجهاد؛ لأنه لا ينفعهم ذاك مع النفاق. وقوله تعالى: {أُولُو الطَّوْلِ}، قال ابن عباس والحسن: (استأذنك أهل الغنى في التخلف) (¬2). وقال مقاتل: (أهل السعة في المال) (¬3). وقال ابن كيسان: (يعني الكبراء المنظور إليهم) (¬4)، وخص هؤلاء بالذكر لأن الذم لهم ألزم بكونهم قادرين على الجهاد والسفر، ومضى الكلام في الطول (¬5)، والصحيح أنه ذكر {أُولُو الطَّوْلِ} لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان في القعود؛ لأنه معذور، وهؤلاء لا عذر لهم في القعود، فيستأذنون ويقعدون، وقد فضح الله عز وجل المنافقين بهذه الصفات التي ذكرهم بها أشد الفضيحة. 87 - قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، قال المفسرون: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 119، و"معاني القرآن الكريم" للنحاس 2/ 215. (¬2) رواه عن ابن عباس بنحوه ابن جرير 10/ 207، وابن أبي حاتم 6/ 1858، وذكره عن الحسن بمعناه الرازي في "تفسيره" 16/ 156، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 82. (¬3) "تفسير مقاتل" 133 ب. (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 16/ 156، و"البحر المحيط" 5/ 82. (¬5) انظر: "تفسير البسيط" النساء: 25.

(يعني النساء) (¬1)، قال الفراء: (النساء الخوالف: اللاتي يخلفن في البيت ولا يبرحن) (¬2). [وقال الزجاج] (¬3): (أي رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء، قال: وقد (¬4) يجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال والخالفة: الذي هو غير نجيب (¬5)، ولم يأت (فاعل) صفة جمعه (فواعل) إلا حرفان، قالوا: فارس وفوارس، وهالك وهوالك (¬6) (¬7). وذكرنا الكلام في الخالف مستقصى في قوله تعالى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83]. وقوله تعالى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، قال ابن عباس: (يريد بالنفاق) (¬8)، {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}، قال الضحاك: (لا يعلمون أمر الله) (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 208، وابن أبي حاتم 6/ 1859، و"الدر المنثور" 3/ 477. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 447. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) ساقط من (ى). (¬5) في "معاني القرآن وإعرابه": منجب. وفي "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 34 مثل ما ذكره المؤلف. والنجيب: الكريم الفاضل. انظر: "لسان العرب" (نجب) 7/ 4342 (¬6) زاد الأزهري في "تهذيب اللغة" (خلف) 1/ 1090، نقلاً عن بعض النحويين: خالف وخوالف. ويرى النحاس أن (خوالف) في الآية جمع (خالفة) ولا يجمع (فاعل) صفة على (فواعل) إلا في الشعر إلا في الحرفين المذكورين. انظر: "إعراب القرآن"، له 2/ 34. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 465. (¬8) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 517. (¬9) لم أعثر على من ذكره عنه.

88

وقال الحسن: (ليسوا بفقهاء ولا علماء، ولو كانوا فقهاء لما تخلفوا عن الجهاد معه) (¬1)، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]. 88 - قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} (¬2)، قال الأخفش (¬3) وأبو عبيدة (¬4) والمبرد (¬5): (الخيرات جمع خيرة، وهن الجواري الفاضلات الحسان)، أبو زيد: يقال: (هي خيرة النساء، وشرة النساء) (¬6)، وأنشد أبو عبيدة: ربلات هند خيرة الملكات (¬7) 90 - قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} الآية، ذكرنا معنى العذر والاعتذار وأصله في اللغة عند قوله: {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) هذه الجملة بعض قول الله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} الآية، وإتيان المؤلف ببعض الآية لا ينسجم مع ما قبلها. (¬3) كتاب: "معاني القرآن"، له 1/ 135. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 267. (¬5) لم أقف على قوله. (¬6) "تهذيب اللغة" (خار) 1/ 959. (¬7) هذا عجز بيت، وصدره: ولقد طعنت مجامع الربلات ذكره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 267، ونسبه لرجل جاهلي من بني عدي، عدي تميم، ومثله ابن منظور في "لسان العرب" (خير) 4/ 1298، ومعنى الربلات: جمع ربلة، بتسكين الباء وتحريكها وهي كل لحمة غليظة، وقيل: هي باطن الفخذ، وقيل: أصول الأفخاذ. انظر: "لسان العرب" (ربل) 3/ 1571.

[التوبة: 66]، وتقول: أعذر (¬1) فلان أي كان منه ما يُعذر به، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، واعتذر اعتذارًا: إذا أتى بعذر صدق فيه أو كذب، وعذر تعذيرًا: أي قصر ولم يبالغ. يقال: قام فلان قيام (¬2) تعذير فيما استكفتيه: إذا لم يبالغ، وقصر فيما اعتمد عليه، فمن قرأ (المُعَذِرُون) بالتخفيف وهو قراءة جماعة من الصحابة والتابعين (¬3)، فمعناه المجتهدون المبالغون في العذر، روى الضحاك عن ابن عباس أنه قرأ: (وجاء المعذرون) (¬4)، وقال (لعن الله المعذرين) (¬5) ذهب إلى أن المعذرين هم الذين لا عذر لهم (¬6). ¬

_ (¬1) في (ح): (عذر). وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2366. (¬2) في (ح): (مقام). وأثبت ما في (م) و (ى) لموافقته لما في "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2366 إذ النص منقول منه. (¬3) روى هذه القراءة ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد، وهي أيضًا قراءة زيد بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال، ومن العشرة يعقوب والكسائي في رواية، وقرأ الباقون بالتشديد. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 209 - 211، و"الغاية في القراءات العشر" 166، و"تقريب النشر" ص 121، و"البحر المحيط" 5/ 83 - 84. (¬4) "تفسير ابن جرير" 10/ 210، وابن أبي حاتم 46/ 1860، وفي سنده بشر بن عمارة، قال البخاري: يُعرف وينكر، وقال الدارقطني: متروك. انظر: "كتاب الضعفاء الصغير" ص46، و"الضعفاء والمتروكون" ص 160، و"تهذيب التهذيب" 1/ 230، ثم إن في الأثر علة أخرى حيث إن الضحاك لم يلق ابن عباس على القول الصحيح، انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 226. (¬5) رواه الفراء في "معاني القرآن" 1/ 448 وعنه ابن الأنباري في "كتاب الأضداد" ص 321 بإسنادين شديدي الضعف، إذ في أحدهما الكلبي وهو متهم بالكذب كما في "التقريب" ص479 (5901)، وفي الثاني جويبر البلخي، وهو ضعيف جدًّا كما في "المصدر السابق" ص 143 (987). (¬6) في (م): (الذين لهم عذر)، وهو خطأ.

و {الْمُعَذِّرُونَ} (¬1) بالتشديد: الذين يعتذرون بلا عذر، كأنهم المقصرون الذين لا عذر لهم، وعلى هذه القراءة، معنى الآية: إن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين، قال ابن عباس: (هم الذين تخلفوا بعذر بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬2). وقال عطاء عنه: (يريد الأعراب [الذين يعتذرون] (¬3) إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في تخلفهم ليؤذن لهم في التخلف) (¬4). وقال الضحاك: (هم وهي عامر بن الطفيل (¬5) جاؤا (¬6) إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: إن نحن غزونا معك تُغير أعراب طيء على حلائلنا (¬7) وأولادنا ومواشينا فعذرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬8). ونحو هذا قال مجاهد: (هم أهل العذر) (¬9)، ومن قرأ: {الْمُعَذِّرُونَ} ¬

_ (¬1) في (ى): (والمعذر). (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 137 أ، وبنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1860، وابن جرير 10/ 210. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) "تنوير المقباس" ص 201 بنحوه من رواية الكلبىِ. (¬5) هو: عامر بن الطفيل بن مالك العامري سيد بني عامر بن صعصعة، كان من فرسان العرب وفتاكها وشعرائها، وهو الذي فتك بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بئر معونة، ثم حال الغدر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وظل جادًا في سعيه لإطفاء نور الله، حتى هلك سنة 11هـ. انظر: "السيرة النبوية" 3/ 185، 4/ 233، و"الشعر والشعراء" ص 207، و"الإصابة" 3/ 125. (¬6) في (ح): (جاء). (¬7) الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة. انظر: "الصحاح" (حلل) 4/ 1673. (¬8) رواه الثعلبي 6/ 137 أ، والبغوي 4/ 83. (¬9) رواه ابن جرير 10/ 210.

بالتشديد وهو قراءة العامة (¬1) فله وجهان من العربية والتأويل: أحدهما: ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري: (وهو أن الأصل في هذا اللفظ عند النحويين: المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في الذال التي بعدها فصارتا ذالًا مشددة (¬2)) (¬3). والاعتذار ينقسم في كلام العرب على قسمين، يقال: اعتذر (¬4): إذا كذب في عذره، قال الله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}، فدل على فساد عذرهم بقوله (¬5): {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 94]، ويقال: اعتذر: إذا جاء بعذر صحيح، ومنه قول لبيد: ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر (¬6) ¬

_ (¬1) هي قراءة العشرة عدا يعقوب، وقتيبة عن الكسائي. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 166، و"تقريب النشر" ص 121. (¬2) في (م): (مشدودة). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 447، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 464، و"كتاب الأضداد" لابن الأنباري ص 321. (¬4) في (ح): (اعتذرت). (¬5) في (ح): (لقوله). (¬6) هذا عجز بيت، وصدره: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما وهو للبيد بن ربيعة العامري في "ديوانه" ص 214، و"كتاب الأضداد" لابن الأنباري ص 321، و"تهذيب اللغة" (عذر)، و"الخصائص" 3/ 29، و"لسان العرب" (عذر) 5/ 2855. والشاعر يوصي ابنتيه بالبكاء عليه بعد موته حولًا كاملاً، وقبل هذا البيت قال: فقوما فقولا بالذي قد علمتما ... ولا تخمشا وجهًا ولا تحلقا شعر

يريد فقد جاء بعذر صحيح. (الوجه الثاني من العربية - أن يكون {الْمُعَذِّرُونَ} (¬1) على (مفعلين) من التعذير الذي هو التقصير على ما بينا، فإن قلنا: المعذرون (¬2) [معناه: المعتذرون بعذر] (¬3) صحيح فوجهه من التأويل ما ذكرنا في قراءة من خفف، وإن قلنا أن معناه: المعتذرون بعذر باطل، أو أخذناه من التعذير فوجهه من التأويل ما قال قتادة) (¬4): (هم الذين اعتذروا بالكذب) (¬5)، ونحو هذا قال محمد بن إسحاق: (هم أعراب من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله) (¬6). فإن قيل على هذا: إذا كانوا مقصرين فلم أفردوا من الكاذبين الله ورسوله؟ والجواب عن هذا ما أخبرني العروضي (¬7) عن الأزهري قال أخبرني ¬

_ وقولا هو المرء الذي لا خليله ... أضاع، ولا خان الصديق ولا غدر إلى الحول .. إلخ. (¬1) في (ى): (المعذورون)، وهو خطأ. (¬2) في (ى): (المعذورون)، وهو خطأ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى). (¬4) ما بين القوسين مضطرب في النسخة (ح) وفيه تقديم وتأخير ونقص ضاع معه المعنى، ونصه: (الوجه الثاني من العربية أن يكون المعذرون صحيح فوجهه من التأويل ما ذكرنا في قراءة من خفف وإن قلنا إن معناه المعتذرون بعذر باطل على (مفعلين) من التعذير الذي هو التقصير على ما بينا، فإن قلنا: المعذرون باطل أو أخذنا من التعذير فوجهه من التأويل ما قال قتادة). (¬5) رواه ابن جرير 10/ 210. (¬6) "السيرة النبوية" لابن هشام، و"تفسير ابن جرير" 10/ 211. (¬7) هو: أحمد بن محمد النيسابوري، تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخ المؤلف.

المنذري عن ابن فهم (¬1) عن محمد بن سلام (¬2) عن يونس النحوي أنه سأله عن قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ}، قال: قلت ليونس (المعذرون) مخففة كأنها أقيس؛ لأن المعذر الذي له عذر، والمعذر الذي يعتذر ولا عذر له، فقال يونس: (قال أبو عمرو (¬3) بن العلاء: كلا الفريقين كان (¬4) مسيئًا، جاء قوم فعذروا، وجلح (¬5) آخرون فقعدوا) (¬6)، يريد أن قومًا تكلفوا عذرًا بالباطل، فهم الذين عناهم (¬7) الله بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} وتخلف آخرون (¬8) من غير تكلف عذر وإظهار علة جرأة على الله ورسوله، وهو معنى قوله: وجلح آخرون فقعدوا). ¬

_ (¬1) هو: الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم البغدادي، حافظ علامة نسابة أخباري، وكان متفننًا في العلوم، كثير الحفظ للحديث، ولأصناف الأخبار والنسب والشعر، والمعرفة بالرجال، وتوفي سنة 289 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 8/ 92، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 427، و"البداية والنهاية" 11/ 95، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص 299 (¬2) هو: محمد بن سلام بن عبيد الله الجمحي مولاهم، أبو عبد الله البصري، كان عالمًا أخباريًّا، أديبًا بارعًا، إمامًا في رواية الشعر، من أهل الصدق، وهو صاحب "طبقات فحول الشعراء" المشهور، توفي سنة 231 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 5/ 327، و"مراتب النحويين" ص67، و"طبقات النحويين واللغويين" ص 180، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 651. (¬3) في (ى): (قال عمرو)، وهو خطأ. (¬4) في (ى): (جاء)، وفي (ح): (كانا). (¬5) في (ى): صلح، وما أثبته موافق لما في "تهذيب اللغة"، ومعنى جلح: ركب رأسه، والتجليح: الإقدام الشديد والتصميم في الأمر والمضي، والمجالح: المكابر. انظر: "لسان العرب" (جلح) 2/ 652. (¬6) "تهذيب اللغة" (عذر) 3/ 2366. (¬7) في (ى): (أغناهم)، وهو خطأ. (¬8) في (ح): (الآخرون).

91

وقوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد لم يصدقوا نبيه واتخذوا إسلامهم جنة) (¬1)، فبان بهذا أنه ليس يريد الكذب في العذر إنما يريد كذبهم في قولهم (¬2): إنا مؤمنون. 91 - ثم ذكر الله تعالى أهل العذر فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ}، قال ابن عباس: (يريد الزمنى والمشايخ والعجزة) (¬3)، {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} يعني المقلين من المؤمنين، {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، قال ابن عباس: (يريد لم يعدلوا بالله شيئاً، وعرفوا الله بتوحيده، وأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - حق وصدق، وغضبوا لله ورسوله، وأبغضوا من أبغض الله وأحبوا أولياء (¬4) الله) (¬5)، ففسر ابن عباس النصح لله ورسوله بما ذكر. وقال أهل المعاني: (معنى النصح إخلاص العمل من الغش) (¬6)، ومنه التوبة النصوح، فمعنى: {نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أخلصوا أعمالهم من الغش والنفاق لهما. وفائدة قوله: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} بعدما ذكر عذرهم أن المعذور يكون على قسمين: أحدهما فريق منهم يغتنمون عذرهم، فهؤلاء [ليسوا ممن نصح لله ورسوله، وفريق يتمنون أن لم يكن لهم عذر فيتمكنوا من ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 201 بمعناه من رواية الكلبي. (¬2) في (ى): (قوله). (¬3) رواه الثعلبي 6/ 137 ب، والبغوي 4/ 84. (¬4) في (ى): (وأحبوا من أحب الملة). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (نصح 4/ 5/ 85، و"تفسير القرطبي" 8/ 227.

92

الجهاد، فهؤلاء] (¬1) هم (¬2) الذين نصحوا لله ورسوله، وهم الذين أرادهم الله بقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}، قال ابن عباس: (من إثم) (¬3). وقال أهل المعاني: (من طريق العقاب) (¬4)، يعني أنه قد سد بإحسانه طريق العقاب على نفسه. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال ابن عباس: (يريد لمن كان على هذه الخصال) (¬5). 92 - قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، قال المفسرون: (نزلت هذه الآية في البكائين) (¬6)، قال ابن عباس (¬7) ومقاتل (¬8) ومحمد بن كعب (¬9) ومحمد بن إسحاق (¬10): (هم سبعة نفر من قبائل شتى، وذكروا أسماءهم (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) ساقط من (م) و (ى). (¬3) "تنوير المقباس" ص 201 بمعناه. (¬4) انظر: "زاد المسير" 3/ 485، و"البحر المحيط" 5/ 85، ولم أجده في كتب أهل المعاني. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 212 - 213، والثعلبي 6/ 137 ب، والبغوي 4/ 84. (¬7) رواه ابن جرير 10/ 212، وابن أبي حاتم 6/ 1863، لكن من غير ذكر العدد. (¬8) "تفسيره" 133 ب. (¬9) هو القرظي، وانظر قوله في: "تفسير ابن جرير" 10/ 213. (¬10) انظر: "السيرة النبوية" 4/ 172، و"تفسير ابن جرير" 10/ 213. (¬11) هناك خلاف في أسمائهم، وقد روى ابن جرير في "تفسيره" 10/ 213 عن محمد بن كعب وغيره أنهم سبعة نفر وهم: سالم بن عمير، وهرمي بن عمرو، وعبد الرحمن=

وقال مجاهد (¬1): (هم ثلاثة إخوة: معقل (¬2) وسويد (¬3) والنعمان (¬4) بنو مقرن، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون) (¬5)، وقال ابن عباس: (سألوه أن يحملهم على الدواب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا أجد ما أحملكم عليه" (¬6) لأن الشقة بعيدة، والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه، وبعير يحمل ماءه وزاده. وقال الحسن: نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول ¬

_ = ابن كعب، وسلمان بن صخر، وعبد الرحمن بن يزيد، وعمرو بن غنمة، وعبد الله ابن عمرو المزني. واتفق معه ابن إسحاق في أربعة أسماءهم: سالم بن عمير، وعبد الرحمن بن كعب، وعبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن معمرو، واختلف معه في الباقين فذكر بدلاً منهم: عُلبة بن زيد، وعمرو بن حمام بن الجموح، وعرباض بن سارية. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 172. (¬1) في (ى): (محمد). (¬2) هو: معقل بن مقرن بن عائذ المزني، أبو عمرة، صحابي أعرابي، ثم سكن الكوفة، انظر: "الاستيعاب" 3/ 484، و"الإصابة" 3/ 447. (¬3) هو: سويد بن مقرن بن عائذ المزني، أبو عدي، صحابي مشهور، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديثه عند مسلم وأصحاب السنن. انظر: " الاستيعاب" 2/ 239، و"تهذيب التهذيب" 2/ 136، و"الإصابة" 2/ 100. (¬4) هو: النعمان بن مقرن المزني، أبو حكيم، أو أبو عمرو، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسند إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم ولاه عمر قيادة الجيش الذي فتح نهاوند، واستشهد يومئذٍ سنة 21 هـ. وكان -رضي الله عنه- شجاعًا مجاب الدعوة. انظر: "الاستيعاب" 4/ 67 - 69، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 256، و"الإصابة" 3/ 565. (¬5) رواه مختصرًا ابن جرير 10/ 212، وابن أبي حاتم 6/ 1863، والثعلبي 6/ 138 أ. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 84، و"زاد المسير" 3/ 486.

الله - صلى الله عليه وسلم - يستحملونه، ووافق ذلك منه غضبًا فقال: "والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا يبكون، فدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعطاهم ذودًا (¬1) غر الذرى (¬2)، فقال أبو موسى: ألست حلفت (¬3) يا رسول الله؟ فقال: "أما إني [إن شاء الله] (¬4) لا أحلف بيمين (¬5) فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" (¬6). وقوله تعالى: {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ} [قال صاحب "النظم": (جاء قوله: {قُلْتَ لَا أَجِدُ} مجيء الخبر لقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ} وليس بخبر، وإنما هو منسوق على ما قبله، وتأويله: ولا على الذين إذا ما ¬

_ (¬1) الذود: القطيع من الإبل ما بين الثلاثة إلى التسع، وقيل: أكثر من ذلك. انظر: "لسان العرب" (ذود) 3/ 1525. (¬2) غر الذرى: قال النووي في "شرح صحيح مسلم" 11/ 109: (أما الذرى: فبضم الذال وكسرها، وفتح الراء المخففة: جمع ذروة، بكسر الذال وضمها، وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا الأسنمة، وأما الغر: فهي البيض، .. ومعناه: أمر لنا بإبل بيض الأسنمة). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) في (ى): (يمينًا). (¬6) رواه بنحوه البخاري في عدة مواضع في "صحيحه" (6621)، منها كتاب الإيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، ومسلم (1649)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا .. الخ، والنسائي في "سننه"، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الكفارة قبل الحنث 7/ 9، وابن ماجه (1207)، كتاب: الكفارات، باب: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، ولم يذكره أحد من هؤلاء عن الحسن، ولا ذكروا بكاء الأشعريين ولا نزول الآية فيهم، وذكره عز الحسن الرازي في "تفسيره" 16/ 162، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 228.

أتوك لتحملهم وقلت لا أجد ما أحملكم عليه] (¬1) فهو مبتدأ منسوق على ما قبله بغير واو، والجواب في قوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} ومعناه جرت أعينهم من (¬2) امتلاء من (¬3) حزن في قلوبهم). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (م): (عن). (¬3) ساقط من (ى).

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (93) من سورة التوبة إلى آخر سورة يونس تحقيق د. إبراهيم بن علي الحسن سورة هود تحقيق د. عبد الله بن إبراهيم الريس أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الحادي عشر

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [11]

جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ علي ن أحمد الواحدي، إبراهيم بن علي الحسن، عبد الله بن إبراهيم الريس، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك:4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 0 - 868 - 04 - 9960 - 978 (ج 11) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك 4: - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 0 - 868 - 04 - 9960 - 978 (ج 11)

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسله الرسائل الجامعية - 106، 107 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (93) من سورة التوبة إلى آخر سورة يونس تحقيق د. إبراهيم بن علي الحسن سورة هود تحقيق د. عبد الله إبراهيم الريس أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الحادي عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (93) من سورة التوبة إلى آخر سورة يونس تحقيق د. إبراهيم بن علي الحسن

94

94 - قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ}، قال ابن عباس: (يريد بالأباطيل (¬1)) (¬2) {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من غزوة تبوك، {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدقكم {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} يريد: قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي فيما تستأنفون، تبتم عن النفاق أو أقمتم عليه {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يريد: يعلم ما غاب عنا من ضمائركم ونياتكم، ومعنى: {ثُمَّ تُرَدُّونَ} أي للجزاء {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال (¬3): يريد: يخبركم بما كنتم (¬4) تكتمون وتسرون. 95 - قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي إذا (¬5) رجعتم إليهم من تبوك، والمحلوف عليه محذوف من الآية على معنى: يحلفون بالله لكم أنهم ما قدروا على الخروج، أو ما أشبه هذا {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي: لتصفحوا عنهم فلا تؤنبوهم (¬6). والمعنى: لتعرضوا عن لائمتهم، فهو من باب حذف المضاف. قال الله تعالى: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد ترك الكلام والسلام والموالاة) (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): (بالباطل). (¬2) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 486. (¬3) يعني ابن عباس، وانظر قوله بمعناه في: "تنوير المقباس" ص 202. (¬4) قوله: (تعملون. قال يريد يخبركم بما كنتم) ساقط من (ح). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) في (ح): (تؤنبهم)، وفي (ى): (تونههم) بلا نقطة على النون. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 138 أ، والبغوي 4/ 85.

وقال مقاتل: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم" (¬1). وقال أهل المعاني: (هؤلاء طلبوا إعراض الصفح، فأعطوا إعراض المقت) (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ}، قال ابن عباس: (يريد: إن عملهم رجس من عمل الشيطان ليس لله برضى) (¬3)، فعلى هذا يكون التقدير: إنهم ذوو رجس أي ذوو عمل قبيح، وذكرنا الكلام في معنى الرجس عند قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 134 أ، وقد روى الحديث ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1865 مرسلًا عن السدي، ثم هو من رواية أسباط بن نصر عنه، وهو ضعيف عند أكثر الأئمة، ولخص الإمام ابن حجر حاله فقال: صدوق كثير الخطأ يغرب) انظر: "تقريب التهذيب" ص98 (321)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 109، ثم إن في المتن نكارة وهو مخالفته لحديث كعب بن مالك المتفق عليه، ولفظه عند البخاري: (ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا)، ولفظه عند مسلم: (ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه). انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: وعلى الثلاثة .. 6/ 134، و"صحيح مسلم" (2769)، كتاب: التوبة، رقم (2769) 4/ 2124. (¬2) "تفسير الرازي" 16/ 164، و"الخازن" 2/ 254. منسوبًا لأهل المعاني، ولم أجده فيما بين يدي من كتبهم. (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 138 أمختصرًا عن عطاء. (¬4) انظر "النسخة" (ح) 2/ 69 أحيث قال: (الرجس في اللغة: اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال: رجس الرجل رجسًا، ورجس: إذا عمل عملًا قبيحًا، وأصله من الرجسر -بفتح الراء- وهو شدة الصوت، يقال: سحاب رجاس: إذا كان شديد الصوت بالرعد .. فكأن الرجس العمل الذي يقبح ذكره جدًا، ويرتفع في القبح).

96

96 - قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ}، قال مقاتل: (وذلك أن عبد الله بن أبي حلف للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالله الذي لا إله إلا هو أن لا يتخلف عنه وليكونن (¬1) معه على عدوه، وطلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرضى عنه) (¬2) [وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح (¬3) لعمر بن الخطاب أن يرضى عنه] (¬4) فأنزل الله هذه الآية (¬5)، قال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: (يريد أن المؤمن إذا حلف له بالله اطمأن قلبه، فأحب الله أن يخبر المؤمنين بما في قلوبهم حتى لا يصدقوهم) (¬6). وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتذر إليه أحد بعذر وإن كان كاذبًا قبل علانيته، ووكل سريرته إلى الله، حتى أخبره الله بنفاق المنافقين وأسمائهم ¬

_ (¬1) في (ى): (وليكون)، وأثبت ما في (ح) و (م) لموافقته لتفسير مقاتل. (¬2) أهـ. كلام مقاتل، انظر: "تفسيره" 134 أ، و"تفسير الثعلبي" 6/ 136 أ، والبغوي 4/ 85. (¬3) هو: عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي، أبو يحيى، كان أخًا لعثمان من الرضاعة، وأسلم وجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- من كتابه، ثم أزله الشيطان فارتد ولحق بالمشركين، وأهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه يوم الفتح، وشفع له عثمان وقبلت شفاعته، فأسلم وحسن إسلامه، وتولى إمرة الصعيد في خلافة عمر، وضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودًا في ولايته، كثير الغزو، وهو الذي فتح بلاد النوبة وغزا أفريقيا، ونازل الروم في وقعة ذات الصواري، ثم اعتزل أيام الفتنة، وتوفي سنة 59 هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 5/ 29، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 33، و"الإصابة" 2/ 316 - 317. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) انظر: "زاد المسير" 3/ 487. (¬6) لم أقف عليه.

97

وأسماء آبائهم وقبائلهم (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، قال ابن عباس: (يريد الذين ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم) (¬2)، والله لا يرضى أن يكون ما في اللسان غير ما في القلب، وقال أهل المعاني: (هذا بيان عن التفصيل الذي يحتاج إليه لئلا يتوهم متوهم أن رضي المؤمنين عنهم يقتضي أن يرضي الله تعالى عنهم، فجاء على اليأس من هذا) (¬3)، وهذه الآية وما قبلها دليل على أن المنافقين تحقن دماؤهم بسبب الشهادتين، ولا تجوز موالاتهم والرضا عنهم. 97 - قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}، قال ابن عباس: (نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حوالي المدينة) (¬4). قال العلماء من أهل اللغة: (يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتًا، وجمعه العرب، كما يقال: مجوسي ويهودي، ثم تحذف ياء النسبة في الجمع فيقال: المجوس واليهود، ورجل أعرابي -بالألف- إذا كان بدويًا صاحب نجعة وانتواء (¬5)، وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 519، ومعناه في "تنوير المقباس" ص 202. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 488، رواه بنحوه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 481 عن الكلبي، وانظر "تنوير المقباس" ص 202. (¬5) النجعة: المذهب في طلب الكلأ في موضعه، والانتواء: البعد. انظر: "لسان العرب" (نجع) 7/ 4353 و (نأى) 7/ 4314.

والأعاريب، والأعرابي إذا قيل له: يا عربي فرح بذلك، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له، فمن نزل البادية أو جاور البادين وظعن بظعنهم فهم أعراب، ومن استوطن القرى العربية فهم عرب) (¬1). قال الأزهري: (والذي لا يفرق بين الأعراب والعرب والأعرابي والعربي (¬2) ربما تحامل على العرب بما يتأوله في هذه الآية، ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب) (¬3)، وهم مقدمون في مراتب الدين على الأعراب، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلاً، ولا فاسق مؤمنًا، ولا أعرابي مهاجرًا" (¬4). وقال أهل العلم: (إنما سمي العرب عربًا؛ لأن أولاد إسماعيل نشأوا بعربة (¬5) وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أهلها فهو منهم، وسموا عربًا باسم بلدهم عربة) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (عرب) 3/ 2381 والنص منقول منه، وانظر أيضًا: "مجمل اللغة" (عرب) 3/ 664، و "مختار الصحاح" (عرب) ص 421، و"لسان العرب" (عرب) 5/ 2864. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) أهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (عرب) 3/ 2381. (¬4) رواه مطولًا ابن ماجه (1081)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: فرض الجمعة، وفي سنده متهم بوضع الحديث وآخر ضعيف كما في "التلخيص الحبير"، رقم (569) 2/ 32. (¬5) عربة هي مكة المكرمة، انظر: "معجم البلدان" 4/ 109. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (عرب) 3/ 2381، و"لسان العرب" (عرب) 5/ 2864، وذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 233 عن القشيري.

قال إسحاق بن الفرج (¬1): عربة باحة العرب ودار إسماعيل بن إبراهيم، وفيها يقول قائلهم (¬2): وعربة أرض ما يُحل حرامها ... من الناس إلا اللوذعي الحُلاحل يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أحلت له مكة ساعة من النهار) (¬3). واضطر الشاعر إلى شيئين: سكون الراء من عربة وهي مفتوحة، وكان [يجب أن يقول أحلت له فقال يُحل هو (¬4). وقال (¬5): أقامت قريش بعربة وانتشر سائر] (¬6) العرب في جزيرتها، ¬

_ (¬1) هو: إسحاق بن الفرج، أبو تراب الخراساني لغوي معروف بكنيته، وهو من تلاميذ شِمْر الهروي، وله تصانيف في اللغة منها "الاعتقاب" و"الاستدراك على الخليل". قال الأزهري: (أملى بهراة من كتاب الاعتقاب أجزاء ثم عاد إلى نيسابور وأملى بها باقي الكتاب، وقد قرأت كتابه فاستحسنته) أ. هـ وذكر ابن النديم أنه ممن لا يعرف اسمه وخبره على استقصاء. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 45، و"الفهرست" لابن النديم ص 124، و"إنباه الرواة" 4/ 102، و"معجم البلدان" لياقوت 4/ 109 وهو الذي نص على اسمه. (¬2) البيت لأبي طالب بن عبد المطلب كما يقول ياقوت الحموي في "معجم البلدان" 4/ 109، وعندي شك في ذلك لأن أبا طالب توفي قبل الهجرة، ومكة إنما أحلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة 8 هـ. وانظر البيت بلا نسبة في: "الدر المصون" 6/ 430، و"لسان العرب" (عرب) 5/ 2864. واللوذعي: الذكي الظريف، والحلاحل: السيد الركين. انظر: "الصحاح" (الذع) و (حلل). (¬3) انظر: "صحيح البخاري" (112) كتاب: العلم، باب: كتابة العلم. (¬4) "تهذيب اللغة" (عرب) 3/ 2381. (¬5) يعني إسحاق بن الفرج، وانظر قوله في المصدر السابق، نفس الموضع. (¬6) ما بيق المعقوفيق ساقط من (ى).

فنسبوا كلهم إلى عربة؛ لأن أباهم إسماعيل -عليه السلام- بها (¬1) نشأ وربل (¬2) أولاده بها (¬3) وكثروا فلما لم تحتملهم البلد انتشروا وأقامت قريش بها. وقال أهل المعاني: (هذه الآية دليل على أن اللفظ العام يرد للخاص؛ لأن الأعراب لفظ عام (¬4) وليس المراد به جميع الأعراب) (¬5). وقوله تعالى: {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}، قال أبو إسحاق: (كفرهم أشد لأنهم أقسى وأجفى من أهل المدر (¬6)، وهم أيضاً أبعد عن سماع التنزيل، وإنذار الرسول -صلى الله عليه وسلم-) (¬7). والمعنى: أشد كفرًا من أهل الحضر لجفاء صدورهم [ونبو طباعهم (¬8)، وكذلك الأكراد والأتراك، وسائر أهل الخباء (¬9) أو العمد (¬10)] (¬11). ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) في (ح) و (ى): (ربا) أي نما وزاد، وأثبت ما في (م) لموافقته لمصدر القول إذ فيه: وربل أولاده: أي كثروا. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) في (ى): (العام). (¬5) انظر: "المحرر الوجيز" 7/ 6، ولم أجده في كتب أهل المعاني. (¬6) في (ى): (المدن). وما أثبته موافق للمصدر التالي، وهما بمعنى واحد كما في "اللسان" (مدر). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 465. (¬8) في (ح): (باطنكم عنهم)، وهو وهم من الناسخ. (¬9) في (ح): الخبت، وهي المفازة كما في "مجمل اللغة" (خبت) 2/ 310، والخباء: من بيوت الأعراب، وهو ما كان من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة. انظر: "لسان العرب" (خبا) 2/ 1098. (¬10) العمد -بفتح العين- اسم للجمع، وأهل العمد: أصحاب الأخبية الذين ينتقلون إلى الكلأ حيث كان، والعمود: الخشبة التي تقوم عليها الخيمة وبيت الشعر. انظر: "لسان العرب" (عمد) 5/ 3097. (¬11) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

وقوله تعالى: {وَأَجْدَرُ}: أي أولى وأخلق، قال الليث: (يقال فلان جدير لذلك الأمر: أي خليق له، وما كان جديرًا، ولقد جدر جدارة، وأجدر به) (¬1)، وإنه لجدير، وإنهما لجديران، وإنهم لجديرون، قال زهير: جديرون يومًا أن ينالوا ويستعلوا (¬2) (¬3) [والمرأة جديرة، والنساء جديرات وجدائر قاله اللحياني (¬4)، وهو مأخوذ من حيدر الحائط وهو رفعه بالبناء له، فقولهم: ذاك أجدر أن تظفر] (¬5) بحاجتك: أي أقرب أن تستعلي عليها، فكذلك هؤلاء أقرب أن يستعلوا على الجهل بالتمكن فيه، وقوله تعالى: {أَلَّا يَعْلَمُوا}، قال الفراء والزجاج: (أن) في موضع نصب لأن الباء محذوفة (¬6). وقوله تعالى: {حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [قال ابن عباس: (يريد ¬

_ (¬1) اهـ. الكلام المنسوب لليث، انظر: "تهذيب اللغة" (جدر) 1/ 558، والنص بنحوه في كتاب: العين (جدر) 6/ 75. (¬2) في (م): (فيستعلوا). وما أثبته موافق لرواية الديوان. (¬3) هذا عجز بيت، وصدره: بخيل عليها جنة عبقرية انظر: "ديوان زهير" ص103، و"المحتسب" 2/ 306، و"لسان العرب" (عبقر) 5/ 2788. وجنة: جمع جن. وعبقرية: أي منسوبة إلى عبقر وهو موضع بالبادية تكثر فيه الجن كما تقول العرب. انظر: "اللسان" (عبقر) 5/ 2788. (¬4) "تهذيب اللغة" (جدر) 1/ 42، وبدايته من نهاية الكلام المنسوب لليث. واللحياني هو: علي بن حازم أبو الحسن اللحياني، من كبار أهل اللغة ومن مشهوري نحاة الكوفة، كان معاصرًا للفراء وتصدر في أيامه، وله كتاب حسن في "النوادر". (¬5) ما بين المعقوفين مكرر في (ى). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 1/ 499، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 2/ 465.

98

فرائض ما أنزل الله على رسوله) (¬1)] (¬2) {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما في قلوب خلقه، {حَكِيمٌ} بما فرض من فرائضه. وقال يمان: وأجدر ألا يعلموا الحلال والحرام (¬3)، وقال ابن كيسان: (يعني حجج الله في توحيده وتثبيت رسالة (¬4) رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم لا ينظرون فيها) (¬5). 98 - قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} الآية، المغرم مصدر كالغرم، ومعنى الغرم لزوم نائبة في المال من غير جناية (¬6) فيثقل ذلك على الإنسان، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] يعني: يتخذ ما ينفق في الجهاد والغزو مغرمًا، قال ابن عباس: (يريد: لا يرجو له ثوابًا، ولا يخاف على إمساكه عقابًا) (¬7). وقوله تعالي: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} الدوائر (¬8): جمع دائرة، وهي الحال المنقلبة عن (¬9) النعمة إلى البلية، وخصت بانقلاب النعمة دون انقلاب النقمة لأن النعمة أغلب وأعم، إذ كل أحد فعليه نعمة من الله، وليس كذلك النقمة؛ لأنها خاصة، مع أنه قد يقال: (دارت [الدوائر: ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 2/ 69 عن الكلبي. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) ومكرر في (م). (¬3) لم أجده فيما بين يدي من المراجع. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) ذكره بنحوه القرطبي في "تفسيره" 8/ 232. (¬6) في (ح): (خيانة). (¬7) رواه الثعلبي 6/ 138 ب، والبغوي 4/ 86. (¬8) ساقط من (ح). (¬9) في (م): (من).

أي) (¬1) دارت لهم] (¬2) الدنيا، بخلاف ما دامت عليهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] (¬3). قال ابن عباس في قوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} يعني الموت أو القتل (¬4)، ونحوه قال الفراء (¬5) والزجاج (¬6). وقال يمان: (أي ينتظر أن تقلب الأمور عليكم، فيموت الرسول ويظهر (¬7) عليكم المشركون) (¬8). {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} الدائرة هاهنا: يجوز أن تكون [واحدة الدوائر، وتكون صفة غالبة، ويجوز أن تكون] (¬9) مصدرًا، كالعاقبة والعافية، قال أبو علي: (والصفة أكثر في الكلام فينبغي أن يحمل عليها، والمعنى فيها: أنها خلة تحيط بالإنسان حتى لا يكون له منها مخلص) (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) انظر: النسخة (ح) 2/ 57 ب وقد قال في هذا الموضع: (الدائرة: من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة التي تخشى كالهزيمة والدبرة والقحط والحوادث المخوفة، قال عبد الله بن مسلم: نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه، ويعنون الجدب فلا تميروننا). (¬4) "تنوير المقباس" ص 202 بنحوه. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 449. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 465. (¬7) في (ح): (ويذهب)، وهو خطأ. (¬8) ذكره بنحوه الثعلبي 6/ 138 ب، والبغوي 4/ 86 (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬10) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 207.

وقوله: {السَّوْءِ} قرئ بفتح السين وضمه (¬1)، قال الفراء: (فتح السين هو وجه الكلام؛ لأنه مصدر قولك: سؤته سوءًا ومسائية ومساءة (¬2) وسوائية، فهذه مصادر (¬3)، ومن رفع السين جعله اسمًا كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب، ولا يجوز ضم السين في قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28] ولا في قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12] لأنه ضد لقولك: هذا رجل صدق، وثوب صدق، فليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء فيضم) (¬4). وقال الأخفش وأبو عبيد: (من فتح السين فهو كقولك: رجل سوء، وامرأة سوء، ثم تدخل الألف واللام فتقول: رجل السوء، وأنشد الأخفش: وكنت كذئب السوء لما رأى دمًا ... بصاحبه يوما أحال (¬5) على الدم (¬6) ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين، وباقي العشرة بفتحها. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 166، وكتاب "إرشاد المبتدي" ص 355، و"تقريب النشر" ص 121. (¬2) كررت في (خ). (¬3) ذكر هذه المصادر ابن منظور في "لسان العرب" (سوأ)، وزاد: سوءا -بضم السين- وسواء وسواءة وسواية ومساية ومساء. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 450. (¬5) في (ح): (أخاك). (¬6) البيت للفرزدق، انظر: ديوانه 2/ 187، و"طبقات فحول الشعراء" 1/ 362، و"كتاب الحيوان" 6/ 298. وقوله: أحال على الدم: قال الجاحظ: (الذئبان ربما أقبلا على الإنسان إقبالًا واحداً، وهما سواء على عداوته، والجزم على أكله، فإذا أدمي أحدهما وثب على صاحبه المدمي فمزقه وأكله، وترك الإنسان). انظر: "كتاب الحيوان" 6/ 298.

ومن ضم السين أراد بالسوء: المضرة والشر والمكروه والبلاء، كأنه قيل: عليهم دائرة الهزيمة والمكروه، وبهم يحيق ذلك) (¬1)، وعلى هذا القياس تقول: رجل السوء (¬2)، [قال (¬3): وذا (¬4) ضعيف، ودائرة السوء أحسن من رجل السوء (¬5)] (¬6) [والرجل لا يضاف إلى السوء كما يضاف هذا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: قول الأخفش في كتاب "معاني القرآن"، له 1/ 363، وقول أبي عبيد في "تفسير الرازي" 16/ 167، وقد دمج المؤلف قول الأخفش في قول أبي عبيد. (¬2) قوله: وعلى هذا القياس تقول: رجل السوء، ليس في كتاب "معاني القرآن" وهو في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 209. (¬3) يعني: الأخفش. (¬4) عبارة الأخفش: (وقد قرئت (دائرة السوء) وذا ضعيف) أهـ. فالإشارة تعود إلى القراءة بضم السين لا إلى قول القائل: رجل السوء، كما يوهم صنيع أبي علي الفارسي الذي نقل المؤلف عبارته علمًا أن هذا القول ضعيف أيضاً عند الأخفش كما في التعليق التالي، والجدير بالتنبيه أن القراءة بضم السين قراءة سبعية فلا يصح الطعن فيها. (¬5) ضُبطت في كتاب "معاني القرآن" بفتح السين، ولعل الصواب الضم، قال ابن بري: قد أجاز الأخفش أن يقال: (رجل السوء، ورجل سَوء، فتح السين فيهما، ولم يجوز رجل سُوء، بضم السين لأن السوء اسم للضر وسوء الحال، وإنما يضاف إلى المصدر السابق: الذي هو فعله، كما يقال: رجل الضرب والطعن، فيقوم مقام قولك: رجلٌ ضراب وطعان، فلهذا جاز أن يقال: رجل السوء، بالفتح، ولم يجز أن يقال: هذا رجل السوء، بالضم). "لسان العرب" (سوأ) 4/ 2160. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬7) "كتاب معاني القرآن" 1/ 364 وبقية عبارته: الآن هذا يفسر به الخير والشر). وقد جعلت المحققة اسم الإشارة (هذا) بين علامتي تنصيص مما زاد في غموض العبارة، واسم الإشارة يعود إلى الدائرة.

99

قال أبو علي الفارسي: (الدائرة لو لم تضف إلى السوء] (¬1) أو السوء عرف منها معنى الشر؛ لأن الدائرة من دوائر الدهر تستعمل للمكروه، ووجه الإضافة هاهنا التوكيد والزيادة في التبيين، كقولك لَحْيَا رأسه، وشمس النهار، فأما السوء فإنه يراد به الرداءة والفساد، ودائرة السوء: دائرة الضرر والمكروه (¬2)) (¬3). وقال يمان: (عليهم يدور النبلاء والحزن فلا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوؤهم) (¬4). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، قال ابن عباس: (يريد: سميع لقولهم عليم بنياتهم) (¬5). 99 - قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، قال ابن عباس: (يعني من أسلم من أعراب أسد وجهينة وغفار) (¬6)، وقال مجاهد: (هم بنو مقرن من مزينة) (¬7)، وقال الضحاك: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) قال المؤلف في "الوسيط" 2/ 519: السوء بالفتح: الرداءة والفساد، وبالضم: الضرر والمكروه. (¬3) أهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 4/ 207، 208، وقد اختصر المؤلف عبارته وتصرف فيها. (¬4) ذكره البغوي في "تفسيره" 4/ 86. (¬5) "تنوير المقباس" ص 202 بنحوه. (¬6) "زاد المسير" 3/ 489، وبنحوه رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 139 أ، والبغوي في "تفسيره" 4/ 86 عن الكلبي. (¬7) رواه ابن جرير 11/ 5، وابن أبي حاتم 6/ 1867، وسنيد وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 482.

(يعني عبد الله ذا البجادين (¬1) ورهطه) (¬2). وقوله تعالى: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} [قال ابن عباس] (¬3): (يريد: يتقرب بذلك من الله) (¬4)، قال الزجاج: (يجوز (¬5) في القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء وإسكانها وفتحها) (¬6). وقوله تعالى: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}، قال قتادة: (يعني دعاءه بالخير والبركة) (¬7)، وقال ابن عباس والحسن: (يعني استغفار الرسول لهم) (¬8). وقال عطاء: (يريد: يرغب (¬9) في دعاء الرسول (¬10) - صلى الله عليه وسلم -) (¬11)، ويجوز ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن عبد نهم بن عفيف المزني، المشهور بلقبه ذي البجادين؛ لأنه لما أسلم ضيق عليه قومه حتى لم يتركوا معه شيئًا فأخذ بجادًا من شعر -وهو الكساء- فقطعه نصفين فاتزر نصفًا، وارتدى نصفًا، وهاجر ولزم النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات في غزوة تبوك، وكان من الأواهين، كثير الذكر وتلاوة القرآن. انظر: "حلية الأولياء" 1/ 121، و"صفة الصفوة" 1/ 677، و"الإصابة" 338 - 339. (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 139 أ. (¬3) ما بين المعقوين ساقط من (ى). (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 519. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 465. (¬7) رواه مختصرًا بن جرير 11/ 5، وابن أبي حاتم 6/ 1867. (¬8) رواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير 11/ 5، وابن أبي حاتم 6/ 1867، وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 482، ولم أجد من ذكره عن الحسن. (¬9) في (ى): (ترغيب)، وفي المصدرين التاليين: يرغبون. (¬10) في (م): (رسول الله). (¬11) "تفسير البغوي" 4/ 87، و"الوسيط" 2/ 519.

عطف الصلوات على (ما) في قوله: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ} [والمعنى أنه] (¬1) يتقرب بصدقته ودعاء الرسول إلى الله، ويجوز عطفها (¬2) على (القربات)، كأنه يتخذ إنفاقه قربة، ويلتمس به (¬3) صلوات الرسول ودعاءه كما يلتمس القربات. وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} القربة: ما يدني من رحمة الله من فعل خير وإسداء عرف، وقرأ نافع في بعض الروايات (قربة) بضم الراء (¬4)، وهو الأصل، ثم تخفف نحو كتُب ورسُل وطنُب، فالأصل الضم، والإسكان تخفيف، ومثله ما حكاه محمد بن يزيد (¬5): بُسْرة وبُسُرة وهُدْبة وهُدُبة، قال أبو علي الفارسي: (ولا يجوز أن يكون الأصل التخفيف ثم يثقل لأن ذلك إنما يجوز إما في الوقف كقوله (¬6): أنا ابن ماوية إذ جد النُّقُرْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح)، وقد وضع الناسخ مكانه ما نصه: (قربات عند الله)، قال ابن عباس: يريد .. وهو خطأ من الناسخ والتباس بما ذكره المؤلف في الجملة المذكورة. (¬2) في (ى): (عطفًا). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) هي رواية ورش وابن جماز وإسماعيل بن جعفر وغيرهم عنه، أما رواية قالون وابن أبي أويس والمسيبي عنه فبالتخفيف كباقي العشرة، انظر "كتاب السبعة" ص 317، و"الغاية في القراءات العشر" ص 166، و"تقريب النشر" ص 119. (¬5) هو: المبرد، وانظر قوله في: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 212. (¬6) البيت من الرجز، وبعده: وجاءت الخيل أثابي زمر وقد اختلف في قائله، ففي "لسان العرب" (نقر) نسب لعبيد بن ماوية الطائي، =

حرك القاف بالحركة التي كانت تكون للام في الإدراج، وإما في إتباعٍ (¬1) لما قبلها للضرورة نحو قول الشاعر (¬2): إذا تجرد نوح قامتا معه ... ضربا أليمًا بسبتٍ يلعج الجِلِدا كسر اللام إتباعًا لحركة فاء الفعل للضرورة، ولا يجوز واحد من الوجهين في الآية؛ لأن قوله: (قُربة) ليس موقوفًا عليه، ولا يجوز أن تحمل حركة الراء على إتباع ما قبلها؛ لأن ذلك إنما يجوز في الضرورة، وإذا لم يجز الحمل على واحد من الأمرين علمت أن الحركة هي الأصل (¬3). قال ابن عباس في قوله: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}، يريد نور (¬4) لهم ومكرمة (¬5) عند الله (¬6). ¬

_ = ونسب له أو لفدكي بن عبد الله في "الدرر اللوامع" 6/ 300، ولفدكي المنقري في القاموس (فصل النون، باب الراء) 486، ولبعض السعديين في "كتاب سيبويه" 4/ 173. والنقر: قال الفيروزأبادي في الموضع السابق: (أن تلزق طرف لسانك بحنكك ثم تصوت، أو هو اضطراب اللسان، أو هو صويت تزعج به الفرس). أما الأثابي: فهي الجماعات. انظر: "لسان العرب" (ثبا) 1/ 470. (¬1) هذا هو الوجه الثاني في جواز أن يكون الأصل التخفيف ثم يثقل. (¬2) هو: عبد مناف بن ربع الهذلي، كما في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 672، و"جمهرة اللغة" (علج) 1/ 483، و"لسان العرب" (لعج) 7/ 4041، و"نوادر أبي زيد" ص 30. (¬3) "الحجة" 4/ 209 - 212 باختصار وتصرف. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) في (م): (تكرمة). (¬6) "الوسيط" 2/ 519.

100

قوله تعالى: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} قال يريد: (في جنته) (¬1)، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم {رَحِيمٌ} بأوليائه وأهل طاعته. 100 - قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد الذين صدقوا النبي وهاجروا إلى المدينة) (¬2). وقال أبو موسى وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين (¬3). وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرًا (¬4). وقال الشعبي: (هم الذين شهدوا بيعة الرضوان) (¬5) فهؤلاء السباق من المهاجرين (¬6)، وسباق الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى [وكانوا سبعة، ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 3/ 490، و"تنوير المقباس" ص 202. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) ذكر آثارهم ابن جرير 11/ 6 - 8، وابن أبي حاتم 16 - 1868، والثعلبي 6/ 139 ب، والبغوي 4/ 87، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 519. (¬4) ذكره البغوي 4/ 87، وابن الجوزي 3/ 490، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 520. (¬5) رواه ابن جرير 11/ 6، وابن أبي حاتم 16/ 1868، والبغوي 4/ 87. وبيعة الرضوان هي البيعة التي تمت في الحديبية لما أشيع أن المشركين قتلوا عثمان -رضي الله عنه-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، ودعا الناس إلى البيعة على الموت أو عدم الفرار، وفي هذه البيعة نزل قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. انظر: السيرة النبوية 3/ 364. (¬6) في تخصيص المهاجرين بما ذكر نظر فإن جميع الأقوال التي ذكرها المؤلف عدا قول ابن عباس يشترك فيها المهاجرون والأنصار، فكثير من الأنصار صلوا القبلتين، وشهدوا بدرًا، وبايعوا بيعة الرضوان، وقد ذكر ابن جرير أقوال المفسرين في السابقين بعد قوله: اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: (والسابقون الأولون) أ. هـ ثم ذكر الأقوال جميعًا سواء ذكرت المهاجرين =

والثانية] (¬1) وكانوا سبعين، والذين آمنوا بالمدينة حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. قاله ابن عباس وغيره (¬2). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم، ويذكرون محاسنهم ويسألون الله أن يجمع بينهم) (¬3)، وقال في رواية أخرى: (والذين اتبعوهم على دينهم من أهل الإيمان إلى أن تقوم الساعة) (¬4)، ونحوه قال الزجاج: (أي من اتبعهم إلى يوم القيامة) (¬5). وقال الفراء: (ومن أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة) (¬6). ¬

_ = والأنصار، أو المهاجرين وحدهم. وكذلك فعل البغوي 4/ 87، والماوردي 2/ 394، وابن الجوزي 3/ 490، وابن كثير 2/ 421 فما قيل في السابقين من المهاجرين يقال في السابقين من الأنصار، أما ما ذكره المؤلف عن سباق الأنصار فإن غيره ذكره في مبحث أول الناس إسلامًا وهو أخص من السبق المذكور في الآية، انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 141 ب، والبغوي 4/ 88. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) ذكره بمعناه الماوردي في "تفسيره" 2/ 395، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 491، دون تعيين القائل، وانظر قصة بيعة العقبة الأولى والثانية، وعلام كانتا، ومن بايع فيهما في "السيرة النبوية" 2/ 39 - 74، و"زاد المعاد" 3/ 44 - 49. (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 139 أ، والبغوي في "تفسيره" 4/ 88، وانظر: "الوسيط" 2/ 521، و"زاد المسير" 3/ 491. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 172، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 491، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 521. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 466. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 450.

وقال الكلبي: (السابقون من الفريقين الذين سبقوا بالإيمان والهجرة والجهاد والنصرة، ثم من اتبعهم على منهاجهم إلى قيام الساعة) (¬1). وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} يريد: رضي الله أعمالهم ورضوا ثواب الله [قاله ابن عباس (¬2)، ونحوه قال الزجاج: (رضي الله أفعالهم (¬3) ورضوا ما جازاهم به) (¬4)] (¬5). وروي عن أبي صخر حميد (¬6) بن زياد (¬7) أنه قال: قلت يوما لمحمد ابن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله (¬8) -صلى الله عليه وسلم- فيما كان بينهم، وإنما أريد الفتن (¬9)، فقال لي: إن الله -عز وجل- قد غفر لجميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-[وأوجب لهم الجنة، (في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة؟) (¬10) قال: سبحان الله! ألا ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 203 بنحوه عن الكلبي عن ابن عباس. (¬2) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 203. (¬3) في (ى): (رضي أفعالهم). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 466. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) ساقط من (ح). (¬7) هو: حميد بن صخر بن أبي المخارق، أبو صخر المدني الخراط، اختلف في توثيقه، فقال الإمام أحمد: لا بأس به، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يهم، وتوفي سنة 189 هـ. انظر: "الكاشف" 1/ 353، و"تقريب التهذيب" ص 181 (1546)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 495. (¬8) في (ى): (محمد). (¬9) يعني وقعة الجمل وصفين ونحو ذلك. (¬10) ما بين القوسين من (م).

101

تقرأ قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى آخرها (¬1)، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-] (¬2) الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطًا لم يشرطه عليهم، قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: اشترط عليهم (¬3) أن يتبعوهم بإحسان، يقول: فاقتدوا بأعمالهم الحسنة ولا تقتدوا بهم في غير ذلك، قال أبو صخر (¬4): (فوالله لكأني لم أقرأها قط، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب) (¬5)، فعلى هذا يراد بالسابقين الأولين جميع (¬6) أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، وهم أول هذه الأمة، والأولية لجميعهم ثابتة بإدراكهم النبي -صلى الله عليه وسلم-[وصحبتهم معه. 101 - قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ}] (¬7)، قال ابن عباس والمفسرون: (يريد: مزينة وأسلم وجهينة وغفار {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} يريد الأوس والخزرج (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) إلى قوله (الأعراب). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) في (م): (ابن صخر)، وفي (ح): (أصحاب صخر)، وكلاهما خطأ. (¬5) أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر كما في "الدر المنثور" 3/ 485 - 486، وذكره البغوي في "تفسيره" 4/ 88 بغير سند. (¬6) في (ى): (من). (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (¬8) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 491، عن ابن عباس، وانظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 142 ب، والبغوي 4/ 89، والقرطبي 8/ 240.

وقوله (¬1): {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}، قال الزجاج: {مَرَدُوا} متصل بقوله: {مُنَافِقُونَ} على التقديم والتأخير) (¬2)، بتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون (¬3) مردوا على النفاق، قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون التقدير: ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق، فأضمر (مَن) لدلالة (¬4) (مِن) عليها، كما قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164]: يريد: إلا من) (¬5)، ومضت نظائر هذا (¬6). ومعنى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} يقال: مرد يمرد مرودًا فهو مارد ومريدٌ: إذا عتا وطغى وأعيا خبثًا، قال الليث: (والمرادة: مصدر المارد، والمريد من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا ومرد على الشر، وتمرد: أي عتا وطغى) (¬7). وقال ابن الأعرابي: (المرد: التطاول بالكبر والمعاصي، ومنه قوله: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي تطاولوا (¬8). ¬

_ (¬1) من (م). (¬2) أهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 467. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) في (ح) و (ى): (بدلالة). (¬5) "زاد المسير" 3/ 492، وتفسير الرازي 16/ 173. (¬6) انظر مثلًا: "تفسير البسيط" تفسير الآية: 3 من سورة التوبة (¬7) "تهذيب اللغة" (مرد) 4/ 3373، والنص بنحوه في "كتاب العين"، مادة: (مرد) 8/ 37. (¬8) "تهذيب اللغة" (مرد) 4/ 3373.

وقال الفراء: (يريد: مرنوا عليه وجرنوا (¬1)، كقولك: تمردوا) (¬2). وأصل الحرف اللين والملاسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئًا (¬3)، قال محمد بن إسحاق: (لجوا فيه وأبوا غيره) (¬4)، وقال ابن زيد: (أقاموا (¬5) عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون) (¬6)، وقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} هو كقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: الأمراض في الدنيا، وعذاب الآخرة، وذلك (¬7) أن من مرض من المؤمنين كفر الله سيئاته، ومحص ذنوبه، وأبدله لحمًا ودمًا خيرًا بما ذهب منه، وأعقبه ثوابًا عظيمًا، ومن مرض من المنافقين زاده نفاقًا وإثمًا (¬8) وضعفًا) (¬9). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وهو موافق لما في "تهذيب اللغة" (مرد) 4/ 3373، وفي "معاني القرآن" للفراء: جرؤوا. ويبدو أنه تصحيف من النساخ أو المحقق، ومعنى جرنوا: قال في "لسان العرب" (جرن) 1/ 608: (جرن فلان على العذال ومرن ومرد بمعنى واحد، ويقال للرجل والدابة إذا تعود الأمر ومرن عليه: قد جرن يجرُن جرونا). (¬2) كلام الفراء في "معاني القرآن" 1/ 450. (¬3) في الصحاح (مرد): (رملة مرداء: لا نبت فيها .. وتمريد البناء: تمليسه). (¬4) "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 212. (¬5) في (ى): (نالوا). (¬6) رواه ابن جرير 11/ 9، وابن أبي حاتم 16/ 1869. (¬7) ساقطة من (ى). (¬8) من (م). (¬9) رواه الثعلبي في "تفسيره" 6/ 143 ب عن عطاء.

وقال في رواية السدي عن أبي مالك عنه: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيباً (¬1) يوم (¬2) الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق [اخرج يا فلان فإنك منافق] (¬3) فأخرج من المسجد ناسًا وفضحهم، فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر) (¬4). [وقال مجاهد: (بالقتل والسبي وعذاب القبر) (¬5). وقال قتادة: (بالدبيلة (¬6) وعذاب القبر) (¬7)] (¬8) وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسر ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) في (ى): (بعد)، وما أثبته موافق لمصادر تخريج القول. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) رواه ابن جرير في "تفسيره" 10/ 11، وابن أبي حاتم 16/ 1870، والثعلبي 6/ 143 أ، والطبراني في "الأوسط" رقم (796) 1/ 441 وفي سنده الحسين بن عمرو العنقزي وهو ضعيف كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 111 ثم إنه لم يروه عن السدي إلا أسباط بن نصر كما ذكر الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في "تفسير الكشاف" 2/ 97، وأسباط صدوق كثير الخطأ يغرب كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" 1/ 53 فمثله لا يحتمل تفرده، ولا يقويه رواية الكلبي للأثر كما في "تفسير البغوي" 6/ 89، و"الوسيط" 2/ 521، لأن الكلبي متهم بالكذب. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 143 أ، ورواه ابن جرير 10/ 11، وابن أبي حاتم 16/ 1871، والبغوي 4/ 89 بلفظ: (القتل والسبي)، ولابن جرير رواية أخرى لفظها: (بالجوع وعذاب القبر). (¬6) الدبيلة في عرف العرب: خراج ودمل كبير يظهر في الجوف، ويقتل غالبًا. انظر: "لسان العرب" (دبل) 3/ 1324. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 143 أ، والبغوي 4/ 89. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).

102

إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين وقال: "ستة يكفيهم الله بالدبيلة، سراج من نار تأخذ أحدهم حتى تخرج من صدره، وستة يموتون موتًا" (¬1). وقال الحسن: (بأخذ الزكاة من أموالهم وعذاب القبر) (¬2). وقال محمد بن إسحاق: (هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبة (¬3)، ثم عذابهم في القبور) (¬4). وقال إسماعيل بن أبي زياد (¬5): (أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار، والثاني عند البعث، يوكل بهم عنق من نار) (¬6). {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} يعني: الخلود في النار. 102 - قوله تعالى: {وَآخَرُونَ} أي ومن أهل المدينة آخرون {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الاعتراف: الإقرار [بالذنب أو بالذل والمهانة والرضا به، واعترف فلان] (¬7) إذا ذل وانقاد، قال أصحاب العربية: (ومعناه الإقرار ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 11/ 11 عن قتادة، وفي سنده مجهول. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 11، والثعلبي 6/ 143 أ. (¬3) في (ح): (خشيتهم)، وهو خطأ. (¬4) "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 212. (¬5) هو: إسماعيل بن أبي زياد الكوفي الشامي قاضي الموصل، واسم أبيه مسلم، وقيل زياد، له كتاب في التفسير شحنه بأحاديث لا يتابع عليها، قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب، متروك، وقال ابن حجر: متروك كذبوه. انظر: "الضعفاء والمتروكون" ص 139، "تهذيب الكمال" 3/ 206، و"تقريب التهذيب" ص 107 (446)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 151 - 152، و"طبقات المفسرين" للداودي 1/ 108. (¬6) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 6/ 143 ب. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

بالشيء عن معرفة (¬1) (¬2). وقال أهل التفسير: (نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن (¬3) غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك، وتذمموا، وقالوا نكون في الكن (¬4) والظلال مع النساء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الجهاد، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو يطلقنا ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقسم لا يطلقهم ولا يعذرهم حتى يؤمر بذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأطلقهم وعذرهم) (¬5). وقوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا}، قال ابن عباس: (يريد نية صادقة وبراءة من النفاق) (¬6)، وقال الكلبي: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} يعني التخلف عن الغزو، و {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} يعني التوبة، {وَآخَرَ سَيِّئًا} تقاعدهم عن الغزو) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ى): (معروفه)، وهو خطأ. (¬2) انظر: "المفردات في غريب القرآن" ص332، و"لسان العرب" (عرف) 5/ 2899، والقول بنصه للزهري كما في "زاد المسير" 3/ 495. (¬3) في (ح): (في). (¬4) الكن: البيت ووقاء كل شىء وستره. انظر: "القاموس المحيط"، فصل الكاف، باب: النون. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 2/ 286، وابن جرير 11/ 12 - 13، وابن أبي حاتم 6/ 1872، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 272، و"أسباب النزول" للمؤلف ص 263، و"لباب النقول" ص 123، 124. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) ذكره الزمخشري في "الكشاف" 2/ 212 بنحوه.

وقال الحسن: (العمل الصالح: خروجهم إلى الجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل هذا، والسيء: تخلفهم عن تبوك) (¬1)، وذكر الفراء القولين جميعًا (¬2). والعرب تقول: خلطت الماء باللبن، وخلطت الماء واللبن. [قال أهل المعاني: (من قال بالواو فلأنه أراد معنى الجمع كأنه يقول: جمعت بينهما] (¬3) كما تقول: جمعت زيدًا وعمرًا، والواو في الآية أحسن من الباء؛ لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيء كما يختلط الماء باللبن، ولكن قد يجمع بينهما. وقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، قال ابن عباس والمفسرون: ((عسى) من الله واجب) (¬4). لأنه قال: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52] ففعل ذلك، وكذلك تاب على هؤلاء، وقال أهل المعاني: (لفظ (عسى) هاهنا بيان عن أنه ينبغي أن يكونوا على الطمع والإشفاق؛ لأنه أبعد من الاتكال والإهمال) (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق: نفس الموضع. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 450، 451. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) رواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير 11/ 13، وابن أبي حاتم 6/ 1874، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: السير، باب: ما جاء في عذر المستضعفين رقم (17753) 9/ 23 وهو قول الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك، كما في "الدر المنثور" 1/ 438، 3/ 489 وقول الضحاك كما في "تفسير ابن جرير" 11/ 14. (¬5) انظر: "زاد المسير" 3/ 495، و"تفسير الرازي" 16/ 176 ولم أجده في كتب أهل المعاني.

103

103 - قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، قال المفسرون: (لما عذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء وأطلقهم قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا" فأنزل الله هذه الآية (¬1)، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلث أموالهم وترك الثلثين؛ لأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ولم يقل (¬2) أموالهم) (¬3). قال الحسن: (هذه الصدقة هي كفارة الذنوب التي أصابوها وليست بالزكاة المفروضة) (¬4)، ونحو هذا قال ابن كيسان (¬5)، وقال عكرمة: (هي صدقة الفرض) (¬6)، وقال أهل العلم: (الآية وإن كانت نازلة في صدقة التطوع، فهي عامة الحكم) (¬7). والإمام أولى بأن يتولى أخذ الصدقات [ومعنى الجمع في الأموال يقتضي أنه يأخذ بعض كل صنف من المال: الثمار والمواشي والنقود. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 16 - 18، وابن أبي حاتم 6/ 1874 - 1875، والثعلبي 6/ 144 أ، والبغوي 4/ 90، وأسباب النزول للمؤلف ص 258. (¬2) في (ى): (ولم يقل خذ)، والمثبت موافق لتفسير الثعلبي. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 145 أ، والبغوي 4/ 91، وروى نحوه مطولاً عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 286، وابن جرير في "تفسيره" 11/ 15 عن الزهري لكنه مرسل. (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 177، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 522. (¬5) انظر قوله في: "تفسير الثعلبي" 6/ 145 ب، والبغوي 4/ 92. (¬6) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 398، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 496، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 522، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 244. (¬7) انظر: "أحكام القرآن" للإمام الشافعي 1/ 120، و"فقه الزكاة" للقرضاوي 1/ 24.

وقوله] (¬1) تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: تطهرهم من الذنوب) (¬2)، قال أبو إسحاق: (يصلح (¬3) أن يكون: {تُطَهِّرُهُمْ} [نعتاً للصدقة كأنه قال خذ من أموالهم صدقة مطهرة، والأجود أن يكون {تُطَهِّرُهُمْ}] (¬4) للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ المعنى خذ من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بها) (¬5). قال أبو علي: (من جعل (التاء) في {تُطَهِّرُهُمْ} ضمير الصدقة ولم يجعله ضمير (¬6) فعل المخاطب فلِما جاء من أن الصدقة أوساخ الناس (¬7)، فإذا أخذت منهم كان كالدفع (¬8) لذلك، ودفعه (¬9) تطهيره) (¬10)، ويجوز أن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (¬2) "زاد المسير" 3/ 496، و"تنوير المقباس" ص 203. (¬3) في (ى): (يجوز)، وما أثبته موافق للمصدر. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 467. (¬6) في (ى): (ضمير الصدقة)، وهو وهم من الناسخ. (¬7) وذلك في الحديث الذي رواه مسلم (1072)، كتاب: الزكاة، باب: ترك استعمال آل النبي على الصدقة، ولفظه: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس". (¬8) في"الحجة": كالرفع. والمعنيان متقاربان، وقد اعتمد الرازي المعنى الذي ذكره المحؤلف فقال: (وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس، فإذا أخذت الصدقة اندفعت تلك الأوساخ، فكان اندفاعها جاريًا مجرى التطهير). تفسير الرازي 16/ 179، والرازي كثير الاعتماد على "البسيط"، وعبارته تؤكد أن الواحدي أراد الدفع وليس الرفع. (¬9) في "الحجة": (ورفعه)، وانظر التعليق السابق. (¬10) أهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 2/ 324.

تكون طهارة من جهة الحكم وإن لم تُزِل شيئاً نجسًا عن (¬1) أبدانهم كما (¬2) أثبت نجاسة الحكم للمشركين في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] أثبت طهارة الحكم للمسلمين بالصدقة، وعلى هذا الوجه في {تُطَهِّرُهُمْ} تجعل: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [منقطعًا عن الأول، أي: وأنت تزكيهم بها] (¬3)، ويجوز أن تجعل (التاء) في في {تُطَهِّرُهُمْ} ضمير المخاطب، ويكون المعنى: تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها (¬4) منهم، ويقوي هذا الوجه قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} لأن قوله: (تزكي) للآخذ (¬5)، فكذلك (تطهير)، ولا يحسن الانقطاع مع إمكان الاتصال (¬6). وقوله: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: ترفعهم بهذه الصدقة من منازل المنافقين (¬7) إلى منازل المخلصين، وإلى هذا المعنى أشار ابن عباس في تفسير هذا الحرف فقال: أقبل منهم (¬8) وأتوب عليهم (¬9). ¬

_ (¬1) في (ح): (من). (¬2) السياق يقتضي أن يقول: (فكما). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) في (ح): (بما تأخذها). (¬5) في (ح): (الآخذ). (¬6) في (ح): (الانفصال)، وهو خطأ. (¬7) لم يثبت أن هؤلاء كانوا منافقين، بل من عصاة المؤمنين، كما أخبر الله عنهم بقوله في الآية السابقة {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} وليس في قول ابن عباس المذكور ما يؤيد ما ذكره المؤلف. (¬8) في (ح): (نبيهم)، وهو خطأ. (¬9) لم أجد من ذكره، ولفظ الأثر ومعناه غير متوافق مع الآية، وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 496 عنه في تفسير قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ} قال: (تصلحهم).

{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}، قال يريد: (ادع لهم) (¬1)، وذكرنا أن معنى الصلاة في اللغة: الدعاء، وهذا دليل على أن السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت (¬2)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم صل على آل أبي أوفى" (¬3) [لما أتاه أبو أوفى] (¬4) بصدقته (¬5). وقوله تعالى: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وقرئ (صلاتك) على واحدة (¬6)، قال أبو عبيد (¬7): (الصلاة عندي أكثر من الصلوات؛ لأن الصلوات للجمع القليل، كقولك: ثلاث صلوات، وأربع (¬8) وخمس) (¬9). ¬

_ (¬1) رواه بمعناه ابن جرير 11/ 16، 17، 18، وابن أبي حاتم 6/ 1876. (¬2) روى أبو داود (1583)، كتاب: الزكاة، باب: في زكاة السائمة، حديثًا طويلًا في الزكاة، وفيه: (فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبضها -يعني زكاة ماله- ودعا له في ماله بالبركة). (¬3) هو: عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي، صحابي شهد الحديبية وعُمّر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، مات سنة 87 هـ وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة. انظر: "الإصابة" 2/ 279، و"تقريب التهذيب" 296 (3219) (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) رواه البخاري (1497)، كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078)، كتاب: الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته. (¬6) قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم (إن صلاتك) بالتوحيد، وقرأ الباقون (إن صلواتك) بالجمع، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 166، و"تقريب النشر" ص 121. (¬7) في (ى): (أبو عبيدة)، وهو خطأ. (¬8) في (ح): (أربع صلوات)، وهذه الزيادة ليست في المصدر التالي. (¬9) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 145 ب.

وقال أبو حاتم: (من زعم أن الجمع بالتاء تقليل فقد غلط؛ لأن الله تعالى قال: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]، لم يرد القليل) (¬1). قال أبو علي الفارسي: (الصلاة مصدر يقع على الجميع والمفرد بلفظ واحد كقوله سبحانه: {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] [فإذا اختلفت جاز أن يُجمع لاختلاف ضروبه كما قال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}] (¬2) [لقمان: 19] ومن المفرد الذي يراد به الجميع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) والمصدر إذا سمي به صار (¬4) بالتسمية وكثرة الاستعمال كالخارجة (¬5) عن حكم المصادر، وإذا (¬6) جمعت (¬7) المصادر إذا اختلفت نحو قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} [لقمان: 19] فأن يجمع ما صار بالتسمية كالخارج عن حكم المصادر أجدر) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: المصدر السابق، نفس الموضوع. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) [البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77، يونس: 87، النور: 56، الروم: 31، المزمل: 20]. (¬4) في (ى): (جاز)، وهو خطأ. (¬5) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي التذكير، وقد تصرف الواحدي في عبارة أبي علي ونصها: (وحسن ذلك جمعها حيث جمعت لأنه صار بالتسمية بها وكثرة الاستعمال لها كالخارجة عن ..) الخ. (¬6) ساقط من (ح). (¬7) في (ح): (اجتمعت)، وهو خطأ. (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 214، 215 باختصار وتصرف.

وقال بعضهم: (الصلوات) في هذه السورة وفي هود (¬1) وفي المؤمنين (¬2) مكتوبات (¬3) في المصحف بالواو، والتي في (سأل سائل) مكتوبة بغير واو (¬4)، فإذا اتجه الإفراد والجمع في العربية ورجح أحدَ (¬5) الوجهين الموافقةُ لخط المصحف كان ذلك ترجيحًا يجعله أولى بالأخذ به، قال: (ومن زعم أن (الصلاة) أولى لأن (الصلاة) للكثرة (¬6) و (الصلوات) للقليل (¬7) فليس قوله بمتجه؛ لأن الجمع بالتاء قد يقع على الكثير كقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} [سبأ: 37]، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] (¬8). وقوله تعالى: {سَكَنٌ لَهُمْ} السكن في اللغة: ما سكنت إليه، فالمعنى: إن دعواتك مما تسكن إليه نفوسهم، قال ابن عباس: (يريد: دعاؤك رحمة لهم) (¬9). وقال قتادة: (وقار لهم) (¬10). ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87]. (¬2) في (ى): المؤمنون، وما أثبته موافق للمصدر التالي، والمقصود قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]. (¬5) في (ح): (إحدى). (¬6) في (ح): (لكثرة). (¬7) في (ح): (للتقليل). (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 217 ولم يعين القائل. (¬9) رواه مختصرًا دون قوله (دعاؤك) ابن جرير 11/ 18، وابن أبي حاتم 6/ 1876، والثعلبي 6/ 145 ب، ورواه بلفظ المؤلف البغوي في "تفسيره" 4/ 91. (¬10) رواه ابن جرير 11/ 18، وابن أبي حاتم 6/ 1876، والثعلبي 6/ 145 ب.

104

وقال الكلبي: (طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم) (¬1). وقال الكفراء: (استغفر لهم؛ فإن استغفارك لهم تسكن إليه قلوبهم، وتطمئن بأن قد تاب الله عليهم) (¬2). وقوله (¬3): {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بندامتهم ورجوعهم. 104 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} الآية، قال أهل التفسير: (لما نزلت توبة هؤلاء، قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فقال الله -عز وجل-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (¬4). ومعنى صيغة الاستفهام هاهنا: التنبيه على ما يجب أن يعلموا، وقوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}، قال المفسرون وأهل المعاني: (معناه: يقبلها) (¬5)، ولكن ذكر بلفظ الأخذ ترغيبًا في الصدقة ودعاء إليها. قال بعض أهل (¬6) المعاني: (معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها ولما كان هو المجازي بها والمثيب عليها أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان السائل يأخذها كمن أهديت إليه شيئًا فأخذه بعض من أقامه لأخذ ¬

_ (¬1) الثعلبي 4/ 145 ب، وابن الجوزي 3/ 496، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 522. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 451. (¬3) من (م). (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 19، وابن أبي حاتم 6/ 1876، والثعلبي 6/ 145 ب. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 467، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 199، و"تأويل مشكل القرآن"، له ص 502، و"معاني القرآن الكريم" للنحاس 2/ 251، و"تفسير الثعلبي" 6/ 146 أ، والبغوي 4/ 29. (¬6) في (م): (أصحاب)، ولم أجد قولهم هذا فيما بين يدي من مصادر.

105

الهدايا كان الأخذ منسوبًا إلى المهدي إليه وإن لم يتول الأخذ بنفسه لأنه هو المقصود بتلك الهدية). وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} يريد: يرجع إلى من رجع إليه بالرحمة والمغفرة، قاله ابن عباس (¬1). 105 - وقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا}، قال عطاء عن ابن عباس يريد: (يا معشر عبادي المحسن والمسيء (¬2)) (¬3) {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} يريد: إن الله تعالى يطلع (¬4) المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشر؛ إن كان خيرًا أوقع في قلوبهم لهم المحبة، وإن كان شرًا أوقع في قلوبهم لهم (¬5) البغضة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو (¬6) أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنًا ما كان" (¬7) ومعنى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} سيحدث المرئي فتصح الصفة (برأى) (¬8) ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 2/ 523. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 523. (¬4) في (ح): (مطلع)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط". (¬5) ساقط من (م) و (ى). (¬6) ساقط من (ح). (¬7) رواه أحمد في "المسند" 3/ 28، والحاكم في "المستدرك" 4/ 314 وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ووراه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) رقم (5678) 12/ 491، وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني، انظر: "ضعيف الجامع الصغير"، رقم (4802) 5/ 40، وكذلك الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على "صحيح ابن حبان". (¬8) ساقط من (ح) وفي (ى): (يرى)، والمعنى: سيحدث المرئي فيرى الله ذلك، وحينئذٍ يصح وصف الله برأى فيقال: رأى الله ما حدث.

106

وإذا لم يحدث استحالت إذ كانت الرؤية تدل على وجود المرئي. وقوله تعالى: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، قال ابن عباس: (يوقفكم على أعمالكم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء) (¬1)، كما (¬2) قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [النجم:31] الآية، ومثل هذه الآية قد تقدم في هذه السورة (¬3). 106 - وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} الآية، ذكرنا الكلام في معنى الإرجاء في سورة الأعراف، وهو تأخير الأمر إلى وقت، وسميت المرجئة (¬4) لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها (¬5) إلى مشيئة الله تعالى. ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 523. (¬2) من (ى). (¬3) يعني الآية: 94. (¬4) المرجئة فرق شتى ومذاهب مختلفة، وهم أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، وإذا أطلق لفظ المرجئة فالمراد بهم الصنف الأخير، وهم القائلون إن فعل الأعمال الصالحة، وترك المحظورات البدنية لا يدخل في مسمى الإيمان، وقد افترقوا في تعريف الإيمان إلى اثنتي عشرة فرقة، كما ذكر الأشعري، وذكر ابن تيمية أنهم صاروا على ثلاثة أقوال: الأول: قول علمائهم وأئمتهم إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان. الثاني: قول الجهمية إن الإيمان تصديق القلب فقط. الثالث: قول الكرامية إن الإيمان قول اللسان فقط. انظر: مقالات الإسلاميين 1/ 213، و"الملل والنحل" للشهرستاني 1/ 139، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 12/ 471، 13/ 55. (¬5) في (ي): (يرجونها).

وقال الأوزاعي: (لأنهم يؤخرون (¬1) العمل من الإيمان) (¬2)، قال ابن عباس وعامة المفسرين: (نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر: كعب بن مالك (¬3) من بني سلمة، وهلال بن أمية الواقفي (¬4)، ومرارة بن الربيع الزبيدي (¬5) كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك وكانوا مياسير، ثم (¬6) لم يتسع لهم العذر كما اتسع للآخرين الذي ذكروا قبل هذا (¬7)، ولم يبالغوا في التنصل والاعتذار كما فعل الآخرون، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فوقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم، ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم، حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآيات بعد خمسين ليلة (¬8). ¬

_ (¬1) في (ى): (لا يؤخرونها)، وهو خطأ مخالف لقول المرجئة. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (رجا) 2/ 1362. (¬3) هو: كعب بن مالك بن عمرو بن القين السلمي الأنصاري، شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وممن بايع بيعة العقبة، وأحد الثلاثة الذين خلفوا، فتاب الله عليهم، وتوفي في خلافة علي. انظر: "سير أعلام النبلاء" 2/ 523، و"الإصابة" 3/ 302، و"تقريب التهذيب" ص 461 (5649). (¬4) هو: هلال بن أمية بن عامر بن قيس الواقفي الأنصاري صحابي جليل، شهد بدرًا وما بعدها، وتخلف عن غزوة تبوك ثم تاب الله عليه. انظر: الاستيعاب 4/ 103، و"الإصابة" 3/ 606. (¬5) هو: مرارة بن الربيع الأوسي الأنصاري، من بني عمرو بن عوف، ويقال إنه حليف لهم وأصله من قضاعة، شهد بدرًا، وتخلف عن غزوة تبوك ثم تاب الله عليه. انظر: " الاستيعاب" 3/ 439، و"الإصابة" 3/ 396 - 697. (¬6) ساقط من (م). (¬7) يعني الذين ربطوا أنفسهم بالسواري. (¬8) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 21 - 22، وابن أبي حاتم 6/ 1878، والثعلبي 6/ 146 أ، والبغوي 4/ 92.

107

ومعنى: {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}، قال ابن عباس: (مؤخرون ليقضي فيهم ما هو قاضٍ) (¬1). وقوله تعالى: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}، قال أبو إسحاق: ((إما) لأحد الشيئين، والله -عز وجل- عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أن هذا للعباد، خوطبوا بما يعلمون، المعنى: ليكن أمرهم عندكم على هذا أي على الخوف والرجاء) (¬2)، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل لهم (¬3) عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي بما تؤول إليه حالهم {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم. 107 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} الآية، قرأ نافع وابن عامر: (الذين) بغير واو (¬4)، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة (¬5)، فمن ألحق (¬6) الواو جعله معطوفًا على ما قبله من قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] [(وآخرون اعترفوا)] (¬7) {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} [التوبة: 106] أي ومنهم ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 203 بمعناه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 468 بتصرف. (¬3) في (ح): (بهم). (¬4) وكذلك قرأ أبو جعفر المدني، وقرأ الباقون بالواو، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 167، و"التبصرة في القراءات" ص 216، و"تقريب النشر" ص 121. (¬5) انظر: "كتاب المصاحف" لأبي بكر ابن أبي داود ص 49، و"كتاب السبعة في القراءات" ص 318. (¬6) في (ح): لحق. (¬7) [التوبة: 102] وهي ساقطة من النسخة (ح).

آخرون، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} أي: ومنهم الذين اتخذوا، ومن لم يلحق الواو لم (¬1) يجز أن يكون (الذين) بدلًا من قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} كما تبدل المعرفة من النكرة؛ لأن أولئك غير هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا (¬2)، وإذا لم يكونوا هم لم يجز أن يبدلوا منهم، ولكن من لم يلحق الواو جاز (¬3) على أمرين أحدهما: أن تضمر: ومنهم الذين اتخذوا؛ كما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أي فيقال لهم: أكفرتم؛ فكذلك حذف الخبر مع الحرف اللاحق له هاهنا. والثاني: أن تضمر الخبر على تقدير: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} إلى قوله: {مِنْ قَبْلُ} منهم، وحسن حذف الخبر لطول الكلام بالمبتدأ وصلته، ومثله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {وَالْبَادِ} [الحج: 25] والمعنى فيه: ينتقم منهم، أو يعذبون، ونحو ذلك مما يليق بهذا المبتدأ (¬4). قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: (هؤلاء كانوا اثني (¬5) عشر رجلًا من المنافقين بنوا مسجدًا يضارون به مسجد قباء) (¬6). ¬

_ (¬1) في (ح): (ولم)، وهو خطأ. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 240 الذي نقل منه هذا النص: جاز قوله على ... إلخ. (¬4) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 240 - 241. (¬5) في (ح): (اثنا). (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 22 - 26، وابن أبي حاتم 6/ 1898، والبغوي 4/ 93، وابن الجوزي 3/ 499، والرازي 16/ 193، و"الدر المنثور" 3/ 494 - 495.

والضرار محاولة التفسير، كما أن الشقاق محاولة ما يشق، قال أبو إسحاق: (وانتصب (ضرارًا) لأنه (¬1) مفعول له، المعنى: اتخذوه للضرار ولما ذكر بعده، فلما حذفت اللام أفضى الفعل فنصب، قال: وجائز أن يكون مصدرًا محمولًا على المعنى [لأن معنى] (¬2) قوله: {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا}: ضاروا به ضرارًا (¬3)) (¬4). وقوله تعالى: {وَكُفْرًا}، قال ابن عباس: (يريد ضرارًا للمؤمنين وكفرًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به) (¬5) وقال الزجاج: (لأن عناد النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر) (¬6)، وقال غيره: (اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن علي النبي - صلى الله عليه وسلم - والإسلام) (¬7). وقوله تعالى: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قال المفسرون: (يفرقون به جماعتهم؛ لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيختلفوا (¬8) بسبب (¬9) ذلك، ويفترقوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) في (ى): (كأنه)، وهو خطأ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) عبارة الزجاج: لأن اتخاذهم المسجد على غير التقوى معناه ضاروا به ضرارًا. أهـ. وعبارة الواحدي لا تؤدي هذا المعنى. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 468 بتصرف. (¬5) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 193، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 524. (¬6) " معاني القرآن وإعرابه" 2/ 469. (¬7) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 193 دون تعيين القائل ولم أجد من عينه. (¬8) في (ح): (فيتخلفوا)، والصواب ما في (م) و (ى) وهو موافق لما في "تفسير ابن جرير" والثعلبي. (¬9) في (ى): (بشرك)، وهو خطأ.

فيؤدي إلى التحزب، واختلاف الكلمة وبطلان الألفة) (¬1). وقوله تعالى: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قالوا: يعني أبا عامر الراهب (¬2) الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاسق، وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاداه، وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك (¬3) إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح (¬4) وابنوا لي مسجدًا فإني آتٍ من عند قيصر بجند فأخرج محمدًا وأصحابه، فبنوا هذا المسجد، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد) (¬5). قال الزجاج: (والإرصاد: الانتظار) (¬6). وقال ابن قتيبة: ({وَإِرْصَادًا} أي ترقبًا بالعداوة (¬7)) (¬8)، وقال ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 11/ 23، والثعلبي 6/ 148 أ، والبغوي 4/ 92 بمعناه. (¬2) هو: عبد عمرو ويقال عمرو بن صيفي بن مالك بن أمية الأوسي، المعروف بأبي عامر الراهب، كان في الجاهلية يذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بُعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عانده وحسده وخرج عن المدينة، وشهد مع قريش وقعة أحد، ثم خرج إلى الروم فمات هناك سنة تسع أو عشر. انظر: "السيرة النبوية" 3/ 12، و"الإصابة" 1/ 360 - 361. (¬3) في (ى): (يقاتلونكم). (¬4) في (ى): (السلاح). (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 24، والبغوي 4/ 94، و"الدر المنثور" 3/ 494. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه " 2/ 468. (¬7) في (ى): (للعداوة)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬8) "تفسير غريب القرآن" ص 199.

الأكثرون: (الإرصاد: الإعداد) (¬1)، روى أبو عبيد عن الأصمعي والكسائي: (رصدت فلانا أرصده: إذا ترقبته، وأرصدت له شيئًا أرصده: إذا أعددت له) (¬2)، قال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (¬3) وقال الليث: (يقال أنا لك مُرصد بإحسانك حتى أكافئك به) (¬4)، قال: (والإرصاد في المكافأة بالخير) (¬5)، وقال ابن الأعرابي: (أرصدت في الخير والشر جميعًا بالألف) (¬6). [وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} يعني من قبل بناء مسجد الضرار] (¬7)، وقوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} أي: ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وذلك أنهم قالوا لرسول الله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 23، والثعلبي 6/ 148 أ، والبغوي 4/ 94، والزمخشري 2/ 214، و"المفردات في غريب القرآن" (رصد) ص 196، و"تهذيب اللغة" (رصد) 2/ 1414. (¬2) "تهذيب اللغة" (رصد) 2/ 1413. (¬3) البيتان في ديوان أعشي قيس ص 46 من قصيدة طويلة يمدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويذكر بعض أساسيات الدين، ومعالم الأخلاق. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) "تهذيب اللغة" (رصد) 2/ 1414، والنصان في كتاب: العين (رصد) 7/ 96. (¬6) "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 253 بنحوه. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

108

-صلى الله عليه وسلم-] (¬1): إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية) (¬2). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، قال الزجاج: (أطلع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على طويتهم وعلى أنهم سيحلفون كاذبين) (¬3). 108 - قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} الآية، قال المفسرون: (إن أهل مسجد الضرار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فنهاه الله عن ذلك، وقال: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} (¬4)، قال ابن عباس وغيره: (يريد لا تصل فيه أبدًا) (¬5). ثم بين أي المسجدين أحق بالقيام فيه، فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} اللام تأكيد للقسم، كأنه قيل: والله لمسجد أسس، أي (¬6) بنيت حدوده ورفعت من قواعده، هذا معنى التأسيس، والتقوى: خصلة من الطاعة يحذر بها العقوبة، ثعلب عن ابن الأعرابي: (التقاة والتقية والتقوى والاتقاء: كله واحد) (¬7)، والتقوى اسم، وموضع التاء واو وهي (فَعْلى) من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى). (¬2) رواه ابن إسحاق وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 495، وانظر: "السيرة النبوية" 4/ 185. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 469. (¬4) رواه عن ابن عباس بنحوه ابن جرير 11/ 24، وابن أبي حاتم 6/ 1881، وانظر "الدر المنثور" 3/ 494 - 495. (¬5) رواه البغوي 4/ 95، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 204، وانظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 26، وابن الجوزي 3/ 500. (¬6) في (ى): (أو بني أر بنيت)، وهو خطأ. (¬7) "تهذيب اللغة" (تقي) 1/ 443.

وقيت مثل (شروى) من شريت وهذا بما قد تقدم الكلام فيه، قال ابن عباس: (أسس على التقوى: بني على الطاعة، وبناه المتقون الموحدون) (¬1)، وقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (من) هاهنا: تدل على البداية؛ لأنها نقيضة (إلى) كقولك من كذا إلى كذا، قال زهير: لمن الديار بقُنَّة الحِجْر (¬2) ... أقوين من حِجَج ومن شَهْر (¬3) وقوله تعالى: {أَوَّلِ يَوْمٍ} معناه أول الأيام إذا ميزت يومًا يومًا، كما تقول: أعطيت كل رجل في الدار، أي كل الرجال إذا ميزوا رجلاً رجلاً (¬4) {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، قال الزجاج: (أن) في موضع نصب، المعنى: أحق بأن تقوم فيه) (¬5)، وهذا كما قلنا في قوله: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا} ¬

_ (¬1) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 204 مختصرًا. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) البيت مطلع قصيدة في "شرح ديوان زهير" ص 86، ونسب إليه أيضاً في "زاد المسير" 3/ 500، و"خزانة الأدب" 9/ 443. والقنة: الجبل الصغير الذي ليس بمنتشر، أر الجبل السهل المنبسط على الأرض. وأقوين: خلون من السكان. وقوله: من شهر: أراد: من شهور، ورواية ثعلب: ومن دهر. والحجر: بكسر الحاء، موضع، والمعروف بهذا الاسم منازل ثمود، أما بفتح الحاء فهي مدينة اليمامة. انظر: "شرح الديوان" و"خزانه الأدب" نفس الموضعين السابقين، و"لسان العرب" (قنن). (¬4) ذكر ابن جرير معنيين لقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فقال: (من أول يوم): ابتدئ في بنائه .. وقيل: معنى قوله (من أول يوم) مبدأ أول يوم، كما تقول العرب: لم أره من يوم كذا، بمعنى: مبدؤه، و (من أول يوم) يراد به: من أول الأيام، كقول القائل: (لقيت كل رجك)، بمعنى (كل الرجال). "تفسير ابن جرير" 11/ 26. (¬5) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 469.

[التوبة: 97] فإن قيل لم قال: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر؟ قيل: للمظاهرة في الحجة بأنه لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا أحق. واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال ابن عُمر، وزيد ابن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وابن المسيب: هو مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة) (¬1). وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هو مسجدي" رواه الخدري (¬2) وأُبي بن كعب (¬3)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وقال في رواية الوالبي والعوفي: هو مسجد قباء (¬4)، وهو قول الحسن (¬5) وابن زيد (¬6) وعروة بن الزبير (¬7) واختيار الزجاج (¬8). ¬

_ (¬1) انظر آثارهم في "تفسير ابن جرير" 11/ 26 - 27، والثعلبي 6/ 148/ ب، و"الدر المنثور" 3/ 496. (¬2) رواه عنه مسلم (1398)، كتاب: الحج، باب: بيان أن المسجد الذي أسس .. إلخ، والترمذي (3599)، كتاب: تفسير القرآن، والنسائي في "سننه"، كتاب: المساجد، ذكر المسجد الذي أسس على التقوى 2/ 36، وأحمد في المسند 3/ 8. (¬3) رواه عنه أحمد في "المسند" 5/ 116، وابن جرير 11/ 28، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب والضياء في "المختارة" كما في "الدر المنثور" 3/ 496. (¬4) أخرج رواية الوالبي، ابن جرير في "تفسيره" 11/ 27، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1886، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 262، وأخرج رواية العوفي، ابن جرير 11/ 27، والثعلبي 6/ 149/ أ، والبغوي 4/ 96. (¬5) انظر: "تفسير هود بن محكم" 2/ 168، و"البحر المحيط" 5/ 97. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 28، والثعلبي 6/ 149/ أ، وابن أبي حاتم 6/ 1882. (¬7) انظر المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 469.

وقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ}، قال ابن عباس: (يريد الأنصار) (¬1)، {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}، قال الحسن: (أي من الذنوب) (¬2)، وقال ابن عباس والكلبي وغيرهما: (يعني غسل الأدبار بالماء) (¬3)، ويروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاهم وهم في مسجدهم فقال: "إن الله قد أحسن الثناء عليكم في طهوركم فبم تتطهرون؟ " فقالوا: نغسل أثر الغائط بالماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "دوموا عليه" (¬4). قال المفسرون: (كان من عادة هؤلاء في الاستنجاء [استعمال الأحجار ثم الماء بعدها وهو الأكمل والأفضل في باب الاستنجاء) (¬5)] (¬6)، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي: من الشرك والنفاق والأنجاس، قالوا: فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه (¬7) فقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأحرقوه واهدموه" (¬8) ففعلوا ذلك، وأمر أن ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير هود بن محكم" 2/ 168. (¬3) رواه عن ابن عباس، الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 204، ورواه عن الكلبي، الثعلبي في "تفسيره" 6/ 149 ب، وانظر: "الوسيط" 2/ 525، و"تفسير البغوي" 4/ 96، و"الدر المنثور" 3/ 497. (¬4) رواه بنحوه ابن ماجه في (354)، في الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، وأحمد 3/ 422، والحاكم في "المستدرك"، في الطهارة 1/ 155 وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح باعتبار شواهده. انظر: "إرواء الغليل" 1/ 85. (¬5) ذكره الزمخشري في "الكشاف" 2/ 214 بغير سند. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) من (ى). (¬8) رواه بنحوه ابن جرير 11/ 23، والثعلبي 6/ 147 ب، والبغوي 4/ 94، وانظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 185، و"الدر المنثور" 3/ 495.

109

يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف (¬1). 109 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} الآية، البنيان: مصدر الغفران، يراد به المبني هاهنا، نحو ضرب الأمير ونسج اليمن، قال أدو زيد: (يقال بني يبنى بنيًا وبناءً وبنية وبنيانًا، وأنشد: بني السماء فسواها ببنيتها ... ولم تُمد بأطناب ولا عُمُد (¬2) (¬3) وجمع البنية: بني، ويجوز أن يكون البنيان جمع بنيانة إذا جعلته اسمًا؛ لأنهم قد قالوا: بنيانة في الواحد، قال الشاعر (¬4): كبنيانة القريي موضع رحلها ... وآثار نسعيها من الدف أبلق (¬5) وقرأ نافع وابن عامر (أُسِّس) بضم الألف، (بنيانُه) رفعًا (¬6)، فمن قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" والبغوي، الموضعين السابقين. (¬2) لم أهتد إلى قائله، وهو في المصدر التالي بلا نسبة. (¬3) انظر قول أبي زيد في: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 219. (¬4) من (م). (¬5) البيت لكعب بن زهير كما في ديوان أبيه زهير بشرح ثعلب 257 من قصيدة مشتركة بينهما، وليس في ديوان كعب، و"الأغاني" 17/ 89، و"البحر المحيط" 5/ 103، و"المحرر الوجيز" 3/ 84 بلفظ: القاري، ونسبه الفارسي في "الحجة" 4/ 219، و"إيضاح الشعر" ص 343 إلى أوس بن حجر، وليس في ديوانه. والقريي: ساكن القرية، والدف: الجنب، والنسع: سير تشد به الرحال، والأبلق: الأبيض في سواد. والشاعر يصف دابته، ويشهها ببنيان القرية. انظر: "شرح الديوان"، الموضع السابق، و"لسان العرب" (نسع) و (بلق). (¬6) وقرأ الباقون (أسس) بفتح الألف والسين (بنيانه) بنصب النون. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 167، و"إرشاد المبتدي" ص 356، و"تقريب النشر" ص 121.

بفتح الألف بني الفعل للفاعل (¬1) الباني (¬2) والمؤسس، فأسند الفعل إليه، كما أضاف البنيان إليه في قوله (بنيانه) وكما أن المصدر مضاف إلى الفاعل كذلك الفعل يكون (¬3) مبنيًّا له، ويدل على ترجيح هذا الوجه اتفاقهم على قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}، ومن بني الفعل للمفعول لم يبعد أن يكون في المعني كالأول؛ لأنه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنيانه (¬4) هو له، والقراءة الأولى أرجح (¬5). وقوله تعالى: {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}، قال ابن عباس: (يريد مخافة من الله، ورجاء ثوابه ورضوانه) (¬6)، يريد أنهم طلبوا مرضاة الله في بنيانه (¬7). وقوله تعالى: {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} قال الحسن: (هذا مثل لنفاقهم، أي مثلهم كمثل من أسس بنيانه على سهل وتراب ليس له أجل، فانهار ولم يثبت (¬8) البناء) (¬9). ¬

_ (¬1) في (م): اللفظ)، وهو خطأ. (¬2) في (ح): (الثا)، وفي (م): (الثاني)، وكلاهما خطأ. (¬3) ساقط من (ح) وفي (م): (يكون الفعل مبنيًّا). (¬4) في (خ) و (ى): (كبنائه). (¬5) لعله يعني من حيث المعنى، وقد قال ابن جرير في "تفسيره" 11/ 32: (وهما قراءتان متفقتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى (من) إذ كان هو المؤسس أعجب إلى). (¬6) "تنوير المقباس" ص 204 بمعناه. (¬7) في (خ) و (ى): (بنائه). (¬8) في (ى) و (م): (لم يلبث)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬9) ذكره هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 169 بنحوه.

وقال أبو إسحاق: (المعنى أن من أُسس بنيانه على التقوى خير ممن أُسس بنيانه على الكفر، وهذا مَثَل، المعنى: إن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارًا كبناءٍ على جرف جهنم تتهور بأهلها فيها) (¬1). قال ابن عباس في قوله: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}، يريد: صيرهم النفاق إلى النار (¬2). وشرح أبو علي الفارسي هذه الآية أبلغ شرح فقال: (يجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البانئين ويجوز أن يكون بين البناءين، فإذا عادلت بين البانئين كان المعنى: المؤسس بنيانه متقيًا خير أم المؤسس بنيانه غير متق؟ لأن قوله: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} يدل على أن بانيه غير متق لله، ولا خاش له، وإن عادلت بين البناءين قدرت حذف المضاف كأنه قيل: أبناء من (¬3) أسس بنيانه متقيًا خير أم بناء من أسس بنيانه على شفا جرف (¬4)؟ والبنيان يراد به المبني لأنه إنما يؤسس المبني، والجار من قوله: {عَلَى تَقْوَى} في موضع نصب على الحال تقديره: أفمن أسس بنيانه متقيًا، وكذلك قوله: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} لأ ن معناه غير متق، أو معاقبًا على بنائه) (¬5). ¬

_ (¬1) جمع المؤلف بين قولين للزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 469، 470. (¬2) رواه البغوي في "تفسيره" 4/ 97. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) في (ى): (جرف هار)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬5) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 222، 223 باختصار، ونصب قوله (أو معاقبًا) بناء على أنه حال، والجملة مقدرة، ونص عبارة أي علي: (والمعنى: أمن أسس بنيانه غير متق، أو: من أسس بنيانه معاقبًا على بنائه).

قال أبو عبيدة: (الشفا: هو الشفير) (¬1)، وشفا الشيء: حرفه، ومنه يقال: أشفى على كذا: إذا دنا منه، والجرف: ما ينجرف بالسيول من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله، فيبقى واهيًا، قال شِمْر (يقال: جُرْف وأجراف وجُرْفَةٌ وهي المهواة) (¬2)، وأصله من الجرف والاجتراف، وهو اقتلاع الشيء من أصله، فالجرف ما جرفه السيل، ويقرأ (جُرْفٍ) و {جُرُفٍ} مخففًا ومثقلًا (¬3) وهما لغتان كالشُغْل والشُغُل والعُنْق والعُنُق. وقوله تعالى: {هَارٍ}، قال الليث: (الهور: مصدر هار [الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد مكانه وهو (¬4) جرف هار] (¬5) هائر، فإذا سقط فقد إنهار وتهور) (¬6) [وقال الزجاج: (هار: هائر] (¬7) وهذا من المقلوب، كما قالوا: لاث الشيء به إذا دار (¬8)، فهو لاثٍ، والأصل لائث) (¬9). ¬

_ (¬1) أهـ. كلام أبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 269. (¬2) أهـ. كلام شمر، انظر: "تهذيب اللغة" (جرف (1/ 585. (¬3) قرأ ابن عامر وحمزة وخلف وأبو بكر عن عاصم (جرف) بإسكان الراء، والباقون بضمها. انظر: "كتاب السبعة" ص 318، وكتاب "إرشاد المبتدي" ص 356، و"تحبير التيسير" ص 121. (¬4) هكذا، وكذلك هو في "تهذيب اللغة"، وفي كتاب "العين" (فهو) وهو أليق بالسياق. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) "تهذيب اللغة" (هور) 4/ 3691، والنص في كتاب "العين" (هور) 4/ 82. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬8) في (ح): (أراد)، وهو خطأ. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 470.

قال أبو علي: (الهمزة من (¬1) (هائر) منقلبة عن الواو؛ لأنهم قد قالوا: تهور الناء: إذا تساقط وتداعى، وتهور الليل: إذا مضى أكثره، وهذا في الليل كالمثل والتشبيه بالباء، ويجوز في العين إذا قلبت همزة في هذا النحو ضربان، أحدهما: أن يُعل بالحذف كما أعل بالقلب، فيقال هار (¬2) وشاك السلاح، والآخر أن يُعلّ بقلبها إلى موضح اللام فيصير في التقدير: (فالع)، ويجوز في قوله: خيلان من قومي ومن أعدائهم ... خفضوا أسنتهم فكلٌّ ناعي (¬3) أن يكون مقلوبا من النائع الذي يراد به العطشان، من قوله: والأسلَ النياعا (¬4) (¬5) أي العطاش إلى دماء من يغزون (¬6)، ويجوز أن يكون من قولك: نعى ينعى، وهو أن تقول: يالثارات فلان، ويجوز في (هار) أن يكون على قول من حذف. فيقال: جرف هارٌ، وفي محل الخفض: جرفٍ (¬7) هارٍ، ووزنه ¬

_ (¬1) في (ى): (في)، والمثبت موافق للمصدر التالي. (¬2) كررت في (ح). (¬3) البيت للأجدع بن مالك الهمداني كما في "اللسان" (نوع) 8/ 4579 و (نعا) 8/ 4486، و"الأصمعيات" ص 69، و"التنبيه" للبكري ص 25. (¬4) في (ى): (النياعيا). (¬5) البيت بتمامه: لعمر بني شهاب ما أقاموا ... صدور الخيل والأسل النياعا وهو للقطامي كما في "المخصص" 14/ 35، و"لسان العرب" (نوع) 8/ 4579 أو لدريد بن الصمة كما في "الصحاح" (نوع) 3/ 1294. والأسل: أطراف الأسنة. (¬6) في (ح): (لا يغزون)، وهو خطأ. (¬7) ساقط من (ى).

من (فعل) (قال) لأن العين محذوفة (¬1)، ويجوز أن يكون على القلب، كأنه هاري، وإذا دخل التنوين سقط الياء لالتقاء الساكنين نحو قاضٍ ورامٍ، قال الأخفش: (ويقال هار يهار، مثل خاف يخاف) (¬2). وقرى (¬3) (هار) بالإمالة (¬4)، وهي حسنة لما في الراء من التكرير، فكأنك قد لفظت براءين مكسورتين وبحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة. وقوله تعالى: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الانهيار والانهيال متقاربان في المعنى كما تقاربا في اللفظ، قال الشاعر (¬5): كمثل هيل نقًا طاف الوليد به ... ينهار حينًا وينهاه الثرى حينا وفاعل (انهار): البنيان، والكناية في {بِهِ} تعود إلى الباني أي انهار البنيان بالباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}؛ لأنه معصية وفعل لما كرهه الله من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، وهذه الآية بيان عما يوجبه تأسيس البنيان ¬

_ (¬1) ما بين العلامين ليس من كلام أبي علي في "الحجة". (¬2) أهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 225 - 227 باختصار وتصرف، ولم أجد كلام الأخفثس في كتابه "معاني القرآن". (¬3) في (ى): (ويقال). (¬4) وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ويحيى عن أبي بكر عن عاصم، وقالون عن نافع، والداجوني عن ابن عامر. انظر: "كتاب السبعة" ص 319، و"إرشاد المبتدي" ص 356، و"تحبير التيسير" ص 121. (¬5) هو: تميم بن أُبي بن مقبل، والبيت في "ديوانه" ص326، و"الشعر والشعراء" ص 299، ورواية البيت فيهما: يمشين هيل النقا مالت جوانبه ... ينهال حينًا وينهاه الثرى حينًا وانظر: البيت بلا نسبة بمثل رواية المؤلف في "الحجة" 4/ 229. والشاعر يصف نسوة كما في "الشعر والشعراء"، الموضع السابق، والنقا: الكثيب من الرمل. انظر: "لسان العرب" (نقا) 8/ 4532.

110

على التقوى من الله والرضوان من أن صاحبه هو الأفضل، مما يجب له من ثواب الله وكرامته، خلاف من أسسه على الفساد، فكان كمن بني على شفير النار، قال أبو إسحاق: (وفي هذا دليل على أن جهنم في الأرض؛ لأن البناء إنما ينهار إلى أسفل) (¬1). 110 - قوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} الآية، ذكرنا الكلام في {لَا يَزَالُ} عند قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكر هذا القول، ولم يتبين لي من أبو إسحاق هذا، ويبعد أن يكون الزجاج؛ لأنه يرى الانهيار -المذكور من باب التمثيل حيث قال في تفسير قوله تعالى: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: وهذا مثل، المعنى: (أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارًا وكفرًا كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها). "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 470، كما يبعد أن يكون أبا إسحاق الثعلبي؛ لأنه فسر الآية بمثل تفسير الزجاج فقال: (هذا مثل لضعف نياتهم وقلة بصيرتهم في عملهم)، "تفسير الثعلبي" 6/ 150 أوإلى مثل قولهما ذهب كثير من المفسرين كابن جرير 11/ 32، والسمرقندي 2/ 75، والزمخشري 2/ 215، وذهب بعض المفسرين إلى ظاهر اللفظ، قال القرطبي في "تفسيره" 8/ 265: اختلف العلماء في قوله تعالى: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين: الأول: أن ذلك حقيقة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أرسل إليه فهدم رؤي الدخان يخرج منه، من رواية سعيد بن جبير، وقال بعضهم: (كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة)، وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان، وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: (جهنم في الأرض ثم تلا {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وقال جابر ابن عبد الله: (أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). والثاني: أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم فكأنه انهار إليه، وهوى فيه، وهذا كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9]، والظاهر الأول؛ إذ لا إحالة في ذلك، والله أعلم.

[البقرة: 217] (¬1). وقوله تعالى: {بُنْيَانُهُمُ} هو مصدر يراد به المفعول، وإذا كان كذلك كان المضاف محذوفًا تقديره: لا يزال بناء (¬2) المبني الذي بنوه ريبة، ومعنى: {الَّذِي بَنَوْا} مع قوله: {بُنْيَانُهُمُ} يبين معنى ذلك البناء، إذ قد يجوز أن يراد به المستقبل لو لم يوصف بالماضي، وقوله تعالى: {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} الريبة والريب: الشك، قال ابن عباس: (يريد شكًا في قلوبهم، كما قال في سورة البقرة لأهل العجل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] (¬3) وهذا قول ابن زيد (¬4) والضحاك (¬5). وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد الموت) (¬6)، وقال الضحاك: (يقول: لا يزالون في شك منه إلى ¬

_ (¬1) انظر: النسخة الأزهرية 1/ 132 أوقد قال في هذا الموضع: (وقوله تعالى: (ولا يزالون) يعني مشركي مكة، وهو فعل لا مصدر له يقال: ما يزال يفعل كذا أو لا يزال، ولا يقال منه فاعل ولا مفعول، ومثله من الأفعال كثير .. ومعنى (لا يزالون): أي يدومون، وكأن هذا مأخوذ من قولهم: زال عن الشيء، أي تركه، فقولك: ما زال يفعل كذا، أي لم يتركه). (¬2) في (ح): (بنيان). (¬3) رواه بنحوه الثعلبي 6/ 150 أ، والبغوي 4/ 97، ورواه مختصرًا من رواية علي بن أبي طلحة الوالبي الإمام ابن جرير 11/ 33، وابن أبي حاتم 6/ 1884، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 262. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 34، وابن أبي حاتم 6/ 1884. (¬5) ذكره مختصرًا الماوردي في "تفسيره" 2/ 405، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 525، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 266، وأشار إليه ابن أبي حاتم 6/ 1885. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 33، وابن أبي حاتم 6/ 1885، والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 262.

الموت) (¬1)، ونحو هذا قال مجاهد وقتادة: (إلى الممات) (¬2)، وقال أبو عمرو: (معناه حتى يموتوا فيستيقنوا) (¬3)، هذا الذي ذكرنا قول المفسرين، ومعنى الآية على ما قالوا: إن الريبة في التردد هي المعنى بالحيرة، يقول: لا يزالون شاكين مترددين في الحيرة، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، كما حُبب (¬4) العجل إلى قوم موسى، قال أبو علي: (والمعنى: لا يخلص لهم إيمان ولا ينزعون (¬5) عن النفاق، ولا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدًا، ولا يندمون على الخطيئة التي كانت منهم في بناء المسجد) (¬6)، قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون الله -جل وعز- جعل عقوبتهم أن ألزمهم الضلال بركوبهم هذا الأمر الغليظ) (¬7). وقوله تعالى: {إِلَأ أَن} (إلا) هاهنا بمعنى (حتى) لأنها استثناء من الزمان المستقبل، والاستثناء منه منتهي إليه، فاجتمعت مع (حتى) في هذا الموضع على هذا المعنى، وموضع (أن) نصب، وفي {تُقَطَّعَ} قراءتان: ضم التاء (¬8)، ومعناه: إلا أن تبلى وتتفتت قلوبهم بالموت، وقرأ حمزة وابن ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 150 ب، والبغوي 4/ 97، وأشار إليه ابن أبي حاتم 6/ 1885. (¬2) رواه عنهما ابن جرير 11/ 33. (¬3) لم أجد من ذكره، ولم يتبين لي من أبو عمرو هذا، والقول في "تفسير الثعلبي" 6/ 150 ب منسوبًا لقتادة والضحاك. (¬4) في (ح): (تحبب)، وهو خطأ. (¬5) في (ى): (يرجعون)، والمثبت موافق للمصدر التالي. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 230 باختصار. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 470. (¬8) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وأبي بكر عن عاصم، وخلف. انظر: "كتاب السبعة" ص 319، و"تقريب النشر" 121، و"إتحاف فضلاء البشر" 245.

عامر {تَقَطَّعَ} بفتح التاء (¬1)، بمعنى تتقطع، ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الأولى؛ إلا أن الفعل أسند إلى القلوب لمّا (¬2) كانت هي البالية المتقطعة، وهذا مثل: مات زيد، ومرض عمرو، وسقط الحائط، ونحو ذلك مما يسند الفعل فيه إلى من حدث فيه، وإن لم يكن له، ويدل على صحة ما قلنا إن معنى (إلا) هاهنا: الغاية، ما روي أن في حرف أُبىَّ: (حتى الممات) (¬3) وهذا يدل على أنهم يموتون على نفاقهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان، وأخذوا به من الكفر، وفي قراءة الحسن (إلى أن) (¬4) مخففة بمعنى حتى، وهو اختيار أبي حاتم ويعقوب (¬5) (¬6)، هذا الذي ذكرنا مذهب عامة المفسرين وقول أصحاب المعاني (¬7)، وفي الآية قول آخر زعم المبرد أن الآية على تقدير حذف ¬

_ (¬1) وهي كذلك قراءة أبي جعفر ويعقوب، وحفص عن عاصم. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬2) في (ى): (وما)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 231، و"البحر المحيط" 5/ 101، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصحف. (¬4) "إتحاف فضلاء البشر" ص 245، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 452، و"تفسير ابن جرير" 11/ 33 - 34. (¬5) هو: يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرمي مولاهم، أبو محمد البصري، أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة ومقرئها، كان عالمًا بالعربية ووجوهها، والقراءات واختلافاتها، فاضلًا نقيًا تقيًا، توفي سنة 205 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 157، و"غاية النهاية في طبقات القراء" 2/ 386. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبى" 6/ 150 ب، و"تقريب النشر" 121، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 245. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 452، وللزجاج 2/ 471، و"تفسير ابن جرير" 11/ 34 - 35، والبغوي 4/ 97، و"الدر المنثور" 3/ 500.

المضاف كأنه قيل لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة، أي: حزازة وغيظًا في قلوبهم منكم {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم (¬1)، وهذا قول السدي (¬2) وحبيب بن أبي ثابت (¬3) (¬4) والقول هو الأول (¬5)، والآية بيان عما يوجبه البناء على الفساد من كون القلب على الريبة الموجبة للحيرة، حتى تتقطع حسرة حين لا تنفع الندامة، ولا يمكن استدراك الخطيئة، أو حتى تنقطع بالموت، فحينئذ يستيقن أنه كان مسيئاً بما فعل من النفاق، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}، قال ابن عباس: (يريد بخلقه، الصادق منهم والشاك {حَكِيمٌ} فيما جعل للصادقين من الثواب، وللكاذبين (¬6) من العقاب) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر قول المبرد في: "تفسير الثعلبي" 6/ 150 ب، وابن الجوزي 3/ 503، ولم أجده فيما بين يدي من كتب المبرد. (¬2) رواه الثعلبي 6/ 150 أ، والبغوي 4/ 97، ورواه مختصرًا ابن جرير 11/ 34. (¬3) هو: حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيي الكوفي، تابعي ثقة فقيه جليل، وكان مفتي الكوفة، وتوفي سنة 119 هـ. انظر: "تذكرة الحفاظ" 1/ 116، و"تهذيب التهذيب" 1/ 347، و"تقريب التهذيب" ص150 (1084). (¬4) انظر قوله في "تفسير الثعلبي" 6/ 150 ب، ورواه مختصرًا ابن جرير 11/ 34، وابن أبي حاتم 6/ 1885. (¬5) يعني القول بأن معنى (تقطع قلوبهم) أي يموتوا، وقد رواه ابن جرير 11/ 33 - 35 عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد وقتادة وحبيب بن أبي ثابت وابن زيد. (¬6) في (ى): (للكافرين). (¬7) لم أقف عليه.

111

111 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} الآية، قال القرظي: (لما بايعت الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة بمكة، وهم سبعون نفسًا، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا قال: (الجنة) قالوا ربح البيع لا نقيل (¬1) ولا نستقيل فنزلت هذه الآية) (¬2)، قال مجاهد ومقاتل (¬3): ثامنهم (¬4) فأغلى ثمنهم) (¬5). قال أبو إسحاق: (وهذا مثل، كما قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقر: 16] (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). ومعنى لا نقيل ولا نستقيل: لا نفسخ البيعة ولا نطلب فسخها، يقال: أقاله يقيله إقالة، وتقايلا: إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري. انظر: "لسان العرب" (قيل) 6/ 3798. (¬2) رواه ابن جرير 11 - 35 - 36، والثعلبي 6/ 150 ب، والبغوي 4/ 98، ورواه عن جابر بنحوه مطولًا أحمد في "المسند" 3/ 222، والحاكم في "المستدرك" 2/ 624، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) أي قرر معهم ثمنه، يقال: ثامنت الرجل في المبيع أثامنه إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه واشترائه. "النهاية في غريب الحديث والأثر" (ثمن) 1/ 223. (¬5) ذكره عنهما الرازي في "تفسيره" 16/ 199 ومقاتل هذا يبدو أنه ابن حيان إذ لم أجد هذا القول في تفسير مقاتل بن سليمان، وعندي شك في صحة نسبته إلى مجاهد، إذ أن المؤلف في "الوسيط" 2/ 526، وغيره من المفسرين ذكروه عن قتادة، انظر مثلاً: "تفسير ابن جرير" 11/ 35، والثعلبي 6/ 151 أ، والبغوي 4/ 98، وابن الجوزي 3/ 504، وابن كثير 2/ 430، و"الدر المنثور" 3/ 502. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 471.

قال أهل المعاني: (لا يجوز أن يشتري الله شيئًا في الحقيقة (¬1)؛ لأن المشتري إنما (¬2) يشتري ما لا يملك، لكن هذا أجري -لحسن المعاملة والتلطف في الدعاء إلى الطاعة- مجرى ما لا يملكه (¬3) المعامل فيه) (¬4)، وحقيقة هذا أن المؤمن متى ما قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه، أو أنفق ماله في سبيل الله، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاءً لما فعل، فجعل هذا استبدالًا واشتراء، هذا معنى قوله: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، قال ابن عباس: (يريد بالجنة) (¬5)، وكذا قرأه عمر بن الخطاب والأعمش (¬6). قال الحسن: (اسمعوا والله بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة) (¬7). وقال الصادق (¬8): (ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا ¬

_ (¬1) في (ح) و (ى): (بالحقيقة). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (ح): (يمكنه)، وفي (ى): (يملك). (¬4) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 199، والخازن في "تفسيره" 2/ 264 عن أهل المعاني. وانظر: "المحرر الوجيز" 7/ 50، و"تفسير القرطبي" 8/ 267. (¬5) رواه ابن جرير 11/ 35، وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 505، وهو من طريق علي بن أبي طلحة. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 151 أ، والبغوي 4/ 98، وهي قراءة شاذة ولم يذكرها ابن خالويه ولا ابن جني. (¬7) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1886، والثعلبي 6/ 151 أ، ورواه البغوي 4/ 98 مختصرًا. (¬8) هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بالصادق.

بها) (¬1). وقال ابن عباس في قوله: {وَأَمْوَاَلَهُم}: (يريد التي ينفقونها في سبيل الله، وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالاتهم (¬2) فتفنى، اشترى (¬3) الجنة التي لا تفنى ولا تبيد ولا تذهب) (¬4). وقوله تعالى: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، قال ابن عباس: (فيقتلون عدو المه ويقتلون في طاعتي ومحبتي) (¬5)، هذه قراءة العامة قدموا الفعل (¬6) المسند إلى الفاعل على المسند إلى المفعول؛ لأنهم يَقتُلون أولاً ثم يُقتلون، وقرأ حمزة والكسائي (فيُقتَلون ويَقتُلون) على تقديم الفعل المسند إلى المفعول به على المسند إلى الفاعل (¬7)، وله وجهان: أحدهما: أن هذا في المعنى كالذي تقدم؛ لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، والثاني: أن معنى قوله (يَقتُلون) بعد قوله (يُقتَلون) أي من بقي منهم بعد قتل من قتل، كما أن قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146]، أي ما وهن من بقي منهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 151 أ، والرازي: 16/ 199. (¬2) كذا، والمعروف في جمع العيال: عيائل. انظر: "لسان العرب" (عول) 5/ 3176. (¬3) هكذا في جميع النسخ، والجملة غير متناسقة مع ما قبلها، ولعل الصواب: اشتروا بها الجنة .. الخ. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 526، ونحوه في "تنوير المقباس"، ص 204. (¬6) من (م). (¬7) قرأ حمزة والكسائي وخلف (فيُقتَلون ويَقتُلون) ببناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، وقرأ الباقون ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. انظر: "إرشاد المبتدي" ص 357، و"تقريب النشر" ص 103، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 245.

112

وقوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} هو [قال أبو إسحاق: (نصب {وَعْدًا} للمعني؛ لأن معنى قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وعدهم الجنة) (¬1)، وقوله: {حَقًّا}]، (¬2)، قال ابن عباس: [لآن مالهم من الله لا خلف فيه (¬3)) (¬4). وقوله تعالى: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، قال الزجاج: (هذا يدل على أن كل أهل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة) (¬5). وقال ابن عباس: (يريد شهدت لهم بهذه الشهادة وهذا الثواب في التوراة والإنجيل والقرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬6)، والمعنى أن الله تعالى بين في الكتابين أنه اشترى من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنفسهم وأموالهم بالجنة، كما بين في القرآن، والقول هذا (¬7)، لا ما قاله أبو إسحاق. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} قال ابن عباس: (يريد بوعده) (¬8)، وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله تعالى. 112 - قوله تعالى: {التَّائِبُونَ}، قال الفراء: (استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف) (¬9)، وقال صاحب النظم: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 471. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) في (ى): (له). (¬4) " تنوير المقباس" ص 204 بمعناه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 471. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) وهو ما ذهب إليه أيضًا ابن جرير 11/ 35 والبغوي 4/ 98. (¬8) "تنوير المقباس" ص 204 بمعناه. (¬9) "معاني القرآن" 1/ 453.

(زعم بعضهم أن قوله: {التَّائِبُونَ} منظوم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} على النعت للمؤمنين، وإنما رفع كما رفع قوله: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النبأ: 36، 37] (¬1)، وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 8، 9] (¬2)، وذكر أبو إسحاق في رفع قوله: {التَّائِبُونَ} وجوهًا: أحدها: المدح كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون. والثاني: أن يكون على البدل، المعنى يقاتل التائبون، قال: وهذا مذهب أهل اللغة (¬3)، والذي عندي أن قوله {التَّائِبُونَ} رفع بالابتداء وخبره مضمر، المعنى: {التَّائِبُونَ} إلى آخر الآية: لهم الجنة أيضًا، أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد فله الجنة أيضًا) (¬4)، وهذا الذي اختاره أبو إسحاق وجه حسن لأنه وعدٌ لجميع المؤمنين بالجنة، وإذا جعل ¬

_ (¬1) وقد قرأ الكوفيون ويعقوب وابن عامر (رب السموات) بالخفض، وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "كتاب السبعة" ص 669، و"تحبير التيسير" ص 197، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 431. (¬2) وقد قرأ ابن عامر وحمزة الكسائي ويعقوب وخلف وأبو بكر عن عاصم (رب السموات) بالخفض، وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "كتاب السبعة" ص 658، و"تحبير التيسير" ص 194، و"الإتحاف" ص 426. (¬3) لم أجد من اعتمد هذا المذهب دون غيره، بل قال النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 43: (التائبون) رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين، أي: (هم التائبون)، وهذا ما اعتمده أبو البقاء العكبري في "التبيان" ص 431، وابن جني في "المحتسب" 1/ 305، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 216، وقد ذكر المذهب المذكور بصيغة التمريض (قيل) الزمخشري في الموضع السابق، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 103. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 471.

قوله: {التَّائِبُونَ} تابعًا لأول الكلام كان الوعد بالجنة خاصًا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات (¬1). وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: {التَّائِبُونَ} يريد: (الراجعون عن الشرك) (¬2)، وقال قتادة: (التائبون من الشرك ثم لم ينافقوا في الإسلام) (¬3)، وقال الزجاج: (الذين تابوا من الكفر) (¬4). وقال أهل المعاني: (كل من أخلص هذه الصفات مما يحبطها استحق إطلاق هذه الأوصاف عليه) (¬5). وقوله تعالى: {الْعَابِدُونَ}، قال ابن عباس: (الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم) (¬6). وقال الزجاج: (الذين عبدوا الله وحده) (¬7)، وهو معنى قول الكلبي: ¬

_ (¬1) هذا التعليل فيه نظر؛ إذ إن تخصيص المجاهدين بالوعد في موضع لا يعني عدم شمول غيرهم في مواضع أخرى، وإلا فقد خص الله المجاهدين بالوعد بالجنة في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195] ثم إن السياق يدل على أن المحذوف هو المبتدأ وليس الخبر. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 202، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 104، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 527. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 36، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 503. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 472. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ذكره عنه الرازي في "تفسيره" 16/ 203، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد الميسر" 3/ 505. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 472.

(الذين أخلصوا لله العبادة) (¬1)، وقال الحسن: (هم الذين عبدوا الله باتباع أمره) (¬2). وقوله تعالى: {الْحَامِدُونَ}، قال ابن عباس: (يريد: الله (¬3) على كل حال) (¬4)، {السَّائِحُونَ}، قال عامة المفسرين: (الصائمون) (¬5)، قال الوالبي عن ابن عباس: (كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام) (¬6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سياحة أمتي الصيام" (¬7). وروى معمر (¬8) عن الحسن قال: ¬

_ (¬1) ذكره بنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 505، عن أبي صالح عن ابن عباس، وهو سند تفسير الكلبي. (¬2) رواه بنحوه ابن جرير 11/ 37، وابن أبي حاتم 6/ 1888، وابن المنذر وابن أبي شيبة وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 503. (¬3) في (م) و (ى): (لله)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط"، والمراد: الحامدون الله. (¬4) انظر: "الوسيط" 2/ 527 دون نسبة. (¬5) انظر: " تفسير ابن جرير" 11/ 37 - 39، وابن أبي حاتم 6/ 1889 - 1890، و"الدر المنثور" 3/ 503 - 504. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 38، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 503، وبنحوه ابن أبي حاتم 6/ 1890، والبغوي 4/ 99. (¬7) أجده بهذا اللفظ عند أئمة الرواية، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 203 والمؤلف في "الوسيط" 2/ 527، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 270، ورواه ابن جرير في "تفسيره" 39/ 11 موقوفاً على عائشة، وفي سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو متروك الحديث كما في "تقريب التهذيب" ص 95 (272). وقد روى أبو داود (2486)، كتاب: الجهاد، الحديث بلفظ: (إن سياحة أمتي الجهاد) وهو صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (2093). (¬8) هو: معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري، نزيك اليمن، الإمام الحافظ، كان ثقة فاضلًا من أوعية العلم، مع الصدق والورع، وتوفي سنة 154هـ. انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 378، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 190، و"وسير أعلام النبلاء" 7/ 5، و"تقريب التهذيب" ص 541 (6809).

(هذا صوم القرض) (¬1)، وقيل (¬2): هم الذين يديمون الصيام) (¬3)، وقال الزجاج: (وقول الحسن أبين) (¬4). وقال الأزهري: (وقيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدًا لا زاد معه فحين يجد الزاد يطعم، والصائم لا يطعم أيضًا فلشبهه به سمى سائحًا) (¬5)، وهذا معنى قول سفيان بن عيينة: (إنما قيل للصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح) (¬6)، يريد أنه كالمسافر في تركه هذه الأشياء. وقال أهل المعاني: (أجل السياحة: الاستمرار بالذهاب في الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة في ترك المنهي من المأكل والمشرب والمنكح) (¬7)، وهذا اشتقاق، وقد روى لي الأستاذ أبو إسحاق (¬8) -رحمه الله- بإسناده عن عكرمة أنه قال هم: طلبة العلم) (¬9)، ¬

_ (¬1) ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 472، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 527، ورواه بمعناه ابن جرير في "تفسيره" ص 541 (6809). (¬2) في (ى): (وقال). (¬3) هذا القول لأبي عمرو العبدي. انظر: "تفسير ابن جرير" 14/ 504، وابن أبي حاتم 4/ 101 أ، و"الدر المنثور" 3/ 504. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 472. (¬5) "تهذيب اللغة" (ساح) 2/ 1586. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 151 ب، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 504، وذكره بنحوه ابن جرير 11/ 39 بغير سند. (¬7) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 258. (¬8) يعني الثعلبي. (¬9) "تفسير الثعلبي" 6/ 152 أ، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم 6/ 1890، والبغوي 4/ 99.

يريد: الذين يسافرون لأجل طلب العلم والحديث، والقول هو الأول. وقوله تعالى: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}، قال ابن عباس: (يريد الذين يصلون لله بنية صادقة (¬1)) (¬2). وقال الزجاج: (الذين أدوا (¬3) ما افترض عليهم من الركوع والسجود) (¬4)، وهو قول الحسن، قال: (هذا صلاة الفرض) (¬5). قوله تعالى: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، قال عامة المفسرين: (بالإسلام والإيمان بالله) (¬6)، وقال عطاء: (يريد بفرائض الله وحدوده وتوحيده). وقوله تعالى: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، قال: (يريد عن ترك فرائض الله وحدوده والشرك به) (¬7). وقال الكلبي: (عن اتباع الجبت والطاغوت) (¬8)؛ والأولى أن هذا عام في كل معروف ومنكر. وأما دخول الواو في قوله: {وَالنَّاهُونَ} فإن العرب قد تنسق بالواو ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 527. (¬3) في (ى): (يؤدون)، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 472. (¬5) رواه بنحوه ابن جرير 39/ 11، وابن أبي حاتم 6/ 1891، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 503. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 39 بنحوه عن أبي العالية، وهو قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 472، والبغوي في "تفسيره" 4/ 99، وانظر: "النكت والعيون" 2/ 408، و"المحرر الوجيز" 7/ 56. (¬7) "تنوير المقباس" ص 205 بمعناه. (¬8) لم أقف عليه.

وغير الواو، منه قوله (1) -عز وجل-: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 1 - 3]،وجاء بعض بالواو وبعض بغير الواو، ومنه قول الخرنق: لا يبعدنْ قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الحزر النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر (2) وإنما يفعل ذلك لالتباس الكلام بعضه ببعض. وقال صاحب النظم: قوله: {التَّائِبُونَ} إلى قوله: {السَّاجِدُونَ} مبتدأ يقتضي جوابًا، وجاء بهذا (3) النظم منسوقًا بعضه على بعض بلا واو العطف، ثم أجاب هذا المبتدأ بقوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فلما كان الفصل الأول مبتدأ جعل له نظمًا غير نظم الجواب، ونظم الجواب نسق بواو العطف فرقًا بينهما، ولولا هذا الفرق لما امتاز

_ (1) في (ى) زيادة نصها: (قوله: والناهون) وقوله ... إلخ). (2) انظر: "ديوان الخرنق" ص 29، و"أوضح المسالك" 1/ 10، و"كتاب سيبويه" 1/ 202. لا يبعدن: أي لا يهلكن. سم العداة: أي هم كالسم لعدوهم. آفة الجزر: أي هم آفة للإبل التي تجزر لكثرة ما ينحرون منها. والمعترك: موضع ازدحام الناس في المعركة. ومعقد الإزار: موضع عقده، والإزار: ما يستر النصف الأسفل من البدن، وطيبها كناية عن العفة والبعد عن الفاحشة. قال ابن هشام بعد ذكر البيتين: يجوز فيه رفع (النازلين) و (الطيبين) على الإتباع لـ (قومي) أو على القطع بإضمار (هم)، ونصبها بإضمار (أمدح) و (أذكر) ورفع الأول ونصب الثاني على ما ذكرنا، وعكسه على القطع فيهما. أوضح المسالك 3/ 12. (3) في (ى): (هذا).

113

الخبر من المبتدأ، فالتأويل: {التَّائِبُونَ} إلى قوله: {السَّاجِدُونَ} هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، أي الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعلى هذا التأويل دخله واو العطف، لأنه ذهب به مذهب الفعل (¬1) بعضه في إثر بعض. وقوله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}، قال مجاهد: (حدود الله: فرائضه) (¬2)، ومعناه: العاملون بما افترض الله عليهم)، وقال الزجاج: (القائمون بما أمر الله به) (¬3). 113 - قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، قال عامة المفسرين: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على عمه أبي طالب الإسلام عند وفاته، وذكر له وجوب حقه عليه، وقال: "أعني على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة"، فأبى أبو طالب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك حتى أنهى عن ذلك" فاستغفر له بعدما مات، فاستغفر المسلمون لآبائهم وذوي قراباتهم، فنزلت هذه الآية (¬4)، وهذا قول الزهري (¬5) وسعيد بن المسيب (¬6) ¬

_ (¬1) في (ح): (الفصل). (¬2) لم أجده فيما بين يدي من المصادر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 472. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 41 - 43، وابن أبي حاتم 6/ 1894، والثعلبي 6/ 152 أ، والبغوي 4/ 100، والحديث في "صحيح البخاري"، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك: لا إله إلا الله، و"صحيح مسلم" (39)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت. (¬5) لم أجد من ذكره عنه، وإنما يروى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه، انظر: المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 42.

وعمرو بن دينار (¬1) ومحمد بن كعب (¬2)، واستبعده الحسين بن الفضل؛ لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في عنفوان الإسلام (¬3)، والله أعلم. وقال عطاء عن ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عن قبر أبيه وأمه فأرشده فذهب إليهما وكان يدعو لهما، وعلي يؤمن فنزلت هذه الآية) (¬4) [وهذا قول أبي هريرة (¬5). وقال الوالبي عنه (¬6): كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية (¬7)] (¬8) وهو قول قتادة، وقال: استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفروا لآبائهم فقال: "وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه" فنزلت هذه الآية) (¬9). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 11/ 41 - 42. (¬2) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1894 - 1895، والثعلبي 6/ 152 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 505. (¬3) انظر قول الحسين بن الفضل في "تفسير الثعلبي" 6/ 152 ب واعتراضه هذا محل نظر؛ فإن السور المدنية قد يتخللها بعض الآيات المكية، لاسيما وقد صح نزول الآية في قصة أبي طالب وخرجها البخاري ومسلم كما تقدم، وثمة احتمال آخر وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمر في الاستغفار لعمه حتى نزلت عليه هذه الآية في المدينة، والله أعلم. (¬4) لم أجده. (¬5) ذكره الثعلبي 6/ 153 ب، والبغوي 4/ 101 بغير سند. (¬6) يعني عن ابن عباس كما في المصادر التالية. (¬7) رواه ابن جرير 11/ 42، وابن أبي حاتم 6/ 1893، والثعلبي 6/ 153 ب. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬9) رواه ابن جرير 11/ 43، والثعلبي 6/ 153 ب، والبغوي 4/ 101.

قال أهل المعاني: قوله {مَا كاَنَ لِلنَّبِيِّ} حظر وتحريم ونهي، وقد يأتي في القرآن بمعنى النفي البتة، كقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60] و {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] (¬1). والاستغفار طلب المغفرة، وليس يجوز أن يطلب من الله غفران الشرك؛ لأنه طلب ما أخبر أنه لا يفعل (¬2). وقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، قال أبو إسحاق: (أي من بعد ما تبين لهم أنهم ماتوا كافرين، ثم أعلم الله -عز وجل- كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه [فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} (¬3) الآية] (¬4). قال عطاء عن ابن عباس: (كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر (¬5) تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله فترك الدعاء له) (¬6)، فعلى هذا قوله: {وَعَدَهَا إِيَّاهُ} الكناية في {إِيَّاهُ} تعود ¬

_ (¬1) ذكره عنهم دون تعيين الثعلبي في "تفسيره" 6/ 153 ب بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" 8/ 274. (¬2) يعني في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116]. (¬3) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 473. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 528، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 274، وبدون نسبة الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 473، والثعلبي 6/ 154 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 509. وقد سبق بيان أن رواية عطاء عن ابن عباس مكذوبة، ثم إن هذا القول مستبعد من =

على إبراهيم، والواعد أبوه، ويجوز أن تعود على أبي إبراهيم ويكون الواعد إبراهيم، وذلك أنه وعد أباه [أن يستغفر له رجاء إسلامه وأن ينقل الله أباه باستغفاره له] (¬1) من الكفر إلى الإسلام، فلما مات مشركًا ويئس (¬2) من مراجعته الحق تبرأ منه، وقطع الاستغفار له، والدليل على صحة هذا قراءة الحسن (وعدها أباه) بالباء (¬3)، وهذا الوعد من إبراهيم ظاهر في قوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] وقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4]. وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ} روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأواه: الخاشع المتضرع" (¬4). ويروى أن عمر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأواه فقال: "الأواه ¬

_ = أبي إبراهيم لقوله فيما أخبر الله عنه: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 46 - 47] والآية الثانية تدل على أن إبراهيم وعده بالاستغفار وهو مصر على كفره. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (م): (تبين)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 154 ب، و"الكشاف" 2/ 217، والبغوي 4/ 101. ونسبها ابن خالويه إلى حماد الراوية وقال: (يقال إنه صحفه). انظر: " مختصر في شواذ القرآن" ص 55، وزاد أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 105 نسبتها إلى ابن السميفع وأبي نهيك ومعاذ القارئ. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 51، وابن أبي حاتم 6/ 1896، والثعلبي 6/ 154 ب، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 509 عن عبد الله بن شداد وهو تابعي فالحديث مرسل، ولم أجد من ذكره موصولاً، ثم إن في سنده شهر بن حوشب، متكلم فيه، قال ابن حجر: صدوق كثير الإرسال والأوهام، وقال ابن عدي: (ضعيف جدًا). "تقريب التهذيب" 1/ 355، و"تهذيب التهذيب" 4/ 338.

الدعاء" (¬1). قال ابن عباس (¬2) في رواية عطاء: (الأواه: الدعاء (¬3) الكثير البكاء) (¬4). وقال في رواية عطية: (الأواه: المؤمن [بالحبشية) (¬5)، وقال في رواية الوالبي: (الأواه: المؤمن التواب) (¬6)] (¬7). وقال في رواية أبي ظبيان: (الأواه: الموقن) (¬8) وهو قول مجاهد (¬9). وقال الفراء: (هو الذي يتأوه من الذنوب) (¬10). وقال ابن مسعود والحسن وقتادة: (الأواه: الرحيم) (¬11). ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 211 ولم أجد من ذكره غيره، وذكر الثعلبي بغير سند عن أنس قال: تكلمت امرأة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء كرهه فنهاها عمر -رضي الله عنه- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها أواهة"، قيل يا رسول الله وما الأواهة؟ قال: "الخاشعة". "تفسير الثعلبي" 6/ 154 ب. (¬2) في (ى): (ابن إسحاق)، وهو خطأ. (¬3) ساقط من (م). (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 528. (¬5) رواه ابن جرير 11/ 50، والثعلبي 6/ 155 أ. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 50، وابن أبي حاتم 6/ 1886، والثعلبي 6/ 155 أ، والبغوي 4/ 102. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) رواه ابن جرير 11/ 49، والثعلبي 6/ 155/ أ. (¬9) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1896، والبغوي 4/ 102. (¬10) "معاني القرآن" 2/ 23، ونسبة هذا القول للفراء فيها نظر؛ فإن نصر عبارته: (قوله (أواه): دعاء، ويقال: هو الذي يتأوه من الذنوب). (¬11) رواه عنهم ابن جرير 11/ 47 - 49، وابن أي حاتم 6/ 1896، والثعلبي 6/ 155 أ.

115

وقال أبو عبيدة: (الأواه: المتأوه شفقًا وفرقًا، المتضرع يقينًا ولزوماً للطاعة) (¬1). قال الزجاج: (انتظم قول أبي عبيدة أكثر ما روي في الأواه) (¬2)، ويقال: تأوه الرجل تأوهًا، وأوه تأويهًا إذا قال: آه للتوجع ومنه قوله: تأوهُ آهة الرجل الحزين (¬3) ويقال لتلك الكلمة: آه وهاه وآهة (¬4) وأوه، قال أبو تراب: (وهو توجع الحزين الكئيب يخرج نفسه بهذا الصوت لينفرج عنه بعض ما به، ولو جاء من الأواه فعل لكان آه يؤوه أوهًا، مثل قال يقول قولًا) (¬5). وقوله تعالى: {حَلِيمٌ}، قال ابن عباس: (لم يعاقب أحدًا إلا لله ولم ينتصر من أحد إلا لله) (¬6). 115 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} الآية، لما حرم الاستغفار للمشركين على المؤمنين بين أنه لم يكن الله ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 270 بنحوه، والنص بلفظ المؤلف عند "الثعلبي" 6/ 155 ب. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 473. (¬3) عجز بيت، وصدره: إذا ما قمت أرحلها بليل والبيت للمثقب العبدي في "ديوانه" ص 194، و"الصحاح" (أوه)، و"مجازالقرآن" 1/ 270، "المفضليات" ص 291. والشاعر يتحدث عن دابته، وأنها تشكو كثرة أسفاره. (¬4) في (ي): (هاهه). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 529، واعتبره القرطبي 8/ 276 أحد قولين في الكلمة لكن لم ينسبه لابن عباس.

ليأخذهم به من غير أن يدلهم على أنه يجب أن يتقوه، فهذا أمان بما يخاف من تلك الحال، وهذا معنى قول مجاهد (¬1). قال ابن الأنباري: (والتأويل (¬2): حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقونه فعند ذلك يستحقون الإضلال، فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال، يريدون فتجرت وكسبت) (¬3)، قال: واختلف الناس في تفسير الإضلال هاهنا فقالت فرقة: تأويله: وما كان الله ليحكم عليهم بالضلالة حتى يكون منهم ذا (¬4)، واحتجوا بقول الكميت: فطائفة قد أكفروني بحبكم (¬5) أي نسبوني إلى الكفر وحكموا علي به. وقال آخرون: وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يكون منهم الأمر الذي يُستحق عليه العقاب، وأبطلوا القول الأول، وقالوا: العرب إذا أرادت ذلك المعنى قالت: ضلل يضلل، واحتجاجهم ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 11/ 53 - 54، وابن أبي حاتم 6/ 1897، والثعلبي 6/ 155 ب، والبغوي 4/ 103. (¬2) في (ى): (والمعنى). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 510. (¬4) هذا أحد أقوال المعتزلة، انظر: "مقالات الإسلاميين" 1/ 325، و"شفاء العليل" 1/ 217. (¬5) صدر بيت، وعجزه: وطائفة قالوا مسيء ومذنب انظر: "هاشميات الكميت" ص 35.

117

ببيت الكميت باطل؛ لأنه قياس في اللغة، [واللغة لا تؤخذ قياسًا] (¬1) وليس كل موضع تكلم فيه بفعل يصلح في موضعه (¬2) أن يقال (أفعل) (¬3) في النسبة (¬4) إلى ذلك الفعل، فلا يقال: أكسر ولا أضرب، فليس علينا إلا اتباع العرب في استعمال ما استعملوا ورفض ما رفضوا) (¬5) هذا كلامه، والآية بيان عما توجبه حال من لم (¬6) يدل على (¬7) ما يجب (¬8) أن يجتنب (¬9) من الأمر السمعي من أنه لا يطالب (¬10) باجتنابه ولا يضل بإتيانه حتى يُبين له أمره وتقرر عنده منزلته، فحينئذ يجازى به. 117 - قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} الآية، يروى عن ابن عباس في معنى التوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك لإذنه للمنافقين في التخلف عنه (¬11)، وقد مر ذلك. وقال أبو عبيدة: (هو مفتاح كلام كقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] (¬12). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) في (ى): (اللغة). (¬5) ذكر الرازي في "تفسيره" 16/ 213 بعض كلام ابن الأنباري بنحوه. (¬6) ساقط من (ى). (¬7) في (ى): (عليه). (¬8) في (ج): (يوجب). (¬9) ساقط من (ح). (¬10) في (ح): (يطلب). (¬11) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 278. (¬12) ذكره الثعلبي 6/ 156 أ، وابن الجوزي 3/ 511، والقرطبي 8/ 278، و"الخازن" 2/ 268، منسوبًا لأهل المعاني ولم أجد من ذكره عن أبي عبيدة، وليس في كتابه "مجاز القرآن".

ومعني هذا أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -[بالتوبة عليه] (¬1) هاهنا تشريف للمهاجرين والأنصار، كما أن ضم اسم الله تعالى إلى اسم الرسول إنما هو تشريف للرسول فقط، فأما توبة الله على المهاجرين والأنصار فمن ميل (¬2) قلوب بعضهم إلى التخلف عنه وهو قوله: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ويذكر ذلك، ولكن الله تعالى قدم ذكر التوبة فضلًا منه، ثم ذكر ذنبهم. وقوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}، قال أبو إسحاق: (معناه في وقت العسرة لأن الساعة تقع على كل الزمان) (¬3) فهي عبارة (¬4) عن جميع وقت تلك الغزوة، وهذا معنى قول الكلبي: (في حين العسرة) (¬5). وقال غيره: (يريد أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزوة) (¬6)، وهي الساعة التي كادت قلوبهم تزيغ فيها، والعسرة: تعذر الأمر وصعوبته، قال جابر: (هي عسرة الظهر، وعسرة الماء، وعسرة الزاد) (¬7). أما عسرة الظهر فقال الحسن: (كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم) (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) في (ح): (مثل). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 474. (¬4) في (ح): (جماعة)، وهو خطأ. (¬5) "تنوير المقباس" ص 205. (¬6) انظر: "المحرر الوجيز" 7/ 67 - 68، و"تفسير القرطبي" 8/ 278. (¬7) رواه ابن جرير 11/ 55، وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 512، وذكره بغير سند الثعلبي 6/ 156 أ. (¬8) "تفسير الثعلبي" 6/ 156 أ، والبغوي 4/ 104، والقرطبي 8/ 279.

وعسرة الزاد أنه (¬1) ربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواه (¬2)، وأما عسرة الماء فقال عمر -رضي الله عنه -: (خرجنا في قيظ شديد، وأصابنا فيه عطش شديد، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه) (¬3). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}، قال ابن عباس: (يريد: يميل بعض من كان فيها إلى التخلف والعصيان) (¬4). وقال الكلبي: (هم أناس من المسلمين هموا بالتخلف ثم لحقوه) (¬5). وقال أبو إسحاق: (أي من بعد ما كادوا يقفلون عن غزوتهم للشدة ليس أنه زائغ (¬6) عن الإيمان، إنما هو أن كادوا يرجعون) (¬7). وقرأ حمزة (يَزِيغُ) بالياء (¬8) [فمن قرأ] (¬9) بالتاء فله وجهان: ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) هذا معنى قول مجاهد وقتادة فيما رواه عنهما ابن جرير 11/ 55، وقول الحسن فيما رواه عنه الثعلبي 6/ 156 أ، والبغوي 4/ 104. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 55، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) رقم (1383) 4/ 223، والحاكم 1/ 159، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬4) "تنوير المقباس" ص 205 بمعناه. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 512، والبغوي في "تفسيره" 4/ 105، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 529. (¬6) في "معاني القرآن وإعرابه": يزيغ. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 474. (¬8) وكذلك هي قراءة حفص عن عاصم وقرأ الباقون بالتاء، انظر: "السبعة" ص 319، و"التيسير في القراءات السبع" ص120، و"رشاد المبتدي" ص 357، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 245. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

أحدهما: أن يضمر فاعل كاد، ويكون تقدير الكلام: كاد الحزب (¬1) أو القوم تزيغ قلوب فريق منهم (¬2). والثاني: أن يكون فاعل (كاد) القلوب، كأنه: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ولكنه قدم (تزيغ) كما تقدم خبر كان في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وجاء تقديمه وإن كان فيه ذكر من القلوب (¬3)، ولم يمتنع من حيث يمتنع الإضمار قبل الذكر، لما كان النية به التأخير، كما لم يمتنع: ضرب غلامه زيد، لما كان التقدير به التأخير، [ألا ترى أن حكم الخبر أن يكون بعد الاسم، كما أن حكم المفعول به أن يكون بعد الفاعل، وعلى هذا التقدير يجب التأنيث في (تزيغ)؛ لأن المراد به التأخير] (¬4) وجاز التذكير في (كاد) لتقدم الفعل، وهذان الوجهان ذكرهما أبو علي الفارسي (¬5)، وذكر الفراء وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون الكلام على النظم الذي هو عليه، والفعل المسند إلى المؤنث إذا تقدم عليه جاز تذكيره وتأنيثه، فلما جاز الوجهان ذكر الفعل الأول لما وقع من الحيلولة بينه وبين المؤنث بالفعل الذي هو (يزيغ) فصار كقولهم: حضر القاضي امرأةٌ، وأنث الفعل الثاني لأنه ملتزق بالقلوب. الوجه الثاني: أن (كاد) ليس بفعل متصرف كغيره من الأفعال، ألا ¬

_ (¬1) في جميع النسخ لم توضع نقطة فوق الزاي والتصحيح من"الحجة للقراء السبعة". (¬2) في (ح) زيادة نصها: (تزيغ ولكنه قدم) وهي وهم من الناسخ وتكرار لبعض ما ذكر في الوجه الثاني. (¬3) يعني أن فيه ضميرًا يعود على القلوب. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من: (ح). (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 236.

118

ترى أنه لا يبنى منه فاعل ولا مفعول فصار كـ (ليس)، و (ليس) يجوز تذكيره وإن أسند إلى مؤنث كقولك: ليس تخرج جاريتك (¬1). ومن قرأ (يزيغ) بالياء فوجهه تقدم الفعل (¬2) فذكر (يزيغ) كما ذكر (كاد) ليتشابه الفعلان ويتشاكلا. قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} كرر ذكر التوبة وهما واحد لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم الله ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التوبة، وقيل: إن المراد بالتوبة بعد التوبة رحمة بعد رحمة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى ليغفر ذنب الرجل المسلم (¬3) عشرين مرة" (¬4)، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} يريد (ازداد عنهم رضًا) (¬5). 118 - قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية، هؤلاء هم المعنيون بقوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} الآية، وقد ذكرنا هناك من هم، والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا، قال ابن عباس ومجاهد: (خلفوا عن التوبة عليهم) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجد قول الفراء بهذا السياق، والوجه الأول في كتابه "معاني القرآن" 1/ 454 مختصرًا، وذكره كذلك المؤلف في "الوسيط" 2/ 529. (¬2) من (م). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) لم أجده في المصادر التي بين يدي سوى "تفسير الرازي" 16/ 216. (¬5) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 216. (¬6) ذكره عنهما ابن الجوزي 3/ 513، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 529، ورواه عن عكرمة الإمام ابن جرير 11/ 56.

وقال كعب بن مالك الشاعر -وكان أحد الثلاثة الذين تخلفوا بغير عذر-: (ما هذا من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا) (¬1) لثير بذلك إلى قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106]. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} قال المفسرون: (ضيق الأرض عليهم بأن المؤمنين منعوا من كلامهم ومعاملتهم، وأمر (¬2) أزواجهم باعتزالهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - معرضًا عنهم، إلى أن أنزل الله توبتهم وأمر بالرجوع لهم بعد خمسين يومًا (¬3)) (¬4)، ومعنى ضاقت الأرض بما رحبت ذكرناه في هذه السورة (¬5). وقوله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها، قال ابن عباس: (يريد من الوحشة) (¬6)، يعني حين لم يكلمهم أحد من المؤمنين، وقوله تعالى: {وَظَنُّوا} أي أيقنوا {أَ {أَنْ لَا مَلْجَأَ} معتصم من الله إلا به (¬7)، أي من عذاب الله إلا به. ¬

_ (¬1) رواه بنحوه البخاري (4677)، كتاب التفسير، سورة براءة، ومسلم (2769)، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب، والإمام أحمد في "المسند" 4/ 457. (¬2) في (م): (وأمروا). (¬3) في (ى): (ليلة). (¬4) انظر: "تفسير هود" 2/ 174، والماوردي 2/ 413، وابن الجوزي 3/ 513، والرازي 16/ 218. (¬5) يعني عند قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَت} [التوبة: 25]. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) هكذا في جميع النسخ، ولذا لم أجعل الجملة من القرآن، وتفسير المؤلف للجملة يوحي أنه يريد قول الله تعالى: (من الله إلا إليه) وعبارته في "الوسيط": (لا ملجأ) لامعتصم (من الله) من عذاب الله (إلا إليه) إلا به.

وقوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}، قال صاحب النظم: قول: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} معرفة منهم بالذنب وإضمار للتوبة وطلب لها، والله -عز وجل- يقبل النية الصالحة، فلما كان هذا نيتهم أضمر الله -عز وجل- في الكلام أنه قبل ذلك منهم ورحمهم، ثم نسق بـ (ثم) على هذا الإضمار، على تأويل: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وعلموا (¬1) ألا ملجأ من الله إلا إليه رحمهم، ثم تاب عليهم) انتهى كلامه، وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} إعادة للتوكيد؛ لأن ذكر التوبة على هؤلاء قد مضى في قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}، قال ابن عباس: (يريد: ازداد لهم رضا وعصمة) (¬2)، وقد ذكرنا نظير هذا في الآية الأولى. ومعنى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي لطف لهم (¬3) في التوبة ووفقهم لها، وهذا دليل على أنه ما (¬4) لم يرد الله تعالى توبة العبد ولم يوفقه لها لا يمكنه ذلك. وقال ابن الأنباري: (معناه: ثم تاب عليهم ليدوموا على التوبة، ولا يراجعوا ما يبطلها، قال: ويجوز أن يكون المعنى: ثم تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة (¬5) ويتوفر عليهم ثوابها، وهذان لا يقعان إلا بعد توبة الله عليهم) (¬6). ¬

_ (¬1) في (ج): (واعملوا). (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 216. (¬3) في (ى): (بهم)، وما في (م) و (ح) موافق لما في "الوسيط" 2/ 533. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) في (ح): (في التوبة). (¬6) "تفسير الرازي" 16/ 219 بلا نسبة.

119

119 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، قال ابن عباس ومقاتل: (يعني به مؤمني أهل الكتاب يأمرهم بالجهاد وأن يكونوا مع المهاجرين) (¬1)، قال ابن عباس: (سمى الله المهاجرين في هذه السورة صادقين وفي الحجرات {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] [وفي الحشر {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:]] (¬2). وقال نافع (¬3): (يريد بالصادقين محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء) (¬4)، أي كونوا معهم في الجنة بالعمل الصالح، وقال سعيد بن جبير والضحاك: مع أبي بكر وعمر) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر قول ابن عباس في: "تفسير هود بن محكم" 2/ 174، والزمخشري 2/ 219 وانظر قول مقاتل -وهو ابن حيان- في "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1906، والماوردي 2/ 413 وقد ذكر قولهما المؤلف في "الوسيط" 2/ 533، وليس هناك دليل على تخصيص مؤمني أهل الكتاب بالخطاب، والأصل حمل كلام الله على العموم، فالخطاب موجه إلى كافة المؤمنين في كل زمان ومكان. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) هو: نافع المدني أبو عبد الله القرشي مولاهم، مولى ابن عمر وراويته، الإمام المثبت المفتي، عالم أهل المدينة، وأحد فقهائها، مات سنة 117 هـ. انظر: "تذكرة الحفاظ" 1/ 99، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 95، و"تقريب التهذيب" ص 559 (7086). (¬4) رواه ابن جرير عن نافع بلفظ محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه 11/ 63، والثعلبي 6/ 16 ب، والبغوي 4/ 109، ورواه ابن أبي حاتم 6/ 1906 عنه عن ابن عمر، ولفظه عندهم جميعًا: مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (¬5) رواه عنهما ابن جرير 11/ 63.

120

و (مع) تقتضي المصاحبة، والمعنى على (¬1) أنهم أمروا بأن يكونوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشدة والرخاء، قاله أبو إسحاق (¬2). 120 - وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} قال ابن عباس: (يعني مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار) (¬3)، {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}، قال: يريد لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحر والمشقة (¬4)، يحرضهم ويحضهم على الجهاد، يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر: أي ترفعت عنه ¬

_ (¬1) في (ح): (علم)، وسقطت الكلمة من (ى)، وما أثبته من (م) موافق لما في "الوسيط" 2/ 533 ونص العبارة في "المصدر السابق": (.. وكونوا مع الصادقين) على نسق الكلام يدل على أنهم أمروا ... إلخ. أقول: وقد ذكر الزجاج قولًا آخر في الآية فقال: (يجوز أن يكون ممن يصدق ولا يكذب في قول ولا فعل)، وذكر هذا القول أيضًا ابن جرير 11/ 63 تفسيرًا لقراءة ابن مسعود (وكونوا من الصادقين) لكنه لم يرتض هذا المعنى محتجًا بأنه مخالف للقراءة الموافقة لرسم المصحف، واحتجاجه هذا فيه نظر؛ لأن (مع) في لغة العرب للصحبة اللائقة، ولا تستلزم المخالطة والممازجة، بل تختلف باختلاف مصحوبها، فكون الله تعالى مع المتقين لون، وكون عقل الإنسان معه لون، وكون زوجته معه لون، وكون أميره معه لون .. وهكذا، فإذا علم هذا كان المعنى اللائق بقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} كونوا منهم؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون مع مجموعة جمعهم الصدق إلا إذا كان صادقًا موافقًا لهم في الخصلة الي جمعتهم. والله أعلم. وانظر مبحث المعية في " مختصر الصواعق المرسلة" 2/ 265، و"لسان العرب" (معع) 7/ 4234، و"البحر المحيط" 5/ 111. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 475. (¬3) انظر: "زاد المسير" 3/ 515، و"الوسيط" 2/ 534. (¬4) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع.

وتركته (¬1)، وأنا أرغب بفلان عن هذا الأمر: أي أبخل به عليه (¬2)، ولا أتركه له. وقال عطية العوفي: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن الأمر الذي بذل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه) (¬3). وقال قطرب: (أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه) (¬4). وقال الحسن: (لا يرغبون بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬5)، وهذه ألفاظ معناها متقارب. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} الإشارة {ذَلِكَ} تعود إلى ما تقدم من النهي عن التخلف، وقال: ذلك النهى لما يحصل من الأجر والثواب في مقاساة كلف السفر، وهو قوله: {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو شدة العطش، يقال: ظمئ فلان يظمأ ظمأً (¬6) على (فَعِلَ) إذا اشتد عطشه، وهو ظمئ وظمآن، ويجوز في المصدر: ظمأة وظماء، قال ابن عباس: (يريد عطشٌ في الطريق) (¬7). وقوله تعالى: {وَلَا نَصَبٌ} النصب: الإعياء من العناء، يقال: ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) ساقط من (م). (¬3) لم أجده. (¬4) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي 16/ 223 - 224 بلا نسبة. (¬5) رواه الثعلبي 6/ 161 أ، والبغوي 4/ 109. (¬6) ساقص من (م). (¬7) "تنوير المقباس" ص 206.

نصب ينصب، وأنصبني هذا الأمر، قال ابن عباس: (يريد التعب من شدة الحر) (¬1)، (ولا مخمصة) مضى الكلام فيها (¬2)، قال ابن عباس: (يريد: مجاعة) (¬3)، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعة الله، {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ}، قال: يريد: (ولا يضع قدمه ولا حافر فرسه ولا خف بعيره) (¬4)، وقال الحسن: (ولا يقفون موقفًا) (¬5). وقوله تعالى: {يَغِيظُ الْكُفَّارَ}، قال ابن الأعرابي: (يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد) (¬6)، أي أغضبه {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا}، قال ابن عباس والحسن (¬7): (أسرًا وقتلًا وهزيمة، قليلاً ولا كثيرًا، إلا كان ذلك قربة لهم عند الله) (¬8). قال العوفي: (وفي الآية من الفقه أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ونصبه ومشيته وحركاته كلها حسنات مكتوبة له، وكذلك في المعصية، فما أعظم بركة الطاعة، وما أعظم شؤم المعصية) (¬9). ¬

_ (¬1) المصدر السابق، نفس الموضع، مختصرًا. (¬2) انظر: "تفسير البسيط" المائدة: 3. (¬3) رواه ابن جرير 6/ 85، وابن أبي حاتم 6/ 1908، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 2/ 458. (¬4) لم أجده، وقد ذكر الرازي 16/ 224 نحوه بلا نسبة. (¬5) لم أجده. (¬6) اهـ. كلام ابن الأعرابي، انظر: "تهذيب اللغة" (كاظ) 3/ 2622، و"لسان العرب" (غيظ) 6/ 3327. (¬7) ساقط من (ح). (¬8) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 206، عن ابن عباس مختصرًا، ولم أجد من ذكره عن الحسن. (¬9) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 534.

121

وأما حكم هذه الآية فقال قتادة: هذه خاصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر (¬1). وقال ابن زيد: (هذا حين كان المسلمون قليلاً، فلما كثروا نسخها الله بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (¬2). وقال عطية: (وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم) (¬3)، وهذا هو الصحيح، أن تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر، وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا؛ لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض، ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد. 121 - وقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} قال ابن عباس: يريد تمرة فما فوقها ولا أدنى منها (¬4)، وروي عنه: ولو عِلاقة سوط (¬5)، وروى جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من غزا بنفسه وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف (¬6) درهم" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 161 ب، والبغوي 4/ 110، وبنحوه ابن جرير 11/ 64، وابن أبي حاتم 6/ 1909. (¬2) رواه ابن جرير 11/ 65، والثعلبي 6/ 161 ب، والبغوي 4/ 110. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 224. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 515، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 534، دون الجملة الأخيرة. (¬5) لم أجده، وفي "تنوير المقباس" ص 206: قليلة ولا كثيرة في الذهاب والمجيء. (¬6) ساقط من (ى). (¬7) رواه ابن ماجه (2761) كتاب الجهاد، باب: فضل النفقة في سبيل الله، والثعلبي في "تفسيره" 6/ 162 أ، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده الخليل بن عبد الله وهو مجهول كما في "تهذيب التهذيب" 1/ 554.

122

وقوله تعالى: {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا}، قال الليث: الوادي كل مَفْرج بين جبال وآكام وتلال يكون مسلكًا للسيل (¬1)، والجمع: الأودية، مثل: ناد وأندية (¬2)، وقال ابن الأعرابي: يجمع الوادي أوداء على (أفعال) مثل صاحب وأصحاب (¬3). قال ابن عباس: ولا يجاوزون واديًا في مسيرهم مقبلين أر مدبرين {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} يعني آثارهم وخطاهم (¬4). {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ} أي: بأحسن، {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وهذا يدل على أن الجهاد من أحسن أعمال العباد. قال أكثر المفسرين: هذه الآية خاصة في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخروج معه (¬5)، وقال الأوزاعى، وابن المبارك: هى لآخر هذه الأمة وأولها (¬6). 122 - وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية، قال أبو إسحاق: هذا لفظ خبر فيه معنى أمر كقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (¬7) [التوبة: 113]، وقال صاحب النظم: هذا نفي معناه الحظر. ¬

_ (¬1) في (ح) و (ى): (للسبيل)، والمثبت موافق للمصدرين التاليين. (¬2) "تهذيب اللغة" (ودي) 4/ 3865، والنص في كتاب "العين" (ودى) 8/ 98 بنحوه. (¬3) "تهذيب اللغة" (ودى) 4/ 3865. (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 534. (¬5) هذا قول قتادة واعتمده ابن جرير وابن عطية والقرطبي وأبو حيان، انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 65 - 66، وابن أبي حاتم 6/ 1909، وابن عطية 7/ 75 - 76، والقرطبي 8/ 292، "البحر المحيط" 5/ 112. (¬6) رواه عنهما ابن جرير 11/ 65، 66، 69، وابن أبي حاتم 6/ 1909. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 475.

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية؛ فالذي عليه الجمهور أنه لما عيب من تخلف عن غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ولا عن سرية أبدًا، فلما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) [بالسرايا إلى العدو نفر المسلمون جميعًا إلى الغزو وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) وحده بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي (¬3)، وقتادة (¬4)، واختيار الفراء (¬5)، والزجاج (¬6)، وعلى هذا معنى الآية: ليس لهم أن يخرجوا جميعًا إلى الغزو. وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (لولا) إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل (هلّا). قال صاحب النظم: وإنما جاز أن يكون (لولا) بمعنى (هلّا) كلمتان: (هل) وهو استفهام وعرض و (لا) وهو جحد، فـ (هلا) تنتظم معنيين الجحد وهو (لا) والعرض وهو (هل)، وذلك أنك إذا قلت للرجل [هل تأكل] (¬7) هل تدخل؛ كأنك تعرض ذلك (¬8) عليه، وإنما جمعوا بين (هل) و (لا) (¬9)؛ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 6/ 162 أ، وابن الجوزي 3/ 516، والبغوي 4/ 111، "أسباب النزول" للمؤلف. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 67 - 68، وابن أبي حاتم 6/ 1910. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 454. (¬6) " معاني القرآن وإعرابه" 2/ 475. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬8) ساقط من (م). (¬9) في (ح): (ألا).

لأنهم أرادوا أن (¬1) يخبروا بأنه لم يفعل ذلك (¬2)، وكان يجب عليه أن يفعله، وكذلك (لولا)؛ لأن (لو) شبيهة المعنى بـ (هل)؛ لأنك إذا قلت: لو دخلت إليّ، ولو أكلت عندي، فمعناه أيضًا عرض (¬3) وإخبار عن سرورك به لو فعل، فلذلك اشتبها في المعنى، وكذلك (لوما) بمنزلة (هلّا) (ولولا)؛ لأن (لا) و (ما) بمنزلة واحدة في النفي ومنه قوله: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة} [الحجر: 7]، ومعنى الآية: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة، ويبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة؛ لئلا يبقى وحده. وقوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} قال ابن عباس: يريد: يتعلموا القرآن والسنن والحدود والفرائض (¬4)، ويريد بالتفقه الفرقة القاعدين عن الغزو، ونظم الكلام يصح بإضمار واختصار كأنه قيل: فلو نفر من كل فرقة طائفة [وأقام طائفة] (¬5) ليتفقهوا في الدين، فاقتصر من ذكر إحدى الطائفتين على الأخرى، {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} يعني النافرين إلى الغزو، {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}، قال أبو إسحاق: المعنى أنهم إذا بقيت منهم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقية فسمعوا منه علمًا (¬6) أعلموا الذين نفروا ما علموا فاستووا في العلم (¬7). ¬

_ (¬1) في (ح): (لآن). (¬2) ساقط من (م). (¬3) في (ى): (بعوض). (¬4) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 517، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 206. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬6) في "معاني القرآن وإعرابه": وحيًا. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 475.

قال المفسرون: إذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا: إن الله تعالى قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنًا، وقد تعلمناه فتتعلم السرايا ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، فذلك قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} أي: وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ولا يعملون بخلافه، وهذا الذي ذكرنا معنى قول ابن عباس في رواية الوالبي (¬1)، وعطاء الخراساني عنه (¬2). وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة (¬3)، ومعنى الآية: ليتفقهوا: أي: ليتبصروا وليتيقنوا بما يريهم الله -عز وجل- من الظهور على المشركين، ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد، فيخبروهم بنصرة الله النبي والمؤمنين [وأنهم لا يدان لهم بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين] (¬4) {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الكفار. قال أبو إسحاق: وفي هذه الآية دليل على أن فرض الجهاد يجزئ فيه ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 68/ 11، وابن أبي حاتم 6/ 1913، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "المدخل" كما في "الدر المنثور" 3/ 521. (¬2) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1913، وابن مردويه وأبو داود في "ناسخه" كما في "الدر المنثور" 3/ 521. (¬3) هذا معنى قول الحسن. انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 69 - 70، و"ابن أبي حاتم" 6/ 1913، و"الصنعاني" 1/ 2/ 291، وقد ذكره بنحو ما ذكره المؤلف، "الثعلبي" 6/ 162/ ب، و"البغوي" 4/ 111. (¬4) ما بِن المعقوفين ساقط من (ح).

123

الجماعة [عن الجماعة (¬1)] (¬2). [قال أبو عبيد (¬3)] (¬4): لولا هذه الآية لكان الجهاد حتمًا واجبًا (¬5) على كل مؤمن في خاصة نفسه وماله، كسائر الفرائض، ولكن هذه الآية جعلت للناس الرخصة في قيام بعضهم بذلك عن بعض (¬6). 123 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} يريد: الذين يقربون منكم، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الأدنى فالأدنى (¬7) من عدوهم من المدينة مثل قريظة النضير وخيبر وفدك (¬8)، وقال في رواية عطاء: يريد الشام من الروم والعرب الكفار، وذلك أن الشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق (¬9). وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما تخطى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون أهيب له، فأمر بقتال من يليه (¬10)، وهذا دليل أنه إنما ¬

_ (¬1) " معاني القرآن وإعرابه" 2/ 475. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) وفي (ى): عن الجهاد، والمثبت موافق لـ"معاني القرآن وإعرابه". (¬3) في (م): (أبو عبيدة). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) من (م). (¬6) لم أجده في كتاب "الأموال"، وكتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد، ولا في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، ولم تذكره المصادر التي بين يدي. (¬7) ساقط من (ى). (¬8) رواه مختصرًا الثعلبي 6/ 163 ب، والبغوي 4/ 113، ونحوه في "تنوير المقباس" ص 207. (¬9) ذكره بنحوه الثعلبي 6/ 163 ب، والبغوي 4/ 114 دون تعيين القائل. (¬10) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 476.

ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم، وفيه فوائد: خفة المؤنة على بيت المال بقرب الطريق، وأن كل طائفة من المسلمين أهدى إلى مكايد من يليهم وإلى عوراتهم؛ ولأن المسلمين إذا تباعدوا وخلفوا بالقرب منهم طائفة من المشركين لم يأمنوا أن يهجموا على ذراريهم فتوجل لذلك قلوب الغزاة. قوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}، قال الزجاج: فيها ثلاث لغات: فتح الغين وضمها وكسرها (¬1)، قال ابن عباس: يريد شجاعة (¬2)، وقال مجاهد: شدة (¬3)، وقال الحسن: صبرًا منكم على الجهاد (¬4)، وقال الضحاك: عنفًا (¬5). وقال أهل المعاني: الغلظة ضد الرقة وهي الشدة في إحلال النقمة، وذلك أدل على البصيرة في الإيمان، وأزجر عن الكفر باللهِ، وأهيب لأعداء الله، وهذا مثل قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، وقوله تعالى في صفة الصحابة: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:]، وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. ويخرج الكلام في هذه الآية على الأمر بالوجود، وإنما هو بالغلظة كانه قيل: اغلظوا عليهم بحيث يجدون ذلك. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، قال أبو إسحاق: أي أن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 476 بمعناه (¬2) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 3/ 518، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 535. (¬3) انظر: المصدرين السابقين، نفر الموضع. (¬4) رواه الثعلبي 6/ 163 ب، والبغوي 4/ 114. (¬5) رواه الثعلبي، الموضع السابق.

124

الله ناصر من أَمَرَهُ بالحرب (¬1). 124 - قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (ما) صلة مؤكدة، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} يعني من المنافقين، قاله جميع أهل التفسير (¬2). {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ} هذه السورة {إِيمَانًا} يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤًا، فقال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، قال ابن عباس: يريد: تصديقًا ويقينًا وقربة من الله (¬3). ومعنى الزيادة ضم الشيء إلى غيره بما يشاركه في صفته، فالمؤمنون إذا أقروا بالسورة عن ثقة ازدادوا تصديقًا إلى ما كانوا عليه من التصديق، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان. وقوله تعالى: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون بنزول السورة، قاله ابن عباس في رواية الضحاك (¬4)، وقال في رواية عطاء: يستبشرون بالنعيم الدائم والرضوان الكبير (¬5)، ومعنى الاستبشار: استدعاء البشارة بتذكر ما فيه النعمة، كأن المؤمنين (¬6) يتذكرون ما بشروا به من النعيم فيفرحون به. وقال ابن كيسان في هذه الآية: كلما نزلت سورة كانت بينة لهم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 476. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 72، والثعلبي 6/ 163 ب، والبغوي 4/ 114، وابن الجوزي 3/ 518، "الدر المنثور" 3/ 523. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 535، ورواه ابن أبي حاتم 6/ 1915، مختصرًا من رواية الوالبي. (¬4) رواه بمعناه ابن جرير 11/ 72، وابن أبي حاتم 6/ 1915، من رواية العوفي، وكذلك الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 207 من رواية الكلبي. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) في (ح) و (ى): (كان المؤمنون).

125

وحجة ازدادوا إخلاصًا ويقينًا (¬1). 125 - وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، قال المفسرون: شك ونفاق (¬2)، وسمي الشك في الدين مرضًا؛ لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن. وقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}، قال الحسن والأكثرون: زادتهم كفرًا إلى كفرهم (¬3)، قال أبو إسحاق: لأنهم كلما كفروا بسورة ازداد كفرهم (¬4)، وقال عطاء ومقاتل: أي إثمًا وعذابًا إلى ما أعد لهم من الخزي والعذاب (¬5). 126 - قوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ} الآية، هذه واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام فهو متصل بذكر المنافقين وفي {يَرَوْنَ} قراءتان الياء والتاء (¬6)، فمن قرأ بالتاء فهو خطاب للمؤمنين على معنى التنبيه، وقال سيبويه عن الخليل في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 73، وابن أبي حاتم 6/ 1910، والثعلبي 6/ 164 أ، والبغوي 4/ 114. (¬3) انظر: " تأويل مشكل القرآن" ص 471، "تفسير الطبري" 11/ 73، والسمرقندي 2/ 84، والثعلبي 6/ 164 أ، والبغوي 4/ 114، ولم أجد من ذكره عن الحسن. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 476. (¬5) انظر: قول مقاتل في "تفسيره" ص 137/ أ، والثعلبي 6/ 164/ أ، والماوردي 2/ 416، وابن الجوزي 3/ 519 مختصرًا، ولم أجد من ذكره عن عطاء. (¬6) قرأ حمزة ويعقوب بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "الغاية في القراءات العشر" 1689، "إرشاد المبتدي" ص 357، "تقريب الشر" ص 121.

[الحج:63]، المعنى: انتبه! أنزل الله من السماء ماءً، فكان كذا وكذا (¬1)، والمعنى في هذه الآية: أن المؤمنين نُبِّهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر لما ينبغي أن ينظروا فيه (¬2) ويتدبروه. ومن قرأ بالياء فمعناه التقريع بالإعراض عن التوبة للمنافقين من غير أن يُصرف التنبيه إلى المسلمين (¬3) في الخطاب؛ لأن المسلمين قد عرفوا ذلك من أمرهم. والرؤية على ما ذكرنا بمعنى العلم، ويجوز أن تكون من رؤية العين المتعدية إلى مفعولين وسدَّ (أن) مسدهما، وهذا الوجه أولى؛ لأن معنى الآية أنهم يُستبطؤون (¬4) على مشاهدة ما يفتتنون (¬5) به في الاعتبار والإقلاع عما هم عليه من النفاق، وهذا أبلغ في هذا الباب؛ ألا ترى أن تارك الاستدلال أعذر من المضرب عما يحس ويشاهد. وقوله تعالى: {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين (¬6). ¬

_ (¬1) "كتاب سيبويه" 3/ 40بنحوه، وذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" 4/ 232 بلفظ المؤلف. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) في (ى): (المؤمنين). (¬4) في (ى): (يستبطنون)، والصواب: ما أثبته وهو موافق لما في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 233، الذي نُقل منه النص. (¬5) في (م): (يفتنون). (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 233، ورواه بمعناه مختصرًا بن أبي حاتم 6/ 1915 من رواية الضحاك.

{ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} من النفاق، ولا يتعظون بذلك المرض، كما يتعظ المؤمن إذا مرض ذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك إيمانًا وخوفًا من الله، وازداد الله له رحمة ورضوانًا. وهذا قول عطية قال: يفتنون بالأمراض والأوجاع وهن روائد الموت (¬1)، وهذا اختيار أبي علي قال: إنهم يمتحنون بالأمراض والأسباب التي لا يؤمن معها الموت، فلا يرتدعون عن كفرهم، ولا ينزجرون عما هم عليه من النفاق، ولا يُقَدِّمون عملًا صالحًا يقدمون عليه إذا ماتوا (¬2). وقال مجاهد: يفتنون بالقحط والجوع (¬3). وقال قتادة: بالغزو والجهاد (¬4)؛ وذلك أنهم كانوا إذا نقضوا العهد بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسرايا فيقتلونهم (¬5)، وكل هذا من أسباب ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 6/ 164 ب. (¬2) "الحجة" للقراء السبعة 4/ 232. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 73، 74، وابن أبي حاتم 4/ 113 ب، والثعلبي 6/ 164 ب، والبغوي 4/ 115. (¬4) المصادر السابقة، نفس الموضع. (¬5) ليس للمنافقين عهد حتى ينقضوه، وليسوا من أهل الحرب حتى يبعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسرايا، بل ظاهرهم الإسلام والولاء والطاعة، ولذا تعليل المؤلف قول قتادة بما ذكره فيه نظر، بل قول قتادة يحتمل أحد ثلاثة أمور: أ- أنهم يفتنون بالغزو والجهاد فيتخلفون بغير عذر فيظهر نفاقهم. ب- أنهم يفتنون بالغزو والجهاد فيخرجون ويتعرضون للقتل قبل التوبة والإيمان الصحيح. ج- أنهم يبتلون بالغزو والجهاد فيرون تصديق ما وعد الله - صلى الله عليه وسلم - رسوله من النصر والظفر، وهذا معنى قول الحسن البصري كما في "تفسير الثعلبي" 6/ 164 ب، بل نسبه القرطبي 8/ 299 إلى قتادة نفسه.

127

الموت التي يجب أن يتعظوا ويعتبروا بها. وقال مقاتل (¬1): يفضحون بإظهار نفاقهم، وهذا اختيار ابن الأنباري؛ قال: إنهم كانوا يجتمعون على ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطعن عليه، وكان جبريل يخبره بذلك فيوبخهم ويعظهم، فلا يتعظون ولا يرجعون عن ذلك (¬2). قال أهل المعاني: وهذه الآية بيان عما يوجبه تقلب الأحوال مرة بعد مرة من تذكر العبرة التي تدعو إلى إخلاص الطاعة والتوبة من كل خطيئة لشدة الحاجة إلى من يكشف البلية ويسبغ النعمة (¬3). 127 - قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} الآية، قال ابن عباس: كان إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخَطَبَهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض بهم في خطبته شق ذلك عليهم، فنظر بعضهم إلى بعض، يريدون الهرب من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} إن (¬4) قمتم (¬5)، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، وإن علموا أن أحدًا يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته، {ثُمَّ انْصَرَفُوا} من (¬6) الإيمان (¬7)، فعلى هذا قوله: ¬

_ (¬1) هو ابن حيان، انظر قوله في "تفسير الثعلبي" 6/ 164 ب، والبغوي 4/ 115، وابن الجوزي 3/ 519. (¬2) ذكر هذا القول الرازي في "تفسيره" 16/ 233 دون تعيين القائل. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) في (م) و (ى): أقمتم، وما أثبته من (ح) أليق بالسياق وهو موافق لما في المصادر. (¬6) هكذا في جميع النسخ، ولم يذكر المؤلف هذه الجملة في "الوسيط"، وفي "تفسير الثعلبي"، والبغوي وابن الجوزي: (عن الإيمان)، وبهذا اللفظ سيذكره المؤلف بعد عدة أسطر. (¬7) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 535، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 520، كما ذكره من غير نسبة الثعلبي 6/ 165 أ، والبغوي 4/ 115 بنحوه.

{نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} فيه إضمار أي: نظر بعضهم إلى بعض [وقال هل يراكم من أحد. وقال الأخفش: معنى {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}] (¬1) [قال بعضهم لبعض] (¬2)؛ لأن نظرهم في هذا المكان كان (¬3) قولًا (¬4). فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار؛ لأن نظرهم قام مقام قولهم: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} في المفهوم، وذلك أنه لما جرت عادتهم بأنهم إذا نظر بعضهم إلى بعض أرادوا هذا المعنى صار كأنهم تلفظوا به. وقوله تعالى: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} إن أضمرنا (¬5) القول في الآية كان هذا ملفوظًا به، وإن جعلنا النظر بمعنى القول لم يكن ملفوظًا به، وعرف ذلك بدلالة الحال. والمعنى: هل يراكم من أحد إن خرجتم، على ما ذكرنا وفيه حذف، ويصح المعنى من غير حذف وهو أن المعنى هل يراكم أحد (¬6) من المؤمنين أنكم هاهنا، يقولون ذلك استسرارًا وتحرزًا أن يُعلم بهم مخافة القتل، وهذا معنى قول الضحاك (¬7)، والزجاج (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) كتاب "معاني القرآن" للأخفش 1/ 368، وعبارته: لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماء أو شبيهًا به. (¬5) ساقط من (م). (¬6) رواه الثعلبي 6/ 165 أ. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 1165. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 477.

وقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} ذكرنا فيه قول ابن عباس: إن المعنى: ثم انصرفوا عن الإيمان به، ونحوه قال مقاتل (¬1). وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم الكفر والتكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به (¬2). قال الزجاج: جائز أن يكونوا ينصرفون عن العمل بشيء بما يسمعون (¬3). وهذا كما (¬4) حكينا عن المفسرين، قال: وجائز أن يكونوا ينصرفون عن المكان الذي استمعوا فيه (¬5)، وعلى هذا لا إضمار؛ لأن المعنى أنهم ينظرون (¬6) بعضهم إلى بعض ثم ينصرفون. وقوله تعالى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، قال ابن عباس: عن كل رُشْد وخير وهدى (¬7). وقال الحسن: صرف الله قلوبهم فطبع عليها بكفرهم ونفاقهم (¬8)، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسيره" 137 أ. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 525، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 535، وبمعناه مختصرًا هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 148. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 477. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬6) كذا في جميع النسخ، وقد جرى المؤلف على لغة لبعض العرب غير مشهورة، وجمهور العرب يوجبون توحيد فعل الفاعل مع جمعه كحالته مع الإفراد والتثنية. انظر: "أوضح المسالك" 1/ 345. (¬7) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 234، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 117، ورواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 207. (¬8) ذكره الرازي في "تفسيره" 16/ 234، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 117.

128

{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} عن الله دينه وما دعاهم إليه. وقال الزجاج: أي أضلهم الله مجازاةً على فعلهم (¬1)، وهذا معنى قول الحسن (¬2). 128 - قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، قال ابن عباس: يريد: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي - صلى الله عليه وسلم - مُضَريُّها (¬3) وربعيها (¬4) ويمانيها (¬5) (¬6)، وقال السدي: من المحرب من بني إسماعيل (¬7). قال الزجاج: أي: هو بشر مثلكم فهو أوكد للحجة عليكم؛ لأنكم تفهمون ممن هو مثلكم (¬8)، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]. ¬

_ (¬1) معاني القرآن وإعرابه" 2/ 477. (¬2) يعني السابق. (¬3) نسبة إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو جد جاهلي تنتسب إليه كثير من القبائل العدنانية. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 1. (¬4) هكذا في جميع النسخ، وفي مصادر التخريج عدا "تفسير الثعلبي": ربيعيها، وفي "تفسير الثعلبي": ربيعتها، وهو يعني القبائل المنسوبة إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 9. (¬5) يعني القبائل القحطانية. (¬6) رواه الثعلبي 6/ 165 أ، وعبد بن حميد والحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في "دلائل النبوة"، وابن عساكر، كما في " الدر المنثور" 3/ 524، ورواه البغوي في "تفسيره" 4/ 115 مختصرًا. (¬7) رواه الثعلبي 6/ 165 أ، والبغوي 4/ 115. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 477.

قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، قال ابن عباس: يريد: يعز عليه مشقتكم وكل مضرة تصيبكم (¬1). وقال أهل المعاني: معنى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} شديد عليه بامتناعه من إمكان زواله (¬2) (¬3)، {مَا عَنِتُّمْ} ما يلحقكم من الضرر، ومعنى عزّ عليّ كذا: أي اشتد (¬4) عليّ بامتناعه (¬5) من إزالته (¬6)، ويقال: عَنَتَ الرجل يعنت عنتًا: إذا وقع في مشقة شديدة، أو أذى لا يهتدى للمخرج منه، وأعنته غيره إعناتًا، وقد سبق الكلام في هذا في مواضع (¬7). وقال الزجاج: معناه: عزيز عليه عنتكم، وهو لقاء الشدة والمشقة (¬8). وقال الفراء: (ما) في موضع رفع، معناه: عزيز عليه عنتكم (¬9)، وقوله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} قال أبو إسحاق: أي: حريص على إيمانكم (¬10)، وهو قول الكلبي (¬11)، فعلى هذا هو من باب حذف ¬

_ (¬1) رواه بنحوه ابن أبي حاتم 6/ 1917، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 529. (¬2) المعنى: شديد عليه لكونه ممتنعًا من إمكانية الإزالة. (¬3) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 271 مختصرًا. (¬4) في (م): (استغز). (¬5) في (م): (من امتناعه). (¬6) في "مختار الصحاح" (عزر)، "لسان العرب" (عزز): عز عليّ ذلك: أي حقَّ واشتد. (¬7) انظر مثلاً: تفسير آية 125 من سورة النساء. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 477 بنحوه. (¬9) "معاني القرآن" 1/ 456. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 477. (¬11) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 2/ 85، ورواه الفيروزأبادي في عنه، عن ابن عباس في "تنوير المقباس" ص 207.

129

المضاف. وقال الحسن: حريص عليكم أن تؤمنوا (¬1). وقال الفراء: الحريص الشحيح بأن تدخلوا النار (¬2)، والمعنى على هذا: شحيح عليكم أن تدخلوا النار، والحرص على الشيء: الشح عليه أن يضيع ويهلك، وتم الكلام هاهنا، ثم استأنف فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، قال عطاء، عن ابن عباس: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه (¬3). 129 - قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، قال ابن عباس: يريد: المشركين والمنافقين والكفار (¬4). وقال الكلبي: أعرضوا عن الإيمان وعنك يا محمد فلم يؤمنوا بك (¬5). وقال الحسن: تولوا عن طاعة (¬6)، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: الذي يكفيني الله -عز وجل-، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، قال النحويون: موضع هذه الجملة نصب؛ لأنه في موضع الحال بتقدير: حسبي الله مستحقًّا لإخلاص العبادة، والإقرار بأن لا إله إلا هو (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 418، وابن الجوزي في "الزاد" 3/ 521. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 456. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 521، والرازي في "تفسيره" 16/ 237، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 536. (¬4) رواه مختصرًا ابن جرير 78/ 11، وابن أبي حاتم 6/ 1919، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 529. (¬5) "تنوير المقباس" 207 بنحوه، عن الكلبي، عن ابن عباس. (¬6) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 419، ولفظه: عن طاعة الله. (¬7) انظر: "إعراب القرآن وبيانه" 4/ 199، "الجداول في إعراب القرآن" 6/ 69.

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، قال أهل المعاني: إنه رب كل شيء، وخص العرش بالذكر؛ لأنه لما ذكر الأعظم دخل فيه الأصغر (¬1)، ويجوز أن يكون التخصيص تشريفًا للعرش وتفخيمًا لشأنه. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 3/ 522، "تفسير القرطبي" 8/ 302. ولم أجده في كتب أهل المعاني.

سورة يونس

سورة يونس

1

سورة يونس -عليه السلام- بسم لله الرحمن الرحيم 1 - {الر} قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أنا الله الرحمن (¬1)، وعنه أيضًا: أنا الله أرى (¬2)، وهو قول الضحاك (¬3). وقال قتادة: (الر) اسم من أسماء القرآن (¬4)، وقال أبو روق (¬5): {الر} فاتحة السورة (¬6)، وعلى هذا هي صلة وابتداء واستفتاح للكلام (¬7)، ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 64، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 537، ومكي بن أبي طالب في "تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 101، وبنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1921 من رواية عكرمة عنه، ولفظه: (الر) حروف الرحمن مفرقة، ورواه ابن جرير 11/ 79 بلفظ: (الر) و (حم) و (ن) حروف الرحمن مفرقة. (¬2) رواه ابن جرير 11/ 79، وابن أبي حاتم 6/ 1921، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" 3/ 275، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" باب: ما جاء في حروف المقطعات في فواتح السور 1/ 232، والثعلبي 7/ 3 أ، والبغوي 4/ 119، وغيرهم. انظر: "الدر المنثور" 3/ 534، والأثر ضعيف؛ لأن في سنده شريك، وهو صدوق يخطئ كثيراً، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق اختلط. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 79، وابن أبي حاتم 6/ 1921، والثعلبي 7/ 3 أ، والبغوي 4/ 119. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 79، وابن أبي حاتم 6/ 1921، والثعلبي 7/ 3 أ. (¬5) هو: عطية بن الحارث الهمداني. (¬6) رواه الثعلبي 7/ 3 أ. (¬7) في (م): (الكلام).

والمعنى: كأنه ابتدأ فقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}. وقال أبو عبيدة: الله أعلم بما أراد بهذه الحروف (¬1) (¬2). وقرأ القراء الراءَ بالإمالة في {الر} وتركها (¬3)، فمن ترك الإمالة فلأن كثيراً من العرب لا تميل ما يجوز فيه الإمالة عند غيرهم، والأصل ترك الإمالة في هذه الحروف، نحو: (ما)، و (ولا)؛ لأن ألفاتها لا تكون منقلبة عن الياء، وأما من أمال فلأن هذه الحروف أسماء لما (¬4) يلفظ به من ¬

_ (¬1) في "مجاز القرآن" 1/ 27: (الم) افتتاح، مبتدأ كلام، شعار للسورة، ولم أجد من ذكره بلفظ المؤلف. (¬2) ذهب كثير من المحققين إلى أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل بعض السور بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد قرر هذا القول الزمخشري في "كشافه" 1/ 95 - 98، ونسبه الرازي في "تفسيره" 1/ 6 إلى المبرد والمحققين، وحكاه القرطبي في "تفسيره" 1/ 155، عن الفراء وقطرب، وذهب إليه ابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ المزي، انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 38. والذي أختاره هو الرأي القائل بان هذه الحروف مما استأثر الله بعلمه فلا يصل أحد إلى معرفة المراد منها حيث لم يصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيان المراد منها، ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وليس مع أحد المختلفين حجة قاطعة، فالوقف في مثل هذه الحالة أسلم حتى يتبين الحق في هذا المقام. أما وصف القرآن بأنه هدى وتبيان فلا يبطله أن تجيء في أوائل بعض سوره مثل هذه الحروف؛ إذ لا تعلق لها بتكليف ولا خبر، وقد يكون ورودها تنبيهًا على القدرة التامة في جانب الرب، والقصور في جانب العبد، كأسرار الله في الكون والتكاليف. والله أعلم. (¬3) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون ويعقوب وحفص بالفتح، وقرأ ورش بين اللفظين، وقرأ الباقون بالإمالة. انظر: "التيسير في القراءات السبع" ص120، "تحبير التيسير" ص121، "إتحاف فضلاء البشر" ص 246. (¬4) في (ح): (لا)، وهو خطأ.

الأصوات المقطعة في مخارج الحروف، فجازت الإمالة فيها من حيث (¬1) كانت أسماء (¬2) ولم تكن الحروف التي تمتنع فيها (¬3) الإمالة (¬4)، نحو: (ما) (¬5) و (لا) وما أشبههما، فقصد بإمالة هذه الحروف -التي هي أسماء للأصوات- الإعلام بأنها أسماء (¬6) ليست بحروف. وفإن قلت: فإن الأسماء لا تكون على حرفين أحدهما حرف لين، وإنما تكون على هذه الصفة الحروف نحو: (لا) و (ما)، فالقول: إن هذه الأسماء لم تمتنع أن تكون على حرفين أحدهما حرف لين؛ لأن التنوين لا يلحقها، فيؤمن لامتناع التنوين من اللحاق لها أن تبقى على حرف واحد، وإذا أمن ذلك لم يمتنع أن يكون الاسم على حرفين أحدهما حرف لين ألا ترى أنهم قالوا: هذه شاة (¬7)، فجاء على حرفين، أحدهما حرف لين لما أمن لحاق التنوين له لاتصال علامة التأنيث به، وكذلك قوله: رأيت رجلاً ذا مال؛ لاتصال المضاف إليه به، وكذلك قولهم: كسرت فا زيدٍ. ومثل شاة في كونها على حرفين أحدهما حرف لين لما دخلت (¬8) عليه ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (الأسماء). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) في (ى): (إلي). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) ساقط من (ى). (¬7) في "لسان العرب": (شوه) والشاة: أصلها شاهية فحذفت الهاء الأصلية، وأثبتت هاء العلامة التي تنقلب تاء في الإدراج. (¬8) في (م): (دخل).

علامة التأنيث قولهم في الباءة: باه، كأنه أراد: الباءة (¬1)، فأبدل من الهمزة الألف كما أبدلها في قوله (¬2): ... لا هَنَاكِ المَرْتَعُ فاجتمع ألفان فحذف أحدهما لالتقاء الساكنين فبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، أنشد اليزيدي (¬3): فياشرَّ مُلْكٍ ملْكِ قيس بن عاصم ... على أن قيسًا لم يطأ باه مَحْرَم (¬4) ¬

_ (¬1) الباءة: النكاح والتزوج، وفيه لغات: الباهُ والباءُ والباءة والباهة. انظر: "مجمل اللغة" (بوأ) 1/ 138، "لسان العرب" (بهه) 1/ 380، "النهاية في غريب الحديث والأثر" (بوأ) 1/ 160. (¬2) هو الفرزدق، وتمام البيت كما في "ديوانه" 1/ 408: ومضت لمسلمة الركاب مودعًا ... فارعي فزارة لا هناك المرتع والبيت منسوب للفرزدق أيضًا في: "شرح أبيات سيبويه" 2/ 294، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 340، و"كتاب سيبويه" 1/ 184، و"المقتضب" 1/ 167 وروايته في هذه المصادر: راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة .......... إلخ والبيت من قصيدة يهجو بها الفرزدق الأمير عمر بن هبيرة الفزاري لما تولى العراق بعد عزل عبد الملك بن بشر عن البصرة، وسعيد بن عمرو عن الكوفة، ورحيل مسلمة بن عبد الملك إلى الشام. (¬3) هو: يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي البصري أبو محمد النحوي، المعروف باليزيدي لاتصاله بالأمير يزيد بن منصور خال المهدي لتأديب أولاده، وقد أدب المأمون أيضًا، وكان ثقة عالمًا حجة في القراءة، أخباريًّا نحويًّا لغويًّا، نظيرًا للكسائي، وتوفي سنة 202 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 14/ 146،"نزهة الألباء" ص 69، "الحجة للقراء السبعة" 4/ 245، فقد نص أبو علي في هذا الموضوع أن المذكورر أبو محمد لا غيره. (¬4) لم أهتد لمصادره.

ومثل هذا ما رواه الفراء عن الكسائي أنه سمع: اسقني شربة مًا يا هذا (¬1)، يريد شربة ماء، فقصر (¬2) وأخرجه على لفظ (من)، هذا إذا مضى فإذا (¬3) وقف قال: ما، والقول في هذا كالقول في باهٍ؛ إلا أن باهًا (¬4) أحسن من مًا، لتكثرها بعلامة التأنيث. ولم يعد {الر} آية كما عد {طه}؛ لأن آخره لا يشاكل رؤوس الآي التي بعده [إذ هي بمنزلة المردف بالباء، و {طه} عدّ؛ لأنه يشاكل رؤوس الآي التي بعده (¬5)] (¬6). قوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قال أبو عبيدة: المعنى هذه آيات (¬7)، وقال الزجاج: أي تلك الآيات التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم (¬8)، وقد بينّا في أول سورة البقرة جواز (تلك) و (ذلك) بمعنى (هذه) و (هذا). وقال صاحب النظم: نظم هذه الفاتحة مثل نظم قوله تعالى: {الم ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 245. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (م): (وإذا). (¬4) في (ح): (أباه)، وهو خطأ، وفي (ى) و (م): (باهً)، إلا أنها لم تشكل في (ى)، وانظر النص في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 246. (¬5) الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع، ولا مجال للقياس في ذلك، وما ذكره المؤلف غير مطرد؛ فإن (المص) آية في سورة الأعراف، وآخرها لا يشاكل رؤوس الآي التي بعدها. وانظر: "البرهان" للزركشي 1/ 252، "الإتقان" 1/ 88. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 272. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 5.

(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} إلا أن الكتاب مذكر فقال (ذلك) والآيات مؤنثة وقال (تلك) قال: وربما أخرج ذلك على ما تقدم وربما أخرج علي ما تأخرج وأخرج هاهنا (¬1) على ما تأخرة لأن (ذلك) و (ذاك) و (تلك) و (أولئك) إشارات تقع على ما يقصد بالإشارة إليه، وقد قال عطاء عن ابن عباس: يريد هذه الآيات التي أنزلتها على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأراد بـ {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} القرآن في قول أكثر المفسرين (¬3)، والحكيم: الحاكم (فعيل) بمعنى (فاعل) دليله قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 213] وقيل: إنه بمعنى المحكم (¬4)، قال مقاتل: المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف (¬5)، وقد بينا قبل هذا أن الأحكام معناه المنع من الفساد، ويدل على أن الحكيم هاهنا بمعنى المحكم قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]. قال الأزهري: وهذا سائغ في اللغة، والقرآن يبين بعضه بعضًا، وإنما جاز ذلك؛ لأن (حكمت) تجري مجرى (أحكمت) في المعنى فرد إلى الأصل والله أعلم (¬6). وقد قال الأعشى: ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 538. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 80، والسمرقندي 2/ 87، والثعلبي 7/ 3 ب، والبغوي 4/ 119. (¬4) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 272. (¬5) "تفسير مقاتل" 137 ب. (¬6) "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 886 بنحوه.

2

وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها (¬1) يذكر قصيدته ويعني بالحكيمة المحكمة. وقال الحسن في قوله: {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه، وبالنار لمن عصاه (¬2)، فعلى هذا الحكيم بمعنى المحكوم فيه. 2 - قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} الآية، قال ابن عباس والمفسرون: عجبت قريش من إرسال الله (¬3) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى العباد، وقالوا أما (¬4) وجد الله تعالى من يرسله إلينا إلا يتيم أبي طالب؟! فأنزل الله تعالى قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} (¬5) والألف فيه للتوبيخ والإنكار، ويعني بالناس أهل مكة. وقوله تعالى: {أَنْ أَوْحَيْنَا} (أن) في محل الرفع؛ لأنه اسم لِكان بمنزلة قولك: إيحاؤنا. وقوله تعالى: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} (أن) نصب بـ (أوحينا)، قال عطاء، عن ابن عباس: عجبوا أن اخترت من خلقي رجلاً منهم يعرفونه ويعرفون ¬

_ (¬1) البيت للأعشى الكبير في "ديوانه" ص 151، "خزانة الأدب" 4/ 259، "الدرر اللوامع" 1/ 269. (¬2) رواه الثعلبي 7/ 3 ب، والبغوي 4/ 119. (¬3) في (ح) و (ي): (إرسال محمد). (¬4) في (ح) و (ي): (ما). (¬5) ذكره النحاس في "معاني القرآن الكريم" 3/ 276، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 224، ورواه عن ابن عباس بمعناه ابن جرير 11/ 81، وابن أبي حاتم 6/ 1922، والثعلبي 7/ 3 ب، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 535.

أباه وأمه، وفيهم وُلد ونشأ يسمونه الأمين، لا يعدلون به أحدًا في صغره، ولا شابًا في شبابه، ولا كهلًا في سنه، فكذبوه ورموه بكل (¬1) ما ليس فيه وإنما بعثه الله مبشرًا (¬2) ونذيرًا فذلك قوله: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. قال الليث وأبو الهيثم: القدم: السابقة، وكذلك القُدمة، والمعنى أنه قد سبق لهم عند الله خير (¬3). وقال ذو الرّمة: وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابةٍ ... لهم قدم معروفة ومفاخر (¬4) قال: القدم السابقة وما تقدموا فيه غيرهم (¬5). وقال أحمد بن يحيى في هذه الآية: القدم كل ما قدمت من خير، قال: وتقدَّمَتْ فيه لفلان قدم: أي تقدم في الخير (¬6). وقال ابن الأنباري: القدم: كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخر ولا إبطاء؛ لأن العادة جارية بتقدم الساعي على قدميه، فالقدم كنت (¬7) من العمل الصالح، وسدّت مسدّ السبق. ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) في (م): (بشيرًا). (¬3) "تهذيب اللغة" (قدم) 3/ 2902، ونحوه في كتاب "العين" (قدم) 5/ 122، وليس لأبي الهيثم سوى الكلمتين الأوليين. (¬4) البيت في "ديوان ذي الرمة" 2/ 1044، و"تهذيب اللغة" (قدم) 3/ 2902، و"لسان العرب" (قدم) 6/ 3552. (¬5) النص في "تهذيب اللغة"، الموضع السابق، دون تعيين القائل. (¬6) "تهذيت اللغة" (قدم) 3/ 2902. (¬7) في (ي): (كفت)، وفي (م): (كعب)، وكلاهما خطأ.

وأنشد لحسان يخاطب (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -: لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة (¬2) الله تابع (¬3) (¬4) هذا الذي ذكرنا معنى القدم في اللغة. فأما التفسير فقال ابن عباس: أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم (¬5)، وعلى هذا، المعنى: أن لهم أجر قدم صدق أو ثوابه، على تقدير حذف المضاف. وقال مجاهد والحسن: يعني الأعمال الصالحة (¬6)، وعلى هذا لا حذف. وقال الوالبي عن ابن عباس: سبقت لهم السعادة (¬7). وقال ابن زيد: محمد - صلى الله عليه وسلم -شفيع لهم (¬8)، واختار ابن الأنباري أن ¬

_ (¬1) في (ح) و (ز): (مخاطبًا). (¬2) في "الزاهر" ملة. وما ذكره الواحدي موافق لديوان حسان. (¬3) البيت في "ديوان حسان" ص 148. (¬4) "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 353 بنحوه، وذكر بعضه الرازي في "تفسيره" 17/ 7. (¬5) رواه ابن جرير 11/ 81، والثعلبي 7/ 4 أ، والبغوي 4/ 120. (¬6) رواه عن مجاهد الإمام ابن جرير 11/ 81، وبنحوه ابن أبي حاتم 6/ 1923 - 1924، ورواه عن الحسن بنحوه الثعلبي 7/ 4 أ، والبغوي 4/ 120. (¬7) رواه ابن جرير 11/ 82، وابن أبي حاتم 6/ 1922 - 1923، والثعلبي 7/ 4 أ، والبغوي 4/ 120، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 535، وعند جميعهم زيادة نصها: في الذكر الأول. (¬8) لم أجده من ذكره عن ابن زيد وإنما روي عن أبي زيد، فقد رواه عنه الثعلبي 7/ 4 أ، وبنحوه البغوي 4/ 120، وذكره البخاري معلقًا في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة يونس، وابن جرير 11/ 82.

يكون المراد بالقدم العمل الصالح (¬1)، وأنشد: صَلِّ لذي العرش واتخذ قدما ... تنجيك يوم العثار والزلل (¬2) وأكثر أهل التفسير والمعاني على هذا (¬3)، وهو قول مقاتل (¬4)، وسعيد بن جبير (¬5)، والشعبي، وقطرب (¬6)، والقتيبي (¬7)، وأبي عبيدة (¬8)، وذكرنا (¬9) أيضًا عن الحسن، ومجاهد. وقوله تعالى: {قَالَ الْكَافِرُونَ} تم الكلام عند قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثم ابتدأ فقال: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}، قال عطاء، عن ابن عباس: أخرجوا محمدًا من علمهم فيه بالأمانة والصدق إلى غير علمهم ¬

_ (¬1) "المذكر والمؤنث" 1/ 229 لكنه لم يذكر فيه البيت المذكور وقد ذكره في كتابه "الزاهر" 1/ 353 لكنه لم يختر قولًا معينًا بعد أن ذكر في الآية أربعة أقوال، وانظر: "تفسير الرازي" 17/ 7، "البحر المحيط" 5/ 120. (¬2) البيت لوضاح اليمن، كما في "تفسير القرطبي" 8/ 307، "البحر المحيط" 5/ 122، "الدر المصون" 6/ 146، وقبل هذا البيت: ما لَكَ وضاحُ دائم الغزل ... ألست تخشى تقارب الأجل (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 81 - 83، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 276. (¬4) يعني ابن سليمان، انظر: "تفسيره" ص 137 ب. (¬5) لم تذكر المصادر التي بين يدي قوله هذا، وقد رواه ابن جرير 11/ 82 عنه، عن قتادة بلفظ: سلف صدق عند ربهم. (¬6) لم أقف على قولهما. (¬7) "تفسير غريب القرآن" له ص 194. (¬8) "مجاز القرآن" 1/ 273 ولفظه: قدم صدق عند ربهم: مجازه: سابقة صدق عند ربهم، ويقال: له قدمٌ في الإسلام وفي الجاهلية. وانظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 4 ب. (¬9) هكذا في جميع النسخ، والأولى أن يقول: وذكرناه.

3

فكفروا (¬1). وقرئ: (لساحر) بالألف (¬2)، والوجهان يحتملهما قوله: {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} فمن قال (ساحر) أراد به الرجل، ومن قال (سحر) أراد الذي أُوحي سحر. 3 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} إلى قوله: {عَلَى الْعَرْشِ} مفسَّر في سورة الأعراف [54]. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}، معنى التدبير: تنزيل الأمور في مراتبها على أحكام عواقبها، قال ابن عباس: يخلق ما يكون (¬3)، وقال مقاتل: يقضيه وحده (¬4). وقوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}، قال أبو إسحاق: الذي اقتضى ذكر الشفيع أنهم كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وقد ذكر الله هذا عنهم في هذه السورة في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18] [يونس:18] الآية، فأيسهم الله عن ذلك بقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (¬5). قال الكلبي: ما من شفيع من الملائكة والنبيين (¬6) إلا من بعد أمره في ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 538. (¬2) قرأ الكوفيون وابن كثير وخلف (لساحر) بالألف، وقرأ الباقون (لسحر) من غير ألف. انظر كتاب "السبعة" ص 322، "إرشاد المبتدي" ص 301، "النشر في القراءات العشر" 2/ 256. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 538، وبمعناه القرطبي في "تفسيره" 8/ 308. (¬4) "تفسيره" 137 ب. (¬5) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 6 بتصرف. (¬6) ساقط من (ى).

4

الشفاعة (¬1). 4 - قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}، قال ابن عباس: يريد: إليّ (¬2) مصيركم يوم القيامة وعندي الثواب والعقاب (¬3)، فالمرجع بمعنى الرجوع، ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى جزائه (¬4)، وهذا مما سبق بيانه (¬5). و {جَمِيعًا} نصب على الحال. وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} منصوب على معنى وعدكم الله وعدًا؛ لأن قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} معناه الوعد بالرجوع. قاله الزجاج (¬6)، قال: و {حَقًّا} منصوب على أحق ذلك حقًا (¬7). وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} رد على المشركين الذين أنكروا البعث فاحتج الله عليهم بالنشأة (¬8) الأولى. وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}، قال ابن ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 538، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 208، عن الكلبي، عن ابن عباس بنحوه. (¬2) في (ى): (إليه)، وهو غير مناسب للسياق. (¬3) "تنوير المقباس" ص 208 بمعناه. (¬4) الجزاء يقتضي الرجوع إلى الله، أما الرجوع إلى الله فهو بمعنى الإتيان المذكور في قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدً} [مريم: 95]، فيترك النص على ظاهره وينزه الله مما يتوهم من لوازم باطله. (¬5) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: 28. (¬6) المصدر التالي، نفس الموضع. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 7. (¬8) في (ح): (بالبشارة)، وهو خطأ.

5

عباس: يريد بالعدل جزاءً لا يصفه الواصفون (¬1). فإن قيل: لم أفرد المؤمنين بالقسط دون غيرهم وهو يجزي الكافر أيضًا بالقسط؟ قال ابن الأنباري: لو جمع الله الصنفين بالقسط لم يتبين ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم، ففصلهم من المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو عدل غير جور، فلهذا خص المؤمنين بالقسط، وأفرد الكافرين بخبر يرجع إلى تأويله بزيادة في الإبانة والفائدة (¬2). وقوله تعالى: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} الحميم: الذي قد أسخن بالنار حتى انتهى حره، يقال: حممت الماء: أي أسخنته، أحميه (¬3) فهم حميم، ومنه الحمام. 5 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}، قال أبو علي: الضياء لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون جمع ضوء، كسوط وسياط، وحوض وحياض، أر مصدر ضاء يضوء ضياءً، كقولك قام قيامًا، وصام صيامًا (¬4)، وعلى أي الوجهين حملته فالمضاف محذوف، والمعنى: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور، ويجوز أن يكون جُعلا النور والضياء لكثرة ذلك منهما (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مختصرًا ابن أبي حاتم 6/ 1927، من رواية الضحاك وفيها انقطاع، وكذلك الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 208، من رواية الكلبي، وحاله لا تخفى، لكن المعنى صحيح. (¬2) ذكره مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 8. (¬3) في (ح) و (ى): (أحمه). (¬4) في "الحجة": عاد عيادةً. (¬5) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 258.

وروي عن ابن كثير من طريق قنبل (¬1) (ضئاءً (¬2) بهمزتين (¬3)، وأكثر الناس على تغليطه في ذلك (¬4)؛ لأن ياء (¬5) ضياء منقلبة عن واو، مثل ياء قيام وصيام فلا وجه للهمز فيها، وعلى البعد يجوز أن يقال: الهمزة في موضع العين [من (ضياء) يكون على القلب كأنه قَدَّم اللام التي هي همزة إلى موضع العين] (¬6) وأخَّر العين التي هي واو إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفًا بعد ألف زائدة انقلبت [همزة كما انقلبت] (¬7) في سقاء (¬8) وبابهن وهذا إذا قدر الضياء جمعا كان أسوغ، ألا ترى أنهم قالوا: [قوس ¬

_ (¬1) هو: محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي مولاهم، أبو عمر المكي، مقرئ أهل مكة في عصره، وراوية الإمام ابن كثير، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، وتوفي سنة 291 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 230، "غاية المنتهى" 2/ 165، "النشر في القراءات العشر" 1/ 115. (¬2) ساقط من (م). (¬3) انظر: "السبعة" ص 323، "التيسير" ص 120، "إرشاد المبتدي" ص 359، " النشر" 1/ 406. (¬4) انظر: "السبعة" ص 323، "النشر" 1/ 406، "البحر المحيط" 5/ 125، ولا وجه لتغليط قنبل إذ وافقه الحلواني عن القواس، عن ابن كثير، انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 328، "النشر" 1/ 406، وانظر توجيه القراءة والرد على من ضعفها في "الدر المصون" 6/ 151 - 152. (¬5) ساقط من (ح). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬8) أجل سقاء، سقاي؛ لأنه من سقى يسقي، فلما تطرفت الياء بعد ألف زائدة انقلبت همزة.

وقسي؛ فصححوا الواحد وقلبوا في الجمع (¬1)، وإذا قدرته مصدرًا كان أبعد؛ لأن المصدر يجري على فعله في الصحة والاعتلال، والقلب ضرب من الاعتلال فإذا لم يكن في الفعل امتنع أن يكون في المصدر أيضاً، ألا ترى أنهم قالوا] (¬2): لاوذ لواذا، وبايع بياعا فصححوهما (¬3) في المصدر لصحتهما في الفعل، وقالوا: قام قيامًا، فأعلوه (¬4) ونحوه؛ لاعتلاله في الفعل (¬5). وقوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ}، قال الفراء (¬6)، والزجاج (¬7)، وابن الأنباري وغيرهم (¬8): خص القمر بالعائد لأن به تعرف المشهور دون الشمس فلحقه الاختصاص، قالوا: ويجوز أنه أراد: وقدرهما، فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما اختصارًا، ولهذا نظائر قد تقدمت (¬9). ¬

_ (¬1) قال الجوهري: أصل قسي: قووس؛ لأنه (فعول) إلا أنهم قدموا اللام وصيروه قسو على (فلوع) ثم قلبوا الواو ياء وكسروا القاف كما كسروا عين عِصِيّ، فصارت فسي على (فِليع). "الصحاح" (قوس)، "لسان العرب" (قوس). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬3) في (ى): (فصححوا)، والمثبت موافق لـ"الحجة"، وهو أنسب للسياق. (¬4) في (ح): (علّوه). (¬5) نقل الواحدي توجيه القراءة من "الحجة للقراء السبعة" 4/ 258. (¬6) "معاني القرآن" 1/ 458. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 7. (¬8) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 86، والثعلبي 7/ 5 أ، والبغوي 4/ 121، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 50. (¬9) انظر مثلاً: تفسير قول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].

ومعنى قدر: أي هيأ ويسر (¬1)، وقوله: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} يتوجه علي أحد وجهين (¬2): إما أن يقال: المعنى: قدر له منازل، فحذف الجار وأفضى الفعل، وإما إن يقال: قدره (¬3) ذا منازل، فحذف المضاف (¬4) وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، قال ابن عباس: يقول: لو جعلت شمسين شمسًا بالنهار وشمسًا بالليل ليس فيها ظلمة (¬5) ولا ليل لم تعلموا عدد السنين والحساب (¬6). قال الكلبي: يعني حساب المشهور والسنين والأيام والساعات (¬7). وقوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} يعني ما تقدم (¬8) ذكره من الشمس والقمر ومنازله، {ذَلِكَ} يُشار به إلى أكثر من الواحد، وذكرناه في قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] مستقصى مشروحًا (¬9). وقوله تعالى: {بِالْحَقِّ}، قال ابن عباس: يريد بالعدل؛ لأنه هو الحق، وكل ما جاء من عنده هو الحق (¬10)، وعلى هذا، المعنى: ما خلق ¬

_ (¬1) في "لسان العرب" (قدر) تقدير الله الخلق: تيسيره كلًّا منهم لما علم أنهم صائرون إليه من السعادة والشقاء. (¬2) في (خ): (الوجهين). (¬3) ساقط من (ح). (¬4) انظر الوجهين في "التبيان في إعراب القرآن" ص 433. (¬5) في (خ): (ظل). (¬6) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 310. (¬7) "تنوير المقباس" ص 208 عنه، عن ابن عباس مختصرًا. (¬8) ساقط من (ي). (¬9) ساقط من (ح). (¬10) لم أقف عليه.

6

الله ذلك إلا عادلًا في خلقه لم يخلقه ظلمًا ولا باطلاً، بل إظهارًا لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته، وقال بعضهم: الباء هاهنا بمعنى اللام، والمعنى ما خلق الله ذلك إلا للحق (¬1)، وهو ما ذكرنا من إظهار صنعه وقدرته ووحدانيته، وذكرنا وجهًا آخر في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ} في سورة الأنعام (¬2). وقوله تعالى: {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي نبينها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يتدلون بالأمارات والبراهين على قدرة الله، ولهذا خص العلماء؛ لأنهم المستدلون دون الجُهّال الذين لا يبلغون هذه المنزلة. 6 - قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}، قال ابن عباس: يريد اتقَوُا الله، ولم (¬3) يشركوا به شيئًا (¬4) يعني لقوم يؤمنون باللهِ فيعلمون ويقرون، وذلك أن من كفر ولم يستدل بما ذكر في هذه الآيات فليست له دلالة فيما خلق الله في السموات والأرض. 7 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، قال ابن عباس (¬5)، ومقاتل (¬6)، والكلبي (¬7): لا يخافون البعث، والمعنى أنهم لا يخافون ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 4/ 9، "البحر المحيط" 5/ 126. (¬2) الآية 73. من "تفسير البسيط" ونصه: (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق: أي بكمال قدرته وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق) اهـ. ثم أحال على آية سورة يونس. (¬3) في (ح): (ولا). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "زاد المسير" 4/ 10، "مفاتيح الغيب" 17/ 40، "الوسيط" 2/ 539. (¬6) انظر: "تفسيره" 138 أ. (¬7) انظر: "مفاتيح الغيب"، الموضع السابق، والنص في "تنوير المقباس" ص 207 بنحوه عنه، عن ابن عباس.

ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بها فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها المعنيون بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] 45]، وبقوله: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]، ويكون الرجاء هاهنا الخوف، كما قال تعالى: {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (¬1) [نوح:13]، وقال الهذلي: إذا لسعته النحل لم يَرجُ لسعها ... وخالفها في بيت نوب (¬2) عوامل (¬3) (¬4) وقال آخرون في قوله: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: لا يطمعون في ثوابنا (¬5)، فيكون الرجاء هاهنا الذي خلافه اليأس، كما قال: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} [الممتحنة: 13]، وذكرنا معنى لقاء الله في قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]. وقوله تعالى: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي بدلاً من الآخرة، كما قال: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، وقد مر. ¬

_ (¬1) وفي الآية أقوال أخرى، انظرها في: "تفسير ابن جرير" 11/ 87 - 88، 94 - 95، وقد رجح ما ذكره المؤلف. (¬2) في (ح): (قول)، وهو خطأ. والنوب: النحل. انظر: "الصحاح" (نوب) 1/ 229. (¬3) في "تفسير ابن جرير"، "لسان العرب" عواسل. (¬4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في "شرح ديوان الهذليين" 1/ 143، "الصحاح" (نوب)، "تهذيب اللغة" (رجا)، "المخصص" 17/ 11، "لسان العرب" (رجا)، " تفسير ابن جرير" 11/ 87. (¬5) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 89، والماوردي 8/ 423، والرازى 17/ 38، و"البحر المحيط" 5/ 126، و"السامع لأحكام القرآن" 8/ 311.

9

وقوله تعالي: {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}، قال ابن عباس والمفسرون: أي ركنوا إليها؛ لأنهم لا يؤمنون بشيء من الثواب والعقاب (¬1)، كما قال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] الآية، فهؤلاء فرحهم يكون للدنيا، وغمهم لها، ورضاهم وسخطهم لها. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}، قال ابن عباس (¬2): يريد ما أنزلت من حلالي وحرامي وفرضت من شرائعي (¬3). 9 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}، معناه: يهديهم ربهم إلى الجنان ثوابًا لهم بإيمانهم [وأعمالهم الصالحة، هذا معنى قول المفسرين في هذه الآية (¬4)، قال مجاهد في قوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [(¬5) يكون لهم نور يمشون به (¬6)،] يعني أن الله تعالى يهديهم بذلك النور إلى الجنة، ونحو هذا قال مقاتل: يهديهم بالنور ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 4/ 10، "الوسيط" 2/ 539، "معالم التنزيل" 4/ 122، ولم أجد من ذكره عن ابن عباس بهذا اللفظ بل ذكره عنه ابن الجوزي في الموضع السابق بلفظ: (آثروها)، وذكره الفيروزأبا في في "تنوير المقباس" ص 209 بلفظ: (رضوا بها). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) لم أجد من ذكره عنه بهذا اللفظ، وقد رواه الثعلبي 7/ 6، والبغوي 4/ 122، والفيروزأبادي ص 209، وابن الجوزي 4/ 10 بلفظ: (عن آياتنا): (محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن). (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 88، والثعلبي 7/ 6 أ، والبغوي 4/ 122، وابن الجوري 4/ 10، والماوردي 2/ 423. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬6) رواه ابن جرير 11/ 89، وابن أبي حاتم 6/ 1929، والبغوي 4/ 122.

10

على الصراط إلى الجنة (¬1)، وهو قول أبي روق (¬2). وقال قتادة: إن المؤمن يُصوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك، فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة، والكافر على ضد ذلك، فلا يزال به عمله حتى يدخله النار (¬3). وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى: إن الله تعالى يزيدهم هداية بخصائص وألطاف وبصائر ينور بها قلوبهم، ويزيل بها الشكوك عنهم كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] الآية (¬4)، ويجوز أن يكون المعنى يثبتهم على الهداية كما قلنا في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. وقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} أي من (¬5) بين أيديهم، وهم يرونها من علو أسِرَّتهم وقصورهم. 10 - قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} الآية، الدعوى: مصدر كالدعاء، ذكرنا ذلك في قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} [الأعراف: 5]، قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كلما اشتهى أهل الجنة شيئا قالوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فجاءهم ما يشتهون، فإذا طعموا بما يشتهون قالوا: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 6 أ، والسمرقندي 2/ 89، ولعل القول لمقاتل بن حيان إذ لم أجده في "تفسير مقاتل بن سليمان". (¬2) "تفسير الثعلبي" 7/ 6 أ، والقرطبي 8/ 312. (¬3) رواه عنه بنحوه مرفوعًا ابن جرير 11/ 88، ورواه ابن أبي حاتم 6/ 1929، عن قتادة عن الحسن مرفوعًا أيضًا، وهو حديث مرسل، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 448. (¬4) ذكره بنحوه الرازى في "تفسيره" 17/ 42، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 127. (¬5) ساقط من (م).

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وقال ابن جرير: إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). وقال الكلبي: قوله: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} علم بين أهل الجنة والخدام، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون (¬3). وقوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}، قال ابن عباس والكلبي: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام (¬4)، وقال آخرون: تحية الملائكة إياهم، وتحية الله إياهم سلام (¬5)، وعلى هذا أضيف المصدر إلى المفعول. وقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} الآية، ذكرنا فيه قول ابن عباس وابن جرير. وقال الكلبي: إذا فرغ أحدهم من كلامه (¬6) يقول: الحمد لله رب العالمين (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 10، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 539، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 209 بنحو. (¬2) رواه ابن جرير 11/ 89، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 539. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 44، ورواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 209، عن الكلبي، عن ابن عباس. (¬4) ذكره عن ابن عباس بنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 11، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 209، عن الكلبي، عن ابن عباس. (¬5) انظر: "الكشاف" 2/ 227، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 8، "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 279، "تفسير البغوي" 4/ 123. (¬6) كذا، والمعنى: يختمون كلامهم بالتحميد. (¬7) لم أجده.

وقال ابن زيد: إذا فرغوا وشربوا قالوا: الحمد لله على ما أعطاهم (¬1). وقال الحسن في هذه الآية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم" (¬2)، [قال ذلك في هذه الآية وقال] (¬3) أبو إسحاق: أعْلَمَ اللهُ -عز وجل- أنهم يبتدئون بتعظيم الله -عز وجل- وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه (¬4). وقوله تعالى: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} (أن) هي المخففة من الشديدة فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله (¬5): أن هالك كل من يحفى وينتعل على معنى: أنه هالك، وقال صاحب النظم: (أن) هاهنا زائدة (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجده، وانظر القول بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 90. (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 6 ب، عن الحسن مرسلاً، والحديث في "صحيح مسلم" (2835) كتاب: الجنة وصفة نعيمها، باب: في صفات الجنة وأهلها، عن جابر. (¬3) ما بين المعقوفين مضطرب في (ى)، وموضوع في غير موضعه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 8 مختصرًا، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 540 بهذا اللفظ. (¬5) عجز بيت، وصدره: في فتية كسيوف الهند قد علموا والبيت للأعشى في "ديوانه" 147، "خزانة الأدب" 5/ 426، "الدرر اللوامع" 2/ 194، "شرح أبيات سيبويه" 2/ 76، "كتاب سيبويه" 2/ 137، 3/ 74، "المحتسب" 1/ 308، "مغني اللبيب" 1/ 314، ورواية عجز البيت في "الديوان": أن ليس تدفع عن ذي الحيلة الحيل (¬6) ذكره الرازي 17/ 47 وأنكره، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 128.

11

11 - قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ}، قال مجاهد: هو (¬1) قول الإنسان لولده وماله إذا غضب: اللهم لا تبارك فيه والعنه (¬2). وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له (¬3)، والتعجيل: تقديم الشيء قبل وقته، والاستعجال: طلب العجلة. قال الفراء: {اسْتِعْجَالَهُمْ} منصوب بوقوع الفعل وهو (يعجل) كما تقول: قد ضربت اليوم ضربك (¬4)، والمعنى كضربك (¬5). وقال أبو إسحاق: نصب (استعجالهم) على [معنى: مثل استعجالهم، على] (¬6) نعت مصدر محذوف، المعنى: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلًا مثل استعجالهم بالخير (¬7)، وهذا نحو قول الفراء وتفسير له؛ لأنه قد قال: هو مثل قولك ضربت اليوم ضربك، أي: كضربك فيكون المعنى تعجيلًا كاستعجالهم (¬8)، فالقولان سواء، ¬

_ (¬1) ساقط من (م). (¬2) رواه ابن جرير 11/ 92، وابن أبي حاتم 6/ 1932، والثعلبي 7/ 7 أ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 539. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 92، وابن أبي حاتم 6/ 1932، والثعلبي 7/ 7 أ، والبغوي 4/ 123. (¬4) في (ح): (مضربك). (¬5) " معاني القرآن" 1/ 458. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 8. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 8 بمعناه.

و (استعجالهم) نصب بـ (تعجيك) (¬1) في الظاهر على ما قاله الفراء، وهو في الحقيقة نعت مصدر محذوف كما قال أبو إسحاق، واستعجالهم معناه طلبهم العجلة، وهو مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أن الناس لو أجيبوا في الدعاء على أنفسهم وأهليهم عند الغضب كقول الرجل لابنه وحميمه: فعل الله بك وأماتك الله، وعجلوا في ذلك الشر على ما يطلبون كما يطلبون العجلة بالخير. وزاد ابن قتيبة بيانًا فقال: إن الناس عند الغضب وعند الضجر قد يدعون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء، كما قد يدعونه بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال، يقول: فلو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه به استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم، قال: وفي الكلام حذف واختصار كأنه قال: ولو يعجل الله للناس إجابتهم في الشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير (¬2)، وعلى (¬3) هذا، الاستعجال مصدر لفعل محذوف، والمصدر يدل على الفعل، كما أن الفعل يدل على المصدر، وقوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} فعل من الله -عز وجل-، وقوله تعالى: {اسْتِعْجَالَهُمْ} فعل من المخلوقين. وقال مقاتل في هذه الآية: لو استجيب لهم في الشر كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير (¬4). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن" للفراء: يعجل، وانظر نقل المؤلف النص قبل بضعة أسطر. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 393. (¬3) في (م): (فعلى). (¬4) هذا قول مقاتل بن سليمان، انظر: "تفسيره" 138 ب.

وسلك أبو علي الفارسي في الآية طريقة أخرى فقال: المعنى والله أعلم: ولو يعجل الله للناس الشر (¬1)، أي: ما يدعون به (¬2) من الشر على أنفسهم في حال ضجر وبطر استعجاله إياهم (¬3) بدعاء الخير فأضيف المصدر إلى المفعول به، وحذف الفاعل، كقوله: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] في حذف ضمير الفاعل قال: والتقدير: ولو يعجل الله للناس الشر (¬4) استعجالًا مثل استعجالهم بالخير (¬5)، وهذا مذهب الكلبي في هذه الآية، فإنه قال: يقول: لو يعجل الله للناس إذا دعوا بالعقوبة كما يعجل لهم الخير إذا دعوا بالرحمة والرزق والعافية فيرزق ويعطي (¬6)، وعلى هذا: التعجيل والاستعجال كلاهما من الله -عز وجل-. ¬

_ (¬1) في "الحجة" دعاء الشر. (¬2) في (م): (إليه). (¬3) هكذا في جميع النسخ، وكذلك هو في إحدى نسخ "الحجة" كما أشار إليه المحقق، ونص بقية النسخ: استعجالهم إياه، ولعل صواب عبارة أبي علي ما ذكره المؤلف ويدل على ذلك ما يأتي: أ- قول أبي علي: فأضيف المصدر إلى المفعول به، وحذف الفاعل، دليل على أنه أراد ما ذكره المؤلف، إذ إنه على العبارة الثانية يكون المصدر مضافًا إلى الفاعل. ب- بيان المؤلف أن عبارة الكلبي بمعنى عبارة أبي علي وهذا لا يتحقق إلا على ما ذكره المؤلف. ج- قول المؤلف: وعلى هذا: التعجيل والاستعجال كلاهما من الله، لا يتحقق إلا بالعبارة التي ذكرها المؤلف، إذ إن العبارة الثانية تفيد أنه أراد العبارة الأخرى؛ لأنه لو أراد العبارة التي ذكرها المؤلف لقال: استعجالًا مثل استعجاله لهم بالخير. فليتأمل. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 254. (¬6) ذكره بنحوه السمرقندي في "تفسيره" 2/ 90.

وقوله تعالى: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}، قال عامة المفسرين: أي لماتوا وهلكوا جميعًا وفرغ من هلاكهم (¬1)، وقال أبو عبيدة: لفرغ عن أجلهم (¬2)، والتقدير: لفرغ من أجلهم ومدتهم المضروبة للحياة، فإذا انتهت مدتهم المضروبة للحياة هلكوا، ومعنى الفراغ من المدة: انقضاؤها، والشيء إذا انقضى فرغ منه، ونحو هذه الآية قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11]. فأما ما يتعلق به الجار في قوله: {إِلَيْهِمْ}، قال أبو علي: لما كان معنى (قضى): فرغ [وكان فرغ] (¬3) قد يتعدى بها الحرف نحو قوله (¬4): ألان فقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين صرت لهم عذابا فلما تعلق (إلى) بفرغ كذلك تعلق بقضى (¬5). وتحقيق التأويل: لو أجيبوا إلى ما يدعون به من الشر والعذاب لفرغ إليهم من أَجَلِهم بأن ينقضي الأجل فيموتوا ويحصلوا في البلاء والعذاب. وقرأ ابن عامر: (لقَضَى إليهم أجلَهم) على إسناد الفعل إلى ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 8، و"تفسير ابن جرير" 11/ 92، والثعلبي 7/ 7 أ، والبغوي 4/ 124، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 8. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 275 ولفظه: لفرغ ولقطع ونبذ إليهم. وقد ذكره أبو علي في "الحجة" 4/ 254 بلفظ المؤلف. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) هو: جرير كما في "لسان العرب" (أين) 1/ 193، ولم أجده في "ديوانه"، ورواية "اللسان": الآن وقد نزعت ... إلخ ونمير: قبيلة عربيته معروفة منها الراعي النميري، وكان بينه وبين جرير هجاء ومناقضات. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 436. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 256 بنحوه.

12

الفاعل (¬1)؛ لأن ذكر الفاعل قد تقدم وهو الله -عز وجل-، في قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ}. وذكر عن بعض المفسرين (¬2): أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية، يدل على صحة هذا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، يعني الكفار الذين لا يخافون البعث. 12 - قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} أي: مضطجعا على جنبه؛ ولهذا المعنى عطف عليه بالحال، كقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [آل عمران: 46] فنسق {وَكَهْلًا} على {فِي الْمَهْدِ}؛ لأن معناه: ويكلم الناس صغيرًا وكبيرًا، قال ابن الأنباري: وهذا كما يقول القائل إنا بخير وكثير صيدنا، فيعطف (كثيراً) على الباء، إذ تأويلها: إنا مخصبون (¬3). قال ابن عباس: إذا أصاب الكافر ما يكره من فقر أو مرض أو بلاءً أو شدة أخلص في الدعاء مضطجعًا كان أو قائمًا أو قاعدًا (¬4)، وإنما يريد جميع حالاته؛ لأن الإنسان لا يخلو من هذه الحالات. قال أبو إسحاق: وجائز أن يكون: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو ¬

_ (¬1) كتاب "السبعة" ص 323، "إرشاد المبتدي" ص 360، " النشر" 2/ 282، وقد وافقه يعقوب كما في المصدرين الأخيرين. (¬2) هو: مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" 138 ب، "تفسير القرطبي" 8/ 315. (¬3) لم أجده. (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط " 2/ 540، وبنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 12، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 209.

مسه قاعدًا أو مسه قائمًا دعانا (¬1)، والمعنى: وإذا مسَّ الإنسان الضر في حال من الأحوال دعانا، قال أبو بكر: وفي هذا القول عندي بُعد؛ لأن إزالة ألفاظ القرآن إلى معنى غامض يُتطلب لها مكروهة؛ إذِ استعمال الظاهر إذا لم يدعُ إلى الغامضِ ضرورةٌ أولى (¬2). قال: ومما يزيد هذا القول فسادًا أنّ اللام في قوله (لجنبه) إذا انتصب بـ (مس) لم يجز أن يدخل بين (دعانا) وما يتعلق به كتعلق الصلة، والفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا} يتصل ما (¬3) بعدها بـ (دعانا) وغير جائز أن تقول: دعوت فأجابني عبد الله فأحسن)، من قِبَل أنّ (أحسن) ينعطف على أجابني، فدخول منصوب الأول بينهما لا وجه له (¬4). وقوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} [قال ابن عباس: فلما كشفنا عنه] (¬5) مرضه مرّ طاغيا على ترك الشكر (¬6). وقال الفراء: استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء (¬7). وقال الزجاج: مرّ في العافية على ما كان عليه قبل (¬8) أن يبتلى ولم ¬

_ (¬1) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 9. (¬2) ساقط من (م). (¬3) في (ى): (بما)، وهو خطأ. (¬4) لم أجد مصدره، وانظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص 434، فقد ضعف أبو البقاء أيضاً قول الزجاج المذكور. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 540 مختصرًا، و"زاد المسير" 4/ 12 بلا نسبة. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 459. (¬8) ساقط من (ى).

يتعظ بما ناله (¬1)، وهذا بيان عن حال الجاهل (¬2) من الإعراض عما يجب عليه من الشكر على كشف الضر الذي نزل به. وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، قال الأخفش: {كَأَنْ لَمْ} يريد: كأنه لم، فخففت، ومثله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} (¬3) [يونس: 45]، وهذا مثل ما ذكرنا في (أن) الخفيفة في مواضع، وقال الحسن: نسي ما دعى الله فيه، وما صنع الله به (¬4) فيما كشف عنه من ذلك النبلاء (¬5). وقال صاحب النظم في هذه الآية: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ}: (وإذا) موضوعة للمستقبل، ثم قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا} وهذا واجب ماضٍ، فهذا النظم محمول على الاشتراك من أن المعنى فيه: إنه هكذا كان فيما مضى، وهكذا يكون في المستأنف، فدل ما فيه من [الفعل المستأنف على ما فيه من المعنى المستأنف، وما فيه من] (¬6) الماضي على الماضي (¬7). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، قال المفسرون: [يقول: كما زُين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء، زُين للمسرفين عملهم (¬8)، والمعنى: زُين للمسرفين عملهم تزيينًا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 9. (¬2) في (ى): (الجاهلية). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 369. (¬4) في (م): (فيه). (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 540، ولم أجده عند غيره. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" 17/ 52، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 130. (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 7 ب، والبغوي 4/ 124، وابن الجوزي 4/ 13.

13

مثل تزيين عمل هذا الكافر، فموضع الكاف في (كذلك) نصب أي: جعل الله جزاءهم الإضلال [بإسرافهم (¬1) في كفرهم؛ لأن تزيينهم لهم ما يعملون إضلال] (¬2) وهذا معنى قول الزجاج في هذه الآية (¬3). قال ابن عباس: يريد بالمسرفين: المشركين (¬4). قال ابن كيسان: أسرفوا على أنفسهم إذ عبدوا الوثن (¬5)، قال عطاء: نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة (¬6) والوليد بن المغيرة (¬7) (¬8). 13 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الآية] (¬9)، قال المفسرون: يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية (¬10). ¬

_ (¬1) في (م): (بإسرارهم)، وهو خطأ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م). (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 9. (¬4) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 209. (¬5) "الوسيط" 2/ 540، ولم أجده في مصدر آخر. (¬6) هو: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد، كبير قريش، واحد ساداتها في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، بل عاند وتكبر، وشهد بدرًا مع المشركين وقتل فيها سنة 2 هـ. انظر: "السيرة النبوية" 1/ 276، "الأعلام" 4/ 200. (¬7) هو: الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، أبو عبد شمس، كان من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش وأثريائها، أدرك الإسلام وهو هرم، فقاوم دعوته، وسعى لإطفاء نوره حتى هلك سنة 1 هـ. انظر: "السيرة النبوية" 1/ 277، "الأعلام" 8/ 122. (¬8) "زاد المسير" 3/ 12، "الوسيط" 2/ 540. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬10) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 8 أ، والبغوي 4/ 125، والسمرقندي 2/ 91، وأصل القول لمقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" 138 ب.

14

وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}، قال ابن الأنباري: ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق، وايثارهم الباطل، يدل على هذا قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). وقال أبو إسحاق (¬2): أعلم الله عز وجل أنهم لا يؤمنون ولو بقّاهم (¬3) أبدًا، فجائز أن يكون جعل الله جزاءهم الطبع على قلوبهم، كما قال: {رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا (¬4) مِنْ قَبْلُ} الآية في سورة الأعراف (¬5)، والدليل أنه طبع على قلوبهم جزاءً لهم قوله (¬6) تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [قال: وجائز أن يكون أعلم (¬7) ما قد علم منهم (¬8) (¬9)، وعلى هذا معنى قوله: كذلك نجزي القوم المجرمين] (¬10)، أي نعاقب ونهلك المشركين المكذبين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما فعلنا بمن قبلهم. 14 - قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ}، قال ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 330، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 540. (¬2) في (ى): (ابن عباس)، وهو خطأ. (¬3) هكذا، وهو صحيح كما في "اللسان" (بقى) 1/ 330، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 281، واللفظ في المصدر: أبقاهم. (¬4) في جميع النسخ (كذبوا به)، وهو خطأ. (¬5) رقم: 101، وبقيتها: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}. (¬6) في (م): (وقوله)، وهو خطأ. (¬7) في (ى): (أعلمهم). (¬8) أي أن الله سبحانه علم موتهم على الكفر فأخبر في هذه الآية بذلك. (¬9) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 10، وقد قدم المؤلف بعض الجمل على بعض. (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (م).

ابن عباس: يريد أهل مكة (¬1). وقوله تعالى: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، قال ابن عباس: يريد لنختبر أعمالكم، وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون (¬2). وقال أهل المعاني: معنى النظر هو طلب العلم، وجاز في وصف الله تعالى للمظاهرة في العدل بأنه يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬3) [الملك: 2]، وقد مرّ نظائر هذا (¬4). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" (¬5) [وقال قتادة: صدق الله ربنا؛ ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 541. (¬2) المصدر السابق، نفس المصدر. (¬3) وانظر معنى هذا القول في "معاني القرآن" للزجاج 1/ 472، وللنحاس 1/ 482. (¬4) انظر مثلاً: تفسير قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 140]، وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا} [آل عمران: 142] في "البسيط". (¬5) رواه مسلم في "صحيحه" (2742) كتاب الرقاق، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي في "سننه" (2191) كتاب: الفتن، باب: ما جاء ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وابن ماجه في "سننه" (4000) كتاب: الفتن، باب: فتنة النساء، وأحمد في "المسند" 3/ 19. (¬6) ذكره عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 13، والرازي في "تفسيره" 17/ 54، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 541، ولا أرى نسبته إلى قتادة إلا وهمًا، إذ رواه ابن جرير 11/ 94، والثعلبي 7/ 8 أ، وابن أبي حاتم 6/ 1934، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 540، عن قتادة، عن عمر.

15

وقال أبو إسحاق: موضع (كيف) نصب بقوله (تعملون)] (¬1)؛ لأنها حرف الاستفهام الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، لو قلت لننظر خيرًا تعملون أم شرًا، كان العامل في (خير) و (شر): تعملون (¬2). 15 - قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} الآية، قال قتادة (¬3)، ومقاتل (¬4)، والكلبي (¬5): نزلت في مشركي مكة؛ قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ائت بقرآن غير هذا، ليس فيه ترك عبادة آلهتنا، قال الزجاج: (بينات) منصوب على الحال (¬6). وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، قال ابن عباس (¬7)، والكلبي (¬8)، وغيرهما (¬9): يعني الذين لا (¬10) يخافون البعث. وقوله تعالى: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} أي بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا وذكر البعث والنشور {أَوْ بَدِّلْهُ} أي تكلم به من ذات نفسك فبدل منه ما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مكرر في (ى). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 10. (¬3) رواه ابن جرير 15/ 42، وابن أبي حاتم 6/ 1934، والثعلبي 7/ 8 ب، والبغوي 4/ 125. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 138 ب، والثعلبي 7/ 8 ب، والبغوي 4/ 125. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 8 ب، والسمرقندي 2/ 91، "أسباب النزول" للمؤلف ص 270. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 10. (¬7) "تنوير المقباس" ص 210. (¬8) "تفسير السمرقندي" 2/ 91. (¬9) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 95. (¬10) ساقط من (ى).

نكرهه، قاله المفسرون (¬1). وقال أهل المعاني: الفرق بين الإتيان بقرآن غيره وبين تبديله أن الإتيان بغيره قد يكون معه فأما تبديله فلا يكون إلا برفعه ووضع آخر في مكانه أو في شيء منه (¬2)، وهذا تعنت وتحكم منهم وإيهام أن الأمر موقوف على ما يرضون به، وليس (¬3) يرضون بهذا فيريدون غيره. وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}، قال الكلبي (¬4): ما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي، ولم أومر به (¬5). وقال أهل المعاني: معناه ليس لي أن أتلقاه بالتبديل، كما ليس لي أن أتلقاه بالرد (¬6). ومعنى التلقاء: جهة مقابلة (¬7) الشيء، وقد يجعل ظرفًا، فيقال: هو تلقاءه، كما يقال هو حذاءه وإزاءه وقبالته. وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} قال ابن عباس: يريد ما أخبركم إلا ما أخبرني الله به (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 8 ب، والبغوي 4/ 125، و"الوسيط" 2/ 541. (¬2) انظر نحو هذا القول في: "تفسير الرازي" 17/ 55 - 56، والقرطبي 8/ 319. (¬3) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي الجمع. (¬4) في (ى) ابن عباس والكلبي، ولم أثبت ابن عباس لعدم ذكره في سائر النسخ (ح) و (م) و (ز). (¬5) لم أعثر على مصدره، وانظر معناه في: "تنوير المقباس" ص 210 عنه، عن ابن عباس. (¬6) ذكر نحو هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" 2/ 427، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 319، ولم أجده في كتب أهل المعاني. (¬7) ساقط من (م). (¬8) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 541، وانظره بمعناه في: "تنوير المقباس" ص 210.

16

وقال مقاتل: يقول إذا أُمرت بأمر فعلته، ولا أبتدع ما لا (¬1) أومر به (¬2)، وقال الزجاج: تأويله [إن الذي أتيت به من عند الله لا من عند نفسي فأبدله (¬3)] (¬4). والآية بيان عن (¬5) حال الجاهل في التحكم في سؤال الدلالات كما يقول السفيه: [لست أريد هذه الحجة، فهات غيرها] (¬6)، جهلًا منه بما يلزمه فيها. 16 - قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ}، قال ابن عباس [والمفسرون: يقول: لو شاء الله ما قرأت عليكم] (¬7) القرآن (¬8) {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي: ولا أخبركم ولا أعلمكم الله به، يقال: دريت الشيء وأدراني به الله [والمعنى: أنه لو شاء الله أن لا ينزل القرآن] (¬9) ما أعلمهم به، ولا (¬10) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلاوته عليهم. ¬

_ (¬1) في (م): (لم). (¬2) "تفسير مقاتل" ص 117 مختصرًا عند تفسير قوله تعالي: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف:203]. (¬3) " معاني القرآن وإعرابه" 3/ 11 (¬4) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ح) (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (ح) (¬8) ذكره الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص210، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 541، وبمعناه رواه ابن جرير 11/ 95. (¬9) ما بين المعقوفين بياض في (ح) (¬10) ساقط من (ح).

قال سيبويه: يقال دريته ودريت به، قال: والأكثر [في الاستعمال بالباء (1). ويبين ما قاله (2)] (3). قوله: {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولو كان على اللغة الأخرى لكان (4): ولا أدراكموه، وأدرى: (أفعل) من الدراية وهي [التأني (5) والتعمل (6) لعلم الشيء، وعلى] (7) هذا المعنى ما تصرف من هذه الكلمة نحو: درى وأدرى بمعنى ختل، وقالوا: داريت الرجل إذا [لاينته وختلته، وإذا كان الحرف] (8) على هذا فالداري في وصف الله لا يجوز، فأما قول الراجز: لا هُمّ لا أدري وأنت الداري (9) [فإنما استجاز ذلك لتقدم لا أدري] (10) كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] ونحوه، ولو لم يتقدم ذكر الاعتداء لم

_ (1) انظر قول سيبويه في "الحجة" لأبي علي 4/ 260، و"الكتاب" لسيبويه 1/ 238 تحقيق هارون، ونصه: (ومثل ذلك دريت في أكثر كلامهم؛ لأن أكثرهم يقول: ما دريت به، مثل: ما شعرت به). (2) في (ح): (قالوا). (3) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (4) في (م): (لقال). (5) هكذا في (م) و (ز) و (ص)، وبدون نقط في (ى)، وبهذا اللفظ في: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 260، الذي نقل منه المؤلف النص، ولعل الصواب: التأتي بدلالة قوله: والتعمل. (6) في (ى): (العمل)، والتعمل: التعني، تقول: سوف أتعمل في حاجتك: أي أتعنى. انظر: "لسان العرب" (عمل) 5/ 3108. (7)، (8) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (9) الرجز للعجاج، انظر: "ديوانه" 1/ 120 وبعده: كل امرئ منك على مقدار (10) ما بين المعقوفين بياض في (ح).

يحسن في الابتداء [الأمر بالاعتداء، على أن الأعراب] (¬1) ربما ذكروا (¬2) أشياء لا مساغ لها (¬3) كقوله (¬4): اللهم إن كنت الذي بعهدي ... ولم تُغيرك الأمور بعدي وقوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}. قال ابن عباس: يريد أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم شيئًا ولا آتيكم [به (¬5). {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنه ليس من قبلي] (¬6) أتيتكم به. وقال الزجاج: أي قد لبثت فيكم من قبل أن يوحى إليّ لا أتلو كتابًا ولا أخطه بيميني، وهذا دليل على أنه أوحي إليّ، إذ كنتم تعرفونني بينكم (¬7)، نشأت لا أقرأ الكتب، فإخباري إياكم بأقاصيص الأولين من غير ¬

_ (¬1) بياض في (ح). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) يعني أنه ليس كل ما ورد عن العرب يجوز وصف الله به، بل يجب الاقتصار على الوارد في الكتاب والسنة. (¬4) لم أهتد إلى قائله، ونسبه الفارسي في "الحجة" 1/ 261، إلى بعض جفاة الأعراب، وانظر البيت بلا نسبة في "المخصص" 3/ 4، "لسان العرب" (روح) 3/ 1767، وفي هذه المصادر: لاهم. وفي "المخصص"، "اللسان": ولم تغيرك السنون. (¬5) ذكره بلفظه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 15، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 541، ورواه بمعناه البخاري في "صحيحه" (3851) كتاب المناقب، باب: مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد في "المسند" 1/ 371، والثعلبي في "تفسيره" 7/ 9/ أ. (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (¬7) ساقط من (ى).

17

كتاب ولا تلقين يدل على أنه إنما أتيت به من عند الله (¬1) جل وعز (¬2) وقال غيره: يقول قد أتى عليّ عُمُر وأنا بهذه الصفة لا أتلوه عليكم ولا يعلمكم به الله، حتى أمرني به وشاء إعلامكم (¬3). 17 - قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الآية (فمن) هاهنا استفهام معناه الجحد، أي لا أحد أظلم ممن هذه صفته، والمعنى: لا أحد أظلم ممن يظلم ظلم الكفر، كأنه قيل: لا أحد أظلم من الكافر. قال ابن عباس: يريد: إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكًا وعبدتم الأوثان وكذبتم نبيه وما جاء به من عند الله (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}، قال: يريد: لا يسعد من كذب أنبياء الله (¬5). 18 - قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} ¬

_ (¬1) هذا أحد وجوه إعجاز القرآن، لكنه ليس الوجه الذي تُحديت به البشرية، ودل على صدق الرسول لكافة الناس، بل نظم القرآن ونسقه، وتركيب جمله، وبراعة بلاغته، هو الذي حير الألباب، وأخرس ألسنة المعاندين، وأجبرهم على الإقرار بالعجز عن الإتيان بمثله. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 11 بنحوه. (¬3) ذكر نحو هذا القول النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 54. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 15، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 541. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 541.

يعني أهل مكة، قال أبو إسحاق: المعنى: ما لا يضرهم إن لم يعبدوه، ولا بنفعهم إن عبدوه (¬1). وذمّ هؤلاء بعبادة الوثن الذي لا يضر ولا ينفع؛ لأن هذا غاية الجهل حيث عبدوا جمادًا فهم أجهل (¬2) ممن عبد من دون الله من ينفع ويضر في الظاهر. وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، قال أهل المعاني: توهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله من قصده بالعبادة، فعبدوها وأحلوها محل الشافع عند الله (¬3). وقال الحسن: شفعاء في إصلاح معاشهم في الدنيا؛ لأنهم لا يقرون بالبعث؛ ألا تسمعه يقول: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} (¬4) [النحل: 38]. وقوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} قال الضحاك: أتخبرون الله [أن له شريكًا ولا يعلم الله لنفسه شريكًا في السموات ولا في الأرض؛ لأنه لا شريك له، فذلك لا يعلمه ولو كان لعلم (¬5). ¬

_ (¬1) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 11. (¬2) في (ى): (أهل جهل)، وهو خطأ. (¬3) ذكر نحو هذا القول الرازي في "تفسيره" 17/ 59 - 60، ولم أجده في كتب أهل المعاني. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 16، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 542. وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 132. (¬5) ذكره ابن الجوزى في "زاد المسير" 4/ 16، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 542.

19

قال أهل المعاني] (¬1): هذا على طريق الإلزام؛ لأنه ينكر ما يخبرون به من عبادة الأوثان وكونها شافعة، يقول: أتخبرون الله بالكذب وبما يعلم أنه ليس (¬2)؛ لأنه لا يشفع عند الله إلا من أذن له بالشفاعة (¬3). وقوله تعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [وقرئ (تُشركون)] (¬4) بالتاء (¬5)؛ فمن قرأ بالتاء فلقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ}، ومن قرأ بالياء فكأنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قل أنت: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ويجوز أن يكون هو سبحانه نزه نفسه عما افتروه، فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬6). 19 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} أي مجتمعة على دين واحد، قال عطاء، عن ابن عباس: يعني من لدن إبراهيم إلى أن غيّر الدين عمرو بن لحي، فاختلفوا واتخذوا الأصنام أربابًا وأندادًا مع الله (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين بياض في (ح). (¬2) هكذا في جميع النسخ (ح) و (ى) و (م) و (ز) و (ص)، والكلام غير مرتبط بما بعده، ولعل المعنى: ليس شفيعًا، أو ليس مأذونًا له بالشفاعة. (¬3) لم أعثر على مصدر هذا القول. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء على الخطاب، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "إرشاد المبتدي" ص 361، "النشر" 2/ 282، "إتحاف فضلاء البشر" ص 248. (¬6) انظر: توجيه القراءة في "الحجة" 4/ 264. (¬7) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 10 أ، عن عطاء، وانظر: "تفسير الوسيط" للمؤلف 2/ 542.

وقال الكلبي: يعني أمة كافرة على عهد إبراهيم، فاختلفوا فآمن بعضهم وكفر بعضهم (¬1). وقال مجاهد: كانوا على ملة الإسلام إلى أن قتل أحد بني آدم أخاه (¬2)، وهو قول السدي (¬3). وحكى الزجاج وابن الأنباري: أن الناس هاهنا العرب، وكان دينهم في أول دهرهم (¬4) الكفر ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من آمن ومنهم من كفر (¬5). وقد ذكرنا الاختلاف في هذا في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] الآية (¬6). ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، "تفسير السمرقندي" 2/ 92. (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 9 أ، ورواه بنحوه ابن جرير في "تفسيره" 11/ 98، وابن أبي حاتم 6/ 1936، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 542. (¬3) رواه الثعلبي في نفس الموضع، وذكره أيضًا المصنف في "الوسيط" 2/ 542. (¬4) في (ى): (الدهر). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 12 بنحوه، ولم أعثر على قول ابن الأنباري. (¬6) قال في هذا الموضع: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية، قال ابن عباس: كان الناس على عهد إبراهيم -عليه السلام- أمة واحدة كفارًا كلهم، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله إليهم إبراهيم وغيره من النبيين، وقال الحسن وعطاء: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر، قال ابن الأنباري على هذا القول: وإن كان فيما بينهم من لم يكن بهذا الوصف نحو هابيل وإدريس فإن الغالب كان الكفر، والحكم للأغلب، وقال الكلبي والواقدي: هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين كلهم ثم اختلفوا.

وقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، قال ابن عباس (¬1)، والكلبي (¬2)، والحسن (¬3)، والمفسرون (¬4): سبق من الله أنه أخر هذه الأمة، ولا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم. ومعنى {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [لفصل بينهم {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، قال ابن عباس: بنزول العذاب (¬5)] (¬6). وقال أبو روق: بإقامة الساعة (¬7). وقال الحسن: بإدخال المؤمنين الجنة بأعمالهم، والكافرين النار ¬

_ (¬1) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 210 من رواية الكلبي. (¬2) رواه الثعلبي 7/ 10 أ، والبغوي 4/ 127، والسمرقندي 2/ 92. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ، وقد ذكره هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 187 بلفظ: يعني المؤمنين والكافرين، لولا أن الله قضى ألا يحاسب بحساب الآخرة في الدنيا لحسابهم في الدنيا بحساب الآخرة. ونحوه عند القرطبي 8/ 322. (¬4) لم أجد أحدًا من المفسرين المصنفين ذهب إلى هذا القول سوى المؤلف في "الوسيط" 2/ 542، وهذا القول فيه نظر إذ ليس للأمة ذكر في الآية، والضمير يعود إلى الناس في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} والمراد بهم عامة الناس أو العرب خاصة، كما بينه المؤلف، وقد ذهب ابن جرير 11/ 98، والبغوي 4/ 127، والسمرقندي 2/ 92، وابن عطية 7/ 123، وغيرهم إلى أن معنى الجملة: لولا أنه سبق من الله أن لا يهلك قومًا إلا بعد إنقضاء آجالهم المقدرة لقضي بين المختلفين. (¬5) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 210 بمعناه، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 135، عن الكلبي، كما أشار إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 17 دون تعيين القائل. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) رواه الثعلبي 7/ 10 أ.

20

بكفرهم ولكنه (¬1) سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة (¬2). وقال أهل المعاني: لولا كلمة سبقت من ربك في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعامًا عليهم في التأني بهم لقضي بينهم في اختلافهم بما يضطرهم إلى علم المحق من المبطل (¬3). 20 - قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ} يعني أهل مكة {لَوْلَا} هلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، قال ابن عباس: يريدون مثل العصا وما أنزل على موسى؛ سألوه أن يأتيهم بآية من ربه كما جاءت الأنبياء (¬4)، هذا قول المفسرين (¬5). وقال أهل المعاني: سألوا آية تضطر إلى المعرفة، ولم يطلبوا معجزة؛ لأنه قد أتاهم بمعجزة، وإنما طلبوا آية يعلم بها صحة النبوة لا محالة من غير أن يوكلوا إلى الاستدلال بالآية (¬6). وقال بعضهم: طلبوا آية غير القرآن (¬7). ¬

_ (¬1) في (ى): (وقد). (¬2) رواه الثعلبي 7/ 10 أ، والبغوي 4/ 127. (¬3) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 63 دون تعيين القائل، وبنحوه قال الزمخشري في "كشافه" 2/ 230، ولم أجده في كتب أهل المعاني. (¬4) لم أعثر على مصدره. (¬5) انظر: "تفسير هود بن محكم" 2/ 187، وابن الجوزي 4/ 17، والقرطبي 8/ 323، وابن كثير 2/ 452، وأبو حيان 5/ 136. (¬6) وإلى هذا القول ذهب ابن عطية في "المحرر الوجيز" 7/ 123. (¬7) انظر: "تفسير الرازي" 17/ 164، وقال الزمخشري في "الكشاف" 2/ 230: وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلو نزولها كلا نزول.

21

وقوله تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّه} [قال المفسرون: يعني قل لهم: إن قولكم هلا أنزل عليه آية غيب، وإنما الغيب لله] (¬1) لا يعلم أحد لِمَ لَمْ يفعل ذلك، وهل يفعله أم لا، وإن فعله متى يفعل (¬2)؟ وهذا على التسليم أنه مما لا يعلمه العباد فيجب أن يوكل إلى علام الغيوب (¬3). وقوله تعالى: {فَانْتَظِرُوا} أي نزول الآية {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لنزولها. 21 - قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ}، قال ابن عباس وغيره: يعني كفار مكة (¬4) {رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} يعني مطرًا وخصبًا وغنى من بعد قحط وبؤس وفقر، قال أهل المعاني: قيل: أذقناهم رحمة، على طريق البلاغة لشدة إدراك الحاسة (¬5). وقوله تعالى: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}، قال عطاء وابن عباس: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) انظر معنى هذا القول في: "تفسير الطبري" 11/ 99، والثعلبي 7/ 10 أ، والبغوي 4/ 127. (¬3) في (م): (الغيب). (¬4) رواه عن ابن عباس بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 221، وهو قول مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" 136 ب، وبه قال الثعلبي 7/ 10 أ، والبغوي 4/ 127، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" 3/ 284، وغيرهم، لكنهم لم يخصوا كفار مكة، بل قال أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 136: وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير. وسبقه إلى ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 7/ 123. (¬5) لم أقف عليه.

(قول بالتكذيب في آياتنا) (¬1). وقال مجاهد: (استهزاء وتكذيب) (¬2)، وعلى هذا، الآيات يراد به (¬3) القرآن، والمعني أنهم إذا أخصبوا بطروا وكذبوا بالقرآن، وسمي تكذيبهم بآيات الله مكرًا؛ لأن المكر صرف الشيء عن وجهه على طريق الحيلة فيه، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يجدون إليه السبيل من شبهة أو تخليط في مناظرة أر غير ذلك من الأمور الفاسدة. وقال مقاتل (¬4): يعني لا يقولون هذا رزق الله، إنما يقولون سقينا بنوء كذا، وعلى هذا، المراد بالآيات: إذاقة الرحمة والخصب بعد القحط، وإنزال المطر بعد الجدوبة. قال أبو إسحاق: قوله تعالى: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ} جواب الجزاء، وهذا كقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] المعنى: وإن تصبهم سيئة قنطوا، {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ} (¬5) مكروا، فـ (إذا) تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل (¬6)، وكما تنوب الفاء، وزاد ¬

_ (¬1) رواه عن ابن عباس بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 221، ولم أعثر على مصدر قول عطاء، لكنّ أبا حيان قال في "البحر المحيط" 5/ 136: قاله جماعة. (¬2) رواه ابن جرير 11/ 99، وابن أبي حاتم 6/ 1938، والثعلبي 7/ 10 ب، والبغوي 4/ 127، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 542. (¬3) هكذا في جميع النسخ بالتذكير. (¬4) هو: ابن حيان كما في "تفسير الثعلبي" 7/ 10 ب، وابن الجوزي 4/ 18. (¬5) ألحق محقق "معاني القرآن" بالجملة قوله تعالى: {رَحْمَةً} وأشار إلى أنها زيادة يقتضيها السياق، وليست بالنسخ الخطية للكتاب. (¬6) اهـ. كلام الزجاج، "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 12.

الفراء فقال: وكذلك يفعلون بـ (إذ) كقول الشاعر (¬1): بينما هن بالأراك معًا ... إذ أتى راكب على جمله قال: وأكثر الكلام في هذا الموضع أن تطرح (إذ) كقوله (¬2): بينا تَبغّيه العشاء وطوفه ... سقط العشاء به على سرحان (¬3) وهذا الفصل يأتي مشروحًا في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] في سورة الروم إن شاء الله (¬4). وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا}، قال عطاء: أسرع نقمة (¬5)، والمعنى جزاءً على المكر، وذلك أنهم جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد، وتأويل قوله: {أَسْرَعُ مَكْرًا} أن ما يأتيهم من العقاب (¬6) أسرع في ¬

_ (¬1) هو: جميل بن معمر العذري، انظر: "ديوانه" ص 85، و"شرح شواهد المغني" 2/ 722، و"الأغاني" 8/ 99، و"خزانة الأدب" 8/ 58، 10/ 23، و"مغني اللبيب" ص 410، و"القاموس المحيط" (ما). (¬2) هو: عبد الله بن عثمة الضبي كما في "الأيام والليالي والشهور" للفراء ص 62، "لسان العرب" (قمر) 6/ 3736، "شرح أبيات معاني القرآن" ص 377، ولصدر البيت رواية أخرى هي: أبلغ عثيمة أن راعي إبله ... سقط ................ إلخ (¬3) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 459. (¬4) اقتصر في هذا الموضع ما نصه: وإن تصبهم سيئة يعني شدة وبلاء، وبما قدمت أيديهم، أي بما عملوا من السيئات، إذا هم يقنطون (إذا) جواب الشرط، وهو مما يجاب به الشرط، قوله: (إذا هم يقنطون) في موضح قنطوا. (¬5) لم أعثر على مصدر قوله. (¬6) في (ى): (العذاب).

22

إهلاكهم مما أتوه من المكر في إبطال آيات الله، وهذا معنى قول مقاتل: فقتلهم الله يوم بدر (¬1)، يعني: جزاء مكرهم في آياته بعقاب ذلك اليوم، فكان (¬2) أسرع في إهلاكهم من كيدهم في إهلاك محمد - صلى الله عليه وسلم - وإبطال ما أتى به. وقوله تعالى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} وعيد لهم على المجازاة وبه (¬3) في الآخرة، ويعني بالرسل الحفظة. 22 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية، يقال سيرت القوم من بلدة إلى بلدة: أي أشخصتهم، وقرأ ابن عامر: (ينشركم) (¬4) من النشر بعد الطي، والمعنى: يفرقكم ويبثكم، وحجته قوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. وقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ}، قال بعضهم: في الآية إضمار على تقدير: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فتسيرون {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} (¬5)، وذكرنا الكلام في الفلك في سورة البقرة (¬6). وقوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، قال أبو إسحاق: ابتداء ¬

_ (¬1) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 542، ولعل القول لمقاتل بن حيان؛ إذ ليس موجودًا في "تفسير مقاتل بن سليمان". (¬2) في (ح) و (ز): (في)، وهو خطأ. (¬3) في (ى): (له). (¬4) انظر: كتاب "السبعة" ص 325، "النشر" 2/ 282، "إرشاد المبتدي" ص 361، وقد وافقه أبو جعفر كما في المصدرين الأخيرين. (¬5) انظر: "تفسير الكشاف" 2/ 231، والرازي 17/ 69. (¬6) البقرة: 164، وقال في هذا الموضع: الفلك: واحد وجمع، ويذكر ويؤنث، وأصله من الدوران، وكل مستدير فلك، وفلك السماء اسم لأطواق سبعة تجري فيها النجوم، والسفينة سميت فلكًا؛ لأنها تدور بالماء أسهل دور ... إلخ.

الكلام خطاب، وبعد ذلك إخبار عن غائب؛ لأن كل من أقام الغائب مقام من يخاطب جاز له أن يرده إلى الغائب، وأنشد: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية (¬1) إن تقلت (¬2) (¬3) فقوله (تقلت)، خبر عن غائب بعد المخاطبة. وقوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}، قال الفراء: يعني الفلك، فقال: {جَاءَتْهَا} وقد قال: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} ولم يقل وجرت، وكلٌ صواب، تقول: النساء قد ذهبت وذهبن، والفلك يؤنث ويذكر، ويكون واحداً (¬4) وجمعًا (¬5). وقوله تعالى: {عَاصِفٌ}، قال الزجاج والفراء: ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفًا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة (¬6). قال الفراء: والألف (¬7) لغة بني أسد (¬8) ومعنى عصفت الريح: اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف: سريعة، ¬

_ (¬1) في (ح): (مقلة)، وهو خطأ. (¬2) البيت لكثير عزة من تائيته المشهورة، انظر: "ديوانه" 2/ 13، "أمالي القالي" 2/ 109، "لسان العرب" (قلا) 6/ 3731، وهو في "الصحاح" (قلا) بلا نسبة. (¬3) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 13. (¬4) في "معاني القرآن": واحدة. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 460، وانظر التذكير والتأنيث للفلك في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 278. (¬6) انظر قول الفراء في المصدر السابق، نفس الموضع، وقول الزجاج في "زاد المسير" 3/ 19، "تفسير الرازي" 17/ 70، ولم أجده في كتابه "معاني القرآن". (¬7) في "معاني القرآن" (وبالألف) يعني: أعصفت. (¬8) "معاني القرآن" 1/ 460.

وإنما قيل ريح عاصف؛ لأنه يراد ذات عصوف، كما قيل لابن، وتامر (¬1)، أو لأن لفظ الريح مذكر (¬2). وقوله تعالى: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}، الموج ما ارتفع من الماء فوق الماء، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}، قال أبو عبيدة والقتيبي: أي دنوا من الهلاك (¬3)، وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من الهلاك، وذكرنا ما في هذا عند قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (¬4) [البقرة: 81]. وقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك فلم يشركوا به من آلهتهم شيئًا، وأخلصوا لله الربوبية والوحدانية (¬5)، وقالوا: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} أي: من هذه الريح ¬

_ (¬1) في "لسان العرب" (تمر) 1/ 445: يقال: رجل تأمر ولابن: أي ذو تمر وذو لبن. (¬2) قال ابن الأنباري: الريح من الرياح مؤنثة، والريح: الأرَج والنشر -وهما حركتا الريح- مذكر، أنشدنا أبو العباس، عن سلمة، عن الفراء، قال: أنشدني بعض بني أسد: كم من جراب عظيم جئت تحمله ... ودهنة ريحها يغطي على التفل قال: أنشدنيه عدة من بني أسد كلهم يقول: يغطي، فيذكرونه على معنى النشر، ويجوز أن يكون ذكَّروه إذ كانت الريح لا علامة فيها للتأنيث موجودة. "المذكر والمؤنث" 1/ 257، وانظر: "اللسان" (روح) فقد نص على أن الريح مؤنثة. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 277، "تفسير غريب القرآن" ص 202. (¬4) قال هناك ما نصه: ويكون المعنى في (أحاطت به خطيئته) أهلكته، من قوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}، قال ابن السراج: أحاطت به خطيئته: أي. سدت عليه مسالك النجاة. (¬5) "زاد المسير" 4/ 20، "الوسيط" 2/ 543، "مفاتيح الغيب" 17/ 73، "البحر المحيط" 5/ 139.

23

العاصف، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} قال (¬1): يريد من الموحدين والطائعين. 23 - قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، قال الزجاج: المعنى: فلما أنجاهم بغوا (¬2)، وذلك أن (إذا) تقع موقع الفعل كقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ] (¬3) إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، [على معنى قنطوا، ونذكر الكلام في هذا عند قوله {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬4)] (¬5). {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ}، أي: يعملون بالفساد والمعاصي بغير الحق، قال ابن عباس: يريد بالفساد (¬6) والتكذيب والجرأة على الله (¬7)، ومعنى البغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله من الطلب (¬8). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يريد: أهل مكة، {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: بغي بعضكم على بعض متاع في الدنيا، وليس مما يقرب إلى الله، وإنما تأتونه لحبكم العاجلة. ¬

_ (¬1) يعني ابن عباس، انظر: "تنوير المقباس" ص 211، "الوسيط" 2/ 543. (¬2) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 14. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى) و (ز) و (ص). (¬4) يعني آية سورة الروم السابقة. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) في (ى): (بالمعاصي والفساد ... إلخ)، ولم أثبت الكلمة لعدم وجودها في المصدر ولا في سائر النسخ. (¬7) "تفسير الرازي" 17/ 71. (¬8) في "تهذيب اللغة" (بغى) 1/ 367: يقال: ابغني كذا وكذا: أي اطلبه لي، ومعنى ابغني وابغ لي سواء، فإذا قال: ابغني كذا وكذا فمعناه أعني على بُغائه واطلبه معي.

قال أبو إسحاق: {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تقرأ بالرفع وبالنصب (¬1)، فالرفع من جهتين: أحدهما: أن يكون {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} خبرًا لقوله: {بَغْيُكُمْ}، ويجوز أن يكون خبر الابتداء {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ويكون {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} رفعا على إضمار (هو) ومعنى الكلام: إن ما تنالونه بهذا الفساد والبغي إنما تتمتعون به في الحياة الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ}، ومن نصب فعلى المصدر، المعنى: [تمتعون متاع الحياة] (¬2) الدنيا؛ لأن قوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} يدل على أنهم يتمتعون (¬3). وزاد أبو علي الفارسي بيانًا فقال: قوله: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} يحتمل تاويلين؛ أحدهما: أن يكون متعلقًا بالمصدر؛ لأن فعله متعد بهذا الحرف يدل على ذلك قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج: 60]، وقوله تعالى: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]، فإذا جعلت الجار من صلة المصدر كان الخبر {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [والمعنى: ما ذكرنا أن بغي بعضكم على بعض متاع] (¬4) في الدنيا (¬5). ¬

_ (¬1) قرأ بنصب (متاع) حفص وحده، وقرأ الباقون بالرفع، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص170، "تقريب النشر" ص 122، وقد وافق حفصًا جمع من القراء غير العشرة، انظر: "زاد المسير" 4/ 20، "البحر المحيط" 5/ 140. (¬2) ما بين المعقوفين هكذا نصه في (ح) تمتعون به في الحياة، وهو خطأ سببه الجملة السابقة المشابهة لهذه الجملة في لفظها. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 14. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) ما بين العلامتين من كلام المؤلف، وهو بمعناه في "الحجة"، وفيها زيادة.

ويجوز أن تجعل (¬1) (على) خبر المبتدأ ولا تجعله من صلة المصدر، وحينئذ يكون خبرًا للمصدر، ويكون متعلقًا بمحذوف على تقدير: إنما بغيكم عائد على أنفسكم، أي: عملكم بالظلم يرجع إليكم، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (¬2) [فصلت: 46]، [الجاثية: 15]، وهذا في (¬3) المعنى كقوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقوله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]، فإذا رفعت {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على هذا التأويل كان خبر (¬4) مبتدأ محذوف، كأنك قلت: ذاك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا (¬5)، ومن نصب {متاعَ} جعل (على) من صلة المصدر، فيكون الناصب للمتاع هو المصدر الذي هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفًا، وحسن حذفه لطول الكلام، وهذا المحذوف لو أظهرته لكان يكون: مذموم (¬6) أو مكروه أو منهي عنه، ويجوز أن تجعل (على) خبر المبتدأ وتنصب (متاع) على: تمتعون متاعًا، فيدل (¬7) انتصاب المصدر على المحذوف (¬8). ¬

_ (¬1) في (م): (تحمل). (¬2) ما بين العلامتين من كلام المصنف، وليس موجودًا في "الحجة". (¬3) ساقط من (ى). (¬4) في (ى): (خبره)، وهو خطأ يجعل الجملة لا معنى لها. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) في (م): (مذمومًا أو مكروهًا أو منهيًا عنه)، وفي بقية النسخ و"الحجة" بالرفع، والتقدير: إنما بغيكم على أنفسكم مذموم أو مكروه. (¬7) في (م): (فظهر)، وهو خطأ. (¬8) اهـ. كلام أبي علي. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 266 - 268 بتصرف واختصار.

24

24 - قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية، معناه: إنما القول في تشبيه حال الحياة الدنيا كالقول في ماء (¬1) علي ما ذكر من صفته؛ لأن معنى المثل: قول يشبّه فيه حال الثاني بالأول، ويجوز أن يكون المعنى: صفة الحياة الدنيا كماء، وذكرنا الكلام في معنى المثل (¬2)، وأراد بالحياة الدنيا الحياة الفانية في هذه الدار. وقوله تعالى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} معنى الاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض، يعني فاختلط -بسبب ذلك الماء الذي أنزلناه- نبات الأرض {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من البقول والحبوب والثمار {وَالْأَنْعَامُ} من المراعي والكلأ {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ}، قال ابن عباس: يريد زينتها وحسنها وخصبها (¬3). قال الزجاج: الزخرف كمال حسن الشيء (¬4). وقال غيره: يعني: حسن ألوان الزهر الذي يروق البصر (¬5)، ومضى الكلام في معنى الزخرف عند قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. وقوله تعالى: {وَازَّيَّنَتْ} قال ابن عباس: يريد بالحبوب ¬

_ (¬1) في (خ) و (ز): (الماء). (¬2) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: 26. (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 543، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 211 مختصرًا، وفي "تفسير ابن جرير" 11/ 102، عن ابن عباس، قال: فنبت بالماء كل لون. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 15. (¬5) لم يتبين لي القائل، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 543، وذكر نحوه الرازي في "تفسيره" 17/ 73، والبغوي في "تفسيره" 4/ 128.

والثمار (¬1)، وقيل: بنباتها (¬2). قال (¬3) الزجاج: يعني: تزينت، فأدغمت التاء في الزاي [وسكنت الزاي] (¬4) فاجتلبت لها ألف الوصل (¬5). وهذا مثل ما ذكرنا في: {فَادَّارَأْتُمْ} (¬6) [البقرة: 72]، و {ادَّارَكُوا} [الأعر اف: 38]. وقوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}، قال ابن عباس: يريد أهل تلك الأرض أنهم قادرون على حصادها وجدادها وقطعها (¬7)، وقال الزجاج: أي قادرون على الانتفاع بها (¬8). وقال أهل المعاني: أخبر عن الأرض، والمعنى للنبات إذ كان مفهومًا (¬9)، وقيل رد الكناية إلى الغلة؛ لأن ما سبق من الكلام يدل عليها فكأنها قد ذكرت (¬10). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 11/ 102، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 545، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 211، تفسيرًا لقوله تعالى: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} وهو أولى بما ذكره المؤلف. (¬2) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 293، وابن جرير 11/ 102، وابن أبي حاتم 6/ 1941، عن قتادة. (¬3) في (م): (وقال). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 15. (¬6) يعني في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}. (¬7) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 74، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 543. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 15. (¬9) هذا قول قطرب، انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 11 ب. (¬10) ذكره الثعلبي في المصدر السابق، نفس الموضع، والبغوي في "تفسيره" 4/ 129، وأبو حيان في "البحر المحيط" 17/ 140.

وقوله تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا}، قال ابن عباس: يريد عذابنا (¬1)، والمعنى: أمرنا بهلاكها. وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا}، قال ابن عباس: لا شيء فيها (¬2). وقال الضحاك: يعني المحصود (¬3)، وعلى هذا المراد بالحصيد [الأرض التي حصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد] (¬4) النبات والغلة، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل (¬5). وقال غيره: الحصيد: المقطوع والمقلوع (¬6). وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}، قال الليث: يقال للشيء إذا فني: كأن لم يغن بالأمس، أي كأن لم يكن، من قولهم: غني القوم في دارهم، إذا أقاموا بها (¬7). وهذا معنى قول ابن عباس: كأن لم تكن أمس (¬8)، وعلى هذا، المراد به الغلة. وقال الزجاج: كأن لم تعمر بالأمس، والمغاني: المنازل التي يعمرها أهلها بالنزول (¬9)، ونحو هذا قال ابن قتيبة: كأن لم تكن عامرة ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 74، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 543. (¬2) ذكره الرازي في المصدر السابق، نفس الموضع. (¬3) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 277. (¬6) هذا قول الثعلبي، انظر: "تفسيره" 7/ 11 ب. (¬7) النص في كتاب "العين" (غني) 4/ 451 بنحوه، وهو في "تهذيب اللغة" (غني) 3/ 2704، لكنه جعله نصين وذكر كل نص في موضع. (¬8) "تنوير المقباس" ص 211. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 15.

بالأمس (¬1)، وعلى هذا، المراد به الأرض. وقال بعض أهل المعاني: معناه (¬2): كأن لم تقم على تلك الصفة فيها قبل (¬3)، وهذا القول جامع للأرض والغلة جميعًا، والكلام في (أمس) يأتي عند قوله: {كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]، إن شاء الله (¬4). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي: كما بينا هذا المثل للحياة الدنيا كذلك نبين آيات القرآن. وقوله (¬5): {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في المعاد، هذا الذي ذكرنا تفسير الآية ومعناها على ما ذكره المفسرون وأصحاب المعاني، وتأويلها: أن الله تعالى ضرب مثلا للحياة الدنيا في هذه الدار الفانية بما أنزله من السماء، فجعله سببا لالتفاف النبات وكثرته، حتى تتزين به الأرض وتظهر بهجتها بحمرة النوار وبياض الزهر وخضرة العشب، وظن الناس أنهم منتفعون ومستمتعون بجميع ذلك، فبينا هم على ذلك الظن جُعلوا (¬6) على غير شيء؛ لأن القادر عليهم وعليها أهلكها (¬7)، وردها إلى الفناء حتى كأن لم تكن، ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 202. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وانظره بنحوه في: "تفسير هود بن محكم" 2/ 189. (¬4) قال في هذا الموضع: (أمس) اسم لليوم الماضي الذي هو قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين، وقال الكسائي: بني على الكسر؛ لأنه فعل سمي به، ومن العرب من يبنيه على الفتح، قال الفراء: ومن العرب من يخفض الاسم وإن أدخل عليه الألف واللام، وأنشد ... إلخ. (¬5) ساقط من النسخ عدا (م). (¬6) في (م): (حصلوا). (¬7) ساقط من (ى).

25

كذلك الحياة في (¬1) الدنيا سبب (¬2) اجتماع (¬3) المال وزهرة الدنيا وعروضها وما فيها مما يروف ويعجب (¬4)، حتى إذا كثر ذلك واجتمع منه شيء كثير عند صاحبه، وظن أنه متمتع (¬5) به، سلب ذلك عنه بموته أو بحادثة تأتي على ما قد جمعه بالإهلاك والتبديد، وهذا بيان عما يوجب الحذر عن (¬6) الركون إلى الدنيا، والحياة فيها (¬7)، والاغترار بها. 25 - قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} أي: ببعث الرسول، ونصب الأدلة يدعو إلى الجنة، ودار السلام هي الجنة، وذكرنا الكلام فيها عند قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وذكرنا في السلام قولين؛ أحدهما: أنه اسم الله تعالى؛ لأنه سلم مما يلحق الخلق من الغير والفناء (¬8)، وقال المبرد: تأويله: أنه ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه (¬9)، وعلى هذا (السلام) مصدر سلم. ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) في (ى): (جمع). (¬4) في (ح): (يروق العجب ويعجب). ولا معنى له. (¬5) في (م): (ممتع). (¬6) هكذا في جميع النسخ، والصواب: (من). (¬7) لعل المقصود: الحياة فيها بفسق وفجور وطول أمل، أر نحو ذلك مما يناسب السياق. (¬8) انظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 215. (¬9) رواه عنه الزجاج في"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 253، والأزهرى في "تهذيب اللغة" (سلم) 2/ 1742، على أن السياق في الموضعين يحتمل أن القول للزجاج، لكن ابن منظور أثبت القول للمبرد، انظر: "لسان العرب" (سلم) 4/ 2078.

وقال النضر بن شميل: سمى نفسه سلامًا؛ لأن الخلق سلموا من ظلمه (¬1)، وهذا أيضًا مثل قول المبرد؛ لأن معناه ذو السلام، قال ابن الأنباري: وعلى هذا هو من باب حذف المضاف كقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] وأمثاله (¬2). القول الثاني: أن السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات؛ كالموت والمرض والألم والمصائب ونزغات الشيطان والكدّ والعناء، وخوف العاقبة، وغير ذلك بما يكون في الدنيا. وقال قوم: سميت الجنة دار السلام؛ لأن الله تعالى يسلم على أهلها، قال الله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، والملائكة يسلمون عليهم أيضًا] (¬3)، قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، وهم أيضًا يحيّي بعضهم بعضًا بالسلام، قال الله تعالى عنهم: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (¬4) [إبراهيم: 23]، وهذا معنى قول الحسن: إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة، وهو تحيتهم (¬5)، وكنا وعدنا في تفسير قوله: {دَارُ السَّلَام} [الأنعام: 127] زيادة بيان هاهنا. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 8/ 25، ولم يعين القائل. (¬2) "الزاهر" 1/ 64 بنحوه. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬4) ذكر نحو هذا القول مختصرًا الثعلبي 7/ 12 ب، والبغوي 4/ 129. (¬5) رواه الثعلبي 7/ 12 ب.

26

وقول (¬1): {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، قال المفسرون وأصحاب الحقائق (¬2): عَمّ بالدعوة وخَصّ بالهداية من شاء؛ لأن الحكم له في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (¬3). 26 - قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا}، قال ابن عباس: يريد للذين قالوا لا إله إلا الله (¬4). ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة" (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) أصحاب الحقائق عرفًا هم الباحثون في السلوك وأعمال القلوب، المتعرفون إلى الله عن طريق الذوق والكشف، وغالب ما يدعونه من الحقائق بدع وأهواء. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 10/ 156، 159، 171. والظاهر أن المؤلف هنا يعني علماء الكلام، وانظر النص بنحوه في: "الإبانة عن أصول الديانة" ص 216، وكتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص 191، وكتاب "أصول الدين" لأبي منصور البغدادي ص 140. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 12 ب، والبغوي 4/ 129، والسمرقندي 2/ 94، "الوسيط" للمؤلف 2/ 544. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 108، وابن أبي حاتم 6/ 1944، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" باب: ما جاء في فضل الكلمة الباقية 1/ 84، والطبراني في كتاب "الدعاء" 3/ 1509، من رواية علي بن أبي طلحة. (¬5) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 12 ب، وإبن مسنده في "الرد على الجهمية" ص 96، وأبو الشيخ والدارمي في "الرؤية"، وابن مردويه واللالكائي والخطيب وابن النجار، كما في "الدر المنثور" 3/ 547، وفي سند ابن منده والثعلبي متروك وهو: نوح بن أبي مريم كما في "الكاشف" 7/ 32، "تهذيب التهذيب" 347، ولم أطلع على سنده في المصادر الأخرى.

ونحو ذلك قال ابن عباس في الحسنى؛ أنها الجنة (¬1). وروى ليث، عن عبد الرحمن بن سابط (¬2) أنه قال: الحسنى: النضرة التي ذكرها الله -عز وجل- في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬3) [القيامة: 22، 23]، والحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، وهي جامعة للمحاسن. قال ابن الأنباري: والعرب توقعها على الخلّة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها المفروح بها، ولذلك لم توصف هاهنا ولم تنعت بشيء؛ لأن ما يعرفه العرب من أمرها يغني عن نعتها، يدل على ذلك قول امرئ القيس: فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورُضْتُ فذلت صعبة أي إذلال (¬4) أراد: فصرنا إلى الأمر المحبوب المأمول (¬5). وقوله تعالى: {وَزِيَادَةٌ}، اختلفوا في هذه الزيادة؛ فروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية فقال: "الحسنى الجنة والزيادة النظر ¬

_ (¬1) انظر تخريج أثر ابن عباس السابق، نفس المواضع. (¬2) هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط الجمحي المكي، تابعي ثقة كثير الإرسال، وكان من أصحاب ابن عباس الفقهاء، وتوفي سنة 118 هـ. انظر: "الكاشف" 1/ 628 (3198)، "تهذيب التهذيب" 2/ 522، "تقريب التهذيب" ص 340 (3867). (¬3) وانظر قول ابن سابط في "تفسير ابن جرير" 11/ 107، وابن أبي حاتم 6/ 1945، "الدر المنثور" 3/ 548. (¬4) البيت في "ديوان امرئ القيس" ص 125، وانظر: "خزانة الأدب" 9/ 187، "لسان العرب" (روض) 3/ 1776. (¬5) انظر قول ابن الأنباري في "زاد المسير" 4/ 23، وذكر بعضه الرازي في "تفسيره" 17/ 77.

إلى وجه الله الكريم" (¬1). ونحو هذا (¬2) روى أبيّ بن كعب (¬3). وهذا قول أبي بكر الصديق (¬4)، وحذيفة (¬5)، وأبي موسى (¬6)، وصهيب (¬7)، وعبادة بن الصامت (¬8)، وابن ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 7/ 12 ب، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص 96، وأبو الشيخ والدارقطني في "الرؤية" وابن مردويه واللالكائي والخطيب وابن النجار، كما في "الدر المنثور" 3/ 547 - 548 وفي سند الثعلبي وابن منده متروك وهو نوح بن أبي مريم، لكن أجل الحديث ومعناه في "صحيح مسلم" (297) كتاب الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم. (¬2) في (م): (ذلك). (¬3) رواه ابن جرير 11/ 107، وابن أبي حاتم 6/ 1945، وفي سندهما مجهول، وذكره السيوطي عنهما، وزاد الدارقطني وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في كتاب "الرؤية". انظر: "الدر المنثور" 3/ 547. (¬4) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" 1/ 450، وابن جرير في "تفسيره" 11/ 106، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص 95، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" 2/ 33، من رواية عامر بن سعد، وهو لم يلق أبا بكر، فروايته عنه مرسلة كما في "تهذيب التهذيب" 2/ 263 ورواه ابن خزيمة في المصدر السابق 2/ 453، والدارمي في "الرد على الجهمية" ص61، من رواية عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران عنه، وسعيد مجهول كما في "ميزان الاعتدال" 1/ 392، و"لسان الميزان" 3/ 46 فالأثر ضعيف. وانظر: "تفسير الطبري" 15/ 63 ت: شاكر). (¬5) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" 1/ 452، وابن جرير 15/ 64، وابن أبي حاتم 6/ 1945 وغيرهم. انظر: "الدر المنثور" 3/ 548. (¬6) المصادر السابقة، نفس المواضع عدا الأول ففي 1/ 456. (¬7) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 12 بغير سند، وكذلك القرطبي 8/ 330، وبمعناه رواه أبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 547. (¬8) ذكره عنه بغير سند الثعلبي 7/ 12 ب، والبغوي 4/ 130، وابن القيم في "حادي الأرواح" ص 412.

عباس في رواية عطاء (¬1)، وأبي الجوزاء (¬2) (¬3)، وهو قول الضحاك (¬4)، والسدي (¬5)، ومقاتل (¬6). وقال آخرون: الزيادة تضعيف الحسنات بواحدة عشرة إلى سبعمائة، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي (¬7)، والحسن (¬8)، وعلقمة (¬9)، وقال مجاهد: الزيادة: مغفرة من الله تعالى ورضوان (¬10). وروى الحكم، عن علي -رضي الله عنه- قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب (¬11). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" 1/ 184 من رواية عكرمة، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" 4/ 24، وابن القيم في "حادي الأرواح" ص 412، كما أشار إليه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1944. (¬2) هو: أوس بن عبد الله الربعي. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 7/ 12 ب. (¬4) رواه الثعلبي 7/ 12 ب، والبغوي 4/ 130، وذكره بغير سند ابن أبي حاتم 6/ 1944، وابن الجوزي 4/ 24، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 545. (¬5) المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬6) المصادر السابقة، نفس المواضع، وانظر: "تفسيره" 140 أ. (¬7) رواه ابن جرير 11/ 107، والثعلبي 7/ 13 أ، والبغوي 4/ 130. (¬8) رواه ابن جرير 11/ 107 - 108، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 3/ 549. (¬9) رواه ابن جرير 11/ 107، وابن أبي حاتم 6/ 1946. (¬10) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، "تفسير الثعلبي" 7/ 12 أ، والبغوي 4/ 130. (¬11) رواه ابن جرير 11/ 107، وابن أبي حاتم 6/ 1945، والثعلبي 7/ 13 أ، والأثر ضعيف؛ لأنه من رواية الحكم، عن علي وهو لم يسمع منه، فقد ولد سنة 50 هـ، انظر: "تهذيب التهذيب" 1/ 466 - 467.

وقال ابن زيد: الزيادة ما أعطاهم في الدنيا من النعيم، لا يحاسبهم به يوم القيامة، بخلاف أهل النار؛ فإن ما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من النعمة في مقابلة ما يأتون من حسنة ولا ثواب لهم يوم القيامة على أعمالهم (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} أي لا يغشاها، يقال: رهقه ما يكرهه: أي غشيه ومصدره (¬2) الرهق، قال ابن عباس: يريد ولا يصيب وجوههم (¬3). وقال تعالى: {قَتَرٌ}، القتر والقترة: غبرة تعلوها سواد كالدخان، قال ابن عباس وقتادة (¬4): يعني سواد الوجوه من الكآبة (¬5). وقال عطاء: يريد دخان جهنم (¬6)، {وَلَا ذِلَّةٌ} كما تصيب أهل جهنم، قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم (¬7). ¬

_ (¬1) رواه بنحوه ابن جرير 11/ 108، ورواه مختصرًا بن أبي حاتم 6/ 1946، والثعلبي 7/ 13 أ. (¬2) في (ح) و (ز): (ومصدر). (¬3) ذكره بلفظه المؤلف في "الوسيط" 2/ 545، وذكره السيوطي بمعناه في "الدر المنثور" 3/ 549، وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم، ولم أجده عندهما. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) رواه عنهما الثعلبي 7/ 13 ب، والبغوي 4/ 130، ورواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير 11/ 109، وابن أبي حاتم 6/ 1946، ولم تذكر هذه المصادر لفظ: من الكآبة. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 25، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 545. (¬7) رواه ابن جرير 11/ 109، وابن أبي حاتم 6/ 1946، والثعلبي 7/ 13 ب، والبغوي 4/ 130، وقد ضعف القرطبي هذا القول فقال: هذا فيه نظر؛ فإن الله -عز وجل- يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إلى قوله: =

27

27 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ}، قال ابن عباس في رواية الكلبي: يريد عملوا الشرك (¬1)، مثل قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [النساء: 18]. وقوله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [قال الفراء: رفعت الجزاء بإضمار (لهم)؛ كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة بمثلها] (¬2)، كما قال: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196]، أي: فعليه، قال: وإن (¬3) شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله: {بِمِثْلِهَا} والأول أعجب إليّ (¬4). هذا كلامه، وزاد ابن الأنباري بيانًا فقال: إذا رفعت الجزاء بالباء أضمرت العائد إلى الموصول، على تقدير: جزاء سيئة منهم بمثلها، فالجزاء مرتفع بالباء و (الذين) يرتفعون برجوع الهاء المضمرة عليهم، وصلح إضمار (منهم) في ذا الموضع كما تقول: رأيت القوم صائم وقائم، يراد: منهم صائم وقائم، كما أنشد الفراء (¬5): ¬

_ = {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 101 - 103]، وقال في غير آية: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} الآية [فصلت: 30]، وهذا عام فلا يتغير -بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده- وجهُ المحسن بسواد من كآبة ولا حزن، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره. "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 332. (¬1) "تنوير المقباس" ص 212، "زاد المسير" 4/ 25، "الوسيط" 2/ 545. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) في (م): (فإن)، والمثبت موافق لما في "معاني القرآن". (¬4) "معاني القرآن" 1/ 461. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 1/ 193.

حتى إذا ما أضاء النجم في غلس ... وغودر البقل ملوي ومحصود (¬1) معناه: منه ملوي ومنه محصود. وعلى الجواب الأول يرتفع الجزاء باللام المضمرة؛ لأن التقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها، والباء صلة الجزاء و (الذين) يرتفعون برجوع الهاء عليهم، وصلح إضمار (لهم) كما تضمره العرب في قولهم: رأيت لعبد الله ذكاءً وفطنة وعلم واسع، يريدون وله علم واسع، أنشد الفراء (¬2): هزئت هنيدة أن رأت لي رثة ... وفمًا (¬3) به قصم وجلد أسود (¬4) أراد ولي جلد أسود (¬5). انتهى كلامه. وهذا مذهب الكوفيين في هذه الآية (¬6). ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة في "ديوانه" 2/ 1366، والرواية فيه: حتى إذا ما استقل النجم في غلس ... وأحصد البقل ملوي ومحصود (¬2) انظر: "معاني القرآن" 2/ 234، ورواية صدره فيه: هزئت حميدة إن رأت بي رتة (¬3) في (م): (وفم)، وهو خطأ بدلالة السياق، إذ إن قوله (وجلد) مرفوع على الرغم من عطفه على قوله: (لي رثة وفمًا). وهم منصوبان، وقد وجه ابن الأنباري ذلك. (¬4) البيت لسليك بن سلكة السعدي كما في "الأشباه والنظائر" 2/ 271، "تذكرة النحاة" 680، "شرح أبيات معاني القرآن" ص 111، طى اختلاف في الروايات، وذكره بلا نسبة بمثل رواية المصنف، الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 207. والرثة: الخلق الخسيس البالي من كل شيء، والرتة: عيب في النطق، والقصم: كسر في الثنية من الأسنان. انظر: "اللسان" (رث ورت وقصم). (¬5) انظر قول ابن الأنباري مختصرًا في: "زاد المسير" 4/ 26، "مفاتيح الغيب" 17/ 84. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 461، وانظر الخلاف بين البصريين والكوفيين في مثل هذه المسألة في: "الإنصاف" ص53.

وأما عند أهل البصرة (¬1) فقال أبو عثمان (¬2): الباء في قوله (بمثلها) زائدة، وتقديره عنده: جزاء سيئة مثلها، واستدل على هذا بقوله في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. قال أبو الفتح الموصلي (¬3): وهذا مذهب حسن، واستدلال صحيح؛ إلا أن الآية تحتمل مع صحة هذا القول تأويلين آخرين، أحدهما: أن تكون الباء مع ما بعدها هو الخبر، فكأنه قال: وجزاء سيئة كائن بمثلها، كما تقول: إنما (¬4) أنا بك، أي كائن موجود بك. والثاني: أن تكون الباء في (بمثلها) متعلقة بنفس الجزاء، ويكون الجزاء مرتفعًا (¬5) بالابتداء، وخبره محذوف كأنه قال: وجزاء سيئة بمثلها كائن أو واقع، وحذف الخبر حسن متجه، قد حذف في عدة مواضع. هذان القولان حكاهما أبو الفتح (¬6)، وذكرهما أبو علي في "المسائل الحلبية" (¬7) في قوله -عز وجل-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وعلى هذه الأقوال في الباء، الجزاء مرتفع بالابتداء، والجملة -التي هي ابتداء وخبر- فيها خبر الابتداء الأول وهو قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 372. (¬2) هو المازني. (¬3) هو ابن جني. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) في (ح) و (ى) و (ز) و (ص): (مرتفَعُهُ)، وما أثبته من (م)، وهو موافق لما في "سر صناعة الإعراب". (¬6) "سر صناعة الإعراب" 1/ 138 - 140 باختصار. (¬7) لم أجد ذلك في الكتاب المطبوع، ومخطوطته ناقصة كما أشار المحقق في المقدمة.

والمعني: يجزون السوء، وعلى هذا المعنى عطف قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، هذا كلام النحويين من الفريقين في هذه الآية، وكلهم جعلوا الموصول مبتدأ (¬1)، ويجوز أن تجعله عطفًا على الموصول الأول وهو قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} فكأن التقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، فيرتفع الجزاء باللام في الآية الأولى، والباء في (بمثلها) من صلة الجزاء، وحسن النظم من غير إضمار ولا تكلف. وقوله تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، قال ابن عباس: يصيبهم الذل والخزي (¬2) والهوان (¬3). وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ما لهم من عذاب الله من مانع يمنعهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} ألبست (¬4) {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ} القِطْع: [اسم لِما (¬5) قطع فسقط، ويراد به هاهنا بعض من الليل. قال ابن السكيت: القِطْع] (¬6) الطائفة من الليل (¬7)، ومعنى الآية وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سوادًا من الليل كقوله: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]، وكما قيل في قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] أي (¬8): أنه سواد الوجوه وزرقة ¬

_ (¬1) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص 437. (¬2) في (ى): (الحزن). (¬3) رواه بمعناه ابن جرير 11/ 109، وابن أبي حاتم 6/ 1946. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) في (ى): (ما). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬7) "المشوف المعلم" 2/ 648، "تهذيب إصلاح المنطق" ص 38. (¬8) ساقط من (م).

الأعين (¬1)، والعرب تستعمل لون الليل في السواد. قال الشاعر (¬2): ودوية مثل السماء اعتسفتها ... وقد صبغ الليل الحصى بسواد جعل ما يعلو الحجارة من ظلمة الليل صبغا منه إياها بالسواد. وقوله تعالى: {مُظْلِمًا} قال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4): هو نعت لقوله: {قِطَعًا}. و [قال أبو علي] (¬5) يجوز أن تجعله حالاً من الذكر الذي في الظرف -يريد بالظرف الليل- كأنه قيل: قطعًا من الليل وهو مظلم، أي الليل، قال: والقول الأول (¬6) أحسن؛ لأنه على قياس قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92، 155]، وصفت الكتاب بالمفرد بعدما وصفته بالجملة، وأجريته على النكرة (¬7) كذلك هاهنا، تصف {قِطَعًا} بكونه مظلما بعدما وصفته بقوله {مِنَ اللَّيْلِ}. ¬

_ (¬1) هذا قول الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج، انظر: "تفسير ابن جرير" 27/ 143، ط. الحلبي، "الدر المنثور" 7/ 704. (¬2) هو: ذو الرمة، انظر:"ديوانه" 2/ 685، "شرح شواهد الإيضاح" ص 382. والدوية: الصحراء الملساء، واعتسفتها: ركبتها على غير هداية. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 462، وهذا القول أحد الوجهين الذين ذكرهما الفراء. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 16، وهو كالفراء ذكر وجهين في إعراب الكلمة هذا أحدهما. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬6) يعني ما ذكره عن الفراء والزجاج. (¬7) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 270 بتصرف.

28

وقرئ {قِطَعًا} مفتوحة الطاء (¬1)، وهي جمع قِطْعة، ومعنى الآية في القراءتين واحد؛ لأنهم إذا أغشيت وجوههم قِطْعًا من الليل مظلمًا اسودت منها، كما أنه إذا أغشيت قِطَعا التي (¬2) هي جمع قطعة اسودت و {مُظْلِمًا} على هذه القراءة حال من الليل، المعنى أغشيت وجوههم قِطَعا من الليل في حال ظلمته. 28 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، قال ابن عباس (¬3)، ومقاتل (¬4)، والكلبي (¬5): ويوم نجمع المشركين وشركاءهم والكفار (¬6) وآلهتهم، والحشر: الجمع من كل أوب (¬7) إلى الموقف. وقوله تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ}، قال الزجاج: مكانكم منصوب على الأمر؛ كأنه (¬8) قيل لهم: انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم، قال: والعرب تتوعد فتقول: مكانك، وانتظر، وهي كلمة جرت على الوعيد (¬9). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب (قِطْعًا) بإسكان الطاء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "إرشاد المبتدي" ص 362، "تحبير التيسير" ص 122، "النشر" 2/ 283. (¬2) ساقط من (ح) و (ز). (¬3) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 546، وذكره مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 26، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 212. (¬4) "تفسير مقاتل" 140 أ. (¬5) "تنوير المقباس" ص 212 عنه، عن ابن عباس. (¬6) في (ى): (وشركاءهم الكفار). (¬7) من كل أوب: أي من كل وجه، وجاءوا من كل أوب: أي من كل طريق ووجه وناحية. "لسان العرب" (أوب) 1/ 168. (¬8) في (ى): (كأنهم)، وهو مخالف لما في المصدر. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 16.

وقوله تعالى: {أَنْتُمْ} مبتدأ {وَشُرَكَاؤُكُمْ} عطف عليه، والخبر في قوله: {مَكَانَكُمْ} على ما ذكرنا من التقدير كأنه قيل: ثم نقول أنتم وشركاؤكم انتظروا مكانكم، واثبتوا وقفوا والزموا مكانكم، ومعنى {شُرَكَاؤُكُمْ} أي: الذين جعلتموهم شركاء في العبادة وفي أموالكم من الأوثان، كما قالوا: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136]. وقوله تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} جاء هذا على لفظ المضي بعد قوله {ثُمَّ نَقُولُ} وهو منتظر؛ لأن الكائن (¬1) يومًا في علم الله تعالى وقدره كالكائن الراهن (¬2) الآن، وذكرنا نظير هذا في قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (¬3) [الأعراف: 44]. ومعنى (زيلنا) فرقنا وميزنا، ومنه قوله الفرزدق: أنت الفداء لذكر عام لم يكن ... نحسًا ولا بين الأحبة زيلا (¬4) وأنشد المبرد فقال (¬5): سائل مجاور جَرْم هل جنيت لهم ... حربًا تُزيّل بين الجيرة الخُلُطِ (¬6) قال أبو إسحاق: هو (¬7) من قولك [زلت الشيء عن مكانه أزيله، ¬

_ (¬1) في (ى): (الكافرين)، وهو خطأ جلي. (¬2) ساقط من (ح) و (ز). (¬3) انظر تفسير الآية في "تفسير البسيط" ولم يذكر المؤلف هذا المعنى في تفسيرها. (¬4) "ديوان الحماسة" 2/ 55 غير منسوب، وبعده (وقال الفرزدق) فيبدو أن هذا سبب الخطأ في النسبة. (¬5) ساقط من جميع النسخ عدا (م)، وانظر إنشاد المبرد في "الكامل" 1/ 273. (¬6) البيت لوعلة الجرمي كما في "الأغاني" 19/ 140. وجرم: هو جرم بن ربان بن حلوان، جد جاهلي من قضاعة، ينتسب إليه بنو جشم وبنو قدامة، وبنو عوف. انظر: "جمهرة الإنساب" ص 451، "اللباب" 1/ 222. (¬7) في (ى): (هذا)، والضمير غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه".

وزيّلنا -للكثرة- من (¬1) هذا: إذا نحيته (¬2). وحكى سلمة (¬3)، عن الفراء في قوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}، قال: ليس من زُلت، إنما هي من زِلت الشيء فأنا أزيله: إذا فرقت ذا من ذا (¬4)، ونحو هذا قال الكسائي، قال: وتقول العرب زلت الضأن من المعز فلم تزل ومزتها فلم تنمز (¬5). هذا كلامه، فالزيل (¬6) والتزييل والمزايلة: التمييز والتفريق، قال ذو الرمة: وبيضاء لا تنحاش منا وأمها ... إذا ما رأتنا زيل منا زويلها (¬7) أراد بيض النعامة وأن البيضة لا تنفر منا، وأن النعامة التي باضتها فإنها إذا رأتنا نفرت، وزيل منا زويلها، أي نُحي عنا حركة شخصها. وقرئ (فَزَيَلْنَا بَيْنَهُمْ) (¬8)، وهو مثل: (فَزَيَّلْنَا) والتزايل والانزيال: ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن وإعرابه": ومن. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 16. (¬3) هو ابن عاصم النحوي. (¬4) "تهذيب اللغة" مادة: (زول) 2/ 1577، والنص بنحوه في "معاني القرآن" للفراء 1/ 462. (¬5) انظر النص بلا نسبة في: "الصحاح" (زيل) 4/ 1720، "تفسير الرازي" 17/ 67، و"البحر المحيط" 5/ 154. (¬6) في (م): (والزيل). (¬7) انظر: "ديوان ذي الرمة" 1/ 554، و"البصريات" للفارسي 1/ 584، و"الصحاح" (زيل) 4/ 1720، و"لسان العرب" (زول) 3/ 1891، و"خزانة الأدب" 4/ 242، و"غريب الحديث" للخطابي 2/ 484، و"جمهرة اللغة" 2/ 827، و"مقاييس اللغة" (حوش - زول). (¬8) هي قراءة شاذة قرأ بها ابن أبي عبلة كما في "زاد المسير" 4/ 27، وذكرها بلا نسبة الفراء في "معاني القرآن" 1/ 462، وابن جرير 11/ 111، والزمخشري 2/ 235، ولم يذكر هذه القراءة ابن جني ولا ابن خالويه في كتابيهما في الشواذ.

التباين والافتراق، والزيال بمعنى الفراق (فِعَال) من المزايلة. وقال ابن قتيبة في هذه الآية: هو من زال يزول وأزلته أنا (¬1). قال الأزهري: هذا غلط وأراه لم يميز بين زال يزول، وزال يزيل، وبينهما بنون بعيد، والقول ما قال الفراء، وكان القتيبي قليل البصر بمقاييس النحو والتصريف وهو مع ذلك ذو بيان عذب (¬2). قال المفسرون: فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص 203. (¬2) "تهذيب اللغة" (زول) 2/ 1577 - 1578، وقد لطف الواحدي عبارة الأزهري ونصها: إلا أنه منحوس الحظ من النحو والصرف ومقاييسهما. اهـ. والأزهرى متأثر بالهجمة الشرسة الموجهة ضد ابن قتيبة بغير حق والتي قادها جمع من الأدباء والعلماء وفي مقدمتهم أبو بكر ابن الأنباري. انظر: "مقدمة تأويل مشكل القرآن" ص70، "مقدمة تهذيب اللغة" 1/ 50، ولعل الأزهري -رحمه الله- نسي ثناءه العطر على ابن قتيبة حيث قال في صدد التعريف به وبأبي تراب: وكانا من المعرفة والإتقان بحيث تثنى بهما الخناصر، وهما من الشهرة وذهاب الصيت والتأليف الحسن بحيث يعفى لهما عن خطيئة غلط، ونبذ زلة تقع في كتبهما. "تهذيب اللغة" 1/ 52، كما أن ابن قتيبة ليس وحده قال هذا القول، فأبو البقاء العكبري جزم بصوابه حيث قال: قوله: (فزيلنا) عين الكلمة واو؛ لأنه من زال يزول، وإنما قلبت ياء؛ لأن وزن الكلمة (فعيل) أي: زَيْوَلنا، مثل: بيطر وبيقر، فلما اجتمعت الياء والواو على الشرط المعروف قلبت ياء، وقيل: هو من زلت ... إلخ. "التبيان في إعراب القرآن" ص 437 - 438، وإلى ذلك ذهب أيضًا السمرقندي في "تفسيره" 2/ 96، واعتبر الجوهري قول القائل: زِلت الشيء من مكانه أزيله زيلًا، لغة في أزلته، ورد عليه ابن بري، انظر: "لسان العرب" (زيل) 3/ 1891. وبذلك يتبين أن المسألة موضع نظر، ومحل اجتهاد، فلا يشنع على من خالف غيره، ولو لم يحالفه الصواب.

29

والأصنام، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وذلك حين يتبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده (¬1)، وهو قوله تعالى: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}، قال ابن عباس: أنكروا عبادتهم (¬2). قال مجاهد: يقول ذلك كل شيء يعبدون من دون الله يعني أن الله تعالي ينطق الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون (¬3). 29 - قوله تعالى: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، هذا من كلام معبوديهم (¬4)، لما تبرؤوا منهم قالوا: يشهد الله على علمه فينا ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين؛ لأنه لم يكن فينا روح وما كنا نسمع ولا نبصر، وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّا} (إن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة، ودليله إلحاق اللام في الخبر للفرق بين (إن) الجحد و (إن) المؤكدة، والتقدير: إنا (¬5) كنا عن عبادتكم لغافلين، ثم خففت وحذف الضمير، كقوله: إن هالك كل من يحفى وينتعل (¬6) وقد ذكرنا نظائر هذا فيما تقدم. 30 - قوله تعالى: {هُنَالِكَ}، قال أبو إسحاق: (هنالك) (¬7) ظرف، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 14 أ، والبغوي 4/ 131، وبنحوه في "تفسير ابن جرير" 11/ 111. (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 546، وبنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 27. (¬3) هذا معنى أثر طويل عن مجاهد، رواه ابن جرير 11/ 111، وابن أبي حاتم 6/ 1948، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 550. (¬4) في (ح) و (ز) و (ص): (معبودهم)، وهو خطأ. (¬5) في (ح) و (ز) و (ص): (إن)، وهو خطأ. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) ساقط من (ح).

المعنى: في ذلك الوقت، و (هنا) غير متمكن، واللام زائدة، وكسرت لالتقاء الساكنين (1). قال صاحب النظم: ويجوز أن يكون معنى {هُنَالِكَ} هاهنا (2): الإشارة إلى محل؛ لأن ما ذكر الله تعالى من هذه القصة لا يكون إلا في محل، وقد أحكمنا الكلام في هذا الفصل عند قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه} [آل عمران: 38]. قوله تعالى: {تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ}، قال ابن عباس والمفسرون: أي (3) تختبر (4)، والبَلْو: الاختبار (5)، ومنه قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168]، ويقال: [البلاء ثم] (6) الثناء أي: الاختبار ينبغي أن يكون قبل الثناء [ليكون الثناء] (7) على علم بما يوجبه، ومعنى اختبارها ما أسلفت: أنه إن قدم خيرًا أو شرًا جوزي عليه فيختبر الخير ويجد ثوابه، ويختبر الشر ويجد عقابه، ولهذا قيل في التفسير في قوله: (تبلو) تعلم (8)؛ لأن الاختبار سبب العلم.

_ (1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 17 بتصرف. (2) يعني في هذه الاَية. (3) في (ح) و (ز): (كي)، واللفظ ساقط من (ى). (4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 112 - 113، والثعلبي 7/ 14 أ، والبغوي 4/ 131، ولم أجده من ذكره عن ابن عباس. (5) في "لسان العرب" (بلا) 1/ 380: بلوت الرجل بلوًا وبلاءً وابتليته: اختبرته. (6) و (7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (8) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 212، عن ابن عباس، ونسبه القرطبي في "تفسيره" 8/ 334 إلي الكلبي، وانظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 14 أ.

وقرئ (تَتُلُو) بتاءين (¬1)، ومعناه: تقرأ، كذلك قال الأخفش (¬2)، والفراء (¬3)، وغيرهما (¬4)، ومعناه تقرأ كتابها، وما كتب من أعماله (¬5) التي قدمها كقوله: {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء: 71]. قال الزجاج: وفسروه أيضاً تتبع كل نفس ما أسلفت (¬6)، من حسنة وسيئة، ومعنى أسلفت: قدمت. وقوله تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ}، الرد في اللغة الرجع إلى الشيء بعد الذهاب عنه، وهؤلاء ذهبوا عن أمر الله فأعيدوا إليه. [وقوله تعالى] (¬7): {مَوْلَاهُمُ} أي: الذي يملك تولي أمرهم. ¬

_ (¬1) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف، وقراءة الباقين (تبلو) بالتاء وبعدها باء موحدة. انظر: "كتاب السبعة" ص 325، "النشر" 2/ 283، "إتحاف فضلاء البشر" ص 248. (¬2) انظر قول الأخفش في: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 17، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 292، "حجة القراءات" ص 331، وفسرها الأخفش في كتابه "معاني القرآن" 1/ 373 بقوله: تتبعه (¬3) "معاني القرآن" 1/ 463. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 17، "الحجة للقراء السبعة" 4/ 271، "الحجة في القراءات" ص 181. (¬5) في (ى): (أعمالها)، أما الضمير التالي ففي جميع النسخ بالتذكير، وقد أعاد الضمير على مذكر باعتبار المعنى؛ لأن النفس يراد بها الإنسان. (¬6) اهـ. كلام الزجاج كما في "معاني القرآن واعرابه" 3/ 17، والجدير بالذكر أن لهذا الكتاب نسخًا متفاوتة، يزيد بعضها على بعض كما بينه الأزهري في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة" 1/ 46 - 47، فلعل بقية القول من نسخة أخرى، أو من توضيح الواحدي وزيادته كما هي عادته في عدم التقيد باللفظ في النقل. (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (م).

31

وقوله تعالى: {الْحَقِّ} هو من (¬1) صفة الله -جل وعز- وجاز وصفه بالحق كما جاز وصفه بالعدل للمبالغة في الصفة، إذ كل حق من قِبَله؛ يدل على هذا قول ابن عباس في قوله: {مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} يريد الذي يجازيهم بالحق (¬2)، {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي: زال وبطل، {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} في الدنيا من التكذيب. وقال صاحب النظم في هذه الآية: قوله: {هُنَالِكَ} خبر لقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ}؛ لأنه مبتدأ يقتضي جوابا، وهو ظرف للجواب الذي هو قوله: {هُنَالِكَ تَبْلُو} وبني عليه {هُنَالِكَ} وهو محل، فجعل كناية عن الظرف -الذي هو وقت- على السعة والاستعارة (¬3). 31 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يريد من ينزل (¬4) القطر من السماء ويخرج النبات من الأرض، قاله ابن عباس (¬5)، والمفسرون (¬6). {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [قال (¬7): يريد من جعل لكم السمع ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) " الجامع لأحكام القرآن" 8/ 334. (¬3) المعنى: (هنالك) ظرف للمكان والمحل فمعناه: في ذلك الموقف، لكن معناه في الآية: في ذلك الوقت، وهذا من باب استعارة ظرف المكان للزمان. (¬4) في (ى): (يخرج). (¬5) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 212. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 113، و"تفسير البغوي" 4/ 132، وابن الجوزي "زاد المسير" 4/ 28. (¬7) يعني ابن عباس، وانظر القول بنحوه في: "تنوير المقباس" ص 212

32

والأبصار، وعلى هذا، المعنى: أم من يملك (¬1) خلق السمع والأبصار] (¬2). {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي المؤمن من الكافر، والنبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحب، والنخلة من النواة، كل هذا قد (¬3) قيل (¬4)، وعلى الضد من ذلك: {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}. {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أمر الدنيا والآخرة، {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي: الله هو الذي يفعل (¬5) هذه الأشياء، وذلك أنهم علموا أن الرازق والمدبر هو الله، فإذا أقروا بعوإلاحتجاج عليهم {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} قال ابن عباس: أفلا تخافون فلا تشركوا به شيئًا (¬6). 32 - قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ}، قال الزجاج: لما خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى: وأقروا به قيل لهم: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} (¬7)، قال ابن عباس: يريد: الذي هذا كله فعله هو الحق ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء لا يملكون شيئًا من هذا (¬8). وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}، قال: يريد الذي أنتم فيه وما ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬3) ساقط من (م). (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 3/ 226، والبغوي 2/ 24، "الدر المنثور" 2/ 27. (¬5) في (م): (جعل). (¬6) "الوسيط" 2/ 547، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 28 بلفظ: أفلا تتعظون. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 18 بمعناه. (¬8) "الوسيط" 2/ 547، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 212 مختصرًا.

33

اتخذتم من الآلهة غير الله (¬1)، وقال مقاتل: فماذا بعد الحق (¬2): يعنى بعد (¬3) عبادة الله إلا الضلال، يعني عبادة الشيطان (¬4). {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}، قال ابن عباس: يريد: كيف تصرف عقولكم إلى عبادة مالا يرزق ولا يحيى ولا يميت (¬5). 33 - قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}، قال الزجاج: الكاف في موضع نصب أي مثل أفعالهم جازاهم ربك (¬6) هذا كلامه. وشرحه أبو بكر (¬7) فقال: (ذلك) إشارة إلى مصدر {تُصْرَفُونَ} تلخيصه: مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك، وموضع {ذَلِكَ} خفض بالكاف، والكاف موضعها نصب (¬8) بـ {حَقَّتْ} على تقدير: حقت الكلمة مثل ذلك الصرف (¬9). وقال بعض أهل المعاني: المشبه به في {كَذَلِكَ} معنى قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [ومعناه ليس بعد الحق إلا الضلال] (¬10) كذلك حقت الكلمة، وعلى هذا: الكاف في موضسع رفع بالابتداء، وخبره {حَقَّتْ} ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 212 بمعناه. (¬2) في (ح) و (ز) زيادة: (إلا الضلال). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) "تفسير مقاتل" 140 أبنحوه. (¬5) "زاد المسير" 4/ 29، "الوسيط" 2/ 547. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 18. (¬7) هو ابن الأنباري. (¬8) ساقط من (ى). (¬9) ذكر قوله ابن الأنباري مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 30. (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

وذكر أبو بكر قولًا آخر في {كَذَلِكَ} وهو أنه بمعنى هكذا (¬1) إشارة إلى الحاضر وهو مصدر {حَقَّتْ} ويكون موضع {كَذَلِكَ} نصبًا بـ {حَقَّتْ} ولا تكون الكاف فيه منفصلة مما بعدها، وتقديره إذا لم تفصل الكاف منه: هذا الحق حقت كلمة ربك [وقد ترفع (كذلك) إذا استحق الرفع، وهذا المعنى ذهب إليه مقاتل بن سليمان (¬2)، والكلبي (¬3)، وجماعة من المفسرين (¬4)، أعني أنهم يقولون: معنى الحرف: هكذا حقت كلمة ربك] (¬5)، والدليل على أن (هكذا) يرفع وينصب ويخفض بكماله وجملته ولا يُقضى عليه بانفصال (¬6) بعضه من بعض حكايته الفراء عن أبي ثروان (¬7): ليس بهكذا (¬8)، فدخول الباء على (هكذا) يكشف أنه مشبه بـ (هذا)، ويؤكد هذا الفصل ما ذكره صاحب النظم أن (كذلك) قد تكون تحقيقًا وإثباتًا لما قبله من الخبر، كما أن (كلا) ردٌ وإبطال لما قبله من الخبر، وعلى هذا (كذلك) كلمة (¬9) بكماله وجملته، ولا يُقضى عليه بانفصال بعضه عن بعض. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 30. (¬2) لم أجده في "تفسيره". (¬3) رواه الثعلبي 7/ 14 أ، والبغوي 4/ 132. (¬4) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 98، وابن الجوزي 4/ 30. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬6) في (ح) و (ز): (انفصال). (¬7) هو: أبو ثروان العكلي، من بني عُكْل، أعرابي فصيح مصنف، له من الكتب "خلق الإنسان"، وكتاب "معاني الشعر". انظر: "الفهرست" ص 73، "إنباه الرواة" 4/ 105، ولم أجد من ترجم له ترجمة وافية. (¬8) في (م): (هكذا)، وهو خطأ. (¬9) في (ى): (كذلك حقت كلمة)، وهو خطأ.

وقوله تعالى: {كَلِمَتُ رَبِّكَ} وقرئ كلمات ربك (¬1)، وذكر المفسرون في معناها (¬2) قولين، أحدهما: حق وعد ربك الذي بينه في غير موضع من كتابه من تعذيبه أهل الكفر وإصارته إياهم إلى الهلاك والبوار، وهذا معنى قول الزجاج: أي: مثل أفعالهم جازاهم (¬3). أما توحيد الكلمة وجمعها، فمن وحدها فإنه أراد الجمع؛ لأن ما أوعد الله -عز وجل- به وتهدد به الكفار كلام يجمع حروفًا وألفاظًا (¬4)، كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 20] الآية، فجعل هذه الجملة وغيرها من آي الوعيد كلمة وإن كانت في الحقيقة كلمات؛ لأنهم قد يسمون القصيدة والخطبة كلمة، وهذا نحو قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} [الأعراف: 137]، يعني بالكلمة قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية، فجعلها كلها كلمة؛ وذلك لأنها إذا كانت الكلمات في معنى واحد كانت كأنها كلمة واحدة، هذا قول أبي بكر، وأبي علي (¬5). قال أبو بكر: ويجوز أن يكون أراد الكلمات، فأوقع الواحد موقع الجمع كقوله: ¬

_ (¬1) يعني الجمع، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر، وقرأ الباقون بالتوحيد. انظر: كتاب "السبعة" ص 326، "تحبير التيسير" ص 122، "إتحاف فضلاء البشر" ص 216. (¬2) ساقط من (ح). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 18. (¬4) في (م): (ألفاظًا وحروفًا). (¬5) يعني الفارسي، انظر: "الحجة" 4/ 273.

وأما جلدها فصليب (¬1) يعني جلودها، وقال أبو علي: ويجوز أن تكون: {كَلِمَتُ رَبِّكَ} التي يراد بها الجنس، وقد أوقع على بعض الجنس، كما أوقع اسم الجنس على بض، كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137، 138]، فأوقع اسم الليل على ذلك الوقت الذي يقرون فيه عليهم وهو بعض الجنس (¬2). القول الثاني: في معنى الكلمة، أنه أراد: حق عليهم ما سبق من علم الله فيهم وما جبلهم عليه من الشقاء، وهذا قول ابن عباس (¬3)، وقوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا}، قال ابن عباس: يريد كذبوا (¬4). قال أهل المعاني: فسقوا في كفرهم، أي تمردوا فيه، والفسق ¬

_ (¬1) هذا بعض بيت، وهو بكماله: بها جِيَف الحسرى فأما عظامها ... فبِيضٌ وأما جلدها فصليب والبيت لعلقمه الفحل في "ديوانه" ص 40، "خزانة الأدب" 7/ 559، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 93، "كتاب سيبويه" 1/ 209. والشاعر يصف طريقًا شاقًا قطعه حتى يصل إلى ممدوحه، والحسرى: جمع حسير، وهو البعير الذي كلّ وانقطع سيره إعياء أو هزالًا فيتركه أصحابه، وابيضت عظامه: يعني أكلت السباع والطيور ما عليها من لحم، وجلد صليب: أي يابس، أو لم يدبغ. انظر: "شرح أبيات سيبويه"، "خزانة الأدب"، نفس الموضعين السابقين. (¬2) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 273. (¬3) رواه بمعناه مختصرًا ابن أبي حاتم 6/ 1951، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 551. (¬4) "تنوير المقباس" ص 212، ولفظه: كفروا.

34

الخروج في المعصية إلى الكبيرة، فإن كانت كفرا فالخروج إلى أكبره (¬1). وقوله تعالى: {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} موضع (أن) رفع (¬2) بدل من (كلمة ربك) قاله الزجاج (¬3)، وابن الأنباري، وهذا على القول الثاني في تفسير الكلمه، وعلى القول الأول تكون (أن) (¬4) منصوبة، لحذف الخافض، ويكون المعنى: حقت الكلمة عليهم؛ لأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم لا يؤمنون، ذكره الفراء (¬5)، والزجاج (¬6) جميعًا، ويقول الكسائي: موضعها خفض بالخافض المضمر معها (¬7). 34 - قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ}، قال ابن عباس (¬8)، ومقاتل (¬9)، والمفسرون (¬10): يعني آلهتهم التي يعبدون من دون الله، وذكرنا معنى إضافة الشركاء إليهم في قوله: {أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس: 28]. وقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أي: يرشد إلى دين الإسلام، {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي: إلى الحق. قال أبو إسحاق: تقول هديت إلى الحق وهديت للحق بمعنى ¬

_ (¬1) انظر: "المفردات في غريب القرآن" (فسق) ص380 بمعناه. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 18. (¬4) ساقط من النسخ عدا (م). (¬5) "معاني القرآن" 1/ 463. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 18. (¬7) لم أعثر على مصدره. (¬8) "تنوير المقباس" ص 213. (¬9) "تفسير مقاتل" 140 أ. (¬10) "تفسير ابن جرير" 11/ 115، والسمرقندي 2/ 98، "الدر المنثور" 3/ 552.

واحد (¬1) وهذا مما ذكرناه في أول الكتاب (¬2). قال ابن عباس: يريد (¬3) يرشد إلى الحق أهل الحق (¬4). قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} أي: آلله الذي يهدي ويرشد إلى الحق أهل الحق أحق أن يتبع أمره، أو الأصنام التي لا تهدي أحدًا ولا تهدي إلى خير؟! وهذا معنى قول ابن عباس (¬5)، والحسن (¬6)، والمفسرين (¬7). وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى}، قال ابن عباس: يريد يرشد، وما ذلك إلا بيد الله، وما يفعله إلا بأوليائه (¬8). وقال مقاتل: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} يعني: هذا الذي يعبد الأوثان (¬9)، فعلى هذا الهداية لا ترجع إلى الوثن إنما ترجع إلى عابده، وتصحيحه في النظم أن يكون التقدير: أمن (¬10) لا يهدي غيره أو عابده أو أحدًا، ثم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 19. (¬2) في أول البقرة [2]. (¬3) ساقط من (ى)، وفي (ح): (يريد به). (¬4) ذكره بمعناه ابن زنجلة في "حجة القراءات" ص 332. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 213، "حجة القراءات" ص 332. (¬6) لم أعثر على قوله. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 116، والثعلبي 7/ 14 ب، والسمرقندي 2/ 98، والبغوي 4/ 133، وابن كثير 2/ 457. (¬8) لم أقف عليه. (¬9) نص عبارة مقاتل: إلا أن يهدى، وبيات ذلك في: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] انظر: "تفسير مقاتل" 140 ب. (¬10) في (ح): (أم لا).

حذف المفعول وتم الكلام، ثم قال: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} على الاستثناء المنقطع بمعنى: لكن إن هدي ذلك العابد اهتدى، أي إن هداه الله اهتدى، فأما الصنم فلا هداية عنده، وهذا المعنى على قراءة من قرأ (أَمَّنْ لَا يَهْدي) ساكنة الهاء خفيفة الدال (¬1). وقرئ (يَهَدّي) (¬2)، و (يِهِدّي) (¬3)، و (يَهِدّي) (¬4)، و (يَهْدّي) (¬5)، ومعانيها كلها (يفتعل) وإن اختلفت ألفاظها. والجميع أدغموا التاء في الدال لمقاربتها لها؛ ألا ترى أن التاء والطاء والدال من حيز واحد. واختلفوا في تحرك الهاء، فمن فتح الهاء ألقى حركة الحرف المدغم وهي الفتحة على الهاء كما ألقاها على ما قبل (¬6) المدغم في مُعِدّ ومُمِدّ، ومن حرك الهاء بالكسر فلأن الكلمة عنده تشبه المنفصلة، فلم يُلق حركة المدغم على ما قبله نحو (قومْ موسى) إذا أدغم (¬7) لا يلقى على الساكن منه ¬

_ (¬1) وبهذا قرأ حمزة والكسائي وخلف. انظر كتاب "السبعة" ص 326، "إرشاد المبتدي" ص 362، "تقريب النشر" ص 122، "إتحاف فضلاء البشر" ص 249. (¬2) بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وورش وأبي عمرو في أحد الوجهين. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬3) بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. (¬4) بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، وهي قراءة حفص عن عاصم، ويعقوب. (¬5) بإسكان الهاء وتشديد الدال، وهي قراءة نافع وأبي عمرو، غير أن أبا عمرو كان يشم الهاء شيئًا من الفتح. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬6) في (ى): (قبلها). (¬7) في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 277 الذي نقل منه النص: واسم موسى لا يُلقى على الساكن منه حركة المدغم.

حركة المدغم فلما لم يجز ذلك تركت الهاء على سكونها، فالتقت مع (¬1) الحرف المدغم، وهما ساكنان فحرك الأول منهما بالكسر لالتقاء الساكنين، ومن سكّن الهاء جمع بين الساكنين، وقد بينا حكم الجمع بين ساكنين في هذا النحو فيما تقدم. ومن قرأ (يِهِدّي) بكسر الياء والهاء فقال الزجاج: هي رديئة لثقل الكسر في الياء (¬2). قال أبو علي: أتبع الياء ما بعدها من الكسر، وليس الكسر في الياء على لغة من يكسر حروف المضارعة من التاء والنون في نحو تِعلم ونِعلم؛ لأن من يقول تِعلم (¬3) لا يقول يِعلم (¬4)، ومن قال (¬5): أنت تِهتدي (¬6) لا يقول: هو يِهتدي (¬7)، ولكن الكسرة في الياء للإتباع، كما أنه لم تكسر الياء في: يِيْجل (¬8)، من حيث كسرت التاء في تِعلم، ولكن كسرت لتنقلب الواو ¬

_ (¬1) في (ح): (على). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 19، ولا معنى لوصفها بالرداءة وهي قراءة متواترة، قال السمين الحلبي في "الدر المصون" 6/ 199 بعد أن نقل رأي سيبويه في منع كسر ياء المضارعة: وهذا فيه غض من قراءة أبي بكر، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبول، وانظر رأي سيبويه في "كتابه" 4/ 110، وانظر توجيه القراءة لغة في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 279، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 332. (¬3) بكسر التاء. (¬4) بكسر الياء. (¬5) في (ى): (قرأ)، وهو خطأ. (¬6) بكسر التاء. (¬7) بكسر الياء. (¬8) رسمت الكلمة في النسخ بلا نقط، والكلمة في "الحجة للقراء السبعة" 4/ 279،= =

ياء، كذلك هاهنا كسرت للإتباع. هذا وجه القراءة في {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي}. فأما معنى لا تهتدي إلا أن تهدى، وهي لا تهتدي وإن هديت؛ لأنها موات من حجارة وأوثان ولكن الكلام نزل على أنها إن هديت اهتدت، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك؛ لأنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويفعل (¬1) ويعقل، ألا ترى أنه تعالى قال: {مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73]، وكما قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، وإنما هي موات؛ ألا ترى أنه قال: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [الأعراف: 194]، {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، وكذلك قوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14] الآية، وأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعلم، كذلك هاهنا وصف بصفة من يعقل وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، و (إِلَّا) على هذا بمنزلة (حتى) كأنه قال (¬2): أمن لا يهدي (¬3) حتى يُهدى، أي من لا يَعلم حتى يُعلم، ولا يستدل على شيء حتى يُدل عليه، وإن كان لو دُل أو أُعلم لم يعلم ولم يستدل. ¬

_ =وقال سيبويه في "كتابه" 4/ 110: وأما يوجل ونحوه فإن أهل الحجاز يقولون: يوجل، فيجرونه مجرى علمت، وغيرهم من العرب سوى أهل الحجاز يقولون في توجل: هي تيجل، وأنا إيجل، ونحن نِيجل، وإذا قلت (يفعل) فبعض العرب يقولون: ييجل، كراهية الواو مع الياء. (¬1) ساقط من (ح). (¬2) ساقط من (م). (¬3) في (م): (يهتدي).

وهذا الذي ذكرنا وجه آخر في قراءة من قرأ: (أَمَّن لَا يَهْدِي إلا أن يُهدى) (¬1) [أي أمن لا يهدي] (¬2) غيره ولكن يُهدى، أي [لا يعلم شيئًا ولا يعرفه لكن] (¬3) يُهدى، أي لا هداية له، ولو هدي أيضًا لم يهتد (¬4)، إلا أن اللفظ جرى عليه، هذا كلام أبي علي الفارسي (¬5)، وهو وجه الآية. وذكر المتأخرون من أهل التفسير وجهين في قوله: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} لا يساوي واحد منهما أن يحكى فتركته (¬6)، ولم أر للمتقدمين فيه شيئًا (¬7)، وتأويل الآية أنهم نُسبوا إلى غاية الذهاب عن الحق والزيغ عنه (¬8) في معادلتهم الآلهة بالله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) يعني قراءة حمزة ومن معه، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 276. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) في العبارة غموض؛ إذ قوله: (ولكن يُهدى) يناقض قوله: (ولو هدي أيضًا لم يهتد)، والعبارة هكذا أيضاً في "الحجة" 4/ 376، وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 7/ 147: والذي أقول: إن قراءة حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى: (أمن لا يهدي أحدًا إلا أن يُهدى ذلك الأحد بهداية من عند الله). (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 275 - 280، مع التقديم والتأخير والاختصار. (¬6) الوجهان للثعلبي في "تفسيره" 7/ 15 أ، ونص عبارته: في معنى الآية وجهان: فصرفها قوم إلى الرؤساء والمضلين، أراد لا يرشدون إلا أن يُرشدوا، وحملها الآخرون على الأصنام وهو وجه الكلام، والمعنى: لا يمشي إلا أن يحمل، ولا ينتقل عن مكانه إلا أن ينقل. (¬7) بل روى ابن جرير في "تفسيره" 11/ 116، عن مجاهد: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لما شاء، ولم يتبين لي مراده. (¬8) في (ى): (عنهم).

36

وقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ}، قال الزجاج: (ما لكم) كلام تام كأنهم قيل: لهم أي شيء لكم في عبادة الأوثان؟ ثم قيل لهم: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} علي أي حال تحكمون؟ وموضع (كيف) نصب بـ {تَحْكُمُونَ} (¬1). وقال مقاتل: كيف تقضون حين زعمتم أن مع الله شريكًا (¬2). وقال عطاء: بئسما حكمتم إذ جعلتم لله شريكًا ليس (¬3) بيده منفعة ولا مضرة (¬4). 36 - قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ}، قال ابن عباس: هم الرؤساء، وأما السفلة فلا يعلمون شيئًا إلا ما قالت (¬5) الرؤساء (¬6). وقوله تعالى: {إِلَّا ظَنًّا} يعني: ما يستيقنون أنها آلهة. وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} قيل: لا يغني من عذاب الله شيئاً، ولا يدفع شيئًا من العذاب (¬7)، و (الحق) على هذا هو الله، وظنهم أن الأصنام آلهة، وأنها تشفع لهم لا يغني عنهم شيئًا، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد ليس الظن كاليقين (¬8)، يريد بالحق: اليقين، والمعنى على ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 20. (¬2) "تفسير مقاتل" 140 أبنحوه، والنص في "الوسيط" 2/ 547. (¬3) في (ى) و (م): (من ليس). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في (ح): (قال). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) هذا قول مقاتل في "تفسيره" 140 ب بمعناه، وابن عباس في رواية الكلبي كما في "تنوير المقباس" ص 213. (¬8) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 547، عن عطاء.

37

هذا: إن الظن لا يقوم مقام العلم، وفي هذا دليل على أن من كان في مسائل الأصول ظانًّا لم يكن مؤمنًا. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، قال (¬1): يريد من كفرهم] (¬2). 37 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال الزجاج (¬3)، وابن الأنباري (¬4): هذا جواب لقولهم {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] و (أن) مع (يُفْتَرَى) مصدر مقضيًا عليه بالنصب تقديره: وما كان هذا القرآن افتراءً من دون الله، كما تقول: ما كان هذا الكلام كذبًا. {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [أي: ولكن كان تصديق الذي بين يديه] (¬5) من الكتب وأنباء الأمم السالفة وأقاصيص أنبيائهم، وهذا قول المفسرين (¬6). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى: ولكن تصديق الذي بين يديه (¬7) القرآن، أي تصديق الشيء الذي تقدمه القرآن، أي يدل ¬

_ (¬1) يعني ابن عباس، وانظر القول في "تنوير المقباس" ص 213 بمعناه. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 20 بنحوه. (¬4) "زاد المسير" 4/ 32 مختصرًا. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 117، والماوردي 2/ 435، والبغوي 4/ 134. (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع: يدي، والصواب ما ذكره الواحدي؛ لأن القرآن قبل البعث، ولو قيل: البعث بين يدي القرآن لكان المعنى: البعث قبيل القرآن، وهذا لا يصح، وفي "لسان العرب" (يدي) 8/ 4954: يقال: بين يديك كذا لكل شيء أمامك، قال الله -عز وجل-: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] ويقال: إن بين يدي الساعة أهوالاً، أي: قدامها.

على أمر البعث والنشور (¬1)، فعلى القول الأول الكناية في {يَدَيْهِ} تعود إلى القرآن، وعلى القول الثاني تعود إلى الذي قال ابن الأنباري (¬2). تحقيق القول الأول: ولكن تصديق الوحي الذي بين يدي القرآن من الكتب، فالقرآن شاهد لما تقدمه من الكتب أنها حق، وموافق لها في الأخبار وشاهد لها، إذ جاء على ما تقدمت به البشارة فيها. وتحقيق القول الثاني: ولكن تصديق البعث الذي القرآن بين يديه؛ لأن القرآن يخبر بالبعث، ويدعو إلى الاستعداد له، قال أبو بكر: ويحتمل أن يكون المعنى ولكن تصديق النبي (¬3) الذي بين يدي القرآن (¬4)؛ [لأنهم شاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرفوه قبل أن يسمعوا منه القرآن (¬5)] (¬6). وقوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أراد وتفصيل ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والسنن والأحكام، وما في الكتاب هو الكتاب لذلك قال: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} كأن المعنى وتفصيل المكتوب من هذه الأشياء، والتفصيل: التبيين، وقد مر، وهذا معنى قول ابن عباس (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 20. (¬2) لم يرد لابن الأنباري قول في هذه الجملة من الآية، ولا يمكن أن يكون مراده قول ابن الأنباري الآتي، لعدم اتفاقه مع معنى القول الثاني، ولعل المؤلف يريد قول أبي إسحاق الزجاج. (¬3) في (ح): (الشيء)، وهو خطأ. (¬4) يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وانظر تفسير القول في "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 344. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 32. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬7) "تنوير المقباس" ص 213.

38

وقال الحسن: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} الوعد لمن آمن بالنعيم، والوعيد لمن عصي بالعذاب الأليم (¬1)، والمعنى على هذا أيضًا: تفصيل المكتوب من الوعد والوعيد، والقرآن أتى ببيان هذا، وقوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي في كونه ونزوله من رب العالمين، قال ابن عباس: يريد أنه من عند رب العالمين (¬2). 38 - وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} الآية، قال الزجاج وغيره: هذا تقرير لهم لإقامة الحجة عليهم (¬3)، وهي إلزامهم أن يأتوا بسورة مثله إن كان كما يقولون، وتقديره: بل أتقولون. وقد ذكرنا حكم هذا الاستفهام عند قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا} (¬4) [البقرة: 108]، وهذا احتجاج عليهم بعد احتجاج؛ لأن الآية الأولى أوجبت كونه من عند الله بتصديقه الذي بين يديه، وفي هذه الآية ألزموا أن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى. وقوله تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال الزجاج: وادعوا إلى أن يعينكم على ذلك من استطعتم ممن هو في التكذيب مثلكم وإن خالفكم في أشياء (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) "تنوير المقباس" ص 213 بمعناه. (¬3) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 21، وانظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 117، والسمرقندي 2/ 99 بمعناه. (¬4) قال هناك: (أم) تقع عاطفة بعد الاستفهام، كقولك: أخرج زيد أم عمرو، وأزيد عندك أم عمرو، فيكون معنى الكلام: أيهما عندك، ولا تكاد تكون عاطفة إلا بعد الاستفهام. وأطال الكلام حولها. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 21.

39

وقال غيره: معناه: ادعوا إلى معاونتكم على المعارضة كل من تقدرون عليه (¬1)، واستقصاء تفسير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة عند (¬2) قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23] الآية، وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في أنه اختلقه. 39 - قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} يعني: القرآن، أي كذبوا به لما لم يعلموه، قال عطاء: يريد أنه ليس خلقٌ يحيط بجميع علم القرآن (¬3)، وقال الحسين بن الفضل: هذا كقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (¬4) [الأحقاف: 11]. وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، قال أبو إسحاق: أي: لم يكن معهم علم تأويله، وهذا دليل أن علم التأويل ينبغي أن ينظر فيه (¬5)، وقال ابن كيسان في هذه الآية: يقول: لم يعلموه تنزيلًا، ولا علموه تأويلاً، فكذبوا به (¬6)، وتلخيص هذا المعنى يعود إلى أنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله فعادوه (¬7) بالتكذيب، وفي الآية قول آخر وهو أن معنى قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي بما في القرآن من الجنة والنار والبعث والقيامة والثواب والعقاب. ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 7/ 15 ب بنحوه من قول ابن كيسان، ورواه ابن أبي حاتم 6/ 1953، عن ابن عباس بمعناه. (¬2) في (ى): (في). (¬3) لم أجده. (¬4) ذكره بنحوه الثعلبي 7/ 15 ب، وابن الجوزي 4/ 33، والقرطبي 8/ 345. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 21. (¬6) لم أجده. (¬7) في (ى): (فعادوا).

وقوله تعالى. {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: لم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب بما يؤول إليه أمرهم من العقوبة (¬1)، ويدل على صحة هذا التأويل قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: بالبعث [والقيامة، وتكذيب الكفار من الأمم الخالية كان بالبعث] (¬2) والقيامة، لا (¬3) بالقرآن، وعلى القول الأول شبّه تكذيبهم بالقرآن والنبي بتكذيب الأمم الخالية أنبياءهم فيما وعدوهم به، والقولان في الآية أشار إليهما أبو إسحاق (¬4). وذُكر قول ثالث، هو أن معنى قوله: {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي يقول: لم يعلموه يقينًا (¬5)، ويعني قولهم: {افْتَرَاهُ} مهو يقول: بل كذبوا القرآن بقولهم افتراه، وأنه مفترى وهم شاكون في قولهم هذا، ولم يتيقنوا أنه مفترى [وهذا معنى قول الزجاج: هذا والله أعلم، قيل في الذين كفروا (¬6) وهم شاكون (¬7). وقوله: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: لم يأتهم حقيقة ما يقولون أنه مفترى] (¬8)، والتأويل ما يؤول إليه الأمر، وقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 33، ورواه الثعلبي 7/ 15 ب، عن الضحاك مختصرًا، وذكره الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 21 مختصرًا أيضاً. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬3) في (ى): (ولا). (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 21. (¬5) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 294، "زاد المسير" 4/ 33. (¬6) في (م): (كذبوا). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 21. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).

40

{الظَّالِمِينَ} {كَيْفَ} في موضع نصب على خبر (كان) ولا يجوز أن يعمل (¬1) فيها (انظر)؛ لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه. 40 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الآية، قال المفسرون: أخبر الله تعالى عن إيمان قوم علم (¬2) أنهم يؤمنون، وعن كفر قوم علم (¬3) أنهم لا يؤمنون، وهذا إخبار عما سبق في علم الله تعالى (¬4)، قال الكلبي: نزلت في أهل مكة (¬5). وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}، قال عطاء: يريد المكذبين (¬6)، وهذا تهديد لهم. 41 - قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} الآية، قال مقاتل (¬7)، والكلبي (¬8): هذه الآية منسوخة بآية الجهاد (¬9). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ز): (يجوز). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) انظر معناه في "تفسير ابن جرير" 11/ 118، والثعلبي 7/ 15 ب، والبغوي 4/ 134. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 548، وهو أحد قولين ذكرهما الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 213 عنه، عن ابن عباس، والقول الثاني لفظه: من اليهود، وهو ما ذكره السمرقندي 2/ 99، وابن الجوزي 4/ 34. (¬6) "زاد المسير" 4/ 34، "الوسيط" 2/ 548. (¬7) رواه الثعلبي 7/ 16 أ، والبغوي 4/ 135، وذكره أيضاً بغير سند المؤلف في "الوسيط" 2/ 548، والقرطبي في "تفسيره" 8/ 346، ولعل القول لمقاتل بن حيان، إذ لم أجده في "تفسير مقاتل بن سليمان". (¬8) المصادر السابقة، نفس المواضع، "زاد المسير" 4/ 34. (¬9) ليس بين هذه الآية وآيات الجهاد منافاة حتى يحكم بالنسخ، بل هذه الآية بمعنى =

42

42 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الآية، قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين؛ كانوا يستمعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للاستهزاء والتكذيب فلم ينتفعوا باستماعهم (¬1)، قال الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}، قال أبو إسحاق: أي: ظاهرهم ظاهر من يستمع (¬2)، وهم لشدة عداوتهم وبغضهم بمنزلة الصم (¬3). ¬

_ = قولى تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فهي إخبار بالبراءة منهم، والمفاصلة معهم، وأما ما قد يفهم منها من المتاركة وعدم التعرض لهم بسوء فإنه -إن كان الأمر كذلك- من أحكام حالة ضعف المسلمين، وعدم قدرتهم على الجهاد وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالحكم موقوف بتلك الحالة، ويزول بزوالها، والسلف يطلقون على هذا الحكم لفظ النسخ، وليس هو كذلك في اصطلاح المتأخرين، قال الزركشي في "البرهان" 2/ 423 بعد أن ذكر للنسخ أقسامًا: (الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء ... ، وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا). وقال الأصفهاني في "تفسيره" 4/ 75 أ، بعد أن ذكر قول الكلبي ومقاتل في نسخ الآية: وهذا بعيد؛ لأن شرط الناسخ أن يكون رافعًا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله، وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا ينافي وجوب الجهاد، فلا تكون آية الجهاد رافعة لشيء من مدلولات هذه الآية. (¬1) "زاد المسير" 4/ 34. (¬2) في (ي): (يسمع). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22.

43

وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}، قال ابن عباس: يريد أنهم شر من الصم؛ لأن الصم لهم عقول وقلوب، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم (¬1). وقال الزجاج: أي (¬2): ولو كانوا مع ذلك جهالًا (¬3)، أخبر الله تعالى أن هؤلاء يستمعون استماع استهزاء لا استماع انتفاع، فهم بمنزلة الصم الجهال؛ إذ لم ينتفعوا بما سمعوا، وقال قوم: هذه الآية والتي قبلها إخبار أنه (¬4) لا يؤمن إلّا من وفقه الله تعالى، فذكر أن هؤلاء الكفار يستمعون القرآن وهم كالصم الذين لا يعقلون لعدم التوفيق، وصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بما سمعوا، فقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} مثلٌ ضربه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، يقول: كما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، كذلك لا تقدر أن تسمعهم إسماعًا ينتفعون به، وقد حكمت عليهم أن (¬5) لا يؤمنوا (¬6). 43 - قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ}، قال عطاء عن ابن عباس: يريد متعجبين منك (¬7)، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} يريد: أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون شيئًا من الهدى كما يبصر المؤمنون، وهذا كما قال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 35. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22. (¬4) في (ى): (لأنه). (¬5) في (ح): (لأن). (¬6) انظر معنى هذا القول في "تفسير ابن جرير" 11/ 119، والثعلبي 7/ 16 أ، والبغوي 4/ 135، والقرطبي 8/ 346. (¬7) "زاد المسير" 4/ 35، "الوسيط" 2/ 548.

وقال أبو إسحاق: ومنهم من يقبل إليك بالنظر وهو كالأعمى من بغضه لك، وكراهته ما يراه من آياتك (¬1)، هذا على القول الأول في الآية الأولى (¬2)، وعلى القول الثاني (¬3) معناه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} فيبصرك ويراك ولا يؤمن بك، وأنت (¬4) لا تقدر على أن توفقه للإيمان كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصرًا يهتدي به، وذكر ابن قتيبة: أن الله فضل السمع على البصر حيث قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر (¬5). قال ابن الأنباري: وهذا عندي غلط؛ لأن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه مع البصر؛ إذ كان الله -عز وجل- أراد إبصار القلوب، ولم يرد إبصار العيون، فالذي يبصره القلب هو الذي يعقله. وهذا الذي ذكره أبو بكر يكون على القول الأول في الآيتين، وعلى القول الثاني: يقال: إن الله تعالى نفى العقل [عن (¬6) الصم لا من حيث أن فقد السمع يوجب فقد العقل، ولكنه زاد نفي العقل] (¬7) تأكيدًا؛ يقول: لا تقدر أن تسمع الصم الذين لا يعقلون؛ لأن الأصم إذا كان غير عاقل كان أبعد من الانتفاع بما يقال له، فإنه لا يفهم الإشارة أيضًا، وإذا كان عاقلًا فهم الإشارة، فقامت له مقام ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22. (¬2) وهو أنهم لشدة بغضهم لمحمد بمنزلة الصم. (¬3) وهو أنهم يستمعون القرآن وهم بمنزلة الصم لعدم التوفيق. (¬4) في (ح) و (ز): (وإنك). (¬5) "تأويل مشكل القرآن" ص 7. (¬6) في (ى): (على)، وهو خطأ. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).

السمع، يؤكد ما قلناه أنا نشاهد الصم عاقلين، فلو كان الأمر على بما ذكره بن قتيبة وجب أن لا يوجد أصم عاقلًا. قال أبو بكر: وكيف يكون السمع أفضل وبالبصر يكون جمال الوجه، وبذهابه شينه، وذهاب السمع لا يكسب الوجه شينًا، والعرب تسمي العينين (الكريمتين)، ولا تصف السمع بمثل هذا؛ ومنه الحديث: يقول الله تعالى: من أذهبت كريمتيه فصبر (¬1) لم أرض له ثوابًا دون الجنة (¬2) " (¬3). وأنشد لبعض من أصيب بعينيه: ¬

_ (¬1) في (م): (فصبر واحتسب). (¬2) رواه نحوه البخاري في "صحيحه" (5653) كتاب المرضى، باب: فضل من ذهب بصره، والترمذي في "سننه" (2400) كتاب الزهد، باب: ما جاء في ذهاب البصر، والدارمي في "سننه" كتاب الرقاق، باب: فيمن ذهب بصره فصبر 2/ 217 (2795)، وأحمد في "المسند" 3/ 144. (¬3) ذكر بعض قول ابن الأنباري هذا الرازي في "تفسيره" 17/ 102، ولابن الأنباري كتاب في الرد على ابن قتيبة لم يكمله، ولعل هذا النص منه. انظر مقدمة "تأويل مشكل القرآن" ص70، وقول ابن الأنباري هذا يذكرنا بقول الشريف المرتضى في كتابه "غرر الفوائد ودرر القلائد" المعروف بـ"الأمالي" 2/ 13، بعد أن ذكر رأيًا لابن الأنباري: وهذا الذي ذكره ابن الأنباري غير صحيح، ونظن أن الذي حمله على الطعن في هذا الوجه حكايته له عن ابن قتيبة؛ لأن من شأنه أن يرد كل ما يأتي به ابن قتيبة وإن تعسف في الطعن عليه اهـ. وأقول: الواقع يؤيد رأي ابن قتيبة في تفضيل السمع على البصر، فكم من كفيف بلغ شأوًا عظيمًا في العلم والتعليم والنبوغ والتصنيف وقيادة الأمم، ولم نسمع ذلك في شأن الصم الذين ولدوا كذلك.

44

أصغي إلى قائدي لمخبرني ... إذا المقينا عمن يحييني لله عينن التي فجعت بها ... لو أن دهرًا بها يواتيني لو كنت خُيِّرت ما أَخَذْتُ ... بها تعميرَ نوح في ملك قارون (¬1) 44 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} الآية، قال أرباب الأصول (¬2) وأصحاب المعاني: لما ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين فريقين ووصفهما بالشقوة ينظرون ويسمعون ولا يعقلون ولا يؤمنون، وذلك للقضاء السابق عليهم، أخبر الله في هذه الآية أن تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلما منه؛ لأنه يتصرف (¬3) في ملكه كيف شاء (¬4)، وإذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الفعل منسوب إليهم وإن كان القضاء لله تعالى (¬5). 45 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} الآية (كأن) هذه هي المخففة من الثقيلة، التقدير: كأنهم لم يلبثوا، كقول النابغة: ¬

_ (¬1) الأبيات للخريمي كما في "عيون الأخبار" 4/ 57، و"الحيوان" للجاحظ 3/ 113، و"معاهد التنصيص" 1/ 253، و"الشعور بالعور" 1/ 246، و"الشعر والشعراء" ص 854، و"نكت الهيمان" ص 71. (¬2) يعني علماء أصول الدين والعقيدة، وانظر: المسألة في "الإبانة عن أصول الديانة" ص 158، و"عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص 280، وكتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص 189، و"الغنية في أصول الدين" ص 129. (¬3) في (ح) و (ز): (لا ينصرف)، وهو خطأ. (¬4) سبق بيان مذهب الأشاعرة في استحالة نسبة الظلم إلى الله والرد عليه. (¬5) لم أجده في كتب المعاني، وانظر نحوه في: "زاد المسير" 4/ 35، "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 347.

وكأن قد (¬1) وقول آخر: كأن ظبية تعطو إلى ناضر (¬2) السلم (¬3) وقوله تعالى: {إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ}، قال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار (¬4). وقال الزجاج: أي قرب عندهم ما بين موتهم وبعثهم كما قال: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (¬5) [المؤمنون: 113]. ¬

_ (¬1) بعض بيت للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص 105 وتمامه: أزف الترحل غير أن ركابنا ... لمّا تَزُلْ برحالنا وكأن قد وانظر: "خزانة الأدب" 7/ 197، "شرح شواهد المغني" ص 490. (¬2) في (ى): (ناظر)، وهو خطأ، وفي المصادر التالية: وارق. (¬3) عجز بيت، وصدره: ويومًا توافينا بوجه مقسَّم وقد اختلف في نسبة البيت، فهو لباغت بن صريح اليشكري في "تخليص الشواهد" ص390، "شرح المفصل" 8/ 83، "كتاب سيبويه" 2/ 134، ولأرقم بن علباء في "شرح شواهد سيبويه" 1/ 525، ولعلباء بن أرقم في "الأصمعيات" ص 157، ولأحد الثلاثة أو لراشد بن شهاب اليشكري في "خزانة الأدب" 10/ 413، وصحح البغدادي نسبته لعلباء بن أرقم. والشاعر يصف امرأته حالة رضاها، ويشبهها بظبية مخصبة. والمقسَّم: المحسن، وتعطو: تتطاول إلى الشجر لتتناول منه. انظر: "شرح الأعلم على كتاب سيبويه" 1/ 281، "لسان العرب" (قسم) و (عطو). (¬4) "تفسير الثعلبي" 7/ 16 ب، والسمرقندي 2/ 100، والبغوي 4/ 135، وابن الجوزي 4/ 36، و"تنوير المقباس" ص 214. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22.

وقال الضحاك وابن الأنباري: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم (¬1) وبعثهم فصار في تقديرهم كالساعة من النهار من هول ما استقبلوه من أمر البعث والقيامة (¬2). وقال آخرون: إنما قصرت عندهم مدة لبثهم في الدنيا لا مدة كونهم في البرزخ، فقوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} أي: في الدنيا إلا ساعة من النهار (¬3). وقوله تعالى: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}، قال ابن عباس (¬4)، والضحاك (¬5)، ومقاتل (¬6): يتعارفون بينهم حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضًا كمعرفتهم في الدنيا، ثم تنقطع المعرفة فلا يعرف أحد أحدًا، قال أبو إسحاق: وفي معرفة بعضهم بعضًا وعلم بعضهم بإضلال بعض التوبيخ لهم وإثبات الحجة عليهم (¬7)، وزاد ابن الأنباري بيانًا فقال: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} بتوبيخ (¬8) بعضهم بعضًا، فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) انظر قول الضحاك في "الوسيط" 2/ 549، "زاد المسير" 4/ 36، وبمعناه في "بحر العلوم" 2/ 100. (¬3) هذا قول آخر للضحاك رواه الثعلبي 7/ 16 أ، والبغوي 4/ 135، وهو قول مقاتل ابن سليمان في "تفسيره" 140 ب، والزمخشري في "كشافه" 2/ 239. (¬4) "تفسير الثعلبي" 7/ 16 ب، والبغوي 4/ 135، والسمرقندي 2/ 100، وابن الجوزي 4/ 36، وقد تبين من "تفسير السمرقندي" أن الأثر من رواية الكلبي ولا يخفى تهافتها. (¬5) "تفسير السمرقندي" 2/ 100. (¬6) "تفسير مقاتل" 140 ب بمعناه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22. (¬8) في (ج) و (ز): (توبيخ).

وأنت كسّبتني دخول النار بما علمتنيه وزينته لي، فهذا تعارف توبيخ وتعنيف، وتباعد وتقاطع، لا تعارف عطف وإشفاق، ومن هذه الجهة وافق قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10]، يريد لا يسأله سؤال رحمة وعطف. هذا كلامه (¬1)، والمفسرون حملوا الآيتين على حالتين فقالوا: يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة، فلذلك لا يسأل حميم حميمًا (¬2)، وقال أبو علي: معنى {يَتَعَارَفُونَ} يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن يكون المعنى يتعارفون مدة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها، وحذف المفعول للدلالة عليها (¬3) كما حذف في مواضع كثيرة، وعدي (تفاعل) (¬4) كما عدي فيما أنشد أبو عبيدة (¬5): تخاطأت (¬6) النبل أحشاءه ¬

_ (¬1) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" 17/ 104 - 105، وابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 36 دون نسبة. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 120، والسمرقندي 2/ 100، والماوردي 2/ 437، والثعلبي 7/ 16 ب، والبغوي 4/ 135، والرازي 17/ 105. (¬3) هكذا في جميع النسخ، والضمير يعود إلى (مدة) إذ هي المفعول، وفي "الحجة" عليه، ومعنى (يتعارفون مدة إماتتهم) أي: يسأل بعضهم بعضًا كم لبثتم في القبور. (¬4) يعني وزن: تعارف. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 5، ونسبه إلى أوفى بن مطر المازني، وهو صدر بيت عجزه: وأُخِّر يومي فلم يُعجل وانظر: "سمط اللآلي" 1/ 465، "شرح أبيات المغني" 7/ 41، "اللسان" (خطأ) 2/ 1193. (¬6) في (ح) و (ز) و (ص): (تخطأت)، وهو موافق لرواية "لسان العرب"، وما أثبته من (ى) و (م) موافق لرواية أبي عبيدة في "مجاز القرآن" وبقية المصادر، ومعنى تخاطأت: أخطأت، كما في "شرح أبيات المغني"، الموضع السابق.

أو يكون أعمل الفعل الذي دلّ عليه (يتعارفون)؛ ألا ترى أنه دل علي يستعلمون ويتعرفون، وتعرّفوا مدة اللبث هاهنا، كما تعّرفوها (¬1) [في قوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 112] الآية، والآخر في التعارف: بما جاء في قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] (¬2) يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ} [الصافات: 50، 51]، وقال في موضع آخر {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} (¬3) [الطور: 26] الآية، وتعرّفهم يكون على أحد هذين الوجهين (¬4)، وذكر (¬5) تقدير الآية فقال: يحتمل قوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون صفة لليوم، ويكون التقدير: كأن لم يلبثوا قبله إلا ساعة، فحذفت الكلمة لدلالة المعنى علمها، ومثله قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] أي أمسكوهن قبله، وكذلك قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ} [البقرة: 226] أي قبل انقضاء الأربعة الأشهر، ويجوز أن يكون على هذا التقدير حذف (قبل) الذي هو مضاف إلى الهاء، وأقيم المضاف إليه مقامه ثم حذفت الهاء من الصفة، كقولك: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت، ومثل هذا قوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] والتقدير: وجزاؤه واقع بهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ¬

_ (¬1) في (ز): (يعرفونها). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ز). (¬3) وقد ذكر أبو علي الآية بتمامها والآية التي قبلها. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 302. (¬5) يعني أبا علي الفارسي.

الوجه الثاني: أن تجعله صفة للمصدر على تقدير: ويوم نحشرهم حشرًا (¬1) كأن لم يلبثوا قبله، ثم فُعِلَ بـ (قبله) ما ذكرنا في الوجه الأول. الوجه الثالث: أن تجعله حالاً من الضمير المنصوب في {نَحْشُرُهُمْ} والمعنى: نحشرهم مشابهةً أحوالُهم أحوال من لم يلبث إلا ساعة، وأما (يوم) فإنه يصلح أن يكون معمولًا لأحد شيئين؛ أحدهما: أن يكون معمول {يَتَعَارَفُونَ}، وينتصب على وجهين؛ أحدهما: أن يكون ظرفًا معناه: يتعارفون في هذا اليوم، والآخر: أن يكون مفعولًا على السعة على: يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار (¬2) وأهل الدار ما سرقوا وإنما سرق منهم، ولكن جعلوا مفعولًا على السعة، كذلك هاهنا تعارفوا في اليوم فجعل اليوم مفعولًا على السعة، والآخر (¬3): أن يكون {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} معمول ما دلّ عليه قوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} ألا ترى أن المعنى: تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فيعمل في الظرف هذا المعنى، ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف وإن تقدم الظرف عليه، كقولهم: أكلَّ يوم لك ثوب؟ غير أن هذا الوجه ضعيف؛ لأن قوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} لا يخلو من أن يكون على أحد (¬4) الأوجه الثلاثة التي ¬

_ (¬1) في (ي): (نحشرهم جميعًا حشرًا) والجملة ليست من كلام أبي علي في هذا الموضع. (¬2) رجز مجهول القائل وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب" 1/ 175، وانظره بلا نسبة في: "خزانة الأدب" 3/ 108، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص 655، "المحتسب" 2/ 295. (¬3) يعني الوجه الثاني في العامل في (يوم). (¬4) في (ح) و (ز): (احدى).

ذكرنا، فإن جعلته صفة المصدر لم يجز أن يعمل في (يوم)؛ لأن الصفة لا يتقدم عليها ما تعمل فيه، وإن جعلته صفة لليوم فالصفة لا تعمل في [الموصوف كما أن الصلة لا تعمل في] (¬1) الموصول؛ لأنها بعضه، وإنْ قدرته تقدير الحال على ما ذكرنا لم يجز أن يكون (يوم) معمولًا له؛ لأن العامل [في الحال] (¬2) (نحشر) و (نحشر) قد أضيف اليوم إليه فلا يجوز أن يعمل في المضاف المضاف إليه، ولا ما يتعلق بالمضاف إليه؛ لأن ذلك يوجب تقديمه على المضاف، فلهذا (¬3) قلنا: إن هذا الوجه ضعيف (¬4). وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}، قال المفسرون: خسر ثواب الجنة الذين كذبوا بالبعث (¬5). قال ابن الأنباري: ووجه اتصال خسرانهم بتعارفهم هو أن الله -عز وجل- لما ذكر البعث وذكر ما يصير إليه أحوال المبعوثين، وصله بتخسير المكذبين بالبعث (¬6)، وهذا معنى قول أبي إسحاق: يجوز أن يكون هذا إعلامًا من الله عز وجل -بعد أن بين أمر البعث- أنه من كذب به فقد خسر (¬7). قال أبو بكر: وفيه قول (¬8) آخر: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬3) في (ح): (فلذلك). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 300 - 304 بتصرف واختصار، وإضافة بعض الجمل. (¬5) انظر: "زاد المسير" 4/ 36، "الوسيط" 2/ 549، وبنحوه في "تفسير ابن جرير" 11/ 120. (¬6) لم أجده. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22. (¬8) فى (ى): (وجه).

46

حال التعارف؛ لأن تلك حالٌ لا تقبل فيها توبة ولا يرجى معها إقالة (¬1). 46 - وقوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}، قال ابن عباس والمفسرون: يريد ما (¬2) ابتلوا به يوم بدر (¬3)، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أو أتوفأك قبل ذلك، فلا فوت عليّ، ولا يفوتني شيء، وهو قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، قال الربيع (¬4): أي: فنعذبهم في الآخرة (¬5)، وقال مقاتل: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بعد الموت فنجزيهم بأعمالهم (¬6)، {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} أي: من محاربتك وتكذيبك، قاله ابن عباس (¬7). قال أهل المعاني: أعلم الله تعالى نبيه -عليه السلام- أنه ينتقم من بعض هذه الأمة، ولم يعلمه أيكون ذلك بعد وفاته أو قبله (¬8)، فقال المفسرون: كانت وقعة بدر ما أراه في حال حياته (¬9). وقال أبو إسحاق: الذي (¬10) تدل عليه الآية أن الله أعلمه أنه إن لم ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 348 بنحوه، دون تعيين القائل. (¬2) في (ى): (من)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 16 ب، والبغوي 4/ 136، وابن الجوزي 4/ 36، والقرطبي 8/ 348، ولم أجد من ذكره عن ابن عباس. (¬4) هو: ابن أنس. (¬5) لم أعثر عليه في مظانه من كتب التفسير. (¬6) "تفسير مقاتل" 141 أبنحوه. (¬7) "تنوير المقباس" 214 بمعناه. (¬8) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 23. (¬9) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 23، و"تفسير مقاتل" 141 أ، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 298، و"الثعلبي" 7/ 16 ب، والبغوي 4/ 136، "الوسيط" 2/ 549. (¬10) ساقط من (ى).

47

ينتقم منهم في العاجل انتقم منهم في الآجل (¬1). 47 - قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، ذكر المفسرون (¬2)، وأصحاب المعاني (¬3) في هذه الآية قولين: أحدهما: أن مجيء الرسول والقضاء بينهم في الدنيا، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: فإذا كذبوا رسولهم قضي بينهم بالعدل (¬4)، وقال عطية العوفي: يقول الله تعالى: أرسلت إلى كل أمة رسولاً، فإذا جاء رسولهم وبلغهم الكتاب وكذبوه قضي بينهم وبين رسولهم في الدنيا بالعدل؛ فعُذب المكذبون (¬5)، ونجا (¬6) الرسل (¬7) والمؤمنون. القول الثاني: أن المراد بمجيء الرسول والقضاء ما يكون في القيامة، وهو قول مقاتل ومجاهد وابن عباس في بعض الروايات (¬8)، قال مجاهد: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة (¬9)، وقال مقاتل: فإذا جاء رسولهم في الآخرة (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 23. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 100، والثعلبي 7/ 16 ب، والبغوي 4/ 136. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 23، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 63. (¬4) ذكره ابن الجوزي 4/ 37 بنحوه، عن عطاء بن السائب. (¬5) في (ح) و (ز): (المكذبين). (¬6) في (ى): (ونجي). (¬7) في (ى): (الرسول). (¬8) منها رواية الكلبي كما في "تفسير الماوردي" 2/ 437. (¬9) رواه ابن جرير 11/ 121، وابن أبي حاتم 6/ 1955، والثعلبي 7/ 12 ب، والبغوي 4/ 136. (¬10) "تفسير مقاتل" 141 أ، والثعلبي 7/ 12 ب، والبغوي 4/ 136.

وقال ابن عباس: إن الله تعالى يقول لهم يوم القيامة: ألم يأتكم رسلي بكتبي؟ فيقولون: ما أتانا لك رسول ولا كتاب (¬1)، ثم يؤتى بالرسول فيقول: قد أبلغتهم كتابك، فذلك قوله: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬2). قال أبو إسحاق: ودليل القول الأول: قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165] الآية، أعلم أنه لا يعذب قومًا إلا بعد الإعذار والإنذار، ودليل القول الثاني قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، أعلَم الله أن كل رسول شاهد على أمته بإيمانهم وكفرهم (¬3). وزاد ابن الأنباري بيانًا ومعنى فقال في القول الأول: ولكل أمة رسول يرسله الله إليهم سفيرًا بينه وبينهم، مبشرًا ومنذرًا، فإذا جاءهم الرسول في الدنيا {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي: حكم عليهم عند اتباعه وعناده (¬4) بالمعصية والطاعة والضلالة والهدى (¬5)، فالقضاء بالقسط على ¬

_ (¬1) في (ح) و (ز): (بكتاب). (¬2) أورده القرطبي في "تفسيره" 8/ 349 بمعناه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 23/ 24 بتصرف بالزيادة وترتيب الجمل، وقد يكون ذلك بسبب اختلاف النسخ، كما أشار إليه الأزهري في "مقدمة التهذيب" 1/ 27. (¬4) في "الوسيط" عند اتباع المؤمنين وعناد الكافرين. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 549، أشار إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 37 دون تعيين القاتل.

48

هذا وقع في الدنيا على القبول من الرسل والسعادة باتباعهم (¬1)، أو (¬2) كذيب الرسل والشقاوة بعصيانهم، وهذا معنى آخر سوى ما ذكرنا من قول المفسرين؛ لأنهم فسروا (القضاء بالقسط في الدنيا) بعذاب الكافرين ونجاة المؤمنين، وقال (¬3) في القول الثاني: ولكل أمة رسول يرسل إليهم مبينًا الضلالة والهدى، ومرغبًا في ثواب الله، ومخوفًا غضب الله، فإذا جاء رسولهم في الآخرة شاهدًا عليهم بما كان منهم في الدنيا قضي بينهم هنالك (¬4) بدخول الجنة والنار، يدل على صحة هذا قوله {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] الآية. وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد لا ينقص الذين صدقوا، ويُجازى الذين كذبوا (¬5)، وقال مقاتل: لا ينقصون من محاسنهم ولا يزادون على مساوئهم ما لم يعملوا (¬6) (¬7)، وقال العوفي: لا يُعذب أحد بغير ذنب ولا على غير حجة (¬8). 48 - قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، قال مقاتل: وذلك حين ¬

_ (¬1) في (ح) و (ز): (وبإتباعهم)، وهو خطأ. (¬2) في (ى): (و). (¬3) يعني ابن الأنباري، ولم أجد من ذكره عنه. (¬4) من (م)، وفي بقية النسخ: (هناك). (¬5) "الوسيط" 2/ 549 بنحوه عن عطاء، وبمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 214. (¬6) في (م): (يعلموا)، وهو خطأ. (¬7) "تفسير مقاتل" 141 أبنحوه. (¬8) لم أجده.

49

أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (¬1): {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} الآية، فقالوا: متي هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد (¬2)، وقال غيره: يريدون متى قيام الساعة (¬3) {إِنْ كُنْتُمْ} أي أنت يا محمد وأتباعك {صَادِقِينَ}، وقال الكلبي في هذه الآية: {وَيَقُولُونَ مَتَى} يعني: كل أمة كذبت رسولها تقول ذلك لرسولها (¬4). 49 - قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} الآية إلى آخرها مفسرة في آيتين من سورة الأعراف [34، 188]. 50 - قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} الآية، هذا جواب لقولهم: متى هذا الوعد، وهذا استعجال منهم للعذاب (¬5)، فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أي أعلمتم (¬6)، والرؤية هاهنا من رؤية القلب لا من رؤية العين، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} أي عذاب الله {بَيَاتًا}، قال الزجاج: البيات: كل ما كان بليل، وهو منصوب على الوقت (¬7) (¬8)، {أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يجوز أن يكون (ماذا) اسمان، فيكون (ما) استفهامًا، و (ذا) بمعنى (الذي)، ويكون المعنى ما الذي يستعجل منه ¬

_ (¬1) ساقط من (ح) و (ز). (¬2) " تفسير مقاتل" 141 أبمعناه. (¬3) هذا قول ابن جرير في "تفسيره" 11/ 121، وذكره الثعلبي 7/ 16 ب، والبغوي 4/ 136 دون تعيين القائل. (¬4) "تنوير المقباس" ص 214، عن الكلبي، عن ابن عباس، "زاد المسير" 4/ 37، عن ابن عباس. (¬5) في (م): (للعقاب). (¬6) في (ى): (علمتم). (¬7) يعني نصب على الظرفية. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 24.

المجرمون؟] (¬1) كقولك: أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون؟ أي يستعجله؛ فـ (ما) على هذا في موضع رفع، و (ذا) بمعنى (الذي) خبره، والعائد إن صلته إليه الهاء المقدر في (يستعجل)، فإن جعلت (¬2) (ما) و (ذا) اسمًا واحدًا كان في موضع نصب كأنه في التمثيل: أي شيء يستعجل المجرمون من العذاب أو من الله؟ هذا كلام أبي علي الفارسي (¬3) في شرح كلام أبي إسحاق، وذكر أبو إسحاق أن (ما) في (¬4) موضع (¬5) رفع من جهتين (¬6)، وأنكر أبو علي أن تكون في موضع رفع إلا من جهة واحدة، وهي ما ذكرنا من الابتداء، وذكر الكلام عليه في "المسائل المصلحة" (¬7). قال أبو إسحاق: والأجود أن تكون الهاء في (منه) تعود على العذاب (¬8). وأما معنى هذا الاستفهام فقال ابن الأنباري وصاحب النظم: معناه: التهويل والتحذير والتفظيع، أي: ما أعظم ملتمسهم، وأشد وقوع الذي يبغون، ونزوله بهم، وهذا كقولك لمن هو في أمر تستوخم (¬9) عاقبته: ماذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬2) في (ح): (جعل). (¬3) انظر: "الإغفال" ص 865، وما بعدها. (¬4) ساقط من (ح) و (ز). (¬5) في (ح) و (ز): (موضعه). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 24، وعبارته: (ما) في موضع رفع من جهتين، إحداهما: أن يكون (ذا) بمعنى (ما الذي)، ويجوز أن يكون (ماذا) اسمًا واحدًا، ويكون المعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون. (¬7) يعني "الإغفال"، انظر ص 865. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 24. (¬9) تستوخم: أي تستردئ وتستثقل. انظر: "اللسان" (وخم) 12/ 631.

51

تجني على نفسك؟ (¬1)، وكقول الشاعر (¬2): هوت أمه ما يبعث الصبح غاديًا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب فهذا الاستفهام معناه التعظيم لشأن من ذكر، والتهويل منه. وقال بعض أصحاب المعاني (¬3): تقدير الآية {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أي أعلمتم؛ لأن هذا من رؤية القلب فيكون معناه العلم، ماذا يستعجل المجرمون من العذاب إن أتاكم بياتًا أو نهارًا؟ أي: أعلمتم أي شيء استعجلوه (¬4) إن أتاكم، يعني في العظم (¬5) والفظاعة، وهذا على التقديم والتأخير. 51 - وقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}، دخول ألف الاستفهام على (ثم) للتقرير والتوبيخ، ومعناه: إن أهل الكفر قالوا: نكذب بالعذاب ونستعجله، ثم إذا ما وقع آمنا به، فقال الله -عز وجل- موبخًا ومقررًا: أثم إذا ما وقع وحلّ بكم آمنتم به؟ يقول لنبيه عليه السلام: قل لهم: أثم تؤمنون به بعد أن نزل بكم فلا يقبل منكم الإيمان، ويقال لكم: الآن تؤمنون وقد كنتم به تستعجلون في الدنيا مستهزئين ومعاندين للحق؟. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 350 دون نسبة. (¬2) هو: كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه. انظر: "الصحاح" (هوى) 6/ 2539، "تهذيب اللغة" (هوى) 6/ 492، "الأمالي" للقالي 2/ 150، "التكملة" للصغاني (هـ وى) 6/ 540، "لسان العرب" (هوا) 15/ 373. ومعنى هوت أمة: أي هلكت، كما في المصدر الأخير، نفس الموضع. (¬3) يعني الحوفي، انظر: "البحر المحيط" 6/ 68، "الدر المصون" 6/ 215، والنسخة التي بين يدي من كتابه "البرهان" ينقصها سورة يونس، وبعض سورة التوبة. (¬4) هكذا، والسياق يقتضي أن يقول: استعجلتموه. (¬5) في (ج): (العلم).

53

قال ابن عباس: يريد لا أقبل إيمانًا عند نزول العذاب (1)، وذكر الفراء الكلام في (الآن) هاهنا، وذكر أقوالًا (2)، ورد عليه الزجاج (3)، وأبو علي (4)، وأكثر كلامهم ذكرناه في سورة البقرة في قوله: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]. 53 - قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ}، قال ابن عباس وغيره: يستخبرونك (5) {أَحَقٌّ هُوَ}، قال ابن عباس: يريد الذي جئت به (6). وقال الكلبي: أحق ما جئتنا به من نزول العذاب بنا والبعث (7). {قُلْ إِي وَرَبِّي}، قال الليث: إي: يمين (8). وقال الزجاج. معناه: نعم وربي (9)، ونحو ذلك روى أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي (10)، قال الأزهري: وهذا هو القول الصحيح (11).

_ (1) "تنوير المقباس" ص 214 بمعناه. (2) قال الفراء: (الآن) حرف بني على الألف واللام لم تخلع منه، وأصل (الآن) إنما كان (أوان) حذفت منها الألف وغيرت واوها إلى الألف، وإن شئت جعلت (الآن) أصلها من قولك: (أن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام ..). "معاني القرآن" 1/ 467. (3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 24. (4) "الإغفال" ص 254 - 256. (5) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 214، وهو قول ابن جرير 15/ 102، والثعلبي 7/ 17 أ، والبغوي 4/ 137، وابن الجوزي 4/ 38 وغيرهم. (6) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 214 بلفظ: يعني العذاب والقرآن. (7) ذكره الماوردي في "تفسيره" 2/ 438 مختصرًا. (8) "تهذيب اللغة" (إى) 15/ 657، وبخحوه في كتاب "العين" (أي) 8/ 440. (9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 25. (10) و (11) "تهذيب اللغة" (إي) 15/ 657.

54

{إِنَّهُ لَحَقٌّ}، قال الكلبي: يعني العذاب، {لَحَقٌّ} نازل بكم (¬1). {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، قال ابن عباس: يريد: أن الله لا يعجزه شيء (¬2)، ولا يفوته شيء (¬3). وقال الكلبي: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بعد الموت (¬4). وقال الزجاج: أي لستم ممن يُعجز أن يجازى على كفره (¬5). 54 - وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ}، قال ابن عباس وغيره: أشركت (¬6)، {مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ} أي: لبذلته لدفع العذاب عنها، قال ابن عباس: يريد إن قبل الله ذلك منها، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: أخفى الرؤساء الندامة من السفلة الذين أضلوهم، أي كتموهم ذلك ولم يطلعوهم عليه، هذا قول عامة المفسرين (¬7)، وأصحاب المعاني (¬8)، قال الفراء: يعني الرؤساء من المشركين أسروها من سفلتهم الذين أضلوهم، أي أخفوها (¬9). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 214 مختصرًا عنه، عن ابن عباس. (¬2) من (م) وفي النسخ الأخرى: يريد أنه لا يعجز الله شيء، وأثبت ما في (م) لموافقتها لما في المصدر التالي. (¬3) "الوسيط" 2/ 550. (¬4) في "تنوير المقباس" ص 214، عن الكلبي، عن ابن عباس: وما أنتم بفائتين من عذاب الله. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 25. (¬6) "تنوير المقباس" ص 214، "زاد المسير" 4/ 39، "الوسيط" 2/ 550. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 123، والسمرقندي 2/ 102، والثعلبي 7/ 17 أ، وابن الجوزي 4/ 39. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 469، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 25، "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 299. (¬9) "معاني القرآن" 1/ 469.

ونحو هذا قال الزجاج (¬1). وقال ابن الأنباري: إنما يقع هذا الكتمان منهم (¬2) قبل إحراق النار ولهم، فإذا أحرقتهم النار ألهتهم عن هذا التصنع لمن كان يتبعهم في الدنيا، يدل على هذا قوله: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] الآيات، فهم في هذه الحال (¬3) لا يكتمون ندمهم (¬4)، وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة: أسررت الشيء: أخفيته، وأسررته: أعلنته، قال: ومن الإصهار قول الله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي أظهروها، وأنشد للفرزدق (¬5): فلما رأى الحجاجَ جرد سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا (¬6) أراد أظهر الحروري، قال شِمْر: لم أجد هذا البيت للفرزدق، وما قال غير (¬7) أبي عبيدة في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} أي أظهروها، ولم أسمع ذلك لغيره (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 25. (¬2) من (م) فقط. (¬3) في (ى): (الحالات). (¬4) لم أجده، وقد ذكر القول من غير نسبة القرطبي في "تفسيره" 8/ 352. (¬5) البيت ليس في "ديوانه"، وقد نسب إليه في كتاب "الأضداد" للأصمعي ص 21، وكتاب "الأضداد" لابن الأنباري ص 46 وأخرى غيرها، وشكك في صحة نسبته للفرزدق أبو حاتم السجستاني كما سيأتي. (¬6) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر كتاب "الأضداد" للسجستاني ص 115، "تهذيب اللغة" (سر) 2/ 1670، "لسان العرب" (سرر) 4/ 1989، ولم يفسر أبو عبيدة هذه الآية في كتابه "مجاز القرآن". (¬7) ساقط من (ى). (¬8) "تهذيب اللغة" (سر) 2/ 1670، وإلى ذلك ذهب أبو حاتم السجستافي حيث قال: =

وذكر المفضل، عن الأصمعي وغيره: أسر بمعنى أظهر (¬1)، واختار المفضل الإظهار، وقال: ليس ذلك اليوم يوم تكبُّر ولا تصبُّر (¬2). ومعنى الندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن، والتأسف علي ما وقع منه، ويود أنه لم يكن أوقعها، هذا معنى الندامة والندم، فأما أصله فإن (¬3) موضوعه (¬4) اللزوم، ومنه سمي النديم؛ لأنه يلازم المجلس (¬5)، ويقوي هذا قولهم: نادم وسادم، والسَّدَم (¬6): اللهج بالشيء، وقالوا للرجل: ندم وسدم إذا اهتم بالشيء الفائت؛ لأن هذا الهمّ ألزم للقلب من الهمّ العارض للشيء الحادث؛ فإن هذا يزول بزوال ما حدث، والفائت لا سبيل إلى رده، فاستعملوا فيه الندم والسدم. ويقوي هذا المذهب أيضًا أن أصحاب القلب (¬7) ذكروا أن الندم قلب ¬

_ = وكان يقول -يعني أبا عبيدة- في هذه الآية: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أظهرها، ولا أثق بقوله في هذا، والله أعلم، وقد زعموا أن الفرزدق قال .. ، وذكر البيت ثم قال: ولا أثق أيضًا بقول الفرزدق في القرآن، ولا أدري لعله قال: الذي كان أظهرا، أي كتم ما كان عليه، والفرزدق كثير التخليط في شعره .. ، فلا أثق به في القرآن. كتاب "الأضداد" له ص 115، وقال الأزهري: وأهل اللغة أنكروا قول أبي عبيدة أشد الإنكار، "لسان العرب" (سرر) 4/ 1989. (¬1) انظر قول الأصمعي في كتابه: "الأضداد" ص 21. (¬2) انظر: "زاد المسير" 4/ 39، "الوسيط" 2/ 550. (¬3) في (م): (بأن). (¬4) في (ح) و (ز): (ممنوعة). (¬5) في (ى): (المسجد). (¬6) في "مختار الصحاح": (سدم) السَّدَم -بفتحتين- الندم والحزن، وبابه: طَرِب، ورجل سادم نادم، وسلمان ندمان، وقيل: هو إتباع. (¬7) يعني علماء اللغة الذين لهم عناية بالكلمات المقلوبة، قال ابن منظور: يقال: =

55

الدمن (¬1)، وهو اللزوم. وقال ابن الأعرابي (¬2): فلان نديم الخمر أي مدمن لها، والدمن ما اجتح في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار، سمي بذلك للزومه، والدمنة: الحقد الكامن في الصدر اللازم، وهذا من المقلوب الذي يستعمل كل واحد من الأصل والمقلوب في معنى غير المعنى الآخر بعد أن يكونا يرجعان إلى أصل واحد. وقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي: بين الرؤساء والسفلة، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ لأنهم يجازون بشركهم. 55 - قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} قال ابن عباس: يريد ما وعد لأوليائه من [الثواب والنعيم، وما أوعد أعداءه من] (¬3) العذاب والخِزي والهوان، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، قال: يريد: المشركين (¬4). 57 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني قريشًا (¬5) {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ¬

_ = المنادمة مقلوبة من المدامنة؛ لأنه يدمن شرب الشراب من نديمه؛ لأن القلب في كلامهم كثير كالقسي من القووس، وجذب وجبذ، وما أطيبه وأيطبه ... إلخ. "لسان العرب" (ندم) 7/ 4386. (¬1) قال الأزهري: دمّن فلان فناء فلان: إذا غشيه ولزمه، ومدمن الخمر: الذي لا يقلع عن شربها، واشتقاقه من دمن البعر. "تهذيب اللغة" (دمن) 3/ 1428. (¬2) في (م): (ابن الأنباري). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) ذكره مختصرًا ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 40، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 550. (¬5) هذا التخصيص من رواية ابن عباس التي اعتمدها المؤلف. انظر: "الوسيط" 2/ 550، "زاد المسير" 4/ 40، وقد ذهب إلى هذا التخصيص =

58

مِنْ رَبِّكُمْ} يريد القرآن وما فيه، ومعنى الموعظة: الإبانة عما يدعو إلي الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والقرآن داع إلى كل صلاح بهذا الطريق. وقوله تعالى: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي: دواء لداء الجهل، وذلك أن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن، فالمزيل له أجلّ شفاء وأعظمه موقعًا، والقرآن بحمد الله مزيل للجهل، وكاشف لعمى القلب {وَهُدًى} وبيان من الضلالة {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، قال ابن عباس: ونعمة من الله لأصحاب محمد (¬1) - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 58 - قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} الآية، قال أبو علي: الجار في قوله: {بِفَضْلِ اللَّهِ} متعلق بمضمر استغني عن ذكره لدلالة ما تقدم من قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} عليه، كما أن قوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] يتعلق الظرف فيه بمضمر يدل عليه ما تقدم ذكره من الفعل، وكذلك قوله: {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (¬3) [يونس: 51] معناه الآن تؤمنون، ودل عليه: {أَثُمَّ إِذاَ مَا وَقَعَءَامَنُم} [يونس: 51]، ونحو هذا قال ابن الأنباري، فقال (¬4): (الباء الأولى في الآية خبر لاسم مضمر، وتأويله: ¬

_ = أيضًا السمرقندي 2/ 102، والقرطبي 8/ 353، والأصل بقاء الخطاب على عمومه، وإلى ذلك ذهب ابن جرير 11/ 124، وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 7/ 167: هذه آية خوطب بها جميع العالم. (¬1) القرآن نعمة لأصحاب محمد ولمن جاء بعدهم مؤمنًا إلى يوم القيامة، فلا وجه لهذا الحصر والتخصيص، وقد أشار الفراء في "معاني القرآن" 1/ 469 إلى هذا التخصيص تفسيرًا لقراءة زيد بن ثابت (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء، وسيأتي. (¬2) "الوسيط" 2/ 550. (¬3) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 280. (¬4) هكذا في جميع النسخ.

هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله، خذف الاسم وأبقى خبره) (¬1). ومعنى الإضافة في قوله: {بِفَضْلِ اللَّهِ}، قال بعض أهل المعاني: الفضل هاهنا موضع الإفضال، كما أن النبات في موضع الإنبات في قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، والمعنى بإفضال الله (¬2)، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى الملك، كما يضاف العبد إلى الله بمعنى أن مالك له. وقوله تعالى: {وَبِرَحْمَتِهِ} أعاد الجار على الأصل كقوله (¬3): يا دار عفراء ودار البَخْدَنِ وكقولهم: مررت بأخيك وبأبيك، وهذا مما سبق بيانه قديمًا، ومعنى الآية على ما ذكرنا: جاءتكم هذه الموعظة وهذا الشفاء -ويعني به القرآن- بإفضال الله عليكم، وإرادته الخير بكم، ثم قال: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أشار بذلك إلى القرآن؛ لأن المراد بالموعظة والشفاء القرآن، فترك اللفظ وأشار إلى المعنى. وقال ابن الأنباري: (ذلك) إشارة إلى معنى الفضل والرحمة، تلخيصه: بذلك التطول (¬4) فليفرحوا (¬5). قال أبو علي: الجار في قوله {فَبِذَلِكَ} متعلق بـ (ليفرحوا)؛ لأن هذا ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 41. (¬2) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وقد ذكره مختصرًا في "تفسيره" 2/ 298. (¬3) البيت لرؤبة في "ديوانه" ص 161، وبعده: بك المها من مطفل ومشدن وكتاب سيبويه 2/ 188، و"المحكم" 5/ 343، و"اللسان" (بخدن) و"الجمهرة" (1116). (¬4) في (ج): (التطويل)، وهو خطأ، والتطول: التفضل. انظر: "القاموس المحيط" (طول) ص 1026. (¬5) "زاد المسير" 4/ 41.

الفعل يصل به، يقال: فرحت بكذا، والفاء في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} زيادة (¬1) كقول الشاعر (¬2): وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي والفاء في (فاجزعي) زيادة، كما كانت التي في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} كذلك (¬3)، هذا الذي ذكرنا مذهب النحويين في هذه الآية (¬4). ومذهب المفسرين غير هذا، فإن ابن عباس (¬5)، والحسن (¬6)، ¬

_ (¬1) زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، وليس في القرآن زيادة لا فائدة لها، ولعل أبا علي وسائر النحويين يقصدون بالزيادة عدم تأثير حذف ما قيل بزيادته من الناحية الإعرابية، وقال الزركشي: ومعنى كونه زائدًا أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد، فبوجوده حصل فائدة التأكيد، والواضع الحكيم لا يضع الشيء إلا لفائدة. "البرهان في علوم القرآن" 1/ 74. (¬2) هو النمر بن تولب، وصدر البيت: لا تجزعي إن منفسًا أهلكته انظر: "ديوانه" ص 72، "خزانة الأدب" 1/ 314، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 160، "كتاب سيبويه" 1/ 134، والمنفس: الشيء النفيس. والشاعر يخاطب امرأته لما لامته على إنفاق ماله على ضيوفه. انظر: "الخزانة"، شرح الأبيات نفس الموضعين السابقين. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 281 بتصرف. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 65، "البحر المحيط" 5/ 171 - 172، "الدر المصون" 6/ 224. (¬5) رواه عنه ابن جرير 11/ 125، وابن أبي حاتم 6/ 1959، وهو صحيح من رواية ابن أبي طلحة. (¬6) رواه عبد الرازق في "تفسيره" 2/ 2/ 296، وابن جرير 11/ 125، وذكره ابن أبي حاتم 6/ 1959 بغير سند.

وقتادة (¬1)، ومجاهدًا (¬2)، وغيرهم (¬3)، قالوا: فضل الله: الإسلام، ورحمته القرآن. وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلهم من أهله (¬4)، وعلى هذا: الباء في {بِفَضْلِ اللَّهِ} تتعلق بمحذوف يفسره ما بعده، كأنه قيل: قل (¬5) فليفرحوا بفضل الله وبرحمته. [وقوله تعالى: {فبَذَلِك}، قال الزجاج: هو بدل من قوله: {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}] (¬6). وقال صاحب النظم: قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} يقتضي جوابًا فلم يجىء حين قال مبتدئًا: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، وأكثر ما يجيء أن يكون المبتدأ مجملاً، ثم تجيء الترجمة والبيان بعد، وهاهنا جاءت الترجمة قبل، وجاء الإجمال بعد البيان؛ لأن قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} معروف ما هما، فلو قال نسقًا عليه {فَلْيَفْرَحُوا} لكان تامًّا مفهومًا، فلما قال: (فبذلك) أجمل به ما تقدم من الترجمة؛ لأن قوله (ذلك) يحمل ما قبله قلّ أم كثر، ذكرًا كان أم أنثى، واحداً كان أم اثنين، كما قال تعالى: {لَا فَارِضٌ} ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 11/ 125، والثعلبي 7/ 17 أ، والبغوي 4/ 138. (¬2) المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬3) منهم هلال بن يساف وزيد بن أسلم وابنه وأبو العالية وسالم بن أبي الجعد والضحاك والربيع بن أنس، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1959. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 124، وابن أبي حاتم 6/ 1958، وذكره بغير سند السمرقندي 2/ 102، والثعلبي 7/ 17 أ، والبغوي 4/ 138، وابن الجوزي 4/ 40. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) ما بين المعقوفين (ى)، وانظر قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 25.

وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] أي بين البكر والفارض (¬1). وقوله تعالى: {فَلْيَفْرَحُوا} هو أمر للمؤمنين بالفرح. ومعنى الفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى، يقول: ليفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته، فإن ما آتاهم الله من الموعظة وشفاء ما في الصدور، وثلج اليقين بالإيمان، وسكون النفس إليه، خير مما يجمع غيرهم من أعراض الدنيا مع فقد هذه الخلال. فإن قيل: كيف جاء الأمر للمؤمنين (¬2) بالفرح (¬3) وقد ذم ذلك في غير (¬4) موضع من التنزيل؛ من ذلك قوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، وقوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]؟ قيل: إن عامة ما جاء مقترنًا بالذم من هذه اللفظة إذا جاءت مطلقة، فإذا قيد (¬5) لم يكن ذمًا، كقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]، وقد قيد في هذه الآية بقوله تعالى: (بذلك). وقوله: {فَلْيَفْرَحُوا} بالياء، قال الفراء: وقد ذُكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء (¬6)، وقال: معناه: فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، هو ¬

_ (¬1) الفارض: المسنة الهرمة. انظر: "تفسير ابن جرير" 1/ 341، 342، 243، "القاموس المحيط" فصل: الفاء، باب: الضاد 650. (¬2) في (م): (المؤمن). (¬3) ساقط من (م). (¬4) ساقط من (ح) و (ز). (¬5) في (ى): (قيل)، وهو خطأ. (¬6) وهي قراءة رويس عن يعقوب -من العشرة- والحسن البصري وغيرهما. انظر: "الغاية في القراءات العشرة" ص 171، "النشر" 2/ 285، "إتحاف فضلاء البشر" ص 252، "المحتسب"1/ 313، وذِكْرها في السواد وهْمٌ من ابن جني.

خير مما يجمع الكفار، قال: وقوى هذه القراءة قراءةُ أُبيّ (فبذلك فافرحوا) (¬1)، والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام، نحو: لتقم يا زيد، وليقم زيد، يدل على هذا أن حكم الأمرين واحد، إلا أن العرب حذفت (¬2) اللام من فعل المأمور المواجه (¬3) لكثرة استعماله، وحذفوا التاء أيضًا وأدخلوا ألف الوصل، نحو: اضرب واقتل؛ ليقع الابتداء به، كما قالوا (¬4): {ادَّارَكُوا} [الأعراف: 38]، و {اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، وكان الكسائي يعيب قولهم: فلتفرحوا؛ لأنه وجده قليلاً فوجده (¬5) عيبًا، وهو الأصل، ولقد سُمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في بعض المشاهد: "لتأخذوا مصافكم" (¬6) ¬

_ (¬1) ذكرها عنه أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 65، وأبو علي الفارسي في "الحجة" 4/ 282، وابن جني في "المحتسب" 1/ 313، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصحف. (¬2) في (ى): (حدثت)، وهو خطأ. (¬3) يعني الحاضر الذي يوجّه له الخطاب. (¬4) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن": (قال)؛ لأن القول المذكور من القرآن، ولعل الواحدي لم يرد ذلك. (¬5) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن" فجعله، وهو أصوب. (¬6) لم أجده مسندًا، وقال الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" 2/ 127: غريب، ولم يذكر له مخرجًا، وقد ذكره بغير سند الفراء في "المعاني" 1/ 470، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 242، والقرطبي 8/ 354، وأبو حيان في "البحر" 5/ 172، وروى معناه في الصلاة الترمذي (3235) في التفسير سورة ص، وأحمد 5/ 243، ولفظهما: على مصافكم كما أنتم، ولا شاهد فيه بهذا اللفظ، ويشهد لهذا الحديث من الناحية اللغوية قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا مناسككم" رواه مسلم (1297) في الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، قال المحقق: هذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم.

59

يريد به خذوا (¬1)، هذا كلام الفراء مع زيادة شرح لابن الأنباري. قال أبو علي: اللام إنما تدخل عل فعل الغائب؛ لأن المواجهة (¬2) استغني فيه عن اللام بقولهم: افعل، فصار مشبهًا للماضي في (يدع) الذي استغني عنه بـ (ترك)، ولو قلت: (فلتفرحوا) فألحقت التاء لكنت مستعملاً لما هو كالمرفوض وإن كان الأصل، فلا تُرجِّح القراءة بالتاء أن ذلك هو الأصل، لما قد ترى كثيراً من الأصول المرفوضة، وحجة من قرأ بالتاء أنه اعتبر الخطاب وهو قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} [يونس: 57]، وقرئ (تجمعون) بالتاء (¬3) أيضًا، ووجه قول من قرأ ذلك أنه عني المخاطبين والغُيَّب جميعا، إلا أنه غلّب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث، وكأنه أراد المؤمنين وغيرهم (¬4). 59 - قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} قال المفسرون: الخطاب في هذه الآية لكفار مكة (¬5) و (ما) هاهنا فيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى: الذي، فينتصب بـ (رأيتم)، والآخر: أن يكون بمعنى: أي، في الاستفهام، فينتصب بـ (أنزل) وهو قول الزجاج؛ لأنه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 1/ 470، وقد أشار المؤلف إلى انه أدخل فيه كلام ابن الأنباري. (¬2) هكذا في جميع النسخ، وهو كذلك في إحدى نسخ "الحجة"، كما بين ذلك المحقق، لكنه اعتمد لفظ: المواجه، وهو أجدر بالسياق. (¬3) هي قراءة ابن عامر وأبي جعفر ورويس عن يعقوب. انظر: "الغاية" ص 171، "النشر" 2/ 285، "إتحاف فضلاء البشر" ص 252. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 282 بتصرف. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 271، والثعلبي 7/ 17 ب، والبغوي 4/ 138.

قال: (ما) في موضع نصب بـ (أنزل) (¬1)، ومعنى (أنزل) هاهنا: خلق وأنشأ، كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وقد مرّ، وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن كل ما في الأرض من رزق فمما أنزل من السماء (¬2)، من ضرع وزرع وغيره، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً، كقوله: تعلّى الندى في متنه وتحدرا (¬3) يعني الشحم، سماه ندى؛ لأنه بالندى يكون النبات، وبالنبات يكون الشحم، وقوله تعالى: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}، قال ابن عباس والحسن ¬

_ (¬1) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 25. (¬2) يعني أمر الله تعالى وتقديره، كما في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وهو ظاهر سياق كلام المؤلف، ويجوز أن يكون المراد المطر، قال القرطبي 8/ 355: فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. وانظر نحوه في: "تفسير الرازي" 17/ 119، "الدر المصون" 6/ 227. (¬3) عجز بيت وصدره: كثور العداب الفرد يضربه الندى والبيت لعمرو بن أحمر الباهلي كما في "ديوانه" ص 84، "أدب الكاتب" ص 76، "الاقتضاب" ص 319، "لسان العرب" (ندى) 5/ 4387، والبيت بلا نسبة في: "الصحاح" (ندى)، "تهذيب اللغة" (ندى)، "المخصص" 15/ 131. والعداب: منقطع الرمل ومسترقه، والفرد: منتمطع النظير الذي لا مثيل له في جودته أو عظمته، والندى الأولى: المطر، والثانية: الشحم. والشاعر يصف ناقته القصواء التي أعدها للهرب عند الخوف، ويقول بأنها صارت كثور وحشي في موقع مخصب بعيد عن الناس. انظر: "الاقتضاب في شرح أدب الكتاب" ص319، "لسان العرب" (عدب) و (فرد) و (ندي).

ومجاهد: يعني ما حرموا من الحرث والأنعام لآلهتهم من البحائر والسوائب (¬1)، وهو ما ذكر في سورة الأنعام في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ} [الأنعام: 136] الآية، وقوله تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} أي: في هذا التحريم والتحليل؛ وذلك أنهم كانوا يقولون: الله (¬2) أمرنا بها. ثم قال: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} بمعنى: بل على الله تفترون، تقولون على الله الكذب. قال أبو علي: (قل) في قوله: {قُلْ آللَّهُ} توكيد؛ لأن {أَرَأَيْتُمْ} بمعنى (¬3) أخبروني، والاستفهام في قوله: في موضع المفعول الثاني [وإذا ¬

_ (¬1) البحائر والسوائب: جمع بحيرة وسائبة، وهما مما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من أنعامهم، أما كيفية ذلك فقد اختلف فيه اختلافا كثيراً، فقال الزجاج: أثبت ما روينا في تفسير هذه الأسماء عن أهل اللغة، البحيرة: ناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرًا بحروا أذنها -أي شقوها- وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيي لم يركبها. والسائبة: كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من علة أو ما أشبه ذلك، قال: ناقتي هذه سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا يتفع بها، وأن لا تجلى عن ماء، ولا تمنع من مرعى. "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213. وقيل السائبة: أم البحيرة، كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا الضيف وشقت أذن بنتها الأخيرة وسميت البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة، وثمة أقوال أخرى، انظر: "الصحاح"، "لسان العرب" (سيب) و (بحر). قال الطبري: أما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به، وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه، موصولاً إلى حقيقته، وهو أن القوم كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله. "الطبري" 11/ 127. (¬2) لفظ الجلاله لم يكتب في (ى). (¬3) ساقط من (ح) و (ز).

60

كان كذلك لزم أن يكون (قل) تكريرًا؛ ليقع الاستفهام بعدها في موضع المفعول الثاني] (¬1)، ومثله في التوكيد والاعتراض بين المفعول الأول والثاني، قوله (¬2): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} (¬3) [الأحقاف: 4] ونذكر الكلام فيه إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى (¬4). 60 - قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الظرف متعلق بالظن على معنى: ما ظنهم في ذلك اليوم؟ وهو استفهام تقريع وتوبيخ، قال مقاتل: وما ظن الذين يتقولون على الله الكذب بأن الله أمرهم بتحريمه (¬5) يوم القيامة إذا لقوه (¬6)؟ وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}، قال ابن عباس: يريد: أهل مكة حين جعلهم في أمن وحرم (¬7) كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬2) ساقط من (م). (¬3) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "المسائل الحلبيات" ص 76 بتصرف واختصار. (¬4) أحال في هذا الموضع إلى سورة فاطر وقال هناك 4/ 177 أ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} الآية، قال أبو إسحاق: معناه: أخبروني عن شركائكم، {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} قال أبو علي: قوله: {مَاذَا خَلَقُوا} في موضع نصب، وقال مقاتل: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} كما خلق الله آدم إن كانوا آلهة، قال الفراء: أي أنهم لم يخلقوا شيئًا، فعلى هذا (من) بمعنى (في). (¬5) في (م): (بتكذيبه)، وهو خطأ. (¬6) "الوسيط" 2/ 551، ولفظه في "تفسير مقاتل" 141 ب: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} في الدنيا، {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فزعموا أن له شريكًا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. (¬7) "الوجيز" 7/ 171، ولا دليل على هذا التخصيص، والأصل بقاء اللفظ على عمومه.

61

حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]، وقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57]. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}، قال: يريد: لا يوحدون ولا يطيعون (¬1)، وقال مقاتل: إن الله لذو فضل على الناس، حين لا يعجل عليهم بعقوبة افترائهم (¬2)، وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} تأخير العذاب عنهم (¬3). 61 - وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية، قال الفراء: (ما) هاهنا جحد لا موضع لها (¬4)، والشأن: الخطب، والجمع الشؤون، والعرب تقول ما شأن فلان: أي: ما حاله. قال الأخفش: وتقول ما شأنتُ شأنه أي: ما عملت عمله (¬5). وقال غيره: يقال: أتاني فلان وما شأنتُ شأنه، إذا لم تكترث له (¬6)، ويقال: لأشأنن شأنهم، أي لأفسدن أمرهم (¬7)، فالشأن اسم إذا كان بمعنى الخطب، وإذا كان بمعنى المصدر كان معناه القصد (¬8)، والذي في هذه الآية يجوز أن يكون المراد به اسم الأمر وهو قول المفسرين (¬9). ¬

_ (¬1) "الوجيز" 7/ 171. (¬2) " تفسير مقاتل" 141 ب بنحوه. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) اهـ. كلام الفراء، "معاني القرآن" 1/ 470. (¬5) "الكشف والبيان" 7/ 18 أ، "تفسير الرازي" 17/ 121، والقرطبي 8/ 356، ولم يذكره الأخفش في كتابه "معاني القرآن" كما لم أجد من أشار إليه من أهل اللغة. (¬6) هذا قول الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (شأن) 3/ 1814. (¬7) "الصحاح" (شأن) 5/ 2142. (¬8) في (م): (الفسد)، وهو خطأ. (¬9) انظر: "تفسير ابن جرير" 17/ 121، والسمرقندي 2/ 103، والثعلبي 7/ 18 أ.

قال ابن عباس: (وما تكون) يا محمد (في شأن) يريد من أعمال البر (¬1). وقال الحسن: في شأن من شأن الدنيا، وحوائجك فيها (¬2)، ويجوز أن يكون المراد به المصدر يعني قصد الشيء، قال الشاعر (¬3): يا طالب الجود [إن الجود] (¬4) مكرمة ... لا البخل منك ولا من شأنك الجودا (¬5) أي ولا من قصدك الجود، وقوله تعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} اختلفوا في الكناية في (منه)، فقيل: إنه كناية عن القرآن (¬6)، على تأويل: وما تتلو من القرآن، أي من جميعه {مِنْ قُرْآنٍ} أي من (¬7) شيء؛ لأن عامته قرآن وبعضه أيضاً قرآن، وقد سبق ذكر القرآن في معنى قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس: 58] والمعنى وما تتلو من القرآن من سورة. وقال بعض أهل المعاني: ذكر القرآن بالإضمار ثم بالإظهار لتفخيم ذكره، على نحو قوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬8) [النمل: 9]، وقد قيل: إن معناه من الله (¬9)، أي ما تتلو من قرآن من الله، أي نازل منه، ويجوز أن ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 121. (¬2) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 121، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 551. (¬3) "مقاييس اللغة" 3/ 238. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬5) في (م): (الجودُ)، والصواب ما أثبته إذ هو مفعول به للمصدر (شأن) الذي هو بمعنى القصد كما بينه المؤلف. (¬6) هذا قول ابن جرير 11/ 129، واحد قولي الزمخشري في "كشافه" 2/ 242. (¬7) ساقط من (ح). (¬8) وقد اعتمد هذا القول الزمخشري 2/ 242، وانظر: "الدر المصون" 6/ 228. (¬9) هذا قول السمرقندي 2/ 103، والثعلبي 7/ 18 أ، والبغوي 4/ 139، وهو القول الآخر للزمخشري 2/ 242.

يعود الضمير إلى الشأن (¬1)، كأنه قيل من الشأن من قرآن (¬2)، أي وما تتلو فيما تعمل من شأنك من قرآن، وهذا الوجه اختيار الزجاج (¬3)، وذكر صاحب النظم الأوجه الثلاثة. وقوله تعالى: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}، قال ابن عباس: خاطبه وأمته جميعًا (¬4). قال ابن الأنباري: قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو} خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمته داخلون فيه، ومعنيون به، ومعروف عندهم أن يخاطب الرئيس والمراد هو وأتباعه إذ كان هو زعيمهم، يدل على هذا قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، ثم جمع في قوله: {وَلَا تَعْمَلُونَ} ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأولين الذين أفردا (¬5) لخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وقوله تعالى: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}، قال الفراء: يقول: الله شاهد على كل شيء، وهو كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يقول: إلا هو شاهدهم (¬7)، قال: وهو جمع (¬8) ليس ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 26، وذكره عن الفراء أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 65، ومكي في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 348. (¬2) قال النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 65 بعد ذكر قول الفراء: وهذا كلام يحتاج إلى شرح، يكون المعنى: وما تتلو من الشأن، أي من أجل الشأن، أي يحدث شأن فيتلى من أجله القرآن ليعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 26. (¬4) "الوجيز" 1/ 502. (¬5) في (ى): (افردوا)، وهو خطأ. (¬6) ذكر بعض قول ابن الأنباري هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 45، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 553. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 470. (¬8) ساقط من (ى).

بمصدر، والمعنى: إلا نعلمه فنجازيكم به (¬1). وقوله تعالى: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}، معنى الإفاضة هاهنا: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه، وهو الانبساط في العمل، قال ابن الأنباري: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} إذ تندفعون فيه وتنبسطون في ذكره، يقال: قد أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا (¬2) فيه، وقد أفاضوا من عرفة: إذا دفعوا منه بكثرتهم فتفرقوا (¬3) (¬4). وقال الزجاج: إذ تنتشرون فيه، وأفاض القوم في الحديث: إذا انتشروا فيه (¬5)، وهو قول ابن كيسان (¬6). وقال ابن عباس: يقول الله تعالى: شهدت ذلك منكم إذ تأخذون فيه (¬7). قال صاحب النظم: (إذ) هاهنا بمعنى حين، ولذلك جاز في المستقبل، والمعنى حين تفيضون فيه. ¬

_ (¬1) لم يذكره الفراء في "معاني القرآن"، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 552. (¬2) في (ى): (انتشروا). (¬3) في (م): (فتعرفوا)، وفي (ح) و (ز): (فنفروا)، وأثبت ما في (ى) لأمرين: أ- ما جاء في "تهذيب اللغة" (فاض) ونصه: كل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا عن تفرق وكثرة. ب- موافقته لـ"تفسير الرازي"، وهو كثير النقل من "البسيط". (¬4) ذكره مختصرًا البغوي 4/ 139، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 552. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 26. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 18/ أ، والقرطبي 8/ 356. (¬7) رواه بمعناه مختصرًا ابن جرير 11/ 129، وابن أبي حاتم 6/ 1962، والثعلبي 7/ 18 أ، وذكره بلفظه مختصرًا المؤلف في "الوسيط" 2/ 552.

وقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} أي: وما يبعد وما يغيب، قاله ابن عباس (¬1)، وغيره (¬2)، ومعنى العزوب (¬3): ذهاب المعنى عن المعلوم، وأصله من البعد، ومنه (¬4) يقال: كلأ عازب، إذا كان بعيد المطلب، وعزب الرجل بإبله: إذا راعها بعيدًا عن الحلة، لا يأوي إليهم، وعزب الشيء عن علمي: إذا بعد، وفيه لغتان: عَزَبَ يعزُب وعَزَبَ يَعْزِب (¬5). وقوله تعالى: {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي وزن ذرة، ومثقال الشيء: ميزانه من مثله، والمعنى: ما يزن ذرة، والذر صغار النمل، واحدها ذرة (¬6)، وهي خفيفة الوزن جدًّا، {فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} ويقرآن بالرفع (¬7)، قال الفراء: فمن نصبهما فإنما يريد الخفض يُتْبعهما المثقال أر الذرة، ومن رفعهما أتبعهما معنى المثقال؛ لأنك لو ألقيت من المثقال (من) كان رفعًا، وهو كقولك ما أتاني من أحد عاقلٍ (¬8)، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 6/ 1963، والثعلبي 7/ 18 أ، وانظر كتاب "غريب القرآن" لابن عباس ص 48. (¬2) انظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص 171، ولابن قتية ص 203، "تفسير ابن جرير" 11/ 131، "نزهة القلوب" للسجستاني ص 498، "تفسير الثعلبي" 7/ 18 أ. (¬3) في (ى): (العزب). (¬4) ساقط من (ى). (¬5) وقد قرأ الكسائي بكسر الزاي، وقرأ الباقون بضمها. انظر كتاب "السبعة" ص 328، "الغاية" ص 172، "النشر" 2/ 285. (¬6) انظر: "لسان العرب" (ذرر) 3/ 1494، وفيه أيضًا في نفس الموضع: وقيل: الذرة ليس لها وزن، ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة. (¬7) قرأهما بالرفع حمزة ويعقوب وخلف، والباقون بالنصب. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬8) في (ح): (واحد).

وعاقلٌ (¬1)، وكذلك قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59، 65، 73، 85]، [هود: 50، 61، 84]، [المؤمنون: 23، 32] وغَيْرِهِ (¬2). هذا كلامه (¬3). وشرحه أبو علي الفارسي فقال: من فتح الراء من {وَلَا أَصْغَرَ}، {وَلَا أَكْبَرَ}؛ فلأن (أفعل) في الموضعين في موضع جر؛ لأنه صفة للمجرور الذي هو (مثقال)، وإنما فتح لأن (أفعل) إذا اتصل به (من) كان صفة، [وإذا كان صفة] (¬4) لم ينصرف في النكرة، ومن رفع حمله على موضع الموصوف، وذلك (¬5) أن الموصوف الذي هو {مِن مِّثقَالِ} الجار والمجرور فيه في موضع رفع، كما كان (¬6) في موضعه في قوله: {كَفَى بِاللَّهِ} (¬7) [الرعد: 43]، [الإسراء: 96]، [العنكبوت، 52] وقوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت .............. (¬8) ¬

_ (¬1) يعني بالجر والرفع، فجره باعتباره صفة لأحد، ورفعه باعتبار معنى (أحد) لأنك لو حذفت (من) لكان فاعلًا مرفوعًا. (¬2) قال الإمام ابن الجزري: قرأ أبو جعفر والكسائي (من إله غيره) بخفض الراء وكسر الهاء بعدها، والباقون بالرفع والضم حيث وقع. "تقريب النشر" ص 115، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 286. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 470. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) في (م): (وقال)، وهو خطأ. (¬6) في "الحجة": (كانا). (¬7) وقد وردت أيضًا في مواضع كثيرة مسبوقة بالواو. (¬8) وعجزه بتمامه: بما لاقت لبون بني زياد والبيت لقيس بن زهير، كما في "الأغاني" 17/ 131، "خزانة الأدب" 8/ 359، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 340، "شرح شواهد الشافية" ص 408، "الخصائص" 1/ 333. وكان قيس هذا استاق إبل الربيع بن زياد العبسي وباعها بمكة؛ لأن الربيع كان قد أخذ منه درعًا ولم يردها عليه فقال قيس في ذلك قصيدة مطلعها هذا البيت.

فحمل الصفة على الموضع، ومما يجوز أن يكون محمولًا على الموضع قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، وقول الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬1) قال: وقد يجوز أن يعطف قوله: {وَلَا أَصْغَرَ} على {ذَرَّةٍ} فيكون التقدير: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا مثقال أصغر، فإذا حمل على هذا لم يجز فيه إلا الجر؛ لأنه لا موضع للذرة غير لفظها كما كان لقوله: {مِنْ مِثْقَالِ} (¬2) موضع غير لفظه، ولا يجوز على قراءة من قرأ بالرفع أن يكون معطوفًا على (ذرة) كما جاز في قراءة الباقين؛ لأنه إذا عطف على {ذَرَّةٍ} وجب أن يكون مجرورًا (¬3)، وإنما فتح؛ لأنه لا ينصرف، وكذلك يكون على قول من عطفه على الجار الذي هو (من) (¬4). وقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، قال ابن عباس: يريد: اللوح المحفوظ (¬5)، وذكرنا معنى إثبات الله الكائنات في اللوح المحفوظ عند ¬

_ (¬1) عجز بيت وصدره: معاوي إننا بشر فأَسْجِح والبيت لعقبة أو عقيبة الأسدي كما في "خزانة الأدب" 2/ 260، "سر صناعة الإعراب" 1/ 131، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 300، "شرح شواهد المغني" 2/ 870، "كتاب سيبويه" 1/ 67، "لسان العرب" (غمز) 6/ 3296. ومعنى الإسجاح: حسن العفو والتسهيل. انظر: "لسان العرب" (سجح) (1944). (¬2) في "الحجة": من مثقال ذرة. (¬3) في "الحجة": وجب أن يكون (أصغر) مجرورًا. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 285 بتصرف. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 43، والمؤلف "الوسيط" 2/ 552،=

قوله: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] مشروحًا، وذكر أبو علي الجرجاني هاهنا فصلاً لابد من الوقوف عليه وهو أنه قال: قول: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} إلى قوله: {وَلَا أَكْبَرَ} كلام تام نفى الله عز وجل (¬1) به عن نفسه عزوب شيء من الأحداث، وهاهنا انقطاعه (¬2)، وقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} خبرآخر منقطع بما قبله؛ لأنه لو كان متصلًا بما قبله فيكون محققًا من قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ}؛ وجب أن يكون قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} نفيًا منتظرًا له تحقيق، وإذا كان النفي منتظرًا له التحقيق كان نفيًا (¬3) إذا خلا من الحال التي تحقق ما قبلها، مثل قولك: ما ينام زيد إلا بجهد، وما يصبح عمرو إلا مريضًا، فأنت لم تنف النوم عن زيد ولا الإصباح عن عمرو، إلا بخلاف الحال التي حققت النوم والإصباح بها؛ لأن التأويل (هكذا ينام زيد، وهكذا يصبح عمرو)، فلو كان قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} متصلًا بقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} لوجب أن يكون قد عزب عن الله أو يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر (¬4) منها إلا في الحال التي (¬5) استثناها، وهو قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فيكون ما يعزب عنه من ذلك مستدركًا في الكتاب وفي هذا ما فيه، ونظيره من الكلام قول القائل (ما يغيب عني زيد إلا في بيته)، فالغيبة ¬

_ = وبنحوه رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عند تفسير آية الأنعام كما في "الدر المنثور" 3/ 29. (¬1) ساقط من (ح) و (ز). (¬2) في (ى): (تحقيق). (¬3) ساقط من (ح) و (ز). (¬4) في (ي): (أو أكبر أو أصغر). (¬5) ساقط من (م).

واجبة بهذه الحال. وإذا كان كان آخر الكلام منقطعًا من الأول لم يؤد (¬1) إلى هذا النوع من الفساد، فكأنه قال: لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض لا صغيرًا ولا كبيرًا، وانقطع الكلام هاهنا ثم استأنف خبرًا آخر بقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [أي: وهو أيضًا في كتاب مبين] (¬2)، والعرب تضع (إلا) موضع واو النسق كثيراً على معنى الابتداء، كقوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 10، 11] يعني ومن ظلم، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬3) [البقرة: 150] يعني: والذين ظلموا (¬4). وهذا مذهب أبي عبيدة في تلك الآية (¬5)، وقد ذكرنا في سورة البقرة ما احتج به من الأبيات (¬6)، فقد ثبت أن (إلا) بمعنى واو النسق تستعمل، فقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} معنى (إلا) هاهنا: واو النسق، وأضمر بعده (هو)، والعرب تضمر ¬

_ (¬1) في (خ) و (ز): (يرد). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) وقد كتب نساخ (ح) و (ز) و (ى) و (ص) الآية هكذا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} {إلا الذين ظلموا} وأسقط ناسخ (م) لفظ (للناس) ولا توجد آية بأحد هذين اللفظين، وفي قول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، ودلالة السياق تدل على أن المؤلف أراد آية سورة البقرة وعندها ذكر أبو عبيدة مذهبه. (¬4) انظر قول أبي علي الجرجاني في "تفسير الرازي" 17/ 124، "الدر المصون" 6/ 231 مختصرًا، وقال الرازي: هذا الوجه في غاية التعسف. اهـ. وقال السمين الحلبي: هذا الذي قاله الجرجاني ضعيف جدًا، ولم يثبت ذلك بدليل صحيح. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 60، وانظر أيضًا: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 162 فهو يجيز أن تكون (إلا) بمنزلة الواو. (¬6) انظر النسخة الأزهرية 1/ 97 أ.

62

(هو) وما يتصرف منه كقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58، الأعراف: 161]، أي: هي حطة، وقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] أي: هم ثلاثة، ومما جاء من (¬1) مثل هذا النظم قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] إلى قوله: {وَلَا يَابِسٍ} فهذا تمام، ثم قال: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [المعنى: وهو في كتاب مبين] (¬2) كهذه الآية سواء. وذكر أبو إسحاق على قراءة من قرأ (ولا أصغرُ، ولا أكبرُ) رفعًا وجهًا للرفع سوى ما ذكرنا يستغنى فيه عن هذا التطويل الذي ذكره الجرجاني، وهو (¬3) أنه قال: يجوز رفعه على الابتداء، فيكون المعنى وما أصغر من ذلك وما أكبر {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬4)، فجعل {إِلَّا فِي كِتَابٍ} خبر المبتدأ، وهذا مستقيم، ولكن لا يستقيم هذا الوجه في قراءة من قرأ بالفتح وهو قراءة أكثر القراء (¬5). 62 - قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية، الأولياء جمع الولي، وذكرنا معنى الولي في اللغة في سورة البقرة (¬6)، فأما هؤلاء الذين ذكروا هاهنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م). (¬3) في (ح) و (ز): (وهذا). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 26 بمعناه. (¬5) سبق تخريج القراءة عند أول تفسير الجملة. (¬6) انظر: النسخة الأزهرية 1/ 154 ب، حيث قال في هذا الموضع: الولي: (فعيل) فهو وال وولي، وأصله من (الولْي) الذي هو القرب .. ومن هذا المعنى يقال للنصير المعاون المحب: ولي؛ لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك .. فالولي في اللغة هو القريب من غير فصل، والله تعالى ولي المؤمنين، على معنى أنه يلي أمورهم، أي يتولاها ... إلخ.

عنه الخدري: "هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم" (¬1)، وروى عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ هذه الآية (¬2). وقال ابن كيسان: هم الذين تولى الله هديهم بالبرهان الذي أتاهم وتولوا القيام بحقه (¬3)، وهذا تفسير على مقتضى اللغة. ¬

_ (¬1) رواه بهذا اللفظ ابن المبارك في كتاب "الزهد" 1/ 245، وابن جرير 11/ 131، 132، وابن أبي حاتم 6/ 1964، والثعلبي 7/ 18 ب، والطبراني في "المعجم الكبير" (12325)، وغيرهم متصلًا من حديث ابن عباس أو أبي مالك الأشعري، أو مرسلًا عن سعيد بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وله شاهد عند أحمد في "المسند" 6/ 459، وابن ماجه في "السنن" (4119)، كتاب الزهد، باب: من لا يؤبه له، من حديث أسماء بنت يزيد، وفي "سنده" شهر بن حوشب؛ قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" ص 369 (2830): (صدوق كثير الإرسال والأوهام). (¬2) رواه أبو داود في "سننه" (3527) كتاب البيوع، باب: في الرهن، وهناد في كتاب "الزهد" 1/ 564، وابن جرير 11/ 132، وابن أبي حاتم 6/ 1963 - 1964، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 5، وفي سنده انقطاع، فإن أبا زرعة لم يسمع من عمر كما في "تفسير ابن كثير" 2/ 463، "تهذيب التهذيب" 4/ 523. وللحديث شاهد من حديث أبي مالك، أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 201، وأحمد في "المسند" 5/ 341، 343، والطبري في "تفسيره" 11/ 132، والبغوي في "شرح السنة" 13/ 50، وفي "تفسيره" 4/ 140، وفي سنده شهر بن حوشب السالف الذكر. وكذلك له شاهد آخر من حديث ابن عمر، أخرجه الحاكم 4/ 170، وصححه وأقره الذهبي. وله شاهد ثالث من حديث أبي هريرة، أخرج ابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) 2/ 332 (573)، ورجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن صالح الأزدي فهو صدوق بتشيع، كما في "تقريب التهذيب" ص 343 (3898). (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 19 أ.

63

وقال ابن زيد: هم الذين وصفوا فيما بعد {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (¬1)، وهذا إذا جعلت (الذين) نعتًا للأولياء، فإن جعلت (الذين) مستأنفًا (¬2) وجعلت الخبر (¬3) قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} لم يكن قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} نعتًا للأولياء. قال ابن عباس: {الَّذِينَ آمَنُوا} هو يريد: الذين صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وخافوا مقامهم بين يديّ (¬4). 63 - قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، روى عبادة بن الصامت وأبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية: "هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" (¬5). {وَفِي اَلأَخِرَةِ} الجنة، يريد أن الرؤيا الصالحة بشرى للمسلم في الدنيا ويبشر في الآخرة بالجنة، وقال ابن عباس في رواية عطاء {لَهُمُ الْبُشْرَى ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير 11/ 132. (¬2) في (م): (سابقًا)، وهو خطأ. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) "الوسيط" 2/ 553. (¬5) روى حديث عبادة الإمام الترمذي في "سننه" (2275) كتاب الرؤيا، باب: قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وابن ماجه (3898) كتاب تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة، والدارمي في "سننه" كتاب الرؤيا، 2/ 165 (2136)، وأحمد في "المسند" 5/ 315، 321، والحاكم في "المستدرك" 2/ 340، 4/ 391، وصححه ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 12/ 375: رواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة. وروى حديث أبي الدرداء الإمام الترمذي في الموضع السابق (2273) كتاب: الرؤيا، باب: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وحسنه، أحمد في "المسند" 6/ 445، وابن أبي حاتم 6/ 1966، والطبري 11/ 133 - 134، وفي سنده من لم يسم.

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: يريد عند الموت، تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله {وَفِي الْآخِرَةِ} يريد: عند خروج نفس المؤمن إذا خرجت يعرجون (¬1) بها إلى الله تزف كما تزف العروس تبشر برضوان الله (¬2)، وهذا قول الزهري (¬3)، وقتادة (¬4)، والضحاك (¬5) قالوا: هي بشارة الملائكة للمؤمن عند الموت. وقال الحسن: هي ما بشرهم الله عز وجل به في كتابه من جنته وكريم ثوابه، في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25]، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 47]، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (¬6) [فصلت: 30]، وهذا اختيار الفراء (¬7)، والزجاج (¬8)، قالا: ويدل على صحة هذا قوله بعد هذا {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (¬9)، قال ابن عباس: يريد لا خلف لمواعيد الله، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدل كلماته بوضع غيرها بدلاً منها لم تبدل مواعيده (¬10). ¬

_ (¬1) في (ى): (بغير حق)، وهو تصحيف. (¬2) رواه الثعلبي 7/ 19 ب، والبغوي 4/ 141، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 553. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 296، والطبري 11/ 138، وابن أبي حاتم 4/ 136 أ، والثعلبي 7/ 19 ب، والبغوي 4/ 141. (¬4) المصادر السابقة، نفس المواضع. (¬5) المصادر السابقة عدا عبد الرزاق والبغوي، نفس المواضع. (¬6) رواه الثعلبي 7/ 19 ب، والبغوي 4/ 141. (¬7) "معاني القرآن" 1/ 471، ولم يصرح باختياره، بل جوّز أن يكون المراد ذلك. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 26. (¬9) القول بنحوه للزجاج، وأما عبارة الفراء فنصها: ثم قال: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي الخلف لوعد الله. (¬10) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 44، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 554.

65

65 - قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}، قال ابن عباس: (تكذيبهم) (¬1). وقال الزجاج: أي: لا يحزنك إنكارهم وتكذيبهم وتظاهرهم عليك (¬2). وقال غيره من أهل المعاني: معنى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به (¬3). والنهي في اللفظ للقول، وإنما هو عن السبب المؤدي إلى التأذي بقولهم، ومثله (لا أرينك هاهنا) (¬4) والمعنى لا تكن هاهنا فمن كان هاهنا رأيته، فكذلك لا تعبأ بقولهم فمن عبأ به آذاه. وقوله تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، قال الفراء: هذا استئناف، ولم يقولوا هم ذاك فيكون حكاية (¬5). وقال غيره: هذا استئناف بالتذكير (¬6) لما ينفي الحزن، لا (¬7) لأنها بعد القول (¬8)؛ لأنها ليست حكايته عنهم (¬9). ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين، وبمعناه رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 563. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27. (¬3) انظر نحو هذا القول في: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 27، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 304، "البحر المحيط" 5/ 176. (¬4) ساقط من (ح). (¬5) "معاني القرآن" 1/ 471. (¬6) في (ى): (زيادة أخلت بالمعنى ونص الجملة فيها: وقال غيره: هذا استئناف ويقولوا لهم ذاك بالتذكير اهـ. والناسخ أدخل في هذه الجملة شيئًا من الجملة السابقة. (¬7) لفظ: (لا) ساقط من (ز). (¬8) يعني أن الجملة ليست مقول القول الذي سبقها. (¬9) انظر نحو هذا القول في: "الكشاف" 2/ 243، "البحر المحيط" 5/ 176.

66

ومعنى {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، قال الزجاج: أي: إن الغلبة لله، وهو ناصرك وناصر دينك (¬1)، وقال غيره: العزة: القدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام (¬2)، والمعنى: إنه الذي يعزك حتى تصير أعز ممن ناوأك. وليست هذه الآية مضادة لقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]؛ لأن عزة الرسول والمؤمنين بالله فهي كلها لله. وقوله تعالى: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: يسمع قولهم ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما تقتضيه حالهم، ويدفع عنك شرهم، وهذه الآية بيان عما توجبه العزة لله من التسلي عن قول الجاهلين، وأذى المبطلين؛ لأنهم في سلطان الله حتى يعاملهم بما تقتضيه حالهم. 66 - قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}، قال ابن عباس: يريد: لا ملك إلا لله في السموات ولا في الأرض (¬3). وقال الزجاج: أي: يفعل بهم وفيهم ما يشاء (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} ذكر أهل التفسير والمعاني في (ما) هاهنا قولين: أحدهما: أنه نفي وجحد كأنه قيل: وما يتبعون شركاء على الحقيقة؛ لأنهم يعدونها شركاء شفعاء لهم، وليست على ما يظنون، فإذن ما يتبعون شركاء. الثاني: أن (ما) استفهام كأنه قيل: أي شيء يتبع الذين يدعون من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27. (¬2) انظر معنى هذا القول في: "مجمل اللغة" (عز) 3/ 613، "المفردات في غريب القرآن" (عز) ص 333. (¬3) "تنوير المقباس" ص 216 بمعناه من رواية الكلبي. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27، وليس فيه لفظ: بهم.

دون الله شركاء؟ تقبيحًا (¬1) لفعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء؛ لأن هذا الاستفهام معناه الإنكار (¬2). وذكر صاحب النظم في هذا قولين آخرين: أحدهما: أن التأويل: وما يتبع الذين يَدْعُون من دون الله فيما يدعون من الشركاء من يجب اتباعه في ذلك من نبي دعاهم إلى ذلك فهم يتبعونه فيه، كما يقال في الكلام: فلان متبع وفلان مبتدع، والمتبع (¬3) الذي يتبع السنة، فاعلم أنهم لا يتبعون [ولكن يبتدعون، فلما كف عن هذا البيان وأضمره، بَيَّنَ في قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ] (¬4) إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أنّ اتباعهم فيما يدعون من دون الله إنما هو ظن وتخرص (¬5)، فعلى هذا القول: الشركاء منصوبة بـ (يدعون) لا بـ (يتبع) ويكون مفعول (يتبع) محذوفًا على ما ذكر من التقدير (¬6). القول الثاني: أن قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} تكرير لقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ} ¬

_ (¬1) في (ى): (تفخيمًا)، وهو خطأ. (¬2) انظر القولين في: "مشكل إعراب القرآن" ص 348، "معالم التنزيل" 4/ 142، "الكشاف" 2/ 244، "مفاتيح الغيب" 17/ 137، "التبيان في إعراب القرآن" 5/ 176 - 177، "البحر المحيط" 5/ 176 - 177، "الدر المصون" 6/ 235، واقتصر على القول الأول المؤلف في "الوسيط" 2/ 554، وابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 45، وعلى الثاني "الطبري" 11/ 139، و"السمرقندي" 2/ 105، و"الثعلبي" 7/ 20 ب. (¬3) في (م): (فالمتبع). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬5) من (م) وفي غيرها: (تخريص). (¬6) في (ى): (التقدير الأول).

67

والتأويل (¬1): وما يتبع الذين يدعون شركاء من دون الله إلا الظن، أي: يتبعون الظن ويعملون به، فيكون قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} مكررًا على قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ} و (ما) و (إن) الخفيفة جحدان معناهما واحد، ومثاله من الكلام: ما يأكل الذي يغصب ويظلم الناس ويأخذ أموالهم، إن يأكل إلا النار، فيكون قوله: إن يأكل، توكيدًا لقوله: ما يأكل، ومثل هذا من التكرير قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] النحل: 110]، فكرر قوله: {إِنَّ رَبَّكَ} [على قوله] (¬2) {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} ولو لم يكرر الآخر لكان في الأول كفاية، وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} يريد: ظنهم أنها تشفع لهم يوم القيامة. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} قال ابن عباس: يقولون ما لا يكون (¬3)، وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (¬4). 67 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ} أي خلق، وذكرنا معنى الجعل عند قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} (¬5) [المائدة: 103]. ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) ساقط من (ى). (¬3) "تنوير المقباس" ص 216 بلفظ: يكذبون للسفلة، وفي كتاب "غريب القرآن" لابن عباس: (يخرصون) يكذبون بلغة هذيل. وانظر: "زاد المسير" 4/ 46، وفي "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 204: (يخرصون) يحدسون ويحزرون اهـ. وبكلا المعنيين جاءت اللغة كما في "لسان العرب" (خرص) 2/ 1133. (¬4) من الآية 148. (¬5) قال في هذا الموضع: وأما (جعل) فلها أحوال منها: جعل: صير، ومنها جعل: أوجب، ومنها جعل: خلق، ومنها جعل: صلة لما بعده، مثل: جعل يعرفه، نحو طفق وأنشأ وأقبل، كل منها صلة لما بعده من الفعل.

وقوله تعالي: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، قال ابن عباس: يقول جعلت الليل راحة لكم لتسكنوا فيه مع أزواجكم وأولادكم (¬1). وقال أهل المعاني: جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وجعل النهار مبصرًا: أي: مضيئًا لتهتدوا به في حوائجكم بالإبصار، والمبصر الذي يبصر، والنهار يبصر فيه وإنما جعله مبصرًا على طريق استعارة صفة الشيء لسببه للمبالغة (¬2)، كما قال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى (¬3) ... ونمت وما ليل المطي بنائم (¬4) وقال رؤبة: فنام ليلي وتجلى همي (¬5) ومثله قوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]، وذكرنا الكلام هناك بأبسط من هذا (¬6). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يريد: يسمعون ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 216 بمعناه مختصرًا. (¬2) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وقد ذكره من غير نسبة الرازي في "تفسيره" 17/ 131. (¬3) في (خ) و (ز): (بالسرى). (¬4) "ديوان جرير" ص 993، "خزانة الأدب" 1/ 465، "كتاب سيبويه" 1/ 160. (¬5) البيت في "ديوان رؤبة" ص 142، وفيه: وتقضى همي. (¬6) قال في هذا الموضع: قال الفراء: جعل العصوف تابعًا لليوم في إغوائه، وإنما العصوف للرياح، وذلك جائز على وجهين، أحدهما: أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، وقال أبو عبيدة: العرب تفعل ذلك في الظرف، قال الفراء: الوجه الآخر: أن يريد: في يوم عاصف الريح، فيحذف الريح؛ لأنها قد ذكرت في أول الكلام.

68

سماع اعتبار، أنه مما لا يقدر عليه إلا عالم قاصد مدبر لهما، وأنه نعمة على العباد بما لهم فيه من الانتفاع والصلاح. 68 - قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، قال ابن عباس والمفسرون: يعني: زَعَم المشركون أن الملائكة بنات الله (¬1)، قال الكلبي: نزلت في أهل مكة، وهذه مقالتهم (¬2)، {سُبْحَانَهُ} تعظيمًا له وتنزيهًا عما قالوا: {هُوَ الْغَنِيُّ}، قال ابن عباس: الغني أن تكون له زوجة أو ولد (¬3). وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [هذا كقوله: (سبحانه أن يكون (له ولد) (¬4) له ما في السموات وما في الأرض)] (¬5) [النساء: 171] وقد مر. قوله: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} ما عندكم من (¬6) حجة بهذا. 69 - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}، قال ابن عباس: يريد لا يسعدون (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره عن ابن عباس بنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 47، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 216، وهو قول ابن جرير 11/ 140، والسمرقندي 2/ 105، والثعلبي 7/ 20 ب، والبغوي 4/ 142 وغيرهم. (¬2) "تنوير المقباس" ص 216 بنحوه عنه، عن ابن عباس. (¬3) " تنوير المقباس" ص 216 بنحوه، وذكره من غير نسبة المؤلف في "الوسيط" 2/ 554، "الوجيز" 7/ 182، وابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 47. (¬4) ساقط من جميع النسخ عدا (م). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) ساقط من (ح) و (ز). (¬7) "تنوير المقباس" ص 216 بمعناه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 47 دون تعيين القائل.

قال أهل المعاني: إنهم لا يفلحون وإن اغتروا بطول السلامة والمظاهرة في النعمة، قال الزجاج: هذا وقف التمام (¬1) (¬2)، ثم قال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} وارتفاعه على أنه خبر ابتداء محذوف، قال الزجاج: يعني: ذلك متاع في الدنيا (¬3)، وقال الفراء: ومثله التي في النحل {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} (¬4)، وقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ} [الأحقاف: 35] كله مرفوع بشيء مضمر قبله إما (هو) وإما (ذاك) (¬5). وقال الأخفش: المعنى: لهم متاع (¬6) (¬7)، وإضمار (لهم) هاهنا أظهر وأكشف للمعنى من إضمار (هو) أو (ذاك)؛ لأنه لم يتقدم ما يضمر أو ما (¬8) يشار إليه، والمعنى: لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أيامًا يسيرة، ثم إلينا مرجعهم، ودل (¬9) على هذا المحذوف ما هو معلوم (¬10) من حالهم. ¬

_ (¬1) في (م): (وهذا وقف للتمام)، وما أثبته موافق للمصدر. (¬2) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27، وعبارة الزجاج: متاع في الدنيا، مرفوع على معنى: ذلك ... إلخ. (¬4) الآية 117. (¬5) "معاني القرآن" 1/ 472. (¬6) في (ى): (عذاب)، وهو خطأ. (¬7) "الكشف والبيان" 7/ 21 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 361، ولم يفسر الأخفش هذه الآية في كتابه "معاني القرآن"، وقد فسر الآية رقم (23) من هذه السورة على قراءة الجمهور فقال: وقال: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: وذلك متاعُ الحياة الدنيا، أو أراد: متاعكم متاعُ الحياة الدنيا. كتاب "معاني القرآن" له 1/ 371. (¬8) لفظ: (ما) ساقط من (ى). (¬9) في (ح) و (ز): (وقيل)، وهو خطأ. (¬10) ساقط من (ح).

71

وقال صاحب النظم: افتراؤهم متاع في الدنيا، ودل {يَفْتَرُونَ} علي الافتراء، كما قال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] فكنى عن الشكر؛ لأن {تَشْكُرُوا} دلّ عليه. وعلى ما ذكره (¬1) يجوز أن يعود ما أضمره الفراء والزجاج من قولهما (هو) أو (ذاك) (¬2) إلى الافتراء الذي دل عليه {يَفْتَرُونَ}. وقوله: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ}، قال ابن عباس: الغليظ: الذي لا ينقطع (¬3)، {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}، قال: يريد: بنعم الله ويجحدون ربوبيته (¬4). 71 - قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} الآية، قال: كَبِرَ يكبَر كِبَرًا في السنن، وكَبُر الأمر والشيء: إذا عظم يَكْبُر كِبَرًا وكَبَارة (¬5). قال ابن عباس: يريد ثقل عليكم (¬6)، ومعناه شق عليكم، وعظم أمره عندكم. والمقام -بضم الميم-: مصدر كالإقامة، يقال: أقام بين أظهركم ¬

_ (¬1) يعني الجرجاني صاحب النظم. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 27، "معاني القرآن" للفراء 1/ 472، ولم يقدر الزجاج لفظ (هو). (¬3) "تنوير المقباس" ص 206 مختصرًا. (¬4) في المصدر السابق، نفس الموضع: "بما كانوا يكفرون" بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ويكذبون على الله. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (كبر) 4/ 3090 - 3093، "الصحاح" (كبر) 2/ 801. (¬6) "تنوير المقباس" ص 217 بنحوه، وذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 1036 نقلاً عن "البسيط" للواحدي.

مقامًا وإقامة، والمقام -بفتح الميم-: الموضع الذي تقوم (¬1) فيه، وأراد بالمقام هاهنا لبثه ومكثه فيهم، وقوله تعالى: {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ}، قال ابن عباس: يريد وعظي وتخويفي إياكم عقوبة الله ونقمته (¬2). وقوله تعالى: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} جواب الشرط، مع أن شأنه التوكل كيف تصرفت حاله؛ ليبين أنه متوكل في هذا على التفصيل، لِمَا (¬3) في إعلامه قومه ذلك من زجرهم عنه؛ لأن الله -جل وعز- يكفيه أمرهم (¬4). وقال ابن الأنباري: معنى الآية: إن كان عظم عليكم كوني بين أظهركم (¬5)، ولم تحبوا نصرتي فإني أتوكل على من ينصرني ويمنع عني (¬6)، فأدى قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} عن هذا المعنى، وقال صاحب النظم: ليس هذا جوابًا للشرط؛ لأنه ليس بِطِبْق له ولا بِلِفْق، وجوابه قوله: {فَأَجْمِعُوا}، وهذا كلام اعترض بين الشرط وجوابه، كما تقول في الكلام: إن كنت أنكرت عليّ شيئًا فالله حسبي فأعمل ما تريد (¬7). وقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}، قال الفراء: الإجماع: الإعداد، والعزيمة على الأمر. ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 555، وبنحوه رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 217. (¬3) في (ح) و (ز): (بما)، وهو خطأ. (¬4) انظر: "مفاتيح الغيب" 17/ 143، "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 362. (¬5) في (ح) و (ز): (أظهرهم)، وهو خطأ. (¬6) في النسخ عدا (م): (مني). (¬7) انظر معنى هذا القول في: "غرائب التفسير" 1/ 490، "الدر المصون" 6/ 239 دون تعيين القائل.

وأنشد الشاعر (¬1): يا ليت شعري والمُنَي لا تنفع هل أغدُوَنْ يومًا وأمري مجمع (¬2) فإذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون (¬3)، وقال الأصمعي: جمعت الشيء إذا جئت به من هنا وهنا، وأجمعته إذا صيرته جميعًا، وأنشد: وأولات (¬4) ذي العرجاء نهب مجمع (¬5) (¬6) وقال أبو الهيثم: أجمع أمره: أي جعله جميعًا بعد ما كان متفرقًا، ¬

_ (¬1) لفظ: (الشاعر) ساقط من النسخ عدا (م)، واللفظ موجود في المصدر. (¬2) الرجز مجهول القائل، وانظره بلا نسبة في "إصلاح المنطق" ص 263، "الأضداد" لابن الأنباري ص 41، "أمالي المرتضى" 1/ 559، "تهذيب اللغة" (جمع)، "الحجة" 3/ 209، 4/ 287، "الخصائص" 2/ 136، "الدرر اللوامع" 4/ 20، "شرح شواهد المغني" 2/ 811، "لسان العرب" (جمع)، ونوادر أبي زيد ص 133. (¬3) اهـ. كلام الفراء، "معاني القرآن" 1/ 473 باختصار. (¬4) رسمت في المخطوطات: وآلات، والصواب: وأولات، كما في مصادر تخريج البيت. (¬5) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي يصف حُمرًا، وصدره: فكأنها بالجزع بين نُبايع انظر: "ديوان الهذليين" 1/ 6، "المفضليات" ص 423، "تهذيب اللغة" (جمع) 1/ 652، "اللسان" (جمع) 2/ 681. والنهب المجمع: إبل القوم التي أغار عليها اللصوص وكانت متفرقة في مراعيها، فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت لهم ثم طردوها وساقوها. انظر: "اللسان" نفس الموضع السابق. والجزع ونبايع وأولات ذي العرجاء: أسماء مواضع. (¬6) اهـ. قول الأصمعي، انظر: "تهذيب اللغة" (جمع) 1/ 652.

قال: وتفرُّقه أنه جعل يدبّره فيقول مرة: أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر محكم أجمعه، أي جعله جميعًا (¬1). وقد كشف أبو الهيثم عن حقيقة معنى إجماع الأمر، ومن هذا قوله وتعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102]، وقال الشاعر (¬2): أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء هذا الذي ذكرنا معنى إجماع الأمر، ثم صار بمعنى العزم حتى وُصِلَ بـ (على) فقيل: أجمعت على الأمر، أي: عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر. وقوله تعالى: {وَشُرَكَاءَكُمْ}، قال الفراء: وادعوا شركاءكم [دعاء استغاثة (¬3) بهم والتماس لمعونتهم] (¬4) وكذلك هي في قراءة عبد الله (¬5)، قال: والضمير هاهنا يصلح إلقاؤه كما قال الشاعر (¬6): ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدًا سيفًا ورمحًا ¬

_ (¬1) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬2) البيت للحارث بن حلزة كما في "ديوانه" ص 24، "لسان العرب" (ضوا) 5/ 2621. (¬3) في (م): (استعانة)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط" 2/ 555. (¬4) ما بين المعقوفين غير موجود في "معاني القرآن" للفراء. ولم يذكره من نقل الجملة عنه كالنحاس في "إعراب القرآن" 2/ 362، وفي "معاني القرآن" 3/ 305، وابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 48. (¬5) يعني ابن مسعود، ولم أجد من نسب إليه هذه القراءة سوى الفراء والمؤلف في "الوسيط" 2/ 555، والمشهور نسبتها إلى أبيّ بن كعب كما في "الحجة" 4/ 289، "المحتسب" 1/ 314، "تفسير الثعلبي" 7/ 21/ ب، والزمخشري 2/ 245، "البحر المحيط" 5/ 178 - 179، "الدر المصون" 6/ 241. (¬6) البيت لعبد الله بن الزبعرى في "ديوانه" ص 32، وسيأتي تخريجه.

نصب الرمح بضمير (¬1) الحمل (¬2). قال الزجاج: الذي قاله الفراء غلط في إضمار (وادعوا)؛ لأن الكلام لا فائدة فيه (¬3)؛ لأنهم إن كانوا يدعون شركاءهم لأن يجمعوا أمرهم، فالمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم، [وإن كان الدعاء لغير شيء فلا فائدة فيه (¬4)] (¬5)، قال: والواو بمعنى (مع) كقولك: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها (¬6)، وذكر أبو علي القولين جميعًا فقال: وقول الفراء انتصاب الشركاء بإضمار فعل آخر كأنه: فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، فدل المنصوب على الناصب كقول الشاعر: علفتها تبنًا وماءً باردًا (¬7) ¬

_ (¬1) في (م): (ضمير). وما أثبته موافق للمصدر، والمعنى: نصب الرمح بإضمار لفظ مناسب والتقدير: وحاملاً رمحًا. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 473. (¬3) ساقط من (م). (¬4) ساقط من (م). (¬5) ما بين المعقوفين غير موجود في "المعاني القرآن" للزجاج 3/ 28، وقد ذكره عنه النحاس في "معاني القرآن" 3/ 305، ولفظه: وإن كان يذهب إلى الدعاء فقط فلا معنى لدعائهم لغير شيء. قلت: يمكن حمل كلام الفراء على معنى مستقيم تقديره: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم ليجمعوا أمرهم، وهذا يفيد أن الشركاء لن يجمعوا أمرهم إلا بدعوة منهم، وهذه النكتة لا يؤديها تقدير الزجاج فلا وجه للاعتراض. ولقد كان لكفار العرب شركاء عقلاء تمكن دعوتهم كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27، 28. (¬7) البيت من الرجز، وبعده: حتى شتت همالة عيناها

وقال آخر: شَرَّاب ألبان وتمر وأقط (¬1) وقال آخر: متقلدًا سيفًا ورمحًا (¬2) لما لم يجز أن يحمل الرمح على التقلد (¬3) أضمر له فعلاً، كذلك يُضمر لنصب الشركاء -لما لم يجز الحمل على (أجمعوا) - فعل آخر، قال: وزعموا أن في حرف أُبي (وادعوا شركاءكم) (¬4) فحمل الكلام في قراءة العامة على الذي يراد به الانتصاب، كقوله: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ ¬

_ = وبعضهم يجعل قبله: لما حططت الرحل عنها واردًا والبيت لبعض بني أسد يصف فرسه كما في "معاني القرآن" للفراء1/ 14، وهو بلا نسبة في: "الأشباه والنظائر" 2/ 108، "أمالي المرتضى" 2/ 259، "أوضح المسالك" 2/ 157، "الخصائص" 2/ 431، "الدرر اللوامع" 6/ 79، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص 1147، "شرح شواهد المغني" 1/ 58، "اللسان" (زجج) 3/ 1812. (¬1) الرجز بلا نسبة في: "الإنصاف" ص 488، "الحجة" 1/ 312، "الكامل" 1/ 334، "لسان العرب" (زجج) 3/ 1812، "المقتضب" 2/ 51. (¬2) عجز بيت وصدره: يا ليت زوجك قد غدا والبيت لعبد الله بن الزبعري في "ديوانه" ص 32، وفي بعض نسخ "الكامل". انظر: حاشية رقم (5) 1/ 334. والبيت بلا نسبة في "الأشباه والنظائر" 2/ 108، "أمالي المرتضى" 1/ 54، "خزانة الأدب" 2/ 231، "الخصائص" 2/ 431، "لسان العرب" (زجج) 3/ 1812، "المقتضب" 2/ 51، وانظر ما ذكره محقق "الحجة" 1/ 311 حاشية (2). (¬3) في (م): (التقليد). وفي "اللسان" (زيد): (تقلد الأمر: احتمله) وكذلك تقلد السيف. (¬4) سبق تخريج هذه القراءة مع قراءة ابن مسعود قريبًا.

اللَّهِ} [هود: 13]، {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 23]، قال: ويجوز أن يكون انتصاب الشركاء على أنه مفعول معه، أي أجمعوا أمركم مع شركائكم، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة (¬1)، قال: ويدلك على جوازه أن الشركاء فاعلة في المعنى كما أن الطيالسة كذلك، ومن ثم قرأ الحسن (وشركاؤكم) (¬2) رفعًا (¬3). قال أبو الفتح الموصلي: الواو التي بمعنى (مع) كقولهم (¬4): لو خُليت والأسد لأكلك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، وكيف تصنع وزيدًا، وكيف تكون وقصعة ثريد، واجتمع زيد وأبا محمد، ومن أبيات (¬5) الكتاب (¬6): وكونوا (¬7) أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال (¬8) ¬

_ (¬1) الطيالسة: جمع، ومفرده الطيلسان والطيلس، وهو ضرب من الأكسية، يميل إلى السواد، وأصل اللفظ فارسي معرب. انظر: "الصحاح" (طلس) 3/ 944، "لسان العرب" (طلس) 5/ 2689. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 142، "المحتسب" 1/ 314، ومختصر في "شواذ القرآن" ص 57، وليست هذه القراءة شاذة كما يوهم ذكرها ضمن القراءات الشاذة، بل قرأ بها من العشرة يعقوب كما في "إرشاد المبتدي" ص 365، "النشر" 2/ 286، "إتحاف فضلاء البشر" ص 253. (¬3) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 4/ 288 بتصرف. (¬4) في (ى): (كقولك). (¬5) في (ى): (آيات)، وهو خطأ فاحش. (¬6) انظر: "كتاب سيبويه" 1/ 298. (¬7) في مصادر تخريجه: فكونوا. (¬8) اختلف في نسبة البيت فهو لشعبة بن قمير كما في "نوادر أبي زيد" ص 141، أو للأقرع بن معاذ كما في "سمط اللآلي" ص 914 لكن صدره فيهما: =

أي مع بني أبيكم، فلما حذف (مع) وأقام الواو مقامها أفضى الفعل الذي قبل الواو إلى الاسم الذي بعدها فنصبها (¬1) بوساطة (¬2) الواو، وذلك أن الواو قوية فأوصلته إليه (¬3). وزاد غيره فقال: الواو في مثل هذا للجمع دون العطف، ألا ترى أن ليس قبلها منصوب يعطف عليه بالواو، والواو معنى الجمع فيه أعم من معنى العطف (¬4)، ولا تكون الواو عاطفة إلا وهي للجمع، وقد تكون للجمع ولا تكون عاطفة وهي واو الحال، والواو في هذه المسألة جامعة، نحو قولك: استوى الماء والخشبة، الواو (¬5) جمعت الخشبة مع الماء (¬6)، والخشبة منصوبة بـ (استوى) بتوسط الواو، وعلى هذا، التقدير: فأجمعوا أمركم مع شركائكم (¬7). قال ابن الأنباري: وهذا الوجه خطأ في قول الكوفيين (¬8)؛ لأنه لا ¬

_ = وإنا سوف نجعل موليينا والبيت بلا نسبة في: "أوضح المسالك" 2/ 54، "سر صناعة الإعراب" 1/ 126، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 429، "كتاب سيبويه" 1/ 298. (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي "سر صناعة الإعراب" فنصبه، وهو الصواب. (¬2) في (ى): (بواسطة)، والمثبت موافق للمصدر. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 2/ 640. (¬4) ساقط من (ح) و (ز). (¬5) في (ى): (والواو). (¬6) في (م): (الواو)، وهو خطأ. (¬7) لم يتبين لي صاحب هذا القول، وانظر معناه في: "الأصول في النحو" لابن السراج ص 209 - 212، "الإيضاح العضدي" 1/ 215 - 217، "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 206. (¬8) ذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف، بمعنى أنه لا يحسن فيه تكرير الفعل ولا يصح، فانتصب ما بعد الواو على الخلاف. وذهب البصريون إلى أنه منصوب بالفعل الذي قبل الواو بتوسط الواو وتقويته به فتعدى إلى الاسم فنصبه، وإن كان في الأصل غير متعد. انظر: "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 206، "ائتلاف النصرة" ص 36.

ينصب الثاني مع الواو التي تأويلها (مع) إلا بأن لا يحسن تكرير معرب الأول على الثاني، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال استوى الماء واستوت الخشبة [لأن الخشبة] (¬1) لم تكن معوجة فتستوي ولا يمكن أن يقال: جاء البرد وجاءت الطيالسة، إذ كانت الطيالسة لا تَقْدَم، والشركاء هاهنا يحسن أن نضمر معهم الدعاء (¬2) فينصبهم، وما صلح إضمار فعل ناصب معه انقطع من المعرب الأول، وكان الفعل المضمر أملك به (¬3) وأغلب عليه. هذا كله في قراءة من قرأ {فَأَجْمِعُوا} بقطع الألف، وهو قراءة عامة القراء (¬4)، وروى الأصمعي عن نافع: (فاجمعوا أمركم) بوصل الألف (¬5) من جمعت. قال أبو علي: والمعنى على هذا: فاجمعوا أمركم، أراد ذوي الأمر منكم، أي رؤساؤكم ووجوهكم، فحذف المضاف وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت، ويجوز أن يراد بالأمر ما كانوا ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) يعني يصح تقدير: وادعوا شركاءكم. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) هذه هي القراءة المشهورة عن العشرة، لكن وردت روايات يسيرة عن بعضهم بالقراءة بوصل الألف، فقد روى ذلك عصمة عن أبي عمرو، والأصمعي عن نافع، وأيضاً رويس في أحد طرقه عن يعقوب. انظر: كتاب "السبعة" ص 328، "النشر" 2/ 285، "إتحاف فضلاء البشر" ص 253. (¬5) انظر: كتاب "السبعة" ص 328.

يجمعونه من كيدهم الذي يكيدونه به (¬1) (¬2). قال ابن الأنباري: ولكون المعنى: لا تَدَعوا من أمركم شيئًا إلا أحضرتموه. وانتصاب الشركاء في هذه القراءة بالنسق على الأمر، يراد به: أجمعوا شركاءكم للمعونة لكم، ولا تدعوا منها (¬3) غائبًا عنكم، ليكون ذلك أبلغ لما تؤملونه (¬4) من نصرتها. وقرأ الحسن وجماعة من القراء (فأجمعوا) بقطع الألف (وشركاؤكم) رفعًا (¬5) بالعطف على الضمير المرفوع في (¬6) (فأجمعوا) وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير، كنحو قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، [الأعراف: 19]؛ لأن قوله: {أَمْرَكم} فصل بين الضمير وبين المنسوق فكان كالعوض من التوكيد، وقد شرحنا (¬7) هذا عند قوله: (فاذهب (¬8) أنت وربك) [المائدة: 24]، وكان الفراء يستقبح هذه القراءة لخلافها المصحف (¬9)، فإن الواو لم تكتب (¬10) في المصاحف ولأن ¬

_ (¬1) من (م) واللفظ موجود في المصدر. (¬2) " الحجة للقراء السبعة" 4/ 287 بتصرف. (¬3) في (ح) و (ز): (منه). (¬4) في (م): (تأملونها). (¬5) هذه قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وسلام ويعقوب. انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص 57، "المحتسب" 1/ 314، "البحر المحيط" 5/ 178 - 179، "الغاية" ص 172، "النشر" 2/ 286، والقراءة ليست شاذة كما يوهم صنيع ابن خالويه وابن جني في ذكرها في "الشواذ". (¬6) ساقط من (ح). (¬7) الكلام لأبي بكر ابن الأنباري وكتابه مفقود. (¬8) في جميع النسخ: اذهب. (¬9) انظر: "معاني القرآن" 1/ 473. (¬10) في (ي): (تكن).

شركاءهم هي الأصنام، والأصنام لا تعمل ولا تجمع (¬1)، انتهى كلام أبي بكر (¬2). وقوله تعالى: {لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}، قال أبو الهيثم: أي مبهمًا، من قولهم غُم علينا الهلال فهو مغموم: إذا التبس، قال طرفة: لعمرك ما أمري عليّ بغمة ... نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد (¬3) (¬4) وقال الليث: إنه لفي غمة من أمره: إذا لم يهتد له (¬5). قال الزجاج: أي ليكن أمركم [ظاهرًا منكشفًا (¬6). وذكر صاحب النظم أن قوله: (ثم لا يكن أمركم] (¬7) عليكم غمة) يجوز أن يكون نهيًا على غير المواجهة كما ذكره الزجاج (¬8)، والنهي في الظاهر واقع على الأمر، ولكن المراد به صاحب الأمر كما قال: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] النهي واقع على العينين، ولكنه لما خاطب صاحب العينين حسن ذلك. ¬

_ (¬1) الأصنام بعض شركاء العرب، وكان لهم شركاء عقلاء كالجن وطواغيت البشر، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام:100]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 42]. (¬2) ذكر بعضه الرازي في "تفسيره" 17/ 140، لكنه نسبه للواحدي. (¬3) "ديوان طرفة" ص 47، "الدر المصون" 6/ 243، "لسان العرب" (غمم) 6/ 3302. (¬4) اهـ. كلام أبي الهيثم، انظر: "تهذيب اللغة" (غم)، "المستدرك" ص 115. (¬5) انظر المصدر السابق، الصفحة التالية. والنص في كتاب "العين" (غمم) 4/ 350. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 28. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬8) يعني في قوله السابق.

قال: وقد قيل: إن (ثم) هاهنا زائدة، وحروف النسق قد تزاد في أضعاف الكلام مثل قوله: (كالأعمى والأصم والبصير (¬1) والسميع) (¬2) [هود: 24]. وقد ذكرنا هذا في الواو التي تكرر (¬3) في النعوت، نحو قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام (¬4) وكقوله تعالى: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وزيادة الفاء ذكرناها أيضًا في مواضع، ومنها [قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} إلى قوله: {فَلَهُمْ} (¬5) [البروج: 10] فالفاء زيادة (¬6)، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا ¬

_ (¬1) في (م): (والسميع البصير)، وهو خطأ. (¬2) وانظر زيادة (ثم) في "الصاحبي" ص 152. (¬3) في (ى): (تكون). (¬4) صدر بيت، وعجزه: وليث الكتيبة في المزدحم وهو مجهول القائل، وانظره بلا نسبة في: أبيات النحو في تفسير "البحر المحيط" 1/ 202، "الإنصاف" ص 476، "خزانة الأدب" 5/ 107، "شرح أبيات معاني القرآن" ص 310، "شرح قطر الندى" ص 295، "الكشاف" 1/ 133، ولم ينسبه محب الدين في "تنزيل الآيات على الشواهد" (ملحق بالكشاف) 4/ 512. والقرم: الفحل المكرم الذي لا يحمل عليه، ويطلق على السيد من الناس، والكتيبة: الجيش، والمزدحم: المراد به هنا المعركة؛ لأنها موضع المزاحمة والمدافعة. انظر تنزيل الآيات، الموضع السابق، "لسان العرب" (قرم). (¬5) لم يذكر في هذا الموضع زيادة الفاء. (¬6) في (م): (زائدة). وقد سبق بيان مراد النحويين بالزيادة وأضيف هنا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية حول الموضوع بعد بيانه وجود الزيادة في "كلام العرب"، ونصه: فليس في القرآن من هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا (كذا) إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من =

وَكَذَّبُوا] (¬1) بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ} [الحج: 57]، ومثله قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} إلى قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118]، و (حتى) (¬2) لا يقتضي (ثم) في جوابه، وكذلك قوله: {ثُمَّ لَا يَكُنْ} فيكون تأويله: فأجمعوا أمركم وشركاءكم لا يكن أمركم عليكم (¬3) إذا فعلتم ذلك غمة، فيكون جزمه على جواب الأمر. وقوله تعالى: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} قال مجاهد: اقضوا إليّ ما في أنفسكم (¬4). قال ابن الأنباري: معناه: ثم امضوا إليّ بمكروهكم وما توعدونني به، كما تقول العرب: قد قضى فلان، يريدون مات ومضى (¬5)، وهذا معنى قول الفراء (¬6)، وقال الزجاج: ثم افعلوا ما تريدون (¬7). وقال ابن عرفة (¬8): قضاء (¬9) الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ¬

_ = زيادة اللفظ في مثل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، وقوله: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}، وقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 16/ 537. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح). (¬2) يعني في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ} في الآية نفسها. (¬3) في (ى): (عليكم غمة). (¬4) رواه ابن جرير 11/ 143، وابن أبي حاتم 6/ 1970، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 382. (¬5) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 48. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 1/ 474. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 29. (¬8) هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه. (¬9) في (م): (قضى)، وفي (ى): (أقضى).

72

وبه (¬1) سمي القاضي؛ لأنه إذا حكم فقد فرغ، فقوله: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} أي: افرغوا من أمرع، وأمضوا ما في أنفسكم، واقطعوا ما بيني وبينكم، ومن هذا قولى تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي: أعلمناهم إعلامًا قاطعًا. وهذا من أقوى آيات النبوة أن يقول النبي لقومه وهم متعاونون عليه: افعلوا بي بما شئتم، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد: لا تألوا في الجمع والقوة فإنكم لا تقدرون على مساءتي ولا مضرتي؛ لأن لي إلهًا يمنعني، مثل قوله في هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} (¬2). وقال المفسرون: هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى عن نبيه نوح -عليه السلام- أنه كان بنصر الله واثقًا، ومن كيد قومه وبوائقهم (¬3) غير خائف، علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئًا إلا أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتقوية لقلبه؛ لأن سبيله في (¬4) قومه كسبيل الأنبياء من قبله (¬5). 72 - قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}، قال ابن عباس: يريد: عن الإسلام وعن عبادة الله، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}، قال: يريد: من مال تعطونيه (¬6). قال أهل المعاني: هذا بيان عن إخلاص الدعاء إلى الله جل وعز من ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) من الآية 55. ولم أقف على قول ابن عباس هذا. (¬3) البوائق: الغوائل والشر والغشم والبلايا. انظر: "الصحاح" (بوف) 4/ 1452، "لسان العرب" (بوق) 1/ 388. (¬4) في (م): (مع). (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 145، والثعلبي 7/ 22 أ، والبغوي 4/ 143. (¬6) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 217.

73

ترك الأجر لتتوفر الدواعي إلى الحق، وذلك أن الناصح إذا طلب على نصحه أجرًا ربما كان ذلك سببًا لامتناع الناس عن القبول منه، والإقبال عليه، وإذا لم يطلب الأجر كان ذلك أدعى إلى قبول قوله (¬1). 73 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ} (¬2) جعل الذين نجوا مع نوح خلفاء ممن هلك بالغرق، قال ابن عباس: يريد: أن الخلق جميعًا من يومئذٍ من ولد نوح كما قال (¬3): {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (¬4) [الصافات: 77]، يريد إن الناس كانوا من ذريته بعد الغرق، وهلك أهل الأرض جميعًا بتكذيبهم لنوح عليه السلام سوى ذريته الذين نجوا معه، وهذا تحذير للكفار من التكذيب كي لا يؤول أمرهم بالإهلاك إلى مثل ما آل أمر قوم نوح. 74 - قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد نوح، {رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ}، قال ابن عباس: يريد: إبراهيم وهودًا وصالحًا ولوطًا (¬5) وشعيبًا (¬6). {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يريد بان لهم أنهم رسل الله، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي: أولئك الأقوام الذين بُعث إليهم الرسل، {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} يعني قوم نوح، أي: لم يصدقوا بما كذب به قوم نوح [هذا معنى قول ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) هكذا في جميع النسخ، وتفسير المؤلف لهذه الجملة يقتضي أن يذكر قوله تعالى: {خَلَائِفَ}. (¬3) في (ح) و (ز): (قلنا)، وهو خطأ. (¬4) وقد روى الأثر ابن جرير في "تفسيره" (68/ 23) (طبعة الحلبي)، من رواية علي بن أبي طلحة، ورواه بنحوه البغوي في "تفسيره" 7/ 43 من رواية الضحاك. (¬5) ساقط من (ى). (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 49، والمؤلف في "الوسيط" 2/ 555.

ابن عباس (¬1)، وقد علموا أن الله أغرق قوم نوح] (¬2) بتكذيبهم نوحًا، أي إن هؤلاء الآخرين لم يؤمنوا بما كذب به أولهم أيام نوح، أي: إنهم مثلهم في الكفر والعتو. ثم قال: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}، قال ابن عباس: يريد: أن الله طبع على قلوبهم فأعماها (¬3) وأصمها فلا يبصرون سبيل الهدى (¬4)، والمعنى: أن هؤلاء ومن قبلهم معتدون قد طبع (¬5) على قلوبهم. وقال بعضهم: يحتمل نظم الآية أن يقال فيه: إن الأمم كذبوا رسلهم قبل أن جاءوهم بالمعجزات فجاءوهم بالمعجزات، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} (¬6)، والآية دلالة ظاهرة على أن الله تعالى إذا طبع على قلوب قوم استحال منهم الإيمان، فمن قال إنه [لا يطبع] (¬7) على قلوب قوم ويأمرهم بالإيمان فذلك القائل ممن طبع الله (¬8) على قلبه ولم يهده بكتابه (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 217. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) في (م): (وأعماها)، والمثبت موافق لما في "الوسيط". (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 555. (¬5) في (ى): (طبع الله). (¬6) روي نحو هذا القول عن الكلبي كما في "بحر العلوم" 2/ 106، واعتمده ابن كثير 2/ 467، وانظر: "الدر المصون" 6/ 245. (¬7) في (ى): (إذا طبع). (¬8) ما في (ي): (ممن طبع على قلبه). (¬9) يشير المؤلف إلى المعتزلة القائلين بأن الله لا يطبع على قلوب الكافرين طبعًا يمنعهم من الإيمان، بل المراد بذلك عندهم سواد في القلب ليكون سمة لهم =

77

77 - قوله (¬1) تعالى: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [الآية، يقال في هذا: لِمَ دخل الاستفهام في قولهم: {أَسِحْرٌ هَذَا}] (¬2) وهم قد قالوا هو سحر بغير استفهام ولا شك؟ وذكر (¬3) الفراء في هذا ثلاثة أوجه: أحدها: قال قوم: قد يكون هذا من قولهم على أنه سحر عندهم وإن استفهموا، كما ترى الرجل تأتيه الجائزة فيقول: أحق هذا؟ وهو يعلم أنه حق لا شك فيه (¬4)، وزاد أبو بكر لهذا (¬5) بيانًا فقال: إنهم أدخلوا الاستفهام على جهة تفظيع الأمر والزيادة فيه كما يقول الرجل إذا نظر إلى الكسوة الفاخرة: أكسوة هذه؟! يريد بالاستفهام تعظيمها وأنها تزيد على معاني الكسى، وتأتي الرجل جائزة فيقول: أحق ما أرى، معظمًا لما ورد عليه منها (¬6). الوجه الثاني: قال (¬7): ويكون أن تزيد الألف في قولهم، وإن كانوا ¬

_ = تعرفهم الملائكة بها، وقال بعضهم: الطبع هو شهادة الله بأنهم لا يؤمنون، وقال آخرون: هو تسمية الرب تعالى الكفرة بالكفر والضلال. انظر: "مقالات الإسلاميين" 1/ 323، "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص 192. (¬1) لم يتطرق المؤلف لتفسير آيتين قبل هذه الآية، وقد بين في "الوسيط" 2/ 555، علة ذلك بعد أن ترك عدة آيات حيث قال بعد بيان معنى الطبع في الآية السابقة: وما بعد هذا ظاهر التفسير. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولم يسبق ذكر قولٍ يستوجب هذا العطف. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 1/ 474. (¬5) في (ج) و (ز): (هذا). (¬6) انظر: "زاد المسير" 4/ 50. (¬7) يعني الفراء.

لم يقولوها، فيخرج الكلام على لفظه وإن كانوا لم يتكلموا به كما يقول الرجل: فلان أعلم منك، فيقول المتكلم (¬1): أقلت أحد أعلم بذا مني (¬2)؟ [فحكى (¬3) قوله على غير لفظه الذي قال. وقال أبو بكر في هذا الجواب: إن ألف الاستفهام دخلت في كلام قوم فرعون على معنى رد الخبر على (¬4) موسى إذ كان هو المخبر والمتكلم، كما يقول رجل لرجل: فلان أعلم منك، فيقول له المخاطب: أقلت أحد أعلم بذا مني] (¬5) فبدّل (¬6) الياء من الكاف؛ لأنه صرف الكلام إلى نفسه، وإن كان مخبرًا به عن غيره، وحقيقة هذا الكلام أنه أخبر عنهم كما كان موسى يقوله إذا أجابهم (¬7). الوجه الثالث: أن تجعل القول بمنزلة الصلة؛ لأنه فصل في الكلام، ألا ترى أنك تقول للرجل: أتقول عندك مال؟ ويكفيك أن تقول: ألك مال؟ فالمعنى قائم ظهر القول أو لم يظهر (¬8). قال أبو بكر: تقدير هذا الجواب: قال موسى أسحر هذا؟ فدخل القول توكيدًا للكلام، كما ذكره الفراء من المثال، قال: وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر؟ ثم قال: أسحر هذا؟ ¬

_ (¬1) هكذا وهو موافق لما في "معاني القرآن"، والصواب: المكلَّم. وستأتي الجملة على الصواب. (¬2) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 474. (¬3) في (ى): (فحكوا). (¬4) في (م): (إلى). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬6) في (ح) و (ز): (فيبدل). (¬7) لم أعثر على مصدر كلام ابن الأنباري هذا. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 1/ 474.

فأضمر (هو سحر) بعد القول؛ لأن الكلام المحكي يصلح إضماره إذا ظهر ما يدل عليه، والإضمار مع القول أمكن منه مع غيره، والدليل على المضمر قوله: {أَسِحْرٌ هَذَا} قال الشاعر (¬1): قلنا لهم وقالوا ... وكل له (¬2) مقال فأضمر المحكي مع القول ثقة بعلم المخاطب به ولم يذكر أَيش (¬3) قالوا، وأَيش قيل لهم. وقال أبو إسحاق: قوله: {أَسِحْرٌ هَذَا} هو تقرير لقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ثم قررهم فقال (¬4): {أَسِحْرٌ هَذَا} (¬5)، وهذا من كلامه (¬6) يدل على أنه اختار الوجه الثالث من الأوجه التي ذكرها الفراء، وهو أنه جعل قوله: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} صلة. وقوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} قال (¬7): المفلح الذي يفوز بإرادته (¬8)، أي: فكيف يكون هذا سحرًا، وقد أفلح الذي أتى به، أي فاز وفلح (¬9) في حجته. ¬

_ (¬1) البيت من أمثلة العروض المشهورة. (¬2) في (ح) و (ز): (لهم). (¬3) سبق بيان معنى هذه الكلمة في أول الأنفال، ومعناها: أي شيء. (¬4) في (ى): (فقالوا)، والمثبت موافق للمصدر. (¬5) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 29. (¬6) يعني الزجاج. (¬7) يعني الزجاج، انظر المصدر السابق، نفس الموضع. (¬8) أي: بما يريد. (¬9) هكذا في جميع النسخ بالحاء، وهو كذلك في "معاني القرآن وإعرابه"، قال الجوهري في "الصحاح" (فلح) 1/ 392: الفلح لغة في الفلاح، وفي "لسان =

78

78 - قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا}، قال ابن عباس: يريد لتردنا (¬1)، ومعنى اللفت في اللغة: الصرف عن أمر (¬2)، وأصله اللّي، يقال: لَفَتَ عنقه: إذا لواها، ومن هذا يقال: التَفَتَ إليه: أي عدل وجهه وأماله إليه. الأزهري: لَفَتَ الشيء وفَتَله: إذا لواه (¬3)، وهذا من المقلوب. وقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}، قال ابن عباس (¬4)، ومجاهد (¬5)، وابن جريج (¬6)، والمفسرون (¬7): أي: ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى وهارون. وقول أهل اللغة في الكبرياء أيضًا أنها الملك (¬8)، قال الزجاج: وسُمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا (¬9). ¬

_ =العرب" (فلح) 6/ 3458: الفلح والفلاح: الفوز والنجاة. ويظهر من السياق أن صحة الكلمة: فلج، بالجيم، وفي "لسان العرب" (فلج) 6/ 3457: الفلج: الظفر والفوز، وفلج بحجته وفي حجته كذلك. (¬1) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 217. (¬2) انظر: "الصحاح" (لفت) 1/ 264، "مجمل اللغة" (لفت) 3/ 811. (¬3) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (فتل) 6/ 3344، ولفظه: لفت فلانًا عن رأيه وفتله: إذا صرفه ولواه. (¬4) "زاد المسير" 4/ 50، "تنوير المقباس" ص 217. (¬5) "تفسير ابن جرير" 11/ 147، وابن أبي حاتم 6/ 1973، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 382، "الدر المنثور" 3/ 564. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 147، عن ابن جريج، عن مجاهد، ولم أجده في موضع آخر. (¬7) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 147، والسمرقندي 5/ 107، والثعلبي 7/ 22 ب. (¬8) انظر: "لسان العرب" (كبر) 6/ 3807. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 29.

81

وقال الفراء: إنما قالوا ذلك لهما؛ لأن النبي إذا صُدِّق صارت مقاليد أمته وملكهم إليه (¬1)، وهذا بيان عن جهلهم حيث توهموا أن الصواب في اتباع الأسلاف وأن الداعي إلى خلافه إنما يريد التملك عليهم باتباعهم إياه وانقيادهم له (¬2). 81 - قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}، (ما) هاهنا موصولة بمعنى (الذي) وهي مرتفعة بالابتداء وخبرها (السحر)، قال الفراء: وإنما قال: {السِّحْرُ} بالألف واللام؛ لأنه جواب لكلام (¬3) قد سبق، ألا ترى أنهم قالوا لما جاءهم به موسى {هَذَا سِحْرٌ} (¬4) فقال موسى: بل ما جئتم به السحر (¬5). قال أبو بكر: فوجب دخول الألف واللام؛ لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة، يقول الرجل لمخاطبه: لقيت رجلاً، فيقول له: من الرجل؟ فيعيده بالألف واللام، ولو قال له من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكره له (¬6). ¬

_ (¬1) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 475، ولم يذكر المؤلف بقية عبارة الفراء التي توضح مقصوده، ولفظها: فقالوه على ملك ملوكهم من التكبر اهـ. يعني أن عادة الأنبياء إذا ملكوا تخالف عادة الملوك من التكبر والتعاظم والجبروت، لكن قائلي هذه المقولة حسبوا أن عادة الأنبياء كعادة غيرهم من الملوك. (¬2) ساقط من (ى). (¬3) من (م) وفي بقية النسخ: (الكلام)، والصواب ما أثبته وهو موافق للمصدر. (¬4) ورد قولهم هذا في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل: 13]. (¬5) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 475. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 142، لكنه لم ينسبه لابن الأنباري، بل أدخله ضمن قول الفراء.

82

وقرأ أبو عمرو (آلسحر) بالاستفهام (¬1) و (ما) على هذه القراءة استفهام يرتفع بالابتداء، و {جِئْتُمْ بِهِ} في موضع الخبر كأن قيل: أي شيء جئتم به؟ ثم قال على وجه التقرير والتوبيخ (آلسحر)؟ كقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ونحوه كثير، و (آلسحر) بدل من المبتدأ، ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام، كما تقول: كم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت (أعشرون) بدل من كم، ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر؛ لأنك (¬2) إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه، وصار ما كان خبرًا لما أبدلت (¬3) منه في موضع خبر البدل (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي: لا يجعله ينفعهم؛ لأن معنى إصلاح العمل تقويمه على ما ينفع بدلا بما يضر. 82 - قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} معنى إحقاق الحق: إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة والآيات البينة حتى يرجع الطاعن عليه حسيرًا، والمناصب (¬5) له مغلوبًا، وهذا معنى (¬6) قول ابن عباس في هذه الآية: ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "السبعة" ص 328، "إرشاد المبتدي" ص 365، "النشر" 1/ 378، "إتحاف فضلاء البشر" ص 253. (¬2) في (ح) و (ز): (خبرًا أنك) وهو خطأ. (¬3) في (ح) و (ز): (أنزلت) وهو خطأ. (¬4) انظر هذا التوجيه للقراءة في: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 290. (¬5) المناصب: المعادي، يفال: نصبت فلان نصبًا: إذا عاديته. انظر: "الصحاح" (نصب) 1/ 225. (¬6) ساقط من (ى).

83

يريد: حيث ألقى موسى عصاه فتلقفت كل كذب وسحر جاء به فرعون فأحق الله الحق (¬1). وذكرنا هذا المعنى في قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال: 8] الآية، وقوله تعالى: {بِكَلِمَاتِهِ}، قال الحسن: بوعده موسى (¬2)، وقيل: بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بأن ذلك يكون (¬3). 83 - قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} الآية، قال الفراء: فسر المفسرون الذرية: القليل (¬4)، قال ابن الأنباري: من المفسرين من يذهب إلى أن الذرية معناها هاهنا تقليل عدد المؤمنين؛ لأن الأكابر وأولي الأنساب (¬5) العالية ممن لم يؤمنوا كانوا أكثر عددًا من الذرية، وهذا قول ابن عباس في رواية قتادة قال: الذرية: القليل (¬6). ¬

_ (¬1) لم أعثر عليه. (¬2) ذكره هود بن محكم 2/ 204، والرازي 17/ 143 - 144 بلا نسبة. (¬3) ذكر نحوه الرازي 17/ 143 - 144، ولم يعين القائل، وللزمخشري في "الكشاف" 2/ 248 معنى هذا القول ولفظه: بأمره ومشيئته. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 476. (¬5) من (ى) وفي بقية النسخ: (الأسنان)، وما أثبته أولى بالسياق. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 149، وابن أبي حاتم 6/ 1975، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في"الدر المنثور" 3/ 565، وقد بين ابن عطية مراد ابن عباس فقال: هيئة قوله (فما آمن) يعطي تقليل المؤمنين به؛ لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض، ولو كان الأكثر مؤمنًا لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية: إنه القليك، لا أنه أراد أن لفظة (الذرية) هي بمعنى القليل كما ظنه مكي وغيره. "المحرر الوجيز" 7/ 197 - 198. وقد ذهب الزمخشري في "كشافه" 248/ 2، إلى أن هذا في أول أمر موسي، =

واختلفوا في هؤلاء الذرية من هم؛ فقال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف من بني إسرائيل (¬1)، وعلى هذا سموا ذرية؛ لأن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانًا، فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف، كانوا ذرية ذلك القوم الذين دخلوا مصر مع يعقوب من أولاده (¬2)، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء (¬4)، وبقي الأبناء (¬5)، وهذا القول اختيار ¬

_ = وفي بداية دعوته، وهذا الرأي هو الظاهر من السياق، إذ إن الفاء في قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ} للتعقيب، أي: إن الله أيد موسى بالمعجزة الكبرى وأبطل كيد السحرة وأظهر الحق فما آمن من بني إسرائيل في تلك اللحظة إلا القليل من الشباب خوفًا من بطش فرعون، ولا يعني هذا أن غيرهم لم يؤمن بعد، كما توهمه ابن عطية في "المحرر" 7/ 198. وبهذا يتبين الجواب عن القول بأن السحرة وبعض آل فرعون آمنوا، وكذلك القول بأن جميع بني إسرائيل تابعوا موسى وخرجوا معه من مصر، فكيف يقال بأنه لم يؤمن إلا القليل من ذرلة بني إسرائيل؟ فالآية تتحدث عمن آمن من قوم موسى في أول أمره والله أعلم. (¬1) رواه ابن جرير 11/ 491 - 150، وابن أبي حاتم 6/ 1975، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 565، لكنهم لم يذكروا العدد، ورواه الثعلبي 7/ 23 أ، فذكر العدد ولم يذكر لفظ (من بني إسرائيل). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 23 أ، والسمرقندي 2/ 107. وهذا الخبر من القسم الثالث من أقسام الإسرائيليات وهو ما لم يرد في شرعنا ما يؤيده أو ينفيه فلا يصدق ولا يكذب. (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 23 أ. (¬4) في (ى) هلك الآباء فلم يؤمنوا وبقي ... إلخ، وهذه الزيادة غير موجودة في مصادر تخريج الأثر. (¬5) رواه الثعلبي 7/ 23/ أ، وبنحوه ابن جرير 11/ 149 - 150، وابن أبي شيبة وابن =

إسحاق؛ لأنه قال: إنه (¬1) مكث يدعو الآباء فلم يؤمنوا وآمنت طائفة من أولادهم (¬2)، وعلى هذين القولين (¬3) (الهاء) في (قومه) كناية عن موسى. ¬

_ = المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 565، ومعناه: إن من أُرسل إليهم موسي من قومه لم يؤمنوا به، وطال الزمن حتى كان لهم ذرية آمنت به ثم هلك الآباء الذين لم يؤمنوا، وبقي الأبناء المؤمنون. وهذا القول غير صحيح لعدة أوجه: أ- قول الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} [الأعراف: 127]، يدل على أن قوم موسى صغارًا وكبارًا آمنوا به وتركوا ما كان يعبد فرعون. ب- أن مواقف بني إسرائيل المخزية مع نبيهمِ موسى عليه السلام كأقوالهم فيما أخبر الله عنهم {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}، و {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، و {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، و {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا}، وغير ذلك كثير، يدل دلالة واضحة أن جلّ بني إسرائيل آمنوا على كبر، وليس المؤمنون منهم ذريةً صغيرة نشأت على يد موسى وغذاها بغذاء الإيمان. ج- أن المفسرين ذكروا أن الحكمة من ضرب التيه على بني إسرائيل هلاك الآباء ونشوء ذرية تتربى على عين موسى. انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 197، "في ظلال القرآن" 2/ 871، وقول مجاهد يقتضي أن هلاك الآباء كان في أرض مصر. د- أن تاريخ بني إسرائيل لا يؤيد قول مجاهد هذا، إذ إن من تتبع قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم وفي ما ورد من أخبارهم يعلم يقينًا أنهم أمة قد نالها من ذل فرعون وطغيانه ما جعلهم يأملون الخلاص من ظلمه على يد نبي منهم، فالعقل والعادة يقتضيان إطباقهم على الإيمان بموسى قناعة بما جاء به، أو رغبة في إصلاح دنياهم وتغيير أوضاعهم ودرء الظلم عنهم، ومجاهد يقول إن الآباء لم يؤمنوا. (¬1) ساقط من (ح) و (ز). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 30، وليس في كلامه ما يدل على أنه اختار هذا القول، بل صدّره بقوله: قيل: إنه مكث ... إلخ. وهو أسلوب يقتضي عادة عدم القناعة التامة. (¬3) في (ي): (الوجهين).

وقال ابن عباس في رواية عطية: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا، منهم امرأة فرعون (¬1) وماشطة ابنته (¬2)، ومؤمن آل فرعون (¬3) ونفر ¬

_ (¬1) هي آسية بنت مزاحم المؤمنة الصابرة زوج الطاغية فرعون، وقد جاء في شأنها عدة روايات تبين فضلها، منها: أ- روى أحمد في "المسند" 1/ 316، والحاكم في "المستدرك" 2/ 594، وصححه ووافقه الذهبي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون". ب- وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها، فكانوا إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة. قال السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 377 - 378: أخرجه أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح اهـ، وقد رواه أيضًا الحاكم بنحوه في "المستدرك" 2/ 499، عن سلمان وصححه ووافقه الذهبي. ج- روى الطبراني كما في "الدر المنثور" 6/ 378، عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى" لكن سنده ضعيف كما في "ضعيف الجامع الصغير" 2/ 90. (¬2) روى الإمام أحمد في "المسند" 1/ 309، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت عليّ رائحة طيبة، فقلت يا جبريل: ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشي ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المدرى من يديها فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: أخبره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة وإن لك ربًا غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق". (¬3) قيل كان أسمه سمعان، وقيل كان اسمه حبيبًا. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" =

يسير (¬1)، وروي عنه أيضًا: أنهم قوم كان (¬2) آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل (¬3). قال الفراء: وهؤلاء إنما سموا ذرية؛ لأن أمهاتهم كن من غير جنس آبائهم، كما سمي أولاد الفرس الذين سقطوا إلى اليمن فتزوجوا نساء اليمن الأبناء (¬4)، وعلى هذا الهاء في {قَوْمَهِ} تعود على فرعون (¬5). وقوله تعالى: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}، قال الفراء: إنما قال: {وَمَلَئِهِمْ} وفرعون واحد؛ لأن الملك يُخبَر عنه بخبر الجمع؛ لأن الوهم يذهب إليه وإلى من معه من تُبّاعه (¬6) كما يقال: قدم الخليفة فغلت ¬

_ = 4/ 371، "الدر المنثور" 7/ 285، وانظر قصته ومناظرته فرعون وقومه في سورة غافر، الآيات (28 - 45). (¬1) رواه ابن جرير 11/ 150 بلفظ: من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه، ورواه الثعلبي 7/ 24 أ، والبغوي 4/ 145 بنحو رواية ابن جرير وزادا: (وماشطته) هكذا والأثر من رواية عطية العوفي المسلسلة بـ"الضعفاء". (¬2) في (خ) و (ز): (كانوا). (¬3) رواه الثعلبي 7/ 23 أ، وبنحوه البغوي 4/ 145. (¬4) "معاني القرآن" 1/ 476، والفراء يعني أن هذا اصطلاح لبني إسرائيل كاصطلاح أهل اليمن على إطلاق الأبناء على أولاد الفرس من أمهات عرب، لا أن اللغة تقتضي ذلك. (¬5) رجح هذا القول ابن عطية في "المحرر الوجيز" 7/ 198 - 199، بينما رده ابن جرير في "تفسيره" 11/ 150، ورجح عود الضمير إلى موسى عليه السلام؛ لأنه أقرب مذكور يعود إليه الضمير ولظهور اسم فرعون في قوله تعالى: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} ولو كان الضمير الأول يعود إليه لقال: على خوف منه. (¬6) في "لسان العرب" (تبع) 1/ 416: التابع: التالي، والجمع: تُبّع وتُنّاع وتبعة.

الأسعار وكثر الناس واتسعت الأموال يراد بمن معه (¬1)، وهذا معنى قول الزجاج: لأن فرعون (¬2) ذو أصحاب يأتمرون له، قال الفراء وابن الأنباري: وقد يكون هذا من باب حذف المضاف؛ كأنه أريد بفرعون آل فرعون (¬3)، وعلى القول الذي يقول الكناية [في {قَوْمِهِ}] (¬4) تعود إلى فرعون جاز أن تعود الكناية في {وَمَلَئِهِمْ} إلى القوم. وقوله (¬5) تعالى: {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} أي: يصرفهم عن دينهم بمحنة وبلية يوقعهم فيها، وهو إخبار عن فرعون؛ لأن الملأ كانوا على مثل ما كان عليه، {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}، قال ابن عباس: يريد: متطاول في أرض مصر (¬6). {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} الإسراف: الإبعاد في مجاوزة الحد، قال المفسرون: وإسرافه أنه كان عبدًا فادعى الربوبية (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 476 بمعناه. (¬2) في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 30: جاز أن يقال: (وملئهم) لأن فرعون .. إلخ. (¬3) انظر قول الفراء في "معاني القرآن" 1/ 477، وانظر القول غير منسوب في "تفسير الرازي" 17/ 144 - 145، "التبيان" للعكبري ص 443، قال العكبري: وهذا عندنا غلط؛ لأن المحذوف لا يعود إليه ضمير؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن تقول: زيد قاموا، وأنت تريد غلمان زيد قاموا، وانظر رد هذا القول أيضًا: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 71 - 72، "المحرر الوجيز" 7/ 199. (¬4) ساقط من (ى). (¬5) بياض في (م). (¬6) "الوسيط" 2/ 556، "زاد المسير" 4/ 53. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 23 ب، والبغوي 4/ 147، وابن الجوزي 4/ 53، ومعناه في "تفسير ابن جرير" 11/ 151.

84

84 - قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ} الآية، قال أهل المعاني: أعيد {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} بعد {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} (¬1) لتبين المعنى بالصنفين من الإيمان والإِسلام، وبالتقييد والإطلاق (¬2). ودلت الآية على أن التوكل والتفويض إلى الله من كمال الإيمان، وأن من كان يؤمن بالله فليتوكل على الله ويسلم أمره إليه عند نزول الشدائد على الثقة بحسن تدبيره له (¬3). 85 - قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قال أبو مجلز، وأبو الضحى: يعني: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانًا (¬4). وقال مجاهد: لا تهلكنا بعذاب على (¬5) أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتتنوا (¬6). ¬

_ (¬1) نص الآية: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}. (¬2) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وذكر نحوه ابن عطية في "المحرر الوجيز" 7/ 202. (¬3) ساقط من (ى). (¬4) ذكره عنهما الثعلبي 7/ 23 ب، ورواه ابن جرير 11/ 152، وابن أبي حاتم 11/ 1976، عن أبي مجلز، وروياه أيضًا عن أبي الضحى لكن بلفظ: قال: لا تسلطهم عليا فيزدادوا فتنة. (¬5) ساقط من (ح) و (ز). (¬6) رواه ابن جرير 11/ 152، وابن أبي حاتم 6/ 1976، الثعلبي 7/ 23 ب، والبغوي 4/ 146.

86

قال ابن الأنباري: معنى دعائهم والذي التمسوه: ألا (¬1) يغلبهم الكفار فيفتتنوا بذلك ويظنوا أنهم لم يغلبوا إلاَّ وهم (¬2) أولياء حق وأصحابه (¬3)، قال: والفتنة في اللغة تكون إحراقًا وإهلاكًا، فكأن (¬4) معنى الآية لا تجعلنا سبب هلاكهم وإحراقهم وإيقاع عذابك الأليم بهم (¬5). هذا طريق في معنى الآية عليه أكثر أهل التأويل (¬6)، وعلى هذا سألوا ألا تقع الفتنه بقوم فرعون بسبب تسلطهم وتمكنهم منهم. وفي الآية قول آخر، وهو قول عطية، قال: معناها: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا (¬7) (¬8)، أي لا تمكنهم من ظلمنا بما يحملنا على الانصراف عن ديننا، وعلى هذا القول سألوا ألا تقع بهم الفتنة بسبب قوم فرعون، والفتنة أريد به المفعول؛ أي مفتونين بهم. 86 - قوله تعالى: {وَنَجِّنَا} الآية، وذلك أنهم كانوا يستعبدونهم ¬

_ (¬1) في (خ) و (ز): (لا). (¬2) في (ى): (أولادهم)، وهو خطأ. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في جميع النسخ لم توضع الهمزة على الألف، وقد وضعتها؛ لأن ابن الأنباري لم يجزم بأن هذا المعنى هو المراد في الآية بدلالة قوله السابق. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ذكره الرازي في "تفسيره" 17/ 146 - 147، وابن عطية في "المحرر" 7/ 202 - 203، وضعفه وكذلك أبو حيان في "البحر" 5/ 185، ولم أجده عند غيرهم من أهل التفسير بالأثر أو الرأي أو أهل المعاني أو الغرائب فيما اطلعت عليه، بل إن المؤلف اعتمد غيره في "الوسيط" 2/ 556، وفي "الوجيز" 1/ 506. (¬7) في (م): (يفتنونا)، وما أثبته موافق لمصدر التخريج. (¬8) رواه الثعلبي في "تفسيره" 7/ 23 ب، وذهب إليه مجاهد أيضاً في إحدى الروايتين عنه، انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 152.

87

ويأخذونهم بالأعمال الشاقة والمهن الخسيسة. 87 - قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا}، قال أبو علي: التبوء: فعل يتعدى إلى مفعولين، واللام في قوله: {لِقَوْمِكُمَا} في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] ألا ترى أن المطاوع من الأفعال على ضربين، أحدهما: ألا يتعدى نحو: انشوى وانتأى (¬1)، في مطاوع [شويته ونأيته، والآخر: أن يتعدى كما تعدى ما هو مطاوع] (¬2) له؛ وذلك نحو تعلقته وتقطعته فـ (تعلقته) يتعدى كما تعدى (علقته) وليس فيه أن ينتقص مفعول المطاوع عما (¬3) كان يتعدى إليه ما هو مطاوع له (¬4)، فإذا كان كذلك كان اللام على الحد الذي ذكرنا (¬5). فعلى ما ذكر أبو علي يجوز أن تقول: تبوأت زيدا مكانًا، أي اتخذت له، ولم أر هذا لغيره؛ لأنه يقال: تبوأ المكان دارًا، فيُعدونه إلى مفعولين كما ذكر، ويقال: تبوأ لزيد منزلاً، أي اتخذه له، فلا يُعدون إلى زيد إلا باللام. وقوله تعالى: {بِمِصْرَ بُيُوتًا}، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد مساجد (¬6)، فالبيوت هاهنا هي المساجد، لا المنازل المسكونة، كقوله ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ وهو بمعنى: بعد، انظر: "اللسان" (نأى)، وفي "الحجة": انثأى، وهو من الثأي بمعنى الإفساد أو القتل أو خرم الخرز. انظر: "لسان العرب" (ثأي). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬3) من (ى) وفي بقية النسخ: كما، وما أثبته موافق لما في "الحجة" وهو الصواب. (¬4) ساقط من (ح) و (ز). (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 309 بتصرف. (¬6) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 218 من رواية الكلبي، ورواه تفسيرًا للجملة التالية ابن جرير 11/ 153 - 156، وابن أبي حاتم 6/ 1977، والفريابي =

تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]. {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قال (¬1) يريد: إلى الكعبة (¬2)، وعلى هذا، التقدير: واجعلوا بيوتكم؛ أي مساجدكم قِبَل القبلة، أي (¬3) إلى القبلة، وهذا قول مجاهد (¬4)، والحسن (¬5)، وابن جريج عن ابن عباس قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه (¬6). ¬

_ = وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 5/ 566، وهو من رواية عكرمة. (¬1) يعني ابن عباس، وقد رواه ابن جرير 11/ 154. (¬2) في هذا القول نظر لما يأتي: أ- أن تشريع القبلة تجاه بيت المقدس في أول الإسلام يدل على أنها قبلة الأنبياء السابقين، وليست مما غيره أهل الكتاب من دينهم. ب- أن هذا الأثر عند ابن جرير من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو الأسدي؛ والأول سيء الحفظ جدًا، فاخش الخطأ، كثير المناكير كما في "تهذيب التهذيب" 3/ 627، والثاني صدوق ربما وهم كما في "التقريب" (6918). (¬3) في (م): (أو)، وهو خطأ. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 154 - 155 من طريقين أحدهما من رواية ابن جريج وهي ضعيفة لعنعنة ابن جريج وهو مدلس كما في "التقريب" ص 363 (4194)، والثانية من رواية ابن أبي نجيح وهي ضعيفة أيضًا؛ لأن في سندها أبا حذيفة؛ وهو صدوق سيء الحفظ وكان يصحف، ولم يخرج له البخاري إلا في المتابعات، كما في المصدر السابق 2/ 288. (¬5) ذكره هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 205، لكن بلفظ: مستقبلة القبلة، ومعلوم أن القبلة أعم من الكعبة كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145]. (¬6) رواه الثعلبي 7/ 24 أ، والبغوي 4/ 146، وفي سنده ابن جريج وقد عنعنه وهو مدلس كما في "تقريب التهذيب" ص 363 (4193)، وانظر التعليق على قول ابن عباس السابق.

وعلى هذا القول أمر موسى وأخوه باتخاذ المساجد لقومهما بمصر على رغم أعدائهما وأعداء قومهما؛ لأن الله عز وجل يمنعهم من أعدائهم حتى لا (¬1) يَصِلُوا إيقاع مكروه بهم. وقال أكثر المفسرين: لما أُرسل (¬2) موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومُنعوا من الصلاة، فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون (¬3)، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة (¬4)، وإبراهيم (¬5)، وابن زيد (¬6)، والربيع (¬7)، وأبي مالك (¬8)، والسدي (¬9)، والضحاك (¬10)، واختيار الفراء (¬11)، والزجاج (¬12). قال الزجاج: وقوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: صلوا ¬

_ (¬1) ساقط من (ح) و (ز). (¬2) في (ى): (أرسل الله). (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 23 ب، والسمرقندي 2/ 108، والبغوي 4/ 146، وابن الجوزي 4/ 54. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 154، والثعلبي 7/ 23 ب، والبغوي 4/ 146. (¬5) يعني النخعي، وانظر قوله في: المصادر السابقة "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1977. (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 154، والثعلبي 7/ 23 ب. (¬7) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع. (¬8) رواه ابن جرير 11/ 154، وابن أبي حاتم 6/ 1977، والثعلبي 7/ 23 ب. (¬9) رواه ابن جرير، الموضع السابق. (¬10) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬11) "معاني القرآن" 1/ 447. (¬12) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 30.

88

في بيوتكم لتأمنوا من الخوف (¬1)، وقال الفراء: أمروا أن يتخذوا المساجد في جوف الدور لتخفى من القبط، {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي إلى الكعبة (¬2). وقال ابن الأنباري: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي قبلا، يعني مساجد فاكتفى بالواحد من الجمع، كقول العباس بن مرداس: فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور (¬3) [أراد إنا إخوتكم (¬4). وقال عكرمة عن ابن عباس: واجعلوا بيوتكم مساجد (¬5)] (¬6). 88 - قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت (¬7). {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}، اختلفوا في هذه اللام؛ فقال الفراء: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 30. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 477، ولفظه: لتخفى من فرعون. (¬3) انظر: "ديوان العباس بن مرداس" ص 52، "لسان العرب" (أخا) 1/ 41، "المقتضب" 2/ 174، وقبل هذا البيت: كأن بني معاوية بن بكر ... إلى الإسلام ضائنة تخور (¬4) "زاد المسير" 4/ 55، وذكره مختصرًا الرازي في "تفسيره" 17/ 147. (¬5) رواه ابن جرير 11/ 153، 154، وابن أبي حاتم 6/ 1977، والفريابي وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 566. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬7) "الوسيط" 2/ 557، "زاد المسير" 4/ 55.

(إنها (¬1) لام كي) (¬2) وعلى هذا، المعنى: إنك جعلت هذه الأموال سببًا لضلالهم؛ لأنهم بطروا فيها فاستكبروا عن الإيمان، وطغوا في الأرض. وققال الأخفش: اللام في {لِيُضِلُّوا} إنما هو لما يؤول إليه الأمر، والمعنى: إنك آتيت فرعون وملأه زينة فضلوا، كما أن معنى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] أي: فكان كذلك (¬3)، وهذا قول الزجاج، وأكثر أهل المعاني (¬4). قال الزجاج: المعنى: أصارهم ذلك إلى الضلال، كما قال: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] أي: فالتقطوه (¬5) فآل أمرهم إلى أن صار عدوًّا وحزنًا، لا أنهم قصدوا ذلك (¬6)، فعلى هذا هي لام العاقبة والصيرورة، وفتح الياء في (ليَضلوا) (¬7) حسن لهذا المعنى؛ لأنهم ضلوا وطغوا لما أوتوه من الزينة والأموال، ومن قرأ: {لِيُضِلُّوا} من الإضلال فقد ذكرنا وجه ذلك في قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ} سورة الأنعام [119]. وقال ابن الأنباري: هذه لام الدعاء، وهي مكسورة تجزم المستقبل ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 477. (¬3) كتاب "معاني القرآن" للأخفش 1/ 377 بمعناه. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 30، "معاني القرآن الكريم" للنحاس 3/ 310، "إعراب القرآن" له 2/ 72 - 73، "الحجة للقراء السبعة" 3/ 291، 395. (¬5) في (ى): (فالتقطه)، والمثبت موافق للمصدر وهو الصواب. (¬6) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 30. (¬7) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم الياء من الفعل (أضل)، وقرأ الباقون بفتحها من الفعل (ضل). انظر: "الغاية" ص 149، " إرشاد المبتدي" ص 3174، "النشر" 2/ 262، "إتحاف فضلاء البشر" ص 253.

ويفتتح به (¬1) الكلام، فيقال: ليغفر الله للمؤمن (¬2)، وليعذب الله الكافر، وتأويلها (¬3): ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك (¬4) (¬5). وقوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}، ذكرنا معنى الطمس عند قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} (¬6) [النساء: 47]، ومعناه هاهنا المسخ. قال الأزهري فيما روى عن شمر: ويكون الطموس بمنزلة المسخ للشيء، قال الله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} قالوا: صارت حجارة (¬7). وهذا قول ابن عباس (¬8)، [وقتادة (¬9)، والقرظي (¬10)، والسدي (¬11)، وابن زيد (¬12)، والربيع (¬13) والضحاك (¬14): ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والأولى بالسياق أن يقول: بها. (¬2) في (ح) و (ز): (للمؤمنين). (¬3) في (م): (تاويله). (¬4) في (ح) و (ز): (سبيله). (¬5) انظر قول ابن الأنباري في: "زاد المسير" 4/ 56. (¬6) وهذه الآية مع تسع آيات مفقودة في النسخ التي بين يدي. (¬7) اهـ. كلام شمر، انظر: "تهذيب اللغة" (طمس) 3/ 2218. (¬8) رواه الثعلبي 7/ 24 أ، والبغوي 4/ 147. (¬9) رواه الصنعاني في "تفسيره" 1/ 2/ 296، وابن جرير 11/ 158، وابن أبي حاتم 6/ 1979، والثعلبي 7/ 24 أ، والبغوي 4/ 147. (¬10) رواه ابن جرير 11/ 158، وابن أبي حاتم 6/ 1979، والثعلبي 7/ 24 أ، والبغوي 4/ 147. (¬11) المصادر السابقة، عدا ابن جرير. (¬12) رواه ابن جرير 11/ 158، والثعلبي 7/ 24 ب، ولفظه: طمس على أموالهم فصارت حجارة ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وانظر التعليق الآتي على قول السدى. (¬13) رواه ابن جرير 11/ 157. (¬14) رواه ابن جرير في الموضع السابق، وابن أي حاتم 6/ 1979.

قال ابن عباس] (¬1): بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا (¬2) وقال القرظي: جعل سكرهم (¬3) حجارة. وقال قتادة: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة. وقال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة؛ النخل والثمار والدقيق والأطعمة (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) انظر تخريج هذا الأثر والآثار التالية في التعليقات السابقة. (¬3) بضم السنن وتشديد الكاف، وهو معروف، أو بفتح السين والكاف من غير شديد، وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار، أو الخمر، أو النبيذ، وكان إبراهيم والشعبي وأبو رزين يقولون: السَّكَر: خمر. وقال أبو عبيدة: الطعام. واحتج بقول الآخر: جعلت أعراض الكرام سكرا انظر: "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1719، "التكملة والذيل والصلة" (سكر) 3/ 33، "لسان العرب" (سكر) 4/ 2047. (¬4) الظاهر أن هذا القول وما في معناه مما تلقاه المفسرون عن أهل الكتاب، ولو صح ما ذكره السدي وابن زيد لهلكوا، ومعلوم أن هلاكهم كان غرقًا في اليم، ثم إن قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59]، وقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28] يدل على بطلان القول بعموم مسخ أموالهم وطعامهم وزروعهم، ولم يرد دليل صحيح على مسخ البعض، وعلى ضوء ذلك فالراجح ما رواه ابن جرير 11/ 158، عن ابن عباس ومجاهد بأن معنى الآية: دمر عليهم وأهلك أموالهم، وهذا موافق لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} إلى قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:133 - 135]، وكشف الرجز عنهم يبين وجه الجمع بين الآيات الدالة على هلاك أموالهم والآيات الدالة على بقائها بعد غرقهم.

وقال عطاء عن ابن عباس: لم يبق لهم معدن إلا [طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد (¬1). قال الزجاج: تأويل طمس الشيء: إذهابه عن] (¬2) صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كانت عليها (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، قال ابن عباس: يريد: امنعهم عن الإيمان (¬5)، وتأويله: أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، وهذا دليل على أن الله يفعل ذلك بمن يشاء (¬6)، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السؤال. وقوله تعالى: {فَلَا يُؤْمِنُوا}، قال المبرد: هو عطف على قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} أي: ربنا إنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا (¬7). وهذا اختيار أبي علي، قال: هو عطف على النصب الحادث من اللام في {لِيُضِلُّوا}، وما بين ذلك من قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي 8/ 374، وأبو حيان 5/ 187، وانظر التعليق السابق. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬3) في (ى): (عليه). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 31، والطمس في اللغة: الدروس والانمحاء، وطمس الكواكب: ذهاب نورها. انظر: "اللسان" (طمس). (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 557، والقرطبي 8/ 374، وأبو حيان 5/ 187، ورواه بمعناه ابن جرير 11/ 581، وابن أبي حاتم 6/ 1979. (¬6) لكن وفق حكمته وعدله كما قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. (¬7) ذكر قول المبرد هذا: الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 31، وانظر: "زاد المسير" 4/ 57.

اعتراض (¬1) بين {آتَيْتَ} وما يتصل به، وهذا الضرب من الاعتراض كثير (¬2). وقال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4): {فَلَا يُؤْمِنُوا} دعاء عليهم كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. [قال ابن الأنباري: والتأويل فلا آمنوا (¬5) حتى يروا العذاب (¬6)] (¬7) وموضع {يُؤْمِنُوا} على هذا التأويل جزم بـ (لا) قال الأعشى: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم (¬8) قال أبو بكر: ويجوز أن يكون {يُؤْمِنُوا} في موضع جزم بالنسق على (يضلوا)، و (يضلوا) منجزم بلام الدعاء (¬9). وقال الفراء: وإن شئت جعلت {فَلَا يُؤْمِنُوا} جوابًا لمسألة موسى عليه السلام لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فـ (لا يؤمنوا) (¬10) في موضع ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 3/ 395. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 477 واللفظ له. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه"، ولفظه: فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، دعاء أيضًا عليهم. (¬5) من (م) وفي بقية النسخ: فلا يؤمنوا، وما أثبته موافق للمصدر التالي. (¬6) "زاد المسير" 4/ 57. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬8) البيت للأعشى الكبير من قصيده يهجو بها يزيد بن مسهر الشيباني، انظر: "ديوانه" ص 178، "زاد المسير" 4/ 57، "لسان العرب" (زوى) 3/ 1894. (¬9) ساقط من (ى). (¬10) عبارة الفراء: فتجعل (فلا يؤمنوا) في موضع نصب.

89

نصب على الجواب، فيكون كقول الشاعر (¬1): يا ناق سيري عنقًا فسيحًا ... إلى سليمان فنستريحا (¬2) قال ابن الأنباري: وذهب بعض الناس إلى أن معنى قوله: {فَلَا يُؤْمِنُوا} فلن يؤمنوا، فأبدلت الألف من النون الخفيفة [وهذا خطأ لأن النون الخفيفة] (¬3) لا تبدل ألفًا في وصل الكلام، ويلزم هذا القائل أن يجيز: لا يقومَ عبد الله، بنصب الميم، وذلك محال من كل وجه، وهذا القول الذي حكاه عن بعض الناس هو قول صاحب النظم. وقوله تعالى: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} يريد الغرق (¬4)، قال ابن جريج عن ابن عباس: فلا يؤمنوا حتى يروا الغرق (¬5)، قال: وما آمن فرعون حتى أدركه الغرق (¬6). 89 - قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن موسى كان يدعو، وهارون يؤمن (¬7)، وهذا قول ¬

_ (¬1) هو: أبو النجم العجلي يمدح سليمان بن عبد الملك، انظر: "الدرر اللوامع" 3/ 52، "كتاب سيبويه" 3/ 35، "لسان العرب" (نفخ) 8/ 4495، و (عنق) 5/ 3134، والعنق: ضرب من السير. انظر: "لسان العرب" (عنق). (¬2) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" 1/ 478. (¬3) ما بين المعقومن ساقط من عدا (م). (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 158، والثعلبي 7/ 24 ب. (¬5) رواه ابن جرير 11/ 160، ورواه أيضاً ابن أبي حاتم 6/ 1980، من رواية عطية العوفي. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 160، وبنحوه ابن أبي حاتم 6/ 1980، من رواية علي بن أبي طلحة الوالبي. (¬7) رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 567، وبمعناه ابن جرير 15/ 187.

الربيع وابن زيد وعكرمة وأبي العالية والقرظي كلهم قالوا: دعا موسي وأمّن هارون فلذلك قال: {دَعْوَتُكُمَا} فأضاف إليهما (¬1). قال الزجاج: والمؤمّن على دعاء الداعي داع أيضًا؛ لأن قوله (آمين) تأويله: استجيب، فهو سائل كسؤال الداعي (¬2). وقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمَا} فامضيا لأمري، قال عكرمة: فهو الاستقامة، عن ابن عباس (¬3)، وقال المفسرون: فاستقيما على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب (¬4). قال ابن جريج: إن فرعون لبث بعد هذه الآية (¬5) أربعين سنة (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ}، قال أبو إسحاق: موضعه جزم إلا أن ¬

_ (¬1) ذكر أقوالهم ابن جرير في "تفسيره" 11/ 160 - 161، والسيوطي في "الدر المنثور" 3/ 567. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 31. (¬3) هكذا في جميع النسخ، وفي العبارة قلق، وقد روى ابن جرير في "تفسيره" 11/ 161، أثري ابن عباس وعكرمة، ولفظ ابن عباس: (فاستقيما) فامضيا لأمري، وهي الاستقامة، وهو من رواية ابن جريج عنه. ولفظ عكرمة: أمن هارون على دعاء موسى، فقال الله: قد أجيبت دعوتكما فاستقيما. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 161، والثعلبي 7/ 24 ب، والبغوي 4/ 148. (¬5) يعني الدعوة الواردة في هذه الآية، ورواية المؤلف موافقة لما في مخطوطة تفسير ابن جرير، كما أشار إلى ذلك محققه 15/ 187، وقد أثبت المحقق ما في الطبعة السابقة. انظر طبعة الحلبي 11/ 161، "الدر المنثور" 3/ 567، ولفظه: بعد هذه الدعوة. (¬6) رواه ابن جرير 11/ 161، والثعلبي 7/ 24 ب، وأشار البغوي 4/ 147، إلى أن هذا من القصص، يعني الذي لا يمكن التثبت من صحته.

النون الشديدة دخلت للنهي مؤكدة وكسرت لسكونها (¬1) وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة؛ لأنها بعد الألف تشبه نون الاثنين (¬2)، قال أبو علي: إنما شبهتها؛ لأنها زائدة مثلها وداخلة لمعنى كدخولها (¬3)، فإن قيل: المكسورة في (تتبعان) ليست بعد ألف فكيف تكسر تشبيهًا بنون رجلان وهي بعد ألف؟ قيل: النون الأولى من المشددة لما كانت ساكنة وجَمعت إلى السكون الخفاء لم يعتد (¬4) بها، وصارت المكسورة كأنها وليت الألف، وقد لا يعتدون بالحاجز لخفائه، وإن كان متحركًا، كما أجمعوا -فيما زعم سيبويه (¬5) - على (رُدَّهَا) بفتح الدال ولم يضموا كما أجازوا الضم في (رُدُّ)؛ لأن الدال في (ردها) صارت كأنها وليت الألف لخفاء الهاء (¬6)، وهذا مما ذكرناه في أول هذا الكتاب. فأما قراءة ابن عامر (¬7) (وَلَا تَتَّبِعَانِ) بتخفيف النون (¬8) فلها ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون خفف الثقيلة للتضعيف كما حذفوا (رب) و (إن) ¬

_ (¬1) في (ح) و (ز): (وسكونها)، وما أثبته موافق للمصدر. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 31. (¬3) في (ى): (كمعنى دخولها)، والمثبت موافق للمصدر. (¬4) في (ى): (يعرر)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "كتابه" 3/ 534. (¬6) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 293/ 4 بمعناه. (¬7) في (ى): (ابن عباس)، وهو خطأ. (¬8) انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص 173، "إرشاد المبتدي" ص 365، "تقريب النشر" ص 123.

ونحوهما من المضاعف، إلا أنه حذف الأولى (¬1) من المثلين، كما أبدلوا الأولى في نحو قيراط ودينار (¬2)، ولزم ذلك في هذا الموضع؛ لأن الحذف لو لحق الثانية للزم التقاء الساكنين على غير ما يستعمل في الأمر الشائع، وغلط بعضهم فزعم أن هذا على مذهب يونس فإنه يجيز (¬3) إدخال النون الخفيفة في فعل الاثنين وفعل جماعة النساء (¬4)، وهذا غلط؛ لأن تلك النون الخفيفة ساكنة غير متحركة، وأجاز يونس في ذلك الجمع بين ساكنين، وابن عامر يقرأ بالتخفيف والتحريك (¬5) وجميع أهل النحو خالفوا يونس في ذلك الوجه (¬6). الثاني: أن قوله (لا تتبعان) على هذه القراءة على لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228، 234]، و {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} [البقرة: 233] أي: لا ينبغي ذلك. ¬

_ (¬1) في (ح): (للأولى)، وفي "الحجة" الأول، وكذا في الموضع التالي، وهو أولى. (¬2) أجل قيراط: قرّاط، بتشديد الراء، ثم قبلت إحدى الراءين ياء، وكذلك أصل دينار: دنّار فقلبت إحدى النونين ياء وذلك لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على وزن فِعّال ككذّاب. انظر: "لسان العرب" (دنر) و (قرط). (¬3) في (ح) و (ز): (يجوز). (¬4) انظر قول يونس ورد سيبويه عليه في: "كتاب سيبويه" 3/ 527، "الإنصاف" ص 523، "ائتلاف النصرة" ص 131. (¬5) انظر: "النشر" 2/ 286، "إتحاف فضلاء البشر" ص 253. (¬6) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 527، "الأصول في النحو" لابن السراج 2/ 203، "الحجة" 3/ 441، "الإيضاح العضدي" 1/ 335، "أوضح المسالك" 3/ 136، وقول المؤلف: وجميع أهل النحو خالفوا يونس غير صحيح، فقد وافقه جميع الكوفيين، انظر: "الإنصاف" ص 523، "ائتلاف النصرة" ص 131.

90

وإن شئت جعلته حالاً من {استقيما}، وتقديره: استقيما غير متبعين، وهذا هو الوجه الثالث، ويدل على هذا (¬1) قول الشاعر (¬2): ولا أسقي ولا يَسقي شريبي ... ويرويه إذا أوردت مائي وقول الفرزدق: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت (¬3) ومعنى الآية: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي، فإن وعدي لا خلف له، ووعيدي نازل بفرعون وقومه، كذا قال المفسرون (¬4). 90 - قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} هذا مذكور في سورة الأعراف، وقوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه} الإتباع طلب اللحاق بالأول واستقصاء هذا مذكور في قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175]. وقوله تعالى: {بَغْيًا وَعَدْوًا} البغي: طلب الاستعلاء بغير حق، ¬

_ (¬1) ساقط من (ح). (¬2) لم أهتد له، والبيت بلا نسبة في "أمالي القالي" 2/ 263، "الحجة" 4/ 294، "سمط اللآلي" 2/ 901، "المعاني الكبير" لابن قتيبة 3/ 1265 قال ابن قتيبة في الموضع نفسه: شريبه: الذي يشرب معه، والمعنى: لا أسقي حتى يسقي شريبي. (¬3) لم أجده في ديوانه، "شرح ديوان الحماسة" اللمرزوقي ص 122،"لسان العرب" (شيم) 4/ 2380، "المعاني الكبير" 3/ 1265. وقد بين المبرد في "الكامل" 1/ 308، أن هذا البيت ظريف عند أصحابي المعاني، وتأويل لم يشيموا: لم يغمدوا، ولم تكثر القتلى: أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت بها القتلى حين سلت. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 161 - 162، والثعلبي 7/ 25 أ، والبغوي 4/ 148.

والعدْو: الظلم، وهذا ما سبق القول فيه (¬1)، وقوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ}، وقرئ بكسر الألف (¬2)، فمن فتح الألف فلأن هذا الفعل يصل بحرف الجر نحو: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فلما حذف الحرف وصل الفعل إلى (أن) فصار (¬3) في موضع نصب أو خفض على الخلاف في ذلك، ومن (¬4) كسر الألف حمله على القول المضمر، كأنه: آمنت فقلت إنه، وإضمار القول في هذا النحو كثير، ولإضمار القول من المزية هنا أن قلت: إنه لا إله إلا الله في المعنى إيمان (¬5)، فإذا قال: آمنت، فكأنه قد ذكر ذلك. قال ابن عباس في هذه الآية: فلم يقبل الله إيمانه عند [نزول العذاب، وقد كان في مهل، ولم يفعل الله ذلك بأحد عند] (¬6) نزول العذاب، أو غرغرة الموت من المشركين، إلا قوم يونس (¬7) وهذا قول جميع المفسرين (¬8)، قالوا: إن فرعون تلفظ بما ذكر الله عنه من قوله: {آمَنْتُ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق 1/ 381. (¬2) قرأ حمزة والكسائي وخلف (إنه) بكسر الهمزة والباقون بفتحها. انظر: كتاب "السبعة" ص 330، "إرشاد المبتدي" ص 365، "تقريب النشر" ص 123. (¬3) في (ى): (صار). (¬4) في (ى): (وإن)، وهو خطأ. (¬5) يعني: أن قول كلمة الإخلاص إيمان، فقولها بمعنى قول: آمنت. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م). (¬7) لم أجده بهذا السياق، وقد ذكر أوله ابن الجوزي 4/ 59، وروى نجاة قوم يونس عنه جمع من المفسرين. انظر: "الدر المنثور" 3/ 568 - 569. (¬8) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 162، والسمرقندي 2/ 110، والزمخشري 2/ 251، وابن الجوزي 4/ 602، والرازي 17/ 154.

لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} فلم ينفعه ذلك؛ لأن التوبة مقبولة إلى أن يعاين ملك الموت وأعوانه من الملائكة، وعدو الله فرعون جنح إلى التوبة حين أغلق بابها بحضور الموت، ومعاينة الملائكة، فقيل له (¬1) (آلآن وقد عصيت قبل) (¬2) يراد الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة؟! والظرف متعلق بمحذوف تدل عليه الحال، تقديره: الآن آمنت أو تؤمن أو تتوب، والمفسرون على أن جبريل خاطب فرعون بهذا الخطاب (¬3). وقال صاحب النظم: قوله: {آمَنَتْ} إلى آخر الآية، قد يعلم الجميع أن الغريق -سيّما من يكون غرقه نقمة من الله- لا يمكنه أن يلفظ بمثل هذا المنطق (¬4) لما يكون فيه من الشغل بالموت، والمعنى إن شاء الله: إن الله عز وجل علم ما وقع في قلبه حينئذ من اليقين والندامة على ما فرط منه، فذكر ذلك عنه وجعله قولاً، كما قال: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] فأخرج إضمارهم مخرج القول، ومثله قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] الآية. وجاء في الخبر: إن الله أثنى عليهم بما في ضميرهم، وهم لم يقولوا ذلك، ولكن الله علم ذلك من ضمائرهم ¬

_ (¬1) ساقط من (ح) و (ز). (¬2) في (ى): (وكنت من المفسدين)، ولم أثبت هذه الزيادة لانفراد النسخة (ى) بذلك مع كثرة أخطائها، ثم إن المؤلف لم يتطرق إلى تفسير هذه الجملة. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 26 ب، والبغوي 4/ 148، وابن الجوزي 4/ 60، وقد ذهب فريق من المفسرين إلى أن المخاطب له هو تعالى، وإليه ذهب ابن جرير 11/ 164، والسمرقندي 2/ 110، وهو الظاهر ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}. (¬4) ساقط من (ي).

91

فمدحهم به حتى كأنهم قالوا ذلك (¬1). 91 - وقوله تعالى بعد هذا {آلْآنَ} وما بعدها، كله على الخبر أنه فعله به، لا على أنه خاطبه بهذا القول (¬2). والصحيح ما ذكرنا أولاً من مذهب المفسرين، يدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو التراب في فيه خشية أن يؤمن (¬3). وروي أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال لي جبريل رأيتني يا محمد وأنا أدس الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" (¬4). ¬

_ (¬1) الخبر عن مجاهد، ولفظه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} الآية، قال: لم يقل القوم ذلك حين أطعموهم، ولكن علم الله من قلوبهم فأثنى به عليهم. رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 337، وابن جرير 29/ 211 (طبعة الحلبي). (¬2) اهـ. كلام صاحب النظم. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 163، وابن أبي حاتم 6/ 1982. وهو بمعنى الحديث المرفوع التالي. (¬4) رواه الترمذي (3107)، (3108) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة يونس، وقال: هذا حديث حسن، ثم ذكر رواية أخرى وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ورواه أيضًا الحاكم في "المستدرك" 1/ 57، 4/ 249، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان (الإحسان) 14/ 98، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه كذلك أحمد في "المسند" 1/ 245، 309، وابن جرير في "تفسيره" 11/ 163 - 164. هذا وقد زعم الزمخشري في "الكشاف" 2/ 251 أن ما جاء في الحديث من قول جبريل -عليه السلام- "خشية أن تدركه الرحمة" من زيادات الباهتين لله وملائكته، وقال: فيه جهالتان: أحدهما: أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه، والأخرى: أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر؛ =

والذي ذكره صاحب النظم شيء لا تبعده طريقة أهل اللغة والمعاني.

_ = لأن الرضا بالكفر كفر. وقد رد عليه الإمام ابن حجر في "الكافي الشاف" 85 - 86 فقال: وهذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله، فإن الحديث صحيح الزيادات، وقد أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان والحاكم، ثم ذكر الروايات ثم قال: وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري فللحديث توجيه وجيه لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري، وذلك أن فرعون كان كافرًا كفر عناد؛ ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل، وكيف توجه منفردًا وأظهر أنه مخلص، فأجري له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره، فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا، فيستمر في غيه وطغيانه فدس في فمه الطين، ليمنعه التكلم بما يقتضي ذلك، هذا وجه الحديث، ولا يلزم منه جهل ولا رضي بكفر بل الجهل كل الجهل من اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد. وأيضاً فإن إيمانه في تلك الحال -على تقدير أنه كان صادقًا بقلبه- لا يقبل؛ لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب الآية بقوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} وفيه إشارة في قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] اهـ. قلت: ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره الحافظ وجهان آخران: الأول: أن الملِائكة عالم غيبي مفطور على الطاعة ومعصوم من المعصية: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، ولذا فلا ينبغي أن تنزل أفعال الملائكة منزلة أفعال الثقلين في الحكم، لاختلاف الطبيعة والتكليف والجزاء. الثاني: أن الملائكة لا تنزل إلا بأمر الله، ولا تفعل إلا بإذنه كما قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 164]، وقال -عز وجل-: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، ولذا ينبغي أن يحمل فعل جبريل -عليه السلام- على أنه بأمر الله وإذنه فلا يكون جهلاً ولا رضي بكفر، بل هو كسجود الملائكة لآدم -عليه وعليهم السلام - والله تعالى يفعل بالأسباب كما يفعل بددونها، فإذا لم يرد الله شيئًا منع أسبابه، وبما أن الدعاء وإظهار الإخلاص سبب الرحمة فقد أرسل الله جبريل لمنع هذا السبب الذي يقتضي مسببه عادة بإذن الله.

92

92 - قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، قال ابن عباس (¬1) عامة المفسرين (¬2): لما غرّق الله فرعون وقومه جحد بعض بني إسرائيل غرق فرعون، وقالوا: هو أعظم شأنًا من أن يغرق، فأخرجه الله حتى رأوه فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي: نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع، وهذا قول أبي عبيدة (¬3)، وأبي عمرو بن العلاء (¬4)، ويونس (¬5)، واختيار الزجاج (¬6)، وابن قتيبة (¬7)، وروى ثعلب، عن ابن الأعرابي قال: إنهم -أحسبها- شكوا في غرقه؛ فأمر الله أن يقذفه على دكة ¬

_ (¬1) رواه بنحوه ابن جرير 11/ 165 - 166، والبغوي 4/ 148، وذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 558، وابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 61. (¬2) منهم قتادة ومجاهد وقيس بن عباد وابن جريج وغيرهم. انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 165 - 166، "الدر المنثور" 3/ 578. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 348 بعد أن ذكر أثر قيس بن عباد: هذا موقوف، رجاله ثقات. (¬3) "مجاز القرآن"1/ 281. (¬4) لم أجد من ذكره بعد طول بحث، وقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 60 إلى اللغويين، وذكره ابن سيده في "المخصص" 10/ 79، ونسبه لأبي عبيد والخليل والأصمعي ونسبه الأزهري في "تهذيب اللغة" (نجا) 4/ 3510 للزجاج وأبي زيد والنضر بن شميل. (¬5) رواه ابن الأنباري وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 570، وانظر: "زاد المسير" 4/ 60. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 32، وعبارة الزجاج تدل على أنه لم يختر هذا القول، ونصها: (ننجيك ببدنك) نلقيك عريانًا، وقيل: (ننجيك ببدنك) نلقيك على نجوة من الأرض. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 204.

في (¬1) البحر (¬2). وذهب بعضهم إلى أن هذا من النجاة والتخليص، ومعنى ننجيك نخرجك من البحر بعد الغرق (¬3) وهو معنى قول الكلبي (¬4)، ونحو ذلك قال عطاء عن ابن عباس: فأخرجه الله حتى رأوه (¬5). واختلفوا في معنى البدن هاهنا؛ فأهل اللغة ذهبوا إلى أن معناه الدرع (¬6)، قال الليث: البدن: شبه الدرع، إلا أنه قصير قدر ما يكون على المجسد، قصير الكمين (¬7). وقال ابن الأعرابي في هذه الآية: ببدنه: بدرعه (¬8)، وأنشد ابن الأنباري: ترى الأبدان فيها مسبغات ... على الأبطال واليلب الحصينا (¬9) ¬

_ (¬1) ساقط من (ى). (¬2) "تهذيب اللغة" (بدن) 1/ 295، وفيه: فأمر الله البحر أن يقذفه. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 641 - 166، وهود بن محكم 2/ 207، والسمرقندي 2/ 110، والزمخشري 2/ 251. (¬4) رواية الكلبي عن ابن عباس في "تنوير المقباس" ص 219 موافقة للقول الأول، ولم أجد من ذكر قول الكلبي هذا. (¬5) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 558، وبنحوه رواه ابن جرير 11/ 166 من رواية عطية العوفي. (¬6) انظر: "الصحاح" (بدن) 5/ 2077، "مجمل اللغة" (بدن) 1/ 119. (¬7) "تهذيب اللغة" (بدن) 1/ 295، والنص في كتاب "العين" (بدن) 8/ 51. (¬8) "تهذيب اللغة"، الموضع السابق. (¬9) البيت لكعب بن مالك في "تفسير القرطبي" 8/ 380، "فتح القدير" للشوكاني 2/ 681، وبلا نسبه في "البحر المحيط" 5/ 189، "الدر المصون" 6/ 265، وليس في "ديوانه". =

هذا قول ابن عباس قال: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها وهو البدن (¬1)، والمعنى على هذا: إنا نرفع فرعون فوق الماء بدرعه المشهورة ليعرفوه بها أو نخرجه من الماء بدرعه، على الخلاف في {نُنَجِّيكَ}. وقال آخرون: معنى البدن هاهنا جسده بغير روح (¬2)، روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {بِبَدَنِكَ} قال: معناه بجسدك (¬3)، ونحوه قال الكلبي (¬4). وقال بعض المفسرين: إنه طفا عريانًا، وكان ناجيًا ببدنه المجرد لينظر إليه نكالًا من كان يعتقده إلهًا (¬5)، قال ابن الأنباري: وعلى هذا القول أهل التفسير (¬6)، والقول الأول في البدن [عليه أهل اللغة واختاره الكسائي (¬7) أيضًا. وقوله تعالى: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}] (¬8)، قال الكلبي: لتكون ¬

_ = والأبدان: الدروع، واليلب: الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها على بعض، وهو اسم جنس، والواحدة: يلبة. "الصحاح" (يلب) 1/ 240. (¬1) "الوسيط" 2/ 558، "مفاتيح الغيب" 17/ 164. (¬2) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 166، والثعلبي 7/ 27 أ، والبغوي 4/ 149، والزمخشري 2/ 252، "الدر المنثور" 3/ 570، واختاره الأخفش ورد القول الأول، انظر كتاب "معاني القرآن" 1/ 378. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 166، وابن أبي حاتم 6/ 1983، وابن المنذر وابن الأنباري في "المصاحف"، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 570. (¬4) لم أقف عليه، ورواية الكلبي في "تنوير المقباس" ص 219 توافق القول السابق، وأن المراد بالبدن الدرع. (¬5) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 32. (¬6) يعني القول بأن المراد بالبدن الجسد. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 27 أ. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).

93

نكالاً لمن خلفك فلا يقولوا مثل مقالتك (¬1). قال أبو بكر: وتلخيص الحرف (¬2): لتكون لمن بعدك من الأمم عبرة، وأمرًا (¬3) معجوبًا منه معتبرًا به (¬4). وقال أبو إسحاق: وإنما كان ذلك آية؛ لأنه كان يدعي أنه رب وكان يعبده قوم (¬5)، فبين الله -عز وجل- أمره وأنه عبد، وفيه من الآية أن غرق مع وأخرج هو من بينهم فكان في ذلك آية (¬6). وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} الناس (¬7) هاهنا عامة، وقوله: {عَنْ آيَاتِنَا} أي: عن الإيمان بآياتنا. 93 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} ذكرنا معنى {بَوَّأْنَا} عند قوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ} [آل عمران: 121]، وقال أبو زيد: بوأت فلانًا منزلًا تبوئةً وتبوُّئًا (¬8)، والاسم: البيئة (¬9) (¬10)، وقال أبو ¬

_ (¬1) "الوسيط" 2/ 559، وذكره ابن الجوزي 4/ 61، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهو سند الكلبي في "تفسيره"، وليس للكلبي أقوال في التفسير بل نسب ذلك كله إلى ابن عباس. وقد ذكره أيضًا بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 219، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (¬2) في (م): (الحدف). (¬3) ساقط من (ى). (¬4) لم أقف عليه (¬5) في المصدر: قومه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 32. (¬7) ساقط من (ى). (¬8) في "تهذيب اللغة"، "اللسان": تبويئًا. (¬9) في "تهذيب اللغة" المباءة. (¬10) "تهذيب اللغة" (باء) 1/ 246، "لسان العرب" (بوأ) 1/ 382 هع اختلاف يسير.

علي: قوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} يجوز أن يكون مصدرًا، أي تبوّؤ (¬1) صدق، ويكون المفعول الثاني محذوفًا، ويجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا فيجعل المبوأ اسمًا غير ظرف كما قال الشاعر (¬2): وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل (¬3) ومعنى (صدق) هاهنا أن العرب إذا مدحت شيئًا أضافته إلى الصدق؛ لأن الصدق محمود في الأحوال كلها؛ فتقول: رجل صدق؛ [وقدم صدق] (¬4)، وفلان صديقك الصدق (¬5). وقال بعض أهل المعاني: معناه أن هذا المنزل يصدق فيما يدل عليه من جلالة النعمة (¬6)، قال ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال: يريد: قريظة والنضير وبني قينقاع، {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}، قال: يريد: أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، قال: ¬

_ (¬1) في (م): (تبؤى)، وفي بقية النسخ: (تبوي)، وآثرت الرسم المثبت لمناسبته للحركة، وانظر: "الحجة" 4/ 310، وكلام المحقق في الحاشية رقم (2). (¬2) اختلف في قائل هذا البيت، فهو في "ديوان جرير" ص 486، وهو للأخطل في "الأغاني" 8/ 28، "خزانة الأدب" 1/ 460، "سمط اللآلي" ص 854، "العقد الفريد" 3/ 360، وليس في "ديوان الأخطل". وله أو لعتبة بن الوغل في "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 378. والبيت لعتبة بن الوغل في "المؤتلف والمختلف" للآمدي ص 84، ونسب أيضاً لكعب ابن جعيل في "خزانة الأدب" 1/ 460، وهو من شواهد سيبويه 1/ 417 بلا نسبة. (¬3) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" 4/ 310. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬5) في (ى): (صدق). وانظر: "تهذيب اللغة" (صدق) 2/ 1990 - 1991. (¬6) لم أقف عليه.

يريد: من أرض يثرب من النخل وما فيها من الرطب والتمر الذي ليس في البلاد مثلها طيبًا (¬1). وقال بعض أهل المعاني: قد دلت الآية على اتساع أرزاقهم (¬2). وعلى هذا التفسير يريد ببني إسرائيل: اليهود الذين كانوا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب قوم إلى أنه أراد الذين كانوا في زمن موسى فمن بعدهم فقالوا في قوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} يعني الشام ومصر (¬3)، وهو قول الضحاك (¬4). وقال قتادة: الشام وبيت المقدس (¬5). وقال الحسن: مصر، وهو منزل صالح خصيب آمن (¬6)، والصحيح قول ابن عباس؛ لأن قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} من صفة الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، فكذلك ما قبله. ¬

_ (¬1) "الوسيط" 2/ 559، "مفاتيح الغيب" 17/ 165. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 166، والسمرقندي 2/ 110، والثعلبي 7/ 27 أ، والبغوي 4/ 149، وابن الجوزي 4/ 63. (¬4) رواه ابن جرير 11/ 166، وابن أبي حاتم 6/ 1985، والثعلبي 7/ 27 أ، والبغوي 4/ 149. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 2/ 297، وابن جرير 11/ 166، وابن أبي حاتم 6/ 1985. (¬6) ذكره مختصرًا هود بن محكم في "تفسيره" 2/ 207. (¬7) وإلى هذا ذهب ابن جرير 11/ 167، والثعلبي 7/ 27/ أ، والبغوي 4/ 150، وغيرهم. وذهب السمرقندي 2/ 110، والزمخشري 2/ 252، وابن عطية 7/ 216، والرازي 17/ 159 إلى أن هذا من صفة اليهود السابقين الذين كانوا على عهد موسي -عليه السلام- والمعني: ما اختلف بنو إسرائيل في دينهم وما تفرقوا فيه إلا من =

وعلى (¬1) قول هؤلاء يحمل أول الآية على العموم وآخرها على الخصوص (¬2)، ومعنى {فَمَا اخْتَلَفُوا} أي: في تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي حق مبعوث (¬3). قال المفسرون: كانوا يخبرون بمبعث محمد (¬4) - صلى الله عليه وسلم -، ويفخرون على سائر الناس بما يعلمونه من صدقه وخروجه والدخول في جملته، حتى بُعث فكذبوه حسدًا وبغيًا وإيثارًا لبقاء الرئاسة، وآمن فريق منهم وصدقه، فذلك اختلافهم حين جاءهم العلم (¬5). ¬

_ = بعد ما جاءهم العلم بالدين الحق عن طريق التوراة وتعاليم موسى، وعلموا أن الاختلاف مذموم، فهو اختلاف عناد ومكابرة وإعراض عن الحق. (¬1) في (ح) و (ز): (فعلى)، والصواب ما أثبته. (¬2) بل من حمل أول الآية على العموم وقال إن المراد هم جميع بني إسرائيل الذين على عهد موسى -عليه السلام-، حمل آخرها أيضًا على العموم وقال بأن المختلفين هم قوم موسى، انظر المراجع السابقة، نفس المواضع. (¬3) هذا على قول ابن عباس المذكور ومن وافقه في المراد ببني إسرائيل، أما من قال بالعموم فقد حمل الاختلاف المذكور على العموم، قال السمرقندي 2/ 110: فما اختلفوا في الدين حتى جاءهم البيان، يعني جاءهم موسى -عليه السلام- بعلم التوراة. وقال الزمخشري 2/ 252: (فما اختلفوا) في دينهم وما تشعبوا فيه شعبًا إلا من بعد ما قرءوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق، ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرق عنه. وقال ابن عطية 7/ 216: إن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرف فرعون اختلفوا. (¬4) في (ى): (النبي). (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 167، والثعلبي 7/ 27 ب، والبغوي 4/ 150، وابن الجوزي 4/ 63.

94

قال ابن عباس: يريد القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وعلى هذا، القرآن سمي علمًا؛ لأنه دليل مؤد إلى العلم، وقال الفراء: العلم يعني به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وصفته (¬2)، وعلى هذا أريد بالعلم المعلوم، وذلك أنهم كانوا يعملونه قبل خروجه بنعته وصفته حق العلم، هذا الذي ذكرنا مذهب عامة أهل التأويل (¬3). وقال الحسن (¬4) وابن زيد (¬5): قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} يعني أنهم كانوا قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا كفارًا كلهم، حتى جاءهم العلم فاختلفوا بأن آمن فريق وكفر فريق، فنفي الاختلاف في القول الأول يعود إلى التصديق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، وفي قول الحسن وابن زيد نفي الاختلاف عن كفرهم ثم ظهر الاختلاف بإيمان بعضهم، والقول هو الأول. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، قال ابن عباس: يريد: من أمرك (¬6). 94 - قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الآية، معنى الشك في موضوع (¬7) اللغة: ضم بعض الشيء إلى بعض، يقال: شك ¬

_ (¬1) "الوسيط" 2/ 559، "زاد المسير" 4/ 63، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 219 بنحوه. (¬2) "معاني القرآن" 1/ 478. (¬3) يعني الذين ذهبوا مذهبه في المراد ببني إسرائيل هنا، وقد سبق ذكر الخلاف. (¬4) ساقط من (ح) و (ز) ولم أقف على قوله، وقد ذكر هذا القول بلا نسبة الرازي في "تفسيره" 17/ 159. (¬5) روى قوله ابن جرير 11/ 67 بمعناه. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 2/ 559 بلا نسبة. (¬7) في (ح) و (ز): (موضع).

الجواهر في العقد: إذا ضم بعضها إلى بعض، وشككت الصيد: إذا رميته فنظمت يده إلى يده أو رجله إلى رجله، لا يكون الشك إلا كذلك والشكائك من الهوادج (¬1): ما شك بعضها في بعض، والشكاك: البيوت المصطفة، والشكائك الأدعياء؛ لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي: يضمون، وشك الرجل في السلاح إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه [وألزمه إياها (¬2)، فإذا قالوا شك فلان في الأمر أرادوا أنه وقف نفسه] (¬3) (¬4) بين شيئين فيجوّز هذا (¬5) ويجوّز ذاك، فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئًا آخر خلافه (¬6). واختلفوا في هذا الخطاب لمن هو؟ فقال أكثر أهل العلم: هذا الخطاب للرسول -عليه السلام- والمراد غيره من الشكاك (¬7)؛ لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلها، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء يريدون غيره، ¬

_ (¬1) الهودج: مركب للنساء يصنع من العصي ثم يجعل فوقه الخشب فيقبب. انظر: "لسان العرب" (هدج) 8/ 4630 - 4631. (¬2) أي ألزم نفسه السلاح. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬4) في (ح) و (ز): (من). (¬5) ساقط من (ى). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (شك) 2/ 1914 - 1915، "اللسان" (شك) 4/ 2309 - 2310. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 32، "تفسير ابن جرير" 11/ 168 - 169، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 204 - 205، "تأويل مشكل القرآن" له ص 270، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 316، "المحرر الوجيز" 7/ 217.

وكذلك يقول متمثلهم: إياك أعني واسمعي يا جارة (¬1)، ومثل هذا قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 1] الآية، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد بالوصية والعظة المؤمنون، يدل علي ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2] ولم يقل بما تعمل. وقال أبو إسحاق: إن الله -عز وجل- يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك الخطاب شامل للخلق، والمعنى فإن كنتم في شك فاسألوا (¬2)، والدليل علي ذلك قوله في آخر السورة: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ} [يونس: 104] الآية، فَأعْلَم الله أن نبيه ليس في شك، وأمره أن يتلو عليهم ذلك، وهذا أحسن الأقوال. انتهى كلامه (¬3)، وهذا (¬4) الذي ذكرنا مذهب ابن عباس (¬5)، والحسن (¬6)، وأكثر أهل التأويل (¬7). قال ابن عباس في هذه الآية: لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يشك في الله، ولا فيما أوحى إليه، ولكن يريد من آمن به وصدقه، أمرهم أن يسألوا لئلا ينافقوا كما شك المنافقون. ¬

_ (¬1) المثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويقصد به شيئًا آخر، انظر: "مجمع الأمثال" 1/ 83، "جمهرة الأمثال البغدادية" 1/ 556. (¬2) في (ح) و (ز): (قالوا)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 32 بتصرف واختصار. (¬4) في (ح) و (ز): (وهو)، وهو خطأ. (¬5) سيأتي تخريج قوله. (¬6) رواه ابن الأنباري في "المصاحف" كما في "الدر المنثور" 3/ 571. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 32، "تفسير ابن جرير" 11/ 168 - 169، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 204 - 205، "تأويل مشكل القرآن" له ص270، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 316، "المحرر الوجيز" 7/ 218.

وقال ابن قتيبة: الناس كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصنافًا؛ منهم كافر به مكذب لا يرى إلا أن ما جاء به الباطل، وآخر: مؤمن به مصدق يعلم أن ما جاء به الحق، وشاك في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال: فإن كنت أيها الإنسان (¬1) في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فأسأل، قال: ووحد وهو يريد الجمع، كما قال: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، و {أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6]، {فَإِذَا (¬2) مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 49]، ولم يرد في جميع هذا (¬3) إنسانًا بعينه إنما هو لجماعة الناس، قال: وهذا وإن كان جائزًا حسنًا، فإن المذهب الأول (¬4) أعجب إليّ؛ لأن الكلام اتصل حتى قال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، فجعل ابن قتيبة (¬6) هذا الذي ذكره جوابًا آخر، ثم (¬7) اعترض عليه بما ذكر، والأولى أن يقال: الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به هذا الصنف الشاك الذي ذكره ابن قتيبة، فيكون هذا تأكيدًا وبيانًا للقول الأول، ويسقط ذلك الاعتراض الذي ذكر. وذكروا في هذه الآية أقوالًا متكلفة بعيدة فلم ¬

_ (¬1) في (ى): (الناس)، وهو خطأ. (¬2) في (م): (وإذا)، وهو صواب موافق للآية 8 من سورة الزمر. (¬3) في (ى): (هذا الجميع). (¬4) "الوسيط" 2/ 559، ومعناه في "تنوير المقباس" ص 219. (¬5) يعني أن الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 269 - 274 باخصار. (¬7) ساقط من (ح) و (ز).

96

أحكها (¬1). وقوله تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، قال ابن عباس (¬2)، والضحاك (¬3)، ومجاهد (¬4)، وابن زيد (¬5): يعني من آمن من أهل، الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه فسيشهدون (¬6) على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويخبرونك بنبوته، وما قدمه الله في الكتب من ذكره، وباقي الآية والتي تليها (¬7) حكمه على ما ذكرنا من أنه خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره من الشاكين. 96 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}، ¬

_ (¬1) ذكر النحاس في "معاني القرآن" 3/ 316 أربعة أقوال، وذكر الثعلبي 7/ 27، 28 ثمانية أقوال، وكذلك الرازي 17/ 160 - 161، ولأبي حيان توجيه بديع للآية حيث قال: والذي أقوله: إِنّ (إنْ) الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، ومستحيل أن يكون له ولد، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك، ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية. "البحر المحيط" 5/ 191. (¬2) رواه ابن جرير 11/ 168، والبغوي 4/ 150، وأبو الشيخ عن الحسن كما في "الدر" 3/ 571. (¬3) رواه ابن جرير 11/ 168، وابن أبي حاتم 6/ 1986، والبغوي 4/ 150. (¬4) رواه ابن جرير والبغوي، في الموضع السابق نفسه. (¬5) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، في الموضع السابق نفسه. (¬6) في (ى): (فيشهدون). (¬7) يعني قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

97

قال ابن عباس: قول ربك بالسخط عليهم (¬1)، وقال قتادة: سخط ربك بما عصوه (¬2)، وقال أهل المعاني: معنى (حقت عليهم [كلمة ربك) أي: وقعت على تحقيق من غير شرط ولا تقييد بأنهم لا يؤمنون، والمعنى: إن الذين حقت عليهم] (¬3) الكلمة (¬4) بأنهم لا يؤمنون [لا يؤمنون] (¬5) ولو جاءتهم كل آية (¬6)، وقال مقاتل: وجبت عليهم كلمة العذاب (¬7). 97 - ومعنى {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ}، قال المفسرون: كانوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا، [فقال الله: (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا] (¬8) العذاب الأليم) فلا ينفعهم حينئذ إيمانهم كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق. 98 - قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} الآية، في هذه الآية طريقان: أحدهما: وهو طريق المفسرين أن (لولا) معناها (¬9) النفي، قال أبو مالك صاحب ابن عباس: كل ما في كتاب الله من ذكر (لولا) فمعناها: ¬

_ (¬1) "الوسيط" 2/ 560، وبنحوه رواه ابن أبي حاتم 6/ 1986. (¬2) رواه ابن جرير 11/ 168، وابن أبي حاتم 6/ 1986، والبغوي 4/ 151. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ز). (¬4) في (ى): (كلمة العذاب). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من جميع النسخ عدا (م) ولا يتم المعنى إلا بها. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير مقاتل بن سليمان" 143 أ. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬9) في (م): (معناه).

(هلَّا)، إلا حرفين {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} معناها: فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها، وكذلك {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} [هود: 116] معناه فما كان من القرون (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس: قال: يريد لم أفعل هذا بأمة قط {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} عند نزول العذاب، كشفنا عنهم العذاب (¬2) (¬3). وقال قتادة في هذه الآية: لم يكن هذا معروفًا لأمة من الأمم؛ كفرت ثم آمنت عند نزول العذاب فكشف عنهم، إلا قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم (¬4). وقال مقاتل: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل (¬5). وقال ابن الأنباري (¬6): كشف الله عنهم العذاب وقَبِل توبتهم لما علم من حسن نيتهم وأنهم يقيمون على شكره وحمده، ولا يزالون يوحدونه ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 572، ونسبه لابن أبي حاتم، ورواه ابن أبي حاتم في تفسير سورة يونس 6/ 1987 مختصرًا. (¬2) ساقط من (م) و (ى). (¬3) "الوسيط" 2/ 560، ورواه بمعناه ابن جرير 11/ 171 من رواية عطاء الخراساني، ورواه أيضًا ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 572. (¬4) رواه بنحوه ابن جرير 11/ 170 - 172، وابن أبي حاتم 6/ 1988، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 572. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 143 أ. (¬6) ذكر قوله مختصرًا ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 67.

ويعبدونه ويتأسفون (¬1) على ما فرط (¬2) منهم من الكفر، بخلاف ما علم من سوء نيات الأمم المهلكين، يدل على صحة ما ذكرنا (¬3) ما روي عن ابن مسعود أنه قال: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه (¬4) فيرده (¬5). وانتصب قوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} على أنه استثناء منقطع من الأول؛ لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها، ووقع استثناء القوم من القرية فكان كقوله (¬6): ¬

_ (¬1) في (ح) و (ز): (ينافسون)، وهو خطأ. (¬2) في (ى) فرطوا، وهو خطأ، ومعنى فرط: سبق وتقدم. انظر: "لسان العرب" (فرط) 6/ 3389. (¬3) في (ى): (هذا). (¬4) في (م): (فيقلعه)، وما أثبته موافق لما في "تفسير القرطبي". (¬5) ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 384، وبنحوه الزمخشري 2/ 254، والرازي 17/ 165، ورواه بمعناه ابن جرير 11/ 170 - 172، وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 573. (¬6) هو النابغة الذبياني وما ذكره المؤلف بعض بيتين نصهما: وقفت فيها أصيلالًا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا الأواريّ لأيًا ما أبينها ... والنُّؤْيُ كالحوض بالمظلومة الجلد انظر: "ديوانه" ص 9، "إصلاح المنطق" ص 47، "الإنصاف" ص 234، "خزانة الأدب" 4/ 122، "كتاب سيبويه" 2/ 321. وقوله: اصيلالاً: أي عشاء، وذلك أن الأصيل هو العشي، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأُصْلان (بضم فسكون) ثم صغروه فقالوا: أصيلان، ثم أبدلوا من النون لامًا فقالوا: أُصيلالا. قوله: عيت: أي عجزت عن الكلام. والأوارى: جمع آريّ: وهو محبس الدابة. ولأيًا: أي بعد جهد وإبطاء. والنؤْي: الحاجز من تراب حول البيت.

وما بالربع من أحد إلا أواريَّ ................. وذكر صاحب النظم أوجهًا سوى هذا، وهو أنه قال: معنى (لولا): هلا، وهلا: حث على الشيء، ويكون تبكيتًا وتنديمًا على فأئت، وفي ذلك دليل بالاعتبار على أنه لم يكن، فقوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} أي: لم تكن آمنت عند حلول العذاب فنفعها إيمانها، ثم استثنى قوم يونس فقال: (إلا قوم يونس) (¬1) وإنما نصب وقبله معنى جحد ونفي؛ لأنه لم يجىء على لفظ [النفي والجحد، وإنما جاء على لفظ] (¬2) التبكيت والخبر، ولو كان نفيًا خالصًا لكان رفعًا، قال: وقد يكون نصبه على أن الكلام تم وانقطع عن قوله: {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} ثم جاء قوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} بعد التمام كما نصب [من قرأ (ما فعلوه إلا قليلا منهم) [النساء: 66] بالنصب (¬3)] (¬4)، وقد شرحنا وجه النصب هناك (¬5) وأنه إنما ¬

_ = والمظلومة: الأرض التي حفرت ولم تكن حفرت من قبل، وهو يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم وليست بموضع تحويض. والجلد: الأرض الصلبة المستوية المتن الغليظة. انظر: "لسان العرب" (أصل وعيى وأري ولأي وظلم وجلد). (¬1) ساقط من (م). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬3) وهي قراءة ابن عامر وحده، وكذا هو في مصحف الشام. انظر كتاب "السبعة" ص 235، "إرشاد المبتدي" ص 285، "النشر" 2/ 250. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬5) السياق يدل على أن القائل هو الجرجاني صاحب "نظم القرآن"، وقد شرح المؤلف وجه النصب عند تفسير الآية، فهي جملة اعتراضية من المؤلف.

يجوز النصب بعد النفي إذا كان ما قبله كلامًا تامًا كقولك ما مر بي أحدٌ إلا زيدًا، [ولا يجوز ما مر بي إلا زيدًا] (¬1)، قال: وقد قيل إن نصبه علي أن يكون مستثنى من قوله: {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} على تأويل: لم ينفع قرية آمنت إيمانها إلا قوم يونس، أي: أن الإيمان نفع قوم يونس لما آمنوا. هذا الذي ذكرنا طريقة المفسرين (¬2). الثاني: وهو طريقة الزجاج، وذكرها ابن الأنباري أيضاً، وهو أن معنى الآية حث على الإيمان حين ينفع الإيمان، يقول (¬3): هلا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الإيمان. وهذا تبكيت لفرعون؛ لأنه آمن لما أدركه الغرق فلم ينفعه، يدل على صحة هذا المعنى أن هذه الآية ذكرت عقيب قصته، وعلى هذا (لولا) يكون على ما هو موضوع له. وقوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}، قال الزجاج: وقوم يونس -والله أعلم- لم يقع بهم العذاب، إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب فلما آمنوا كشف عنهم، ومثل ذلك العليل الذي يتوب في مرضه وهو يرجو في مرضه العافية ويخاف (¬4) الموت فتوبته صحيحة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (م). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 479، "تفسير ابن جرير" 11/ 170 - 172، والسمرقندي 2/ 111، والثعلبي 7/ 28 ب، والبغوي 4/ 151. (¬3) يعني الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 34، ولم أقف على قول ابن الأنباري. (¬4) في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع: ولا يخاف، والصحيح ما أثبته المؤلف، بل إن توبة المريض صحيحة ولو لم يرج العافية، ما لم يغرغر وتبلغ روحه حلقومه، =

وقال ابن الأنباري: قوم يونس تابوا (¬1) بعد آية ظهرت لهم تدل على قرب العذب، ولو عاين القوم العذاب كانت قصتهم في الهلكة قصة عاد وثمود، وعلى هذا قوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} من الاستثناء المنقطع؛ معناه: لكن قوم يونس لما آمنوا في وقت ينفعهم الإيمان {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [قال ابن عباس: يريد: سخط الله في الحياة الدنيا (¬2)] (¬3)، وقال أهل المعاني: عذاب الهوان (¬4) الذي يفضح صاحبه (¬5)، {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، قال ابن عباس: يريد حين آجالهم (¬6). ¬

_ = وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، رواه الترمذي (3537) كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة، وقال: حسن غريب. رواه أيضًا أحمد في "المسند" 2/ 132، والحاكم في "المستدرك" 4/ 257، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني كما في "صحيح الجامع الصغير" (1903). انظر: "تفسير الطبري" 11/ 170 - 172، "شرح صحيح مسلم" 1/ 213، "تفسير القرطبي" 5/ 92، "محاسن التأويل" 5/ 1155. وكلام الزجاج هذا في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 34. (¬1) في (ح) و (ز): (قالوا)، وهو خطأ. (¬2) "الوسيط" 2/ 560. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬4) في (م): (الهون). (¬5) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وانظر القول بنحوه في: "بحر العلوم" 2/ 112، "زاد المسير" 4/ 65. (¬6) "الوسيط" 2/ 560، وبمعناه رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1990.

99

99 - قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} الآية، قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله [سعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله] (¬1) الشقاء (¬2) في الذكر الأول (¬3)، وروي عنه أيضًا أنه قال (¬4): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على إسلام أبي طالب، فأبى الله عليه إلا من علم في سابق علمه (¬5)، وقال في قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} يريد أبا طالب (¬6). 100 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} قد مضى الكلام في مثل هذه اللام عند قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]، و {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 113]، و {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33]، ومعنى {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، قال ابن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬2) في (ى): (شقاوة)، وما أثبته موافق لما في "تفسير ابن جرير"، وقوله: (من الله الشقاء) ساقط من (ح) و (ز). (¬3) رواه ابن جرير في "تفسيره" 11/ 173، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" 1/ 147، وفي كتاب "الاعتقاد" ص 106، والثعلبي في "تفسيره" 7/ 30 ب، وهو من رواية علي بن أبي طلحة. (¬4) ساقط من (ح) و (ز). (¬5) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 219، وبمعناه أبو سهل السري بن سهل كما في "الدر المنثور" 6/ 429، وأصله في "صحيح مسلم" (24، 25) كتاب الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع من حديث المسيب وأبي هريرة. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" ص 220.

عباس في رواية عطاء وهو قول عطية: إلا ما سبق لها (¬1) في قضاء الله وقدره (¬2)، وقال عطاء (¬3): بمشيئة الله (¬4). وقال أبو إسحاق: وما كان لنفس الوصلة إلى الإيمان إلا بتوفيق الله -عز وجل- وهو إذنه (¬5)، وهذا قول الكناني (¬6)، قال ابن الأنباري: لأنه ليس كل مأمور بالإيمان يوفق للقبول (¬7). وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، قال الحسن: الرجس: العذاب (¬8)، وهو قول الفراء (¬9)، والزجاج (¬10)، وعلى هذا هو بمعنى الرجز، وروي عن ابن عباس أنه قال: الرجس السخط (¬11)، وهذا كالأول؛ لأن (¬12) السخط سبب العذاب. وقال الكسائي (¬13)، وابن الأنباري (¬14): الرجس النتن، قال أبو علي ¬

_ (¬1) في (م): (له). (¬2) انظر قول ابن عباس في "الوسيط" 2/ 560، "زاد المسير" 4/ 67، وانظر قول عطية العوفي في "تفسير الثعلبي" 7/ 30 ب. (¬3) في (ى): (عطية)، وهو خطأ. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 30 ب، وابن الجوزي 4/ 67. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 36. (¬6) "تفسير الثعلبي"، الموضع السابق، والكناني هو: عبد العزيز بن يحيى. (¬7) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 67. (¬8) المصدر السابق 4/ 68، "الوسيط" 2/ 561. (¬9) "معاني القرآن" 1/ 480، ولفظه: العذاب والغضب. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 36. (¬11) رواه ابن جرير 11/ 174، وابن أبي حاتم 6/ 1990، من رواية علي بن أبي طلحة. (¬12) ساقط من (ى). (¬13) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 307. (¬14) لم أقف على قوله، وهو سند أبي علي في روايته عن الكسائي هذا القول.

فكأن (¬1) الرجس على الوجهين (¬2): أحدهما: أن يكون في معنى الرجز، وهو العذاب، والمعنى في قوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أنهم يعذبون، كما قال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الفتح: 6]. والآخر: أن يُعنى به النجس والقذر، ومن ذلك قوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، ويكون المعنى فيه أنه يحكم بأنهم رجس كما قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، أي: ليسوا من أهل الطهارة، فذموا على خروجهم منها، وإن لم تكن عليهم نجاسة من نحو البول والدم والخمر، والمعنى: إن الطهارة الثابتة للمسلمين هم خارجون عنها، ومباينون لها، وهذه الطهارة هي ما تثبت لهم من قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وهي طهارة من جهة الحكم وإن لم تُزل شيئًا نجسًا عن (¬3) أبدانهم (¬4). وقوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، قال ابن عباس: يريد لا يؤمنون (¬5)، والمعنى: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه وما يدعوهم إليه، وقال أبو بكر: معناه: لا يعقلون القرآن ووصاة الأنبياء عن الله -جل وعز- عنادًا للحق، وهم يعقلون غيره، كما يقول القائل: فلان أصم (¬6) عن كلامي، ¬

_ (¬1) من (م) وفي بقية النسخ: وكأن، وأثبت ما في (م) لموافقته لما في "الحجة". (¬2) في "الحجة" ضربين. (¬3) في (ح): (على). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 4/ 307، 308 بتصرف واختصار. (¬5) "الوسيط" 2/ 561. (¬6) في (م): (صم).

101

يريد لا يسمعه، وما يزال يعرض عنه، فهو فيه كالأصم، ولو كان سميعا لغيره (¬1). 101 - قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا} الآية، قال المفسرون: قل المشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [أي: انظروا بالتفكر والاعتبار {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) من الآيات والعبر التي تدل على وحدانية (¬3) الله تعالى ونفاذ قدرته (¬4). قال ابن عباس: أما آيات السموات: فالشمس والقمر والنجوم، وأما آيات الأرض: فالجبال والشجر والبحار وسائر الآيات، وهي الأنهار والثمار والأشجار (¬5)، وهذا قول عامة المفسرين (¬6). قال أهل المعاني: وكل هذا يقتضي مدبرًا لا يشبه الأشياء ولا تشبهه، وهذا أمر بالاستدلال على القديم (¬7) بالمحدث. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ما بين المعقوفين من (م). (¬3) في (م): (وحدانيته ونفاذ ... إلخ)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط". (¬4) ذكر هذا القول ابن الجوزي 4/ 68، ونسبه للمفسرين وكذلك المؤلف في "الوسيط" 2/ 561، وبنحوه البغوي 4/ 153، وبمعناه ابن جرير 11/ 175، والثعلبي 7/ 30 ب. (¬5) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 220. (¬6) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 112، الثعلبي 7/ 31 أ، والبغوي 4/ 153. (¬7) اسم القديم مما يطلقه علماء الكلام، م والفلاسفة على الله -عز وجل- وقلدهم بعض العلماء كالإمام البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" 1/ 35، والحليمي في "المنهاج في =

قال ابن الأنباري: أبهم قوله: {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ولم يخصصه بما ذكره المفسرون من الآيات لكثرة ترددها في القرآن، وإن معرفة المخاطبين بالقرآن أغنى عن ذكر ما هو معلوم عندهم، يدل على هذا قول الشاعر (¬1): ذري ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيب نبئيني ¬

_ = شعب الإيمان" 1/ 188. وحول هذا الإطلاق على الباري جل جلاله الملحوظات التالية: أولاً: أن اصطلاح علماء الكلام يخالف لغة العرب التي نزل بها القرآن، إذ مرادهم بذلك الأول الذي لم يسبقه عدم، والقديم في لغة العرب: المتقدم على غيره، كما في قوله تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 75، 76] فلفظ القديم والأقدم يعني المتقدم على غيره وإن كان مسبوقًا بعدم. ثانيًا: أن من عقائد السلف أن أسماء الله وصفاته توقيفية فلا يتجاوز بها الوارد في الكتاب والسنة، وليس للاستحسان والاجتهاد دخل في ذلك. ثالثًا: أنه قد جاء في الكتاب والسنة ما يقوم مقام هذا اللفظ ويغني عنه، وهو اسم الله الأول كما في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء" "صحيح مسلم" (2713) كتاب الذكر، باب: ما يقول عند النوم، واسمه تعالى: (الأول) أحسن من (القديم)؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل له، وتابع له، بخلاف القديم والله تعالى له الأسماء الحسنى، لا الحسنة. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 1/ 245، "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 77، "مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية" ص 27. (¬1) اختلف فيه، فالبيت للمثقب العبدي في "ديوانه" ص 213، "خزانة الأدب" 7/ 489، ولمزرد بن ضرار في "ديوانه" ص 68، ولسحيم بن وثيل أو للمثقب العبدي أو لأبي زبيد الطائي في "المقاصد النحوية" 1/ 192، ولأبي حيه النميري في "لسان العرب" (أبي) 1/ 18، وقد ذكر ابن منظور قبل هذا البيت بيتًا آخر هو: أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباكِ تخوفيني؟

أراد ماذا علمت من الأمور المكروهة المذمومة فلما وثق بمعرفة من يخاطبه بها استغنى عن ذكرها وذكرنا الكلام في (ماذا) (¬1) وأنه يكون بمعنيين (¬2)، فإن قلنا إنه بمعنى (الذي) فموضعه نصب بقوله {انْظُرُوا} وإن قلنا معناه (أي شيء)، فموضع (ما) رفع بالابتداء، وخبره {فِي السَّمَاوَاتِ}، والجملة في موضع نصب. وقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}، يجوز أن تكون (ما) نفيًا بمعنى ما تغني عنهم شيئًا بدفع الضرر واجتلاب (¬3) النفع، كقولك: [ما يغني عنك المال إذا لم تنفق، ويجوز أن يكون استفهامًا كقولك] (¬4): أي شيء يغني عنهم؟ والنذر: جمع نذير، وهو صاحب النذارة، وهي الإعلام بموضع المخافة ليحترز منه، وقوله تعالى: {عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [قال المفسرون: أي عمن سبق في علم الله وقضائه] (¬5) أنه لا يؤمن (¬6)، يقول: الإنذار غير نافع لهؤلاء ولا مجدٍ عليهم. وقال أهل المعاني: {عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: عن قوم استشعروا ¬

_ (¬1) في (ح) و (ز): (ذا). (¬2) ذكر ذلك عند تفسير الآية 50 من هذه السورة. (¬3) في (ح): (اختلاف)، وهو خطأ. (¬4) ما بين المعقوفين من (م) فقط، والنص في "تفسير الرازي" 17/ 170. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 175، والثعلبي 7/ 31 ب، والبغوي 4/ 154، والقرطبي 8/ 186، وهو قول مجاهد كما في "تفسير ابن أبي حاتم" 6/ 1991، وقول أبي العالية كما في "تفسير السمرقندي" 2/ 113.

102

عناد الحق وتركوا الإيمان، فهؤلاء لا تغني عنهم الآيات؛ لأنهم لا يستدلون بها، ولا النذر؛ لأنهم لا ينتفعون بإنذارهم ووعظهم (¬1). 102 - قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية، ذكرنا في سورة البقرة والأنعام معنى هذا الاستفهام عند قوله: {فَهَلْ يَنْظِرُونَ}، [البقرة: 210]، [الأنعام: 158]، وقوله تعالى: {إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ} يعني: إلا أيامًا مثل أيام الأمم الماضية المكذبة في وقوع العذاب والحسرة [حين لا تنفع الندامة، ولا يحتاج إلى ذكر العذاب والحسرة] (¬2)؛ لأن أيام تلك الأمم في وقوع العذاب بهم معروفة مشهورة، وقال أكثر المفسرين: إلا مثل وقائع الله تعالى فيمن سلف قبلهم من الكفار، مثل قوم نوح وعاد وثمود (¬3)، وروى الحراني، عن ابن السكيت: العرب تقول: الأيام، في معنى الوقائع، يقال هو عالم بأيام العرب، يريد: وقائعها، وأنشد: وقائع في مُضَر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة (¬4) فقال: تسعة، وكان ينبغي أن يقول: تسع، ولكنه ذهب إلى ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ى). (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 175 - 176، والثعلبي 7/ 31 أ، والبغوي 4/ 154، والزمخشري 2/ 255، والقول مروي عن قتادة، انظر: "الدر المنثور" 3/ 574. (¬4) لم أهتد لقائله، وانظره بلا نسبة في: المصدر التالي، وفي "لسان العرب" (يوم) 8/ 4975، و"الأشباه والنظائر" 5/ 236، 257، و"الإنصاف" 2/ 769، و"الدرر اللوامع" 6/ 169، و"مجالس ثعلب" 2/ 490، و"بدائع الفوائد" 3/ 235، و"همع الهوامع" 3/ 254.

103

الأيام (¬1): وقال شمر: جاءت لأيام بمعنى الوقائع والنعم، وإنما خصوا الأيام دون ذكر الليالي في الوقائع لأن حروبهم كانت نهارًا، وإذا كانت ليلاً ذكروها (¬2). وقال ابن الأنباري: العرب تكني بالأيام عن الحروب والشرور، يقال: قتل فلان يوم صفين، يعنون في حرب صفين؛ يدل على ذلك أن الحرب كانت بصفين في أيام كثيرة، فتوحيد اليوم بمعنى الحرب والوقعة، وأنشد: شهدت الحروب فشيبنني ... ولم أر يومًا كيوم الجمل (¬3) أراد حربًا كحرب الجمل، وقد تذكر العرب الأيام وهي تقصد بها قصد السرور والنعم، وبكلى (¬4) الوجهين فُسّر قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (¬5) [إبر اهيم: 5]. 103 - قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، هذا إخبار عما كان الله يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرسل والمصدقين لهم عما ¬

_ (¬1) اهـ. كلام ابن السكيت، انظر: "تهذيب اللغة" (يوم) 4/ 1991. (¬2) المصدر السابق ص 647. (¬3) لم أقف عليه، ويوم الجمل معركة وقعت بين الإمام علي -رضي الله عنه- من جهة والزبير وطلحة وعائشة -رضي الله عنهم- من جهة أخرى سنة 36 هـ. انظر المصدر السابق 7/ 230. (¬4) هكذا في (ح) و (ز) و (ى)، وفي (م): (بكل). ومعلوم أن (كلا) و (كلتا) لا يعربان إعراب المثنى إلا إذا أضيفا إلى مضمر فإن أضيفا إلى ظاهر لزمتهما الألف. انظر: "أوضح المسالك" 1/ 36. (¬5) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 200، والبغوي 4/ 335، وانظر قول ابن الأنباري مختصراً في "زاد المسير" 4/ 69.

105

يعذب به من كفر، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من عذابي، والتأويل: ننجي المؤمنين إنجاءً مثل ذلك الإنجاء، وقوله تعالى: {حَقًّا عَلَيْنَا} أي واجبًا علينا، قاله ابن عباس (¬1) وغيره (¬2)، ومعنى الوجوب هاهنا: أنه أخبر بذلك ولا خلف لوعده، وما أخبر به [فهو واجب] (¬3) الوجود. 104 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬4)، {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}، قال: يريد من توحيد الله الذي جئت به والحنيفية التي بعثت بها (¬5)، {فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يقال في هذا: لِمَ جعل جواب {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ}، {لَآ أَعْبُدُ} وهؤلاء يعبدون غير الله شكوا أو لم يشكوا؟ قيل: لأن المعنى: لا تشككوني (¬6) بشككم حتى أَعبد غير الله كعبادتكم، كأنه قيل: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بشككم {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}، قال أهل المعاني: إنما خص التوفي هاهنا بالذكر دون الإحياء؛ لأنه يتضمن تهديدًا لهم؛ لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 220. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 113، والثعلبي 7/ 31 أ، والبغوي 4/ 154. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز). (¬4) "زاد المسير" 4/ 69، "تنوير المقباس" ص220، ولا دليل على هذا التخصيص. (¬5) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، بمعناه. (¬6) في (ى): (لا تشكون)، وهو خطأ. (¬7) لم أجده عند أهل المعاني، وانظره في "الوسيط" 2/ 561، "زاد المسير" 4/ 70.

105

وقوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ (¬1) أَكُونَ}، قال المبرد: أي وقع الأمر لهذا ومن أجل هذا (¬2)، كما قال (¬3): أريد لأنسى ذكرها ........... أي: إرادتي لنسيان (¬4) ذكرها، وقوله تعالى: {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني أول مؤمني هذه الأمة، كما قال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]. 105 - قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، قال صاحب النظم: لا يجوز في الظاهر أن ينسق هذا على {أَنْ أَكُونَ}، إلا أن الأمر قول وكلام، فكان قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ} قيل لي: كن من المؤمنين وأقم وجهك، ومعنى الآية: استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك (¬5)، إذ من أقبل على الشيء بوجهه جمع همته له وله يُضْجِعُ (¬6) فيه، وهذا معنى قول ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (لأن)، وهو خطأ. وإنما ذلك في سورة الزمر، الآية: 12، وهي التي ذكرها المبرد، لا آية سورة يونس. (¬2) اهـ. كلام المبرد، انظر: "المقتضب" 2/ 36، وقد ذكر بيت كثير في "الكامل" 3/ 97، دون ذكر ما قبله وما بعده. (¬3) هو: كثير، وما ذكره المؤلف بعض بيت، ونصه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثَّلُ لي ليلى بكل سبيل انظر: "ديوان كثير عزة" ص 108، "أمالي القالي" 2/ 63، "خزانة الأدب" 10/ 329، "لسان العرب" (رود) 3/ 1772. (¬4) في (م): (نسيان). (¬5) في (ح) و (ز): (وجهك)، وهو خطأ. (¬6) يقال: ضَجَعَ الرجل في الأمر يَضْجَع، وأضجع يُضْجِع وضجّع يُضَجِّع: إذا وهن وتوانى وقصر فيه. انظر: "جمهرة اللغة" (ج ض ع) 1/ 479، "الصحاح" (ضجع) 3/ 1248.

106

ابن عباس: وجهك عملك (¬1)، ومعنى إقامة الشيء: نصبه المنافي لإضجاعه، ومضى الكلام في الحنيف والحنيفية عند قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (¬2) [البقرة: 135]. وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، نهي عن الإشراك على (¬3) التصريح؛ لتأكيد التحذير والذم لأهله؛ لأنه إذا قيل: لا تكن منهم اقتضى أنهم على نهاية الخزي والمقت. 106 - قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، الدعاء يكون على وجهين: أحدهما: النداء كقولك: يا زيد، ويا عمرو، وعلى هذا، معنى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: لا تدعه إلهًا، لا تقل لما دون الله: يا إله، كما يدعو المشركون أوثانهم آلهة. والثاني: الدعاء إلى أمر (¬4)، وهو طلب الفعل من القادر بصيغة الأمر، وعلى هذا معنى الآية: لا تدع من دون الله دعاء الله في العبادة بدعائه. وقوله تعالى: {مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} أي: شيئًا ما؛ لأنه لا يتحقق النفع والضر إلا من الله تعالى، ولا تدع من دون الله شيئًا. ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 7/ 31 أ، والبغوي 4/ 154، والفيروزأبادي ص 220. (¬2) قال في هذا الموضع ما نصه: وأما معنى الحنيف: فقال ابن دريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وبه سمي الإسلام الحنيفية؛ لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية .. ، وروى ابن نجدة عن ابن زيد أنه قال: الحنيف: المستقيم .. إلخ. (¬3) في (م): (عن). (¬4) في (م): (أحد)، وهو خطأ.

107

وقال بعض أهل المعاني: ما لا ينفعك ولا يضرك نفع الإله وضره (¬1)، وقيل: إنما قال: {مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} -وهو إن نَفَع وضرَّ لم تجز عبادته- لأنه أخسر للصفقة، وأبعد من الشبهة، عبادةُ ما (¬2) لا ينفع ولا يضر، {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}، قال ابن عباس: يريد بذلك مخاطبة لجميع من بعث إليه. 107 - قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}، الباء هاهنا للتعدية، والمعني يجعل الضر يمسك بحلوله فيك، كأنه قيل: يمسك الضر، والضر: اسم لكل ما يتضرر به الإنسان، قال ابن عباس: يريد: بمرض وفقر، {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}، معنى الكشف رفع الساتر، ولما جعل الضر بما يمس جعل دفعه كشفًا له] (¬3) أي: لا مزيل لما غشاك وألبسك من الضر {إِلَّا هُوَ} وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} هو من المقلوب، معناه: وإن يرد بك الخير، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالإرادة جاز: يريدك بالخير، ويريد بك الخير. {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} لا مانع لما يفضل به عليك من رخاء ونعمة وصحة ونصر، وقوله تعالى: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يجوز (¬4) أن يريد بكل واحد مما ذكر، ويجوز أن تعود الكناية إلى الخير الذي هو أقرب، والخبر عنه يكون كالخبر (¬5) عن الخير والضر؛ لأنهما ذكرا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) في (ى): (من). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م). (¬4) في (ح) و (ز) و (ى): (ويجوز). (¬5) في (م): (لخبر).

108

معًا، فالإخبار عن أحدهما كالإخبار عن الآخر، وهذه الآية تحقق ما ذكرنا في الآية الأولى أنه لا يتحقق النفع والضر إلا من الله؛ لأنه إذا لم يتهيأ لأحد [دفع نفع يريده بعبد فهو النافع على الحقيقة، وإذا لم يتهيأ لأحد] (¬1) منع ضر يحل به أو بغيره فهو الضار. 108 - قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قالوا: يعني أهل مكة (¬2)، {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، قاله ابن عباس (¬3) وغيره (¬4)، وفيه البيان والأدلة التي نصبت ليهتدي بها العباد، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، قال ابن عباس: يريد من صدق محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنما يحتاط لنفسه (¬5)، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: إنما يكون وبال ضلاله على نفسه، كما أن ثواب اهتدائه لنفسه، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، فانظروا لأنفسكم نظر من يطالب بعمله من غير أن يطالب غيره بحفظه، كأنه قيل: بحفيظ من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز) و (م). (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 114، "الوسيط" 2/ 562، "تنوير المقباس" ص 220، وقد ذكر الزركشي في "البرهان" 1/ 187: أن بعض العلماء يرى أن ما كان خطابًا بـ (يا أيها الناس) فالمراد بهم أهل مكة. وانظر رد هذا القول في: "مناهل العرفان" 1/ 186. (¬3) ذكره بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 220. (¬4) انظر: "تفسير ابن جرير" 11/ 178، والسمرقندي 2/ 114، والثعلبي 7/ 31 ب، والبغوي 4/ 155. (¬5) "الوسيط" 2/ 562.

109

قال ابن عباس: نسختها آية القتال (¬1). 109 - قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، قال ابن عباس: هي منسوخة نسختها آية السيف؛ فحكم الله بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي 7/ 31 ب، والبغوي 4/ 155، وانظر: "زاد المسير" 4/ 71، "تفسير القرطبي" 8/ 389، وانظر رد هذا القول في: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 374، "زاد المسير" 4/ 71. (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 562، "زاد المسير" 4/ 71، وهذا مذهب ابن زيد كما في "تفسير الطبري" 11/ 178، وانظر رده في: المصدرين السابقين الأخيرين. (¬3) في النسخة (م) كتب ناسخها بعد هذا ما نصه: هذا آخر الجزء الثالث، ويتلوه الجزء الرابع أول سورة هود -إن شاء الله تعالى- كتابته على يد العبد الضعيف محمد بن محمد بن محمود العنبري الحسيني في مستهل رجب المبارك من شهور سنة تسع وخمسين وسبعمائة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة هود تحقيق د. عبد الله بن إبراهيم الريس

سورة هود

سورة هود بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الر} قال ابن عباس (¬1): يريد أنا الله الرحمن. وذكرنا الكلام في تفسير هذا الحرف في فاتحة يونس (¬2). ¬

_ (¬1) الطبري 11/ 91، وابن أبي حاتم 6/ 1994، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 534، "زاد المسير" 4/ 4، ابن عطية 7/ 94. (¬2) مسألة الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن من المسائل التي كثرت فيها أقوال العلماء فسأذكر أبرز أقوالهم بإيجاز، مع تعيين الراجح منها: القول الأول: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. الثاني: أنها حروف كل حرف يرمز إلى معنى، واختلفوا فيما يرمز إليه كل حرف. الثالث: أنها للتنبيه ولفت نظر المشركين إلى القرآن وتدبره. الرابع: أنها أسماء السور التي افتتحت بها. الخامس: أنها من أسماء الله تعالى. السادس: أنها أقسام أقسم الله بها. السابع: أنها ذكرت بيانًا لإعجاز القرآن، فمع أن القرآن مركب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها ومع ذلك فهم عاجزون عن معارضته بمثله. وهذا هو القول الراجح الذي ذهب إليه جمهور المحققين، ويدل عليه أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه. وممن قال بهذا القول: الفراء، وقطرب، والمبرد، وابن كثير، وابن تيمية، وأبو الحجاج المزي، والزمخشري، وغيرهم. انظر: الطبري 1/ 86 - 96، البغوي 1/ 58، 4/ 159، "زاد المسير" 1/ 20، ابن عطية 1/ 138 - 141، ابن كثير 1/ 38 - 41، الألوسي 1/ 99، المنار 1/ 103، "أضواء البيان" 3/ 3، رسالة "الحروف المقطعة في القرآن"، دراسة ورأي عبد الجبار شرارة.

وقوله تعالى {كِتَابٌ}، قال الفراء (¬1): رفعت بالهجاء الذي قبله. قال الزجاج (¬2): وهذا غلط (¬3)؛ لأنه جعل كتاب خبر {الر} و {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} ليس هو {الر} وحدها، قال الفراء: وإن شئت أضمرت له ما يرفعه، كأنك قلت: هذا كتاب، ووافقه الزجاج على هذا القول. وقول تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}، ذكرنا أن معنى الإحكام في اللغة منع الفعل من الفساد (¬4)، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أحكمت آياته: أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها، وقال قتادة (¬5) ومقاتل (¬6): أحكمت آياته من الباطل. قال ابن الأنباري (¬7): فعلى قول الكلبي: المعنى أحكمت بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ، وما نسخ من القرآن لا يدخل في هذا الإحكام، وأوقعت الآيات على بعضها على مذهب العرب في إيقاع اسم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 3. (¬2) "معاني القرآن إعرابه" للزجاج 3/ 37. (¬3) وتعقب هذا القول أيضًا الطبري 11/ 179 فقال: "فأما قول من زعم أن قوله {الر} مراد به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالة على جميعها، وأن معنى الكلام: "هذه الحروف كتاب أحكمت آياته" فإن الكتاب على قوله ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: {الر} اهـ. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 886 (حكم)، "مقاييس اللغة" 2/ 91، "لسان العرب" 2/ 952 (حكم). (¬5) الطبري 11/ 180، وعبد الرزاق 2/ 301، وابن أبي حاتم 6/ 1995، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 578، و"زاد المسير" 4/ 73، والبغوي 4/ 159. (¬6) تفسير مقاتل 143 ب، الثعلبي 7/ 32 ب، "زاد المسير" 4/ 73. (¬7) انظر: "زاد المسير" 4/ 74.

الجنس علي النوع حين يقولون: أكلت طعام (¬1) زيد، يعنون بعض طعامه، وعلى قول قتادة تلخيص معنى الآية: أحكمت آياته بعجيب النظم، وبديع المعاني، ورصين اللفظ الذي يحسم طمع كل مفتر في التشبيه به، وآيات القرآن كلها معجزة غير مقدور على مثلها لبديع نظمها. وقوله تعالى: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} قال ابن عباس (¬2) في رواية الكلبي: بينت بالأحكام من الحلال والحرام، وهو قول قتادة (¬3). وقال الحسن (¬4): فصلت بالثواب والعقاب، وهو معنى قول أبي العالية (¬5): بالوعد والوعيد. قال أبو إسحاق (¬6): المعنى -والله أعلم-: إن آياته أحكمت وفصلت بجميع ما يحتاج إليه من الدلالة على التوحيد وتثبيت نبوة الأنبياء وإقامة الشرائع. وقوله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، قال ابن عباس (¬7): من عند حكيم في خلقه، خبير بمن يصدق نبيه ويوحده، وبمن يكذب نبيه ويتخذ ¬

_ (¬1) في (ي): (الطعام). (¬2) "تنوير المقباس" 138، "زاد المسير" 4/ 74، البغوي 4/ 159. (¬3) الطبري 11/ 180، وابن أبي حاتم 6/ 1959، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 578. (¬4) الطبري 11/ 179، الثعلبي 7/ 532، ابن أبي حاتم 6/ 1995، ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 578، "زاد المسير" 4/ 74. (¬5) الثعلبي 7/ 32 ب، القرطبي 9/ 3. (¬6) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 37. (¬7) "تنوير المقباس" 138 بمعناه.

2

معه إلهًا. 2 - قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، قال الزجاج (¬1): [المعنى أحكمت وفصلت لئلا تعبدوا إلا الله، وهو معنى قول الفراء (¬2)، وقال الزجاج (¬3)] (¬4)، ويجوز أن يكون المعنى: أمركم ألا تعبدوا إلا الله، وموضع (أن) نصب على كل حال (¬5). وقوله تعالى: {إِنَّنِي لَكُمْ}، قال صاحب النظم (¬6): هذا مضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الخطاب عن الله تعالى لقال إنه لكم، والتأويل في النظم: قل لهم يا محمد {الر كِتَابٌ} إلى قوله تعالى: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} إلي قوله: {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}، فهذا كله من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمورًا به أن يقوله، وقد قيل: إن نظمه مثل نظم قوله: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ} [إبراهيم: 1] الآية .. وعلى تأويل] (¬7) {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ليقول للناس ويأمرهم ألا يعبدوا إلا الله. 3 - قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} الآية، (أن) هذه معطوفة على (أن) في قوله (أن لا تعبدوا)، وهي في محل النصب بإلقاء الخافض في ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 38. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 3. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 38. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) أي على القولين وأنها منصوبة. (¬6) هو: أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).

قول الفراء (¬1) والزجاج (¬2). وقال الكسائي (¬3) في قوله {أَلَّا تَعْبُدُوا}: التقدير فيه (بأن لا تعبدوا) و (بأن استغفروا)، وعلى هذا الجار يتعلق بالنكرة الموصوفة وهي قوله {كِتَابٌ} كأنه قيل كتاب بهذا، وما بعد قوله {كِتَابٌ} إلى قوله {أَلَّا تَعْبُدُوا} من صفة النكرة، ويعود التأويل إلى ما قاله الفراء (¬4): كتاب فصلت آياته بأن لا تعبدوا، وبأن استغفروا ثم ألقى الخافض (¬5). وقوله تعالى: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}، قال أهل المعاني (¬6): إنما رتبت التوبة بعد الاستغفار؛ لأن المعنى اطلبوا المغفرة تم توصلوا إلى مطلوبكم بالتوبة (¬7)، فالمغفرة أول في الطلب وآخر في السبب، وقيل: المعنى استغفروا ربكم من ذنوبكم السالفة، ثم توبوا من المستأنفة متى وقعت منكم المعصية. وحكي عن الفراء (¬8) أنه قال: {ثُمَّ} هاهنا بمعنى الواو، ومعناه: وتوبوا إليه. وقوله تعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، قال ابن عباس (¬9): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 3. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 38. (¬3) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 272. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 3. (¬5) ما سبق موجود في الثعلبي 7/ 32 بمعناه. (¬6) القرطبي 9/ 3 بنحوه، "فتح القدير" 2/ 695. (¬7) في (ي): (بالمغفرة فالتوبة). (¬8) البغوي 6/ 159، "زاد المسير" 4/ 75، الثعلبي 7/ 32. (¬9) "زاد الميسر" 4/ 75.

[في رواية عطاء] (¬1): يريد أن يتفضل عليكم بالرزق والسعة (¬2) حلالًا طيبًا إلى أجل الموت، قال مقاتل (¬3): فأبوا، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة، والقد (¬5)، والكلاب، والجيف. وقال أبو إسحاق (¬6) في قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}: أي يبقكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. وقوله تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} قال قتادة (¬7): يعني في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). قال ابن حجر: "ومن طريق ابن جريج رضي الله عنه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس لكن فيما يتعلق بالبقرة وآل عمران، وما عدا ذلك يكون عطاء -رضي الله عنه- هو الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما فيكون منقطعًا إلا إن صرح ابن جريج بأنه عطاء بن أبي رباح. "العجاب في بيان الأسباب" / 5 أ. وانظر: "الدر" 3/ 578. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) القرطبي 9/ 4، "تفسير مقاتل" 143ب. (¬4) أخرجه البخاري (4821، 4822)، كتاب: تفسير سورة الدخان، باب: قوله: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، باب: قوله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}، وأحمد 1/ 381 بلفظ: "إنما كان هذا؛ لأن قريشا لما استعصت على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهدوا حتى أكلوا العظام .. الحديث". وأخرجه البخاري بلفظ "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم السنة حتى حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والجلود". (¬5) القد: الجلد. انظر: "تهذيب اللغة" (قدد) 3/ 2895، "اللسان" (قدد) 6/ 3543. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 38. وانظر: "التهذيب" (متع) 4/ 3459. (¬7) الطبري 15/ 231، البغوي 4/ 160، القرطبي 9/ 4، ابن أبي حاتم 16/ 1997.

الآخرة، والمعنى: يعطي كل ذى عمل صالح أجره وثوابه، فسمى الجزاء باسم الابتداء (¬1) وأراد: ويؤت كل ذي فضل ثواب فضله أو جزاء فضله، فحذف المضاف، وهذا أقوى بما قال ابن عباس: يريد أن منازل الآخرة بعضها أفضل من بعض، كما أن صلاح الناس في الدنيا بعضهم أفضل من بعض، ونحو هذا قال أبو العالية (¬2): من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجات في الجنة؛ لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال أبو إسحاق (¬3): أي من كان ذا فضل في دينه، فضله الله في الثواب، وفضله في المنزلة. وهذه الأقوال معناها واحد، والفضل معناه فضل الدين والصلاح وكثرة الطاعة. وقال مجاهد (¬4): هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله؛ وعلى هذا، الفضل يعني به: ما تبرع به الإنسان من عمل صالح ببدنه أو بماله. وقوله تعالى: {فَضْلَهُ} أي ثواب ذلك الفضل وجزاؤه. وقال ابن عباس (¬5)، وابن مسعود (¬6)، والكلبي (¬7): {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} كل من فضلت حسناته على سيئاته {فَضْلَهُ} يعني الجنة، وهي فضل الله، والكناية ¬

_ (¬1) العبارة السابقة من كلام الثعلبي 7/ 33 أ. (¬2) الثعلبي 7/ 33 أ، البغوي 4/ 160. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 38. (¬4) الطبري 11/ 182، الثعلبي 7/ 33 أ، القرطبي 9/ 4، ابن أبي حاتم 6/ 1998. (¬5) الثعلبي 7/ 33 أ، البغوي 4/ 160. (¬6) الطبري 11/ 182، الثعلبي 7/ 33أ، ابن عطية 7/ 236، ابن كثير 2/ 477. (¬7) "تنوير المقباس" 138.

5

في {فَضْلَهُ} على هذا تعود إلى الله تعالى ذكره. وهذا القول أحسن الأقوال وعليه المفسرون (¬1)، قال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة. وقال ابن مسعود في هذه الآية: الحسنة بعشر، والسيئة واحدة، فويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه. وهذا ترغيب في عمل الخير. وقوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي}، قال ابن عباس (¬2): يريد عن الإسلام، {أَخَافُ عَلَيْكُمْ} في الآخرة، {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}، وهو يوم القيامة. 5 - قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الآية، قوله: {يَثْنُونَ} أصله من ثنيت الشيء إذا حنيته وعطفته وطويته، وانثوى (¬3) صدره على البغضاء، أي انحنى وانطوى (¬4). وروي عن ابن عباس (¬5): [أنه قرأ {ثنوني صدورهم} وكل شيء عطفته فقد ثنيه. ¬

_ (¬1) الطبري 11/ 182، الثعلبي 7/ 33 أ، القرطبي 9/ 4. والقول الآخر هو: أن الكناية في {فَضْلَهُ} تعود على العبد، والمعنى: ويؤت كل من زاد في إحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده". "زاد المسير" 4/ 75، ابن عطية 7/ 236. (¬2) "تنوير المقباس" 138 بمعناه، "زاد المسير" 4/ 76. (¬3) في (ي): (أثوى)، وفي "تهذيب اللغة" 1/ 504: (اثنوني صدره ..). (¬4) ما سبق من "تهذيب اللغة" 1/ 504، وانظر: "اللسان" 1/ 511 - 512. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 3، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 39، "الطبري" 11/ 185. ونسب ابن عطية هذه القراءة أيضًا إلى مجاهد، وابن يعمر، وابن بزي، ونصر بن عاصم، والجحدري، وابن إسحاق، وأبي رزين، وعلي بن الحسين، وأبي جعفر محمد بن علي، ويزيد بن علي، وجعفر بن محمد، والأسود، والضحاك. ابن عطية 7/ 239، البحر المحيط 5/ 202.

قال ابن عباس] (¬1) في رواية الكلبي: نزلت في الأخنس (¬2) بن شريق؛ وكان رجلا حلو المنطق، يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يحب، وينطوي له (¬3) على ما يكره، ويضمر في قلبه خلاف ما يظهر، واختار الفراء (¬4) هذا القول وقال: "نزلت في بعض من كان يلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يحب، وينطوي له على العداوة والبغض، فذلك الثني وهو الإخفاء، وبنحو من هذا قال الزجاج (¬5) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) الثعلبي 7/ 33 أ، "أسباب النزول" للواحدي ص 271، "زاد المسير" 4/ 76، "البحر المحيط" 5/ 202. والقول بأنها نزلت في الأخنس بن شريق فيه نظر من وجوه: أولاً: عدم ثبوت الرواية بذلك. ثانيًا: قد صحت الرواية في سبب نزول الآية غير هذا، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: أناس كانوا يستحبون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. ثالثًا: أن الآية مكية، والنفاق ظهر في المدينة فكيف تكون الآية نازلة في المنافقين؟! رابعًا: أن الأخنس في عداد الصحابة كما ذكر ابن حجر في "الإصابة" 1/ 25 قال: "أسلم الأخنس فكان من المؤلفة، ثم شهد حنينا، ومات في أول خلافة عمر .. وذكر الذهلي في الزهريات بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس اجتمعوا ليلاً يسمعون القرآن سرًا فذكر القصة: وفيها أن الأخنس أتى أبا سفيان فقال: ما تقول؟ قال: أعرف وأنكر، قال أبو سفيان: فما تقول أنت؟ قال: أراه الحق" وقد عدّه في الصحابة: ابن شاهين، وابن فتحون عن الطبري ا. هـ. انظر: "روح المعاني" للآلوسي11/ 211، "أضواء البيان" 3/ 12. (¬3) ساقط من (ب). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 3. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 38. وانظر: "تهذيب اللغة" (غشى) 3/ 2969.

فقال: قيل إن طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد، كيف يعلم بنا، فأنبأ الله -عز وجل- عما كتموه، ومعنى: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي: يعطفونها ويطوونها على عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي الآية محذوف تقديره: يثنون صدورهم على عداوته أو على بغضه؛ لأنَّ ثنَي الصدر عطفُه على ما أضمره. وقوله تعالى: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}، أي ليتواروا عنه ويكتموا عداوته؛ لئلا يظهروا (¬1) بعداوته، والهاء تعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحسن (¬2) ومجاهد (¬3): يعني من الله، وهذا جهل منهم بالله -عز وجل-، فقال الله تعالى: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} قال قتادة (¬4): وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حتى صدره واستغشى ثوبه وأضمر ما كنه في نفسه. وقال ابن الأنباري (¬5): أعلم الله أن سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهراتهم، فإن الذي يسترونه ويغيبونه ظاهر عند الله غير غائب عنه، وفي الآية قولان آخران (¬6): ¬

_ (¬1) في (ب): يظهر. (¬2) الطبري 11/ 184، القرطبي 9/ 5، ابن أبي حاتم 6/ 2000. (¬3) الطبري 11/ 184، والثعلبي 7/ 33 ب، وابن أبي حاتم 6/ 2000، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 579، والبغوي 4/ 161، وابن عطية 7/ 241. (¬4) الطبري 11/ 184، ابن أبي حاتم 6/ 2000، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 580، والثعلبي 7/ 33 ب، و"زاد المسير" 4/ 78، والقرطبي 9/ 6، وعبد الرزاق 2/ 301. (¬5) "زاد المسير" 4/ 78. "البحر المحيط" 5/ 203. (¬6) ساقط من (ي).

أحدهما: أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وبعدهم عن الحق إذا سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، (¬1) يقرأ القرآن حنوا صدورهم، ونكسوا رؤوسهم، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن (¬2)، فنعى الله عليهم هذا القبيح من فعلهم، وأعلم أنه يعرف معتقداتهم، ولا يخفى عليه مخبآتهم، ومن كان علمه بهم هذا العلم كان حقيقًا أن تتقى سطواته، وهذا معنى قول مقاتل (¬3) وقتادة: كانوا ينكسون رؤوسهم على صدورهم كراهية لاستماع القرآن. وقال قتادة (¬4): يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله -عز وجل- ولا ذكره. قال ابن الأنباري: فالهاء في هذا القول عائدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى القول الأول احتمل أمرين. القول الثاني -وهو قول عبد الله بن شداد (¬5) - قال: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطى وجهه لئلا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وهذا القول هو الأليق بظاهر اللفظ، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) من كلام ابن الأنباري. انظر: "زاد المسير" 4/ 77، "البحر" 5/ 203. (¬3) "تفسير مقاتل" 143 ب. (¬4) "زاد المسير" 4/ 77، والطبري 15/ 235، وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2000، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 580. (¬5) هو: عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي أبو الوليد المدني، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره العجلي من كبار التابعين الثقات، وكان معدودًا في الفقهاء، قتل سنة 81، وقيل 83 هـ. انظر: "التقريب" ص 307 (3382)، "الكاشف" 1/ 561. (¬6) الطبري 11/ 183، وسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي حاتم 6/ 1999، =

ولا يحتاج معه إلى إضمار (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، قال ابن عباس (¬2): يريد بما (¬3) في النفوس: يعني من الخير والشر. قال أبو بكر: معناه بحقيقة ما في القلوب من المضمرات؛ فتأنيث {بذات} لهذا المعنى. قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} الآية، قال القرظي (¬4) يعني (¬5): ما من حيوان يدب، وأدخلت الهاء في الدابة؛ لأنه أريد به الجماعة التي تدب. وقال أبو إسحاق (¬6): الدابة اسم لكل حيوان مميز وغيره، وعلى هذا، الدابة: اسم من الدبيب، بني على هاء التأنيث وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكر (¬7) كان أو أنثى. ¬

_ = وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 579، والبغوي 4/ 161، و"زاد المسير" 4/ 76، والقرطبي 9/ 5. (¬1) قلت: بل الراجح بخلاف ذلك، فإن الهاء في (منه) تعود على اسم (الله) ولم يرد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا أخبرهم جل وعلا أن استخفاءهم عن الله جهلٌ منهم فقال: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. وقد رجح هذا القول الطبري 11/ 185، وابن عطية 7/ 241 قال: "هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى" وابن كثير 2/ 478. (¬2) "تنوير المقباس" 138. (¬3) بياض في (ب). (¬4) هذا القول ذكره البغوي 4/ 161، "زاد المسير" 4/ 78. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 50 عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} النور: 45. (¬7) كذا في النسخ، والصحيح (ذكرًا) بالنصب.

وقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، قال المفسرون (¬1): فضلا لا وجوبا، والله تعالى تكفل بذلك بفضله، وذهب بعض أهل المعاني إلى أن {عَلَى} هاهنا بمعنى (من) كقول الشاعر (¬2): إذا رضيت عليَّ بنو قشير أي: مني، ويدل على صحة هذه قول مجاهد (¬3): ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا. وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: حيث تؤوي إليها، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت، وهو قول ابن عباس (¬4) والربيع (¬5) واختيار الفراء (¬6) والزجاج (¬7) وابن الأنباري. قال الفراء: {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تأوي ليلاً أو نهارًا، ومستودعها ¬

_ (¬1) الثعبي 7/ 533، البغوي 4/ 161، "زاد المسير" 4/ 78، القرطبي 9/ 6. (¬2) هو: قحيف العقيلي، وعجزه: لعمر الله أعجبني رضاها وهو في "النوادر" ص481، "الكامل" 2/ 190، "الخصائص" 2/ 311، 389، "الهمع" 4/ 176، "اللسان" 3/ 1663 (رضي)، "الخزانة" 10/ 132. (¬3) الطبري 12/ 1، ابن أبي حاتم 6/ 2001، ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 580. الثعلبي 7/ 33 ب، البغوي 4/ 161 - 162، "زاد المسير" 4/ 78، القرطبي 9/ 6. (¬4) الطبري 12/ 2، عبد الرزاق 2/ 320، ابن أبي حاتم 6/ 2001، 2003، ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 581، البغوي 4/ 162، الثعلبي 7/ 34 أفي الهامش، القرطبي 9/ 8. (¬5) الثعلبي 7/ 34 أ، القرطبي 9/ 8، الطبري 12/ 2، ابن أبي حاتم 6/ 2003. (¬6) "معانى القرآن" 2/ 4. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 39.

7

موضعها الذي تموت فيه أو تدفن، ونحو هذا قال الزجاج وأبو بكر، ومضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام (¬1). قوله تعالى: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، قال ابن عباس (¬2) والمفسرون (¬3): اللوح المحفوظ. قال الزجاج (¬4): والمعنى أن ذلك ثابت في علم الله -عز وجل- ومثله قوله (¬5): {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] وذكرنا قبل هذا فائدة إثبات ذلك في قوله: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬6). 7 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} مضى تفسير هذا القدر من الآية في سورة "الأعراف" [54]. وقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يعني قبل أن يخلق السماء والأرض، قال كعب (¬7): خلق الله ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة ¬

_ (¬1) خلاصة ما ذكره في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أن المستقر في الرحم والمستودع في أصلاب الرجال. (¬2) "تنوير المقباس" 138. (¬3) الثعلبي 7/ 34 أ، البغوي 4/ 162، "زاد المسير" 4/ 79، "تفسير مقاتل" 144 أ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 39. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) الأنعام: 59. وقد نقل هنالك عن ابن الأنباري قوله: "وفائدة كتب الله ذلك في اللوح المحفوظ مع علمه، وأنه لا يفوته شيء، هو أنه -عز وجل- كتب هذه الأشياء وأحصاها قبل أن تكون؛ لتقف الملائكة على نفاذ علمه، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون في ذلك عبرة للملائكة الموكلين باللوح؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث من الأمور فيجدونه موافقًا له". (¬7) الثعلبي 7/ 34 أ، البغوي 4/ 162، القرطبي 9/ 8. قلت: هذا من الإسرائيليات، ويؤيدها ما روى الطبري 12/ 5، وابن أبي حاتم 6/ 2005 من طريق سعيد بن =

فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال أهل المعاني: وفي وقوف العرش على الماء، والماء غير قرار أعظم الاعتبار لأهل الأفكار. قال أبو إسحاق (¬1): وهذا يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض. وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال ابن عباس (¬2): أيكم أعمل بطاعة الله. قال أبو بكر: معناه: ليختبركم فيعلم وقوع الفعل منكم، الذي به تستحقون الثواب أو العقاب؛ وذلك أن الله تعالى لا يثيب ولا يعاقب بالسابق في علمه، لكنه يجازي بأفعال الفاعلين بعد وقوعها، فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ} وهو يعني [ليعلم] (¬3) إحسان المحسن وإساءة المسيء بعد وقوعها، وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬4). وقال آخر من أهل المعاني: ليعاملكم معاملة المختبر المبتلي مظاهرة في العدل؛ لئلا يتوهم أنه مجازي العباد بحسب ما في المعلوم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه. ¬

_ = جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}. قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. قال أحمد شاكر: رواه الحاكم في المستدرك 2/ 341، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 40. (¬2) "زاد المسير" 4/ 79، الثعلبي 7/ 34 أ، القرطبي 9/ 9. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 40.

8

قال أبو بكر: واللام في {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلقة بالفعل الأول {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يعني لكي يختبركم بالمصنوعات فيها من آياتها، فيثيب المطيع المعتبر بما يرى ويشاهد، ويعاقب أهل العناد للحق. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} إلى آخر الآية، قال أبو إسحاق (¬1): أعلمهم الله -عز وجل- أن القدرة على خلق [السموات والأرض] (¬2) تدل على بعث الموتى، ومعنى هذا ما ذكره؛ أبو بكر؛ وهو أنه قال: إنما ذكر الله تعالى جحد أهل الكفر البعث بعد خلق السموات والأرض للابتلاء؛ لأن الكفار كانوا معترفين بابتداء خلق الله الأشياء وأنكروا البعث، فعجب من أنهم يجحدون من البعث ما ابتداء (¬3) الخلق أعظم منه، فمن اعترف بالعظيم لزمه أن لا يجحد ما يصغر شأنه في جنب ما قد صدقه. وقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وليس هذا القول الذي ذكره الله -عز وجل- يوجب أن ينسب إلى السحر؛ لأن هذا خبر وليس بفعل ناقض للعادة، وقال أبو إسحاق (¬4): السحر باطل عندهم، وكأنهم قالوا إن هذا إلا باطل بيّن، يعني هذا القول الذي يقول لنا: أنا نبعث بعد الموت. وقال صاحب النظم: معنى السحر هاهنا الخداع، ومن هذا قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (¬5) أي مخدوعًا؛ لأن به سحرًا قد عمل به. 8 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} الآية، اللام في ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 40. (¬2) في (ج): (الأشياء). (¬3) هكذا في (ب)، وفي (ي): يجحدون من البعث من ما ابتداء الخلق أعظم منه. اهـ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 40. (¬5) الإسراء: 47، الفرقان: 8.

{وَلَئِنْ} لام القسم، وقوله تعالى: {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}: إلى أجل وحين معلوم، قاله ابن عباس (¬1)، ومجاهد (¬2)، وأهل التفسير (¬3). قال ابن الأنباري (¬4): والأمة هاهنا: المدة من أوقات الزمان. وفي قوله تعالى: {مَعْدُودَةٍ} [إشارة إلى القلة أو إلى العلم بتلك المدة؛ لأن الله تعالى قضى في سابق علمه لعذابهم وقتًا مؤقتًا وأمة معدودة] (¬5). وذكرنا ما قيل في الأمة عند قوله {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (¬6). وقوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي: ما يحبس العذاب عنا؛ تكذيبًا واستهزاءًا وإنكارًا لوقوعه. فقال الله -عز وجل-: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} قال ابن عباس (¬7): ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 7، عبد الرزاق 2/ 302، ابن أبي حاتم 6/ 2007. (¬2) الطبري 12/ 6، ابن أبي حاتم 6/ 2007. (¬3) الطبري 12/ 6، الثعلبي 7/ 34 ب، البغوي 4/ 163، القرطبي 9/ 9، "زاد المسير" 4/ 80. وقد روي هذا القول عن قتادة والضحاك وغيرهما كما في: الطبري 12/ 6. (¬4) "الزاهر" 1/ 150. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) البقرة: 128. وقال هناك: وقال الضحاك: "الأمة في اللغة تكون على وجوه: الأمة: الجماعة من كل شيء، من ذلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: فلان أمة وحده، أي يسد مسد جماعة، ويقال: فلان حسن الأمة، إذا مدح بالتمام واستجماع الخلق على الاستواء، ومنه قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}، بعد حين من الدهر وذلك لجماعة الشهور والأعوام .. ". (¬7) القرطبي 9/ 10، وغيره، وراجع هذا القول في تفسير سورة الحجر: 95، "البحر المحيط" 5/ 205.

9

وهو قتل جبريل المستهزئين، وقتل المؤمنين (¬1) المشركين يوم بدر. قال أبو بكر (¬2): يريد: إذا أخذتهم سيوف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه [لم تغمد عنهم] (¬3) حتى يباد أهل الكفر وتعلوا كلمة الإخلاص، قال أبو إسحاق (¬4): {يَوْمَ} منصوب بمصروف، والمعنى: ليس العذاب مصروفًا عنهم يوم يأتيهم. قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ}، قال ابن عباس (¬5): حلّ بهم، وقال مقاتل (¬6): دار بهم، وقال يمان (¬7): أحاط بهم، وقال الأخفش (¬8): نزل، [وقال الزجاج (¬9): أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء ما كسبوا، وكانوا به يستهزءون، فقوله: {مَا} المضاف إليه محذوف أي: جزاء ما كانوا به يستهزءون] (¬10) وهو العذاب؛ لأنهم كانوا يستهزءون وينكرون وقوع العذاب بهم. 9 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}، قال ¬

_ (¬1) في (ي): (المستهزئين). (¬2) "زاد المسير" 4/ 80. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 40. (¬5) ابن عطية 7/ 246 - 247. (¬6) "تفسير مقاتل" 44 أ. (¬7) ابن عطية 7/ 247، القرطبي 9/ 111،"معاني القرآن للنحاس" 3/ 333. (¬8) البغوي 4/ 163، "زاد المسير" 4/ 80، القرطبي 9/ 10، "مجاز القرآن" 1/ 285، الطبري 12/ 7، "هو سعيد بن مسعدة مولى بني مجاشع يلقب بالراوية، أحذق أصحاب سيبويه توفي سنة 215 هـ. انظر: "تاريخ العلماء النحويين" ص 85، الأعلام 3/ 102. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 41، "تهذيب اللغة" 1/ 708 (حاق). (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

10

المفسرون (¬1) يعني بهذا الوصف المذكور في هذه الآية والتي بعدها: الكافرين. وقال الزجاج (¬2): الرحمة هاهنا: الرزق، والإنسان اسم الجنس في معنى الناس، قال ابن عباس (¬3): نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال غيره (¬4): في عبد الله بن أبي أمية المخزومي. وقوله تعالى: {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}، قال ابن عباس (¬5): يريد يؤوسٌ (¬6) من رحمته كافر بالنعمة. وقال أهل المعاني: الآية صفة ذم؛ لأنه للجهل بسعة رحمة الله التي توجب قوة الأمل يستشعر اليأس (¬7)، وبيان عما يوجبه الخلق السوء من القنوط من الرحمة عند نزول الشدة. 10 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}، قال ابن عباس (¬8): يريد صحة وسعة في الرزق بعد مرض وفقر، وقال أهل المعاني: النعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة تظهر الحال بها؛ لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من نحو (حمراء) ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 80 نسبة إلى ابن عباس. القرطبي 9/ 10، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 334، البغوي 4/ 163، وضعف هذا القول ابن عطية 7/ 247 - 248. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 41. (¬3) "زاد المسير" 4/ 80، "البحر المحيط" 5/ 206، والقرطبي 9/ 10. (¬4) "زاد المسير" 4/ 80، القرطبي 9/ 10. (¬5) رواه الطبري 12/ 7 عن ابن جريج بنحوه. البغوي 4/ 163، الثعلبي 7/ 34 ب. (¬6) في (ب): (مؤنس). (¬7) في (ب): (الناس). (¬8) "زاد المسير" 4/ 80، القرطبي 9/ 11، الطبري 12/ 8 بمعناه.

11

و (عوراء)، وهذا فرق بين النعمة والنعماء. وقوله تعالى: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي}، يريد: الضُّرَّ والفقر، ومعنى السيئات: الخصال التي تسوء صاحبها. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}، قال ابن عباس (¬1): يريد يفاخر أوليائي بما وسعت عليه، وهذا بيان عما يوجبه بطر النعمة من تناسي حال الشدة، وترك الاعتراف بنعمة الله وحمده على ما صرف عنه من الضرّ مع المرح والتكبُّر على عباد الله. 11 - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُو} يعني (¬2) أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدة والمكاره، وهذا استثناء منقطع، وليس من الأول، ومعناه: لكن الذين صبروا، وهذا قول الأخفش (¬3)، والزجاج (¬4)، وابن الأنباري. وقال الفراء (¬5): هو استثناء متصل من قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ}؛ لأنه (¬6) في تأويل جمع كما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3]. قال أبو بكر: هذا ضعيف؛ لأنه يوجب أن تحت "الإنسان" مؤمنين وكافرين، وقد بين الله اختصاص الكفر معه بقوله: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 81. (¬2) "زاد المسير" 4/ 81. ابن أبي حاتم 6/ 2008 عن زيد بن أسلم. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 575. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 41. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 4. (¬6) في (ي): (الآية).

12

كَفُورٌ}، فإن ذهب ذاهب إلى أن المراد به كفر النعمة كان اتصال الاستثناء محتملا على ضعفه، وأهل العلم بالقرآن على الأول. وقوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أي: في الشدة والنعمة. 12 - قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} الآية، قال أهل التفسير (¬1): قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال له بعضهم: هلا ينزل عليك ملك يشهد لك بالصدق، أو تعطى كنزًا تستغني به أنت وأتباعك، قال مقاتل (¬2): فَهَمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدع سب آلهتهم، فأنزل الله هذه الآية. ومعنى قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي أنه لعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم، تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك. قال ابن الأنباري: وقد علم الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يترك شيئًا مما يوحى إليه إشفاقًا من موجدة أحد أو غضبه، ولكنه أكد عليه في متابعة الإبلاغ، كما قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الآية، وقال ابن عباس: هذا أدب من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتحريض على طاعته، والله من وراء ذلك له في العصمة. قوله تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}، الضائق بمعنى الضيق، والفرق ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 35 أ، البغوي 4/ 164، "زاد المسير" 4/ 82، الرازي 17/ 193، "البحر المحيط" 5/ 207. (¬2) "تفسير مقاتل" 144 أبمعناه، "زاد المسير" 4/ 82، البغوي 4/ 164، القرطبي 9/ 12، ورد على هذا القول ابن عطية 7/ 249 قال: "فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ولا ضاق صدره، وإنما ذكر ذلك للرد على أقوالهم".

بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض خلاف اللازم وضائق هاهنا أحسن، من وجهين: أحدهما: أنه عارض. والآخر: أنه أشكل بـ (تارك). وقوله تعالي: {أَنْ يَقُولُوا}، قال الفراء (¬1): تقديره: مخافة أن يقولوا وقال الزجاج (¬2): كراهة أن يقولوا. وقال غيرهما (¬3): التقدير (بأن يقولوا) أو (لأن يقولوا)، والمعنى: لعلك تارك بعض ما يوحى إليك مخافة [هذا القول منهم، أو كراهة هذا القول، أو تارك إياه لهذا القول منهم (¬4)، على ما ذكرنا من التقديرات، ومحل (أن) نصب؛ لأن الخافض ألقي فوصل الفعل، و (أن) من صلة قوله {تَارِكٌ}؛ لأن هذا القول منهم هو الحامل على أن يترك بعض ما يوحى إليه] (¬5)، والتأويل: قولهم (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) باعثك على أن نترك بعض ما يوحى إليك، والكناية في قوله {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} تعود إلى (ما) (¬6) {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} (¬7)، وإنما يضيق صدرك؛ لأنه يخاف الله في كتمانه وترك إظهاره، ويخاف لائمتهم في الإظهار فيضيق صدره. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 5. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 41. (¬3) الثعلبي 7/ 35 أ. (¬4) هنا زيادة: (أو لهذا القول منهم). (¬5) ما بين المعقوفين مكرر في (ي). (¬6) ساقط من (ي). (¬7) هكذا في جميع النسخ والأولى أن يقول: في قوله تعالى: {بَعْضَ مَا يُوحَى}.

13

وقال ابن الأنباري: التأويل وضائق بإظهاره صدرك. قال: ويجوز أن تكون {أَنَ} في موضع خفض بالرد على الهاء في به، يراد: وضائق صدرك بأن يقولوا لولا أنزل عليه (¬1) كنز. وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}، قال الزجاج (¬2): أي إنما عليك أن تنذرهم وتأتيهم من الآيات بما يوحى إليك، وليس عليك أن تأتيهم بشهواتهم في الاقتراح، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، أي حافظ لكل شيء، وذكرنا بيان هذا عند قوله {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (¬3) في آخر سورة يونس (¬4). 13 - قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} يعني مثل القرآن في البلاغة؛ وذلك أن القرآن من البلاغة في أعلاها، وأعلى البلاغة معجز. وقوله تعالى {مُفْتَرَيَاتٍ} أي: بزعمكم، أي إن أصبتم في تكذيب القرآن وقولكم فيه إنه مُفترى، يوجب عليكم أن تأتوا بالمعارضة، كما ادعيتم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقوله {مُفْتَرَيَاتٍ} للمقابلة لا لتحقيق وصف القرآن بأنه مفترى (¬5) {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي إلى المعاونة على ¬

_ (¬1) في (ي): (عليه). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 41. (¬3) في الأصل: (عند قوله .. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}) وهو خطأ. (¬4) قال عند قوله تعالى: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} يونس: 108: "أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، فانظروا لأنفسكم نظر من يطالب بعمله، من غير أن يطالب غيره بحفظه، كأنه قيل: بحفيظ من الهلاك، كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك". (¬5) وهذا كثير في أسلوب القرآن، ومنه قوله تعالى: كلي وَ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ =

المعارضة، وهذا أتمّ ما لِكون من التحدي (¬1) في المحاجة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم افتراه. وتفسير مثل هذه الآية قد سبق في سورة يونس عند قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]. قوله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [يعني المشركين، لم يستجيبوا لكم] (¬2) إلى المعارضة، والخطاب في قوله {لَكُمْ} (¬3) للنبي - صلى الله عليه وسلم -[وأصحاب في قول مجاهد (¬4)؛ لأنه قال: عني به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الفراء (¬5): هذا كقوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}، [يونس:83] يريد أن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية الأولى كخطاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -]، (¬6)، فكأنه قال: قولوا: فأتوا بعشر سور، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]. قال ابن الأنباري (¬7): العرب قد تذكر الاسم موحدًا ثم ترجع إلى قوم الاسم وأهله وأصحابه فيجمعون، من ذلك قول الشاعر (¬8): دالت علينا (¬9) يمينًا لا تكلمنا ... من غير (¬10) بأس ولا من ريبة حلفوا ¬

_ = مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} النحل: 126، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشوري: 40. (¬1) ساقط من (ب). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) ساقط من (ي). (¬4) الطبري 12/ 10، الثعلبي 7/ 35 أ، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 583. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 5. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "زاد المسير" 4/ 83، القرطبي 9/ 13، الثعلبي 7/ 35 أ، البغوي 4/ 165. (¬8) لم أقف عليه، وهو من بحر البسيط. (¬9) في (ب): (عليها). (¬10) في (أ، ب، ج): بزيادة (ما) وبها ينكسر البيت.

فجعل دالت لواحدة مؤنثة ثم رجع إليها وإلى قومها فجمع وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ}، قال ابن الأنباري: هذا خطاب لأهل الكفر بإضمار قول قبله، يراد به: فقولوا لهم: اعلموا أنما أنزل بعلم الله، أي أنزل والله عز وجل عالم بإنزاله، وعالم أنه حق من عنده، ويجوز أن يكون معنى (بعلم الله) أي بما أنبأ الله به من غيب ودلَّ (¬1) على ما سيكون وما سلف مما لم (¬2) يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً، والوجهان ذكرهما أبو إسحاق (¬3). وقال أبو بكر: اعلموا أنما أنزل بعلم الله الذي لكم فيه النفع والشفاء والرشد من أمره ونهيه ووعده ووعيده، وغير ذلك من تعليمه وتشديده، هذا الذي ذكرنا من أن قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مذهب المفسرين وأصحاب المعاني (¬4) وقال بعضهم (¬5): الخطاب فيه للمشركين؛ أي فإن لم يستجيبوا (¬6) لكم من تدعونهم إلى المعاونة ولا تهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليه الحجة {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}. وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهام (¬7) معناه الأمر، وقد ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) ساقط من (ي). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 42. (¬4) الثعلبي 7/ 35 أ، البغوي 4/ 165، ابن عطية 7/ 252، "زاد المسير" 4/ 83، القرطبي 9/ 13، ابن كثير 2/ 481. (¬5) رجحه الطبري 12/ 10، واستبعد الأول، ابن عطية 7/ 252، القرطبي 9/ 13، ورجحه الرازي 17/ 196، أبو حيان في "البحر" 5/ 209. (¬6) في (ب): (يستجيب). (¬7) ساقص من (ب).

15

ذكرنا ما فيه (¬1) عند قوله في تحريم الخمر: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬2)، والآية بيان عما يوجبه ترك المعارضة -مع التحدي بها، وتوفر الدواعي إليها- من ظهور المعجز المؤدي إلى العلم بصحة الأمر فيه. 15 - قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، المعنى: من يريد الحياة الدنيا، و (كان) في تقدير الزيادة، ولذلك جزم جوابه، وهو قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ}، هذا معنى قول الفراء (¬3)؛ لأن المعنى فيما بعد {كَانَ} (¬4)؛ فكأن {كَانَ} تبطل في المعنى، وحكى الزجاج (¬5) عن المبرد أن معنى {كَانَ} و (تكون) العبارة عن الأحوال فيما مضى وفيما يستقبل، و {كَانَ} تستعمل فيهما جميعًا، فعلى هذا معنى {كَانَ} في الشرط والاستقبال؛ لأن الشرط لا يقع بالماضي، والمعنى: من يكن يريد الحياة الدنيا كقول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه أي من يهبها، واختلفوا في نزول هذه الآية والتي بعدها، فقال ابن ¬

_ (¬1) في (ب): قبله. (¬2) المائدة:91. وقال هناك: "بين تحريم الخمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} إذ كان معناه فانتهوا، قال الفراء: ردد عليّ أعرابي: هل أنت ساكت؟ هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت! اسكت!. وقال غيره: إنما جاز في صيغة الاستفهام أن تكون على معنى النهي؛ لأن الله تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها، وإذا ظهر قبح الفعل للمخاطب، ثم استفهم عن تركه لم يسعه إلا الإقرار بالترك". (¬3) "معاني القرآن" 2/ 5. (¬4) في (ي): (قدكان). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 42. وانظر: "معاني الأخفش" 1/ 455.

عباس (¬1) في رواية عطاء: من كان يريد تعجيل الدنيا فلا يؤمن بالبعث ولا بالثواب ولا (¬2) بالعقاب، وهذا يدل على أن الآية نازلة في أهل الكفر. وقال قتادة (¬3): من كانت الدنيا همه وسدمه (¬4) ونيته وطلبته، جازاه الله في الدنيا بحسناته، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، وأما المؤمن فيجازى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة، واختار قوم (¬5) هذا الوجه في النزول، وقالوا: الآية في الكفار بدليل الآية التي بعدها، وقالوا: المؤمن يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته الدنيا، وعلى هذا معنى الآية أن من أتى من الكافرين فعلاً حسناً من إطعام جائع، وكسوة عار، ونصرة مظلوم من المسلمين عجل له ثواب ذلك في دنياه؛ بالزيادة في ماله، والتوسعة عليه في الرزق، وإقرار العين فيما خول، وهذا معنى قول سعيد بن جبير (¬6): {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، قال: ثواب ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، وليس له في الآخرة إلا النار، فإذا جاء هذا الكافر في الآخرة رد منها على عاجل الحسرة؛ إذ لا حسنة لها هناك. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 84. (¬2) ساقط من (ب). (¬3) الطبري 12/ 12، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 585، والثعلبي 7/ 35 أ، وابن كثير 2/ 481، ورواه الدارمي في المقدمة 1/ 81 عن الحسن. (¬4) السَّدَم -بفتحتين-: الولوع بالشيء واللهج به، وفي الحديث: "من كانت الدنيا همه وسدمه .. ". لسان العرب (سدم) 4/ 1976، "تهذيب اللغة" 2/ 1660. (¬5) البغوي 4/ 165، "زاد المسير" 4/ 84، الرازي 17/ 198، الثعلبي 7/ 35 ب. (¬6) الطبري 12/ 11، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 584 - 585، و"المحرر الوحيز" 7/ 254، و"زاد المسير" 4/ 84.

وقال ابن عباس (¬1) في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه أنها نزلت في أهل القبلة، وقال مجاهد (¬2): هم أهل الرياء. وقال الضحاك (¬3): من عمل عملًا صالحًا من أهل الإيمان من غير تقوى، عجل له ثواب عمله في الدنيا، واختار الفراء (¬4) هذا القول وقال: يقول (¬5): من أراد بعمله من أهل القبلة ثواب [الدنيا عجل له] (¬6) ثوابه ولم يبخس أي لم ينقص في الدنيا، ويؤكد هذا ما يروى أن معاوية لما أخبر بحديث أبي هريرة (¬7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الرياء من القراء وأصحاب الأموال والمقاتلين، إذا قيل لهم في الآخرة إنما فعلتم ليقال فلان قارئ، فلان سخي، وفلان جريء، فقد قيل ذلك، والحديث طويل، وفي آخره أن هؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة، ولما أخبر معاوية بهذا بكى بكاء شديدًا، ثم قال: صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ}، وقرأ الآيتين. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 84. (¬2) الطبري 12/ 12، الثعلبي 7/ 35 ب، "المحرر الوجيز" 7/ 253، البغوي 4/ 165، "زاد المسير" 4/ 84، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 584. (¬3) الطبري 12/ 12، ابن أبي حاتم 6/ 2011. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 6. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) أخرج الترمذي (2382) كتاب: الزهد، باب الرياء والسمعة، وأخرجه مسلم (1905) كتاب: الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، "شرح النووي" بنحوه، والطبري 12/ 13، الثعلبي 7/ 35 ب.

قال ابن الأنباري: فعلى هذا القول، المعني [بهذا الوصف] (¬1) قوم من أهل الإسلام يعملون العمل الحسن لتستقيم به دنياهم، غير متفكرين في الآخرة وما ينقلبون إليه، فهؤلاء يعجل لهم جزاء حسناتهم في الدنيا، فإذا جاءت الآخرة كان جزاؤهم عليها النار، إذا لم يريدوا بها وجه الله، ولم يقصدوا التماس ثوابه وأجره، فإن قيل: على هذا القول الآية الثانية توجب تخليد المؤمن في النار؛ لأنه قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}، قيل: من مات على الإيمان [لم يخلد في النار] (¬2) وظاهر هذه الآية يدل على أن من راءا بعمله ولم يلتمس ثواب الآخرة، ونوى بعمله الدنيا، بطل إيمانه عند الموافاة؛ لأن قوله تعالى {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} شامل للإيمان وفروعه. وقال ابن الأنباري: إن القوم لا يخلدون في النار، إذ كان عموم التوحيد معهم، وإنما يحرقون بالنار بالذنوب السابقة، ثم يخرجون منها إلى الجنة (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) مذهب أهل السنة والجماعة أن الموحد لا يخلد في النار وإن دخلها فإن مآله إلى الجنة، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: فإن قيل الآية تقتضي تخليد المؤمن المريد بعمله الدنيا في النار، قيل: إن الله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الدنيا وزينتها وهو النار، وأخبر بحبوط عمله وبطلانه، فهذا أحبط ما ينجو به وبطل، لم يبق معه ما ينحيه، فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها بل أراد به الله والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل، ونجاه هذا الإيمان من الخلود في النار، وإن دخلها بعمله الذي به النجاة المطلقة، فالإيمان إيمانان. إيمان يمنع دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن =

17

17 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}، يعني بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول عامة المفسرين (¬1)، وأما البينة فقال ابن عباس (¬2) في قوله {عَلَى بَيِّنَةٍ}: يريد على يقين، وقال الكلبي (¬3): البينة هاهنا الدين، وقال مقاتل ابن سليمان (¬4): البينة البيان، وقيل (¬5): يعني بها القرآن. وقوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}، أي ويتبعه، [والهاء تعود على (من)، (شاهد منه)؛ اختلفوا في هذا الشاهد] (¬6)؛ فقال ابن عباس (¬7) في رواية الضحاك: الشا هد جبريل عليه السلام، ونحو ذلك روى عكرمة (¬8) عنه، وهذا قول علقمة (¬9) وإبراهيم (¬10)، ومجاهد (¬11)، وأبي صالح (¬12) وأبي ¬

_ = تكون الأعمال لله وحده، وإيمان يمنع الخلود في النار، فإن كان مع المرائي شيء منه، وإلا كان من أهل الخلود، فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد. "تيسير العزيز الحميد" ص 536. (¬1) الثعلبي 7/ 36 أ، الطبري 12/ 14 - 15، "الدر المنثور" 3/ 586، "المحرر الوجيز" 7/ 257، "زاد المسير" 4/ 85. (¬2) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 218، "البحر" 5/ 201. (¬3) "زاد المسير" 4/ 85. (¬4) "زاد المسير" 4/ 85، "تفسير مقاتل" 144 ب. (¬5) ذكره ابن أبي حاتم 6/ 2013 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) الثعلبي 7/ 36 ب، والطبري 12/ 16، وابن أبي حاتم 6/ 2014، وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" 3/ 587. (¬8) الثعلبي 7/ 36 ب، الطبري 12/ 16، ابن أبي حاتم 6/ 2014. (¬9) الثعلبي 7/ 36 ب. (¬10) الثعلبي 7/ 36 ب، الطبري 15/ 273. (¬11) الثعلبي 7/ 36 ب، الطبري 12/ 16. (¬12) الثعلبى 7/ 36 ب، الطبري 12/ 16.

العالية (¬1)، واختيار الفراء (¬2)، والزجاج (¬3)، وابن قتيبة (¬4). قال ابن قتيبة: والشاهد من الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل؛ يريد أنه يتبعه ويؤيده ويسدده ويشهده. وقال ابن عباس (¬5) في رواية عطاء {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} يريد: لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول الحسن (¬6)، وقتادة (¬7)، ورواية محمد بن الحنفية (¬8) عن علي رضي الله عنه قال: قلت لأبي أنت التالي، قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}، قال: وددت أني هو، ولكن لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا المعنى قال الزجاج (¬9): {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وكان معه من الفضل ما يبين تلك البينة، وعلى هذا الكناية في {مَنْ}، تعود على {مِّن} وقيل: الشاهد هو: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 36 ب، الطبري 12/ 16. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 6. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 43. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 209. (¬5) "تفسير عطاء" / 106، وانظر: "الدر المصون" 6/ 300. (¬6) الطبري 12/ 14، الثعلبي 2/ 377، "زاد المسير" 4/ 85، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 218. (¬7) الطبري 12/ 15، الثعلبي 7/ 36، ابن أبي حاتم 6/ 2014، البغوي 4/ 167، "زاد المسير" 4/ 85. (¬8) الطبري 12/ 14، والثعلبي 7/ 36 ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2014، والطبراني في "الأوسط" 7/ 224 برقم (6824). قال الهيثمي: وفيه خليد بن دعيج وهو متروك "المجمع" 7/ 37، وأبوالشيخ كما في "الدر" 3/ 586، "زاد المسير" 4/ 85. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 43.

الحسين (¬1) بن علي رضي الله عنهما، وابن زيد (¬2)، وعلى هذا أراد أن صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجهه ومخائله كل ذلك يشهد له؛ لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كذاب ولا ساحر ولا كاهن، والكناية في {مِنْهُ} تعود على {مَنْ} ويراد به: النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحكى ابن الأنباري أن بعض أهل العلم ذهب إلى أن الشاهد ما يشهد بإعجاز القرآن العالمين وإفحامِه أهلَ البلاغة، فالشاهد ما يشهد بأن القرآن غير مقدور على مثله وهو معنى تحت ألفاظ القرآن، وهذا قول الحسين بن الفضل (¬3)، قال: هو نظم القرآن وإعجازه، وعلى هذا الكناية في (منه) تعود إلى معنى البينة، ومعناها البيان والبرهان، أي ويتلوه شاهد من ذلك البيان وهو نظمه وإعجازه، قال ابن قتيبة (¬4): وهذا أعجب إليّ؛ لأنه يقول: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} يعني التوراة قبل القرآن تشهد له بما قدم الله فيها من ذكره، قال أبو بكر: وذهب آخرون إلى أن الشاهد الإنجيل، ومعنى {وَيَتْلُوهُ} على هذا القول أي: ويتلو البينة التي معناها ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 15، الثعلبي 7/ 36 ب، "زاد المسير" 4/ 86، ابن أبي حاتم 6/ 2014. وقد خطأ أحمد شاكر في تعليقه على الطبري 15/ 271 النسبة إلى الحسين؛ لأن في "التاريخ الكبير" للبخاري 2/ 2/ 31، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 2/ 1/153 عند ترجمة سليمان العلاف الراوي هنا عن الحسين قالا: (إنه بلغه عن الحسن) والله أعلم. (¬2) الطبري 12/ 15، القرطبي 9/ 17، ذكره الثعلبي 7/ 36 ب، ولم يعزه. (¬3) الثعلبي 7/ 36 ب، "زاد المسير" 4/ 86، البغوي 4/ 167، القرطبي 9/ 17. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 209.

القرآن [في التصديق] (¬1)، شاهد من الله وهو الإنجيل، قال الفراء (¬2): {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} يعني الإنجيل يتلو القرآن، وإن كان قد (¬3) أنزل قبله، يذهب إلى أن يتلوه بالتصديق، فعلى هذا جعله الإنجيل تاليا للقرآن في تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن الأنباري (¬4): معنى يتلوه على هذا القول هو: أن الله تعالى ذكر محمدًا في الإنجيل وأمر بالإيمان به، فهو تال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لهذا المعنى، وإن كان نزوله قبل مولده وزمانه. وقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}، أي ومن قبل القرآن، أو من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو من قبل الإنجيل، وارتفع {كِتَابُ مُوسَى} بمضمر بعده، تأويله: ومن قبله كتاب موسى كذلك، أي تلاه في التصديق على ما ذكرنا في الإنجيل، قاله ابن الأنباري (¬5)، قال: ويجوز أن يكون رفعًا على أنه فاعل، أي ويتلوه كتاب موسى في التصديق. وذكر أبو إسحاق (¬6) أيضًا هذا الوجه فقال: ويكون {كِتَابُ مُوسَى} عطفًا على قوله {شَاهِدٌ مِنْهُ} أي: وكان يتلوه {كِتَابُ مُوسَى}؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر به موسى وعيسى في التوراة والإنجيل. قال: ويجوز أن يكون المعنى: وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلًا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ونصب {إِمَامًا} على الحال لأن كتاب موسى معرفة. ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 6. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) "زاد المسير" 4/ 86. (¬5) "زاد المسير" 4/ 87 (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 44.

وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وما اتصل به إلى قوله: {إِمَامًا وَرَحْمَةً} يقتضي جوابًا بحرف التشبيه وضد معناه، كما قال في موضع آخر: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] وهاهنا ترك الجواب. قال أبو إسحاق (¬1): والتقدير أفمن هذه حاله كان هو وغيره ممن ليس على (¬2) بينة سواء، فترك ذكر المضاد له؛ لأن فيما بعده دليلًا عليه وهو قوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} [هود: 24] الآية، ونحو هذا قال الفراء (¬3) فقال: ربما تركت العرب (¬4) جواب الشيء المعروف معناه، كما قال الشاعر (¬5): فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعًا ومثل هذا من التنزيل قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] الآية. ولم يؤت له بجواب، اكتفاء بما بعده من قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فالقانتون آناء الليل والنهار الذين يعلمون، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 43 بنحوه. (¬2) ساقط من (ب). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 6. (¬4) ساقط من (ب). (¬5) هو امرؤ القيس يريد: لو شيء أتانا رسوله سواك دفعناه بدليل قوله: "ولكن لم نجد لك مدفعًا". وفي الديوان 242 (أجدك لو شيء ..). "الخزانة" 4/ 227، الطبري 12/ 18، "تهذيب اللغة" 3/ 3845 (وحد)، "معاني القرآن" 2/ 7، "شرح المفصل" 9/ 7، 94، كتاب "الصناعتين" / 182، "اللسان" (وحد) 8/ 4783.

[وأضدادهم الذين لا يعملون] (¬1)، فاكتفى من الجواب بما تأخر من القول إذ كان فيه دليل عليه. وقال ابن قتيبة (¬2): هذا كلام مردود على ما قبله، محذوف منه الجواب للاختصار، وذلك أن الله تعالى ذكر قبل هذا الكلام قومًا ركنوا إلى الدنيا، ورضوا بها عوضًا من الآخرة فقال (¬3): {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود: 15] الآية. ثم قايس بين هؤلاء وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] كهذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، فاكتفى من الجواب بما تقدم، إذ كان فيه دليل عليه، وفي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لأصحابه ولمن آمن واتبعه، ألا ترى أنه قال {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، قال ابن عباس (¬4) في رواية عطاء: يريد الذين صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب، فمن قال بهذا القول قال: يعني أصحاب موسى وعيسى من كان منهم على الطريقة المثلى، واستقام على المنهاج، آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبد الله بن مسلم (¬5): يعني أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن الأنباري (¬6) قوله: {أُولَئِكَ} هو إشارة إلى أهل الحق والمتمسكين بالصواب من أمم موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وذلك أنه عز وعلا لما وصف محمدًا بما فضله به؛ من تمسكه بالهدى، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 208، وفيه اختلاف يسير. (¬3) ساقط من (جـ). (¬4) "تنوير المقباس" /139، الثعلبي 7/ 37 ب. (¬5) هو ابن قتيبة، ذكره في "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 209. (¬6) "زاد المسير" 4/ 88.

وشهادة التوراة والإنجيل بصدقه، أشار إلى المؤمنين به، المتمسكين بما يوجد في التوراة والإنجيل والقرآن من صدقه ووضوح أمره، فكانت الإشارة إلى القوم الذين دلَّ ما تقدم على ذكرهم، والكناية في {بِهِ} تعود إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ}، قال ابن عباس (¬1): يريد الذين كذبوا الأنبياء. والأحزاب: الفرق الذين كذبوا الأنبياء، سموا أحزابًا لأنهم تحزبوا على مخالفة أنبيائهم أي اجتمعوا. وقال الفراء (¬2): من الأحزاب أي من أصناف الكفار، فيدخل فيهم اليهود، والنصارى، والمجوس. وقال قتادة (¬3): هم اليهود والنصارى؛ يدلّ على صحة هذا ما روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي، إلا كان من أهل النار" (¬4)، قال أبو موسى: فقلت في ¬

_ (¬1) روي من طرق عن سعيد بن جبير. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 303، الطبري 12/ 19. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 8. (¬3) الطبري 12/ 20، و"زاد المسير" 4/ 88، وأخرجه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 587، وابن أبي حاتم 6/ 2016. (¬4) أخرجه أحمد 4/ 396، وأخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 261، 262، وقال: رواه الطبراني واللفظ له، وأحمد بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح، والبزار أيضًا باختصار. وأخرجه النسائي في "التفسير" 1/ 585. وأخرجه الحاكم 2/ 342 من حديث ابن عباس مرفوعًا وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه مسلم (153) كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته من حديث أبي هريرة، والطبري 12/ 19 من طرق.

نفسي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول مثل هذا إلا عن (¬1) القرآن، فوجدت الله يقول: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}. قال صاحب النظم: لما قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} دل ذلك على أن من يؤمن به فهو في الجنة؛ لأنه إذا أوجد الشيء بصفة وجب أن يوجد بضد تلك الصفة ضد ذلك الشيء. وقوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، قال مقاتل بن سليمان (¬2): الهاءان تعودان على القرآن، والمعنى فلا تك في مرية من القرآن إنه من الله، إن القرآن هو الحق من ربك [لا كما يقول المشركون من أنك تأتي به من قبل نفسك، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬3): فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار، إن ذلك هو الحق من ربك] (¬4). قال أبو بكر: فمن بني على هذا التأويل أعاد الهاءين على التعذيب؛ لأن قوله {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} معناه: فهو معذب، فرجعت الهاء على معنى الكلام، وكان تلخيصها (فلا تك في مرية من تعذيبه؛ إن تعذيبه الحق من ربك)، ولا يستنكر رجوع الهاء على حرف غير مذكور إذا كان المذكور يدلّ عليه. وقال ابن قتيبة (¬5): الخطاب في قوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره. ¬

_ (¬1) في (ب): (علي). (¬2) "تفسير مقاتل" 144 ب، "زاد المسير" 4/ 89. (¬3) "زاد المسير" 4/ 89، "تنوير المقباس" 139. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) "تأويل مشكل القرآن" 396.

18

وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} يعني أهل مكة (¬1). 18 - وقوله تعالي: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} معناه لا أحد أظلم منه، إلا أنه خرج مخرج الاستفهام، مبالغة في أنه أظلم لنفسه من كل ظالم، إذ لا يصح الجواب عمن هو أظلم منه، قال ابن عباس: يريد كذب على الله، مثل قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وذكرنا ما في هذا في سورة الأنعام (¬2). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ}، ذكرنا معنى العرض عند قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} (¬3)، قال أبو إسحاق (¬4): والخلق كلهم يعرضون على ربهم، وذكر عرض هؤلاء، توكيدًا لما لهم في الانتقام منهم. قال ابن الأنباري: ومعناه أن العذاب نازل بهم غير مندفع (¬5) عنهم، فذكر عرضهم تصحيحًا لتعذيبهم، وتحقيقًا لما ينزل بهم، فوقع الاختصاص في الآية لما كان المعنى: أولىك لا يفوتون الله ولا يسبقون (¬6) عذابه. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 89. (¬2) آية:21. وقد نقل هنالك عن ابن عباس قوله: "ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبًا فأشرك به الآلهة"، وقال أهل المعاني: (هذا الاستفهام معناه الجحد، أي لا أحد أظلم منه؛ لأنه جوابه كذلك فاكتفى من الجواب بما يدل عليه). (¬3) البقرة:31. قال هنالك: "ومعنى العرض في اللغة: الإظهار، ومنه عرض الجارية وعرض الجند، الليث: ويقال أعرض الشيء، أي بدا وظهر". (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 44. (¬5) في (ي): (منتفع). (¬6) في (ب): (يشفعون).

وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، الأشهاد: يجوز أن يكون جمع شاهد، مثل صاحب وأصحاب، وناصر وأنصار، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل: شريف وأشراف (¬1)، قال أبو علي: وهذا كأنه أرجح؛ لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على (فعيل) كقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] و {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]. قال ابن عباس (¬2): يريد الأنبياء والملائكة، وقال مجاهد والأعمش (¬3): هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا. وقال قتادة (¬4): يعني الخلائق، ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان (¬5): الأشهاد: الناس؛ كما يقال على رؤوس [الأشهاد، يعني على رؤوس] (¬6) الناس، فالأشهاد على هذه الأقوال: الأنبياء والملائكة والمؤمنون. قال ابن الأنباري (¬7): والفائدة في إخبار الأشهاد بما الله يعلمه، تعظيم الأمر على المشهود عليه، وحسم طمعه من أن يجد سبيلا إلى ¬

_ (¬1) ما سبق من كلام أبي عبيدة. "مجاز القرآن" 1/ 286. (¬2) "زاد المسير" 4/ 89، والبغوي 4/ 168، و"القرطبي" 9/ 18، وهو قول الطبري 12/ 20. (¬3) الطبري 12/ 20 - 21 عن مجاهد والأعمش وغيرهم. وانظر: "زاد المسير" 4/ 89، والبغوي 4/ 168، والقرطبي 9/ 18. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 304، وابن أبي حاتم 4/ 158 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 144 ب، "زاد المسير" 4/ 89. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "زاد المسير" 4/ 89.

19

التخلص، بمجاحدة أو مدافعة. وقال غيره: هو توبيخ لهم من الشهداء، وهتك سترهم، وإظهار فضيحتهم. وقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، قال ابن عباس: زعموا أن لله ولدًا وشريكًا، {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} قال: يريد المشركين، قال الزجاج (¬1): ومعنى لعنة الله: إبعاده من رحمته وعفوه (¬2). 19 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} مضى تفسيره مشبعًا في سورة آل عمران (¬3). قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، قال الزجاج (¬4): ذكر {هُمْ} ثانية على جهة التوكيد لشأنهم في الكفر. 20 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}، معنى الإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ يقال: أعجزني فلان: أي امتنع عن مرادي فيه، ومعنى {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} فائتين هربًا فيها، كما يهرب الهارب من عدو قد جدّ في طلبه، هذا معنى قول المفسرين في (معجزين)، فإن ابن عباس قال (¬5): سابقين. ¬

_ (¬1) في (ي): (الحجاج). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 44. (¬3) آل عمران: 99، وخلاصة ما ذكره هنالك ما نقله عن أهل المعاني "تأويل الآية: يطلبون أن يعوجوا سبيل الله، وأن يكون فيها عوج؛ لأن معنى {سَبِيلِ اللهِ} الطريق التي هي الوصلة إلى رضا الله، فهم يطلبون أن يعوجوا هذا الطريق، حتى لا يصل إلى رضا الله من سلكها. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 45. (¬5) ابن أبي حاتم 8/ 20.

وقال مقاتل (¬1): فائتين، وقال قتادة: هُرَّابا (¬2). قال ابن الأنباري (¬3): خصّ الله الأرض بالذكر، وهم لا يخرجون عن قبضته في كل موضع، على عادة العرب في قولهم: لا مهرب لك مني، ولا وزر (¬4) ولا نفق يعصمانك من عقابي، يعنون بالوزر الجبل، وبالنفق السَّرَب، وكلاهما من الأرض يلجأ إليه الخائف المطلوب، أعلم الله أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هربًا، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من جبال الأرضين وغوامض أمكنتها، وقد قال عطاء عن ابن عباس (¬5) في هذه الآية: يريد لم يعجزوني أن آمر الأرض فتخسف بهم. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}، قال ابن عباس (¬6): يريد ممن يعبدون فتمنعهم مني. وقال أبو إسحاق (¬7) في هذه الآية: أخبر الله أنه لا يعجزه انتقام في دار الدنيا، وأنه لا وَليّ لهم يمنعهم من انتقام الله عز وجل. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 145 أ. (¬2) ما سيق ذكره عنهم الثعلبي 7/ 38 أ، وقال به مقاتل بن حيان، ولم أجده في تفسير مقاتل بن سليمان. وانظر: ابن عطية 7/ 264، "زاد المسير" 4/ 90، القرطبي 9/ 19، ابن كثير 2/ 483. (¬3) "زاد المسير" 4/ 90 بنحوه. (¬4) الوزر هو: الجبل المنيع عند أهل اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3883، اللسان (وزر) 8/ 4823 - 4824. (¬5) "زاد المسير" 4/ 90، القرطبي 9/ 19. (¬6) "زاد المسير" 4/ 90، وهو قول الطبري 12/ 22 - 23. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 45 بنحوه.

قال ابن الأنباري (¬1): وهذا يقتضي محذوفًا تلخيصه: من أولياء يمنعونهم من عذاب الله، ويحاولون نصرتهم، فحذف عند شهرة المعنى، ثم استأنف فقال: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}، قال ابن عباس: يعني يوم القيامة، وقال الزجاج (¬2): وصف مضاعفة العذاب على قدر ما وصف من عظيم كفرهم بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبالبعث والنشور، وقال أبو بكر (¬3): استحقوا مضاعفة العذاب لإضلالهم الأتباع، واقتداء غيرهم بهم (¬4). وقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}، قال عطاء عن ابن عباس: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا شيئًا من عظمتي وجبروتي، يريد: أني حلت بينهم وبين الإيمان (¬5). وقال قتادة (¬6): هم صم عن الحق فلا يسمعون، وعمي فلا يبصرون ولا يهتدون، وقال الوالبي عن ابن عباس (¬7): حال الله بين أهل الكفر وبين أهل الطاعة في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا ففي قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}، وأما في الآخرة ففي قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، وهذا مذهب المفسرين في هذه الآية، ذكره الفراء وابن الأنباري. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 90. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 45. (¬3) "زاد المسير" 4/ 90، والبغوي 4/ 169. (¬4) في (ب): (به). (¬5) الطبري 12/ 22 - 23، الثعلبي 7/ 38 أ، صحيفة علي بن أبي طلحة / 284، "زاد المسير" 4/ 91، البغوي 4/ 169. (¬6) الطبري 12/ 22، الثعالبي 7/ 38 أ، ابن أبي حاتم 6/ 2018. (¬7) الطبري 12/ 22، الثعلبي 7/ 38 أ، البغوي 4/ 169، ونصه: "أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة ... إلخ ".

قال الفراء (¬1): {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي أضلهم الله عن ذلك في اللوح المحفوظ. وقال ابن الأنباري: ما كانوا يستطيعون السمع للحق والإبصار إليه لما سبق لهم عند الله من الشقاء. وذكر الفراء (¬2) وجها آخرًا فقال: فسره بعض المفسرين: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يفعلون، ثم حذفت الباء، ومثله في الكلام: لأخزينك بما عملت وما عملت، قال أبو بكر (¬3): وموضع (ما) (¬4) على هذا الجواب نصب بسقوط الخافض، والناصب لها {يُضَاعَفُ}؛ كما يقولون: تعلقت بعبد الله، وتعلقت عبد الله، قال الشاعر (¬5): نغالي اللحم للأضياف نيا ... ونبذله إذا نضج القدور وذكر أبو إسحاق (¬6) وجهًا آخر: أي من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقوله. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 8. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 8. (¬3) "زاد المسير" 4/ 91. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) البيت لرجل من قيس في "جمهرة اللغة" 3/ 1317، و"أساس البلاغة" (غلو)، ومعناه: نشتريه غاليًا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا. وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" 2/ 1385، 3/ 2682، "اللسان" مادة (رخص) 3/ 1616، "زاد المسير" 3/ 398، "معاني الفراء" 2/ 383، "تاج العروس" 9/ 288 (رخص)، (غلا)، "ديوان الأدب" 4/ 121. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 45.

22

قال أبو بكر (¬1): ومعنى هذا: ما كانوا يستمعون الحق ولا يبصرون ما فيه لهم (¬2) الرشد؛ لعنادهم وشدة عداوتهم، فصاروا لملازمتهم الإعراض عن الخير بمنزلة من لا يستطيعه، وإن كان مستطيعًا له في الحقيقة، كما تقول للرجل: ما تستطيع أن تنظر إلى من شدة العداوة، أي أنت بإيثارك الإعراض عني، بمنزلة من لا يستطيع النظر إلى، ومعلوم أنه لو شاء أن ينظر إليه لنظر. ثم بين جل وعز أن ضرر ذلك راجع عليهم، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، قال ابن عباس: أي صاروا إلى النار، وخسران النفس أعظم الخسران؛ لأنه ليس منها عوض. وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: بطل افتراؤهم في الدنيا فلم ينفعهم في الآخرة شيئًا (¬3)، قال الحسن (¬4): ذهبت عنهم الأوثان التي كانوا يؤملون بها الانتفاع. 22 - قوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [اختلفوا في معنى "لا جرم"؛ فقال ابن عباس (¬5): يقول: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون] (¬6)، وكذلك قال أكثر (¬7) المفسرين. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 1/ 346، "البحر" 2/ 766. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) انظر: "البحر المحيط" 5/ 212، ابن كثير 2/ 483، القرطبي 9/ 20، ابن عطية 7/ 266. (¬4) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 221. (¬5) "زاد المسير" 4/ 91. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) ساقط من (ي).

قال الفراء (¬1): "لا جرم" كلمة كانت في الأصل بمنزلة (¬2) (لا بد) و (لا محالة)، فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا)، ألا ترى أن العرب يقول: لا جرم لآتينك، فتراها بمنزلة اليمين، وكذلك فسرها المفسرون (¬3) في قوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ} حقا (¬4)، انتهى كلامه، وعلى هذا معنى {لَا جَرَمَ} أي لا قطع قاطع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون، إلا أنه كثر حتى صار كالمثل، فإذا قالوا: لا جرم، فكأنهم قالوا: حقًا، والأصل مما ذكرنا، ووضع موضع القسم في قولهم: لا جرم لأفعلن كذا، كما قالوا: حقًا لأفعلن، إذ جعلوه بدلاً من اليمين، وهذا قول في هذه الكلمة. وقال الزجاج (¬5): معنى لا جرمِ: (لا) نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك، {جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي: كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وذكرنا {جَرَمَ} هو بمعنى كسب في قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} (¬6). قال الأزهري (¬7): وهذا من أحسن ما قيل فيه. قال ابن الأنباري: (جرم) على هذا القول فعل ماض، وفاعله مضمر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 8. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) انظر: الطبري 12/ 23، البغوي 4/ 169، ابن عطية 7/ 266 - 268، "البحر المحيط" 5/ 212، الرازي 17/ 208، القرطبي 9/ 20. (¬4) ساقط من (ب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 46. (¬6) المائدة: 2. قال هنالك: وأكثر أهل اللغة والمعاني يقولون: لا يكسبنكم، ونقل ذلك عن جماعة منهم الفراء وابن الأنباري وأبو علي الفارسي وغيرهم. (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 587 - 588 (جرم)، قال: "وهذا من أبين ما قيل فيه".

فيه (¬1) من ذكر الكفر، و (أنَّ) منصوبة بـ (جرم) كما يقول القائل: كسب جفاؤك زيدًا غضبه عليك، وقد قال الأزهري: [وقد قيل] (¬2): (لا) صلة في {لَا جَرَمَ} والمعنى: كسب لهم عملهم الندامة، وقال قوم: (لا) رد على أهل الكفر كما ذكرنا، وجرم معناه أحق صحيح، والتأويل: حق كفرهم ووقوع العذاب والخسران بهم، وهذا مذهب الأخفش (¬3)، وسيبويه (¬4)، واحتجوا بقول الشاعر (¬5): ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أراد: أحقت الطعنة فزارة الغضب، ورواه بعضهم فزارةُ بالرفع يعني: حققت فزارة الغضب، وأنكر الفراء وأبو العباس هذا القول، قال الفراء (¬6): جرمت فزاره بالنصب، والمعنى جرمتهم الطعنة أن يغضبوا. ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 459. (¬4) "الكتاب" 3/ 138، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 84 - 85. (¬5) هو: أبو أسماء بن الضريبة، أو عطية بن عفيف، كما في "مجاز القرآن" 1/ 358، وقد ورد في "معاني القرآن" للأخفش 2/ 459، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 9، والزجاج 2/ 45، والخزانة 4/ 310، والكتاب 3/ 138. وقبله: يا كرز إنك قد قتلت بفارس ... بطل إذا هاب الكماة وجببوا كان كرز قد طعن أبا عيينة حصن بن حذيفة الفزاري في يوم الحاجر فقتل به فرثاه الشاعر، وقوله "جببوا" أي فروا. وانظر: "اللسان" (جرم) 1/ 605، "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 588، (جرم). (¬6) "معاني القرآن" 2/ 9.

23

23 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ}، معنى الإخبات في اللغة: الخشوع والتواضع والطمأنينة، وأصله من الخبت وهو ما تطامن من الأرض، قال العدوي (¬1): الخبت الخفي المطمئن، وخبت ذكره أي خفي، ومنه المخبت من الناس. أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه، وقال الفراء (¬2): ومعنى الإخبات الخشوع. وقال غيره: هو سكون الجوارح على جهة الخصوع لله، هذا معناه في اللغة. فأما التفسير فقال مجاهد (¬3) فيما روى عنه ابن جريج وابن أبي نجيح (¬4): اطمأنوا، قال ابن الأنباري: ولهذا المعنى عدي بـ"إلى"؛ لأنه أريد بالإخبات الطمأنينة، والطمأنينة (¬5) تصحبها (إلى)، والإخبات يستعمل مع اللام يقال: قد أخبت فلان لفلان. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 973، مادة (خبت)، و"اللسان" 2/ 1087 (خبت)، والعدوي هو: أبو النضر سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري، محدث، ثقة، حافظ، توفي سنة 155هـ أو سنة ست أو سبع. انظر: العبر 1/ 225، "التهذيب" 2/ 33 - 35، "تاريخ العلماء النحويين" /96. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 10. (¬3) "الطبري" 12/ 24، والثعلبي 7/ 38 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 590، وابن أبي حاتم 6/ 2019، والبغوي 4/ 170، و"زاد المسير" 4/ 93. (¬4) هو: أبو يسار عبد الله بن أبي نجيح المكي الثقفي بالولاء، ثقة رمي بالقدر والاعتزال ربما دلس، توفي 131هـ. انظر: "الميزان" 2/ 515، "التقريب" ص 326 (3662). (¬5) زيادة من (ي).

24

وقال قتادة (¬1): تابوا إلى ربهم، ودخلت (إلى) على هذا القول لمعنى التوبة (¬2). وقال مقاتل بن سليمان (¬3): أخلصوا إلى ربهم، ودخلت (إلى) علي هذا القول؛ لأنه محمول على: وجهوا إخلاصهم إلى ربهم. وقال عطاء عن ابن عباس (¬4) خشعوا، وهو اختيار الفراء (¬5)، وعلى هذا جعلت (إلى) بدلاً من اللام لتضارعهما في قولك: هديته للموضع وإلى الموضع، ذكره الفراء. قال أبو بكر (¬6): ويصلح أن يقال (إلى) (¬7) مصروفة إلى معنى وجهوا خشوعهم إلى ربهم. 24 - قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} الآية، قال المفسرون (¬8): قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ} إلى قوله {هُمُ الْأَخْسَرُونَ} نزل في المستهزئين ورؤساء المشركين، ثم نزل في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، ثم نزلت هذه الآية مثلا جامعًا للفريقين ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 24، وابن أبي حاتم 6/ 2020، الثعلبي 7/ 38 ب، البغوي 4/ 170، "زاد المسير" 4/ 92، وكلهم نقلوا عنه: أنابوا إلى ربهم. (¬2) في (ي): (التوحيد). (¬3) "تفسير مقاتل" 145 أ، "زاد المسير" 4/ 93. (¬4) رواه الطبري عن قتادة 15/ 290، وعبد الرزاق 2/ 304، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 590، وهو في "تنوير المقباس" / 139. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 10. (¬6) "زاد المسير" 4/ 93، والقرطبي 9/ 22. (¬7) في (ي): (أن). (¬8) "زاد المسير" 4/ 93.

فقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي مثل (¬1) فريق الكافرين وفريق المسلمين. والفريق: الطائفة من الناس. {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} ذكرنا معناه في قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، قال قتادة (¬2): هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر؛ فأما الكافر فصمّ عن الحق فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره، وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه قلبه وعمل به. وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}، قال الفراء (¬3): كان حقه هل يستوون، ولكن الأعمى والأصم [والبصير والسميع] (¬4) كأنهما واحد؛ لأنهما من وصف المؤمن والكافر (¬5)، وشرح ابن الأنباري (¬6) هذا الجواب فقال: الأعمى والأصم صفتان لكافر، والبصير والسميع لمؤمن، فرد الفعل إلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة، وليس بمحظور (¬7) عطف النعوت بعضها على بعض بحرف العطف والموصوف واحد، وقد ذكرنا هذا عند قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} (¬8) ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) الطبري 12/ 25، ابن أبي حاتم 6/ 2020، "زاد المسير" 4/ 93، القرطبي 9/ 21. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 7. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) ساقط من (ي). (¬6) "زاد المسير" 4/ 94، وانظر: الطبري 12/ 25، وابن عطية 7/ 268. (¬7) في (ب): (بمخصوص). (¬8) البقرة: 53. وفي الأصل: (وآتينا موسى ..) وهو خطأ. وقد ذكر عند هذه الآية ما ملخصه: أن الكتاب هو الفرقان، والعرت تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه. ويمكن أن يراد بالفرقان انفراق البحر، ويمكن أن يكون الفرقان نعتًا للكتاب، يريد: وإذ =

25

وأنشد (¬1): يظن سعيد وابن عمرو بأنني ... إذا سامني ذلا أكون به أرضى فنسق ابن عمرو على سعيد في المعنى، وهذا أعرب من الأول، إذا (¬2) نسق نعتًا (¬3) على اسم، ونسق النعت [على النعت] (¬4) أبعد من اللبس. وقوله تعالى: {مَثَلًا} نصب على التفسير، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس (¬5): أفلا تتعظون يا أهل مكة. 25 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي} ويقرأ بكسر الألف، فمن فتح (¬6) حمل على أرسلنا، أي أرسلناه بأني لكم نذير، وكان الوجه بأنه لهم نذير، ولكنه على الرجوع من الغيبة إلى خطاب (¬7) نوح قومه كما قال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} [الأعراف: 145] ثم قال: {فَخُذْهَا ¬

_ = آتينا موسى الكتاب الفرقان، أي الفارق بين الحلال والحرام، زيدت الواو كما تزاد في النعوت، فيقال: فلان حسن طويل وسخي. ولعل هذا القول هو المناسب لإيراده هنا. (¬1) البيت من الطويل، ولم ينسبه الواحدي، وهو بلا نسبة في "زاد المسير" 4/ 78، والمخاطب بهذا البيت هو سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان. (¬2) كذا في النسخ ولعله (إذْ). (¬3) ساقط من (ب). (¬4) ساقط من (ب). (¬5) "تنوير المقباس" /139، البغوي 4/ 170. (¬6) وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، انظر: "السبعة" 332، "التبصرة" 5/ 537، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 1/ 525، "الحجة" 4/ 315، الثعلبي 7/ 38 ب. (¬7) في (ي): (الخطاب).

26

بِقُوَّةٍ}، ذكره أبو علي (¬1)، ومن كسر (¬2) حمله على القول المضمر؛ لأنه مما قد أضمر كثيرًا في القرآن، والتقدير: فقال لهم: إني نذير مبين، والكلام في هذا على وجهه ولم يرجع إلى الخطاب بعد الغيبة. 26 - قوله تعالى: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، حمل أبو إسحاق قوله {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} على معنى نذير مبين؛ فقال (¬3): المعنى: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بالإنذار {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي (¬4) أنذركم لتوحدوا الله وتتركوا عبادة غيره، وحمل أبو علي (¬5) {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} على الإرسال، كما حمل {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} كأنه قال نوح: أرسلت بأني لكم نذير مبين، وبأن لا تعبدوا إلا الله، ومن قرأ "إني" بكسر الألف (¬6) كان قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} اعتراضًا بين الفعل والمفعول، هذا معنى كلامه، وقول أبي إسحاق أظهر. وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، قال الزجاج (¬7): إنما وصف اليوم بالأليم؛ لأن الإيلام فيه يقع، والمعنى عذاب يوم مؤلم. ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 315. (¬2) سيأتي تخريج القراءة بعدُ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 46. (¬4) في (ي): (أني). (¬5) "الحجة" 4/ 316. (¬6) بها قرأ نافع وابن عامر وحمزة. انظر: "السبعة" 332، "التبصرة" 538، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكى 1/ 525، "الحجة" 4/ 315، الثعلبي 7/ 38 ب. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 46، وعبارته (إنما وصف اليوم بالألم؛ لأن الألم فيه يقع، والمعنى عذاب يوم مؤلم أي: موجع).

27

27 - قوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، قال ابن عباس (¬1) والمفسرون (¬2): يعني: الأشراف ورؤساء القوم وكبراءهم {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} لا فضل لك علينا {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي لم يتبعك الملأ منا وإنما اتبعك أخساؤنا، قال ابن عباس (¬3): يريد: المساكين الذين لا عقول لهم ولا شرف ولا مال، وهذا كقوله في الشعراء: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. قال الزجاج (¬4): نسبوهم إلى الحياكة، والصناعات لا تضر في باب الديانات، والرذل (¬5) الدون من كل شيء في منظره وحالاته، ورجل رذل الثياب، والفعل رذل يرذل رذالة، وأرذل الشيء جعله رذلًا؛ يقال: أرذل فلان دراهمي، فالأراذل (¬6) يجوز أن تكون جمع الجمع، والواحد رذل والجمع أرذل (¬7) ثم يجمع على أراذل، كقولك: كلب وأكلب وأكالب، ويجوز أن يكون جمع الأرذل إذا جعلته اسمًا كالأساود في جمع الأسود من الحيات، هذا قول بعضهم، قال: الأصل فيه هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا هو الأرذل، فصارت الألف واللام عوضًا من الإضافة. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 140. (¬2) البغوي 4/ 171، ابن عطية 7/ 270، ابن كثير 2/ 484، الرازي 17/ 211، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 47، "تفسير مقاتل" 145 أ. (¬3) القرطبي 9/ 23. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 95، القرطبي 9/ 23، "تهذيب اللغة" 2/ 1397 (رذل). (¬5) في (ب): (الرذال). (¬6) في (ب): (فالأرذال). (¬7) في (ب): (أرذال).

وقوله تعالى: {مَا نَرَاكَ}، {نَرَاكَ} عند الفراء (¬1) لغو اعترض به وكأنه قيل: وما اتبعك، قال أبو علي (¬2): لا يجوز أن يكون "نراك" اعتراضًا؛ لأنه قد تعدى إلى المفعول فلا يحسن الاعتراض به، ولو لم يتعد لحسن، كما تقول: زيد ظننت منطلق، ولو ألغيته وقد عديته إلى مفعول لم يجز، فإن قلت فقد قال الشاعر (¬3): وما أراها تزال ظالمة ... تحدث لي قرحة وتنكأها فعدى أرى إلى الضمير، وجعل أراها اعتراضًا، قيل: إن الضمير في قوله (أراها) كناية عن المصدر [فلا يقتضي مفعولًا ثانيًا، وفي قوله "نراك" المفعول للخطاب، والخطاب لا يكون كناية عن المصدر] (¬4)، فلا تكون الآية في قياس البيت. وقوله تعالى: {بَادِيَ الرَّأْيِ}، البادي (¬5): الظاهر، من قولك: بدا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 11، ولم يقل الفراء بأنها لغو، وإنما قال: "كأنه حذف (نراك)، وقال {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}. (¬2) "الحجة" 4/ 320. (¬3) ابن هرمة. هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة القرشي من الخلج وهم من قيس بن الحارث بن فهر. سكن المدينة وهو من آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم، مات سنة 150هـ تقريبًا. انظر: "طبقات الشعراء" 20، و"تاريخ بغداد" 6/ 127. والبيت في "ديوانه" (56) وفيه: تظهر لي قرحة وتنكؤها، وانظر: السيوطي 277، 279، "تاج العروس" (اقط) 19/ 134، أساس البلاغة /402 (لبأ)، الدرر 1/ 81، 207، وهو بلا نسبة في الهمع 1/ 111، 248، "تهذيب اللغة" 15/ 483، "اللسان" (أنف) 9/ 14. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) "تهذيب اللغة" (بدا) 1/ 287 - 288.

الشيء إذا ظهر، ومنه يقال للبرية: بادية لظهورها وبروزها للناظر، واختلفوا في معنى {بَادِيَ الرَّأْيِ} فذكر أبو إسحاق (¬1) فيه وجهين: أحدهما: اتبعوك في الظاهر، وباطنهم على خلاف ذلك. قال: ويجوز أن يكون: اتبعوك في ظاهر الرأي، ولم يتدبروا ما قلت ولم يتفكروا. والوجه الأول روى معناه عطاء الخراساني عن ابن عباس (¬2): في قوله {بَادِيَ الرَّأْيِ} قال: فيما ظهر لنا. وذكر ابن الأنباري (¬3) وجهًا آخر، فقال: معناه اتبعك سفلتنا أو سقطاؤنا، فيما يظهر من أمرهم لنا ولغيرنا، أي الذي وصفناهم به من الانتقاص لهم والازدراء بهم ظاهر لجميع من يراهم، وليس ذلك أمرًا يغيب ويغمض فيخالفنا فيه غيرنا. قال: وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل بن سليمان (¬4)، و {الرَّأْيِ} على هذا من رأي العين، لا من رأي القلب، وكذلك في الوجه الأول الذي ذكره الزجاج، ويؤكد ما ذكره ابن الأنباري من مذهب مقاتل بن سليمان: ما رواه عبد الوهاب بن مجاهد (¬5)، عن أبيه (¬6) قال: معناه إلا الذين هم أراذلنا رأي ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 47، وانظر: "تهذيب اللغة" (بدا) 1/ 287 - 288. (¬2) الطبري 12/ 28، وابن المنذر كما في "الدر" 3/ 590. (¬3) " الزاهر" 1/ 226، "زاد المسير" 4/ 96. (¬4) "زاد المسير" 4/ 96، "تنوير المقباس" 145 أ. (¬5) هو: عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، روي عن أبيه، كذبه الثوري وضعفه وكيع وأحمد وابن معين وأبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 496، "تهذيب التهذيب" 2/ 640. (¬6) في (ب): (مجاهد).

العين (¬1). هذا كله على قراءة من قرأ (بادي) من غير همز (¬2)، ومن قرأ بادئ بالهمز (¬3) فقال أبو عليّ الفارسي (¬4): هاتان الكلمتان يعني: بادي وبادئ متقاربتان في المعنى؛ لأن الهمز فيها بمعنى: ابتداء الشيء وأوله، واللام إذا كانت واوًا كان المعنى: الظهور، وابتداء الشيء يكون ظهورًا، وإن كان الظهور قد يكون ابتداء وغير ابتداء، ولذلك ما (¬5) تستعمل كل واحدة من الكلمتين في موضع الأخرى كقولهم: أما بادي بدء فإني أحمد الله، وأما بادئ باد فإني أحمد الله. وأما المعنى على هذه القراءة، فقال أبو إسحاق (¬6) والزجاج (¬7): اتبعوك ابتداء الرأي، أي حين ابتدأوا ينظرون، ولو فكروا [لم يتبعوك، ونحو هذا قال ابن الأنباري (¬8): أي ابتدءوك أول ما ابتدؤوا ينظرون، ولو فكروا] (¬9) لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك. ¬

_ (¬1) البغوي 4/ 171، الثعلبي 7/ 39 أ. (¬2) وقرأ بها السبعة غير أبي عمرو، "السبعة" ص 332، "التبصرة" ص 538، "الكشف" 1/ 526، "الحجة" 4/ 316. (¬3) وقرأ بها أبو عمرو، "السبعة" 332، "التبصرة" ص 538، "الكشف" 1/ 526، "الحجة" 4/ 316. (¬4) "الحجة" 4/ 317. (¬5) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: ولذلك كثيرًا ما تستعمل. "الحجة" 4/ 317. (¬6) هو الثعلبي 7/ 39 أ. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 47. (¬8) "تهذيب اللغة" (بدا) 1/ 287 - 288، "زاد المسير" 4/ 96. (¬9) ما بين القوسين، ساقط من (ب) و (ج).

ونحوه قال أبو علي (¬1): أراد اتبعوك في أول الأمر من غير أن يتبعوا الرأي بفكر وروية فيه. وهذه الأقوال معناها واحد، وذكرتها لزيادة البيان، قال غير هؤلاء: معنى قوله: {أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} أول ما نراهم نزدريهم ونسترذلهم. قال ابن الأنباري (¬2): ويجوز لمن ترك الهمز في بادي أن ينوي اصطحاب الهمز ويحتج بأن الهمز مُلَيَّن ومعناه مطلوب، وبنحو من هذا قال أبو علي (¬3)، وقد يجوز في قول من همز أن يخفف ويقول: بادي، فتقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، فيكون كقولهم (¬4): (مِيَر) في جمع ميرة، و (ذِيَب) في جمع ذيبة. قال أبو بكر: وانتصاب المهموز وغير المهموز بالاتباع على مذهب المصدر، أي اتبعوك اتباعًا ظاهرًا أو اتباعًا مبتدأ. وقال أبو إسحاق (¬5): فأما نصب {بَادِيَ الرَّأْيِ} فعلى اتبعوك في ظاهر الرأي، وعلى ظاهر الرأي، ومن قال: بادي فعلى ذلك نصبه. وهذا الذي قاله أبو إسحاق مخالف لما قاله أبو بكر، وشرح أبو علي (¬6) قولة أبي إسحاق، وذلك أنه لما قال: في ظاهر الرأي، وعلى ظاهر الرأي جعله ظرفًا فقال أبو علي: اسم الفاعل جاز أن يكون ظرفًا كما جاز في (فعيل) ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 317. (¬2) "زاد المسير" 4/ 96. (¬3) "الحجة" 4/ 318 بنحوه. (¬4) في (ب): (قولهم من غير كاف). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 47. (¬6) "الحجة" 4/ 318 بتصرف.

نحو قريب ومليء؛ لأن (فاعلًا) و (فعيلاً) يتعاقبان على المعنى، نحو عالم وعليم وشاهد وشهيد ووالي وولي، قال: والعامل في هذا الظرف هو قولى: "اتبعك"، التقدير: ما اتبعك في أول رأيهم، أو في ما ظهر من رأيهم، إلا أراذلنا، فأخّر الظرف، وأوقع بعد (إلا) ولو كان بدل الظرف غيره لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: ما أعطيت أحدًا إلا زيدًا درهمًا، فأوقعت بعد (إلا) اسمين لم يجز؛ لأن الفعل أو معنى الفعل في الاستثناء يصل إلى ما انتصب بتوسط الحرف [ولا يصل الفعل بتوسط الحرف] (¬1) إلى أكثر من مفعول، ألا ترى أنك لو قلت: استوى الماء والخشبة، فنصبت الخشبة لم يجز أن تتبعه اسمًا آخر ينصبه، كذلك المستثنى إذا لحقته (إلا) وأوقعت بعدها اسمًا مفردًا لم يجز أن تتبعه آخر، وجاز ذلك في الظرف لأن الظرف قد اتسع فيه في مواضع، ألا ترى أنهم قالوا: كم في الدار رجلاً ففصلوا بينهما في الكلام (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}، قال ابن عباس (¬3): يريد التكذيب له ولما جاء به من النبوة، وهل الفضل كله إلا بالنبوة، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} يريد ليس هذا من الله. قال ابن الأنباري (¬4): وجمعت الكاف في خطاب نوح بعد توحيدها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) إلى هنا انتهى النقل من "الحجة" 4/ 319. (¬3) لم أجده عن ابن عباس، وهو قول الطبري 12/ 27، ابن عطية 7/ 273، القرطبي 9/ 24. (¬4) الطبري 12/ 27 - 28.

28

في أول الآية؛ لأنه ذهب إلى مخاطبة نوح وأصحابه، كما قال عزت أسماؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فجمع بعد التوحيد. 28 - قوله تعالى: {قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، قال ابن عباس: يريد على يقين من ربوبية ربي (¬1) وعظمته، وروي عنه: على بصيرة ومعرفة (¬2). وقال أهل المعاني: عني بالبينة هاهنا: البرهان من جهة المعجزة التي تشهد بصحة النبوة، وخصهم بهذا في المناظرة؛ إذ هو طريق العلم بالحق، لا ما التمسوا من (¬3) اختلاف الخلق في قولهم {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}. قال ابن الأنباري (¬4): ودخول الشرط في قوله {إِن كُنتُ} لا يوجب شكًا لحق النبي في أمره، لكن الشك لاحق للمخاطبين، وتلخيص الكلام: قل أرأيتم إن كنت على بينة من ربي عندكم، وفيما يصح من عقولكم وتقبله أفهامكم، فدخل الشرط في كلام (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الترتيب. وقوله تعالى: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}، قال ابن عباس (¬6): يريد النبوة، قال أبو بكر: وإنما جعلت رحمة؛ لأن الله عز وجل ينتاش (¬7) بها الخلق ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) البغوي 4/ 171، "زاد المسير" 4/ 96، الطبري 12/ 28، "مشكل القرآن وغريبه" ص 210. (¬3) في (ي): (أما). (¬4) "زاد المسير" 4/ 96. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) "تنوير المقباس" /140، "زاد المسير" 4/ 97، القرطبي 9/ 25، ابن كثير 2/ 485. (¬7) في (ي): (ساتين). ومعنى ينتاش، من نوش، ومن التناوش أي التناول. مختار =

من العطب والهلكة، وقال بعض أهل المعاني (¬1): وذكر الرحمة هاهنا نقضًا عليهم فيما ادّعوه من أنه ليس عليهم (¬2) فضل، فبين ذلك بالنبوة والهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم. وقوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}، ذكر ابن الأنباري (¬3)، وأبو علي (¬4) وغيرهما، فيه وجهين: أحدهما: أن معناه: فخفيت عليكم؛ لأن الله عز وجل سلبكم علمها ومنعكم معرفتها لعنادكم الحق، وأنشد أبو علي قول رؤبة (¬5): ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى في الحائرين العمه أي خفي الهدى. ألا ترى أن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة، قال: ومن هذا قيل للسحاب العما؛ لإخفائه ما يخفيه كما قيل له الغمام. الوجه الثاني: أن يكون عموا هم عنها، ألا ترى أن الرحمة لا تعمى وإنما يُعمى عنها، فيكون هذا كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، ونحو ¬

_ = الصحاح 685. ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} سبأ: 52. (¬1) "زاد المسير" 4/ 97. (¬2) في (ب): تكرار (فيما ادعوه من أنه ليس عليهم). وقوله: (ليس عليهم فضل) كذا في جميع النسخ ولعل فيه سقط هنا (له) فيكون: ليس له عليهم فضل. (¬3) "زاد المسير" 4/ 97. (¬4) "الحجة" 4/ 322. (¬5) البيت لرؤبة بن العجاج، من أرجوزة يصف بها نفسه، برواية "الجاهلين" بدلاً من "الحائرين" في ديوانه، والرجل العمه: المتردد في رأيه أو أعمى القلب. انظر: ديوانه / 166، و"اللسان" 5/ 3114، (عمه)، و"شرح شواهد الشافية" 202، و"شرح شواهد العيني" 3/ 345.

ذلك مما يقلب إذ لم يكن فيها إشكال، وفي التنزيل: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} (¬1)، قال الشاعر (¬2): ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع وهذا مذهب الفراء (¬3)، والوجه الأول معناه (¬4): خفيت عليكم بإخفاء الله تعالى؛ لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي إليها، والوجه الثاني معناه القلب، وهو تصرف في الكلام من غير إخلال بالمعنى (¬5)، إذ هو ظاهر للأفهام، وهذا قراءة عامة القراء (¬6)، ويؤكده إجماعهم على قوله {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} (¬7) أنه بالتخفيف. وقرأ أهل الكوفة (¬8) {فَعَمِيَتْ} مشددة مضمومة العين، قال أبو ¬

_ (¬1) إبراهيم: 47. (¬2) من شواهد سيبويه، أراد مدخل رأسه الظل، الكتاب 1/ 92، أمالي المرتضى 1/ 55، "تأويل مشكل القرآن" /194، "معاني القرآن" 2/ 80، السيرافي 1/ 245، "الدرر" 2/ 156، الهمع 2/ 123. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 12. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) ساقط من (ب). (¬6) قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، (فعميت) بتخفيف الميم وفتح العين، "السبعة" /332، "الحجة" 4/ 321، "التبصرة" / 538، "الكشف" 1/ 527، إتحاف ص 255 - 256، النشر 3/ 114. (¬7) القصص / 66، وقد قرئت بالتخفيف بإجماع القراء. انظر: "التبصرة" 5/ 538، "الكشف" 1/ 527، "إتحاف فضلاء البشر" ص 255 - 256، "النشر" 3/ 114. (¬8) قرأ بها حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، السبعة / 332، "الحجة" 4/ 322، "التبصرة" / 538، "الكشف" 1/ 527، "إتحاف" ص 255 - 256، "النشر" 3/ 114.

بكر (¬1): معناه: فعماها الله تعالى عليكم؛ إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء، يؤكد هذا التأويل وهذه القراءة: قراءة أبي "فعماها عليكم" (¬2)؛ يعني: الله؛ لأنه اتصل بذكره جل وعز، قال أبو إسحاق (¬3): هذا ما أجابهم به من قولهم: إن الذين اتبعوك إنما اتبعوك غير محققين، [فأعلمهم أنهم محققون] (¬4) بهذا القول؛ لأنه إذا كان على بينة فمن آمن به فعالم بصير، ومن لم يفهم البينة فقد عمي عليه الصواب. قوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}، قال أبو بكر (¬5): الهاء تعود على الرحمة والمعنى: أنلزمكم قبولها، قال: وإلي هذا المعنى ذهب مقاتل بن سليمان قال المفسرون وأهل المعاني (¬6): يقول: لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا ما أنتم له كارهون، والدليل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس "أنلزمكموها من شطر أنفسنا" (¬7) يعني من تلقاء أنفسنا، وهذا استفهام معناه الإنكار، يعني لا نقدر على ذلك، والذي عليّ أن أدل بالبينة، وليس عليّ ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 97. (¬2) ذكرها مكي في كتاب الكشف 1/ 527، وعزاها للأعمش، وعزاها في الإتحاف ص 255 - 256 لأبي والأعمش، وعزاها القرطبي 9/ 25، لأبي، وعزاها الطبري 12/ 28 لابن مسعود. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 47. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) "زاد المسير" 4/ 97. (¬6) الطبري 12/ 28، "زاد المسير" 4/ 97، القرطبي 9/ 25، ابن عطية 7/ 276، "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 210، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 343. (¬7) الطبري 12/ 28، 29، وذكر أيضًا أنها قراءة أبي، ابن عطية 7/ 276، "الدر المنثور" 3/ 591.

أن أضطركم إلى المعرفة إذ كرهتم. وروى سعيد عن قتادة (¬1) قال: والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك ولم يملكه (¬2)، وفي {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} ثلاث مضمرات: ضمير المتكلم، وضمير المخاطب، وضمير الغائب، وأجاز الفراء (¬3) إسكان الميم الأولى، وروى ذلك عن أبي عمرو؛ قال: وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم، وهي أيضًا مرفوعة وقبلها كسرة، وتستثقل كسرة بعدها ضمة، أو ضمة بعدها كسرة، قال الزجاج (¬4): وجميع النحويين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في اضطرار الشعر، فأما ما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء (¬5)، وروى عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق، وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقوله (¬6): ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 29 وفيه (ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه)، ابن أبي حاتم 6/ 2023. وانظر البغوي 4/ 171، "زاد المسير" 4/ 97، القرطبي 9/ 26، "الدر المنثور" 3/ 591. (¬2) في (ي): (لم يهلك ذلك ولم يملكه). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 12. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 48، وعبارته: "وسيبويه والخليل لا يجدان إسكان حرف الإعراب إلا في اضطرار، فأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبط ذلك عنه". (¬5) الصحيح (القراء). انظر: "البحر المحيط" 5/ 217. (¬6) البيت لامرئ القيس، عجزه: إثما من الله ولا واغل وفي "ديوانه" ص 122: (فاليوم أسقي ..)، وانظر: "الكتاب" 2/ 297، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 87، =

29

فاليوم أشربْ غير مستحقب 29 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه}، قال ابن الأنباري (¬1): الكناية تعود (¬2) على معنى الرحمة في قوله: {وَآتَانِي رَحْمَةً}، وهي معنى الهدى والإيمان. وقال غيره (¬3): الهاء (¬4) كناية عن تبليغ الرسالة، وقد سبق معناه فاستدل عليه وكنى عنه، وكذا قال المفسرون: لا أسألكم جعلاً على تبليغ الرسالة، وقال عطاء: يريد على ما أدعوكم إليه. قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}، قال ابن جريج (¬5): إنهم سألوه طرد الذين آمنوا به ليؤمنوا به؛ أنفة من أن يكونوا معهم على سواء. وقال أبو إسحاق (¬6): هذا يدل على أنهم سألوه أن يطردهم. وقال ابن الأنباري: سألوه (¬7) طرد المؤمنين عنه، الذين هم سفلة عندهم، [فقال: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون ربهم فيجزيهم بإيمانهم] (¬8)، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغر شؤونهم، وهذا معنى قول أبي ¬

_ = واحتقب الإثم واستحقبه احتمله، ومعناه: "حلت لي الخمر فلا آثم بشربها إذ قد وفيت بنذري فيها. وكان قد نذر ألا بشربها حتى يدرك ثأر أبيه" القرطبي 9/ 26 وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 275. (¬1) "زاد المسير" 4/ 97. (¬2) في (ي): (تفرد). (¬3) الثعلبي 7/ 39 أ، الطبري 12/ 29، البغوي 4/ 171، القرطبي 9/ 26. (¬4) في (ي): (إنها). (¬5) الطبري 12/ 29 - 30، "زاد المسير" 4/ 98. (¬6) كذا في جميع النسخ ولعله ابن إسحاق. البغوي 4/ 171، ابن عطية 7/ 276. (¬7) في (ب): (ساموه). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

30

إسحاق (¬1) في قوله {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}. وقوله تعالى: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}، قال ابن عباس: يريد: تجهلون ربوبية ربكم وعظمته (¬2)، وقال أهل المعاني: تجهلون أن هؤلاء خير منكم لإيمانهم بربهم وكفركم به. 30 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ}، قال الفراء (¬3): يقول: من يمنعني من عذاب الله، وكذلك ما في القرآن منه (¬4)، والنصر من كذا: المنع منه، ومعنى الآية إذا طردت المؤمنين كان ذلك ذنبًا ارتكبته، فمن يدفع عني عذاب الله، وهذا دليل على أن العالم يلزمه مصابرة المتعلم، ولا يجوز له طرده والامتناع عما يطلب من العلم، ولو لم يصبر كان تعرض للعقوبة. 31 - قوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}، ذكرنا معنى الخزائن في مثل هذه الآية في سورة الأنعام (¬5)، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد مفاتيح الغيب. قال أبو بكر (¬6): الخزائن هاهنا يعني بها غيوب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 48. (¬2) الطبري 12/ 35، "زاد المسير" 4/ 98. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 13، وفيه "من يمنعني من الله". (¬4) يعني: ما جاء في القرآن بهذا اللفظ فهو بالمعنى الذي ذكره. (¬5) وهو قوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]. قال: "الخزائن جمع الخزانة، وهي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه بحيث لا تناله الأيدي. والخزانة أيضاً: عمل الخازن" اهـ. (¬6) "زاد المسير" 4/ 98، والبغوي 4/ 172، "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 1027، (خزن).

الله وما هو مطوي عن الخلق، وإنما وجب أن يكون هذا جوابًا من نوح عليه السلام لهم لما قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ} الآية، فادَّعوا أن هؤلاء المؤمنين اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم، وهم في الحقيقة غير متبعين له، فقال مجيبًا لهم: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} غيوب الله التي يعلم منها ما ينطوي عليه الناس ويضمرونه، ولا أعلم ما يغيب عني مما يسترونه في نفوسهم؛ فسبيلي قبول إيمانهم الذي يظهر لي، ومضمراتهم لا يعلمها إلا الله، فقيل للغيوب: خزائن لغموضها على الناس واستتارها عنهم، كما يقال: خزن المال: إذا غيبه. [وقوله: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}، هذا جواب لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} أي: لا ينبغي أن تحتجوا عليّ بأمر لا أدعيه] (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ}، قال أبو إسحاق (¬2): {تَزْدَرِي} تستقل وتستبخس (¬3)، يقال: أزريت على (¬4) الرجل: إذا عبت عليه وخسست فعله، وأصل تزدري: تزتري، إلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالاً؛ لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفية، والتاء بعد الزاي تخفى فأبدل منها الدال لجهرها، وكذلك (يفتعل) من الزينة والزيادة (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 38 بنحوه. (¬3) في (ب): (تستحسن)، وهو وهم من الناسخ. (¬4) في (ب): (في). (¬5) يعني: تزدان، وتزداد.

34

وقال ابن عباس (¬1): {لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} يريد: تحتقر وتستصغر، يعني المؤمنين. {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا، فقال نوح: لا أقول إن الله لا يؤتيهم خيرًا] (¬2)، {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ}، قال الزجاج (¬3): أي إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في ظاهر الرأي، فليس علي أن أطلع على ما في نفوسهم، فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره، ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله. وقوله تعالى: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، قال ابن الأنباري (¬4): أي إن طردتهم تكذيبًا لظاهرهم ومبطلاً لإيمانهم. 34 - قوله تعالى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}، قال ابن عباس (¬5) في رواية عطاء: يريد أن يضلكم، وقال الحسن (¬6): يهلككم، وهو معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه لما كان يؤدي إلى الإهلاك فسر به. وقال ابن الأنباري (¬7): في قوله تعالى: {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ثلاثة أجوبة للمفسرين وأهل اللغة: منها أن يوقع الغي في قلوبكم لما سبق لكم من ¬

_ (¬1) قال به الطبري 12/ 30، "زاد المسير" 4/ 99، البغوي 4/ 172، القرطبي 9/ 27. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 49 بمعناه. (¬4) "زاد المسير" 4/ 99. (¬5) "زاد المسير" 4/ 100، البغوي 4/ 172، ابن عطية 7/ 281، القرطبي 9/ 28. (¬6) قال به الطبري 12/ 32، وانظر: ابن عطية 7/ 281، "زاد المسير" 4/ 100، القرطبي 9/ 28. (¬7) "زاد المسير" 4/ 100، "البحر المحيط" 5/ 219.

35

الشقاء، وقال بعضهم: أن يهلككم، قال: وهذا الجواب مرغوب عنه؛ لأنه يخالف الآثار، ومذاهب الأئمة، ولا يعرف الصادقون من أهل اللغة هذا من كلام العرب؛ إذ المعروف عندهم: أغويت فلانًا إذا أضللته بشر دعوته إليه وحسنته له، وغوي هو إذا ضل، [ويروى عن غير واحد من الصحابة أنه فسر يغويكم: يضلكم، هذا كلامه] (¬1). قال أصحابنا: فبان بهذه الآية أن الإغواء بإرادة الله تعالى، وأنه إذا أغوى فلا هادي لذلك الغاوي (¬2). ثم ذكر نوح عليه السلام دليل المسألة فقال: {هُوَ رَبُّكُمْ}، قال ابن عباس: يريد: هو إلهكم وسيدكم وخالقكم، وتأويله: أنه إنما يتصرف في ملكه فله التصرف كيف شاء (¬3). 35 - قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، هذا من الاستفهام المتوسط (¬4)، وقد ذكرناه في مواضع، ومعنى {افْتَرَيْتُهُ} اختلقه وافتعله ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) لا شك أن الهداية والضلال من الله تعالى كما قال عز وجل: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، وقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء: 97]، فالهداية من الله، والاهتداء من العبد، فالاهتداء الذي هو فعل العبد هو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي. انظر: "شفاء العليل" لابن القيم ص 170. (¬3) "زاد المسير" 4/ 100. (¬4) قلت: المراد بالاستفهام المتوسط أن يكون معنى الآية: أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن، أم يقولون إنه ليس من عند الله. قاله ابن القشيري. انظر: "البحر المحيط" 5/ 208، "الدر المصون" 4/ 83.

وجاء به من عند نفسه، والهاء تعود إلى الوحي الذي أتاهم به. وقوله تعالى: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}، الإجرام: اقتراف السيئة واكتسابها. قال الزجاج (¬1): ويقال جرم في معنى أجرم، ورجل مجرم وجارم، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأن المعنى فعليّ إثم إجرامي أو عقوبة إجرامي. قاله أبو علي (¬2) وغيره. وقال أهل المعاني (¬3): في الآية محذوف دل عليه الكلام، وهو أن المعنى إن كنت افتريته فعلي عقاب إجرامي، وإن كانت الأخرى فعليكم عقاب تكذيبي، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه، كقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9]، ولم يذكر المشبه به. وقوله تعالى: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي: من الكفر والتكذيب، والمعنى: أنه ليس علي من إجرامكم عائدُ ضرر، وإنما عائد الضرر عليكم، فاعملوا على تذكر هذا المعنى، وأكثر المفسرين (¬4) على أن هذا من محاورة نوح قومه. وقال مقاتل (¬5): {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني (¬6) محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، يقول المشركون: افترى القرآن، وهذه الآية معترضة بين قصة نوح عليه السلام. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 49 بنحوه. (¬2) انظر:"الحجة" 3/ 197. (¬3) القرطبي 9/ 29، البغوي 4/ 173. (¬4) البغوي 4/ 173، القرطبي 9/ 29، ابن عطية 7/ 283. (¬5) "تفسير مقاتل" 145ب، البغوي 4/ 173، القرطبي 9/ 29، وبه قال الطبري 12/ 32، ابن عطية 7/ 282. (¬6) ساقط من (ي).

36

36 - قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}، قال ابن عباس (¬1) وغيره: لما جاءه هذا من عند الله دعا على قومه، فقال: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] الآية وما بعدها. وقوله تعالى: {فَلَا تَبْتَئِسْ}، قال الفراء (¬2) والزجاج (¬3): لا تحزن ولا تستكن، قال ابن عباس (¬4): يريد فلا تُغم، وقال أبو زيد (¬5): ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وأنشد أبو عبيد (¬6): ما يُقْسِمِ الله أَقْبَلَ غير مبتئسٍ ... منه وأقعُدْ كريمًا ناعم البال أي غير حزين ولا كاره، قال المفسرون (¬7): يقول لا تحزن فإني مهلكهم ومنقذك، وهذا تسلية من الله عز وجل لنوح عن قومه بما أعلمه (¬8) من حالهم. ¬

_ (¬1) رواه الطبري 12/ 33 عن الضحاك، وأحمد في "الزهد"، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 592 عن الحسن، والبغوي 4/ 173، و"زاد المسير" 4/ 100، وابن عطية 7/ 284، والقرطبي 9/ 29. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 13. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 50. (¬4) الطبري عن ابن عباس "فلا تحزن" 12/ 32، وكذا عن مجاهد أيضًا وقتادة. وابن أبي حاتم 6/ 2025 في الحاشية. (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 411 (بئس). (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 411 (بئس). والبيت لحسان كما في "ديوانه" ص 189، اللسان (بأس) 1/ 200، "التنبيه والإيضاح" 2/ 261، "تاج العروس" (بأس) 8/ 196، "أساس البلاغة" (بأس)، وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" 1/ 338، و"المخصص" 12/ 317. (¬7) الثعلبي 7/ 39 ب، والطبري 12/ 33. (¬8) في (ي): (أعلمهم).

37

37 - قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}، قال ابن عباس (¬1): بمرأى منا، وقال الضحاك (¬2): بمنظر منا، وقال الربيع (¬3): بحفظنا، وقال الزجاج (¬4): بإبصارنا إياك وحفظنا لك. هذا كلامهم، والمعنى بحيث نراها، فكنى عن يرى بأعين على طريق البلاغة، وتأويله: بحفظنا إياك حفظ من يراك، ويملك (¬5) دفع السوء عنك، وقيل (¬6): بأعين أوليائنا من الملائكة (¬7) الموكلين بك، وحكى ابن الأنباري عن بعض المفسرين بأبصارنا إليك، وهذا معنى ما ذكرنا، هذا (¬8) طريقة المحققين، وهي موافقة لما حكينا من أقوال أئمة المفسرين. وقال أبو بكر (¬9): جمع العين هاهنا على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، وهذا قول أصحاب الأثر والنقل يقولون الأعين يُعنى بها العين، وعين الله لا تفسر بأكثر من ظاهرها، ولا يسع أحدًا أن يقول: كيف هي أو ما صفتها، وهذه طريقة السلف (¬10). ¬

_ (¬1) البغوي 4/ 173، "زاد المسير" 4/ 101، "تنوير المقباس" / 140، الثعلبي 7/ 40أ، ابن أبي حاتم 6/ 2026 عنه قال: بعين الله. (¬2) الثعلبي 7/ 40 أ. (¬3) "زاد المسير" 4/ 101، البغوي 4/ 173، القرطبي 9/ 30، الثعلبي 7/ 40 أ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 50. (¬5) في (ي): (يعلم). (¬6) القرطبي 9/ 30، "البحر المحيط" 5/ 220. (¬7) ساقط من (ي). (¬8) هكذا في النسخ. (¬9) "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 2293، "زاد المسير" 4/ 101. (¬10) انظر: "اللسان" 5/ 3196 (عين)، ومذهب السلف في هذه الصفه وغيرها =

وقوله تعالى: {وَوَحْيِنَا}، قال ابن عباس (¬1): وذلك أنه (¬2) لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر، فعلى هذا المعنى اصنعها على ما أوحينا إليك من صفتها وحالها، ويجوز أن يكون المعنى بوحينا إليك أن اصنعها. وقوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي}، قال الخليل (¬3): الخطاب مراجعة الكلام، يقال: خاطبته خطابًا. فجعل الخطاب اسمًا لما يتردد بين المتكلمين من ابتداء وجواب، والكلام إذا تضمن المسألة قيل فيه خاطب، ومنه قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي} أي لا تسألني في معناهم (¬4)، قال ابن عباس (¬5): ¬

_ = من الصفات هو الإثبات، أعني إثبات الصفة وتفويض الكيفية إلى الله تعالى، على ما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، أما تفويض الصفة والكيف فهو مذهب المبتدعة الذين لا يثبتون الصفة بل يفوضونها، وما نقله المؤلف هنا ظاهره الحق، ولكنه لا يتسق مع مذهبه الأشعري فلعله فهم منه التفويض والله أعلم. انظر: "التوحيد" لابن خزيمة ص 42، "الإبانة" لأبي الحسن 53، "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" لللالكائي 2/ 412، "الاعتقاد" للبيهقي 41، "شرح الواسطية" 67. (¬1) الطبري 12/ 34، الثعلبي 7/ 40 أ، وابن أبي حاتم 6/ 2025 - 2026، وانظر: "الدر" 3/ 592. (¬2) في (ي): (أنهم). (¬3) "العين"4/ 222، "تهذيب اللغة" 1/ 1053، (خطب)، "اللسان" 2/ 1194. عن الليث. (¬4) هكذا في النسخ والمعنى غير واضح. (¬5) رواه الطبري 12/ 34 عن ابن جريج، وأبو الشيخ عن ابن جريج أيضًا كما في "الدر" 3/ 592، وأخرج ابن أبي حاتم 6/ 2026، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. "الدر المنثور" 3/ 592.

38

يريد: لا تراجعني ولا تحاورني ولا تسألني. وقوله تعالى: {فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}، قال الزجاج (¬1) وأبو بكر: في إمهال الذين ظلموا، أو في تأخير العذاب عنهم، ويراد بالذين ظلموا قومه، قال ابن الأنباري: فدعا نوح بعد هذا القول طاعة لله واتباعًا لأمره علي قومه، فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ} [نوح: 26] الآية، وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان (¬2). 38 - قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}، قال أبو علي الجرجاني: معناه: وأقبل يصنع فاقتصر على قوله: {وَيَصْنَعُ}. وقوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، قال محمد بن إسحاق (¬3): قالوا: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا؟ وقال عامة المفسرين (¬4): إنهم رأوه ينجر الخشب، ويبني شبه البيت العظيم، فإذا سألوه عن ذلك قال: أعمل سفينة تجري في الماء، ولم يكونوا رأوا قبل ذلك السفينة، ولا ماء هناك يحمل مثلها، فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله لها، فقال نوح: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، قال أبو إسحاق (¬5): إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون. وقال ابن الأنباري (¬6): إن تسخروا منا لما ترون من صنعة الفلك فإنا نعجب من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 50. (¬2) البغوي 4/ 174، "البحر المحيط" 5/ 121. (¬3) الطبري 12/ 36، "زاد المسير" 4/ 103، البغوي 4/ 175، ابن عطية 7/ 290. (¬4) البغوي 4/ 175، "زاد المسير" 4/ 103، القرطبي 9/ 32. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 50 بمعناه. (¬6) "زاد المسير" 4/ 103.

39

غفلتكم عما قد أظلكم من العذاب. وقال بعض المفسرين (¬1). إن تسخروا منا الساعة، فإنا نسخر منكم بعد الغرق، ووقوع البوار بكم. وقال أهل المعاني (¬2): سمى الثاني سخرية، [وليس بسخرية] (¬3) في الحقيقة؛ ليتفق اللفظان فيكون اتفاقهما أخف على اللسان، وقد مضى لهذا نظائر. 39 - قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} الآية، قال ابن عباس (¬4): هذا وعيد وتهديد، وقال الزجاج (¬5): أعلمهم ما يكون عاقبة أمرهم، أي فسوف تعلمون من أحق بالخزي ومن هو أحمد عاقبة. وفي قوله: {مَنْ يَأْتِيهِ} وجهان: أحدهما: أن يكون استفهامًا بمعنى (أي)، كأنه قيل: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب، وعلى هذا محله رفع بالابتداء. والثاني: أن يكون بمعنى (الذي) ويكون في محل النصب. وقوله تعالى: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} أي: يجب عليه وينزل به، وسنذكر استقصاء هذا الحرف عند قوله: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} في سورة طه [81] إن شاء الله. وقوله تعالى: {عَذَابٌ مُقِيمٌ} يعني عذاب الآخرة. ¬

_ (¬1) البغوي 4/ 175، "زاد المسير" 4/ 103، القرطبي 9/ 33، "تفسير مقاتل" 146 أ. (¬2) البغوي 4/ 175، "زاد المسير" 4/ 103. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) انظر: ابن عطية 7/ 290، "زاد المسير" 4/ 104، القرطبي 9/ 33، "البحر المحيط" 5/ 222، ابن كثير 2/ 487. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 50.

40

40 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي: أمرنا بعذابهم وإهلاكهم. وقوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ}، اختلفوا في معنى التنور؛ فقال ابن عباس (¬1) في رواية الضحاك: ظهر الماء على وجه الأرض، وقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت وأصحابك، وهذا قول عكرمة والزهري وابن عيينة (¬2)، ورواية الوالبي أيضاً عن ابن عباس (¬3). وقال قتادة (¬4): ذكر لنا (¬5) أنه أرفع الأرض وأشرفها، جعل ذلك علامة بين نوح عليه السلام وبين ربه عز وجل. قال أبو بكر (¬6): والمعنى على هذا: ونبع الماء من أعالي الأرض ومن الأمكنة المرتفعة، فشبهت لعلوها بالتنانير. روي عن علي (¬7) رضي الله عنه أنه قال: هو تنوير الصبح، ومعناه: طلع الفجر، قال أبو بكر: ومن ذهب إلى هذا قال: المعنى وبرز النور ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 38، الثعلبي 7/ 41 ب، وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2029، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 596، ابن عطية 7/ 291. (¬2) رواه عنهم الطبري 12/ 38، الثعلبي 7/ 41 ب، "زاد المسير" 4/ 105، البغوي 4/ 176. (¬3) ابن أبي حاتم 6/ 2029. (¬4) الطبري 12/ 39، الثعلبي 7/ 41 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 596، وروي هذا القول عبد بن حميد وابن أبي حاتم 6/ 2029، وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" 3/ 596. (¬5) في (ي): (له). (¬6) "زاد المسير" 4/ 105. (¬7) الطبري 12/ 39، الثعلبي 7/ 41 ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2029، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 596.

وظهر الضوء, وتقضى الليل، فشبه تتابع الأضواء والأنوار بخروج النار من التنور. وقال ابن عباس (¬1) في رواية عطية وعطاء: يريد التنور الذي يخبز فيه، قال الحسن (¬2): وكان تنورًا من حجارة، وكان لآدم وحواء حتى صار إلى نوح، وقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وقال مقاتل بن سليمان (¬3) عن عدة من أهل التفسير: فار التنور من أقصى دار نوح بعين وردة من أرض الشام. وقال مجاهد (¬4): نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وكان ذلك بناحية الكوفة، وهو قول الشعبي (¬5) واختيار الفراء (¬6)، قال: هو تنور الخابز، ونحو هذا قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬7). قال أبو بكر (¬8): والقول الذي يذهب إليه: هو أن التنور تنور الخبز؛ ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 39، الثعلبي 7/ 42 أ، "زاد المسير" 4/ 105، البغوي 4/ 176، ابن عطية 7/ 291. (¬2) الطبري 12/ 40، الثعلبي 7/ 41 ب، البغوي 4/ 176، وذكره ابن الجوزي عن ابن عباس. انظر: "زاد المسير" 4/ 105. (¬3) "تفسير مقاتل" 146 أ، "زاد المسير" 4/ 106، البغوي 4/ 176. (¬4) الطبري 12/ 40، الثعلبي 7/ 42 أ، "زاد المسير" 4/ 105، البغوي 4/ 176. (¬5) الطبري 12/ 40، الثعلبي 7/ 42 أ، البغوي 4/ 176، "زاد المسير" 4/ 105. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 14. (¬7) "زاد المسير" 4/ 105. (¬8) ما ذكره عن ابن الأنباري هو الذي رجحه الطبري 12/ 40، وهو قول أكثر المفسرين كما قال البغوي 4/ 176، وقال ابن كثير 2/ 488: هذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف.

لأن الحمل على الظاهر الذي (¬1) هو حقيقة أولى من العمل على المجاز، والتمثيل. وأما التنور في اللغة (¬2)؛ فقال الليث (¬3): التنور عمت بكل لسان وصاحبه تنار (¬4). قال الأزهري: وهذا يدل على أن الاسم أعجمي فعربته العرب [فصار عربيًا] (¬5) علي بناء فعول، والدليل على ذلك أن أصل بنائه تنر، ولا يعرف في كلام العرب نون قبل راء، وهو نظير ما دخل من كلام العجم في كلام العرب، مثل الديباج والدينار والسندس والاستبرق ولما تكلمت بها العرب صارت عربية. وقوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، قال أبو الحسن الأخفش (¬6): يقال للاثنين هما زوجان، قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] قال الحسن (¬7): السماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله جل جلاله الفرد الذي لا يشبهه شيء، ويقال للمرأة هي ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) هذا النقل إلى نهايته من "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 456 (تنر). (¬3) الليث هو: ابن نصر بن سيار الخراساني، ويقال ابن المظفر بن نصر، إمام لغوي، من أصحاب الخليل، ويقال هو صاحب (العين). انظر: "تهديب اللغة" 1/ 47، "معجم الأدباء" 17/ 43. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 327، "الحجة" 4/ 324. (¬7) ذكره الطبري 12/ 41 من غير إسناد.

زوج، وللرجل (¬1) هو زوجها، وقال تعا لي: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] [يعني المرأة، فالواحد يقال له زوج كما ذكرنا، وقد يقال للاثنين هما زوج] (¬2)؛ قال لبيد (¬3): زوج عليه كِلَّة وقِرامُها ففسر الزوج بشيئين، ويدل على أن الزوج يقع على الواحد قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} (¬4) فالزوجان في قوله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} يراد بهما الشياع، وليس يراد بذلك الناقص عن الثلاثة، قال ابن عباس (¬5) في قوله: {احْمِلْ فِيهَا} يريد في السفينة {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ}؛ الذكر زوج والأنثى زوج، وهو قول الحسن (¬6) ومجاهد (¬7) ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) من معلقته، وصدره: من كل محفوف يُظلُ عصيه المحفوف: الهودج الذي ستر بالثياب، عصيه: عصى الهودج، والزوج: النمط الواحد من الثياب، والكلة من الستور: ما خيط فصار كالبيت، القرام: الغطاء، وهو الستر المرسل على جانب الهودج، انظر: "ديوانه" ص 96، "شرح المعلقات السبع" ص 531، "اللسان" 3/ 1886 (زوج)، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 328، "تهذيب اللغة" 2/ 1574. (¬4) الأنعام: 143، 144، ومن هنا بدأ النقل عن "الحجة" 4/ 327. (¬5) البغوي 4/ 176، "زاد المسير" 4/ 106، الطبري 12/ 40. (¬6) انظر: الرازي 17/ 226. (¬7) الطبري 12/ 40، وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2030 وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 601.

وقتادة (¬1) والضحاك (¬2)، قالوا ذكرا وأنثى. وقرأ حفص (¬3) {مِن كُلٍّ} بالتنوين أراد من كل شيء، ومن كل زوج زوجين اثنين، فحذف المضاف إليه، ويكون انتصاب اثنين على أنه صفة لزوجين، أتي به للتأكيد، كما قال: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51] وقد جاء في غير هذا من الصفات ما مصرفه إلى التأكيد، كقولهم: نعجة أنثى، وأمس الدابر، وقوله: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (¬4)، وعلى قراءة العامة نصب اثنين بالحمل، وليس صفة لزوجين (¬5). وقوله تعالى: {وَأَهْلَكَ}، أي احمل أهلك، قال المفسرون (¬6): يعني ولده وعياله، {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، قال ابن عباس: يريد من كان في علمي أنه يغرق بفعله وكفره، قالوا (¬7): يعني: امرأته واعلة، وابنه كنعان، {وَمَنْ آمَنَ}، يريد واحمل من صدقك، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}، قال ابن عباس (¬8): ثمانون إنسانًا وكان فيهم ثلاثة من بنيه: سام وحام ويافث، ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 41. (¬2) الطبري 12/ 41. (¬3) "التبصرة" / 538، "السبعة" 333، "النشر" 3/ 114، "إتحاف" 2/ 125، "الحجة" 4/ 324. (¬4) الحاقة: 13. وفي (ي): (نعجة)، وهي في سورة ص: الآية 23. (¬5) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 4/ 328 بتصرف. (¬6) الطبري 12/ 41، الثعلبي 7/ 42 ب، البغوي 4/ 176، "زاد المسير" 4/ 106. (¬7) الثعلبي 7/ 42 ب، البغوي 4/ 176 - 177، "زاد المسير" 4/ 106، القرطبي 9/ 35. (¬8) الطبري 12/ 43، الثعلبي 7/ 42 ب، البغوي 4/ 177، "زاد المسير" 4/ 107، وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2032، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 3/ 601، القرطبي 9/ 35.

وثلاث كنائن له، ونحو ذلك قال مقاتل بن سليمان (¬1) وغيره، وقالوا: قرية الثمانين (¬2) بناحية الموصل، إنما سميت لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بوها، فسميت بهم، وعلى هذا سمى الله ثمانين قليلاً. قال أبو إسحاق: لأن ثمانين (¬3) قليل في جملة أمة نوح. قال ابن الأنباري: ووحد القليل؛ لأنه لفظ مبني للجمع لما كان الواحد لا يوصف (¬4) به ولا الاثنين، فلما كان مبناه للجمع استغنى عن علامة الجمع، وجمع في قوله: {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] استيثاقًا من الجمع، لما كان (قليل) لفظه لفظ الواحد، كما جمعت العرب البيوت وهي جمع؛ للاستيثاق فقالوا: بيوتات، قال: ويجوز أن يقال في توحيد القليل إنه وصف لجمع خرج على تقطيع الواحد، تقديره وما آمن معه إلا نفر قليل، وقيل: أراد الجمع فاكتفى بالواحد منه، كقوله (¬5): ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 42 ب، البغوي 4/ 177، "زاد المسير" 4/ 107. (¬2) قال ياقوت الحموي: بُليدة عند جبل الجودي، قرب جزيرة ابن عمر التغلبي فوق الموصل، كان أول من نزله نوح -عليه السلام -، لما خرج من السفينة ومعه ثمانون إنسانًا، فبنوا لهم مساكن بهذا الموضع وأقاموا به، فسمي الموضع بهم، "معجم البلدان" 2/ 84. (¬3) في جميع النسخ (ثمانون) والصواب ما ذكرته، كما هو في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 52. (¬4) في (ب): (يصف). (¬5) البيت لجرير من قصيدة له في هجاء تيم بن قيس من بكر بن وائل، وصدره: الواردون وتيم في ذرى سبأ والشاهد أنه قال: جلد ولم يقل جلود. انظر: ديوانه ص252، "معاني القرآن" 1/ 308، ومعني البيت أن تيم يحتمون بسبأ ويمتنعون بها, ولا عصمة لهم من =

41

قد عض أعناقهم جلد الجواميس وقد مرَّ. 41 - قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}، يعني قال نوخ لقومه الذين أمر بحملهم: "اركبوا"، والركوب العلو على ظهر الشيء، فمنه ركوب الدابة، وركوب السفينة، وركوب البر، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً فقد ركبه، وركبه الدين، قال الليث: وتسمي العرب من يركب السفينة ركاب السفينة، وأما الرُّكْبَانُ والأرْكوب والرَّكب فراكبو الدّواب والإبل، قال الأزهري (¬1): وقد جعل ابن أحمر ركاب السفينة ركباناً فقال (¬2): يهل بالفرقد ركبانها ... كما يُهِلُّ الراكب المعتمر وقوله تعالى: {فِيهَا} لا يجوز أن تكون (في) من صلة الركوب؛ لأنه يقال: ركبت السفينة، ولا يقال: ركبت في السفينة، والوجه هاهنا أن يقال: مفعول (اركبوا) محذوف على تقدير: اركبوا الماء في السفينة، فيكون ¬

_ = أنفسهم. "الخزانة" 3/ 372، "الطبري" 14/ 117، "اللسان" 5/ 2590، "المخصص" 1/ 31، 4/ 41. (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 1456 (ركب). (¬2) قائل البيت هو ابن أحمر، عمرو بن أحمر الباهلي، كان من شعراء الجاهلية، وأدرك الإسلام فأسلم ومدح عمر فمن بعده إلى عبد الملك بن مروان. وقيل: توفي في خلافة عثمان. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 571, 580، "خزانة الأدب" 6/ 256. والبيت يعني قومًا ركبوا سفينة فغمت السماء ولم يهتدوا، فلما طلع الفرقد كبروا لأنهم اهتدوا للسمت الذي يؤمونه، انظر: "ديوانه" ص 66، "تهذيب اللغة" 2/ 1456، مادة (ركب)، اللسان 3/ 1714، "جمهرة اللغة" ص 772، "ديوان الأدب" 3/ 164، "تاج العروس" 2/ 35 (ركب)، "أساس البلاغة" (هلل)، وبلا نسبة في "اللسان" (هلل) 8/ 4689، و"تاج العروس" (هلل).

قوله: {فِيهَا} حالاً من الضمير في (اركبوا)، ويجوز أن يقال المعنى: اركبوها أي الفلك، وزاد (في) للتأكيد كقوله: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وفائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا [في جوف الفلك لا على ظهرها، فلو قال: (اركبوها) لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا] (¬1) على ظهر السفينة. وقوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} المُجرى: مصدر كالإجراء، ومثله قوله: {مُنْزَلًا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29]، و {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} (¬2)، وقرئ {مَجْراها} (¬3) بفتح الميم وهو أيضًا مصدر مثل الجري، واحتج صاحب هذه القراءة بقوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] ولو كان (مُجراها) لكان (وهي تُجرَى بهم)، فكأنه قال: (وهي تجريهم) (¬4). وأما المرْسَى: فهو أيضًا مصدر كالإرساء يقال: وما الشيء يرسو: إذا ثبت، وأرساه غيره، قال الله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]. قال ابن عباس (¬5) في رواية عطاء: يريد تجرى باسم الله وقدرته، وقال الضحاك (¬6): كان إذا أراد أن تجري قال: باسم الله فجرت، وإذا أراد أن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) الإسراء: 80. في الأصل (وأدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) وهو خطأ. (¬3) قرأ بها حمزة والكسائي وحفصر عن عاصم وخلف، "السبعة" 333، "التبصرة" 538، "النشر" 3/ 114، "إتحاف" ص 256. (¬4) "الحجة" لأبي على 4/ 331، وأيّد هذا الوجه الطبري 12/ 43 - 44. (¬5) روى الطبري 12/ 44 نحوه عن مجاهد. (¬6) الطبري 12/ 44 - 45، الثعلبي 7/ 43 ب، وابن أبي حاتم 6/ 2033.

ترسو قال: (باسم الله) فرست (¬1). قال أبو إسحاق (¬2): أي بالله تجري وبه تستقر، ومعنى قولنا: باسم الله أي بالله، وهذه الأقوال معناها واحد، وأما تقدير الإعراب فقال الفراء (¬3): إن شئت جعلت (مجراها) و (مرساها) في موضع رفع بالباء، كما يقال: إجراؤها وإرساؤها باسم الله، وبأمر الله، وإن شئت جعلت (باسم الله) ابتداء مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند المأكل: بسم الله، ويكون (مجراها) و (مرساها) في موضع نصب، يريد: بسم الله في مجراهما ومرساها، وزاد ابن الأنباري لهذا بيانًا فقال: في هذه الآية (¬4) قولان: أحدهما: أن يرتفع المجرى بالباء الزائدة، وتفتقر الباء إلى المجرى؛ لأنها خبره ورافعته، والتقدير: إجراؤها باسم الله، وموضع الباء نصب لخلافها المجرى، إذ المجرى اسم، والباء ليست باسم، إنما هي حرف معنى ملحق بالمَحَالّ، يريد أن التقدير: إجراؤها يقع باسم الله، أو يحصل باسم الله، فالباء في محل النصب بهذا التقدير وهي في الظاهر رفع لخبر المبتدأ، وليس هذا كقولهم: زيد قائم؛ لأن قائمًا هو زيد، وليس بمخالف (¬5) له، وهذا كقوله: زيد عندك، هذا معنى قول أبي بكر لخلافها المجرى المفصل. القول الثاني: أن يكون المجرى في موضع نصب على مذهب الوقت ¬

_ (¬1) في (ب): عكس الجملتين. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 52. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 14. (¬4) ساقط من (ب). (¬5) في (ب): (المخالف).

ومنهاج المحل، تلخيصه باسم الله في مجراها ومرساها، فإذا سقط الخافض قضى على ما بعده بالنصب، كما تقول: أتيتك يوم الخميس، هزان القولان هما قولا الفراء (¬1) وشرحهما. وقال أحمد بن يحيى: الباء منصوبة بفعل محذوف يدل عليه ويكنى (¬2) منه، والمجرى مرفوع بالباء التي خلفت الفعل الذي لو ظهر لكان هو الرافع للمجرى، وتمثيله: يقع باسم الله مجراها ومرساها، فكان افتقار الباء إلى المجرى كافتقار الفعل لو ظهر إلى فاعله. قال أبو علي الفارسي (¬3): قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ} يجوز أن يكون حالاً من الضمير في (اركبوا)، على حد قولك: ركب في سلاحه، وخرج بثيابه، والمعنى ركب مستعدًا بسلاحه، وملتبسا بثيابه، وفي التنزيل: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61]، فكان المعنى: اركبوا متبركين باسم الله ومتمسكين بذكر اسم الله، والمجرى والمرسى على هذا ظرف، بنحو (مَقْدَمَ الحاج)، و (خُفُوقَ النجم)، كأنه: متبركين بهذا الاسم، أو متمسكين في وقت الجري والإجراء على حسب الخلاف بين القراء فيه، ولا يكون الظرف متعلقًا باركبوا؛ لأن المعنى ليس (¬4) عليه، ألا ترى أنه لا يراد اركبوا فيها في وقت الجري، والثبات، إنما المعنى اركبوا الآن متبركين باسم الله في الوقتين الذي لا ينفك الراكبون فيها منهما، فموضع مجراها ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 14. (¬2) في (ي): (يكفى). (¬3) "الحجة" 4/ 330 باختصار وتصرف. (¬4) في (ب): (يسمى).

نصب على هذا الوجه بأنه ظرف عمل فيه المعنى (¬1)، وهذا الوجه الذي ذكره أبو علي وجه آخر في التفسير سوى ما ذكرنا عن ابن عباس والضحاك. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال ابن عباس (¬2): يريد غفور لأصحاب السفينة رحيم بهم، قال أهل المعاني: اتصال هذا بما قبله اتصال المعنى بما يشاكله؛ لأنه لما ذكرت النجاة بالركوب في السفينة، ذكرت النعمة بالمغفرة والرحمة لتجتلب بالطاعة (¬3) كما اجتلبت النجاة. 42 - قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42] أي الفلك {فِي مَوْجٍ} جمع موجة، وهي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء الكثير، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت (¬4) الريح وماج البحر، وتموج: إذا اضطربت أمواجه وتحركت، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}، قال محمد بن إسحاق (¬5): كان كافرًا واسمه يام، وقال الكلبي ومقاتل (¬6): اسمه كنعان. {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}، قال أبو إسحاق (¬7) وابن الأنباري: أي من دين نوح؛ لأنه كان كافرًا مخالفاً عن نوح، خارجا عن (¬8) جمعه أهل دينه، قالا: ويجوز أن يكون في معزل من السفينة، قال أبو بكر: وهذا أشبه ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل من أبي على الفارسي، "الحجة" 4/ 331. (¬2) القرطبي 9/ 37، "البحر المحيط" 5/ 225. (¬3) في (ب): (باتصال). (¬4) ساقط من (ب). (¬5) "زاد المسير" 4/ 109، القرطبي 9/ 38، ابن كثير 2/ 489، الطبري 12/ 45. (¬6) "تفسير مقاتل" 146 أ، البغوي 4/ 178، "زاد المسير" 4/ 109، القرطبي 9/ 38، الثعلبي 7/ 43 ب. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 54. (¬8) في (ب): (من).

42

بظاهر القرآن، لأنه اعتزل السفينة وهو يظن أن الجبل يمنعه من الغرق، والمعزل في اللغة معناه: موضع منقطع عن غيره، وأصله من العزل وهو التنحية والإبعاد. يقال: كنت بمعزل عن كذا، أي بموضع قد عزل منه. وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا}، وقرئ (¬1) بفتح الياء، قال أبو علي (¬2): الوجه الكسر، وذلك أن اللام من ابن "ياء" (¬3) أو "واو"، فإذا حقرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن ترد اللام التي حذفت؛ لأنك لو لم تردها لوجب أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب، وتعاقبها عليها، وهي لا تحرك أبدًا بحركة الإعراب ولا غيرها؛ لأنها لو حركت للزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف اللين، إذا كانت حرف إعراب نحو: عصا وقفا, ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير، فلهذا ردت اللام، فإذا رددتها وأضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث ياآت: الأولى منها للتحقير، والثانية لام الفعل، والثالثة التي للإضافة، تقول: (هذا بني)، فإذا ناديته جاز فيه وجهان: إثبات الياء وحذفها، والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو: يا غلامِ، وهذا الوجه هو الجيد عنهم؛ وذلك أن الياء ينبغي أن تحذف في هذا الموضع لمشابهتها التنوين، وذاك من أجل ما بينهما من المقاربة، ومن ثم أدغم في الواو والياء وهو على ¬

_ (¬1) اختلف القراء في (يا بني) فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة وابن عامر والكسائي (يا بُني) مضافة بكسر الياء. وقرأ حفص عن عاصم (يا بنيَّ) بالفتح في كل القرآن، ووافقه في هذا الموضع فقط أبو بكر عن عاصم. "السبعة" 334، "التبصرة" 539، "النشر" 3/ 115، "إتحاف" ص 256، "الحجة" 4/ 333. (¬2) "الحجة" 4/ 333 - 341 باختصار وتصرف. (¬3) ساقط من (ي).

حرف، كما أن التنوين كذلك، فأجريت الياء مجرى التنوين في حذفها من المنادى، ومن قرأ (يا بنيَّ) بفتح الباء فإنه أراد الإضافة (¬1) أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر، لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف فصار يا بنيا كما قال (¬2): يا ابنة عما لا تلومي واهجعي ثم حذف الألف كما تحذف الياء في ياء بني، وقد حذفت الياء التي للإضافة إذا أبدلت الألف منها، أنشد أبو الحسن (¬3): فلست بمدرك ما فات مني ... بـ (لهف) ولابـ (ليت) ولا (لو اني) قال: قوله بلهف إنما هو بلهفا فحذف الألف، والألف بدل عن ياء الإضافة. ¬

_ (¬1) في (ي): (إضافته). (¬2) القائل هو: أبو النجم العجلي في أرجوزة له يخاطب امرأته أم الخيار. وهي ابنة عمه، ولها يقول: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبًا كله لم أصنع وقوله: (واهجعي) أي: اسكني أو نامي. انظر: سيبويه 1/ 318، "المحتسب" 4/ 238، "شرح أبيات المغني" 6/ 159 - 161، "الحجة" 4/ 91. "تهذيب اللغة" (هجع) 4/ 3720، "اللسان" (هجع) 8/ 4621، "خزانة الأدب" 1/ 364، "الدرر" 5/ 58، اللسان (عمم) 5/ 3111، "المقاصد النحوية" 4/ 224، "نوادر أبى زيد" 19. (¬3) البيت لم ينسب، وهو من شواهد "الخصائص" 3/ 135، "المحتسب" 1/ 277 , 323، الخزانة 1/ 63، "اللسان" 7/ 4087، (لهف)، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 241، "الأشباه والنظائر" 2/ 63، 179، "الإنصاف" ص 330 , "أوضح المسالك" 4/ 37، "سر صناعة الإعراب" 2/ 521، "المقاصد النحوية" 4/ 248.

43

وقال أبو عثمان (¬1): وضع الألف مكان الياء في الإضافة مطرد، وأجاز: يا زيدا أقبل إذا أردت الإضافة، قال: وعلى هذا قراءة من قرأ: (يا أبت) بالفتح، وأنشد (¬2): لقد زَعَموا أنّي جَزعتُ عَليهما ... وهل جزعٌ أن قلتُ وابأبا هما (¬3) وكل ما ذكرنا هاهنا معنى كلام أبي إسحاق (¬4) وزاد فقال: يجوز أن يكون حذف ياء الإضافة في قول من كسر؛ لسكونها وسكون الراء في {أرْكَب}، والآية بيان عن حال ما عظم شأنه، وتفاقم أمره، من سفينة تجري في موج كالجبال، بماء قد طبق الأرض وعمّ الخلق إلا من نجاه الله، ومع ذلك فابن نوح يرى هذا كله فلا يؤمن ويقول: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} 43 - قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، قال ابن عباس (¬5): يريد أنضم إلى جبل يعصمني من الماء، يريد: يمنعني من الماء فلا أغرق، والعصمة: المنع من الآفة، قال الزجاج (¬6): والمعنى ¬

_ (¬1) " الخصائص" لابن جني 3/ 135. (¬2) البيت لعمرة الخثعمية في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي / 1082، ولها أو لدرنا بنت عبعبة في "المقاصد النحوية" 3/ 472، البيت مع آخر بعده في "النوادر" 365، نسبهما لامرأة من بني سعد جاهلية، وفي "اللسان" 1/ 17 مادة (أبي) ونسبهما إلى درني بنت سيار بن ضبرة ترثي أخويها، ويقال لعمرة الخيثمية، وقولها (وابأبا هما) تريد: وإبأبي هما. وبلا نسبة في "شرح المفصل" 2/ 12. (¬3) إلى هنا انتهى النقل عن أبي علي من "الحجة" 4/ 333 - 341، باختصار وتصرف. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 54. (¬5) قال به الطبري 12/ 45، البغوي 4/ 187، "زاد المسير" 4/ 110، القرطبي 9/ 39. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 54.

يمنعني من تغريق الماء. قال نوح: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لا مانع اليوم من عذاب الله {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} استثناء منقطع، المعنى: لكن من رحم الله فإنه معصوم، وعلى هذا محل {مَن} نصب كقوله (¬1): إلا أوّاري ....................... وهذا قول الفراء والزجاج، قال الفراء (¬2): ومن أجاز في الاستثناء المنقطع أن يكون رفعًا نحو: ................. . إلا اليعافير (¬3) لم يجز له الرفع في (من)؛ لأن الذي قال إلا اليعافير جعل أنيس البر ¬

_ (¬1) جزء من بيت للنابغة، والبيت هو: إلا أواريّ لأيًا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد وقبل هذا البيت بيتان هما: يا دار ميّة بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيَّت جوابًا وما بالربع من أحد وهذه الأبيات مقدمة قصيدة، قالها في مدح النعمان بن المنذر، ويعتذر إليه مما بلغه عنه، وفي الديوان (إلا الأواري). انظر: ديوانه ص 14 تحقيق الطاهر بن عاشور، "الخزانة" 2/ 125، "معاني القرآن" 1/ 480، "المقتضب" 4/ 414، "شرح شواهد المغني" 27. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 15. (¬3) قطعة من الرجز لعامر بن الحارث المعروف بجران العود، والبيت: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس انظر: "ديوانه" / 97، "خزانة الأدب" 10/ 15 - 18، "الدرر" 3/ 162، "شرح أبيات سيبويه" 2/ 140، "شرح المفصل" 2/ 271، "المقاصد النحوية" 3/ 170 , وبلا نسبة في "الأشباه والنظائر" 2/ 91، "الإنصاف" ص 234، "تهذيب اللغة" 1/ 1771 (إلا)، اللسان (كنس) 7/ 3938، أوضح المسالك 2/ 261.

اليعافير والوحوش، فيكون الاستثناء كالمتصل ولا يجوز هاهنا أن يكون المعصوم عاصما، هذا وجه في الاستثناء. قال أبو إسحاق (¬1): ويجوز (¬2) أن يكون {عَاصِمَ} في معنى معصوم ويكن معنى {لَا عَاصِمَ} هو: لا ذا عصمة، كما قالوا: (عيشة راضية) على جهة النسب، أي ذات رضا، ويكون {مَنْ} هو على هذا التفسير في موضع رفع ويكون المعنى: لا معصوم إلا المرحوم، ونحو هذا قال الفراء (¬3) وقال: لا ينكرون أن يخرج المفعول على فاعل، ألا ترى قوله: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] معناه: مدفوق، وقوله: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] معناها: مرضية، وقال (¬4): دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي ومعناه: المكسو، فعلى قول الفراء يجوز أن يكون الفاعل بمعنى المفعول على ما ذكر، وقال علماء البصرة (¬5): {مَاءٍ دَافِقٍ} بمعنى مدفوق، باطل من الكلام؛ لأن الفرق بين بناء الفاعل وبناء المفعول واجب، وهذا عند سيبويه وأصحابه يكون على طريق النسب، من غير أن يعتبر فيه فعل، فهو فاعل نحو: رامح، ولابن، وتامر، وتارس، ومعناه: ذو رمح، وذو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 54. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 16، "تهذيب اللغة" (عصم) 3/ 2465. (¬4) القائل هو الحطيئة، والبيت من قصيدة يهجو فيها الزبرقان بن بدر التميمي، "ديوانه" 54، "معاني القرآن" للفراء 2/ 16، "الأغاني" 2/ 55، الطبري 12/ 46، "اللسان" (ذرق) 3/ 1499، "خزانة الأدب" 6/ 299، "شرح المفصل" 6/ 15، "الشعر والشعراء" ص 203، "شرح شواهد المغني" 2/ 916. (¬5) "معاني القرآن" للنحاس 3/ 353، و"الدر المصون" 3/ 101، 102.

44

لبن، كذلك هاهنا "عاصم" بمعنى ذو عصمة من قبل الله تعالى، ليس أنه عصم فهو عاصم بمعنى معصوم على الإطلاق الذي ذكره الفراء، وقوله تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ}، قال الفراء (¬1): حال بين ابن نوح وبين الجبل {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. 44 - قوله تعالى: {وَقِيلَ} بعد ما تناهي أمر الطوفان: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}، يقال: بلع الماء يبلعه بلعًا: إذا شرب، وابتلع الطعام ابتلاعًا: إذا لم يمضغه. وقال أهل اللغة: الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها، ونحو ذلك روى أبو عبيد (¬2) عن الكسائي، وقال الفراء (¬3): يقال: بلِعت وبلَعت. وقوله تعالى: {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}، يقال: أقلع الرجل عن عمله: إذا كف عنه، وأقلعت السماء بعدما أمطرت إذا أمسكت. قال ابن الأنباري (¬4): أي عن إنزال الماء، فلما تقدم ذكر الماء لم يعد هاهنا. وقوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ}، يقال: غاض الماء يغيض غيضًا ومغاضًا: إذا نقص، وغضته أنا، وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا، ومثله جبر العظم وجبرته، وفغر الفم وفغرته، ودلغ اللسان ودلغته، ومد النهر ومده نهر آخر، وسرح المال إلى المرعى وسرحته، ونقص الشيء ونقصته، قال المفسرون: ونقص الماء، وما بقي مما نزل من السماء فهي ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 17. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 386 (بلع). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 17. (¬4) "زاد الضمير" 4/ 111.

هذه البحار المالحة. وقوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}، قال أبو بكر (¬1) وغيره: معناه: وأحكم هلاك قوم نوح، ومعنى القضاء الأحكام وإتمام الأمر والفراغ منه، كأنه قيل (¬2): أوقع الهلاك بقوم نوح على تمام وإحكام، وفرغ من ذلك. قال مجاهد (¬3) في قوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}: أهلك قوم نوح، قال كثير من المفسرين (¬4): إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يغرق إلا ابن أربعين، فعلى هذا لم يهلك الله بالغرق طفلًا ولا وليدًا لم تقم عليه الحجة. وقال ابن جرير (¬5): هلك الولدان بالطوفان، كما هلك الطير والسباع، وافق الغرق آجالهم، فذهب إلى أن الغرق لم يكن عقوبة للولدان، وإنما كان سببا للموت عند حضور الأجل، والله أعلم، ويؤكد هلاك الولدان ما روي في الخبر: أن امرأة أتت بصبي لها إلى جبل، فلما رهقها الماء رفعته، فلما كثر الماء رفعته رقة له، حتى غرقت وغرق الصبي، فلو رحم الله أحدًا من قوم نوح [من المشركين] (¬6) لرحم أم (¬7) ذلك ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 112، "البحر المحيط" 5/ 228. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) الطبري 12/ 47، "زاد المسير" 4/ 111، ابن أبي حاتم 6/ 2037، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 605. (¬4) الرازي 17/ 235، القرطبي 9/ 41. (¬5) رواه الطبرى 12/ 49 عن الضحاك. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) ساقط من (ي).

الصبي (¬1). وقوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، قال ابن عباس (¬2) وعامة المفسرين (¬3): استوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي، قال أبو بكر (¬4): كان استواؤها عليه دلالة على نفاد الماء وانقطاع ما يزيل عنها الاستواء بتحريكه وتنحيته ومنعه من الثبات في موضع واحد، وفي الحديث (¬5): "أن نوحًا ركب السفينة في رجب، فجرت بهم ستة أشهر، ومرت بالبيت فطافت به سبعاً، وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه فصاموا شكرًا لله". وقوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، قال ابن عباس (¬6): يريد ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 6/ 2036 من حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والطبري 12/ 35، والحاكم في "المستدرك" 2/ 342 وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وخالفه الذهبي في التلخيص، وقال: إسناده مظلم بسبب موسى بن يعقوب الزمعي وليس بذاك، قال فيه ابن المديني: ضعيف منكر الحديث. انظر: "تهذيب التهذيب" 4/ 192. (¬2) الطبري 12/ 48. (¬3) أخرجه الطبري 12/ 48 عن مجاهد وسفيان وقتادة والضحاك. وانظر: البغوي 4/ 179، "زاد المسير" 4/ 112، ابن أبي حاتم 6/ 2037. (¬4) "زاد المسير" 4/ 112. (¬5) أخرجه الطبري 12/ 47 عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعًا، وقد علق عليه أحمد شاكر بقوله: (وهذا خبر هالك من نواحيه جميعًا وقال: وأما عبد العزيز ابن عبد الغفور، فهذا اسم مقلوب، وإنما هو (عبد الغفور بن عبد العزيز) ويقال: عبد الغفار، ويروي عنه عثمان بن مطر وهو كذاب خبيث كان يضع الحديث. انظر: "تعليقه على الطبري" 15/ 335. (¬6) "زاد المسير" 4/ 112.

45

بعدًا من رحمة الله للقوم المتخذين من دونه إلها، قال أهل المعاني: معناه أبعدهم الله من الخير بعدًا على جهة الدعاء، ويجوز أن يكون [الله قال لهم ذلك] (¬1)، ويجوز أن يكون من قول المؤمنين، وهو منصوب على المصدر. 45 - قوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، اختلف المفسرون في قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}؛ فقال عكرمة عن ابن عباس (¬2): إنه لَابنُه ولكنه خالفه في النية والعمل، فذلك الذي فرق بينهما، ونحو هذا قال محمد بن إسحاق (¬3)، والكلبي (¬4) ومقاتل (¬5): قالوا هو وابنه من صلبه. وروى ابن عيينة عن عمار الدهني قال: قلت لسعيد بن جبير كان ابنه؟ فقال: يا بني إن الله لا يكذب (¬6)، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}، وذهب طائفة إلى أن هذا الذي خالف نوحًا كان ابن امرأته، ولم يكن ابن صلبه (¬7). روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ (¬8): (ونادى نوح ابنها وكان في معزل) وروى إسرائيل عن جابر عن ابن جعفر الباقر (¬9) في قوله {إِنَّ ابْنِي} ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) الطبري 12/ 51، الثعلبي 7/ 45 أ، ورجحه البغوي 181، "زاد المسير" 4/ 113، القرطبي 9/ 45 ورجحه. وابن كثير 2/ 489 ورجحه وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2039، وسعيد بن منصور كما في "الدر" 3/ 603. (¬3) "الوسيط" 2/ 575، "البداية والنهاية" 1/ 113. (¬4) "الوسيط" 2/ 575. (¬5) "تفسير مقاتل" 146 أ. (¬6) "تفسير سفيان بن عيينة" 268. (¬7) الطبري 12/ 49، الثعلبي 7/ 45 أ، البغوي 4/ 181، "زاد المسير" 4/ 113. (¬8) أخرجه ابن الأنباري في "المصاحف" وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 603. (¬9) الطبري 12/ 50، والرواية عن أبي جعفر الباقر، الثعلبي 7/ 44 ب، البغوي =

قال: هذا بلغة طيء لم يكن ابنه، إنما كان ابن امرأته. [ونحو ذلك قال الهيثم بن عدي الطائي (¬1)، وقال مجاهد (¬2) أيضًا: كان ابن امرأته] (¬3). وقال قتادة (¬4): سألت عنه الحسن فقال: والله ما كان ابنه، [قلت إن الله حكى عنه أنه قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وأنت تقول لم يكن ابنه] (¬5)، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل على صحة ما قال يقول (¬6): نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، ولم يقل مني (¬7). وقوله تعالى: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}، قال ابن عباس (¬8): يريد الذي وعدتني أنك تنجيني وأهلي، وفي هذا سؤال النجاة لابنه، أي فأنجه من الغرق على ميعادك من إنجاء أهلي، {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} قال ابن ¬

_ = 4/ 181، ابن كثير 2/ 490، وابن المنذر، وابن أبي حاتم 6/ 2039، وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي كما في "الدر" 3/ 603. (¬1) هو: الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الطائي، الكوفي المؤرخ، قال ابن معين وأبو داود: كذاب، قال البخاري: سكتوا عنه، والنسائي: متروك الحديث، توفي سنة 207 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 10/ 103، "الجرح والتعديل" 9/ 85. (¬2) الطبري 12/ 50، الثعلبي 7/ 44 ب، البغوي 4/ 181، "زاد المسير" 4/ 113. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) الطبري 12/ 50، الثعلبي 7/ 44 ب، البغوي 4/ 181، "زاد المسير" 4/ 113. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) ساقط من (ي). (¬7) البغوي 4/ 181، الثعلبي 7/ 44 ب. (¬8) ابن كثير 2/ 490.

46

عباس (¬1): يريد: أعدل العادلين. 46 - قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، [من قال: إن هذا الابن كان ابن نوح لصلبه، قال: معنى قوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}] (¬2) أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، كذا قال ابن عباس (¬3) فيها روى عنه الضحاك، وروى هشيم (¬4) قال: سألت أبا بشر (¬5) عن هذه الآية فقال (¬6): معناه: ليس من أهل دينك. والقولان ذكرهما الزجاج (¬7)، وحكاهما أبو علي (¬8)، وقال في القول الأول: بعَّد المخالفة، في الدين قربَ النسب الذي بينهما، كما تقرب الموالاة في الدين بعد النسب، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وهذا إطلاع من الله تعالى نوحًا على باطن أمره، كما أطلع رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ما استبطنه المنافقون، وقال في القول الثاني: إنه من باب حذف المضاف، وعلى هذا كان سؤال نوح إنجاءه؛ لأنه كان يظن أنه ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 113. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) الطبري 12/ 51، الثعلبي 7/ 44 ب. (¬4) هشيم هو: ابن بشير بن أبي خازم، الإمام شيخ الإسلام، محدث بغداد وحافظها، أبو معاوية السلمي مولاهم، الواسطي، ثقة ثبت، توفي سنة 183 هـ. انظر: "التقريب" ص 574 (7312)، "السير" 8/ 287. (¬5) هو: جعفر بن أبي وحشية إياس اليشكري أبو بشر، أحد الأئمة والحفاظ، ثقة، من أثبت الناس في سعيد بن جبير. توفي سنة 125هـ, وقيل: 126هـ. انظر: "التقريب" ص 139 (930)، "السير" 5/ 465. (¬6) الطبري 12/ 51. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 55. (¬8) "الحجة" 4/ 342 بتصرف.

على دينه، فقد روي أنه كان منافقًا يظهر الإيمان ويسر الكفر، وكذا يقول من قال إنه ابن امرأته، وذهب جماعة إلى أنه ولد على فراش نوح، وكان ولد خبثه، وكان يظن نوح أنه ابنه، حتى أخبره الله تعالى أنه ليس ابنه، بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، وهذا قول ابن جرير (¬1)، والحسن (¬2)، قال الحسن: إن امرأته فجرت. وقال الشعبي (¬3): لم يكن ابنه، إن امرأته خانته، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {فَخَانتاهُمَا} [التحريم: 10] (¬4)، والعلماء على أنه كان ابنه، وعليه ابن عباس فقد روى الضحاك عنه أنه قال (¬5): ما بغت امرأة نبي قط. وروى سليمان بن قتة (¬6) أن ابن عباس سئل: ما كانت خيانة امرأة نوح وامرأة لوط؟ فقال (¬7): كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وكانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به، وروى عكرمة عنه (¬8) أنه قال: لم ¬

_ (¬1) لعله ابن جريج كما في الطبري 12/ 50، أما ابن جرير فيقول بخلاف ذلك. انظر: الطبري 12/ 51. (¬2) الطبري 12/ 49 - 50، وابن أبي حاتم 6/ 2040، "زاد المسير" 4/ 113. (¬3) "زاد المسير" 4/ 113. (¬4) من هنا يبدأ السقط في (ب). (¬5) الطبري 12/ 51، ابن أبي حاتم 6/ 2040، "زاد المسير" 8/ 315. (¬6) هو: سليمان بن قتة التيمي، مولاهم البصري، المقرئ من فحول الشعراء، وثّقه ابن معين وقتة هي أمه، ولم تذكر سنة وفاته. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 596, "غاية النهاية" 1/ 314. (¬7) الطبري 12/ 51، عبد الرزاق 2/ 310، القرطبي 9/ 47، "زاد المسير" 8/ 315, "الدر المنثور" 6/ 377. (¬8) أخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن الضحاك نحوه كما في "الدر" 6/ 377.

يكن الله ليجعل خائنة الفرج لأحد من أنبيائه، وإنما خيانتهما الكفر، قال أبو بكر ابن الأنباري: وهذا أولى من الأخذ بتأويلٍ فيه رميُ زوج نبي بالفاحشة، ومتى وجدنا سبيلا إلى تطهير حرم الأنبياء لم نعدل عن ذلك إلى وصفهن بما يسمج، وهذا أيضًا مذهب ابن مسعود (¬1): فقد قال: إنه ابنه، ولم يبتل الله -عزوجل - نبيا في أهله بمثل هذه البلوى. وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، يجوز أن تكون الهاء راجعة على السؤال، والمعنى: إن سؤالك إياي أنجي كافرًا، عمل غير صالح؛ لأنه قد تقدم دليل السؤال في قوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، ويجوز أن تكون الهاء راجعة على ابن نوح، ويكون التقدير: إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح، فحذف المضاف كما قالت الخنساء: ..... فإنما هي إقبال وإدبار (¬2) وهذا الذي ذكرنا قول أبي إسحاق (¬3)، وأبي بكر (¬4)، وأبي علي (¬5)؛ قال أبو علي: ويجوز أن يكون ابن نوح جعل عملًا غير صالح، كما يجعل الشيء لكثرة ذلك منه، كقولهم: الشعر زهير، فعلى هذا لا حذف، ومن ذهب إلى أنه كان لزنية، قال: معنى قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أنه ولد زنى (¬6)، والمفسرون على القول الأول؛ أن المعنى أن سؤالك ما ليس لك ¬

_ (¬1) لم أجده في مظانه. (¬2) تقدم تخريج البيت في سورة البقرة: 177. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 55. (¬4) "زاد المسير" 4/ 114. (¬5) "الحجة" 4/ 342. (¬6) وممن قال بهذا الحسن كما في الطبري 12/ 53، وابن أبي حاتم 6/ 2040.

به علم عمل غير صالح (¬1)، وهو قول الكلبي وقتادة، وقال عطاء عن ابن عباس: سؤالك (¬2) إياي عمل غير صالح، وقرأ الكسائي (¬3): "إنه عَمِلَ غيرِ صالح"، وهذه القراءة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)؛ روى ذلك عنه عائشة وأسماء بنت يزيد (¬5) وأم سلمة (¬6)، ومعناه أن الابن عمل عملًا غير صالح، يعني الشرك، ¬

_ (¬1) رواه الطبري 12/ 53 عن إبراهيم، وقتادة، وابن عباس، ومجاهد، وابن أبي حاتم 6/ 2040 عن ابن عباس. (¬2) في (ي): (مسألتك). (¬3) ويعقوب من العشرة، انظر: "السبعة" / 334، "الكشف" 1/ 531، "النشر" 3/ 115، "إتحاف" ص 256، وقرأ بها ابن عباس كما في الطبري 12/ 53، والأخفش كما في "معاني القرآن" 2/ 578. (¬4) هذا الكلام فيه إيهام بأن ما عدا هذه القراءة ليس قراءة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا غير مراد، وإنما المراد أنها قراءة ثابتة عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. (¬5) هي: الصحابية أم سلمة، أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع الأنصارية وقيل كنيتها أم عامر، شهدت اليرموك وعاشت بعدها دهرًا. انظر: "الإصابة" ص 234 - 235، "التقريب" ص 743 (8532). (¬6) هذا الحديث رواه أحمد في "مسنده" من حديث أسماء بنت يزيد في ثلاثة مواضع 6/ 454، 459، 460، وعنها أيضًا، أبو داود (3982)، والطيالسي في مسنده ص 256 ح 1631، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 301, عن أم سلمة أم المؤمنين، والحاكم في "المستدرك" 2/ 249، وأحمد عن أم سلمة 6/ 294، 322، وأيضاً الطيالسي 223 برقم 1594، قال الترمذي بعد أن ساق الخبر: "سمعت عبد بن حميد يقول: أسماء بنت يزيد هي أم سلمة الأنصارية، كلا الحديثين عندي واحد" وذهب أحمد شاكر في تعليقه على الطبري إلى أنهما حديثان 15/ 350، وأن شهر ابن حوشب يروي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية التي تكنى بأم سلمة، ويروى عن أم المؤمنين أم سلمة، وأما حديث عائشة الموافق لحديث أم سلمة فقد رواه البخاري في "الكبير" 1/ 1/ 286، 287، ورواه الحاكم في "المستدرك"، وقال الذهبي تعليقًا عليه: "إسناده مظلم".

فحذف الموصوف وأقيمت الصفة التي هي "غير" مقامه. وقوله تعالى: {فَلَا (¬1) تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، قال أبو بكر: سأل نوح ربه من نجاته وانصراف الغرق عنه ما يسأله الوالد، وهو لا يعلم أن ذلك محظور عليه مع إصراره على الكفر، حتى أعلمه ذلك، وكأن المعنى: ما ليس لك علم بجواز مسألته. وقال أبو علي (¬2): قوله "به" يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مقدم يراد به التأخير أي ما ليس لك علم به (¬3) فيكون كقوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، و {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، و {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 56]، وزعم أبو الحسن (¬4) أن ما يكون من هذا القبيل يتعلق بمضمر، يفسره هذا الذي ظهر بعد، وإن كان لا يجوز تسلط هذا الظاهر عليه قال: ومثل ذلك قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى} [الفرقان: 22] فانتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} بما دلَّ عليه {لَا بُشْرَى}، ولا يجوز لما بعد {لَا} هذه أن تتسلط على {يَوْمَ يَرَوْنَ}، وكذلك {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] يتعلق بما يدل عليه النصح المظهر، وإن لم يتسلط عليه، والتقدير: إني ناصح لكما من الناصحين، وكذلك "ما ليس لي به علم" يتعلق بما يدل عليه قوله علم الظاهر، وإن لم يجز أن يعمل فيه، قال أبو علي: ويجوز فيه وجه آخر، ¬

_ (¬1) في النسخ: (9 ولا). (¬2) "الحجة" 4/ 343. (¬3) في (ي): (به علم). (¬4) هو أبو الحسن الأخفش.

47

وهو أن تكون الباء متعلقًا بما دل عليه قوله "ليس لك" والمعنى ليس لك (¬1) أن يستقر لك به علم، كتعلق الظرف بالمعاني، والعلم هاهنا يراد به العلم المتيقن الذي يعلم به الشيء على حقيقته (¬2)، ليس العلم الذي يعلم به الشيء على ظاهره كالذي في قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] ونحو ما يعلمه الحاكم من شهادة الشاهدين (¬3). وقوله تعالى: {إِنِّي أَعِظُكَ}، قال ابن عباس (¬4): يريد: إني أنهاك. {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، [قال: يريد الآثمين؛ لأن عمل المؤمنين وذنوبهم جهل ليس بكفر، كما قال موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]] (¬5)، وقال الله تعالى {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] وجهل المؤمن ذنب وليس بكفر. 47 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}، قال ابن عباس (¬6): يريد أنك علام الغيوب، وأنا لا أعلم ما غاب عني. وقال ابن الأنباري: لما أعلمه الله أنه لا يجوز له أن يسأل ما لا علم له بجواز مسألته تلك (¬7) اعتذر أجمل اعتذار بقوله: {أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ ¬

_ (¬1) ساقط من (جـ). (¬2) في (جـ): (على ظاهره). (¬3) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 4/ 344 (بتصرف). (¬4) القرطبي 9/ 48، "تنوير المقباس" 141. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ). (¬6) قال به الطبري 12/ 54. (¬7) ساقط من (ي).

48

مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}. وقال أهل المعاني: لما كان السؤال منه ما يحسن ومنه ما يقبح، وجب ألا يسأل إلا عما يعلم أنه يحسن. {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي}، قال ابن عباس: يريد جهلي {وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وهذه الآية تدل على جواز وقوع الصغيرة من الأنبياء عليهم السلام (¬1)؛ لأن المغفرة لا تكون للطاعة وإنما تكون للمعصية. 48 - قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ}، قال ابن عباس (¬2): يريد من السفينة إلى الأرض {بِسَلَامٍ مِنَّا}، قالوا: بسلامة منا، وقالوا: بتحية منا {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ}، معنى البركة في اللغة: ثبوت الخير حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك، والبركة لثبوت الماء فيها، وبراكاء للقتال في قول الشاعر (¬3): ¬

_ (¬1) هذا القول هو قول أهل السنة، بل قول أكثر علماء الإسلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"."مجموع فتاوى ابن تيمية" 4/ 319. (¬2) "زاد المسير" 4/ 115، وقال به الطبري 12/ 54، والثعلبي 7/ 45 أ، والبغوي 4/ 181، والقرطبي 9/ 48. (¬3) البيت لبشر بن أبي خازم، وصدره: ولا ينجي من الغمرات إلا والبراكاء: الثبات في الحروب. انظر: "ديوانه" ص 79، و"اللسان" (برك) 1/ 267، "الخزانة" 3/ 359، "تهذيب اللغة" 1/ 319، "الدر المصون" 5/ 41، "جمهرة اللغة" /325، "شرح التصريح" 2/ 291، "شرح المفصل" 4/ 50.

بَراكاءُ (¬1) القِتالِ أَوِ الفِرارُ الثبوت للقتال، وتبارك الله: ثبت تعظيمه، قال المفسرون (¬2): معنى البركات على نوح أنه صار أب البشر والأنبياء؛ لأن جميع من بقي كانوا من نسله، قال ابن عباس (¬3): يريد أنك آدم الأصغر، فعلى هذا قالوا: لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته، ولم يتناسل إلا من كان من ذريته، فالخلق كلهم من نسله، وهذا معنى قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]، وقال جماعة من المفسرين (¬4): لم يكن مع نوح في السفينة من الناس إلا من كان من ذريته. وقوله تعالى: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}، قال ابن عباس (¬5): يريد من ولدك. قال أبو بكر (¬6): معناه من ذراري من معك، ولذلك قال (على أمم) ولم يكن الذين كانوا مع نوح أمما. قال المفسرون (¬7): وهم المؤمنون وأهل السعادة، وقال القرظي (¬8): دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} [الآية، قال المفسرون: يعني الأمم ¬

_ (¬1) في (جـ): (براك). (¬2) "زاد المسير" 4/ 115. (¬3) القرطبي 9/ 48، "البحر المحيط" 5/ 231. (¬4) البغوي 4/ 182، القرطبي 9/ 48. (¬5) "زاد المسير" 4/ 115. (¬6) المرجع السابق. (¬7) الطبري 12/ 55، الثعلبي 7/ 45 أ، البغوي 4/ 182، القرطبي 9/ 48. (¬8) الطبري 12/ 55، الثعلبي 7/ 45 أ، البغوي 4/ 182، القرطبي 9/ 48.

49

الكافرة من ذريته إلى يوم القيامة، كما قال القرظي: دخل في السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في المتاع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. قال ابن الأنباري (¬1): والأمم يرتفعون بإضمار "مَنْ" تقديره: وفي مَنْ نَصِفُ لك وفي مَنْ نقُصُّ عليك أمره أمم سنمتعهم] (¬2). 49 - قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}، الإشارة بتلك إلى الأنباء، كأنه قيل تلك الأنباء من أنباء الغيب؛ لأنه قد تقدم ذكرها، واتصلت ببيان عنها، وقال أبو بكر (¬3): {تِلْكَ} إشارة إلى آيات القرآن، وقال في هذه السورة (¬4): {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى} [هود: 100]، فأشار بذلك إلى الخبر والحديث، وقال غيره (¬5): الإشارة بتلك إلى القصة. وقوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}، أي من أخبار ما غاب عن جميع الخلق؛ لأنه لم يشاهد هذه القصص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من قومه، ولا من الناس كلهم في ذلك الوقت. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}، أي كما صبر نوح على أذى قومه، فإن آخر الأمر بالظفر والنصرة والتمكين لك ولقومك، كما كان لمؤمني قوم نوح، هذا قول عامة المفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 578. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬3) "زاد المسير" 4/ 116، "البحر المحيط" 5/ 232. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) "زاد المسير" 4/ 116، ابن كثير 2/ 492، الطبري 12/ 56، ابن عطية 7/ 317. (¬6) الطبري 12/ 56، الثعلبي 7/ 45 ب، البغوي 4/ 182، "زاد المسير" 4/ 117، القرطبي 9/ 49، ابن عطية 7/ 317، ابن كثير 2/ 492، الرازي 18/ 8.

50

وقال مقاتل (¬1) وجماعة معناه: أن الجنة لمن اجتنب الفواحش والآثام. 50 - وقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، هذا عطف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، فكأنه قيل: وأرسلنا إلى عاد أخاهم، قال المفسرون (¬2): كان هودٌ أخاهم في النسب لا في الدين، قال ابن عباس: يريد ابن أبيهم. وقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}، قال: يريد: فيما تعبدون من دونه، يعني ما أنتم إلا كاذبون في إشراككم معه الأوثان. 51 - قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} الآية، قد مضى نظير هذه الآية في قصة نوح في هذه السورة، وبينا ما فيه. 52 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}، مضى الكلام في هذا في أول السورة. وقوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}، قال المفسرون (¬3): إن الله تعالى كان قد حبس عنهم المطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم، ورزقكم الماء والولد، فذلك قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}، والمعنى يرسل المطر وماء السماء، والمدرار: الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 173 ب نسخة أخرى من المخطوط محفوظة بجامعة الإمام تحت رقم 486/ ف، "تنوير المقباس" 141. (¬2) الثعلبي 7/ 45 ب، البغوي 4/ 182، ابن عطية 7/ 318. (¬3) الثعلبي 7/ 46 أ، الطبري 12/ 58 عن ابن زيد، "زاد المسير" 4/ 117، البغوي 4/ 182 - 183.

53

قال أبو بكر (¬1): وهو من النعوت التي انعدلت عن منهاج الفعل فيستوي فيه التذكير والتأنيث، وجرى في وصف المؤنث مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فمِه عن العلامة، كالنعل والفأس، ونصبها على الحال، وذكرنا هذا في أول سورة الأنعام [آية: 6]. وقوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}، فسرت القوة هاهنا بالمال والولد والشدة، وكل هذا مما يتقوى به الإنسان، ذكر ذلك الفراء (¬2)، والزجاج (¬3)، وابن الأنباري، وقال مقاتل (¬4): يعني العدد وكثرة الأولاد، وهو قول ابن عباس في رواية الكلبي، وذهب مجاهد (¬5) إلى الشدة. 53 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي بحجة واضحة نفصل بها الحق من الباطل. وهذا بهت منهم وطغيان ودفع للاستدلال. وقوله تعالى {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي بقولك، و (الباء) و (عن) تتعاقبان كقوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] أي بها، وقد مرَّ، وكقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] أي عنه. 54 - قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، يقال: عراه أمر كذا يعروه، واعتراه يعتريه، وعرَّه واعتره كل ذلك إذا غشيه ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 3/ 6. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 19. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 57. (¬4) "تفسير مقاتل" 146 ب، ابن عطية 7/ 321 - 322، "زاد المسير" 4/ 117، القرطبي 9/ 51. (¬5) الطبري 5882، الثعلبي 7/ 46 أ، "زاد المسير" 4/ 117، البغوي 4/ 182 - 183، القرطبي 9/ 51.

وأصابه، قال ابن الأعرابي: إذا أتيت رجلا تطلب منه حاجة فقد عروته وعررته واعتريته واعتررته (¬1). وقال المفسرون وأهل المعاني (¬2) في قوله تعالى: {اعْتَرَاكَ}: أصابك ومسك، والمعنى: أنهم قالوا لهود: ما نقول في سبب مخالفتك إيانا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون، فأفسد عقلك وأجنك وخبلك، فالذي تُظهِر من عيبها وطعنها لما لحق عقلَك من التغير، هذا قول عامة أهل التأويل؛ ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة (¬3) وغيرهم، فقال نبي الله عند ذلك: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} الآية، يعني إن كانت عندكم عاقبتني لطعني كان (¬4) عليها، فإني الآن أزيد في الطعن أي إني متيقن بطلان ما تقولون؛ لبصيرتي في البراءة منها والعيب لها والإنكار لعبادتها. وقوله تعالى: {وَاشْهَدُوا}، قال أهل المعاني (¬5): أشهدهم وليسوا أهلًا للشهادة؛ ليقيم (¬6) عليهم الحجة لا لتقوم بهم؛ لأنهم كفرة، فقيل لهم هذا القول للإعذار والإنذار. وقال أبو علي (¬7): قوله: {أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ} على إعمال ¬

_ (¬1) ما سبق من "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 2373 (عرا). (¬2) "معاني الفراء" 2/ 19، "معاني الزجاج" 3/ 57، "تهذيب اللغة" (عرا) 3/ 2373. (¬3) رواه عنهم الطبري 12/ 59 - 60، وانظر: الثعلبي 7/ 46 أ، البغوي 4/ 183، ابن عطية 7/ 323، القرطبي 9/ 51، "الدر المنثور" 3/ 610، عبد الرزاق 2/ 304، ابن أبي حاتم 6/ 2046. (¬4) هكذا في النسخ التي بين يدي، ولعل (كان) زائدة. (¬5) القرطبي 9/ 51. (¬6) في (ي): (لتقوم). (¬7) "الحجة" 5/ 178.

55

الثاني كما أن قولى تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] كذلك، والتقدير: أشهد الله أني بريء وأشهدوا الله أني بريء، فحذف الأول على حد ضربت وضربني زيد، وحذف حرف الجر مع (¬1) أنّ؛ لأنه يقال: أشهد بكذا وعلى كذا ولكن حرف الجر يحذف مع (أن) و (أنّ). 55 - وقوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا}، أي احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي وغيظي وضربي، {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} لا تمهلون، في قول ابن عباس (¬2) وقال الضحاك (¬3): لا تؤجلون. قال أبو إسحاق (¬4) وغيره من أهل المعاني: هذا من أعظم آيات الأنبياء أن يقبل النبي على قومه مع كثرة عددهم واجتماع كلمتهم على عداوته، فيقول لهم هذا القول، وهذا للثقة بنصر الله تعالى إياه، وأنهم لا (¬5) يصلون إليه، وكذلك قال نوح لقومه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} إلى قوله: {وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. 56 - قوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، قال الليث (¬6): الناصية هي: قصاص الشعر في مقدمة الرأس، وقال الفراء (¬7): الناصية: مقدم الرأس. ¬

_ (¬1) في (جـ): بحذف مع أن. (¬2) البغوي 4/ 183، "زاد المسير" 4/ 118. (¬3) الطبري 12/ 59، القرطبي 9/ 52، ابن عطية 7/ 323. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 58، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 358، ابن عطية 7/ 323. (¬5) ساقط من (جـ). (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 3580، من هنا يبدأ النقل بتصرف مادة: (نصا). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 279.

قال الأزهري: الناصية عند العرب: منبت الشعر في مقدمة الرأس، ويسمى الشعر الثابت هناك: ناصية باسم منبته؛ يقال: نصوت الرجل أنصوه، إذا مددت ناصيته. وناصيته إذا جاذبته وأخذ كل واحد منكما بناصية صاحبه، ومنه قول عمرو بن معدي كرب (¬1): أعباسُ لو كانت شيارًا جيادُنا ... بتثليثَ ما ناصيتَ بعدي الأحامسا ومعنى {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي: هي في قبضته وتنالها بما شاء قدرته. قال أبو إسحاق (¬2)، وهذا معنى هذا الكلام، وإن اختلفت العبارات في تفسيره، والأصل فيه ما ذكره ابن جرير (¬3) فقال: العرب إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع قالوا: (ما ناصية فلان إلا بيد فلان)، أي أنه: مطيع له يصرفه كيف شاء؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه، جزوا ناصيته ليعتدوا بذلك فخرا عليه، ويكون علامة لقهره (¬4) إياه، فخوطبوا بما يعرفون في كلامهم، وأخبروا أن ¬

_ (¬1) هو: أبو ثور الزبيدي من مذحج باليمن، من فرسان العرب المشهورين، أدرك الإسلام ووفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم ثم ارتد ثم أسلم واستشهد في فتح نهاوند سنة 21 هـ. انظر: "الشعر والشعراء" 235، "معجم الشعراء" 208، "الإصابة" 4/ 18. والبيت في "ديوانه" 125، و"ديوان الأدب" 3/ 375، و"تاج العروس" (حمس) 8/ 249. والبيت في "اللسان" (شور) 4/ 2357، وفي "تهذيب اللغة" 4/ 3580 (نصا). وشيار أي: سمان حسان يقال: جاءت الإبل شيارًا أي: سمانًا حسانًا. (¬2) لعل العبارة (قاله أبو إسحاق) وهي في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 58، ونصها: "أي هي في قبضته، وتنالها بما تشاء قدرته". (¬3) الطبري 12/ 60 بتصرف، ولعله نقله عن الثعلبي 7/ 46 أ. (¬4) كذا في النسخ ولعل الصواب: (لقهرهم).

كل دابة بهذه المنزلة في الذلة والانقياد لله عز وجل. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، [قال أبو إسحاق (¬1): أي: هو وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء فهو لا يشاء إلا العدل، وزاد ابن الأنباري (¬2) لهذا بيانًا فقال: لما قال {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا يخرج عن قبضته، لكنه قاهر بعظيم سلطانه كل دابة، فأتبع قوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}] (¬3) [أي أنه وان كان قادرًا عليهم فهو لا يظلمهم ولا يلحقهم بقدرته عليهم - إلا ما يوجب الحق وقوعه بهم، وهذا معنى قول مجاهد {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}] (¬4) قال: على الحق (¬5)، وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلاً بحسن السيرة والعدل والإحسان، قالوا: فلان على طريقة حسنة وليس ثم طريق. وذكر وجهًا آخر قال: لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة، أتبع هذا قوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي أنه لا يخفى عليه مستتر، ولا يعدل عنه هارب، فذلك الصراط المستقيم، وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه؛ كما قال {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وقال عطاء عن ابن عباس (¬6) في هذه الآية يريد أن الذي بعثني الله به دين مستقيم. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 58. (¬2) "زاد المسير" 4/ 119. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ). (¬5) الطبري 12/ 60 - 61، "زاد المسير" 4/ 118. (¬6) البغوي 4/ 184.

57

وقال الكلبي (¬1): {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: قائم دائم، وهو الإسلام والطريق عليه، فمن شاء هداه إلى الإسلام. فعلى هذين القولين المراد بالصراط المستقيم: دين الإسلام، ومعناه: إنَّ ربي أمر بذلك، ودعا إلى ذلك؛ كما يقول الإنسان لمن دعا غيره إلى أمر: أنا على هذه الطريقة، ولهذا المعنى ذهب بعض أهل المعاني (¬2) إلى إضمار في الآية، فقال: معناه: إن ربي على صراط مستقيم أو (¬3) يحث أو يحملكم على الدعاء إليه. وقال بعضهم (¬4): هذا من باب حذف المضاف؛ على معنى أن أمر ربي وتدبيره لخلقه، على صراط مستقيم لا خلل فيه. 57 - وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي إن تتولوا، بمعنى تعرضوا عما دعوتكم إليه من الإيمان بالله وعبادته {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}، قال أبو إسحاق (¬5) وابن الأنباري: معناه قد ثبتت الحجة عليكم، وأثبت فساد مذهبكم، فليس توليكم بعد هذا لتقصير في الإبلاغ، وإنما هو لسوء اختياركم في الإعراض عن النصح، وذهب مقاتل بن سليمان (¬6) وجماعة معه أن {تَوَلَّوْا} هاهنا فعل ماض، بمعنى أعرضوا، ويكون المعنى على هذا: فإن أعرضوا فقل لهم قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 142. (¬2) "زاد المسير" 4/ 118، البغوي 4/ 184. (¬3) هكذا في النسخ ولعل الصواب: (أي). (¬4) ابن عطية 324/ 7. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 58. (¬6) "تفسير مقاتل" 147 أ، "زاد المسير" 4/ 119.

58

وقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ}، قال ابن عباس (¬1): يريد ويخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} بتوليكم وإعراضكم إنما تضرون أنفسكم؛ لأن ضرر كفركم عائد عليكم. وقوله: {إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}، قال أكثر أهل المعاني (¬2): حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها، وقيل معناه (¬3): يحفظني عن أن تنالوني بسوء (¬4)، وقيل (¬5): حفيظ على كل شيء، يحفظه من الهلاك إذا شاء، ويهلكه إذا شاء. 58 - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}، أي بهلاك عاد {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}، ذكر أبو إسحاق (¬6) فيه وجهين: أحدهما: أن يريد بالرحمة ما أراهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة. والثاني: أنه أراد لا ينجو أحد وإن اجتهد إلا برحمة منا (¬7). والأول ¬

_ (¬1) قال به الطبري 12/ 61، والبغوي 4/ 184، القرطبي 9/ 53، ابن عطية 7/ 325، الثعلبي 7/ 46 أ. (¬2) "زاد المسير" 4/ 120. (¬3) "تفسير البغوي" 4/ 184، "زاد المسير" 4/ 120، "القرطبي" 9/ 53، "البحر المحيط" 5/ 235، "الثعلبى" 7/ 46 أ. (¬4) في (ي): (بشر). (¬5) الرازي 18/ 14. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 58. (¬7) في (ي): (الله). ويشهد لهذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لن بدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" أخرجه البخاري رقم (5673)، كتاب: المرضى، باب: نهى تمني المريض الموت، ومسلم رقم (2818) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى.

59

هو قول ابن عباس (¬1)؛ لأنه قال: يريد حيث هديتهم للإيمان وعصمتهم من أن يكفروا بي. وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، قال ابن عباس (¬2): يريد الذي عذبت (¬3) به الذين كفروا، وقال بعضهم (¬4): يعني عذاب القيامة، وهذا أحسن؛ لأن الإنجاء من عذاب الدنيا قد سبق، كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة من العذاب. 59 - قوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا}، قال ابن عباس (¬5) يعني القبيل، يريد: أن التأنيث في تلك إنما كان لأجل القبيل {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}. قال: يريد كذبوا أنبياء الله، {وَعَصَوْا رُسُلَهُ}، قال: يريد (¬6) هودًا وحده. قال أهل المعاني: وإنما جمع؛ لأن من كذب رسولا واحداً فقد كذب (¬7) بجميع الرسل. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 120، الرازي 18/ 15. (¬2) "زاد المسير" 4/ 120، القرطبي 9/ 54. (¬3) كذا في النسخ ولعل الصواب: (الذي عذب) بدون تاء. (¬4) الطبري 12/ 61، الثعلبي 7/ 46 ب، البغوي 4/ 184، القرطبي 9/ 54، الرازي 18/ 15. (¬5) قال به الثعلبي 7/ 47 أ، البغوي 4/ 184، "زاد المسير" 4/ 120، القرطبي 9/ 54. ويعني بالقبيل: القبيلة. (¬6) البغوي 4/ 184، "زاد المسير" 4/ 121، القرطبي 9/ 54، الزاري 18/ 15، الثعلبي 7/ 47 أ. (¬7) في (جـ): (كفر).

60

وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، قال أبو بكر (¬1): معناه: واتبع السفلة والسقاط الرؤساء وأُولي المقدار عندهم، فقلدوهم الكفر. فقوله: {وَأُتْبِعُوا} خبر عامٌّ، معناه في الباطن التخصيص، قال المفسرون: قال الرؤساء للسفلة -يعنون هودًا- {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} الآيتان (¬2)، ومضى الكلام في معنى الجبار من الناس عند قوله: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} (¬3) والعنيد: الذي لا يقبل الحق، ولا يذعن له، من قولهم: عَنَدَ الرجل يَعْنُدُ عُنُودًا وعانَدَ مُعاندة، إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه، وقال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند: المعاند المعارض لك بالخلاف (¬4) وأظن أن هذا مما تقدم الكلام فيه. 60 - قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي (¬5): أردفوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم، هذا معنى الإتباع، وهو أن يتبع الثاني الأول، ليتصرف معه بتصرفه، ومعنى اللعنة (¬6): الإبعاد من رحمة الله ومن كل خير. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [أي وفي يوم القيامة] (¬7) كما قال: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ}؛ قيل: أراد الباء ¬

_ (¬1) البغوي 4/ 184، "زاد المسير" 4/ 121، القرطبي 9/ 54، الرازي 18/ 15. (¬2) المؤمنون: 33، 34. (¬3) المائدة: 22. وخلاصة ما ذكره قال: وللجبار معنيان، أحدهما: أراد الطول والقوة والعظم. والثاني: من أجبره على الأمر إذا أكرهه عليه". (¬4) ما سبق نقل عن الثعلبي 7/ 47 أ، وانظر: البغوي 4/ 184، "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 211، القرطبي 9/ 54. (¬5) "زاد المسير" 4/ 122، البغوي 4/ 184. (¬6) البغوي 2/ 390. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).

61

فحذف الجار فوصل الفعل، وقيل: هو من باب حذف المضاف أي: كفروا نعمة ربهم، وهو معنى قول ابن عباس: يريد: كفروا بما كانوا فيه من نعيم ربهم، وذكر الفراء (¬1) الوجهين جميعًا. {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}، قال: يريد بعدوا من رحمة الله. قال الزجاج (¬2): و {بُعْدًا} منصوب على معنى (أبعدهم الله فبَعُدُوا بعدًا)، ومثله قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] فأما الكلام في تكرير هذه القصة، وقد ذكرت في سورة الأعراف (¬3) وكذلك سائر القصص المكررة [في القرآن] (¬4): قال أهل المعاني: إن تصريف المعنى في الوجوه المختلفة بالألفاظ المتباينة، في الدرج العالية من البلاغة والإعجاز، ومنها تستبط الدلالة على حقيقة الإعجاز؛ لأن الله تعالى أنزل قصصًا مكررة، بعبارات مختلفة، وأنزل قصة واحدة ولم يكررها، وهي قصة يوسف [فلا يمكن لأحد من الملحدين أن يعارض لا قصة موسى المكررة ولا قصة يوسف] (¬5) التي لم تكرر، وفي تكرارها أيضًا تجديد تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصبيره على أذى المشركين. 61 - قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عباس (¬6): يريد: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 20. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 59. (¬3) من الآية 65 حتى الآية 72. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ). (¬6) "تنوير المقباس" 142، الطبري 12/ 62، الثعلبي 7/ 47 أ، البغوي 4/ 185 ابن عطية 7/ 329 "زاد المسير" 4/ 123، القرطبي 9/ 56، ابن كثير 2/ 493، "البحر المحيط" 5/ 238، الرازي 18/ 17.

62

من صلب آدم، يعني أن آدم خلق من تراب الأرض وكلهم لآدم. وقوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، قال ابن عباس في رواية عطاء (¬1): يريد جعلكم عمارًا لها، وهذا اختيار أبي عبيدة (¬2)، وأكثر أهل اللغة قالوا معناه: جعلكم عمار الأرض، قال ابن الأنباري: ومعناه: أن الله تعالى تابع النعم عندهم حتى صاروا بها عمرة الأرض وخلفاء الماضين الذين سبقوهم إلى سكناها، فكأن المعنى: أورثكم الأرض، وقال مجاهد (¬3) أي أعمركم بأن جعلها لكم طول أعماركم. قال أبو بكر: وهذا (استفعل) بمعنى (أفعل) مثل (استجاب) بمعنى (أجاب) و (استو قد) و (أوقد). وروي عن ابن عباس (¬4): أعاشكم فيها، ونحوه قال الضحاك (¬5): أطال عمركم؛ فعلى القول الأول هو من العِمَارة، وعلى الثاني من العُمْرى، وعلى الثالث من العُمُر الذي هو الحياة. 62 - قوله تعالى: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}، قال المفسرون (¬6): كان صالح -عليه السلام - يعدل عن دين قومه ويشنأ (¬7) أصنامهم، ¬

_ (¬1) قال به الطبري 12/ 63، الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 185 وغيرهم. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 291. (¬3) الطبري 12/ 63، الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 185، "زاد المسير" 4/ 123، ابن أبي حاتم 6/ 2048، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 611. (¬4) الثعلبي 7/ 47 ب، القرطبي 9/ 56. (¬5) الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 185، "زاد المسير" 4/ 123. (¬6) الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 185، "زاد المسير" 4/ 123، القرطبي 9/ 59. (¬7) شنأ يشنأ معناه أبغض يبغض ومنه قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] أي مبغضك. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1940 (شنأ).

وكانوا يرجون رجوعه إلى دين أبيه وعشيرته، فلما أظهر ما أظهر من دعائهم إلى الله، وترك عبادة الأصنام، زعموا أن رجاءهم انقطع منه، ويئسوا من دخوله في ملتهم. وقال آخرون (1): قالوا: كنا نرجو أن تكون فينا سيدًا؛ لما كنت عليه من الأحوال الجميلة، فالآن أيسنا منك إذ أظهرت خلافنا. قوله تعالى: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ}، وقال في سورة إبراهيم [9]: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ}، قال الفراء (2): من قال: (إننا) أخرج الحرف على أصله؛ لأن كناية المنصوبين المتكلمين (نا) (3) فاجتمعت ثلاث نونات نونا (إن) والنون المضمومة إلى الألف، ومن قال {إِنَّا} استثقل الجمع بين ثلاث نونات فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين، وكذلك يقال أني وأنني وقال هاهنا: {تَدْعُونَا}؛ لأن الخطاب لواحد وهو صالح، وفي إبراهيم [: 9] {تَدْعُونَنَا} لأن الخطاب للرسل. (4) وقوله {لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ذكرنا الكلام في معنى المريب عند قوله {لَا رَيْبَ فِيهِ} (5).

_ (1) الطبري 12/ 63، الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 185، "زاد المسير" 4/ 123، القرطبي 9/ 59. (2) "زاد المسير" 4/ 124. (3) ساقط من (ي). (4) من هنا بدأت مراجعة النسخة (ب). (5) البقرة: 2. وملخص ما ذكره: أن الريب بمعنى الشك، وذكر الخلاف في الفرق بين (راب) و (أراب) ورجح التفريق بين المعنيين بحيث يكون راب بمعنى علمت منه الريبة وتيقنتها، وأراب: توهمت الريبة ولم أتحقق منها.

63

63 - قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} مفعول (أرأيتم) هاهنا لا يظهر في التفصيل؛ لأنه دخل على جملة قائمة بنفسها لو لم يذكر {أَرَأَيْتُمْ}، إلا أنه يتعلق بمعناها كقولك: رأيتُ لَزَيْدٌ خيرٌ منك، ومعنى {أَرَأَيْتُمْ}: أعلمتم، وجواب {إنْ} الأولى في قوله {فَمَنْ يَنْصُرُنِي}، وقد قام مقام {إنْ} الثانية في المعنى؛ لأن التقدير: فمن ينصرني إن عصيته، فاستغنى بجواب الأولى عن الثانية، ومعنى الآية: أعلمتم من ينصرني من الله إن عصيتُه بعد بينة من ربي ونعمة، وأكثر تفسير هذه الآية قد مضى في هذه السورة في نظير هذه الآية في قصة نوح (¬1). وقوله تعالى: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}، قال الفراء (¬2): التخسير: التضليل. وقال ابن الأعرابي (¬3): هو الإبعاد من الخير، وأكثر أهل العلم على أن هذا التخسير لقوم صالح. قال ابن عباس (¬4): أي غير بَصَارَةٍ في خسارتكم (¬5). وهذا مذهب مجاهد (¬6) واختيار الفراء وابن الأعرابي [والحسين بن الفضل (¬7)، قال ¬

_ (¬1) آية: 28. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 20. (¬3) "تهذيب اللغة" (خسر) 1/ 1029، "زاد المسير" 4/ 124. (¬4) الئعبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 186،"زاد المسير" 4/ 124، القرطبي 9/ 60. (¬5) في حاشية (ي) زيادة نصها: (والمعنى على هذا ما تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم الأصنام إلا بصيرة في خسارتكم). (¬6) الطبري 12/ 64. (¬7) الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 186.

64

الفراء: يريد غير تضليل لكم، أي: كلما اعتذرتم بشيء زادكم تخسيرًا، قال: هو كقولك للرجل: ما تزيدني إلا غضبًا، أي غضبًا عليك. وقال ابن الأعرابي] (¬1): أي تخسيرًا لكم لا لي، وشرح الحسن (¬2) فقال: لم يكن صالح في خسارة حين قال لهم: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}، وإنما المعنى: ما تزيدونني بما تقولون حين قولهم: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة، والتخسير مثل التفسيق والتفجير، وأجاز قوم (¬3) أن يكون التخسير مضافًا إلى صالح، وهو مذهب ابن عباس في رواية عطاء والحسن، قال عطاء: ما تزيدوني إلا الهوان والذل. فعلى هذا الإضافة إلى صالح بمعنى لا ناصر لي إن عصيته، وإن كنتم أنصارى لم تزيدونني غير تخسير، وتقدير الكلام (فما تزيدونني غير تخسير إن كنتم أنصاري)، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه، وهو قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}، ومعنى قول الحسن: إن أجبتكم إلى ما تدعونني إليه وعصيت ربي كنت بمنزلة من يزداد الخسران. 64 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ} إلى آخر الآية، مفسر ومشروح في سورة الأعراف (¬4)، إلا أن (¬5) في هذه الآية {فَيَأْخُذَكُمْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ب). وانظر: "تهذيب اللغة" (خسر) 1/ 1029، "زاد المسير" 4/ 124. (¬2) الثعلبي 7/ 47 ب، البغوي 4/ 186. (¬3) ذكر هذا القول "زاد المسير" 4/ 125، الرازي 18/ 18 "البحر المحيط" 5/ 239. (¬4) آية: 73. وقد ذكر هناك وجه كونها آية حيث خرجت من حجر صلد، وحيث أنها ترد الماء يومًا فتشربه وتبدلهم به لبنًا لم يشرب مثله قط ألذ ولا أحلى بحيث ترويهم، وآية لانفرادها عن غيرها من النوق بهذا الأمر الذي لم يشاهد مثله في غيرها. (¬5) ساقط من (ي).

65

عَذَابٌ قَرِيبٌ}، قال ابن عباس (¬1): يريد: اليوم الثالث، وهو قوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}. 65 - قوله تعالى {فَعَقَرُوهَا}، ذكرنا معنى العقر في سورة الأعراف (¬2). وقوله تعالى: {تَمَتَّعُوا}، قال المفسرون (¬3): عيشوا، ومعنى التمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس، ولما كان التمتع للحي عبر به عن الحياة؛ لأن الميت لا يتمتع. وقوله تعالى: {فِي دَارِكُمْ} أي في بلدكم، وسُمِّيَ دارًا لأنه يجمعهم كما تجمع الدار أهلها، وقيل: يعني في دنياكم يريد دار الدنيا. وقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}، قال المفسرون: لما عقرت الناقة صعد فصيلها الجبل وبكى حتى سألت دموعه، ثم رغا رغوة (¬4) ثلاثا، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام (¬5)، {ذَلِكَ وَعْدٌ} أي للعذاب {غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي: غير كذب، والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول و {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] وقيل: غير ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 142. (¬2) آية: 77. ونقل عن الأزهري قوله: "العقر عند العرب: كشف عرقوب البعير، ثم يجعل النحر عقرًا؛ لأن العقر سبب النحر، وناحر البعير يعقره ثم ينحره، هذا هو الأصل، ثم جعل النحر عقرًا وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب". وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2513 مادة: (عقر). (¬3) الثعلبي 7/ 48 أ، الطبري 12/ 64، البغوي 4/ 186، "زاد المسير" 4/ 125، القرطبي 9/ 60. (¬4) الرُّغاء صوت ذوات الخف، رغا البعير والناقة ترغو رغاءً، انظر: "تهذيب اللغة" (رغا) 2/ 1431، اللسان (رغا) 3/ 1684. (¬5) "زاد المسير" 4/ 125، "القرطبي" 9/ 60، "الطبري" 12/ 64.

66

مكذوب فيه. 66 - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}، قال ابن عباس: عذابنا {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} قد مضى مثل الآية في قصة عاد (¬1). وقوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}، قال ابن الأنباري (¬2): نسقت الواو (مِنْ) على محذوف قبلها تأويله: نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا، من العذاب الذي أهلك قومه، ومن الخزي الذي لزمهم، وبقي العار فيه مأثورًا عنهم منسوبًا إليهم؛ لأن معنى الخزي: العيب الذي تظهر فضيحته، ويستحيى من مثله، فحذف ما حذف اعتمادًا على دلالة ما بقي عليه، قال: ويجوز أن تكون الواو دخلت لفعل مضمر تأويله: ونجيناهم من خزي يومئذ. أو من خزي يومئذ نجيناهم، فقدر فعل مع الواو، قال: ويجوز أن تكون الواو مقحمة زائدة، وهذا قول صاحب النظم. قال أبو بكر: والعرب (¬3) ما زادت الواو قط إلا مع (لما) و (حتى)، وهذا الذي قاله أبو بكر إنما يجوز عند الكوفيين، وعند البصريين لا يجوز زيادة الواو في موضع قط، وقد ذكرنا هذا. واختلفوا في قوله {يَوْمِئِذٍ}، فقرئ بفتح الميم وكسرها (¬4) و (يوم) (¬5) ¬

_ (¬1) ساقط من (ب)، وانظر: آية 58 من هذه السورة. (¬2) "المذكر والمؤنث" 619، "زاد المسير" 4/ 126، الرازي 18/ 21. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) قرأ نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح الميم، وبقية القراء بكسرها. "إتحاف" ص 257، "السبعة" ص 336، "الكشف" 1/ 532، "الحجة" 4/ 346. (¬5) من هنا ابتدأ النقل عن أبي علي الفارسي عن "الحجة" 4/ 347 - 352 بتصرف.

من قوله {يَوْمِئِذٍ} ظرف كَسَرْتَ أو فَتَحْتَ في المعنى، إلا أنه اتسع (¬1) فيه فجعل اسما كما اتسع (¬2) في قوله {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] فأضيف المكر إليهما [وإنما هو فيهما] (¬3)، فكذلك العذاب والخزي والفزع أضفن إلى اليوم والمعنى على أن ذلك كله في اليوم، فمن كسر الميم فلأن (يوما) اسم معرب فانجر با لإضافة ولم يُبْنَ، وإن كان مضافًا إلى مبني؛ لأن الأضافة لا تلزم، ألا ترى أنك تقول ثوب خز ودار زيد، فلا يجوز في المضاف إلا إعرابه، وإن كان الاسمان عملا على معنى الحرف، ولا يلزمها البناء كما يلزم ما لا ينفك عنه معنى الحرف [نحو أين] (¬4) وكيف ومتى، فكما لم يبن المضاف وإن كان قد عمل في المضاف إليه بمعنى اللام أو بمعنى (من) حيث كان غير لازم، كذلك لم يبن (يوم) للإضافة إلى (إذ)؛ لأن إضافته (¬5) لا تلزم، ومن فتح الميم مع أنه في موضع جر، فلأنه على مضاف إلى مبني غير متمكن، والمضاف إلى المبني يجوز بناؤه كقول النابغة (¬6): على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصبا ... وقلتُ ألمَّا أصحُ والشيبُ وازعُ ¬

_ (¬1) في (ب): (أشبع). (¬2) في (ب): (أشبع). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) في (ي): (الإضافة). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 53، "الخزانة" 3/ 151، "الكامل" 1/ 185، "اللسان" (وزع) 4/ 4825، السيوطي 276، 298، "مجاز القرآن" 2/ 93 "معاني القرآن" 1/ 327، 3/ 245.

وكذلك قول جرير (¬1): على حينَ ألهى الناسَ جلُّ أمورهم ... فندلًا زريقُ المالَ ندلَ الثعالبِ وكذلك قول آخر: على حينَ لم (¬2) تلبث عليه ذَنوبُه ... يَرِثْ شِرْبُهُ إذ في اليقام تراثر (¬3) فلما بنيت هذه الأشياء من حيث كانت مضافة إلى مبني، فكذلك بني (يوم) لإضافته إلى (إذ) المبنية، والعلة في ذلك أن المضاف يكتسي من المضاف إليه [التعريف والتنكير، ومعنى الاستفهام والجزاء، فلما كان يكتسي منه هذه] (¬4) الأشياء اكتسى منه البناء أيضًا، إذا كان المضاف من الأسماء الشائعة نحو (يوم) و (حين) و (مثل)، وشبه، ومن ذلك قوله: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] فـ (مثل) في موضع رفع في قول سيبويه، وقد أجري وصفا على النكرة، إلا أنه فتح للإضافة إلى (أنَّ)، فأما ¬

_ (¬1) البيت اختلف في نسبته فنسب لأعشى همدان، وأخرى للأحوص، وأخرى لجرير. وهو في "الحماسة البصرية" 209، "الكامل" 1/ 185، العيني 3/ 46، 523، سيبويه والشنتمري 1/ 59، "المقاصد النحوية" 3/ 46، ملحق ديوان جرير 1021، وزريق وابن عامر بن زريق، ولي البحرين، فقال هذا البيت. (¬2) في (ي): (من). (¬3) البيت للبيد، (تدابر) بالباء، وهو في ديوانه 217، سيبويه والشنتمري 1/ 441، "الإنصاف" 251، الخزانة 3/ 649، "همع الهوامع" 2/ 62، "الدرر" 1/ 77. وهو في وصف مقام فاخر فيه غيره، وكثرت المخاصمة فيه والمحاجة، الذنوب: الدلو مملوءة ماء، ضربه مثلا لما يدلى به من الحجة، الريث: الإبطاء، الشرب: الحظ من الماء المقام: المجلس، يريد مجلس الخصام والمفاخرة، التداثر: التزاحم والتكاثر. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).

الكسر في (إذ) فلالتقاء الساكنين؛ وذلك أن (إذ) من حكمها أن تضاف إلى الجملة من المبتدأ (¬1) والخبر، فلما اقتطعت عنها الإضافة نونت، ليدل التنوين على أن المضاف [إليه قد حذف، فصار التنوين هنا يدل على قطع الإضافة من المضاف] (¬2)، كما صار يدل على انقضاء البيت في قول من نون في الإسناد أواخر البيت فقال (¬3): يا صاح ما هاج الدموعَ الذُّرَّفَنْ أقلي اللوم عاذل والعتابَنْ يا أبتا علك أو عساكَنْ ¬

_ (¬1) في (جـ): (الابتداء). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ). (¬3) هذه أبيات مختلفة، فالأول: مطلع أرجوزة للعجاج وبعده: من طلل أمسى تخال المُصْحفا وهو في "ديوانه" 2/ 219، "خزانة الأدب" 3/ 443، سيبويه 2/ 299، "شرح الأشموني" لألفيه ابن مالك 4/ 220، "الكتاب" 4/ 207، "المقاصد النحوية" 1/ 26. والثاني: صدر بيت لجرير. وعجزه: وقولي إن أصبت لقد أصابن "ديوانه" 58، ويروى (العتابا) (أصابا). "خزانة الأدب" 1/ 69، "الخصائص" 2/ 60، الدرر 5/ 176، "شرح أبيات سيبويه" 2/ 349، سر صناعة الإعراب 2/ 481، "شرح شواهد المغني" 2/ 762، "شرح المفصل" 9/ 29، "الكتاب" 4/ 205. والثالث: عجز بيت لرؤبة وصدره: تقول بنتي قد أنى أناكا وهو في "ديوانه" ص 181، سبيويه 1/ 388، "الخصائص" 2/ 96، "المقتضب" 3/ 71، "الإنصاف" 181، "الخزانة" 2/ 441.

68

فكما دل التنوين في هذه الأواخر على انقطاع الإضافة عن المضافة إليه، كذلك يدل في (يومئذ) و (حينئذ) على ذلك، فكسرت الدال لسكونها وسكون التنوين (¬1). قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، قال ابن الأنباري (¬2): إنما ذكَّر {وَأَخَذَ} لأن الصيحة محمولة على الصياح؛ ولأنه قد فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل، فكان الفصل كالعوض من تاء التأنيث، وقد سبق لهذا نظائر. قال المفسرون (¬3): لما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، ومضى تفسير {جَاثِمِينَ} في سورة الأعراف (¬4). 68 - قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} مشروح المعنى في سورة الأعراف (¬5). {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ}؛ قرئ ثمودا (¬6) بالإجراء ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 4/ 347 - 352 بتصرف. (¬2) "تهذيب اللغة" (صاح) 2/ 1958، "زاد المسير" 4/ 126. (¬3) الطبري 12/ 68، "زاد المسير" 4/ 125، البغوي 4/ 187. (¬4) عند قوله تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} آية 78. وخلاصة ما ذكره ما أن جثم بمعنى برك وخمد وهمد من أثر العذاب. (¬5) آية: 92. قال هناك ما نصه: (إبانة عن سوء حال المكذب نبيًا من أنبياء الله، في أنه بمنزلة من لم يستمتع بالدنيا إذ حصل في العذاب وصار إلى الخسران). (¬6) في هذا الموضع قرأ حفص وحمزة ويعقوب من غير تنوين، وقرأ الباقون بالتنوين، "إتحاف" 2/ 129، "السبعة" 337، "الكشف" 1/ 533 "الحجة" 4/ 354.

وتركه، فمن أجراه قال: هو اسم مذكر أريد به الحي وهو مذكر فصار كثقيف وقريش، ومن ترك إجراءه قال هو اسم للقبيلة فلا ينصرف، قال أبو علي (¬1): فإذا استوى في ثمود أن تكون مرة للقبيلة ومرة للحي، ولم يكن لحمله على أحد الوجهين مزية فمن صرف كان حسنًا، ومن لم يصرف فكذلك، ومثل هذا (يهود) و (مجوس)، قال الشاعر (¬2): فَرَّتْ يَهُودُ وأَسْلَمَتْ جِيرانها .... صَمَّي لِما فَعَلَتْ يَهُودُ صَمامِ وكذلك في الحديث "تقسم يهود" (¬3)، فبهذا النحو علم أن هذا الاسم أريد به القبيلة، وقال آخر (¬4): كنار (¬5) مجوسَ تستعر استعارا ألا ترى أن هذا الاسم لو كان للحي دون القبيلة لانصرف ولم يكن ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 355 باختصار وتصرف. وانظر: "معاني الأخفش" 2/ 578، 579. (¬2) القائل الأسود بن يعفر، والبيت في: ديوانه 61، العيني 4/ 112 راجع: "الحجة" 3/ 342، "مجالس ثعلب" 589، "اللسان" (صمم) 4/ 2502، "المقاصد النحوية" 4/ 112. (¬3) الحديث لم أجده بهذا اللفظ، وهو كما ترى قد نقله عن أبي علي الفارسي في كتاب "الحجة" 4/ 358، وقد أخرج أصل حديث القسامة البخاري (6142)، (6143)، كتاب الأدب، باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال. وأخرجه مسلم (1669)، كتاب القسامة المحاربين باب القسامة ح 1669 (3/ 1291). (¬4) القائل امرؤ القيس، وصدره: أحار أريك برقًا هب وهنا (كنار بالنون) انظر "ديوانه" ص 147، "اللسان" (مجس) 7/ 4140، سيبويه والشنتمري 2/ 28، "شرح شواهد الإيضاح" 438، "الكتاب" 3/ 254. (¬5) في (ب): (كفار).

69

فيه مانع من الصرف، و (يهود) لو كان للحي لانصرف. 69 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} الآية، قال أهل المعاني: دخلت "قد" هاهنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة، و"قد" للتوقع، ودخلت اللام في {لَقَدْ} لتأكيد الخبر، والمراد بالرسل هاهنا الملائكة الذين أتوه على صورة الآدميين، وظنهم أضيافا، قال ابن عباس (¬1): وهم جبريل ومكائيل وإسرافيل، وهم الذين ذكرهم الله في الذاريات {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات: 24]، وفي الحجر {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51]. وقال الضحاك (¬2): كانوا تسعة. وقال السدي (¬3): كانوا أحد عشر ملكًا على صورة الغلمان الوضاء. وقوله تعالى: {بِالْبُشْرَى}، قال الزجاج (¬4): أي بالبشرى بالولد، وقد ذكر بعد هذه الآية بأيش (¬5) بشروه. وقوله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا}، قال ابن الأنباري (¬6): نصب (سلامًا) بوقوع القول عليه؛ لأنه قول مقول فصار كقولك: (قلت: خيرًا أو شرًّا)، ويخالف هذا قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} [الكهف: 22]؛ من أجل أن الثلاثة ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 48 أ، البغوي 4/ 187، "زاد المسير" 4/ 127. (¬2) البغوي 4/ 187، الثعلبي 7/ 48 أ، "زاد المسير" 4/ 127. (¬3) البغوي 4/ 187، الثعلبي 7/ 48 أ، "زاد المسير" 4/ 127 قال: (الوضاء وجوههم) بزيادة وجوههم وهي زيادة مهمة. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 60. (¬5) هكذا وهو مختصر من: أي شيء، وهو صحيح لغة. (¬6) "زاد المسير" 4/ 127.

اسم غير قول مقول، وأما قوله: {قَالَ سَلَامٌ} فمرفوع بإضمار (عليكم سلام)، ولو نصبا جميعًا أو رفعا جاز في العربية، هذا كلامه، وهو قول الفراء في رفع الثاني وأنشد (¬1): فقلنا السلام فاتقت من أميرها ... فما كان إلا ومؤها بالحواجب وقال أبو علي (¬2): أما انتصاب قوله: {سَلَامٌ} فلأنه لم يحك شيئًا تكلموا به فيحكى كما تحكى الجمل، ولكن هو معنى ما تكلمت به الرسل، كما أن القائل إذا قال: (لا إله إلا الله) فقلت (حقًّا) أو قلت (صدقًا)، أعملت القول في المصدرين؛ لأنك ذكرت معنى ما قال ولم تحك نفس الكلام الذي هو جملة تحكى، وأما قوله: {قَالَ سَلَامٌ} التقدير فيه: سلام عليكم، فحذف الخبر كما حذف من قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (¬3) [أي صبر جميل] (¬4) أمثل، أو يكون المعنى أمري سلام وشأني سلام، كما أن قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ، ومثل ذلك قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89] على حذف الخبر أو المبتدأ الذي سلام خبره، قال: وأكثر ما يستعمل سلام بغير ألف ولام، وذلك أنه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم: خير بين يديك، وأمت (¬5) في حجر (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 21، "تهذيب اللغة" 4/ 3958، اللسان (ومأ) 8/ 4926 "البحر المحيط" 2/ 452. (¬2) "الحجة" 4/ 360. (¬3) يوسف: 18، 83. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) في (ي): (أمه). (¬6) ساقط من (ي).

لاقيك، لما كان في معنى المنصوب استجيز فيه الابتداء بالنكرة، فمن ذلك قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]، وقوله: {مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ} [الرعد: 23 - 24]، وقوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، وقد جاء بالألف واللام، قال: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، قال الأخفش (¬1): من العرب من يقول: سلامٌ عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم؛ فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوا (¬2) حملوه على غير المعهود. وزعم أن منهم من يقول: سلامُ عليكم، فلا ينون، وحمل ذلك على وجهين، أحدهما: أنه [حذف الزيادة من الكلمة كما تحذف الأصل من نحو: لم يك، ولا أدر، والآخر: أنه] (¬3) لما كثر استعمال هذه الكلمة فيها الألف واللام حذفا منه لكثرة الاستعمال، كما حذف من (اللهم) فقالوا: (لاهم)، وذكرنا معنى السلام في التحية عند قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ} [الأنعام: 54] (¬4)، [وقرأ حمزة والكسائي هاهنا (وقال سِلْم) بكسر السين (¬5)، قال الفراء (¬6): وهو في ¬

_ (¬1) ذكره نقلاً عن "الحجة" 4/ 363. (¬2) في (ي): (يلحقوه). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) الأنعام: 54. وخلاصة ما ذكره أنه يحتمل وجهن، أحدهما: أن يكون مصدر سلمت تسليمًا وسلامًا أي دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه، الثاني: أن يكون السلام جمع السلامة بمعنى قولك: السلام عليكم أي السلامة عليكم. (¬5) قرأ حمزة والكسائي (قال سلم) بغير ألف بكسر السين وتسكين اللام، والباقون بفتح السين وألف. انظرت "السبعة" 338، "إتحاف" 258، "الكشف" 1/ 534، "الحجة" 4/ 364. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 21.

المعنى سلام] (¬1)؛ كما قالوا: حِلّ وحلال، وحِرْم وحرام؛ لأن التفسير جاء: سلموا عليه فرد عليهم، وأنشد (¬2): مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت ... كما اكتلى (¬3) بالبرق الغمام اللوايح فهذا دليل على أنهم سلموا فردت عليهم، فعلى هذا: القراءتان بمعنى واحد، وإن اختلف اللفظان، قال أبو علي (¬4): ويحتمل أن يكون: سلم، خلاف العدو والحرب، كأنهم قالوا لما كفوا عن تناول ما قدمه إليهم فنكرهم وأوجس منهم خفية قال: أنا سلم ولست بحرب ولا عدو، فلا تمتنعوا عن تناول طعامي، كما يُمتنع من تناول طعام العدو. وقوله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ}، قال عبيد بن عمير: مكث إبراهيم خمس عشرة (¬5) ليلة لا يأتيه ضيف، فاغتم لذلك، فلما جاءته الملائكة فرأى أضيافًا لم ير مثلهم عجل (¬6) فجاءهم بعجل حنيذ، فذلك قوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ}، قال الفراء (¬7): {أَن} في موضع نصب؛ لوقوع {لَبِثَ} عليها كأنك قلت: فما أبطأ عن مجيئه بعجل، فلما ألقيت الصفة وقع الفعل عليها، قال: وقد يكون رفعا بـ (لبث) وتقديرها المصدر، أي فما لبث مجيئه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) لم أهتد إلى قائله. انظر: "معاني القرآن" 2/ 21، اللسان (كل)، اكتل السحاب عن البرق أي لمع به، واللوائح التي لاح برقها أي: لمع وظهر. الطبري 12/ 69، "البحر المحيط" 5/ 241، ابن عطية 6/ 340، "الدر المصون" 6/ 352. (¬3) في (جـ): (أكل)، وفي (ص): (اكبلى)، وفي الفراء 2/ 21: (كما اكتل). (¬4) "الحجة" 4/ 364. (¬5) في (ي): (خمسة عشر). (¬6) ساقط من (ي). (¬7) "معاني القرآن" 2/ 21.

بعجل، أي ما أبطأ ذلك المجيء. وقوله تعالى: {حَنِيذٍ}، قال الليث (¬1): الحنذ: اشتواء اللحم بالحجارة المسخنة، تقول حنذته حنذًا. وقوله تعالى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} محنوذ مشوي، وقال الفراء (¬2): ما حفرت له في الأرض ثم غممته، وهو من فعل أهل البادية معروف، وهو محنوذ في الأصل، كما قيل: طبيخ ومطبوخ، وقال (¬3) في كتاب "المصادر": والخيل تحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق. وقال أبو عبيدة (¬4): الحنيذ: المشوي، قال: ويقال قد حنذت الفرس إذا سخنته وعرقته. وأنشد للعجاج (¬5): ورهبًا من حنذه أن يهرجا قال ابن عباس في رواية (¬6) ابن جريج: الحنيذ النضيج، وهو قول ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (حنذ) 1/ 938، "اللسان" (حنذ) 2/ 1021. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 21. (¬3) نقله الطبري 12/ 69، الثعلبي 7/ 48 ب، "تهذيب اللغة" (حنذ) 1/ 938، اللسان (حنذ) 2/ 1021. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 292. (¬5) انظر: "ديوانه" ص 9، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 292، "اللسان" (حنذ) 2/ 1021، "الطبري" 12/ 69، والحنذ شدة الحر وإحراقه، أهرج البعير: تحير وسدد من شدة الحر. "تهذيب اللغة" 1/ 938 (حنذ). "التنبيه والإيضاح" 1/ 215، "تاج العروس" 5/ 361، كتاب "العين" 6/ 106. (¬6) الطبري 12/ 69، "زاد المسير" 4/ 128، القرطبي 9/ 64، ابن المنذر كما في "الدر" 4/ 446.

70

مجاهد وقتادة (¬1). وقال في رواية عطاء: هو الذي نتف شعره وشوي. وقال عبد الله بن مسلم (¬2): هو المشوي في خد من الأرض بالرضف (¬3) وهي الحجارة المحماة، ومنه الحديث: "أنه أتي بضب محنوذ" (¬4). 70 - قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي: إلى العجل، وقال الفراء (¬5): إلى الطعام وهو العجل؛ لأنه طعام، {نَكِرَهُمْ} أي: أنكرهم (¬6)، يقال: نكرته وأنكرته واستنكرته، قال الأعشى (¬7): وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا قال الليث (¬8): النكرة: إنكارك الشيء، وهو نقيض المعرفة (¬9)، ويقال: أنكرت الشيء إنكارًا ونكرته مثله، قال: ولا يستعمل في غابر ولا ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 69، الثعلبي 7/ 48 ب، "زاد المسير" 4/ 128. (¬2) "مشكل القرآن وغريبه" ص 211، الثعلبي 7/ 48 ب. (¬3) ساقط من (ب). (¬4) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 9/ 323. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 21. (¬6) ساقط من (ي). (¬7) البيت في "ديوانه" ص 105، "الخصائص" 3/ 310، "المحتسب" 1/ 347، "شرح المفصل" 3/ 13، "مجاز القرآن" 1/ 293. وقال أبو عبيدة: قال يونس: قال أبو عمرو: أنا الذي زدت هذا البيت في شعر الأعشى إلى آخره فذهب، فأتوب إلى الله منه، وهو في الطبري 12/ 71، والثعلبي 7/ 48 ب، "البحر المحيط" 5/ 242، "الدر المصون" 6/ 353، "اللسان" (نكر) 8/ 4539. (¬8) "تهذيب اللغة" (نكر) 4/ 3660. (¬9) في (ي): (المعروف).

أمر ولا نهي ولا مصدر. قال المفسرون: كان امتناعهم من الطعام لأنهم ملائكة، والملائكة لا تأكل ولا تشرب، وإنما أتوه في صورة الأضياف؛ ليكونوا على صفة يحبها، وهو كان يقري الضيوف، هذا معنى قول الحسن، وقيل: أروه معجزًا من مقدور الله في صورتهم. قوله تعالى: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي: أضمر منهم خوفًا، قاله أبو عبيدة (¬1) والزجاج (¬2) وابن قتيبة (¬3) وهو قول أبي روق عن الضحاك (¬4). وقال ابن عباس (¬5): أحس. وقال الفراء (¬6): استشعر. وقال الأخفش (¬7): خامره. قال الليث (¬8): الوجس: فزعة القلب، يقال أوجس القلب فزعًا وتوجست الأذن: إذا سمعت فزعًا، فالوجس: الفزع يقع في القلب أو في السمع؛ من صوت، أو غير ذلك، ومنه قول ذي الرمة (¬9): ¬

_ (¬1) في (ي): أبو عبيد. وهو في "مجاز القرآن" 1/ 293. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 61. (¬3) "مشكل القرآن وغريبه" ص 211. (¬4) الثعلبي 7/ 48 ب، "زاد المسير" 4/ 129، القرطبي 9/ 65. (¬5) الثعلبي 7/ 48 ب، القرطبي 9/ 65. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 21، الثعلبي 7/ 48 ب. (¬7) ذكره الثعلبي 7/ 48 ب، "الدر المصون" 4/ 113. (¬8) "تهذيب اللغة" (وجس) 8/ 4772، "الدر المصون" 4/ 113. (¬9) البيت في "ديوانه" 1/ 449 كالتالي: (إذا توجس قرعًا من سنابكها أو كان صاحب أرض أو به المؤم) القرع: الوقع، ويُروى (ركزًا) وهو الحسُّ، "توجس": تسع، يعني: الصائد (قرعًا من سنابكها) يعني: قرع حوافرها، (السنبك) طرف الحافر، أو كان صاحب أرض (رعدة)، (الموم): مرض شبه الجدري، المعنى: من خشية =

71

إذا توجس ركزًا (¬1) في سنابكها ... أو كان صاحب أرض أوشكت صدعًا وقال عامة المفسرين (¬2): لما رآهم إبراهيم شبابًا أقوياء، ولم يتحرموا بطعامه لم يأمن أن يكونوا جاءوا لبلاء، وذلك أن سنتهم كانت في ذلك الدهر إذا ورد عليهم القوم فأتوا بالطعام فلم يمسوه ظنوا أنهم عدو أو لصوص، فهنالك أوجس في نفسه فزعًا، ورأوا علامه ذلك في وجهه، وفقالوا له: لا تخف فإنَّا ملائكة الله أرسلنا إلى قوم لوط، فذلك قوله تعالى: {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}. قال ابن الأنباري (¬3): ومعناها أرسلنا بالعذاب إلى قوم [لوط، فأضمر؛ لقيام الدليل عليه بذكر الله ذلك في قوله في سورة أخرى: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ] (¬4) مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 32، 33] ونحو هذا قال أبو إسحاق (¬5) سواء. 71 - قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ}، قال المفسرون (¬6): يعني سارة بنت هاران بن ناحور ابنة عم إبراهيم. ¬

_ = الإخطاء يُحم، والبيت من قصيدته في خرقاء يتثمبب بها، انظر: "اللسان" (وجس) 8/ 4772، (أرض) 1/ 62، (فوم) 6/ 3491 "تهذيب اللغة" 1/ 148 (أرض)، 4/ 3468 (ميا)، "جمهرة اللغة" 1120،"تاج العروس" 9/ 28، (وجس) 10/ 6 (أرض). (¬1) في (ي): (ذكرًا). (¬2) هذا قول قتادة. انظر: الطبري 12/ 71، الثعلبي 7/ 49، البغوي 4/ 188. (¬3) "زاد المسير" 4/ 129. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 61. (¬6) الثعلبي 7/ 49 أ، الطبري 12/ 711، البغوي 4/ 188.

وقوله تعالى: {قَائِمَةٌ}، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تتسمع إلى الرسل، وقيل: كانت قائمة تخدم الأضياف، وإبراهيم جالس معهم، ويؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود (¬1) (وامرأته قائمة وهو قاعد فضحكت) واختلفوا في معنى الضحك هاهنا وفي سببه، فرُوي عن ابن عباس (¬2) أنه قال: ضحكت أي: عجبت من فزع إبراهيم، وهذا قول مقاتل (¬3) والكلبي (¬4) قالا: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو (¬5) فيما بين حشمه وخدمه، فقيل لها: يا أيتها الضاحكة ستلدين غلامًا، فذلك قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، فعلى هذا القول ضحكت للتعجب (¬6) ففسر ضحكت: تعجبت لما كان بسبب العجب. وروى سعيد عن قتادة (¬7) قال: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وحكى الفراء (¬8) في هذه الآية قولين: أحدهما: أنها (¬9) ضحكت سرورًا بما زال عنها من الخوف؛ لأنها قد ¬

_ (¬1) ساقط من (ب)، والقراءة ذكرها الطبري 12/ 72، والثعلبي 7/ 49 أ، والقرطبي 9/ 66. (¬2) أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر في "الدر" 2/ 613، "زاد المسير" 4/ 130. (¬3) "تفسير مقاتل" 147 ب، الثعلبي 7/ 49 ب، البغوي 4/ 188، القرطبي 9/ 67، "زاد المسير" 4/ 130. (¬4) الطبري 12/ 72، الثعلبي 7/ 49 ب، البغوي 4/ 189. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) في (ب): (للتعجب). (¬7) الطبري 12/ 72، الثعلبي 7/ 49 ب، عبد الرزاق 2/ 306، وابن المنذر، وابن أبي حاتم 6/ 2054، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 616، البغوي 4/ 189، ورجح هذا القول الطبري 12/ 74. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 22. (¬9) في (ب): (أنه).

كانت خافت كما خاف إبراهيم، فلما قالوا إنَّا أرسلنا إلى قوم لوط زال عنهما جميعًا الخوف فضحكت سرورًا بالأمن. الثاني: أن هذا على التقديم والتأخير، بتقدير: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق فضحكت سرورًا بالتبشير، فقدم الضحك ومعناه التأخير، وعلى هذا التقدير يحمل أيضاً ما روي عن ابن عباس (¬1) ووهب (¬2) أنهما قالا: ضحكت تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها. وحكى أبو إسحاق (¬3) قولاً آخر؛ وهو أن سارة قالت لإبراهيم: اضمم إليك ابن أخيك لوطًا، فإن العذاب سينزل بقومه، فلما قالت الرسل: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، ضحكت سرورًا بموافقتها الصواب لما أتى الأمر على ما توهمت. وقال مجاهد (¬4) وعكرمة (¬5): فضحكت أي: حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف، وجعل حيضها علامة لقرب وقت المولود الذي تبشر به، قال الفراء (¬6): ضحكت: [حاضت لم يسمعه من ثقة، وقال الزجاج (¬7): ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 49 ب، "زاد المسير" 4/ 130، البغوي 4/ 189. (¬2) الطبري 12/ 72، الثعلبي 7/ 49 ب، وابن المنذر كما في "الدر" 3/ 616، "زاد المسير" 4/ 130، البغوي 2/ 393. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 61. (¬4) الطبري 12/ 73، الثعلبي 7/ 49 ب، البغوي 4/ 188، "زاد المسير" 4/ 130، ابن عطية 7/ 345، القرطبي 9/ 66. (¬5) الثعلبي 7/ 49 ب، البغوي 4/ 188، "زاد المسير" 4/ 130، القرطبي 9/ 66. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 22. (¬7) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 62.

ليس بشيء ضحكت: حاضت] (¬1). قال ابن الأنباري (¬2): قد أنكر الفراء (¬3) وأبو عبيد (¬4)، وأبو عبيدة (¬5) أن تكون ضحكت بمعنى (¬6) حاضت، وعرفه غيرهم وأنشد (¬7): يضحك الضبع (¬8) لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهل قال: أراد تحيض فرحًا، وحكى الليث (¬9) في هذه الآية. فضحكت طمثت، وحكى الأزهري (¬10) أن أصله ضحاك الطلعة إذا انشقت، قال. وقال الأخطل (¬11) فيه بمعنى الحيض: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) "زاد المسير" 4/ 130. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 22، "تهذيب اللغة" (ضحك) 3/ 2099. (¬4) "الدر المصون" 4/ 114. (¬5) لم أجده في "مجاز القرآن" في موضعه 1/ 293. (¬6) ساقط من (ب). (¬7) القائل: تأبط شرًّا، والبيت في "المحتسب" 1/ 324، "جمهرة ابن دريد" 2/ 167، "اللسان" (ضحك) 5/ 2558، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص 837، "تهذيب اللغة" (ضحك) 3/ 2099، "المعاني الكبير" 1/ 214، وينسب البيت أيضًا للشنفرى، ولابن أخت تأبط شرًّا أو لخلف الأحمر، انظر: "ديوان الشنفرى" 84، و"الأغاني" 6/ 83، ولخلف الأحمر في "ديوان الحماسة" 2/ 837، و"شرح الحماسة" للتبريزي 2/ 164. (¬8) في (ي): (الذئب). (¬9) "تهذيب اللغة" (ضحك) 3/ 2099. (¬10) "تهذيب اللغة" (ضحك) 3/ 2099. (¬11) البيت في "تهذيب اللغة" (ضحك) 3/ 2099، "اللسان" (ضحك) 5/ 2558،"تاج العروس" (ضحك) 13/ 603.

تضحك الضبع من دماء سليم ... إذ رأتها على الحداب تمور قال الكميت: وأضحكت الضباع سيوف سعد ... بقتلى ما دفن ولا ورينا وقال أبو عمرو (¬1): سمعت أبا موسى الحامض (¬2) قال: سُئل ثعلب عن قوله {فَضَحِكَتْ} أي: حاضت، وقيل: إنه جاء في الخبر، فقال ثعلب: ليس في كلام العرب، والتفسير مسلم لأهل التفسير، فقيل له: فأنت أنشدتنا: تضحك "الضبع" لقتلى هذيل فقال ثعلب: تضحك هاهنا تكشر، وذلك أن الذئب ينازعها على القتلى فتكشر في وجهه وعيدًا، فيتركها ويمر. وقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، قال المفسرون (¬3): كان إبراهيم قد ولد له من هاجر إسماعيل وكبر وشب، فتمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست من ذلك لكبر سنها، فبشرت على كبر السن بولد يكون نبيًا، ويلد نبيًا وهو قوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. ¬

_ (¬1) البيت في: "شرح هاشميات الكميت" 286، "الطبري" 12/ 74، "اللسان" (ضحك) 5/ 2558. (¬2) أبو موسى الحامض هو: سليمان بن محمد بن أحمد، نحوي، من العلماء باللغة والشعر، تلميذ ثعلب روى عنه أبو عمر الزاهد، من أهل بعداد، كان ضيق الصدر سيء الخلق، فلقب بالحامض، توفي سنة 305 هـ. انظر: "وفيات الأعيان" 1/ 214، "إنباه الرواة" 2/ 21، "الأعلام" 3/ 132، "تاريخ بغداد" 9/ 61. (¬3) القرطبي 9/ 69.

قال أبو إسحاق (¬1): بشروها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش إلى أن ترى ولد ولده. {وَرَاءِ} هنا تُفسر تفسيرين، أحدهما بمعنى: بعد، وهو قول ابن عباس (¬2) في رواية الكلبي ومقاتل (¬3)؛ قالوا: ومن بعد إسحاق يعقوب. وروى حيان بن أبحر (¬4) قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له: ما فعل فلان؟ لرجل منهم، قال: مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء، قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} يعني: ولد الولد، وهو قول الشعبي (¬5) في هذه الآية، ورُوي أنه أقبل ومعه ابن ابن له، فقيل له: هذا ابنك؟ فقال: هذا ابني من الوراء، ونحو هذا قال قتادة، فإن قيل يعقوب ولد إسحاق لصلبه فكيف يكون وراء له وإنما هو وراء للجد، كما قال الشعبي لولد ولده هذ ابن ي من الوراء [ونحو هذا] (¬6). قال ابن الأنباري (¬7): معناه من الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب؛ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 62. (¬2) "زاد المسير" 4/ 131، وابن أبي حاتم 6/ 2056. (¬3) "زاد المسير" 4/ 131، ولم أجده في "تفسير مقاتل". (¬4) ذكره في "الدر" 3/ 616 عن ابن الأنباري في الوقف والابتداء. وقال عن حسان، وانظر: الثعلبي 7/ 49 ب، الطبري 12/ 75. (¬5) أخرجه ابن الأنباري في "الوقف والابتداء". انظر: "الدر" 3/ 616، وانظر: الثعلبي 7/ 49 ب، الطبري 12/ 75. (¬6) ساقط من (ي). (¬7) "الأضداد" 69، "زاد المسير" 4/ 131، "اللسان" (ورى) 8/ 4821.

لأنه قد كان الوراء لإبراهيم -عليه السلام -، من جهة إسحاق وإسماعيل عليهما السلام، فلو قال من الوراء يعقوب لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى، ومثل هذا من الإضافة قوله -عز وجل-: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 74،62]. يريد أين الشركاء المنسوبون إليّ بزعمكم، قال: ومن حمل وراء على (بعد) (¬1) لزم ظاهر العربية، إذ العرب تقول: ليس وراء هذا شيء أي بعده قال النابعة (¬2): حلفتُ فلم أتركْ لنفسكَ ريبةً .... وليس وراءَ الله للمرء مذهبُ يعني: بعد الله، قال ورُفع يعقوب بـ (من) لأن المعنى فبشرناها [بإسحاق وبشرناها من وراء إسحاق] (¬3) بيعقوب، فلما لم يظهر التبشير ثانيًا ولم يعد معه باء غلَّب الظاهر فرفع يعقوب بمن، وهو داخل بالتبشير في المعنى، كما تقول العرب: أمرت لزيد بإبل ولأخيه غنم، فيرفعون الغنم باللام والمعنى وأمرت لأخيه بغنم، فلما لم يعد الأمر مع الباء غلب الظاهر فرفعت الغنم بلام الصفة، وذلك منوي مراد. وقال أبو إسحاق (¬4): رفعه على ضربين؛ أحدهما: ابتداء مؤخر معناه التقديم، المعنى: ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق، وهذا هو القول الذي ذكره أبو بكر؛ لأن من رفعه بـ (من) جعله ابتداء مؤخرًا، كما تقول ¬

_ (¬1) في (ي): (البعد). (¬2) النابغة الذبياني "ديوانه" ص 27،وفي معاهد التنصيص 7/ 2 (مطلب) بدل (مذهب). "تهذيب اللغة" 4/ 3878. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 63.

(في الدار زيد). الثاني مما ذكره أبو إسحاق أنه مرفوع بالفعل الذي يعمل في (¬1) {مِنْ وَرَاءِ}؛ كأنه قال: ويثبت لها من وراء إسحاق يعقوب، وقرأ ابن عامر وحمزة {يَعْقُوبَ} (¬2) بفتح الباء، قال [الفراء (¬3): من قرأ ذلك نوى به الخفض يريد: ومن وراء] (¬4) إسحاق بيعقوب قال: ولايجوز هذا إلا بإظهار الباء. قال أبو بكر (¬5): من قال: إن (يعقوب) على قراءة حمزة في موضع خفض بالباء فقد غلط عند الفراء (¬6) وسيبويه (¬7)؛ لأن واو النسق لا يفصل بينها وبين المنسوق بالصفات ولا غيرها، فلا يقال: مررت بأخيك ومن بعده أبيك؛ لأن الواو مع الأب بمنزلة الشيء الواحد فلا تدخل بينهما الصفة، ولا يجوز أن يضمر بعد الواو في الآية تبشير آخر معه باء؛ لأنه لا يصلح ضمير شيئين على هذه الشريطة، ولا تعمل الباء مضمرة إذا كانت صلة لفعل يتصل به ضمير، كما لا تعمل إلا مظهرة حتى يظهر الفعل معها، ألا ترى أن الذي يقول مررت أبيك لا يضمر الباء هاهنا ويخفض بها، فامتناعها هناك من أن تظهر وتعمل كامتناعها هاهنا، قال: والصحيح في ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) قرأ حفص وابن عامر وحمزة بفتح الباء، والباقون بالرفع، انظر: "السبعة" ص 338، "إتحاف" 258، "الكشف" 1/ 534، "الحجة" 4/ 364. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 22. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) "تهذيب اللغة" (عقب) 3/ 2508، "اللسان" (عقب) 5/ 3030. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 22. (¬7) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 101، وانظر: "الكتاب" 1/ 48 - 49.

إعراب {يَعْقُوبَ} النصب بفعل مضمر يشاكل معناه معنى (¬1) التبشير على تقدير: ومن وراء إسحاق وهبنا لها يعقوب، كما تقول العرب: مررت بأخيك وأباك، يريدون بـ (مررت) (جُزْت) كأنه قيل: جزت أخاك وأباك وكما قال جرير (¬2): جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيار أو عامرَ بن طفيل في مركبة ... أو جارنا يوم نادى القوم يا جار أراد: أعطني مثل بني بدر أو مثل (¬3) أسرة. وقال آخر (¬4): لو جئت بالتمر له ميسرًا والبيضَ مطبوخًا معًا والسكرا لم يرضه ذلك حتى يسكرا أراد لو أطعمته التمر والبيض. قال رؤبة (¬5): ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) القائل جرير في هجاء الأخطل، والبيت في "ديوانه" ص163، سيبويه والشنتمري 1/ 48، 86، "المقتضب" 4/ 153، وهو بلا نسبة في الطبري 12/ 75، "المحتسب" 2/ 78، "معاني القرآن" 2/ 21، 3/ 124، وهو في هذه القصيدة يفخر ببني قيس عيلان بن مضر بن نزار جميعًا علي بني ربيعة بن نزار وهم قوم الأخطل التغلبي، فذكر "بني بدر" الفزاريين من قيس عيلان، و"منظور بن سيار الفزاري" العبسي و"عامر بن الطفل" من بني جعفر بن كلاب، انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري 15/ 396 - 397. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 22 قال: أنشدني بعض بني باهلة. (¬5) من أرجوزة له. انظر: "ملحق ديوانه" ص 190، "أساس البلاغة" (فسق)، وينسب للعجاج كما في سيبويه والشنتمري 1/ 49، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في "شرح شذور الذهب" 402، "المحتسب" 2/ 43، "الخصائص" 2/ 432، "شرح التصريح" 1/ 288.

يهوين في نجد وغورا غائرًا ... فواسقا عن قصدها جوائرا أراد: يدخلن نجدًا. وكل ما ذكره أبو بكر من ردّ وجه الخفض وتوجيه النصب هو قول الفراء والزجاج وشرح كلامهما. وذكر أبو علي (¬1) أن قومًا ذهبوا في قراءة حمزة إلى العمل على موضع الجار (¬2) والمجرور كقوله (¬3): إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدًا وقوله (¬4): فلسنا بالجبال ولا الحديدا كذلك هاهنا قوله: {إِسْحَاقَ} الجار والمجرور في موضع النصب فحمل عليه قوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} بالعطف، قال أبو علي: وهذا الوجه في الفتح كوجه قول من جعل يعقوب في موضع الخفض، وذلك أن الفصل في هذا بين واو العطف والحرف المعطوف بالظرف قبيح، سواء ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 364 - 367 بتصرف. (¬2) ساقط من (ب). (¬3) عجز بيت لكعب بن جعيل، وصدره: ألا حيّ ندماني عُمْيدَ بن عامرٍ انظر: سيبويه والشنتمري 1/ 34 - 35، ابن السيرافي ص 253، وبلا نسبة في "الإنصاف" 285، و"المقتضب" 4/ 112، 154، و"المحتسب" 2/ 362. (¬4) عجز بيت لعقيبة الأسدي، أو لعبد الله بن الزبير، وصدره: معاوي إننا بشر فأسجح انظر: سيبويه 1/ 34، 352، "الخزانة" 1/ 343، 2/ 143، "شرح المفصل" 2/ 109، "شرح أبيات المغني" 7/ 53، "الإنصاف" 284، "سر صناعة الإعراب" 1/ 294، 131، "سمط الآلئ" /148، "نسبه في الأزمنة والأمكنة" 21/ 317 لعمرو بن أبي ربيعة.

عطفت على المرفوع أو المنصوب أو المجرور، وذلك أن الفعل [يصل بحرف العطف، وحرف العطف هو الذي يشرك في الفعل وبه] (¬1) يصل الفعل إلى المفعول به، كما يصل بحرف الجر إذا قلت (مررت يزيد) (¬2)، ولا يجوز الفصل بين الباء وزيد، كذلك لا يجوز الفصل في قولك ضربت زيدًا وعمرًا بين الواو وعمرو؛ لأن الحرف العاطف مثل الجار في أنه يشرك في الفعل، كما يوصل الجار الفعل وليس نفس الفعل العامل في الموضعين جميعًا وإذا كان كذلك قبح الفصل بالظرف في العطف، وقد جاء (¬3) ذلك في الشعر، قال ابن أحمر (¬4): أبو حنش يؤرقنا وطلق ... وعبّادٌ وآونةً أثالُ ففصل بالظرف في العطف على المرفوع. وقال الأعشى: يوما تراها كشبه أرديه الـ ... ـعصب ويومًا أديمها نغلا (¬5) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) قائمًا كما في "الحجة" 4/ 365. (¬3) في (ب): (جاز)، والصحيح ما أثبتهُ كما في "الحجة" 4/ 366. (¬4) من قصيدة يذكر فيها جماعة من قومه لحقوا بالشام فصار يراهم في النوم إذا أتى الليل، انظر: "ديوانه" ص 129، "الحماسة البصرية" 1/ 262، " أمالي ابن الشجري" 1/ 192، "الخصائص" 2/ 378، "الإنصاف" 299، المذكور (أثالا). "الكتاب" 2/ 270، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 487، "اللسان" (حنش) 2/ 1023، "المقاصد النحوية" 2/ 421. (¬5) البيت من قصيدة له يمدح فيها سلامة ذا فائش، في "ديوانه" ص 170 (أردية الخمس)، والعصب: ضرب من البرود، ونغل الأديم: فسد في الدباغ. وانظر: "شرح أبيات المغني" 2/ 163 - 164، "اللسان" (نغل) 8/ 4490، وبلا نسبة من "الخصائص" 2/ 395، "الإيضاح" / 148.

72

ففصل بالظرف بين المشرك في النصب وما أشركه فيه، فإذا قبح هذا فالوجه أن تحمل قراءة حمزة {يَعْقُوبَ} بالنصب على فعل آخر مضمر يدل عليه (بشرنا) كما تقدم، ولا يحل على الوجهين الآخرين لاستوائهما في القبح (¬1). 72 - قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى}. قال أبو إسحاق (¬2): الأصل فيه يا ويلتي فأبدل من الياء والكسرة [الألف؛ لأن الألف أخف من الياء والكسرة] (¬3)، وقد ذكرنا مثل هذا في قراءة من قرأ {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ} [هود: 42] بفتح الياء، قال (¬4): والاختيار في الكلام إن وقف عليه بالهاء "يا ويلتاه" فأما المصحف فلا يخالف، ويوقف إذا (¬5) اضطر واقف بغير هاء، وذكرنا معنى هذا النداء في قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ} [المائدة: 31] (¬6)، وهذه الكلمة إنما تقال عند الإيذان بورود الأمر الفظيع. وقوله تعالى: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ}، قال الليث (¬7): العجوز المرأة الشيخة والجميع العجز والعجائز، والفعل عجزت تعجز عجزًا، وعجّزت ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل من "الحجة" 4/ 364 - 367 بتصرف. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 63. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) القائل أبو إسحاق الزجاج في الموضع السابق 3/ 63. (¬5) في (ي): (إن). (¬6) وقد نقل هناك عن الزجاج قوله: المعنى يا ويلتا تعالى، فإنه من إبّانك، أي: قد لزمني الويل، قال: والوقف في غير القرآن: يا ويلتاه. اهـ. وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 167. (¬7) "تهذيب اللعة" (عجز) 3/ 2337.

تعجِّز تعجيزًا فهي مُعَجِّزة والتشديد أكثر، قال يونس (¬1): امرأة مُعجِّزة: طعنت في السن، ويقال للمرأة [اتقي الله في شبيبتك وعجزك. قال ابن الأعرابي (¬2): ويقال للمرأة] (¬3) عجوزة بالهاء أيضًا. قال ابن إسحاق (¬4): كانت (¬5) ابنة تسعين سنة، وقال عطاء ومجاهد (¬6): تسع وتسعين سنة، جعل الله -عز وجل- الولد على تلك الحال معجزًا لنبيه إبراهيم -عليه السلام -، وإنما تعجبت من مقدور الله تعالى -مع إيمانها- بطبع البشرية إذا ورد مثلُ هذا على النفس من غير فكر ولا روية، كما ولى موسى عليه السلام مدبرًا حتى قيل له: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} [القصص: 31]. وقوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}، ذكرنا معنى البعل والبعولة في سورة البقرة (¬7) والنساء (¬8)، وقال عطاء ومجاهد (¬9): كان إبراهيم عليه السلام في ذلك الوقت ابن مائة سنة. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (عجز) 3/ 2337. (¬2) "تهذيب اللغة" (عجز) 3/ 2337. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) الطبري 12/ 77، الثعلبي 7/ 49 ب، البغوي 4/ 189، "زاد المسير" 4/ 133، القرطبي 9/ 70. (¬5) ساقط من (ي). (¬6) الثعلبي 7/ 49 ب، البغوي 4/ 189، "زاد المسير" 4/ 132، القرطبي 9/ 70. (¬7) البقرة: 228. (¬8) النساء: 128. وخلاصة ما ذكره أن المراد بالبعل الزوج، وإنما سمي بذلك لأحد أمرين: إما لأنه مستبعل لها وقد غلطه الأزهري، وإما لأنه سيدها ومالكها. وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 363 (بعل). (¬9) الثعلبي 7/ 50 أ، البغوي 4/ 189، "زاد المسير" 4/ 132.

وقال ابن إسحاق (¬1): ابن عشرين ومائة سنة. وقال الكلبي (¬2): ابن تسع وتسعين سنة. قال أبو إسحاق (¬3): (شيخا) منصوب على الحال، والحال هاهنا نصبه من لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: هذا زيد قائمًا، فإذا كنت تقصد أن تخبر من لم يعرف زيدًا أنه زيد لم يجز هذا؛ لأنه لا يكون زيدًا ما دام قائمًا فإذا زال عن القيام فليس يزيد، وإنما تقول للذي يعرف زيدًا هذا زيد قائمًا فيعمل في الحال التنبيه، المعنى (¬4): انتبه لزيد في حال قيامه أو أشير لك إلى زيد في حال قيامه. قال ابن الأنباري (¬5): وهذا إنما وقعت الإشارة معه إلى الشيخوخة، أي: تنبهوا على شيخوخة بعلي، كما يقول القائل: هذا الله لطيفًا كريمًا. يريد تنبهوا على لطفه وكرمه، وما يجهله -عز وجل- ذو عقل وتمييز. وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}، العجيب بمعنى المُعْجِب يقال: أعجبني الشيء فهو معجب وعجيب، قال ابن عباس (¬6): يريد أن يولد لابن مائة سنة ولكبرها وأنها حرمت الولد في شبابها وأعطيته في كبرها. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 76، الثعلبي 7/ 50 أ، البغوي 4/ 189، "زاد المسير" 4/ 133. (¬2) "تنوير المقباس" ص 143، "زاد المسير" 4/ 132. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 63، وانظر: "تهذيب اللغة" (بعل) 1/ 362. (¬4) ساقط من (ب). (¬5) "زاد المسير" 4/ 132. (¬6) قال به الطبري 12/ 77، "زاد المسير" 4/ 133، القرطبي 9/ 70.

73

73 - قوله تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، قال ابن عباس (¬1): يريد من قضاء الله وقدرته؟ وقال أهل المعاني: أنكرت الملائكة عليها لما تعجبت من ولادتها على كبر السن؛ لأن ما عرف سببه لا يتعجب منه، والله تعالى قادر لا يعجزه شيء. قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} يحتمل أن يكون هذا دعاء من الملائكة لهم بالرحمة والبركة، ويحتمل أن يكون إخبارًا عن ثبوت ذلك لهم فيكون تذكيرًا بالنعمة عليهم، قال المفسرون (¬2): ومن هذه البركات أن الأسباط وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة. وقوله تعالى: {أَهْلَ الْبَيْتِ} يعني: بيت إبراهيم، قالوا: وفي هذا دليل على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته تكذيبًا لمن أنكر ذلك؛ لأن الملائكة خاطبوا سارة بأهل البيت، وسموها أهل بيت إبراهيم. وقوله تعالى: {إِنَّهُ حَمِيدٌ}، الحميد الذي تحمد فعالُه، وهو بمعنى المحمود، والله تعالى الحميد المحمود والمستحمد إلى عباده، والمجيد: الماجد وهو ذو الشرف والكرم، يقال مجد الرجل يمجد مجدًا ومجادة، ومجُد يمجُد لغتان. قال الحسن والكلبي (¬3): المجيد: الكريم، وهو قول أبي إسحاق (¬4)، وقال ابن الأعرابي (¬5): المجيد: الرفيع، وقال أهل المعاني: المجيد: الكامل الشرف والرفعة والكرم والصفات ¬

_ (¬1) قال به الطبري 12/ 77، "زاد المسير" 4/ 133، القرطبي 9/ 70. (¬2) "زاد المسير" 4/ 133. (¬3) البغوي 4/ 190، "تنوير المقباس" ص 143. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308. (¬5) "تهذيب اللغة" (مجد) 4/ 3345.

المحمودة، وأصله من قولهم: مجدت الدابة إذا أكثرت علفها، رواه أبوه عبيد عن أبي عبيدة (¬1)، وقال النضر (¬2): مجدت الإبل تمجد مجدًا إذا شبعت، وقال الأصمعي (¬3): أمجدتُ الدبة علفًا أكثرت لها ذلك، وقال أبو حية (¬4): تزيد على صواحبها وليست ... بماجدة الطعام ولا الشراب أي: ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب، وقال الليث (¬5): أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره، واستمجد المرخ والعفار (¬6) أي: استكثر من العفار [أي: استكثر من النار] (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (مجد) 4/ 3345. (¬2) "تهذيب اللغة" (مجد) 5/ 3344، وهو النضر بن شميل. (¬3) "تهذيب اللغة" (مجد) 4/ 3345. (¬4) أبو حية النميري هو: الهيثم بن الربيع بن كثير، من شعراء الدولتين الأموية والعباسية، شاعر مجيد متقدم، يروي عن الفرزدق وكان كذابًا بخيلاً. توفي سنة 183هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 522، "الأغاني" 12/ 61. والبيت قاله في وصف امرأة. "ديوانه" ص 123، وانظر: "البحر المحيط" 5/ 237، "الدر المصون" 6/ 359، "اللسان" (مجد) 4/ 3345. (¬5) "تهذيب اللغة" (مجد) 10/ 683. (¬6) هما شجرتان في الحجاز يستوقد منهما النار. والمثل هو (في كل الشجر نار، واستمجد المرخ والعفار) أي: استكثرا من النار فصلحا للاقتداء بهما، شبها بمن يكثر من االعطاء طلبًا للمجد، "تهذيب اللغة" 4/ 3345. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أي).

74

74 - قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الآية، الروع: الإفزاع، يقال: راعه يروعه روعًا (¬1) إذا أفزعه، قال عنترة (¬2): ما راعني إلا حمولةُ أهلها ... وسْط الديار تَسَفُّ حب الخمخم (¬3) والرُّوع النفس وهو موضع الرَّوْع، قال ابن عباس (¬4): يريد الفزع؛ قال الزجاج (¬5): يعني ارتياعه لما أنكرهم حين لم يأكلوا العجل. قال تعالى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى}، قال ابن عباس (¬6): يريد بإسحاق ويعقوب. وقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}، (لمَّا) (¬7) تصحبها الأفعال الماضية؛ لأنها جعلت في الكلام لما قد وقع بوقوع غيره، تقول: (لَمَّا جاء زيد جاء عمرو)، وهاهنا قيل: (يجادلنا) على لفظ المستقبل، وذلك أن (لما) لما كانت شرطًا للماضي جاز أن يقع بعدها المستقبل بمعنى الماضي، كما أن (إنْ) (¬8) لما كانت شرطًا للمستقبل، جاز أن يقع بعدها الماضي بمعنى ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) البيت من معلقته المشهورة، انظر: "ديوانه" ص 123، والخمخم، بقلة لها حب أسود، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل، سفت حب الخمخم، فكان ذلك نذيرًا بوشك فراقهم. وانظر: الطبري 12/ 78، "اللسان" (حمم) 3/ 1270، (خمم) 3/ 1270، "ديوان الأدب" 3/ 105، "كتاب العين" 3/ 43، "تاج العروس" (خمم)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 1106. (¬3) في حاشية (ب): (والحمحم أيضًا بالحاء والخاء). (¬4) "زاد المسير" 4/ 134، الطبري 12/ 78. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 64. (¬6) رواه الطبري عن ابن إسحاق 15/ 401، البغوي 2/ 394، القرطبي 9/ 72. (¬7) في (ي): (إلى)، (¬8) ساقط من (ي).

المستقبل، نحو: إن جاء زيد، حيث قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10]. وفيه وجه آخر وهو أن يكون قوله: {يُجَادِلُنَا} [حكاية لحال قد مضت، المعنى: لما ذهب عنه الروع أخذ يجادلنا] (¬1) وأقبل يجادلنا، فأضمر هذا الفعل قبل المستقبل؛ لأن (لما) تقتضيه، وفي كل كلام يخاطب به معنى (أخذ) و (أقبل) إذا أردت حكايته حال، والوجهان ذكرهما الزجاج (¬2) وابن الأنباري. قال الزجاج: والوجه الثاني هو الذي أختاره، ومعنى يجادلنا: يجادل رسلنا من الملائكة في قول جميع المفسرين (¬3)؛ قالوا جميعًا: إن الرسل لما قالوا لإبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}، قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: [فأربعون؟ قالوا: لا. قال:] (¬4) فثلاثون؟ قالوا: لا. فما زال ينقص، فيقولون: لا، حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا، فاحتج عليهم بلوط وقال: إن فيها لوطًا؛ فقالوا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، وهذا معنى جدال إبراهيم في قوم لوط. وقال أهل المعاني (¬5): معنى (يجادلنا) يسألنا ويكلمنا فيهم ويراجعنا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 94 بتصرف. (¬3) الطبري 12/ 78، الثعلبي 7/ 50 أ، البغوي 4/ 190، ابن عطية 7/ 354، "زاد المسير" 4/ 134، القرطبي 9/ 72، ابن كثير 2/ 495. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) ذكر هذا القول الطبري 12/ 79 ورده، والثعلبي 7/ 50 أ.

76

في ذلك، إلا أنه استعير لفظ يجادل؛ لأنه كان يحرص في السؤال حرص المجادل، والآية الثانية ذكرنا تفسيرها في سورة التوبة (¬1). 76 - قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}. قال الزجاج: المعنى: فقلنا يا إبراهيم، وقال المفسرون: قالت الرسل عند ذلك يا إبراهيم أعرض عن هذا، وأشير بـ (هذا) إلى الجدال. 77 - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ}، قال ابن عباس (¬2) في رواية الكلبي: لما قفلت الرسل من عند إبراهيم إلى لوط، توضأ إبراهيم وقام يصلي، وكان بين قريته وقرية لوط أربعة فراسخ، فانتهوا إلى قرية لوط، فبصرت ابنتا لوط -وهما يستقيان- بالملائكة فرأتا هيئة حسنة، قالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ قالوا: من موضع كذا، نريد هذه القرية، قالتا: فإن أهلها يفعلون كذا وكذا. فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم، هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط، فلما جاؤوه ورأى هيئتهم خاف قومه عليهم فسيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وقال: هذا يوم عصيب، ومعنى سِيء بهم ساءه مجيؤهم، وساء يسوء فعل لازم ومجاوز، يقال: سؤته فسيء مثل شغلته فشغل، وسررته فسر. قال أبو إسحاق (¬3): أصله سُوِءَ بهم إلا أن الواو أسكنت ونقلت ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [آية: 114]. وخلاصة ما ذكره أن الأوّاه كما قال أبو عبيدة: المتأوّه شفقًا وفرقًا، المتضرع يقينًا ولزومًا للطاعة. والحليم، قال ابن عباس: لم يعاقب أحدًا إلا لله، ولم ينتصر من أحدٍ إلا لله. (¬2) انظر: القرطبي 9/ 73. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 66.

كسرتها إلى السين، قال عامة أهل التأويل (¬1): إنما سيء بهم لوط؛ لأنه لما نظر من حسن وجوههم، وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بما يقصدون به غيرهم من المطالبة بالفعل الخبيث، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن (¬2) أضيافه. وقوله تعالى: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}، قال الأزهري (¬3): الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه أن يذرع البعير بيديه في سيرة ذرعًا على قدر سعة خطوه، فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق ذَرْعُهُ عن ذلك فضعف ومد عنقه، فجُعِلَ ضيق الذرع عبارةً عن ضيق الوسع والطاقة،، فيقال: ما لي به ذرع ولا ذراع، أي: ما لي به طاقة، الدليل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعًا، قال القطامي (¬4): إذا التَّيَّازُ ذو العضلات قُلْنا ... إليكَ إليكَ ضاق بها ذراعًا فمعنى ضاق بهم ذرعا: ضاق صبره وعظم المكروه عليه، وقال أبو إسحاق (¬5) يقال: ضاق زيد بأمره ذرعًا: إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصًا، ولم أر أحدًا ذكر في أصل الذرع أحسن مما ذكره الأزهري، وغيره (¬6) يقول: ضاق ذرعًا أي: ضاق بهم صدرًا، وليس يعرف ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 81، البغوي 4/ 190، ابن عطية 7/ 357، "زاد المسير" 4/ 135. (¬2) في (ب): (علي). (¬3) "تهذيب اللغة" (ذرع) 2/ 1278. (¬4) "ديوانه" ص 44، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 256، و"اللسان" (ت ى ز). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 66. (¬6) القرطبي 9/ 74، الثعلبي 7/ 50 ب.

أصله، وذكر ابن الأنباري (¬1) قولين: أحدهما: أصله (من ذرع فلان القيء) إذا غلبه وسبقه، ومعنى ضاق ذرعه: ضاق حبس المكروه في نفسه، وهذا ليس بظاهر، والقول الثاني (¬2): أن الذرع كناية عن الوسع؛ لأن الذراع من اليد، والعرب تقول ليس هذا في يدي يعنون ليس في وسعي، وهذا قريب مما قاله الأزهري، ولكن لم يبين بيانه. وقال الفراء (¬3): الأصل فيه (وضاق ذرعٌ بهم)، فنقل الفعل عن الذرع إلى ضمير لوط (¬4)، ونصب الذرع بتحول الفعل عنه، كما قال {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]. وقد ذكرنا نظير هذا في قوله: {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. وقوله تعالى: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}. قال المفسرون وجميع أهل المعاني (¬5): يوم شديد، قال أبو بكر: قال الكسائي (¬6): العصيب: الشديد يقال منه عصب اليوم يعصب عصابة. وقال الفراء (¬7) والزجاج (¬8) وأبو عبيدة (¬9): العصيب الشديد، وأنشد ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 136. وذكر قولًا ثالثًا عنه هو أن معناه: وقع به مكروه عظيم لا يصل إلى دفعه عن نفسه. (¬2) ساقط من (ب). (¬3) "معاني القرآن" 1/ 79، "زاد المسير" 4/ 136. (¬4) في (ي): (لفظ). (¬5) الطبري 12/ 82، البغوي 4/ 190، الرازي 18/ 31، "البحر المحيط" 5/ 246، "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 67. (¬6) "تهذيب اللغة" (عصب) 3/ 2454. (¬7) "تهذيب اللغة" (عصب) 3/ 2453. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 27. (¬9) "مجاز القرآن" 1/ 293.

78

أبو عبيدة قول هانئ العنبري (¬1): يوم عصيب يعصب الأبطالا عصبَ القوي السُّلَّم الطوالا قال أبو عبيدة: وإنما قيل له عصيب؛ لأنه يعصب الناس بالشر، وأنشد لعدي بن زيد (¬2): وكنتُ لِزازَ خصمِك لم أعرِّدْ ... وقد سلكوك في يوم عصيب 78 - وقوله تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} الآية. قال المفسرون (¬3): لما أضافهم لوط مضت امرأته عجوز السوء، فقالت لقومه: إنه استضاف لوطًا قوم لم أر أحسن وجوهًا ولا أنظف ثيابًا ولا أطيب رائحة منهم، فجاءه قومه ليراودوه عن ضيفه؛ فذلك قوله: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ}. قال عامة المفسرين وأهل المعاني: يهرعون: يسرعون، قال الكسائي (¬4) وأبو زيد (¬5): أهرع الرجل إهراعًا إذا أسرع في رعدة (¬6). ¬

_ (¬1) بيتان من الرجز وقد نسبهما الواحدي هنا إلى هانئ العنبري، وبلا نسبة في: "مجاز القرآن" 1/ 294، الطبري 12/ 82، القرطبي 9/ 74، "زاد المسير" 4/ 107، "مجمع البيان" 5/ 277. (¬2) هذا البيت من قصيدة قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر، و (لزاز الخصم) الشديد المعاند ذو البأس في الملمات، و (عرد عن خصمه) أحجم ونكص، انظر: "ديوانه" ص 39، "مجاز القرآن" 1/ 294، "الأغاني" 2/ 111، الطبري 12/ 82، "اللسان" (سلك) 4/ 2073، "كتاب الجيم" 3/ 208. (¬3) الطبري 12/ 83، الثعلبي 7/ 51 أ، "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 67، البغوي 4/ 191، "زاد المسير" 4/ 137. (¬4) "تهذيب اللغة" (هرع) 4/ 3751، القرطبي 9/ 74، "اللسان" (هرع) 8/ 4653. (¬5) "تهذيب اللغة" (هرع) 4/ 3751. (¬6) في النسخ (عدوه) وفي (ب) ما أثبته وهو الصحيح. انظر: "زاد المسير" 4/ 137.

قال أهل اللغة: وهذا من الفعل الذي خرج الاسم معه مقدرًا تقدير المفعول (¬1)، وهو صاحب الفعل [لا يُعرف له فاعلٌ غيره، نحو: أولع فلان بالأمر؛ جعلوه مفعولًا وهو صاحب الفعل]، ومثله: أرعد زيد وزُهي عمرو، من الزهو، ونُخي بكر من النخوة، وذكر أبو عبيد (¬2): المهرع: الحريص في باب ما جاء في لفظ مفعول بمعنى فاعل، وحكى أبو بكر (¬3) عن بعض النحويين قال: لا يجوز للفعل أن يجعل فاعله مفعولًا، وهذه الأفعال حذف فاعلوها، فتأويل أرعد الرجل أرعده غضبه، وأولع زيدٌ معناه أولعه طبعه، وزُهي عمرو معناه: جعله ماله أو جهلُه زاهيًا، وكذلك نُخِيَ وأهْرع معناه [أهرعه خوفُه، أو حرصه، ويؤكد هذا ما ذكره أبو عبيدة (¬4) في تفسير قوله: {يُهْرَعُونَ} قال: معناه] (¬5): يستحثون إليه، وأنشد (¬6): بمعجلات نحوه مهارع فعلى هذا، الفعل واقع على القوم من المستحثين، ودل عليه ما أنشده؛ لأنه قال: بمعجلات وهن اللاتي [أُعْجِلْنَ أي] (¬7) أعجلهن غيرهن، ¬

_ (¬1) في (ي): (الفعل). (¬2) "تهذيب اللغة" (هرع) 4/ 3751، "اللسان" (هرع) 8/ 4653 - 4654. (¬3) "زاد المسير" 4/ 137. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 294. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) بيت من الرجز، وهو بلا نسبة في: "مجاز القرآن" 1/ 294، الطبري 12/ 83 (العلمية)، القرطبي 9/ 75. (¬7) ساقط من (ب).

كذلك المهارع اللاتي أهرعهن غيرهن، ويدل على هذا قول مهلهل: فجاءوا يُهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف فقوله: يُهرعون، معناه: يساقون ويعجلون، لا أنهم يسرعون من عند أنفسهم؛ لأنه قال: وهم أسارى، أي: يقودهم، فبيَّن أنهم محمولون على ذلك الإسراع لا من عند أنفسهم، غير أن أكثر أهل اللغة على أن أُهْرعَ الرجل بمعنى أسرع على لفظ فعل لم يسم فاعله، ولا يعرفون أَهْرَعَ. وقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلُ} أي: من قبل مجيئهم إلى لوط {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، قال عطاء: يريد الشرك، وقال آخرون (¬1): يعني: فعلهم المنكر. وقوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}. قال أكثر المفسرين (¬2): يعني: بنتيه زيتا (¬3) وزعورا، وعلى هذا سمي الاثنان بالجمع كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]. وقوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، يعني: حكم داود وسليمان، ومن المفسرين من ذهب إلى أنه كان له أكثر من بنتين، وعلى هذا سهل الأمر. وقوله تعالى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}. قال المفسرون: أراد: أنا أزوجكموهن فهن أطهر لكم من نكاح الرجال، قال ابن عباس (¬4) وغيره: كان رؤساء من قومه خطبوا إليه فلم يزوجهم قبل ذلك فلما راودوه عن ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 84 رواه عن ابن جريج، الثعلبي 7/ 51 أ، البغوي 4/ 191، "زاد المسير" 4/ 137. (¬2) الثعلبي 7/ 51 ب، البغوي 4/ 191، "زاد المسير" 4/ 137، القرطبي 9/ 76. (¬3) في الطبري 12/ 84 "رثيا" و"زغرتا"، وفي الثعلبي 7/ 51 ب (زعورا) و (ريثا). (¬4) الثعلبي 7/ 51 ب، القرطبي 7/ 51 أ.

ضيفه أراد أن يقي أضيافه ببناته فعرضهن عليهم شريطة الإسلام قبل عقد النكاح. وقال الحسن (¬1): كان يجوز في شريعة لوط تزويج المسلمة من الكافر، وكذلك كان في صدر الإسلام؛ فقد زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه من عتبة ابن أبي لهب (¬2)، وأبي العاص بن الربيع (¬3). وقال مجاهد (¬4): لم يكنَّ بناته كُنَّ من أمته، وكل نبي أبو أمته. وقال سعيد بن جبير (¬5): دعاهم إلى نسائهم؛ يعني: أن قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: نساؤكم، فجعلهن بناته؛ لأنه نبيهم، وكل نبي أبو أمته؛ كما روي في بعض القراءة: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) [الأحزاب: 6] (¬6). وروي عن الحسن وعيسى بن عمر (¬7) أنهما قرأ: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ¬

_ (¬1) " زاد المسير" 4/ 138، الثعلبي 7/ 51 أ. (¬2) هو: عتة بن أبي لهب بن عبد المطلب القرشي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، أسلم في الفتح وشهد حنينًا. انظر: "الإصابة" 2/ 455، "الاستيعاب" 3/ 149. (¬3) هو: أبو العاص بن الربيع بن عبد العز بن العبسي، زوج بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب، أسلم بعد الهجرة، توفي سنة 12هـ على خلاف في ذلك. انظر: "الإصابة" 4/ 121، "سير أعلام النبلاء" 1/ 330. (¬4) الطبري 12/ 84، الثعلبي 7/ 51 أ، البغوي 4/ 191 "زاد المسير" 4/ 138، القرطبي 9/ 76. (¬5) الطبري 12/ 84، الثعلبي 7/ 51 أ، البغوي 4/ 192، "زاد المسير" 4/ 138، القرطبي 9/ 76. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 23. (¬7) الطبري 12/ 85، الثعلبي 7/ 51 ب، القرطبي 9/ 76.

بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] إلا (¬1) أن أكثر النحويين (¬2) على أن هذا خطأ؛ لامتناع أن يجوز كون {هُنَّ} هاهنا عمادًا، وأجاز الكسائي (¬3) ذلك وقال: من نصب جعلهن عمادًا كما يقال كان الهندات هن أفضل من غيرهن. قال الفراء (¬4): {هُنَّ أَطْهَرُ} بالنصب خطأ؛ لأن هذا وهؤلاء في باب التقريب لا يدخل معه العماد، فلا يقال (هذا عبد الله هو أفضلَ منك)؛ لأن هذا اسم (¬5) جامد لا يتصرف تصرف (كان)، وزاد ابن الأنباري بيانًا، فقال: هذا الأولى به والغالب عليه؛ أن يكون اسمًا للمشار إليه غير مقرب خبرًا، فلما نقل إلى التقريب ونصب الخبر معه نحو: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] منع العماد ولم يجر مجرى (كان) في هذا الباب، كما لم يجر مجراها في توسيط الخبر وتقديمه، لا يجوز (هذا قائمًا زيد) ولا (قائمًا هذا زيد) كما يجوز في (كان)، ولو قيل: (هؤلاء بناتي أطهرَ لَكُم) بالنصب جاز من غير عماد، وجميع البصريين ينكرون هذه القراءة ولا يجيزونها، وذكر الزجاج (¬6) ذلك على قريب مما ذكرنا. ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) كالخليل وسيبويه والأخفش، انظر: "القرطبي" 9/ 76، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 102، "البحر المحيط" 5/ 247، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 412، "الطبري" 12/ 85. (¬3) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 104. (¬4) لم أجده في مظانه. (¬5) في (ي): (الاسم). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 67.

وقال سيبويه (¬1): ولكن الفصل يدخل على الأخبار ولا يدخل على الحال، لا يجوز: (قام زيد هو مسرعًا). وليس الشرط أن أذكر قراءة غير مشهورة، إلا أن النصب في {أطهرَ} هاهنا اشتهر ذكره، فأردت أن أذكر ما قيل فيه. والألف في قوله: {أطهر} ليس لتفضيل (¬2) نكاح البنات على نكاح الرجال في الطهارة (¬3)؛ لأنه لا طهارة في نكاح الرجال البتة، ولكن هذا كقولنا: الله أكبر ولم يكابر الله أحد، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما قال أبو سفيان يوم أحد: اعلُ (¬4) هبل، قال: الله أعلى وأجل (¬5)، ولا مقارنة بين الله وبين الصنم، ولهذا نظائر كثيرة. قوله تعالى: {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}، قال الكلبي عن ابن عباس (¬6): لا تفضحون في أضيافي (¬7)، يريد: أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة، وقال بعض المفسرين (¬8): {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أراد لا ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 2/ 397، "البحر المحيط" 5/ 247، "الدر المصون" 4/ 117 - 118، "إملاء ما منَّ به الرحمن" 2/ 43. (¬2) هذا النص منقول عن الثعلبي 7/ 51 ب. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) في (ب): (أعلى). (¬5) أخرجه البخاري (4043) في المغازي، باب غزوة أحد: لما انكشف المسلمون، وظن المشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل وفيه نداء أبي سفيان وإجابة عمر له، فقال أبو سفيان: اعل هبل. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: فذكره، وأحمد 1/ 463، 4/ 293. (¬6) "زاد المسير" 4/ 138. (¬7) ساقط من (ي). (¬8) الثعلبي 7/ 51 ب، البغوي 4/ 192.

تسوؤون (¬1) فيهم. قال أبو بكر (¬2): ومعنى هذا لا تفعلوا بأضيافي فعلا يلزمني الاستحياء منه؛ لأن مُضَيِّف الضيف يلزم الاستحياء من كل فعل قبيح يوصل إلى ضيفه، فتخزوني من باب الاستحياء؛ من قولهم: خزي الرجل خزاية إذا استحيا، والضيف هاهنا نائب عن الأضياف، كما ناب الطفل عن الأطفال في قوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور: 31]، ويجوز أن يكون الضيف مصدرًا مستغنى عن جمعه؛ كقولهم: رجال صوم، وسنذكر اشتقاق الضيف وفعله عند قوله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] إن شاء الله. وقوله تعالى: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}، قال الكلبي (¬3) وابن إسحاق (¬4): [يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو معنى قول ابن عباس (¬5): رجل رشيد] (¬6): يقول الحق ويرد هؤلاء عن أضيافي، وعلى هذا: (رشيد) بمعنى (مرشد)، قال أبو بكر (¬7): ويجوز أن يكون (رشيد) بمعنى (مرشد) أي: أليس فيكم رجل مرشد قد أسعده (¬8) الله بما منحه من ¬

_ (¬1) في (ب): (تشوروني). (¬2) "زاد المسير" 4/ 138. (¬3) "تنوير المقباس" ص 143. (¬4) الطبري 12/ 86، البغوي 4/ 192، وقد روى هذا القول عن ابن عباس وأبي مالك كما في "الدر" 4/ 458، "زاد المسير" 4/ 139. (¬5) الثعلبي 7/ 51 ب، البغوي 4/ 192. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "زاد المسير" 4/ 139. (¬8) في (ب): (أستعده).

79

الرشاد يصرفكم عن هذه الخزية؟ فيكون {رَشِيدٌ} هاهنا كالحكيم، في قوله: {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] بمعنى المحكم، والقول الأول عليه أهل التفسير. 79 - قوله تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}، قال عطاء عن ابن عباس (¬1): يريد من شهوة، وقال الكلبي (¬2): من حاجة. جعلوا تناول ما لا حاجة لهم فيه بمنزلة تناول ما لا حق لهم فيه. وقال ابن (¬3) إسحاق: لسن لنا بأزواج فنستحقهن، وهذا القول أولى؛ لأنه رد على ظاهر اللفظ حين قال لهم: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}. فقالوا: لسن لنا بأزواج، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}. قال عطاء (¬4): وإنك تعلم أنا نريد الرجال لا النساء، وقال الكلبي (¬5): يريدون عملهم الخبيث. 80 - وقوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}. قال المفسرون (¬6): أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار، فقال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}، قال ¬

_ (¬1) البغوي 4/ 192. (¬2) "زاد المسير" 4/ 139، البغوي 4/ 192. (¬3) في (ي): (أبو) والصحيح ما أثبته، وانظر: "زاد المسير" 4/ 139، البغوي 4/ 192، الثعلبي 7/ 51 ب، الطبري 12/ 86. (¬4) "زاد المسير" 4/ 139، ونقله الطبري عن السدي 12/ 86، الثعلبي 7/ 51 ب، البغوي 4/ 192. (¬5) "تنوير المقباس" ص 143. (¬6) الثعلبي 7/ 52 أ، البغوي 4/ 192، "زاد المسير" 4/ 140، القرطبي 9/ 78.

ابن عباس (¬1) في رواية عطاء: لو أن معي جماعة أقوى بها عليكم، وقال في رواية الكلبي (¬2): القوة: الولد وولد الولد، وعلى هذا جعل ما يتقوى به قوة، كما سمى العدة من السلاح قوة في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. وقال آخرون: أراد بالقوة: القدرة على دفعهم ومنعهم، هذا معني قول مقاتل (¬3)، قال: القوة البطش. وقوله تعالى: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ}، [قال ابن الأنباري] (¬4): عطف آوي على القوة؛ لأن القوة مصدر، والمصدر يتأول بـ (أن) وتكون (أن) بمعناه (¬5) فيقال: يعجبني قيامك ويعجبني أن تقوم، فنسق {آوِي} على القوة؛ لأن معه (أن) مُقدرة وتلخيصه: لو أن لي أتقوى أو أن آوي، فلما فقد المستقبل (أن) وقع بالزيادة التي في أوله ومثله (¬6): للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلى من لبس الشفوف على تقدير لأن (¬7) ألبس وأن (¬8) تقر عيني، ومعنى {آوِي} أرجع ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 139، البغوي 4/ 192. (¬2) "تنوير المقباس" ص 143. (¬3) "تفسير مقاتل" 148 أ. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) في (ب): (معناه). (¬6) القائل ميسون بنت بحدل الكلبية، والبيت في: "الخزانة" 3/ 593، 621، السيوطي ص 224، "الدر" 2/ 100، "المحتسب" 1/ 236، "شرح شذور الذهب" ص 381، "سر صناعة الإعراب" 1/ 273، "شرح شواهد الإيضاح" ص 250، "اللسان" (مسن) 6/ 4205، "المقاصد النحوية" 4/ 397. (¬7) في (ي): (لا أن). (¬8) ساقط من (ي).

وأضم؛ يقال: فلان يأوي إلى قوة وإلى ثروة. وقوله تعالى: {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، الركن: كل ناحية قوية من نواحي الجبل والدار والقصر ونحو ذلك، وركن الرجل قوته وعُدده الذين يعتز بهم، وهو المراد في هذه الآية. قال ابن عباس (¬1) في قوله: {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}: يريد (¬2): من العشيرة أو مؤمنين معي. وقال ابن إسحاق (¬3): شيعة تمنعني وعشيرة تنصرني، وهذا قول جميع المفسرين وأهل التأويل: أن المراد بالركن الشديد هاهنا العشيرة، قال قتادة (¬4): وذكر لنا أن الله لم يبعث نبيًا بعد لوط إلا في عز من قومه ومنعة من عشيرته، وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه -عليه السلام- عني العشيرة" (¬5). قال أبو بكر: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يرجع إليه لوط من عون الله له ودفع المكروه عنه، وروى الأثرم (¬6) عن أبي عبيدة (¬7) في قوله: {إِلَى رُكْنٍ ¬

_ (¬1) هذا القول رواه الطبري 12/ 87 عن قتادة، وذكره البغوي 2/ 192، وأخرجه ابن أبي حاتم 6/ 2064 عن ابن عباس. وانظر: "الدر" 3/ 621. (¬2) ساقط من (ب). (¬3) الطبري 12/ 87، الثعلبي 7/ 52 أ. (¬4) الطبري 12/ 87. (¬5) أخرجه البخاري (3272) كتاب: الأنبياء، باب: قول الله -عز وجل-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} "الفتح" 6/ 473، وأخرجه مسلم رقم (151) كتاب: الإيمان، باب: زيادة طمأنية القلب بتظاهر الأدلة، وفي الفضائل ح (152) 4/ 1839، والترمذي (3116) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة يوسف. وقال حديث حسن، والطبري 12/ 87 - 88، والحاكم 2/ 561. وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. (¬6) هو: أبو بكر الأثرم صاحب الإمام أحمد. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 294.

81

شَدِيدٍ}. قال: إلى عشيرة عزيزة (¬1) كثيرة منيعة وأنشد (¬2): أو (¬3) آوي (¬4) إلى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ ... في عدد طَيسٍ ومجدٍ ثان الطيس الكثير، والثاني المقيم. وجواب (لو) محذوف. قال محمد بن إسحاق (¬5): لو أن لي بكم قوة معناه: لحُلْتُ بينكم وبين المعصية. وحذف الجواب هاهنا أبلغ (¬6)؛ لأنه يحضر النفس ضروب المنع، واستقصاء هذا قد سبق في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] (¬7). وهذه الآية بيان عن حال المحق إذا رأى منكرًا لا يمكنه إزالته من التحسير على قوة أو معين على دفعه لحرصه على طاعة ربه وجزعه من معصيته. 81 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}. قال المفسرون (¬8): لما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسبب الدفع عنهم، قالوا: ¬

_ (¬1) في (ب): (شديدة). (¬2) بيتان من الرجز وهما بلا نسبة. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 294، الطبري 12/ 88، "زاد المسير" 4/ 109، وهو فيها جميعًا هكذا (يأوي) وهو الصواب حتى لا ينكسر البيت. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) في (ي): (يأوى). (¬5) "زاد المسير" 4/ 139. (¬6) ساقط من (ي). (¬7) قال: وقد حذف الجواب تفخيمًا للأمر وتعظيمًا. وجاز حذفه لعلم المخاطب بما يقتضي. ونقل عن ابن جني ما يبين أن هذا أبلغ في اللغة من إظهار الجواب. انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 649. (¬8) الطبري 12/ 90، الثعلبي 7/ 52 أ، البغوي 4/ 192 - 193، "زاد المسير" 4/ 140.

يا لوط إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك، فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فضرب جبريل بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم وأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق، ولا يهتدون إلى بيوتهم، وذلك قوله [تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]، ومعنى] (¬1) {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} أي: بسوء ومكروه فإنَّا نحول بينهم وبين ذلك، وقالوا له: {فَاسْرِ بِأَهْلِكَ} وقرئ (¬2) بقطع الألف وهما لغتان، يقال: سريت بالليل وأسريت. وأنشد أبو عبيد لحسان (¬3): أسرت إليك ولم تكن تسري فجاء باللغتين، وجاء بيت النابغة (¬4): ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) قرأ ابن كثير ونافع {فاسر بأهلك} من سريت، بغير همز، وقرأ أبو عمرو وعاصم، وابن عامر وحمزة والكسائي {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} من أسريت. انظر: "السبعة" ص 338، "إتحاف" ص 259، "الكشف" 1/ 535، "الحجة" 4/ 367، الطبري 12/ 80، الثعلبي 7/ 52 ب. (¬3) عجز بيت، وصدره: إن النضيرة ربة الخدر "ديوانه" ص 96، "اللسان" (سرا) 4/ 2003، "المخصص" 9/ 48، 14/ 240، "تاج العروس" (سرا) وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" 3/ 154. (¬4) صدر بيت للنابغة الذبياني، وعجزه: تزجي الشمالُ عليه جامد البرد وسرت إذا أمطرت، وقوله: (من الجوزاء سارية) كقولك: سقينا بنوء كذا وكذا، أي. أصابة المطر ليلًا، و (تزجي) تسوق وتدفع على الثور جامد البرد، انظر: =

سرت إليه من الجوزاء سارية يروى بالوجهين سرت وأسرت. قال الأزهري: وهذا ما لا أعلم فيه بين أهل اللغة اختلافًا، فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ومن قرأ بوصل الألف (¬1) فحجته قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4]. وقوله تعالى: {بِأَهْلِكَ}، روى السدي عن (¬2) أبي مالك: لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه، الكبرى اسمها ربه والصغرى اسمها عروبة، فالأهل على هذا ابنتاه. وقوله تعالى: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}، ذكرنا معنى القطع في سورة يونس (¬3)، قال عطاء عن ابن (¬4) عباس: [يريد: في ظلمة الليل. وقال نافع بن الأزرق (¬5) لعبد الله بن عباس] (¬6): أخبرني عن قول ¬

_ = "ديوانه" ص 11 "شرح ابن السكيت"، "مجاز القرآن" 1/ 295، "مختار الشعر الجاهلي" 1/ 150، "اللسان" (سرت) 4/ 2003، القرطبي 9/ 79، "مجمل اللغة" 3/ 479. (¬1) في (ب): ومن قرأ بالوصل. (¬2) "زاد المسير" 4/ 141، وذكر أن اسم الكبرى (ريَّة) بالياء المثناة. (¬3) عند قوله تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [الآية 27]. وقال هناك: "القِطْع: اسم لما قطع فسقط، ويراد به هاهنا بعض من الليل". (¬4) الطبري 12/ 93، عن ابن عباس قال: جوف الليل، وفي رواية أخرى: بطائفة من الليل. وابن أبي حاتم 6/ 2065، وذكره عنهما السيوطي في "الدر" 3/ 623 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬5) هو: نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي، رأس الأزارقة وهي فرقة من الخوارج، كان أمير قومه وفقيههم صحب أول أمره ابن عباس وله معه أسئلة مشهورة. انظر: "تاريخ الطبري" 5/ 613، "الأعلام" 7/ 351. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

الله -عز وجل- (بقطع من الليل)، قال: هو آخر (¬1) الليل، بسحر (¬2). وقال قتادة (¬3): بعد طائفة من الليل. وقال بعض أهل المعاني: هو نصف الليل؛ فإنه قطع بنصفين. وقوله تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}، نهى من معه من الالتفات إذا خرجوا من قريتهم، قال مجاهد (¬4): لا ينظروا وراءهم كأنهم تعبدوا بذلك. وقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَكَ}، قرئ بالنصب (¬5) والرفع؛ فمن قرأ بالنصب -وهو الاختيار- جعلها مستثناة من الإهلال على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك، والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة (¬6) عبد الله (فأسر بأهلك إلا امرأتك) وليس بينهما {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}، ومن رفع المرأة حمله على (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك)، فإن قيل: على هذا هذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات؛ لأن القائل إذا قال: لا يقم ¬

_ (¬1) ابن الأنباري في "الوقف والابتداء" 1/ 85، وانظر: "الدر" 3/ 623، "زاد المسير" 4/ 142، مسائل نافع بن الأزرق في "الإتقان" 1/ 167. (¬2) في (ي): (سحرًا). (¬3) الطبري 12/ 93، عبد الرزاق 2/ 309. (¬4) الطبري 12/ 93، وابن أبي حاتم 6/ 2065، وابن المنذر كما في "الدر" 3/ 623، "زاد المسير" 4/ 142. (¬5) قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع، انظر: "السبعة" ص 338، "الكشف" 1/ 536، "إتحاف" ص 259، الطبري 12/ 80، الثعلبي 7/ 52 ب. (¬6) الطبري 12/ 89، الثعلبي 7/ 52 ب، البغوي 4/ 193، القرطبي 9/ 80، "الدر المنثور" 3/ 623.

منكم أحد إلا زيد، كان أمر زيدًا بالقيام. قال أبو بكر (¬1): معنى (¬2) {إِلَّا} هاهنا الاستثناء المنقطع على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت، فيصيبها ما أصابهم، فإذا كان الاستثناء منقطعًا كان التفاتها بمعصية منها لله -عز وجل-، ويؤيد هذه القراءة ما قال قتادة (¬3): ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت [هدة العذاب] (¬4) التفتت وقالت: يا قوماه، فأصابها حجر فأهلكها. وقال مقاتل بن سليمان (¬5): ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وهذا يدل على أنه خرج بامرأته ثم التفتت، ويقوى وجه الرفع؛ لأن من نصب لا يُجوِّز أن تكون خارجة (¬6) مع أهله؛ لأن الاستثناء يكون من الأهل، كأنه أمر لوط بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة في جملة من يهلك. قال أبو بكر: والاختيار النصب؛ لأن الناصبين أخرجوا المرأة من الأهل، فكان الاستثناء متصلًا، والرافعين جعلوا الاستثناء منقطعًا، والاتصال أولى من الانقطاع. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 142. (¬2) في (ي): (معناه). (¬3) "زاد المسير" 4/ 142، الطبري 12/ 90 - 91. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬5) "تفسير مقاتل" 48 أ، الطبري 12/ 89، الثعلبي 7/ 52 ب، البغوي 4/ 193، "زاد المسير" 4/ 142. (¬6) في (ي): حاله.

82

قال أبو علي (¬1): ويجوز في قول من نصب أن يكون الاستثناء من {وَلَا يَلْتَفِتْ} على قول من قال (ما جاءني أحد إلا زيدًا) وقد بينا هذا في قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} في قراءة من قرأ: {قَلِيلًا} (¬2)، وإن جعلت الاستثناء من {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} لم يكن إلا النصب، ووجه التفسير في قراءة من قرأ بالنصب ما قاله المفسرون (¬3): أن الملائكة قالوا للوط فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها وخلفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم. وقوله تعالى: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}، الكناية في قوله: {إِنَّهُ} كناية عن الشأن والأمر، تأويلها فإنَّ الأمر مصيبها ما أصابهم. وقوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}، [أي: للعذاب. قال عامة المفسرين (¬4): لما قالوا للوط إن موعدهم الصبح] (¬5)، قال: أريد أعجل من ذلك بل الساعة يا جبريل، فقال (¬6) له: أليس الصبح بقريب، قالوا: فخرج لوط بأهله عند طلوع الفجر، فلما طلع الفجر احتمل جبريل مدينتهم حتى أدناها من السماء بما فيها ثم نكسوا على رءوسهم وأتبعهم الله الحجارة. 82 - فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}. قال ابن عباس (¬7): ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 370. (¬2) قرأ بهذه القراءة ابن عامر، انظر: "السبعة" ص 235، "الكشف" 1/ 392. (¬3) الثعلبي 7/ 52 ب، الطبري 12/ 89 ورجحه، البغوي 4/ 193. (¬4) الثعلبي 7/ 52 ب، "زاد المسير" 4/ 142، البغوي 4/ 193، القرطبي 9/ 81. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) في (ي): (فقالوا). (¬7) الثعلبي 7/ 52 ب، "زاد المسير" 4/ 143، البغوي 4/ 193، القرطبي 9/ 81.

عذابنا، وعلى هذا يكون الأمر نفس الإهلاك. وقال آخرون (¬1): يعني: جاء أمرنا الملائكة بالعذاب. {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}، قال ابن عباس وعامة المفسرين (¬2): أدخل جبريل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط حتى قلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير، ونباح الكلاب، وصياح الديوك، لم ينكفئ لهم جرة، ولا ينكسر لهم إناء، ثم غشاها بالجناح الآخر بالحجارة، فذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: 53]، يريد: أهوى بها جبريل {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 54]، يريد غشاها جبريل بالحجرة وكانت خمس مدائن فدمرت وقلبت ظهرًا لبطن إلا (زغر) (¬3) وحدها تركها الله فضالا منه لعيال لوط، والكناية {عَالِيَهَا} تعود إلى المؤتفكة والمؤتفكات وهي مذكورة في موضع من القرآن وإن لم تذكر هنا، فإذا ذكرت قصتهم وأعيدت الكناية إليها عرف ذلك ويستغنى عن إعادتها. وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا}، الإمطار: إحدار المطر من السماء، وأنزلت الحجارة على هؤلاء بدل المطر، والكناية في عليها يجوز أن تعود على القرية (¬4) كما عادت في {عَالِيَهَا}، ويجوز أن تعود على قوم لوط؛ لأن العرب تُعيد الهاء والألف على جميع الذكران إذا كان غير مختص ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 89، "زاد المسير" 4/ 143. (¬2) الثعلبي 7/ 52 ب، البغوي 4/ 193، ابن عطية 7/ 369، "زاد المسير" 4/ 143، القرطبي 9/ 81. (¬3) زُغَر بوزن: زُفَر، قرية بمشارف الشام، وقيل: زُغَر اسم بنت لوط -عليه السلام-، نزلت بهذه القرية فسميت باسمها. انظر: "معجم البلدان" 3/ 142، 143. (¬4) في (ي): (قوم لوط).

بالواو والنون، و [الياء والنون] (¬1)، تقول: الرجال لقيتها والقوم حضرتها، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105]. فأنث الفعل، ويؤكد هذا الوجه قوله في الحجر: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} [آية: 74] فكنى عنهم بالهاء والميم. وقوله تعالى: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}؛ اختلفوا في السجيل، والذي عليه أعظم أهل التفسير أنه معرب عن (سنك كل) (¬2) وهو قول ابن عباس (¬3) وقتادة (¬4) وسعيد بن جبير (¬5). قال أهل اللغة (¬6): هذا فارسي، والعرب لا تعرف هذا. قال أبو إسحاق (¬7): والذي عندي في هذا التفسير أنه فارسي أعرب، ومن كلام الفرس ما لا يحصى مما قد أعربته العرب نحو جاموس وديباج، ولا ينكر أن يكون هذا مما أعرب. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) وضع على الكاف من كلا الكلمتين ثلاث نقط وذلك علامة على أن الكاف تنطق كالجيم القاهرية في اللغة الفارسية. انظر كتاب: "كيف تتعلم الفارسية". (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر" 3/ 624، وابن أبي حاتم 6/ 2068، والثعلبي 7/ 53 أ، البغوي 4/ 194، القرطبي 9/ 82. (¬4) المروي عن قتادة قوله السجيل: الطين، انظر: الطبري 12/ 94، عبد الرزاق 2/ 309، وأبا الشيخ كما في "الدر" 4/ 364، البغوي 4/ 194، القرطبي 9/ 82، الثعلبي 7/ 53 أ. (¬5) الطبري 12/ 94، الثعلبي 7/ 53 أ، "زاد المسير" 4/ 144، البغوي 4/ 194، القرطبي 9/ 82. (¬6) "تهذيب اللغة" (سجل) 2/ 1634. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 70.

وقد أعاد الله تعالى ذكر هذه الحجارة فقال: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} فقد سمَّى للعرب ما عني بسجيل، وهذا القول اختيار الفراء (¬1)، وابن قتيبة (¬2) قالا: {مِنْ سِجِّيلٍ} من طين قد طبخ حتى صار كالآجر فهو (سنك كل) بالفارسية، ونحو هذا قال الليث (¬3) في تفسير السجيل: إنه حجارة كالمدر وهو دخيل معرب، وقال الضحاك (¬4): يعني: الآجر. وقال الحسن (¬5): كأن أصل الحجارة طينًا، فشددت. وهذه الأقوال كلها سواء. وقال ابن زيد (¬6): {مِنْ سِجِّيلٍ} أي: من السماء الدنيا وهي تسمى سجيل. وقال عكرمة (¬7): هو بحر في الهواء معلق بين الأرض والسماء منه أنزلت الحجارة. وحكى الزجاج (¬8) عن بعضهم (¬9) أنه فعيل من أسجلته أي: أرسلته، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 24. (¬2) "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 212. (¬3) "اللسان" (سجل) 4/ 1946. (¬4) الثعلبي 7/ 53 أ، "زاد المسير" 4/ 144، البغوي 4/ 194، القرطبي 9/ 82. (¬5) الطبري 12/ 95، الثعلبي 7/ 53 أ، البغوي 4/ 194، القرطبي 9/ 82. (¬6) الطبري 12/ 94، الثعلبي 7/ 53 أ، "زاد المسير" 4/ 144، البغوي 4/ 194، القرطبي 9/ 82. (¬7) الثعلبي 7/ 53 أ، "زاد المسير" 4/ 144، القرطبي 9/ 82. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 71. (¬9) ساقط من (ي).

وكأنها (¬1) مرسلة عليهم، قال: وقيل سجيل: كقولك من سجل أي: مما كتب لهم أن يعذبوا بها، قال: وهذا القول أحسن الأقوال عندي. وقال أبو عبيدة (¬2): السجيل عند العرب: الشديد، وأنشد لابن مقبل (¬3): ضربًا تواصى به الأبطال سجينًا ورد هذا القول عليه من وجهين: أحدهما: قوله {مِنْ سِجِّيلٍ}، ولو كان معناه ما ذكر لقيل حجارة سجيلا، والآخر: ما ذكره ابن قتيبة (¬4)، فقال: لست أدرى ما (سجيل) من (سجين) وذلك باللام وهذا بالنون، وإنما سجين في بيت ابن مقبل فعيل من سجنت أي: حبست، كأنه ضربٌ يثبت صاحبه بمكانه أي: يحبسه مقتولا، وفعيل يأتي لمن دام منه الفعل، نحو فسيق وسكيت كذلك سجين ضرب يدوم منه الإثبات والحبس. وأما ابن الأعرابي (¬5) فإنه رواه سخينًا أي: سخنًا يعني: حارًّا. ¬

_ (¬1) في (ب): (وكأنه). (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 296. (¬3) عجز بيت لابن مقبل، وصدره: وَرَجلة يضربون البَيْض عن عُرُض رجلة: جمع رجل، البيض: جمع بيضة، هو الحديد الذي يلبس للوقاية في الحرب، وفي العجز "تواصت" انظر: "ديوانه" ص 333، "مجاز القرآن" 1/ 296، الطبري 12/ 94، "اللسان" (سجل) 4/ 1946، "جمهرة أشعار العرب" ص 310، "منتهى الطالب" ص 44، "المعاني الكبير" ص 991، "تهذيب اللغة" 2/ 1634، 2/ 1636، "جمهرة اللغة" ص 464، 1192، "مقاييس اللغة" 3/ 137، "مجمل اللغة" 2/ 487. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" ص 211. (¬5) "تهذيب اللغة" (سجن) 2/ 1636.

قال أبو بكر بن الأنباري (¬1): وهذا الإلزام لا يفسد قوله، أما زيادة (من)، فإن سجيلا وصف لموصوف مضمر معناه حجارة من عذاب سجيل، فلا ينكر على هذا دخول (من) ويجوز أن تدخل (من) في الكلام زيادة للتوكيد، كقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد: 15]، وقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31]، وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وأما إنكار ابن قتيبة عليه فقد فسر أبو عمرو (¬2) السجين في بيت ابن مقبل بأنه الشديد، فإذا صح الشديد في معنى السجين لم ينكر إبدال النون باللام كقول الشاعر (¬3): بكل مُدجَّج كالليث يسموا ... على أوصال ذيَّال رِفَنِّ أردا: رفل فأبدل اللام بالنون (¬4). وقوله تعالى: {مَنْضُودٍ} هو مفعول من النضد، وهو وضع الشيء بعضه على بعض، ومعناه في قول أكثر المفسرين: الذي يتلو بعضه بعضًا عليهم، فذلك نضده، ونحو هذا قال الزجاج (¬5)، وقال قتادة (¬6): ¬

_ (¬1) هذا القول ذكره النحاس في "معاني القرآن" 3/ 370. (¬2) "تهذيب اللغة" (سجل) 2/ 1634. (¬3) النابغة الذبياني في "ديوانه" ص 138، وبلا نسبة في "ديوان الأدب" 2/ 3، ونسبه في "اللسان" (رفن) 3/ 1697 إلى الجعدي وهو في "ديوانه" 249، "تهذيب اللغة" 1446 (زمن)، "مقاييس اللغة" 2/ 366، قال البطليوسي في "الاقتضاب" ص 339: هذا البيت للنابغة الجعدي، وهو من الشعر المنحول له. (¬4) ساقط من (ي). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 72. (¬6) الطبري 12/ 95، الثعلبي 7/ 53 ب، "زاد المسير" 4/ 145، القرطبي 9/ 83، عبد الرزاق 2/ 309.

{مَنْضُودٍ} المصفوف، وهذا القول كالقول الأول. وقال الربيع (¬1): هو الذي نضد بعضه على بعض، يعني: حتى صار حجرًا، يريد: أنه قد جمع أجزاؤه، ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان (¬2)، {مَنْضُودٍ}: الملزق بعضه ببعض، وقال أبو بكر الهذلي (¬3): معناه مُعَدّ للظَّلَمة. فقد حصل في المنضود ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحجارة بعضها فوق بعض في النزول تأتي تباعًا. الثاني: أن كل حجر منضود بجمع أجزائه، حتى صار بالقدر الذي أراد الله أن يكون على ذلك القدر. الثالث: أنها حجارة من سجيل منضود بعضه فوق بعض في السماء، مخلوق للظلمة، معد لهم، والذي أمطر (¬4) على قوم لوط كان من جملة تلك الحجارة المعدة التي نضد بعضها فوق بعض، وفي قوله {مَنْضُودٍ} دليل على صحة القول الأول في سجيل، وهو قول أكثر المفسرين؛ لأن المنضود من صفة السجيل، وإنما يصح أن يكون وصفًا له إذا كان السجيل مُعَرَّبًا من (سك كل) وعلى سائر الأقوال لا يصح أن يكون المنضود من ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 95، الثعلبي 7/ 53 ب، "زاد المسير" 4/ 145، القرطبي 9/ 83، عبد الرزاق 9/ 205. (¬2) "تفسير مقاتل" 148 أ. (¬3) الطبري 12/ 95، الثعلبي 7/ 53 ب، القرطبي 9/ 83. وأبو بكر الهذلي هو: البصري، اسمه سُلمى بن عبد الله، وقيل: اسمه روح، روى عن الحسن وابن سيرين والشعبي وعكرمة وهو ضعيف الحديث. توفي سنة 167 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 6/ 1005، "تهذيب التهذيب" 4/ 498. (¬4) في (ي): (أمطرنا).

83

نعت السجيل، إلا أن يقال على بُعد إنَّ المنضود من نعت قوله حجارة ولكن أجرِي في اللفظ والإعراب على سجيل بحق الجوار، كقولهم (¬1): حُجْر ضَبٍّ خَرِبٍ. وكقوله (¬2): كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مزمَّلِ 83 - قوله تعالى: {مُسَوَّمَةً} هي من نعت قوله: {حِجَارَةً} ومعناها المعلمة، ومضى الكلام في مثلها عند قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: 125] (¬3). وقوله: (مسومين) (¬4). واختلفوا في كيفية تلك العلامة، فقال الحسن (¬5) والسدي (¬6): ¬

_ (¬1) الشاهد أنهم أجروا خرب على ضب، وهو في الحقيقة صفة للحجر؛ لأن الضب لا يوصف بالخراب. انظر: "الإنصاف" لابن الأنباري ص 83. (¬2) عجز بيت لامرئ القيس، وصدره: كأن ثبيرًا في عرانين وَبْله انظر: "ديوانه" ص 122، السيوطي ص 298، "الخزانة" 2/ 327، 3/ 639، "الخصائص" 1/ 192، 3/ 221، "المحتسب" 2/ 135، "أمالي ابن الشجري" 1/ 134، "تذكرة النحاة" ص 308، "اللسان" (زمل) 3/ 1864، "مغني اللبيب" 2/ 515. (¬3) وذكر هنا أقوالًا في معنى (المسومة): 1 - الواعية. 2 - المعلمة. 3 - الحسان. (¬4) قال في هذا الموضع: أي معلمين، قد سوَّموا فهم مسوّمين، والسُّومة العلامة يفرق بها الشيء من غيره. (¬5) الثعلبي 7/ 53 ب، البغوي 4/ 194. (¬6) الطبري 12/ 96، الثعلبي 7/ 53 ب، البغوي 4/ 194.

مختومة، وهو اختيار أبي عبيدة (¬1)، والقتبي (¬2) قالا: كان عليها أمثال الخواتيم. وقال قتادة وعكرمة (¬3): كان بها نضح من حمرة، وهو قول أبي صالح (¬4)، والحسن (¬5)، واختيار الفراء (¬6)؛ قال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانئ، وهي حجارة فيها خطوط (¬7) حمر على هيئة الجَزْع. قال الحسن: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الفراء: زعموا أنها كانت مخططة بحمرة في بياض، وذلك تسويمها، وأجمل ابن جريج (¬8) القول في تلك العلامة ولم يذكر كيفيتها فقال: كانت (¬9) عليها سيما لا تشاكل (¬10) حجارة الأرض، واختاره الزجاج (¬11) قال: مسومة بعلامة يعلم بها أنها ليست من حجارة أهل الدنيا. ¬

_ (¬1) في (ب): (عبيد)، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 297. (¬2) هو ابن قتيبة، انظر: "مشكل القرآن وغريبه" ص 213. (¬3) الطبري 12/ 95، عبد الرزاق 2/ 309، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 625، "زاد المسير" 4/ 145. (¬4) "زاد المسير" 4/ 145. (¬5) "زاد المسير" 4/ 145. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 24. (¬7) في (ب): (خطط). (¬8) الطبري 12/ 95، الثعلبي 7/ 53 ب، "زاد المسير" 4/ 146، البغوي 4/ 194 وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 625. (¬9) ساقط من (ج). (¬10) ساقط من (ي). (¬11) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 72.

قال أهل المعاني: جعل فيها علامات تدل على أنها معدة للعذاب، وذلك أملأ للنفوس وأهول في الصدور، وقال الربيع (¬1): مكتوب على كل حجر اسم من رمي به. وقوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّكَ} أي: في خزائنه التي لا يُتصرف في شيء منها إلا بإذنه (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}، يعني: كفار قريش، قال مجاهد (¬3): يرهبهم بها، وقال قوم (¬4): يعني كل ظالم وكافر من ذلك الوقت إلى يوم القيامة، قال قتادة (¬5): والله ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط، وحكى الفراء (¬6): يعني: قوم لوط، أي أنها لم تكن لتخطئهم. قال ابن الأنباري على هذا القول: وإنما ذكر هذا بعد تبيين الله تعالى نزول العذاب بهم توكيدًا للمعنى السابق، كما قال: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، والأكثرون على أن المراد به من ظالمي هذه الأمة ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 53 ب وعزاه السيوطي لابن جرير وابن أبي حاتم 6/ 2069، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 625، وفي الطبري 12/ 96 عن الربيع قال: عليها سيما خطوط. وكذا عند ابن أبي حاتم. (¬2) "زاد المسير" 4/ 146. (¬3) الطبري 12/ 96، الثعلبي 7/ 53 ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2069، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 625. (¬4) رُوي عن عكرمة أيضًا كما في الطبري 12/ 96، والربيع أخرجه ابن أبي حاتم 6/ 2070، وأبو الشيخ عنه كما في "الدر" 3/ 625، وغيرهم. البغوي 4/ 194. (¬5) الطبري 12/ 96، الثعلبي 7/ 53 ب، وابن أبي حاتم 6/ 2070، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 626، والبغوي 4/ 194، و"زاد المسير" 4/ 146. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 25.

84

وهم كفارها، روي عن أنس أنه قال: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل (¬1) عن هذا فقال: يعني ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة (¬2). 84 - قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ} الآية، قد ذكرنا في سورة [الأعراف: 85] أن (مدين) اسم لابن إبراهيم (¬3)، ثم صار اسمًا للقبيلة، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن (مدين) اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم. قال ابن الأنباري: وإلى هذا المعنى ذهب الفراء (¬4) وأنشد (¬5): رهبان مدينَ لو رأوك تنزلوا ... والعُصْمُ من شَعَفِ العقول الفارد قال الزجاج (¬6): والمعنى على هذا: وأرسل إلى أهل مدين فحذف الأهل. ¬

_ (¬1) ساقط من (ب). (¬2) أخرجه الطبري عن قتادة 12/ 96، كما سبق، وأخرجه أيضًا عن أبي بكر الهذلي قال: يقول: "وما هي من الظالمين ببعيد" فلا يأمنها منهم ظالم، 15/ 440 رقم (18447). (¬3) في (ي): (ابن إبراهيم). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 304، ومدين مدينة على بحر القُلزُم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل. انظر: "معجم البلدان" 5/ 77. (¬5) القائل هو كثير، و (العُصْمُ) جمع الأعصم وهو الوعل، و (العقول) جمع عقل وهو الملجأ وشعف العقول رءوسها وأعاليها، والفارد: الوعل المسن أو الشاب، "معجم البلدان" (مدين) 5/ 77، "معاني القرآن" 2/ 304، وينسب لجرير وهو في "ديوانه" ص 308، "اللسان" (رهب) 3/ 1748، "تاج العروس" (رهب) 2/ 42، وقافيته (الفادر). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 72.

وقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، نهاهم عن التطفيف وبخس الحق في المكيال، وهو ما يكال به، والميزان وهو ما يوزن به، ونقص المكيال أن يجعله على حد هو أنقص مما هو المحدود والمعهود فيما بينهم، ونقص الميزان أن يجعل السنجات (¬1) التي يوزن بها أخف، وما يوزن به فهو ميزان، والسنجات يوزن بها (¬2)، ولا يتصور نقص الميزان في الكفتين. وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}. قال عامة المفسرين (¬3): يعني النعمة والخصب وكثرة المال وزينة الدنيا، ومعنى قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} بعد نهيهم (¬4) عن التطفيف يحتمل وجهين: أحدهما: ما قال المفسرون (¬5) أنه حذرهم غلاء السعر وزوال النعمة [إن لم يتوبوا فكأنه قال: لا تطففوا فيحل بكم العذاب وزوال النعمة] (¬6). والآخر: ما ذكره الفراء (¬7) قال: أراد: لا تنقصوا المكيال وأموالكم كثيرة يعني بعد أن أنعم الله عليكم برخص السعر وكثرة المال، فأي حاجة ¬

_ (¬1) السنجات التي توضع في "الميزان" لتبين قدر الموزون، ولقال: صنجة بالصاد وبالسين أفصح، فارسي معرب. انظر: "تهذيب اللغة" (سنج) 2/ 1768، "اللسان" (سنج) 4/ 2112. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) الطبري 12/ 99، الثعلبي 7/ 54 أ، "زاد المسير" 4/ 147. (¬4) في (ي): (نهيكم). (¬5) روى الطبري 12/ 98 - 99 هذا القول عن ابن عباس والحسن، البغوي 4/ 195، "زاد المسير" 4/ 147. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "معاني القرآن" 2/ 25.

85

بكم إلى التطفيف وسوء الكيل والوزن؟ وقوله تعالى: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}، توعدهم بعذاب يحيط بهم، فلا يفلت منهم أحد، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وهو في المعنى من صفة (¬1) العذاب (¬2)، وذلك أن يوم العذاب إذا أحاط بهم [فقد أحاط بهم] (¬3) العذاب (¬4). 85 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي: أتموها بالعدل، والإيفاء: الإتمام، والوفاء: التمام، وكل شيء بلغ التمام فقد وفي، وهذا يدل على صحة التفسير الذي ذكرنا في قوله: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}؛ لأنه قال أوفوا المكيال والميزان، ولو أراد إيفاء المكيل والموزون لقال: أوفوا بالمكيال والميزان. 86 - قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}. قال ابن عباس (¬5): ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، يعني: من تعجيل النفع بالبخس في المكيال والميزان، والمعنى على هذا القول: الذي يبقيه الله لكم من الحلال عند إعراضكم عن الحرام: أبقى (¬6) لأموالكم في الدنيا وأصلح لأحوالكم في الآخرة. ¬

_ (¬1) في (ي): (الموصوف). (¬2) ساقط من (ي). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) الطبري 12/ 101 نحوه. (¬5) ذكره الطبري 12/ 101 ثم قال: وهذا قول رُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضى عند أهل النقل، الثعلبي 7/ 54 أ، البغوي 4/ 195، "زاد المسير" 4/ 148. (¬6) في (ي): (أنمى).

وقال الحسن (¬1) ومجاهد (¬2): بقية الله: طاعة الله، وعلى هذا معني البقية: الطاعة والمسارعة إلى الخيرات؛ وذلك لأنه يبقى ثوابها أبدًا. وقال قتادة (¬3): حظكم من ربكم خير لكم. قال ابن الأنباري: وتفسير البقية على هذا التأويل حظهم من الله وما يجب عليهم من تطلب (¬4) رضاه بما يتعبدهم به، سميت بقية؛ لأنها تبقى ولا تبيد. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قال أهل المعاني (¬5): شرط الإيمان في كونه خيرًا لهم؛ لأنهم (¬6) إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة ما يقول، وأيضًا فإنه يكون خيرًا لهم إذا كانوا مؤمنين. وقوله تعالى: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}، ذهب بعضهم أنه قال هذا؛ لأنه لم يؤمر بقتالهم وإكراههم (¬7) على الإيمان، وقد أحكمنا شرح هذا في ¬

_ (¬1) المروي عن الحسن هو قوله: (رزق الله خير لكم من بخسكم الناس) أخرجه أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 627، وابن أبي حاتم 6/ 2072. (¬2) الطبري 12/ 100، الثعلبي 7/ 54 أ، البغوي 4/ 195، وابن أبي حاتم 6/ 2072. (¬3) الطبري 12/ 101، عبد الرزاق 2/ 311، وابن أبي حاتم 6/ 2072، وأبو الشيخ، كما في "الدر" 3/ 626، "زاد المسير" 4/ 149. (¬4) في (ي): (التطلب). (¬5) "زاد المسير" 4/ 149. (¬6) ساقط من (ي). (¬7) يفهم من هذا أن من الأنبياء من أمر أن يكره قومه على الإيمان، ونصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. وقال: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]. فالدين ليس فيه إكراه لأنه يلزم فيه الإختيار، فلو آمن ظاهرًا خوفًا أو طمعًا فلا يصح إيمانه. انظر: الطبرى 12/ 28 - 29، 101.

87

سورة الأنعام في قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104] (¬1)، في آخر هذه الآية قال بعض أهل المعاني: إن شعيبًا دعاهم إلى حفظ النعمة بترك المعصية، ثم قال: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: لا يحفظ النعمة عليكم إلا الله -عز وجل-، ولست الذي أحفظها عليكم فاتقوه بطاعته يحفظها عليكم. 87 - وقوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، وتقرأ (أصلاتك) على واحدة، وتوجيه القراءتين (¬2) ذكرناه في سورة براءة (¬3)، قال عطاء عن ابن عباس (¬4): يريدون دينك يأمرك، وعلى ¬

_ (¬1) وخلاصة ما ذكره أنه قد جاءهم الحق الواضح البيّن الذي لا يحتاج معه إلى إكراه لأن مهمته البلاغ. (¬2) قرأ حفص وحمزة والكسائي بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، وحجة من وحّد أن (الصلاة) بمعنى الدعاء، والدعاء صنف واحد وهي مصدر والمصدر يقع للقليل والكثير بلفظه، وحجة من جمع أنه قدر أن الدعاء مختلف أجناسه وأنواعه فجمع المصدر لذلك، انظر: "الكشف" 1/ 507، "السبعة" ص 317، "إتحاف" ص 259. (¬3) عند قوله تعالى: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [براءة: 103]. ونقل في توجيه القراءة ما ذكره أبو علي حيث قال: "الصلاة مصدر يقع على الجميع والمفرد بلفظ واحد، كقوله سبحانه: {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، فإذا اختلفت جاز أن يجمع، لاختلاف ضروبه، كما قال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}. ومن المفرد الذي يراد به الجمع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، والمصدر إذا سمي به صار بالتسمية وكثرة الاستعمال كالخارج عن حكم المصادر، وإذا جمعت المصادر إذا اختلفت نحو قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} فأنْ يُجْمَع ما صار بالتسمية كالخارج عن حكم المصادر أجدر. (¬4) "زاد المسير" 4/ 149 عن عطاء.

هذا كنى عن الدين بالصلوات؛ لأنها من الدين مما كانوا يرونه يفعلها تدينًا، والمعنى: أفي دينك الأمر بذا؟ وهو معنى قول الحسن (¬1)، ورُوي عن ابن عباس (¬2) أيضًا أنه قال: كان شعيب كثير الصلاة (¬3) لذلك قالوا هذا. وقوله تعالى: {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}. قال الزجاج (¬4): وهذا دليل (¬5) على أنهم كانوا يعبدون غير الله -عز وجل-. قال صاحب النظم: قوله: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} وليس للصلاة أمر ولا نهي، وهذا يحمل على أن تكون الصلاة (¬6) سببًا للفعل المتصل بها، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] من أجل صلاته؛ لأن الصلاة من الإيمان والإيمان مانع منهما، فقد صارت الصلاة سببًا للامتناع منهما، فيصح على هذا الترتيب أن يقال: الصلاة مانعة من ذلك وآمرة به، وكذلك قوله: {أَصَلَاتُكَ} أي: من أجل أنك تصلي تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، أي: صلاتك تحملك على ذلك؟ فلذلك جاز أن يضاف الأمر إليها، فأما قوله: {تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} أوقع الأمر على شعيب وهو في المعنى واقع على قومه، والتأويل: أصلاتك تأمرك أن تأمرنا أن نترك، فلما ذكر معنى الأمر أولًا اقتصر عليه ولم يُعد ذكره. ¬

_ (¬1) القرطبي 9/ 87. (¬2) الثعلبي 7/ 54 أ، البغوي 4/ 195، "زاد المسير" 4/ 149، القرطبي 9/ 87. (¬3) في (ي): (الصلوات). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 72. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) ساقط من (ب).

وقوله تعالى: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقد خلوا وماتوا وجاءت الحكاية عن فعلهم على وزن الاستقبال، والتأويل: إن شاء الله أن نترك ما كان يعبد آباؤنا، ومثله قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي كانت تتلوا. وقوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ}، قال ابن الأنباري (¬1): (أن) منسوقة على (ما) في قوله {مَا يَعْبُدُ} على تقدير أو نترك أن نفعل وهذا قول الفراء (¬2) والزجاج (¬3)، وزاد الفراء قولًا آخر شرحه أبو بكر، وهو: أن تكون (أن) منصوبة بفعل مضمر يراد به تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وتنهانا أن نفعل، فدل الأمر على النهي، فحذف كما حذف البرد لما دل عليه الحر في قوله {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬4)، ومعنى قوله {أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} قال الكلبي (¬5): أي من البخس والظلم ونقص المكيال والميزان، وهو اختيار الزجاج (¬6)؛ قال: المعنى: إنا قد تراضينا بالبخس فيما بيننا. وقال ابن عباس (¬7) في رواية عطاء: يريد قطع الدنانير والدراهم، وهو ¬

_ (¬1) في (ي): (ابن عباس)، وانظر: "زاد المسير" 4/ 150. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 52. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 73. (¬4) النحل:81. (¬5) نقله ابن الجوزي عن ابن عباس، "زاد المسير" 4/ 150، وانظر: "تنوير المقباس" 144. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 73. (¬7) "البحر المحيط" 5/ 253 عن ابن المسيب.

قول القرظي (¬1) وزيد بن أسلم (¬2)؛ قالوا: كان ينهاهم عن ذلك. وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، قال ابن عباس (¬3). يريدون: السفيه الجاهل، وعلى هذا كنوا بالحليم الرشيد عن السفيه الجاهل. قال أبو بكر: وهذا التفسير مشاكل للغة (¬4)؛ لأن العربي يقول لمخاطبه إذا استحمقه: يا عاقل من يقول هذا غيرك؟ يريد يا أحمق، ويقول لمن يستجهله: يا حليم فكر (¬5) فيما تسمع، يعني يا جاهل. قال الشاعر (¬6): فقلت لسيدنا يا حليم ... إنك لم تأس أسواء (¬7) رفيقًا فآخر البيت يدل على أنه استجهله وخاطبه بالحلم كانيا عن غيره، وهذا قول مقاتل بن سليمان (¬8) قال: معناه: إنك لأنت السفيه الضال، وقال الحسن وابن جريج (¬9) والكلبي وابن زيد وأكثر أهل التأويل: هذا ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 102، "زاد المسير" 4/ 150، وابن المنذر كما في "الدر" 3/ 627، "البحر المحيط" 5/ 253. (¬2) الطبري 12/ 102، "زاد المسير" 4/ 150، القرطبي 9/ 88، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 627. (¬3) الثعلبي 7/ 54 ب، البغوي 4/ 195، "زاد المسير" 4/ 150. (¬4) في (ب): (اللغة). (¬5) ساقط من (ب). (¬6) البيت لشييم بن خويلد كما في "اللسان" (خفق) 2/ 1214. (¬7) في (ب): (تأسوا سواء). (¬8) "تفسير مقاتل" 148 ب. (¬9) الطبري 12/ 103.

88

على طريق الاستهزاء بشعيب. وقال ابن كيسان (¬1): هذا على طريق الصحة، قالوا له: إنك فينا حليم رشيد فليس يليق بك شق عصا قومك ومخالفة دينهم. 88 - قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، مضى هذا في موضعين من هذه السورة (¬2). وقوله تعالى: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}، قال ابن عباس وأكثر المفسرين (¬3): يعني حلالا، وروى الكلبي (¬4): أن شعيبًا كان كثير المال، قال ابن الأنباري: اعتد بكثرة المال نعمة من الله تعالى لما كان حلالاً سليمًا من التبعات، وقال جماعة من المفسرين: الرزق الحسن هاهنا: الهدى والتوفيق للرشد. قال أبو إسحاق (¬5) وغيره: جواب (إن) هاهنا محذوف لعلم المخاطب، المعنى: إنْ كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال، [أتّبع الضلال فأبخس وأطفف، يريد أن الله قد أغناه بالمال الحلال] (¬6) وذكرنا معنى هذا الشرط في قصة نوح (¬7). ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 54 ب، "زاد المسير" 4/ 150، ورجحه القرطبي 9/ 87. (¬2) هود 28، 63. (¬3) انظر: الطبري 12/ 103، البغوي 4/ 196، "زاد المسير" 4/ 151، القرطبي 9/ 89، "البحر المحيط" 5/ 254. (¬4) ذكره في "زاد المسير" 4/ 151 وعزاه لابن عباس، وذكره البغوي 4/ 196 ولم يعزه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 33، وانظر الثعلبي 7/ 54 ب، "زاد المسير" 4/ 151 البغوي 4/ 196. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) عند قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28].

قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، [قال ابن عباس (¬1): يريد وما أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه] (¬2)، وقال قتادة (¬3): لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه، ومعنى هذا القول أنه يقول: لا أنهى عن قبيح وأفعله كمن ليس مستنظرًا (¬4) فيه، قال أبو إسحاق (¬5): أي لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه، وإنما أختار لكم ما أختار لنفسي، وتلخيص معنى اللفظ: وما أخالفكم بالقصد إلى [ما أنهاكم عنه؛ يقال: خالفه إلى] (¬6) ذلك الأمر إذا أتاه (¬7) مخالفًا له. وقال أبو بكر: بَيَّنَ أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله، وترك البخس والتطفيف، هو مما يرتضيه لنفسه ولا ينطوي إلا عليه، فكان بهذا ماحضًا لهم النصيحة، إذ اختار لهم ما اختاره لنفسه. وقوله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} أي ما أريد إلا الإصلاح فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده وتفعلوا كما يفعل من يخاف الله، قاله ابن عباس. قوله تعالى: {مَا اسْتَطَعْتُ}، مفعول الاستطاعة محذوف تقديره ما استطعته، أي ما استطعت الإصلاح، واستطاعة الإصلاح هو الإبلاغ ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 144. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) الطبري 12/ 103، البغوي 4/ 196، "زاد المسير" 4/ 151، الثعلبي 7/ 54 ب، ابن أبي حاتم 6/ 2074، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 627. (¬4) في (ي): (مستنصرًا)، ولعل الصواب "مستبصرًا". (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 73. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) في (ب): (أراه).

والإنذار فقط، ولا يستطيع إجبارهم على الطاعة، وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬1)؛ لأنه قال في قوله {مَا اسْتَطَعْتُ}: أي بقدر طاقتي، [وقدر طاقتي] (¬2) إبلاغكم وإنذاركم، ولست قادرًا على إجباركم على الطاعة، ثم أعلم أنه لا يقدر هو ولا غيره على الطاعة إلا بتوفيق الله جل وعز، فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، أي أرجع إليه في المعاد في قول ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4). وقال الحسن (¬5): إليه أرجع بعملي ونيتي، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر شعيبًا قال: "ذاك خطيب الأنبياء" (¬6) لحسن مراجعته قومه. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 73. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) الثعلبي 7/ 54 ب، البغوي 4/ 196، القرطبي 9/ 90. (¬4) الطبري 12/ 103، والبغوي 4/ 196، وابن أبي حاتم 6/ 2074، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 628. (¬5) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 244. (¬6) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 620 عن محمد بن إسحاق قال: "وشعيب بن ميكائيل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعثه الله نبيًا، فكان من خبره، وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكره قال: "ذاك خطيب الأنبياء لمراجعته قومه" سكت عنه الذهبي في "التلخيص"، وفيه سلمة بن الفضل بن الأبرش، قال في "الميزان": 2/ 192: (ضعفه ابن راهويه، وقال البخاري: في حديثه بعض المناكير، وقال ابن معين: كتبنا عنه وليس في المغازي أتم من كتابه، وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو حاتم: لا يحتج به). والحديث ذكره السيوطي في "الدر" 3/ 504 وقال: أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر شعيبًا =

89

89 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، قال ابن عباس (¬1) والحسن (¬2) وقتادة (¬3): لا يحملنكم، وقال الفراء (¬4) والزجاج (¬5): لا يكسبنكم، وقد مرَّ في سورة المائدة (¬6). قوله تعالى: {شِقَاقِي} أي خلافي وعداوتي. وقوله تعالى: {أَنْ يُصِيبَكُمْ}، (أن) في محل النصب؛ لأنه المفعول الثاني لقوله: {يَجْرِمَنَّكُمْ}. ومعنى الآية (¬7): لا تكسبنكم معاداتكم إياي أن يصيبكم عذاب العاجلة {مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح العقيم {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من الرجفة والصيحة. {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}، قال ابن عباس (¬8): يريد (¬9): قد كنتم ¬

_ = قال: "ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يرادهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلاده، وعتوا على الله، أخذهم عذاب يوم الظلة ... إلخ". (¬1) ذكر هذا القول من غير عزو الثعلبي 7/ 54 ب، البغوي 4/ 196. (¬2) القرطبي 9/ 90. (¬3) الطبري 12/ 104، والقرطبي 9/ 90، وابن أبي حاتم 6/ 2074، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 628. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 26. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 74. (¬6) عند قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [آية: 2]. (¬7) ساقط من (ي). (¬8) إسحاق بن بشر، وابن عساكر كما في "الدر" 3/ 628 - 629. (¬9) ساقط من (ي).

لهم جيرانا وقرابة، وقد رأيتم ما أصيبوا به وما صاروا إليه من سخط الله وعذابه، فعلى هذا أراد: ليسوا ببعيد في الدار والنسب. وقال قتادة (¬1): {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} في الزمان الذي بينكم وبينهم، واختاره الزجاج فقال (¬2): كان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها، فكأنه قال لهم: العظة في قوم لوط قريبة منكم. قال ابن الأنباري: فعلى القول الأول (¬3) كأنه يقول (¬4): إنكم للعذاب الواقع بهم أذكر وأحفظ منكم لما لحق الأمم السالفة؛ لأن دارهم أقرب إلى داركم، فبحفظكم ذلك يلزمكم الإشفاق والحذر من مثل مصرعهم، وعلى القول الثاني كأنه يقول: إن وقتهم أقرب إليكم من أوقات من مضى من المهلكين، ولقرب وقتهم منكم ما يجب أن تراعوا وتحاذروا، ووحد البعيد (¬5) على القول الأول؛ لأنه أراد: وما قوم لوط منكم بمكان بعيد، ويجوز أن يكون وَحَّده على لفظ القوم؛ لأنه على لفظ الواحد، وأنشد (¬6): لو أن قومي حين تدعوهم حمل على الجبال الصم لارفض الجبل ولم يقل حملوا. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 104، عبد الرزاق 2/ 311، "الدر" 3/ 629، ابن أبي حاتم 6/ 2075 بنحوه. (¬2) ساقط من (ي)، وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 74. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) في (ب): (قال). (¬5) قاله ابن الأنباري انظر: "زاد المسير" 4/ 151 (¬6) بيتان من الرجز لم أهتد إلى قائلهما. انظر: "شرح المفصل" 9/ 80.

90

90 - قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}، قال أهل المعاني: معناه: اطلبوا المغفرة بأن تكون غرضكم، ثم توصلوا إليه بالتوبة، وهو ترتيب حسن وقد مرَّ هذا في أول السورة (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ}، قال ابن عباس (¬2): بأوليائه ومن صدق أنبياءه. {وَدُودٌ} (¬3)، قال الفراء (¬4): يقال (¬5): ودِدت أوَد هذا أفضل الكلام وقال بعضهم وددت و (يفعل) منها يود لا غير، قال الكسائي (¬6): وسمعت ودَدت بالفتح وهي قليلة، وأنكر البصريون ودَدت وهو لحن عندهم. قال الزجاج (¬7): قد علمنا أن الكسائي لم يحك وددت إلا وقد سمعه، [ولكنه سمعه] (¬8) ممن لا يكون قوله حجة. قال ابن الأنباري (¬9): الودود في أسماء الله المجيب لعباده، من قولهم: وددت الرجل أوده وَدا ووُدا ووَدادا ووِدادًا ووِدادة ووَدادة. ¬

_ (¬1) آية:4. (¬2) "تنوير المقباس" ص 144. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) "تهذيب اللغة" (ود) 4/ 3857. (¬5) ساقط من (ي). (¬6) "تهذيب اللغة" (ود) 4/ 3857 ولم أجده من كلام الكسائي بل هو من كلام الفراء. (¬7) "تهذيب اللغة" (ود) 4/ 3857. (¬8) ساقط من (ي). (¬9) "الزاهر" 1/ 88، 89، "زاد المسير" 4/ 152، "تهذيب اللغة" 4/ 3858، "لسان العرب" (ود) 8/ 4794، وفيها (المحب لعبادة).

91

وقال الأزهري (¬1) من كتاب "شرح أسماء الله": قال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون ودودٌ فعولًا بمعنى مفعول، كركوب وحلوب (¬2) ومعناه: أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه؛ لما (¬3) عرفوا من فضله ولما سبغ عليهم من نعمائه، وكلتا الصفتين مدح؛ لأنه جل ذكره إنْ أحب عباده المطيعين فهو فضل منه، وإنْ أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من إحسانه. 91 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} الآية، معنى الفقه في اللغة (¬4): فهم الكلام بما تضمن من المعنى، وقد صار اسمًا لضرب من علوم الدين، فمعنى الفقه في اللغة الفهم، يقال: أوتي فلانٌ فقهًا في الدين، أي فهما، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقهه في الدين" (¬5) (¬6) أي فقهه تأويله، ¬

_ (¬1) الكتاب مفقود، ذكره ياقوت "معجم الأدباء" 17/ 164، وأورده الداودي في طبقات المفسرين (2/ 65) بلفظ تفسير الأسماء الحسنى، وسماه صاحب "كشف الظنون" 2/ 50: "شرح أسماء الله الحسنى". (¬2) في (ي): (حمول). (¬3) في (ي): (بما). (¬4) "تهذيب اللغة" (فقه) 5/ 404، 405. (¬5) في (ي): التأويل. (¬6) أخرجه البخاري (143) كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، بلفظ "اللهم فقهه في الدين" وأخرجه أحمد في أربعة مواضع بلفظ (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) 4/ 127 برقم 2397، و4/ 315 برقم 2881، و5/ 15 برقم 3033، و5/ 41 برقم 3102، وصححه أحمد شاكر في جميع المواضع السابقة، وأخرجه بلفظ (اللهم فقهه في الدين) دون زيادة (وعلمه التأويل) 5/ 12 برقم 3023، وصححه أحمد شاكر. وأخرجه الطبراني في الكبير 10/ 291 بلفظ (اللهم أعطه الحكمة، وعلمه التأويل) =

ونحو هذا قال ابن عباس والمفسرون (¬1) في قوله {مَا نَفْقَهُ}: ما نفهم. فإن قيل: إن شعيبا كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا ما نفقه؟ قال أبو بكر (¬2): فيه جوابان: أحدهما (¬3): ما نفقه صحة كثير مما تقول، يعنون ما يذكر من التوحيد والبعث والنشور، وما يلزم من الزكاة، ويحظر من التطفيف، فزعموا أن هذا مما لا يفهمون صحته إذ كانوا منكرين دين شعيب، فحذفت الصحة وقام "كثير" مقامها، والثاني: أنهم كانوا يستثقلون سمع بعض (¬4) ما يأتي به عن ربه تعالى من ذم الكفار وعيب ما يرتكبون، فكانوا كأنهم لا يفقهونه، كما تقول لمن تكره كلامه: ما أفهم ما تقول، وما أستطيع أن أسمع كلامك، وأنت [في الحقيقة] (¬5) تفهم وتستطيع، إلا أن هذا باب من المجاز، استعملته العرب وعرف في خطابها. وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}، قال سعيد بن جبير (¬6) وقتادة (¬7): أعمى. ¬

_ = قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 450: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. ورواه الطبراني في موضع آخر 10/ 293 بلفظ (اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين). (¬1) البغوي 4/ 197، القرطبي 9/ 91، ابن عطية 7/ 384. (¬2) "زاد المسير" 4/ 152. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) ساقط من (ي). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) الطبري 12/ 105، وأبو الشيخ وابن عساكر كما في "الدر" 3/ 629، و"زاد المسير" 4/ 152، والقرطبي 9/ 91، وابن أبي حاتم 6/ 2076. (¬7) "زاد المسير" 4/ 152، القرطبي 9/ 91 وروي هذا القول ابن أبي حاتم 6/ 2076 عن سعيد بن جبير، والحاكم 2/ 568 وصححه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس، "الدر" 3/ 629.

وقال سفيان (¬1): كان ضعيف البصر، وقال الزجاج (¬2): حمير تسمي الضرير ضعيفًا؛ لأنه قد ضعف بذهاب بصره. وقوله تعالى: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}، قال أبو عبيد (¬3) عن أبي زيد: النفر والرهط [ما دون العشرة من الرجال، وقال أبو العباس (¬4): المعشر والنفر والقوم والرهط] (¬5) معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم، وهذا (¬6) للرجال دون النساء، وقال الليث (¬7): الرهط عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة، قال المفسرون (¬8): لولا عشيرتك. وقوله تعالى: {لَرَجَمْنَاكَ}، قال الأزهري (¬9): الرجم القتل، وقد جاء في غير موضع من كتاب الله تعالى، وإنما قيل للقتل رجم؛ لأنهم كانوا (¬10) إذا قتلوا إنسانًا رموه بالحجارة حتى يموت، ثم قيل لكل قتل رجم، والرجم السب والشتم؛ ومنه قوله تعالى {لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] أي ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 105، والثعلبي 7/ 55 أ، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 129 بلفظ قال: كان أعمى، والقرطبي 9/ 91. وابن أبي حاتم 6/ 2076 بلفظ كان ضعيفًا. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 74. (¬3) "تهذيب اللغة" (رهط) 2/ 1488. (¬4) "تهذيب اللغة" (رهط) 2/ 1488. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) في (ي): (وهو). (¬7) "تهذيب اللغة" (رهط) 2/ 1488. (¬8) الطبري 12/ 106، الثعلبي 7/ 55 أ، الزجاج 3/ 74، البغوي 4/ 197، القرطبي 9/ 91، ابن عطية 7/ 385. (¬9) "تهذيب اللغة" (رجم) 2/ 1375. (¬10) في (ي): (قالوا).

92

لأسبنك ولأشتمنك، والرجم: القول بالظن، ومنه قوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] والرجم اللعن، والشيطان الرجيم من هذا. قال ابن عباس (¬1) في قوله: {لَرَجَمْنَاكَ}: لقتلناك. قال الزجاج (¬2): والرجم من شر القتلات، وقال قوم من المفسرين (¬3): لشتمناك وسببناك وطعنا عليك. قال أبو إسحاق (¬4): وكان رهطه من أهل ملتهم؛ فلذلك أظهروا الميل إليهم، والإكرام لهم. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}، قال ابن عباس: يريد (¬5): ما أنت علينا بمنيع. 92 - وقوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}، قال ابن عباس (¬6): يريد أمنع عليكم من الله، المنيع القوي، قال الزجاج (¬7): وتأويله: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكرامًا لرهطي، والله -عز وجل- أولى بأن يتبع أمره، كأنه يقول: حفظكم إياي في الله أولى منه في رهطي. ¬

_ (¬1) أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر كما في "الدر" 3/ 628، الثعلبي 7/ 55 أ، البغوي 4/ 197. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 74. (¬3) رجحه الطبري 12/ 106، "زاد المسير" 4/ 153، القرطبي 9/ 91، ابن عطية 7/ 385. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 74. (¬5) "زاد المسير" 4/ 153، القرطبي 9/ 91 من غير نسبه. (¬6) "زاد المسير" 4/ 153 بنحوه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 74.

وقوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، قال الليث (¬1): الظهري الشيء الذي تنساه وتغفل عنه، قال ابن عباس (¬2): يريد ألقيتموه خلف ظهوركم وامتنعتم من قتلي مخافة قومي، والله أعز وأكبر من جميع خلقه. قال الفراء (¬3): يقول رميتم أمر الله وراء ظهوركم، يعني تعظمون أمر رهطي، وتتركون أن تعظموا الله وتخافوه. وقال ابن الأنباري (¬4): الظهري يقصد به هاهنا إلى الإهمال [والاطّراح تقول العرب: سألت فلانا حاجة فظهر بها] (¬5)، وسألته حاجة فجعلها ظهرية، أهملها وطرحها (¬6) ولم يلتفت إليها. وأنشد للفرزدق: تميمَ بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي ... بظهر فلا يخفى عليّ جوابُها قال: معناه: لا تكون مهملة مطرحة، وقال قتادة (¬7) في هذه الآية: أعززتم قومكم وظهرتم بربكم، قال أبو بكر: يريد بقوله ظهرتم: أهملتم وأعرضتم عن طاعته، وجميع أهل (¬8) المعاني قالوا: الكناية في قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} تعود إلى أمر الله، وما جاءهم به شعيب من الله تعالى، وهو في الظاهر يعود على اسم الله تعالى، ولكنه يعرف بالمعنى أن المراد منه ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (ظهر) 3/ 2255. (¬2) الطبري 12/ 106. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 26. (¬4) "الأضداد" 255. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) ساقط من (ي). (¬7) الطبري 12/ 106 - 107. (¬8) "معاني الفراء" 2/ 26، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 298، "معاني الزجاج" 3/ 75، "معانى النحاس" 3/ 377.

93

الأمر، كما تقول العرب: جعلتني خلف ظهرك ودبر أذنك، يريدون: جعلت أمري وحاجتي وكلامي. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي خبير بأعمال العباد حتى يجازيهم، في قول جميع المفسرين (¬1). 93 - قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمله، قال ابن عباس: يريد اعملوا ما أنتم عاملون، وذكرنا هذا مستقصى في سورة الأنعام (¬2). قال أهل المعاني: هذا تهديدٌ بصيغة الأمر، يقول: اعملوا على ما أنتم عليه، إني عامل على ما أنا عليه من طاعة الله، وسترون منزلتكم من منزلتي، وهذا معنى قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}، وأسقط الفاء هاهنا من {سَوْفَ}، وفي سورتي الأنعام [آية 135] والزمر [آية 39] فسوف. قال ابن الأنباري (¬3): وهما مذهبان معروفان للعرب وكلاهما صواب في القياس، إذا دخلت الفاء دلت على اتصال ما بعدها بما قبلها، وإذا سقطت بني الكلام على التمام، والذي بعده على الابتداء؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا} [البقرة: 67] معناه: (فقالوا)، فحذفت (¬4) الفاء بناء على تمام (¬5) ما قبلها واستئناف ما بعدها، وإنما يمكن هذا في القرآن والشعر؛ لتطاول القصص والأخبار فيهما، فأما الألفاظ ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 108، "زاد المسير" 4/ 153، ابن عطية 7/ 387. (¬2) آية 135. وخلاصة ما ذكره ما نقله ابن عباس هنا. (¬3) "زاد المسير" 4/ 153. (¬4) في (ي): حذفت. (¬5) في (ي): إتمام.

القصار فلا يصلح سقوط الفاء كقول القائل: (قد قلت القبيح فيّ فستعلم عاقبته)، لا يجوز أن تسقط الفاء هاهنا؛ لأنه كلام قصير لا يتم فيه الأول ويستأنف الثاني، و (منْ) في محل النصب بقوله: {تَعْلَمُونَ}. وقوله تعالى: {عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي يفضحه ويذله، وذلك أن العذاب يقع على وجهين؛ عذاب (¬1) فاضح وعذاب غير فاضح فالفاضح، أشد. وقوله تعالى: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ}، قال الفراء (¬2): إنما أدخلت العرب (هو) في قوله {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} لأنهم لا يقولون (من قائم) ولا (من قاعد)، إنما كلامهم: (من يقوم) و (من قام) أو (من القائم)، فلما كان قوله {كَاذِبٌ} غير معرفة ولا فعل أدخلوا (هو)، قال: وقد يجوز في الشعر (مَنْ قائم) وأنشد (¬3): مَنْ شاربٌ مُرتجٌ بالكأس نادمني ... لا بالحَصور ولا فيها بسوَّار وقوله تعالى: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}، معنى الارتقاب: الانتظار، وهو طلب ما يأتي بتعليق النفس به، رقبه يرقبه رقوبًا، وارتقب ارتقابًا، وترقبه ترقبًا، قال ابن عباس (¬4) يريد: ارتقبوا العذاب إني مرتقب من الله الرحمة والثواب. ¬

_ (¬1) في (ي): هذا عذاب. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 26. (¬3) القائل هو الأخطل، والحصور: البخيل الممسك، والسوار: الذي تسور الخمرة في رأسه سريعًا، فهو يعربد ويثب على من يشاربه. "ديوانه" 168، "معاني الفراء" 2/ 26، "المحتسب" 2/ 241، "اللسان" (حصر) 2/ 896، (سور) 4/ 2147، "إصلاح المنطق" 142، "بغية الوعاة" 1/ 105، وبلا نسبة في "تذكرة النحاة" 332، و"مجالس ثعلب" 1/ 577. (¬4) "زاد المسير" 4/ 154، القرطبي 9/ 92.

94

94 - وقوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، قال المفسرون (¬1): صاح بهم جبريل صيحة فماتوا في أمكنتهم. 95 - وقوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ}، قال الزجاج (¬2): المعني أنهم قد بعدوا من رحمة الله، قال: وهو منصوب على المصدر، المعنى: أبعدهم الله فبعدوا بعدًا. وقوله تعالى: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}، يقال: بعِد يبعَد إذا بعد في الهلاك ولا تستعمل في الحي، وبعُد يبعُد ضد قرب وتستعمل في الحي، والمصدر فيهما جميعًا البُعْد، ويقال في مصدر بعد يبعد: بَعَدًا. وقوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} دليل على أن (¬3) مصدره البُعْد، وكذلك قول الشاعر (¬4): يقولون لا تَبْعَدْ وهم يدفنونني ... وأين مكان البُعْد إلا مكانيا قال ابن الأنباري (¬5): العرب تقول: بعُد الطريق يبعُد وبعِد الميت يبعَد، ومنهم من يسوي بينهما، والأكثر هو الأول، وروى الكلبي عن ابن عباس (¬6) قال: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 108، الثعلبي 7/ 55 ب، البغوي 4/ 197، "زاد المسير" 4/ 154، "معاني الزجاج" 3/ 75. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 76. (¬3) ساقط من (ب). (¬4) القائل هو مالك بن الريب. انظر: "ديوانه" 93، "الخزانة" 1/ 319، "اللسان" (بعد) 1/ 310، "شرح شواهد المغني" 2/ 630. (¬5) "البحر المحيط" 6/ 204. (¬6) "زاد المسير" 4/ 153.

96

صالح، فأما (¬1) قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم. 96 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا}، قال ابن عباس (¬2): يريد التوراة وما أنزل الله فيها من الفرائض والأحكام، قال الزجاج (¬3): أي بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته. وقوله تعالى: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حجة بينة وبرهان يتسلط به على إبطال قول من خالفه، مخلص من التلبيس والتمويه. قال ابن عباس (¬4): يعني عصاه التي جعل الله فيها عذابا ونقمة؛ ليس يقوم لها جميع الخلائق، ولا يقوى عليها أحد. قوله تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}، أي أمرهم بعبادته واتخاذه إلها فاتبعوا ما أمرهم به، {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}، أي بمرشد إلى خير. قال ابن عباس (¬5): يريد لم يرشد قومه ولا من اتبعه. قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يقال: قَدَمَ فلانٌ فلانًا يَقْدُمُه قَدمًا، وزاد الزجاج (¬6): قدومًا، ويقدم وأقدم واستقدم بمعنى واحد، والمعني: أنه (¬7) يقدمهم إلى النار، يدل على هذا قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) القرطبي 9/ 93. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 76. (¬4) القرطبي 9/ 93 ولم ينسبه. (¬5) انظر الطبري 12/ 209، "زاد المسير" 4/ 155 (¬6) "معاني القرآن وإعرابه " 3/ 76. (¬7) في (جـ): (أنهم).

أي أدخلهم النار، والمعنى (فيوردهم)، وذكر بلفظ الماضي لتحققه وتأكد وجوده كأنه قد مضى، قال ابن عباس: يريد كما تَقَدَّم قومه في الدنيا [إلى البحر] (¬1) فأغرقهم، وقوله تعالى: {وَبِئْسَ} أي النار. قال أبو بكر (¬2): وذكَّر (بئس النار) لتذكير الوِرْد كما تقول: نعم المنزل دارك (¬3)، ونعمت المنزل دارك، من ذكّر غلب المنزل، ومن أنث بني على تأنيث الدار، ويقال أيضًا: نعمت الدار منزلك، [ونعم الدار منزلك] (¬4). وقوله تعالى: {الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} قال الكلبي (¬5) ومقاتل (¬6) والمفسرون (¬7): المدخل المدخول. قال ابن السكيت (¬8): الوِرْد وُرُود القوم الماء، [والوِرْد الماء] (¬9) الذي يورد، والورد الإبل الواردة، فعلى هذا الورد يجوز أن يكون مصدرًا بمعنى الورود (¬10) كقول الشاعر (¬11): ¬

_ (¬1) في (ي): (في الغرق). (¬2) ساقط من (ي) وانظر: "زاد المسير"4/ 155. (¬3) ساقط من (ب). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) "تنوير المقباس" 144. (¬6) "تفسير مقاتل" 149 أ. (¬7) الطبري 12/ 110، الثعلبي 7/ 55 ب، البغوي 4/ 198، "زاد المسير" 4/ 155. (¬8) "تهذيب اللغة" (ورد) 4/ 3869. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬10) في (ي): (الورد). (¬11) لم أقف عليه، وهو من الطويل.

99

إذا القوم قالوا وردهن ضحى غدا ... تواهفن حتى وردهن طروق يصف إبلا قدّر أنها ترد الماء في وقت الضحى فوردته (¬1) قبل ذلك ليلاً لقوتهن وفضل نشاطهن، ويجوز أن يكون في {الْوِرْدُ} (¬2) بمعنى الموضع والشيء الذي يورد عليه كالماء وغيره، والذي في هذه الآية يراد به الموضع الذي يورد، وهو بمعنى المفعول، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعلين كقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86] أي واردين، وهو في الأصل مصدر ثم يُسمى به المفعول والفاعل. قال ابن الأنباري (¬3): الورد مصدر معناه: الورود تجعله العرب بمعنى الموضع المورود كالذي في هذه الآية، وتلخيص المعنى (¬4) (بئس الشيء الذي يورد النار). 99 - قوله تعالى {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} يعني في الدنيا، في قول الجميع، قال الكلبي (¬5) ومقاتل (¬6) والمفسرون (¬7): لعنة الدنيا الغرق، ولعنة الآخرة عذاب جهنم، وقال أهل المعاني (¬8): اللعنة في الدنيا يعني بها لعن المسلمين والصالحين إياهم في حياتهم، واللعنة في ¬

_ (¬1) في (ي): (ردته). (¬2) في (ب): (الورود). (¬3) "زاد المسير" 4/ 155. (¬4) في (ي): الآية. (¬5) "زاد المسير" 4/ 156، القرطبي 9/ 94. (¬6) "تفسير مقاتل" /149 أ، "زاد المسير" 4/ 156 (¬7) الطبري 12/ 110، "الدر" 3/ 631، البغوي 1/ 198، ابن عطية 7/ 392. (¬8) "زاد الميسر" 4/ 156.

الآخرة ما يَقْدَمون عليه من عذاب الله، وقوله تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وذكر أبو علي (¬1) في انتصابه وجهين (¬2) أحدهما: أن يكون التقدير: ولعنة (¬3) يوم القيامة، فحذف المصدر وأقيم اليوم مقامه فانتصب انتصاب المفعول به، والآخر: أن يكون {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} محمولًا على موضع في {هَذِهِ} كما قال (¬4): إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدًا ومثل هذه الآية قوله تعالى في القصص: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] ونذكرها في موضعها إن شاء الله. وقوله تعالى: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، الرفد معناه في اللغة (¬5): العطاء والمعونة، وكل شيء أعنت به غيرك فهو رفد، يقال: [رفد يرفده] (¬6) رَفْدًا ورِفْدًا بفتح الراء وكسرها، ويقال: الرفد بالكسر اسم وبالفتح مصدر، وسميت اللعنة هاهنا رفدًا؛ لأنه جعل بدلا منها، كما يقال عتابك السيف وتحيتك الشتم، يذهب إلى أنه بدل منه وواقع موقعه. قال أبو عبيدة (¬7) في قوله {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}: بئس العون المعان. ¬

_ (¬1) "الحجة" 1/ 27، 28. (¬2) في (ي): (على وجهين). (¬3) في (ي): ولكنه. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (رفد) 3/ 1437. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 298.

100

وقال قتادة (¬1) في تفسير هذه الآية: ترافدت عليهم لعنتان من الله، لعنة الدنيا ولعنة الآخرة. وقال مجاهد (¬2). رُفِدوا يوم القيامة بلعنة أخرى زيدوها، فتانِك لعنتان. وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، فقال (¬3): هو اللعنة بعد اللعنة، قال الزجاج (¬4): وكل شيء جعلته عونا لشيء فقد رفدته به، فعلى هذه الأقوال معنى الرفد هاهنا: اللعنة التي لعنوا بها في الدنيا، ثم وصف هذا الرفد بأنه مرفود أي مشفوع معانٌ بلعنة الآخرة (¬5). 100 - قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى}، قال أهل المعاني (¬6): الإشارة بقوله {ذَلِكَ} تعود إلى النبأ الذي تقدم، وقد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن (ذلك) يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة، كقوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]. وقوله تعالى: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}، أراد: ومنها حصيد؛ لأن ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 111، البغوي 4/ 198، عبد الرزاق 2/ 312، ابن أبي حاتم 6/ 2081. (¬2) الطبري 12/ 110، وابن أبي حاتم 6/ 2081. وانظر: "الدر" 3/ 631. (¬3) أخرجه ابن الأنباري في "الوقف والابتداء"، والطسي عن ابن عباس كما في "الدر" 3/ 631. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 77. (¬5) في (ي): (أخري). (¬6) الطبري 12/ 112، "زاد المسير" 4/ 156

101

الحصيد غير القائم. قال أبو إسحاق (¬1): أي من القرى التي أهلكت: (قائم) أي: بقيت حيطانه، {وَحَصِيدٌ}: مخسوف وما قد محي أثره، وعلى نحو هذا دار كلام المفسرين. قال ابن عباس (¬2): {قَائِمٌ}: ينظرون إليه وإلى ما بقي من أثره، و (حصيد) قد خرب ولم يبق له أثر. قال ابن الأنباري: الحصيد هاهنا عني به الاستئصال بالهلكة ويعقبه الأثر، كالزرع إذا حصد وأزيل عن موضعه، ومن هذا قوله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15]. 101 - قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، قال المفسرون (¬3): وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم ولا من الرزق، ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله، وقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} أي ما نفعتهم (¬4) وما دفعت عنهم (¬5)، {الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي التي يعبدون سوى الله وغيره. وقوله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}، ابن عباس (¬6) وغيره من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 77. (¬2) الطبري 12/ 112، الثعلبي 7/ 55 ب، البغوي 4/ 198، القرطبي 9/ 95. (¬3) الطبري 12/ 113، الثعلبى 7/ 56 أ، ابن عطية 7/ 394. (¬4) في (ي): (ولا). (¬5) ساقط من (ي). (¬6) روي هذا القول الطبرى 12/ 113 عن ابن عمر ومجاهد وقتادة. وذكره في "زاد المسير" 4/ 156 عن ابن عباس "تنوير المقباس" ص 145.

102

المفسرين (¬1) يقولون: غير تخسير، وأبو عبيدة (¬2) وأهل اللغة يقولون: هو الإهلاك، والتباب الهلاك، وأحدهما قريب من الآخر، وذكرنا معنى التخسير في هذه السورة (¬3). قال ابن الأنباري (¬4): في قوله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} قولان؛ أحدهما: (وما زادتهم عبادتها غير تتبيب) فحذفت العبادة على حذف المضاف، والآخر: أن الآلهة زادتهم بلاءً، وإن كانت من الموات؛ لأنهم ادعوا أن عبادتهم إياها [تنفعهم عند الله، فلما جرى الأمر بخلاف ما قدروا] (¬5) وصفها الله بأنها زادتهم بلاءً وهلاكًا وخسارًا (¬6). 102 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ}، أي وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعقاب أخذ ربك إذا أخذ القرى، ومعنى أخذ الله نقلهم إلى جهة عقابه. {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} من صفة القرى وهي في الحقيقة لأهلها ومن كان يسكنها، ونحو هذا قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}، [القصص: 58] يعني أن أهلها بطروا المعيشة، ويكون هذا من باب حذف المضاف. 103 - قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}، يعني: ما ذكر من عذاب الأمم ¬

_ (¬1) في (ي): (قال ابن عباس والمفسرون). (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 339. (¬3) عند قوله تعالى {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63]. (¬4) انظر: "الزاهر" 1/ 466. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي) (¬6) ساقط من (ي).

104

الخالية وإهلاكهم {لَآيَةً} (¬1)، قال ابن عباس (¬2): لعبرة وعظة {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} {ذَلِكَ} يعني يوم القيامة، وقد سبق ذكره [في قوله تعالى] (¬3): {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99] {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}؛ لأن الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم. {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}، قال ابن عباس (¬4): يشهده البر والفاجر، وقال آخرون (¬5): يشهده أهل السماء وأهل الأرض، قال أبو إسحاق (¬6): أعلم الله أنه يحيي الخلق ويبعثهم في ذلك اليوم ويشهدون. 104 - قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}، قال المفسرون (¬7): وما نؤخر ذلك اليوم فلا نقيمه عليكم إلا لوقت معلوم لا يعلمه أحد غير الله، وقال أبو علي (¬8): أي ما نؤخر إحداثه، وهو كما قال؛ لأن ذلك اليوم لم يحدثه الله (¬9) بعدُ، فتأخيره (¬10) تأخير إحداثه. ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) الطبري 12/ 114، الثعلبي 7/ 56 أ، البغوي 4/ 199، "زاد المسير" 4/ 157، القرطبي 9/ 96 من غير نسبة. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬4) "زاد المسير" 4/ 156، القرطبي 9/ 69. (¬5) أخرجه الطبري 12/ 115 عن الضحاك، الثعلبي 7/ 256، البغوي 4/ 199، "زاد المسير" 4/ 157 القرطبي 9/ 69. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 77. (¬7) الطبري 12/ 115، الثعلبي 7/ 56 أ، البغوي 4/ 199، "زاد المسير" 4/ 157، ابن عطية 7/ 497 القرطبى 9/ 96. (¬8) "الحجة" 4/ 75. (¬9) ساقط من (ي). (¬10) في (ي): (تأخيره).

105

105 - وقوله تعالى: (يوم يأتي) ويقرأ {يَأْتِ} (¬1) بحذف الياء، قال الفراء (¬2): كل ياء أو واو يسكنان وما قبل [الواو مضموم وما قبل] (¬3) الياء مكسور، فإن الحرب تحذفها وتجتزئ بالضمة من الواو وبالكسرة من الياء، وأنشد (¬4): كفاك كفٌّ لا تُلِيقُ درهمًا ... جودًا وأخرى تُعْطِ بالسيف الدما وقال الزجاج (¬5): هذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيراً، وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدر فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة. قال أبو علي الفارسي (¬6): قوله: {يَوْمَ يَأْتِ}، فاعل يأتي لا يخلو من أن يكون اليوم الذي أضيف (¬7) إلى يأتي، أو اليوم المتقدم ذكره، فلا يجوز ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي "بياء" في الوصل ويحذفونها في الوقف، غير ابن كثير فإنه يثبت الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة بغير "ياء" لا في وصل ولا وقف. انظر: "السبعة" 338، "الإتحاف" ص 261، "الحجة" 4/ 373، الطبري 2/ 115. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 27. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) الشاهد بلا نسبة في: "الإنصاف" 329، "اللسان" (ليق) / 4115، "الأشباه والنظائر" 1/ 23 "أمالي ابن الشجري" 2/ 228، "الخصائص" 3/ 90، 133، "معاني القرآن" 2/ 27، 118، 3/ 260، الطبري 12/ 116، وقوله "لا تليق" يقال: ألاقه أي حبسه، يصفه بالجود والغلظة على عدوه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 77. (¬6) "الحجة" 4/ 373 - 378 بتصرف. (¬7) في (ي): (إليه).

أن يكون فاعله اليوم الذي أضيف إلى يأتي؛ لأن اليوم هو الفاعل، فلا يجوز أن يضاف إلى فعل نفسه، ألا ترى أنك لا تقول: جئتك يوم يسرك، على أن يكون فاعل السرور اليوم، ويجوز أن يكون جئتك يوم يخرج زيد؛ لأن المعنى فيه: يوم خروج زيد، فتضيف المصدر إلى الفاعل فيتعرف اليوم بفعل مضاف إلى فاعل غير اليوم. وإذا قلت: (يوم يسرك) يكون معناه وتقديره: (يوم سروره إياك)، ويصير كأنك عرفت اليوم بنفسه؛ لأن الفعل يعرفه الفاعل، واليوم مضاف إلى الفعل المعروف باليوم، وحدُّ جواز هذا أن يكون الظرف مضافا إلى فعل معرف [بفاعل نحو قولك: يوم يخرج زيد، فاليوم معرف] (¬1) بالفعل، والفعل معرف بالفاعل، وإذا قدرت الظرف فاعلاً يعرف به الفعل، والفعل هو الذي يعرف الظرف، كأنك إنما عرفت الظرف بنفسه؛ لأنك أضفته إلى الفعل المعرف به (¬2) فصار هذا نظير قولك: هذا يوم حره، تريد: حر اليوم، ويوم برده، فلا يصح أن يعرف اليوم بشيء مضاف إلى اليوم، وليس هذا (¬3) مثل سيد قومه، فتضيفه إلى ما هو مضاف إليه؛ لأن قومه وما أشبه ذلك شيء معروف يقصد إليه، وقولك يوم سروره زيدًا ويوم يسرك إنما هو مضاف إلى فعل، وإنما يقوم الفعل بفاعله، ليس أن الفعل شيء منفصل يقصد إليه في نفسه، و (واحد أمه)، و (عبد بطنه)، مضافان إلى الأم والبطن، وكل واحد منهما ظاهر يقوم بنفسه، وكذلك لا يجوز أن [تضيف الظرف إلى جملة معرف ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬2) ساقط من (ي). (¬3) ساقط من (ي).

يضمره (¬1) وإن كانت ابتداءً وخبرًا؛ لا يجوز أن] (¬2) تقول: (آتيك يومَ ضحوتُه باردة)، ولا (ليلةَ أولها مطير)، فإن نوّنت في هذا وفي الأول حتى يخرج من حد (¬3) الإضافة جاز، فقلت: آتيك يومًا ضحوته باردة، وآتيك يومًا يسرك. وهذا قول أبي عثمان، فإذا لم يجز أن يكون (يوم) في قوله {يَوْمَ يَأْتِ} [فاعل يأتي] (¬4) ثبت أن في (يأتي) ضمير اليوم المتقدم ذكره في قوله: {لِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}، وتقديره: يوم يأتي هذا اليوم الذي تقدم ذكره {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ}، واليوم في قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} هو المراد به الحين والبرهة، ليس (¬5) وضح النهار. فأما قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون حالاً من الذكر الذي في {يَأْتِ}، ونقدر فيه ضميرًا يرجع إلى ذي الحال، وتقديره: يوم يأتي ذلك اليوم غير متكلم فيه نفس، ومن قدَّر هذا التقدير كان أجدر بأن يحذف الياء من {يَأْتِ}؛ لأنه كلام مستقل (¬6) فيشبه (¬7) -من أجل ذلك- الفواصل وإن لم يكن فاصلة، كما أن حذف الياء من قوله: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] لما كان كلامًا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب (معرفة بضميره) أي معرفة بضمير عائد على الظرف. حتى يستقيم السياق. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) في (ي): (وجه). (¬4) ساقط من (ب). (¬5) في (في): (بإضافة على). (¬6) في (ب): (مستقبل). (¬7) ساقط من (ي).

تامًّا أشبه الفواصل فحسن الحذف له. الضرب الثاني: أن يكون قوله: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} صفة اليوم المضاف إلى {يَأْتِ}؛ لأن اليوم في (يوم يأتي) مضاف إلى الفعل، والفعل نكرة، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يوسف به اليوم، كما يوسف النكرة بالجملة من الفعل والفاعل، والمعنى: لا تكلم فيه نفس، فحذف فيه أو حذف الحرف وأوصل الفعل إلى المفعول به، ثم حذف الضمير من الفعل الذي هو صفته، كما يحذف من الصلة، ومثل ذلك قولهم: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت. وعلى هذا أيضًا لا يمتنع حذف الياء من في {يَأْتِ}؛ لأن الصفة قد يستغني عنها الموصوف كما أن الحال كذلك، إلا أن من الصفات ما لا يحسن أن يحذف فيصير لذلك أشبه بغير الكلام التام، فأما إثبات الياء في الوصل والوقف وإسقاطها؛ فمن أثبتها في الوصل فهو القياس البين؛ لأنه لا شيء يوجب حذف الياء إذا وصل، وأما من حذف في الوقف فلأنها -وإن لم تكن فاصلة- أمكن أن تشبه بالفاصلة قياسا عليها؛ لأن هذه الياء تشبه الحركة؛ لأن الجازم يسقطها كما يسقط الحركة، فكما أن الحركة تحذف في الوقف، فكذلك ما أشبهها، ومن وقف بالياء فهو حسن؛ لأنها أكثر من الحركة في الصوت، فلا ينبغي إذا حذفت الحركة للوقف أن تحذف الياء له، كما لا تحذف سائر الحروف، ويدل على أن الياء (¬1) تنزل عندهم منزلة سائر الحروف تقديرُهم الحركة فيها في نحو (¬2): ¬

_ (¬1) في (ب): (تترك). (¬2) صدر بيت لقيس بن زهير العبسي، وعجزه: =

ألم يأتيك والأنباء (¬1) تنمي فكأنهم قدروا أنها (¬2) كانت متحركة ثم سكنت للجزم كسائر الحروف، وتحريكهم لها في الشعر يدل أيضًا على (¬3) أنها عندهم بمنزلة سائر الحروف، وذلك نحو قول الشاعر (¬4): فيومًا يوافين الهوى غير ماضِيٍ وأما من حذف في الوصل والوقف، فلأنه جعلها بمنزلة ما استعمل محذوفًا مما لم يكن ينبغي في القياس أن يحذف، نحو ولم يكُ ولا أدر (¬5). ¬

_ = بما لاقت لبون بني زياد قالها في إبل للربيع بن زياد العبسي، استاقها قيس وباعها بمكة؛ لأن الربيع كان قد أخذ منه درعًا ولم يردها عليه. انظر: "شعره" 29، "الكتاب" 2/ 32، "حاشية النوادر" ص 523، "سر صناعة الإعراب" 78، 631، "الإيضاح" للفارسي ص 233، "الإنصاف" ص 22، "الدر المصون" 6/ 397، "الخصائص" 1/ 333، "شرح شواهد الشافية" ص 48، "الحجة" 1/ 93. (¬1) في (ب): (ألم تأتيك الأنباء). (¬2) ساقط من (ي). (¬3) ساقط من (ي). (¬4) صدر بيت لجرير من قصيدة هجا بها الأخطل، وعجزه: ويومًا ترى منهن غُولًا تَغَوَّلُ ويُروى (ماضيًا) مكان ماض أي من غير ميل منهن إليَّ، وتغول: تتلون. انظر: "الديون" 455، "النوادر" 203، "الحجة" 1/ 325، "الكتاب" 3/ 314، "المقتضب" 1/ 144، "خزانة الأدب" 8/ 358، "الخصائص" 3/ 159، "شرح المفصل" 10/ 101، "اللسان" (غو) 6/ 3318، (مضى) 7/ 4222. (¬5) نهاية النقل عن "الحجة" 4/ 373 - 378 بتصرف.

106

وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ} أي من الأنفس في ذلك اليوم؛ لأن النفس في قوله: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} لم يرد به واحداً، فصار كقوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وقوله تعالى: (شقي) يقال: شقي (¬1)، يشقى، شقاء، وشقاوة، وشِقْوة، وأصل معنى الشقاء في اللغة: الشدة والعسرة يقال: شاقيت فلانا مشاقاة (¬2): إذا عاسرته وعاسرك قال (¬3): إذا تشاقى الصابرات لم يرث يعني: جملاً يصابر جمالًا على شدة المشي والتعب، قال ابن عباس (¬4): {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ} كتبت عليه الشقاوة، {وَسَعِيدٌ} كتبت عليه السعادة. 106 - قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِير}، قال الليث (¬5): الزفر والزفير أن يملأ الرجل صدره غمًا ثم هو يزفر به، فالزفير إخراج النفس، والشهيق رد النفس. يقال شهق يشهق، وبعضهم يقول: شهوقًا، ونحو هذا روى أبو عبيد (¬6) عن أبي زيد، وهو قول جميع أهل اللغة، والإنسان إذا زفر فمد نفسه للإخراج ارتفع صدره وانتفخ جنباه، ومن هذا يقال للفرس: إنه عظيم الزفرة، أي عظيم الجوف. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (شقو) 2/ 1908، "اللسان" (شقى) 4/ 2304. (¬2) في (ب): (مشاقة). (¬3) الرجز بلا نسبة في اللسان (شقا) 4/ 2304، "تهذيب اللغة" 8/ 1902، "أساس البلاغة" (شقو)، "تاج العروس" (شقي) وبعده: يكاد من ضعف القوى لا ينبعث (¬4) الثعلبي 7/ 56 ب، "زاد المسير" 4/ 158. (¬5) "تهذيب اللغة" (زفر) 2/ 1537، (شهق) 2/ 1946. (¬6) "تهذيب اللغة" (زفر) 2/ 1537 (شهق) 2/ 1946.

وأنشد للجعدي (¬1): خِيطَ على زَفْرَةٍ فتمَّ ولم ... يَرْجع إلى دِقةٍ ولا هَضَمِ يقول: كأنه زافر أبدًا من عظم جوفه، فكأنه زفر فخيط على ذلك، وقال ابن السكيت (¬2) في قول الراعي (¬3): حوزيَّة طويت على زفراتها ... طي القناطر قد نَزَلن نُزُولًا يريد كأنها زفرت ثم خَلِقتْ على ذلك. وقال أبو إسحاق (¬4): هما من أصوات المكروبين المحزونين، وحكي عن أهل اللغة جميعًا أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته، ونحو هذا قال المفسرون. قال الضحاك (¬5) ومقاتل (¬6): الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته (¬7) ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" 37، "الخصائص" 2/ 168، "اللسان" (هضم) 8/ 4673، "شرح شواهد الشافية" للبغدادي/ 48، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي/ 165، "تهذيب اللغة" (زفر) 2/ 1538. (¬2) "تهذيب اللغة" (زفر) 2/ 1538. (¬3) أبو جندل، تقدمت ترجمته. والبيت في "ديوانه" 218، "تهذيب اللغة" (زفر) 2/ 1538، "تاج العروس" (زفر)، و"أساس البلاغة" (زفر)، و"المعاني الكبير" 140، و"اللسان" (زفر) 3/ 1841، وينسب للأعشى في اللسان (حوز) 2/ 1046، و"تاج العروس" (حوز) 8/ 57، وليس في ديوانه. وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" 918. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 79 بمعناه، و"تهذيب اللغة" (شهق) 2/ 1946. (¬5) الثعلبي 7/ 56 ب، البغوي 4/ 200، "زاد المسير" 4/ 158. (¬6) "تفسير مقاتل" 149 ب، وفيه (زفير: آخر نهيق الحمار، شهيق في الصدر أول نهيق الحمار)، الثعلبي 7/ 56 ب، البغوي 4/ 200، "زاد المسير" 4/ 158. (¬7) في (ف): (والشهيق آخر صوته حين يفرغ).

107

إذا ردده في الجوف، وقال أبو العالية (¬1): الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، ويبين هذا قول رؤبة (¬2): حَشْرَجَ في الجوفِ صهيلا أو شَهقْ ... حتى (¬3) يقالَ ناهقٌ وما نَهَقْ وكلام ابن عباس قريب مما قاله أهل اللغة والمفسرون، فإنه قال (¬4): الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال في رواية عطاء في قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} يريد: ندامة ونفسا عاليًا (¬5) وبكاء لا ينقطع. 107 - قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، الأكثرون من أهل المعاني والتفسير على أن قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} للتأبيد (¬6) والمراد به خالدين فيها أبدًا. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 116، الثعلبي 7/ 56 ب، البغوي 4/ 200، "زاد المسير" 4/ 159، وفي "تهذيب اللغة" (شهق) 2/ 1946 عن الربيع. (¬2) البيت من قصيدة له يصف فيها حمار الوحش، وفيه (سحيلاً) وليس "صهيلًا"، و"حشرج" ردد الصوت في حلقة ولم يخرجه، و"السحيل" الصوت الذي يدور في صدر الحمار في نهيقه، قاله في "اللسان". انظر: "ديوانه" ص 106، "اللسان" (حشرج) 2/ 884، الطبري 15/ 479، القرطبي 9/ 98، "البحر المحيط" 5/ 251، "الدر المصون" 6/ 390، "تاج العروس" (حشرج) 3/ 326. (¬3) ساقط من (ب). (¬4) الطبري 12/ 116، الثعلبي 7/ 56 ب، البغوي 4/ 200، "زاد المسير" 4/ 159. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) الطبري 12/ 117، البغوي 4/ 200، "زاد المسير" 4/ 159، ابن عطية 7/ 401، القرطبي 9/ 99.

قال الضحاك (¬1): ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك وأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك وثبت فهو أرض. وقال الحسن (¬2) أراد: ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا. وقال ابن قتيبه (¬3): للعرب في معنى الأبد ألفاظ يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل، وما دامت السماء والأرض، في أشباه كثيرة لهذا، يريدون: لا أفعله أبدًا، فخاطبهم الله بما يستعملون. وقال ابن الأنباري (¬4): إن الله تعالى خاطب العرب على ما تعقل، ومن ألفاظهم في التأبيد أن يقولوا: لا أفعل ذلك ما دامت السموات والأرض، وما أن السماء سماء، وما بلَّ بحر صوفة (¬5)، وما ناحت الحمام وتغنت، وما أطت الإبل، وما اجترت الناب (¬6)، وما لألأت الفور (¬7) فلما ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 56 ب، البغوي 4/ 200، القرطبي 9/ 99. (¬2) الثعلبي 7/ 56 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 6/ 2086، وأبو الشيخ عن الحسن قال: "تبدل سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السموات وتلك الأرض" "الدر" 3/ 634. (¬3) "مشكل القرآن وغريبه" 1/ 213. (¬4) "زاد المسير" 4/ 159. (¬5) "البيان والتبيين" 3/ 7. (¬6) في (ب): (النار). (¬7) في الثعلبي 7/ 57 أ "وما لألأت العُفْر بأذنابها". ويقال "ما لألأت الفوز بأذنابها" أي لا أفعل ذلك ما حركت الظباء أذنابها. انظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 281، "اللسان" (لأ لأ، فور)، "سمط اللآلئ" ص 5، وفيه (ما لألأت العفر).

كانوا يستعملون هذه الألفاظ ظنًّا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، خاطبهم الله على سبيل ذلك فقال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} عندكم وليست عندنا دائمة، كما قال -يعني أبا جهل-: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي عند نفسك، فأما عندنا فلا. فعلى هذا القول معنى الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}؛ قال الفراء: (¬1) هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، فكذلك قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، ولا يشاؤه. هذا كلامه وزاده أبو بكر بيانا فقال: يجوز أن يكون الاستثناء ذكره الله تعالى وهو لا يريد أن ينقصهم من الخلود شيئًا، كما يقول الرجل لغلامه: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوي إلا ضربه، فمعنى الاستثناء منه أني لو شئت أني لا أضربك لقدرت، غير أني مجمع على ضربك، وكذلك معنى الآية خالدين فيها أبدًا إلا أن يشاء ربك، وهو لا يشاء إلا تخليدهم، فوقع الاستثناء على معنى لو شاء أن لا يخلدهم لقدر، والدليل على أن الاستثناء هاهنا لا يعود إلى (¬2) نقص الخلود أن الله تعالى بين في مواضع من كتابه أنه يخلد الكافرين في النار، والمؤمنين في الجنة، فإذا ذكر في هذه الآية الاستثناء، كان ذلك استثناء لا يكون ولا يوجد، فجرى مجرى قول العرب: والله لأهجرنك أبدًا (¬3) إلا أن يشيب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 28. (¬2) في (ي): (على). (¬3) ساقط من (ب).

الغراب (¬1)، وهذا الاستثناء لا يفيد نقص شيء من التأبيد؛ لأن الغراب لا يشيب، كذلك الله تعالى [لا يريد أن ينقصهم من الخلود شيئًا بعد أن أخبر به. وهذا القول ذكره أبو إسحاق (¬2) في أحد قولي أهل اللغة، وحكى قولا آخر، قال بعضهم]: (¬3) الاستثناء وقع من الخلود بمقدار موقفهم للحساب، المعنى: خالدين فيها أبدًا إلا مقدار موقفهم للحساب. وقال ابن كيسان: الاستثناء وقع بمقدار تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، واختاره ابن قتيبة (¬4) فقال: خالدين في النار إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك. وقيل: الاستثناء يعود إلى حبس الفريقين في البرزخ، وهذه الأقوال قريبة من السواء؛ لأنه يمكنك الجمع بينها فتقول: خالدين فيها أبدًا إلا مقدار مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب، ثم يصيرون إلى النار أبدًا أو إلى الجنة أبدًا. وقال جماعة (¬5) من المفسرين: هذا الاستثناء يعود إلى إخراج أهل ¬

_ (¬1) هذا المثل يضرب في الاستحالة، انظر: "المستقصى" 2/ 59، "فصل المقال" 474، 482، "تمثال الأمثال" 422. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 79. (¬3) ما بين المعقوفين مطموس في (ب). (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" (1/ 214، "تأويل مشكل القرآن" / 76. (¬5) ذكره الطبري 12/ 120 عن قتادة وأبي سنان، والضحاك، وخالد بن معدان. الثعلبي 7/ 57 أ، البغوي 4/ 250، "زاد المسير" 4/ 160 وعزاه لابن عباس والضحاك.

التوحيد [من النار] (¬1) وقدر مدة إدخال مذنبي المسلمين النار، وكأنه قال: خالدين في النار أبدًا إلا ما شاء ربك من [إخراج المذنبين إلى الجنة، وخالدين في الجنة أبدًا إلا ما شاء ربك من] (¬2) إدخال المذنبين النار مدة من المدد ثم يصيرون إلى الجنة، وهذا معنى قول ابن عباس (¬3)، وعلى هذا الاستثناء وقع من الخلود، ولهذا قال: {مَا شَاءَ} ولم يقل من شاء؛ لأن المذنبين من المؤمنين لا يكونون أشقياء، والأشقياء هم الكافرون. قال أبو إسحاق (¬4): ويجوز أن يكون الاستثناء من الزفير والشهيق على أن لهم فيها زفيرًا وشهيقًا إلا ما شاء ربك [من أنواع العذاب الذي لم يذكر، وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذكر ولهم ما لم يذكر ما شاء ربك] (¬5). هذا كله إذا قلنا إن المراد بقوله ما دامت السموات والأرض التأبيد، [فإذا قلنا ليس المراد به التأبيد، وهو قول ابن عباس؛ لأنه قال في قوله {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (¬6): من ابتداء كونهما إلى وقت فنائهما (¬7)، وهذا لا يدل على التأبيد، لكنه يتبين بما قد حصل طول مدته وتصورت حالة مشاهدته، فكأنه قال: خالدين فيها مدة العالم، وسَهُلَ أمر الاستثناء لأن ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) الثعلبي 7/ 57 أ، وأخرجه ابن أبي حاتم 6/ 2086، وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس كما في "الدر" 6/ 634، "زاد المسير" 4/ 160. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 80. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "تنوير المقباس" ص 145، والثعلبي 7/ 56 ب.

للسموات والأرضِ وقتا تتغيران فيه عن هيئتهما، يقول الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، فأراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، إلا ما شاء ربك من الزيادة المضاعفة لا إلى نهاية، و (إلا) هاهنا تكون بمعنى سوى أو (الواو) كما تقول في الكلام: لك عندي ألف إلا ألفين؛ أي سوى الألفين الذين لك عندي، والمعنى على هذا: خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم، وهذا أحد قولي الفراء (¬1)، واحد قولي أهل اللغة فيما حكاه الزجاج (¬2)، وذكرنا في مواضع من هذا الكتاب كون (إلا) بمعنى الواو وبمعنى سوى (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 28. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 79. (¬3) ذهب الكوفيون وعلى رأسهم الفراء وثعلب -كما ذكر أبو حيان- ومن تبعهم كأبي عبيدة والأخفش والهروي وابن فارس والجرجاني وبعض أصحاب المعاجم كالجوهري وابن منظور والفيروزآبادي إلى أن (إلا) تأتي بمعنى الواو العاطفة، واحتجوا بكثرة مجيئه في كتاب الله وكلام العرب. وذهب البصريون ومن تبعهم كالطبري ومكي القيسي وأبي البركات الأنباري وابن مالك والمالقي والمرادي وابن عقيل وابن القيم إلى أن (إلا) لا تأتي بمعنى الواو، وعللوا صحة ما ذهبوا إليه بأمرين: أحدهما: أن الأصل أن ينفرد كل حرف بمعنى، ولا يقع حرف بمعنيين؛ لما في ذلك من الاشتراك الملبس، وما صح منه عن العرب يقتصر عليه، ولا يقاس. الثاني: أن (إلا) للاستثناء، وهو إخراج الثاني من حكم الأول، والواو للجميع، وهو يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر؛ لأن المعنيين متباينان. وأجابوا عما احتج به الكوفيون من الآيات والأبيات بأنها جميعًا محمولة على الاستثناء المنقطع. =

108

قال النحويون: إذا استثنينا (¬1) زائدًا من ناقص لحق بالأول، كما لو قال: لك عندي ألف إلا الألفين، فقد أقر بثلاثة الآلاف لأنه استثنى زائدًا من ناقص، ومعنى (إلا) هاهنا كمعنى الواو، وكذلك في الآية، الذي يشاؤه (¬2) الله من الخلود أكثر من مدة كون السموات والأرض، وكأن المعنى ما دامت السموات والأرض وما شاء ربك مما يريد إلى ما لا يتناهى (¬3)، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد من إخراج أهل التوحيد من النار. 108 - قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}، يقال (¬4) سَعِدَ فلان يَسْعَدُ سعادة وسَعْدًا فهو سعيد نقيض شقي، وقرأ أهل الكوفة {سُعِدُوا} بضم ¬

_ = ورجح أبو حيان مذهب البصريين، قال: وإثبات (إلا) بمعنى الواو لا يقوم عليه دليل والاستثناء سائغ فيما ادُّعي فيه أن (إلا) بمعنى (الواو). راجع: "الإنصاف" 1/ 266 - 272، "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 219، "معاني القرآن" للفراء 1/ 89 - 90، 2/ 287 - 288، "مجاز القرآن" 1/ 60، "البحر المحيط" 1/ 442، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 152، "التبيين" 403، "الصحاح" (إلا) 6/ 2545، "لسان العرب" (إلا) 1/ 104، "القاموس المحيط" (إلا) 962، "معاني الحروف" / 128، "سر صناعة الإعراب" 1/ 303، "بدائع الفوائد" 3/ 70 - 71. (¬1) في (ي): (استثنى). (¬2) في (ب): (يشاء). (¬3) قال القرافي -بعد أن ذكر الأقوال الذي الاستثناء في هذه الآية-: وهذه كلها أقوال لا حاجة إليها ولا ضرورة، بل الاستثناء صحيح على بابه لمقتضى ظاهر اللفظ، وأنه ما تقدم من الدوام قبل الدخول هذا كله إذا قلنا سموات الدنيا وأرضها، وإن قلنا سموات الجنة وأرضها وسماء النار وأرضها فهي تدوم لا إشكاك في الدوام. أ. هـ "الاستغناء في معنى الاستثناء" /420. (¬4) "تهذيب اللغة" (سعد) 2/ 1690، اللسان (سعد) 4/ 2012.

السين (¬1). وسيبويه والمحققون من أهل اللغة على أن كلام العرب (أسعده الله) وأنه لا يبني في الثلاثة من هذا للمفعول به، فلا يقال (سُعِدَ) كما لا يقال (شُقِي)؛ لأن السعادة مصدر لا يتعدي فعله، وقالوا في هذه القراءة: إنها لغة خارجة عن القياس، أو تكون من باب (فَعَلَ وفَعَلْتُه)، نحو: غاض الماء وغِضْتُه، وحَزَن وحَزَنْته، كذلك يقال سَعَد وسَعَدْتُه، فإن احتج صاحب هذه القراءة بقولهم (مسعود) وهو على (سعد)، فلا دلالة قاطعة في هذا؛ لأنه يجوز أن يكون مثل (أجنه الله فهو مجنون)، و (أحبه الله فهو محبوب)، جاء المفعول في نحو هذا على حذف الزيادة، كما جاء الفاعل بحذف الزيادة من نحو: [يكشف عن] (¬2) جمَّاته دلو الدالْ (¬3) وإنما هو المدلي، وكذلك قوله (¬4): ومَهْمَهِ هالك من تعرجا ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (سَعِدوا) بفتح السين وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم (سُعِدوا) بضم السين، "السبعة" 339 "الكشف" 1/ 536 "إتحاف" ص 260، الطبري 12/ 119. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) من رجز ينسب للعجاج وبعده: عباءة غبراء من أجن طال انظر: "ديوانه" 321/ 2 الملحقات، "اللسان" (دلا) 3/ 1417، "أدب الكاتب" / 612، "تاج العروس" 7/ 193 (غثر)، "تهذيب اللغة" 2/ 1213. (¬4) القائل العجاج وقبله: عصرًا وخُضْنا عيشَهُ المعُدْلَجا والمعنى: من أقام بهذا المهمه فقد هلك: "ديوانه": 2/ 43، "الخصائص" 2/ 210، "المحتسب" 1/ 92 "المخصص" 6/ 127 "المقتضب" 4/ 180.

في أحد القولين، والقول الآخر: أن تميمًا تقول: هلكني زيد، ومن الحذف قوله (¬1): يخرجن من أجواز ليل غاض يريد: مُغْض، وكذلك قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] وهي تلقح الشجر فإذا لقحتها وجب أن يكون الجمع: ملاقح: فجاء على حذف الزيادة، [وكذلك (مسعود) يجوز أن يكون على حذف الزيادة] (¬2)، ثم يمكن أن يقال: {سُعِدُوا} أيضًا من أسعده الله، وقد جاء على حذف الزيادة كما ذكرنا في مسعود، هذا كلام المحققين من أهل اللغة (¬3)، والمتأخرون أجازوا: سعده الله وأسعده، فقد ذكر الزجاج (¬4) في باب الوفاق: سَعَدَ الله جَدَّه، فهو مسعود، وأسعد جده فهو مُسْعَد، وذكر الفارابي: السعد معنى (¬5) الإسعاد في باب فَعَلَ يَفْعَل (¬6)، وأجاز ¬

_ (¬1) من أرجوزة لرؤبة يمدح فيها بلال بن أبي بردة، وبعده: نضو قداح النايل النواضي انظر: "ديوانه" 82، "المقتضب" 4/ 179، "المحتسب" 2/ 242، "اللسان" (غضا). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) ما سبق نقله بتصرف عن أبي علي الفارسي في كتابه "الحجة" 4/ 378 - 380. (¬4) باب الوفاق هو من كتاب "فعلت وأفعلت" للزجاج، وهو مرتب على الحروف فيذكر ما ورد على صيغة (فعلت وأفعلت) في كل حرف ويقسمه إلى قسمين: الوفاق: وهو ما اتفق في المعنى، والخلاف: ما اختلف في المعنى. انظر: الإحالة هنا في كتاب "فعلت وأفعلت" ص 21. (¬5) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب (بمعنى) بالباء. (¬6) في (ي): (معنى الإسعاد في باب الفعل فعل يفعل). وينظر: "ديوان الأدب" للفارابي 2/ 201.

الأزهري (¬1) أيضًا: سعد وأسعد، ولعل هؤلاء ذهبوا في هذا الذي أجازوه إلى هذه القراءة، وقال الفراء (¬2): كلام العرب سعد الرجل وأسعده الله، إلا هذيلًا فإنهم يقولون: سُعد الرجل بالضم، وبذلك قرأ أصحاب (¬3) عبد الله، وقال الكسائي (¬4): سُعدوا وأسعدوا لغتان. وقوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، انتصب (عطاء) على المصدر بما دل عليه الأول، كأنه قيل: إعطاهم النعيم عطاءً غير مجذوذ، ويكون العطاء اسما أقيم مقام المصدر، كقول القطامي (¬5): وبعد عطائك المائة الرتاعا والمجذوذ: المقطوع في قول المفسرين (¬6) كلهم، يقال: جذه يجذه جذًّا، وجذ الله دابرهم. وقال النابغة (¬7): ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سعد) 2/ 1690. (¬2) "الدر المصون" 4/ 131. (¬3) "البحر" 5/ 264، وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص، وابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش. (¬4) "البحر" 5/ 264، "الدر المصون" 4/ 131. (¬5) القطامي وصدره: أكفرًا بعد رد الموت عني انظر: "ديوانه" / 37، "الخزانة" 1/ 391 "شرح الشواهد" للعيني 3/ 505، "اللسان" (عطا) 5/ 3001، السيوطي / 287، "الدرر" 1/ 161، 2/ 127، "تذكرة النحاة" ص 456، "معاهد التنصيص" 1/ 179، "المقاصد النحوية" 3/ 505. (¬6) رواه الطبري 15/ 490 عن الضحاك وقتادة وابن عباس ومجاهد وأبي العالية وابن زيد، وانظر: الثعلبي 7/ 58 أ، البغوي 4/ 201، "زاد المسير" 4/ 162، القرطبي 9/ 103 ابن كثير 2/ 504. (¬7) النابغة الذبياني من قصيدته المشهورة في مدح عمرو بن الحارث الأعرج يقول في وصف سيوف الغسانين، و (السلوقي) الدروع منسوبة إلى سلوق مدينة باليمن،=

109

تَخُذّ السَّلُوقيَّ المضاعف نَسجُهُ ... ويوقدن بالصفاح نار الحباحب والآية تدل على أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع أبدًا. 109 - قوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ}: و {لَا تَكُ} أصلها: لا تكن، وإنما حذفت النون عند سيبويه لكثرة استعمال هذا الحرف. قال أبو إسحاق (¬1) في قوله {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2): ذكر الجلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، ومع ذلك أشبهت النون حروف اللين بأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غنة تخرج من الأنف فلذلك احتملت الحذف. وقال أبو الفتح الموصلي (¬3): أشبه الحروف الصحيحة بحروف المد: النون؛ لأنها ضارعت بالمخرج والزيادة والغنة والسكون في (لا تكن) حروفَ المد، فحذفت كما يحذفن إذا وقعن طرفًا. وقوله تعالى: {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} يعني المشركين، قال أبو بكر الأنباري: قوله تعالى: {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} ليس على ظاهره؛ لأنه لا حجة ولا طعن عليهم بمعرفة أعيان معبوداتهم، ولكنه من باب حذف المضاف، تلخيصه: ولا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع. وقوله تعالى: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} أي إلا كعبادة ¬

_ = "الصفاح": الحجارة العراض، "الحباحب" الشرر الذي يسقط من الزناد، وانظر: "ديوانه" ص 32 "أمالي ابن الشجري" 2/ 269، "اللسان" (سلق)، "تهذيب اللغة" 2/ 1737، الطبري 15/ 489، الزجاج 3/ 80 والقرطبي 9/ 103. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 222. (¬2) النحل: 120. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 2/ 238 باختصار.

110

آبائهم من قبل، {مَا} (¬1) مع الفعل بمنزلة المصدر؛ يريد: أنهم على طريق (¬2) التقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم. وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، أي من العذاب في قول ابن عباس (¬3) وغيره. 110 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ}، قال ابن عباس (¬4): يعزّي النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني أن هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالحال التي تعم من التكذيب، أي إنْ كذبوا بالكتاب الذي [آتيناك، فقد كذب من قبلهم بالكتاب الذي] (¬5) آتينا موسى. وقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، قال ابن عباس (¬6): يريد أني أخرت أمتك إلى الموت أو إلى يوم (¬7) القيامة، ولولا ذلك لعجلت عقاب من كذبك، قال ابن الأنباري (¬8): أعلم الله أنه لولا ما تقدم من حكمه بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، لكان الذي يستحقونه عند عظيم كفرهم إنزال عاجل العذاب بهم، لكن المتقدم من ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) في (ي): (تقدير). (¬3) هذا القول مروي عن ابن زيد كما في الطبري 12/ 123، والمروي عن ابن عباس هو "ما وعدوا فيه من خير أو شر" كما في الطبري 12/ 122، "زاد المسير" 4/ 162. (¬4) الثعلبي 7/ 58 ب، البغوي 4/ 202، "زاد المسير" 4/ 162، ابن عطية 7/ 407. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) "زاد المسير" 4/ 162، الطبري 12/ 232 من غير نسبة. (¬7) ساقط من (ي). (¬8) الرازي 18/ 69.

111

قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم، فابن عباس والكلبي (¬1) وأكثر أهل التفسير على أن هذا في كفار مكة، وقال مقاتل بن سليمان (¬2): يُعني بهذا قوم من أصحاب موسى، والظاهر هو الأول؛ لأن الذين كذبوا بالتوراة أهلكوا في الدنيا عاجلًا، ولم تؤخر عقوبتهم إلى الآخرة. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} يعني من القرآن، وفي قول مقاتل (¬3): من كتاب موسى، {مُرِيبٍ} هو موقع للريبة. 111 - قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} الآية، اختلف القراء (¬4) في تشديد {إِنَّ} و {لمَّا} وتخفيفهما؛ فقرأ أبو عمرو والكسائي: {وَإِنَّ} مشددة النون {لمَا} خفيفة، قال الزجاج (¬5): تخفيف {لمَا} هو الوجه والقياس، ولام {لمَا} لام {إِنَّ} و (ما) زائدة مؤكدة لم تغير المعنى ولا العمل. وقال أبو علي (¬6): هذه القراءة وجهها بين، ومثاله من الكلام (إن ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 145. (¬2) "تفسير مقاتل" 149 ب. (¬3) ساقط من (ي). (¬4) قرأ ابن كثير ونافع بالتخفيف فيهما، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر تخفيف النون وتشديد الميم، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد النون، واختلفا في الميم فشددها حمزة وخففها الكسائي. وقرأ أبو عمرو مثل قراءة الكسائي، وقرأ ابن عامر مثل قراءة حمزة، وقرأ ابن عامر مثل قراءة حمزة، وقرأ حفص عن عاصم بالشديد فيهما مثل حمزة وابن عامر. انظر: "السبعة" 339، الطبري 12/ 232 - 124 , "إتحاف" ص 260، "الكشف" 1/ 536. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 81. (¬6) "الحجة" 4/ 381 - 386 بتصرف واخصار.

زيدًا [لما لينطلقن)]، (¬1)، فاللام في (لما) هي اللام التي تقتضيه (إنَّ)، و (إنَّ) تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) [النحل: 18]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الحجر: 77]، واللام الأخرى هي التي لتلقّي القسم، نحو: (والله لتفعلن)، ودخلت (ما) لتفصل بين اللامين؛ لأنه إذا كره أن تجتمع "اللام" و"أن" مع اختلاف لفظيهما لاتفاقهما في معنى التأكيد ففصل بينهما فأنْ يفصل بين اللامين مع اتفاق اللفظين أجدر، فقوله {وَإِنَّ كُلًّا}، نصب {كُلًّا} بـ (أن) ودخلت اللام -وهي لام الابتداء- على خبر "إن" وهو قوله {لمَّا}، وقد دخلت في الخبر لام أخرى وهي التي يتلقى (¬3) بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل ويلزمها في أكثر (¬4) الأمر أحد النونين، فلما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ (ما) كما فصل بين "أن" و"اللام"، فدخلت (ما) لهذا المعنى -وإن كانت زائدة- لتفصل. وقال الفراء (¬5) في وجه هذه القراءة: جعل (ما) اسما للناس؛ كما قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ثم جعل اللام التي فيها جوابًا لـ (إنَّ)، وجعل اللام التي في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} لامًا دخلت على نية يمين فيما بين "ما" وصلتها، كما تقول: (هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ)، و (عندي ما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬2) ساقط من (ي). (¬3) ساقط من (ي). (¬4) ساقط من (ب). (¬5) "معانى القرآن" 2/ 28.

لَغَيْرُهُ خيرٌ منه)، ومثله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]، وهذا القول كالأول إلا أنه أجاز أن تكون "ما" هاهنا اسمًا بمعنى "مَنْ"، وعند الزجاج (¬1) والبصريين (ما) صلة زائدة كما ذكرنا، وقرأ ابن كثير ونافع {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} مخففتين. ووجه هذه القراءة ما ذكره سيبويه (¬2)، وهو أنه قال: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: (إنْ عمروًا (¬3) لمنطلق)، قال: وأهل المدينة يقرؤون {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} يخففون وينصبون. قال الأزهري (¬4): أخبرني المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: أهل البصرة أعني به سيبويه وذويه يقولون العرب تخفف (أنّ) الشديدة وتعملها وأنشدوا (¬5): ووجه حسن النحر ... كأنْ ثدييه حقان أراد (كأنّ) فخفف وأعمل، قال أبو علي (¬6): ووجه النصب بها مع ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 81. (¬2) "الحجة" 4/ 386. (¬3) في (أ)، (ب): (إن عمرًا). (¬4) "تهذيب اللغة" (إن) 1/ 223، وفيه "وقال أبو طالب النحوي، فيما روى عنه المنذري، قال: أهل البصرة غير سيبويه وذويه يقولون: إن العرب تخفف (إن) الشديدة وتعملها .. " والصحيح ما أثبته كما في "الكتاب" 1/ 283. (¬5) في رواية (ووجه مشرق النحر) وهو من شواهد سيبويه التي لم تنسب، والنقل مع الشاهد في "الكتاب" 2/ 135، وانظر: "الخزانة" 4/ 358، ابن الشجري 1/ 362، الطبري 12/ 125، "تهذيب اللغة" (إن) 1/ 223، "الإنصاف" ص 166، "أوضح المسالك" 1/ 378، "تلخيص الشواهد" ص 389، "شرح المفصل" 8/ 82، "اللسان" (أنن) 1/ 19، "المقاصد النحوية" 2/ 305. (¬6) "الحجة" 4/ 386.

التخفيف من القياس أن (أنَّ) مشبهة في نصبها بالفعل، والفعل يعمل محذوفًا كما يعمل غير محذوف (¬1)، وذلك في نحو: (لم يك زيد منطلقًا)، وكذلك (لا أدر). قال الفراء (¬2): لم نسمع العرب تخفف (أنَّ) وتعملها إلا مع المكني؛ لأنه لا يتبين فيه إعراب، نحو قوله (¬3): فلو أنْكِ في يوم الرخاء سألتني ... فراقكِ لم أبخل وأنتِ صديق فأما مع الظاهر فلا، لكن إذا خففوها رفعوا، قال: ومن قرأ {وَإِنَّ كُلًّا} فإنهم نصبوا (كلًا) بـ {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} كأنه قال: وإن ليوفينهم كلا. قال: وهذا وجه لا أشتهيه؛ لأن اللام لا يقع الفعل الذي بعدها (¬4) على شيء قبله، وقرأ حمزة وابن عامر وحفص {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} مشددتان. والكلام في تخفيف "إنَّ" وتشديدها قد ذكرناه، وبقي الكلام في تشديد {لَمَّا} هاهنا. قال أبو إسحاق (¬5): زعم بعض النحويين أن معناه (لمن ما) ثم قلبت ¬

_ (¬1) في (ي): (كما يعمل في غير محذوف). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 29. (¬3) البيت لم أعثر على قائله وهو في "الإنصاف" 169، "شرح المفصل" لابن يعيش 8/ 71، 73 "خزانة الأدب" 2/ 465، 4/ 452، "شرح الشواهد" للسيوطي ص 31، "همع الهوامع" 2/ 187، "الدر" 1/ 120، "الإنصاف" 1/ 205، "الجنى الداني" / 218، "شرح ابن عقيل" 1/ 384، "اللسان" (حرر) 2/ 830، "المقاصد النحوية" 1/ 311. (¬4) ساقط من (ب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 81.

النون ميمًا، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت إحداها وهي الوسطى فبقيت (لمّا). قال: وهذا القول ليس بشيء؛ لأن (من) لا يجوز حذفها لأنها اسم على حرفين، ولكن التشديد فيه قولان: أحدهما يروى عن المازني (¬1) زعم أن أصلها "لَمَا" ثم شددت الميم. قال: وهذا القول ليس بشيء أيضًا (¬2)؛ لأن الحروف نحو: (ربّ) وما أشبهها تُخفف، ولسنا نثقل ما كان على حرفين. قال: وقال بعضهم قولا (¬3) لا يجوز غيره والله أعلم، أن (لما) في معنى (إلا) كما تقول: سألتك لما فعلت وإلا فعلت، ومثله {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] معناها إلا عليها. وقال الفراء (¬4): أما من شدد (لما) فإنه والله أعلم أراد لمن (¬5) ما ليوفينهم، فلما اجتمعت ثلاث ميمات حذفت واحدة فبقيت ثنتان فأدغمت في صاحبتها كما قال (¬6): واني لمما (¬7) أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره قال: وربما تحذف بعض الحروف إذا اجتمعت كما أنشد ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (لم) 4/ 3295. (¬2) في (جـ)، (ي): (أصلا). (¬3) ساقط من (ي). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 29. (¬5) في (ي): لما. (¬6) لم أهتد إلى قائله، وانظر: "معاني القرآن" 2/ 29، الطبري 12/ 123 - 124 القرطبي 9/ 105، "الدر المصون" 6/ 403. (¬7) في (ب): (فلما).

الكسائي (1): وأشمتَّ العداة بنا فأضحوا ... لَدَيَّ تباشرون بما لقينا معناه لَدَيَّ يتباشرون فحذف لاجتماع الياءات، ومثله (2): كأن من آخرها إلقادمِ ... مَخْرِمَ نجدِ فارع المخارمِ أراد (إلى القادم)، فحذف اللام عند اللام، قال: وأما من جعل (لما) بمنزلة (إلا) فإنه وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب: بالله لما قمت عنا، وإلا قمت عنا وأما (لما) بمعنى (إلا) في الاستثناء فلم يقولوه في شعر ولا غيره؛ لا يجوز: ذهب الناس لما زيد بمعنى (3) إلا، هذا كلامه، ومعنى (ما) في قوله "لمن ما" معنى (من)، وقد أنكر ما أجازه الزجاج. قال أبو علي (4): من قرأ {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} بالتشديد [فيهما (5) فقراءته مشكلة، وكذلك قراءة أبي بكر عن عاصم: {وإن كُلا} بالتخفيف، {لمَّا} بالتشديد] (6) وذلك أن {إِنَّ} إذا نصب بها وإن كانت مخففة كانت بمنزلتها مثقلة، و {لمَّا} إذا شددت كانت بمنزلة إلا، فكما لا يحسن [(إن زيدًا إلا منطلق) كذلك لا يحسن] (7) تثقيل {إِنَّ} وتثقيل {لَمَّا}، فأما

_ (1) لم أهتد إلى قائله. وانظر: "معاني القرآن" 2/ 29، الطبري 12/ 124، "الدر المصون" 6/ 403. (2) لم أهتد إلى قائله. وانظر: "معاني القرآن" 2/ 29، "اللسان" (قدم) 6/ 3554، الطبري 15/ 495، "الدر المصون" 6/ 404. (3) في (ب): (المعنى). (4) "الحجة" 4/ 387. (5) ساقط من (ي). (6) و (7) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).

مجيء {لَمَّا} هو في قولك: نشدتك الله لما فعلمت وإلا فعلت؛ فقال الخليل: الوجه لتفعلن كما تقول أقسمت عليك لتفعلن، وأما دخول إلا ولما فلأن المعنى الطلب، فكأنه أراد ما أسألك إلا فعل كذا فلم يذكر حرف النفي في اللفظ وإن كان مرادًا [كما كان مرادًا] (¬1) في قولهم (¬2) شرٌّ ما أَهَرَّ ذا ناب، أي ما أهره إلا شرٌ، وليس في الآية معنى نفي ولا طلب، وهذا إنما كان يحسن {إِنَّ} لو خففت فخفف {إِنَّ} ورفع {كُلًّا} بعدها ثم ثقل {لَمَّا}، فكان يجوز تثقيل {لَمَّا} على أن يكون المعنى: ما كل إلا ليوفينهم، فيكون ذلك كقوله {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35] فأما تثقل {لمَّا} مع النصب في (كل) فلا وجه له. وهذا كله في إبطال ما أجازه الزجاج في تشديد {لمَّا}؛ قال (¬3): وأما قول الفراء: المعنى (لمن ما) فادعم النون في الميم بعد ما قلبها ميمًا ثم حذفت إحدى (¬4) الميمات، فإن ذلك لا يسوغ، ألا ترى أن في هذه السورة مميات أكثر مما اجتمعن في (لمن ما) ولم يحذف منها شيء، وذلك في قوله {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48] فإذا لم يحذف شيء من هذا فلأن لا تحذف ثَمَّ أجدر، وقد قرئ {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} بالتنوين، والمعنى (¬5) أن كلا جميعًا ليوفينهم، ومعنى اللم: الجمع فوصف بالمصدر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) مثل عربي، انظر: "الإيضاح في علوم البلاغة" للخطيب القزويني 2/ 48، "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري 2/ 130. (¬3) أي: أبو علي؛ انظر: "الحجة" 4/ 387، بتصرف. (¬4) ساقط من (ب). (¬5) في (ب). (ومعنى).

112

كقوله {أَكْلًا لَمًّا} [الفجر: 19]. فإن قال قائل: إن (لما) فيمن ثقل أنها هي {لمًّا} هذه ووقف عليها بالألف تم أجري الوصل مجرى الوقف فذلك مما يجوز في الشعر. قال الكسائي (¬1): من شدد {إِنَّ} وشدد {لمَّا} فالله أعلم بذلك ليس لي به علم، ولا من خفف "إنّ" ثم نصب (كلاّ) أيضًا وشدد "لمّا" فلست أدري أيضًا، قال أبو علي: ولم يبعد الكسائي فيما قال (¬2). وقوله تعالى {رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}، قال ابن عباس (¬3): يريد جزاء بما عملوا، وعلى هذا هو من باب حذف المضاف؛ لأن المعنى: ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم. وقوله تعالى: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، خبير قال: يريد بطاعة أوليائه وخبير بمعصية أعدائه. 112 - قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة، وذلك خلاف الأخذ في جهات اليمين والشمال، قال المفسرون (¬4): معناه فاستقم على العمل بأمر ربك والدعاء إليه في {كَمَا أُمِرْتَ} في القرآن. وقال ابن عباس (¬5)، ¬

_ (¬1) "مشكل إعراب القرآن" ص 416. (¬2) انتهى النقل عن "الحجة" 4/ 387 - 388، بتصرف. (¬3) الطبري 12/ 126، البغوي 4/ 203، "زاد المسير" 4/ 164، القرطبي 9/ 104 من غير نسبة. (¬4) الطبري 12/ 126، الثعلبي 7/ 59 أ، البغوي 4/ 203. (¬5) قلت: بل المروي عن ابن عباس خلاف هذا حيث قال: ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال: "شيبتني هود وأخواتها" البغوي 2/ 404، القرطبي 9/ 107. قال في "كشف الخفاء" 2/ 20، رواه ابن مردويه في "تفسيره".وانظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي 255، 256، والترمذي (3297) =

113

والسدي (¬1): الخطاب له والمراد منه أمته. قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (مَنْ) في محل الرفع من وجوه؛ أحدها: أن تكون عطفا على الضمير في {فَاسْتَقِمْ}، أي فاستقم أنت وهم، والثاني: أن تكون عطفا على الضمير في {أُمِرْتَ}، والثالث: أن تكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم، ومعنى {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}، قال ابن عباس (¬2): يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك. وقوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا}، معنى الطغيان تجاوز المقدار، قال ابن عباس (¬3): يريد تواضعوا لله ولا تَجَبَّروا على أحد. وقال الكلبي (¬4): ولا تطغوا في القرآن فتحلوا أو تحرموا ما لم يأمركم به الله، وقيل (¬5): لا تجاوزوا أمري {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، قال ابن عباس: لا تخفى عليه أعمال بني آدم، علم قبل أن يعملوا ما هم عاملون. 113 - قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا}، يقال: ركِن يركَن ركونا، ومعنى الركون السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة، ونقيضه النفور عنه، ولغة ¬

_ = كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى بعد: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}. (¬1) الثعلبي 7/ 59 أ، القرطبي 9/ 107. (¬2) "زاد المسير" 4/ 164. (¬3) الرازي 18/ 71. (¬4) "زاد المسير" 4/ 164 ونسبه إلى ابن عباس. (¬5) أخرجه الطبري 12/ 126 عن ابن زيد، وابن أبي حاتم 6/ 2089، وانظر. "الدر" 3/ 636، و"زاد المسير" 4/ 164، والثعلبي 7/ 59 أ.

أخرى ركَن يركُن. قال الأزهري (¬1): وليست بفصيحة، وكان أبو عمرو أجاز ركَن يركَن بفتح [الكاف من الماضي والغابر، وهو خلاف ما عليه الأبنية في السالم. وقال الكسائي (¬2): قريش تقول: ركِن يركَن وأهل نجد يقولون: ركَن يركُن؛ ومنه قراءة (¬3) طلحة بن مصرف {وَلَا تَرْكَنُوا} بضم الكاف. قال ابن عباس (¬4) في قوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، قال: لا تميلوا؛ يريد في المحبة ولين الكلام والمودة. وقال السدي وابن زيد (¬5): لا تداهنوا الظلمة. وقال أبو العالية (¬6): لا ترضوا بأعمالهم] (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (ركن) 2/ 1463. (¬2) "البحر" 5/ 269، "الدر المصون" 4/ 144. (¬3) قراءة "تركُنوا"، بضم الكاف، قرأ بها عبد الوارث عن أبي عمرو، وهي قراءة قتادة وطلحة بن مصرِّف. انظر: "زاد المسير" 4/ 165، القرطبي 9/ 108 وطلحة بن مصرف هو: طلحة بن مصرف بن عمرو الهمداني ثقة حجة، أحد القراء الكبار، وأقرأ أهل زمانه، أدرك أنسًا ولم يسمع منه. توفي 12 اهـ. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 473، "تهذيب التهذيب" 2/ 243، "غاية النهاية" 1/ 343. (¬4) رواه الطبري بمعناه عن بعض المفسرين 12/ 172، الثعلبي 4/ 103، البغوي 2/ 404، "زاد المسير" 4/ 165. (¬5) روى عنهما الثعلبي 7/ 59 ب، "زاد المسير" 4/ 165، وانظر: البغوي 2/ 304 عن السدي، والطبري 12/ 127 عن ابن زيد، وكذا القرطبي 9/ 108. (¬6) الطبري 12/ 127، الثعلبي 7/ 59 ب، البغوي 2/ 204، "زاد المسير" 4/ 165، القرطبي 9/ 108. (¬7) ما بين المعقوفين غير مقروء في (ب)

114

وقال قتادة (¬1): لا تلحقوا بالمشركين. وقوله تعالى: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، قال ابن عباس: هو أدب للمؤمنين ليس كمثل عقوبة الكفار، يريد أن قوله: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (¬2) يتضمن عذابًا دون عذاب الكفار؛ لأنهم مخلدون في النار، وفي هذا دليل على أن المؤمن لا يخلد في النار، ودليل أيضاً على المنع من مصادقة المشركين وموالاة الظالمين، والميل إليهم بالمحبة والسكون. وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}، قال ابن عباس (¬3): يريد من مانع يمنعكم من عذاب الله. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} استئناف كقوله: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (¬4). 114 - قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية، قال عامة المفسرين (¬5): نزلت في رجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له ما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "توضأ وضوءًا حسنًا ثم قم فصل"، وأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أهي له خاصة أم للناس عامة؟ [فقال: "بل هي للناس ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 127، قال: لا تلحقوا بالشرك، الثعلبي 7/ 59 ب، "زاد المسير" 4/ 165. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) الثعلبي 7/ 59 ب، البغوي 2/ 204، "زاد المسير" 4/ 165، من غير نسبة. (¬4) آل عمران/ 111. (¬5) الطبري 12/ 134 - 138، الثعلبي 7/ 60 أ، البغوي 2/ 204، "زاد المسير" 4/ 165، ابن عطية 4/ 415، القرطبي 9/ 110، ابن كثير 2/ 506.

عامة"] (¬1) (¬2). قال ابن عباس (¬3) في رواية عطاء في قوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} يريد الصبح والظهر والعصر، وهو قول مجاهد (¬4) في رواية منصور ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) الحديث أخرجه الطبري 12/ 136، ورواه الترمذي (3113) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة هود من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل، وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ومعاذ بن جبل مات في خلافة عمر، وقتل عمر وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام صغير ابن ست. وقد وردت أحاديث بمعنى هذا الحديث ومنها ما أخرجه البخاري (4687) كتاب: التفسير، باب: قوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}، ومسلم (2763) كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وأحمد 1/ 385 والترمذي (3114) كتاب التفسير، باب ومن سورة هود، والطبري 15/ 519 من حديث ابن مسعود: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فنزلت هذه الآية، فقال الرجل: ألي هذه الآية؟ فقال: "لمن عمل بها من أمتي". والآخر ما أخرجه مسلم (2763/ 42) كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، والترمذي (3112) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة هود، والطبري 15/ 516 عن ابن مسعود أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أخذت امرأة في البستان فقبلتها وضممتها إليَّ، وباشرتها، وفعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية، فدعا الرجل فقرأها عليه، فقال عمر: أهي له خاصة أم للناس كافة؟ قال: "لا، بل للناس كافة". (¬3) المروي عن ابن عباس أنه قال. صلاة الغداة وصلاة المغرب، انظر الثعلبي 7/ 59 ب، البغوي 204، "زاد المسير" 4/ 167، الطبري 12/ 128. (¬4) الطبري 12/ 127، الثعلبي 7/ 59 ب، البغوي 4/ 204، "زاد المسير" 4/ 167.

والقرظي (¬1)، واختيار الفراء (¬2) والزجاج (¬3)، قال الزجاج: وصلاة طرفي النهار: الغداة والظهر والعصر، وزاد مقاتل (¬4): المغرب، وقال: صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف، والصحيح ما ذكره الزجاج، وذلك أن أحد طرفي النهار صلاة الصبح والآخر فيه صلاتا (¬5) العشاء، وهما الظهر والعصر، والمغرب من صلاة الليل لا من صلاة النهار. ويروى عن ابن عباس ومجاهد (¬6) أنهما قالا: صلاة طرفي النهار الفجر والمغرب، وهو قول الحسن (¬7) وابن زيد (¬8)، وظاهر الكلام يدل على هذا، وحذف ذكر الظهر والعصر لظهور أمرهما في صلاة النهار؛ لأنهما أفردا بالذكر في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ودلوكها زوالها. وقوله تعالى: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، قال الليث (¬9): زلفة من أول الليل ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 282، الثعلبي 7/ 59 ب، "زاد المسير" 4/ 167. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 30، ولم يذكر الفجر في طرفي النهار. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 82. (¬4) "تفسير مقاتل" 149 ب، الثعلبي 7/ 59 ب. وفيه (وزلفا من الليل يعني صلاة المغرب والعشاء) ولم يجعل المغرب في طرفي النهار. (¬5) في (ي): (صلاة). (¬6) انظر: الطبري 12/ 127 - 128 قال مجاهد: صلاة الفجر وصلاتي العشى، يعني الظهر والعصر، وعند ابن أبي حاتم بلفظ: صلاة الفجر وصلاة العشاء 6/ 2091. (¬7) الطبري 12/ 128. وعند ابن أبي حاتم 6/ 2091 أن الحسن قال: الغداة: الظهر والعصر. (¬8) الطبري 12/ 128. (¬9) انظر: "الدر المصون" 4/ 145.

طائفة والجميع الزلف، وروى أبو عمرو عن أبي العباس في هذه الآية قال: الزلف أول ساعات الليل واحدتها زلفة (¬1). وقال أبو عبيدة (¬2) والأخفش (¬3) وابن قتيبة (¬4): الزلف ساعات الليل وآناؤه، وكل ساعة زلفة، ومعنى (زلفًا من الليل) أي ساعة بعد ساعة، وأنشدوا (¬5): ناج طواه الليل مما وجفا ... طى الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا ونحو هذا قال الفراء (¬6). وقال ابن عباس (¬7): يريد المغرب والعشاء قرب أول الليل (¬8)؛ لأن الزلف القرب، وهذا قول عامة المفسرين (¬9) غير ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (زلف) 13/ 214. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 300. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 585، الثعلبي 7/ 59 ب. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" ص 215. (¬5) الرجز للعجاج، وفيه (ناج طواه الأين) وليس الليل، والأين: التعب، و (وجفا) من الوجيف: سرعة السير، "سماوة الهلال": شخصه إذا ارتفع في الأفق شيئاً، "احقوقف": اعوج، وانظر: ديوانه / 84، "مجاز القرآن" 1/ 300، الطبري 12/ 129 اللسان (حقف) 2/ 939، "الكامل" للمبرد 3/ 99، سيبويه 1/ 180، "تهذيب اللغة" (زلف) 2/ 1549، "ديوان الأدب" 2/ 492، "تاج العروس" (زلف) 12/ 256، "مجمل اللغة" 2/ 246، "كتاب العين" 7/ 319. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 30. (¬7) المروي عن ابن عباس أنه قال: العشاء، الطبري 12/ 130. (¬8) ساقط من (ب). (¬9) رواه الطبري 12/ 130 - 131 عن الحسن ومجاهد والقرظي والضحاك، وانظر: الثعلبي 7/ 59 ب، البغوي 4/ 204.

مقاتل (¬1) فإنه يقول: هو صلاة العشاء؛ لأنه أدخل المغرب في طرفي النهار، [وقال أبو إسحاق (¬2): هو منصوب على الظرف، كما تقول: جئت (¬3) طرفي النهار] (¬4) وأول الليل، قال: ومعنى زلفًا من الليل: الصلاة القريبة من أول الليل، وأصل الكلمة من الزلفة والزلفى، وهي القربة، يقال: أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب. وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، قال ابن عباس والمفسرون (¬5): يريد [إن الصلوات الخمس] (¬6) تكفر ما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، وروى ليث عن مجاهد (¬7) قال: هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقوله تعالى: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}، قال ابن عباس: يريد: هذا موعظة فـ (ذلك) عنده بمعنى (هذا)، وذكرنا وجهه في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (¬8) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" /150 أ، البغوي 4/ 204. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 82. (¬3) ساقط من (ي) في الزجاج "كما تقول حينا طرفي النهار .. ". (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) الطبري 12/ 132، الثعلبي 7/ 59 ب، البغوي 4/ 204، "زاد المسير" 4/ 168، ابن عطية 7/ 416 - 417. وفي الحديث "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهنّ" أخرجه مسلم (ح 233) في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات .. عن أبي هريرة. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) الطبري 12/ 133 رواه منصور عن مجاهد، الثعلبي 7/ 59 ب، ابن عطية 7/ 417، "زاد المسير" 4/ 168. (¬8) البقره: 2. وخلاصة مما ذكره: "أنه إنما يجوز ذلك بمعنى هذا لما مضى وقرب وقت تقضيه أو تقضى ذكره".

115

وقال غيره (¬1): {ذَلِكَ ذِكْرَى} يعني القرآن عظة لمن ذكره، والكلام في (ذلك) وأن الإشارة بها إلى الجملة جائزة قد مضى في عدة مواضع، وقال أبو علي الفارسي: الذكرى مصدر جاء بألف التأنيث، كما جاء على فَعْلى نحو العدوى والدعوى والطغوى وتترى فيمن لم يصرف، وعلى فُعْلى نحو شورى، [وقالوا في الجمع (للذِّكَر) فجعلوه بمنزلة (سدرة وسدر)، كما جعلوا (العُلَى) مثل (الظُّلَم)، وقالوا: الذكر بالدال حكاه سيبويه (¬2) وكذلك روي بيت ابن مقبل (¬3): من بعد ما يعتري قلبي من الدكر وذلك لما كثر تصرف الكلمة بالدال نحو {وَادَّكَرَ} [يوسف: 45]، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬4) أشبهت تقوى، وتقية، وتقاة. 115 - قوله تعالى: {وَاصْبِرْ} قيل (¬5) على الصلاة، كقوله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ] (¬6) عَلَيْهَا} [طه:132]، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 60 أ، البغوي 4/ 205، "زاد المسير" 4/ 169. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 331. (¬3) لابن مقبل، وصدره: يا ليت لي سلوة تشفى النفوس بها وفيه (من بعض) بدل (من بعد) هنا، انظر: "ديوانه" 81، "الخصائص" 1/ 351، "المقرب" 2/ 166، "سر صناعة الإعراب" 1/ 188، "الممتع في التصريف" 1/ 359، "المنصف" 3/ 140. (¬4) في النسخ: (وهل). (¬5) الثعلبي 7/ 60 أ، البغوي 4/ 205، "زاد المسير" 4/ 170. (¬6) ما بين المعقوفتين: بياض في (ب).

116

الْمُحْسِنِينَ}، قال ابن عباس (¬1): يعني المصلين. 116 - قوله تعالى {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ}، يعني القرون المهلَكة، ومعنى (لولا) هاهنا نفي عند المفسرين، وهو قول ابن عباس (¬2): يريد ما كان من القرون من قبلكم، وهذا مثل قوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس: 98] وقد استقصينا الكلام هناك، ونحو هذا قال الفراء (¬3) في هذه الآية: لم يكن منهم أحد كذلك. ومن الناس (¬4) من يقول: (لولا) هاهنا على ظاهره، بمعنى (هَلَّا كان)، و (لم لا كان)، وهو تعجب وتوبيخ للكفار الذين سلكوا سبيل من قبلهم في (¬5) الفساد. وقوله تعالى: {أُولُو بَقِيَّةٍ}، [قال ابن عباس (¬6): يريد: أولو دين، قال الزجاج (¬7): {أُولُو بَقِيَّةٍ}] (¬8) معناه أولو تمييز، ويجوز أولو طاعة، قال: ومعنى البقية إذا قلت (في فلان بقية) فمعناه فيه فضل فيما يمدح به، ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 60 أ، البغوي 4/ 205، "زاد المسير" 4/ 170، القرطبي 9/ 113. (¬2) "زاد المسير" 4/ 170، ورواه الطبري 12/ 139 - 140 عن قتادة، ورجحه، وانظر الثعلبي 7/ 60 ب، البغوي 4/ 206، القرطبي 9/ 113. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 30. (¬4) ابن قتيبة في "مشكل القرآن وغريبه" 216، الثعلبي 7/ 60 أ، "زاد المسير" 4/ 170، القرطبي 9/ 113، "معاني الأخفش" 1/ 294. (¬5) في (ي): (من). (¬6) "زاد المسير" 4/ 170. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 83. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

وقال القتبي (¬1) {أُولُو بَقِيَّةٍ} أي [أولو بقية] (¬2) من دين، يقال (قوم لهم بقية) و (فيهم بقية) إذا كانت فيهم مسكة وخير. وقوله تعالى {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ}، قال ابن عباس: يريد عن الشرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية. وقوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}، قال الفراء (¬3) والزجاج (¬4): هو استثناء على الانقطاع مما قبله؛ المعنى: لكن قليلاً ممن نجينا منهم نهوا عن الفساد، كما قال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] قال المفسرون (¬5): وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق. وقوله تعالى {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}، الترفة النعمة وصبي مترف (¬6) إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة العيش (¬7). قال الفراء (¬8): يقول اتبعوا في دنياهم ما عودوا من النعيم وإيثار اللذات على أمر الآخرة وركنوا إلى الدنيا والأموال وما أعطوا من نعيمها. ¬

_ (¬1) "مشكل القرآن وغريبه" ص 216، وفيه: (إذا كانت فيهم مسكة وفيهم خير)، وانظر: "تهذيب اللغة" (بقي) 1/ 374. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 30. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 83 (¬5) الطبري 12/ 139، الثعلبي 7/ 60 ب، البغوي 4/ 206. (¬6) في (ب)، (جـ): (متروف). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (ترف) 1/ 436. (¬8) "معانى القرآن" 2/ 31.

117

قال عطاء عن ابن عباس (¬1) يريد: اتبعوا (¬2) ما وسعت عليهم وأنعمت، وروي (¬3) عنه نعموا وأبطروا أيضًا. 117 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ}، قال أبو بكر الأنباري: أراد بالقرى أهلها وسكنها وكان ذكره الأهل بعدها في قوله {وَأَهْلُهَا} تبيينا لما تتضمنه. وذكر المفسرون (¬4) وأهل المعاني كلهم في هذه الآية قولين: أحدهما: وما كان الله ليهلك [أهل] (¬5) القرى وهم مسلمون [صالحون] (¬6)، فيكون ذلك منه ظلمًا لهم. الثاني: وهو قول أهل السنة (¬7) (وما كان ربك ليهلك أهل القرى بشركهم وظلمهم لأنفسهم، وهم مصلحون يتعاطون الحق بينهم)، أي ليس من سبيل الكفار -إذا قصدوا الحق في المعاملة وتنكبوا الظلم- أن ينزل الله بهم عذابا يجتاحهم. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 12/ 139 - 140 روى كلامً بنحوه، وابن المنذر وابن أبي حاتم 4/ 194 ب عن مجاهد وقتادة، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 644. (¬2) ساقط من (ي). (¬3) الثعلبي 7/ 60 ب. (¬4) الطبري 12/ 140 كأنه يميل إلى الأول، الثعلبي 7/ 60 ب، البغوي 4/ 206، "زاد المسير" 4/ 171، ابن عطية 7/ 423 ورجح الأول، القرطبي 9/ 114، "معاني القرآن للفراء" 2/ 31، "معاني الزجاج" 3/ 83. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬7) ذكر هذا القول الطبري 12/ 140، والبغوي 4/ 206.

118

وهذا معنى قول ابن عباس (¬1)، فقد قال الذي رواية عطاء: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى}، يريد الرجال، (بظلم) يريد بشرك، و (أهلها مصلحون): يريد فيما بينهم، كقوم لوط عذبهم الله باللواط، وقال فيهم: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 78] يريد الشرك، وكذلك قوم شعيب عذبوا ببخس الكيل. وهذا التفسير يدل على أن الاجتراء على أنواع المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك. 118 - قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}، [قال ابن عباس (¬2): يريد على دينك الذي بعثت به. وقال قتادة (¬3): لجعل الناس أمة واحدة] (¬4): أن يجعلهم مسلمين، وهذا دليل على تكذيب القدرية حيث قالوا: ما بقي في مقدوره من اللطف في أن يجعل الخلق مؤمنين إلا وقد فعل، قالوا: ولو قدر فلم يفعل (¬5) لم يجز في الحكمة (¬6). قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، قال مجاهد وقتادة وعطاء والأعمش (¬7): أي في الأديان من بين يهودي ونصراني ومجوسي وغير ذلك ¬

_ (¬1) روي عن جرير نحوه، قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 39: وفيه عبيد بن القاسم الكُوفي وهو متروك. (¬2) "زاد المسير" 4/ 171. (¬3) الطبري 12/ 141، القرطبي عن سعيد بن جبير 9/ 114، ابن عطية 7/ 423. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (ي): (ولو قدره لم يفعله). (¬6) انظر: "شفاء العليل" لابن القيم 1/ 18، 19. (¬7) روى ذلك عنهم الطبري 12/ 141 - 142، وابن أي حاتم 6/ 2093 - 2094.

119

من اختلاف (¬1) الملل. 119 - وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، قال أبو إسحاق (¬2) {مَنْ} استثناء على معنى (لكن مَنْ رحم ربك فإنه غير مخالف). وقال الفراء (¬3): {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: يعني أهل الباطل، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}: أهل الحق، وهذا قول مجاهد (¬4) نفسه. وقال ابن عباس (¬5): هما فريقان: فريق اختلف فلم يرحم، وفريق رحم فلم يختلف، وهو كقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]. وقال عكرمة (¬6): {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يعني أهل الأهواء والبدع {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}: أهل السنة والجماعة. وقوله تعالى {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة (¬7): وللرحمة خلقهم، يعني الذين رحمهم. قال أبو بكر: وعلى هذا أشير إلى الرحمة بقوله: {ذَلِكَ}؛ لأن تأنيثها ليس تأنيثا حقيقيًا، فحملت على معنى الفضل والغفران، كقوله -عز وجل-: ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 83. (¬3) "معاني القرآن" 31/ 2. (¬4) الطبري 12/ 141، وأخرجه ابن أبي حاتم 6/ 2094 عن ابن عباس. (¬5) "زاد المسير" 4/ 172، القرطبي 9/ 115، عبد الرزاق 2/ 316. (¬6) "زاد المسير" 4/ 172. (¬7) روى ذلك عنهم جميعًا الطبري 12/ 143 - 144، والثعلبي 7/ 61 أ، والبغوي 4/ 206، و"زاد المسير" 4/ 172، والقرطبي 9/ 115، وابن كثير 2/ 509.

{هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98] أي فضل، وقالت الخنساء (¬1): فذلك يا هند الرزية فاعلمي ... ونيران حرب شب وقودها أرادت فذلك الرزء، قال: ويجوز أن يكون المراد بالرحمة: التوحيد، فأشير إليها بالتذكير لهذا المعنى، وقد بينا جواز تذكير الرحمة بأبلغ (¬2) من هذا عند قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). وقال الحسن (¬4) ومقاتل بن حيان (¬5) ويمان (¬6) وعطاء (¬7): وللاختلاف خلقهم، يعنون المختلفين. وفي الآية قول ثالث وهو الاختيار، قال ابن عباس (¬8) في رواية عطاء في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} يريد: خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل ¬

_ (¬1) "ديوانها" 44، برواية: (ونيران حرب حين شب وقودها) بزيادة حين، وبه يستقيم الوزن. (¬2) في (ي): (أبلغ). (¬3) الأعراف: 56. وذكر هنالك ما خلاصته: أنه ذهب أهل الكوفة إلى أن التذكير هنا بناءً على تقدير المكان، أي: في مكان قريب، وأما مذهب البصريين فقال الزجاج: "إنما قيل قريب؛ لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي". (¬4) الطبري 12/ 143، وابن أبي حاتم 6/ 2096، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 645، والثعلبي 7/ 60 ب والبغوي 4/ 206، والقرطبي 9/ 115. (¬5) الثعلبي 7/ 60 ب، القرطبي 9/ 115. (¬6) الثعلبي 7/ 60 ب، القرطبي 9/ 115. (¬7) الثعلبي 7/ 560 ب، القرطبي 9/ 114، البغوي 4/ 206. (¬8) "زاد المسير" 4/ 172، وأخرجه الطبري 143/ 12 بمعناه، وابن أبي حاتم 6/ 2095، وانظر: "الدر" 3/ 645، "تنوير المقباس" 146.

الاختلاف للاختلاف، وقال الكلبي عن أبي صالح عنه (¬1): خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلًا. وروى منصور بن عبد الرحمن الغُدَّاني عن الحسن (¬2) {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} قال: الناس مختلفون في الأديان، إلا من رحم ربك فإنه غير مختلف، قال: فقلتُ له: فقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال: خلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه، وخلق هؤلاء للجنة، وخلق هؤلاء للنار، فعلى هذا الإشارة بقوله (ولذلك) تعود إلى الاختلاف والرحمة، ثم يعبر عنهما بالشقاء والسعادة، فيقال: ولذلك خلقهم أي خلقهم للسعادة والشقاء، وهو قول الفراء (¬3) والزجاج (¬4). قال أبو بكر: من ذهب إلى أن {ذَلِكَ} هو إشارة إلى الشقاء والسعادة قال: إنهما يرجعان إلى معنى واحد تقديره: وللامتحان خلقهم، على أنَّا ذكرنا في مواضع أن الإشارة بلفظ (ذلك) إلى شيئين متضادين يجوز، قال أبو عبيد (¬5): الذي أختاره في تفسير الآية قول من قال خلق فريقًا لرحمته ¬

_ (¬1) الرازي 12/ 141، القرطبي 9/ 115، "زاد المسير" 4/ 172. (¬2) الطبري 12/ 141، وعنده وابن أبي حاتم بلفظ قال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء للنار وخلق هؤلاء للنار وخلق هؤلاء لرحمته وهؤلاء لرحمته وهؤلاء للعذاب، والغداني، وهو: منصور بن عبد الرحمن الغُدَّاني الأشل النضري وثقة ابن معبن وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر: "تهذيب التهذيب" 4/ 158، "تهذيب الكمال" 28/ 541. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 31. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 84. (¬5) البغوي 4/ 207، وقال أبو عبيدة.

120

وفريقًا لعذابه لأنه موافق للسُّنة. وقال أبو إسحاق (¬1): ويدل على صحة هذا القول. قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، قال الكلبي (¬2): يريد من كفار الجن وكفار الإنس. وقال الفراء (¬3): صار قوله {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} يمينًا، كما تقول: حَلِفي لأضربنك، وبدا لي لأضربنك، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] ولو كان (أن يسجنوه كان صوابًا). 120 - قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ}، قال الزجاج (¬4): {كُلًّا} منصوب بـ (نقص)، المعنى: وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك، و {مَاَ} منصوبة بدلا من (كل)، المعنى نقص عليك {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} قال ابن عباس (¬5): يريد لنزيدك يقينا، وفسر التثبيت هاهنا بالتشديد (¬6) عن ابن عباس (¬7)، وبالتقوية عن الضحاك (¬8) والتصبير عن ابن جريج (¬9)، وهو الأقرب؛ لأن ما يقص عليه من أنباء الرسل إنما هو للاعتبار بها؛ لما فيها من حسن صبرهم على أممهم، واجتهادهم في دعائهم إلى عبادة الله، فإذا سمعها ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 84. (¬2) "زاد المسير" 4/ 172، "القرطبي" 9/ 115. (¬3) "معاني القرآن للفراء" 2/ 31. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 84. (¬5) البغوي 4/ 207. (¬6) في (ي): (التشديد). (¬7) الثعلبي 7/ 61 أ، القرطبي 9/ 116. (¬8) الثعلبي 7/ 61 أ. (¬9) الثعلبي 7/ 61 أ، القرطبي 9/ 116.

النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه. وقال الزجاج (¬1): وتثبيت الفؤاد وتسكين القلب هاهنا ليس للشك، ولكن كما كانت الدلالة والبرهان أكثر كان القلب أثبت، قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وهذا الذي قال الزجاج معنى قول ابن عباس: لنزيدك يقينا. وقوله تعالى: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ}، قال ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) ومجاهد (¬4) والأكثرون: يعني في هذه السورة. قال أبو إسحاق (¬5) وابن الأنباري (¬6): وخصّت هذه السورة؛ لأن فيها أقاصيص الأنبياء ومواعظ، وذكر ما في الجنة والنار. وقيل (¬7): وجاءك في هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع؛ وهو قوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] وقوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] الآيات، ويعني بالحق ما ذكر من أن الخلق يجازون بأنصبائهم، وأن بعضهم يصير إلى النار بشقائه، وبعضهم يصير إلى الجنة بسعادته، وخصت ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 84، وانظر: "تهذيب اللغة" (ثبت) 1/ 470. (¬2) الطبري 12/ 146، عبد الرزاق 2/ 316، والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم 6/ 2096، وأبو الشيخ وابن مردويه، كما في "الدر" 3/ 646، القرطبي 9/ 116. (¬3) الطبري 12/ 146، "زاد المسير" 4/ 173. (¬4) الطبري 12/ 146، "زاد المسير" 4/ 173. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 84. (¬6) "زاد المسير" 4/ 174. (¬7) ساقط من (ب)، ذكر هذا القول الزجاج في معانيه 3/ 84.

هذه السورة أو هذه الآيات بمجيء الحق فيها -وإن كان جميع ما أنزله الله حقا- تشريفًا للسورة ورفعًا لمنزلتها، وغيرها من السور غير منتقص الفضل بما لحق هذه السورة (¬1) من الاختصاص (¬2)، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [فاختصاص الوسطى] (¬3) لا يزيل عن غيرها معنى التشريف ووجوب المحافظة عليها، ومثله كثير، وهذا الذي ذكرنا معنى قول أبي إسحاق (¬4) وابن الأنباري (¬5). وقال الحسن (¬6) وقتادة (¬7): وجاءك في هذه الحق: في الدنيا. وقوله تعالى: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، يريد أنهم يتعظون إذا سمعوا هذه السورة بما نزل بالأمم لما كذبوا أنبياءهم، فتلين قلوبهم لسلوك طريق الحق، ويتذكرون بها الخير والشر، وما يدعو إليه كل واحد منهما من عاقبة النفع والضر، كما دعا إليه الأمم المكذبة الكافرة، والمصدقة المؤمنة. قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} تهديد ووعيد، يقول ما أنتم عاملون {إِنَّا عَامِلُونَ} وستعلمون عاقبة أمركم {وَانْتَظِرُوا} ما يعدكم ¬

_ (¬1) ساقط من (ي). (¬2) انظر: "زاد المسير" 4/ 174، "القرطبي" 9/ 116. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 84. (¬5) "زاد المسير" 4/ 174. (¬6) الطبري 12/ 147، الثعلبي 7/ 61 أ، "زاد المسير" 4/ 173، البغوي 4/ 207، القرطبي 9/ 116. (¬7) الطبري 12/ 147، الثعلبي 7/ 61 أ، "زاد المسير" 4/ 173، البغوي 4/ 207، وابن أبي حاتم 6/ 2096، أبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 646، القرطبي 9/ 116.

الشيطان {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} ما يعدنا ربنا من النصر والعلو، عن ابن جريج (¬1). وقال ابن إسحاق (¬2) {وَانْتَظِرُوا} ما يحل بكم من العذاب {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} لذلك. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال أبو علي (¬3): الغيب مصدر مضاف إلى المفعول على الاتساع وحذف حرف الجر؛ لأنك تقول (غبت في الأرض)، و (غبت ببلد كذا) فتعديه بحرف الجر، فحذف وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى، نحو: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] و {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ}، [ص: 24] ويحتمل وجهين: أحدهما: ذو (¬4) غيب السموات والأرض، أي ما غاب فيهما من أولي العلم، والآخر: أن يكون المعنى: ولله علم (¬5) غيب السموات والأرض، ويدل على هذا قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 73]. قال ابن عباس (¬6) في رواية الوالبي: يعني خزائن السموات والأرض، وقال الضحاك (¬7): يعني جميع ما غاب عن العباد. وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} في المعاد حتى لا يكون ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 148، وأبو الشيخ كما في "الدر" 3/ 646. (¬2) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 255. (¬3) القرطبي 9/ 117. (¬4) في (ي)، (جـ): (ذوو). (¬5) ساقط من (ي). (¬6) الثعلبي 7/ 61 أ، القرطبي 9/ 117. (¬7) الثعلبي 7/ 61 أ، البغوي 2/ 407، القرطبي 9/ 117، "زاد المسير" 4/ 175.

للخلق أمركما يكون في الدنيا للفقهاء والأمراء، وقرئ {يَرجع} (¬1)، وذكرنا هذا مستقصى في المعنى والتوجيه عند قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (¬2) في سورة البقرة. وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، أي أنه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والمعنى في قوله: {يَعْمَلُونَ} ينصرف إلى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وقرئ (¬3) (تعملون) بالتاء على معنى قل لهم: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. ¬

_ (¬1) قرأ نافع وحفص عن عاصم (يُرجَع) بضم الياء وفتح الجيم، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم (يَرجعُ) بفتح الياء وكسر الجيم، انظر: "السبعة" ص 340، "الكشف" 1/ 538، "إتحاف" 2/ 137. (¬2) البقرة: 210. قال هنالك: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي من الجزاء ومن الثواب والعقاب، وذلك أن العباد في الدنيا لا يجازون على أعمالهم، ثم إليه يصيرون، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء .. ويكون المعنى على أن الله ملّك عبيده في الدنيا الأموال والتصرف فيها، ثم يرجع الأمر في ذلك كله إلى الله تعالى في الآخرة فلا يملك أحد شيئًا". (¬3) قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "السبعة" ص 340، "الكشف" 1/ 538، "إتحاف" 2/ 137.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية - 107 , 108 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة يوسف إلى آخر سورة الرعد تحقيق د. عبد الله بن إبراهيم الريس من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الحجر تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الثاني عشر

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [12]

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468هـ)./ علي بن أحمد الواحدي، عبد الله بن إبراهيم الريس؛ عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 7 - 869 - 04 - 9960 - 978 (ج12) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 7 - 869 - 04 - 9960 - 978 (ج 12)

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعيه -170 , 108 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة يوسف إلى آخر سورة الرعد تحقيق د. عبد الله بن إبراهيم الريس من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الحجر تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الثاني عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة يوسف إلى آخر سورة الرعد تحقيق د. عبد الله بن إبراهيم الريس

تفسير سورة يوسف

تفسير سورة يوسف بسم الله الرحمن الرحيم 1 - قوله (¬1) عز وجل {الر} قال ابن عباس (¬2): يريد أنا الله الرحمن. والكلام في الحروف المعجمة قد ذكرناه في مواضع (¬3)، وهذه الحروف لا تعد آية كما تعد {طه}؛ لأن آخرها لا يشاكل رؤوس الآي. وقوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قال صاحب النظم وأبو بكر بن الأنباري: [تلك بمعنى (هذه) كما كان (ذلك) (¬4)] بمعنى: هذا في قوله تعالى {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} (¬5) وقد فسرناه مستقصًى في موضعه، إلا أن {ذَلِكَ} مذكر؛ لأنه يومئ به إلى الكتاب، و (تلك) تأنيث ذلك؛ لأنه يومئ بها إلى الآيات. وقال أبو بكر (¬6): يجوز أن يكون (تلك) إشارة إلى ما ذكره عز وجل في ¬

_ (¬1) في (ب) بزيادة (تعالى). (¬2) "زاد المسير" 4/ 4. (¬3) ذكر ذلك باستفاضه في أول البقرة. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) أول البقرة. وقد ذكر هنالك ما ملخصه: أن (ذلك) يكون بمعنى (هذا) عند كثير من المفسرين، وذكر عن الفراء أن (ذلك) يجوز بمعنى (هذا) لما مضى، وقرب وقت تقضيه أو تقضي ذكره. (¬6) "زاد المسير" 4/ 4.

2

التوراة والإنجيل، وتلخيصه: هذه الأقاصيص التي تسمعونها {تِلْكَ} الآيات التي وصفت في التوراة، {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} على هذا هو التوراة، وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬1). قال أبو بكر (¬2): ويجوز أن يكون (تلك) إشارة إلى {الر} وأخواتها بين حروف المعجم، أي: تلك الحروف المفتتحة بها السور هي آيات الكتاب المبين؛ لأن الكتاب بها يُتلى عليكم، وألفاظه إليها ترجع، و {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} القرآن المبين في قول ابن عباس، قال: والمبين الذي بُيّن فيه الحلال والحرام (¬3)، وقال قتادة (¬4): بَيّن فيه الهدى والرشد، فكان الكتاب (¬5) مبيّنًا لهذه الأشياء. 2 - قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قال أبو إسحاق (¬6) وأبو بكر (¬7): هذه الهاء تصلح لشيئين: أحدهما: أن يكون الكتاب، ويجوز أن يكون {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} خبر يوسف وقصته. قال أبو بكر: وذلك أن اليهود قالوا للمشركين سلوا محمدًا لم انتقل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 87. (¬2) "زاد المسير" 4/ 4. (¬3) "تنوير المقباس" ص 130، وذكره ابن جرير وعزاه لمجاهد 12/ 149. (¬4) أخرجه عبد الرزاق عن قتادة بقوله "بين الله تعالى رشده وهداه" 2/ 317، وأخرجه الطبري عنه أيضًا 12/ 149، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2099 ب. وانظر: "الدر" 4/ 4، البغوي 4/ 211، و"زاد المسير" 4/ 177. (¬5) في (ب): والرشد. والمبين من نعت الكتاب مبينًا. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 87. بتصرف. (¬7) "البحر المحيط" 5/ 277.

3

ولد يعقوب من الشام إلى مصر؟ وسلوه عن خبر يوسف وإخوته؟ فأنزل الله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬1) يعني أنزلنا (¬2) خبر يوسف وإخوته الذي طالب اليهودُ بشرحه (¬3). {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قال: ولا يجوز رجوع الهاء على القرآن المتأخر؛ لأن الكناية لا تصح إلا بسبق ظاهر يوضح تأويلها. وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ذكرنا معنى العربي والعرب والأعراب في قوله {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} (¬4). وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن عباس (¬5): يريد كي تفهموا، قال مقاتل (¬6): لو لم يكن عربيًا لما فهموا عنه. 3 - قوله تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية، قد ذكرنا معنى القص والقصص عند قوله {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (¬7) الآية، قال ¬

_ (¬1) ذكر ذلك البغوي 4/ 417، و"زاد المسير" 4/ 177، والرازي 18/ 83. (¬2) في (ب): {أَنْزَلْنَاهُ}. (¬3) هذا القول رجحه النحاس كما في "معاني القرآن" 3/ 396، وضعفه ابن عطيه 7/ 431. (¬4) التوبة: 97. قال هنالك: وقال أهل العلم: إنما سمي العرب عربًا؛ لأن أولاد إسماعيل نشأوا بعربة، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أهلها فهم منهم .. والأعرابي: إذا كان بدويًّا صاحب نجعه وانتواء. (¬5) "زاد المسير" 4/ 178، البغوي 4/ 211، القرطبي 9/ 118. (¬6) "تفسير مقاتل" 150 ب. (¬7) آل عمران: 62. وقال هناك: القصص مصدر قولهم: قص فلان الحديث يقصة قصًّا وقصصًا، وأصله اتباع الأثر، وقيل للقاص يقص لأتباعه خبرًا لعد خبرًا وسوقه الكلام سوقًا، فمعنى القصص الخبر الذي تتابع في المعاني. اهـ.

4

الزجاج (¬1): أي نبين لك أحسنَ البيان، لا إلى القصة، ولو قيل: أحسن القصص، بكسر القاف على جمع قصة، قلنا (¬2) نحتاج أن نذكر لم قيل هذه القصة أحسن القصص؟. وقوله تعالى {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال الأخفش (¬3) والفراء (¬4) والكسائي والزجاج (¬5): أي بوحينا إليك هذا القرآن، كأنهم جعلوا (ما) (¬6) مع الفعل بمنزلة المصدر. وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ} أي ما كنت من قبله، قال ابن عباس (¬7): يريد من قبل أن يوحى إليك، {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي: إلا من الغافلين، كقوله {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186] {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] قال ابن عباس (¬8): يريد لا علم لك بحديث يعقوب، ولا حديث ولده، وقال الزجاج (¬9): أي من الغافلين عن قصة يوسف وإخوته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما علم ذلك بالوحي. 4 - قوله تعالى {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} قال ابن الأنباري (¬10): (إذ) صلة لفعل مضمر معناه: اذكر إذ قال يوسف لأبيه، واختلفوا في التاء التي في ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 88. (¬2) في (ج): (كنا). (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 587، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 120. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 31. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 88. (¬6) (ما) ساقطه من (ب). (¬7) "تنوير المقباس" ص 146، و"زاد المسير" 4/ 179، والثعلبي 7/ 62 أ. (¬8) "تنوير المقباس" ص 146. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 88. (¬10) "زاد المسير" 4/ 180.

(أبت)، فزعم الزجاج (¬1) -وهو مذهب البصريين- أن التاء علامة التأنيث دخلت على الأب في باب النداء خاصة، لتكون بدلاً من ياء الإضافة، ولأن المذكر قد يدخل عليه علامة التأنيث، فيقال: رجل ربعة ونكحة وهزأة. وقال الفراء (¬2) وأصحابه: التاء في (يا أبت) ليست علامة التأنيث (¬3) إنما هي هاء أصلاً أدخلوها للسكت، وهو قولهم: يا أباه، ثم سقطت الألف لدلالة فتحة الباء عليها، وانصرف عن الهاء إلى لفظ التاء؛ لكثرة الاستعمال تشبيهًا بتاء التأنيث، وكسرت تقديرًا أن بعدها ياء الإضافة، ولم يستعمل في غير النداء؛ لأن هاء السكت مع الألف لا تدخلان إلا في النداء، وذكرنا مثل هذا (¬4) في الأم عند قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (¬5) في حكاية مذهب ابن الأنباري، وأما قول من قال: يا أبتاه، فإنه زاد الألف والهاء على التاء لما انتقلت عن لفظ الهاء، فأما قول الشاعر (¬6): تقولُ ابْنَتِي لمّا رأتْنِي شَاحِبًا ... كأنّك فينا يأ أباتَ (¬7) غَرِيبُ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 88. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 32، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 120. (¬3) في (أ)، (ب): (التأنيث) من غير ألف. (¬4) في (ج): (إلا في الأم) بزيادة إلا. (¬5) النساء: 23. وقد ذكر هناك نقلاً عن ابن الأنباري أن الأصل: أم، ثم يقال في النداء: يا أماه، فيدخلون هاء السكت. أهـ. (¬6) البيت لأبي الحدرجان كما في "نوادر أبي زيد" (239) وفيه: كأنك فينا يا أباه غريب وبلا نسبة في "العين" 4/ 253، و"الخصائص" 1/ 339، و"اللسان" (أبي) 1/ 16، و"الدر" 4/ 253، "الهمع" 6/ 342، وهو من الشعراء المجهولين. (¬7) في (أ)، (ب): (يا أباة).

ففيه وجهان: أحدهما: أن أصله يا أباه فشبهت هاء الموقف بتاء التأنيث، والألف هي التي تزاد للنداء في: يا رباه ويا زيداه، والآخر: أن الألف هي لام الفعل من الأب التي تجدها في قولك: يا با عمرو، والتاء بدل من هاء الوقف، وهذا اختيار أبي علي (¬1)؛ لأنه قال: القول فيه أنه رد المحذوف من الأب، وزاد عليها التاء كما يزاد فيه إذا كان اللام ساقطًا. قال ابن الأنباري: ونظير قولهم: يا ابته، في إدخال الألف والهاء على تاء أصلها هاء السكت، قولهم: أهرقت الماء، حين أدخلوا ألف أفعلت على هاء مبدلة من (¬2) ألف أفعلت لما كان لفظ الهاء يخالف، وساغ لهم باختلاف اللفظين أن يقدروا أن الهاء فاء الفعل. ورد الكوفيون مذهب البصريين في هذا، وقالوا: لو كانت هذه التاء تاء تأنيث لدخلت في النداء وغيره، كما ثبتت هاء نكحة في جميع الأبواب، ولو كانت بدلاً من ياء الإضافة لاستُغْني بها عن الكسرة في التاء في (¬3) يا أبت؛ لأنها نائبة عن كل ياء إضافة في قولهم: (يا غلام أقبل) و (يا رب اغفر لي)، فلما وجدنا الكسرة على التاء علمنا أنها هي الكافية من (¬4) ياء الإضافة دون التاء، وكان دخول التاء لغير هذه العلة، وأما الهاء في: نكحة وهزأة، فلم يدخل للمعنى الذي ذهب إليه البصريون، لكنهم قصدوا بها قصد المبالغة في الوصف وشبهوا الموصوف بالداهية، فاستحق ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 395. (¬2) في (ب): (عن). (¬3) (في) ساقطة من (ج). (¬4) في (ب): (عن).

التأنيث لذلك، ولو كان الموصوف بما فيه الهاء مذمومًا، كان مشبهًا بالبهيمة يؤنث (¬1) نعته لمعناها، والاختيار في القراءة كسر التاء لأنها أجريت مجرى تاء التأنيث، وكسرت على الإضافة إلى نفس المتكلم على معني: يا أبتي، ثم حذف الياء؛ لأن ياء الإضافة تحذف في النداء. فأما من فتح التاء (¬2) فقال علي (¬3): له وجهان، أحدهما: أن يكون كقولهم: (يا طلحة أقبل)، ووجه قول من قال: يا طلحة، أن هذا النحو من الأسماء التي فيها تاء التأنيث أكثر ما يدعى مُرخَّى (¬4) فلما كان كذلك رد التاء المحذوفة في الترخيم إليه، وترك الأخرى تجري على ما كان يجري عليه في الترخيم من الفتح فلم يعتد بالهاء، كما أن من قال: اجتمعت اليمامة، وهو يريد أهل اليمامة، رد الأهل ولم يعتد به، وقال اجتمعت أهل اليمامة، فجعله على ما كان يكون عليه عند حذف الأهل، وعلى هذا ينشد (¬5): كِلِيني لهَمٍّ يا أمَيْمَةَ ناصبِ ¬

_ (¬1) (يؤنث) ساقطة من (ج). (¬2) هي قراءة ابن عامر، انظر "السبعة" (344)، و"الكشف" 2/ 3، و"إتحاف" ص 262، و"الحجة" 4/ 390. (¬3) كذا والصحيح أبو علي، انظر كتاب: "الحجة" 4/ 390. (¬4) في "الحجة" 4/ 390، (مُرَخّمًا). (¬5) البيت للنابغة الذبياني وعجزه: وليل أقاسيه بطئ الكواكب وقوله (كليني): اتركيني، من وكلت الأمر إليه (ناصب): (متعب). انظر: ديوانه: 29، سيبويه، والشنتمري 1/ 315، و"الشعر والشعراء" 22، و"الأزهية" 246، و"الحجة" لابن خالويه ص 167، و"الدرر" 1/ 160، و"العيني" 3/ 303، و"معاني القرآن" 2/ 32، و"شرح المفصل" 2/ 107، و"الخزانة" 1/ 370، و"الدر المصون" 6/ 435.

بفتح التاء. والوجه الآخر: أن هون اراد بـ يا ابتي، بالياء، ثم أبدل الياء بالألف، كما ذكرنا في قراءة من قرأ يا بني بفتح الياء (¬1)، فقال: يا أبتا، ثم حذف الألف كما تحذف الياء، فتبقى الفتحة دالة على الألف. كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء, والدليل على قوة هذا الوجه كثيرة ما جاء من هذ الكلمة على هذا الوجه، كقوله (¬2): وهل جَزعٌ إن قُلتُ وابِأْبَاهُما ولذلك قال رؤبة (¬3): وهي تُرَبِّي يابا وابْنَاهَا وقال الأعشى (¬4) ويا أبَتَا لا تزلْ عِنْدنا ... فإنَّا نَخَافُ بأن تُخْتَرَم وقال رؤبة (¬5): يا أبَتَا عَلَّك أو عَسَاكَا ¬

_ (¬1) هذ قراءة حفص عن عاصم في جميع المواضع، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالفتح في هود {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا}. انظر: "السبعة" (333)، و"إتحاف" ص 262. (¬2) البيت سبق تخريجه. (¬3) روايته في الديوان: (فهي ترثي باب ..) وبعد: (إن تميمًا خلقت ملموما). انظر: ملحق "ديوانه" ص185 "المفصل" 2/ 12، وبلا نسبة في "الإعراب" (51)، و"الإنصاف" 403، و"مجاز القرآن" 2/ 71، 76. (¬4) "ديوانه" ص 200, تخترم: يقال اخترمه الموت: أخذه. وانظر: "شرح التسهيل" 3/ 406، و"الدر المصون" 6/ 432. (¬5) سبق تخريجه.

وقال آخر (¬1): يا أبتا ويا أبه ... خَشَنْتَ إلا الرقبة فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم هذه الكثرة ألزموها القلب والحذف، على أن أبا عثمان قَدّر (¬2) هذا مطردًا في جميع هذا الباب، فأجازوا وضع الألف مكان الياء في الإضافة في النداء إجازة مطردة، فأجاز: يا زيدًا أقبل، إذا أردت الإضافة، وهذا الوجه الثاني في فتح التاء من (يا أبت) هو اختيار الزجاج (¬3) وهو مذهب البصريين. قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن مبناه على لغة شاذة، وهو على لغة مَنْ يقول: قام غلاما، وهذا ثوبَا، يعني غلامي وثوبي، وكقراءة من قرأ: (وأقم الصلاة لذكرا) (¬4) أي لذكري، ولا يحمل كتاب الله على هذه اللغة، والعلة في فتح التاء أنهم أرادوا: (يا أبتاه) فأسقطوا الألف والهاء، وأقروا ما قبلها على الفتح، اختصاصًا لما أكثروا استعمال (¬5) الحرف، وهذا أيضًا قول قطرب، وأنكر البصريون هذا، قال الزجاج (يا أبتاه) للندبه، والندبة هاهنا لا معنى لها، وقال أبو عثمان: من قال: يا أبتاه، فهو نداء على جهة الندبة، فإذا حذفت الألف والهاء صار نداءً على غير جهة الندبة فلا يجوز فتح التاء، وذكر قطرب قولًا آخر في فتح التاء وهو أنه قال: أراد يا أبةً، ثم حذف التنوين كما قال الطرماح: ¬

_ (¬1) الرجز لجارية من العرب تخاطب أباها، و"جمهرة اللغة" 1/ 176، و"مقاييس اللغة" 2/ 27، و"اللسان" 1/ 533. (¬2) في "الحجة" 4/ 392 (قد رأى أن ذلك مطردًا). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 89. (¬4) طه: 14. (¬5) في (ب): (الاستعمال).

يَا دَارَ أقْوَتْ بعد أحْرَامِها على إرادة التنوين. قال أبو إسحاق (¬1): وهذا الذي قاله قطرب خطأ؛ لأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب؛ لأن النصب إعراب المنادى فلا يكون معربًا منصرفًا غير منون في حال النصب، وأما قوله: (يا دار أقوت) بفتح الراء فلم يروه أحد من أصحابنا بالفتح، ولا أعرف له وجهًا، وأنشده الخليل وسيبويه وجميع البصريين بضم الراء، والقول في فتح التاء قول البصريين أن الألف بدل من الياء التي هي للإضافة ثم حذفت وبقيت الفتحة، يدل عليه من يحذف الياء ويجتزئ بالكسرة، وإنكار ابن الأنباري عليهم بأنها لغة شاذة لا يلزم؛ لأنهم أجازوا هذا الإبدال في النداء وهو غير شاذ، وإنما يكون شاذًا في غير النداء، كما ذكر من قولهم: قام غلامًا، وهذا ثوبًا، وأجاز الفراء (¬2): يا أبتُ، بضم التاء على أنها آخر المنادى المفرد، من قبل أنهم لم يلحقوها ياء الإضافة (¬3) ألا وهي عندهم كالدال من زيد، وأبطل البصريون ضم التاء، قالوا: هي بدل من ياء الإضافة، والمنادى المضاف غير مستحق للرفع، واحتج الكوفيون عليهم بأنها لو كانت بدلاً من ياء الإضافة لما كسرت كما بينا. قال ابن الأنباري: وقراءة من قرأ بالفتح يدل على جواز الرفع؛ لأن الألف والهاء سبيلهما أن يدخلا على آخر حروف الاسم المستحق للرفع، وكان ابن كثير (¬4) يقرأ: يا أبتِ، بكسر التاء، فإذا وقف وقف بالهاء؛ لأن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 89. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 32. (¬3) في (ب): (بالإضافة). (¬4) انظر: "السبعة" (344)، و"إتحاف" 2/ 262، و"الحجة" 4/ 390.

تاء التأنيث يبدل منها الهاء في الوقف، فيغير الحرف في الوقف بذلك كما غير التنوين في حال النصب بالألف، وتغييرات الوقف كثيرة، ولا يلزم اعتبار الإضافة في قراءته لأنه في الوصل بكسر التاء، وذلك أنه إذا وقف عليها سُكنت للوقف، فإذا سكنت كانت بمنزلة ما لا يراد فيه الإضافة، فيساوي ما يراد به الإضافة ما لا يراد في الوقف. وأما ابن عامر (¬1) فإنه يفتح التاء في الوصل ويقف بالهاء، فإن قلنا: إنه فتح التاء كنحو قولهم: يا طلحة ويا أميمة، فإنه أبدل التاء هاء في الوقف كما تبدل من سائر تاءات التأنيث، وإن قلنا: إنه أراد: يا أبتا، فحذف الألف في النداء كما يحذف التاء، فوقفه بالهاء كوقف ابن كثير بالهاء، والباقون يقفون بالتاء وهم يكسرون، وذلك أن من كسر التاء كان الاسم في تقدير الإضافة، والمضاف إليه على حرف واحد وقد حذف وتركت الحركة تدل عليه، والحركة لا تكون إلا في تقدير الانفصال من المتحرك على أنه قد حكي أن قومًا يقفون على التاء في الوقف ولا يبدلون منها الهاء. وأنشد أبو الحسن (¬2): بل جَوْزِ تَيْهَاء كظَهْرِ الحَجَفَتْ وهذا مما قد مرّ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" (344)، و"إتحاف" 2/ 262، و"الحجة" 4/ 390. (¬2) ورد البيت منسوبًا إلى سُؤر الذئب كما في "اللسان"، والحجفة: الترس يصنع من جلد الإبل، وقوله (بل جوز تيهاء)، يريد: رب جوز تيهاء. انظر: "الخصائص" 1/ 304، 2/ 98، و"المحتسب" 2/ 92، و"المخصص" 9/ 7 - 16، 84 - 96، و"اللسان" (حجف، بلل) 2/ 787، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 177، و"شرح المفصل لابن يعيش" 2/ 181.

قوله تعالى {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} الآية. قال وهب (¬1) والمفسرون (¬2): رأى يوسف وهو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر سجدن له. قال ابن عباس (¬3) وقتادة (¬4) ومحمد بن إسحاق (¬5) والمفسرون (¬6): هم إخوته وأبواه. وقال ابن جريج (¬7): الكواكب إخوته، والشمس أمه راحيل، والقمر أبوه. وقال مقاتل (¬8): الشمس أبوه والقمر أمه. وقال السدي (¬9): الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أن أمه كانت قد ماتت. وقوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ} قال ابن الأنباري: لما تطاول الكلام بين الرؤية والسجود أعيدت الرؤية مع السجود؛ ليكون ذلك أكشف للمعنى وأدل على التوكيد والبيان. ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 63 ب، الرازي 18/ 87. (¬2) "زاد المسير" 4/ 180. (¬3) انظر: الطبري 12/ 152، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 4/ 6، والثعلبي 7/ 63 ب. (¬4) الطبري 12/ 152، وتفسير عبد الرزاق 2/ 123، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 6. (¬5) انظر: ابن كثير 2/ 513، و"زاد المسير" 4/ 180. (¬6) الطبري: 12/ 152. (¬7) الطبري: 12/ 152، ولم يذكر اسمه أمه. (¬8) "تفسير مقاتل" 150 ب. (¬9) البغوي 4/ 213، و"زاد المسير" 4/ 180، الثعلبي 7/ 63 ب.

وهذا معنى قول (¬1) الفراء (¬2) والزجاج (¬3). وذكر صاحب النظم أنه يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وقوله {رَأَيْتُهُمْ} وهي مما لا يَفْهم ولا يُفهم وحسن ذلك؛ لأنه لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل، فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] وقد مر، وكذلك قوله {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]، وهذا معنى قول الفراء (¬4) والزجاج (¬5). وقيل في معنى سجودهم له قولان، أحدهما (¬6): أنه السجود المعروف على الحقيقة تكرمة له لا عبادة كسجود الملائكة لآدم، الثاني (¬7): أن السجود هاهنا بمعنى الخضوع كقوله (¬8): ¬

_ (¬1) قل ساقطة من (أ)، (ب)، (ج). (¬2) لم أجده في مظانه، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 123، و"التبيان" للعكبري ص 465، و"البحر المحيط" 5/ 280. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 91. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 35. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 91. (¬6) قال به ابن زيد كما في الطبري 12/ 152، وابن الأنباري كما في "زاد المسير" 4/ 290، وبه قال الطبري 12/ 152. (¬7) انظر البغوي 4/ 280. (¬8) عجز بيت لزيد الخيل وصدره: بجمل تضل البلق في حجراته انظر: "الكامل" 1/ 358، و"الأغاني" 16/ 52، و"مجمع البيان" 1/ 141، الطبري 1/ 300، 1/ 365 وغير منسوب في "تأويل مشكل القرآن" ص 417، و"الصناعتين" 295، و"البحر المحيط" 1/ 51. ومعناه: تضل البلق في حجراته: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والأبلق مشهور المنظر لاختلاف لونه، وحجراته: نواحيه، وقوله: (ترى الأكم منه سجدًا للحوافر) لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض.

5

تَرَى الأكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا للحَوَافِرِ (¬1) قال ابن عباس (¬2): إن ذلك الزمان كان سجود بعضهم لبعض، وقال في رواية الكلبي (¬3): رأى يوسف هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر، فلما قصَّها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته له، فقال له: يا بني لا تقصص. 5 - وهو قوله: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} الآية. قال العلماء وأصحاب الآثار (¬4): أشفق يعقوب على يوسف حسد إخوته بهذه الرؤيا؛ لأن يوسف كان نبيًا في علم الله مذ كان، ورؤيا الأنبياء وحي لا يبطل منها شيء. قال ابن عباس (¬5): رؤيا الأنبياء وحي، وعَلِمَ يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويشفقون من علو يوسف عليهم على صغر سنه وتقدم أمرهم أمره، وسبقهم من العلم إلى ما تأخر عنه، بهذا جاءت الآثار. وقوله تعالى {رُؤْيَاكَ} الرؤيا (¬6) مصدر كالبُشْرى والسُقيا والتقى والشورى، إلا أنه لما صار اسمًا لهذا المتُخيل في المنام جرى مجرى ¬

_ (¬1) في (ب): (حوافر). (¬2) ذكر نحوه عند قوله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} آية: 100. انظر: "زاد المسير" 4/ 290، القرطبي: 9/ 265. (¬3) البغوي: 4/ 213، ابن عطية: 7/ 436. (¬4) الطبري 12/ 152، "زاد المسير" 4/ 185، البغوي 4/ 213، القرطبي 9/ 122، الثعلبي 7/ 63 ب، ابن عطية: 7/ 437، ابن كثير 3/ 512 - 514. (¬5) الطبري 12/ 151، وابن أبي حاتم 7/ 2101 أ، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 6، والبغوي 4/ 213. (¬6) حديثه عن الرؤيا واشتقاقها منقول عن الفراء والزجاج والفارسي كما سيأتي.

الأسماء، وخرج من حكم الأعمال فلا يعمل واحدٌ منها أعمال المصادر، ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها (رؤى) فصار بمنزلة ظلم، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر. وفي الرؤيا أربع لغات: تحقيق الهمز، وتحقيقها بقلبها واوًا من غير إدغامها في التاء وإن كانت ساكنة؛ لأنها في تقدير الهمز فهي ليست بواو، وإذا لم يلزم لم يقع الاعتداد بها فلم يدغم، ومن ثم جاء صنو وشي في تخفيف وشي، وبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، وجاز تحرك حرف اللين وتصحيحه مع انفتاح ما قبله؛ لأن الهمزة (¬1) في تقدير الثبات، وقد أدغم قوم فقالوا: ريًا؛ لأنه لما ترك الهمز سكنت الواو وبعدها ياء فتحولتا ياءً مشددة كما يقال: لويته ليًّا، وكويته كيًا، والأصل كويًا ولويا، وكسروا الفاء كما كسروا من قولهم: قرن ألوى وقرون لي، وإن أشرت إلى الضمة فقلت (رُيًا) فرفعت الراء جاز، وتكون هذه الضمة مثلها في قوله: و (حيل) و (سيق). وأنشد الفراء (¬2): ¬

_ (¬1) في (ب): (الهمز) (¬2) قال الفراء: أنشدني أبو الجراح. و (العرض) الوادي فيه شجر، و (الغين) جمع الغيناء وهي الخضراء من الشجر، وهو بدل من (أفنانه)، و (يصرف): يصوت، وفي "اللسان" (رنه) ولا شاهد فيه. "اللسان" (عرض) 5/ 2888، (غين) 6/ 3331 (رأى) 3/ 1541، و"معاني القرآن" 2/ 35، و"الزاهر" 2/ 205، و"ديوان الأب" 1/ 122، و"تهذيب اللغة" 2/ 1323 مادة (رأى)، 3/ 2709 مادة (غين)، و"تاج العروس" 13/ 381، و"معجم البلدات" 4/ 102 (العرض).

6

لَعِرْضٌ (¬1) من الأعْراضِ تَمْشِي حَمَامُه ... ويُضَحِي على أفْنَانِه الغِينِ يَهْتِفُ أحبُّ إلى قَلْبِي مِنَ الدِّيَك رَنَّة ... وبابٍ إذا ما مَالَ للغَلْقِ يَصرِفُ قال أراد: رؤية، فلما ترك الهمز أدغم على ما ذكرنا، وكل ما ذكرنا في الرؤيا (¬2) من كلام الفراء (¬3) والزجاج (¬4) وأبي علي (¬5). وقوله تعالى: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} أي: فيحتالوا في هلاكك؛ لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدوك (¬6)، واللام في قوله {لَكَ} تأكيد للصلة، كقوله {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقيل هي من صلة الكيد، على معنى: فيكيدوا كيدًا لك. قال أهل المعاني (¬7): وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بالرؤيا وتعبيرها، وأن يعقوب قد علم منهم حسدًا له وبغضًا، فخافهم عليه. 6 - كذلك قوله {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}. قال أبو إسحاق (¬8): موضع الكاف في (كذلك) النصب، المعنى: ومثل ما رأيت يجتبيك ربك، وعلى ¬

_ (¬1) في (ب) زيادة هن فيكون: (لغيرهن). وفي "معاني القرآن" 2/ 35: (لعرض من الأعراض). (¬2) (في الرؤيا) ساقطة من (ب). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 35. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 92. (¬5) "الحجة" لأبي علي الفارسي 4/ 398، وأغلب النقل السابق عنه. (¬6) هذه عبارة الثعلبي 7/ 63 ب، و"مشكل القرآن وغريبه" ص 216، والقرطبي 9/ 122، والطبري 12/ 152. (¬7) البغوي 4/ 213. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 91.

هذا قال ابن الأنباري (¬1): (ذلك) إشارة إلى قول يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} فقال له يعقوب: ومثل ذلك التفضيل وتلك الرفعة والحال الجليلة (¬2) التي شاهدتها في رؤياك يجتبيك ربك، فموضع الكاف نصب بيجتبي [وموضع ذلك خفض بالكاف الزائدة، والمعنى: وكما أراك الله من هذه الرؤيا يجتبيك] (¬3). [وقال الفراء (¬4): {وَكَذَلِكَ} جواب لقوله {إِنِّي رَأَيْتُ} فقيل له: وهكذا يجتبيك ربك، كذلك وهكذا سواء في المعنى. قال أبو بكر: وعلى هذا (كذلك) حرف واحد معناها هكذا، وموضعه نصب بيجتبيي] (¬5). قال الفراء (¬6): ومثله في الكلام أن يقول الرجل: قد فعلت اليوم كذا وكذا من الخير، فيقول له القائل: هكذا السعادة والتوفيق، وكذلك السعادة والتوفيق، فيسوي بينهما، وقد ذكرنا قبل هذا أن (كذلك) تحقيق لما مضى من الكلام، ضد كَلّا. وقوله تعالى {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} قال ابن عباس (¬7) والمفسرون (¬8) وأهل ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 181. (¬2) في (أ)، (ب): (الجلية). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 36. (¬5) ما بين المعقوفين مكرر في (أ)، (ج). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 36. (¬7) نقله عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 181، وابن جرير وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 7. (¬8) وهو قول عكرمة وقتادة كما في الطبري 12/ 153، وعزاه ابن أبي حاتم 7/ 2103 أ، لقتادة، وانظر "الدر" 4/ 7.

اللغة (¬1): يختارك ويصطفيك. قال الزجاج (¬2): وهو مشتق من: جبيت الشيء، إذا خلصته لنفسك، ومنه: جبيت الماء في الحوض. وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} قال ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4) وقتادة (¬5): يريد تعبير الأحلام، وعبارة الرؤيا. قال ابن زيد (¬6): وكان أعبر الناس للرؤيا، فعلى هذا معنى التأويل: المنتهى الذي يؤول إليه المعنى في الرؤيا، والأحاديث هي أحاديث الناس عما يرونه في منامهم، قال الزجاج (¬7): وغير ذلك. وقيل (¬8): يعلمك تأويل أحاديث الأنبياء والأمم، يعني الكتب والأحاديث في آيات الله ودلائله على توحيده، وغير ذلك من أمور دينه. وقوله تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قال ابن عباس (¬9): يريد بالنبوة، {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}. قال المفسرون (¬10): يعني وعلى النبيين من آل يعقوب، ¬

_ (¬1) قال به أبو عبيدة كما في "مجاز القرآن" 1/ 3025، والفراء كما في "معاني القرآن" 2/ 36. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 91. (¬3) "تنوير المقباس" 146، و"زاد المسير" 4/ 181. (¬4) الطبري 12/ 153، وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم 7/ 2103 أ، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 7، و"زاد المسير" 4/ 181، وابن عطية 7/ 438. (¬5) الطبري 12/ 153، وابن أبي حاتم 7/ 2103 أ. (¬6) الطبري 12/ 153، وابن أبي حاتم 7/ 2103 ب، وانظر: "الدر" 4/ 7. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 92. (¬8) "زاد المسير" 4/ 181، القرطبي 9/ 129. (¬9) "زاد المسير" 4/ 181، القرطبي 9/ 129، البغوي 4/ 214، ابن عطية 7/ 438. (¬10) البغوي 4/ 214، ابن عطية 7/ 438.

بمعنى (¬1) الخصوص، وإن كان الظاهر ظاهر عموم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم (¬2) اجعل رزق آل محمد قوتًا" (¬3) يريد البعض، فعلى هذا المعنى: ويتم نعمته عليك وعلى المختصين من آل يعقوب بالنبوة، [كما أتمها بالنبوة] (¬4)، على أبويك. وقال أبو إسحاق (¬5): فسر يعقوب الرؤيا ليوسف بهذه الآية، وذلك أنه لما قال له: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} الآية، تأول الأحد عشر كوكبًا: أحد عشر نفسًا لهم فضل وأنهم يستضاء بهم؛ لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يُهْتدى، فتأويل الكواكب إخوته، وتأويل الشمس والقمر أبواه، تأول له أن يكون نبيًّا، وأن إخوته يكونون أنبياء؛ لأنه أعلمه أن الله جلَّ وعلا يتم نعمته عليه وعلى إخوته، كما أتمها على إبراهيم وإسحاق، فإتمام النعمة عليهم أن يكونوا أنبياء، وعلى هذه الأقوال إتمام النعمة بالنبوة، {آلِ يَعْقُوبَ} الأنبياء منهم أو بنوه. وقال ابن عباس في رواية الكلبي: ويتم نعمته عليك بتوحيده وعبادته، كما أتمها على أبويك بتوحيد الله وعبادته وإيثار طاعته، وقال مقاتل بن ¬

_ (¬1) في (ج): (يعني). (¬2) اللهم: ساقطة من (ب). (¬3) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (6465)، كتاب: الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم كتاب: الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (1055) كما في مختصر المنذري ص 551، كتاب الزهد والرقاق تحقيق الألباني، وأحمد 19/ 24، برقم (9752)، و20/ 28 برقم (10242) تحقيق أحمد شاكر، والترمذي برقم (2361) أبواب الزهد، باب: ما جاء في معيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهله، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: 3/ 92. بتصرف.

7

سليمان (¬1): ويتم نعمته عليك بإعلانك وتحقيق رؤياك كما أتم النعمة على أبيك إبراهيم، بإنجائه من النار، وعلى أبيك إسحاق بالسلامة من الذبح، والفداء، ونحو هذا قال عكرمة (¬2). وقال الكلبي (¬3): كما أتمها على أبويك بأن ثبتهما على الإسلام حتى ماتا عليه، وعلى هذا المراد بآل يعقوب، قال أبو بكر: يعني أهل دينه فوقع الآل على أهل الدين كقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] يعني أهل دين فرعون، قال قتادة (¬4) في هذه الآية: كل ذلك فعل الله به، اجتباه، واصطفاه، وعلمه من تأويل الأحاديث، وأتم النعمة عليه. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} يريد حيث يضع النبوة. قاله عطاء عن ابن عباس (¬5)، {حَكِيمٌ} في خلقه. 7 - قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} قال المفسرون (¬6): يعني في خبر يوسف وإخوته وقصتهم، {آيَاتٌ} أي عبر وعزائم (¬7)، وقرأ ابن كثير (¬8) {ءَايَةٌ} كأنه (¬9) جعل شأنهم كله آية، ويقوي هذا ما روي أن في مصحف أبي (عبرة) (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 150 ب. (¬2) الطبري 12/ 154، والثعلبي 7/ 64 أ، و"زاد المسير" 4/ 182. (¬3) "تنوير المقباس" ص 147. (¬4) الطبري 12/ 154. (¬5) "زاد المسير" 4/ 182. (¬6) الثعلبي 7/ 64 أ، والبغوي 4/ 416، و"زاد المسير" 4/ 182. (¬7) في (ج): (وعجائب)، الطبري 12/ 154، الثعلبي 7/ 64 أ. (¬8) قرأ ابن كثير بالإفراد ووافقه ابن محيصن، والباقون بالجمع، انظر: "السبعة" 344، و"إتحاف" ص 262، و"الحجة" 4/ 396. (¬9) في (ب): (كان). (¬10) "البحر المحيط" 5/ 282.

قال أبو إسحاق (¬1): المعنى أنه بصيرة للذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنبأهم بقصة يوسف وهو عنها غافل، لم يقرأ كتابًا، وقال ابن الأنباري وأبو علي (¬2): ويجوز أن يكون المفرد المنكور بالإيجاب يقع دالًّا على الكثرة، كما يكون ذلك في غير الإيجاب. وقوله تعالى: {لِلسَّائِلِينَ} قال المفسرون (¬3): سألت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه، وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟. فقال: علمنيه ربي، فمعنى قوله {لِلسَّائِلِينَ} أي عن خبر يوسف وإخوته. وقال الكلبي عن ابن عباس (¬4): {لِلسَّائِلِينَ} لكل من سأل عن خبر يوسف وإخوته ليعلم علمه. قال ابن الأنباري: معنى قوله {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ} إلى آخر الآية، أن قوماً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه القصة مُعنتًا ممتحنًا، فكأن الذي ورد من جوابه يضطر عقول أهل التمييز إلى الانقياد لتصديقه؛ لأنه شرح أخبار قوم لم يشاهدهم، ولم ينظر في الكتب إذ هو معروف بالأمية، وكان في هذا أعجب آية وأوضح دلالة للسائلين وغيرهم على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخص السائلين بكون الآيات لهم اكتفاء منهم بغيرهم؛ لأنه إذا كان لهم آية, كان ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 92. (¬2) "الحجة" 4/ 397. (¬3) هذه عبارة الثعلبي 7/ 64 أ، والبغوي 4/ 417، و"زاد المسير" 4/ 182. وأخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 276 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس بنحوه. (¬4) مروي عن قتادة والضحاك كما في "الدر" 4/ 7، وانظر: "زاد المسير" 4/ 182، القرطبي 9/ 129.

8

غيرهم أيضًا يعتبر به اعتبارهم؛ لأنهم (¬1) وإن لم يسألوا فإن سؤال غيرهم نتج لهم الأعجوبة، وكشف المعنى لهم (¬2). 8 - قوله تعالى {إِذْ قَالُوا} يعني: إخوة يوسف {لَيُوسُفُ} هذه لام التأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم هاهنا، {وَأَخُوهُ} قال ابن عباس (¬3): ولد راحيل وهي خالتهم {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} قال الفراء (¬4): العصبة عشرة فما زاد. وقال أهل اللغة (¬5): العصبة من العشرة إلى الأربعين، وقال المبرد (¬6): العصبة الجماعة، وتعصب القوم: إذا اجتمعوا على هيئة يشد بعضهم بعضًا، ومنه العصبة في النسب، وهم الذين يجمعهم التعصب، فمعنى العصبة: جماعة متعاونة. وقوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قال أبو بكر بن الأنباري (¬7): أي ضل بإيثاره يوسف وأخاه علينا (¬8) ضلالا خطأ يلحقه ضرره (¬9) في دنياه، إذ الذي آثره علينا عناؤنا يزيد على عنائه، ذهب إلى هذا الجواب ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (لأنه). (¬2) "زاد المسير" 4/ 182. (¬3) انظر: الطبري 12/ 154، و"زاد المسير" 4/ 183. (¬4) "معاني القرآن" 29/ 36. (¬5) قال به أبو عبيد. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2454 (عصب)، وابن قتيبة انظر: "مشكل القرآن وغريبه" ص 216. (¬6) انظر: القرطبي 9/ 130. (¬7) "زاد المسير" 4/ 183. (¬8) هذه عبارة الثعلبي في 7/ 64 ب. (¬9) في (أ)، (ب): (ضروره).

9

الكلبي (¬1) وغيره من المفسرين (¬2)، وقال مقاتل بن سليمان (¬3): الضلال هاهنا يعني الشقاء، وتلخيصه: إن أبانا لفي شقاء واضح، واحتج بقوله عز وجل {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] يعني في شقاء، قال أبو بكر: فكان مقاتل ذهب إلى أن الضلال عني به شقاء الدنيا؛ لأنه لما آثر ولدين صغيرين على عشرة ذوي أسنان عالية، عاد من ذلك عليه إيغار صدور الجماعة وحملهم على العقوق. وقال أهل المعاني (¬4): إن أبانا في ذهاب عن طريق الصواب الذي فيه التعديل بيننا في المحبة، وقيل معناه: إنه في غلط في تدبير (¬5) أمر الدنيا، إذ كنا أنفع له في القيام بمواشيه وأمواله من يوسف وأخيه، وهذا هو معنى القول، وليسوا يريدون الضلال في الدين، قال الزجاج (¬6): ولو وصفوه بالضلال (¬7) في الدين كانوا كفارًا. 9 - قوله تعالى {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} قال النحويون (¬8): انتصاب الأرض بإسقاط الخافض، يراد واطرحوه في أرض، فلما سقط الخافض وصل الفعل إليها فنصبها؛ لأن أرضًا ليست من الظروف المبهمة. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 147. (¬2) الطبري 12/ 155، والبغوي 4/ 217 - 218، و"زاد المسير" 4/ 183. (¬3) نقل عنه "زاد المسير" 4/ 183، انظر "تفسر مقاتل" 151 أ. (¬4) "زاد المسير" 4/ 183، الثعلبي 7/ 64 ب. (¬5) في (ب): (تدبر). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 93. (¬7) في (ج): (بالضلالة). (¬8) "إعراب القرآن" للنحاس ص 125، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 93.

قال أبو إسحاق (¬1): أراد أرضًا يبعد فيها عن أبيه؛ لأنه لم يخل من أن يكون في أرض، ودل على هذا المحذوف قوله {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} لأن هذا يدل على أنهم تآمروا في أن يطرحوه في أرض لا يقدر عليه فيها أبوه. قال ابن الأنباري: تلخيصه: أو اطرحوه أرضًا بعيدة عن أبيه، فلما دل على هذا المضمر قوله {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} كان الإضمار سائغًا، ومعنى قوله {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: يقبل بكليته عليكم، ويخلص لكم عن شغله بيوسف، يعنون أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل إلينا بالميل والمحبة (¬2). وقوله تعالى: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} قال ابن عباس (¬3): يريد تحدثوا (¬4) توبة بعد ذلك يقبلها الله منكم، وهذا قول عامة المفسرين (¬5)، وعلى هذا المعنى {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} بإحداث التوبة. وقال مقاتل بن سليمان (¬6): ليس الصلاح هاهنا مقصودًا به (¬7) قصد صلاح الدين، لكن المعني به: ويصلح شأنكم عند أبيكم وتغلبوا على قلبه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 93. (¬2) الثعلبي 7/ 64 ب، و"زاد المسير" 4/ 184، البغوي 4/ 218. (¬3) نقله عنه في "زاد المسير" 4/ 184، وذكره الطبري عن السدي 12/ 155. (¬4) في (ج): (يجدونه). (¬5) ومنهم الطبري 12/ 150، والبغوي 2/ 218، و"زاد المسير" 4/ 184، وابن عطية 7/ 443. (¬6) "تفسير مقاتل" 151أ، نقله عنه في "زاد المسير" 4/ 184، والثعلبي 7/ 64 ب. (¬7) في (ج): (مقصودًا).

10

بعد فقده يوسف, والآية بيان عما يوجبه الحسد من قتل المحسود أو تعريضه للقتل بالإلقاء في المهالك. 10 - قوله تعالى {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} قال عطاء عن ابن عباس (¬1): هو يهودا، وهو أكبر ولد يعقوب وأعقلهم، ونحو هذا قال الكلبي (¬2) ومقاتل (¬3) والزجاج (¬4). وقال قتادة (¬5) ومحمد بن إسحاق (¬6): هو روبيل. وقوله تعالى: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} قال أبو عبيدة (¬7) وأهل اللغة (¬8): الغيابة: كل ما غيب شيئًا وستره، وأنشدوا للمُنَخَّل (¬9): فإنْ أنا يَوْمًا غَيّبتني غَيَابتي ... فسِيرُوا بسَيْرِي في العَشِيرَة والأَهل ¬

_ (¬1) عزاه له القرطبي 9/ 132، و"زاد المسير" 4/ 184. (¬2) "تنوير المقباس" ص 147. (¬3) "تفسير مقاتل" 151 أ، وعزاه له "زاد المسير" 4/ 184. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 94. (¬5) الطبري 12/ 155، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 317، وأخرج ابن أبي حاتم 7/ 2106 أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 13، و"زاد المسير" 4/ 185. (¬6) الطبري 12/ 156، و"زاد المسير" 4/ 185، والثعلبي 7/ 64 ب من غير عزو. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 302. (¬8) "اللسان" (غيب) 6/ 3323. (¬9) هو المنخل بن سبيع بن زيد بن معاوية بن العنبر، والبيت في "معجم المرزباني" 388، و"مجاز القرآن" 1/ 302، و"شواهد الكشاف" (96)، والقرطبي 9/ 132، و"معاني الزجاج" 3/ 93، و"المحرر" 7/ 444، و"البحر المحيط" 5/ 284، و"الدر المصون" 6/ 446.

أراد بالغيابة حفرة القبر؛ لأنها يغيب المدفون فيها، وأما الجب فهو الركية قبل أن تطوى، يقال: جب هذه الركية صلب، وقال زيد بن كثوه (¬1): جبّ الركية جَرِابُها، وقال الزجاج (¬2): الجب البئر التي ليست بمطوية، سميت جبًّا من أنها قطعت قطعًا ولم يحدث فيها غير القطع من طي ومما أشبهه. الليث (¬3): والجميع جباب وأجباب وجببة. قال الحسن (¬4): غيابة قعر الجب، قال (¬5) قتادة (¬6): أسفل الجب. قال ابن الأنباري: وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين، فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى، إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين. وقرأ أهل المدينة (¬7) {غيابات الجب} بالجمع على معنى أن للجب (¬8) أقطارًا ونواحي ويكون فيها غيابات، وأوثر الجمع لذلك، ومن وحد قال: المقصود موضع واحد من الجب يغيمب فيه يوسف فيستره من ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (حبيب) 1/ 530. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 94. (¬3) "تهذيب اللغة" (جبب) 1/ 529، وهو كذا في النسخ، ولعل (قال) ساقطة. (¬4) نقله في "زاد المسير" 4/ 185، وقد ذكره الطبري 12/ 156، من غير أن يعزوه لأحد. (¬5) في (ج): (وقال) بزيادة الواو. (¬6) الطبري 12/ 156، الثعلبي 7/ 64 ب. (¬7) قرأ بالمجمع نافع وأبو جعفر، والباقون بالإفراد، انظر "السبعة" ص 345، و"إتحاف" ص 262، و"الحجة" 4/ 399، والطبري 12/ 156. (¬8) في (أ)، (ب): (الجب).

أبصار المتأملين، فالتوحيد أحصر وأدل على المعنى المطلوب، يدل على صحة التوحيد قراءةُ مجاهد (¬1) {في غيبة الجب}، انتهى كلامه. وقال أبو علي (¬2): وجه قول من أفرد أن الجب لا يخلو من أن يكون له غيابة واحدة أو غيابات، فغيابة المفرد يجوز أن يعني به الجمع كما يعني به الواحد، ووجه قول من جمع، أنه يجوز أن يكون له غيابة واحدة فجعل كل جزء منه غيابة فجمع لذلك، كقولهم: (شابت مفارقه (¬3) وتغير ذو عثانين) ويجوز أن يكون للجب عدة غياب فجمع لذلك، والدليل على جواز الجمع فيه قول ابن أحمر (¬4): ألا فالبِثَا شَهْرَيْن أو نِصْفَ ثالث ... إلى ذَاكُما (¬5) ما غَيّبتْني غَيَابِيَا يريد جمع غيابة، فجمع مع أن ذا الغيابة واحد، واختلفوا في هذا الجب، فقال قتادة (¬6): في بئر بيت المقدس، وقال وهب (¬7): هو بأرض ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 185، ونسبها إلى الحسن وقتادة ومجاهد، و"البحر المحيط" 5/ 284 ونسبها إلى الحسن. (¬2) "الحجة" 4/ 400. (¬3) في (أ)، (ب)، (ي): (مفاريقه)، والصواب ما أثبته كما في "الحجة". (¬4) من قصيدة له في هجاء يزيد بن معاوية، انظر: "ديوانه" ص 171، و"المحتسب" 2/ 227 - 228، و"الخصائص" 2/ 460، وابن الشجري 3/ 75، 207، و"الإنصاف" ص 387، و"شواهد كتاب سيبويه" 129. (¬5) (ما): ساقطة من (ج). (¬6) الطبري 2/ 156، وعبد الرزاق 2/ 318، وابن أبي حاتم 7/ 2107 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 13، والثعلبي 7/ 64 ب، و"زاد المسير" 4/ 185، و"البحر المحيط" 5/ 284. (¬7) الثعلبي 7/ 64 ب، و"زاد المسير" 4/ 185.

11

الأردن، وقال مقاتل (¬1): هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقوله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، ومنه اللقط واللقيط، والسيارة: الذين يسيرون في الطريق للسفر. قال ابن عباس (¬2): يريد المارة. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} قال ابن عباس (¬3): يريد إن أضمرتم مما تريدون، وهذه الآية بيان عن اختيار أنقص الشرين، كما أشار هذا القائل إذ رأى أنه لابد من أحدهما. 11 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} قال المفسرون (¬4): لما تآمروا بينهم في إيقاع المكروه بيوسف وعزموا على ذلك قالوا (¬5) لأبيهم: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} والقراء مجمعون (¬6) على إدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم، وذلك أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعهما السكون، فكما أشموا الحرف الموقوف عليه إذا كان مرفوعًا عند الإدارج، ليعلم أنه كذلك في الوصل، أشموا الحرف المدغم ليعلم أنه لو ظهر كان مرفوعًا، والإشمام ضم الشفتين فقط، وليس بصوت خارج إلى اللفظ، إنما هو تهيئة العضو لإخراج الصوت به، ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك المهيأ له، ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 64 ب، و"تفسير مقاتل" 151أ، و"زاد المسير" 4/ 185. (¬2) "تنوير المقباس" ص 147، والثعلبي 7/ 65 أ. (¬3) "زاد المسير" 4/ 185. (¬4) الطبري 21/ 157، و"زاد المسير" 4/ 186. (¬5) في (أ)، (ب): (قال). (¬6) "الحجة" 4/ 400، و"إبراز المعاني" ص 531، و"السبعة" لابن مجاهد 345، وأبو جعفر يقرأ بالإدغام المحض بلا إشمام ولا روم. "إتحاف" ص 262.

12

ولا يجوز رَوْم الحركة مع الإدغام، كما جاز الإشمام؛ لأن روم الحركة حركة، وإن كان الصوت قد أضعف بها, ولا يجوز الإدغام مع الحركة وإن كانت قد أضعفت؛ لأن اللسان لا يرتفع مع روم الحركة في الحرف المدغم عن الحرفين ارتفاعة واحدة، وأما من ترك الإشمام؛ فلأنه أخف على اللفظ، وهو قياس الإدغام. قال أهل المعاني: هذا تلطف منهم مع أبيهم في أمر يوسف، وتشبيب لمساءلتهم إرساله معهم، بدأوا بالإنكار عليه خوفه إياهم على يوسف، وثنوا بإظهار النصح له في قولهم {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}، قال ابن عباس (¬1): يريد في الرحمة والبر. 12 - قوله تعالى (¬2): {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}، قرأ ابن كثير (¬3) {نرتع} هو بالنون وكسر العين من الارتعاء، و (يلعب) بالياء، والارتعاء: افتعال من رعيت، يقال: رعى الماشيةُ الكلأ يرعاها رعيًا، إذا أكلته، والرعي الكلأ، ومثله ارتعى، قال الأعشى (¬4): تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكثيب فَذَاقَارٍ ... فُرُوضَ القَطَا فَذَاتَ الرِّئالِ هذا معنى الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم؛ لأن المعنى نرتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون نرتعي، أو يقال حقيقة ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 147. (¬2) في (ج): (وقوله) بزيادة الواو. (¬3) الطبري 12/ 158، و"الحجة" 4/ 402، و"إبراز المعاني" ص 533، و"النشر" 3/ 123. (¬4) انظر "البحر المحيط" 5/ 276، و"اللسان" (سفح) 4/ 2023، و"التنبيه والإيضاح" 1/ 247، و"تاج العروس" (سفح) 4/ 90.

الرعي والارتعاء للماشية وينسب ذلك إلى أصحابها؛ لأنهم السبب في ذلك بإيرادها الكلأ ومواضعه والقيام عليها، فيسند ذلك إليهم، وعلى هذا يقول العرب: رعينا روضة كذا، ومكان كذا، وهو كثير في أشعارهم، ويحمل على ما ذكرنا من أحد الوجهين. وأما فصله بين الارتعاء واللعب بالياء والنون، فحَسَنٌ؛ لأنه جعل الارتعاء والقيام على المال لمن بلغ وجاوز [الصغر، وأسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولا لوم] (¬1) على الصغير في اللعب، وقرأ نافع (¬2) كلاهما بالياء وكسر العين من يرتعي، أضاف الارتعاء إلى يوسف على معنى أنه يقوم على ماله في الارتعاء ليتدرب بذلك، فمرة يرتعي ومرة يلعب كفعل الصبيان، وقرأ أبو عمرو (¬3) وابن عامر (¬4) (نرتعْ) بالنون وجزم العين، ومثله (نلعبْ)، والعرب تقول: رتع المال، إذا رعى ماشيًا، وارتعتها أنا، والرتع لا يكون إلا في الخصب والسعة، وإبل رتاع، وقوم مرتعون وراتعون (¬5) إذا كانوا مخاصيب. وقال ابن الأعرابي: الرتع الأكل بشَرَه، يقال رتع يرتع رتعًا ورتاعًا (¬6)، ومنه قولهم (¬7):القيد والرتعة، ويقال بسكون التاء ومعناها الخصب ونيل ما يراد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬2) "السبعة" ص 345 - 346، و"إتحاف" ص 262، و"الحجة" 4/ 402، 403. (¬3) في (ج): (قرئ ابن عمرو). (¬4) "السبعة" ص 345 - 346، و"إتحاف" ص 262، و"الحجة" 4/ 402، 403. (¬5) (راتعون): ساقطة من (ج). (¬6) ما سبق كله نقل عن الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1356 - 1357. بتصرف. (¬7) مثل: وأصله أن عمرو بن الصعق أسرته شاكر من همدان، فأحسنوا إليه وكان فارق قومه نحيفًا، فهرب من شاكر فلما وصل إلى قومه قالوا: أي عمرو خرجت من عندنا نحيفًا، وأنت اليوم بادن؟ فقال (القيد والرتعة) فأرسلها مثلاً، و (الرتعة): الخصب، انظر "الميداني" 2/ 39، و"المفضل الضبي في أمثاله" 62، و"الفاخر" للمفضل بن سلمة ص 170، 241، و"اللسان" (رتع) 3/ 1577، الطبري 12/ 158، و"تعليق شاكر"، ونسبه أبو عبيد في الأمثال ص 56: إلى الغضبان بن القبعثري، قاله للعجاج عندما حبسه. "تهذيب اللغة" (رتع) 2/ 1356.

وقد حصل، للرتع معنيان أحدهما: رعي المال في الخصب، فعلى هذا معني نرتع بالنون كمعنى يرتعي في أنه للمال. ثم يحذف المضاف على ما ذكرنا، الثاني: أن معناه نيل ما يراد، وهذا يوصف به الإنسان كما ذكرنا في المثل، فقرأه أبو عمرو (نرتع) على معنى: نرتع إبلنا، ثم حذف المضاف، أو ينال ما يحتاج إليه. وأما يلعب فقد روي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذٍ أنبياء (¬1)، على أنه يجوز أن يراد باللعب هاهنا الذي هو ضد التشمر من الأخذ باللهو نيالاً، الذي هو ضد الحق، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لجابر: "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" (¬2) وهذا كأنه تشاغل بمباح وتنفس وجمام. وقرأ أهل الكوفة (¬3) كلاهما بالياء وسكون العين والياء ووجهه بيِّن، لأن إسناد الرتع بمعنى النيل من الشيء إلى يوسف لا يبعد، كما لا يمتنع أن ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 406، ابن جرير الطبري 12/ 158، الثعلبي 7/ 65 أ. (¬2) أخرج البخاري بنحوه (5079، 508)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الثيبات، ومسلم (517/ 55) في كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر. (¬3) انظر: "السبعة" ص 346، و"إتحاف" ص 262، و"الحجة" 4/ 403، والطبري 12/ 158.

ينسب إليه اللعب، على أن أبا عبيدة (¬1) فسَّر نرتع باللهو، فقال نرتع: نلهو، وهذه القراءة أبين من قراءة من قرأ (¬2) (نلعبْ) بالنون؛ لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف ليتنفس بلعبه لا ليلعبوا هم. وأما قول المفسرين فقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬3): نرتع: نذهب ونجيء وننشط ونلعب ونلهو. [وقال مقاتل بن سليمان (¬4): نرتع نفرح، ونلعب نتلاهى. وقال مجاهد (¬5) وقتادة (¬6) نسعى وننبسط] (¬7) وقال أبو عبيدة (¬8): {نرتع ونلعب} معناه نلهو وننعم، قال: هو من القيد والرتعة، وقال غيره: نقم في المرتع، يقول بعضهم: نرتع نرعى إبلنا، وقال قوم: نرتع نأكل، واحتج يقول الشاعر (¬9): ويُحَيِّينِي إذا لاقَيْتُه ... وإذا يخلو له لَحْمي رَتَعْ ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 303. (¬2) وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر كما سبق. (¬3) الطبري 2/ 158، ابن أبي حاتم 7/ 2108 أ، عن مجاهد، وانظر: "الدر" 4/ 13. (¬4) "تفسير مقاتل" 151 أبنحوه. (¬5) ابن أبي حاتم 7/ 2108 أ. (¬6) الطبري 12/ 159، و"زاد المسير" 4/ 187، والقرطبي 9/ 139، وعبد الرزاق 2/ 318. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬8) "مجاز القرآن" 1/ 303. (¬9) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة في المفضليات: 190 - 202 تعد عن علي الشعر وأنفسه، وانظر "ديوانه" ص 31، و"الشعر والشعراء" ص 270 (384)، والرواية فيهما (حبيب لي إذا لاقيته ..)، وهو في "الخزانة" 2/ 547 كما هاهنا، و"الزاهر" 2/ 31، و"الدر المصون" 6/ 450، و"اللسان" (رتع) 3/ 1577.

13

أي: أكله، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬1) في قوله نرتع: نتكالأ ونتحارس بعضنا بعضًا، وعلى هذا فهو افتعال من الرعاية بمعنى الحفظ، لا من رعي الماشية. وقال بعض أهل المعاني: أصل الرتع للمال، ثم يستعمل في الإنسان على معنيين، أحدهما: الاتساع في البلاد بالذهاب في جهاتها من اليمين والشمال، والآخر: التصرف في الشهوات وضروب الملاذ، يقال: رتع فلان في ماله، إذا أنفقه في شهواته. وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قال ابن عباس (¬2): يريد من كل ما تخافه عليه. 13 - وقوله تعالى {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} خبر عما يوجبه شدة الإشفاق من الحزن عن الفراق، فقال يحزنني ذهابكم، وأخاف أن يأكله الذئب. قال الكلبي وغيره من المفسرين (¬3): إن يعقوب عليه السلام رأى في النوم ذئبًا عدا على يوسف، فكان حذرًا عليه، خائفًا من تناول الذئب له، لرؤياه التي رآها. وقال آخرون: إنما خاف عليه يعقوب الذئب؛ لأن أرضهم كانت مذأبة، ذكره مقاتل بن سليمان وغيره (¬4). ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 159، وابن أبي حاتم 7/ 2107 أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 14، والثعلبي 7/ 65 ب، وابن عطية 7/ 448. (¬2) القرطبي 9/ 140. (¬3) الثعلي 7/ 65 ب، والبغوي 4/ 220، و"زاد المسير" 4/ 188، و"تنوير المقباس" ص 147. (¬4) "تفسير مقاتل" 151 أ، و"زاد المسير" 4/ 188، الرازي 18/ 97.

14

ويقرأ الذئب (¬1) مهموزًا ومخففًا، وأصله الهمز (¬2)؛ لأنه من قول العرب: تذابت الريح وتذأبت، إذا جاءت من كل جهة كالذيب يحتل بالحيلة من كل جهة، فإذا خففت الهمز منه قلبت ياء، وكذلك البير، ويجمع أذؤبًا وذؤبانًا (¬3) كما قالوا: زق وزقان. قال (¬4): وازْوَرّ يَمْطُو في بلادٍ بَعِيدَةٍ ... تَعَاوا به ذُئبَانُه وثَعَالِبُه وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} قال ابن عباس (¬5) يريد لاهون مشتغلون برعيتكم، وهذا بيان عما توجبه الشفقة من سوء الظن بحوادث الزمان وعوارض الآفات. 14 - قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي إن أكله الذئب ونحن جماعة نرى الذئب قد قصده فلا نرده عنه، إنا إذًا [لجاهلون في قول الكلبي، أي] (¬6): لجاهلون (¬7) بما يُعرفُ ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بالهمز، وقرأ الكسائي وحده بغير همز، و"الحجة" 4/ 407، و"السبعة" ص 346، و"البدور الزاهرة" 161، و"التبصرة" ص 545، و"إتحاف" ص 263. (¬2) هذا النص منقول عن أبي علي في كتابه "الحجة" 4/ 408. بتصرف. (¬3) في (ب): (وذؤبًا). (¬4) البيت لذي الرمة في "ديوانه" ص 48، و"البحر المحيط" 5/ 276، و"الدر المصون" 6/ 452، و"شرح شواهد الإيضاح" ص/ 517، وهو في "التكملة" ص 200 بلا نسبة. وازور: يعني الطريق فيه عوج، يمطو: يمد. (¬5) "زاد المسير" 4/ 188. (¬6) ما بين المعقوفين مكرر في (أ)، (ج). (¬7) القرطبي 9/ 141.

15

فضله من إيثار البر وصلة الرحم وتجنب العقوق إن أكله الذئب بحضرتنا ولم نرده عنه. وقال مقاتل (¬1): معناه لئن أكله الذئب ونحن حضور، وعندنا بأس ودفع، إنا إذًا لعاجزون. قال: فالخسران هاهنا محمول على معنى العجز، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] معناه لعاجزون، ولابد (¬2) من إضمار في الآية على تقدير: ونحن عصبةٌ عنده أو بحضرته؛ لأنه يجوز أن يأكله الذئب وهم عصبة غائبون عنه، فلا يُنْسَبون إلى الجهل ولا إلى العجز، وإنما يلزمهم العجز والجهل إن أكله الذئب بحضرتهم فلم يردوه عنه. 15 - قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} ذكرنا معنى الإجماع عند قوله {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]. وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} هذه الواو مقحمة زائدة عند الكوفيين، لأنه جواب لما، وجواب لما لا يقتضي واوًا، وعند البصريين لا يجوز إقحام الواو، وجواب لما عندهم محذوف، على تقدير لما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم، أو كبر ما قصدوا، ثم قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} وحذف الجواب كثير، وهذه المسألة ذكرناها فيما تقدم، قال المفسرون (¬3): أوحى الله (¬4) إلى يوسف تقويةً لقلبه في البئر: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 151 أبنحوه. (¬2) في (ج): (لابد) من غير واو. (¬3) الثعلبي 7/ 65 ب، الطبري 12/ 160، البغوي 4/ 221، و"زاد المسير" 4/ 191. (¬4) في (ب): بزيادة (تعالي).

لتصدقن رؤياك ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد اليوم {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بأنك يوسف في وقت إخبارك إياهم بأمرهم، وهذا (¬1) قول ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) وابن جريج (¬4). وقال (¬5) مجاهد (¬6) وقتادة (¬7): {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بأنه أوحي (¬8) إليه، وأجمعوا على أنه أوحي إلى يوسف في البئر. قال الحسن (¬9) أعطاه الله النبوة وهو في الجب. وقال قتادة (¬10): أتاه وحي الله وهو في البئر. وقال الكلبي (¬11): ألقي في الجب وهو ابن ثماني عشرة سنة. قال أبو بكر بن الأنباري (¬12): الفائدة في استتار الوحي عنهم، أنهم لو وقفوا على الوحي وعلموا أن مدة يوسف تطول، وأن أمره يقوى جاز أن ¬

_ (¬1) في (ب): (هذا). من غير واو. (¬2) الطبري 12/ 162، الثعلبي 7/ 66 أ، ابن أبي حاتم 7/ 2110 أ، وانظر: "الدر" 4/ 15، و"زاد المسير" 4/ 191، والقرطبي 9/ 143. (¬3) انظر: الرازي 18/ 100. (¬4) الطبري 12/ 162. (¬5) في (أ)، (ج): زيادة (محمد). (¬6) الطبري 12/ 161، وابن أبي حاتم 7/ 2109 أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 15، والقرطبي 9/ 143، والثعلبي 7/ 66 أ، و"زاد المسير" 4/ 191. (¬7) الطبري 12/ 161، عبد الرزاق 2/ 318، وابن أبي حاتم 7/ 2109 أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 15، و"زاد المسير" 4/ 191. (¬8) في (ب): (أوحى الله إليه) بزيادة لفظ الجلالة. (¬9) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 259، القرطبي 9/ 142. (¬10) الطبري 12/ 161، وابن أبي حاتم 7/ 2109 أ، وعبد الرزاق 2/ 318. (¬11) القرطبي 9/ 142. (¬12) الرازي 18/ 100.

16

يسبق إلى قلب بعضهم من الحسد ما لعله أن يقدم على إيقاع بلية بيوسف، في وقت إخبارهم بصنيعهم، فإن الله تعالى ألزم يوسف أن لا يطلع أباه ولا أحداً من إخوته على نسبه وموضعه، ليوبخهم على ما سلف من عقوقهم، ويعد عليهم ما فرط من إساءتهم، فهم لا يعرفون عنه، ولا يعرفون أن أخوهم. ولهذه العلة ما كتم يوسف أباه يعقوب نفسه طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه به خوفًا من الخلاف على الله عز وجل، فصبر على تجرع المرارة بما يعلمه من قلق أبيه (¬1) إيثارًا لطاعة ربه واتباعًا لأمره، وكان الله تعالى قد قضى على يعقوب أن يوصله إلى درجة عالية لا يصل إليها إلا بعظيم الحسرة التي كان يكابدها، فلذلك أمر يوسف بكتمان شأنه عن أبيه. والقولان في قوله {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حكاهما الزجاج (¬2) فقال: في قوله {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} هذا جائز أن يكون من صلة {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، وجائز أن يكون من صلة {أَوْحَيْنَا}، المعنى: وأوحينا إليه (¬3) وهم لا يشعرون، أي نبأناه بالوحي وهم لا يشعرون أنه نبي قد أوحي إليه. 16 - قوله تعالى {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ} قال ابن عباس (¬4): ثم إنهم ذبحوا سَخْلة وجلوا دمها على قميص يوسف، وكانوا (¬5) قد ألقوه في الجب عريانًا {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً} ليكونوا أجراً في الظلمة على الاعتذار وترويج ¬

_ (¬1) في (ب): (الله). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 95. (¬3) في (ج): (إليهم). (¬4) الثعلبي 7/ 66 ب، الطبري 12/ 163. (¬5) في (أ)، (ب)، (ج): (كانا).

17

ما مكروا (¬1)، {يَبْكُونَ} مكرًا لإيهام براءتهم مما عرض (¬2) ليوسف من البلية بأكل الذئب على زعمهم. روى مجالد (¬3) عن الشعبي قال: خاصمت امرأة إلى شريح وجعلت تبكي فقيل له: يا أبا أمية، أما تراها تبكي، فقال شريح: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون (¬4). 17 - قوله تعالى: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} قال أكثر المفسرين (¬5): نتنصل في الرمي، وهذا اختيار الزجاج (¬6) وابن قتيبة (¬7)، قال نتنصل: يسابق بعضنا بعضًا في الرمي، وعلى هذا هو من السباق في النصال، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" (¬8) يعني بالنصل: الرمي، وأصل السبق في الرمي للسهم، وهو أن يرمي اثنان أيهما يكون أسبق بينهما وأبعد غلوة، ثم يوصف المتراميان بذلك، فيقول: استبقا ¬

_ (¬1) "البحر المحيط" 5/ 288. (¬2) في (ج): (عرضوا). (¬3) هو مجالد بن سعيد بن عمير الكوفي الهمداني، لين الحديث، تغير حفظه في آخره، توفي سنة 144 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 361، و"التهذيب" 4/ 24 - 25. (¬4) أخرجه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 4/ 15. (¬5) الطبري 12/ 162، والثعلبي 7/ 66 ب، و"زاد المسير" 4/ 191، والبغوي 4/ 222. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 95. (¬7) "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص 217. (¬8) أخرجه أحمد 2/ 474، برقم (10138)، ط. الرسالة، من حديث أبي هريرة، والترمذي (1700) في الجهاد، باب: ما جاء في الرهبان والسبق، وأبو داود "عون المعبود" (2557) في الجهاد، باب: في السبق، وابن ماجه (2878) في الجهاد، باب: السبق والرهان وصححه الألباني. انظر: "صحيح سنن ابن ماجه" للألباني (1326)، كتاب: الجهاد، باب: السبق والرهان وخرجه الألباني في "إرواء الغليل" (1506).

وتسابقا، إذا فعلا ذلك لتبيين أيهما أسبق سهمًا، ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبد الله {إنا ذهبنا ننتصل} (¬1). وقال السدي (¬2) ومقاتل (¬3): نستبق: نشتد ونعَدو لنتبين أينا أسرع عَدْوًا، فإن قيل كيف جاز لهم أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان؟ فالجواب ما ذكره صاحب النظم، وهو أن الاستباق فيهم كان مثل السباق في الخيل والنصال عندنا، وكانوا يُحْزنُون بذلك أنفسهم ويدربونها على العَدْو؛ لأنه كالآلة لهم في محاربة العدو، ومدافعة الذئب إذا رام ماشيتهم (¬4). وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} قال ابن عباس (¬5): يريد ثيابهم {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}، قال عامة المفسرين (¬6) وأصحاب المعاني (¬7): مصدق لنا، وذكرنا تحقيق هذا في أول سورة البقرة (¬8). ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 66 ب، القرطبي 9/ 145. (¬2) "زاد المسير" 4/ 192، الرازي 18/ 101. (¬3) ذكره الثعلبي بقوله ابن حيان 7/ 67 أ. (¬4) الرازي 18/ 101، القرطبي 9/ 145. (¬5) البغوي 4/ 222، و"زاد المسير" 4/ 192. (¬6) الطبري 12/ 162، الثعلبي 7/ 67 أ، البغوي 4/ 222، "زاد المسير" 4/ 192، القرطبي 9/ 148. (¬7) "معاني القرآن وإعربه" 3/ 96، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 303، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة 1/ 217. (¬8) ذكر عند قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] أقوال العلماء في أن الإيمان بمعنى التصديق: ونقل عن الأزهري حكايته اتفاق العلماء على هذا المعنى، وشرح دلالة اللفظ عليه مع الاستشهاد بأقوال أهل اللغة، ثم قال: والقول في معنى الإيمان ما قاله الأزهري. قلت: إن كان المقصود أن ذلك في اللغة، فالأمر فيه واسع وهو محل خلاف، وإن كان المقصود المعنى الشرعي فهو مردود، والإيمان عند علماء السلف: تصديق القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ص381، 382.

18

وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، قال أبو إسحاق (¬1): ليسوا يريدون أن يعقوب لا يصدق من يعلم أنه صادق، هذا محال لا يوصف الأنبياء بذلك، لكن المعنى: لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف؛ لمحبتك إياه وظننت أنا قد كذبناك. ونحو هذا قال أبو العباس (¬2) في معنى هذه الآية: قال: معناه: ولو كنا صادقين في كل الأشياء، لاتهمتنا في هذه القصة ولم يقرب قولنا من قلبك، لغلبة استغشاشك لنا وتهمتك إيانا في أمر يوسف. وقال أبو بكر: أرادوا نحن صادقون عند أنفسنا، وأنت غير مصدق لنا، إن لم تقم أمارات صدقنا عندك، فلو كنا صادقين عند الله أولاً ثم عند أنفسنا ما صدقتنا، إذ لم يقم عندك براهين صدقنا. 18 - قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} قال ابن عباس (¬3) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 96. (¬2) لعله أبو العباس الأصم محمد بن يعقوب السناني النيسابوري الوراق، أحد أئمة الشافعية، إمام ثقة حافظ، توفي سنة 346 هـ. انظر: "طبقات فقهاء الشافعية" 1/ 76، و"طبقات الشافعية" للآسنوي 1/ 42. (¬3) الطبري 12/ 163، ابن أبي حاتم 7/ 2111 ب وانظر. "الدر" 4/ 16، وعبد الرزاق 2/ 318.

ومجاهد (¬1) وعامة المفسرين (¬2): كان ذلك دم سَخْلة، وقيل جدي (¬3)، وقيل: حمل، كل هذا من لفظهم. قال الفراء (¬4) وأبو العباس (¬5) والزجاج (¬6) وابن الأنباري (¬7) وأصحاب العربية (¬8) {بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير: ذي كذب، ولكنه أجري على الوصف بالمصدر للمبالغة، وهذا معنى قول الأخفش (¬9): جعل الدّمَ كذبًا لأنه كذب فيه، كما قال {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] قالوا: والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي: مسكوب، ودرهم ضرب الأمير، وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] ورجل عدل وصوم (¬10)، ونساء نَوْح ومنه (¬11): ... وجاوبي نَوْحًا قِيَاما ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 163، القرطبي 9/ 149، ابن أبي حاتم 7/ 2111 ب. (¬2) الطبري 12/ 163، والبغوي 4/ 222، و"زاد المسير" 4/ 193، والرازي 18/ 102. (¬3) قاله السدي كما في الطبري 12/ 163، والشعبي كما في الطبري 12/ 164. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 38. (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 3115. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 96. (¬7) الرازي 18/ 102. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 590، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة 1/ 217، و"تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 167. (¬9) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 590. (¬10) (صوم): ساقطة من (ج). (¬11) بعض بيت من الوافر وتمامه: هَريْقي منْ دموعها سجالا ... صنباعَ وجاوبي نَوْحًا قيامًا ولم ينسبه الواحدي هنا، وهو بلا نسبة أيضاً في "مجاز القرآن" 1/ 404، الطبري 15/ 249 (العلمية)، القرطبي 10/ 409.

ولما سميتا بالمصدر، سُمِّي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلود، ومنه قوله تعالي: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] وقالوا للكذب الكاذبه، وللخيانة الخائنة، ومثله العاقبة والعافية. قال الحسن (¬1) وسعيد بن جبير (¬2): لما جاءوا يعقوب بالقميص ملطخًا بالدم، قال: كذبتم، ما عهدي (¬3) بالذئب حليمًا، لو كان أكله لخرق قميصه. وقال الكلبي عن ابن عباس (¬4): قال لهم: لقد كان هذا الذئب رفيقًا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه، قالوا: فقتله اللصوص، قال: كيف قتلوه وتركوا قميصه، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله. وقوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} قال ابن عباس (¬5) وعامة المفسرين (¬6): زينت لكم أنفسكم أمرًا. قال أهل المعاني: التسويل تقدير معنى في النفس على الطمع في ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 164، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 16، وانظر: "تفسير الحسن" 2/ 29. (¬2) أخرجه الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس 12/ 164 وكذا ابن أبي حاتم 7/ 211 ب. (¬3) في (أ)، (ج): (ما عهد بي). (¬4) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 38، و"زاد المسير" 4/ 193، والقرطبي 9/ 149. (¬5) "تنوير المقباس" ص 147. (¬6) الثعلبي 7/ 67 ب، والطبري 12/ 165، والبغوي 4/ 223، و"زاد المسير" 4/ 193، القرطبي 9/ 151، و"مشكل القرآن وغريبه" 217، و"مجاز القرآن" 1/ 303.

تمامه، وقوله {بَل} رد لقولهم: أكله الذئب، كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمرًا غير ما تصفون. وقال الأزهري (¬1): وكأن التسويل تفعيل من سوْل الإنسان، وهي أمنيته التي يطلبها، فيزين لطالبها الباطل وغيره من أمر الدنيا، وأهله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز لما كثر في كلامهم. وقوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال مجاهد (¬2)، والمفسرون (¬3): أي صبر ليس فيه جزع ولا شكوى، وروي مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سئل عن الصبر الجميل فقال: "هو صبرٌ لا شكوى فيه" (¬4). وقال أهل المعاني: الصبر الجميل هو أن يصبر حتى لا يظهر فيه تغير بعبوس وجه وانقباض عما كان يتبسط (¬5) فيه قبل المصيبة. واختلفوا في وجه ارتفاع الصبر، فقال الخليل (¬6): معناه: فالذي أعتقده صبر جميل. وقال قطرب (¬7): معناه: فصبري صبر جميل. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 13/ 67، وهذا السياق نص نسخة (ج)، وفي الأصل [فيزين لطالبها الباطل والغرور]. (¬2) الطبري 12/ 165، وعبد الرزاق 2/ 318، وابن أبي حاتم 7/ 2112 أ، والفريابي وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 19. (¬3) الطبري 12/ 165، الثعلبي 7/ 67 ب، البغوي 4/ 223، و"زاد المسير" 4/ 193. (¬4) أخرجه الطبري 12/ 165، وابن أبي حاتم 7/ 2112 أ. قال المناوي: هو من حديث حبان بن حيلة وهو مرسل، و"الفتح السماوي" 2/ 727. (¬5) في (ب): (تبسط). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 96، و"زاد المسير" 4/ 193. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 96، و"زاد المسير" 4/ 193، والقرطبي 9/ 151.

وقال الفراء (¬1): فهو صبر جميل، وقال أبو عبيد (¬2): تقديره: فليكن مني صبر جميل. وقال الزجاج (¬3): فشأني صبر جميل، قال ابن الأنباري: والمعاني متقاربة. وقال بعضهم: فصبر جميل أولى بي، وعلى هذا هو ابتداء وخبره محذوف. وقال أبو إسحاق (¬4): ويجوز في غير القرآن: فصبرًا جميلاً، وأنشد (¬5): يَشْكُو إليَّ جَمَلِي طُولَ السّرَى ... يا جَمَلِي ليسَ إليَّ المُشْتَكَى قال: وروي: صبرًا، على فاصبرْ صبرًا، قال أبو عبيدة (¬6) وغيره: الأحسن إذا وصف الصبر الرفع، وإذا أفرد النصب. وأنشدوا (¬7): ألا انمامي فصَبْرًا بَليَّة ... وقد يُبْتَلَى المَرْءُ الكَرِيمُ فيَصبِرُ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 53، و"زاد المسير" 4/ 193. (¬2) انظر: "البحر المحيط" 5/ 289، و"الدر المصون" 6/ 457. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 96. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 96. (¬5) الأبيات لملبد بن حرملة، في ابن السيرافي ص 228 وبلا نسبه في "معاني الفراء" 2/ 54، و"معاني الزجاج" 3/ 97، و"تأويل مشكل القرآن" ص 107، و"مجاز القرآن" 1/ 303، 304، و"اللسان" (شكا) 4/ 2114، و"تهذيب اللغة" 2/ 1909، والقرطبي 9/ 153، و"كتاب سيبويه" 1/ 321، و"شواهد الكشاف" (شكا إلي جملي). (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 303. (¬7) كذا في النسخ ولعل البيت: (ألا يا نمامي فصبرًا ..) وبه يستقيم الوزن، وهو من الطويل، ولم أقف عليه.

19

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قال أهل المعاني: هذا بيان عما يوجبه التقى من الصبر الجميل عند المصيبة، والاستعانة بالله عزّ وجلّ عندما يعرض من الأمور الهائلة. 19 - قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} قال المفسرون (¬1): يعني رفقة تسير للسفر، {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم. وقوله تعالى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} قال عامة أهل اللغة (¬2): يقال: أدلى دلوه، إذا أرسلها في البئر، ودَلّاها: إذا نزعها من البئر، يقال: أدلى يدلي إدلاءً إذا أرسل، ودلى يدلو دلوًا، إذا جذب وأخرج. قال الشاعر (¬3): يَنْزِعُ من جَمّاتِها دَلْو الدَّالىِ أي ينزع النازع، والدلو معروف، والجميع الدلاء، والعدد إدل ودُلي، ويقال للدلو دلاة. وقوله تعالى: {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} قال ابن عباس (¬4) وقتادة (¬5) والسدي (¬6): لما أدلى المدلي تشبث يوسف بالرشا فأخرجه الوارد، فقال: يا بشراي. قال الحسن (¬7): يا بشراي مثل: يا فرحتنا، وهو في موضع نصب؛ لأنه نداء مضاف. ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 67 ب. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 1213 مع تقديم وتأخير، (دلا). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "زاد المسير" 4/ 194. (¬5) عبد الرزاق 2/ 302، والطبري 12/ 167، وابن أبي حاتم 7/ 2113 ب، وابن المنذر كما في "الرد" 4/ 17، القرطبي 9/ 153. (¬6) الطبري 12/ 167، والقرطبي 9/ 153. (¬7) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 260.

قال ابن الأنباري: وقع النداء في اللفظ بالبشرى، وهو في المعنى واقع لغيرها، تأويله: يا هؤلاء تنبهوا لبشراي. وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬1)، ومعنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة إذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت: اعجبوا، وذكر وجهًا آخر، وهو أن يكون المعنى: يا أيتها البشرى هذا من إيانك وأوانك، وزاد أبو علي (¬2) لهذا الوجه بيانًا، فقال: المعنى فيه أن هذا من أوانك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن، وهذا في كل منادى لا يجيب ولا يعقل. وقرأ أهل (¬3) الكوفة {يَا بُشْرَى} من غير إضافة، وهذه القراءة كالأولى في أنه نداءٌ لمن لا يجيب، إلا أن هذا نداءٌ غير مضاف فيكون رفعًا، قال السدي (¬4): نادى المدلي صاحبه وكان اسمه بشرى، فقال: يا بشراي، كما تقول: يا زيد. وروي عن الأعمش (¬5) أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى. قال أبو علي (¬6): من جعل البشرى اسمًا للبشارة وهو الوجه، جاز أن يكون في محل الرفع مثل: يا رجل، لاختصاصه بالنداء، وجاز أن يكون في موضع نصب على أن يجعله نداءً شائعًا في جنس البشرى ولم يخص كما ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 97. (¬2) "الحجة" 4/ 412. (¬3) "السبعة" ص 346، و"النشر" 3/ 124، و"إبراز المعاني" ص 533، و"إتحاف" ص 263. (¬4) الطبري 12/ 167 - 168، وابن أبي حاتم 7/ 2113أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 17، و"زاد المسير" 4/ 194، والقرطبي 9/ 153. (¬5) الرازي 18/ 106، و"زاد المسير" 4/ 194. (¬6) "الحجة" 4/ 411.

فعلت في الوجه الأول، كما يقول: يا رجلاً، و {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، فالوجه الأول على أنه بشرى مختصة، والآخر أن ينزله من جملة كلها مثلها في الشياع، إلا أن التنوين لم يلحق بشرى لأنه لا ينصرف. وقوله تعالى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}، قال مجاهد (¬1) والسدي (¬2) وأكثر المفسرين (¬3): أسره الوارد وجاءوا من كان معه من التُّجار من الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر، خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة؛ لرخص ثمنه. قال إسحاق بن بشر (¬4): قالوا فيما بينهم: إن قلنا لهم التقطناه شاركونا، وإن قلنا اشتريناه، سألونا الشركة، فنقول: إن أهل الماء أبضعوه معنا على أن نبيعه لهم بمصر، قال ابن عباس (¬5) في رواية عطية: (أسروه) يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه أن يكون أخاهم، وقالوا: هو عبد لنا أبق منا، وتابعهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 2114أوابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 18، و"زاد المسير" 4/ 195، والثعلبى 7/ 68 أ، والبغوي 4/ 224. (¬2) الطبري 12/ 169، وابن أبي حاتم 7/ 2114 أ. (¬3) الطبري 12/ 168، الثعلبي 7/ 68 أ، البغوي 4/ 224، و"زاد المسير" 4/ 195، الرازي 18/ 106. (¬4) هو: إسحاق بن بشر أبو حذيفة البخاري، له كتاب المبتدأ، تركوه وكذبه ابن المديني، وقال الدارقطني: كذاب متروك. توفي سنة 206 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 184، و"الأعلام" 1/ 294، و"معجم المؤلفين" 1/ 340. وانظر: الرازي 18/ 107. (¬5) الطبري 12/ 168، الثعلبي 7/ 68 أ، "زاد المسير" 4/ 195، ابن عطية 7/ 463.

20

وقوله تعالى: {بِضَاعَةً} البضاعة: القطعة من المال تجعل للتجارة، من: بضعت الشيء، إذا قطعته، قال الزجاج (¬1): وبضاعة منصوب على الحال، كأنه قال: وأسروه جاعليه بضاعة، [وعلى القول الأول في أسروه، الجاعلون هم الوارده، جعلوه بضاعة على ما بينا وعلى القول الثاني الجاعلون إخوته، جعلوه بضاعة] (¬2) حيث باعوه كما تباع الضائع. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} قال ابن عباس (¬3): يريد بيوسف (¬4). قال أهل المعاني: هذه الآية بيان عما يوجبه حسن تدبير الله تعالى من التسبيب لنجاة من يشاء نجاته. 20 - قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} قال ابن عباس (¬5) في رواية الكلبي: لما طرح يوسف في الجب وانصرفوا رجعوا بعد ثلاث، يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب رأوا أثار السيارة اتبعوهم، فحين أبصروا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منا، فقالوا: لهم فبيعوناه، فباعوه منهم باثنين وعشرين درهمًا، وهم أحد عشر، ونحو هذا قال مجاهد (¬6): باع يوسف إخوته باثنين وعشرين درهمًا. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 98. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬3) "تنوير المقباس" ص 147. (¬4) في (ج): (يوسف). من غير باء. (¬5) الرازي 18/ 107، ابن عطية 7/ 464 - 466. (¬6) الطبري 12/ 173، وابن أبي حاتم 7/ 2116 أوابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 18، و"زاد المسير" 4/ 197، والقرطبي 9/ 156، والبغوي 4/ 224، والثعلبي 7/ 68 ب.

قال الزجاج (¬1): أخذ كل واحد من إخوته درهمين. وقال ابن عباس (¬2) في رواية عطاء: باعوه بعشرين درهمًا، فأخذ كل واحد منهم، إلا يهودا فإنه لم يأخذ شيئًا، وهذا قول ابن مسعود (¬3) والسدي (¬4)، فذلك قوله {وَشَرَوْهُ} أي باعوه، يقال: شريت الشيء، إذا بعته وإذا اشتريته، قال الشماخ في البيع (¬5): فلما شَرَاهَا فَاضَتِ العَيْنُ عَبْرةً ... وفي الصَّدْرِ حَزَّازٌ من اللومِ حَامِزُ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 98. (¬2) الطبري 12/ 173، لكنها من رواية ابن جريح، وابن أبي حاتم: 7/ 2116 أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 19، و"زاد المسير" 4/ 196، والقرطبي 9/ 155، والبغوي 2/ 224، والثعلبي 7/ 68 ب. (¬3) الطبري 12/ 172، الثعلبي 7/ 68 ب، وابن أبي شيبة والطبراني: وقال في "المجمع" 7/ 39: ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والحاكم: وصححه وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 19، والبغوي 4/ 224، و"زاد المسير" 4/ 196، والقرطبي 9/ 155. (¬4) الطبري 12/ 172، "زاد المسير" 4/ 196، القرطبي 9/ 155، الثعلبي 7/ 68 ب. (¬5) وهو الشماخ بن ضرار الغطفاني، شاعر فحل مخضرم، شهد القادسية وتوفي في خلافة عثمان انظر: "الشعر والشعراء" ص 195، و"الإصابة " 2/ 154، و"الأعلام" 3/ 175، "ديوانه" 190، و"الزاهر" 1/ 371، 2/ 256، والبيت قاله في رجل باع قوسه من رجل، ومعنى (حامز): عامر وقيل: ممض محرق، ويروى (من الوجد) "اللسان" (حزز) 1/ 612، القرطبي 9/ 155. كتاب: "العين" 3/ 17، 167، و"تهذيب اللغة" 1/ 918 (حمز)، و"جمهرة اللغة" (529)، و"مقاييس اللغة" 2/ 8، و"مجمل اللغة" 1/ 212، و"أساس البلاغة" (حزز) 1/ 171.

يريد: باعها، وقال قتادة (¬1) في رواية معمر: السيارة هم الذين باعوه. وقوله تعالى: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} يريد حرام، وهذا قول الضحاك (¬2) ومقاتل (¬3) والسدي (¬4)، وعلى هذا سمى الحرام بخسًا؛ لأنه لا بركة فيه، فهو منقوص البركة. وقال قتادة (¬5): بخس ظلم، والظلم: النقصان، يقال: ظلمه حقه، أي: نقص. وقال عكرمة (¬6) والشعبي (¬7): قليل. وقال مقاتل بن حيان (¬8): زيوف من دراهم اليمن، وعلى الأقوال كلها، البخس مصدر وضع موضع الاسم، والمعنى: بثمن مبخوس، أي: منقوص البركة؛ لأنه حرام، أو منقوص لقلته عن ثمن مثله، أو منقوص القيمة لأنه زيف. ¬

_ (¬1) عبد الرزاق 2/ 320، و"زاد المسير" 4/ 196، والطبري 12/ 171، و"الدر" 4/ 18. (¬2) الطبري 12/ 171، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 18، الثعلبي 7/ 68 ب، "زاد المسير" 4/ 196، القرطبي 9/ 155. (¬3) "تفسير مقاتل" 152 أ، الثعلبي 7/ 68 ب، البغوي 4/ 224. (¬4) الثعلبي 7/ 68 ب، البغوي 4/ 224، القرطبي 9/ 155. (¬5) الطبري 12/ 172، وعبد الرزاق 2/ 320، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 18، والقرطبي 9/ 155، وابن أبي حاتم 7/ 2116 ب. (¬6) الطبري 12/ 172، وابن أبي حاتم 7/ 2116 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 18، والبغوي 2/ 224، و"زاد المسير" 4/ 196. (¬7) الطبري وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 18، البغوي 4/ 224، "زاد المسير" 4/ 196. (¬8) الثعلبي 7/ 68 ب، وعزاه البغوي لابن عباس وابن مسعود 4/ 224.

وقوله تعالى: {دَرَاهِمَ} بدل من الثمن وتفسير له وواحده درهم، ويقال (¬1): رجل مدرهم، أي: كثير الدراهم. وقوله تعالى: {مَعْدُودَةٍ} قال ابن إسحاق (¬2): كانوا يعدون الدراهم، حتى يبلغ أوقية، فقال الله عزّ وجلّ {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}، ليعلم أنها أقل من أوقية، وذلك أنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهماً، إنما كانوا يعدونه عدًّا، وقال أصحاب المعاني (¬3): يعني معدودة قليلة، وذكر العدد عبارة عن القلة، وذلك أن الكثير قد يمتنع من عدده لكثرته، والقليل يعد لقلته، وذكرنا الاختلاف في عدد الدراهم. وقوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} قال الليث (¬4): الزهد: الزهادة في الدنيا، ولا يقال الزهد إلا في الدين خاصة، والزهادة في الأشياء كلها، ومعنى الزهد قلة الرغبة، يقال: زهد فلان في هذا، إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلة، ومنه يقال: رجل زهيد، إذا كان قليل الطُّعْم، رجل مزهد قليل المال، ومصدر قوله {مِنَ الزَّاهِدِينَ} الزهادة لا الزهد، قال ابن عباس (¬5): يريد إخوة يوسف، كانوا في يوسف من الزاهدين. قال الضحاك (¬6): لم يعرفوا نبوته، وموضعه من الله، وكرامته عليه، ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (درهم) 2/ 1181. (¬2) الطبري 12/ 173، الثعلبي 7/ 68 ب، و "زاد المسير" 4/ 196 عن ابن عباس، القرطبي 9/ 156. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 40، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبه ص 217. (¬4) "تهذيب اللغة" (زهد) 2/ 1568. (¬5) "زاد المسير" 4/ 197، القرطبي 9/ 157، البغوي 4/ 225. (¬6) الطبري 12/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 2118 أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 19، و"زاد المسير" 4/ 197.

ويجوز أن تعود الكناية في قوله: {فِيهِ} إلى الثمن (¬1) والمعنى: أن إخوة يوسف كانوا من الزاهدين في الثمن إما لذاته، وإما لأن قصدهم تبعيد يوسف لا الثمن. قال الزجاج (¬2): وقوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} (فيه) ليست من صلة الزاهدين؛ لأنها لو كانت من صلته ما جاز أن تقدم عليه، لا يجوز أن تقول: كانوا زيدًا من الضاربين؛ لأن زيدًا (¬3) من صلة الضاربين فلا يتقدم الموصول، وهذا في الظروف جائز؛ لأنها أقوى في حذف العامل من غيرها، والتقدير: كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، ثم حذف زاهدين الأول؛ لأن العامل في الظروف كثيراً ما يحذف، هذا معنى قوله وبعض لفظه. وأكثر المفسرين (¬4) على ما ذكرنا في الآية أن إخوته باعوه. وقال قتادة (¬5): باع يوسف الذين استخرجوه من البئر بعشرين درهمًا. وقال محمد بن إسحاق (¬6): يقال: إن يوسف باعه إخوته، فربك أعلم إخوته باعوه أو السيارة (¬7)، وقيل: شروه هاهنا بمعنى اشتروه، أي: السيارة اشتروه من إخوته، وكانوا فيه من الزاهدين؛ لأنهم قالوا لهم: إنه عبد آبق. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 197. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 98. (¬3) في (أ)، (ب): (زبدٌ). (¬4) الطبري 12/ 174، و"الدر المنثور" 4/ 18، والبغوي 4/ 225، و"زاد المسير" 4/ 196. (¬5) عبد الرزاق 2/ 320، والطبري 12/ 173، و"زاد المسير" 4/ 196. (¬6) الرازي 18/ 107. (¬7) في (ب): (والسيارة).

21

قال مجاهد (¬1): كانوا يقولون شددوه لا يأبق، وعلى هذا الزهادة فيه من صفة السيارة، ويجوز أن يعود الكناية في قوله (فيه) إلى الثمن، والمعنى أن السيارة كانوا من الزاهدين في ذلك الثمن، لقلته ورداءته. 21 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} قال جويبر عن الضحاك (¬2): الذي اشتراه من مصر هو العزيز ملك مصر. وقال محمد بن إسحاق (¬3) باعه مالك بن ذعر وهو الذي استخرجه من البئر من العزيز وهو اطفير بن روحيب، وكان على خزائن الملك وأمره، وكان الملك في ذلك الدهر الريان بن الوليد رجلاً من العمالقة. وقال الكلبي عن ابن عباس (¬4): العزيز لم يكن الملك، إنما كان وزير الملك وصاحب أمره. وقال مقاتل بن سليمان (¬5): باع مالك بن ذعر من قطفير بن ميشا بعشرين دينارًا، وزاده حلة ونعلين، ومعنى الاشتراء والشراء هاهنا الاستبدال لا المنعقد بيعًا وشراءً كقوله {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} (¬6) وقد مر، وقوله {لِامْرَأَتِهِ} اللام من صلة القول، أي: قال لامرأته. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 186، وابن أبي حاتم 7/ 2117 ب، وابن أبي شيبة: وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 18. (¬2) الطبري 12/ 175، القرطبي 9/ 158. (¬3) الطبري 12/ 175، القرطبي 9/ 158، الثعلبي 7/ 68 ب. (¬4) "تنوير المقباس" ص 148، الثعلبي 7/ 68 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 152 ب. (¬6) البقرة: 16، 175 وقال هناك: حقيقة الاشتراء الاستبدال، وكل شراء استبدال، وليس كل استبدال اشتراء.

قال ابن عباس (¬1) في رواية الكلبي: اسم امرأة العزيز زليخا، وهو قول مقاتل (¬2)، وقال شعيب الجبائي (¬3): اسمها زليخة، وقال محمد بن إسحاق (¬4): اسمها راعيل. وقوله تعالى: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي أكرمي منزله ومقامه عندك، من قولك: ثويت بالمكان، إذا أقمت به، ومصدره الثواء، يقال: ثوى يثوي (¬5) ثوًا. قال ابن عباس (¬6): يريد أكرميه ما كان عندك. نحو هذا قال الزجاج (¬7) المعنى: أحسني إليه في طول مقامه عندنا، فالمثوى على هذا بمنزلة الظرف، كأنه قيل: أحسني إليه مدة مقامه عندنا، والمثوى على هذا مصدر، ومن المفسرين من يجعل المثوى الموضع الذي يقيم فيه، وهو قول قتادة (¬8) وابن جريج (¬9)، وعلى هذا أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه، دون إكرام نفسه فقط، ومعنى الإكرام، إعطاء المراد على جهة الإعظام. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 148، و"زاد المسير" 4/ 198، والبغوي 4/ 225. (¬2) "تفسير مقاتل" 152 ب، و"زاد المسير" 4/ 198. (¬3) لم أجده في مظانه، وهذا القول هو قول مقاتل، وانظر: "زاد المسير" 4/ 198، الرازي 18/ 109، البغوي 4/ 225، القرطبي 9/ 158. (¬4) الطبري 12/ 175، ابن أبي حاتم 7/ 2117 ب، وانظر: "الدر المنثور" 4/ 19، والثعلبي 7/ 69 أ، و"زاد المسير" 4/ 198. (¬5) في (ج): (يثوى ثواء) وهو الصحيح كما في "تهذيب اللغة" 1/ 510. (¬6) انظر: البغوي 4/ 225، و"زاد المسير" 4/ 198، والقرطبي 9/ 159. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 98. (¬8) الطبري 12/ 175، الثعلبي 7/ 69 أ. (¬9) الطبري 12/ 175، الثعلبي 7/ 69 أ.

وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} أي يكفينا -إذا بلغ وفهم الأمور (¬1) - بعض شؤوننا، {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} قال ابن عباس (¬2): [وكان لا يولد له وكان حَصُورًا. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس (¬3)] (¬4) يريد ملكناه في أرض مصر، قال الزجاج (¬5): أي: ومثل الذي وصفنا مكنا ليوسف في الأرض. وعلى هذا وجه التشبيه في {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا} أنه شبه التمكين له في الأرض بالتوفيق للأسباب التي صار بها إلى ما صار بالنجاة من الهلاك، والإخراج من البئر، يعني: وكما أنجيناه من إخوته حين هموا بقتله وإهلاكه، وأخرجناه من ظلمة البئر، مكنا له في الأرض حتى بلغ ما بلغ، قال ابن عباس (¬6) والمفسرون (¬7): يعني أرض مصر. وقوله تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} اختلفوا في هذه الواو، فقال أكثرهم (¬8): إنها مستأنفة وخبرها مضمر على تقدير: ولنعلمه من تأويل الأحاديث فعلنا ذلك، أو مكنا له في الأرض، كقوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ ¬

_ (¬1) هذه عبارة الثعلبي 7/ 69 أ. (¬2) القرطبي 9/ 160، ابن عطية 7/ 468. (¬3) "تنوير المقباس" ص 148، و "زاد المسير" 4/ 198. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 99. (¬6) "تنوير المقباس" ص 148. (¬7) الطبري 12/ 176، البغوي 2/ 417، الرازي 18/ 109، "زاد المسير" 4/ 198، الثعلبي 7/ 69 ب. (¬8) انظر: "زاد المسير" 4/ 198.

الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا} [الصافات: 6، 7] أي: وحفظًا زيناها، وعند الكوفيين يجوز أن يكون الواو مقحمة. وقال بعضهم: هي عاطفة على معنى الكلام المتقدم بتقدير: دبرنا ذلك لنمكنه في الأرض ولنعلمه. وذكرنا معنى (تأويل الأحاديث) عند قوله {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} قال ابن عباس (¬1) في رواية عطاء: يريد على ما أراد من قضائه، وعلى هذا الكناية في (أمره) تعود إلى اسم الله تعالى وعز، ونحو هذا قال في رواية الكلبي عن أبي صالح (¬2) عنه، فالمعنى: أن الله لا يغلبه على أمره غالب، ولا يبطل إرادته منازع فهو قادر على أمره من غير مانع (¬3)، وتفسير مقاتل بن سليمان (¬4) يدل على أن الهاء عائدة على يوسف، والمعنى: والله غالب على أمر يوسف، فلا يبسط عليه يد عدو، ولا يوصل إليه كيد كائد، لما يريد من رفعه وتمكينه وتبليغه منازل آبائه. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس (¬5): يريد لا يعلمون غيبي وما أريد بخلقي، وقال غيره (¬6): لا يعلمون ما الله بيوسف صانع، وما إليه يوسف صائر، والأكثر هاهنا عبارة عن جميع الناس، لا أحد يعلم ما يأتي في غد، ويجوز أن يقال: إنما قال: (أكثر الناس)؛ ¬

_ (¬1) البغوي 2/ 226، و"زاد المسير" 14/ 199. (¬2) "تنوير المقباس" ص 148. (¬3) في (أ)، (ج): (صانع). (¬4) "تفسير مقاتل" 152ب، و"زاد المسير" 4/ 199. (¬5) القرطبي 9/ 191. (¬6) الطبري 12/ 176، الثعلبي 7/ 70 أ، البغوي 4/ 226.

22

لأنه يجوز أن يعلمه من أطلعه الله عليه من نبي أو ولي، والأولى أن يقال: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدر الله غالب، وأن مشيئته نافذة في المرادات. 22 - قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال أبو عبيدة (¬1): [العرب تقول: بلغ فلانٌ أشُدَّه] (¬2) إذا انتهى منتهاه في شبا (¬3) وقوته، قبل أن يأخذ في النقصان، ليس له واحد من لفظه، يستغنون بها في الواحد والجميع، قالوا: بلغ أشده وبلغوا أشدهم، وقال يونس (¬4): واحدها شُد، مثل قولهم: فلان ودي، والجميع أودي، وأنشد للنابغة (¬5): إني كأني لَدَى النُّعْمَان حَدّثَه ... بَعْضُ الأوُدِّ حَدِيثاً غَيْرَ مَكْذُوبِ وقد ذكرنا الكلام في الأشد مستقصى في سورة الأنعام عند قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (¬6). وأما التفسير: فروى ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس (¬7): {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثلاثًا وثلاثين سنة. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 305. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬3) في (ب): (شأنه) قلت لعلها شبابه، وهو كذلك في "مجاز القرآن" 1/ 305. (¬4) "تهذيب اللغة" (شُد) 2/ 1843 عن الفراء. (¬5) "ديوانه" ص 35، و"اللسان" (ودد) 8/ 4794، و"تهذيب اللغة" 4/ 3858، و"جمهرة اللغة" (115)، و"تاج العروس" (ودد) 5/ 306، وروى بلفظ (خبره). (¬6) الأنعام (152) وقد نقل هناك عن جماعة من أهل اللغة في بيان معنى الأشد، خلاصة ما ذكروه أنه بمعنى القوة والجلادة، ومبلغ الرجل الحنكة والمعرفة. (¬7) الطبري 12/ 177 قال: بضعًا وثلاثين. وقد أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم 7/ 2118 أ، وابن الأنباري في كتاب: "الأضداد" والطبراني في "الأوسط" وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 20، والرازي 18/ 110، و"زاد المسير" 4/ 200.

وروى عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس (¬1) ثلاثين سنة، ومجاهد (¬2) يقول في رواية ابن أبي نجيح: ثلاثًا وثلاثين سنة، وقال في رواية عطاء. يريد الحلم (¬3). وقال الضحاك (¬4): عشرين سنة، وقال مقاتل (¬5): ثمان عشرة سنة، وقال الزجاج (¬6): الأشد من نحو سبعة عشر (¬7) سنة إلى نحو الأربعين. وقوله تعالى: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} وقال في قصة موسى {وَاسْتَوَى} [القصص: 14] قالوا في معناه: بلغ الأربعين، ولم يقل هاهنا استوى؛ لأن موسى بلغ أربعين سنة حين أوحى إليه وهو منتهى الأشد، فأما يوسف فقد أوحى إليه قبل الأربعين، وأما تفسير قوله: {حُكْمًا وَعِلْمًا} فقال عطاء عن ابن عباس (¬8): يريد عقلاً وفهمًا. وقال الكلبي (¬9): والحكم النبوة، والعلم علم الدين، وعلى هذا القول يجب أن يحمل الأشد هاهنا على دون العشرين؛ لأن العلماء على أن ¬

_ (¬1) هذه الرواية ذكرها الطبري بلفظ بضعًا وثلاثين سنة 12/ 177. (¬2) الطبري 12/ 177، "زاد المسير" 4/ 200، الثعلبي 7/ 70 ب، البغوي 4/ 226 ابن أبي حاتم 7/ 2118. (¬3) "زاد المسير" 4/ 200 ونسبه إلى الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم وابنه، وكذا ابن أبي حاتم 7/ 2119 عنهم. (¬4) الطبري 12/ 177، الثعلبي 7/ 70 ب، "زاد المسير" 4/ 200، البغوي 4/ 226. (¬5) "تفسير مقاتل" 152ب، وأخرجه ابن أبي حاتم 7/ 2119 عن سعيد بن جبير. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 99. (¬7) كذا في النسخ والصواب: سبع عشرة. (¬8) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم 7/ 2119 عن مجاهد بنحوه انظر: "الدر" 4/ 20، الثعلبي 7/ 70 ب. (¬9) القرطبي 9/ 162، و"زاد المسير" 4/ 200.

23

يوسف أعطى النبوة وأوحي إليه في البئر، ومن فسر الأشد بثلاث وثلاثين سنة قال: معناه أنه لما بلغ هذه السن زدناه علمًا وفهمًا بعد النبوة. قال ابن الأنباري (¬1): قال اللغويون الحكم والحكمة أصلها حبس النفس عن هواها ومنعها مما يشينها (¬2). فجائز أن يعني بهما النبوة، وممكن أن يعبرا عن العقل والفهم؛ لأن كل واحد من الثلاثة يحبس النفس على رشدها ويبعدها عن غيها. وقال أبو إسحاق (¬3) في قوله {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: أي جعلناه حكيمًا عالمًا، وليس كل عالم حكيمًا، الحكيم: العالم المستعمل علمه، الممتنع من استعمال ما يجهل فيه. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} أي مثل ما وصفنا من تعليم يوسف {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس (¬4): يريد نفعل بالموحدين، وقال أبو روق عن الضحاك (¬5): يعني: الصابرين عن النوائب، كما صبر يوسف. 23 - قوله تعالى {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} يعني: امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها، طلبت منه أن يواقعها، يقال: راود فلان جاريته عن نفسها، وروادته هي عن نفسه، إذا حاول كل واحد من صاحبه الوطء والجماع، ومعنى المراودة في اللغة: المطالبة بأمر للعمل به، قال الزجاج (¬6): المعنى أنها راودته عما يريد النساء من الرجال. ¬

_ (¬1) الرازي 18/ 111. (¬2) في (ج): (لا تشتهي). (¬3) "معاني القرن وإعرابه" 3/ 99. (¬4) أخرج الطبري عن ابن عباس قوله {الْمُهْتَدِينَ} في: "الدر" 4/ 20، و"زاد المسير" 4/ 201. (¬5) الثعلبي 7/ 70 ب، القرطبي 9/ 162. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 99.

وقوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} أي أغلقتها، وأصل (¬1) هذا من قولهم في كل شيء نَشَبَ في شيء فلزمه: قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه: غلق الذهن، ثم يعدّى ما بالألف فيقال: أغلق الباب، إذا جعله بحيث يعسر فتحه، واغلاق القاتل إسلامه إلى ولي المقتول، وذلك أنه صبر بحيث لا يفك منه بعد ذلك، وقد نشب في حيث لا منجا له (¬2)، قال المفسرون (¬3): وإنما قال (غَلَّقت) على التكثير؛ لأنها غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها. وقوله تعالى: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} هيت: اسم للفعل نحو: رويد، وصه، ومه، وبابه، ومعناه: هلم في قول جميع أهل اللغة (¬4)، قال الفراء: ولا مصدر له ولا تصرف، قال الأخفش: هيت لك، مفتوحة الهاء والتاء معناها: هلم، ويجوز كسر التاء ورفعه، وكسر بعضهم الهاء وفتح التاء، كل ذلك بمعنى واحد، قال أبو الفضل المنذري: أفادني ابن اليزيدي (¬5) عن أبي زيد قال: هيت لك بالعبرانية هيتا لج (¬6) أي: تعاله، أعربه (¬7) القرآن. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (غلق) 3/ 2686. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2686، و"لسان العرب" 6/ 3283. (¬3) الثعلبي 7/ 71 أ، الطبري 12/ 179، البغوي 4/ 227. (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 3816 (هيت)، و"لسان العرب" 8/ 4732 (هيت)، و"مجاز القرآن" 1/ 305. (¬5) ابن اليزيدي هو: أبو جعفر أحمد بن محمد اليزيدي، كان متقنًا للعلوم، رواية للشعر والأخبار، شاعرًا، توفي قبل سنة 260 هـ. انظر: "تاريخ العلماء النحويين" ص 225. (¬6) في (أ)، (ب): (هنالخ) والصحيح ما أثبته كما في "تهذيب اللغة" 4/ 3816. (¬7) في (ج): (إعرابه).

وقال الفراء (¬1): إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها (¬2). قال ابن الأنباري (¬3): وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت العرب والروم في القسطاس، [ولغة العرب والفرس في السجيل، ولغة العرب والترك في الغساق] (¬4)، ولغة العرب والحبشة في ناشئة الليل، في حروف كثيرة، قال: ولا تثنية في هيت ولا جمع ولا تأنيث، يقال للرجلين: هيت لكما، وللجماعة هيت لكم، وللنسوة هيت لكن، ويقال: قد هيت الرجل، إذا قال لصاحبه: هيت وهلم. وأنشد لطرفه (¬5): هيت الفِتْيَان في مَجْلِسِنَا ... جَرَّدُوا منها وِرَادًا وشُقُرْ وقال أيضاً (¬6): ليس قَوْمِي بالأبْعَدِين إذا ما ... قَالَ دَاعٍ من العَشِيرَةِ هَيْتا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 40. (¬2) ما سبق من "تهذيب اللغة" 4/ 3816 - 3817. بتصرف. (¬3) "زاد المسير" 4/ 202، الرازي 18/ 91. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬5) والبيت روي بـ (أيها) بدل: هيت، انظر: "ديوانه" 63، و"التكملة" ص 255، و"الخزانة" 4/ 102، و"الخصائص" 2/ 335، و"شرح شواهد الإيضاح" ص 581، و"شرح المفصل" 5/ 60، وبلا نسبة في "المحتسب" 1/ 162، و"اللسان" (غلف) 6/ 3282. (¬6) البيت من الخفيف وقد نسبه الواحدي إلى طرفة وليس في ديوانه، وقد نسب إلى طرفة بمثل رواية الواحدي في القرطبي 9/ 164، و"النكت والعيون" 3/ 23، ونسب إلى طرفة، ولكن برواية (هَيتُ) بفتح الهاء وضم التاء في الطبري 12/ 181 (العلمية)، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 100، و"المحتسب" 1/ 337، و"مجمع البيان" 5/ 340.

قال: وللعرب فيها لغات أجودها فتح الهاء والتاء، وهي قراءة العامة (¬1). قال الزجاج (¬2): لأنها بمنزلة الأصوات، ليس فيها فعل يتصرف، ففتحت التاء لسكونها وسكون الياء، واختير الفتح لأن قبل التاء ياءً، كما قالوا: كيف وأين، ومن كسر التاء (¬3)، فلأن أصل التقاء الساكنين حركة الكسر، ومن ضمها (¬4)، فلأنها في موضع معنى الغايات كأنما قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة وتضمنت هيت معناها، بنيت على الضم، كما بنيت حيث، ومنذ، ومن كسر الهاء (¬5) وضم التاء فهو على لغة قوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال أبو علي الفارسي (¬6): قال أبو عبيدة: هيت لك، هلم لك، وأنشد لرجل (¬7): أبْلِغْ أمير المؤمنين أخَا العِرَاقِ إذا انْتَهَيْتا أنَّ العِرَاقَ وأهْلَه عنق إليك فهَيْتَ هَيْتَا أي: هلم إليها، قال أبو علي: قولهم: هيت فلان بفلان إذا دعاه، ¬

_ (¬1) "السبعة" 347، و"النشر" 3/ 125، و"إتحاف" ص 263 وهي قراءة عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 100. (¬3) قرأ بها ابن محيصن. (¬4) وهي قراءة ابن كثير. (¬5) رواها هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر مع الهمز (هِئتُ) على معنى تهيأتُ لك. انظر: "السبعة" 347، و"إتحاف" ص 263. (¬6) "الحجة" 4/ 417، بتصرف. "مجاز القرآن" 1/ 305. (¬7) في "مجاز القرآن" 1/ 279، و"المفصل" 4/ 32، و"اللسان" (هيت) 8/ 4772، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 357، و"جمهرة اللغة" 251، 440.

ينبغي أن يكون مأخوذًا من قولهم: هيت لك، كما أن قولهم: أفف، مأخوذ من أف، وجعلوها بمنزلة الأصوات لموافقتها لها في البناء، فاشتقوا منها كما يشتقون الأصوات نحو: دع دع، وسبح، إذا قال: سبحان الله، ولبَّا إذا قال: لبيك، قال: ومثل هذه الكلمة في أن الأخير قد جازت فيه الحركات لالتقاء الساكنين قولهم: كان في الأمر ذَيْتُ وذْيتَ وذيْتِ، قال: و (لك) في قوله {هَيْتَ لَكَ} للتبيين بمنزلة (لك) في قولهم: هلم لك، والكاف في قولهم رويدك (¬1)، ومعاك، وأما (¬2) ما روى هشام (¬3) عن ابن عامر (هئتُ لك) بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، فإنها فعلتُ من الهيئة، والضاء ضمير الفاعل. قال أبو زيد: هئتُ للأمر هَيئة وتهيأت (¬4)، ونظير هذا: فئتُ وتفياتُ، بمعنى رجعت، ويجوز على هذا المعنى تخفيف الهمزة كما يخفف من جئت وشئت. وأنكر (¬5) أبو عمر (¬6) والكسائي هذه القراءة (¬7) وقالا: هئْتُ بمعنى تهيئت باطل، لم يحك عن العرب. ¬

_ (¬1) في (ب): (ويدك) من في غير راء. (¬2) في (ج): (وأماها روى). بالهاء. (¬3) هشام بن عمار بن نصير، ابن ميسرة السلمي، أبو الوليد، قاض من القراء المشهورين، من أهل دمشق. قال الذهبي: خطيبها ومقرئها ومحدثها وعالمها، توفي سنة 245 هـ انظر: "غاية النهاية" 2/ 354، و"ميزان الاعتدال" 5/ 427، و"الأعلام" 8/ 87. (¬4) في (أ)، (ب): (وهيأت). (¬5) في (أ)، (ج): (وانكسر). (¬6) في (ج): (وأبو عمروا أو الكسائي). (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 305، والطبري 12/ 181، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 410، والثعلبي 7/ 71 أ.

فأما قول المفسرين في هذا، فروي أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس (¬1): أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ {هَيْتَ لَكَ} قال: معناه، هلم لك، هو قول الحسن (¬2) وابن زيد (¬3) وعامة أهل التفسير، وروى وكيع عن النضر ابن عربي عن عكرمة في قوله {هَيْتَ لَكَ} قال: هلم، وزاد وكيع: وهو بالحورانية (¬4). وقال محمد بن إسحاق (¬5): معناه فأنا لك، فقال يوسف عند ذلك: معاذ الله. قال أبو إسحاق (¬6): المعنى: أعوذ بالله أن أفعل هذا، ومعاذ مصدر تقول: عذت عياذًا ومعاذًا ومعاذه، ومعناه: أعتصم بالله من هذا، وتقديره في الكلام: أعوذ معاذًا بالله، فحذف الفعل ونصب المصدر بالفعل المحذوف المراد، وأضيف [المصدر إلى اسم الله تعالى، كما يضاف] (¬7) المصدر إلى المفعول، ومثله من الكلام: مررت بعمرو مرور زيد، على أن زيدًا ممرور به، والمعنى: كمروري (¬8) يزيد، ومثله: ¬

_ (¬1) في مسائل نافع بن الأزرق: تهيأت لك، و"الإتقان" 1/ 167، وهذا التفسير في صحيفة علي بن أبي طلحة 291، وهو في الطبري 12/ 179، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم 7/ 2121، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 21. (¬2) الطبري 12/ 179، القرطبي 9/ 164. (¬3) الطبري 12/ 180. (¬4) الطبري 12/ 179. (¬5) في الطبري 12/ 180 عن ابن إسحاق قال: تعال. وابن أبي حاتم 7/ 2122 وفيه تعالى فأنا لك. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 101. (¬7) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬8) في (ب): (لمروري).

24

ولسْتُ مُسَلِّمًا ما دُمْتُ حيًّا ... على زَيْدٍ كتَسْلِيم (¬1) الأمِيرِ (¬2) أي: كتسليمي على الأمير، وقد مر. وقولى تعالى: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} يعني زوجها، في قول مجاهد (¬3) وابن إسحاق (¬4) والكلبي (¬5) والسدي (¬6) وأكثر المفسرين (¬7)، ومعناه: إن الذي اشتراني هو سيدي أنعم علي بإكرامي، فلا أخونه في حرمه، إن فعلت ذلك كنت ظالمًا، ولا يفلح الظالمون. قال أبو إسحاق (¬8): ويجوز أن يكون المعنى: إن الله ربي أحسن مثواي، أي تولاني في طول مقامي، فلا أرتكب ما قد نهى عنه وحرمه، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: لا يسعد العاصون، وقيل: الزناة، وهو قول الكلبي (¬9)، ومضى الكلام في معنى مثواي آنفًا. 24 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} الآية، الهم مصدر هممت (¬10) بالشيء إذا أردته، وحدثتك نفسك به وقاربته من غير دخول فيه، كل هذا يكون هَمًّا بالشيء، فمعنى قوله: {هَمَّتْ بِهِ} أي أرادته وقصدته، ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (لتسليم). (¬2) لم أجده. (¬3) الطبري 12/ 183، القرطبي 9/ 165، ابن عطية 7/ 475. (¬4) الطبري 12/ 183، القرطبي 9/ 165، ابن عطية 7/ 475. (¬5) "تنوير المقباس" ص 148. (¬6) الطبري 12/ 683، القرطبي 9/ 165، ابن عطية 7/ 475. (¬7) الثعلبي 7/ 72 أ، البغوي 4/ 228، "زاد المسير" 4/ 203. (¬8) في "معاني القرآن" خلاف ذلك 3/ 101 لأنه قال: (أي إن العزيز ربي). (¬9) "تنوير المقباس" ص 148، الثعلبي 7/ 72 أ، "زاد المسير" 4/ 203. (¬10) في (أ)، (ج): (همت) بميم مشددة.

وأما معنى هم يوسف بها، فقال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم: هَمّ (¬1) يوسف أيضًا بهذه المرأة همًا صحيحًا، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت عنه كل شهوة، قال الباقر بإسناده عن آبائه (¬2) عن علي (¬3) - رضي الله عنه - قال: طمعت فيه وطمع فيها، وكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس (¬4) قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، ونحو هذا قال في رواية عطاء، وروي عنه أيضًا (¬5) أنه سئل: ما بلغ من هم يوسف؟ قال: استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ونحو هذا قال سعيد بن جبير (¬6) ومجاهد (¬7) والضحاك (¬8) ¬

_ (¬1) (هم) ساقط من (أ)، (ج). (¬2) (عن آبائه): ساقط من (ج)، والباقر هو: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي الهاشمي، ثقة حافظ، كان يتولى الشيخين، روى له الجماعة، توفي سنة 114هـ. انظر: "التهذيب" 3/ 650 - 651، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 401. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 181، انظر: "الدر" 4/ 22. (¬4) الطبري 1/ 183 وأبو الشيخ وأبو نعيم في "الحلية" كما في "الدر" 4/ 22، الثعلبي 7/ 72 أ، البغوي 4/ 228، القرطبي 9/ 166. (¬5) عبد الرزاق 2/ 321، والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير 12/ 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2123 وأبو الشيخ والحاكم وصححه كما في "الدر" 4/ 22، الثعلبي 7/ 72 أ، القرطبي 9/ 166. (¬6) الطبري 12/ 184 وابن أبي حاتم 7/ 2122 وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 23، والثعلبي 7/ 72 أ، البغوي 4/ 228، "زاد المسير" 4/ 203، القرطبي 9/ 166. (¬7) عبد الرزاق 2/ 321، والطبري 12/ 184، وابن المنذر انظر: ابن أبي حاتم 7/ 2123 بمعناه وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 22 - 23، الثعلبي 7/ 72 أ، البغوي 4/ 232، القرطبي 9/ 166. (¬8) الطبري 12/ 185، الثعلبي 7/ 72 أ، "زاد المسير" 4/ 203.

والسدي (¬1) ومحمد بن إسحاق (¬2). وقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} قال الباقر بإسناده عن علي (¬3) -رضي الله عنه- قال: قامت المرأة إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته (¬4) بثوب، فقال يوسف: أي شيء تصنعين؟ قال: أستحي من إلهي هرا أن يراني على السوء، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فوالله لا تنالينها مني أبداً، قال فهو البرهان الذي رآه. وقال ابن عباس (¬5) وعامة المفسرين: مثل له يعقوب فرأى صورته عاضًّا على أصابعه يقول: أتعمل (¬6) عمل الفجار وأني مكتوب في الأنبياء، فأستحي منه، وهذا قول عكرمة (¬7) ومجاهد (¬8) والحسن (¬9) وسعيد بن ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 72 أ، والبغوي 4/ 232، و"زاد المسير" 4/ 203، وابن أبي حاتم 7/ 2123. (¬2) الثعلبي 7/ 72 أ، البغوي 4/ 228، وابن أبي حاتم 7/ 2123. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"، انظر "الدر" 4/ 24. (¬4) في (ج): (فسرته). (¬5) عبد الرزاق 2/ 321، والطبري 12/ 187، وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2124، وأبو الشيخ والحاكم في "المستدرك" 2/ 346 وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وانظر: "الدر" 4/ 24. (¬6) في (أ)، (ج): (العمل)، (وأنت) ساقط من (أ)، (ب)، (ج). (¬7) الطبري 16/ 42، وابن أبي حاتم 7/ 1124، وأبو الشيخ كما "الدر" 4/ 23، والثعلبي 7/ 74 أ. (¬8) عبد الرزاق 2/ 321، الثعلبي 7/ 74 أ، الطبري 12/ 188. (¬9) عبد الرزاق 2/ 321، والطبري 12/ 189، وابن أبي حاتم 7/ 21، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 23، والثعلبي 7/ 74 أ.

جبير (¬1) وقتادة (¬2) والضحاك (¬3) وابن سيرين (¬4) ومقاتل (¬5)، قال سعيد بن جبير: مثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقال ابن عباس (¬6) في رواية ابن أبي مليكة: إنه لم يزدجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل في ظهره، فلم يبق فيه شهوة إلا خرجت، فوثب واستبقا الباب، هذا الذي ذكره قول أئمة المفسرين الذي أخذوا التأويل عمن شاهدوا التنزيل، وأما المتأخرون فإنهم ذكروا في الآية أوجهًا قصدوا بها تنزيه يوسف عن الهم الفاسد. أخبرنا أبو الفضل العروضي (¬7) قال أخبرني الأزهري عن المنذري عن ثعلب أنه سئل عن هذه الآية فقال: همت زليخا بالمعصية مصرة على ذلك، وهم يوسف بالمعصية ولم يأتها ولم يصر عليها، فبين الهمين فرق. وشرحه ابن الأنباري (¬8) فقال: همت المرأة عازمة على الزنا قاصدة قصده، ويوسف عارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب، وحديث ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 187، ابن أبي حاتم 7/ 2125، أبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 23، الثعلبي 7/ 74 أ. (¬2) عبد الرزاق 2/ 321، الطبري 2/ 109، وابن أبي حاتم 7/ 2125، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 23، الثعلبي 7/ 74 ب. (¬3) الطبري 12/ 190، و"الدر" 4/ 524، وا لثعلبى 7/ 74 أ. (¬4) الطبري 12/ 189، وابن أبي حاتم 7/ 2124، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 23، والثعلبي 7/ 74 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 152 ب. (¬6) انظر ابن أبي حاتم 7/ 2124 بمعناه. (¬7) هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، سبقت ترجمته في شيوخ المؤلف. انظر: "تهذيب اللغة" (همم) 4/ 3798. (¬8) "زاد المسير" 4/ 203.

النفس ووسوسة الشيطان، فكان هامًا غير عازم، فلم يلزمه هذا الهم ذنبًا، ولم يلحقه عتبًا، إذ الرجل الصالح يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، والتلذذ بأكل الطعام الطيب، فإذا لم الهمّ لم يوجب معصية، فبرهان ربه عن أي شيء صرفه؟ قيل: إنه وإن لم يوجب معصية، فالنبيون والصديقون يعاتبون على الخطرة واللمحة والوسوسة، وبرهان ربه صرفه عن الإقامة على (¬1) الشيء الذي التمادي فيه يؤدي إلى اكتساب ما يوجب عقوبة، فهذه طريقة. وقال آخرون (¬2): الآية محمولة على التقديم والتأخير، وتلخيصها: ولقد همت به لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فقدم جواب لولا عليها، كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلانًا خَلّصك، ومثله قول الشاعر (¬3): فلا يَدْعُنِي قَوْمي صَرِيحًا لحُرَّةٍ ... لئن كنتُ مقتولًا ويَسْلَمُ عامرُ فقدم جواب لئن، قال أبو إسحاق (¬4): وليس بكثير في الكلام أن تقول: ضربتك لولا زيد، ولا هممت بك لولا زيد، إنما الكلام: لولا زيد لهممت بك، ولولا تجاب باللام، فلو كان في القراءة: ولقد همت به ولهم بها لولا أن رأى برهان ربه، لكان يجوز على بعد. ¬

_ (¬1) في (ج): (عن). (¬2) الثعلبي 7/ 72 ب، البغوي 4/ 229، "زاد المسير" 4/ 205. (¬3) القائل قيس بن زهير، في سيبويه والشنتمري 1/ 427، و"الرد على النحاة" (150)، و"الدر" 2/ 10، وهو الورقاء بن زهير في ابن السيرافي ص 586، وبلا نسبة في "معاني القرآن" 1/ 67، و"الهمع" 2/ 16، و"أمالي المرتضي" 1/ 480. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 101.

وقال أبو بكر (¬1): تقديم جواب لولا عليها شاذ يستكره، وغير موجود في الفصيح من الكلام، وأما البيت فإنه من اضطرار الشعر، ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله تعالى النازل بأفصح اللغات على بيت شعر دعت شاعره ضرورةٌ إلى تقديم ما هو مؤخر في النية، مما لو كان متكلمًا بنثر لم يستجز تقدمته، على أنا نقول: جواب لأن يتقدم عليها لأن مجراه مجرى اليمين، فلما صلح إتيان القسم بعد المقسم عليه في قولهم: يقوم زيد والله، حملت لئن على القسم فأخرت بعد جوابها، و (لولا) ليست قسمًا ولا مشبهة بالأقسام فسبق جوابها بعيد مُسْتَسْمج. قال أبو إسحاق (¬2): والذي عليه المفسرون أنه هم بها، وأنه جلس منها مجلس الرجل من المرأة، إلا أن الله تفضل بأن أراه البرهان، ألا تراه قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} الآية، يعني بهذا ما روي أن يوسف لما دخل على الملك، وأقرت المرأة بقولها: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ}، وقال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟، فقال يوسف عند ذلك: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} (¬3) الآية. وقال أبو بكر (¬4): والذي نذهب إليه في هذه الآية ما يروى عن الصحابة والتابعين من تثبيت الهم ليوسف غير عائبين له ولا طاعنين، بل نقول: إن انصرافه بعد ثبات الهم وحل السراويل، وجلوسه من المرأة ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 206. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 101. (¬3) أخرجه الفريابي والطبري 4/ 42 - 43، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2158، وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب كما في "الدر" 4/ 42 - 43. (¬4) "الأضداد" 411 - 414، و"الوقف والابتداء" 2/ 720 - 721، و"زاد المسير" 4/ 203 - 207، والقرطبي 9/ 166.

مجلس الرجل، تعظيمًا لله ومعرفة لحقه، أدل على محافظته على مذهب آبائه، وعلي وفور الثواب وتكامل الأجر له عند إيثار الطاعة على اللذة؛ لأنه انكشف عن المرأة في الحال التي لا ينكشف فيها إلا بَرٌّ مخلص، فكان انكشافه وصبره ماحيًا عنه سيئة الهم، وموجبًا له حسنات مضاعفات بالحديث الصحيح الذي روي في حديث الغار (¬1) وهو أن ثلاثة لجأوا إلى غار، فانطبق عليهم، فذكر كلُّ رجل أفضل عمله، فذكر أحدهم أنه قام عن امرأة بعد ما قدر عليها، ففرج الله عنهم، والحديث طويل معروف، فدلَّ أن الهم بالزنا إذا أتبعه الانصراف بعد القدرة عليه، لم يكن من الفواحش ولا من الكبائر، مع أن الذين ثبتوا (¬2) الهم ليوسف من علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، ووهب، وابن سيرين، والحسن، وقتادة، والكلبي (¬3) وغيرهم كانوا أعرف بحقوق الأنبياء وارتفاع منازلهم عند الله من الذين نفوا الهم عنه، وقد قال الحسن (¬4): إن الله لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرًا لهم، ولكنه قصها عليكم لئلا تقنطوا من رحمته وتيأسوا من فضله. قال أبو عبيد (¬5): يذهب الحسن إلى أن الحجة من الله عزّ وجلّ على أنبيائه أوكد وهي لهم ألزم، فإذا كان يقبل التوبة منهم كان إلى قبولها منكم أسرع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3465)، كتاب: الأنبياء، باب. حديث الغار، وأخرجه مسلم (2743) في كتاب: الرقاق، باب: قصة أصحاب الغار. (¬2) في (ب): (بينو). (¬3) (الكلبي): ساقط من (ج). (¬4) "زاد المسير" 4/ 207، البغوي 4/ 231، القرطبي 9/ 167. (¬5) "زاد المسير" 4/ 207.

وقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} قال أبو إسحاق (¬1): جوابه محذوف، المعنى لولا أن رأى برهان ربه، لأمضى ما هم به. وقال أبو بكر (¬2) تلخيصه: لولا أن رأى برهان ربه لزنا، وحذف جواب (لولا) كثير في القرآن، ومثله {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]، جوابه: لم تنافسوا وتفاخروا بالدنيا وهو كثير. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} قال أبو إسحاق (¬3) أي كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه السوء والفحشاء. وقال صاحب النظم: هذا على التقديم والتأخير، التقدير: ولقد همت به وهم بها (كذلك) أي كما همت به، وقوله {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معترض بينهما واتصاله بقوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أي أريناه البرهان لنصرف عنه ما هَمَّ به من السوء والفحشاء. قال ابن زيد (¬4): السوء القبيح، والفحشاء الزنا. وقال الزجاج (¬5): السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقال عطاء (¬6): السوء والفحشاء عبارتان عن الزنا كله باللسان والفرج واليد وجميع الفرج. عن ابن عباس {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي (¬7) الذين أخلصوا دينهم لله، ومن فتح اللام أراد الذين أخلصهم الله من الأسواء. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 101. (¬2) "زاد المسير" 4/ 207. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 102. (¬4) البغوي 4/ 234، القرطبي 9/ 170 من غير نسبة. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 102. (¬6) انظر: الرازي 18/ 121. (¬7) هذا قول الزجاج انظر "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 102.

25

25 - قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} الاستباق (¬1) طلب السبق إلى الشيء، ومعناه: تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، فإن سبق يوسف المرأة فتح الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب (¬2)، [لئلا يخرج، فالاستباق هنا بمعنى المبادرة، قال أبو إسحاق: أي سبق إلى الباب] (¬3). قال المفسرون (¬4): إن يوسف لما رأى البرهان قام مبادرًا إلى الباب هاربًا مما أراد به، واتبعته المرأة تبغي حبسه والتشبث به، فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته، ووجدا قطفير عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد لما فاجأت سيدها لدى الباب، فقالت مُبرئةً نفسها من الأمر، وملزمة يوسف الذنب، وموهمة زوجها أن الذي سمع من العَدْو والمبادرة إلى الباب والهرب كان منها لا من يوسف {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} الآية، فذلك قوله {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} أي: قطعته طولاً، ومعنى القد في اللغة (¬5): قطع الجلد وشق الثوب ونحو ذلك، وشيء حسن النقد، أي: حسن التقطيع. وقوله تعالى: {مِنْ دُبُرٍ} أي من جهة الخلف، قال ابن الأنباري: المعنى من دبر القميص، وكان معنى القميص معروفًا، فأوثر التخفيف، قال ابن عباس (¬6): وشقت قميصه من خلفه. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سبق) 2/ 1620. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 102. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬4) الثعلبي 7/ 76 ب، البغوي 4/ 234، و"زاد المسير" 4/ 211. (¬5) "تهذيب اللغة" (قدد) 3/ 2895، و"اللسان" (قدد) 6/ 3543. (¬6) الثعلبي 7/ 76 ب.

26

وقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا} أي أدركا وصادفا، قال ذو الرمة (¬1): ألْفَى أبَاه بدال الكَسْب يَكْتَسِبُ وقوله تعالى: {سَيِّدَهَا} قال ابن عباس والكلبي وغيرهما (¬2): زوجها، وقالت المرأة سابقة بالقول: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} قال ابن عباس: يريد الزنا، مثل قوله: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ} أي: يحبس في السجن، {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني الضرب بالسياط، وعطف العذاب على قوله: {أَنْ يُسْجَنَ}؛ لأنه بمعنى السجن، وقد مر، وهذه الآية بيان عن ما يوجبه مكر النساء من البهت، بطرح الجرم على غير صاحبه لتبرئة النفس من ذلك. 26 - قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} قال نوف: أحْسَبُها الشيباني هكذا في الطبري (¬3): ما كان يوسف يريد أن يذكره، فلما سبقت هي بطرح الجرم عليه غضب يوسف، وقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}. وقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} اختلفوا في هذا الشاهد، فقال ابن عباس (¬4)، في رواية عطاء وابن أبي مليكة: كان رجلاً حكيمًا من أقارب المرأة. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" 99، و"الدر المصون" 1/ 697. (¬2) أخرجه الطبري 12/ 192 عن زيد بن ثابت. وأخرجه الطبري 12/ 192 وابن أبي حاتم 7/ 2127، وأبو الشيخ عن مجاهد كما في "الدر" 4/ 25، و"تنوير المقباس" ص 148. (¬3) الطبري 12/ 193 عن نوف الشيباني، والثعلبي 7/ 76 ب، وابن أبي حاتم 7/ 2127، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 25. (¬4) الثعلبي 7/ 77 أ، و"زاد المسير" 4/ 211.

وهو قول الحسن (¬1)، وعكرمة (¬2)، وقتادة (¬3)، والضحاك (¬4)، ومجاهد (¬5) برواية منصور، ومحمد بن إسحاق (¬6) قال: كان رجلاً يشاوره أطفير ويسمع قوله، وعلى هذا فمعنى قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} أي أعلم معلم، وبين مبين، وقال قائل، غير أن هذا القول والإعلام لما كان كالبينة استعمل فيه لفظ الشهادة، [قال مجاهد (¬7): شهد شاهد: حكم حاكم. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشهادة] (¬8) لا يصح تعليقها بالشرط؛ ولأنه لو كانت هذه شهادة معهودة لقيل وشهد مشاهد من أهلها، (أنه إن كان قميصه) كما يقال: إن فلانًا فعل كذا، ولفظ الشهادة يستعمل في التبيين، كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] أي (¬9): أعلم وبين، وقال تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] يريد بينوا؛ ذلك لعنادهم، الحق وإن لم يكن منهم اعتراف بالكفر. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 195، وابن أبي حاتم 7/ 2129 وانظر: "الدر" 4/ 26، الثعلبي 7/ 77 أ، البغوي 4/ 235، القرطبي 9/ 173، ابن أبي حاتم 7/ 2129. (¬2) الطبري 12/ 194، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 26، الثعلبي 7/ 77 أ، البغوي 4/ 235، القرطبي 9/ 173. (¬3) الطبري 12/ 195، وابن أبي حاتم 7/ 2129 وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 26، الثعلبي 7/ 77 أ، البغوي 4/ 235، عبد الرزاق 2/ 322، القرطبي 9/ 173. (¬4) الثعلبي 7/ 77 أ، القرطبي 9/ 173، الطبري 12/ 194 بلفظ: ذو رأي برأيه. (¬5) الطبري 12/ 194 - 195، الثعلبي 7/ 77 أ، البغوي 12/ 194، القرطبي 9/ 173. (¬6) الطبرى 12/ 194 - 195. (¬7) الطبري 12/ 195. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬9) في (ب) بياض.

وقال ابن الأنباري (¬1): ويجوز أن يقال: إن الشهادة لم تقع إلا على معلوم عند الشاهد بكلام سمعه من المرأة من وراء الباب، أو لفظة وقعت في أذنه من ألفاظ يوسف في حال هربه، فأوقع في الشهادة شرطًا ليؤكد العلم به للمخاطبين من جهة العقل، وتلخيص الآية: هو الصادف عندي وهي الكاذبة، فإن تدبرتم ما أشرطه (¬2) لكم، عقلتم صحة قولي، وصار هذا كقول القائل: إن كان القَدَر حقًا فالحرص باطل، فليس هذا الشارط بشاك، لكنه ألزم مخاطبه صحة ما يقول، فدخلت (إن) على جهة التقدير للمعنى الذي يوجب غيره لا للشك، وكذا يكون مقدرات الاستدلال، والأول هو مذهب المفسرين. قال الكلبي (¬3): الشاهد ابن عم المرأة، وكان رجلاً حكيمًا، كان مع زوجها، فقال قد سمعنا الاشتداد والجلبة من رواء الباب، وشق القميص، فلا ندري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه، فهو صادق. ونحو هذا قال السدي (¬4) ومقاتل (¬5): أن الشاهد كان ابن عمها فحكم بما أخبر الله تعالى. وروى عطية العوفي عن ابن عباس أن الشاهد كان صبيًّا أنطقه الله، ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 212. (¬2) في (ب): (ما اشترطته). (¬3) القرطبي 9/ 173 ولم ينسبه. وابن أبي حاتم 7/ 2129 عن زيد بن أسلم. (¬4) البغوي 4/ 235، القرطبي 9/ 173، والثعلبي 7/ 77 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 152 ب.

وهو رواية سالم (¬1) عن سعيد بن جبير (¬2)، وجويبر عن الضحاك (¬3)، وقول هلال بن يساف (¬4) قال: الشاهد صبي في المهد، ولم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، هذا أحدهم. قال ابن عباس (¬5): تكلم في المهد أربعة صغار: شاهد يوسف، وعيسى ابن مريم، وصاحب جريح، وابن ماشطة بنت فرعون. قال ابن الأنباري (¬6): فمن ذهب إلى هذا القول قال: الشرط الواقع مصحح لبراءة يوسف، وتحقيق الجرم للمرأة؛ لأن كلام مثله أعجوبة، وآية باهرة معجزة، لا يكون معها لبس. وروى ابن أبي نجيح وابن جريح عن مجاهد (¬7) قال: الشاهد قميصه مشقوقًا من دبر. ¬

_ (¬1) هو: سالم بن عجلان الأفطس الأموي، مولاهم، أبو محمد الحراني، ثقة رمي بالإرجاء، قتل صبرًا سنة 132 هـ. "التقريب" (2183)، و"الميزان" 2/ 302. (¬2) الطبري 12/ 193، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 26، البغوي 4/ 234. (¬3) الطبري 12/ 194، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 26، البغوي 4/ 234. (¬4) الطبري 12/ 194، و"زاد المسير" 4/ 211، والثعلبي 7/ 76 ب، وهو: الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة، روى له الجماعة إلا البخاري، روى له في التاريخ. انظر: ا"لتقريب" ص 576 (7352). (¬5) أخرجه البخاري في "صحيحه": (3436) كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}، ومسلم (2550/ 8) كتاب: البر، باب: تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، وأحمد 2/ 307، 308، بلفظ (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة). (¬6) "زاد المسير" 4/ 212. (¬7) الطبري 12/ 195، الثعلبي 7/ 77 أ، "زاد المسير" 4/ 212.

27

قال أبو بكر (¬1): وهذا القول لا يوافق اللغة ولا تصححه العربية من أجل أنه قال: {مِنْ أَهْلِهَا} (¬2) والقميص لا يوسف بهذا ولا ينسب إلى الأهل. 27 - وقوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} إلي قوله {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} من حكم الشاهد وبيانه عما يوجب الاستدلال به على تمييز الكاذب من الصادق. 28 - قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى} أي زوج المرأة قميص يوسف {قُدَّ مِنْ دُبُرٍ}، إخبار عن صفة القميص لا عن الفعل؛ لأنه رأى القميص مقدودًا، ما رآه حين قد، والمعنى: فلما رأى قميصه قد قُدّ من دبر، وهذا مثل قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] وقد مر. وقوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} قال أبو إسحاق (¬3): أي أن قولها (¬4): {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} من كيدكن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}. 29 - قوله تعالى: {يُوسُفُ} معناه يا يوسف، فحذف حرف النداء، لأنه من الإيجاز الذي لا يخل، ولا يجوز حذفه من المبهم، ويجوز من العلم؛ لأنك تستدل يكون العلم مرفوعًا غير منون على أنه منادى، ولا بيان في المبهم على أنه منادى إذا حذفت حرف النداء. وقال الزجاج (¬5): يجوز في المعرفة حذف ياء من النداء، وأنشد (¬6): ¬

_ (¬1) قال به الطبري 12/ 196. (¬2) في (ج): (من أجلها). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 103. (¬4) في (ب): (قولهما). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 113. (¬6) البيت ينسب لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللأعشى انظر "الخزانة" 3/ 629، و"شواهد الكشاف"، و"شواهد المغني" (204)، و"شرح شذور الذهب" (211)، وبلا نسبة في سيبويه والشنتمري 1/ 408، السيوطي (204)، و"الدرر" 2/ 71، و"الهمع" 2/ 56، و"الإنصاف" 418، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 375.

مُحَمَّدٌ تَفْدِ نَفْسَك كلُّ نَفسٍ ... إذا ما خِفْتَ من أَمْرٍ تَبَالَا وقوله تعال {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} قال ابن عباس (¬1): يريد لا يذكر هذا ونحوه. قال الزجاج (¬2): اترك هذا الأمر ولا تذكره، وقيل (¬3) معناه: أعرض عنه بأن لا تكترث له، فقد بان براءتك. {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} قال ابن عباس (¬4): قال لامرأته: توبي (¬5) من ذنبك إنك من الخاطئين، يريد: أنك كنت قد أثمت. قال المفسرون: إثمها هو أنها راودت شابًا عن نفسه، وأرادته على الزنا، وخانت زوجها، فلما استعصم كذبت عليه وبهتته (¬6). ومعنى {مِنَ الْخَاطِئِينَ}: من القوم الخاطئين، كما قال: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] وذلك لتغليب المذكر على المؤنث إذا اختلطا، ومثله {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وهذا التفسير الذي ذكرنا يدل على أن هذا من كلام زوج المرأة لها وليوسف. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 213. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 104، وفيه: (اكتم هذا الأمر ولا تذكره). (¬3) الثعلبي 7/ 77 ب، البغوي 4/ 235. (¬4) "زاد المسير" 4/ 213، ولم ينسبه لابن عباس، بل نسب إليه القول الآخر (استعفي زوجك لئلا يعاقبك). (¬5) في (أ)، (ج): (تولي). (¬6) في (أ)، (ب): (نهته).

30

وذهب الكلبي (¬1) وغيره إلى أن هذا من كلام الشاهد الذي هو ابن عم المرأة، وقال في قوله: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} أي سلي (¬2) زوجك أن إلا يعاقبك على ما صنعت. 30 - وقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} الآية، أراد بالنسوة الجمع لذلك ذَكَّر فعلهن حملًا على المعنى، وإذا أنث حُمل على اللفظ، قال أبو علي: وتأنيث النساء والنسوة تأنيث جمع، كما أن التأنيث في {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} [الحجرات: 14] كذلك، ولو لم يؤنث، كما لم يؤنث (قال نسوة) لكان حسنًا، وسمعت بعض الكبار من النحويين (¬3) يقول: لو تأخر الفعل عن النسوة لكان: ونسوة قلن، فكانت النون علامة للجمع (¬4) والتأنيث جميعًا، فإذا قدم الفعل وُحِّد؛ لأن فعل الجماعة إذا تقدم كان موحَّدًا، وإذا وُحِّد حذف منه علامة الجمع، فإذا حذفت علامة الجمع فقد حذفت علامة التأنيث؛ [لأن النون علامة لهما جميعًا، على أن تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث] (¬5)؛ على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع. وقوله تعالى: {نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} قال ابن عباس (¬6): يريد نسوة من أشراف النساء. قال الكلبي (¬7): هن أربع: امرأة ساقي العزيز، وامرأة ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 77 ب، و"تنوير المقباس" ص 148، و"زاد المسير" 4/ 213. (¬2) في (ج): (تبتلى). (¬3) انظر: "المقتضب" 3/ 349، و"الدر المصون" 6/ 474. (¬4) في (أ)، (ج): (للجميع). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) البغوي 4/ 236 بدون نسبة لابن عباس، القرطبي 9/ 176. (¬7) "زاد المسير" 4/ 214، والقرطبي 9/ 176، ونسبوه إلى ابن عباس. وانظر: "تنوير المقباس" ص 148.

خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وزاد مقاتل (¬1): امرأة الحاجب، ونحوه قال مجاهد (¬2)، والأشبه ما قاله ابن عباس؛ لأن زليخا إنما اتخذت مأدبة لأشراف النساء، ولو خاض في حديثها هؤلاء النسوة لأشبه أن لا (¬3) يؤخذ خوضهن مقالتهن، والمعنى: أن ذلك الذي جرى بينهما شاع وانتشر في مدينة مصر، حتى تحدث بذلك النساء وخضن فيه. وقوله تعالى: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} يعنين زليخا، والعزيز (¬4) بلغتهم الملك، يعنون أنه منيع بقدرته، والعرب تسمي الملك عزيزًا، وهو في شعر أبي دؤاد (¬5): دُرّةٌ غَاصَ عليها تَاجِرٌ ... جُلِبَت يَوْمَ عَزِيزٍ يَوْمَ طَل وقوله تعالى: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [الفتى: الحدث الشاب، والفتاة الجارية الشابة، قال ابن عباس: يريد تراود غلامها عن نفسه] (¬6). وقوله تعالى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} قال أبو عبيد (¬7): الشغف أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهو جلدة دونه. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 153 أ، الثعلبي 7/ 77 ب. (¬2) لم أجده في مظانه. (¬3) في (أ)، (ج): (أن يؤخذ) بدون لا. (¬4) الطبري 12/ 198 لم أجده في "تفسير الطبري" بنصه. (¬5) هو: أبو دؤاد وقيل أبو داود جارية بن الحجاج، وقيل: جويرية، وقيل: حنظلة، شاعر جاهلي. انظر: "خزانة الأدب" 9/ 590، و"الشعر والشعراء" ص 140. والبيت من الرمل ونسبه الواحدي هنا إلى أبي دؤاد، ونسب إليه أيضاً في الطبري 12/ 198، والثعلبي 7/ 78 أوفيها: (جلبت عند عزيز ...) وفي "النكت والعيون" 3/ 30، و"مجمع البيان" 5/ 350. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) "تهذيب اللغة" (شغف) 2/ 1894.

وقال يونس (¬1): شغفها أصاب شغافها مثل كبدها، وقال ابن السكيت (¬2): الشغاف هو الخلبُ، وهو جليدة لاصقة بالقلب، ومنه قيل: خلبه إذا بلغ حبه خلب قلبه، وشغفها إذا بلغ حبه شغاف قلبها، وقال الفراء (¬3): (شغفها حبًّا) أي: خرق شغاف قلبها، وقال ابن قتيبة (¬4): يقال. شغفت فلانًا، إذا أصبت شغافه، كما تقول: كبدته (¬5)، إذا أصابت كبده. وقال ابن الأنباري (¬6): الشغاف غلاف القلب، وأنشد (¬7): يَعْلَمُ اللهُ أنَّ حُبَّكِ مِنِّي ... في سَوَادِ الفُؤادِ وِسْطَ الشِّغَاف قال: والمعنى: شغفها حبه، أي: أصاب شغافها، ثم نقل الفعل عن الفاعل [فخرج الفاعل] (¬8) مفسرًا نحو قولهم: طاب نفسًا، وقر عينًا، {واشتعل الرأس شيبًا}، وهذا من كلامهم للاتساع (¬9) في اللغة، والافتنان في اللفظ، وذلك أدل على البلاغة وأحلى في السمع، ولا يتعدى في هذا ما نطقت به العرب، لا يقال: عقل محمد جارية، على معنى عقلت جارية محمد، كما يقال: حسن محمد وجهًا، فعلى هذا (الحب) فاعل نقل عنه الفعل. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (شغف) 2/ 1894. (¬2) "تهذيب اللغة" (شغف) 2/ 1894. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 42. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" ص 218. (¬5) في (أ)، (ج): (لبدته). باللام. (¬6) " الزاهر" 1/ 509. (¬7) هو لعبد الله بن قيس الرقيات. انظر: "ديوانه" ص 37، و"الزاهر" 1/ 509. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬9) في (ج): (الاتساع).

وقال غير أبي بكر: المعنى شغفها الفتى بالحب، فحذف الجار ونصب الحب، كما يقال: قتله ضربًا، فعلى هذا، الفاعل هو الفتى. وأما المفسرون، فقال ابن عباس (¬1) في رواية عطاء: قد دخل حبه شغاف قلبها، وهو موضع الدم، وهي الشغاف، وهذا الذي ذكره ابن عباس قول آخر في الشغاف سوى ما ذكرنا عن أهل اللغة، وقد ذكر الزجاج (¬2) هذا القول في الشغاف فقال: هو حبَّة القلب وسويداء القلب، وهذا القول أبلغ في وصول الحب إلى القلب، ونحو هذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬3): دخل حبه في شغافها. وقال السدي (¬4): الشغاف جلدة رقيقة على القلب، يقول: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب. وقال الكلبي (¬5): الشغاف حجاب القلب، [تقول: حجا حبُه قلبها حتى لا تعقل سواه، وهذه الأقوال كلها تدل على أن الحب] (¬6) فاعل، ثم نقل عنه الفعل؛ لأن المفسرين أسندوا الفعل إلى الحب، وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين (شعفها) بالعين (¬7). ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 78 أ. وانظر: "الدر" 4/ 27 بمعناه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 105، و"زاد المسير" 4/ 214. (¬3) الطبري 12/ 198، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 28، والقرطبي 9/ 176. (¬4) الثعلبي 7/ 78 أ، الطبري 12/ 199، البغوي 4/ 236، القرطبي 9/ 176. (¬5) الثعلبي 7/ 78 أ، البغوي 4/ 236. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬7) ومن هؤلاء عبد الله بن عمرو، وعلي بن الحسين، والحسن البصري، ومجاهد، وابن محيصن وابن أبي عبلة، وأبو رجاء، انظر: الطبري 12/ 200، و"إتحاف" 264، و"زاد المسير" 4/ 215.

قال ابن السكيت (¬1): يقال: شعفه الهوى، إذا بلغ منه، وشعف الهناء البعير، إذا بلغ منه ألمه، وقد كشف أبو عبيد (¬2) عن هذا المعنى فقال: الشعف بالعين إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها (¬3)، كما أن البعير إذا هُنئ بالقطران يبلغ منه مثل ذلك، ثم يستروح إليه، ونحو هذا قال أبو سعيد (¬4) في قول امرئ القيس (¬5): لتقتلني (¬6) وقد شَعفْتُ فؤادَها ... كما شَعَفَ المهنُوءَةَ الرّجُلُ الطَّالِي قال يقول: أحرقت فؤادها بحبي كما أحرق الطالي هذا المهنوة. وقال الفراء (¬7) والزجاج (¬8): شعفها بالعين معناه [ذهب بها كل مذهب، مشتق من الشعف وهو رؤوس الجبال، وفلان مشعوف بكذا] (¬9) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1889. (¬2) "تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1889 - 1890. (¬3) في (ج): (يجد) من غير هاء. (¬4) "تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1890. وهو: أبو سعيد الضرير أحمد بن خالد، اعتمده الأزهري في "التهذيب". انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 44، و"معجم الأدباء" 1/ 346، و"إنباه الرواة" 1/ 41. (¬5) البيت في "ديوانه" ص142، و"اللسان" (شعف) 4/ 228، والطبري 12/ 200، والثعلبي 7/ 78 أ، و"تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1890، و"الزاهر" 1/ 620، و"شرح أبيات سيبويه" 2/ 222، والقرطبي 9/ 177. (المهنوءة) المطلية بالقطران، وإذا هنئ البعير بالقطران يجد له لذة مع حرقة كحرقة الهوى مع لذته. (¬6) في الطبري 12/ 200، والثعلبي 7/ 78 أ: (أتقتلني) وهو أقرب. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 42. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 105. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

معناه قد ذهب به الحب أقصى المذاهب، وقال أبو زيد (¬1): شعفه حبها يشعفه، إذا ذهب بفؤاده، ونحو هذا قال شمر (¬2)، قال: والمشعوف الذاهب القلب، وقال الأصمعي (¬3) في قوله: شَعَفَ الكلابُ الضَّارِيات فؤادَه المشعوف، الذاهب القلب، وبه شعاف أي جنون، الأزهري (¬4): وأهل هجر يقولون للمجنون مشعوف، وعلى هذا معنى (شعفها حبًا)، أي شعفت به، وكاد يذهب حبه بلبها، أي بلغ أقصى المبالغ منها وذهب بها كل مذهب. وقال أبو بكر: الشعف رؤوس الجبال، ومعنى: شعف بفلان، إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه. وهذا الذي حكينا عنه أئمة اللغة في معنى قوله (شعفها) بالعين غير المعجمة ثلاثة أصول: أحدها: أنه من الإحراق، والثاني: أنه من الإذهاب، والثالث: أنه من الارتفاع. وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي ضلال عن طريق الرشد، بحبها إياه (¬5)، كقوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1890. (¬2) "تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1890. (¬3) "تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1890. والبيت لأبي ذؤيب، وعجزه: فإذا يرى الصبح المصدق يفزع "ديوان الهذليين" 1/ 10، و"المفضليات" ص 425، و"اللسان" (شعف) 4/ 2280، و"تهذيب اللغة" (شعف) 2/ 1890. (¬4) كذا في النسخ ولعله (قال الأزهري) وهو في "تهذيب اللغة" 2/ 1890 (شعف). (¬5) "زاد المسير" 4/ 215، والرازي 18/ 126.

31

31 - قوله تعالى {فَلَمَّا سَمِعَتْ} يعني زليخا {بِمَكْرِهِنَّ} قال ابن عباس: يريد مقالتهن (¬1)، وقال قتادة والسدي (¬2): بقولهن وحديثهن، فإن قيل: لم سمي قولهن مكرًا؟ فالجواب عن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق (¬3)، وهو أن قال: إن النسوة قلن ما قلنه استدعاء لرؤية يوسف والنظر إلى وجهه، فعبنها بحبها يوسف لتريهن يوسف، وكان يوصف لهن حسنه وجماله، فلما كان هذا القول منهن طمعًا في أن يكون سببًا لمشاهدة يوسف، سمي مكرًا، لِمَا خالف ظاهرُه باطنه، وذلك أنهن قدرن أن هذا القول إذا اتصل بها أبرزت لهن يوسف ليعذرنها، ويزلن العيب عنها. وقال الزجاج (¬4) وابن الأنباري (¬5): إن امرأة العزيز كانت أسَرَّت إليهن وَجْدها بيوسف واستكتمتهن شأنها، فلما غدرن بها وأظهرن سرها كان ذلك منهن مكرًا، فلما سمعت بما فعلن أرادت أن توقعهن فيما وقعت فيه، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}، قال وهب (¬6): اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة، منهن هؤلاء اللاتي عيرنها. وقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ} أي أعدت، ومضى الكلام فيه مستقصى (¬7) ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 215. (¬2) الطبري 12/ 201، الثعلبي 7/ 78 أ، البغوي 4/ 236. (¬3) الطبري 12/ 201، الثعلبي 7/ 78 أ، "زاد المسير" 4/ 215. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 105. (¬5) الرازي 18/ 126. (¬6) الثعلبي 7/ 78 ب، البغوي 4/ 237، القرطبي 9/ 178. (¬7) عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]، وقال ما ملخصه: اعتدت الشيء فهو عتيد ومعتد، وقد عتد الشيء عتادة وهو عتيد حاضر، وعتد بتاء أصل على حدة، وقيل: الأصل أعدد من عين ودالين ثم قلبت إحدى الدالين تأء.

{لَهُنَّ مُتَّكَأً} معنى المتكأ في اللغة، ما تتكأ عليه من نُمرقة أو وسادة، قال الزجاج (¬1): هو ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث، ومتكأ أصله موتكا بالواو، مثل: موتزن أصله من الواو ثم قيل: متزن، واتكيت اتكأ أصله أوتكيت، فأدغمت الواو في التاء وشددت، والتوكؤ التحامل على العصا في المشي، يقال هو يتوكأ على عصاه ومنه قوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] وقولهم: رجل تكأة، إذا كان كثير الاتكاء، هو في الأصل وكأة، هذا الذي ذكرنا معنى المتكأ، وأصله في اللغة (¬2). فأما التفسير، فقال الكلبي عن ابن عباس (¬3): المتكأ الوسائد التي يتكأ عليها، وقال أبو عبيدة (¬4): المتكأ: النمرق الذي يتكأ عليه، وعلى هذا التفسير لم يذكر الطعام الذي اتخذته لهن؛ لأن الحال وسياق القصة تدلان على أنها اتخذت طعامًا يحتاج إلى قطعه. وقال ابن عباس (¬5) في رواية عطاء ومجاهد في تفسير المتكأ قال: هو الأترج، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬6) {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} طعامًا، ومثله روى سعيد عن قتادة (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 105. (¬2) (في اللغة) ساقط من (أ، ب)، انظر: "تهذيب اللغة" (تكأ) 1/ 445. (¬3) "زاد المسير" 4/ 216، و"تنوير المقباس" ص 148، والثعلبي 7/ 78 ب. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 309. (¬5) الطبري 12/ 202 - 203، ومسدد وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2132، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 28. (¬6) الطبري 12/ 203، وأبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2133، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 29. (¬7) الطبري 12/ 203، الثعلبي 7/ 78 ب. وابن أبي حاتم 7/ 2133.

وقال ابن جريج عن ابن عباس (¬1): المتكأ الأترج، وكل ما نحر بالسكاكين ونحوه. قال الضحاك (¬2) وهو قول سعيد بن جبير (¬3) والحسن (¬4) وابن إسحاق (¬5) قالوا: طعامًا، قال ابن الأنباري وابن قتيبة (¬6) وأهل المعنى: سمي الطعام والأترج متكأً؛ لأنهما من سبب الاتكاء، والعرب تقول: اتكأ الرجل، إذا أكل، فالمتكأ الطعام المأكول، والموضع الذي يؤكل فيه، بناءً على تسمية الشيء باسم سببه، ولما كان المضيف يتخذ لأضيافه نمارق يتكئون عليها للجلوس والأكل، سمي الطعام متكأ، كما يسمى المعلف أريًا (¬7)، وهو الحبل الذي يحبس الدابة، وأنشد (¬8): فظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكَأنَا ... وشَرِبْنَا الحَلالَ من قُلَلِه ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 216، البغوي 4/ 237. (¬2) الطبري 12/ 203، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 29، و"زاد المسير" 4/ 216. (¬3) الطبري 12/ 203، ابن المنذر كما في "الدر" 4/ 29، الثعلبي 7/ 78 ب، البغوي 4/ 237. (¬4) الطبري 12/ 203، الثعلبي 7/ 78 ب، البغوي 4/ 237. (¬5) الطبري 12/ 203، الثعلبي 7/ 78 ب. (¬6) "مشكل القرآن وغريبه" ص 218، 219. (¬7) قال ابن السكيت: في قولهم: (العلف) أري، قال: هذا مما يضعه الناس في غير موضعه، وإنما الآري لحبس الدابة. "تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3881. (¬8) القائل جميل بن معمر، و (القلل) جمع قلة وهي الحب العظيم وقيل الجرة الكبيرة وقيل الكوز الصغير، "ديوانه" ص 53، و"أساس البلاغة" 2/ 273، و"الأغاني" 7/ 79، و"شرح شواهد المغني" 126، و"مشكل القرآن وغريبه" ص 218، والثعلبي 7/ 78 ب، والقرطبي 9/ 178.

أراد باتكأنا أكلنا، وقال الأزهري (¬1): وقيل للطعام متكأ؛ لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكأوا، وقد نُهيت هذه الأمةُ عن ذلك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أما أنا فلا آكل متكئًا، آكل كما يأكل العبيد" (¬2). وقرأ جماعة من التابعين (¬3) (مُتْكًا) قال ابن عباس (¬4) ومجاهد (¬5): هو الأترج. وقال الضحاك (¬6): الزُّمَاوَرْد. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (تكأ) 1/ 445. (¬2) اللفظ الأول "أما أنا فلا آكل متكئًا"، أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة (5398) كتاب: الأطعمة، باب: الأكل متكئًا، وأبو داود (3769)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الآكل متكئا، والترمذي (1890) باب ما جاء في كراهية الأكل متكئًا، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والبيهقي في "السنن" 7/ 462 برقم (14651) باب الأكل متكئًا، وأما اللفظ الآخر "آكل كما يأكل العبيد" فقد قال البيهقي بعد أن ساق كلام الخطابي في معنى الاتكاء، قال: (وروي أنه كان يأكل مقعيًا ويقول: "أنا عبد آكل كما يأكل العبد"، ويؤيده حديث عبد الله بن بسر ولفظه: (اهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فجثا على ركبتيه يأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال: "إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا" أخرجه أبو داود (3773)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة وابن ماجه (3263)، كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئًا، والضياء المقدسي في "المختارة" 1/ 112، وصححه الألباني في "الإرواء" (1966). (¬3) وممن قرأ بها مجاهد وسعيد بن جبير ونسبت إلى ابن عباس، وقرأ بها أبو جعفر، انظر: الطبري 12/ 202 - 203، و"إتحاف" ص 264، و"زاد المسير" 4/ 216، القرطبي 9/ 178. (¬4) الطبري 12/ 202، و"زاد المسير" 4/ 216، وابن أبي حاتم 123/ 202. (¬5) المرجع السابق. (¬6) الثعلبي 7/ 78 ب، البغوي 4/ 237 بهامش الصفحة، و"زاد المسير" 4/ 216، وابن أبي حاتم 7/ 2133 بلفظتي "البزماورد، البرماورد"، وفي "القاموس": الزماورد: بالضم طعام من البيض واللحم معرب.

وقال عكرمة (¬1): هو كل شيء يحز بالسكين. قال ابن زيد (¬2): يحززن (¬3) الأترج بالسكين، ويأكلن بالعسل. قال أبو زيد (¬4): كل ما حز بالسكين فهو عند العرب متك، والمتك والبتك القطع، والعرب تعاقب بين الميم والباء. وأنكر أبو عبيدة (¬5) كل هذا، وقال: الذين قالوا المتكأ الأترج، فقد كذبوا، ليس للأترج في كلام العرب اسم إلا الأترج، وإنما لما احتج عليهم بأنه المتكأ من النمارق والوسائد، فروا وقالوا إنما هو المتك، وإنما المتك طرف بصر المرأة. قال أبو عبيد (¬6): والفقهاء الذين رووا هذا وأخذوا به أعلم بتأويل القرآن من أبي عبيدة، فيجوز أن يكون من لغة قوم من العرب درست ومات من يتكلم بها، فقد قال الكسائي إن شيئًا من الكلام سقط لانقراض أهله ومن كان يتكلم به. قال أبو بكر (¬7): وأنشدنا رجل في مجلس أبي العباس حُجةً؛ لأن المتك الأترج: ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 78 ب، البغوي 4/ 237 ابن أبي حاتم 7/ 2133. (¬2) الطبري 12/ 204، والثعلبي 7/ 78 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 29، وابن أبي حاتم 7/ 2134. (¬3) في (ب): (يحزرن). (¬4) الثعلبي 7/ 78 ب، "تهذيب اللغة" (متك) 4/ 3338. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 309. (¬6) الطبري 12/ 202. (¬7) "الزاهر" 2/ 21.

تَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارا ... وتَرَى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارا (¬1) وأجاز الفراء (¬2) والزجاج (¬3) أن يكون المتك بمعنى الأترج. وقوله تعالى: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} قال ابن عباس (¬4): وأعطت كل واحدة منهن سكينًا وترنجة، فإن قلنا بهذا وحملنا المتكأ على الطعام الذي يقطع أو الأترج، فلا إشكال، وإن حملناه على الوسادة، والموضع الذي تتكأ عليه، فإنما أعطتهن (¬5) السكين لتقطع فاكهة قدمت إليهن، ولم يذكر الفاكهة لدلالة الحال والسكين، ومعنى {وَآتَتْ} هاهنا ناولت، والسكين يذكر ويؤنث، ومتخذه يقال له: السَّكَّان. وقوله تعالى: {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أي قالت ذلك ليوسف، قال الزجاج (¬6): أمرته بالخروج عليهن، ولم يكن تهيأ له (¬7) ألا يخرج؛ لأنه بمنزلة العبد لها، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} قال ابن عباس (¬8)، ومعظم المفسرين: ¬

_ (¬1) البيت غير منسوب. وهو في "الزاهر" 2/ 25، و"البحر المحيط" 5/ 299، و"المحرر الوجيز" 7/ 493، و"الدر المصون" 6/ 479، والقرطبي 9/ 178، و"اللسان" (إثم) 1/ 29، و"تهذيب اللغة" 1/ 122، و"تاج العروس" (متك) 13/ 638. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 42. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 106. (¬4) الطبري 12/ 204، وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 28. (¬5) في (أ)، (ج): (أعطهن). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 106. (¬7) ساقط من (أ)، (ب). (¬8) الطبري 12/ 205، و"زاد المسير" 4/ 218، وابن أبي حاتم 7/ 2135 وروى هذا القول أيضًا عن ابن زيد وابن إسحاق قال: وروى عن السدي مثله.

أعظمنه وهالهن أمره وبهتن، وهو قول مجاهد (¬1) في رواية ابن أبي نجيح وقتادة (¬2) في رواية سعيد، وروى ليث عن مجاهد (¬3) أعظمنه فحضن. وروى عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده (¬4) أكبرنه قال: حضن من الفرح (¬5). قال: وفي ذلك يقول الشاعر (¬6): يأتي النِّساءَ على أطْهَارِهِنَّ ولا ... يأتي النِّساءَ إذا أكْبَرْنَ إكْبَارا ونحو هذا القول روى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس (¬7). ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 205، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم (لم أجده في النسخة التي بين يدي) وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 29، و"زاد المسير" 4/ 218. (¬2) الطبري 12/ 204 - 205. (¬3) "زاد المسير" 4/ 218. (¬4) الطبري 12/ 205، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2135 كما في "الدر" 4/ 29، والثعلبي 7/ 79 ب، وعبد الصمد كان أميرًا على مكة، قال الذهبي: ليس بحجة. انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 50، و"الميزان" 3/ 334، وأبوه هو أبو محمد ثقة عابد، مات سنة 118 هـ على الصحيح وأخرج له الجماعة إلا البخاري. انظر: "الكاشف" 2/ 43، و"التهذيب" 3/ 146 والأثر ضعيف. (¬5) في (أ)، (ج): (من الفرج) بالعجمة "زاد المسير" 4/ 218، ابن عطية 7/ 494، القرطبي 9/ 180. (¬6) البيت غير منسوب وهو في الطبري 12/ 205، والثعلبي 7/ 79 ب، والقرطبي 9/ 180، و"زاد المسير" 4/ 218، و"تهذيب اللغة" 4/ 3091، وابن أبي حاتم 7/ 2135، و"البحر المحيط" 5/ 303، و"المحرر الوجيز" 7/ 494، و"اللسان" (كبر)، قال الطبري: البيت مصنوع، ط. البابي الحلبي 12/ 205. (¬7) "تهذيب اللغة" (كبر) 4/ 3091، و"زاد المسير" 4/ 218، وفي ابن أبي حاتم 7/ 2135 عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: أعظمنه، فلعل الرواية هنا نقلها عن الأزهري في "التهذيب" فقد روى بسنده هذا القول إلى ابن عباس.

وأنكر هذا أكثر أهل اللغة، قال أبو عبيدة (¬1): أكبرنه: أعظمنه في جماله وبهائه ونور النبوة، ومن أخذ الإكبار من الحيض فليس بحيض، ولكنه قد يُجْرِ الحيض، وقد تفزع المرأة فتسقط ولدها وتحيض، فإن كان ثم حيض، فعسى أن يكون من فزعهن وما هالهن من هيئته، وهذا الذي ذكره أبو عبيدة هو معنى رواية ليث عن مجاهد. وقال الزجاج (¬2): منكر أيضًا أن يكون أكبر بمعنى حاض، هذه اللفظة ليست بمعروفة في اللغة، والهاء في أكبرنه تمنع هذا، لأنه لا يجوز النساء قد حضنه، لأن حضن لا يتعدَّى إلى مفعول. وقال الأزهري (¬3): إن صحت هذه اللفظة في اللغة فلها مخرج، وذلك أن المرأة إذا حاضت أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغار ودخلت في حد الكبار، فقيل لها: أكبرت، أي حاضت على هذا المعنى. وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم، قال: سألت رجلاً من طي فقلت: ما لك زوجة؟ قال: لا والله ما تزوجت، وقد وعدت في بنت عم لي، قلت: وما سنها، قال قد أكبرت أو كربت، قلت: وما أكبرت؟ قال: حاضت، قال الأزهري أرى اللغة تصحح: أكبرت المرأة، إذا حاضت، إلا أن الكناية في (أكبرنه) تنفي هذا المعنى، فإن صحت الرواية عن ابن عباس سلم له، وجعلنا الهاء في قوله {أَكْبَرْنَهُ} هاء الوقفة لا هاء الكناية. وقال ابن الأنباري: من أبطل هذا القول إنما أبطله من أجل الهاء، وقد رأو أن الهاء تنصرف إلى يوسف وليست منصرفة إليه، لكنها كناية عن ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 309. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 106. (¬3) "تهذيب اللغة" (كبر) 4/ 3091.

مصدر الفعل يعنى بها أكبرن إكبارًا، أي حضن حيضًا، فكنى عن المصدر كما يقال: قدم زيد فأحببته، يعنون فأحببت قدومه (¬1) كما قال الشاعر (¬2): وليسَ المَالُ فاعْلَمْهُ بمَالٍ ... وإن أغْنَاكَ إلا للدُنِّي أراد: فاعلم علمًا، قال: وهذا القول مقبول لقول ابن عباس به، وبناء جماعة من التابعين عليه، والقول في الهاء ما قاله أبو بكر، لا ما قاله الأزهري، لأن هاء الوقفة تسقط في الوصل ولا توصل بواو. وقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} قال المفسرون: حززن (¬3) أيديهن بالسكاكين، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، قال قتادة (¬4): أبن أيديهن حتى ألقينها، وقال مجاهد (¬5): لم يحسسن إلا بالدم، ولم يحدث الألم من حز الأيدي لشغل قلوبهم بيوسف. قال أهل المعاني: قوله {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} يحتمل ضروبًا من القطع: أحدها: أن يكون كما ذكره قتادة، والثاني: أن يجرحن أيديهن في مواضع، وكذلك ذكر بلفظ التكثير، والثالث: أن كل واحدهَ جرحت يدها جراحة ¬

_ (¬1) في (ب): (وكما) بزيادة الواو. (¬2) البيت بلا نسبة في الأزهية ص 293، و"الإنصاف" 2/ 675، و"خزانة الأدب" 5/ 504، و"الدرر" 1/ 255، و"رصف المباني" ص 76، و"اللسان" (ضمن) 13/ 259 (لذا) 15/ 245، و"همع الهوامع" 1/ 82، برواية العجز: (من الأقوام إلا للذي). (¬3) في (ب): جززن. (¬4) الطبري 12/ 207، والثعلبي 7/ 79 ب، والبغوي 4/ 238، و"زاد المسير" 4/ 218، وابن أبي حاتم 7/ 2136 بنحوه عن غير قتادة. (¬5) الطبري 12/ 206، الثعلبي 7/ 79 ب، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2136، وفيه حز حزًّا بالسكين، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 30، البغوي 4/ 238، و"زاد المسير" 4/ 218.

واحدة، ولكنهن لما كن عدة حسن فعل التكثير. وقوله تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} قال أهل اللغة (¬1) والنحويون: حاش وحاشا يستعملان في الاستثناء والتبرئة، فالاستثناء أن تقول: أتاني القوم حاشا زيد، ومعناه: إلا زيد، وموضع الجار مع المجرور نصب، وأكثر ما يستعمل معه اللام، نحو: ضربت القوم حاشا لزيد، وحاش لزيد، فإن أسقطت اللام جررت بحاشا ما بعدها، وقد أجاز النصبَ بها جماعةٌ من النحويين، وكالتي في الآية، وتأويلها: معاذ الله، وهو تنزيه ليوسف على حال البشر أو عما قُرف به. وأما اشتقاق هذه الكلمة، فقال الزجاج (¬2): اشتقاقه من الحشا والحاشية بمعنى الناحية، من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته، ومعنى قولك: حاشا لزيد: قد تنحى زيد عن هذا وتباعد منه، كما تقول: تنحى من الناحية، كذلك تحاشى من هذا الفعل بمعنى تباعد من حاشية الشيء، وهي ناحيته، ونحو هذا قال أحمد بن عبيد: حاشا مأخوذة من قول العرب: لا أدري أي الحشا أخذ فلان، يعنون أي النواحي، واحتج بقول الهذلي (¬3): يَقُولُ الذي أمْسَى إلى الحزْنِ أهْلُه ... بأيِّ الحَشَا أمْسَى الخَلِيطُ المُبَايِنُ ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (حشو) 1/ 825، و"الزاهر" 2/ 288. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 107. (¬3) لمالك بن خالد الخناعي، ويقال: للمعطل، والحشا: أجواف الأودية، والخليط: الذين يخالطون في الدار، المباين: المفارق المزايل، انظر: "شرح أشعار الهذليين" للسكري 1/ 446، و"تهذيب اللغة" (حشا) 1/ 826، و"المخصص" 5/ 118، و"شرح المفصل" 2/ 85، و"جمهرة اللغة" 2/ 1049.

أراد: بأي النواحي، واحتج أيضًا بقول النابغة (¬1): وما أُحَاشِي مِنَ الأقْوَامِ مِنْ أَحَدِ قال: معناه ما أعدل أحدًا من الأقوام في حشا، أي في ناحية، ولهذا احتمل هذه الكلمة معنى الاستثناء والتنزيه، لأن معنى التنزيه التنحيةُ والإبعاد، وكذلك معنى الاستثناء هو الإخراج عن جملة المذكورين. وقال أبو علي (¬2): حاشا فاعل من حاشى يحاشي، ومعنى: حاش لله، أي: صار يوسف في حشًى، أي: ناحية مما قُرِف به، أي لم يلابسه، وصار في عزلة عنه وناحية، وإذا كان حاشا فعلًا فلابد له من فاعل وفاعله يوسف، كأن المعنى بعد عن هذا الذي رُمي به، (لله) أي لخوفه ومراقبته أمره، وأما حذف الألف منه، فلأن الأفعال قد حذف منها، نحو: لم يك، ولا أدر، ولم أبل، وقد حذفوا الألف من الفعل، نحو ما حكي عن العرب سماعًا: أصاب الناس جهد ولو نر (¬3) أهل مكة، وإنما هو (نرى) فحذفت الألف المنقلبة عن اللام كما حذفت من حاشا، وقد قال رؤبة (¬4): وصَّاني العَجَّاجُ فيما وَصنِي ¬

_ (¬1) عجز بيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر إليه، وصدره: ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه انظر: "ديوانه" ص 12، و"الإنصاف" 241، و"الخزانة" 2/ 44، و"الهمع" 1/ 233، و"الدرر" 1/ 98، والقرطبي 9/ 181، و"الدر المصون" 6/ 484. (¬2) "الحجة" 4/ 423. (¬3) سقط من (أ، ب، ج) وما أثبته في (ي)، وفي "الحجة" 4/ 423: ولو تَرَما أهل مكة. (¬4) من أرجوذة له في "ديوانه" ص 187، وقبله: مُسرول في آلة مُربن ... يمشي العرضى في الحديد المتقن وبلا نسبة في "الأشباه والنظائر" 2/ 449، و"الخزانة" 1/ 131.

ومن أثبث الألف جاء به على التمام والأصل، واختلف النحويون في أن حاشا في الاستثناء حرف جر أم فعل، فهو عند سيبويه (¬1) حرف، وعند المبرد (¬2) يجوز أن يكون فعلًا، وهو اختيار أبي علي، قال: لأن الحرف الجار لا يدخل على مثله، وقد دخل حاشا على اللام الجارة، ولأن الحروف لا تحذف إذا لم يكن فيها تضعيف، واحتج المبرد بقول النابغة (¬3): وما أُحَاشِي مِنَ الأقْوَامِ من أَحَدِ قال: لما صرف فاستعمل منه أحاشي، علم أنه فعل. قال أصحاب سيبويه: قول سيبويه أولى، لأنه يتعلق بالحكاية عن العرب فكان أولى، وحجته في أنها لا تكون إلا حرفًا اجتماع النحويين على أنها لا تكون صلة لما، فلا تقول: جاءني القوم ما حاشا زيدًا، كما تقول: ما خلا زيدًا، فلما امتنعت أن تكون صلة لـ (ما)، دل على أنها ليست بفعل، واحتجاج أبي العباس عليه بقول النابغة لا يلزم؛ لأن قوله (وما أحاشى) ليس بتصريف فعل بل هو بناء فعل على حكاية [قول القائل: حاشا فلان، نحو قولهم: حوقل وبسمل، كأنه قال: ما أقول هذا القول. وأما] (¬4) قول أبي علي، وقد ذكره أبو العباس أيضًا أن حاشا دخلت على اللام الجارة، فتقدير ذلك أن تكون اللام معلقة بفعل آخر، وتكون زائدة، وأما ¬

_ (¬1) "الكتاب" 2/ 309. (¬2) "المقتضب" 4/ 391، قال محقق الكتاب: وهذه المسألة من المسائل التي رد فيها المبرد على سيبويه، وقد تعقبه ابن ولاد في الانتصار، وانظر: "الحجة" 4/ 422. (¬3) سبق التعليق على البيت. (¬4) ما بين المعقوفين في (ب) وهو ساقط من (أ)، (ج).

قوله: الحروف لا تحذف، قيل: إنها تخفف وتشدد فيجوز أن تحذف أيضا من حاشا لكثرة استعمالهم إياه، ولاتصال اللام بها. وذكر أبو علي (¬1) في "الإيضاح" أن حاشا حرف فيه معنى الاستثناء، تقول: أتاني القوم حاشا زيد، فموضع الجار والمجرور النصب، وأكثر أهل العربية على أن معنى قوله {حَاشَ لِلَّهِ} تنزيه ليوسف عما رمته به امرأة العزيز كما ذكرنا، وذهبت طائفة إلى أن المراد تنزيهه من (¬2) شبه البشرية، لفرط جماله وروعة بهائه، ويؤكد هذا المعنى سياقُ الآية بعد هذا، ويكون تقدير الآية على هذا المعنى: حاشا يوسف، أي: بعد عن أن يكون بشرًا، ودخلت (لله) تأكيدًا لهذا المعنى. وقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} قال الفراء (¬3): نصبت بشرًا؛ لأن الباء قد استعملت فيه، ولا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، ألا ترى أن كل ما في القرآن أتى بالياء إلا هذا، وقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]. وقال الزجاج (¬4): سيبويه والخليل وجميع النحويين القدماء يزعمون أن بشرًا منصوب لأنه خبر (ما) ويجعلونه بمنزلة (ليس)، و (ما) معناه معنى (ليس) في النفي. وقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} تأكيد أنه ليس من البشر. ¬

_ (¬1) "الإيضاح" ص 33. (¬2) من هنا يبدأ سقط في نسخة (ب) حتى ص 111. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 42. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 107.

32

32 - قوله تعالى {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} معنى اللوم في اللغة (¬1) الوصف بالقبيح، ونقيضه الحمد، قال المفسرون (¬2): (أرادت امرأة العزيز إظهار عذرها عند النسوة، بما يشاهدن من جمال يوسف) (¬3). فلما بهتن بالنظر إليه، وذهب عقولهن، وجعلن يقطعن أيديهن، قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} قال ابن الأنباري (¬4): أشارت بذلك إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس، يدل على هذا ما روي أن ابن عباس (¬5) قال: في قوله {فَذَلِكُنَّ} يريد فهو الذي لمتنني فيه، أي في حبه، والشغف به، ثم أقرتْ عندهنَّ فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} قال ابن عباس (¬6) والمفسرون (¬7) وأهل اللغة (¬8): فامتنع، ومعنى الاستعصام الامتناع بطلب العصمة، والعصمة سميت عصمة؛ لأنها تمنع من ارتكاب المعصية، قال الأصمعي (¬9): العصمة في كلام العرب المنع، وعصمة الله العبد، أن يمنعه مما يوبقه، واعتصم بالله، إذا امتنع به، واعتصم إذا امتنع وأبى، ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (لام) 4/ 3221، و"اللسان" (لوم) 7/ 4101. (¬2) الطبري 12/ 209، الثعلبي 7/ 80 ب. (¬3) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬4) "زاد المسير" 4/ 219، الرازى 18/ 130. (¬5) قال به الطبري 12/ 209. (¬6) الطبري 12/ 210، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2127، وأبو الشيخ كما في "الدر". (¬7) الثعلبي 7/ 80 ب، البغوي 4/ 239، ابن عطية 7/ 501، "زاد المسير" 4/ 220، وأبو الشيخ كما في "الدر". (¬8) "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص 1/ 255، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 423، و"اللسان" (عصم) 5/ 2976. (¬9) "تهذيب اللغة" (عصم) 3/ 2466.

33

وقال قتادة (¬1): فاستعصى. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} قال ابن عباس (¬2): يريد ما أدعوا إليه {لَيُسْجَنَنَّ} توعدته بإيقاع المكروه به، إن لم يطعها فيما تدعوه إليه، و {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}، ومضى الكلام في النون الشديدة والخفيفة، وأن الوقف عليها بالألف كالتنوين في موضع النصب، والصاغر الذليل، ذكرنا ذلك في قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقوله {صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} (¬3). 33 - وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (¬4) قال أبو بكر: معناه: رب دخول السجن أحب إلى مما يطالبنني به من معصيتك، والتعرض لسخطك، فحذف المضاف، وهذا قول الزجاج (¬5)، قال أبو بكر ويجوز أن يكون السِّجن بمعنى السَّجْن إذ الاسم المشتق من الفعل يأتي نائبًا عن المصدر، كما يقال: طلعت الشمس مطلعًا، وغربت مغربًا، جعلوها خلفًا من المصدر وهما اسمان، كذلك السجن، وهذا قول الفراء (¬6)، ولابد من أحد التقديرين؛ لأن السِّجن بالكسر اسم للموضع الذي يحبس فيه، وليس يريد أن ذلك الموضع أحب إلى، بل يريد دخوله واللبث فيه، فإن قيل: لم قال: (أحب إلي) ولا واحد من الأمرين محبوب له، لا السجن، ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 210، وأبو الشيخ كما في "الدر"، والثعلبي 7/ 80 ب، والقرطبي 9/ 184. (¬2) قال به الطبري 12/ 210، والثعلبي 7/ 80، والبغوي 4/ 239. (¬3) الأنعام: 124. وقد قال هناك الصغار: الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه. (¬4) في (أ)، (ج): (يدنني) بدلا من (يدعونني). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 108. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 44.

ولا ما دعونه إليه، إذ لا يريده؟ قلنا هو على التقدير أي: لو كانا مما أريده لكانت إرادتي لهذا أشد، كمن خير بين خصلتي شر، فاختار أيسرهما وأقربهما إلى النجاة. وقوله تعالى: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} قال أبو إسحاق (¬1): يعني امرأة العزيز وحدها، إلا أنه أراد كيدها وكيد جميع النساء، وجائز أن يكون أراد كيدها وكيد النسوة اللاتي رأينه حين أرتهن إياه، يؤكد هذا ما قال وهب (¬2): أن النسوة أمرنه بمطاوعتها، وقلن له: إنك الظالم وهي المظلومة، فلا تعصها واقض حاجتها. وقوله تعالى: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} قال ابن عباس (¬3): أمِلْ إليهن، وقال قتادة (¬4): أتابعهن، يقال: صبا إلى اللهو يصبو صبوًا، إذا مال إليه، وقال أبو الهيثم: صبا فلان إلى فلانة، وصبا لها يصبو، صبى منقوص وصبوة، أي مال إليها. وقوله تعالى: {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قال ابن عباس: يريد المذنبين الآثمين، وقال أهل المعاني: وأكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل، في هذه الآية بيان أن يوسف لما أظلته البلية بكيد النساء ومطالبتهن إياه بالفجور فزع إلى الدعاء والرغبة إلى الله تعالى بالدعاء ليكشف ذلك، مع الاعتراف بأنه إن لم يعصمه من المعصية وقع فيها، فدل أنه لا ينصرف واحدٌ عن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 109. (¬2) "زاد المسير" 4/ 220، البغوي 4/ 239، القرطبي 9/ 185، ابن عطية 7/ 502. (¬3) قال به الطبري 12/ 211، و"تنوير المقباس" ص 149، الثعلبي 7/ 281، البغوي 4/ 239، "زاد المسير" 4/ 220، القرطبي 9/ 185. (¬4) الطبري 12/ 211، الثعلبي 7/ 81 أ، البغوي 4/ 239، القرطبي 9/ 185، ابن أبي حاتم 7/ 2128، أبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 31.

34

المعصية (¬1) إلا بلطف الله عز وجل وعصمته، فاستجاب ليوسف ربه دعاءه، وذلك أن قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} تأويله اللهمَّ اصرف، كما أن تأويل قول القائل: إلا تطعني أعاقبك، أطعني، قاله أبو بكر (¬2). 34 - وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال ابن عباس (¬3): يريد لدعائه، العليم بما يخاف من الإثم. 35 - قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} يقال: بدا له في هذا الأمر بداة، إذا تغير رأيه عما كان عليه، وظهر له رأي آخر، قال وهب والسدي (¬4): إن امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس، يخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ} يعني آيات براءته من قدِّ القميص من دبر، وخمش الوجه وإلزام الحكيم إياها، وقوله: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}، هذا قول المفسرين، وذكر قتادة (¬5) في هذا الآيات حز الأيدي، ولست أدري أي آية فيه على براءة (¬6) يوسف، فإن ¬

_ (¬1) في (ج): (معصية) من غير آل. (¬2) "زاد المسير" 4/ 220. (¬3) الطبري 12/ 212، الثعلبي 7/ 81 أ، البغوي 4/ 239. (¬4) الطبري 12/ 213، الثعلبي 7/ 81 أ، "زاد المسير" 4/ 221، البغوي 4/ 239، القرطبي 9/ 187. (¬5) الطبري 12/ 212، عبد الرزاق 2/ 323. (¬6) قال ابن عطية 7/ 505: (وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرئة ليوسف، ولا تتصور تبرئة إلا في خبر القميص).

قيل: أين فاعل بدا؟ قيل هو مضمر دل عليه (ليسجننه)، على تقدير: بدا لهم بداء (¬1) فقالوا والله (لنسجننه)، واللام في لنسجننه جواب ليمين (¬2) مضمرة، كقوله {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] وقد مر، ورد السجن إلى الياء تغليبًا للأسماء الغيب، كما تقول: قال القوم والله ليكرمن ولنكرمن محمدًا، بالياء والنون، هذا الذي ذكرنا جواب ابن الأنباري (¬3) وغيره من النحويين. وقال الفراء (¬4) وأصحابه: قوله {لَيَسْجُنُنَّهُ} قام مقام فاعل بدا؛ لأن تلخيصه: ظهر لهم سجنه، فناب الفعل الذي فيه لام القسم عن فاعل بدا، وذلك لما كان في الكلام معنى قول؛ لأن تأويل قوله (بدا لهم) أي فيما قالوا ودبروا، فصار كقولك: قلت ليقومن عبد الله، فتسد اللام وما بعدها مسد الكلام حين يقال قلن كلامًا فاللام (¬5) في (ليسجننه) هذه قصتها؛ إذ كان الفعل الذي قبلها يرجع إلى القول في المعنى. وذكر أبو علي الفارسي في "المسائل الحلبية" (¬6) هذه الآية، فقال: إن أبا عثمان يقول: إن فاعله مضمر فيه، كأنه عنده: ثم بدا لهم بدو، فأضمر الفاعل لدلالة فعله عليه، وجاز هذا وحسن، وإن لم يحسن أن نقول: ظهر ظهور وعلن علن؛ لأن البدو والبدا قد استعمل على معنى غير المصدر، ¬

_ (¬1) هذا القول رجحه ابن عطية 7/ 504، القرطبي 9/ 186، والتقدير: ثم بدا لهم رأي. (¬2) في (أ): (ليمن). (¬3) "الزاهر" 2/ 61، و"زاد المسير" 4/ 221. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 44. (¬5) في (ج): (واللام). (¬6) "المسائل الحلبية" ص 239.

ألا ترى أن قولهم: بدا لهم بدو، بمنزلة ظهر لهم رأي، كما أن قولهم: قيل فيه قول كذلك، فلهذا أقيم المصدر فيه مقام الفاعل، وأما قوله (ليسجننه) فحمله أبو عثمان على أنه حكاية، تقديره: بدا لهم أمر قالوا ليسجننه، فأضمر القول كما قال {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3] أي قالوا، ومثله كثير في التنزيل (¬1). وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} قال أهل اللغة (¬2): الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل. قال ابن عباس (¬3) في رواية عطاء: يريد إلى انقطاع القالة وما شاع في المدينة من الفاحشة، وقال في رواية الكلبي (¬4): الحين هاهنا خمس سنين. وقال سفيان وعكرمة (¬5): سبع سنين. ¬

_ (¬1) في هذه المسأله ثلاثة أقوال: 1 - مذهب سيبويه أن ليسجننه في موضع الفاعل أي: ظهر لهم أن يسجنوه، وقال محمد بن يزيد: هذا غلط لا يكون من الفاعل جملة ولكن. 2 - الفاعل ما دل عليه بدا أي بدا لهم بداءٌ، فحذف الفاعل لأن الفعل يدل عليه. 3 - أن معنى (بدا له) في اللغة ظهر له ما لم يكن يعرفه، فالمعنى ثم بدا لهم أي لم يكونوا يعرفونه، وحذف هذا لأن في الكلام عليه دليلًا، وحذف أيضًا القول أي قالوا: (ليسجننه) انظر: "الكتاب" 1/ 456، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 141. (¬2) "تهذيب اللغة" (حين) 1/ 714، و"لسان العرب" (حين) 2/ 1073. (¬3) القرطبي 9/ 187، وفي البغوي 4/ 239، و"زاد المسير" 4/ 222 ونسبوه إلى عطاء. (¬4) البغوي 4/ 239، "زاد المسير" 4/ 222، القرطبي 9/ 87، الثعلبي 7/ 81 أ. (¬5) الطبري 12/ 213، وابن أبي حاتم 7/ 2141 وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 32، والبغوي 4/ 239، وابن عطية 9/ 297، و"زاد المسير" 4/ 222، القرطبي 9/ 187، عن عكرمة (تسع سنين).

36

وقال مقاتل بن سليمان (¬1): حُبس يوسف اثني عشرة سنة (¬2)، وفي هذه الآية بيان أن العزيز أطاع زوجته في حبس يوسف، بعد علمه ببراءته، موافقة لها، وذكر المفسرون (¬3) أن الله تعالى جعل ذلك الحبس [تطهيرًا] (¬4) ليوسف من همه بالمرأة، وتكفيرًا لزلته، وذكر ابن الأنباري أن الله تعالى أبهم الحين هاهنا، إرادةً لتكرمة العلماء ورفعًا لأقدارهم؛ ليفزع الناس إليهم في المشكلات وهم يعرفون ذلك بتطلب التأويل (¬5) والبحث عن غامض التفسير. 36 - قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} قال السدي (¬6) وقتادة (¬7) والمفسرون (¬8): هما غلامان كانا لملك مصر الأكبر، أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه، رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه، وظن أن الآخر مالأه على ذلك، فأمر بحبسهما. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 154 أ. (¬2) قلت الراجح -والله أعلم- هو أنه قد بدا لهم أن يسجنوه من غير تعيين زمن محدد، الذي ذكره المفسرون هو مقدار ما لبث في السجن لا المدة التي قررها الملك حين أدخله السجن. انظر ابن عطية 7/ 506، و"زاد المسير" 4/ 222. (¬3) الثعلبي 7/ 81 أ، القرطبي 9/ 187. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬5) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (ب). (¬6) الطبري 12/ 214، وابن أبي حاتم 7/ 2142. (¬7) الطبري 12/ 214، وابن أبي حاتم 7/ 2141. (¬8) الطبري 12/ 214، الثعلبي 7/ 81 ب، البغوي 4/ 240، "زاد المسير" 4/ 223، القرطبي 9/ 189.

والفتى في اللغة (¬1): الشاب القوي، قال الزجاج (¬2): ويجوز أن يكونا حَدَثين أو شيخين، لأنهم كانوا يسمون المملوك فتى، قال: ولم يقل: فحبس يوسف ودخل معه السجن فتيان؛ لأن في قوله {وَدَخَلَ مَعَهُ} دليلًا على أنه حبس. قال ابن عباس (¬3) في رواية عطاء: في قوله (فتيان) عبدان للملك، وكان أحدهما على شراب الملك، والآخر على طعامه. وقوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} قال المفسرون (¬4) كان يوسف لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني نترايا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا. قال ابن مسعود (¬5): ما رأيا شيئًا، إنما كانا تحالما ليجربا علمه. وقال مجاهد (¬6): كانا قد رأيا حين أدخل السجن رؤيا، فأتيا يوسف، فقال له الساقي: أيها العالم إني رأيت كأني في بستان، فإذا بأصل حَبَلَة (¬7) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (فتى) 2731/ 3، و"اللسان" (فتا) 6/ 3347. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 109. (¬3) انظر: البغوي 4/ 240، الرازي 18/ 133، "زاد المسير" 4/ 222. (¬4) البغوي 4/ 240، الرازي 18/ 133، "زاد المسير" 4/ 222. (¬5) الطبري 12/ 214، الثعلبي 7/ 81 ب، البغوي 4/ 240، "زاد المسير" 4/ 222، ابن عطية 7/ 507، القرطبي 9/ 189. (¬6) الطبري 12/ 215، الثعلبي 7/ 81 ب، البغوي 4/ 240، "زاد المسير" 4/ 222، ابن عطية 7/ 507، القرطبي 9/ 189. (¬7) الحبلة: يطلق على شجرة العنب قال الليث: يقال للكرمة حبلة، و"تهذيب اللغة" (حبل) 1/ 732، و"لسان العرب" (حبل) 2/ 762.

حسنة فيها ثلاثة أغصان، عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها، فكأن كأس الملك بيدي، فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه، فذلك قوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} قال أبو إسحاق (¬1): لم يقل إني أراني في النوم أعصر خمرًا، لأن الحال يدل على أنه ليس يرى نفسه في اليقظة يعصر خمرًا، قال ابن الأنباري: لأنه لو لم يقصد للنوم كان قوله (أعصر) مستغنى به عن {أَرَانِي} وقال غيرهما: قد دل على المنام قولهما {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} وذلك أنه لا يكون لما يرى في اليقظة تأويل. وقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} قال الليث (¬2): يقال: عصرت العنب وعصرته، إذا وليت عصره بنفسك، واعتصرت إذا عُصِرَ لك، والعصارة ما يحلب عن شيء بعصره، وذكر المفسرون (¬3) وأهل المعاني في قوله: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي العنب الذي يكون عصيره خمرًا، فحذف المضاف. والثاني: أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس، فيقولون: فلان يطبخ الآجُرّ، يعنون اللّبِن، فيوقعون بالفرع ما هو واقع بالأصل، ويقولون: هو يطبخ دبسًا، وهو يطبخ عصيرًا، هذا (¬4) الذي ذكرنا قول الزجاج (¬5) وابن الأنباري (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 109. (¬2) "تهذيب اللغة" (عصر) 3/ 2458. (¬3) "زاد المسير" 4/ 223، البغوي 4/ 240، الرازي 18/ 134. (¬4) في (ج): (هو). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 109. (¬6) "زاد المسير" 4/ 223.

والقول الثالث: أن من العرب من يسمي العنب خمرًا، وأن قريشًا نطقت بهذه اللغة وعرفتها، فذكرها الله عز وجل في كتابه، قال الضحاك (¬1): نزل القرآن بكل لسان، والعنب بلغة بعضهم الخمر. وقال الكلبي عن أبي صالح (¬2): أزد وعمان يسمون العنب الخمر، وحكى الأصمعي (¬3) عن المعتمر أنه لقي أعرابيًا معه عنب، فقال: ما معك؟ قال: خمر (¬4). وقال صاحب الطعام (ليوسف: إني رأيت) (¬5) كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش (منه، فذلك قوله) (¬6) {وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} والخبز المصدر، والخبازة صنعة الخباز، (وقال الليث (¬7): الطير اسم جامع) (¬8) مؤنث، والواحد طائر. وقال أحمد بن يحيى (¬9): الناس كلهم يقولون للواحد طائر، ¬

_ (¬1) الطبري 16/ 97، ابن المنذر وابن أبي حاتم 4/ 216 أ، كما في "الدر" 4/ 536، القرطبي 9/ 190، "زاد المسير" 4/ 223. (¬2) "تنوير المقباس" ص 149، و"زاد المسير" 4/ 223، وابن عطية 7/ 507. (¬3) الثعلبي 7/ 82 أ، ابن عطية 7/ 507، القرطبي 9/ 190، "لسان العرب" (خمر) 2/ 1259. (¬4) ما سبق من تفسير قوله: {أَعْصِرُ خَمْرًا} والاحتمالات الثلاثة ذكرها صاحب اللسان (خمر) 2/ 1259. (¬5) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬7) "تهذيب اللغة" (طير) 3/ 2149، و"لسان العرب" (طير) 5/ 2735. (¬8) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬9) المشهور بثعلب، و"تهذيب اللغة" (طير) 3/ 1249، و"اللسان" (طير) 5/ 2735.

وأبو عبيدة (¬1) معهم، ثم انفرد فأجاز أن يقال طير للواحد، وجمعه على طيور، قال: وهو ثقة. وقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} قال ابن عباس (¬2): أخبرنا بتفسيره، قال أبو عبيد (¬3): تأويل الشيء ما يرجع إليه وتصرف من المعنى الذي تحته. وقوله تعالى: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} معناه: إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي مكارم الأخلاق، وجميع (¬4) الأفعال، يدل على هذا ما قاله إبراهيم وقتادة (¬5): كان يعود مرضاهم، ويعزي حزينهم، ورأوا منه محافظة على طاعة الله عز وجل فأحبوه، قال (¬6) الضحاك (¬7): كان إذا مرض رجل في السجن قام عليه، وإذا ضاق وَسَّع له، وإن احتاج جَمَعَ له وسأله، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المعنى: إن عبرت لنا هذين المنامين، فإنك من المحسنين إلينا، بقضائك هذه الحاجة لنا، وهذا معنى قول ابن إسحاق (¬8): قال: إنا نراك من المحسنين إن فسرت لنا هذين المنامين. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (طير) 3/ 1249، "اللسان" (طير) 5/ 2735. (¬2) الثعلبي 7/ 82 ب، البغوي 4/ 239، "زاد المسير" 4/ 223. (¬3) الطبري 12/ 215 عن أبي عبيد. (¬4) كذا في جميع النسخ ولعلها (وجميل). (¬5) الطبري 12/ 216، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 34، وابن عطية 7/ 509، والثعلبي 7/ 82 ب، وابن أبي حاتم 7/ 2143. (¬6) في (ج): وقال. (¬7) الطبري 12/ 216، وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2143، وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" كما في "الدر" 4/ 34، البغوي 4/ 239، والقرطبي 9/ 190، والثعلبي 7/ 82 ب. (¬8) انظر الطبري 12/ 216، ابن عطية 7/ 509، "زاد المسير" 4/ 223، الثعلبي 7/ 82 ب.

37

وقال الفراء (¬1): إنا نراك من المحسنين، يقول من العالمين قد أحسنت العلم، قال ابن الأنباري (¬2): والتقدير على هذا: من المحسنين العلم، فحذف مفعول الإحسان كما حذف في قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] أي السمسم والعنب، ونحو هذا قال الزجاج (¬3): أي ممن يحسن التأويل (¬4)، قال: وهذا دليل أن أمر الرؤيا صحيح، وأنها لم تزل في الأمم الخالية، ومن دفع أمر الرؤيا وأن منها ما يصح فليس بمسلم، لأنه يدفع القرآن والأثر، وهذه الآية بيان عما يوجبه لطف الله تعالى فيما سببه لنجاة يوسف بالعلم والإحسان في جوابه عما سأله الفتيان؛ لأن تعبيره رؤيا هذين كان سبب نجاته. 37 - قوله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} الآية، هذا ليس بجواب ما سألا عنه، ولكن يوسف عليه السلام لما علم أن تأويل رؤياهما يوجب قتل أحدهما، بدأ بدعائهما إلى الإسلام ليستعدا به قبل استماع جواب الرؤيا، هذا قول جماعة من المفسرين، قال قتادة (¬5): لما علم نبي يوسف أن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 45، الثعلبي 7/ 82 ب. (¬2) "زاد المسير" 4/ 224. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 110. (¬4) رجح الطبري 12/ 216 من هذه الأقوال قول قتادة والضحاك، ثم قال: فإن قال قائل: وما وجه الكلام إذا كان الأمر إذاً كما قلت، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما، ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض، ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء، وإنما يقال: (نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم). وهذا من المواضع التي تحسن منه بالوصف بالعلم لا بغيره؟. قيل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويل رؤيانا محسنًا إلينا في إخبارك إيانا بذلك، كما نراك تحسن في سائر أفعالك {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} اهـ. (¬5) الطبري 12/ 219، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 34.

أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما، وإلى نصيبهما من الآخرة. وقال آخرون (¬1): قصد يوسف بهذا الدلالة على أنه عالم بتفسير الرؤيا، فقال: لا يأتيكما طعام ترزقانه في منامكما، قال ابن عباس (¬2): يريد تأكلان منه، إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة قبل أن يأتيكما التأويل، هذا قول السدي (¬3) وابن إسحاق (¬4) أن معنى قوله: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أي في المنام. وقال أبو إسحاق (¬5): أحب يوسف أن يدعوهما إلى الإيمان، وأن يعلمهم أنه نبي، وأن يدلهما على نبوته بآية معجزة، وأعلمهما أنه يخبرهما بكل طعام يؤتيان به من قبل أن يرياه، فعلى هذا معنى قوله {تُرْزَقَانِهِ} في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما، أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وهذا مذهب ابن جريج (¬6)، والأول أوجه، لأن قوله: {نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} يوجب أن يكون ذلك إعلامًا بتأويل ما تريان في النوم، ثم أعلمهما أن ذلك مما عرفه الله إياه، فقال: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} أي لم أخبركما على جهة التكهن والتنجم، وإنما أخبركما بوحي من الله وعلم، ثم أعلمهما أن هذا لا يكون إلا لمؤمن بالله نبي، فقال {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد، والطبري 12/ 217 وابن المنذر، وابن أبي حاتم 7/ 2144، عن ابن جريج كما في "الدر" 4/ 34. (¬2) "زاد المسير" 4/ 224، الثعلبي 7/ 83 أ. (¬3) الطبري 12/ 217، ابن عطية 7/ 509، القرطبي 9/ 191، ابن أبي حاتم 7/ 2144. (¬4) الطبري 12/ 217، ابن عطية 7/ 509. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 110. (¬6) الطبري 12/ 217 بمعناه، وأبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 34 وابن عطية 7/ 510، وهو مروي عن الحسن كما في "زاد المسير" 4/ 224.

38

لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} قال الفراء (¬1): كرر (هم) لما فرق بينهما، وكأن الأول مُلغى والاتكاء والخبر عن الثاني، ومثله قوله {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (¬2). 38 - (قوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} إلى قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس (¬3): يريد أن الله عصمنا من أن نشرك به، و (من) زائدة مؤكدة، كقولك: ما جاءني من أحد) (¬4). وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} قال أبو إسحاق (¬5): أي اتباعنا الإيمان بتوفيق الله لنا وبفضله علينا. وقوله تعالى: {وَعَلَى النَّاسِ} قال الكلبي (¬6): يعني وعلى المؤمنين، يريد أن من عصمه الله من الشرك وتفضل عليه بالإيمان فهو ممن لله عليه الفضل، وهذا قول أبي إسحاق (¬7)، لأنه قال: {وَعَلَى النَّاسِ} بأن دلهم على دينه المؤدي إلى صلاحهم، وروي عن ابن عباس (¬8) أنه قال: معناه ذلك من فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء، وعلى الناس أن جعلنا إليهم رسلًا، ودل على هذا التأويل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. قال ابن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 45، وهو قول الطبري 12/ 217. (¬2) النمل: 3، لقمان: 4. (¬3) "زاد المسير" 4/ 225. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 110. (¬6) "تنوير المقباس" ص 149، و"زاد المسير" 4/ 225. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 110. (¬8) الطبري 12/ 218، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2145، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 35، و"زاد المسير" 4/ 225.

39

عباس (¬1): يريد لا يوحدون الله، يعني أنه كان من شكر الإنعام عليهم ببعث (¬2) الرسل أن يؤمنوا ويوحدوا. 39 - قوله تعالى {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} لملازمتهما إياه بالكون فيه، كقوله تعالى لسكان الجنة والنار أصحاب الجنة وأصحاب النار (¬3). وقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} يعني الأصنام، قال الحسن (¬4): متفرقون من صغير وكبير ووسط، مباين كل واحد للآخر، بما يوجب النقص، (خير) أي أعظم في صفة المدح {أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يعني أن القادر بما يقهر كل شيء أحق بالإلهية من الذليل المقهور، وهذا كقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬5). 40 - قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} خاطبهما ومن على (¬6) مثل حالهما من أصحاب السجن {مِنْ دُونِهِ} أي من دون الله {إِلَّا أَسْمَاءً} يريد أنه لما كانت الأسماء التي سموها كالأرباب والآلهة لم تصح معانيها، صارت كأنها أسماء فارغة يرجعون في عبادتهم إليها، فكأنهم إنما يعبدون الأسماء؛ لأنه لا معاني تصح لها من إله ورب، بل أنتم وآباؤكم سميتموها آلهة (¬7) {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ما الفصل (¬8) بالأمر والنهي ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 225. (¬2) في (ب): (بعث) بباء واحدة. (¬3) هذه عبارة الثعلبي 7/ 83 ب. (¬4) "زاد المسير" 4/ 225، القرطبي 9/ 192. (¬5) النمل: 59. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): بزيادة (هذا). (¬7) ما سبق قريب من كلام الثعلبي 7/ 83 ب. (¬8) (ما القضاء والأمر والنهي) انظر الثعلبي 7/ 83 ب، و"زاد المسير" 4/ 226.

41

إلا بالله {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي الذي أمر به من أن لا تعبدوا إلا إياه هو الدين المستقيم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس (¬1): يريد لا يعلمون ما للمطيعين لله من الثواب، وما للعاصين من العقاب، ومضى الكلام في معنى القيم عند قوله {دِينًا قِيَمًا} (¬2). 41 - قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} الآية، قال الكلبي عن ابن عباس (¬3): لما قص الساقي رؤياه على يوسف وقد ذكرنا كيف قص عليه في موضعه، قال له يوسف: ما أحسن ما رأيت، أما حسن الحبلة فهو حسن حالك، وأما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن، فيردك إلى عملك، فتعود كأحسن ما كنت فيه، وقال للخباز لما قص عليه: بئس ما رأيت، السلال الثلاث، ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيقتلك ويصلبك وتأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئًا، فقال: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} يعني سيقع بكما ما عبرت لكما، صدقتما أم كذبتما، فإن قيل كيف حكم يوسف بوقوع تأويل المنامين وربما صدق تأويل المنام وكذب؟ والجواب عن هذا: أن حكم (¬4) يوسف حتم بوقوع الأمر بهما من قبل وحي أتاه بذلك من الله تعالى، الذي يدل على هذا أن حكم المنام ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 226. (¬2) الأنعام: 161. وقال هناك: (قال ابن عباس: يريد مستقيمًا، ونحو ذلك قال الأخفش والزجاج في "القيم"، وهو من باب الميت والصبيب) اهـ. (¬3) "زاد المسير" 4/ 226، "تنوير المقباس" ص 150، البغوي 4/ 243 بنحوه، الرازي 18/ 142، الثعلبي 7/ 84 أ. (¬4) في (أ)، (ب)، (ج): بزيادة (حكم).

42

المكذوب فيه أن يبطل تأويله، فلما وقع ما تؤل لهذين المنامين وكلاهما مكذوب فيه، دل ذلك على أن الجواب وقع بوحي، لا يبطل ولا يزول، على هذا دل كلام المفسرين. قال ابن عباس (¬1) وابن مسعود (¬2) وقتادة (¬3) وغيرهم (¬4)، قالوا: لما عبر رؤياهما، قالا ما رأينا شيئًا، فقال قضى الأمر الذي فيه تستفتيان، قطع الجواب الذي التمساه من جهته، فكأنه قال: هذا عبارة ما سألتما، وتأويل ما قصصتما عندي، ولم يعن أن الذي تأوله واقع لا محالة، فلم يحتم بصحة هذا التأويل، الدليل على ذلك قوله {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ} والظان شاك غير عالم، والصحيح هو الأول؛ لأنه أشبه بحال الأنبياء (¬5)، وذكرنا معنى الاستفتاء في سورة النساء (¬6). 42 - قوله تعالى {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} قال ابن عباس (¬7) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 150. (¬2) الطبري 12/ 221، وابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2148، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 36، الثعلبي 7/ 84 أ. (¬3) أخرجه أبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 36. (¬4) وهو قول مجاهد والسدي والطبري وغير واحد، انظر: الطبري 12/ 221، وابن أبي حاتم، و"البحر المحيط" 5/ 311. (¬5) هذا الذي رجحه ابن جرير الطبري 12/ 222 - 223، وابن عطية 7/ 515، والقرطبي 9/ 194. (¬6) عند قوله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [آية: 127]. قال هناك: (الاستفتاء طلب الفتوى، يقال: أفتى الرجل في المسألة واستفتيته فأفتاني إفتاء، ويقال: أفتيت فلانا في رؤياه إذا عبرتها له. اهـ. (¬7) "تنوير المقباس" ص150، و"زاد المسير" 4/ 227.

ومقاتل (¬1) وأكثر المفسرين (¬2): ظن: أيقن، وهذا التفسير موافق (¬3) لقول من يقول: إنه حكم في عبارة الرؤيا بالقطع واليقين، فقال للذي (¬4) علم أنه ناج من الرجلين {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقال قتادة (¬5): إنما عبارة الرؤيا على الظن، فيبطل الله ما يشاء ويحق ما يشاء، وفسر الظن هاهنا على الشك والحسبان، وهذا موافق (¬6) مذهب من يقول لم يحتم يوسف بتأويل الرؤيا، والقول هو الذي عليه العامة. وقوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي عند الملك (¬7) صاحبك، والرب هاهنا بمعنى السيد، قال المفسرون (¬8): قال له يوسف إذا خرجت من السجن، فقل للملك إن في السجن غلامًا محبوسًا ظلمًا، {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} الكناية في قوله: {فَأَنْسَاهُ} راجعة على يوسف في قول الأكثرين، قال مجاهد (¬9): أنسى الشيطان يوسف الاستغاثة بربه، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك، فعوقب بأن لبث في السجن بضع سنين. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 154 أ. (¬2) "الكشاف" 2/ 322، والرازي 18/ 143، و"الدر المصون" 6/ 499، 500. (¬3) في (أ): (موافق القول)، وفي (ج): (موافقًا لقول). (¬4) في (أ)، (ب)، (ج): (الذي). (¬5) القرطبي 16/ 110، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 37، و"زاد المسير" 4/ 227، والقرطبي 9/ 194، وابن عطية 7/ 515. (¬6) في (أ)، (ب)، (ج): بزيادة (من). (¬7) رواه الطبري 12/ 222 - 223، عن ابن إسحاق ومجاهد وأسباط وقتادة. (¬8) الثعلبي 7/ 84 ب، الطبري 12/ 222. (¬9) الطبري 222 - 224، والثعلبي 7/ 84 ب، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم 7/ 2149، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 39، و"زاد المسير" 4/ 227.

وهذا قول ابن عباس (¬1)، واختيار الزجاج (¬2)، قال: أنسى يوسفَ الشيطانُ أن يذكر ربه. وذهب بعض المفسرين إلى أن الكناية راجعة إلى إنساء الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه، وهذا قول الحسن (¬3)، والكلبي (¬4) وابن إسحاق (¬5)، وذكر الفراء (¬6) القولين جميعًا. قال ابن الأنباري: فمن أعاد الهاء على يوسف احتج بأنها لو عادت على الساقي دخل الكلام حذف وإضمار، لأنه يكون التقدير: فأنساه الشيطان ذكره لربه، ويكون كقوله {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} (¬7) أي يخوفكم بأوليائه، وإذا صح المعنى من غير إضمار وحذف، لم يعدل عنه إلى غيره (¬8)، ومن جعل الهاء عائدة على الساقي، قال: لو رجعت على يوسف ما استحق عقوبة من قبل أن الناسي غير مؤاخذ، والجواب عن هذا أن معنى النسيان هاهنا الترك، ومعنى قوله {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} عامدًا لا ناسيًا. ¬

_ (¬1) البغوي 4 - 244، و"تنوير المقباس" ص150، وابن أبي حاتم 7/ 2149 بنحوه بدون سند لابن عباس. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 112. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وقال ابن كثير 2/ 526: (قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} الضمير عائد إلى الناجي كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد). (¬4) "تنوير المقباس" ص 150. (¬5) الطبري 12/ 224، الثعلبي 7/ 84 ب، "زاد المسير" 4/ 227، ابن عطية 7/ 516. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 46. (¬7) آل عمران: 175. (¬8) وقد ذهب إلى هذا القول عامة المفسرين ومنهم الطبري 12/ 222 وابن عطية 7/ 516، والقرطبي 9/ 196، والبغوي 4 - 244، والرازي 18/ 145، وأما القول الثاني على أن الناسي هو الساقي فرجحه ابن كثير 2/ 526، وأبو حيان 5/ 311.

وقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} قال أبو عبيدة (¬1): البضع ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يريد ما بين الواحد إلى الأربعة، وقال الأصمعي (¬2): ما بين الثلاث إلى التسع، قال الزجاج (¬3): وهو القول الصحيح، واشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت، ومعناه القطعة من العدد، فجعل لما دون العشرة من الثلاث إلى التسع، وهذا قول قتادة (¬4). وقال الفراء (¬5) نحو هذا، وزاد فقال: لا يذكر البضع إلا مع عشر أو عشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال: كذلك رأيت العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون: بضع ومائة، وإذا كان بضع للذُّكران قيل بضعة، فعلى هذا الواحد والاثنان يقال لهما: نيف، والثلاثة إلى التسعة: بضع. وقال المبرد (¬6): هو ما بين العقدين، وهذا قول جماعة (¬7)، قالوا: البضع ما دون العشر، وهو قول الأخفش (¬8)، قال: هو من واحد إلى عشرة. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (بضع) 1/ 346، و"اللسان" (بضع) 1/ 298. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 112، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 430. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 112. (¬4) الطبري 12/ 224، الئعلبي 7/ 84 ب. "معاني القرآن" للنحاس 3/ 429، "الدر المصون" 4/ 185. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 46، و"التهذيب" (بضع) 1/ 346، و"اللسان" (بضع) 1/ 298، والثعلبي 7/ 84 ب، وا لطبري 12/ 225. (¬6) "تاج العروس" 11/ 19. (¬7) "معاني القرآن للفراء" 2/ 46، و"زاد المسير" 4/ 228. (¬8) "معاني القرآن" للنحاس 3/ 430، و"الزاهر" 2/ 342، 343، و"زاد المسير" 4/ 228.

وروى الشعبي (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابة: "كم البضع؟ " فقالوا: من واحد إلى عشرة، وهذا قول ابن عباس (¬2)، وقال مجاهد (¬3): هو ما بين الثلاث إلى التسع، وهو قول قطرب (¬4)، وعامة المفسرين (¬5) على أن المراد بالبضع هاهنا سبع، وقالوا: عاقب الله عز وجل يوسف بأن حبس سبع سنين، بعد الخمس التي حبسها إلى وقت قوله {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وذهب مقاتل (¬6) إلى العكس من هذا، فقال: الأول سبع، والآخر خمس. قال ابن عباس (¬7) في رواية عطاء: لما تضرع يوسف إلى مخلوق وقد كان اقترب خروجه، أنساه الشيطان ذكر ربه، حيث مال إلى مخلوق وترك الخالق، فلبث في السجن سنين. وروى الحسن (¬8) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رحم الله يوسف، لولا الكلمة التي قالها: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ما لبث في السجن طول ما لبث"، ثم ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه أحمد 4/ 168، والطبري 21/ 17، والترمذي 2/ 150، وحسنه من حديث ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع". (¬2) الثعلبي 7/ 84 ب، الطبري 12/ 225. (¬3) الطبري 12/ 224، وابن أبي حاتم 7/ 2150. (¬4) "معاني القرآن" للنحاس 3/ 430، وفي "الماوردي" 3/ 40 أنه قال: من ثلاث إلى سبع. (¬5) روى ذلك الطبري 12/ 225 عن قتادة ووهب وابن جريج، وذكره الثعلبي 7/ 84 ب ونسبه إلى أكثر المفسرين. (¬6) "تفسير مقاتل" 154 أ. (¬7) روي عن ابن عباس مرفوعًا نحوه انظر: ابن أبي الدنيا كتاب العقوبات، والطبري 12/ 223، والطبراني وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 37. (¬8) الطبري 12/ 223، وأحمد في "الزهد" وابن أبي حاتم 7/ 2148، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 37، الثعلبي 7/ 84 ب، الرازي في 18/ 150.

43

بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس (¬1). 43 - قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} الآية، قال المفسرون (¬2): لما ذكرنا فرج يوسف، رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته، وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان، وسبعًا عجافًا (¬3) فابتلعت العجاف السمان، فدخلن في بطونهن فلم ير منهن شيئًا، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعًا آخر يابسات قد استحصدت، والتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة وقصها عليهم، فذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي} الآية، فقوله: {عِجَافٌ} قال الليث (¬4): العجف ذهاب السمن، والفعل عجف يعجف، والذكر أعجف، والأنثى عجفاء والجميع عجاف في الذكران والإناث، وليس في كلام العرب أفْعَل وفعلاء، وجُمعا على فعال غير أعجف وعجفاء، وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا: سمان وعجاف، وجاء أفعل وفعلاء على فعل يفعل في أحرف معدودة، منها: الأعجف والآدم والأسمر والأحمق والأخرق والأرعن، على أن ابن السكيت (¬5) قد حكى عن الفراء: عجف وحمق ورعن وخرق، بالكسر في هذه الأربعة، فمعنى العجاف الهزلى التي لا لحم عليها ولا شحم، وقال ¬

_ (¬1) اختلف العلماء في مسألة البضع، معناها والمراد بهاهنا. والأظهر والله أعلم أن المراد بها هنا سبع سنين. انظر: "معاني النحاس" 3/ 429 - 431، الماوردي 40/ 3، أبو حبان 5/ 311، "تاج العروس" (بضع) 11/ 19. (¬2) الثعلبي 7/ 85 أ، وفيه: (لما دنا فرج يوسف) وهو الصحيح. (¬3) (عجافًا): ساقط من (أ)، (ب)، (ج). (¬4) "تهذيب اللغة" (عجف) 3/ 2340. (¬5) "تهذيب اللغة" (عجف) 3/ 2340.

ابن دريد (¬1): العجف غلظ العظام وعراؤها من اللحم. وقوله تعالى: {أَفْتُونِي} ذكرنا معنى الإفتاء والاستفتاء في سورة النساء (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، يقال: عبرت الرؤيا أعبرها عبرًا وعبارة، وعبرتها تعبيرًا إذا فسرتها، وحكى الأزهري (¬3): أن هذا مأخوذ من العبر وهو جانب النهر، ومعنى عبرت النهر والطريق، قطعته إلى الجانب الآخر، فقيل لعابر الرؤيا عابر؛ لأنه يتأمل ناحيتي الرؤيا فيتفكر في أطرافها، ويمضي تفكره فيها من أول ما يرى النائم إلى آخر ما رأى، حتى يقع فهمه على الصحيح منها فيجيب، فأما اللام في قوله {لِلرُّؤْيَا} فقال أحمد بن يحيى (¬4): أراد إن كنتم للرؤيا عابرين، وإن كنتم عابرين للرؤيا، تسمّى هذه اللام لام التعقيب، لأنها عقبت الإضافة، لأن المعنى: إن كنتم عابري الرؤيا. وقال ابن الأنباري (¬5): دخلت اللام مؤكدة مفيدة معنى التأكيد، وقيل: إنها أفادت معنى إلى، وكأن تلخيصها: إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا، والعرب تقول: هو لزيد ضارب، يعنون: هو يوجه ضربه إلى زيد، ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (عجف) 3/ 2340، وابن دريد هو: محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية، من الأزد، انتهى إليه علم لغة البصريين، كان من أحفظ الناس، توفي سنة 321 هـ. انظر: "معجم الأدباء" 18/ 129، و"طبقات النحويين" للزبيدي (ص 202)، و"نزهة الألباء" (323). (¬2) عند قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [آية: 127]. (¬3) "تهذيب اللغة" (عبر) 3/ 2305. (¬4) "تهذيب اللغة" (عبر) 3/ 2304. (¬5) "زاد المسير" 4/ 230.

44

وأجاز النحويون: ضربت لك، بمعنى وجهت ضربي إليك. هذا كلامه. وقال الزجاج (¬1): هذه اللام أدخلت على المفعول للتبيين، لمعنى إن كنتم تعبرون وعابرين، ثم جاء باللام فقال للرؤيا. وقال صاحب النظم: وضع الفعل هاهنا موضع النعت كقوله {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] بمعنى حصرة، وقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7] أي قائلين، كذلك المعنى هاهنا إن كنتم للرؤيا عابرين، وكما وضعوا الفعل موضع النعت، وضعوا النعت أيضًا موضع الفعل، كقوله تعالى {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] بمعنى أم صمتم، ومضى الكلام في مثل هذا مستقصى في قوله {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (¬2). 44 - قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}، قال الفراء (¬3): أضغاث رفع؛ لأنهم أرادوا: ليس هذه بشيء (¬4)، إنما هي أضغاث أحلام، كقوله {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24]. وأما الأضغاث، فقال النضر (¬5): الضغث كالحزمة من أنواع النبت والحشيش. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 112. (¬2) الأعراف: 154. قال هنالك بعد أن ذكر أقوال النحاة في هذه اللام: "فعلى هذا قوله (لربهم) اللام صلة وتأكيد كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} النمل: 72، وقال بعضهم: إنها لام أجل، والمعنى: هم لأجل ربهم يرهبون، لا رياء ولا سمعة. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 46. (¬4) في (أ)، (ب)، (ج): (ليس هذا شيء) والعبارة غير مستقيمة، فإما أن تكون كما ذكرته كما هو في (ي) وفي معاني القراء أو تكون (ليس هذا شيئًا)، والله أعلم. (¬5) "تهذيب اللغة" (ضغث) 3/ 2121.

وقال الأخفش (¬1): هو ملء الكف من الحشيش. وقال الفراء (¬2): الضغث ما جمعته مما قام على ساق واستطال، وقال أبو الهيثم (¬3): كل مقبوض عليه بجمع الكف فهو ضغث، هذا معنى الضغث في اللغة (¬4)، قال ابن مقبل (¬5): خَوْدٌ كأنّ فراشَهَا وضِعَتْ به ... أضْغَاث رَيْحَان غَدَاةَ شَمَال فأما أضغاث الأحلام، فالأكثرون على أنها الأحلام المختلطة، قال أبو عبيدة (¬6): الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا، قال: ونراه مأخوذًا من الخيلا (¬7) وهو جماعات يضم بعضها إلى بعض من الرؤيا، كالحشيش الذي يجمع، فيقال له: ضغث قدر ملء الكف، فالأضغاث من الرؤيا هي حلم لا تأويل له وأنشد (¬8): كضِغْثِ حِلْمٍ غُرِّمنه حَالِمَة ¬

_ (¬1) "اللسان" (ضغث) 5/ 2590 - 2591 عن أبي حنيفة. (¬2) "تهذيب اللغة" (ضغث) 3/ 2120، و"اللسان" (ضغث) 5/ 2591. (¬3) "تهذيب اللغة" (ضعث) 3/ 2120، و"اللسان" (ضعث) 5/ 2591. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ضغث) 3/ 2120 - 2121، و"اللسان" (ضعث) 5/ 2590 - 2591. (¬5) الخود: الفتاة الناعمة الشابة، الشمال: الريح المعروفة وهي باردة. انظر: الطبري 12/ 226، و"البحر" 5/ 300، و"المحرر" 9/ 309، و"الدر المصون" 6/ 506. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 312. (¬7) في (ج): (الخلا). (¬8) البيت من الرجز، وهو بلا نسبة في "مجاز القرآن" 2/ 35، والقرطبي 9/ 200، 11/ 270.

وقال الكسائي (¬1) وغيره: أضغاث الأحلام ما لا يستقيم تأويله لدخول بعضه في بعض، كأضغاث من نُبُوت (¬2) مختلفة يُخْلط بعضها ببعض، قال مجاهد (¬3): أهاويل أحلام، وقال الكلبي (¬4): أباطيل أحلام، وقال قتادة (¬5): أخلاط أحلام. قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: أنهم نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له من الرؤيا، ولم ينفوا عن أنفسهم علم تأويل ما يصح منها، فعنوا بقولهم {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} هذه منامات كاذبة لا يصح تأويلها، وما نحن بتأويل الأحلام التي هذا وصفها بعالمين، إذ كنا نعلم تأويل ما يصح، هذا معنى قول أكثر المفسرين (¬6): الكلبي (¬7) وغيره، ونحوه قال ابن عباس في رواية عطاء، وهو اختيار الزجاج (¬8)؛ لأنه قال: إنهم قالوا له رؤياك أخلاط، وليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل، فعلى هذا لم يقرّوا بالجهل والعجز عن تأويل الأحلام، وإنما قالوا: إن رؤياك فاسدة ولا تأويل ¬

_ (¬1) "اللسان" (ضغث) 5/ 2590، و"تهذيب اللغة" (ضغث) 3/ 2120. (¬2) في (ج): (نبوة). (¬3) القرطبي 9/ 199، و"تهذيب اللغة" (ضغث) 3/ 2121، و"اللسان" (ضغث) 5/ 2590. (¬4) "تنوير المقباس" ص 150. (¬5) الطبري 12/ 226، عبد الرزاق 2/ 324. وأخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد كما في "الدر" 4/ 39. (¬6) الطبري 12/ 227، الثعلبي 7/ 58 ب، ابن عطية 7/ 521، "زاد المسير" 4/ 230. (¬7) "تنوير المقباس" ص 150. وقد روى عن ابن عباس: الأحلام الكاذبة، قال الهيثمي 7/ 39 رواه أبو يعلى وفيه محمد بن السائب وهو متروك. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 113.

45

للفاسدة عندنا، وذهب آخرون إلى أنهم قالوا: هذه منامات مختلطة لا نعلمها نحن؛ إذ لم نكن من أهل العبارة، إنما يعلمها من خص بالنفاذ في البصر، وحسن استخراج ما يغمض من تأويلها، ذهب إلى هذا المعنى مقاتل بن سليمان (¬1) ونفر معه. وقالوا معنى قوله {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} لها تأويل يعلمه غيرنا، فالأضغاث على هذا المذهب [الجماعات من الرؤيا التي يجوز أن تصح وأن تبطل، واحتجوا على هذا المذهب] (¬2) بقول الساقي: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} قالوا: ففي هذا دليل على أن الملأ اعترفوا بالعجز عن الجواب، لأنهم لو كانوا بغير هذا الوصف لم يقل الساقي ما قاله، وعلى هذا؛ الملأ قالوا للملك: ما رأيته جماعات أحلام كثيرة لا علم لنا بتأويلها، واعترفوا بالعجز عنها (¬3). 45 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} الآية، قال الكلبي (¬4): لما سأل الملك عن رؤياه، جثا الساقي بين يديه بعد انقضاء جواب الملأ، فقال للملك: إني قصصت أنا والخباز على رجل في السجن منامين فخبّرنا ¬

_ (¬1) "تصير مقاتل" 154أ. (¬2) ما بين المعقوفين في (ب) وهو ساقط من (أ) و (ج). (¬3) قلت: القول الأول أرجح لعدة اعتبارات، الأول: أنه قول عامة المفسرين من السلف ومن بعدهم، الثاني: أنهم وصفوا رؤيا الملك بكونها أضغاث أحلام أي لا تأويل لها، الثالث: أنه لا يتصور في هؤلاء الملأ الذين هم أهل مشورته أنهم لا يعرفونها، وأيضًا أنهم سيعترفون بعجزهم عن تأويلها، والذي يظهر أنهم علموا من تأويلها ما يسوء الملك فأرادوا أن يصرفوه عن تطلب تأويلها فقالوا "أضغاث أحلام .. ". (¬4) "تنوير المقباس" ص 150.

بتأويلها فصدق في جميع ما وصف، ولم يسقط من تأويله شيء، إن أذنت مضيت إليه وأتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا، فإنه رجل صالح فاضل عالم ظاهر المحاسن، فأذن له الملك في قصده، فذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} قال ابن عباس (¬1): يريد أحد العبدين، وهو الذي رأى أنه يعصر خمرًا. وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ} ذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} في سورة القمر (¬2). وقوله تعالى: {بَعْدَ أُمَّةٍ} قال ابن عباس (¬3) والحسن (¬4) ومجاهد (¬5) وعامة أهل التفسير والمعاني (¬6): بعد حين. قال بعض أهل المعاني: هي الجملة من الحين، والجماعة من الحين؛ لأن الجماعة الكثيرة من الناس ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 227، الثعلبي 7/ 85 ب، البغوي 4/ 246، "زاد المسير" 4/ 231، كلهم من غير نسبة. (¬2) الآيات: 15، 17، 22، 32، 40، 51، قال هنالك في أول موضع: "قال مقاتل: فهل من مدتكر، وقال أبو إسحاق: وأصله مدتكر، ولكن التاء أبدل منها الذال، والذال في موضع التاء هي أشبه بالدال من التاء، وأدغمت الذال في الدال". (¬3) الطبري 12/ 227، عبد الرزاق 2/ 324، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2151، وأبو الشيخ من طرق كما في الدر 4/ 39، القرطبي 9/ 201. (¬4) الطبري 12/ 228. (¬5) الطبري 12/ 228. (¬6) الطبري 12/ 227، الثعلبي 7/ 85 ب، البغوي 4/ 246، "زاد المسير" 4/ 231، ابن عطية 7/ 522، "معاني الفراء" 2/ 47، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 313، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص 225، "معاني النحاس" 3/ 432، و"معاني الزجاج" 3/ 113.

أمة يدل على صحة هذا ما روى عطاء عن ابن عباس (¬1) "بعد أمة" بعد سنين. فإن قيل أكثر المفسرين على أن معنى قوله: "وادكر" دليل على أن الناسي هو الساقي. قال ابن الأنباري (¬2): يقال إذ ادكر بمعنى: ذكر وأخبر الملك، وصلح أن يكون ادكر بمعنى ذكر، كما تقول احتلب بمعنى حَلبَ، واعتدى بمعنى عدى في قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]. وذكر لا يدل على نسيان سبقه. وقد قال الكلبي فيما روى عن ابن عباس (¬3): إنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تعبير رؤياه، خوفًا من أن يكون ذلك إذكارًا لذنبه الذي من أجله حبسه الملك مع الخباز، فكتم أمره ولم يبده للملك لهذه العلة، فهذا يدل على أن الساقي قد نسي ذلك لقضاء الله تعالى في كون يوسف مدة في السجن، أنساه ذلك من غير أن ينسب النسيان إلى الساقي [في قوله {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} ويكون نسيان الساقي غير مذكور، ويستدل عليه بقوله {وَادَّكَرَ}. ومن نسب النسيان إلى الساقي] (¬4) فَسّر الادّكار على ظاهره ولم ينقله إلى معنى الذكر. وقوله تعالى {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} وقرأ الحسن (¬5) (أنا آتيكم بتأويله) وقال: أراد العلج ينبئهم بتأويله حتى لا يأتي به من عند يوسف عليه السلام. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 229، وابن أبي حاتم 7/ 2151 عن سعيد بن جبير. (¬2) "زاد المسير" 4/ 231. (¬3) "تنوير المقباس" ص 150، "زاد المسير" 231/ 4، القرطبي 9/ 202. (¬4) ساقط من (ج). (¬5) ابن عطية 7/ 523 قال: "وكذلك في مصحف أبي"، و"البحر المحيط" 5/ 314، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 432، وقال الحسن: (كيف ينبئهم العلج؟).

46

قال الزجاج (¬1): وأكرهها لمخالفة المصحف. وقوله تعالى: {فَأَرْسِلُونِ} قال أبو بكر: هو خطاب للملك وملئه، لذلك خاطب بالجمع. ويجوز أن يخاطب الملك بخطاب الجمع؛ لأن أصحابه على مثل رأيه وأمره. 46 - قوله تعالى {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} قال أهل المعاني (¬2): في الكلام محذوف يدل عليه الباقي، وهو أن المعنى فأرسل فأتاه فقال: يا يوسف، وذكرنا أنه يجوز حذف "يا" من النداء عند قوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} والصديق قال أبو إسحاق (¬3): المبالغ في الصدق. قال المفسرون (¬4) وصفه بهذه الصفة؛ لأنه لم يجرب عليه كذبًا، وقيل (¬5): لأنه صدق في تعبير رؤياه. وقوله تعالى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} قال ابن عباس (¬6) والكلبي: يريد أهل مصر. وقال مقاتل (¬7): يريد الملك وأصحابه. وقال غيره (¬8): يريد الملك والعلماء الذين جمعهم الملك ليعبروا رؤياه. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: يريد كي يعقلوا. قال ابن الأنباري (¬9): وأما إعادة (لعل) فلاختلاف معنييهما، إذ الأولى متعلقة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 113. (¬2) الطبري 12/ 229، و"زاد المسير" 4/ 231. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 113. (¬4) ابن عطية 7/ 524. (¬5) الثعلبي 7/ 286. (¬6) الثعلبي 7/ 86 أ، البغوي 4/ 235. (¬7) في "تفسير مقاتل" 154 ب (يعني أهل مصر)، القرطبي 9/ 202. (¬8) "زاد المسير" 4/ 232. (¬9) "زاد المسير" 4/ 232.

47

بالإفتاء، والثانية مبنية إلى الرجوع، وكلتاهما بمعنى كي فساغ التكرير لاختلاف متعلقيهما كأنه قال: أفتنا كي أرجع إلى الناس كي يعقلوا؛ فالإفتاء سبب الرجوع والرجوع سبب العلم. 47 - قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} الآية، قال المفسرون (¬1): قال له يوسف: أما السبع البقرات السمان فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة وأنتم تزرعون، أي: فازرعوا. قال صاحب النظم: قوله (تزرعون) جواب لقوله (أفتنا) جاء مجيء المضارع وتأويله أمر، وفيه إيماء إلى تعبير الرؤيا، ودل على ذلك قوله (فما حصدتم فذروه)، وهذا لفظ أمر، معطوف على قوله (تزرعون)، فدل أن قوله (تزرعون) أيضًا أمر وهذا كقوله {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وهذا اللفظ مضارع وتأويله دعاء والدعاء مثل الأمر كقوله {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون: 118]. وقوله تعالى {دَأَبًا} قال الزجاج (¬2): الدأب الملازمة للشيء والعادة. وذكرنا الكلام في الدأب في سورة آل عمران {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} (¬3) قال ابن عباس (¬4): يريد سبع سنين متوالية. وقال أهل المعاني واللغة (¬5): الدأب استمرار الشيء على عادة، وهو دائب يفعل كذا، إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبًا ودابًا، أي: زراعة متوالية في هذه السنين. وقيل على عادتكم في الزراعة. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 230، الثعلبي 7/ 86 أ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 114. (¬3) آل عمران: 11. قال هنالك: "يقال: دأبت أدأب دأبًا ودأبًا ودؤوبًا: إذا اجتهدت في الشيء وتعبت فيه" اهـ. (¬4) "تنوير المقباس" ص 150، و"زاد المسير" 4/ 232، والقرطبي 9/ 203. (¬5) "تهذيب اللغة" (دأب) 2/ 1127، و"اللسان" (دأب) 3/ 1311.

قال أبو علي الفارسي (¬1): الأكثر في دأب الإسكان، فلعل الفتح لغة فيكون كشَمْع وشَمَع ونَهْر ونَهَر. قال الفراء (¬2): وكل حرف فتح أوله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان أحد حروف الحلق. قال الزجاج (¬3): ذكر جميع الكوفيين أن كل ما كان ثانيه حرفًا من حروف الحلق وكان مِسكنا مفتوح الأول، جاز فيه فتح المسكن نحو: نَعْل ونَعَل، وشَعْر وشَعَر، ونَهْر ونَهَر، وأما البصريون فيزعمون أنه ما جاء من هذا فيه اللغتان تُكُلِّم على ما جاء، وما كان لم يسمع لم يجز فيه التحريك نحو: وعْد لا نقول فيه وعَد، ولا في هذا الأمر وَهًا في معنى وهي، وهذا في بابه مثْلَ دَلَّ ودَلْ، وقَدَّرَ وقَدَرْ، فلا فرق في هذا بين حروف الحلق وغيرها. قال (¬4): وانتصب (دأبا) على معنى تدأبون دأبًا، ودل على تدأبون تزرعون وفي الزرع علاج ودؤوب، فقد قال تدأبون فانتصب دأبًا به لا بالمضمر، ونحو هذا القول حكاه ابن الأنباري عن الكوفيين قال: وقال غير الكوفيين: دأبًا مِصدر وضع في موضع الحال، تقديره: تزرعون دائبين، فناب دأب عن دائبين. وقوله تعالى: {فَمَا حَصَدْتُمْ} إلى آخره. قال ابن عباس (¬5): يريد كل ما ¬

_ (¬1) الحجة: 4/ 425. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 47. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 114. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 114. (¬5) "تنوير المقباس" ص 150.

48

أردتم أكله فدوسوه، ودعوا الباقي في سنبله لا يتسوّس. وقال المفسرون (¬1): إنما قال (فذروه في سنبله)؛ لأنه أبقى له وأبعد من الفساد، وذلك لأنه إذا ديس ثم طال مكثه فسد، فأشار عليهم بما فيه الصلاح. واختلفوا في أن جواب يوسف كان من علمه أو بوحي من الله تعالى؟ فذهب بعض المفسرين إلى أنه بنى على ما علّمه الله من تأويل الرؤيا، وذهب بعضهم إلى أنه كان بوحي الله، واحتجوا على هذه بقوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} وهذا العام لم يعلمه إلا بالوحي من أجل أنه لم يدخل في سؤال السائل (¬2). 48 - قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ}. قال المفسرون: يعني سبع سنين مجدبات، والشداد الصعاب التي يشتد على الناس. وقوله تعالى: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} قال ابن الأنباري (¬3): هذا من المجاز الذي يعني به: يفنين ما قدمتم فيه لهن، فشَبّه الإفناء بالأكل، كما تقول العرب: قد أكل السيرُ لحمَ الناقة، وهم يعنون ذهب به وأفناه. وأنشد ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 230، الثعلبي 7/ 86 ب، البغوي 4/ 247، ابن عطية 7/ 525، ابن كثير 2/ 527. (¬2) قلت: الراجح والله أعلم أن الإخبار عن سني الجدب بعد سني الخصب هو من قبيل التعبير لرؤيا الملك، وأما قوله {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فهو من الوحي الذي آتاه الله دلالة على نبوته وحجة على صدقه، انظر: الطبري 12/ 232 ابن عطية 7/ 525، الرازي 18/ 150، القرطبي 9/ 204، الثعلبي 7/ 86 ب. (¬3) "زاد المسير" 4/ 233، الرازي 18/ 150.

49

لذي الرمة (¬1): وقد أَكَلَ الوجِيفُ بكلّ خَرْق ... عرائِكَهَا وهُلِّلَت الحُرُومُ وقال غيره (¬2): إنما قال للسنين (يأكلن) لوقوع الأكل فيها، كما يقال: ليل نائم. وكقوله: فنام لَيْلِي تَجَلّى هَمِّي (¬3) ومثله كثير. وقوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} الإحصان (¬4) الإحراز وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن، يقال: أحصنه إحصانًا، إذا جعله في حرز. قال ابن عباس (¬5): يريد تخزنون، وعنه (¬6) أيضًا تحرزون. 49 - قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} الآية، قال المفسرون (¬7): هذا العام لم يعلمه إلا بالوحي من أجل أنه لم يدخل في سؤال السائل؛ قال ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 2/ 678. (¬2) "تفسير الطبري" 12/ 231، و"الثعلبي" 7/ 86 ب، و"ابن عطية" 7/ 528، و"القرطبي" 9/ 204، و"ابن كثير" 2/ 527. (¬3) الرجز لرؤبة في "ديوانه" ص 142، و"المحتسب" 2/ 164 وبلا نسبة في "خزانة الأدب" 8/ 202 و"المقتضب" 3/ 50. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (حصن) 1/ 843، و"اللسان" (حصن)، و"تاج العروس" 18/ 149. (¬5) الطبري 12/ 231، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2154، وانظر: "الدر" 4/ 41، وابن عطية 7/ 528. (¬6) الطبري 12/ 231، وابن عطية 7/ 528، وانظر: الثعلبي 7/ 86 ب، و"زاد المسير" 4/ 233. (¬7) الطبري 12/ 232، الثعلبي 7/ 86 أ، ابن عطية 7/ 525.

قتادة (¬1): زاده الله علم عام لم يسألوه عنه. وقوله تعالى: {ذَلِكَ} إشارة إلى السبع في قوله: {سَبْعٌ شِدَادٌ} والسبع (¬2) أشبهت المذكر من قبل أنها لا علامة للتأنيث في لفظها، كقوله {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] هذا مذهب الكلبي (¬3)، ومذهب مقاتل (¬4) أن (ذلك) إشارة إلى الجدب. وقوله تعالى: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} قال ابن السكيت (¬5): يقال: غاث الله البلاد يغيثها غيثًا، وهي إذا نزل بها الغيث. وقد غيثت الأرض تغاث غيثًا، وهي أرض مغيثة ومغيوثة، فعلى هذا (يغاث الناس) معناه يمطرون، ويجوز أن يكون من قولهم: أغاثه الله، إذا أنقذه من كرب أو غم. ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب. وقوله تعالى: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي يعصرون السمسم دهنًا، والعنب خمرًا، والزيتون زيتًا، وهذا قول ابن عباس (¬6) ومجاهد (¬7) وقتادة (¬8) وأكثر المفسرين (¬9) وهذا يدل على ذهاب الجدب وحضور الخصب والخير. وذكرنا معنى العصر في قوله: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]. ¬

_ (¬1) الطبري 12/ 232، الثعلبي 7/ 86 أ، ابن عطية 7/ 525، عبد الرزاق 2/ 324، ابن المنذر كما في "الدر" 4/ 41. (¬2) "زاد المسير" 4/ 233، عن ابن القاسم الأنباري. (¬3) "تنوير المقباس" ص 150. (¬4) "تفسير مقاتل" 154 ب. (¬5) "تهذيب اللغة" (غاث) 3/ 2616. (¬6) الطبري 12/ 232، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 41، و"زاد المسير" 4/ 234، وابن أبي حاتم 7/ 2154. (¬7) الطبري 12/ 232. (¬8) الطبري 12/ 233، و"زاد المسير" 4/ 234، وابن أبي حاتم 7/ 2154. (¬9) الثعلبي 7/ 287، و"زاد المسير" 4/ 234، وابن عطية 7/ 529.

وقال أبو عبيدة (¬1): يعصرون تفسيره ينجون من العصر وهو المنحاة، ومثله العصرة والمعتصر. [والمعصر] (¬2) ومنه قول أبي زبيد (¬3): ولقد كان عُصْرة المَنْجُودِ أي: ملجأ الكروب. وقال عدي بن زيد: لو بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقْ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعْتِصَارِي (¬4) أي: التجائي، وأنشد أيضًا للبيد (¬5): ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 313. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬3) لأبي زبيد الطائي عجز بيت، وصدره: صاديًا يستغيث غير مغاث من قصيدة له يرثي بها اللجاج ابن أخته، وكان من أحب الناس إليه، انظر "ديوانه" ص 44، و"جمهرة أشعار العرب" ص 260، و"الاقتضاب" ص 390، و"اللسان" (عصر) 5/ 2969، و"أمالي اليزيدي" ص 8، و"المحتسب" 1/ 345، والطبري 12/ 233، والقرطبي 9/ 205، و"تهذيب اللغة" (عصر) 3/ 2458. (¬4) البيت لعدي بن زيد في "ديوانه" ص 93، و"الأغاني" 2/ 94، و"الحيوان" 5/ 138، 593. انظر: "الكتاب" 1/ 462، و"مجاز القرآن" 1/ 314، و"الجمهرة" 2/ 154، و"اللسان" (عصر) 5/ 2971، والعيني 4/ 454، و"شواهد المغني" 255، و"الخزانة" 3/ 594، 4/ 460، 524، و"البحر المحيط" 5/ 316، و"تهذيب اللغة" (عصر) 3/ 2459، و"الشعر والشعراء" ص 133، وكتاب "العين" 4/ 342. (¬5) البيت للبيد، ويروى: (بغير معصَّر) "ديوانه" ص 68. انظر: "الكتاب" 1/ 410، و"الأغاني" 2/ 26، والشنتمري 1/ 462، والجمهرة 2/ 154، و"اللسان" (عصر) 5/ 2969، العيني 4/ 454، و"شواهد المغني" / 255، و"الخزانة" 3/ 394، و"مجاز القرآن" 1/ 295، 314، والطبري 12/ 234، و"تهذيب اللغة" 3/ 2458.

فَباتَ وَأَسْرَى القَومُ آخِرَ لَيلِهِم ... وَما كانَ وَقّافًا بِدَارِ مُعَصَّرِ وذكر أبو إسحاق (¬1) أيضًا هذا القول فقال: وإن شئت كان على تأويل ينجون من البلاء ويعتصمون بالخصب، وأنشد بيت عدي (¬2). وقال أبو عبيد (¬3): يعصرون يعني به يصيبون ما يحبون، ويأخذون ما يشتهون. وأنشد قول ابن أحمر (¬4): وإنما العَيْشُ بربَّانه (¬5) ... وأنْتَ من أفْنَانِه مُعْتَصِرْ أي آخذ منها ما شئت. وروي عن ابن عباس (¬6) في رواية الوالبي: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 114. (¬2) ذكر هذا القول الطبري 12/ 233، وتعقبه فقال: "وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسِّر القرآن على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله: "وفيه يعصرون" إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث ويزعم أنه من العصر والعُصْرَة التي بمعنى المنجاة ... إلى أن قال: وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه، خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين. اهـ. وتعقب ابن عطية 7/ 531، الطبري فقال: "ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة ردًّا كثيرًا بغير حجة". (¬3) "تهذيب اللغة" (عصر) 3/ 2461، و"اللسان" (عصر) 5/ 2970. (¬4) "ديوانه" ص 61، وفيه "مقتفر" بدل "معتصر"، وأمالي القالي 1/ 245، و"مقاييس اللغة" 2/ 483، 4/ 344، و"مجمل اللغة" 2/ 457، و"تهذيب اللغة" (عصر) 3/ 2461، و"اللسان" (عصر) 5/ 2970. وبلا نسبة في "المخصص" 12/ 232. (¬5) في (ج): (ريانة). (¬6) الطبري 12/ 233، الثعلبي 7/ 87 أ، من رواية علي بن طلحة، وتعقب هذا القول الطبري بقوله "قول لا معنى له، لأنه خلاف المعروف من كلام العرب، وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس" 16/ 132.

يعصرون يحلبون. وإلى هذا ذهب أحمد بن عبيد (¬1) قال: تفسير يعصرون يحلبون الألبان، لسعة خيرهم واتساع خصبهم. واحتج بقول الشاعر (¬2): فما عصمت الأعراب إن لم يكن لهم ... طعامٌ ولا درٌّ من الماء يُعْصَرُ أي: يحلب. وروى ابن الأنباري (¬3) عن بعض أصحاب المعاني قال: تفسير يعصرون: يفضلون ويعطون ويحسنون. واحتج بقول طرفة: لو كان في أمْلاكِنَا واحِدٌ ... يَعْصرُ فينا كالذي يُعْصَرُ (¬4) أي: يعطينا كالذي يعطى ويفضل ويحسن. وذكر الأزهري (¬5) هذا المعنى في يعصر عن أبي عبيد وأبي عبيدة. واختار أبو علي الفارسي (¬6) القولين الأولين فقال: قوله: {يَعْصِرُونَ} يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون من العصر الذي يراد به الضغط الذي لحق ما فيه دهن أو ماء نحو الزيتون والسمسم والعنب والتمر، ليخرج ذلك منه. الذي يدل على صحة هذا التأويل ما روي أنهم لم يعصروا في السنين الشداد زيتًا ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 234. (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في "زاد المسير" 4/ 234 برواية: (من المال). (¬3) "زاد المسير" 4/ 235. (¬4) "ديوانه" ص 154، و"تاج العروس" (عصر) 7/ 230، و"مقاييس اللغة" 4/ 344، و"اللسان" (عصر) 5/ 2970، و"كتاب العين" 1/ 297، و"مجمل اللغة" 672/ 3. (¬5) "تهذيب اللغة" (عصر) 3/ 2461. (¬6) "الحجة" 4/ 425.

ولا عنبًا، فيكون المعنى: تعصرون للخصب الذي أتاكم كما كنتم تعصرون أيام الخصب، وقبل الجدب الذي دفعتم إليه. قال: ويكون يعصرون من العصر الذي هو الالتجاء (¬1) إلى ما يُقْدَر النجاة به وأنشد لابن مقبل (¬2): وصاحبي وَهْوه مُسْتَوْ [هِلٌ] (¬3) زَعِلٌ ... يَحُولُ بين حِمَارِ الوَحْشِ والعصر فلقوله: "يغاث الناس" جعل الفاعلين الناس لتقدم ذكرهم. ومن قرأ بالتاء (¬4) وجه الخطاب إلى المستفتين كقوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} ويؤيد القراءة الأولى قرب الناس من الفعل، ويؤيد الثانية أن المخاطبة يجوز أن تكون للمستفتين وغيرهم، إلا أن الخطاب والغيبة إذا اجتمعا غلب الخطاب على الغيبة كما يغلب التذكير على التأنيث. قال أبو عبيد: في هذه الآيات دليل على أن الرؤيا إنما تكون على ما عبرت عليه إذا أصيب بها وجه العبارة، فإذا عدل عن الصواب في عبارتها ¬

_ (¬1) في (ج): (التجاء). (¬2) من قصيدة له قال عنها ابن قتيبة في الشعراء / 426: هي أجود شعره. قوله (صاحبي) يريد فرسه، (الوهوه) من الخيل النشيط سريع الجري، (المستوهل): الفزع النشيط، الزعل: النشيط الأشر (العصر): الملجأ. انظر: "ديوانه" ص 96، و"المعاني" ص 26، و"الجمهرة" 2/ 354، و"اللسان" (وهي) 13/ 563، و"تهذيب اللغة" 4/ 3967، و"كتاب العين" 4/ 88، و"تاج العروس" (وهي) 119/ 19. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬4) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (يعصرون) بالياء وقرأ حمزة والكسائي تعصرون) بالتاء. انظر: "السبعة" ص 349، و"إتحاف" ص 265، والطبري 12/ 233.

50

لم يكن على ما عبرت. ألا ترى أن الملك لما اقتص رؤياه على الملأ قالوا: أضغاث أحلام، فلم يكن على ما قالوا، ففسرها يوسف بعدهم، فأبان الصواب فيها، وشوهد تأويلها بتفسيره. 50 - قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} الآية، قال المفسرون (¬1): لما رجع الذي أرسل إلى يوسف للاستفتاء عن تأويل الرؤيا إلى الملك وأخبره بما أفتاه به، عرف الملك أن ذلك التأويل صحيح، وأن الذي قاله كائن فقال: ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه، فجاء الرسول يوسف وقال له: أجب الملك، فأبى أن يخرج مع الرسول حتى يتبين براءته مما قذف به، وقال للرسول: ارجع إلى ربك يعني الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي} أي ما حالتهن (¬2) وشأنهن، والبال: الحال والشأن، ومنه قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2] وقال أبو عبيد (¬3): فبِتْنا على ما خَيّلتْ نَاعِمِي بَالِ ومعنى الآية فأسأل الملك أن يتعرف ويسأل ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي. ¬

_ (¬1) هذه عبارة الثعلبي 7/ 87 أ، و"زاد المسير" 4/ 236. (¬2) في (ج): (ماحالهن). (¬3) في "التهذيب" (بال) 1/ 263 قال: قال عبيد وذكر البيت، وانظر: "اللسان" (بول) 1/ 390 من غير نسبه. والبيت لعدي بن زيد، وصدره: فليت رفعت الهم عني ساعة انظر: "ديوانه" ص 162، و"الإيضاح" / 106، و"نوادر أبي زيد" / 25 وبلا نسبة في "شواهد التوضيح" ص148 و"الدر" 1/ 114، 123، و"الهمع" 2/ 163، والسيوطي ص 238، و"الإنصاف" ص157، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 183، 295.

قال أبو إسحاق (¬1): أي سله أن يستعلم صحة براءتي مما قذفت به، فمعنى ردِّه الرسول هو أن يتبين براءته وأنه حبس بظلم من غير اقتراف ذنب، كما قال قتادة (¬2): طلب العُذر، وعلى هذا يكون في الآية محذوف على تقدير: فسله أن يسأل أو يتعرف ما بال النسوة، ولكن لما كان قوله: (ما بال النسوة) يتضمن معنى السؤال والاستعلام والتعرف حذف ذلك. قال عامة المفسرين (¬3): إن يوسف عليه السلام أشفق من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره، مقروف بفاحشة، فأحب أن يراه بعد أن زال عن قلبه ما كان خامره من الباطل. وقد استحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزم يوسف وصبره حين دعاه الملك فلم يبادر حتى يعلم أنه قد استقر عند الملك صحة براءته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله يوسف، لقد كان ذا أناة ولو كنت أنا المحبوس ثم جاءني الرسول لخرجت (¬4) مسرعًا" (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 115. (¬2) الطبري 12/ 236. (¬3) الطبري 12/ 2340، الثعلبي 7/ 87 ب، البغوي 4/ 248، ابن عطية 7/ 532، "زاد المسير" 4/ 236، القرطبي 9/ 207. (¬4) في (ج): (لخرجت إليه) بزيادة إليه. (¬5) أخرجه البخاري (3387) كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} بلفظ: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته" ومسلم بنحوه (151) كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة. وأخرجه الترمذي (3116)، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة يوسف بلفظ "إن الكريم ابن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ولو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبتُ .. الحديث". وأخرجه ابن جرير 12/ 235 من طريق ابن إسحاق عن رجل عن أبي الزناد =

51

قال أبو إسحاق (¬1): ولم يفرد يوسف امرأة العزيز حُسْنَ عشرة منه وأدب، فخلطها بالنسوة. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} يعني: أن الله عالم بكيدهن وقادر على إظهار براءتي لهذا المخلوق الذي استحضرني، وذكرنا معنى كيدهن عند قوله {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}. 51 - قوله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ}، قال المفسرون (¬2): لما رجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف دعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال لهن: ما خطبكن، قال ابن عباس (¬3): يريد ما قصتكن، وقال آخرون (¬4): ما شأنكن وأمركن. وقوله تعالى: {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} وقال ابن الأنباري (¬5): إنما جمعهن في المراودة؛ لأن الملك اتصل به أن بعض النسوة راود، فجمعهن ليستعلم عين المراودة. ويحتمل أن يقال (¬6): إنهن كلهن راودن، فامرأة العزيز راودته عن نفسه، وسائر النسوة راودنه في طاعتها والانقياد لما تلتمسه منه. ¬

_ = بلفظ: "يرحم الله يوسف إن كان ذا أناة لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلى لخرجت سريعًا، إن كان لحليمًا ذا أناة" ضعفه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/ 485، وضعفه أحمد شاكر في تخريجه للطبري 12/ 235. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 115. (¬2) الثعلبي 7/ 87 ب، والطبري 12/ 236. (¬3) ابن عطية 7/ 534، و"زاد المسير" 4/ 237. (¬4) الطبري 12/ 236، الثعلبي 7/ 87 ب، البغوي 4/ 248. (¬5) "زاد المسير" 4/ 237. (¬6) في (ج): (أن يقول كلهن)، وسقطت: (أنهن).

قوله تعالى: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} مضى الكلام فيه، {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}، قال ابن عباس (¬1): يريد من زنا. قال الزجاج (¬2): أعلم النسوة الملك براءة يوسف، فقالت امرأة العزيز: "الآن حصحص الحق" تريد برز وتبين، وهو قول ابن عباس (¬3) ومجاهد (¬4) وقتادة (¬5). وقال الفراء (¬6): لما دُعي النسوة فبرأنه قالت: لم يبق إلا أن يعلن علي بالتقرير فأقرت، فذلك قولها: الآن حصحص الحق، تقول: ضاق الكذب وتبين الحق، وعلى هذا إنما أقرت؛ لأنها خافت أنها إن كذبت شهدت عليها النسوة ببعض ما تقرر عندهن. فلم تجد بدًّا من الإقرار. قال ابن الأنباري (¬7): قال اللغويون: (حصحص الحق) معناه: وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس، من قول العرب: حصحص البعير بروكه، إذا تمكن فاستقر في الأرض وفرق الحصى. قال حميد بن ثور (¬8): ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 151، القرطبي 9/ 207، البغوي 4/ 248. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 115. (¬3) الطبري 12/ 236 وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 42. (¬4) الطبري 12/ 236. (¬5) الطبري 12/ 237. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 48، وفيه "لما دعا النسوة فبرأنه، قالت: لم يبق إلا أن يُقبل عليَّ بالتقرير فأقرت ... ". (¬7) "زاد المسير" 4/ 238، وانظر: "تهذيب اللغة" (حصص) 1/ 835، و"اللسان" (حصص) 2/ 900. (¬8) هو حميد بن ثور الهلالي من بني عامر، إسلامي مخضرم، انظر: "طبقات الشعراء" لابن قتيبة ص 247، "ديوانه" ص 9، و"الزاهر" 2/ 34، و"الدر المصون" =

52

وحَصْحَصَ في صُمّ الحَصَا ثَفِنَاتِه ... ودَامَ القِيَامُ ساعةً ثم صَمَّمَا يصف بعيرًا. وقال الزجاج (¬1): اشتقاقه في اللغة من الحصّة، أي: بانت حصّة الحق من حصة الباطل. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} هو يعني في قوله: (هي راودتني عن نفسي). 52 - قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} الآية، قال ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) ومجاهد (¬4) وقتادة (¬5) والضحاك (¬6) وعامة المفسرين: هذا من كلام يوسف وقوله. قال الفراء (¬7): ربما وصل الكلام بالكلام حتى كأنه قول واحد، وهو كلام الاثنين كقوله تعالى: {مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (¬8) ¬

_ = 6/ 513، و"الكشاف" 2/ 326، و"اللسان" (حصص) 2/ 899، و"تهذيب اللغة" 1/ 835، و"ديوان الأدب" 3/ 173، و"تاج العروس" 9/ 257، حصحص: أثبت ركبتيه للنهوض بالثقل، والثفنات: جمع ثفنة وهي من البعير ما يقع على الأرض إذا استناخ. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 115. (¬2) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2157 كما في "الدر" 4/ 43، ومن طريق آخر أخرج الطبري 12/ 283، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" كما في "الدر" 4/ 43. (¬3) "زاد المسير" 16/ 141، القرطبي 9/ 209، الطبري 13/ 3. (¬4) الطبري 12/ 238، و"زاد المسير" 4/ 239. (¬5) الطبري 12/ 238، و"زاد المسير" 4/ 239، والقرطبى 9/ 259. (¬6) الطبري 12/ 238. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 47. (¬8) الشعراء: 35.

اتصل قول فرعون بقول الملأ، وكذلك قوله {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} إلى قوله {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬1) انقطع كلامها عند قوله {أَذِلَّةً} ثم قال الله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}. ومعنى قوله {ذَلِكَ} قال مقاتل (¬2): معناه هذا. قال أبو بكر (¬3): قال اللغويون: "هذا" و {ذَلِكَ} يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، ونظيره قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وقد مر. وقال آخرون (¬4): "ذلك" إشارة إلى ما فعله من رد الرسول يقول: ذلك الذي فعلت من رد رسول الملك إليه في شأن النسوة ليعلم. قال الزجاج (¬5): و (ذلك) مرفوع بالابتداء، وإن شئت على خبر الابتداء، كأنه قال: أمري ذلك. واختلفوا متى قال هذا يوسف، فروى عطاء عن ابن عباس (¬6) قال: لما صار يوسف عند الملك قال (ذلك ليعلم)، ونحو هذا روى الضحاك (¬7) عنه، فعلى هذا معنى قوله {لِيَعْلَمَ} أي الملك. قال أبو بكر (¬8): وإنما آثر الياء على التاء توقيرًا للملك، ورفعًا له عن المخاطبة. ¬

_ (¬1) النمل: 34. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 155، و"زاد المسير" 4/ 238. (¬3) "زاد المسير" 4/ 238. (¬4) الطبري 12/ 238، الثعلبي 7/ 88 أ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 115. (¬6) "زاد المسير" 4/ 239، الطبري 12/ 238 عكرمه عن ابن عباس. (¬7) "زاد المسير" 4/ 239. (¬8) "زاد المسير" 4/ 240.

وقوله تعالى: {لَمْ أَخُنْهُ} أي في امرأة (¬1) وزيره. وقال ابن جريج (¬2): لم أخن زوج المرأة، والأكثرون على أن قوله (ليعلم) معناه ليعلم العزيز وهو وزير الملك أني لم أخنه في زوجته بالغيب، وهو قول ابن عباس (¬3). واختيار الفراء (¬4): ليعلم الملك، هذا على قول من يقول: إن يوسف قال هذا بعد حضوره مجلس الملك. وقال الكلبي فيما رواه عن ابن عباس (¬5): لما رجع الساقي إلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة، قال -عليه السلام- وهو في السجن: "ذلك ليعلم" أي العزيز "أني لم أخنه" في امرأته بالغيب. وقال ابن جريج (¬6): قاله يوسف في السجن قبل أن يخرج (¬7) منه. وقبل أن يسأل الملك النسوة عما سألهن عنه؛ وذلك أنه أحب أن يصح عذره قبل خروجه من السجن، قال: وهو من تقديم القرآن وتأخيره، وتأويله {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} إلى قوله {عَلِيمٌ} {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فرق بينهما. ¬

_ (¬1) في (ج): (أمره) وهو قول ابن الأنباري كما في "زاد المسير" 4/ 239. (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (تفسير سورة يوسف المحققة) 214، الثعلبي 7/ 88 أ. (¬3) "زاد المسير" 4/ 239 وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة والجمهور، وذكره الثعلبي 7/ 88 أ. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 47. (¬5) "زاد المسير" 4/ 239، القرطبي 9/ 209. (¬6) "زاد المسير" 4/ 239. (¬7) في (ب) بياض في موضع قوله (قبل أن).

53

قال أبو بكر بن الأنباري: فمن أخذ بهذا التفسير قال: العليم: الملك أو العزيز. وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي: لا يرشد كيد من خان أمانته، يريد أنه في العاقبة بحرمان الهداية من الله -عز وجل-، والكلام خرج على الكيد ومعناه: الكائد، أي: لا يهدي الكائد الخائن، قال عامة المفسرين (¬1): لما قال يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} الآية، قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟، فقال يوسف: 53 - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} قال أهل المعاني (¬2): خاف على نفسه التزكية، وتزكية النفس مما يذم وينهى عنه، قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] فاستدرك ذلك بقوله {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} قال ابن عباس: يريد: وما أزكي نفسي، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} قال: يريد (¬3): بالقبيح وما لا يحب الله، وذلك لكثرة ما تشتهيه وتنازع إليه. وقوله تعالى: {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} قالوا (¬4): "ما" بمعنى "من" أي: إلا من رحم ربي فعصم مما تدعوه إليه نفسه من القبيح، و"ما" بمعنى "من" بمعنى "ما" قد يقعان في مواضع كقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45]، قال الفراء (¬5): وهذا استثناء منقطع مما قبله؛ لأن المرحوم بالعصمة استثني من ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 1 - 3، عن ابن عباس بن سعيد بن جبير وابن أبي الهذيل والحسن وأبي صالح وقتادة وعكرمة، الثعلبي 7/ 88 ب، البغوي 4/ 249، ابن عطية 7/ 536. (¬2) روى عن الحسن "زاد المسير" 4/ 241، وانظر الطبري 13/ 2، الثعلبي 7/ 88 ب. (¬3) "تنوير المقباس" ص 151. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ما) 4/ 3319. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 48.

54

النفس الأمارة، وقال ابن الأنباري (¬1): والترجمة عن معناها أن النفس لأمارة بالسوء إلا أن رحمة ربي عليها المعتمد وإليها المنتهى. 54 - قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} الآية، قال أبو بكر بن الأنباري (¬2): من قال إن يوسف قال في مجلس الملك (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) قال: إن الملك أمر بإحضاره لتقليد الأعمال في غير ذلك المجلس الذي قال فيه "ذلك ليعلم". ومن قال: إن يوسف قال (ذلك) في السجن فالأمر فيه ظاهر. وقوله تعالى {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} قال أبو إسحاق (¬3): أي أجعله خالصًا لي لا يشركني فيه أحد. وقال غيره (¬4): الاستخلاص طلب خُلوص الشيء من شائب الإشراك، وهذا المطلب طلب أن يكون يوسف له وحده دون شريك فيه. قوله تعالى {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} قال عطاء: عن ابن عباس (¬5): يريد الملك، فجعل الكلام للملك وهو أنه قال له: (إنك اليوم لدينا مكين أمين) والمفسرون على أن {كَلَّمَهُ} أي كلم يوسف الملك، قال الكلبي (¬6): لما صار إلى الملك وكان في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثًا شابًا قال للساقي: أهذا يعلم من تأويل رؤياي ما لم يعلمه ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 242. (¬2) "زاد المسير" 4/ 242. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 116. (¬4) الرازي 18/ 159. (¬5) قال به الطبري 13/ 4، وذكره الرازي 18/ 159، والثعلبي 7/ 88 ب. (¬6) "تنوير المقباس" ص 151.

55

السحرة والكهنة؟! قال: نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني (¬1) أحب أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهًا، فأجابه يوسف بما شفاه وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له الملك: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} يقال: فلان مكين عند فلان بين المكانة، أي: المنزلة، وهي حال يتمكن بها مما يريد (¬2). وقوله تعالى "أمين" قال الزجاج (¬3): أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما قرفت به. وقال مقاتل (¬4): المكين تفسيره: الوجيه، والأمين الحافظ. وقال عطاء عن ابن عباس (¬5): يريد مكنتك ملكي، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني وائتمنتك فيه. 55 - قوله تعالى {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} قال المفسرون (¬6): لما عبّر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعًا كثيرا وتبني الأهرا (¬7) والخزائن وتجمع الطعام فيها؛ ليأتيك الخلق من النواحي، فيمتارون منك بحكمك (¬8)، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال ¬

_ (¬1) (إني) ساقط من (ج). (¬2) ما سبق في الرازي 18/ 159. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 116. (¬4) "تفسير مقاتل" 155 أ، و"زاد المسير" 4/ 243. (¬5) "زاد المسير" 4/ 243. (¬6) الثعلبي 7/ 89 ب. (¬7) كذا في جميع النسخ والصحيح "الأهرام" كما في الوسيط 2/ 618. (¬8) في (ج): (بحكمتك).

الملك: ومن لي بهذا (¬1)، ومن يجمعه ويكفي الشغل فيه؟، فقال يوسف: اجعلني على خزائن الأرض إني على حفظها، ثم حذف المضاف. وقوله: {الْأَرْضِ} قال المفسرون (¬2): يعني أرض مصر. وقال أهل العربية (¬3): يعني خزائن أرضك، فجعلت الألف واللام بدلاً من تعريف الإضافة كقول النابغة (¬4): والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ يريد: وأحلامهم. روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة" (¬5). فإن قيل: لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن سمرة "يا عبد الرحمن لا تسل الإمارة" (¬6)؟. ¬

_ (¬1) في (ب): (هذا) من غير باء. (¬2) الرازي 18/ 160، البغوي 4/ 251، ابن عطية 8/ 7. (¬3) الطبري 13/ 5، الثعلبي 7/ 90 أ. (¬4) جزء من عجز بيت، وتمامه: لهم شيمة لم يعطها الدهر غيرهم ... من الناس، والأحلام غير عوازب للنابغة الذبياني. انظر "ديوانه" ص 56، والطبري 13/ 5، وفي القرطبي 9/ 212 عجزه: من الجود والأحلام غير كواذب (¬5) الثعلبي 7/ 90 أ، و"زاد المسير" 243/ 4، والقرطبي 213/ 9 قال الحافظ ابن جر في "الكاف الشاف" ص 90 "أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية إسحاق ابن بشر عن جويبر عن الضحاك عنه وهذا إسناد ساقط، وقال الألباني. موضوع، انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (329). (¬6) الحديث أخرجه البخاري (6622) كتاب الإيمان والنذور، باب قول الله تعالى =

والجواب من هذا ما ذكره أبو إسحاق (1) قال: إن الأنبياء بعثوا لإقامة الحق والعدل ووضع الأشياء مواضعها، وعلم يوسف - صلى الله عليه وسلم - أنه لا أحد أقوم بذلك ولا أوضع له في مواضعه منه، فسأل ذلك إرادة للصلاح. وقوله تعالى: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لا يضيع من ذلك عندي شيء، عليم بما أفعل ويصلح ملكك. وقال قتادة (2): حفيظ لما وليت، عليم بأمره ونحوه. قال ابن إسحاق (3) وأبو إسحاق (4): وقال جماعة: يريد أني كاتب حاسب. فإن قيل (5): لِمَ ترك الاستثناء في هذا بأن يقول: إن شاء الله، وإدخال الاستثناء في مثل هذا أوجب في كلام مثله؟. ولِمَ مدح نفسه بالحفظ والعلم؟ والجواب أن يقال: أما تركه الاستثناء فإن ذلك كان منه خطيئة أوجبت عليه من الله العقوبة، بأن أخر تمليكه عن ذلك الوقت، ذكر مقاتل ابن سليمان (6): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن يوسف قال: إني حفيظ عليم، لو قال: إن شاء الله، لملك من وقته ذلك"، ويمكن أن يقال: إنه أضمر في

_ = {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} وفي (6722) كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده وفي مواضع أخرى (7146)، (7147). وأخرجه مسلم (1824) في الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها. (1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 116. (2) و (3) الطبري 13/ 5، الثعلبي 7/ 90 أ. (4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 116. (5) "زاد المسير" 4/ 244، والرازي 18/ 160. (6) "تفسيرمقاتل" 155 أ، و"زاد المسير" 4/ 243.

56

نفسه الاستثناء دان لم يتلفظ به. أو يقال: أراد أن حفظي يزيد على حفظ غيري، وكذلك علمي، وكان هذا مما لا يدخل فيه شك حتى يحتاج إلى الاستثناء، وأما مدحه نفسه فإن مثل هذا إذا خلا من البغي والاستطالة، وكان المراد فيه الوصول إلى حق يقيمه، وعدل يحييه، وجور يبطله، كان ذلك جائزًا جميلًا. كقول القائل: إني لحافظ كتاب الله، عالم بتفسيره، عارف بشرائع الإسلام، يقصد بهذا القول قصد أن يتعلم منه إنسان فيفيده مما علمه الله حسن ذلك منه، ولم يحمل ذلك على تزكية النفس إذا عري قوله من الخيلاء والكبر، ذكر هذا كله أبو بكر (¬1). وقال الكلبي فيما رواه عن ابن عباس (¬2) في قوله: إنه حفيظ أي: لتقدير الأقوات، عليم بسني المجاعة، وقال الكلبي (¬3): ويقال معناه: عليم بلغات الناس كلهم، وذلك أن الناس كانوا يفدون على الملك من كل ناحية ويتكلمون بلغات مختلفة. 56 - قوله تعالى {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} الآية، قال أصحاب المعاني: جواب الملك ليوسف حين قال له: (اجعلني على خزائن الأرض) محذوف لبيان معناه، ولدلالة قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} عليه. قال ابن الأنباري (¬4): وتلخيصه، فقال الملك: قد فعلت. فدل تمكين الله له في الأرض على إجابة الملك إياه إلى ما سأل. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 244، 245. (¬2) "تنوير المقباس" ص 151، الثعلبي 7/ 90 أ. (¬3) "تنوير المقباس" ص 151، الثعلبي 7/ 90 أ. (¬4) "زاد المسير" 4/ 245، الرازي 18/ 162.

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} تحتمل وجهين: أحدهما (¬1): أن تكون الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم. يعني به: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك، وإنجائنا إياه من غم الحبس مكنا له في الأرض. الوجه الثاني: أن (كذلك) بجملته في موضع نصب بالتمكين، وتأويله: وهكذا، وهو إشارة إلى ما بعده، تقديره: وفي هذا الوقت مكنا له في الأرض. وعلى هذا الآية مستأنفة، وعلى الوجه الأول: الآية موصولة بما قبلها. وقوله تعالى (¬2): {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع، هذا معنى التمكين من الشيء، ومضى الكلام في هذه اللام التي في قوله "ليوسف" عند قوله {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} (¬3) وقوله {فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس (¬4): يريد أرض مصر. وقوله تعالى: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} هذا تفسير لقوله {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} لأن معنى التمكين في الأرض: أن يكون هذه الصفة يتبوأ حيث يشاء، و (يتبوأ) في موضع نصب على الحال تقديره: مكناه متبوئًا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 4/ 245، الرازي 18/ 163. (¬2) (تعالى) ساقط من (ب). (¬3) الأنعام: 6. وقال هناك: لم قال (ما لم نمكن لكم) ولم يقل نمكنكم، وهما لغتان تقول العرب: مكنته ومكنت له، كما تقول: نصحته ونصحت له، اهـ. (¬4) "تنوير المقباس" ص 151. (¬5) الرازي 18/ 163.

وقوله تعالى: {حَيْثُ يَشَاءُ} يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون في موضع نصب بأنه ظرف، والآخر: في موضع نصب بأنه مفعول به، ودل على هذا الوجه قول الشماخ (¬1): يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّواحِزُ (¬2) وقد مرّ. واختلف القراء (¬3) في قوله {حَيْثُ يَشَاءُ} فعامة القراء قرأوا بالياء كقوله: {يَتَبَوَّأُ}، كقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} وكما أن قوله (نشاء) في هذه الآية وفق فعل المتبؤ كذلك قوله: {حَيْثُ يَشَاءُ} وفق لقوله: "يتبوأ" في إسناده إلى الغيبة. وقرأ ابن كثير (نشاء) بالنون وذلك أن مشيئة يوسف لما كانت (¬4) بمشيئة الله تعالى وإقداره عليها، جاز أن تنسب إلى الله تعالى وإن كان في المعنى ليوسف، وعلى هذا معنى هذه القراءة كمعنى قراءة العامة، ويقوي هذه القراءة أن الفعل ¬

_ (¬1) جزء من عجز بيت، وتمامه: وحلأها عن ذي الأراكة عامر ... أخو الخُضْر يرمي حيث تكوى النواحر حلأها: منعها الماء، والضمير للحمر، وعامر أخو الخضر: قانص مشهور، ذو الأراكة: نخل بموضع من اليمامة لبني عجل، النواحز: التي بها نحاز فتكوى في جنوبها وأصول أعناقها فتشفى، ويروى: حزاحز، والجزائز. و"ديوانه" 182، و"جمهرة أشعار العرب" ص 297، و"المعاني الكبير" 783، و"الأزمنة" 1/ 106، و"تاج العروس" (خفر) 6/ 354، و"تهذيب اللغة" 1/ 1044 (خضر) "اللسان" 2/ 1182. (¬2) ما سبق في ابن عطية 8/ 9. (¬3) قرأ ابن كثير وحده: {يتبوأ منها حيث نشاء} بالنون، وقرأ الباقون بالياء، انظر: "السبعة" ص 349، و"إتحاف" ص 266، وابن عطية 8/ 8، والثعلبي 7/ 91 أ، و"البحر المحيط" 5/ 320. (¬4) في (ج): (كان).

57

المعطوف عليه بالنون وهو قوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} قال ابن عباس: يريد أتفضل على من أشاء برحمتي. وقوله تعالى: {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قال عطاء: يريد ثواب الموحدين وقال ابن عباس (¬1) ووهب: يعني الصابرين، وذلك لحسن صبر يوسف فيما عانى من أنواع المكاره. 57 - قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ذكر العلماء في هذه الآية قولين أحدهما: أن المعنى ما يعطي الله تعالى من ثواب الآخرة، خير للمؤمنين الذين يعدلون ويؤثرون الصواب في تقوى الله تعالى، من التمكين في الدنيا (والملك، والمعنى أن ما يعطي الله يوسف في الآخرة خير مما أعطاه في الدنيا) (¬2)، هذا الوجه هو الموافق (¬3) للظاهر وهو الذي عليه العامة (¬4). الوجه الثاني (¬5): أن أجر الآخرة خير من التشاغل في الدنيا الفانية الزائلة. وعلى هذا قيل: (ولأجر الآخرة خير) وإن لم يكن في التشاغل بالدنيا خير، على مذهب العرب من قولهم: زيد أعقل الرجلين، وإن لم يكن للثاني عقل، والشاهد بهذا قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، وأصحاب النار لا خير في مستقرهم البتة. ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 91 أ، القرطبي 9/ 219. (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في (أ)، (ج). (¬3) هنا زائد (في) في (أ)، (ب). (¬4) "زاد المسير" 4/ 24، والرازي 18/ 164، و"البحر المحيط" 5/ 320، وابن عطية 8/ 10، والطبري 13/ 7. (¬5) ذكره الرازي 18/ 164.

58

وهذا بيان عما يوجب طلب أجر الآخرة والحرص عليه بلزوم طاعة الله واجتناب معصيته. 58 - قوله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} الآية، قال الكلبي (¬1) والسدي (¬2) وابن إسحاق (¬3): إن يعقوب -عليه السلام- لَحِقَه في سني الجدب والمجاعة ما لحق الناس، فقال لأولاده: يا بني قد بلغني بأن بأرض مصر ملكًا عادلًا منصفًا، فأشخصوا إليه فامتاروا منه، فقالوا: كيف يكون الملك على ما تصف منه وهو كافر يعبد الأوثان؟ فقال لهم: يا بني إنما تعطون دراهم وتأخذون طعامًا فما عليكم مما يغيب عنكم من حالاته، فذلك قوله: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} واختلفوا في سبب معرفته وإنكارهم، فقال ابن الأنباري (¬4): لأنهم استشعروا قبل ملاقاته أنه كافر يعبد الأوثان، فلما شاهدوه مقدرين أنه ملك كافر على ما شاهدوا عليه ملوك دهرهم لم يظنوا أنه أخوهم، ولم يتأملوا منه (¬5) ما يزول به عنهم الشك فيه والجهل بأمره. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬6): أن إخوة يوسف رأوا يوسف وقت دخولهم عليه لابسًا ثياب حرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج (¬7)، وكان قد تزيا بزيّ فرعون مصر، فيحتمل أن يكون ما ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 246، الضحاك عن ابن عباس، وأبو صالح عن ابن عباس. (¬2) الطبري 7/ 13، ابن كثير 2/ 529، ابن عطية 8/ 10. (¬3) الطبري 13/ 7، ابن كثير 2/ 529. (¬4) "زاد المسير" 4/ 247. (¬5) (منه) ساقط من (أ)، (ب). (¬6) "زاد المسير" 4/ 247، الثعلبي 7/ 92 ب. (¬7) (تاج) ساقط من (ج).

59

رأوا من زيّه في ملبسه سببًا لنكيرهم له، وألقاهم يوسف على ما كان عهدهم في الملبس والمركب والحلية فعرفهم. وروى عطاء عن ابن عباس (¬1) في قوله: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (¬2) لم يثبتوه وعليه تاج الملك وحجاب الملك، وعلى هذا يحتمل أنهم رأوه من وراء ستر فلم يعرفوه. 59 - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} قال الليث (¬3): جهزت القوم تجهيزًا، إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه، وقد تجهز ذا جهاز، قال: وسمعت أهل البصرة يخطئون الجهاز بالكسر، قال الأزهري (¬4): والقراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرًا، فهو قوله: {جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}. وقوله تعالى: {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} قال الكلبي فيما رواه عن ابن عباس (¬5): لما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية، قال لترجمانه قل لهم: لغتكم مخالفة لغتنا، وزيكم يغاير زينا، وأمركم مشكل علينا، فمن أنتم؟ وما أمركم؟ ولعلكم جواسيس، تخرجون أخبارنا إلى أعدائنا؟ قالوا لا والله ما نحن بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق. فقال لهم: فكم عدتكم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها، قال فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا، قال: فمن يعلم أن الذي ¬

_ (¬1) البغوي 4/ 254. (¬2) في (ج) بزيادة "يريد". (¬3) "تهذيب اللغة" (جهز) 1/ 679. (¬4) "تهذيب اللغة" (جهز) 1/ 679. (¬5) الثعلبي 7/ 92 ب، البغوي 4/ 254، و"زاد المسير" 4/ 246.

60

تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا أحد وقد عرّفنا أنسابنا فبأي شيء تسكن نفسك إلينا؟ وقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا أرضى بذلك. وقوله تعالى: {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم. وقوله تعالى: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} قال مجاهد (¬1): خير المضيفين، قال أبو إسحاق (¬2): لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم. 60 - قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ} الآية، أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ بأن لا يبيعهم الطعام، ولا يقربوا بابه وبلاده. 61 - فلما قال لهم يوسف هذا قالوا (¬3): {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} قال الكلبي (¬4): وإنا لضامنون لك المجيء به. وقال ابن إسحاق (¬5): وإنا لمجتهدون في المصير به إليك، وذلك أنهم جَوَّزوا أن لا يجيبهم أبوهم إلى الإرسال به معهم. وقال أبو إسحاق (¬6): قوله {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} معناه التوكيد لما قبله، يعني من المراودة، كأنهم قالوا: نراوده عنه ونفعل ذلك. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 8، وأخرجه ابن أبي حاتم 7/ 2164، وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" 4/ 48. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 117. (¬3) (قالوا) ساقط من (أ)، (ج). (¬4) "تنوير المقباس" ص 151، و"زاد المسير" 4/ 248. (¬5) الطبري 13/ 9. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 117.

62

62 - قوله تعالى {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} قال ابن عباس (¬1): يريد لغلمانه. وقرى (¬2) {لفتيته} والفتية في هذا الموضع المماليك. وقال أبو علي (¬3): الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان الكثير. فمثل: فتى وفتية، أخ وأخوة، وولد وولدة، ونار ونيرة، وقاع وقيعة، ومثل: الفتيان، برق وبرقان، وخرب وخربان، وجار وجيران، وتاج وتيجان. فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكفون من الكثير. ووجه (¬4) الجمع الكثير أنه يجوز أن يقول ذلك للكثير، ويتولى الفعل منهم القليل. ويقوي البناء الكثير قوله: {فِي رِحَالِهِمْ} فكما أن الرحال للعدد الكثير (¬5)؛ لأن جمع القليل (أرحلٌ) فكذلك المتولون ذلك يكونون كثرة. قال أبو الحسن: كلام العرب: قل لفتيانك، وما (¬6) فعل فتيانك، وإن كانوا في أدنى العدد إلا أن يقولوا ثلاثة وأربعة. وقد يقوم البناء الذي للقليل مقام البناء الذي للكثير، وكذلك الكثير يقوم مقام القليل (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 13/ 9 عن قتادة، وأخرجه سعيد بن منصور عن إبراهيم كما في "الدر" 4/ 255، وذكره الثعلبي 7/ 93 أ، والبغوي 2/ 435، و"وزاد المسير" 4/ 249. (¬2) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر (لفتيانه) بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي (لفتيانه) بالنون، واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه بالتاء (لفتيته) وروى حفص عنه (لفتيانه) بالنون. انظر: "السبعة" ص 349، "إتحاف" ص 266، الثعلبي 7/ 93 أ، ابن عطية 8/ 14. (¬3) "الحجة" 4/ 430 - 431 بتصرف. (¬4) في (ج): (ووجع). (¬5) (الكثير): ساقط من (ج). (¬6) في (ج): (الواو) ساقط. (¬7) إلى هنا انتهى النقل عن أبي علي في "الحجة" 4/ 431 بتصرف.

وقوله تعالى: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬1): يريد الدراهم والدنانير التي جاءوا بها في أوعيتهم، وروى الضحاك عنه (¬2) قال: كانت بضاعتهم النعال والأدم. وقال قتادة (¬3): "بضاعتهم" يريد أوراقهم. وأما الرحال فقد فسرها ابن عباس بالأوعية، قال أبو عبيد (¬4): الرحل بجميع ربضه وحقبه وحلسه وجميع أغراضه، وعلى هذا الرحل كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن كما ذكر أبو عبيد، والرحل أيضًا مسكن الرجل، ويقال: فلان خصيب الرحل (¬5). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال ابن الأنباري: "لعل" كلتاهما بمعنى "كي" الأولى متعلقة "باجعلوا" والثانية محمولة على "يعرفونها" فالجَعْل سبب المعرفة، والمعرفة سبب الرجوع، وذكرنا مثل هذا في قوله: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46]. ويجوز أن يكون "لعل" كلتاهما بمعنى "عسى" والمراد: عساهم يعرفون أنها بضاعتهم بعينها، وعساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك، وجاز أن يكون بمعنى "عسى"؛ لأنه يحتمل أنهم لا يعرفون أنها بضاعتهم بعينها بل يظنون أن تلك هدية وتكرمة فلا يرجعون. واختلفوا لم أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم؟ فقيل: لأنهم متى ما فتحوا المتاع وجدوا (¬6) ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 249. (¬2) الثعلبي 7/ 93 ب، البغوي 4/ 255، القرطبي 9/ 223. (¬3) الطبري 13/ 9، الثعلبى 7/ 93 ب. (¬4) "تهذيب اللغة" (رحل) 2/ 138 وفيه، قال أبو عبيدة. (¬5) نقله في التهذيب عن الليث (رحل) 2/ 1381. (¬6) في (ج): (فوجدوا) وهو الصحيح.

63

بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كرم من يوسف وسخاء، فيبعثهم (¬1) على العود إليه والحرص على معاملته، وقال الكلبي (¬2): لخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى وقيل: أراد بذلك التوسعة على أبيه إذ كان الزمان زمان قحط. وقيل: رأى لؤمًا أخذ الثمن من أبيه وإخوته مع حاجتهم إلى الطعام، وقال الفراء (¬3): لأنهم إذا رأوا بضاعتهم في رحالهم ردوها على يوسف ولم يستحلوا إمساكها فيرجعون، ونحو هذا قال الزجاج (¬4)، ويجوز أن يكون ليرجعوا إليه متعرفين سبب ردّها. وكل ذلك أدعى لهم إلى الرجوع من ترك رد البضاعة عليهم (¬5). 63 - قوله تعالى {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي فيما نستقبل إن لم نأت بأخينا، لقوله {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} قال ابن الأنباري (¬6): وتأويله: حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت فأدى (مُنِعَ) عن هذا المعنى، كما تقول لمن رأيته على كبيرة: دخلت والله النار، تعني حكمت عليك بدخول النار. ¬

_ (¬1) كذا في (أ)، (ب)، (ج) وفي (ي): (فيبعثهم) كما في الرازي 18/ 168. (¬2) الثعلبي 7/ 93 ب، البغوي 4/ 256. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 48. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 117. (¬5) قلت: أرجح الأقوال السابقة هي الأقوال التي فيها ما يدعوهم إلى الرجوع إليه سواء لكرمه أو لرد البضاعة؛ لأنها ليست ملكهم أو الاستفار عنها لأن هذا هو المناسب للسياق والله أعلم. (¬6) "زاد المسير" 4/ 250.

64

وقوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} قال أبو إسحاق (¬1): أيَ إن أرسلته (¬2) اكتلنا وإلا فمنعنا الكيل. وقرئ (¬3) "يكتل" بالياء والنون، ويدل على النون قوله "ونمير أهلنا" ألا ترى أنهم إنما يميرون أهلهم مما يكتالونه، فيكون نكتل مثل "نمير"، وأيضاً فإن في قوله "نكتل" بالنون يجوز أن يكون أخوهم داخلًا معهم، وإذا كان بالياء لم يدخلوا هم في هذه الجملة، ووجه الياء كأنه يكتل هو حمله، كما نكتال نحن أحمالنا. 64 - قوله تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} قال عطاء عن ابن عباس (¬4): يريد قد صنعتم بي هذا من قبل في يوسف فكيف آمنكم علي بنيامين. وقال الكلبي (¬5): (هل آمنكم عليه) يعني علي بنيامين إلا كما آمنتكم على أخيه من قبل، يعني إني أخاف على الثاني مثل الذي وقع بالأول، وان كنتم تعدونني حفظه. وقال أبو إسحاق (¬6): أي كذلك قلتم لي في يوسف وضمنتم لي حفظه في قولكم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فكذلك ضمانكم هذا عندي، وتأويل هذا أنه يقول: لا آمنكم علي بنيامين إلا كأمني على يوسف، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن وأنهم خانوه، فهو وإن أمنهم في هذا خاف خيانتهم أيضاً. ثم قال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا}. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 117. (¬2) في معاني الزجاج (معنا) (وإلا فقد منعنا). (¬3) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر (نكتل) بالنون، وقرأ حمزة والكسائي (يكتل) بالياء. انظر: "السبعة" ص 355، "إتحاف" ص 266، الطبري 13/ 15، ابن عطية 8/ 15. (¬4) انظر: الرازي 18/ 169، القرطبي 9/ 224، البغوي 4/ 256. (¬5) "تنوير المقباس" ص 151. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 118.

قال الزجاج (¬1): {حَافِظًا} منصوب على التمييز. قال أبو علي (¬2): قد تبين من قولهم: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} وقولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أنهم قد أضافوا إلى أنفسهم حفظًا، وإذا كان كذلك فالمعنى: أنه خير حفظًا من خفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم، أي حفظ الله خير من حفظكم، ومن قرأ (¬3): "حافظًا"، قال أبو إسحاق (¬4) حافظًا منصوب على الحال ويجوز أن يكون (¬5) على التمييز، قال ابن الأنباري: "حافظًا" منصوب على الحال من اسم الله تعالى، وتلخيصه (¬6): فالله خير الأرباب والسادات في حال حفظه. وقال أبو علي (¬7): ينبغي أن يكون حافظًا منتصبًا على التمييز دون الحال كما كان حفظًا كذلك، والمعنى: حافظ الله غير من حافظكم، كما قلت: حفظ الله خير من حفظكم؛ لأن الله سبحانه له حفظة كما أنه له حفظًا، فحافظه خير من حافظكم، كما أن حفظه خير من حفظكم، ولا يكون حافظًا في الآية منتصبًا على الحال. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 118. (¬2) "الحجة" 4/ 439. (¬3) اختلفوا في إدخال الألف وإسقاطها، وفتح الحاء وكسرها من قوله (خيرٌ حفظًا) فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (حِفظًا) بكسر الحاء من غير ألف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (خيرٌ حَافظًا) بفتح الحاء وألف بعدها، انظر: "السبعة" ص 350، "إتحاف" ص 266، الطبري 13/ 11، ابن عطية 8/ 16. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 118. (¬5) في (ج) بزيادة (منصوب). (¬6) (وتلخيصه) ساقط من (ج). (¬7) "الحجة" 4/ 439، 440.

65

65 - قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} الآية. المتاع ما يصلح للاستمتاع عامًّا في كل شيء وهاهنا يجوز أن يراد به ذلك الطعام الذي حملوه، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام. وقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} ذكر الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وابن الأنباري (¬3) في هذا وجهين أحدهما: أن يكون "ما" استفهامًا ويكون في موضع نصب، المعنى: أي شيء نريد وقد ردت علينا بضاعتنا. قال الفراء: وهو كقولك في الكلام: ماذا نبغي بعد الوصول إلى ما لم نكن نقدره ولا نطمع في مثله. أي لا نبغي وراء هذا شيئًا. وهذا معنى قول قتادة (¬4). قال: وما نبتغي وراء هذا الذي وصلنا إليه. الوجه الثاني: أن يكون "ما" نفيًا، كأنهم قالوا: ما نبغي شيئًا هذه بضاعتنا. وقال الفراء (¬5) وأبو بكر (¬6): كأنهم قالوا: لسنا نطلب منك دراهم وما نبغي منك بضاعة نرجع بها إليه، بل يكفينا بضاعتنا هذه التي ردّت إلينا، وهو قوله {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} والإشارة إلى البضاعة تحتمل معنيين أحدهما: أنهم لم يثقوا بمعرفة أبيهم لها، فعرفوها بإشارتهم إليها، والآخر: أن معنى الإشارة هاهنا التقريب (¬7) للرد والتحقيق له، كقول القائل: هذه الشمس قد طلعت، فتقرب بهذه طلوع الشمس وتحققه، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 49. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 118. (¬3) "الوقف والابتداء" 2/ 725، 726، و"زاد المسير" 4/ 252. (¬4) الطبري 13/ 11، وابن أبي حاتم 7/ 2166 وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 48. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 49. (¬6) "زاد المسير" 4/ 252. (¬7) في (أ)، (ب): (للتقريب).

ولا يعرف بها عين الشمس، فمن جعل (هذه) إشارة أجاز أن يكون رُدّتْ خبرًا مستأنفًا، ويمكن أن يكون حالاً من البضاعة بإضمار "قد" معه؛ لأن "قد" تقرب الماضي من الحال، والتقدير: هذه بضاعتنا مردودة إلينا. ومن جعل هذه للتقريب لا يجيز استئناف "ردت"؛ لأن خبر التقريب يُفتقر إليه، كما يُفتقر إلى خبر "إن" و"كان"، فلا يجوز الاقتصار على "هذه بضاعتنا" دون ذكر "ردت" في هذا الوجه، وفي الوجه الأول يجوز، قال المفسرون (¬1): إنهم أرادوا بهذا الكلام أن يطيبوا نفس أبيهم على الإذن لهم بالمعاودة وإرسال (¬2) بنيامين معهم. وقوله تعالى {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} عطف على قوله {مَا نَبْغِي} كأنهم قالوا: ما نبغي منك في هذا الوجه شيئًا تصرفنا به، ومع ذلك نمير أهلنا أي نجلب إليهم الطعام، قال الأصمعي (¬3): ماره يميره ميرًا، إذا أتاه بميرة أي بطعام. ومنه يقال: "ما عنده خير ولا مير" (¬4). وقوله تعالى: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي نزيد حمل بعير من الطعام. قال الزجاج (¬5): لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير. وقوله تعالى: {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} قال الحسن (¬6): أي يأتي ذلك متيسرًا (¬7) على من يكيل لنا. ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 94 أ، البغوي 4/ 257، و"زاد المسير" 4/ 252. (¬2) في (أ)، (ج): وإن سأل). (¬3) "تهذيب اللغة" (مار) 4/ 3325، الرازي 8/ 171. (¬4) مثل يضرب لمن ليس عنده خير عاجل، ولا يرجى مه أن يأتي بخير. مجمع الأمثال للميداني 3/ 282، كتاب الأمثال لأبي عبيد 306. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 118. (¬6) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 276. (¬7) في (ب). (مبشر).

66

ونحو هذا قال مقاتل (¬1) قال: معناه ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل، وهو اختيار الزجاج (¬2): أي سهل على الذي نمضي إليه. وقال آخرون (¬3): ذلك كيل سهل قصير الوقت والمدة، ليس سبيل مثله أن نشتغل ولا نضطر إلى الاحتباس والتأخير عن الأوبة إليك. 66 - قوله تعالى {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} الموثق (¬4): مصدر بمعنى الثقة، ومعناه: العهد الذي يوثق به، فهو مصدر بمعنى المفعول، يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهدًا موثوقًا به. وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ} أي: عهدًا يوثق به من جهة إشهاد الله. أو القسم بالله، فالموثق من أنفسهم، وكلهم يؤكدون ذلك بإشهاد الله عليه، وبالقسم بالله عليه، فيوثق بذلك العهد من هذه الجهة. وقوله تعالى {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} دخلت اللام هاهنا لأن قوله {تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} موثقًا من الله معناه اليمين أي: حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} قال عطاء عن ابن عباس (¬5): يريد إلا أن يأتيكم من الله أمر غالب لا طاقة لكم به. وذكر المفسرون وأهل المعاني (¬6) في هذا قولين أحدهما: أن قوله {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} معناه ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 155 ب، قال: سريع لا حبس فيه، الرازي 18/ 171. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 119. (¬3) هذا القول نسبه في "زاد المسير" 4/ 253 إلى مقاتل. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 266. (¬5) ذكره الثعلبي 7/ 94 ب عن مقاتل، و"تنوير المقباس" ص 151 بنحوه. (¬6) الطبري 16/ 163، الثعلبي 7/ 94 ب، البغوي 2/ 437، ابن عطية 9/ 336، "معاني القرآن" للنحاس 3/ 441، "معاني الفراء" 2/ 50.

الهلاك. قال مجاهد (¬1): إلا أن تموتوا كلكم. وقال ابن إسحاق (¬2): إلا أن يصبكم أمر يذهب بكم جميعًا فيكون ذلك عذرًا لكم عندي، والعرب تقول: أحيط بفلان: إذا دنا هلاكه، قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي أصابه ما أهلكه، وأصله أن ما أحاط به العدو أو ما يخافه انسدت عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه، فقيل لكل ما هلك: قد أحيط به، القول الثاني: ما ذكره معمر عن قتادة (¬3) {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} قال: إلا أن تغلبوا ولا تطيقوا الرجوع، وهذا اختيار الزجاج (¬4) قال: معنى الإحاطة أن يحال بينهم وبينه فلا يقدرون على الإتيان به. وذكر ابن قتيبة (¬5) الوجهين جميعًا فقال: إلا أن تشرفوا على الهلكة، وتغلبوا، والذي ذكرنا عن ابن عباس يحتمل الوجهين جميعًا، والإحاطة بالشيء يتضمن الغلبة، وذكرنا بعض هذا في قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81]، وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (¬6) قال أبو إسحاق (¬7): وموضع "أن" في قوله {أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} نصب، والمعنى لتأتونني به إلا للإحاطة بكم، وهذا يسمى ¬

_ (¬1) الطبري 16/ 163، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 4/ 227 أ، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 556، الثعلبي 7/ 94 ب، البغوي 2/ 437، ابن عطية 9/ 336، "زاد المسير" 4/ 253. (¬2) الطبري 16/ 164. (¬3) الطبري 13/ 12، عبد الرزاق 2/ 325، البغوي 4/ 257، ابن عطية 8/ 21، القرطبي 9/ 225. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 119. (¬5) "مشكل القرآن وغريبه" ص 227. (¬6) يونس: 22، وقال هنالك: "قال أبو عبيدة والقتيبي "أي دنوا من الهلاك" وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من الهلاك". (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 119.

67

مفعولاً، وتقول: ما تأتيني إلا لأخذ الدراهم، وإلا أن يأخذوا الدراهم. وقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} قال ابن عباس (¬1): يريد العهد. قال يعقوب: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: يريد شهيد، وإنما جعل الوكيل بمعنى الشهيد؛ لأن الشهيد وكيل في معنى أنه موكول إليه القيام بما أشهد عليه. وقال ابن قتيبة (¬2): كفيل. 67 - قوله تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} لما أراد بنوه الخروج من عنده قال لهم: لا تدخلوا من باب واحد يعني مصر (¬3) {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}. أمرهم بالتفرق حذرًا من العين عليهم، إذ كانت العين حقًّا، وكانوا أولي جمال وكمال، وأبناء رجل واحد يجتمعون في الحسن الظاهر والجمال البارع. وهذا قول ابن عباس (¬4) وقتادة (¬5) والضحاك (¬6) والسدي (¬7) والحسن (¬8). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 253، و"تنوير المقباس" ص 152، وقال به الطبري 13/ 13، والثعلبي 7/ 94 ب. (¬2) "مشكل القرآن وغريبه" ص 227. (¬3) في (أ)، (ب)، (ج) تكرار (يعني مصر وادخلوا). (¬4) الطبري 13/ 13، وابن أبي حاتم 7/ 2168 كما في الدر 4/ 49، و"زاد المسير" 4/ 254، والقرطبى 9/ 226. (¬5) الطبري 13/ 13، عبد الرزاق 2/ 325، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2169 وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 49، و"زاد المسير" 4/ 254، والقرطبي 9/ 226. (¬6) الطبري 13/ 13، والقرطبي 9/ 226. (¬7) الطبري 13/ 13 وابن أبي حاتم 7/ 2168. (¬8) الرازي 18/ 174.

68

وقوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن الأنباري (¬1): يعني: أن الله إن شاء يهلكهم متفرقين هلكوا وهم متفرقون كما يهلكون وهم مجتمعون، وقال أهل المعاني: أفاد قوله (لا تدخلوا من باب واحد) النصيحة لهم والمنع من الأمر الذي يغلب على من أتاه واستعمله سبق العين إليه، وأفاد قوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} تفويض الأمر إلى الله تعالى وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وأمر العين حق قد رويت فيه أخبار كثيرة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" ويقول: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحق، صلوات الله عليهم أجمعين (¬2). 68 - قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ}، قال المفسرون (¬3): كان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلها. وقوله تعالى: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، قال ابن عباس (¬4): يريد ما كان ذلك ليرد قضاء قضاه الله ولا أمرًا قدره الله، وقال أبو إسحاق (¬5) فتأويل {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أن العين ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 254، البغوي 4/ 258. (¬2) (أجمعين) زيادة من (ج). والحديث أخرجه البخاري (3371) كتاب أحاديث الأنبياء، 10 - باب، وأخرجه أبو داود في "سننه" (4737) كتاب السنن باب في القرآن من حديث ابن عباس والترمذي (2061) كتاب الطب، باب ما جاء أن العين حق والغسل لها. وابن ماجه في "سننه" (3525) كتاب الطب، باب ما عوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وما عوذ به. (¬3) الثعلبي 7/ 95 أ، و"زاد المسير" 4/ 253. (¬4) "تنوير المقباس" ص 152 بنحوه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 119.

لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين، وقال ابن الأنباري: معناه لم يسبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع، فكان تفرقهم كاجتماعهم. وعلى ما ذكر من التأويل يكون التقدير: ما كان يغني عنهم ذلك الدخول من الأبواب المتفرقة من الله شيئًا لو قَضَى وقدر فـ"من" في قوله {مِنْ شَيْءٍ} دخلت على المفعول كقولك: ما رأيت من أحد. وفي الآية محذوف وهو (لو قَضَى) على ما ذكرنا، وذكر أبو إسحاق (¬1) وجهًا آخر فقال: وجائز أن يكون لا يغني عنهم مع قضاء الله شيء، وعلى هذا: "من" دخلت على الفاعل نحو: ما جاءني من أحد، والتقدير: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه، والمحذوف على هذا التقدير (مع قضائه)، قال المفسرون (¬2): وهذا تصديق من الله تعالى ليعقوب في قوله: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. وقوله تعالى: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} قال الزجاج (¬3): "حاجة" استثناء ليس من الأول. المعنى: لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، يعني أن ذلك الدخول: قضاء حاجة في نفس يعقوب، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة شفقة عليهم وخوفًا من العين. والمفسرون (¬4) فسروا الحاجة هاهنا الحزازة والهمة. قال ابن الأنباري: وقد يقال للحاجة: حزازة لأنها تؤثِّر في القلب، ويلزم همها النفس. المعنى أن ذلك الدخول شفى حزازة قلبه، ولما سميت الحزازة حاجة، جعل إزالتها قضاء. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 119. (¬2) الثعلبي 95/ 7 أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 119. (¬4) الثعلبي 7/ 95 أ.

وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} قال ابن عباس (¬1): لذو يقين ومعرفة بالله. وقال الكلبي (¬2): لذو عمل، ونحو هذا روى سعيد عن قتادة (¬3): قال: إنه لعامل بما علم. قال سفيان (¬4): من لا يعمل لا يكون عالمًا، قال ابن الأنباري (¬5): والذي قاله الكلبي جائز تحتمله اللغة، من قبل أن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو من سببه وبما يقع متولدًا منه ومبنيًا عليه. كما قيل لعيسى: كلمة الله؛ لأنه بالكلمة وجد وخلق. وقوله تعالى: {لِمَا عَلَّمْنَاهُ} يمكن أن يكون "ما" مصدرًا والهاء عائدة على يعقوب، ويكون التقدير: لأنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه. ويكون اللام على هذا كهي في قوله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] يعني به من أجل حب المال لبخيل. وهذا معنى قول قتادة (¬6). ويمكن أن تكون "ما" بمعنى "الذي" والهاء عائدة عليها، ويكون التأويل: وإنه لذو علم لأجل الذي علمناه، وللخير الذي علمناه، وللعلم الذي بيناه له. وقيل في التفسير: وإنه لذو فهم لما علمناه أي ذو حفظ (¬7) ومراقبة لما علمناه. وقال أهل المعاني: مدحه الله تعالى بالعلم لقوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} علم أن الحذر لا ينفع من القدر وأن المقدور كائن. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 4/ 254. (¬2) انظر: "زاد المسير" 4/ 254، القرطبي 9/ 229، ابن كثير 2/ 531. (¬3) الطبري 13/ 14، الثعلبي 7/ 95 أ، "زاد المسير" 4/ 254، ابن عطية 8/ 24، ابن أبي حاتم 7/ 2169، أبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 49. (¬4) الطبري 13/ 15، الثعلبي 7/ 95 أ، البغوي 4/ 259، ابن عطية 8/ 24. (¬5) "زاد المسير" 4/ 354 مختصرًا. (¬6) وهو قول الزجاج في "معانيه" 3/ 119، والفراء 2/ 50. (¬7) هذا القول ذكره الفراء في "معانيه" 2/ 50.

69

وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ذكر في هذا قولين: أحدهما (¬1): ولكن أكثر الناس لا يعلمون علم (¬2) يعقوب. والثاني (¬3): لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. قال ابن عباس في قوله (¬4): {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يريد المشركين لا يعلمون ما قد ألهم أولياءه. 69 - قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} قال محمد بن إسحاق (¬5) وغيره من المفسرين (¬6): إن إخوة يوسف لما أقدموا أخاه عليه، قالوا له: قد امتثلنا أمرك وأقدمنا أخانا الذي أحببت حضوره، فقال لهم: قد أحسنتم في ذلك، وأمر صاحب ضيافته أن ينزلهم ويزيد في تكرمتهم وإثرتهم، وأن ينزل كل اثنين منهم في منزل. فبقي أخوه منفردًا فقال: قد أشفقت على هذا من الوحدة والتفرد فأحببت أن أضمه إلى ليأنس ويزل عنه الاستيحاش والذعر. فذلك قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمه إليه وأنزله معه. قاله الحسن (¬7) وقتادة (¬8). وقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} قال ابن عباس (¬9): قال له يوسف: ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 7/ 95 أ، الطبري 13/ 14. (¬2) في (أ)، (ج): (علمه). (¬3) الرازي 18/ 177. (¬4) الرازي 18/ 177. (¬5) الطبري 13/ 15، وابن أبي حاتم 7/ 2170. (¬6) الطبري 13/ 15 عن السدي، وابن أبي حاتم 7/ 2170 عن قتادة، والثعلبي 7/ 95 أ. (¬7) انظر: "زاد المسير" 4/ 255، القرطبي 9/ 229، الرازي 18/ 177. (¬8) الطبري 13/ 15، وابن أبي حاتم 7/ 2170 وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 50، و"زاد المسير" 4/ 255. (¬9) "زاد المسير" 4/ 255.

أنا يوسف بن راحيل. ونحو هذا قال ابن إسحاق (¬1) وجماعة من المفسرين (¬2)، قالوا: اعترف له بالنسب، وقال: لا تخبر أحدًا منهم بما ألقيت إليك. وقال وهب (¬3) والشعبي (¬4): لم يعترف له بالنسبة، ولكنه قال تطييبًا لنفسه: أنا أخوك بدل أخيك المفقود، وذلك أنه لما ضمه إليه خلا به وسأله عن حاله، فذكر وجده بأخ له من أبيه وأمه فُقِد، قال له يوسف: أنا أخوك بدل أخيك الهالك. وقوله تعالى: {فَلَا تَبْتَئِسْ} قال ابن عباس (¬5): يريد فلا تغتم ولا تحزن. ونحوه قال قتادة (¬6) وغيره، {تَبْتَئِسْ} تفعيل من البؤس وهو الضر والشدة، أي لا يلحقنك بؤس. هذا قول أهل اللغة (¬7). وقال أهل المعاني (لا تبتئس): اجتلاب البؤس بالحزن. وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال ابن الأنباري (¬8): ندبه إلى أن لا يحزن على ما يقع به من إخوته في المستقبل حين يسرقونه ويشبهونه بأخيه في السرقة، و (كانوا) بمعنى يكونون، وتقديره: لا تبتئس بما يكونون ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 15، وابن أبي حاتم 7/ 2170، و"زاد المسير" 4/ 255، وابن عطية 8/ 24. (¬2) الثعلبي 7/ 96 أ، القرطبي 9/ 229، البغوي 4/ 259، الرازي 18/ 178. (¬3) الطبري 13/ 15، الثعلبي 7/ 96 أ، "زاد المسير" 4/ 255، ابن عطية 8/ 25. (¬4) الثعلبي 7/ 96 أ. (¬5) "تنوير المقباس" ص 152. (¬6) الطبري 13/ 16، وابن أبي حاتم 7/ 2170، والثعلبي 7/ 96 أ، وأبو الشيخ كما في الدر 4/ 50، و"زاد المسير" 4/ 256. (¬7) "زاد المسير" 4/ 256، وعزاه لابن الأنباري وانظر: "تهذيب اللغة" (بئس) 1/ 411، و"اللسان" (بئس) 1/ 200. (¬8) "زاد المسير" 4/ 256.

يعملون بعد هذا الوقت، إلى هذا المعنى ذهب مقاتل بن سليمان (¬1)، والعرب تجعل (كان) في موضع يكون، و (يكون) في موضع (كان) إذا انكشف المعنى، قال الشاعر (¬2): فأدْرَكْتُ مَنْ قد كان قَبْلِي ولَمْ أدَعْ ... لمن كان بَعْدِي في القَصَائِد مَصْنَعا أراد: لمن يكون، وقال زياد (¬3): وانْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِه بدِمَائِها ... فلَقَد يَكُونُ أخا دَمٍ وذَبَائح أراد: فلقد كان، وروى الكلبي عن ابن عباس (¬4): أن إخوة يوسف كانوا يعيرون يوسف وأخاه لعبادة جدهما أبي أمِّهما الأصنام، وبأن راحيل أمُّهما أمرت يوسف فسرق جونةً كانت لأبيها فيها أصنام، رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها، فقال له: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من التعيير لنا بما كان عليه جدُّنا. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 156 أ. (¬2) البيت لجرير بن عطية، وهو في "ديوانه" ص 263، و"زاد المسير" 4/ 256. (¬3) البيت لزياد الأعجم وهو زياد بن سُلْمى، وقيل زياد بن جابر بن عمرو بن عامر، من عبد القيس، وقيل له الأعجم، للكنة كانت فيه، شاعر إسلامي، شهد فتح اصطخر، وتوفي في حدود المائة للهجرة، انظر: "الشعر والشعراء" ص 279، و"معجم الأدباء" 3/ 352. وهو في "ديوانه" ص 54، و"الخزانة" 3/ 192، و"أمالي المرتضى" 2/ 199، 301، و"الشعر والشعراء" ص 280، و"زاد المسير" 4/ 256، و"اللسان" (كون) 7/ 3962، ونسب للصلتان العبدي في أمالي المرتضى 2/ 199، وبلا نسبه في "تلخيص الشواهد" 512. (¬4) "زاد المسير" 4/ 256، الرازي 18/ 178.

70

وقال آخرون (¬1): {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من إقامتهم على حسدنا الحرص على انصراف وجه أبينا عنا، وعلى ما ألزموك من الأسف بما فعلوا بي، فقد جمع الله بيني وبينك، وأرجو أن يجمع الله بيننا وبين يعقوب. 70 - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} الآية، مضى الكلام في الجهاز والرحل (¬2). وأما السقاية فقال الليث (¬3): السقاية: الصواع الذي كان يشرب فيها الملك. وقال غيره: السقاية (¬4): الإناء الذي يُسْقى فيه، وهو هاهنا صواع الملك الذي كان يشرب منه. قال ابن عباس (¬5) في رواية عطاء: وكان قدحًا من زبرجد، وكان يشرب فيه الماء، وكان موضوعًا بين يدي يوسف. وقال ابن زيد (¬6): كان كأسًا من ذهب. وقال ابن إسحاق (¬7) وعكرمة (¬8): كانت مشربة من فضة مرصعة بالجوهر. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 256، الرازي 18/ 178. (¬2) عند قوله تعالى {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 60]. وقوله تعالى {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62]. (¬3) "تهذيب اللغة" (سقى) 2/ 1715، و"اللسان" (سقى) 4/ 2043. (¬4) "تهذيب اللغة" (سقى) 2/ 1715، و"اللسان" (سقى) 4/ 2043. (¬5) الطبري 13/ 17 بنحوه، و"زاد المسير" 4/ 258. (¬6) الطبري 13/ 17، و"زاد المسير" 4/ 259، والثعلبي 7/ 96 ب. (¬7) الثعلبي 7/ 96 ب. (¬8) أخرج ابن أبي حاتم عنه كما في "الدر" 4/ 50 قوله "كان كأسًا من ذهب على ما يذكرون" قلت في ابن أبي حاتم 7/ 2171 هذا القول عن ابن زيد وأخرج الطبري 13/ 19، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 50 قال: كان فضة، و"زاد المسير" 4/ 258، والثعلبي 7/ 96 ب.

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} قال المفسرون وأهل اللغة (¬1): نادى مُناد وأعلم مُعلم. قال ابن الأنباري (¬2): (أذَّن) معناه أعلم إعلامًا بعد إعلام؛ لأن (فعَّل) يوجب تكرير الفعل، ويجوز أن يكون إعلامًا واحداً من قبل أن العرب تجعل فعّل بمعنى أفعل في كثير من المواضع، وقال سيبويه (¬3): الفرق بين أذّنت وآذنت، معناه أعلمت، لا فرق بينهما، والتأذين معناه النداء والتصويت بالإعلام، ومضى الكلام في هذا الحرف مستقصًى في مواضع منها قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279] وقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} (¬4) وقوله {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 3]. وقوله تعالى: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} قال أبو الهيثم (¬5): كل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهي عير. قال: وقول من قال العير: الإبل خاصة باطل، قال: وقال (¬6) نُصير (¬7): الإبل لا تكون عيرًا حتى يمتار عليها. وقال أبو عبيدة (¬8): العير الإبل الرحولة المركوبة، والصحيح في العير أنها القافلة التي فيها الأحمال، والأصل للحمير إلا أنه كثر حتى سمي كل قافلة محملة عيرًا تشبيهًا بتلك. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 17، والثعلبي 7/ 96 ب، والبغوي 4/ 265، و"زاد المسير" 4/ 257، و"تهذيب اللغة" (أذن) 1/ 140، و"اللسان" (أذن) 1/ 53. (¬2) "الزاهر" 1/ 29. (¬3) "الكتاب" 4/ 62. (¬4) الأعراف: 44. وقال هنالك ما ملخصه: "معنى التأذين في اللغة: النداء والتصويت بالإعلام، والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها .. ". (¬5) "تهذيب اللغة" (عير) 3/ 2274. (¬6) في (ج): (وقتال). (¬7) "تهذيب اللغة" (عير) 3/ 2275. (¬8) "زاد المسير" 4/ 257، القرطبي 9/ 230.

قال مجاهد (¬1): كانت العير حميرًا. وقال مقاتل (¬2) بن سليمان: العير الرفقة. (قال ابن الأنباري: ولا تكون العير رفقة أبدًا إلا على قيام مقام الرفقة وتأديتها عنها) (¬3). قال أبو إسحاق (¬4): معناه يا أصحاب العير، ولكن قال: (أيتها العير)، وهو يريد أهلها، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، ويا خيل الله اركبي. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قال أبو علي: التقدير فقال: إنكم لسارقون. فإن قيل: لم سَرَّق يوسفُ من لم يَسْرِق وهم لم يسرقوا شيئًا؟ قيل (¬5) معناه: إنكم لسارقون يوسف من أبيه، حين طرحتموه في الجب. وقيل (¬6): إن المنادي نادى وعنده أنهم قد سرقوا السقاية، ولم يعلم أن يوسف أمر بوضعها في رحل أخيه، وإنما كان أمر بذلك على ما أمره الله -عز وجل- فلما فقدها الموكلون بها اتهموهم بسرقتها، على أن النداء بالتسريق كان بغير أمر يوسف ولا علمه، فكان الكذب زائلًا عن نبي الله في الحالات كلها. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 18 وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2172، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 50، وأبو عبيد كما في "الدر" 4/ 48. (¬2) "تفسير مقاتل" 156 أ. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (ب)، (ج) وهو في (ي). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 120. (¬5) قال به الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 123. (¬6) وهو قول ابن جرير الطبري انظر: الطبري 13/ 28.

71

71 - قوله تعالى: {قَالُوا} هو يعني أصحاب العير وهم إخوة يوسف {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس (¬1): يريد أقبل هذه الرفقة على غلمان يوسف. فعلى هذا المعنى قال إخوة يوسف، وقد أقبلوا على المؤذن ومن معه، والمؤذن كان معه قوم يقولون بقوله ويصححون دعواه. قاله أبو بكر (¬2) قال: ويجوز أن يكون المعنى: قال إخوة يوسف وقد أقبل المنادي ومن معه بالدعوى والمطالبة؛ لأنه قد تقدم ذكر الفريقين، وصلح صَرْف الإقبال إلى كل فريق منهما. 72 - قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} قال أبو إسحاق (¬3): الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث وهو السقاية وكذلك الصاع أيضًا يذكر ويؤنث والدليل على أنهما بمعنًى، قراءة (¬4) أبي هريرة {قالوا نفقد صاع الملك} وزاد الفراء (¬5) فمن أنثه قال: ثلاث أصوع، مثل ثلاث أدؤر [ومن ذكّره] (¬6) قال: أصواع، مثل أثواب. وقال الحسن (¬7): الصواع والسقاية شيء واحد، ويجمع الصاع أيضاً صيعانًا. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 152، بنحوه وانظر: البغوي 4/ 260، و"زاد المسير" 4/ 258. (¬2) "زاد المسير" 4/ 258. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 120. (¬4) ذكر القراءة الزجاج 3/ 120، والثعلبي 7/ 97 أ، والطبري 13/ 18، وابن عطية 8/ 28، وأخرج هذه القراءة عن أبي هريرة سعيد بن منصور وابن الأنباري كما في "الدر" 4/ 55، المذكر والمؤنث لابن الأنباري 1/ 441. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 51. (¬6) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬7) الطبري 13/ 16، وقد ذكر هذا القول الثعلبي 7/ 96 ب، والبغوي 4/ 260، و"زاد المسير" 4/ 257، والقرطبي 9/ 229.

وقال بعض أهل التأويل (¬1): الاسم الحقيقي لهذا الإناء: الصواع، والسقاية وصف، قال: وهذا نحو قولهم: كوز وإناء وسقاء، فالاسم المختص هو الكوز، والوصف هو السقاء إذ كان مشتركًا، وقال جماعة من المفسرين: الصواع كان على [صيغة المكوك أو القفيز يشربون فيه، ويسقون دوابهم] (¬2)، ويكيلون به إذا احتاجوا إلى ذلك. وقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي من الطعام {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} قال مجاهد (¬3): الزعيم: هو المؤذن الذي أذن، وتفسير زعيم كفيل. وقال الكلبي: الزعيم: الكفيل بلسان أهل اليمن. نحو هذا قال المفسرون وأهل اللغة (¬4) في الزعيم أنه الكفيل. أبو عبيدة (¬5) عن الكسائي: زعمت به أزعم زعمًا وزعامة، أي: كفلت به، وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شريعتهم، وقد حكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "الزعيم غارم" (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول في "زاد المسير" 4/ 257، الرازي 18/ 179. (¬2) ما بين المعقوفين من (ي). (¬3) الطبري 13/ 20، وابن أبي حاتم 2174. (¬4) روى هذا القول الطبري 13/ 20 - 21، عن ابن عباس: ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وابن إسحاق، وذكره الثعلبي 7/ 97 أ، والبغوي 4/ 260، و"زاد المسير" 4/ 259، وابن عطية 8/ 29، وغيرهم. وانظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 315، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص 227، "معاني الزجاج" 3/ 120، و"معاني الفراء" 2/ 51. (¬5) "تهذيب اللغة" (زعم) 2/ 1533 وفيه أبو عبيد بدل أبي عبيدة، الرازي 18/ 179، و"الزاهر" 2/ 130. (¬6) الحديث أخرجه الترمذي (1265) كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداه من حديث أبي أمامه وقال عنه: حديثَ حسن، وأبو داود (3565) كتاب البيوع، =

73

فإن قيل: (¬1) هذه كفالة بشيء مجهول، قلنا: حمل (¬2) بعير من الطعام كان معلومًا عندهم فصحت الكفالة به، غير أن هذا كفالة مال لرد سرقة، وهو كفالة ما لم يجب؛ لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئًا على رد السرقة، ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم. 73 - وقوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ} قال الفراء (¬3): العرب لا تقول: تالرحمن، ولا يجعلون مكان الواو تاء إلا في الله، وذلك أنها أكثر الأيمان مجرى في الكلام، فتوهموا أن الواو منها لكثرتها في الكلام وأبدلوها تاء، كما قالوا: التراث وتترى، وهو من المواترة والتُّخمة والتُّجاه، وقال البصريون (¬4): الواو في (والله) بدل من التاء، والتاء بدل من الواو، فضعفت عن التصريف في سائر الأسماء، وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله جل وعز. وإنما جاز إبدال التاء من الواو؛ لأنهما من حروف الزوائد والبدل، والتاء أقرب حروف البدل إلى الواو. وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} قال المفسرون وجميع أهل المعاني (¬5): حلفوا على علمهم بذلك؛ لأنهم كانوا معروفين ¬

_ = باب تضمين العارية، وابن ماجه (2405) كتاب الصدقات باب الكفالة. وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1412)، وقال: أخرجه الطيالسي (1128) وعنه البيهقي 6/ 88، وأحمد 5/ 267، وأبو داود (3565) وابن عدي 1/ 10 ..). (¬1) القرطبي 9/ 232، الرازي 18/ 180. (¬2) (حمل) مكرر في (ج). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 51 والتُّجاه من واجهك. (¬4) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 155، الرازي 18/ 180، "زاد المسير" 4/ 259. (¬5) الطبري 13/ 21، الثعلبي 7/ 97 ب، البغوي 4/ 261، ابن عطية 8/ 29، "زاد المسير" 4/ 260، الرازي 18/ 180، القرطبي 9/ 234، "معاني الفراء" =

74

بأنهم لا يظلمون أحدًا ولا يرزأون شيئًا لأحد في سفرهم، ولا يعيثون في بستان أحد ولا زرعه، حتى يُرْوَى أنهم قد كمَّموا (¬1) أفواه إبلهم لئلا تعيث (¬2) في زرع، ومن كانت هذه صفته فهو غير قاصد لفساد. وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} وذلك أنهم لما وجدوا بضاعتهم (في رحالهم لم يستحلوا أخذها وبادروا بردها، قالوا: فلو كنا سارقين لم نردد بضاعتكم) (¬3) حين أصبناها مع أمتعتنا، ومن رد ما وجده كيف يكون سارقًا. 74 - قوله تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ} أي ما جزاء السرق إن كنتم كاذبين في قولكم: (ما كنا سارقين)، وقد سبق من الكلام ما يدل على السرق. 75 - وقوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} قال ابن عباس (¬4) والمفسرون (¬5): كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته، وكان استعباد السراق لهم يجري مجرى القطع لنا، فلذلك قالوا: جزاؤه في وُجد في رحله، أي: جزاء السَّرَق من وجد السرق في رحله {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي فالسارق جزاء السرق. ¬

_ = 2/ 51، و"معاني الزجاج" 3/ 121، و"معاني النحاس" 3/ 447. (¬1) في (أ)، (ج): (كعموا). (¬2) في (ب): (تعبث). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج) وهو في (ب). (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 326، والطبري 13/ 22، وابن المنذر عن الكلبي كما في "الدر" 4/ 51، و"تنوير المقباس" ص 152، و"زاد المسير" 4/ 260. (¬5) الطبري 13/ 22، الثعلبي 7/ 97 ب، البغوي 4/ 261، ابن عطية 8/ 30، و"زاد المسير" 4/ 51، القرطبي 9/ 234، ابن كثير 2/ 532.

قال أبو إسحاق (¬1): جزاؤه ابتداء، و (من وجد في رحله) الخبر والمعنى: حزاء السارق الإنسان الموجود في رحله المسروق، ويكون قوله {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} زيادة في الإبانة [كما تقول: جزاء السارق القطع فهو جزاؤه، فتذكر (فهو جزاؤه) زيادة في الإبانة] (¬2). قال: ويجوز أن يكون قوله: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جملة في موضع خبر الابتداء والعائد منها إلى الابتداء جزاؤه التي بعد، فهو كأنه قيل: قالوا جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو، أي: فهو الجزاء، وهو كناية عن السارق، أي فالسارق جزاؤه، ولكن الإظهار كان أحسن هاهنا لئلا (¬3) يقع في الكلام لبس، ولئلا يتوهم أن (هو) إذا (¬4) عادت ثانية فليست براجعة على الجزاء، والعرب إذا فَخَّمتْ (¬5) أمرًا جعلت العائد عليه إعادة لفظه بعينه. أنشد النحويون (¬6): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 121، وانظر: "معاني الفراء" 2/ 51، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 150، والطبري 13/ 22. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) في (أ)، (ب)، (ج): (لئن لا)، وما ذكرته في (ي) وهو في "معاني القرآن للزجاج" 3/ 121. (¬4) في (ج) "ذا" من غير ألف. (¬5) في الزجاج: "إذا أقحمت أمر الشيء". (¬6) البيت ينسب لعدي بن زيد وهو في "ديوانه" ص 65، و"الأشباه والنظائر" 8/ 30، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي / 36، ولسوادة ابنه، ولأمية بن أبي الصلت انظر: "الخزانة" 1/ 183، و"شواهد المغني" /296، و"اللسان" (نغص) 8/ 4488، وسيبويه 1/ 183، و"معاني الزجاج" 1/ 456، و"شرح شواهد المغني" ص 186.

76

لا أَرى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شِيْءٌ ... نَغّصَ المَوْتُ ذا الغِنَى والفَقِيرَا ولم يقل: يسبقه شيء. وأنشد ابن الأنباري: ليْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبًا ... كان الغُرَابُ مُقَطّعَ الأوْدَاجِ (¬1) فأظهر الغراب لعظيم شره عندهم. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} قال أبو إسحاق (¬2): أي مثل هذا الجزاء نجزي الظالمين، قِالِ ابن عباس (¬3): يريد إذا سرق واستُرق. 76 - قوله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} قال المفسرون: لما قال إخوة يوسف: {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} الآية. وأقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق، قال لهم المؤذن: إنه لابد من (تفتيش أمتعتكم (¬4) وانصرف بهم إلى) (¬5) يوسف فبدأ يوسف بأوعيتهم قبل وعاء أخيه؛ لإزالة التهمة، والأوعية (¬6) جمع الوعاء وهو كل (ما استودع شيئًا) فأحاط به، يقال: أوعيت الشيء في الوعاء أوعيه إيعاء. ¬

_ (¬1) البيت لجرير. انظر: "ديوانه" ص 73، وفيه (ينعب بالنوى) أمالي ابن الشجري 1/ 243، الطبري 1/ 440. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 121. (¬3) "تنوير المقباس" ص 152، و"زاد المسير" 4/ 260. (¬4) في (ج): (أوعيتكم). (¬5) ما بين القوسين بياض في (ب). (¬6) "اللسان" (وعى) 8/ 4876.

وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} إن شئت رددت الكناية إلى السقاية، وإن شئت إلى الصواع، على لغة من يؤنث. وإن شئت على السرقة؛ لأن فيما تقدم دليلاً عليها، قاله الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وابن الأنباري (¬3). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} قال الزجاج (¬4): موضع الكاف نصب، المعنى: مثل ذلك الكيد كدنا ليوسف. قال عطاء عن ابن عباس (¬5): يريد ألهمنا يوسف هذا الكيد، ونحوه قال الربيع (¬6). وقال قتادة (¬7): صنعنا ليوسف. وقال ابن إسحاق (¬8): كذلك كدنا له إخوته حتى ضممنا أخاه إليه. وقال مجاهد (¬9): كاد (¬10) الله له حتى فعل بأخيه ما فعل. هذا قول المفسرين في معنى قوله {كِدْنَا}، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي (¬11): الكيد التدبير بباطل أو حق، وعلى هذا معنى قوله {كِدْنَا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 52. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 122. (¬3) "زاد المسير" 4/ 261. (¬4) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 151، ولم أجده في "معاني الزجاج" 3/ 122. (¬5) الثعلبي 7/ 98 ب، و"زاد المسير" 4/ 261، القرطبي 9/ 236. (¬6) الثعلبي 7/ 98 ب. (¬7) هذا القول أخرجه الطبري 13/ 25، عن ابن جريح والسدي والضحاك، وابن أبي حاتم 4/ 230 ب عن الضحاك. (¬8) الطبري 13/ 25. (¬9) الطبري 13/ 24. (¬10) (كاد) ساقط من (ج). (¬11) "تهذيب اللغة" (كاد) 4/ 3076.

لِيُوسُفَ} أي دبرنا له بأن ألهمناه أن يجعل السقاية في رحل أخيه ليتوصل به إلى حبسه، وهذا معنى ما حكينا عن المفسرين. وقال أبو بكر (¬1): {كِدْنَا} وقع خبرًا عن الله تعالى، على خلاف معناه في أوصاف المخلوقين، فإنه إذا أخبر به عن مخلوق كان تحته احتيال. وهو في وصف فعل الله يُعرّى من المعاني المذمومة، ويخلص أنه وقع بمن يكيده ما يريد من حيث لا يشعر به، ولا يقدر على دفعه، فهو من الله مشبه بالذي يكون من المخلوقين، من أجل أن المخلوق إذا كاد المخلوق ستر عنه ما ينويه ويضمر له، والذي يقع به الكيد من الله تعالى يتستر عنه ما كتم الله عاقبته، والذي وقع بإخوة يوسف من كيد الله تعالى ما انتهى إليه شأن يوسف من ارتفاع المنزلة، وتمام النعمة، فحيث جرى الأمر على غير ما قدروا من إهلاكه، وخلوص أبيهم لهم بعده، بتدبير الله وخفي لطفه، جعل ذلك كيدًا لمَّا أشبه كيد المخلوقين (¬2) وعلى ما ذكر أبو بكر: كيد الله ليوسف عائد إلى جميع ما أعطاه على خلاف تقدير إخوته من غير أن علموا بذلك. وعلى ما ذكره المفسرون: كيد الله له في هذه الآية خاص بإلهامه الحيلة في حبس أخيه. وقولى تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} قال ابن عباس (¬3) في رواية عطاء: في حكم الملك وقضائه. وهو قول قتادة (¬4)، وروى ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 261 مختصرًا. (¬2) يراجع مبحث منهجه في تفسير آيات العقيدة، في المقدمة. (¬3) "تنوير المقباس" ص 152، و"زاد المسير" 4/ 261. (¬4) الطبري 13/ 25، وعبد الرزاق 2/ 326، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2176، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 52، والثعلبي 7/ 98 ب، وابن عطية 8/ 32، والبغوي 4/ 262.

عنه (¬1) أيضًا: في سلطان الملك، وهو اختيار ابن قتيبة (¬2). قال أبو بكر: والدين معناه في اللغة: السلطان. وأنشد قول زهير (¬3): في دِينِ عَمْرو وحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ وقال الزجاج (¬4): في سيرة الملك، وقال غيره (¬5): في عادة الملك. وأنشد (¬6): ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 25، وابن أبي حاتم 7/ 2176، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 51، والثعلبي 7/ 98 ب، والبغوي 4/ 262، وابن عطية 8/ 32، والقرطبي 9/ 238. (¬2) "مشكل القرآن وغريبه" ص 227. (¬3) عجز بيت لزهير، وصدره: لئن حللت بجوفي بني أسد من قصيدة له يخاطب بها الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد، وكان قد أغار على بني عبد الله بن غطفان فغنم واستاق إبل زهير وراعيه يسارًا، وجو: موضع في ديار بني أسد، وعمرو: هو عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء، وفدك: قرية بالحجاز وقد روي: (وحالت دوننا). انظر: "ديوانه" ص 83، الكامل 3/ 328، الأمالي 2/ 295، "تأويل مشكل القرآن" ص 453، اللسان (فدك) 6/ 3364، و"جمهرة الأمثال" 1/ 116، و"تاج العروس" (فدك)، وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" ص 688. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 122. (¬5) ذكره القرطبي 9/ 238 ونسبه إلى ابن عيسى، وانظر "تهذيب اللغة" (دين) 2/ 1136، اللسان (دين). (¬6) عجز بيت للمُثَقِّب العبدي، وصدره: تقول إذ درأت لها وضيني من قصيدة له في "المفضليات" ص 292، "ديوانه" ص 195، والبيت كما يلي: تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دأبه أبدًا وديني الكامل 1/ 329، الصناعتين ص 86 "اللسان" (درأ) 1349، الطبري 1/ 511، "تأويل مختلف الحديث" 82، "تهذيب اللغة" 2/ 1166، "تاج العروس" (درأ) 1/ 150.

أهَذَا دِينُه أَبَدًا ودَينِي قال أهل التفسير (¬1): كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطفًا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فأقروا به وكان ذلك مراده، وهو معنى قوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فكان ذلك بمشيئة الله. قال أبو إسحاق (¬2): موضع "أن" نصب، لما سقط الباء أفضى الفعل فنصب، المعنى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا بمشيئة الله. وقال أبو بكر: تأويله: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ويستوجب ضمّه إلا بمشيئة الله ذلك، وتقريبه منه ما لا يوصل إليه إلا بتسهيله وتيسيره. وروي عن الحسن (¬3) في قوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي أنه الآمر له بذلك، والمفسرون على أن ذلك كان إلهامًا. وقوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قال أهل المعاني أي (¬4) بما نريه من وجوه الصواب في بلوغ المراد، وفي هذا إشارة إلى رفع درجة يوسف. وقال أبو بكر (¬5): نرفع درجات من نشاء، بضروب عطايانا وكراماتنا وأبواب علومنا، كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كل شيء. ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 13/ 22، ابن أبي حاتم 7/ 2174، الثعلبي 7/ 98 ب، القرطبي 9/ 238، "زاد المسير" 4/ 261. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 122، وفيه: (لما سقطت) بدل: (سقط). (¬3) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 280. (¬4) (أي) ساقط من (ج). (¬5) "زاد المسير" 4/ 262.

وقوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ذكر المفسرون في هذا قولين أحدهما: أن المراد بقوله (عليم) الله تعالى، والمعنى: وفوق كل ذي علم معلّم عليم، وهو الله تعالى الغني بعلمه عن التعليم، وهذا قول ابن عباس (¬1) والحسن (¬2) وسعيد بن جبير (¬3). وروي عن سعيد أنه قال: "ذكر ابن عباس آية فقال رجل من القوم: الحمد لله وفوق كل ذي علم عليم، قال ابن عباس: بئسما قلت: الله هو العلم وهو فوق كل شيء (¬4). قال أبو بكر: وتأويل الآية على هذا: وفوق كل ذي علم اختص به وانكشف له رب العالمين الذي المِنّة له وكل العلوم منه بدأت وإليه تعود. والقول الثاني: والذي عليه أكثر المفسرين: وفوق كل ذي علم ممن رفعه الله عليم قد رفعه الله بالعلم فهو أعلم منه، وهذا قول ابن عباس (¬5) في رواية عكرمة. قال: يكون هذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى، وفي هذا إشارة إلى أن علم يوسف في ذلك الأمر كان ألطف من علم إخوته. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 27. (¬2) الطبري 13/ 27، العلبي 7/ 99 أ، ابن عطية 8/ 35. (¬3) الطبري 13/ 27. (¬4) الطبري 13/ 26، وعبد الرزاق 2/ 326 وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي هاشم 7/ 2177، وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات كما في "الدر" 4/ 52، وابن عطية 8/ 35، والقرطبي 9/ 238. (¬5) الطبري 13/ 27، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2177، وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات كما في "الدر" 4/ 52، الثعلبي 7/ 99 أ، البغوي 4/ 263، القرطبي 9/ 238.

77

قال أبو بكر: قال جماعة من أهل التفسير: إن العالم واجب عليه أن يتهم نفسه ويستشعر التواضع لربه، ولا يطمع نفسه بالغلبة على العلوم؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم يفوقه. 77 - قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ} الآية، قال الكلبي وغيره من المفسرين (1): لما خُرِّج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤوسهم، وقالوا: ما رأينا كاليوم قط ولدت راحيل أخوين لصّين، فقال لهم أخوهم: والله ما سرقته ولا علم لي بمن وضعه في متاعي، وقيل إنه قال لهم: إن الذي وضع بضاعتكم في رحالكم هو الذي وضع السرقة في رحلي. والمفسرون مختلفون في أن يوسف هل كان أخبر أخاه بالكيد الذي يريد أن يكيده في حبسه عنده، فمنهم من يقول: كان قد أخبره بذلك، ومنهم من يقول: لم يخبره، وهذا معنى قوله {قَالُوا} أي: الإخوة ليوسف إن يسرق أي الصواع فقد سرق أخ له من قبل. قال عطاء عن ابن عباس (2): يريدون يوسف، وكان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرًّا منهم فيتصدق به في المجاعة حتى فطن به إخوته، ونحو هذا قال وهب (3) في معنى السرق الذي وصفوا به يوسف، ومقاتل: عن الضحاك (4) عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير (5) وقتادة (6) سرق صنمًا كان لجده أبي أمه

_ (1) الثعلبي 7/ 99 أ، الرازي 18/ 183. (2) "زاد المسير" 4/ 263. (3) الثعلبي 7/ 99 ب، البغوي 4/ 263. (4) "تفسير مقاتل" 156 ب. (5) و (6) الطبري 13/ 29، الثعلبي 7/ 99 أ، البغوي 4/ 263، ابن عطية 8/ 37، "زاد المسير" 4/ 263، القرطبي 9/ 239.

وكسره وألقاه على الطريق. وقال محمد بن إسحاق (¬1) ومجاهد (¬2): إن جدته خبأت في ثيابه منطقة كانت لإسحاق يتوارثونها بالكبر لتملكه بالسرق محبة لمقامه عندها. قال ابن الأنباري (¬3): وهو في هذه (كلها غير سارق في الحقيقة لكنه أتى) (¬4) ما يشبه السرق، فوصفه إخوته بذلك عند الغضب على جهة التشبيه والتمثيل، [وقد يوصف بالشيء على جهة التمثيل] (¬5)، ولا يراد به الحقيقة، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كذب إبراهيم ثلاث كذبات" (¬6). تأويله: قال قولًا يشبه الكذب في الظاهر، وهو صدق عند البحث. وقوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} قال الفراء (¬7): أسر الكلمة أي: أضمرها في نفسه ولم يظهرها. قال ابن الأنباري (¬8): والكلمة التي أسرها في نفسه: أنتم شرٌّ مكانًا، وزاد من عنده: فأسرّ جوابَ الكلمة التي تكلّموا بها، وتلخيصه وأمرّ جوابها في نفسه فحذف المضاف. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن إسحاق عن مجاهد كما في "الدر" 4/ 53، وانظر: البغوي 4/ 263. (¬2) الطبري 13/ 29، وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 53، الثعلبي 7/ 99 ب، و"زاد المسير" 4/ 263، القرطبي 9/ 239. (¬3) "زاد المسير" 4/ 263. (¬4) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ي). (¬6) أخرجه البخاري (3257)، (3358) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، أخرجه مسلم (3269) في: كتاب الفضائل، باب: فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 52. (¬8) "زاد المسير" 4/ 264.

وقال أبو إسحاق (¬1): الكناية في "فأسرها" إضمار على شريطة التفسير لأن [قوله] (¬2) (قال أنتم شر مكانًا) [بدل من الكناية في (فأسرها) المعنى: فأسر يوسف في نفسه قوله أنتم شرٌّ مكانًا] (¬3). قال أبو علي (¬4) فيما استدرك عليه: اعلم أن الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين: أحدهما: أن يفسر بمفرد كقولنا: نعم رجلاً زيد، ففي نعم ضمير فاعلها ورجلًا المنصوب تفسير لذلك الفاعل المضمر، وأضمر الفاعل لتفسير هذا المذكور له ودلالته عليه، ومثل هذا قولهم: ربه رجلاً، فرجل تفسير المضمر في رب كما كان تفسير المضمر في نعم، فهذان مفردان مضمران على شريطة التفسير، مفسران بمظهرين منكورين ولم يعلم غيرهما، هذا كلامه هاهنا، وقد قال في "الإيضاح": وقالوا: ربه رجلاً، فأضمروا معه قبل الذكر على شريطة التفسير، كما فعلوا ذلك في: نعم رجلاً، وإنما أدخلت رُبَّ على هذا الضمير، وهي إنما تدخل على النكرات من أجل أن هذا الضمير ليس بمقصود قصده، فلما كان غير معين أشبه النكرة، وهذه الهاء على لفظ واحد، وان وليها المذكر أو الاثنان أو الجماعة فهي موحدة، على كل حال رجعنا في كلامه إلى هذه المسألة. قال: والآخر أن يفسر بجملة، وأصل هذا يقع بالابتداء كقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 123. (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (خ) وهو في (ب). (¬4) "الإغفال" 2/ 897.

[لإخلاص: 1] المعنى القصة (¬1) الذين كفروا شاخصة، والأمر الله أحد، ثم تدخل عوامل المبتدأ عليه نحو كان وأن، فينتقل هذا المضمر من الابتداء به كما ينتقل سائر المتبدآت كقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74]، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] وتفسير المضمر على شريطة التفسير في كلا الموضعين [متصل بالجملة التي فيها الإضمار المشروط تفسيره متعلق بها، وليس يكون في أحد الموضعين] (¬2) خارجًا عن الجملة المتضمنة للمضمر الذي يشرط تفسيره، أما في المبتدأ وما دخل عليه فهو في موضع الخبر كما أريتك، وأما في الضرب الذي هو المفرد فمتعلق بما عمل في الاسم المضمر المفرد، ألا ترى أن (رجلا) في قولك: نعم رجلاً منتصب عن الفعل والفاعل، وإذا كان كذلك قد تبين لك أن المضمر على شريطة التفسير لا يكون إلا متعلقًا بالجملة الذي تتضمن (¬3)، ولا يكون منقطعًا عنها ولا متعلقًا بجملة غيرها. وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالذي ذكره أبو إسحاق (¬4) في الآية: أنه إضمار على [شريطة التفسير] (¬5)، لا يستقيم لانفصال التفسير عن الجملة التي فيها الضمير الذي زعم أنه إضمار على شريطة التفسير، ووقوعها بعد جمل بعدها وانقطاعها منه، وهذا بين الفساد؛ لأنه لا نظير له ولا نجد شاهدًا عليه إلا دعوى لا دلالة معها، ألا ترى أن تفسير المضمر على ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ وفي "الإغفال": "القصة أبصار الذين كفروا" 2/ 897. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب)، (ج) وهو في (ي). (¬3) في "الإغفال": "التي تتضمن المضمر" 2/ 899. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 123. (¬5) ما بين المعقوفين من (ي).

شريطة التفسير ضربان: إما جملة تفسر مفردًا نحو: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} وإما مفرد يفسر مفردًا من جملة [نحو: نعم رجلاً، وأما جملة تفسر مفردًا من جملة] (¬1)، فليس في القسمة ولا في الوجود، وإذا كان كذلك فلا اتجاه لهذا التأويل في الآية، فإن قلت: فعلام يحمل هذا الضمير في أسرها؟ قلنا يحتمل أن يكون إضمارًا للإجابة، كأنهم لما قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} أسر يوسف إجابتهم في نفسه في الوقت {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} في الحال إلى وقت ثان، وجاز إضمار ذلك؛ لأنه قد دل على إضمارها ما تقدم من مقالتهم، ويجوز أيضًا أن يكون إضمارًا للمقالة كأنه أسر يوسف مقالتهم، والمقالة والقول واحد في المعنى. فإن قلت: كيف يسر هو مقالتهم؟ قيل: ليس معنى المقالة اللفظ، ولكن المعنى المقول، فيكون المصدر عبارة عن المقول، كما يقول (¬2) في الخلق، وضَرْب الأمير، ونَسْج اليمن، ومعنى أسرها: أوعاها ولم يطرحها وأكنها في نفسه، إرادة للتوبيخ عليها والمجازاة بها ونحو ذلك، فعلى هذا توجيه هذا الضمير لفساد ما ذكره أبو إسحاق عندنا (¬3)، انتهى كلامه. وقوله تعالى: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} هذا يدل على صحة ما ذكره أبو علي؛ لأنه كيف يصح أن يقول أسَرّ يوسف هذه الكلمة، وقد أخبر الله تعالى أنه قد قال ذلك، إلا أن يحمل على أنه قال ذلك في نفسه من غير إظهار، وفي ذلك عدول عن الظاهر. قال عطاء عن ابن عباس (¬4): يريد: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج)، وهو في (ب). (¬2) في "الإغفال" 2/ 904، "يكون الخلق عبارة عن المخلوق". (¬3) إلى هنا انتهى النقل عن "الإغفال" 2/ 904 بتصرف واختصار. (¬4) "زاد المسير" 4/ 264، القرطبي 9/ 240.

78

"أنتم شر" فعلاً، طرحتم أخاكم في الجب (¬1) وزعمتم (¬2) لأبيكم أن الذئب قتله وأنتم كاذبون، ثم بعتموه بعشرين درهما، وهذا الذي ذكره ابن عباس يتضمنه قوله: (أنتم شر مكانا) لا أنه واجه إخوته بكل هذا، وروى الضحاك عنه (¬3) في قوله (أنتم شر مكانا) قال: شر صنيعا لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم. وقال أهل المعاني (¬4): أنتم شر منزلًا عند الله ممن رميتموه بالسرقة لأنكم سرقتم من أبيكم أخاكم. قوله تعالى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬5): أراد أن سرقة يوسف كانت لله رضا، ويروى عنه (¬6)، وهو قول الحسن (¬7) وقتادة (¬8): (والله أعلم بما تصفون) أنه كذب. وقال أبو إسحاق (¬9): أي الله يعلم أسرق أخ له أم لا. 78 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} أي في السنن ويجوز أن يكون بمعنى: كبير القدر، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} قال ¬

_ (¬1) (الجب): زيادة من (ي). (¬2) في (ج): (وزعمكم). (¬3) "زاد المسير" 4/ 260. (¬4) ذكر هذا القول الثعلبي 7/ 100 أ، والطبري 16/ 200. (¬5) القرطبي 9/ 240، وانظر: الرازى 18/ 185. (¬6) القرطبي 9/ 240، وانظر: الرازى 4/ 264. (¬7) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 280. (¬8) الطبري 16/ 200 الثعلبي 7/ 100، "زاد المسير" 4/ 264. (¬9) "معانىِ القرآن وإعرابه " 3/ 123.

79

ابن عباس (1) والحسن (2): خذ واحداً منا تستعبده بدله. {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس (3) وابن إسحاق (4): إنك إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا وفعلت بنا كل خير، قال أبو بكر: تلخيصه: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إلينا إن رددت أخانا علينا، وقبلت منا واحداً مكانه، وقال أبو إسحاق (5): طالبوه بأن يحسن؛ لأنه كان أعطاهم الطعام ورد إليهم بضاعتهم، قال أبو بكر: والتأويل على هذا القول {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إلينا في توفيرك علينا الطعام ومسامحتك إيانا في الأثمان. 79 - قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} أي اعتصامًا بالله، وقال الزجاج (6): المعنى أعوذ بالله معاذًا، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في أول السورة. وقوله تعالى: {أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} أي: أستجير بالله من أن آخذ برئيًا بسقيم، وموضع (أن) نصب، والمعنى (7): أعوذ بالله من أخذ أحدٍ، فلما سقطت (من) أفضى الفعل إلى المفعول فنصب. قاله: أبو إسحاق (8).

_ (1) و (2) انظر: الطبري 13/ 31، و"زاد المسير"4/ 265، القرطبي 9/ 240، ابن كثير 2/ 533. (3) "تنوير المقباس" 152. (4) الطبري 13/ 31، الثعلبي 7/ 101 أ. (5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 124. (6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 123. (7) في (ج): "المعنى" من غير واو. (8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 124.

80

وقوله تعالىِ: {إنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} قال ابن عباس: يريد لقد تعديتُ وظلمتُ إن استعبدت غير الذي سرقني. 80 - قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} وروي عن ابن كثير: استايسوا (¬1)، و (حتى إذا استايس (¬2) الرسل) بغير همز (¬3)، ويئس واستايس (¬4) واحد، مثل: عجيب واستعجب، وسخر واستسخر، وفي يئس لغتان: يئس وييئس مثل حسب يحسب ويحسب، ومن قال: استايس، قلب العين إلى موضع الفاء فصار استفعل، ولفظه: استأئس، ثم خفف الهمزة وأبدلها الفاء مثل: راس وفاس، وقد قلب هذا الحرف في غير هذا الموضع فقالوا: يئس يائس، وهو مقلوب من: يئس ييئس، وهو الأصل بذلك على ذلك، أن المصدر لا نعلمه جاء إلا على تقديم الياء، فأما قولهم: لا يأس، فليس مصدر آس، ولو كان كذلك لكان من باب جذب وجبذ، في أن كل واحد منهما أصل على حدة، وليس أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، ولكن: أياسًا مصدر أُسُّهُ آوُسَهُ أوسًا وإياسًا إذا أعطيتهُ، والإياس مثل القيام والعياذ (¬5)، وإنما سمي الرجل باياس وَآوس، كما يُسَمى بعطاء وعطية، ومن ذلك قول الجعدي (¬6): وكانَ الإله هو المستآسا ¬

_ (¬1) في (ج): (استياسوا). (¬2) في (ج): (استياس). (¬3) روى خلف والهيثم عن عُبيدة عن شبل عن ابن كثير بغير همز، والباقون بالهمز بين الباء والسين، انظر: السبعة ص350، "إتحاف" ص 266. (¬4) في (ج): (واستياس). (¬5) في "الحجة" 4/ 434: "مثل القياس والقياد". (¬6) عجز بيت للجعدي، وصدره: ثلاثة أهلية أفنيتهم والمستآس: المستعاض. انظر: شعره: 78 , و"اللسان" (أوس) 1/ 170، و"التنبيه =

وهو مستفعل من العطاء، أي: يُسأل أن يعطى، هذا قول أبي علي الفارسي (¬1). وقال غيره: آيس لغة في: يئس وآيسته، أي: أيأسته، وهو اليأس والإياس. قال ابن عباس (¬2): يريد يئسوا أن يخلى سبيله معهم. وقوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا} يقال: خلص الشيء خلوصًا، إذا ذهب عنه الشائب من غيره، ومعنى خلصوا هاهنا: انفردوا من غير أن يكون معهم من ليس منهم، والنجي صفة فعيل بمعنى المناجي، يقع على الكثير كالصديق والرفيق والحميم، ومثله: العري والنجوى مصدر ثم يوصف بهما، فيستوي فيهما الواحد والجمع والمؤنث والمذكر، قال الله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] فوصف به الواحد، وقال في الجمع: {خَلَصُوا نَجِيًّا}، وقال {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 52] فجعله جمعًا، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة: 7]. والنجوى: الرجال المتناجون هاهنا، وقال في المصدر: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] يقال: نجوت فلانًا أنجوه نجوى، إذا ناجيته، هذا الذي ذكرنا قول جميع أهل اللغة (¬3) وأنشدوا (¬4): ¬

_ - والإيضاح" 2/ 259، كتاب العين 7/ 330 و"مقاييس اللغة" 1/ 150، 156، و"تهذيب اللغة" 1/ 230، و"مجمل اللغة" 1/ 107، و"أساس البلاغة" (أوس)، و"تاج العروس" (أوس) 8/ 194، و"الشعر والشعراء" ص 180. (¬1) "الحجة" 4/ 433 - 435 بتصرف. (¬2) انظر: "زاد المسير" 4/ 266، القرطبي 9/ 241. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (نجا) 4/ 3510، و"اللسان" (نجا) 7/ 4361. (¬4) للصلتان العبدي، من وصيته المشهورة لابنه. =

بُنَيّ بدا خَبُّ نَجْوى الرجالِ ... فكُنْ عند سِرّك خَبَّ النَّجِي والبيت للصلتان العبدي (¬1)، والنجوى فيه مصدر، والنجي صفة، يقول: بدا غش مناجاة الرجال فكن غاشًّا بنجيك الذي تناجيه، أي: لا تطلعه على سرك، ويجمع على أنجية، ومنه قول لبيد (¬2): وشَهِدْتُ أنْجِيةَ الأفاقةِ عاليًا ... كَعْبي وأرْدَافُ الملوك شُهُودُ ويجمع النبي أيضًا أنجيا، وأما تفسير {خَلَصُوا نَجِيًّا} فقال أبو إسحاق (¬3): انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أن يرجعوا بأخيهم إليه، وقال ابن قتيبة (¬4): اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم يتناجون ويتناظرون، وقال الأزهري (¬5): تميزوا عن (¬6) ¬

_ = انظر: "الحماسة" 3/ 112، و"الشعر والشعراء" ص 333، "الخزانة" 1/ 308، والطبري 13/ 33، والخب (بكسر الخاء): المكر، والخب (بفتحها): المكار. (¬1) وهو قثم بن خبية العبدي من بني محارب بن عمرو، من بني عبد القبس، شاعر حكيم، وله قصيدة في الحكم بين جرير والفرزدق، فضل فيها شعر جرير وقوم الفرزدق، توفي سنة 80 هـ، انظر: "الشعر والشعراء" ص 331، و"الأعلام" 5/ 190. (¬2) انظر: "ديوانه" ص 47، وابن عطية 8/ 43، و"البحر المحيط" 5/ 335، و"الدر المصون" 6/ 539، و"مجاز القرآن" 1/ 315، والطبري 13/ 33، و"اللسان" (ردف) 3/ 1626، و"تهذيب اللغة" 1/ 173، و"تاج العروس" (أفق) 13/ 8. من أبيات يقولها لابنته بسرة يذكر طول عمره، والأفاقة: اسم موضع حيث كان اليوم المشهود بين لبيد، والربيع بن زياد العبسي، وأرداف الملوك: من الردف وهو الذي يكون مع الملك وينوب عنه إذا قام من مجلسه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 124. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" ص 227. (¬5) "تهذيب اللغة" (خلص) 1/ 1082. (¬6) في (ج): (على).

الناس يتناجون فيما أهمهم، فأبو إسحاق حمل الخلوص على أنهم خلصوا وانفردوا من أخيهم في المناجاة، ونحوه قال ابن الأنباري، وغيرهما: يحمله على اعتزالهم عن غيرهم من الناس وهو الظاهر. وقوله تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} قال عطاء عن ابن عباس (¬1): يعني يهوذا وكان أعقلهم، وهو قول وهب (¬2) والكلبي (¬3) ومقاتل بن سليمان (¬4): لم يكن أكبرهم في السن لكنه كان أكبرهم في صحة الرأي. وقال مجاهد (¬5): شمعون، وكان أكبرهم في العلم والعقل لا في السن. وقال قتادة (¬6) والسدي (¬7) والضحاك (¬8) وكعب (¬9): هو روبيل وكان أكبرهم سنًّا، وهذا هو الظاهر (¬10). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 266، البغوي 4/ 265. (¬2) الثعلبي 7/ 101 ب. (¬3) البغوي 4/ 265، الثعلبي 7/ 101 ب، القرطبي 9/ 241. (¬4) "تفسير مقاتل" 156 ب. (¬5) الطبري 13/ 34، البغوي 4/ 265، الثعلبي 7/ 101 ب، القرطبي 9/ 241. (¬6) الطبري 13/ 34، البغوي 4/ 265، الثعلبي 7/ 101 ب. (¬7) الطبري 13/ 34، البغوي 4/ 265، الثعلبي 7/ 101 ب. (¬8) البغوي 4/ 265، الثعلبي 7/ 101 ب. (¬9) الثعلبى 7/ 101 ب. (¬10) قلت: وقد رجح هذا القول الطبري 13/ 34، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عني بقوله {قَالَ كَبِيرُهُمْ} روبيل، لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنًا، ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم: "فلان كبير القوم" مطلقًا بغير وصل، إلا أحد معنيين، إما في الرئاسة عليهم والسؤدد وإما في السنن وإما في العقل، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه فقالوا: "وهو كبيرهم في العاقل" =

[وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ] (¬1) مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} أي في حفظكم الأخ ورده إلى أبيه، وذكرنا الكلام في قوله: {مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} (¬2). وقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ} وذكر الفراء (¬3) والزجاج (¬4) وابن الأنباري في "ما" ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المعنى ومن قبل تفريطكم في يوسف أي: وقع وظهر تفريطكم، فـ"ما" يكون موضعها رفعًا، وتكون مع الفعل بمنزلة المصدر. الثاني: أن يكون "ما" في موضع نصب نسق على المعنى: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ}، ومن قبل تفريطكم في يوسف. الثالث: أن تكون لغوًا لا موضع لها من الإعراب، وتلخيصها: ومن قبل فرطتم في يوسف (¬5)، وذكرنا معنى التفريط في قوله: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (¬6). ¬

_ = فأما إذا أطلق بغير صلته بذلك فلا يفهم إلا ما ذكرت، وقد قال أهل التأويل: لم يكن لشمعون على إخوته رياسة وسؤدد، فيعلم بذلك أنه عني بقوله {قَالَ كَبِيرُهُمْ} فإذا كان ذلك كذلك، فلم يبق إلا الوجه الآخر وهو الكبر في السن، وقد قال الذين ذكرنا جميعًا: "روبيل كان أكبر القوم سنًا" فصح بذلك القول الذي اخترناه. اهـ" واستظهر هذا القول ابن عطية 8/ 43. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من ب. (¬2) عند قوله تعالى: {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} 67. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 53. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 124. (¬5) قال الزجاج وهو أجود الأوجه. "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 124. (¬6) الأنعام: 61، وقد قال هنالك: (ومعني التفريط: تقدمة العجز) تفسير البسيط، تحقيق: د. الفايز ص 260.

81

وقوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} يقال: برح الرجل براحًا وبروحًا، إذا رام من موضعه، ذكره الفراء (¬1) في المصادر، وأراد الأرض (¬2) موضعه ذلك في قول ابن عباس (¬3)، وقال الزجاج (¬4): يريد أرض مصر، وإلا فالناس كلهم على الأرض. وقوله تعالى: {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} قال ابن عباس (¬5): حتى يبعث إلى أبى أن آتيه. وقوله تعالى: {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} قال: يريد أو يقضي في أمري شيئًا، وقال غيره: أو يحكم الله لي لمحاربة (¬6) أو غيرها مما أراد به أخي على أبيه فاحارب مَن حبسه، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}: أعدلهم وأفضلهم. 81 - قوله تعالى: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} يقوله الأخ المحتبس بمصر لأخوته: {فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} ذكر ابن الأنباري في هذا وجهين: أحدهما: أن معناه سرق عند الملك، وفيما يقدره الملك وحاضروه، فأما في تقديرنا وما نعلمه من أمره فلا، ومثل هذا كثير كقوله: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي: عند نفسك، و {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] أي: عند نفسك، فأما عندنا فلا، قال: وقد قال بعض الناس: تأويله أن ابنك فعل فعلًا يشبه السرق، فسُمي بما يشبه فعله ¬

_ (¬1) كتاب المصادر مفقود. (¬2) في (ب): (بالأرض). (¬3) "تنوير المقباس" ص 153 (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 125. (¬5) "زاد المسير" 4/ 267. (¬6) في (ج): (كمحاربة).

على المجاز، قال: والأول هو الأثبت، لموافقته مذاهب العرب، ومشاكلته ألفاظًا من القرآن، وأكثر المفسرين على أنهم ما عرفوا حقيقة الحال فنسبوا إليه السرق، على ما رأوه من ظاهر الأمر، ولهذا قالوا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}، قال ابن عباس (¬1): يريد بما ظهر. قال ابن إسحاق (¬2): معناه: ما قلنا أنه سرق إلا بما علمنا؛ لأنه وجدت السرقة في رحله ونحن ننظر. قال أبو علي الفارسي (¬3): شهد الذي يراد به علم هو ضرب من العلم مخصوص، وكل شهادة علم، وليس كل علم شهادة، ومما يدل على اختصاصه أنه لو قال عند الحاكم: أعلم أن لزيد على عمرو عشرة، لم يحكم به حتى يقول: أشهد، فالشهادة مثل التيقن في أنه ضرب من العلم مخصوص، فليس كل علم تيقنًا، وإن كان كل تيقن علمًا. وذكرنا حقيقة التيقن عند قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (¬4) فمعنى أشهد على كذا: أعلمه علمًا بحصري، وقد تذلل لي التوقف عنه ولا أثبت لوضوحه عندي، ويدل على أن الشهادة يراد بها المعنى الزائد على العلم قوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} وليس يتجه حمله على هذا، فعلم أن معناه ما ذكرناه، وشهد في هذا الوجه يتعدَّى بحرف جر، فتارةً يكون بالباء ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 267. (¬2) الطبري 13/ 36، الثعلبي 7/ 102 أ. (¬3) "الحجة" 6/ 143، 144، وانظر: 1/ 256 - 264. (¬4) الأنعام: 75 وخلاصة ما ذكره هنالك ما نقله عن أبي علي الفارسي "أن التيقن: ضرب من العلم مخصوص فكل علم ليس تيقنًا، وإن كل تيقن علمًا. لأن التيقن هو العلم الذي قد كان عرضر لعالمه إشكال فيه" تفسير البسيط، تحقيق: د. الفايز، ص 292.

كهذه الآية، وكقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86]،، وأخرى يكون بعلى كقوله: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]. وقوله تعالى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} [فصلت: 20]. وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قال ابن عباس (¬1): لم نعلم ما كان يصنع في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، وتلخيص هذا القول (¬2) أنهم قالوا: ما كنا لغيب ابنك حافظين، أي: كنا نحفظه في محضره، فإذا غاب عنا في الأحوال التي ينفرد فيها، استترت عنا أموره وخفيت علينا حالاته. وقال مجاهد (¬3) وقتادة (¬4) والحسن (¬5): ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به، وإنما ضمنا حفظه مما لنا إلى حفظه منه سبيل. وقال ابن كيسان (¬6): لم نعلم أنك تُصاب به كما أصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم نحرق قلبك ولم نذهب به. وقال عطاء فيما رواه عن ابن عباس: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لعله قد غاب عنا أمر ليس هو كما ظهر، وشرح هذا ما ذكره عكرمة (¬7) ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 102 أ، البغوي 4/ 266، القرطبي 9/ 245. (¬2) ذكره في "زاد المسير" 4/ 268 عن ابن الأنباري. (¬3) الطبري 13/ 36، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 55. (¬4) الطبري 13/ 36، وعبد الرزاق 2/ 327، وابن أبي حاتم 7/ 2123 وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 55. (¬5) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 282. (¬6) "زاد المسير" 4/ 268، الثعلبي 7/ 102 ب. (¬7) الثعلبي 7/ 102 ب.

82

وابن إسحاق (¬1). قال عكرمة: لعلها دُسّت بالليل في رحله. قال ابن إسحاق: معناه قد أخذت السرقة من رحله ونحن ننظر ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه. وقال أهل المعاني: معنى الآية: أنه يقول لإخوته {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} واشرحوا له كيف كانت الحال. 82 - وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} قال ابن عباس (¬2): يريد أهل مصر، وهذا قول عامة المفسرين وأهل التأويل (¬3) أن المراد: واسأل أهل القرية، فحذف المضاف للإيجاز من غير إخلال، وقد تقدم لهذا شواهد كثيرة ونظائر عدة من الكتاب. قال أبو علي (¬4): ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضرورات، وجاحد المحسوسات في غير اللغة، وإثبات الكتاب في هذا المعنى لاشتهارها يستغنى عن ذكرها، وأنشد أبو زيد والكوفيون (¬5): ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 102 ب، و"زاد المسير" 4/ 268، والطبري 13/ 36. (¬2) الطبري 13/ 37. (¬3) انظر: الطبري 13/ 37، البغوي 4/ 267، القرطبي 9/ 246، "الدر المصون" 6/ 544، الزاهر 1/ 284، الرازي 18/ 190. (¬4) "الإغفال" 2/ 810، وانظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 24، الرازي 18/ 190. (¬5) الشاهد لذي الخرق الطهوي. انظر: "نوادر أبي زيد" 116، و"مجالس ثعلب" 76، و"اللسان" (بغم) 1/ 320، و"تذكرة النحاة" 18، و"تاج العروس" (بغم)، وبلا نسبة في "الإنصاف" ص 316، و"معاني القرآن" 1/ 62، 2/ 124، و"اللسان" (ويب) 8/ 4937، و"الإغفال" 2/ 810.

حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا ... وما هِيَ وْيبَ غَيْركِ بالعَنَاقِ أي: بغام عناق. وقد اتسع هذا في كلام، حتى إن الشعراء قد أقاموا المضاف في بعض ما يدخله الناس، من ذلك أنشده النحويون: يَحْمِلْنَ عَبَّاسَ بنَ عَبْدَ المُطَّلِبْ (¬1) يريد ابن عباس، وقول آخر (¬2): أرَى الخُطَفيَّ بزَّ الفَرَزْدَقَ شِعْرَه ... ولَكِن خَيْرًا من كُليبٍ مُجَاشِعُ أراد جرير بن الخطفي. ومثله كثير، فإذا جاز إقامة المضاف مقام المضاف إليه في هذا النحو مع أن (¬3) الإشكال قد يدخل في بعض الأحوال على كثير من السامعين، كان في غير هذا أجدر وأجود. وذكر أبو بكر (¬4) في هذا وجهًا آخر وهو: أن يكون المعنى واسأل القرية والعير فإنها تعقل عنك، وتجيبك الجدران والبعران والأبنية والأخبية والعروش والسقوف، إذ كنت نبيًّا يخصك إلهك بالآيات المعجزات، وعلى هذا الآية سليمة من الإضمار والمجاز. ¬

_ (¬1) الرجز بلا نسبة في اللسان (نفس) 7/ 446، (وصى) 8/ 4854، و"جمهرة اللغة" 1328 وقبله: صبّحن من كاظمة الحصين الخرب (¬2) البيت للصلتان العبدي من قصيدة يحكم فيها بين جرير والفرزدق، و"خزانة الأدب" 4/ 372، وفيه (كلاب) بدل (كليب)، و (بذّ) بدل (بزّ). (¬3) في (أ): (مع الإشكال من غير أن). (¬4) "زاد المسير" 4/ 268 و"الدر المصون" 6/ 544.

83

وابن عباس (¬1) والحسن (¬2) وقتادة (¬3): على أن المراد بالقرية مصر، وروى الكلبي عنه (¬4) قال: هي قرية من قرى مصر. وقوله تعالى: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}، قال ابن عباس (¬5): يريد أهل الرفقة التي كنا فيها: أي التي امتاروا معنا، قال المفسرون (¬6): وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين. قال ابن إسحاق (¬7): عرف الأخ المحتبس أن إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما كان من صنيعهم في أمر يوسف، فأمرهم أن يقولوا لأبيهم هذا نفيًا للظنة (¬8) عنهم. 83 - قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} مضى الكلام في هذا أول السورة (¬9)، قال ابن عباس في هذه الآية: لما قدموا على أبيهم وأخبروه اشتد حزنه فقال: يا بني تذهبون وأنتم اثنا عشر وترجعون وأنتم أحد عشر، ثم تذهبون أحد عشر وترجعون عشرة، ثم تذهبون عشرة وترجعون تسعة، سبحان الله كيف هذا؟ ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 37، ابن عطية 8/ 46. (¬2) البغوي 4/ 267، الرازي 18/ 190، القرطبي 9/ 246 من غير نسبة. (¬3) الطبري13/ 37، وابن أبي حاتم 7/ 2183، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 55. (¬4) الثعلبي 7/ 102 ب، البغوي 4/ 267. (¬5) قال به الطبري 13/ 37، والثعلبي 7/ 102 ب، و"زاد المسير" 4/ 268. (¬6) الثعلبي 7/ 102 ب. (¬7) الطبري 3/ 37، الثعلبي 7/ 102 ب، البغوي 4/ 267. (¬8) في (ب): (اللظعنة). (¬9) (السورة) ساقط من (أ)، (ب)، (ج)، وقد سبق الحديث عنها عند قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} 18.

ثم قال: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}، قال المفسرون (¬1) وأهل المعاني: هاهنا إيجاز وإضمار، والمعنى: فرجعوا فقالوا ليعقوب ما لَقَّنهم يهوذا، فقال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}، قال ابن الأنباري (¬2): لم ينسبهم يعقوب في هذا إلى الكذب والاحتيال كما نسبهم في أمر يوسف حين قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} في ابتداء السورة لكنه عني {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر، تقديرًا لمنفعة، فعاد من ذلك شر وضرر، وألححتم عليّ في إرساله معكم، ولم تعلموا أن قضاء الله ربما يأتي من فوقكم ويقبض على يدكم. وقال غيره (¬3): معنى قوله هاهنا {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} خيلت لكم أنه سرق وما سرق، ومعنى قول ابن عباس: تذهبون وأنتم اثنا (¬4) عشر، يعني حين ذهبوا بيوسف معهم وألقوه في الجب، ورجعوا أحد عشر، ثم ذهبوا أحد عشر حين أرسل معهم بنيامين إلى مصر، فعادوا تسعة؛ لأن بنيامين حبسه يوسف عنده، واحتبس بمصر الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} فعادوا تسعة. وقوله تعالى: {عَسَى الله أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يعني يوسف وبنيامين، والذي قال: فلن أبرح الأرض. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 37 - 38، الثعلبي 7/ 102 ب، البغوي 4/ 267، "زاد المسير" 4/ 269،الرازي 18/ 190. (¬2) "زاد المسير" 4/ 269. (¬3) ذكره في "زاد المسير" 4/ 269. (¬4) في (ج): (اثنى عشر).

84

وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} قال ابن عباس (¬1): بشدة حزني {الْحَكِيمُ} فيما حكم عليّ بهذا الحزن وعظم المصيبة بابن بعد ابن. وقال غيره: {الْعَلِيمُ} بصدق ما يقولونه من كذبه، {الْحَكِيمُ} في تدبيره لخلقه. 84 - قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} قال المفسرون (¬2): لما بلغ يعقوب خبر حبس بنيامين، تتام حزنه، وبلغ الجهد، وهاج ذلك وجده بيوسف؛ لأنه كان يتسلى بأخيه منه، فعند ذلك تولى عنهم. قال ابن عباس (¬3) وغيره: أعرض عنهم. {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، الأسف: الحزن على ما فات، قال الليث (¬4): إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت آسف، أي: حزين ومتأسف أيضاً، قال الزجاج (¬5): والأصل يا أسفي، إلا أن ياء الإضافة يجوز أن تبدل ألفاً، لخفة الألف والفتحة، ومضى الكلام في هذا وفي نداء غير ما يعقل، ومعنى ذلك في مواضع. وقوله تعالى: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} مما يدل على تجدد وجده بيوسف لفقد بنيامين (¬6)، وكذلك الحزن يجر الحزن ونكاء القرح بالقرح أوجع، وقد قال متمم بن نويرة (¬7): ¬

_ (¬1) ذكره في "زاد المسير" 4/ 269 من غير نسبة. (¬2) الثعلبي 7/ 102 ب، القرطبي 9/ 247، البغوي 4/ 267. (¬3) ذكره الثعلبي 7/ 102 ب، البغوي 267، "زاد المسير" 4/ 269. (¬4) "تهذيب اللغة" (أسف) 1/ 161، و"اللسان" (أسف) 1/ 79. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 125. (¬6) في (ب): (ابن يامين). (¬7) هو متمم بن نويرة بن جمرة بن ثعلبة بن يربوع أبو نهشل، صحابي، شاعر فحل، اشتهر في الجاهلية والإسلام، أشهر شعره رثاؤه لأخيه مالك، توفي سنة 30هـ، =

فقال أتبكى كلَّ قَبْرٍ رَأيْتَه ... لقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللّوَى والدَّكَادِك فقلتُ له إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى .... فَدَعْني (¬1) فهذا كله قَبْرُ مَالِكِ وذلك أنه رأى قبرًا فتجدد حزنه على أخيه مالك، وليم على ذلك، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى، عامة أهل العلم (¬2): على أن قول يعقوب عليه السلام: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} ليس منه جزعًا مذمومًا يوجب الإثم؛ لأن الحزن مع حفظ اللسان من الشكوى من الله تعالى كاسب أجرًا وموجب مثوبة، يدل على هذا ما روي (¬3): أن يوسف قال لجبريل: هل لك علم بيعقوب، قال: نعم، قال: فكيف حزنه، قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له في ذلك من أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد. قال ابن عباس (¬4) في قوله: {يَا أَسَفَى}: يا طول حزني على يوسف. قال الحسن (¬5): كان بين خروج يوسف من حجر يعقوب إلى يوم التقى معه ثمانون عامًا، لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. ¬

_ = انظر: "الشعر والشعراء" ص 209، والبيتان في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 2/ 797، الحماسية (265) وفيها: (وقالوا أتبكي ..). (¬1)) (فدعني) ساقط من (ج). (¬2) القرطبي 9/ 249، و"زاد المسير" 4/ 270، ابن عطية 8/ 50، الرازي 18/ 193. (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري 13/ 46 بسنده إلى ليث بن أبي سليم في هذه وغيره بأسانيد مختلفة، الطبري 13/ 46 - 48. وأخرجه ابن أبي شيبة عن خلف بن حوشب، وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2186، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه كما في "الدر" 4/ 56. (¬4) الطبري 3883، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2185، وانظر. "الدر" 4/ 56. (¬5) الطبري 13/ 48 وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 56.

وقال قتادة (¬1): يا حزني على يوسف، وقال مجاهد (¬2): يا جزعى على يوسف، قال أبو بكر: فمن بني على هذا المذهب، وجعل الأسف جزعًا وضدًا للصبر، زعم أن هذا خطيئة من يعقوب، كما روي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر، فقال له رجل: ما هذا الذي أراه بك، قال: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: أتشكوني يا يعقوب، فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي (¬3). وقوله تعالى: ({وَابْيَضَّتْ) (¬4) عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي انقلبت إلى حال البياض، قال مقاتل (¬5): لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف. وفسر ابن عباس (¬6) الحزن هاهنا: بالبكاء يريد: أن عيناه ابيضتا لكثرة بكائه، والحزن لما كان سببًا للبكاء جاز أن يسمى به، وذلك أن العين لا تبيض وإن اشتد الحزن حتى يكثر البكاء، واختلفوا في: الحُزْن وَالحَزَن، فقال قوم: الحُزْن: البكاء، والحَزَن: ضد الفَرَح. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 39، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 56، عبد الرزاق 2/ 327. (¬2) الطبري 13/ 38 - 39، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 56، الثعلبي 7/ 102 ب. (¬3) الطبري 13/ 46، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2186، وأبو الشيخ عن حبيب بن ثابت كما في "الدر" 4/ 57. (¬4) ما بين القوسين بياض في (أ). (¬5) "تفسير مقاتل" 156 أ، الثعلبي 7/ 103 أ، "زاد المسير" 4/ 270. (¬6) القرطبي 9/ 248، و"زاد المسير" 4/ 271.

86

وقال قوم: هما لغتان، يقال: أصابه حُزْنٌ شديد وحَزَنٌ شديد، وهذا مذهب أكثر أهل اللغة (¬1)، وروى يونس عن أبي عمرو (¬2) قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاء كقوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التربة:92]، وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع فهو بضم الحاء كقوله {مِنَ الْحُزْنِ}. 86 - وقوله تعالى (¬3): {أَشْكُو (¬4) بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} قال: هو في موضع رفع بالابتداء. وقوله تعالى: {فَهُوَ كَظِيمٌ} ذكرنا الكلام في الكظم عند قوله {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] مستقصى، والكظم هاهنا يجوز أن يكون بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ولا يشكوه. قال ابن قتيبة (¬5): يدل عليه قول قتادة (¬6) قال: كظيم على الحزن، لا يقول بأسًا، قد شد فاه على الحزن في قلبه، فليس يتكلم بسوء، وفي ذلك يقول الشاعر (¬7): ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 807، و"اللسان" (حزن) 1/ 861، و"الاشتقاق" لابن دريد 100. (¬2) "تهذيب اللغة" (حزن) 4/ 364. (¬3) (تعالى) ساقط من (ب). (¬4) في (ب): (وأشكو) بزيادة واو خلاف ما عليه الآية. (¬5) "مشكل القرآن وغريبه" ص 228. (¬6) الطبري 13/ 40، وعبد الرزاق 2/ 327، وابن المبارك وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2187، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 57، والثعلبي 7/ 103 أ. (¬7) هو قيس بن زهير، والبيت من الوافر، وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" 1/ 87، وانظر: "الدر" 4/ 57، القرطبي 9/ 249، و"النكت والعيون" 3/ 70.

85

فإنْ أكُ كَاظِمًا لمُصَابِ شَاس ... فإني اليَوْمَ منْطَلِقٌ لِسَاني ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم، وهو المسدود عليه طريق حزنه فلا، يتكلم بنفثة مصدور، يدل عليه قوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (¬1) [القلم: 48]، قال ابن عباس (¬2) في هذه الآية: فهو مغموم مكروب، وقال الزجاج (¬3): محزون. 85 - قوله تعالى: {قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} الآية يقال: لمَ أقسموا على هذا وهم على غير يقين منه أن ينقلب فيترك ذكره؟ قال أبو بكر (¬4): لم يقسموا إلا على ما كان صحيحًا في نفوسهم، وتلخيصه: تالله تفعل ذلك عندنا، وفي تقديرنا: فحلفوا على ما تقرر عندهم بالاستدلال، على ما يجوز في معلوم الله أن يتغير. وقوله تعالى: {تَفْتَؤُاْ} قال ابن السكيت (¬5): يقال: ما زلت أفعله، وما برحت أفعله، وما فتئت أفعله، ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد، وقال أبو زيد: يقال: ما فتأت أذكره، أي: ما زلت، وهما لغتان: ما فتئت وما فتأت، يقال: فتئت عن الأمر فَتَأ، إذا نسيته وانْقَدَعْت عنه. وروى (¬6) ابن هاني عن أبي زيد: ما أفتأت أذكره إفتاءً، وما فتئت ¬

_ (¬1) في النسخ بزيادة "ربه" خلاف ما عليه الآية. (¬2) "الوقف والابتداء" لابن الأنباري 1/ 87. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 125. (¬4) "زاد المسير" 4/ 273. (¬5) من هنا يبدأ النقل عن الأزهري في التهذيب (فتأ) 3/ 2731. (¬6) في (ب): (روى) من غير واو. وابن هانئ هو: أبو عبد الرحمن بن محمد بن هانئ النيسابوري، ويعرف بصاحب الأخفش، توفي سنة 236 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 72، و"تهذيب اللغة" 1/ 44، و"إنباه الرواة" 2/ 131.

أذكره أفتأ فتأ (¬1). وذكر ذلك أبو إسحاق في باب الوفاق (¬2) (¬3) وحكى الكسائي (¬4): فتئت، وفتأت، فتأ، وفتوءًا، وأنشدوا لأوس بن حجر: فما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتَدَّعِي ... ويَلحقُ منها لاحِقٌ وتَقَطَّعُ (¬5) وقال القاسم بن معن (¬6): هي بلغة أهل اليمن، وأنشد قول الأعرج المَعْنى (¬7): فما فِتَئَتْ منها رِعَالٌ كأنها ... رِعَالُ القطا حتى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ قال النحويون (¬8): حرف النفي هاهنا مضمر على معنى: ما تفتؤ ولا تفتؤ، وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو: ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل من الأزهري في التهذيب (فتأ) 3/ 2732، و"اللسان" (فتأ) 6/ 3337. (¬2) في (ج): (الوفات). (¬3) كتاب "فعلت أفعلت" / 32. (¬4) "إعراب القرآن للنحاس" 2/ 156. (¬5) البيت في: "ديوان أوس بن حجر" ص 58، و"مجاز القرآن" 1/ 316، والطبري 13/ 41، و"شواهد الكشاف" ص 168، و"البحر المحيط" 5/ 326، و"الدر المصون" 6/ 546، و"زاد المسير" 4/ 272، و"الكشاف" 2/ 339، و"المعاني الكبير" / 1002، وأساس البلاغة (فتأ). (¬6) هو القاسم بن معن بن عبد الرحمن النحوي القاضي توفي سنة 175 هـ تقريبًا، انظر "إنباه الرواة" 3/ 30. (¬7) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في "زاد المسير" 4/ 272 برواية (منا). (¬8) "معاني الفراء" 2/ 54، "إعراب النحاس" 2/ 156، و"الدر المصون" 6/ 546.

والله ليفعلن، فلما كان بغير اللام والنون، عرف أن لا مضمر، وأنشدوا قول امرئ القيس (¬1): فقلتُ يَمِينُ اللهِ أبْرَحُ قَاعِدًا وقول الخنساء (¬2): فأقْسَمْتُ آسَى على هَالِكٍ ... أو أسأل نَائِحَةً مَالهَا ومثله كثير، وهذا قول الفراء (¬3) والزجاج (¬4) وابن الأنباري وجميع النحويين. وأما المفسرون فقال ابن عباس (¬5) والحسن (¬6) ومجاهد (¬7) وقتادة (¬8) ¬

_ (¬1) صدر بيت، وعجزه: ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى انظر: "ديوانه" ص 108، و"اللسان" (يمن)، والصناعتين ص 138، و"معاني القرآن" 2/ 540، و"الخصائص" 2/ 284، و"الخزانة" 4/ 209، 231، و"شرح المفصل" 9/ 104، والطبري 13/ 42، والقرطبي 9/ 249، و"تأويل مشكل القرآن" ص 225، و"الدرر" 2/ 43، و"الكتاب" 3/ 504، و"الأضداد" لابن الأنباري 142. (¬2) "ديوانها" 125، وفيه: فآليت آسي على هالك ... وأسأل باكية ما لها "تهذيب اللغة" (لا) 4/ 3211، وانظر: "زاد المسير" 4/ 272، و"اللسان" (لا) 7/ 3973، و"تاج العروس" (لا) "كتاب العين" 8/ 349. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 54. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 126. (¬5) الطبري 13/ 41، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2187، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 59. (¬6) انظر: "تفسر كتاب الله العزيز" 2/ 283. (¬7) الطبري 13/ 41، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 59. (¬8) الطبري 13/ 41.

والسدي (¬1) والكلبي (¬2): لا تزال تذكر، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬3) قال: لا يفتر من ذكره. وقوله تعالى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} قال الفراء (¬4): يقال: رجل حرض وحارض، وهو: الفاسد في جسمه وعقله، فمن قال: حرض، لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث؛ لأنه بمنزلة: دفن وضنى، في أنه مصدر، قال: ولو ثنى وجمع لكان صوابًا، كما قالوا: ضيف وأضياف، ومن قال: حارض، ثنى وجمع. وقال أبو زيد: الحرض المدنف، ومثله المحرض، وقال الأصمعي: الحرض الهالك، والمحرض المهلك (¬5). وقال أبو الهيثم: الحرض والمحرض: الهالك من ضنى (¬6)، الذي لا حي فيرجى ولا ميت فيوئس منه، وقال الليث: رجل حرض، لا خير فيه، وجمعه أحراض، والفعل حرُض يحْرُض حُرُوضًا (¬7). وحكى الكسائي: حَرض بالفتح وحُرض بالضم حراضة وحروضًا، وهو حارض، وهم حارضون، وحرضة، وحرض. ¬

_ (¬1) ابن أبي حاتم 7/ 2188. (¬2) "تنوير المقباس" ص 153. (¬3) الطبري 13/ 41. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 54، ومن هنا يبدأ النقل عن تهذيب الأزهري (حرض) 1/ 787. (¬5) في (أ) بياض في هذه الكلمة. (¬6) في "التهذيب" 4/ 204: "الهالك مرضًا". (¬7) إلى هنا انتهى النقل عن تهذيب الأزهري (حرض) 1/ 787. وانظر: "اللسان" (حرض) 2/ 836.

قال أهل المعاني (¬1): أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب، وأنشدوا للعرجي (¬2): إني امْرُؤ لَجَّ بي حُبٌّ فأحَرَضَنِي ... حَتَّى بَلِيت (¬3) وحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ وقال الزجاج (¬4): الحرض الفاسد في جسمه، والحرض الفاسد في أخلاقه، وقولهم: حرَّضت فلانًا على فلان، تأويله: أفسدته. وقال أبو عبيدة (¬5): الحرض الذي قد أذابه الحزن، هذا كلام أهل اللغة في الحرض. وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عطاء: حتى تكون كالشيخ الفاني الذي تغير، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال (¬6): الفاسد الدنف. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 316. (¬2) البيت لعبد الله بن عمر بن عبد الله العرجي، كان ينزل بموضع قبل الطائف يقال له العرج فنسب إليه. انظر: "الشعر والشعراء" ص 381، "ديوانه" ص 5، الطبري 13/ 42، القرطبي 9/ 250، "زاد المسير" 4/ 273، "اللسان" (حرض) 2/ 836، "مجاز القرآن" 1/ 317، "الاشتقاق" 48، "السمط" ص 422، "الدر المصون" 6/ 547، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 403. (¬3) في (ج): (مليت). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 126. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 316. (¬6) أخرج ابن الأنباري، الطستي كما في "الدر" 4/ 59، وأخرجه الطبري 13/ 43، البغوي 4/ 268 وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2187 وأبو الشيخ نحوه كما في "الدر" 4/ 59، والثعلبي 7/ 203 ب، و"الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق" لبنت الشاطئ ص 502.

وقال مجاهد (¬1): {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} قال: مرضًا دون الموت، وقال جويبر عن الضحاك (¬2): كالشيء البالي، وقال قتادة (¬3): هرمًا، وقال مقاتل (¬4): مدنفًا، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} بضم الحاء وتسكين الراء، قال: يعني مثل عود الأشنان، ذكره ابن الأنباري بإسناده عن أبي روق (¬5). وقوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي: من الميتين، قاله قتادة (¬6)، ومعنى الآية: أنهم قالوا لأبيهم: لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه، حتى تصير بذلك إلى مرض لا ينتفع بنفسك معه، أو تموت بالغم، وأرادوا بهذا القول كفه عن البكاء والحزن إشفاقًا عليه. قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} قال المفسرون (¬7): لما رأى غلظتهم وعنفهم به في قولهم {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} قال لهم: إنما أشكو ما بي إلى الله تعالى لا إليكم. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 43، الثعلبي 7/ 103 ب، ابن عطية 8/ 55، البغوي 4/ 268، ابن أبي حاتم 4/ 236 ب. (¬2) الطبري 13/ 43، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 4/ 236 ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 59، والثعلبي 7/ 103 ب، وابن عطية 8/ 55 وجويبر ضعيف. (¬3) الطبري 13/ 43، الثعلبى 7/ 103 ب، ابن عطية 8/ 54. (¬4) "تفسير مقاتل" 157 أ. (¬5) انظر: ابن عطية 8/ 54، القرطبي 9/ 251، "الدر المصون" 6/ 548. (¬6) الطبري 13/ 44، الثعلبي 7/ 104 أ، البغوي 4/ 268، "زاد المسير" 4/ 273، القرطبي 9/ 251، عبد الرزاق 2/ 327. (¬7) الثعلبي 7/ 104 أ، الطبري 13/ 45.

قال أهل اللغة (¬1): البث: الهم الذي تفضي به إلى صاحبك. وأصله من البث وهو النشر والتفريق، يقال: بثوا الخيل في الغارة، وبث الله الخلق، وأبثثتُ فلانًا بسري إبثاثًا، أي: أطلعته عليه. وقال أبو عبيدة (¬2): البث: أشد الحزن، والحزن أشد الهم، وقال غيره: الهم ما يستره الإنسان ويكتمه، والبث ما يبديه ويظهره؛ لأنه إذا اشتد لم يصبر على كتمانه حتى يبثه، يقال: قد أبثثتك ما في قلبي، وبثتك، إذا أطلعتك عليه، قال الشاعر (¬3): أبثّكَ ما ألْقَى وفي النَّفْسِ حَاجَةٌ ... لها بَيْنَ لَحْمِي والعِظَامِ دَبِيبُ وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من خبر سلامة يوسف ما لا تعلمون أنتم، قال الكلبي عن ابن عباس (¬4): وذلك أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف فيما قبضت من الأرواح؟ قال لا يا نبي الله، وقال ابن عباس (¬5): وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني (¬6) وأنتم سنسجد له. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (بثث) 1/ 273، و"اللسان" (بثث) 1/ 208. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 317. (¬3) البيت لكُثَيِّر من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز وهي في "ديوانه" ص 36 كما يلي: أبثك ما ألقى وفي النفس حاجة ... لها بين جلدي والعظام دبيب وذكره في "الشعر والشعراء" ص 413 ونسبه لعروة بن حزام، والبيت مختلف عن هذا وهو: وإني لتعروني لذكراك روعة ... لها بين جلدي والعظام دبيب (¬4) "زاد المسير" 4/ 275، و"تنوير المقباس" 153، وأخرجه ابن أبي حاتم 7/ 2189، عن النصر بن عربي كما في "الدر" 4/ 60. (¬5) الطبري 13/ 45، و"زاد المسير" 4/ 275، وابن أبي حاتم 7/ 2189، كما في "الدر" 4/ 60، الثعلبى 7/ 105 أ. (¬6) في (ج): (وأنا).

87

قال ابن الأنباري: وهذا يدل على أن يعقوب كان يزيد عليهم في علم العبارة ويصل من حقائقها إلى حيث لا يبلغون ولا يصلون، هذا قول مقاتل ابن سليمان (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس (¬2): وأعلم من رحمة الله وقدرته ورأفته على أوليائه ما لا تعلمون. وقال قتادة (¬3): أعلم من اختيار الله عَزَّ وَجَلَّ لي ما يوجب حسن ظني. 87 - قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية، قال السدي (¬4): لما أخبره بنوه بسيرة الملك وقوله، طمع يعقوب أن يكون يوسف، فلذلك قال لبنيه: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}، (وقيل: (¬5) إنه رأى ملك الموت في المنام، فأقسم والله ما قبضت روح يوسف) (¬6)، فاطلبه من هاهنا، وأشار إلى ناحية مصر، فلذلك قال: تحسسوا من يوسف، والتحسس: تطلب الشيء بالحاسة. قال أبو معاذ (¬7): التحسس: شبه التسمع والتبصر. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 157 أبنحوه. (¬2)) "زاد المسير" 4/ 275 ونسبه إلى عطاء. (¬3) الطبري 13/ 46، وابن أبي حاتم 7/ 2187، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 60، والقرطبي 9/ 251. (¬4) الثعلبي 7/ 105 ب، "زاد المسير" 4/ 275، البغوي 4/ 270، القرطبي 9/ 251. (¬5) الثعلبي 7/ 105، القرطبي 9/ 252. (¬6) ما بين القوسين مكرر في (أ)، (ج). (¬7) "اللسان" (حسس) 1/ 872، تهذيب 1/ 818، وأبو معاذ هو الفضل بن خالد المروزي الباهلي مولاهم إمام نحوي لغوي مقرئ، توفي سنة 211 هـ، انظر: "معجم الأدباء" 16/ 214، و"غاية النهاية" 2/ 9، و"طبقات المفسرين" للداودى 2/ 32.

وقال أبو عبيد (¬1): تحسست الخبر: بحثته وطلبته لأخذه، ومن هذا يقال: أحس الخبر أي: علمه ووجده، قال ابن عباس (¬2): يريد يبحثوا عن يوسف. قال أبو بكر (¬3): يقال: تحسست عن فلان، ولا يقال: من فلان، وقيل هاهنا "من يوسف" لأنه أقيم مقام "عن"، كما قال العرب: حدثني فلان من فلان، يعنون: عن فلان، ويجوز أن "من" أوثرت للتبعيض، والمعنى: تحسسوا خبرًا من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فأوثرت "من" لما فيها من الدلالة على التبعيض. وقوله تعالى: {لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} قال الأصمعي (¬4): الروح الاستراحة من غم القلب، وقال أبو عمرو (¬5): الروح الفرج، والروح ما يجده الإنسان من نسيم الهوى فيسكن إليه. وقيل في قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} الواقعة: 89، الروح: الرحمة، وقال أهل اللغة (¬6) ما يتركب (¬7) من الراء، والواو والحاء كثير، والأصل في ذلك كله الحركة والاهتزاز، فكل ما يهتز الإنسان له ويلتذ بوجوده فهو روح. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" 2/ 392. (¬2) الثعلبي 7/ 105ب، و"تنوير المقباس" ص 153. (¬3) "زاد المسير" 4/ 276. (¬4) "تهذيب اللغة" (روح) 2/ 1313. (¬5) "زاد المسير" 4/ 276. (¬6) انظر: "مقاييس اللغة" 2/ 454، و"اللسان" (روح) 3/ 1766، و"تهذيب اللغة" (راح) 2/ 1313. (¬7) في (ب): (ما تركب).

88

قال ابن عباس في رواية عطاء (¬1): {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} يريد من رحمة الله، وهو قول قتادة (¬2) والضحاك (¬3) والكلبي (¬4). وروى معمر عن قتادة (¬5): من فضل الله. وقال ابن زيد (¬6): من فرج الله، ولا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس (¬7): يريد أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد، ويشكره ويحمده في الرخاء، وأن الكافر ليس كذلك. 88 - وقوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} قال أهل اللغة (¬8): التأويل في الكلام متروك يستدل عليه، والتقدير: فخرجوا إلى مصر فلما دخلوا عليه، أي: على يوسف {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ} أي: أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 276. (¬2) الطبري 13/ 49، عبد الرزاق 2/ 328، ابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2195، أبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 62، الثعلبي 7/ 105 ب، القرطبي 9/ 252. (¬3) الطبري 13/ 49، الثعلبي 7/ 105 ب، "زاد المسير" 4/ 276، القرطبي 9/ 252. (¬4) "تنوير المقباس" ص 153، ويشهد لهذا المعنى قراءة أبي "من رحمة الله" البحر 5/ 339. (¬5) الرازي 18/ 199، عبد الرازق 2/ 328. (¬6) الطبري 13/ 49، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 62، والثعلبي 7/ 105 ب، و"زاد المسير" 4/ 276، والقرطبي 9/ 252، وابن أبي حاتم 7/ 2190 عن ابن إسحاق. (¬7) الرازي 18/ 199. (¬8) انظر: الطبري 13/ 49، الثعلبي 7/ 106 أ، البغوي 4/ 271، ابن عطية 8/ 60، "زاد المسير" 4/ 277، القرطبي 9/ 252.

مُزجَنةٍ} معني الإزجاء في اللغة (¬1): السَّوْق (¬2) والدفع قليلاً قليلا، ومثله: التزجية، يقال: الريح يزجي السحاب، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43]، والبقرة تُزَجّى ولدها: اى تسوقه، قال وأمّ عَيْنَاء تُزَجِّي معها إِزْجَاء (¬3) وزجيت فلانًا، بالقول أي (¬4): دافعته. وقال (¬5): وصَاحِبٍ ذِي غِمْرةٍ زاجَيْتُه ... زَجَّيْتُه بالقَوْلِ وازدَجَيْته وفلان يزجِّي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، يقال (¬6): زاجيت أيامي وزجّيتها أي: دافعتها بقوت قليل، وفلان يتزَجَّى باليسير، أي: يقنع، وأنشد الليث (¬7): تَزَجَّ من دُنْيَاكَ بالبَلَاغِ ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (زاج) 2/ 1511، و"اللسان" (زجا) 3/ 1815. (¬2) في (ب): (السرق). (¬3) من الرجز، ولم أقف عليه. (¬4) (أي) ساقط من (ب). (¬5) البيان من الرجز، وهما بلا نسبة في تهذيب (زاج) 2/ 1511، "واللسان" (زجا) 3/ 1815 برواية (داجيته). (¬6) "تهذيب اللغة" (زاج) 2/ 1511. (¬7) الرجز بلا نسبة وهو كما يلي: تزج من دنياك بالبلاغ وباكر المعدة بالدِّباغ بكسرة جيِّدة المضاغ بالملح أو ما خف من صباغ وهو في "اللسان" (زجا) 3/ 1815، (بلغ) 1/ 346، (صبغ) 4/ 2395، و"تاج العروس" (بلغ) 12/ 8، (صبغ) 12/ 40، (وضع) 11/ 516، وأساس البلاغة (زجى).

بكسْرَةٍ لينةِ المِضَاغِ بالمِلْحِ أو ما جَفَّ في الصِّبَاغِ هذا معنى الإزجاء في اللغة، قال ابن عباس (¬1): كانت دراهم رديئة زيوفًا لا تنفق في ثمن الطعام، هذا قوله في رواية عكرمة وباذان، وفسر في رواية عطاء كيف كانت الدراهم فقال (¬2): وذلك أن دراهم مصر كانت يضرب فيها صورة يوسف، والتي جاءوا بها ليست فيها صورة يوسف، فهي أدنى لا تجوز مجاز تلك، وهذا قول سعيد بن جبير (¬3): أنها كانت دراهم فُسُولا، واختيار الفراء (¬4): قال قدموا مصر ببضاعة فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام بسعر الجياد. وروى سعيد عن قتادة (¬5): {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاة} قال يسيرة، وقال عبد الله بن الحارث (¬6): قليلة، وهو قول الحسن (¬7) والكلبي (¬8) ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 50، وأبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 62، الثعلبي 7/ 106 أ، و"زاد المسير" 4/ 278، والقرطبي 9/ 253. (¬2) القرطبي 9/ 253، الرازى 18/ 201. (¬3) ذكره الطبري 13/ 51 بسنده عن سعيد بن جبير وعكرمة {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} قال سعيد ناقصة، وقال عكرمة: دراهم فسول، وانظر الطبري 13/ 51، وابن أبي حاتم 7/ 2192. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 55. (¬5) الطبري 13/ 52، عبد الرزاق 2/ 328. (¬6) الطبري 13/ 52. (¬7) الطبري 13/ 52، وابن عطية 8/ 62، وابن أبي حاتم 7/ 2192، و"البحر" 5/ 340، الرازى 18/ 201. (¬8) البغوي 4/ 272 من غير عزو.

ومجاهد (¬1) في رواية عبد الوهاب، وابن عباس (¬2) في رواية ابن جريج، عن محمد بن المرتفع قال: قليلة خلف الغرارة (¬3) والحبل، ونحو هذا قال إبراهيم (¬4) وابن زيد (¬5). ثم اختلفوا في هذه البضاعة الرديئة القليلة أيش كانت، وذكرنا قول ابن عباس فيها في رواية ابن جريج ومثله روى عنه ابن أبي مليكة (¬6) وهو قول ابن زيد. وقال الحسن (¬7): كانت إقطًا، وقال عبد الله بن الحارث (¬8): السمن والصوف كمتاع الأعراب، وقال جويبر عن الضحاك (¬9): النعال والأدم. وقال مقاتل بن حيان (¬10): حبة الخضراء (¬11)، والضوبر، وهو قول الكلبي (¬12). ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 52، و"زاد المسير" 4/ 277. (¬2) البخاري "فتح" 8/ 208. (¬3) الغرارة: الجُوَالق، واحدة الغرائر. "تهذيب اللغة" 3/ 2651، و"اللسان" 6/ 3236. (¬4) الطبري 13/ 53. (¬5) الطبري 13/ 53. (¬6) الطبري 13/ 50، وعبد الرزاق 2/ 328، وسعيد بن منصور وابن أي حاتم 7/ 2191، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 64، والثعلبي 7/ 106 أ. (¬7) الثعلبي 7/ 106 ب، و"زاد المسير" 4/ 277. (¬8) الطبرى 13/ 51، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2191، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 62، والثعلبي 7/ 106 أ، وابن عطية 8/ 62، و"زاد المسير" 4/ 277. (¬9) الثعلبي 7/ 106 ب، البغوي 4/ 272، "زاد المسير" 4/ 277، القرطبي 9/ 253. (¬10) الثعلبى 7/ 106 ب، البغوي 4/ 272. (¬11) الحبة الخضراء هي الفستق، و"البحر المحيط" 5/ 340. (¬12) الطبري 13/ 51 عن أبي صالح، ابن أبي حاتم 7/ 2191، وأبو الشيخ عنه أيضًا كما في "الدر" 4/ 62، الثعلبي 7/ 106 ب، البغوي 4/ 272، "تنوير المقباس" ص 153.

واختلف أهل المعاني: لِمَ سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة؟ فقال أبو إسحاق (¬1): من قولهم: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفى به، والمعنى على هذا: أنا جئنا ببضاعة إنما يُدافع بها ويتقوت ليست مما يتسع به، وعلى ما ذكر يجب أن يكون التقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام. وقال أبو عبيد (¬2): إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة؛ لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: السَّوْق والدَّفْع، وأنشد (¬3): ليَبْكِ على مِلْحَانَ ضَيْفٌ مُدَفَعٌ ... وأرْمَلة تُزْجِي مع اللَّيلِ أرْمَلا أي: تدفع وتسوق، وقال غيره (¬4) (بضاعة مزجاة) مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق، لا ينفق (¬5) مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها، لفقد غيرها مما هو أجود منها. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 127. (¬2) الرازي 18/ 201، و"زاد المسير" 4/ 278، ونسبه إلى أبي عبيدة، ولم أجده في "مجاز القرآن". (¬3) نسبه الطبري 13/ 50 إلى حاتم، وعلق محمود شاكر بقوله: ليس في ديوانه، وأنشده ابن بري غير منسوب "اللسان" (رمل) 3/ 1735، والظاهر أن الشعر لحاتم؛ لأن (ملحان) هوابن عمه -ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي- وكنت وقفت على أبيات من هذا الشعر، ثم أضعتها اليوم. انظر: "ديوانه" 86، و"الزاهر" 2/ 97، و"السان" (رمل) 3/ 1735، وابن عطية 8/ 61، و"البحر المحيط" 5/ 340، و"الدر المصون" 6/ 550، و"زاد المسير" 4/ 278. (¬4) الرازي 18/ 202، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 456. (¬5) (لا ينفق) ساقط من (أ)، (ج).

وقال الكلبي (1): مزجاة لغة العجم. قال الهيثم بن عدي (2): هي من لغة القبط. قال الأنباري (3): لا ينبغي أن يجعل حرف عربي معروف المباني والاشتقاق والتصرف منسوبًا إلى القبط ودونهم؛ إذ كلام أولئك يدور (4) على ألسنة العرب، ولا يتصرف على مباني كلامهم. وقوله تعالى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} قال المفسرون (5): سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطى بغيرها من الجياد، إذ كانوا قد باعوا بها متاعهم في مدينته، فسألوه أن يأخذها منهم ولا ينقصهم. وقوله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أكثر المفسرين (6) على أن هذا التصدق معناه: المسامحة بما بين الثمنين، وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد، وعلى هذا سمي ذلك تصدقًا؛ لأن الذي سألوه كان مُشْبهًا للتصدق، وليس هو تصدقًا على ما يسبق إليه الظن، قاله أبو بكر (7)، وعلى هذا لا تدل الآية على أن الصدقة كانت تحل لهم، واستدل سفيان بن عيينة (8) على أن الصدقة كانت حلًّا للأنبياء قبل نبينا محمد عليه السلام بهذه الآية، وعلى قول سفيان: سألوه أن يتصدق عليهم بشيء زيادة على ما يستحقونه ببضاعتهم المزجاة، وقول العامة: أشبه بحال الأنبياء وأولاد الأنبياء؛

_ (1) و (2) و (3) الرازى 18/ 202. (4) في (أ)، (ج): (لا يدرون). (5) الطبري 13/ 53، الثعلبي 7/ 106 ب، الرازي 18/ 202. (6) الطبري 13/ 53، الثعلبي 7/ 106 ب، البغوي 4/ 272، ابن عطية 8/ 63. (7) "زاد المسير" 4/ 278. (8) الطبرى 13/ 53، الثعلبي 7/ 106 ب، ابن عطية 8/ 63، البغوي 4/ 272، "زاد المسير" 4/ 279، القرطبي 9/ 254.

89

إذ هم يأنفون عن الخضوع للمخلوقين، ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغناء بأقسامه (¬1)، وروي عن الحسن (¬2) ومجاهد (¬3): أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه: اللهم تصدق عليّ؛ لأن الصدقة ممن يبتغي الثواب. والتصدق إعطاء الصدقة، فالمتصدق المعطي، وأجاز الليث (¬4) أن يقال: للسائل متصدق، وأبى ذلك أهل اللغة (¬5). 89 - قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} قال ابن عباس (¬6): كان يعقوب قد كتب إلى يوسف كتابًا برد ابنه عليه لما حبسه عنده بعلة السَّرق، وذكر فيه قصته ومحبتهن، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، ولسان قلبه، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره، ولم يتمالك نفسه فباح بما كان يكتم. وقال السدي (¬7) وابن إسحاق (¬8): لما قالوا له ما قالوا في الآية الأولى، رحمهم وأدركته الرقة فدمعت عينه فقال لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا ¬

_ (¬1) قلت: وهذا هو الراجح أنهم لم يقصدوا الصدقة التي حُرمت على الأنبياء قال ابن عطية 8/ 63 عن قول سفيان: وهذا ضعيف يرده حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة". وانظر: الرازي 18/ 202. (¬2) الثعلبي 7/ 106 ب، البغوي 4/ 272، القرطبي 9/ 255، الرازي 18/ 202. (¬3) الطبري 13/ 54، وأبو عبيد وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 62، الرازي 18/ 202. (¬4) الرازي 18/ 202، وانظر: "تهذيب اللغة" (صدق) 2/ 1991. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 1991 (صدق). (¬6) الثعلبي 7/ 107 أ، البغوي 4/ 271 عن عبد الله بن زيد بن أبي فروة، "زاد المسير" 4/ 279. (¬7) الطبري 13/ 54. (¬8) الطبري 13/ 54، الثعلبي 7/ 106 ب، البغوي 4/ 272، ابن عطية 7/ 65، "زاد المسير" 4/ 279.

فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} وهذا استفهام يتضمن التذكير بحال يقتضي توبيخهم عليه، قال ابن الأنباري (¬1): هذا الاستفهام يعني به تعظيم القصة، وتلخيصه: ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف، وما أسمج ما أتيتم من قطيعة رحمه وتضييع حقه، كما تقول: هل تدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ قال صاحب النظم: هذه الآية تصديق قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]. وقوله تعالى: {وَأَخِيهِ} يعني: ما فعلوا به من تعريضه للغم وإدخالهم الجزع والحزن عليه بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، ولم يذكر أباه يعقوب مع عظيم ما دخل عليه من الهم بفراقه، كما ذكر أخاه، تعظيمًا للأب ورفعًا من قدره، وعلمًا بأن ذلك كان بلاءً من الله له ليزيد في درجته عنده. وقوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} قال ابن عباس: آثمون، قال أبو بكر (¬2): أراد أنتم تعقون أباكم، وتقطعون رحم أخيكم، جهلًا منكم، وروي عنه (¬3): إذ أنتم صبيان، وعن الحسن (¬4): شبان، وعلى هذا يعني جهالة الصِّبا والشباب (¬5). وقال أهل المعاني: هذا يقتضي أنهم الآن على خلاف تلك الحال، لأنه أخبر عما كانوا عليه في ذلك الوقت من الجهالة. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 279، و"الدر المصون" 6/ 551. (¬2) "زاد المسير" 4/ 280. (¬3) "زاد المسير" 4/ 280، القرطبي 9/ 256، الثعلبي 7/ 107 ب. (¬4) القرطبي 9/ 256، الثعلبي 7/ 107 ب. (¬5) في (أ)، (ج): (والشباب).

90

90 - قول تعالى: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} قرأه أكثر (1) القراء بالاستفهام، في قراءة (2) أبي: أو أنت يوسف، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس (3): أن يوسف قال لهم: (هل علمتم) الآية، ثم تبسم فلما أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف فقالوا له استفهامًا: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} ويدل على صحة الاستفهام قوله تعالى: {أَنَا يُوسُفُ} وإنما أجابهم عما استفهموا عنه، وقرأ ابن كثير: إنك على الخبر، وحجته ما روى عطاء عن ابن عباس (3): أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان له في قرنه علامة، وكان ليعقوب وإسحاق مثلها شبه الشامة، فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة، فقالوا: إنك لأنت يوسف، (وقال ابن إسحاق (4): رفع الحجاب فعرفوه فقالوا: إنك لأنت يوسف) (5)، ويجوز (6) أن يكون ابن كثير أراد: الاستفهام ثم حذفه، كما قال أبو الحسن في قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} (7) أنه على الاستفهام كأنه أو تلك؛ لأن حرف الاستفهام قلَّ ما يحذف (8) في غير الشعر.

_ (1) قرأ جميع القراء بالاستفهام، غير ابن كثير فقرأ: (إنك لأنت يوسف) على الخير، واختلفوا في الهمز، فكان حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر يهمزون همزتين (أئنك) والباقون يهمزون همزة واحدة. انظر: "السبعة" ص 351، "إتحاف" ص 267، الطبري 13/ 55، ابن عطية 8/ 66. (2) الطبري 13/ 55، ابن عطية 8/ 66، و"البحر" 5/ 342، و"المحتسب" 1/ 349. (3) الثعلبي 7/ 108 أ، و"زاد المسير" 4/ 281، البغوي 4/ 273، القرطبي 9/ 256. (4) الطبري 13/ 55، و"زاد المسير" 4/ 281. (5) ما بين القوسين مكرر في (أ). (6) من هنا يبدأ النقل عن كتاب "الحجة" 4/ 447. (7) "الشعراء" 22. (8) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 4/ 447.

قوله تعالى: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ} قال ابن الأنباري (¬1): أظهر الاسم وترك الكناية، فلم يقل: أنا هو، تعظيمًا لما وقع به من ظلم إخوته وما عوضه الله من الظفر وبلوغ المحبّة، فكان بمعنى: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من (¬2) هذه المعاني ولهذا قال: وهذا أخي، وهم يعرفونه؛ لأن قصده وهذا المظلوم كظلمي، والمنعم عليه كإنعامي، وقد ذكرنا قبل هذا أن العرب إذا عظمت الشيء أعادته ولم تُكَنَّ عنه كقوله (¬3): لا أَرَى المَوْتَ يسبق المَوْت شَيء وقوله تعالى: {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} قال ابن عباس (¬4): يريد بكل خير في الدنيا والآخرة، وقال آخرون (¬5): بالجمع بيننا بعد التفرقة، وذكرنا معنى المن عند قوله: {مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262]. وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} قال ابن عباس (¬6): يريد: من يتق الله ويصبر على المصائب وعن المعاصي، قال ابن الأنباري: تلخيصه: من يراقب الله ويصبر على الأذى في ذاته، وقال مقاتل بن سليمان (¬7): من يَتَّقِ الزنا ويصبر على الأذى، وقال إبراهيم (¬8): من يتق الزنا ويصبر على ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 281. (¬2) في (أ)، (ج): (وهذه). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) الرازي 18/ 204، و"زاد المسير" 4/ 280. (¬5) الثعلبي 7/ 108 أ، و"زاد المسير" 4/ 281. (¬6) "زاد المسير" 4/ 282، القرطبي 9/ 256. (¬7) "تفسير مقاتل" 157 أ. (¬8) الثعلبي 7/ 108أ، و"زاد المسير" 4/ 281.

العزوبة فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. قال ابن عباس (¬1): يريد أجر من كان هذا حاله، وتأويله: فإن الله لا يضيع أجره وأجور الفاعلين مثل فعله، وروي عن ابن كثير في طريق قنبل (¬2): أن (من يتقي) بإثبات الياء. قال أبو علي (¬3): وله وجهان أحدهما: أن تقدر الحركة في الياء، ثم تحذفها، فتبقى ساكنة للجزم كقوله (¬4): ألَمْ يَأتِك والأنْبَاءُ تَنْمِي ولا يحمل على هذا لأنه مما يجيء في الشعر دون الكلام، والآخر: أن يجعل بمنزلة الذي لا يوجب الجزم، ويحمل المعطوف على المعنى؛ لأن الذي يتقي بمعنى الجزاء الجازم كأنه من يتق، والحمل على المعنى كثير، وقد ذكرنا نظائره، ويجوز على هذا الوجه أن يكون: (ويصبر) في موضع الرفع إلا أنه حذفت الضمة للاستحقاق كما حذف نحو: عَضُد وسجُع، وجاز هذا في حركة الإعراب جوازه في حركة البناء، كما زعم أبو الحسن أنه سمع: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ} (¬5) [الزخرف: 85]، وكقراءة من قرأ: {وَيَتَّقْهِ} (¬6) [النور: 52] بجزم القاف (¬7)، وذكر ابن الأنباري وجهًا آخر ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 282. (¬2) انظر: "السبعة" ص 351، و"إتحاف" 267، وابن عطية 8/ 67. (¬3) "الحجة" 4/ 448 - 449 بتصرف. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) بإسكان اللام من (رسلنا) وقرأ بها حمزة ويعقوب، و"إتحاف" ص 387، و"البدور الزاهرة" 351. (¬6) قرأ حفص بإسكان القاف وكسر الهاء، انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 503. (¬7) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 4/ 448 - 449 بتصرف.

91

وهو: أن الياء في (يتقي) ليست لام الفعل، بل هي ياء مزيدة مختلسة تدغم بها كسرة القاف، ونظير هذه القراءة قراءة حمزة (¬1) {لا تَخَفْ دركا} بالجزم و {وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] بالرفع، وهناك تشرح المسألة إن شاء الله. 91 - وقوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} الأصمعي (¬2): آثرتك إيثارًا، أي: فضلتك، وفلان أثير عند (¬3) فلان وذو أثره، إذا كان خاصًا به، قال الليث: وهو الذي يؤثره بفضله وصلته. قال ابن عباس (¬4): لقد فضلك الله علينا. قال المفسرون (¬5): أي بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك، {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} قال ابن عباس (¬6): لمذنبين، وقال غيره: لآثمين في أمرك، والمعنى: وما كنا إلا خاطئين. وقال ابن الأنباري (¬7): ويجوز أن يكون (خاطئين) بمعنى: مخطئين، وهو اختيار الزجاج (¬8)، وأنشد (¬9): يالَهْفَ هند إذْ خَطِئْنَ كاهِلا بمعنى: أخطأن، وذكرنا الكلام في: خطئ وأخطأ، عند قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "الغاية" لابن مهران 258، و"السبعة" ص 421، و"التيسير" / 152، و"النشر" 3/ 184، و"إتحاف" ص 306. (¬2) كذا في جميع النسخ ولعل (قال) ساقطة. انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) 1/ 120. (¬3) في (أ)، (ب)، (ج): (عندنا) بزيادة (نا)، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 120. (¬4) القرطبي 9/ 257، "زاد المسير" 4/ 284، بدون نسبة كما في البغوي 4/ 274. (¬5) الثعلبي 7/ 108 أ، الرازي 18/ 204. (¬6) "زاد المسير" 4/ 282، القرطبي 9/ 257، الثعلبى 7/ 108 أ. (¬7) "زاد المسير" 4/ 282. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 128. (¬9) صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه: القاتلين الملك الحلاحلا والحلاحل: القوي الشديد، و"الديوان" / 136، و"مجاز القرآن" 1/ 318، وفي "الشعر والشعراء" ص 51، و"اللسان" (حلل) 2/ 979، و"تهذيب اللغة" (حلل) 1/ 906 نفسي بدل هند.

92

{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81]، وقوله: {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقر ة: 286]. 92 - قوله تعالى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} الآية، روى ثعلب عن ابن الأعرابي (¬1): الثارب الموبخ، يقال: ثرب، وثرّب، وأثرب إذا وبخ. ومنه الحديث (¬2): "إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها" أي: ولا يعيرها بالزنا، وقال الزجاج (¬3): معناه: لا إفساد عليكم، وقال أبو عبيدة (¬4): معناه: لا شغب ولا معاقبة ولا إفساد، وأنشد (¬5): ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (ثرب) 1/ 476، و"اللسان" (ثرب) 1/ 475. (¬2) الحديث أخرجه البخاري (2152) كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر" وبلفظ "ولا يثرب عليها" (ح 2233) كتاب البيوع، باب: بيع الرقيق، وأطرافه في (ح 2234، 2555، 6837، 6839)، وأخرجه مسلم (ح 1703) كتاب الحدود، باب رجم اليهود، وأهل الذمة، في الزَّنا، وأحمد في "مسنده" 2/ 249. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 128. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 318. والسياق يوهم أن البيت أورده أبو عبيدة، ولم أجده في "مجاز القرآن". (¬5) القائل بشر بن أبي خازم وهو في ملحق "ديوانه" ص 229 برواية عجزه: أولى لهم بعقاب يوم سرمد أوله في "اللسان" (ثرب) 1/ 475، ونسب لتبع في "اللسان" (ولى) 8/ 4924، وكتاب "العين" 7/ 219، و"أساس البلاغة" (ثرب) / 44، وقيل هو لتبع.

93

فَعَفَوْتُ عنهم عَفْوَ غَيْرِ مُثَرَّبِ ... وتركْتُهُم لعِقَابِ يومٍ سَرْمدِ وروى ابن الأنباري عن أبي العباس (¬1): ثرب فلان على فلان، إذا عَدَّد عليه ذنوبه. قال ابن عباس: يريد لا لوم عليكم، وقال محمد بن إسحاق (¬2): لا (¬3) تأنيبَ عليكم، وقال سفيان (¬4): لا تعيير عليكم. وقال الكلبي (¬5): يقول لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدًا. فإن قيل: لِمَ خص اليوم ونيته العفو وترك التوبيخ أبدًا؟. قال أبو بكر (¬6): إن يوسف لما قدم توبيخهم، وعدَّدَ عليهم قبيح ما فعلوا، وهو يستر عنهم نفسه، قال لهم عند تبين أمره لهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: قد إنقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب، فكان ذكر اليوم دلالة على انقطاع التأنيب، وعلى أن ما بعده من الأيام يجري مجراه، واليوم قد يذكر ويراد به: الحين والزمان، كقول امرئ القيس: فاليوم أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِب ... إثمًا مِنَ اللهِ ولا واغِلِ ليس يريد يومًا بعينه، قال (¬7): ويجوز أن يكون المعنى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} ألبتة {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فتعلق اليوم بالغفران وتناول: غفر الله لكم اليوم، قال: وفيه ضعف، إذ الدعاء لا ينصب قبله، وهو على ما فيه ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (ثرب) 1/ 476. (¬2) الطبري 13/ 56. (¬3) (لا): ساقط من (ب). (¬4) الطبري 13/ 56. (¬5) "تنوير المقباس" ص 153، و"زاد المسير" 4/ 282. (¬6) "زاد المسير" 4/ 282 بنحوه. (¬7) أي أبو بكر.

محتمل، من قبل أن لفظ (يغفر) لفظ الخبر إذ عرى من الجزم وعوامله فينصرف منصوبه عليه كما ينصرف على الأفعال المرفوعة في الأخبار، وهذا الذي ذكره أبو بكر مذهب الأخفش (¬1)، فإن عنده يجوز الوقف على قوله: {عَلَيْكُمُ}. وقوله تعالى: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} قال ابن عباس (¬2): جعلهم في كل حل، وسأل الله لهم المغفرة، وأخبر أن الله أرحم بأوليائه من الوالدين بولدهما. 93 - قوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} الآية، قال المفسرون (¬3): لما عرفهم يوسف نفسه، سألهم عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه، فقال لهم: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا}. وكان من شأن ذلك القميص ما أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل (¬4) رحمه الله، أخبرنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه (¬5)، أخبرنا أبو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 593. (¬2) "زاد المسير" 4/ 283. (¬3) الطبري 13/ 57، الثعلبي 7/ 108 ب، البغوي 4/ 274، "زاد المسير" 4/ 283. (¬4) لم أجده بهذه الكنية وفي "الوسيط" 2/ 361، ذكره باسمه أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر، فلعل المراد به محمد بن أحمد بن جعفر، أبو حسان الزكي، شيخ التزكية والحشمة بنيسابور، ثقة مشهور بالفضل كان فقيهًا صالحاً خيرًا، حدث عن محمد بن إسحاق المنبعي، وابن نجيد، والطبقة مات سنة 423 هـ، وسبق من شيوخه "السير" 17/ 596، انظر: "شذرات الذهب" 3/ 250، و"المنتخب" / 34. (¬5) هو زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى، أبو علي السرخسي، الفقيه المقرئ، المحدث، إمام من الأئمة، قال الحاكم: شيخ عمر بخرسان، توفي سنة 389 هـ، انظر: "وفيات الأعيان" 3/ 293، و"العبر" 3/ 43، و"اللباب" 3/ 285.

لبابة محمد بن المهدي (¬1)، حدثنا عمار بن الحسن (¬2)، حدثنا شجاع بن أبي نصر (¬3)، عن عباد بن كثير (¬4) عن إسحاق (¬5) بن عبد الله بن أبي طحة، عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما قوله {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي}، فإن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم في النار، نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأقعده علي الطنفسة وقعد معه يحدثه، فكسا إبراهيم ذلك القميص إسحاق، وكساه ¬

_ (¬1) هو أبو لبابة محمد بن المهدي بن عد الرحيم الميهني الأبيوردي، روى عن عمار بن الحسن كتاب المغازي، انظر: "تهذيب الكمال" 21/ 186. (¬2) هو عمار بن الحسن بن بشير الهمداني، أبو الحسن الرازي، نزيل نسأ، ثقة وثقه النسائي وغيره مولده 159 هـ، وتوفي 242 هـ؛ انظر: "تهذيب الكمال" 21/ 186، و"الثقات" لابن حبان 8/ 517. (¬3) شجاع بن أبي نصر البلخي، أبو نعيم المقرئ، قال أبو عبيد القاسم بن سلام، ثنا شجاع بن أبي نصر، وكان صدوقًا مأمونًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، انظر: "التهذيب" 2/ 153. (¬4) عباد بن كثير الثقفي، البصري العابد، نزيل مكة، وروى عن يحيى بن أبي كثير، وثابت وأبي عمران الجوني وعنه إبراهيم بن أدهم وأبو نعيم، قال البخاري تركوه، وقال ابن معين: ليس بشيء. انظر: "التهذيب" 2/ 280 - 281، و"ميزان الاعتدال" 3/ 85 - 89، و"السير" 7/ 106. (¬5) إسحاق بن عبد الله بن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي، البخاري المدني الفقيه، أحد الثقات، سمع من عمه أنس بن مالك وغيره. كان مالك يثني عليه، ولا يقدم عليه أحدًا، توفي سنة 132 هـ، وقيل 134 هـ روى له الجماعة. انظر: "التهذيب" 1/ 122 - 123، وثقات ابن حبان 4/ 23، و"السير" 6/ 336 فالحديث منكر لوجود عباد بن كثير في إسناده.

إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه، وألقي في الجب والقميص في عنقه"، فذلك قوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} الآية (¬1). ونحو هذا قال عامة المفسرين، قال ابن عباس (¬2): أخرجه لهم قصبة من فضة كانت في عنقه لم يعلم بها إخوته فيها قميص، وهو الذي نزل به جبريل من الجنة على إبراهيم، وذكر القصة، وقال مجاهد (¬3): أمره جبريل أن أرسل إليه بقميصك، فإن ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا صح وعوفي، وقال الحسن (¬4): لولا أن الله أعلمه لم يدر أنه يرجع إليه بصره. قال أهل المعاني (¬5): ويجوز أن يكون قد أوحي إليه أن إلقاء قميصه على وجه أبيه يكون سببًا لإبصاره، وزوال العمى عن عينه، فأرسل إليه بقميص له، وقال: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} قال ابن عباس (¬6): يريد بصيرًا ويذهب البياض الذي على عينيه، وقال السدي (¬7): يعد بصيرًا، وقال الفراء (¬8): يرجع بصيرًا، وقيل (¬9): أراد يأتني ¬

_ (¬1) قال القرطبي 9/ 259: ذكره القشيري. (¬2) أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس نحوه كما في "الدر" 4/ 65، وأخرج ابن أبي حاتم 7/ 2196، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب نحوه كما في "الدر" 4/ 65، وفي إسناده الحسن بن يحيى الخشني وهو ضعيف. (¬3) الثعلبي 7/ 109 أ، البغوي 4/ 275، القرطبي 9/ 258. (¬4) القرطبي 9/ 259. (¬5) نسبه الرازي 18/ 206 للمحققين، ولم أعثر عليه في كتب المعاني المتداولة. (¬6) انظر: الرازي 18/ 206، ذكره بدون نسبه كما في البغوي 4/ 274. (¬7) الطبري 13/ 57. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 55. (¬9) الثعلبي 7/ 109أ.

94

بصيرًا، وكان قد دعاه: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} قال الكلبي (¬1): وكان أهله نحوًا من سبعين إنسانًا، وقال مسروق (¬2): دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون بين رجل وامرأة. 94 - قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} قال الأزهري (¬3): يقال. فصل فلان من عند فلان فصولاً، إذا خرج من عنده، وفصل مني إليه كتاب، إذا نفذ، وفصل يكون لازمًا وواقعًا، فإذا كان واقعًا فمصدره الفصل، وإذا كان لازمًا فمصدره الفصول، قال المفسرون (¬4): لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال أبوهم لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده؛ لأن ولده كانوا غيبًا عنه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}، قال ابن عباس (¬5) في رواية بن أبي الهذيل (¬6): هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إلى يعقوب، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وعن الحسن (¬7) قال: وجد يعقوب ريح يوسف من مسيرة عشرة أيام، ¬

_ (¬1) الرازي 18/ 207، و"زاد المسير" 4/ 283. (¬2) الرازي 18/ 207، القرطبي 9/ 259. (¬3) "تهذيب اللغة" (فصل) 3/ 2795. (¬4) الثعلبي 7/ 109 أ، "زاد المسير" 4/ 284، القرطبي 9/ 259، الرازي 18/ 207. (¬5) الطبري 13/ 57، عبد الرزاق 2/ 329، والفريابي، وأحمد في "الزهد"، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2197، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 66، الثعلبي 7/ 109 ب، القرطبي 9/ 259. (¬6) هو: عبد الله بن أبي الهذيل الكوفي أبو المغيرة، مات في ولاية خالد القسري على العراق. انظر: "تقريب التهذيب" ص 327 (3679)، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 170. (¬7) أخرج ابن أبي حاتم 7/ 2197، وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" 4/ 66، القرطبي 9/ 259 عن الحسن.

وقال قتادة (¬1): ذكر لنا أنه كان بينهما ثمانون فرسخًا. وذكر مجاهد (¬2) السبب في ذلك فقال: هبت ريح فصفقت القميص، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} وقال أهل المعاني: إن الله تعالى أوجده ريح يوسف عند تقضّي الامتحان، ومجيء الروح والفرج من المكان النازح، ومنعه ذلك على القرب منه حين ألقي في الجب، وبيع من مالك بن ذعر، للمحنة والبلية التي جعلت سببًا لكمال أجره، ومعنى: (أجد ريح يوسف): أشم، وعبر عنه بالوجود؛ لأنه وجود بحاسة الأنف. وقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال أبو بكر بن الأنباري (¬3): أفند الرجل إذا خرّف وتغير عقله، وأفند (¬4) إذا جهل، ونسب إلى ذلك، الليث (¬5): الفند إنكار العقل من الهرم، يقال: شيخ مفند. وروى أبو عبيد عن الأصمعي (¬6): إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفْنِدُ، والمُفَنَّد، ابن الأعرابي (5): فنَّد رأيه إذا ضعَّفه، وقال الفراء (¬7) في هذه الآية: لولا أن تكذبوني وتعجزوني وتضعفوني. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 58، وأخرجه ابن أي حاتم 7/ 2197 عن ابن عباس. (¬2) الثعلبي 7/ 109 أ، "زاد المسير" 4/ 284، البغوي 4/ 275. (¬3) انظر: "الزاهر" 1/ 514، الرازي 18/ 166. (¬4) في (ب): (أنفد). (¬5) "تهذيب اللغة" (فند): 3/ 2837، وهو هكذا في جميع النسخ من غير (قال) فلعلها ساقطة. (¬6) "تهذيب اللغة" (فند) 3/ 2837، و"الغريب المصنف" /378. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 55.

95

وقال أبو عبيد (¬1): لولا أن تسفهوني، وقال الزجاج (¬2): لولا أن تجهلوني، قال ابن عباس (¬3): لولا أن تكذبون. وقال مجاهد (¬4): لولا أن تسفهوني، وتقولوا: ذهب عقلك. وقال محمد بن إسحاق (¬5): لولا أن تضعفوني، وأصل هذا (¬6) كله من الفند وهو: السفه والجهل ومنه قول النابغة (¬7): إلا سليمانَ إذ قَالَ المَلِيكُ له ... قم في البرية فاحْدُدها عن الفَنَدِ ولي في نظم هذه الآية نظر بعد. 95 - قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} قال الكلبي (¬8) والسدي (¬9) والمفسرون (¬10): هذا من قول بني بنيه له، قال مقاتل (¬11) بن سليمان وغيره: معنى الضلال هاهنا الشقاء، يعنون شقاء ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 318. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 128. (¬3) الطبري 13/ 61، وابن أبي حاتم 7/ 2198. (¬4) الطبري 13/ 59، وابن أبي حاتم 7/ 2198. (¬5) الطبري 13/ 60. (¬6) (هذا) ساقط من (ج). (¬7) انظر: "ديوانه" ص 12، والقرطبي 9/ 260، و"البحر المحيط" 5/ 340، و"الدر المصون" 6/ 557، و"اللسان" (حدد) 2/ 801، وكتاب "العين" 8/ 49، و"مقاييس اللغة" 2/ 3، و"مجمل اللغة" 2/ 210، و"تهذيب اللغة" 1/ 759، و"تاج العروس" (حدد) 4/ 411. وقد شبه الشاعر النعمان بسليمان -عليه السلام-، واحددها: احبسها. (¬8) "تنوير المقباس" ص 153. (¬9) "زاد المسير" 4/ 285، وابن أبي حاتم 7/ 2199. (¬10) الثعلبي 7/ 110 أ، البغوي 4/ 276. (¬11) "تفسير مقاتل" 157 ب، و"زاد المسير" 4/ 286.

96

الدنيا، وتلخيصه: إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف، واحتج مقاتل بقوله: {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24]: يعنون لفي شقاء في دنيانا، وقال قتادة (¬1) وابن إسحاق (¬2): في حبك ليوسف ما تنساه ولا تسلاه، وهذا كقول بنيه: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]، وقد مضى الكلام فيه. وقال الحسن (¬3): إنما قالوا له هذا لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات، وكان في ولوعه بذكره ذاهبًا عن الصواب في أمره عندهم. وروي عن قتادة (¬4) أنه قال: قالوا كلمة غليظة لم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله -عليه السلام-. 96 - قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ}: (أن) هاهنا لا موضع لها من الإعراب، وهي تزاد مع لمَّا توكيدًا على جهة الصلة (¬5)، قال أبو بكر (¬6): دخولها لتوكيد مضي الفعل ولا موضع لها، وسقوطها للاستغناء عنها كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود: 74]، والمذهبان جميعًا موجودان في أشعار العرب. وقال البصريون: موضع (أن) رفع بفعل مضمر تلخيصه: فلما ظهر أن جاء البشير، أي: ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 62، الرازي 18/ 208. (¬2) الطبري 13/ 62، وابن أبي حاتم 4/ 241 ب. (¬3) البغوي 4/ 276، القرطبي 9/ 261، الرازي 18/ 208. (¬4) الطبري 13/ 62، ابن عطية 9/ 374، ابن أبي هاشم 7/ 2199. (¬5) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 345. (¬6) "زاد المسير" 4/ 286.

97

قال ابن عباس (¬1) ومجاهد (¬2) والضحاك (¬3) والسدي (¬4) ومقاتل (¬5): البشير هو يهوذا قال: أنا ذهبت بالقميص ملطخًا بالدم فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته، فألقاه على وجهه. قال ابن عباس: ألقي القميص على وجه يعقوب فارتد بصيرًا، يريد: انجلى البياض وذهبت الظلمة. وقال المفسرون (¬6): فعاد ورجع بصيرًا، ومعنى الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها. قال ابن الأنباري (¬7): وهذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين كقولهم: طالت النخلة، والله أطالها. 97 - وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ذكرنا معناه فيما تقدم. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 62، وابن أبي حاتم 7/ 2199، كما في "الدر" 4/ 68، الثعلبي 7/ 110 أ، البغوي 4/ 276، "زاد المسير" 4/ 286، ابن عطية 8/ 76، القرطبي 9/ 261. (¬2) الطبري 13/ 63، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2199، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 68. (¬3) الطبري 13/ 63، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 68. (¬4) الطبري 13/ 63، والثعلبي 7/ 110 أ، و"زاد المسير" 4/ 286، وابن عطية 8/ 76، وا لقرطبي 9/ 261، وابن أبي حاتم 7/ 2199 - 2200. (¬5) "تفسير مقاتل" 157 ب. (¬6) الثعلبي 7/ 110 أ، "زاد المسير" 4/ 286، الرازي 18/ 209 (¬7) "زاد المسير" 4/ 286.

98

98 - قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قال ابن عباس (1) في رواية عطاء: أخر دعاءه إلى السَّحَر (2)، وهو قول ابن مسعود (3) وقتادة (4) والسدي (5)، وقال (6) في رواية الكلبي وعكرمة يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة. قال (7) أبو إسحاق (8): أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وجه السَّحَر في الوقت الذي هو أخلق لإجابة (9) الدعاء، لا أنه ضنَّ عليهم بالاستغفار. 99 - وقوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [قال المفسرون (10): إن يوسف] (11) بعث مع البشير إلى يعقوب جهازًا ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه وولده أجمعين، فتهيأ يعقوب وخرج مع أهله وولده إلى مصر فذلك قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} قال

_ (1) أخرجه ابن المنذر وابن مردويه وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 68، و"زاد المسير" 4/ 287، والقرطبي 9/ 262. (2) قال في الحاشية (في الأصل إلى السفر) في النسختين (أ)، (ب). (3) الطبري 13/ 64، الثعلبي 7/ 111 أ، القرطبي 9/ 263، ابن عطية 8/ 78، ابن أبي حاتم 7/ 2200. (4) و (5) "زاد المسير" 4/ 287. (6) الطبري 13/ 65، أبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 64، "زاد المسير" 4/ 287، الثعلبي 7/ 111أ، ابن عطية 8/ 78. (7) في (ب): (وقال). (8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 129. (9) في (أ)، (ج): (الإجابة). (10) الثعلبي 7/ 111 ب، القرطبي 9/ 263، البغوي 4/ 278. (11) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).

ابن عباس وعامة المفسرين (¬1): يعني: أباه وخالته، وذلك أن أمه كانت قد ماتت في نفاسها بنيامين (¬2). قال ابن إسحاق (¬3): يعني أباه وأمه، وهو قول الحسن (¬4): قال أنشر الله راحيل أم يوسف تحقيقًا للرؤيا حتى سجدت له. وقوله تعالى: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} قال لهم هذا القول قبل دخولهم إلى مصر؛ لأنه كان قد استقبلهم، هذا قول السدي (¬5) وفرقد السبخي (¬6)، وقال عطاء عن ابن عباس (¬7): يريد انزلوها آمنين، وعلى هذا سمى النزول دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالاخر. وأما معنى الاستثناء في قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} فإنه يقول إلى الأمن لا إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله؛ لأنه (¬8) لا ¬

_ (¬1) روى الطبري 13/ 66 ذلك عن السدي وأخرجه أبي حاتم 7/ 2201 عن السدي، وأبو الشيخ عن وهب كما في "الدر" 4/ 71، وأخرجه أبو الشيخ عن سفيان كما في "الدر" 4/ 71، والبغوي 4/ 278، والثعلبي 7/ 112 أ، و"زاد المسير" 4/ 288، والقرطبي 9/ 263. (¬2) كذا في جميع النسخ، والصواب والله أعلم: ببنيامين. (¬3) الطبري 13/ 67، وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة كما في "الدر" 4/ 71، و"زاد المسير" 4/ 288، والثعلبي 7/ 112 أ، وابن عطية 8/ 79. (¬4) "زاد المسير" 4/ 288، والبغوي 4/ 278، والثعلبي 7/ 112 ب، والقرطبي 9/ 263، وابن عطية 8/ 79. (¬5) الطبري 13/ 66، والرازي 18/ 211، ورجحه الطبري 13/ 66. (¬6) الطبري 13/ 66، هو أبو يعقوب أحد الصالحين، روى عن أنس، غير محتج بحديثه، انظر: "حلية الأولياء" 3/ 44. (¬7) "زاد المسير" 4/ 288 من غير نسبة، والرازي 18/ 211 عن ابن عباس. (¬8) (لأنه) ساقط من (ب).

100

يتقن الأمن، فتقدم الاستثناء وهو منوي به التأخير (¬1)، ذكره أبو بكر (¬2) وغيره، قال ابن عباس (¬3): وإنما قال آمنين؛ لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بجوارهم، ويجوز أن يعود الاستثناء إلى الدخول على القول الذي يقول إنه قال لهم: {ادْخُلُوا مِصْر}، قيل: أن ادخلوها، وقال ابن جريج (¬4): {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} مقدم إلى قوله: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله، قال: وهذا من التقديم والتأخير في القرآن وهو كثير. 100 - قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن عباس (¬5) والمفسرون (¬6): على السرير، قال أهل اللغة (¬7): العرش السرير الرفيع: وهو سرير الملك، قال الله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. قال أهل التفسير (¬8): أجلسهما عليه. وقوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} وقال ابن عباس (¬9) في رواية عطاء: يريد خروا لله عند ذلك سجودًا، ونحو هذا روى الضحاك عنه. ¬

_ (¬1) في (ب): (التأخر). (¬2) "زاد المسير" 4/ 289. (¬3) الثعلبي 7/ 112 أ، والبغوي بدون نسبة 4/ 479. (¬4) الطبري 13/ 66، والثعلبي 7/ 112 أ، و"زاد المسير" 4/ 289. (¬5) الطبري 13/ 67. (¬6) أخرجه الطبري 13/ 66 عن أسباط والضحاك ومجاهد وقتادة وسفيان، والثعلبي 7/ 112 ب، والبغوي 4/ 479، والقرطبي 9/ 264. (¬7) "تهذيب اللغة" (عرش) 3/ 2391، و"اللسان" (عرش) 5/ 2880. (¬8) الثعلبي 7/ 112 ب، و"زاد المسير" 4/ 290، والبغوي 4/ 279. (¬9) الثعلبي 7/ 112 ب، و"زاد المسير" 4/ 290.

وقال عامة المفسرين (¬1): وخروا ليوسف سجدًا على جهة التحية، لا على معنى العبادة، وكان أهل ذلك الدهر يحييَّ بعضهم بعضًا بالسجود والانحناء، فحظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ونهى عنه (¬2)، والسجود معناه في اللغة (¬3): الانحناء مع الخضوع والتذلل، ذكرنا ذلك فيما تقدم، وعلى هذا كان ذلك سجودًا من غير سقوط على الأرض كما يقال: قد سجد القف (¬4) من الأرض للحوافر، إذا خضع لها فذل ومنه (¬5): تَرَى الأُكْمَ منه سُجَّدًا للحَوَافِرِ قال ابن الأنباري (¬6): والخرور في هذا القول لا يُعْنى به السقوط والوقوع، لكن المراد به: المرور، سمعت أبا العباس يحكي هذا، واحتج ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 68، والثعلبي 7/ 112 ب، والبغوي 4/ 280، و"زاد المسير" 4/ 290، وابن عطية 8/ 80، والقرطبي 9/ 265، وابن أبي حاتم 7/ 2202. (¬2) أخرجه الترمذي في "جامعه" (2728) كتاب الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في المصافحة، وابن ماجه في "سننه" (3702) كتاب الأدب، باب: المصافحة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: "لا" قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: "لا" قال: فيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: "نعم". قال الترمذي: هذا حديث حسن، وحسنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (ح 2195). (¬3) "تهذيب اللغة" (سجد) 2/ 1630، و"اللسان" (سجد) 4/ 1941. (¬4) قال الليث: القف: ما ارتفع من متون الأرض وصلبت حجارته، وقال شمر: القف ما ارتفع من الأرض وغلظ ولم يبلغ أن يكون جبلاً، انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 3021 - 3022، و"اللسان" (قفف) 6/ 3705. (¬5) القائل زيد الخيل "ديوانه" / 66، و"الزاهر" 1/ 141، و"اللسان" (سجد) 4/ 1941. (¬6) "الزاهر" 1/ 47، 48، والرازي 18/ 212.

بقوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] يعني: لم يمروا، قال ابن عباس (1) في رواية الكلبي: السجود هاهنا مما كانت الأعاجم تستعمله في تعظيمها رؤساءها، ليس سقوط على الأرض، لكنه كالركوع. قال الأزهري (2): والأشبه بظاهر الكتاب أنهم سجدوا ليوسف دل عليه رؤياه الأولى حين قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] فظاهر التلاوة أنهم سجدوا ليوسف تعظيمًا له، من غير أن أشركوا بالله، وكأنهم لم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله في شريعتهم، قال (3): وفيه وجه آخر لأهل العربية وهو: أن يجعل اللام لام أجل، المعنى: وخروا من أجله سجدًا، شكرًا للذي أنعم عليهم فجمع شملهم. وقوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أي إليَّ، (يقال) (4): أحسن به وإليه، قال كثير (5): أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومةً ... لدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} قال أهل المعاني (6): ذكر إخراجه من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر كرمًا، لئلا يذكر إخوته صنيعهم به، ولأن

_ (1) "زاد المسير" 4/ 290، و"تنوير المقباس" ص 154. (2) و (3) "تهذيب اللغة" (سجد) 2/ 1631 بتصرف. (4) ما بين القوسين من (ب)، وانظر: "الدر المصون" 6/ 558. (5) البيت في: "ديوانه" ص 53، و"الشعر والشعراء" ص 343، و"أمالي الشجري" 1/ 48، و"الدر المصون" / 558، و"الكشاف" 2/ 195، و"الخزانة" 2/ 381، وقوله (مقلية) من القلي بكسر القاف وهو البغض، تقلت: تبغضت: "اللسان" (سوأ) 4/ 2138، و"التنبيه والإيضاح" 1/ 21، و"تهذيب اللغة" 1/ 823 (حسن)، و"الأغاني" 9/ 38، و"أمالي القالي" 2/ 109، و"تاج العروس" (سوأ) 1/ 176. (6) "زاد المسير" 4/ 291، والبغوي 4/ 280، والثعلبي 7/ 113 أ.

النعمة في إخراجه من السجن كانت أعظم، إذ كان دخوله السجن سبب ذنب هم به. وقوله تعالى: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} والبدو (¬1): بسيط الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد، وأصله من بدا يبدو بدوًا، إذا خرج إلى المراعي في الصحاري، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال: بدو وحضر، قال قتادة (¬2): كان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مَوَاشٍ وبريَّة. وقال ابن عباس (¬3) في رواية عطاء والضحاك: كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم على يوسف، وله بها مسجد تحت جبلها. قال ابن الأنباري (¬4): بدا اسم موضع معروف يقال: هو بين شعب وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميل أوكثير فقال (¬5): وأنتِ التي حَبّبْتِ شَغْبًا إلى ... بدا إليَّ وأوْطَانِي بلادٌ سِواهُمَا والبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (بدا) 1/ 287، و"اللسان" (بدا) 1/ 235. (¬2) الطبري 13/ 71، وأخرجه ابن أبي حاتم 7/ 2203 عن قتادة وأبو الشيخ عن علي ابن أبي طلحة كما في "الدر" 4/ 72. (¬3) الرازي 18/ 215، والقرطبي 9/ 267. (¬4) الرازي 18/ 215. (¬5) البيت لكثير وهو في "ديوانه" ص 363، و"خزانة الأدب" 9/ 462، و"الدر" 6/ 83، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص 1288، و"اللسان" (بدا) 1/ 236، و"معجم ما استعجم" ص230، ونسب لجميل بثينه في "ملحق ديوانه" ص 245، و"ديوان المعاني" 1/ 260، ولكثير ولجميل في "شرح شو اهد المغني" 1/ 464، و"معجم البلدان" 3/ 351، وفيه (التي) بدل الذي، وشغبي: يوضع في بلاد بني عُذرة به منبر وسوق، وبدا: واد قرب إيلة من ساحل البحر، وقيل بواد القرى وقيل بوادي عُذرة قرب الشام. انظر: "معجم البلدان" 1/ 356 - 357.

يقال بدا القوم يبدون بدوًا، إذا أتوا بدًا، كما يقال: غار القوم غورًا، إذا أتوا الغور، فكان تلخيص الحرف: {وَجَاءَ بِكُمْ} من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده (¬1) حضريين؛ لأن البدو لم يرد به البادية، لكنه عني به قَصْدُ بدا. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} قال أبو عبيدة (¬2) معناه: أفسد وحمل بعضنا على بعض، قال ابن عباس (¬3): دخل بيننا بالحسد، ومضى الكلام في نزغ الشيطان في آخر سورة الأعراف (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} قال الأزهري (¬5): اللطيف من أسماء الله عز وجل معناه: الرفيق بعباده، عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصَّلُ إليك أربك في رفق. ثعلب عن ابن الأعرابي (¬6): يقال: لطف فلان لفلان يلطف، إذا رفق لطفًا. قال أهل التفسير (¬7): إن ربي عالم بدقائق الأمور وحقائقها، إنه هو العليم بخلقه الحكيم فيهم بما يشاء. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (وولد)، من غير هاء. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 319. (¬3) القرطبي 9/ 267. (¬4) عند قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [آية: 200]، وقال هنالك ما ملخصه: نزغ الشيطان وساوسه وتحسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي، وروى أبو عبيد عن أبي زيد: نزعت بين القوم إذا أفسدت. (¬5) "تهذيب اللغة" (لطف) 4/ 3267 وفيه عمرو عن أبيه أن قال .. ، وانظر: "اللسان" (لطف) 7/ 4536. (¬6) "اللسان" (لطف) 7/ 4036، و"تهذيب اللغة" (لطف) 4/ 3267. (¬7) الثعلبي 7/ 113 أ، و"زاد المسير" 4/ 291.

101

101 - قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} الآية، قال ابن عباس (¬1): ثم دعا ربه وحمده وشكره فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}، وذكر أبو إسحاق (¬2) وأبو بكر في (من) هاهنا قولين: أحدهما: أنها للتبعيض، وكذلك هي في قوله: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}؛ لأنه كان قد ملك مصر ومُلْك مصر قطعة من الملك، وعبارة الرؤيا جزء من علم تأويل الأحاديث. الثاني: أن (من) دخلت للتجنيس، وتلخيصها: آتيتني من جنصر الملك ومن جنس تأويل الأحاديث كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] أي: اجتنبوا الرجس الذي هو وثن، ولم يؤمروا باجتناب بعض الأوثان. قال أبو بكر: والقول هو الأول؛ لأن (¬3) (من) تأتي مجنسة عند تمام الكلام نحو قولهم: قطعت ثوبًا من الخز، وعليه جبة من الوشي، ولا يكاد يقال: قطعت من الوشي، ولبست من الخز، إلا والمفعول مقدر في النية، و (ءاتيتني) في الآية غير مستغنى عما بعده، فيكون (من) مفسرة في موضع النقص بفتح، وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أتت فيه من مفسرة مجنسة بعد كلام لو اقتصرت عليه عقل، قال: ويجوز أن يكون المعنى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} الملك، وعلمتني تأويل الأحاديث، فأكد الكلام بمن كما أُكِّد بها في قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد: 15]. ¬

_ (¬1) انظر: ابن كثير 2/ 529. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 129. (¬3) لأن: زيادة من (ب).

وقوله تعالى: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} قال ابن عباس (¬1): يريد تفسير الأحلام وقد مر. وقوله تعالى: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس (¬2): كنت بما أدري ما (فاطر السموات والأرض)، حتى احتكم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها، وقال ابن الأعرابي (¬3): يقول أنا أول من فطر هذا، أي: ابتدأه، ثم فسر ابن عباس {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} يريد: خالق السموات، ومن هذا قوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} [هود: 51] أي: خلقني. وقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] و"كل مولد يولد على الفطرة" (¬4) أي: الخلقة التي فطر عليها في الرحم من سعادة أو شقاوة. وقال أهل المعاني (¬5): أجل الفطر في اللغة: الشق، يقال: فطر ناب البعير، أي: بزل، وفطرت الشيء فانفطر، أي: شققته فانشق، وتفطرت الأرض بالنبات، والشجر بالورق، إذا تصدعت، هذا أصله ثم صار عبارة عن الشق عن الأمر باختراعه، فكل من أظهر أمرًا اخترعه على ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 154. (¬2) الرازي 18/ 217، و"تهذيب اللغة" (فطر) 3/ 2803، و "اللسان" (فطر) 6/ 3433. (¬3) "تهذيب اللغة" (فطر) 3/ 2803، و"اللسان" (فطر) 6/ 3433. (¬4) أخرجه البخاري بنحوه عن أبي هريرة (1358) كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يُصَلّى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ وأطرافه في 1359، 1385، 4775، 9599، وأخرجه مسلم بنحوه أيضًا (2658) كتاب القدر باب معنى (كل مولود يولد على الفطرة ..). (¬5) "تهذيب اللغة" (فطر) 3/ 2803 - 2805، و"اللسان" (فطر) 6/ 3432 - 3433، والرازي 18/ 217.

غير مثال، يقال: قد فطره، وفطر السموات والأرض اختراعهما بما هو كالشق عما يظهر به، قال الزجاج (¬1): ويكون نصبه من وجهين: أحدهما: على الصفة لقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي} وهو نداء مضاف في موضع نصب، ويجوز أن ينصب على نداء ثان. وقوله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} قال قتادة (¬2): سأل ربه اللحوق به قال: ولم يتمن نبي قط الموت قبله، وكثير من المفسرين (¬3) على هذا، وقال ابن عباس (¬4) في رواية عطاء: يريد لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه، وهذا لا دليل فيه على تمني الموت، بل هو دليل على سؤال أن يكون موته على الإسلام إذا كان. وقوله تعالى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن عباس (¬5) وغيره من المفسرين (¬6) يعني: بآبائه إبراهيم وإسما عيل وإسحاق، والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم (¬7) ودرجاتهم. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 130. (¬2) الطبري 13/ 73، وأحمد في "الزهد"، وابن أبي حاتم 7/ 2204 كما في "الدر". (¬3) أخرجه الطبري 13/ 73، 74، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن إسحاق، و"زاد المسير" 4/ 292، وابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس كما في "الدر" 4/ 73. (¬4) "زاد المسير" 4/ 292. (¬5) الطبري 13/ 73، وابن المنذر وابن أبي حاتم 8/ 2781، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 73. (¬6) الثعلبي 7/ 114 أ، وأخرجه أبو الشيخ، عن الضحاك وابن أبي حاتم 7/ 2205، عن وهب، وأحمد وابن أبي حاتم 7/ 2204 - 2205، وابن جرير عن قتادة كما في "الدر" 4/ 73. (¬7) (ومراتبهم): زيادة من (ب).

102

102 - قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} قال أبو إسحاق (¬1) المعنى: قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك، فأنزلته عليك دلالة على إثبات نبوتك، قال: وموضع "ذلك" رفع بالابتداء ويكون خبره {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} ويكون {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبرًا ثانيًا {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} قال ابن عباس (¬2): يريد عند إخوة يوسف، (إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) بيوسف، وهذا دليل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته؛ إذ أخبر عن قوم لم يحضرهم ولم يشاهدهم. 103 - قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} قال ابن الأنباري (¬3): وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن قريشًا واليهود سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف وإخوته مُعنَتين، فشرحها شرحًا شافيًا، وهو يؤمل أن يكون سببًا لإيمانهم، فخالفوا ظنه وحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك فعزاه الله بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: لا يدخل في الإيمان كل من يكشف له دلائل الحق، ويقيم عنده أعلام الصدق، حتى يشاء الله ذلك، وقال أبو إسحاق معناه (¬4): وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على (¬5) أن تهديهم؛ لأنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 130. (¬2) الطبري 13/ 76، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2206 عن قتادة وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 74، وانظر: البغوي 4/ 282، و"زاد المسير" 4/ 293، والقرطبي 9/ 271، و"تفسير عطاء" ص 78. (¬3) "زاد المسير" 4/ 263، والرازي 18/ 223، و"البحر" 6/ 330. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 130. (¬5) في (ب): زيادة (آمنوا) بعد على.

104

يهدي من يشاء. قال أبو بكر (¬1): وجواب (لو) محذوف على تقدير وما أكثر الناس بمؤمنين، ولو حرصت على إيمانهم ما آمنوا، ولا يجوز أن يكون جواب (لو) مقدمًا عليها، من قال: لو قمت قمت، لا يقول: قمت لو قمت؛ لأن جواب لو مبني على التأخير. وقال الفراء في المصادر (¬2): يقال حرص يحرَص حرصًا، ولغة أخرى قليلة: حرِص يحرِص حرصًا، ومعنى الحرص: طلب الشيء باجتهاد. 104 - قوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} قال أبو إسحاق (¬3): وما تسألهم على القرآن وتلاوته وهدايتك إياهم من أجر. قال ابن عباس (¬4): من مال يعطونك، {إِنْ هُوَ} أي: ما هو {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}، إلا تذكرة لهم بما هو صلاحهم ونجاتهم من النار، والمعنى: إنا أنزلنا القرآن تذكرة للعالمين، وبعثناك مبلغًا بلا أجر؛ لئلا يمتنعوا من الإجابة لما يلزمهم من الأجر، فيكون أقرب إلى تصديقهم، وهذه الآية تأكيد للأولى؛ لأنه لما ذكر في الأولى أنه لا يؤمن إلا من شاء الله، وإن حرص النبي على ذلك، ذكر في هذه الثانية أنه أزاح العلة في التكذيب برفع الأجر، وانزال القرآن تذكرة وعظة، غير أنه مع هذا كله لا يؤمن إلا من يهديه الله وأراد إيمانه. ¬

_ (¬1) "الدر المصون" 6/ 560. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (حرص) 1/ 786، و"اللسان" (حرص) 2/ 835. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 130. (¬4) "تنوير المقباس" ص 154 بنحوه، وابن أبي حاتم 7/ 2207 بلفظ: عرضًا من عرض الدنيا.

105

105 - قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مضى الكلام في {وَكَأَيِّنْ} في سورة آل عمران (¬1)، قال المفسرون (¬2): آيات السموات: الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والأمطار، وكلها تجري بالمشاهدة مجرى القريب غير (¬3) القاصي، وآيات الأرض: البحار والجبال والشجر والثمر، ومعنى {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا}: يتجاوزونها غير مفكرين ولا معتبرين. قال أبو إسحاق (¬4): معناه: وكم من آية في السموات والأرض، تدلهم على توحيد الله، من أمر السماء وأنها بغير عمد لا تقع على الأرض، وفيها أعظم البرهان على أن لها (¬5) خالقًا، وكذلك فيما يشاهد في الأرض من نباتها وبحارها وجبالها. وقال عطاء عن ابن عباس (¬6) والكلبي (¬7): آيات الأرض آثار عقوبات (¬8) الأمم السالفة يمر أهل مكة على آثارهم إذا سافروا، ولا تتحرك أفئدتهم ولا يتعظون (¬9)، هذا معنى قوله: {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}. ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آية: 146]. (¬2) الطبري 13/ 76. (¬3) في (ج): (عن). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 131. (¬5) في (أ)، (ج): (الهًا). في "معاني الزجاج": وفيها أعظم البرهان والدليل على أن الذي خلقها واحد. وأن خالقًا، وكذلك فيما يشاهد. (¬6) القرطبي 9/ 272. (¬7) انظر: "البحر المحيط" 5/ 351. (¬8) في (ج): زيادة (في). (¬9) في (ج): (ولا يعظو) من غير نون.

106

وقال أبو إسحاق (¬1): أي لا يفكرون فيما يدلهم على توحيد الله. 106 - قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال المفسرون: لما سمع المشركون ما قبل هذه الآية قالوا: فإنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس (¬2) ومجاهد (¬3) وقتادة (¬4): وما يؤمن أكثرهم في إقراره بأن الله -عز وجل- خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادة الوثن، ونحو هذا قال عكرمة (¬5) والشعبي (¬6)، وعلى هذا المعنى: أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويجعلون له شركاء من الأصنام، قال الله: {إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} يعني: إلا وهم جاعلون (¬7) له شركاء في حال إيمانهم به، وهذا القول اختيار الفراء (¬8) والزجاج (¬9). وقال ابن عباس (¬10) في رواية الضحاك: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، فبين الله -عز وجل- أنهم كانوا يجعلون له شريكًا وقت تعبدهم وتقربهم إليه. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 131. (¬2) الطبري 13/ 77، وابن أبي حاتم 7/ 2207، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 75، و"زاد المسير" 4/ 294. (¬3) الطبري 13/ 77، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2207. (¬4) الطبري 13/ 78، وعبد الرزاق 2/ 328، و"زاد المسير" 4/ 293. (¬5) الطبري 13/ 77، 78، والثعلبي 7/ 115 أ، و"زاد المسير" 4/ 293. (¬6) الطبري 13/ 77، 78، والثعلبي 7/ 115 ب، و"زاد المسير" 4/ 293. (¬7) في (ج): (عاجلون). (¬8) "معاني القرآن" 2/ 55. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 131. (¬10) الثعلبي 7/ 115 ب، و"زاد المسير" 4/ 294، والبغوي 4/ 283.

107

وشرح ابن عباس (¬1) في رواية عطاء شرحًا شافيًا فقال: قال أهل مكة: ربنا وحده لا شريك له، والملائكة بناته فلم يؤمنوا، وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصأم شفعاؤنا عنده، فلم يؤمنوا. وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابنه، فلم يؤمنوا، وقالت النصارى: ربنا الله وحده والمسيح ابنه، فلم يؤمنوا، وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء يشفعون، فلم يؤمنوا، وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك له، فآمنوا وصدقوا. قال أبو علي الفارسي (¬2) في هذه الآية: ليس المؤمن هاهنا الذي آمن حقيقة، ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون، وقد يطلق على المُظْهر الإيمانَ بلسانه اسم مؤمن، ولا يجوز أن يراد بذلك المدح، وكان الاسم البخاري على الفعل. 107 - قوله تعالى (¬3): {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ} قال ابن عباس (¬4): يريد المشركين {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} عقوبة مجللة تغشاهم وتنبسط عليهم، قال الزجاج (¬5): أن يأتيهم ما يغمرهم من العذاب، {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي: فجأة وبغتة مصدر منصوب على الحال، يقال: بغتهم الأمر بغتًا، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا، قال ابن عباس (¬6): وذلك لا يكون إلا بغتة، وقد جاء أشراطها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) الرازي 18/ 224. (¬2) "الحجة" 1/ 225. (¬3) (قوله تعالى) ساقط من (ج). (¬4) الثعلبي 7/ 116 أ، القرطبي 9/ 273. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 131، وفيه أن يأتيهم ما يعجزهم من العذاب، وانظر: "الدر المصون" 6/ 560. (¬6) الثعلبي 7/ 116 أ، والقرطبي 9/ 273 بنحوه.

108

وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون هذا تأكيدًا لقوله (بغتة) وتشديدًا لتأويلها، ويجوز أن يكون على التقديم بمعنى: أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، وهم لا يشعرون وقوعها بهم. 108 - قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} قال المفسرون (¬1): قل لهم يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها سبيلي، قال ابن زيد (¬2): سُنَّتي ومنهاجي. وقال مقاتل (¬3): ديني، وسمى الدين سبيلًا لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، ومثله قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] أي: إلى دينه قال أبو علي (¬4): معنى السبيل في اللغة المدرجة والممر، ثم أشيع فيه حتى استعمل في المعتقدات والآراء في الديانات وغيرهما، كقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] الآية. وقولى تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} أي: معتقدي، وفسر السبيل بقوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} قال ابن عباس (¬5): يريد على دين ويقين، والبصيرة: المعرفة التي يميز بها الحق من الباطل، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104]. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 79، والثعلبي 7/ 116أ، والبغوي 4/ 284، و"زاد المسير" 4/ 395. (¬2) الطبري 13/ 80، وابن أبي حاتم 7/ 2209، وانظر: "الدر" 4/ 76، والثعلبي 7/ 116 أ، والقرطبي 9/ 274، و"البحر المحيط" 5/ 353. (¬3) "تفسير مقاتل" 158 أ، والثعلبي 7/ 116 ب. (¬4) "المسائل الحلبيات" ص. 20. (¬5) البغوي 4/ 284، وابن عطية 8/ 95.

وقوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يجوز أن يكون (من) عطفًا على المضاف إليه في: {سَبِيلِي} فيكون في [محل الخفض، ويجوز أن يكون عطفًا على الضمير في: {أَدْعُو} فيكون في] (¬1) موضع الرفع، ويكون المعنى: أدعو إلى الله أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله، وهذا معنى قول الكلبي (¬2) وابن زيد (¬3)، فالأحق على من اتبعه أن يدكو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله، وهذا الوجه اختيار الفراء (¬4) قال: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو (¬5). قال ابن الأنباري (¬6): وليس من مؤمن إلا وهو يدعو إلى الله جل وعلا، من قبل أنه لا يخلو من تلاوة القرآن، وكل آية من القرآن تدعو إلى الله -عز وجل- وبينة على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال: ويجوز أن ينقطع الكلام عند قوله (الله) ثم ابتدأ فقال: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فيرتفع من بالنسق على (أنا) وترتفع (أنا) بعلى لأنهما ابتداء وخبر، وهذا معنى قول ابن عباس (¬7): قال يعني أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين آمنوا معه، كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) "تنوير المقباس" ص 154، والثعلبي 7/ 116 ب. (¬3) الثعلبي 7/ 116ب. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 55. (¬5) في (أ)، (ج) تكرار: قال ابن الأنباري: وليس من مؤمن إلا وهو يدعو إلى الله كما أدعو. (¬6) "زاد المسير" 4/ 295. (¬7) الثعلبي 7/ 116 ب، وابن أبي حاتم 4/ 247 أ.

109

وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} عطف على قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} أيَ: قل هذه سبيلي، وقك سبحان الله تنزيهًا لله عما أشركوا، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين اتخذوا مع الله ضدًا أو ندًا أو كفوًا أو ولدًا. 109 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} قال ابن عباس (¬1): يريد ليس فيهم امرأة {نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} قال: يريد أهل المدائن؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبيًا من بادية، وقال الحسن (¬2): لم يبعث الله نبيًا من أهل البادية قط ولا من الجن ولا من النساء. وقال المفسرون (¬3): أهل الأمصار أحدّ فطنًا وأعلم وأشدّ تيقظًا، إذ سكن البادية يغلب عليهم القسوة والجفاء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بدا جفا، ومن أَتبع الصيد غفل، ومن لزم أبواب الملوك افتتن" (¬4) وفي هذا رد لإنكارهم نبوته، يقول: لم يبعث قبلك إلا رجالاً، فكيف تعجبوا من إرسالنا إياك، ومن قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك، ومن قبلهم من الأمم المكذبة كانوا على مثل حالهم، فأهلكناهم، فذلك قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} هو يعني: المشركين المنكرين لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بهم. ¬

_ (¬1) "البحر المحيط" 5/ 353، و"زاد المسير" 4/ 295، وابن كثير 2/ 544، والقرطبي 9/ 274. (¬2) "زاد المسير" 4/ 295، والقرطبي 9/ 274، وابن عطية 8/ 96. (¬3) الطبري 13/ 80، وهو مروي عن قتادة، والثعلبي 7/ 116 ب، والبغوي 4/ 285، وابن عطية 8/ 96، وابن أبي حاتم 7/ 2210. (¬4) أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 371، 2/ 440، عن أبي هريرة، وفي 4/ 297 عن البراء، وصحح أحمد شاكر إسناده تحت رقم: (8823)، 17/ 24، وانظر: "صحيح الجامع" (6123)، (6124).

وقوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} قال الفراء (¬1): أضيفت الدار إلى الآخرة، وهي الآخرة، وقد تضيف العرب الشيء إلى نفسه، إذا اختلف اللفظ، كقوله: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، ويوم الخميس، وجميع الأيام يضاف إلى أنفسها لاختلاف لفظها. وقال أبو إسحاق (¬2) المعنى: دار الحال الآخرة؛ لأن للناس حالين: حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله قولهم: صلاة الأولى، أي: صلاة الفريضة الأولى، والساعة الأولى، هذا كلامه، وقد ذكرنا نحو هذا في سورة الأنعام لتوجيه قراءة ابن عامر (¬3). وقال ابن الأنباري (¬4): الدار يعني بها الجنة، وهذا قول ابن عباس (¬5) في هذه الآية قال: الدار هي الجنة، والآخرة يقصد بها: قصد المدة وتلخيصها: ولجنة (¬6) المدة الآخرة، والأمة الآخرة، يعني بالأمة: الزمان، خير للمتقين. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 55. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 131. (¬3) عند قوله تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} [الأنعام: 32]، قال هنالك: قرأ ابن عامر: (ولدار الآخرة) بالإضافة، قال الفراء: يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولهم: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين. فإذا اتفقا لم تقل العرب: حق الحق ولا يقين اليقين. وعند البصريين لا يجوز إضافة الثسيء إلى نفسه وإن اختلف اللفظ، وقالوا في قراعه ابن عامر: لم يجعل (الآخرة) صفة (للدار) لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولكنه جعلها صفة الساعة وكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة. (¬4) انظر: القرطبي 9/ 275. (¬5) "تنوير المقباس" ص 154 (¬6) في (ج): (والجنة).

110

وهذا الذي قاله أبو بكر إنما هو على مذهب البصريين؛ لأن عندهم لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه وإن اختلف اللفظان (¬1)، وقال على مذهب الكوفيين: الدار نوع والآخرة جنس، وكانت إضافة النوع إلى الجنس يجري مجرى قولهم: قميص وَشْي، وجبَّة خَزّ إذ القميص من الوشي، فكانت الدار كأنها بعض الآخرة، إذ الآخرة يقع على معان كثيرة {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} هذا فتؤمنوا. 110 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} الآية، (حتى) هاهنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها كما يستأنف بعد "أما، وإذا"، وذلك أن (حتى) لها ثلاثة أحوال: إما أن تكون جارة، أو عاطفة، [أو كانت من حروف الابتداء، وليست هاهنا جارة ولا عاطفة] (¬2)، وحيث ينصب الفعل إنما ينصبه بإضمار أن، ومما جاء فيه (حتى) حرفًا مبتدأ كقوله (¬3): وحَتّى الجِيَادُ ما يُقَدْنَ بأرْسَانِ (¬4) ألا ترى أنها ليست عاطفة لدخول حرف العطف عليها، ولا جارة ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 160، و"البحر المحيط" 5/ 353، والقرطبي 9/ 275، وابن عطية 8/ 98. (¬2) ما بين المعقوفتين في (ب)، وهو ساقط من (أ)، (ج). (¬3) في (أ)، (ج): (وقوله تعالى). (¬4) البيت لامرئ القيس، وصدره: سريتُ بهم حتى تكلَّ مطيُّهُمْ وهو في "ديوانه" ص 95، و"الدر" 6/ 141، و"شرح أبيات سيبويه" 2/ 420، و"الكتاب" 3/ 27، و"اللسان" (غزا)، و"شرح شواهد الإيضاح" ص 228، و"شرح شواهد المغني" 1/ 374، و"شرح المفصل" 5/ 79.

لارتفاع الاسم بعدها، ومثله (¬1): حتى إذا سَلَخَا جُمَادَى ستةً ... جَزَءًا فطالَ صيامُه وصيامُها ومعني قوله: {اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} أي من إيمان قومهم، قال ابن عباس (¬2): يريد من قومهم أن يؤمنوا، وذكرنا الكلام في: {اسْتَيْأَسَ} عند قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [يوسف: 80]. وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} أي: أيقنوا أن قومهم قد كذبوهم، وهذا معنى قول عطاء (¬3) وقتادة (¬4) والحسن (¬5). وأكثر من قرأ (¬6) (كُذِّبوا) بالتشديد، وقالت عائشة (¬7) رضي الله عنها: ما زال النبلاء بهم حتى ¬

_ (¬1) البيت للبيد وهو من معلقته البيت رقم (28) في "شرح ديوانه" ص 305، و"تهذيب اللغة" (سلخ) 2/ 1731، و"اللسان" 4/ 2063، و"تاج العروس" (سلخ) 4/ 277، و (جمادى) ستة هي جمادى الآخرة، وهي تمام ستة أشهر من أول السنة. (¬2) الطبري 13/ 83، وأبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي في "الكبرى" 6/ 369 (11256)، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2211، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 77، والثعلبي 7/ 117 ب، و"زاد المسير" 4/ 296. (¬3) "زاد المسير" 4/ 296. (¬4) الطبري 13/ 88، وعبد الرزاق 2/ 329، والثعلبي 7/ 118 أ، والبغوي 4/ 286. (¬5) الطبري 13/ 88، و"زاد المسير" 4/ 296. (¬6) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {كُذِبُوا} الشديد، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {كُذِبُوا} بالتخفيف. وكلهم بضم الكاف. انظر: "السبعة" ص 351، 352، و"إتحاف" / 268، والطبري 13/ 85، 87، وابن عطية 9/ 392، و"البحر" 5/ 354. (¬7) الطبري 13/ 87، وأبو عبيد والبخاري (4695) كتاب التفسير، باب قوله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} والنسائي في "الكبرى" 6/ 369 (11254)، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2211، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 77، والثعلبي 7/ 118أ.

ظنوا أن من آمن بهم من أتباعهم قد كذبهم (¬1) فأتاهم نصر الله عن ذلك، وعلى هذا القول: الظن بمعنى الحسبان، والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم، والمعنى: ظنت (¬2) الرسل ظن حسبان أن أتباعهم من الأمم قد كذبتهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخيره عنهم، وطول البلاء بهم، لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً، وهذا التكذيب أيضًا لم يحصل من أتباعهم المؤمنين؛ لأنه لو حصل لكان نوع كفر، ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبُطء النصر، وعلى القول الأول الظن بمعنى: اليقين والتكذيب المتيقن من جهة الكفار، وعلى القولين جميعا الكناية في (ظنوا) للرسل. وقرأ أهل الكوفة (كُذِبوا) مخففة، ومعناه: ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم، هذا معنى قول ابن عباس (¬3) وابن مسعود (¬4) وسعيد بن جبير (¬5) ومجاهد (¬6) وابن زيد (¬7) والضحاك (¬8) وعامة المفسرين وأهل المعاني (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): (كذبوهم). (¬2) في (أ)، (ج): {ظَنَنتُ} بنونين. (¬3) الطبري 13/ 82 - 87، وأبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي في "الكبرى" 6/ 369 (11256)، وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2212، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 77. (¬4) الطبري 13/ 85، وعبد الرزاق 2/ 329، وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ كما في "الدر". (¬5) الطبري 13/ 84 - 86، وأبو الشيخ، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 77. (¬6) الطبري 13/ 84. (¬7) الطبري 13/ 84 - 85. (¬8) الطبري 13/ 85. (¬9) الطبري 13/ 85، والثعلبي 7/ 117 أ، والبغوي 4/ 286، و"زاد المسير" 4/ 296، وابن عطية 8/ 100، و"البحر المحيط" 5/ 354، والقرطبي 9/ 275، و"معاني الفراء" 2/ 56، و"معاني الزجاج" 3/ 132.

و (كُذبوا) من قولهم: كذبتك الحديث، أي: لم أصدقك، ومنه قوله تعالى (¬1): {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90]، قال أبو علي (¬2): والضمير في قوله: {وَظَنُّوا} على هذه القراءة للمرسل إليهم، لتقدير ظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به، من أنهم لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من إمهال الله إيماهم، ولا يمتنع حمل الضمير في {وَظَنُّوا} هو على المرسل إليهم وإن لم يتقدم ذكرهم؛ لأن ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم، وإن شئت قلت: إن ذكرهم جرى في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109] فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل، والظن هاهنا على معنى: التوهم والحسبان. وهذا معنى ما روى سفيان عن أبي حصين (¬3) عن عمران بن الحارث (¬4) عن ابن عباس (¬5) أنه قال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} من قومهم ¬

_ (¬1) (تعالى) ساقط من (أ)، (ج). (¬2) "الحجة" 4/ 442. (¬3) هو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي، روى له الجماعة، ثقة ثبت سنّي، ربما دلّس، توفي سنة 127 هـ. انظر: "التقريب" ص 384 (4484). وفي رواية الطبري حصين بدل أبي حصين، وحصين هذا هو حصين بن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي، ثقة تغيّر حفظه في الآخر، روى له الجماعة، توفي سنة 136 هـ، انظر: "التقريب" ص 170 (1369). (¬4) عمران بن الحارث السلمي، أبو الحكم الكوفي: ثقة، روى لي مسلم والنسائي، روى عن ابن عباس. انظر: "التقريب" ص 429 (5147). وهذا الإسناد صحيح. (¬5) الطبري 13/ 82، وفي الرواية سفيان، عن حصين، عن عمران، عن ابن عباس.

الإجابة، وظن القوم أن الرسل قد كُذِبُوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم، والثاني: وتيقن الرسل أنهم قد كُذِبُوا في وعد قومهم إياهم الإيمان: أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا. والأول هو قول سعيد بن جبير (¬1) رواه إسماعيل بن علية (¬2) عن أبي المعلى (¬3) عنه. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس (¬4): أنه قرأ: (وظنوا أنهم كذبوا) يذهب إلى أن الرسل ضُعفوا، فظنوا أنهم قد خُلفوا، قال ابن عباس (¬5): وكانوا بشرًا. قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا غير معول عليه من جهتين: إحداهما (¬6): أن التفسير فيه ليس عن ابن عباس، لكنه من [متأول] تأوله عليه، والأخرى: أن في قوله: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} دلالة على أن أهل الكفر لما ظنوا ما لا يجوز ظن مثله واستضعفوا رسل الله، نصر الرسل ولو كان ¬

_ (¬1) في الطبري 13/ 84، رواية إسماعيل بن علية، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد (20007)، وفي رواية أخرى: وهيب، عن أبي المعليّ العطار، عن سعيد (20010). (¬2) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف بابن عُليّه، ثقة حافظ، روى له الجماعة، توفي سنة 193 هـ. انظر: "التقريب" ص 105 (416). (¬3) هو يحيي بن ميمون الضبي، أبو المعلي العطار الكوفي، ثقة، روى له البخاري تعليقًا، والنسائي وابن ماجه، توفي سنة 132 هـ. انظر: "التقريب" ص 597 (7658). (¬4) الطبري 13/ 87. (¬5) الطبري 13/ 87. (¬6) في (ج): (إحديهما).

الظن للرسل كان ذلك منهم خطأً عظيمًا لا يستحقون ظفرًا ولا نصرًا، وتنزيه الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلًا. وقال أبو إسحاق (¬1) منكرًا لهذا التفسير: وذلك بعيد في صفة الرسل. يروى عن عائشة (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوعد بشيء يخلف فيه، وعنها (¬3) أيضًا أنها قالت: معاذ الله أن تظن الرسلُ هذا بربها. قال أبو علي (¬4): وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا، فقد أتى عظيمًا لا يجوز أن ينسب مثلُه إلى الأنبياء، لأن الله سبحانه لا يخلف الميعاد ولا مبدل لكلماته، هذا قول من أنكر هذه الرواية. وقال الأزهري (¬5): إن صح هذا عن ابن عباس فوجهه عندي -والله أعلم- أن الرسل خطر في أوهامهم ما يخطر في أوهام البشر، من غير أن حققوا تلك الخواطر، ولم يكن ظنهم ظنًّا اطمأنوا إليه، ولكن كان (¬6) ظنًا بخاطر، وقد روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تجاوز الله عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد" (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 132. (¬2) الطبري 13/ 87، وصححه أحمد شاكر في تعليقه، و"الفتح" 8/ 140. (¬3) الطبري 13/ 87، وابن أبي حاتم 7/ 2211، وأخرجه البخاري (4695) كتاب التفسير باب: قوله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}، والحاكم في "المستدرك" 3/ 349، وقال على شرط الشريخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬4) "الحجة" 4/ 443. (¬5) "تهذيب اللغة" (كذب) 4/ 3115. (¬6) في "التهذيب" 4/ 3115: ونكنه كان خاطرًا بغلبة اليقين. (¬7) أخرجه الترمذي بلفظه (1183) الطلاق واللعان، باب: ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وبنحوه في البخاري، (2028) كتاب العتق باب: الخطأ والنسيان في العتاقة، والطلاق وفي مسلم (127) كتاب: الأيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر.

وقوله تعالى: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} قال ابن عباس (¬1): يريد نصر النبيين. {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} كتبت في المصحف بنون واحدة كراهة لاجتماع المثلين، كما كتبوا: الدنيا والعليا ومحيا ونحو ذلك، بالألف؛ كراهة لاجتماع المثلين، ولولا ذلك لكتبت بالياء كما كتبت: حبلى ونخشى، وما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء، فلما كرهوا اجتماع المثلين في الخط حذفوا النون، وقوى ذلك أنه لا يكون في هذه النون إلا الإخفاء ولا يجوز البيان؛ لأنها لا تتبين عند حروف الفم فأشبه بذلك الإدغام؛ لأن الإخفاء لا يتبين فيه الحروف المخففة (¬2) كما أن الإدغام لا يتبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام، فلما وافوا هذه النون المدغم استحبوا حذفه من الخط، ولأجل (¬3) هذه [السورة من الخط قرأ عاصم (فُنُجِّي) (¬4) مشدّدة الجيم مفتوحة الياء بنون واحد، وقوى هذه] (¬5) القراءة أنه عُطِفَ عليه فعل ¬

_ (¬1) الطبري بلفظ فينصر الله الرسل 13/ 83. (¬2) في (ب): (المخفا الصحيح). (¬3) في (ج): (لأجل) من غير واو. (¬4) قرأ ابن عامر وعاصم (فنُجِّي) مشددة الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي (فنُنْجي) بنونين الأول مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة وروى عن أبي عمرو (فَنَّجِّي) يدغم. انظر: "السبعة" ص 352، و"إتحاف" /268، والطبري 13/ 89، و"البحر" 5/ 355. (¬5) ما بين المعقوفين في (ب) وساقط من (أ)، (ج).

111

مسند إلى المفعول وهو قوله: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وأما قراءة العامة {فننجي من نشاء} وقال أبو علي (¬1): هو حكاية حال، ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت، كما أن قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] أشار إلى الحاضر والقصة ماضية لأنه حكى الحال. 111 - قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} قال ابن عباس (¬2): يريد إخوة يوسف وهم الأسباط، "عبرة" قال (¬3): يريد فكرة، قال ابن الأنباري: معنى الاعتبار عند أهل اللغة: الاستعلام للشيء بالدلائل والشواهد من خواطر العقول وغيرها، يقول الرجل لغيره: اذهب فاعتبر وزن هذا الدرهم، يريد: استعمله وابحث عن خبره، وهذا يرجع إلى الفكر الذي فسره ابن عباس. وقال غيره (¬4): معنى الاعتبار التدبر والنظر في الأمر كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (¬5) أي: تدبروا وانظروا فيما نزل بقريظة والنضير، فقايسوا أفعالهم واتعظوا بالعذاب الذي نزل بهم. وقال أبو الهيثم (¬6): العابر الذي ينظر في الكتاب فيعبره، أي: يعتبر ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 445. (¬2) "تنوير المقباس" ص 154، وانظر: الثعلبي 7/ 118 ب، والبغوي 4/ 287، و"زاد المسير" 4/ 297. (¬3) الطبري 16/ 312، وابن أبي حاتم 7/ 2213، وأبو الشيخ عن ابن عباس: معرفه، كما في "الدر" 4/ 87. (¬4) انظر "تهذيب اللغة" (عبر) 3/ 3305 - 3306، و"اللسان" (عبر) 5/ 2783. (¬5) الحشر: 2، وفي جميع النسخ: يا أولي الألباب، وهو خطأ. (¬6) "تهذيب اللغة" (عبر) 3/ 2305.

بعضه ببعض حتى يقع فهمه عليه، وهذا كله راجع إلى معنى الفكرة، والتدبر أخذ من العبرة وهو الجانب، كأن المعبر باستدلاله وتفكره يعبر عن جانبه الذي هو فيه إلى جانب البصيرة والعلم، فمعنى العبرة: الدلالة التي بها يعبر إلى العلم والبصيرة من الجهل والحيرة، والعبارة دلالة يعبر المعني من نفس القائل إلى نفس السامع، وقد ذكرنا نحو هذا عند قوله: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]. قال أهل المعاني (¬1): ووجه الاعتبار بقصصهم هو أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن كان لبعض أهلها في حكم العبد، وجمع بينه وبين والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة - لقادرٌ على أن يعز محمدًا، ويعلي كلمته، وينصره على من عاداه. وقوله تعالى: {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} إن قيل: إن قوم محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا ذوي عقول وأحلام وفيهم من لم يعتبر بهذه القصص فلم عم الله تعالى أهل الألباب بالعبرة؟ قال أبو بكر بن الأنباري (¬2): إن جميعهم عُرِّضوا للاعتبار بما سمعوه، فمنهم من اعتبر، ومنهم من أبى ذلك، إيثارًا لهواه وعنادًا، فلم يخرج عن أن يكون له عبرة لو اعتبر. وقال غيره (¬3): أراد بأولي الألباب هاهنا: من اعتبر وتفكر وعلم ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 297. (¬2) الرازي 18/ 228. (¬3) انظر: الطبري 13/ 90، و"البحر المحيط" 5/ 356.

الحق، وذلك أن من لم يعتبر بمثل هذا لا يكون له عقل سليم، فلا يكون من جملة العقلاء الذين يوصفون بالاعتبار. وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أي: ما كان قصصهم حديثًا يتقوله بشر، على هذا دل كلام ابن عباس (¬1): ويجوز أن يكون المعنى: ما كان القرآن حديثًا يفترى، {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، أي: من الكتب، أي: يصدق ما قبله من التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب، قاله ابن عباس (¬2) والحسن (¬3) وقتادة. ونصب (تصديق) على تقدير: ولكن كان تصديق الذي بين يديه، كقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40]: قاله الفراء (¬4) والزجاج (¬5)، قالا: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه من أمور الدين من الحلال والحرام والحجاج والاعتبار، هذا إذا قلنا: ما كان القرآن، وإن قلنا: ما كان القصص، فالمعنى: وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإخوته. وهكذا فسر ابن عباس (¬6) فقال في رواية عطاء والضحاك: ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 155. (¬2) انظر: "زاد المسير" 4/ 297، البغوي 4/ 287، ابن كثير 2/ 546. (¬3) الطبري 13/ 90، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 78 عن قتادة، وابن أبي حاتم 7/ 2213 عن قتادة. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 56. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 133. (¬6) "زاد المسير" 4/ 298، و"البحر المحيط" 5/ 356.

{وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} من خبر يوسف وإخوته وأمورهم. وعلى التفسيرين جميعًا: قوله {كُلِّ شَيْءٍ} من العام الذي أريد به الخاص كقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] يريد كل شيء يجوز أن يدخل فيها. وقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] أي: من كل شيء يجوز أن يؤتى مثلها. وقوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} قال ابن عباس (¬1): يريد بيانًا ورحمةً لقوم يؤمنون: أي يصدقون بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 298، و"تنوير المقباس" ص 155

سورة الرعد

سورة الرعد

1

تفسير سورة الرعد بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {المر} قال ابن عباس (¬1): معناه أنا الله أعلم وأرى، وقال في عطاء (¬2): يريد أنا الله الملك الرحمن، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} يجوز أن يكون (تلك) إشارة إلى ما مضى، من ذكر الأخبار والقصص بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، قبل هذه الآية، ويجوز أن يكون (تلك) بمعنى هذه، وقد ذكرنا ذلك عند قوله: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، والكتاب يعني به: التوراة والإنجيل في قول مجاهد (¬3) وقتادة (¬4)، وقال ابن عباس (¬5): يريد القرآن. وقوله تعالى {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} قال الفراء (¬6): موضع (الذي) رفع بالاستئناف وخبره (الحق)، ويجوز على قول مجاهد أن يكون ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 91، و"زاد المسير" 4/ 300، والثعلبي 7/ 119 أ، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 80. (¬2) "زاد المسير" 4/ 300. (¬3) الطبري 13/ 92، و"زاد المسير" 4/ 4، والثعلبي 7/ 119 أ. (¬4) الطبري 13/ 92، و"زاد المسير" 4/ 4، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 81، والثعلبي 7/ 119 أ. (¬5) "زاد المسير" 4/ 4، الثعلبي 7/ 119 أ. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 57.

"الذي" عطفًا على الكتاب بمعنى: وآيات الذي أنزل إليك، ثم رفع (¬1) الحق على معنى: ذلك الحق، أو هو الحق كقوله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وعلى قول ابن عباس في الكتاب أنه القرآن يجوز أن يكون "الذي" من نعت الكتاب، وإن كان فيه الواو كقوله (¬2): إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمَام ... البيت) فعطف الواو وهو يريد واحداً، ويكون (الحق) مرفوعًا بما ذكرنا من الإضمار، هذا كله قول الفراء (¬3) وأبي إسحاق (¬4)، وزاد فقال: ويجوز أن يكون "الذي" رفعًا (¬5) عطفًا على آيات، ويكون (الحق) مرفوعًا على إضمار "هو"، فحصل في "الذي" وجهان للرفع، ووجهان للخفض. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس (¬6): يريد أهل مكة لا يؤمنون، وقال صاحب النظم: في هذه الآية، كأن قائلًا قال: الحق غير ما أنزل على محمد، فأجيب عن هذا القول بهذه الآية؛ أي: إن هذه الآيات والذي قبلها هو الحق، لا ما ذهبتم إليه. وهذا الذي ذكره معنى قول مقاتل (¬7)، فإنه قال: نزلت هذه الآية حين قال مشركو ¬

_ (¬1) في (ج): (يرفع). (¬2) البيت بلا نسبة في "الإنصاف" لابن الأنباري ص 376، و"خزانة الأدب" 1/ 451، 5/ 107، 6/ 91، و"شرح قطر الندى" ص 295، و"الكشاف" 1/ 41، و"البحر" 5/ 213، والقرطبي 1/ 272، والطبري 13/ 92. (¬3) معاني القرآن 2/ 57، 58. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 135. (¬5) كذا في النسخ ولعله (رفع). (¬6) "زاد المسير" 4/ 300. (¬7) "تفسير مقاتل" 158 ب، الثعلبي 7/ 119 أ.

2

مكة: إن محمدًا يقول القرآن من تلقاء نفسه. 2 - قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} قال أبو إسحاق (¬1): لما ذكر أنهم لا يؤمنون، عرف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق، فقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} الآية، العمد (¬2): الأساطين، ومنه قول النابغة (¬3): يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفّاح (¬4) والعَمَدِ وهو جمع عماد، يقال: عماد، وعُمَد، وعُمُد، مثل إهابٌ، وأهَبٌ وأُهُبٌ، قال ذلك أبو إسحاق (¬5) في قوله {عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9]، وقال الفراء (¬6): العُمُد والعَمَد جمع العمود، مثل أديم وأُدُم، وأدَم، وقَضْم وقُضْم، قُضُم والعماد والعمود ما يعمد به الشيء، يقال: عمدت الحائط أعمده عمدًا، إذا دعمته فاعتمد الحائط على العماد، أي امتسك به، ومن هذا يقال: فلان عمدة قومه؛ إذا كانوا يعتمدونه فيما يحزبهم. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 136. (¬2) "تهذيب اللغة" (عمد) 3/ 2561. (¬3) عجز بيت للنابغة وصدره: وخيس الجن إني قد أذنت لهم انظر: "ديوانه" ص 13، و"المحرر الوجيز" 8/ 111، و"البحر المحيط" 5/ 357، و"الدر المصون" 7/ 10، و"تهذيب اللغة" (عمد) 3/ 2561، و"مختار الشعر الجاهلي" 152، و"اللسان" (عمد) 5/ 3097، وخيس: ذلل، تَدْمر: بلدة بالشام، الصفاح: حجارة عراض رقاق. (¬4) في (أ)، (ب): (بالصفائح). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 362. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 291، وفيه: جمعان للعمود.

وقوله تعالى: {تَرَوْنَهَا} فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه كلام مستأنف، والمعنى رفع السموات بغير عمد، ثم قال {تَرَوْنَهَا} أي: وأنتم ترونها كذلك مرفوعة بلا عمد (¬1). قال ابن الأنباري (¬2): أفاد بقوله "ترونها"، أنهم يرونها بلا دعامة ترفعها، ولا شيء يمسكها من الوقوع، أي الذي تشاهدون من هذا الأمر العظيم وتعاينونه بأبصاركم يغنيكم عن الإخبار وإقامة الدلائل، "فترونها" على هذا القول، خبر مستأنف، قال: ويجوز أن يكون ترونها متعلقًا بالسموات، والباء من صلته، وتلخيصه: (ترونها) بغير عمد، فالباء معناها التأخير بعد الرؤية، و"ترونها" على هذا في موضع نصب في التقدير على الحال من "السموات". لو صرف إلى الدائم لقيل: رأيتها (¬3) أنتم بغير عمد، وإذا جعلناه خبرًا مستأنفًا غير متعلق بالباء، كان الباء من صلة الرفع، وقد حصل في "ترونها" قولان، وهذا على قول من يقول: إن الله تعالى (¬4) خلق السموات بلا عماد من تحتها. وهو قول ابن عباس (¬5) فيما روى جويبر عن الضحاك عنه قال: يعني ليس من دونها دعامة، ولا فوقها علاقة، وهو قول قتادة (¬6) وإياس بن ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ)، (ج). (¬2) "الأضداد" ص 268، و"الوقف والابتداء" 2/ 730، 731، و"زاد المسير" 4/ 301. (¬3) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب (رأيتموها). (¬4) (تعالى): ساقطة من (ج). (¬5) الثعلبي 7/ 199 ب. (¬6) الطبري 13/ 94، وعبد الرزاق 2/ 331، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 601.

معاوية (¬1)، ومقاتل (¬2) قال: من قائمات ليس لها عمد. والقول الثالث في (ترونها) أنه من نعت العمد، المعنى بغير عمد مرئية، وعلى هذا الجحد الداخل على العمد واقع في المعنى على الرُؤية، والتقدير: رفع السموات بعمد لا ترونها، والعرب قد تقدم الجحد من آخر الكلمةإلى أولها، ويكون ذلك جائزًا كما تقول: لا تكلمن بغير كلام يمله السامع. معناه: بكلام لا يمله السامع، ومنه [قول] ابن هرمة (¬3): ولا أَرَاهَا (¬4) تَزَالُ ظَالِمَةً ... يُحْدِثُ لي نَكْبَةً وتَنْكَأُهَا أراد: وأراها لا تزال ظالمة، وهذا التقدير على قول من قال: إن للسموات عمدًا ولكنا لا نراها، وهو قول ابن عباس (¬5) في رواية، قال: لها عمد على قاف، وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا، ولكنكم لا ترون العمد، وهذا قول مجاهد (¬6). وأنكر قوم هذا التأويل، وقالوا: لو كان لها عمد لكانت ترى، والله -عز وجل- إنما دل هذا على قدرته من حيث لا يمكن لأحد أن يقيم جسمًا بغير عمد إلا هو، وما ذكرنا من الأقوال في (ترونها)، والتقديرات فيه، من كلام ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 94، و"الدر المنثور" 4/ 81، والثعلبي 7/ 119 ب. وهو: إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني أبو واثلة، قاضي البصرة، تابعي ثقة فقيه يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والعقل والفطنة والفصاحة. توفي سنة 122 هـ. انظر: "حلية الأولياء" 3/ 123، و"تهذيب التهذيب" 1/ 197. (¬2) "تفسير مقاتل" 158ب، ولم أجده فيه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ج): (ولال راها). (¬5) الطبري 13/ 94، قال: بعمد لا ترونها، الرازي 18/ 232. (¬6) الطبري 13/ 93، وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 600، و"زاد المسير" 4/ 81.

الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وأبي بكر، وقال الزجاج في (¬3) نظم هذه الآية في سورة لقمان: من قال بعمد ترونها، يكون معنى (العمد) قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، وهي غير مرئية. وقوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي بالاستيلاء والاقتدار، ونفوذ السلطان، وأصله استواء التدبير، كما أن أجل القيام الانتصاب، ثم قال قائم بالتدبير، والمعنى: ثم استوى على العرش بالتدبير، للأجسام الذي قد كوّنها، فقوله {ثُمَّ} يدل على حدوث التدبير، والكلام في معنى الاستواء ماض بالاستقصاء في سورة البقرة (¬4). وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} معنى التسخير التذليل، قال أبو إسحاق (¬5): كل مقهور مدبّر لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر، فذلك مسخّر، وقال غيره (¬6): أصله: سخرت السفينة، إذا أطاعت وطاب لها ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 57. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 136. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 195. (¬4) عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، وخلاصة ما ذكره أن للاستواء معاني، منها: 1 - أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته. 2 - أن يستوي من اعوجاج. 3 - بمعى أقبل. 4 - بمعنى عمد وقصد. 5 - صعد. 6 - استولى. 7 - علا. وقد رجح تأويل الاستواء على كل حال وقصد نفي الصفة كما هو مذهب الأشاعرة. وقد تقدم التعليق على ذلك مرارًا. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 136. (¬6) نقله في "التهذيب" (سخر) 2/ 1650 عن الليث.

السير، وقد سخرها الله تسخيرًا، وأنشد (¬1): سَوَاخِرٌ في سَواءِ اليَمِّ تَحْتَفزُ وتسخرت دابة فلان، ركبتها بغير أجر، ومعنى تسخير الشمس والقمر، تذليلها لما يراد منها، وهو قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي إلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا. وهذا معنى قول ابن عباس (¬2) في رواية عطاء، قال: يريد أن (¬3) هذا كائن إلى يوم القيامة، وروي عنه (¬4) أنه قال: أراد بالأجل المسمى: انتهاؤهما في السير إلى درجاتهما ومنازلهما، وهو قول الكلبي (¬5)، قال: للشمس منازل معلومة، كل يوم لها منزل تنزله، حتى تنتهي إلى آخر منازلها، فإذا انتهت إليه لم تجاوزه ثم ترجع، فهذا الأجل المسمى، وللقمر كذلك. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْر} معنى التدبير: تصريف الأمر على ما يقتضيه مستدبر حاله في عاقبته، والله تعالى يدبر الأمر بحكمته. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي: يبين الآيات التي تدل على قدرته على البعث، وذلك أنهم كانوا يجحدون البعث، فأُعلموا أن الذي خلق السموات وأنشأ هذه الأشياء ولم تكن، قادرٌ على إعادتهم، وهو معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائله وهو بلا نسبة في كتاب "العين" المنسوب إلى الخليل 4/ 156، و"التهذيب" (سخر) 2/ 1650، و"اللسان" (سخر) 4/ 1963. (¬2) "تنوير المقباس" ص 155، و"زاد المسير" 4/ 301، والقرطبي 9/ 279. (¬3) ليس في (ب). (¬4) الثعلبي 7/ 120 أ، القرطبى 9/ 279، الرازي 18/ 233. (¬5) "زاد المسير" 7/ 19.

3

تُوقِنُونَ} قال ابن عباس (¬1): يقول لكي يا أهل مكة توقنون (¬2) بالبعث، وتعلموا أنه لا إله غيري. 3 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ}. قال أبو إسحاق (¬3): دلهم بعد أن بيّن [آيات السماء بـ] (¬4) آيات الأرض، قال: وهو الذي مد الأرض، روي في التفسير: أنها كانت مدوره فمدت. قال أهل اللغة (¬5): معنى المد: أخذ المجتمع بجعله على الطول والعرض، ولذلك قال الفراء (¬6): أي بسط الأرض طولاً وعرضًا. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي جبالًا ثوابت (¬7)، وقال ابن عباس (¬8): يريد أوتدها بالجبال، وذكرنا معنى الرسو والإرساء في سورة هود (¬9). وقوله تعالى {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} معنى الزوج في اللغة (¬10) شكل له قرين من نظير أو نقيض، فالنظيران كزوجين من خف أو نعل، والنقيضان كالذكر والأنثى، والحلو والحامض، والرطب واليابس، وقال أبو عبيدة (¬11): ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 155، وانظر: الطبري 13/ 95. (¬2) كذا في النسخ، ولعله خطأ من الناسخ وصحة الكلمة (توقنوا). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 137. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬5) "تهذيب اللغة" (مدد) 4/ 3361، و"اللسان" (مدد) 7/ 4157. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 58. (¬7) هذا قول الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 137. (¬8) "تنوير المقباس" ص 155. (¬9) عند قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [آية: 41] انظر: "اللسان" 3/ 1647 (سها). (¬10) "تهذيب اللغة" (زوج) 2/ 1574. (¬11) "مجاز القرآن" 1/ 321.

4

الزوج الواحد، ويكون اثنين، وقال الفراء (¬1): الزوجان اثنان الذكر والأنثى، والضربان، وذكرنا الكلام في هذا في سورة هود (¬2). قال الزجاج (¬3): أي جعل فيها نوعين، وهو معنى قول ابن عباس (¬4): يريد صنفين، قال ابن قتيبة (¬5): أراد من كل الثمرات لونين حلوًا (¬6) وحامضًا. وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} ذكرناه في سورة الأعراف (¬7). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أعلم أن ما ذكر من هذه الأشياء فيه برهان وعلامات لمن يفكر في عظمة الله وقدرته، ثم زادهم من البرهان. 4 - فقال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قال قتادة (¬8): قرى قريب بعضها من بعض. ومعنى المتجاورات: المتدانيات المتفاوتات في الكلام (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 58. (¬2) عند قوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [آية: 40]. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 137. (¬4) القرطبي 9/ 280، الثعلبي 7/ 120 أ. (¬5) " مشكل القرآن وغريبه" ص 230، الثعلبي 7/ 120 أ. (¬6) في (أ)، (ج): (حلوٌ). (¬7) عند قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54]. وقال هنالك: "والتغشية إلباس الشيء .. قال أبو إسحاق: والمعنى أن الليل يأتي على النهار ويغطيه، ولم يقل يغشى النهار؛ لأن في الكلام دليلًا عليه". (¬8) الطبري 13/ 97، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 83، و"زاد المسير" 4/ 302. (¬9) كذا في النسخ ولعلها (الكلأ).

قال مجاهد (¬1) وابن عباس (¬2) والضحاك (¬3)، يعني في الأرض منها عذبة ومنها مالحة، ومنها طيبة تنبت، ومنها سبخة لا تنبت، ونحو هذا قال الفراء (¬4)، ولا دليل في الآية على ما ذكروا؛ لأن قوله {قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} ليس فيه ما يدل على اختلافها في العذوبة والملوحة، وإنما تتبين الفائدة عند قوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ} وقد كشف ابن الأنباري على هذا، فموضع الآية ومحل الأعجوبة، أن القطع المتجاورة تنبت نباتًا مختلفًا، منه الحلو والعذب والحامض البعيد من الحلاوة، وشربها واحد ومكانها مجتمع لا تفاوت بينها ولا تباين، وفي هذا أوضح آية على نفاذ قدرة الله. وقوله تعالى: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} الجنة (¬5): البستان الذي تجنه الشجر، والمعنى: جنات من أعناب ومن زرع ومن نخيل، والدليل على أن الأرض إذا كان فيها النخل والكرم والزرع (¬6) تسمى جنة، قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] والنخيل: جمع نخل، يقال: نخلة، والجماعة نخل ونخيل، وثلاث نخلات. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 97، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 83، و"زاد المسير" 4/ 302. (¬2) الطبري 13/ 97 - 98، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 83، و"زاد المسير" 4/ 302. وهو قول عطاء كما في "تفسيره" ص 104. (¬3) الطبري 13/ 98، و"زاد المسير" 4/ 302. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 58. (¬5) "اللسان" (جنن) 2/ 705. (¬6) في (أ)، (ج): (فالزرع).

ومن قرأ (¬1) {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} بالرفع حملهما (¬2) علي قوله {وَفِي الْأَرْضِ} ولم يحملهما على الجنات، والجنة على هذا واقعة على الأرض التي فيها الأعناب دون غيرها. وقوله تعالى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} قال أبو عبيدة (¬3): الصنوان صفة للنخيل، وهي أن يكون الأصل واحداً ثم يتفرع فيصير نخيلاً، ثم يحملن، وهذا قول جميع أهل التفسير واللغة، قال ابن عباس (¬4): (صنوان)؛ ما كان من نخلتين أو ثلاث أو أكثر إذا كان أصلهن واحداً، و (غير صنوان) يريد: المتفرق (¬5) الذي هو واحدٌ واحد لا يجمعهما أصل واحد. وقال البراء بن عازب (¬6): الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص (وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغير صنوان) بالرفع، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) خفضًا. انظر: "السبعة" ص 356، و"إتحاف" ص 269، والطبري 13/ 89 - 99، و"زاد المسير" 4/ 302، والقرطبي 9/ 282. (¬2) في (أ)، (ج): (حملها). (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 322. (¬4) الطبري 13/ 99 - 100، وابن المنذر، وابن أبي حاتم 7/ 2220، وانظر: "الدر" 4/ 84. وهو قول عطاء كما في "تفسيره" ص 104. (¬5) في (ج): (المفترق). (¬6) الطبري 13/ 99، والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2221، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 63، والقرطبي 9/ 282، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 470. (¬7) في (ج): (المفترق).

وقال ابن الأنباري: الصنوان ما اجتمع أصله من النخل، والذي يفترق أصله فليس بصنوان، يقال: هذا صنو فلان، إذا كان أصلهما واحداً، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عم الرجل صنو أبيه" (¬1) يعني أن أصلهما واحد قال أبو عبيد (¬2): وأصل الصنو إنما هو في النخل، وقال شمر (¬3): يقال: فلان صنو فلان، أي: أخوه، ولا يسمى صنوًا حتى يكون معه آخر، فهما حينئذ صنوان، وكل واحد منهما صنو صاحبه. وقال أبو إسحاق (¬4): ويجوز في صنو أصناء، مثل عدل وأعدال، فإذا كثرت فهو الصّني والصنى. وقال أبو علي (¬5): الكسرة التي في صنوان ليست بالكسرة التي في صنو؛ لأن تلك قد حذفت في التكسير، وعاقبتها الكسرة التي يجلبها التكسير، وقد ذكرنا هذا في نظيره من الكلام، وهو قنوان في قوله: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام: 99] مستقصى، وروى القواس عن حفص (¬6) "صُنوانٌ" بضم الصاد، جعله مثل: ذيب وذوبان، وربما تعاقب فِعْلان وفُعْلان على البناء الواحد، نحو: حُش وحُشان. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (983) كتاب الزكاة، باب تقديم الزكاة، وأحمد في "مسنده" 2/ 322، 323، والترمذي (3761) كتاب: المناقب، باب مناقب العباس مختصرًا. وأخرجه الطبري 13/ 100 - 101. (¬2) "غريب الحديث" 1/ 217، و"التهذيب" (صنو) 2/ 2061. (¬3) "التهذيب" (صنو) 2/ 2561. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 138. (¬5) "الحجة" 5/ 9. (¬6) قال ابن مجاهد: حدثني الحسن بن العباس عن الحُلْواني عن القواس عن حفص. عن عاصم (صُنوانٌ) بضم الصاد والتنوين، ولم يقله غيره عن حفص، اهـ. "السبعة" ص 356.

قال أبو علي (¬1): وأظن سيبويه قد حكى فيه الضم، والكسر أكثر في الاستعمال. وقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} أي يُسقى هذه الأشياء بماء التي ذكرها من القطع المتجاورة، والجنات والنخيل المختلفهَ، ومن قرأ (¬2) {يُسْقَى} بالياء، كان التقدير: يسقى ما قصصناه وما ذكرناه، قال ابن عباس (¬3): يريد البئر واحد، والشرب واحد، والجنس واحد، {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} يخبر بعجائبه وقدرته في خلقه، وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أ: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}. قال: "الفارسي (¬4) والدَّقل (¬5) والحلو والحامض" (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة" 5/ 9. (¬2) اختلف القراء في الياء والتاء من قوله (يُسْقَى)، وفي النون والياء من قوله (ونُفضِّل). فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (تُسقى) بالتاء (ونفضل) بالنون، وقرأ حمزة والكسائي (تسقى) بالتاء ممالة القاف (ويفضل) بالياء مكسورة الضاد، وقرأ عاصم وابن عامر (يسقى) بالياء (ونُفضَّل) بالنون. انظر: "السبعة" ص 356، و"إتحاف" ص 269، والطبري 13/ 101 - 102، و"زاد المسير" 4/ 303، والقرطبي 9/ 289. (¬3) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 294 بنحوه. (¬4) الفارسي من التمر، لعله البرني، وهو ضرب من التمر أصفر مدور، عذب الحلاوة وهو أجوده. تعليق محمود شاكر على الطبري 13/ 103. (¬5) الدقل: أردأ أنواع التمر. (¬6) أخرجه الترمذي (3118) كتاب تفسير القرآن، باب ومن تفسير سورة الرعد، ولكنه قدم الدقل على الفارسي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 65. وأخرجه الطبري 13/ 103، وعلق عليه أحمد شاكر بقوله "فهذا إسناد كما ترى فيه من الهلاك، وانفراد الضعيف به فيه ما فيه، فكيف جاز للترمذي أن يحسنه مع =

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس (¬1) قال: يعني تُسْقَى القطع (¬2) كلها بماء السماء، و {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} يعني اختلاف الطعم والشجر. وقال أبو إسحاق (¬3): والأُكُل الثمر الذي يؤكل، ويفصّل الآيات بالياء؛ لأنه جرى ذكر الله تعالى، فالمعنى: يُفصِّلُ الله الآيات، وكذلك من قرأ بالنون؛ لأن الإخبار عن الله تعالى بلفظ الجماعة كقوله "إنا نحن"، وقال غيره (¬4): الأكل المهيأ للأكل، ومنه قيل: للرزق الأُكْل، يقال: فلان كثير الأُكْل من الدنيا. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. قال ابن عباس (¬5): يريد أهل الإيمان وهم أهل العقل الذين لم يجعلوا لله (¬6) ندًّا، وهذا دليل على أنه لم يجعل الكفار أهل عقل كعقل المؤمنين؛ لأنهم لم يستدلوا بهذه الأشياء على توحيد الصانع كما استدل أهل الإيمان. ¬

_ = هذه القوادح التي تقدح فيه من نواحيه اهـ. تعليق الطبري 16/ 345. وروى عن ابن عباس نحوه كما في الطبري 13/ 103. وأخرجه ابن المنذر والبزار وأبوالشيخ وابن مردويه، وابن أبي حاتم 7/ 2221، وانظر: "الدر" 4/ 85. (¬1) الطبري 13/ 103 بنحوه "تنوير المقباس" ص 155. (¬2) ليس (ج). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 138. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (أكل) 1/ 176، و"اللسان" (أكل) 1/ 100 - 101. (¬5) "تنوير المقباس" ص 155 بنحوه. (¬6) في (أ)، (ج): (الله).

5

5 - قوله تعالى {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} قال ابن عباس (¬1): يريد من كذيبهم إياك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين، وقال جماعة من أهل التفسير (¬2): وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعًا ولا ضرًّا، بعد ما رأوا من قدرة الله في خلقه الأشياء التي ذكرها، فعجبٌ قولهم {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} قال أبو إسحاق (¬3): أي هذا موضع عجب أنهم أنكروا البعث، وقد بيّن لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة مما قد تبينوا. قال ابن عباس: يريد فعجب قولهم أن ضعفوا قدرتي بإنكار البعث، وتلخيصه: إن تعجب يا محمد من اتخاذهم الأوثان وتكذيبك بعد البيان، فتعجب من هذا أيضًا، فإنه موضع العجب، ومعنى قوله: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُم} أي عندك؛ لأن الله تعالى لا يعجب من شيء (¬4). قال أبو علي (¬5): من قرأ (¬6) بالاستفهام في "أإذا" و"أإنَّا" فموضع {أَإِذَا} نصب بفعل مضمر، يدل عليه قوله: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، لأن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 7/ 2221، وأبو الشيخ عن الحسن نحوه كما في "الدر" 4/ 85، والقرطبي 9/ 284. (¬2) الطبري 13/ 103 - 104، الثعلبي 7/ 121 ب، "زاد المسير" 4/ 304، القرطبي 9/ 284. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 138. (¬4) سبق التعليق على نفيه هذه الصفة في مبحث منهجه في العقيدة. (¬5) "الحجة" 5/ 11. (¬6) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (أيذا كنا ترابًا أينا) جميعًا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير بالياء ساكنة من غير مدة، وقرأ نافع (أيذا) مثل أبي عمرو، واختلث عنه في المد، وقرأ (إنَّا) مكسورة الألف على الخبر، ووافقه الكسائى اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة (أءذاكنا .. أعنا) بهمزتين فيهما جميعًا، وقرأ ابن عامر (إذ كنا) مكسورة الألف من غير استفهام، (آءنا) يهمز ثم يمد ثم يهمز، في وزن عَاعنَّا. انظر: "السبعة" ص 357، و"إتحاف" ص 269، و"زاد المسير" 4/ 304.

هذا الكلام يدل على نُبعث ونُحشر، كأنه قال: أنبعث إذا كنا ترابًا، وهكذا إذا لم يدخل الاستفهام في الجملة الثانية؛ لأن ما بعد أن فيما قبله بمنزلة الاستفهام، في أنه لا يجوز أن يعمل، فلما قدرت هذا الناصب لـ"إذا" مع الاستفهام، [لأن الاستفهام] (¬1) لا يعمل ما بعده فيما قبله، كذلك تقدره في "أن"؛ لأن ما بعدها أيضًا لا يعمل فيما قبلها، وهذا الذي ذكره أبو علي هو شرح كلام أبي إسحاق (¬2) وقد ذكره. وقوله تعالى (¬3): {وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} الأغلال جمع الغل، وهو طوق (¬4) تقيد به اليد إلى العنق، يقال منه غل الرجل فهو مغلول. قال أبو إسحاق (¬5): جاء في التفسير أن الأغلال في أعناقهم يوم القيامة؛ والدليل على ذلك قوله (¬6) {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} إلى قوله {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} (¬7)، قال: ويجوز أن يكون معنى الأغلال هاهنا أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم، كما يقال للرجل: هذا غل في عنقك، للعمل السيء، معناه أنه لازم لك وأنك مجازى عليه العذاب. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ليس في (ج). (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 138. (¬3) في (ب): (وأولئك). (¬4) في (أ)، (ج): (طرق). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 139، وفيه: أن الأغلال الأعمال في أعناقهم. (¬6) في (ج): (تعالى). (¬7) غافر: 71 - 72.

6

6 - قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، قال ابن عباس (¬1): يريد العذاب قبل الرحمة (¬2). وقال أبو إسحاق (¬3): أي يطلبون العذاب بقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] قال المفسرون (¬4): يعني مشركي مكة؛ سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم العذاب استهزاءً منهم بذلك، كما أخبر عنهم في آية أخرى بقوله {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية، فالمراد بالسيئة هاهنا العقوبة المهلكة والعذاب، والحسنة هي العافية والرخاء، والله تعالى صرف عمن بعث إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - عقوبة الاصطلام (¬5)، وأخّر تعذيب مكذبيه إلى يوم القيامة، فذلك التأخير هو الحسنة. قال أهل المعاني: وهي إحسانه بالإنظار في حكم (¬6) الله أن يمهل هذه الأمة للتوبة، ثم يأخذ من أقام على الكفر بالعقوبة، وهؤلاء الكفار استعجلوا العذاب قبل إحسان الله معهم بالإنظار. وقوله تعالى {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} العرب (¬7) تقول ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 305. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 139. (¬4) الثعلبي 7/ 121 ب، والطبري 13/ 105، وقد روى هذا المعنى عن قتادة وغيره، و"زاد المسير" 4/ 305، والقرطبي 9/ 284. (¬5) الاصطلام: الاستئصال، واصطُلِمَ القوم: أبيدوا، والاصطلام: إذا أبيد قوم من أصلهم. انظر: "تهذيب اللغة" (صلم) 2/ 2047، و"اللسان" (صلم) 4/ 2489. (¬6) في (ب): (في حلم). (¬7) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3342، واللسان" (مثل) 7/ 4135.

للعقوبة: مَثُلة ومُثُلَة، مثل: صَدُقة وصًدُقَة، فالأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، ومن قال: مَثُلَة، جمعها مَثُلات، ومن قال: مُثْلَة، جمعها علي مُثُلات ومَثْلات، ومُثْلات، بإسكان الثاء، وهذا معنى قول الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وبعض عبارتهما. وقال ابن الأنباري (¬3): المثُلَة: العقوبة المبقية في المعاقَب شيئًا بتغيير بعض خَلْقه، الذي إذا أفسد قبحت معه الصورة، وهو من قولهم: مثَّل فلان بفلان، إذا شأن خَلْقه بقطع أنفه أو (¬4) أذنه أو سمل عينه أو بقر بطنه، يُمثّل مَثْلا بفتح الميم وسكون الثاء، فهذا الأصل، ثم يقال للعار الباقي والخزي اللازم: مُثْلَه. انتهى كلامه. وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه. قال أبو عبيدة (¬5): المثُلات هي الأمثال والأشباه والنظائر، يريد العقوبات التي يشبه بعضها بعضًا في الإهلاك، كعقوبات الأمم الماضية، ونحو هذا قال ابن قتيبة (¬6). وقال الزجاج (¬7): المعنى أنهم يستعجلون بالعذاب، وقد تقدم من العذاب ما هو مُثْلة، وما فيه نكالٌ لهم لو اتعظوا، فقوله: تقدم من العذاب ما هو مُثْلة، دليل على ما ذكرنا، وقال بعضهم: المثلات العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 59. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 139. (¬3) "زاد المسير" 4/ 306. (¬4) في (ب): (أنفه وأذنه). (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 323 قال: واحدتها مَثُلة ومجازها مجاز الأمثال. (¬6) "مشكل القرآن وغريبه" ص 230. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 140.

قال ابن عباس في قوله {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}، قال: ما مثّل الله بالمكذبين قبلهم، والذي يدل من التفسير على ما ذكرنا من الاشتقاق، ما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬1)، في قوله {الْمَثُلَاتُ} قال: الأمثال، قال أبو بكر: العقوبة يتذاكرها (¬2) الناس ويضربون بها الأمثال، [فسمي باسم هو من سببها، وعلى هذا سميت العقوبات أمثالًا لما يضرب بها من الأمثال] (¬3)، والصحيح في اشتقاق المُثْلة أنها العقوبة الظاهرة من قولهم: مثل الشيء، إذا ظهر وانتصب قائمًا، ومنه قول لبيد (¬4): ثم أصْدَرْنَاهُمَا في وارِدٍ .... صَادرٍ وهمٍ صُوَاه قد مَثَلْ أي انتصب وظهر، قال الأزهري (¬5) في هذه الآية: يقول يستعجلونك بالعذاب الذي لم أعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، فلم يعتبروا بها، وكان ينبغي أن يردعهم ذلك عن الكفر، خوفًا أن ينزل بهم مثل الذي نزل بمن كفر قبلهم. ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 105، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2223، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 86. (¬2) في (ج): (يتذاكراها). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج). (¬4) البيت في "ديوانه" ص 143، و"ديوان الأدب" 3/ 229، وكتاب "العين" 2/ 132، 7/ 423، و"تاج العروس" 15/ 684 (مثل)، و"مقاييس اللغة" 2/ 478، و"المعاني الكبير" ص 1101، و"تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3343، و"اللسان" (مثل) 7/ 4135. والوارد والصادر: الطريق، وهم. واسع ضخم، صوى الطريق: أعلامه، قد مثل: شخص وبرز. (¬5) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3342.

7

وقوله تعالى {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} قال ابن عباس (¬1): لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وصدقوا، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} للمصرِّين على الشرك، ونحو هذا قال الحسن (¬2): {لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} بالتوبة منه، فعلى هذا المراد بالناس المشركون وهو الظاهر؛ لأن الآية نازلة فيهم. 7 - قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} قال المفسرون (¬3): إن المشركين تحكموا في طلب الآيات من نحو تفجير الأنهار بمكة، ونقل جبالها عن أماكنها، لتتسع على أهلها أو إنزال منشور من السماء، أو آية كآيات موسى وعيسى، فذلك معنى قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} قال ابن عباس (¬4): يريد مثل الناقة والعصا، وما جاء به النبيون، وقال أبو إسحاق (¬5): طلبوا غير الآيات التي أتى بها، فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} قال ابن عباس: يريد بالنار لمن عصى الله. قال أهل المعاني: معناه إنما أنت منذر تنذرهم بالنار وليس إليك من الآيات شيء، إنما أمرها إلى الله تعالى، ينزلها على ما في معلومه. وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال ابن عباس (¬6) في رواية عطاء: ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 6306. (¬2) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 294 بنحوه. (¬3) الطبري 13/ 106، والثعلبي 7/ 112 أ، و"زاد المسير" 4/ 306، والقرطبي 9/ 285. (¬4) انظر: الرازي 19/ 13، وابن كثير 4/ 355. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 140. (¬6) "زاد المسير" 4/ 307.

يريد نبيًّا يدعوهم إلى الله تعالى، وهذا قول مجاهد (1)، وقتادة (2)، وابن زيد (3)، واختيار أبي إسحاق (4)، قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي نبي وداع إلى الله يدعوهم بما يُعْطَى من الآيات، لا بما يريدون ويتحكمون فيه، ودل على هذا المعنى ما سبق من الكلام. وقال في رواية عطية (5): الهادي هو الله تعالى، وهو قول سعيد (6) بن جبير والضحاك (7)، والمعنى على هذا: بك الإنذار والتخويف، والله تعالى هادي كل قوم، يهدي من يشاء، قال الضحاك: نظيره: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وقال الحسن (8)، وعكرمة (9)، وأبو الضحى (10): الهادي هاهنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى على هذا ما قاله الحسين بن الفضل (11): إن هذا على التقديم والتأخير، التقدير: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم، وليس إليك من الآية شيء، غير أنك تنذر وتدعو إلى الحق.

_ (1) الطبري 13/ 107 - 108، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم 7/ 2225، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 86 (2) الطبري 13/ 108، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 86، و"زاد المسير" 4/ 307. (3) الطبري 13/ 108، و"زاد المسير" 4/ 307. (4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 140. (5) الطبري 13/ 108 - 109. (6) و (7) الطبري 13/ 157. (8) "زاد المسير" 4/ 307. (9) الطبري 13/ 107، و"زاد المسير" 4/ 307. (10) الطبري 13/ 106، والثعلبي 7/ 122 أ، و"زاد المسير" 4/ 307. (11) انظر: الطبري 13/ 109، وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 86.

8

8 - قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} قال ابن عباس (¬1): يريد: ذكر أم أنثى، أم واحد أم اثنين أم أكثر (¬2). وقال غيره (¬3): الله يعلم في بطن كل حامل، من علقة أو مضغة أو ناقص أو زائد، على اختلافه في جميع أحواله. وقوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} الغيض النقصان لازمًا وواقعًا، ذكرنا ذلك عند قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44]، وضده الازدياد، وهو أيضًا لازم وواقع، وهما واقعان في الآية، ومفعولهما محذوف؛ لأنهما من صلة (ما) والراجع إلى الموصول يحذف كثيراً. واختلفوا في الذي تغيضه الأرحام وتزداده؛ فقال مجاهد (¬4): هو خروج الدم واستمساكه، فإذا خرج الدم خس الولد، وإذا استمسك الدم تم الولد، وهذا يدل على أن [الحامل] (¬5) تحيض فعلى هذا الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، وقال عكرمة (¬6): ما رأت من دم على حملها زاد ذلك في حلمها، ونحو هذا رواه عطاء عن ابن عباس (¬7)، فقال: وما تغيض الأرحام، يريد: من الدم عند الحمل، كما ذكرنا من قول مجاهد، والزيادة أن يزيد على تسعة أشهر. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 308، والقرطبي 9/ 285، والبغوي 3/ 297، والرازي 19/ 13. (¬2) كذا في النسخ والوسيط والمطبوع 3/ 7، وفي "الوسيط" النسخة المحققة 265: يريد ذكراً أم أنثى واحداً أم اثنين أم أكثر، وهو الصواب، والله أعلم. (¬3) "زاد المسير" 4/ 308. (¬4) الطبري 13/ 109 - 111، وابن أبي حاتم 7/ 2246. (¬5) في (أ)، (ج): (الجامع مل). (¬6) الطبري 13/ 111. (¬7) الطبري 13/ 109، وابن أبي حاتم 7/ 2226.

قال المفسرون (¬1) وأهل العلم: إذا حاضت المرأة على الحبل كان نقصانًا في غذاء الولد، وزيادة في مدة الحمل، حتى إن لها بكل يوم حاضته على حملها يومًا تزداده في طهرها، حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرًا، فإن رأت الدم خمسة أيام وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، وقال أكثر المفسرين: الغيض والزيادة يعودان إلى مدة الحمل، وتلخيصه: ويعلم الوقت الذي تغيضه الأرحام من المدة التي هي تسعة أشهر، وما تزداد على ذلك، قاله ابن الأنباري، وهو معنى قول أكثر المفسرين. قال ابن عباس (¬2) في رواية الضحاك: وما ينقص من التسعة الأشهر وما يزداد على ذلك، وهو قول عطية (¬3)، والحسن (¬4)، والضحاك (¬5)، قال: الغيض: النقصان من الأجل، والزيادة: ما تزداد على الأجل، وذلك أن النساء لا يلدن لعدة واحدة، ونحو هذا القول روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬6). وقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} ق ال ابن عباس (¬7): يريد علم كل شيء فقدره تقديرًا بما يكون قبل أن يكون، وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 123 أ. (¬2) "زاد المسير" 4/ 358، والقرطبي 9/ 286، وابن أبي حاتم 7/ 2226، 2227، عن الضحاك. (¬3) الطبري 13/ 112. (¬4) الطبري 13/ 111، و"زاد المسير" 4/ 308، و"تفسير القرآن العزيز" 2/ 295. (¬5) الطبري 13/ 111 - 112، و"زاد المسير" 4/ 308. (¬6) "تنوير المقباس" ص 156، وانظر: الطبري 13/ 109، وابن أبي حاتم 7/ 2226 (¬7) "زاد المسير" 4/ 308.

9

وأما معنى المقدار في اللغة (¬1) قال الليث: المقدار القدر، وأنشد (¬2). لو كانَ خَلْفَكَ أو أمَامَكَ هَائِبًا ... بَشَرًا سِوَاكَ لَهَابَكَ المِقْدَارُ يعني الموت، وقال: المقدار أيضًا الهنداز (¬3)، وهو ما يقدر به الشيء، فمن الأوّل يقال: الأشياء مقادير، ومن الثاني: يقال: الأشياء بمقادير، يقال: المطر ينزل بمقدار، أي بقدرَ وقدْر، والمقدار بالمعنيين يجوز في الآية؛ لأن كل شيء بقضاء عند الله وقدر، وكل شيء أيضًا عنده معلوم مقدر بمقدار لا يعلمه غيره. 9 - قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قال ابن عباس (¬4): يريد علم ما غاب عن جميع خلقه، وما شهد بما علموا الكثير، فعلى هذا الغيب مصدر يريد به الغائب، ومثله الشهادة يريد به الشاهد، ومعنى قوله: مما علموا الكثير؛ لأن الكثير من الشاهد يعلمه الخلق. وقوله تعالى: {الْكَبِيرُ} هو بمعنى العظيم والجليل، ومعناه يعود إلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلو، وهو أكبر من كل كبير؛ لأن كل كبير يصغر بالإضافة إليه. وقوله تعالى: {الْمُتَعَالِ} قال الحسن (¬5): المتعالي عما يقول المشركون. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (قدر) 3/ 2897، و"اللسان" (قدر) 6/ 3548. (¬2) البيت بلا نسبة في "اللسان" (قدر) 6/ 3548، و"تاج العروس" (قدر) 7/ 375. (¬3) الهنداز: معرب، وأصله بالفارسية أنْدازاه، يقال: أعطاه بلا حساب ولا هنْداز، ومنه: المُهَندزِ: الذي يقدر مجاري القُني والأبنية، إلا أنهم صيروا الزاي سينًا؛ لأنه ليس في كلام العرب زاي قبلها دال. "اللسان" (هندز) 8/ 4710. (¬4) القرطبي 9/ 289. (¬5) "زاد المسير" 4/ 309 والقرطبي 9/ 289، و"تفسير الحسن" 2/ 51.

قال الأزهري (¬1): المتعالي: الذي جلَّ عن إلحاد الملحدين، وأثبت (¬2) ابن كثير (ياء)، المتعالي وقفًا ووصلاً، وهو القياس، وليس ما فيه الألف واللام من هذا، كما لا ألف ولام فيه من هذا النحو، مثل: قاضٍ وغاز. قال سيبويه (¬3): إذا لم يكن في موضع تنوين، فإن البيان أجود في الوقف، نحو قولك: هذا القاضي؛ لأنها ثابتة في الوصل، يريد أن اللام (¬4) مع الألف واللام تثبت ولا تحذف، كما تحذف إذا لم يكن فيه الألف واللام، نحو: هذا قاضٍ، والياء مع غير الألف واللام تحذف في الوصل، فإذا حذفت في الوصل كان القياس أن تحذف في الوقف، وهي اللغة التي هي أشيع وأفشى، وأما إذا دخلت الألف واللام، فلا تحذف اللام في اللغة التي هي أكثر عند سيبويه. فأما من حذف في الوصل والوقف، فإن سيبويه زعم أن من العرب من يحذف هذا في الوقف، يشبهه بما ليس فيه ألف ولام، إذ كانت تذهب الياء في الوصل في التنوين، لو لم يكن فيه ألف ولام، وهذا في الوقف، وأما في الوصل فكان القياس أن لا تحذف؛ لأنه يوجب (¬5) حذف شيء، غير أن الفواصل تشبه القوافي. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (على) 5/ 3091. (¬2) من هنا نقل عن "الحجة" 5/ 13، 14 بتصرف إلى نهاية النص. (¬3) "الكتاب" 2/ 288، باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف وهي الياءات. (¬4) كذا في جميع النسخ، ولعلها الياء كما في "الحجة" 5/ 13، وإن قصد لام الكلمة صح المعنى. (¬5) كذا في النسخ ولا يستقيم المعنى إلا أن تقدر (لم) فيكون السياق؛ لأنه لم يوجب حذفه شيء. كما هو معنى ما في "الحجة" 5/ 14.

10

10 - قولى تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} الآية، قال الفراء (¬1) والزجاج (¬2): من رفع (سواء) وكذلك الثانية وسواء يطلب اثنين تقول: سواء زيد وعمرو، أي ذوي عدل، ويجوز أن يكون سواء بمعنى مستوٍ، فلا يحتاج إلى تقدير الحذف، إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول: مستوٍ زيد وعمرو؛ لأن أسماء الفاعلين عنده إذا كانت نكرة لا يبدأ بها. ذكر هذين الوجهين في (سواء) أبو إسحاق (¬3) وأبو بكر (¬4)، إلا أن أبا بكر يقول: جَعْل (سواء) بمنزلة مستوٍ أقوى وأصوب؛ لأنه خال من الإضمار ومعاملة الظاهر مع السلامة من المضمرات، إذا لم يلحق المعنى نقص - أولى. وقوله تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} يقال (¬5): أخفيت الشيء أخفيه إخفاءً، فخفي واستخفى، ويقال أيضاً: اختفى، وهي قليلة، واستخفى فلان من فلان، أي توارى واستتر منه. وقوله تعالى: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} قال الفراء (¬6)، وأبو إسحاق (¬7): ظاهر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 59. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 141، والسياق كذا في جميع النسخ وفيه سقط، وهو عند الزجاج -لأن العبارة عبارته- كالتالي: موضع (من) رفعٌ بسواء، وكذلك (من) الثانية يرتفعان جميعًا بسواء؛ لأن سواء يطلب اثنين. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 141. (¬4) "زاد المسير" 4/ 309. (¬5) "تهذيب اللغة" (خفى) 1/ 1070. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 60. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 141.

بالنهار في سربه، أي طريقه، يقال: خل له سربه، أي: طريقه، الأزهري (¬1)، والعرب تقول: سربت الإبل تَسرُب، وسرب الفحل سروبًا، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت، ومنه قوله (¬2): وكلُّ أناسٍ قَارَبُوا قيْدَ فَحْلهم ... ونحن جَعَلْنَا قَيْدَه فَهْو سارِبُ قال أبو إسحاق (¬3): معنى الآية: الجاهر بنطقه والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات، عِلْم الله فيهم سواء، ونحو هذا قال الفراء (¬4). وقال أبو العباس (¬5): المستخفي: المستتر، والسار: الظاهر، المعنى: الظاهر والخفي عنده واحد. قال ابن عباس: يريد علم ما نطقت به الألسنة وما أضمر الفؤاد، ومن هو مستخف بالليل وظاهر بالنهار، ونحو هذا قال قتادة (¬6): سارب ظاهر. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سرب) 2/ 1662. (¬2) هكذا البيت في جميع النسخ، وهو كذلك في القرطبي 9/ 290، وفي "التهذيب" 2/ 1662، (ونحن خلعنا قيده ..) وقد نسبه الأزهري للأخنس بن شهاب التعلبي، وهو كذلك في "اللسان" (سرب) 4/ 1980، و"شعراء النصرانية" ص 187، و"تاج العروس" (سرب) 2/ 73، و"جهرة اللغة" ص 309، و"التنبيه والإيضاح" 1/ 94، وبلا نسبة في "اللسان" (خلع) 2/ 1232، كتاب "العين" 1/ 118، و"تاج العروس" (خلع) 11/ 103. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 142. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 60. (¬5) "تهذيب اللغة" (خفى) 1/ 1070، و"اللسان" (سرب) 4/ 1980. (¬6) الطبري 36/ 114.

وقال مجاهد (¬1): مستخف بالليل يعمل السوءات، وسارب بالنهار ويظهرها، وهذا التفسير يحتاج معه إلى إضمار، كأنه مستخف بالليل بالمعاصي وظاهر بالنهار بها، هذا الذي ذكرنا في هذه الآية، هو قول أكثر أهل اللغة والتفسير (¬2). وقال الأخفش (¬3): المستخفي الظاهر، والسارب: المتواري، ومن هذا يقال: خفيت الشيء وأخفيته، أي: أظهرته، ومنه قول امرئ القيس (¬4): خَفَاهُنّ من أنْفَاقِهِنَّ ........ أي أظهرهن، واختفيت (¬5) الشيء، استخرجته، ويسمى التباس المختفي، والسارب: المتواري الداخل سرابًا، وانسراب الوحش إذا دخل ¬

_ (¬1) القرطبي 9/ 290. (¬2) الطبري 13/ 113، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 296، و"بحر العلوم" 2/ 186، وابن كثير 2/ 552، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 476، و"البحر" 5/ 370، و"فتح البيان" 7/ 25، 26، و"الدر المصون" 4/ 231. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 595، و"زاد المسير" 4/ 310، و"تهذيب اللغة" (خفي) 1/ 1070، و"اللسان" (سرب) 4/ 1980. (¬4) جزء من صدر بيت لامرئ القيس، والبيت بتمامه: خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهنّ ودق من سحاب مركب "ديوانه" ص 51، وفيه: (كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب)، و"المحتسب" 2/ 48، و"مجاز القرآن" 2/ 17، و"المخصص" 10/ 46، والقرطبي 9/ 290، و"تهذيب اللغة" (خفي) 1/ 1070، و"اللسان" 2/ 1216. وقوله: (خفاهن): أي: أظهرهن، والأنفاق: أسراب تحت الأرض، والودق: المطر، وخص مطر العشي؛ لأنه أغزر، والمجلب، الذي يسمع له جلبة لشدة وقعه. (¬5) في (ب): (واخفيت).

11

في كناسه، وهذا الوجه مذهب قطرب (¬1) أيضًا، وهو صحيح في اللغة غير أن الأول هو الاختيار، لما شهد به (¬2) الآثار. قال أبو بكر (¬3): الأوّل أثبت معنى في الآية؛ لأن الليل يدل على الاستتار (¬4)، والظهور يشاكل النهار لانتشار الناس فيه وبروزهم. 11 - قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} الآية، المعقبات: المتَنَاوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلاً منه، وهم الملائكة الحفظة هاهنا، في قول عامة المفسرين وأهل التأويل (¬5). قال الفراء (¬6): المعقبات: ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار. قال الأزهري (¬7): جعل الفراء عقب بمعنى عاقب، كما يقال: ضعّف وضاعف، وعقَّد وعاقد. وقال أبو الهيثم (¬8): كل من عمل عملًا ثم عاد إليه وعقب (¬9)، ومنه قيل للذي يغزو غزوًا بعد غزو، وللذي يتقاضى الدين فيعود إلى غريمه في تقاضيه، مُعَقَّب. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 310، و"اللسان" (سرب) 4/ 1982. (¬2) في (أ)، (ج): (شهدته). (¬3) "الأضداد" ص 76. (¬4) في (أ)، (ج): (نتشار). (¬5) الطبري 13/ 114 - 115، والقرطبي 9/ 291، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 296، و"البحر" 5/ 371، و"بحر العلوم" 2/ 187، و"فتح البيان" 7/ 26، 27، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 477، وابن كثير 2/ 552، و"الدر المصون" 2/ 60. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 60. (¬7) "تهذيب اللغة" (عقب) 3/ 2505. (¬8) المرجع السابق. (¬9) في "التهذيب": فقد عقب.

وقال شمّر (¬1): المعقب من كل شيء ما خَلَفَ يُعَقَّب ما قبله، والمعقبات: الكائنات بعضها بعد ذهاب بعض. وقال الزجاج (¬2): المعقبات: ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض، قال الفراء (¬3): والمعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة ومعقبات، كما قيل: ابناوات سعد ورجالات بكر، جمع رجال، والذي يدل على التذكير قوله: {يَحْفَظُونَهُ}، وقال الأخفش (¬4): إنما أنث لكثرة ذلك منها نحو: نسَّابة وعلَّامة، وهو ذكر. قال ابن عباس (¬5): وسعيد بن جبير (¬6)، والحسن (¬7)، ومجاهد (¬8)، وقتادة (¬9) وغيرهم: المعقبات: الملائكة الحفظة، ويدل على صحة هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر" الحديث (¬10)، وعلى هذا فسر قوله: {وقُرْآنَ الْفَجْرِ ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (عقب) 3/ 2505. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 142. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 60. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 596، و"تهذيب اللغة" (عقب) 3/ 2505. (¬5) الطبري 13/ 115، و"زاد المسير" 4/ 310، والقرطبي 9/ 293، وابن أبي حاتم 7/ 2230، وهو قول عطاء كما في "تفسيره" ص 112. (¬6) الطبري 13/ 117. (¬7) الطبري 13/ 115، و"زاد المسير" 4/ 310، والقرطبي 9/ 293. (¬8) الطبري 13/ 115، و"زاد المسير" 4/ 310، والقرطبي 9/ 293. (¬9) الطبري 13/ 116، والثعلبي 7/ 124 ب، و"زاد المسير" 4/ 310، والقرطبي 9/ 293. (¬10) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (555) كتاب الصلاة، باب: فضل صلاة العصر، وأخرجه (3223) كتاب بدء الخلف، باب: ذكرالملائكة، و (7429) =

إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قيل تصعد ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، والكناية في قوله (له) تعود على (من) في (من أسر) وهو واقع على العموم، وقيل: على اسم الله تعالى في عالم الغيب والشهادة، والمعنى: لله ملائكة حفظة تتعاقب في النزول إلى الأرض من بين يدي الإنسان ومن خلفه. وقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ذكر الفراء (¬1) في هذا قولين: أحدهما: أنه على التقديم والتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه، وعلى هذا لا يعلق ليحفظونه بمن، وهو معنى قول ابن عباس (¬2) في رواية سعيد في هذه الآية، قال: هم الملائكة، وهم من أَمْر الله. والثاني: أن هذا على إضمار، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: مما أمر الله به، قال ابن الأنباري فحذف الاسم وأبقى خبره، كما كتب على الكيس ألفان، يراد الذي في الكيس ألفان، ونحو هذا قال الزجاج (¬3)؛ لأنه قال: المعنى: حفظهم إياه من أمر الله. قال أبو بكر (¬4): وفي هذا قول آخر وهو أن مؤداه على معنى الباء، إذ الصفات يقوم بعضها مقام بعض، كما تقول: أجبتك من دعائك إياي، أي ¬

_ = كتاب التوحيد، باب: قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} و (7486) كتاب: التوحيد، باب: كلام الرب مع جبريل ونداء الملائكة، وأخرجه مسلم (632) كتاب المساجد، باب: فضل صلاة الصبح والعصر، وأحمد من حديث أبي هريرة 20/ 57 (10314) تحقيق شاكر، وصحح إسناده أحمد شاكر. (¬1) "معاني القرآن" 2/ 60. (¬2) الطبري 13/ 117. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 142. (¬4) "الوقف والابتداء" 2/ 733، والرازي 19/ 17.

بدعائك، والتأويل يحفظونه بأمر الله، وقد صحت هذه الأقوال، وذكرنا ما يشاكلها من قول المفسرين، وأما كيفية حفظهم إياه، فقال ابن عباس في رواية عكرمة (¬1): يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه. وروى ليث عن مجاهد (¬2) قال: ما من عبد إلا به ملك موكَّل بحفظه من الجن والإنس والهوام، فما منهم شيء يأتيه يريده، إلا قال: وراءك، إلا شيئًا يأذن الله -عز وجل- فيه فيصيبه. وقال كعب (¬3): لولا أن الله -عز وجل- وكَّل بكم ملائكة يذبُّون عنكم لتخطفتكم الجن، فعلى هذا يحفظونه من شر الجن والهوام وما لم يقدّر عليه. وقال ابن جريج (¬4): معنى (يحفظونه) يحفظون عليه، أي: يحفظون عليه الحسنات (¬5) والسيئات. قال أبو عبيد (¬6): يعني: يحفظون عليه قوله وفعله (¬7). ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 115، وعبد الرزاق 2/ 332، والفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 89، و"زاد المسير" 4/ 312، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 477. (¬2) الطبري 13/ 116، وذكره في "الدر" 4/ 91، والثعلبي 7/ 125 أ، و"زاد المسير" 4/ 312. (¬3) المراجع السابقة، والقرطبي 9/ 292. (¬4) الطبري 16/ 378، والثعلبي 7/ 125 أ، و"زاد المسير" 4/ 312، والقرطبي 9/ 292. (¬5) في (أ)، (ج): (الحساب). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 3/ 479. (¬7) قلت: رجح ابن جرير -رحمه الله- قولًا في هذه الآية غير ما ذكره الواحدي، فقال: (له معقبات) الهاء من ذكر (من) التي في قوله: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه هي حرسه وجلاوزته؛ لأنها أقرب مذكور =

12

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أي: لا يسلب قومًا نعمة حتى يعملوا بمعاصيه، قال ابن عباس (¬1): يريد العذر فيما بينه وبين خلقه، ويعني بهذا أهل مكة، كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]. وقوله تعالى {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} قال ابن عباس (¬2): يريد عذابًا، {فَلَا مَرَدَّ لَهُ}، قال الضحاك عن ابن عباس (¬3): لم تغن المعقبات شيئًا، وقال عطاء عنه (¬4): لا رادّ لعذابي ولا ناقض لحكمي، {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم. 12 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} قال ابن عباس (¬5): يريد خوفًا من الصواعق وطمعًا في المطر، وهذا قول الحسن (¬6). ¬

_ = من قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ}، ويدل على ذلك أيضًا قوله بعد: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} على أنهم المعنيون بذلك، وذلك أن الله ذكر قومًا أهل معصية له، وأهل ريبة يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم، ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حرسهم، ولا يدفع عنهم حفظهم. اهـ. الطبري 13/ 117. (¬1) أخرجه أبو الشيخ عنه كما في "الدر" 4/ 92 (¬2) "زاد المسير" 4/ 312، والقرطبي 9/ 294، و"تنوير المقباس" ص 156. (¬3) ابن أبي حاتم 7/ 2233. (¬4) انظر: "فتح البيان" 7/ 29. (¬5) "زاد المسير" 4/ 313. (¬6) "زاد المسير" 4/ 313، والقرطبي 9/ 295، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 298.

13

وقال قتادة (¬1): خوفًا للمسافر (وطمعًا للمقيم، وهذا قول أكثر أهل التأويل. قال أبو إسحاق (¬2) وأبو بكر: الخوف للمسافر) (¬3) لما تأذّى به من المطر، كما قال الله تعالى {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102]، والطمع: للحاضر المقيم؛ لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب. وقوله تعالى: {وَيُنْشِئُ} الإنشاء في المعنى كالاختراع وقد مر ذكره في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} [الأنعام: 141] (¬4)، قال ابن عباس (¬5): يقول كوني فتكون، والسحاب الثقال: قال يريد تحمل المطر، وقال مجاهد (¬6): ثقال بالماء. 13 - وقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الآية، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن اليهود سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال: "الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق يسوق بها السحاب حيث يشاء الله"، قالوا: فما الصوت الذي ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 123، وعبد الرزاق 2/ 33، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 94، وابن كثير 4/ 362، وهو مروي عن ابن عباس "زاد المسير" 4/ 313، و"تنوير المقباس" 156. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 142. (¬3) ما بين القوسين مكرر في (أ)، (ج). (¬4) وقال هناك ما ملخصه: أنشأ: أبدع، يقال: نشأ الشيء ينشأ نشأ ونشأةً ونشاءةً: إذا ظهر وارتفع. (¬5) انظر: الثعلبي 7/ 127 ب، و"زاد المسير" 4/ 313. (¬6) الطبري 13/ 124، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشخ كما في "الدر" 4/ 95، والقرطبي 9/ 295.

يسمع؟ قال: "زجره [بالسحاب إذا زجره] (¬1) حتى ينتهي إلى حيث أُمر"، قالوا: صدقت (¬2). وروى الضحاك عن ابن عباس (¬3): الرعد ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته، وهذا قول مجاهد (¬4)، وعطية (¬5)، وطاوس (¬6)، وعكرمة (¬7)، روى الحكم عن مجاهد قال: الرعد صوت ملك يسبح، وقال عكرمة: الرعد ملك يسوق السحاب كالحادي. وقال عطية: الرعد ملك وهذا تسبيحه، فعلى ما ذكرنا من هذه الأقوال، الرعد اسم للملك الموكل بالسحاب، وصوته تسبيح لله تعالى. ويسمى الرعد أيضًا، يدل على هذا ما روي أن ابن عباس كان إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له (¬8)، فجائز أن يكون ما يسمعه صوته يزجر به السحاب، وله تسبيح لا نسمعه يسبح الله به، فأخبرنا الله عن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) أخرجه الترمذي (3117) في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الرعد وقال: حديث حسن غريب، والنسائي (9705)، (9706)، في الكبرى عشرة النساء، باب: صفة ماء الرجل وصفة ماء المرأة، وصححه الألباني كما في "صحيح الترمذي" 3/ 65، وانظر: "السلسلة الصحيحة" (1872). (¬3) أخرجه ابن جرير وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 96. (¬4) أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 96. (¬5) الثعلبي 7/ 128 أ. (¬6) الطبري 13/ 124. (¬7) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر، والبيهقي في "سننه" كما في "الدر" 4/ 97، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 482. (¬8) أخرجه الطبري 13/ 124، وأخرج أيضًا عن علي، وطاوس نحوه، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 483.

ذلك، وخص هذا الملك بالإخبار عن تسبيحه لعلو صوته في أسماعنا، وعظم (¬1) شأنه من قلوبنا، وهذا معنى قول الزجاج (¬2)، وابن الأنباري (¬3) وذهب قوم إلى أن الرعد هو صوت السحاب، وأنه يسبح الله بعقل يجعله الله له، روى حميد بن عبد الرحمن عن شيخ أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله ينشئ السحاب، فينطق أحسن المنطق، ويضحك أحسن الضحك" (¬4) فذكر أن منطقه الرعد وأن ضحكه البرق، والعرب قد استعملت الرعد بمعنى صوت السحاب، روى الأثرم عن أبي عبيدة (¬5) قال: العرب تقول: جَوْن خزيْمٌ رعْدُه أجشُّ، قال أبو عبيدة: ففي هذا دليل على أن الرعد صوت السحاب، والجون هو السحاب الأسود، والأجش الذي فيه جُشَّة أي بُحّة. وأنشد أحمد بن يحيى [رحمه الله] (¬6): فيا ربوة الرّبْعَين حُيَّيت رَبْوة ... على النَّأْي مِنَّا واسْتَهَلَّ بك الرعْدُ ¬

_ (¬1) في (أ)، (ج): (وعظيم بالياء). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 143. (¬3) "زاد المسير" 4/ 314. (¬4) أخرجه أحمد 5/ 435، وابن أبي الدنيا في كتاب "المطر"، وأبو الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 475، عن أبي ذر الغفاري كما في "الدر" 4/ 95، وصححه الألباني. انظر: "صحيح الجامع الصغير" (1920)، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1665). (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 325. (¬6) ليس في (ب): [رحمه الله]. والبيت نسبه أحمد بن يحيى ليزيد بن الطثرية. انظر: "شعره" 66، و"الزاهر" 1/ 448.

يريد صوّت بك الرعد، تصويتًا (¬1) عاليًا رفيعًا، ويدل على صحة هذه الطريقة قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِه} فلو كان الرعد ملكًا لدخل في جملة الملائكة، ولم يفصل منهم، ومن قال بالقول الأوّل قال: إن الله تعالى أتى بالكل بعد البعض، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، فعمَّ بعد أن خَصَّ. ومن المفسرين (¬2) من يقول: عني بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد، جعل الله له أعوانًا، ومعنى: {وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته. قال ابن عباس (¬3): إنهم خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم، لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره، ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. وقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}، ذكرنا معنى الصواعق في البقرة [: 19]. قال المفسرون (¬4): نزلت هذه الآية في أربد وعامر بن الطفيل، أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمانه، ويريدان الفتك به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اكفينهما بما شئت"، فأرسل الله صاعقة على أربد في يوم صائف صاح، فأحرقته، وولى عامر هاربًا (¬5)، وألْزل الله في ذلك: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} كما أصاب أربد. ¬

_ (¬1) في نسخة (ج): (تصويت) (أ). (¬2) الثعلبي 7/ 128 ب. (¬3) "زاد المسير" 4/ 314، القرطبي 9/ 295. (¬4) الطبري 13/ 126، والثعلبي 7/ 125 ب، و"زاد المسير" 4/ 314، والقرطبي 9/ 296، وابن كثير 2/ 555. (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" 10/ 379 (1060)، وأبو نعيم في "الدلائل" 1/ 66 من طريق عطاء بن يسار، عن ابن عباس، وضعفه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 41، وقال فيه عبد العزيز بن عمران.

قوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ} قال أبو إسحاق (¬1): جائز أن يكون الواو واو حالٍ، فيكون المعنى: فيصيب بها من يشاء في حال جداله في الله، (وذلك أن أربد جادل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخبرني عن ربنا أمن نحاس أم حديد؟) (¬2)، فأحرقته الصاعقة (¬3)، فعلى هذا قال أبو بكر: جمع فعله؛ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 143. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ب). (¬3) بالنسبة لرواية عامر وأربد فقد أخرجها الطبري 13/ 126 عن ابن جريج قال: نزلت -يعني قوله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} - في أربد، أخي لبيد بن ربيعة؛ لأنه قدم أربد وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عامر: يا محمد، أأسلم وأكون الخليفة من بعدك؟ قال: "لا". قال: فأكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر؟ قال: "لا". قال: فما ذاك؟ قال: "أعطيك أعنة الخيل تقاتل عليها، فإنك رجل فارس"، قال لأربد: إما أن تكفينيه وأضربه بالسيف، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف، قال أربد: أكفنيه وأضربه، فقال ابن الطفيل: يا محمد إني لي إليك حاجة، قال: "ادن"، فلم يزل يدنو، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادنُ" حتى وضع يديه على ركبتيه وحنى عليه، واستل أربد السيف، فاستل منه قليلًا، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بريقه تعوّذ بآية كان يتعوذ بها، فيبست يدُ أربد عى السيف، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته. وأخرجه الطبري 13/ 119 - 120، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 92 - 93، عن ابن زيد بنحوه، وذكر الهيثمي 7/ 41، عن ابن عباس نحوه، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط والكبير" وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف. وأما الرواية الأخرى والتي فيها ما ذكره الواحدي هنا فقد وردت بألفاظ مختلفة ومنها: ما أخرجه النسائي والبزار وأبو يعلى والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في "الأوسط"، وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل"، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعث رجلاً من أصحابه إلى رأس من رؤوس المشركين يدعوه إلى الله، فقال المشرك: هذا الإله الذي تدعوني إليه، أمن ذهب هو أم من فضة، أم من نحاس؟ فتعاظم مقالته، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره، =

لأنه كان كما عامر جادلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم جماعة، وإن صرفت الجدال إلى أربد وعامر جاز؛ لأن العرب قد توقع الجمع على الواحد وعلى التثنية، ومضت لذلك نظائر. قال أبو إسحاق (¬1): وجائز أن يكون الواو استئنافًا كأنه لما تمم أوصاف ما يدل على قدرته، قال بعد ذلك: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} قال ابن عباس (¬2): يريد يكذبون بعظمة الله. ¬

_ = فقال: "ارجع إليه"، فرجع إليه فأعاد عليه القول الأول، فرجع فأعاده الثالثة، فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما، إذ بعث الله سحابة حيال رأسه فرعدت وأبرقت، ووقع منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى ت {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}. الطبري 13/ 126، و"الدر المنثور" 4/ 99، و"مجمع الزوائد" 7/ 42، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، ورواه الطبراني في "الأوسط"، ورجال البزار رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة، وفي رجال ابن أبي يعلى والطبراني علي بن أبي سارة وهو ضعيف. وقد علَّق عليه أحمد شاكر بتوثيق رجاله إلا علي بن أبي سارة الشيباني، ويقال له: علي بن محمد بن سارة، شيخ ضعيف الحديث، قال البخاري: ففي حديثه نظر، وقال أبو داود: ترك الناس حديثه، وقال ابن حبان: غلب على روايته المناكير فاستحق الترك، وقال العقيلي: علي ابن أبي سارة عن ثابت البناني، لا يتابع عليه، ثم روى له عن ثابت، عن أنس قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} ثم قال: ولا يتابعه عليه إلا من هو مثله أو قريب منه. قال أحمد شاكر: فهذا إسناد ضعيف جدًّا. اهـ."حاشية الطبري" 16/ 392، 393، وقد وردت أحاديث أخرى قريبة من هذا في الطبري 13/ 125 - 126، و"الدر المنثور" 4/ 99. فالذي يظهر لي أن الواحدي جمع بين الحديثين والله أعلم. وقد تابعه على ذلك نقلاً، عنه: الرازي 19/ 26، 27. وانظر: "زاد المسير" 4/ 314، 315، والبغوي 4/ 304، و"الكشاف" 2/ 353. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 143. (¬2) "زاد المسير" 4/ 315.

وقوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} قال أبو عبيدة (¬1): المحال عند العرب المكر والعقوبة والنكال، وأنشد للأعشى (¬2): فرعُ نَبْعٍ يَهْتَزُّ في غُصْنِ المَجْد ... غَزِيرِ النَّدَى عَظِيمِ المِحَال وأَما الكلام في اشتقاق هذا الحرف، فذهب قوم إلى أنه من الحول بمعنى الحيلة، (ومن هذا يقال المحالة بمعنى الحيلة. قال ابن قتيبة (¬3) في قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد الكيد والمكر، قال: وأصل المحال: الحيلة) (¬4) وروى هذا المعنى عن قتادة (¬5)، قال: شديد الحيلة والقوة. وروى ابن جريج عن ابن عباس (¬6) قال: المحال الحول، وعلى هذا القول، إنما جاز وصف الله بالاحتيال؛ لأن الله تعالى معجل لعدوه في ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 325. (¬2) قلت: في "مجاز القرآن" 1/ 325 (شديد المحال) بدل (عظيم) قال الطبري 13/ 127: هكذا كان ينشده معمر بن المثنى فيما حدثت به عن علي بن المغيرة عنه، وأما الرواة بعد فإنهم ينشدون: فرع فرع يهتزفي غصن المجد ... كثير الندى عظيم المحال والبيت في "ديوانه" ص 7، 9، و"السمط" ص 907، والقرطبي 9/ 299، و"اللسان" (محل) 7/ 4148، و"الزاهر" 1/ 102، و"العين" 3/ 241، و"البحر" 5/ 358، و"المحرر" 8/ 148، و"الدر المصون" 7/ 32، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 485. (¬3) "مشكل القرآن وغريبه" ص 231. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬5) الطبري 13/ 127، وعبد الرزاق 3/ 333، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 100. (¬6) الطبري 13/ 127.

الدنيا ما يحب، ويغيب عنه ما أعد له في الآخرة من العذاب، فشاكلت مماحلة الله مماحلة المخلوق، من جهة أن المماحل من المخلوق يضمر لصاحبه من الشر غير الذي يظهر، فمن هذه الجهة سميت باسمها، وإن كانت مخالفها في المعنى (¬1)، هذا كلام أبي بكر. وروى عباد بن منصور عن الحسن (¬2) في قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ} قال: شديد الحقد، قال أبو بكر: وهذا على ما بينا من أن غضب الله لما استسر (¬3) عن المغضوب عليه المعد له، أشبه حقد المخلوق الذي يستر في نفسه، إلى أن المخلوق ينزعج ويتأذى (¬4) عند الحقد والغضب، والله قد علا عن جميع هذا علوًّا كبيرًا. قال الأزهري (¬5): قول القتبي (¬6): أصل المحال الحيلة، غلط فاحش، وأحسبه توهم أن ميم المحال ميم مِفْعَل، وأنها زائدة، وليس الأمر كما توهمه؛ لأن (¬7) مِفْعلا إذا كان من بنات الثلاثة، فإنه يجيء بإظهار الياء الواو مثل: المِزَوَد، والمِجْوَل، والمِحْوَر، والمِزْيل، وما شاكلها، وإذا رأيت الحروف على مثال فعال، أوله ميم مكسورة فهي أصلية، مثل: ميم مهاد ومِلاك ومِراس، وما أشبهها. ¬

_ (¬1) انظر: منهجه في آيات العقيدة، وقوله: (وإن كانت مخالفها) كذا في جميع النسخ ولعلها: مخالفتها. (¬2) "زاد المسير" 4/ 316، وأخرجه أبو الشيخ عن عكرمة كما في "الدر" 4/ 100. (¬3) في (ج): (اسْتَتَرَ). (¬4) في (ب)، (ج): (وينادي). (¬5) "تهذيب اللغة" (محل) 4/ 3353. (¬6) (أ)، (ج): (القيس). (¬7) في (أ)، (ج): (أن).

قال الفراء (¬1) في كتاب "المصادر": المحال: المماحلة، يقال في فعلت منه: محلت أمْحَلَ مَحْلا، والمِحَال المصدر لفعلت فعالاً، وأما المحالة فهي مفعلة من الحيلة، قال الأزهري: وهذا صحيح كما قاله، وقال أبو إسحاق (¬2): يقال: ماحلته محالاً، إذا قاويته حتى يبين لك أيكما أشد، والمحل في اللغة الشدّة، وروى اللحياني عن الكسائي (¬3): يقال مَحّلني يا فلان، أي: قوني. قال الأزهري: ويقول الله شديد المحال، منه أي: شديد القوة، أما ما روى عن ابن عباس، المحال: الحول. قال أبو عبيد: ولم يعتد بفتح الميم ولا كسرها، قال: وهذا التفسير يوجب فتح الميم؛ لأن المحالة والمحال هما الحول، وأنشد (¬4): ما للرجَالِ مع القَضاءِ مَحَالَة ... ذَهَبَ القَضَاءُ بحِيلَةِ الأقْوَامِ وأما قولهم (¬5): تمَحّلت مالاً لغريمي، فإن بعض الناس ذهب إلى أنه من إمحالة بمعنى الحيلة، جعلت الميم في تمحلت كالأصلية مثل: تمكنت من المكان وأصله من الكون. قال الأزهري (¬6): وليس التمحل عندي من هذا، ولكنه من المحل وهو السعي، والماحل: الساعي، كأنه سعى في طلبه، ويتصرف فيه. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (محل) 4/ 3353. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 143. (¬3) "تهذيب اللغة" (محل) 3/ 3353. (¬4) نسبه في "الزاهر" 1/ 101 لبعض بني أسد. (¬5) "تهذيب اللغة" (محل) 4/ 3353. (¬6) المرجع السابق.

14

وقال مجاهد (¬1): المحال القوة، وقال نابغة بني شيبان (¬2): إنَّ مَنْ يَركبُ الفَوَاحِشَ سِرًّا ... حين يَخْلُو بسِرّه غَيْرُ خَالِ كيفَ يخْلُو وعِنْدَه كاتِبَاه ... شَاهِدَاه ورَبُّهُ ذو المِحَالِ وقال عبد المطلب بن هاشم (¬3): لا هم إنَّ المَرْء يمنعُ رَحْلَه فامْنَع حِلالَك ... لا يَغْلِبَنّ صَلِيبهُمُ ومِحَالُهم عَدَدًا مِحَالَك قال ابن الأنباري (¬4): أراد لا يغلبن مكرهم مكرك، وروى الضحاك عن ابن عباس (¬5) في هذه الآية: شديد المكر، فإن قلنا: إن المحال معناه القوة، فهو ظاهر، والميم فاء، وإن قلنا: معناه المكر والحيلة، كان الميم أيضًا أصلية، ويكون المماحلة بمعنى المماكرة والاحتيال. 14 - قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية، أكثر المفسرين على أن المراد بدعوة الحق هاهنا كلمة التوحيد والإخلاص، روى عكرمة عن ابن عباس (¬6): {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} قال: لا إله إلا الله، وهذا اختيار ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 127. (¬2) "ديوانه" ص 64، و"الزاهر" 1/ 102. (¬3) انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 51، و"تاريخ الطبري" 2/ 135، و"الزاهر" 1/ 101، و"المحرر" 8/ 148، و"البحر" 5/ 358، و"الدر المصون" 7/ 32، و"اللسان" (محل) 7/ 4148 (¬4) "الزاهر" 1/ 9، 10. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 100، و"زاد المسير" 4/ 316. (¬6) عبد الرزاق 2/ 334، والطبري 13/ 127، والفريابي، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" كما في "الدر" 4/ 100، والثعلبي 7/ 129 ب، والقرطبي 9/ 300، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 485.

الفراء (¬1)، والزجاج (¬2) وهو قول قتادة (¬3)، وابن زيد (¬4)، والمعنى على هذا: لله من خلقه الدعوة الحق، ولكن أضيفت الدعوة إلى الحق لما اختلف اللفظان، وقد ذكرنا مثل هذا، ويجوز أن يكون المعنى: دعوة الدين الحق، وقال الحسن (¬5): الله الحق، وقال في رواية عطاء والضحاك: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} معناه: هو الذي دعا إلى توحيده والاعتراف بأنه لا شريك له، وتفسير دعوة الحق (¬6) على هذا القول: له دعاء الحق ة لأنه دعاء إلى [عبادته وتوحيده] (¬7)، وكان ذلك حقًّا. قال أبو إسحاق: وجائز أن يكون (دعوة الحق)، أنه من دعا الله موحدًا استجيب له دعاه. قال أبو بكر: الدعوة على هذا التفسير يريد بها الدعوات فاكتفي من الجمع بالواحد، كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، ومعنى الدعوات: دعوات الداعين إياه، يلتمسون الإجابة وهم محقون في ذلك لأنهم سألوا من لا يخيب سائله ويقدر على الإجابة، وإنالة المطلوب، وهذا هو الوجه؛ وهو الأليق بما بعده من سياق الآية؛ لأنه ذكر أن الأصنام ¬

_ (¬1) في (ب) زيادة هاهنا: [فمن دعاه دعا الحق]. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 61. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 143. (¬4) الطبري 13/ 128، والقرطبي 9/ 300، وعبد الرزاق 2/ 334. (¬5) "زاد المسير" 4/ 317، والقرطبي 9/ 300. (¬6) هنا تكرار في (ب) لما سبق فقال: [معناه هو الذي دعا إلى توحيد والاعتراف بأنه لا شريك وتفسير دعوة الحق]. (¬7) في (أ)، (ج): (عادته وتوحده).

لايستجيبون للداعين، فقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} يعني الأصنام، يدعونها المشركون من دون الله، في قول جميع المفسرين (¬1)، وعبّر عنها كما يعبر عن المذكرين من العقلاء؛ لأنهم وصفوا أصنامهم بأوصاف الرجال العقلاء، فخاطبهم الله بما يعقلون وقد ذكرنا هذا عند قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} [الأعراف: 195]. وقوله تعالى: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} قال ابن عباس: يريد ليس لهم (¬2) ثواب، يعني للداعين إياه، لا ثواب لهم عندها، وقوله تعالى: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاه} فُسِّر هذا على ثلاثة أوجه، قال مجاهد (¬3): يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده؛ فلا يأتيه أبدًا، وهو اختيار أبي إسحاق (¬4)؛ لأنه قال معناه: إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء، يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، فأعلم الله أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان الماء إلى بلوغ فيه. {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} وما الماء ببالغ فاه، بدعوته إياه، والتقدير: إلا كاستجابة باسط كفيه، ويكون المصدر مضافًا إلى المفعول ثم حذف المضاف، الوجه الثاني من التفسير هو مذهب الكلبي (¬5) وغيره، قال: كماد يده إلى الماء من مكان بعيد وهو مشرف على ذلك الماء فلا يبلغه، ولا يبلغ ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 128، والثعلبي 7/ 129 ب، و"زاد المسير" 4/ 317، وابن كثير 2/ 556، والقرطبي 9/ 300. (¬2) (لهم) ساقط من (أ)، (ج). (¬3) الطبري 13/ 129، والثعلبي 7/ 129 ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 101. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 144. (¬5) "تنوير المقباس" ص 156.

الماء فاه، وقال عطاء (¬1): كالرجل العطشان الجالس على شفير البئر يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر، والماء لا يرتفع إلى يده، وهذا الوجه اختيار الفراء (¬2)، قال: يعني أن الأصنام لا تجيب داعيها بشيء إلا كما ينال الظمآن المشرف على ماء ليس معه ما يستقي به. فذلك قوله: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} وهذا الوجه كالأوّل، إلا أن في الوجه الأوّل شبهوا بمن يدعو الماء البعيد إلى نفسه والماء لا يستجيب، وفي الوجه الثاني شبهوا بمن يمد يده إلى الماء البعيد ليناله من غير آلة. الوجه الثالث: هو مذهب أبي عبيد (¬3) وابن قتيبة (¬4)، وهو أن العرب يضربون المثل لمن سعى (¬5) فيما لا يدركه، وتعاطى ما لا يجد منه شيئًا، بالقابض على الماء، وذلك أن القابض على الماء لا يحصل في يده منه شيء، المعنى لا يصير في أيديهم إذا دعوهم إلا ما يصير في يدي من قبض على الماء ليبلغ فاه، وأنشد أبو عبيدة قول ضابئ البُرْجُمِيِّ (¬6): فإنِّي وإيَّاكم وشَوْقًا إليْكُم ... كقابِضِ ماءٍ تَسْتقِيه أنَامِلُه ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 317، ورواه الطبري 13/ 129 عن علي -رضي الله عنه-، وأخرجه أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء كما في "الدر" 4/ 101، والثعلبي 7/ 129 ب. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 61. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 327. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص 231. (¬5) في (أ)، (ج): (يبتغي). (¬6) في "مجاز القرآن" 1/ 327، تقدمت ترجمته، وفيه (تسقيه) من غير تاء، وانظر: "مقاييس اللغة" 6/ 109، و"الخزانة" 4/ 80، و"مشكل القرآن وغريبه" ص 231، والطبري 13/ 129، والقرطبي 9/ 301، و"طبقات فحول الشعراء" ص 145، و"تاريخ الطبري" 5/ 137، 7/ 213، و"اللسان" (وسق) 8/ 4836. =

قال أبو عبيدة: تسقه: تجبه. وقال ابن الأنباري: يجمعه ويسقه يحمله، وأنشد أيضًا (¬1): فأصْبَحْتُ مِمّا كان بَيْني وبَيْنَها ... من الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ المَاءِ باليَدِ قال ابن قتيبة: وهذا من الاختصار؛ لأن التقدير: إلا كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه، أو قابضًا عليه ليبلغ فاه. وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬2): يريد عبادة الكافرين الأصنام في ضلال، وروى جويبر (¬3): وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله، وهذا التفسير لا يليق بما سبق من الآية؛ لأنه ذكر في الآية دعاء الكافرين الأصنام، وهو قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}،والذم لاحق بذلك الدعاء، وهو دعاهم إياها، ولم يذكر دعاهم الله تعالى، وجويبر ضعيف، والصحيح ما ذكرنا في رواية عطاء، ولعل ما رواه جويبر، رواه في نظير هذه الآية في سورة المؤمن، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50]، وذلك صحيح المعنى في تلك السورة (¬4). ¬

_ = والبيت من قصيدة له في السجن، وكان أعد حديدة يريد أن يغتال بها عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقوله (لم تسقه) من و (سقت الشيء أسقه وسقًا) إذا حملته. (¬1) البيت للأحوص بن محمد الأنصاري في "مجاز القرآن" 1/ 327، والطبري 13/ 129، والقرطبي 9/ 300 (فأصبحت). (¬2) "تنوير المقباس" ص 156. (¬3) الثعلبي 7/ 130 أ، و"زاد المسير" 4/ 318، والقرطبي 9/ 301. (¬4) ما رجحه الواحدي هو الصحيح والمناسب لسياق الآية، وهو الذي ذهب إليه الطبري 13/ 131، والثعلبي 7/ 130 أ، ومقاتل كما في "زاد المسير" 4/ 318، وابن كثير 2/ 557، والقرطبي 9/ 301.

15

15 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} قال المفسرون: المؤمنون والملائكة يسجدون لله تعالى طوعًا، والكافر يسجد كرهًا بالسيف، وهذا معنى قول الحسن (¬1)، وقتادة (¬2)، وابن زيد (¬3)، ونحو هذا قال الفراء (¬4)، الساجد طوعًا من أهل السموات والأرض: الملائكة، ومن دخل في الإسلام رغبة (¬5) فيه أو ولد عليه، ومن أكره على الإسلام فهو يسجد كرهًا، وهذا القدر لا يفتح معنى الآية؛ لأن قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يقع على كل من في الأرض من البشر، وليس جميع الكفار يسجدون كرهًا. واختلفوا في توجيه هذا، فذهب بعضهم إلى التخصيص، حكى ابن الأنباري عن بعض أهل العلم (¬6) قال: الملائكة وعباد الله الصالحون يسجدون لله طوعًا، والكافرون والمنافقون يسجدون خوف القتل، وقلوبهم تنطوي على الكفر، فعلى هذا يراد بقوله {كَرْهًا} من يسجد لله كرهًا من خوف السيف لا جميع الكفار، من العموم الذي دخله الخصوص، وعليه دل كلام الفراء؛ لأنه قال: ومن أكره (¬7) على الإسلام فهو يسجد كرهًا، ومن المفسرين من ذهب إلى أن الكره أيضًا من صفة المؤمنين، يسجد لله ¬

_ (¬1) أخرج أبو الشيخ نحوه كما في "الدر" 4/ 102، والقرطبي 9/ 301. (¬2) الطبري 13/ 131، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 102، والقرطبي 9/ 301. (¬3) الطبري 13/ 131، "زاد المسير" 4/ 318. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 61. (¬5) في (ب): (ورغبة) بزيادة واو. (¬6) قال بهذا القول الثعلبي 7/ 130 أ، والطبري 13/ 131، وهذا الراجح والله أعلم. (¬7) في (أ): (أكر) بغير هاء.

طوعًا بسهولة ونشاط، ومن المسلمين من يسجد لله كرهًا، لصعوبة ذلك عليه وإكراهه نفسه على أدائه، وهو في ذلك مسلم يحمل نفسه على الطاعة، ويجذبها إلى الحق، وهو يقبل عليها. وقال آخرون: يسجد المخلصون لله طوعًا، وبعض المسلمين كرهًا في ابتداء أمره، إلى أن يألف الحق، فعلى هذا لا مدخل للكافرين في الآية، هذا الذي ذكرنا طريقة التخصيص إما بالمسلمين وبعض الكفار، وإما بالمسلمين فقط. ومن المفسرين من أجراها (¬1) على العموم فقال: المعنى على ما ذكره المفسرون: أن السجود واجب لله تعالى، فالمؤمن يفعله طوعًا، والكافر يؤخذ بالسجود كرهًا، أي هكذا الحكم في وجوب السجود لله جل وعزَّ، فعلى هذا قوله: {يَسْجُدُ} المراد به الإخبار عمن يسجد طوعًا، وأمر بالإكراه على السجود في حكم الكافر، كأنه قال يؤخذون بالسجود كرهًا، ويكرهون عليه، وهذا (¬2) مستبعد من حيث اللفظ. ولأصحاب المعاني في الآية طريقة أخرى، وهو أنهم قالوا (¬3): سجود الكافر هو تذلُّله وانقياده لتصريف الله تعالى إياه فيما يريد من عافية إلى مرض، وغنى إلى فقر، وحياة إلى موت، ومعنى السجود الخضوع والتذلل والانقياد، والكافر لا يمتنع من هذا، فهو في حكم الساجد من هذا الوجه أي: المسخّر المنقَاد والمذلّل، كما تقول في سجود الجماد، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، وقوله: {وَلَهُ ¬

_ (¬1) في (ب): (أجرها) من غير ألف. (¬2) (وهذا) ساقط من (أ)، (ج). (¬3) "زاد المسير" 4/ 319.

أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، [آل عمران:83] ومضى الكلام في الآيتين. وقوله تعالى: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} الكلام في تفسير هذه الألفاظ قد سبق (¬1)، وأما المعنى فقال المفسرون: كل شخص مؤمن أو كافر، فإنه يسجد لله تعالى. قال مجاهد (¬2): ظل المؤمن يسجد طوعًا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعًا وهو كاره. وقال أبو إسحاق (¬3): جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله، وظله يسجد لله، فعلى هذا قال ابن الأنباري (¬4): يُجْعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع، كما جُعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت، قال: على هذا بني أكثر أهل التفسير. وقال أهل المعاني: سجود الظلال ميلانها ودورانها من جانبها إلى جانب، وطولها بانحطاط الشمس، وقصرها بارتفاع الشمس فهي مستسلمة منقادة، مطيعة بالتسخير، وهي في ذلك تميل من جانب إلى جانب، والميل سجود في اللغة، يقال: سجدت النخلة، إذا مالت (¬5) لكثرة حملها، قال لبيد يصف نخلًا (¬6): غُلْبٌ سَوَاجِدُ لم يَدْخل بها الحَصَرُ ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205]. (¬2) الطبري 13/ 131، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 101، والثعلبي 7/ 130 أ، والقرطبي 9/ 302. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 144. (¬4) القرطبي 9/ 302، والرازي 19/ 25، و"البحر" 6/ 369. (¬5) مكرر في (أ)، (ج). (¬6) عجز بيت، وصدره: بين الصفا وخليج العين ساكنة

16

فسجود الظلال تمايلها واستسلامها وانقيادها للتسخير، كأنه قيل: وظلالهم بالغدو والآصال مستسلمة، ودل على هذا قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} 16 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} الآية، السؤال والجواب جاء من ناحية واحدة، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [يونس: 34] الآية، وذلك أن الكفار لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض والمخلوقات، لقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 31] إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}، فإذا أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا السؤال بقوله: الله، لم ينكروا هم ذلك، ويصير كأنهم قالوا ذلك، ثم ألزمهم الحجة، فقال: {قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} قال ابن عباس: يريد توليتم غير رب السماء والأرض، والولي النصير، والذي يتولى النصرى، كأنه قال أفتخذتم من دونه أنصارًا، يعني: الأصنام لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، فكيف لغيرهم. ثم ضرب مثلًا للذي يعبد الأوثان، وللذي يعبد الله تعالى: فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} قال ابن عباس (¬1) يريد المشرك والمؤمن {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} قال: يريد الشرك والإيمان، وقرأه أكثر ¬

_ = "ديوانه" ص 60، و"تاج العروس" (سجد) 5/ 7، و"تأويل مشكل القرآن" ص 416، و"اللسان" (سجد) 4/ 1941، و"تهذيب اللغة" 2/ 1631 (سجد)، و"المخصص" 11/ 113. (¬1) "تنوير المقباس" ص 156، و"زاد المسير" 4/ 320، والقرطبي 9/ 303، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 102، وأخرج الطبري 13/ 333 عن مجاهد نحوه.

القراء (¬1) (تستوي) بالتاء؛ لأن الظلمات جمع، ولا حائل بينهما وبين الفعل، ومن قرأ بالياء فلتقدم الفعل مع التأنيث في الظلمات غير حقيقي. وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إلى قوله {عَلَيْهِمْ}، قال ابن عباس (¬2): معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا سموات وأرضين وجنًّا وإنسًا، فتشابه الخلق عليهم من هذا الوجه. وقال أبو إسحاق (¬3): أي هل رأوا غير الله خلق شيئًا، فاشتبه عليه خلق الله من خلق غيره؟ وقال ابن الأنباري (¬4): تلخيص هذه الآية: وبخهم أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله، فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم؟ وهذا الاستفهام إنكار لذلك، أي ليس الأمر على هذا حتى يشبه الأمر، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون خلقًا يتشابه بخلق الله، وإذا كانوا بهذه الصفة ألزمتهم الحجة. وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}،قال الزجاج (¬5): أي قل ذلك وبينّه بما أخبر به من الدلالة على توحيده، من أول هذه السورة، مما يدل على أنه خالق كل شيء. ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم (تستوي) بالتاء، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي (يستوي) بالياء. انظر: "السبعة" ص 358، و"الإتحاف" ص 270، و"زاد المسير" 4/ 320، والقرطبي 9/ 303. (¬2) "تنوير المقباس" ص 156 نحوه وأخرج ابن أبي شيبة، والطبري 13/ 133 وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. "الدر" 4/ 103. (¬3) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 144. (¬4) "زاد المسير" 4/ 320. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145.

17

قال أصحابنا (¬1): معناه: أنه خالق كل شيء بما يصح أن يكون مخلوقاً، ألا ترى أنه شيء وهو غير مخلوق. وقال الشافعي (¬2) في هذا: إنه من العموم الذي لم يدخله الخصوص، يعني أنه لما ذكر لفظ الخالق، علم أن عمومه بالمخلوقات، وإذا كان كذلك لم يدخله خصوص، لأنه لا مخلوق إلا وهو خالقه، ولما شبه المؤمن والكافر، والإيمان والكفر مثلًا. 17 - فقال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} وهي جمع وادي، وهو كل مفرج بين جبال وآكام وتلال. يجتمع إليه ماء المطر فيسيل فيه، هذا قول عامة أهل اللغة (¬3) في معنى الوادي، وقال شمر (¬4): ودي: إذا سال، قال: ومنه الوَدْي فيما أرى، لخروجه وسيلانه، ومنه الوادي، وعلى هذا الوادي اسم للماء السائل، كالسيل (¬5)، والقول هو الأول. قال أبو علي الفارسي (¬6): {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} اتساع، والمراد في: سال الوادي، وجرى النهر، ماؤهما، فحذف المضاف، قال: والأودية جمع نادر في فاعل، ولا يعلم فاعلًا جمع على أفعله، ويشبه أن يكون ذلك، ليتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد، كعالم وعليم، وشاهد وشهيد، ¬

_ (¬1) المراد بأصحابه هنا: الأشاعرة. وما ذكره في معنى الآية صحيح، كما هو قول أهل السنة، وهو رد على المعتزلة المستدلين بالآية على أن القرآن مخلوق. وعلى أن أفعال العباد مخلوقة. (¬2) "الأم" 7/ 462. (¬3) "تهذيب اللغة" (ودي) 4/ 3865، و"اللسان" (ودي) 8/ 4803. (¬4) "تهذيب اللغة" (ودي) 4/ 3865. (¬5) (كالسيل) ساقط من (ج). (¬6) "الحجة" 2/ 340 (بتصرف).

ووال وولي، ألا ترى أنهم جمعوا فاعلًا أيضًا على فعلاء، كشاعر وشعراء، مثل فقيه وفقهاء، فجعلوا فاعلًا كفعيل في التكسير، كجريب وأجربة، وقالوا: يتيم وأيتام، وشريف وأشراف، كما قالوا: صاحب وأصحاب وطائر وأطيار، فلذلك جمع وادٍ على أودية (¬1). وقال غيره: نظير واد وأودية، ناد وأندية للمجالس. وقوله تعالى: {بِقَدَرِ} القَدَر والقَدْر، مبلغ الشيء يقال: كم قَدْر هذه الدراهم؟ وقدرها ومقدارها، أي: كم (¬2) تبلغ من الوزن فيما يكون مساويًا لها من الوزن فهو قدرها، وذكرنا الكلام في القَدَر والقَدَر في قوله {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وفي مواضع. قال مجاهد (¬3): بقدر مَلئْها. وقال ابن جريج (¬4): الصغير بقدره، والكبير بقدره. وقال ابن الأنباري والزجاج (¬5): (بقدرها) بما قدر (¬6) يملأها، قالا: ويجوز بمقدار ما يملأها، وقد فُهم من قوله: القَدر هاهنا يجوز أن يكون مصدرًا فيكون المعنى: بما قدر لها من ملئها، ويجوز أن يكون المعنى: بقدر ملئها، وتلخيص معنى قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ}، بقدرها من ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 2/ 340 بتصرف. (¬2) في (ب): (لم). ولعله خطأ. (¬3) الطبري 13/ 136، وأبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي هاشم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 105، القرطبي 9/ 305. (¬4) الطبري 13/ 137، وابن جريج عن ابن عباس، القرطبي 9/ 305، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" 4/ 103. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145. (¬6) في: (أ)، (ج) ساقط (أن).

الماء، لأن القدر معناه الهنداز (¬1)، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع الوادي كثر. قال أبو علي (¬2): المعنى بقدر مياهها، ألا ترى أن المعنى ليس على أن الأودية سالت بقدر أنفسها. قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3) {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يريد قرآنًا، وهو مثل ضربه الله، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: يريد بالأودية قلوب العباد، قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب؛ إذ الأودية يستكن فيه الماء كما يستكن الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، ونحو هذا قال الفراء (¬4): يقول قبلته القلوب بأقدارها وأهوائها. وقال صاحب النظم: الماء هاهنا إن شاء الله الإيمان والحق، فهؤلاء الذين سمينا جعلوا الماء مثلًا للإيمان والقرآن، والأودية مثلًا للقلوب. والباقون من المفسرين وأهل المعاني سكتوا عن بيان الممثل والممثل به، وجعلوا ابتداء المثل من قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}، قال ابن عباس (¬5): وهو الشك والكفر، قال الفراء (¬6): يقال: أزبد الوادي ¬

_ (¬1) الهنداز: سبق التعريف به، وهو معرب، وأصله بالفارسية أنْدازاه، يقال: أعطاه بلا حساب ولا هنْداز. (¬2) "الحجة" 2/ 340. (¬3) القرطبي 9/ 305. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 61. (¬5) الطبري 13/ 135، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 103. (¬6) لم أجده في مظانه، وانظر: "اللسان" (زبد) 3/ 1803.

إزبادًا، والزبد الاسم، (رابيًا) قال الزجاج (¬1): طافيًا عاليًا فوق الماء، وقال غيره (¬2) زابدًا بانتفاخه، ربا يربو، إذا زاد، وهذا هو الأصل، ثم إذا زاد وانتفخ صار عاليًا. قال ابن عباس وغيره من المفسرين (¬3): ثم ضرب مثلًا آخر فقال {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ}، قرئ (¬4) بالتاء والياء. فمن قرأ (¬5) بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ}، ويجوز أن يكون خطابًا عامًا يراد به الكافة، كأنه ومما توقدون عليه أيها الموقدون، ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تَقَدّم في قوله: [{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} ويجوز أن يراد به] (¬6) جميع (¬7) الناس، ويقوي ذلك قوله: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فكما أن الناس يعم المؤمن والكافر، كذلك الضمير في يوقدون (¬8)، وأراد بما يوقد عليه في النار الفلز (¬9)، وهو ما يذاب من الجواهر كالذهب والفضة والصفر والحديد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145. (¬2) أبو عبيدة "مجاز القرآن" 1/ 328. (¬3) الطبري 13/ 134، والثعلبي 7/ 130 ب، و"زاد المسير" 4/ 322، والقرطبي 9/ 305، وابن كثير 2/ 557 - 558. (¬4) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (توقدون) بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (يوقدون) بالياء وروى علي بن نصر عن أبيه عن أبي عمرو بالتاء والباء والغالب التاء وانظر: "السبعة" ص 358، و"الإتحاف" 270، و"زاد المسير" 4/ 321، و"البحر المحيط" 5/ 381. (¬5) من هنا يبدأ القتل عن "الحجة" 5/ 16 باختصار. (¬6) في (ج): (أم جعلوا لله شركاء خلقوا، ويراد به). (¬7) في (ب): (جمع). (¬8) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" 5/ 16 باختصار. (¬9) الفِلْزُ والفِلَزُّ، والفُلُزُّ: نحاس أبيض تصنع منه القدور وغيرها، وقيل: هو جميع =

والنحاس، في قول جميع المفسرين (¬1). قال أبو علي (¬2): وجعل الظرف الذي {فىِ النَّارِ} متعلقًا بتوقدون؛ لأنه قد يوقد على ما ليس في النار، كقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38] فهذا إيقاد على ما ليس في النار، وإن كان يلحقه وهجها ولهيبها، يريد أن هذه الجواهر تدخل النار فيوقد عليها. وقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} قال الزجاج (¬3) وغيره: الذي يوقد عليه لابتغاء الحلية الذهب والفضة، والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة، الحديد والصفر والنحاس والرصاص، يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها، والمتاع كل ما يتمتع به (¬4). وقوله تعالى: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} كما ذكر من هذه الأشياء يضرب الله مثل الحق والباطل، قال صاحب النظم: هذا كلام فرّق به بين الكلام الأول وبين تمامه؛ لأن قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} هو من الكلام الأول، ثم لما تم ذلك رجع إلى تمام قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، فقال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} والتأويل: كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل، فاختصر الكلام اختصارًا على ما سبق من ذكر ¬

_ = جواهر الأرض من الذهب والفضة والنحاس وأشباه ذلك. انظر: "تهذيب اللغة" (فلز) 3/ 2828، و"اللسان" (فلز) 6/ 3460. (¬1) الطبري 13/ 134، والثعلبي 7/ 131 أ، و"زاد المسير" 4/ 322، والقرطبي 9/ 305، وابن كثير 2/ 558، و"البحر المحيط" 5/ 381. (¬2) "الحجة" 5/ 16، و"البحر المحيط" 5/ 382. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145. (¬4) "تهذيب اللغة" (متع) 4/ 3334.

الحق والباطل، اعتماداً على بيانه في آخر الآية، وهو قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}، وأنشد قول ذي الرمة (¬1): فأضْحَتْ مَغَانِيها قِفَارًا رُسُومُها ... كأن لم سِوَى أهْلٍ من الوَهِل تؤهلُ المعنى: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش، ففرق بين لم، وتؤهل، ومعنى قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} الجفاء (¬2) ما جفاه الوادي، أي: رمى به، قال أبو زيد (¬3): يقال: جفأت الوادي الرجل، إذا صرعته، وأجفأت القدر بزبدها، إذا ألقت زبدها فيذهب جفاء. وقال الفراء (¬4): الجفاء الرمي والاطراح، يقال: جفا الوادي غثاه جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض، بمنزلة الغثاء والقماش (¬5)، قال: والجفاء مصدر يكون في مذهب اسم، وكذلك مصدر اجتمع بعضه إلى بعض مثل القماش والحطام والدقاق (¬6)، كما كان العطاء اسم الإعطاء، وقال الزجاج (¬7) في باب الوفاق: جفا الوادي يجفا جُفا أو أجفا، إذا رمى بغثائه، قال: وموضع (جفاءً) نصب على الحال. ¬

_ (¬1) "ديوانه" 1465، وفيه (من الوحش) بدل (من الوهل). "خزانة الأدب" 9/ 5، و"الخصائص" 2/ 401، و"الدرر" 5/ 63.انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 207، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ص 233. (¬2) "تهذيب اللغة" (جفأ) 1/ 619، و"الزاهر" 2/ 89. (¬3) "تهذيب اللغة" (جفأ) 1/ 619. (¬4) "معاني الفراء" 2/ 62 بنحوه، و"تهذيب اللغة" (جفأ) 1/ 619. (¬5) القماش: ما يجمع من هنا وهناك. (¬6) الدقائق: فتات كل شيء. (¬7) "فعلت وأفعلت" ص 8، ونقله في "التهذيب" 1/ 619 عن الفراء.

18

وتلخيص معنى الآية على ما ذكره المفسرون وأهل المعاني (¬1): أن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله، كالزبد الذي يعلو الماء، فيلقيه الماء عنه ويضمحل وكخبث هذه الجواهر يقذفه الكبير، فهذا مثل الباطل، وأما الذي ينفع الناس وينبت المرعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو (¬2) من الفلز يبقى خالصًا لا شوب (¬3) فيه، فهو مثل الحق، هذا بيان ابن قتيبة (¬4) وكلامه. وقال أبو إسحاق (¬5): فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان، كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض، وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر؛ لأنها كلها تبقى منتفعًا به، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل (¬6) خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي (¬7) ينتفع به. 18 - قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِم} أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه من توحيده وشريعته على لسان رسوله، قال ابن عباس (¬8): يريد للذين وحدوا ربهم. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 322، القرطبي 9/ 305. (¬2) في (أ)، (ج): (عن). (¬3) في (أ)، (ج): (الأشوب) بألف. (¬4) "مشكل القرآن وغريبه" ص 233. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه " 3/ 145. (¬6) في (ج): بزيادة هذا: (وكمثل هذا خبث الحديد). (¬7) في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 146: (الذمي لا ينتفع به). (¬8) القرطبي 9/ 306، و"تنوير المقباس" ص 157.

19

وقوله تعالى {الْحُسْنَى} قال (¬1): يريد الجنة، وقال أهل المعاني: الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي الجنة على الخلود في نعيمها. وقوله تعالى: {لَافْتَدَوْا بِهِ} الافتداء: جحل أحد الشيئين بدلاً من الآخر، ومفعول (افتدوا) محذوف تقديره: لافتدوا به أنفسهم، أي: جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والكناية في (به) تعود إلى (ما) في قوله {مَا فِي الْأَرْضِ}. وقوله تعالى: {سُوءُ الْحِسَابِ} قال المفسرون (¬2): هو أن لا تقبل منه حسنة، ولا يتجاوز عن سيئته، قال أبو إسحاق (¬3): لأن كفرهم أحبط أعمالهم. 19 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} الآية. قال ابن عباس (¬4): نزلت في حمزة وأبي جهل. وقوله تعالى: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} قال: يريد أبا جهل أعمى القلب، قال أهل المعاني: الجاهل بالدين ممثل بالأعمى؛ لأن العلم يُهْتَدَى به إلى طريق الرشد من الغي، كما يهتدى بالبصر إلى طريق النجاة من طريق الهلاك، وبالضد من هذا حال الجهل والعمى. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 323/ 4، و"تنوير المقباس" ص 157، و"تيسير كتاب الله العزيز" لهود بن محكم 2/ 303، وأخرجه الطبري 13/ 138، وأبو الشيخ عن قتادة كما في "الدر" 4/ 105. (¬2) "زاد المسير" 4/ 323، القرطبي 9/ 307. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 145 وفيه: (وأن كافرهم أحبط أعمالهم). (¬4) "زاد المسير" 4/ 323، والقرطبي 9/ 307، و"البحر المحيط" 5/ 384.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} أي يتعظ ويطلب ذكر ما رغب فيه من الجنة فيطيع الله، وما أوعد به فيرتدع عن المعاصي {أُولُو الْأَلْبَابِ} قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار، والآية نازلة في هؤلاء، وهي لكل من كان بهذه الصفة من العلم والجهل والتذكر، فهي بيان عما يستحق كل واحد من العالم والجاهل، والمحق والمبطل من صفة المدح بالبصيرة والذم بالعمى والحيرة. 20 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاق} قال ابن عباس (¬1): يريد الذي عاهدهم عليه في صُلب آدم (¬2). 21 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، قال ابن عباس (¬3): يريد الإيمان بالأنبياء، يعني: يصل بينهم بالإيمان بالجميع، كما قال في الخبر عن المؤمنين: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وقال أكثر المفسرين (¬4): يريد صلة الأرحام. 22 - {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} قال في رواية عطاء (¬5): يريد على دين ربهم وما أمر به من طاعته ونهى عن معصيته، وهو قول ابن زيد (¬6) وأبي عمران ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 324، القرطبي 9/ 307. (¬2) يعني ما ذكر في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. (¬3) القرطبي 9/ 310، والثعلبي 7/ 132 أ، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 304، وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير كما في "الدر" 4/ 106 - 107. (¬4) انظر: الطبري 13/ 139، الثعلبي 7/ 132 أ، ابن كثير 2/ 560، "زاد المسير" 4/ 324، القرطبي 9/ 310، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 304. (¬5) "تنوير المقباس" ص 157، القرطبي 9/ 310، الثعلبي 7/ 132 ب. (¬6) الطبري 13/ 140، الثعلبي 7/ 132 ب.

20

الجوني (¬1). {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلب تعظيم الله. وقوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} قال ابن عباس (¬2): يدفعون بالعمل الصالح الشرَّ من العمل، قال ابن كيسان (¬3): هو أنهم إذا أذنبوا تابوا، ليدفعوا بالتوبة مَعَرّة الذنب، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل "إذا عملت سيئة فأعمل بجنبها حسنة تمحها" (¬4) فعلى هذا الحسنة والسيئة بينه وبين الله. وقال ابن زيد (¬5): لا يكافئون الشر بالشر، بل يحلمون عن السفيه، ويردون على من يسفه عليهم معروفًا من القول، وهذا قول قتادة (¬6) واختيار ابن قتيبة (¬7)، وعلى هذا الحسنة والسيئة بينه وبين الناس. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} قال ابن عباس (¬8): يريد عقباه الجنة، والعقبى (¬9) كالعاقبة، يجوز أن يكون مصدرًا، كالشورى والقربى ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 132 ب، القرطبي 9/ 310. (¬2) "زاد المسير" 4/ 324، القرطبي 9/ 311، الثعلبي 7/ 133 أ. (¬3) الثعلبي 7/ 132 ب، و"زاد المسير" 4/ 325. (¬4) أخرجه أحمد في "المسند" 5/ 169، إلا أنه قال: "فأتبعها" وفي 5/ 177، وقال: "فأعمل حسنة" من حديث أبي ذر، ونحوه في الترمذي (1987) كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي. وأخرجه سعيد بن منصور 3/ 64، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 4/ 217، 218. (¬5) الثعلبي 7/ 132 ب، الطبري 13/ 141، القرطبي 9/ 311. (¬6) الثعلبي 7/ 132 ب. (¬7) "مشكل القرآن وغريبه" ص 233، والثعلبي 7/ 132 ب، و"زاد المسير" 4/ 325. (¬8) "زاد المسير" 4/ 325، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 305. (¬9) "اللسان" (عقب) 5/ 3022، و"تهذيب اللغة" (عقب) 3/ 2507.

23

واللقيا، توضع موضع المصدر، وقد يجيء مثل هذا أيضًا على (فَعْلى) كالنجوى والدعوى والطغوى، وعلى (فِعْلى) كالذكرى والضيزى، ويجوز أن يكون اسمًا، وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الحسنة الجنة، أي تصير الجنة آخر أمرهم، والمراد بالدار الجنة، يعرف ذلك بإطلاقها، حيث ذكرت عقيب الأعمال الصالحة. 23 - قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} قال الزجاج (¬1): جنات بدل من عقبى. قال ابن عباس (¬2): هي وسط الجنة وقصبتها، مساندة بعرش الرحمن، غَرَسها الرحمنُ تبارك وتعالى بيده، والكلام في جنات عدن قد ذكرناه مستقصى عند قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]، وذكرنا هناك مذهب المفسرين ومذهب أهل اللغة. وقوله تعالى: {وَمَنْ صَلَحَ} موضع (من) رفع عطف على الواو في {يَدْخُلُونَهَا}، قال أبو إسحاق (¬3): وجائز أن يكون نصبًا، كما تقول قد دخلوا وزيدًا، أي مع زيد. قال ابن عباس (¬4): {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} يريد من صَدَّق بما صدقوا به، وإن لم يعمل مثل أعمالهم. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147. (¬2) القرطبي 9/ 311 نحوه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147. (¬4) القرطبي 9/ 312، و"البحر المحيط" 5/ 387، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 305.

24

وقال أبو إسحاق (¬1): اعلم أن الأسباب لا تنفع بغير أعمال صالحة، فعلى قول ابن عباس معنى (صلح): صدق وآمن ووحد، وعلى ما ذكر أبو إسحاق معناه: صلح في عمله. والصحيح ما قال ابن عباس؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله، حيث بشره بدخول الجنة مع هؤلاء، فدل أنهم يدخلونها كرامة للمطيع، ولا فائدة في التبشير والوعد به، إذ كل مصلح في عمله قد وعد دخول الجنة (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} قال ابن عباس (¬3): يريد بالتحية من الله والتحفة والهدايا. 24 - قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} قال أبو إسحاق (¬4): المعنى يدخلون عليهم من كل باب يقولون: سلام عليكم، فأضمر القول هاهنا، لأن في الكلام دليلًا عليه. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147. (¬2) قلت: ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] وأخرج الطبري 13/ 141، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} من آمن في الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ .. فيقال: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم، ثم قرأ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} يعني من آمن بالتوحيد بعد هؤلاء {مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} يدخلون معهم .. "الدر المنثور" 2/ 158. (¬3) "زاد المسير" 4/ 325، والقرطبي 9/ 312، و"البحر المحيط" 5/ 387، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 306. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147.

وقوله تعالى: {بِمَا صَبَرْتُمْ} قال ابن عباس (¬1): يريد في دار الدنيا، قال النحويون (¬2): الباء في (بما) تتعلق بمعنى سلام؛ لأنه قد دل علي السلامة لكم بما صبرتم. وقال صاحب النظم: السلام قول، ولا يحتمل أن يكون القول ثوابًا للصبر الذي هو فعل، فدل هذا على أن المعنى في قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} دعاء من الملائكة لهم، على معنى: سملكم الله بما صبرتم، أو خبر منهم، أي: أن الله سلمكم من أهوال هذا اليوم من شره، وأدخلكم الجنة بصبركم في الدنيا، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على تقدير: الكرامة لكم بما صبرتم و (ما) هاهنا للمصدر، كأنه قبل بصبركم. وقوله تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الدار هاهنا أيضًا يجب أن يكون مصدرًا؛ لأنه لو كان اسمًا، وأضيف إلى الدار صار لها. وليس المراد ذكر عاقبة (الدار، إنما المراد ذكر عاقبة) (¬3) أهل الجنة ومدح عاقبتهم، والمقصود بالمدح محذوف على تقدير: نعم العقبى عقبى الدار، كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ولم يذكر أيوب لتقدم ذكره، ومثله قوله: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الجمعة: 5] هذا كله إذا كان المراد بالدار الجنة. وقال صاحب النظم: (نعم) يقتضي اسمًا وخبرًا، والمعنى إن شاء الله: فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه، أي هذا نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها، عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فعلى هذا، العقبى اسم، والدار هي الدنيا (¬4). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 157. (¬2) "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري 2/ 757. (¬3) ما بين القوسين مكرر في (أ)، (ج). (¬4) القرطبي 9/ 313.

25

25 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الآية مفسرة في سورة البقرة بتمامها (¬1). 26 - قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} معنى القدر في اللغة (¬2): قَطْع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان، والمقدار: المثال الذي يعمل عليه غيره في مساواته به، وقال المفسرون (¬3): في معنى يقدر هاهنا: يضيق ويقتر، ومثله قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 3] أي: ضيق، وقوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] بمعنى يضيق، وهو أن يعطيه على قدركفايته، لا يفضل عنه شيء من رزقه على صدر البسط. وقوله تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال ابن عباس (¬4) والمفسرون: يريد مشركي مكة، فرحوا بما نالوا من الدنيا وأشروا وبطروا، فطغوا وكذبوا الرسول، ولم يشكروا ما بسط الله عليهم من الدنيا. ثم قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} أي: في حياة الآخرة، يعني بالقياس إليها، قال ابن عباس (¬5): يريد ما في الدنيا يذهب ويبيد وهو قليل، وقال مجاهد (¬6): أي: قليل ذاهب. ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [آية: 27]. (¬2) "تهذيب اللغة" (قدر) 3/ 2897 - 2898 و"اللسان" (قدر) 6/ 3546. (¬3) الثعلبي 7/ 134 أ، والطبري 13/ 143 - 144، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 306. (¬4) "زاد المسير" 4/ 326، القرطبي 9/ 314، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 306. (¬5) نقل في "البحر المحيط" 5/ 388، والقرطبي 9/ 314 عن ابن عباس أنه قال: زاد كزاد الراعي. (¬6) الطبري 13/ 144، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 110، "البحر المحيط" 5/ 388، القرطبي 9/ 314، الثعلبي 7/ 134 أ.

27

وقال الكلبي (¬1): كالشيء الذي يتمتع به ثم يفنى ويذهب، مثل القصعة والقِدْر والقدح ينتفع بها ثم يذهب. 27 - قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} الآية، قال المفسرون (¬2): نزلت في أهل مكة حين طالبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآيات، قال أهل المعاني: إنهم لم يستدلوا فيُعملوا مدلول الآيات التي بها، فلم يعتدوا بها، وقالوا هذا القول جهلًا منهم. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} قال ابن عباس (¬3): يريد عن دينه، يعني كما أضلكم بعد ما رأوا من الآيات وحرمكم الاستدلال بها، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي رجع إلى الحق، قاله الزجاج (¬4)، وإنما يرجع إلى الحق من يشاء الله، فكأنه قال: ويهدي إليه من يشاء، كما قال: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬5) في مواضع. 28 - قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} قال الزجاج (¬6): (الذين) في موضع نصب ردًّا على (من)، المعنى: يهدي الله الذين آمنوا، {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس (¬7): يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت، وإذا سمعوا ذكر الله أحبوه واستأنسوا به، ونحو هذا قال ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 158، الثعلبي 7/ 134 أ. (¬2) الطبري 13/ 144، والثعلبي 7/ 134 أ، و"زاد المسير" 4/ 326، والقرطبي 9/ 315، و"البحر المحيط" 5/ 388. (¬3) "تنوير المقباس" 158، و"زاد المسير" 4/ 326، والقرطبي 9/ 315. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147. (¬5) يونس: 25، إبراهيم: 4، النحل: 93، فاطر: 8، المدثر: 31. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147 وفيه: يهدي إليه. (¬7) "تنوير المقباس" ص 158، بنحوه.

29

مقاتل (¬1)، وقال أبو إسحاق (¬2): أي إذا ذكروا الله وحده آمنوا به غير شاكين، بخلاف من وصف بقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: 45]. وقوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} قال ابن عباس (¬3) وغيره: يريد قلوب المؤمنين، قال الزجاج (¬4): لأن الكافر غير مطمئن القلب، وذكرنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} في سورة الأنفال [2]. 29 - قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} روى معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوبَى شجرةٌ غرسها الله بيده تنبت العلي والحلل، وإن أغصانها لتُرى من وراء سور الجنة" (¬5) فعلى هذا طوبى اسم تلك الشجرة، وهو قول أبي هريرة (¬6)، ومغيث بن سمي (¬7) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 191 أ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 147. بنحوه. (¬3) "زاد المسير" 4/ 327، القرطبي 9/ 315. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 148. (¬5) أخرجه الطبري 13/ 149 وعلق عليه أحمد شاكر بقوله: وهذا خبر هالك الإسناد. وحسبه ما فيه من أمر (محمد بن زياد) ولم أجده عند غير الطبري، قلت: وقد ترجم لمحمد بن زياد بقوله: كذاب خبيث يضع الحديث اهـ. وأخرجه ابن مرديه عن ابن عباس مرفوعاً كما في "الدر" 4/ 111. (¬6) الطبري 13/ 147، وعبد الرزاق 2/ 336، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 634، والثعلبي 7/ 135 أ، و"زاد المسير" 4/ 327. (¬7) الطبري 13/ 147 - 148 - 149، والثعلبي 7/ 135 أ، و"زاد المسير" 4/ 328، وأبن أبي شيبة 8/ 69.

وعبيد بن عمير (¬1) ومقاتل (¬2) ووهب (¬3) وأبي صالح (¬4) وعكرمة (¬5) وابن عباس (¬6) في رواية عطاء والكلبي (¬7)، كل هؤلاء قالوا: إنها شجرة في الجنة، ووَصَفَ كلٌّ منها صفةً يطول ذكرها. وقال أبو عبيدة (¬8) والزجاج (¬9) وأهل اللغة (¬10): (طوبى) فعلى من الطيب. قال ابن الأنباري (¬11): يعني أن تأويلها: الحال المستطابة لهم، وأصلها: (طيبى) فصارت الياء واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها، كما تقول في: موسر وموقن، قال: وهذه الكلمة غير مبنية على (أفعل) كالأولى والكبرى، ولذلك جاز إفرادها من الألف واللام ومن الإضافة نحو: سعدى ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 135 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 191 أ، الثعلبي 7/ 135 أ. (¬3) الطبري 13/ 148، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 113وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 114، والثعلبي 7/ 135 ب. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 69، وانظر: "الدر" 4/ 115، والثعلبي 7/ 136 ب، و"زاد المسير" 4/ 328. (¬5) روى الطبري 13/ 146 عن عكرمة: (طوبى لهم): نعم ما لهم. وأخرجه ابن أبي شيبة هناد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 111، وروى عنه أيضًا 4/ 111، (طوبى لهم) قال: الجنة. وانظر: "زاد المسير" 4/ 328، القرطبي 9/ 316. (¬6) الطبري 13/ 147، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 308. (¬7) "تنوير المقباس" ص 158، الثعلبي 7/ 136 ب. (¬8) لم أجده في "مجاز القرآن" 1/ 330. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 148. (¬10) "تهذيب اللغة" (طاب) 3/ 2147، و"اللسان" (طيب) 5/ 2732. (¬11) "زاد المسير" 4/ 328.

وقربى وزلفى، وعلى هذا معنى طوبى في اللغة: الغبطة وبلوغ أقصى الأمنية والسؤل، وأنشد (¬1): وطُوبَى لمن يَسْتَبدلُ الطَّوْدَ بالقُرَى ... ورِسْلًا بيَقْطِينِ العِرَاقِ وفُومِهَا قال الأزهري (¬2): والعرب تقول: طوبى لك. وطوباك لحن لا تقوله العرب، وهذا قول أكثر النحويين، إلا الأخفش (¬3) فإنه قال: من العرب من يضيفها فيقول: طوباك. قال أبو بكر (¬4): (طوباك) مما (¬5) يلحن فيه العوام، والصواب: طوبى لك، وهذا الذي ذكرنا من قول أهل اللغة مذهب جماعة من المفسرين. قال ابن عباس (¬6) في رواية الوالبي: (طوبى لهم): فرح وقرة أعين، وروى معمر عن قتادة (¬7) قال: طوبى كلمة عربية، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، أي أصبت خيرًا، وقال عكرمة (¬8): (طوبى لهم) نعمى لهم. ¬

_ (¬1) بلا نسبة في "الزاهر" 1/ 558، و"اللسان" (طيب) 5/ 2732 الرسل: اللبن، الطود: الجبل، اليقطين: القرع، الفوم: الخبز والحنطة، ويقال: الثوم. (¬2) في (ح): (ممن). (¬3) "تهذيب اللغة" (طاب) 3/ 2147. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 597. (¬5) "اللسان" (طيب) 5/ 2732، و"الزاهر" 1/ 557. (¬6) الطبري 13/ 146، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 110 - 111. (¬7) الطبري 13/ 146. (¬8) "زاد المسير" 4/ 328، القرطبي 9/ 316.

30

وروى سعيد عن قتادة (¬1) قال: الحسنى لهم. وقال الضحاك (¬2): غبطة لهم، وقال الزجاج (¬3): العيش الطيب لهم، فهذا الذي ذكرنا، قولان في هذه الكلمة، أحدهما: أنها اسم شجرة، والثاني: أنها فعلى من الطيب. وفيها قول ثالث وهو: ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس (¬4): طوبى اسم الجنة بالحبشة، وقال الربيع (¬5) وسعيد بن مشجوج (¬6) اسم الجنة بلغة الهند، وعلى هذا الكلمة بما وقع فيه الوفاق بين لغة العرب ولغة غيرهم من الهند أو الحبشة. 30 - قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} قال الحسن (¬7) وغيره: أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} قال ابن عباس (¬8): في قرن قد خلت من قبلها قرون {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني القرآن، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} قال: وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 328، القرطبي 9/ 316، الطبري 13/ 146، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 13/ 111. (¬2) الطبري 16/ 435، و"زاد المسير" 4/ 328، وأبو الشيخ كما في "الدر" 13/ 111. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 148. (¬4) الطبري 13/ 146، و"زاد المسير" 4/ 328، والقرطبي 9/ 316 وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 111، و"المهذب" للسيوطي (115)، و"المعرب" للجواليقي (226). (¬5) القرطبي 9/ 316. (¬6) الطبري 13/ 147، و"زاد المسير" 4/ 328، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 111، و"المهذب" (115)، و"المعرب" 226. (¬7) القرطبي 9/ 317، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 308. (¬8) انظر: "فتح البيان" 7/ 57.

31

الحجر يدعو، وأبو جهل يسمع إليه، وهو يقول: يا رحمن، فلما سمعه يذكر الرحمن ولىَّ مدبرًا إلى المشركين، وقال لهم: إن محمدًا كان ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، يدعو الله ويدعو إلهًا آخر يقال له: الرحمن، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} قال مقاتل (¬2) وابن جريج (¬3) وقتادة (¬4): نزل هذا في صلح الحديبية، أرادوا كتاب الصلح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال المشركون: ما ..... (¬5) اكتب باسمك اللهم". وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي} أي قل لهم يا محمد: إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته، هو إلهي وسيدي، لا إله إلا هو. 31 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية، قال المفسرون (¬6): قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت كما تقول فباعد عنا أخشبي ¬

_ (¬1) نقله في "زاد المسير" 4/ 329 عن الواحدي، وانظر القرطبي 9/ 318. (¬2) "تفسير مقاتل" 191 أ، "زاد المسير" 4/ 329، القرطبي 9/ 317، الثعلبي 7/ 137 أ. (¬3) "زاد المسير" 4/ 329، القرطبي 9/ 317، الطبري 13/ 150 وابن جريج عن مجاهد، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 116، الثعلبي 7/ 137 أ. (¬4) الطبري 13/ 150، و"زاد المسير" 4/ 329، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 116، والثعلبي 7/ 137 أ. (¬5) بياض في جميع النسخ، وفي البخاري (4180، 4181) كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، وأحمد 4/ 330 وفيه: فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهم). وفي الطبري 13/ 150 عن مجاهد: ما ندري ما الرحمن اكتب باسمك اللهم. (¬6) روى الطبري 13/ 151 - 152 نحو هذا عن قتادة والضحاك وابن زيد وفي "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 309 عن الحسن.

هذه. يعنون جبلها فإنها ضيقة، حتى نتخذ فيها قطائع وبساتين، واجعل لنا (¬1) فيها عيونًا وأنهارًا حتى نغرس ونزرع، وابعتَ لنا آباءنا من الموتى يكلمونا يخبرونا أنك نبي، فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي جعلت تسير، {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} هو أي شققت، فجعلت أنهارًا وعيونًا، وقيل: معناه: هو أنهم قالوا له: اجعلنا يخرج أحدنا إلى الشام أو إلى اليمن أو الحيرة ويرجع في ليلة، كما خبرت أنك فعلته، فعلى هذا معنى (قطعت) من قطع المسافة {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي: أُحْيُوا حتى كلموا، وجواب (لو) محذوف: لِسُيِّر مَوْضِعُه، وتلخيصه: ولو أن قرآنا فعل به ما التمسوا لكان هذا القرآن، فلما عرف تأويله حذف اختصارًا، هذا قول الفراء (¬2) والزجاج (¬3) وابن الأنباري وأكثر أهل العلم. وقال الفراء: وإن شئت جعلت جوابها متقدمًا على تقدير: وهم يكفرون بالرحمن، ولو أنزلنا عليهم ما سألوا (¬4) قال أبو بكر: يعني به هم يكفرون بالرحمن، ولو أنزلنا عليهم الذي سألوا، قال أبو بكر (¬5): يعني به هم يكفرون، ولو فعل بهم ذلك كما تقول: قد كنت هالكًا لولا أن فلانًا أنقذك، يريد لولا إنقاذه إياك لهلكت، قال: وهذا ضعيف؛ لأنه ليس يكثر في كلامهم: زرتك لو زرتني، وقصدتك لو قصدتني، وهو على ضعفه غير خارج عن الصواب. ¬

_ (¬1) (لنا) مكررة في (أ). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 63. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 148. (¬4) روى الطبري 13/ 151 نحو هذا القول عن ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير. (¬5) "زاد المسير" 4/ 331.

وقال الزجاج (¬1): والذي أتوهمه أن المعنى: (ولو أن قرآنًا -إلى قوله- الموتى) لما آمنوا، قال: ودليل هذا القول [قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} إلى قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، فجعل الجواب المضمر هاهنا ما أظهر في] (¬2) قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا} وهو قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}، وهذا الذي ذكره هو قول ابن عباس (¬3) قال: في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} يريد: لو قضيت أن لا يقرأ القرآن على الجبال إلا سارت، ولا على الأرض إلا تخرقت، ولا على الموتى إلا حيوا وتكلموا، ما آمنوا، لما سبق عليهم في علمي. وذكر الكسائي (¬4) في جواب {لَوْ} هاهنا وجوهًا فاسدة يطول ذكرها وبيان فسادها فتركناها. وقوله تعالى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} معنى بل: نفي الأول وإثبات الثاني، كأنه يقول: دع ذلك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره، فالأمر لله جمعيًا، لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذ لم يشأ لا ينفع تسيير الجبال، وما اقترحوا من الآيات، وسياق الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}، قال ابن عباس (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 148. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬3) الطبري 13/ 151 نحوه. وانظر: "الدر المنثور" 4/ 117. (¬4) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 172 قال: قال الكسائي: المعنى وددنا لو أن قرآنا سيرت به الجبال فهذا بغير حذف. اهـ. (¬5) الطبري 13/ 154، و"زاد المسير" 4/ 331، والقرطبي 9/ 320، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 118.

في رواية عطاء: أفلم يعلم، وقال فيما روى الكلبي عنه (¬1) أيضًا: ييئس: يعلم في لغة النَّخَع، وهذا قول أكثر المفسرين، مجاهد (¬2) والحسن (¬3) وقتادة (¬4) وابن زيد (¬5)، واختلف أهل اللغة في هذا. وقال أبو عبيدة (¬6) والليث (¬7): ألم ييئس: ألم يعلم، وأنشد أبو عبيدة (¬8): أقُولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يأسِرُونَنِي ... ألم تَيْأسُوا أني ابنُ فارِسِ زَهْدَمِ بمعنى: ألم يعلموا، وأنشد الليث (¬9): ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 158، الطبري 13/ 153، "زاد المسير" 4/ 331، الثعلبي 7/ 138 أ. (¬2) الطبري 13/ 155، القرطبي 9/ 320. (¬3) "زاد المسير" 4/ 331، القرطبي 9/ 320. (¬4) الطبري 13/ 155، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 118، و"زاد المسير" 4/ 331. (¬5) الطبري 13/ 155، وأبو الشيخ كما في "الدر" 4/ 118، و"زاد المسير" 4/ 331. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 332. (¬7) "تهذيب اللغة" (يئس) 4/ 3991. (¬8) في "مجاز القرآن" 1/ 332 نسبه لسحيم بن وثيل اليربوعي. وانظر: "اللسان" 8/ 4946 وكان وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام، وفي "اللسان" 8/ 4946 له أو لولده جابر بن سحيم. وفي "البحر المحيط" 5/ 392 لسحيم، وغير منسوب في "المعاني الكبير" 2/ 1148 لابن قتيبة، وفي "الميسر والقداح" (33)، الطبري 13/ 153، القرطبي 9/ 320 ونسبه لمالك بن عوف النصرى، و"مشكل القرآن" (192) وزهدم: فرس سحيم، و"الكشاف" 2/ 360، و"تهذيب اللغة" (يأس) 4/ 3991، و"الحجة" 4/ 437، و"مقاييس اللغة" 6/ 154، "ديوان الأدب" 3/ 258، و"المخصص" 13/ 20. (¬9) اختلف في نسبة البيت، فنسبه القرطبي 9/ 320، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 392 إلى رياح بن عدي. وانظر: "المحتسب" 1/ 357، و"الدر المصون" 7/ 53، والطبري 13/ 153، و"الحجة" 4/ 438، و"أساس البلاغة" (يئس) بلا نسبة.

ألم يَيْأسِ الأقْوَامُ أني أنا ابنُه ... وإن كنتُ عن أرْضِ العَشِيرةِ نَائِيا وقال قطرب (¬1): يئس: بمعنى علم؛ لغة العرب، وأنشد البيت. وقال الكسائي (¬2): ما وجدت العرب تقول: يئست، بمعنى علمت، قال: وهذا الحرف في القرآن من اليأس المعروف لأمر (¬3) العلم، وذلك أن المشركين لما طالبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآيات اشرأب المسلمون بذلك، وأرادوا أن يظهر لهم آية ليجتمعوا على الإيمان، فقال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} كأنه قال ألم يعلموا علمًا ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه، وهو أن الله لو شاء لهداهم من غير ظهور هذه الآيات، فأضمر العلم هاهنا مع اليأس، كما أضمر في قولهم: يئست من غلامي أن يفلح، وتأويله: يئست من غلامي علمًا مني أنه لا يفلح، وتلخيصه: قد علمت أن غلامي لا يفلح علمًا أيأسني من غيره، وهذا قول الفراء (¬4) سواء. وقال أبو إسحاق (¬5) ثابتًا على هذا المعنى: القول عندي أن معناه: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء؛ لأن الله لو شاء لهدى الناس جميعًا. قال أبو بكر ابن الأنباري: وهذا القول مأخوذ من قول الكسائي والفراء وأبي إسحاق، هو معنى وليس بتفسير، كما قال الفراء هو في ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 13/ 153، و"تهذيب اللغة" (يئس) 4/ 3991. (¬2) "معاني القرآن" للنحاس 3/ 498، و"البحر المحيط" 5/ 392. (¬3) كذا في جميع النسخ ولعلها: (لامن العلم). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 63، 64. وهو كذا في النسخ ولعل الصواب (وهذا وقول الفراء سواء). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 149.

المعنى على تفسيرهم، أي أن المعنى يؤول إلى ما ذكروا؛ لأن العلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه. ويدل على أن المراد هاهنا العلم، ما روي أن ابن عباس كان يقرأ (¬1): (أفلم تيأس الذين آمنوا)، فقيل له: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس، يريد أنه كان في الخط بتاءين، فزاد الكاتب سينة واحدة فصار (ييئس) فقرئ ييس. ¬

_ (¬1) في الطبري 13/ 154 أن ابن عباس كان يقرؤها (أفلم يتبين) ... إلخ، وأخرجه ابن الأنباري في المصاحف كما في "الدر" 4/ 653. وقد روى الطبري 13/ 154 عن علي نحوه. وقد علق الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- على هذا الأثر وبين صحة إسناده. وأخبر أنه كتب رسالة مستقلة حول هذا الأثر المشكل وأشباهه. وانظر الثعلبي 7/ 138 أ، و"زاد المسير" 4/ 331، والقرطبي 9/ 320 وعلق بقوله: وهو باطل عن ابن عباس؛ لأن مجاهدًا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو، وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس، ثم إن معناه: أفلم يتبين، فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا. اهـ. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 393: وهذه القراءة ليس قراءة تفسير لقوله {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وليست مخالفه للسواد، إذ كتبوا (ييئس) بغير صورة الهمزة، وهذه كقراءة فتبينوا وفتثبتوا، وكلتاهما في السبعة، وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس فسوق أسنان السين فقول زنديق ملحد. اهـ. وقال الزمخشري في "كشافه" 2/ 360: وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتًا بين دفتي الإمام، وكان متقلبًا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصًا عن القانون الذي إليه المرجع والقاعدة التي عليها البناء، هذه والله فرية ما فيها مرية. اهـ.

وقوله تعالى: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} قال أبو علي (¬1): {أَنْ} هاهنا مخففة من الثقيلة وفيه ضمير القصة، والحديث على تقدير: أنه لو يشاء، كقوله {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20] و {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ} [طه: 89]. على ذلك حسن وقوع الفعل بعدها، لفصل الحرف بينهما وهو لو ولا والسين. وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال ابن عباس (¬2) في رواية عطاء: عذاب، قال المفسرون (¬3): أراد أنهم تصيبهم بما صنعوا، والحُرَب (¬4) من كفرهم وأعمالهم الخبيثة داهية تقرعهم، ومصيبة شديدة من الأسر والقتل والجدب. قال أبو إسحاق (¬5): ومعنى (قارعة) في اللغة: نازلة تنزل بأمر عظيم. وروي عن ابن عباس (¬6) أيضًا في تفسير القارعة أنها السرايا التي كانت يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وهو اختيار الفراء (¬7)، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ ¬

_ (¬1) "الحجة" 4/ 438. (¬2) الطبري 13/ 156، وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 119، و"زاد المسير" 4/ 332. (¬3) الطبري 13/ 155، الثعلبي 7/ 138 ب، "زاد المسير" 4/ 332، القرطبي 9/ 321. (¬4) (والحرب) كذا في جميع النسخ، ولعل هذه اللفظة في السطر الذي يليه كما في الوسيط. (بما صنعوا) من كفرهم، وأعمالهم الخبيثة داهية تقرعهم، ومصيبة شديدة من الأسر والقتل والحرب والجذب). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 149. (¬6) الطبري 13/ 155، والفريابي وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 119، الثعلبي 7/ 138 ب. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 64.

32

دَارِهِمْ}، التاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قول ابن عباس (¬1) والفراء (¬2) والأكثرين، وقال قتادة (¬3): هي القارعة، وهو قول الحسن (¬4). وقوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد القيامة، وهو قول الحسن، وقال قتادة (¬5): يعني فتح مكة. 32 - قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} ذكرنا معنى الاستهزاء في أول سورة البقرة (¬6). وقوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة، قال ابن عباس: ليتمادوا في معاصي الله، وذكرنا معنى الإملاء عند قوله {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِم} (¬7). وقوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي: بالعقوبة، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} قال ابن عباس (¬8): يريد كيف رأيت ما صنعت بمن استهزأ برسلي، كذلك ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 156، والطيالسي، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل كما في "الدر" 4/ 119، والثعلبي 7/ 138 ب. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 64. (¬3) الطبري 13/ 157، الثعلبي 7/ 138 ب، القرطبي 9/ 321. (¬4) الطبري 13/ 157، عبد الرزاق 2/ 337، "زاد المسير" 4/ 332، القرطبي 9/ 321. (¬5) عبد الرزاق 2/ 337، و"تفسيركتاب الله العزيز" 2/ 310، القرطبي 9/ 321. (¬6) عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [آية: 14]، وقال: الهزء: السخرية، يقول: هزئ به يهزأ، وتهزأ به واستهزأ به، وهو أن يظهر غير ما يضمر استصغارًا وعبثًا. (¬7) آل عمران: 178. قال هنالك: (معنى (أملى) في اللغة نطيل ونؤخر، والإملاء: الإمهال والتأخير، قال ابن عباس: قوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} يريد: تماديهم في معاصي الله). (¬8) القرطبي 9/ 322.

33

أصنع بمشركي قومك، قال المفسرون: الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، عما يلقى من سفهاء قومه من الكفر والاستهزاء، بأنه قد قيل لأنبياء قبلك مثل هذا، فاصبر كما صبروا حتى أذيق المستهزئين بك العذاب الأليم كسُنّتي في الكذابين المستهزئين. 33 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية، قال ابن عباس (¬1): يريد نفسه تبارك وتعالى، قال ابن الأنباري (¬2) وغيره: وصف الله تعالى بالقيام، ليس يراد به الانتصاب (¬3)، الذي هو من صفة الأجسام، ولكن معناه التولي لأمور خلقه والتدبير للأرزاق والآجال وإحصاء الأعمال والجزاء، كقوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، أي والباء كذلك (¬4)، وقد يراد القيام في اللغة (¬5) ولا يراد به الانتصاب، كما يقال: فلان قائم بأمر الأيتام، يعنون بالقيام الولاية لأمورهم، والمعنى هاهنا: أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس بجزاء ما كسبت، وتلخيصه: أفمن هو مجاز كل نفس بما كسبت، وحكى أبو بكر عن بعض اللغويين أن معناه: أفمن هو عالم بكسب كل نفس واحتج بقول الشاعر (¬6): فلولا رجالٌ من قُريشٍ أعِزَّة ... سرقتم ثِيَابَ البَيْتِ والله قائِمُ ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 159، وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 119، و"زاد المسير" 4/ 333، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 311 عن الحسن. (¬2) "زاد المسير" 4/ 333. بنحوه. (¬3) لم يرد دليل على نفي الانتصاب، فالنفي يحتاج إلى دليل، كما أن الإثبات كذلك. (¬4) في (ب): (لذلك). (¬5) انظر: "مقاييس اللغة" 5/ 43، و"تهذيب اللغة" (قوم) 3/ 2864. (¬6) لم أهتد إلى قائله، وهو غير منسوب في "النكت والعيون" 3/ 114، والقرطبي 9/ 322.

أراد والله عالم، قال أبو بكر: وهذا القول أثبت، قال الفراء (¬1) وغير: وحذف خبر (من) لميان موضعه، وتلخيصه: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تنفع ولا تضر. قال الفراء: قد بينه ما بعده إذ قال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} كأنه في المعنى: كشركائهم (¬2) الذين اتخذوهم، وقال صاحب النظم: جواب قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} مضمَّن (¬3) فيما بعده؛ لأنه لما قال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} صار بدلالته على الجواب كأنه ذكر، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22]، ولم يجيء له جواب حتى قال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فصار هذا يدل على الجواب؛ لأن تأويله: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن قلبه قاس. وقوله (¬4): {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} وقع هذا موقع جواب (أفمن) على ما ذكره الفراء في المعنى. وقوله تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} ليس يريد بهذا أن يذكروا أسماءهم التي جعلوها لهم كاللات والعزى؛ لأنه لا يكون في هذا احتجاج عليهم، ولكن المعنى سموهم بما يستحقون من الأسماء التي هي صفات، ثم انظروا هل تدل صفاتهم على أنه يجوز أن يعبدوا أم لا؟ وهذا تنبيه على أنهم مبطلون، لأن المعنى يؤول إلى أن الصنم لو كان إلهًا لتصور منه أن يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ولحسن حينئذٍ أن يسمى بالخالق والرازق، فكأن الله تعالى ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 64. (¬2) في (ح): (كثير كأنهم). (¬3) في (ب): (مضمر). (¬4) في (ب): (وقوله تعالى).

قال: قل سموهم بإضافة أفعالهم إليهم إن كانوا شركاء (¬1) لله تعالى، كما يضاف (¬2) إلى الله تعالى أفعاله بالأسماء الحسنى (¬3). وقوله تعالى: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} يجوز أن يكون (أم) هاهنا عاطفة على استفهام متقدم في المعنى، وذلك أن قوله {قُلْ سَمُّوهُمْ} معناه: ألهم أسماء الخالقين؟؛ لأن المراد في أمرهم بالتسمية؛ الإنكار عليهم أنه ليس للأصنام أسماء الخالقين ولا صفاتهم، والإنكار صورته سورة الاستفهام. ويجوز أن يكون (أم) استفهامًا مبتدأ به منقطعًا بما قبله كقوله {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس: 38] وليس قبله استفهام، وذكرنا هذا قديمًا، وتأويل الآية هاهنا: فإن سموهم بصفات الخالقين قل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض؟ ومعنى هذا: أنهم كانوا يزعمون أن لله شركاء، والله تعالى لا يعلم لنفسه شريكًا، فقال: أتنبئون الله بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه؟ ومعنى {بِمَا لَا يَعْلَمُ} أي: بما يعلم أنه ليس. فالنفي وإن دخل على العلم؛ فالمراد به نفى ذلك المعلوم؛ لأنه لا يجوز أن ينتفي العلم عن الله تعالى، وقال صاحب النظم: وقد قيل: إن (يعلم) هاهنا فصل عطل عن المعنى، (ولا) بمنزلة ليس، على تأويل: أم تنبئونه بما ليس في الأرض، وخص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض لا في غيرها. ¬

_ (¬1) في (ب): (شركاء الله). (¬2) في (ب): (كأنصاف). (¬3) "زاد المسير" 4/ 333. بنحوه.

وقوله تعالى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} يعني أم يقولون مجازًا من القول وباطلاً لا حقيقة له والباء في قوله {بِظَاهِرٍ} لا يكون من صلة الشبه، بل هي من صلة القول المضمر على معنى: أم يقولون بظاهر من القول، وفسر الظاهر هاهنا تفسيرين أحدهما: أن معناه أنه كلام ظاهر، وليس له في الحقيقة باطن ومعنى رجوع إلى حقيقة، والثاني أن معناه الباطل الزائل (¬1)، من قولهم (¬2) ظهر عني هذا العيب، أي لم يعلق بي، ونبا عني، ومنه قول أبي ذؤيب (¬3): وتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُها أي باطل وزائل، وهذا الوجه اختيار صاحب النظم. وقوله تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} معنى (بل) هاهنا كأنه يقول دع ذكر ما كنا فيه؛ زين لهم مكرهم، كقول لبيد (¬4): بل ما تَذْكُر من نَوَار وقَدْ نَأَتْ ... وتَقَطّعَتْ أسْبَابُها ورِمَامُهَا ¬

_ (¬1) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 311 وذكر عن الكلبي نحوه. (¬2) "تهذيب اللغة" (ظهر) 3/ 2259. (¬3) الببت في شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 70، وصدره: وعيرها الواشون أني أحبها وفي "اللسان" (ظهر) 5/ 2769، (شكا) 4/ 2314، و"التنبيه والإيضاح" 2/ 159، و"تاج العروس" 7/ 175 (ظهر)، و"مقاييس اللغة" 3/ 272، و"تهذيب اللغة" 3/ 2259، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" (ظهر) 3/ 2259، و"مجمل اللغة" 2/ 603. (¬4) "ديوانه" ص 166، و"تهذيب اللغة" 2/ 606 (سبب) 3/ 2994، و"اللسان" (قطع) 6/ 3674، وبلا نسبة في "اللسان" (سبب) 4/ 1910، و"تاج العروس" (سبب) 2/ 66.

كأنه كان في ذكر شيء فتركه وعاد إلى ذكر هذه المرأة، كذلك الله تعالى ترك ذكر الاحتجاج عليهم، وبين سبب كفرهم وإقامتهم على ذلك، بقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} قال ابن عباس (¬1): يريد زين الشيطان لهم الكفر، ففسر المكر بالكفر؛ لأن مكرهم بالرسول وبما جاء به كفر منهم. وقوله تعالى: {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} قال ابن عباس (¬2): وصدهم الله عن سبيل الهدى، وضم الصاد قراءة (¬3) أهل الكوفة، واختيار أبي عبيد (¬4)، قال: لأنه قراءة أهل السنة، وفيه إثبات القدر (¬5)، يعني أن تفسيره يكون على ما ذكره ابن عباس، وهذه القراءة حسنة لمشاكلة ما قبلها من بناء الفعل للمفعول، ومن قرأ بفتح الصاد فالمعنى: أنهم صدوا غيرهم عن الإيمان، يقال: صد وصددته، مثل: رجع ورجعته، ودليل هذه القراءة قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" نوار: اسم امرأة. نأت: ابتعدت، تقطعت أسبابها: حبالها، والرمام: الحبال الضعاف التي خلقت 4/ 333، والقرطبي 9/ 323، و"تفسير كتاب الله العزيز" 20/ 311 عن مجاهد. (¬2) "تنوير المقباس" (158) بنحوه، و"زاد المسير" 4/ 334، القرطبي 9/ 323. (¬3) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (وصَدُّوا) بفتح الصاد، وقرا عاصم وحمزة والكسائي (وصُدُّوا) بالضم. انظر: "السبعة" ص 359، و"الإتحاف" 13/ 161، والطبري 16/ 467، والقرطبي 9/ 323، و"زاد المسير" 4/ 333، و"البحر المحيط" 5/ 395. (¬4) في (أ)، (ج): (أبي عبيدة). بالهاء. (¬5) الثعلبي 7/ 139 أ. (¬6) النحل: 88، محمد: 1.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الوقف على هذا بسكون الدال من غير إثبات ياء قراءة أكثر (¬1) القراء، وكذلك: وال، وواق، وهو الوجه، لأشك تقول في الوصل: هذا قاض وهاد وواق، فتحذف المجاء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت فالتنوين يحذف في الوقف (في الرفع والجر ولا يبدل منه شيء، والياء قد كانت انحذفت في الوصل، فيصادف الوقف) (¬2) الحركة التي هي كسرة في عين فاعل، فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها، فإذا حذفتها سكن الحرف في الوقف، كما كانت تسكن سائر المتحركات فيه، فيصير: داع وهاد، وكان ابن كثير يقف بالياء: هادي ووالي وواقي (¬3)، ووجه ذلك ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول: هذا داعي وعمي، فيقفون بالياء، ووجه ذلك أنهم كانوا حذفوا الياء في الوصل، لالتقائها مع التنوين ساكنة، وقد أمن (¬4) في الوقف أن يلحق التنوين، فإذا أمن الذي (¬5) كان الياء حذفت في الوصل من أجل التقائها، ردت الياء فصار: هذا قاضي وداعي (¬6)، ومن ثم قال الخليل في نداء قاض ونحوه: يا قاضي، بإثبات الياء؛ لأن النداء موضع لا يلحق فيه التنوين، فإذا لم يلحق لم يلتق ساكن مع التنوين، فيلزم ¬

_ (¬1) "الحجة" 5/ 23، 24. بنحوه. وعامة القراء على هذه القراءة، وابن كثير وحده يقف على الهاء. انظر: "السبعة" ص 360. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ب). (¬3) انظر: "السبعة" ص360. (¬4) في (ب): (أمر). (¬5) في "الحجة": فإذا أمن التنوين الذي كانت الياء حذفت في الوصل من أجل التقائها معها في الوصل. (¬6) في "الحجة": هادي، والأول أكثر في استعمالهم.

34

حذفها فثبتت الياء في النداء، لما أمن من لحاق التنوين فيه كما يثبت مع الألف واللام، لما أمن التنوين معها، في نحو (المتعالي) [الرعد: 9] و {دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]، والأول أكثر في استعمالهم (¬1) (¬2). 34 - قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال ابن عباس (¬3): يريد الإسقام والقتل والأسر، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} أي: أشد وأغلظ. قال أهل المعاني: المشقة غلظ الأمر على النفس، بما يكاد يصدع القلب، فهو من الشق بمعنى الصدع. {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: من عذاب الله، {مِنْ وَاقٍ} أي حاجز ومانع يمنعهم ذلك، يقال: وقاه الله السوء يقيه وقيًا، أي دفعه عنه، ومثله الوقاية، ويقال لكل ما يدفع الأذية: وقًا ووقاية، حتى النعل وقاية للرِّجْل، ومعنى قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أن عذاب الآخرة لا يدفعه عنهم دافع، وأنهم فيه خالدون. 35 - قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الآية، اختلفوا في معنى قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} وفي وجه ارتفاعه، فقال سيبويه (¬4): المعنى: فيما نقص عليكم مثل الجنة فيما نقص عليكم، فرفعه عنده على الابتداء والخبر محذوف، هذا حكايته الزجاج عنه (¬5)، وقال ابن الأنباري (¬6) محققًا هذا القول: المثل خبره مضمر قبله، يراد به: فيما نصف لكم مثل الجنة، فيما نقصه من القرآن خبر الجنة، والمثل (على هذا القول معناه الحديث ¬

_ (¬1) في "الحجة": كذلك تثبت في النداء لذلك. (¬2) آخر النقل عن "الحجة" 5/ 23، 24. بنحوه. (¬3) الثعلبي 7/ 139 أ، و"زاد المسير" 4/ 334، القرطبي 9/ 324 من غير نسبة. (¬4) القرطبي 9/ 324. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 149. (¬6) "زاد المسير" 4/ 334.

نفسه، قاله الليث (¬1). واحتج بهذه الآية وقال: (مثلها) هو الخبر) (¬2)، وهذا القول اختيار أبي العباس، قال أبو بكر: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيي يذكر هذا ويصححه. وقال المبرد (¬3) في كتاب "المقتضب": التقدير: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، واختار أبو علي الفارسي هذا القول ودفع ما سواه، وقال: المثل في الآية بمعنى الشبه، وتعلق قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بما قبله علي وجه التفسير له (¬4)، كما أن قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} بعد قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] تفسير للمثل، وكما أن قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة: 9] الجملة الثانية تفسير للوعد، ومن ذلك قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] الجملة الثانية تفسير للوصية، وكذلك {فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15] و {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الرعد: 35] تفسير للمثل، ومثله قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: 18] فقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} تفسير للمثل. وقال قوم: المثل هاهنا بمعنى الصفة، قالوا: ومعناها صفة الجنة التي وعد المتقون، قال محمد بن سلام (¬5) أخبرني عمر (¬6) بن أبي خليفة قال: ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (ج). (¬3) "المقتضب" 3/ 225، ونقله عنه الأزهري في "التهذيب" (مثل) 4/ 3341. (¬4) (له): ساقط من (ج). (¬5) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬6) في (ب): (عن).

سمعت مقاتلًا صاحب التفسير يسأل أبا عمرو بن العلاء عن قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ما مثلها؟ قال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قال: ما مثلها؟ فسكت أبو عمر، وقال: فسألت يونس عنها، فقال: مثلها صفتها، قال محمد بن سلام: ومثل ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] أي صفتهم، قال الأزهري (¬1): ونحو ذلك روي عن ابن عباس، وأما جواب أبي عمرو لمقاتل، فإنه أجابه، جوابًا مقنعًا، ولما رأى نَبْوةَ فَهْم مقاتل عما أجابه، سكت عنه، لما وقف عليه من غلظة فهمه، وأراد أبو عمرو: صفتها أن الأنهار تجري من تحتها، وأن فيها أنهارًا من ماء غير آسن. قال ابن الأنباري: وعلى هذا القول المثل ابتداء وخبره {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.وهو الرافع له، لأن المثل معناه الصفة، وصفة الجنة في المعنى قول مقول، وكلام معقول مفهوم، فجرى مجرى القول في صفة الجنة تجري من تحتها الأنهار، كما تقول: قولي بقول عبيد الله، وقولي ينصفك الأمير، (فيكون: ينصفك الأمير) (¬2) خبر القول، ولا ذكر له فيه، لأنه بمعنى قولي هذا الكلام، فسَدَّ (ينصفك الأمير) مَسَدَّ هذا الكلام، وسَدّ (تجري من تحتها الأنهار) مَسَدّ مثل الجنة، هذا الوصف الذي تخبرون به، وهذا الوصف الذي تسمعونه، هذا كلام أبي بكر، وقال ابن قتيبة (¬3): معنى المثل: الشبه في أجل اللغة، ثم قد يصير بمعنى سورة الشيء وصفته، وكذلك المثال والتمثال، يقال: مثلت لك كذا، أي: صورته ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ب)، (ج). (¬3) "مشكل القرآن وغريبه" ص 235.

ووصفته (¬1)، فأراد الله بقوله: (مثل الجنة) أي: صورتها وصفتها، ومثله قوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] أي: ذلك وصفهم؛ لأنه لم يضرب لهم مثلًا في أول الكلام، ويؤيد هذا المعنى ما حكاه الفراء (¬2) بإسناده، أن عليًّا رضي الله عنه قرأ: (أمثال الجنة)، قال الفراء: يقول: صفات الجنة، فجمع الأمثال لما أتت بعدها أوصاف، ومثل هذا من الكلام قول العرب: حلية فلان أسمر. أي القول في وصفه هذا، فأسمر يرتفع بإضمار هو. وأنكر المبرد (¬3) هذا القول، وقال: من قال: إن معناه صفة الجنة، فقد أخطأ، (مثل) لا يوضع موضع صفة؛ إنما يقال: صفة زيد أنه ظريف وأنه عاقل، ولا يقال: زيد مثل فلان، إنما المثل مأخوذ من المثال، والصفة تحلية ونعت. قال أبو علي (¬4): قول من قال: معنى (مثل الجنة)؛ صفة الجنة، غير مستقيم، ودلالة اللغة تدفع ذلك، ولا يوجد المثل في اللغة بمعنى الصفة، إنما معنى المثل الشبه، في جميع مواضعه ومتصرفاته، من ذلك قولهم: ضربت مثلا، فالمثل إنما هو الكلمة التي يرسلها قائلها محكمة (¬5) ليشبه بها الأمور، ويقابل بها الأحوال، ومن ذلك قولهم للقصاص: المثال، وتماثل العليل، إذا تقاربت أحواله أن تشابه أحوال الصحة، والطريقة المثلى، إنما ¬

_ (¬1) إحدى الواوين ساقطة من (ب). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 65، والقراءة في "الكشاف" 2/ 362. (¬3) "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬4) النقل من "الإغفال" للفارسي 2/ 910. (¬5) في "الإغفال" 2/ 912: (محكية).

هي المشبهة الصواب، ولن يقدر أحدٌ أن يوجدنا استعمال العرب المثل بمعنى الصفة في كلامهم. والذين قالوا: المثل هاهنا بمعنى الصفة، قوم من رواة اللغة غير مدفوعي القول إذ رووا شيئًا عن أهل اللغة، ولم يقولوه من جهة النظر والاستدلال، وقولهم: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} صفة الجنة، لم يرووه عن (¬1) رواية، إنما قالوه متداولين (¬2)، ولم يرووه عن أهل اللسان ولا أسندوه إليهم، فهذا امتناعه من جهة اللغة، ولا يستقيم أيضًا من جهة المعنى، ألا ترى أن (مثل) (¬3) إذا كان بمعنى الصفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة فيها أنهار، وهذا قول غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها، لا في صفتها، وصفتها لا يجوز أن يكون فيها أنهار، وأيضًا فإنه إذا احتمل المثل على معنى الصفة، وأجري في الإخبار عنه مجراها، وأنِّث الراجع إليه الذي هو "فيها" في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -، و {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في هذه السورة، فقد حمل الاسم على المعنى فأنّث، وهذا قبيح ضعيف يجيء في ضرورة الشعر. نحو: "ثلاث شخوص" (¬4) (¬5)، عشر ¬

_ (¬1) (عن) ساقط من: (ب). (¬2) في "الإغفال" 2/ 914: (متأولين). (¬3) في "الإغفال" 2/ 914: (أن مثلاً). (¬4) (شخوص) ساقط من (ج). (¬5) هذه قطعة من بيت لعمر بن أبي ربيعة، والبيت بتمامه: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر انظر: سيبويه 2/ 204، و"الخصائص" 2/ 417، والأشموني: 3/ 630، و"ديوانه" 1/ 3 ط. أوربا، و"المذكر والمؤنث" للمبرد ص 108 - 113، و"الإنصاف" ص 619، و"أوضح المسالك" ص 248، 250، و"المقتضب" 2/ 148، و"المخصص" 17/ 117، 9/ 4، و"الخزانة" 3/ 213.

أبطن (¬1)، وإذا كان كذلك لم يسع (¬2) الحمل على ما قالوه، ولأن خبر المبتدأ لا يخلو من أن يكون المبتدأ في المعنى، أو يكون له فيه ذكر، وليس قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} من أحد الخبرين، فلم يكن خبر المبتدأ ما ذكروه، ولكن ما ذهب إليه سيبويه (¬3) من أن المعنى: فيما نَقُصُّ عليكم مثل الجنة، فقال قوم: قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} خبر عن المضاف إليه، وهو الجنة، يرى الخبر عن المضاف الذي هو مثل، ومثل ذلك جائز في الكلام، كقوله (¬4): لو أن عُصْمَ عَمَايَتَيْن ويَذْبُل ... سَمِعَا حديثَكِ أنْزَلا الأوْعَالا (¬5) فأخبر عن العمايتين بقوله: سمعا، ولم يخبر عن العُصْمِ. قال أبو علي: لا يجوز أن يُذْكر اسمٌ ولا يخبر عنه، ويترك متعلقًا (¬6) مضربًا عن ¬

_ (¬1) هذه قطعة من بيت لرجل يقال له النواح من بني كلاب، والبيت بتمامه: فإن كلابًا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر "المخصص" 12/ 154، وسيبويه 2/ 203، و"المذكر والمؤنث" للمبرد ص 108، و"العين" 4/ 484. (¬2) في (ج): (يسمع). (¬3) انظر: "الكتاب" 1/ 90. (¬4) البيت لجرير بن عطية الخطفي. انظر: "ديوانه" ص 360، طبعة نعمان وفيه: (سمعت حديثك أنزل الأوعالا)، شرح ابن يعيش: 1/ 46، و"المخصص" 8/ 168 غير منسوب، و"الأشباه والنظائر" 5/ 65، و"أمالي ابن الحاجب" 2/ 660، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 462، و"همع الهوامع" 1/ 42. (¬5) في (ج): (الأومالا). (¬6) في "الإغفال" 2/ 918: (معلقًا).

الحديث عنه، ولم يجئ ذلك عندنا في شيء من كلامهم، وليس تأويل هذا البيت على ترك الإخبار عن المضاف، وإنما المعنى: لو أن عصم عمايتين، وعصم يذبل، فحذف المضاف (¬1) يجري ذكره، والدلالة عليه بالإخبار عنه بعده، وأجري الإخبار عنهما على لفظ الشبه إذ كانا جميعين (¬2)، لأنهما أجريا مجرى القبيلين، كقوله تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وكقوله (¬3): إن المَنِيّةَ والحُتُوفَ كلاهُما ... توفي المَخَارِمَ يرقُبَانِ سَوادِيَا وأبو بكر بن الأنباري يقوي هذه الطريقة، ويقول: يجوز أن يذكر اسمان ثم يخبر عن الثاني، ويسد الخبر عن الثاني مسد الخبر عن الأول، كما قالوا: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل، فجعلوا الخبر عن الدنيا خبرًا عن الكاف، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] صرف خبر الذين إلى الأزواج، وذهب قوم إلى أن المثل دخل توكيدًا للكلام، والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، فأكد الكلام بالمثل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أي كهو، وعلى هذا المثل يكون لغوًا وزيادة كما تقول في الفصل في قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 5، 12]. وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) في "الإغفال" 2/ 918 (فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لم يجر في ذكره، والدلالة عليه به، وبالأخبار الذي يجيء عنه بعده ..). (¬2) في "الإغفال" 918/ 2 (واحد إذا كانا جمعين). (¬3) القائل هو الأسود بن يعفر. "ديوانه" ص 26، و"خزانة الأدب" 7/ 575، و"شرح شواهد المغني" 2/ 553، و"مغني اللبيب" 1/ 204 (يوفي المنية) بدل (توفي المخارم)، و"خزانة الأدب" 3/ 385 (يوفي)، "المفضليات" ص 216 (يوفي)، و"منتهى الطلب" 1/ 81 (كليهما)، و"السمط" 1/ 174، 268 (يوفي).

{تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل: 20]. قال أبو علي: كون المثل لغوًا والحكم عليه بهذا فاسد غير سائغ (¬1)، لأنه لا دلالة عليه ولا شاهد له، والقياس على الفصل غير جائز لقِلته، ولأن الفصل مضمر غير معرب، وقد قامت الدلالة على أن الفصل لا موضع له من الإعراب، و (مثل الجنة) مظهر معرب فلا يشبه الفصل، ألا ترى أن (مثل) هاهنا يرتفع (¬2) بالابتداء، (وإذا ارتفع بالابتداء) (¬3)، فقد اقتضى خبرًا لآية (¬4) يرتفع بكونه مُحَدَّثًا عنه، كما يرتفع الفاعل بذلك، فلو جاز وجود مبتدأ لا خبر له، لجاز وجود فاعل لا فعل له، وإذا استحال هذا في الفاعل كان استحالته في الابتداء مثله. وأما قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فليس مثل لغوًا، إنما الكاف الملغى عندنا، والحكم بزيادة الكاف أولى؛ لأنه حرف، والحرف يكون زيادة كثيرة، وليس الأسماء بمنزلها، وقد وجدت الكاف زائدة في مواضع كقول رؤبة (¬5): لَوَاحِقُ الأقْرابِ فيها كالمَقَق ... و ... كَكَما يُؤثَفِين (¬6) ¬

_ (¬1) في (ب): (غير شائع). (¬2) في "الإغفال" 2/ 920: (لا يرتفع) بزيادة (لا). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ج). (¬4) في "الإغفال" 2/ 920: (خبرًا لأنه). (¬5) "ديوانه" ص 106، و"العين" 3/ 290، و"الخزانة" 4/ 266، و"سر صناعة الإعراب" ص 292، وبغير نسبة في "المقتضب" 4/ 418، و"المسائل البغداديات" ص 400. قاله يصف خيلاً، لواحق: ضوامر، والأقراب: جمع قرب. والقرب الخاصرة. (¬6) البيت لخطام المجاشعي، ولعل قبله سقطًا وأوله: وصاليات ككما يؤثفين

وقول لبيد (¬1): ....... في مِرْفَقَيْهما كالفَتل وإذا كان كذلك كان الحكم بزيادة الكاف أولى، بل لا يجوز غيره، فيكون المعنى: ليس مثله شيء، وقال أبو إسحاق (¬2): والذي عندي -والله أعلم- أن عرفنا أمور الجنة التي لم نرها ولم نشاهدها، بما شاهدنا من أمور الدنيا وعاينا، فالمعنى مثل الجنة التي وعد المتقون جنة تجري من تحتها الأنهار، قال أبو علي (¬3): وهذا أيضاً ليس بمستقيم، ألا ترى أن المثل لا يخلو عن أن يكون الصفة، كما قال قوم، أو يكون من معنى المشابهة والتشبه (¬4) كما قلنا، وفي كلا القولين لا يصح ما قال، لو قلت: ¬

_ = انظر: "الكتاب" 1/ 13، 203، 2/ 331، و"المغني" 4/ 592، و"الخزانة" 1/ 367، وغير منسوب في "معاني الأخفش" 303، و"المقتضب" 2/ 95، و"مجالس ثعلب" ص 39، و"سر صناعة الإعراب" ص 282، و"المحتسب" 1/ 186، والصاليات: الأثافي، وهي من صليت بالنار: أي أحرقت حتى اسودت، يؤثفين: يجعلن أثافي للقدر. (¬1) "ديوانه" ص 139، والبيت بتمامه: قد تجاوزت وتحتي جسرة ... حرج في مرفقيها كالفتل تجاوزت: قطعت المسافة، الجسرة: الناقة الضخمة الطويلة التي لا تركب، حرج: لا تركب ولا يضربها الفحل، الفتل: الاندماج في المرفقين مع تباعد عن الجنب. وانظر: "اللسان" (حرج) 2/ 821، (فتل) 6/ 3343، و"تهذيب اللغة" 1/ 775، و"كتاب العين" 3/ 77، و"تاج العروس" (حرج) 3/ 321، وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" 1/ 260. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 150. (¬3) "الإغفال" 2/ 924. (¬4) في (ب): (والشبه) وهو الصحيح كما في "الإغفال" 2/ 924، وفي (ح): (والتشبيه).

صفة الجنة جنة لم يصح، لأنها لا يكون الصفة، وكذلك لو قلت: شبه الجنة جنة، ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المماثلين، وهو حدث، والجنة غير حدث، وإذا كان كذلك الأول لا يكون الثاني، والصحيح في هذه الآية ما قاله سيبويه (¬1)، واعترض ابن الأنباري أيضًا على قول أبي إسحاق بأن قال: لا يجوز أن يحذف من الآية جنة، وهي منونة؛ لأن الاسم لا يخلفه الفعل المستقبل، لا يجوز أن تقول: مررت بيقوم، على معنى: مررت برجل يقوم. وقال بعض النحويين: (مثل الجنة) مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: مثل الجنة التي هي كذا وكذا أجل مثل، وقال مقاتل (¬2): معنى الآية شبه الجنة التي وعد المتقون في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار في العذاب والشدة والخلود، وعلى هذا الآية متصلة بما قبلها، ويصير في التقدير، كأنه قال: ولعذاب الآخرة أشق مثل الجنة، أي في الدوام والخلود. وقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} قال الحسن (¬3): يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار تنقطع في غير أزمنتها، وقيل: أراد أن النعمة بأكلها لا تنقطع بموت ولا غيره من الآفات. وقوله تعالى: {وَظِلُّهَا} أي: أنه (¬4) لا يزول ولا تنسخه الشمس (¬5). ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل عن "الإغفال" 2/ 911 - 924 بتصرف وزيادة وحذف. (¬2) "تفسير مقاتل" 192 أ. (¬3) "زاد المسير" 4/ 334. (¬4) (أنه) ساقط من (ج). (¬5) "زاد المسير" 4/ 334.

36

36 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية. قال المفسرون (¬1): إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب، ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ففرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب، وكفر المشركون بالرحمن، وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله هذه الآية. وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ} يعني: الكفار الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} يعني ذكر الرحمن، وهم كانوا ينكرون جميع ما ينزل عليه؛ إلا أن إنكارهم لهذا أشدة لأنهم كانوا يعرفون اسم الله فلا ينكرون ذكره، وأنكروا ذكر الرحمن فذلك قوله: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} وهذا الذي ذكرنا معنى قول ابن عباس (¬2) في رواية الوالبي. 37 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} شبه إلْزاله حكمًا عربيًّا بما أنزل إلى من تقدم من الأنبياء، أي كما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا إليك القرآن، والكناية في قوله: {أَنْزَلْنَاهُ} تعود إلى ما في قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن. وقوله تعالى (¬3): {حُكْمًا عَرَبِيًّا} قال ابن عباس (¬4): يريد ما حكم عن الفرائض في القرآن، فعلى هذا يريد أحكام القرآن، وجعله عربيًّا؛ لأنه جار على مذاهب العرب في كلامها. ¬

_ (¬1) الثعلبي 7/ 139 ب، و"زاد المسير" 4/ 335، والقرطبي 9/ 326. (¬2) "تنوير المقباس" ص 159. (¬3) (تعالى) ساقط من (ب). (¬4) "زاد المسير" 4/ 336 قال: يريد ما فيه من الفرائض.

38

وقال غيره (¬1): أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه به يفصل بين الحق والباطل، فهو من هذا الوجه حكم؛ لأنه به يحكم، وقال بعضهم (¬2): عنى بالحكم العربي الدين الذي أتى له النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله حكمًا، لأنه يحكم به، وجعله عربيًّا؛ لأنه أتى به عربيٌّ فنسب الدين إليه. وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الآية. قال المفسرون (¬3): وذلك أن المشركين دعوه إلى ملة آبائه، فتوعده الله على اتباع هواهم، قال عطاء عن ابن عباس: يريد مخاطبة لأصحابه، فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعصوم، فعلي هذا، الخطاب للنبي) (¬4) -صلى الله عليه وسلم- والمراد به غيره (¬5). 38 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} الآية. قال الكلبي (¬6): عيرت اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيًا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله هذه الآية، يقول: قد أرسلنا رسلا من قبلك فجعلناهم بشرًا لهم أزواج فنكحوهن، وأولاد أنسلوهم. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إلا بإطلاقه له الآية، قال أهل المعاني: يعني أن حاله كحال الرسل الذين تقدموا، وأمره في الآيات جار على طريقتهم، في أنهم كانوا لا يأتون بآية ¬

_ (¬1) القرطبي 9/ 327، و"البحر المحيط" 5/ 397. (¬2) قال به أبو عبيدة، و"مجاز القرآن" 1/ 334، و"زاد المسير" 4/ 336. (¬3) "زاد المسير" 4/ 336. (¬4) ما بين القوسين مكرر في (ب). (¬5) "البحر المحيط" 5/ 397. (¬6) "تنوير المقباس" 159، و"البحر المحيط" 5/ 397، و"زاد المسير" 4/ 336، القرطبي 9/ 327، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 313.

39

إلا بإذن الله (¬1) ربهم، لا على تحكم العباد بأهوائهم. وقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل أجل قدَّره الله تعالى، ولكل أمر قضاه الله كتاب أثبت فيه، فلا يكون آية إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، والمعنى: لأجل كل أمر ووقته كتابة مثبتة، لا يتقدم ذلك الأمر على وقته الذي كتب له ولا يتأخر عنه، هذا معنى قول أكثر المفسرين (¬2)، وقال الفراء (¬3): جاء التفسير لكل كتاب أجل مؤجل ووقت معلوم، وعنده أن هذا من المقلوب، والمعنى فيهما واحد، وهذا مذهب مقاتل (¬4). 39 - قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} الآية، المحو (¬5) ذهاب أثر الكتابة، يقال: محاه يمحو ويمحاه أيضًا محوًا، وطيئ تقول: محيته محيًا، وأمحى الشيء وامتحى، إذا ذهب أثره. وقوله تعالى: {وَيُثْبِتُ} قال النحويون (¬6) أراد ويثبته. واستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني، والعرب تفعل ذلك كثيراً، كقوله تعالى ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة ساقط من (ب). (¬2) الطبري 13/ 165، الثعلبي 7/ 140 ب، و"زاد المسير" 4/ 337، القرطبي 9/ 328. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 65. (¬4) "تفسير مقاتل" (192أ). وإلى هذا القول ذهب الضحاك فيما روى عنه الطبري 13/ 165. وقد تعقب هذا القول أبو حيان فقال: ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر، وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب، بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية، كالجنة ونعيم أهلها لا أجل لها. اهـ. "البحر المحيط" 5/ 397. (¬5) "تهذيب اللغة" (محا) 4/ 3347. (¬6) "الحجة" 5/ 20.

{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:35] وقول الشاعر (¬1): بأيّ كِتَابٍ أم بأيَّةِ سنةٍ ... ترى حُبَّهُم عارًا عليَّ وتَحسِبُ فلم يعمل الثاني. وقوله تعالى: {وَيُثْبِتُ} قرئ (¬2) بالتخفيف والتشديد، فمن خفف ذهب إلى أن الإثبات ضد المحو، لا التثبيت، فلما كان في مقابلة المحو كان التخفيف أولى من التشديد، ولأن التشديد للتكثير، وليس القصد بالمحو التكثير، وكذلك ما يكون في مقابلته، ومن يشدد احتج بقوله {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 36]. وقوله تعالى: {فَثَبِّتُوا} [الأنفال: 12] لأن يثبت مطاوع ثبت، واختلفوا في تفسير هذه الآية، فذهب قوم إلى أنها عامة في كل شيء، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله تعالى يمحو من الرزق ويزيد فيه ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة، وهو مذهب عمر (¬3) وابن ¬

_ (¬1) هو الكميت يمدح آل البيت، انظر: "المحتسب" 1/ 183، و"الخزانة" 4/ 5، و"العين" 2/ 413، و"الهمع" 1/ 152، و"الدرر" 1/ 134، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (692)، و"المقاصد النحوية" 2/ 413. (¬2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {وَيُثْبِتُ} ساكنه الثاء خفيفة الباء "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (692)، و"المقاصد النحوية" 2/ 413، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {وَيُثَبِّت} مفتوحة الثاء مشددة الباء. انظر: "السبعة" ص 359، و"إتحاف" ص 270، و"زاد المسير" 4/ 337، والقرطبي 9/ 329. (¬3) الطبري 13/ 167، 168، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 132، الثعلبي 7/ 141 أ، و"زاد المسير" 4/ 337، والقرطبي 9/ 330، و"تفسير كتاب الله العزيز" 20/ 314.

مسعود (¬1) وابن وائل (¬2)، وهؤلاء كانوا يدعون الله أن يثبتهم سعداء، ويمحو شقاوتهم من الكتاب إن أثبت فيه، ويروى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه أبو صالح عن عبد الله بن رئاب (¬3) عن جابر (¬4) مثل ما ذكرنا من المعنى. وهذا قول ابن عباس (¬5) في رواية سعيد بن جبير، قال: أم الكتاب عند الله من الشقاوة والسعادة ويمحو الله ما يشاء من ذلك ويثبت، وذهب قوم إلى أن هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، فروى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} إلا الشقاوة والسعادة، ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 168، وابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن أبي الدنيا في "الدعاء" كما في "الدر"، وابن المنذر والطبراني كما في "الدر" 4/ 123، والثعلبي 7/ 141 أ، و"زاد المسير" 4/ 337، والقرطبي 9/ 330. (¬2) الطبري 13/ 167، الثعلبي 7/ 141، و"زاد المسير" 4/ 337، القرطبي 9/ 330. (¬3) هو: عبد الله بن رياب، قال ابن فتحون في "أوهام الاستيعاب" عن ابن علي حسن ابن خلف أنه أحد السبعة أو الثمانية السابقين من الأنصار إلى الإسلام. انظر: "الإصابة" 2/ 307. (¬4) الطبري 13/ 168 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلق أحمد شاكر بقوله: محمد بن السائب الكلبي النسابة المفسر، متكلم فيه بما لا يحتمل الرواية عنه. وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" مختصرًا 3/ 3/ 114، وخرجه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 123، و"زاد نسبته" إلى ابن مردويه، ونقله ابن كثير في "تفسيره" 2/ 570. وفي الثعلبي 7/ 140 ب، بالسند الذي ذكره الطبري خلافًا لما في المتن -هنا- حيث قال أبو صالح عن عبد الله بن رئاب عن جابر. وانظر: "الدر المنثور" 4/ 123. (¬5) الطبري 13/ 168.

والموت" (¬1) ونحو هذا روي عن ابن عباس (¬2) وزاد في المستثنى ثلاثة أخرى: الخَلْق والخُلُق والرزق، وقال مجاهد (¬3) فيما روى عنه منصور: الشقاء والسعادة (¬4) لا يغيران. وقال ابن عباس (¬5) في رواية أبي صالح: إن الذي يمحوه الله ويثبته ما يصعد به الحفظة مكتوبًا على بني آدم، فيأمر جل وعز أن يثبت عليه ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط عنه ما لا ثواب فيه ولا عقاب، وهذا القول اختيار الفراء (¬6)، وقول الضحاك (¬7) والكلبي (¬8). وقال آخرون: هذا المحو والإثبات في الآجال والأرزاق إذا ولد الإنسان أثبت أجله ورزقه، وإذا مات محيا. وهذا (¬9) القول يروى عن ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 127: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه محمد بن جابر اليمامي، وهو ضعيف من غير تعمد كذب، وقال السيوطي في "الدر" 4/ 123، أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه بسند ضعيف، وأخرجه الثعلبي بسنده 7/ 140 ب. وروي عن ابن عباس ومجاهد نحوه كما سيأتي. (¬2) الثعلبي 7/ 140 ب، القرطبي 9/ 329، وقد روى عن ابن عباس استثناء الشقاوة والسعادة والحياة والموت فقط. انظر: الطبري 13/ 166، 167، و"زاد المسير" 4/ 337. (¬3) الطبري 13/ 166، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 125، و"زاد المسير" 4/ 338، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 313. (¬4) في (ب): زيادة واو (ولا يغيران). (¬5) "زاد المسير" 4/ 338، و"تنوير المقباس" ص 159، والثعلبي 7/ 140 ب. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 66. (¬7) "زاد المسير" 4/ 338، الثعلبي 7/ 140 ب، القرطبي 9/ 331. (¬8) الطبري 13/ 168، الثعلبي 7/ 141 أ، "زاد المسير" 4/ 338، القرطبي 9/ 331. (¬9) في (أ)، (ب): (وهو).

الحسن (¬1) والقرظي (¬2). وقال سعيد بيت جبير (¬3) وقتادة (¬4) يمحو الله ما يشاء من الشرائع، فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وهذا القول هو اختيار أبي علي (¬5)، قال: هذا -والله أعلم- فيما يحتمل النسخ والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح على حسب الأوقات، فأما ما كان من غير ذلك فلا يمحى ولا يبدل، وهذه الآية يجوز أن تكون مستأنفة غير متصلة بما قبلها، ويجوز أن تكون متصلة، على أن يكون قوله: {يَمْحُو اللَّهُ} من صفة النكرة التي هي قوله: {كِتَابٌ} على تقدير: لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء من ذلك الكتاب ويثبت، والراجع إلى النكرة محذوف. فإن قيل: ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف به القلم؟ وليس الأمر بأنف؟ وكيف يستقيم مع هذا المحو والإثبات أيضًا مما جف به القلم؟ فلا يمحو إلا ما سبق في حكمه وقضائه محوه، وهذا معنى قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال ابن عباس (¬6): يريد اللوح المحفوظ، الذي لا يبدل ولا يغير منه شيء، هذا قوله في رواية عطاء وعكرمة، ومعنى ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 189، وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 126، والثعلبي 7/ 141 ب، و"زاد المسير" 4/ 338، والقرطبي 9/ 332، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 313، 314. (¬2) الثعلبي 7/ 141 ب. (¬3) الثعلبي 7/ 141 ب، القرطبي 9/ 331. (¬4) الطبري 13/ 168، الثعلبي 7/ 141 ب، القرطبي 9/ 331. (¬5) "الحجة" 5/ 21. (¬6) الطبرى 13/ 170، والثعلبي 7/ 140 ب، و"زاد المسير" 4/ 339، و"تفسيركتاب الله العزيز" 2/ 314.

(أم الكتاب) أصل الكتاب، والعرب تسمي كل شيء ضم إليه سائر ما يليه أُمًّا، من ذلك: أم الرأس، وهو الدماغ، وأم القرى مكة، وكل مدينة هي أم ما حولها من القرى، وكذلك أم الكتاب هو أجل لكل ما كتب على ابن آدم، وكل ما يجري من الكائنات والحادثات، قال كعب (¬1): علم الله ما هو خالقه، وما خَلْقُه عاملون، فقال لعلومه (¬2): كن كتابًا، فكان كتابًا، فهذا يدل على أن ما سبق في علمه أنه يمحى أو (¬3) يثبت فلا (¬4) يمحى في أم الكتاب، وأن المحو والإثبات مما سبق به القضاء. وهل يمحى من أم الكتاب أم لا؟ يدل قول بعض المفسرين على أنه لا يمحى منه، فقد قال عكرمة عن ابن عباس (¬5): هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء، وقول أكثرهم يدل أنه يُمحى منه ويثبت، وهو قول قتادة (¬6) والضحاك (¬7) وابن جريج (¬8) فيما روى ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 170، عبد الرزاق 2/ 338، ابن كثير 2/ 571،"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 314. (¬2) في (أ)، (ج): (لعكومه). هكذا بالجمع في الروايات وعند عبد الرزاق 2/ 338 من رواية ابن عباس عن كعب (.. ثم قال لعلمه: كن كتابًا فكان كتابًا). (¬3) في (ب): بالواو (يمحى ويثبت). (¬4) في (ب): (ولا يمحى). (¬5) الطبري 13/ 167، 169، ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه كما في "الدر" 4/ 660، والثعلبي 7/ 140 ب، و"زاد المسير" 4/ 339، والقرطبي 9/ 329. (¬6) الطبري 13/ 169. (¬7) الطبري 13/ 168، و"الدر" 4/ 125. (¬8) الطبري 13/ 169.

40

عن عطاء عن ابن عباس، ونحوه روى أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله سبحانه في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء" (¬1). 40 - قوله (¬2): {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} قال ابن عباس (¬3) والمفسرون (¬4): من العذاب، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قال (¬5): يريد من قبل ذلك، قال أهل اللغة: تقديره: أو نتوفينك قبل أن نريك (¬6) ذلك، فحذف اختصارًا، لاقتضاء الكلام له، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} قال ابن عباس: يريد قد بلغت وعلينا الحساب، قال: يريد إليّ مصيرهم فأجازيهم بأعمالهم، قال أبو إسحاق (¬7) وابن قتيبة (¬8): أراد إن أريناك بعض الذي نعدهم في حياتك أو توفيناك قبل أن نريك ذلك، فليس عليك إلا أن تبلغ، كفروا هم به (¬9) ¬

_ (¬1) الطبري 13/ 170، وعلق عليه أحمد شاكر: منكر، وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني كما في "الدر" 4/ 122، ابن كثير 2/ 570، الثعلبي 7/ 142 أ. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 154، 155: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" و"البزار" بنحوه، وفيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث. اهـ. (¬2) في (ب)، (ج) زيادة: (تعالي). (¬3) "تنوير المقباس" ص 159. (¬4) الطبري 136/ 172، الثعلبي 7/ 142ب، "زاد المسير" 4/ 339، القرطبي 9/ 333، ابن كثير 4/ 571، "البحر المحيط" 5/ 399. (¬5) "تنوير المقباس" 159، و"زاد المسير" 4/ 339. (¬6) في (ح): (نرينك). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 150. (¬8) "مشكل القرآن وغريبه" ص 234. (¬9) في (ح): سقط (به) فيكون: (كفروا هم أو آمنوا).

41

أو آمنوا، وعلينا أن نجازي، والبلاغ (¬1) اسم يقام مقام التبليغ، كالسراج والأداء. 41 - قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} يعني كفار مكة (¬2)، {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} يقصد أرض مكة، {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بالفتوح على المسلمين منها، قال ابن عباس (¬3): يريد ما دخل في الإسلام من بلاد الشرك، وقال الضحاك (¬4): أو لم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد ما حوله من القرى، وقال مقاتل (¬5): الأرض مكة، ونقصها من أطرافها غلبة المؤمنين عليها، وهذا قول الحسن (¬6)، وقال أبو إسحاق (¬7): أعلم الله أن بيان ما وعدوا من قهرهم وتعذيبهم قد ظهر وتبين، يقول: أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف لا يعتبرون؟ وقال الفراء (¬8): أو لم ير أهل مكة أنا نفتح عليك ما حولها، أفلا يخافون أن تنالهم، وروي عن ابن ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (بلغ) 1/ 387. (¬2) انظر: الطبري 13/ 172، والقرطبي 9/ 333، و"تنوير المقباس" ص 159. (¬3) الطبري عن ابن عباس بلفظ قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض 13/ 172، وابن مردويه كما في "الدر" 4/ 127، و"زاد المسير" 4/ 340. (¬4) الطبري 13/ 173، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 127. وأخرج عبد بن حميد نحوه في "الدر" 4/ 127، و"زاد المسير" 4/ 340، والثعلبي 7/ 142 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 192 أ، و"زاد المسير" 4/ 340. (¬6) الطبري 4/ 127، عبد الرزاق 2/ 339، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 127، الثعلبي 7/ 142 ب، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 315. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 151. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 66.

عباس (¬1) في قوله: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موت علمائها وفقهائها. وذهاب خيار أهلها، ونحو هذا قال مجاهد (¬2)، وعلى هذا المراد بالأطراف الأشراف (¬3)، يقال للأشراف الأطراف، قال الفرزدق (¬4): واسْأَلْ بنَا وبكم إذا وَرَدَتْ بنا (¬5) ... أطْرَاف كلِّ قَبِيلَةٍ مَنْ تُمْنَعُ يريد أشراف كل قبيلة. قال ابن الأعرابي (¬6): الطّرَف والطَّرْف من الرجال الكريم، والتفسير على القول الأول (¬7)؛ لأن هذا وإن صح لا يليق بهذا الموضع. وقوله تعالى: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} قال ابن عباس (¬8): لا ناقض لحكمه، وقال الفراء (¬9): لا راد لحكمه، قال: والمعقب الذي يكرُّ على ¬

_ (¬1) عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد في "الفتن"، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه كما في "الدر" 4/ 126، الثعلبي 7/ 143 ب، الطبري 13/ 174، "زاد المسير" 4/ 340، والقرطبي 9/ 333، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 315. (¬2) عبد الرزاق 2/ 339، الطبري 13/ 174، وابن أبي شيبة كما في "الدر" 4/ 126، و"زاد المسير" 4/ 340، والقرطبي 9/ 333. (¬3) "تهذيب اللغة" (طرف) 3/ 2181. (¬4) "ديوانه" 1/ 424، وفيه: واسأل بنا وبكم إذا وردت ... مني أطراف كل قبيلة من يسمع "تهذيب اللغة" (طرف) 3/ 218، و"اللسان" (طرف) 5/ 2660، وفيه: وأسأل بنا وبكم إذا وردت ... مني أطراف كل قبيلة من يُمتَعُ (¬5) في (ب): (منا). (¬6) "تهذيب اللغة" (طرف) 3/ 2181. (¬7) وقد رجحه الطبري 13/ 174، وابن كثير 2/ 572، وأبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 400 ولم يذكر الزمخشري إلا نحو هذا القول. (¬8) "تنوير المقباس" ص 159. (¬9) "معاني القرآن" 2/ 66.

42

الشيء ويتبعه، ولا يكرُّ أحدٌ على ما أحكمه الله، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [الرعد: 11]. وقوله تعالى: {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قال ابن عباس (¬1): يريد سريع الانتقام، يعني حسابه للمجازاة بالخير والشر ومجازاة الكافر بالانتقام منه، وذكرنا الكلام في معنى سرعة حساب الله تعالى في سورة البقرة في قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202]. 42 - قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم} قال المفسرون (¬2): يعني كفار الأمم الخالية مكروا بأنبيائهم؛ مثل: نمروذ مكر بإبراهيم، وغيره من الكفار قبل مشركي مكة. وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} يعني (¬3) أن مكر الماكرين له، أي هو من خلقه، وإرادته، فالمكر جميعًا مخلوق له بيده الخير والشر، وإليه النفع والضر، والمعنى أن المكر لا يضر إلا بإذنه وإرادته، وفي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمان له من مكرهم، كأنه قيل: قد فعل من قبلهم من الكفار مثل صنيعهم ولا ضرر عليك من مكرهم؛ لأن جميع ذلك لله مخلوق، فلا يضر إلا من أراد الله ضرّه، وذهب بعض الناس (¬4) إلى أن المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك أنه لما مكروا بالمؤمنين، بين الله تعالى وبال مكرهم عليهم، فمجازاة (¬5) الله لهم، والأوّل أظهر القولين، يؤكده ¬

_ (¬1) القرطبي 9/ 334. (¬2) الطبري 13/ 175، الثعلبي 7/ 144 ب، "زاد المسير" 4/ 340، القرطبي 9/ 335، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 316. (¬3) انظر: الثعلبي 7/ 144 ب، "زاد المسير" 4/ 341، القرطبي 9/ 335. (¬4) الثعلبي 7/ 144 ب، القرطبي 9/ 335. (¬5) في (ب): (بمجازاة).

قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} يريد أن جميع الاكتساب معلوم له ومخلوق، وإذا كان بخلقه يظهر وبعلمه يحصل، لم يقع ضرره إلا بإذنه، وفيه وعيد للكفار الماكرين. وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} (¬1) قال ابن (¬2) عباس (¬3): يريد أبا جهل، وقال أبو إسحاق (¬4): الكافر اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس، فعلى قول ابن عباس التوحيد للتخصيص، وعلى قول أبي إسحاق التوحيد هاهنا كالجمع، قال أبو علي (¬5): من قرأ "الكافر" جعله اسمًا شائعًا، كالإنسان في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]. وقد جاء فاعل يراد به اسم الجنس، أنشد أبو زيد (¬6): إن تَبْخَلِي يا جُمْلُ أو تَعْتَلّي ... أو تُصْبِحِي في الظَّاعِنِ المُولِّي قال: فهذا إنما يكون على الكثرة، وليس المعنى على كافر واحد، وزعموا أنه الألف (¬7) فيه، وهذا الحرف إنما يقع في فاعل؛ نحو خالد وصالح، ولا يكاد يحذف في فعَّال، وهذا حجة لمن قرأ (الكافر). ¬

_ (¬1) هكذا "الكافر" في جميع النسخ، وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {الْكُفَّارُ} على الجمع. انظر: "السبعة" ص 359، و"الحجة" 5/ 21، و"الإتحاف" ص 270، والطبري 13/ 175، و"زاد المسير" 4/ 341، والقرطبي 9/ 335. (¬2) في (ج) إقحام (إسحاق)، فيكون (قال ابن إسحاق عباس). (¬3) "زاد المسير" 4/ 341، والقرطبي 9/ 335، و"البحر المحيط" 5/ 401. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 151. (¬5) "الحجة" 5/ 22 مختصرًا. (¬6) أنشده سيبويه 2/ 82، ونسبه إلى رجل من بني أسد، وورد في "النوادر" ص 53 ضمن أبيات من مشطور السريع منسوبًا إلى منظور بن مرثد الأسدي، و"اللسان" (عهل) 5/ 3152، و"الحجة" 1/ 151. (¬7) في "الحجة": (أنه لا ألف فيه).

43

ومن (¬1) قرأ "الكفار" أراد جميع الكفار ولا إشكال فيه، وحجته قراءة من قرأ (¬2): (وسيعلم الذين كفروا) وقراءة من قرأ (¬3) (وسيعلم الكافرون) قال عطاء (¬4): يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون. وقوله تعالى: {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} الجار (¬5) مع المجرور في موضع نصب من حيث سد الكلام الذي هو فيه مسد مفعولي العلم، فصار كقولك: علمت لمن الغلام. والكلام (¬6) في (عقبى الدار) قد مضى في موضعين من هذه السورة (¬7). 43 - قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ}. قال الزجاج (¬8): الباء في موضع رفع مع الاسم، المعنى: كفى الله، وشهيدًا منصوب على التمييز، والكلام في مثل هذا قد مضى قديمًا، وقال غيره من النحويين: إنما جاز: كفى بالله، في موضع كفى الله، لتحقيق إضافة الفعل، وذلك أن الفعل لما جاز أن يضاف إلى غير فاعله، بمعنى: ¬

_ (¬1) في (أ): (وأملينها). (¬2) نسب الطبري هذه القراءة إلى أبي 13/ 175، ونسبها مكي في "الكشف" 2/ 23 إلى أبي، وفي "البحر المحيط" 5/ 401 كذلك. (¬3) نسب الطبري هذه القراءة إلى ابن مسعود 13/ 175 وكذا أبو حيان في "البحر المحيط" 5/ 401. (¬4) "البحر المحيط" 5/ 401. (¬5) نقل عن "الحجة" 5/ 21، 22. (¬6) (والكلام) ساقط من (أ)، (ج). (¬7) آية: 22، 24. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 151.

أنه أمر به، أزيل هذا الاحتمال بهذا التأكيد، ونظيره في تأكيد الإضافة قوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ومعنى {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي (¬1): بما أظهر من الآيات، وأبان من الدلالة على صحة نبوتك؛ لأنه لا يشهد بصحة نبوته إلا على هذه الصفة. وقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قال مجاهد (¬2): هو الله -عز وجل-، واختار أبو إسحاق (¬3) هذا القول، قال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره. قال أبو بكر: فعلى هذا القول عطف "من" على اسم الله تعالى، وهو لزيادة معنى في المعطوف، كما تقول: قام عبد الله والظريف العاقل، وجلس زيد والذي يفوق في الخير أصحابه، فيعطفون الثاني على الأول، لما يريد فيه من معنى المدح. وقال ابن عباس (¬4) وقتادة (¬5): {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يعني الذين ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 4/ 341. (¬2) الطبري 13/ 177، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 129، وابن كثير 2/ 572، و"زاد المسير" 4/ 342، والقرطبي 9/ 336، وهذا القول مروي عن الحسن وغيره، انظر المراجع السابقة. وانظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 317. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 151. (¬4) المروي عن ابن عباس قوله: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. انظر: الطبري 13/ 176، و"الدر" 128/ 4، و"زاد المسير" 4/ 341، وابن كثير 2/ 572، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 317. (¬5) عبد الرزاق 2/ 339، والطبري 13/ 176، 177، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 128، و"زاد المسير" 4/ 341، والقرطبي 9/ 335، و"البحر المحيط" 5/ 401، وابن كثير 2/ 572.

آمنوا من اليهود والنصارى، منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري. وأنكر سعيد بن جبير (¬1) أن يكون عبد الله بن سلام من هذه الجملة، لأن السورة مكية، وإسلامه كان بعد هذه السورة. قال ابن الأنباري: وعلى هذا القول شهادة هؤلاء قاطعة لقول الخصوم، واحتج عليهم بشهادتهم؛ لأنهم رضوا بقولهم، وقالوا: هم الرؤساء في العلوم، والعالمون بالأخبار القديمة وكتب الله تعالى، فقيل لهم: كفى بهؤلاء شهودًا عليكم، إذ كان محلكم في أنفسكم محل من يلزمكم قبول قوله. وقال عطاء عن ابن عباس (¬2): {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يعني جبريل -عليه السلام- (¬3). ¬

_ (¬1) الطبري: 13/ 178 وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه كما في "الدر" 4/ 129، الثعلبي 7/ 144 ب، ابن كثير 2/ 572. (¬2) القرطبي 9/ 336. وأخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في "الدر" 4/ 129. (¬3) قلت: الراجح -والله أعلم- من هذه الأقوال هو قول ابن عباس: أن المراد به علماء اليهود والنصارى من غير تخصيص، فإن المشركين في مكة كانوا يسألونهم ويستشهدون بأقوالهم، وقد ورد آيات أخر فيها الاستشهاد بهم، وبما يعلمونه من تجهم من صحة رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] وقوله {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الشعراء: 197، وغير ذلك، وقد رجح هذا القول الإمام الطبري: 13/ 176، وابن كثير: 2/ 572 فقال: والصحيح في هذا: أن {وَمَنْ عِنْدَهُ} اسم جنس يشمل علماء الكتاب الذين يجدون صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته في كتبهم المتقدمة، من بشارات الأنبياء به.

قال ابن الأنباري: على القول الأول وهو قول مجاهد، يكون في محل (من) أربعة أوجه: الخفض بالنسق على اسم الله في اللفظ، والرفع بالنسق في المعنى؛ لأن التقدير: كفى الله شهيدًا، والنصب على المدح بمعنى: واذكر الذي عنده علم الكتاب، والرفع على المدح أيضاً بإضمار هو، كما تقول العرب: سعى عبد الله في حاجتك، والبارُّ المتفضِّلُ، والبارَّ المتفضِّلَ بالنصب والرفع على ما ذكرنا.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدى (ت 468 هـ) من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الحجر تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي

تفسير سورة إبراهيم

تفسير سورة إِبراهيم بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الر} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أنا الله أرى (¬1)، وقال في رواية أبي صالح وعطاء: أنا الله الرَّحمن (¬2)، وعلى هذا التفسير ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطبري" 11/ 79، 13/ 91 في رواية أبي الضحى عن ابن عباس بنصه، والسمرقندي 2/ 87 بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 119. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 4، وورد بلا نسبة في "تفسير أبي حيان" 5/ 121. خلاصة القول في الحروف المقطعة في أوائل السور: تباينت أقوال العلماء في هذه الحروف، ولهم فيها اتِّجاهان: الاتجاه الأول: أنها سر الله في القرآن، وبالتالي هي مما استأثر الله بعلمه، فهي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وبالتالي لا ينبغي التكلم فيها، وقد نُسب هذا القول إلى الخلفاء الراشدين وبعض الصحابة رضي الله عنهم بروايات ضعيفة - كما قال ابن عاشور في تفسيره (1/ 207) وممن أيّد هذا القول أبو حاتم، وقال: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله -عز وجل-، وإلى هذا مال الشوكاني. انظر: "تفسير الشوكاني" 1/ 50 - 51. الاتجاه الثاني: أنها معلومة ولها معاني، ولم ينزلها الله عبثاً، ومن أنصار هذا الرأي الذين أطالوا النقاش حولها الفخر الرازي رحمه الله؛ ذكر إحدى وعشرين قولاً، وناقش معظمها وأيّد وعارض، ثم ترجح له أنها أسماءٌ للسور، وأورد ستة إشكالات على هذا القول، ثم ناقشها وردها جميعاً. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 2/ 2 - 12، وكذلك الطاهر بن عاشور أطال الحديث عنها في تفسيره "التنوير والتحرير" 1/ 206 - 218، وقد سلك سبل السبر والاستقصاء، فحذف المتداخلات، ووحد المتشابهات، ثم خلص إلى واحد وعشرين قولاً، قسمها إلى ثلاث مجموعات، ثم ناقشها وأورد عليها الإشكالات ليخلص إلى ثلاثة أقوال، هي: أنها حروف جاءت لتبكيت المعاندين وتسجيل عجزهم عن المعارضة. أنها أسماءٌ للسور الواردة فيها؛ ألم السجدة، حم السجدة. أنها =

قوله: {كِتَابٌ} مرفوع على خبر الابتداء، المعنى: هذا كتاب أنزلناه (¬1). وقال صاحب النّظم (¬2): {الر} اسم موضوع لجماعة الحروف المعجمة (¬3)، فعلى هذا {كِتَابٌ} موضوع في موضع رفع على (¬4) خبر الابتداء، كأنه قيل هذه الحروف كتاب أنزلناه، يعني أن الكتاب الذي أنزل مؤلَّف من هذه الحُروف (¬5). وقوله تعالى: {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} من صفة الكتاب، ومِثلُ هذا من الكلام: زيد رجل أنفذته إليك، وقوله تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} سبب لقوله {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}، فاللام في {لِتُخْرِجَ} معلق بالإنزال، أي: أنزلنا لهذا. وقوله تعالى: {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} قال ابن عباس: يريد من الشرك إلى الإيمان (¬6). قال أبو إسحاق: شبّه الكفرَ بالظلمات لأنه غير ¬

_ = أقسام أقسم الله بها لتشريف قدر كتابه، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخرجهم من حالة الأمِّية. ثم قال وأرجحها أولها، وهذا القول هو الذي اختاره جماعة من المحققين؛ كالفراء والمبرد وابن تيمية والمزي، وابن كثير؛ الذي ذكر مسوغات ترجيح هذا القول؛ وهو أن ذكر القرآن وتنزله عن رب العالمين يرد كثيراً بعد هذه الحروف المقطعة. كقوله: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ}، {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ}، {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}، .. انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 40. (¬1) وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، كالزجاج، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، والعكبري وغيرهم. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 153، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 445، و"تفسير ابن عطية" 8/ 193، و"إملاء ما منّ به الرحمن" 1/ 65. (¬2) هو أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني. (¬3) ذكره ابن عطية في تفسيره 8/ 193 بلا نسبة. (¬4) في (ع): (لأنه). (¬5) انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 193. (¬6) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 303 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 343، وذكره الكرماني في "غرائب التفسير" 1/ 573 بلا نسبة.

بيّن، الإيمان بيّن نيّر، فمُثّل بالنور (¬1). وقوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} الباء متصلة بتخرج، المعنى: لتخرج الناس بإذن ربهم، أي: بما أذِن الله لك في تعليمهم، ويجوز أن يكون {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: لا (¬2) يهتدي مهتد إلا بإذن الله ومشيئته (¬3)، هذا كله كلام أبي إسحاق (¬4)، والقول الثاني قول ابن عباس؛ لأنَّه قال: يُريد بقضاء ربهم (¬5). وقوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قال ابن الأنباري: إنما لم يدخل حرف العطف في {إِلَى صِرَاطِ} (¬6) لأنه أريد بهذا الصراط: النور المذكور قبله (¬7)، فـ (إلى) الثانية (¬8)، دخلت على ما دخلت عليه الأولى (¬9) في المعنى، وصار كقولك: قصدت إلى زيد العاقل الفاضل، فيستغني عن حرف العطف من أجل أن المذكور بعد (إلى) الثانية ثناء على السابق ووصف له، وإنما تعاد (إلى) لمعنى (¬10) التفخيم والتعظيم، فالنور: هو الإسلام، وصراط العزيز الحميد: ثناء على النور، وهذا معنى قول أبي ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 153 بنصه تقريباً. (¬2) في (ش)، (ع): (لأنه لا يهتدي)، والمثبت أصح لموافقته للمصدر المنقول عنه. (¬3) في (أ)، (د): (ومسببه). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 153 بنصه. (¬5) ورد بلا نسبة في تفسيره "الوجيز" 1/ 577، وابن عطية 8/ 194. (¬6) أي لم يقل: و {إِلَى صِرَاطِ}. (¬7) على أنه بدل منه، وقد ذهب إلى هذا الزمخشري في أحد قوليه في تفسيره 2/ 292، وابن عطية 8/ 194، والعكبري في "الإملاء" 2/ 65. (¬8) في قوله: {إِلَى صِرَاطِ}. (¬9) في قوله: {إِلَى النُّورِ}. (¬10) في (ش)، (ع): (بمعنى).

2

إسحاق: ثم بيّن ما النور فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). 2 - قوله تعالى: {اللَّهِ} مَنْ رَفع (¬2) قطع مِن الأول، وجعل {الَّذِي} الخبر أو جعل {الَّذِي} صفة وأضمر خبرًا (¬3)، ومثله في القطع قوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3] فيمن رفع (¬4) ومثله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] ثم انقطع قوله: {التَّائِبُونَ} [التوبة: 112] عنهم واستؤنف به. ومن خفض (¬5) جعله بدلاً من {الْحَمِيدِ} ولم يكن صفة؛ لأن اسم الله صار كالعلم (¬6) الذي لا يوصف به نحو: زيد وعمرو بكثرة الاستعمال (¬7)، وإن كان يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن معناه ذو العبادة (¬8)، كما بينا في أول الكتاب؛ على ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 153، بنصه. (¬2) هما نافع وابن عامر انظر: "السبعة في القراءآت" لابن مجاهد ص 362، و"الحجة للقراء" لأبي علي الفارسي 5/ 25، و"التبصرة في القراءآت السبع" لمكي ص 558. (¬3) انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 54، و"الإملاء" 2/ 65، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 146. (¬4) وهما نافع وابن عامر، انظر: "السبعة" ص 526، و"الحجة للقراء" 6/ 5، "المبسوط في القراءات" ص 303، قال أبو علي: وأما الرفع فيجوز أن يكون (عالمُ) خبرَ مبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب، ويجوز أن يكون مرفوع بالابتداء وخبره {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ}. (¬5) هم: ابن كثير وأبوعمرو وعاصم وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص 362، و"الحجة للقراء" 5/ 25، و"التبصرة" ص 558. (¬6) في (أ)، (د): (العلم)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو أنسب للسياق. (¬7) راجى هذه المسألة في "المقتضب" للمبرد 1/ 26، و"المقرب" لابن عصفور 1/ 222، و"همع الهوامع" للسيوطي 5/ 178، و"خزانة الأدب" 2/ 268، 6/ 328. (¬8) على قول من قال أن لفظ الجلالة مشتق من أله، ومعناه عبد، وتأله: تعبّد وتنسّك، كما قال رؤبة بن الحجاج ت (145هـ): =

3

معنى أن العبادة تجب له، وقد يَغْلُب ما أصله الصفة فيصير بمنزلة العلم، كقول الشاعر (¬1): ونابغةُ الجَعْدِيُّ بالرَّمْل بيتُه ... عليه صَفيحٌ من تُرَابٍ وجَنْدَلِ (¬2) فالأصل النابغة، ولما غلب نُزع عنه الألف واللام كما يُنزع من الأعلام، نحو: زيد وجعفر (¬3). 3 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} إن شئتَ جعلت {الَّذِينَ} من صفة الكافرين في الآية المتقدمة، وإن شئت استأنفت به وجعلت الخبر قوله: {أُولَئِكَ} ومعنى الاستحباب: طلب محبّة الشيء بالتعرُّض إلفًا (¬4)، ودخلت (على) (¬5) في قوله: {عَلَى الْآخِرَةِ} لأن معنى يستحبُّون هاهنا: يؤُثرون ويختارون، فكأنَّه قيل: يُؤثرون الحياة ¬

_ = لله دَرُّ الغانيات المُدَّهِ ... سبَّحْنَ واسترجَعْن من تألهُّي "ديوان رؤبة" ص 165، وانظر: "تفسير ابن عطية" 1/ 89، و"الدر المصون" 1/ 25. (¬1) هو مسكين الدارمي، واسمه: ربيعة بن عامر ت (89 هـ). (¬2) انظر "ديوانه" ص 49 برواية: عليه صفيح من رخام مرصعُ وورد البيت غير منسوب في "الكتاب" 3/ 244، "واللسان" (نبغ) 8/ 453، برواية: عليه تراب من صفيح موضع وورد في "المقتضب" 3/ 373، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 360 برواية: عليه صفيح من تراب منضد وورد صدره في"الخزانة" 2/ 268، 6/ 328. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 25 - 27 بتصرف واختصار. (¬4) في (ش)، (ع): (لها). (¬5) أي عدَّى الفعل بعلى لأنّه تضمّن معنى الإيثار.

4

الدنيا على الآخرة (¬1)، قال ابن عبّاس: يريد ما يُعجَّل لهم من (¬2) الدنيا وإن كان حرامًا أخذوه تهاونًا بأمر الآخرة (¬3)، واستبعدوها (¬4)، مثل قول: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27]. {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ويمنعون الناس عن دين الله وطاعته، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} ذكرنا معناه بالاستقصاء في سورة آل عمران (¬5). وقوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} قال عطاء: يريد في خسران كبير (¬6)، وقال الكلبي: يعني في خطأ بعيد عن الحق (¬7)، ويقال: طويل. 4 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} اللسان يستعمل على معان؛ أحدها: الجارحة (¬8)، قال الفراء: لم نسمعه من العرب إلا مُذكَّرًا (¬9)، وقال أبو عمرو: اللسان بعينه يذكَّر ويؤنث، فمن ¬

_ (¬1) أي أن الفعل لمّا عدي بـ (على) ضُمِّنَ معنى الإيثار. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 180، "المفردات" ص 215، والنهر الماد [(2/ 1) / 189]، و"الدر المصون" 7/ 69، و"عمدة الحفاظ" 1/ 419. (¬2) في (أ)، (د): (من الله) بزيادة لفظ الجلالة، وقد أدى إلى اضطراب المعنى. (¬3) في (أ)، (د)، (ش): (بأمر الله) والمثبت من (ع)، وهو المناسب للسياق بعده، وموافق للوسيط. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" 1/ 304 بنصه تقريباً، وانظر: "زاد المسير" 4/ 345. (¬5) خلاصته: أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشُّبَه التي تُلَبِّسون بها، وتُوهِمون أنها تقدح فيها، وأنها مُعْوَجَّة بتتاقضها. (¬6) لم أهتد إلى مصدره. (¬7) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 304 بنصه. (¬8) في (د): (الخارجة). (¬9) نقله ابن الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث" 1/ 364 بنصه، وفي (ش)، (ع): (مذكر).

ذكَّره جمعه ألسنة، ومن أنَّثه جمعه ألْسُنًا (¬1)، واللسان يستعمل بمعنى الثناء، يقال: إن لسان الناس عليه لحسنةٌ وخيرٌ، أي: ثناؤهم (¬2)، ومنه قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84]، وقال ابن الأنباري: العرب تُوقع اللسان على الخطبة، والرسالة والكلمة والكلام، يقولون: له لسانٌ حسنةٌ، يعنون: خطبة وعبارة وكلمة، ويقولون: سبق من زيد لسانٌ عمَّه، يعنون: الكلام (¬3)، واللسان: اللغة أيضًا، وهو قول المفسرين (¬4)، وأهلِ اللغة (¬5) في هذه الآية، قالوا في قوله: {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بلغة قومه ليفهموا عنه ويعقلوا، يدل لحى هذا قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، ويقال: فلان يتكلم بلسان العرب، أي: بلغتهم (¬6)، قال أبو بكر: ولهذا المعنى وحد اللسان، وإن أضيف إلى القوم؛ لأنه أريد باللسان اللغة، واللغة تقع على قليل المنطق وكثيره؛ نحو: الحِنطة والذرة والقمح والعسل والشعير وما أشبهها من أسماء (¬7) الأجناس التي تقع على القليل والكثير بلفظ ¬

_ (¬1) ورد في المذكر والمؤنث لابن الأنباري 1/ 364 بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (لسن) 4/ 3262، بلا نسبة. (¬2) ورد بنصه تقريباً في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 364، و"المخصص" لابن سيده 17/ 12. (¬3) لم أقف على مصدره. (¬4) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 191 أ، وأخرجه الطبري 13/ 181، عن قتادة، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 200، و"الثعلبي" 7/ 145 ب، و"الطوسي" 6/ 273، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 335، وابن عطية 8/ 199. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (لسن) 4/ 3262، و"مجمل اللغة" 3/ 807، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 154، و"اللسان" (لسن) 7/ 4030 (¬6) انظر: "الكليات" لأبي البقاء ص 798. (¬7) في (أ)، (د): (الأسماء)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الأصح لانسجامه مع السياق.

واحد (¬1)، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بلسان سعد (¬2) بن بكر بن هوازن؛ وهي من أفصح العرب؛ وهي لغة يفهمها جميع العرب. وقوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} قال ابن عباس: جعل المشيئة إليه وحده لا شريك له (¬3)، قال أبو بكر: رَفَعَ {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} بعد التّبيين بإيثاره الباطل (¬4)، {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}: باتِّباع الحق. قال الفراء: وإذا رأيت الفعل منصوبًا وبعده فعل قد نُسِق (¬5) عليه فإن كان (¬6) يُشاكل (¬7) معنى الفعل الذي قبله نَسَقْته (¬8) عليه، وإن رأيته غير مشاكل لمعناه استأنفته فرفعته؛ نحو قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ} [التوبة: 32] فيأبى في موضع رفع لا يجوز ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدره. وورد مختصراً بلا نسبة في "تفسير القرطبي" 9/ 340. (¬2) بنو سعد بن بكر: هم بطن من هوازن بن منصور، من العدنانية، وهم أظآره - صلى الله عليه وسلم - عندهم استرضع من حليمة السعدية. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 265، و"نهاية الأرب" ص 268. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 304، بنصه. (¬4) يعني أن {فَيُضِلُّ} مرفوع على الاستئناف ومقطوع من الأول؛ لأنه لو عطف على قوله {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} لأوهم أن إرسال الرسل لإرادة الإضلال، وهو خلاف المراد من الآية، وجوّز الزجاج النصب على وجه بعيد على أن اللام لام العاقبة؛ لأنه لما آل أمرهم إلى الضلال مع بيان الرسول لهم صار كأنه إنما أُرسل لذلك. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 154، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 445، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 54، و"الإملاء" 2/ 66. (¬5) في (د): (سبق)، والنَّسق في اصطلاح النحويين هو: العطف. انظر: "المعجم المفصل في النحو العربي" 2/ 113. (¬6) (كان) ساقطة من (د). (¬7) المقصود بالمشاكلة: المماثلة. انظر. "اللسان" (شكل) 4/ 2310. (¬8) في (د): (سبقته).

5

إلا ذلك (¬1)؛ لأنه لا يحسن أن تُبادل (¬2) بـ {يُرِيدُونَ أَنْ}: {وَيَأْبَى اللَّهُ} فإذا لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ومثله قوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ (¬3) فِي الْأَرْحَامِ} [الحج: 5] ومن ذلك قولهم: أردت أن أزورك فيمنعُنى المطرُ، بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرنا، ومثله قول الشاعر (¬4): يُريدُ أن يُعْرِبَه فيُعْجمُه (¬5) 5 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي: بالبراهين التي دلت على صحة نبوته مثل اليد والعصا وغيرهما من آيات موسى (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" اللفراء 2/ 68 بنصه تقريباً. (¬2) في (د): (يناول). (¬3) يقول الزجاج رحمه الله: لا يجوز فيها إلا الرفع، ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنُقرَّ في الأرحام؛ لأن الله -عز وجل- لم يخلق الأنام لما يُقرُّ في الأرحام، وإنما خلقهم ليدلَّهم على رشدهم وصلاحهم. "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 412. (¬4) نسب إلى رؤبة في "الكتاب" 3/ 52، و"اللسان" (عجم) 5/ 2826، ونسب إلى الحطيئة في شواهد "المغني" 1/ 476، و"الدرر اللوامع" 6/ 86، وورد غير منسوب في "همع الهوامع" 5/ 235، و"المقتضب" 2/ 33. (¬5) بيت من رَجَز ضمن خمسة أبيات. انظر المصادر السابقة، وقد جاء به الواحدي شاهداً للمسألة النحوية التي قرَّرها من قبل، وهو قطع الفعل الثاني عن الأول بالاستئناف، وعدم جواز عطفه لما يترتب عليه من التباس المعنى وفساده. والشاهد في البيت: رفع. "فيعجمُه" على القطع، والمعنى: فإذا هو يعجمه، ولا يجوز النصب على العطف لفساد المعنى؛ لأنه لا يريد إعجامه؛ والإعجام: أن يجعله مشكلاً وملتبساً. انظر: "الدرر اللوامع" 6/ 87. (¬6) وهي تسع آيات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وهي: الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدَّم، والعصا، واليد، والسنين، والنقص في الثمرات.

وقوله تعالى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} أي: بأن أخرج قومك (¬1)، قال أبو إسحاق: (أنْ) هاهنا يصلح أن تكون المخففة (¬2) التي للخبر، ويصلح أن تكون مفسِّرة (¬3) بمعنى: أيّ، ولكون المعنى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي (¬4): أخرج قومك، كأن المعنى: قلنا له: أَخْرِج قومك، ومثل هذا قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6]: (أي امشوا) (¬5) والتأويل: قالوا لهم امشوا (¬6)، وإن جعلتها المخففة التي هي للخبر كان المعنى: أرسلناه بأن يخرج قومه، إلا أن الجار حذف ووُصِلتْ (أن) بلفظ الأمر للمخاطب، والمعنى معنى الخبر؛ نحو قولك: كتبت أن قُمْ، وأمرته أن يقوم، إلا أنها وصلت بلفظ الأمر الذي كان للمخاطب، وحُكي القولين عن سيبويه (¬7). وقوله تعالى {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} قال ابن عباس: يريد من الشرك إلى الإيمان (¬8)، {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}، الأيام: جمع يوم، واليوم ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 155 بنصه. انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 200. (¬2) أي المخففة من (أنّ) الثقيلة، وهي التي تقع بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته. انظر: "مغني اللبيب" ص 46. (¬3) هي التي تُسبق بكلام في معنى القول دون حروفه، ولها شروط. انظر: "مغني اللبيب" ص 48 - 49. (¬4) في (ش)، (ع): (أن)، والمثبت هو الصحيح لموافقته للمصدر. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق لما في المصدر. (¬6) ساقطة من: (ع). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 155 بتصرف يسير، وانظر: "الكتاب" لسيبويه 3/ 162. (¬8) لم أقف عليه منسوبًا إلى ابن عباس، وأورده الواحدي في وجيزه 1/ 578 بلا نسبة، وورد عن ابن عباس تفسير الآية بقوله: من الضلال إلى الهدى. انظر: "تفسير =

مقداره من طلوع (¬1) الشمس إلى غروبها، وكانت الأيام في الأصل: أيْوام واجتمعت الياء والواو، سُبقت إحداهما بالسكون فأدغمت إحداهما في الأخرى وغُلبت الواو (¬2)، ويُعبَّر بالأيام عن الوقائع والنِّعم والنقم؛ لأن هذه كلها تقع فيها، ذَكره شَمر، وقال ابن السَّكِّيت: العرب تقول: الأيام في معنى الوقائع، يقال: هو عالم بأيام العرب، يريد: وقائعها (¬3). قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بنِعم الله (¬4)، وهو قول مجاهد (¬5)، وأبي بن كعب؛ رواه عن النبّي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} قال: "أيامه: نِعَمُه" (¬6). ¬

_ = الطبري" 13/ 179 بدون نسبة لابن عباس، و"الدر المنثور" 4/ 130. وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬1) (طلوع) مكررة في (أ)، وفي (د): (من طلوع إلى طلوع الشمس). (¬2) انظر (يوم) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3990، و"اللسان" 8/ 4974، ونقله الفخر الرازي في "تفسيره" 19/ 84 وعزاه للواحدي. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (يوم) 4/ 3991 بنصه. (¬4) ورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 145 أ، بلفظه، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 305، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 335، و"تفسير القرطبي" 9/ 341، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 132، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 333، بلفظه، أخرجه عبد الرزاق 2/ 341، بلفظه، والطبري 13/ 183 - 184، بلفظه من طرق، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 122، و"الطوسي" 6/ 274، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 335، و"ابن الجوزي" 4/ 346. (¬6) أخرج أحمد 5/ 122 بنحوه مرفوعاً وموقوفاً، والنسائي في "التفسير" 1/ 614 بنحوه، والطبري 13/ 182 - 184، بنحوه، وأورده المزي في "تحفة الأشراف" 1/ 27، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 542، وزاد نسته إلى ابن أبي حاتم، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 132، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه =

ونحو هذا قال الحسن (¬1)، وسعيد بن جبير (¬2)، وقال مقاتل بن سليمان: بوقائع الله في الأمم السالفة (¬3)، قال أبو إسحاق: أي ذكِّرهم بنِعم أيام الله عليهم، وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود (¬4)، وقال الفراء: يقول: خوِّفهم بما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، وبالعفو (¬5) عن آخرين، وهو في المعنى: خذهم بالشدة واللين (¬6). وقال أهل المعاني: يقول: عظهم بالترغيب (والترهيب، والوعد والوعيد؛ والترغيب) (¬7)، والوعد: (أن يذكِّرهم) (¬8) بما أنعم الله عليهم، وعلى مَن قبلهم ممن آمنوا بالرسل وصدَّقوه فيما مضى من الأيام، (والترهيب والوعيد: أي ذكِّرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذَّب الرسل ¬

_ = والبيهقي في شعب الإيمان [لم أقف عليه]، وهذا الحديث له إسنادان؛ إسناد أحمد والطبري، وإسناد النسائي، أما الإسناد الأول: فضعيف؛ لأنه يدور على محمد بن أبان الجعفي، وهو مضَّعف بعلتين: سوء الحفظ، وبدعة الإرجاء مع الدعوة إليها. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 1/ 34، و"الضعفاء الصغير" للبخاري ص 98 و"الضعفاء" للنسائي ص 91، و"الجرح والتعديل" 7/ 200، و"الكامل في ضعفاء الرجال" 6/ 2139، و"ميزان الاعتدال" 4/ 373، أما الإسناد الثاني: فانفرد به النسائي، ورجاله ثقات، فهو صحيح. (¬1) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 274 بنحوه. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 184 بنحوه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 274. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 191 أ، بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 145 ب بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 155 بنصه. (¬5) في (أ)، (د): (بالعقوبة)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق للمصدر. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 68 بنصه. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (د).

فيما مضى من الأيام) (¬1)؛ ليرغبوا في الوعد فيصدِّقوا، ويحْذروا فيتركوا التكذيب (¬2)، ومن الأيام التي أريد بها الدُّول من النعيم (¬3) قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬4) [آل عمران: 140]، والعرب تقول: من ير يومًا (يُرَ به (¬5)، معناه: من يرى لنفسه يوم سرور بمصرع غيره، رأى غيرُه مثلَ ذلك اليوم بمصرعه، وكل هذا) (¬6) يدل على أنه يُعبَّر باليوم والأيام من حادثات الخير والشر (¬7). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال ابن عباس: يريد لكل صَبَّارٍ على طاعة الله وعن معاصيه، شكور لأنعم الله (¬8)، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬2) لم أقف على من قال به من أهل المعاني، وقد ذكره بعض المفسرين، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 84، و"الخازن" 3/ 70. (¬3) في (ش)، (ع): (النعم). (¬4) يقول القفال -رحمه الله-: المداولة: نقل الشيء من واحد إلى آخر، ويقال تداولته الأيدي إذا تناقلته. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 9/ 15. فهذه الآية دليل على أن أيام الله تعالى ليست مقصورة على النعم، بل تشمل النقم كذلك، فقد أُديل المسلمون من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأُديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين، فسمَّى إنكسار المسلمين في أُحد أياماً، كما كانت هزيمة قريش في بدر أياماً. (¬5) انظر: كتاب "الأمثال" لأبي عبيد بن سَلاَّم ص 334، و"جمهرة الأمثال" للعسكري 2/ 272، و"مجمع الأمثال" للميداني 3/ 318. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬7) وقد رجّحه ابن عطية -رحمه الله- فقال: ولفظة الأيام تعم المعنيين؛ لأن التذكير يقع بالوجهن جميعاً 8/ 203. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" ص 268 بنحوه، وورد بلا نسبة في تفسيره الوسيط، تحقيق سيسي 1/ 306، وابن الجوزي 4/ 346.

6

وقال أهل المعاني: أراد لآياتٍ لكل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من أفعال المؤمنين، والحال لا يخلو من نعمة وشدة، والمؤمن شاكر في أحديهما (¬1) صابر في الأخرى (¬2). 6 - قوله تعالى: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} وقال في سورة البقرة [49] {يُذَبِّحُونَ} بغير واو؛ لأنه تفسير لقوله: {سُوءَ الْعَذَابِ} فذكر العذاب مجملاً ثم فسَّره بما بعده، ولا تحتاج في تفسيره إلى الواو كما تقول: أتاني القوم؛ زيدٌ وجعفرٌ وعمروٌ، لا تدخل الواو في زيد، لأنك أردت أن تُفسِّر به القوم، ومثل هذا قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68 - 69]، والآثام (¬3) فيه نيَّة العذاب كثيره وقليله، ثم فسره بغير الواو فقال: {يُضَاعَفْ} وفي هذه السورة أدخل الواو لأن المعنى: أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضًا، فقوله: {وَيُذَبِّحُونَ} جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله، وما في هذه الآية مفسَّر (¬4) في سورة البقرة (¬5)، وما ذكرنا في معنى طرح الواو وإثباته كله معنى قول الفراء (¬6). ¬

_ (¬1) في (د): (إحداهما). (¬2) لم أقف على مصدره، وفي هذا المعنى ورد حديث صحيح؛ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم: الزهد والرقائق/ المؤمن أمره كله خير 4/ 2295، فقوله: لأن الصبر والشكر من أفعال المؤمنين، أي من خصائصهم، ويؤيده في الحديث قوله: وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. (¬3) في (أ)، (د): (الأيام)، والمثبت من (ش)، (ع) هو الأظهر. (¬4) ساقطة من (أ)، (د). (¬5) انظر: "البسيط"، تفسير سورة البقرة: 49. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 68، وورد هذا المعنى في "تفسير الطبري" 13/ 185، =

7

7 - قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} عطف على قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ}، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} وهذا (¬1) إخبار عما قال موسى لقومه، ومعنى {تَأَذَّنَ} قال المفسرون: أعْلَم (¬2)، قال الفراء: تأذن وأذن بمعنى واحد (¬3)، وربما قالت (¬4): تفعَّل وأفعل في معنى واحد، وهذا من ذلك (¬5) ومثله: توعَّد وأوعد، وهو كثير، وذكرنا الكلام في تأذن في سورة الأعراف (¬6). وقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} قال ابن عباس: يريد لئن وحدتموني وأطعتموني لأزيدنكم نعمة (¬7) ومعنى شكر النعمة هو الاعتراف بحق المنعم، والاعتراف بحق الله تعالى هو التوحيد والطاعة، فلذلك فسَّره ¬

_ = و"الثعلبي" 7/ 146 أ، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 446، و"البيان في الإعراب" 2/ 55، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 85، و"الفريد في الإعراب" 3/ 149. (¬1) أي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ}. (¬2) ورد في "تفسير الطبري" 13/ 185 - 186، والسمرقندي 2/ 201، و"الماوردي" 3/ 123، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 336، وابن عطية 8/ 204. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 69 بمعناه، ومع أن معناهما واحد، لكن كما يقولون: زيادة المبنى يقتضي زيادة المعنى، وقد أشار إلى هذا الفرق هنا الزمخشري رحمه الله في "تفسيره" 2/ 394، فقال: "ولابد في تفَّعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل وإذ أذن ربكم إيذانًا بليغاً تنتفي عندهالشركوك وتنزاح الشُّبَه". (¬4) أي العرب. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 69، بتصرف، وانظر: "تفسير الطبري" 13/ 185 - 186، و"الثعلبي" 7/ 146أ، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 394، و"الفريد في الإعراب" 3/ 150. (¬6) عند قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [167]. (¬7) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 123 بنحوه، و"الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 306 بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" 9/ 343، و"الألوسي" 13/ 190.

8

ابن عباس بهما، ومعني قوله: {لَأَزِيدَنَّكُمْ} أي مما يجب الشكرعليه؛ وهو النعمة. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} أي جحدتم حقي وحق نعمتي، {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} تهديد بالعذاب على كفران النعمة. 8 - قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ}: عن خلقه وعن شكر العباد، و (حَمِيدٌ): مستحق للحمد في أفعاله لأنه مُتفضِّل بفعله أو عادل فيه. قال ابن عباس: يريد لا يُنْقص كفرُكُم ملكوت الله شيئًا (¬1) ولا تزيد طاعتُكم لله ملْكًا (¬2). وقال أهل المعاني: هذا بيان أن (¬3) الله تعالى يجلُّ (¬4) عن لَحَاق المنافع والمضار. 9 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: من بعد هؤلاء الذين ذكرهم من أهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم، ¬

_ (¬1) التصويب من: (ع)، وفي باقي النسخ: (شيء) وهو خطأ ظاهر. (¬2) لم أقف عليه، وقد ورد بهذا المعنى حديث قدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانْسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منْكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً ..) أخرجه مسلم: البر والصلة/ تحريم الظلم 4/ 1994. (¬3) ساقطة من (ع). (¬4) في جميع النسخ: (يحل) بالحاء، والأظهر أنها بالجيم، ومعنى (يجلُّ عن كذا: يعظم، ومنه: أي عظم قدره). انظر (جل) في "تهذيب اللغة" 1/ 640، و"مجمل اللغة" 1/ 173، و"الصحاح" (جلل) 4/ 1658

9

{لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} فيه وجهان (¬1) من التفسير؛ أحدهما: أن معناه والذين من بعدهم لا يحصى عددهم ولا يعرف تعيينهم وتحصيلهم إلا الله وحده، وهذا قول ابن عباس لأنه قال: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}: لكثرتهم (¬2)، فأما النسابون الذين نسبوا القبائل إلى آدم فإنهم لا يدَّعون إحصاء جيمع الأمم بعد عاد وثمود والإحاطة بمعرفة أجناسها وأنواعها لكنهم ينسبون بعضًا يعرفونه ويمسكون عن نسب بعض، وقوم من المفسرين يحملونه على أن أكثر أهل العلم يبطلون من النسب ما جاوز عدنان، ويقولون أولئك أمم لا يَعرف تعيينهم (¬3) غير الله -عز وجل- (¬4) ولهذا قال ابن مسعود في هذه الآية: كذب النسَّابون (¬5)، وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدًا يعرف ¬

_ (¬1) ذكر أن في تفسيرها وجهين، ولم يذكر إلا وجهاً واحداً. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 308، بلفظه، وورد بمعناه بلا نسبة في "تفسير الطبري" 13/ 187، والسمرقندي 2/ 201. (¬3) في (د): (هيبتهم). (¬4) ولذلك جاءت الأقوال مضطربة في ذكر الأسماء والأعداد والسنوات فيما بين عدنان وإبراهيم -عليه السلام-. انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 515 - 517، و"دلائل النبوة" للبيهقي 1/ 178 - 180، و"الروض الأنف" 1/ 11 - 12، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص 320. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 13/ 187 بنصه من طرق، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 518، و"تفسير السمرقندي" 2/ 201، و "الماوردي" 3/ 124، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 337، والزمخشري 2/ 395، و"الفخر الرازي" 19/ 88، و"الخازن" 3/ 72، و"الألوسي" 13/ 192. وورد هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في "طبقات ابن سعد" 1/ 56، ولفظه: عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان بن أُدد، ثم يمسك ويقول: "كذب النسَّابون" قال الله -عز وجل- {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38]، وأورده ابن عطية في "تفسيره" (8/ 206) وقال: وفي مثل ورد قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (كذب النسَّابون من فوق عدنان،=

ما وراء عدنان (¬1). وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يُعرفون (¬2). قال ابن الأنباري: فمن بني على هذه الآثار، قال مَنْ فوق عدنان منقطعة معرفتهم عن قلوب الناس، إلا من كان من الأنبياء الذين نوه الله بأسمائهم، وعلى قول هؤلاء: لا يعرف النسابون أحدًا ممن قال الله تعالى: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} (لأن الله تعالى) (¬3) أهلك أممًا من العرب وغيرها فانقطعت أخبارهم وعفت آثارهم وبطلت أنسابهم (¬4). ¬

_ = وأورده القرطبي في "تفسيره" 9/ 344 بصيغة التمريض، قال: وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا سمع النسَّابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال: (كذب النسَّابون) إن الله يقول: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}، وكذلك أورده النسفي في تفسيره [هامش الخازن] (3/ 71) بصيغة التمريض أيضاً، وأورده السيوطي في الجامع الصغير وزاد نسبته إلى ابن عساكر، ورمز له بالصحة، وأورده مرة أخرى ورمز له بالضعف. [كما في فيض القدير 4/ 550، و (5/ 109)] وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه ورد عن طريق الكلبي، وهي أوهى الطرق إلى ابن عباس، والأصح أنه موقوف على ابن مسعود، كما قال السهيلي في "الروض الأنف" 1/ 11، وقد أورده الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" 1/ 144 وحكم عليه بالوضع. (¬1) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 518 بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" 19/ 344، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 135، وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير الشوكاني" 3/ 99، و"صديق حسن خان" 7/ 89. (¬2) ورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 518، و"تفسير الماوردي" 3/ 124، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 337، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 135، وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر. وهذه أوهى الطرق إلى ابن عباس. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (د). (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 308، مختصراً، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 348، مختصراً.

وقوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} اختلفوا في تأويل هذه؛ فقال ابن مسعود: عضُّوا عليها غيظًا (¬1)، والمعنى: سَبُّوا (¬2) الرسلَ وأبغضوهم وثقل عليهم مكانهم، وعضُّوا على أصابعهم من شدة الغيظ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء وابن زيد (¬3) واختبار ابن قتيبة (¬4)، واعتبروا هذا بقوله: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119] وقد مرَّ، وقال الكلبي: أي وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا (¬5). ورُوي عن ابن عباس أنه قال: كان إذا جاءهم الرسول سكَّتوه وأشاروا بأيديهم إلى أفواه أنفسهم كما تُسَكِّت (¬6) أنت غيرَك (¬7). وقال ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 341 بنحوه، والطبري في "تفسيره" 13/ 188 بنصه ونحوه من طرق، وورد بنصه في "تفسيرالثعلبي" 7/ 146 ب، و"الماوردي" 3/ 124، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 338، و"ابن الجوزي" 4/ 348، و"الفخر الرازي" 19/ 89، و"تفسير القرطبي" 9/ 345، و"الخازن" 3/ 72. (¬2) في (ش)، (ع): (شتموا). (¬3) أخرجه الطبري 13/ 188 - 189 عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن ابن زيد، وورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 146 ب، عن ابن عباس، انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 207، عنهما، القرطبي 9/ 345، عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 135، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬4) "الغريب" لابن قتيبة ص 235. (¬5) ورد بنصه في "تفسيرالثعلبي" 7/ 146ب، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 308، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 338، و"الفخر الرازي" 19/ 89، و"الخازن" 3/ 72. (¬6) في (د): (سكت). (¬7) ورد في "معاني القرآن" اللفراء 2/ 69 بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 348 بنحوه عن أبي صالح عن ابن عباس، وورد منسوباً إلى أبي صالح في: "تفسير =

مقاتل: كانوا يأخذون أيدي الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم (¬1). وذكر الفراء والزجاج وابن الأنباري قولًا آخر وهو أن المعنى: ردوا نِعَمَ الرسل بأفواههم، فالأيدي هاهنا المراد بها النِعم. قال الفراء: أي ردوا ما لو قبلوه لكان نعمًا من الله -عز وجل- عندهم (¬2). وقال الزجاج: ردوا أيدي (¬3) الرسل: أي نِعَم الرسل؛ لأن مجيئهم بالبينات نِعَمٌ (¬4). (وقال أبو بكر: ويجوز أن يكون المعنى: ردوا نعم أنفسهم؛ لأنها نعم) (¬5) من الله عليها (¬6) رفضوها واطَّرحوها، وجاء رجل (في) على معنى الباء؛ لقيام بعض الصفات مقام بعض (¬7)، وتقول: طيِّئ (¬8): أدخلك الله في الجنَّة، وأنشد الفراء: ¬

_ = الماوردي" 3/ 124، و"تفسير القرطبي" 9/ 345، وعلى هذا القول يكون الضميران في (أيديهم) و (أفواههم) عائدين على المكذبين. (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 191ب بنحوه، وعلى هذا القول يكون الضميران في (أيديهم) و (أفواههم) عائدين إلى الرسل. انظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 408، وقد ضعَّف ابن عطية هذا القول، وقال: وهذا عندي لا وجه له 8/ 208. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 70 بنصه. (¬3) في (أ)، (د)، (ش): (الذي)، والمثبت من (ع)، وهو الموافق لسياق والمصدر. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 156 بنصه. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬6) في (د): (عليما). (¬7) انظر: "الأزهية" ص 271، و"رصف المباني" ص 452، و"الجنى الداني في حروف المعاني" ص 251. (¬8) قبيلة طيِّىء مشهورة، تنسب إلى طيَّئ بن أُدَد، واسمه جُلْهُمة، سُمِّي طيِّئاً لأنه أول من طوى المناهل منازل الطريق من قبائلهم: بنو جَديلة، وبنو رُومان، وبنو =

وأرغبُ فيها من لَقِيطٍ ورهْطِهِ ... ولكنَّني عن سِنْبِس لَسْتُ رَاغبٌ (¬1) أراد: أرغب بهذه المرأة عن هؤلاء. وقال أبو إسحاق: ومعنى في أفواههم: بأفواههم، أي ردوا تلك النِعَم بالنطق بالتكذيب بما جاءت به الرسل كما يقول: جلست في البيت وبالبيت (¬2)، وهذا معنى قول مجاهد: ردوا نعمهم بأفواههم (¬3). وقال أبو عبيدة: مجاز هذا مجاز المَثَل، ومعناه: كفوا عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به، قال: ويقال: ردّ يده في فمه، أي: أمسك ولم يجب (¬4)، ويكون المعنى على هذا: لم يجيبوا الرسل إلى ما دعوهم إليه، فعبَّر عن ترك إجابتهم بوضع اليد في الفم؛ وذلك أن الواضع يده في فمه لا يقدر على الكلام. ¬

_ = جَدْعاء، والثعالب، وبنو تَيْم. انظر: "الاشتقاق" ص 380، و"جمهرة أنساب العرب" ص 398. (¬1) نُسب للفراء في "تهذيب اللغة" "ذرأ" 2/ 1273، وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 2/ 70، و"تفسيرالطبري" 13/ 189، وأبي حيان 5/ 409، و"الدر المصون" 7/ 73، (سِنْبس): حَيُّ من قبيلة طيئ. "الاشتقاق" ص 390. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 156، بتصرف يسير. (¬3) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 278 بنصه، وورد عنه تفسيرها بقوله: ردوا عليهم قولهم وكذبوهم، كما في تفسيره ص 410، وأخرجه الطبري 13/ 189 من طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 518، و"تفسير السمرقندي" 2/ 201، و"الماوردي" 3/ 125. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 336، بتصرف يسير، وقد نُسب هذا القول إلى الأخفش كذلك لم أجده في معانيه. انظر: "تفسير القرطبي" 9/ 346، وأبي حيان 5/ 409، و"الدر المصون" 7/ 73، و"تفسير الألوسي" 13/ 194، وقد اعترض ابن قتيبة على هذا القول، وقال لم يُسمع أحد من العرب يقول: ردَّ يده في فِيه، إذا أمسك عن =

10

وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي: على زعمكم بالإرسال؛ لأنهم لم (¬1) يُقرُّوا أنهم أرسلوا. 10 - قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ} الآية. هذا استفهام معناه الإنكار أي لا شكَّ في الله، والمعنى في توحيد الله، ثم وُصف بما يدل على وحدانيته؛ وهو قوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ} أي: بالرسل والكتب. ¬

_ = الشيء. انظر: "الغريب" لابن قتيبة 1/ 235، وردّ أبو حيان على اعتراضه قائلاً: ومن سمع حجة على من لم يسمع، هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا عن العرب. انظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 409، وقد أيّد هذا الرد السمين، وأورده بألفاظ أخرى، أما ابن جرير، فقد أورد قول أبي عبيدة غير منسوب إليه، وضعَّفه من جهة أخرى، فقال: وهذا قول لا وجه له؛ لأن الله عزّ ذِكْره قد أخبر عنهم أنهم قالوا: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} فقد أجابوا بالتكذيب. "تفسيرالطبري" 13/ 189 وقد اعترض أبوحيان على ابن جرير كذلك، فقال: ولا يرد ما قاله الطبري؛ لأن أبا عبيدة يريد أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي؛ الذي يقتضيه مجيىء الرسل بالبينات؛ وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل، والحق إن اعتراض أبي حيان -على ابن جرير- ليس في محله، فطالما أمكن حمل الكلام على ظاهره وعلى الحقيقة، فلا حاجة إلى هذه التأويلات، ففي كتاب "القواعد" للمقّري (2/ 497) يقول في القاعدة (256): كل ما له ظاهر فهو مصروف إلى ظاهره، إلا لمعارض راجح، وكل مالا ظاهر له فلا يترجح إلا بمرجح. ويقول الشنقيطي في تفسيره 3/ 100، والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي: حمل نصوص الوحي على ظواهرها، إلا بدليل من كتاب أو سنّة، لذلك فالأرجح من هذه الأقوال في معنى الآية: هو القول الأول؛ وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه؛ لكونه على ظاهره ولا يحتاج إلى تأويل، وتؤيده آية آل عمران [119]، وقد رجَّح هذا القول كل من: الطبري 13/ 189، والنحاس في معانيه 3/ 519، وابن قتيبة في "غربيه" 1/ 235 وأيَّد اختياره بقول الشاعر: (يرُدّون في فِيه عَشْر الحسُود) يقول: يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض أصابعه العشر. (¬1) في (أ)، (د): لو، والمثبت من (ش)، (ع).

وقال ابن، عباس: {يَدْعُوكُمْ}: إلى طاعته (¬1). {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} قال أبو عبيدة: (من) زائدة (¬2)، وأنكر سيبريه زيادتها في الواجب (¬3)، فإن حكمنا بزيادتها (¬4) فهو ظاهر، وإن لم ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في تفسيره "الوجيز" 1/ 579، و"تفسير القرطبي" 9/ 346. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 336 بنحوه، ومن القائلين بزيادة (من) مطلقاً دون أي شروط أو قيود الأخفش. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 272، و"إيضاح الشعر" لأبي علي الفارسي ص 257، و"المُحْتَسب" 1/ 164، و"تفسير ابن عطية" 1/ 314، و"شرح المفصل" 8/ 10. (¬3) مذهب سيبويه وجمهور البصريين أن (من) لا تزاد إلا إذا كان مجرورها نكرة في سياق نفي أو نهي أو استفهام، وأن تكون فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأً؛ مثل: هل من رجل في الدار، ما كلمت من أحد، ما جاءني من أحد، انظر: "الكتاب" 1/ 38، (2/ 130، 315، 316، و"التعليق على كتاب سيبويه" لأبي علي الفارسي 1/ 67، و"تأويل مشكل القرآن" ص 250، و"الأصول" لابن السراج 1/ 410، و"البيان في الإعراب" 1/ 320. (¬4) مسألة الزيادة في القرآن: اختلف النحويون والمفسرون في القول بزيادة بعض الحروف في التنزيل، من هذه الحروف: (إنْ- أنْ- لا- ما- من- الباء- اللام- الكاف ..) والمقصود بأنها زوائد: أي تأتي في بعض الموارد زائدة يمكن الاستغناء عنها، أنها لازمة للزيادة ويمكن الاستغناء عنها في كل حال. وفي المسألة مذهبان: المذهب الأول: إنكار القول بزيادة الحروف في آي التنزيل، نقل الزركشي في "البرهان" 3/ 72 أن الطرطوسي قال في العمدة: "زعم المبرد وثعلب ألا صلة في القرآن، والدهماء من العلماء والفقهاء والمفسرين على إثبات الصِّلات في القرآن، وقد وُجد ذلك على وجه لا يسعنا إنكاره". وممن يرى ذلك ابن السراج، فقد نقل عنه ابن الخباز في التوجيه: أنه ليس في كلام العرب زائد، لأنه تكلُّم بغير فائدة، وما جاء كذلك فمحمول على التوكيد. "البرهان" 3/ 72، وممن نص على منع الزوائد في القرآن داود الظاهري رحمه الله فقد نقل عنه بعض أصحابه أنه كان يقول: ليس في القرآن صِلة بوجه. "البرهان" 2/ 178. وممن أنكر الصلة في القرآن الرازي، فقدقال في ردّه على أبي عبيدة: أما قوله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = إنها صلة، فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد، والعاقل لا يُجوِّز المصير إليه من غير ضرورة "تفسير الرازي" 19/ 94، ويرى ابن مضاء في ردّه على النحاة تحريم دعوى الزيادة، إذ يقول: ومن بني الزيادة في القرآن بلفظ أو معنى على ظنِّ باطل قد تبيَّن بطلانه، فقد قال في القرآن بغير علم، وتوجَّه الوعيد إليه، ومما يدل على أنه حرام؛ الإجماع على أنه لا يزاد في القرآن لفظ غير المجمع على إثباته، وزيادة المعنى كزيادة اللفظ، بل هي أحرى؛ لأن المعاني هي المقصود، والألفاظ دلالات عليها ومن أجلها. "الرد على النحاة" ص 74. المذهب الثاني: تجويز القول بالزوائد في التنزيل، يقول الزركشي في "البرهان" (3/ 73) ومنهم من جَوَّزه وجعل وجوده كالعدم، وهو أفسد الطرق. وقد بيَّن الزركشي مقصودهم بالزوائد بأنها من جهة الإعراب لا من جهة المعنى، يقول: ومرادهم أن الكلام لا يختل معناه بحذفها، أنه لا فائدة فيه أصلاً، فإن ذلك لا يحُتمل من متكلِّم فضلاً عن كلام الحكيم. "البرهان" 1/ 305، وذكر ابن الخشاب أن الأكثرين ذهبوا إلى جواز إطلاق الزوائد في القرآن نظراً إلى أنه نزل بلسان القوم ومتعارفهم وهو كثير؛ لأن الزيادة بإزاء الحذف، هذا للاختصار والتخفيف، وهذا للتوكيد والتوطئة، ومنهم من لا يرى الزيادة في شيء من الكلام. "البرهان" 1/ 305، والأكثرون الذين أشار إليهم ابن الخشاب من النحاة ومنهم المبرد الذي زعم الطرطوسي أنه ينكر دعوى الزيادة فقد قال في "المقتضب" 4/ 137: وأما الزيادة التي دخولها في الكلام كسقوطها فقدلك: ما جاءني من أحد، وما كلَّمت من أحد، وكقوله تعالى {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] إنما هو "خير" ولكنَّها توكيد، ومع قول النحاة بالزيادة، فقد تحاشا بعضهم إطلاق لفظ الزيادة في القرآن، واستعاضوا عنها بألفاظ مهذَّبه؛ كالصلة، والتوكيد، والإلغاء .. ونحوها لكن بعضهم وللأسف استخدم عبارات لا تليق بالقرآن: كالحشو واللغو .. ونحوها. انظر: "شرح المفصل" 8/ 128، وما بعدها، و"الأشباه والنظائر" (2/ 156) وما بعدها، ويبدو أن الخلاف بين الفريقين خلاف صُوْري لا يتجاوز الألفاظ والعبارات، لذلك فالأولى تجنُّب إطلاق لفظ: زائد في القرآن، فضلاً عن (حشو) و (لغو)، وإذا اضطر الإنسان إلى التعبير عن ذلك فليكن بلفظ (صلة) و (توكيد).

يُحكم بزيادتها فقال بعضهم هي: للتبعيض (¬1)، وذُكِر البعضُ هاهنا وأُريد به الجميع توسعًا (¬2). وقال بعضهم: (مِنْ) هاهنا للبدل (¬3)، والمعنى: لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب، فدخلت (من) لِتُضمَّن المغفرة معنى البدل من السيئة. ¬

_ (¬1) انظر: "غرائب التفسير" 1/ 575، و"تفسير الزمخشري" 2/ 395، و"تفسير القرطبي" 9/ 346، وأبو حيان 5/ 409، وابن جزي 2/ 138، و"الألوسي" 13/ 196، و"صديق خان" 7/ 92. (¬2) ذكر المفسرون أقوالاً أخرى في توجيه معنى التبعيض في الآية، انظر: "الكشاف" 2/ 395، و"الرازي" 19/ 93 - 94، وأبي حيان 5/ 409، وابن جزي 2/ 138. (¬3) انظر: "غرائب التفسير" 1/ 575، و"الإملاء" 2/ 67، و"الفريد في الإعراب" 3/ 151، و"تفسير القرطبي" 9/ 347، و"الدر المصون" 7/ 75، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 517، وقد أنكر الفخر الرازي رحمه الله ورود (من) للبدل في اللغة: فقال: وأما قوله أي الواحدي المراد منه إبدال السيئة الحسنة، فليس في اللغة أن كلمة (من) تفيد الإبدال 19/ 94، وهذه الدعوى غريبة من الفخر الرازي، فإذا كان هو ممن يذهب كما ذهب غيره إلى عدم القول بأن (مِنْ) تأتي للبدل، فقد قال بذلك غيره، فكان ينبغي أن ينفي صحة القول بها عنده لا أن ينفيها من اللغة. ومن القائلين بها عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10]: الزمخشري 1/ 176، وأبو حيان 2/ 288، وابن هشام في "مغنيه" 422، والزركشي في "البرهان" 4/ 419، بل لقد قال أبوحيان -رحمه الله- في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]: تظافرت أقوال المفسرين على أن (من) بمعنى بدل؛ أي بدل الآخرة، كقوله {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} [لزخرف: 60]: أي بدلاً منكم، وقد أيَّد قوله بقول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على الطَّهيَانِ أي بدل ماء زمزم، والطَّهيَانُ: عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى يبرد "تفسير أبي حيان" 5/ 41، وانظر: "الإملاء" 2/ 67، و"الدر المصون" 7/ 75، "حاشية الجمل كل على الجلالين" 2/ 517.

وقوله تعالى: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال ابن عباس: ويمتعكم في الدنيا في النعيم والنضارة (¬1) إلى الموت (¬2). قال المفسرون: معناه: لا يعاجلكم بالعذاب (¬3). قال صاحب النظم: أي إن لم تجيبوا إلى ما يدعوكم إليه عولجتم بالعذاب عن أجل الموت المسمى لكم (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (والعضارة)، ومطموسة في: (ع)، والمثبت من (ش)، وهو الصحيح لانسجامه مع السياق والمعنى، و (النضارة) مأخوذ من النضرة، ومنه قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]، قال الفراء: معناه مشرقة بالنعيم. 3/ 212. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 95، و"الألوسي" 13/ 197. (¬3) ورد في "تفسير الطبري" 13/ 190، بنحوه، والسمرقندي 2/ 202 بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 147 أبنصه، والماوردي 3/ 126 بنحوه، وانظر: "البغوي" 4/ 339، و"ابن الجوزي" 4/ 350، و"القرطبي" 9/ 347، و"الخازن" 3/ 72. (¬4) هذا القول يومئ إلى القول بالأجلين الذي يذهب إليه المعتزلة، وقد ذكره الزمخشري صراحة فقال: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إلى وقت سماه الله وبين مقداره يبلِّغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت 2/ 395، يقول شارح العقيدة الطحاوية عن هذا المبدأ الاعتزالي: "وعند المعتزلة المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله، فكان له أجلان، وهذا باطل (ص 92)، والعدل والإنصاف يقتضي تقييد كلام الإمام ابن أبي العز، فليس كل المعتزلة يقولون بذلك، وقد ذكره الخبير بهم؛ أبو الحسن الأشعري، (رحمه الله) الذي عاش بين ظهرانيهم وتمذهب بمذهبهم أولاً عد حديثه عن الآجال، فقال: اختلفت المعتزلة في ذلك على قولين: فقال أكثر المعتزلة: الأجل هو الوقت الذي في معلوم الله سبحانه أن الإنسان يموت فيه أو يقتل، فإذا قُتل قُتل بأجله وإذا مات مات بأجله، وشذّ قوم من جُهَّالهم فزعموا أن الوقت الذي في معلوم الله سبحانه أن الإنسان لو لم يُقتل لبقي إليه، هو أجله دون الوقت الذي قُتل فيه. "مقالات الإسلاميين" ص 256، وقد سمَّى البغدادي -في "أصول الدين" ص 142 - الذين وافقوا أهل السنّة في هذه المسأله -كأبي الهذيل والجبائي،=

13

13 - وباقي الآية وما بعدها إلى قوله: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ظاهر، ومعنى {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ذكرناه في قصة شعيب في سورة الأعراف [آية: 88]. ابن الأنباري هاهنا، أن قوله: {لَتَعُودُنَّ} في الظاهر عطف على جواب اليمين، ثم أجاب عن هذا وقال معنى الكلام: لنخرجنَّكم من أرضنا حتى تعودوا في ملتنا، ولكي تعودوا، وإلا تعودوا (¬1)، ¬

_ = ومذهب أهل السنّة في هذه المسألة- كما بينّه الطحاوي رحمه الله - هو: وقدَّر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً. يعني أن الله قدَّر آجال الخلائق بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فمن مات بأي نوع من أسباب الموت قتلاً أو مرضاً أو غرقاً أو حرقاً .. فقد مات بأجله. "شرح الطحاوية" ص 99 - 100. أما الرد على القائلين بالأجلين: فقد أشار ابن أبي العز رحمه الله في ردّه إلى أن هذا القول يقتضي تجهيل الله تعالى، الله عما يقولون فقال: وهذا باطل لأنه لا يليق أن يُنسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيى إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب. "شرح العقيدة الطحاوية" ص 100. (¬1) هذان المعنيان لـ (أو) بمعنى (حتى) أو (إلا أن) ذكرهما بعض المفسرين كالطبري 13/ 191 - 192 "الثعلبي" 7/ 147 أ، و"البغوي" 4/ 339، وأنكر آخرون أن يُراد بها أيُّ من القولين هنا، وأنها على بابها أي التخيير يقول ابن العربي في رده عليهم: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير، فإن (أو) على بابها من التخيير، خيَّر الكفارُ الرسل بين أن يعودوا في ملَّتهم أو يخرجوا من أرضهم، وهذه سيرة الله في رسله وعباده. "تفسير ابن العربي" 3/ 1116، ويقول أبو حيان رحمه الله: وتقدير (أو) هنا بمعنى (حتى) أو بمعنى (إلا أن) قول من لم ينعم [أي: يبالغ] النظر في ما بعدها؛ لأنه لا يصح تركيب (حتى) ولا تركيب (إلا أن) مع قوله {لَتَعُودُنَّ} بخلاف لألزمنّك أو تقضيني حقي. "تفسير أبي حيان" 5/ 411 وكذلك السمين رحمه الله ذهب مذهب شيخه ونقل كلامه دون نسبته إليه. "الدر المصون" 7/ 76، ويقول ابن عاشور رحمه الله: و (أو) لأحد الشيئين .. وليست هي (أو) التي بمعنى (إلى) أو بمعنى (إلا) "تفسير ابن عاشور" 13/ 206، وحَمْلُ (أو) على بابها هو قول جمهور المفسرين، وهو أولى بالترجح ما دام أن المعنى يستقيم؛ ولأن هذا =

لقول امرئ القيس (¬1): إنما نُحَاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا المعنى: إلا أن نموت وحتى نموت، فكان يجب على هذا أن تكون (أو تعودوا) (¬2)، غير أنه غلب ظاهر الكلام، ونُقل {لَتَعُودُنَّ} عن لفظ الشرط إلى لفظ اليمين، وأُشرك بينه وبين الذي قبله في اللفظ وإن كان مخالفه في المعنى؛ كما قالوا: لو تُرك عبد الله والأسدَ لأكله، فنصبوا الأسد لأنه مخالف الأول، ورفعه بعضُهم بالنَّسق (¬3) للتسوية بين اللفظين والمعنيان مختلفان حين أُمن اللبس والإشكال، وقال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، فعطف يُسْلِمون على تقاتلون تغليبًا للَّفظ (¬4)، والآخر على المعنى (¬5)، وهذا الذي ذكرنا كله كلامُ أبي بكر، وهو شرح ما ذكره ¬

_ = هو الأصل، ولا يُصار إلى المعاني الأخرى إلا عند تعذُّر حملها على المعنى الأصلي، أو وجود قرينة صارفه وداعية. (¬1) وصدره بتمامه: فقلتُ لهُ لا تبْك عينُك إنما "ديوانه" ص 64، وورد في "الكتاب" 3/ 47، و"الصاحبي في فقه اللغة" ص 171، و"شرح المفصّل" 7/ 22، و"الدرالمصون" 9/ 713، وورد بلا نسبة في "الخصائص" 1/ 263، و"رصف المباني" ص 212، و"شرح الأشموني" 3/ 527، والبيت من قصيدة قالها لعمرو بن قميئة اليشكري حين استصحبه في مسيره إلى قيْصر، والشاهد: قوله (أو نموت) حيث نصب الفعل المضارع لإضمار (أنْ)، و (أو) بمعنى: (إلا). (¬2) أي اللفظة القرآنية لو كان في غير القرآن (أو تعودوا) بدلاً من {لَتَعُودُنَّ}. (¬3) أي بالعطف. (¬4) لأن المعنى مشترك بين الأمرين؛ أي يكون هذا، أو يكون هذا، كانه قيل: يكنْ قتال أو إسلام. انظر: "الكتاب" 3/ 47، و"المقتضب" 2/ 27، و"الدر المصون" 9/ 713. (¬5) أي الوجه الآخر للرفع، رفعه على الاستئناف، كأنه قال: تقاتلونهم أو هم =

14

الفراء في هذه الآيهَ (¬1). 14 - قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} قال صاحب النظم: أشار بقوله {ذَلِكَ} إلى قوله: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ} دون ما قبله لأنه قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} وخَوْفُهم لا يكون سببًا لإهلاك الظالمين، وإنما يمون سببًا لإسكانهم (¬2) الأرض، وهذا يدل على أن (ذلك) يجوز أن يكون إشارة إلى شيء دون شيء مما تقدمه، كقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] إشارة إلى إباحة تزويج الأمة، وقد ذكر قبله أحكامًا سوى هذا، وهو قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ} وهو في الظاهر كأنه متصل بهذه القصة، وهو بالمعنى متصل بالقصة التي قبل هذا، وهو قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلى قوله {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}. والمقام هاهنا مصدر كالقيام، يقال: قام قِيَامًا ومُقَامًا (¬3). ومعنى: {خَافَ مَقَامِي} قال ابن عباس: خاف مُقامه بين يَدَيَّ (¬4). وقال الكلبي: مقامه بين يَدَي رب العالمين يوم القيامة (¬5)، وهذا قول ¬

_ = يسلمون. انظر: "الكتاب" 3/ 47، و"شرح المفصل" 7/ 23، و "الدر المصون" 9/ 713. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 70 - 71. (¬2) في (أ)، (د): (لأسكنانهم) والمثبت من (ش)، (ع). (¬3) انظر (قوم) في "المحيط في اللغة" ص 1152، و"المحكم" لابن سيده 6/ 364، و"المفرادات" للراغب ص 690، و"عمدة الحفاظ" 3/ 418، و"القاموس المحيط" ص 1487. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 311 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 350. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 311 بنصه.

أكثر المفسرين (¬1). وعلى هذا، هو من باب إضافة المصدر إلى المفعول (¬2)؛ كما تقول: ندمت على ضربك (¬3)، وسُرِرْتُ (¬4) برؤيتك (¬5)، ومنه: في {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} (¬6) [ص: 24]، و {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} (¬7) [فصلت: 49]. قال الفراء: وإن شئت قلت: ذلك لمن خاف مقامي عليه ومراقبتي (¬8)، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 71، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 520، و"تفسير السمرقندي" 2/ 202، والثعلبي 7/ 147 ب، و"الماوردي" 3/ 126، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 340، و"تفسير القرطبي" 9/ 348، و"الخازن" 3/ 73. (¬2) انظر هذه المسألة في "شرح جمل الزجاجي" لابن هشام ص 201، و"شرح ابن عقيل" 3/ 103، و"شرح الأشموني" 2/ 554. (¬3) وتقديره: ندمت على ضربي إيَّاك. انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 147 ب. (¬4) في (أ)، (د): (سرت) والمثبت من (ش)، (ع). (¬5) وتقديره: سررت برؤيتي إياك. انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 147 ب. (¬6) وسياقها {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} والتقدير: لقد ظلمك بسؤاله إيَّاك نعجتك، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى، والمفعول الأول، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني. انظر: "البيان في الإعراب" 2/ 314، و"الفريد في الإعراب" 4/ 160. (¬7) وسياقها: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ}، والتقدير: لا يسأم الإنسان من دعائه الله بالخير، فحذف الفاعل والمفعول الأول، والباء من المفعول الثاني، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني. انظر: "البيان في الإعراب" 2/ 342، و"الفريد في الإعراب" 4/ 233. (¬8) هذا القول الذي نسبه إلى الفراء، لم أجده في معاني القرآن للفراء، إنما المذكور هو قول الجمهور حيث قال معناه: ذلك لمن خاف مقامه بين يديّ. "معاني القرآن" للفراء 2/ 71، ولعل الواحدي نقله من كتب الفراء الآخرى، ويؤيده أن بعض المفسرين نسبوا معنى هذا القول إلى الفراء، إلا أن يكونوا نقلوه عن الواحدي =

15

[الرعد:33]. وعلى هذا الوجه: المصدر مضاف إلى الفاعل، وفي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46]، الوجهان (¬1). وقوله تعالى: {وَخَافَ وَعِيدِ}، الوعيد: اسم من أوعد إيعادًا (¬2)، أي: تهدد، معناه: الخبر عن العقاب على الإجرام، قال ابن عباس: خاف مما أوعدت من العذاب (¬3). 15 - قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا} ذكرنا معنى الاستفتاح عند قوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} [البقرة: 89]، وللاستفتاح هاهنا معنيان، أحدهما: طلب الفتح بالنصرة (¬4)، والثاني: طلبه بالقضاء (¬5)، وكلا المعنيين ذكره المفسرون. ¬

_ = وهو احتمال قوي. انظر: "الدر المصون" 7/ 78، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 518، و"تفسير الألوسي" 13/ 200. (¬1) فإذا قُدِّر إضافته إلى فاعله، كان تقديره: خاف قيام ربه عليه، وإذا قُدِّر إضافته إلى مفعوله كان تقديره: خاف قيامه بين يدي ربه انظر: "تفسير أبي حيان" 8/ 196، و"الدر المصون" 10/ 177. (¬2) قال ابن السكيت: قال الفراء: يقال وعدْته خيراً ووعدْته شرّاً بإسقاط الألف، فإذا أسقطوا الخير والشرَّ، قالوا في الخير: وعدْتُه، وفي الشرَّ: أوعدْتُه، وفي الخير: الوعْدُ والعِدةُ، وفي الشر: الإيعادُ والوعيدُ، وإذا قالوا: أوعدته بالشر أو بكذا، أثبتوا الألف مع الباء كقولك: أوعدته بالضرب. "إصلاح المنطق" ص 226. وانظر: "تهذيب اللغة" (وعد) 4/ 3915، و"المحكم" 2/ 236، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص 518، و"اللسان" 8/ 4872، و"عمدة الحفاظ" 4/ 372. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 311 بنصه، وانظر: "الرازي" 19/ 101. (¬4) بمعنى الاستنصار: أي طلبوا النصرة من الله. (¬5) بمعنى الاستقضاء: أي تحاكموا إلى الله وسألوه القضاء بينهم مأخوذ من الفُتاحة؛ وهي الحكومة. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 101.

قال ابن عباس: يعني استنصروا (¬1). وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسلُ استنصروا الله، ودعوا على قومهم بالعذاب لمّا يئسوا من إيمانهم (¬2)، كما قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26]، وقول موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} الآية. [يونس: 88]، وقال لوط: {انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30]، وهذا المعنى اختيار أبي إسحاق؛ قال: سألوا الله أن يفتح عليهم، أي (¬3) ينصرهم، وكل نصر فهو فتح (¬4). وقال ابن زيد استَقْضَوا (¬5)، وهو قول مقاتل؛ قال: يعني الأمم؛ وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبنا، شكًّا منهم في صدقهم (¬6)، كقوله: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29]. ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 192 أ، بلفظه، و"الثعلبي" 7/ 147ب، بلفظه، و"الماوردي" 3/ 127 بنحوه، و"الطوسي" 6/ 282 بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 351، وابن كثير 2/ 578. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 334 بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 341 بنحوه عن قتادة، والطبري 13/ 193 بنحوه من عدة طرق عنهما، وورد بنحوه في: "تفسير السمرقندي" 2/ 203، عن قتادة، و"الثعلبي" 7/ 147 ب، عنهما، و"الطوسي" 6/ 282 عنهما، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 137 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عنهما. (¬3) في (أ)، (د): (أن) والمثبت من (ش)، (ع). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 156 بنصه. (¬5) لم أقف على هذا القول منسوباً إليه، والذي نسب إليه، قال: استفتاحهم بالبلاء، أخرجه الطبري/ شاكر 16/ 545، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 127، و"الطوسي" 6/ 282، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 351، وابن كثير 2/ 578. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 192 أ، بتصرف، وانظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 203.

وقوله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ}، وذكرنا معنى الجبار في قوله: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]، ومعنى الجبّار هاهنا: المتكبر عن طاعة الله وعبادف، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]، قال أبو عبيد عن الأحمر (¬1) يقال فيه: جَبَرِيَّةٌ، وجَبَرُوُّةٌ، وجَبَرُوت، وجُبُّورَةٌ (¬2). وحكى الزجاج: الجَبْرِيَّة، والجِبِريَّة، بكسر الجيم والباء، والتَّجْبَارُ، والجِبْرياء، فهي تسع لغات في مصدر (¬3)، وفي حديث امرأة حضرت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها بأمر فأبت (¬4) عليه فقال: "دَعُوها فإنها جبَّارة" (¬5) أي: مستكبرة (¬6). ¬

_ (¬1) علي بن المبارك الأحمر النحوي صاحبُ الكسائي، كان مؤدبَ الأمين، وهو أحد من اشتهر بالتقدم في النحو واتساع الحفظ، قال ثعلب: كان يحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب، جرت بينه وبين سيبويه مناظرة لما قدم بغداد فغلبه، توفي سنة (194 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر: "الأنساب" للسمعاني 1/ 145، و"نزهة الألباء" ص 80، و"إنباه الرواة" 2/ 313. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (جبر) 1/ 532، بزيادة مصدر خامس هو (جَبُّورَةٌ). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 156، وقد أورد المصادر التسعة كلها. وتتبعت هذه المصادر في عدة مراجع فوجدتها قد بلغت ثمانية عشر مصدراً، كلها بمعنى الكِبْر. انظر (جبر) في "المحكم" 7/ 283، و"اللسان" 1/ 535، و"التاج" 6/ 158 - 159. (¬4) في (أ)، (د): (فنابت)، وهو تصحيف، والمثبت من: (ش)، (ع). (¬5) أخرجه ابن أبي الدنيا في "التواضع" ص 247 بنصه عن أنس، والبزار [كشف الأستار] 4/ 222 وضعفه، والنسائي في عمل اليوم والليلة، ص 375، وأبو يعلى في "مسنده" 6/ 34، والطبراني في الأوسط [مجمع البحرين] 1/ 161، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 291، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 99، وقال: وفيه يحيى الحماني، ضعفه أحمد ورماه بالكذب، فهذا الحديث ضعيف كما نص البزار على ضعفه، وأشار الإمام أحمد إلى ضعفه. (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 236.

وقال الليث (¬1): قلب جبار ذو كبْر، لا يقبل موعظة (¬2). وقوله تعالى: {عَنِيدٍ} واختلف أهل اللغة في اشتقاق العنيد؛ فقال النضر بن شُمَيْل: العُنُود: الخلاف والتباعد والتَّرك (¬3)، يقال: أشدّ ما عَنَدْت من قومك، أي: باعدت (¬4) عنهم، قال أكثر أهل اللغة: وأصله من العنْدُ (¬5)، وهو الناحية، يقال: فلان يمشي عَنْدًا، أي ناحية (¬6)، ومنه: إنِّي كَبيرٌ لا أُطِيقُ العُنَّدا (¬7) ¬

_ (¬1) الليث هو ابن المظفّر كما سماه الأزهري وقيل: ابن نصر كما في "البلغة" وقيل: ابن رافع، بن سيَّار الخرساني، اللغوي النحوي صاحب الخليل، أخذ عنه: النّحو واللغة وأملى عليه ترتيب كتاب العين، ويقال إن الخَلَل الذي وقع فيه كان من جهته، كان بارعاً في الأدب بصيراً بالشعر والغريب والنحو. انظر: مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 47، و"إنباه الرواة" 3/ 42، و"إشارة التعيين" ص 277، و"البلغة" ص 474، و"البغية" 2/ 270. (¬2) لم أقف على مصدره، ونقله الفخر الرازي عنه 19/ 102. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) 3/ 2589 بنصه، وانظر (عند) في "اللسان" 5/ 3124، و"التاج" 8/ 425. (¬4) في (ش)، (ع): (تباعدت). (¬5) (عند) مثلث الأول مختلف المعنى؛ فالعَنْدُ والعُنُودُ: الميل عن الشيء، وعِنْدَ: ظرفٌ معلوم المعنى، وقد يفتح عينه ويُضم، والعُندُ: جمع عَنُود، وهي الناقة ترعى وحدها، والسحابةُ الكثيرةُ المطر. انظر: "إكمال المثلث بتثليث الكلام" 2/ 453، و"الدرر المبثثة في الغرر المثلثة" ص 152. (¬6) انظر: (عند) في "جمهرة اللغة" 2/ 665، و"مقاييس اللغة" 4/ 153، و"مجمل اللغة" 3/ 631، و"الصحاح" 2/ 512 "اللسان" 5/ 3124، و"القاموس" ص 302، و"التاج" 5/ 131. (¬7) صدره: =

فمعني عَانَد وعَنَدَ: أخذ في ناحية معرضًا. قال أبو حاتم عن الأصمعي: عَنَدَ فلان عن الطريق، يَعْنِدُ عُنُودًا إذا تباعد (¬1)، وروى شمر عن أبي عدنان (¬2) عنه (¬3): عَانَد فلانٌ فلانًا إذا جَانَبَه، ودمٌ عَانِد: يسيل جَانِبًا (¬4)، ونحو ذلك قال الكسائي فيما رَوى عنه أبو عبيد: عَنَدَت الطعنةُ، إذا سال دمُها بعيدًا من صاحبها، وهي طنعةٌ عانِدةٌ، وعَنَدَ (¬5) الدمُ: إذا سال في جانب (¬6)، والعَنُود من الإبل: التي لا يخالطها ¬

_ = ورد بلا نسبة في "المقتضب" 1/ 218، و"الجمهرة" 2/ 666، الصحاح (عند) 2/ 513، و"تفسير الثعلبي" 7/ 148 أ، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 422، و"مغني اللبيب" ص 894، وورد برواية: (إذا نزلتُ ..) في "مجاز القرآن" 1/ 337، و"الاقتضاب" ص 415، و"شرح أدب الكاتب" للجواليقي ص245، و"الخزانة" 11/ 323، وورد برواية: (ذا رَحَلْتُ ..) في "المحكم" 2/ 15، و"اللسان" 5/ 3124، و"التاج" 5/ 130، وورد برواية: (إذا رَجِلْتُ ..) في "أدب الكاتب" ص 491، وورد برواية: (إذا ركبتم). في "مقاييس اللغة" 4/ 153، معنى البيت: كان الشاعر قد كبر، والرجل إذا كبر عاد كالصبي؛ والصبيان يخافون بالليل، فهو يقول: اجعلاني وسطكما فإني لا أطيق أن أكون في الجانب. (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" "عند" 3/ 2589. (¬2) أبو عدنان، عبد الرحمن بن عبد الأعلى السُّلمي، كان عالمًا باللغة، وراوية لأبي البيداء الريَّاحي، بصريّ شاعر، صنَّف في اللغة وغريب الحديث كتباً، منها: كتاب (القوس) و (غريب الحديث). انظر: "الفهرست" ص 72، و"إنباه الرواة" 4/ 148، و"البغية" 2/ 80. (¬3) الضمير عائد على الأصمعي. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) 3/ 2588 بنصه. (¬5) في جميع النسخ: (عندم)، والعَنْدَم: دمُ الأخوين، والمثبت من المصدر المنقول عنه. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) 3/ 2588، بتصرف يسير، وأنظر (عند) في "اللسان" 5/ 3125، و"التاج" 5/ 131.

إنما هو في ناحية أبدًا (¬1)، وعلى هذا المعنى كلُّ كلامِ أكثرِ المفسرين في تفسير العَنيد؛ قال قتادة: العنيد: المعرض عن طاعة الله (¬2)، وهو قول ابن عباس ومجاهد: هو المجانب للحق (¬3). وقال إبراهيم: الناكب عن الحق (¬4). وقال ابن زيد: المخالف للحق (¬5). وقال أبو إسحاق: الذي يعدل عن القصد (¬6). وقال قوم من أهل اللغة: أصله من: عَنَدَ الحُبَارَى فرخَه، إذا عارضه بالطيران أول ما ينهض كأنه يعلمه الطيران (¬7)، ومنه المَثَلُ: كلُّ شيء يحب ¬

_ (¬1) نُسب هذا القول إلى الليث في "تفسير القرطبي" 9/ 349، و"عمدة الحفاظ" 3/ 156، وانظر: (عند) في "التهذيب" 3/ 2588، و"مقاييس اللغة" 4/ 153، و"المحكم" 2/ 14، و"اللسان" 5/ 3124، و"التاج" 5/ 130. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 194 بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" (عند) 3/ 2588 بنصه، و"اللسان" (عند) 5/ 3124 بنصه، وفي معظم المصادر أنه فسرها بقوله: الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 341، الطبري 13/ 194، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 521، و"تفسير الثعلبي" 7/ 147 ب. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 334 بنحوه، وأخرجه الطبري 13/ 193 بنحوه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 203 بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 147 ب بنحوه، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 521 بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 340، و"تفسير القرطبي" 9/ 349. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 193 بنصه من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 147 ب بنصه، وانظر: "الدر المنثور" 4/ 137، و"تفسير صديق خان" 7/ 97. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 147 ب بنصه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 156 بنصه. (¬7) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) 3/ 2588 بنصه، وانظر (عند) في "اللسان" 15/ 3124، و"التاج" 5/ 130.

16

ولده حتى الحُبَارى (¬1)، وُيحب عَنَدَه، أي اعتراضه، فالمعاند: المعارض لك بالخلاف (¬2). قال ابن الأعرابي: أَعْنَدَ الرجل، إذا عارض إنسانًا بالخلاف، وأعْنَدَ، إذا عارض بالاتفاق (¬3)، وعاند البعير خطامه أي: عارضه (¬4)، والعَنُود من الإبل، التي تُعاند الإبل فتعارضه (¬5)، وقال قوم من أهل اللغة: معنى عَنَدَ، إذا أبى قبولَ الشيء مع العلم به تكبرًا عنه وبغيًا وطغيانًا (¬6)، ومعنى {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: فاز الرسل بالنصرة، وخاب كل من كفر؛ لأنه لم يظفر بما تمنَّى. 16 - قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [قال ابن عباس والمفسرون: يريد أمامه جهنم] (¬7) بين يديه (¬8)، ووراء يكون لخلف وقُدَّام، وإنما معناه ما ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع الأمثال" 2/ 146، و"المستقصى في الأمثال" للزمخشري 2/ 227، يضرب هذا المثل في الموق [أي الحمق] يقول: هي على مُوقها تُحب ولدها وتعلمه الطيران. (¬2) انظر: (عند) في "تهذيب اللغة" 3/ 2588، و"المحكم" 2/ 15، و"التاج" 5/ 130. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" "عند" 3/ 2588، بنصه. (¬4) المصدر السابق بنصه. (¬5) المصدر السابق بنصه منسوباً للقيسي. (¬6) المصدر السابق بنحوه منسوباً لليث، وانظر: "عند" في "اللسان" 5/ 3124، و"التاج" 5/ 130. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع). (¬8) ورد في تفسيره "الوسيط" 1/ 312 بنصه عن ابن عباس، و"ابن الجوزي" 4/ 351 بنحوه عن ابن عباس، وانظر: "الطبري" 13/ 195، و"الثعلبي" 7/ 148 أ، و"الماوردي" 3/ 127.

توارى عنك؛ أي: ما اسْتَتَر عنك (¬1) فعلى هذا إنما قيل (من ورائه) لما بين يديه؛ لاستتاره عنه، فصار كما يكون خلفه لمّا كان لا يراه. وذهب قوم إلى أن الوراء من الأضداد؛ يكون الخلف والقُدَّام (¬2)، وهو قول أبي عبيدة (¬3)، وابن السِّكِّيت (¬4)، وأبي الهيثم (¬5). قال أهل المعاني: وإنما جاز ذلك (¬6) لأنه ما من مكان إلا ويصح أن يكون خلفًا وقدامًا، ولمّا (¬7) كان ما هو خلف يجوز أن يصير قدامًا، جاز أن يقع الوراء على القُدَّام (¬8)، ومن هذا قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 156 بنصه. (¬2) انظر: "ثلاثة كتب في الأضداد" للأصمعي ص20، والسجستاني ص 82، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 68، و"تأويل مشكل القرآن" ص 189، و"جمهرة اللغة" 1/ 236، وقد أنكر الزجاج والنحاس أن تكون وراء من الأضداد، ورجحا أن تكون بمعنى الاستتار، وهو ما ذهب إليه ثعلب؛ فقد سئل لم قيل الوراء للأمام، فقال: الوراء اسم لما توارى عن عينك، سواءً أكان أمامك أم خلفك. "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 522، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 352، و"تفسير الشوكاني" 3/ 143. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 237 بنحوه. (¬4) "الأضداد" لابن السكيت "ثلاثة كتب في الأضداد" ص 175، وانظر (ورى) في "تهذيب اللغة" 4/ 3879. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3879 بنحوه، وأبو الهيثم هو: الرازي، تقدمت ترجمته. (¬6) أي كون (وراء) ميت الأضداد. (¬7) في (أ)، (د): (إنما)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 157 بنحوه، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 305 بنحوه، وانظر: "الأضداد" للجسستاني "ثلاث كتب في الأضداد" ص 82، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 68.

[الكهف:79]، أي: أمامهم (¬1)، ويقال: الموت من (¬2) وراء الإنسان، أي: أمامه، وذكر ابن الأنباري وجهًا ثالثًا؛ وهو: أن وراء هاهنا بمعنى بعد (¬3)، والكناية فيه تعود إلى اليأس الذي دلَّ عليه قوله: {وَخَابَ} كأنه قال: من بعد يأسه (¬4) جهنم، كقول النابغة: ولَيْسَ وَرَاء اللهِ للمَرْءِ مَذْهَبُ (¬5) أي: وليس بعد الله مذهب. وقال مقاتل: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} يعني بَعْده (¬6)، وهذا على معنى أن جهنم تلحقه، وأن عاقبته تصير إليها؛ كما يقال: وراءك برد شديد؛ أي: ¬

_ (¬1) انظر المصادر السابقة. (¬2) (من) ساقطة من (ش)، (ع). (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 352، و"الفخر الرازي" 19/ 103، وورد بلا نسبة في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157، و"تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3878، و"تفسير الماوردي" 3/ 128، و"تفسير القرطبي" 9/ 350، وقد انتصر ابن عطية لهذا المعنى في رده على الطبري وغيره ممن فسَّروا (ورائه) بـ (أمامه)، وذكر أن (وراء) هاهنا على بابها؛ أي: ما يأتي بعد في الزمان. انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 217. (¬4) في (أ): (بانيه)، وفي (د): (بابنيه)، وفي (ش)، (ع): (ناسه)، والتصويب من "تفسير ابن الجوزي" 4/ 352. (¬5) صدره: حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً "ديوان النابغة" الذبياني ص 27، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157، "الأضداد" لابن الأنباري ص 70، و"تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3879، و"تفسير الماوردي" 3/ 128، و"تفسير القرطبي" 9/ 350، و"الألوسي" 13/ 301، وهذا البيت من قصيدة قالها يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر ويمدحه. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 192 أ، وعبارته: من بعدهم؛ يعني من بعد موته، وانظر: "تفسيرالثعلبي" 7/ 148 أ، بنصه، ونقلها عنه.

أنه يأتيك ويبلغك، وأنا من وراء هذا الأمر، أي: أصل إليه طالبًا، ومنه قول لبيد: أَلَيْسَ وَرَائِي إنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتي ... لُزُومُ العَصَا تُحْنَى عليها الأصَابعُ (¬1) جعل الشيب وزمانه وراءه، على معنى أنه يأتيه (¬2) ويلحقه. وبقي شيء من الكلام في وراء سنذكره عند قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79]، إن شاء الله. وقوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} الصديد في اللغة: ماء الجرح المختلط بالدم والقيح (¬3)، يقال: أصَدَّ الجرح. قال ابن عباس: يريد صديد القيح والدم الذي يخرج من فروج الزُناة (¬4)، وهو قول القرظي (¬5)، والربيع (¬6). ¬

_ (¬1) "شرح ديوان لبيد" ص 170، وورد في: "الأضداد" للسجستاني [ثلاثة كتب في الأضداد] ص 83)]، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 69، و"تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3878، و"الأغاني" 14/ 99، و"اللسان" (وري) 1/ 4823، وفي جميع النسخ: (وراء) بحذف الياء والمثبت هو الصواب، والتصويب من الديوان وجميع المصادر السابقة. (¬2) في (أ)، (د): (ثابتة)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬3) انظر: "مجاز القرآن" ص 338، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 236، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157، و"نزهة القلوب" ص 297، (صدّ) في "تهذيب اللغة" 2/ 1985، و"مقاييس اللغة" 3/ 282، و"مجمل اللغة" 2/ 532، و"اللسان" 4/ 2410 (صدد). (¬4) ورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 7/ 148أ، وتفسيره "الوسيط" 1/ 312 بنصه. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 148 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 353، و"الخازن" 3/ 73، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 519، و"تفسير الألوسي" 13/ 202، و"صديق خان" 7/ 98. (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 148 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" 9/ 352، و"الألوسي" 13/ 202.

17

وقال قتادة والكلبي: هو ما يخرج من جلد الكافر ولحمه (¬1)، وتلخيص قوله: {مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}: من مائع سائل هو صديد، وقال أبو علي: تقديره: من ماء ذي صديد، قال: وهذا خلاف قوله. {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (¬2) [الإنسان: 21]. 17 - قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ} قال: جَرعَ الماء واجْترعَه جَرعًا واجْتراعًا، فإذا تابع الجَرْع مرة بعد أُخرى كالمتكاره، قيل: تَجَرَّعه (¬3)، فمعنى التَّجَرُّع: تناوْل المشروب جَرْعة جَرْعة على استمرار، وهو معنى قول ابن عباس: يريد بالكُرْه (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} ذكرنا معنى (كاد) عند قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ} [البقرة: 20] ويقال: ساغ الشراب في الحلق، يَسُوْغُ سَوْغًا، وأساغه الله (¬5). وأنشد الفراء (¬6): ¬

_ (¬1) أخرجه عن قتادة: عبد الرزاق 2/ 341 بنحوه، والطبري 13/ 195 بنحوه من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 148 أبنصه عن قتادة، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 352، عن قتادة، وابن كثير 2/ 578، عن قتادة. (¬2) لم أقف على مصدره. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (جرع) 1/ 585 بنصه تقريباً، وانظر (جرع) في "المحيط في اللغة" 1/ 250، و"التاج" 11/ 61 - 62. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 314، بلفظه. (¬5) انظر: (سوغ) في "جمهرة اللغة" 2/ 846، و"تهذيب اللغة" 2/ 1597، و"مجمل اللغة" 2/ 478، و"مقاييس اللغة" 3/ 116، و"الصحاح" 4/ 1322، العباب الزاخر: [غ/ ص 48]، و"اللسان" 4/ 2152. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 320، بلا نسبة.

وساغَ ليَ الشَّرَابُ وكُنْتُ قَبْلًا ... أكادُ أغَصُّ بالماءِ الحَمِيم (¬1) قال المفسرون في هذه الآية: يتحسَّاه ويشربه بالجَرع لا بمرة واحدة لمرارته (¬2)، وقالوا (يكاد) صلة؛ المعنى: ولا يسيغه (¬3)، كقوله: {لَمْ يَكَدْ ¬

_ (¬1) نُسب لعبد الله بن يعرب (جاهلي) في "شرح التصريح على التوضيح" 2/ 50، و"الدرر اللوامع" 3/ 112 وفيه: (الفرات) بدل (الحميم) ولا فرق؛ لأن الفرات هو الماء العذب، وكذا الحميم؛ لأنها من الأضداد. [انظر: "الأضداد" لابن الأنباري 138]، ونُسب ليزيد بن الصَّعِق (جاهلي) في "خزانة الأدب" 1/ 426، 429، 6/ 505، 510، وعجزه: أغص بنقطة الماء الحميم وورد بلا نسبة في "شرح المفصل" 4/ 88، و"أوضح المسالك" ص 149، و"شرح ابن عقيل" 3/ 73، و"تذكرة النحاة" ص 527، و"شرح الأشموني" 2/ 503، و"همع الهوامع" 3/ 194، والمعنى: يقول لم يكن يهنأ لي طعام ولا يلذ لي شراب، بسبب ما كان لي من الثأر عند هؤلاء، فلما غزوتهم وأطفأت لهيب صدري بالغلبة عليهم ساغ شرابي ولذَّت حياتي. (¬2) ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 148 أ، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 314، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 341، و"الفخر الرازي" 19/ 103، و"تفسير القرطبي" 9/ 351، و"الخازن" 3/ 73. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157، و"تفسير السمرقندي" 2/ 203، و"البغوي" 4/ 341، والزمخشري 2/ 297، و"ابن الجوزي" 4/ 353، والبيضاوي 3/ 158، وذهب آخرون كالفراء والطبري إلى أنها ليست صلة؛ لأن العرب تستعمل (لا يكاد) فيما قد فُعِل وفيما لم يُفْعل، وذكروا هذه الآية مثالاً على ما فُعل، فقالوا: معنى {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يسيغه، واستشهدوا على ما لم يُفعل بقوله {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي: لم يرها. "معاني القرآن" للفراء 2/ 71، تفسيرالطبري 13/ 195، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 103، وابن جزي 2/ 139، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 519، و"تفسير الشوكاني" 3/ 144.

يَرَاهَا} [النو: 40] أي: لم يرها، قال ابن عباس: لا يُجِيْزُه (¬1). وقال أهل المعاني: معنى {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}: بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول: ما كدت أقوم؛ أي: قمت بعد إبطاء، قال تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] يعني: فعلوا بعد إبطاء؛ لتعذر وجودها، فعلى هذا (كاد) ليس بصلة. وقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} جاز أن تكون صلة؛ لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمة (¬2) على عدم الرؤية، فوضح (¬3) بذلك أنّ {يَكَدْ} مزيد للتوكيد، والدليل على الإساغة قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} [الحج: 20] ولا يكون الضمير (¬4) إلا بعد الإساغة، وأيضًا فإن قوله: {يَتَجَرَّعُهُ} يدل على أنهم أساغوا منه (¬5) الشيء بعد الشيء، فكيف أن يصح أن يقال بعده: لا يُسيغه، البتة. فإن قيل: فكيف وجه ما قاله المفسرون؟ قيل: يُحْمل على وجهين؛ أحدهما: ذكره ابن الأنباري وهو أن ¬

_ (¬1) ورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 148 ب، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 342، و"تفسير القرطبي" 9/ 351، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 519. (¬2) بسبب الظلمات الثلاث؛ ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وهو ما أشارت إليه الآية. [النور: 40]. (¬3) في جميع النسخ (فوضع) بالعين، وهو تصحيف، والصواب بالحاء. (¬4) أي الكناية في يسيغه تعود على الكافر، ولو لم تحصل له الإساغة لقال: (لا يكاد يُساغ) ونحوها. (¬5) في جميع النسخ (أساغوه منه) جَمع بين الضميرين، فأصبحت العبارة مضطربة، وتستقيم العبارة بأحد الأمرين: إما أن تحذف الهاء فتصير (أساغوا منه الشيء بعد الشيء) أو تحذف (منه) وتصير العبارة (أساغوه؛ الشيء بعد الشئ). وكأن التصويب قد جرى في نسخة (ع) بطمس (الهاء) بألف غير واضحة.

المعنى: ولا يُسيغ جمْعه؛ كأنه يَجْرع البعض، ولم يُسغ الجميع لمرارته، فوقع الجحدُ بعد إثباتِ التَّجرعِ؛ على معنى إساغة الكل. الوجه الثاني: أن معنى الإساغة في اللغة: إجراء الشراب في الحلق على تَقَبُّل النَّفْس واستطابة المشروب (¬1)، والكافر يتجرع ذلك الشراب علي كراهته ولا يُسيغه أي: لا يستطيعه ولا يشربه شُربًا بمرة واحدة، فعلى ما ذكرنا من الوجهين يصح أن تكون (يكاد) صلة على ما ذكره المفسرون، وقول من لم يجعل (يكاد) صلةً أمثل. وقوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} ذكر أهل المعاني في {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ} وجهين؛ أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف؛ على معنى: ويأتيه هَمُّ الموت وألمُه وكربُه (¬2)؛ لأنه يستحيل أن يأتيه الموت؛ ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلف أهم خصائص الإساغة؛ وهو السهولة والاستمرارية، يقول ابن فارس في "مقاييس اللغة" 3/ 116: السين، والواو والغين أجل يدل على سهولة الشيء واستمراره في الحلق خاصة، ثم يحمل على ذلك. اهـ. كأنه ذكر لازم السهولة والاستمرارية، وهو تقبل النفس واستطابة المشروب. وانظر العباب الزاخر [غ/ ص 49]. (¬2) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 203 بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 353 بنصه، وفي هذا التفسير نظر؛ لأن همّ الموت إنما كان عذابًا لأهل الدنيا لخشيتهم من المصير المجهول، أما أهل الآخرة من الكفار فإن الموت لم يكن هماً لهم، بل هو راحة يتمنونه، كما قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] لذلك فالأولى تفسيره بقول ابن عباس (، قال: أي أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم؛ ليس مها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، انظر: "ابن كثير" 2/ 579، و"الدر المنثور" 4/ 139 وعزاه إلى ابن أي حاتم. والغريب عدم إيراده لهذا القول عن ابن عباس كما التزم، وهو قريب من الوجه الثاني الذي أورده عن أهل المعاني.

عين الموت ثم لا يموت، وقد قال الله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}. والمعنى: أن الله تعالى حبس نفس الكافر في جسده على اجتماع آلام الموت وأفانِينِه (¬1) عليه ليصل إليه الألم، ومع ذلك لم يفارقه الروح فيستريح، الوجه الثاني: أنه أراد بالموت هاهنا: موت الضُّر والبلاء؛ كما يقال: فلان ميت مما لحقه، ومات فلان موتات بما أباح (¬2) عليه من البلية؛ يعني: إنه كالميت وإن كان فيه روح، كما ورد في الحديث: "إن الفقر مكتوب عند الله الموت الأعظم" (¬3) وقد قال الشاعر (¬4): ليس مَنْ مَاتَ فاسْتَرَاحَ بمَيتٍ ... إنَّما الميتُ ميتُ الأحْيَاءِ إنَّما الميتُ مَنْ يَعيشُ كَئِيبًا ... كاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّخَاءِ (¬5) فجعله ميتًا، وهذا قول أبي بكر، وهو معنى قول الأخفش؛ يعنىِ: البلايا التي تصيب الكافر في النار (¬6). ¬

_ (¬1) ضُرُوبه وأنواعه. المحيط في اللغة (فن) 10/ 315. (¬2) البَوْحُ: ظهور الشيء، وباحَ الشيء: ظهر، وأباح الشيء: أطلقه "اللسان" (بوح) 1/ 384. (¬3) لم أجده بلفظه ولا بمعناه فيما تيسر لي من المراجع. (¬4) هو عدي بن الرَّعْلاء الغساني (شاعر جاهلي). (¬5) ورد البيتان معاً في "الأصمعيات" ص 152، و"معجم الشعراء" ص 77، شرح شواهد "المغني" 1/ 405، وورد البيت الأول فقط في "البيان والتبيان" 1/ 124، و"الحيوان" للجاحظ 6/ 135، و"العقد الفريد" 5/ 476، و"الاشتقاق" ص 51، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 124، و"شرح المفصل" 10/ 69، و"الخزانة" 6/ 530، ورواية "معجم الشعراء" (الرخاء) بالخاء، وفي باقي المصادر (الرجاء) بالجيم، ولا يختلف المعنى، (كاسفاً): سيئاً حاله، وقد ورد اليتان في شأن من تدعه الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل والخزي، فحياته ليس إلا موتًا. (¬6) ليس في معانيه، وقد ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 148 ب بنصه، وانظر: "تفسير =

وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} قال ابن عباس: يريد من كل شعرة في جسده (¬1). وقال الثوري: من كل عِرْق (¬2)، وهذا قول أكثر المفسرين: جعلوا المكان من جسده (¬3)، وروى عن ابن عباس في قوله من كل مكان: أي من كل جهة؛ من عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته، ومن قدامه وخلفه (¬4). وقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أمامه يوم القيامة (¬5). ¬

_ = ابن الجوزي" 4/ 354، و"تفسير القرطبي" 9/ 352، وأبي حيان 5/ 413، و"تفسير الشوكاني" 3/ 144، و"الألوسي" 13/ 203، و"صديق خان" 7/ 99، وقد أنكر أبوحيان والألوسي هذا القول؛ بحجة أن سياق الكلام عن أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها. وهذا غير مسَّلم لهما؛ لأن ما يلقاه الكافر في نار جهنم من أنواع العذاب هي من البلايا والآلام التي تصيبه، لكن لا على سبيل الابتلاء والامتحان؛ لأن ذلك زمنه الدنيا وقد ولَّى. (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" 1/ 214 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 353. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 314، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 353. (¬3) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للفراء 2/ 72، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 236، "تفسير الطبري" 13/ 196، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 523، و"تفسير السمرقندي" 2/ 203، والثعلبي 7/ 148 ب، والماوردي 3/ 128. (¬4) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 72 بنحوه من طريق الكلبي ضعيفة، و"تفسير الماوردي" 3/ 128 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 354، و"تفسير القرطبي" 9/ 352، و"الألوسي" 13/ 202. (¬5) ورد بنحوه غير منسوب في: "الطبري" 13/ 196، والثعلبي 7/ 148 ب، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 523، و"المشكل" لمكي 1/ 446، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 342، و"القرطبي" 9/ 352، و"الخازن" 3/ 74.

18

وقال الكلبي: يقول من بعد الصديد عذاب غليظ (¬1)، وهذا اختيار أبي إسحاق وأبي بكر؛ قال أبو إسحاق: أي ومن بعد ذلك (¬2)، وقال أبو بكر: ومن بعد هذا العذاب المذكور عذاب غليظ (¬3)، ومعنى غِلَظِ العذاب: اتصال الآلام وكثرتها؛ كالشيء الغليظ الذي كثر أجزاؤه وتكاثف، كما قلنا في: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] 18 - قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. اختلفوا في الرفع للمثل، فقال الزجاج: هو مرفوع على معنى: وفيما يتلى عليكم (¬4)، وهذا مذهب سيبويه (¬5). وقال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتمادًا على ذكره بعد المضاف إليه، وذلك أن العرب تقدِّم المضاف إليه لأنه أعرف (¬6)، ثم يأتي بالذي يخبر به عنه معه ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 314 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 354 بنصه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157 بنصه. (¬3) لم أقف على مصدره، وقد بين ابن الأنباري في هذا القول أن الضمير في ورائه يعود على العذاب المتقدم، وقد ورد هذا القول بلا نسبة في: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 180، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 446، و"تفسير ابن عطية" 8/ 220، و"البيان في غريب الإعراب" 2/ 56، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 354، وأبي حيان 5/ 413، و"الدر المصون" 7/ 81. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157 بنصه، والتقدير - كما بيّنه: وفيما يتلى عليكم مثلُ الذين كفروا بربهم، أو مثلُ الذين كفروا بربهم فيما يتلى عليكم. (¬5) "الكتاب" 1/ 143، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 180 - 181، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 447، "تفسير أبي حيان" 5/ 414، و"الدر المصون" 7/ 81. (¬6) لأن المضاف غالباً ما يكون نكرة، وتكون غامضةً ومبهمةً، فيزيل المضاف إليه الغموض ويوضحه.

كهذه الآية، ألا ترى أنه قدَّم (الذين) ثم ذكر بعده الأعمال مضافة إلى الكناية عن الذين؛ كقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي: خَلْقَ كُلِّ شيء، ومثله قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] المعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودَّة (¬1)، وفي هذا أقوال ووجوه ذكرناها مستقصاة في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [آية: 35] في سورة الرعد. وقوله تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} قال الليث: الرَّمادُ دُقاق الفحم من حراقةِ النار، وصار الرَّمادُ رمادًا إذا صار هباءًا أدق ما يكون (¬2)، ورمَّد اللحمَ، إذا ألقاه في الرماد (¬3)، ومنه المثل: شَوى أَخُوك حتى إذا أنْضَجَ رَمَّدَ (¬4). وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} قال ابن السِّكِّيت: عصفت الريح وأعصفت، فهي ريح عاصف ومُعْصِفة إذا اشتدت (¬5)، وقال الزجاج في باب الوفاق: عَصَفَت الرِّيحُ عُصُوْفًا وأعْصَفت إعصافًا، إذا اشتد هبوبها (¬6)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 72، مختصراً، ووردت في "تفسير الثعلبي" 7/ 148 ب بنحوه، والظاهر أنه نقلها عن الثعلبي وبسطها. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (رمد) 2/ 1466 بنصه. (¬3) انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 639. (¬4) ورد في "جمهرة اللغة" 2/ 639، و"الأمثال" لابن سلاَّم 66، و"مجمل اللغة" 1/ 398، و"المحيط في اللغة" (رمد) 9/ 308، و"مجمع الأمثال" 1/ 360، و"اللسان" 3/ 1726، وُيروى هذا المثل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويضرب للرجل يصنع المعروف ثم يفسده بالمنِّ والأذى، ويضرب أيضاً للذي يبتدئ بالإحسان ثم يعود عليه بالإفساد. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (عصف) 3/ 2463 بنصه. (¬6) "فعلت وأفعلت" ص 65 بنصه.

قال الفراء: جعل العُصوْفَ تابعًا لليوم في إعرابه (¬1)، وإنما العُصُوف للرياح، وذلك جائز على وجهين: أحديهما (¬2): أن العُصُوْفَ وإنْ للرِّيح فإن اليوم قد يُوصَفُ به؛ لأن الريح تكون فيه، فجائز أن يقول: يومٌ عاصفٌ (¬3)؛ كما يقال: يومٌ باردٌ، ويومٌ حارٌ، والبرد والحر فيهما (¬4)، وقال أبو عبيدة: العرب تفعل ذلك في الظرف، وأنشد لجرير: لَقَد لُمْتِنا يا أُمَّ غَيْلان في السُّرَى ... ونِمْتِ وما لَيْلُ الْمَطِيِّ بنائِم (¬5) فوصف الليل بالنوم لَمّا كان فيه، ومثله: يوم ماطر، وليلة ماطرة (¬6)، وقال أبو حاتم: هذا من كلام العرب، قال الله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} [سبأ: 33] أضاف إليهما وهما لا يمكران (¬7)، وقال: {وَالنَّهَارِ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (إغوائه)، والتصويب من المصدر. (¬2) في (د): (إحداهما). (¬3) والتقدير: في يوم عاصفٍ ريحُه، ثم حذف "ريحه" للعلم به وجُعلت الصفة لليوم. انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 447، و"البيان في غريب الإعراب" 2/ 57، و"الفريد في الإعراب" 3/ 155. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 73 بتصرف، وانظرت الطبري 13/ 197، و"تهذيب اللغة" (عصف) 3/ 2463. (¬5) "ديوان جرير" ص 454، وهو من قصيدة قالها يجيب بها الفرزدق. وورد في: "الكتاب" 1/ 39، و"مجاز القرآن" 1/ 39، و"الكامل" للمبرد 1/ 135، 219، و"الخزانة" 1/ 465، وورد غير منسوب في: "المقتضب" 3/ 105، 4/ 331، و"الكامل" 2/ 1356، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 53، 2/ 29. (أم غيلان) هي بنت جرير، (المطي) جمع مطيّة؛ وهي الراحلة التي يمتطى ظهرها [أي تركب]، (السُّرى) سير الليل. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 339، بتصرف يسير. (¬7) لم أقف على مصدره، ومعنى الآية: بل مَكْرُكُم بنا في الليل والنهار. انظر: "الكامل" للمبرد 1/ 135، و"معاني القرآن وإعرابه" 4/ 254، و"تفسير ابن الجوزي" 6/ 457.

مُبْصِرًا} (¬1) [يونس: 67] ومنه قول جرير: وأعْوَرَ من نَبْهان أمّا نَهارُهُ ... فأعْمَى وأمّا لَيْلُهُ فبصِيرُ (¬2) قال الفراء: والوجه الآخر (¬3) أن يريد: في يومٍ عاصفِ الريح، فَيَحذِف الريح؛ لأنها قد ذُكرت (¬4) في أول الكلام، كما قال (¬5): إذا جاء يومٌ مُظلِمُ الشمسِ كاسفُ (¬6) يريد كاسف الشمس؛ فحذفه لأنه قَدَّم ذكره، ومضى مثل هذا في قوله: {بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] قال الزجاج وغيره: تأويله أن كل ما تقرَّب به الذين كفروا إلى الله فمُحْبَطٌ (¬7)؛ غير منتفع ¬

_ (¬1) أي مضيئاً تبصرون فيه، وإنما أضاف الإبصار إليه؛ لأنه ظرف يُفعل فيه غيره. انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 46. (¬2) "ديوان جرير" ص 203. (¬3) أي من كلام الفراء في جَعْل العُصُوف تابعاً لليوم في إعرابه، وقد فصل بين الوجهين بإقحام كلام أبي عبيدة وأبي حاتم لتوضيح الوجه الأول، ولما طال الفصل أعاد نسبة الكلام إلى الفراء. (¬4) في (أ)، (د)، (ع): (ذكر)، والمثبت من ش وهو الأنسب للسياق. (¬5) في جميع المصادر بدون نسبة، وذكر شاكر محقق تفسير الطبري 13/ 197 أن البيت لمسكين الدارمي لكن الرواية التي أوردها في 7/ 520 ليس فيها الشاهد، وهي: إذا جاء يومٌ مظلمُ اللون كاسفُ (¬6) وصدره: ويَضْحَكُ عِرْفان الدُّروعِ جُلُودُنا ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء 2/ 74، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 354، و"الخزانة" 5/ 89، وورد عَجُزُه في "تهذيب اللغة" (عصف) 3/ 2463، و"تفسيرالطبري" 13/ 197، و"تفسير القرطبي" 9/ 353، و"العباب الزاخر" [ف/ ص 439]، و"اللسان" (عصف) 5/ 2973. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 157 بنصه.

19

به (¬1)؛ لأنهم أشركوا فيها غير الله؛ كالرماد الذي ذرَّته الريح وصار هباءً لا ينتفع به، وذلك قوله: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا} أي: في الدنيا، {عَلَى شَيْءٍ}: في الآخرة، قال ابن عباس: يريد لا يجدون ثواب ما عملوا (¬2). وقوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} قال ابن عباس: يريد الخسران الكبير (¬3)، وعلى هذا يعني بالضلال: ضلالَ أعمالهم وهلاكَها وذهابها، وإذا ذهبت أعمالُهم ذهابَ الرمادِ في عُصوف الريح، فقد كَبُرَ خسرانُهم، ومعنى {الْبَعِيدُ} هاهنا: الذي لا يُرْجَى عَوْده، فهو بعيد من العود؛ لذهابه على الوجه الذي ذُكر، وقال الكلبي (¬4): الخطاء الطويل (¬5)، فعلى هذا المراد بالضلال هاهنا ضلال الكفار كقوله: {ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 167] أي بعيد من الهدى والرجوع عنه. 19 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. معنى: {أَلَمْ تَرَ} هاهنا التنبيه (¬6) على خَلْق السموات والأرض، وقرأ حمزة والكسائي: {خَالِقَ السَّمَاوَاتِ} على فاعل (¬7) فمن قرأ: ¬

_ (¬1) (به) ساقط من (أ)، (د). (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 315 بنصه، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" 3/ 129، و"تفسير القرطبي" 9/ 354. (¬3) ورد غير منسوب في "تفسير القرطبي" 9/ 354، و"الخازن" 3/ 74. (¬4) "الكلبي" ساقط من (د). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لأن الرؤية علمية وليست بصرية. انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 203، وابن عطية 8/ 223، و"تفسير القرطبي" 9/ 354. (¬7) انظر: "السبعة" ص 362، و"إعراب القراءات وعللها" 1/ 334، و"الحجة في القراءات" 203، و"علل القراءات" 1/ 287، و"الحجة للقراء" 5/ 28، و"حجة القراءات" 376، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 25، و"التبصرة" 558.

{خَلَقَ} (¬1) أخبر بلفظ الماضي على فَعَل؛ لأن ذلك أمرٌ ماض، ومن قرأ: {خَالِقُ} قال هو كقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 1]، وقوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] وكل هذا مما قد فُصِّل ومَضى، ومعنى قوله: {بِالْحَقِّ} ذكرنا الكلام فيه عند قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} في سورة يونس [آية: 5]. وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} قال ابن عباس والكلبي: يريد أُمِيْتُكم يا معشر الكفار وأخلق قومًا غيركم خيرًا منكم وأطوع، وهو خطاب لأهل مكة (¬2). وقال أهل المعاني: دلّ بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (على قدرته على الإهلاك والإذهاب؛ لأنه إذا قَدر على خلق السموات والأرض) (¬3) قدر على إذهابهم بالهلاك؛ لأن من قدر على الإيجاد قدر على الإفناء (¬4)، وأما الجديد، فمصدره الجِدَّة، ويقال: أجَدَّ ثوبًا واسْتَجدَّه، إذا اتخذه جديدًا (¬5) وأصله من قولهم: قُطع عنه العمل في ابتداء أمره، وقال المازني في قوله (¬6): ¬

_ (¬1) هم ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم. انظر المصادر السابقة. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 316 بنصه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 355، والفخر الرازي 19/ 106، فيهما عن ابن عباس، ولم أقف عليه منسوبًا للكلبي. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬4) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 287 بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 298، و"الفخر الرازي" 19/ 106، وأبي السعود 5/ 41. (¬5) انظر: (جد) في "العين" 7/ 6، و"تهذيب اللغة" 1/ 555، و"المحيط في اللغة" 6/ 392، و"اللسان" (جدد) 1/ 562. (¬6) البيت للنابغة الذبياني.

20

أرَسْمًا جَدِيدًا من سُعادَ تَجَنَّبُ (¬1) أراد بالجديد المقطوع الأثر لدروسه (¬2)، وفي ذكر الجديد في الآية دليل على أنه (¬3) ذلك الخلق الذي يأتي بهم جديدًا هم أفضل من الأول وأطوع لله، كما قال المفسرون (¬4)؛ لأنهم لو كانوا كالأول في العصيان لم يكن فائدة في إذهابهم والإتيان بغيرهم. 20 - قوله تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} قال ابن عباس: يريد لا يعز عليه شيء يريده (¬5). قال الكسائي: ليس يعز على الله أن يميتكم ويأتي بغيركم (¬6). وقال أهل المعاني: أي: لا يمتنع على مَنْ قَدَر على خَلْق السموات ¬

_ (¬1) وعجزه: عفَتْ روضةُ الأجداد منها فَيثْقُبُ "ديوان النابغة الذبياني" ص 143، وورد في "معجم البلدان" 5/ 431، "التاج" (ثقب) 1/ 338. (الرسم): هو الأثر، (عفت): محت، (يثقب) أي الريح تخرقه فتعفوا آيه؛ أي تمحو آثاره، وقيل: (يثقُبُ) اسم موضع بالبادية، والبيت من قصيدة قالها يصف حوادث الدهر وصروفه في أهله، يقول: ما بالك تحاذر المرور بديار سعاد بعد أن خرّقتها الريح وعفت آثارها. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هكذا في جميع النسخ: (أنه)، والأظهر: (أن). (¬4) ورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 204، والثعلبي 7/ 149 ب، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 343، و"تفسير القرطبي" 9/ 354، و"الخازن" 3/ 74، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 525. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 316 بنصه. (¬6) لم أقف عليه منسوباً إلى الكسائي، وأورده المؤلف بنصه ونسبه للكلبي في "الوسيط" 1/ 316.

21

والأرض أن يذهبكم ويأتي بخلق سِواكم (¬1)، ومضى الكلام في معنى العزيز، ومعناه هاهنا: الممتنع بقوته. 21 - قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} برز معناه في اللغة: ظهر بعد الخفاء، ومنه يقال للمكان الواسع البَرازُ؛ لظهوره (¬2)، وقيل في قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47] أي: ظاهرة بلا جبل ولا تل يستر ما وراءه (¬3)، وامرأة بَرْزَةٌ، إذا كانت تظهر للناس (¬4)، وقد جاء برز بمعنى أبْرَزَ في قول لبيد: النّاطِقُ المَبْروزُ والمختُومُ (¬5) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في كتب المعاني المتوفرة، وورد نحوه في: "تفسير الطبري" 13/ 199، و"الطوسي" 6/ 287، وابن عطية 8/ 223، و"ابن الجوزي" 4/ 355، و"الفخر الرازي" 19/ 106، و"الخازن" 3/ 75، وابن كثير 2/ 580. (¬2) انظر: (برز) في "العين" 7/ 364، و"تهذيب اللغة" 1/ 310، و"مقاييس اللغة" 1/ 218، و"اللسان" 1/ 255، و"التاج" 8/ 9. (¬3) انظر: "برز" في "التهذيب" 1/ 310، و"اللسان" 1/ 255، و"التاج" 8/ 9. (¬4) المصادر السابقة نفسها. (¬5) وصدره: أو مُذْهَبٌ جَدَدٌ على ألواحهن "شرح ديوان لبيد" ص 119، وورد في (برز) في "العين" 7/ 364، و "تهذيب اللغة" 1/ 310، و"مقاييس اللغة" 1/ 218، و"اللسان" 1/ 255، و"التاج" 8/ 9، ورواية غير الديوان: (ألوحة)، (مُذْهب) اللوح عليه ذهب، (الجدد) جمع جُدَّة، وهي الطرائق، (الناطق) الكتاب، (المبرز) الظاهر، وقيل: المكتوب والمنشور، (المختوم) غير الظاهر، وقيل: الذي لم ينشر. قال أبو الحسن: هو لوح ضمت إليه ألواح من جوانبه، كانوا يضعون عليه الكتب تعظيماً للملك، لا تمسه إلا يد الملك، يأخذ ما شاء ويترك ما شاء.

قال ابن هانىء (¬1): يقال: بَرزته برزًا، بمعنى (¬2) أبْرزْتُه برْزًا (¬3)، ويقال: قد بَرَزَ فلان على أقرانه، إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل؛ إذا سبق أحدها قيل قد بَرَّز عليها (¬4)، كأنه خرج من غمارها فظهر. قال ابن عباس في قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} يريد: في البعث يوم القيامة (¬5). قال المفسرون: خرجوا من قبورهم (¬6) وورد هذا بلفظ المضي وإن كان معناه الاستقبال، لتحقق كونه (¬7) كما ذكرنا في قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50]، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44]؛ لأنه أصدَق وقوعَه؛ كأنه قد وقع وأتى، ومعنى {اللَّهُ} اللام هاهنا لام أجل، وتأويله: ¬

_ (¬1) عبد الله بن محمد بن هانىء، أبو عبد الرحمن النحويّ النيسابوري، صاحب الأخفش، كان عارفاً بعلم الأدب، بصيراً بالنحوّ، له كتاب كبير في نوادر العرب وغرائب ألفاظها، وفي المعاني والأمثال، توفي سنة 236 هـ. انظر: مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 44، و"إنباه الرواة" 2/ 131، و"البغية" 2/ 61. (¬2) في (أ)، (د): (برز المعنى)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الإنسب للسياق. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (برز) 1/ 310 وعبارته، قال ابن هانئ: أبرزتُ الكتاب: أخرجته، فهو مَبْروز. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (برز) 1/ 310 بنحوه. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 316 بنحوه. (¬6) ورد في "تفسيرالطبري" 13/ 199 بنحوه، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 182 بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 204، بنصه، و"الثعلبي" 7/ 149 ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 343، و"ابن الجوزي" 4/ 356، و"الفخر الرازي" 19/ 107، و"تفسير القرطبي" 9/ 355، و"الخازن" 3/ 75. (¬7) انظر: "الزمخشري" 2/ 298، و"الرازي" 19/ 107، و"الفريد في الإعراب" 3/ 156.

لأجل أمر الله إيّاهم بالبروز (¬1). وقال أبو إسحاق: أي جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع (¬2)، {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} قال ابن عباس: يريد الأتباع لأكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله (¬3)، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ} أي: في الدنيا {لَكُمْ تَبَعًا}، قال الفراء وأبو عبيدة وجميع أهل العربية: التَّبَعُ جمع تابع مثل: خادم وخَدَم، وغائب وغَيَب، ونافر ونفَر، وحارس وحَرَس، وراصد ورَصَد (¬4). قال الزجاج: وجائز أن يكون مَصْدرًا سُمَّي به، أي: كنا ذوي تبع (¬5). {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} قال ابن عباس: فهل أنتم دافعون عنا من عذاب الله) (¬6)، {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} يريدون أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، ولو هداهم الله لدعوهم إلى الهدى، هذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" 9/ 355. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158 بنصه. (¬3) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 316. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 339، مختصراً، ولم أجده في معاني القرآن للفراء،، وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158، و"تفسير الثعلبي" 7/ 149 ب. وانظر: "المحكم" (تبع) 2/ 42، و"تفسير الزمخشري" 2/ 298، وابن الجوزي" 4/ 356، والفخر الرازي 19/ 108، و"الفريد في الإعراب" 3/ 157، و"اللسان" (تبع) 1/ 416، و"الدر المصون" 7/ 85، و"التاج" (تبع) 11/ 37. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158 بنصه، وانظرت "الفريد في الإعراب" 3/ 157. (¬6) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 316 بنصه غير منسوب، وما بين القوسين ساقط من (د).

22

قال ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم (¬1). وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} إلى آخره، قال الزجاج: {سَوَاءٌ} ابتداء، و {أَجَزِعْنَا} في موضع الخبر (¬2)، والكلام في هذا قد سبق في قولى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، وذكرنا معنى المحيص في قوله: {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 121]. 22 - قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} الآية. قال المفسرون: إذا استقر أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار، اجتمع أهل النار باللائمة على إبليس لعنه الله، فيقوم فيما بينهم خطيبًا ويقول ما أخبر الله تعالى بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} الآية. (¬3) قال أبو إسحاق: ذكر الله أمر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 109 بنصه، وورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 316، وتفسيره "الوجيز" 1/ 581، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 356. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 158/ 3 بنصه (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 192 ب بنحوه، وأخرجه الطبري 13/ 200 - 201 بنحوه عن الشعبي والحسن والقرظي، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158 بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 204 بنحوه عن الحسن، و"الماوردي" 3/ 130، مختصراً عن الحسن، و"الثعلبي" 7/ 150 أ، بنحوه عن مقاتل، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 141، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن، وأخرجه الطبري 13/ 201، مرفوعاً بمعناه عن عقبة بن عامر (ضمن حديث الثمفاعة مختصراً، وأخرجه الطبراني في "الكبير" 17/ 320، من طريق عقبة بن عامر بمعناه وأورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 376، وقال: وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 140، وزاد نسبته إلى ابن المبارك في الزهد، ولم أجده وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر بسند ضعيف عن عقبة، وحكم عليه شاكر في تحقيق الطبري بالضعف، وقال: وهذا خبر ضعيف الإسناد لا يقوم. وعلى هذا فدعوى قيام إبليس خطيباً في أهل النار على منبر من نار لا تصح لكونها موقوفة على الحسن والشعبي والقرظي، ولا يقبل قولهم المجرد في مثل هذه القضية الغيبية، والطريق الموصول الذي فيه إشارة لهذه الدعوى - ضعيفٌ لا تقوم به الحجة، فالله أعلم بكيفية هذا الحوار والنقاش بين إبليس وأهل النار.

إبليس وما يقوله في القيامة تحذيرًا من إضلاله وإغوائه (¬1). وقوله تعالى: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْر} قال ابن عباس: يريد حين قضى الله بين العباد؛ فصار أهل الجنّة إلى منازلهم وكرامتهم، وأمَرَ بأهل جهنّم إلى العذاب (¬2)، وقال الضحاك: فُرغ من الأمر (¬3)، وهو معنى قول ابن عباس. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} قال مقاتل: يعني كون هذا اليوم فَصَدَقكم (¬4) وعْده، ووعدتكم أنه غير كائن فأخلفتكم (¬5)، وقال أبو إسحاق: أي وعد من أطاعه الجنّة ووعد من عصاه النار، ووعدتكم خلاف ذلك (¬6). وقوله تعالى: {وَعْدَ الْحَقِّ} هو من باب إضافة الشيء إلى نَعْته كقوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] ومسجد الجامع، على قول الكوفيين، والمعنى: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158 بنصه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 271 بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "الغريب" لابن قتيبة 236، و "تفسير الطبري" 13/ 200، والسمرقندي 2/ 204، والثعلبي 7/ 150 أ، وابن عطية 8/ 226، والفخر الرازي 19/ 110. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (د): (فصدَّكم). (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 192 ب، بتصرف يسير. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158 بنصه.

وعدكم الوعدَ الحقَ (¬1)، وعلى مذهب البصريين يكون التقدير: وعْدَ اليومِ الحقِ، أو الأمر الحق (¬2)، أو يكون التقدير: وعدكم الحق ثم ذكر المصدر تأكيدًا وفيه إضمار؛ لأن تلخيصه: وعدكم وعد الحق فصدقكم، وحُذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد والوفاء به، ولأنه ذكر في ¬

_ (¬1) الكوفيون يجوِّزون إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، وحجتهم أن ذلك ورد كثيرًا في كتاب الله وكلام العرب، وقد قرّر هذه المسألة الفراء في عدة أماكن من معانيه، كما في قولى تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] فأضيفت الدار إلى الآخرة وهي الآخرة، وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، والحق هو اليقين. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 330، 2/ 55، 3/ 76، راجع هذه المسألة في "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 347، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 319، و"الإنصاف" ص 352، و"البيان في غريب الإعراب" 2/ 525، 385، 45، و"البسيط شرح جمل الزجاجي" 2/ 1086، و"الدر المصون" 4/ 600، و"همع الهوامع" 4/ 276. (¬2) ذهب البصريون إلى منع إضافة الموصوف إلى صفته؛ بحجة أن الإضافة إنما يراد بها التعريف والتخصيص، والشيء لا يتعرف بنفسه؛ لأنه لوكان فيه تعريف لكان مستغنياً عن الإضافة، وإن لم يكن فيه تعريف كان بإضافته إلى اسمه أبعد من التعريف، وتأولوا شواهد الكوفيين وأزالوا ما يوهم إضافة الموصوف إلى صفته، بحمله على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه، وعليه فتقدير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي: حق الأمرِ اليقين، وقوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} تقديره: ولدارُ الساعةِ الآخرةِ. انظر الأصول في النحو 2/ 8، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 347، و"الإيضاح العضدي" (283)، و"الخصائص" 3/ 24، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 319، 355، 490، و"الإنصاف" ص 352، و"البيان في غريب الإعراب" 2/ 525، 385، 45، و"شرح المفصل" 3/ 10، و"تفسير أبي حيان" 5/ 353، و"الدر المصون" 4/ 600، ويترجح في هذه المسألة قول الكوفيين؛ لصراحة أدلتهم التي ذكروها ولم تفتقر إلى التأويل الذي ذهب إليه البصريون؛ وما لا يحتاج إلى تأويل أولى بما يحتاج إلى تأويل.

وعد الشيطان الإخلافُ، فدل ذلك على الصدق في وعد الله. وقوله تعالى: {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الوعد يقتضي مفعولًا ثانياً، وحُذف هاهنا للعلم به والتقدير: ووعدتكم أن لا جنّة ولا نار ولا حشر ولا حساب فأخلفتكم. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} قال ابن عباس: يريد من حجة أحتج بها عليكم، أي: بما أظهرت لكم حجة (¬1)، {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} هذا من الاستثناء المنقطع؛ أي: لكن دعوتكم {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (¬2) قال: يريد فصدقتموني وقبلتم مقالتي، وقال أبو إسحاق: أي أغويتكم وأضللتكم فاتبعتموني (¬3)، {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} حيث أجبتموني وطاوعتموني من غير سلطان ولا برهان، قال أهل المعاني: ولَوْم النفس يصح على الإساءة كما يصح حمدها على الإحسان (¬4)، كما قال (¬5): ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 271، بمعناه، وورد بمعناه غير مشوب في "تفسير الثعلبي" 7/ 150 أ، والبغوي 4/ 345، وابن الجوزي 4/ 357، و"تفسير القرطبي" 19/ 356، وابن كثير 2/ 581. (¬2) هذا ما ذهب إليه معظم المفسرين؛ أن الاستثناء منقطع؛ لأن الدعاء ليس من جنس السلطان. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 200، والثعلبي 7/ 150 أ، و"البغوي" 4/ 345، وابن عطية 227/ 8، وابن الجوزي 4/ 357، والفخر الرازي 19/ 111، و"الإملاء" 2/ 86، و"الفريد في الإعراب" 3/ 157، و"تفسير القرطبي" 9/ 356، وأبي حيان 5/ 418، و "الدر المصون" 7/ 88. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 158 بنصه. (¬4) لم أقف على هذا القول في كتب المعاني ولا كتب اللغة، وهي قضية بدهية ظاهرة لا خلاف حولها، ولا أدري ما وجه الغرابة في لوم النفس على الإساءة حتى يستشهد على ذلك بالبيت. (¬5) القائل هو الحارث بن خالد المخزومي، أحد شعراء قريش المعدودين الغزليين. "الأغاني" 3/ 308.

صَحِبْتُك إذ عَيْنِي عليها غِشَاوةٌ ... فلما انْجَلَتْ قطَّعْتُ نَفْسِي ألُومُها (¬1) وقوله تعالى: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} قال ابن عباس: يريد بمغيثكم ولا منقذكم (¬2) وهو قول الجميع (¬3). وقال ابن الأعرابي: المصارخ (¬4) المُسْتَغيث، والمُصْرِخُ المُغِيثُ (¬5)، يقال: صرخ فلان، إذا استغثاث وقال: واغوْثاه، وأصرختُه: أغثته، وقال الفراء: أصرخْتُ الرجل، إذا أغثته إصْراخًا، وقد صَرَخَ الصَّارخ يَصْرَخُ، ويَصْرُخُ لغة قليلة، صَرْخًا وصُرَاخًا (¬6). ¬

_ (¬1) ورد في "مجاز القرآن" 1/ 31، و"العقد الفريد" 1/ 303، و"الأغاني" 3/ 314، و"تفسير القرطبي" 9/ 191، و"اللسان" (غشا) 6/ 3261، و"الدر المصون" 1/ 115، ورواية المجاز والدر: (تبعْتُك) بدل (صَحِبْتُك). (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 114 بنصه، و"تنوير المقباس" ص 271 بنصه. (¬3) ورد بلفظه في: "مجاز القرآن" 1/ 339، و"غريب القرآن وتفسيره" لليزيدي 197، و"تفسير الطبري" 13/ 200، و"جهرة اللغة" 1/ 586، و"تهذيب اللغة" (صرخ) 4/ 1999، و"تفسير المشكل" لمكي ص 214، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 345، و"تذكرة الأريب في تفسير الغريب" ص 279، و"تفسير أبي حيان" 5/ 419، و"عمدة الحفاظ" 2/ 382. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولم أقف على هذا التصريف في المصادر اللغوية التي رجعت إليها والذي ذكره المصدر ومصادر اللغة (الصَّارخ) فلعله من تصحيف النساخ. انظر (صرخ) في "تهذيب اللغة" 2/ 1999، و"المحيط" 4/ 145، و"مقاييس اللغة" 3/ 348، و"الصحاح" 1/ 426، و"اللسان" 4/ 2426، و"التاج" 4/ 287. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (صرخ) 2/ 1999 بنصه ونسبه الأزهري لأبي الهيثم. (¬6) لم أقف عليه، والظاهر أنه من كتابه "المصادر" المفقود.

وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ} القراءة الصحيحة فتح الياء (¬1) وهو الأصل (¬2). قال الزجاج: وذلك أن [ياء] (¬3) الإضافة إذا لم يكن قبلها ساكن حُرِّكتْ إلى الفتح؛ نحو غلاميَ، وذلك أن الاسم المضمر لمّا كان علي حرف واحد وقد منع الإعراب، حرِّك بأخف الحركات (¬4)، ويجوز إسكانها (¬5)، لثقل (¬6) الياء التي قبلها كسرة (¬7)، وإذا كان قبل الياء ساكن حرَّكت إلى الفتح لا غير (¬8)، لأن أصلها أن تحرك ولا ساكن قبلها، فإذا ¬

_ (¬1) هي قراءة الجمهور ماعدا حمزة، ولو وصفها بقراءة الأكثرين لكان أحسن؛ لأن وصفه لها بالصحة يوهم تبنِّيه لدعوى بعض النحويين في تضعيف قراءة حمزة، مع أنه رد عليهم في آخر المسألة. انظر: "السبعة" ص 362، و"إعراب القراءات وعللها" 1/ 335، و"الحجة في القراءات" ص 203، و"علل القراءات" 1/ 288، و"الحجة للقراء" 5/ 28، و"المبسوط في القراءات" ص 217، و"حجة القراءات" ص 377، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 26، و"تلخيص العبارات" ص 108، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 710، و"الإتحاف" ص 272. (¬2) تخصيصه قراءة الجمهور دون حمزة بهذا الوصف غير جيد أيضاً؛ لأنه يشعر بالتقليل من شأن قراءة حمزة وهي قراءة سبعية لا فرق بينها وبين القراءات الأخرى، ولأن الأصل في القراءة الرواية وليس القياس، فهي سنة متبعة وليس قواعد نحوية مقنَّنَه، ويقصد بالأصل: أي عند النحويين كما صرّح بذلك الأزهري في "شرح التصريح على التوضيح" 2/ 60. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر ليستقيم الكلام. (¬4) وهي الفتحة. (¬5) أي الياء. (¬6) في جميع النسخ (لنقل)، والتصويب من المصدر. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 159، نقله بتصرف يسير. (¬8) وهذه حجتهم النحوية في رد قراءة حمزة؛ حيث قالوا إن أصل (مصرخيّ) مصرخين جمع مصرخ، أضيف لياء اليكلم فصارت (بمُصْرِخِيني) وحذفت النون للإضافة =

كان قبلها ساكن صارت حركتُها لازمةً لالتقاء الساكنين؛ نحو: {هُدَايَ} [طه: 123]، و {وَمَحْيَاىَ} [الأنعام: 162]، و {عَصَايَ} [طه: 18] ونحو هذا قال الفراء (¬1)، وقراءة حمزة {بِمُصْرِخِيَّ} بكسر الياء (¬2) وهو (¬3) قراءة الأعمش (¬4) ويحيى بن وثاب (¬5). ¬

_ = فاجتمعت ياء الجمع -وهي ساكنة- وياء الإضافة، فلو سكناها لاجتمع ساكنان بمصرخِيْيْ فتعين الفتح، فلما اجتمع مِثْلان: الأول ساكن، والثاني متحرك وجب الإدغام، فصارت ياءً مفتوحة مشددةً انظر: "إعراب القراءات وعللها" 1/ 335، و"حجة القراءات" ص 377، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي 1/ 448، و"الإملاء" 2/ 68و"سراج القارىء" ص 265. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 75. (¬2) انظر: "السبعة" ص 362، و"إعراب القراءات وعللها" 1/ 335، و"علل القراءات" 1/ 288، و"الحجة للقراء" 5/ 28، و"حجة القراءات" ص 377، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 26، و"تلخيص العبارات" ص 108، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 709، و"الإتحاف" ص 272. (¬3) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي أن تكون (وهي) لأن الضمير يعود على القراءة، وهي مؤنثة. (¬4) انظر: "علل القراءات" 1/ 289، و"الحجة للقراء" 5/ 29، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 710، و"إبراز المعاني" 3/ 293، و"سراج القارىء" ص 265، و"النشر" 2/ 299، و"الإتحاف" ص 272. (¬5) انظر: "الحجة للقراء" 5/ 29، و"إبراز المعاني" 3/ 293، و"سراج القارىء" 265، و"النشر" 2/ 299، ويحيى بن وثاب هو: الإمام القدوة المقرىء، شيخ القراء بالكوفة في زمانه، تابعي ثقة حدّث عن ابن عباس وأبي هريرة، أخذ القراءة عن علقمة ومسروق، وأخذ عنه الأعمش، كان حسن الصوت بالقراءة، مات (103 هـ). انظر: "غاية النهاية" 2/ 380، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 380، و"تقريب التهذيب" 598 ص (7664).

قال الفراء: ولعلها من وهْم القُرَّاء (¬1) فإنه قلَّ من سَلم منهم من الوهْم، ولعله ظن أن الباءَ (¬2) في {بِمُصْرِخِيَّ} خافضةٌ للحرف كله، والياء من المتكلم خارجةٌ من ذلك، ومما يرى أنهم أوهموا فيه: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] ظنُّوا والله أعلم أن الجزم في الهاء، والهاءُ في موضع نصب، وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه، قال: وسمعت بعض العرب (¬3) ينشد: قلت (¬4) لَهَا هَل لَكِ يَا تَا فيِّ ... قالَتْ لنا ما أنتَ بالمَرْضِيّ (¬5) ¬

_ (¬1) هذه اللفظة من أخف الألفاظ انتقاداً لهذه القراءة السبعية!! وكذلك الأسلوب؛ حيث عزا الخطأ فيما يظن أنه خطأ إلى القُراء لا القراءة، بخلاف بقية المنتقدين للقراءة خاصة البصرييين حيث بالغوا في انتقاد القراءة ووصفوها بأقذع الصفات؛ كالمنكرة، والرديئة، والمرذولة، والضعيفة، والمكروهة، وا الشاذة، وأنها لحن .. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 599، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 159، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 183، و"تفسير الزمخشري" 2/ 300، و"الإملاء" 2/ 68، و"إبراز المعاني" 3/ 294، و"حاشية ياسين على شرح التصريح" 2/ 60. (¬2) في (ش)، (ع): (الياء) والمثبت موافق للمصدر. (¬3) هو الأغلب العجلي، تأتي ترجمته في المفحة التالية، وكلمة (العرب) ساقطة من (د). (¬4) في المصدر (قال) وهو الموافق لرواية جميع المصادر التي وقفت عليها ما عدا "علل القراءات" 1/ 288. (¬5) ورد البيت منسوباً للأغلب في "حاشية ياسين على شرح التصريح" 2/ 60، و"الخزانة" 4/ 433، وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفراء 2/ 76، و"الحجة في القراءات" 203، و"المحتسب" 2/ 49 [صدره]، و"الفريد في الإعراب" 3/ 159، و"تفسير أبي حيان" 5/ 419، (يا) حرف نداء، (تا) منادى؛ وهو اسم إشارة يشار به إلى المؤنث، (فيِّ) ضمير نصب متكلم أُشبعت كسرته فنشأ عنها ياء نحو منزلي من منزل والمعنى: أن رجلاً قال لامرأة تقدم ذكرها يا هذة المرأة، هل لك رغبة فيَّ؟ قالت له: لست بالمرضي فيكون لي رغبة فيك.

فخفض الياء من (فيِّ) فإن يك ذلك صحيحًا، فهو مما يلتقي من الساكنين فيُخفض الآخِرُ منهما، وإن كان له أصل في الفتح، ألا ترى أنهم يقولون: لي أره منذ (¬1) اليوم، والرفع في الذال هي (¬2) الوجه (¬3)، والخفض جائز، فكذلك الياء من مصرخيّ خفضت ولها أصل في النصب، انتهى كلامه، (¬4). وقال أبو إسحاق: هذه القراءة عند جميع النحويين ردية مرذولة لا وجه لها إلا وُجَيْه (¬5) ضعيف! وهو ما أجازه الفراء من الكسر على أصل التقاء الساكنين، وأنشد: قالَ لَهَا هَل لكِ يا تا فيِّ ... قالَتْ له ما أنْتَ بالمَرْضِي وهذا الشعر مما لا يُلتفت إليه، فليس يُعرف قائل هذا الشعر من العرب (¬6)، ¬

_ (¬1) في المصدر المنقول عنه (مُذُ). (¬2) الأولى (هو) لأنه يعود على مذكر، وكذلك هو في المصدر. (¬3) لأنها مبنية على الضم. [اللمع في العربية ص 131]، وقد اعترض السمين على الفراء في استشهاده على المسألة بهذا المثال لاختلافهما؛ حيث لم يتوال الكسر في المثال بخلاف القراءة المستشهد لها "الدر المصون" 7/ 94. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 75، نقل طويل تصرف فيه. (¬5) هكذا وردت مصغرة في جميع النسخ مع أنها في المصدر مكبرة (وجه) فلعل لذلك دلالة إن كان من فعل الواحدي لا النُسَّاخ، وهو المبالغة في تضعيف هذا الوجه الذي يُحتج به للقراءة من جهة النحو. (¬6) بلى قد عُرف قائله، هو الأغلب العجلي، ولم يكن نكرة بل هو علَم في عدة ميادين: فقد عدّه ابن الأثير وابن حجر في الصحابة، ومن شهداء الإسلام في نهاوند. انظر: "أسد الغابة" 1/ 126، و"الإصابة" 1/ 225 وعدّه ابن قتيبة أرجزَ الرُجّاز، لأنه أول من شبّه الرجز بالقصيد وأطاله، وقبله بيتان أو ثلاثة انظر: "الشعر والشعراء" ص 407، بل لقد بلغ من شهرته أن ينتسب إليه السثمهورون، يقول العجاج: إني أنا الأغلب أضْحَى قد نُشر. المصدر السابق، وأكد أبو شامة نسبة =

ولا هو مما يحتج به (¬1) في كتاب الله (¬2). قال أبو علي: زعم قطرب أن هذا لغة في بني يربوع (¬3)؛ يزيدون على ياء (الإضافة ياء) (¬4) وأنشد: ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِىّ (¬5) ... قال لَهَا هل لكِ يا تا فيِّ قال: ووجه ذلك من القياس أن الياء ليست تخْلُو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في: أكبر منك (¬6)، وهذا لك، فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة (¬7) في قولك: هذا الشيء لَهُو، وضَرَبَهُو، ولحق الكاف أيضًا الزيادة (¬8) في قول من قال: أعْطيْتُكاه وأعطيْتُكِيه، فيما حكاه سيبويه (¬9) وهما أختا الياء، وكما لحقت ¬

_ = البيت للعجلي بأنه رأه في كتابه انظر: "إبراز المعاني" 3/ 295، فواعجباً من دعوى الزجاج في استجهال هذا العَلَم. (¬1) بلى هو مما يحتج به لتعضيد ثبوت قراءة متواترة تعرضت للإنكار. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 159، نقله بتصرف. (¬3) هم أبناء يربوع بن حنظلة بن مالك، من العدنانية، وبنوه: رياح، وثعلبة، والحارث، وعمرو، وصُبَير، كانوا يُسمَّون الأحمال وبنوه: كُليب، وغُدَانة، والعَنبر سُمُّوا العقداء؛ لأنهم تعاقدوا على أخيهم رياح، وصار الأحمال مع بني رياح. انظر: "الاشتقاق" ص 221، و"جمهرة أنساب العرب" ص 228، 467، و"نهاية الأرب" ص 398. (¬4) ففي هذه اللغة ينطقون (فيَّ) هكذا (فِيِيّ) "المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 710، وما بين القوسين ساقط من (د). (¬5) في جميع النسخ (بالمرضي) والتصويب من المصدر. (¬6) في (أ)، (د): (أكرمتك)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق للمصدر. (¬7) وهي الواو. (¬8) وهي الألف والياء. (¬9) "الكتاب" 4/ 200، وأمثلته مختلفة؛ فقد مثَل للمؤنث بـ: أُعْطِيكيها وأُعْطيكيه، وللمذكر بـ: أُعْطيكَاهُ وأُعْطيكَاها.

التاء الزيادة في نحو ما أنشد (¬1): رَمَيْتِيهِ فأصمَيْتِ ... وما أخْطَاتِ الرَّمْيَه (¬2) كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المدّ، فقالوا: (فِيِّي) ثم حذفت الياءُ الزائدة على الياء (¬3) كما حذفت من الهاء في قوله (¬4): وما لَهُ من مَجْدٍ تَلِيد (¬5) وكما حذفت الزيادة من الكاف، في قول من قال: أَعْطيْتُكه ¬

_ (¬1) لم أقف على قائله، ونسبه عبد السلام هارون في فهرسته "للخزانة" 12/ 280 للوليد بن يزيد (ت 126 هـ). (¬2) ورد في "الحجة للقراء" 4/ 416، 5/ 30، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 449، و"الفريد في الإعراب" 3/ 160، و"إبراز المعاني" 3/ 297، و"الدر المصون" 7/ 93، و"الخزانة" 5/ 268، برواية (فأقصدتِ) بدل (فأصميْت) ولا يختلف المعنى؛ لأن معنى الكلمتين واحد، هو: القتل، والشاهد: زيادة الياء في (رميتيه) والأصل (رميته) دون ياء؛ كما قيل (أقصدت) بدون ياء. (¬3) في (ش)، (ع): (التاء)، والمثبت منسجم مع السياق وموافق للمصدر. (¬4) القائل هو الأعشى (جاهلي) أدرك الإسلام ولم يسلم، مات سنة (7 هـ). (¬5) والبيت بتمامه: وماله من مجد تليد ولا له ... من الريح حظٌّ لا الجنُوبُ ولا الصَّبَا "ديوانه" ص 175، وروايته: وما عنْده مجدٌ تليدٌ ولا لَهُ ... من الريح فضلٌ لا الجنُوبُ ولا الصَّبَا وورد في "الكتاب" 1/ 30، و"شرح شواهد الإيضاح" 458، وورد بلا نسبة في "المقتضب" 1/ 38، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 630، و"الإنصاف" ص 407، والشاهد في قوله: (وماله) حيث اختلس ضمة الهاء اختلاساً ولم يشبعها حتى تنشأ عنها واو، لذلك فإن رواية الديوان ليس فيها الشاهد؛ لأن الهاء في (عنده) مشبعة غير مختلسة. "الانتصاف بهامش الإنصاف" 2/ 516.

وأَعطيتُكِه (¬1)، كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختيها (¬2) وأُقرَّت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة، فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرة (¬3)، فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه (¬4) وإن كان غيرها أفشى منها، وعضَّده من القياس ما ذَكَرْنا، لم (¬5) يجز لقائل أن يقول: إن القراءة بذلك لحن؛ لاستقامة (¬6) ذلك في السماع والقياس (¬7)، وما كان كذلك لا يكون لحنًا (¬8). قوله تعالى: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} ما هاهنا بمعنى المصدر؛ أي: كفرت بإشراككم إيَّاي (¬9) مع الله في الطاعة (¬10)، قال ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (أعطيتكيه)، والمثبت مصوب من المصدر وبه يستقيم الكلام. (¬2) أي الزيادة في الهاء والكاف في الأمثلة السابقة. (¬3) توضيح ذلك: أن اللفظة على لغة بني يربوع (مصرِخِيِّيِ) فحذفت الياءُ الثانية فأصبحت (مصرِخِيِّ). (¬4) أي لغة بني يربوع. (¬5) في (د): (مالم). (¬6) هكذا في جميع النسخ، وفي المصدر (لاستفاضة) وهو أصوب لأن الاستفاضة من عوارض الرواية. (¬7) الأصل في القراءة الرواية والسماع لا القياس؛ لأن القراءة سنة متَّبعة فإذا ثبتت الرواية، لم تفتقر إلى قياس ولم يردها قياس، يقول أبو عمرو الداني -رحمه الله-: وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية، إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها. "النشر" 1/ 10. (¬8) "الحجة للقراء" 5/ 29، وهو نقل طويل من قوله: قال أبو علي، تصرّف فيه بالتقديم والتأخير والاختصار. (¬9) في (أ)، (د): (آياتي)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬10) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 357، و"الفخر الرازي" 19/ 115، و"تفسير =

23

الزجاج: إني كفرت بشرككم أيُّها التُّباع إيّاي بالله (¬1) وهذا معنى قول ابن عباس: يريد: إني (¬2) جحدت بما كنتم تطيعوني في الدينا؛ وتلخيصه: جحدت أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني (¬3)، وقال الفراء: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ} هذا من قول إبليس؛ يعني: كفرت بالله الذي أشركتموني به، أي: كفرت به من قبلكم فجعل (ما) في مذهب ما يؤدى عن الاسم (¬4)، وعلى هذا القول (ما) بمعنى (مَنْ) والقول هو الأول. وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يريد المشركين (¬5)، قال المفسرون: هم الذين وضعوا العبادة والطاعة في غير موضعها (¬6). 23 - قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} ذكرنا معنى التحية عند قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] قال ابن عباس: يريد أن الله يُحيِّهم بالسلام من عنده، وبعضهم يُحَيِّ بعضا بالسلام (¬7) وعلى هذا ¬

_ = القرطبي" 9/ 358، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 161. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 160، نقله بنصه. (¬2) في جميع النسخ (إن) والصواب ما أثبته، وبه يستقيم الكلام. (¬3) لم أقف عليه. وورد تلخيصه بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 150 أ، و"الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 319، و"الوجيز" 1/ 581. (¬4) "معاني القرآن" للفراء2/ 76 بنصه تقريباً. (¬5) ورد قوله بنصه بلا نسبة في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 319، و"الوجيز" 1/ 581، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 357. (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 150 ب، بنصه. (¬7) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 11، لكنه جعل التحية من الملائكة لا من الله، وفي "تنوير المقباس" ص 271، قال: يسلم بعضهم على بعض إذا تلاقوا، =

24

قوله: {تَحِيَّتُهُمْ} مصدر مضاف، فإن جعلته مضافًا إلى الفاعل فهو تحية بعضهم بعضًا، وإن جعلته مضافًا إلى المفعول فهو تحية الله إيّاهم والملائكة، وقد ذكر ابن عباس الوجهين. 24 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} أي: بيّن الله شِبْهًا، ثم فسَّر ذلك المثل، فقال: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} قال ابن عباس: يريد لا إله إلا الله (¬1)، وهو قول عامة المفسرين (¬2). وقوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: ¬

_ = وخلاصة القول في التحية أنها ثلاثة أنواع: تحية الله لهم، وتحية الملائكة لهم، وتحية بعضهم لبعض، ومن جعلها نوعين فقد جعل تحية الملائكة ضمن تحية الله؛ أي أن الملائكة ينقلون إليهم تحية الله. انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 255، و"الثعلبي" 7/ 150ب، و"الماوردي" 3/ 131، و"البغوي" 4/ 346، و"الثعلبي" 4/ 11، و"الخازن" 3/ 76، و"تفسير الشوكاني" 3/ 155، و"صديق خان" 6/ 23. (¬1) أخرجه الطبري 13/ 203 بنصه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 273 (206) بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 526 بنصه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 351، وابن عطية 8/ 232، و"ابن الجوزي" 4/ 358، و"الفخر الرازي" 19/ 125، و"تفسير القرطبي" 9/ 359، وابن كثير 2/ 582، و"الدر المنثور" 4/ 142، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد بنصه في "تفسير مقاتل" 1/ 193 أ، والسمرقندي 2/ 205، هود الهوارى 2/ 326، و"الثعلبي" 7/ 150 ب، و"تفسير المشكل" لمكي 214، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 346، و"تذكرة الأريب في تفسير الغريب" 279، و"تفسير ابن كثير" 2/ 582.

يريد النخلة (¬1)، وهو قول أكثر أهل التأويل (¬2)، وأراد: كشجرة طيبة ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 13/ 206، بلفظه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 526، وانظر: "تفسير الخازن" 3/ 76، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 144 وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي هاشم وابن مردويه من طرق، وورد عن ابن عباس بأنها شجرة في الجنّة. انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 151 أ، و"البغوي" 4/ 346، وابن عطية 8/ 234، و"ابن الجوزي" 4/ 358، و"تفسير القرطبي" 9/ 361، و"الخازن" 3/ 77، وورد عنه كذلك: أنها المؤمن. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 204، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 1/ 273 (207)، و"تفسير الخازن" 3/ 77، وابن كثير 2/ 582، و"الدر المنثور" 4/ 142، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. ولاخلاف بين هذه الأقوال؛ لأن المقصود بالمثل المؤمن، والنخلة مشبهة به، وهو مشبّه بها، كما في صحيح البخاري (2209)، كتاب: البيوع، بيع الجُمَّار وأكله: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "من الشجر شجرةٌ كالرجلِ المؤمن"، فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أحدثهم، قال: هي النخلة، وفي رواية له: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مَثَلُ المسلم .. " (61) كتاب العلم، قول المحدث حدثنا، وأما كونها شجرة في الجنة غير معينة فلأن النخلة من أشرف الأشجار، فهي أولى من ينطبق عليها الصفات المذكورة في الآية. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 204 - 205، وابن عطية 8/ 234، "الأمثال" لابن القيم ص 232. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 342، بلفظه عن أنس، والطبري 13/ 204 - 206، بلفظه من عدة روايات عن أنس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد، وورد بلفظه في: "الغريب" لابن قتيبة 1/ 236، و"تفسير السمرقندي" 2/ 205، وهود الهواري 2/ 326، و"الثعلبي" 7/ 150 ب، و"الماوردي" 3/ 123، و"تفسير المشكل" ص 214، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 144، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والرامهرمزي.

25

الثمرة، فاستغنى عن ذكرها بدلالة الكلام عليها، {أَصْلُهَا} أي: أجل هذه الشجرة الطيبة {ثَابِتٌ}، {وَفَرْعُهَا}: أعلاها، قال: {فِي السَّمَاءِ}. 25 - {تُؤْتِي} أي هذه الشجرة، {أُكُلَهَا}: ثمرها وما يؤكل منها، {كُلَّ حِينٍ} الحين: وقت من الزمان قلَّ أو كثُر، طال أو قَصُر (¬1)، واختلفوا في المراد بالحين هاهنا؛ فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ستة أشهر (¬2)، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والحسن قالوا: ما بين صرامها (¬3) إلى حملها ستة أشهر (¬4). وقال مجاهد وابن زيد: كل سنة (¬5)، وهو قول ابن عباس في رواية ¬

_ (¬1) انظر: "مقاييس اللغة" 2/ 125، و"اللسان" (حين) 2/ 1073، و"عمدة الحفاظ"1/ 549. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 208 بنصه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، وورد بنصه في: "معاني القرآن" للنحاس 3/ 527، والسمرقندي 2/ 206، و"الثعلبي" 7/ 151 ب، انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 236، وابن الجوزي 4/ 359، و"الفخر الرازي" 19/ 120. (¬3) الصِّرام بكسر الصاد وفتحها: أوان نُضج الثمرة وجَنْيها. انظر: "اللسان" (صرم) 4/ 2438، و"متن اللغة" 3/ 449. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 208 بنصه عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وأخرج 13/ 209، عن قتادة والحسن قالا: ما بين الستة الأشهر والسبعة. وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 151 ب بنصه عنهم، و"الماوردي" 3/ 132 بمعناه عن الحسن، و"الطوسي" 6/ 291 بنحوه عن سعيد والحسن. وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 347 بنحوه عنهم. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 334، بلفظه، أخرجه الطبري 13/ 209 بنصه عنهما، وورد بنصه في: "تفسير الثعلبي" 7/ 151 أ، عنهما، و"الماوردي" 3/ 132 عن مجاهد، و"الطوسي" 6/ 291 عنهما.

عكرمة؛ قال: هو ما (بين العام إلى العام) (¬1) المقبل (¬2)، وقال في رواية أبي ظَبيان (¬3): كل حين: كل غدوة وعشية (¬4)، وهو قول الربيع بن أنس (¬5). وقال سعيد بن المُسيَّب: كل حين يعني: شهرين؛ لأن مدة إطعام النخلة شهران (¬6)، قال أهل التأويل وأهل المعاني: شبَّه الله تعالى الإيمان ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (ش)، (ع). (¬2) أخرجه الطبري 13/ 209 - 210 بنصه عن عكرمة صحيحة، وأورده في "الدر المنثور" 4/ 144 عن عكرمة، والظاهر تلقَّاه عه. وورد لهذا الطريق في "تفسير السمرقندي" 2/ 106، لكنه قال: الحين: ما بين الثمرتين؛ يعني سنة. وورد تفسير الحين بـ (سنة) عن ابن عباس من طريق عطاء بن السائب صحيحة في "تفسير الطبري" 13/ 210. (¬3) في جميع النسخ: (ابن) والصحيح أبي ظبيان كما في تفسيرالطبري وكتب التراجم. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 207 بنصه بعدة روايات من هذه الطريق، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 528، و"تفسير السمرقندي" 2/ 206، والثعلبي 7/ 151 ب، والماوردي 3/ 133، والطوسي 6/ 291. (¬5) أخرجه الطبري 13/ 209 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 151 ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 347، وابن عطية 8/ 236. (¬6) أخرجه الطبري 13/ 210 بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 206، والشعبي 7/ 151 ب، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 347، وابن عطية 8/ 236، و"ابن الجوزي" 4/ 359، والفخر الرازي 19/ 120، و"الدرا لمنثور" 4/ 145، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي، هذه الأقوال التي وردت في تفسير (الحين) تندرج تحت قاعدة اختلاف التنوع، ولا تناقض بينها لأمرين: الأول: أن (الحين) يحتمل كل هذه المعانى في اللغة؛ إذ يطلق على الوقت القليل والكثير. الثاني: أن كل مفسر نظر في تفسيره مق زاوية تختلف عن الآخر: فمر فسره بـ (سنة) أشار إلى أن النخلة لا تحمل في السنة إلا مرة واحدة، ومن فسره بـ (ستة أشهر) أشار إلى ما بين حملها وصرامها، ومن فسره بـ (شهرين) أشار إلى مدة الجني في =

بالنخلة لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في مَنْبِتها، وشبَّه ارتفاع (عمله إلى السماء بارتفاع) (¬1) فروع النخلة، وشبَّه ما يكسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان، بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات [السنّة] (¬2) كلها؛ من الرطب والتمر وما يجري مجراهما مما لا يعدم ولا ينقطع وجوده (¬3). وقال الزجاج: جعل الله مَثل المؤمن في نُطْقه بتوحيده (¬4)، والإيمان بنبيّه واتّباع شريعته الشجرة الطيبة؛ فجعل نفع الإقامة على توحيده كنفع الشجرة التي لا ينقطع نفعُها وثمرها (¬5)، وقال آخرون: إنما مَثَّلَ الله سبحانه الإيمان بالشجرة؛ لأن الشجرة لا تستحق أن تسمّى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة ¬

_ = النخل، ومن فسره بـ (الغدوة والعشية) أشار إلى أن ثمرتها تؤكل دائماً؛ صيفاً وشتاءً، وقد رجح الطبري قول من فسره بـ (الغدوة والعشية)؛ وذلك لكون الآية ضُربت مثلاً لعمل المؤمن وإخلاصه ورفع عمله إلى الله، وهذا إنما يكون في كل يوم وليلة لا كل شهر أو سنة. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 210، وابن عطية 8/ 237، و"ابن الجوزي" 4/ 359، و"تفسير القرطبي" 9/ 360. (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (ش)، (ع). (¬2) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، كما في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 321، و"الوجيز" 1/ 582. (¬3) لم أقف عليه في كتب المعاني المطبوعة، وورد هذا المعنى مختصراً وبعبارات متقاربة في "تفسير الطبري" 13/ 210، والسمرقندي 2/ 206، و"الماوردي" 3/ 131، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 346 - 347، وابن عطية 8/ 233، وابن الجوزي 4/ 359، و"تفسير القرطبي" 9/ 361، وابن كثير 2/ 582. (¬4) في (ش)، (ع): (توحيده)، بدون باء (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 160، ونقله بنصه.

أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان (¬1). قال ابن الأنباري: وكان غير مستنكر تشبيه الكلمة بالشجرة وهي من غير جنسها، كما لا يُستَنكر تشبيه الناس بالأسد والأقمار والبحار، وجنس الإنسان يخالف هذه الأجناس، ومعروف من كلامهم: عبد الله الشمسَ طالعة، وزيدٌ القمرَ منيرًا، وعمرو الأسدَ عاديًا (¬2)، وبكر البحر زاخرًا (¬3). وقال أبو إسحاق في قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}: جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهب إلى أن الحين اسم كالوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها، طالت أم قصُرت، والمعنى في {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}: أنها يُنتفع بها في كل وقت، لا ينقطع نفعها البتة، قال: والدليل على أن الحين بمنزلة الوقت قول النابغة في صفة الحيَّة والملدوغ: تَنَاذَرَها (¬4) الرَّاقُون من سُوء سَمِّها ... تُطَلِّقُه حِينًا وحِينًا تُراجِعُ (¬5) ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 152 ب، بتصرف يسير، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 347، والبقاعي 4/ 185، و"حاشية الصاوي على الجلالين" 2/ 284، و"تفسير الألوسي" 13/ 216، وصديق خان 7/ 110. (¬2) في (أ)، (د): (عارياً)، والمثبت من: (ش)، (ع) وهو الصحيح المتفق مع المعنى، والظاهر أن الدال تصحفت إلى راء. (¬3) الزَّخَرُ: من خصائص البحر، يقال: زَخَرَ يزْخَرُ زَخْراً وزُخوراً، إذا جاش ماؤه وارتفعت أمواجه. انظر (زخر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1519، و"المحيط في اللغة" 4/ 275. (¬4) في جميع النسخ (تبادرها) بالباء والدال من المبادرة، وهو تصحيف؛ إذ لا معنى للمبادرة هنا، ويؤيده أن رواية الديوان وجميع المصادر (تناذرها) من الإنذار؛ وهو التخويف، أي خوف بعضهم بعضا بأن تلك الأفعى من خبثها لا تجيب راقياً. (¬5) البيت للنابغة الذبياني، و"ديوانه" ص 54، وورد في "المعاني الكبير" 2/ 663، =

قال: المعنى أن السمَّ يخفُّ ألمه وقتًا ويعود وقتًا (¬1)، فعلى هذا، الاختيار: أن يكون المعنى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}: أي: كل وقت في جميع السنة، وهو قول الضحاك، قال: كل ساعة، ليلاً ونهارًا، شتاءً وصيفًا، تُؤكل في جميع الأوقات، كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها (¬2)، وقد قال ابن عباس: يريد ستة أشهر طلعٌ رَخْصٌ (¬3) وستة أشهر رُطبٌ رَطيبٌ (¬4)، فبين أن الانتفاع بالنخلة دائم في جميع السنة. وقوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬5)، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: لكي يتعظوا. ¬

_ = و"الكامل" للمبرد 3/ 130، و"جمهرة اللغة" 2/ 922، و"تهذيب اللغة" (حان) 1/ 714، "الإيضاح العضدي" 1/ 203، و"الصحاح" (نذر) 2/ 826، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 529، و"تفسير الماوردي" 3/ 132، و"المخصص" 9/ 65، و"تفسير القرطبي" 9/ 360، و "اللسان" (حين) 2/ 1074، و"الخزانة" 2/ 459، (تطلَّقه): أي تفارقه وتخفى الأوجاع أحياناً، وتارة تشتد عليه، وهكذا حال اللديغ، ورواية الديوان والكامل والخزانة: تطلِّقُه طوراً وطوراً تراجع ولا فرق في المعنى؛ لأن الطور كالحين، لكن لا شاهد على هذه الرواية. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 161 بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (حان) 1/ 714 بنصه. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 208 بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 528 بنحوه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 151 ب بنصه. وانظر: "تفسير القرطبي" 9/ 360. (¬3) الرَّخْص: الشيء الناعم اللين. انظر: "المحيط في اللغة" (رخص) 4/ 245. (¬4) أورده الواحدي بنصه غير منسوب في "الوجيز" 1/ 582. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 321 بنصه.

26

26 - قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} يعني: الشرك بالله في قول الجميع (¬1)، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الثوم (¬2)، وروى مقاتل عن الضحاك عنه (¬3) قال: هي الكُشُوث (¬4)، وقال ¬

_ (¬1) ورد بلفظه في "تفسير مقاتل" 1/ 193 أ، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 236، و"تفسير السمرقندي" 2/ 206، وهود الهواري 2/ 327، و"الثعلبي" 7/ 152 ب، و"تفسير المشكل" ص 214، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 348، والزمخشري 2/ 301. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 321، بلفظه، وانظر: "غرائب التفسير" ص 579، و "تفسير ابن الجوزي" 4/ 361، و"تفسير القرطبي" 9/ 362، و"الخازن" 3/ 77، وورد عن ابن عباس أنه فسرها بقوله: هذا مثل ضربه الله، ولم تخلق هذه الشجرة على وجه الأرض. أخرجه الطبري 13/ 211، وورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 152 ب، و"الماوردي" 3/ 134، و"ابن الجوزي" 4/ 360، و"القرطبي" 9/ 362، و"الدر المنثور" 4/ 145، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، و "تفسير الألوسي" 13/ 215. (¬3) أي ابن عباس. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 321، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 360، و"الخازن" 3/ 77، و"الألوسي" 13/ 215 الكُشُوث: بالفتح وبالضم، وبالفتح أفصح، ويروى مقصوراً وممدوداً؛ الكَشوثى والكَشوثاء، قال الليث: الكَشوث نبات مجتث لا أجل له، وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك وغيره، ويجعل في النبيذ، وفي معجم متن اللغة، قال الشهابي: هو جنس نباتات طفيلية مضرّة، سُوقها صفر وشُقر، خيطية طوال تتف على حاضنتها وتنشب فيه زوائد ماصة تمص نسغه، لا ورق لها، ويسمى في مصر والشام: الهالوك، يقول الشاعر: هو الكشوث فلا أصلٌ ولا ورقٌ ... ولا نسيمٌ ولا ظلٌ ولا ثمرٌ انظر (كشث) في "تهذيب اللغة" 4/ 3146، و"المحيط في اللغة" 6/ 161، و"الصحاح" 1/ 290، و"اللسان" 7/ 38308، و"التاج"، و"متن اللغة" 5/ 68.

أنس بن مالك: هي الحنظل (¬1)، فكما أنها أخبث الأشجار، فكذلك الشرك أخبث الكلمات، وكما أنه لا ينتفع بها كذلك الشرك لا ينتفع صاحبه. وقوله تعالى: {اجْتُثَّتْ} قال ابن عباس: اقتلعت (¬2)، وقال السدّىِ: انتزعت (¬3)، وقال الضحاك: استؤصلت (¬4)، وقال الزجاج: ومعني {اجْتُثَّتْ} في اللغة: أخذت جُثَّتُها بكمالها (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 342، بلفظه عن أنس، والطبري/ شاكر 16/ 583، بلفظه عن أنس من عدة طرق، وورد بلفظه في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 236، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 527، و"تفسير الماوردي" 3/ 134، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 360، و"تفسير القرطبي" 9/ 361، و"الخازن" 3/ 77، و"الدر المنثور" 13/ 146 وعزاه إلى ابن مردويه والحنظل: معروف؛ وهو نبات مُرّ الجنى، واحدته حنظلة، ويسمى: الشَّرْيُ. انظر: "اللسان" (حنظل) 2/ 1025، و"متن اللغة" 2/ 180. هذه عدة أقوال في تعيين الشجرة الخبيثة، والأرجح أنها شجرة غير معينة، ومن عيَّنها فهو على سبيل التمثيل، وضابطها الخبث؛ وقد يكون خبثها: لرائحتها، أو للونها، أو لهيئتها، أو لطعمها، أو لمضارها، أو .. انظر: "تفسير ابن الجوزي" 8/ 238، والفخر الرازي 19/ 121. (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" 9/ 362، بلفظه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 152 ب، بلفظ: اقتطعت، وورد بلا نسبة في: تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 322، والسمرقندي 2/ 206، والبغوي 4/ 349، "تفسير غريب القرآن" لابن الملقن ص 196، و"الدر المصون" 7/ 100. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 152 ب، بلفظه، وورد بلفظه بلا نسبة في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 322. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 152 ب، بلفظه، وورد بلفظه غير منسوب في "مجاز القرآن" 1/ 340، و"غريب اليزيدي" ص 197، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 237، و"تفسير المشكل" ص 214، و"غرائب التفسير" 1/ 579. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 161 بنصه، وانظر (جثث) في "تهذيب اللغة" 1/ 538، و"المحيط في اللغة" 6/ 398، و"اللسان" 1/ 543، و"عمدة الحفاظ" 1/ 353.

وهذا قول المُؤَرِّج قال: أخذت جثتها وهي نفسها (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد ليس لها أصل تام، فهي فوق الأرض لم ترسخ فيها، ولم تضرب فيها بعرق، كذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا ثبات ولا شيء (¬2). وقوله تعالى: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} قال المفسرون: أي من أصل في الأرض (¬3)، والقرار مصدر سُمّي به المُسْتَقَر، وهذه الأشجار التي ذُكرت في (¬4) تفسير الشجرة الخبيثة ليس لها مستقر في الأرض يبقى على الأرض فنفى أن يكون لها قرار لمّا كانت تتقلَّع بأدنى شيء، والكَشوث لا قرار له في الأرض بتّة، قال الزجاج: المعنى أن ذكر الله بالتوحيد يبقى أبدًا، ويبقى نفعُه أبدًا، وأن الكفر والضلال لا ثبوت له (¬5). ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 152 ب، بلفظه، وانظر: "تفسير القرطبي" 9/ 362، وصديق خان 7/ 111. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 213 بنحوه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 322 بنحوه، وانظر: "تفسير صديق خان" 7/ 112، وورد هذا المعنى غير منسوب في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 361، والفخر الرازي 19/ 121. (¬3) ورد في "تفسير الطبري" 13/ 213 بنصه، والسمرقندي 2/ 206، بلفظه، والماوردي 3/ 135، بلفظه، وانظر:"غرائب التفسير" 1/ 579، و"تفسير البغوي" 4/ 349، وابن الجوزي 4/ 361، و"تفسير القرطبي" 9/ 362، وصديق خان 7/ 111. (¬4) في جميع النسخ وردت (و) قبل (في)، وهي رائدة جعلت السياق مضطرباً، لذلك حذفت. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 161 بنصه.

27

27 - قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} قال ابن عباس: يريد الذين صدّقوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يثبتهم بالقول الثابت وهو لا إله إلا الله (¬1)، وهذا دليل على أنه أراد بالكلمة الطيبة كلمة الإخلاص؛ لأنه بعدما شبهها بالشجرة الطيبة التي لها أصل ثابت، سمّاها القول الثابت. وقوله تعالى: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال المفسرون: يثبتهم بلا إله إلا الله في الحياة الدنيا على الحق والتمسك بالعُرَى (¬2)، وإذا ثبتهم بها في الدنيا ثبتهم في الآخرة. ومعنى {وَفِي الْآخِرَةِ}: قال ابن عباس: يريد في القبر (¬3)، وهذا قول عامة المفسرين؛ قالوا: إن هذه الآية وردت في فتنة القبر وسؤال الملكين، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، وتثبيته إياه بها على الحق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" 9/ 362 بنحوه، وورد بنصه بلا نسبة في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 322. (¬2) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 77 بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 342، والطبري 13/ 217 بنحوه عن ابن طاوس عن أبيه، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 530، و"تفسير السمرقندي" 2/ 206، والثعلبي 7/ 152 ب، والماوردي 3/ 135، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 349، وابن عطية 8/ 239، وابن الجوزي 4/ 361، والخازن 3/ 78. (¬3) أخرج النسائي في تفسيره 1/ 620 بنحوه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، وانظر: "تفسير صديق خان" 7/ 113. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 342 بنحوه عن قتادة، والطبري13/ 216 - 217 بنحوه عن ابن مسعود والمسيب بن رافع والربيع وقتادة ومجاهد، وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 162، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 530، عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" 7/ 153 ب، عن ابن عباس، والماوردي 3/ 133، وانظر: "تفسير =

وروى ذلك البراء بن عازب مرفوعًا، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: "حين يقال من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1)، والباء في: {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} من صلة التثبيت، على ما بيّنا، ويجوز أن تكون من صلة آمنوا، علر، معنى: الذين آمنوا بلا إله إلا الله يثبتهم على الحق في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال ابن عباس: من دام على الشهادة في الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقِّنه إيّاها (¬2)، وإنما فسّر الآخرة هاهنا بالقبر؛ لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا وصار (¬3) مجزيًا بالحسنات والسيئات فدخل في أحكام الآخرة، قاله أبو بكر بن الأنباري، وقد أشار إلى هذا المعنى أبو إسحاق؛ فقال: {فِي الْآخِرَةِ} لأن هذا بعد وفاته (¬4)؛ يريد هذا السؤال. وقوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} يعني: لا يُلقِّن (¬5) المشركين ¬

_ = البغوي" 4/ 349، وابن عطية 8/ 239، و"ابن الجوزي" 4/ 361، وابن جزي 2/ 141. (¬1) أخرجه بنحوه عن البراء بن عازب: ابن أبي شيبة في مصنفه: الجنائز/ القبر 3/ 56، والبخاري (4699) كتاب: التفسير، باب: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، مسلم (2866) كتاب: الجنة ونعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار، أبو داود (4750) كتاب: السنة، والنسائي في "تفسيره" 1/ 619، و"تفسير الطبري" 13/ 214. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 122. (¬3) ساقطة من (أ)، (د). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 162 بنصه. (¬5) أي لا يوفق، كما في تفسيرالطبري 13/ 218، و"تفسير القرطبي" 9/ 364.

28

[و] (¬1) الكافرين، حتى إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري، قال الفراء: يُضلهم عن هذه الكلمة (¬2). وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي من تثبيت المؤمن وتلقينه الصواب وإضلاله الكافر، قال الفراء: أي لا يُنْكَر له قدرة ولا يُسأل عما يفعل (¬3). 28 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} قال ابن عباس: يريد كفار قريش (¬4)، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد، والضحاك (¬5)، وقتادة قال: هم مشركو مكة، أنعم الله عليهم بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق، كما في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 324. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 77 ولفظه: أي عن قول لا إله إلا الله. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 77 بنصه، لكن فيه (لا تنكروا) بالنهي، وما ذكره الواحدي بالخبر هو الصواب المناسب للسياق؛ فالسياق ليس في الأمر والنهي بل هو خبر، ولعله وقع تصحيف في نُسخ المصدر. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 343 ولفظه: فقال: قريش أو قال: أهل مكة، والبخاري: التفسير/ إبراهيم 4/ 1735 ولفظه: هم كفار أهل مكة، والنسائي في تفسيره 1/ 623، ولفظه: هم أهل مكة، والطبري 7/ 454 بألفاظهم بعدة روايات، وقد أخرجوه كلهم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء صحيحة، وورد في "معاني القرآن" اللنحاس 3/ 532، ولفظه: هم قادة قريش يوم بدر، والطوسي 6/ 294 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور"4/ 156، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل لم أجده. وهذه العبارات التي وردت عن ابن عباس لا تنافي بينها؛ لأنها وصف لشيء واحد ببعض صفاته. (¬5) "تفسير مجاهد" ص 335 بنصه، وأخرجه الطبري 13/ 222 بنصه وبنحوه عنهم من طرق، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 136 بنحوه عن سعيد ومجاهد، والطوسي 6/ 294 بنصه عنهم.

29

فكفروا به ودعوا قومهم إلى الكفر (¬1)، وذلك قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} يعني: الذين اتبعوهم. {دَارَ الْبَوَارِ}: الهلاك، يقال رجل بائر، وقوم بُور (¬2)، ومنه قوله تعالي: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12]، هذا قول جميع أهل اللغة (¬3)، وأراد بـ {دَارَ الْبَوَارِ}: جهنّم، ألا ترى أنه فسّرها فقال: 29 - {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي: المقر، وهو مصدرٌ سُمي به. 30 - قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال ابن عباس: يريد من الحجارة والخشب وغير ذلك (¬4)، {لِيُضِلُّوا}: الناس عن دين الله، وقرأ الكوفيون بفتح الياء (¬5) والمعنى: أنهم لم ينتفعوا بما اتخذوا من الأنداد، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 342 عن قتادة، ولفظه: قال هم قادة المشركين يوم بدر، والطبري 13/ 222 بنحوه من طريقين، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 136 بنحوه، والطوسي 6/ 294 بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 157 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. وفي نسخة (ش)، (ع) زيادة (به) بعد كلمة الكفر، والكلام مستقيم بدونها. (¬2) البور: مصدر بار الشيء يبور بَوْراً: إذا هلك، والرجل بُور: أي هالك، الواحد والجمع فيه سواء، ويقال شيءٌ بائرٌ وبَأرٌ وبَوْرٌ وبُوْرٌ: أي فاسد. انظر: "الجمهرة" 1/ 330، و"تهذيب اللغة" (بار) 1/ 254، و"المحيط في اللغة" (بور) 10/ 270. (¬3) انظر بالإضافة إلى المصادر السابقة: "غريب اليزيدي" ص 197، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 237، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 532، و"تفسير المشكل" ص 214، و"تفسير الزمخشري" 2/ 302، و"الدر المصون" 7/ 103. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 326 بنصه. (¬5) لقد أخطأ الواحدي -رحمه الله- في ذلك، فالذين قرأوا بالفتح هم: ابن كثير وأبو عمرو ويونس -أحد رواة يعقوب- وهؤلاء ليسوا كوفيين. انظر: "التيسير" ص 134، =

31

ولم يتخذوها (¬1) إلا ليزيغوا عن الطريق المستقيم الذي نُصبت الأدلة عليه، وهذه لام العاقبة (¬2)، وقد ذكرنا معناها في مواضع. ثم أوعدهم بالعذاب فقال: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار} قال ابن عباس في هذه الآية: لو صار الكافر مريضًا سقيمًا، لا ينام ليلاً ولا نهارًا، جائعًا لا يجد ما يأكل ويشرب، لكان هذا كله نعيمًا عندما يصير إليه من شدة العذاب، ولو كان المؤمن في الدنيا في أنعم عيشة لكان بؤسًا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة (¬3). 31 - وقوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} قال الفراء: جُزمت {يُقِيمُوا} بتأويل الجزاء، ومعناه معنى أمرة كقولك: قل لعبد الله يذهب عنا، يريد: قل له: اذهب عنا، فجُزم بنية الجواب وتأويله الأمر، ومثل هذا قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثيه:14]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، هذا كلامه (¬4) ومعنى هذا أن (¬5) قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} معناه معنى الأمر؛ أي: قل لهم يقيموا الصلاة، إلا أنه أُجري على ¬

_ = و"الموضح في وجوه القراءات" 2/ 711، النشر 2/ 299، و"الإتحاف" ص 272، و"تفسير الطبري" 13/ 224. (¬1) في (أ)، (د): (يتخذوا) والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح لانسجامه مع السياق. (¬2) يقول الفخر الرازي: هي لام العاقبة؛ لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 123. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 326 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 363. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 77، بتصرف يسير. (¬5) وردت (أن) قبل هذا في جميع النسخ، وهي زائدة أدت إلى اضطراب السياق، ولعلها من الناسخ، لذلك حذفت.

ظاهر اللفظ كأنه جواب قوله: {قُلْ}، وزاد ابن الأنباري لهذا بيانًا فقال: هذا على معنى: قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة، فصُرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر، وجُعل كالجواب للشرط المقدَّر من الأمر، وهو أمر في الحقيقة (¬1). ومعنى قول أبي بكر: جُعل (كالجواب للشرط المقدّر) (¬2)، هو أن إلأمر معه شرط مقدّرة كقول القائل: أطع الله يدخلك الجنة، معناه: إن أطعته يدخلك الجنة، لذلك التقدير في هذه الآية: إن يقل لهم يقيموا، هذا ظاهر الكلام، وهو في المعنى أمر على ما بينّا. وقال أبو إسحاق قوله: {يُقِيمُوا} مجزوم بمعنى اللام؛ كأنه ليقيموا إلا أنها أسقطت؛ لأن الأمر قد دل على الغائب بقُل، يقول: قل لزيد ليضْرب عمرًا، وإن شئت قلت: قل لزيد يضرب عمرًا، ولا يجوز: يضربْ زيدٌ عمرًا، بالجزم حتى يقول: لِيضربْ؛ لأن لام الغائب ليس هاهنا منها عوض إذا حذفتها، وذكر وجهًا ثالثًا؛ وهو أن يكون المعنى: قل لعبادي الذين آمنوا [أقيموا الصلاة] (¬3) يقيموا الصلاة؛ لأنهم إذا آمنوا وصدّقوا ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدره، وأورده ابن الجوزي في "تفسيره" 4/ 363 بنحوه، وهذا القول قال به المازني كما في "إعراب القرآن" للنحاس 184، والمبرد في "المقتضب" 2/ 84. وقد رجحه أبو البركات الأنباري في "البيان في غريب الإعراب" 2/ 59، بينما ضعَّفه: العكبري في "الإملاء" 2/ 69، وأبو حيان 5/ 426، وابن هشام في "المغني" ص 299. (¬2) ما بين القوسين من (ش)، وساقط من (أ)، (د)، (ع). (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في الأصل، والظاهر أنها ساقطة؛ لأن المعنى مضطرب بدونها.

فإن (¬1) تصديقهم بقبولهم (¬2) أمر الله (¬3)، فعلى هذا قوله {يُقِيمُوا} جواب أمر محذوف. وقوله تعالى: {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} قال أبو عبيدة: البيع هاهنا: الفداء، والخلال: المخالَّة (¬4)، قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء، ولا مخالَّة ولا قرابة، إنما هي أعمال يثاب بها قوم ويعاقب عليها آخرون (¬5)، ومثل هذه الآية قوله: {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة [254]، وقد مرّ. وجميع أهل المعاني قالوا في الخلال هاهنا إنه: المُخالَّة (¬6)، وأنشدوا قول امرئ القيس: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (بأن) والمثبت مصَّوب من المصدر. (¬2) في جميع النسخ: (بقلوبهم)، وهو تصحيف، والمثبت هو الصحيح وموافق للمصدر. (¬3) معاني القرآن وإعرابه" 3/ 162 بنصه. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 341، ولفظه قال: {لَا بَيْعٌ فِيهِ} مجازه: مبايعة فدية، {وَلَا خِلَالٌ}: أي مُخالة خليل. الخُلّة: مُخالَّة الخليلين، وهي مصدر؛ يقال: خاللتُه مخالَّةً وخُلَّةً وخلالًا، وجمعها: خِلال، وهي الحُبُّ والمودةُ، وهي أخص من الصداقة. انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 107، و"المحيط في اللغة" (خل) 4/ 175، و"اللسان" (خلل) 2/ 1252. (¬5) "تفسير مقاتل" 1/ 193 ب، بمعناه، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 327 بنصه. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 341، بلفظه، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 600، بمعناه، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 533، بلفظه، وورد بلفظه في "غريب القرآن" لليزيدي ص 198، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 237، و"تفسير الطبري" 13/ 224، و"تفسير المشكل" ص 214.

ولسْتُ بمَقْلِيِّ (¬1) الخِلالِ ولاقَالَي (¬2) قال أبو علي: ويجوز أن يكون جمع خُلَّة مثل: بُرْمَة وبِرام (¬3)، وعُلْبة وعِلاب (¬4)، قال ابن الأنباري: ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فأثبت الخُلَّة للمتقين؛ لأن لذلك اليوم أحوالًا ومواطن مختلفةً، ففي بعضها يشتغل كل خليل عن خُلَّةِ خليله (¬5)، يدل (¬6) على ذلك قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34]، وفي بعضها يتعاطف أولياء الله بالمُخالَّة التي كانت بينهم. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (بمُلْقِي) وهو تصحيف، والتصويب من الديوان وجميع المصادر. (¬2) وصدره: صرفْتُ الهوى عنهُنّ من خشية الرّدى "ديوان امرئ القيس" ص 126، وورد في "تفسير الطبري" 13/ 224، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 533، و"شرح ديوان الحماسة" 3/ 321، و"تفسير الثعلبي" 7/ 155 ب، وابن عطية 8/ 245، و"اللسان" (خلل) 2/ 1252، و"تفسير أبي حيان" 5/ 427، و"الدر المصون" 7/ 108، (المقْلي) المُبْغَض، اسم مفعول، و (القالي): المُبْغِض، اسم فاعل، يريد أنه لم ينصرف عن الحسان لأنه أبغضهنّ، ولا لأنهنّ أبغضْنه، ولكن خشية الفضيحة والعار، فهو متيَّم بحبهنَّ ولكنه صرف هذا الحب عنهنّ خشية الهلاك، ولم ينصرف عنهنّ لسوءٍ في طباعه. (¬3) البُرْمة: قِدْر من حجارة، ويجمع بُرْم وبُرَم وبِرام. انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 329، "المحيط في اللغة" (برم) 10/ 242. (¬4) "الحجة للقراء" 2/ 355، بتصرف. العُلْبة: وعاء من جلدِ جنب البعير يُسوى على هيئة القصْعة المدورة، كأنها نُحتت نحتاً أو خُرطت خرْطاً، يُحْتلب فط، وتُجمع عُلبًا وعِلابًا. انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 366، و"تهذيب اللغة" (علب) 3/ 2542. (¬5) أقف على مصدره، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير صديق خان" 7/ 117. (¬6) ساقط من (د).

33

33 - قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} قال ابن عباس: يريد ليُعرف النهار من الليل، والليل من النهار (¬1). قال الزجاج: معناه دآئبين (¬2) في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره لا يفْتُران (¬3)، ومعنى الدؤوب في اللغة: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه، دأب يَدْأَبُ دأْبًا ودُؤُوبًا (¬4) وقد ذكرنا هذا في قوله: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف: 47] وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} قال ابن عباس: يريد لتبتغوا بالنهار من فضله وتقوموا بطاعته وفرائضه، واليل لتسكنوا فيه، وجعل ذلك راحة لكم (¬5). 34 - قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال أبو علي: المفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئًا أو مسؤولًا أو نحو ذلك، ومثله قوله: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [البقرة: 61] أي: شيئًا، فحذف المفعول، وكذلك قوله: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] قال: ويجوز في قياس قول أبي الحسن (¬6) أن يكون الجار والمجرور في موضع ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، والذي ذكره الطبري والثعلبي وغيرهما عن ابن عباس قولاً آخر؛ هو قوله: دؤوبهما في طاعة الله. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 225، و"الثعلبي" 7/ 155 ب، والبغوي 3/ 36، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 158. (¬2) في جميع النسخ: (آيتين)، والمثبت هو الصواب وموافق للمصدر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 163 بنصه تقريباً. (¬4) انظر: (دأب) في "تهذيب اللغة" 2/ 1127، و"المحيط في اللغة" 9/ 376، و"مقاييس اللغة" 2/ 321، و"الصحاح" 1/ 123. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 9/ 367، مختصراً. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 600، ورد القول مجملاً ففصَّله أبو علي.

نصب، وتكون (من) زيادة في الإيجاب كما تكون زيادة في غير الإيجاب (¬1)، وقال ابن الأنباري: تقدير الآية: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} وما لم تسألوه؛ لأنا لم نسأله شمسًا ولا قمرًا ولا كثيراً من نِعمه التي ابتدأنا بالإحسان إلينا بها، فاكتُفِي بالسؤال عن غير (¬2) المسؤول؛ كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬3) [النحل: 81]، قال: ويجوز أن يكون المعنى: وآتاكم من كل ما تتمنُّون تشْتهون وتُؤثرون (¬4)، قال الكسائى: العرب تقول إذا أتيت فلانًا أعطاك سُؤلك، وصرت منه إلى ما سألت، لا يعنون السؤال بعينه، ولكنهم يريدون ما يشتهي وَيتمنّى وُيؤثر، هذا كلامه (¬5)، وأما مفعول الإيتاء فهو على ما ذكره أبو علي (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على قوله، وانظر التعليق على القول بالزيادة في القرآن، عند آية [10]، من سورة إبراهيم. (¬2) يبدو لي أن (غير) زائدة، وقد أن إلى اضطراب المعنى؛ لأنه إنما اكتفى في الجواب عن المسؤول وإن أعطاهم غير ما سألوا، يؤيده ما استشهد به من القرآن وكلام العرب، حيث اكتفى بما سألوا وإن أعطاهم أكثر مما سألوا. والله أعلم. (¬3) والتقدير: "وسرابيل تقيكم البرد" فاكتفي بأحدهما لدلالته على الآخر. انظر: "الفريد في الإعراب" 3/ 168. (¬4) "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 742، وعبارته مختلفة، قال: سألت أبا العباس عن هذا فقال لي: من أضاف أي (كل) إلى (ما) أراد: "وآتاكم من كل ما سألتموه لو سألتموه"، ومن نَوّن أي كلٍّ أراد: "آتاكم من كلٍّ لم تسألوه"، وذلك أنا لم نسأل الله شمساً ولا قمراً ولا كثيراً من نعمه. وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 328 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 365، و"تفسير الشوكاني" 3/ 157، وصديق خان 7/ 119. (¬5) لم أجده، وورد نحوه غير منسوب في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 533. (¬6) أي محذوف، وتقديره: من كل مسؤول شيئاً أو مسؤولاً.

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر يقال: أنعم الله عليه، يُنْعِم إنعامًا ونِعْمَةً، أقيم الاسم مُقَام الإنعام؛ كقولك: أنفقت عليه إنفاقًا ونفقةً، بمعنى واحد (¬1) ولذلك لم يجمع؛ لأنه في مذهب المصدر، ومعنى قوله: {لَا تُحْصُوهَا}: لا يأتوا على جميعها بالعَدِّ لكثرتها، بيانه قوله: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] أي أحاط علمه باستيفاء عدد كل شيء. وقال الكلبي: لا تحفظوها (¬2)، وقال أبو العالية: لا تطيقون عدّها (¬3)، والقولان قد فُسّر بهما (¬4) قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] قال الفراء: علم أن لن تحفظوا مواقيت الليل (¬5)، وقال غيره: معناه: علم أن لن تطيقوه (¬6). وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} قال ابن عباس: يريد: أبا جهل ظلوم لنفسه كفّار بنعمة ربه (¬7)، وقال أبو إسحاق: هذا اسم للجنس، فقصد به الكافر خاصة؛ كما قال: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (نعم) 4/ 3615 بنصه. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 328، بلفظه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 208. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 328 بنصه، وورد بنصه بلا نسبة في: "تفسير البغوي" 4/ 354، و"تفسير القرطبي" 9/ 367. (¬4) في (ش)، (ع): (فسرتها)، وفي (د): (فسرهما). (¬5) "معاني القرآن " للفراء 3/ 200 بنصه. (¬6) أخرجه الطبري 29/ 140، بلفظه عن الحسن وسعيد وسفيان، وورد بلفظه في "تفسير المشكل" ص 362، و"تفسير الماوردي" 6/ 132، عن الحسن. (¬7) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 329 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 365، و"تفسير القرطبي" 9/ 367، والخازن 3/ 80.

35

خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} فالإنسان غير المؤمن ظلوم كَفَّار (¬1)، قال المفسرون: ظلوم: كافرٌ شاكرٌ غيرَ من أنعم عليه، واضعٌ الشكر غير موضعه، {كَفَّارٌ}: جحود لنعم الله (¬2). 35 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} تفسير هذا قد سبق في سورة البقرة (¬3). وقوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} قال الكفراء: أهل الحجاز تقول: جَنبَنِي يَجْنُبُنِي خفيفة، وأهل نجد تقول: أجْنبَنِي شرَّه وجَنَّبَنِي شرَّه (¬4)، ونحو هذا قال الكسائي (¬5)، وقال الزجاج: أجْنَبْتُه كذا وكذا: جعلته ناحية منه وجانبًا، وكذلك جَنَّبْتُه وجَنَبْتُه (¬6)، وأنشد أبو عبيدة لأُميّة بن الأَسْكَر: وتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقًا عَلَيْه ... وتَجْنُبُه قلائِصنا الصِّعَابَا (¬7) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 164 بنصه (¬2) ورد في "تفسير الطبري" 13/ 227 بنصه تقريباً، و"الثعلبي" 7/ 156 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 354، وابن الجوزي 4/ 365. (¬3) آية: 126. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 78 بنصه تقريباً. (¬5) لم أقف على مصدره. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 164، بتصرف يسير. (¬7) ورد في "مجاز القرآن" 1/ 342، و"تفسير الطبري" 13/ 228، والثعلبي 7/ 156 ب، وورد في "الأغاني" 21/ 14، و"الخزانة" 6/ 19، برواية: تُمَسَّح مَهدَه شفقاً عليه ... وتَجْنُبُه أباعِرها الصِّعابا (قلائص) جمع قَلُوص، قال أبو منصور: القَلُوص: الفتَّيةُ من النُّوق، بمنزلة الفتاة من النساء، وربما سموَّا الناقة الطويلة القوائم قَلُوصاً. انظر (قلص) في "تهذيب اللغة" 3/ 3032، و"الصحاح" 3/ 1054.

36

قال أبو إسحاق: ومعنى الدعاء من إبراهيم أن يُجَنَّبَ عبادة الأصنام، وهو غير عابد لها، على معنى: ثبِّتْنِي على اجتناب عبادتها؛ كما قال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، أي: ثبِّتْنا على الإسلام (¬1). وقال غيره من أهل المعاني قوله: {وَبَنِيَّ} دعاء لمن أذن الله في أن يدعو له؛ فكأنه قال: وبنيَّ الذين أذنت لي في الدعاء لهم؛ لأن دعاء الأنبياء مستجاب، وقد كان من نسله من عبد الصنم (¬2)، أو خص بهذه الدعوة أبناءه من صُلْبِه (¬3). والصَّنم: الصورة التي تُعْبَد، وجمعه أصنام (¬4). 36 - قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} قال أبو إسحاق وغيره: أي ضَلُّوا بسببها؛ لأن الأصنام لا تعقل ولا تفعل شيئًا؛ كما يقول: قد افْتَنَتْنِي هذه الدار؛ أي: أحْبَبْتُها واسْتَحْسَنْتُها وافْتُتِنْتُ بسببها (¬5)، فلما ضل الناس بسببها صارت كأنها أضلتهم، فنُسِب الفعل إليها. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 164 بنصه. (¬2) وعلى هذا القول يكون دعاؤه من العام المخصوص. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 133 و"الدر المنثور" 1/ 252. (¬3) لم أقف عليه في الكتب المطبوعة. وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 354، وابن عطية 8/ 250، والزمخشري 2/ 204. (¬4) الصَّنم معروف، وهو أخص من الوثن، والفرق بينهما؛ أن الصنم هو ما نحت على هيئة البشر، والوثن ما كان منحوتاً على غير هيئة البشر. انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 251، والفخر الرازي 19/ 133، والألوسي 13/ 234. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 164 بنصه تقريباً.

وقوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَنِي} قال ابن عباس: يريد على ديني بالتوحيد لك والمعرفة بك (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ مِنِّي} قال ابن الأنباري: يريد من المُتديِّنين بميني المتمسِّكين بحبلي؛ كما قال (¬2): إذا حاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُورًا ... فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنّي (¬3) أراد: ولستَ من المتمسِّكين بِحَبْلي (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [قال السّدي: معناه ومن عصاني ثم تاب (¬5)، {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}] (¬6) له إن تاب وإن آمن، لا أنه يقول: أن من كفر فإن الله يغفر له، وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم (¬7)، وشرح أبو بكر هذا فقال: معناه: فمن ¬

_ (¬1) ورد بنحوه مختصرًا غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 330، و"ابن الجوزي" 4/ 365، و"تفسير القرطبي" 9/ 368، و"الألوسي" 13/ 235. (¬2) البيت لنابغة الذبياني. (¬3) "ديوان النابغة" ص 138، وورد في "الكتاب" 4/ 186، و"تفسير القرطبي" 9/ 252، و"الخازن" 3/ 81، و"الدر المصون" (2/ 526) قال النابغة: هذه القصيدة ردًّا على عُيينة بن حصن الفزاري الذي دعاه قومه إلى مقاطعة بني أسد وتقض حلفهم لما قتلوا رجلين من بني عبس رداً على قتلهم نضلة الأسدي، فأبى عليه النابغة وتوعده بالمقاطعة إن حاول الإساعة إلى بني أسد. والمراد بالفجور: نقض الحلف. (¬4) لم أقف على مصدره، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير الخازن" 3/ 81. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 156 ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 355، وابن الجوزي 4/ 365، والفخر الرازي 19/ 134، والخازن 3/ 81، والألوسي 13/ 235، وصديق خان 7/ 123. (¬6) ما ببن المعقوفين ساقط من (د). (¬7) مقاتل هنا هو ابن حيان، وقد وردت هذه العبارة بنصها منسوبة إليه في: "تفسير =

عصاني فخالف في بعض الشرائع، وعقْدُ التوحيد معه فإنك غفور رحيم، إن شئت تغفر له غفرت إذ كان مسلمًا (¬1)، وذكر وجهين آخرين، أحدهمما. أن هذا كان قبل أن يُعلِّمه الله أنه لا يغفر (¬2) الشرك، كما استغفر لأبويه (¬3)، وهو يُقَدِّر أن ذلك غيرُ محظور، فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما (¬4). والآخر: ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني: أنك قادر على أن تغفر له وترحمه؛ بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام وتهديه إلى الصواب (¬5). ¬

_ = الثعلبي" 7/ 156 ب، والبغوي 4/ 355، وابن الجوزي 4/ 365، والخازن 3/ 81، والألوسي 13/ 235، وصديق خان 7/ 123، وفي تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 194 أ، قال: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم. (¬1) وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة. انظر كتاب "التوحيد" لابن خزيمة 2/ 658، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص 363 - 364. (¬2) في جميع النسخ (لا يغفرك) بزيادة الكاف، وقد أن إلى اضطراب المعنى، لذلك حذفت كما في "تفسير الخازن" 3/ 82. (¬3) هذا من باب التوسع في الكلام؛ لأن الآيات التي تحدثت عن استغفار إبراهيم عليه السلام ذكرت استغفاره لأبيه وحده. وانظر الكلام حول أُمّه عند آية (41) من هذه السورة. (¬4) هذا إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 113]. (¬5) لم أقف على مصدره، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 365، مختصرًا، والخازن 3/ 82 بنصه. يتحصل بذلك أربعة أقوال في تأويل الآية، والأرجح: قول مقاتل، لصراحته وخلوه من التكلف، ويؤيده قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] وهو ما رجحه الفخر الرازي دون الإشارة إلى أنه قول مقاتل، كذلك ضعف الأقوال الأخرى في تأويل الآية. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 133 - 135.

37

37 - قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} قال الفراء: ولم يأت منهم بشىء (¬1) يقع عليه الفعل، وهو حائز أن يقول: قد أصبنا من بنى فلان، وقتلنا من بني فلان، وإن لم يقل رجالاً؛ لأن (من) تؤدّي عن بعض القوم؛ كقولك: قد أصبنا من الطعام وشربنا من الماء، ومثله: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} (¬2) [الأعراف: 50] قال أبو بكر: ويجوز أن يقال: إن (من) دخلت لتوكيد الكلام، والتقدير: ربنا إني أسكنت ذريتي (¬3) كما قال ذو الرُّمّة: تَبَسَّمْن عن نَوْرِ الأقَاحيِّ في الضُّحَى ... وفَتَّرْنَ من أبْصَارِ مضْرُوجةٍ نُجْلِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (شيء) بدون الباء، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق للمصدر. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 78 بنصه. (¬3) لم أقف على مصدره، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 330 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 366، و"تفسير الشوكاني" 3/ 112، و"صديق خان" 7/ 124. (¬4) رواية الديوان كما في "شرح ديوان ذي الرمة" 1/ 466: وتَبْسِمُ عن نَوْرِ الأقاحيِّ أقْفَرَتْ ... بوَعساءِ مَعْروفٍ تُغامُ وتُطْلَقُ وليس في رواية الديوان شاهد، والشاهد في رواية المؤلف: (من) والتأويل: وفترن أبصار، بإسقاط (من) لأنها جاءت للتوكيد. وورد البيت في مادة (ضرج) في "تهذيب اللغة" 3/ 2107، و"اللسان" 5/ 2571، و"التاج" 3/ 422، وفي هذه المصادر اختلافان عن ما ذكره الواحدي هما: (الثرى) بدل (الضحى)، و (عن) بدل (من). وورد البيت في "الأساس" 2/ 46، باختلافين أيضاً (غُرّ) بدل (نَوْر)، و (الثرى) بدل (الضحى)، (النَّور) الزَّهرُ، (الأقاحيِّ) نبتٌ طيبُ الريح، زهره أبيضُ حَسَنٌ، فشبّه بياض أسنانها به، (مَضْروجة): الضَّرْج: الشَّق، قال أَبو عبيد: عينٌ مضْروجة: أي واسعةُ الشَّقِّ نجْلاء، والنْجلُ: سعة العين مع حُسْن. انظر (ضرج) في "تهذيب اللغة" 3/ 2107، و"اللسان" 5/ 2570، و"التاج" 3/ 421، و"المحيط في اللغة" (نجل) 7/ 108.

وعلى ما ذكر الفراء (من) دخلت للتبعيض، والتأويل: إني أسكنت بعض ذريتي، وذلك أنه أنزل إسماعيل بعض ذرية إبراهيم، يدل على هذا قول ابن عباس في هذه الآية {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} يريد: إسماعيل (¬1)، {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} قال: يريد وادي مكة، ومكة كلها واد، والكلام في الوادي قد ذكرنا عند قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} [الرعد: 17] والقول الأول: اختيار أبي علي، قال: معناه إني أسكنت من ذريتي ناسًا، فحذف المفعول لدلالة الإسكان عليه (¬2). وقوله تعالى: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} قيل معناه: عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حتى رفعته أيام الطوفان؛ لأن إسكان الخليلِ إسماعيلَ مكة كان قبل بنائهما البيت، وقيل: عند بيتك المحرم الذي قد مضى في سابق علمك أنه يحدث في هذا الوادي (¬3). وقوله تعالى: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} قال ابن عباس: يريد ليعبدوك (¬4). {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، أبو عبيد عن الأصمعي قال: هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا، إذا سقط من عُلو إلى سفْل (¬5)، وقال ابن الأعرابي: هَوَت ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 13/ 230، من طريق سعيد بن جبير صحيحة، مع زيادة وأُمّه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 47. (¬2) لم أقف على مصدره. وهو قول الفراء. (¬3) ورد بنصه في "تفسير الطبري" 13/ 233، والثعلبي 7/ 157 أ، انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 253، وابن الجوزي 4/ 366، والخازن 3/ 83. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 332، بلفظه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (هوى) 4/ 3813 بنصه، و"الصحاح" (هوى) 6/ 2538 بنصه تقريباً.

العُقابُ (¬1) نَهْوِي هَوِيُّا بالفتح، إذا انقضّت (¬2) على صيد أو غيره (¬3)، وقال الفراء في هذه الآية: {تَهْوِي إِلَيْهِم} تريدهم؛ كما تقول: رأيت فلانًا يَهْوِي نحوك (¬4)، معناه: تنحط إليهم وتنحدر وتنزل (¬5)، يقال هوى الحجر من رأس الجبل يهوي، إذا انحدر وانصب (¬6)، هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف. فأما قول المفسرين؛ فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد تحِنّ (¬7) إليهم زيارة بيتك (¬8)، وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم إنما هو لحج البيت لا لأعيانهم، وفي هذا دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت، ودعاءٌ لسكان مكة (¬9) من ذريته؛ لأنهم يرتفقون (¬10) بمن يأتي مكة لزيارة ¬

_ (¬1) طير معروف، وهو من العِتاق؛ أي الجوارح، ويقع العُقاب على الذكر والأنثى. انظر: "اللسان" (عقب) 5/ 3028. (¬2) (أ)، (د): (نفضت) من غير ألف وبالفاء، والمثبت من (ش)، (ع). (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (هوى) 4/ 3813 بنصه تقريبًا. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 78 بنصه. (¬5) هذا معنى الآية لا معنى القول، وهو قول ابن الأنباري كما في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 368، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 137، والخازن 3/ 83. (¬6) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 137 بنصه. (¬7) في (د): (نحو). (¬8) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 367، و"الخازن" 3/ 83، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" 3/ 138، و"تفسير القرطبي" 9/ 373. (¬9) في (د): (مكان). (¬10) هكذا في جميع النسخ، وفي "تفسير الخازن" 3/ 83 (بأنهم ينتفعون)، وقد نقل المقطع من الواحدي، ويستقيم المعنى بالعبارتين، فعلى عبارة المخطوط (يرتفقون) مأخوذة من الرفق، بمعنى أن القلوب تحن إليهم بسبب ارتفاقهم بالزوَّار والحجاج لبيت الله العتيق، وعلى عبارة الخازن (ينتفعون) من الانتفاع؛ فهم ينتفعون ممن يقدم مكة حاجًّا أو زائراً.

39

البيت (¬1)، وقال قتادة في قوله: {تَهْوِي إِلَيْهِم}: تنزع إليهم (¬2)، وقال أبو إسحاق: أي: اجعل أفئدة جماعة من الناس تنزع إليهم (¬3)، وهذا معنى قول مجاهد: لو قال: أفئدة الناس؛ لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند (¬4)، وقال سعيد بن جبير: لو قال: أفئدة الناس؛ لحجت إليه اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} فهم المسلمون (¬5)، وقال ابن عباس في قوله: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ}: يريد من المؤمنين من ذريته ومن غير ذريته. وقوله تعالى: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ذكرنا تفسيره في سورة البقرة عند قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} قال: يريد كي يوحدوك ويعظموك. 39 - قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} قال ابن عباس: وُلِدَ إسماعيلُ لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 83، نقله بتصرف بزيادة وحذف، من بداية قول الأصمعي دون نسبتة للواحدي. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 343 بنصه، والطبري 13/ 234 بنصه من طرق، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 161، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 165 بنصه. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 430، والطبري 13/ 234 من طرق، وليس فيهما ذكر الترك والهند، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 209 مثلهما، والثعلبي 7/ 158 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 357، و"تفسير القرطبي" 9/ 373، و"الخازن" 3/ 83، كلهم بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 161، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 209 دون ذكر المجوس، والثعلبي 7/ 158 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 357 بنصه، و"الفخر الرازي" 19/ 137 بنصه.

40

سنة (¬1)، ووُلد له إسحاقُ وهو ابن مائة واثنتى (¬2) عشرة سنة (¬3). 40 - قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} ذكره على النعت ولم يذكره على الفعل؛ لأن النعت ألزم وأكثر من الفعل، كأنه قال: رب اجعلني من عادتي إقامة الصلاة، ولو قال: اجعلني أقيم الصلاة، لم يكن فيه من المبالغة ما في المقيم، وذكرنا استقصاء هذا الفصل فيقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية [الإسراء: 29]. وقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} قال الزجاج: أي: واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة (¬4)، وهذا كما ذكرنا في قوله: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي}، وقوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} قال ابن عباس: يريد عبادتي (¬5)، ¬

_ (¬1) ساقطة من (د). (¬2) في جميع النسخ: (اثني)، وهو خطأ نحوي ظاهر. (¬3) ورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 158 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 357، وابن الجوزي 4/ 368، و"تفسير القرطبي" 9/ 375)، والخازن 3/ 83، والبقاعي 4/ 192، و"الألوسي" 13/ 242. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 165 بنصه. وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 342، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 537. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 333، بلفظه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 139، وورد بنحوه بلا نسبة في "تفسير الطبري" 13/ 235، والثعلبي 7/ 158 ب، والبغوي 4/ 358، و"تفسير القرطبي" 9/ 375، والألوسي 13/ 243. صحيح أن الدعاء يرد بمعنى العبادة في القرآن والسنة، لكن لا دليل هنا بتخصيصه بالعبادة، بل هو الدعاء بالمعنى المعروف؛ أي الطلب والقصد، والسياق والسباق يؤيده، كما أن قول ابن عباس ورد بلا سند، وأغلب الظن أنه من الطرق الضعيفة، وقد فسرت الآية بالدعاء المعروف، في: "تفسير السمرقندي" =

41

وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدُّعاءُ مخُّ العبادة" (¬1). 41 - قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} قال أبو إسحاق: كان هذا الدعاء من إبراهيم لوالديه قبل أن يتبين له أن أباه عَدُوُّ للهِ (¬2)، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} الآية. [التوبة: 114] ولعل الأمّ كانت مسلمة، يدل على ذلك أنه ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أُمِّه (¬3)، وقال ابن الأنباري: استغفر لأبويه ¬

_ = 2/ 209، هود الهواري 2/ 334، و"الطوسي" 6/ 302، وابن عطية 8/ 256، وابن كثير 2/ 561. (¬1) أخرجه الترمذي (3371) كتاب: الدعوات، باب: جاء في فضل الدعاء 5/ 456 بنصه عن أنس، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لَهيعَة، وأورده التبريزي في "المشكاة" 2/ 693، وابن حجر في "الفتح" 11/ 97، والمناوي في "فيض القدير" 3/ 540 ورمز له بالضعف، والهندي في "الكنز" 2/ 62، والعجلوني في "كشف الخفاء" 1/ 485، وكلهم عزاه للترمذي، والحديث ضعيف بسبب انفراد ابن لهيعة بروايته كما ذكره الترمذي -رحمه الله-، وقد ضُعّف لسوء حفظه، ذكره البخاري والدارقطني والنسائي في الضعفاء. انظر "الضعفاء" لكل من النسائي ص 145، والدارقطني ص 265 والبخاري ص 65، و"تقريب التهذيب" ص 319 (3563)، و"الجرح والتعديل" 5/ 145، و"ميزان الاعتدال" 3/ 189. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 165 بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 358. وهذا القول هو الراجح؛ لموافقته لآية التوبة 114، وبعده عن التكلُّف كما في الأقوال التالية وقد صححه ابن جزي في "تفسيره" 2/ 142، واختاره ابن كثير 2/ 595، ورجحه صديق خان في "تفسيره" 7/ 129. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 4/ 358، والرازي 19/ 140، والخارن 3/ 84، والألوسي 13/ 243، إسلام أمِّ إبراهيم روي عن الحسن -رحمه الله-[كما ذكر الألوسي] وليس هناك دليل ثابت علي إسلامها، لكن لمّا خصر والده بالاستغفار في جميع =

42

وهما حيّان طمعًا في أن يُهْدَيا إلى الإسلام ويَسْعَدا بالدين (¬1)، وقال غيره: استغفر لهما بشرط الإيمان (¬2)، يدل عليه ما قال ابن عباس في هذه الآية: يريد: من لقيك مؤمنًا مصدقًا فتجاوز عنه (¬3)، وهو معنى قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء (¬4). 42 - قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: يريد المشركين أهل مكة (¬5)، وكان سفيان بن عيينة إذا قرأ هذه الآية قال: هذا تعزية للمظلوم، ووعيد للظالم (¬6). ¬

_ = الآيات الواردة بهذا الخصوص [التوبة: 114، مريم: 47، الشعراء: 86، الممتحنة: 4] ماعدا هذه الآية مع أن حقها مقدم على حق الوالد فيه إشارة على أنها كانت مسلمة والله أعلم. (¬1) لم أقف على مصدره، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 333 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 369، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" 3/ 139، والزمخشري 2/ 382، و"الفريد في الإعراب" 3/ 171. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 4/ 358، و"الزمخشري" 2/ 306، و"ابن جزي" 2/ 142، و"صديق خان" 7/ 129، وقد ضَعّف الزمخشري هذا القول، وحجته أنه يأباه قول الله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه، فكيف يُستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم؟!! (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 333 بنصه. (¬4) ورد بلفظه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 165، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 537، و"تفسير الماوردي" 3/ 139، وانظر: "غرائب التفسير" 1/ 582 ذكره واستغربه، و"تفسير الزمخشري" 2/ 307، وابن الجوزي 4/ 369. وهو قول ضعيف فيه تكلُّف وبُعْد عن الظاهر. (¬5) لم أقف عليه، والتعميم أولى من التخصيص. (¬6) انظر: "الكشاف" 2/ 306، والرازي 19/ 141، والخازن 3/ 84، والألوسي 13/ 244.

43

وقوله تعالى: {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} قال شمر: يقال: شخص الرجلُ بصرَه، [وشخص البصرُ نفسُه، إذا سما وطَمَح وشَصا (¬1)، كلُّ ذلك مِثْلُ الشُّخُوصِ (¬2). وقال ابن السِّكِّيت: شَخَصَ بصرُهُ] (¬3)، إذا فتح عينيه لا يَطْرِفُ (¬4). قال الفراء: أي لا يغتمض من هول ما يرى في ذلك اليوم (¬5). وقال ابن عباس: يريد يوم القيامة تشخص فيه أبصار الخلائق إلى الهواء، يريد: أنهم لعجائب ما يرون، ولشدة الحَيْرةِ والدووة لا يغْتَمضون (¬6). 43 - قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ} قال أبو إسحاق: منصوب على الحال، المعنى: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه أبصارُهُم مهطعين، فعلى ما ذكره الألف واللام في: {الْأَبْصَارُ} يدل على الكناية؛ لأن التأويل بأبصارهم على ما ذَكر، وأما تفسير الإهطاع (¬7) فقال أبو عبيدة: هو ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" (طمح) 5/ 2702، (شصا) 4/ 2259. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (شخص) 2/ 1840 نقله بنصه. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬4) "إصلاح المنطق" ص 263 بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (شخص) 2/ 1840 بنصه، والطَّرْفُ: تحريك الجُفُونِ في النظر؛ يقال شخص بصرُه فما يَطْرِفُ. انظر: "المحيط في اللغة" (طرف) 9/ 160. (¬5) لم أجد قوله في معانيه، وورد منسوباً إليه في "تفسير القرطبي" 9/ 376، و"تفسير الشوكانى" 3/ 164، وصديق خان 7/ 130. (¬6) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 334 بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" 9/ 376، وورد نحوه بلا نسبة في "تفسير الرازي" 19/ 141، والخازن 3/ 84، و"تفسير الشوكاني" 3/ 164، وصديق خان 7/ 130. (¬7) في جميع النسخ (الانقطاع) وهو تصحيف ظاهر.

الإسراع (¬1)، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع، إذا أسرع (¬2)، وهو اختيار الزجاج؛ قال: مهطعين: مسرعين، وأنشد (¬3): بِدِجْلةَ أَهْلُهَا ولَقَد أراهُمْ (¬4) ... بِدِجْلةَ مُهْطِعِينَ إلى السّمَاعِ (¬5) قال: أي مسرعين (¬6)، وأنشد أبو عبيدة: بمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنّ زِمَامَه ... في رأسِ جِذْعٍ من أَوالَ مُشَذَّبِ (¬7) ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 324 ولفظه: (مسرعين). (¬2) ورد بنصه في "تهذيب اللغة" (هطع) 4/ 3768، و"تفسير الثعلبي" 7/ 159 أ. (¬3) البيت ليزيد بن مُفزغ الحميري ت (69 هـ). (¬4) في جميع النسخ (رآهم)، والمثبت موافق للديوان وجميع المصادر. (¬5) "ديوانه" ص 167، وورد في "مجاز القرآن" 1/ 343، و"الوقف والابتداء" لابن الأنباري 1/ 67، و"تفسير ابن عطية" 8/ 259، وفيها (دارُهم) بدل (أهلها)، وورد غير منسوب في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 166، و"تهذيب اللغة" (هطع) 4/ 3768، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 173، و"تفسير القرطبي" 9/ 376، و"اللسان" (هطع) 8/ 4674، و"الدر المصون" 7/ 120، و"عمدة الحفاظ" 4/ 294، والمعنى: أي أنهم مقبلون برؤوسهم إلى سماع الداعي. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 166 بنصه. (¬7) ورد بلا نسبة في "مجاز القرآن" 1/ 342، و"تفسير ابن عطية" 8/ 259، وأبي حيان 5/ 429، و"الدر المصون" 7/ 120، وورد فيها عِنَانَهُ (بدل) زمامه، وورد منسوباً لأُنيف بن جَبَلة في "اللسان" (أول) 1/ 175 وليس فيه الشاهد، برواية: أمّا إذا استقبلته فكأنّه ... للعين جِذعٌ من أَوال مُشذَّبُ (السُّرحُ): السرعة، يقال ناقةٌ سُرُحٌ ومُنْسرحةٌ في سيرها: أي سريعة، (أَول): بفتح أوله، قرية بالبحرين، وقيل جزيرة، فإن كانت قرية فهي من قرى السِّيف، ويشهد له قول ابن مقبل: عَمَد الحُداةُ بها لغارضِ قِريةٍ ... وكأنها سُفُنٌ بِسيْفِ أَوالِ (الشَّذبُ) القُشورُ، وجذعٌ مُشَذَّبٌ: أي مقشّر؛ إذا قَشَرْت ما عليه من الشوك، =

قال أبو عبيدة: أهطع وهطع إذا أسرع مقبلًا خائفًا، لا يكون إلا مع خوف (¬1)، وقال أحمد بن يحيىَّ: المُهطِعُ الذي ينظر في ذُلٍّ وخشوعٍ (¬2)، وقال ابن جريج: المهطع الساكت المنطلق إلى الهُتافِ إذا هتف هاتفٌ (¬3) وقال الليث: يقال للرجل إذا أقرَّ وذلَّ قد أهطع (¬4)، وأنشد: ونِمْرُ بن سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهطِعُ (¬5) فهذه أربعة أقوال لأهل اللغة في تفسير هذا الحرف، وأما قول ¬

_ = والمِشْذَبُ: المِنْجَلُ الذي يُشْذَّبُ به. انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 208، و"اللسان" (شذب) 4/ 2219، و"التاج" (سرح) 4/ 85. (¬1) ليس في مجازه، وورد في "جمهرة اللغة" 2/ 917 بنصه تقريباً، و"تهذيب اللغة" (هطع) 4/ 3769 بنصه، وهو مصدره. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 141، و"الدر المصون" 7/ 120، و"عمدة الحفاظ" 4/ 294، و"تفسير الشوكاني" 3/ 164، وصديق خان 7/ 131، وورد في "تهذيب اللغة" (هطع) 4/ 3768 بنصه منسوباً لأبي الفضل المنذري، وأغلب الظن أنه يرويها عن ثعلب؛ لأن كثيراً من روايات ثعلب يرويها الأزهري عن طريق شيخه أبي الفضل المنذري. انظر مثلاً روايته لقنع عنه، في "تهذيب اللغة" (قنع) 3/ 3061. (¬3) ورد بنصه غير منسوب في "اللسان" (هطع) 8/ 4674. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (هطع) 4/ 3768بنصه. (¬5) وصدره: تَعبَّدنِي نِمْرُ بنُ سعدٍ وقد أُرى ورد البيت منسوباً إلى تُبَّع في "الإتقان" 2/ 101، وورد بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (هطع) 4/ 3768 و"الصحاح" (عبد) 2/ 503، و"تفسير الثعلبي" 7/ 159 أ، و"الماوردي" 3/ 140، و"الأساس" 2/ 548، و"الفريد في الإعراب" 3/ 173، و"اللسان" (عبد) 5/ 2779.

المفسرين: فقال سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة: مسرعين (¬1)، وقال سعيد عن قتادة: منطلقين عامدين إلى الداعي (¬2)، وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قولى: {مُهْطِعِينَ} ما الإهطاع؟ قال: النظر (¬3)، وفي ذلك يقول الشاعر (¬4): إذا دَعَانَا فأهْطَعْنا لدَعْوته ... داعٍ سميعٌ فَلَفُّونَا وسَاقُوْنا (¬5) وهذا قول مجاهد والضحاك والكلبي والعوفي عن ابن عباس قالوا: ناظرين مديمي النظر من غير أن يطرفوا (¬6)، ونحو ذلك قال أبو الضحى؛ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 343، بلفظه عن قتادة، والطبري 13/ 237 بلفظه عن قتادة، وبمعناه عن سعيد، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 538، عن قتادة. "تفسير السمرقندي" 2/ 210، عن قتادة، والماوردي 3/ 140، عنهم، و"الطوسي" 6/ 303 عنهم، وأورده اليوطي في "الدر المنثور" 4/ 163، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 237 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 158 ب بنصه. (¬3) ورد في "الوقف والابتداء" لابن الأنباري 1/ 87، وانظر: "الدر المنثور" 4/ 163. (¬4) هو عمران بن حطان من رؤوس الخوارج (ت 84 هـ). (¬5) ورد في "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 1/ 88، و"تفسير ابن عطية" 8/ 259، وأبي حيان 5/ 429، وورد بلا نسبة في "الدر المصون" 7/ 119، و"الدر المنثور" 4/ 163، (لَفَّ): بمعنى جمع. انظر: "اللسان" (لفف) 7/ 4054. (¬6) "تفسير مجاهد" ص 336 مختصراً، ولفظه: مديمي النَّظَر، أخرج الطبري 13/ 237 مختصراً وبنحوه عنهم ماعدا الكلبي، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس 3/ 538 مختصراً، و"تفسير السمرقندي" 2/ 210 مختصراً، والثعلبي 7/ 159 أ، عن مجاهد قال: مديمي النظر، وعن ابن عباس والضحاك قال: شدة النظر من غير أن يطرفوا، وعن الكلبي قال: ناظرين، و"الماوردي" 3/ 140 بنحوه عن ابن عباس والضحاك، وورد في "الدر المنثور" 4/ 163، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن مجاهد.

قال: الإهطاع من التَّحْمِيج (¬1) الذي زدتُم (¬2) النظر ولا يَطْرِف (¬3). وهذه الأقوال توافق ما حكينا من أهل اللغة، والجامع لهذه الأقوال قول من قال الإهطاع: إسراعٌ مع إدامة نظر (¬4). وقوله تعالى: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} قال ابن السكَيت: أقنع رأسه إذا رفعه (¬5)، قال النضر: أقنع فلانٌ رأسه، وهو أن يرفع بصره ووجهه إلى السماء، قال: والمقنع: الرافع رأسه إلى السماء (¬6)، وقال أحمد بن يحييَّ: الإقناع: رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع (¬7). ومنه ما روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تُقْنِع يديك في الدعاء". أي: ترفعهما (¬8). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (التجميح)، وهو تصحيف، والصحيح المثبت، وهو موافق للطبري، يقال: حَمَّجَ تحميجاً، أي نظر بخوف، وتحميج التعيين: غؤُورُهما. انظر: "المحيط في اللغة" (حمج) 2/ 418. (¬2) في (أ): (ررتم)، وفي (ش): (زُتم)، والمثبت من (د)، (ع). (¬3) أخرجه الطبري 13/ 237 بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 538، بمعناه، انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 260. (¬4) وهو قول أبي عبيدة، نسبه إليه النحاس في معانيه 3/ 538، ولفظه بعد أن ذكر قولين قال: قال أبو عبيدة: وقد يكون الوجهان جميعاً، يعني: الإسراع مع إدامة النظر. اهـ. ولم أجده في مجازه، والذي فيه: مهطعين: أي مسرعين 1/ 342، وكذلك نسبه إليه ابن عطية 8/ 260، و"تفسير القرطبي" 9/ 376، وأخطأ المحقق بنسبته إلى أبي عبيد. (¬5) "إصلاح المنطق" ص 238 بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (قنع) 3/ 3060 بنصه. (¬6) "تهذيب اللغة" (قنع) 3/ 3061، نقله بنصه. (¬7) "تهذيب اللغة" (قنع) 3/ 3060، نقله بنصه. (¬8) لم أقف على هذا اللفظ، وورد بنحوه من طريقين، ونصه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة مثنى مثنى، تشهَّدُ في ركعتين، وتخَشَّعُ وتَضَرَّعُ وتَمَسْكن ثم تُقْنِعُ يديك، =

وقال أبو إِسحاق: المقنع الرافع (¬1)، وأنشد للشمَّاخ: يُبَاكرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ ... نَوَاجِذُهُنَّ كالحدأِ الوَقِيعِ (¬2) أراد بأفواه مرفوعات إلى العِضَاة، يصف إبلًا ترعى الشجرَ، شبَّه أنيابها بالفؤوس المحدُودة، والحِدأُ: الفؤوس بالكسر، وعند الكوفيين الحَدَأُ بالفتح جمع حَدَأة، فهما لغتان (¬3)، ونحو ما قال أهل اللغة قال ¬

_ = يقول: ترفعهما .. " أخرجه أحمد 1/ 211، والترمذي: (385) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التَّخشُّع في الصلاة، كلاهما من طريق الليث بن سعد عن الفضل ابن العباس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه أبو داود (1295) كتاب: الصلاة، باب: صلاة النهار، والبيهقي في السنن: الصلاة/ صلاة الليل والنهار مثنى 2/ 488 كلاهما من طريق شعبة عن المطلب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الترمذي: سمعت البخاري يقول: رواية الليث بن سعد أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضع، ثم ذكرها. انظر: "علل الترمذي" 1/ 258 - 259 وقد حسّن إسناد الليث أبو حاتم في "علل الحديث" لابن أبي حاتم 1/ 132، وقال صاحب "تحفة الأحوذي" 2/ 328 قال ابن حجر: إسناده حسن. والصحيح أن الحديث ضعيف كما أشار صاحب التحفة نفسه لأن مداره على عبد الله بن نافع، وهو مجهول، وقال البخاري: لم يصح حديثه. انظر: "التاريخ الكبير" 5/ 213. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 166، بلفظه. (¬2) "ديوان الشمّاخ" ص 220، وورد في "مجاز القرآن" 1/ 343، و"تفسير الطبري" 13/ 238، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 166 "تهذيب اللغة" (حدا) 1/ 755، و"تفسيرالثعلبي" 7/ 159أ، والطوسي 6/ 303، و"تفسير القرطبي" 9/ 377، و"اللسان" (قنع) 6/ 3756، وفي رواية الديوان والزجاج والثعلبي: (يُبَادرْنَ) بدل (يباكرن)، (يباكرن) يبادرن ويعاجلن، (العضاه) هي شجر الشوك؛ واحدها عِضَة وعِضَهَة وعِضَاهَة، (المُقْنَعات) جمع مقْنَع، والمحضع من الإبل: الذي يرفع رأسه خِلْقةً (النواجذ) الأضراس، (الوقيع): المحدَّدة والمرقَّقة بالمِيْقَعة، أي المطرقة. انظر: "المحيط في اللغة" (عضة) 1/ 109، و"اللسان" (قنع) 6/ 3754. (¬3) انظر: "إصلاح المنطق" 149، و"المنتخب من غريب كلام العرب" 1/ 333، =

المفسرون في الإقناع، قالوا: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}: رافعي رؤوسهم، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد (¬1)، قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد (¬2). وقوله تعالى: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر؛ فهي شاخصة والطَرْفُ: تحريك الجفون في النظر، يقال: شخص بصره فما يَطْرِف (¬3)، والطرْفُ: اسم جامع للبصر لا يُثنَى ولا يُجمع (¬4). وتأويل قوله: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: نظرهم إلى شيء واحد، فكأن ذلك الشيء الذي ينظرون إليه قد ذهب بنظرهم نحوه؛ فليسوا ينظرون إلى غيره، هذا معنى قولنا: لا يرجع إليهم نظرهم. ¬

_ = و"جمهرة اللغة" 2/ 1107، و"تهذيب اللغة" (حدا) 1/ 754، و"المحكم" لابن سيده (حدأ) 3/ 311، و"العباب الزاخر" أ/ ص 40. (¬1) "تفسير مجاهد" ص 336 بنصه، أخرجه عبد الرزاق 2/ 343 بنحوه عن قتادة، والطبري 13/ 238 - 239 بنصه عن الضحاك وابن عباس من طريق العوفي ضعيفة، وبنحوه عن مجاهد وقتادة وابن زيد. وورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 538 بنحوه عن مجاهد وقتادة، و"الماوردي" 3/ 141 بنصه عن ابن عباس ومجاهد. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 239 بنصه، وورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 159 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 359، وابن عطية 8/ 260، و"تفسير القرطبي" 9/ 377، والخازن 3/ 85. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (طرف) 3/ 2180 بنصه، وهو قول الليث، وانظر: "المحيط في اللغة" (طرف) 9/ 160. (¬4) المصدر السابق بنصه.

وقوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد خرجت القلوب من مواضعها فصارت في الحناجر (¬1)، ونحو هذا قال قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم (¬2)، فعلى هذا، الأفئدة: أريد بها مواضع القلوب، وذهب قوم من أهل اللغة إلى الفرق بين القلب والفؤاد؛ فقال الليث: القلب مضغةٌ من الفؤاد معلَّقة بالنيَّاط (¬3). وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ قلوبًا وألينُ أفئدة" (¬4)، ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 335 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 371، و"الفريد في الإعراب" 3/ 174. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 343، بمعناه، والطبري 13/ 241 بنصه، وورد في "تفسيرالثعلبي" 7/ 159 ب بنصه، والماوردي 2/ 343 بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 164، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (قلب) 3/ 3026 بنصه. والنياط: عِرقٌ غليظٌ معلق بالقلب. انظر: "المحيط في اللغة" (نوط) 9/ 220. (¬4) أخرجه بنحوه عن أبي هريرة أحمد 2/ 235، 252، 667، 277، 380، البخاري (3488) المغازي/ قدوم الأشعريين، البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 159، ومسلم (52): الإيمان/ تفاضل أهل الإيمان ورجحان أهل اليمن فيه 1/ 72، والبيهقي في السنن: الصلاة/ ما يستدل به على ترجيح قول أهل الحجاز وعملهم 1/ 386، وورد في "تهذيب اللغة" (قلب) 3/ 3026 بنصه، و"مشكاة المصابيح" المناقب، ذكر اليمن والشام 3/ 1765، و"كنز العمال" 12/ 47 كلاهما عزاه للصحيحين، وُيُرَدّ على الواحدي في استدلاله بالحديث على أن القلب أخص من الفؤاد - لوصف الحديث القلوب بالرقة والأفئدة باللين أن كل الروايات التي وقفت عليها والتي جمعت بين القلوب والأفئدة إنما وصفت القلوب باللين والأفئدة بالرقة أي عكس ما ذكر ولم يوصف القلب بالرقة إلا في روايتين لأحمد ورواية للبخاري في تاريخه، وهذه الروايات ذكرت القلب وحده، فلا شاهد فيها، بل ذهب النووي إلى عكس قول الواحدي؛ فجعل الفؤاد أخص من القلب، فقال: وقيل الفؤاد غير القلب، وهو عن القلب وفي باطن القلب وقيل غشاء القلب. انظر: "صحيح =

فوصف القلوب بالرقّة والأفئدة باللين، وكأن القلب أخصُّ منا لفؤاد، ولذلك قالوا: أصبت حبة قلبه (¬1)، والهواء: ما بين السماء والأرض (¬2)، والعرب تسمّي كل خالٍ هواء (¬3)، يقولون: بيت هواء، إذا كان خاليًا قفْرًا لا شيء فيه، والمعنى في الآية: أن قلوبهم ارتفعت إلى حناجرهم من فزع ذلك اليوم وهوله، وبقي موضعها هواء لا شيء فيه كهواء ما بين السماء والأرض، ولهذا المعنى قالوا للجبان: مُجوَّفٌ هواء، أي أنه لا قلب له، ومنه قول حسان: فأنْتَ مُجوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ (¬4) ¬

_ = مسلم بشرح النووي 2/ 34، ولعل سبب مخالفة رواية الواحدي لروايات كتب السنة التي ذُكِرت، أنه قد اعتمد في نقل هذا الحديث والتعليق عليه على كتاب "تهذيب اللغة"؛ وكتب اللغة ليست دقيقة في نقل الأحاديث كالكتب المتخصصة. (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (قلب) 3/ 3026 بنصه. (¬2) انظر: (هوى) في "الصحاح" 6/ 2537، و"اللسان" 8/ 4726. (¬3) ورد بنحوه في: "تفسير الطبري" 13/ 241، و"الثعلبي" 7/ 159 ب. (¬4) وصدره: ألا أبلغ أبا سفيان عني "ديوان حسان" ص 9، وورد في: "مجاز القرآن" 1/ 344، و"تفسير الطبري" 13/ 241، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 541، و"تهذيب اللغة" (جاف) 1/ 522، و"تفسير الثعلبي" 7/ 159 ب، والماوردي 3/ 141، والزمخشري 2/ 307، وابن الجوزي 4/ 371، وابن عطية 8/ 262، و"تفسير القرطبي" 9/ 377، والبقاعي 4/ 194، و"العباب الزاخر" ف/ 77. (المُجوَّف) الجبان الذي لا قَلْب له، كأنه خالي الجوفِ من الفؤاد، (النَّخْبُ) الضعف، يقال رجلٌ نخِبُ الفؤاد ومَنْخُوبٌ: أي جبان. انظر: "المحيط في اللغة" (نخب) 4/ 361، و"اللسان" (جوف) 2/ 728. وفي هذا البيت يصف حسّان أبا سفيان بالجبن والضعف، وأغلب الظن أنه كان قبل أن يسلم رضي الله عنهما.

وقال زهير يصف ناقة: كأنّ الرَّحْلَ منها فَوقَ صَعْلٍ ... من الظِّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَواءُ (¬1) أي لا قلب في صدره فهو خال، وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: أن قلوبهم عما ذهلوا من الفزع خلت عن العقول، وهو معنى قول ابن عباس في رواية العوفي، وبه قال مجاهد، ومُرَّة، وابن زيد، واختاره الأخفش؛ فقال في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي جَوْفٌ لا عقول لها ولا خير فيها (¬2)، وعلى هذا القول، المراد بالأفئدة: القلوب، وهو الصحيح في اللغة (¬3)، قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] يعني القلب، وقال امرؤ القيس: رَمَتْني بسَهْمٍ أصابَ الفُؤادَ ... غداةَ الرَّحِيل فلم أشهر يعني أصاب قلبي، الأزهري: ولم أرهم يفرقون بينهما (¬4)، ويحتاج ¬

_ (¬1) "شرح ديوان زهير" ص 63، وورد البيت في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 166، مع اختلاف يسير في كلمتين: (الظلماء) و (جؤجؤها)، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 540، و"تفسير الثعلبي" 7/ 159 ب، والزمخشري (2/ 307 (عجزه))، وابن عطية 8/ 262، و"تفسير القرطبي" 9/ 378، وأبي حيان 5/ 430، و"الدر المصون " 7/ 123. (الرحْل) ما يوضع على ظهر البعير للركوب عليه، (الصَّعْل) الدقيقُ الحُنُق الصغيرُ الرأس، (الظلمان) جمع ظليم وهو ذَكَر النَّعام، (جؤجؤه) صدره، (هواء) لا مخَّ فيه، وقال الأصمعي: جؤجؤه هواء: أي أنه مُنْتَخَبُ العقل [أي جبان] وإنما أراد أنه لا عقل له، وكذلك الظَّليمُ هو أبداً كأنه مجنون. (¬2) لم أجده في معانيه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 159 ب بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 359. (¬3) وهذا القول هو الذي رجحه الطبري 13/ 241، وأيَّده ببيت حَسَّان السابق. (¬4) لم أجده في "تهذيب اللغة"، وكلامه هذا يتناقض مع استشهاده بحديث: (أتاكم أهل اليمن)؛ حيث فرق بين القلب والفؤاد، إلا أن يكون هذا من كلام الواحدي =

في هذا التفسير إلى تقدير المضاف، كأن المعنى: وأفئدتهم ذات هواء؛ أي خالية. 44 - قوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} هذا عطف على قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} لأنه قد تمَّ وصف الكفار وحالهم عند البعث في القيامة، ثم عاد إلى خطاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالإنذار فقال: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} قال ابن عباس: يعني أهل مكة (¬1)، قال: ولو أن أهل مكة اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف عليه اثنان، قال: ويقال لو آمن الوليد بن المغيرة ما تخلَّف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} (يوم) مفعول به، والعامل فيه أنذرهم؛ كما يقول: خوّفه العقاب وخوّفه الهلاك، ولا يكون على الظرف؛ لأنه لم يؤمر بالإنذار في ذلك اليوم (¬2). وقوله تعالى: {فَيَقُولُ} عطف {يَأْتِيهِمُ}؛ يعني: فيقولون في ذلك اليوم، {الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال ابن عباس: يريد أشركوا (¬3)، {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استمْهَلوا مدةً يسيرة لكي يجيبوا الدعوة ويتبعوا الرسل، قال ابن عباس: يريدون الرجعة إلى الدنيا، وهذا معنى وليس ¬

_ = الواحدي، وكلمة الأزهري صفة للقلب لا أنها علم، وهو محتمل. (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 335 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 372، و"تفسير القرطبي" 9/ 378، والأولى حمل الآية على العموم، لعدم وجود مخصص. (¬2) انظر: "البيان في غريب الإعراب" 2/ 61، و"الإملاء" 2/ 70، و"الفريد في الإعراب" 3/ 174. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 274، بلفظه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 210، والبغوي 4/ 358، وابن الجوزي 4/ 372.

44

بتفسير، وذلك أنهم لما استَمهَلوا للإجابة صار كأنهم قالوا: أرجعنا إلى الدنيا أيامًا؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، وإنما كُلِّفوا الإجابة في دار [الدنيا فيجابون عن هذا الاستمهال، ويقال لهم: {أَوَلَمْ يكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ] (¬1) زَوَالٍ} قال مجاهد: أي من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة (¬2)؛ أي لا تبعثون. قال ابن عباس: يريد حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون (¬3)، وهو قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38]. 45 - قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قال المفسرون: يعني الأممَ الكافرة قبلهم؛ قومَ نوح وعاد وثمود، ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية (¬4)، وهذا احتجاج عليهم؛ يقول: كان ينبغي أن ينزجروا ويرتدعوا اعتبارًا بمساكنهم، بعد ما تبيّن لكم كيف فعلنا بهم، {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} قال ابن عباس: يريد الأمثال التي في القرآن (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع). (¬2) أخرجه الطبري 13/ 242 بنصه، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 142 بنصه، والطوسي 6/ 305. وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 596، والألوسي 13/ 248. (¬3) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 335، وابن الجوزي 4/ 372. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 243 بنحوه عن قتادة، وبمعناه عن ابن زيد، وورد في السمرقندي 2/ 210 بنحوه، والثعلبي 7/ 149 ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 360، وابن الجوزي 4/ 372، والفخر الرازي 19/ 143. (¬5) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 372 بنصه.

46

46 - قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} [يعني مكرهم بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - وما همُّوا به من قتله أو نفيه (¬1). {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} (¬2) أي قد عرف الله مكرهم، وهو عالم به لا يخفى عليه ما فعلوا، فهو يجازيهم عيه، وقال أبو علي: وعند الله جزاءُ مكرِهم فحذف المضافَ كما حُذف من قوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] أي: جزاؤه. وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إن) هاهنا يعني بها: ما، واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد، ومن سبيلها نصبُ الفعل المستقبل، والنحويون يسمونها لام الجحود (¬3)، ومثله قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُم}، و {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] والجبال هاهنا مَثلٌ لأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأمرِ دين الإسلام وأعلامِه ودلالتِه، على معنى أن ثبوته كثبوت الجبال الراسية؛ لأن أدته تعالى قد وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - إظهار دينه على كل الأديان، ويدل على صحة هذا المعنى قوله بعدُ: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي (¬4): فقد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم ومعنى الآية: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 211، وابن الجوزي 4/ 374، والفخر الرازي 19/ 144، والخازن 3/ 85. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع). (¬3) هي لام زائدة بعد كون منفي -كان يكون- فينُصبُ المضارعُ بعدها بـ (أنْ) المضمرة، وهي حرف مبني على الكسر لا محل له من الإعراب، ويسميها سيبويه (لأم النفي) ولها عدة شروط. انظر: "المغني" ص 278، و"الشامل" ص 196، و"معجم القواعد العربية" للدقر ص 400. (¬4) ساقطة من (ش)، (ع)، وهي ثابتة في المصدرة "الحجة للقراء" 5/ 33.

وما كان مكرهم ليزول منه ما هو مثلُ الجبال في امتناعه ممن أراد إزالته (¬1)، هذا الذي ذكرنا معنى قول الحسن: كان مكرُهم أوهنَ وأضعفَ من أن تزول منه الجبال (¬2)، قال: و (إن) هاهنا بمعنى (ما) (¬3)؛كقوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} (¬4) [الأنبياء: 17] وقول: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (¬5) [الأحقاف: 26]، وهو كثير، وهذا القول اختيار أبي إسحاق (¬6) وأبي بكر وأبي علي (¬7). قال أبو علي: وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا، في تعظيم الشيء وتفخيمه (¬8)، قال ابن مُقبل: إذا مِتُّ عن ذِكرِ القوافي فَلَنْ تَرَى ... لها شَاعِرًا مِثلي أطَبَّ وأَشْعَرَا وأكثرَ بَيْتًا شَاعِرًا ضُرِبَتْ به ... بُطُون جِبَالِ الشِّعْرِ حتَّى تَيَسَّرا (¬9) ¬

_ (¬1) نقل طويل من "الحجة للقراء" 5/ 31 - 33 من قوله: قال أبو علي، تصرف فيه بالاختصار والتوضيح، والتقديم والتأخير. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 247 بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 3/ 543 بنصه تقريباً، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 360، وابن الجوزي 4/ 374، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 165، وعزاه إلى ابن الأنباري. (¬3) لم يقل الحسن -رحمه الله- هذا بلفظه، إنما ذكر الأمثلة التي دلت على معنى ذلك. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 247. (¬4) أي: ما كنا فاعلين. (المصدر السابق). (¬5) أي: ما مكناكم فيه. (المصدر السابق). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 166، وهو اختيار الطبري 13/ 247، وقد صوّبه وأيدّه بعدة أمور، انظرها. (¬7) "الحجة للقراء" 5/ 31. (¬8) "الحجة للقراء" 5/ 33 بنصه. (¬9) "ديوان ابن مقبل" ص 136 وفيه: (لها تالياً) بدل (لها شاعراً)، (مارداً) بدل =

فاستعار للشعر جبالاً؛ يريد امتناعه على من أراده. هذا الذي ذكرنا معنى قراءة العامة (¬1)، وقرأ الكسائي: (لَتزولُ) بفتح اللام الأولى وضم الثانية (¬2)، وعلى هذه القراءة معنى قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} يعني الأمم الكافرة من قبل؛ وهم الذين ذُكروا في قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وهو معنى قول ابن عباس: يريد ما مكر نمرود بإبراهيم، يجوز أن يعني أيضًا مكر الكفار بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا، {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} معنى (إنْ) على هذه القراءة المخففة من الثقيلة، قاله أبو علي (¬3). وقال أبو بكر: (إنْ) مع اللام يعني بها هاهنا: (قد)؛ كما يقول العربي: إنْ كان عبد الله لَيزورنا، يريد: قد كان، واللام في: {لِتَزُولَ} لام الجواب، والمستقبل بعدها مرفوع، والمعنى قد كانت الجبال تزول من مكرهم على تعظيم أمر مكرهم؛ كقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22]. ¬

_ = (شاعراً الثانية)، (له) بدل (به)، (حُزُون) بدل (بُطُون) وورد في "الحجة للقراء" 5/ 33، و"الحلبيات" ص 197، و"تفسير الطوسي" 6/ 307، و"الشعر والشعراء" ص 298، وفيه: (تالياً بعدي) بدل (شاعراً مثلي)، والبيت الثاني يختلف كثيراً، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 108، وفيه: (حبال) بدل (جبال)، و"دلائل الإعجاز" للجرجاني ص 391، وفيه: (قائلاً بعدي) بدل (شاعراً مثلي)، وفي البيت الثاني: (سائراً) مكان (شاعراً)، و (حُزون) مكان (بُطون)، ومعنى (أطب) أعْرَف، (مارداً)؛ المارد: العاتي الشديد، ويريد به الجيد السائر، (حُزُون): جمع الحزن، وهو ما غلظ من الأرض في ارتفاع وخشونة. (¬1) انظر: "السبعة" ص 363، و"علل القراءت" 1/ 290، و"إعراب القراءات وعللها" 1/ 337، و"الحجة للقراء" 5/ 31، و"التيسير" ص 135، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 713، و"النشر" 2/ 300، و"الإتحاف" ص 273. (¬2) المصادر المسابقة. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 32 بنصه.

وقال أبو إسحاق: وإن كان مكرُهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصرُ دينه (¬1)، فإن قيل هذه القراءة على ما ذكرتم يُوجب أن الجبال قد زالت بمكرهم وهل كان ذلك؟ والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما لأهل المعاني، والثاني للمفسرين؛ أما أهل المعاني فإنهم قالوا: هذا مبالغة في وصف مكرهم بالعظيم، وإن لم يكن جبلٌ قط زال لمكرهم، فهذا على مذهب العرب في المبالغة؛ يقول: وإن كان مكرُهم قد بلغ من كِبَرِه وعِظَمِه أن يُزيلَ ما هو مثل الجبال في الامتناع على من (¬2) أراد إزالتَه ثباتُها؛ كأنه قيل: لو أزال مكرُهم الجبال لما أزال أمرَ الإسلام. يدل على صحة ما ذكرنا قراءةُ جماعة من الصحابة: (وإن كاد مَكْرُهم لَتَزولُ) بالدال (¬3)، أي (¬4): قد قاربت الجبال أن تَزولَ، وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬5) وأبي بكر (¬6) وأبي علي (¬7)؛ قال أبو علي: ومثل هذا في تعظيم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 167 بنصه. (¬2) في جميع النسخ (ما) والتصويب من "الحجة للقراء" / 32 ليستقيم الكلام. (¬3) قرأ بها عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأُبي بن كعب رضي الله عنهم، وهي قراءة شاذة. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 245، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 187، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه ص 74، و"المحتسب" 1/ 365، و"إعراب القراءات وعللها" 1/ 337، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 374، و"تفسير القرطبي" 9/ 380. (¬4) ساقطة من (أ)، (د). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 167. (¬6) لم أقف على مصدره، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 374، مختصراً. (¬7) "الحجة للقراء" 5/ 32.

الأمر قول الشاعر: ألمْ تَرَ صَدْعًا في السَّمَاءِ مُبَيِّنًا ... على ابنِ لُبَيْنى الحارثِ بن هِشَامِ (¬1) وهذا ليس على أنه شوهد صدع في السماء، ولكنه مبالغة على معنى أن الأمر قد قرب من ذلك، ومثله كثير في الشعر، وذكر ابن قتيبة باب ما أفرطت الشعراء في وصفه، وأنشد أبياتًا كثيرة، ثم قال: وهذا كله علي المبالغة في الوصف، وينوون في جمعه (¬2): يكافى يفعل (¬3)، وأنشد أبو إسحاق قول الأعشى: لئن كنتَ في جُبٍّ ثَمانينَ قامةً ... ورُقِّيتَ أسبابَ السماءِ بِسُلّم لَيسْتَدرِكَنَّكَ القَوْلُ حتَّى تَهِرّهُ ... وتَعْلَمَ أني عنكم غيرُ مُنَجِّمِ (¬4) ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في: "الحجة للقراء" 5/ 32، و"تفسير الطوسي" 6/ 307، وأبي حيان 6/ 218. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ويحتمل أنها (جميعه) أي في جمغ ما ذكروا، وعلى المثبت أي ينوون في جمعه من الجمع وإن كان مفرداً. (¬3) لم أقف عليه في كتبه المطبوعة. (¬4) "ديوان الأعشى" ص 82، ورواية البيت الثاني تختلف عن الديوان، وهي: لَيَسْتَدرِجَنْكَ القولُ حتى تَهِرَّهُ ... وتَعْلَمَ أني عنكَ لستُ بمُلْجَم وورد البيت الأول فقط في "الكتاب" 2/ 28، و"مجاز القرآن" 1/ 302، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 187، و"شرح المفصل" 2/ 74، و"اللسان" (ثمن) 1/ 509، (رقا) 3/ 1711. (تهرّه): يقال هرّ الشيء يهُره ويهِره هرّاً وهريراً، أي كرِهَهُ، (مُنَجِّم): اسم فاعل من التنجيم، وهو الناظر في النجوم للتفكر والتدبر، وهو أيضاً ادعاء علم الغيب بالنظر في النجوم، وهو أيضاً التجْزِيىء؛ ومنه قولهم نزل القرآن منجماً وعلى هذه الرواية يكون المعنى: إن تهديدي لك ليس رجماً بالغيب كما هو قول المنجِّم، (ملجم) من اللجام وهو معروف؛ وهو حبل أو عصا تُدخل في فم الدابة وتلُزق إلى قفاه، والممسك عن الكلام مُمَثَّلُ بمن ألجم نفسه بلجام، وعلى هذه الرواية، =

قال: فإنما بالغ في الوصف، وهو يعلم أنه لا يُرَقَّى (¬1) أسبابَ السماء (¬2). وقال أبو بكر في قول الأعشى: تأويله لئن كنت فيما تَقْدِر ويُقَدَّر لك في قعر الأرض أو في السماء، لَيَصلنَّ إليك مني ما كره، لذلك معنى {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}: عند أنفسهم وفيما يقدّرون، فليس ينفعهم ذلك إذا كان الله قد وعد على ألسنة رسله ظهورَ الحق على الباطل. وأما المفسرون فإنهم ذهبوا إلى قصة نمرود مع التابوت والنسور، وأن الجبال حين سمعت حفيف النسور والتابوت عند هبوطها ظنت أن ذلك أمرٌ من الله تعالى عظيم، وأن الساعة قد قامت ففزعت وزالت، وهذا يُروى عن علي -رضي الله عنه- ومجاهد وعكرمة (¬3). ¬

_ = المعنى: إن لساني غير ملجم عنك؛ لأنها من قصيدة قالها يهجو عمير بن المنذر. انظر: "اللسان" (لجم) 7/ 4002، (هرر) 8/ 4650، (نجم) 7/ 4358. (¬1) في (أ)، (د): (لا يرقك)، وفي (ش)، (ع): (لا تزول) والتصويب من المصدر. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 168 بنصه. (¬3) أخرجه الطبري 13/ 244 - 245، مفصلاً عن علي ومجاهد من طرق، وورد مفصلاً في "تفسير السمرقندي" 2/ 211 عن علي، و"مشكل إعراب القرآن" 1/ 454 عن عكرمة، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 360، وابن الجوزي 4/ 373، وما بعدها، و"تفسير القرطبي" 9/ 381، وابن كثير 2/ 596، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 166، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن علي -رضي الله عنه-. وهذه القصة ظاهرة الوضع أو أنها إسرائيلية، إذ لم يرو فيها حديث مرفوع إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بل وردت الروايات موقوفة على علي -رضي الله عنه- بطرق مضطربة وبأسانيد فيها جهالة، كما أنها ليست من الطرِق المشهورة عن علي -رضي الله عنه- فضلاً أن تكون من الصحيحة، ولعل هذا سبب نفي ابن عطية صحة نسبتها لعلي -رضي الله عنه- كما ضعفها من=

47

قال مجاهد: كان ذلك بختنصر (¬1). 47 - قوله تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} قال الفراء: أُضيفت {مُخْلِفَ} إلى الوعد ونُصبت الرسلُ على التأويل؛ لأن الإخلاف قد يقع بالوعد كما يقع بالرسل، فيقول أخلفت الوعدَ وأخلفت الرسلَ (¬2)، وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل: كَسَوْتك الثوبَ وأدخلتك الدار، فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل؛ تقول: هو كاسي عبد الله ثوبًا، ومدخله الدارَ، ويجوز: هو كاسي الثوبِ عبد الله، ومدخل الدارِ زيدًا؛ لأن الفعل قد يأخذ الدار كأخذه عبد الله فيقول: أدخلت الدار، وكسوت الثوب، ومثله قول الشاعر (¬3): ¬

_ = جهة المعنى، فقال: وذُكر ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وذلك عندي لا يصح عن علي، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الإنسر كما وُصف، وبعيد أن يُغرِّر أحد بنفسه في مثل هذا. (8/ 265)، وقد انتقد الزجاج هذه القصة من قبل فقال: وقيل هذا في قصة النمرود بن كنعان، ولا أرى لنمرود هاهنا ذكرًا. "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 167، وكذلك نقل الرازي تضعيفها فقال: قال القاضي لم أقف عليه: وهذا بعيد جدًّا لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء فيه خبر صحيح معتمد، ولا حجة في تأويل الآية البتة. "تفسير الفخر الرازي" 19/ 144. (¬1) أخرجه الطبري 13/ 244، مفصلاً، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 374، وابن كثير 2/ 596، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 166، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬2) يقول الزمخشري في "تفسيره" 2/ 307: فإن قلت هلا قيل مخلفَ رسلِه وعدَه، ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟ قلت: قدّم الوعد ليُعلمَ أنه لا يخلف الوعد، ثم قال: {رُسُلَهُ} ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلفه رُسلَهُ الذين هم خيرته وصفوته؟! (¬3) لم أقف عليه، والبيت من الخمسين بيتاً التي لي يعرف لها قائل. ذكره عبد السلام هارون محقق "الكتاب" 1/ 181، بالحاشية.

48

تَرَى الثورَ فيها مُدخِلَ الظِّلِّ رَأسَهُ ... وسَائِرُهُ بَادٍ إلى الشَّمْس أجْمَعُ (¬1) أي مدخل رأسه الظلَّ، فقلب وأضاف مُدخلَ إلى الظلِّ [لأن الظل] (¬2) التبس برأسه (¬3)، فصار كل واحد منهما داخلًا في صاحبه (¬4)، قال ابن عباس: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ}: يا محمد، {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} يريد النصر والفتح وإظهار الدين (¬5)، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} قال: يريد: أن الله منيع شديد الانتقام، ومعنى الانتقام الجزاء بما كان من السيئات. 48 - قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} الآية. ذكر الزجاج في نصب (يوم) وجهين؛ أحدهما: أنه صفة لقوله {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬6)، والآخر: أنه على معنى ينتقم يوم تبدل (¬7)، وذكرنا في قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ ¬

_ (¬1) ورد البيت في المصادر التالية "الكتاب" 1/ 181، و"تأويل مشكل القرآن" ص 194، و"تفسير الطبري" 13/ 248، وابن عطية 8/ 478، و"وَضَح البرهان في مشكلات القرآن" 1/ 488، و"تفسير القرطبي" 9/ 382، و"الفريد في الإعراب" 3/ 177، و"تفسير أبي حيان" 5/ 439، و"الدر المصون" 7/ 128، و"الخزانة" 4/ 235، و"الدرر اللوامع" 6/ 37. برواية (أكتع) بدل (أجمع)، والبيت وصف لهاجرة ألجأت الثيران إلى كُنُسِها، فهي تدخل رؤوسها في الظل لما تجده من شدة القيظ وسائر جسدها بارز للشمس. (¬2) ما بين المعقوفين من (ش) وساقط من باقي النسخ. (¬3) يقول الأعلم: كان الوجه أن يقول: مُدخلَ رأسه الظلّ؛ لأن الرأس هو الدّاخل في الظل، والظل هو المدخل فيه. "الدرر اللوامع " 6/ 37. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 79، نقل طويل مع تصرف يسير. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 337 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 375. (¬6) وتقديره: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} ذكره الزجاج. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه"، 3/ 169 بمعناه، حيث قال: وإن شئت أن يكون منصوباً بقوله ذو انتقام.

جُلُودًا} [النساء: 56] أن التبديل يقع على معنيين، أحدهما: تبديل العين إلى غيره، والثاني: تبديل الصورةِ والعين قائمة، وقد ذُكر المعنيان في هذه الآية، قال ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض، وإنما تُبدل آكامُها وجبالها وأشجارها (¬1)، ثم أنشد (¬2): فما الناسُ بالناسِ الذين عَهِدتُهُم ... ولا الدَّارُ بالدَّارِ التي كنت أعْرِفُ (¬3) ونحو هذا روى أبو هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها (¬4) ويمدُّها مدَّ الأديم العُكاظيِّ لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا" (¬5). ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 144 ب بنصه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 308، والفخر الرازي 19/ 146، و"الفريد في الإعراب" 3/ 178، و"تفسير أبي حيان" 5/ 439، و"الدر المصون" 7/ 130، و"تفسير أبي السعود" 5/ 60. (¬2) نُسب إلى ابن عباس في المصادر السابقة عدا تفسير الفخر الرازي ونُسب إلى عبد الله بن شبيب في "مجالس ثعلب" ص 49. (¬3) المصادر السابقة نفسها، وتختلف رواية "مجالس ثعلب" في العجز، وهي: وما الدهر بالدهر الذي كنت تعرف (¬4) في جميع النسخ (فينبشها) والتصويب من الطبري والثعلبي وباقي المراجع. (¬5) الحديث جزء من حديث الصور الطويل، أخرجه الطبري 13/ 252، مختصراً، والطبراني في "معجمه الكبير" 25/ 266، مطولاً، والبيهقي في "البعث" ص 338، مطولاً، وطرفه: (إن الله عَزَّ وَجَلَّ لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور)، وأورده الثعلبي 2/ 144 ب، مختصرًا، وابن كثير 2/ 163، مطولاً، وورد مختصرًا في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 375، والفخر الرازي 19/ 146، و"تفسير القرطبي" 9/ 383، وابن كثير 2/ 599، وأبي السعود 5/ 60، و"حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 534، والحديث ضعيف، وقد ضعفه ابن كثير رحمه الله 2/ 167 ووصفه بالنكارة؛ بسبب تفرد إسماعيل بن رافع وهو مكر الحديث، وأكده أحمد شاكر -رحمه الله- فقال: هو حديث ظاهر النكارة. انظر: "عمدة =

وقال الحسن: هي هذه الأرض إلا أنها تُغيَّر إلى سورة أخرى (¬1). وأما تبديل السموات فقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وتبديل المموات بأن يزاد فيها وينقص منها (¬2). وقال ابن الأنباري: باختلاف هيئتها؛ كما ذكر الله تعالى أنها مرة كالمهل (¬3)، وتكون كالدهان (¬4)، وعلى هذا القول معنى التبديلِ في الآية: وتبديلُ الصورةِ باختلاف الهيئةِ، والعينُ كما هي، كما تقول: قد بدلت قميصي جُبة؛ أن تقلبَ العينَ من حال إلى حال أخرى، وهو اختيار أبي إسحاق، قال: قد يقول: بَدَّل زيدٌ، إذا تغيرت حاله، فمعنى تبديل الأرض: تسيير جبالها وتفجير بحارها، وكونها مستوية لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وتبديل السموات: انتثار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها وخسوف قمرها. قال: وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ} أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات (¬5)، ومثله قال أبو علي: قال وهو كقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يُقتل مؤمنٌ بكافر ولا ذو عهد ¬

_ = التفسير" 1/ 788. حاشية (2) (العكاظي) نسبة إلى سوق عكاظ، (العوج) ما اعوج يمينًا وشمالاً، (الأمت): ما يرتفع مرة ويهبط أخرى. "غريب اليزيدي" ص 250. (¬1) ورد في معاني القرآن" للنحاس 3/ 545، بمعناه، و"تفسير الطوسي" 6/ 309 بنصه. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 375، لكن جعله تفسيرًا لتبديل الأرض لا السماء، حيث قال: إنها تلك الأرض، وإنما يزاد فيها وينقص منها، وكذلك أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 168وعزاه إلى البيهقي في البعث لم أجده. (¬3) يشير إلى قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]. (¬4) يشير إلى قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 169 بنصه.

في عهده" (¬1) (¬2). المعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، كما كان التقدير في الآية؛ والسموات غير السموات، وذهب قوم إلى تبديل العين، فقال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة بيضاء نقية، لم يُسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة (¬3)، ونحو ذلك قال ابن عباس في رواية الكلبي وعطاء (¬4). ¬

_ (¬1) "المسائل الحلبيات" ص 74 بنصه دون ذكر الحديث. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: باب قود المسلم بالذمي 10/ 99 بنحوه عن الحسن مرسلاً، وأبو داود (4530) كتاب: الديات، إيقاد المسلم بالكافر، (2751) كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أملى العسكر، بنصه، وابن ماجه (2658) كتاب: الديات لا يقتل مسلم بكافر، واللفظ له، والنسائي: القَسامة، القود بين الأحرار والمماليك في النفس 8/ 19 بنصه، والحاكم: الفيء لا يقتل مؤمن بكافر 2/ 141 بنصه، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن: الجنايات فيمن لا قصاص بينه باختلاف الدين 8/ 29 بنحوه، كلهم عن علي إلا ابن ماجه عن ابن عباس، وذكره الألباني في "صحيح أبي داود" (2751)، (4530)، و"صحيح النسائي" 3/ 984، و"صحيح ابن ماجه" (2658). (¬3) أخرجه بنصه: عبد الرزاق 2/ 344، موقوفاً على عمرو بن ميمون راوي الحديث عن ابن مسعود والطبري 13/ 250، من طرق، والطبراني في "الكبير" 9/ 232، والحاكم 4/ 570، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 153، وورد بنحوه في معاني النحاس 3/ 544، و"تفسير السمرقندي" 2/ 211، والماوردي 3/ 143، وأورده ابن حجر في "الفتح" 11/ 383، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد والبيهقي في الشعب لم أقف عليه، وقال: ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 251، من طريق العوفي ضعيفة، ولفظه: فزعم أنها تكون فضة، ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 143 مختصرًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي". برواية عطاء 4/ 376، و"تفسير القرطبي" 9/ 384، وابن كثير 2/ 564.

يؤكد هذا ما روى سَهْل بن سَعد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُحْشرُ الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عَفْراءَ كَقُرْصَةِ النَّقيّ ليس فيها معلم لأحد" (¬1). وقال علي -رضي الله عنه- في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب (¬2)، ومذهب أكثر المفسرين؛ عكرمة، ومجاهد، والقرظي، وكعب: على أن هذا التبديل هو تبديل العين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه بنصه البخاري (6521) كتاب: الرقاق، باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ومسلم (2790) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: صفات المنافقين في البعث والنشور 4/ 2150، والطبري 13/ 250، والطبراني في "الكبير" 6/ 155، 174. (عفراء) العفر: بياض ليس بالناصع، وقيل بياض يضرب إلى حمرة قليلاً، (كقرصة النَقِّي): هو الرغيف المصنوع من الدقيق النقي من الغش والنخالة؛ يسمى الحُوَّارى، (ليس فيها معلم لأحد) قيل إنها مدرجة؛ من كلام سهل -رضي الله عنه- أو غيره، (المَعْلَم):الشيء الذي يُستدل به على الطريق، والمراد: أنها مستوية ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات؛ كالجبل والصخرة البارزة انظر: "فتح الباري" 11/ 382. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 251، وفيه (والجنة) بدل (والسماء)، وورد بنصه في "تفسيرالثعلبي" 2/ 144 ب، والماوردي 3/ 144، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 361 - 362، و"ابن الجوزي" 4/ 376، و"تفسير القرطبي" 9/ 384، و"الخازن" 3/ 86، وأبي حيان 5/ 439، وابن كثير 2/ 598، و"الدر المنثور" 4/ 168، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) وقد تعددت أقوالهم في ماهية التبديل على أقوال: فقال مجاهد: تبدل أرضًا بيضاء كأنها الفضة، والسموات كذلك كأنها الفضة. "تفسير مجاهد" 1/ 336، وأخرجه الطبري 13/ 250، وقال كعب: تفسير السموات جناناً، ويصير مكان البحر النار، وتبدل الأرض غيرها. أخرجه الطبري 13/ 252، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 144، والثعلبي 2/ 144 ب، والخازن 3/ 86، وابن كثير 2/ 598، وقال القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم. =

49

وسألتْ عائشةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية وقالت: أين يكون الناس يومئذ؟ قال: "على الصراط" (¬1) قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أىِ ظهروا وخرجوا من قبورهم، وهو كقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] وقد مرّ. 49 - قوله تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: يريد الذين أجرموا، زعموا أن لله شريكًا وولدًا ونظيرًا (¬2)، {يَوْمَئِذٍ} يريد يوم القيامة، {مُقَرَّنِينَ} يقال: قرنت الشيء بالشيء، إذا شددته به ووصلته، والقَرْنُ اسم الحبل الذي شُدَّ به شيئان (¬3)، وجاء هاهنا على التكثير لكثرة أولئك القوم. ¬

_ = أخرجه الطبري 13/ 252، وورد في "تفسيرالثعلبي" 2/ 144ب، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 462، وابن الجوزي 4/ 376، وأبي حيان 5/ 439، وابن كثير 2/ 898، والخازن 3/ 86، وقال عكرمة: تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة، يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب. أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 169، وعزاه إلى البيهقي في البعث، وهذا القول أي تبديل العين هو الأرجح؛ لموافقته لظاهر الآية، إذ هو الأصل في التبديل، ويعضده الأحاديث الصحيحة والصريحة، وقد رجحه جماعة من المفسرين؛ منهم: الطبري 13/ 254، و"تفسير القرطبي" 9/ 383، و"الجمل في حاشيته على الجلالين" 2/ 534. (¬1) أخرجه بنصه: أحمد 6/ 35، ومسلم (2791) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: في البعث والنشور، والترمذي (3121) التفسير، باب من سورة إبراهيم، وابن ماجه (4279): كتاب: الزهد، باب: ذكر البعث، والطبري 7/ 482 بعدة روايات، والحاكم في المستدرك: التفسير، سورة إبراهيم 2/ 88، وورد بنصه في: "معاني القرآن" للنحاس 3/ 545، و"تفسير السمرقندي" 2/ 212، والثعلبى 2/ 145 أ. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 338 بنحوه. (¬3) انظر: (قرن) في "تهذيب اللغة" 3/ 2947، و"اللسان" 6/ 3610.

وقوله تعالى: {فِي الْأَصْفَادِ} جمع صفْد وهو القيد، يقال: صَفَدْتُ الرجلَ فهو مَصْفُود، والمصدر: الصَّفْد، والاسم: الصَّفَد، ومثله الصِّفادُ: وهو كل ما يوثق به من نِسْع أو قِدِّ (¬1)، ويقال أيضًا من هذا صَفَّدته بالتشديد، ومنه الحديث: "صُفِّدت الشَّياطين" (¬2). قال أبو عبيد: شُدَّت بالأغلال، قال عمرو: وأُبْنَا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينا (¬3) ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (صفد) 2/ 2025 بنحوه، وانظر: (صفد) في "المحيط في اللغة" 8/ 117، و"الصحاح" 2/ 498، و"مقاييس اللغة" 3/ 293، و"اللسان" 4/ 2458. (النَّسعُ) سيرٌ يُضَفَّر على هيئة أعنَّة النعال، تشدّ به الرحال، ويجعل زمامًا للبعير وغيره، (القَدّ) سيرٌ يصنع من الجلد، تخصف به النعال، وتشدّ به المحامل. انظر: "متن اللغة" 4/ 506، 5/ 449. (¬2) ونصه: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفّدت الشياطين" أخرجه مسلم (1079) كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان 2/ 7، عن أبي هريرة، وجاء برواية: (إذا كان أول ليلة من رمضان صُفَّدت الشياطين ...)، أخرجه الترمذي (682) كتاب: الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان 3/ 66، وابن ماجه (1638) كتاب: أبواب الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان 1/ 351، والحاكم: الصوم، إذا كان أول ليلة (1/ 421) وقال صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي: الصيام، في فضل شهر رمضان 4/ 303. (¬3) وصدره: فآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا انظر: "ديوان عمرو بن كلثوم" ص 94، وورد في "تفسير الطبري" 13/ 254، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 412، و"تفسير الثعلبي" 2/ 145 أ، والماوردي 3/ 145، والطوسي 6/ 310، "شرح المعلقات للزوزني" ص 181، و"الفريد في الإعراب" 3/ 180، و"تفسير القرطبي" 9/ 384، و"الدر المصون" 7/ 131، و"تفسير ابن كثير" 2/ 599، و"تفسير الشوكاني" 3/ 169. =

قال: وأما أصْفَدْتُه بالألف، فهو أن تعطيه وتصله، والاسم منه الصَّفَد، وكذلك الوَثاق (¬1). وقال الزجاج: صَفَدتُه بالحديد وأصفدته، ومثله في العطية (¬2)، إلا أن الاختيار في العطية أصفدته، وفي الحديد صفدته (¬3). قال ابن عباس: يريد بالأصفاد: سلاسلَ الحديد والأغلال (¬4). قال الكلبي: {مُقَرَّنِينَ} كل كافر مع شيطان في غل (¬5)، وقال هطاء: وهو معنى قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] أي قُرنت نفوس المؤمنين بالحور العِين، ونفوس الكافرين بالشياطين (¬6)، وفي هذا المعنى أيضاً قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]. ¬

_ = (فآبوا) فرجعوا، والأوب: الرجوع، (النِّهاب) الغنائم وما ينتهب، قال أبو جعفر: ومعنى البيت: ظفرنا بهم فلم نلتفت إلى أسلابهم ولا أموالهم، وعمدنا إلى ملوكهم فصفَّدناهم في الحديد، قال وهذا أمدح وأشرف. (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (صفد) 2/ 2025، بلفظه مختصراً. (¬2) وسمي العطاء صفداً لأنه يُقيَّد من يعطيه، ومنه: أنا مغلولُ أياديك، وأسيرُ نعمتك. "الدر المصون" 7/ 132، وقيل: لأنها تُقَيِّد المودة وترتبطها. "تفسير الطوسي" 6/ 310. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 175، بتصرف يسير. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 255، من طريق ابن أبي طلحة صحيحة. بلفظ: في وثاق، وانظر: "زاد المسير" 4/ 377، ولفظه: أنها الأغلال "الدر المنثور" 4/ 169، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير ابن كثير" 2/ 599 بلفظ: القيود. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 147 بنصه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 212 بنصه، والماوردي 3/ 145 بنصه، و"البغوي" 4/ 363، و"تفسير القرطبي" 9/ 385، وأبي حيان 5/ 440 (¬6) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 147 بنصه تقريباً.

50

قال ابن عباس: وقرناؤهم من الشياطين (¬1)، وقال قوم في معنى: {مُقَرَّنِينَ}: قُرن بعضهم ببعض (¬2). وقال ابن زيد: قُرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم بالأغلال (¬3)، فهذا (¬4) ثلاثة أقوال في معنى: {مُقَرَّنِينَ}. 50 - قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} السرابيل جمع سِرْبال وهو القُمُص، والفعل منه تسربلتُ، وسربلتُ غيري (¬5). قال امرئ القيس: لَعُوبٌ تُنَسِّيني إذا قُمتُ سِرْبالي (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 377، ولفظه: أنهم يقرنون مع الشياطين، وورد غير منسوب في القرطبي 9/ 385، والألوسي 13/ 256، وصديق خان 7/ 138. (¬2) قاله ابن قتيبة في "الغريب" 1/ 238 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 377، والخازن 3/ 87. (¬3) أخرجه الطبري 13/ 255 بنحوه، وورد في "تفسيرالثعلبي" 2/ 145أ، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 377، والفخر الرازي 19/ 148، ونسبه إلى زيد بن أرقم وهو خطاء، و"تفسير الخازن" 3/ 87، وصديق خان 7/ 138. (¬4) هكذا في جميع النسخ، والأولى: (هذه). (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 145 أ، بنحوه، وانظر: (سربل) في "جمهرة اللغة" 2/ 1120، و"تهذيب اللغة" 2/ 1664 - 1665، و"المحيط في اللغة" 8/ 433، و"اللسان" 4/ 1983. (¬6) وصدره: ومثلك بيْضاء العوارضِ طَفْلَة "ديوان امرئ القيس" ص 124، وورد في "تفسير الطبري" 13/ 255، والطوسي 6/ 310، و"أشعار الشعراء الستة الجاهليين" 1/ 47، و"الخزانة" 1/ 373، (العوارض) جمع العارض؛ وهو صفحة الخد، (طَفْلَة) ناعمة البدن، (لعوب): حسنة الدل.

وقال الزجاج: هو كل ما لُبِس (¬1). والقطران: هناء الإبل. قال الليث: وهو شيء يَتَحلَّب من شجر يقال له: الأَبْهُل (¬2). قال الفراء: أهلَ الحجاز وبنو أسد يفتحون القاف ويكسرون الطاء، وبعض قيس (¬3) وتميم (¬4) يقولون: قِطْران بكسر القاف وتسكين الطاء (¬5)، وأنشد: عَلَيْهم سَرَابِيلُ الحَدِيدِ كأنَّهم ... جِمَالٌ بها القَطرانُ مَطْلِيَّةٌ بُزُل (¬6) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 170 بنصه. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (قطر) 3/ 2990، بنصه. (¬3) قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، جدّ جاهلي، بنوه قبائل كثيرة، منها: (هوازن)، و (سُليم)، و (غطفان)، و (باهلة)، وغلب اسم قيس على سائر العدنانية، حتى جعل في المثل في مقابل عرب اليمن قاطبة، فيقال: قيس ويمن. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 243، و"نهاية الأرب" ص 362، و"معجم قبائل العرب" 3/ 972، و"الأعلام" 5/ 207. (¬4) هم بنو تميم بن مُرّ بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وهم قاعدة من أكبر قواعد العرب، كانت منازلهم بأرض نجد والبصرة واليمامة، وامتدت إلى أرض الكوفة، ثم تفرقوا بعد ذلك في الحواضر والبوادي، وُلد لتميم: الحارث، وعمرو، وزيد مَناة، وتفرعت منهم بطون بني تميم. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 198، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص 179، و"معجم قبائل العرب" 1/ 126، و"الأعلام" 2/ 87. (¬5) لم أقف على مصدره. (¬6) لم أقف عليه. (بُزْل): قال الجوهري: بزلَ البعير يبزُلُ بُزُولاً: فطر نابُهُ، أي انشق، فهو بازلٌ، ذكراً كان أو أنثى، وذلك في السنة التاسعة، وربما بزل في السنة الثامنة، والجمع بُزُلٌ وبُزَّلٌ وبوَازلٌ. "الصحاح" (بزل) 4/ 1633.

51

وفيه لغة أخرى وهو فتح القاف وتسكين الطاء (¬1)، وبه قرأ عيسى بن عمر. قال أبو إسحاق: وجُعلت سرابيلهم من قطران والله أعلم؛ لأن القطران يبالغ في اشتعال النار في الجلود، ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير نار وبغير قطران لقدر على ذلك، ولكنه عذَّب بما يَعقل العبادُ العذابَ من جهته، وحذّرهم ما يعرفون حقيقته (¬2). قال ابن الأنباري: والنار لا تُبطل ذلك القطران ولا يُفنيها، كما لا يُهلك أغلالَها وأنكالَها وحَيّاتِها وهوامَها وأشجارَها (¬3)، وللقطران أيضًا روائح خبيئة، وقال غيره: وفيه أيضًا عقاب بالتسويد لسواد دخانه (¬4). 51 - قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} هذه اللام تتعلق بقوله: {وَتَغْشَى} أي تغشى النار وجوههم ليقع لهم الجزاء من الله بما ¬

_ (¬1) أي: قَطْران، وذكرها الطبري في "تفسيره" 13/ 256، بصيغة التمريض منسوبةً إلى عيسى بن عمر، لكنه قال: بكسر القاف، وبالكسر كذلك قال ابن خالويه، كما في القراءات الشاذة لابن خالويه ص 74، لكنه جعلها مهموزة؛ قال: (قِطْرءان)، ووردت في "تفسير الثعلبي" 2/ 145 أ، بالجزم؛ قال: وقرأ عيسى بن عمر: (قَطْران) بفتح القاف وتسكين الطاء، وانظر: "تفسير القرطبي" 9/ 385، قال ابن جني: وأما القطران ففيه ثلاث لغات: (قَطِرَان) على فَعِلان [وهي القراءة المتواترة]، و (قَطْران)، و (قِطْران) والأصل فيها (قَطِرَان) فأسكنا على ما يقال في كَلِمة: كَلْمَة وكِلْمَة. انظر: "المحتسَب" 1/ 367. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 170 بنصه. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 149، مختصرًا. (¬4) وخلاصة الأمر أنه يحصل لهم أربعة أنواع من العذاب بالقطران: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. "الرازي" 19/ 148.

52

كسبوا، فمعنى {كُلَّ نَفْسٍ} هاهنا من الكفار؛ لأن جزاء المؤمن لا يقع بهذا (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ذكرنا معناه في سورة البقرة عند تمام المائتين منها. 52 - قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} قال ابن عباس: يريد ما أنزلت إليك من قصة إبراهيم ودعائه لوالده وما تبرأ منه من عبادة الأصنام وما دعا للمؤمنين، وقال غيره من أهل العلم: {هَذَا}: القرآن (¬2)، {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} والبلاغ اسم يقوم مقام التبليغ، قال أبو علي الجرجاني: تأويله: فعلنا هذا؛ يعني إنزال القرآن وما فيه من المواعظ لتبلِّغ الناس، وهذا عطف على البلاغ بالفعل، وهو قوله: {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (¬3)، قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) وقد تعقب الرازي الواحدي في تخصيص {كُلَّ نَفْسٍ} بالكافرين، وأبقى اللفظ على عمومه ليشمل الجزاء الفريقين، وكلاهما مصيب، فالتخصيص مناسب للسياق والسباق؛ حيث إن الكلام السابق واللاحق عن المجرمين فيخصهم الوعيد والتهديد، ويكون متعلق اللام محذوف؛ تقديره: يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت من أنواع الكفر والمعاصي، والتعميم مناسبٌ بالنظر إلى أن {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله: {وَبَرَزُوا} أي الخلق كلهم، فيكون {كُلَّ نَفْسٍ} عامًا، أي مطيعة ومجرمة بحسبها، وتكون الآيتان بينهما جملة معترضة، وهناك أقوال أخرى في توجيه التأويل. انظر: "الرازي" 19/ 149، وأبي حيان 5/ 441، وأبي السعود 5/ 61. (¬2) قاله ابن زيد، أخرجه الطبري 13/ 258، بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 146، والطوسي 6/ 311، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 170، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 212، والبغوي 3/ 363، وابن الجوزي 4/ 378، والخارن 3/ 87. (¬3) والتقدير: فعلنا هذا لتبلّغ الناس ولينذروا به، فعطف {وَلِيُنْذَرُوا} على البلاغ =

ولتنذر يامحمد قومك (¬1)، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي بما ذكر فيه من الحجج التي تدل على وحدانيته، {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} قال يريد وليتعظ أهل اللب والعقل والبصائر. ¬

_ = وهو مصدر بمعنى التبليغ. وقد ورد في وجه عطف {وَلِيُنْذَرُوا} تسعة أقوال، ذكرها السمين في "الدر المصون" 7/ 134. (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 1/ 339 بنصه.

سورة الحجر

سورة الحجر

1

تفسير سورة الحجر بسم الله الرحمن الرحيم 1 - قوله -عز وجل-: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} ذكرنا الكلام في هذا مستقصى في أول سورة يوسف ويونس، وكذلك في سورة الرعد. وذكرنا في سورة الرعد أن الكِتَاب هناك يجوز أن يريد به التوراة، ويجوز أن يريد به القرآن، وهاهنا أيضاً يجوز فيه الوجهان؛ أحدهما: أن يراد بالكتاب الذي كان قبل القرآن من التوراة والإنجيل، ثم عطف عليه القرآن، قال صاحب النظم: تقدير هذه الآية في الكلام: زيدٌ هذا صاحب الفرس وحمارٍ تارةً (¬1)، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة (¬2). وقال آخرون: الْكِتَابِ هو القرآن (¬3)، وجمع بين الوصفين لما فيهما ¬

_ (¬1) المثبت من (ش)، (ع)، وفي (أ)، (د): (فاده)، وهذا المثال صحيح من الناحية النحوية، لكنه لا يليق التمثيل به في هذا الموضع، ولو قال: هذا زيدٌ صاحب الكتاب وقلمٍ تارةً، لكان أليق بالمقام. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 1 عنهما من طريقين، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 317 عنهما، وانظر: "تفسير ابن عطية" 7/ 276، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 171 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة، ولم أجده في "تفسير مجاهد". (¬3) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 147، والطوسي 6/ 317، و"تفسير ابن عطية" 7/ 276، والفخر الرازي 19/ 151، و"تفسير القرطبي" 10/ 2، والخازن 3/ 88.

2

من الفائدتين، وإن كانا لموصوف (¬1) واحد؛ وذلك أن الْكِتَابَ يفيد أنه مما يُكتب ويُدون، {وَقُرْآنٍ} يفيد أنه بما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض (¬2)، ويكون كقوله (¬3): إلى المَلِك القَرْمِ .......... (البيت) وقد مر (¬4)، وذكرنا معنى "الْمُبِين" في فاتحة سورة يوسف. 2 - قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقُرئ {رُبَمَا} بالتخفيف، قال السُّكّري (¬5): ربّما وربتما ورُبّ، حرف جر عند ¬

_ (¬1) في (ش)، (ع): (بالموصوف). (¬2) انظر: "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 183. (¬3) لم أقف على قائله. (¬4) أورده كذلك في نهاية السورة، والبيت كاملاً هو: إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهُمَام ... ولَيْثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ وقد ورد بلا نسبة في: "معاني القرآن" للفراء 1/ 105، و"تفسير الطوسي" 6/ 317، والزمخشري 1/ 23، و"الإنصاف" ص 376، و"تفسير القرطبي" 9/ 278، و"الخزانة" 1/ 451، 5/ 107، 6/ 91، (القَرْم) السيد، (الهُمام) الملك العظيم الهمّة، (الكتيبة) جماعة الخيل، وهي الفصيل من الجيش، (المُزدَحمْ) مكان المعركة. والشاهد: أنه عطف ابن الهمام، وليث الكتيبة، على القرم، وكلها أوصاف لشيء واحد؛ هو الملك، وذلك جائز عند أهل اللغة. انظر: "الانتصاف من الإنصاف"، بهامش "الإنصاف" 2/ 470. (¬5) الحسن بن الحسين بن العلاء، أبو سعيد النحويّ اللغويّ، المعروف بابن السكري، أخذ عن أبي حاتم السجستاني، والرياشي، كان راوية للبصريين، وكان ثقة ديناً صادقاً، له: كتاب "الوحوش"، وكتاب "النبات"، و"أشعار هذيل" مات سنة 275 هـ، وقيل (290 هـ)، وكان مولده سنة (202 هـ) انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص 183. "الفهرست" ص 217، "نزهة الألباء" ص 160، "البلغة" ص 296، "البغية" 1/ 502.

سيبويه (¬1)، ويلحقها (ما) على وجهين: أحدهما: أن تكون نكرة بمعنى شيء، وذلك كقوله: رُبَّما تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الأمْرِ ... لها فَرْجةٌ كَحَلِّ العِقَالِ (¬2) فـ (ما) في هذا البيت اسم لما يُقَدَّر من عَوْد الذكر إليه من الصفة، المعنى: رب شيء تكره النفوس، وإذا عاد إليها الهاء كان اسمًا ولم يجز أن يكون الحرف (¬3)، كما أن قوله سبحانه {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} [المؤمنون: 55] ما عاد الذكر إليه علمت بذلك أنه اسم، ويدلك على أن (ما) قد تكون اسمًا إذا وقعت بعد رب وقوع (من) بعدها (¬4) في نحو قوله (¬5): ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" باب الجر 1/ 419. (¬2) "ديوان أمية بن أبي الصلت" ص 444 وفيه: (تجزع) بدل (تكره)، وورد البيت في "الكتاب" 2/ 109، 315، "اللسان" (فرج) 6/ 3369، "الخزانة" 6/ 108، 10/ 9، وورد غير منسوب في "البيان والتبيين" 3/ 224 برواية (تجزع)، "المقتضب" 1/ 42، "جمهرة اللغة" 1/ 463، "إيضاح الشعر" ص295، 445، "معاني الحروف" للرماني ص 156، "تفسير الطوسي" 6/ 314 برواية (تجزع)، "أمالي ابن الشجري" 2/ 554، "أساس البلاغة" 2/ 191 (فرج)، "تفسير ابن عطية" 8/ 277 "تفسير ابن الجوزي" 4/ 382 برواية "تجزع"، "إنباه الرواة" 4/ 134، "شرح المفصل" 3/ 4، "تفسير أبي حيان" 5/ 443، "همع الهوامع" 1/ 22، 316، "شرح الأشموني" 1/ 192، (الفَرجة) بالفتح قيل: الراحة من حزن أو مرض، و (الفُرجة) بالضم: الخلل بين الشيئين، (العقال) بالكسر: الحبل الذي يشد به قوائم الإبل، والمعنى: ربّ شيء تكرهه النفوس من الأمور الحادثة الشديدة، وله فَرجة سهلة سريعة تعقب الضيقَ والشدة؛ كحل عقال الدابة. (¬3) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 460 بنصه. (¬4) في جميع النسخ: (بحدها)، والمثبت هو الصحيح، وموافق للمصدر. (¬5) هو عمرو بن قميئة جاهلي.

يا رُبَّ مَن يُبْغِضُ أذْوادَنا ... رُحْنَ على بَغْضائِه واغْتدَيْنْ (¬1) وكما دخلت على (مَنْ) وكانت نكرة، كذلك تدخل على (ما) فهذا ضرب، والضرب الآخر: أن تدخل (ما) كافة، نحو الآية، والنحويون يسمّون (ما) هذه الكافة؛ يريدون أنها بدخولها كفت الحرفَ عن العمل الذي كان له، وهيأته لدخوله على ما لم يدخل عليه، ألا ترى أن (رب) إنما تدخل على الاسم المفرد؛ نحو: رب رجل يقول ذلك، ولا تدخل على الفعل، فلما دخلت (ما) عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية (¬2)، فإن قيل لم قال: {رُبَمَا يَوَدُّ} فجاء بعد ربما بفعل مستقبل، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي كما يقال: ربما قصدني عبد الله، ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها؟ قال ابن الأنباري: المستقبل في هذا بمنزلة الماضي، وإنما جاز الماضي هاهنا وهو لأمر لم يأت؛ لأن القرآن نَزَّل وعده ووعيده وما كان فيه كأنه عيان، فجرى الكلام فيما لم يكن منه كمجراه في الكائن، ألا ترى إلى قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} [سبأ: 51] كأنه ماضٍ وهو منتظَر؛ ¬

_ (¬1) ملحقات "ديوانه" ص 81، وورد في: "الكتاب" 2/ 108، "الأزهية" ص 101، "أمالي ابن الشجري" 3/ 219،64، وورد بلا نسبة في: "الحيوان" 3/ 466، "المقتضب" 1/ 41، "المسائل البغداديات" ص 566 (صدره)، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 152، "شرح المفصل" 4/ 11، "معجم الشعراء" ص 27 وقد نسبه إلى عمرو بن لأي جاهلي. (الأذواد)، جمع ذود، وهو القطيع من الإبل ما بين الثلاث إلى الثلاثين، يعني أنهم أعزاء لا يستطيع أحد صد إبلهم عن مرعى، مما لهم من قوة ومنعة، (اغتدين) غدا يغدُو غدْوًا وغُدواً، واغتدى: بكَّر، والاغْتداء، الغُدُوُّ. "اللسان" (غدو) 6/ 3221. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 36 وهو نقل طويل مع اختصار يسير، وانظر: "تفسير الطوسي" 6/ 314، الفخر الرازي 19/ 152.

لصدقه، وكذلك قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] وهذا معنى قول الفراء في هذه الآية (¬1)، وقال أبو علي الفارسي: إنما وقع {يَوَدُّ} في الآية على لفظ المضارع؛ لأنه حكايته لحال آتية، كما أن قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل: 124] حكايته لحال آتية أيضًا، ومن حكايته الحال قول القائل (¬2): جَارِيةٌ في رَمَضَانَ الماضِي ... تُقَطِّعُ الحَدِيثَ بالإيمَاضِ (¬3) قال ومن زعم أن الآية على إضمار (كان) وتقديره: ربما كان يود الذين كفروا، فقد خرج بذلك عن قول سيبويه (¬4)، ألا ترى (كان) لا تُضمر عنده، ولم يُجِزْ: وعبد الله المقتول، وأنت تريد: كن عبد الله المقتول، قال: ويجوز أن يكون (ما) في هذه الآية صفة بمنزلة شيء، و {يَوَدُّ} صفة له؛ وذلك أن (ما) لعمومها تقع على كل شيء، فيجوز أن يعني بها الودّ؛ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 82. (¬2) منسوب لرؤبة وهو في ملحقات "ديوانه" ص 176 وروايته: لقد أتى في رمضان الماض ... جارية في درعها الفضفاضِ تُقطّعُ الحديث بالإيماض ... أبيض من أختِ بني إباضِ (¬3) ورد غير منسوب في: "تفسير الطوسي" 6/ 314، "غرائب التفسير" 1/ 585، "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 185 "اللسان" (رمض) 3/ 1730، "الخزانة" 1/ 156، "الإنصاف" ص 124 برواية: جارية في درعها الفَضْفَاض والمعنى أن القوم كانوا يتحدثون فأومضت امرأة فتركوا الحديث واشتغلوا بالنظر إليها لبراعة جمالها. (¬4) لأن هذا ليس من مواضع إضمار كان عنده؛ فكان لا تضمر عنده إلا حيث يكون حذف مقتضيها، وفي موضع تقوى الدلالة عليها. ذكره المنتجب في "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 185، وانظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 444.

كأنه في هذا الوجه أيضًا حكاية حال، ألا ترى أنه لم يكن بَعْدُ، انتهى كلامه. (¬1) وقد تلي (ربما) الأسماءُ، وكذلك (ربتما)، أنشد ابن الأعرابي (¬2): ماويَّ يَا ربَّتَما غارةٍ ... شَعْواءَ كاللَّذْعةِ بالِمِيسمَ (¬3) وإن قيل لِمَ (¬4) لَمْ تكف (ما) (رب) عن العمل كما كفت (إنّ) في قولك: إنما الله، وإنما زيد؟! قيل الفرق بينهما أن (إنّ) حرف الابتداء، فلما سُلب العمل بالكف لم يبق للجملة معنى سوى الابتداء، وحق الابتداء الرفع، ومعنى (رب) وهو التقليل موجود في الاسم كل حال، دخل عليه (ما) أو لم يدخل فتبَيَّن أثره في الاسم، فأما قراءة من قرأه {رُبَمَا} بالتخفيف (¬5)؛ فلأنه حرف مضاعف، والحروف المضاعفة قد تحذف ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء" 5/ 39 بنصه. (¬2) والبيت لضمرة بن ضمرة النهشلي (جاهلي). (¬3) ورد البيت منسوباً في: "نوادر أبي زيد" ص 253، "المعاني الكبير" 2/ 1005، "الخزانة" 9/ 384. وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" (ماء) 9/ 3314، 9/ 3814 (رب) 2/ 1339، (موا) 4/ 3467، "الحجة للقراء" 5/ 35، "الإنصاف" ص90، "شرح المفصل" 8/ 31، "أمالي ابن الشجري" 2/ 413، "اللسان" (ربب) 3/ 1552، "الخزانة" 11/ 196، ورواية "النوادر والمعاني" و"الحجة" و"الأمالي": (بل ربتما). (ماويّ): أراد ماويّ؛ من أسماء النساء، فرخَّم، (الشعواء) الغارة الكثيرة المنتشرة؛ أراد الخيل التي تغير، (المِيسم) ما يوسم به البحير بالنار. (¬4) في (أ)، (د): (لو)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح لاستقامة المعنى به. (¬5) هما نافع وعاصم. انظر: "السبعة" ص 366، "إعراب القراءات السبع" 1/ 339، "علل القراءات" 1/ 293، "الحجة للقراء" 5/ 35.

نحو: إنّ، وأنّ، ولكنّ، قد حذف (¬1) كل واحد من هذه الحروف، وليس كل المضاعف يحذف نحو (ثُمَّ)، لم يُحك فيه الحذف (¬2)، قال أبو إسحاق: العرب تقول: رُبّ رجلٍ جاءني، ويخففون فيقولون: رُبَ رَجُلٍ، وأنشد (¬3): أَسُمَيَّ ما يُدْرِيكِ أن رُبَ فِتْية ... بَاكَرْتُ لذَّتَهُمْ بِأدْكَنَ مُتْرَعِ (¬4) ويسكنون أيضًا في التخفيف فيقولون: رُبْ رَجُلٍ، وأنشد بيت الهذلي: أزُهَيْرُ إن يَشِبِ القَذَالُ فإنني (¬5) ... رُبَ هَيْضلٍ مَرِسٍ لَفَفْتُ بِهَيْضَلِ (¬6) ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (خفف)، والمثبت هو الصحيح لاستقامة الكلام، وموافقة المصدر. (¬2) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 41 بنصه، وانظر: "تفسير الطوسي" 6/ 316. (¬3) للحادرة أو الحويدرة؛ واسمه قطبة بن أوس الذبياني (جاهلي). (¬4) "ديوان الحادرة" ص 56، وورد في "المفضَّليات" ص 46، "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 171، "علل القراءات" 1/ 293، "شرح اختيارات المفضل" 1/ 225، وورد بلا نسبة في "إعراب القراءات السبع" وعللها 1/ 340وفيه: (سُخرتهم) بدل (لذتهم)، "المُنصف" (3/ 129) وفيه: (ما أدراك)، وفي الديوان وجميع المصادر ما عدا علل القراءات بدايته برواية: (فَسُمَيَّ)، وهو تَرْخيم سُمَيَّة. (باكرتُ لذتهم) أسرعت إليهم لأمتعهم، (الأدكن المترع) الزِّق المليء بالخمر. (¬5) في جميع المصادر - ما عدا الديوان والزجاج والطوسي وابن الجوزي (فإنه). (¬6) "شرح أشعار الهذليين" ص 1070، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 316، "أمالي ابن الشجري" 3/ 48، إيضاح شواهد الإيضاح 1/ 287، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 380، "الخزانة" 9/ 537، وورد غير منسوب في: "المحتسب" (ع) 2/ 343، "أمالي ابن الشجري" 2/ 179، "الإنصاف" ص 247، "شرح المفصل" 8/ 31، "الممتع في التصريف" 2/ 627، "المقّرِب" 8/ 200، "رصف المباني" ص 141، 270، "الخزانة" 9/ 535، وفي الديوان وجميع المصادر - ما عدا "تفسير ابن =

والهيضل جماعة متسلِّحة، قال ويقولون: رُبَّتْ بسكون التاء، ورَبَّت بفتح الراء، ومثله: رَبَّ ورُبَمَا ورَبَّتَمَا، حكى ذلك قطرب (¬1)، قال أبو على: من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث نحو: ثُمَّ ثمَّت، ولا ولات (¬2)، فأمّا معنى الآية فهو ما رواه أبو موسى أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القلبة، قال الكفار لهم: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية" (¬3) وعلى هذا أكثر المفسرين؛ أبو ¬

_ = الجوزي" و"المقرب" و"الرصف" و"الخزانة"- برواية (لَجِبٍ) بدل (مَرِسٍ) ولا يختلف المعنى. (زهير) مرخَّم زهيرة، وهي ابنته، (القذال) ما بين الأذن والقفا، (مَرِسٍ) ذو مَرَاسَة وشدة، (لَجِبٍ) من قولهم جيشٌ لجب؛ عرمرم، ذو جَلَبة وكثرة. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 171 بتصرف يسير. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 41 بنصمي (¬3) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" 2/ 405 بنحوه، والطبري في "تفسيره" 14/ 2 بنحوه، والحاكم في "المستدرك" 2/ 242 بنحوه، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في "البعث" ص 91، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 2/ 600 - 601 وعزاه إلى الطبراني لم أقف عليه وابن أبي حاتم، وأوده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 45، قال وفيه خالد بيت نافع الأشعري، قال عنه أبو داود: متروك، وبقية رجاله ثقات، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 172 وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وورد دون سند في "تفسير البغوي" 4/ 367 - 368، وابن الجوزي 4/ 380، والفخر الرازي 19/ 154 وهذا الحديث يدور على خالد بن نافع الأشعري، وهو ضعيف بل قال عنه أبو داود متروك، ولم يوافق الذهبي على تركه، وقال: هذا تجاوز فلا يستحق =

العالية ومجاهد والسدي ومقاتل وغيرهم، قالوا: أنزلت في تمني الكفار الإسلام عند خروج من يخرج من النار من أهل الإسلام (¬1)، قال حماد (¬2): سألت إبراهيم عن هذه الآية فقال: إن الكفار يقولون لأهل التوحيد ما أغنى عنكم لا إله إلا الله، فيأمر الله الملائكة والنبيين فيشفعون لهم، فيخرجهم من النار (¬3)، ونحو هذا قال ابن عباس في رواية عطاء (¬4)، وروى مجاهد ¬

_ = الترك وقد حدث عنه أحمد ومسدد "الميزان" 2/ 166، ومع ذلك فالحديث ضعيف بهذا الإسناد؛ لضعف خالد الأشعري، لكن له شواهد عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما لذلك صحح الألباني الحديث في تحقيقه لكتاب "السنة" لابن أبي عاصم 2/ 406. (¬1) "تفسير مجاهد" ص 339 مختصرًا، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 345 بنحوه عن مجاهد، والطبري 14/ 3 بمعناه عن مجاهد وأبي العالية، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 7 عن مجاهد، "تفسير السمرقندي" 2/ 214 عن مجاهد وأبي العالية، "الطوسي" 6/ 317 عن مجاهد، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 381 عن مجاهد وأبي العالية، وابن كثير 2/ 600 - 601 عن مجاهد وأبي العالية، ولم أقف على القول في تفسير مقاتل ولا منسوباً إليه ولا إلى السدي. (¬2) حمّاد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، أحد الأعلام، ثقة عابد، روى عن قتادة وابن أبي مليكة وثابت، وروى عنه ابن المبارك ووكيع وابن مهدي، قال ابن معين: إذا رأيت من يقع فيه فاتهمه على الإسلام، مات سنة (167هـ)، "الجرح والتعديل" 3/ 140، "الكاشف" 1/ 349، "تقريب التهذيب" ص 178 رقم (1499). (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 345 بنحوه، و"الطبري" 14/ 5 بنصه وبنحوه بعدة روايات، وورد بنحوه في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 7، "تفسير السمرقندي" 2/ 214، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 381. (¬4) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص 558، والطبري 14/ 5، والبيهقي في البعث ص 89، كلهم من طريق القاسم بن الفضل، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 381، "الدر المنثور" 4/ 172 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

عن ابن عباس قال: مايزال (¬1) الله تعالى يرحم ويدخل الجنّة ويشفع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، قال فذلك حين يقول: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية (¬2). وقال الضحاك: إذا احتضر الكافر وعلم أنه صائر إلى جهنم ودَّ أنه كان مسلمًا (¬3)، قال الزجاج: والذي أراه والله أعلم، أن الكافر لما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم، ودَّ لو كان مسلمًا (¬4). فإن قيل (رب) موضوعة للتقليل وهي في التقليل نظيرة (¬5) (كم) في التكثير، وإذا قال الرجل: ربما زارنا فلان، دلّ بربما على تقليل الزيارة، وتمني الكافر الإسلام يكثر ويتصل فلا يشاكله ربما؟ قال ابن الأنباري: هذا الكلام معناه من الله التهديد، والمعنى: أن هذا لو كان مما يتمنى مرة واحدة من الدهر لكانت المسارعة إليه عند الإمكان واجبة، فكيف والتمني له يتصل ويكثر (¬6)، وإنما خوطبت العرب ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (ما أنزل)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح. (¬2) "أخرجه الطبري" 14/ 5 بنصه، من طريق عطاء بن السائب "صحيحة"، وأورده الثعلبي 2/ 145 ب بنصه، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 351 وصححه، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 89 بنصه، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 381، الفخر الرازي 19/ 154، الشوكاني 3/ 124 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وهناد السريّ وابن المنذر. (¬3) "أخرجه الطبري" 14/ 4 بنحوه، "تفسير البغوي" 4/ 367، وابن الجوزي 4/ 381، الفخر الرازي 19/ 154، "تفسير القرطبي" 10/ 2، والخازن 3/ 88. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 172 بنصه. (¬5) في الجميع: (نظره)، والمثبت هو الصحيح وبه يستقيم المعنى. (¬6) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 382، وورد هذا المعنى في "تفسير الزمخشري" 2/ 310، والبيضاوي 1/ 267، وابن جزي 2/ 143.

3

في القرآن بما تعقله، والرجل يتهدَّدُ صاحبه فيقول له: لعلك ستنْدَمُ على فعلك، وهو لا يشك في أنه يندم، ويقول: ربما تندم على هذا، وهو يعلم أنه يندم كثيرًا، ولكن مجازه أن هذا لو كان يخاف منه ندم قليل، لكان تركه واجبًا، فكيف إذا لم يتيقن قلة الندم من جهته؟ والدليل على أن هذا ورد في التهدد قوله بعده: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا} الآية، وهذا كله معنى قول الزجاج، قال: وجائز أن تكون أهوال القيامة تشغلهم عن التَّمَنّي، فإذا أفاقوا من سكرةٍ من سكراتِ العذاب ودّوا ذلك (¬1)، وعبَّر بعض أهل المعاني عن هذين الجوابين بعبارة وجيزة؛ فقال في الجواب الأول: التقليل أبلغ في التهدد، كما يقول: ربما ندمت على هذا، وهو يعلم أنه يندم ندمًا طويلًا أي: يكفيك قليلُ الندم فكيف كثيرُهُ، وقال في الجواب الثاني: إنه يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل (¬2)، قال أبو إسحاق: ومن قال إن (رُبَّ) يُعْنَى بها الكثير، فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة (¬3). 3 - قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} يقول: دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم، فتلك خلاقهم، ولاخلاق لهم في الآخرة، وقال صاحب النظم: المعنى ذرهم ولا تَدْعُ عليهم فيهلكوا (¬4)، وإذا تركهم خاضوا ولعبوا وأكلوا وتمتعوا، وهذا كقوله: {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83]. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 172 بتصرف. (¬2) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 153، والخازن 3/ 88. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 173 بنصه. (¬4) وهو قول غريب لم أجد أحدًا من المفسرين قال به، ووجه الغرابة أنه ثبت دعاؤه على الكفار في بعض المناسبات.

4

وقوله تعالى: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} يقال: لَهِيتُ عن (¬1) الشيء ألْهَى لُهِيًّا (¬2)، وجاء في الحديث: "إن ابن الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لَهِي عن (¬3) حديثه" (¬4) قال الكسائي والأصمعي: أي تركه وأعرض عنه، وكلُّ شيء تركته فقد لَهِيْتَ عنه (¬5)، وأنشد ابن الأعرابي: صرَمَتْ حِبالَكَ فالْهَ عنها زَينبُ ... ولَقَد أَطَلْتَ عِتَابَها لو تُعْتِب (¬6) ويقال: ألهاه الشيء، أي: شغله وأنساه وحمله على الترك والإعراض، قال المفسرون في قوله: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} شغلهم الأمل عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة (¬7)، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديدٌ، أي فسوف يعلمون إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا. 4 - قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: يريد من أهل قرية (¬8)، {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} يريد أجل ينتهون إليه، يعني: أن لأهل ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (من) والمثبت هو الصحيح وموافق لجميع المصادر. (¬2) "جمهرة اللغة" 2/ 991، "تهذيب اللغة" (لهى) 4/ 3304 "الصحاح" (لها) 6/ 2488، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 154. (¬3) في جميع النسخ: (من)، والمثبت هو الصحيح وموافق لجميع المصادر. (¬4) لم أجده في كتب السنة، وورد في "تهذيب اللغة" (لهى) 4/ 3304 بنصه، "الصحاح" (لها) 6/ 2488، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 155. (¬5) المصادر السابقة. (¬6) ورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" (لهى) 4/ 3304، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 155. (¬7) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 5 بنحوه، والثعلبي 2/ 145 ب بنصه، و"تفسير البغوي" 4/ 368، وابن الجوزي 4/ 382، والفخرالرازي 19/ 155، والخازن 3/ 88. (¬8) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 344 بنصه، "تنوير المقباس" ص 276، وورد بلا نسبة في "تفسير البغوي" 4/ 369، وابن الجوزي 4/ 382.

5

كل قرية أجلًا مؤقتًا قد كتب لهم، لا نهلكهم حتى يبلغوه، نزلت هذه الآية حين استعجلوه بالعذاب (¬1)، ألا ترى أن بعد هذه الآية لمحوله: {لَوْ مَا تَأْتِينَا} الآية. قال الفراء: لو لم يكن في (ولها) الواو كان صوابًا، كما قال في موضع آخر، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] وهو كما تقول في الكلام: ما رأيت أحدًا إلا وعليه ثياب، وإن شئت: إلا عليه ثياب (¬2). قال صاحب النظم: والفرق بينهما أن دخول الواو يقلب حال ما بعدها إلى الابتداء، وخروجها منه يدل على أن ما بعدها في موضع حال، اعتبارًا بقولك: ما أهلكنا من قرية إلا ظالمًا أهلها، فيكون نصبًا على الحال، فإذا دخلت الواو قلت: إلا وأهلها ظالمون، فقلبت الواوُ الحالَ (¬3) إلى أن جعلتها مبتدأة، فانقلبت رفعًا عن النصب، وهذا فرق من حيث اللفظ، والمعنى واحد، أثبتَّ الواو أو حذفتَها. 5 - قوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} (من) زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد، {أَجَلَهَا}: ما ضرب لها من الوقت، قال ابن عباس: يريد ما تتقدم الوقت الذي وُقت لها، {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}: لا يتأخرون عنه، وهذا كقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف: 34] وقد مرَّ. قال صاحب النظم: معنى سَبَقَ إذا كان واقعًا على شخص، جاز ¬

_ (¬1) لم يورده المؤلف في كتابه "أسباب النزول" ولم أقف عليه في كتب الفن أو التفاسير. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 283 بنصه. (¬3) ساقطة من (د).

6

وخَلّف، كقولك: سبق زيدٌ عمرًا، أي جاره وخلّفه وراءه فاستأخر، معناه قصر عنه ولم يبلغه، وإذا كان واقعًا على زمان كان بالعكس من هذا؛ كقولك: سبق فلانٌ الحولَ وعامَ كذا، أي مضى قبل إتيانه ولم يبلغه، ومعنى: استأخر عنه، أي: جارُه وخلّفه وراءه، فقوله: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي لا تقصر عنه فلا تبلغه؛ بأن تهلك قبل بلوغ الأجل {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ما يتجاوزونه ويتأخر الأجل عنهم. وقال الفراء في هذه الآية: لم يقل: تستأخر؛ لأن الأمة لفظها مؤنث، فأخرج أول الكلام على تأنيثها وآخره على معنى الرجال (¬1)، قال الكسائي: رجع إلى الجماع لأنه رأس آية، والآيات على النون، وتقول: انطلقت العشيرة ففعلت، وفعلوا، كلٌّ صواب (¬2). 6 - قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} أي: القرآن، قال ابن عباس في رواية عطاء: هذا استهزاء منهم لو أيقنوا أنه نزل عليه الذكر ما قالوا: إنك لمجنون (¬3)، ولكنهم استهزؤوا، كما قال قوم شعيب لشعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]. وذكر أبو علي وجهًا آخر هو لأصحاب المعاني فقال: الذين يقولون للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - مجنون لا يقرون بإنزال الذكر عليه، فهذا على {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}: عنده وعند من تبعه، كما قال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 84 بنصه. (¬2) لم أقف على قوله. (¬3) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 383، وورد بمعناه غير منسوب في "تفسير البيغوي" 4/ 369، والزمخشري 2/ 310، والفخر الرازي 19/ 158، و"تفسير القرطبي" 9/ 4.

أي عند نفسك، وكما أخبر عن السحرة، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] ومن آمن من السحرة لا يعتقدون فيه أنه ساحر، وإنما التقدير (¬1) فيما يذهب إليه فرعون وقومه، أو فيما يظهرون من ذلك، وقد قال زهرة اليمن (¬2): أبْلِغْ كُلَيْبًا وأَبْلِغْ عَنْك شَاعِرَها ... أنَّي الأغَرُّ وأنِّي زهرةُ اليَمَنِ (¬3) (وأجابه جرير: ألَمْ يَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بِهَا ... مَنْ حانَ موعظةً يازهرةَ اليَمنِ) (¬4) (¬5) يعني: عند نفسك، لا أنه سَلَّم (¬6) له هذه التسمية. ¬

_ (¬1) من قوله: (ادع لنا ربك) حتى هذا الموضع، ساقط من (أ)، (د). (¬2) وفي الخصائص أنه لبعض اليمانية، ولم أقف عليه. (¬3) ورد البيت في "المسائل الحلبية" ص 82، 161، "الخصائص" 2/ 461، "سر صناعة الإعراب" 1/ 405، "تفسير ابن عطية" 13/ 287، أبي حيان 8/ 40، "الدر المصون" 9/ 629، وبلا نسبة في "المسائل العسكرية" ص 94. (¬4) "ديوان جرير" ص 467، وليس فيه الشاهد لأنه برواية (ياحارث اليمن)، وورد في "المسائل الحلبية" ص 82، 162، "المسائل العسكرية" ص 94، "الخصائص" 2/ 461، "سر صناعة الإعراب" 1/ 405، "تفسير ابن عطية" 13/ 287، أبي حيان 8/ 40، "الدر المصون" 9/ 629، وفي الأخيرين برواية (كان) بدل (حان)، (وسوم) جمع وسم، وهو أثر الكي بالنار، والمراد الأثر السيء الناتج عن هجائه، (حان) أي هلك. ومعناه: ألم تكن لك موعظة في الشعر الذي هجوتك به من قبل فكان كالنار التي أكويك بها وأقضي عليك يا من تسمي نفسك زهرة اليمن، والشاهد: قوله: (يا زهرة اليمن) أي: يا من سمى نفسه زهرة اليمن، ولست عندي كذلك. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬6) في جميع النسخ: (سلمه) وقد أدى إلى اضطراب المعنى، والمثبت هو الصحيح، ولعله من تصحيف النساخ.

7

وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} يقال: جُنّ فلان فهو مجنون، وقد أجَنّه الله، وبه جنون وجِنّة ومَجِنّة، وأصله من الستر، ومنه قيل للنبت الملتف مجنون؛ لأن بعضَه يستر بعضًا (¬1)، وهذا الحرف مذكور فيما سبق. 7 - وقوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} قال الفراء والزجاج: (لولا) و (لوما) لغتان معناهما: هلا (¬2)، وذمنا الكلام في (لولا) قبل هذا، و (لوما) لغة فيه، ويستعملان في الخبر والاستفهام، فالخبرُ مِثلُ قولِك: لولا أنت لفعلت كذا، ومنه قوله: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] والاستفهام كقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وكهذه الآية، هذا قول الفراء، قال: (ولوما) الميم فيه بدل من اللام في (لولا)، ومثله: استولى على الشيء، واستومى عليه (¬3)، ومثله ماحكاه الأصمعي من قولهم: خالَمْته وخالَلْتُه، إذا صادقته، وهو خِلِّي وخِلْمي (¬4)، وقال عبيد: لَوْمَا على حُجْرِابْنِ أُم ... قَطَامِ تَبْكِي لا عَلَيْنا (¬5) ¬

_ (¬1) "جمهرة اللغة" 1/ 92، و (جنن) في: "لمحيط في اللغة" 6/ 409، "الصحاح" 5/ 2093. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 84 بنحوه، "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 173 بمعناه، وانظر: "معاني الحروف" للرماني ص 124. (¬3) لم أقف على مصدره، وورد في "تفسير الفخر الرازي" 19/ 159، "تفسير القرطبي" 10/ 4. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (ولي) 4/ 3958 بنصه، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 159، "اللسان" (ولي) 8/ 4924، "الدر المصون" 7/ 144. (¬5) ورد في: "الشعر والشعراء" ص 166، و"الأغاني" 22/ 88 برواية ليس فيها الشاهد، وهي: هلاَّ على حُجرِ ابن أُمِ .... قَطَامِ تبكي لا علينا

8

وهذا في الاستفهام، وقال ابن مقبل في الخبر: لَوْ مَا الحياءُ ولَوْ مَا الدّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ ما فيكُمَا إِذْ عِبْتُما عَوَرِي (¬1) قال ابن عباس: يريد لولا (¬2) جئتنا بالملائكة حتى نصدقك (¬3). 8 - قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقّ} هذا جواب لقولهم: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} يقول الله تعالى: ما ننزل الملائكة إلا بالعذاب، قاله ابن عباس (¬4)، وقال أبو إسحاق: أي: إنما (¬5) تنزل بآجال أو بوحي من الله (¬6)، وهذا كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} الآية [الأنعام: 8] ¬

_ = وورد بهذه الرواية البيت في"تهذيب اللغة" (ولي) 4/ 3958، "اللسان" (ولي) 8/ 4924. (¬1) "ديوانه" ص 76 وفيه: (لولا) بدل (لو ما) في المرتين، وليس في رواية الديوان الشاهد، وورد في "مجاز القرآن" 1/ 346، و"تفسير الطبري" 14/ 6، والثعلبي 2/ 145 ب، والطوسي 6/ 319، والزمخشري (2/ 310، وابن عطية 8/ 283، وابن الجوزي 4/ 383، و"تفسير القرطبي" 1/ 4، "اللسان" (بعض) 1/ 313، وفي جميع النسخ (فوري) بدل (عوري) ولم يظهر لي المعنى به، ولعلها تصحفت، خاصة أنه في الديوان وجميع المصادر (عوري). (¬2) (يريد لولا) ساقط من (أ)، (د). (¬3) "تنوير المقباس" ص 276 بمعناه، وورد غير منسوب بمعناه في "تفسير الطبري" 14/ 7. "تفسير السمرقندي" 2/ 215، و"تفسير البغوي" 4/ 369، والزمخشري 2/ 310، وابن الجوزي 4/ 383. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 344 بمعناه، "تنوير المقباس" ص 276 بمعناه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 215، و"تفسير البغوي" 4/ 369، والخازن 3/ 89. (¬5) في جميع النسخ: (ما إن)، والتصويب من المصدر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 173 نصه.

9

وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} قال ابن عباس: يريد إذا نزلت الملائكة لم يناظروا؛ أي: لم يمهلوا (¬1)، ونحوه قال الزجاج: أي: لو نزلت الملائكة لم ينظروا، وانقطعت التوبات (¬2)، يريد أن التكليف يزول ويسقط عند عَيان الغيب. وقال صاحب النظم: أي: إذا نزل الملك وجب العذاب من غير تأخير ولا انتظار إذا لم يؤمنوا، وذلك أن تأويل (إذا) من كلمتين من (إذ) وهو اسم بمنزلة حين، ألا ترى أنك تقول: أتيتك إذ جئتني، ثم ضم إليها (أن) بضم إذ أن، إلا أنهم استثقلوا الهمزة فحذفوها، ومجيء (أن) دليل على إضمار فعل بعده على تأويل: وما كانوا إذ أن كان ما طلبوا (¬3)، وذكرنا الكلام في (إذًا) عند قوله: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ} (¬4) [النساء: 53] 9 - قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} قال ابن عباس: يريد نفسه تبارك وتعالى. قال أهل اللغة: هذا من كلام الملوك؛ الواحد منهم إذا فعل شيئًا قال: نحن فعلنا، يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة للملوك في الخطاب، وإن انفرد بفعل الشيء قال: نحن فعلنا، فخوطبت العرب بما ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 345 بنصه، "تنوير المقباس" ص 276 بمعناه، وغير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 215، والماوردي 3/ 149، و"تفسير البغوي" 4/ 369، والزمخشري 2/ 311، وابن عطية 8/ 284، والفخر الرازي 19/ 159، و"تفسير القرطبي" 10/ 4، والخازن 3/ 89. (¬2) "معاني القرآن واعرابه" 3/ 173 بنصه. (¬3) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 159، وصديق خان 7/ 148. (¬4) انظر: "البسيط"، [النساء: 53] ومن آية [42]، إلى أثناء آية [53] ساقط من النسخ، والكلام عن (إذاً) من الجزء الساقط.

تفعل من كلامها (¬1). وقوله تعالى: {نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} يعني القرآن في قول عامة المفسرين (¬2) {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قال قتادة: أنزله الله وحفظه من أن يزيد الشيطان فيه باطلاً أو يسقط منه حقًا (¬3). ونحو هذا قال أبو إسحاق: أن يحفظ من أن يقع فيه زيادة أونقصان، كما قال عز وجل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} (¬4) [فصلت: 42] فإن قيل: لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في الصحف، وقد وعد الله حفظه، وما حفظه الله (¬5) فلا خوف عليه؟ الجواب أن يقال: جَمْعُهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، ولما أراد حفظه قيضهم لذلك، وقال ابن الأنباري: إنهم أرادوا تسهيل القرآن على الناس وتقريب مطلبه بالذي فعلوه، لكي يَسْهُلَ تناولُه على من أراد حفظه وقراءته إذا رأه مجموعًا في صحيفة، ولو لم يفعلوا ما كان يضيع إذ (¬6) ضمِن الله حفظه. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 384. (¬2) ورد بنصه في: "تفسير الطبري" 14/ 7، و"تفسير السمرقندي" 2/ 215، والماوردي 3/ 149، و"تفسير البغوي" 3/ 44، وابن الجوزي 4/ 384. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 345 بنصه، والطبري 14/ 8 بنصه، وورد بنصه تقريبًا في: "تفسير السمرقندي" 2/ 215، والطوسي 6/ 320، والماوردي 3/ 149، وانظر: و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 384، و"تفسير القرطبي" 10/ 5، و"الدر المنثور" 4/ 175 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 174 بنصه. (¬5) (وما حفظه الله) ساقط من (أ)، (د) والمثبت من (ش)، (ع). (¬6) في (أ)، (د): (إن)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح.

قال أصحابنا: هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من كل سورة (¬1)؛ لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن، وحقيقة حفظه أن يحفظه من الزيادة والنقصان على ما بَيَّنا، فمن لم يجعل التسمية من القرآن لم يجعل القرآن محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يُظنَّ بالصحابة أنهم زادوا التسمية جاز أن يظن بهم النقصان أيضًا، وهذا يؤدي إلى الإلحاد، وحكى الفراء جواز رجوع الكناية في (له) إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- المعنى: وإنا لمحمد حافظون (¬2). قال ابن الأنباري: ولمّا ذَكر الإنزالَ والمُنزَلَ دلَّ ذلك على المُنزَلِ عليه، فكنّى عنه كما كنّى عن القرآن في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] من غير أن يتقدم ذكرُه لمثل هذه العلة، وقال: والقول الأول هو أوضح القولين، وأحسنها مشابهة لظاهر التنزيل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) بين العلماء في مسألة البسملة اتفاق واختلاف، اتفقوا جميعاً على أنها جزء من آية سورة النمل، واختلفوا هل هي آية من الفاتحة ومن كل سورة أم لا؟ على ثلاثة أقوال؛ طرفان ووسط: فذهب الحنفية إلى أنها آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وليست من الفاتحة، وذهب المالكية إلى أنها ليست آية لا من الفاتحة ولا من بداية السور، وذهب الشافعية إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، وهو ما أشار إليه الواحدي رحمه الله، واختلفت الرواية عن أحمد؛ فرويت عنه الأقوال الثلاثة كما في "المغني" 2/ 151 - 152، وما ذكره الحنفية أرجح وتجتمع عنده الأدلة. انظر: تفصيل المسألة مع أدلة كل فريق في: "تفسير الجصاص" 1/ 8، وابن العربي 1/ 2، والفخر الرازي 1/ 194، و"تفسير القرطبي" 1/ 93، والألوسي 1/ 39، "تفسير آيات الأحكام" للصابوني 1/ 47. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 85 بنصه، انظر: "تفسير الطبري" 14/ 7، والسمرقندي 2/ 215، و"تفسير البغوي" 4/ 370.

10

10 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} أي رسلاً، فحُذف لدلالة الإرسال عليه، {فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} قال ابن عباس: يريد في الأمم الأولين (¬1)، ونحوه قال قتادة (¬2) في تفسير الشيع، وقال الحسن والكلبي: فرق (¬3)، واختاره الزجاج (¬4)، قال الفراء: الشيع: التُبَّاع، واحدهم شيعة، وشيعة الرجل أتباعه، والشيعة الأمة التابعة بعضهم بعضًا فيما يجتمعون عليه من أمر (¬5)، وذكرنا الكلام هذ الحرف عند قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] قال الفراء: وقوله: {شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} إضافة الشيء إلى نفسه كقوله: {حَقُّ الْيَقِينِ} (¬6) [الواقعة: 95]. ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 8 بلفظه، من طريق علي بن أبي طلحة أصح الطرق، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 145 ب بنحوه، والطوسي 6/ 320 بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 175 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد بلا نسبة في "تفسير البغوي" 4/ 370، والفخر الرازي 19/ 162. (¬2) "أخرجه الطبري" 14/ 8 بلفظه، وورد في الثعلبي 2/ 145ب بلفظه، والطوسي 6/ 320 بنحوه، وورد غير منسوب في "تفسير البغوي" 4/ 370، الفخر الرازي 19/ 162. (¬3) ورد منسوباً إلى الحسن فقط في: "تفسير الثعلبي" 2/ 145 ب بلفظه، و"تفسير القرطبي" 10/ 6، ونسب إلى الحسن والكلبي في: تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 345، والألوسي 14/ 17. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 174 بلفظه. (¬5) لم أجده في معانيه، وورد بنحوه منسوباً إلى الفراء: تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 345، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 385، الفخر الرازي 19/ 162، الخازن 3/ 90، الشوكاني 3/ 175، صديق خان 7/ 150، "تهذيب اللغة" (شاع) 2/ 1807، و (شيع) في: "المحكم" 2/ 154، و"المصباح" 1/ 390. (¬6) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 162، و"تفسير أي حيان" 5/ 447، والثعلبي 2/ 208.

11

11 - قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} قال ابن عباس: يُعَزِّي نبيه -صلى الله عليه وسلم- ويُصَبِّره (¬1)، يريد كما استَهزأ بك قومك بعد طول إكرامهم لك، قال أهل المعاني: وإنما حمل الأمم على الاستهزاء استبعاد ما دُعوا إليه، والاستيحاش منه والاستنكار له، حتى توهموا أنه مما لا يكون ولا يصح مع مخالفته لِما كان عليه الأسلاف (¬2)؛ وذلك أنهم تعجلوا الراحة بإسقاط النظرِ عن أنفسهم، والتفكرِ فيما أورده الرسول من المعجزات ليدلهم على الحق، وفي هذه الآية دليل على أن كلَّ واحدٍ من الرسل كان مبتلى بطائفة من المشركين، وما خلصت لرسولٍ دعوةً من الاستهزاء والتكبر. 12 - قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}، السَلْكُ إدخال الشيء في الشيء، كإدخال الخيط في المخيط، والرمح في المطعون (¬3). وقال الليث: الله يَسْلُكُ الكفارَ في جهنم؛ أي يدخلهم فيها (¬4)، ومن هذا قوله {مَا سَلَكَكُمْ} [المدثر: 42] وكل شيء أدخلته في شيء فقد سَلَكْتَه فيه، قال عديّ: ¬

_ (¬1) ورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" 2/ 145 ب بلفظه، و"تفسير البغوي" 4/ 370، وابن الجوزي 4/ 385، و"تفسير القرطبي" 10/ 7. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 321 بنصه تقريباً. (¬3) انظر: (سلك) في "تهذيب اللغة" 2/ 1738، و"الصحاح" 4/ 1591، و"اللسان" 4/ 2073. وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 311، الرازي 19/ 162، القرطبي 10/ 7، البيضاوي 1/ 267، الخازن 3/ 90، "الدر المصون" 7/ 148. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (سلك) 2/ 1739 بنصه.

وكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلَكوكَ في يَوْم عَصِيبِ (¬1) وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد: سلَكْتُه وأسلكتُه بمعنى (¬2)، وينشد بيت الهذلي: حتَّى إذا أسْلَكُوهُم في قُتاَئِدهِم ... شَلاًّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدَا (¬3) بالوجهين، وقد حقق ابن عباس هذا التفسير فقال: يريد يسلكُ الشركَ في قلوب المكذبين، كما يسلك الخرزة في الخيط. ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 9، و"الأغاني" 2/ 103، و"تفسير الثعلبي" 2/ 146 أ، والطوسي 6/ 321، وابن عطية 7/ 358، و"تفسير القرطبي" 10/ 7 (عجز)، "اللسان" (سلك) 10/ 442، وغير منسوب في "الدر المصون" 7/ 148. (اللِّزاز) ما يتُرّس به الباب، (العَرْدُ) الشديد من كل شيء الصُّلْبُ المنتصب، وعرَّد الرجل تعريدا أي فرَّ، والمعنى: أي كنت إلى جانبك -يخاطب النعمان- أمنع عنك حتى في الأوقات العصيبة، ولم أحجم ولم أتراجع. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 347، بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" (سلك) 2/ 1739 بنصه عن أبي عبيد، وانظر: "جمهرة اللغة" 2/ 854. (¬3) "شرح أشعار الهذليين" 2/ 675، "مجاز القرآن" 1/ 37، "جمهرة اللغة" 2/ 854، "الصحاح" (سلك) 4/ 1591، "الاقتضاب" ص 402، "أمالي ابن الشجري" 3/ 30، "الإنصاف" ص 369، "تفسير القرطبي" 12/ 119، "اللسان" (قتد) 6/ 3525، (سلك) 4/ 2073، "الخزانة" 7/ 39، وورد منسوباً إلى ابن أحمر في "تهذيب اللغة" (سلك) 2/ 1739، وورد غير منسوب في: "تفسير الطبري" 14/ 9، "جمهرة اللغة" 1/ 391، 491، "المخصص" 16/ 101، "تفسير الطوسي" 6/ 322، " أمالي ابن الشجري" 2/ 122، "تفسير ابن عطية" 8/ 287، "الدر المصون" 7/ 148، "معجم البلدان" 4/ 310. وفي الديوان وجميع المصادر برواية (قُتائِدَةٍ) وهي: ثنية مشهورة، (شَلاًّ) معناه الطرد، (الجمَّالة) أصحاب الجمال، (الشُّرُدَا) جمع شارد، وهي الإبل النافرة، قال ابن السيد: إنه وصَف قوماً هُزمُوا حتى أُلجئوا إلى الدخول في قتائد؛ وهي ثنية ضيقة.

وقال أبو إسحاق: أي كما فُعِلَ بالمجرمين الذين استهزأوا بمن تقدَّم مِنَ الرُّسُلِ، كذلك نَسلُكُ الضلالَ في قلوب المجرمين (¬1). واختلفوا في المُكنّى في قوله: {نَسْلُكُهُ}؛ فذكر ابن عباس: الشرك (¬2)، وهو قول الحسن (¬3)، وذكر الزجاج: الضلال (¬4). وقال الربيع: يعني [الاستهزاء (¬5). وقال الفراء: يعني التكذيب بالعذاب (¬6). قال صاحب النظم: الهاء كناية عن الاستهزاء] (¬7) ودلَّ عليه الفعل؛ كقولهم: من كذب كان شرًا له، والفعل يدل على المصدر؛ كقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] أي: الشكر، فأضمره لدلالة الفعل عليه، وذكرنا مثل هذا كثيرًا، وأما ما ذكر المفسرون من الشرك والتكذيب والضلال فكلُّه داخل في الاستهزاء، وهو من معاني الاستهزاء. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} إيماء بهذا التشبيه إلى ما كان منهم من الكفر والاستهزاء، قال: وهذه أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ولم يعاند. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 174 بنصه. (¬2) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 385، وصديق خان 7/ 151. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 345 بلفظه، والطبري 14/ 9 بلفظه، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 385، و"تفسير القرطبي" 10/ 7 وابن كثير 2/ 602، و"الدر المنثور" 4/ 176 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وصديق خان 7/ 151. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 174 بلفظه. (¬5) لم أقف عليه منسوباً له، ونُسب إلى قتادة في "تفسير الماوردي" 3/ 150، وابن الجوزي 4/ 385، وورد غير منسوب في "تفسير ابن عطية" 8/ 287، الفخر الرازي 19/ 163، "تفسير القرطبي" 7/ 10، "الدر المصون" 7/ 147. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 85 بلفظه. (¬7) ما بين المعقوفين من (ش)، (ع).

وقال أصحابنا: أضاف الله تعالى إلى نفسه سَلْكَ الكفر في قلوب الكفار، وحَسُن ذلك منه، فمن آمن بالقرآن فليستحسنه (¬1)، وأراد بالمجرمين المشركين الذين كانوا يستهزئون بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) يَرُدّ الواحدي -رحمه الله- بقوله هذا على المعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، وهي من المسائل المشهورة التي اشتد فيها النزاع بين المعتزلة والأشاعرة، وقد وقع الفريقان في طرفي النقيض وجانبا الصواب في المسألة، على النحو التالي: ذهب المعتزلة إلى أن العقل قد يُعلم به حُسنُ كثير من الأفعال وقُبحُها، ومقتضى ذلك أن يكون فاعل القبيح أو تارك الحسن آثم ومعاقب في الآخرة ولو لم يرد شرع بذلك، فيستحق العذاب لمجرد مخالفته للعقل. انظر: المحصول في "علم أصول الفقه" 1/ 160، "مجموع الفتاوى" 11/ 677، "المواقف في علم الكلام" ص 323، 326. وذهب الأشاعرة إلى النقيض؛ فقالوا: إن العقل لا يُعلم به حُسن الفعل ولا قبحه، وبالتالي فلا يثبت عندهم حسن ولا قبح قبل ورود الشرع، وعليه فالقبيح ما قيل: لا تفعل، والحسن ما قيل فيه: افعل، أو ما أذن في فعله. "الملل والنحل" للشهرستاني 1/ 101، "مجموع الفتاوى" 11/ 677، "المواقف في علم الكلام" ص 327. وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية منشأ الغلط عند الفريقين، فقال: إن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملاعمة والمنافرة قد يعلم بالعقل، وهذا الذي اتفقوا عليه حق، لكن توهموا بعد هذا أن الحُسن والقبح الشرعيَّ خارج عن ذلك، وليس الأمر كذلك، بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك، لكنَّ الشارع عرَّف بالموجود، وأثبت المفقود، فتحسينه: إمَّا كشفٌ وبيان، وإمَّا إثبات لأمور في الأفعال والأعيان. انظر: "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 22، "مجموع الفتاوى" 8/ 90. أما المذهب الحق في هذه المسألة فقد بينه كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: وعامة السلف وأكثر المسلمين على أن الظلم والشرك والكذب والفواخر ونحوها سيءٌ وقبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول، =

13

13 - قوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ} هذا عند الزجاج ابتداء كلام؛ كأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم لا يؤمنون (¬1). وقال الجرجاني: قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} رفع موضعه نصب علي تأويل أن لا يؤمنوا به، و (أن) الخفيفة تضمر، فإذا أضمرت لم تعمل؛ كقوله تعالى: {تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] فعلى هذا قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} تفسير للكناية في قوله: {نَسْلُكُهُ}؛ كأنه قيل: نسلك في قلوب المجرمين ألاّ يؤمنوا به، فلما كفّ ذِكْرُ (أن) عاد الفعل إلى الرفع، وهذا معنى قول الفراء؛ لأنه قال: يجعل في قلوبهم ألاَّ يؤمنوا (¬2)، والكناية في (به) تعود إلى الذكر؛ الذي هو القرآن في قول ابن عباس (¬3)، وفي قول غيره يجوز أن تعود إلى الرسول (¬4)، ونظير هاتين الآيتين في المعنى واللفظ قوله في الشعراء: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الشعراء: 200، 201]. ¬

_ = وعليه يدل الكتاب والسنة؛ فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شرٌ وقبيح، وسيءٌ قبل الرسل، وإن كانوا لا يستحقون العقوبة إلا بالرسول. انظر: "مجموع الفتاوى" 8/ 90، 11/ 677، "أصول الدين" للبغدادي ص 205. وفي هذه الآية ينفي المعتزلة سلكَ اللهِ الكفرَ في قلوب الكافرين، بناءً على أصلهم هذا. انظر: كلام القاضي عبد الجبار على الآية في تفسيره "متشابه القرآن" ص 245. (¬1) ليس في معانيه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 85 بنصه. (¬3) "تنوير المقباس" ص 276 ونُسب إليه القولان؛ هذا والذي بعده، وورد غير منسوب في "تفسير الماوردي" 3/ 150، و"البغوي" 4/ 370 وابن عطية 8/ 287، وابن الجوزي 4/ 385، والخازن 3/ 90، و"الدر المنثور"، والثعالبي 2/ 208. (¬4) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 215، و"تفسير البغوي" 4/ 370، وابن الجوزي 4/ 385، والخازن 3/ 90، و"الدر المصون" 7/ 147.

14

وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}، المفسرون على أن هذا تهديد لكفار مكة (¬1)؛ يقول: قد مضت سنة الله بإهلاك من كذَّبَ الرسولَ في القرون الماضية. وقال أبوإسحاق: أي: قد مضت سُنّةُ الأولين بمثل ما فعله هؤلاء، فهم يقتفون آثارهم في الكفر (¬2)، وهذا أليق بظاهر اللفظ (¬3). 14 - قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا} يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا، إذا فعله بالنهار، ولا تقول العرب: ظل يظل، إلا لكل عمل بالنهار، كما لا يقولون: بات [يبيت، إلا بالليل، والمصدر] (¬4) الظلول، فأما حذف إحدى اللامين فإنه جائز، وسنذكر اللغة فيه عند قوله: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] إن شاء الله. وقوله تعالى: {فِيهِ يَعْرُجُونَ} يقال: عَرج يَعْرُج عُرُوجًا، ومنه المعارج وهي المصاعد التي يصعد فيها، وفي هذه الآية قولان للمفسرين؛ أحدهما: أن قوله: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} من صفة المشركين. قال ابن عباس في رواية عطاء: فطفقوا فيه يصعدون، يريد ينظرون فيه إلى ملكوت الله وقدرته وسلطانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 146 أ، بمعناه، و"تفسير البغوي" 4/ 370، والزمخشري 2/ 311، الفخر الرازي 19/ 165، والخازن 3/ 90. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 173 بنصه، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 165. (¬3) والقولان متلازمان، فما ذكره الزجاج هو السبب، وماذهب إليه المفسرون هو العاقبة والمال. (¬4) ما بين المعقوفين بياض في (أ)، (د)، وفي هامش نسخة (د) كتب [سقطت من النسخة القديمة]، والمثبت من (ش)، (ع).

خشيته مشفقون (¬1)، وهذا أيضًا قول الحسن؛ قال: هذا العروج راجع إلى بني آدم، يعني فظل هؤلاء الكافرون فيه يعرجون (¬2). وشرح أبو بكر هذا القول فقال: معناه لو وَصَّلنا هؤلاء المعاندين للحق إلى صعود السماء الذي يزول معه كل شبهة لم يستشعروا إلا الكفر، وجحدوا البراهين كما سائر المعجزات؛ من انشقاق القمرِ وما خُص به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله. القول الثاني: أن هذا العروج للملائكة؛ لأنه هو المعروف المشهور، يقول: لو كُشف لهؤلاء عن أبصارهم حتى يعاينوا أبوابًا في السماء مفتحة تصعد منها الملائكة وتنزل، لصَرَفوا ذلك عن وجهه إلى أنهم سُحروا ورأوا بأبصارهم ما لا يتحقق عندهم، وهذا قول ابن عباس (¬3) وابن جريج وجماعة. ¬

_ (¬1) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 167. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 146 أبنحوه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 323 بنحوه، "تفسير البغوي" 4/ 370، 371، "تفسير القرطبي" 10/ 8، والخازن 3/ 90. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 346 مختصراً عن ابن عباس من طريق قتادة، والطبري 14/ 10 بنحوه، عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن الضحاك، وأخرجه مختصراً عن ابن عباس من طريق قتادة. وورد مختصرًا في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 13 عن ابن عباس، "تفسير الطوسي" 6/ 323 عن ابن عباس وقتادة والضحاك، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 386 عن ابن عباس والضحاك، "تفسير القرطبي" 10/ 8 عن ابن عباس وقتادة، الخازن 3/ 90 عن ابن عباس والضحاك. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 176 وزاد نسته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

15

قال ابن جريج: فظلت الملائكة تعرج فيه وهم ينظرون إليهم (¬1). قال: وهذا راجع إلى قوله: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} واختار الفراء هذا القول (¬2)، وأبو إسحاق ذكر القولين جميعًا، فقال: اعلم أنهم إذا وردت عليهم الآية المعجزة قالوا: سِحْر، وقالوا: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} كما قالوا حين انشق القمر: هذا سِحْرٌ مُستمر، قال: ويصلح أن يكون {يَعْرُجُونَ} للملائكة والناس، وقد جاء بهما التفسير، وقال في قوله: {يَعْرُجُونَ} أي يصعدون فيذهبون ويجيئون (¬3)، وقال الفراء: فظلت الملائكة تصعد من ذلك الباب وتنزل (¬4)، فقد زاد المجيء والنزول في تفسير العروج. 15 - قوله تعالى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قرئ بالتشديد (¬5) والتخفيف (¬6) أي: أُغشيت وسُدّت بالسِّحرِ، فنتخايل بأبصارنا غير ما نرى، هذا قول أهل اللغة (¬7)، قالوا: وأصله من السَّكْر؛ وهو سَدُّ البَثْق لئلا ينفجر ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 10 بنحوه عن ابن جريج عن ابن عباس، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 68 وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن ابن جريج عن ابن عباس، وورد غير منسوب في "تفسير البغوي" 4/ 370. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 86. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 174 مع تقديم وتأخير. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 86 بنصه. (¬5) قرأ بها القُراء السبعة ماعدا ابن كثير. انظر: "السبعة" ص 366، "إعراب القراءات السبع" وعللها 1/ 343، "علل القراءات" 1/ 295، "الحجة للقراء" 5/ 43، "المبسوط في القراءات" ص 220. (¬6) قرأ بها ابن كثير وحده. المصادر السابقة. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1719 بنصه

الماء (¬1)؛ فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر، كما يمنع السَّكْرُ الماءَ من الجري، والتشديد يوجب زيادة وتكثيرًا. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو مأخوذٌ من سُكْرِ الشرابِ؛ يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل وفساد اللب (¬2)، فإذا كان هذا معنى التخفيف، فسكران بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة. وقال أبوعبيدة: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}: غُشيت سَمَادِيرُ (¬3) فذهبت وخبا نظرها، وأنشد (¬4): جاءَ الشِّتاءُ واجْثَألَّ القُبَّرُ ... وجَعَلَتْ عينُ الحَرُورِ تَسْكَرُ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: (سكر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1719 بنصه ونسبه لليث، "المحيط في اللغة" 6/ 184، "اللسان" 4/ 2047، "التاج" 6/ 535. (¬2) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 12 مختصراً، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 14، "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1719، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 386، الفخر الرازي 19/ 167، "تفسير القرطبي" 10/ 9، "اللسان" (سكر) 4/ 374. (¬3) السَّماديرُ: ضعفُ البصر وغشاوة العين، ويقال: هو الشيء الذي يتراءى للإنسان من ضعف بصره عند السُّكر من الشراب وغيره. انظر: باب الرباعي (سمدد) في "تهذيب اللغة"، 2/ 1751، و"المحيط في اللغة" 8/ 429. (¬4) للمثنى بن جندل الطُّهوي. عاش في العصر الأموي، وأخباره في "سمط اللآلي" ص 644. (¬5) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 175، "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1719، "اللسان" (سكر) 4/ 2048، (قبر) 6/ 3510، وورد في بعض المصادر على النحو التالي: =

أي: يخبو حرها ويذهب (¬1). وعلى هذا القول أصله من السكون؛ يقال: سَكَرَتِ الرّيحُ، إذا سكنت، وسَكَرَ الحرُّ يسْكُرُ، وليلةٌ ساكِرَةٌ؛ لا ريحَ فيها (¬2)، قال أوس: خُذِلتُ على لَيْلهٍ سَاهِرهْ ... فليسَتْ بطَلْقٍ ولا ساكِرهْ (¬3) ¬

_ = جاء الشتاء واجْثألَّ القُنْبُرُ ... واستَخْفَتِ الأفْعَى وكانت تظهرُ وطعلتْ شمشٌ عليها مِغْفَر ... وجعلت عينُ الحرورِ تسكرُ وقد ورد بهذه الرواية في "مجاز القرآن" 1/ 348، و"تفسير الطوسي" 14/ 13، والطبري 7/ 499 ولم يذكر الشطر الثالث، الماوردي 3/ 151، "تفسير القرطبي" 10/ 8 أوردا البيت الثاني فقط. (اجثأل) اجتمع وتقبّض، (قبّر) قال الأزهري: يقال للقْبرة قُبُّرة وقُبَّرٌ؛ وهو طائر يشبه الحُمَّرة، وجمعها قنابر، (الحَرُوْرُ) حرُّ الشمس. انظر: "تهذيب اللغة" (قبر) 3/ 2871، (سكر) 2/ 1719، "المحيط في اللغة" (حر) 2/ 311، (قبر) 5/ 411، "متن اللغة" 4/ 481. (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 347 بنصه ما عدا الشعر. (¬2) انظر: (سكر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1719 بنصه، "اللسان" 4/ 2048، "التاج" 6/ 535. (¬3) "ديوان أوس" ص 34، وقد ورد بالرواية التالية: خُذِلْتُ على ليلةٍ ساهِرَهْ ... بصحراء شَرْجٍ إلى ناظِرَهْ تُزَادُ ليَاليَّ في طُولِهَا ... فلَيْسَتْ بِطَلْقٍ ولا ساكِرهْ ورد في "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1719، "تفسير الماوردي" 3/ 151 بدايته "فصرن"، "الاقتضاب" ص 412، "شرح الجواليقي" ص 239 ورد فيهما برواية الديوان، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 167، "تفسير القرطبي" 10/ 8 بدايته (فصرت)، "اللسان" (سكر) 4/ 2048. يقول: خذلت على أن ليلتي ساهرة؛ أي ساهر صاحبها؛ كما تقول نهاره: صائم؛ أي يصوم فيه، والطلق: اليوم الطيب الذي لا حرّ فيه ولا برد، واستطال الليلة لما لقي فيها من الألم والشدة، وذلك أن أوس بن حجر انطلق مسافراً حتى إذا كان بأرض بني أسد بين مكانين يقال لأحدهما شرج، وللآخر ناظره، جالت به ناقته فصرعته فانكسرت فخده.

وهذا القول اختيار الزجاج؛ قال: يقال سَكَرَتْ عينُهُ تَسكر، إذا تَحَيَّرَتْ وسكنتْ عن النَّظر (¬1)، وعلى هذا معنى (سُكِّرَتْ أبصارُنا): سكنت عن النظر، ولا يتوجه على هذا القول قراءة من قرأ بالتخفيف. قال أبو علي الفارسي: معنى {سُكِّرَتْ} صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تُدرِك الأشياءَ على حقيقتها، وكأن معنى التسكير قطع الشيء عن سننه (¬2) الجاري، فمن ذلك تسكير الماء؛ هو ردُّهُ عن سيبه (¬3) في الجِرْيَة، والسُّكْرُ في الشراب هو: أن يَنْقطع عما كان عليه من المَضاء في حال الصحو، فلا ينفذ رأيُه على حدّ نفاذه في صحوه، وعَبَّروا عن هذا المعنى بقولهم: سَكْرَانُ لا يَبُتُّ (¬4)، ووجه التثقيل أن الفعل مسند إلى جماعة، وهو مثل: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]، ووجه التخفيف أن هذا النحو من الفعل المسند إلى الجماعة قد يُخَفّف، كقوله: ما زِلتُ أُغْلِقُ أبوابًا وأفتحُها (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 175 بنحوه، ويبدو أنه نقل قول الزجاج من "تهذيب اللغة" لتطابقه، "تهذيب اللغة" "سكر" 2/ 1719 بنصه، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 167. (¬2) في الحجة: (سببه) والصحيح سننه، ولعلها تصحيف من محقق الحجة. (¬3) في جميع النسخ: (سننه)، والمثبت هو الصحيح وموافق لما في الحجة، والسِّيْبُ: مخرج الماء من الوادي، وجمعه سُيُوبٌ، وقد ساب الماء يسيب: إذا جَرَىْ. "تهذيب اللغة" (ساب) 2/ 1584، "المحيط في اللغة" (سيب) 8/ 397. (¬4) معناه: لا يقطع أمراً، وقيل: ما يُبَيِّن كلاماً. انظر: (بن) في: "تهذيب اللغة" 1/ 269، "المحيط في اللغة" 9/ 415. (¬5) نُسب إلى الفرزدق في كل المصادر ما عدا الحجة وليس في ديوانه، ونسب -في "الحجة" 3/ 441 - للراعي النميري، وهو في "ديوانه" ص 33 برواية: ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني وأفتح باباً بعد ارتاجِ

وهذا على أن {سُكِّرَتْ} بالتخفيف قد ثبت تعدِّيه بهذه القراءة (¬1)، ويجوز أن يكون من قرأ بالتخفيف أراد التثقيل، فحذفه وهو يريده؛ كما جاء ذلك في المصادر وأسماء الفاعلين؛ نحو: عَمْرَكَ الله (¬2)، و: ........... دَلْوُ الدَّالِيَ (¬3) ¬

_ = (بعد ارتاج): بعد إغلاق، يقال: أَرْتَجْتُ الباب إرتاجاً: أي أغلقته إغلاقاً، ويقال لغلق الباب: الرتاج، ويقال للرجل إذا امتنع عليه الكلام: أُرتج عليه. وعجزه: حتى أتيتُ أبا عمرو بنَ عمَّارِ ورد في: "الحجة للقراء" 5/ 43، "تفسير الطوسي" 6/ 322، وورد في: "الكتاب" 3/ 506، 4/ 63، 65، و"أدب الكاتب" ص 461، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 456، 528، و"الاقتضاب" ص 409، و"شرح الجواليقي" ص 233، و"اللسان" (غلق) 10/ 291، برواية: ما زِلْتُ أفتحُ أبواباً وأُغلقُها ... حتى أتيت أبا عمرِو بْنَ عَمّار قال أبو حاتم السجستاني: ويَقصد بأبي عمرو: أبا عمرو بن العلاء المازني النحوي، والمعنى: لم أزل أتصرف في العلم وأطويه وأنشره حتى لقيت أبا عمرو فسقط علمي عند علمه. (¬1) قال أبو علي: الفعل إذا بُني للمفعول فلا بُدّ من تنزيله معدّى، فيكون تعدّيه على قراءة ابن كثير مثل: شَتِرتْ عينُهُ، وشَترْتُها. "الحجة" 5/ 44 [الشَّتَرُ: انقلاب في جَفنِ العين الأسفل قلَّ ما يَكُونُ خِلْقَةً] "المحيط في اللغة" "شتر" 7/ 305، وقال المنتجب: بل هو من الأفعال التي سمُع معدى وغيرُ معدى؛ نحو: غاضَ الماء، وغاضَهُ اللهُ، وصَعِقَ زيدٌ، وصُعِقَ، وسعِدَ زيدٌ وسُعِدَ. "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 191. (¬2) الشاهد: تخفيفها؛ والأصل تشديدها، قال سيبويه: "وكأنّه حيث قال: عَمْرَك الله، وقعِدك الله، قال: عَمّرتُك الله بمنزلة نَشدتُك الله، فصارت عَمْرَك الله منصوبةً بعمَّرتُك الله .. " "الكتاب" 1/ 322. (¬3) قطعة من بيت من رجز للعجاج يصف ماءً، وتمامه: (يكشفُ عن جَمّاتِهِ دلْوُ الدَّالْ) =

و {الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬1) [الحجر: 22] هذا الذي ذكرنا قول أهل اللغة وأصحاب المعاني. فأمّا التفسير فقال ابن عباس في رواية عطاء: تحيرت أبصارنا، ورُوي عنه أيضًا: سُدت (¬2)، وهو قول مجاهد (¬3). وقال الحسن: سُحرت (¬4)، وقال قتادة: أُخذت (¬5). ¬

_ = ورد في ملحقات "ديوانه" 2/ 321، و"أدب الكاتب" ص 612، "الصحاح" (دلو) 6/ 2339، وورد غير منسوب في: "المقتضب" 4/ 179، "الحجة للقراء" 2/ 254، "إيضاح الشعر" ص 580. 590، "المخصص" 9/ 167 نسبه لأبي علي، وفي جميع المصادر: (الدَّالْ) بدل (الدَّالي) ولا فرق، (الدَّالْ): أي المُدْلِي؛ وهو المستقي، (جماته): جمع جمّة؛ وهي المكان الذي يجتمع فيه ماء البئر، والشاهد: أن الأصل (المُدْلي) فحذف الزيادة، قال ابن قتيبة: ولو قال العَجَّاجُ: (المدلي) لكان أشبهَ بما أراد، ولكنه أراد القافيةَ، وعلم أن الدالي والمُدلي يجوز أن يوصفَ بهما المستقي بالدلو. انظر: "أدب الكاتب" ص 612، "الحجة للقراء" 2/ 254. (¬1) "الحجة للقراء" 5/ 43 بتصرف يسير. والشاهد في: (لواقح) أن أصلها (ملاقح)؛ لأنها إذا أَلقَحَتْ كانت مُلقِحةً، وجمع المُلْقِحِ: ملاقح، ولواقح على حذف الزيادة. "الحجة للقراء" 2/ 254. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 146 أ، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 371، "تفسير القرطبي" 10/ 8، الخازن 3/ 90. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 12 بلفظه، وورد بلفظه في: "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1719، "تفسير الطوسي" 6/ 323، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 386، ابن كثير 2/ 602، "الدر المنثور" 4/ 176 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ورد بلفظه في: "الغريب" لابن قتيبة 1/ 238، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 14، و"تفسير السمرقندي" 2/ 216، والثعلبي 2/ 146 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 371، و"تفسير القرطبي" 10/ 8. (¬5) "أخرجه الطبري" 14/ 12 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" 2/ 216، والثعلبي 2/ 146 أ، والماوردي 3/ 151، و"تفسير البغوي" 4/ 371، و"تفسير =

16

وقال الكلبي: أُغشيت وعُميت (¬1). وقوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي: سَحرنا محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال الكلبي: يقولون سَحرنا فلا نبصر (¬2)، ونظير هذه القصة قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا} (¬3) [الأنعام: 111] الآية، وقد مر. 16 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} الآية. قال الليث: البرج واحدٌ من بروج الفَلَك؛ وهي اثنا عشر برجًا؛ كل برج منها منزلان ونصف (¬4) منزل للقمر، وهي ثلاثون درجة للشمس، إذا غاب منها ستة طلعت ستة، ولكل بُرج اسم على حدة؛ فأولها الحَمَلُ، وأولُ الحَملِ الشَّرَطان، وهما قَرْنا الحَمَل؛ كوكبان أبيضان، وخَلْفَ الشَّرَطَيْن البُطين، ¬

_ = القرطبي" 10/ 8، وقد روي هذا القول عن ابن عباس أيضًا في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 14، و"الدر المنثور" 4/ 176 روي عن قتادة بلفظ سدّت وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والمؤكد أن قتادة رواه عن ابن عباس، ويؤيده أن عبد الرزاق 2/ 346، والطبري 14/ 12 أخرجاه بلفظه عن قتادة عن ابن عباس، وكذلك أورده ابن كثير 2/ 652. (¬1) " أخرجه الطبري" 14/ 13 بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 146 أ، بنحوه، والماوردي 3/ 151 بلفظه، و"تفسير البغوي" 14/ 371، و"تفسير القرطبي" 10/ 8، وابن كثير 2/ 602. (¬2) وورد غير منسوب في "تفسير البغوي" 4/ 371. (¬3) والآية كاملة هي: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} والشاهد ظاهر. فالآية تؤكد عدم جدّية القوم في الإيمان بالرسول مهما أظهر لهم من المعجزات الحسية التي طالبوه بها. (¬4) هكذا في جميع النسخ، وفي المصدر: (ثلث) وكذا في "الممتع في شرح المقنع" ص 64.

وهذه ثلاثة (¬1) كواكب، فهذان منزلان، والثريا من بُرج الحمل (¬2)، وذكرنا الكلام في معنى البروج في اللغة واشتقاقها في قوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بروج الشمس والقمر؛ يعني منازلهما (¬3)، وقال الحسن ومجاهد وقتادة: هي النجوم (¬4). قال أبو إسحاق: يريدون نجوم هذه البروج، وهي نجوم على صورة ما سميت به؛ نحو: الحَمَل والثَّور وغيرهما؛ فالبروج نجوم كما جاء في التفسير (¬5)، وقال عطاء (¬6): وقال بعضهم: قصورًا (¬7)، فعلى هذا أريد ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (ثلاث)، وهو خطأ نحوي ظاهر، ولعله من النساخ. (¬2) ورد في" تهذيب اللغة" (برج) 1/ 300 بنصه، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 168 ورد مختصرًا، والخازن 3/ 91، وصديق خان 7/ 153. (¬3) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 387، و"تفسير القرطبي" 10/ 9، والخان 3/ 91. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 340 بنحوه، "أخرجه الطبري" 4/ 14 عن قتادة بلفظه، وفي رواية عن مجاهد وقتادة قال: الكواكب، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 15 بنحوه عن مجاهد، "تفسير السمرقندي" 2/ 216 بلفظه، "تفسير الماوردي" 3/ 152 بلفظه عن الحسن ومجاهد، "تفسير ابن الجوزي" 2/ 603 عن مجاهد وقتادة، "تفسير القرطبي" 10/ 9 عن الحسن وقتادة، والخازن 3/ 91 عنهم، وابن كثير 2/ 568 عن مجاهد وقتادة، "الدر المنثور" 4/ 177 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 175 بنحوه. (¬6) هكذا في جميع النسخ، ويبدو أنها تصحفت عن عطية؛ لأن هذه الرواية وردت عن عطية [وهو العوفي] في المصادر التالية. (¬7) ورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" 2/ 216 بلا نسبة، والماوردي 3/ 152 عن عطية. انظر: "تفسير البغوي" 4/ 371 عن عطية، وابن الجوزي 4/ 387 عن ابن عباس وعطية، و"تفسير القرطبي" 10/ 10، والخازن 3/ 91 عن عطية، وابن كثير 2/ 603 عن عطية، و"الدر المنثور" 4/ 177 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن عطية.

17

بالبروج بيوت وقصور خلقها الله تعالى في السماء، وقيل في قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] هي قصور في السماء (¬1)، وأصل هذا كله من الظهور وقد ذكرناه (¬2). وقوله تعالى: {وَزَيَّنَّاهَا} أي بالشمس والقمر والنجوم، {لِلنَّاظِرِينَ} أي للمعتبرين بها والمستدلين على توحيد صانعها. 17 - قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} معنى الرجم في اللغة: الرمي بالحجارة، ثم قيل للقتل: رجم؛ لأنه يقصد به القتل، ثم قيل لكل قَتْلٍ رَجْم وإن لم يكن (¬3) بالحجارة، ومنه قوله: {أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] أي تقتلون، والرجم: السب والشتم؛ لأنه رمي بالقول القبيح، ومنه قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] أي مَرَامي (¬4)، والرجم: القول بالظن ومنه قوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] لأنه يرمي الظن إليه، والرجم أيضاً اللعن والطرد والإبعاد والهجران (¬5)، وفسر بكل ذلك الشيطان الرجيم؛ وذلك أن الرمي بالحجارة والقول القبيح يوجب هذه المعاني، فسميت رجمًا. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 307 بلفظه. (¬2) انظر: "البسيط" [النساء: 78]. (¬3) في (أ)، (د): (وإن يكن). والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح الذي يستقيم به الكلام. (¬4) في جميع النسخ: (مرامًا) والمثبت هو الصحيح، كما في "تهذيب اللغة" (رجم) 11/ 69. (¬5) انظر: (رجم) في "تهذيب اللغة" 2/ 1376، "الصحاح" 5/ 1928، "اللسان" 3/ 1601، "المفرادات" ص 345.

18

وقال أبو عبيدة رجيم: مرجوم بالنجوم (¬1)، بيانه قوله: {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] قال ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يأخذونها ويتحرون (¬2) أخبارها فليقون على الكهنة، فلما ولد عيسى منعوا من (ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منعوا من) (¬3) السموات كلها، فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا ورمي بشهاب (¬4)، فذلك قوله: 18 - {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}، (بيان هذا قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} الآية [الجن: 8]. قال أبو إسحاق: موضع (من) نصب، المعنى: لكن من استرق السمع) (¬5)، قال: وجائز أن يكون في موضع خفض على معني إلا ممن (¬6)، قال ابن عباس في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} يريد ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 348 بلفظه. (¬2) في (ش)، (ع): (ويتخبرون)، من الاستخبار، والمثبت من التحرِّي وكلاهما صحيح. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬4) جزء من حديث طويل ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 216، والثعلبي 2/ 146 أ، "تفسير البغوي" 4/ 372 - 373، والزمخشري 2/ 312، والفخر الرازي 19/ 169، و"تفسير القرطبي" 10/ 10، والخازن 3/ 91، وهذا القول غريب، وأغلب الظن أنه من طريق الكلبي -وهي أوهى الطرق إلى ابن عباس، ويؤكده نسبة الماوردي القول للكلبي 3/ 152، وقد ورد حديث صحيح عن ابن عباس عن الحيلولة بين الشياطين وخبر السماء. انظر: "صحيح مسلم" (449) كتاب:. الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجنّ، وطرفه: (انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ..). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 176 بنصه.

الخطفة (¬1) اليسيرة، وذلك أن المارد من الشيطان يعلو فيُرمَى بالشهاب؛ فتُصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيحرقه ولا يقتله، ومنهم من يُخَبِّله فيصير غُولًا يُضل الناسَ في البراري (¬2). وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ} ذكرنا معناه عند قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] ومعناه لحقه، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يُسمى الكوكبُ شهابًا والسنانُ شهابا؛ لبريقهما يُشبّهان بالنار، قال ابن عباس في قوله: {شِهَابٌ مُبِينٌ} يريد نارًا تَبِيْن لأهل الأرض، قال المفسرون: إن الشهاب لا يخطئه أبدًا وأنهم ليُرْمَون، فإذا توارى عنكم فقد أدركه (¬3). وقال أبو إسحاق: هذا من آيات النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومما حدث بعد مولده؛ لأن الشعراء قبله لم يذكروا هذا في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به (¬4) كما شبهوا بالبرق وبالسيل، ولم يوجد في أشعارهم بيت واحد فيه (¬5) ذكر الكواكب المُنْقضَّة (¬6)، وقال أصحاب المعاني: إن الله تعالى سمَّى ما تُرجم به الشياطين شهابًا، وهو في اللغة النار الساطعة (¬7) ونحن في رأي ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (الحفظة)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح. (¬2) أخرجه الطبري 15/ 14 مختصراً، من طريق الضحاك عن ابن عباس منقطعة، وورد في تفسير الماوردي 3/ 153 مختصراً، و"تفسير ابن عطية" 8/ 292، و"تفسير القرطبي" 10/ 11، والخازن 3/ 91. (¬3) ورد في تفسير الثعلبي 2/ 146 أبنحوه. (¬4) (به) ساقط من (أ)، (د) ويقتضيها السياق. (¬5) في جميع النسخ: (فيها) والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود إلى البيت وهو مذكر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 176 بنحوه. (¬7) انظر: (شهب) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1942، "المحيط في اللغة" 3/ 395، "الصحاح" 1/ 159.

19

العين نرى كأنهم يرمون بالنجوم، فيجوز أن ذلك كما نرى ثم يصير نارًا إذا أدرك الشيطان، ويجوز أنهم يُرمَون بشعلة نار من الهواء، ولكن لبعده عنا يخيل إلينا أنه نجم، والله أعلم بحقيقة ذلك. 19 - قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} قال ابن عباس وغيره: بسطناها على وجه الماء (¬1)، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال الثوابت لئلا تميد بأهلها؛ كما قال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} اختلفوا في معنى موزون هاهنا، فذهب الأكثرون إلى أن معناه: المحصل المعلوم المقدور، ذلك (¬2) أن الوزن إنما يستعمل لبيان المقدار والإشراف على حقيقته، فوُصفَ المعلومُ بالموزون وإن لم يكن هناك وزن؛ لأن أوكد ما يتحصل به معرفة المقادير الوزنُ، قال ابن الأنباري: وأنشد: وقد كُنْتُ قبْلَ لقائِكُم ذا مِرَّةٍ (¬3) ... عِنْدِي لكلّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُه (¬4) يعني: قدر ما يستحق أن يجاب به من الكلام. وهذا معنى قول ابن عباس (¬5) وعكرمة وسعيد بن جبير والحكم ¬

_ (¬1) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 170، و"تفسير القرطبي" 10/ 12، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 2/ 146 ب، وابن الجوزي 4/ 390، والخازن 3/ 92. (¬2) في (ش)، (ع) زيادة (واو) قبل ذلك. (¬3) ساقط من (د)، والمرَّة: الشدّة. "المحيط في اللغة" (مر) 10/ 225. (¬4) ورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" 3/ 154، "تفسير القرطبي" 15/ 13، "اللسان" (وزن) 8/ 4829، "تفسير الشوكاني" 3/ 180. (¬5) "أخرجه الطبري" 14/ 15 من طريق ابن أبي طلحة، صحيحة، ومن طريق العوفي، ضعيفة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 17، "تفسير الماوردي" 3/ 153، الطوسي 6/ 326، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، "تفسير القرطبي" 10/ 13، =

ومجاهد؛ قال عكرمة: {مَوْزُونٍ}: بقدر (¬1). ووقال سعيد: معلوم (¬2)، وقال الحكم: مقدر (¬3). وقال مجاهد: مقدور بقدر (¬4). وهذا القول اختيار أبي عبيدة (¬5) والزجاج وأبي بكر، قال الزجاج: أي من كل شيء مقدور جرى على وزْنٍ مِنْ قَدَرِ الله لا يجاوز ما قدَّره الله عليه (¬6)، ويشهد لهذا التأويل قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وهذا عام في كل ما خلقه الله تعالى على وجه الأرض ما ليس من جنس الأرض بما يكون في المعادن، وذلك للفظ (¬7) الإنبات؛ لأنه إنما يستعمل فيما ينبت من الأرض، ويستعمل في الحيوانات أيضًا، قال الله تعالى: ¬

_ = الخازن 3/ 92، ابن كثير 2/ 603، "الدر المنثور" 4/ 177 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬1) "أخرجه الطبري" 7/ 501، بلفظه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 17، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، الخازن 3/ 92، ابن كثير 2/ 603، "الدر المنثور" 2/ 603، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) "أخرجه الطبري" 14/ 16، بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 153، والطوسي 6/ 326، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، "تفسير القرطبي" 10/ 13، الخازن 3/ 92، وابن كثير 2/ 603. (¬3) "أخرجه الطبري" 14/ 16 بلفظه، وانظر: تفسيرابن كثير 2/ 603. (¬4) "تفسير مجا هد" ص 340 بنحوه، و"أخرجه الطبري" 14/ 16 بلفظه، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 17، و"تفسير الطوسي" 6/ 326، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، و"تفسير القرطبي" 10/ 13، والخازن 3/ 92، وابن كثير 2/ 603. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 348 قال: بقدر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 176 بنصه. (¬7) في جميع النسخ: (اللفظ)، وبالمثبت يستقيم الكلام.

{وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37] ويقال الرجل يُنَبِّتُ الجارية، أي يَغْذُوها ويُحسنُ القيامَ عليها، حكاه الليث (¬1)، فأما الجواهر فقد دخلت تحت قوله: {وَالْأَرْضَ} ولا تدخل في الإنبات. وذهب آخرون في قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} إلى حقيقة الوزن، وقال عطاء: يريد الثمار مما يكال أو يوزن (¬2). وقال الكلبي: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا}: في الجبال، {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والكحل والزرنيخ، وكل شيء يوزن وزنًا (¬3)، وهذا قول ابن زيد والحسن واختيار الفراء. قال ابن زيد: هي الأشياء التي توزن (¬4)، وقال الحسن: الزعفران وما أشبهه (¬5). وقال الفراء: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}، يقول من الذهب والفضة والرَّصاص والنحاس، فذلك الموزون (¬6)، فذهب بعض هؤلاء الذين ذكرنا ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (نبت) 4/ 3491 بنصه. (¬2) لم أقف عليه (¬3) "تفسير هود الهواري" 2/ 345، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 17، "معاني القرآن" للنحاس 4/ 17، "تفسير السمرقندي" 2/ 217، الثعلبي 2/ 146 ب. (¬4) " أخرجه الطبري" 17/ 14 بنصه، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 2/ 146 ب، والماوردي 3/ 154، والطوسي 6/ 326، انظر: "تفسير البغوي" 4/ 374، وابن عطية 7/ 293، وابن الجوزي 4/ 391، و"تفسير القرطبي" 10/ 13، والخازن 3/ 92، وابن كثير 2/ 603، و"الدر المنثور" 4/ 177، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) لم أقف على هذا القول، والمنسوب إليه هو قول الكلبي السابق، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، "تفسير القرطبي" 10/ 13، الخازن 3/ 92. (¬6) "معانى القرآن" للفراء 2/ 86 بنصه.

20

إلى ما يتحقق الإنبات فيه، وهو الحسن وعطاء، وعَمَّمَ ابنُ زيد: كل ما يوزن، فدخل فيه ما يتحقق الإنبات فيه كالحبوب والثمار وما لا يتحقق كالذهب والفضة، إلا أنه لا يجوز إطلاق الإنبات عليها [إلا] (¬1) إذا اجتمعت؛ لأن بعضها يتحقق الإنبات فيه، فاستعمل في غيره إذا اجتمع معه لاشتراكهما في الوزن، والجمع بينهما في اللفظ، والكلبي والفراء خصا جواهر المعادن، ولا يليق لفظ الإنبات بها ولا يحسن، قال أبو بكر: والقول الأول أثبت؛ لأنه يحمل الآية فيه على العموم، والقول الثاني يوجب اختصاصًا لم يأت به برهان، على أنه على بُعْدِه غير خارج عن الصواب، والله أعلم. 20 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} قال ابن عباس: يريد من الثمار والحبوب (¬2)، وذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف (¬3). وقوله تعالى: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد مما مَلَّكْتُكم وما أنتم له برازقين، إنما رِزْقهم عليّ وأنا خالقهم، وهذا قول مجاهد واختيار الزجاج وأبي بكر، روى ابن جريج عن مجاهد في قوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} قال: الدواب والأنعام (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، ولعلها سقطت. (¬2) "تنوير المقباس" ص 277 بنحوه. (¬3) آية: [10]. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 340 بنصه عن ابن أبي نجيح، وأخرجه الطبري 14/ 17 بنصه من طريق ابن جريج وابن أبي نجيح، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 18، "تفسير الماوردي" 3/ 154، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، "تفسير القرطبي" 10/ 13، أبي حيان 5/ 450، ابن كثير 2/ 603، "الدر المنثور" 4/ 178 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال الزجاج: الأجود والله أعلم أن يكون (من) هاهنا أعني في قوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يراد بها العبيد والدواب والأنعام، أي: وكُفِيتُمْ مؤنة أرزاقها (¬1). وقال أبو بكر: تقديره وجعلنا لكم فيها معايش وعبيدًا وإماءً يرزقهم ولا ترزقونهم. قال أبو إسحاق: وموضع (مَنْ) نصبٌ من جهتين؛ أحديهما: العطف على {مَعَايِشَ}: وجعلنا لكم من لستم له برازقين، وجائز أن يكون عطفًا على تأويل (لكم)؛ لأن معنى قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}: أعشناكم، المعنى: أعشناكم ومن لستم له برازقين (¬2)، أي رزقناكم ومن لستم له برازقين. (وعلى هذا الوجه يجوز أن يدخل الطير والوحش في قوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (¬3) لأن الله تعالى أعاشهم كما أعاشنا، وهو قول الكلبي في قوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} قال: يعني الوحش والطير (¬4)، ونحوه قال منصور، ولا يجوز أن يفرد الوحش والطير والدواب عن الإماء والعبيد في هذه الآية؛ لأن (من) لا يكاد يكون لغير ما يعقل، فإذا جمع مع من يعقل، غلب من يعقل بفضيلة العقل، فجاز إيقاع (من) عليهم، وهذا هو الاختيار ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 177 بنصه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 177 بنصه. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬4) أخرجه الطبري 14/ 17، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 147 أ، الماوردي 3/ 154، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 391، "تفسير القرطبي" 10/ 14، "الدر المنثور" 4/ 178، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وفي كل هذه المصادر ورد منسوباً إلى منصور، وفسرها بالوحش فقط، ولم أقف عليه منسوباً إلى الكلبي إلا في "تفسر الفخر الرازي" 19/ 172، والظاهر أنه نقله عن الواحدي.

عند جميع النحويين (¬1). ووجه قول الكلبي، حيث أفرد الوحش والطير والدواب والأنعام: أن (من) لمّا (¬2) وصفت بالمعاش الذي الغالب عليه أن يُوصفَ الناس به، فيقال: الآدمي يتعيش، ولا يقال: الفرس يتعيش، جرت الهَوَامُ والوَحشُ -لمَّا وُصفت بوصف الناس- مجرى الناس في التسمية، ألا ترى أن علامة جمعها جعلت كعلامة جمع الناس في قوله: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] و {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، و {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وكان وقوع (من) على غير الناس في هذا الموضع كتصيير الواو و (¬3) الياء لجمع (¬4) غير الناس حين وصفه بأوصاف الناس. هذا كلام أبي بكر، ومعنى قول أبي إسحاق (¬5)، وذكر الفراء أن (من) يجوز أن تكون في محل خفض على تقدير: وجعلنا لكم فيها معايش ولمن، ثم قال: وقلما تَردُّ العربُ حرفًا مخفوضًا على مخفوض قد كُنِّيَ عنه (¬6)، وهو جائز على قراءة من قرأ: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 177، "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 192، "تفسير أبي حيان" 5/ 450، وهذا القول اختاره الطبري وصوَّبه. انظر: "الطبري" 14/ 18. (¬2) في (ش)، (ع): (لها). (¬3) (الواو) زيادة يقضيها السياق. (¬4) في (أ)، (د): (الجميع)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو المناسب للسياق. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 177. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 86، بنصه تقريباً، وهذه مسألة خلافية بين النحويين؛ فأجازها الكوفيون ومنحها البصريون، ولكلٍ حجته في ما ذهب إليه، والصحيح جواز ذلك؛ لورود القراءة الصحيحة بذلك، والقراءة حجة يجب أن تُخضعَ لها قواعد النحو، ويحُكم بها عليها. انظر: المسألة بالتفصيل في "الإنصاف في مسائل الخلاف" مسألة رقم [65] 2/ 463.

21

{تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، خفضًا (¬1)، وقد ذكرنا ذلك. 21 - قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}، الخزائن جمع الخزانة، وهي اسم المكان الذي يُخزن (¬2) فيه الشيء أي يحفظ، والخزانة أيضًا عمل الخازن (¬3)، ويقال خَزَنَ الشيءَ يَخْزِنه إذا أحرزه في خِزَانةٍ (¬4)، وعامة المفسرين على أن المراد بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} أي من المطر (¬5)؛ وذلك أنه سبب الرزق ومعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش، فلما ذكر أنه يعطيهم المعاش بيَّن أن خزائن المطر الذي هو سبب المعاش عنده، أي: في أمره وحكمه وتدبيره. ¬

_ (¬1) وهو حمزة وحده، وقرأ الباقون بالنصب؛ والأرْحَامَ، انظر: "السبعة" ص 226، "الحجة في القراءات" ص 118، "علل القراءات" 1/ 137. (¬2) في (أ)، (د): (يحرز)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو المتفق مع لفظ الآية، وموافق للمصدر. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (خزن) 1/ 1027 بنصه تقريباً، وانظر: (خزن) في "المحيط في اللغة" 4/ 277، "القاموس" ص 1193. (¬4) المصدر السابق بنصه، وهو قول الليث. (¬5) ورد في: "تفسير الطبري" 14/ 18، و"تفسير السمرقندي" 2/ 217، والثعلبي 2/ 147 أ، والماوردي 3/ 155، و"تفسير ابن عطية" 8/ 295، وابن الجوزي 4/ 392، والفخر الرازي 19/ 174، و"تفسير القرطبي" 10/ 14، والخازن 3/ 93، وهذا التخصيص بالمطر فيه تحكم في اللفظ العام دون دليل قوي، وقد اعترض عليه جماعة من المفسرين المحققين، منهم: ابن عطية والفخر الرازي والشوكاني وصديق خان، يقول الشوكاني: (إنْ) هي النافية و (مِنْ) مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام؛ لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من، ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء "تفسير الشوكاني" 3/ 182.

وقوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، قال ابن عباس: يريد ما يكفي خلقي، وقال الحكم: ما من عام بأكثرَ مطرٍ من عام، ولكنه يُمْطَرُ قومٌ ويُحْرَمُ آخرون، وربما كان البحر (¬1)؛ يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام قدر معلوم لا ينقصه ولا يزيده، غير أنه يصرفه إلى من شاء حيث شاء كما شاء، وقال أهل المعاني في هذه الآية: خزائن الله جل وعز مَقْدُوراته (¬2)؛ لأنه يُقِّدر أن يوجد ما يشاء من جميع أجناس المعاني، وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} قال: يريد أَمْلِكُ خزائنه، وأقول كن فيكون (¬3)، يعني أنه تعالى ذِكْرُه لما قَدَرَ على إنشاء ما يريد كما يريد، صارت الأشياءُ كأنها عنده في خزائنها مُعَدَّةٌ، وعلى هذا معنى قوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي ما ننشئه وما نحدثه، والإنزال يكون بمعنى الإنشاء والإحداث كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] وقد مر (¬4)، ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 19 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 147 أبنصه، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 174، "تفسير القرطبي" 10/ 14، ابن كثير 2/ 603، "الدر المنثور" 4/ 178 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة، وقد أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 324، لكن عن الحسن لا عن الحكم كما قال السيوطي. (¬2) انظر: "غرائب التفسير" 1/ 589، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 392، الفخر الرازي 19/ 174، "تفسير القرطبي" 10/ 14، الخازن 3/ 93. (¬3) في "تنوير المقباس" ص 277 قال: بيدنا مفاتيحه لا بأيديكم، وعنه في الدر المنثور قال: ما نقص المطر منذ أنزله الله، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر الأخرى. "الدر المنثور" 4/ 178، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) لعل الأولى أن يقول وسيأتي.

22

والمعنى أنّا ما نخلقه إلا بقدر معلوم لنا، ولو شئنا أن نخلق أضعاف ذلك قدرنا عليه. 22 - قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، قال ابن عباس: يريد للشجر وللسحاب (¬1)، وهو قول الحسن وإبراهيم وقتادة والضحاك، وأصل هذا من قولهم: لَقِحَتْ الناقةُ، وأَلْقَحَها الفحلُ إذا ألقى إليها الماءَ فحملته (¬2)، فكذلك الرياح هي كالفحل للسحاب، ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود في هذه الآية؛ قال: يبعث الله الرياح لتُلقحَ السحابَ فتحمل الماءَ ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 22 بنصه عن ابن عباس والحسن، وعن الباقين قال: للسحاب، ورواية ابن عباس من طريق الحجاج عن ابن جريج، صحيحة. وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ص 351 - 352 عن الحسن بنصه، وعن إبراهيم بنحوه. وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 19 بنصه عن ابن عباس والحسن، "تفسير السمرقندي" 2/ 217 عن ابن عباس قال: للأشجار، وعن قتادة قال: للسحاب، والماوردي 3/ 155 عن ابن عباس: للشجر، وعن الحسن وقتادة: للسحاب، والطوسي 6/ 329 عن قتادة وإبراهيم والضحاك قالوا: للسحاب، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 394، عن الحسن وإبراهيم، الفخر الرازي 19/ 175 عنهم ما عدا إبراهيم، الخازن 3/ 93 عن ابن عباس والحسن وقتادة، وابن كثير 2/ 604 عنهم ما عدا الحسن. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 179 وزاد نسبته إلى أبي عبيد وابن المنذر عن ابن عباس، وزاد نسبته إلى أبي عيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الضحاك، وعن قتادة، وعن إبراهيم. (¬2) انظر: (لقح) في: "جمهرة اللغة" 1/ 559، "تهذيب اللغة" 4/ 3283، "المحيط في اللغة" 2/ 352. وورد في الطوسي 6/ 328 بنصه.

وتَمُجُّه في السحاب ثم تَمْريه (¬1) فيدُرُّ كما تَدُرُّ اللِّقحةُ (¬2). وقال عبيد بن عمير: يرسل الله المبُشَّرة فَتَقُمّ الأرضَ قَمُّا، ثم يرسل المُثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلِّفة فتؤلفه، ثم يرسل اللواقح فَتُلقِح الشجر (¬3)، والأظهر في هذه الآية إلقاحها السحاب لقوله بعده: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، ولأن إلقاحها للسحاب ظاهر كما ذكرنا، وإلقاحها للشجر لم يذكر كيف هو (¬4)، فإن قيل كيف قال (لواقح) وهي مُلْقِحة؟ والجواب ما ذهب إليه أبو عبيدة: أن لواقح هاهنا بمعنى مَلاقِح جمع مُلْقِحَة، فحذفت ¬

_ (¬1) (تَمْريه)؛ المَرْيُ: مَسْح ضَرْع الناقة لتَدرّ، والريح تَمْرِي السحابَ مَرْياً؛ أي تجعل المطر يدرُّ منه. (اللَّقْحَةُ واللِّقْحَةُ): هي الناقة القريبة العهد بالنتاج: الحَلُوب الغزيرة اللبن، تقول: لِقحةُ فلان، ولا تقول: ناقة لَقْحة ولِقْحة، وإذا جعلتها نَعْتًا قُلت: ناقةٌ لَقُوْحٌ، والجمع لِقَحٌ ولِقاح. انظر: "تهذيب اللغة" (لقح) 4/ 3283، (مرى) 4/ 3383، "المحيط في اللغة" (لقح) 2/ 352، (مرى) 10/ 281، "متن اللغة" 5/ 197. (¬2) "أخرجه الطبري" 14/ 20، بنحوه، والطبراني في "الكبير" 9/ 353، بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 19 بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 217 بنحوه، والثعلبي 2/ 147 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 375، وابن الجوزي 4/ 394، الفخر الرازي 19/ 175، الخازن 3/ 93، وابن كثير 2/ 604، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 45 وقال: وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 179 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي لم أقف عليه. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 21 بنصه، وأبي الشيخ في "العظمة" ص 344 بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 147 أبنصه، والماوردي 3/ 155، انظر: "تفسير البغوي" 4/ 375، "تفسير القرطبي" 10/ 16، الخازن 3/ 93، "الدر المنثور" 4/ 179 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ذكر الطبري أن إلقاحها السحاب والشجر: عملها فيه. "تفسير الطبري" 14/ 20.

الميم منه وردت إلى الأصل، وأنشد لنهشل بن حَرِّيّ (¬1) يرثي أخاه: لِيُبْك يزيدُ بائسٌ ذو ضَرَاعةٍ ... وأشْعَثُ ممن طَوَّحتْه الطَّوائحُ (¬2) أراد: المطوحات، فرد الحرف إلى أجل الثلاثي، واحتج أيضًا بقول رؤبة: يَخْرُجْنَ من أَجْوَازِ (¬3) لَيْلٍ غاضِ (¬4) ¬

_ (¬1) نهشل بن حري بن ضَمرة بن جابر النَّهشلي، شاعر شريف مشهور، هو وأبوه وجدّه شعراء، كان حسن الشعر، عدّه الجمحي في الطبقة الرابعة من فحول شعراء الإسلام. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 583، "الشعر والشعراء" ص 424، "الخزانة" 1/ 312. (¬2) اختلف في نسبة البيت لهشل، فنُسب إلى أكثر من واحد، وقد صوّب البغدادي نسبته إلى نهشل. انظر: "الخزانة"1/ 313، وقد ورد البيت في. "تفسير الطبري" 14/ 21، وابن عطية 8/ 298، وابن الجوزي 4/ 393، والفخر الرازي 19/ 175 وورد برواية: لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مما تُطيح الطَّوائِحُ في: "الكتاب" 1/ 288، 366، "الإيضاح" ص 115، "الخصائص" 2/ 353، "المحتسَب" 1/ 230، "تفسير الطوسي" 6/ 329 "الأساس" 2/ 83، "أمالي ابن الحاجب" 2/ 149، "شرح شواهد الإيضاح" ص 94، "شرح المفصل" 1/ 80، "اللسان" (طيح) 5/ 2734، "الدر المصون" 7/ 153، "معاهد التنصيص" 1/ 203، "الخزانة" 1/ 303، معناه: هذا الممدوح الذي هو (يزيد) كان رجلاً عظيماً يُقْصد في النَّصر وفي العطاء، فيقصده الضارع للخصومة لينصره وهو المائل إليها، ويقصده (المختبطُ): الاختباط: طلب المعروف والكسب، خبطه واختبطه، والمختبط: الذي يسألك بلا وسيلة ولا معرفة، (مما تطيح الطوائح): وهو الذي أصابته شِدَّة السنين، والطوائح: الشدائد؛ فيقصدُه هذا ليدفع عنه بالعطاء شدة ما أصابه من ذلك، فلذلك وصفه بالنَّصر والكَرم. وانظر: "المحيط في اللغة" (خبط) 4/ 294. (¬3) في جميع النسخ: (أزواج)، والمثبت موافق للديوان وجميع المصادر. (¬4) "ديوان رؤبة" ص 82 وروايته: بالِعيسِ فوق الشَرَكِ الرِفاض ... كأنَّما ينْضَحْنَ بالخَضْخاضِ يخرجنَ من أجواز ليلٍ غاضِ ... نَضْوَ قِداحِ النابلِ النواضي وورد في: "أدب الكاتب" ص 612، "شرح الجواليقي" ص 300، "اللسان" (دلا) 3/ 1417، (غضا) 6/ 3269، وورد غير منسوب في: "المقتضب" 4/ 179، "المخصص" 9/ 167، (العيس) الإبل البيض، (الشَرَك) أخاديد الطريق، الواحدة: شركة، (الرفاض) المتفرقة يميناً وشمالاً، (ينضحن) يعرقن، (بالخضخاض) القطران الرقيق، شبَّه عرق الإبل به وعرقها أسود، (يخرجن) أي الإبل، (الأجْوَاز) جمع جَوْز، وهو الوسط، (غاض) مظلم، (النضْو) الخروج، شبه خروجها من الليل بخروج القداح من الرمية.

يريد: مُغضٍ، وبقوله: تَكْشِفُ عن جَمَّاتِهِ دَلْوُ الدَّالي (¬1) (¬2) يريد: المُدْلِي، قال أبو بكر وقد قال العرب: أَبْقَلَ النبت فهو بَاقْلٌ، يجعلون باقلًا بدلاً من مُبْقِل، ففي هذا دليل على تعيين لاقح عن مُلْقِح، وإلى قريب من هذا ذهب الفراء؛ فقال: يجوز فاعل لِمَفْعَل، كما جاء ¬

_ (¬1) وعجزه: عَبايةً غَثْراءَ من أَجْنٍ طالْ ورد في ملحقات "ديوان العجّاج" 2/ 321، وورد في: "أدب الكاتب" ص 612، "شرح الجواليق" ص301، "اللسان" (دلا) 3/ 1417، وورد غير منسوب في: "المقتضب" 4/ 179، "المخصص" 9/ 167. (الجمات): جمع جمّة، وجمّة البئر اجتماع مائها، (الدَّالي أو الدال) هو الجاذب للدَّلْو من البئر ليخرجها، ويقال (الدالي) صاحب الدلو، (عباءة) كساء، (غثراء) مثل غبراء؛ الكدر اللون، (أَجْن) يقال ماءٌ أَجِنٌ، وماءٌ آجِنٌ؛ هو الماء المتغير بطول المَكْث، وهو الذي غشيه العَرْمَضُ -الطُّحْلُبُ- والورق، شبه ما على الماء من الطحالب والورق بسبب طول المكث بالعباءة؛ لأنه لا يورد. انظر: "المحيط في اللغة" (أجن) 7/ 191، "شرح الجواليقي" ص 301، "اللسان" (غثر) 6/ 3214. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 348 بنحوه.

لمفعول؛ نحو: ماءٍ دافقٍ، وسرًّ كاتمٍ، وليلٍ نائمٍ، وكما قيل: المَبْرُوز في معنى المُبْرَز في قوله (¬1): النَّاطِقُ المَبْرُوزُ والمَخْتُومُ وذلك أن هذه الأشياء لم يُرَدَّ البناءُ فيها إلى الفعل (¬2)، واختار أبو علي أيضًا قول أبي عبيدة فقال: لواقح بمعنى مَلاقِح، على حذف الزيادة، قال: وكما حذفت الزيادة من الجمع هاهنا حذفت من المصدر في شعر أبي دُؤَاد يذكر سحابًا: لَقِحْنَ ضُحَيُّا لِلَقْحِ الجَنُوبِ ... وأصبَحْنَ يُنْتَجْنَ ماءَ الحَيَاءِ (¬3) فقوله: (لِلَقْحِ الجنوب)، تقديره: لإلقاحِ الجنوب، فحذف الزيادة من المصدر (¬4). وقال الزجاج: يجوز أن يقال لها لواقح، وإن ألقحت غيرها؛ لأن معناها النسب (¬5)، وشرح أبو بكر هذا القول فقال: واحد اللواقح لاقح، ومعنى لاقح ذاتُ لَقْح، كما قالوا: تأمر ولابن ونابل، وأبو الهيثم اختار أيضًا هذا، وقال هذا كما يقال: دِرْهَم وازِنٌ، أي ذو وزن، ورامحٌ وسائفٌ، ولا يقال رَمحَ ولا سافَ (¬6)، وهذا الذي ذكرنا قول هؤلاء وليس هذا بمعنى؛ لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات اللقاح حتى يوافق ¬

_ (¬1) البيت للبيد وقد سبق عزوه قريبًا في ص 459. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 87 بتصرف. (¬3) ورد في "الحجة للقراء" 2/ 253. (¬4) ورد في "الحجة للقراء" 2/ 253 بتصرف يسير. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 177 بنصه. (¬6) ورد قوله في "تهذيب اللغة" (لقح) 4/ 3285 بتصرف يسير.

قول المفسرين، فإن أرادوا بقولهم (ذات لقح) أن الريح في الحامل نفسها لم يحتج فيها إلى القول بالنسب، ويكون معناه ما ذكره الفراء فقال: جعل الريح هي التي تَلْقَح بمرورها على السحاب [و] (¬1) التراب والماء، فيكون هذا اللَّقَاح، فيقال: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح (¬2)، واختار ابن قتيبة هذا القول، وكَرِه قولَ أبي عبيدة وقال: العرب تسمى الرياح لواقح، والريح لاقحًا، قال الطَّرِمَّاح: قَلِقٌ لأَفْنَانِ الرِّيَاحِ ... لِلاَقِحٍ مِنْها وحَائِلْ (¬3) فاللاقحُ: الجنوب، والحائلُ: الشمال، يذكر بُرْدًا مَدَّه (¬4) على أصحابه في الشمس يستظلون به، وُيسمّون الشمال أيضًا عقيمًا؛ لأنها لا تحمل، وإنما جعلوا الريح لاقحًا، أي حاملًا؛ لأنها تحمل السحاب وتقلبه وتُصَرِّفه، وهذا في قول أبي وَجْزَةَ (¬5): حتى سَلَكْنَ الشَّوَى مِنْهُنّ في مَسَكٍ ... مِنْ نَسْلِ جَوَّابَةِ الآفَاقِ مِهْدَاجِ (¬6) ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 87 بنصه. (¬3) ورد البيت في:"الحجة للقراء" 2/ 252، "الأزمنة والأمكنة" للمرزوقي ص 524، " تفسير ابن عطية" 8/ 297، ابن الجوزي 4/ 392. (¬4) في (د): (يريد أمده). (¬5) أبو وجزة هو يزيد بن عبيد السعدي المدني، من بني سُلَيم، نشأ في بني سعد بن بكر فغلب عليه نسبهم، كان شاعراً مجيداً، ومحدّثًا ثقة، مات سنة (130 هـ). انظر: "الشعر والشعراء" ص 469، "الأغاني" 12/ 279، "تقريب التهذيب" ص 603 رقم (7753)، "الخزانة" 4/ 182. (¬6) ورد في: "تهذيب اللغة" (لقح) 4/ 3285، (هدج) 4/ 3725 "الأزمنة والأمكنة" ص 524 وفيه: (مَسَد) بدل من (مسم)، "اللسان" (هدج) 8/ 4630، (لقح) =

يعني الماء من نسل ريح جوابة للبلاد، فجعل الماء للريح كالولد؛ لأنها حملته في السحاب ثم مَرَت (¬1) السحاب حتى ألقته، قال: ومما يوضح هذا قوله جل ذكره: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف: 57] أي حملت (¬2). وهذا القول اختيار الأزهري، وقال بعد ما حكى قول ابن قتيبة: فهذا على هذا المعنى لا يحتاج أن يكون لاقِحٌ بمعنى ذات لَقْح، ولكنها حامل تحمِلُ السحاب والماء (¬3)، والله أعلم. ويؤكد هذا الوجه أن المفسرين ذكروا في إلقاحها السحاب أنها تحمل الماء، قال أبو إسحاق: وجائز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير؛ كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير (¬4)، قال ابن الأنباري: الريح اللاقح؛ الذي يحمل الماء والسحاب على جهة التشبيه والتمثيل بالناقة التي تشتمل على ماء الفحل، والذي يتولد عن الريح من السحاب، والمطر ¬

_ = 7/ 4059، (مسك) 7/ 4203، (سلكن الشوى): الأُتُنُ الحمير أدخلن شواهُنَّ، أي قوائمهن، (مَسَك): بالتحريك؛ الأسورة والخلاخيل من الذَّبْلِ -وهي قرون الأوْعَال- والعاج، واحدته مَسْكة، (مهداج): الهَدْجةُ: رَزْمة صوت الناقة وحنينُها على ولدها، ويقال للريح الحنون: لها هَدْجة ومِهدْج، فهو يذكر حميرًا وردت ماءً فأدخلت قوائمها في الماء، وهذا الماء من نسل جوابة الآفاق؛ أي ريح تجوب البلاد، أي هي أخرجته من الغيم واستدرَّته، فجعل الماء لها نتاجاً ولداً، فالرياح على هذا هنَّ اللواقح. (¬1) أي استدرته، وجعلت المطر يدر. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 178 بتصرف. (¬3) "تهذيب اللغة" (لقح) 4/ 3285 بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 177 بنصه.

بمنزلة الولد الذي تنتجه الناقة، وهذا كما تقول العرب: قد لقحت الحرب وقد نتجت ولدًا أنكدًا (¬1)، يُشبِّهون ما تشتمك عليه من (¬2) ضروب الشر بما تحمله الناقة، ويُشبِّهون بما يتولد منها من القتل والنهب بما تضعه الناقة (¬3)، يشهد لصحة هذا قول الشاعر (¬4): لَقَحَتْ حُرْبُ وائلٍ عن حِيالِ (¬5) والرياحُ العقيمُ غيرُ لاقح، إذا لم تحمل ما يتولد منه مطر ويصدر عنه روح وفرح (¬6). ¬

_ (¬1) الكلمة غير واضحة في جميع النسخ كأنها: أيلد، والتصويب من "تفسير الفخر الرازي" 19/ 176 والنّكدُ: الشؤم واللؤم، وكل شيٍ جر على صاحبه شرًّا فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ، وصاحبه أنْكَدُ ونَكِدٌ. "المحيط في اللغة" (نكد) 6/ 214. (¬2) ساقطة من (أ)، (د). (¬3) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 394 ورد مختصرًا، الفخر الرازي 19/ 176 ورد مختصرًا غير منسوب. (¬4) هو الحارث بن عباد (جاهلي). (¬5) وقدره: قَرّبا مَرْبِطَ النعامةِ منِّي ورد في "الأصمعيات" ص 71، "الحيوان" 4/ 361، "أمالي القالي" 2/ 131، "الأزهية" ص 280، " الاقتضاب" ص 443، "شرح الجواليقي" ص 266، "أمالي ابن الشجري" 2/ 612، "الحماسة البصرية" 1/ 16، وورد بلا نسبة في: "معاني الحروف" للرماني ص 95، "المنصف" 3/ 59 (النعامة) اسم فرسه، (المربط) الموضع الذي تربط فيه، (لقحت) حملت، (عن حيال) بعد حيال؛ أراد أنها هاجت بعد سكونها، يقول ابن السيد: والحيال: أن تضرب الناقة فلا تحمل، وإنما ضرب ذلك مثلاً لِمَا تولد عن العرب وأنتج منها من الأمور التي لم تكن تحتسب بعد ذلك. (¬6) خلاصة القول في (لواقح) أن فيها ثلاثة أقوال: أن الرياح ملقحة، أو لاقحة، أو =

وقوله تعالى: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}، قال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري: أسْقيْتُ، أي جعلته شُرْبًا له، وجعلت له منها مسقى، فإذا كانت السقيا لشفته قالوا: (سقاه، ولم يقولوا: أسقاه) (¬1)، الذي يؤكد ويبين هذا اختلاف القُراء في قوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] فقرأوا باللغتين، ولم يختلفوا في قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] وفي قوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]. وقال أبو زيد: اللهم اسقنا إسقاءً رِوَاءً، وأسقيت فلانًا رَكِيَّتي (¬2)، إذا ¬

_ = ذات لقحٍ، وهذا الأخير محتمل لأحد القولين، فتؤول المسألة إلى قولين؛ إما ملقحة أو لاقحة، وهو ما رجحه الطبري 13/ 20 وهذا القول موافق للواقع المشاهد؛ فالريح لاقح لأنها تحمل السحاب وما فيه من الماء، وتحمل اللَّقاح من الشجر الذكور إلى الإناث، وهي ملقحة لأنها تلقح السحاب بعضه ببعض؛ فيدرُّ المطر وكذا فعلها في الأشجار، ولا تعارض بين القولين، لكن السياق هنا يرجح القول بأنها ملقحة للسحاب؛ أي تلقح بعضه ببعض فيدرّ المطر، فالآية تشير إلى أثر الرياح في الجمع بين الشحنات الكهربائية الموجبة والسالبة في السحاب، وهو ما أثبته العلم الحديث؛ حيث تقوم الرياح بتلقيح السحاب، وذلك في عملية تتضمن إمداده بأكداس من جسيمات مجهرية صغيرة، تسمى: نوى التكاثف، ومن أهم خواص هذه النويات أنها تمتص الماء أو تذوب فيه، وتحمل الرياح كذلك بخار الماء وتلقح به السحاب لكي يمطر. انظر: "الإسلام في عصر العلم" ص 406، "المعجزة الخالدة" ص 336، "مباحث في إعجاز القرآن" ص 188. (¬1) "تهذيب اللغة" (سقى) 2/ 1715، وما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬2) الرَّكْوَةُ: شِبْهُ تَوْر من أدم، والجمع الرِّكَاءُ، والرَّكْوُ: أن تحفر حوضاً مستطيلاً، والرَّكيَّة: بئر تُحفر، وجمعها رَكِيُّ ورَكَايا انظر: (ركو) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1456، "المحيط في اللغة" 6/ 317.

جعلت له منها مَسْقًى (¬1). وقال أبو علي: تقول: سقيته حتى روى، وأسقيته: نهرًا، جعلته شِرْبًا له، وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}: جعلناه سُقيا لكم، وربما قالوا في: أسقى سقى؛ كقول لبيد يصف سحابًا: أَقُولُ وصَوْبُهُ مِنِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ الشَثَّ من قُلَلِ الجِبَالِ سَقَى قَومِي بَني مَجْدِ وأَسْقَى ... نُمَيْرًا والقبائلَ مِن هِلالِ (¬2) فـ (سقى قومي) ليس يريد به ما يُروي عِطَاشهم، ولكن يريد رزقَهم سَقْيًا لبلادهم يُخْصِبُون بها، وبعيدٌ أن يسألَ لقومه ما يُروي العطاش، ولغيرهم ما يُخْصِبون منه (¬3)، فأما سَقْيَا السَقِيَّة، فلا يقال فيها أسقَاهُ، وأما قول ذي الرُّمَّة: وأُسْقِيهِ حتى كادَ بما أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ ومَلاعِبُه (¬4) ¬

_ (¬1) "النوادر في اللغة" ص 554 بمعناه، وورد في "تهذيب اللغة" (سقى) 2/ 177 بنحوه، وأغلب الظن أنه نقل القول منه. (¬2) "شرح ديوانه" ص 93، وورد البيت الثاني في "مجاز القرآن" 1/ 355، "النوادر في اللغة" ص540، "تفسير الطبري" 14/ 131 "الحجة للقراء" 75/ 5، "إعراب القراءات السبع" وعللها 1/ 357، "تفسير الطوسي" 6/ 399، ابن عطية 8/ 300، ابن الجوزي 4/ 395، الفخر الرازي 19/ 177، "اللسان" (سقي) 4/ 2043، والألوسي 14/ 31، (صوبه) مصاب مطره، (الشَثَّ) شجر من شجر السراة، (قلل) أعالي، (مجد) ابنة تيم بن غالب بن فهر، وهي أم كلاب وكعب وعامر بني ربيعة بن عامر بن صعصعة. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 75 بتصرف. (¬4) "ديوانه" 2/ 821، وورد في "مجاز القرآن" 1/ 350، "النوادر في اللغة" ص 540، "تفسير الطبري" 14/ 22، والطوسي 6/ 329، وابن عطية 8/ 301، وابن =

23

فمعنى (أسقيه) أدعو له بالسُقيا، وأقول: سَقاه الله. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} يعني لذلك الماء المنزل من السماء، {بِخَازِنِينَ} أي بحافظين، يقول ليست خزائنه بيدكم. 23 - قوله تعالى: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} يعني إذا مات جميع الخلائق لم يتبق سواه؛ كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} [مريم: 40]. قال أهل المعاني: لمّا كان يزول مُلْكُ كلِّ مَلِكٍ بموته -ويكون اللهُ عَزَّ وَجَلَّ المالكَ الحيَ وَحْدَه- كان هو الوارث لجميع (¬1) الأملاك (¬2). ومعنى ورث: تَمَلَّك ما كان يملكه الميت قبله، وأملاك الخلائق تبطل وتزول بموتهم، ويبقى المُلك خالصًا لله وحده، فكان وارثًا من هذا الوجه. 24 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} قال الليث: تقول: استقدم، أي: تقدم، وضده استأخر، أي: تأخر (¬3)، واختلف المفسرون في هذه الآية، فقال ابن عباس في رواية عطاء: {الْمُسْتَقْدِمِينَ} يريد أهلَ طاعةِ الله، و {الْمُسْتَأْخِرِينَ} يريد عن طاعة الله (¬4)، وهذا قول الحسن قال: المستقدمون في الطاعة، والمستأخرون ¬

_ = الجوزي 4/ 395، الفخر الرازي 19/ 177، "اللسان" (سقي) 4/ 2042. (أبثه) أي أخبره بكل ما في نفسي، (ملاعبه) مواضع يُلعَبُ فيها. (¬1) في (أ)، (د): جميع، والمثبت من (ش)، (ع) وهو المنسجم مع السياق. (¬2) ورد هذا المعنى في "تفسير الطوسي" 6/ 329، الفخر الرازي 19/ 177، الخازن 3/ 94. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (قدم) 3/ 2904 بمعناه. (¬4) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 177.

عنها (¬1). وقال في رواية مِقْسَم: المستقدمون الصف المستقدم، والمستأخرون الصف المستأخر (¬2)، وهذا قول الربيع، قال: حض رسول -صلى الله عليه وسلم- على الصف الأول في الصلاة، فازدحم الناس عليه فأنزل الله هذه الآية (¬3)، واختار الفراء هذا القول، وقال: معنى {وَلَقَدْ عَلِمْنَا} أي: إنَّا نجزيهم على نيّاتهم (¬4)، فإنا نعلم جميعهم. وقال الضحاك ومقاتل: في صف القتال (¬5). ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 25 بنحوه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 218 بمعناه، والثعلبي 2/ 147 ب بنحوه، وانظر: "تفسير ابن العربي" 3/ 1127، وابن الجوزي 4/ 397، و"تفسير القرطبي" 10/ 19، والخازن 3/ 94، و"الدر المنثور" 4/ 181 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر. (¬2) رواه الحاكم، تفسير الحجر 2/ 353 بنصه عن طريق أبي الجوزاء (منقطعة بالجهالة)، وانظر: "تفسير ابن العربي" 3/ 1127، الفخر الرازي 19/ 178، "الدر المنثور" 4/ 178 وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وقد أخرجه عبد الرزاق 2/ 348، والطبري 14/ 26 بنحوه، عن طريق واحد مسندًا إلى أبي الجوزاء. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 147ب بنصه، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 282 بلا سند، وانظر: "تفسير الألوسي" 14/ 32، وابن الجوزي 4/ 396 عن أبي صالح عن ابن عباس، ولا يعتد بمثل هذا في أسباب النزول. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 88 بنصه. (¬5) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 178 عنهما، وابن الجوزي 4/ 397 عن الضحاك، و"تفسير البغوي" 4/ 377 عن مقاتل، والخارن 3/ 94 عن مقاتل، و"الدر المنثور" 5/ 181 وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن مقاتل، والذي في تفسير مقاتل هو نفس القول الذي أخرجه الطبري عن الضحاك في الآية؛ قال: الأموات والأحياء، انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 196 ب، والطبري 14/ 24، والماوردي 3/ 156.

وقال في رواية أبي الجوزاء: (كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها، وآخرون يتأخرون ليروها -إذا ركعوا وجافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم- فأنزل الله هذه الآية) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه بنصه تقريبًا: أحمد 1/ 305، والترمذي (3122) كتاب: تفسير، باب. ومن سورة الحجر، وابن ماجه (1046) كتاب: الصلاة، باب: الخشوع في الصلاة، وابن خزيمة: كتاب: صلاة النساء في الجماعة، باب: التغليظ في قيام المأموم في الصف المؤخر إذا كان خلفه نساء 3/ 97، والطبري 4/ 26، وابن حبان، "موارد الظمأن": التفسير، الحجر ص 433، والطبراني في "الكبير" 12/ 171، والحاكم: التفسير، الحجر 2/ 353 وصححه ووافقه الذهبي، سنن البيهقي: كتاب: الصلاة، باب: الرجل يقف في آخر صفوف الرجال 3/ 98، "أسباب النزول" للواحدي ص 281، كلهم من طريق نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 217، والثعلبي 2/ 147 ب، والماوردي 3/ 156، وابن عطية 8/ 302، وابن الجوزي 4/ 396، الفخر الرازي 19/ 178، "تفسير القرطبي" 10/ 19، الخازن 3/ 94، وأبي حيان 5/ 451، وابن كثير 2/ 605، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 180 وزاد نسبته إلى أبي داود الطيالسي 2712، وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، وانظر: "شرح المسند" 2/ 278، صحيح ابن ماجه (2472). اختلف العلماء في تصحيح الحديث، فصححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي وشاكر والألباني، وقد أَعَلَّ الترمذي الحديثَ بالإرسال؛ ورجح وقفه على أبي الجوزاء، وتبعه القرطبي وقال: هو الصحيح، واعتمده ابن كثير وقال: حديث غريب جداً وفيه نكارة شديدة، وقد ناقش الألباني المضعفين للحديث: فبيّن أن الإعلال مردود بورود الحديث موصولاً في مسند الطيالسي ورجاله ثقات، وأما الغرابة فمنفية لورورد عدة روايات للحديث -ذكرها- في أن الآية نزلت في صفوف الصلاة، أما النكارة الشديدة التي ذكرها ابن كثير، فلعه يقصد مضمون الرواية؛ أنها توهم طعنًا في الصحابة، وجوابه: إذا ورد الأثر =

وعلى هذا القول معنى {عَلِمْنَا}: الوعيد والمحاسبة، وروي عنه أيضًا أنه قال: المستقدمون الأموات، والمستأخرون الأحياء (¬1)، وهذا قول قتادة، ومجاهد قال: من مضى من الأمم السالفة ومن بقي؛ وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2)، وقال عكرمة: المستقدمون من خلق، والمستأخرون "من يخلقه بعد" (¬3) (¬4)، وعلى قول هؤلاء معنى {عَلِمْنَا} والتمدح بالعلم؛ لأن علمه شامل لأعداد من مضى ومن بقي، ومن خلقه ومن سيخلقه فيما بقي. ¬

_ = بطل النظر، ولأن هذا المسلك يفتح باباً لرد كثير من الأحاديث، ويمكن دفع التهمة عن الصحابة بتخصيص الخبر على بعض المنافقين أوحديثي العهد بالإسلام. انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2472). (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 348 بنحوه عن قتادة، والطبري 14/ 23 - 24 بنحوه من طريق قتادة عن ابن عباس، ومن طريق العوفي غير مرضية، وأخرجه -كذلك- عن قتادة، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 218 بمعناه عن قتادة، والثعلبي 2/ 147 ب بنصه عن ابن عباس، وبنحوه عن قتادة، وانظر: "تفسير ابن العربي" 3/ 1127 عن ابن عباس وقتادة، و"تفسير القرطبي" 10/ 19 عنهما، وأبي حيان 5/ 451 عنهما، وابن كثير 2/ 569 عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 181 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 341 بنصه، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 348 بنصه، والطبري 14/ 25 بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 218 بنحوه، والماوردي 3/ 156 بنحوه، و"تفسير البغوي" 4/ 377، وابن العربي 3/ 1127، وابن الجوزي 4/ 397، والخازن 3/ 94، و"تفسير أبي حيان" 5/ 451، وابن كثير 2/ 604 - 605، و"الدر المنثور" 4/ 182 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) في معظم المصادر: (من لم يخلق)، والمثبت في معناه؛ لأن من يخلقه بعد، أي في المستقبل، هو ممن لم يخلق. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 348 بنحوه، والطبري 14/ 23 بنحوه، والثعلبي 2/ 147 ب بنصه تقريبً، والماوردي 3/ 156 بنحوه، و"تفسير البغوي" 4/ 377، وابن الجوزي 4/ 396، والفخر الرازي: 19/ 1789، و"تفسير أبي حيان" 5/ 451، وابن كثير 2/ 604 - 605.

26

26 - قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} قال ابن عباس وغيره: يعني آدم (¬1)، والكلام في وزن الإنسان واشتقاقه قد تقدم في أول الكتاب؛ عند قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [البقرة: 8]. وقوله تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ}، اختلفوا في معناه، فقال قوم: هو طين حر يصلصل إذا نقر؛ لِيُبْسِه، يقال: صلَّ الحديدُ وغيرُه يَصِلُّ صليلاً، وصلصل إذا صَوَّت، ومنه قول لبيد: كلَّ حِرباءٍ إذا أُكْرِهَ (¬2) صلّ (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 14/ 27 بلفظه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، والماوردي 3/ 157 بلفظه عن أبي هريرة والضحاك، وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 218، والطوسي 6/ 330. (¬2) في جميع النسخ: (أكرم)، والمثبت موافق للديوان وجميع المصادر. (¬3) وصدره: أَحْكَمَ الجُنْثِيُّ من عَوْرَاتِها "شرح ديوان لبيد" ص 192، وورد في "العين" 6/ 99، "المعاني الكبير" 2/ 1030، "جمهرة اللغة" 1/ 143، 3/ 1322 وفيه: (نَعْتِها) بدل (عوراتها)، "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 886، (صل) 2/ 2046، "اللسان" (حرب) 2/ 818، (جنث) 2/ 696، (صلل) 4/ 2487، (حكم) 2/ 952، "التاج" (جنث) 3/ 186 (الجُنْثيُّ) بضم الجيم وكسرها، وبالنصب وبالرفع؛ فمن قال: الجنْثِيُّ بالرفع ونصب كلاَّ أراد: الحدّادُ أو الزَّرّادُ، أي أحكم صنعة هذه الدِّرع، ومن قال: الجنْثِيَّ بالنصب ورفع كلاَّ -وهي رواية الأصمعي- أراد: السيف؛ يقول هذه الدِّرع لإحكام صنعتها تمنع السيف أن يمضي فيها، وكل شيء أحكمته فقد منعته، وأحكم هنا بمعنى رَدَّ، (عوراتها) واحدها عورة، وهىِ الفُتُوقُ والفُرَج في الدِّرع، (الحِرْبَاءُ) مسمارُ الدِّرْع، وقيل هو رأسُ المِسمار في حَلْقَةِ الدِّرْع، (صل) يقال صلّ المسمارْ يصلُّ صَليلاً، إذا ضُرب وأكره أن يدخل في الشيء فسمعت صوته.

وأنشد ابن الأنباري (¬1): عَنْتَرِيسٌ تَعْدو إذا مَسَّها السَّوْطُ ... كَعَدْوِ المُصَلْصِلِ الجوَّالِ (¬2) قال يريد بالمصلصل الحمار المصوت، وهذا قول الفراء (¬3) والزجاج (¬4) وأبي عبيدة (¬5)، ونحوه قال الأخفش، قال: وكل شيء له صوتٌ فهو صلْصالٌ من غير الطين (¬6)، وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي، قال: الصلصال: الطين اليابس (¬7)، وفي رواية إسرائيل (¬8): ¬

_ (¬1) البيت للأعشى. (¬2) "ديوان الأعشى" ص 165، وورد في: "اللسان" (صلل) 4/ 2486 برواية (الصوت) بدل (السوط)، وفي "مجاز القرآن" 1/ 351، و"الكامل" 3/ 100 برواية: (حُرّك) بدل (مسها)، الغريب لابن قتيبة 1/ 241 (عجزه)، "تفسير القرطبي" 10/ 21 (عجزه)، (عنتريس)؛ العَتَرَّس: الضخم من الدواب، والمقصود: الناقة الصلبة الغليظة، الكثيرة اللحم، الوثيقةُ الخلق، وقد يُوصَف به الفرسُ. "المحيط في اللغة" (عترس) 2/ 250، "متن اللغة" 4/ 21. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 88 بمعناه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 178 بنحوه. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 350 بنحوه (¬6) ليس في معانيه، وهو في التهذيب بنصه، والغالب أنه نقله منه. انظر: "تهذيب اللغة" (صل) 12/ 2046. (¬7) "أخرجه الطبري" 14/ 28 من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 157 بنصه، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 397، "تفسير القرطبي" 10/ 21، الخازن 3/ 94، ابن كثير 2/ 606، "الدر المنثور" 4/ 182 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬8) إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيْعي الهمداني، أبو يوسف الكوفي، أحد الأعلام، ثقة تُكُلِّم فيه بغير حجة، اعتمده البخاري ومسلم في الأصول، روى عن السدي وجَدِّه أبي إسحاق، وعنه وكيع وأبو نعيم، مات سنة (162 هـ) انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 374، "الجرح والتعديل" 2/ 330، "ميزان الاعتدال" 1/ 208، "تقريب التهذيب" ص 104 رقم (401).

ّالصلصال الذي إذا قُرعَ صوَّت (¬1) وروى عنه أبو صالح أنه الطين الحر الذي إذا نَضَب عنه الماء تشقق، فإذا حُرك تقعقع (¬2)، وهذا قول الحسن وقتادة في الصلصال. قال المفسرون: خلق الله آدم من طين فصوَّره ومكث في الشمس أربعين سنة حتى صار صلصالًا كالخزف لا يدري أحد ما يُراد به، ولم يروا شيئًا من الصورة يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح (¬3). ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 353 بنحوه، والطوسي 6/ 330 بمعناه، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 397، "الدر المنثور" 4/ 182 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 أ، بنصه عن ابن عباس، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 348 عن قتادة بمعناه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 378 عن ابن عباس، الخازن 3/ 94 عن ابن عباس، "الدر المنثور" 4/ 182 وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن قتادة، ولم أقف عليه منسوباً إلى الحسن. (¬3) ما أشار إليه هنا جزء من خبر طويل مروي عن ابن عباس وبعض الصحابة، أخرجهما الطبري من طريقين، وأشار إلى التعارض بين الروايتين، ثم قال: وهذا إذا تدبره ذو فهم، علم أن أوله يفسد آخره، وأن آخره يبطل معنى أوله، وأورد ابن كثير الروايتين، وعقَّب على رواية ابن عباس -والتي فيها أنه مكث أربعين ليلة جسداً- قائلاً: هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور، وقال بعد الرواية الأخرى - والتي فيها أنه مكث أربعين سنة جسداً: فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة والله أعلم. انظر: "تفسير الطبري" 1/ 201 - 202، وما بعدها، "العظمة" ص 453 عن ابن زيد، "تفسير السمرقندي" 1/ 108، ابن كثير 1/ 74 وما بعدها، وأورد السوطي في الدر المنثور رواية ابن عباس 1/ 93 - 100، وأورد الرواية الأخرى عن ابن مسعود =

وقال آخرون الصلصال المنتن، من قولهم: صلَّ اللحمُ وأصلَّ، إذا (¬1) أنْتَن وتغيَّر، ومنه قول الشاعر (¬2): رأيْتُكمُ بَنِي الْخَذْوَاءِ لمّا دَنَى ... الأضْحَى وصَلَّلَتِ اللِّحَامُ (¬3) ¬

_ = مسعود وغيره، وزاد نسبته إلى البيهقي وابن عساكر 1/ 116 ومما يؤيّد رد هذا القول -إضافة إلى انتقاد ابن جرير وابن كثير لأصل الخبر- التعارض بين الروايتين في المدة التي مكثها آدم قبل أن ينُفخ فيه الروح، فإحدى الروايتين ذكرت أنها أربعين ليلة، والأخرى ذكرت أنها أربعين سنة، والغريبُ أن قضية مُكْث أدم فترة قبل نفخ الروح فيه ثابته بالحديث الصحيح، لكن دون تعيين هذه الفترة أو مكان المُكث - في الظل أو الشمس. فعن أنس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لمّا صوَّر اللهُ آدمَ في الجنّة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عَرف أنه خُلِقَ خلقًا لا يتمالك) رواه مسلم (20611) كتاب: البر والصلة، باب: خلق الإنسان، ومعنى لا يتمالك: أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب، والمراد جنس بني آدم. "صحيح مسلم بشرح النووي" 16/ 164. (¬1) "تهذيب اللغة" (صل) 2/ 2046 بنصه. (¬2) هو أبو الغُول الطُّهَوي شاعر إسلامي من بني طهيّة. (¬3) ورد في: "نوادر أبي زيد" ص 433 وفيه: (أتى) بدل (دنى)، "تهذيب إصلاح المنطق" ص 416، "اللسان" (لحم) 7/ 4010، (خذا) 14/ 225، (ضحا) 5/ 2560، وورد بلا نسبة في: "إصلاح المنطق" ص 171، 298، 360، "المذكر والمؤنث" للأنباري 1/ 263، "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2096، "مقاييس اللغة" 3/ 392 (عجز)، "مجمل اللغة" 1/ 574 (عجز)، "الصحاح" (ضحا) 6/ 2407، "المخصص" 13/ 99، 17/ 26. (الخذواء) المسترخية، وأصل الخذا: استرخاءُ الأذن، يقال: أذن خذواء: مسترخية، (اللحام) جمع لحم، (صلّلت) أنتنت، قال الشاعر البيت وهو يهجو قوماً، يوضحه البيت الثاني وهو: تبَاعَدْتُمْ بِؤدكمُ وقلْتُمْ ... لَعَكٌّ مِنْكَ أقْربُ أو جُذَامُ يقول لهم: لمَّا كثرت اللحوم فشبعتم واستغنيتم، توليتم بودّكم عنّي، ومعنى قوله =

وقال زهير: تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيضٌ ... أَصَلَّتْ فهي تَحْتَ الكَشْحِ داءُ (¬1) قال ابن الأنباري: والأصل في صَلْصَال صَلاَل، فأبدلت الصاد من اللام الثانية، ومنه كثير، وهو قول مجاهد، قال: الصلصال المنتن (¬2)، واختاره الكسائي (¬3). ¬

_ = (لعكٌّ منك أقرب أو جذامُ) يريد أنهم أنكروه حين شبعوا، وأظهروا أنهم لا يعرفونه، فسألوه عن نسبه فقالوا: أأنت من جُذامٍ أم من عكٍ؟ وهما قبيلتان من قبائل اليمن، وهو من تميم، وإنما أنكروه لئلا يقوموا بحقه، فهو يصفهم بالبخل، وإن كان الشيء الذي سألهم كثيراً عندهم. (¬1) "شرح ديوان زهير" 82، وورد في "العين" 7/ 62، "جمهرة اللغة" 3/ 1260، "تهذيب اللغة" (لج) 4/ 2732، (أنض) 1/ 218، "مقاييس اللغة" 1/ 145، 5/ 201، "اللسان" (لجج) 7/ 4000، (أنض) (7/ 115)، (صلل) 4/ 2487، "التاج" "أنض" 10/ 10، (لجْلَج): ردّد، ومنه: لجْلج اللقمة في فِيهِ، أدارها من غير مضْغٍ ولا إساغةٍ، (أنيض) يقال: لحمٌ أنيضٌ: إذا بقي فيه نُهُوءةٍ؛ أي لم يَنْضَجْ، وآنَضْتُه إيناضاً، أي أنضَجْتُه فنضِجَ، (الكشح) قال الليث: هو ما بين الخاصرة إلى الضِّلَعِ الخَلْف، قال الأزهري: هما كشْحان؛ وهو موقع السيف من المتقَلِّد، وقيل الكشْحان جانبا البطن من ظاهر وباطن، وقيل غير ذلك، يقول: أخذت هذا المال، فأنت لا تأخذه ولا تردُّه كما يُلجلجُ الرجلُ المضغة، فلا يبتلعها ولا يلقيها. انظر: (كشح) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3146. (¬2) الذي ورد في "تفسير مجاهد" ص 341 قال: الصلصال: الطين، والحمأ المسنون: المنتن، ورواية الواحدي أخرجها الطبري 14/ 28 بلفظها، ووردت في: "تفسير هود الهواري" 2/ 447 بلفظه، والثعلبي 2/ 148 أبلفظه، والماوردي 3/ 157 بلفظه، والطوسي 6/ 331 بلفظه، "تفسير البغوي" 4/ 378، وابن الجوزي 4/ 397، و"تفسير القرطبي" 10/ 21، والخازن 3/ 94، وابن كثير 2/ 606. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 أ، "تفسير البغوي" 4/ 378، ابن الجوزي 4/ 397، "تفسير القرطبي" 10/ 21، الخازن 3/ 94.

وقوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ}، قال ابن الأنباري: (من) هاهنا مفسرة لجنس الصلصال؛ كما تقول: أخذت هذا من رجل من العرب. وأما: الحَمَأُ، فقال الليث: الحَمَأةُ بوزن فَعَلة والجميع الحَمَأُ (¬1)، وهو الطين الأسود المنتن (¬2). وقال أبو عبيدة والأكثرون: حَمَأ (¬3) تقديرها: حَمْأة (¬4)، وأنشد لأبي الأسود (¬5): ¬

_ (¬1) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 180، و"تفسير أبي حيان" 5/ 443، و"الدر المصون" 7/ 156. (¬2) ورد في "العين" 3/ 312 بنصه، "تفسير الطبري" 14/ 28 بنحوه، "تفسير السمرقندي" 2/ 218 بنصه، والماوردي 3/ 157 بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 21، الفخر الرازي 19/ 180، الخازن 3/ 94، أبي حيان 5/ 443، "الدر المصون" 7/ 156. (¬3) في جميع النسخ: (حمأة)، والتصويب من المصدر. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 413 وعبارته: قال: (من حَمَأ) أي من طين متغير؛ وهو جميع حَمْأة، وضبطها المحقق بالتسكين، وهو الموافق للبيت الذي استشهد به، وهو القائل: ولا يُعرف في كلام العرب الحمْأة إلا ساكنة الميم؛ كما في "تفسير أبي حيان" 5/ 443، و"الدر المصون" 7/ 156، لكن العريب أن صاحب "اللسان" نسب إليه تحريكها، فقال: وقال أبو عبيدة: واحدة الحَمَأ حَمَأة؛ كقَصَبة واحدة القَصب، وتبعه صاحب "التاج". انظر: (حمأ) في: "اللسان" 2/ 986، "التاج" 1/ 140 فلعلهما وَهِمَا. (¬5) أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدُّؤلي البصري التابعي، أول من أسس النحو ووضع قواعده وأول من نقط المصحف، محدثاً فقيهًا شاعراً سريع الجواب، كان ثقة في الحديث روى له البخاري ومسلم، حدّث عن علي وعمر وابن عباس -رضي الله عنه- وشهد صفين مع علي -رضي الله عنه- مات سنة (99 هـ). انظر: "أخبار النحويين البصريين" ص 33 "طبقات النحويين واللغويين" ص 21، "تهذيب الألسماء واللغات" 2/ 175، "إنباه الرواة" 1/ 48، "تقريب التهذيب" ص 619 رقم (7940)، "البغية" 2/ 22.

لَعَمْرُكَ ما المَعِيْشَةُ بالتّمَنّي ... ولكنْ ألْق دَلْوَكَ في الدِّلاءِ تَجِيْءُ بِمِلاَها طَوْرًا وطَوْرًا ... تَجِيْءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ (¬1) والجمع حَمَأ، كما يقال تَمْرة وتَمْر، ونَخْلة ونَخْل، والحَمَأُ أصله المصدر، نحو الجَزَع والهَلَع، ثم يُسَمّى به، ولا يعرف في كلام العرب الحَمْأَة إلا ساكنة الميم (¬2)، وهذا هو الصحيح، وقول الليث وهْم، ويُذْكر الفعل من هذا الحرف عند قوله: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] إن شاء الله. وقوله تعالى: {مَسْنُونٍ} قال ابن السَّكِّيت: سمعت أبا عمرو يقول في قوله: {مَسْنُونٍ} أي متغيِّر (¬3)، قال أبو الهيثم يقال: سُنَّ الماء فهو مَسْنُون، ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 126، وورد في "المذكر والمؤنث" للأنباري 1/ 411 برواية: فما طلب المعيشة بالتّمنّي ... تجِئْكَ بِملْئها يوماً ويوماً وورد البيت الثاني فقط في "مجاز القرآن" 1/ 413 كرواية المذكر بخلاف (تجيء)، "تفسير أبي حيان" 5/ 443 كرواية الواحدي بخلاف (يجئك بملئها)، "الدر المصون" 7/ 156 كالواحدي بخلاف (بملئها). (¬2) انظر: "العين" (حمو) 3/ 312، "المقصور والممدود" للفراء ص 49، "المحيط في اللغة" (حمو) 3/ 229، "الصحاح" (حمأ) 1/ 45، "المفردات" ص 259، "الأساس" ص 140 "عمدة الحفاظ" 1/ 518،"متن اللغة" 2/ 157، وقد وردت متحركة في "العباب الزاخر" للصغاني أ/ 45 قال: الحَمَأُ والحَمَأَةُ: الطينُ الأسودُ، وكذا وردت ساكنة ومتحركة في "التاج" (حمأ) 1/ 140، ونسب تحريها إلى أبي على القالي في كتابه المقصور والممدود [لم أقف عليه]، وقال: الحَمَأُ: الطين المتغيِّر، مقصورٌ مهموزٌ، وهو جمع حَمَأَةٍ، كما يقال قَصَبَةٌ وقَصَبٌ، ومثله قال أبو عبيدة، ثم قال: وقال أبو جعفر: وقد تُسَكَّن الميمُ للضرورة في الضرورة، وهو قولُ ابنِ الأنبارىِ. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (سن) 12/ 301 بنصه، الغريب أنه أورد قولين لأبي عمرو لكنه نسب عبارة التهذيب لابن السِّكِّيت -كما ذكرها الأزهري- ولم ينسب عبارة إصلاح المنطق -التالية- لابن السكيت.

أي: تغيِّر (¬1)، وقال ابن قتيبة: المسنون المتغير الرائحة (¬2)، وقوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] قال أبو عمرو الشيباني: أي لم يتغير، من وقوله: {حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (¬3) ذكرنا ذلك في سورة البقرة [: 259]. قال الفراء: المسنون المتغيِّر؛ كأنه أخذ من: سَنَنْتُ الحَجَر على الحَجَر، إذا حككته عليه، والذي يخرج من بينهما يقال له: السَّنِين (¬4)، وسُمِّي المِسَنُّ مِسَنًّا؛ لأن الحديد يتغير بِحَكِّكَ عليه (¬5)، وعلى قوله يجب أن يكونَ المسنونُ المحكوكَ لا المتغيرَ، وهذا القول في الحمأ المسنون يقوي قول مجاهد في الصلصال؛ أنه المنتن، ومن قال: الصلصال الذي له صوت، قال: صُوِّرَ آدمُ من حمأ مسنون ثم جف فصار صلصالاً، هذا الذي ذكرنا أحد الأقوال في المسنون، واختار الزجاج هذا القول؛ مسنون: مُتَغَيِّر، وإنما أخذ من أنه على سُنَّةِ الطريق؛ لأنه إنما يتغير إذا قام بغير ماءٍ جارٍ (¬6). وقال أبو عبيدة: المَسْنُون المصبوب (¬7)، والسَّنُّ الصبُّ يقال: سنّ الماءَ على وجهه سنًا (¬8)، وقال سيبويه: المسنون المصوَّر على صورة ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سن) 12/ 301 بنصه. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة ص 238 بلفظه. (¬3) "إصلاح المنطق" ص 352 بنصه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 1778 بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 778 بنصه. (¬5) "تهذيب اللغة" (سن) 2/ 1778 بمعناه، وقد نسبه الأزهري للفراء، ولم أجده في معانيه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 1778 بنصه. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 351 بلفظه. (¬8) "تهذيب اللغة" (سن) 2/ 1778 بنحوه.

27

ومثال، من سُنّة الوَجْه، وهي صورته (¬1). وروي عن ابن عباس أنه قال: المسنون الطين الرطب (¬2)، وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة؛ لأنه إذا كان رطبًا يسيل وينبسط على الأرض فيكون مسنونًا؛ كأنه مصبوب. 27 - قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} الآية. اختلفوا في الجآن مَنْ هو؟ فقال عطاء عن ابن عباس: يريد إبليس (¬3)، وهو قول الحسن وقتادة ومقاتل، وقال ابن عباس: الجآن هو أبو الجن (¬4)، وهو قول عامة المفسرين، وسُمِّي جانًا لتواريه عن الأعين، كما سُمِّي الجِن جنًّا لأنهم ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في الكتاب، وهذه العبارة مطابقة لما في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 أوالظاهر أنه اقتبسها منه، و"تفسير الرازي" 19/ 180، والشوكاني 3/ 185. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 30 بلفظه، من طريق علي بن أبي طلحة (أصح الطرق)، وورد في "تهذيب اللغة" (سن) 2/ 1778 بنحوه، البغوي 4/ 378 بنحوه، وابن الجوزي 4/ 398، والرازي 19/ 180، والقرطبي 10/ 21، والخازن 3/ 94، "الدر المنثور" 4/ 182 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 196ب بلفظه، والثعلبي 2/ 148 أ، عن قتادة ومقاتل، والماوردي 3/ 158 عن الحسن "تفسير البغوي" 4/ 379 عن قتادة، وابن الجوزي 4/ 399 عن الحسن، وقتادة ومقاتل، والفخر الرازي 19/ 180 عنهم، و"تفسير القرطبي" 10/ 23 عن الحسن، والخازن 3/ 95 عن قتادة، و"تفسير أبي حيان" 5/ 453 عن الحسن وقتادة، و"الدر المنثور" 4/ 183 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬4) ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 أ، والماوردي 3/ 158، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 379، وابن الجوزي 4/ 399 من طريق أبي صالح، والفخر الرازي 19/ 180، والخازن 3/ 95، وأبي حيان 5/ 453، و"تنوير المقباس" ص 277، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 218، وأبي السعود 5/ 74، والشوكاني 3/ 189.

يتوارون عن أعين الناس، والجنين متوار في بطن أمه، ومعنى الجان في اللغة: الساتر، من قولك جنّ الشيء إذا ستره (¬1). فالجان الذي ذكر هاهنا يحتمل أنه سُمِّي جانًّا لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم، أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول، كما يقول في: لابن وتامر، وماءٍ دافق، وعِيشة راضية، وقد ذكرنا في مواضع (¬2). وقوله تعالى: {خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} قال ابن عباس: يريد من قبل خلق آدم (¬3). وقوله تعالى: {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} اختلفوا في معنى (السموم)، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: هي نارٌ لا دخان لها، والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمرًا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أُمرت، والهدَّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب (¬4)، ونحو هذا القول سواء رَوَى الفراء عن الحسن (¬5). وقال آخرون: من نار الريح الحارة، وهو قول ابن مسعود، قال: هذه السموم جزء من سبعين جزءًا من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (حسن) 1/ 671، "المحيط في اللغة" 6/ 410، "الصحاح" (جنن) 5/ 3094. (¬2) منها عند تفسيره آية [45] من سورة الإسرإء. (¬3) "تنوير المقباس" ص 277 بنصه، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 196 ب، و"تفسير السمرقندي" 2/ 218، والثعلبي 2/ 148 أ، والماوردي 3/ 158، وابن الجوزي 4/ 399، و"تفسير القرطبي" 10/ 23، والخازن 3/ 95. (¬4) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 23، وورد منسوباً إلى الكلبي -نفسه- في "تفسِر الماوردي" 3/ 159، و"تفسير البغوي" 4/ 379، وابن الجوزي 4/ 400. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 88.

الآية (¬1). وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار، ولها لفح وأُوار (¬2)، على ما ورد في الخبر أنها من لفح جهنم، ومعنى السموم في اللغة: الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل، قيل: سُميت سمومًا لدخولها بلطف في مسام البدن، وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان، يبرزُ منها عَرقُهُ وبُخار باطنه (¬3). قال الفراء: يقال أَسَمَّ يومنا هذا، إذا كانت فيه السموم، وإنه ليوم مُسِمٌّ، والعرب تقول: مَسْمُوْمٌ، ولا يُقَال: قد سُمّ، قال: وسمعت من يقول: قد سُمّ يومنا (¬4). ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 30 بنصه، والطبراني في "الكبير" 9/ 247 بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 أبنصه، والطوسي 6/ 331، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 400، و"تفسير القرطبي" 10/ 23، والخازن 3/ 95، وابن كثير 2/ 605، "الدر المنثور" 4/ 183 - 184 وزاد نسبته إلى الطيالسي والفريابي وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب، ولم أقف عليه فيهما. هذا القول ورد موقوفاً على ابن مسعود (كما في المصادر السابقة)، وروي عنه مرفوعاً في مسند البزار "البحر الزجار" 5/ 250 وإسناده ضعيف كما أشار إلى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 388، وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً كما في "تفسير الشوكاني" 3/ 189 - 190، والألوسي 14/ 34. (¬2) الأُوار بالضم: شدَّةُ حر الشمس ولفح النار ووهجها والعطش، وقيل الدُّخان واللهبُ. "اللسان" (أور) 1/ 169. (¬3) انظر: "المنتخب من غريب كلام العرب" 1/ 423، "تهذيب اللغة" (سم) 2/ 1762، و (سمم) في "الصحاح" 5/ 1954، و"اللسان" 4/ 2102، و"عمدة الألفاظ" 2/ 256. (¬4) لم أجده في معانيه، وبعض هذا الكلام ورد في التهذيب منسوباً إليه. انظر: "تهذيب اللغة" (سم) 2/ 1762.

29

29 - (¬1) قوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} قال الكلبي: يقول جصعت خلقه يعني عدلت صورته وسويته بالصورة الإنسانية (¬2). وقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} النفخ إجراء الريح في الشيء، والروح جسم رقيق يحيا به البدن، ونذكر الكلام فيها عند قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85] إن شاء الله، ولمَّا أجرى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الروح في بدن آدم على صفة إجراء الريح؛ كأن قد نفخ فيه الروح، وأضاف روح آدم إليه تكرمةً لِما كَرَّمه وشَرَّفه، وهي إضافة الملك. وقوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ} أمر من الوقوع، قال الكلبي: فَخروا له ساجدين سجدة تحية ولم تكن سجدة طاعة، ونحو هذا قال جميع المفسرين (¬3)، وذكرناه وجه كيفية سجود الملائكة لآدم في سورة البقرة (¬4)، ومعنى سجود التحية قد ذكرناه في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] 30 - قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} قال الخليل وسيبويه: (أجمعون) توكيد بعد توكيد (¬5). ¬

_ (¬1) لم يفسر الآية: [28]. (¬2) ورد مختصراً بلا نسبة في "تفسير الطبري" 14/ 31، و"تفسير السمرقندي" 2/ 218، والطوسي 6/ 332، و"تفسير البغوي" 4/ 380 وابن الجوزي 4/ 400، والفخر الرازي 19/ 182، و"تفسير القرطبي" 10/ 24، والخازن 3/ 95، والشوكاني 3/ 186 بنحوه. (¬3) ورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 31، و"تفسير السمرقندي" 2/ 219، والثعلبي 2/ 148 أ، والطوسي 6/ 332، "تفسير البغوي" 4/ 380، والفخر الرازي 19/ 182، و"تفسير القرطبي" 10/ 24، والخازن 3/ 95. (¬4) آية [34]. (¬5) لم أقف عليه في الكتاب، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 179 بنصه عنهما، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 380 بنصه عنهما، "تفسير السمرقندي" 2/ 219 =

وسُئل أحمد بن يحيى عن التوكيد بكلهم ثم بأجمعين في هذه الآية، فقال: لمَّا كانت كلهم تحتمل شيئين تكون مرة اسمًا ومرة توكيدًا، جاء بالتوكيد الذي لا يكون إلا توكيدًا (¬1). وسُئل المبرد عنها فقال: لو جاء: فسجد الملائكة، احتمل أن يكون سجد بعضهم، فجاء بقوله: {كُلُّهُمْ} لإحاطة الأجزاء، ولو جاء (كلهم) من غير ذكر أجمعين، لاحتمل أن يكونوا سجدوا كلهم في أوقات مختلفة، فجاءت (أجمعون) ليدل أن السجود كان منهم كلهم في وقت واحد، فدخلت (كلهم) للإحاطة ودخلت (أجمعون) لسرعة الطاعة (¬2). وهذا معنى ما حكاه الزجاج عنه، فقال: وقال محمد بن يزيد: (أجمعون) يدل على اجتماعهم (¬3) بالسجود، فسجدوا كلهم في حال واحد، ثم قال: وقول سيبويه والخليل أجود؛ لأن أجمعين معرفة، فلا تكون حالاً (¬4). ¬

_ = بنصه عن الخليل، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 309، وابن الجوزي 4/ 400، والفخر الرازي 19/ 182، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 196، و"تفسير الخازن" 3/ 95. (¬1) في جميع النسخ: (توكيد) وهو خطأ نحوي ظاهر، وقد ورد قوله في "تهذيب اللغة" "كل" 4/ 3178 بنصه. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (كل) 4/ 3178 بنصه تقريباً، وورد مختصراً في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 194، و"تفسير السمرقندي" 2/ 219، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 7، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" 1/ 383. (¬3) في (ج): (اجماعهم). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 179 بنصه، ويؤكد هذا أنه لو كان حالاً لا تأكيداً للزمه النصب، كما أن الحال تكون نكرة و (أجمعون) معرفة. انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 7، "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 197.

31

قال النحويون: (كل) و (أجمعون) إذا أُكِّدَ بهما وجب تقديم (كل) على (أجمعين) (¬1)؛ لأن كلًا قد تستعمل مبتدأة كقولك: كلهم منطلقون، ولا يجوز أن يقول: أجمعون (منطلقون، فلما كانت (كل) قد استعملت مبتدأة ليس قبلها ما تتبعه، وكان أجمعون) (¬2) لا تستعمل إلا تابعًا، وجب أن تتقدم الأقوى؛ أعني كل، وأجمعون من ظَرِيْفِ المعرفة؛ لأن أجمع بمنزلة زيد؛ في أن كل واحد منهما تعريفه بالوضع دون الألف واللام، ودون الإضافة ودون الإشارة، فإذا جمعته كان أيضًا معرفة؛ لأن جمعه أقيم مقام إضافته، وكان الأصل أن يقول: مررت بالقوم بأجمعهم، فحذف لفظ الضمير وأقيم الجميع (¬3) بالواو والنون مقامه؛ وذلك أن أجمع على وزن أفعل، ومن شرط أفعل إذا أضيف إلى شيء أن يكون بعضه، فلو قالوا: مررت بالقوم أجمعهم، لتُوِهَّم أن (¬4) أجمع بعض القوم، وإنما غرضهم أن يخبروا عن جميع القوم، فلذلك عدلوا عن إضافة أجمع في اللفظ، فأتوا بالواو والنون ليدلوا بذلك على استغراق المذكورين. 31 - وقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ} أجمعوا على أن إبليس كان مأمورًا بالسجود لآدم، واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا؟ على ما ذكرنا في سورة البقرة، فمن قال: كان من الملائكة، جعل هذا الاستثناء من الجنس، ومن قال: لم يكن، جعله من الاستثناء المنقطع كما ذكرنا في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح ابن عقيل" 3/ 209، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 1/ 380، "أوضح المسالك" 3/ 331. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬3) (ش)، (ع): (الجمع). (¬4) (أن) ساقطة من (أ)، (د).

32

سورة البقرة، ومن جنس هذا يأتي الكلام عند قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] إن شاء الله. 32 - قوله تعالى: {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ} قال أبو إسحاق: موضع (أن) نصب بإسقاط (في) وإفضاء الناصب إلى (أن)، المعنى: أيّ شيءٍ يقع لك في أن لا تكون (¬1). 33 - وقوله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} قال ابن عباس: يريد لحمًا ودمًا، وإبليس رُوحاني لا لحم ولا دم. 34 - وقوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد من جنة عدن، وقيل من السموات (¬2)، وذكرنا هذا في سورة الأعراف (¬3)، ومعنى الرجيم قد مضى ذكره في هذه السورة (¬4). 35 - قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} قال ابن عباس: بريد يوم الجزاء، حيث يجازى العباد بأعمالهم (¬5)؛ مثل قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وقال الكلبي: يلعنك أهل السماء وأهل الأرض إلى يوم الحساب (¬6)؛ لأنه أول من عصى الله، وقال أهل المعاني: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 179 بنصه. (¬2) ورد بنصه غير منسوب في: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 183، "تفسير القرطبي" 10/ 26، الخازن 3/ 96، وهو قول غريب؛ لأن الآيات صريحة على أنهم -آدم وحواء وإبليس- كانوا في الجنة، ومنها أخرجوا وأهبطوا، لا من مطلق السماء. (¬3) آية: [13]. (¬4) آية [17]. (¬5) "تفسير الفخر الرازي " 19/ 183 بنصه، "تنوير المقباس" ص 278 بمعناه. (¬6) ورد غير منسوب في: "تفسير هود الهواري" 2/ 348، و"تفسير البغوي" 4/ 381 غير منسوب للكلبي، الخازن 3/ 96.

38

إن الله عَزَّ وَجَلَّ قد لعنه والمؤمنون، لعنة لازمة إلى يوم الدين، ثم يحصل حينئذ على الجزاء بعذاب النار، فمعنى التوقيت بيوم الدين، أنه يكون ملعونًا مبعدًا عن رحمة الله من غير عذاب النار إلى يوم الدين، ثم يضم له عذاب النار مع اللعنة يوم الدين. 38 - قوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى حين تموت الخلائق (¬1)، قال الكلبي: إذا نفخ النفخة الأولى مات الخلائق كلهم ومات إبليس معهم (¬2)، وإنما سمي الوقت المعلوم؛ لأنه (¬3) تموت (فيه الخلائق وإبليس، واسْتَنْظر إبليس) (¬4) إلى (¬5) يوم القيامة لئلا يموت؛ إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد، فلم يُجَبْ إلى ذلك، وقيل له: (إلى يوم الوقت المعلوم)، وهو آخر أيام التكليف. 39 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} قال أبو عبيدة: معنى الباء هاهنا القَسَم (¬6)، وقال غيره: هي بمعنى السبب (¬7)، أي: بكوني غاويًا ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 160 بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 184 وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه، وفيهما: (إبليس) بدل (الخلائق)، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 27 بنصه، والألوسي 14/ 48، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 2/ 148ب، و"تفسير البغوي" 4/ 381 غير منسوب لابن عباس، والفخر الرازي 19/ 184، وأبي حيان 5/ 453. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في جميع النسخ (لا) فقط ولا معنى له، والمثبت تصويب من "تفسير الوسيط" 2/ 356. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬5) في (أ)، (د): (إذ) والمثبت من (ش)، (ع). (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 351 بنحوه، وتقديره: بالذي أغويتني. (¬7) انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 313، "تفسير الزمخشري" 2/ 314، "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 198، الخازن 3/ 96، أبي السعود 5/ 78، الألوسي 14/ 49.

40

لأزينن لقولك؛ بمعصيتة لَيَدْخُلُنَّ النار، وبطاعته ليدخلنّ الجنة، والكلام في الإغواء وفي هذه الباء، وأكثر هذه القصة مذكور في سورة الأعراف (¬1) وقوله تعالى: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الْأَرْضِ} يعني: لأولاد آدم، ومفعول التزيين محذوف على تقدير: لأزينن لهم الباطل حتى يقعوا فيه. 40 - قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} أي الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم لك عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، ومن فتح اللام (¬2) فمعناه: الذين أخلصهم الله بالهداية والتوفيق والعصمة، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد الذين عصمتَهم وأخلصتَهم وأخلصوا لك (¬3)، قال المفسرون: يعني المؤمنين (¬4)؛ وذلك أنه لا سلطان لإبليس على المؤمن بالإغواء، وإنما يكون سلطانه على من عدل عن الهدى، كقوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] فكأن إبليس قال: لأزشن لهم ولأغوينهم أجمعين، إلا من عصمته بالإخلاص فإني لا أقدر على إغوائه. 41 - فقال الله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} يعني: الإخلاص والإيمان طريق عليّ واليّ، أي: أنه يؤدي إلى جزائي وكرامتي فهو طريق عليّ، وهذا معنى قول مجاهد قال: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا ¬

_ (¬1) آية [16]. (¬2) هم نافع وعاصم وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص 348، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 309، "المبسوط في القراءت" ص 209، "شرح الهداية" 2/ 375، "الإتحاف" ص 274. (¬3) لم أقف عليه بنصه، وفي "تنوير المقباس" قال: المعصومين مني. ص 278. (¬4) أخرجه الطبري عن الضحاك 14/ 33 بلفظه، وذكره الثعلبي 2/ 148 ب، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 381، الخازن 3/ 96.

يُعَرِّج على شيء (¬1)، ونحو هذا قال الحسن: يقول هذا صراط إليّ مستقيم (¬2)، فعلى هذا الإشارة في قوله تعود إلى ذكر الإخلاص، وقال الفراء: يقول مرجعهم إليّ فأجازيهم، لقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] قال: وهذا كما يقول في الكلام: طريقك، عليّ فأنا على طريقك، لمن أوعدته (¬3)، فهذا معنى قول الكلبي (¬4)، والكسائي قال: فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلًا بأعمالهم (¬5)، وعلى هذا ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 341 بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 33 بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 26، "تفسير هود الهواري" 2/ 394، والماوردي 3/ 161، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 28، الخازن 3/ 96، "الدر المنثور" 4/ 184 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ومعنى (لا يعرِّج على شيء) أي لا يميل، لقولهم: عرَّج النهرَ، أي: أماله، وعرَّج عليه، أي: عَطَفَ انظر: "التاج" (عرج) 6/ 94، وقد ذكر ابن القيم قول مجاهد هذا وقال: وهذا مثل فول الحسن وأبين منه، وهو من أصح ما قيل في الآية. "التفسير القيم" ص 15، وقول الحسن الذي أشار إليه هو التالي لهذا القول. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 ب بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 34 بنحوه، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 161، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 189، والخازن 3/ 96. ذكر ابن القيم قول الحسن ثم قال: وهذا يحتمل أمرين؛ أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض؛ فقامت أداة (على) مقام إلى، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى؛ وهو الأشبه بطريق السلف؛ أي صراط موصل إليّ. "التفسير القيم" ص 15. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 89 بتصرف يسير. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 ب بنصه، وانظر: "تفسير الشوكاني" 3/ 188، صديق خان 7/ 170، وأورد ابن القيم قول الفراء السابق ونسبه للكسائي، وقال إنه على التهديد والوعيد؛ تريد إعلامه أنه غير فائت لك ولا معجز، ثم ردَّه قائلًا: والسياق يأبى هذا، ولا يناسبه لمن تأمله. انظر: "التفسير القيم" ص 16.

42

الإشارة في قوله: {هَذَا} يعود إلى طريق العبودية. وقال بعض أهل المعاني: لمَّا ذَكر إبليسُ أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه، تضمن هذا الكلام تفويض الأمر إلى الله تعالى وإلى إرادته (¬1)، فقال الله تعالى: {هَذَا} أي تفويض الأمر إلى إرادتي ومشيئتي طريق عَليَّ مستقيم، ويؤكد هذا التأويل قراءة مَنْ قرأ: {عُليَّ} بضم الياء (¬2)، وهو مدح لذلك الطريق؛ أي: أن طريق التفويض والإيمان بالقَدَر طريق رفيع مستقيم (¬3). 42 - قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} قال ابن عباس: استأثر الله عبادًا واصطنعهم لنفسه، فأخبر إبليسَ باصطناعه إيّاهم، وققال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي: قوة وحجة في إغوائهم ودعائهم إلى الشرك والضلال. وقال سفيان بن عيينة: هؤلاء ثنية (¬4) الذين هداهم ¬

_ (¬1) ذكر الفخر الرازي هذا الكلام بنصه قائلاً: قال بعضهم، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 189. (¬2) هم: قيس بن عباد، وابن سيرين، وقتادة، ويعقوب وغيرهم، والقراءة من العشر، وفي إيراد ابن جني لها في المحتسب ما قد يوهم أنها شاذة وليس كذلك. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 33، "المحتَسَب" 3/ 2، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 720، "النشر" 2/ 301. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 14/ 33 مختصراً عن ابن سيرين، "علل القراءات" 1/ 296، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 720، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 189 وقد نقل هذا القول بنصه ونسبه للواحدي. (¬4) أي استثناء، ومنه قول كعب: الشهداء ثنية الله في الأرض، يتأول قول الله تعالى: {وَنُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله} [الزمر: 68] فالذين استثناهم من الصعق -عند كعب- الشهداء. انظر: "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 507.

43

واجتباهم (¬1)، وقال الكلبي: هؤلاء هم الذين استثنى إبليس (¬2). 43 - قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} قال ابن عباس: يريد إبليس وأشياعه ومن تبعه من الغاوين (¬3). 44 - {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قال: يريد لها سبعة أطباق؛ طبق فوق طبق، وقال الفراء: السبعة الأبواب أطباقٌ بعضها فوق بعض (¬4)، وهذا قول الحسن وقتادة وابن جريج (¬5)، قال علي بن أبي طالب: إن الله تعالى وضع النيران بعضها فوق بعض، فأبوابها كإطباق اليد على اليد (¬6)، {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} أي من أتباع إبليس جزء مقسوم، الجزء بعض الشيء، والجميع ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 ب، بنصه وهو جزء من قوله؛ قال: معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء ثنية الله .. ، "تفسير البغوي" 4/ 382، وابن عطية 4/ 402، و"تفسير القرطبي" 10/ 28، والخازن 3/ 96. (¬2) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 190. (¬3) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 190، وورد نحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 35، و"تفسير البغوي" 4/ 382، و"تفسير القرطبي" 10/ 30. (¬4) "معاني القرآن" اللفراء 2/ 89 بنصه. (¬5) أخرجه الطبري 14/ 35/ 36 - بمعناه عن قتادة وابن جريج، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 338 عنهم، "تفسير البغوي" 3/ 51، والفخر الرازي 19/ 190 كلاهما عن ابن جريج. (¬6) أخرجه أحمد في "الزهد" ص 192 بنحوه، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 73 بنحوه، والطبري 14/ 35 بنحوه من عدة طرق، والبيهقي في "البعث" ص 268، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 ب، بنحوه، "تفسير البغوي" 4/ 382، وابن عطية 4/ 403، و"تفسير القرطبي" 10/ 30، وابن كثير 2/ 607، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 185 وزاد نسبته إلى ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في صفة النار، وابن أبي حاتم.

45

الأجزاء، وجزأته: جعلته أجزاء (¬1)، وهذا وعيد لأتباع الشيطان بالعذاب في جهنم بين أطباق النيران، قال الضحاك في هذه الآية: هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض؛ فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون، والثاني فيه اليهود، والثالث فيه النصارى، والرابع فيه الصابئون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون (¬2). 45 - (قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} قال ابن عباس: يريد الخائفين من الله الموحدين الذين لم يتخذوا له شريكًا، وقال الكلبي عنه: إن المتقين للفواحش والكبائر (¬3)، {في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني: عيون الماء والخمر) (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (جزأ) 1/ 595، "المحيط في اللغة" (جزأ) 7/ 152، "العباب الزاخر" أ / 33، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 191 نقل هذا القول بنصه بلا نسبة. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 148 ب بنصه، "تفسير البغوي" 4/ 382 - 383، وابن عطية 4/ 403، والفخر الرازي 19/ 190، وابن كثير 2/ 607، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 186 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. لا خلاف في أن للنار سبعة أبواب، لكنّ تقسيم أهل النار على الأبواب بهذا التفصيل يفتقر إلى خبر صحيح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو ما لم أقف عليه، ولم يذكره القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، ولا ابن رجب في التخويف من النار. (¬3) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 191، والألوسي 14/ 56، وورد بنحوه غير منسوب في: "تفسير القرطبي" 10/ 32، والخازن 3/ 97. (¬4) هذا تخصيص بلا دليل، والأولى حمله على عمومه، فإن كان القصد البيان والتمثيل، فيقال. عيون من الماء والخمر. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).

46

46 - قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا} أي: يقال لهم ادخلوها بسلام، أي بسلامة، قال ابن عباس: سلموا من سخط الله وأَمِنُوا عذاب جهنم والموت (¬1). 47 - قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} يُروى أن المؤمنين يُحبَسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم، ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نُقُّوا وهُذِّبوا (¬2)، فخلصت نياتُهُم من الأحقاد، وهذا مما سبق تفسيره في سورة الأعراف (¬3). وقوله تعالى: {إِخْوَانًا} قال الزجاج: منصوب على الحال (¬4)، والكلام في الإخوان ذكرناه في قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ}، السَّريرُ معروف، والعدد أسِرة، والجميع السُّرُر (¬5)، قال أبو عبيدهَ: يقال سُرُر وسَرر بفتح الراء، وكل فعيل من المضاعف فإن جمعه فُعُل وفُعَل؛ نحو: سُرُر وجُرُر، وسُرَر وجُرَر (¬6)، قال ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تح: سيسي 2/ 357 بنصه تقريباً. (¬2) يشير إلى الحديث الصحيح الوارد في ذلك؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذن لهم بدخول الجنة" أخرجه البخاري (2440) كتاب: المظالم، باب: قصاص المظالم، والطبري 14/ 37. (¬3) آية [43]، وانظر: "البسيط" تح الفايز 2/ 665. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 180 بنصه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (سر) 2/ 1671 بنصه، وانظر: (سر) في "المحيط في اللغة" 8/ 240، "مجمل اللغة" 1/ 458، "الصحاح" 2/ 682. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 351 بتصرف.

المفضل: بعض تميم وكلب (¬1) يفتحون؛ لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد، وقال بعض أهل المعاني: السرير مجلسُ سُرُوُر، قال الليث: وسَريرُ العيش: مستقرُّه الذي اطمأنَّ عليه خَفْضُه ودَعَتُه (¬2)، وأنشد: وفارَقَ منها عِيشَةً غَيْدَقِيّةً ... ولمْ يَخْشَ يومًا أنْ يَزُولَ سِريرُها (¬3) قال ابن عباس: يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والياقوت والدُر؛ السرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية (¬4)، وما بين ¬

_ (¬1) قبيلة كلب هم بنو كلب بن وبرة بن تغلب، بطن من قُضاعة، من القحطانية، كانوا ينزلون دُومة الجندل، وتبوك وأطراف الشام وُلد له: ثور، وكلد، وأبو حُباحب، ومن أضخم قبائل كلب: بنو كنانة بن بكر بن عوف، ينتهي نسبهم إلى ثور بن كلب، تفرع منها بطون ضخمة هم: بنو عدي، وزُهير، وعُليم. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 455، "معجم قبائل العرب" 3/ 991. (¬2) "تهذيب اللغة" (سر) 2/ 1671 بنصه، وانظر: "المحيط في اللغة" (سر) 8/ 240، (الخَفْضُ): نقيضُ الرَّفع، وعيشٌ خَفْضٌ: أي في دَعَةٍ وخِصْبٍ. انظر: "المحيط في اللغة" (خفض) 4/ 237. (¬3) ورد غير منسوب في: "تهذيب اللغة" (سر) 2/ 1671، "اللسان" (سر) 4/ 1991، "التاج" (سرر) 6/ 515، وورد برواية: (دَغْفَلِيَّةً) بدل (غيدقية) في: "الصحاح" 2/ 682، "مجمل اللغة" 3/ 692، (غيدقية)؛ يقال: ماءٌ غدق، ومطرٌ مغدودِق: كثير، والغيدقُ: الناعم، (دغفليَّة)؛ الدغْفَلُ: الزَّمان الخَصِبُ، وريشٌ دغفلٌ: كثيرٌ، فالمعنى واحد بالروايتن. انظر: "المحيط في اللغة" (غدف) 4/ 528، (دغفل) 5/ 169. (¬4) الجابية: قرية من أعمال دمشق وبينها وبين حلب ستة فراسخ، وبالقرب منها تلٌّ يسمى الجاببة، وفي هذا الموضع خطب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطبته المشهورة وهو في طريقه إلى إيليا. انظر: "معجم البدان" 2/ 91، "الروض المعطار" ص 153.

عدن إلى أيْلَة (¬1) (¬2). وقوله تعالى: {مُتَقَابِلِينَ} التقابل: التواجه، وهو نقيض التدابر، قال ابن عباس: لا يرى (¬3) بعضهم قفا بعض (¬4)، حيث ما التفت رأى وجهًا يُحبُّه (¬5) يقابله، وقال مجاهد: لا يرى الرجل من أهل الجنة قفا زوجته ولا زوجته قفاه (¬6)؛ لأن الأسرة تدور بهم كيفما شاؤا حتى يكونوا في جميع أحوالهم متقابلين. ¬

_ (¬1) أَيْلة: بفتح أوله، على وزن فَعْلة، مدينة على رأس خليج العقبة من البحر الأحمر - الذي تشترك فيه الحدود المصرية والفلسطينية والأردنية والسعودية، قيل هي آخر الحجاز وأول الشام، وقيل وهي مدينة اليهود الذين حرّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا، قيل: وقد سميت بأيْلة بنت مدين بن إبراهيم، وهي التي يطلق عليها اليهود اليوم: (ميناء إيلات). انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 216، "معجم البلدان" 1/ 292، "أطلس العالم" ص 29. (¬2) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 193، "تفسير القرطبي" 10/ 33، الخازن 3/ 97، الألوسي 14/ 59. (¬3) في (ش)، (ع): (ألا يرى)، بزيادة الألف. (¬4) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 189 وعزاه إلى ابن المنذر وابن مردويه، وانظر: "تفسير الشوكاني" 3/ 195. (¬5) في (ج): (يحييه). (¬6) ليس في تفسيره، وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 67 قال: لا ينظر بعضهم في قفا بعض، والطبري 14/ 38، بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 28 بنحوه، وانظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 457، وابن كثير 2/ 608، وأورده المسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 189 وزاد نسبته إلى هناد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

48

48 - قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} النّصَبُ: الإعياءُ والتعب، يقال نَصِبَ يَنْصَب، وأنْصَبَنِي هذا الأمرُ (¬1)، أي لا ينالهم فيها تعب، قال ابن عباس: مِثْلُ نصب الدنيا، إذا مشى نصب، وإذا جامع نصب (¬2)، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} قال: يريد خلودًا لا زوال فيه. 49 - قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي} أثبت الهمزة الساكنة في {نَبِّئْ} سورة ولم يثبت في {دِفْءٌ} (¬3) و {جُزْءٌ} (¬4)؛ لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيرًا وتلغى حركتها على الساكن قبلها (¬5)، فـ {نبِّيْ} في الخط على تخفيف الهمزة، وليس قبل همزة {نَبِّئْ} هو ساكن، فأخروها على قياس الأصل. وقوله تعالى {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} قال ابن عباس: يريد لأوليائي، {الرَّحِيمُ}: بهم. 50 - {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} يريد لأعدائي. 51 - قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} هذه القصة قد مضى ذكرها في سورة هود (¬6) والضيف في الأصل مصدر ضاف يَضِيف؛ إذا أتى ¬

_ (¬1) ورد بنحوه منسوباً لليث في "تهذيب اللغة" (نصب) 4/ 3581، وانظر: "المحيط في اللغة" (نصب) 8/ 159، "مجمل اللغة" 31/ 870. (¬2) انظر: "تفسير الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 358. (¬3) في قولى تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5]. (¬4) في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44]. (¬5) انظر: "أدب الكاتب" ص 266، "الاقتضاب" ص 168، "القواعد الموحدة في الكتابه والإملاء" ص 17. (¬6) آية: [69].

52

إنسانًا لطلب القِرى، ثم يسمى به، ولذلك وحد اللفظ وهم جماعة (¬1). 52 - {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} أي: سلموا سلامًا، فقال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} مختصر، وشرحه في قوله: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ} [هود: 69] إلى قوله: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] وقد مر، والوجل: الفزع، قال الكسائي: ومثله الواجل (¬2). 54 - قوله تعالى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} معنى (على) هاهنا الحال؛ أي: على حالة الكبر، كقول النابغة: على حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبَا (¬3) أي: في ذلك الوقت، ومعنى: {مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي: بتغييره إيّاي عن حال الشباب التي أطمع فيها الولد إلى حال الهَرَمِ. ¬

_ (¬1) أصل الضيف مصدر بمعنى الميل؛ ومنه ضافت الشمس للغروب، أي مالت، وضاف السهم إذا عدل عن الهدف، ومنه الإضافة النحوية لأن فيها إضافة أحد الاسمين إلى الآخر على المجاز، وسمي الضيف ضيفاً لميله إلى من ينزلُ به، ولأن أصله مصدر استوى فيه الواحد والجمع، وقد يجمع فيقال: أضيافٌ وضُيوفٌ وضِيفانٌ. انظر: (ضيف) في "المحيط في اللغة" 8/ 52، "مجمل اللغة" 1/ 570، "الصحاح" 4/ 1392، "المفردات" ص 513، "عمدة الألفاظ" 2/ 452. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) وعجزه: وقُلتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وازعُ "ديوان النابغة الذبياني" ص 53، وورد في: "الكتاب" 2/ 330، "جمهرة اللغة" 3/ 1315، "الأضداد" لابن الأنباري ص140، "سر صناعة الإعراب" 2/ 506، "اللسان" (وزع) 8/ 4825، "شرح شواهد المغني" 2/ 816، "الخزانة" 6/ 550، (المشيب):الشيب، (الصبا): بالكسر والقصر، اسم الصَّبوة، وهي الميل إلى هوى النفس، (أصح): من الصحو، وهو خلاف السكر، (وازع): ناهي وزاجر. يذكر الشاعر أنه بكي على الديار في حين مشيبه ومعاتبته لنفسه على طربه وصباه.

وقوله تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجب؛ كأنه عجيب من الولد على كبره، هذا معنى قول مجاهد (¬1)، وفَتْحُ النون في (تُبَشِّرُونَ) قرأه العامة (¬2)، وهذه النون علامة للرفع، والفعل غير معدى إلى مفعول، وقرأ نافع بكسر النون (¬3)، وذلك أنه عُدِّي إلى المضمر المنصوب؛ لأن المعنى عليه، فاجتمع نونان (¬4)؛ إحداهما التي هي علامة للرفع، والثانية المتصلة بالياء التي المضمر المنصوب المتكلم، فاستثقل النونين فحذف أحدهما وأبقى الكسرة التي تدل على الياء المفعولة (¬5)، وأنشد أبو عبيدة لأبي حَيّة النُّمَيريّ: أبِالمَوْتِ الذي لا بُدّ أنّي ... مُلاقٍ لا أبَاكِ تُخَوِّفِينِي (¬6) ¬

_ (¬1) ونص قوله، قال: عجيب من كبره وكبر امرأته. وقد ورد في "تفسيره" ص 416، و"أخرجه الطبري" 14/ 40، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 191 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) قرأ بها: أبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص 367، "علل القراءات" 1/ 296، "وإعراب القراءات السبع"، وعللها 1/ 345، "الحجة للقراء" 5/ 45، "المبسوط في القراءات" ص 221، "التيسير" ص 136، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 722. (¬3) وكذا ابن كثير، لكنه شدَّد النونَ، أما نافع فخففها. انظر: المصادر السابقة. (¬4) أي أن الأصل: (تُبَشِّرُونَنِي). (¬5) انظر: "علل القراءات" 1/ 297، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 344، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 30، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 722. (¬6) ورد في "مجاز القرآن" 1/ 352، "شرح شواهد الإيضاح" ص 211، "اللسان" (أبي) 1/ 18، "الدرر اللوامع" 2/ 219، "الخزانة" 4/ 105، وورد غير منسوب في: "الكامل" 2/ 142، "المقتضب" 4/ 375، "الإيضاح العضدي" ص260، "الحجة للقراء" 5/ 46، "المنصف" 2/ 337، "الخصائص" 1/ 345، "الموضع في وجوه القراءات" 2/ 722، "شرح المفصل" 2/ 105.

فأسقط النون التي هي علامة التأنيث في المخاطبة (¬1)، وأنشد الفراء والزجاج (¬2): تراه كالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا ... يَسُوءُ الفَالِياتِ إذا فَلَيْنِي (¬3) أراد فلينني، فحذف إحدى النونين، قالا: والحذف بعد إدغام إحدى النونين (في الأخرى) (¬4) كقراءة ابن كثير: (تُبْشِرُون)، ثم حذفت إحداهما لثقل التضعيف كما قالوا: رُبمَّا ورُبَمَا (¬5)، وكما قالوا: إنْك في إنَّك، أنشد الفراء (¬6): ¬

_ (¬1) فالأصل: (تخوفينني). (¬2) البيت لعمرو بن مَعْدِ يكَرِب الزُّبيدي ت 21 هـ، من أبيات ثمانية قالها في امرأةٍ لأبيه تزوجها بعده في الجاهلية. (¬3) "شعر عمرو بن معدي كرب" ص 180، وورد في: "الكتاب" 3/ 520، "معاني القرآن" للفراء 2/ 90، "مجاز القرآن" 1/ 352، "شرح شواهد الإيضاح" (عجز) ص 213، "الخزانة" 5/ 372، وورد غير منسوب في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 181، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 345، "الحجة للقراء" 5/ 46، "المنصف" 2/ 337، "تفسير الطوسي" 6/ 341، "شرح المفصل" 3/ 91. (تراه كالثغام) الضمير يعود على الزوجة، والثغام: واحده ثغامة؛ وهو نبتٌ له نَوْر أبيض يشته به الشيب، وقيل نبتٌ يكون في الجبل يَبْيَضُّ إذا يبس، (يُعلُّ) أي يطيّب شيئاً بعد شيء، وأصل العَلَلُ: الشُرْبُ بعد الشُرب، (يسوء الفاليات) يَحزُنُهن؛ لأنهن يكرهْن الشيب، و (الفاليات)؛ جمع فالنية: وهي التي تفلي الشعَّر، أي تُخْرج القمْلَ منه. (¬4) في (أ)، (د): (والأخرى). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 181 بتصرف يسير. (¬6) البيتان من قصيدة لجنوب بنت العجلان بن عامر بن هذيل [شاعرة جاهلية] ترثي أخاها عمرو؛ ذا الكلب "الخزانة" 10/ 390، ونُسب -خطأً- إلى كعب بن زُهير في: "الأُزهية" ص 62، و"أمالي ابن الشجري" 3/ 153، ولم أجده في ديوانه.

لقد عَلِمَ الضَّيْفُ والمُرْمِلونَ ... إذا اغْبرَّ أُفْقٌ وهبَّتْ شَمَالا بأنْكَ الرَّبِيعُ وغَيْثٌ مَرِيعٌ ... وقِدْمًا هُنَاكَ تَكونُ الثِّمَالا (¬1) قال أبو علي: المحذوف النون الثانية؛ لأن التكرير بها وقع، ولم تحذف الأولى التي هي علامة للرفع، وقد حذفوا هذه النونَ في كلامهم لأنها زائدة، ولأن علامةَ الضمير الياءُ دونها، ونظيرُ حذفهم لها من المنصوب حذفهم لها من المجرور في قولهم (¬2): قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَين قَدِي (¬3) ¬

_ (¬1) ورد في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 585، وفيه: (المُجْتَدُون) بدل (المرْمِلون)، وأما البيت الثاني فورد برواية: بأنَّك كنت الربيع المُغِيثَ ... لِمن يَعتريك وكنت الثِّمالا وورد البيت الثاني في "الخزانة" 10/ 382، "شرح التصريح" 1/ 232 وفيهما: (ربيع)، و (وأنْك) بدل (وقدْماً). وورد البيتين بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 2/ 90، "الإنصاف" ص 169 برواية (الصِّبْيَةُ) بدل (الضيف)، "اللسان" (أنن) 1/ 156، "الخزانة" 5/ 427، وورد البيت الثاني فقط وبرواية (وأنْك) في: "أوضح المسالك" ص 66، "المغني" ص 47، شرح الأشموني 1/ 441. (والمرملون) هو من أرمل القوم؛ إذا نفدَ زادهم، (المُجْتدون) الطالبون، (شَمالا) الشَّمال ريحٌ تهبُّ من ناحية القُطْب، وخصها بالذكر لأن وقتها تقل الأرزاق وتنقطع السُّبُل ويثقل فيه الضيف، مما يجعل الجود فيه غاية لا تدرك، (بأنْك ربيعٌ) ربيع الزَّمان، (والغيثٌ) المطر والكلاء يَنْبُت بماء السماء، (مَرِيعٌ) خَصيب كثير النَّبات، (الثِّمال) الذُّخر، وقيل: الغِياثُ. (¬2) اختلف في نسبته على أقوال، انظرها في عزو البيت. (¬3) وعجزه: ليس الإمامُ بالشَّحيحِ المُلْحِدِ نُسب إلى حميد بن مالك الأرقط [من شعراء الدولة الأموية] في: التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه [ملحق بأمالي القالي] 3/ 61، "اللسان" (خبيب) 2/ 1087، =

55

فحذف وأثبت في بيت، وقال الأعشى في حذف هذه النون اللاحقة مع الياء: فهل يَمْنَعنّي ارْتِيَادِي البلادَ .... من حَذَرِ المَوْتِ أنْ يأتيَنْ (¬1) وإنّما هو يمنعَنّني (¬2)، وأما ابن كثير فإنه أدغم ولم يحذف (¬3). 55 - قوله تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد بما قضاه الله (¬4)؛ يريد أن الله تعالى قضى أن يخرج من ذريته مثل ما أخرج من صلب آدم وأكثر، وذلك أن إسحاق كان هو الذي بُشّر به إبراهيم، ومن ¬

_ = "شرح شواهد المغني" 1/ 487، "الخزانة" 5/ 393، "الدرر اللوامع" 1/ 207. ونُسب لحميد بن ثور في "اللسان" (لحد) 7/ 4005 وليس في ديوانه. ونسب لأبي بجدلة في: "شرح المفصل" 3/ 124. وورد بلا نسبة في: "الكتاب" 2/ 371، "مجاز القرآن" 2/ 173، "النوادر" لأبي زيد ص 527، "المحتَسَب" 2/ 223، "أمالي ابن الشجري" 1/ 20، "رصف المباني" ص 424، "أوضح المسالك" ص 23، "شرح ابن عقيل" 1/ 115، "شرح الأشموني" 1/ 148 الشاهد في: (قدني) و (قدي) أثبت نون الوقاية في الأول على الأصل، وحذفها في الثاني على الضرورة، وهو تأكيد للأول، (قدني): بمعنى حسبي، وأراد بـ (الإمام): عبد الملك ابن مروان، وعرَّض بوصف ابن الزبير بكونه شحيحًا، أي بخيلاً، وأراد بـ (الخبيبين): عبد الله بن الزبير -لأنه كان يكنى أبا خُبَيب- وأخاه مصعبًا، على التغليب. (¬1) "ديوان الأعشى" ص 205، وورد في: "الكتاب" 3/ 513، 4/ 187، "المحتَسَب" 1/ 349، "شرح المفصل" 9/ 40، "الدرر اللوامع" 5/ 151، (ارتيادي)؛ الارتياد: المجيء والذهاب، أي لا يمنع من الموت التجول في آفاق الأرض حذراً منه، ولا الإقامة في الديار تقرّبه قبل وقته. "الدرر اللوامع" 5/ 152. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 45 - 46 بنصه. (¬3) لذلك شدّد النون. (¬4) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 197، وورد غير منسوب في "تفسير الوسيط"، تحقيق: سيسى 2/ 360، وابن الجوزى 4/ 406، والخازن 3/ 98.

56

نسله جميعُ بني إسرائيل على كثرتهم. وقوله تعالى: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} أي من الآيسين، والقنوط: الإياس من الخير، وهذا يدل على يأس إبراهيم من الولد واستبعاده ذلك على الكبر. 56 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ} وقُرئ {يَقْنَطُ} بفتح النون (¬1)، قال أبو علي: قنط يَقْنَطُ أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} (¬2) [الشورى: 28]، وحكاية أبي عبيدة تدل أيضًا على أن قَنَطَ أكثر (¬3)؛ لأن مضارع فَعَل (يجيء على يَفعِل ويَفعُل؛ مثل: فَسَق يَفْسِقُ يَفْسُقُ، ولا يجيء مضارع فَعِل) (¬4) على يَفْعُلُ (¬5). قال ابن عباس: يريد: ومن ييئس (¬6) من رحمة ربه إلا المكذبون (¬7)، ¬

_ (¬1) قرأ بها ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة انظر: "السبعة" ص 367، "علل القراءات" 1/ 297، " إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 346، "الحجة للقراء" 6/ 47، "المبسوط في القراءات" ص 211، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 723. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 47 بنحوه، لكنه لم يجزم بأنها أعلى اللغات، بل قال: وكأنّ يقْنَطُ أعلى. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 353 وليس في كلام أبي عبيدة ما يؤيِّد دعوى الواحدي؛ إذ قال: يقال: قنَط يقنِط، وقنِط يقنَط قنوطاً، وليس في هذا ترجيح لإحدى اللغتين. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬5) هذا التعليل في "الحجة للقراء" 5/ 47 بنصه. (¬6) في جميع النسخ: (يأيس) وهو تصحيف، ولم أجده في كتب اللغة، قال أهل اللغة: يَئِسَ يَيْأَسُ وَييئِسُ لغات بمعنى القنوط. انظر: "أدب الكاتب" ص 483، "الكامل" 2/ 754، "اللسان" (يأس) 8/ 4945، "متن اللغة" 5/ 829. (¬7) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 360 بنصه، "تنوير المقباس" ص 279 بنحوه، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير الخازن" 3/ 98.

57

وهذا يدل على أن إبراهيم لم يكن قانطًا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكةُ به قنوطًا، فنفى ذلك عن نفسه، وأخبر أن القانط من رحمة الله ضال. 57 - قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} قال الكلبي: فما بالكم وما الذي جئتم له (¬1). 58 - {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يعنون: قوم لوط. 59 - {إِلَّا آلَ لُوطٍ} استثنى ليس من الأول (¬2)، وآلُ لوط: أتباعه والذين كانوا على دينه. 60 - وقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ} استثناء من الضمير في ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 360، وأغلب المفسرين فَسَّروه بنحوه. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 41، و"تفسير السمرقندي" 2/ 222، والطوسي 6/ 343، و"تفسير البغوي" 4/ 385، وابن الجوزي 4/ 406، و"تفسير القرطبي" 10/ 36، والخازن 3/ 98. (¬2) أشار الزمخشري إلى أن الاستثناء إما أن يكون من قوم -وهو الأول- فيكون منقطعاً؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في القوم المجرمين البتة، وعلى هذا فالإرسال خاص بالقوم المجرمين، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً، وإما أن يكون الاستثناء من الضمير المستكن في (مجرمين)، فيكون متصلاً؛ أي أجرموا كلهم إلا آل لوط، وعلى هذا التأويل يكون الإرسال إلى المجرمين وإلى آل لوط؛ أولئك لإهلاكهم، وهؤلاء لإنجائهم. انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 315، وأبي حيان 5/ 460، و"الدر المصون" 7/ 167، وقد رجح الواحدي -رحمه الله- أنه استثناء متصل، وأيَّد هذا الوجه المنتجب الهمداني وحجته: أن آله من قومه، وإن اختلفت أفعالهم، لكن الجمهور على أنه منقطع؛ لانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط. انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 9 "تفسير ابن عطية" 8/ 329، "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 71، "الإملاء" 2/ 76، "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 204، "تفسير أبي حيان" 5/ 460.

{لَمُنَجُّوهُمْ} فعادت إلى القوم المجرمين؛ لأنه استثناء بعد استثناء، فتعود إلى المستثنى منه أولاً؛ كما تقول: لفلان عليّ خمسة إلا درهمين إلا درهمًا، فيصير هذا إقرارًا بأربعة (¬1). وقوله تعالى: {قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} معنى التقدير في الغة: جعل الشيء على مقدار غيره، يقال: قَدِّر هذا الشيء بهذا، أي: اجعله على مقداره (¬2)، وقدَّر الإلهُ الأقواتَ، أي: جعلها على مقدار الكفاية، ثم يفسر التقدير بالقضاء؛ فيقال: قضى الله عليه كذا، وقدَّره عليه؛ أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر، وقيل في معنى قدّرنا هاهنا: كتبنا (¬3)، وحكى الزجاج: دبَّرنا (¬4)، وقيل: قضينا (¬5)، وقرأ عا صم في رواية ¬

_ (¬1) وقد وافق الزمخشري على أنه استثناء من الضمير، ولم يوافق على التعليل؛ بدعوى أن الاستثناء بعد الاستثناء إنما يصح عند اتحاد الحكم؛ كالمثال الذي ذكره الواحدي -رحمه الله- وكقول المطلق: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، أما هنا فقد اختلف الحكمان؛ لأن (آل لوط) متعلق بأرسلنا أو بمجرمين، و (إلا امرأته) قد تعلق بمنجوهم، فكيف يكون استثناء بعد استثناء؟؟! يمكن اعتباره لو قيل: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته. انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 316، وذهب أبو البركات بن الأنباري إلى أنه استثناء من النفي؛ أي من (آل لوط) فيكون إيجاباً؛ وذلك أن الاستثناء من الإيجاب نفي، ومن النفي إيجاب، وهنا استثنى آل لوط من المجرمين، فلم يدخلوا في الإهلاك، ثم استثنى من آل لوط امرأته؛ فدخلت في الهلاك. انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 71، و"تفسير أبي حيان" 5/ 460. (¬2) انظر: "المفردات" ص 658، (قدر) في "اللسان" 6/ 3578، "التاج" 7/ 370. (¬3) ورد منسوباً إلى علي بن عيسى في "تفسير الماوردي" 3/ 164، وانظر: "تفسير الطوسي" 6/ 343، "تفسير القرطبي" 10/ 37. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 181 بلفظه. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 149 ب بلفظه، وورد منسوباً إلى النخعي في "تفسير =

أبى بكر (¬1): {قَدَّرْنَا} مخففًا (¬2)، يقال: قدَّرت الشيء وقدْرته، قال الهذلي: ومفْوِهَةِ عَنْسٍ قَدَرْتُ لساقِها ... فخرَّتْ كما تَتَّايَعُ الرِّيحُ بالقَفْلِ (¬3) المعنى: قَدَّرْتُ ضربتي لساقها فضربتها (¬4) فخرت، ومن هذا قراءة ابن كثير {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60]، خفيفًا (¬5)، وقراءة الكسائي ¬

_ = الماوردي" 3/ 164، و"تفسير البغوي" 4/ 385، وابن الجوزي 4/ 406، والفخر الرازي 19/ 199 [نقل الفقرة كلها وبنصها دون عزو]، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 37، والخازن 3/ 99، والشوكاني 3/ 193، وصديق خان 7/ 181. (¬1) شعبة بن عياش بن سالم، أبو بكر الحناظ الأسدي الكوفي، الإمام العلم راوي عاصم، اختلف في اسمه كثيراً، عرض القرآن على عاصم ثلاث مرات، قرأ عليه أبو الحسن الكسائي وغيره، توفي سنة 193 هـ، انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 134، "غاية النهاية" 1/ 325، "جمال القراء" 2/ 465. (¬2) انظر: "السبعة" ص 367، "علل القراءات" 1/ 298، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 348، "الحجة للقراء" 5/ 48، "المبسوط في القراءات" ص 221، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 724، "النشر" 2/ 302. (¬3) "شرح أشعار الهذليين" 1/ 92 وفيه: (لِرِجْلِها) بدل (لساقها)، وورد في "الحجة للقراء" 5/ 49، "تفسير ابن عطية" 8/ 331، "اللسان" (تبع) 1/ 460، (قفل) 11/ 561، وورد غير منسوب في: "المنصف" 3/ 70، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 725، (مفرهة) هي الناقة التي تلد الفُرْهَ، النوق الجميلات، (عَنْس) الناقة القوية، شُبهت بالصخرة لصلابتها، (تَتَّابع)؛ التتايع: التهافت والإسراع، (القَفْل) بالفتح، ما يَبِس من الشجر، ومعنى البيت، يقول: قدّرت ضربتي لساق هذه الناقة القوية -التي تلد الملاح- فخرت وتهافتت كما تفعل الريح بورق الشجر اليابس. (¬4) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 48 بنصه. (¬5) انظر: "السبعة" ص 367، "علل القراءات" 1/ 299، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 350، "الحجة للقراء" 5/ 48، "المُوضَح في وجوه القراءات" 2/ 724.

61

{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (¬1) [الأعلى: 3]، والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالاً، كقوله {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10]، وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]. وقوله تعالى: {إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} في موضع مفعول التقرير، والمعنى: قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون، ولا تكون ممن يسري مع لوط فينجو. 61 - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} قال أهل المعاني: يعني جاء لوطًا؛ كما قال في سورة هود؛ في ذكر هذه القصة: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} [هود: 77] وآل الرجل يُذْكَر والمراد به الرجل، كما ذكرنا في قوله {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] 62 - وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي: غير معروفين؛ لأنهم أتوه على صورة رجال مرد حِسان (¬2) الوجوه فلم يعرفوهم، فلم يعرفهم لوط، وذكرنا معنى الإنكار عند قوله: {نَكِرَهُمْ} [هود: 70]. 63 - وقوله تعالى: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: بالعذاب الذي كانوا فيه يَشُكّون في نزوله على من كَذَّبك، أن المعذب بهذا العذاب الذي جئتنا به هم لا أنت، ومعنى (بل) هاهنا نفي؛ لإنكار لوط إيَّاهم، أي: دع ذلك فإنا رسل ربك جئناك (¬3) بعذابهم، فلما بَيَّنُوا له الأمر عرفهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" ص 368، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 349، "الحجة للقراء" 5/ 48، "تلخيص العبارات" ص 166، "المُوضَح في وجوه القراءات" 3/ 1360، "النشر" 2/ 399. (¬2) في (ج): (حسنًا). (¬3) في (ج): (جئنا).

64

64 - وقوله تعالى: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} قال الكلبي: بالعذاب (¬1)، وقيل باليقين (¬2)، والمعنى: بالأمر الثابت الذي لا شك فيه من عذاب قومك. 65 - قوله تعالى {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} مفسَّر في سورة هود (¬3). وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} قال ابن عباس: يقول للوط أَتبع آثار بناتك وأهلك لئلا يتخلف منهم أحد فينالَه العذاب (¬4)، وكذلك قيل: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} قال الكلبي: يعني لا يتخلف منكم أحد (¬5)، وقال الزجاج: لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من النبلاء (¬6)، وقال غيره: معناه الإسراع وترك الاهتمام لِمَا خَلَّفَ وراءه (¬7)، كما يقول: امض لشأنك ¬

_ (¬1) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 201 أورد الفقرة كلها بدون عزو، وورد منسوباً لمجاهد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 31، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 42، و"تفسير السمرقندي" 2/ 222، والثعلبي 2/ 149 ب بلفظه، والطوسي 6/ 345، و"تفسير البغوي" 4/ 386، وابن الجوزي 4/ 406، و"تفسير القرطبي" 10/ 38. (¬2) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 42، "تفسير البغوي" 4/ 386، والزمخشري 2/ 316، والنسفي 3/ 99، والخازن 3/ 99، وأبي حيان 5/ 461، والشوكاني 3/ 194، وصديق خان 7/ 182. (¬3) آية: [81]. (¬4) ورد غير منسوب في "تفسير الفخر الرازي" 19/ 201. (¬5) ورد في "تنوير المقباس" ص 279، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 222، والشوكاني 3/ 194، وصديق خان 7/ 183. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 182 بنصه. (¬7) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 99، وأبي السعود 5/ 84، قال ابن عطية: ونُهوا عن النظر مخافة الغفلة وتعلق النفس بمن خَلَّفَ، وقيل: بل لئلا تتفطَّر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها. "تفسير ابن عطية" 8/ 335.

ولا تُعرِّج على شيء، وهذا مما تقدَّم في سورة هود (¬1). وقوله تعالى: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال ابن عباس: يعني الشام (¬2)، وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل (¬3)، قال الكلبي: أمرهم جبريل امضوا إلى صُغَر (¬4)؛ وهي إحدى قريات لوط (¬5)، ولم يكونوا يعملون مثل عمل سدوم، وهذا قول مقاتل (¬6). ¬

_ (¬1) آية: [81]. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 149ب، انظر: "تفسير البغوي" 4/ 386، وابن الجوزي 4/ 407، والفخر الرازي 19/ 201، والخازن 3/ 99، والألوسي 14/ 69. (¬3) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 201، وورد غير منسوب في: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 407، والخازن 3/ 99. (¬4) في جميع النسخ: (صفر)، والمثبت أقرب للصواب، والتصويب من تفسيره "الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 362، "تفسير الثعلبي" 2/ 149 ب، وهكذا ضبطه ياقوت، وأشار إلى القصة، بقوله: وهي على البحيرة المقلوبة وبقية مدائن لوط، وإنها نجت لأن أهلها لم يكونوا يعملون الفاحشة، وكذلك ضبطها ابن كثير؛ قال: فذكروا أنه ذهب إلى قرية (صغر) التي يقول الناس (غور زغر)، وقد ضبطت "صعرة". في: تاريخ الطبري و"الروض المعطار في خبر الأقطار"، والحق أنه قد وقع اختلاف كبير في أسماء قرى لوط -عليه السلام- ولم يتفقوا إلا في اسم كبرى هذه القرى وهي: سدوم، وتقع بأرض الشام، لذلك قال السهيلي: وسدوم أعظمها، وقد ذُكرت الأسماء الأُخر ولكن بتخليط لا يتحصل منه حقيقة. انظر: "التعريف والإعلام" ص 162، "تاريخ الطبري" 1/ 118، 122، "معجم البلدان" 3/ 411، "تفسير القرطبي" 9/ 81، "الكامل في التاريخ" 1/ 69، "الروض المعطار" ص 308، "تفسير ابن كثير" 2/ 610، "البداية والنهاية" 1/ 181، "الدر المنثور" 3/ 185. (¬5) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 407. (¬6) الذي في "تفسيره" 1/ 198 أ. قال: إلى الشام، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 149 ب بمعناه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 38.

66

66 - قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} قال المفضل: أي: أوحينا إليه وألهمناه (¬1)، وقال بعضهم: وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر (¬2)، يقال. قضيت الأمر، إذا فرغت منه وأتممته، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} في سورة البقرة (¬3)، وقال ابن قتيبة: أي أخبرناه (¬4). وقال صاحب النظم: أي فرغنا منه (¬5)، كقوله {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} [يونس: 71] وقد مرّ، ويقال: إن معنى {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ}: من الخبر؛ كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي: أخبرناهم به. وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْأَمْرَ} أي: الأمر الذي أعلمناه إبراهيم أنّا نهلكهم، في قوله: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}، فأومأ في قصة لوط إلى ما أخبر به إبراهيم من إهلاك قوم لوط، ثم ترجم قوله: {ذَلِكَ الْأَمْرَ} بقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} قال الزجاج: موضع (أن) نصب، وهو بدل من قوله: {ذَلِكَ الْأَمْرَ} لأنه فَسّر الأمر بقوله: {أَنَّ دَابِرَ} (¬6) المعنى: وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع، ونحو هذا قال الفراء والكسائي (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه منسوبًا إليه، وأخرجه الطبري منسوبًا إلى ابن زيد 14/ 43، وورد غير منسوب في: "تفسير السمرقندي" 2/ 222، والماوردي 3/ 165، وأبي حيان 5/ 461، وأبي السعود 5/ 84، والشوكاني 3/ 194. (¬2) ورد بنصه في: "تفسير الطبري" 14/ 42، والثعلبي 2/ 149 ب. (¬3) آية: [117]، وانظر: "البسيط" [النسخة الأزهرية] 1/ 83 أ. (¬4) "الغريب" لابن قتيبة ص 238 بلفظه. (¬5) ورد غير منسوب في "تفسير الخازن" 3/ 99. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 182 بتصرف يسير. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 90 بمعناه، ولم أقف عليه منسوباً إلى الكسائي.

67

قال ابن عباس: يريد أن هلاكهم في الصبح (¬1)، ومضى الكلام في الدابر (¬2). 67 - قوله تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} يعني مدينة لوط؛ وهي سدوم، {يَسْتَبْشِرُونَ} قال الكلبي وغيره: بعملهم الخبيث طمعًا منهم في ركوبهم الفاحشة (¬3). قال ابن عباس: قالوا نزل بلوط ثلاثة مرد ما رأينا قط أصبح منهم، فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه: 68 - {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ} يقال: فضحه يفضحه فضحًا وفضيحة، إذا أبان من أمره ما يلزمه به العار، (يقال: فضحه فافْتَضَحَ (¬4)، قال الفراء) (¬5): ويقال فَضَحَك الصبح، أي: بَيّنك للناس (¬6)، قال المفسرون: أراد أن من حق الضيف إكرامُه، فلا تفضحوني بقصدكم إيّاه ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 43 بنحوه، من طريق الحجاج عن ابن جريج صحيحة، "تنوير المقباس" ص 279. (¬2) سورة الأنعام [آية: 45]، أورد أقوالاً في معنى الدابر، فقال: قال الأصمعي وغيره: (الدابر الأصل؛ يقال: قطع الله دابره أي أذهب أصله)، وقال ابن بزرج: "دابر الأمر: آخره، ودابر الرجل عقبه، وقولهم: قطع الله دابره: دعاء عليه بانقطاع العقب حتى لا يبقى أحد يخلفه). (¬3) ورد في: "تنوير المقباس" ص 285 مختصرًا، تفسيره "الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 362 بنصه غير منسوب، "تفسير البغوي" 5/ 387، ابن عطة 8/ 337، ابن الجوزي 4/ 407، "تفسير القرطبي" 10/ 39، الخازن 3/ 99. (¬4) انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 545، "اللسان" (فضح) 6/ 3425، "عمدة الألفاظ" 3/ 279. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (د). (¬6) ليس في معانيه.

69

بالسوء (¬1)، والكريم يحافظ على ضيفه ويحامي عنه، وقال المفضل: لما دَقُّوا على لوط بابَه (¬2) أشرف عليهم وقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني عندهم، فيعلموا أنه ليس لي عندكم قَدْر (¬3). 69 - وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} مذكور وفي سورة هود (¬4). 70 - فقالوا له: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال الكلبي وأكثر المفسرين: المعنى: أولم ننهك أن تَضِيف أحدًا من العالمين (¬5)، قال الزجاج: معناه: أولم ننهك عن ضيافة العالمين (¬6)، قال المفضل: أولم ننهك أن تُدخل أحدًا بيتك؛ لأنّا نريد منهم الفاحشة (¬7)، والتفسير ذكره الكلبي، وتوجيه الكلام ذكره الزجاج، والمعنى ذكره المفضل، وقال ابن عباس في رواية عطاء: لا تتعرض لنا في شيء مما نريد؛ يعني أنهم قالوا ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 14/ 43، والثعلبي 2/ 149 ب، و"تفسير البغوي" 4/ 387، والخازن 3/ 99، وأبي السعود 5/ 85، والألوسي 14/ 71. (¬2) في (أ)، (د): (باب) دون الضمير، والمثبت من (ش)، (ع). (¬3) ورد نحوه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 363، وأبي السعود 5/ 85، والألوسي 14/ 71. (¬4) آية: [78]. (¬5) ورد في "الغريب" لابن قتيبة ص 1/ 241، و"أخرجه الطبري" 14/ 43 بنصه منسوبًا إلى قتادة، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 149 ب بنصه غير منسوب، و"تفسيرالبغوي" 4/ 387، والخازن 3/ 100، وابن كثير 2/ 610، و"الدر المنثور" 4/ 192 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة، ولم أقف عليه منسوبًا إلى الكلبي. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 183 بنصه. (¬7) ورد غير منسوب في "تفسير الخازن" 3/ 100.

71

نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، فيكون التقدير على هذا المعنى: أولم ننهك عن منع العالمين أو حفظهم أو حمايتهم، فقال لهم لوط: 71 - {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} قال أبو إسحاق معناه: إن كنتم مريدين لهذا الشَّأن (¬1)؛ يعني اللذة وقضاء الوطر فعليكم بالتزويج ببناتي (¬2)، قال قتادة: أراد أن يقي أضيافه ببناته (¬3)، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في سورة هود (¬4). قال الحسن وقتادة: هؤلاء بناتي تزوجوهن (¬5)، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} كناية عن الجماع. 72 - قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} العَمْر والعُمْر واحد، وسمي الرجل عمر إيغالًا أن يبقى (¬6)، ومنه قول ابن أحمر: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: البنتان، والتصويب من المصدر. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 183 بتصرف يسير. (¬3) "أخرجه الطبري" 14/ 44 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 149 ب بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 192 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. ويلزم من هذا القول جواز زواج الكافر من المؤمنة - في شرعه؛ كما كان جائزًا في بداية الإسلام حتى نسخ بآية الممتحنة [10]،، وقيل عرضهن عليهم شريطة الإسلام قبل عقد النكاح، وقيل قصد بنات أمته؛ لأن النبىّ كالوالد لأمته، وهو قول مجاهد؛ ذكره معظم المفسرين. (¬4) آية [78]. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 347 بلفظه عنهما. (¬6) "تهذيب اللغة" "عمر" 3/ 2565 بنحوه، وانظر: (عمر) في: "التاج" 7/ 258 وعزاه للمحكم، ولم أجده في بابه.

ذَهبَ الشَبَابُ وأَخْلَفَ العَمْرُ (¬1) وعُمّر الرجلُ يَعْمُر عَمْرًا وعُمُرًا وعُمُرًا، فإذا أقسموا قالوا: لعَمْرُك وعَمْرِك، ففتحوا العين لا غير (¬2). قال أبو إسحاق: لأن الفتح أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بِلَعَمْري ولعَمْرك، فلزموا الأخَفَّ عليهم (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد وعيشك يا محمد (¬4). وقال في رواية أبي الجوزاء يقول: بحياتك، وما حلف الله تعالى ¬

_ (¬1) عجزه: وتَغيَّرَ الإخوانُ والدَّهْر "شعر عمرو بن أحمر الباهلي" ص90، وورد في: "الاشتقاق" ص 13، "مقاييس اللغة" (خلف) 2/ 212 وفيه: (وتنكَّر)، "تفسير الفخر الرازي" 19/ 203، "اللسان" (عمر) 5/ 3103، "التاج" (عمر) 7/ 258 وفيهما: (وتَبدَّل)، وورد غير منسوب في: "جمهرة اللغة" 2/ 772، وفي الديوان وجميع المصادر بروإية: (بان) بدل (ذهب)، والمعنى واحد، (بان): بمعنى انقضى ومضى عصره، (أخلف): تغيير، (العَمر): واحد العُمُوْر؛ اللحم الذي بين الأسنان. (¬2) انظر: "المقتضب" 4/ 177، "غرائب التفسير" 1/ 592، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 408، الفخر الرازي 19/ 203، "شرح المفصل" 9/ 96، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 943، (عمر) في: "تهذيب اللغة" 3/ 2565، "المحكم" 2/ 105، "اللسان" 5/ 3099، "التاج" 7/ 258. (¬3) معاني القرآن وإعرابه" 3/ 183، بنصه تقريباً. (¬4) أورده البخاري -معلقاً- في "صحيحه" تفسير، الحجر 8/ 379 "الفتح"، و"أخرجه الطبري" 14/ 44 بنحوه، من طريق علي بن أبي طلحة، صحيحة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 33، والماوردي 3/ 166 و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 408، وابن كثير 2/ 611، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 192 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

بحياة أحد إلا بحياة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، وهذا قول أكثر أهل التأويل من المفسرين وأصحاب المعاني، قال الزجاج: وفي هذا آية عظيمة في تفضيل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، جاء في التفسير أنه أقسم بحياة محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقال بعض أهل المعاني: إذا قيل: لعَمْرك، فكأنه قيل ومدة بقائك حيًّا (¬3)، وقال النحويون: ارتفع (لعمرك) بالابتداء والخبر محذوف، المعنى لعمرك قَسَمي، ولَعَمْرُك ما أُقْسِمُ به، وحُذِف الخبرُ لأن في الكلام دليلًا عليه، وباب القَسَم يحذف من الفعل نحو: باللهِ لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله؛ فيحذف (أحلف) لعلم المخاطب بأنك حالف، فكذلك يحذف خبر الابتداء (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء: أبو يعلى في "مسنده" 5/ 139، والطبري في "تفسيره" 14/ 44، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 150 أ، وأبو نعيم في "الدلائل" 1/ 63، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 488، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 33، و"تفسير السمرقندى" 2/ 222، والماوردي 3/ 166، و"تهذيب اللغة" (عمر) 3/ 2564 بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 387، وابن الجوزي 4/ 408 وابن عطية 8/ 338، وابن كثير 2/ 611، وأورده عياض في "الشفا" 2/ 87، والهيثمي في "المجمع" 7/ 46 وعزاه لأبي يعلى وقال: إسناده جيد، وابن حجر في "المطالب" 3/ 346 وزاد نسبته للحارث ابن أبي أسامة، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 192 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 183 بنصه. (¬3) قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- انظر: "الشفا" 1/ 86. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 184 بنصه تقريباً، انظر: "المقتضب" 2/ 318، "الإيضاح العضدي" ص 276، "شرح المفصل" 9/ 99، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 932، 2/ 943، "المحكم" (عمر) 2/ 105، "زاد المسير" 4/ 408، الرازي 19/ 203.

وقال قتادة في قوله: {لَعَمْرُكَ} كلمة من كلام العرب (¬1)، (يقولون في الإكرام والتبجيل، قال أبو إسحاق: ولستُ أُحِبُ هذا التفسير؛ لأن قوله: كلمة من كلام العرب) (¬2) لا فائدة فيه؛ لأن القرآن كله من كلام العرب فلابد أن يقال ما معناها (¬3)، وحكى أبو الهيثم أن النحويين يقولون في قوله: {لَعَمْرُكَ}: لَدِينُك الذي تعمر، وأنشد (¬4): أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ........... عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يَلْتَقِيَانِ (¬5) قال عَمْرك اللهَ، أي عبادتك الله (¬6). وقال ابن الأعرابي: عَمَرتُ ربي، أي: عبدته، وفلان عامر لربه، أي: عابد، قال: ويقال تركت فلانا يَعْمُر ربه، أي: يعبده (¬7)، فعلى هذا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 44 بنصه، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 198 أ. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 183 بنصه. (¬4) البيت لعمر بن أبي ربيعة (ت 93 هـ). (¬5) "ديوانه" ص 438، وورد في "الشعر والشعراء" 374 وفيه (يجتمعان) بدل: يلتقيان، "الأغاني" 1/ 232، "الصحاح" (عمر) 2/ 756، "أمالي ابن الشجري" 2/ 108، "الروض الأنف" 3/ 135، "شرح المفصل" 9/ 91 (عجز)، "اللسان" (عمر) 5/ 3100 برواية: (يجتمعان)، "الخزانة" 2/ 28، وورد غير منسوب في: "المقتضب" 2/ 329، القرطبي 10/ 41، وأبي حيان 5/ 462، والألوسي 14/ 73، (كيف يلتقيان): استفهام إنكاري تعجبي من تزويج الثري بنت علي بن عبد الحارث -وكانت مشهورة بالحسن والجمال- بسهيل بن عبد الرحمن الزهري - وكان معروفًا بقبح منظره. (¬6) "تهذيب اللغة" (عمر) 3/ 2564 بنصه، وانظر: (عمر) في "اللسان" 5/ 3100، و"التاج" 7/ 258. (¬7) "تهذيب اللغة" (عمر) 3/ 2565 بنصه، "المحكم" 2/ 108، "اللسان" 5/ 3102.

القول: العَمْرُ كالعمارة، والعابد اللهَ عامرٌ لدينه، فسُمِّيَ العابدُ عامرًا، ومعنى قوله: {لَعَمْرُكَ} أي لَعِبَادَتُك، والمفسرون على القول الأول (¬1) وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد: أن قومك في ضلالهم يتمادون (¬2)، ثم رجع إلى ذكر قوم لوط في الآية الثانية، وقال الكلبي وعامة المفسرين: {إِنَّهُمْ} يعني: قوم لوط (¬3)، {لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}: في جهلهم وعماهم يمضون ولا يرجعون منه. ¬

_ (¬1) أي أنه قسم بحياة النبي -صلى الله عليه وسلم-وهو قول الجمهور كما قال ابن العربي وعياض وأبو حيان. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 150 أبلفظه، دون الإشارة إلى المعني بالضمير، وانظر: "تفسير الوسيط"، 2/ 364، بنصه عن عطاء، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 409 مختصرًا عن عطاء، وإلى هذا ذهب الطبري، فقال: أي وحياتك يا محمد، إن قومك من قريش، لفي ضلالتهم وجهلهم يترددون، وإليه ذهب السمرقندي. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 44، "تفسير السمرقندي" 2/ 222. (¬3) لم أقف عليه منسوبًا، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 317، وابن عطية 8/ 341، وابن الجوزي 4/ 409 وقال: قاله الأكثرون، وتفسير أبي حيان 5/ 462، وابن جزي 2/ 148، وأبي السعود 5/ 86، و"تنوير المقباس" ص 280، وخلاصة القول في الضمائر في الآية ثلاثة أقوال: الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- والضمائر تعود على كفار قريش، وهو قول الطبري والسمرقندي، وحجتهم الأثر المروي عن ابن عباس وعلى هذا القول، الآية كلها اعتراض فيما بين القصة، وانتصر لهذا القول علي القاري "شرح الشفا" 1/ 72، واستدلالهم بقول ابن عباس رضي الله عنهما ليس فيه دلالة وليس في محل النزاع، فقول ابن عباس غايته أن القسم برسولنا -صلى الله عليه وسلم- وليس بلوط. وليس هذا مختلف مع قول الجمهور الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- والضمائر لقوم لوط، وهو قول الجمهور، وحجتهم - كما ذكر ابن عطية: عدم مناسبة السباق والسياق؛ إذ يؤدي ذلك إلى انقطاع الضمائر، وعليه فالقسم بنبينا -صلى الله عليه وسلم- تشريفًا له؛ لأن القصة تُقص عليه تعجيبًا له من حال قوم لوط، وإقحام القسم أثناء الكلام وقصر القصص أسلوب عربي معروف، وهذا هو القول الراجح الخطاب للوط، =

وقال مجاهد: في غفلتهم يضطربون (¬1)، ومعنى السَّكرة هاهنا: غمور السهو والغفلة للنفس (¬2)، وذكرنا أصله في اللغة عند قوله: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]، ومعنى العمه مذكور في سورة البقرة (¬3)، وقول ابن عباس: إن قوله: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} إخبار عن مشركي قريش، أليق بظاهر الآية (¬4)؛ لأن (¬5) قول العامة نحتاج فيه أن نحمل الآية على حكاية حال ماضية (¬6)؛ كقول الشاعر (¬7): جاريةٌ في رَمَضَانَ الماضي ......... تُقَطِّعُ الحَدِيثَ بالإيمَاضِ (¬8) وقد ذكرنا لهذا نظائر. ¬

_ = والضمائر لقومه، وانفرد به ابن العربي، فقال: ولا أدري ما الذي أخرجهم عن ذِكْر لوط إلى ذِكْر محمد -صلى الله عليه وسلم- وما الذي يمنع أن يُقْسِم الله بحياة لوط، ويبلغ به من الشريف ما شاء؛ فكل ما يعطى الله من فضل ويؤتيه من شرفٍ فلمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ضِعفاه؛ لأنه أكرم على الله منه .. فإذا أقسم الله بحياة لوط فحياة محمد أرفع، ولا يُخرجُ من كلام إلى كلام آخر غيره لم يجر له ذِكرٌ لغير ضرورة. "تفسير ابن العربي" 3/ 1130، وقوله محتمل لولا ما في الآية من خطاب المواجهة. (¬1) ليس في تفسيره، ولم أقف عليه بنصه، وأخرج عبد الرزاق 2/ 349، والطبري 14/ 44 عن مجاهد قال: (يتردّدون)، وكذلك ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 150 أ. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 348 بنصه، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 408 عن الأعمش، "تفسير البقاعي" 4/ 231. (¬3) آيه: [15]، وعندها قال: (ومعنى يعمهون: يتحيرون، وقد عمه يعْمَه عَمَهًا فهو عَمِه إذا حار عن الحق). (¬4) لكن أثر ابن عباس الذي يشير إليه، ضعيف لأنه من طريق عطاء وهو منقطع. (¬5) في (أ)، (د): (أن) والمثبت من (ش)، (ع) وهو الأصح. (¬6) وهذا القول هو الراجح - كما سبق. (¬7) هو رؤبة بن العجاج. (¬8) سبق عزوه.

73

73 - قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} يعني صيحة العذاب، قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة أهلكتهم (¬1)، وقال أهل المعاني: ويجوز أن يكون جاءهم صوت عظيم من فعل الله عَزَّ وَجَلَّ (¬2). وقوله تعالى: {مُشْرِقِينَ} يقال: شَرَق الشَّارقُ يُشْرِق شُروقًا، لكل ما طلع من جانب الشَّرق، ومنه قولهم: ما ذَرَّ شارقٌ (¬3)، أي طلع طالع، فيدخل في هذا: الفجر والكواكب والشمس والقمر، وأشرق له معان: أشرقت الشمس؛ إذا أضاءت بعد طلوعها، وأشرقت الأرض بضوء الشمس، أضاءت، ومنه أَشْرِقْ ثَبِيْرُ (¬4)، وأشرق القوم: دخلوا في وقت شروق الشمس (¬5)؛ مثل صَبَّحوا وأَمْسَوا، والمفسرون على هذا في قوله: ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 198 "تفسير السمرقندي" 2/ 223، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 409، الفخر الرازي 19/ 203، وأبي حيان 5/ 462، والشوكاني 3/ 198، والألوسي 14/ 74، وصديق خان 7/ 187. (¬2) انظر: "تفسير الطوسي" 6/ 348 بنصه. (¬3) مثل عربي، وورد برواية: (لا أفعل ذلك ماذَرَّ شارق)، وبرواية: (لا آتيك ما ذرَّ شارقٌ)، ومعناه: لا أفعله أبدًا، أو لا آتيك أبداً. انظر: "الألفاظ الكتابية" ص 186، "جمهرة اللغة" 2/ 731، "جمهرة الأمثال" 2/ 282، "مجمل اللغة" 1/ 527، "الصحاح" (شرق) 4/ 1500، "المستقصى" 2/ 248، "اللسان" (شرق) 4/ 2245. (¬4) ثبير: جبل بمكة، وهذا مثل يضرب في الإسراع والعجلة، ونصه: (أشرق ثَبِيْرُ كَيْمَا نُغِير)، والمعنى: ادخُلْ يا ثبير في الشروق كي نُسرع إلى الإغارة. انظر: "المحيط في اللغة" (شرق) 5/ 235، "مجمع الأمثال" 1/ 362، "المحكم"، (شرق) 6/ 102 "المستقصى" 1/ 205، "اللسان" (ثبر) 1/ 470، (شرق) 4/ 2246. (¬5) انظر: (شرق) في "جمهرة اللغة" 2/ 731، "المحيط في اللغة" 5/ 234، "مجمل اللغة" 1/ 527، "الصحاح" 4/ 1501، "المحكم" 6/ 101، "اللسان" 4/ 2244.

74

{مُشْرِقِينَ} قالوا: داخلين في الإشراق (¬1). وقال الزجاج: مصادفين لطلوع الشمس (¬2). فإن قيل: أليس قد قال: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} فوعدهم العذاب في وقت الصبح، وهاهنا قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}؟ قيل إن جماعة من أهل المعاني قالوا في معنى {مُشْرِقِينَ}: مصبحين؛ لأنهم داخلون في شروق الفجر، وهو شارق، وأما على قول المفسرين فيقال: إن أول العذاب كان مع طلوع الفجر، ثم امتد ذلك إلى وقت شروق الشمس، فكان تمام الهلاك مع الإشراق. 74 - قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا} آخر الآية، مفسَّر في سورة هود [آية: 82]. 75 - قوله تعالى: {لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} يقال: توسمت في فلان خيرًا، إذا رأيت فيه أثرًا منه، وتوسمت فيه الخير أي تَفَرَّست (¬3). واختلفت عبارة المفسرين وأهل المعاني في تفسير المتوسمين، فقال ابن عباس في رواية عطاء: للمتفرسين (¬4)، وهو قول مجاهد (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 35، و"تفسبر السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أ، والطوسي 6/ 348، و"تفسير البغوي" 4/ 386، والزمخشري 2/ 318، وابن عطية 8/ 341، والفخر الرازي 19/ 203، و"عمدة الحفاظ" 2/ 304. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 184 بنصه. (¬3) "تهذيب اللغة" (وسم) 4/ 3893 بنصه. (¬4) ذكره في الوسيط، تحقيق: سيسي 2/ 365، "تنوير المقباس" ص 280، وورد غير منسوب في "تفسير هود" 2/ 353. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 342 بلفظه، وأخرجه الطبري 14/ 45 بلفظه من عدة طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 35، و"تفسير السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أ، والماوردي 3/ 167، والطوسي 6/ 349، و"تفسير البغوي" =

والفراء (¬1) والزجاج (¬2) وابن قتيبة (¬3). وقال الضحاك: للناظرين (¬4)، وقال مقاتل وابن زيد: للمتفكرين (¬5). وقال قتادة: للمعتبرين (¬6)، وقال أبو عبيدة: للمتبصرين (¬7) , ¬

_ = 4/ 388، وابن عطية 8/ 342، وابن الجوزي 4/ 409، و"تفسير القرطبي" 10/ 42، وابن كثير 2/ 611، و"الدر المنثور" 4/ 193 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 91 بلفظه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 184 بلفظه. (¬3) "الغريب" لابن قتيبة 8/ 241 بلفظه. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 46 بلفظه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 35، و"تفسير السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أبلفظه، والماوردي 3/ 167، والطوسي 6/ 349، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 342، وابن الجوزي 4/ 410، و"تفسير القرطبي" 10/ 43، و"تفسير أبي حيان" 5/ 463، وابن كثير 2/ 611، وورد منسوباً إلى ابن عباس في تفسير الطبري 14/ 46 بلفظه، والثعلبي 2/ 150 أ، و"تفسير البغوي" 4/ 388، الخازن 3/ 100، وابن كثير 2/ 611، و"الدر المنثور" 4/ 192 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) أخرجه الطبري 14/ 46 بلفظه عن ابن زيد، وورد في تفسير الثعلبي 2/ 150 أ، بلفظه عن مقاتل، والماوردي 3/ 167 عن ابن زيد، و"تفسير البغوي" 4/ 388 عن مقاتل، وابن الجوزي 4/ 410 عنهما، "تفسير القرطبي" 10/ 43 عنهما، والخازن 3/ 100 عن مقاتل، وأبي حيان 5/ 463 عنهما, ولم أقف عليه في "تفسير مقاتل" 1/ 198 أ، والذي في تفسيره هو قول الضحاك. (¬6) أخرجه عبد الرزاق 2/ 349 بلفظه، والطبري 14/ 46 بلفظه من طريقين، وأبي الشيخ في "العظمة" ص 50 بلفظه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 223, والثعلبي 2/ 150 أ، بلفظه، والماوردي 3/ 167، والطوسي 6/ 346، "تفسير البغوي" 4/ 388، وابن عطية 8/ 342، وابن الجوزي 4/ 410، و"تفسير القرطبي" 10/ 43، الخازن 3/ 100، وأبي حيان 5/ 463، وابن كثير 2/ 611، و"الدر المنثور" 4/ 192 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 354 بلفظه.

76

وأنشد لزهير: وفيهنّ مَلْهًى للَّطِيفِ ومنظَرٌ ... أنيقٌ لعَيْنِ النَّاظرِ المُتَوسِّمِ (¬1) قال أبو إسحاق: وحقيقته في اللغة؛ المتوسمون النُظَّارُ المُتَثبِّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء، فالمتوسم: الناظر في السمة الدالة، تقول توَسَّمْتُ في فلان، أي: عرفت ذلك فيه بالنظر (¬2). 76 - قوله تعالى: {وَإِنَّهَا} يعني مدينة قوم لوط، وقد سبق ذكرها في قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} [الحجر: 67]. وقوله تعالى: {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} قال ابن عباس: على طريق قومك إلى الشام (¬3)، يريد لبسبيل معروف، وقال قتادة ومجاهد والضحاك: بطريق واضح (¬4)، ومعناه: طريق لا يَنْدَّرس ولا يخفى، فهو طريق مقيم ¬

_ (¬1) "شرح ديوان زهير" ص 37، وورد في: "شرح القصائد السبع الطوال" ص 252، وورد برواية: (للصديق) بدل (للطيف) في "تفسير الماوردي" 3/ 167، و"أشعار الشعراء الستة الجاهليين" 1/ 280، و"تفسير القرطبي" 10/ 43. (ملهى) اللهو أو موضعه، (اللطيف) يعني نفسه، يتلطف في الوصول إليهن، (أنيق) المعجِب، (المتوسم) المتثبت، وقيل: الناظر الذي يتفرّس في نظره، كأنه يطلب شيئًا من سِمته، يعرفها به، والوسامة: الحُسن. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 184 بتصرف يسير. (¬3) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 410، وورد غير منسوب في "تفسير القرطبي" 10/ 45، وهو قول مقاتل 1/ 198 أ. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 349 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 47 بلفظه عن قتادة، وبنحوه عن مجاهد والضحاك، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 36، و"تفسير هود الهواري" 2/ 354، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 410، عن قتادة، الخازن 3/ 100 عن مجاهد، وأبي حيان 5/ 463 عن مجاهد وقتادة، وابن كثير 2/ 611 عنهم، و"الدر المنثور" 4/ 193 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

77

للسابلة (¬1) والمارة، ومعنى الآية: أن الاعتبار بها ممكن لأن الآثار التي يُسْتَدل بها مقيمة ثابتة بها. 77 - قوله تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: لعبرةً للمصدقين (¬2)، يريد أن أصحاب النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- اعتبروا وصدقوا. 78 - قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} قال المفسرون: هم قوم شعيب (¬3) كانوا أصحابَ غِيَاض (¬4) فكذبوا شعيبًا فأهلكوا بعذاب يوم الظلة، وقد ذُكرتْ قصتهم في سورة الشعراء (¬5)، والأيْك الشجر الملتف، يقال: أيْكة وأيْك، كشجرة وشجر (¬6). قال ابن عباس: الأيك هو شجر المُقْل، وهي التي يقال لها الدَّوْم (¬7). ¬

_ (¬1) السّابِلَةُ: الطريق المسلوكة، والناس المختلفون عليها في حوائجهم. انظر: (سبل) في: "تهذيب اللغة" 2/ 1622، "المعجم الوسيط" 1/ 414. (¬2) وهو قول مقاتل 1/ 198 أبنصه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 198ب، والطبري 14/ 48 عن ابن جريج، و"تفسير السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أ، والماوردي 3/ 168، والطوسي 6/ 350، و"تفسير البغوي" 4/ 388، والزمخشري 2/ 318، وابن الجوزي 4/ 410. (¬4) جمع غيْضَة؛ أي الأجَمَة: وهي مجتمع الشجر في مغيض ماء. [المغيض: مصدر، اسم مكان، انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 957، "الصحاح" (غيض) 3/ 1097. (¬5) الآيات: [176 - 189]. (¬6) انظر: "جمهرة اللغة" 3/ 1294، "تهذيب اللغة" (أيك) 1/ 239، "عمدة الحفاظ" 1/ 162، "المصباح المنير" ص13. (¬7) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 204، وورد غير منسوب بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 198ب، والثعلبي 2/ 155 أ، والماوردي 3/ 168، و"تفسير البغوي" 4/ 388، وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: الأيكة ذات آجام -جمع أجَمَة- وشجر كانوا فيها. "تفسير الطبري" 14/ 48، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 193 وزاد نبته إلى ابن المنذر.

79

وقال الكلبي: الأيكة الغَيْضَة (¬1). وقال أبو إسحاق: هؤلاء أهل موضع كان ذا شجر (¬2)، ومعنى (إن) و (اللام) التوكيد، و (إن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة. 79 - قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قال المفسرون: أخذها الحَرّ أيامًا، ثم اضطرم عليهم المكان نارًا فهَلَكوا عن آخرهم (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا} يعني الأيكة ومدينة قوم لوط (¬4). {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}: لبطريق واضح في قول عامة المفسرين (¬5). قال الفراء والزجاج: إنما جعل الطريق إمامًا؛ لأنه يُؤَمُّ ويُتَّبع (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 304، و"أخرجه الطبري" 14/ 48 بلفظه عن الضحاك، وكذلك في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 36، وورد غير منسوب في: "تفسير هود" 2/ 354، والطوسي 6/ 350، والخازن 3/ 100. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185 بلفظه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 198 ب، والثعلبي 2/ 150 أ، و"تفسير البغوي" 2/ 389، وابن عطية 8/ 345، وابن الجوزي 4/ 410، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 204، والخازن 3/ 100. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 14/ 48، و"هود الهواري" / 354، وابن الجوزي 4/ 410 وقال: قاله الأكثرون. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 349 عن قتادة، والطبري 14/ 49 عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 37، و"تفسير السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أ، والماوردي 3/ 168، و"تفسير البغوي" 2/ 389، والزمخشري ص 18، وابن الجوزي 4/ 410، والفخر الرازي 19/ 204، و"تفسير القرطبي" 10/ 45، وابن كثير 2/ 611. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 91، بنصه، "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185، بنحوه ..

80

وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يَأتَمُّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريد (¬1). وقال أبو عبيدة: الإمام كل ما ائتممت (¬2) به واهتديت به (¬3)، ومن هذا [قيل] (¬4) للحبل الذي يَمُدُّه البَنَّاء: الإمام (¬5). قوله تعالى: (مُبِينٍ) يحتمل أنه مبين في نفسه، ويحتمل أنه بَيِّنٌ لغيره؛ لأن الطريق يهدي إلى المقصد. 80 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} قال المفسرون: الحِجْر اسم وادٍ (¬6) كان يسكنه ثمود (¬7). وقوله تعالى: {الْمُرْسَلِينَ} قال ابن عباس والكلبي وعامة المفسرين: يعني صالحًا وحده (¬8)، وقال أهل المعاني: من كذَّب نبيه الذي بُعث إليه، ¬

_ (¬1) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 241. بنصمى (¬2) في جميع النسخ: ما تيممت به، والتصويب من المصدر. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 354 بنصه. (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 347. (¬6) في (أ)، (د): (إذا)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 349، والطبري 14/ 49 عن قتادة، وانظر: "تفسير مقاتل" 1/ 198 ب، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 37 عن قتادة، و"تفسير السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أ، والماوردي 3/ 169 عن قتادة، والطوسي 6/ 351. (¬8) لم أقف عليه منسوباً، وورد في "تفسير مقاتل" 1/ 198 ب، و"تفسير السمرقندي" 2/ 223، والثعلبي 2/ 150 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 4/ 389، وابن الجوزي 4/ 411، والفخر الرازي 19/ 205، و"تفسير القرطبي" 10/ 46، والخازن 3/ 101.

81

فكأنه كذَّب جميع الأنبياء؛ لأنهم مبعوثون بدين واحد، ولا يجوز التفريق بينهم بالتصديق، فعلى هذا يحسن وصفهم بتكذيب المرسلين (¬1). 81 - قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} قال ابن عباس: يريد الناقة، فكأن في الناقة آيات؛ لخروجها من الصخرة، ودُنُوِّ نِتَاجِها عند خروجها، وعِظَم خلقها؛ حتى لم تشبها ناقة أخرى، وكثرة لبنها؛ حتى كان يكفيهم جميعًا، إلى غير ذلك مما فيها من الآيات (¬2)، وأضاف الإيتاء إليهم وإن كانت الناقة آية لصالح؛ لأنها آيات رسولهم، فلو صدقوا بها كانت آيات لهم على من خالفهم. 82 - وقوله تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} قد ذكرنا نحتهم للجبال في سورة الأعراف (¬3). وقوله تعالى: {آمِنِينَ} قال ابن عباس: يريد من عذاب الله (¬4)، وقال الفراء وابن قتيبة: آمنين أن يقع عليهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 4/ 389، والزمخشري 2/ 318، وابن عطية 8/ 348، وابن الجوزي 4/ 411، و"تفسير القرطبي" 10/ 46، وابن كثير 2/ 612، والبقاعي 4/ 233، وأبي السعود 5/ 87، صديق خان 7/ 191. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 411، و"تنوير المقباس" ص280، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 198 ب، والثعلبي 2/ 150 أ، و"تفسير البغوي" 4/ 389، والفخر الرازي 19/ 205، و"تفسير القرطبي" 10/ 53، والخازن 3/ 101. (¬3) آية: [74]. (¬4) "تنوير المقباس" ص 280، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 224، والماوردي 3/ 169، والطوسي 6/ 351، والزمخشري 2/ 318، وابن الجوزي 4/ 412، والفخر الرازي 19/ 205، و"تفسير القرطبي" 10/ 53. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 91 بمعناه، "الغريب" لابن قتيبة 1/ 241 بلفظه.

84

84 - وقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} أي ما دفع عنهم الضر، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال ابن عباس: يريد من الأموال والأنعام والثمار (¬1). وقال الكلبي: ما كانوا يعملون (¬2). قال المفسرون: أي من أعمالهم القبيحة (¬3). 85 - قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد الثواب والعقاب، وقال في قوله: {مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] يريد بالعدل والثواب والعقاب، يفسر ذلك العدل الذي ذكره. قال أهل المعاني: يعني أن الأمم التي ذكرها كفروا بالله وكذبوا رسله فأهلكهم؛ لأنه خلق السموات والأرض بالحق، أي بالعدل، وهو أن يثيب المصدق ويعذب المكذب (¬4). ثم قال لنبيه: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ} قال ابن عباس: يريد عن المشركين. {الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، قال الكلبي: يقول أعرض إعراضًا جميلًا بغير فحش ولا جزع (¬5)، كأنه يقول: إن القيامة تأتي فَيُجازَوْنَ بقبيح أعمالهم فاصفح الآن. ¬

_ (¬1) ورد غير منسوب في: "تفسير الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 368، وابن الجوزي 4/ 412، و"تفسير القرطبي" 10/ 53، وابن كثير 2/ 612، وصديق خان 7/ 192. (¬2) "تنوير المقباس" ص 280 بنحوه. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 14/ 51، والثعلبي 2/ 150 أ، و"تفسير البغوي" 4/ 389, والخازن 3/ 101، وصديق خان 7/ 192. (¬4) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 412، والخازن 3/ 101، والبقاعي 4/ 234. (¬5) "تنوير المقباس" ص 280 بنصه، وورد بنحوه وبمعناه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 224، والزمخشري 2/ 318، وابن الجوزي 4/ 412, والفخر الرازي 19/ 206، والبقاعي 4/ 234، وأبي السعود 5/ 88.

قال المفسرون: والصفح منسوخ بآية السيف (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 198ب، والطبري 14/ 51 عن قتادة والضحاك ومجاهد وسفيان بن عيينة، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 482 عن ابن عباس وقتادة، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 37، و"تفسير هود الهواري" 2/ 354، والثعلبي 2/ 150 ب، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص 329 عن قتادة، "تفسير الماوردي" 3/ 170، والطوسي 6/ 352، و"تفسير البغوي" 4/ 390، والزمخشري 2/ 318، وابن عطية 8/ 349، وابن الجوزي 4/ 412، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 184 عن مجاهد وقتادة، و"تفسير القرطبي" 10/ 54، وابن كثير 2/ 612، ذكر القائلون بالنسخ في هذه الآية، أنها نُسخت بآيات السيف والقتال وبراءة. ودعوى النسخ بآية السيف -كما مرّ في الدراسة- قد توسع فيها المفسرون، فنسخوا بها كثيرًا من الآيات التي تظهر سماحة الإسلام، ومداراة أهل الكفر والنفاق، والحث على الصبر وتحمل الأذى عند الضعف، ومن ذلك هذه الآية، وفي دعوى نسخها نظر؛ لعدم ثبوته عن الصحابة بطريق صحيح، فلم يَنسبه إلا النحاس إلى ابن عباس، ومع كونه من المبالغين في دعاوى النسخ -كما قال الزرقاني- فقد أورد الخبر بصيغة التمريض، ويؤيد القول ببطلان دعوى النسخ في هذه الآية، أنه لا تعارض بين الدعوة إلى الصفح الجميل والقتال -كما قال الجمل- لأن مورد الآيتين مختلف، فالمسالمة مطلوبة عند الضعف، والمسايفة مطلوبة عند القوة, لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدماً، فانتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخاً، بل حتى مع توفر القوة فإن العفو عند المقدرة والصفح الجميل مع الأعداء خُلق محمود، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح مع كفار قريش، ولهذا أنكر الفخر الرازي النسخ في هذه الآية، وقال: وقيل هو منسوخ بآية السيف، وهو بعيد؛ لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح، فكيف يصير منسوخاً؟! انظر: "البرهان في علوم القرآن" 2/ 40 - 43، "تفسير الفخر الرازي" 191/ 206، "حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 553، "مناهل العرفان" 2/ 150.

86

86 - {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (قال ابن عباس: يريد العلم) (¬1) بما خلق (¬2). 87 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} الآية. اختلفوا في السبع المثاني ما هي؟ فأكثر أهل التفسير والأثر أنها فاتحة الكتاب (¬3)، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة (¬4) والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير والربيع والكلبي وقتادة (¬5)، وروي ذلك ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬2) ورد هذا المعنى غير منسوب في "تفسير البيضاوي" 3/ 173، والخازن 3/ 101، وأبي السعود 5/ 88. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 198 ب، وهود الهواري 2/ 355، و"تفسير السمرقندي" 2/ 224. (¬4) أخرجه بلفظه: عبد الرزاق 2/ 350 عن أبي هريرة، والطبري 14/ 55 عن علي وابن مسعود بعدة روايات، والدارقطني 1/ 313 عن علي، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 38 عن علي وأبي هريرة، و"تفسير السمرقندي" 2/ 224 عن علي وابن مسعود، والثعلبي 2/ 150 ب عنهم، والطوسي 6/ 353 عن ابن مسعود، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 195 وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن عمر، وزاد نسبته -كذلك- إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن الضريس وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي، وزاد نسبته -كذلك- إلى ابن الضريس وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود، وزاد نسبته -كذلك- إلى ابن الضريس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 349 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 56 عنهم ماعدا الضحاك والكلبي، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 38 عن مجاهد وقتادة، و"تفسير الثعلبي" 2/ 150 ب بلفظه عنهم ماعدا قتادة، والماوردي 3/ 170 عن الربيع وأبي العالية والحسن، والطوسي 6/ 353 عن الحسن، و"تفسير البغوي" 4/ 390 عن الحسن وسعيد وقتادة، وابن عطية 8/ 350 عن الحسن، وابن الجوزي 4/ 413 عن الحسن وسعيد ومجاهد وقتادة، الفخر الرازي 19/ 207 =

مرفوعًا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ الفاتحة فقال: "هي السبع المثاني" (¬1) رواه أبو هريرة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء وسعيد بن جبير (¬2)، واختيار الفراء (¬3) والزجاج (¬4)، وعلى هذا سميت الفاتحة السبع المثاني لأنها (¬5) سبع آيات، وهي تُثَنى في كل صلاة؛ تقرأ في كل ركعة، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع (¬6). ¬

_ = عنهم ماعدا الربيع والكلبي، و"تفسير القرطبي" 10/ 54 عن الحسن وأبي العالية والربيع، الخازن 3/ 101 عن الحسن وسعيد ومجاهد وقتادة، وابن كثير 2/ 613 عن الحسن ومجاهد وقتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 196 وعزاه إلى ابن الضريس عن مجاهد، وزاد نسبته إلى ابن الضريس عن قتادة، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أبي العالية. (¬1) أخرجه البخاري (4704) كتاب: التفسير، باب: الحجر بنصه، وأبو داود (1457) كتاب: الوتر، باب: فاتحة الكتاب بنحوه، والنسائي: كتاب: الافتتاح، باب: ولقد آتيناك سبعاً من المثاني بنحوه، والطبري 14/ 58 بنصه بعدة روايات، والدارقطني: كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة 1/ 312 بنحوه، والحاكم: كتاب: التفسير، باب: الحجر (2/ 354) بنحوه، وقال على شرط مسلم، والشعبي 2/ 150 ب. بنصه. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 56 بنحوه وبروايتين، من طريق الحجاج عن ابن جريج عن سعيد (صحيحة)، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 350، وابن الجوزي 4/ 413، والخازن 3/ 101، وابن كثير 2/ 613، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 197 ونسبه إلى ابن مردويه من طريق سعيد. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 91. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185. (¬5) في (أ)، (د): (أنها) والمثبت من (ش)، (ع). (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 151أ، بنصه عنهم، "تفسير السمرقندي" 2/ 224 عن قتادة، والطوسي 6/ 353، عن الحسن، "تفسير البغوي" 4/ 390 عنهم ماعدا الربيع، وابن الجوزي 4/ 413 عن ابن عباس، الخازن 3/ 102 عنهم ماعدا =

وقال أبو إسحاق: لأنه يثنى بها في كل ركعة مع ما يقرأ من القرآن (¬1)، قال أبو الهيثم أي يجعل اثنين، من قولك: ثَنَيْتُ الشيء ثنيًا؛ أي: عطفته أو ضممت إليه آخر (¬2)، ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيه: مثاني؛ لأنها تثنى بالفخذ والعضد (¬3)، قال امرؤ القيس: ويَخْدِي على صُمٍّ صِلاَبٍ مَلاَطِسٍ ... شَدِيداتِ عَقْدٍ لَيِّناتِ مَثَانِي (¬4) ومثاني الوادي مجانبُه ومعاطفُه (¬5)، فالفاتحة وآياتها مثاني؛ لأنها تُثَنَّى في كل صلاة بإعادتها في كل ركعة على قول الأكثرين، وعلى ما قال الزجاج: تثنى بغيرها مما يقرأ معها (¬6)، (وقال بعض أهل المعاني: آيات ¬

_ = الربيع، وابن كثير 2/ 613 عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 196 وزاد نسبته إلى البيهقي في الشعب عن ابن عباس [لم أقف عليه]، وزاد نسبته -أيضاً- إلى ابن الضريس عن قتادة. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185 بنصه. (¬2) لم أقف عليه منسوبًا إليه. وانظر: (ني) في: "الصحاح" 6/ 2294، "اللسان" 1/ 511، "عمدة الحفاظ" 1/ 333. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 507 بنحوه. (¬4) "ديوانه" ص 166، وفيه: (وَيرْدي) بدل (ويَخدي)، (عفر) بدل (عقد)، و (مثان) بدون ياء. وورد في: "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 507، "اللسان" (ثنى) 1/ 516. (ويخدي) من الوخدان، وهو ضرب من السير، (صم صلاب) حوافر صلبة مصمتة، (ملاطس) معاول، شبههما بها لأنها تكسر ما تقع عليه من حجر وغيره، (شديدات عقد): يريد أن حوافره شديدات عقد الأرساغ، (المثاني) المفاصل. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 507 بنصه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185 بنحوه.

الفاتحة سميت مثاني؛ لأنها) (¬1) قُسِمَتْ قِسْمَيْن اثنين (¬2)؛ بيانه ما رُوي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-قال: "يقول الله تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْنِي وبينَ عَبْدي نِصْفَيْنِ .. " الحديث مشهور (¬3). وقال بعضهم: هي مثاني؛ لأنها قسمان اثنان؛ ثناء ودعاء (¬4)، وهذا كالقول الأول؛ لأن الذي روي في الخبر أن الله تعالى يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ..) (¬5) معناه هذا، وهو أن المصلي يقرأ الفاتحة ونصفها حق الربوبية من الثناء على الله، ونصفها حظ العبودية من الدعاء والسؤال، وقال الحسين بن الفضل: سميت مثاني؛ لأنها نزلت مرتين اثنتين؛ مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من (ش)، (ع) وساقط من (أ)، (د). (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 151 أبنحوه، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 413، والفخر الرازي 19/ 207. (¬3) أخرجه بنصه: مالك في الموطأ [شرح الزرقاني] كتاب: الصلاة، باب: القراءة خلف الإمام 1/ 175، وأحمد 2/ 285، ومسلم (395): كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة عن أبي هريرة، أبو داود (821) كتاب: الصلاة، باب: من ترك قراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، والترمذي (2953) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومِنْ سورة فاتحة الكتاب، النسائي: كتاب الصلاة، باب: ترك قراءة البسملة في الفاتحة. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 151ب بنصه، و"تفسير البغوي" 4/ 391، والفخر الرازي 19/ 207، والخازن 3/ 102. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د) والمثبت من (ش)، (ع). (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 151ب بنصه، "تفسير البغوي" 4/ 391، وابن الجوزي 4/ 414، والخازن 3/ 102، الفخر الرازي 19/ 207 بلا نسبة. والقول بنزولها مرتين انفرد به الحسين بن الفضل ولم أقف عليه منسوبًا إلى غيره، والذين ذكروه - بلا نسبة -أوردوه بصيغة التمريض- كما في "تفسير البغوي" 1/ 49، وابن كثير =

قال أبو إسحاق: ويجوز -والله أعلم- أن يكون من المثاني: أي مما أُثني به على الله؛ لأن فيها حَمْدَ الله وتوحيدَه، وذِكرَ ملائكته يوم الدين (¬1)، المعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يُثْنَى بها على الله (¬2)، وقيل سميت آيات الفاتحة مثاني؛ لأن كلماتها مُثَنَّاة؛ مثل الرحمن الرحيم، إيّاك وإيّاك، الصراط وصراط، عليهم وعليهم (¬3)، وفي قراءة عمر: وغير وغير (¬4)، وهذه الآية على هذا القول تدل على فضيلة الفاتحة؛ لأن الله ¬

_ = 1/ 10 وغيرهما- وقد نقل عنه ما يخالف ما انفرد به، ففي أسباب النزول للواحدي (ص 22) قال: وعند مجاهد أن الفاتحة مدنية، قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة وهذه بادرة من مجاهد لأنه تفرّد بهذا القول والعلماء على خلافه. والصحيح أن مجاهد لم ينفرد بالقول أنها مدنية، بل روي -كذلك- عن أبي هريرة وعطاء بن يسار والزهري. "تفسير ابن الجوزي" 1/ 10، "تفسير القرطبي"10/ 115، وابن كثير 1/ 10 ولعل الحسين رجع عن القول بأنها نزلت مرتين إلى ما ذهب إليه أكثر المفسرين أنها نزلت بمكة. وهذا هو الراجح لأمرين: أن سورة الحجر مكية بالإجماع، وورد فيها هذه الآية، وما كان الله ليمتنّ على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة ثم ينزلها بالمدينة. أن الصلاة فرضت بمكة، وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير الفاتحة - كما قال (: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) ولا يصح القول أنه النبى -صلى الله عليه وسلم- أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة، فهذا مما لا تقبله العقول. انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 21. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185 بنصه. (¬2) "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 507 بنصه. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 151 ب، بنصه، وذكره الطبري 14/ 60 مختصرًا، ونسبه إلى أهل العربية وضعفه، وأورده الماوردي 3/ 170 مختصرًا، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 414، والفخر الرازي 19/ 207، والخازن 3/ 102. (¬4) بَيَّنَ ذلك الفخر الرازي 19/ 207 فقال وفي قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) ولم أقف علي هذه القراءة، ولو ثبتت عنه فهي شاذة، ولعلى من قبيل التفسير.

تعالى امتن على رسوله بهذه السورة كما امتن عليه بجميع القرآن، فأما دخول (مِنْ) قال أبو إسحاق: فهي على ضربين تكون للتبعيض من القرآن؛ أي: ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يُثْنَى بها على الله، وآتيناك القرآن النبي، قال: ويجوز (من) للصفة، والمعنى آتيناك سبعًا، هي المثاني كما قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] المعنى: اجتنبوا الأوثان، لا أنَّ بعضها رِجْسٌ (¬1). وقال ابن عباس في رواية مجاهد وسعيد بن جبير: المثاني السبع الطوال (¬2)، وهذا قول ابن عمر وسعيد بن جبير في بعض الروايات ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح، وهي سبع سور من أول القرآن؛ البقرة وآل عمران ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 185 بتصرف يسير. (¬2) أخرجه أبو داود (786) كتاب: الصلاة، باب من جهر بها، بنحوه من طريق سعيد، والنسائي: الافتتاح، ولقد آتيناك سبعًا من المثاني 2/ 140 بنصه من طريق سعيد، والطبري 14/ 52، 53 بلفظه بعدة روايات من الطريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 38 من طريق مجاهد. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/) بنصه من طريق مجاهد، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 224 من طريق مجاهد. وأخرجه الحاكم: كتاب: التفسير، الحجر 2/ 355 بنحوه من طريق سعيد، وقال على شرط الشيخين، والثعلبي 2/ 151 ب، بلفظه من الطريقين، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 170، و"تفسير البغوي" 4/ 391 من طريق سعيد، وابن عطية 8/ 350، وابن الجوزي 4/ 414، و"تفسير القرطبي" 10/ 55 من طريق سعيد، والخازن 3/ 102، وابن كثير 2/ 613، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 196 - 197 وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس، وزاد نسبته -كذلك- إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طريق سعيد.

والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معًا (¬1) وهذه السور سميت مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر والأخبار ثُنِّيت فيها، قاله ابن عباس (¬2)، وأنكر الربيع هذا القول، فقال: لا أدري كيف يكون هذا القول وهذه الآية نزلت بمكة ولم ينزل من الطِّوَل شيء (¬3) وقال من نَصَّ (¬4) هذا القول: إن الله تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا وحكم بإنزاله عليه، فهو من جملة ما آتاه وإن لم ينزل عليه بعد (¬5). ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 52 عن سعيد بن جبير، وانظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 151 ب، و"تفسير السمرقندي" 2/ 224، والماوردي 3/ 170، وقد اختلف في السورة السابعة؛ فقيل: إنها التوبة والأنفال معًا، وقيل: إنها سورة يونس، وهذان القولان مشهوران، لكنهما لا يسلمان من الاعتراض؛ أما الأول: فلأن كلًّا من الأنفال والتوبة سورة قائمة بذاتها فعدهما سورة واحدة خلاف المعقول، وعدهما سورتين -كما هما- يجعل الطوال ثمانية لا سبعًا، وأما القول الثاني: فيعارض بأن سورة يونس يشبهها سور كثيرة في الطول، بل منها ما هو أطول منها كالنحل، لذلك فالأرجح أن السورة السابعة هي سورة التوبة منفردة أفادني به الدكتور فضل عباس، وقد أشار قبله السخاوي إلى احتمال أنها التوبة - دون مناقشة. انظر: "جمال القُراء" 1/ 34، "البرهان في علوم القرآن" 1/ 244، "الإتقان في علوم القرآن" 1/ 201، "مناهل العرفان" 1/ 345، "المدخل لدراسة القرآن الكريم" ص 328، "إتقان البرهان" لفضل عباس 1/ 448. (¬2) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 171، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 414، الخازن 3/ 102، وورد بلا نسبة في: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 208، "تفسير القرطبي" 10/ 55. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 55 بنحوه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 208، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 196 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والبيهقي في "الشعب" عن الربيع، وورد بلا نسبة في: "تفسير القرطبي" 10/ 55، والخازن 3/ 102. (¬4) هكذا وردت في جيمع النسخ بتشديد الصاد، ولعل مقصوده من نصّ على هذا القول؛ أي نصره. (¬5) "تفسير الفخر الرازى" 19/ 208، "تفسير القرطبي" 10/ 55، والخازن 3/ 102.

وروي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: المثاني السور التي هي دون الطِّوَل والمئين، وفوق المُفَصَّل (¬1)، واختار أبو الهيثم هذا القول، قال: روي ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عن ابن مسعود وعثمان وابن عباس (¬2)، يدل على صحة هذا ما روى ثوبان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوارة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل" (¬3)، والقول في تسمية هذه السورة (¬4) مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليهم. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 507 بنصه. (¬3) أخرجه أحمد 4/ 107 بنصه، عن واثلة بن الأسقع، وأبو داود الطيالسي ص 136 بنحوه، وأخرجه "الطبري" 1/ 44 بنصه، من طريقين عن أبي قلابة وعن واثلة، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" 2/ 154 بنحوه عن واثلة، وأخرجه الطبراني في "الكبير" 22/ 75 بنصه، من طريقين عن واثلة، وأخرجه الثعلبي 2/ 151ب بنصه، عن ثوبان، وأورده الزركشي في "البرهان" 1/ 244، وقال هو حديث غريب -ولا يقصد الغرابة الاصطلاحية؛ لوروده من عدة طرق- قال: وفيه سعيد بن بشير لين، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 46 عن واثلة وعزاه إلى أحمد وقال فيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات، وأورده - كذلك 7/ 158 عن أبي أمامة وعزاه إلى الطبراني، وقال: وفيه ليث بن أبي سليم وقد ضعفه جماعة ويعتبر بحديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد ذكر أحمد شاكر أن رواية أبي قلابة مرسلة، وتوقف في رواية واثلة، والحديث ضعيف في كل طرقه، لكنه ضعف منجبر كما أشار الهيثمي، وقد حسن الألباني رواية أحمد؛ حيث تابع عمران، سعيد بن بشير، وقال: الحديث صحيح بمجموع طرقه. انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1480). (¬4) أي سورة الفاتحة. (¬5) وهو قول ابن عباسٌ، وقد أنكره الربيع.

وقال ابن عباس في رواية عطية: القرآن كله مثاني (¬1) وهو قول طاوس (¬2) وأبي مالك (¬3)، ودليل هذا القول قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، فَسمَّى القرآن كله مثاني، قال أبو عبيد (¬4): وسُمِّي القرآن مثاني لأن الأنباء والقصص ثُنِّيت (¬5) فيه (¬6)، وعلى هذا القول المراد بالسبع، أقسام القرآن، وهي سبعة أسباع، فالقرآن سبعة أقسام (¬7)، ويجوز ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 57 بنحوه من طريق العوفي (غير مرضية)، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أبلفظه، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 209 عن ابن عباس وطاوس، و"تفسير القرطبي" 10/ 55. (¬2) انظر: المصادر السابقة، و"تفسير البغوي" 4/ 392، وابن الجوزي 4/ 414، والخازن 3/ 102. (¬3) انظر: المصادر السابقة، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 414. (¬4) في جميع النسخ أبو عبيدة، والمثبت هو الصحيح، وهو: أبو عبيد القاسم بن سلاَّم الهروي (ت 224) صاحب الغريب. (¬5) في جميع النسخ: بُيِّنَتْ، والمثبت هو الصحيح. (¬6) غريب الحديث له 1/ 443 بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (ثنى) 1/ 506 بنصه، ويبدو أنه اقتبسه من التهذيب للتطابق، وورد بلا نسبة في: "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أ، و"تفسير البغوي" 4/ 392، الخازن 3/ 102. (¬7) ورد بنحوه في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أ، والماوردي 3/ 171، انظر: "تفسير البغوي" 4/ 392، وابن الجوزي 4/ 415، والفخر الرازي 19/ 209، و"تفسير القرطبي" 10/ 55. وهذه الأقسام قد أشار إليها العلماء عند حديثهم عن نزول القرآن على سبعة أحرف، يقول أبو شامة: هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، أنزله الله على هذه الأصناف، لم يقتصره على صنف واحد منها كغيره من الكتب. وقد اختلف كثيرًا في ماهية هذه الأقسام، فذكر السيوطي نقلاً عن ابن النقيب عن ابن حبان سبع عشرة قولاً، وأشهر هذه الأقوال أنها تدور حول: الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمثال. انظر: "البرهان في علوم القرآن" 1/ 216، "الإتقان في علوم القرآن" 1/ 274 - 277، "الأحرف السبعة" لعتر ص 137.

88

أن يكون المراد بالسبع الفاتحة؛ لأنها سبع آيات من القرآن الذي هو مثاني (¬1). وقوله تعالى: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} على هذا القول هوالسبع المثاني، إلا أنه أدخل الواو فيه لاختلاف اللفظين (¬2)، كقوله (¬3): إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَام ... ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ وقد ذكرنا نظائر هذا كثيرًا. 88 - قوله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} الآية. قال ابن عباس: نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا، فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها (¬4)، وقال في رواية عطاء: ولا تتمنّ ما فضلنا به أحدًا من متاع الدنيا، ولا يقع في قلبك حلاوتها ولا شيء من زينتهم (¬5)، فدل هذا التفسير ¬

_ (¬1) وهذا القول اختاره الطبري، وهو قول ابن عباس ومجاهد وطاوس وأبي مالك. "تفسير الطبري" 14/ 57. (¬2) لعل توجيه الزمخشري أحسن؛ إذ قال: فإن قلت كيف صحّ عطف القرآن العظيم على السبع؟ وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟! قلت: إذا عُني بالسبع الفاتحة أو الطوال فما وراءهن ينطلق عليه اسم القرآن؛ لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل، ألا ترى إلى قوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} يعني سورة يوسف، وإذا عَنَيْت الأسباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم؛ أي الجامع لهذين النعتين؛ وهو الثناء أو التثنية والعظم. "تفسير الزمخشري" 2/ 319، وهناك توجيهات أخرى، انظرها في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 416. (¬3) سبق عزوه. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 61 بمعناه من طريق العوفي (غير مرضية)، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 370 بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 614، و"الدر المنثور" 4/ 197 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 210.

على أن المراد بنهيه من مد العين نهيه عن التطلع إليه رغبة فيه، وإنما يكون مادًا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إلى الشيء يدل على استحسانه وتمنِّيه، ولهذا فسره ابن عباس بالنهي عن التمني، فكان -صلى الله عليه وسلم- لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا، حتى رُوي أنه نظر إلى نَعَم بني المُصْطَلِق (¬1) وقد عَبِست في أبوالها وأبعارها، (فَتَقَنَّع بثوبه وقرأ هذه الآية) (¬2)، قال أهل المعاني: وذلك أن يجف أبعارُها وأبوالُها على أفخاذها إذا نزلت من العمل أيام الربيع، فيكثر شحومُها ولحومُها وهي أحسن ما تكون (¬3). وقوله تعالى: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} قال الزجاج: أي أمثالًا في النِّعَم (¬4)، يعني أن الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى والنعمة فهي أزواج، وقال ابن قتيبة: أي أصنافًا منهم (¬5)، والزوج في اللغة الصنف (¬6)، وقد ذكرنا ¬

_ (¬1) قبيلة بني المصطلق بطن من خزاعة، من القحطانية، وهم بنو المصطلق، واسمه جَذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة، وقد غزاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان سنة ست من الهجرة، ولقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع، فهزمهم الله، وقُتل من قُتل، ونفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبنائهم ونسائهم وأموالهم، فأفائهم عليه. انظر: "الروض الأنف" 4/ 6، "معجم قبائل العرب" 3/ 1104. (¬2) ورد في: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 380 بنحوه، و"تهذيب اللغة" (عبس) 3/ 2307 بنصه، وانظر: "النهاية" لابن الأثير 3/ 171، "الدر المنثور" 4/ 197 وزاد نسبته إلى ابن المنذر، "تفسير الألوسي" 14/ 81. (¬3) ورد بنحوه في: غريب الحديث 1/ 380، و"تهذيب اللغة" (عبس) 7/ 2303، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 210 بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 186 بنصه. (¬5) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 241 بلفظه. (¬6) انظر: (زوج) في: "المحكم" 7/ 365، و"اللسان" 3/ 1886.

ذلك؛ يعني أصناف الكفار من المشركين واليهود وغيرهم، وقال المفضل: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي رجالا ونساءً أغنيناهم، فلا تمدنّ عينيك إلى ما أعطيناهم (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس: يريد على ما فاتك من الدنيا، قال أهل المعاني: معناه: لا تحزن لما أنعمت عليهم دونك، وقال الحسن: لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من العذاب بكفرهم (¬2)، ونحو هذا قال الكلبي: لا تحزن على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب (¬3)، ثم نزل يوم بدر. وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} الخفض معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في صفة القيامة: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 3] أي: أنها تخفض أهلَ المعاصي وترفع أهلَ الطاعة (¬4)، فالخفض معناه الوضع، والجناح من الإنسان يده، قال الليث: يد الإنسان جناحاه (¬5)، ومنه قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] والعرب تقول: فلان خافض الجناح، وخافض الطير، إذا كان وقورًا ساكنًا (¬6) ومعنى الآية: كأنه يقول لِن واسْكُنْ لهم. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الماوردي" 3/ 171، "تفسير القرطبي" 10/ 57. (¬3) انظر: تفسيره "الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 370 بنصه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 225، وابن الجوزي 4/ 416. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" "خفض" 1/ 1066 بنصه. (¬5) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 211. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (خفض) 1/ 1066 بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 57.

89

قال ابن عباس: يقول: ألِن لهم الموعظة وارفق بهم ولا تغلظ عليهم (¬1). وقال الزجاج: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ}: ألِن جانبك (¬2)، ونحوه قال المفضل (¬3)، فعلى هذا جناح الإنسان جانبه، ومنه قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] والعرب تقول: فلان لين الجانب، إذا كان سهل الخلق منبسطًا، كما تقول في ضده: فلان منيع الجانب، ومنه قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت: 51] 89 - قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} قال ابن عباس: يريد أُنذركم سطواتِ اللهِ وسخطه وعذابه، وأبين لكم ما يقربكم إلى الله ويبعدكم من الله. 90 - {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} اختلفوا في المقتسمين من هم؟ فقال ابن عباس في رواية عطاء: هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والإيمان به، وهم ما بين ثمانية وثلاثين إلى الأربعين (¬4)، وقال مقاتل بن سليمان: كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عِقابَ (¬5) مكة وطرقها، يقولون لمن سلكها: لا تغتروا ¬

_ (¬1) انظر: تفسيره "الوسيط"، تحقيق: سيسي 2/ 370 بنحوه، وابن الجوزي 4/ 416، و"تنوير المقباس" ص 281 بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 199 أ، والطبري 14/ 61، والثعلبى 2/ 152 أ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 186 بلفظه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير الفخر الرازي" 19/ 211. (¬5) العَقَبَة: طريق وعر في الجبل، والجمع عَقَب وعِقاب. انظر: (عقب) في "جمهرة اللغة" 1/ 364، "المحيط في اللغة" 1/ 197.

بالخارج منا والمدعي النبوة فإنه مجنون، فكانوا يُنَفّرون النُزَّاعَ إليه بأنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر (¬1)، وهذا القول اختيار الفراء قال: سُمُّوا مقتسمين لأنهم اقتسموا طُرُقَ مكة (¬2)، فأنزل الله بهم جَرَبًا فماتوا شر ميتة، وقال في معنى الآية: يقول: أنذرتكم ما نزل بالمقتسمين، قال صاحب النظم المعنى: إني أنذرتكم ما أنزلناه على المقتسمين (¬3)، وتكون الكاف زائدة؛ وزيادة الكاف قد توجد في مواضع من الكلام (¬4)؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقول رُؤبة: لَوَاحِقُ الأقْرَابِ فيها كالمَقَقْ (¬5) قال النحويون: الكاف التي هي حرف جار قد تكون زائدة مؤكدة ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 199 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أ، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 2/ 91، ومعظم الذين ذكروا هذا القول نسبوه للفراء، ومقاتل سابق للفراء. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 92 بنصه. (¬3) وهو كقول الفراء؛ قال: يقول أنذرتكم ما أُنزل بالمقتسمين 2/ 91. (¬4) انظر: التعليق على القول بالزيادة في القرآن، عند الآية [10] من سورة إبراهيم. (¬5) "ديوانه" ص 106، وورد في: "سر صناعة الإعراب" 1/ 295، "شرح ابن عقيل" 3/ 26، "شرح شواهد المغني" 2/ 764، و"الخزانة" 1/ 89، وبلا نسبة في "المقتضب" 4/ 418، و"المسائل البغداديات" ص 400، و"الإنصاف" ص 257، "شرح الأشموني" 2/ 409، (اللواحق) جمع لاحقة، وهي الهزيلة الضامرة، (الأقراب) جمع قُرْب؛ وهي الخاصرة، (المقق) هو الطُّولُ، وقيل الطول الفاحش في دقة، والمعنى: هذه الخيول أو الأُتن خماص البطون، قد أصابها الهزال وضمرت بطونها مع ما بها من طول فاحش. والشاهد: (كالمقق) حيث جاءت الكاف زائدة، لا تدل على معنى التشبيه، إذ المقق: الطول، ولا يقال في الشيء كالطُّول، وإنما يقال: فيه طُول. انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 292، "الانتصاف من الإنصاف" بهامشه 1/ 300.

بمنزلة الباء في خبر ليس (¬1)، وذكر صاحب النظم وجهًا آخر، هو أن يكون التأويل: {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}: عذابًا {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}، وعلى هذا: المفعول محذوف وهو المشبه، ودل عليه المشبه به، وهذا كما تقول في الكلام: رأيت كالقمر في الحُسْنِ (¬2)، أي: رجلاً، وما تريد (¬3). وقال ابن عباس في رواية أبي ظبيان: (المقتسمين) هم اليهود والنصارى (¬4). واختلفوا لم سُمّوا مقتسمين؟ قال ابن عباس في هذه الرواية: لأنهم جعلوا القرآن عضين؛ آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقال عكرمة: لأنهم اقتسموا القرآن استهزاءً به، فقال بعضهم سورة كذا لي، وقال بعضهم سورة كذا لي (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 291 بنصه، "المقتضب" 4/ 418، "شرح ابن عقيل" 3/ 26. (¬2) نقل الفخر الرازي قول صاحب النظم وتوضيح الواحدي له بنصه دون عزو. "تفسير الفخر الرازي" 19/ 212. (¬3) يقصد تقديره: رجلاً أو ما تريد أن تقدّره. (¬4) أخرجه البخاري (4705) التفسير، كتاب: الحجر، باب: قوله تعالى {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} بنصه، والطبري 14/ 61 بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 43، و"تفسير هود الهواري" 2/ 356، والثعلبي 2/ 152 أ، والماوردي 3/ 172، والطوسي 6/ 354، و"تفسير البغوي" 4/ 393، وابن عطية 8/ 355، وابن الجوزي 4/ 417، والفخر الرازي 19/ 212، و"تفسير القرطبي" 10/ 58، والخازن 3/ 103. (¬5) "أخرجه الطبري" 14/ 62 بنحوه، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أ، بنحوه، والماوردي 3/ 172 بنحوه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 355، وابن الجوزي 4/ 417، و"تفسير القرطبي" 10/ 58، والخازن 3/ 103.

وقال مجاهد: لأنهم قسموا كتابهم فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه (¬1). وقال مقاتل بن حيان: أقتسموا القرآن؛ فقال بعضهم: سحر (وقال بعضهم: شعر) (¬2) وقال بعضهم: كذب، وقال بعضهم: أساطير الأولين (¬3). وقال ابن زيد: المقتسمون هم قوم صالح تقاسموا، من القَسَم لا من القِسْمة (¬4)، ونحوًا من هذا قال ابن قتيبة؛ جعل المقتسمين: الذين تحالفوا على تكذيب محمد -صلى الله عليه وسلم-وأن يذيعوا ذلك [بـ] (¬5) كل طريق (¬6)، كما ذكرنا في القول الأول (¬7). ¬

_ (¬1) "أخرجه الطبري" 14/ 63 بنحوه، ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 225 لكنه قال: فرقوا القرآن، والصحيح كما في كل الروايات فرقوا كتبهم، والثعلبي 2/ 152أبمعناه، والماوردي 3/ 172 بمعناه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 355، وابن الجوزي 4/ 417، والخازن 3/ 103. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أبنصه، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 212 بنصه. (¬4) "أخرجه الطبري" 14/ 63 بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 أبنحوه، والماوردي 3/ 172 بمعناه، والطوسي 6/ 354 بمعناه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 355، وابن الجوزي 4/ 418، والفخر الرازي 19/ 212، و"تفسير القرطبي" 10/ 58، وابن كثير 2/ 614. (¬5) إضافة يقتضيها السياق؛ كما في المصدر. (¬6) "الغريب" لابن قتيبة ص 241 بنصه. (¬7) وقد لخّص الطبري الأقوال الواردة في المقتسمين، فقال: هم قوم صالح أو أهل الكتاب أو كفار قريش، ثم ذكر أن النص محتمل لأي من الفرق الثلاث ما دام أنه لم يخصص، فوجب حمله على كل من اقتسم كتابًا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 63 - 64

91

91 - قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، {الَّذِينَ} من صفة المقتسمين، إلا على قول ابن زيد، فإنه يكون ابتداءً وخبره في (لنسألنهم)، وذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين، أحدهما: أن واحدها عِضَة؛ مثل: عزة ونزة وثبة، وأصلها عِضْوة من: عضَّيتُ الشيء، إذا فرَّقته (¬1)، وكل قطعة عضة، وهي مما نقص منها واوٌ؛ وهي لام الفعل -مثل قِلَة وعِزَة- وبابها، والتعضية التجزئة والتفريق، ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس في عضين ما ذكرناه في المقتسمين، ويقال: عضيت الشاة والجزور تعضية، إذا جعلتها أعضاءً وقسمتها. وفي الحديث: "لا تَعْضية في ميراثٍ إلا فيما حمل القَسْمَ" (¬2) أي: لا تجزئة فيما [لا]، (¬3) يحتمل القَسْم؛ كالجوهرة والسيف وغيرهما، وهذا معنى قول المفسرين وأكثر أهل المعاني؛ قال ابن عباس في قوله: {جَعَلُوا ¬

_ (¬1) انظر: (عضه) في: "تهذيب اللغة" 3/ 2477، "الصحاح" 6/ 2241، "عمدة الحفاظ" 3/ 11، "تفسير الثعلبي" 2/ 152 ب. (¬2) أخرجه الدارقطني كتاب: الأقضية والأحكام، باب: المرأة تقتل إذا ارتدت 4/ 219 بنحوه بروايتين عن أبي بكر، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب: آداب القاضي، باب: مالا يحتمل القسمة 10/ 133 بنحوه بروايتين، وورد في "النهاية" 3/ 256، و"الكنز" 11/ 9، والحديث ضعيف كما قال الشافعي: قال ولا يكون مثل هذا الحديث حجة لأنه ضعيف، وهو قول من لقينا من فقهائنا، وقال البيهقي: وإنما ضعفه لانقطاعه، وهو قول الكافة، وعلة أخرى أن الحديث يدور على صديق بن موسى، وهو ليس بحجة كما في "الميزان" 3/ 28، وقد أشار إلى ذلك الآبادي في ذيل "سنن الدارقطني" 4/ 219. (¬3) في جميع النسخ بدوك (لا)، ولا يستقيم المعنى إلا بها؛ لأن المراد النهي عن تفريق ما يكون تفريقه ضررًا علي الورثة؛ كأن تقسم جوهرة نفيسة أو ثوب نفيس فتنقص بذلك قيمته.

الْقُرْآنَ عِضِينَ} يريد جَزَّؤُوهُ أجْزاءً، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولمِن، وقالوا: مفترى (¬1)، وهذا قول قتادة واختيار الزجاج (¬2) وأبي العباس (¬3) وأبي عبيدة (¬4)، ولكون المعنى على هذا: جعلوا القول في القرآن عضين حين اختلفت أقوالهم وتفرقت في وصف القرآن. القول الثاني: أنها عِضَة، وأصلها عِضْهة، فاستثقلوا الجمعَ بين هاءين، فقالوا: عِضَة؛ كما قالوا: شَفَة والأصل شَفْهة (¬5)، بدليل قولك: شافهت مشافهة، وسَنَة وأصلها سَنْهة في أحد القولين (¬6)، وعلى هذا؛ الهاء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4705) كتاب: التفسير، باب: الحجر بنحوه عن ابن عباس، والطبري 14/ 64 - 66 عنهما بنحوه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 225 عنهما، والحاكم: كتاب: التفسير، باب: الحجر 2/ 355 بنحوه، والماوردي 3/ 173 عن ابن عباس، والطوسي 6/ 354 عن قتادة، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 418 عنهما، و"تفسير القرطبي" 10/ 59، والخازن 3/ 103، وابن كثير 2/ 614، و"تنوير المقباس" ص 281، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 198 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق، عن ابن عباس. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 186 بنحوه، "تفسير ابن الجوزي" 4/ 419. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 355 بمعناه. (¬5) انظر: (عضة) في "تهذيب اللغة" 3/ 2478، مجمل اللغة 2/ 673، "الصحاح" 6/ 2241، "شرح الفصيح" للزمخشري 2/ 611، "عمدة الحفاظ" 3/ 111، "تفسير الطبري" 14/ 65، الثعلبي 2/ 152ب. (¬6) ذكر أبو علي الفارسي أن لام الكلمة المحذوفة يجوز أن تكون واوًا أو هاءً، لقولهم في (سنة) (أسْنَتُوا) -أجدبوا- ومنها؛ (سنوات)، أصلها واو، وفي قولهم: (ساناه) -عامله بالسنة- ومنها: (نخلة سَنْهاء) -أصابتها السنة- أصلها هاء، وقولهم في (عضه): (عِضوات) أصلها واو، وفي قولهم: (عِضاه، وبعير عاضه، وناقة =

لام وهي من العضة بمعنى الكذب، ومنه الحديث: "إيَّاكم والعِضَة" (¬1). وقال ابن السكيت: العَضِيْةُ أن يَعْضِه الإنسانَ ولقول فيه ما ليس فيه (¬2)، وهذا معنى قول عكرمة واختيار الكسائي (¬3)، وقول الخليل فيما روى عنه الليث (¬4). قال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش، وهم يقولون للساحر: عاضِه (¬5). ¬

_ = عاضهة) أصلها هاء. انظر: "المسائل الحلبيات" ص 345، "المسائل البغداديات" ص 158، "سر صناعة الإعراب" 1/ 418، "المحكم" (عضه) 1/ 59. (¬1) جزء من حديث طويل يتكون من عدة فقرات، كهجر المسلم، والصدق والكذب، وأحسن الكلام .. ، وقد أخرجه عبد الرزاق في المصنف: باب القدر 11/ 116 بنصه، والطبراني في "الكبير" 9/ 98 بنصه، قال محقق "المعجم الكبير": (قال شيخ الإسلام في إقامة الدليل ص 59: رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم بأسانيد جيدة إلى محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن الأحوص عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال .. فذكره، وهذا إسناد جيد، لكن المشهور أنه موقوف على ابن مسعود. وأفاد كذلك المحقق أن الألباني ضعفه - دون أن يذكر أين. وورد برواية: ألا أُنبِّئكم ما العَضْه؟ هي النميمةُ القالةُ بين الناس)، أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تحريم النميمة. (¬2) إصلاح المنطق ص 353 بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (عضه) 3/ 2477 بنصه، وفيهما: (العَضِيْهَةُ) بدل (العضية). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (عضه) 3/ 2477، "تفسير ابن عطية" 8/ 356. (¬4) كتاب "العين" 1/ 99 بمعناه. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 350 بنصه، والطبري 14/ 66 بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 43، و"تهذيب اللغة" (عضه) 3/ 2477 بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 173، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 320، وأبن عطية 8/ 357، وابن الجوزي 4/ 419، وابن كثير 2/ 614، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 198 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.

وقال ابن الأعرابي: العضة والتُّوَلة (¬1) السحر (¬2). وذكر الفراء القولين جميعًا في المصادر والمعاني (¬3)، وعلى هذا القول معنى قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} جعلوه سحرًا مفترى، وجمعت العضة جمع ما يعقل لِمَا لحقها من الحذف؛ فجعل الجمع بالواو والنون عوضًا مما لحقها من الحذف، وقد ذكرنا شرح هذا عند قوله: {ثُبَاتٍ} (¬4) [النساء: 71] وفي جمع أرض (¬5). قال الفراء: ومن العرب من يجعلها بالياء على كل حال، ويعرب نونها فيقول: عِضِينُك، ومررت بعِضِينِك، وأنشد: (¬6) دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنينَه .... لَعِبْنَ بَنا شِيبًا وشيَّبْنَنَا مُرْدا (¬7) ¬

_ (¬1) التُّولة والتِّوَلة: شيءٌ يُشبه السحر، يُحببُ المرأة إلى زوجها. "المحيط في اللغة" (تول) 9/ 462. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 92 مختصرًا، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 213 نقلهما عن الواحدي بنصه بلا نسبة. (¬4) واحد الثُبات: ثُبَةٌ، انظر: " لغريب" لابن قتيبة 1/ 127، "تهذيب اللغة" (ثاب) 1/ 465، "عمدة الحفاظ" 1/ 317. (¬5) لم أقف على الآية التي أشار أنه تعرض فيها لجمع أرض، وقد جمعت (أرضون)، والقياس يقتضي جمعها (أرضات) لأنها مؤنث، فلما حذفت الهاء -أي من أرضة- عوضوا عنها في الجمع بالواو والنون، فقالوا (أرضون) وفتحوا الراء في الجمع ليدخل الكلمة ضرب من التغيير تميزًا لها لمخالفة الأصل، وليعلم أن سبيلها لو جمعت بالتاء أن يفتح راؤها، فيقال: (أرَضات). انظر: "شرح المفصل" 5/ 5. (¬6) البيت للصمة بن عبد الله القُشَيْري ت 95 هـ. (¬7) ورد في:"تكملة الإيضاح" العضدي ص 207، "شرح شواهد الإيضاح" ص 597، "شرح المفصل" 5/ 11، "شرح التصريح" 1/ 77، "الخزانة" 8/ 58، وورد بلا =

قال وأنشدني بعضُ بني أسد (¬1): مِثْل المَقَالِي ضُرِبَتْ قُلِينُها (¬2) قال وإنما يجوز هذا فيما نقص لامها؛ لأنهم توهموا أن النون أصلية وأن الحرف على فعيل، ألا ترى أنهم لا يقولون هذا في الصالحين والمسلمين! وكذلك قولهم: الثبات واللغات، ربما أعربوا التاء منها بالنصب والخفض فيتوهَّمون أنها هاء وأن الألف قبلها من الفعل، وأنشد (¬3): ¬

_ = نسبة في "المخصص" 9/ 66، "الاقتضاب" ص 193، "أمالي ابن الشجري" 2/ 261، "اللسان" (نجد) 7/ 4346، (سنه) 4/ 2127، "أوضح المسالك" ص 14 (صدر)، "شرح ابن عقيل" (1/ 65، وفي بعض هذه المصادر (ذراني) بدل (دعاني)، والمعنى واحد، وهو أمر ومعناه: اتركاني من ذكر نجد، (سنينه): جمع سنة، وهي هنا إما بمعنى العام وإما بمعنى القحط. (شِيباً): جمع أشيب، وهو الذي ابيضَّ شعره، (مُردًا) جمع أمرد، وهو الذي لا شعر بعارضيه. والشاهد قوله: (سِنينَه) بإثبات النون ولم تسقط للإضافة، وعلامة نصبه الفتحة لا الياء وإلا لقال: (سِنِيْه) بحذف النون للاضافة وهذه لغة بني عامر، فإنهم يعربون المعتل اللام بالحركات الثلاث على النون مع لزوم الياء؛ لأنها أخف عليهم، ولأن النون قامت مقام الذاهب من الكلمة، ولو كان الذاهب موجودًا لكان الإعراب فيه كسائر المفردات، وكذلك يكون ما قام مقامه. انظر: "شرح التصريح على التوضيح" 1/ 77. (¬1) لم أقف على القائل، وفي المصدرين -الذين وقفت عليهما- نُسب إلى الفراء. (¬2) ورد في: "تهذيب اللغة" (قلا) 3/ 3025، "اللسان" (قلا) 6/ 3732، القُلَة والمِقْلَى والمِقلاء: عودان يلعب بهما الصبيان، فالمِقلى العود الكبير الذي يُضرب به، والقُلَة الخشبة الصغيرة التي تُنصب، وهي قَدر ذراع، وجمع المقلى المقالي، الشاهد: (قُلِينُها) حيث جعل النون كالأصلية فرفعها، وذلك على التوهم، ووجه الكلام فتح النون لأنها نون الجمع. (¬3) البيت لأبي ذؤيب الهذلي (جاهلي).

إذا ما جَلاَهَا بالإِيَام تَحَيَّزَتْ ........ ثُبَاتًا عليها ذُلُّها واكْتِئَابُها (¬1) ولا يجوز ذلك في: الصالحات والأخوات؛ لأنها تامة لم يُنقص من واحدها شيء، قال وما كان من حرف نُقِص من أوّله مثل: زِنة ولِدة (¬2) ودِية فإنه لا يقاس على هذا؛ لأن نقصه من أوَّله لا من لامه، فما كان منه مؤنَّثًا أومذكَّرًا فأجْرِه على التمام؛ مثل: الصالحين والصالحات، تقول: (رأيت ¬

_ (¬1) "ديوان الهذليين" ص 79، "شرح أشعار الهذليين" 1/ 53 وفيهما برواية: (فلمِّا اجتلاها)، وورد في: "أدب الكاتب" ص 441، "جمهرة اللغة" 1/ 248، 3/ 1334 وفيهما (ثباتٍ) بكسر التاء، "المنصف" 3/ 63، "المحتسب" 8/ 111، الاقتضاب ص 403، "شرح الجواليقي" ص 226، "اللسان" (أيم) 1/ 192، وورد بلا نسبة في: "الخصائص" 4/ 303، "المخصص" 8/ 182، 40/ 11، "شرح المفصل" 5/ 4. (اجتلاها): كشفها وأبرزها وأخرجها، (الإِيام): الدُّخان؛ وجمعُه أُيُم، وآمَ الدُّخانُ يَئيم إياماً: دخَّن، وآمَ الرجُلُ إيامًا إذا دَخَّن على النَّحْل ليَخرج من الخلِيَّة فيأخذ ما فيها من العسل، وقيل: الإيامُ: عُود يجعل في رأسه نارٌ ثم يُدخَّنُ به على النحل ليُشْتارَ العَسَلُ، (تحيزت): اجتمع بعضها إلى بعض، ويقال: تفرَّقت؛ صارت فِرقًا في كلِّ حيّز شيء، وُيروى (تحيرت) من الحَيرة؛ أي بقيت لا تدري إلى أين تذهب، (ثبات): جمع ثُبَةٍ؛ وهو القطعة من القوم ومن كل شيء، (الاكتئاب): الحزن. والشاهد: (ثباتًا) حيث نُصبت بالفتحة وحقها الكسرة -كما هو الأصل في جمع المؤنث السالم- وحجة من نصبها أن لام الكلمة محذوف ولم تُرَد إليه في الجمع كما حكى الكسائي: سمعت لغاتَهم بفتح التاء؛ لأن أصل ثُبَةٍ ثُبْوَة، وأصل لُغَة لُغْوَة. انظر: "شرح المفصل" 5/ 8. (¬2) ساقطة من (د)، ولِدَةُ الرجل: تِرْبُهُ، قال الجوهري: والهاء عوضٌ من الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة، وهما لِدَان، والجمع لِداتٌ ولِدُون. انظر: (ولد) في "المحيط في اللغة" 9/ 357، "الصحاح" 2/ 554، "اللسان" 8/ 4915.

92، 93

لِدَاتِك) (¬1) [ولِدِيكَ] (¬2) ولا تقل (¬3): لِدِينَك، ولا: لِداتَك (¬4). 92، 93 - قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال ابن عباس: عما كانوا يفترون ثم أجازيهم بأعمالهم (¬5)، وقال الكلبي: عن ترك لا إله إلا الله والإيمان برسله (¬6). قال أهل المعاني: وهذا السؤال توبيخ وتقريع، يُسألون يوم القيامة فيقال لهم: لم عضيتم القرآن وما حجتكم في ذلك؟ فيظهرُ خِزيُهم وفضيحتُهم عند تعذر جواب يصح (¬7)، وهذا معنى قول ابن عباس فيما روى عنه الوالبي في الجمع بين هذه الآية وبين قول: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] قال: لا يُسألون سؤال استفهام؛ لأنه علم ما عملوا، ولكن يُسألون سؤال تقريع؛ فيقال لهم: لم عملتم كذا وكذا (¬8)؟ ¬

_ (¬1) ما بين القوسين كتب على هامش أ. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في المصدر. (¬3) في جميع النسخ: (ولا هتك) ولم يتبين لي معناها، ولعلها من تصحيفات النساخ، والتصويب من المصدر. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 92 - 93 وهو نقل طويل نقله بتصرف واختصار. (¬5) وهذا القول أولى الأقوال، لكونه عامًا وشاملًا لجميع الافتراءات والمعاصي غير مقيد بنوع من المعاصي كما ذكر بعضهم. (¬6) انظر: تفسيره "الوسيط" تحقيق: سيسي 2/ 371، وورد في "تنوير المقباس" ص 281 بنصه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 225. (¬7) ورد بنصه تقريبًا في: تفسيره "الوسيط" تح: سيسي 2/ 371، والطوسي 6/ 355، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 419. (¬8) "أخرجه الطبري" 14/ 67 بنحوه، من طريق علي بن أبي طلحة (صحيحة)، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152ب بنحوه، "تفسير البغوي" 4/ 394، وابن عطية 8/ 358، وابن الجوزي 4/ 420، و"تفسير القرطبي" 10/ 61، والخازن 3/ 104، وابن كثير 2/ 615، رأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 199 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم =

94

فقوله: {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} أي: سؤال استعلام واستخبار، (وقوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} أي سؤال تقريع وتوبيخ، وهذا قول قطرب) (¬1) (¬2). 94 - قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} معنى الصَّدْع في اللغة: الشَّقُّ والفَرْقُ والفَصْلُ (¬3)، أنشد ابن السِّكِّيت لجرير: هُو الخَليفهُ فارْضَوْا ماقَضى لَكُمُ .... بالحَقّ يَصْدَعُ ما في قَوْلِهِ جَنَفُ (¬4) يصدع: يفصل، وأنشد الفراء (¬5): وأنْحَرُ لِلشَّرْبِ الكرامِ مَطِيَّتي ... وأَصْدَعُ (¬6) بين القَيْنَتَيْن رِدَائِيا (¬7) ¬

_ = والبيهقي في البعث، وروي عن ابن عباس توفيقاً آخر للآيتين؛ هو أن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف، فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها. انظر: "تفسيرالخازن" 3/ 104، ونُسب لعكرمة في: "وضح البرهان في مشكلات القرآن" 1/ 497، والصحيح أن عكرمة رواه عن ابن عباس، كما في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 ب، وورد غير منسوب في: "كشف المعاني في المتشابه من المثاني" ص 224، "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن" ص300. (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152ب، بنصه تقريباً، "تفسير البغوي" 4/ 394 - 395، "تفسير القرطبي" 10/ 61، الخازن 3/ 104. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬3) انظر: (صدع) في "تهذيب اللغة" 2/ 1987، "المحيط في اللغة" 1/ 324، "الصحاح" 3/ 1241. (¬4) "ديوان جرير" ص 308، وورد في "تهذيب اللغة" (صدع) 2/ 1987، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 214. (¬5) ليس في معانيه، والبيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي (جاهلي). (¬6) ساقطة من (د). (¬7) ورد في "المفضليات" ص 158، "جمهرة اللغة" 2/ 653، "الأغاني" 16/ 362، "ذيل أمالي القالي" 3/ 133، "الخزانة" 2/ 201، (الشرب) جمع شارب، (المطية) البعير، (القينة) المغنية، يريد أن يعطي كل منها شطر ردائه.

أي: أشقُّ، وتَصَدَّع القومُ، إذا تفرقوا، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]، قال الفراء: يتفرقون (¬1)، فأما معنى الآية فقال ابن عرفة: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي فرق بين الحق والباطل (¬2)، وروى أبو العباس (¬3) عن ابن الأعرابي في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي شُقّ جماعتَهم بالتوحيد (¬4)؛ كأنه يقول: ادعهم إلى التوحيد لتفرق جماعتهم؛ بإجابة بعضهم إيّاك فيكون ذلك تَفَرُّقَ كلمتهم، هذا معنى قول ابن الأعرابي، فالصدع على هذا يعود إلى صدع جماعة المشركين، وقال غيرُه: فَرّق القول فيهم (¬5)، وعلى هذا: الصَّدع يعود إلى دعوة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو أن يفرقها في الناس فيذيعها فيهم وقال أبو إسحاق: يقول أظهر ما تؤمر به؛ أُخذَ من الصِّدِيع وهو الصبح، وقال: وتأويل الصَّدْع في الزُّجَاج، أن يَبِيْنَ بعضُه من بعض (¬6)، وهذا الذي ذكره أبو إسحاق يعود إلى الشَّق أيضًا، قال الأزهري: وسُمّي الصبحُ صديعًا كما سُمّي فلقًا، وقد انصدع وانفلق وانفجر الصبح (¬7)، وقال ابن قتيبة: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي: أظهر ذلك، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 325 بلفظه. (¬2) "تهذيب اللغة" "صدع" 2/ 1988 بنصه. (¬3) في جميع النسخ: (ابن عباس)، وهو تصحيف، والتصحيح من التهذيب. (¬4) "تهذيب اللغة" "صدع" 2/ 1988 بنصه وورد غير منسوب فى "تفسير القرطبى" 10/ 61. (¬5) "تهذيب اللغة" "صدع" 2/ 1988 بنصه وورد فى "تفسير الماوردى" 3/ 174 عن النقاش. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 186 بتصرف يسير، "تهذيب اللغة" (صدع) 2/ 1987 بنصه، ويبدو أنه نقله مز التهذيب لا المعاني. (¬7) "تهذيب اللغة" (صدع) 2/ 1988 بنصه.

قال: وأصله الفَرْق والفتحُ، أي: اصدع بحقِّك الباطلَ (¬1)، وهذا قولُ أهل اللغة والمعاني، وقال ابن عباس: أظهر (¬2)، وقال الأخفش وأبو عبيدة: افرق (¬3)، وقال المؤرج: افصل (¬4). وقوله تعالى: {بِمَا تُؤْمَرُ} قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، و (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، وكذلك لم يعد إليه عائد من الصلة كقولك: ما أحسنَ ما ينطلق؛ لأنك تريد: ما أحسنَ انطلاقك، وما أحسنَ ما تأمر، أي: أمرك، ومثله قوله: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] كأنه قيل له: افعل الأمر الذي تؤمر، قال ويجوز أن يكون المعنى: بما تؤمر به، ¬

_ (¬1) "الغريب" لابن قتيبة ص 240 بنصه. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 ب، "تفسير البغوي" 4/ 395، الخازن 3/ 104، "تنوير المقباس" ص 281 بلفظه، وهذه الرواية أوهى الطرق؛ لأنها من طريق محمد بن مروان عن الكلبي، أخرجها أبو نُعيم في "الدلائل" ص 270، وقد رويت عن الكلبي -نفسه- في "تفسير هود" 2/ 358، والماوردي 3/ 174، والغريب إيراد الواحدي -رحمه الله- الأقوال الضعيفة عن ابن عباس وتركه للروايات الصحيحة والمشهورة في بعض المواضع، ففي هذه الآية مثلاً؛ ثبت عن ابن عباس تفسيرها بـ: أمضه، وافعل ما تؤمر. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 67 من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، والثعلبي 2/ 152 ب، و"تفسير البغوي" 4/ 395، وابن الجوزي 4/ 420، وابن كثير 2/ 615، و"الدر المنثور" 4/ 199 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ولعل سبب إيراده للروايات الضعيفة عن ابن عباس -مع ورود الروايات الصحيحة- أنه نظر إليها من جهة اللغة والمعنى لا من جهة السند، فاختارها -على القوية سندًا- لهذه الحيثية، والمعروف عن الواحدي -رحمه الله- أنه يغلب عليه الاهتمام باللغة والعناية بها في تفسيره. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 355 بلفظه، ولم أجده في معاني الأخفش، وورد منسوبًا للأخفش في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 ب بلفظه، و"تفسير البغوي" 4/ 395. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 152 ب بلفظه.

فحذف الجار؛ لأن العرب قد تقول: إني لآمرك وآمر بك، وأكفرك وأكفر بك، وأنشد (¬1): إذا قَالَتْ حَذَامِ فأنْصِتُوها ... فإنّ الأمْرَ ما قَالَتْ حَذَامِ (¬2) قال: يريد فأنصتوا لها. وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} (¬3) [هود: 68]، وقال مجاهد في قوله: {بِمَا تُؤْمَرُ} أي بالقرآن، قال: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة (¬4)، فعلى هذا المراد بالصدع الجهر والإظهار، والباء في {بِمَا تُؤْمَرُ} من صلة معنى الصدع، لا لفظه؛ وهو الجهر، وما تؤمر هو القرآن؛ لأنه إنما تؤمر بما في القرآن، و (ما) في هذا القول موصولة، وليست بمعنى المصدر، وتكون مع الجار في موضع نصب، وأكثر المفسرين على أن ¬

_ (¬1) البيت لِلُجَيْم بن صعْب، وحَذَامُ امرأتُه، وهي بنتُ الريَّان، سميت بذلك لأن ضرَّتها حذمت -قطعت- يدها بشفرة. (¬2) في نسخة (أ) أثبت عجز البيت في الهامش. ورد البيت في: "العقد الفريد" 3/ 84، 365، "اللسان" (رقش) 6/ 306، (نصت) 2/ 99، "شرح التصريح" 2/ 225، "شرح شواهد المغني" 2/ 596، وورد غير منسوب في: "ما ينصرف وما لا ينصرف" ص 101، "تفسير الطوسي" 6/ 355، "شرح المفصل" 4/ 64 "أوضح المسالك" 4/ 131، وفي جميع المصادر: (فصدقوها) بدل (فأنصتوها) و (القول) بدل (الأمر). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 94 بتصرف يسير. والشاهد: أي كفروا بربهم. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 419 بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 351 مختصرًا، والطبري 14/ 68 بنحوه من عدة روايات، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 44 بنحوه، و"تفسير هود الهواري" 2/ 358 بنحوه، و"تهذيب اللغة" (صدع) 2/ 1987 مختصرًا، "تفسير الثعلبي" 2/ 153أبنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 199 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

95

المعنى: اجهر بالأمر؛ أي بأمرك، يعني إظهار الدعوة، قالوا: ومازال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مستخفيًا حتى نزلت هذه الآية (¬1). وقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لائمتهم إياك على إظهار الدعوة ولا تسمعها، قال المفسرون: هذا منسوخ بآية القتال (¬2)؛ يعنون الإعراض عنهم وتركهم وما هم فيه، فإن جعلنا معنى الإعراض عنهم ترك المبالاة بهم، لا يكون منسوخًا (¬3). 95 - قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}: بك، وهم خمسة نفر من المشركين (¬4): الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعَدِيّ بن قيس، ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 225 بنحوه، والثعلبي 2/ 152 ب، بنصه، "تفسير البغوي" 4/ 395، و"ابن الجوزي" 4/ 420، والفخر الرازي 19/ 315، و"تفسير القرطبي" 10/ 62، والخازن 3/ 104، وابن كثير 2/ 615، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 199. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 199 أ، بنحوه، و"أخرجه الطبري" 14/ 68 بنحوه عن ابن عباس من طريق العوفي (غير مرضية)، وأخرجه كذلك عن الضحاك بنحوه، وورد في:"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 483 بصيغة التمريض، و"تفسير هود الهواري" 2/ 358 بنحوه، والثعلبي 2/ 153 أ، والماوردي 3/ 175 بنحوه عن ابن عباس، و"تفسير البغوي" 4/ 395، وابن عطية 8/ 359، وابن الجوزي 4/ 421، "تفسير القرطبي" 10/ 62، والخازن 3/ 104، وأبي حيان 5/ 470، "الدر المنثور" 4/ 199 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي داود في ناسخه عن ابن عباس. (¬3) وهذا القول هو الأولى من دعوى النسخ، وانظر: التعليق على دعوى النسخ بآية السيف، عند الآية [851] من هذه السورة. (¬4) المشهور أنهم خمسة، وورد أنهم ثمانية، وسبعة كذلك. انظر:"تفسير الطبري" 14/ 68 - 69، وابن الجوزي 4/ 421، وأبي حيان 5/ 470، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 200 وزاد نسبته إلى الطبراني [ليس في روايته الشاهد] وابن مردويه، وكما اختلف في العدد اختلف في صفة إهلاكهم ووقته وما جرى لكل واحد منهم.

98

والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد (¬1) يغوث، سلط الله عليهم جبريل حتى قتل كلَّ واحد منهم؛ أي بآفة وكفى نبيه شرهم، هذا قول عامة المفسرين (¬2). 98 - قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} رُوي عن ابن عباس: فصَلّ (¬3)، والمعنى: صَلّ حمدًا لله تعالى، والتسبيح يكون بمعنى الصلاة؛ لأن الصلاة لله تعالى تنزيه له عن الشريك. وقال في رواية عطاء: يقول: أحمد ربك سَيَسُرُّك فيهم، وعلى هذا معناه: سبحه بالتحميد؛ أي: احمده ونزهه عن أن يستحق الحمد غيرُه. وقال الضحاك: أي قل سبحان الله وبحمده (¬4). وقوله تعالى: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} قال ابن عباس: يريد من المصلين (¬5)؛ لأن العبد أقرب ما يكون من الله إذا سجد، ويؤيد هذا ما روي ¬

_ (¬1) (عبد) ساقطة من (ش)، (ع). (¬2) أخرجه بنحوه: عبد الرزاق 2/ 351، والطبري 14/ 70 بعدة روايات، والطبراني [مجمع البحرين] 6/ 46، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 46، و"تفسير هود الهواري" 2/ 358، و"تفسير السمرقندي" 2/ 225، والثعلبي 2/ 153 أ، والماوردي 3/ 175، والطوسي 6/ 356، و"تفسير البغوي" 4/ 395، والزمخشري 2/ 320، وابن الجوزي 4/ 421، والفخر الرازي 19/ 215، و"تفسير القرطبي" 10/ 62، والخازن 3/ 104، وأبي حيان 5/ 470، وابن كثير 2/ 616. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 153 ب، بلفظه، "تفسير البغوي" 4/ 397، الخازن 3/ 105، "تنوير المقباس" ص 281. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 153ب، بنصه، "تفسير البغوي" 4/ 397، وابن الجوزي 4/ 423. (¬5) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 423، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 200 أ، "معاني القرآن" للنحاس 4/ 47، "تفسير السمرقندي" 2/ 226، وهود الهواري =

99

أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (¬1). 99 - قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قال ابن عباس: يريد الموت (¬2)، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والجميع (¬3)، وسُمّي ¬

_ = 2/ 358، والثعلبي 2/ 153 ب بلفظه، والماوردي 3/ 176، و"تفسير البغوي" 4/ 397، وابن عطية 8/ 361، الخازن 3/ 105. (¬1) "أخرجه الطبري" 1/ 260 بنصه عن حذيفة، وورد في "تفسير الزمخشمري" 1/ 66، وابن عطية 1/ 276، "تفسير القرطبي" 1/ 371، وابن كثير 14/ 616، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 163، وورد برواية: كان إذا حزبه أمر صلى، أخرجها أحمد 5/ 388، وأبو داود (1319) كتاب: التطوع، باب: وقت قيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، والطبري 14/ 73، وورد في فيض القدير 5/ 120، والكنز 7/ 69، والحديث مشهور، وقد حسّنه الألباني في "صحيح أبي داود" (1192)، و"صحيح الجامع الصغير" (4703) وأوضح من هذا الشاهد حديث "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، رواه مسلم (482) كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، وأبو داود (875) كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في الركوع والسجود عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) "تفسير ابن الجوزي" 4/ 423، الفخر الرازي 19/ 216، "تنوير المقباس" ص 281. (¬3) "تفسير مجاهد" ص 419 بلفظه، وورد في "تفسير مقاتل" 1/ 200 أ، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 352 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 74 بلفظه عنهم، وأورده البخاري في "الفتح" 8/ 383 معلقًا بصيغة الجزم عن سالم بن عبد الله، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 47 عن مجاهد، "تفسير السمرقندي" 2/ 226، و"هود الهواري" 2/ 358 عن مجاهد، والثعلبي 2/ 153 ب، والماوردي 3/ 176 عنهم، والطوسي 6/ 356 عنهم، "تفسير البغوي" 4/ 397، والزمخشري 2/ 320، وابن العربي 3/ 1139، وابن عطية 8/ 362 عنهم، وابن الجوزي 4/ 423 عن مجاهد، "تفسير القرطبي" 10/ 64 عنهم، الخازن 3/ 105، وابن كثير 2/ 616 - 617 عنهم، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 203 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

الموت اليقين؛ لأنه مُوْقِن به جميعُ العقلاء، فاليقين بمعنى المُوْقَنُ به، ولم يعرف الأصمعي فعيلًا بمعنى مُفْعَل، حتى قَرَّرَ له ذلك ابن الأعرابي، واحتج عليه بقولهم: شيء متربّصٌ وتَرَبُّص (¬1)، وليل مُبْهَم وبَهِيْم، وشراب مُنْقَعٌ ونَقِيْع (¬2)، فإن قيل: أي فائدة لهذا التوقيت ولا عبادة على الميت؟ وإذا كانت العبادة تنقطع بالموت، فلم قال حتى الموت، وهو مقطع بالموت لا محالة؟! قال أبو إسحاق: مجاز هذا الكلام مجاز أبدًا؛ المعنى: اعبد ربك أبدًا؛ لأنه لو قيل: اعْبُدْ ربك بغير توقيت، لجاز إذا عبد الإنسانُ مدةً أن يكون مطيعًا، فإذا قال: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي: أبدًا وما دمت حيًّا، فقد أُمر بالإقامة على العبادة (¬3). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والقياس يقتضي أن تكون: مُرْبَص ورَبِيْصٌ. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 187 بنصه، وفي هذا رد على أهل الضلال الذين جعلوا للعبادة أجلاً تنتهي عنده؛ لذلك فسروا اليقين بالمعرفة، فإذا وصل أحدهم إلى مقام المعرفة سقط عنه التكليف!. انظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 617، والألوسي 14/ 87، والقاسمي 10/ 75.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة النحل إلى آخر سورة الإسراء تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي من أول سورة الكهف إلى آية (31) تحقيق د. عبد الرحمن بن محمد اليحيى أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثالث عشر

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [13]

ح/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي؛ عبد العزيز بن محمد اليحيى، الرياض 1430 هـ 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 3 - 870 - 04 - 9960 - 978 (ج 13) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي , علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 3 - 870 - 04 - 9960 - 978 (ج 13)

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة النحل إلى آخر سورة الإسراء تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي من أول سورة الكهف إلى آية (31) تحقيق د. عبد الرحمن بن محمد اليحيى أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثالث عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة النحل إلى آخر سورة الإسراء تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي

تفسير سورة النحل

تفسير سورة النحل بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد أتى عذابُ الله (¬1)، وقال الحسن وابن جريج: أي عقابُه لمن أقام على الإشراك به والتكذيب لرسوله (¬2)، وهذا القول في معنى {أَمْرُ اللَّهِ} هاهنا هو اختيار الزجاج؛ قال: {أَمْرُ اللَّهِ}: ما وعدهم الله من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب، واحتج بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، أي: جاء ما وعدناهم به، وبقوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} (¬3) [يونس: 24]. وفسّر آخرون هذا العذاب؛ فقال: هو الأمر بالسيف، وقالوا: هذا جواب النضر بن الحارث حين قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} الآية [الأنفال: 32]، فأنزل الله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (¬4)، أي: لا تطلبوه قبل حينه، وهذا كما تقول لمن يطلب أمرًا يستعجل فيه، أتاك الأمر فلا تستعجل. ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير السمرقندي" 7/ 227، بنصه، والثعلبي 2/ 153 ب، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 365، "تنوير المقباس" ص 282. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 75 بمعناه عن ابن جريج، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 358، عنهما، و"تفسير الماوردي" 3/ 178، عن ابن جريج، و"تفسير القرطبي" 10/ 65، عنهما. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 189، بنصه. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 153 ب، بنحوه، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" له ص 284، وانظر: "تفسير البغوي" 7/ 5 - 8.

وقال جماعة من المفسرين: {أَمْرُ اللَّهِ} هاهنا الساعة (¬1)؛ وذلك أن المكذبين بها استعجلوها، فقل لهم: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. قال أبو إسحاق: استبطاؤا (¬2) أمْرَ الله، فأعلم اللهُ أن ذلك عنده في القرب بمنزلة ما قد أتى، كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، وكما قال: {ومَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} (¬3) [النحل: 77]؛ وعلى هذا، إنما قال لِمَا لَم يأت بعد أتى؛ لأنه آت لا محالة، والعربُ إذا ذكرت شيئًا قَرُبَ وقوعه أخرجته مخرج الواجب، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّار} [الأعراف: 44]، وقد مر. وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ} هو قال ابن عباس: نَزَّه نفسه (¬4)، وقال الزجاج: تنزيه له وبراءة من السوء (¬5)، {وَتَعَالَى} أي: ارتفع وتعاظم بأعلى صفات المدح عن أن يكون له شريك، و (ما) في قوله: {عَمَّا} يجوز أن تكون (ما) المصدر، والتقدير: عن إشراكهم، والمعنى عن إشراكهم به غيره، فحُذف للعلم، ويجوز أن تكون بمعنى الذي؛ أي: ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 227، بنحوه، والثعلبي 2/ 153 ب، بلفظه، و"تفسير الماوردي" 3/ 178، عن الكلبي، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 7، عن الكلبي وغيره، وابن عطية 8/ 365، و"تفسير القرطبي" 10/ 66، والخازن 3/ 105، وأبي حيان 5/ 472، وقال: هو قول الجمهور. (¬2) في (أ)، (د): (استبطلوا)، والمثبت من (ش)، وهو موافق للمصدر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 189، بنصه تقريباً. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 282، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 200 أ، وهود الهواري 2/ 359، والسمرقندي 2/ 228، والفخر الرازي 19/ 218. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 190، بنحوه.

2

ارتفع عن الذي أشركوا به (¬1)؛ لأنهم {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. 2 - قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد جبريل وحده (¬2)، وذكرنا فيما تقدم جوازَ تَسْمِيةِ الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحدُ رئيسًا مقدمًا؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} الآية [آل عمران: 173] (¬3). وقوله تعالى: {بِالروحَ من أَمرِهِ} وقال ابن عباس: بالوحي (¬4)، وهو كلام الله، هذا قول الربيع والحسن (¬5)، وهو الاختيار في معنى الروح ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (أشركهم به)، ولا يستقيم بها المعنى، فلعلها تصحفت عن المثبت، أو التبست على النساخ بما قبلها. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 428، والفخر الرازي 19/ 219، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 200 أ، والسمرقندي 2/ 228، وفي "تنوير المقباس" ص 282، قال: "جبريل ومن معه من الملائكة". (¬3) قال الفراء: الناس في هذا الموضع واحد؛ وهو نُعيم بن مسعود الأشجعي، بعثه أبو سمان وأصحابُه فقالوا: ثبط محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أو خوفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكان معياد بينهم يوم أحد. "معاني القرآن" للفراء 1/ 247، وهو اختيار الزجاج في معانيه 1/ 489، وانظر: "تفسير الزمخشري" 1/ 231. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 77 بلفظه، من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 178، والطوسي 9/ 356، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 368، وابن الجوزي 4/ 428، و"تفسير القرطبي" 10/ 67، وأبي حيان 5/ 471، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 205، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 53، عن الحسن بلفظ: بالنبوَّة، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 178، عن الربيع بن أنس قال: هو القرآن، وعن الحسن أيضًا قال: الرحمة، والطوسي 6/ 359، عن الربيع قال: كلام الله، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 368، عن الربيع، وابن الجوزي 4/ 428، عن الحسن, و"تفسير القرطبي" 10/ 67، عن الحسن، وأبي حيان 5/ 471، عن الحسن، =

هاهنا، قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياةً للنفوس بالإرشاد إلى أمر الله (¬1). وقال أبو العباس في هذه الآية وفي قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15]، ولقوله: {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] هذا كله معناه الوحي (¬2)؛ سُمّي روحًا لأنه حياةٌ من موت الكفرِ، فصار يحيا به الناس؛ كالروح الذي يحيا (¬3) به الجسد. وقال أبو عبيدة: الروح هاهنا جبريل (¬4)، وعلى هذا الباء في بالروح بمعنى (مع) كقولهم: خرج بثيابه، أي: ومعه ثيابه، وركب الأمير بسلاحه، والأول الوجه، ومعنى {مِنَ أَمرِهِ}، أي: من فعله في الوحي (¬5). وقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد النَّبِيّين الذين يختصهم من عباده بالرسالة والوحي بقوله: {أَن أَنذِرُواْ}، قال الزجاج: {أَن} بدل ¬

_ = وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 205، ونسبه إلى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بالنبوة. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 190، بنصه. (¬2) "تهذيب اللغة" (روح) 3/ 1768، بنصه. (¬3) في جميع النسخ: (يحي)، ويستقيم السياق بالمثبت، وهو موافق لما في المصدر. (¬4) ليس في مجازه، وورد منسوباً إليه في: "تفسير الثعلبي" 2/ 154 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 8، الفخر الرازي 19/ 220، "تفسير القرطبي" 10/ 67، وهو قول ضعيف جدًّا، والصحيح هو الأول كما ذكر. (¬5) قال القاسمي: {من أَمرِهِ} بيان للروح، أو حال منه، أو صفة، أو متعلق بـ {ينزل}، وقال الفخر الرازي: وقوله: {من أَمرِهِ} إن ذلك التنزيل، والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] ونحوها، فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه. انظر. "تفسير الفخر الرازي" 19/ 220، والقاسمي 10/ 78.

3

من الروح، المعنى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} بأن أنذروا (¬1). والمعنى: أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا أنا، أي مروهم بتوحيدي وأن لا يشركوا بي شيئًا (¬2)، والخطاب للنَّبِيّين المعنيين بقوله: {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وهذا يدل أن معنى الروح هاهنا الوحي، إذا بُدّل منه الإنذار، ومعنى إنذارِهم بأنه لا إله إلا هو إعلامهم بذلك مع تخويفهم لو لم يقروا، ثم ذكر ما يدل على توحيده، فقال: 3 - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ومعنى هذا مذكور في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ} [الأنعام: 73]. وقوله تعالى: {عَمَّا يشركِوُنَ} ذكرنا معناه آنفًا (¬3). 4 - وقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ}، قال أبو إسحاق: اختصر هاهنا، وذكر تقلبَ أحوال الإنسان في غير مكان من القرآن (¬4). قال ابن عباس: يريد إني خلقت، قال المفسرون: نزلت هذه الآية والتي في آخر سورة يس: {أوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77] في قصة أُبي بن خلف وإنكاره البعث (¬5). ¬

_ (¬1) هذا المقطع ليس في معانيه، فلعله ساقط من النسخة المتداولة، بدليل أن النحاس قد نسبه إليه في إعرابه 2/ 391، وقال بهذا مكي في "مشكل الإعراب" 2/ 12، والزمخشري في "تفسيره" 2/ 321، وابن الأنباري في "البيان في غريب الإعراب" 2/ 75، و"المنتجب في الفريد" 3/ 214. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 190، بنصه. (¬3) في سورة الأعراف: الآية [190]. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 190، بنصه. (¬5) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 200 أ، والسمرقندي 2/ 228، والثعلبي 2/ 154 أ، و"تفسير الماوردي" 3/ 179، عن الكلبي، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" =

وقوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}، الخصيم بمعنى المخاصم، ذكرنا ذلك عند قوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، هذا قول أهل اللغة. قالوا: خصيمك الذي يخاصمك، وفعيل بمعنى مُفَاعل معروف؛ كالنسيب بمعنى المناسب، والعشير بمعنى المعاشر، والأكيل والشريب، ويجوز أن يكون خصيم فاعلًا من خَصِم يَخْصم بمعنى اختصم، وبه قرأ حمزة (¬1) قوله: {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُون} (¬2) [يس: 49]. وقوله تعالى: {مُبِينٌ} أي ظاهر، ومعناه: ظاهر الخصومة، ويجوز أن يكون مبين؛ أي يُبين عن نفسه الخصومة بالباطل، وذكر أهل المعاني لهذه الآية معنيين؛ أحدهما: أنه عرّفنا قدرته في إخراجه من النطفة ما هذه ¬

_ = ص 285، بلا سند، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 9، والزمخشري 2/ 321، وابن عطية 8/ 370، وابن الجوزي 4/ 428، و"تفسير القرطبي" 10/ 68، و"تفسير الخازن" 3/ 106. ولا خلاف أن آية (يس) لها سبب نزول ثابت، وإن اختلف فيمن نزلت؛ أبي بن خلف، أم العاص بن وائل؛ وهو الصحيح [انظر: "المسندرك" للحاكم (2/ 429) وصححه]. لكن هذه الآية ليس لها سبب نزول مسند، وهو شرط في إثبات أسباب النزول، ويكفي لرد هذه الدعوى أنه ورد من طريق الكلبي وحاله معروف، وتشابه الآيتين لا يسوغ إثبات نزول إحداهما للأخرى، إلا إذا لم يُقصد بإطلاق لفظ نزلت هذه الآية .. المعنى الاصطلاحي لأسباب النزول، وأريد التوسع في اللفظ كما فعلوا في النسخ. (¬1) قرأ حمزة: {يَخْصِمون} ساكنة الخاء خفيفة الصاد. انظر: "السبعة" ص 541، و"المبسوط في القراءات" ص 312، و"تلخيص العبارات" ص 141، وقال في "شرح الهداية" 2/ 486، ومن قرأ {يَخْصِمون} فالمعنى: يخصم بعضهم بعضاً. (¬2) نقل الفخر الرازي هذا المقطع بنصه ونسبه للواحدي. "تفسير الرازي" 19/ 226.

5

حاله وصفته، والثاني: أنه ذَكر فاحشَ ما ارتكب من تضييع حق نعمة الله بالخصومة في الكفر به (¬1). 5 - قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}، يعني الإبل والبقر والغنم، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}، ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: {لَكُمْ} ثم يبتدئ فيقول: {فِيهَا دِفٌ}. قال صاحب النظم: أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: {خَلَقَهَا}؛ لقوله في النسق على ما قبلها: {وَلَكُم فِيهَا جَمَال} (¬2). وأما الدفء، فقال الفراء وجميع أهل اللغة: هو ما انتفع به من أوبارها وأشعارها وأصوافها، أراد ما يلبسون منها ويبتنون (¬3)، فالدفء عند أهل اللغة: ما يُستدفأ به من الأكسية والأبنية (¬4)، قال الأصمعي: ويكون الدفء السخونة، يقال: اقعد في دفء هذا الحائط، أي في كنّه (¬5)، وقال الفراء في المصادر: يقال للرجل: دَفَيْت فأنت تدفأ دَفْأً، ساكنة الفاء مفتوحة الدال، ودِفْآء بالكسر والمد، وزاد غيرُه دَفاءةً ودَفاءً. ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير الماوردي" 3/ 179، عن الحسن، والطوسي 6/ 361. (¬2) أي أنه نسق {وَلَكُم فِيهَا جَمَال} على {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}، ولو وقف على {خَلَقَهَا لَكُمْ} لتعذر هذا العطف. وقد نقل الفخر الرازي 19/ 227، والخازن 3/ 106، قول صاحب النظم، وعزياه للواحدي -رحمه الله-. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 96، مختصرًا، وورد بنصه في "تهذيب اللغة" 2/ 1203 (دفأ)، وهذا يؤكد نقله من التهذيب لا المعاني، وانظر: (دفأ) في "مقاييس اللغة" 2/ 287، و"الصحاح" 1/ 50، و"اللسان" 3/ 1393. (¬4) انظر: (دفأ) في "المحيط في اللغة" 9/ 369، و"مقاييس اللغة" 2/ 287، و"الصحاح" 1/ 50، و"اللسان" 3/ 1393, و"عمدة الحفاظ" 2/ 13. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (دفأ) 3/ 120 بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 227.

وروى الحرَّاني عن ابن السِّكِّيت: يقال: هذا رجل دَفْآنُ وامرأة دَفْأى، ويوم دَفِيءٌ وليلة دفيئةٌ، وكذلك بيت دَفِيء، وغرفة دَفيئةٌ، على فَعيل وفعيلة، وما كان الرجل دَفْآن، ولقد دَفِئَ، وما كان البيت دَفِئًا, ولقد دَفُؤَ (¬1). الفَراء: دَفُؤَتْ ليلَتُنا ويومُنا دفأةً، ويقال: أدفأه فَدَفِئَ (¬2)، وإبل مُدْفِئة: كثيرة؛ لأن بعضَها يُدْفِئُ بعضًا بأنفاسها (¬3)، وإبل مُدْفأَةٌ ومدفآت: كثيرات الأوبار (¬4)، قال الشماخ: وكيفَ يضيِعُ صاحِبُ مُدْفَآتٍ ... على أثْباجِهِنَّ مِنَ الصَّقِيعِ (¬5) ونحو هذا قال عامة المفسرين في الدفء (¬6)، إلا ما روي عن ابن ¬

_ (¬1) لم أجده في الإصلاح، وورد في "تهذيب اللغة" (دفأ) 2/ 1203، بنصه. وانظر: "اللسان" (دفأ) 3/ 1393. (¬2) لم أجده في معانيه. (¬3) ورد في "الإصلاح" ص 379، بنحوه، و"التهذيب" (دفأ) 2/ 1203، بنصه، وانظر: (دفأ) في "مقاييس اللغة" 2/ 287، و"اللسان" 3/ 1393. (¬4) وهو قول الأصمعي كما في "التهذيب" (دفأ) 2/ 1203، وقال نحوه ابن السِّكِّيت في "الإصلاح" ص 379، وانظر: (دفأ) في "المحيط في اللغة" 9/ 369، و"اللسان" 3/ 1393، و"التاج" 1/ 153. (¬5) "ديوان الشماخ" ص 220، وفيه: (مُدْفِئَات)، وورد في "إصلاح المنطق" ص 379، و"المعاني الكبير" 1/ 429، و"جمهرة اللغة" 3/ 1313، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 66، و"أمالي القالي" 1/ 106، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص781، و"أساس البلاغة" 1/ 274، و"تفسير القرطبي" 10/ 69، و"اللسان" (دفأ) 3/ 1393، (ثبج) 1/ 468، (ضيع) 5/ 2625، و"التاج" (دفأ) 1/ 153. (أثباجهن) جمع ثبج؛ وهو الوسط، قال الأصمعي: ثبج كل شيء: وسطه. (الصقيع) البرد والنَّدى، ويقال: الجليد. والشاعر يمدح إبله أنها لن تهلك من البرد؛ لأن أوساطها مغطاة بوبر كثير يقيها البرد. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 200 ب، والطبري 14/ 78 - 79، والسمرقندي 2/ 228، وهود الهواري 2/ 360، والثعلبي 2/ 154 أ، والماوردي 3/ 178، والطوسي 6/ 361.

عباس من طريق عكرمة، {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} قال: النسل (¬1)، وروى الأزهري عن ابن هاجك (¬2) بإسناده عن ابن عباس، {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال: نسل كل دابة (¬3). قال (¬4) الأزهري: وهذا يوافق قول الأموي (¬5)، روى أبوعبيد عنه: الدفءُ (¬6) عند العرب: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها (¬7)، قال الفراء: ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 54، و"تفسير الماوردي" 3/ 179، وقد روي عن ابن عباس تفسيرها بتفسير العامة، أخرجه الطبري 14/ 79 بعدة روايات، وانظر: "تنوير المقباس" ص 282، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 206، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ولذلك حمل النحاس تفسير ابن عباس: بالنسل، على المنافع لا الدفء، مع أن قوله التالي الذي رواه عنه ابن هاجك يؤكد تفسيره لـ {دِفْءٌ} بالنسل. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه في التهذيب، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 353) بنصه، والطبري 14/ 79، بنصه من طريق عكرمة جيدة، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 228، و"تفسير القرطبي" 10/ 70، وانظر: "اللسان" (دفأ) 3/ 1393، و"عمدة الحفاظ" 2/ 13، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 206، وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) (قال) ساقط من (ش)، (ع). (¬5) أبو محمد، عبد الله بن سعيد الأموي اللغوي، لقي العلماء، ودخل البادية، وأخذ عن فصحاء الأعراب، وأخذ عنه العلماء كأبي عبيد، وأكثروا في كتبهم، كان حافظًا للأخبار والشعر وأيام العرب، وكان ثقة في نقله، من كتبه: (النوادر)، (رحل البيت). انظر: "طبقات النحويين والبلاغيين" ص 193، و"إنباه الرواة" 2/ 120، و"البلغة" ص 309، و"البغية" 2/ 43. (¬6) في جميع النسخ: (الدفؤ)، والمثبت موافق لجميع المصادر. (¬7) لم أجده في غريبه، وورد في "تهذيب اللغة" (فاد) 2/ 1203، بنصه، وانظر:=

6

وكتبت دفء بغير همز؛ لأن الهمزة إذا سَكن ما قبلها حُذفت من الكتاب، وذلك لخفاء الهمزة إذا سُكِتَ (¬1) عليها، فلما سَكَنَ ما قبلها ولم يَقْدِروا على هَمْزِها في الْسَّكْت، كان سكوتهم كأنه على الفاء، وكذلك قوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [النمل: 25] و {مِلْءُ الْأَرْضِ} [آل عمران: 91] (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنَافِعُ} يعني النسل والدّر والركوب، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قال ابن عباس: يريد من لحومها (¬3). 6 - قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} أي زينة، كما قال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، والمال ليس يخص الورِق والعين، وأكثر مال العرب الإبل، كما أن أكثر أموال أهل البصرة النخل. وقوله تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ}، الإراحة: ردّ الإبل بالعَشي إلى مُراحِها حيث تأوِي إليه ليلًا (¬4)، قال ابن عباس: يريد حِينَ خروج العرب أيام الربيع بالماشية إلى الخِصب، يعني أن الإراحة أكثر ما تكون أيام ¬

_ = (دفأ) في "مقاييس اللغة" 2/ 287، و"اللسان" 3/ 1393، و"عمدة الحفاظ" 2/ 13. (¬1) في جميع النسخ: (سكنت)، والصحيح المثبت، وهو موافق للمصدر وبه يستقيم الكلام. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 3/ 96، بنصه. (¬3) ورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 200 ب، والسمرقندي 2/ 228، والثعلبي 2/ 154 أ، والبغوي 5/ 9. (¬4) "تهذيب اللغة" (راح) 2/ 1309، بنصه، وهو قول الليث، وانظر: "تفسير الطبري" 14/ 80، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 55، و"تفسير الفخر الرازي" 19/ 228، و"اللسان" (روح) 1/ 1770.

7

الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأ، وخرجت العرب للنجعة، وتركت مياهها، وأحسنُ ما تكون النَّعم في ذلك الوقت (¬1)، ولذلك ستر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وجَهه لمّا رأى نَعَمَ بني المصطلق وقد عَبِست في أبوالها، وذكرنا هذا في آخر سورة الحجر. وقوله تعالى: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} يقال: سَرَّح القومُ إبِلَهم سَرْحًا إذا أخرجوها بالغداة إلى المَرْعَى، واسم ذلك المال السَّرْحُ، وسَرَح المالُ نفسُه سُرُوحًا: رَعَى بالغَدَاة (¬2). 7 - قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} جمع الثقل، وهو متاع المسافر وحَشَمُه، {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام، وإلى مصر (¬3)، هذا قوله، والمراد: كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير الإبل شق عليكم (¬4)، وخص ابن عباس اليمن والشام؛ لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه الوجوه، وليس قول من خص البلد بمكة بشيء (¬5)؛ والشِّقُّ المَشَقَّةُ، والشِّقُّ: نصفُ الشيء، وكِلا المعنيين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 228، والخازن 3/ 107، أورداه بنصه غير منسوب، والظاهر أنهما نقلاه عن الواحدي. (¬2) "تهذيب اللغة" (سرح) 2/ 1665، بتصرف، وانظر: "تفسير الطبري" 14/ 80. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 228، مع زيادة المدينة، والخازن 3/ 107، والألوسي 14/ 100، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 229، و"الشوكاني" 3/ 212. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 80، بنحوه، عن عكرمة، وانظر: "تفسير الماوردي" 3/ 180، وابن الجوزي 4/ 430. (¬5) وهو وابن عباس والربيع بن أنس وعكرمة، وقد أخرجه الطبري 14/ 80 عن عكرمة، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 229، عن عكرمة، وابن عطية 8/ 373، =

في الشق سائغ في معنى الآية، ذكرهما الفراء؛ وقال أكثر القراء: على كسر الشين (¬1)، ومعناه إلا بِجَهْدِ الأنفس، وكأنه الاسم، وكأن الشِّقَّ فعلٌ، قال: ويجوز في قوله: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} أن يذهب إلى أن الجَهْدَ يُنْقِص من قوةِ الرجل ونَفَسِه حتى يجعله قد ذهب بالنصف من بدنه أو قوته، فيكون الكسر على أنه كالنصف، ويقال: المال بيني وبينكم بشَقِّ الشعر؛ وشِقِّ الشَعَر، وهما متقاربان، فإذا قالوا: شَقَقْتُ عليك شقًّا، نصبوا (¬2). وقال في "المصادر": شققت عليه شقًّا، وشق الصبح، وشق بابه إذا طلع، شقوقًا منهما، وشققت الثوب شقًّا لا غير. قال ابن شميل: شَقَّ عليَّ ذلك الأمر مشقة، أي: ثقل عليّ (¬3)، فجاء من هذا أن الشَّق بالفتح مصدر شَقَّ عليه الأمر، أي: أثقله عليه، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أَشُقَّ على أمتي" (¬4)؛ شَقَّ الأمْرُ عليه مَشَقَّةً، فهو واقع ¬

_ = عنهم، وابن الجوزي 4/ 430 عن عكرمة، و"تفسير القرطبي" 10/ 71، عن عكرمة، وأبي حيان 5/ 476، عنهم، و"تنوير المقباس" ص 282، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 206، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس، وصديق خان 7/ 210، عن ابن عباس، والصحيح حمله على العموم؛ لعدم وجود مخصص، كما أشار الواحدي -رحمه الله-. (¬1) قرأ أبو جعفر المدني وحده في العشر بفتح الشين. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 81، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه ص 76، و"المحتسَب" 2/ 7، و"المبسوط في القراءات" ص 223، و"إعراب القراءات الشاذة" 1/ 756، و"النشر" 2/ 302. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 97، بتصرف يسير، وورد في "تهذيب اللغة" (شق) 2/ 1906، بنحوه. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (شق) 2/ 1906، بنصه. (¬4) أخرجه أحمد (2/ 250، 287) بنصه عن أبي هريرة، والبخاري: كتاب: الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، ومسلم: كتاب: الطهارة، باب: السواك 1/ 220، =

8

ومطاوع (¬1)، والشق: الاسم منه، وشَقَّ الشيءَ شقًّا، وشق بنفسه شُقوقًا. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} يريد أنه مَنّ عليكم وتفضَّل بإنعامه بالنعم التي لكم فيها هذه المنافع والمرافق (¬2). 8 - قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قال الفراء: نُصبت {وَزِينَةً} على: وجعلها زينة، مثل قوله: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} (¬3) [فصلت: 12] المعنى: وحفظناها حفظًا, ولو لم يكن في (الزينة) ولا في {وَحِفظَا} وَاوٌ لنصبتَها بالفعل الذي قبلها لا بالإضمار، ومثله: أعطيتك درهمًا ورغبة في الأجر، المعنى أعطيتكه (¬4) رغبةً، فلو ألقيت الواو لم يحتج إلى ضمير؛ لأنه متصل بالفعل الذي قبله (¬5)، وقال أبو إسحاق: نُصبت {وَزِينَةً} على أنها مفعول لها، المعنى: وخلقها للزينة (¬6). قال أصحابنا: والآية لا تدل على تحريم لحوم الخيل، وإن ذكرت ¬

_ = وأبو داود (46): كتاب: الطهارة، باب: السواك 1/ 11، والترمذي (22) كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في السواك (1/ 9)، والنسائي: الطهارة/ الرخصة في السواك بالعشي للصائم 1/ 4، و"معجم الطبراني الكبير" 5/ 243، 244، وأورده الهيثمي في "المجمع" 1/ 221، وورد في تهذيب اللغة (شق) 2/ 1906. (¬1) الوقوع في اصطلاح النحويين: التعدِّي، والمطاوعة: هو الفعل المتعدي الذي يصير لازمًا إذا تحوَّل إلى صيغة "انفعل" مثل: كَسَرَ الولدُ الزجاج، تقول: انكسر الزجاج انظر: "المعجم المفصل في النحو العربي" 2/ 1012، 1189. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 431. (¬3) الآية التي أورد الفراء غير هذه، وهي: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} [الصافات: 7]. (¬4) في جميع النسخ: (أعطيتكه هو) بزيادة ضمير الفصل، وأدى إلى اضطراب المعنى، والتصويب من المصدر. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 97، بتصرف يسير. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 192، بنحوه.

البغال والحمير؛ لأن القصد بهذه الآية بيانُ إباحةِ الركوب وإظهار المنّة بأنْ خَلق لنا من الحيوان ما نقضي عليه حوائجنا ونتجمَّل به، وكيف تدل على تحريمها والسورة مكية؟ ولحوم الحُمُر الأهلية حُرِّمت عام خيبر (¬1)، فلو دَلَّت على تحريم لحم الخيل لَدَلَّت على تحريم لحم الحُمُر حتى (¬2) تُحَرَّم عند نزولها, ولحوم الخيل حلال بالسنة والأخبار فيها كثيرة (¬3). ¬

_ (¬1) وقد وردت عدة أحاديث في ذلك، منها: ما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المتعة عام خيبر وعن لحوم حُمُرِ الإنسيَّةِ. (أخرجه البخاري (5523) كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية (5/ 2102، ومسلم (1407) كتاب: الصيد والذبائح، تحريم أكل الحمر الإنسية، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. رواه البخاري (5521)، ومسلم (561). (¬2) هكذا في جميع النسخ، والعبارة مضطربة، فلعل (حين) تصحفت إلى (حتى)، وبها يستقيم السياق. (¬3) وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وقد استدلوا على إباحته بما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل، وفي رواية مسلم: وأذن في لحوم الخيل. (أخرجه البخاري (5520، 5524): الذبائح، باب: لحوم الخيل، ومسلم (1941): الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، واستدلوا أيضًا بما روته أسماء -رضي الله عنها- قالت: نحرنا فرسًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلناه. (أخرجه البخاري (5520، 5519) كتاب: الذبائح والصيد، النحر والذبح (1942)، ومسلم (1942): الصيد والذبائح، في أكل لحوم الخيل (3/ 1541)، والمشهور عن الحنفية والمالكية تحريمه، وروي عنهما الكراهة، والقول بالإباحة هو الراجح؛ لصحة أدلته وصراحة دلالتها، ومع أن الشرع يُجوِّز أكله فإن أكله غير مشهور في بلاد المسلمين اليوم، ولعل سبب ذلك استخدامه في المعارك العسكرية في الأجيال السابقة، لذلك لم يألف الناس أكله ولا بيعه ولا تسويقه لذلك الغرض. انظر: "بداية المجتهد" 1/ 469، و"شرح الزرقاني" (3/ 91، و"حاشية الرهوني =

وقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} روي عن ابن عباس أنه قال: لم يسمه فالله أعلم (¬1). وروى عطاء عنه، ومقاتل عن الضحاك عنه، قال: يريد أنّ عن يمين العرش نهرًا من نور؛ مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل فيه كل سحر فيغتسل فيزاد نورًا إلى نوره وجمالًا إلى جماله، وعِظَمًا إلى عِظَمِه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نفضة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفًا البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفًا، لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة (¬2). ¬

_ = على عبد الباقي 3/ 39، و"المبسوط" 11/ 233، و"حاشية ابن عابدين" 6/ 305، و"تفسير القرطبي" 10/ 76، و"المجموع" 9/ 4، و"المغني والشرح الكبير" 11/ 69، و"فتح الباري" 9/ 566، و"أضواء البيان" 2/ 254، و"أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية" ص 126. (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 282، بنحوه. (¬2) ليس في تفسير مقاتل، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 154، بنحوه من طريقين؛ مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواية أبي سعيد، وموقوفًا على وهب بن منبه، لكن ليس في الروايتين أنه تفسير لقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 154 ب، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 231، و "تفسير القرطبي" 10/ 80، وأبي السعود 5/ 98، و"تفسير الألوسي" 14/ 102، وورد غير منسوب في: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 432 مختصرًا. وعلى هذا التفسير مأخذان؛ الأول: أنه حدد وخصص ما أبهم الله خلقه بأمور بعيدة عن سياق الآية. الثاني: أن الحديث الوارد موضوع، فقد أورده السيوطي في "اللالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" 1/ 84، عن أبي هريرة مرفوعاً. وأغلب الظن أن الأثر من الإسرائيليات، يؤكده أنه ورد عن أحد مصادر الإسرائيليات، وبذلك جزم محقق كتاب "العظمة" ص 154، رقم (3)، وقد أورده ابن الجوزي بنحوه في كتاب "الموضوعات" 1/ 218.

9

وقال آخرون: يعني مما أعد في الجنة لأهلها وما أعد في النار لأهلها (¬1). وقال السدي وقتادة: يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه (¬2). 9 - قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} القصد: استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك، وقصد بك ما تريد (¬3)، واختلفوا في معنى هذه الآية، فأكثر المفسرين على أن المعنى: وعلى الله بيان قصد السبيل بالكتب والرسل والحجج (¬4)، وهو قول جابر وقتادة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 14/ 83، والبغوي 5/ 11، وابن الجوزي 4/ 432، و"تفسير القرطبي" 10/ 80، والخازن 3/ 108، وأبي حيان 5/ 477. (¬2) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 57، عن السدي، و"تفسير الثعلبي" 2/ 154 ب، بنصه عن قتادة، و"تفسير القرطبي" 10/ 80، وعنهما في الخازن 3/ 108، عن قتادة، وأبي حيان 5/ 477، وهو قول غريب وتخصيص عجيب دون داعٍ أو مناسبة، وهذا التفسير لا يليق بهذا المكان؛ لأن السياق في النعم والمنن، وحتى تخصيصه بما أُعد في الجنة غير مناسب للسياق؛ فالحديث في معرض الامتنان على العباد مؤمنهم وكافرهم بالمركوبات، لذلك فالإطلاق أولى من كل هذه التخصيصات البعيدة عن السياق، وإن لزم الأمر إلى تخصيص، فينبغي أن يكون التخصيص بجنس الممتن به؛ لقوة القرينة، فيكون المقصود بـ {مَا لَا تَعلَمُونَ}، أي: من جنس المركوبات، ويؤيد هذا التخصيص ما ألهم الله البشر من اختراع وسائل النقل المتعددة - لم تكن موجودة بل ولا متصورة يومئذٍ، كالسيارات والقطارات والطائرات والمركبات الفضائية، وقد أشار إلى ذلك جماعة من العلماء المعاصرين. انظر: "تفسير سيد قطب" 4/ 2161، و"الطاهر بن عاشور" 14/ 111، و"الشنقيطي" 3/ 218. (¬3) انظر: (قصد) في "المحيط في اللغة" 5/ 256، و"المفردات" ص 672، و"اللسان" 3642. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 200 ب، والطبري 14/ 84، والسمرقندي 2/ 229، و"تفسير الماوردي" 3/ 181، والبغوي 5/ 11، وابن عطية 8/ 376، و"تفسير القرطبي" 10/ 81، والخازن 3/ 108، وأبي السعود 5/ 98.

والسدي (¬1)، ورُوي ذلك عن ابن عباس (¬2) واختاره الفراء (¬3) والزجاج (¬4)، وعلى هذا: الآية من باب حذف المضاف؛ لأن التقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، ثم قال: {وَمِنهَا جَآِئرٌ}، أي: عادل مائل، ومعنى الجور في اللغة: الميل عن الحق (¬5)، والكناية في منها تعود على السبيل، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، يعني: ومن السبيل ما هو جاثر غير قاصد للحق (¬6). قال الكلبي: يعني اليهودية والنصرانية والمجوسية (¬7). وقال ابن المبارك: يعني الأهواء والبدع (¬8). روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية، قال: من أراد أن يهديه سهل له طريق الإيمان, ومن أراد أن يُضلَّه وعَّر عليه طريق الإيمان (¬9)، يعني ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 84 بمعناه عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 209، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة بمعناه، ولم أقف عليه عن جابر والسدي. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 85 بمعناه، من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، ومن طريق العوفي غير مرضية، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 363. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 97، بمعناه. (¬4) معاني القرآن وإعرابه" 3/ 192، بمعناه. (¬5) انظر: (جور) في "المحيط في اللغة" 7/ 172، و"مجمل اللغة" 1/ 202، و"الصحاح" 2/ 917، و"اللسان" 2/ 772. (¬6) نقله الفخر الرازي بنصه، ونسبه للواحدي 19/ 231. (¬7) روي عن ابن عباس في "تفسير ابن كثير" 2/ 620، و"تنوير المقباس" ص 283، وورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" 2/ 154، دون ذكر المجوسية، والبغوي 5/ 11، وابن عطية 8/ 377، و"تفسير القرطبي" 10/ 81، والخازن 3/ 108. (¬8) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 154 ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 11، وابن الجوزي 4/ 433، والخازن 3/ 108. (¬9) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 82، بنصه.

المنافق والكافر؛ شَدُدَ عليه الغُسْلُ من الجنابة والوُضوءُ للصلاة، ويَثْقُلُ عليه صيام شهر رمضان من اثني عشر شهرًا، ثم بين أن المشيئة إليه، فقال: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، يريد: فلو شاء لأرشدكم أجمعين حتى لا يختلف عليك يا محمد أحد، هذا كلامه، والذي ذكرنا في هذه الآية هي طريقة المفسرين. وفي الآية وجه آخر، وهو أن المعنى: أن قصد السبيل الذي هو الحنفية والإسلام على الله؛ أن يؤدي إلى رضا الله وثوابه وجزائه (¬1)؛ كقوله: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41]، أي: أنه يؤدي إلى جزائي وكرامتي، فهو طريق عليّ، وهذا مذهب مجاهد، قال: على الله طريق الحق (¬2)، وبه قال عبد الله بن المبارك (¬3)، وهو أقوى القولين؛ لأنه صح من غير إضمار ولا شبهة للقدرية (¬4)؛ لأنهم يقولون على التفسير الأول: أضاف قصد السبيل إليه. ثم قال: {ومنها جائزٌ} وهو ضده، فلم يضف إلى نفسه (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 376. (¬2) تقدم توثيق قوله. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) القدرية هم نفاة القدر؛ يزعمون أن الأمر أنف، كان أول ظهورهم في نهاية جيل الصحابة، عندما ظهر معبد الجهني، وقد تبرأ منهم ابن عمر -رضي الله عنهما-، وخلف الجهمية في هذه البدعة المعتزلة، وأصّلوها، وجعلوها من أصولهم الخمسة. انظر: "الفرق بين الفرق" ص 114، و"الفصل في الملل والأهواء" 3/ 82، و"الملل والنحل" 1/ 43، و"الاستقامة" 1/ 179، و"التعريفات" ص 174. (¬5) هذه إشارة إلى مذهبهم الفاسد في إخراج أفعال العباد عن قدرة الله وخلقه، والمذهب الحق في هذه القضية هو مذهب أهل السنة والجماعة، وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره، فقال: وأما جمهور أهل السنة، فيقولون: إن =

10

وجوابهم عن هذا أن الجائر أيضًا منه، وإن لم يضف إلى نفسه، ولكنه ذكر ذلك على الإطلاق (¬1)، وابن عباس قد بَيَّنَ ذلك كما حكينا, ولا شبهة لهم في الآية على القول الثاني. 10 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} إلى قوله: {وَمِنهُ شَجَرٌ}، قال أهل اللغة: الشجر أصناف، فأما جِلُّ الشجر فعظامه التي تبقى على الشتاء، وأما دِقُّ الشجر فصنفان: أحدهما يبقى له أَرُومَةٌ (¬2) في الشتاء وَينْبت في الربيع، ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء؛ كالبقول (¬3)، وقال أبو إسحاق: كلُ ما يَنْبُت على الأرض فهو شجر: ¬

_ = فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله ومفعول لله؛ لا يقولون: هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. "منهاج السنة النبوية" 2/ 298. (¬1) لذلك فإن من كمال الأدب أن لا ينسب إلى الله إلا الخير، وأما الشر فإما أن يذكر مطلقًا غير منسوب إليه، وإما أن ينسب إلى السبب الظاهر، ومن أمثلته في القرآن: ما ورد على لسان إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] , وقال على لسان الخضر: {ومَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]؛ في حين نسب الخير إليه في قوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] , وقال على لسان الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، ومن هنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "والخير كله بيديك، والشر ليس إليك" [مسلم (771) كتاب: المسافرين، الدعاء في صلاة الليل]. (¬2) الأرُومَةُ: أصلُ كلِّ شجرة، والجميعُ الأرُومُ والأرُومَات، وأرَمْتُ الشيءَ: ذهبتُ بأرُومَته وقَلَعْتُه. انظر: "المحيط في اللغة" (أرم) 10/ 290. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (شجر) 2/ 1830، بنحوه، وانظر: (شجر) في: "جمهرة اللغة" 1/ 458، و "مقاييس اللغة" 3/ 246، و"اللسان" 4/ 2198.

نُطْعِمُها (¬1) اللحم إذا عَزَّ الشَّجَرْ (¬2) ويعني أنهم يُسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض (¬3)، وقال ابن قتيبه في هذه الآية: يعني الكلأ (¬4)، ومعنى الآية: أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما يرعاه الراعيةُ من ورق الشجر وجلّها؛ لأن الإبل يرعى جِلَّ الشجر. قال ابن السِّكِّيت: يقال: شاجرَ المالُ، إذا رعى العُشبَ والبَقْلَ فلم يَبْق منها شيء، فصار إلى الشجر يَرْعاه (¬5). وقوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ}، أي: في الشجر تَرْعَون مواشيكم، يقال: أَسِمْت الماشية إذا خليتها ترعى، وسَامَت هي تَسُومُ سَوْمًا إذا رَعَتْ حيثُ شاءت، فهي سَوَامٌ وسَائِمَةٌ (¬6)، قال الزجاج: أُخِذَ ذلك من السّومة؛ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (يعظمها) ولا معنى لها، والصحيح أنها تصحيف من (نطعمها) كما في بعض المصادر. (¬2) البيت للنمر بن تَوْلَب [مخضرم (ت 14 هـ)]. وعجزه: والخَيْلُ في إطْعامِها اللَّحْمَ ضَرَرْ "ديوانه" ص 355، وفيه (عَسَرْ) بدل (ضَررْ)، وورد في "الشعر والشعراء" ص 191 (الشحم) بدل (اللحم) الأولى، و"الأغاني" 22/ 279، و"اللسان" (هشش) 8/ 4667، وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" (لحم) 4/ 3248، "اللسان" (علف) 5/ 3070، و"تفسير الألوسي" 14/ 105، في الأخيرين برواية: (نعلفها) بدل (نطعمها)، وورد صدره في "تفسير الرازي" 19/ 233، والخازن 3/ 108، وأبي حيان 5/ 478، وسمى اللبن لحماً؛ لأنها تسمن على اللبن. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 192، بنحوه. (¬4) "الغريب" لابن قتيبة ص 243، بلفظه. (¬5) "إصلاح المنطق" ص 309، بنصه، وانظر: (شجر) في "تهذيب اللغة" 2/ 1831 بنصه، و"الصحاح" 2/ 694، بنصه. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (سام) 2/ 1602، بنحوه، وانظر: (سوم) في "جمهرة اللغة" 2/ 862، و"المحيط في اللغة" 8/ 403، و"الصحاح" 5/ 1955.

11

وهي العلامة , وتأويلها أنها تُؤثِّر في الأرض برَعْيِها علامات (¬1)، وقال غيره: لأنها تُعَلَّمُ الإرسالَ (¬2) في المرعى (¬3). 11 - قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ} قراءة العامة بالتاء (¬4)، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون (¬5) والياء أشكل لما تقدم من الإفراد (¬6)، والنون لا يمتنع أيضًا، ويقال: نبت (¬7) البقل (وأنبته الله، وقد روي: أنبت البقل) (¬8)، والأصمعي يأبى إلا نبت، ويزعم أن قصيدة زهير التي فيها: حتى إذا أنبت البَقْلُ (¬9) متّهمة (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 192، بنصه. (¬2) في "تفسير الفخر الرازي" 19/ 234، و"تفسير القرطبي" 10/ 82 (للإرسال)، وهو قريب من الأول. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 19/ 234، و"تفسير القرطبي" 10/ 82. (¬4) انظر: "السبعة" ص370، و"علل القراءات" 1/ 301، و"الحجة للقراء" 5/ 54، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 34. (¬5) أي: (نُنْبِتُ)، انظر: المصادر السابقة. (¬6) وقد رجحه الأزهري فقال: والياء أجودهما، وقال ابن خالويه: فالحجة لمن قرأه بالياء: أنه أخبر به عن الله عز وجل لتقدم اسمه أول الكلام، والحجة لمن قرأه بالنون: أنه جعله من إخبار الله عز وجل عن نفسه بنون الملكوت. انظر: "علل القراءات" 1/ 301، و"الحجة في القراءات" ص 209، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 34. (¬7) في (ش)، (ع): (أنبت)، والصحيح المثبت ليستقيم السياق، وهو موافق للمصدر. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬9) البيت كما في الديوان ص 41: رأيتُ ذَوِي الحاجاتِ حولَ بُيوتِهم ... قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقْلُ أي: نبت. (¬10) ورد في "تهذيب اللغة" (نبت) 4/ 3491، بمعناه، و"الحجة للقراء" 5/ 54، بنصه.

12

وقوله تعالى: {الزَّرْعَ} قال ابن عباس: يريد الحبوب (¬1)، {وَالزَّيْتُونَ} جمع زيتونة، يقال: الشجرة نفسُها زيتونة، ولثمرها زيتونة، والمجميع الزيتون، {وَالنَّخِيلَ} يقال: نخلة ونخل ونخيل. وقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، أي: وينبت من كل الثمرات، فحُذف لأن ما سبق يدل عليه. 12 - قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} إلى قوله: {مُسَخَّرَاتٌ}، قراءة العامة بالنصب في هذه المنسوقات كلها (¬2)، وهو الوجه لاستقامتها في المعنى، وإذا استقامت في معنى واحد استقامت في إعراب واحد، وقد جاء التسخير في الشمس والقمر والنجوم، وهو قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} [الأنعام: 97]، فكما حملت على التسخير في هاتين كذلك وجب أن يحمل على التسخير في هذه السورة. وقوله تعالى: {مُسَخَّرَاتٍ} حال مؤكدة؛ لأن تسخيرها قد عُرف بقوله: {وَسَخَّر} فجاءت الحال مؤكدة، ومجيء الحال مؤكدة في التنزيل وغيره كثير؛ كقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]. و: أنا ابنُ دارَة معروفًا (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 433، والخازن 3/ 108، بلا نسبة. (¬2) انظر: "السبعة" ص 370، و"علل القراءات" 1/ 302، و"الحجة للقراء" 5/ 55، و"المبسوط في القراءات" ص 223، و"التيسير" ص 137. (¬3) جزء من بيت لسالم بن دارة (مخضرم)، وتمامه: أنا ابن دارة معروفا بها نَسَبي ... وهل بدارة يا للناس من عارِ وهو من شواهد سيبويه 2/ 79، وورد في "الخصائص" 3/ 60، و"أمالي ابن الشجري"، و"تفسير ابن عطية" 8/ 382، و"الخزانة" 2/ 145، 3/ 266، =

و: كَفَى بالنأيِ من أسماءَ كاف (¬1) وقرأ ابنُ عامر: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} رفعًا (¬2)؛ كأنه قطعها عن سخر لئلا يجعل الحال مؤكدة، فابتدأ الشمس والقمر والنجوم، وجعل مسخرات خبرًا عنها؛ لأنه لا يقال: ذللت هذا الشيء مُذللا، ووهبت لك هذا موهوبًا، إلا في التأكيد النادر، وروى حفص عن عاصم: {مُسَخَّرَاتٍ} بالرفع وحدها (¬3)؛ ووجه ذلك أنه لم يجعلها حالاً مؤكدة، وجعلها خبر ابتداء محذوف؛ كأنه قال بَعدُ: هي مسخراتٌ، فحذف المبتدأ وأضمر لدلالة الخبر عليه، وقد عُلم التسخير بما تقدم، وكون {مُسَخَّرَاتٍ} حالًا مؤكدة أسوغ من كونها خبرَ مبتدأ محذوف؛ لأن الخبر ينبغي أن يكون ¬

_ = و"دارة": أمُّه، سميت بذلك لجمالها، تشبيها بدارة القمر. والشاهد: قوله (معروفًا) حال مؤكِّدة لمضمون الجملة قبلها: (أنا ابن دارةَ). (¬1) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي (جاهلي)، وعجزه: وليس لِحبِّها ما عشتُ شافِ "ديوانه" 142، وفيه: (إذا طال شافي) بدل (ما عشت شافي)، وورد في "أمالي ابن الشجري" 1/ 282، 432، و"الخزانة" 4/ 439، 10/ 477 (عجز)، وورد غير منسوب في "الكامل" 2/ 910، و"المقتضب" 4/ 22، و"الخصائص" 2/ 268 (صدر)، و"المنصف" 2/ 115، و"الموضح في وجوه القراءات" 2/ 732 (صدر)، و"شرح المفصل" 6/ 50، 10/ 103. (النأي) البعد، (أسماء) امرأة؛ يريد كفى النأي من أسماء كفايةً. والشاهد قوله: (كافٍ) على أنه حال مؤكدة؛ لأنه إذا كفى فهو كافٍ لا محالة. (¬2) انظر: "السبعة" ص 370، و"علل القراءات" 1/ 301، و"الحجة للقراء" 5/ 55، و"المبسوط في القراءات" ص 223، و"التيسير" ص 137. (¬3) انظر: المراجع السابقة.

13

مفيدًا، لم يجيء إلا كذلك، والحالُ تجيء مؤكِدة (¬1)؛ ألا ترى إلى قوله: إذا كان يومٌ ذو كَواكِبَ أَشْنَعَا (¬2) حمله على الحال ولم يحمله على الخبر (¬3). 13 - قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} أي لأجلكم، وهو عطف على ما قبله من المسخرات. وقوله تعالى: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي هيأته ومناظره، يعني الدواب والأشجار وغيرها، ونصب مختلفًا على الحال، وذو الحال: {وَمَا} العامل فيها قوله: {سَخَّرَ}. ¬

_ (¬1) نقل القراءات في الآية وتوجيهها من "الحجة للقراء" 5/ 55، بتصرف، وانظر: كذلك التوجيه النحوي للقراءات في: "علل القراءات" 1/ 302، و"الحجة في القراءات" ص 209، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 35، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 732. (¬2) البيت لعمرو بن شَأس مخضرم (توفي نحو سنة20 هـ) وصدره: بَنِي أسدٍ هلْ تعلمونَ بلاءَنا "شعر عمرو بن شأس" ص 36، وورد في "الكتاب" 1/ 47، و"الحجة للقراء" 1/ 148، و"الأزهية" ص 186، و"الخزانة" 8/ 521، ويروى (يومًا ذا كواكب)، أراد إذا كان اليوم يومًا، وأضمر لِعلم المخاطب، ومعناه: إذا كان اليومُ الذي يقع فيه القتال، و (كان) في الوجهين بمعنى وقع. (الشناعة) الفظاعة، والتشنيع: التشمير، وشنَّعَ النجم: ارتفع في السماء، والشاعر يصف حربًا وشدةً، والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شِدَّة: يومٌ مظلمٌ، حتى إنهم ليقولون: يومٌ ذو كواكب؛ أي اشتدّت ظُلْمته حتى صار كالليل. انظر: (شنع) في: "المحيط في اللغة" ا/ 288، و"الصحاح" 3/ 1239، و"اللسان" 4/ 2339. (¬3) قال أبو علي: فجعل أي سيبويه (أشنعا) حالاً ولم يجعله خبرًا؛ لأن فيما تقدم من صفة الاسم ما يدل علي الخبر، فيصير الخبر لا يفيد زيادة معنى. "الحجة للقراء" 1/ 148.

14

14 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} أي ذَلَّله للركوب والغوص، {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} قال ابن الأعرابي: لحم طري غير مهموز، وقد طرو طرواة. وقال الفراء في "المصادر": ما كان طريًّا, ولقد طري يطرى طراءً ممدود وطراوةً، كما يقال: شقي يشقى شقاءً وشقاوةً، قال ابن عباس: يريد السمك والحيتان (¬1)، {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قال: يريد الدر واللؤلؤ والمرجان والزبرجد والياقوت، وربما وجدوا فيه الذهب. قال أبو علي: الحِلْيَة والحُلِي واحد، كما يقال: بِرْكَة للمصدر وبِرَك (¬2). وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} يجوز أن يكون هذا فصلاً مبتدأً غير معطوف على ما قبله، ويجوز أن يكون معطوفًا على ما قبله. واختلف ألفاظ المفسرين في تفسير الماخر؛ فروى ابن عباس أنه قال: جواري (¬3)، وقال في رواية عطاء: يريد ملججين فيه، وأهل البحر يقولون: مَخَرْنا، يريد لججنا؛ إذا انقطع البر عنهم فلم يروه، وقال قتادة ومقاتل: مقبلة ومدبرة (¬4). ¬

_ (¬1) ورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 200 ب، والسمرقندي 2/ 230، والثعلبي 2/ 155أ، والبغوي 3/ 64. (¬2) لم أقف على مصدره، وانظر: "اللسان" (حلا) 2/ 985، بنحوه منسوبًا إليه. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 155 أ، بلفظه، وورد غير منسوب في البغوي 3/ 64. (¬4) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 354 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 89 بلفظه عن قتادة من طريقين، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 155 أ, بلفظه عنهما، والماوردي 3/ 182، عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 12، عن قتادة.

قال الكلبي: يذهب ويجيء (¬1). وقال الحسن: مواقر (¬2). وقال أبو عبيدة: صوائح (¬3)، ونحو هذا قال الفراء (¬4)، وكل هذا معان وليس بتفسير، وتفسير المواخر ما ذكره أهل اللغة. قال المنذري: سمعت أحمد بن يحيي يقول وسئل عن المواخر، فقال: الماخرةُ السفينةُ التي تَمْخَرُ الماءَ؛ تدفعه وتدفع الموج بصدرها (¬5)، قال: وأنشدني الحرَّانيُّ عن ابن السكيت أنه أنشده للراجز في صفة نساء ضرائر: وصارَ أمثالَ الفغا ضرائري ... مُقَدِّماتٍ أَيْدِيَ المَواخِرِ (¬6) قال: الماخِرُ: الذي يَشقُّ الماءَ إذا سَبحَ، يصف نساءً تَصْخَبْنَ وتَسْتعِنَّ بأيديهن كأنهن سوابح (¬7)، والفغا: ضرب من التمر غليظ (¬8)، ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 231، وابن عطية 8/ 386، وورد منسوبًا للضحاك في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 59. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 88 بلفظه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 155 أ، و"تفسير الماوردي" 3/ 182. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 357 بمعناه، قال: من مخرت الماء، شقَّته بجآجِئها. (¬4) قال: واحدها ماخرة؛ وهو صوت جري الفلك بالرياح. "معاني القرآن" 2/ 98. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (مخر) 4/ 3356، بنصه. (¬6) نُسب لابن السِّكِّيت في التهذيب واللسان. ورد في "التهذيب" (مخر) 4/ 3356 برواية: يافِىَّ مالِي عَلِقَتْ ضَرَائري ... مقدماتٍ أيديَ المواخِرِ وورد صدره في (فغا) في "تهذيب اللغة" 3/ 2809، و"اللسان" 6/ 3442، وورد عجزه في "مقاييس اللغة" 5/ 303، و"مجمل اللغة" 2/ 825، بلا نسبة فيهما، و"اللسان" (مخر) 7/ 4152. (¬7) ورد في "تهذيب اللغة" (مخر) 4/ 3356، بنحوه. (¬8) وهو قول الليث، ورد في "تهذيب اللغة" (فغا) 3/ 3809، وقد خطأه الأزهري، =

يقال: ما الذي أفغاك، أي: أغضبك وورّمك. وقال أبو الهيثم: مَخْرُ السفينةِ: شَقُّها الماءَ بصدرها (¬1). وقال الفراء: يقال: مَخَرَتْ تَمْخُرُ وتَمْخَرُ (¬2) مَخرًا ومخُورًا. قال الأزهري: والقول في تفسير المواخر ما قاله ثعلب وأبو الهيثم؛ أنها تشق الماء شقًّا (¬3)، وسمعت أعرابيًّا يقول: مَخَرَ الذئبُ شاةً، أي شقَّ بطنَها (¬4)، وأصل المخر الشق، ومنه الحديث: "إذا أراد أحدكم الخلا فليتمخر الريح" (¬5). قال أبو عبيد: يعني أن ينظر مجراها فلا يستقبلها (¬6)، فأما ما ذكره المفسرون فإنه يصح في المعنى؛ لأنها لا تشق الماءَ إلا إذا كانت جارية موقرة ويسمع لجريها وشقها الماءَ صوتٌ، وهي تشق الماء مقبلةً ومدبرةً، وذاهبةً وجائيةً. وقوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يعني لتركبوا للتجارة فتطلبوا ¬

_ = فقال: هذا خطأ، والفغا: داءٌ يقع على البُسر مثل الغُبار، ويقال: ما الذي أفغاك، أي أغضبك وأورمك، وقال أبو عبيد: إذا غَلُظت التمرةُ وصار فيها مثل أجنحة الجراد فذلك الفغا مقصور، وقد أفغت النَّخلة. (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (مخر) 4/ 3356، بنصه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 98، بنصه، وهو في "تهذيب اللغة" بنصه. (¬3) "تهذيب اللغة" (مخر) 4/ 3356، وعبارته: قلت: والمخْرُ أصله الشَّقُّ. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" بنحوه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة"، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 155 أ، برواية: (البول) بدل (الخلاء)، وأورده الطبري بهذه الرواية ونسبه لواصل مولى ابن عيينة 14/ 89، وورد في "تفسير البغوي" 5/ 13، وفي "النهاية" برواية: (إذا بال أحدكم فليتمخر الريح) 4/ 305، وورد بمعناه في "المجروحين" لابن حبان 3/ 108 , قال: (إذا أراد أحدكم الخلاء فلا يستقبل الريح). (¬6) "الغريب" لأبي عبيد 1/ 312 بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (مخر) 4/ 3356، بنصه.

15

الربح من فضل الله. 15 - قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} يريد جبالًا ثابتة، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} يعني لئلا تميد على قول الكوفيين، وكراهة أن تميد على قول البصريين، وذكرنا هذا عند قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، والميد: الحركة والاضطراب يمينًا وشمالاً، ماد يميد ميدًا (¬1)، قال ابن عباس: يريد أُوَتّدُها بالجبال لئلا تميد بأهلها. وقوله تعالى: {وَأَنْهَارًا} قال يريد: النِّيل (¬2) والفُرات ودِجلة (¬3) وسَيْحَان (¬4) وجَيْحَان (¬5)، ونصب: {وَأَنْهَارًا} بتقدير: وجعل، ودَلَّ: ألقى ¬

_ (¬1) انظر: (ميد) في "جمهرة اللغة" 2/ 685، و"المحيط في اللغة" 9/ 383، و"مجمل اللغة" 2/ 820، و"عمدة الحفاظ" 4/ 150. (¬2) النِّيل: بكسر أوله، نهر مشهور بأفريقيا وبمصر خاصة، يعد ثاني أنهار العالم طولاً، يبلغ طوله (6500) كلم، ينبع من بحيرتي فكتوريه وثانا ويصب في المتوسط، ويمر بعدة دول، هي: كينيا وأوغنده وأثيوبيا والسودان ومصر، ويتفرع في عدة جداول فيها. انظر: "الروض المعطار" ص 586، و"معجم البلدان" 5/ 334، و"أطلس العالم الصحيح" ص 121. (¬3) دجِلة والفُرات: من الأنهر المشهورة، ينبعان من هضبة أرمينية، ويمران بعدة دول، هي: أرمينية وتركية والعراق وسورية، ويجتمعان في شط العرب جنوب العراق ويصبان في الخليج العربي. انظر: "الروض المعطار" ص 439، و"معجم البلدان" 4/ 241، و"أطلس تاريخ الإسلام" ص 114، و"أطلس العالم الصحيح" ص 68. (¬4) سَيْحان: نهر كبير بالثغور من نواحي المصيصة [منطقة جنوب تركيا]، وهو نهر أذنة [أضنة] بين أنطاكية والروم [تركيا]، يمر بأذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم [البحر المتوسط] وهو غير سيحون، وذكر صاحب الروض المعطار أنه واحد. انظر: "الروض المعطار" ص 333، و "معجم البلدان" 3/ 293، و"أطلس تاريخ الإسلام" ص 142، و"أطلس العالم" ص 39. (¬5) جَيْحَان: نهر عظيم بالمصيصة بالثغر الشامي [جنوب تركيا]، ومخرجه من بلاد =

16

عليه، قال أبو إسحاق: لأن معنى {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}: جعل فيها رواسي، يدل عليه قوله: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (¬1) [النبأ: 7]. وقوله تعالى: {وَسُبُلَاَ} قال ابن عباس: يريد طُرقًا إلى كل بلاد (¬2)، {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: لكي تهتدوا إلى مقاصدكم من البلاد فلا تضلون. 16 - قوله تعالى: {وَعَلَامَاتٍ} منسوقة (¬3) على ما قبلها، والعلامة صورة يعلم بها المعنى من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وأصلها مشتق من العلم، واختلفوا في معناها؛ فقال الكلبي والقرظي: يعني الجبال (¬4)، وهي علامات للطرق بالنهار كالنجوم بالليل، وعلى هذا تَمَّ الكلام هاهنا، وبقية الآية ابتداء مع خبره، وهذا قول الأخفش (¬5)، وقال ابن عباس في رواية ¬

_ = الروم، ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكَفَرْ بَيّا بإزاء المصيصة [الإسكندرونة]، ويخرج إلى البحر الرومي [البحر المتوسط]. انظر: "الروض المعطار" ص 185، و"معجم البلدان" 2/ 196، و"أطلس تاريخ الإسلام" ص 142، و"أطلس العالم" ص 39. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 193، بنصه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 283، بنحوه. (¬3) في جميع النسخ: (منسوخة) بالخاء، والصواب المثبت؛ لانسجام المعنى، فالكلام هنا عن العطف لا النسخ. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 354) بلفظه عن الكلبي، والطبري 14/ 92 بلفظه عن الكلبي، والسمرقندي 2/ 231، بلفظه عن الكلبي، والثعلبي 2/ 155 ب، بلفظه عنهما، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 13، عنهما، وابن عطية 8/ 389، عن الكلبي، وابن الجوزي 4/ 436، عن الكلبي، و"تفسير القرطبي" 10/ 91، عن الكلبي، والخازن 3/ 110، عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 212، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن الكلبي. (¬5) ليس في معانيه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 10، وصديق خان 7/ 222.

عطاء: يريد نجوم السماء، والوجه هو الأول (¬1)؛ لأنها (¬2) معطوفة على ما خلقت في الأرض، والنجوم لم تخلق في الأرض، ولأنه لو كان المراد بالعلامات النجوم لقال: وبها يهتدون، فلما قال: {وَبِالنَّجْمِ} دَلَّ أن المراد بالعلامات غيرُ النجم. وقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} قال مجاهد وإبراهيم: أراد جميع النجوم (¬3)، واختاره الزجاج؛ فقال: النجم والنجوم في معنى واحد، كما يقال: كثر الدِّرهم في أيدي الناس والدَّراهم (¬4)، وقال عطاء عن ابن عباس: يعني الجَدْي (¬5)، وقال السدي: يعني الثُّريا وبَنات نَعْش (¬6)، وقال ¬

_ (¬1) وقد ورد عن ابن عباس قولاً لم يورده أعمّ وأولى مما رجحه، وهو ما رجحه الطبري، قال: العلامات: معالم الطرق بالنهار. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 92، وورد في "الدر المنثور" 4/ 212، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬2) في (أ)، (د): (لا)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح، وبه يستقيم الكلام. (¬3) الذي ورد عن مجاهد وإبراهيم، قالا: منها ما يكون علامة، ومنها ما يهتدى به. أخرجه الطبري (14/ 91، عنهما من طريقين، لكن هذا تفسير لـ {وَعَلَامَاتٍ}، وليس لـ {وَبِالنَّجْمِ} كما في الطبري، وانظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 155 ب. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 193، بنصه، وهو الأوْلَى من التخصيص الوارد في الأقوال التالية. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 283، قال: بالفرقدين والجدي. (الجدي): هو الكوكب الذي يتوخى الناس بها القبلة؛ لأنه لا يزول، وتُسَمّيه العرب: جدى بنات نعش. انظر: "الأزمنة والأمكنة" ص 546. (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 155ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 13، والزمخشري 2/ 325، وابن الجوزي 4/ 436، والفخر الرازي 20/ 10، والخازن 3/ 110. (الثريا): من الكواكب، سميت لغزارة نَوْئها [النوء: هو سقوط نجم بالغداة مع طلوع الفجر وطلوع آخر في حياله في تلك الساعة]، وقيل: سميت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرْآتها, لا يتكلم بها إلا مصغرًا، وهو تصغير على =

17

الكلبي: يعني الفَرْقَدين والجَدْي (¬1)، وهو اختيار الفراء (¬2)، {همْ يَهْتَدُونَ} أي إلى الطريق والقبلة في البر والبحر. 17 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} قال ابن عباس: يريد ما ذكر في هذه السورة، ومن يخلق هو الله عَزَّ وَجَلَّ، {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} يريد الأوثان؛ كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} الآية. [لقمان: 11] وإنما قال: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} للوثن لاقترانه في الذكر مع الخالق؛ كقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية [النور: 45] قال الفراء: والعرب تقول: اشتَبه عليّ الراكبُ وجمله، فلا أدري مَنْ ذا ومنْ ذا؟ حيثُ جَمَعَها وأحدُهما إنسان؛ صَلحت (مَنْ) فيهما (¬3)، وقيل: إنهم لما عبدوها ذُكرت بلفظ (مَنْ) (¬4)؛ كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} الآية [الأعراف: 195]، وقد مر. ¬

_ = جهة التكبير. (بنات نعش) سبعة كواكب؛ أربعة منها نَعْش؛ لأنها مُربعة، وثلاثةٌ بناتُ نعشٍ؛ الواحد ابنُ نَعْش؛ لأن الكواكب مذكر فيذكرونه على تذكيره، وإذا قالوا: ثلاث أو أربع، ذهبوا إلى البنات. انظر: "المحيط في اللغة" (نوأ) 10/ 419، و"الأزمنة والأمكنة" ص 139، 547، و"اللسان" (نعش) 7/ 4474، (ثرا) 1/ 480. (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 436، ورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 231، (الفرقدان) نجمان منيران في بنات نعش، يضرب بهما المثل في طول الصحبة في التساوي والتشاكل، وقيل: نجمان في السماء لا يغربان ولكنهما يطوفان بالجدي، وقيل: كوكبان في بنات نعش الصغرى. انظر: "اللسان" (فرقد) 6/ 3402، "جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين" ص 86. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 98, بلفظه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 98، بنصه، وانظر: "تفسير الطبري" 14/ 93. (¬4) ذكر هذين القولين توجيهًا لاستخدام (منْ) وهي للعاقل كما يقول النحويون للتعبير بها عن غير العاقل؛ وهي الأصنام، وحقها (ما) عندهم؛ لأن الأصنام غير عاقلة.

18

وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس: يريد المشركين، يقول: أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون (¬1)، قال أصحابنا: وهذه الآية دليل على أن الخالق واحد، وإنما يتميز الخالق من المخلوق بالقدرة على اختراع الخلق، فمن جعل نفسه خالقًا لأفعاله التي يفعلها فقد نصب نفسه خالقًا شريكًا لله في الخلق (¬2)، وقال أهل التأويل: معنى هذه الآية: إنكار تشبيه من يخلق بمن لا يخلق بالتسوية بينهما في العبادة، كما (¬3) لا يجوز أن يُسوّى بين من ينعم ومن لا ينعم في الشكر (¬4). 18 - قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ذكرنا تفسيره في سورة إبراهيم (¬5)، وقال ابن عباس في هذه الآية: يريد أنّ نِعمي أكثر مما يُحصي أو يُعرف؛ منها ظاهر ومنها باطن. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} أي لِما منكم من تقصير شكر نعمه، {رَحِيمٌ}: بكم حيث لم يُقصْها عنكم بتقصيركم. 20 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} قراءة العامة بالتاء (¬6)؛ لأن ما قبل هذه الآية كلها خطاب للكفار، وقرأ عاصم بالياء في: {يَدْعُونَ} (¬7) إخبارًا ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 283، بنحوه. (¬2) هذا ردّ على المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم. (¬3) في جميع النسخ: (كمن)، وبالمثبت يستقيم الكلام. (¬4) ورد بمعناه في: "تفسير الطبري" 14/ 92، وهود الهواري 2/ 363، والطوسي 6/ 368. (¬5) عند الآية [34]. (¬6) انظر: "السبعة" ص 371, و"علل القراءات" 1/ 302، و"الحجة للقراء" 5/ 58، و"المبسوط في القراءات" ص 2224، و"التيسير" 137. (¬7) المصادر السابقة.

21

عن المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله، ثم وصفها. 21 - فقال: {أَمْوَاتٌ}، قال الزجاج: أي وهم أموات (¬1)، وقال الفراء: وإن شئت رددت على أنه خبر للذين، كأنه قال: والذين تدعون من دون الله أموات، والأموات في هذا الموضع يعني بها أنها لاروح فيها (¬2). وقوله تعالى: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تأكيد (¬3)؛ إذ قد يقال للحي هو كالميت في البعد من أن يعلم. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عابديهم، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار (¬4)، وقال أبو إسحاق: أي وما يشعرون متى يبعثون، و {أيَّانَ} في موضع نصب بقوله: {يُبْعَثُونَ}، ولكنه مبني غيرُ مُنَوَّن (¬5) لأنه بمعنى الاستفهام، ولا يُعرب كما لا يُعرب متى وكيف وأين، إلا أن النون فتحت لالتقاء الساكنين (¬6)، واختير الفتح على الكسر؛ لأن الفتح أشبه بالألف وأخف معها، وذكرنا معنى أيّان عند قوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187]، وقد تضمنت هذه الآية البيان عما تُوْجِبه صفة من ليس بحي من الامتناع أن يكون منه فعل، لاستحالة ذلك، ذكر الله ذلك في الآية الأولى؛ أن أصنامهم مخلوقة غير خالقة، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 193، بلفظه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 98، بنحوه. (¬3) ساقطة من (د). (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 438، والفخر الرازي 20/ 16، و"تفسير القرطبي" 10/ 94. (¬5) في (ش)، (ع): (معرب). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 193، بنصه.

22

وذكر في هذه الآية أنها مع كونها مخلوقةً مواتٌ غيرُ ذات روح وأنها مبعوثة، وهي لا تعلم متى وقت بعثها، وكل هذا يدل على جهل من عبدها أو أشركها بالله تعالى. 22 - قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} مضى الكلام في هذا في سورة البقرة [162]. وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية دخلت الفاء للإتباع دون العطف، ذكر الله تعالى دلائل وحدانيته ثم أخبر أنه واحد لا نظير له ولا كفء ولا شريك، ثم أتبع هذا إنكار الكفار وحدانيته، وقال: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ}، أي: جاحدة غير عارفة ولا مُقِرَّة بالحق من توحيد الله، وقال ابن عباس: منكرة لهذا القرآن (¬1)، وذكرنا معنى الإنكار عند قوله: {نَكِرَهُمْ} في سورة هود [70]. وقوله تعالى: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}، أي: ممتنعون من قبول الحق، والاستكبار: الترفع بترك الإذعان للحق، قال ابن عباس: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}: عن عبادة الله. 23 - قوله: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ} الآية، ذكرنا معنى لا جرم، والخلاف فيه في سورة هود عند) (¬2) قوله {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 22] , وليس يحتمل هاهنا من تلك الأقوال إلا قولًا واحدًا، وهو أن يكون بمعنى: حقًّا، وبهذا فسره ابن عباس (¬3) واختاره الزجاج، فقال: حقًّا أن ¬

_ (¬1) ورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 364. (¬2) في نسخة (أ) ما بين القوسين كتب على الهامش. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 284، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 14/ 94، والسمرقندى 2/ 232، والثعلبي 2/ 155 ب.

24

الله (¬1)، ومذهبه في لا جرم في سورة هود غير هذا (¬2)؛ فمعنى لا جرم هاهنا: تأكيدٌ وقَسمٌ {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، وتأكيد ذلك تأكيد جزائهم؛ كأنه قيل: يجازيهم بما يسرون وما يعلنون؛ لأنه يعلم ذلك. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}، أي: لا يثيبهم ولا يمدحهم ولا يرضى عنهم (¬3). 24 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، معنى أساطير الأولين ذكرناه في سورة الأنعام [25]، قال ابن عباس: نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه؛ كان خرج إلى الحِيرَة فاشترى أحاديث كَليلة ودِمنة وأساطير الأولين، وكان يقول: تعالوا أقرأ عليكم ما يقرأ محمد على أصحابه؛ أساطير الأولين (¬4). وقال أبو إسحاق في هذه الآية: (ما) مبتدأة و (ذا) في موضع الذي، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 194، بنحوه. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 46. (¬3) هذا من تأويلات الأشاعرة للصفات الفعلية لله تعالى، إذ صرفوا اللفظ عن ظاهره دون دليل أو حجة إلا شبهات واهية، فأولوا صفة المحبة: بالإثابة والمدح والرضى عنهم كما هنا، أو بالإحسان إليهم والتفضل بإعطاء الثواب أو إرادة الإنعام والإحسان. أما مذهب أهل الحق: فيثبتون صفة المحبة الله تعالى إثباتًا حقيقيًا على وجه يليق بجلاله وعظمته، كما أنهم يثبتون معه لازم المحبة؛ وهي إرداته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء -عليه السلام-. انظر: "مجموع الفتاوى" 2/ 354، و"مدارج السالكين" 3/ 18، و"أقاويل الحقات في تأويل الأسماء والصفات" ص 77، و"شرح العقيدة الواسطية" للهراس ص 53. (¬4) انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 397. و"تفسير القرطبي" 10/ 95، ورد فيهما بلا نسبة.

المعنى: ما الذي أنزل ربكم؟ وأساطير مرفوعة على الجواب؛ كأنهم قالوا: الذي أَنْزَلَ أساطيرُ الأولين؛ الذي يذكرون أنه منزلٌ أساطيرُ الأولين، أي أكاذيبهم (¬1)، وشرح أبو علي هذا فقال: رُفِعَ الأساطيرُ؛ لأن ذا بعد (¬2) ما بمنزلة الذي (¬3)، ولم يُجعل معها بمنزلة اسم واحد، فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم؟ فقيل: أساطير الأولين، أي الذي أنزله أساطير الأولين، فَيُضَم المبتدأ الذي كان خبرًا في سؤال السائل، على هذا يرتفع الأساطير في قول سيبويه (¬4)، قال: وروي عن أبي زيد وغيره من النحويين أنهم قالوا: لم يُقِرُّوا بإنزال الله لذلك، فكأنهم لم يجعلوا أساطير الأولين خبر الذي أنزل، وعلى هذا يرتفع الأساطير بخبر ابتداء محذوف؛ كأنه قيل الذي يعنون والذي يسألون عنه أساطير الأولين، فحذف المبتدأ لدلالة ما في السؤال عليه (¬5)، ووجه قول سيبويه: إذا جعلت أساطير الأولين خبر (ذا) الذي هو بمعنى الذي في قوله: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} أن يكون المعنى: الذي أنزله ربكم عندكم وفي قولكم أساطير الأولين؛ كما جاء: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] , وكما قالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6]، أي: عنده وعند من تبعه، فيمكن أن يُجعلَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 194، بنحوه. (¬2) في (د): (بمعنى). (¬3) انظر: "رصف المباني" ص 265، و"الجنى الداني" ص 239. (¬4) "الكتاب" 2/ 419، وانظر: "المسائل البغداديات" ص 371 - 372. (¬5) لم أقف على مصدره، وورد نحوًا من هذا التوجيه في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 208، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 13، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 77 , و"الإملاء" 2/ 79، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 222.

25

الأساطيرُ خبر من غير أن يُقِرُّوا بالإنزال على الوجه الذي ذكرنا، وهذا معني قول أبي إسحاق، أي الذي يذكرون أنه منزل أساطير الأولين. 25 - قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} الآية، اللام في {لِيَحْمِلُوا} لام العاقبة، وهم لم يقولوا للقرآن: أساطير الأولين، ليحملوا الأوزار؛ ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك بهذا القول، جاز أن يقال: فعلوا ذلك له؛ كقوله عز وجل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وهم لم يلتقطوا لذلك، وكما قال النابغة: جاءت لِتُطعِمَه لحمًا ويَفْجعها بابن ... فقد أطعمتْ لحمًا وقد فَجعا (¬1) يعني بقرًا جاءت مع عجلها للرعي، فوقع الذئب على عجلها فأكله، فزعم أنها جاءت لذلك، وهي لم تجئ له. قوله تعالى: {كَامِلَةٌ}، قال صاحب النظم: أي أن غيرهم لا يحمل عنهم من أوزارهم شيئًا، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يُكفَّر عنهم شيء من ذنوبهم بما يصيبهم في الدنيا من نكبة وبلية كالمؤمنين (¬2)؛ لأنهم (¬3) كفار، فهم يرِدون الآخرة بما اكتسبوا من الآثام كلها. ¬

_ (¬1) لم أجده في "ديوان النابغة"؛ لا الجعدي ولا الذبياني، ولم أقف عليه في المصادر. (¬2) في هذا المعنى روى البخاري (5641)، (5642) في المرض , باب ما جاء في كفارة المرض، ومسلم (2573) في البر والصلة والآداب، ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصبب المؤمن من نصبٍ ولا وصب، ولا همّ ولا حزَن، ولا أذى ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّرَ الله بها من خطاياه" (¬3) في (د): (فإنهم).

وقوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} لأنهم كانوا رؤساء، فلما قالوا في القرآن: إنه أساطير الأولين، اقْتُدي بهم فيه، فحُمل عليهم من أوزارهم، يبين هذا ما روي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيّما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبع فإن عليه أوزارَ من اتَّبَعه، من غير أن يَنقصَ من أوزارهم شيء" (¬1). فهؤلاء لمّا كانوا دعاةَ الضلالة، حُمِّلوا من أوزار من اتبعهم. و (من) في قوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} ليست للتبعيض؛ لأنها لو كانت للتبعيض لخفَّ عن الأَتْبَاعِ بعضُ أوزارهم يحمل الرؤساء ذلك، ولكنها للجنس، أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع، وإنما ذلك لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، ولو جعلنا المحمولَ من أوزار الأتباع نقصت أوزارهم، فليس يأتي التابعُ بجنس من الذنب في ضلالته إلا وعلى المتبوع مثلُ ذلك، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن عليه مثل أوزار من اتبعه". وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ}، أي: بجهل، يريد أن هؤلاء المتبوعين ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (205) المقدمة، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة بنصه عن أنس، والطبري 14/ 96 بنصه، وورد في "تفسير الرازي" 20/ 18، و"القرطبي" 13/ 331، و"الدر المنثور" 7/ 214 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والجامع الصغير للألباني (2712)، وقد ورد برواية: "من دعا .. ، وبرواية: "من سن سنة .. " في: مسند أحمد 2/ 397، 4/ 361، وصحيح مسلم (2674) في العلم، باب: من سن سنة حسنة وما بعدها، والترمذي (2674) في العلم، باب: ما جاء فيمن دعا إلى الهدى فاتبع أو إلى ضلالة 5/ 43، والنسائي بالرواية الثانية: الزكاة، التحريض على الصدقة 5/ 75، وسنن ابن ماجه. المقدمة، من سن سنة (206).

26

يُضِلّون من اتبعهم جهلًا منهم بما يفعلون من احتقاب (¬1) أوزارهم ومثل أوزار من اتبعهم، ثم ذم الله صنيعهم فقال: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، ومضى تفسير هذا وتفسير الوزر عند قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِم} الآية [الأنعام: 31]. 26 - قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال جماعة المفسرين: يعني نمرود بن كنعان، بَنَى صرحًا طويلًا ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها (¬2). ومعنى المكر هاهنا: التدبيرُ الفاسد؛ روى ثعلب ¬

_ (¬1) أصلها حقب، يقال: حقب البعير واحتقب حقبًا: احتبس بوله وتَعَسَّر عليه، وحَقِب العام: احتبس مطرُه، واحتقبَ الشيءَ: ادَّخره، وكذلك: احتمله، وهو المقصود هناك. انظر: (حقب) في "تهذيب اللغة" 1/ 873، و"المحيط في اللغة" 2/ 363، و"اللسان" 2/ 937، و"معجم متن اللغة" 2/ 129. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 346، و"مقاتل" 1/ 201 ب، وأخرجه الطبري (7/ 576) عن ابن عباس والسدي وزيد بن أسلم، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 233، والثعلبي 2/ 155 ب، والماوردي (3/ 185، والطوسي 6/ 374، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 16، والزمخشري 2/ 326، وابن عطية 8/ 399، وابن الجوزي 4/ 439، و"الرازي" 20/ 20، و"القرطبي" 10/ 97، والخازن 3/ 112، و"الدر المنثور" 4/ 218، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وتخصيص الآية على النمرود وأصحابه فيه نظر, لأنه ليس في الآية ما يدل على ذلك، لكنهم اعتبروا أن المشار إليهم في هذه الآية هم المذكورون في سورة إبراهيم في قوله: {وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ}، كما ذكر الطبري؛ وحتى بهذا الاعتبار، لا يسلم لهم، فقد عرفنا موقف العلماء من هذه القصة؛ التضعيف والرد والإنكار، وأغلب الظن أنها إسرائيلية، ومما يؤكده رواية كعب لها، وهو من مصادر الإسرائيليات، ولا يقال: إن الرواية هنا ثبتت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقوله معتبر، وهو كذلك عند ورودها عن الطرق الصحيحة, والرواية التي أوردها الطبري جاءت من طريق العوفي، وهي طريق غير مرضية، فلا يعتد بها, ولا يعتمد عليها، وقد أشار ابن عطية إلى التعميم بقوله: وقالت فرقة أخرى: المراد به جميع من كافر من الأمم المتقدمة ومكر، ونزلت له عقوبةُ من الله تعالى، وهو ما رجحه الفخر الرازي، والخازن انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 400، والفخر الرازي 20/ 20، والخارن 3/ 112.

عن ابن الأعرابي في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا} [النمل: 50] قال: دبروا (¬1)، والمراد في هذه الآية (¬2) تدبيره في بناء الصرح لقتال أهل السماء. وقوله تعالي: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ}، أي: أتى أمرُ الله، وهي الريح التي خربتها وحركتها، وهو ما ذكر المفسرون؛ أن الله تعالى أرسل ريحًا فألقت رأس الصرح في البحر وخَرَّ عليهم الباقي (¬3)، فأمْرُ الله الذي أتى البنيان يجوز أن يكون الريح، ويجوز أن يكون أمره للبنيان بالانهدام، فالآية من باب حذف المضاف؛ وحذف المضاف هاهنا للتهويل والتعظيم، وقد سبق بيان هذا في قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]، والبنيان اسم للبناء. وقوله تعالى: {مِنَ الْقَوَاعِدِ} قال أبو إسحاق: أي من أساطين البناء التي تَعْمِده (¬4)، وذكرنا معنى القواعد للبناء في سورة البقرة [127]. وقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}، أي: سقط عليهم البيوت؛ على أصحاب نمرود (¬5)، وذِكْر {مِنْ فَوْقِهِمْ} ليدل أنهم كانوا تحته، إذ (¬6) يقول القائل: تهدمت عليّ المنازل، ولم يكن تحتها، هذا قول ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (أ): (الأمة) والمثبت هو الصحيح، كما في باقي النسخ. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 16، عن كعب ومقاتل، والزمخشري 2/ 326، وابن عطية 8/ 399، وابن الجوزي 4/ 440، و"تفسير القرطبي" 10/ 97، والخازن 3/ 112، فيهما عن كعب ومقاتل. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 195، بنصه. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 355 بمعناه عن قتادة، والطبري 14/ 97 - 98 بمعناه عن قتادة ومجاهد ورجحه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 63، عن مجاهد، و"تفسير الثعلبي" 2/ 156 أ، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 185. (¬6) في جميع النسخ: (إذا)، والمثبت هو الصحيح المناسب للسياق.

27

ابن الأنباري، قال: والعرب تقول: تداعت علينا الدار، وخَرِب علينا الحانوت، وإن لم يكونوا تحته (¬1)، ويجوز أن يكون للتأكيد. وقوله تعالى: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}، أي: من حيث ظنوا أنهم منه في أمان، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد بالبعوضة؛ يعني التي أهلك بها نمرود (¬2). 27 - قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِم}، معنى الإخزاء ذكرنا عند قوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]. وقوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} قال الزجاج: شركائي حكايته لقولهم، والله لا شريك له، والمعنى: أين الذين في دعواكم أنهم شركائي (¬3). قال أبو علي: سبحانه لم يثبت بهذا الكلام له شريكًا، وإنما أُضيف على حسب ما كانوا يقولونه وينسبونه، وكما أُضيفت هذه الإضافة كذلك أضيفت إليهم في قوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، وفي أخرى: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28]، فإنما أُضيفوا هذه الإضافة على حسب ما كانوا يسمونه ويعتقدونه فيهم؛ كقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، وقد تقع الإضافة لبعض الملابسة دون التحقيق، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 441. (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 98، وهذا تخصيص بلا دليل، فضلاً أن هذه الطريق إلى ابن عباس منقطعة. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 195، بنصه.

كقول الشاعر (¬1): إذا قُلْتُ قَدْني قَال باللهِ حَلْفَةً ... لَتُغْنيَ عَنِّي ذا إنائِكَ أَجْمَعَا (¬2) فأضاف الإناء إليه لشربه منه، والإناء في الحقيقة لمن سقى به دون من شرب منه، وهذا كما يقول لمن يحمل خشبة ونحوها: خذ طَرَفَكَ وآخذ طَرَفي، فتَنْسِبُ إليه الطرف الذي يليه كم تنسب إلى نفسك الطرف الذي يليك، فعلى هذا تجري الإضافة في قوله: {شُرَكَائِيَ} (¬3)، ومعنى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} أي: أين هم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم العذاب. وقوله تعالى: {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} قال ابن عباس: تخالفون (¬4). قال أهل المعاني: معناه يكونون في أمر الشركاء في جانب والمسلمون في جانب، لا يكونون معهم يدًا واحدة (¬5)؛ يخالفونهم فيها ¬

_ (¬1) هو حُريث بن عَنّاب الطائي، من شعراء الدولة الأموية (ت 80 هـ). (¬2) ورد في: "شرح شواهد المغني" (2/ 558) برواية: إذا قال قدني قلت آليت حلفة وفي "الخزانة" 11/ 434، برواية: (قطني) بدل (قدني)، والمعنى واحد، معناه: حسبي، و"الدر" 4/ 217، برواية: (قيل) بدل (قلت)، وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للأخفش 2/ 557، و"إيضاح الشعر" ص 214، و "تفسير ابن عطية" 8/ 402، و"شرح المفصل" 3/ 8 برواية: إذا قال، و"المقرب" 2/ 77 برواية: إذا هو آلى، و"الدر المصون" 5/ 118، و"مغني اللبيب" ص 278، و"همع الهوامع" 4/ 242، والمعنى: اشرب جميع ما في الإناء ولا تردّه عليّ. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 61، بتصرف يسير. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 98 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 218 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 59، بنحوه.

28

فيعبدونهما ولا يعبدون الله، وقرأ نافع بكسر النون (¬1). ووجهه ما ذكرنا في قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] المعنى على هذه القراءة ما رواه عطاء عن ابن عباس، قال: يريد تنازعوني فيهم وتتخذونهم أولياء من دوني، وعلى هذا معنى مخالفتهم الله في الشركاء (¬2) مخالفتهم أمر الله؛ كما ذكرنا في قوله: {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 130]. وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال ابن عباس: يريد الملائكة (¬3)، وقال آخرون: هم المؤمنون (¬4)؛ يقولون حين خزى الكفار في القيامة: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ}: عليهم لا علينا. 28 - قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي} ذكرنا معنى هذا في سورة النساء. ¬

_ (¬1) أي: {تُشاقُّونِ} مع الكسر التخفيف. انظر: "السبعة" ص 371، و"علل القراءات" 1/ 303، و"الحجة للقراء" 5/ 59، و"المبسوط في القراءات" ص 224، و"التيسير" ص 137، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 734. (¬2) في (أ)، (د): (الشرع)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو المناسب للسياق والمعنى. (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 441، والفخر الرازي 20/ 20، و"تفسير القرطبي" 10/ 98، و"تنوير المقباس" ص 284، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 233، والزمخشري 2/ 327، وابن عطية 8/ 402، والخازن 3/ 112، وهذا التفسير فيه نظر؛ فالملاحظ أن القرآن يصف البشر بالعلم لا الملائكة، كما في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء: 107]. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 16، وابن عطية 8/ 402، وابن الجوزي 4/ 441، والفخر الرازي 20/ 20، والقرطبي 10/ 98، والخازن 3/ 112.

29

وقوله تعالى: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} قال ابن عباس: استسلموا وأقروا لله بالربوبية (¬1)، وقال السدّي: انقادوا واستسلموا عند الموت (¬2). قال الزجاج: ذكر السَّلَمَ، وهو الصلح، بإزاء المشاقة (¬3)، يريد أن الله تعالى أخبر عنهم بالمشاقة في الدنيا، فأخبر أنهم عند الموت ينقادون ويتبرؤون من الشرك، كما ذكره ابن عباس. وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} أي قالوا: ما كنا نعمل من سوء، قال ابن عباس: يريد الشرك (¬4)، فقالت الملائكة ردًّا عليهم وتكذيبًا لهم: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [من التكذيب والشرك، ومعنى (بلى): رد لقولهم {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، وقد ذكرنا معنى (بلى)] (¬5) عند قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]. 29 - وقوله تعالى: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} قال ابن عباس: يريد مقام المتكبرين عن التوحيد وعبادة الله عز وجل (¬6)، كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 20، وورد بنحوه غير منسوب في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 64، و"تفسير القرطبي" 10/ 99. (¬2) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 99، والسمرقندي 2/ 233، والثعلبي 2/ 156 أ، والبغوي 5/ 17. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 195، بنحوه. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 284، بنحوه، وورد نحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 233، و"تفسير الماوردي" 3/ 186، والبغوي 5/ 17، وابن عطية 8/ 404 وابن الجوزي 4/ 443، والفخر الرازي 20/ 21، و"تفسير القرطبي" 10/ 99. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د). (¬6) ورد نحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 202 أ، والطبري 14/ 99 بمعناه غير منسوب، والفخر الرازي 20/ 20، و"تفسير القرطبي" 10/ 100.

30

30 - قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} قال ابن عباس: يريد الذين خافوا الله وصدقوا نَبِيَّه وأيقنوا أنه لا إله غيره، {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} قال المفسرون: هذا كان في أيام المواسم، يأتي الرجل مكة فيَسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، (فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أتى به من الكتاب وما أنزل الله عليه، فيقول) (¬1) المؤمنون خيرًا (¬2)، قال ابن عباس: يريد ثوابًا؛ يعني أنهم إذا سُئلوا عن ما أنزل الله على محمد، قالوا: أنزل عليه الخير عن ثواب المحسن، فقالوا: أنزل ثوابًا، أي ذِكْرَه، ولهذا نصب خيرًا؛ لأنه على معنى أنزل خيرًا، ويكون هذا على أن (ما) و (ذا) كالشيء الواحد، والمعنى: أيُّ شيءٍ أنزل؟ {قَالُوا خَيْرًا} على جواب ماذا، أي: أنزل خيرًا، ثم فَسَّرَ ذلك الخير؛ فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة} قال ابن عباس: يريد: قالوا: لا إله إلا الله (¬3)، وهذا على أن قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} إخبارًا عن الله تعالى، أخبر أن من أحسن في الدنيا فله جزاء ذلك عند الله حسنة، قال ابن عباس: يريد مضعفة بعشر (¬4)، ودلّ بهذا على أن الذي قاله المؤمنون (¬5) ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 202 أ، بنحوه، والثعلبي 2/ 156 أ، بنحوه، وانظر: الزمخشري 2/ 327، وابن الجوزي 4/ 443، والفخر الرازي 20/ 23، و"تفسير القرطبي" 10/ 100، والخازن 3/ 113. (¬3) ورد غير منسوب في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 443. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 17، بنحوه، وورد غير منسوب في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 24. (¬5) في جميع النسخ: (للمؤمنين)، وهو خطأ أدى إلى اضطراب المعنى، وبالمثبت يستقيم الكلام، ويؤيده ما ورد في المصدر.

31

اكتسبوا به حسنة، والوجهان ذكرهما أبو إسحاق (¬1). وقوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} يعني الجنة، ومضى الكلام في هذا في سورة الأنعام [32]. وقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}، أي: ولَنِعْمَ دارُ المتقين دار الآخرة، فحذفت لسبق ذكرها، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، [وإن جعلتها متصلة] (¬2) قلت: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ} فترفع جنات على أنها اسم لنعم؛ كما تقول: نعم الدار دار ينزلها. 31 - قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} ذكرنا وجهَ ارتفاعها إن كانت موصولة، وإن كانت مقطوعة، فقال الزجاج: جنات مرفوعة بإضمار هي؛ كأنك لمّا قلت: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}، قيل: أي دار هذه الممدوحة؟ فقلت على جواب السائل: جنات عَدْن، أي هي جناتُ عَدْن (¬3)، وإن شئت رفعتها على الاستئناف وجعلت يدخلونها الخبر، هذا قول الفراء (¬4)، وعند الزجاج: يجوز أن يكون الخبر نِعم دار المتقين؛ لأنه قال: وان شئت رفعت على الابتداء، ويكون المعنى: جناتُ عَدْنٍ نِعْمَ دارُ المتقين (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 196، بتصرف. وذكر الزمخشري قولاً ثالثاً، هو: أن "للذين أحسنوا" وما بعده بدل من خيرًا، حكايته لقول الذين اتقوا، أي قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيرًا ثم حكاه. "تفسير الزمخشري" 2/ 327، وعلى القول الأول والثالث تكون {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} من كلام المؤمنين، وعلى الثاني تكون من كلام الله؛ كلامًا مستأنفًا. (¬2) زيادة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 196، بتصرف يسير. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 99، بنحوه. (¬5) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 196، بنصه.

32

32 - قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} الذين في موضع نصب؛ لأنه صفة المتقين في قوله: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}. قولى تعالى: {طَيِّبِينَ}، أي: بأعمالهم الصالحة، خلاف من يتوفاهم خبيثين بأعمالهم القبيحة، قال الكلبي: طيبين من الشرك (¬1)، وقال مجاهد: زاكية أفعالهم وأقوالهم (¬2). 33، 34 - قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} نظير هذه الآية في سورة البقرة [آية: 210]، وآخر سورة الأنعام [آية: 158]، وقد مر، والمعنى: هل ينظرون إلا الموت؛ لأن الملائكة إنما تأتيهم لقبض أرواحهم، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} قال ابن عباس: يريد القتل وغيره، وقال قتادة ومجاهد: يعني القيامة (¬3). وقال الزجاج: ما وعدهم الله به من عذابه (¬4). قال صاحب النظم: إنهم لا ينتظرون ذلك على الحقيقة؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله، كيف ينتظرون أمره؟! ولكن لمّا كان امتناعهم من الدخول في الإيمان موجبًا عليهم إتيان أمر الله والملائكة بما قدّر عليهم من العذاب، وكان عاقبة أمرهم إلى ذلك، أضيف ذلك إليهم على المجاز والسعة، وجعل ¬

_ (¬1) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير البغوي" 5/ 17، وابن الجوزي 4/ 443، و"تفسير القرطبي" 10/ 101، والخازن 3/ 113، و"تنوير المقباس" ص 285، و"الشوكاني" 3/ 229، والألوسي 14/ 133، وصديق خان 7/ 236. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 156 أ، بلفظه، وانظر: البغوي 5/ 17، والخازن 3/ 113، والألوسي 14/ 133، وورد غير منسوب في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 443، و"القرطبي" 10/ 101، و"الشوكاني" 3/ 230، وصديق خان 7/ 236. (¬3) أخرج الطبري 14/ 102 بلفظه عنهما من طريقين، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 2/ 156 أ، والبغوي 5/ 18، و"تفسير القرطبي" 10/ 102، والخازن 3/ 113. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 196، بنصه.

35

مجيء ذلك انتظارًا منهم له؛ فكأنه عز وجل قال: هل يكون مدة إقامتهم على كفرهم إلا مقدار إيقاعي بهم وإنزالي العذاب عليهم، وهذا كما قلنا في لام العاقبة في مواضع، لمّا كانت العاقبة تؤدي إلى ذلك جُعل سببًا له وإن لم يكن في الحقيقة كذلك؛ كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} الآية [القصص: 8]، وقد مر (¬1)، وهذا الذي ذكره صاحب النظم وجه جيد في هذه الآية لم يذكره في نظيرها في سورة البقرة والأنعام. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يريد كفار الأمم الماضية، وفي الآية حذف على قول الزجاج؛ لأنه قال: أي كذلك فعلوا فأتاهم أمرُ الله بالعذاب (¬2)، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}: بتعذيبهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: بإقامتهم على الشرك وكفران ما أنعم الله عليهم، وإن شئت حملت الكلام على التقديم والتأخير فقلت: التقدير: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} الآية، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} الآية، وهو قول ابن عباس: يريد جزاء ما عملوا من الشرك (¬3)، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: من العذاب والنقمة. 35 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني أهل مكة، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}: من البحيرة (¬4) والسائبة (¬5) وسائر ما ¬

_ (¬1) في تفسير الآية [25] من هذه السورة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 197، بنصه. (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 445، و"تنوير المقباس" ص 285، بنحوه. (¬4) وردت فيها عدةُ أقوال؛ قال سعيد بن جبير: هي التي يمنح دَرُّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحدٌ من الناس، وقيل: هي ناقة كانت إذا نُتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرًا، شقُّوا أذنها وامتنعوا من ركوبها وذبحها, ولا تطرد عن ماءٍ ولا تمنع من مرْعى، وقيل غير ذلك. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213، و"تفسير المُشْكِل" ص 156، و"تفسير القرطبي" 6/ 335. (¬5) فيها أقوال كذلك، قال سعيد بن المسيب: هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، =

36

حرموا، نظير هذه الآية في سورة الأنعام [آية: 148]، ومضى الكلام هناك مستقصى، على أن أبا إسحاق قال هاهنا: إن المشركين قالوا هذا على جهة الهزء؛ كما قال قوم شعيب له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، ولو قالوا هذا معتقدين لكانوا مؤمنين ولكنهم قالوا مستهزئين، وكذلك هؤلاء لو قالوا مُحَقِّقِينَ، ما قيل: إنهم مكذبون، كما كَذَّب الذين من قبلهم (¬1)، وهو قوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي: من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله، قال ابن عباس: يريد عمرو بنَ لُحَيٍّ وأصحابَه (¬2)، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} قال: يريد: قد بَلَّغْتَ رسالتي وبَلَّغَ مَن قبلك، يعني ليس عليهم إلا التبليغ، فأما الهداية فهو إلى الله تعالى؛ يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وقد حَقَّقت هذا فيما بعد، وهو: 36 - قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا}، يعني كما بعثناك في هؤلاء، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} تعالى، أي: بعبادة الله تعالى، والتقدير: بأن اعبدوا الله، فحذف الجار، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، أي: الشيطانَ وكلَّ من يدعو إلى الضلالة، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}: أرشده، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ ¬

_ = وقال الزجاج: كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من علة أو ما أشبه ذلك، قال: ناقتي هذه سائبة، فكانت كالبحيرة؛ في أن لا ينتفع بها وأن لا تُجْلى عن ماءٍ، ولا تمنع من مرعى. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 213، و"تفسير المُشْكِل" ص 156، و"تفسير القرطبي" 6/ 335. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 197، بتصرف واختصار. (¬2) تخصيص الآية بعمرو بن لحي وأصحابه لا دليل عليه، وحمل الآية على العموم أولى، إلا أن يراد به التمثيل فيكون مقبولاً، وأغلب الظن أنه نُسب إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- من الطرق الضعيفة.

37

عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} قال ابن عباس: يريد في سابق علمي (¬1). وقال الزجاج: أعلم اللهُ أنه بَعَثَ الرسلَ بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإضلال والهداية، وهذا يدل على أنهم لو قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا} الآية، معتقدين لكانوا صادقين (¬2)، ومعنى {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}: وجب عليهم الكفر، كما قال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30]، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، ثم قال: {فَسِيرُوا} الآية، أي: فسيروا معتبرين في الأرض بآثار الأمم المكذبة، فتعرفوا أن العذاب بإزائكم كما نزل بهم، ثم أكد أن من حقَّت عليه الضلالة لا يهتدي. 37 - فقال -عز من قائل-: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} أي إن تطلب بجهدك ذلك، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}، أي: من يُضلُّه، فالراجع إلى الموصول الذي هو (مَنْ) محذوف مقدر (¬3)، وهذا كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، وكقوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، أي: من بعد إضلال الله إياه (¬4)، وقرأ أهل الكوفة يَهْدِي بفتح الياء (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي 2/ 393، وورد بلا نسبة في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 446، وورد بمعناه بلا نسبة في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 29، و"تفسير القرطبي" 10/ 104، والخازن 3/ 114. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 198، بتصرف يسير. (¬3) وهو الهاء المحذوفة، وتَقْديره: (يضلُّه). (¬4) انظر: "الحجة للقراء" 5/ 64، بنحوه. (¬5) وهم عاصم وحمزة والكسائي، انظر: "السبعة" ص 372، و"علل القراءات" 1/ 305، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 353، و"المبسوط في القراءات" ص 224، و"التيسير" ص 137، و"النشر" ص 2/ 304، قال الأزهري في "علل =

وهو يحتمل وجهين: (¬1) أحدهما: أن المعنى فإن الله لا يُرْشد من أضله، وبهذا فَسَّره ابن عباس (¬2). والثاني: أنّ يَهْدِي بمعنى يَهْتَدي، قال الفراء: والعرب تقول: قد هَدَّي الرجلُ؛ يريدون قد اهتدى، ومثله قوله: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (¬3) [يونس: 35]، قال ابنُ مجاهد (¬4): ولم يختلفوا في {يُضِلُّ} أنه مضومُ الياء (¬5). ¬

_ = القراءات" وغيره: ومن قرأ (لا يُهْدَى) [وهم: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر]، فالمعنى: لا يُهْدى أحدٌ يُضله الله، وهذا نظير قوله جل وعز: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ}، وقد اختار الطبري هذه القراءة ورجح هذا المعنى، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 104، والثعلبي 2/ 156 ب، و"تفسير القرطبي" 10/ 104. (¬1) ذكرهما الثعلبي 2/ 156 ب، بنحوه، وذكرهما ابن الجوزي ونسبهما إلى ابن الأنباري. "تفسير ابن الجوزي" 4/ 446. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 30، وورد غير منسوب في "تفسير القرطبي" 10/ 104. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 99، بنصه. (¬4) أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس التميمي البغدادي، المشهور بابن مجاهد، شيخ القراءات وأول من سبّع السبعة، ولد سنة (245 هـ)، قرأ على عبد الرحمن بن قدوس عشرين ختمة، وعلى قُنْبُل المكي، وسمع القراءات من طائفة كبيرة، تصدَّر للإقراء وازدحم عليه أهل الأداء، ورُحِل إليه، قرأ عليه: صالح بن إدريس وأبو الفرج الشَّنَبُوذي، صنَّف كتابه المشهور: "السبعة في القراءات"، مات سنة (324 هـ). انظر: "الفهرست" ص 52، و"معرفة القراء الكبار" 1/ 269، و"غاية النهاية" 1/ 139. (¬5) "السبعة" ص 372، بنحوه، وزاد: مكسورة الضاد.

38

38 - قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} مضى الكلام في هذا في سورة الأنعام [109]، قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان تكذيبًا منهم بقدرة الله على البعث بعد الموت (¬1)، فقال الله تعالى ردًّا عليهم: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}، أي: لَيَبْعَثَنَّهم وعدًا عليه حقًّا، وهو مصدر مؤكد؛ أي وعدَ البعثِ وعدًا حقًّا لا خُلْفَ فيه؛ لأنه إذا قال يبعثهم دَلَّ على وعدٍ بالبعث وعدًا. 39 - قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أمر البعث، واختلافهم فيه: ذهابهم إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون، واللام في قوله: {لِيُبَيِّنَ} متعلقة بالبعث، المعنى: بلى يبعثهم ليبين لهم، قال الزجاج: ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا}، (ويكون المعنى: بعثنا في كل أمة رسولاً) (¬2)؛ ليبين لهم اختلافهم وأنهم كانوا من قبله على ضلالة (¬3)، فعلى هذا لا يعود البيان إلى بيان البعث، وعلى القول الأول: يعود إلى بيان البعث بعد الموت، وهو قول ابن عباس (¬4)؛ لأنه قال: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}: بهذا الوعد الذي قال: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}: فيما أقسموا فيه. ¬

_ (¬1) انظر: تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي 2/ 394، وورد بلا نسبة في "تفسير ابن كثير" 2/ 627. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 198، بنحوه. (¬4) لم أقف عليه، وورد هذا المعنى في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 66، و"تفسير السمرقندي" 2/ 236، والثعلبي 2/ 156 ب.

40

40 - قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} الآية. قال ابن عباس: أخبر بقدرته وقوته، يريد ليس كما يتكلف المخلوقون من الأعوان والاله أمر الله أوحى من ذلك (¬1). وقال الزجاج: أعلمهم الله سهولة خلق الأشياء عليه، فأعلم أنه متى أراد الشيء كان (¬2). قال ابن الأنباري: وقع اسم الشيء على المعلوم عند الله عز وجل قبل الخلق؛ لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد (¬3). قال الفراء: القول مرفوع بقوله: {أَنْ نَقُولَ} كما تقول: إنما قولنا الحق، هذا كلامه (¬4)، وبيانه ما ذكره الزجاج، فقال: {قَوْلُنَا} رفع بالابتداء وخبره: {أَنْ نَقُولَ}، المعنى: إنما قولنا لكل مراد قولنا كن، فإن قيل كيف خاطب المعدوم بقوله: {كُنْ}، قلنا: هذا تمثيل لنفس الكلفة والمعاناة، ومخاطبةُ الخلق بما يعقلون ليس أنه يخاطب المعدوم؛ لأن ما أراد الله عز وجل فهو كائن على كل حال، وعلى ما أراده من الإسراع، لو أراد خلق الدنيا والسموات والأرض في قدر لمح البصر لَقَدَر على ذلك، ولكن العباد خُوطبوا بما يعقلون (¬5)، وذكرنا في سورة البقرة عند قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آية:117] أجوبة سوى هذا. ¬

_ (¬1) لم أدرك مقصوده بهذه العبارة المعترضة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 199، بتصرف يسير. (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 106، بنصه، وابن الجوزي 4/ 447، بلا نسبة. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 100، بنصه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 198، بتصرف.

واختلفوا في قوله: {فَيَكُونُ}، فقرأه أكثرُ القراء بالرفع (¬1) على: (فهو يكون)، قال الفراء: الرفع على أن تجعل {أَنْ نَقُولَ لَهُ} كلامًا تامًّا يخبر بأنه سيكون؛ كما تقول للرجل: إنّما يكفيه أن آمره، فيفعلُ بعد ذلك ما يؤمر (¬2)، برفع فيفعلُ؛ على معنى فهو يفعل وسيفعل، وقرأ ابن عامر والكسائي: {فَيَكُونُ} نصبًا (¬3)، عطفًا على {أَنْ نَقُولَ}، المعنى: أن نقول فيكون، هذا قول جميع النحويين (¬4). قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصبًا على جواب كن (¬5). قال أبو علي: هذا الوجه الذي أجازه من النصب في يكون لم يجزه أحد من أصحابنا غيرُه، ولم أعلم لغيره إجازةً له على هذا الوجه، ووجدت الكسائي يقول: إنه سمعه من العرب أكثر من خمسين مرة بالنصب، وما علمته حَمَل ذلك على أنه جواب، ولكن على (أنْ)، وحَمْلُه على الجواب ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" ص 373، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 354، و"الحجة للقراء" 5/ 65، و"المبسوط في القراءات" ص 224، و"التيسير" ص 137، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 736. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 100، بتصرف يسير. (¬3) انظر: "السبعة" ص 373، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 354، و"الحجة للقراء" 5/ 65، و"المبسوط في القراءات" ص 224، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 736. (¬4) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 198، و"تفسير الطبري" 14/ 106، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 210، و"الحجة للقراء" 5/ 65، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 14، وانظر: "الإملاء" 2/ 81، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 228. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 198، بنصه.

41

غيرُ سائغ؛ لأن (كُنْ) وإن كان على لفظ الأصل فليس القصد به هاهنا الأمر، إنما هو -والله أعلم- الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإلى هذا ذهب أبو العباس وغيره (¬1)، وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (¬2). 41 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} الآية. قال الفراء: {وَالَّذِينَ} موضعها رفع (¬3)؛ يريد أن هذا كلام مستأنفٌ لا تعلق له ما قبله، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في قوم آذاهم المشركون وعذبوهم بمكة؛ صهيب وبلال وخَبَّاب (¬4)، ومعنى {هَاجَرُوا فِي اللَّهِ}: ¬

_ (¬1) "المقتضب" 2/ 18، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 910، و"الحجة للقراء" 2/ 205، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 14، و"الإملاء" 1/ 60، و"الدر المصون" 2/ 89. وبالإضافة إلى كون (كن) هنا للحكاية لا الأمر، يشترط في جواب الأمر أن يخالف الأمر؛ إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما، فلما اتفق الفعلان، والفاعلان واحد، لم يحسن أن يكون (فيكون) جواباً للأول. (المصادر السابقة). (¬2) "الإغفال" 2/ 153 أ، بنصه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 100، بلفظه. (¬4) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 203 أ، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 67، و"تفسير السمرقندي" 2/ 236، عن مقاتل والكلبي، والشعبي 2/ 156 ب، و"تفسير الماوردي" 3/ 189، عن الكلبي، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 285، بلا سند، وهذا القول لا يعتد به في أسباب النزول؛ لوروده بلا إسناد، فضلاً عن كونه من رواية الكلبي، وقد أخرجه الطبري 14/ 107 برواية أخرى عن ابن عباس قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل مكة من بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون، وهذه كذلك لا يعتد بها في أسباب النزول؛ لكونها من الصيغ غير الصريحة، ولورودها من طريق العوفي، وهي ضعيفة، وخبَّاب هو: ابن الأرتّ، أبو عبد الله -رضي الله عنه-، سبي في الجاهلية فبيع بمكة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية، وقيل غير ذلك، ثم حالف بني زهرة، كان من السابقين في الإسلام، ومن المستضعفين، عذب بمكة عذابًا شديدًا حتى اشتكى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هاجر إلى المدينة وشهد بدرًا وما بعدها، ونزل الكوفة ومات بها سنة (37 هـ). انظر: "الاستيعاب" 2/ 21، و"أسد الغابة" 2/ 114، و"الإصابة" 1/ 416.

هاجروا في رضا الله وطلب ثوابه. وقوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال الشعبي وقتادة: بوأهم الله المدينة (¬1)، وعلى هذا يكون التقدير: لنُبَوّئَنهم في الدنيا دارًا حسنة أو بلدة حسنة، يعني المدينة؛ فإن الله تعالى جعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارًا من المؤمنين فيها، وجمعهم فيها مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقال مجاهد: لنَرْزُقنّهم في الدنيا (¬2). وقال الضحاك: يعني بالحسنة: النصر والفتح (¬3)، وعلى هذا تقدير الآية: لنبوئنهم في الدنيا ولنرزقنهم حسنة أو لنعطينهم حسنة، فحذف ذلك اكتفاءً بالأول كقوله (¬4): علفتها تبنًا وماءً باردًا (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 107 بلفظه عنهما من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 67، عن الشعبي، و"تفسير الثعلبي" 2/ 157 أ، عن قتادة، و"تفسير الماوردي" 3/ 188، عنهما، والطوسي 6/ 383، عنهما، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 221 أو زاد نسبته إلى ابن المنذر عن الشعبي. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 347، بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 107 بنصه من طريقين، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 188، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 221، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 67، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 188، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 448. (¬4) نسبه الفراء لبعض بني أسد. (¬5) وعجزه: حتى شَتَتْ هَمّالةً عَيْناها "معاني القرآن" للفراء 1/ 14، وورد بلا نسبة في "الخصائص" 2/ 431، و"الإنصاف" 488، و"اللسان" (علف) 5/ 3070، و"الدر المصون" 7/ 112، و"أوضح المسالك" 2/ 110، و"همع الهوامع" 5/ 228، و"الدرر اللوامع" 6/ 79، و"الخزانة" 3/ 140، وقال: وأورده الشيرازي والفاضلُ اليمني صدرًا =

42

وهذا باب قد مرّ منه كثير، فيكون معنى الآية: أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة، وهذا الوجه اختيار الفراء؛ لأنه قال في هذه الآية: نزول المدينة ولنُحَلِّلنَّ لهم الغنائم (¬1)، وعلى هذا التفسير حذف من الآية شيئان: المفعول الثاني للتَّبوِئة، والفعل الناصب للحسنة. وقوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: يريد أن أمر الجنّة أعظم وأكثر (¬2) من أن يعلمه أحدٌ ويقدر أحدٌ على وصفه (¬3)، وما ظنُّك بما قال الله له: أكبر. 42 - قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا}، في محل {الَّذِينَ} وجوه: أحدهما: أن يكون بدلاً من المضمر في: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}، ويجوز أن يكون على تقدير: هم الذين، قال ابن عباس: أثنى عليهم ومدحهم بالصبر، فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا} يريد على دينهم وعلى عذاب المشركين إيّاهم، وهم في ذلك واثقون بالله متوكلون عليه. 43 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} قال المفسرون (¬4): إن مشركي مكة أنكروا نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: الله أعظم من ¬

_ = وبرواية أخرى للصدر: لما حَطَطْتُ الرحْلَ عنها واردًا ... عَلَفْتُها تبنًا وماءً باردًا (شتت) بمعنى أقامت شتاء، يقال: شتا بالبلد: أقام به شتاءً، (همَّالة عيناها) من هملَت العينُ؛ إذا صبَّت دمعها وفاضت وسالت. والشاهد: حذف وسقيتها ماءً، اكتفاءً بالأول؛ وهو: علفتها. (¬1) "معانى القرآن" للفراء 2/ 100، بنصه. (¬2) في جميع النسخ: (أكثر)، وفي تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 396، (أكبر). (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 396، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 448، مختصرًا. (¬4) ساقط من (د).

أن يكون رسوله بشرًا، فهلا بعث إلينا ملكًا (¬1)، فقال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا} أي إلى الأمم الماضية، {إِلَّا رِجَالًا}: آدميين لا ملائكة، أعلمَ اللهُ أن الرسلَ بشر، إلا أنهم يُوحَى إليهم، فقال: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}، نظير هذه الآية في أواخر سورة يوسف (¬2). وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فقال ابن عباس: يريد أهل التوراة الذين آمنوا من قريظة والنضير (¬3)، قال: والذكر التوراة (¬4)، وتلا قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 109، بنحوه عن ابن عباس، من طريق الضحاك مقطعة، وورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 203 أ، والسمرقندي 2/ 236، والثعلبي 2/ 157أ، بنصه، وانظر: البغوي 5/ 20، وابن عطية 4/ 423، وابن الجوزي 4/ 449، والفخر الرازي 20/ 35، و"تفسير القرطبي" 10/ 108، والخازن 3/ 116، وأبي حيان 5/ 493، وابن كثير 2/ 628، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 222، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬2) وهي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [آية: 109]. (¬3) هما قبيلتان من قبائل اليهود التي سكنت المدينة وخيبر، وكانوا ثلاث قبائل؛ الثالثة هي بنو قينقاع، وقد أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المدينة لما خانوا عهده وتآمروا عليه، وآذوا المسلمين. انظر: "سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-" لابن هشام 1/ 16، 2/ 442، و"الروض الأنف" 2/ 289، و"زاد المعاد" 3/ 65، و"البداية والنهاية" 4/ 3، 74، 116. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 109، وهو جزء من رواية الضحاك عن ابن عباس السابقة؛ وفيها: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}: يعني أهل الكتب الماضية، وورد بنحوه مختصرًا في "تفسير الماوردي" 3/ 189، والطوسىِ 6/ 384، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 423، وابن الجوزي 4/ 449، والفخر الرازي 20/ 36، وأبي حيان 5/ 493، وابن كثير 2/ 628، والقول في كل المصادر ورد مطلقًا دون تقيده بمن آمن من بني قريظة أو النضير.

44

105]، {الذِّكْرِ} يعني التوراة، وهذا قول عامة المفسرين: أن أهل الذكر هم أهل الكتاب؛ يعني المؤمنين منهم في قول الأكثرين (¬1). وقال أبو إسحاق: قيل: فاسألوا أهل الكُتب الذين يشهدون بهذا (¬2)، لا من أجل أنهم من أهل هذه الملة، ولكن أهل الكتاب يعترفون أن (¬3) الأنبياء كلهم بشر، فعلى هذا؛ المراد بأهل الذكر: أهل العلم بأخبار الماضين ومن أُنبِّئهم من الرسل، والذكر المراد به العلم؛ لأنه مقرون بالذكر ومتعلق به، إذ العالم من يذكر الدليل ولا يكون ساهيًا عنه، فحَسُن أن يقع الذكر موقع العلم. وقال الزجاج: ويجوز -والله أعلم- قيل لهم: سلوا كلَّ من يُذْكَرُ بعلم، وافق هذه الملة أو خالفها (¬4). قال أهل المعاني: وفي هذه الآية دليل على أن الخصم إذا التبس عليه أمر رَدّ إلى أهل العلم بذلك (¬5). 44 - قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} اختلفوا في الجالب لهذه ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 203، و"معاني القرآن" للنحاس 5/ 21، و"تفسير السمرقندي" 2/ 236، وهود الهواري 2/ 371، والطوسي 6/ 384، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 70، وابن عطية 8/ 423، و"تفسير القرطبي" 10/ 108, والخازن 3/ 116، وأبي حيان 5/ 493. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 201، بنحوه، وهو أحد قولين ذكرهما في الآية. (¬3) (أن) ساقط من (ع). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 201، بنصه، وهذا القول هو الراجح؛ لأنه موافق لعموم اللفظ، وحمل اللفظ على عمومه أولى ما لم يرد له مخصص، والرواية المخصص بأهل الكتاب عن ابن عباس، هي من طريق الضحاك وهي منقطعة. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 384، بنحوه.

الباء (¬1)؛ فعند الفراء: لا يجوز أن تتعلق بأرسلنا المذكور في الآية الأولى؛ لأن صلة ما قبل إلاَّ لا تتأخر بعد إلاَّ، ولكنّه يقول: تقدير الآية: أرسلناهم بالبينات (¬2)، فالباء تتعلق بأرسلناهم المضمر المدلول عليه بأرسلنا المذكور، قال: ومثله قوله: ما ضرب إلا أخوك زيدًا، وما مرّ إلا أخوك يزيد، تريد ما مرّ إلا أخوك، ثم تقول: مرّ يزيد، فهذا إنما يجوز على كلامين، ولا يجوز أن يكون ما بعد إلاَّ موصولاً بما قبله، ومن هذا الجنس قول الشاعر: نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنّارِ جارَتهَمْ ... وهل يُعذِّبُ إلاّ اللهُ بالنّارِ (¬3) وقال الكسائي: (إلاّ) في قوله: {إِلَّا رِجَالًا} بمعنى غير؛ كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، (قال: المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا) (¬4)، واحتجّ بقول الشاعر (¬5): أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ ... إلاّ يَدٍ لَيْسَتْ لَها عَضُدُ (¬6) ¬

_ (¬1) أورد السمين في ذلك ثمانية أقوال، انظر: "الدر المصون" 7/ 222، وما بعدها. (¬2) فيكون تأويل الكلام: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبير وأنزلنا إليك الذكر. (¬3) ورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 110، و"الإملاء" 2/ 81، فيه: (لا) بدل (هل)، والثعلبي 2/ 157 أ، والطوسي 6/ 385، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 228، و"الدر المصون" 7/ 222، و"شرح التصريح" 1/ 284، قال الأزهري: فقدم الفاعل المحصور بإلا على المجرور بالباء، وطوى ذكر المفعول، وهل بمعنى ما، وأصل الكلام: ما يعذب أحدٌ أحدًا بالنار إلا الله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬5) هو أوس بن حجر (جاهلي). (¬6) "ديوانه" ص 21، ووردت اليد الثانية منصوبة (إلا يدًا) وليس في هذه الرواية =

45

فقال. (إلاّ) هاهنا بمعنى غير؛ لأنه لا يمكن إعادة خافض بضمير (¬1)، قال الفراء: وقد ذهب في هذا مذهبًا (¬2)، ومن قال الذكر في الآية الأولى بمعنى العلم (¬3)، جعل الباء من صلته؛ كأنه قيل: سَلوا أهل العلم بالبينات والزبر (¬4)؛ وهي ما أنزل الله على الأنبياء من الحجج الواضحة والكتب، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يعني القرآن (¬5)، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: في هذا الكتاب من الحلال والحرام، والوعد والوعيد، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}: في ذلك فيعتبرون. 45 - قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} قال ابن عباس: يريد المشركين؛ أهلَ مكة وما حول المدينة (¬6). ¬

_ = الشاهد، وورد في: "معاني القرآن" للفراء 2/ 101، و"تفسير الطبري" 14/ 110، والثعلبي 2/ 157 أ، (لُبَيْنى): اسم امرأة، وبنو لبينى من بني أسد بن واثلة، يعيرهم بأنهم أبناء أَمَة إذ ينسبهم إلى الأم تهجينًا لشأنهم. (¬1) يعني أن الذي خفض اليد قبل (إلا) وهي الباء يتعذر إعادته بعد (إلا) لخفض اليد الثانية، ولا إشكال لو كانت بمعنى غير. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 100 - 101، بتصرف واختصار. (¬3) أشار إلى ذلك الزجاج في "المعاني" 3/ 201، بقوله: قيل لهم: اسألوا كلَّ من يذكر بعلم .. ، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 108، والخازن 3/ 116. (¬4) وهذا القول هو الأظهر؛ لأنه لا يحتاج إلى تأويل، وما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما احتاج إلى تأويل. (¬5) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 أ، والطبري 14/ 111، وهود الهواري 2/ 373، والسمرقندي 2/ 237، والطوسي 6/ 385، و"تفسير الماوردي" 3/ 190، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 425، والخازن 3/ 116، وابن كثير 2/ 592. (¬6) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الزمخشري" 2/ 330، وابن عطية 8/ 425، وابن الجوزي 4/ 450، والفخر الرازي 20/ 38، والخازن 3/ 117، وأبي حيان 5/ 494.

وقوله تعالى: {مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} قال الكلبي: عملوا السيئات، يعني عبادة غير الله (¬1)، وكذلك قال قتادة: يعني الشرك (¬2)، وعلى هذا سمي عبادتهم الأوثانَ مكرًا, لأن المكر في أصل اللغة: السعي بالفساد (¬3)، وذكرنا هذا فيما تقدم (¬4)، وعبادة غير الله من أفسد السعي. وقوله تعالى: {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} قال ابن عباس: كما خَسف بقارون (¬5)، ومعنى الخسف في اللغة: سُؤُوخُ الأرضِ بما عليها (¬6)، قال أبو زيد والأصمعي: خَسَفَ المكانُ يَخْسِفُ، وخَسَفَهُ الله (¬7). ومعنى الاستفهام في قوله: {أَفَأَمِنَ} الإنكار؛ أي: يجب أن لا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين من قبلهم. وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} قال الكلبي: من حيث لا يعلمون بهلاكهم (¬8)، قال ابن عباس: يريد يوم بدر وما كانوا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 38، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 372. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 112 بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 223، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬3) والمشهور عند أهل اللغة أن أصل المكر: الاحتيال والخداع، ويكون عادة في خُفْيَة، فكأن الواحدي رحمه الله فسرها باللازم؛ انظر: (مكر) في "تهذيب اللغة" 3434، و"المحيط في اللغة" 6/ 263، و"مجمل اللغة" 2/ 838، و"الصحاح" 2/ 819. (¬4) في تفسير الآية [26] من هذه السورة. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 109، والخازن 3/ 117، وأبي حيان 5/ 495، وفي الأخيرين بلا نسبة. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (خسف) 1/ 1029، بنصه، وهو قول الليث. وانظر: (خسف) في "المحيط في اللغة" 4/ 267، و"اللسان" 2/ 1157. (¬7) المصدر السابق نفسه. (¬8) ورد بنص غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 237.

46

يُقدِّرون ذلك ولا يشعرونه (¬1) 46 - قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} قال ابن عباس: يريد في تجارتهم واختلافهم إلى اليمن وإلى الشام (¬2)، وهذا قول قتادة والكبي، قالا: {فِي تَقَلُّبِهِمْ}: في أسفارهم (¬3)، وقال مقاتل: في ليلهم ونهارهم (¬4)، يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلاً ونهارًا، فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يمينًا وشمالًا، {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بممتنعين ولا فائتين (¬5) الله، قال ابن عباس: يريد أن الله لا يعجزه شيء أراده. 47 - قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}، التخوف: تَفَعُّل من الخوف، يقال: خفت الشيء وتخوَّفته، قال الزجاج: أي أو يأخذهم بعد ¬

_ (¬1) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير القرطبي" 10/ 109، و"الشوكاني" 3/ 236. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 112 من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وأخرجه بنحوه من طريق العوفي غير مرضية، وورد في تفسير "تفسير الماوردي" 3/ 190، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 21، وابن الجوزي 4/ 450 قال: في أسفارهم، والخازن 3/ 117، و"الدر المنثور" 4/ 223، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وفي جميع المصادر ما عدا ابن الجوزي ورد بلفظ: في اختلافهم. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 356 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 112 بلفظه عن قتادة من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 69، بلفظه عن قتادة، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 450، و"تفسير القرطبي" 10/ 109، وابن كثير 4/ 629، و"الدر المنثور" 4/ 223، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، كلها عن قتادة، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 2/ 157 أ، وهود الهواري 2/ 372، ونُسب فيه إلى الكلبي تفسيرها بقوله: في البلاد بالليل والنهار. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 203 أ، بلفظه، وانظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 495. (¬5) في جميع النسخ: (قانتين) ولا معنى لهاهنا، والصحيح المثبت كما في "تفسير السمرقندي" 2/ 237، و"الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 398.

أن يخيفهم؛ بأن يهلك فرقة فتخاف التي تليها (¬1)، وهذا معنى قول الضحاك والكلبي، يعني: (يعذب طائفة ويدع طائفة) (¬2)، فيتخوف الذين يَدَعْهم مثل ما أصاب الآخرين (¬3)، ونحو هذا قال الحسن (¬4)؛ والمعنى يأخذهم على تخوفهم الهلاك لما سبق من هلاك طائفة منهم، وقال ابن عباس وعامة المفسرين: على تَنَقُّص؛ إما (¬5) بقتل أو بموت (¬6)، يعني: ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يُهْلِك جميعَهم (¬7). أخبرني ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 201، بنصه. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 356 عن الكلبي، والطبري 13/ 114 عن الضحاك، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 69، عن الضحاك، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 157 أ، عنهما، و"تفسير الماوردي" 3/ 190، عن الضحاك، والطوسي 6/ 386، عن الضحاك، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 21، عنهما، و"تفسير القرطبي" 10/ 110، عن الضحاك، والخازن 3/ 117، عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 223، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الضحاك. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 3/ 190، والطوسي 6/ 386، و"تفسير القرطبي" 10/ 110. (¬5) في جميع النسخ: (أو، ويستقيم المعنى بـ (إما)، والتصويب من "تفسير الشوكاني" 2/ 236، وصديق خان 7/ 250. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 347، بنحوه، وأخرجه الطبري 14/ 113، بنحوه، عن ابن عباس من طريق عطاء الخرساني صحيحة، وأخرجه مختصرًا عن مجاهد من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 69، مختصرًا عن ابن عباس ومجاهد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 451، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، و"تفسير القرطبي" 10/ 110، عن ابن عباس ومجاهد، والخازن 3/ 117، عن ابن عباس ومجاهد، وأبي حيان 5/ 495، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك. (¬7) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 157 أ، بنصه.

العروضي عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري عن الحرّانيِّ عن ابن السِّكِّيت، قال: يقال: هو يَتَخَوَّفُ المالَ ويتَحَوَّفُه، أي يتَنَقَّصُهُ ويأخذُ من أطرافه، وأنشد لابن مقبل (¬1): تخوَّفَ السَّيْرُ منها تَامِكًا قَرِدًا ... كما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ (¬2) (¬3) وروى شمر عن ابن الأعرابي: تَخوَّفْتُ الشيء وتَخيّفْتُه، وتَخَوَّفْتُهُ وتَخَيَّفْتُهُ إذا تَنَقَّصَتُه (¬4). قال أهل المعاني: معنى التنقص: أنه يؤخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد، وتلك حال يُخافُ معها الفناء ويُتخوفُ الهلاكُ (¬5)، فمعنى ¬

_ (¬1) نُسب في "تفسير الثعلبي" 2/ 157 ب، لأبي كبير الهذلي، وهو يصف ناقة، ولم أجده في "ديوان الهذليين". وابن مقبل هو: تميم بن أُبيّ بن مُقبل، من بني عجلان، تقدمت ترجمته. (¬2) لم أجده في الإصلاح، وورد في "تهذيب اللغة" (خاف) 1/ 966، بنصه. (¬3) "ديوان ابن مقبل" ص 405، وورد في "تهذيب اللغة" (خاف) 1/ 966، و"اللسان" (خوف) 3/ 1292، ونُسب إلى أبي كبير الهذلي في "تفسير القرطبي" 10/ 110، وأبي حيان 5/ 495، و"تفسير الألوسي" 14/ 153، وصديق خان 7/ 250، والثعلبي 2/ 157 ب، لكن برواية: تخوف الرحل منها تامكًا صلبًا ونسبه الزمخشري لزهير 2/ 330، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 113، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 202، و"تفسير الطوسي" 6/ 386، وابن عطية 8/ 427، والفخر الرازي 20/ 39، و"الدر المصون" 7/ 225، وفي بعض المصادر: (الرحل) بدل (السير)، (التامك) السنام، (القرد) الذي تراكم لحمه من السمن، (النبعة) ضرب من الشجر الصلب، (السَّفَن) المِبْرَد، والمعنى: أي ينقص السيرُ سنامَها بعد تموكه، كما يُنحت العُودُ فيدِق بعد غِلَظِه. (¬4) المصدر السابق نفسه وبنصه. (¬5) انظر: "تفسير الطوسي" 6/ 386، بنصه.

48

{يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}، أي: على حال تنقصهم، يأخذهم الأول فالأول حتي يأتي الأخذ على الجميع. وقوله تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} قال الزجاج: أي من رأفته أمهل وجعل فسحة للتوبة (¬1)، وهو معنى قول المفسرين: إذ لم يعجل عليم بالعقوبة والإهلاك (¬2)، وأَخَّر عنهم هذه العقوبات التي ذكرها مع قدرته عليها. 48 - قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} قراءة العامة بالياء (¬3)؛ لأن ما قبله غيبة، وهو قوله: {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ}، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ} كذلك: {أَوَلَمْ يَرَوْا}، وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قد رأوا ذلك وتيقنوه فلا يحسن أن يقال لهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا}. وقرأ حمزة والكسائي: {تَرَوا} بالتاء (¬4)، على الخطاب لجميع الناس (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 202، بنصه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 203 أ، والطبري 14/ 114 بمعناه، والسمرقندي 2/ 237، والثعلبي 2/ 157 ب، والماوردي 3/ 190، وابن الجوزي 4/ 451، والفخر الرازي 20/ 39، و"تفسير القرطبي" 10/ 111، والخازن 3/ 117، وأبي حيان 5/ 495، وابن كثير 2/ 629. (¬3) وهم: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. انظر: "السبعة" ص 373، و"علل القراءات" 1/ 305، و"الحجة للقراء" 5/ 66، و"المبسوط في القراءات" ص 224، و"التيسير" ص 138، و"شرح الهداية" 2/ 380، و"تلخيص العبارات" ص 111. (¬4) انظر: المصادر السابقة. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 67، بتصرف يسير.

وقوله تعالى: {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} قال المفسرون وأهل المعاني: أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم (¬1)، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد الشجر والنبات. وقوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) إخبار عن قوله: {شَيْءٍ}، وليس بوصف له، و {يَتَفَيَّأُ}: يتفعل من الفيء، يقال: فاء الظل يفيء فيئًا، إذا رجعَ وعادَ بعد ما كان ضياءُ الشمس نسخَه، وأصلُ الفيء الرجوع (¬2)، ومنه فَيءُ المولي (¬3)، وذكرنا ذلك في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، وكذلك فيءُ المسلمين؛ لِمَا يعود على المسلمين من مال مَنْ خالف دينهم بلا قتال (¬4)، وسنذكر ذلك في قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إن شاء الله. وأصلُ هذا كله من الرجوع، فإذا عُدِّي (فَاءَ) عُدّي بزيادة الهمزة أو تضعيف العين، فمِمَّا عُدّي بنقل الهمزة قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ}، وبالتضعيف فاءَ الظلُّ، وفَيّأه الله فتفيّأ، وتَفيَّأ مطاوع فَيَّأَ (¬5). ¬

_ (¬1) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 72، بنصه، و"تفسير الطبري" 14/ 114 - 116، بنحوه، والثعلبي 2/ 157 ب، بنحوه، والطوسي 6/ 387، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 21، وابن الجوزي 4/ 452، والفخر الرازي 20/ 40، و"تفسير القرطبي" 10/ 111، ونسبه إلى ابن عباس، والخازن 3/ 117، وأبي حيان 5/ 496. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (فاء) 3/ 2711، و"مجمل اللغة" (في) 2/ 701، و"الصحاح" (فيأ) 1/ 63، و"عمدة الحفاظ" 3/ 308. (¬3) هو الذي يحلف أن لا يجامع زوجته، وقد حدد الشارع مدة الإيلاء بأربعة أشهر؛ إما أن يطلق وإما أن يفي. انظر: "تفسير الجصاص" 1/ 355، والكيا الهراسي 1/ 216 - 219، وابن العربي 1/ 178، و"تفسير القرطبي" 3/ 103. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (فيأ) 3/ 2711، بنحوه، وانظر: "التعريفات" ص 170، و"تفسير الفخر الرازي" 20/ 40. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 67، بنصه، وانظر. "اللسان" (فيأ) 6/ 3496، و"معجم الألفاظ المتعدية بحرف" ص 282.

قال الأزهري: وتفيؤ الظلال رُجوعها بعد انتصاف النهار وانتعال الأشياء (¬1)، قال: وأخبرني المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: التفيؤ لا يكون إلا بالعشي؛ ما انصرفت عنه الشمس، وقد بينه الشاعر (¬2) فقال: فلا الظلَّ من بَرْد الضُّحى تستطيعُهُ ... ولا الفيءَ من بردِ العشيِّ تذَوُق (¬3) وقال أبو علي الفارسي: الظل ما كان قائمًا لم تنسخه الشمس، فإذا نسخته الشمس ثم زال ضياء الشمس الناسخ للظل فاء الظل، أي رجع كما كان أولاً (¬4)، فهذا هو الفيء، وُيسمى الظل أيضًا, ولا يسمى الأول فيأً. قال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كُلُّ ما كانت عليه الشمسُ فزالت عنه فهو فيءٌ وظلٌّ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظِلٌّ (¬5)، على أن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي: ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (فاء) 3/ 2711، بنصه، وفي المصدر: وانتعال الأشياءِ ظلالَها. قلت ومعناه: صار ظلها تحتها. (¬2) هو حميد بن ثور. تقدمت ترجمته. (¬3) ديوانه ص 70، وورد في "إصلاح المنطق" ص 320، و"الصحاح" (فيأ) 1/ 63، (بعد) بدل (برد) الثانية، و"تفسير ابن عطية" 8/ 430، و"اللسان" (فيأ) 6/ 3495، وورد غير منسوب في "الحجة للقراء" 5/ 68، و"تفسير الفخر الرازي" 20/ 40، وأبي حيان 5/ 496، والبيت قاله يصف سَرْحَة شجر عظام طوال وكنَّى بها امرأة. والشاهد: أنه جعل الظلَّ وقت الضحى؛ لأن الشمس لم تنسخْه في ذلك الوقت. وكلام الأزهري في "تهذيب اللغة" (فاء) 3/ 2711، بنصه. (¬4) ولخصه ابن السِّكِّيت فقال: الظلُّ: ما نسخته الشمسُ، والفيءُ: ما نسخ الشمسَ. "إصلاح المنطق" ص 320. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 70، بخصه، و"الصحاح" (فيأ) 1/ 64، بنصه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 432، والفخر الرازي 20/ 40 , و"اللسان" (فيأ) 6/ 3495 , و"تفسير أبى حيان" 5/ 496.

فسلامُ الإلهِ يَغْدو (¬1) عليهمْ ... وفُيوءُ الفرْدَوْسِ ذاتُ الظِّلالِ (¬2) فهذا الشعر قد أوقع فيه الفيء على ما لم تنسخه الشمس، وجمعه على فيوء؛ مثل بيت وبيوت؛ لأن ما في الجنة يكون ظلًّا ولا يكون فيئًا؛ لأن ضياء الشمس لم تنسخه، ففاء بعد النسخ، وأكثر ما تقول العرب في جمعٍ (¬3) أفياء؛ وهو للعدد القليل، وفيوء؛ للكثير كالبيوت والعيون. وقوله تعالى: {ظِلَالُهُ} أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال؛ لأن الذي يعود إليه الضمير واحدٌ يدل على الكثرة، وهو قوله: {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ}، وهذا مثل: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] , فأضاف الظهور، وهو جمع، إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحدٍ يُرادُ به الكثرة، وهو قوله: {مَا تَرْكَبُونَ} (¬4) [الزخرف: 12]. وأما قول المفسرين في: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال ابن عباس: يتميل (¬5)، وهو معنى وليس بتفسير؛ لأنه إذا قرن بقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} صار المعنى: أنه يتميل عن الجوانب، ومعنى تفيؤ الظلال: أن يعود الظل بعد نسخ الشمس إياه، وأما معنى تفيؤها عن اليمين والشمائل (فهو أن يكون ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: بعد، والصحيح المثبت لموافقته للمصادر وإفادته للمعنى. (¬2) "شعر النابغة" الجعدي ص 231، وورد في "النوادر في اللغة" ص220، و"تفسير ابن عطية" 8/ 431، والفخر الرازي 20/ 41، و"اللسان" (ظلل) 5/ 2753. (¬3) الأولى (في الجمع)، أو (في جمع فيء) ولعل (فيء) ساقطة. (¬4) "الحجة للقراء" 5/ 67 - 70 نقل طويل تصرف فيه بالحذف والإضافة، والتقديم والتأخير، والتهذيب والاختصار، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 40، نقله بطوله عن الواحدي بتصرف يسير مع نسبته. (¬5) ورد في "تفسير الطوسى" 6/ 387, بلفظه.

للأشجار فيء عن اليمين والشمائل) (¬1)، إذا كانت الشمس يمين الشخص كان الفيء عن شماله، وإذا كانت على شماله كان الفيء عن يمينه، فهذا وجه ذكره بعضُ أهل التأويل (¬2)، والذي عليه المفسرون، قال قتادة والضحاك وابن جريج: أما اليمين فأول النهار، وأما الشمال فآخر النهار (¬3)، وقد بين الكلبي هذا، فقال: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان على يسارك، فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل (¬4)، ووحد اليمين والمراد الجمع، ولكنه اقتصر فيه على الواحد في اللفظ للإيجاز؛ كقوله: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] وقول الفرزدق: بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كانَ هَدَّنِي ... رَزيَّةُ شِبْلَيْ مُخْدِرٍ في الضَّراغمِ (¬5) ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬2) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 72، بنصه. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 356) بنصه عن قتادة، والطبري 14/ 115 بنصه عن قتادة من طريقين، وبمعناه عن الضحاك وابن جريج من طريقين، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 157 ب، بنصه عن الضحاك وقتادة، و"تفسير الماوردي" 3/ 191، والطوسي 6/ 387، عنهم، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 22، عن قتادة والضحاك، وابن عطية 8/ 433، عن قتادة وابن جريج، والخازن 3/ 117، عن الضحاك، وأبي حيان 5/ 497، عن قتادة وابن جريج. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 157 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 22، وابن الجوزي 4/ 452، وأبي حيان 5/ 498، ورد في الأخيرين بلا نسبة. (¬5) "ديوانه" 2/ 206، وورد في "تفسير الطبري" 14/ 117، والثعلبي 2/ 157 ب، والطوسي 6/ 388، و"الأساس" ص 154، وابن عطية 8/ 433، (الشامتين) =

هذا قول الأخفش وجميع أهل المعاني (¬1). وقال الفراء: كأنه إذا وَحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها (¬2)، وذلك أن قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} لفظه واحد ومعناه الجمع على ما بينا، فيحمل كلا الأمرين. وقوله تعالى: {سُجَّدًا لِلَّهِ} قال المفسرون: ميلانها سجودها، (¬3) وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا فقال: أصل السجود التّطَأطُؤ والميل، يقال: سجد البعير وأُسجد إذا طأطأ رأسَه لِيُرْكَب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة العمل، ثم قد يُستعارُ السجودُ فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذل، ومن الأمثال المبتذلة: اسْجُدْ للقرد في زمانه (¬4)، يراد اخضع للئيم في دولته، ولا يُراد معنى سجود الصلاة، والشمس والظل خَلقان مُسخَّران لأَنْ يُعَاقِبَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه بغير فصْلٍ، فالظلُّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يَعُمُّ الأرضَ، كما تَعُمُّها ظلمةُ الليل، ثم ¬

_ = جمع شامت؛ وهو الذي يفرح في بلية الإنسان، (هدني): أوهن أركاني، (المُخدر): الأسد، وكذلك (الضرغام)، يعني أنه يَتَجَلَّد وَيتَحَمَّل مصيبته في فقد ولديه حتى لا يشمت فيه الشامتون الحاقدون. والشاهد: كما قال الطبري: فقال بقي الشامتين، ولم يقل: بأفواه، وهو الشاهد. والبيت يرثي فيه ابنين له. (¬1) لم أقف عليه في معاني الأخفش، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 452، بلا نسبة. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 152، بمعناه. (¬3) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 114 - 115، بلفظه واختاره، والسمرقندي 2/ 237، بنحوه، والثعلبي 2/ 157ب بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 22، وابن عطية 8/ 435، و"القرطبى" 10/ 111، وأبي حيان 5/ 498، وابن كثير 2/ 630. (¬4) ذكره الميداني في المجمع, ونصه: اسْجُدْ لقرْد السُّوء في زمانه. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 357.

تطلُع الشمسُ فتَعُمُّ الأرضَ إلا بما (¬1) سترته الشُّخُوصُ، فإذا سَتَرَ الشخص شيئًا عاد الظلُّ، فرجوعُ الظلِّ بعد أن كان شمسًا ودورانُه من جانب إلى جانب هو سُجُودُه؛ لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتَّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل سجود، وكذلك قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، أي يستسلِمَان لله بالتسخير (¬2)، وهذه الآية كقوله: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، وقد مر بيانه وشرحه. وقوله تعالي: {وَهُمْ دَاخِرُونَ}، أي: صاغرون، وهذا لفظ المفسرين (¬3)، يقال: دَخَرَ يَدْخَر دُخُورًا، أي صَغُرَ يَصْغُرُ صغَارًا، وهو الذي يَفعلُ ما تأمره شاء أو (أبى (¬4). قال الزجاج: هذه الأشياء مجبولة على الطاعة (¬5). وقال الأخفش في قوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ}) (¬6) ذَكَّرَ، وهم من غير ¬

_ (¬1) في المصدر: إلا ما. (¬2) تأويل مشكل القرآن (ص 416 - 418)، وهو نقل طويل تصرف فيه واختصر. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 356 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 116 بلفظه عن مجاهد وقتادة من طريقين لكل منهما، وورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 373، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 70، و"تفسير السمرقندي" 2/ 237، والثعلبي 2/ 157 ب، و"تفسير الماوردي" 3/ 190، والطوسي 6/ 388، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 22، وابن عطية 8/ 436، وابن الجوزي 4/ 453، و"تفسير القرطبي" 10/ 111، والخازن 3/ 118، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 223، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (دخر) 2/ 1158، بنصه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 202، بنصه. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (د).

49

الإنس؛ لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا ما يعقل (¬1). 49 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية. قد ذكرنا السجود يكون على نوعين: سجود هو عبادة؛ كسجود المسلمين لله، وسجود هو خضوع واستكانة؛ وهو سجود ما [لا] (¬2) يعقل وسجود الجمادات، فإن هذه الأشياء بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى مُدَبَّر وصانع ساجدة؛ أي خاضعة متذللة، وقال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} لأن (ما) و (من) يتعاقبان، و (ما) أعمّ من (من) ألا ترى أنه قد قال في أخرى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]. وقوله تعالى: {مِنْ دَابَّةٍ} قال الفراء: دخل (من) هاهنا؛ لأن (ما) مُبْهم، فلو أسقطت (من) لأشبه أن تكون الدابة حالاً لها، فأدخل (من) ليدُلّ (¬3) على أنه تفسير لـ (ما) (¬4)، ومثل هذا كثير في كتاب الله؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ} [النساء: 124]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 48] لم يقل في شيء منه بطرح (مِنْ)؛ لما ذكرنا من أنّ (ما) و (مِنْ) غير مؤقّتتين (¬5)، ومثله قول الشاعر: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 606، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 453. (¬2) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم المعنى، ويؤيده ثبوتها في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 400. (¬3) في (أ)، (د): (البدل)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصواب، يستقيم به المعنى، ويؤيده المصدر. (¬4) في (ش)، (ع): (لها). (¬5) أي: غير محددتين.

فثبتَ اللهُ ما آتاك من حَسَنٍ ... وحيثُ ما يقض أمرًا صالحًا يكن (¬1) وقال آخر: عُمْرًا حَييت ومَن يشناك من أحد ... يَلْق الهوان ويلق الذُلَّ والغِيَرا (¬2) فدلّ مجيء (من) على أنه لم يرد أن يكون ما جاء من النكرات حالاً للأسماء التي قبلها، ودلَّ على أنه مُترجِم على معنى (مَن) و (مَا)، ومثل هذا قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْء} [سبأ: 39]؛ لأن الشيء لا يكون حالاً، ولكنه مترجم، فأمَّا قولهم: لله دَرُّه رجلاً (¬3)، فالرجلُ مترجِم لما قبله وتفسير وليس بحال، إنّما الحال الذي ينتقل؛ مثل القيام والقعود، وجاز سقوط (مِنْ) في هذا الموضع (¬4)؛ لأن الذي قبله مؤقت، فجاز أن يُذكرَ بطرح (مِن) كالحال (¬5)، وقال الأخفش في قوله: {مِنْ دَابَّةٍ} يريد: (من الدواب، واجتزأ بالواحد؛ كما تقول: ما أتاني من رجل مثله (¬6)، وقال ابن عباس في قوله: {مِنْ دَابَّةٍ}) (¬7): ¬

_ (¬1) ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 2/ 103 بخلاف في رواية الصدر: حاز لك الله ما آتاك من حَسَنٍ (¬2) ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 2/ 103. (¬3) ورد في "جمهرة الأمثال" 2/ 210، وانظر: "مجمع الأمثال" 2/ 190، و"اللسان" (عجب) 5/ 2812، (درر) 3/ 1356، وورد برواية: (لله درُّك)، والأصل فيه أن الرجل إذا كَثُر خيرُه وعطاؤهُ قيل له ذلك، إشادةً وتعجبًا، ثم قيل لكل مُتَعَجبٌ منه. (¬4) أي في المثل؛ لأن أصله أن يقال: لله درُّه من رجل. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 103 - 104، نقل طويل تصرف فيه بالتقديم والتأخير، والاختصار والتهذيب، والتمثيل والتوضح. (¬6) أي: ما أتاني من الرجال مثله، فأفاد الإفراد معنى الجمع. "معاني القرآن" للأخفش 2/ 606، بنصه. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).

يريد كلَّ ما (¬1) دَبَّ على الأرض (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ} أخرجهم بالذكر تخصيصًا وتفصيلاً؛ كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬3) [الرحمن: 68]، وقوله تعالى: {لَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬4) [البقرة: 98] وقال الزجاج: المعنى: ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة والملائكة؛ أي: وتسجد ملائكة الأرض (¬5)، وفي الأرض ملائكة موكلون بالعباد (¬6)، وقيل: إنما ذكرهم على التخصيص لخروجهم من صفة الدبيب بما جعل لهم من الأجنحة (¬7)، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} قال ابن عباس: يريد عن عبادة الله (¬8)، وهذا صفة من يسجد لله سجود عبادة، فأما من له سجود الخضوع ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: كلما، وهو تصحيف ظاهر. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 44، وأبي حيان 5/ 498، و"تفسير القرطبي" 10/ 112، بلا نسبة. (¬3) يقصد ذكر الخاص بعد العام؛ فذكر الفاكهة عمومًا، ثم فصل في أنواعها وخص من الأنواع النخل والرمان. (¬4) وهنا كذلك، أجمل الملائكة، ثم فصَّلهم وخصّ منهم جبريل وميكال بالذكر. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 202، بنصه. (¬6) لقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وغيرها من الأدلة. (¬7) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158 أ، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 192، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 23، وابن الجوزي 4/ 454، و"تفسير القرطبي" 10/ 113. (¬8) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 113، وابن كثير 2/ 630، وأبي السعود 5/ 119 , و"الشوكاني" 3/ 238، و"تفسير الألوسي" 14/ 158، كلها بلا نسبة.

50

دون سجود العبادة، فمعنى لا يستكبرون في صلتهم أنهم يذعنون للخالق والصانع بالتسخير والتذليل وما فيهم من الضرورة إلى صانع فطرهم وخلقهم وأنشأهم ودبَّرهم، ويجوز أن يكون قوله: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} من صفة الملائكة خاصة (¬1)؛ لأن الآية التي بعد هذا تختص بصفتهم. 50 - قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} الآية. ذكر أهل العلم وأصحاب المعاني في هذه الآية، قولين (¬2)؛ أحدهما: أن الآية من باب حذف المضاف، على تقدير يخافون عقاب ربهم من فوقهم (¬3)؛ لأن أكثر ما يأتي العقاب المهلك من فوق، سيّمَا والآية في صفة الملائكة، والآخر: أن الله تعالى لما كان موصوفًا بأنه علىٌّ ومتعال علو الرتبة في القدرة، حَسُن أن يقال: {مِنْ فَوْقِهِمْ} ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين (¬4)، وهذا ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بنحوه، وهود الهواري 2/ 373، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 454، و"الشوكاني" 3/ 238. (¬2) ورد القولان في "تفسير الماوردي" 3/ 192، بنحوه، والطوسي 6/ 389 بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 331، وابن عطية 8/ 437، وابن الجوزي 4/ 455، وأبي حيان 5/ 499، و"الدر المصون" 7/ 234. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بمعناه، والطبري 14/ 117 - 118 بمعناه، والثعلبي 2/ 158، بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 113. (¬4) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 238، بمعناه. والقولان باطلان؛ لأن فيهما تعطيلًا وتأويلاً؛ فالأول تعطيل ظاهر لصفة الفوقية، والثاني تأويل وصرفٌ لظاهر النص من فوقية العلو إلى فوقية القدرة والعظمة، وهو خلاف مذهب أهل الحق؛ يقول ابن القيم: ومما ادعى المعطلة مجازه: الفوقية، وقد ورد به القرآن؛ كقوله {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، وحقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره، فادعى الجهمي أنها مجاز في فوقية الرتبة والقهر، كما يقال الذهب فوق الفضة، والأمير فوق نائبه، وهذا وإن كان ثابتًا للرب تعالى، لكن =

معنى قول أبي إسحاق: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}: خوف مُجِلِّين (¬1)، ويدل على صحة هذا المعني قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61]، وقوله إخبارًا عن فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، وقد روى مجاهد عن ابن عباس في قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} قال: ذاك مخافة الإجلال (¬2)، وذهب بعض الناس إلى أن قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} من صفة الملائكة (¬3)، والمعنى: أن الملائكة الذين هم فوق بني آدم وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم، فلأن يخاف من دونهم أولى (¬4). وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} قال المفسرون: يعني الملائكة (¬5)، ¬

_ = إنكار حقيقة فوقيته سبحانه وحملها على المجاز باطل من وجوه عديدة، وقد ذكر سبعة عشر وجهًا. انظر: "مختصر الصواعق المرسلة" ص 355 - 363، و"الفتاوى" 5/ 126. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 203، بنصه. وقد ردّ الألوسي القول بأن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، بقوله: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء]. (¬2) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 225، وعزاه للخطيب في تاريخه [لم أقف عليه]، وانظر: "تفسير الرازي" 20/ 44، و"تفسير الألوسي" 14/ 159، وأورداه بصيغة التمريض، وانتصر له الفخر الرازي وردّه الألوسي -كما مرّ في الحاشية السابقة-، وورد بلا نسبة في "تفسير أبي حيان" 5/ 499، وأبي السعود 5/ 119. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 454، و"تفسير القرطبي" 10/ 113، وأبي حيان 5/ 499. (¬4) وفي هذا المعنى تكلُّف وصَرْفٌ لِلَّفظ عن ظاهره؛ فالفوقية هنا صفة لله وليس للملائكة. (¬5) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 192، بمعناه, وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 23، وابن الجوزي 4/ 454, و"تفسير القرطبي" 10/ 113, و"الشوكاني" 3/ 238.

51

وهذا كقوله في آية أخرى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} الآية [التحريم: 6]. 51 - قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} قال الزجاج: ذكر اثنين توكيدًا لقوله: {إِلَهَيْنِ}، كما ذكر الواحد في قوله: {إِلَهًا وَاحِدًا} (¬1) [التوبة: 31]. وقال صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير؛ يريد: لا تتخذوا اثنين إلهين (¬2)، أي: الاثنان لا يكونان ولا واحدٌ منهما إلهًا, ولكن اتخذوا الواحد الذي لا يجوز أن يكون له ثانٍ إلهًا، يدل على هذا قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وقوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} من تلوين الخطاب. 52 - وقوله تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}، الدين: الطاعة هاهنا، والواصب: الدائم، و [هو] (¬3) قول ابن عباس وجميع المفسرين (¬4)؛ يقال ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 204، بنصه، لكنه استشهد بقوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بالآية نفسها. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 47، بنصه، والظاهر نقله عن الواحدي, والخازن 3/ 118، بنحوه. (¬3) ساقطة من جميع النسخ، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (¬4) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 357 بلفظه عن قتادة، وورد في "الغريب" لابن قتيبة ص 243، بلفظه، وأخرجه الطبري 14/ 119 بلفظه عن ابن عباس، وعن عكرمة من طريقين، وعن مجاهد من طريقين، وعن الضحاك من طريقين، وعن قتادة، وعن ابن زيد، وأخرجه بلفظ واجبًا عن ابن عباس، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 72، بلفظه عن قتادة وعن مجاهد، وعن ابن عباس قال: واجبًا، و"تفسير السمرقندي" 2/ 238 بلفظه، وهود الهوارى 2/ 373، بلفظه، والثعلبي 2/ 158 أ، بنحوه، وفيه عن ابن عباس قال: واجبًا، و"تفسير الماوردي" 3/ 193، بلفظه عن الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك، وعن ابن عباس قال: واجبًا، والطوسي 6/ 390، بنحوه عن ابن عباس، وقال: وبه قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد.

53

وصب الشىء يصب وصوبًا إذا دام (¬1)، قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] ويقال: واظَبَ على الشيء وواصَبَ عليه إذا داوم (¬2)، قال أبو إسحاق: أي طاعته واجبة أبدًا (¬3)، وقال عبد الله بن مسلم (¬4): ليس من أحد يُدان له ويطاوع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكة، غير الله عز وجل؛ فإن الطاعة تدوم له (¬5)، ثم قال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}، أي: أفغير الله الذي قد أبان لكم أنه واحدٌ، وأنه خالق كل شيء، وأمر أن لا يُتخذ معه إلَهٌ، تتقون. 53 - قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد من نعمة الإسلام وصحة الأبدان (¬6)، أي ما أعطاكم الله من صحة في جسم أو سعة في رزق أو متاع بمال وولد، فكل ذلك من الله، ودخلت الفاء في قوله: {فَمِنَ اللَّهِ}؛ لأن الباء في: {بِكُمْ} متصلة بفعل مضمر، المعنى: ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله (¬7)، وقد شرحنا هذه المسألة في ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 72، بنصه، وانظر: (وصب) في "جمهرة اللغة" 1/ 351، و"المحيط في اللغة" 8/ 202، و"الصحاح" 1/ 233، و"اللسان" 8/ 4848، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 49، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 225، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (وصب) 4/ 3900، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 49. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 203، بنصه. (¬4) هو ابن قتيبة (ت 276 هـ). (¬5) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 245، بنصه. (¬6) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 119، بنصه غير منسوب. (¬7) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 204 , بنحوه، و"تفسير الطبري" 14/ 120 - 121، بنحوه، وانظر: "تفسير الرازي" 20/ 51, و"الإملاء" 2/ 82، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 232.

قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] وفي قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية [البقرة: 274]. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة (¬1)، {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}، أي: (ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وهو معنى قول المفسرين: يتضرعون بالدعاء (¬2)، يقال: جأر ويجأر) (¬3) جُؤارًا، وهو الصوت الشديد؛ كصوت البقرة (¬4)، قال الأعشى يصف بقرة: وكان النَّكيرُ أَنْ تُضيفَ وتَجْأرَا (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 121 من طريق أبي طلحة صحيحة بلفظ السُّقْم، وكذلك ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 193، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 457 بنصه، والفخر الرازي 20/ 51، والخازن 3/ 119. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بلفظه، وأخرجه الطبري 14/ 121 بلفظه عن مجاهد من طريقين، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 238، بلفظه، وهود الهواري 2/ 373، بلفظه عن مجاهد، والثعلبي 2/ 158 أ، بمعناه، و"تفسير الماوردي" 3/ 193، بلفظه، والطوسي 6/ 391 بلفظه، قال: وهو قول مجاهد، وانظر: "تفسير البغوي" 1/ 519، وابن عطية 8/ 441، وابن الجوزي 20/ 51. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬4) انظر: (جأر) في "تهذيب اللغة" 1/ 519، و"المحيط في اللغة" 7/ 172، و"اللسان" 2/ 722، ونقله الفخر الرازي 20/ 51، بنصه. (¬5) لم أجده في ديوانه، وورد منسوبًا إليه في "تفسير الثعلبي" 2/ 158 أ، و"تفسير القرطبي" 10/ 115، برواية: فطافت ثلاثًا بين يوم وليلة ... وكان النكيرُ أن تُضيفَ وتجأرا والصحيح أن البيت للنابغة الجعدي كما في شعر النابغة الجعدي ص 41، وصدره: فجالتْ على وَحْشيتها حتبجَةَ مستتِبَّةً

54

فهذا (¬1) ذهب جُؤَار البقرة، وقال عدي بن زيد في جُؤَار الإنسان: إنَّني والله فاقْبَلْ حَلْفَتِي ... بأَبِيل كلما صَلَّى جَأَرْ (¬2) (أي رئيس النصارى) (¬3). 54 - قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} الآية. قال ابن عباس في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ} يريد أهل النفاق (¬4)، وقال الكلبي: يعني الكفار (¬5)، ¬

_ = ونسب إليه كذلك في "الكتاب" 3/ 563، و"أدب الكاتب" ص 275، و"الاقتضاب" ص 367، و"الخزانة" 7/ 407، وبرواية: (أقامت) بدل (فطافت) في "إصلاح المنطق" ص 298، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص 641، و"اللسان" (خمس) 2/ 1262، (ضيف) 5/ 2627. (مستتبة) واهنة ضعيفة، يقال: استتبَّني: استضعفني، وأتب الله قوتها، أي: أوهنها. والنابغة يصف بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فطافت ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه ولا إنكار عندها ولا غناء إلا الإضافة؛ وهي: الجزع والإشفاق، و (الجؤار) هو الصياح، و (النكير) الإنكار. وانظر: "المحيط في اللغة" (تب) 9/ 416. (¬1) في (أ)، (د): (بهذا). (¬2) ورد في "الأغاني" 2/ 105، وفيه: (لأبيلٌ)، و"مقاييس اللغة" 1/ 42، و"تفسير الطوسي" 6/ 391، و"اللسان" (أبل) 1/ 11، وفيه (فاسمع حَلِفي)، و"شعراء النصرانية قبل الإسلام" ص 453. (الأبيل) الراهب، سمي به لتأبله عن النساء وترك غشيانهنّ، والفعل منه: أبَل يأبُلُ أبالةً: إذا تنسَّك وترهَّب، وفي اللسان: الأبيل: رئيس النصارى، وقيل: هو الراهب، وقيل: الراهب الرئيس، وقيل: صاحب الناقوس، وكانوا يسمون عيسى -عليه السلام- أبيل الأبيليين، وكانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. (¬3) ما بين القوسين كتب على الهامش في نسخة (أ). (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 457، وأبي حيان 5/ 502. (¬5) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 457، وأبي حيان 5/ 502، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 238، والزمخشري 2/ 332، وابن عطية 8/ 443.

55

وهو اختيار الزجاج؛ قال: هذا خاص فيمن كفر (¬1)، وقابل كشف الضّر عنه بالجحود والكفر. 55 - قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}، أي: ليجحدوا نعمة الله في كشف الضرّ عنهم، واللام هاهنا يحتمل أن تكون لام كي (¬2)، ويكون المعنى: أنهم أشركوا بالله غيره ليجحدوا نعمته، فاللام بيان عما هو بمنزلة العلة التي يقع لأجلها الشرك، وهؤلاء أشركوا بالعبادة ليكفروا النعمة (¬3)، ويحتمل أن تكون اللام للعاقبة (¬4)، ويكون المعنى: أنهم جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم سببًا إلى الكفر، كما قلنا في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88]، وقد مر، وذكر أبو إسحاق الوجهين أيضًا في اللام هاهنا (¬5). وقوله تعالى: {فَتَمَتَّعُوا} لفظ أمر لتهدد؛ كقوله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 107]، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب. 56 - قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ} يعني الأوثان؛ لا يعلمون ضرًّا ولا نفعًا، ومفعول العلم هاهنا محذوف، والتقدير: لما لا يعلمون له ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 204، بنصه. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 52، و"تفسير القرطبي" 10/ 115، والخازن 3/ 119، وابن كثير 2/ 630. (¬3) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 392، بنحوه. (¬4) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 52، و"تفسير القرطبي" 10/ 115، والخازن 3/ 119، وابن كثير 2/ 630. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 204 باختصار.

حقًّا ولا فيه ضرًّا ونفعًا، قال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم (¬1)، ونحو هذا قال قتادة وابن زيد: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءًا من أموالهم (¬2)، وقد بينّا (¬3) مذهبهم في هذا عند قوله: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] جعلوا نصيبًا من الحرث والأنعام يتقربون به إلى الله تعالى، ونصيبًا يتقربون به إلى الأصنام والحجارة على ما يجب أن يتقربوا إلى الله، وعلى هذا: العِلمُ مسند إلى المشركين، وهو قول عامة المفسرين (¬4). وقال صاحب النظم: قوله: {يَعْلَمُونَ} هاهنا لازم ليس بمتعَدّ؛ لأنه الأصنام ومضاف إليها، والتأويل لِمَا ليس لها (¬5)؛ لأنها موات لا معارف لها ولا حس، وأخرجها في قوله: (ما) مخرج غير الآدميين ومن [لا] (¬6) ¬

_ (¬1) ليس في تفسيره، وأخرجه الطبري 14/ 122 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 458، والفخر الرازي 20/ 53، و"تفسير القرطبي"10/ 115، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 226. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 122 بنحوه عن قتادة، وبمعناه عن ابن زيد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 458، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 226، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬3) في (أ)، (د): (ساء)، ولا معنى له، والصحيح المثبت كما في (ش)، (ع). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 14/ 122 - 123، والسمرقندي 2/ 238، وهود الهواري 2/ 374، والثعلبي 2/ 158 أ، والطوسي 6/ 392، والزمخشري 2/ 332، وابن عطية 8/ 444، وابن الجوزي 4/ 458، والفخر الرازي 20/ 53، وذكر مسوغات ترجيح من رجحه، و"تفسير القرطبي" 10/ 115، والخازن 3/ 119، وأبي حيان 5/ 503. (¬5) أي لما ليس لها علم ولا فهم. (¬6) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، ولعلها التبست على النساخ بما بعدها.

57

يفهم، وفي قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} مخرج من يفهم، ومثله قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} (¬1) [الأعراف: 198]، وحمله المعنى {وَيَجْعَلُونَ}، أي. المشركون، {لِمَا لَا يَعْلَمُونَ} أي للشركاء الذين لا يعلمون شيئًا ولا معرفة لهم ولا حس، {نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}، هذا كلامه، ولعل هذا القول أقرب؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف، قال صاحب النظم: ولو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين لاستحال المعنى؛ لأنه لا يحتمل أن يجعلوا نصيبًا من رزقهم لما لا يعلمونه (¬2)، ثم خاطبهم بعد الخبر عنهم، فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ} أي سؤال توبيخ حتى يعترفوا به على أنفسهم؛ لأن سؤال التوبيخ هو الذي لا جواب لصاحبه إلا ما يظهر فيه فضيحتة (¬3). وقوله تعالى: {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أي تتقولونه على الله من أنه أمركم بذلك. 57 - قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} قال المفسرون: هؤلاء خزاعة (¬4) ¬

_ (¬1) قال الواحدي: والأكثرون على أن المراد بالآية الأصنام، وبيان صفات ما هي عليه من النقص. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 53، ذكر القولين كمسوغات لترجيح القول الثاني دون نسبته لصاحب النظم أو الواحدي. (¬3) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 392، بنحوه. (¬4) خزاعة: قبيلة من الأزد من القحطانية، وهم بنو عمرو بن ربيعة، وهو لُحيُّ بن عامر ابن قَمَعَة بن إلياس، وهو أول من بحّر البحيرة وسيَّب السائبة. سُمُّوا بذلك لأنهم انخزعوا عن جماعة الأسد أيام سيل العرم لمّا صاروا إلى الحجاز، فافترقوا بالحجاز فصار قومٌ إلى عُمان وآخرون إلى الشام، وبطونهم هي: بنو كعب، وبنو عديّ، وبنو نصر، وبنو مُلَيح، وبنو جفنة، وبنو المُصْطَلِق، وبنو الحياء. انظر: "الاشتقاق" ص 468، و"جمهرة أنساب العرب" ص 467، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص 228، و"معجم قبائل العرب" 1/ 338.

وكنانة (¬1) زعموا أن الملائكة بنات الله (¬2)، ثم نَزَّه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ} أي تنزيهًا عما زعموا. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أجاز الفراء في (ما) وجهين؛ أحدهما: أن يكون في محل النصب على معنى: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، والثاني: أن يكون رفعًا على الابتداء؛ كأنه تم الكلام عند قوله: {سُبْحَانَهُ}، ثم ابتدأ فقال: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} يعني البنين، وهذا كقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (¬3) [الطور: 39] , ثم اختار الوجه الثاني فقال: لو كان نصبًا لقال: ولأنفسهم ما يشتهون؛ لأنك تقول: جعلتَ لنفسِك كذا وكذا, ولا تقول: جَعلتَ لك (¬4)، و (¬5) الزجاج أجاز (¬6) الوجه الأول (¬7) وقال: (ما) في موضع رفع لا غير، المعنى: ولهم الشيء الذي يشتهونه، ¬

_ (¬1) كنانة: قبيلة عظيمة من العدنانية، وهم بنو كنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس، كانت ديارهم بجهات مكة، وُلِد له: النَّضر، ومَلْك، وملِكان، وعبد مناة، وترجع جميع أنساب كنانة إلى هؤلاء، ويرجع نسب قريش إلى النَّضر بن كنانة، ومنه يتفرع نسب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 11، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص 336، و"معجم قبائل العرب" 3/ 996. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 24، والزمخشري 2/ 332، وابن الجوزي 4/ 458، والفخر الرازي 20/ 54، و"تفسير القرطبي" 10/ 116، و"تفسير البيضاوي" 3/ 184، والخازن 3/ 120، وأبي حيان 5/ 503. (¬3) حيث تم الكلام على الآية السابقة [38]، وهي: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}، تم ابتدأ بهذه الآية. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 105، بتصرف. (¬5) ورد في جميع النسخ: (وابن الزجاج)، وهو خطأ، والصواب ما أثبته. (¬6) في جميع النسخ: (أجازه)، والصحيح المثبت. (¬7) الصحيح أنه أجاز الوجه الثاني كذلك.

58

ولا يجوز النصب؛ لأن العرب تقول: جَعَل لنفْسِه ما يشتهي، ولا تقول جَعَل زيدٌ له ما يَشْتهىِ، وهو يعني نفسه (¬1). 58 - قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} أي أُخبر بولادة بنت، والتبشير هاهنا بمعنى الإخبار أو بمعنى حقيقة التبشير على ما بينا في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25]؛ لأن الحزن يؤثر في البَشَرة كما يؤثر السرور، يدل على هذا قوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} قال الزجاج: أي متغيرًا تَغَيُّرَ مغتم، ويقال لمن لَقِي مكروها: قد اسود وجهه غمَّا وحُزْنًا (¬2)، وشرح أبو علي هذا فقال: ليس المعنى على السواد الذي هو خلاف البياض، ولكن على ما يلحق من غضاضة عن مذمة (¬3)، ونَزَّلُوا ولادةَ الأنثى -وإن لم يكن من فِعْلِهم- منزلةَ ما يكونُ من فِعْلِهم مما يلحق من أجله العار، وعلى ضِدِّ هذا يمدحون بالبياض من لم يلحقه عار، من ذلك قوله (¬4): وأَوْجُهُهُمْ بيضُ المَسَافِرِ غُرَّان (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 206، بتصرف يسير. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 206، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 24، وابن الجوزي 4/ 458، والفخر الرازي 20/ 55. (¬3) لم أقف عليه، وورد نحوه في "تفسير القرطبي" 10/ 116. (¬4) البيت لامرئ القيس. (¬5) وصدره: ثيابُ بَني عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيةٌ "شرح ديوان امرئ القيس" ص 167، وفيه (عند المشاهد) بدل (ببض المسافر)، وورد في "العين" 4/ 19، وفي (غرر) في "تهذيب اللغة" 3/ 2652، و"الصحاح" 2/ 767، و"اللسان" 6/ 3234، و"التاج" 7/ 301، وفيه (المشاهد) بدل (المسافر)، و"مقاييس اللغة" 3/ 428، برواية: (عند المسافر)، "الأساس" ص 298. (المَسَافر)؛ أصله: سفر؛ أي أشرق, يقال: سفر وجهه حُسناً، وأسفر، =

59

يريد أنهم لا يرتكبون ما يُدَنِّس الوجه، وعلى هذا المعنى وصفهم الرجلَ بالبياض في المدح لا على معنى بياض اللون ونصوعه، قال قتادة في هذه الآية: هذا صنيع مشركي العرب، فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له (¬1). وقوله تعالى: {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي ممتلئ غمًّا (¬2)، وفسرنا هذا الحرف في سورة يوسف [84]. 59 - قوله تعالى: {يَتَوَارَى}، أي: يختفي ويتغيب، وقد ذكرنا هذا الحرف وتفسيره في قوله: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} [الأعراف: 20]. وقوله تعالى: {مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا ضرب امرأتَه المخاضُ توارى إلى أن يعلم ما يُولدُ له، فإن كان ذكرًا سُرَّ به وابتهج، وإن كانت أُنثى اكتأب لها وحزن ولم يظهر للناس أيامًا، يُدبِّر كيف يصنع في أمرها (¬3)، وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي أيحبسه، والإمساك هاهنا بمعنى الحبس، كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، والكناية تعود على ما في قوله: {مَا بُشِّرَ بِهِ}، والهُون: ¬

_ = وأسفر: أشرق، ومنه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}: أي مشرقة، ومَسَافرُ الوجه: ما يظهر منه، (المشاهد) الوقائع والحروب، (غرَّان) جمع أغرّ، ورجلٌ أغرُّ الوجه إذا كان أبيض الوجه. (¬1) أخرجه الطبري 14/ 123 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 226، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158 أ، بنصه. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 75، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 446، وابن الجوزي 4/ 458، والفخر الرازي 20/ 55، والخازن 3/ 120، وأبي حيان 5/ 504.

الهَوَان (¬1). قال ابن شميل: إنه لَيَهُون علي هَوْنًا وهَوانًا (¬2)، وأهنته هَوْنًا وهوانًا، وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله: {عَذَابَ الْهُونِ} [آية: 93]. قال المفسرون: كان أحدُهم في الجاهلية إذا وُلِدت له بنتٌ ضاق بها ذرعًا، فلم يدر ما يصنع بها؛ أَيَدُسُّها تحت التراب أو يتهاون بها فيُلْقِيها (¬3)، والهَوان على قول أكثرهم يعود إلى المولودة على معنى أنه سيهينها في التعب والعمل، ويمسكها على هوان منه لها. وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} يريد على رغم أنفه وعلى الكراهية منه (¬4)، وعلى هذا القول، الهوان راجع إلى الوَالِد (¬5)؛ لأنه يمسكه على رضا بهوان نفسه وكراهته، واختاره الفراء ¬

_ (¬1) لم يفرق بعضهم بين الهَوْن والهُون، وذهب الكثير إلى التفريق بينهما؛ فقال بعضهم: الهُون: الهوان، والهَون: الرفق. وقال آخرون: الهُون: العذاب، والهَون: الرفق. وقال الليث: الهَون: مصدر الهيِّن في معنى السكينة والوقار. وقال شمر: الهَوْنُ: الرفق والدعة. وقال الفراء: الهُوْنُ في لغة قريش: الهَوَانُ، وبعض تميم يجعل الهُون مصدرًا للشيء الهيّن؛ أي القليل. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 106، و"تهذيب اللغة" (هان) 4/ 3699، و"اتفاق المباني وافتراق المعاني" ص 99. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (هان) 4/ 3699، بنصه. (¬3) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 204 أ، والطبري 14/ 124، والسمرقندي 2/ 239، وهود 2/ 374، والثعلبي 2/ 158 أ، ولعل المقصود بقوله: (فيلقيها)، أي: يلقيها من شاهق، فقد ذكر الرازي عدة وسائل كانوا يسلكونها في قتل البنات، أشهرها: أن يحفر لها الحفيرة ويدفنها حتى تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها. انظر: "تفسير الرازي" 20/ 56. (¬4) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 55. (¬5) في جميع النسخ: (الولد) والصحيح (الوالد)؛ لأن هذا هو المعنى الثاني، وفي الأول عاد الهوان على الولد، ويؤيده التعليل بعده.

فقال: لا يدري أيدفنها أم يصبر عليها وعلى مكروهها (¬1). وقوله تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي يخفيه، والدس: إخفاء الشيء (¬2)، وهذا على ما كانوا يفعلونه من الوأد في الجاهلية، والجملة التي وقع عليها الاستفهام من الإمساك أو (¬3) الوأد متعلقة بمحذوف يدل عليه القَسَم في الاستفهام، على تقدير {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} مقدرًا: أيمسكه أم يدسه، أو مفكرًا أو مدبرًا، أي يُقَلِّبُ رأيه في أحد الأمرين. وقال صاحب النظم: قوله: {أَيُمْسِكُهُ} متصل في النظم بقوله: {وَهُوَ كَظِيمٌ}، والكظيم بمعنى الكاظم، ومعنى الكظم: ستر الشيء في القلب وترك إظهاره (¬4)، ومنه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]، والتأويل: وهو كاظم، {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}، أي: أن هذا المعنى في قلبه من شدة الغَمّ وهو يكظمه ولا يظهره. وقوله تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} قال ابن عباس والمفسرون: بئس ما حكموا أن جعلوا لمن يعرفون بأنه خالقهم البنات؛ اللاتي محلهن منهم ¬

_ (¬1) "معانى القرآن" للفراء 2/ 107، بنصه. (¬2) انظر: (دس) في "تهذيب اللغة" 2/ 1183، و"المحيط في اللغة" 12/ 235، و"الأساس" 1/ 271، و"عمدة الألفاظ" 2/ 8. (¬3) في جميع النسخ: (و)، وما أثبته هو الصواب، والظاهر أن الألف سقطت أو تصحفت. (¬4) أصل الكَظْم: اجتراعُ الغَيْظ، والكَظَمُ: مخرجُ النفس، يقال: أخذ بكَظَمِه، والكُظُومُ: السكوت، والكُظومُ: إمساكُ البعيرِ عن الجِرَّةِ. انظر: (كظم) في "العين" 5/ 345، و"تهذيب اللغة" 4/ 3151، و"المحيط في اللغة" 6/ 233، و"مجمل اللغة" 2/ 786، و"عمدة الحفاظ" 3/ 469.

60

هذا المحل، ونسبوه إلى اتخاذ الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين (¬1)، نظير هذه الآية قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:21, 22]. 60 - قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} قال ابن عباس والكلبي: يريد العذاب والنار. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}: شهادة أن لا إله إلا الله (¬2)، وهذا قول قتادة، ورُوي عنه {الْمَثَلُ الْأَعْلَى}: الإخلاص والتوحيد (¬3)، وهذا قول المفسرين في هذه الآية، لا أدري لم قيل للعذاب: المثل السَّوء، وللإخلاص: المثل الأعلى. ¬

_ (¬1) ورد بمعناه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 204 أ، والطبري 14/ 124، والسمرقندي 2/ 239، والثعلبي 2/ 158 أ، والطوسي 6/ 394، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 333، وابن الجوزي 4/ 459، و"تفسير القرطبي" 10/ 118، والخازن 3/ 120، وأبي حيان 5/ 504. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 357) بنصه عن قتادة، والطبري 14/ 125 بنصه عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 77، بنصه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" 2/ 158ب، بنصه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 24، عن ابن عباس، وابن عطية 8/ 448، عن قتادة، و"تفسير القرطبي" 10/ 119، عن ابن عباس، والخازن 3/ 120، عن ابن عباس، وأبي حيان 5/ 505 عن ابن عباس وقتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 226، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 125 بنصه، ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 77، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 195، بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 119، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 375، والثعلبي 2/ 158 ب، والطوسي 6/ 394، والقولان عن قتادة متطابقان.

وقال قوم: المثلُ السَّوء: الصفةُ السَّوء؛ من احتياجهم إلى الولد وكراهيتهم الإناث خوفَ العَيلة والعَار (¬1)، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}: الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد، وهذا قول صحيح، والمَثْلُ يَردُ (¬2) كثيرًا بمعنى الصفة, وقد بَيَّنا ذلك مستقصي في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} في سورة الرعد [آية: 35] وإن أنكر ذلك بعض المتأخرين (¬3)، فقد رُوي عن المقدمين من أئمة اللغة المثل بمعنى الصفة (¬4). وقال ابن كيسان: {مَثَلُ السَّوْءِ}: ما ضَرب اللهُ للأصنام وعبدتها من الأمثال (¬5)؛ مِثلُ قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} الآية. [العنكبوت: 41]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} الآية [الحج: 73]، ولله المثل الأعلى نحو قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} الآية [النور: 35]. ¬

_ (¬1) ورد في "نفسير الثعلبي" 2/ 158 أ، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 25، وابن الجوزي 4/ 459، والفخر الرازي 20/ 56، و"البيضاوي" 1/ 278. (¬2) في: (أ)، (د): (يريد)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح. (¬3) يقصد محمد بن يزيد المبّرد (ت 285 هـ) فقد قال عند قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} [الرعد: 35]: فمن قال: إنما معناه: صفة الجنة فقد أخطأ؛ لأن (مَثَل) لا يوضع في موضح صفة، وإنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعْت. انظر: "المقتضب" 3/ 225. (¬4) كيونس بن حبيب (ت 182 هـ)، و"الفراء" ت 207، ومحمد بن سلّام الجمحي (ت 231 هـ)، وإليه ذهب ابن جرير عند آية الرعد [35]،، ومال إليه الأزهري ونصره. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 65، و"تفسير الطبري" 13/ 162، و"تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3341. (¬5) لم أقف عليه.

61

فإن قيل كيف جاء {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} مع قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}؟ [النحل: 74] قيل: لأنه بمعنى الأمثال التي توجب الأشباه، فأما الأمثال التي يضربها الله من غير شَبَه له بخلقه فحقٌّ وصوابٌ؛ لما فيها من الحِكم (¬1). 61 - قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} قال ابن عباس: يريد المشركين، {بِظُلْمِهِمْ} قال: يريد بافترائهم على الله، {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} قال: يريد من (¬2) مفتر، هذا قوله في رواية عطاء (¬3)، ومعناه: أنه لو عاجلهم بالعقوبة على كفرهم ما أمهلهم طرفة عين ولأخلى وجه الأرض عنهم، والكناية في: {عَلَيْهَا} تعود إلى الأرض ولم يسبق لها ذكر، ولكن ذكر الدابة تدل على الأرض؛ فإنها تَدُبّ عليها، وكثير ما يُكَنّي عن الأرض وإن لم يتقدم ذكرها؛ لأنه لا يُشْكِل، يقولون: ما عليها مثل فلان، وما عليها أكرم من فلان؛ يعنون على الأرض (¬4)، وعلى هذا التفسير الدابة تختص بالمفتري، وقال سائر المفسرين: يعني دواب الأرض؛ روى السدي عن أصحابه في قوله: {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} يقول لأقحط المطر، فلم يبق في الأرض دابة إلا هلكت (¬5)، ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ هذه ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 394، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 56، و"تفسير القرطبي" 10/ 119. (¬2) موضع طمس في (ع) وغير واضح. (¬3) انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 333، وأبي حيان 5/ 506، وفيهما قال: {مِنْ دَابَّةٍ} أي: من مشرك يدبّ عليها. (¬4) نقله الفخر الرازي بنصه دون عزو، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 60. (¬5) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 459، وأبي حيان 5/ 506، وورد في "تفسير مقاتل" 1/ 204 أ، بنحوه غير منسوب.

الآية، فقال: كاد (¬1) أن يَهْلِكَ الجُعَلُ (¬2) في جُحْره بذنب ابن آدم (¬3)، وقال قتادة في هذه الآية: قد فَعَل ذلك زمان نوح (¬4)، والمعنى على هذا: أن شؤم ذنوب المشركين كاد أن يصيب دواب الأرض حتى تهلك بسبب ذلك، لولا حلم الله وتأخيره العقوبة، كما روى عن أبي حمزة الثُّمالي (¬5) أنه قال: يحبس المطر فيَهلكَ كلُ شيء (¬6). وقال أهل المعاني: معنى الآية، أن الله تعالى لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء (¬7)، فكانت الأرض تبقى خالية، وقد ضرب الله لهلاك الخلق ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (كان) والمثبت من (ش)، (ع) يتفق مع السياق والمعنى. (¬2) الجُعَلُ: دويبَّة سوداء صغيرة تألف المواضع النديّة، وهي من الخنافس، أو هو الحرباء، وكنيته أبو جِعْران، وأبو وجزة في لغة طيىء، وجمعه جِعْلاَن. انظر: "المحيط في اللغة" (جعل) 1/ 256، و"متن اللغة" 1/ 538. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 126 بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 239 , بنحوه، والثعلبي 2/ 158 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 74، والزمخشري 2/ 333، و"تفسير القرطبي" 10/ 120، والبيضاوي 1/ 278، والخازن 3/ 121، وابن كثير 2/ 631. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 26، وابن الجوزي 4/ 459، والخازن 3/ 120، وأبي حيان 5/ 506. (¬5) أبو حمزة ثابت بن أبي صفية الثُّمالي، اسم أبيه دينار، وقيل: سعيد، مولى المهلَّب بن أبي صُفرة، كوفي ضعيف رافضي، روى عن أنس والشعبي، وعنه: وكيع وأبو نعيم، مات في خلافة أبي جعفر. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 450، و"ميزان الاعتدال" 1/ 363، و"الكاشف" 1/ 282، و"تقريب التهذيب" ص 132 (818). (¬6) أقف عليه. (¬7) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 196، بنصه، والطوسي 6/ 396، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 26، والزمخشرى 2/ 333، والفخر الرازي 20/ 59، ونسبه لأبي علي الجبائي، و"تفسير القرطبي" 10/ 119، و"البيضاوي" 1/ 278، والخازن 3/ 121.

62

وخلو الأرض عن سكانها أجلاً، فهو يؤخرهم إلى أجل مُسَمّى كي يتوالدوا، والأجل المسمى في هذه الآية: القيامة، في قول عطاء عن ابن عباس (¬1)، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} يريد أجل القيامة، وفي قول الآخرين: يعني منتهى الأجل وانقضاء العمر (¬2)، ولعل الأقرب هذا؛ فإن المشركين يؤاخذون بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا، ووجه القول الأول: أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة، وذكرنا معنى: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف: [34]. 62 - قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}، معنى {يَجْعَلُونَ} هاهنا يصفونه بذلك ويحكمون به له، لقولك: جعلت زيدًا أعلى الناس؛ وذكرنا معاني الجَعَل عند قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103]. وقوله تعالى: {مَا يَكْرَهُونَ} يعني البنات في قول جميع المفسرين (¬3)، والمعنى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}: لأنفسهم، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 60، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 375، و"تفسير الماوردي" 3/ 195، والخازن 3/ 121. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158 ب، بنصه، والطوسي 6/ 396، بمعناه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 26، وابن الجوزي 4/ 460، والفخر الرازي 20/ 60، و"تفسير البيضاوي" 1/ 278، والخازن 3/ 121، وذهب بعضهم إلى أنه الوقت الذي قدّره الله لإنزال العذاب بهم في الدنيا، فيكون الناس من العام المخصوص؛ أي أهل المعاصي والكفر؛ كما في قول ابن عباس القول الأول. انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 204 أ، والطبري 14/ 125 - 126، و"تفسير الماوردي" 3/ 195، والفخر الرازي 20/ 60، و"القرطبي" 10/ 119، والخازن 3/ 120. (¬3) ورد بلفظه في "تفسير مقاتل" 1/ 204 أ، والطبري 14/ 126، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 78، و"تفسير السمرقندي" 2/ 239، و"تفسير هود الهواري" 2/ 375، والثعلبي 2/ 158 ب، والطوسي 6/ 396.

{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} قال الفراء والزجاج: موضع {أَنَّ} نصب؛ لأنه عبارة عن الكذب وبدل منه، المعنى: وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى (¬1). وأما تفسير {الْحُسْنَى} فكثير من المفسرين على أنه الغلمان والبنون، وهو (¬2) قول السدي ومجاهد وقتادة (¬3)، قال يمان بن رِئاب (¬4): {الْحُسْنَى}: الجنة (¬5)، وهو معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6)، واختيار ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 107، بنحوه، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 207، بنحوه. (¬2) في جميع النسخ: (وهي)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على القول، وهو مذكر. (¬3) "تفسير مجاهد" ص 422 بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 357 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 127 بلفظه عن مجاهد وقتادة من طريقين لكلٍّ، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 78، بلفظه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" 3/ 196، بنحوه عن مجاهد، والطوسي 6/ 397، بنحوه عن مجاهد، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 333، عن مجاهد، وابن الجوزي 4/ 460، عن مجاهد وقتادة، والقرطبي 10/ 120، عن مجاهد، وأبي حيان 5/ 506، عن مجاهد، وابن كثير 2/ 632، عن مجاهد وقتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 228، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. ولم أقف عليه منسوبًا إلى السدي. (¬4) في جميع النسخ: (رباب)، وكذا في "لسان الميزان"، والصحيح رِئاب كما ذكره الدارقطني والذهبي، وقد صوَّب محقق كتاب الضعفاء للدارقطني هذه الرواية ورجحها على رواية اللسان. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158 ب بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 26 وورد بلفظه غير منسوب في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 78، و"تفسير السمرقندي" 2/ 239، وابن عطية 8/ 451، والفخر الرازي 20/ 60 , والخازن 3/ 121. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" ص 288.

الزجاج (¬1)، قال: المعنى يصفون أن لهم مع قولهم هذا القبيح من الله الجزاء الحسن (¬2)، فحصل في {الْحُسْنَى} هاهنا قولان؛ الأول: على أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، والثاني: على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله إن كان محمد صادقًا (¬3) في البعث؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالمعاد، ولعل الأقرب في تفسير الحسنى: الجنة، وفي الآية ما يدل على هذا، وهو قوله: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّار}، فردَّ عليهم قولَهم وأثبت لهم النار، فدلّ هذا أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة، قال الزجاج: (لا) ردٌّ لقولهم، المعنى ليس ذلك كما وصفوا، جَرَمَ فعلُهم هذا، أي كَسَبَ النارَ (¬4)، فعلى هذا (أنَّ) يكون في محل النصب بوقوع الكسبِ عليه، وقال قطرب: (أنَّ) في موضع رفع، المعنى: وجب أنَّ لهم النار (¬5) , وقيل: لا بُدَّ ولا محالةَ أن لهم النّار، وذكرنا فيما تقدم استقصاء الكلام في هذا الحرف (¬6). وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} أي مُتْرَكون (¬7) مَنْسِيُّون في النار، قاله الكلبي ومجاهد والضحاك (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 207، بنصه. (¬2) في (أ)، (د): (الحسنى)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الموافق للمصدر. (¬3) في (أ)، (د): (صادق) وهو خطأ نحوي ظاهر، لعله من النساخ، والمثبت من (ش)، (ع). "تفسير الثعلبي" 2/ 158 ب. (¬4) أي: كَسَبَ فعلُهم هذا لهم النارَ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 207، بتصرف يسير. (¬6) سورة هود: الآية [22]، و"تفسير السمرقندي" 1/ 169، والنحل الآية [23]. (¬7) هكذا في جميع النسخ، ولعلها (متروكون) كما في "مجاز القرآن" 1/ 361، و"تفسير الطبري" 14/ 127، و"الحجة للقراء" 5/ 73. (¬8) "تفسير مجاهد" ص 422، بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 128 من ثلاث طرق عن مجاهد بلفظ: مَنْسيون، وعن الضحاك بلفظ: متروكون في النار، ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 79، بلفظه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" 3/ 186، بلفظه عن مجاهد والضحاك، والطوسي 6/ 395، بنصه عن مجاهد والضحاك، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 452، عن مجاهد، وأبي حيان 5/ 506 عن مجاهد، وابن كثير 2/ 632، عن مجاهد.

وقال قتادة: مُعَجَّلُون إلى النار (¬1)، وهو قول الحسن، والقول الأول اختيار أبي عبيدة (¬2) والفراء (¬3)، قال الكسائي: يقال: ما أَفْرَطْتُ من القوم أحدًا (¬4)، وقال الفراء: العرب تقول أَفْرَطتُ منهم ناسًا، أي خَلَّفتهم ونسِيتُهم (¬5)، ومَنْ قال: مُعَجَّلُون، وهو الاختيار (¬6)؛ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 357 بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 128 - 129 بنصه عن قتادة من طريقين، ورد في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 79، بنصه عن الحسن، و"تفسير السمرقندي" 2/ 239 بنصه عن قتادة، والثعلبي 2/ 158، بنصه عن قتادة، والماوردي (3/ 196) بمعناه عن قتادة، والطوسي 6/ 395، بمعناه عنهما، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 27، عن قتادة، و"تفسير القرطبي" 10/ 121، والخازن 3/ 121، عن قتادة، وابن كثير 5/ 27، عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 228، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة، وأورده وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الحسن. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 361، بنصه. (¬3) "معانى القرآن" للفراء 2/ 107، بنصه. (¬4) أي ما تركتُ أحدًا، ورد في "تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 61، ورجَّحَ الطبري هذا القول 14/ 129. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 107، بنصه. (¬6) وقد رجحه النحاس كذلك، وقال: قول الحسنِ أشهرُ في اللغة وأعرف، وأيَّده بقول القُطامي كما في "ديوانه" ص 90: واسْتَعْجَلُونا وكانوا من صَحَابَتِنا ... كما تَعَجَّل فُرَّاطٌ لِروَّادِ وهذا الذي ذكره أوضح دلالة مما ذكره الواحدي رحمه الله، كما يؤيِّده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أنا فَرَطكْم على الحوض .. " أي متقدِّمكم وسابقكم إليه حتى تردوه. أخرجه البخاري (6575): الرقاق، في الحوض، ومسلم (2289) كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصفاته، وقد جمع ابن كثير بين القولين -في (مفرطون) - وقال: ولا منافاة؛ [أي بينهما]، لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها؛ أي يخلدون. "تفسير ابن كثير" 2/ 595.

فوَجْههُ (¬1) ما قال أبو زيد وعيره: فرَطَ الرجلُ أصحابَه يَفْرُطُهم فِراطا وفُرُوطًا، إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدِّلاء والأرْسَان (¬2)، وأنشدوا (¬3): فأثارَ فارِطُهم غَطَاطًا جُثَّمًا ... أصواتُها كتَراطُنِ الفُرْسِ (¬4) ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (فوجه) والصحيح ما أثبته؛ وينسجم مع السياق. (¬2) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 73، بنحوه، ونقله الفخر الرازي 20/ 61، بنصه ونسبه للواحدي. (الأرْسانُ) هكذا في جميع النسخ، جمع رَسَن؛ وهو الحبل تقاد به الدابّة، ويحتمل أن يكون (الأرْشَان) جمع رَشْن بسكون الشين وفتحها، وهي مَشْرَبُ الماءِ من النَّهر، أي الثُّلمة في النهر يُستقى منها، وذكر الطبري نحوًا من هذا القول بلفظة (الأرشية) وهو جمع الرَّشاء: وهو حبل الدلو، وهو الأقرب لولا اختلاف مبنى الكلمة، انظر: "تفسير الطبري" 14/ 128 بمعناه، و"المحيط في اللغة" 7/ 320، 374، 8/ 305، و"اللسان" (رشن) 3/ 1652، (رشا) 3/ 1653، و"المعجم الوسيط" 1/ 347، و"متن اللغة" 2/ 588، 592. (¬3) لطرفة بن العبد (جاهلي). (¬4) لم أجده في ديوانه، وذكر محقق "مستدرك التهذيب" (غط) 16/ 49، أنه ليس في ديوانه، ولكنه مما نسب إليه في زيادات [ط: أوربا/ باريس]، ورد في "لسان العرب" (رطن) 3/ 1666، وورد بلا نسبة في: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 572 وفيه: (فأراد) بدل (فأثار)، و"تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773، (غط) 3/ 2676، و"مقاييس اللغة" 2/ 404، 4/ 384، و"اللسان" (غطط) 6/ 3271، (فرط) 6/ 3390، و"التاج" (غطط) 10/ 353، (فرط) 10/ 360. (الفارطُ): المتقدّم السابق، (الغَطاطُ) بفتح الغين كسَحَاب، هي القَطَا أو ضرب منه، وقيل: ضربٌ من الطير ليس من القطا، هنَّ غُبرُ الظهور والبُطون والأبدان. سُودُ بْطون الأجنحة، طوال الأرجل والأعناق، لِطافٌ، لا تجتمعُ أسرابًا، أكثرُ ما تكونُ ثلاثًا أو اثنين، وواحدتُها: غَطاطَة، سميت لصوتها غطاطًا، (جُثَّمًا) يقال: جثم الإنسان والطائر، يجْثِم ويجْثُم جَثْمًا وجُثومًا، فهو جاثِم: أي لزم مكانه فلم يبْرح؛ أي تلَبَّد بالأرض، (تراطن) من الرَّطانة بفتح الراء وكسرها، والتراطن: كلام لا يفهمه الجمهور، إنما هو مُواضعةٌ بين اثنين أو جماعة، والعرب تخص بها غالبًا كلام العجم. وانظر: "اللسان" (جثم) 1/ 545.

وأَفْرَط للقوم الفَارِطُ، وفَرَّطُوه: إذا قدَّموه، فمعنى قوله: {مُفْرَطُونَ} من هذا، كأنهم أُعجلوا إلى النار؛ فهم فيها فَرْطٌ للذين يدخلون بعدهم (¬1). وقال أبو إسحاق: معنى {مُفْرَطُونَ}: مُقَدَّمُون إلى النّار (¬2)، وقرأ نافع بكسر الراء (¬3). قال الفراء: يقول: كانوا مُفْرِطين على أنفسهم في الذنوب (¬4)، ونحوه قال الزجاج: المعنى على أنهم أَفْرَطُوا في مَعْصِية الله (¬5). قال ابن عباس في رواية عطاء: أفرطوا في الافتراء على الله. وقال أبو علي: كأنه من أَفْرَطَ؛ أي صارَ فَرَطٌ، مِثْلُ: أقْطَفَ (¬6) وأجْرَبَ، أي هم ذَوو فَرَطٍ إلى النّار (¬7)؛كأنهم قد أَرْسَلُوا من يُهيئ لهم ¬

_ (¬1) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 73، بنصه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 208، بنصه. (¬3) قرأ نافع وحده: {مُفْرَطُونَ} من أفْرَطْتَ، وقرأ الباقون: {مُفْرَطُونَ} بفتح الراء، من أُفْرِطُوا فهم مُفْرَطُونَ. انظر: "السبعة" ص 374، و"علل القراءات" 1/ 306، و"الحجة للقراء" 5/ 73، و"المبسوط في القراءات" ص 225، و"التيسير" 138. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 108، بنصه تقريبًا. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 208، بنصه. (¬6) في (ش)، (ع): (قَطَفٌ). قال الصاحب ابن عباد: يقال: أقطف الرجل، أي: صار صاحبَ دابةٍ قطوف، والقطوف من الدواب والإبل: هو البطئُ المقاربُ. انظر: "المحيط في اللغة" (قطف) 5/ 330. (¬7) "الحجة للقراء" 5/ 74، بنصه تقريباً.

مواضعَهم منها. 63 - قوله تعالى: ({تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} قال ابن عباس: يعزي الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بهذا (¬1) يقول) (¬2): {لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ} يعني رسلًا وأنبياءَ من قبلك، {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ}: حتى عَصَوا وكذبوهم، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} (يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن المراد بهذا كفار قريش، يقول: الشيطان وليهم اليوم) (¬3)؛ يتولى إغواءهم وصرفهم عنك كما فعل بكفار الأمم قبلك (¬4)، فيكون قد رجع عن الإخبار عن (¬5) الأمم الماضية إلى الإخبار عن كفار مكة. الثاني: أنه أراد باليوم يوم القيامة، يقول: فهو ولي أولئك الذين زَيَّن لهم أعمالهم يوم القيامة (¬6)، ومن كان الشيطان ولِيَّه ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 462، والفخر الرازي 20/ 61، و"تفسير القرطبي" 10/ 121، والخازن 3/ 121، وأبي حيان 5/ 507، وابن كثير 2/ 632، وأبي السعود 5/ 123، وهو بلا نسبة في المصادر كلها. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬4) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 129 - 130، بمعناه، والثعلبي 2/ 158 ب، بمعناه، والطوسي 6/ 397، بمعناه، وانظر: "الكشاف" 2/ 334، وابن عطية 8/ 454، وابن الجوزي 4/ 462، و"البيضاوي" 1/ 278، وأبي حيان 5/ 507، ونسبه إلى الزمخشري، واستبعده بحجة اختلاف الضمائر من غير ضرورة، وهذا تحامل منه على الزمخشري كما هو معروف عنه؛ لأن القول قديم كما هو واضح في المصادر، والقول ليس بضعيف، بل هو محتمل كما قال الواحدي رحمه الله. (¬5) في جميع النسخ (إلى)، وما أثبته هو الصواب؛ كما في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 62. (¬6) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 204 ب، بنحوه، والطوسي 6/ 397، بمعناه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 334، وابن الجوزي 4/ 462، والفخر الرازي 20/ 62، نقل القولين بنصهما بلا نسبة، وأبي حيان 5/ 507، و"الدر المصون" 7/ 249، وابن كثير 2/ 632.

63

اليوم دخل (¬1) النار، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم. 64 - قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} قال ابن عباس: يريد ما قص من أخبار الأمم الخالية في القرآن، {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}، قال: يريد لاتخاذ الحجة عليهم، كأن المعنى: إلا لتُبَيِّن لهم ما يختلفون في من الدين والأحكام؛ فيذهبون فيها إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون، فَتقومُ الحجةُ عليهم بدعائك وبيانك. وقوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} قال أبو إسحاق: بنصب {رَحْمَتَ}؛ لأن المعنى: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا للهداية والرحمة، فهو مفعول له (¬2). 65 - قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى قوله: {يَسْمَعُونَ} أخبر الله تعالى أنه هو الذي أنزل المطرَ فأخصبت الأرض به بعد جُدُوبتها وُيبُوستها، وفي ذلك آية ودلالة على قدرته على البعث والإحياء بعد الإماتة لمن سمع ذلك سَماعَ اعتبارٍ وتَفَكُّر. 66 - قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} الآية. ذكرنا معنى العبرة في سورة آل عمران عند قوله: {لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آية: 13]. وقوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} مَنْ فتح النون (¬3) فحجته ظاهرة ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (ذلكل)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح الذي يستقيم به الكلام. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 208، بنصه. (¬3) وهم ابن عامر ونافع وعاصم في رواية أبي بكر. انظر: "السبعة" ص 374، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 357، و"علل القراءات" 1/ 307، و"الحجة للقراء" 5/ 74 و"المبسوط في القراءات" ص 225، "المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 739.

يقول: سقيته حتى رَوِي، أسقيه، قال الله تعالى {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، وقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]، وقال: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15]، وما كان للشفة فهو بفتح النون؛ ومن ضَمَّ النونَ (¬1) فهو من قولك: أسقاه إذا جعل له شِربًا كقوله: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27]، وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22]، والمعنى هاهنا إنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسُّقْيَا، واختار أبو عبيدة الضَّمَّ وقال: لأنه شِرْبٌ دائم (¬2)، وأكثر ما يقال في هذا المعنى: أَسْقَيْت، وذكرنا الكلام في سقى وأسقى في سورة الحجر (¬3). واختلف النحويون في علة تذكير الكناية في قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، وهي راجعة إلى الأنعام، فقال أبو إسحاق: الأنعام لفظه لفظ جمع، وهو اسم للجنس يذكر ويؤنث، يقال: وهو الأنعام، وهي الأنعام، {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، وفي موضع آخر: {مِمَّا فِي بُطُونِهَا} (¬4) [المؤمنون: 21]. وهذا مذهب سيبويه، قال في ذِكْرِه إن الاسم الواحد يجيء على أَفْعَال، قال: يقال: هو الأنْعَام، وقال: {فِي بُطُونِهِ} (¬5)، فذهب إلى أنه اسم مذكر يقع للجميع كالقوم والنفر والرهط، وقال الفراء: النَّعَمُ والأنعامُ شيء واحد، فرجع التذكير إلى معنى النَّعَم إذ كان يؤدي عن معنى الأنعام، ¬

_ (¬1) وهم: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. انظر: المصادر السابقة. (¬2) لم أجده في مجازه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 64. (¬3) آية: [22]. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 209، بنصه. (¬5) "الكتاب" 3/ 230، بنحوه، وانظر:"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 401.

وأنشد (¬1): وطاب ألْبانُ اللِّقَاح وَبردْ (¬2) وفرحع إلى اللبن (¬3)؛ لأن اللبن والألبان في معنى واحد (¬4)، والدليل على أن النَّعَمَ مذكر قول الراجز (¬5): أَكُلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وتَنْتُجُونه (¬6) ¬

_ (¬1) لم أقف على القائل، وفي "تفسير الثعلبي" 2/ 159 أ، أنه رجز لبعض الأعراب. (¬2) وصدره: بالَ سُهَيلٌ في الفَضِيخِ فَفَسَدْ ورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 129، 2/ 108، و"تفسير الطبري" 14/ 131، والثعلبي 2/ 159 أ، والطوسي 6/ 400، وابن الجوزي 4/ 463، و"اللسان" (خرت) 2/ 1124، (كتد) 6/ 3819، و"الدر المصون" 7/ 257، و"التاج" (خرت) 3/ 44 - 45، (كتد) 5/ 218، وفي جميع المصادر عدا الدّر: (فبرد). (سهيل) كوكب يُرى في ناحية اليمن والعراق، ولا يُرى بخُراسان، (الفضِيخ) عصير العنب، وهو أيضًا شراب يتخذ من البُسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار، وهو المشدوخ. ومعنى البيت: يقول لما طلع سُهيلٌ ذهب زمن البسر وأرطب، فكأنه بال فيه، وعندها تطيب ألبان النوق، والشاهد: أنه لم يقل: وبردت؛ لأنه رده إلى اللبن، المفرد. انظر: "تهذيب اللغة" (سهل) 2/ 1786 - 1787، و"اللسان" (فضخ) 6/ 3426. (¬3) في جميع النسخ: (اللبن والألبان) بزيادة الألبان، وقد أدى زيادتها إلى اضطراب المعنى، ويؤيّد أنها زائدة، عدم وجودها في المصدر و"الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 410. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 108، بنصه تقريبًا. (¬5) هو فيس بن حصين بن يزيد الحارتي (جاهلي). (¬6) ورد في "الخزانة" 1/ 407، 412، وورد بلا نسبة في "الكتاب" 1/ 129، و"مجاز القرآن" 1/ 362، و "تفسير الطبرى" 14/ 132، "المذكر والمؤنث" للأنباري 1/ 426، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 217،و"تهذيب اللغة" (نعم) 4/ 3617، =

قال الكسائي: أراد مما في بطون ما ذكرنا (¬1)، قال الفراء: وهو صواب، أنشدني بعضهم: مِثْلُ الفِراخِ نَتَقَتْ حَواصِلُه (¬2) (¬3) وقال المبرد: هذا فاشٍ في القرآن وفي كلامهم، مثل: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78]، بمعنى هذا الشيء الطالع، وكذلك قوله: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 54، 55]، أي: ذَكَرَ هذا الشيء، وكذلك: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} النمل: 35]، ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36]، ولم يقل: جاءت؛ لأن ¬

_ = و"تفسير الثعلبي" 2/ 159 أ، و"المخصص" 17/ 19، و"تفسير الزمخشري" 2/ 334، وأبي حيان 5/ 509، و"الدر المصون" 7/ 253، و"تخليص الشواهد" ص 191، وفي بعض هذه المصادر ورد برواية: (في كل) بدل (أكل). (¬1) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 109، بنصه، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 401، بنصه، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 427، بنصه، و"تهذيب اللغة" (نعم) 4/ 3615، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 75، والفخر الرازي 20/ 64. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 109، بنصه. (¬3) رجز ورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 130، و"تفسير الطبري" 14/ 132، و"تهذيب اللغة" (نعم) 4/ 3616، و"المحتسَب" 2/ 153، و"تفسير ابن عطية" 8/ 456، وابن الجوزي 4/ 463، و"شرح شواهد الإيضاح" ص 347، و"تفسير القرطبي" 10/ 124، و"اللسان" (خلف) 2/ 1237، (نعم) 7/ 4482، و"تفسير أبي حيان" 5/ 509. (نتقت) سمنت وامتلأت شحمًا، (حواصله) جمع حوصلة؛ أسفل البطن، وهي للطير والنعام كالمعدة للإنسان، وهي المصارين لذي الظلف والخُفّ، والشاهد: أنه أعاد على الفراخ ضمير الواحد؛ لأنها في معنى الفرخ، إذا أريد به الجنس والكثرة، وقال الطبرى: لم يقل: حواصلها، أي: ذكَّرها. النظر: "المحيط في اللغة" (نتق) 5/ 367، و"متن اللغة" 2/ 106، ووردت برواية: (نُتِفَتْ).

المعنى: جاء الشيءُ الذي ذكرنا (¬1). قال أبو عبيد: وسمعت الكسائي يُنْشِد ما هو أشد من هذا (¬2): وعَفْرَاءُ أَدْنَى الناسِ مِنِّي مَوَدَةً ... وعَفراءُ عَنِّي المُعْرِضُ الْمُتَوَانِي (¬3) قال وأنشدنا الأحمر (¬4): إذ (¬5) الناسُ نَاسٌ والبِلَادُ بِغِرَّةٍ ... وإِذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَدِيقٌ مُسَاعِفُ (¬6) ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدره، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 410، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 463، والفخر الرازي 20/ 64، وأبي حيان 5/ 509، و"الدر المصون" 7/ 256، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 14/ 133، بنصه تقريبًا، والثعلبي 2/ 159 أ، بنحوه. (¬2) البيت لعروة بن حزام (ت 30 هـ) شاعر إسلامي، أحد المتيَّمِين، لا يُعرف له شعرٌ إلا في عفراءَ بنتِ عمِّه. (¬3) ورد في "المذكر والمؤنث" للأنباري 1/ 187، برواية: فعفراءُ أرجى الناس عندي مودةً وورد في الأغاني برواية: فعفراءُ أحظى الناسِ عندي مودَّةً وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 14/ 133، والثعلبي 2/ 159 أ، والشاهد: أنه لم يقل: المعرضة المتوانية، وذكَّرَ المعرض؛ لأنه أراد التشبيه، أي: وعفراء عنّي مثْلُ المُعرضِ، والمؤنث قد يشبَّه بالمذكر. (¬4) هو لأَوْس بن حَجَر، كما في ديوانه واللسان. (¬5) في جميع النسخ: (إذا) والتصويب من الديوان وجميع المصادر عدا الثعلبي. (¬6) "ديوانه" ص 74، وفيها: (الزمان) بدل (البلاد)، و (بعزة) بدل (بغرة)، وورد في "اللسان" (سعف) 4/ 2018، وفيه: والزمان، وورد بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (سعف) 2/ 1696، كما للسان، وورد برواية: (بغبطة) بدل (غِرَّة) في "تفسر الطبري" 14/ 133، والثعلبي 2/ 159 أ، وفي "الخزانة" 5/ 429، برواية: (والزمان بعزَّة)، (غِرَّة)، بكسر الغين: الغفلة، يقال: غَرَّ الرجلُ غَرارةً وغِرَّةً: جهلَ الأمور وغفل عنها، (مساعف) قريب، والإسعاف: قضاء الحاجة، وهو المقصود.

فهذا التذكير في هذه الأشياء أشَدُّ منه في الأنعام، ومثله كثير (¬1)، وإنما توَجَّه على معنى هذا الشخص والسواد وكل شيء، فالشيء يَشْرَكُه في اسمه، فالأصل التذكير؛ لأن الشيء مذَكَّر، غير أن الشيء إذا كان تأنيثه حقيقيًّا فلا بد من أن يؤنث في مستقيم الكلام، لا يَحْسُن أن يقول: جَارِيتُك ذهب ولا غلامك ذهبت، بحمله على النَّسْمَة (¬2)، وذهب المؤرج في هذا إلى وجه آخر؛ وهو أن الكناية تعود إلى ما في قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} وأضمر اللبن؛ كأنه قيل: نسقيكم مما في بطونه اللبن، {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا} أراد أنه يُسقى من أَيِّها كان ذا لبن؛ لأنه ليس لكلها لبن (¬3)، واختار صاحب النظم هذا الوجه وزاده بيانًا فقال: الأنعام يقع على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحائل (¬4) والحامل، وذات الدَّرّ والبِلَى (¬5)، فلما ذَكَرَ عز وجل مُجْمَلَه في أول الفصل، وليس الدّرُّ إلا لبعضها؛ مَيَّزَ واختص منها في الخبر ذات الدّر دون سائرها. فقوله: {مِمَّا} مِثْلُ قولك: مِنْ الَّتي، إلا أنه ¬

_ (¬1) لم أقف على مصدره. (¬2) النَّسمَةُ: النَّفسُ، والنسمة في العتق: المملوك ذكرًا كان أو أنثى. "المحيط في اللغة" 8/ 345. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 159، بنحوه، والطبري 14/ 131، بنحوه غير منسوب، وورد في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 217، بنحوه منسوبًا إلى أبي عبيدة عن أبي عبيد، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 28، و"وضح البرهان" ص 507. (¬4) الحائل: التي لا تحمل تلك السنة، حَالتْ تحُولُ حُؤُولاً وحِيَالاً، والمُحْتالة: الحائل من ذوات الحَمْلِ. انظر: "المحيط في اللغة" (حول) 3/ 210. (¬5) يقال: ناقة بَلِيَّة: هي التي يموت صاحبها فيحفر لها حفرة وتشدّ رأسها إلى خلفها، وتُبْلَى: أي تترك هناك لا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعًا وعطشًا. انظر: "المحيط في اللغة" (بلى) 10/ 354، و"اللسان" (بلا) 1/ 355.

لمّا ذَكَرَ (الَّتي) بلفظ (ما) ذَكَرَ الكناية؛ لأن (ما) لا تبين فيه تذكير ولا تأنيث، فكأنه مذكر، والتقدير: نُسقيكم مِن التي في بطونها لبن، {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا}، وأضمر ذِكرَ اللبن لعلم المخاطب بذلك، ولمجيء (¬1) ذِكرِ اللبن فيما بعده. وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا}، الفَرْثُ: سِرْجين الكرش (¬2)، قال ابن عباس: يريد العلف الذي يكون في الكرش، وروى الكلبي عن أبي صالح عنه أنه قال: إذا استقر العَلَفُ في الكرش صار أسفله فَرْثًا وأعلاه دمًا وأوسطه لبنًا، فيجري الدمُ في العروق واللبنُ في الضَّرع ويبقى الفَرْثُ كما هو (¬3)، فذلك قوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا}: لا يَشُوبُه الدم ولا الفرث، {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}: جائزًا في حلوقهم لذيذًا هنيئًا، يقال: ساغَ الشَّرَابُ في الحلق وأَسَاغَهُ صاحِبُه (¬4)، ومنه قوله: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (والمجيء)، ويستقيم الكلام بالمثبت. (¬2) يقال: سرجين بالجيم، وسرقين بالقاف، ويسمى فرْثًا ما دام أنه بالكرش، فإذا خرج لا يسمى فرثًا، انظر: (فرث) في "العين" 8/ 220، و"تهذيب اللغة" 3/ 2757، و"المحيط في اللغة" 10/ 138، و"مجمل اللغة" 2/ 719، و"اللسان" 6/ 3369. (¬3) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 240، والثعلبي 2/ 159 أ، بنحوه، (وهذه أوهى الطرق إلى ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 28، وابن الجوزي 4/ 464، والفخر الرازي 20/ 64، و"تفسير القرطبي" 10/ 125، و"تفسير البيضاوي" 1/ 279، والخازن 3/ 123، وأبي حيان 5/ 509، وهذا التفسير مردود لضعف الأثر، وزاد الفخر الرازي تضعيفه لمخالفته للحس، فقال: وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش، كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم، وذلك باطل قطعًا، ثم بيَّن كيفية توَلُّد اللبن حسيًّا. الفخر الرازي 20/ 65 (¬4) انظر: (سوغ) في "جمهرة اللغة" 2/ 846، و"تهذيب اللغة" 2/ 1597،و"المحيط =

17] وقد مر، والآية بيان عن إقامة الدلالة على الصانع حيث جعل العَلَف وهو جنس واحد أنواعًا في بطن الدابة، فإذا تفكر العاقلُ عَلِمَ أن ذلك بقدرة الله الذي لا إله إلا هو، قال أصحابنا: وهذه الآية تدل على أن مَنِيّ الآدمي لا يكون نجسًا وإن كان في باطنه مجاورًا للنجاسات كاللبن؛ فإنه يخرج طاهرًا من بين نجسين (¬1). ¬

_ = في اللغة" 5/ 107، و"مجمل اللغة" 1/ 478، و"مقاييس اللغة" 3/ 116، و"الصحاح" 4/ 1322، و"العباب الزاخر" غ/ ص 48، و"اللسان" 4/ 2152. (¬1) هذا مشهور لكن فيه نظر؛ لأن الدم مختلف في نجاسته، فالمذاهب الأربعة على نجاسته، وقد حكى النووي في ذلك الإجماع فقال: "وفيه أن الدم نجس، وهو بإجماع المسلمين" [شرح مسلم (3/ 200)]، وانظر: "أحكام النجاسات في الفقه الإسلامي" ص 187، لكن الذي عليه المحققون -كابن تيمية والشوكاني وصديق خان- أن الدم المسفوح ليس بنجس، وعمدة القائلين بالنجاسة أمران؛ أحدهما: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، والثاني: حديث أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: "تَحُتُّهُ ثم تَقْرُصُهُ بالماء ثم تَنْضِحُهُ ثم تُصَلَّي فيه" [شرح مسلم (3/ 199)]. وقد رد المحققون على هذين الدليلين: أما الآية فدلالتها على نجاسة الدم غير صريحة؛ لأن كون تناول الدم المسفوح محرم لا يقتضي نجاسته، وكلمة {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وإن كان من معانيها في اللغة النجاسة، إلا أنه مختلف في عودة الضمير، وإذا وقع الاحتمال بطل الاستدلال. أما الحديث فالكلام فيه على دم الحيض ولا خلاف في نجاسته؛ لأنه خارج من أحد السبيلين، لذلك كان قياس سائر الدماء عليه قياسًا مع الفارق، لذلك قال صديق خان: (وأما سائر الدماء فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة) [الروضة الندية شرح الدرر البهية (1/ 82)]، وحتى على القول بنجاسة الدم فإن الدم قبل انفصاله عن الجسم يعد طاهرًا، وهو ما ذهب إليه ابن تيمية في =

كذلك يجوز أن يخرج المنيّ طاهرًا وإن جرى في طريق النجاسة (¬1) (¬2). ¬

_ = الفتاوى 21/ 598 - 600، ونصره من عدة وجوه، فقال: (إنا لا نسلم أن الدم قبل ظهوره وبروزه يكون نجسًا، فلا بد من الدليل على تنجيسه)، ثم ذكر وجوهًا على طهارته، وهي: أن النجس هو المستقذر المستخبث، وهذا الوصف لا يثبت لهذه الأجناس إلا بعد مفارقتها مواضع خلقها، فوصفها بالنجاسة فيها وصف بما لا تتصف به. أن الدماء في الأبدان وغيرها هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته إلا بها حتى سميت نفسًا، فالحكم بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعًا نجسًا في غاية البعد. أن الأصل الطهارة، فلا تثبت النجاسة إلا بدليل، وليس في هذه الدماء شيء من أدلة النجاسة، وخصائصها. أما روث الحيوان فالأرجح فيه الطهارة أيضًا، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والهادوية وغيرهم. [انظر: "نيل الأوطار" 1/ 59 - 60، و"الروضة الندية" 1/ 71، و"أحكام النجاسات" ص50 - 98]. ومن أدلتهم: حديث أنس في الصحيحين: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم أمر العُرَنِيين بأن يشربوا من أبوال الإبل) البخاري (233) كتاب الوضوء، أبوال الإبل والدواب، مسلم (1671): القسامة، حكم المحاربين والمرتدين، واستدلوا كذلك (بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم. أخرجه البخاري (234) بنفس الباب، كذلك استدلالات ابن تيمية -السابقة- على طهارة الدم تنطبق على طهارة الروث. (¬1) الكلمة ساقطة من (أ)، (د). (¬2) نسبه القرطبي للنقاش من الشافعية (ت 351 هـ) وقال: وقاله أيضًا غيره، وهذا الاستدلال على طهارة المنيّ فيه تكَلُّف وبُعد، والقياس الوارد قياس مع الفارق، لذا أنكره ابن العربي وشكك في أهلية المسندل على الدعوى بهذه الآية. انظر: "تفسير ابن العربي" 3/ 1152، وقد أنكر ابن تيمية هذه المدعوى -في معرض الرد على القائلين بنجاسة المني- فقال: لا نسلم أنه يجري في مجرى البول، فقد قيل: إن بينهما جلدة رقيقة، وإن البول إنما يخرخ رشحًا، وهذا مشهور. "الفتاوى" =

67

67 - قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} الآية. قال صاحب النظم: تأويل الآية: ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرًا (¬1)؛ لأنه لو كان مبتدأً ومنقطعًا مما قبله لوجب أن يقال: منها؛ لأن تأويله يكون راجعًا على قوله: {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} على ما نظم، وتتخذون من ثمرات النخيل والأعناب سكرًا. والعرب تضمر (ما) و (من) كقوله تعالي: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} (¬2) [الإنسان: 20]، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ} (¬3) [الصافات: 164] وذكرنا (¬4) هذا قديمًا. والأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل؛ لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والأعناب ثمار، ولكنه ومن الأعناب، وأمَّا السكر ¬

_ = 21/ 602، أما طهارة المني فمختلف فيها، وقد بسط العلماء القول فيها في كتبهم في مظانها. وانظر: "أحكام النجاسات" ص 99 - 124] ومن أقوى أدلة القائلين بطهارته -وهو الراجح- قول عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسْلُت المنيّ من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه". صحيح ابن خزيمة: باب سلت المني من الثوب بالإذخر إذا كان رطبًا (1/ 149). (¬1) وإلى هذا ذهب الطبري في "تفسيره" 14/ 138، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 28، وابن عطية 8/ 458، قال البغوي: يعني: ولكم أيضًا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب، {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} والكناية في {مِنْهُ} عائدة إلى (ما) محذوفة، أي: ما تتخذون منه {سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}. (¬2) قال الفراء: أي ما ثَمَّ رأيت. "معاني القرآن" للفراء 3/ 218، وانظر: "الدر المصون" 10/ 614. (¬3) وتقديره عند الكوفيين: وما منا إلا مَنْ له، فحذف الموصول وأبقى الصلة، واباه البصريون؛ لأن الموصول عندهم لا يحذف. انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 310، و"الفريد في إعراب القرآن" 4/ 146. (¬4) ساقطة من (أ)، (د).

فروى سعيد بن جبير وشهر بن حَوْشب وعمرو (¬1) بن سفيان (¬2) عن ابن عباس أنه قال: السَّكَر ما حُرِّم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أُحلَّ من ثمرتيهما (¬3)، وقال في رواية عطاء: سَكَرًا يريد ما أَسْكَر، وهذا قبل أن يحرم الخمر. {وَرِزْقًا حَسَنًا} يريد الخَلَّ والزبيب والتمر وكل ما يُتَّخَذ من النخيل والأعناب (¬4)، وهذا قول عامة المفسرين؛ قالوا: السكر هي الخمر بعينها، ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (عمر) والصحيح المثبت كما في "تفسير الطبري" 14/ 134، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 81. (¬2) عمرو بن سفيان الثقفي، روى عن ابن عباس وابن عمر وعن أبيه رضي الله عنه، وروى عنه الأسود بن فيس، صحح له الحاكم حديثًا في تفسير السَّكر، وضعفه النحاس في معانيه. انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 234، و"تهذيب التهذيب" 3/ 273، و"تقريب التهذيب" (5038). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 357) بنصه، والطبري 14/ 134 بنصه من طرق كثيرة، والجصاص 3/ 185، بنحوه، والحاكم: التفسير/ النحل (2/ 355) بنصه وصححه، وورد في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 485، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 81، بنصه، وقال: وهي روايةٌ تضعفُ من جهة عمرو بن سفيان، و"تفسير هود الهواري" 2/ 376، بنصه، والثعلبي 2/ 159 أبنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 198، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 29، وابن الجوزي 4/ 464، وابن كثير 2/ 633، و"الدر المنثور" 4/ 228، وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص252، بنحوه من طريق الحجاج عن ابن جريج صحيحة، ومن طريق أبي طلحة صحيحة والطبري 14/ 134 - 135 بنحوه من طريق عمرو، ومن طريق أبي طلحة، والجصاص 3/ 185، بنحوه من طريق الحجاج، والسمرقندي 2/ 241، بمعناه، وانظر:"تفسير ابن عطية" 8/ 458.

والسكر حرام، والرزق الحسن حلال، وقالوا: نزلت هذه قبل تحريم الخمر (¬1)، ونزل تحريمها في سورة المائدة (¬2). والسَّكَر في اللغة: الخمر (¬3)، وقال جرير: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 135، بنحوه من طرق عن سعيد بن جبير وأبي رزين والحسن ومجاهد، ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 82، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 241، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 198، بنحوه، والطوسي 6/ 401، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 28. (¬2) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وعلى هذا فآية النحل منسوخة بآية المائدة، وهو ما ذهب إليه ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والشعبي والنخعي وأبو رَزين وجمهور المفسرين، وقد ردّ هذه الدعوى جماعة من العلماء، وبينوا أن هذا خبر، ولا يجوز فيه النسخ، قال مكي: وقيل: إن هذا لم ينسخ؛ لأن الله لم يأمرنا باتخاذ ذلك، ولا أباحه لنا في هذه الآية، وإنما أخبرنا بما كانوا يصنعون من النخيل من السَّكَر الذي حرَّمه الله في المائدة. ا. هـ. ومن القائلين بعدم النسخ الطبري، لكنه حمل السَّكر على أن معناه: كل ما حلّ شربه، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفَسَّد أن يكون معناه الخمر أو ما يُسْكِر من الشراب. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 252، و"تفسير الطبري" 14/ 134 - 136، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 486، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص 331، و"أسباب النزول" للواحدي ص 208، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 186، و"تفسير القرطبي" 10/ 130. (¬3) أصل السَّكر في اللغة: السَّدُّ، ومنه سَكِرَ فلانٌ؛ لأنه سُدَّ عقله ومنع منه، والسَّكَرُ: الخمر نفسها، وكُلّ ما يُسْكِرُ، وقيل: هو شراب يُتخذ من التَّمر والكَشُوث، والسُّكر: حالةٌ تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب المُسكرِ، انظر: "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1720، و"المفردات" ص 416. و"الأساس" ص 302، و"اللسان" (سكر) 4/ 2047، و"عمدة الحفاظ" 2/ 237 و"التاج" (سكر) 6/ 534، و"متن اللغة" 3/ 179.

إذا رَوِينَ على الخِنْزِيرِ من سَكَرٍ ... نادَيْنَ يا أعظمَ القِسِّين جُرْداناَ (¬1) وهذا القول هو اختيار الفراء (¬2) والزجاج (¬3). وقال أبو عبيدة بوحده: السَّكَر: الطعام، واحتج بقوله (¬4): جَعَلْتَ أعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرا (¬5) أي جعلتَ ذَمَّهم (¬6) طُعْمًا لك (¬7). قال الزجاج: هذا بالخمر أشبَهُ منه بالطعام، المعنى: جعلْتَ تتخمَّرُ بأعراضِ الكرام، وهو أبينُ فيما يقال: يبترك (¬8) في أعراض ¬

_ (¬1) "ديوانه" 1/ 167، وفيه: (لمّا) بدل (إذا)، وورد في "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1720، و"اللسان" (جرد) 1/ 590، (سكر) 4/ 2048، (جردانا): الجُردانُ بالضم: هن أسماء الذَّكَرِ، وهو قضيب ذوات الحوافر، والجمع: جرادين. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 109، بلفظه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 209، بلفظه. (¬4) نسبه في المجاز إلى جندل، وهوابن المثنى الطَّهوي. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1720، و"تفسير الزمخشري" 2/ 335، والفخر الرازي 20/ 68، و"اللسان" (سكر) 4/ 2048، وورد برواية: "جَعَلْتَ عَيْبَ الأكْرمين سكرًا" في "مجازالقرآن" 1/ 363، و"تفسير الطبري" 14/ 138، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 83، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 238، و"تفسير الثعلبي" 2/ 159 ب، والطوسي 6/ 401، وابن الجوزي 4/ 464، و"القرطبي" 10/ 129. (¬6) في"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 209: دَمَهُم، ولعل الخطأ من المحقق، والمثبت هو الصحيح المتفق مع المعنى. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 363، بنحوه، وورد في "التهذيب" (سكر) 2/ 1720، بنصه، والظاهر أنه نقله من التهذيب. (¬8) يقال: بارك على الشيء: واظب، وأبرك في عدْوه: أسرع مجتهدًا، والاسم: البرُوُك، يقال: ابْتَرك الرجل في عرض أخيه: إذا اجتهد ذمّه وشتمه =

68

الناس (¬1)؛ يتخَمَّر بهم. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قال ابن عباس: يريد عقلوا عن الله قدرَته وما لا يقدر عليه أحدٌ غيرُه وحدَه، فصَدَّقوا نَبِيَّه وأيْقَنُوا بالثواب والعقاب. 68 - قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ} الآية. وَحَى وأوحَى واحد (¬2)، وهو الإلهام هاهنا، قال المفسرون: ألهَمَها وقذف في أنفسها (¬3)، وذكرنا معنى الوحي والإيحاء (¬4) عند قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] وفي مواضع. وقوله تعالي: {إِلَى النَّحْلِ}، النَّحْل: زنبور (¬5) العَسَلِ، والواحدة نَحْلَة (¬6). ¬

_ = وانتقاصه، والابتراك في العدو: الاجتهاد فيه. انظر: (برك) في "تهذيب اللغة" 1/ 319، و"المحيط في اللغة" 6/ 260، و"اللسان" 1/ 267. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 209، بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" (سكر) 2/ 1720، بنصه تقريبًا، والظاهر أنه نقله منه. (¬2) يقال: أوْحى لها وَوَحى لها، لكن اللغة الفاشية في القرآن بالألف، وأما في غير القرآن فوحيْتُ إلى فلان هو المشهور. انظر: (وحى) في "تهذيب اللغة" 4/ 3852، و"المحيط في اللغة" 3/ 241، و"الصحاح" 6/ 2519. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 204 ب، بنحوه، والطبري 14/ 139 بنصه عن معمر من طريقين، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 83، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 241، بنحوه، وهود الهواري 2/ 377، بنحوه، والثعلبي 2/ 159 ب، بنصه، و"الماوردي" 3/ 199، بنحوه، والطوسي 6/ 402، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 29، وابن الجوزي 4/ 465، والفخر الرازي 20/ 69، و"تفسير القرطبي" 10/ 133. (¬4) في (أ)، (د): (إيحاء)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬5) في (أ)، (د): (زبر)، وفي كتب اللغة: (دَبْرُ العسل)، قال الخازن: "النحل: زنبور العسل، ويسمى الدَّبْر أيضًا". "تفسير الخازن" 3/ 123. (¬6) انظر: (نحل) في "العين" 3/ 230، و"تهذيب اللغة" 4/ 3032 و"المحيط في اللغة" 3/ 103، و"الصحاح" 5/ 1826، و"اللسان" 7/ 4368.

قال الزجاج: جائز أن يكون سمي نحلًا؛ لأن الله عز وجل نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، وقال غيره: النَّحْل يذكر ويؤنث (¬1)، وهي مؤنثة في لغة الحجاز؛ ولذلك أنثها الله تعالى، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وقال أهل المعاني: الله تعالى أوحى إلى كل دابة وذي روح وحي الإلهام في التماس منافعها واجتناب مضارِّهَا، فذكر من ذلك أمر النحل؛ لأن فيها من لطيف الصنعة وبديع الخلق ما فيه أعظم معتبر، بأن ألهمها اتخاذ المنازل والمساكن (¬2)، وذلك قوله: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ}، قال ابن عباس: هي تتخذ من الجبال لأنفسها إذا كانت لا أصحاب لها (¬3). وقوله تعالى: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}، أي: يبنون ويسقفون، وفيه لغتان: قُرئ بها ضَمُّ الراء (¬4) وكسرها (¬5) مثل يَعْكِفون ويَعْكُفون. قال ابن عباس: يريد ما يعرش الناس لها من الجِبَاح (¬6)؛ وهو: خلايا ¬

_ (¬1) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" 4/ 3532، بنصه، وقال الأزهري في مادة (نحل) "فمن ذكَّر النحل فلأن لفظه مذكَّر، ومن أنث فلأنه جَمْعُ نحْلَة". (¬2) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 210، بنحوه. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 414، بنصه. (¬4) قرأ بضم الراء: ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: {يَعْرِشُونَ}، انظر: "السبعة" ص 374، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 358، و"الحجة للقراء" 5/ 76، و"حجة القراءات" ص 392، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 740. (¬5) قرأ الباقون بكسر الراء: {يَعْرِشُونَ}، وروى حفص عن عاصم بكسر الراء أيضًا. انظر: المصادر السابقة. (¬6) الأجْبُح: مواضِع النحل في الجبل، والواحد: جِبْحٌ وجِبَحٌ. انظر: "المحيط في اللغة" (جبح) 2/ 416، و"مجمل اللغة" 1/ 205.

69

النحل (¬1). وقال ابن زيد في قوله: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} هو الكروم (¬2)، ولا معنى للكروم هاهنا؛ لأنها لا تأوي الكُرُومَ، والمعنى ما قاله ابن عباس أن معنى يعرشون: يبنون لها من خلاياها، ويعرشون صحيح في البناء للكروم، ولكن المراد هاهنا في البناء للنحل لا الكَرْم. قال أهل المعاني: لولا التسخير وإلهام الله تعالى ما كانت تأوي إلى ما يبني لها الناس من بيوتها (¬3). 69 - قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} قال ابن قتيبة: أي من الثمرات، وكل هاهنا لا يقع على العموم، كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (¬4) [الأحقاف: 25]. وقوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} قال ابن عباس: يريد طُرقَ ربك (¬5)، تطلب فيها الرعي، {ذُلُلًا} جمع ذَلُول، وهو المنقاد اللين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 70، و"تفسير القرطبي" 10/ 134، وأبي حيان 5/ 512، كلها بنحوه وبلا نسبة. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 139 بلفظه، ورد في "تقسير الثعلبي" 2/ 159 ب، بلفظه، و"تفسير الماوردي" 3/ 199، بلفظه، والطوسي (6/ 402) بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 29، و"تفسير ابن عطية" 8/ 461، وابن الجوزي 4/ 465، وأبي حيان 5/ 512. (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 465. (¬4) "الغريب" لابن قتيبة ص 246، بنصه ولم يستشهد إلا بالآية الثانية. (¬5) ورد بلفظه بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 241، وهود الهواري 2/ 376، والثعلبي 2/ 159 ب، و"القرطبي" 10/ 135، وأبي حيان 5/ 512.

المُسَخَّر، يقال: فرس ذلول بَيِّن الذُّلِ (¬1). قال مجاهد: لا يتوعَّرُ عليها مكان سلكته (¬2)، فعلى هذا الذُّلُلُ من صفة السُّبُل، والنحل يرعى الأماكن البعيدة ذات الغِيَاضِ (¬3)، الأشْبَهُ: لا تتوعر عليها لتذليل الله لها إياها، وهذا القول اختيار الزجاج؛ لأنه قال في قولهه: {سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا}، أي: قد ذَلَّلَها الله لك وسَهَّلَ عليك مَسالِكَها (¬4). وقال قتادة: ذُلُلًا يعني مطيعة (¬5)، وهو اختيار ابن قتيبة؛ لأنه قال: منقادة بالتَّسْخِير (¬6)، وعلى هذا الذُّلُلُ من نعت النَّحل، وحكى الفراء القولين، فقال: ذُلُلًا نعتُ للسبيل، ويقال: نعت للنحل؛ أي ذُلِّلَت لأن يخرج الشراب من بطنها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: (ذل) في "تهذيب اللغة" 2/ 1290، و"المحيط في اللغة" 10/ 57، و"مجمل اللغة" 1/ 354، و"الصحاح" 4/ 1701. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 349، بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 140 بنصه من طريقين، ورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 377، بنصه، والثعلبي 2/ 159 ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 199، بنصه، والطوسي 6/ 404، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 29، وابن عطية 8/ 462، وابن الجوزي 4/ 466، و"الدر المنثور" 4/ 230، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) جمع غَيْضَة: وهي الأجمة؛ وهي مَغِيضُ ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. انظر: (غيض) في "الصحاح" 3/ 1097، و"اللسان" 6/ 3327. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 210، بنصه. (¬5) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 357) بلفظه، والطبري 14/ 140 بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" 2/ 159ب، و"تفسير الماوردي" 3/ 199، والطوسي 6/ 404، وانظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 512، و"الدر المنثور" 4/ 230، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬6) "الغريب" لابن قتيبة ص 246، بنصه. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 109، بتصرف يسير، وكذلك النحاس ذكر القولين في =

وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} رجوع من الخطاب إلى الخبر، {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} قال ابن عباس: منه أحمر وأبيض وأصفر (¬1). قال أبو إسحاق: هي تأكل الحامضَ والمُرَّ وما لا يُوصفُ طعمُهُ فيحيل اللهُ ذلك عَسَلًا يخرج من بطونها، إلا أنها تلقيه من أفواهها؛ كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم (¬2). قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أكثرُ المفسرين على أن الكناية تعود إلى قوله: {شَرَابٌ}، وهو العسل، وقالوا: إن في العسل شفاء للناس (¬3)، فإن قيل: قد رأينا من يَضُرُّه العسل، فكيف يكون فيه شفاء للناس؟! أجاب عن هذا الزجاج، وقال: الماء حياة كل شيء، وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يُضَادُّه من علة في البدن (¬4)، وهذا معنى قول السدي: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه (¬5). ¬

_ = معانيه 4/ 84، بنحوه، وأورد الطبري الروايات على القولين، ثم قال: وكلا القولين غير بعيد من الصواب ... غير أنا اخترنا أن يكون نعتًا للسُّبل؛ لأنها إليها أقرب. "تفسير الطبري" 14/ 140. (¬1) انظر: في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 466، و"تنوير المقباس" ص 288، وورد بلفظه بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 204 ب، والسمرقندي 2/ 241، والثعلبي 2/ 159 ب، والطوسي 6/ 404، والبغوي 5/ 29، و"ابن العربي" 3/ 1157، والفخر الرازي 20/ 72، و"تفسير القرطبي" 10/ 135، وابن كثير 2/ 634. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 210، بتصرف يسير. (¬3) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 204، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 85، والثعلبي 2/ 159ب، و"تفسير الماوردي" 3/ 200، والطوسي 6/ 404، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 463، وابن الجوزي 4/ 466، و"تفسير القرطبي" 10/ 136. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 211، بنصه، لكنه في المصدر قال: (ما يصادف من علة). (¬5) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 467.

وروي عن مجاهد: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: أي في القرآن (¬1). قال أبو [إسحاق] (¬2) وهذا القول إذا فُسِّرَ عُلم أنه حَسَنٌ، المعنى فيما قصصنا عليكم من قصة النحل في القرآن وسائر القصص التي تدل على أن الله واحدٌ، شفاء للناس (¬3)، وعلى هذا كون القرآن شفاء؛ أن فيه بيان الحلال والحرام، والدليل على وحدانية الله تعالى، ونفيًا لما يتخالج ويعترض من الشكوك، يدل على هذا قوله تعالى [في] (¬4) وصفه القرآن: {وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ} [يونس: 57]. (وقال ابن مسعود: العسل فيه شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور (¬5)) (¬6)، وذكر الفراء والزجاج القولين جميعًا (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 140 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، والثعلبي 2/ 159 ب، والماوردي 3/ 199، والطوسي 6/ 404، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 29، و"ابن العربي" 3/ 1157، واستبعده، وقال: ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً، وذكره أيضًا ابن عطية 8/ 463، وابن الجوزي 4/ 467، والفخر الرازي 20/ 73، وضعفه. لا خلاف أن القرآن شفاء بنص آية الإسراء [82]، لكن السياق هنا لا يساعد على حمل الشفاء على القرآن، بل هو محمول على العسل. (¬2) في (أ)، (ش)، (د) بياض مكان (إسحاق)، وفي (ع): (علي)، والصحيح المثبت؛ لوروده في "معاني القرآن وإعرابه" بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 211، بنصه. (¬4) إضافة يقتضيها السياق. (¬5) ما بين التنصيص ساقط من: (أ)، (د). (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 127) بنصه، والطبري 14/ 141 بنصه، والثعلبي 2/ 159 ب، بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 29، والخازن 3/ 124. (¬7) "معانى القرآن" للفراء 2/ 109، بنصه، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 211، بنصه.

واختار قوم القول الأول؛ وقالوا: إنه أليق بظاهر الكتاب (¬1)، واحتجوا بما أخبرناه أبو إسحاق بن أبي منصور المقرئ (¬2) أنا عبد الله بن حامد (¬3)، أنا مكي بيت عبدان (¬4)، أنا عبد الرحمن بن بشر (¬5)، أنا يحيى بن سعيد (¬6)، عن ¬

_ (¬1) منهم: الطبري 14/ 141 وقال: لأن قوله: {فِيِه} في سياق الخبر عن العسل، فأن تكون الهاء من ذكر العسل، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره، واختاره الثعلبي 2/ 159 ب بنصه، ورجحه البغوي 5/ 29، و"ابن العربي" 3/ 1159، و"الرازي" 20/ 73، وابن كثير 2/ 634، وغيرهم، وذكروا نحو قول ابن جرير. (¬2) هو الثعلبي، وقد تقدمت ترجمته ضمن شيوخه. (¬3) عبد الله بن حامد بن محمد، أبو محمد النيسابوري، الواعظ الفقيه الشافعي، ولد في نيسابور، وتفقه على أبي محمد علي البيهقي، سمع مكي بن عبدان، ورحل إلى أبي علي بن أبي هريرة، روى عنه أبو عبد الله الحاكم، توفي سنة (389 هـ)، وعاش (83) سنة انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 306، و"تاريخ الإسلام للذهبي" 27/ 182. (¬4) أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي النيسابوري، ثقة مأمون مقدم على أقرانه، سمع عبد الله بن هاشم ومحمد بن يحيى الذُّهلي، مات سنة (305 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" 13/ 119، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 70، و"شذرات الذهب" 2/ 307. (¬5) عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، أبو محمد، محدث حافظ ثقة، روى عن سفيان بن عيينة، ويحمى بن سعيد، وعنه: البخاري ومسلم، مات سنة (260 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 215، و"سير أعلام النبلاء" 12/ 340، و"تهذيب التهذيب" 3/ 490. (¬6) يحيى بن سعيد بن أبَان بن سعيد بن العاص، إمام محدث ثقة، روى عن الأعمش وسفيان الثوري، وعنه: أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي، مات سنة (194 هـ) انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 150، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 139، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 325، و"تقريب التهذيب" ص 590 (7554).

70

شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل (¬1)، عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخي تشتكي بطنه فقال: "اسقه عسلًا" فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئًا، فقال عليه السلام: " اذهب واسقه عسلاً، فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك، وسقاه فبرأ كأنما أُنْشِط من عقال" (¬2)، وتاوَّلُوا في قوله: "صدق الله" قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}. وقوله تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} قال ابن عباس: يريد في عظمة الله وقدرته (¬3). 70 - قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ} الآية. قال المفسرون: ولم تكونوا شيئًا (¬4)، {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} عند إنقضاء آجالكم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ¬

_ (¬1) علي بن داود، أبو المتوكل النّاجي البصري، مشهور بكنيته، ثقة، حدّث عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس -رضي الله عنهما-، وعنه: قتادة وحُميد الطويل، مات سنة (102 هـ). انظر: "التاريخ الكبير" 6/ 273، و"الجرح والتعديل" 6/ 184، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 8، و"تقريب التهذيب" ص 401 (4731). (¬2) أخرجه بنحوه عبد الرزاق 2/ 358، عن قتادة مرسلاً، وأحمد 3/ 19، والبخاري (5684): الطب، الدواء بالعسل، ومسلم (2217) في السلام، باب: التداوي بسقي العسل، والترمذي (2083): الطب، ما جاء في التداوي بالعسل، والطبري 14/ 141 من طريقين عن قتادة مرسلاً، والحاكم: الطب/العسل لشفاء المعدة، والبيهقي 9/ 344)، والثعلبي 2/ 159 ب، بنصه وإسناده، والبغوي 5/ 29 - 30، بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 241، وهود الهواري 2/ 378، و"الماوردي" 3/ 200، و"مشكاة المصابيح" (4521)، و"الرازي" 20/ 73، والخازن 3/ 124، و"الدر المنثور" 4/ 231، وزاد نسبته إلى ابن مردويه. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" 2/ 419، بنصه بلا نسبة، وبنحوه غير منسوب في "تفسير ابن كثير" 2/ 635. (¬4) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 204 ب، بنصه، والطبرى 14/ 141 بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 77، والخازن 3/ 125.

وهو أَرْدَاه وأَوْضَعه، يقال: رَذُلَ الشيء يَرْذُلُ رَذَالَةً، وأَرْذَلَه غيره (¬1)، ومنه قوله: {إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27]، {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. روى أسباط عن السُّدّي: {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} قال: الخرف (¬2)، ونحوه قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]، ونظير هذه الآية لفظًا ومعنى في الحج (¬3)، وقال مقاتل: {أَرْذَلِ الْعُمُرِ}: الهرم (¬4)، وقال قتادة: تسعون سنة (¬5)، روي عن علي -رضي الله عنه- قال: {أَرْذَلِ الْعُمُرِ}: خمس وسبعون سنة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: (رذل) في "تهذيب اللغة" 2/ 1398، و"المحيط في اللغة" 10/ 71، و"الصحاح" 4/ 1708، و"اللسان" 3/ 1633. (¬2) انظر: "تفسير الرازي" 20/ 77، و"الدر المنثور" 4/ 232، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وتصحفت الكلمة فيه إلى (الخوف). (¬3) آية: [5]، وهي {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 204 ب، بلفظه. (¬5) في جميع النسخ: تسعون، وكذلك في "تفسير الثعلبي" 7/ 199 أ، نسخة المحمودية، لكن في نسخة الحرم النبوي (2/ 159 ب) ذكرت أنها سبعون سنة، والصحيح الأول كما دلت عليه المصادر الأخرى، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 30، والزمخشري 2/ 336، وابن الجوزي 4/ 467، والفخر الرازي 20/ 77، والخازن 3/ 125، وأبي حيان 5/ 514. (¬6) أخرجه الطبري 14/ 141 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 159ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 200، بنصه، والطوسي 6/ 405 بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 30، والزمخشري 2/ 336، وابن عطية 8/ 464، وابن الجوزى 4/ 467، والفخر الرازي 20/ 77، والخازن 3/ 125، وأبي حيان 5/ 514، وابن كثير 2/ 635، و"الدر المنثور" 5/ 232، وما ذكره علي -رضي الله عنه- هو الأغلب؛ والأمر يختلف من إنسان لآخر؛ فمنهم من يرد إلى أرذل العمر قبل ذلك، ومنهم من يتعدى ذلك وهو بكامل قواه العقلية؛ كالعلماء. انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 464، وأبي حيان 5/ 514.

قوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} أي ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علم؛ للكِبَر، قال ابن عباس: كي يصير كالصبي الذي لا عقل له (¬1). وقال أبو إسحاق: معنى قوله: {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}، أي: ليريكم من قدرته أنه كما قدّر إماتته وإحياءَه، إنه علي نقله من العلم إلى الجهل قادر (¬2). قال عطاء عن ابن عباس: ليس هذا في المسلمين، والمسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء عند الله إلا كرامة وعقلاً ومعرفة (¬3)، وقال في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]، يريد الكافر، ثم استثنى المؤمنين فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4) [التين: 6]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 140، بنصه، والخازن 3/ 125، بنصه، وورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 378، بنحوه بلا نسبة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 211، بنصه. (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 468، بنصه، والخازن 3/ 125، بنصه، والفخر الرازي 20/ 77، بلا نسبة. (¬4) الاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ فقد اختلف السلف في تأويلها وفي المراد بقوله تعالى. {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك والنخعي: معناه الهرم والخرف وذهاب العقل، وهو اختيار ابن جرير، واستحسنه ابن عطية، وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية: معناه رددناه إلى النار، وهو اختيار ابن كثير والسعدي والشنقيطي. انظر: "تفسير الطبري" 30/ 244، وابن عطية 15/ 504، وابن كثير 4/ 559، والسعدي 1599، والشنقيطي 10/ 338. والراجح القول الأول؛ وهو رده إلى الهرم، وعليه فيكون الاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} منقطعًا، ويكون المراد أن المؤمن وإن ردّ إلى الهرم فإن أجر عمله الصالح لا ينقطع لعجزه بل يستمر على ما كان عليه قبل الهرم. أملاه عليّ شيخي.

ونحو هذا روى عاصم (¬1) عن عكرمة، قال: من قرأ القرآن لم يُردَّ إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئًا (¬2)، وقال في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِخَتِ}: قرؤوا القرآن (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: يريد بما صنع بأوليائه وأعدائه، {قَدِيرٌ}: على ما يريد (¬4). ¬

_ (¬1) عاصم بن سليمان الأحول، البصري الحافظ الثقة، من أكبر شيوخه عبد الله بن سرجس، وأنس، وعمرو بن سلمة؛ وعنه: شعبة ويزيد بن هارون، كان على قضاء المدائن، وولي حسبة الكوفة، مات سنة (142هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 343، و"ميزان الاعتدال" 3/ 64، و"الكاشف" 1/ 519 (2501)، و"تقريب التهذيب" ص 285 (3060). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 121) بنصه، والطبري 14/ 141 - 142، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 30، بنحوه، وابن الجوزي 4/ 468، بنصه، والفخر الرازي 20/ 77، بنصه، والخازن 3/ 125، بنصه، وأبي حيان 5/ 514، ونسبه إلى قتادة، فلعله وَهِمَ في ذلك، و"الدر المنثور" 4/ 232، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره الألوسي في "روح المعاني" 14/ 188، وهذا القول غير صحيح وواقع الناس على خلافه؛ فكم رد من المسلمين إلى أرذل العمر، وقد يكونون من العلماء، ومشهور بين علماء الحديث مصطلح اختلط بأخرة. وقد رده الألوسي قائلاً: والمشاهدة تكذب كلا القولين، [أي عدم رد المسلمين ومن قرأ القرآن]؛ فكم رأينا مسلمًا قارئًا القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرد أرذل العمر" رواه البخاري (6370) كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من البخل. (¬3) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 125، بنصه. (¬4) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 77 بنصه، والخازن 3/ 125 بنصه غير منسوب.

71

71 - قوله تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ}: كَثَّر وقَلَّلَ، وبَسَطَ وقَبَضَ، ووَسَّعَ وضَيَّقَ، {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا}: في الرزق وأُعطوا الفضْل، {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، يقول: لا يردّ المولى على ما ملكت يمينه مما رُزق شيئًا حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء. قال أبو إسحاق: أي قد فَضَّلَ اللهُ المُلاَّكَ على ممالِيكِهِم، فجعلَ المملوك لا يقدر على مِلْكٍ من مَوْلَاه، وأعلم أن المالكَ ليس يَرُدُّ على مملوكه من فضل ماله حتى يستوي حالهما في الملك (¬1)، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ مثلًا للمشركين في تَصْيِيرِهم عباد الله شركاء له، فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟! وقال صاحب النظم: معنى الفاء في قوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} حتى (¬2)؛ لأن التأويل: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا}: بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكون عبيدهم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 212، بنصه تقريبًا. (¬2) أشار المرادي إلى أن الفاء قد تأتي بمعنى (حتى) عند بعض النحويين؛ كما في قوله {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139] لكنه ضعف هذا القول، معتبرًا الفاء هنا عاطفة. "الجنى الداني" ص 77، وهذا القول الذي ذكره صاحب النظم قول جيد، وقد إنفرد به، فلم أجده في كتب إعراب القرآن، وقد ذكر المنتجب في "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 239، عند قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} ثلاثة أقوال: أن الجملة من المبتدأ والخبر جملة اسمية واقعة في موضع جملة فعلية، ومحلها النصب على جواب النفي بالفاء، والتقدير: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم، أو على الحال على تقدير زيادة الفاء. أن محلها الرفع، إما على الاستئناف، أي هم سواء في أني رزقت الجميع، أو على العطف على موضع برادي، على تقدير: فما الذين فضلوا يردون رزقهم على ما ملكت أيمانهم فما يستوون. أنه على إضمار ألف الاستفهام، أي: أفهم فيه سواء؟ على سبيل التوبيخ والتقريع، ومعناه النفي: أي ليسوا مستوين فيه.

فيه معهم سواء في الملك، فقدله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} صفة لما تَقَدَّمه من الخبر لا جوابٌ له؛ ولو كان جوابًا له لكان قد أوجب أن يكون المولى والعبيد في ذلك سواء، وهو عز وجل إنما أراد أنهم لا يستوون في الملك، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] بمعنى: حتى أنتم فيه سواء إليّ، هل يشاركونكم في أموالكم حتى تكونوا أنتم وهم فيه سواء. وهذا الذي ذكرنا هو قول جميع المفسرين في هذه الآية؛ قال مجاهد: هذا مَثَلُ آلهة الباطل مع الله (¬1). وقال السدي: يقول: فكما لا يرد أحدهم على مملوكه مما رزقه الله حتى يكون مثله، فلذلك لا أكون أنا وهذا الصنم الذي هو من خلقي ومما ملكت سواءً فيما خلقت (¬2). وقال قتادة: يقول: هذا الذي فُضِّل في المال والولد لا يشرك عبدَه في ماله وزوجته، يقول: قد رضيتَ بذلك لله ولم ترض به لنفسك، فجعلت لله شريكًا في خلقه وملكه (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 349، بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 143 بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 636، و"الدر المنثور" 4/ 233، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 358) بنصه، والطبري 14/ 143 بنصه، ومن طريق آخر بمعناه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، بنحوه، وورد بمعناه في "تفسير الجصاص" 3/ 185، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 86، و"تفسير الثعلبي" 2/ 159 ب، والطوسي 6/ 406، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 31، و"تفسير القرطبي" 10/ 141، والخازن 3/ 126، وأبي حيان 5/ 514، وابن كثير 2/ 636، و"الدر المنثور" 4/ 233، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن مريم ابن الله (¬1). قال الفراء: فهذا مثل ضربه الله للذين قالوا: إن عيسى ابنه، فقال: أنتم لا تُشركون عبيدكم فيما ملكتم، فتكونون سواءً فيه، فكيف جعلتم عَبْدَه شريكًا له تعالى (¬2)، وتلخيص معنى الآية، أنه يقول: إنكم كلكم (من بني آدم وأنتم بينكم فيما ملكت أيمانكم، وأنتم (¬3) كلكم) (¬4) بشر، فكيف تشركون بين الله وبين الأصنام وأنتم لا ترضون لأنفسكم فيمن هو مثلكم بالشركة. وقوله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} قرأه العامة: يجحدون بالياء (¬5)؛ لأنه يراد به غير المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحدهم نعمة الله، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالتاء (¬6)؛ على تقدير: قل لهم: أفبنعمة الله -بهذه الأشياء التي تقدم اقتصاصها- تجحدون بالإشراك به. ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 أ، بنصه بلا إسناد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 468، بنصه، و"تفسير القرطبي" 10/ 141، بنصه، وورد بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، ولم أجده في أسباب النزول، ولم يورده المؤلف في أسباب النزول، كما أنه ورد بدون إسناد، فلا يثبت. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 110، بنصه. (¬3) (أنتم): ساقطة من (ش). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ع)، وهو أشبه بكلام معترض، ويستقيم الكلام بدونه، بل بدونه أوضح. (¬5) انظر: "السبعة" ص 374، "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 358، و"علل القراءات" 1/ 308، و"الحجة للقراء" 5/ 76، و"المبسوط في القراءات" ص 225، و"شرح الهداية" 2/ 381، و"التيسير" ص 138. (¬6) انظر: المصادر السابقة.

72

وذكر الزجاج في هذا وجهين، أحدهما: أفبِأنْ أَنْعَمَ اللهُ عليكم اتَّخَذْتُم النِّعَمَ لتجحدوا وتشركوا به الأصنام؛ فعلى هذا النعمة بمعنى الإنعام. والثاني: قال أفبما أنعم الله به عليكم بأن بَيَّنَ لكم ما تحتاجون إليه تجحدون (¬1)، وعلى هذا، النِّعْمَة: اسم لما أَنعمَ اللهُ عليهم لا مصدر، والباء في: {أَفَبِنِعْمَةِ} يجوز أن تكون زيادة (¬2)؛ لأن الجحود لا يُعدَّى بالباء، وهذا قول المفضَّل كما يقول: خذ الخطام وبالخطام، وتعلقت زيدًا وبه (¬3)، ويجوز أن يراد بالجحود: الكفر (¬4)، فعُدِّيَ بالباء لمعنى الكفر (¬5). 72 - قوله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قال المفسرون: يعني النساء؛ خَلَقَ حواءَ من ضلع آدم (¬6)، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 212، بنصه. (¬2) انظر: التعليق على دعوى الزيادة في القرآن، عند آية [10]، من سورة إبراهيم. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 80، بنصه بلا نسبة. (¬4) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 242، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 77، و"تفسير البيضاوي" 3/ 187، وأبي السعود 5/ 127. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 80، بنصه دون عزو للواحدي. (¬6) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 143 بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 87، بنصه، و"تفسير الثعلبي" 2/ 160أ، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 202، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 77، والزمخشري 2/ 336، وابن عطية 8/ 466، والفخر الرازي 20/ 80، وقد ذهب ابن عطية إلى أن الأظهر من قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، وكذلك ضعف الفخر الرازي هذا القول، وقال: وهذا ضعيف؛ لأن قوله: {جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} خطاب مع الكل، فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل، بل الحكم عام في جميع المذكور والإناث؛ والمعنى: =

أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} اختلفوا في تفسير الحفدة، فقال ابن عباس في رواية الوالبي: هم الأختان (¬1)، وهو قول ابن مسعود وإبراهيم وسعيد بن جبير، قالوا: هم الأصهار؛ أَخْتَان [الرجل] (¬2) علي بناته (¬3)، وقال ¬

_ = أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور، ومعنى: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} مثل قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، أي: بعضكم على بعض، ونظير هذه الآية، قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 469، والفخر الرازي 20/ 80، وابن كثير 2/ 599. (¬1) أخرجه الطبري 14/ 144 بنصه من طريق عكرمة (جيدة)، وأخرج عنه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة) بلفظ: الأصهار، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 أ، بنصه، وانظر: "فتح الباري" 8/ 238، والأختان: جمع خَتَن، وهو زوج فتاة القوم ومن كان من قِبَلِه من رجل أو امرأة، فهم كلهم أختانٌ لأهل المرأة، وأم المرأة وأبوها خَتَنَانِ للزَّوْج، وقال الأصمعي: الأسماءُ من قِبَل الزوج، والأختان من قبل المرأة، والصهر يجمعهما، وقيل: الختنُ: الزوج ومن كان من ذوي رَحِمه، والصِّهرُ: من كان من قِبَل المرأة؛ نحو أببها وعمِّها وخالها، وقيل العكس، ومن العرب من يجعلهم كلهم أصهارًا. انظر: (ختن) في "تهذيب اللغة" 2/ 1102، و"المحيط في اللغة" 4/ 312، و"الصحاح" 5/ 2107، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 88. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في تفسير الثعلبي. (¬3) ورد في "غريب الحديث" 2/ 96، عن ابن مسعود: الأصهار، وأخرجه الطبري 14/ 143 - 144 من طرق عنهم قالوا: الأختان، وعن ابن مسعود: الأصهار، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 88، عن ابن مسعود قال: الأختان، وورد عنه وعن النخعي: الأصهار، و"تفسير هود الهواري" 2/ 379، عن ابن مسعود: الأختان، والجصاص 3/ 186، عنهم: الأختان، والسمرقندي 2/ 242، عن ابن مسعود: الأختان، وعنه: الأصهار، والثعلبي 2/ 160 أ، بنصه عنهم، و"تفسير الماوردي" 3/ 202، بنصه عنهم، والطوسي 6/ 407، بنحوه عنهم، وانظر: "تفسير البغوي" =

في رواية أبي حمزة (¬1) عنه: من أعانك فقد حفدك أما سمعت قول الشاعر (¬2): حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسلَمتْ ... بأكُفِّهِنَ أَزِمَّةُ الأجْمَالِ (¬3) (¬4) ¬

_ = 5/ 31، بنصه عن ابن مسعود والنخعي، وابن الجوزي 4/ 469، عنهم، قال البغوي: فيكون معنى الآية على هذا القول: وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهم فيحصل بسببهم الأختان والأصهار، و"فتح الباري" 8/ 238، عنهم. (¬1) أبو حمزة السكري، هو محمد بن ميمون المَرْوزي، إمام مشهور، ثقة فاضل، روى عن الأعمش والسدي، وعنه: عبدان ونعيم بن حماد، لقب بالسكري لحلاوة منطقه، توفي سنة (167 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 81، و"ميزان الاعتدال" 5/ 178، و"الكاشف" 2/ 226، و"تقريب التهذيب" ص 510، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر 2/ 372. (¬2) نسبه أبو عبيد للأخطل، وليس في ديوانه، ونسبه أبو عبيدة لجميل، وهو جميل بثينة، وليس في ديوانه، ونسبه الطبري لحميد. (¬3) ورد في: غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 96، و"مجاز القرآن" 1/ 364، و"تفسير الطبري" 14/ 144، ونسب لجميل كذلك في "تفسير الماوردي" 3/ 202، و"تفسير ابن عطية" 8/ 467، وابن كثير 2/ 636، و"تفسير الألوسي" 14/ 190، وورد بلا نسبة في "العين" 3/ 185، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 213، و"تفسير الطبري" 14/ 144، و"جمهرة اللغة" 1/ 504، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 90، و"تهذيب اللغة" (حفد) 1/ 861، و"تفسير الزمخشري" 2/ 336، و"ابن العربي" 3/ 1163، و"تفسير القرطبي" 10/ 143، وأبي حيان 5/ 500، و"اللسان" (حفد) 2/ 923 وفي بعض المصادر برواية (بينهن) بدل (حولهن). الولائد: الخدم؛ مفردها: وليدة، والبيت يصور ما يقوم به الولائد من خدمة وسعي، ومن إمساكٍ بأزمَّة الأجمال. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 144 بنصه، ورد في "تهذيب اللغة" (حفد) 1/ 861 بنصه ما عدا عجز البيت، والثعلبي 2/ 160 أ، بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 143، و"اللسان" (حفد) 2/ 923، و"الدر المنثور" 5/ 149.

فعلي هذا الحفدة: الأعوان، وهذا قول مجاهد والحسن والسدي وعكرمة، قالوا: هم الأنصار والأعوان والخدم (¬1)، غير أن السدي وعكرمة قالا: هم ولده الذين يعينونه (¬2)، ونحوه قال قتادة وعطاء (¬3)، وقال في رواية سعيد بن جبير ومجاهد: إنهم ولد الولد (¬4)، وقال في رواية العوفي: هم بنو ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 349 بنصه، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 358، عن الحسن: هم الخدم، ورد في غريب الحديث 3/ 374، عن مجاهد: هم الخدم، وأخرجه الطبري 14/ 145 بنصه عن مجاهد، ومن طرق عن الحسن ومجاهد قالا: هم الخدم، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 89، عن الحسن: هم الخدم، و"تفسير الجصاص" 3/ 186، عن مجاهد: هم الخدم، والسمرقندي 2/ 242، بنصه عن مجاهد، والثعلبي 2/ 160، عن عكرمة والحسن: هم الخدم، وعن مجاهد: هم الأنصار والأعوان، و"تفسير الماوردي" 3/ 202، عن الحسن: الأعوان، وعن مجاهد: الخدم، والطوسي 6/ 406، عن مجاهد: هم الخدم، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 31، وابن عطية 8/ 467، وأبي حيان 5/ 515، عن مجاهد، وابن كثير 2/ 636، عن مجاهد، وقد استحسن النحاس من قال أنهم الخدم، ثم قال: إلا أنه يكون منقطعًا مما قبله عند أبي عبيد -لم أقف عليه- وُينْوى به التقديمُ والتأخيرُ، كأنه قال: وجعل لكم حَفَدةً، أي خدَماً، وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل ابن الأنباري التقدير: وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدةً من غير الأزواج. "تفسير ابن الجوزي" 4/ 470. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 358)، بمعناه، والطبري 14/ 145 - 146 من طرق بنصه وبمعناه عن عكرمة، وعن السُّديّ، قال: الأعوان، ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 89، بمعناه عن عكرمة، و"تهذيب اللغة" (حفد) 1/ 862، بمعناه عن عكرمة، وانظر: "اللسان" (حفد) 2/ 923، عن عكرمة. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 145، بنحوه عن قتادة، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 أ، بنصه عن عطاء، وبنحوه عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 31، عنهما، والخازن 3/ 126، عن عطاء. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 146 بنصه عن سعيد، وعن مجاهد من طريقين قال: البنون، =

امرأة الرجل، ليسوا منه، وهو قول ابن زيد والضحاك (¬1). وأصلُ الحَفَدَةِ من الحَفْد، وهو: الخِفَّةُ في الخدمة والعمل، يقال: حفد يَحْفِدُ حَفْدًا وحَفُودًا وحَفَدانًا إذا أسرع (¬2)، ومنه الدعاء: (وإليك نسعى ونحفد) (¬3)، قال أبو عبيدة: الحَفَدُ: الأعوان، يقال: حفدني، وهو ¬

_ = ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 أ، بنصه من طريقهما، و"تفسير الماوردي" 3/ 202) بنصه، والطوسي 6/ 406، بمعناه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 31، وابن الجوزي 4/ 470، و"تفسير القرطبي" 10/ 143، والخازن 3/ 126. وقد نصر ابن العربى هذا القول، فقال: فالظاهر عندي من قوله: {بَنِينَ}: أولاد الرجل من صُلْبِه، ومن قوله: {وَحَفَدَهً}: أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا، ومن أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة. "تفسير ابن العربى" 3/ 1162. (¬1) أخرجه الطبري 14/ 146 بنصه عن ابن عباس ضعيفة، وورد في "تهذيب اللغة" (حفد) 1/ 862، بنحوه عن الضحاك، والثعلبي 2/ 160 أ، بنصه عن ابن عباس ضعيفة، وبنحوه عن ابن زيد، و"تفسير الماوردي" 3/ 202، بنحوه عن ابن عباس، والطوسي 6/ 406، بنحوه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 31، عن ابن عباس، وابن عطية 8/ 467، عن ابن عباس، وابن الجوزي 4/ 470، عن ابن عباس والضحاك، و"اللسان" (حفد) 2/ 923، عن الضحاك، و"تفسير الخازن" 3/ 126، عن ابن عباس، و"الدر المنثور" 4/ 233 - 234، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬2) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 147، بنحوه، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 90، بنحوه، وانظر: (حفد) في "تهذيب اللغة" 1/ 862، و"المحيط في اللغة" 3/ 42، و"اللسان" 2/ 923، و"التاج" (حفد) 4/ 423. (¬3) هذا جزء من دعاء القنوت الذي ورد عن عمر -رضي الله عنه- موقوفًا عليه، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" الدعاء/ ما يدعو به في قنوت الفجر (6/ 91) من عدة طرق، والبيهقي، الصلاة/ دعاء القنوت 2/ 210، وورد في "الأذكار" للنووي ص 96، و"كنز العمال" 8/ 74 - 75.

حافدي (¬1)، وأنشد لطرفة: يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ ... كَرَمًا ذلك منهم غيرَ ذُلّ (¬2) قال أبو عبيد: وفيه لغة أخرى؛ أَحْفَدَ إِحْفادًا، وأنشد للراعي: أَخَبَّ بِهن الْمُخْلِفَان وأَحْفَدَا (¬3) قال: خَدَمَا (¬4)، قال الليث: ومثله الاحْتِفادُ (¬5)، فالحفدة جمع الحافد، والحافد: كل من يخف في خدمة أو يسرع في العمل بطاعتك، ويقال في جمعه: الحَفَدُ، بغير هاء، كما يقال: الرصد والعيب، فمعنى الحفدة في اللغة: الأعوان والخدم، ثم هؤلاء الأعوان مَنْ هم على ما ذكره المفسرون، ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 364، بنحوه. (¬2) ليس في ديوانه، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 202، وورد غير منسوب في "تفسير أبي حيان" 5/ 500، و"الدر المصون" 7/ 265، و"تفسير الألوسي" 14/ 190. (¬3) وصدره: مَزَايِدُ خَرْقاَءِ اليَدَيْن مُسِيْفَةٍ "شعر الراعي النميري" ص 61، وورد في "تهذيب اللغة" (حفد) 1/ 861، (ساف) 2/ 1598، و"مجمل اللغة" 1/ 481، و"مقاييس اللغة" 3/ 122، و"اللسان" (حفد) 2/ 923، (سوف) 4/ 2153، (سيف) 4/ 2172، و"التاج" (حفد) 4/ 424، ويروى: (مزائدُ)، وقياسها: مزاود؛ لأنها جمع مزادة: وهي وعاء الزاد وراوية يحمل فيها الماء، (خرقاء): بَيِّنَةُ الخرق، وهو الجهل والحمق، (مسيفة): المُسِيفُ المتقلِّد بالسيف، وأساف الخرز: أي خرقه، (أخب): يقال: أخبّ فلان في الأمر: أسرع فيه، (المخلفان): المُخْلِفُ: الذي لم تُصِبْ ماشيته الرَّبيعَ، وقيل: هو الذي يحمل الماء العذب إلى القوم ليس معهم ماء عذب، أو يكونون على ماء ملح، ولا يكون الإخلاف إلا في الربيع، وهو في غيره مستعار منه. (¬4) "غريب الحديث" 2/ 96، بنصه تقريبًا، وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 861، بنصه تقريبًا. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (حفد) 1/ 861، وفيه، قال الليث: الاحْتفادُ: السُّرعةُ في كلِّ شيء.

والأولى بأن يفسر بأعوان حصلوا للرجل [نْ قِبَل المرأة؛ لأن الله تعالى قال. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} وأعوان الرجل لا] (¬1) من قِبَل امرأته لا يكونون ممن عناهم (¬2) الله بقوله هاهنا: {وَحَفَدَةً} (¬3). قوله تعالى: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال ابن عباس: يريد من أنواع الثمار والحبوب والحيوان (¬4)، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: يعني بالأصنام (¬5)، وقال مقاتل: يعني بالشيطان (¬6)، وقال عطاء: يعني (¬7) تُصدِقوا أن لي شريكًا وصاحبة وولدًا (¬8)، {وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}، رُوي عن ابن عباس: أنه قال: يعني التوحيد (¬9)، وقيل: أراد بما أنعم الله عليهم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع). (¬2) في (أ)، (د): (عبادهم)، والمثبت من (ش)، (ع) هو الصحيح. (¬3) اختلفت ترجيحات العلماء في المقصود بـ (حفدة) وقد ذكرتها مقترنة بالأقوال، وهنا يرجح الواحدي رحمه الله نوعًا خاصًا من الأعوان؛ هم مَنْ كانوا مِنْ قِبَل المرأة، ولم يرتض الطبري تخصيص المقصود بالحفدة بأحد الأقوال الواردة؛ لأن المنّة تحصل بكل ذلك، لذلك قال: فكل الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا وجه في الصحة، ومَخْرج في التأويل، وهو الصحيح. "تفسير الطبري" 14/ 147. (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 470، بنصه، وبلا نسبة في "تفسير القرطبي" 10/ 145، والخازن 3/ 126، وأبي حيان 5/ 515، و"تفسير الألوسي" 14/ 191. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 أ، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 470، والفخر الرازي 20/ 81، و"القرطبي" 10/ 145. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 205 أ، بلفظه. (¬7) ساقطة من: (أ)، (ش)، (ع). (¬8) لم أقف عليه. (¬9) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 أ، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 470. وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير البغوي" 3/ 77.

73

مما أحل لهم يكفرون؛ فيحرمونه ويجحدون تحليله (¬1)، يعني ما حَرَّمُوا على أنفسهم من الأنعام والحرث، وذكرنا وجهين في قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، والوجهان هاهنا جائزان. 73 - قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ} يعني الغيث الذي يأتي من جهتها، {وَالْأَرْضِ} يعني النبات والثمار التي تخرج منها. وقوله تعالى: {مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، (من) صفة النكرة التي هي: {رِزْقًا} كأنه قيل: لا يملك لهم رزقًا من الغيث والنبات. وقوله تعالى: {شَيْئًا} قال الأخفش: جعل الشيء بدلًا من الرزق، وهو في معنى: لا يملكون رزقًا قليلًا ولا كثيرًا (¬2)، أي لا يملكون أن يرزقهم شيئًا من السموات والأرض، وقال الفراء: نصب {شَيْئًا} بوقوع الرزق عليه (¬3)، كما قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26] أي: تكْفِت الأحياء والأموات، ومثله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (¬4) [البلد: 15،14]. وقوله تعالى: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أي لا يقدرون على شيء، وليست لهم استطاعة، وجمع هاهنا؛ لأن (ما) في مذهب جمع لآلهتهم التي يعبدون، ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 147، بنحوه، والثعلبي 2/ 160 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 31. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 606، بنصه، وأورده الطبري 14/ 148 بنصه. (¬3) أي أن {شَيْئًا} منصوبة بالمصدر {رِزْقًا} على أنه مفعول به. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 110، بنصه، وأورده الطبري 48/ 114 بنصه، والشاهد: أنه نصب {يَتِيمًا} بالمصدر {إِطعَامُ}.

74

فَوَحَّدَ {يَمْلِكُ} على لفظ (ما) (¬1) وجمع يستطيعون على المعنى (¬2). 74 - وقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} قال المفسرون: يعني لا تُشَبِّهُوهُ بخلقه (¬3)، وقال الزجاج: أي لا تجعلوا لله مِثْلاً؛ لأنه واحدٌ لا مِثْلَ له (¬4)، فعلى هذا ضَرْبُ المَثَل، استُعْمِل في التَّشْبِيه؛ لأن أكثرَ ما يُضْرَب المَثْلُ إنما يُضْرب لتشبيه وصف بوصف أو ذات بذات، وتعالى الله عن أن يُشْبِهَ شيئًا أو يُشْبِهَهُ شيءٌ في ذاته وصفاته. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ} قال ابن عباس: يريد ما يكون قبل أن يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة (¬5)، {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: قَدْرَ عظمتي؛ حيث أشركتم بي وعَجَّزْتُمُوني أن أبعثَ خلقي. 75 - قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} أي بَيَّنَ الله شِبْهًا فيه بيانٌ للمقصود، ثم ذكر ذلك فقال: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} إلى قوله: {سِرًّا وَجَهْرًا} قال مجاهد في هذه الآية والتي تليها: كل هذا مَثَلُ إله الحق وما يُدْعَى من ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ)، (د). (¬2) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 110 بنصه، وأغلب الظن أنه اقتبسه منه بدون عزو. (¬3) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 205 أ، والطبري 14/ 148، وهود الهواري 2/ 379، والثعلبي 2/ 160 أ، والطوسي 6/ 408، وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 78، وابن الجوزي 4/ 471، والفخر الرازي 20/ 82، والخازن 3/ 126. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 213، بنصه. (¬5) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 422، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 471، وورد عن بعض المفسرين قولٌ آخر في الآية، لعله أكثر مناسبة للسياق، قالوا: المعنى: والله يعلم ما يستحقه وما يليق به من وصف الكمال وأنتم لا تعلمون؛ لذلك تجعلون له أشباهًا وأمثالاً لا تليق به سبحانه. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 148، والشعبي 2/ 160 أ، وابن الجوزى 4/ 471.

دونه من الباطل (¬1). وقال السُّدي: هذا مَثَلٌ ضربه الله للآلهة؛ يقول: كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حُرٌّ قد رُزق رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سِرًّا وجَهرًا لا يخاف من أحد، فكذلك أنا وهذه الآلهة التي تَدْعُون، ليست تملك شيئًا وأنا الذي أملك وأرزق مَنْ شئت (¬2)، وهذا القول هو اختيار الفراء (¬3)، والزجاج قال: بَيَّنَ اللهُ لهم أمرَ ضلالتهم وبعدهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان، فذكر أن المالك المقتدر على الإنفاق والعاجز الذي لا يقدر أن ينفق لا يستويان، فكيف يُسَوَّى بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل وبين الله الذي هو على كل شيء قدير، وهو رازقُ جميع خلقه (¬4). وفي الآية قول آخر، وهو: أن هذا مثل للمؤمن والكافر؛ قال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا جهل بن هشام وأبا بكر الصديق (¬5)، وقال قتادة: ¬

_ (¬1) ليس في تفسيره، وأخرجه الطبري 14/ 150 بنصه من طريقين، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 475، و"الدر المنثور" 4/ 235، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 422، بنصه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 111، بمعناه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 213، بتصرف يسير. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 ب، بنصه عن ابن جريج عن عطاء ضعيفة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 33، وابن الجوزي 4/ 472، وقد روي عن ابن عباس أنهما: هشام بن عمرو، ومولاه الذي كان ينهاه، انظر: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 93، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 472، و"الدر المنثور" 4/ 235 - 236، وعزاه إلى ابن جرير -روايته ليس فيها الشاهد- وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن =

هو الكافر لا يعمل بطاعة الله ولا ينفق خيرًا، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} هو المؤمن يطيع الله في نفسه وماله (¬1)، فعلى هذا القول: الكافر لمَّا لم ينفق في طاعة الله صار كالعبد الذي لا يملك شيئًا، والمؤمن ينفق في الخير وفي طاعة الله، فليسا يستويان، كذلك قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} وجمع الفعل؛ لأن المراد بقوله: {عَبْدًا مَمْلُوكًا}، وقوله تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا}، الشُّيوع في الجنس لا التخصيص (¬2). ¬

_ = مردويه وابن عساكر وليس لتخصص الآية بهما داع، بل الآية عامة، وكفى بتضارب الأقوال المُعَيِّنة دليلاً على عدم التعيين، وقد أشار الواحدي رحمه الله إلى التعميم بقوله: المراد بقوله: {عَبْدًا مَمْلُوكًا}، وقوله تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا}، الشُّيوع في الجنس لا التخصيص، وقد ردّ الجصاص هذا التخصيص بأمرين: بضعف الحديث الوارد، وبظاهر اللفظ؛ فقال: وظاهر اللفظ ينفيها؛ لأنه لو أراد عبداً بعينه لعرَّفه ولم يذكره بلفظ منكور، وأيضًا معلوم أن الخطاب في ذكر عبدة الأوثان والاحتجاج عليهم ... إلخ. انظره في: "تفسيره" 3/ 187، وهو كلام نفيس في الردّ على تخصيص هذا المثل والذي يليه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 476، والفخر الرازي 20/ 84، وأبي حيان 5/ 519. (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 359) بنصه، والطبري 14/ 150 - 151 من طريقين بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 92، بمعناه، و"تفسير الطوسي" 6/ 408، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 472، و"تفسير القرطبي" 10/ 147، و"الدر المنثور" 4/ 234 - 235، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. والغريب أن لابن عباس قولاً مثله -حتى إن كثيرًا من المفسرين نسبوا القول إليهما، بل إن بعضهم اكتفى بنسبته إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- ومع ذلك لم يذكره واكتفى بنسبته لقتادة. (¬2) قال الثعلبي: {هَلْ يَسْتَوُونَ} ولم يقل: هل يستويان؛ لمكان (مَنْ) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمونث."تفسير الثعلبي" 2/ 160 ب.

واختار ابن قتيبة القول الأول (¬1)؛ فقال: هذا مثل ضربه الله لنفسه ولمن عُبد دُونَه، فقدله: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} مَثَلُ من عُبِد مِن دونه؛ لأنه عاجزٌ مُدَبَّرٌ مملوكٌ لا يقدر على نفع ولا ضرّ، ثم قال: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ} إلى قوله: {وَجَهْرًا} وهذا مَثَلُه جلَّ وعز؛ لأنه الواسع الجواد القادر الرَّزاق عباده جَهْرًا من حيث يعلمون وسرًّا من حيث لا يعلمون، قال: وهذا القول أعجب إليّ؛ لأن المَثَل توسَّط كلامين؛ هما لله جلّ وعز؛ أما الأول فقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} الآية. فهذا (¬2) لله ومن عُبِدَ من دونه، (وأما الآخر فقوله) (¬3) بعد إنقضاء المثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4)، ومعنى قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هاهنا: أنه بَيَّنَ أن له الحمدَ على ما فعل بأوليائه، وأنعم عليهم بالتوحيد، هذا معنى قول ابن عباس (¬5). وقال غيره: بَيَّنَ أن له جميعَ الحمد، وأنه المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه؛ لأنه لا يَدَ للأصنام عندهم، ولا نعمة لها عليهم (¬6)، ¬

_ (¬1) وكذلك رجحه ابن عطية 8/ 476، والفخر الرازي 20/ 84، وأبوحيان 5/ 519، وابن القيم في "الأمثال" ص 205. (¬2) في جميع النسخ: (عهد الله)، وهو تصحيف، والتصويب من المصدر. (¬3) ما بين القوسين كتب على الهامش في نسخة (أ). (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 384 - 385، بتصرف واختصار، وورد نحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 92. (¬5) قال: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 85، بنصه، وأبي حيان 5/ 519، بنصه. (¬6) ورد في "تفسير الطبرى" 14/ 149، بنحوه، والثعلبي 2/ 160 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 33، وابن الجوزي 4/ 473، والفخر الرازي 20/ 85، و"تفسير القرطبي" 10/ 148، والخازن 3/ 127.

76

ومعنى قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يقول: أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون أن الحمد لي؛ لأن جميع النعمة مني، وذكر الأكثر وهو يريد الجميع. قال أهل المعاني: عزل البعض احتقارًا له أن يُذْكَر، وقال آخرون: هو من الخاص في صِيَغِهِ، الذي هو عموم في معناه، والمعنى: بل هم لا يعلمون (¬1)، ثم زاد في البيان، فقال: 76 - {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلَيْنِ} قال أبو زيد: رجل أبْكَم وهو العَيُّ المُفْحَمُ، وقد بَكِمَ بَكَمًا وبَكَامَةً، وقال أيضًا: الأبْكَمُ: الأقْطَعُ اللِّسَانِ؛ وهو العَيُّ بالجوابِ الذي لا يُحْسِنُ وَجْهَ الكَلَامِ (¬2)؛ لأنه لا يَفْهَم ولا يُفْهَم عنه. وقوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}، أي: هذا الأبكم ثِقْلٌ وَوَبَالٌ على صاحبه وقرينه وابن عمه وَوَلِيِّه، والكلّ: الذي هو عِيالٌ وثِقْلٌ على صاحبه (¬3). قال أهل المعاني: وأصله من الغِلَظ الذي هو نقيض الحدة، يقال: كَلّ السكينُ كلولاً، إذا غَلُظَ شفرته فلم يقطع، وكَلَّ لسانه إذا لم ينبعث في القول لِغِلَظه وذهاب حَدّه، وكَلّ عن الأمر يَكَلُّ إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فهو يَكَلُّ إذا لم ينفذ في الأمر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 473، و"تفسير القرطبي" 11/ 480، وأبي حيان 5/ 519. (¬2) لم أجده في نوادره، وورد في "تهذيب اللغة" (بكم) 1/ 379، بنصه. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (كل) 4/ 3176، بنصه. (¬4) ورد بنحوه في: "أدب الكاتب" ص 333، و"تفسير الطوسي" 6/ 410، و"الفخر =

وقوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} أي أينما (¬1) يرسله، ومعنى التوجيه: أن ترسل صاحبك في وجه من الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوَجَّه إليه (¬2). وقوله تعالى: {لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأنه عاجز لا يُحْسِن ولا يَفْهَم ما يُقَال له ولا يُفْهَم عنه، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ} أي هذا الأبكم الذي هو بهذا الوصف، {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي ومن هو قادر تام التمييز متكلم ناطق بالحق، آمرٌ بالعدل قادرٌ على الأمور مُصَرِّفٌ لها على أحسن الوجوه، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال ابن عباس: يريد على دين مستقيم (¬3). وللمفسرين في هذه الآية قولان كما ذكرنا في الآية الأولى، فمن قال في المثل الأول أنه مَثَلُ الأوثان والله تعالى، قال في هذه الآية أيضًا: إن هذا مَثَلٌ كالأول، وهو قول مجاهد والسدي وقتادة (¬4)، واختيار الفراء (¬5) ¬

_ = الرازي" 20/ 86، و"تفسير القرطبي" 10/ 150، والخازن 3/ 127، وانظر: (كل) في "المحيط في اللغة" 6/ 141، و"مجمل اللغة" 2/ 765، و"الصحاح" 5/ 1811. (¬1) في جميع النسخ: (إنما)، والمثبت هو الصحيح. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 86، بنصه تقريبًا. (¬3) انظر: "تقسير الخازن" 3/ 127، وأبي حيان 5/ 519، بلا نسبة فيهما. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 359 بمعناه عن قتادة، والطبري 14/ 149 - 150 بنصه عن مجاهد من طريقين، وبنحوه عن قتادة، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 244، بنحوه عن السدي، والثعلبي 2/ 160 ب بمعناه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" 3/ 204 ب معناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 473، عن مجاهد وقتادة، والفخر الرازي 20/ 87، و"تفسير القرطبي" 10/ 149، عن مجاهد، وأبي حيان 5/ 519، عن قتادة، وابن كثير 2/ 637 - 638، عن مجاهد، و"الدر المنثور" 4/ 236، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 111.

والزجاج (¬1) وابن قتيبة (¬2). قال مجاهد: كل هذا مَثَلُ إله الحق وما يُدْعَى من دونه من الباطل (¬3) وقال السدي: أما الأبكم فمِثْلُ الصنم؛ لأنه أَبْكَمُ لا ينطق، وهو كَلّ على عابديه؛ يُنْفِقون عليه ولا يُنْفِق هو عليهم ولا يَرْزقُهم، {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ}: الصنم من شرق أو غرب لا يأت بخير، يقول: لا يرزقهم ولا ينفعهم، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، والذي يأمر بالعدل: الله تبارك وتعالى، ونحو هذا قال قتادة (¬4). وقال الزجاج: هل يستوي القادرُ التامُ التمييزِ والعاجزُ الذي لا يُحْسِن ولا يأتي بخير، فكيف تُسَوُّون بين الله عز وجل وبين الأحجار (¬5). وقال ابن قتيبة: هذا مَثَلُ آلهتهم؛ لأنها بُكْمٌ صُمّ عُمْيٌ، ثِقْلٌ على من عبدَها في خدمتها، وهي لا تأتيه بخير (¬6). ثم قال: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فجعل هذا المَثَلَ لنفسه، وقال في قوله: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} هذا مثل للصنم الذي عبدوه، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}؛ لأنه يحمله إذا ظَعَن، وُيحَوِّلَه من مكان إلى مكان إذا تحرك، فقال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي}: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 248. (¬3) سبق توثيقه. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 155، بنحوه عن قتادة، و"الدر المنثور" 4/ 235 - 236، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، بنحوه عن السدي. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214، بنصه. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 385، بنحوه تقريبًا.

هذا الصنم الكَلّ، {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، وهو استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال: لا تُسَوُّوا بين الصنمِ الكَلِّ وبين الخالق عز وجل (¬1). وقال آخرون: هذا مثل للمؤمن والكافر، وهو قول ابن عباس في رواية عطية (¬2). ثم اختلفوا فيمن نزل، فروى يَعْلَى بن مُنْيَةَ (¬3) عن ابن عباس: أنها نزلت في عثمان بن عفان ومولاه؛ كان عثمان -رضي الله عنه- ينفق عليه ويكفيه المؤونة، وكان مولاه يكره الإسلام، وينهاه عن الصدقة ويمنعه من النفقة (¬4). وقال في رواية عطاء، الأبكم: أُبي بن خلف الجمحي، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} يريد كَلّ على قومه، كان يؤذيهم، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ}، يريد أبي ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (كل) 4/ 3176، بنصه تقريبًا. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 150، بنحوه ضعيفة، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 204، وانظر: "تفسير البغوي" 5 - 23 - 34، وابن الجوزي 4/ 473، وأبي حيان 5/ 519، وابن كثير 2/ 637. (¬3) يَعْلَى بن أُمَيَّة التميمي -رضي الله عنه- ينسب حينًا إلى أبيه وحينًا إلى أمه مُنْيَة، وقيل: هي أم أبيه، جزم بذلك الدارقطني، أبو صفوان، صحابي، أسلم يوم الفتح وشهد حنينًا والطائف وتبوك، شهد صفين مع علي -رضي الله عنه-، مات سنة بضع وأربعين. انظر: "الاستيعاب" 4/ 147، و"أسد الغابة" 5/ 523، و"الإصابة" 3/ 668 (9358)، و"تقريب التهذيب" ص 609 (7839). (¬4) أخرجه الطبري 14/ 151 بنصه تقريبًا، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 204، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 473، والفخر الرازي 2/ 870، و"تفسير القرطبي" 10/ 149، وابن كثير 2/ 638، و"الدر المنثور" 4/ 235 - 236، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر.

77

ابن خلف، {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، يريد حمزة وعثمان بن مظعون (¬1). 77 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ} قال أبو إسحاق: معناه: ولله عِلْمُ غيبِ السموات والأرض (¬2)، وذكرنا الكلام في معنى غيب السموات والأرض في آخر آية من سورة هود [123]. وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ}: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سُمِّيت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة، فيموت الخلق في صيحة (¬3). وقوله تعالى: {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} قال ابن الأعرابي: اللمح: النظر بسرعة (¬4)، يفال: لمحه ببصره لمحًا ولمحانًا (¬5)، أنشد الفراء: لمحان أقنى فوق طود يافع ... بعضَ العُدَاة دُجُنَّة وظلالا (¬6) ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 160 ب، بنصه مختصرًا، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 33 - 34، وابن الجوزي 4/ 473، و"القرطبي" 10/ 149، وهذا كالمَثَلِ الأول؛ لا دليل صحيح على تخصيصه بأحد بعينه، وحسبك تضارب الروايات لرده، والصحيح حمل الآية على العموم. انظر: التعليق على آية [75]، و"تفسير أبي حيان" 5/ 520، و"تفسير الألوسي" 14/ 197. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214، بنصه. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 88، و"تفسير القرطبي" 10/ 150، بنصه غير منسوب. (¬4) ورد في لمح 5/ 98، بمعناه. (¬5) اللَّمْحُ: هو النظر الخاطف كرجوع الطَّرْف، يُشَبَّه بلَمَعَان البرق، يقال: لَمَحَ البرقُ والنجْمُ؛ أي لمع، ويقال: لمحه ببصره وألْمَحَه، والاسم: اللَّمْحَةُ. انظر: (لمح) في "العين" 3/ 243، و"تهذيب اللغة" 4/ 3296، و"المحيط في اللغة" 3/ 116، و"الصحاح" 1/ 402. (¬6) لم أقف عليه. (أقنى): برز، (طود)، الطّوْدُ: الجبل العظيم، (يافع): هو التّل المُشْرِفُ، وقيل: ما أرتفع من الأرض، (دجنة)، الدُّجُنَّةُ: الظَّلْمَاءُ.

قال ابن عباس في قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ}، يريد: القيامة، {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ}، يريد: النظر. وقال قتادة: هو أن يقول: كن، فهو {كَلَمْحِ الْبَصَرِ} (¬1). وقال السدي: هو كلمح العين من السرعة، {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}: من ذلك إذا أردناه (¬2)، وشرح أبو إسحاق معنى هذا فقال: الساعةُ اسم لإمَاتَةِ الخَلق وإحْيائِهِم، أعلم الله تعالى أنّ البَعْثَ والإحْيَاءَ في قدرته ومشيئته، {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، ليس يريد أنَّ السَّاعةَ تأتي في أقربَ من لمح البصر، ولكنه يصف سرعةَ القدرةِ على الإتيان بها (¬3)، ومعنى (أو) في قوله: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}: أن أمرها يكون على إحدى منزلتين: إما لمح البصر، وإما أقرب، فأدخل (أو) لِشَكّ المخاطب؛ أي كونوا في تقدير سرعة كونها على هذا الشك، وهذا معنى قول قطرب: أراد أن يطويه عنّا (¬4)، وقيل: إنّ (أو) هاهنا بمنزلة بل (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 359) بنصه، والطبري 14/ 151 بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 95، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 236، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 424، وأورده السيوطي في "الدر المنثور"، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214، بنصه. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) بذلك فسرها مقاتل 1/ 205 ب، والسمرقندي 2/ 244، وهود الهواري 2/ 380، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 34، والفخر الرازي 20/ 88، و"تفسير القرطبي" 10/ 150، وأورده أبو حيان في تفسيره وأبطله بحجة أن الإضراب هنا يؤدي إلى فساد المعنى، وتعقبه الألوسي وصححه، انظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 521، =

78

وأنشدوا (¬1): أوْ أنتِ في العَينِ أَمْلَحُ (¬2) 78 - قوله تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} أي أخرجكم غير عالمين بمعنى: أخرجكم جاهلين. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} عطف (¬3) على قوله: {أَخْرَجَكُمْ}، وجَعْلُ السمعِ كان قبل الإخراجِ ولم يكن بعده، وتأخيره في الذكر وتَقَدُّمُ الإخراجِ لا يدل على أن الجَعْلَ للسمع تأخر عن الإخراج؛ لأن الواو لا توجب الترتيب (¬4)، ذكرنا هذا في مواضع، ¬

_ = و"تفسير الألوسي" 14/ 198، وفي كتب حروف المعاني أن (أو) تأتي بمعنى (بل)، ومنهم من أطلق القول، ومنهم من قيده بشروط، انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص 13، و"الجنى الداني" ص 229، و"مغني اللبيب" ص 91. (¬1) نُسب لذي الرُّمَّة - ولم أجده في ديوانه، وقال محقق الخزانة؛ عبد السلام هارون: بل هو في ملحقات الديوان ص 664. (¬2) تمام البيت: بدتْ مِثلَ قَرْنِ الشَّمس في روْنقِ الضُّحى ... وصُورَتِها ................ ورد في "المحتسَب" 1/ 99، و"الخصائص" 2/ 458، و"الأزهية" ص 121، و"اللسان" (أوا) 1/ 181، و"الخزانة" 11/ 65، وورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 72، و"الصحاح" (أو) 6/ 2275، و"الإنصاف" 383، والشاهد: ورود (أو) بمعنى (بل) والمعنى: بل أنتِ في العين أملح. (¬3) وجعلها الطبري مستأنفة؛ لأن الكلام تمَّ بقوله: {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}، ثم ابتدأ بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ}. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 152، والبغوي 5/ 34. (¬4) وللخازن توجيه جيد، يقول: لمّا كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه، وإن كانت قد خلقت قبل ذلك. "تفسير الخازن" 3/ 128.

79

والمعنى: خلق لكم الحواس التي بها تعلمون وتقفون على ما تجهلون، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد لتسمعوا مواعظ الله وتُبْصِروا ما أنعم الله به عليكم منذ أخرجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالًا، وتعقلوا عظمة الله (¬1)، {وَالْأَفْئِدَةَ} جمع الفؤاد؛ نحو غراب وأغربة (¬2). قال الزجاج: ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد؛ لم يُقَل فيه: فِئْدان، كما قيل في غُراب وغِرْبَان (¬3). 79 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ}، أي: مذللات في جَوِّ السماء، وهو الهواء، قال الزجاج: {جَوِّ السَّمَاءِ}: الهواءُ البعيدُ من الأرض (¬4)، وهذا حث على الاستدلال بها على مُسَخِّرٍ سَخَّرها، ومُدَبِّرٍ مَكَّنَها من التصرف في جو السماء، وهو الله تعالى. وقوله تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} يعني في حال القَبْض والبَسْط والاصطفاف، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} الآية. [الملك: 19]. 80 - قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} الآية. السَّكَن: المَسْكَن، أنشد الفراء (¬5): ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 128، بنصه، و"تفسير الألوسي" 14/ 201، بنصه. (¬2) قال الزمخشري: وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة. انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 339. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214، بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214، بنصه. (¬5) نسبه الأزهري لابن الأعرابي.

جاء الشِّتاءُ ولَمَّا أتَّخِذْ كِنَنًا (¬1) ... يا وَيْحَ نَفْسِيَ (¬2) من حَفْر القراميص (¬3) والسَّكَنُ: ما سَكَنْت، وقال الزجاج: أي مَوْضِعًا تَسْكُنُون فيه (¬4)، قال مجاهد وغيره: يعني المساكن من الحجر والمدر (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (كِنانًا)، والمثبت من: (ش)، (ع)، وقد انفرد الواحدي برواية (كِنًا)، بينما ورد في غيره (سنكنًا) و (ربضًا)، وليس في رواية الواحدي ولا رواية (ربضًا) شاهد -إلا بالمعنى-، إنما الشاهد في رواية "سكنًا" كما سيأتي في توثيق البيت. (¬2) في (أ)، (د) زيادة كلمة (قلبي) كالتالي: (ياويح قلبي نفسي) والمثبت من: ش، ع وهو الصحيح؛ لإغناء كلمة نفسي عنها، ويؤكد ذلك خلو رواية التهذيب منها. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (قرمص) 3/ 2946، وفيه: (رَبَضَاً) بدل (كناناً)، وبدون كلمة (قلبي)، وورد بلا نسبة برواية: جاء الشتاء ولمّا أتخذ ربضًا ... يا ويح كفَّيَّ من حفْرِ القراميص في "جمهرة اللغة" 1/ 314، 2/ 1201، و"تهذيب اللغة" (ربض) 2/ 1344، و"مقاييس اللغة" 2/ 478، و"الصحاح" (قرمص) 3/ 1051، (ربض) 3/ 1076، و"تفسير الفخر الرازي" 20/ 91، وفيه: (سكنًا) بدل (ربضًا، و"الأساس" 2/ 247، و"اللسان" (قرمص) 6/ 3606، (ربض) 3/ 1559، و"التاج" (قرمص) 9/ 333، و"تفسير أبي حيان" 5/ 523، و"الدر المصون" 7/ 273، فيهما برواية: (سكناً) و (نفسي)، (ربض): قال ابن فارس: الراء والباء والضاد أصل يدل على سكون واستقرار، والرَّبَض: ما حول المدينة؛ ومسكن كلِّ قوم رَبَضٌ، ويقال: لفلان رَبَضٌ يأوي إليه: وهو كل ما سكن إليه من امرأة أو قرابة أو بيت. (قرمص): قال ابن السكيت: القراميص: حُفَرٌ صغارٌ يستكِنُّ فيها الإنسان من البرد، الواحدة: قُرْمُوص. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 215، بنصه. (¬5) ورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 14/ 154، بنصه، والثعلبي 2/ 161 أ، بنصه، والبغوي 5/ 35، والخازن 3/ 128، والذي في "تفسير مجاهد" ص 423، قال: تسكنون فيها، وأخرجه الطبري عن مجاهد بهذه الرواية، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 237، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال ابن عباس: يريد مساكن تستر عوراتكم وحُرَمَكُم، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن تسقيف البيوت وبناؤها (¬1). وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ} يعني الأنطاع (¬2) والأُدم، {بُيُوتًا} يعني القِبَاب والخِيَام والفَسَاطِيط (¬3)، {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}، أي: يَخِفُّ عليكم حَمْلُها في أسفاركم (¬4)، قال ابن عباس: يريد إذا ظعنتم الربيع، وفيه قراءتان: تسكين العين (¬5) وتحريكها (¬6)، وهما لغتان؛ كالشعْر والشعَر، والنهْر والنهَر، قال الفراء: والعرب تفعل ذلك بما كان ثانيه إحدى الستة الأحرف (¬7)، وأنشد (¬8): له نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ ريحُها ... وإن وُضِعت بين المجالس شُمَّت (¬9) (¬10) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 476، بنحوه وبلا نسبة. (¬2) جمع: نِطَعٌ ونِطْعٌ ونَطَعٌ ونَطْعٌ؛ هو بساطُ من الجلد. انظر: "المحيط في اللغة" 1/ 406، و"المعجم الوسيط" 2/ 930. (¬3) جمع الفِسْطَاط والفُسْطَاط؛ وهو ضَرْبٌ من الأبنية؛ وهو بيتٌ يتخذُ من الشَّعر. انظر: "المحيط في اللغة" 8/ 271. (¬4) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 215، بنصه. (¬5) قرأ بها: عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر. انظر: "السبعة" ص375، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 359، و"علل القراءات" 1/ 308، و"الحجة للقراء" 5/ 77، و"المبسوط في القراءات" ص 225، و"التيسير" ص 138. (¬6) بفتح العين، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو. (انظر: المصادر السابقة). (¬7) يريد الحروف الحلقية؛ وهي: الهمزة والهاء، والعين والحاء، والغين والخاء. (¬8) لكُثَيِّر بن عبد الرحمن بن الأسود، المعروف بكُثَيِّر عزّة (ت 105 هـ). (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 112، بنصه تقريبًا. (¬10) "ديوانه" ص 85، وروايته: =

قال أبو علي: لا يجوز أن يكون الظَّعْنُ مخففًا من الظَّعَنِ، كعَضْد من عَضُد، ألا ترى أن من خفف عَضْدًا لم يخفف؛ نحو: حَمَلٍ (¬1) وَرَسَنٍ (¬2)، قال الأزهري: والظَّعْنُ: سير البادية لنُجْعة أو حضور ماء أو طلب مَرْتَع أو تَحَوُّل من ماء إلى ماء ومن بلد إلى بلد، وقد ظَعَنوا يَظْعَنون، وقد يقال لكل شاخص لسفر: ظاعِن، وهو ضدّ الخافض (¬3). وقوله تعالى: {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} قال مقاتل: أي لا يثقل عليكم الحالتين (¬4). وقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} قال المفسرون ¬

_ = إذا طُرِحَتْ لم تَطَّبِ الكلبَ ريحُها ... وإن وُضِعَتْ في مجلس القوم شُمَّتِ وورد في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 502، و"الخصائص" 2/ 9، وفيه: (جُعِلت وسْطَ) بدل (وُضعت بين)، و"اللسان" (نعل) 7/ 4477، وفيه: (وسط) بدل (بين)، وورد في "البيان والتبيين" برواية ليس فيها الشاهد 3/ 788، (تطبي): يقال طبى فلانٌ فلانًا عن رأيه وأمْره: أي صرفه، وأطْبَأه وطَبَأه: دعاه واستماله، (شُمّت): يُقبل شَمُّها؛ لأن جلدها جيد الدباغة لا تفوح منه روائحُ كريهة منتنة تستميل الكلاب، والشاعر يصف نعله برقتها وطيب ريحها، وأنها لطيب ريحها وعدم انبعاث الروائح الكريهة عنها لا تستميل الكلاب. والشاهد: أنه حرَّك حرف الحلق (ع) لانفتاح ما قبله. وانظر: "المحيط في اللغة" (طبى) 9/ 228. (¬1) هكذا في جميع النسخ بالحاء، وفي المصدر (جمل) بالجيم، وهو خطأ؛ لأن (جمل) لا تأتي في الفصيح إلا محركة. انظر: "متن اللغة" 1/ 571. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 77، بتصرف يسير. (رسن): الرسن: الحبل تقاد به الدابة؛ وهو ما كان على الأنف من الأزمَّة. انظر: "اللسان" (رسن) 3/ 1647، و"متن اللغة" 2/ 588. (¬3) "تهذيب اللغة" (ظعن) 3/ 2241، بنصه. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 205 ب، بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 161 أ، بنصه.

وأهل اللغة: الأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز (¬1). وقوله تعالى: {أَثَاثًا} الأثاث: أنواع المتاع من متاع البيت؛ من الفُرُش والأكسية (¬2)، قال الفراء: ولا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له، قال: ولو جمعت لقلت: أَثِثَّة في القليل وأُثُثٌ في الكثير (¬3). وقال أبو زيد: واحدتها أَثَاثَةٌ (¬4). ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 205 ب، بنصه، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 215، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 96، بنصه، و"تفسير الثعلبي" 2/ 161 أ، بنصه، والطوسي 6/ 413، وانظر: "تهذيب اللغة" (صاف) 2/ 1962 - 1963، (وبر) 4/ 3826 - 3827، و"المحيط في اللغة" (صوف) 8/ 196، (وبر) 10/ 272، و"اللسان" (وبر) 8/ 4752 - 4753، (صوف) 4/ 2527 - 2528. (¬2) ورد في الغريب لابن قتيبة 1/ 248، بنصه، ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 96، و"تفسير الثعلبي" 2/ 161 أ، وانظر: (أث) في "العين" (8/ 253، و"تهذيب اللغة" 1/ 118، و"اللسان" (أثث) 1/ 24 - 25، و"التاج" (أثث) 3/ 164. (¬3) لم أجده في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (أث) 1/ 118، بنصه تقريبًا، وفيه: ولو جمعت لقلت: ثلاثة آثَّةٍ، وأُثُثٌ كثيرة. وانظر: "اللسان" (أثث) 1/ 24 - 25، و"التاج" (أثث) 3/ 164، وأورد السمين قول الفراء، وقال عن جمع الكثرة: فيه نظر؛ حيث يلزم هذا الوزن جمعه على أفْعِلَة في القلة والكثرة، ولا يجمع على فُعُل. انظر: "الدر المصون" 7/ 275. (¬4) لم أجده في نوادره، وورد في "تهذيب اللغة" (أث) 1/ 118، بلفظه، وورد عنه بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 248، و"أدب الكاتب" له ص 61، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 97، و"تفسير الثعلبي" 2/ 161، و"الدر المصون" 7/ 275، وأورد الطبري قول أبي زيد -بلا نسبة- ورده، قائلاً: ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك -أي أن الأثاث واحد- والحق أن أبا زيد إمام وحجة في العربية، والذين أوردوا قوله -وهم من أهل اللغة- لم أجد من اعترض عليه، وحسبك بابن قتيبة وقد أورد قوله مستشهدًا به.

قال ابن عباس في قوله: {أَثَاثًا} يريد طَنَافِس (¬1) وبُسطًا وثيابًا وكسوة (¬2)، قال الخليل: وأصله من قولهم: أثَّ النَّباتُ والشَّعر إذا كثر (¬3) وقوله تعالى: {وَمَتَاعًا} أي ما يمتعون به. وقوله تعالى: {إِلَى حِينٍ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد إلى حين البلى (¬4). وروي عنه: {إِلَى حِينٍ}: الموت (¬5)، ومثله قال مجاهد، وأَبْهَم قتادة؛ فقال: إلى أجل (¬6)، وحكى الفراء القولين فقال: يقول: يكتفون ¬

_ (¬1) جمع طَنْفَس، وهي البساط الذي له خَمْلٌ رقيق، وقيل: هو ضرب من السجاد. انظر: "اللسان" (طنفس) 5/ 2710، و"متن اللغة" 3/ 637. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 92، بنصه، والمشهور عن ابن عباس أنه فَسَّرَ {أَثَاثًا} بالمال، أخرجه الطبري 14/ 155 - 156 من طريق العوفي ضعيفة، و"الدر المنثور" 4/ 237، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬3) "العين" (أث) 8/ 253، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 92، وقد نقل المقطع كله؛ من بداية قول الأزهري بنصه تقريبًا دون نسبته للواحدي. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 290، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 205 ب، والثعلبي 2/ 161 أ، والبغوي 5/ 35، والزمخشري 2/ 339، وابن الجوزي 4/ 477، والفخر الرازي 20/ 92، والخازن 3/ 129. (¬5) أخرجه الطبري 14/ 155 بلفظه عن مجاهد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 477، عن ابن عباس ومجاهد، وأبي حيان 5/ 524، عن ابن عباس، و"تفسير الألوسي" 14/ 204، عن ابن عباس، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 381، والثعلبي 2/ 161 أ، والبغوي 5/ 35، والزمخشري 2/ 339، والفخر الرازي 20/ 92، والخازن 3/ 129، وورد عن ابن عباس تفسيره بقوله: ينتفعون به إلى حين، أخرجه الطبري 14/ 154 - 155 من طريق العوفي ضعيفة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 237 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 359) بلفظه، والطبري 14/ 155 بلفظه، =

81

بأصوافها إلى أن يموتوا، ويقال: إلى الحين بعد الحين (¬1). 81 - قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} قال عطاء عن ابن عباس: يريد ظلال الغمام والسحاب (¬2)؛ كما قال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] يريد لتقيكم من حر الشمس ومن شدة البرد، وقال الكلبي: {مِمَّا خَلَقَ} يعني البيوت (¬3)، وقال قتادة: يعني الشجر (¬4)، واختاره الزجاج. فقال: أي جعل لكم من الشجر ما تَسْتَظِلُّون به (¬5) (¬6). وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} قالوا: يعني الغيران والأسْرَاب (¬7)، وواحد الأَكْنَان كِنٌّ، على قياس حِمْل ¬

_ = وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 97، بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 237، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 112. بنصه. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 477، وأبي حيان 5/ 524، و"تفسير الألوسي" 14/ 205 (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 477، وأبي حيان 5/ 524، و"تفسير الألوسي" 14/ 205 (¬4) أخرجه الطبري 14/ 155 بلفظه من طريقين، ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 245 بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 477، وأبي حيان 5/ 524، و"الدر المنثور" 4/ 238، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 215، بنصه. (¬6) هذه الأقوال -في معنى الظلال- من اختلاف التنوع، ولا يجوز تخصيصها بأي منها، والأَوْلَى حَمْلُه على العموم؛ لعدم وجود مخصص، ولكونه جاء على سبيل الامتنان، والمنّة حاصلة بكل ذلك، لذلك فالأرجح ما قاله أبو سليمان الدمشقي: إنه كل شيء له ظل؛ من حائط، وسقف، وشجر، وجبل، وغير ذلك. "تفسير ابن الجوزي" 4/ 477. (¬7) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 245، بنصه، والثعلبي 2/ 161 أ، بنصه، وانظر: =

وأَحْمَال (¬1)، والكِنُّ: كل شيء وقى شيئًا، ويقال: اسْتَكَنَّ واكْتَنَّ، إذا صار في كِنّ (¬2) (¬3) {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} السرابيل: القُمُص، واحدها سربال (¬4)، قال الفراء: سَرْبَلْتُ الرجلَ إذا لَبَّسْتَه سَرْبَلَةً وسِرْبَالًا (¬5)، وأنشد: عَمّى أبو مالك بالمجدِ سَرْبَلَني ... ودَنَّس العبد عبد القيس سربالي (¬6) قال أبو إسحاق: كلُ ما لَبِسْتَه فهو سربالٌ؛ من قميص أو دِرْع أو جَوْشَنٍ أو غيره (¬7)، قال ابن عباس وقتادة: هي القُمُص من الكَتّان، ¬

_ = "تفسير البغوي" 5/ 36، وابن الجوزي 4/ 478، و"تفسير القرطبي" 10/ 159، والخازن 3/ 129، (الغيران): جمع غار؛ وهو مغارةٌ في الجبل كالسَّرب، وقيل: الغارُ كالكَهْف في الجبل، (الأسْرَاب): جمع سَرْب، وهو المسلك في خفية، وأصله جُحر الثعلب والوحشي، وهو حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض. انظر: (سرب) في "المحيط في اللغة" 8/ 312، و"اللسان" 4/ 1980، (غور) 6/ 3313، و"معاني اللغة" 3/ 133. (¬1) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 215، بنصه. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (كن) 4/ 3196، بنصه، وهو قول الليث. (¬3) انظر: (كن) في "تهذيب اللغة" 4/ 3196، و"المحيط في اللغة" 6/ 144، و"الصحاح" 6/ 2188، و"اللسان" 7/ 3942، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 93، بنصه بلا نسبة. (¬4) انظر: (سربل) في "تهذيب اللغة" 2/ 1664، و"الصحاح" 5/ 1729، و"اللسان" 4/ 1983، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 93، و"تفسير القرطبي" 10/ 160. (¬5) ليس في معانيه. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 215، بنصه. (جوشن): درع أو زَرَدٌ يُلْبَس على الصدر، والجمع: جواشن. انظر: "متن اللغة" 1/ 603.

والقطن والصوف (¬1)، قال الفراء: ولم يقل: والبرد، وهي تقي الحرّ والبرد، فترك؛ لأن معناه معلوم (¬2)، قال الزجاج: ولم يقل: وتقيكم البردَ؛ لأن ما وَقَى من الحرّ وَقَى من البرد (¬3)، فعندهما أنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة المذكور على الآخر، وقال عطاء الخرساني: الذين خوطبوا بهذا أهل حَرّ في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي الحرّ أشد، لذلك لم يذكر البرد؛ لأن القوم خُوطبوا على قدر معرفتهم، كما قال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا}: وما جعل من غير ذلك أعظم، ولكنهم كانوا أصحابَ وَبَر وشَعَر، وكذلك قوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] يُعَجِّبُهم بذلك، وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه (¬4)، قال المبرد: والقرآن قد أحاط بمن يخاطب وبمن يكون بعده، وأحاط بالغائب كما أحاط بالحاضر، ولكن العرب من شأنها إذا كان ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 359)، بنحوه، والطبري 14/ 155 - 156 بنصه من طريقين، وبنحوه من طريق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 97، و"تفسير السمرقندي" 2/ 245، والطوسي 6/ 413، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 256أ، والثعلبي 2/ 161أ، وهود الهواري 2/ 381. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 112، بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 112، بنصه. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 153 - 155 بنصه تقريبًا مع تقديم وتأخير، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 98، مختصرًا، و"تفسير الثعلبي" 2/ 161أ، بنصه تقريبًا مع تقديم وتأخير، و"تفسير الماوردي" 3/ 207، مختصرًا، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 36، والفخر الرازي 20/ 93، و"تفسير القرطبي" 10/ 160، والخارن 3/ 129، وابن كثير 2/ 639، وهذا القول هو الذي رجَّحه الطبري.

82

الشيئان مجازهما واحدًا في ضر أو نفع فذكروا أحدهما علم أن الآخر مثله، فلما ذكر الحرَّ صار كأنه ذكر البرد أيضًا، لما يعلم أنها لا تقي شيئًا دون شيء (¬1). وقوله تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} قال المفسرون: يعني دروع الحديد (¬2)، ومعنى البأس: الشدة، ويريد هاهنا شدة الطعن والضرب والرمي (¬3). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} أي مِثْل ما جعل هذه الأشياء، وخلقها لكم وأنعم بها عليكم، {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} يريد: نعمة الدنيا؛ لأن (¬4) الخطاب لأهل مكة يدل على هذا. قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تُخْلِصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذا أحدٌ غيره (¬5)، فتوحدوه وتصدقوا أنبياءه، ثم قال بعد أن بَيَّنَ لهم الآيات: 82 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أي عليك أن تُبلِّغَ الرسالةَ ¬

_ (¬1) أورده في "التعازي والمراثي" ص39، مختصرًا جدًا؛ قال: وكذلك قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}، ولم يذكر البرد، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 94، عنه بمعناه، وأبي حيان 5/ 524 مختصرًا، و"تفسير الألوسي" 14/ 205، مختصرًا. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 206 أ، بلفظه، والسمرقندي 2/ 245، بنصه، وهود الهواري 2/ 381، بلفظه، والثعلبي 2/ 161 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 339، وابن كثير 2/ 639 - 640. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 94، بنصه بلا نسبة. (¬4) في (أ)، (د): (أن) ومطموسة في (ع)، والمثبت من (ش). (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 94، والخازن 3/ 129، بلا نسبة.

83

والآياتِ الدالةَ على التوحيد وصدقك، ولا يَلْزَمك تقصيرٌ مِنْ أجل تَوَلِّيهم، وهذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- عما يلحقه عند توليهم عنه. 83 - قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قال السدي: يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق؟ قال: يعرفون أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ ثم يُنكرون ذلك (¬2)، وقال مجاهد: يعني ما عَدَّدَ من النِّعَم في هذه السورة، يعرفون أنها كلَّها نِعَمٌ عليهم، ولكن ينكرون أنها من الله تعالى، يقولون: هذه النعم كانت لآبائنا فورثناها منهم (¬3)، وقال الكلبي: أقروا بأنها كلها من الله، وقالوا: لكنها بشفاعة آلهتنا (¬4)، [وهذا] (¬5) القول ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 157 بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 99، بنصه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 245، بنصه، والثعلبي 2/ 161 ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 207، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 36، وابن عطية 8/ 487، وابن الجوزي 4/ 479، و"تفسير القرطبي" 10/ 161، والخازن 3/ 129، وأبي حيان 5/ 524، و"الدر المنثور" 4/ 238، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 216، بنصه. (¬3) "تفسير مجاهد" 350، بمعناه، أخرجه الطبري 14/ 158 بمعناه من طريقين، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 100، بمعناه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 245، بمعناه، وهود الهواري 2/ 382، مختصرًا، والثعلبي 2/ 161ب، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 207، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 36، وابن الجوزي 4/ 479، و"تفسير القرطبي" 10/ 161، والخازن 3/ 129. (¬4) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 245، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" 2/ 1161 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 36، وابن الجوزي 4/ 479، و"تفسير القرطبي" 10/ 162، والخازن 3/ 129. (¬5) في جميع النسخ (وقال) ولا يستقيم بها الكلام، والصحيح المثبت.

اختيار الفراء؛ قال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} يعني الكفار، إذا قيل لهم مَنْ رزقكم؟ قالوا: الله، ثم يقولون: بشفاعة آلهتنا فيشركون، فذلك إنكارهم نعمته (¬1)، ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس، قال: يُقِرُّون أنه لا يفعل هذا أحدٌ غيرُه، وهو المستحق للعبادة؛ لأنه المنعم عليهم دون غيره (¬2). وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} قال أصحاب التأويل: إنما قال وأكثرهم؛ لأن فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن [لم] (¬3) يبلغ حَدَّ التكليف؛ ومنهم من هو ناقص العقل مأووف (¬4) فأراد بالأكثر: البالغين الأصحاء الذين هم المقصودون بالخطاب وإقامة الحجة عليهم (¬5)، وقال الحسن: المعنى: وجميعهم الكافرون (¬6)، وعلى هذا ذكر الأكثر والمراد الجميع؛ لأن عُظْمَ الشيءِ يقوم مقام جميعه، فَذِكر الأكثرِ كذِكْرِ الجميع، وهذا كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] وذكرنا هناك وجهين آخرين، وهذه الآية تدل على أن المعاند كافرٌ، وإن عرف بقلبه إذا لم يُقِرّ بلسانه وأنكر في الظاهر. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 112، بنصه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص290، و"تفسير القرطبي" 10/ 162، بلا نسبة. (¬3) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام. (¬4) في اللسان (مَأُوُوف) و (مؤُوف): وهو الذي أصابته آفة؛ أي عاهة، يقال: آفت البلادُ تؤُوف أوفًا وآفةً وأُوُوفًا: صارت فيها آفةٌ، والمقصود هنا: العاهة العقلية التي تعيقه عن الفهم والتمييز. انظر: "اللسان" (أوف) 1/ 171. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 414، بنحوه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 95، وقد ذكر تعليلات أخرى. (¬6) ورد بنصه في "تفسير الماوردي" 3/ 207، والطوسي 6/ 415، وانظر: ابن الجوزي 4/ 479، وأبي حيان 5/ 525.

84

84 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}، أي: وذَكِّرهم يوم نبعث أو وأَنْذرهم يوم نبعث، قال ابن عباس: يريد يوم القيامة (¬1)، {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} يريد الأنبياء يشهدون على الأمم بما فعلوا من التصديق والتكذيب. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال الكلبي: لا يؤذن لهم في الكلام والاعتذار (¬2)؛ كقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} استعتَبَ فلان إذا طلب أن يُعْتَب، أي: يُرْضَى (¬3)، واستعتبت فلانًا إذا طلبت منه أن يرجع إلى رضا صاحبه (¬4)، فمعنى قوله: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يُطلب منهم أن (¬5) يرجعوا إلى ما يُرضي اللهَ؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، كما قال ابن عباس في هذه الآية، قال: يريد انقطع العتاب وانقطعت المعذرة وحَلّ بهم الخزي، تلخيص معنى الآية: أنهم لا يُمَكَّنُونَ من عذر فيتكَلَّمون به، ولا يُكَلَّمُون أيضًا في الرجوع في العُتْبَى، وأصل هذا الحرف من العتب وهو الموجدة، يقال: عتب عليه إذا وجد عليه، وأعتبه إذا زال عنه عتبُه؛ بأن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 95، والخازن 3/ 130، بلا نسبة فيهما. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 95، و"تفسير القرطبي" 10/ 162، والخازن 3/ 130، كلها بلا نسبة. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (عتب) 3/ 2314، بنصه، وهو قول الليث. (¬4) انظر: (عتب) في "تهذيب اللغة" 3/ 2314، و"مقاييس اللغة" 4/ 226، و"اللسان" 5/ 2791. (¬5) (أن) ساقطة من (أ)، (د) وفي (ع): (أي).

85

ترك ما كان يعتب عليه من أجله، واستعتبه إذا طلب منه الإعتاب (¬1). 85 - قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال ابن عباس: يريد أشركوا (¬2)، {الْعَذَابَ} يريد النار، {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ}، أي: العذاب، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}، أي: لا يؤخرون ولا يمهلون؛ لأن التوبة هناك غير مرجوة؛ لانقضاء الأمد المضروب لقبول التوبة ودخول وقت العذاب، وهذه الآية تأكيد لما قبلها؛ يريد أنهم يعجل لهم العقوبة في الآخرة من غير إنصات (¬3) لعذر منهم أو عتاب معهم. 86 - قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} قال ابن عباس: يريد الذين اتخذوهم (¬4) من دون الله آلهة (¬5)، وذلك أن اللهَ يبعثُ كلَّ مَنْ كان يَعْبُدون من دون الله، فيتبعوهم حتى يوردوهم النار، وَوُصِفُوا بأنهم شركاؤهم: لأنهم جعلوا لهم نصيبًا في أموالهم، ولأنهم جعلوهم شركاء في العبادة (¬6)، {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}، أي: ¬

_ (¬1) انظر: (عتب) في "تهذيب اللغة" 3/ 2314، و"المحيط في اللغة" 1/ 446، و"مقاييس اللغة" 4/ 226، و"اللسان" 5/ 2791. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص291، ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 382، والثعلبي 2/ 161ب، والبغوي 5/ 37، وابن الجوزي 4/ 480، والفخر الرازي 20/ 96، و"تفسير القرطبي" 10/ 162، والخازن 3/ 130. (¬3) في جميع النسخ: (أنصار) والصواب ما أثبته، ويدل عليه ما بعده، ولعلها تصحفت. (¬4) في (أ)، (د): (اتخذو لهم)، وفي (ش)، (ع): (اتخذوا لهم)، والمثبت هو الصحيح وينسجم مع السياق. (¬5) انظر: "تفسير أبى حيان" 5/ 526، و"تفسير الألوسي" 14/ 208، بنحوه غير منسوب. (¬6) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 416، بنصه.

كنا نعبدهم من دونك، {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} قال الكلبي: أجابوهم (¬1)، وقال مجاهد: حدثوهم (¬2)، وقال الفراء: رَدَّت عليهم قولهم (¬3): {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬4)، وذكر المفسرون في تكذيب الأصنام إيّاهم وجوهًا؛ أحدها: أنها كذبتهم في استحقاق العبادة، والمعنى: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}: في أَنَّا نستحق العبادة (¬5)، الثاني: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}: في أَنَّا دعوناكم إلى العبادة، وهذا قول الفراء (¬6)، وقيل: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}: في تسميتنا آلهة وأربابًا (¬7)، وكل هذا تكذيب من الآلهة (¬8) للكفار بما لم يُخْبِر به عنهم؛ لأنه ليس في الآية أن الكفار ادعوا أنها دعتهم إلى عبادتها، ولا أنها كانت تستحق العبادة، ولا أنهم سموها آلهة، وإن كانوا قد فعلوا ذلك، ولكن لم يُخبِر عنهم في هذه الآية بهذه الأشياء حتى ينصرف التكذيب إلى ذلك، والمفسرون قالوا هذا على الاحتمال، ولم أر لواحد من أئمة التفسير قولًا منسوبًا إليه مما حكيت غير الفراء، والذي يوافق الظاهر أن يقال: إن الشركاء كانت جمادًا مواتًا ما كانت تعرف عبادة عابديها، فقالت: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}: في عبادتكم إيَّانَا، ما كنا نعرف ذلك ولا علم لنا بعبادتكم، ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في "تفسيره "الوسيط"" تحقيق سيسي 2/ 428، وابن الجوزي 4/ 480. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 350، بلفظه، أخرجه الطبري 14/ 159 بلفظه من طريقين، و"الدر المنثور" 4/ 239، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) في جميع النسخ: (قولها)، والتصويب من المصدر. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 112، بنصه. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 416، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 97. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 112، بمعناه. (¬7) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 417، بنحوه، وانظر: "تفسير الخازن" 3/ 130. (¬8) في جميع النسخ: (الإله) والصحيح الآلهة؛ لأنها هي التي كذبت عابديها.

87

فظهر عند ذلك فضيحة الكفار، حيث عبدوا من لم يشعر بالعبادة، يدل على هذا قوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82]، والله أعلم. 87 - قوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} قال ابن عباس: يريد استسلموا وأقروا لله بالربوبية (¬1)، قال الكلبي: استسلم العابد والمعبود (¬2)، وقال قتادة: يقول: ذَلُّوا واستسلموا يومئذ لحكم الله (¬3)، وذكرنا معنى إلقاء السَّلَم عند قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} [النساء: 94]. وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قال ابن عباس: يريد ذهب ما زَيَّنَ لهم الشيطان أن لله شريكًا أو ولدًا وصاحبة (¬4)، وقال غيره: بطل ما كانوا يُؤَمِّلُون ويكذبون؛ من أن آلهتم تشفع لهم (¬5). 88 - قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد عن طاعة الله (¬6)، {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} قال ابن مسعود: ¬

_ (¬1) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 206 أ، والسمرقندي 2/ 246، والثعلبي 2/ 161 ب، وابن الجوزي 4/ 481. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 97، بنصه، وابن الجوزي 4/ 481، بمعناه، وأبي حيان 5/ 527، بمعناه، و"تنوير المقباس" ص291، بنصه. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 160، بنحوه، ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 101، بنحوه، و"تفسير الطوسي" 6/ 417، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 640، و"الدر المنثور" 4/ 239، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 429، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 481، والفخر الرازي 20/ 97، و"تفسير القرطبي" 10/ 163. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 97، و"تفسير القرطبي" 10/ 163. (¬6) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 481، و"تنوير المقباس" ص 291.

89

عقارب لها أنيابٌ أمثالُ النخلِ الطِّوالِ (¬1)، وروي عنه: أفاعي (¬2)، وقال السدي. إن أهل النار إذا جزعوا من حَرّها استغاثوا، بضحضاحِ ماءٍ في النار، فإذا أتوه بلغتهم عقارب كأنها البغال، وأفاعي كأنها البَخَاتِي (¬3)، فضربتهم فذلك الزيادة (¬4)، وقال أبو المنهال (¬5): إنهم يستغيثون بالنار فرارًا من تلك الأفاعي والعقارب وهربًا (¬6). 89 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 160 بنصه من عدة طرق، والطبراني في "الكبير" 9/ 258، بنحوه من عدة طرق، والحاكم (2/ 356) بنحوه، وقال: على شرط الشيخين؛ ووافقه الذهبي، والثعلبي 2/ 161 ب، بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 101، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 246، بنحوه، وهود الهواري 2/ 383، بنحوه، والطوسي 6/ 417، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 36، وابن الجوزي 4/ 482، و"تفسير القرطبي" 10/ 164، والخازن 3/ 130، وأبي حيان 5/ 527، وابن كثير 2/ 641. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 160 بلفظه من عدة طرق، والسمرقندي 2/ 246، بلفظه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 417، وهو جزء من الرواية السابقة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 239، وعزاه إلى هناد. (¬3) جمع بُخْت؛ وهي الإبلُ الخُراسانِيَّةُ، وهي طوال الأعناق. انظر: (بخت) في "تهذيب اللغة" 1/ 283، و"التاج" 3/ 12. (¬4) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 239 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وانظر: "تفسير الألوسي" 14/ 212. (¬5) أبو المنهال هو سَيَّار بن سَلاَمة الرِّياحي البصري، ثقة، روى عن أبي العالية وشهر ابن حوشب، وعنه: شعبة وحماد، مات سنة (129 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 254، و"الكاشف" 1/ 475، و"تقريب التهذيب" ص261 (2715)، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر 5/ 217. (¬6) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 430، بنصه.

يريد الأنبياء (¬1)، قال المفسرون: كل نبي شاهد على أمته، وهو أعدل شاهد عليها (¬2)، ووجه انتصاب (ويوم) ذكرنا عند قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [النحل: 84] و {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} هاهنا كقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36] فيجوز أن يكون من صلة الشهيد؛ كأنه قيل: ويوم نبعث شهيدًا في كل أمة. وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: الأنبياء شهداء (¬3) على أممهم بما فعلوا، وهم من أنفسهم؛ لأن كلَّ نبي بُعث من قومه إليهم، {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} قال ابن عباس: يريد على قومك (¬4)، وتم الكلام هاهنا، ثم قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} قال مجاهد: يعني لِمَا أَمَر به وما نهى عنه (¬5). وقال أهل المعاني: يعني لكل شيء من أمور الدين بالنص عليه أو الإحالة على ما يوجب العلم به من بيان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 131، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" 3/ 208، و"تفسير القرطبي" 10/ 164. (¬2) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 216، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 100، بنحوه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 98، والخازن 3/ 131. (¬3) في (أ)، (د): (شهيدًا). (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 482، و"تنوير المقباس" ص291، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 206 ب، والطبري 14/ 161، والسمرقندي 2/ 246، والطوسي 6/ 418، والخازن 3/ 131. (¬5) أخرجه الطبري 14/ 161 - 162 بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 101، بنحوه، وانظر: "تفسير الخازن" 3/ 131، وابن كثير 2/ 641، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 206ب، والسمرقندي 2/ 246، وهود الهواري 2/ 383، والثعلبي 2/ 161 ب، و"الدر المنثور" 4/ 140 وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

فهو الأصل والمفتاح لعلوم (¬1) الدين (¬2)، أخبرني سعيد بن محمد بقراءتي عليه عن ابن مُقْسِم عن الزجاج، قال: تبيان اسمٌ في معنى البيان، ومِثلُ التِّبْيَان (¬3) [التِّلْقَاء] (¬4)، وأخبرني أبو الحسين الفسوي (¬5) فيما قرأته عليه عن حمد بن محمد عن أبي عمر (¬6) عن ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين، قالا: لم يأت من المصادر على تِفْعَال إلا حرفان تبيان وتلقاء، فإذا تركت هذين استوى لك القياس، فقلتَ في كل مصدر: تَفْعَال بفتح التاء مثل: تَسْيَار وتَهْمَام، وقلت في كل اسم: تِفْعَال بكسرها، مثل: تِقْصَار وتِمْثَال (¬7)، وانتصاب قوله: {تِبْيَانًا} على أنه مفعول له؛ أي للبيان. ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (بعلوم)، والمثبت من (ش)، (ع)، هو الصحيح المناسب للسياق، وهكذا وردت في تفسيره "الوسيط". (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" 2/ 431، بنصه، و"تفسير الطوسي" 6/ 418، بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 341، وابن الجوزي 4/ 482، والخازن 3/ 131، وأبي حيان 5/ 527، و"تفسير الألوسي" 14/ 215. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 217، بنصه. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها الكلام، وبدونها يبدو الكلام ناقصًا، وهي ثابتة في المصدر، فلعلها سقطت. (¬5) أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي ثم النيسابوري، كان عالماً عابدًا جليل القدر عُمر طويلاً، روي صحيح مسلم عن أبي عمرو به وغريب الخطابي عن المؤلف، توفي سنة (448 هـ) وله (96) سنة. انظر: "المنتخب من السياق" ص361، 387، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 19، و"شذرات الذهب" 3/ 277. (¬6) أبو عمر محمد بن عبدالواحد، اللغوي الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، تقدمت ترجمته. (¬7) ورد في "تهذيب اللغة" (بان) 1/ 264، بنحوه غير منسوب، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 99، بنحوه ونسبه للواحدي، وأبي حيان 5/ 527، و"تفسير الألوسي" 14/ 214.

90

90 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} قال ابن عباس في رواية الوالبي: العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض (¬1)، وقال في رواية عطاء: العدل: خلع الأنداد، والإحسان: تعبد الله كأنك تراه (¬2)، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك. إن كان مؤمنًا أحببت أن يزداد إيمانًا، وإن كان كافرًا أحببت أن يكون أخاك في الإسلام (¬3). وقال في رواية باذان (¬4): العدل: التوحيد، والإحسان: الإخلاص فيه (¬5)، وقال آخرون: يعني بالعدل: في الأفعال، والإحسان: في الأقوال (¬6)، ولا يفعل إلا ما هو عدل ولا يقول إلا ما هو حسن (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 162 بنصه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 134، مجملاً، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 161 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 38، وابن عطية 8/ 494، وابن الجوزي 4/ 483، والفخر الرازي 20/ 101، و"تفسير القرطبي" 10/ 165، والخازن 3/ 131، وأبي حيان 5/ 529، وابن كثير 2/ 642، و"الدر المنثور" 4/ 241 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 161 ب، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 483، والفخر الرازي 20/ 101. (¬3) نقله الفخر الرازي والخازن بنصه دون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 101، والخازن 3/ 131. (¬4) باذان هو أبو صالح مولى أم هانىء، وقد تقدمت ترجمته. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 161ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 38، وابن الجوزي 4/ 483، والفخر الرازي 20/ 101، والخازن 3/ 131. (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 162 أ، بنصه. (¬7) نقله الفخر الرازى والخازن بنصه دون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 101، والخازن 3/ 131.

وقوله تعالى: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} قال عطاء عن ابن عباس: يريد صلة القرابة (¬1) من فضل ما رزقك الله، فإن لم يكن عندك فضل فدعاء (¬2)، وروى أبو سلمة (¬3) عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ أعْجَلَ الطاعةِ ثَوابًا صِلةُ الرحم، [حتى] (¬4) إن أهل البيت ليكونون فُجَّارًا فَتُنْمَى أموالُهُم ويَكثُرُ عددُهم إذا وصلُوا أرحامَهُم" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 162 من طريق ابن أبي طلحة، قال: الأرحام، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 100، و"تنوير المقباس" ص291، و"الدر المنثور" 4/ 241، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 247، والماوردي 3/ 209، والطوسي 6/ 419، والبغوي 5/ 38، وابن عطية 8/ 495، وابن الجوزي 4/ 483، والخازن 3/ 131. (¬2) نقله الفخر الرازي بنصه دون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 101. (¬3) أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، أحد الأعلام بالمدينة، روى عن أبيه وعن زيد بن ثابت وأبي هريرة، وعنه: ابنه عمر والزهري، كان ثقة فقيهًا كثير الحديث، مات سنة (94 هـ)، وقيل: (104 هـ) والأول أصح، وعمره (72 سنة). انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 155، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 287، و"الكاشف" 3/ 431، و"تقريب التهذيب" ص 645 (8142). (¬4) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في مكارم الأخلاق، وفي بعض المصادر زيادة (واو) بدل حتى. (¬5) أخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق": باب ما جاء في صلة الأرحام 1/ 264 بالنص سندًا ومتنًا، وابن حبان [موارد الظمآن]: البر والصلة، صلة الرحم وقطعها ص 499 بنصه تقريبًا عن أبي بكرة، والطبراني في الأوسط [مجمع البحرين] 5/ 167، بنحوه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، والبيهقي في "السنن" 10/ 35 - 36، بنحوه عن أبي هريرة، وبنحوه مرسلاً عن مكحول، وورد في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 101. بنصه، وأورده الهيثمي في "المجمع" 8/ 152، بنصه، وقال: وفيه أبو الدهماء البصري، وهو ضعيف جدًا، وورد في "كنز العمال" 3/ 364، وقد ذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 2/ 670 - 671 تحت (978)، وأورد جميع طرقه وشواهده، ثم قال: وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق والشواهد صحيح ثابت.

وقوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} قال في رواية علي: يقول: الزنى (¬1)، وقال في رواية عطاء: يريد البخل عن حقوق الله، وجميع الذنب صغيره وكبيره (¬2)، وقال آخرون: الفحشاء: ما قبح من قول أو فعل (¬3). (وقوله تعالى {وَالْمُنْكَرِ} قال في الروايتين: الشرك والكفر بالله (¬4)، وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة (¬5)) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 163 بلفظه من طريق علي صحيحة، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 162 أ، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 38، وابن عطية (8/ 496، وابن الجوزي 4/ 483، و"تفسير القرطبي" 10/ 167، والخازن 3/ 131، و"الدر المنثور" 4/ 241، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 101، بلا نسبة. (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 167، والخازن 3/ 131، وأبي حيان 5/ 530، وهو الأرجح لكونه عامًّا وشاملاً لكل الفواحش. (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 484، والخازن 3/ 131، و"الدر المنثور" 4/ 241، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير الفخر الرازي" 20/ 101، بلا نسبة. (¬5) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 247، بنصه، والثعلبي 2/ 162 أ، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 38، وابن الجوزي 4/ 484، والفخر الرازي 20/ 101، و"تفسير القرطبي" 10/ 167، والخازن 3/ 131، والأولى ترك اللفظ على عمومه ليشمل كل منكر قولي أو فعلي، عرف بالشرع أو العقل أو الحرف، كما أنه ليس كل ما لم يعرف في شريعة أو سنة يعد منكرًا. (¬6) ما بين القوسين مكتوب على الهامش الأيمن من نسخة (ش).

وقوله تعالى: {وَالْبَغْيِ} قال علي عن ابن عباس: الكِبْر والظلم (¬1)، وقال عطاء عنه: أن تبغي على أخيك (¬2). وقال أهل المعاني في هذه الآية: إنما جمعت الأوصاف الثلاثة للبيان عن تفصيل المنهي عنه؛ فالفحشاء قد تكون بما يفعله الإنسان مما لا يظهر أمره وهو مما يعظم قبحه، والمنكر: ما يظهر للناس مما يجب إنكاره، والبغي: ما يتطاول به من الظلم لغيره، ولا يكون إلا من الفاعل على غيره، والظلم قد يكون ظلم الفاعل لنفسه (¬3)، وفي حديث أبي سلمة عن أبيه: "وإن أعجلَ المعصيةِ عقابًا: البغي واليمين الفاجرة؛ تُذهبُ المالَ وتَتركُ البيتَ بَلَاقِع" (¬4). وروى مجاهد عن ابن عباس قال: لو (¬5) أن جبلًا بغى على جبل لدُكَّ الباغي منهما (¬6)، وقال خالد الربعي (¬7): إن مما يعجل عقوبته ولا يؤخر ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 163 بنصه من طريق علي صحيحة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 38، وابن الجوزي 4/ 484، و"الدر المنثور" 4/ 241، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 2/ 162 أ، بنصه، والفخر الرازي 20/ 101، و"تفسير القرطبي" 10/ 167، والخازن 3/ 131. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 101. (¬3) ورد في "تفسير الجصاص" 3/ 190، بنحوه، و"تفسير الطوسي" 6/ 419، بنصه. (¬4) سبق تخريجه قريبًا، أما هذه الزيادة فقد وردت بنحوها عن أبي هريرة: في معجم الطبراني الأوسط [مجمع البحرين] 4/ 68، و"السنن" للبيهقي 10/ 35، (بَلاَقِع) جمع بَلْقَع وبلقعة، وهي الأرض القَفْر التي لا شيء بها، يريد أن الحالف بها يَفْتَقِر ويذهب ما في بيته من الرزق، وقيل: هو أن يفرِّق الله شمله ويُغَيِّر عليه ما أولاه من نِعَمِه. النهاية 1/ 153، وانظر: "اللسان" (بلقع) 1/ 348. (¬5) في جميع النسخ: (لو قال) ولا معنى لها، والظاهر أنها تكررت. (¬6) ورد في تفسير هود الهواري 2/ 384، بنصه، وانظره بلا نسبة في "تفسير القرطبي" 10/ 167، والخازن 3/ 131. (¬7) خالد بن بَاب الربعى الأحدب، روى عن شهر بن حوشب وصفوان بن محرز، وعنه: أبو الأشهب وحميد بن مهران، قال أبو زرعة: متروك الحديث. انظر: "التاريخ الكبير" 3/ 141، و"الجرح والتعديل" 3/ 322، و"ميزان الاعتدال" 2/ 151.

الأمانة تُخَان، والإحسانُ يُكْفَر، والرحم تُقْطَع، والبغي على الناس (¬1). وقوله تعالى: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس: يريد ينهاكم عن هذا كله ويأمركم أن تتحاضوا على ما فيه لله رضا؛ لكي تتعظوا (¬2)، قال ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية (¬3)، وقال أهل المعاني: ذكر الله تعالى في الآية الأولى؛ فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، ثم بين في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه مجملًا، فما من شيء يُحتاجُ إليه في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 163 من طريق ابن أبي طلحة، قال: يوصيكم، وانظر: "تفسير الخازن" 3/ 131، بنحوه غير منسوب. (¬3) أخرجه البخاري ص166 (489) في "الأدب المفرد" /الألباني: باب الظلم ظلمات، بنحوه، والطبري 14/ 163 بنصه وبنحوه، والطبراني في "الكبير" 9/ 142 من عدة طرق بنصه وبنحوه، والحاكم: تفسير النحل 2/ 356 بنصه، وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الشعب" 2/ 473 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 162أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 39، وابن عطية 8/ 493، وابن الجوزي 4/ 484، والفخر الرازي 20/ 100، والخازن 3/ 131، و"الدر المنثور" 4/ 241، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ومحمد بن نصر في الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 131، بنصه، وحَمْلُ الآية على العموم أولى من التخصيص، خاصة أن بعض الروايات ضعيفة، وقد ضَعَّفَ الفخر الرازي تخصيص الآية بما ورد من أقوال منسوبة أو مطلقة، ورأى أن تخصيص الآية تَحَكُّم بدون داعٍ أو دليل، وقبله ضعف ابن عطية القول الأول في تفسير العدل والإحسان لكونه مخالفًا لتفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للإحسان، وعزا ذلك إلى احتمال ضعف الأثر عن ابن عباس؛ وقال: فإن صح هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما - وقد صح- فإنما أراد أداء الفرائض مكمَّلة. انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 494، والفخر الرازي 20/ 101، و"تفسير القرطبي" 10/ 166.

91

91 - قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال المفسرون وأهل العلم: العهد الذي يجب الوفاء به فهو الذي يحسن فعله، فإذا عاهد يجب الوفاء به (¬1)، قال ابن عباس في هذه الآية: والوعد من العهد (¬2)، وقال ميمون بن مِهْران: من عاهدته فَفِ له بعهده مسلمًا كان أو كافرًا؛ فإنما العهد لله (¬3). وقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} قال مجاهد: يعني تغليظ الحلف (¬4)، وقال ابن عباس بعد تشديدها (¬5)، وإنما قال: بعد ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 433 بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 484، بنصه. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 106، بنصه، وبلا نسبة في "تفسير ابن الجوزي" 4/ 484. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 107، بنصه، وأبي حيان 5/ 530. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 424، بنحوه، أخرجه الطبري 14/ 164، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 101، بنحوه، و"الدر المنثور" 4/ 242، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) ورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 249، وهود الهواري 2/ 384، والثعلبي 2/ 162 أ، والبغوي 5/ 39، وابن الجوزي 4/ 484، وأخرجه الطبري 14/ 164 بلفظه عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 242، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

92

توكيدها؛ فرقًا بين الأيمان المؤكدة بالعزم والعقد، وبين لغو اليمين (¬1). قال أبو إسحاق: يقال: وَكَّدتُ وأَكَّدْتُ لغتان جيدتان، والأصل الواوُ والهمزة بدل منها (¬2). وقوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} هذه واو الحال؛ أي لا تنقضوها، وقد جعلتم الله كفيلًا عليكم بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه أكفل الله تعالى بالوفاء بما حلف عليه (¬3)، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قال ابن عباس: يريد لا يخفى عليه شيء (¬4). 92 - قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الآية. قال ابن عباس: هي امرأة من قريش كان لها وسوسة، وكانت تغزل عند الحجر يومها ثم تغدو فتنقضه (¬5)، وقال الكلبي: كان يقال لها: رايطة، وقيل: رَيْطة (¬6)، ¬

_ (¬1) نقله الفخر الرازي والقرطبي بنصه بدون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 107، و"تفسير القرطبي" 10/ 170. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 217، بنصه. (¬3) نقله الفخر الرازي بنصه تقريبًا بدون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 108. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 433، بنصه. (¬5) ورد بنحوه بلا نسبة في "تفسير ابن عطية" 8/ 500، و"التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن للسهيلي" ص 172، وعُزِي للمهدوي في "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 2/ 115، بنحوه، وعُزِي للسدي في "مُفْحِماتُ الأقران" ص 97، مختصرًا. (¬6) قال ابن الأنباري: واسمها ريطة بنت عمرو المريّة "تفسير ابن الجوزي" 4/ 485، وفي "تفسير أبي حيان" 5/ 531 أنها بنت سعد بن تيم، وفي "المبهمات في القرآن" للبلنسي 2/ 115: أنها بنت سعد بن زيد بن مناة بن تميم بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، ولم يظهر لي إن كانت صحابية أم لا، ولم يتبين لي إن كانت هي رَيْطَة أو رائطة بنت الحارث بن جُبيلة بن سعد بن تيم بن مرة القرشية، وقد ذكرت -دون الإشارة إلى قصة الغزل- في "الاستيعاب" 4/ 404، و"أسد الغابة" 7/ 105، و"الإصابة" 4/ 299.

وتُلَقَّب جعر (¬1)، وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها، فإذا غزلت وأبرمت أمرتهنَّ فنقضنَ ما غزلن (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} قال مجاهد: من بعد إمرارٍ (¬3) وفتلٍ (¬4)، ¬

_ (¬1) في "تفسير مقاتل" 1/ 206 ب، و"التعريف والإعلام" ص172: (جعرانة)، وفي "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 2/ 115: (الجعرانية)، وفي "تفسير الثعلبي" 2/ 163ب: (جَعْير)، وفي "تفسير الماوردي" 3/ 211: (جعدة)، وفي "تفسير ابن الجوزي" 4/ 485: (جعراء)، وكلمة: (جعر) تستعمل في الذم ووصف الدُّبر والرجيع، يقال: جَعَرَ الكلبُ جعْرًا يجْعَر، والجاعرتان حيث يكوى من الحمار من مؤخّره، وفي اللسان: والجِعِرَّى: كلمة يلام بها الإنسان؛ كأنه يُنْسبُ إلى الاست، وبنو الجعراء: حيّ من الحرب يُعيّرون بذلك، وقال ابن السِّكيت: تُشتمُ المرأة فيقال لها: قُومي جَعارِ، تُشبه بالضبع. انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 463، و"اللسان" (جعر) 2/ 633. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 162 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 39، والخازن 3/ 133، و"تفسير الألوسي" 14/ 221، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 206 ب، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 113، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 102، و"تفسير الطوسي" 6/ 421، والزمخشري 2/ 342، وابن الجوزي 4/ 485، والفخر الرازي 20/ 108، و"تفسير القرطبي" 10/ 171 وسواءً تعينت هذه المرأة -كما في رواية الكلبي- أم لم تتعين -كما في رواية ابن عباس-، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمقصود من الآية تشبيه الناقضين للعهود مع الله تعالى أو مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو مع خلقه بهذه الحالة العجيبة التي يستنكرها العقلاء، تنفيرًا لهم من هذا الخلق الذميم والفعل الشنيع. (¬3) في (ش)، (ع): (إبرام)، وكلاهما صحيح؛ لأن معناهما واحد، ففي اللغة: المِرَّة: شِدَّةُ الفَتْلِ، والمَرِير: الحبل المفْتُول، أمْرَرْتُه إمْرَارًا وفَتَلَ الحبلَ فتْلاً: لواهُ وبَرَمَهُ، والبرمة: اسم من إبرام الحبل، وبرمتُ الحبلَ وأبرمْتُه، والمِبْرَمُ: شيءٌ كالمِغزَلِ. انظر: "المحيط في اللغة" (مر) 10/ 218، (برم) 10/ 242، و"المعجم الوسيط" 2/ 673. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 424، بنحوه، أخرجه الطبري 14/ 166، بنحوه من طريقين، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 501، وأبي حيان 5/ 531.

يعني من بعد قوة للغزل؛ بإمرارها (¬1) وفَتْلِها. وقوله تعالى: {أَنْكَاثًا} قال: واحدها نِكْث، وهو الغَزْل من الصوف والشَّعَر؛ يُبْرَم ويُنْسَج، فإذا أَخْلَقَت النَّسِيْجَة، قُطِّعَتْ ونُكِثَتْ خُيوطُها المُبْرمة وخُلِطَت بالصوفِ ومِيشتْ (¬2)، ثم غُزِل ثانية، والنَّكْثُ المصدر، ومن هذا قيل: نَكَث فلانٌ عهدَه إذا نقضه بعد إحكامه؛ كما يُنْكَث خيطُ الصوف بعد إبرامه (¬3)، وأنشد أبو عبيدة (¬4) للمُسَيَّب بن عَلَس (¬5): عن غَيرِ مَقْلِيَةٍ وأنَّ حِبَالَها ... لَيْسَتْ بأنكاث ولا أقطاع (¬6) ¬

_ (¬1) في (ش)، (ع): (بإمرارها)، والمعنى واحد كما سبق. (¬2) في (ش)، (ع): (ونُفِشت)، ومعنى (المَيْشُ): خَلْطُ الصُّوفِ والشَّعَرِ. "المحيط في اللغة" (ميش) 7/ 400. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (نكث) 4/ 3658، بنحوه، وانظر: (نكث) في "اللسان" 8/ 4536، و"التاج" 3/ 273. (¬4) في جميع النسخ: أبو عبيد، والصحيح المثبت. (¬5) زهير بن عَلَس، ولقبه المسيَّب، وهو خال الأعشى، وكان الأعشى راويته، وهو جاهلي ولم يدرك الإسلام، عدَّه الجمحي في الطبقة السابعة من فحول شعراء الجاهية، وكان من المُقِلِّين. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 21، و"الشعر والشعراء" ص95، و"شرح اختيار المفضل" 1/ 302، و"الخزانة" 3/ 240. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 367، وورد برواية: (بأرْمامٍ) بدل (بأنكاث)، في "المفضليات" ص61، و"أمالي القالي" 3/ 130، و"شرح اختيارات المفضل" 1/ 304، وفي كل المصادر -ما عدا- الأمالي: (من) بدل (عن)، (المقلية): البغض، (حبالها): ما احتلبته من مودة، حبلٌ أرمام، وحبلٌ أقطاع: إذا كان قِطعًا مُوَصَّلة. والشاعر. يخاطب نفسه معاتبًا إياها على الرحيل من أرض سلمى وديارها ولمّا يستمتع بما أو يرى منها مكروها، ويواصل عتابه في هذا البيت قائلاً: أثرت ذلك، وهَوَى النفس كما كان لم يتسلَّط عليه تحيُّفٌ، وحبل الوصل برْمته لم يَضعُف.

قال أبو إسحاق: {أَنْكَاثًا} منصوب؛ لأنه بمعنى المصدر؛ لأن معنى: نكثت نَقَضْتُ، ومعنى نقضت: نكثت (¬1)، وهذا غلط منه لأن الأنكاث جمع نكث، وهو (¬2) اسم لا مصدر، فكيف يكون الأنكاث بمعنى المصدر، ولو كان (¬3) نكثًا لصح ما قال، ولكن أنكاثًا مفعول ثانٍ، كما تقول: كسره أقطاعًا، وفرقه أجزاءً على معنى جعله أقطاعًا وأجزاءً (¬4)، وهاهنا تم الكلام، والآية متصلة بما قبلها، والمعنى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فتكونوا إن فعلتم كامرأة غزلت غزلًا وقَوَّتْ مِرَّتَهُ فلما اسْتَحْكَم نقضته فجعلته أنكاثًا، وهذا كلام [ابن] (¬5) قتيبة (¬6)، ثم قال: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} الدَّخَلُ والدَّغَلُ: الغِش والخيانة (¬7)، قال الليث: ويخفف الدَّخل ويُثَقَّل (¬8)، قال الفراء: يعني دَغَلًا وخديعة (¬9). (وقال الزجاج: أي غِشًّا وغِلاًّ، وكل ما دخله عيب قيل: هو مَدْخُول، وفيه دَخَل، قال: و {دَخَلًا} منصوب) (¬10)؛ لأنه مفعول له، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 217، بنصه. (¬2) في (د): (وهم). (¬3) (كان) ساقطة من (د). (¬4) نقله الفخر الرازي 20/ 108، وعزاه للواحدي. (¬5) ساقطة من جميع النسخ. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 386، بنصه تقريبًا. (¬7) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 162 ب، بنحوه، والطوسي 6/ 421، بنحوه، ونقله الفخر الرازي 20/ 108، بنصه وعزاه للواحدي. وانظر: (دخل) في "تهذيب اللغة" 2/ 1159، و"الصحاح" 4/ 1696، و"اللسان" / 1342. (¬8) ورد في "تهذيب اللغة" (دخل) 2/ 1159، بنحوه. (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 113، بنصه. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (د).

والمعنى: تتخذون أيمانكم للغش والدَّغَل (¬1)، قال غيره: الدَّخَل: ما أُدْخِل في الشيء على فساد (¬2). وقوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، أَرْبَى: أي أكثر، من رَبَا الشيءُ يَرْبُو إذا كثر (¬3)، قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ، فنُهوا عن ذلك (¬4)، والمعنى: بأن يكون أو لأن يكون، فموضع (أن) نصب بإسقاط الخافض، على قول من نصب، (ومن أبقى حُكْمَ الخافض) (¬5) قال موضعه خفض، قال ابن قتيبة: أي لأن يكون قوم أغنى من قوم، وقوم أعلى من قوم، تريدون أن تقْتَطِعوا بأيمانكم حقوقًا لهؤلاء، (فتجعلوها لهؤلاء) (¬6)، وقال الفراء: معناه لا تغدروا بقوم لقلّتهم وكثرتكم أو قِلّتكم ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 217، بتصرف يسير بالتقديم والتأخير. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 421، بنصه، وقال: وإنما قيل: الدخل؛ لأنه داخل القلب على ترك الوفاء، والظاهر على الوفاء. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (ربا) 2/ 1334، و"المحيط في اللغة" (ربو) 3/ 1545، و"اللسان" (ربا). (¬4) "تفسير مجاهد" ص 351، بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 167 بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 103، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 248، بنحوه، وهود الهواري 2/ 385، بنصه، والثعلبي 2/ 162 ب، بنحوه، والطوسي 6/ 422، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 40، وابن الجوزي 4/ 486، والفخر الرازي 20/ 109، وابن كثير 2/ 644، و"الدر المنثور" 4/ 243، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) ما بين التنصيص ساقط من (ش)، (ع). (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 386، بنصه، وما بين التنصيص مصوَّبٌ من المصدر، وفي النسخ: (فتجعلونها كهؤلاء).

وكثرتهم، وقد غَرَّرتموهم بالأيمان فسكَنُوا إليها (¬1). وبيان هذه الجملة: أن القوم إذا عاهدوا قومًا أكثر من الذين عاهدوا فهم أمة أربى من أمة، لا يجوز لهم أن يغدروا، وكذلك إن كان على القلب من هذا (¬2) وعاهدوهم؛ دخلوا في حلفهم خوفًا منهم لم يجز لهم الغدر، وتلخيص التأويل: النهي عن أن يحلف على ما هو منطوٍ على خلافه وأن يغر غيره بيمينه. وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ} ظاهره إخبار ومعناه النهي، والتقدير: لا تكونوا كتلك المرأة؛ متخذين أيمانكم للغش، بأن يكون قوم أكثر من قوم، قال الفراء: وموضع {أَرْبَى} نصب، وإن شئت رفعت؛ كما تقول: أظن رجلًا يكون هو أفضل منك، و (أفضل) النصبُ على العِمَاد (¬3)، والرفع على أن تجعل (هو) اسمًا (¬4)، قال الزجاج: موضع {أَرْبَى} رفعٌ ولا يجوز أن تكون نصبًا وهي تكون عمادًا؛ لأن العماد والفصل لا يكون مع النكرات وإنما يكون مع المعارف، كقوله: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل: 20]، والهاء في تجدوه معرفة، و {أُمَّةٌ} هاهنا نكرة (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 113، بنصه. (¬2) أي على العكس من الحالة الأولى؛ بأن كانوا هم الأكثر والأقوى. (¬3) العماد تَسْمِيةٌ كوفية لضمير الفصل، سمي بذلك لأنه يُعتمد عليه في التفرقة بين النعت والخبر؛ حيث يأتي ليبين أن ما بعد المبتدأ هو الخبر لا التابع، وله شروط. انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 83، و"الدر المصون" 7/ 282، و"معجم القواعد العربية" للدّقر ص294، و"المعجم المفصل في النحو العربي" 2/ 696، و"معجم المصطلحات النحوية والصرفية" ص 173. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 113، بنصه. (¬5) ليس في معانيه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 421، بنحوه.

93

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} أي بما يأمركم وينهاكم، وقد تَقَدَّم ذكر الأمر والنهي، والكناية راجعة إلى الأمر، أي يختبركم الله بالأمر بالوفاء، وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى التكليف (¬1)، وأمره ونهيه بمعنى التكليف، ومعنى {يَبْلُوكُمُ}: يعاملكم معاملة المختبر، وذكرنا هذا في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة: 155]. وقوله تعالى: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي في الدنيا، قال المفسرون: أي من شأن البعث والقرآن (¬2)، وقال أهل المعاني: هو عام فيما يقع الاختلاف فيه من الأصول والفروع (¬3). 93 - قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: يريد على ملة وعلى دين واحد (¬4)، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال: يريد الضلالة بعينها والهدى بعينه، {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال: يريد في الدنيا، وهذه الآية صريحة (¬5) في تكذيب القدرية؛ حيث أضاف الضلالة والهداية إلى نفسه، وجعلها لمن شاء من خلقه بالمشيئة الأزلية التي لا يجوز عليها الحدوث، ثم أخبر أنهم يسألون عن أعمالهم، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 486، و"تفسير القرطبي" 10/ 171، وأبي حيان 5/ 531. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 435، بنصه. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 435، مختصرًا. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 292، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 168، والسمرقندي 2/ 248، والثعلبي 2/ 162ب، والبغوي 5/ 40، و"تفسير القرطبي" 10/ 172، والخازن 3/ 132. (¬5) في جميع النسخ: (صريح)، ومما أثبته هو الصواب؛ لكون الآية مؤنثة، والخبر يتبع المبتدأ في التذكير والتأنيث.

94

فبان أن الأمر على ما أخبر الله تعالى في قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وقد قال نوف البكالي: قال [عُزير] (¬1): يارب خلق خلقًا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقيل: يا عُزير أعرض عن هذا، فأعاد ذلك، فقيل: أعرض عن هذا، فأعاد فقيل: أعرض عن هذا وإلا مُحِيْتَ عن النُّبُوة، أنا لا أسئل عما أفعل وهم يسألون (¬2). 94 - قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} الآية. استأنف نهيًا عن أيمان الخديعة والمكر، توكيدًا للمنع عنها، ولِمَا ذكر من الوعيد بعدها؛ وهو قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} قال ابن عباس: يريد تزل عن الإيمان بعد المعرفة بالله، قال أبو عبيدة: وزليل القدم مثل لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في وَرْطَة بعد سلامة (¬3)، وأنشد ابن جرير على هذا: سَيَمْنَعُ منكَ السَّبْقُ إن كُنْتَ سابِقًا ... وتُقْتَلُ إن زَلَّتْ بِكَ القدمان (¬4) لم يُرد حقيقة زلَّة القدم، ولكن أراد إن تأخر فرسُك عن غاية السباق وقعت في ورطة التأخر، وهذا البيت في قصة رهان داحس (¬5)، قال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ساقط من جميع النسخ، وقد ذكرها الفخر الرازي نقلاً عن الواحدي. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 109، بنصه وعزاه للواحدي، وليس لهذه الرواية سند، ويبدو أنها من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب. (¬3) "مجاز القرآن" 1/ 367، بنصه تقريبًا. (¬4) "تفسير الطبري" 14/ 169، برواية: (تُلْطَعُ) بدل (تُقتل)، و (النَّعْلان) بدل (القدمان)، وورد في: "تفسير الثعلبي" 2/ 162ب، برواية: (تُلْطَمُ)، و"تفسير القرطبي" 10/ 172. (¬5) يوم داحس والغبراء من أيام العرب المشهورة، بدايتها حرب وقعت بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب خلاف على سباق خيل بين أفراس لحذيفة سيد ذبيان، =

المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نقض عهده (¬1)؛ لأن هذا الوعيد إنما يُستَحقُّ في نقض معاهدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا (¬2) في نقض عهد قبيلة، (ولكن من عاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬3) على الإسلام ونصرة الدين ثم نقض العهد سقط عن درجة الإيمان، يدل على هذا قوله: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} أي العذاب، {بِمَا صَدَدْتُمْ} أي بصدكم عن سبيل الله، (يريد أنهم إذا نقضوا العهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-) (¬4) صدوا الناس عنه واستحقوا العذاب، فنهوا عن ذلك بذكر الوعيد عليه. وقوله تعالى: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: يريد في الآخرة (¬5)، وهذا قطعٌ بإيجاب العذاب إن فَعلوا ما نُهوا عنه، كأنه قيل: ¬

_ = وأخرى لقيس بن زهير سيد عبس، لكنها شملت قبائل أخرى هي شيبان وضبة وأسد وقبائل أخرى، واستمرت فترة طويلة، وامتدت حتى بزوغ فجر الإسلام، وكثرت وقائعها، واقترن بها شهرة بعض الأبطال، كعنترة بن شداد، وقيل فيها شعر كثير. انظر: أحداث الحرب وأسبابها وملابساتها بالتفصيل في "الأغاني" 17/ 191 - 210، و"الكامل في التاريخ" 1/ 343 - 355، و"تاريخ العرب القديم" ص 216. (¬1) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 14/ 169، وهود الهواري 2/ 423، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 487، والفخر الرازي 20/ 110، و"تفسير القرطبي" 10/ 172، والخازن 3/ 133. (¬2) (لا) ساقط من (أ)، (د). (¬3) ما بين التنصيص ساقط من (د). (¬4) ما بين التنصيص كتب على هامش لوحة 259 أ، من نسخة (ع). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص292، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 169، والسمرقندي 2/ 249، والزمخشري 2/ 343، وابن الجوزي 4/ 487، و"تفسير الألوسي" 14/ 224.

95

{وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إن اتخذتم أيمانكم دخلًا، ودلَّ ما تَقَدَّم من النهي على هذا المحذوف، ثم زاد توكيدًا، فقال: 95 - {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} قال ابن عباس: يريد عرض الدنيا وإن كان كثيرًا (¬1)؛ لأن ما يذهب ويبلى قليل، وذكرنا ما في هذا عند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية. [آل عمران: 77] قال المفسرون: يقول: لا تنقضوا عهودكم، تطلبون بنقضها عِوضًا من الدنيا (¬2) {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ}: من الثواب على الوفاء {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: ذلك، ثم بين أن ما عنده خير بقوله: 96 - {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ}، أي: يفنى وينقطع، يعني الدنيا، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ}، أي: من الثواب والكرامة، {بَاقٍ}: دائم لا ينقطع، قال ابن عباس: يريد لا ينفد؛ كلما أخذت منه وأكلت منه صار مكانه مثلُه، فمعنى [لا] (¬3) يفنى هذا، وهذا ردّ على من قال: إن نعيم أهل الجنة ينقطع، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} قال ابن عباس: يريد على دينهم وعمّا نهاهم الله (¬4)، {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني الطاعات، وجعلها أحسن أعمالهم؛ لأن ما عداها من الحَسَن مباح، فما كان مباحًا من العمل فهو حسن ولا يستحق عليه ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 111، بلا نسبة. (¬2) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 14/ 169، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 41، وابن الجوزي 4/ 488، والخازن 3/ 133. (¬3) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، واحتمال أن الجملة انقلبت على النساخ؛ وأصلها: (فهذا معنى لا يفنى). (¬4) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوجيز" 1/ 619.

97

جزاء (¬1)، وما كان طاعة لله تعالى فهو الأحسن الذي وعد الله عليه الجزاء، ومن جزاه الله بأحسن عمله غفر له ذنوبه، وهذه الآيات زجر عن الأيمان الكاذبة فيما كانت، وحَثٌّ على الوفاء بالعهود والأيمان، وذكر الكلبي: أن هذه الآيات نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي (¬2)، وفي خصمه عيدان ابن أشوع (¬3)؛ كان يَدَّعي عليه أرضًا اقتطعها له، وأراد امرؤ (¬4) القيس أن يحلف، فلما سمع هذه الآيات بكى وأقَرَّ له بحقه (¬5). 97 - قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} قال ابن عباس في رواية أبي الربيع (¬6) وأبي مالك: هي الرزق الطيب الحلال (¬7)، ونحو ¬

_ (¬1) إلا إذا انضمت إليه النية الصالحة، فإنه يصبح عملاً مباحاً متقرباً به إلى الله، فينال صاحبه الأجر من الله، كما في حديث "وفي بضع أحدكم صدقة" أخرجه مسلم (1005) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. (¬2) امرؤ القيس بن عابس الكندي -رضي الله عنه- صحابي، وفد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم وثبت على إسلامه، ولم يكن فيمن ارتد من كندة، وكان شاعرًا نزل الكوفة في أواخر عمره وتوفي بها نحو سنة (25 هـ). انظر: "الاستيعاب" 1/ 194، و"أسد الغابة" 1/ 137، و"الأعلام" 2/ 11. (¬3) عيدان بن أشوع -رضي الله عنه- هو رَبِيعَةُ بن عَيْدَان بن ذي العرف بن وائل الكِنْدِي، ويقال: الحضرمي، شهد فتح مصر، وله صحبة، وهو الذي تخاصم مع امرئ القيس في أرض إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "أسد الغابة" 2/ 266، و"الإصابة" 3/ 51. (¬4) في جميع النسخ: (امرئ)، وهو خطأ نحوي ظاهر. (¬5) أخرج القصة الطبراني في "الكبير" 1/ 233، عن الأشعث، ووردت في "تفسير السمرقندي" 2/ 249، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 487، عن ابن عباس، و"تنوير المقباس" ص 292، ووردت بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 207 أ، باختصار، وهود الهواري 2/ 386، و"تفسير القرطبي" 10/ 173. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 360، بنحوه من طريق أبي الربيع، والطبري =

هذا روى الكلبي عن أبي صالح عنه قال: لنجعلن رزقه حلالًا (¬1). وقال في رواية عطاء: يريد عبادة الله وأكل الحلال (¬2). وقال في رواية عكرمة: هي القناعة (¬3)، وهو قول القرظي ووهب (¬4) ومجاهد. وقال في رواية الوالبي: هي السعادة (¬5). ¬

_ = والطبري 14/ 170، بنحوه بعدة روايات من الطريقين؛ [وطريق أبي مالك ضعيفة]، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 103، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" 2/ 162 ب بنصه، والماوردي 3/ 212، بنحوه، والطوسي 6/ 424، بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 343، و"تفسير ابن عطية" 8/ 506، وابن الجوزي 4/ 488، و"تفسير القرطبي" 10/ 174، و"تفسير أبي حيان" 5/ 534، وابن كثير 2/ 645، و"الدر المنثور" 4/ 244 وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬1) لم أقف عليه، وهي أوهى الطرق إلى ابن عباس. (¬2) لم أقف عليه، وهي طريق منقطعة. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 104، بلفظه، و"تفسير الثعلبي" 2/ 162 ب، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 488، و"تفسير القرطبي" 10/ 174، وأبي حيان 5/ 534، وابن كثير 2/ 645، وطريق عكرمة جيدة. (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 488، عن وهب، و"تفسير القرطبي" 10/ 174، عن وهب، وأبي حيان 5/ 534، عن وهب، وابن كثير 2/ 645، عن وهب، و"الدر المنثور" 4/ 645، ونسبه إلى وكيع في الغرر عن القرظي. (¬5) أخرجه الطبري 14/ 171 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة عن ابن عباس، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 162 ب، بلفظه، و"تفسير الماوردي" 3/ 212، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 506، وابن الجوزي 4/ 489، و"تفسير القرطبي" 10/ 174، و"الدر المنثور" 5/ 645، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال قتادة: هي رزق يوم بيوم (¬1). وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "قنعني بما رزقتني" (¬2). وفيما روى أبو هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا" (¬3). فقول من قال: إنه القناعة، حسن مختار؛ لأنه لا يطيب في الدنيا إلا عيش القانع، والمكدود بطلبها لا تطيب حياته (¬4). وقال السدي: {حَيَاةً طَيِّبَةً} يعني في القبر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 534، و"تفسير الخازن" 3/ 133، بلا نسبة. (¬2) جزء من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- رواه ابن عباس -رضي الله عنه-، وطرفه: (اللهم قنعني ... ، وقد أخرجه السهمي في تاريخ جرجان ص 91، والحاكم: كتاب الدعاء 1/ 510، والتفسير: النحل 2/ 356، وقال: صحيح ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الشعب" 7/ 291، وورد في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 112، و"تلخيص الحبير" 2/ 248، و"الدر المنثور" 5/ 645، وزاد نسبته إلى ابن جرير -لم أقف عليه- وابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير الألوسي" 14/ 227. (¬3) أخرجه مسلم (1055/ 19) كتاب: الزهد والرقائق بنصه، وورد في "الكنز" 6/ 490، 612، وأخرجه برواية: (قوتاً) بدل (كفافاً) أحمد 2/ 446، 481، والبخاري (6460): الرقاق/ كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، ومسلم (1054): الزكاة / في الكفاف والقناعة، والترمذي (2362) كتاب: الزهد/ ما جاء في معيشة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهله، وابن ماجة (4139) كتاب: الزهد/ القناعة، والبيهقي في: السنن: النكاح/ ما أمره الله تعالى به من اختيار الآخرة 7/ 46، والشُّعَب (7/ 291، والدلائل: باب زهده في الدنيا وصبره على القوت 1/ 339، وفي باب دعائه لأهله وهو يريد نفسه 6/ 87، وورد في "الشفا" 1/ 278، و"الكنز" 6/ 490. (¬4) وهذا القول هو الذي اختاره الطبري وصوَّبه. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 172. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 113، والخازن 3/ 133، وابن الجوزي 4/ 489، عن شريك.

98

قال الحسن وسعيد بن جبير: {حَيَاةً طَيِّبَةً}: في الآخرة (¬1)، فعلى هذا هذه الحياة في الجنة، روى عوف (¬2) عن الحسن قال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة (¬3). 98 - قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية. قال الزجاج وجميع أصحاب المعاني: معناه: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ (¬4)، ليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن؛ ومثله إذا أكلت فقل: بسم الله (¬5)، وقد ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 104، عن سعيد، وانظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 506، عن الحسن، وابن الجوزي 4/ 489، عنهما، والفخر الرازي 20/ 113، عنهما. (¬2) عوف بن أبي جميلة العبدي البصري، المعروف بالأعرابي، صاحب الحسن وابن سيرين، ثقة ثبت، روى عن أبي العالية، وعنه: شعبة والقطان، مات سنة (147 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 15، و"ميزان الاعتدال" 4/ 225، و"الكاشف" 2/ 101، و"تقريب التهذيب" ص 433، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر 1/ 134. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 171 بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 104، بنصه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 249، بنصه، والثعلبي 2/ 162 ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 42، و"تفسير القرطبي" 10/ 174، والخازن 3/ 133، و"الدر المنثور" 4/ 245، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. وهذا قول صحيح لكن السياق يدل علي أن الحياة الطيبة في الدنيا، يقابلها قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] وهذه المعيشة الضنك هي في الدنيا، أما الأقوال التي ذكرت أنها: الرزق الحلال، أو القناعة، أو السعادة، ... فهي من باب التفسير بالمثال، لأن الحياة الطيبة تشمل كل ذلك. (¬4) بعض الكلمات هنا ساقطة من (أ)، (د). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 218، بتصرف يسير، وورد بنحوه في "تفسير الطبري" 14/ 173، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 105، و"تفسير الجصاص" 2/ 191، =

ذكرنا هذا عند قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، وبينا حكم (إذا) في وقوع (ما) بعدها مستقبلًا في أوائل سورة البقرة وإجماع الفقهاء أن الاستعاذة تكون قبل القراءة (¬1). وبه وردت الأخبار (¬2)، وذهب أبو هريرة -رضي الله عنه- إلى أن الاستعاذة بعد ¬

_ = والسمرقندي 2/ 250، والثعلبي 2/ 163أ، و"تفسير الماوردي" 3/ 212، والطوسي 6/ 424، وانظر: "تفسير الكيالهراسي" 4/ 175، والبغوي 2/ 42، والزمخشري 2/ 343، وابن عطية 8/ 507، وابن الجوزي 4/ 489، والفخر الرازي 20/ 114، و"تفسير القرطبي" 10/ 175. (¬1) في دعوى الإجماع نظر، وقد خالفه بعض السلف وكبار الفقهاء -وإن كان استدلالهم ضعيفًا أو مشكوكًا في نسبته إليهم-، قال الثعلبي: اختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة؛ فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهذا قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور، وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: يتعوذ بعد القراءة، وإليه ذهب داود، وقال مالك يتعوذ بعد القراءة، واحتجوا بظاهر الآية، وقال الكيالهراسي: ونُقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقًا، احتجاجًا بالآية، وقال النووي: وأما محله فقال الجمهور هو قبل القراءة، وقال أبو هريرة وابن سيرين والنخعي: يتَعوذ بعد القراءة، وكان أبو هريرة يتعوذ بعد فراغ الفاتحة لظاهر الآية، وقال الجمهور معناه: إذا أردت القراءة فاستعذ، وهو اللائق السابق إلى الفهم، وقال القرطبي: رُوي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة، وقاله داود، وقال ابن كثير: حُكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة، واحتجا بهذه الآية، وأبهم ابنُ العربي القائلين ووصفهم وصفًا قاسيًا لا يليق بهم، قال: انتهى العِيُّ بقوم إلى أن قالوا: إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الأقوال تجعل دعوى الإجماع غير صحيحة، بل الصحيح أنه قول الأكثر والجمهور؛ كما نص الثعلبي والنووي. انظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 163أ، و"الكيالهراسي" 4/ 175، و"ابن العربي" 3/ 1175، والفخر الرازي 20/ 114، و"تفسير القرطبي" 1/ 88، و"المجموع" 3/ 325، و"تفسير ابن كثير" 1/ 14 - 17، 2/ 645. (¬2) منها: ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، =

القراءة، وهو مذهب مالك (¬1)، وداود (¬2)، كأنهم أخذوا بظاهر الآية (¬3)، وذلك جهل بمقاييس العربية (¬4). ¬

_ = ولا إله غيرك"، ثم يقول: "الله أكبر كبيرا"، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ. وقد أخرجه أبو داود (775) كتاب: الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك، والترمذي (242) كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، [قال عمر -رضي الله عنه-: همزه الموتة؛ وهي الجنون، نفخه: الكبر، نفثه: الشعر. "تفسير البغوي" 5/ 42]. (¬1) وقد استغرب ابن العربي نسبة هذا القول إلى مالك، وقال هذه دعوى عريضة لا تُشْبِهُ أصولَ مالك ولا فهمه، والله أعلم بسرِّ هذه الرواية. انظر: "تفسير ابن العربي" 3/ 1176. (¬2) داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، فقيه حافظ، أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام، وإليه ينسب المذهب الظاهري، وكان فاضلاً صدوقًا ورعًا، سمع من إسحاق بن راهويه ومسدد بن مسرْهَد، وعنه: ابنه محمد ويوسف ابن يعقوب، من مصنفاته: "الإفصاح"، "الأصول"، ولد بالكوفة سنة (202 هـ) وسكن بغداد، ومات سنة (270 هـ). انظر: "الفهرست" ص 299، و"الأنساب" للسمعاني 4/ 99، و"وفيات الأعيان" 2/ 255، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 573. (¬3) لا شك أن ظاهر الآية يقتضي ذلك، ولكنه مدفوع ومفسرٌ بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الجصاص: يقتضي ظاهره أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، ولكنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن السلف الاستعاذة قبل القراءة، وقد جرت العادة بإطلاق مثله. انظر: "تفسير الجصاص" 2/ 191، و"المحلى" 3/ 350، و"تفسير الكيالهراسي" 4/ 175، ومن توجيهات القائلين بهذا القول، أن الاستعاذة بعد القراءة هي لوقاية العمل من الحبوط، إذ ربما أورث حسن القراءة العجب في نفس القارئ، والعجب من الشيطان، فكان من المناسب أن يؤمر بالاستعاذة منه. انظر: "تفسير ابن كثير" 4/ 14 - 47. (¬4) عبارته هذه قاسية، ولا يليق وصف الصحابة وأئِمة الأمة بالجهل.

99

99 - قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة (¬1). وقال أهل المعاني: طريق يتسلط به عليهم (¬2)، وقد بينا هذا عند قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} في سورة الحجر [آية: 42]، والمختار أن يقال: ليس له سلطان الإغواء، وهو معنى قول المفسرين: ليس له حجة، أي: لا حجة له على المؤمنين في إغوائهم إلى الضلالة. 100 - {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} قال ابن عباس: يطيعونه (¬3)، يقال: توَلَّيْتُه، أي: أطعته، وتَوَلَّيْتُ عنه، أي: أعرضت عنه، ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 352، أخرجه الطبري 14/ 174 بلفظه عن مجاهد، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 105 بلفظه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" 3/ 213 بلفظه عن مجاهد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 490، عن مجاهد، و"تفسير القرطبي" 10/ 175 عن مجاهد، وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 250 والثعلبي 2/ 163 ب، والطوسي 6/ 425، ولم أقف عليه عن ابن عباس وعكرمة. (¬2) ورد نحوه في "تفسير البغوي" 5/ 43، وابن الجوزي 4/ 490، و"تفسير القرطبي" 10/ 175، و"تفسير البيضاوي" 2/ 283، والخازن 3/ 134، و"تفسير الألوسي" 14/ 230. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 115، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 246 بمعناه عن ابن عباس وعزاه إلى الطبري -لم أقف عليه- وابن أبي حاتم، وأخرجه الطبري 14/ 174 بلفظه عن مجاهد وقتادة، وابن كثير 2/ 646، عن مجاهد، وورد بلفظه بلا نسبة في: "تفسير السمرقندي" 2/ 250، و"تفسير هود الهواري" 2/ 388، والثعلبي 2/ 163 ب، والبغوي 5/ 43، وابن الجوزي 4/ 491، و"تفسير القرطبي" 10/ 176.

101

وذكرنا هذا عند قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 56]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} قال مجاهد: يعني يعدلون برب العالمين (¬1)، فعلى هذا الكناية في به تعود إلى اسم الله تعالى. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد يطيعونه في الشرك، وعلى هذا الكناية راجعة إلى الشرك، وهذا قول الربيع (¬2)، والمعنى على هذا القول: والذين هم بسببه وطاعته فيما يدعو إليه مشركون، قال صاحب النظم: وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر، كفرت بهذه الكلمة؛ أي: من أجلها وبقولك إياها (¬3)، فلذلك قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ}، أي: من أجله وحمله إياه مشركون بالله (¬4). 101 - قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} قال الكلبي وغيره: كان إذا نزلت آية ألين منها، يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وغدًا بأمر؛ وأنه ليتكذَّبه ويأتيهم به من ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 351، بنحوه، وأخرجه الطبري 14/ 175 بنصه وبنحوه ورجحه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 105، بنصه، و"تفسير الماوردي" 3/ 213، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 491، و"تفسير القرطبي" 10/ 176، و"الدر المنثور" 4/ 246، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وعن الربيع أخرجه الطبري 14/ 175، بنحوه، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 213، بمعناه، والطوسي 6/ 425، بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 176، و"الدر المنثور" 4/ 241، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬3) ورد بمعناه غير منسوب في "الغريب لابن قتيبة" ص 249، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 105. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 163 ب، بنحوه.

عند نفسه، فأنزل الله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (¬1)، قال مجاهد: رفعناها وأنزلنا غيرها (¬2)، وقال قتادة: هو كقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (¬3) الآية [البقرة: 106] وقال الفراء: إذا نسخنا آية فيها تشديد مكان آية ألينَ منها (¬4)، ومعنى التبديل: رَفْعُ الشيء مع وضع غيره مكانه (¬5)، وتبديل الآية: رفعها (¬6) بآية غيرها، وهو نسخها بآية سواها. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}، أي: مِن الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف؛ هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا اعتراض دخل في الكلام يتضمن توبيخ الكفار على قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، أي إذا كان هو أعلم بما ينزل، ما بالهم ينسبون محمدًا إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه منسوبًا إلى الكلبي، وورد منسوبًا إلى ابن عباس من طريق أبي صالح وهي طريق الكلبي [وهي ضعيفة]، وانظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 250، بنحوه عن ابن عباس، وابن الجوزي 4/ 491، عن أبي صالح عن ابن عباس، والفخر الرازي 20/ 116، عن ابن عباس، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 207 ب، بنحوه، و"تفسير هود الهواري" 2/ 388، بمعناه عن الحسن، والثعلبي 2/ 163 ب، بنحوه، والبغوي 5/ 43، والزمخشري 2/ 344، والخازن 3/ 134. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 452 بنصه، أخرجه الطبري 14/ 176 بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 106، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 646. (¬3) أخرجه الطبري 14/ 176 بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 646. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 113، بنصه. (¬5) انظر: (بدل) في "المحيط في اللغة" 9/ 318، و"اللسان" 1/ 231، و"تفسير الفخر الرازي" 20/ 116، و"تفسير القرطبي" 10/ 176. (¬6) في جميع النسخ: (ورفعها) بزيادة (و)، والصواب ما أثبته كما في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 116.

102

وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، أي: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل في أن ذلك لمصلحة العباد؛ كالاستصلاح بإرسال نبي بعد نبي، والكلام في ذكر أكثرهم دون جميعهم قد مضى في موضعين من هذه السورة (¬1). 102 - قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ}، أي: نَزَل به، أي بالقرآن، {رُوحُ الْقُدُسِ} وهو جبريل، ومضى تفسير روح القدس في سورة البقرة [87]، {مِنْ رَبِّكَ} (من) صلة للقرآن، أي نَزَّل القرآنَ من ربك، أي: من كلام ربك جبريلُ، {بِالْحَقِّ} أي بالأمر الحق الصحيح الثابت لا الباطل، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} بما فيه من الحجج والآيات، فيزدادوا بها تصديقًا ويقينًا. وقوله تعالى: {وَهُدًى}، أي: وهو هدى، فهو خبر ابتداء محذوف. 103 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} اختلفوا في هذا البشر الذي نَسبَ المشركون النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التعليم منه؛ فقال ابن عباس في رواية عكرمة: هو عَبْدٌ لبني عامر بن لُؤيّ، يقال له: يعيش (¬2)، وهذا قول قتادة إلا أنه قال: كان لبني الحضرمي، وكان يقرأ ¬

_ (¬1) عند آية: [75] و [83]. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 492، وأخرجه الطبري 14/ 178، بنحوه عن عكرمة، وفيه أنه غلام لبني المغيرة، وأخرجه بنصه عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 106، بنصه عن عكرمة، و"تفسير الثعلبي" 2/ 163 ب، بنصه عن عكرمة وقتادة، لكنه قال: لبني المغيرة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 44، عن عكرمة، وابن عطية 8/ 510، عن عكرمة، و"القرطبي" 10/ 177، عن عكرمة، والخازن 3/ 135، عن عكرمة، وابن كثير 2/ 646، عن عكرمة وقتادة، و"الدر المنثور" وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة.

الكتب، وقال في رواية عطاء: يريد عداس؛ غلام عتبة بن ربيعة (¬1). وروى طلحة بن عمرو (¬2) عن عطاء أن خديجة (¬3) كانت تختلف إلى صَيْقَل (¬4) على الصفا والمروة؛ عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، فكانت تخبره بما كان يرى محمد -صلى الله عليه وسلم- فكان يقول لها لئن كنت صادقة ليوشكن نبي العرب أن يخرج، وكان اسمَه جَبرٌ وكانت قريش تقول: إنما عبد بني الحضرمي يعلم خديجة، وتعلم خديجة محمدًا، زاد شبل: وكان يتكلم بالرومية (¬5)، وهذا قول مجاهد وابن إسحاق (¬6). ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في: "تفسير هود الهواري" 2/ 389، والفخر الرازي 20/ 117، و"تفسير القرطبي" 10/ 178، والخازن 3/ 135. (¬2) في جميع النسخ: طلحة عن عمرو، وفي "تفسير السمرقندي" (2/ 251) طلحة بن عمير -ولم أجد له ترجمة-، والصحيح المثبت كما في تفسير الثعلبي 2/ 164 أ، ويؤيده أن طلحة هذا مشهور الرواية عن عطاء، وصفه الذهبي بصاحب عطاء. وطلحة بن عمرو: هو الحضرمي المكي، روى عن عطاء وسعيد بن جبير، وعنه: الثوري ووكيع، وهو ضعيف بل متروك كما قال أحمد والنسائي، مات سنة (152 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 478، و"ميزان الاعتدال" 3/ 54، و"الكاشف" 1/ 514، و"تقريب التهذيب" ص 283 (3030). (¬3) أم المؤمنين، خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية -رضي الله عنها- أول امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وهي أول من أسلم على الإطلاق، وكانت امرأة موسرة، وهي أم أولاد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومناقبها كثيرة معروفة، توفيت بعد البعثة بعشر سنين، وهي بنت خمس وستين سنة. انظر: "الاستيعاب" 4/ 379، و"أسد الغابة" 7/ 78، و"الإصابة" 4/ 281. (¬4) الصَّقْل: مصدر صَقَلْتُ السيفَ والثوبَ، والصَّيْقَل: صَقال السيف، أي شَحَّاذُ السُّيوف وجلاَّؤها، والجمع: صياقل وصياقلة. انظر: (صقل) في: "جمهرة اللغة" 2/ 894، و"تهذيب اللغة" 2/ 2035، و"اللسان" 4/ 2474. (¬5) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 251، بنحوه، والثعلبي 2/ 164 أ، بنحوه. (¬6) "تفسير مجاهد" ص 352، مختصرًا؛ يشير فيه ذكر خديجة -رضي الله عنها-، و"سيرة ابن =

وروي عن ابن عباس أنه قال: هذا كان قينًا (¬1) بمكة نصرانيًّا أعجمي اللسان اسمه بَلْعَام (¬2). وقال السدي: هو رجل نصراني كان بمكة، يقال له: أبو ميسرة، يتكلم بالرومية (¬3). ¬

_ = هشام"، بنحوه، دون ذكر خديجة -رضي الله عنها-. وأخرجه الطبري 14/ 178 - 179، عنهم بنحوه -دون ذكر خديجة -رضي الله عنها-، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 106، مختصرًا عن مجاهد، و"تفسير هود الهواري" 2/ 389، عن مجاهد مختصرًا، وورد بنحوه منسوبًا إلى ابن إسحاق في "تفسير الثعلبي" 2/ 164أ، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 44، عن ابن إسحاق، وابن عطية 8/ 510، عن ابن إسحاق، و"القرطبي" 10/ 177، عن ابن إسحاق، والخازن 3/ 135، عن ابن إسحاق، و"الدر المنثور" 4/ 247، وزاد نسبته إلى آدم بن أبي إياس وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب، عن مجاهد. (¬1) قال الليث: القَيْنُ: الحَدّادُ، وقيل: كلُّ صانعٍ قَيْنٌ، وقيل: كل عامل بالحديد عند العرب قَيْن، والجمعُ قُيُون وأقْيَان، وقال الليث: والقَيْنُ والقَيْنَةُ: العبْدُ والأمَةُ. انظر: (قين) في "تهذيب اللغة" 3/ 2866، و"المحيط في اللغة" 6/ 35، و"اللسان" 6/ 3798. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 177، بنحوه من طريق مجاهد جيدة، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 163 ب، بنحوه، والطوسي 6/ 427، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 44، وابن عطية 8/ 510، وابن الجوزي 4/ 493، و"تفسير القرطبي" 10/ 178، والخازن 3/ 135، وأبي حيان 5/ 536، و"الدر المنثور" 4/ 247، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه، بسند ضعيف. (¬3) ورد في "تفسير الثعبلي" 2/ 164 أ، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 117 بلا نسبة، و"تفسير القرطبي" 10/ 178، عن ابن قتيبة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 247 وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي، لكنه قال: واسمه: (أبو يسر)، وفي "الإصابة" 1/ 165: (أبو البشر) فعلها تصحفت من (أبو ميسرة).

وقال الكلبي: هو عايش -غلام حويطب بن عبد العزى-، ويسار -أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي-، وكانا قد أسلما فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم وتكذيبًا لهم فيما قالوا: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} (¬1). معنى الإلحاد في اللغة: الميل، يقال: لَحَدَ وأَلْحَدَ؛ إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحق: ملحد (¬2)، وقراءة العامة ضم الياء من الإلحاد (¬3) وهو أشهر اللغتين، وقرئ بفتح الياء من لحد (¬4)، والأوْلى ضَم ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 14/ 177 نحوه من طرق عن عبد الله بن مسلم الحضرمي، لكنه قال: كان يقال لأحدهما: يسار، والآخر: جبر، وكانا يقرآن التوراة، وورد هذا الخبر في "الإصابة" 1/ 221، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وعبد بن حميد، وقال: ولم يذكر أنهما أسلما. وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 207ب، أنه أبو فكيهة، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 113، أنه عايش، و"تفسير الطوسي" 6/ 427 أنه عايش أو يعيش، و"تفسير القرطبي" 10/ 178، عنهما. وهذه الأقوال في اسم البشر المعني -وقد بلغت تسعة عند ابن الجوزي- لاتعارض بينها -كما قال النحاس في معانيه-؛ لجواز أن يكونوا قد أومأوا إلى هؤلاء جميعًا؛ بسبب تخبطهم وحيرتهم في الطعن في القرآن، ولاحتمال مجالسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء كلهم لتعليمهم. انظر: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 107، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 492. (¬2) انظر: (لحد) في "تهذيب اللغة" 4/ 3242، و"المحيط في اللغة" 3/ 41، و"اللسان" 7/ 4005، و"التاج" 5/ 237. (¬3) أي: {يُلْحِدُونَ} من ألْحَدَ، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر. انظر: "السبعة" ص 375، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 359، و"الحجة للقراء" 5/ 78، و"المبسوط في القراءات" ص 226، و"التيسير" ص 138، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 745. (¬4) أي {يُلْحِدُونَ} من لَحَدَ قرأ بها: حمزة والكسائي. انظر: المصادر السابقة.

الياء؛ لأنه لغة التنزيل (¬1)، يدل عليه قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25]، والإلحاد قد يكون بمعنى: الإمالة، ومنه يقال: أَلْحَدْتُ له لَحْدًا إذا حفرته في جانب القبر مائلٍ عن الاستواء، وقَبْرٌ مُلْحَدٌ ومَلْحُودٌ (¬2)، وفُسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين، فقال الفراء: يُمِيلُون من الميل (¬3). وقال الزجاج: لسانُ الذي يميلُون القَوْلَ إليه أعجميٌّ (¬4). وقال ابن قتيبة: أي يُومِئون إليه ويزعمون أنه يُعلِّمك (¬5). وقوله تعالى: {أَعْجَمِيٌّ} قال أبو الفتح الموصلي: اعلم أن (ع ج م) إنما وضعت في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضد البيان والإيضاح، من ذلك قولهم: رجل أعْجم وامرأة عَجْماء، إذا كانا لا يُفصحان ولا يُبينان كلامهما، وكذلك (¬6) العُجْمُ والعَجَمُ، وعَجَمُ الزبيب (¬7) سُمّي لاستتارته وخفائه بما هو عَجَمٌ له، والعَجْماء: البهيمة؛ لأنها لا توضِّح عما في نفسها، ومن ذلك تسميتهم صلاتي الظهر والعصر العَجْماوتين؛ لما كانتا لا ¬

_ (¬1) وكذلك فتح الياء لغة التنزيل؛ فالفتح والضم قراءتان سبعيتان، ليس احداهما بأولى من الأخرى، ولا فرق حقيقيًّا -في المعنى- بين القراءتين، قال الطبري: وهما عندي لغتان بمعنى واحد. "تفسير الطبري" 14/ 179. (¬2) ورد بنحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 427، وانظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 345، والفخر الرازي 20/ 117، بنصه، و"تفسير الألوسي" 14/ 233. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 113، بنحوه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 219 بنصه. (¬5) "الغريب" لابن قتيبة 2/ 250، وفيه (يميلون). (¬6) في جميع النسخ: (ولذلك) وهو تصحيف، والتصويب من المصدر، وبه يستقيم المعنى. (¬7) هو النَّوَى الذي في جوفه، الواحدة: عَجَمة، متل: قَصبة وقصب. انظر: "اللسان" (عجم) 5/ 2825.

يُفْصَح فيهما بالقراءة، قال أبو علي: ومن ذلك: عَجَمْتَ العُودَ؛ إما لأنك لما أدخلتَه لتِعُضَّه (¬1) وقد أخفيته، وإما لأنك قد ضغطت بعض أجزائه بالعَجْمِ، وأدخلت بعضها في بعض فأخفيتها، وربما سمّت (¬2) العرب الأخرسَ الأعجم؛ وعُجْمة الرمل (¬3): أشدّه تراكمًا، سمي بذلك لتداخله واستبهام أمره على سُلاَّكِه، يقال: استعجمت الدارُ إذا صَمَّت فلم تجب سائلها، قال امرؤ القيس: صَمَّ صَداها وعَفا رسمُها ... واستَعجمتْ عن مَنْطق السائلِ (¬4) وأما قولهم: أعْجمتُ الكتاب، فمعناه: أزلت عجمته واستعجامه بالإيضاح والتبين، وأَفْعَلْتُ قد يأتي والمراد به: السَّلْب؛ كقولهم: أشكيت، إذا أزلتَ ما يشكوه (¬5)، وهذا الذي ذكرنا هو أصل معنى هذا الحرف (¬6)، والعرب تسمي كل من لا يعرف لغته (¬7) ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجميًّا، قال كثير: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (لبعضه)، والتصويب من المصدر. (¬2) في جميع النسخ (سميت)، والتصويب من المصدر. (¬3) أي كثرته، وقيل: آخره، وقيل: ما تعقَّد منه. انظر: "اللسان" (عجم) 5/ 2825. (¬4) "ديوانه" ص133، وورد في "تهذيب اللغة" (صم) 2/ 2059، (صدى) 2/ 1994، و"الأساس" 2/ 101، و"اللسان" (صمم) 4/ 2502، (عجم) 5/ 2827، (صدى) 4/ 2422، وورد بلا نسبة في: "العين" (صدي) 7/ 139؛ (الصَّدى): ما يرجع من صوت الجبل، و (صمَّ صداها): أي غدت مقفرة لا حياة بها ولا أنيس، وهو يصف دارًا درَسَتْ، (عفا رسمها): أمست وليس لها رسم ولا بها أثر. (¬5) "سر صناعة الإعراب" 1/ 36 - 37، نقل طويل تَصرَّف فيه بالاختصار والتهذيب. (¬6) انظر: (عجم) في "العين" 1/ 237، و"جمهرة اللغة" 1/ 484، و"تهذيب اللغة" 3/ 2342، و"المحيط في اللغة" 1/ 274، و"اللسان" 5/ 2827. (¬7) هكذا في جميع النسخ، والأولى (لغتهم) حتى تنسجم مع السياق.

وما زال كتمانيك حتى كأنني ... بِرَدِّ جَوابِ السائِلي عنك أعجمُ (¬1) قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم: الذي في لسانه عُجمة وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي: الذي أصله من العجم (¬2). قال ابن الأنباري: وقولهما هو الصحيح عندنا. وقال أبو علي الفارسي: الأعجمي: الذي لا يُفصح من العرب كان أو من العجم، ألا تراهم أنهم قالوا: زياد الأعجم؛ لأنه كانت في لسانه عُجمة (¬3) وكان عربيًّا (¬4)، وقال (¬5) لصلاة النهار عَجْمَاء أي: تُخفى فيه القراءة ولا تبَيَّن، وتُسمي العربُ من لا يتبين كلامه من أي صنف كان من الناس أعجم، ومنه قول الحِمَّاني (¬6): سَلُّومُ: لو أَصْبَحتِ وسْطَ الأَعْجمِ ¬

_ (¬1) لم أجده في ديوانه، وورد في "الأغاني" 15/ 167، منسوبًا لنُصَيب بن رباح أبي محجن مولى عبد الملك (ت: 108 هـ)، وقد ورد في شعر نصيب بن رباح ص 123 وفيهما: (بي الكتمان) بدل (كتمانيك)، (بِرَجْع) بدل (بِردِّ). (¬2) لم أجده في معاني الفراء، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 118، بنصه عنهما، وورد نحوه غير منسوب في "المحتسب" 2/ 12، و "تفسير ابن عطية" 8/ 511، قال ابن قتيبة: لا يكاد عوام الناس يفرقون بين العجمي والأعجمي، والعربي والأعرابي؛ فالأعجمي الذي لا يُفصح وإن كان نازلاً بالبادية، والعجمي: منسوب إلى العجم وإن كان فصيحًا، والأعرابي: هو البدوي، والعربي: منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويًا. "تفسير ابن الجوزي" 4/ 494. (¬3) (عجمة) ساقطة من (أ)، (د)، وفي المخصص: (رُتَّةُ). (¬4) ورد في "المخصص" 2/ 121، بنصه، وانظر: "تفسير الرازي" 20/ 118 بنصه، والخازن 3/ 135، بلا نسبة. (¬5) هكذا في جميع النسخ، والأظهر (يقال) أو (قيل). (¬6) هو أبو الأخْزر الجماني، ولم أقف على ترجمته.

بالرومِ أو بالتُّركِ أو بالديلم إذًا لَزُرناكِ ولو بِسُلَّمِ (¬1) قال: وسط الأعجم ولم يقل: وسط العجم؛ لأنه جعل كل من لا يتبين كلامه أعجم، فكأنه قال: وسط القبيل الأعجم، وينبغي أن يكون الأعجمي بالياء فيه للنسب، نسب إلى الأعجم الذي لا يُفْصِح، وهو في المعنى كالأعجمي، ويجوز أن يقال: رجل أعجمي فيراد به ما يراد بالأعجم بغير ياء النسب، كما يُقال: أحمر وأحمريّ، ودَوّارٍ ودَوَّارِي (¬2). ومعنى الآية هو (¬3) أن الله تعالى قال: لسان هذا البشر الذي يزعمون ¬

_ (¬1) ورد في "المخصص" 2/ 121 شطران، 16/ 102، و"شرح شواهد الإيضاح" ص 440، وفيه حرف الجر (في) بدل الباء في الكلمات الثلاث، وورد الشطر الأول فقط في "اللسان" (وسط) 8/ 4832، و"التاج" (وسط) 10/ 445، وورد بلا نسبة في "اللسان" (عجم) 5/ 2825، وورد في الاقتضاب باختلاف في الشطرين الأخيرين برواية: في الروم أو فارسَ أو في الديلمِ إذًا لزرناكِ ولو لم نسلمِ (سَلُّومُ): منادى مرخم، أراد: ياسَلُّومة، (الدّيلم): الجماعة الكثيرة من الناس، وقيل: جيل من الناس، وقيل: هم من ولد ضَبَّةَ بن أُدد، قال ابن بري: وقوله: بِسُلم: أي لتسببنا إلى زيارَتِك بكل سبب، فضرب السُّلَّم مثلاً لذلك. وقال ابن السيد: وهذا البيت يصحفه كثير من الناس فيرونه ولو بسلّم، ولا وجه لذلك؛ لأن السلّم لا يستعمل في قطع المسافات وإنما يستعمل في صعود العلالي المشرفات والمواضع المرتفعات، ولو قال قائل لصاحبه: لو كنت ببغداد لنهضت إليك ولو بسلم لم يكن له معنى يعقل، وقد يسمل السلَّم بمعنى السبب، وليس له هاهنا أيضًا وجه؛ لأنه كان يجب أن يقول: ولو بغير سبب يوجب النهوض. وانظر: "اللسان" (دلم) 3/ 1415. (¬2) ورد نحوه في "المحتسب" 2/ 12. (¬3) في (أ)، (د): (وهو) بزيادة الواو, ويستقيم الكلام بدونها.

105

أنه يعلمك أعجمي لا يُفصح ولا يتكلم بالعربية، فكيف يُتَعَلَّم عنه ما هو أعلى طبقات البيان؟! وهو قوله: {وَهَذَا} يعني القرآن، {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، قال ابن عباس: يريد الذي نزل على محمد عربي مبين، أفصح ما يكون من العربية، وأبْيَنه لسان سعد بن بكر بن هوازن الذين أرضعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1)؛ واللسان بمعنى الكلام واللغة، وذكرنا هذا مستقصى عند قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، ومعنى العربي واشتقاقه ذكرنا عند قوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} [التوبة: 97] وقال الفراء والزجاج في هذه الآية: يقال: عَرَبَ لِسَانُه عَرابَةً وعُروبةً (¬2). 105 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} الآية. قال الكلبي: نافح الله تعالى بهذه الآية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودافع عنه حيث قالوا: تَقَوَّله واخترعه وأتى به من عند بشر وافتراه، فقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ}: المشركون، ثم سَمَّاهم الكاذبين، وحصر فيهم الكذب بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، وقال أبو إسحاق: أي إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذَّبُوا بها، فهؤلاء أكذبُ الكَذَبَةِ (¬3)، وفي الآية أبلغ زجر عن الكذب؛ حيث أخبر الله تعالى أنه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن، ولذلك قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين قيل له: (هل يَكْذِبُ المؤمن؟ قال: "لا"، ثم قرأ هذه الآية) (¬4). ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 445. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 220، بنحوه، وفيه (عرب الإنسان)، وهو خطأ وتصحيف ظاهر، ولم أجده في معاني الفراء، وانظر: "الرازي" 20/ 118، بنصه عنهما. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 219، بنصه. (¬4) جزء من حديث رواه عبد الله بن جراد، وطرفه: قلت: يا رسول الله، المؤمن يزني؟ =

وقال صاحب النظم في هذه الآية: أعلم الله أن الذي يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن بآيات الله، ثم عطف على هذا قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وفائدة ذلك؛ أن قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} فِعْلٌ وليس بنعت، وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} نعتٌ، والفعل قد يكون لازمًا وقد لا يكون، والنعت (¬1) لا يكون إلا دائمًا، يبين هذا أنه تعالى قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، ولا يجوز أن يقال: إن آدم عاصٍ وغاوٍ؛ لأن النعت أبلغ من الفعل، ولهذا قال الله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي أن هذا نعت لازم لهم وعادة من عاداتهم، لا فِعْلٌ يزول عن قريب، وهذا كما تقول: كذبت وأنت كاذب، فيكون قولك: أنت كاذب، زيادة في الوصف بالكذب (¬2). ¬

_ = قال "قد يكون". وقد أخرجه بنحوه الثعلبي 2/ 164 أ، والواحدي في "الوسيط" 2/ 446، والبغوي 5/ 45، وورد في "إحياء علوم الدين" 3/ 135، و"تفسير الرازي" 20/ 120، والخازن 3/ 136، قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء": أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" بسند ضعيف، ورواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الصمت" (ص 243) مقتصرًا على الكذب، والسائل أبو الدرداء، والرواية التي أشار إليها العراقي أخرجها مالك عن صفوان بن سليم أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيكون المؤمن جبانًا .. فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: "لا" موطأ مالك [شرح الزرقاني] باب ما جاء في الصدق 4/ 408، و"التمهيد" 16/ 253، وقال: لا أحفظ هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ من وجه ثابت، وأخرجها ابن أبي الدنيا في "الصمت" ص 248، عن ابن مسعود وسعد -رضي الله عنه- موقوفًا قالا: كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. والحديث ضعيف. (¬1) في (أ)، (د): (البعث). (¬2) ورد بنحوه مختصرًا في "تفسير البغوي" 5/ 45، و"الرازي" 20/ 119، و"القرطبي" 10/ 179.

106

106 - قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} الآية. أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في عمار بن ياسر؛ أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سَبَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وذكر آلهتم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وراءك؟ قال: شَرٌّ يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتى نِلتُ مِنْك، وذكرتُ آلهتم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنًا بالإيمان. قال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت" (¬1). واختلفوا في محل (مَنْ) مِن الإعراب، فقال الأخفش: هو ابتداء، وخبره محذوف مكتفى منه بخبر (مَنْ) الثانية في قوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (¬2)؛ كقولك: من يأتينا فمن يحسن نكرمه (¬3)، فجواب الأول محذوف قد كفى منه الثاني، وقال أبو إسحاق: (مَنْ) في موضع رفع على ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد 3/ 249 بنصه، وعبد الرزاق 2/ 360، بنحوه، والطبري 14/ 181، بنحوه عن ابن عباس من طريق العوفي ضعيفة، وأخرجه بنحوه عن قتادة وأبي مالك وغيرهما، والحاكم 2/ 357 بنصه، وصححه وقال: على شرط الشيخين، والبيهقي: المرتد/المكره على الردة (8/ 208) بنصه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 252، وهود الهواري 2/ 390، والثعلبي 2/ 164 ب، عن ابن عباس، والطوسي 6/ 428، وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 288، عن ابن عباس، و"تفسير البغوي" 5/ 45، عن ابن عباس، والزمخشري 2/ 345، و"تفسير القرطبي" 10/ 180، عن ابن عباس، والخازن 3/ 136، وابن كثير 2/ 647، عن ابن عباس، و"الدر المنثور" 4/ 248، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬2) "معاني القرآن للأخفش" 2/ 608، بمعناه، وانظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 164 ب، بنحوه بلا نسبة. (¬3) ورد بنصه في "تفسير الطبري" 14/ 180، والثعلبي 2/ 164 ب، والطوسي 6/ 428، ومعناه: من يحسن ممن يأتينا نكرمه.

البدل مِن الكاذبين (¬1)، ولا يجوز أن يكون رفعًا بالابتداء؛ لأنه لا خبر هاهنا للابتداء؛ لأن قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ}: على الكفر، يكفر بلسانه وقلبه مطمئن (¬2) بالإيمان (¬3)، والقول الأول أظهر في معنى الآية؛ لأن (¬4) هذه قصة مستأنفة، وكلام لا تعلق له بما تقدم، يدل عليه من التفسير ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية، قال: أخبر الله سبحانه أنه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أُكره فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لِيَنْجُو بذلك من عدوه فلا حرج عليه؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (¬5)، فجعل ابن عباس قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} خبر قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ}. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}، أي: فتحه ووسعه لقبول (¬6) الكفر، وذكرنا معنى الشرح في سورة الأنعام (¬7)، وانتصب صدرًا ¬

_ (¬1) وتقديره: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، وقد رده الطبري، وقال: هذا قول لا وجه له، وحجته أن ذلك يقتضي تخصيص وصف افتراء الكذب بمن آمن ثم ارتد دون من نشأ على الكفر أصلاً، ودلل على ذلك أن الآية جاءت في سياق الرد على الذين نسبوا الكذب والافتراء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الآية السابقة، وهم الكفار الأصليون. انظر: "تفسير الطبري" 14/ 181. (¬2) في (أ)، (د) زيادة (واو): (ومطمئن). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 219، بتصرف يسير. (¬4) في (أ)، (د): (أن). (¬5) أخرجه الطبري 14/ 182 بنصه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي: المرتد/ المكره على الردة (8/ 209) بنصه، و"الدر المنثور" 4/ 250، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) في (أ)، (د): (لقول)، والمثبت من (ش)، (ع) أصح. (¬7) آية [125].

107

على أول مفعول للشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الهاء منه لأنه لا يُشْكِل بصدر غيره، إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره، فهو نكرة يراد بها المعرفة، ويدل عليها معنى الكلام، "وهذه الآية تدل على أنّ المُكْرَهَ على كلمة الكفر إذا تَلَفَّظ بها مُكْرَهًا لا يحكم بكفره إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان (¬1)، ولذلك أبطل الشافعي طلاق المكره وعتاقه وعقوده، ولم يجعل لها حكمًا (¬2)، ودلّت الآية على أن حقيقة الكفر إنما تكون بالقلب دون اللسان (¬3). 107 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا}، أي: ذلك الشرح وذلك الكفر (¬4)، بأنهم أحبّوا الدنيا واختاروها على الآخرة، قال الكلبي: والمراد بقوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} عبد الله بن سعد بن أبي سرح ومن ارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر (¬5)، وذلك باستحبابهم الدنيا وبأن ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 165 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 46، و"تفسير القرطبي" 10/ 182. (¬2) وهذا القول هو قول جمهور العلماء خلافًا للحنفية، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 165 أ، ونسبه أيضًا إلى بعض الصحابة ومالك والأوزاعي، انظر: بسط المسألة في "تفسير الجصاص" 3/ 192، و"المحلى" 8/ 331، و"تفسير ابن العربي" 3/ 1180، و"المجموع" 17/ 65، و"المغني" 10/ 350، و"تفسير القرطبي" 10/ 184، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" ص 246، و"الإكراه وأثره في التصرفات الشرعية" ص 196، و"عوارض الأهلية عند الأصوليين" ص 496. (¬3) ذكره الثعلبي 2/ 164 ب، بنحوه. (¬4) مطموسة في: (ش). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 293، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 208 أ، والسمرقندى 2/ 252، وهود الهواري 2/ 390، وفي إدراج عبد الله بن أبي السرح مع الذين انشرحت صدورهم للكفر نظر؛ لأنه قد رجع إلى الإسلام وحسن =

108

الله لا يهديهم ولا يريد هدايتهم، ثم وصفهم بأنهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. 108 - فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} الآية. والكلام في هذا مضى (¬1). وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} قال ابن عباس: عما يراد بهم (¬2)، ثم حكم لهم بالخسار وأكَّدَ ذلك، 109 - فقال: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ} قال ابن عباس: يريد حقًا إنهم في الآخرة هم المغبونون (¬3)، قال أبو إسحاق: (أنَّ) يصلح أن تكون في موضع رفع، على أَنّ (لا) رَدٌّ لكلام، والمعنى: وجب أنَّهُم، قال: ويجوز أن تكون في موضع نَصْبٍ على أن المعنى: جَرَمَ فِعْلُهُمْ هذا، {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي كَسَب (¬4). 110 - قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} قال المفسرون: نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة، عَمَّار وصُهيب وبلال، ودونهم الذين عُذِّبُوا في الله وارتدوا على الكفر ¬

_ = إسلامه، كما أن الآية التالية قد حكمت عليهم بالطبع على قلوبهم، ولا يليق هذا الوصف بمن أسلم ومنّ الله عليه بالهداية، ويؤيده أن الرواية وردت عن طريق الكلبي، وحسبك بهذا؛ فروايات الكلبي محكوم عليها بالضعف بل بالوضع. (¬1) النساء [آية: 155]. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 124، وأبي حيان 5/ 540، و"تفسير الألوسي" 14/ 239، والخازن 3/ 137، بلا نسبة. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 293، و"تفسير البغوي" 5/ 47، بلا نسبة. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 220، بنصه تقريبًا.

وأعطوهم بعضَ ما أرادوا لِيَسْلَمُوا من شَرِّهم، ثم (هاجروا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1). [قال ابن عباس: يريد الذين كانوا يُعَذَّبون بمكة، {هَاجَرُوا) (¬2) مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} قال: من بعد ما عُذِّبُوا، {ثُمَّ جَاهَدُوا}: مع النبي -صلى الله عليه وسلم-] (¬3)، {وَصَبَرُوا}: على الدين والجهاد (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ} إعادة وتكريرٌ لما ذكر في الآية؛ وذلك لتطاول الكلام، وأجيب كلاهما بجواب واحد، وهذا من القبيل الذي ذكرنا في قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} الآية. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِهَا}: تلك الفتنة وتلك الفعلة التي فعلوها وهي تلفظهم بكلمة الكفر، {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وذلك أن الرخصة لم تكن نازلة في ذلك الوقت حين تلفظوا بالكفر تقية، وإنما نزلت بعد ذلك فأخبر ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 184، بنحوه عن ابن إسحاق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 108، مختصرًا، و"تفسير السمرقندي" 2/ 252، بنحوه عن ابن عباس، والثعلبي 2/ 165 أ، مفصلاً، والطوسي 6/ 431، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 47، وابن الجوزي 4/ 497، عن ابن عباس، والفخر الرازي 20/ 125، عن الحسن، والخازن 3/ 137، وابن كثير 2/ 649، ولا يثبت هذا سببًا للنزول؛ لأن إسناده منقطع، أخرجه الطبري بسنده إلى ابن إسحاق، وهو ضعيف كما في "تقريب التهذيب" ص 467 (5725). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (د). (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 497، و"الدر المنثور" 4/ 250، وعزاه إلى البيهقي في سننه -لم أجده- وابن مردويه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 208 أ، والثعلبي 2/ 165 أ، والسمرقندي 2/ 252، والبغوي 5/ 47، والخارن 3/ 137.

الله تعالى بعد ذلك أنه قد غفر لهم ذلك، هذا قول عامة أهل التأويل (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} يريد من بعد ما خرجوا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وصاروا عنده بالمدينة، غفر الله لهم مقامهم بمكة وتثبطهم بها، عفا الله ذلك عنهم (¬2)، فعلى هذا الكناية في {بَعْدِهَا} تعود إلى الهجرة، ودلّ عليها: {هَاجَرُوا}، والمغفرة لمقامهم بمكة وتخلفهم عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه، وقرأ ابن عامر فَتنوا، بفتح الفاء (¬3)، ومعنى هذا {للذينَ هاجَروا مِن بعدِ ما فَتنُوا} أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية، وجعل ذلك فتنة؛ لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد (¬4). وذهب قوم من المفسرين إلى أن الآية نزلت في قوم من الذين كانوا يُعذِّبون المستضعفين بمكة، آمنوا وهاجروا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬5) فقال الله ¬

_ (¬1) ورد مختصرًا في "تفسير مقاتل" 1/ 208 أ، والطبري 14/ 183، والثعلبي 2/ 165 أ، والسمرقندي 2/ 253، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 47، وابن عطية 8/ 525، وابن الجوزي 4/ 498، والخازن 3/ 137. (¬2) ورد مختصرًا غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 253، والزمخشري 2/ 345، وابن عطية 8/ 525، وابن الجوزي 4/ 499، والفخر الرازي 20/ 126. (¬3) انظر: "السبعة" ص 376، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 360، و"علل القراءات" 1/ 309، و"الحجة للقراء" 5/ 79، و"المبسوط في القراءات" ص 226، و"التبصرة" ص 466، و"التيسير" ص 138، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 745. (¬4) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 79، بنصه تقريبًا، لكنه قال: لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد، وقد تصحفت في المصدر (الرخصة) إلى (الرحمة). وورد بنحوه في "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 41، و"تفسير الطوسي" 6/ 431، وانظر: "المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 745, و"تفسير الفخر الرازي" 20/ 125. (¬5) ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 361، و"الكشف عن وجوه =

111

تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية. 111 - قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} لآية. قال أبو إسحاق: {يَوْمَ} منصوب على أحد شيئين، على معنى: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {يَوْمَ تَأْتِي}، ويجوز ذَكِّرْهم يوم، أو اذْكُر يوم؛ لأن معنى القرآن العِظة والإنْذَارُ والتَّذْكير (¬1). وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ} أراد كلَّ إنسان وكلَّ واحد، ولقوله: {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ولم يقل يُجَادَل عنها، قال المفسرون: وهذا يوم القيامة كل أحد لا يهمه إلا نفسه، فهو مخاصم ومحتج عن نفسه لا يتفرغ إلى غيره؛ وذلك أن لجهنم زفرة يقع كل أحد جاثيًا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم ليدلي بالخُلَّة، فيقول: يارب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك إلا نفسي (¬2). وقوله تعالى: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} قال ابن عباس: يريد ¬

_ = القراءات" 2/ 41، و"تفسير الثعلبي" 2/ 165أ، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 125، ويفتقر هذا القول إلى دليل صحيح مسند. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 221، بتصرف يسير. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 363)، بنحوه عن قتادة، والواحدي في تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي 2/ 450، بنحوه عن كعب، وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 221، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 108، عن كعب، و"تفسير السمرقندي" 2/ 253، والثعلبي 2/ 165 أ، عن كعب، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 48، عن كعب، وابن الجوزي 4/ 499، عن كعب، والفخر الرازي 20/ 126، و"تفسير القرطبي" 10/ 193، والخازن 3/ 138، و"الدر المنثور" 4/ 251 وعزاه إلى ابن المبارك وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب. والظاهر أن هذا الخبر من الإسرائيليات، خاصة أن موقوف على كعب؛ هو من مصادر الإسرائيليات.

112

ثوابها غير منتقص، والتقدير: ثواب ما عملت أو جزاء ما عملت، فحذف المضاف، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قال: يريد لا ينقصون. 112 - قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} الآية. معنى ضَرْبِ المثلِ بيان المُشبَّه والمُشبَّه به، وهاهنا ذَكَرَ المُشبَّه به ولم يذكر المُشَبَّه لوضوحه عند المخاطبين، والآية عند عامة المفسرين: نازلة في أهل مكة وما امتُحِنوا به من الخوف والجوع، بعد الأمن والنعمة، بتكذيبهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتقدير الآية: ضربَ اللهُ لقريتكم مَثَلاً، أي: بين الله لها شَبَهًا، ثم قال: {قَرْيَةٍ} فيجوز أن تكون القرية بدلاً من مثلًا؛ لأنها هي الممثل بها؛ فهي المثل، ويجوز أن يكون المعنى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: مَثَلَ قرية، فحذف المضاف وهذا قول الزجاج (¬1). والمفسرون كلهم قالوا: (أراد بالقرية مكة، يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذُكِر (¬2)؛ كما قالوا) (¬3) في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، أراد بالذي استوقد: المنافقين؛ أي أرادهم بهذا المثل، لا أنهم كانوا يستوقدون النار، ولكن أَشْبَه حالُهم حالَه، كذلك ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 221 بنصه. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 360) بلفظه عن قتادة، والطبري 14/ 186 بلفظه عن ابن عباس [طريق العوفي] ومجاهد وقتادة وابن زيد، وورد بلفظه في "تفسير مقاتل" 1/ 208 أ، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 109، و"تفسير السمرقندي" 2/ 253، وهود الهواري 2/ 392، والثعلبي 2/ 165 ب، و"تفسير الماوردي" 3/ 217، والطوسي 6/ 432، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 48، وابن عطية 8/ 526, وابن الجوزى 4/ 499، والفخر الرازى 20/ 127، والخازن 3/ 138، وابن كثير 2/ 649. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ش) , (ع).

أشبهت حالُ مكة حالَ هذه القرية، والكلام في جميع صفات القرية جرى على القرية، والمُرادُ أهلُها؛ لأن الطمأنينة والأمن وإتيان الرزق حقيقتها لأهلها لا لها، يدل على هذا قوله في آخر الآية: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون}، ولم يقل: بما صنعت. وقوله تعالى: {كَانَتْ آمِنَة}، أي: ذات أمن؛ يأمن فيها أهلها لا يُغَارُ عليهم، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وجاز وصفها بالأمن وإن كان لأهلها؛ لأنها مكانُ الأمن وظرفٌ له، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بمحالها، كما يقال: يوم طيب وبارد وحار. وقوله تعالى: {مُطْمَئِنَّةً}، أي: قارة ساكنة بأهلها، لايحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق، وهو قوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}؛ لأن الله جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، فأرزاقهم تأتيهم في بلدهم، يُجْلَب إليها من كل بلد، كما قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]. وقوله تعالى: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّه}، الأنعم: جمع نِعْمة، مثل شِدَّة وأَشُدّ، هذا قول سيبويه (¬1)، وقال غيره: يجوز أن يكون جمع نُعْمَى؛ كما يقال: بؤسى وأبؤس (¬2)، وأنشد: ¬

_ (¬1) "الكتاب" 3/ 582، بلفظه. (¬2) قال الفراء في "المقصور والممدود" ص 41: باب ما يفتح فيمد ويضم فيقصر، ومَثَّلَ لذلك بقوله: وكذلك .. ، والنُّعمى والنَّعماء، والبؤسى والبأساء، وهي بالألف الممدودة أشهر منها بالمقصورة، وفي القرآن: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [هود: 10]، وكذلك نقل الطبري عن جعفر أهل الكوفة -ولعله يقصد =

وعندي قروض الخير والشر كله ... فبُؤسِي لذي بُؤسَى ونُعْمَى بأنْعُمِي (¬1) وكفرانهم بأنعم الله تكذيبهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومخالفتهم أمر الله فيما يأمرهم به. وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} قال المفسرون: عذَّبهم اللهُ بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجِيَفَ والعظام المحرقة والعلهز (¬2). وقوله تعالى: {وَالْخَوْف}، قالوا: يعني من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومن السرايا التي كان يبعثها إليهم فيطوفون بهم (¬3). ¬

_ = الفراء- أن أنعم جمع نعماء، مثل بأساء وأبؤس، لكنه استشهد بالبيت على أن أنعم جمع نُعْم كطُعْم، وهو قول أبي عبيدة وابن قتيبة؛ وردّ ابن قتيبة قول سيبويه، قائلاً: وليس قول من قال: إنه جمع نعمة بشيء؛ لأن فِعلة لا يجمع على أفعل. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 369، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 250، و"تفسير الطبري" 14/ 186، وورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 165 ب، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 49، و"تفسير القرطبي" 10/ 194. (¬1) ورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 186. برواية: فَبُؤْسٌ لذي بؤسٍ ونُعْمٍ بأنْعُمِ وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 433، برواية: فبؤس لدى بؤسي ونعمى بأنعم (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 208 ب، بمعناه، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 114، بنحوه، والطبري 14/ 187، بنحوه، والثعلبي 2/ 165 ب، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 217، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 49، وابن الجوزي 4/ 501، والفخر الرازي 20/ 128، و"تفسير القرطبي" 10/ 195، والخازن 3/ 139، وابن كثير 2/ 649، قال الطبري: العلهز: الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه، قلت: والقراد: دويبة متطفلة. (¬3) ورد بنحوه في "الطبري" 14/ 187، والسمرقندي 2/ 253، والثعلبي 2/ 165 ب، =

قال ابن قتيبة: وأصل الذَّوَاقِ بالفم، ثم قد (¬1) يُستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول في الكلام: نَاظِرْ فُلانًا وذُقْ ما عنده، أي تعرَّف واختبر، واركب الفرسَ وذقه، وأنشد الشماخ في وصف قوس: فذاقَ فأعْطَتْهُ من اللّين جَانبًا ... كفى (¬2) ولَهَا أن يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ (¬3) يريد أنه راز (¬4) القوس بالنزع ليعلم؛ ألَيِّنَةٌ هي أم صلبةٌ. قال: ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من سوء آثارهما بالضُّمْرِ والشُّحوب، ونَهْكَةِ (¬5) البدن، وتغيّر الحال، وكُسُوف البال، فكما يقول: تَعَرَّفْتُ سوء أثرِ الخوف والجوع على فلان، وذقت بمعنى: تعرفتُ، واللِّبَاسُ بمعنى: سوء الأثر (¬6)، كذلك تقول: ذقتُ لِبَاسَ الجوع والخوف، ¬

_ = وانظر: البغوي 5/ 49، وابن الجوزي 4/ 501، و"القرطبي" 10/ 194، والخازن 3/ 139، وابن كثير 2/ 649، وهذا التفسير مشهور بين المفسرين، وهو من قبيل التفسير بالمثال، والآية عامة في كل زمان ومكان. (¬1) ساقطة من (د). (¬2) في النسخ: لفي، ورواية الديوان وجميع المصادر (كفى)، وظاهر أنها تصحفت إلى (لفي). (¬3) "ديوانه" ص 190، وورد في "جمهرة أشعار العرب" ص 299، و"الحيوان" 5/ 179، و"الشعر والشعراء" ص 195، و"المعاني الكبير" 2/ 1042، و"الأساس" 1/ 306، و"اللسان" (ذوق) 3/ 1891، وفيه (النبل) بدل (السهم)، قال في اللسان: أي ولها حاجز يمنع من الإغراق؛ أي فيها لين وشدّة. وأغرقتُ النَّبل: إذا بلغت به غاية المدِّ في القوس. "المحيط في اللغة" (غرق) 4/ 528. (¬4) في (أ)، (د): (زار)، وفي المصدر: ذاق، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح الذي يؤدب المعنى، وهكذا في "المعاني الكبير". (راز) من الروز: التجربة، يقال: رُزْ ما عند فلان. "المحيط في اللغة" (روز) 9/ 84. (¬5) في (ش)، (ع): (وبهلكة)، من الهلاك، والمثبت أصح وموافق للمصدر. (¬6) في (أ)، (د): (الأتراء).

وأذاقني الله ذلك (¬1). وقال أبو علي: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} المعنى فيه: مقارنة (¬2) الجوع لهم ومَسُّه إيّاهم؛ كمخالطة الذائق ما يذوقه، واللابس ما يَلْبَسُه، واتصاله بما وقع عليه الذوق، وكذلك لباس الجوع هو مَسُّه لهم كمَسّ الثوب للابسه، وأنشد لجرير: وقد لَبِسَتْ بَعْدَ الزّبَيرِ مُجَاشعٌ ... ثيابَ التي حاضَتْ ولَمْ تَغْسلِ الدّمَا (¬3) يريد أن العار والسُّبَّة لحقتهم، واتصل بهم لغدرهم، فجعل ذلك لباسًا (¬4)، فعلى ما ذكر ابن قتيبة معنى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} عَرَّفَها سوءَ أثرهما، وعلى ما ذكر أبو علي، جعل الجوع والخوف تَمَسَّانها وتُلابِسَانِها. وروي عن أبي (¬5) عمرو أنه قرأ: {وَالْخَوْف} نصبًا (¬6) بأنْ على الإذاقة (¬7)، والوجه قراءة العامة على معنى: فأذاقهم الله لباس الجوع ولباس ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 164 - 165، نقل طويل تصرَّف فيه واختصره. (¬2) في (أ)، (د): مفارقة، والمثبت من: (ش)، (ع)، وفي المصدر: مقاربة، وهو أيضًا تصحيف. (¬3) "ديوانه" ص 448، وورد في: "المعاني الكبير" 1/ 593، و"تفسير ابن عطية" 8/ 528، وورد بلا نسبة في "تفسير أبي حيان" 5/ 543، و"الدر المصون" 7/ 295، وجرير هنا يهجو البَعِيث، ومجاشع: قبيلة الفرزدق والبعيث. (¬4) "الحجة للقراء" 5/ 80، بتصرف يسير. (¬5) في جميع النسخ: ابن، والصحيح المثبت، وهو أبو عمرو أحد القراء السبعة. (¬6) انظر: "السبعة" ص 376، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 362، و"علل القراءات" 1/ 309، و"الحجة للقراء" 5/ 80، و"تفسير الثعلبي" 2/ 165 ب، والطوسي 6/ 433، وابن عطية 8/ 529، و"تفسير القرطبي" 10/ 194. (¬7) قال الثعلبي: {وَالْخَوْفِ} بالنصب بإيقاع أذاقها عليه، وذكر السمين أربعة أوجه =

113

الخوف، يدل عليه أن في حرف أُبي: لباسَ الخوف والجوع (¬1)، فقد جعل للخوف لباسًا كما جعل للجوع، وحَمْلُه على الخفض باللباس أولى من حمله على الإذاقة؛ لأن اللباس أقرب إليه، فحمله على الأقرب أولى، وليكونا محمولين على عامل واحد، كما كان في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]، الحمل على عامل واحد (¬2). وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث كذبوه وأخرجوه من مكة وما هموا به من قتله (¬3). قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير، منه قوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُون} [الأعراف: 4] ولم يقل: قائلة، فإذا قال: {قَائِلُون} ذهب إلى الرجال، وإذا قال: قائلة، فإنما يعني أيضًا أهلها، ومثله: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} إلى قوله: {فَذَاقَتْ} (¬4) [الطلاق: 8 - 9]. 113 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} يعني أهل مكة، {رَسُولٌ مِنْهُمْ} يعني مِنْ نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَاب}، قال ابن عباس: يعني الجوع الذي كان بمكة (¬5)، وقال مجاهد: يعني القتل ¬

_ = -غير هذا الوجه- في نصب {وَالْخَوْفِ}. انظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 165 ب، و"الدر المصون" 7/ 293. (¬1) انظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 544، وقال: وهذا عندي في مصحفه قبل أن يجمعوا على ما في سواد المصحف الموجود الآن، وعليه فهي قراءة شاذة. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 82، بنصه تقريبًا. (¬3) انظر: "تفسير الرازي" 20/ 129 بنصه، وابن الجوزي 4/ 501، بنحوه بلا نسبة. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 114، بنصه تقريبًا. (¬5) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 501، والفخر الرازي 20/ 130، وأخرجه الطبري 14/ 187، بنحوه عن قتادة، وورد بلا نسبة في "تفسير القرطبي" 10/ 195، و"تفسير الألوسي" 14/ 245، ورجحه.

114

ببدر (¬1)؛ وهو اختيار الزجاج (¬2). 114 - قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} الآية. قال ابن عباس: {فَكُلُوا}: يا معشر المؤمنين، {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، يريد من الغنائم (¬3). وقال الكلبي: إن رؤساء أهل مكة كَلَّمُوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حين جُهِدوا، قالوا: عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، وكانت المِيرَة (¬4) قد قطعت عنهم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأَذِن في الحَمْل إليهم، فَحُمِل إليهم الطعام (¬5)، فقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} الآية. والقول ما قاله ابن عباس، يدل عليه قوله بعد هذه الآية: 115 - {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وهذا خطاب للمسلمين لا لكفار ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 434، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 501، بنصه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" 14/ 187. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 221، بنحوه. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 130، بنصه، والخازن 3/ 139، و"تفسير الألوسي" 14/ 245، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 208 ب، بنحوه، و"تفسير الطبري" 14/ 188 بمعناه، و"تفسير ابن الجوزي" 4/ 501، و"تفسير القرطبي" 10/ 195، وهذا من قبيل التفسير بالمثال، والآية عامة في جواز الأكل من كل طيب. (¬4) المِيرَةُ: جلب الطعام للبيع وللعيال، وهم يَمِيرون غيرهم ويَمْتَارون لأنفسهم. "المحيط في اللغة" (مير) 10/ 285. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 130، بنصه، والخازن 3/ 139، بنحوه، و"تفسير الألوسي" 14/ 245، بنصه، وعزياه للواحدي، ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 255، والثعلبي 2/ 165 ب، والبغوي 5/ 49، وابن الجوزي 4/ 501، و"تفسير القرطبي" 10/ 195.

116

مكة، وهاتان الآيتان سبق تفسيرهما في سورة البقرة (¬1). 116 - قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية. قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة (¬2). وقال ابن عباس: يعني قولهم: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} (¬3) [الأنعام: 139]، واختلفوا في وجه انتصاب الكذب؛ فقال الأخفش: جعل (ما تصف) اسمًا للفعل؛ كأنه قال: ولا تقولوا لوصف ألسنتِكم الكذب (¬4)، ونحو هذا قال الكسائي (¬5). والزجاج (¬6)، سِوى أنْ قال صاحب النظم: واللام في (لِمَا) لامُ سبب وأجل، كما يقال: فعلت هذا لك، أي لأجلك وبسببك (¬7)، والمعنى: ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب هذا حلال وهذا حرام؛ أي إنكم تُحِلُّون وتُحَرِّمون لأجل الكذب لا لغير، فليس لتحريمكم وتحليلكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك، هذا معنى قوله: إن دخول اللام في ¬

_ (¬1) آية [172 - 173]. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 354، بنصه، أخرجه الطبري 14/ 189 بنصه من طريقين، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 110، بنحوه، وانظر: "تفسير الخازن" 3/ 140، و"الدر المنثور" 4/ 252، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 2/ 165ب، والبغوي 5/ 49 - 5/ 50. (¬3) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 140. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 608، بنصه. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 131، وأبي حيان 5/ 545، و"الدر المصون" 7/ 297، و"تفسير الألوسي" 14/ 247. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 222، بنصه. (¬7) انظر. "تفسير ابن الجوزي" 4/ 502، بنحوه عن ابن الأنباري.

(لِمَا) سبب لقوله: {هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، وذكر وجهين آخرين في انتصاب الكذب؛ أحدهما: أن نصبه على نفي الخافض (¬1)، على تأويل لِمَا تصف ألسنتكم كذبًا؛ على جهة التفسير (¬2) أو الحال، ثم ألحق به الألف واللام؛ كما قال الشاعر (¬3): وما قومي بِثَعْلَبةَ بنِ بَكْرٍ ... ولا بفَزَارة الشُّعْرِ الرِّقابَا (¬4) انتصب الرقاب على معنى التفسير هذا كلامه (¬5)، والقول قول الأخفش والكسائي، والإشارة بقوله {هَذَا} و {وَهَذَا} إلى ما كانوا يحلونه ويحرمونه. وقوله تعالى: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك ¬

_ (¬1) أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. "تفسير القرطبي" 10/ 196. (¬2) أي التمييز. انظر: "المعجم المفصل في النحو العربي" 1/ 365. (¬3) هو الحارث بن ظالم (جاهلي). (¬4) ورد في "الكتاب" 1/ 201، و"البيان والتبيين" 4/ 1008، و"المقتضب" 4/ 161، و"الأغاني" 11/ 123، و"الإنصاف" 109، 110، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 398، و"شرح المفصل" 6/ 89، وفي بعض المصادر برواية: (الشُّعْرى رِقابا)، وفي جميع المصادر -ما عدا الإنصاف- (سعد) بدل (بكر)، قال في الانتصاف من الإنصاف: والمحفوظ (بثعلبة بن سعد)، وكذلك هو في نسب ثعلبة؛ فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وفزارة هو ابن ذبيان أخو سعد بن ذبيان أبي ثعلبة، والشاعر في هذا البيت ينتفي من بني سعد بن ذبيان. (الشُّعْر): جمع أشعر، والشعرى مؤنث الأشعر، والأشعر: الكثير شعر القفا ومقدم الرأس، فهذا عندهم مما يتشاءم به، ويحمدون النّزع، وهو انحسار الشعر عن مقدم الرأس. والشاهد: أنه نصب الرقابا بقوله: (الشُّعْر) جمع أشعر، وهو هنا صفة مشبهة. (¬5) ذكر الواحدي أن صاحب النظم ذكر وجهين آخرين للنصب ولم يذكر إلا وجهًا واحدًا، وذكر السمين أربعة أوجه للنصب. انظر: "الدر المصون" 7/ 297.

117

التحريم إلى الله تعالى، ويقولون إنه أمَرَنا بذلك، وقوله: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بدل من قوله: {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر ذلك الوصف والكذب بالافتراء على الله، ثم أوعد المفترين، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}. 117 - ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب، فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}، قال الزجاج: المعنى: متاعهم متاع قليل، أي يَتَمتَّعون (¬1)، وقال ابن عباس: يريد متاع الدنيا قليل (¬2)، وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم (¬3)، وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4). 118 - قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} قال السدي وقتادة: يعني ما ذَكر في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (¬5) [الآيه: 146]. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 222، بتصرف يسير. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 132، ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" 7/ 658، وهود الهواري 2/ 393، والثعلبي 2/ 165 ب، والبغوي 5/ 50. (¬3) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 189، بنحوه، والثعلبي 2/ 165 ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 50، و"القرطبي" 10/ 196. (¬4) نقل الفخر الرازي هذا المقطع بنصه تقريبًا مع العزو للواحدي. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 132. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 360، بنحوه عن قتادة، والطبري 14/ 189، بنحوه عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 110، بنحوه عن قتادة، و"تفسير الطوسي" 6/ 436، بنصه عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 252، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 393، والثعلبي 2/ 166 أ، والبغوي 5/ 50، وابن الجوزي في 4/ 503، و"تفسير القرطبي" 10/ 197، والخازن 3/ 140 وابن كثير 2/ 651.

119

وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}، أي: بتحريم ما حرمنا عليهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، ثم عطف على هذا بالمغفرة لمن تاب منهم ومن غيرهم بعد المعصية، فقال: 119 - {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}، قال ابن عباس في (هذه الآية: يريد بـ {السُّوءَ}: الشرك (¬1)، {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: السوء، {وَأَصْلَحُوا}، قال ابن عباس) (¬2): يريد آمنوا وصدقوا وقاموا لله بفرائضه وانتهوا عن معاصيه (¬3). وقال أهل المعاني: شَرَطَ مع التوبة الإصلاح؛ للاستدعاء إلى الصلاح وترك الاغترار بما سلف من التوبة (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي من بعد تلك الجهالة (¬5) {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. 120 - قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} قال ابن مسعود وابن عباس في رواية الكلبي: مُعَلِّمًا للخير، وهو قول أكثر أهل التفسير (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 197، وأبي حيان 5/ 546، و"تفسير الألوسي" 14/ 249، والتعميم أولى من هذا التخصيص. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (د). (¬3) انظر: "تفسير أبي حيان" 5/ 546، بنحوه بلا نسبة. (¬4) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 437، بنصه تقريبًا. (¬5) ورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" 2/ 393، والثعلبي 2/ 166 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 50، وبمعناه قال السمرقندي 2/ 254، قال: من بعد السيئة، وفي هذا التفسير نظر؛ لأن المغفرة لا تحصل بعد تلك الجهالة أو السيئة، بل بعد التوبة من الجهالة والسيئة، لذلك قال الطبري وغيره 14/ 190: أي من بعد توبهم. (¬6) أخرجه الطبري 14/ 191، بنحوه من طرق عن ابن مسعود، وورد بنحوه عن ابن =

قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم: أُمَّة، والأُمَّةُ: الرجل الجامع للخير (¬1). وقال ابن عباس في رواية (¬2) الضحاك في قوله: {كَانَ أُمَّةً} قال: كان على الإسلام ولم يمكن في زمانه أحدٌ على الإسلام غيرُه (¬3)، فلذلك قال الله تعالى: {كَانَ أُمَّةً}. وقال مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كفار كلهم، وهو قول إبراهيم (¬4)، وقال ابن قتيبة: أي إماما يَقْتَدِى به الناس؛ لأنه ومن اتبعه أُمَّة، فَسُمِّي أُمَّة؛ لأنه سبب الاجتماع (¬5)، هذا وجه قول من قال: أُمَّةً: معلمًا للخير. ¬

_ = مسعود في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 110، و"تفسير السمرقندي" 2/ 254، و"تفسير الماوردي" 3/ 218 والطوسي 6/ 437، كذلك ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 209 أ، بنحوه، والثعلبي 2/ 166أبلفظه، وانظر: بنحوه عن ابن مسعود في "تفسير البغوي" 5/ 50، والزمخشري 2/ 348، وابن عطية 8/ 540، وابن الجوزي 4/ 503، و"تفسير القرطبي" 10/ 198، والخازن 3/ 141، وأبي حيان 5/ 547، عنهما، و"تفسير الألوسي" 14/ 249، بنحوه عن ابن عباس. (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (أم) 1/ 203، بنصه. (¬2) ساقطة من: (أ)، (د). (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 503، و"الدر المنثور" 4/ 253، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 254، بنحوه بلا نسبة. (¬4) لم أجده في تفسير مجاهد، وورد عنه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 111، بنصه، و"تفسير الثعلبي" 2/ 166 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 50، والفخر الرازي 20/ 134، والخازن 3/ 141، وأبي حيان 5/ 547، وابن كثير 2/ 652، و"الدر المنثور" 4/ 253، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ولم أقف عليه منسوبًا إلى إبراهيم. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" ص 445، بنصه.

122

ومن قال: أُمَّةً أي: مؤمنًا وحده؛ فلأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون مِثْلُه في أُمَّة، ومن هذا يقال: فلان أُمَّة وحْدَه، أي هو يقوم مقام أمة (¬1)، والكلام في وجوه الأمة ومعانيها قد تقدم (¬2). وقوله تعالى: {قَانِتًا لِلَّه} قال ابن عباس والجميع: مطيعًا لله (¬3). وقوله تعالى: {حَنِيفًا} قال ابن عباس: يريد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضَحَّى، هذه صفة الحنيفية (¬4)، والقنوت والحنيفية مما تقدم القول فيه (¬5). وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال ابن عباس: يريد أخلص لله التوحيد صبيًّا وكبيرًا (¬6)، وذكرنا وجه حذف النون مِنْ يكن عند قوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} (¬7) في سورة هود [109]. 122 - قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال علي بن أبي طلحة ¬

_ (¬1) المصدر السابق بنصه. (¬2) سورة البقرة [128]. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 135، و"تنوير المقباس" ص 295 و"الدر المنثور" 4/ 253، وعزاه إلى ابن المنذر، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 360، بنحوه عن قتادة، وورد بلفظه في "تفسير مقاتل" 1/ 209 أ، و"تأويل مشكل القرآن" ص 452، و"تفسير الطبري" 14/ 192، عن مجاهد، وهود الهواري 2/ 394، و"الماوردي" 3/ 219، عن ابن مسعود، والطوسي 6/ 437، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 50، والخازن 3/ 141. (¬4) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 135، بنصه، والخازن 3/ 141، بلا نسبة. (¬5) سورة البقرة آية: [135، 238]. (¬6) انظر: "تفسير الخارن" 3/ 141، بنحوه بلا نسبة. (¬7) منها أنها حذفت لكثرة استعمال هذا الحرف، وهو قول سيبويه وجُلّ البصريين.

عن ابن عباس: يقول: الذكر الحسن (¬1)، وقال في رواية عطاء: يريد الصدق والوفاء والعبادة (¬2). وقال الحسن: النبوة (¬3). وقال مجاهد: لسان صدق في الآخرين (¬4). وقال الكلبي: الثناء الحسن من بعده (¬5). وقال مقاتل: يعني الصلوات عليه مقرونًا بالصلاة على محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وهو قول المتشهد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم (¬6)، وهذه الأقوال متقاربة وجملتها تعود إلى تنويه الله بِذِكْره في الدنيا بطاعته لربه، ومسارعته إلى مرضاته، وإخلاصه في عبادته، حتى صار ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 504، وأبي حيان 5/ 547. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 136، بنصه بلا نسبة. (¬3) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 219، بلفظه، والطوسي 6/ 438، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 504، وأبي حيان 5/ 547، و"القرطبي" 10/ 198، بلا نسبة. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 354، بنحوه، أخرجه الطبري 14/ 193، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 111، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 219، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 504، وأبي حيان 5/ 547، وابن كثير 2/ 651، و"الدر المنثور" 4/ 253 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 255، وهود الهواري 2/ 394، والثعلبي 2/ 166 أ، والبغوي 5/ 51، و"تفسير القرطبي" 10/ 198، والخازن 3/ 141، و"تنوير المقباس" ص 295. (¬6) الخبر عن مقاتل بن حيان كما صرَّح البغوي وابن الجوزي؛ لذلك لم أجده في تفسير مقاتل بن سليمان، وقد ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 166 أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 51، وابن الجوزي 4/ 504، والفخر الرازي 20/ 136، بلا نسبة، والخازن 3/ 141 بلا نسبة.

إمامًا يُقْتَدَى به، قال قتادة: فليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضون به (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وهو أيضًا كان في الدنيا من الصالحين، فلذلك قال: إن [من] (¬2) بمعنى (مع)، وقال أهل المعاني: إنما قال: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، ولم يقل: في أعلى منازل الصالحين بحسب ما تقتضيه حاله من الفضل؛ لمدح من هو منهم، والترغيب في الصلاح ليكون صاحبُه في جَنْبِه إبراهيم، وناهيك بهذا الترغيب في الصلاح، وبهذا المدح لإبراهيم أن يُشَرَّفَ جُمْلة هو فيها، حتى يصير الاستدعاء إليه بأنه فيها (¬3). قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الآية. هذا يدل على أن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- دين إبراهيم، وشريعته كشريعته؛ حيث أُمر باتباعه وأُمرنا باتباعه، وهو الأفضل بسبقه إلى القول بالحق والعمل به من غير تقصير، وفيه قال عبد الله بن عمرو: أُمر باتباعه في مناسك الحج كما علَّم جبريلُ إبراهيمَ عليهما السلام (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 14/ 193، بنحوه، ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 166 أ، بنصه تقريبًا، و"تفسير الماوردي" 3/ 291، بنحوه، والطوسي 6/ 438، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 51، والزمخشري 2/ 348، وابن الجوزي 4/ 504، والخازن 3/ 141، و"الدر المنثور" 4/ 253، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم المعنى، ولعلها سقطت. (¬3) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 438، بنصه تقريبًا. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 317، مفصلًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والثعلبي 2/ 166 أ، مفصلًا عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 198، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 254، مفصلًا وزاد نسبته إلى عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب موقوفًا.

124

124 - قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية. قال مجاهد: اختلفوا فيه واتبعوه وتركوا الجمعة (¬1). وقال السدي: إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى، إن الله لم يخلق يومًا أثقل علينا ولا أبغض إلينا من يوم الجمعة، فاجعل لنا يوم السبت، فلما جعل لهم السبت استحلوا منه ما حرم عليهم (¬2). وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أمرهم موسى بالجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يومًا واحدًا فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئًا من صنعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نبغي إلا اليوم الذي فُرغ فيه من الخلق، يوم السبت، فجُعل عليهم السبت وشُدِّدَ عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى بالجمعة، فقال النصارى: لا نريد أن يكون عِيدُهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد، هذا الذي ذكرنا هو قول أكثر المفسرين في هذه الآية (¬3)، وهو معنى ما روى أبو هريرة أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 355، بنصه، أخرجه الطبري 14/ 193 بنصه من طريقين، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 255 بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 652. (¬2) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 254، بنحوه وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬3) ورد بنحوه منسوبًا إلى الكلبي في: "تفسير هود الهواري" 2/ 395 وليس فيه الخبر عن عيسى عليه السلام، والثعلبي 2/ 166 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 52، وابن الجوزي 4/ 505، والفخر الرازي 20/ 137، والخازن 3/ 141، وورد في "تفسير مقاتل" 1/ 209 أ، بنحوه، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 114، بنحوه، والسمرقندي 2/ 255، بنحوه.

اليهود غدًا والنصارى بعد غد" (¬1) (¬2). وعلى هذا القول معنى قوله: {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}، أي: اختلفوا فيه على نبيهم موسى؛ حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافًا على نبيهم في ذلك اليوم (¬3)، أي لأجله لأنهم اختاروه ولم يختلفوا في اختياره، وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة؛ لأن الله فرغ فيه من خلق الأشياء، وقال آخرون: لا بل الأحد؛ لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه (¬4)، وهذا غلط؛ لأن اليهود لم يكونوا فريقين في يوم السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل. وقال بعض المفسرين أيضًا: أكثر اليهود قالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق الأشياء، وكان شرذمة منهم يرغبون في الجمعة، فهذا ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (غدًا)، وهو خطأ نحوي ظاهر. (¬2) ورد في جميع المصادر بزيادة، وطرفه: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" أخرجه أحمد (2/ 249، 274، 241)، البخاري (876) كتاب: الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) كتاب: الجمعة، باب: هداية هذه الأمة، والدارقطني (2/ 3)، والثعلبي 2/ 166 ب، والبيهقي: الطهارة/ الغسل على من أراد الجمعة (1/ 297، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 475، والبغوي 5/ 52، والبغوي في شرح السنة: الجمعة/ فرض الجمعة 4/ 200، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 255، وهود الهواري 2/ 395، والخازن 3/ 141، وابن كثير 2/ 652. (¬3) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 209 أ، وهود الهواري 2/ 395. (¬4) ورد في "تفسير الطبري" 14/ 193، بنصه، والثعلبي 2/ 166 أ، بنصه، و"تفسير الماوردى" 3/ 220، بنصه، والطوسي 6/ 438، بنصه.

اختلافهم (¬1)، وهذا القول أيضًا في الفساد كالأول، ولم يرو (¬2) أحدٌ أن اليهود اختلفوا في اختيار السبت حتى مال بعضهم إلى الجمعة، ولكن لمّا أشكل على هؤلاء وجه اختلافهم في السبت تخبطوا واضطربوا حتى أتوا بما لا وجه له. وفي الآية قولٌ ثانٍ، وهو ما رواه عطاء عن ابن عباس قال: {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}، يريد تهاونوا وصادوا فيه وتعدوا (¬3). وقال قتادة: استحله بعضهم وحرمه بعضهم (¬4). وهذا قول سعيد بن جبير، وعلى هذا معنى اختلافهم في السبت: اختلافهم في استحلاله بالصيد فيه، وتحريمُه: ما ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الأعراف [163] زمن داود، والوجه هو القول الأول؛ لأن السبت جعل عليهم من أول ما اختاروه لا من زمن داود -عليه السلام-، ومعنى فجعل عليهم: أي جعل ذلك اليوم عقوبة وتشديدًا عليهم، ولم يجعل لهم ذلك اليوم كما ذكر الكلبي: أنهم لما تركوا الجمعة وأرادوا السبت بَدَلَها، جعل عليهم السبت وشدّد عليهم فيه، والآية تدل على نسخ ما سبق من الشريعة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 348، وابن عطية 8/ 544، وأبي حيان 5/ 548، و"تفسير الألوسي" 14/ 253. (¬2) في (ش)، (ع): (يروا) من الرؤية، والمثبت أصح من الرواية؛ كما هو السياق. (¬3) ورد غير منسوب في "تفسير الطوسي" 6/ 438، بمعناه. (¬4) أخرجه الطبري 14/ 194 بنصه، عن سعيد عن قتادة، ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 112، بنصه، عن سعيد عن قتادة، و"تفسير الثعلبى" 2/ 166 ب، بنصه عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 52، عن قتادة، وابن الجوزي 4/ 505، عن قتادة، والخازن 3/ 142، عن قتادة، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 395، بنصه.

125

في السبت بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث أخبر أن السبت جعل عليهم ولم يجعل علينا. وذكر بعض أهل المعاني أن وجه اتصال معنى هذه الآية بمعنى الآية السابقة هو: أنه لمّا أُمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- باتباع الحق، حذر من الاختلاف عليه فيه بما ذكر من حال الذين اختلفوا على نبيهم في السبت بما ليس لهم أن يختلفوا فيه، فشدد عليهم أمره وضيق (¬1). وذكر أبو إسحاق القولين في هذه الآية فقال: جاء في التفسير أنهم أُمروا بأن يتخذوا الجمعة عيدًا، فخالفوا وقالوا: نريد يوم السبت، واختار القول الأول فقال: هو أدل على ما جاء في الاختلاف في السبت (¬2). 125 - قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} قال ابن عباس: دين ربك (¬3). {بِالْحِكْمَةِ} قال أهل التفسير: بالنبوة (¬4)، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} يعني مواعظ القرآن، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي افتلهم عما هم عليه، غير فظ ولا غليظ القلب في ذلك، أي ألن لهم جانبك (¬5)، ومعنى: {بِالَّتِي هِيَ ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 438، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 200. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 223، بنصه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 295، وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 209 أ، والسمرقندي 2/ 255، والثعلبي 2/ 166 ب، والخازن 3/ 142. (¬4) ورد بلفظه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 223، و"تفسير السمرقندي" 2/ 255، و"تفسير الماوردي" 3/ 220، والطوسي 6/ 440، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 506، والخازن 3/ 143، وأبي حيان 5/ 549. (¬5) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 223، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 506.

126

أَحْسَنُ} بالكلمة التي هي أحسن. قال مجاهد: أي أعرض عن أذاهم إياك كله (¬1)، قال: لا تقابلهم بسوء، وهذا قبل الأمر بالقتال. وقال عطاء عن ابن عباس: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بلا إله إلا الله (¬2)، كأنه قال: جادلهم بهذه الكلمة، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} إلى آخرها، معناه: هو أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح. 126 - قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} الآية. هذه الآية فيها ثلاثة أقوال للمفسرين: أحدها: وهو الذي عليه العامة، أنها نزلت لمّا قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين نظر إلى حمزة وقد مُثِّلَ به: "والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك"، فنزل جبريل والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- واقف بعد، بخواتيم سورة النحل، فصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفّر عن يمينه وأمسك عما أراد، هذا قول ابن عباس في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي (¬3)، وعلى هذا قالوا: سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 355 بنصه، أخرجه الطبري 14/ 194 بنصه من طريقين، و"الدر المنثور" 4/ 255، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 506، بنصه، و"تنوير المقباس" ص 295 بنصه. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 366) بمعناه عن الشعبي، وأحمد 5/ 135، بنحوه من طريقين عن أُبي، والترمذي كتاب: التفسير/النحل، بمعناه عن أُبي وحسنه، والنسائي في "التفسير" 1/ 641، بمعناه عن أُبي، والطبري 14/ 195، بنحوه عن عطاء بن يسار، إلا أن فيها: لنُمثلنَّ بثلاثين رجلاً منهم، والطبراني في "الكبير" 11/ 62، بنحوه عن ابن عباس، وفيه: لأمثلن بثلاثين، والحاكم: التفسير، النحل (2/ 359) بمعناه عن أبي وقال صحيح الإسناد، والبيهقي في "الدلائل" 31/ 288 - 289، بنحوه عن ابن عباس، وبمعناه عن أُبي، والواحدي =

الثلاث، فإنها نزلت بالمدينة (¬1). القول الثاني: أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حين كان المسلمون قد أمروا بقتال من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال، وهو قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، وفي هذه الآية أُمروا أن يعاقبوا بمثل ما أصابهم من العقوبة ولا يزيدوا، فلما نزلت سورة برآءة نُسخت هذه الآية، كما نُسخ قولُه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. وهذا قول ابن عباس والضحاك (¬2). ¬

_ = في "أسباب النزول" ص 291 بنحوه عن أبي هريرة وابن عباس، وورد بنحوه في "سيرة ابن هشام" 3/ 47، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 113 وقال: فأمَّا حديث أبي هريرة وابن عباس فإسنادهما ضعيف، وورد في: "تفسير الجصاص" 3/ 194، بنحوه عن الشعبي وعطاء، والسمرقندي 2/ 256، بنحوه عن ابن عباس، والطوسي 6/ 440، عن الشعبي وعطاء، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 507، عن ابن عباس وأُبي، وابن كثير 2/ 652 - 653، عن عطاء بن يسار، وقال: وهذا مرسل، وفيه رجل مبهم لم يسم، كما ذكر أنه روي متصلاً وعزاه إلى البزار عن أبي هريرة، وقال: وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري هو منكر الحديث، وأورده كذلك بنحوه عن الشعبي وأُبي، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 255، بمعناه وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه عن أبي بن كعب، وأورده بنحوه، 4/ 255، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس، والحديث يرتقي بكثرة طرقه إلى الحسن لغيره، وقد حسّنه الترمذي كما صححه الحاكم، وقال الألباني: حسن صحيح الإسناد. "صحيح سنن الترمذي" (3129). (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 166 ب، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 425، والفخر الرازي 19/ 217. (¬2) أخرجه الطبري 14/ 196، بمعناه عن ابن عباس من طريق العوفي ضعيفة، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 112، عن الضحاك، و"تفسير الثعلبي" =

القول الثالث: أن هذه الآية نزلت في نهي المظلوم أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منه , وهذا قول مجاهد وإبراهيم وابن سيرين وسفيان (¬1)؛ قال مجاهد في هذه الآية: لا تعتدوا (¬2). وقال ابن سيرين: يقول: إنْ أَخذَ رجلٌ منك شيئًا فخذ منه مثله (¬3)، ونحوه لفظ إبراهيم. وقال سفيان: لا تأخذ دينارًا مكان درهم (¬4)، وعلى هذا القول: الآية محكمة (¬5). غير أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه ¬

_ = 2/ 167 أ، عنهما، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطوسي" 6/ 441، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 53، عنهما، وابن الجوزي 4/ 508، عنهما، والخازن 3/ 143، عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 256، وزاد نسبته إلى ابن مردويه عن ابن عباس، وقد مضى الرد على المبالغة في دعوى نسخ بعض الآيات بآية السيف عند آية [85]، من الحجر 1/ 359. (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 167 أ، بنحوه عنهم، والطوسي 6/ 441، بنحوه عنهم عدا سفيان. (¬2) "تفسير مجاهد" 355، بلفظه، أخرجه الطبري 14/ 197 بلفظه من طريقين، وورد في: "تفسير الجصاص" 3/ 194، بمعناه، و"تفسير الماوردي" 3/ 221 بمعناه، وانظر:"تفسير ابن كثير" 2/ 652، و"الدر المنثور" 4/ 256، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 361 بنصه عنهما، والطبري 14/ 197، بنصه عنهما، وورد في: "تفسير الجصاص" 3/ 194، بمعناه، و"تفسير الماوردي" 3/ 221، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 652، عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 256، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 361 بمعناه، والطبري 14/ 197 بمعناه. (¬5) وهو ما رجحه الطبري في 14/ 197، والفخر الرازي 20/ 143.

127

الآية وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُم} الآية، [البقرة: 194] وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية، [الشورى:41] بمكة، والمسلمون يومئذ قليل، ليس لهم سلطان يقهر المشركين، فأمر الله المسلمين أن يجازوا بمثل ما أتى إليهم أو يصبروا فهو أمثل، فلما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وأعز الإسلام، أَمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى (¬1) سلطانهم، وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الآية. [الإسراء: 33] يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه من ظالمه، فمن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله (¬2)، فعلى هذا نُسخ من الآية أن يتولى المظلوم أخذَ القصاص، بل يجب أن يرفع ذلك إلى السلطان حتى يعاقب خصمه بمثل ما عاقبه، ثم أخبر أن الصبر خير وأفضل، فقال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُم}، أي: عن المجازاة بالمُثْلَة، أو على ما يصيبكم من أذى المشركين، أو على ظلم من ظلمكم، {لَهُوَ}، أي: الصبر، {خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}. 127 - ثم أمر نبيه -عليه السلام- بالصبر عزمًا، فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}، أي: بتوفيقه ومعونته، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، أي: على المشركين ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (أي)، والمثبت هو الصحيح وموافق للمصادر. (¬2) أخرجه الطبري 2/ 199، بنحوه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي في السنن: الجنايات/الولي لا يستبد بالقصاص دون الإمام (8/ 61) بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 373، بنصه وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم.

بإعراضهم عنك، وقيل: على قتلى (¬1) أُحد؛ فإنهم أفضوا إلى رحمة الله وكرامته (¬2). وقوله: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُون}، قراءة العامة بفتح الضاد (¬3)، واختاره أبو عبيد، وقال: لأن الضِّيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن، وما كان في القلب فإنه الضَّيْق (¬4). وقال أبو عمرو: الضَّيْق، بفتح الضاد: الغَمُّ، والضِّيق، بالكسر: الشدة (¬5)، ونحو هذا قال الفراء: الضَّيْق: ما ضاق عنه صدرك، والضَّيق: ما يكون في الذي يتسع؛ مثل الدار والثوب وأشباه ذلك (¬6). وقال أبو عبيدة: ضَيْق تخفيف ضَيِّق، مثل مَيِّت، يقال: أمر ضَيْق وضَيّق (¬7). وقال أبو الحسن الأخفش: الضيق: مصدر ضاق يضيق ضَيْقًا، ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (قتل)، والصحيح المثبت. (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 550، وصوب الأول؛ وعليه يكون عود الضمائر على جهة واحدة، وذكر كذلك ابن الجوزي 4/ 508، الوجهين، ونسب الأول لابن عباس، وعزا الثاني للواحدي. (¬3) انظر: "السبعة" ص 376، و"علل القراءات" 1/ 310، و"الحجة للقراء" 5/ 80، و"المبسوط في القراءات" ص 226، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 41، و"التيسير" ص 139، و"تلخيص العبارات" ص 111، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 746. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 167 أ، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الخازن" 3/ 144. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 167 أ، بنصه، وفي "علل القراءات" 1/ 311، عن أبي عمرو: والضَّيق الشيء الضَّيِّق، والضِّيق المصدر. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 155، بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (ضيق) 3/ 2082، بنصه. (¬7) "مجاز القرآن" 1/ 369، بنحوه، وهو قول ابن قتيبة كذلك. انظر: "الغريب" لابن قتيبة ص 249.

وضِيْقًا، لغتان في المصدر (¬1). قال أبو علي: وينبغي أن يحمل ضيق هاهنا على أنه مصدر لا على ما قال أبو عبيدة؛ لأن فيه (¬2) إقامة الصفة مقام الموصوف من غير ضرورة (¬3)، ولأن المعنى: لا تكن في ضيق، أي لا يضق (¬4) صدرك من مكرهم، كما قال: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12]، وليس المعنى: ولا تَكُ في أمرٍ ضَيِّق (¬5)، وقرأ ابن كثير في {ضِيق} بكسر الضاد (¬6)، وهما لغتان كما قال أبو الحسن، فمن كسر في معنى من فتح (¬7)، وذكرنا أبلغ وأتم من هذا في ¬

_ (¬1) لم أجده في معانيه، وورد في "الحجة للقراء" 5/ 80، بنحوه، وفي تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي 2/ 461، بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" 10/ 203. (¬2) أي في حمله على أنه مخفف من ضَيّق. (¬3) ودعواه هذه بينها ابن عطية؛ فقال: إن الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة، كما تقول رأيت ضاحكًا فإنما تخصص الإنسان، ولو قلت رأيت باردًا لم يحسن كما قال سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف، وقد أجاز الفخر الرازي إقامة الموصوف مقام الصفة في هذه الآية لفائدة، وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى. انظر: "تفسير ابن عطية" 8/ 551، والفخر الرازي 20/ 143، وأبي حيان 5/ 550. (¬4) في جميع النسخ: (لا يضيق)، وهو خطأ نحوي، والتصويب من المصدر. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 80، بتصرف يسير. (¬6) انظر: "السبعة" ص 376، و"علل القراءات" 1/ 310، و"الحجة للقراء" 5/ 79، و"المبسوط في القراءات" ص 226، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 41، و"التيسير" ص 139، و"تلخيص العبارات" ص 111، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 746. (¬7) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 80، بنصه تقريبًا، وإليه ذهب ابن السِّكِّيت في "الإصلاح" ص 32 فقال: ويقال في صدر فلان ضِيقٌ وضَيْق، ومكانٌ ضَيِّقٌ وضَيْقٌ، وكذلك ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ص 528، وقال السمرقندي 2/ 256: ومعناهما واحد؛ أي: لا يضق صدرك مما يقولون لك ويصنعون بك.

128

سورة النمل [آية: 70]. 128 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} قال ابن عباس: يريد خَافَوْني ولم يشركوا بي شيئًا، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} يريد موحدون، وقال الحسن: اتقوا الله فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم (¬1)، ونحوه قال الكلبي: اتقوا الفواحش والكبائر (¬2). {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}: في العمل. وقال الزجاج في هذه الآية: قد وعدوا النصر (¬3)، أي أن الله ناصرهم كما قال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. ¬

_ (¬1) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 364) بنصه، وأخرجه الطبري 14/ 198 بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 114، بنحوه، وانظر: "الدر المنثور" 4/ 256، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد بنصه غير منسوب في "تفسير الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 461، و"تفسير القرطبي" 10/ 203، و"تنوير المقباس" ص 295. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 224، بنحوه.

سورة الإسراء

سورة الإسراء

1

تفسير سورة الإسراء بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية. قال النحويون: {سُبْحَانَ}: اسم موضوع في موضع مصدر سبَّحتُ الله تسبيحًا وسبحانًا، فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم منه (¬1)؛ كقولك: كَفَّرتُ اليمين تكفيرًا وكُفْرانًا (¬2)، وتأويله في المعنى: أنه البراءة والتنزيه لله مما يُنْفَى عنه، والتسبيح يُذْكر بمعنى الصلاة، ومنه قوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]، أي: من المصلين (¬3)، والسُّبْحةُ: الصلاة النافلة (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 1/ 322، و"المقتضب" 3/ 217، و"تفسير الطبري" 15/ 1، و"المخصص" 17/ 163، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 107، و"شرح المفصل" 1/ 37، و"الخزانة" 7/ 245. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 444 بنصه وعزاه إلى أبي عبيد، وليس في غريبه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 145، و"القرطبي" 10/ 204. (¬3) ورد في "غريب الحديث" 1/ 98 بلفظه، و"الغريب" لابن قتيبة 2/ 96 بلفظه، أخرجه "الطبري" 15/ 1 بلفظه عن ابن عباس وابن جبير والسديّ، وورد بلفظه في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 313، و"تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1610، و"المفردات" ص 392، و"تفسير الماوردي" 3/ 224، و"الطوسي" 6/ 445، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 146. (¬4) ورد بنحوه في "غريب الحديث" 1/ 198، و"تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1610، عن الليث، و"المحيط في اللغة" (سبح) 2/ 495، و"تفسير الطوسي" 6/ 445، انظر: "تفسير الفخر الرازى" 20/ 146، و"اللسان" (سبح) 4/ 1916.

وإنما قيل للمصلي: مُسَبِّح؛ لأنه معظم لله بالصلاة تعظيم المنزه له عما لا يجوز في صفته، وورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله -عزوجل-: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُون} [القلم: 28]، أي: [لو] (¬1) لا تستثنون (¬2)، وهو لغة لبعض اليمن، وتأويله يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته (¬3). وجاء في الحديث: "لولا ذلك لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدرَكَتْ مِنْ شَيء" (¬4) فيقال: إنه نور وجهه (¬5). قال أبو عبيد: ولم نَسمع هذه الكلمة ولا نَعرف لها شاهدًا في كلامهم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين إضافة ليتلاءم لفظ التفسير مع لفظ الآية. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 1، بنحوه عن مجاهد من طريقين، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 209، بنحوه، و"المحيط في اللغة" (سبح) 2/ 495، بنحوه، و"المفردات" ص 393، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 224 بنصه، والطوسي 6/ 445، بنحوه. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 146، و"عمدة الحفاظ" 2/ 189. (¬3) قال الزجاج: فالاستثناء تعظيم الله والإقرار بأنه لا يقدر أحدٌ أن يفعل فعلًا إلا بمشيئة الله -عزوجل-. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 209. (¬4) طرفه: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام .. "، عن أبي موسى، أخرجه أحمد 4/ 401، 405، بنحوه، ومسلم (179) كتاب: الإيمان، باب: قوله (: "إن الله لاينام" بنحوه، ابن ماجه (195) كتاب: المقدمة فيما أنكرت الجهمية 1/ 39، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 272، بنحوه، والآجري في "الشريعة" ص 291، 304، والسهمي في "تاريخ جرجان" ص 130 - بنحوه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 391، بنحوه، والبغوي في "شرح السنة" الإيمان الرد على الجهمية 1/ 173، بنحوه، وورد في "غريب الحديث" 1/ 457 - بنحوه، و"تفسير الطبري" 8/ 3 بنصه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 610 بنصه، قالي ابن شميل.

إلا في الحديث (¬1). وقال غيره: (سُبُحات وجهه): نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال: سبحان الله (¬2)، قال سيبويه معنى سبحان الله: براءة الله من السوء (¬3)، و (سبحان) اسم لهذا المعنى معرفة، يدل على ذلك قول الأعشى: سبحانَ مِنْ عَلْقمَةَ الفَاجِرِ (¬4) أي براءة منه، وهو ذِكْرٌ بِعِظَمِ اللهِ لا يصلح لغيره، وإنما ذَكَرَه الشاعرُ نادرًا؛ بأن ردَّه إلى الأصل وأجراه كالمثل (¬5). ¬

_ (¬1) "غريب الحديث" 3/ 173، بنحوه. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 445 بنصه، وعزاه إلى المبرد. (¬3) "الكتاب" 1/ 324 بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1609 بنصه. (¬4) وصدره: أقولُ لما جاءني فجرُهُ. "ديوانه" ص 93، وورد في "الكتاب" 1/ 324، و"مجاز القرآن" 1/ 36، و"جمهرة اللغة" 1/ 278، و"الخصائص" 2/ 435، و"وتهذيب اللغة" (سبح) 2/ 1609، و"مجمل اللغة" 1/ 482، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 107، 578، و"تفسير الثعلبي" 7/ 93أ، و"الطوسي" 6/ 445، و"الأساس" 1/ 418، و"شرح المفصل" 1/ 37، و"اللسان" (سبح) 4/ 1914، و"الدر المنثور" 4/ 258، و"الخزانة" 7/ 237، وورد بلا نسبة في "المقتضب" 8/ 213، و"الخصائص" 2/ 197، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 118، و"المخصص" 15/ 187 و"المفردات" ص 393، و"تفسير الماوردي" 3/ 223، و"عمدة الحفاظ" 2/ 188. وفي جميع المصادر -عدا الديوان- فخره، الفاخر، فلعلها تصحفت فيه، فرواية المصادر أصح؛ لأن الكلام في الفخر لا الفجْر، كما قال أبو عبيدة: قال الأعشى تبرؤا وتكذيبًا لفخر علقمةَ. "مجاز القرآن" 1/ 36. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 445 بنصه تقريبًا، قال الراغب: تقديره سُبحان علقمة، على طريق التهكم، فزاد فيه (منْ) ردًا إلى أصله، وقيل: أراد سبحان الله =

وقال صاحب النظم: السبح في اللغة: التباعد، يدل عليه قوله -عز وجل-: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 7] أي متباعدًا في المذهب والمدة لما تريد من قضاء حوائجك، ومعنى سَبَّحَ الله: بعّده ونزهه عما لا يليق به (¬1)، والتنزيه معناه: التبعيد (¬2)، و {سُبْحَنَ} اسم بمعنى المصدر، موضوع موضع الفعل، وكثيرًا ما تضع العربُ المصادرَ مواضع الأفعال؛ كقوله عز وجل: {فَضَرْبَ اَلرِّقَابِ} [محمد: 4] أي اضربوها، ومثله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] أي ويقول، فعلى هذا معنى {سُبْحَنَ} أي سَبِّحوه ونَزِّهوه عن الشريك والولد و (¬3) ما لا يجوز في صفته، ويجوز أن يكون هذا التنزيه راجعًا إلى الله تعالى، وبذلك فسَّر ابن عباس فقال: نزّه (¬4) نفسه (¬5)، وعلى هذا يجوز أن ينتصب {سُبْحَنَ} على النداء بمعنى: يا سبحان الذي أسرى بعبده. قال الزجاج: معناه سَيَّر عبدَه (¬6)، يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ومضى الكلام ¬

_ = من أجل علقمة، وقد اعترض السمين والبغدادي على قوله الأول؛ فقال السمين: وفيه نظر، وقال البغدادي: وهو ضعيف لغةً وصناعة، انظر: "الدر المصون" 1/ 259، و"الخزانة" 7/ 245. (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 145 بنصه. (¬2) انظر (سبح) في "تهذيب اللغة" 2/ 1609، و"اللسان" 4/ 1914. (¬3) الواو ساقطة من (أ)، (د). (¬4) في جميع النسخ: نزّهه، والصحيح المثبت كما في سورة النحل [آية: 1] عن ابن عباس أيضًا. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 282، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 200 أ، و"هود الهواري" 2/ 359، و"السمرقندي" 2/ 228، و"الفخر الرازي" 19/ 218. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 225 بنصه.

في السُّرَى والإسراء (¬1). وقوله تعالى: {لَيْلًا} قال مقاتل: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة (¬2)، {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} اختلفوا فيه، فقال الحسن وقتادة: يعني نفس المسجد (¬3)، يدل عليه ما روى أنس والحسن: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق .. " (¬4) وذكر حديث المعراج. ¬

_ (¬1) سورة هود آية [81]. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 210 بنصه. (¬3) ورد في "تفسير الجصاص" 3/ 195 بنصه عنهما، و"الطوسي" 6/ 446 بنصه عنهما، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 4، عنهما. (¬4) ثبت حديث الإسراء والمعراج بعدة روايات مختصرة ومطولة وفي بعض الروايات زيادات لا تصح، فرواه أنس بن مالك ومالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- برواية: "بينما أنا في الحطيم- الحِجْر- مضطجعًا إذ أتاني .. " أخرجه أحمد 4/ 208، والبخاري (3207) كتاب: بدء الخلق، باب: ذِكْر الملائكة 3/ 1173 وفي: فضائل الصحابة/المعراج (3/ 1410، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 377، وابن عبد البر في "التمهيد" 8/ 38، والبغوي في "شرح السنة" الفضائل/المعراج 13/ 336، ورواه أنس بن مالك وأبو سيد برواية: (أُتيت بالبراق) و (أُتيت بدابة) أخرجه أحمد 3/ 148، ومسلم (162) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء، و"عبد الرزاق" 2/ 365، و"الطبري" 15/ 3 - 4، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 382، والبغوي في "شرح السنة" 13/ 343، وراه أبو ذر برواية: (فُرج سقف بيتي وأنا بمكة)، وأخرجه مسلم (163) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء، و"البغوي" 5/ 60، ورواه مالك بن صعصعة برواية: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان) أخرجه مسلم (164)، كتاب: الأيمان، باب: الإسراء، و"الطبري" 15/ 3، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 373، وورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 211 أ، وسيرة ابن هشام 2/ 2 - 10، و"تفسير السمرقندي" 2/ 258، و"هود الهواري" 2/ 397، و"الثعلبي" 7/ 93 ب، و"تفسير =

وقال عامة المفسرين: أُسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دار أمِّ هانئ (¬1)، وعلى هذا أراد بالمسجد الحرام مكة، ومكة والحرم كله مسجد (¬2)، وهو اختيار الفراء (¬3) والزجاج (¬4)، {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} قالوا كلهم: يعني بيت المقدس (¬5)، وقيل له: الأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام (¬6). وقوله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، الأكثرون قالوا: باركنا حوله ¬

_ = البغوي" 5/ 59، و"القرطبي"10/ 205، و"الخازن" 3/ 145، وابن كثير 3/ 3 - 28، و"مجمع الزوائد" 1/ 64 - 73، و"الدر المنثور" 4/ 258، و"الكنز" 11/ 385 - 391، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" 1/ 380. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 2، بنحوه عن الكلبي عن أبي صالح عنها طريق واهية، وورد بنحوه في: "تفسير الجصاص" 3/ 194، عنها، و"السمرقندي" 2/ 258، عن ابن عباس، و"الثعلبي" 7/ 93 أ، عن الكلبي، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 4، و"الفخر الرازي" 20/ 146. تقدمت ترجمتها. (¬2) ورد في "تفسير الجصاص" 3/ 195 بنصه، و"الماوردي" 3/ 225، بنحوه عن أبي صالح عن أم هانئ، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 350، عن ابن عباس، و"ابن الجوزي" 5/ 5، عن أبي يعلى، و"الفخر الرازي"20/ 146، عن ابن عباس. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 115، بنحوه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 225، بنحوه. (¬5) ورد بنصه في "تفسير مقاتل" 1/ 210 أ، و"السمرقندي" 2/ 258، و"هود الهواري" 2/ 397، و"الثعلبي" 7/ 93 أ، و"الماوردي" 3/ 226 بنصه، و"الطوسي" 6/ 446، انظر: "تفسير الخازن" 3/ 145. (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 93 أبنصه، و"الماوردي" 3/ 226 بنصه، و"الطوسي" 6/ 446، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 9، و"ابن الجوزي" 5/ 5، و"الفخر الرازي" 20/ 146، و"القرطبي" 10/ 212، و"الخازن" 3/ 145.

بالثمار والأنهار (¬1)، وقيل: بمن جعلنا حوله من الأنبياء والصالحين (¬2)، وهو قول مجاهد؛ قال: لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة (¬3). وقوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله وعظمته، وأخبر بها الناس من غد تلك الليلة (وهي معروفة مشهورة في الأخبار. {إِنَّهُ} أي الذي أسرى بعبده، {هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، قال العلماء في هذه الآية: أخبر الله تعالى عن إسرائه بعبده) (¬4) إلى بيت المقدس ليلاً، وأصبح بمكة وأخبر أهلها بذلك فلم يصدقوه حتى بَيَّنَ لهم العلامات التي رآها في الطريق، ووصف لهم المسجدَ، ولم يكن رآه قبل ذلك، وكان الأمر على ما قال فثبت بذلك صدقه وظهر إعجازه (¬5)، ثم أخبر هو -صلى الله عليه وسلم- أنه ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 211 أ، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 115، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 225، و "معاني القرآن" للنحاس 4/ 119، و"تفسير السمرقندي" 2/ 259، و"الثعلبي" 7/ 93 ب، و"الماوردي" 3/ 226، و"الطوسي" 6/ 446، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 10، و"ابن الجوزي" 5/ 5، و"الفخر الرازي" 20/ 146، و"القرطبي" 10/ 212، و"الخازن" 3/ 145، و"ابن كثير" 3/ 3، و"الدر المنثور" 5/ 236، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 447 بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 212. (¬3) ليس في تفسيره، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 93 ب بنصه، و"الماوردي" 3/ 226 بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 58، وبلا نسبة في "تفسير ابن الجوزي" 5/ 5، و"الفخر الرازي" 20/ 146، و"الخازن" 3/ 145. (¬4) ما بين القوسين كتب على الهامش في نسخة (أ). (¬5) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 211 أ، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 116، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 226، و"تفسير هود الهواري" 2/ 406، و"الثعلبي" 7/ 99 ب، و"الطوسي" 6/ 446.

2

عرج به تلك الليلة إلى السماء على ما يروى في الحديث (¬1) واجتمعت الرواة أصحاب الأخبار على صحته، فيثبت عروجه إلى السماء بخبر الصادق الذي يجب قبول قوله. 2 - قوله تعالى: {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} الآية. ذكر الله تعالى في الآية الأولى كرامة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن أَسرى به، ثم ذكر أنه أكرم موسى أيضًا قبله بالكتاب الذي آتاه فقال: {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة (¬2). {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} قال قتادة: جعله الله هدى لهم يخرجهم من الظلمات إلى النور (¬3). وقال الزجاج: أي دللناهم به على الهدى (¬4). وقوله تعالى: {أَلَّا تَتَّخِذُوا} قرأ أبو عمرو بالياء (¬5)؛ لأن المتقدم (¬6) ذكرهم على لفظ الغَيبة، والمعنى: هديناهم؛ لأن لا يتخذوا من دوني وكيلاً، ومن قرأ بالتاء (¬7) فهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغَيبة، مثل: ¬

_ (¬1) سبق ذكر الحديث وعزوه. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 212 أبلفظه، و"السمرقندي" 2/ 259، و"الماوردي" 3/ 227، و"الطوسي" 6/ 447. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 18 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 294، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 226 بنصه. (¬5) انظر: "السبعة" ص 378، و"علل القراءات" 1/ 313، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 363، و"الحجة للقراء" 5/ 83، و"المبسوط في القراءات" 227، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 42، و"التيسير" ص 139. (¬6) في جميع النسخ: (التقدم)، والمثبت هو الصحيح والموافق للمصدر. (¬7) وهم الباقون. انظر المصادر السابقة.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:1] ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬1) [الفاتحة:5]. قال أبو علي الفارسي: يجوز في (أَنْ) في قوله: {أَلَّا تَتَّخِذُوا} [ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن تكون (أَنْ) الناصبة للفعل، فيكون المعنى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى} لأن لا تتخذوا] (¬2). والآخر: أن تكون معنى (أي) التي للتفسير، وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة؛ كما انصرف منها إلى الخطاب والأمر في قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6] فكذلك انصرف مِن الغَيبة إلى النهي في قوله: {أَلَّا تَتَّخِذُوا}. والثالث: أن تكون زائدة (¬3)، ويحمل {أَلَّا تَتَّخِذُوا} على القول المُضْمَر، فيكون التقدير: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} فقلنا: لا تتخذوا من دوني شريكًا (¬4). قال المبرد: ولا أعرف لهذا وجهًا في العربية (¬5)؛ لأنه لا يكون الوكيل الذي يوكله موكله ليخلفه فيما وكله فيه شريكًا، والوكيل هو الذي يفعل ما يفعله المُوَكِّل، والله -عز وجل- يتعالى عن أن يكون دونه من يُدْعى كما يُدْعَى، وَيفْعل كما يفعل، فنهاهم أن يضعوا أحدًا بهذا الموضع؛ إذ لا ¬

_ (¬1) ورد بنصه تقريبًا في "الحجة للقراء" 5/ 83. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د). (¬3) انظر التعليق على القول بالزيادة في القرآن، عند آية [10] من سورة إبراهيم. (¬4) "الحجة للقراء" 5/ 84 تصرف فيه بالتقديم والتأخير والاختصار. (¬5) أي تفسير وكيلًا بـ (شريكًا)، وهو قول مجاهد، أخرجه "الطبري" 15/ 1817، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 120، و"تفسير الماوردي" 3/ 227، و"الطوسي" 6/ 447، و"الدر المنثور" 4/ 294 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقد ورد قول المبرد في "تفسير الطوسي" 6/ 447، بنحوه.

3

كافي غيره (¬1). قال أبو علي: أفرد الوكيل وهو في معنى الجميع؛ لأن فعيلًا يكون مفردًا في اللفظ والمعنى على الجميع، كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬2) [النساء: 69]، وقد مر. 3 - قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} يجوز في نصب ذرية وجهان؛ أحدهما: أن يكون منصوبًا على النداء، يعني: يا ذُرِّيّةَ من حملنا مع نوح، وهذا قول مجاهد؛ قال: هذا نداء (¬3)، وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء؛ كأنه قيل لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلًا يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة، (قال قتادة: الناس كلهم ذرية نوح ومن أنجى الله في تلك السفينة (¬4). وقال الحسن: وكان معه في السفينة) (¬5) ثلاثة بنين: يافث وسام وحام، والناس كلهم من ذرية أولئك (¬6). قال الزجاج: وإنما ذُكِّروا بنعمة الله عندهم؛ إذ أنجى آباءهم (¬7) من ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 85 بنصه. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 67، و"ابن الجوزي" 5/ 6، و"الفخر الرازي" 20/ 154، و"القرطبي" 10/ 213، و"الدر المنثور" 4/ 294، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 19 بنصه، وتضمن الخبر قول الحسن اللاحق بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 6، و"الفخر الرازي" 20/ 154؛ كالطبري. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (د). (¬6) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" 2/ 407. (¬7) في جميع النسخ: (آباؤهم)، وهو خطأ نحوي ظاهر، وفي المصدر (أبناءهم)، وهو خطأ كذلك، لكن في اللفظ.

4

الغرق بأنهم حُمِلُوا مع نوح (¬1)، الوجه الثاني؛ في نصب ذرية: أن يكون مفعول الاتخاذ؛ لأنه فعلٌ يتعدى إلى مفعولين؛ كقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬2) [النساء: 125]، ويجوز هذا الوجه في القراءتين جميعًا، والمعنى: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، ذكر هذا أبو إسحاق وأبو علي (¬3). ثم أثنى على نوح فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، قال المفسرون: كان نوح إذا أكل طعامًا أو لبس ثوبًا حمد الله تعالى، فَسُمِّي عبدًا شكورًا (¬4). 4 - قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} قال ابن عباس والمفسرون: أعلمناهم وأخبرناهم (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 226 بنصه تقريبًا. (¬2) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 85 بنصه. (¬3) انظر المصدرين السابقين. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 19 بنصه وبنحوه من عدة طرق، ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 212 أ، و"السمرقندي" 2/ 259، و"هود الهواري" 2/ 407، و"الثعلبي" 7/ 100 أ، و"الماوردي" 3/ 228، والطوسي (6/ 447، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 67، و"الزمخشري" 2/ 251، و"ابن الجوزي" 5/ 7، و"الفخر الرازي" 20/ 155، و"القرطبي" 10/ 213. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 21 بلفظه عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 122 بلفظه عن ابن عباس، و"تفسير السمرقندي" 2/ 260 بلفظه، و"هود الهواري" 2/ 408، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 104 أبلفظه، و"الماوردي" 3/ 228، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 448 بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 67، و"ابن عطية" 9/ 15، و"ابن الجوزي" 5/ 7، عن ابن عباس, و"الفخر الرازي" 20/ 155 , والخازن (3/ 152، و"أبي حيان" =

قال أبو إسحاق: معناه أعلمناهم في الكتاب وأوحينا إليهم، ومثل ذلك: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66] معناه أعلمناه وأوحينا إليه (¬1)، ومعنى القضاء في اللغة: قطع الأشياء عن إحكام (¬2)، ومنه قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] وقول الشاعر (¬3): وعليهما مَسْرودَتان قضاهما (¬4) قال ابن قتيبة في هذه الآية: أعلمناهم؛ لأنه لما خَبَّرهم أنه (¬5) ¬

_ = 6/ 8، عن ابن عباس، و"الدر المنثور" 4/ 295 - 296، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 227 بنصه تقريبًا. (¬2) انظر (قضى) في "تهذيب اللغة" 3/ 2986، و"المحيط في اللغة" (5/ 462، و"مجمل اللغة" 2/ 757، "الصحاح" 6/ 2463، و"اللسان" 6/ 3665. ذكر أصحاب الوجوه والنظائر أن قضى وردت في القرآن على عشرة أوجه، ونقل ابن حجر في الفتح عن إسماعيل النيسابوري أنها وردت في القرآن على خمسة عشر وجهًا، كما ذكر ضابطًا لمعنى القضاء، نقله عن الأزهري؛ وهو: كل ما أحكم عمله أو ختم أو أكمل أو وجب أو ألهم أو أنفذ أو مضى فقد قضى. انظر: "التصاريف" ص 340، و"إصلاح الوجوه والنظائر" ص 385، و"فتح الباري" 8/ 241. (¬3) هو أبو ذُؤَيب الهذلي، مخضرم (ت 27 هـ). (¬4) وعجزه: داوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوَابغِ تُبَّعُ "ديوان الهذليين" ص 19، وورد في "تأويل مشكل القرآن" ص 441، و"تهذيب اللغة" (قضى) 3/ 2986، و"اللسان" 6/ 3665. وورد برواية: (تعاوَرا مَسْرودَتَيْنِ قضاهما) في "المعاني الكبير" 2/ 1039. وورد غير منسوب في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 227، (مسرودتان): درعان، (قضاهما): فرغ منهما؛ أي داود عليه السلام، أو صنَعُ السوابغ، و (الصَّنَعُ): الحاذق بالعمل، والصَّنَع هاهنا: تُبَّع. (¬5) الأولى أنهم كما في المصدر.

5

سيفسدون في الأرض، حَتَّمَ بوقوع الخبر (¬1)، و {إِلَى} في هذه الآية من صلة الإيحاء؛ لأن معنى: {قَضَيْنَا}: أوحينا، فالمعنى: إنا أوحينا إليهم، كذا قال أبو إسحاق (¬2). وقوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ} قال ابن عباس: يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة (¬3). وقوله تعالى: {فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} قال الكلبي: يعني أرض مصر (¬4)، {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} قال الزجاج: معناه لَتَعْظُمُنَّ ولَتَبْغُنَّ؛ لأنه يقال لكل مُتجبِّرٍ: قَدْ عَلا وتعظَّمَ (¬5). 5 - قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} يعني أُولى (¬6) المرتين، {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال عطية: أفسدوا المرة الأولى فأرسل ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 441 بنصه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 227 بنصه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 296، بنحوه، و"تفسير البغوي" 5/ 79، بنحوه عن قتادة، وورد بنصه وبنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 260، و"الثعلبي" 7/ 104 أ، و"ابن الجوزي" 5/ 7، و"الفخر الرازي" 20/ 155، و"القرطبي" 10/ 214، و"الخازن" 3/ 152. (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 7، و"الفخر الرازي" 20/ 155 - بلا نسبة فيهما، وهو تفسير غريب للأرض المعنية بأنها مصر؛ لأن الأحداث كلها تدور في بيت المقدس والشام؛ كما نصت عليه الروايات وأشار إليها بعض المفسرين؛ كالبغوي 5/ 79، و"القرطبي" 10/ 214، و"الخازن" 3/ 152، والغريب أن أبا حيان نسب إلى الكلبي خلافه؛ فقال: وقال الكلبي: لتعصنّ في الأرض المقدسة. انظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 9. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 227، بنصه. (¬6) ساقطة من (ش)، (ع).

الله عليهم جالوت، وعاد ملكهم كما كان، وهذا قول قتادة ورواية عطية عن ابن عباس (¬1)، وعلى هذا القول: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} هم جالوت وجنوده. ومعنى: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: البأس: القتال (¬2)، ومنه قوله: {وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]. ومعنى {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ}: أرسلنا عليكم وخَلَّيْنَا بينكم وبينهم خاذلين إياكم (¬3). وقال مجاهد في قوله: {عِبَادًا لَنَا} الآية. قال: جند جاءهم (¬4) من ¬

_ (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 373، بنحوه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 28، بنحوه عن ابن عباس من طريق عطية (ضعيفة) وبنحوه من طريقين عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 123، بنحوه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" 7/ 104 أ، بنحوه عن ابن عباس، و"الطوسي" 6/ 448، بنحوه عنهما، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 9، عنهما، و"القرطبي" 10/ 215، عن قتادة، وابن كثير 3/ 29، عنهما، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 299 وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن عطية، وأورده وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وأورده 5/ 244 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 5/ 45 بلفظه، وأخرجه "الطبري" 15/ 27 بلفظه من عدة طرق عن ابن مسعود ومجاهد وقتادة والضحاك، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 315 وزاد نسبته إلى وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود. (¬3) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 229، بنحوه عن الحسن، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 352، و"الفخر الرازي" 20/ 155. (¬4) هكذا في جميع النسخ، والأولى جاؤوهم؛ لأن جند جمع، ويتناسب مع قوله: يتحسسون، وهكذا في المصدر.

فارس، يتحسسون أخبارهم ويسمعون حديثهم، معهم بختنصر فوعى (¬1) حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعت إلى فارس ولم يكن قتال، ونُصر عليهم بنو إسرائيل، فهذه وعد الأولى، وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬2). وقوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} قال الليث: الجوس والجوسان: التردد خلال الدور والبيوت في الغارة ونحو ذلك (¬3)، ومعنى جاسوا: ترددوا وتخللوا (¬4). وقوله تعالى: {خِلَالَ الدِّيَارِ} يعني ديار بيت المقدس، والخلال: الانفراج بين الشيئين (¬5) واختلفت العبارات في تفسير جاسوا؛ فقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: مشوا (¬6). ¬

_ (¬1) في (د): (مرفوعًا). (¬2) "تفسير مجاهد" ص 428 وعبارته مضطربة ومخالفة لجميع المصادر، وأخرجه "الطبري" 15/ 30 بنصه عن مجاهد من ثلاثة طرق، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 215، و"الدر المنثور" 4/ 299 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، ولم أقف عليه منسوبًا إلى ابن عباس. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (جاس) 1/ 521 بنصه تقريبًا. (¬4) انظر: (جوس) في "تهذيب اللغة" 1/ 521، و"المحيط في اللغة" 7/ 146، و"مجمل اللغة" 1/ 203، و"الصحاح" 3/ 915، و"اللسان" 2/ 726 "جوس". (¬5) انظر: "المحيط في اللغة" (خل) 4/ 175، و"مجمل اللغة" 1/ 276، و"الصحاح" (خلل) 4/ 1687, و"المحكم" (خلل) 4/ 371، و"اللسان" 2/ 1249. (¬6) في جميع النسخ: (فتشوا)، والتصويب من المصادر؛ فقد أخرجه "الطبري" 15/ 27 - 28 بلفظه من الطريق نفسه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 123 بلفظه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 104 أبلفظه، و"الماوردي" 3/ 229 بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 9، و"القرطبي" 10/ 216، و"الدر المنثور" 4/ 299، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم

وقال أبو عبيدة: طلبوا مَنْ فيها (¬1). وقال الفراء: يقول: قتلوكم بين بيوتكم (¬2). وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا (¬3). وقال الزجاج: أي فطافوا خلال الدّيار هل بقي أحدٌ لم يقتلوه، والجَوْس: طلب الشيء باستقصاء (¬4)، هذا كلامهم، والجَوْس يحتمل هذه المعاني التي ذكروها، إنّ معنى الجوس هو التردد للطلب، فيحتمل أنهم جاسوا لطلب الخبر على قول مجاهد (¬5)، ويحتمل أنهم جاسوا بالقتل والعبث وطلب من يقتلونه (¬6)، ويشهد لهذا قول حسان: ومِنَّا الذي لاقَى بِسَيْفِ محمدٍ ... فَجَاس به الأعداءَ عَرْضَ العَسَاكر (¬7) أي: تخللهم قتلًا بسيفه. وقوله تعالى: {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} قال قتادة: قضاء قضاه على القوم كما تسمعون (¬8). ¬

_ (¬1) ليس في مجازه 1/ 370، والذي فيه قال: قتلوا. وقد ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 104 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 116 بنصه. (¬3) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 252 بنصه تقريبًا. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 227 بنصه تقريبًا. (¬5) تقدم قوله في الصفحة السابقة حاشية (2). (¬6) ورد في "تفسير الطبري" 15/ 28، بنحوه. (¬7) لم أجده في ديوانه المطبوع، وورد في "تفسير الطبري" 15/ 28، و"الماوردي" 3/ 229، و"الطوسي" 6/ 449، و"القرطبي" 10/ 216، والشوكاني 3/ 300، و"الدر المصون" 7/ 314. (¬8) أخرجه "الطبري" 15/ 28 بنصه.

6

6 - قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس في رواية عطية: وقتل داود جالوت وعاد ملكهم كما كان (¬1). وقال مجاهد: نُصِرَ عليهم بنو إسرائيل (¬2). والكرة معناها: الرجعة والدولة (¬3)، وهذه الآية تدل على أنهم هُزِمُوا في المرة الأولى وقُتِلَ منهم. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}، قال أبو عبيدة: النفير: العدد من الرجال (¬4). (وقال الزجاج: أي جعلناكم أكثر منهم نُصَّارًا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 30 - 31 مفصلًا من طريق العوفي (ضعيفة)، النظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 29، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الماوردي" 3/ 230، و"الزمخشري" 2/ 352، و"ابن الجوزي" 5/ 10، و"الفخر الرازي" 20/ 156، و"القرطبي" 10/ 217، و"أبي حيان" 6/ 10، و"الألوسي" 15/ 18. (¬2) ليس في تفسيره، أخرجه "الطبري" 15/ 30 - 31 جزء من أثر بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 299 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) ورد بنحوه في: "غريب القرآن" لليزيدي ص 211، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 252، و"تهذيب اللغة" (كر) 9/ 442 و"المحيط في اللغة" (كر) 6/ 138، و"مجمل اللغة" 2/ 767، و"الصحاح" (كرر) 2/ 804، و"تفسير الثعلبي" 7/ 104 ب) بنصه، و"الطوسي" 6/ 449، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 79، و"ابن الجوزي" 5/ 10، و"القرطبي" 10/ 217. (¬4) ليس في مجازه 1/ 371 والذي فيه، قال: مجازه: من الذين نفروا معه، وورد نحوٌ من هذا القول عن أبي عبيد؛ قال: النفر والرَّهط: ما دون العشرة من الرجال. "تهذيب اللغة" (نفر) 4/ 3627. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 22 بنصه.

7

قال ابن قتيبة: أكثر عددًا، وأصله مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل مِنْ عشيرته وأهل بيته، وهو (¬1) النَّفِيرُ والنافر واحد؛ كما يقال: قدير وقادر (¬2)، وذكرنا معنى نفر عند قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ} (¬3) [التوبة: 122] وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا} (¬4) [التوبة: 41]. وقال الزجاج: ويجوز أن يكون النفير جمعًا (¬5)؛ كالكليب والعبيد والضَّئين والمَعِيز (¬6)، ونفيرًا منصوب على التَّمييز (¬7). 7 - قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} الآية. يحتاج هاهنا إلى إضمار القول على تقدير: وقلنا: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}، قال ابن عباس: يريد إن أطعتم الله فيما بقي عفا عنكم المساوئ، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} قال: يريد الفساد وعصيان الأنبياء وقتلهم، {فَلَهَا}، قال: يريد فعلى ¬

_ (¬1) ضمير الفصل هو غير موجود في المصدر. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 252 بنصه. (¬3) في كلا الموضعين لم يتكلم عن المعنى اللغوي لنفر! (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬5) قال ابن عطية: وعندي أن النفير اسم للجمع الذي يَنْفُر، سُمِّي بالمصدر، ومنه قول أبي سفيان لبني زهرة: لا في العير ولا في النفير، أي: ولا في جمع قريش الخارج من مكة إلى بدر. انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 21. (¬6) الضَّئينُ: جمع ضأن، والضَّأْن ذوات الأصواف من الغنم. انظر (ضأن) في "جمهرة اللغة" 2/ 1078، و"تهذيب اللغة" 3/ 2083، و"محيط في اللغة" 8/ 47، و"الصحاح" 6/ 2153. والمَعِيْزُ: جمع مِعْزَى وماعز، والمَعْز: ذوات الشعر من الغنم. انظر (معز) في "جمهرة اللغة" 2/ 816، و"تهذيب اللغة" 4/ 3420، و"المحيط في اللغة" 1/ 398 , و"الصحاح" 3/ 896. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 228 بنصه.

أنفسكم يقع الوبال. قال النحويون: إنما قيل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} للتقابل، والمعنى: فإليها أو فعليها (¬1)، مع أن حروف الإضافة تقع بعضها موقع بعض إذا تقاربت، كقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي إليها. وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي وعد المرة الآخرة من إفسادكم، قال المفسرون: فأفسدوا المرة؛ فقتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم (بخت نصر) البابلي المجوسي (¬2) -أبغض خلقه إليه- فَسَبَا وقتل ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 15/ 31، و"الثعلبي" 7/ 104 ب، و"الطوسي" 6/ 451، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 10، و"الفخر الرازي" 20/ 158 بنصه، و"الدر المصون" 7/ 316. وذهب النحاس إلى أن لها على بابها، وقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}: أي يحصل العقاب لها، ثم قال: و (لها) بمعنى (عليها) لا يقوله النحويون الحذاق، وقد رجحه العكبري والمنتجب؛ قال العكبري: وقيل: هي على بابها، وهو الصحيح؛ لأن اللام للاختصاص، والعامل مختص بجزاء عمله حسنة وسيئة. انظر "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 231، و"الإملاء" 2/ 88، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 260. (¬2) هذا القول مشهور، بل قال "الطبري" 15/ 27: لا اختلاف بين أهل العلم أن إفسادهم في المرة الآخرة كان قتلهم يحيى بن زكريا، ومع ذلك فقد رده كثير من العلماء، قال الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا، فغلط عند أهل السير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شَعْيَا وفي عهد أرمياء، قالوا: ومن عهد أرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا -عليهما السلام- أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وقال السهيلي: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بن مريم -عليهما السلام- بزمان طويل، .. ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شَعْيَا؛ فقد كان بختنصر إذ ذاك حيًا, فهو الذي قتلهم وخرَّب بيت المقدس. وقال الفخر الرازي: التواريخ تشهد بأن =

وخَرَّب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب (¬1). ¬

_ = بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه السلام، ويحيى بن زكريا -عليهما السلام- بسنين متطاولة. انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 103 أ، و"ابن الجوزي" 5/ 11, و"الفخر الرازي" 20/ 158، و"القرطبي" 10/ 220. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 35 - 43، بنحوه عن ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة وابن جبير، وورد بنحوه في "تفسير هود الهواري" 2/ 409، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 80، و"ابن الجوزي" 5/ 11. اختلف في فسادي بني إسرائيل من حيث الوقوع وعدمه على ثلاثة أقوال: الأول: أن كلا الفسادين وقع قبل بعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزول القرآن، ووقعا في بيت المقدس، وإليه ذهب القدامى من المفسرين، واختلفوا في الفساد الأول؛ فذهب علي وابن مسعود وابن عباس وابن زيد -رضي الله عنهم- إلى أنه قتلهم زكريا عليه السلام، وروى ابن إسحاق أنه كان قتلهم شعياء، وأيَّد قوله بأن بعضَ أهلِ العلم أخبره أن زكريا مات موتًا ولم يُقتل، أما فسادهم في المرة الآخرة، فقد ذكر ابن جرير أنه لا خلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام. انظر: "تفسير الطبري" 15/ 27 - 28، و"الدر المنثور" 4/ 296. القول الثاني: أن الفساد الأول مضى قبل الإسلام والثاني هو فسادهم الحالي، قاله بعض المعاصرين، ومنهم الدكتور مصطفى مسلم، فقد ذكر أن الإفساد الأول كان بعد مملكة سليمان عليه السلام، وأن الإفساد الثاني لمَّا يأت بعد، لكنه قال: وبدأت بذوره من بداية مؤتمر اليهود في بال بسويسرا عام 1897 م والتي وضعوا فيها المخطط المدروس لإفساد العالم، ويرى أن اللبنة الأولى قيام دولة إسرائيل، ومنذ ذاك الوقت -إلى الآن- وعلو بني إسرائيل في تزايد مستمر. انظر: "معالم قرآنية في الصراع مع اليهود" ص 252. وأما الشيخ سعيد حوى فقد وضع ضابطًا لترجيح أَيِّ قول حول إفسادهم؛ فقال: إن النص يحدثنا عن إفسادتين لبني إسرائيل يرافقهما علو كبير، وهذا مهمّ جدًّا في فهم الموضوع؛ لقد أفسد بنو إسرائيل إفسادات كثيرة ولكن لم يكن يرافق كل ذلك علوّ كبير لهم ودولة، كما أنهم قد علوا علوًّا كبيرًا في مراحل -كما حدث في زمن داود وسليمان -عليهما السلام- ولكنه علو لا يرافقه فساد. ثم قال: ويبدو بما لا =

وجواب قوله: {فَإِذَا جَاءَ} محذوف، تقديره: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} بعثنا {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}، ودل عليه ما تقدم، من قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} فَحُذف لتقدم ذكره، ولأنه جواب (إذا) وشرطها يقتضيه، فحُذف للدلالة عليه، قاله الفراء (¬1) وأبو علي (¬2) وصاحب النظم. ¬

_ = يقبل الجدل أن الإفسادة الأولى هي التي سلط عليهم بها بختنصر، فهي الإفسادة التي رافقها بغي وطغيان وعتو، ثم قال: فهل الإفسادة الثانية هي ما نراه الآن؟ إذ لهم دولة وسلطان، وإفساد وطغيان .. وبعد مناقشات رجح أن الإفسادة الثانية هي الآن، فقال: والآن إفسادهم في الأرض كلها معروف، وسيطرتهم الخفية على بعض بلدان العالم معروفة، واجتمع لهم سلطان ودولة. انظر: "الأساس في التفسير" 6/ 3037، وعلى هذا القول يكون مكان الإفسادتين بيت المقدس أيضًا. القول الثالث: أن الفسادين وقعا بعد بعثة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ونزول القرآن؛ فالأول وقع إبان بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- والثاني هو الحالي، قاله أيضًا بعض المعاصرين؛ يقول الشيخ سعيد حوى: ويمكن أن نفهم المسألة فهمًا آخر؛ بأن نعتبر الإفسادة الأولى هي محاولتهم الوقوف في وجه الدعوة الإِسلامية، وتسليط الله المسلمين عليهم وعلى ديارهم حول المدينة المنورة، والإفسادة الثانية هي الإفسادة الحالية، ويكون المسلمون الذين غلبوهم أول مرة هم الذين سيغلبونهم المرة الثانية، إذا اجتمع لهم العبودية لله والبأس الشديد. انظر: "الأساس في التفسير" 6/ 3040. وقد انتصر الدكتور صلاح الخالدي للقول الثالث، بل لم ير غيره، وناقش قول القدامى ورد عليه، وأهم منطلقاته أن قول القدامى اعتمد على الإسرائيليات وعلى روايات تاريخية لم تثبت تاريخيًا ولا علميًا، ودلل على أن إفسادهم الأول المقرون بالعلو الكبير لم يكن أثناء وجودهم في بيت المقدس، إنما كان أول إفساد لهم مقرونًا بالعلو الكبير بالحجاز قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعدها، وذكر صورًا من مظاهر إفسادهم الأول، ثم دلل على أن الإفسادة الثانية هي الحالية بتحليل مفردات الآية السادسة {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ..}، والاستدلال بواقعهم المعاصر الذي وصلوا فيه الذروة في العلو الكبير. انظر: "حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية" (150 - 190)، و"الشخصية اليهودية من خلال القرآن" (327 - 349). (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 116، بنحوه. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 86 بنصه تقريبًا.

وقوله تعالى: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} يقال: ساءه يسوؤه، أي: أحزنه، وذكرنا ذلك في مواضع (¬1)، قال أبو علي: قال: {وُجُوهَكُمْ} على أنَّ الوجوهَ مفعول {لِيَسُوءُوا}، وعُدِّيَ إلى الوجوه، ولأن الوجوه قد يُراد بها ذَوو الوجوه؛ لقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وكأن الوجوه إنما خُصَّت بذلك؛ لأنها تدل على ما كان من ذوي الوجوه من الناس من حزنٍ ومسرةٍ وبشارةٍ وكآبةٍ (¬2)، والمعنى: بعثناهم ليسوؤوا (¬3)، وهذه قراءة العامة (¬4)، وهي وَفْق المعنى واللفظ؛ أما المعنى: فإن المبعوثين هم (¬5) الذين يسوؤونهم في الحقيقة؛ لقتلهم إيّاهم وأسرهم لهم، وأما اللفظ: فإنه يوافق قوله: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ}، وقرأ حمزة: {لِيَسُوءُوا} على واحد بالياء (¬6)، وفاعلُ يَسُوء يجوز أن يكون أحدَ شيئين: إما اسم الله سبحانه؛ لأن الذي تقدم بعثنا ورددنا وأمددنا، وإما أن يكون البعث، ودل عليه {بَعَثْنَا} المتقدم (¬7)، والفعل يدل على المصدر؛ كقوله تعالى: {وَلَا ¬

_ (¬1) منها في سورة البقرة آية [49]. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 450 بنصه تقريبًا. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 86 بتصرف واختصار. (¬4) وهم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم، قرؤوا بالياء وضم الهمزة وإشباعها، انظر: "السبعة" ص 378، و"علل القراءات" 1/ 313، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 363، و"الحجة للقراء" 5/ 85، و"المبسوط في القراءات" ص 227، و"التبصرة" ص 567، و"النشر" 2/ 306. (¬5) ساقطة من (د). (¬6) أي: (لِيَسُوءَ)، وقرأ بها كذلك عاصم وابن عامر. انظر المصادر السابقة. (¬7) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 86 بنصه تقريبًا.

يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180] وقال الزجاج: ليسوء الوعدُ وجُوهَكم (¬1)، وقرأ الكسائي بالنون (¬2)، وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى لقوله: بعثنا وأمددنا. وقوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} يقال: تَبِرَ الشيءُ يَتْبَرُ تَبارًا إذا هلك، وتَبَّرَه: أهلكه (¬3). قال أبو إسحاق: وكل شيء كَسَرْتَه وفَتَّتَّهُ فقد تَبَّرْتَهُ (¬4)، ومن هذا تِبْرُ الزجاج وتِبْرُ الذهب لِمُكَسَّره (¬5)، قال المفسرون: أي لِيُدَمِّروا وُيخَرّبُوا ما غَلبُوا عليه (¬6)، جعلوا (ما) بمنزلة الذي، وهذا قول قتادة (¬7). وقال الزجاج: معناه لِيُدَمِّروا (¬8) في حال عُلُوِّهِم (¬9)، (ما فجعل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 228 بنصه. (¬2) أي: (لِنَسُوءَ) انظر المصادر نفسها الصفحة السابقة حاشية رقم (5). (¬3) انظر: (تبر) في "جمهرة اللغة" 1/ 253، و"المحيط في اللغة" 9/ 429، و"الصحاح" 2/ 600، و"اللسان" 1/ 416 (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 228 - بمعناه، وورد في "تهذيب اللغة" (تبر) 1/ 424 بنصه. (¬5) في جميع النسخ (لتكسره)، والمثبت هو الصحيح، ويؤيده ما في التهذيب، قال: ومن هذا قيل لِمُكَسَّر الزجاج. (¬6) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 212 أ، و"الطبري" 15/ 36 بنصه، و"السمرقندي" 2/ 261، وهود الهواري 2/ 409، و"الطوسي" 6/ 451، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 11، و"الفخر الرازي" 20/ 159، بنصه. (¬7) أخرجه بنحوه: "عبد الرزاق" 2/ 373، و"الطبري" 15/ 36، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 299 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬8) في (ع) زيادة (ما) أي: ليدمروا ما، وأغلب الظن أنه خطأ من النساخ. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 228، بنصه.

8

ظرفًا) (¬1). قال أبو علي: ولهذا عبارةٌ أجودُ مما ذكر وأوضح في المعنى؛ وهو أن يقول: وليتبروا في وقت علوهم؛ لأن هذه (ما) التي أصلها المصدر، ثم يتسع فيها وتستعمل ظرفًا من الزمان (¬2). 8 - قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} هذا مما أخبر الله تعالى أنه قضى به إلى بني إسرائيل في كتابهم، والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل، قال المفسرون: فعاد الله بعائدته ورحمته عليهم حتى كثروا وانتشروا (¬3). قال الأخفش: في الآية محذوف، تقديره: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} إن فعلتم ذلك؛ يعني أحسنتم وتركتم المعاصي (¬4)، ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} قال الحسن: وإن عدتم بالمعصية عدنا بالعقوبة (¬5). قال قتادة وإبراهيم وغيرهم: فعاد (¬6) القوم لشر ما يحضر بهم، فبعث الله عليهم من شاء لنقمته وعقوبته (¬7)، ثم كان آخر ذلك أن بعث عليهم هذا الحي من العرب فهم في عذاب منهم أبدًا إلى يوم القيامة، يُعْطُون الجزية ¬

_ (¬1) هكذا وردت العبارة -بين القوسين- في جميع النسخ، ويبدو أن (ما) تقدمت على (فجعل)، فتكون العبارة فجعل (ما) ظرفًا. (¬2) "الإغفال" 2/ 153 بنصه تقريبًا, ولا فرق كبير بين المعنيين، مع وصفه لعبارته بأنها أجود وأوضح. (¬3) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 261، بمعناه، و"هود الهواري" 2/ 410، بنحوه مختصرًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 12، و"القرطبي" 10/ 223. (¬4) ليس في معانيه. (¬5) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 126، بنصه. (¬6) في (أ)، (د): (فعادو). (¬7) أخرجه الطبري 15/ 43، بنصه تقريبًا عن قتادة، وبمعناه عن ابن عباس وقتادة، =

عن يد وهم صاغرون, وهو معنى قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} (¬1) الآية [الأعراف: 167]. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} قال ابن عباس والمفسرون كلهم: سجنًا ومحبسًا (¬2)، وذكرنا الكلام في الحصر عند قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]، قال الأخفش في قوله: {حَصِيرًا}، أي: مَحْبِسًا ومَحْصِرًا (¬3)، وهو قول جميع أهل اللغة؛ قال الليث: يُفَسَّر على أنهم يُحْصَرُون فيها (¬4)، وقال ابن قتيبة: هو فعيل بمعنى فاعل (¬5). ¬

_ = ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 104 ب - بمعناه عن قتادة، و"الماوردي" 3/ 231 - بمعناه عن قتادة، و"الطوسي" 6/ 452 - بمعناه عن ابن عباس وقتادة، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 80، عن قتادة، و"ابن الجوزي" 5/ 12، عن قتادة، و"القرطبي" 10/ 224، عن قتادة، و"أبي حيان" 6/ 11، و"ابن كثير" 3/ 30. (¬1) أورد المؤلف في تفسير هذه الآية قول ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة؛ قالوا: هم العرب ومحمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته، بعثهم الله على اليهود يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 212 ب بلفظه، وأخرجه "عبد الرزاق" 2/ 374 بلفظه عن قتادة، وورد بلفظه في: غريب القرآن لليزيدي ص 212، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 252، وأخرجه "الطبري" 15/ 45 بلفظه عن ابن عباس -من طريق ابن أبي طلحة- وأبي عمران وقتادة وابن زيد، وبمعناه عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، وورد كذلك في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 126 بلفظه عن قتادة، و"تفسير السمرقندي" 2/ 261 بنصه، و"هود الهواري" 2/ 410 بلفظه، و"الثعلبي" 7/ 104 ب بلفظه، و"الطوسي" 6/ 452 بلفظه ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 80، و"ابن الجوزي" 5/ 12، و"القرطبي" 10/ 224، و"الخازن" 3/ 158، و"ابن كثير" 3/ 30. (¬3) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (حصر) 1/ 839، بنصه. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (حصر) 1/ 839 بنصه. (¬5) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 252 بنصه.

وقال أبو إسحاق: حصيرًا معناه حَبْسًا؛ من حصرته، أي حَبَسْتُه فهو محصور، وهذا حَصِيرُهُ أي مَحْبِسُهُ (¬1)، والحصير الملك لأنه محجوب فكأنه محصور (¬2)، والحصير الجَنْبُ؛ لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض (¬3)، ومن هذا يقال للذي يُفْرَش: حصير؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج (¬4). وإلى هذا ذهب الحسن في تفسير هذه الآية. فقال في قوله: {لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أي مهادًا وفراشًا (¬5)؛ كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف: 41]. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 228 بتصرف يسير. (¬2) ورد بنصه تقريبًا في "تفسير الطبري" 15/ 45، و"الثعلبي" 7/ 104 ب، و"الطوسي" 6/ 452، انظر: "الصحاح" (حصر) 2/ 631، و"مجمل اللغة" 1/ 239، و"اللسان" (حصر) 2/ 896، و"عمدة الحفاظ" 1/ 482. (¬3) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 229 بنصه، (الجَنْبُ): شِقُّ الإنسان وغيره. "اللسان" (جنب) 1/ 275. (¬4) قاله القُشَيْرِي؛ كما في "تفسير القرطبي" 10/ 224، انظر (حصر) في "تهذيب اللغة" 1/ 839، و"اللسان" 2/ 897، و"عمدة الحفاظ" 1/ 481، وقال: سمي الحصير حصيرًا لكونه يَحصرُ من يجلس عليه. (¬5) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 374 بنصه، و"الطبري" 15/ 45 - 46 بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 126 بنصه، وتصحفت فيه: مهادًا إلى معادًا، و"المفردات" ص 238 بلفظه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 104 ب بنصه، و"الماوردي" 3/ 231، بنصه، و"الطوسي" 6/ 452 بلفظه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 80، و"ابن الجوزي" 5/ 12، و"القرطبي" 10/ 224، و"عمدة الحفاظ" 1/ 482، و"تفسير ابن كثير" 3/ 30. وقد رجح الطبري قول الحسن هذا، وقال: إن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، كما أن فعيلًا في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر لا وجود له في كلام العرب، وقال الثعلبي: وهو وجه حسن.

9

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ} إلى آخر الآية. فصلٌ يحتمل أن يكون ابتداءَ إخبارٍ عن الله تعالى في عقاب جميع الكافرين، ويحتمل أن يكون عطفًا على ما قبله؛ فيتضمن الإخبار عن تمام عقابهم على عودهم، والمراد بالكافرين اليهود؛ كأنه قيل: وإن عدتم للمعاصي والفساد عدنا عليكم بالتسليط، هذا في الدنيا، وجعلنا جهنم لكم مَحْبَسًا في الآخرة، وصرف الخطاب إلى المعاينة في قوله: {لِلْكَافِرِينَ}. 9 - قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي}، أي: يُرْشد ويدعو للتي، أي إلى التي {هِيَ أَقْوَمُ}، أي: أعدل وأرشد (¬1) وأصوب؛ من قولهم: رمح قويم وقوام، أي مستقيم (¬2)، وفلان أقوم كلامًا من فلان، أي أعدل، و {لِلَّتِي} نعت لموصوف محذوف على تقدير: يهدي للكلمة التي هي أقوم أو الطريقة والحالة؛ وهي كلمة التوحيد على ما قاله المفسرون (¬3)، وإن شئت قلت طريقة التوحيد والإسلام (¬4)، وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمانُ بِرُسُلِه والعملُ بطاعته (¬5). 10 - قوله تعالى: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية. فيجب {أَن} ¬

_ (¬1) في (أ)، (ش)، (ع): (أشد)، والمثبت من (د)، وهو المناسب للسياق. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (قام) 3/ 2864 بنصه. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 117 - بمعناه، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 127، و"تفسير السمرقندي" 2/ 261، و"الثعلبي" 7/ 104 ب، و"الماوردي" 3/ 232 - بمعناه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 80، و"ابن عطية" 8/ 26، و"الخازن" 3/ 158. (¬4) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 453، وهو أعمّ من الأول, ورجحه ابن عطية 9/ 26. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 229 بنصه تقريبًا.

11

للعطف بها على {أَن} الأولى؛ وذلك أنهم بُشِّرُوا بالنّعيمِ الذي لهم والعذاب الذي لأعدائهم، قال الفراء: أُوقعت (¬1) البشارة على قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا} وعلى قوله: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية. على أن يكون المؤمنون بُشِّرُوا بهما جميعًا؛ كما تقول: بَشَّرت عبد الله أنه سيُعطى وأن عدوّه سيُمنَع (¬2)، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى من المشركين فجعل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين. 11 - قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} الآية. القياس إثبات الواو في ويدعو، وحُذف في المصحف من الكتابة؛ لأنها لا تظهر في اللفظ، ولم تحذف في المعنى؛ لأنها في موضع رفع، فكان [حذفها باستقبالها اللام الساكنة، ومثلها:] (¬3) {يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41] و {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5] فلو كان بالياء والواو كان صوابًا، هذا كلام الفراء (¬4)، والمعنى: أن الإنسان ربما دعا عند الضجر والغضب على نفسه وأهله وولده بما لا يحب أن يستجاب له؛ كما يدعو لنفسه بالخير (¬5)، والمعنى: كدعائه بالخير، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} أي في طلب ما هو شَرٌّ له، يَعْجل بالدعاء في الشر عجلته بالدعاء في الخير، هذا قول مجاهد وقتادة وعامة ¬

_ (¬1) في (ش)، (ع): (وقعت)، والمثبت موافق للمصدر. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 117 بتصرف يسير. (¬3) ما بين المعقوفين إضافة من المصدر ليتضح المراد، ويبدو أنها سقطت. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 117 بتصرف. (¬5) ورد نحوه في "تفسير الطبري" 15/ 47، و"الثعلبي" 7/ 105 أ، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 13، و"الفخر الرازي" 20/ 162، و"القرطبي" 10/ 225، و"أبي حيان" 6/ 13.

12

المفسرين (¬1)، والإنسان في هذه الآية اسم الجنس. وقال ابن عباس في رواية عطاء: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} يعني النضر بن الحارث؛ قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} (¬2) الآية [الأنفال: 32] {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} يريد كما يدعو المؤمنون بالمغفرة والرحمة، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} يعني آدم حين نهض قبل أن يجري الروح فيه؛ وذلك أن آدم لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى، فذهب لينهض فلم يقدر، وهو قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} (¬3). 12 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قال المفسرون وأهل ¬

_ (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 374 - بمعناه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 48 بمعناه عن قتادة ومجاهد، وورد بمعناه في: "معاني القرآن" للنحاس 4/ 127، و"الثعلبي" 7/ 105 أ، و"الماوردي" 3/ 232، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، والطوسي 6/ 453، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 81، و"ابن عطية" 9/ 27، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، و"الفخر الرازي" 20/ 162، و"القرطبي" 10/ 226، و"ابن كثير" 3/ 30. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 297، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" 1/ 213 أبنصه، و"السمرقندي" 2/ 262، بنصه، و"ابن عطية" 9/ 28، و"ابن الجوزي" 5/ 13، و"الفخر الرازي" 20/ 162، و"القرطبي" 10/ 225، و"أبي حيان" 6/ 14، والتعميم أولى من التخصيص في مثل هذا. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 213 أ، بنحوه، أخرجه "الطبري" 15/ 47 - 48، بنحوه عن ابن عباس وسلمان، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 128، عن سلمان، و"السمرقندي" 2/ 262، عنهما، و"الثعلبي" 7/ 105 أ، عنهما، و"الماوردي" 3/ 232، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 28، و"ابن الجوزي" 5/ 13، و"الفخر الرازي" 20/ 163، و"القرطبي" 10/ 226، و"أبي حيان" 6/ 13، و"ابن كثير" 3/ 30، وأغلب الظن أن هذا الخبر من الإسرائيليات.

المعاني: جعلناهما علامتين تدلان على قدرة خالقهما ووحدانيته (¬1). وقال آخرون: المعنى جعلناهما ذوي آيتين (¬2)؛ فحذف المضاف، يدل عليه أنه قال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}، ولم يقل: فمحونا الليل ولا فمحونا أحديهما، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. وقوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}، أي: طمسنا نورها بما جعلنا فيها من السواد، وهذا قول عامة المفسرين (¬3)؛ قالوا: السواد الذي يُرى في القمر هو أثر المحو (¬4)، وروي في حديث مرفوع: "إن الشمس والقمر كانا ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في: "تفسير مقاتل" 1/ 213 أ، و"السمرقندي" 2/ 262، و"الثعلبي" 7/ 105 أ، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 81، و"ابن الجوزي" 5/ 14، و"القرطبي" 10/ 227, و"الخازن" 3/ 158, و"أبي حيان" 6/ 14، و"الدر المصون" 7/ 321. (¬2) انظر: "الإملاء" 2/ 89، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 262، و"تفسير أبي حيان" 6/ 14، و"الدر المصون" 7/ 321، و"تفسير الألوسي" 15/ 26. (¬3) ذكر الفخر الرازي قول الجمهور وذكر قولاً آخر ورجحه؛ وهو: أن المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور؛ يبدأ هلالاً ولا يزال يكبر حتى يصير بدرًا كاملاً، ثم يبدأ في الانتقاص قليلاً قليلاً، وذلك هو المحو، ثم ذكر مسوغات ترجيح هذا القول. انظر: "الرازي" 20/ 164، ويضاف إلى ما ذكره أن الأثر الذي اعتمد عليه عامة المفسرين أثر ضعيف عن علي وابن عباس، فهو عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن علي من طريق ابن الكَوَّاء الخارجي؛ رؤوس الخوارج، قال عنه البخاري: لم يصحَّ حديثه. انظر: "لسان الميزان" 3/ 329. (¬4) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 213 أ، بنحوه، وأخرجه "الطبري" 15/ 49 - 50، بنحوه عن علي وابن عباس ومجاهد من عدة طرق، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 128، و"تفسير السمرقندي" 2/ 262، و"الثعلبي" 7/ 105 أ، و"الماوردي" 3/ 232، و"الطوسي" 6/ 454، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 81، و"ابن عطية" 9/ 30، و"ابن الجوزي" 5/ 14، و"القرطبي" 10/ 228، و"ابن =

سواء في النور والضوء، فأرسل الله -عز وجل- جبريل فأمَرّ جناحه على وجه القمر فطَمس عنه الضوء" (¬1). ومعنى المحو في اللغة: إذهاب الأثر، يقول: محوته أمحوته وأمحاه، وامحى الشيء وامتحى: إذا ذهب أثره (¬2). وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}، أي: يبصر فيها، فكأن المعنى أنها مضيئة؛ كما قال: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، أي: مضيئًا، وقد مر، قال أبو عبيد: هذا قول الفراء (¬3). وفيه وجه آخر يقال: قد أبصر النهار، إذا صار الناس يبصرون فيه فهو مبصر؛ كقولك: رجلٌ مُخْبِث إذا كان أصحابُه خُبَثاء، ورجلٌ مُضعِف إذا كانت دوابُّه ضعافًا، وكذلك النهار مبصرًا، أي: أهله بُصَرَاء (¬4)، وهذا ¬

_ = كثير" 3/ 31، و"الدر المنثور" 4/ 302 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن علي -رضي الله عنه-، وأورده كذلك وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬1) ورد بنحوه موقوفًا على ابن عباس في "تفسير السمرقندي" 2/ 262، و"الثعلبي" 7/ 105 أ، مفصلاً، و"البغوي" 5/ 81، و"القرطبي" 10/ 227 مرفوعًا وموقوفًا، و"الخازن" 3/ 158، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 302 وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه -بسند واه- عن ابن عباس مرفوعًا. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (محا) 4/ 3347، و"المحيط في اللغة" (محو) 3/ 231، و"اللسان" (محا) 7/ 4150. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 126 بلفظه، وورد في "تهذيب اللغة" (بصر) 1/ 342 بلفظه عن الفراء. (¬4) ورد في "تفسير الطبري" 15/ 50، بنحوه، لكنه قال: كقولهم: رجلٌ مجبن، إذا كان أهله جبناء، ورجلٌ مضعف، إذا كانت رواته ضعفاء، وورد بنصه تقريبًا في "تفسير الثعلبي" 7/ 105 أ، و"الطوسي" 6/ 454، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 166، و"القرطبي" 10/ 228، و"أبي حيان" 6/ 14.

13

كقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]، وسنذكر ما فيها إن شاء الله. وقوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم، {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} بمحو آية الليل، ولولا ذلك ما كان يُعرف الليلُ من النهار، وكان لا يَتبَيَّن (¬1) العدد، ونظير هذه الآية قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} الآية [يونس: 5]. وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ}، أي: مما يُحْتَاج إليه، {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}: بيناه تبيينًا لا يَلْتَبِس معه بغيره (¬2)، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد فَصَّلنا ما خلقت (¬3) للنافع تفصيلًا. 13 - قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الآية. روى الحكم عن مجاهد قال: مكتوب في ورقة شقي أو سعيد معلقة في عنقه (¬4)، وهذا كما روي عن الحسن في قوله: {طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال: شَقَاوَته وسعادته (¬5). ¬

_ (¬1) العبارة في جميع النسخ: فكان الآيتين، وهو تصحيف، وفي "تفسير الثعلبي" 7/ 105 أ: ولا يتبين العدد، والمثبت من تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 477. (¬2) في جميع النسخ: لغيره، والتصويب من تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 477. (¬3) هكذا في جميع النسخ: ما خلقت، والأولى: ما خلقنا لينسجم مع فصَّلنا. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 51، بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 262، و"الثعلبي" 7/ 105 ب، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 82، و"ابن الجوزي" 5/ 15، و"الدر المنثور" 4/ 303 - 304 وزاد نسبته إلى أبي داود في كتاب القدر [لم أجده في سننه] وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) ورد في "تفسير مجاهد" 1/ 359 بنصه عن الحسن، أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 374، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 82، و"ابن الجوزي" 5/ 15.

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: عمله من شَقَاوَة أو سعادة (¬1). وقال السدي: ما كُتبَ له من خير أو شر (¬2). وروي عن ابن عباس: أنه قال عَمَلُه وما قُدّر عليه فهو ملازمه أينما كان (¬3)، هذا قول المفسرين في هذه الآية، وإنما قيل لما يأتيه الإنسان ويعمله (¬4) من خير وشر: طائر، على مذهب العرب وتعارفهم في ذلك؛ نحو قولهم: جرى طائرُه بكذا من الخير، وجرى له الطائرُ بكذا من الشر؛ على طريق الفأل والطِّيرة، أنشد أبو زيد لحسان بن ثابت: ذَرِيني وعِلْمي بالأمور وسيرتي ... فما طائري فيها عليكِ بأَخْيَلا (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 359 بمعناه، وأخرجه "الطبري" 15/ 51 مختصرًا من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 130 مختصرًا. (¬2) انظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 15 بمعناه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 303 - 304 وعزاه إلى ابن أبي حاتم بمعناه. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 51 بنصه من طريق عطاء الخرساني (منقطعة)، وأخرجه مختصرًا من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 130، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 262 - بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 105 ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 82، و"ابن عطية" 9/ 31، و"الخازن" 3/ 159، و"أبي حيان" 6/ 15، و"الدر المنثور" 4/ 303 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) في (أ)، (د) تصحفت إلى: (يعلمه). (¬5) " ديوانه" ص 206 برواية: (وشيمتي) بدل (وسيرتي)، (ويومًا) بدل (فيها)، وورد في: "الحجة للقراء" 5/ 89، و"تفسير الطوسي" 6/ 456 برواية: (وشيمتي)، و"شرح شواهد الإيضاح" ص 392 عجزه، و"اللسان" (خيل) 3/ 1306، و"شرح التصريح" 214، وورد بلا نسبة في: "الاشتقاق" ص 300 عجزه، و"أوضح المسالك" 4/ 120 عجزه، و"شرح الأشموني" 3/ 436، (الأخيل): طائر يُتشاءَم به، وهو ما يسمونه الشّقِرَّاق، تقول العرب: أشأَم من أخْيَل.

أي ليس رأي بمشؤوم، قال أبو زيد: كلما مرَّ من طائر أو ظبي أو غيره، وكل ذلك عندهم طائر وطير (¬1)، وأنشد لكثير: جرت لي بهجرانك يا عز لا جرت ... ظباء اللوى لو أنني أتطير ذكر في هذا البيت الظباء ثم جعلهن طيرًا؛ فقال: فقلت لأصحابي ازجروا لا ... أبا لكم لعلكم للطير مني أزجر فقالوا نراها طير صدق وقد جرى ... لي الطير منها بالذي كنت أحذر (¬2) ومذهبهم في العِيَافة والزجر (¬3) معروفٌ، وأشعارهم في ذلك كثيرة، وهو باطل من أهل الجاهلية، إلا أنهم لما كانوا يتفاءلون (¬4) في الخير والشر في الطائر والطير، سموا ما تفاءلوا (¬5) به طائرًا وطيرًا، وإن لم يكن من ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 456 بنصه تقريبًا. (¬2) لم أجده في "ديوانه"، ولم أقف عليه. (¬3) العيافة: زَجْر الطير؛ وهو أن يرى طائرًا أو غرابًا فيتطيَّر، قاله الأزهري، وفي اللسان، العيافة: زجْرُ الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها ومَمَرِّها، وهو من عادة العرب كثيرًا، وهو كثير في أشعارهم، يقال: عافَ يعيف عيفًا إذا زجَرَ وحدَس وظن، والعائف: الذي يَعيفُ الطير فيَزْجُرُها. انظر: "تهذيب اللغة" (عاف) 3/ 2285، و"المحيط في اللغة" (عيف) 2/ 172، و"اللسان" (عيف) 5/ 3193. الزَّجْرُ للطير وغيرها: التَّيَمُّنُ بِسُنُوحها، أو التَّشاؤم بِبُرُوحها، وإنما سُمّي الكاهنُ زاجرًا؛ لأنه إذا رأى ما يظن أنه يُتَشَاءمُ به زَجَرَ بالنَّهي عن المُضيِّ في تلك الحاجةِ برفع صوتٍ وشدَّةٍ، قاله الزجاج، وقال الليث: الزَّجرُ: أن يَزْجُرَ طائرًا أو ظَبْيًا سانِحًا أو بارحًا فيتطيَّر منه. [والسانحُ: ما وَلاَّك مَيَامِنَه، والبارح: ضِدُّه] انظر زجر في "تهذيب اللغة" 2/ 1513، و"المحيط في اللغة" 7/ 20، و"اللسان" 3/ 1813. (¬4) في جميع النسخ: (يتألفون)، والصحيح المثبت؛ لأن الكلام في التفاؤل لا التألف، فهو تصحيف. (¬5) في جميع النسخ: (ما تعالوا)، ولا معنى لذلك، والصواب المثبت، فلعلها تصحفت عنها.

ذوات الأجنحة. ثم سموا الخير والشر أيضًا طائرًا وطيرًا على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببًا، فخاطبهم الله بما يستعملون، وهذا كلام ابن قتيبة (¬1) وأبي علي الفارسي (¬2)، ويدل على صحة هذا الذي ذكرناه قراءة الحسن ومجاهد: (أَلْزَمْنَاهُ طَيره فِي عُنُقِهِ) (¬3)، وعلى هذا معنى طائره: أي عمله من خير وشر. قال الفراء: الطائر معناه عندهم العمل (¬4). وقال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ (¬5)، وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر: ما طار له من خير أو شر، أي صار له عند القسمة؛ من قولهم: أَطَرْتُ المالَ وطَيَّرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه، أي صار له (¬6)، وقد بينا هذا المعنى في سورة الأعراف عند قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} (¬7). قال الأزهري: والأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم عَلِمَ ¬

_ (¬1) "الغريب" لابن قيبة 1/ 252 باختصار. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 88 باختصار. (¬3) وهي قراءة شاذة وردت عن الحسن ومجاهد وأبي رجاء. انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه ص 79، و"إعراب القراءات الشاذة" 1/ 778، و"تفسير الرازي" 20/ 167، و"القرطبي" 10/ 229، و"أبي حيان" 6/ 15. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 118، بنحوه. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 372، بنحوه. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (طار) 3/ 2149 بنصه. (¬7) الأعراف [131].

المطيعَ من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه (¬1) منهم أجمعين، وقضى سعادة مَنْ عَلِمَه مطيعًا وشقاوة مَنْ عَلِمَه عاصيًا، فصار لكلٍّ ما هو صائرٌ إليه عند خلقه وإنشائه، فذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، أي: ما طار له في علم الله بدءًا (¬2) من الخير والشر (¬3). وقوله تعالى: {فِي عُنُقِهِ} عبارة عن اللزوم، قال أبو إسحاق: وإنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان؛ أي لُزُومه له كلزوم القلادة من بين ما يُلْبَس في العنق (¬4). وقال أبو علي: وهذا مِثْلُ قولهم: طَوَّقتُك كذا وقَلَّدتك كذا؛ أي صرفته نحوك، وألزمته (¬5) إياك، ومنه: قَلَّده السلطانُ كذا؛ أي صارت الوِلَاية في لزومها له في موضع القلادة [و] (¬6) مكان الطوق (¬7)، قال الأعشى: قَلَّدتُك الشِّعرَ يا سَلَامةُ ذا الـ ... تّفْضَالِ والشيءُ (¬8) حيثُ ما جُعِلَا (¬9) (¬10) ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (ما عمله)، وهو تصحيف. (¬2) في (أ)، (د): (بريًا)، وفي (ش)، (ع): (بمريًا)، ولم أجد لذلك معنى في هذا السياق، والمثبت من المصدر. (¬3) "تهذيب اللغة" (طار) 3/ 2150 بتصرف، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 15 بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 230 بنصه. (¬5) في جميع النسخ: (ألزمت) بدون الضمير، والسياق يقتضيه، وهو كذلك في المصدر. (¬6) إضافة يقتضيها السياق، وهي مثبتة في المصدر. (¬7) في جميع النسخ: (الطرق) والتصويب من المصدر. (¬8) في جميع النسخ: (الشعر)، والصواب ما أثبته من الديوان وتفسير ابن عطية. (¬9) "ديوانه" ص 138، وورد في "تفسير ابن عطية" 9/ 33، (التفضال): الإحسان. (¬10) "الحجة للقراء" 5/ 89 بنصه.

هذا قول الجمهور (¬1)، وقال بعض أهل المعاني: إنما خص العنق؛ لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرًا يَزِينُه أو شرًا يَشِينُه، وما يُزَيِّنُ كالطوق والحُلِي، أو يَشِينُ كالغل، فإضافته إلى الأعناق (¬2)، وعلى ما ذكر مجاهد (¬3): ما قُسِمَ له أُثبت في ورقة وعُلّقت من عنقه، غير أنَّا لا نشاهد ذلك مرئيًا (¬4)، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} قال الحسن: يا ابن آدم، بُسِطت لك صحيفة، ووُكِلَ بك ملكان، فهما عن يمينك وعن شمالك، فأما الذي (¬5) عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، حتى إذا مِت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تُخْرَج لك يوم القيامة (¬6)، فعلى هذا معنى: {وَنُخْرِجُ لَهُ}، أي: من قبره معه، ويجوز أن يكون معنى: {نُخْرِجُ} نظهر له ذلك؛ لأنه لم ير كتابه في الدنيا، فإذا بُعث أُظهر له ذلك وليبرز من الستر. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 213 أ، و"الطبري" 15/ 51، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 130، و"تفسير السمرقندي" 2/ 262، و"الثعلبي" 7/ 105 ب، و"الماوردي" 3/ 233، و"الطوسي" 6/ 455، و"الفخر الرازي" 20/ 168. (¬2) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 15/ 51، و"الثعلبي" 7/ 105 ب، و"الطوسي" 6/ 457، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 82، و"الفخر الرازي" 20/ 168، و"الخازن" 3/ 159، و"أبي حيان" 6/ 15. (¬3) تقدم قريبا. (¬4) في (ش)، (ع): (بمريًا). (¬5) في جميع النسخ: (الذين)، والمثبت هو الصحيح. (¬6) أخرجه الطبري 15/ 52 - 53، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 105 ب، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 168، و"ابن كثير" 3/ 32، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 304، و"تفسير الألوسي" 15/ 32.

وقرأ يعقوب: (ويَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) (¬1) على معنى ويَخْرُجُ له طائرُه، أي عملُه، {كِتَابًا}، أي: ذا كتاب، ومعنى (ذا كتاب) أنه مثبت في الكتاب الذي قيل فيه: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} [الكهف: 49]، وعلى هذا المعنى قرأ أبو جعفر (¬2): (ويُخْرَجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) (¬3) أي يُخْرَجُ له الطائر؛ أي عمله، {كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} كقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10]، وقرأ ابن عامر: (يُلَقَّاهُ) (¬4) من قولهم: لَقَّيْتُ فلانًا ¬

_ (¬1) قرأ يعقوب: {وَيَخرُج} بالياء مفتوحةً والراء مضمومةً، قال الطبري: وكأن من قرأ هذه القراءة وجَّه تأويل الكلام إلى: ويخرج له الطائرُ الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة، فيصير كتابًا يقرؤه منشورًا، وقال الزمخشري: والضمير للطائر؛ أي يَخْرجُ الطائرُ كتابًا، وانتصاب (كتابًا) على الحال. انظر تفسير "الطبري" 15/ 52، و"المبسوط في القراءات" ص 227، و"تفسير الزمخشري" 2/ 354، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 750، و"النشر" 2/ 306، و"الإتحاف" ص 282. (¬2) أبو جعفر يزيد بن القعقاع، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور، انتهت إليه القراءة بالمدينة، قرأ على زيد بن ثابت وسمع ابن عمر -رضي الله عنهم-، توفي سنة 130 هـ. انظر: "وفيات الأعيان" 6/ 274، و"معرفة القراء الكبار" 1/ 72، و"غاية النهاية" 2/ 382، و"النشر" 1/ 178. (¬3) قرأ أبو جعفر: {وَيُخْرَجْ} بضم الياء وفتح الراء، على ما لم يُسَمَّ فاعله، ونائب الفاعل: ضمير الطائر. قال الطبري: وكأنه وجَّه معنى الكلام إلى: ويُخْرَج له الطائر يوم القيامة كتابًا، يريد: ويخرج الله ذلك الطائر قد صيَّره كتابًا. انظر: "تفسير الطبري" 15/ 53، و"المبسوط في القراءات" ص 227، و"النشر" 2/ 306، و"الإتحاف" ص 282. (¬4) قرأ ابن عامر: (يُلَقَّاهُ) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، جعل الفعلَ لغير الإنسان؛ أي: الملائكة تلقاه بالكتاب الذي فيه نسخة عمله وشاهده؛ أي: يستقبل به. انظر: "السبعة" ص 378، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 364، و"علل القراءات" 1/ 316، و"المبسوط في القراءات" ص 227, و"النشر" 2/ 306.

14

الشيءَ، أي: استقبلته به، قال الله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، وهو منقول بالتشديد؛ من لَقَّيْتُ الشيءَ ولَقَّانِيهِ زيدٌ (¬1). 14 - قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ} قال الفراء والكسائي: (يُقَال) هاهنا مضمرة كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر: 46]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} (¬2) [آل عمران: 106]، وقد مر. قال الحسن يقرأه أُمِّيًا كان (¬3) أو غير أمِّي (¬4). وقال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئًا (¬5). وقال بكر بن عبد الله (¬6) يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفة حسناته في ظهره يغبطه الناس عليها، وسيئاته [في] (¬7) جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته، قال الله له: اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك، ¬

_ (¬1) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 90، بنحوه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 119 بنصه، ولم أقف عليه منسوبًا إلى الكسائي. (¬3) ساقطة من (د). (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 16، و"الفخر الرازي" 20/ 169، و"القرطبي" 10/ 150. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 53 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أبنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 82، و"الزمخشري" 2/ 354، و"ابن عطية" 9/ 35، و"أبي حيان" 6/ 15، و"الدر المنثور" 4/ 304 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، و"تفسير الشوكاني" 3/ 306، والألوسي 15/ 33. (¬6) بكر بن عبد الله المزني البصري، أبو عبد الله، ثقة ثبت جليل، روى عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- وعنه: قتادة وحبيب بن الشهيد مات سنة (108 هـ) انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 388، و"الكاشف" 1/ 274 (628)، و"تقريب التهذيب" ص 128 (743)، و"تفسير الطبري" شاكر 1/ 274 (628) (¬7) إضافة يقتضيها السياق؛ كما في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 169.

15

فَيُسَرُّ ويُشْرِقُ لونُه ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (¬1) [الحاقة: 19]. وقوله تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، الحَسِيْبُ بمعنى الحاسب، كالشريك والنديم، وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]، أي: محاسبًا. قال الحسن: عدلٌ واللهُ عليك، مَنْ جعلك حَسِيبَ نَفْسِك (¬2). وقال السدي: يقول الكافر يومئذ: إنك قضيتَ أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أُحاسبُ نفسي، فيقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (¬3). 15 - قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، أي: ثواب اهتدائه له ولنفسه؛ يعني الخير باهتدائه، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، أي: على نفسه عقوبة ضلاله؛ فهُداه له كما أن ضلاله عليه، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أن الوليد بن المغيرة قال: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 169 بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 262، بنحوه عن ابن عباس. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أبنصه تقريبًا، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 82، و"الزمخشري" 2/ 354، و"ابن الجوزي" 5/ 16، و"الفخر الرازي" 20/ 169، و"الخازن" 3/ 159، و"أبي حيان" 6/ 16، و"الألوسي" 15/ 33. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 169، و"الدر المنثور" 4/ 304، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، ومثل هذه الأخبار لا تثبت إلا بخبر صحيح عن المعصوم. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 481، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 17، و"القرطبي" 10/ 151، و"الألوسي" 15/ 35، وورد بلا نسبة في "تفسير ابن عطية" 9/ 36، و"أبي حيان" 6/ 16، وحمل الآية على العموم أولى من التخصيص.

قال قتادة: لا والله، ما يحمل اللهُ على عبدٍ ذَنْبَ غيرِه، ولا يُؤاخَذ إلا بعمله (¬1). قال أبو إسحاق يقال: وَزَرَ يَزِرُ فهو وَازرٌ وَزْرًا وَوِزْرًا، [و] (¬2) وِزْرَةً، معناه: أثِمَ يَأْثَمُ إثمًا، قال: وفي تأويل هذه الآية وجهان؛ أحدهما: أن الآثِمَ والمُذْنِبَ لا يؤاخذ بذنب غيره، ولا يؤاخذ بذنبه غيرُهُ، والوجه الثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسانُ بالإثم لأن غيرَه عَمِلَه؛ كما قالت الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬3) [الزخرف: 23]، ومضى الكلام في معنى الوِزْر والأوْزَار في سورة الأنعام (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} قال ابن عباس: يريد اتخاذ الحجة على خلقه. وقال قتادة: إن الله ليس معذبًا أحدًا حتى يسبق من الله إليه خبرٌ (¬5) ويأتيه من الله بَيِّنَة (¬6). وقال أبو إسحاق: أي حتى (¬7) نبين ما به نُعَذِّبُ وما من أَجْله نُدْخِلُ الجنَّةَ (¬8)، وهذا يدل على أن الواجبات إنما تجب بالشرع لا بالعقل؛ لأن الواجبَ ما لا يؤمن العقاب في تركه، وقد أخبر أنه لا يعذب قبل بعثته ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 54 بنصه. (¬2) هذه الواو إضافة يقتضيها المقام؛ كما في "تفسير ابن الجوزي" 5/ 17. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 231 بنصه، إلا أنه أورد الآية [22] التي قبلها وهي: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. (¬4) آية [31]. (¬5) في جميع النسخ: (خير)، والصحيح المثبت، كما في المصادر. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 54 بنصه تقريبًا. (¬7) في جميع النسخ: (حين)، والمثبت هو الصحيح، وموافق للمصدر. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 231 بنصه.

16

الرسول، فدل أنه إنما يُعرفُ الواجبُ بقول الرسولِ، ولا يجبُ شيءٌ على أحدٍ قبل بَعْثِ الرسولِ (¬1)، ولذا وجبتْ الدعوةُ قبلَ القتالِ، حتى لو أن المسلمين أناخوا بساحةِ قومٍ لم تبلغهم الدعوةُ، لم يجز لهم أن يهجموا عليهم بالقتال والثُّباتِ (¬2) قبل تقديم الدعوة، ولو فعلوا ذلك ضَمِنوا دماءهم، كذلك قال الشافعي -رضي الله عنه- (¬3). 16 - قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} هذا يُتَأول على وجهين: أحدهما: أنهم أُمروا بالطاعة فعصوا، وهذا قول سعيد بن جبير (¬4)، والمعنى على هذا: أَمَرْناهم على لسان رسولٍ بالطاعة ففسقوا، هذا نحو قولك: أمرتُك فعَصَيْتني، فقد عُلِمَ أن المعصية مخالفة للأمر (¬5)، ولذلك؛ ¬

_ (¬1) وهو بهذا يرد على المعتزلة القائلين بأن الواجبات تجب بالعقل أولاً ثم بالشرع .. ، انظر: "فضل الاعتزال" ص 139 نقلاً عن كتاب "الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة" 1/ 166. (¬2) جمعُ ثُبَةٍ، وهي الفرقة، والمقصود النفير بفرق وسرايا. انظر: "عمدة الحفاظ" 1/ 317. (¬3) كتاب "الأم" 4/ 157، بنحوه، وقد نص على ذلك الماوردي، وقال: فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة، وقتلهم غرة وبياتًا ضمن ديات نفوسهم وكانت -على الأصح من مذهب الشافعي- كديات المسلمين، وقيل: بل كديات الكفار على اختلافها اختلاف معتقدهم. "الأحكام السلطانية للماوردي" ص 46، انظر: "حواشي تحفة المحتاج على المنهاج" 9/ 242، "الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته" 1/ 206. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 55، بنحوه، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 195 بنصه، و"الطوسي" 6/ 461، بنحوه. (¬5) في المصدر: (الأمر).

الفسق مخالفة أمر الله (¬1)، فقوله: {أَمَرْنَا} يدل على أنه أمر بالطاعة وإن لم يُذْكر؛ كما تقول: أمرتك فعصيتني؛ معناه: أمرتك بطاعتي، فإن قيل: لِمَ خص المترفين بالأمر بالطاعة، وأمره بالطاعة لا يكون مقصورًا على المترفين، وقد أمر الله بطاعته جميع خلقه من مترف وغيره؟! قيل: لأنهم الرؤساء الذين من عداهم تبع لهم، كما أن موسى بُعث إلى فرعون ليأمره بطاعة الله وكان من عداه من القبط تبعًا له (¬2)، هذا إذا قلنا: إن قوله: {أَمَرْنَا} من الأمر الذي هو ضد النهي. الوجه الثاني: أن معنى قوله: {أَمَرْنَا} أكثرنا، وهو قول مجاهد في رواية عبد الكريم (¬3)، قال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}: أكثرنا فساقها (¬4)، ونحوه روى ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، بنصه تقريبًا. (¬2) في جميع النسخ: (لها)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يرجع إلى فرعون، وورد هذا التعليل في "تفسير الجصاص" 3/ 195، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 460 بنصه تقريبًا. (¬3) ذكر محقق "تفسير مجاهد" 3/ 359 أن راويين اسمهما عبد الكريم رويا عن مجاهد؛ أحدهما: عبد الكريم بن مالك الجَزَري: تقدمت ترجمته. والآخر: عبد الكريم بن أبي المُخارق: هو أبو أميّة المعلِّم البصري، نزيل مكة، وهو ضعيف، قال يحيى: ليس بشيء، روى عن سعيد بن جبير، وعنه مالك والسفيانان، قال ابن حجر: وقد شارك الجَزَري في بعض المشايخ فربما التبس به على من لا فهم له، مات سنة 126 هـ انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 58 - 59، و"ميزان الاعتدال" 3/ 360 - 361، و"الكاشف" 1/ 661 (3432)، و"تقريب التهذيب" ص 361 (4156). (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 359 بنصه، أخرجه "الطبري" 15/ 55 - 56، بنحوه عن عكرمة وسعيد، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 134 , بنحوه عن مجاهد، و"تفسير الجصاص" 3/ 195، بنحوه عن مجاهد وعكرمة، و"الدر المنثور" ص 359 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.

سِمَاك (¬1) عن عكرمة وعمر بن ثابت (¬2) عن أبيه عن سعيد بن جبير، والعرب: تقول أَمِر القومُ إذا كثروا، وأمرهم اللهُ، أي: كَثَّرَهم، وآمَرَهم أيضًا بالمد (¬3). روى الجَرْميُّ (¬4) عن أبي زيد: أمِرَ اللهُ القومَ وآمرهم أي كَثَّرَهم، قال: مِثلُ نَضَّرَ اللهُ وجهه وأنضره، ومثل أَمِرَ القوم وأمَرَهم غيرُهم، ورَجَعَ ورَجَعْتُه، وسَلَكَ وسَلَكْتُه، قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]، وشَتِرتْ (¬5) عَيْنُه وشَتَرْتُهَا (¬6). ¬

_ (¬1) سِمَاك بن حرب بن أوس الهُذلي الكوفي، أبو المغيرة، تابعي أدرك ثمانين رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، صدوق صالح من أوعية العلم، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وتغير بأخرة، مات سنة (123 هـ) انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 279، و"ميزان الاعتدال" 2/ 422، و"الكاشف" 1/ 465 (2141)، و"تقريب التهذيب" ص 255 (2624). (¬2) عمر بن ثابت الأنصاري الخزرجي، ثقة، سمع أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-، وروي عنه الزهري ومالك بن أنس. انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 101، و"الكاشف" 2/ 56، و"تقريب التهذيب" ص 410 (4870). (¬3) ورد بنحوه في "غريب الحديث" 1/ 208، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 196، و"الحجة للقراء" 5/ 92. (¬4) أبو عمر، صالح بن إسحاق الجَرْميّ البصري، مولى جَرْم بن زَبّان؛ من قبائل اليمن، إمام في النحو، ناظر الفراء ببغداد، أخذ عن الأخفش وغيره، ولقي يونس وأخذ عن أبي زيد اللغة، وعن أبي عبيدة والأصمعي. انظر، "أخبار النحويين البصريين" ص 84، و"نزهة الألباء" ص 114، و"البلغة" ص 113، و"البغية" 2/ 8. (¬5) الشَّتَرُ: انقلاب في جفن العين قلّما يكون خلقةً. انظر: "اللسان" (شتر) 4/ 2193. (¬6) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 92، عن الجرمي مختصرًا، و"المحتسَب" 2/ 17، عن أبي زيد مختصرًا، والمقصود بهذه الأمثلة، التدليل على أن بعض الأفعال يعدى بالهمزة، وبعضها -الذي من باب فَعِل بكسر العين- يتعدى بفتح العين والمعنى واحد. انظر: "المُوضح في القراءات" 2/ 752، و"تفسير الطوسي" 6/ 461.

قال أبو عبيدة (¬1): وقد وجدنا تثبيتًا لهذه اللغة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "سِكّة مَأْبُورة، ومُهْرة مَأْمورة" (¬2). قال أبو زيد: هي التي قد كَثُر نَسْلُها، يقولون: أمَر اللهُ المُهْرةَ؛ أي كَثَّر ولَدَها (¬3)، وأبى قوم أن يكون (أَمَر) بمعنى أكْثَر، وقالوا: أمِرَ القوم إذا كَثُروا، وآمرهم اللهُ بالمد، أي: أكثرهم، وتأولوا في قوله: (مهرة مأمورة) أنها على الإتْبَاع لمأبورة؛ نحو الغدايا والعشايا (¬4). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (أبو عبيد)، والتصويب من "الحجة للقراء" 5/ 92. وهو في "مجاز القرآن" 1/ 373 بمعناه، وورد في "الحجة للقراء" 5/ 92 بنصه، وواضح أنه نقله من "الحجة" لا من "المجاز". (¬2) وطرفه: (خيْرُ المال سِكَّة ..) أخرجه أحمد 3/ 468 بنصه عن سويد بن هبيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والطبري 8/ 51 بنصه، والطبراني في "الكبير" 7/ 91، بنحوه من طريقين عن سويد بن هبيرة، وورد بنصه في "غريب الحديث" 1/ 208، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 232، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 135، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 365، و"علل القراءات" 1/ 317، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، و"تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ، و"الماوردي" 3/ 236، وأورده الهيثمي في "المجمع" 5/ 258 وقال: ورجال أحمد ثقات، والسيوطي في الجامع [فيض القدير] 3/ 491 ورمز له بالصحة، وفي بعض هذه المصادر تقديم مهرة على سِكَّة، (السِّكة): السَّطْر من النَّخل، (المأبورة): المُصْلَحةُ المُلقحةُ، يقال: أبَرت النخل آبُرُه أبْرًا إذا لَقَّحْته وأصلحته، (المُهْرَة): قال الليث: المُهْر ولد الرَّمَكَةِ -البرذون- والفرس، والأنثى مُهرة، والجميع مِهار، وقيل: أول ما نُتِجَ من الخيل والحُمُر الأهلية، قال ابن خالويه: يعني بالمُهرة: الكثيرة النِّتاج. انظر "أمالي القالي" 1/ 103، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 365، و"تهذيب اللغة" (مهر) 4/ 3462، و"متن اللغة" 4/ 3339. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، بنصه. (¬4) ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، و"الطوسي" 6/ 461.

وروى أبو العباس (¬1) -ختن ليث- عن أبي عمرو أنه قرأ {أَمَّرْنا} بالتشديد (¬2)، وهو يوافق تفسير ابن عباس فيما روى عنه الوالبي، يقول: سَلَّطنا شرارها فعَصوا (¬3). وقال أبو إسحاق: أي جعلنا لهم إمْرةً وسلطانًا (¬4)، وقال في رواية عطاء: يريد سَلَّطنا مُلُوكَها (¬5). قال أبو علي الفارسي: حَمْلُ أَمَّرْنا على أنه مثل: آمَرْنا؛ نحو: كَثَّرَهُ اللهُ وأَكْثَرَه، ولا يُحْمَل أمَّرْنا على أن المعنى: جعلناهم أُمراءَ؛ لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدّةُ أُمراءَ (¬6). وهذا الذي قاله أبو علي لا يقدح في قول ابن عباس؛ لأن القريةَ الواحدة قد يكون فيها أمراء كثير تبعًا لواحد هو أكبرهم، فهم يُسَمَّون أمراء ويكونون مُسَلَّطين، وإن كان فوقهم غيرُهم هو الأعظم، فهؤلاء لا يخرجون ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن عبد الله أبو العباس الليثي المعروف بختن ليث، روى القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وروى عنه هارون بن حاتم التيمي. "غاية النهاية" 1/ 121. (¬2) انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"علل القراءات" 1/ 317، و"الحجة للقراء" 5/ 91، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 752. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 119 - بمعناه، وأخرجه "الطبري" 15/ 55 بنصه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 136 مختصرًا، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197 بمعناه، و"الدر المنثور" 4/ 307 بنصه وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 232، بنصه. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 298، بنحوه. (¬6) "الحجة للقراء" 5/ 93، بنصه.

عن سِمَة الإمارة، ويُقَوّيَ ما قاله أبو علي: أن يونس روى عن أبي عمرو أنه قال: لا يكون أمَرْنا مخففة بمعنى كثرنا (¬1)، ولمّا أراد معنى الكثرة شَدَّد الميم ولم يقرأ بمد الألف لمّا لم يكن بالمصحف إلا ألف (¬2) واحدة. وروى حماد بن سلمة عن ابن كثير: آمَرْنا بالمد (¬3)، وهي اللغة العالية (¬4)؛ يقال: أمِرَ القوم وآمرهم الله، أي: أكثرهم، فهم مؤمَّرُون (¬5). ونحو هذا روى خارجة (¬6) عن نافع (¬7)، قال أبو إسحاق: ويكون لقوله (¬8): {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} معنى آخر غير كثرة العدد، وهو أن تكثر (¬9) جِدَتُهم ويَسَارُهُم (¬10). قال أبو عبيد: الوجه قراءة العامة؛ لاحتماله معنى الأمر والكثرة (¬11)، ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء" 5/ 92، بنحوه. (¬2) في (أ)، (د): (الألف). (¬3) انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"علل القراءات" 1/ 316، و"الحجة للقراء" 5/ 91. (¬4) قاله ابن قتيبة في "غريبه" 1/ 253. (¬5) ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 365. (¬6) خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، أبو زيد، وينسب إلى جده، ضعيف الحديث، روى عن أبيه ونافع، وعنه مَعْن والقَعْنبي، مات سنة (165 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 374، و"الكاشف" 1/ 361 (1302)، و"ميزان الاعتدال" 1/ 625، و"تقريب التهذيب" ص 186 (1/ 16). (¬7) انظر: "السبعة" 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"علل القراءات" 1/ 316، و"الحجة للقراء" 5/ 91. (¬8) في جميع النسخ: (كقوله)، والصواب المثبت؛ كما يدل عليه السياق. (¬9) في جميع النسخ: (أن يكون)، وهو تصحيف ظاهر، والتصويب من المصدر. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 232 بنصه تقريبًا. (¬11) لم أجده في كتابه "غريب الحديث"، وأخرجه ابن خالويه عنه في "إعراب =

فإنه يقال: أمير غير مأمور، أي: غير مؤمّر (¬1). وأما المترف فمعناه في اللغة: المُنَعَّم الذي قد أبطرته النعمة وسِعةُ العيش (¬2). والمفسرون يقولون في تفسيرها: الجبارين والمسلطين والملوك (¬3). وقوله تعالى: {فَفَسَقُوا فِيهَا} أي تمردوا في كفرهم، إذ الفسق في الكفر: الخروج إلى أفحشه (¬4). {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} قال ابن عباس: يريد استوجبت العذاب (¬5)، يعني قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ} الآية [القصص: 59]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ ¬

_ = القراءات السبع وعللها" 1/ 366، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 106 أ، بنحوه، وقد رجّح الطبري القول الأول، وعلله: بأن الأغلب من معنى أمرنا، الأمر الذي هو خلاف النهي دون غيره، ثم قال: وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه أولى -ما وجد إليه سبيل- من غيره. انظر: "تفسير الطبري" 15/ 54, 57. (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أبنصه. (¬2) انظر: (ترف) في "المحيط في اللغة" 9/ 426، و"الصحاح" 4/ 1333، و"العباب الزاخر" [ف/ 42]، و"اللسان" 1/ 429 وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 19، و"الفخر الرازي" 20/ 175. (¬3) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 263، بنحوه، و"تهذيب اللغة" (ترف) 1/ 436 بلفظه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ - بمعناه، و"الماوردي" 3/ 236 بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 19. (¬4) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 461 بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 19. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 234، بنحوه، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ، بنحوه، و"الفخر الرازي" 20/ 175 بنصه.

17

لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} الآية [هود: 117]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فقد قال -عز وجل- وحكم بأنه لا يُهلك قرية حتى يخالفوا أمره (¬1) في الطاعة، فإذا خالفوا الأمر حق عليهم قوله بالعذاب. وقوله تعالى: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، أي: أهلكناها إهلاكَ الاستئصال، والدمارُ هلاكٌ بالاستئصال. وهذه الآية تأكيد لما سبق في الآية الأولى؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ وبَيَّنَ أن العقاب إنما يحق على الناس بعد مخالفتهم أمر الله. 17 - ثم ذكر سُنته في إهلاكِ القرون الماضية تخويفًا لكفار مكة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} الآية. وهذه الآية كقوله (¬2): {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6]، وقد مر. وقوله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ} ذَكَرنا الكلام في هذه الباء في مواضع (¬3). وقال الفراء: لو ألقيت الباء كان الحرف مرفوعًا، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يُمدح به صَاحبُه أو يذم؛ كقولك: كفاكَ به، ونهاكَ به، وأكرِم به رجلاً، وبِئس به (¬4) رجلاً، ونِعْمَ به رجلاً، وطاب بطعامك طعامًا، وجاد بثوبك ثَوبًا, ولو لم يكن مدحًا أو ذمًا لم يجز دخولها، ألا ترى أنه لا يجوز: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، ولا ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (أمر). (¬2) في جميع النسخ: (لقوله)، وهو تصحيف ظاهر. (¬3) وقد ذكر الواحدي عند قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] أن استقصاء الحديث عن الباء في السورة نفسها عند قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [آية: 45]، لكن الجزء المتضمن لهذه الآية مفقود -كما ذكر محقق هذا الجزء. (¬4) (به): ساقطة من (د).

18

قعد به، وأنت تريد: قعد هو (¬1). 18 - قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} قال المفسرون: أىِ الدنيا (¬2)، والعاجلة نقيض الآجلة؛ وهي الدنيا عُجّلَت وكانت قَبْل الآخرة، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، هذا ذم لمن أراد بعمله وطاعته وإسلامه الدنيا ومنفعتها وعروضها، وقد بين الله تعالى أن من أرادها (¬3) لم يدرك منها إلا ما قَدَّره اللهُ له إذا أراد أن يُقَدّر له؛ لأنه قال: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ}، أي: القَدْر الذي نشاء، نُعَجّل له في الدنيا لا الذي يشاء هو. ثم بَيّن أن ما يُعَجَّل ليس عامًّا لكل أحد، فقال: {لِمَنْ نُرِيدُ}، أي: لمن نريد أن نعجل له شيئًا قدرناه له، فإذًا قد يخيب كثير ممن يتعب للدنيا ويطلبها بسعيه (¬4)، والذي يدركها لا يدرك إلا ما قُدِّر له، ثم يدخل النار في الآخرة {مَذْمُومًا}، قال ابن عباس: ملومًا (¬5)، {مَدْحُورًا}: منفيًا مطرودًا، وذكرنا معنى {مَدْحُورًا} في سورة الأعراف [آية 18]، ومعنى هذه الآية كقوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145]، وقد مر، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 119 بتصرف يسير، انظر: "تفسير الطبري" 15/ 58. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 213 ب بلفظه، وأخرجه الطبري 15/ 59 بلفظه عن ابن زيد، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 138 بلفظه، و"تفسير الجصاص" 3/ 196، والثعلبي 7/ 106 ب، و"الدر المنثور" 4/ 308 وعزاه نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الضحاك. (¬3) في جميع النسخ: (أراد بها)، والصواب ما أثبته بإسقاط الباء؛ لأنها تجعل المعنى مضطربًا. (¬4) مطموسة في (ع)، وفي (أ)، (د): (بسعته)، والمثبت من (ش)، وهو الصواب. (¬5) أخرجه الطبري 15/ 59 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، و"الدر المنثور" 4/ 309، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

19

قال أبو إسحاق: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ}؛ لأنه لم يرد الله بعمله (¬1)، {مَدْحُورًا}: مباعدًا من رحمة الله. 19 - قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} قال ابن عباس: يعني الجنة (¬2). وقال أهل المعاني: يريد ثواب الآخرة أو خير الآخرة؛ كما قال: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 145]. {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} قال ابن عباس: يريد العمل بفرائض الله والقيام بحقوقه (¬3)، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فإن الله لا يقبل حسنة إلا من مُصدِّق، {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} قال: يريد: يُضَعِّف لهم الحسنات، ويمحي عنهم السيئات، ويرفع لهم الدرجات. 20 - قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ} يعني من أراد العاجلة، ومن أراد الآخرة، ثم فصل الفريقين، فقال: {هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}، قال الحسن: كلاًّ نعطي من الدنيا البَرَّ والفاجر (¬4). وقال قتادة: إن الله قَسَّم الدنيا بين البَرّ والفاجر، والآخرة خصوصًا عند ربك للمتقين (¬5). وقال أبو إسحاق: أعلم الله أنه يعطي المسلم والكافر، وأنه يرزقهما، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 233، بنصه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 298، بلفظه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 298، بنحوه. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 60 بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 264 بنصه، و"الدر المنثور" 4/ 308، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي نُعيم في الحلية -لم أقف عليه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 21 (¬5) أخرجه الطبري 15/ 60 بنصه، و"الدر المنثور" 4/ 308 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

21

فقال: {كُلًّا نُمِدُّ}، أي: نُمِدَّ المؤمنين والكافرين من عطاء ربك (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، أي: ممنوعًا (¬2)، يقال: حَظَرَه يَحْظُره حَظْرًا وحِظارة وحِظارًا، وكل من حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك (¬3). 21 - قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني: في الرزق؛ فمن مُقِلٍّ ومِنْ مكثر، ومن مُوَسَّع عليه ومُقَتَّر، {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} يحتمل معنيين: أحدهما: أن هذا خاص في المؤمنين الذين يدخلون الجنة، فتتفاوت درجاتهم في الآخرة أكبر مما تتفاوت درجات المرزوقين في الدنيا في الرزق، وهذا التفضيل بين المؤمنين خاصة. والثاني: أن هذا التفصيل بين المؤمنين والكافرين، ويكون المعنى: أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فتبين درجاتهم، وَيفضل (¬4) أحد الفريقين على الآخر، وعلى هذا لا تدل الآية على تفاوت درجات المؤمنين بينهم، وإنما تدل على تفضيلهم على الكفار بدرجات الجنة، والمفسرون على القول الأول: قال ابن عباس: إذا دخلوا الجنان اقتسموا المنازل والدرجات على ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 233، بنصه. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 61 بلفظه ابن جريج وابن زيد، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 237، عن ابن عباس. (¬3) انظر (حظر) في "تهذيب اللغة" 1/ 856، و"المحيط في اللغة" 3/ 59، و"مقاييس اللغة" 2/ 80، و"اللسان" 2/ 918. (¬4) في جميع النسخ: (وتفضيل)، والمثبت أصوب.

22

قَدْر أعمالهم، ألا تسمع قوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا} الآية. 22 - قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} المفسرون على أن هذا خطاب للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى عام لجميع المكلفين (¬1)؛ على نحو: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، ويحتمل أن يكون الخطاب للإنسان، كأنه قيل: {لَا تَجْعَلْ}: أيها الإنسان مع الله إلهًا آخر. وقوله تعالى: {فَتَقْعُدَ} انتصب؛ لأنه وقع بعد الفاء جوابًا للنهي، وانتصابه بإضمار (أن)؛ كقولك: لا تنقطع عنا فنجفوك، وتقديره: لا يكن منك انقطاع، فإن جوابه (¬2) فإن تنقطع نجفوك، أي فجفاء (¬3)، فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بالفاء التي هي حرف العطف، وإنما سماه النحويون جوابًا -وإن كانت جملة واحدة ولم تكن كالجزاء- لمشابهته له في أن الثاني سببه (¬4) الأول؛ ألا ترى أن المعنى: إن انقطعت جفوتك، كذلك المعنى في الآية: إن جعلت مع الله إلهًا آخر قعدت {مَذْمُومًا مَخْذُولًا}، والمخذول: الذي لا عاصم له ولا ناصر؛ يقال: خذله يخذله خِذْلانًا (¬5) وخذلاً، وقد مر. 23 - قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد وأَمَرَ ربك، ليس هو قضاء حكم، ونحو هذا روى عنه ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في الطبري 15/ 62، والثعلبي 7/ 106 ب، والطوسي 6/ 464. (¬2) في جميع النسخ (صوابه)، والصواب ما أثبته، ويدل عليه سياق الكلام بعده. (¬3) في (أ)، (د): (نجفا)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬4) في (أ): (سنه)، وفي (د): (سننه)، وفي (ش)، (ع): (شبيه)، والصواب ما أثبته، وهو الأنسب للسياق. (¬5) ساقطة من (د).

الوالبي (¬1)، وهو قول مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد وعامة المفسرين (¬2) وأهل اللغة (¬3). قال الفراء: العرب تقول: تركته يقضي أمور الناس، أي يأمر فيها فينفُذ أمرُه (¬4). وقال أبو إسحاق: {وَقَضَى رَبُّكَ} معناه أمَر (¬5)؛ لأنه أمرٌ قاطعٌ حَتْمٌ، وذكرنا أن قضى في اللغة على وجوه، كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه (¬6). وروى ميمون بن مِهران عن ابن عباس في هذه الآية، قال: إنما هو (ووصى ربك) فالتصقت إحدى الواوين (¬7)، فقرئت: {وَقَضَى رَبُّكَ} ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ (¬8)، ونحو هذا روى عنه الضحاك وسعيد ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 15/ 62 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 ب، و"الماوردي" 3/ 237، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 309 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 360 بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 376 بلفظه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 62 - 63 بلفظه عنهم ما عدا مجاهد، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 139، عن الحسن، و"تفسير الجصاص" 3/ 196، والسمرقندي 2/ 264، وهود الهواري 2/ 414، والثعلبي 7/ 106 ب، عن الحسن وقتادة، و"الماوردي" 3/ 237، عن الحسن وقتادة. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 374، و"تهذيب اللغة" (قضى) 3/ 2986، و"الإملاء" 2/ 90، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 266، و"اللسان" (قضى) 6/ 3665. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 120، بنصه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 233، بلفظه. (¬6) انظر ما تقدم في تفسير سورة البقرة [آية: 117]. (¬7) أي التصقت بالصاد. (¬8) ورد في "القراءات الشاذة" لابن خالويه ص 79 - مختصرًا، وأورده السيوطي في =

ابن جبير (¬1)، وهو قراءة علي وعبد الله: (ووصى ربك) (¬2). وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال الزجاج: أي: وأَمَرَ بالوالدين إحسانًا (¬3)، والعرب تقول: أوصيك به خيرًا، وآمرك به خيرًا، وكأن معناه: آمرك أن تفعل به، ثم تحذف (أن) فينصب الخبر بالوصية وبالأمر، وأنشد: عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ أنْ تَشْكُونا ¬

_ = "الدر المنثور" 4/ 309، بنحوه، وعزاه إلى أبي عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون عن ابن عباس. (¬1) أخرجه "الطبري" 8/ 58، عن الضحاك، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 ب، عن الضحاك، و"الماوردي" 3/ 237، عن الضحاك، وانظر غرائب التفسير 1/ 624، عن ابن عباس والضحاك واستغربه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 257 - وعزاه إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأورده -كذلك- وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس، وأورده وزاد نسبته إلى أبي عبيد وابن المنذر عن الضحاك. (¬2) أخرجها عن ابن مسعود: مقاتل 1/ 213 ب، و"عبد الرزاق" 2/ 376، و"الطبري" 15/ 63، والطبراني في "الكبير" 9/ 149، ووردت عن ابن مسعود في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 139، و"تفسير السمرقندي" 2/ 264، و"الثعلبي" 7/ 106 ب، عنهما، وهذه القراءة شاذة وقد استنكرت وضعفت، قال الكرماني: وهذه القراءة عند القراء مقبولة في جملة الشواذ، والحكاية مردودة على الراوي، وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما القراءة مروية بسند، ونقل تضعيف ابن أبي حاتم لها وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، وقال ابن الجوزي: وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه. انظر: "غرائب التفسير" 1/ 624، و"تفسير ابن عطية" 9/ 52، و"ابن الجوزي" 5/ 22، و"فتح الباري" 8/ 241، و"تفسير الألوسي" 15/ 54، وهي أشبه بالتفسير من القراءة، وبذلك فسرها مجاهد، -كما أخرجه "الطبري" 15/ 62 - 63. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 234، بنحوه.

ومِنْ (أبي) دَهْماء أنْ يُوصِينا خَيْرًا (بها كأننا) (¬1) جافُونا) (¬2) فعلى هذا ينصب إحسانًا بمضمر دلَّ عليه الكلام، و (الباء) في: {وَبِالْوَالِدَيْنِ} من صلة الإحسان, وقُدّمت عليه كما تقول: يزيد فامرر (¬3)، ويجوز أن يكون العامل فيه ما أُضمر من الإيصاء؛ كأنه: وأوصى بالوالدين إحسانًا. وقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا}، يرفع {أَحَدُهُمَا} بـ {يَبْلُغَنَّ}، و {كِلَاهُمَا} عطف عليه، وقرأ حمزة والكسائي: (يَبْلُغَانِّ) (¬4) قال الفراء: ثنَّى؛ لأن الوالدين قد ذُكِرا قبله، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} على الائتناف، كقوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة: 71] ثم استأنف فقال: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ}، وكذلك قوله: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (أين) بدل (أبي)، و (بهل كأنها) بدل (بها كأننا)، والتصويب من المصادر. (¬2) ورد ما بين التنصيص بنصه تقريبًا في "معاني القرآن" للفراء 2/ 120، و"تفسير الطبري" 15/ 63، وبنحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 467، وفي جميع المصادر: (إذ) بدل (إن)، والشاهد -كما ذكره الطبري والطوسي: أعمل يوصينا في الخير، كما أعمل في الإحسان. (¬3) أورد الفخر الرازي هذا الوجه وعزاه للواحدي، وتعقبه قائلاً: وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق؛ لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه، والمثال المذكور ليس كذلك، وقد أورد السمين القولين وبين أن كلا منهما صحيح من وجه. انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 186، و"الدر المصون" 7/ 334. (¬4) انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 368، و"علل القراءات" 1/ 319، و"الحجة للقراء" 5/ 96، و"المبسوط في القراءات" ص 228.

{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}، ثم استأنف فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬1) [الأنبياء: 3] وقال أبو علي: من قرأ: (يَبْلُغَانِّ) جعل قوله: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} معادًا على التأكيد، وعلى ذكر إفراد كل واحد منهما, ولا يكون الرفع فيهما بمعنى الفعل كما يكون في قراءة الباقين (¬2). وقال أبو إسحاق: من قرأ (يَبْلُغَانِّ) [يكون {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} بدلاً من الألف، وموضع {يَبْلُغَنَّ} و (يَبْلُغَانِّ)] (¬3) جزمٌ بإمّا؛ لأن أصله (إن) التي للشرط، فأكدت بـ (ما) التي للشرط؛ نحو: {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] ليكون حرف الشرط مؤكِّدًا مِثل توكيد الفعل بالنون، وعلامةُ الجزم لا تبين مع نون التأكيد (¬4)؛ لأن الفعل يُثَنّى معها، ألا ترى أنك تقول ليفعلَنَّ بفتح (¬5) اللام وبترك الضمة، وبترك النون التي تُلْحَق (¬6) في التثنية والجمع والواحدة المؤنث علامةً للرفع (¬7)؛ كما تُركت الضمةُ في الواحدة. ذكرنا هذا [عند] (¬8) قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} [البقرة: 96] وعند قوله: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ} [يونس: 89]. وأَمَّا قوله: {كِلَاهُمَا} فإن كلا اسم مفرد يفيد (¬9) معنى التثنية (¬10)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 120، بنصه. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 96 بتصرف. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د). (¬4) أي المباشرة. (¬5) في جميع النسخ: (ففتح)، والصواب المثبت؛ حيث به يستقيم الكلام. (¬6) في (ش)، (ع): (لحق). (¬7) بسبب توالي النونات والثقل. (¬8) زيادة يقتضيها السياق. (¬9) في (أ)، (د): (بعيد). (¬10) في جميع النسخ: (للتثنية)، والصحيح المثبت، والتصقت الألف باللام.

ووزنه فِعَل، ولامُه بمنزلة لام حِجَى ورِضَى، وهي كلمة وضعت على هذه الحلقة يُؤَكّدُ بها الاثنان خاصةً، ولا تكون إلا مضافة، والدليل على أنها ليست تثنية: أنها لا تُفردُ فتقومَ بنفسها, ولو كانت تثنيةً لوجب أن تقال بالنصب والخفض، والخفض مررت بكلي الرجلين بكسر الياء، كما تقول بين يدي الرجل، و {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] و {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] و {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، فدل هذا على أنها ليست بحلقة تثنية، وأنها وضعت دلالة على التثنية لا أنها تثنية، كما تقول في (كل) فإنه اسم واحد موضوع للجماعة، فإذا أخبرت عنه بلفظه، أخبرت كما تخبر عن الواحد؛ كقوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] وكذلك إذا أخبرت عن كلا، أخبرت عن الواحد فقلت: كلا أَخَوَيْك كان قائمًا، وكلا عَمَّيْكَ كان فقيهًا، وقال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]، ولم يقل: آتتا، وقال: كلا الرَّجُلَيْنِ أفَّاكٌ أَثِيمُ (¬1) وقال لبيد: فَغَدَتْ كلا الفَرْجَينِ تَحْسَبُ أنَّهُ ... مَوْلى المخافة خلفُها وأمامُها (¬2) ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3169 بنصه بلا نسبة، والشاهد: أنه أفرد أفَّاك وهي تعود على مثنى. وانظر أيضا "لسان العرب" (كلا)، و"تاج العروس" (باب الواو الهاء، فصل الكاف). (¬2) "شرح ديوان لبيد" ص 311، وورد في "الكتاب" 1/ 407، و"المقتضب" 4/ 341، و"شرح القصائد السبع الطوال" ص 565، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 166، 2/ 582, و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" 1/ 502، و"الإيضاح" للعضدي ص 211 - بلا نسبة. (فغدت): من الغدوّ، وتروى (فعدت): من العدو، (كلا الفرجين): في كلا، الفرجين؛ والفرج: الواسع من الأرض أو الثَّغر؛ وهو موضع المخافة، والفروج =

يريد كلا فرجيها، فأقام الألف واللام مقام الكناية، وقال: أنه، ولم يقل: أنهما, ثم ترجم عن كلا؛ فقال: خلفُها وأمامُها، يجوز أن يذهب إلى المعنى فيقول: كلا الرجلين كانا قائمين، كما يقول في كل، كقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87]؛ وهذا الذي ذكرنا في كِلا كلام أبي الهيثم الرازي (¬1) وأبي الفتح الموصلي (¬2) وأبي علي الجرجاني، وأمّا كلتا فالكلام فيه يأتي عند قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} [الكهف: 33] إن شاء الله. قال مجاهد في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} قال: يخريان ويبولان (¬3)، و {الْكِبَرَ} هاهنا مصدر الكبير في السن. وقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} قال أبو إسحاق: فيه سبع لغات؛ الكسر بغير تنوين وبتنوين، والضم بغير تنوين وتنوين، وكذلك الفتح بهما (¬4)، ¬

_ = هي الثُّغور، (مولى) قال ثعلب: المولى في هذا البيت معناه: الأَوْلى؛ كأنها تحسب أن كلَّ فرج أولى بالمخافة من الثاني؛ لحيرتها، والضمير يعود على بقرة وحشية، أضلت ولدها أو حُبِست خيفة من صائد، فهي حذرة في خوف، تخال كلا طريقيها من خلفها وأمامها ثغرة له يسلك منها إليها. وخلفُها وأمامُها رفعٌ على البدل من كلا؛ لأن ككلا الفرجين هما خلفُها وأمامُها، والتقدير: وخلفُها وأمامُها تحَسَب أنه يلي المخافة، وجائز رفعه بتقدير: هو خلفُها وأمامُها. (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (كلى) 4/ 3169 بتصرف. (¬2) "المنصف" 2/ 107 - مختصرًا. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 64، بنحوه. (¬4) ذكر الواحدي عن الزجاج أن في (أف) سبع لغات، ولم يورد إلا ستة، مع أن الزجاج ذكر اللغة السابعة، فقال: وفيها لغة أخرى سابعة لا يجوز أن يقرأ بها، وهي (أُفِّي) بالياء. "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 224، لكن الواحدي أشار إلى هذه اللغة بعد ذكر كلام الزجاج بقوله: واللغة الشائعة (أُفِّي) بالياء.

فأما الكسر فلالتقاء الساكنين، و (أُف) غير متمكن (¬1) بمنزلة الأصوات، فإذا لم يُنَوَّن فهو مَعْرفة، وإذا نُوِّن فهو نكرة بمنزلة غاقٍ وغاقِ (¬2) في الصوت، والفتح لالتقاء الساكنين أيضًا، والفتح مع التضعيف حَسَنٌ؛ لخفةِ الفتحة وثِقَلِ التضعيفِ والضَّمِّ؛ لأن قبله مضمُومًا -حسنٌ (¬3) أيضًا- والتنوين فيه على جهة النكرة (¬4). واللغة الشائعة (أُفِّي) بالياء، قال الأخفش: كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه (¬5)؛ فقال: قَوْلي هذا. وزاد ابنُ الأنباري لغات ثلاثًا فقال: و (إِفَّ لك) بكسر الألف وفتح الفاء، و (أُفَّة لك) بضم الألف وإدخال الهاء، و (أُفْ لك) بضم الألف (¬6) وتسكين الفاء، وأنشد لحسان: فأُفًا لحِبَان على كلِّ حالة ... على ذكرهم في الذكر كلُّ عَفاءِ (¬7) ¬

_ (¬1) أي غير منصرف. انظر "المعجم المفصل في النحو العربي" ص 946. (¬2) غاقِ: حكاية صوت الغراب، فإن نكَّرته نوَّنته، ويقال: سمعت غاقِ غاقِ وغاقٍ غاقٍ، ثم سمي الغراب غاقًا، فيقال: سمعت صوت الغاقِ. "اللسان" (غوق) 6/ 3317. (¬3) في (أ)، (د): (ما حسن) بزيادة ما. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 234، بنصه تقريبًا. (¬5) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 610، بنصه. (¬6) ما بين التنصيص من (ش)، (ع) (¬7) "ديوانه" ص 259 وروايته: فأفٍ للحيان على كلّ حالةٍ ... فذكرهم في الذكرِ شر ثناءِ وورد في "الزاهر" 1/ 181، وصدره: فأُفٌّ للِحْيانٍ على كلِّ آلَةٍ

وأنشد لأبي حية: حَيَاءً وبُقْيَا أَنْ تَشِيعَ نَمِيمَةٌ ... بِنَا وبِكُمْ أُفٍّ لأهْلِ النَّمَائِمِ (¬1) ثم ذكر وجهَ كلٍّ لغة فقال: من قال (أُفَّ) جعله بمنزلة قولهم: مُدَّ يدك، ومن قال: (أُفِّ) جعله بمنزلة مُدِّ، ومن قال: (أُفُّ) جعله بمنزلة مُدُّ، وأنشد (¬2): إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ فَضُرَّ فَإِنَّمَا ... يُرَجَّى الفتى كَيْمَا يَضُرَّ وَينْفَعَا (¬3) قال: كذا رواه يونس بضم الراء (¬4)، وأنشد: قال أبو ليلى لحبلي مُدِّه حتى إذا مددته فشُدِّه إن أبا ليلى نسيجُ وحدِه (¬5) ومن قال: (أُفًّا)، نصبه على مذهب الدعاء؛ كما يقال: ويلًا له، ومن قال: (أُفٌّ لك) رفعه باللام؛ كما قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ¬

_ (¬1) "شعر أبي حَيَّة النُّميْري" ص 87، وورد في "الكامل" 1/ 100، و"الزاهر" 1/ 181. (¬2) اختلف في نسبة البيت؛ فنسب للنابغة الجعدي، وهو في "شعر النابغة الجعدي" ص 246، ونسب لقيس بن الخَطيم، وهو في "ديوانه" ص 170، ونسب في "شواهد المغني" 1/ 507 للنابغة الذبياني -وليس في ديوانه- أو النابغة الجعدي، ونسب في "الخزانة" 8/ 499 لهما ولقيس بن الخَطيم، ورجح البغدادي الأخير، وكذلك نُسب في "الصناعتين" ص 315، و"إعجاز القرآن" للباقلاني ص 83 لقيس ابن الخَطيم. (¬3) وورد بلا نسبة في "الزاهر" 1/ 181، و"البغداديات" ص 291، 352، و"الجنى الداني" ص 262، و"مغني اللبيب" ص 241. (¬4) أي في كلمة: فَضُرُّ، ووردت بالفتح، وكذلك وردت يضُرُّ وينفعُ بالرفع. انظر المصادر السابقة. (¬5) ورد في "الزاهر" 1/ 182.

[المطففين:1] ومن قال [(أُفٍّ) خفضه على التشبيه بالأصوات كما يقال: صَهٍ ومَهٍ] (¬1) ومن قال: (أُفَّةً لك) نصبه أيضًا على مذهب الدعاء، ومن قال (أُفّي لك) إضافة إلى نفسه، ومن قال (أُفْ لك) شبّهه بالأدوات؛ نحو: (مَنْ) و (كم) و (بل) و (هل) (¬2). وقال الفراء: العرب تقول: جَعَل فلان يتأفّف من ريح وجدها، معناه: يقول أُفِّ أُفِّ (¬3). وقال الأصمعي: الأُفُّ: وسخ الأُذن، والتُّفُّ: وسخ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه عند كل ما يتأذون به. وقال غيره: أُف معناه: قلّة، وتُف إتْباع، مأخوذ من الأفف؛ وهو الشيء القليل (¬4). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأُفُفُ: الضجر. وقال القتيبي في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [أي لا تستثقل شيئًا من أمرهما، قال: والناس يقولون لما يكرهون ويستثقلون: أُفٍّ] (¬5) له. وأصل هذا نَفْخك للشيء يَسْقط عليك من تراب أو رماد، وللمكان تريد إماطة أذى عنه فقيل لكل مُسْتَثقل (¬6). وقال الزجاج: معنى (أُفّ) النَّتن، ومعنى الآية: ولا تَقُل لهما ما فيه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د). (¬2) "الزاهر" 1/ 181 - 182 وهو نقل طويل من قوله: وزاد ابن الأنباري .. نقله بنصه تقريبًا. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 121، بنصه. (¬4) ورد في "الزاهر" 1/ 180 بتصرف، و"تهذيب اللغة" (أف) 1/ 172، بنصه. (¬5) ما بين المعقوفتين ساقط من (أ)، (د). (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 147، بتصرف يسير.

أدنى تَبَرُّم إذا كَبُرا وأسَنَّا؛ أُفْ، بل تَوَلَّ خدمتهما (¬1)، هذا قول أهل اللغة في معنى هذه الكلمة ووجوهها (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد بالأُف الرديء من الكلام؛ أن يقول لهما: أماتكما الله، أراحني الله منكما (¬3)، فهذا الرديء من الكلام، كقول إبراهيم لقومه: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 67]. وروى ليث عن مجاهد: لا تتقذرهما كما كنت تخرأ وتبول فلا يتقذرانك (¬4). وروى أبو يحيى عنه، قال: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما: (أُف) (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره (¬6)، قال عطاء عن ابن عباس: يريد الجواب والغلظة (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 234، بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" 1/ 172، وظاهرٌ أنه نقله من "التهذيب" لا المعاني. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (أف) 1/ 172 بنصه تقريبًا، من قوله: وقال الأصمعي. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 488 بنصه، انظر: "تنوير المقباس" ص 298 مختصرًا، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 214 أمختصرًا. (¬4) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 140، و"تفسير الثعلبي" 7/ 107 أ، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 86، و"الفخر الرازي" 20/ 189. (¬5) انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 56، و"الفخر الرازي" 20/ 189 بنصه، و"القرطبي" 10/ 242، و"أبي حيان" 6/ 27. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (نهر) 4/ 3674 بنصه، وانظر (نهر) في "المحيط في اللغة" 3/ 476، و"مجمل اللغة" 2/ 845، و"اللسان" 8/ 4557. (¬7) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 489 بنصه، انظر: "تنوير المقباس" ص 298، بنحوه.

24

وقال أبو إسحاق: لا يكلمهما ضَجِرًا صائحًا في أوجُهِهِما (¬1). {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} قال ابن عباس: يريد لينًا لطيفًا (¬2). وقال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول (¬3). وقال عمرو -رضي الله عنه- أي لا تمتنع من شيء يريدانه (¬4). وقال عطاء: لا تُسَمِّهما ولا تُكَنِّهما، وقيل لهما: يا أبتاه ويا أماه (¬5) وقال أبو الهدَّاج التُّجيبي (¬6): سألت سعيد بن المسيب، فقلت: أصلحك الله، كل ما ذَكر اللهُ في القرآن من بِرّ الوالدين قد عرفته إلا قوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} فما هو؟ قال (¬7): قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ (¬8). 24 - قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال عروة بن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 234، بنصه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 298. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 65، بنصه. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 65، بنصه. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 107 أبنصه، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 243. (¬6) في جميع النسخ (الهداد)، والصحيح -كما في تفسير الطبري و"الدر المنثور" و"الجرح والتعديل"- أبو الهداج التجيبي: سمع سعيد بن المسيب قوله، روى عنه حرملة بن عمران. "الجرح والتعديل" 9/ 455. (¬7) ساقط من (أ)، (د). (¬8) أخرجه "الطبري" 15/ 65 بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 197 بنصه، و"الثعلبي" 7/ 107 أبنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 86، و"ابن عطية" 4/ 310، و"ابن الجوزي" 5/ 25، و"القرطبي" 10/ 243، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 310 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

الزبير في هذه الآية: يكون لهما ذلولًا، لا يمتنع من شيء أحَبَّاه (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: لا يريدان منك أمرًا إلا أجبتهما إليه. وقال مقاتل: أَلِنْ لهما جانبك واخضع لهما، ولا تستصعب عليهما (¬2)، هذا قول المفسرين. والخفض في اللغة ضد الرفع، والجناح هاهنا استعارة، وخفض الجناح: عبارة عن السكون، ويريد هاهنا تَرْكَ التعصب والإباء عليهم، والانقياد لهما، وأضاف الجناح إلى الذُّل؛ لأنه أراد تذَلَّلْ لهما، كما قال أبو إسحاق: أَلِنْ لهما جانبك مُتَذَلِّلًا لهما (¬3). وقال عطاء بن أبي رباح في هذه الآية: لا ترفع يدك عليهما (¬4)، وهذا ظاهر؛ لأن الجناح يُستعار كثيرًا في اليد؛ كقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]. وقوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمَةِ} قال الزجاج: أي من مبالغتك في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (8) "الأدب المفرد": باب لين الكلام لوالديه، بنحوه، وابن أبي شيبة 5/ 220 - بنحوه، و"الطبري" 15/ 66، بنحوه من عدة طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 141، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 265 بنصه، و"الثعلبي" 7/ 107 أ، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 310 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وذكره الألباني في "صحيح الأدب المفرد" رقم (8) ص 15. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 214 أ، بمعناه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235، بنصه. (¬4) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 141 بنصه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 265، بنحوه، و"الدر المنثور" 4/ 310، ونسبته إلى ابن جرير -لم أجده- وابن المنذر وابن أبي حاتم.

الرحمة لهما (¬1). وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} الآية. قال قتادة: هكذا علمتم وبهذا أمرتم فخذوا بتعليم الله وأدبه (¬2)، والمعنى: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا}: مثل تربيتهما إياي صغيرًا؛ أي مثل رحمتهما [إياي في صغري حتى ربياني، ولكنْ ذكرت التربية لأنها (¬3) تدل على رحمتهما] (¬4)، وتُذَكِّرُ الولدَ شفقة الأبوين وما أصابهما من النصب في تربيته، فكأنه قيل: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا}: لرحمتهما (¬5) إياي في صغري، والكاف في موضع نصب؛ لأنه نعت مصدر محذوف (¬6). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ثم أنزل الله بعد هذا قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (¬7) الآية [التوبة: 113]، وقال قتادة: قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} (منسوخ؛ لا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين (¬8)، ولا يقول: رب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235، بنصه. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 67، بنصه. (¬3) في (أ)، (د): (أنها)، والصحيح المثبت؛ لأنها تعليل. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من: (ش)، (ع). (¬5) في (ش): (كرحمتهما)، ومطموسة في (ع). (¬6) أي الكاف في قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي}، وقد قدَّر المحذوف الحوفي بقوله: ارحمهما رحمةً مثلَ تربيتهما لي، ووردت أقوال أخرى في الكاف وفي تقدير المحذوف. انظر: "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 269، و"الدر المصون" 7/ 344. (¬7) أخرجه "الطبري" 15/ 67 بنصه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 311 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬8) ورد في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 490، بنحوه، انظر: "غرائب التفسير" 1/ 625 ذكره واستغربه ورده ورجح عدم النسخ، و"تفسير القرطبي" 10/ 244، =

ارحمهما) (¬1). وذهب قوم إلى تخصيص قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا}؛ يعنون أن هذا في الوالدين المسلمين (¬2)، فالآية عامة، ومعناها خاص في المسلمين، ونحو هذا روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} قال: ثم استثنى فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية. فجعل النهي عن استغفار المشركين -وإن كانوا أقارب- استثناءً عن قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا}: في المعنى (¬3)، وهذا أحسن من أن يحكم بالنسخ على الدعاء للوالدين بالرحمة (¬4). وقال سفيان، وسئل كم يدعو لوالديه: في اليوم مرةً أو في الشهر أو في السنة؟ قال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في دبر الصلوات؛ كما أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب: 56]، وكانوا يرون أن التشهد يجزي من الصلاة على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكما أن الله قال: ¬

_ = و"أبي حيان" 6/ 28، و"الدر المنثور" 4/ 311 وعزاه إلى ابن المنذر والنحاس وابن الأنباري في المصاحف، وروي النسخ عن ابن عباس كذلك، انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 337، و"تفسير البغوي" 5/ 86، و"ابن عطية" 9/ 58، و"ابن الجوزي" 5/ 26، و"القرطبي" 10/ 244. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬2) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 15/ 68، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 490، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 337. (¬3) ورد في "الناسخ والمنسوخ" للهروي ص 283، بنحوه. (¬4) وهذا القول هو الراجح، وأولى من دعوى النسخ؛ لإمكان الجمع بين الدليلين، ومتى أمكن الجمع فهو أولى من القول بالنسخ؛ لأن في النسخ إبطال أحد الدليلين، وفي القول بالتخصيص جمع بينهما، وعليه فالآية محكمة غير منسوخة. انظر: "الإيضاح" لمكي ص 338.

25

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، فهم يكبرون في دبر الصلوات (¬1). 25 - قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} الأعلم من قولك: فلانٌ أعلمُ، له معنيان؛ أحدهما: أكثر معلومًا، والثاني: أثبت علمًا، وهذان يجوز في صفة الله تعالى؛ فإنه أكثر معلومًا وأثبت علمًا. قال سعيد بن جبير في قوله: {بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} هو البادرة تكون من الرجل إلى أبويه لا يريد بذلك بأسًا (¬2)، فقال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} أي النِّية صادقة ببرِّه، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}: البادرة التي بدرت منه. والمعنى: ربكم أعلم بما تضمرون من البِرّ والعقوق؛ فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر عقوقًا فأغفر له ذلك، وهو معنى قوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} قال ابن عباس: يريد طائعين لله، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} قال: يريد الراجعين عن معاصي الله -عز وجل-، التاركين لسخط الله، النادمين على الزلات (¬3). وقال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 192، بنصه. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 68 بنصه تقريبًا من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 107 أبنصه تقريبًا، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 88، و"الزمخشري" 2/ 358، و"الدر المنثور" 4/ 311 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 490، بلا نسبة. (¬4) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 376 بنصه، و"الطبري" 15/ 69 - 70 بنصه من عدة =

وقال الحسن: هو الذي يريد اللهَ بقلبه وعمله (¬1). وقال سعيد بن جبير: يعني الراجعين إلى الخير (¬2). وقال عبيد بن عمير: الذين يذكرون لأبويهم ويستغفرون (¬3). ورُوي أنه قال: الأوَّابُ: هو الذي يقول: اللهم اغفر لي [ما] (¬4) أصبت في مجلسي هذا (¬5). وقال أبو إسحاق: الأوَّاب: هو الراجع إلى الله سبحانه في كل ما أمر به، المُقْلع عن جميع ما نهى عنه، يقال: آب يؤوب أوْبًا: إذا رجع (¬6). ¬

_ = طرق، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 197، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 107 أبنصه، و"الماوردي" 3/ 239، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 468، بنحوه. (¬1) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 265، بنحوه. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 70 بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 142 بنصه، و"تفسير الجصاص" 3/ 197 - بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 107 أبنصه، و"الماوردي" 3/ 239، بنحوه، وأخرجه البيهقي في الشعب (5/ 438 بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 468، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 310 وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا. (¬3) لم أقف على هذا القول، والذي ورد عنه في المصادر، أنه قال: الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء فيستغفرون الله. انظر: "تفسير الطبري" 15/ 70، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 143، و"تفسير الثعلبي" 7/ 107 أ، و"ابن الجوزي" 5/ 26، و"القرطبي" 10/ 247، و"الدر المنثور" 4/ 318 وعزاه إلى هناد. (¬4) زيادة يقتضها السياق -كما في جميع المصادر- وفي جميع النسخ: أصبت بدون (ما). (¬5) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 377 بنصه، و"الطبري" 15/ 71 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 107 أبنصه، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 41. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235 بنصه، وهذا القول -وهو قول ابن عباس وابن المسيب- هو الذي رجحه الطبري؛ قال: لأن الأواب إنما هو فعَّال، من قول القائل: آب فلان من كذا؛ إما من سفره إلى منزله، أو من حال إلى حال.

26

26 - قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} الآية. قال ابن زيد: بدأ الله تعالى بالوالدين، فلما فرغ من الوالدين وحقهما ذكر هؤلاء (¬1). وقال ابن عباس: هذه الآية حضٌّ على صلة القرابة، بدأ بحق القرابة لِمَا جعل في الأرحام من الصلة (¬2)، ونحو هذا قال الحسن: إن هذه الآية في بر الأقارب وصلة رحمهم بالإحسان إليهم (¬3). وقد فسّر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية فيما روى عنه أنس؛ أن رجلًا قال: يا رسول الله: إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد، فكيف تحب لي أن أصنع أو أنفق؟ قال: "أد الزكاة طُهرةً يطهرك، وآت صلة الرحم، واعرف حق السائل والجار والمسكين وابن السبيل، ولا تبذر تبذيرًا" (¬4). ومعنى التبذير في اللغة: إفساد المال وإنفاقه في السرف (¬5). وقال ابن مسعود: التبذير: النفقة في غير حق (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 74 بنصه. (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 60، بنحوه. (¬3) انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 60، بنحوه. (¬4) أخرجه الحاكم 2/ 360، بنحوه عن أنس، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 42، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 320، بنحوه وزاد نسبته إلى أحمد -ولم أجده، وأورده في "الكنز" 6/ 294، بنحوه وعزاه إلى البيهقي- ولم أجده. (¬5) انظر (بذر) في "تهذيب اللغة" 1/ 297، و"المحيط في اللغة" 10/ 74، و"اللسان" 1/ 237. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 73 بنصه من عدة طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 144، بنحوه، و"تفسير الجصاص" 3/ 198 بنصه، و"الثعلبي" 7/ 107 ب بنصه، و"الطوسي" 6/ 469، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 320.

27

قال عثمان بن الأسود (¬1): كنت أطوف مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قُبَيْس (¬2) فقال: لو أن رجلًا أنفق مثلَ هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين (¬3). 27 - قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا}، أي: المنفقين في غير طاعة الله، قاله ابن عباس (¬4)، {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} قال: يريد أولياءهم، قال أبو إسحاق: أي يفعلون ما يُسَوَّل لهم الشيطان (¬5). وقال أهل المعاني: مؤاخاة الشيطان: موافقته فيما دعا إليه، وكل من أجاب الشيطان إلى ما سَوَّلَ له، فهو من إخوان الشياطين؛ [لأنه يتبع ¬

_ (¬1) عثمان بن موسى بن باذان المكي، مولى بني جُمَح، ثقة ثبت، روى عن مجاهد وعطاء، وعنه: الثوري وابن المبارك، مات سنة (150 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 144، و"الكاشف" 2/ 5 (3680)، و"تقريب التهذيب" ص 382 (4451). (¬2) بالتصغير، هو الجبل المشرف على الصفا، قال الأزرقي: وسمي أبا قبيس؛ لأن أول من بني فيه رجلٌ يقال له: أبو قبيس، هذا هو المشهور، وقيل غير ذلك، وهو أحد الأخشبين، وكان يسمى في الجاهلية (الأمين)، ويقال: إنما سمي الأمين؛ لأن الحجر الأسود كان فيه مستودعًا عام الطوفان. انظر: "أخبار مكة" للأزرقي 2/ 266، و"معجم البلدان" 1/ 80. (¬3) ورد في "تفسير الطبري" 15/ 74 بمعناه، و"السمرقندي" 2/ 266، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 193. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 73 - 74 بنصه من طريق العوفي [ضعيفة]، ومن طريق عكرمة [جيدة]، وورد في: "تفسير الجصاص" 3/ 198 بنصه، انظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 30. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235، بنصه.

28

أثره ويجري على سنته (¬1). وقيل: معنى إخوان الشياطين] (¬2): الذين يُقْرَنون به في النار (¬3). ثم ذم الشيطان بقوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}؛ ليرتدع المؤمن عن اتباعه فيما يدعو إليه، وفيه أيضًا إشارة إلى ذم المبذّر؛ حيث أخبر أنه أخو الشيطان، ثم ذم الشيطان؛ فإنه كفور لربه، فهو يتضمن أن المنفق في السرف كفور لربه فيما أنعم عليه. قال ابن عباس في قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} يريد جاحدًا لأنعمه. 28 - قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} قال [ابن] (¬4) زيد: أي عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم (¬5)، ونحو هذا قال الزجاج؛ فقال: هذه الهاء والميم ترجعان على القُربى والمساكين وابن السبيل (¬6). وقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال الحسن وعكرمة: انتظار رزق من الله يأتيك (¬7). قال الزجاج: وهو نصب؛ لأنه مفعول له، المعنى: وإن أعرضت عنهم لابتغاء رحمة من ربك (¬8)، لا يحتمل أن يكون سببًا لإعراضه على ظاهر اللفظ إلا أنْ يُرَدَّ إلى معناه الباطن؛ ومعناه الباطن أن يكون قوله: ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير الجصاص" 3/ 198، و"الطوسي" 6/ 469. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د). (¬3) ورد بنصه في "تفسير الجصاص" 3/ 198، و"الطوسي" 6/ 469. (¬4) التصويب من الطبري، وفي جميع النسخ: (زيد). (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 75 بنصه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235 بنصه. (¬7) أخرجه "الطبري" 8/ 70 بنصه عن عكرمة. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235 بنصه.

{ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}، قد أومئ به إلى الإضاقة والإعسار؛ لأن معناه: رجاء صنيع الله وكفايته، وفيه إشارة إلى الإضاقة، فيكون المعنى أن تُعرض عن السائل إضاقة وإعسارًا. وذكر الكلبي وغيره: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (كان إذا سأله فقراء أصحابه فلا يجد ما يعطيهم، أعرض عنهم حياءً منهم ويسكت، فعلمه الله كيف يصنع، فقال: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} (¬1). وقال الزجاج: يُروى أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سُئل وليس عنده ما يعطي أمسك انتظار الرزق يأتي من الله؛ كأنه يكره الرَّدّ، فلما نزلت هذه الآية: (كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: "يرزقنا الله وإياكم من فضله") (¬2) (¬3)، فذلك قوله: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، قال ابن زيد: قولًا جميلًا، رزقك الله وبارك الله فيك (¬4). وقال الكلبي: عِدْهم عِدَةً حسنة (¬5)، وهو قول الفراء ومجاهد (¬6). ¬

_ (¬1) وورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 214 أ. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" [مجمع البحرين] 6/ 197، بنحوه عن علي، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 107 ب بنصه، و"القرطبي" 10/ 249، و"ابن عطية" 9/ 62، وأورده الهيثمي في "المجمع" 9/ 13 وقال: وفيه محمد بن كثير الكوفي، وهو ضعيف. فالحديث ضعيف. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 235 بنصه. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 75 - 76 بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 29، و"الدر المنثور" 4/ 321 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) ورد عن ابن عباس والحسن، كما في "تفسير ابن الجوزي" 5/ 29، و"تنوير المقباس" ص 299، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 266 بنصه، و"الطوسي" 6/ 470، بنحوه. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 122 بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 29، عن مجاهد.

29

وأما الميسور فقال الكسائي: يَسَرْتُ أَيْسِرُ له القول، أي لَيَّنْتُه (¬1). وقال أبو الدُّقيش (¬2): يَسّرَ فلانٌ فرسه فهو مَيْسُور؛ مصنوعٌ سمين (¬3)، فالقول الميسور: هو القول المصنوع اللين السهل. 29 - قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية. روى المنهال بن عمرو قال: بعثت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنها فقالت: قل له: اكسني ثوبًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما عندي شيء"، قالت: فارجع إليه وقل له: اكسني قميصك، قال: فأتاه فقال: إنها تقول: اكسني قميصك، قال: فنزع قميصه فأعطاه إياه، فنزلت هذه الآية. (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 194. (¬2) أبو الدُّقيش القنانيّ الغنوِيّ، لم أجد له ترجمة، وذكره القفطي في إنباه الرواة 4/ 121، ولم يترجم له. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (يسر) 4/ 3980 بنصه، ويعني بالصناعة هنا الاجتهاد في تغذيته وتربيته، وفي "المحيط في اللغة" (صنع) 1/ 337: يقال: صنعت الفرس: أحسنت القيام عليه. (¬4) ورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 266، و"الثعلبي" 7/ 107 ب، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 287، بنحوه من طريق ابن مسعود، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 322 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأورده بنحوه -كذلك- وعزاه إلى ابن جرير من طريق ابن مسعود- لم أجده، وأورده في "لباب النقول" ص 136، بنحوه من طريق ابن مسعود وعزاه إلى ابن مردويه. وهذه الرواية مقطوعة؛ لأن المنهال لم يحفظ له سماع عن الصحابة، إنما روايته عن كبار التابعين -كما في "الميزان"- كما أن إسناد هذا الحديث -من طريق ابن مسعود- ضعيف، بسبب ضعف: سليمان بن سفيان الجهني، وقيس بن الربيع الأسدي. انظر: "الضعفاء" للبخاري رقم (301) وللنسائي رقم (246)، (499) و"الضعفاء والمتروكين" للدارقطني رقم (254)، و"ميزان الاعتدال" 2/ 209، 3/ 393.

قال أهل اللغة: معنى الغل: الإدخال (¬1)، قال امرؤ القيس: لها مُقْلَةٌ حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... إلى حاجبٍ غُلّ فيه الشُّفُرْ (¬2) أي عورٌ وأدخل فيه الشُّفُر (¬3)، ومنه قولهم: غَلَّ في الغنيمة إذا خان؛ لأن ما خان شيئًا أو سرقه أدخله في كُمِّه، ومعنى غُلَّتْ يدُ فلان: أي أدخلت في الحديد، ولعل هذا مما سبق ذكره (¬4). قال ابن عباس والمفسرون في قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}: يريد البخل ومنع حق الله في الزكاة والصلة (¬5). والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كل الإمساك، حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك بالغل لا تُبْسَط لخير. قال صاحب النظم: لا تكاد العرب تقول جعلت يدي مغلولة، ولا ¬

_ (¬1) انظر (غلل) في "تهذيب اللغة" (غلل) 3/ 2690، و"مقاييس اللغة" 4/ 376، و"الصحاح" 5/ 1784، و"اللسان" 6/ 3288. (¬2) ورد في "الديوان" ص 72 برواية أخرى ليس فيها الشاهد وهي: وعَينٌ لها حَدْرةٌ بَدْرةٌ ... شُقّت مآقيها منْ أُخُرْ وورد -بلا نسبة- في "مقاييس اللغة" 4/ 376، برواية: وعينٌ لها حَدْرةٌ بَدْرَةٌ ... إلى حاجبٍ غُلّ فيه الشُّفُر وورد عجزه -بلا نسبة- في "مجمل اللغة" 2/ 679، (حدْرة): واسعة، (بدْرة): تامَّة، ومنه قيل: ليلة البدر لتمام قمرها، (المأقي): مؤخر العينين، (أخُر): آخرهما، (الشُّفُر): بالضم شُفْر العين، وهو ما نبت عليه الشعر. (¬3) في جميع النسخ: (الشعر)، والصواب ما أثبته، ويبدو أنها تصحفت على النساخ. (¬4) عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 77 مختصرًا، من طريق ابن أبي طلحة صحيح، و"الدر المنثور" 4/ 322 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

جعلت رجلي مقيدة، ولا جعلت رأسي معممًا، إنما يقولون: غَلَلتُ يدي، وقَيَّدتُ رجلي، وعَمَّمتُ رأسي، والعلة في هذا النظم؛ أن الفعل أقل من النعت، والنعت ألزم وأكثر من الفعل؛ كما قلنا في قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]؛ لأنه قد كان منه، ولا يجوز أن يقال: آدم عاصٍ غاوٍ؛ لأن هذا نعت لازم، وكانوا يقولون: يد فلان مغلولة، أي أن المنع عادةٌ له، ولا يكادون يقولون: غُلَّت يده؛ لأن هذا فعل غير لازم، والأول لازم، وقد يمنع الإنسان في مواضع المنع ولا يُرْجَع عليه بلوم، فلذلك قال -عز وجل-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}، أي: لا تكن ممسكًا عن البذل عادة، ولم يُرِدْ أن لا يمسك عند وقت الإمساك، يدل على ذلك قوله: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}؛ ومما يشبه هذا النظم، قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] وقد مر، وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وسنذكره في موضعه إن شاء الله (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} قال ابن عباس: يريد في النفقة والعطية (¬2). وقال مجاهد وقتادة: يعني التبذير والإنفاق في معصية الله تعالى، ¬

_ (¬1) قال الواحدي عند تفسير هذه الآية: وذكر صاحب النظم وجهًا آخر من الهجر؛ فقال: ويجوز أن يكون المهجور مصدرًا؛ كالهجر والهجير، ويكون المعنى: اتخذوا هذا القرآن هُجرًا، أي: إذا سمعوه قالوا فيه الهجير، وقالوا: إنه هجر، كما يقال: اتخذنا فلانًا ضحكة أو سُخرة، أي إذا رأيناه ضحكنا منه وسخرنا منه، وهذا النظم أبلغ من أن لو قيل: هجروا القرآن، أو هجروا فيه؛ لأنه يدل على أنهم جعلوا عادتهم هجر القرآن. (¬2) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 266 - بمعناه، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 493 بنصه، انظر: "تنوير المقباس" ص 299 بنصه.

وفيما لا يصلح (¬1)، فحصل في قوله: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وجهان من التفسير؛ أحدهما: أنه نهي عن بذل جميع ما يملك، حتى لا يبقى له شيء، وإن كان في طاعة الله، على ما ذكر من سبب النزول، وفي معنى قول ابن عباس. والثاني: أنه نهي عن التبذير؛ على قول مجاهد وقتادة. وقوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} قال السدي: تلوم نفسك وتُلام (¬2)، {مَحْسُورًا} قال ابن عباس: ليس عندك شيء (¬3)، وقال مجاهد: مقطوعًا بك (¬4). قال الفراء: والعرب تقول للبعير: هو محسور إذا انقطع سَيْرُه، وحَسرتُ الدَّابة إذا سَيَّرتَها حتى ينقطعَ سَيْرُها (¬5). وقال ابن قتيبة: أي تَحْسِرُكَ العطيةُ وتَقْطعك؛ كما يَحْسِرُ السفرُ البعيرَ، فيبقى منقطعًا (¬6)، هذا هو الأصل، ثم يُقال: حَسَرْتُ الرجلَ بالمسألة حَسْرَةً: إذا أفنيتَ جميعَ ما عنده، وحُسِرَ فهو يُحْسَرُ: إذا لم يبق عنده شيء، من قولهم: حَسَرَتِ الدابةُ والعينُ (¬7)، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]. ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 493 بنصه عن مجاهد، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 64، عن قتادة. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 493 بنصه. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 77 بمعناه، من طريق العوفي ضعيفة، ورد في تفسيره الوسيط، تح: سيسي (2/ 493 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 322 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 146، بنحوه. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 122 بنصه. (¬6) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 255 بنصه. (¬7) ساقطة من (ع).

30

وقال قتادة في قوله: {مَحْسُورًا}، (أي نادمًا على ما سلف منك (¬1)، فجعله من الحَسْرَة، والفاعل من الحسرة يكون حَسْرُا، وحُسْرَان، ولا يقال في الفاعل منه: محسور) (¬2). 30 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} قال المفسرون: يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء (¬3)، والقَدْرُ في اللغة: التضيق (¬4)، ومنه قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]، وقوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي ضَيَّقَ، فمعنى الآية: أنه يُوَسِّعُ في الرزق ويُضيّقُ بحسب مصالح العباد؛ كما قال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} الآية [الشورى: 27]، وهو معنى قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، حيث أجرى رزقهم على ما علم فيه صلاحهم. وقال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: يريد لو أردت أن أبسط (¬5) عليك الرزق وأجعل جبال الدنيا لك ذهبًا وفضة لفعلت، ولم أجعل لك الدنيا لكرامتك علي جعلت لك الآخرة. 31 - وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} الآية. سبق تفسير هذه ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه عبد الرزاق 2/ 377، والطبري 15/ 77، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 146 - مختصرًا، والثعلبي 7/ 108 أ، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 9، و"القرطبي" 10/ 251. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬3) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 214 ب، و"الطبري" 15/ 78، و"السمرقندي" 2/ 267، و"الثعلبي" 7/ 108 أ، و"الطوسي" 6/ 471. (¬4) انظر: قدر في "تهذيب اللغة" 3/ 2897، و"اللسان" 6/ 3547، و"التاج" 17/ 373. (¬5) في (أ): (أسبط).

الآية في أواخر سورة الأنعام (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} قال أبو إسحاق: معناه: إثمًا كبيرًا (¬2)، يقال: خَطِىءَ يُخْطِئ خِطْئًا، مثل: أَثِمَ يَأْثَمُ إثمًا، قال الله تعالى (¬3): {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]، أي: آثمين، وقال: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37]. وقرأ ابن عامر {خَطَئًا} بالفتح (¬4)؛ وهو اسم من أخطأ، يقال: أخطأ يُخْطِىءُ، إِخْطَاءً وخِطَاءً، إذا لم يصب عن غير تعمد (¬5)، وقد يكون الخطأ الاسم من هذا لا المصدر، ويكون المعنى على هذه القراءة: إن قتلهم كان على غير الصواب، هذا قول أبي إسحاق في معنى هذه القراءة (¬6). ¬

_ (¬1) آية [151]. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 236 بلفظه. (¬3) لعل الأولى أن يقول: قال الله تعالى، عن إخوة يوسف؛ حتى لا يوهم معنى غير مقصود. (¬4) أي بفتح الخاء والطاء وبالهمز من غير مدّ: {خَطَئًا}. انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 370، و"علل القراءات" 1/ 320، و"الحجة للقراء" 5/ 96، و"المبسوط في القراءات" ص 228. (¬5) يقول ابن دريد: الخطأ؛ مقصور مهموز؛ يقال خَطِئَ الشيءَ يخطَأ خَطاءً وخِطاءً: إذا أراده فلم يُصبْه؛ ويكون أيضًا خَطئ الرجلُ، إذا تعمّد الخَطَأ؛ وأخطأ يُخطئ إخطاءً: إذا لم يتعمّد الخَطَأ فهو مخطئ، والأول خاطئ، ومنه قتل الخَطَأ؛ لأنه لم يُردْ قتله. "جمهرة اللغة" 2/ 1054، انظر معاني القرآن للأخفش (2/ 611، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 147، و"تهذيب اللغة" (خطئ) 1/ 1060، و"شرح الهداية" 2/ 386، و"العباب الزاخر" أ / 50، و"اللسان" (خطأ) 2/ 1205، و"تاج العروس" (خطأ) 1/ 145. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 236 بتصرف يسير.

وقال أبو علي: قد جاء أخطأ بمعنى خَطِئ أي أثم، كما جاء خَطِئ بمعنى أخطأ، إذا لم يصب الصواب؛ فمن الأول قوله: {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] بمعنى خَطِئْنَا؛ لأن المؤاخذة عن المخطئ موضوع، وأنشد (¬1): عبادُك يُخْطِئُونَ وأنت ربٌّ ... كريم لا تَليقُ بك الذمومُ (¬2) ومن الثاني قول امرئ القيس: يا ويحَ هِنْدٍ إذْ خَطِئنَ كاهِلًا (¬3) ¬

_ (¬1) لأمية بن أبي الصلت؛ جاهلي من أهل الطائف، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه، ولم يسلم. (¬2) "ديوانه" ص 481، برواية: بِكَفَّيْكَ المَنَايَا والحُتُومُ وورد برواية الديوان في "تهذيب إصلاح المنطق" ص 632، و"المحتسَب" 2/ 20، وورد برواية المؤلف بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (خطئ) 1/ 1060، و"علل القراءات" 1/ 321، و"تفسير الطوسي" 6/ 472، و"تفسير ابن عطية" 9/ 68، و"اللسان" (خطأ) 2/ 1205. وبرواية: لا تَمُوتُ. بدل: الحتوم في "أدب الكاتب" 444، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 370. (¬3) وعجزه: تالله لا يذهبُ شيْخي باطلًا "ديوانه" ص 136، وفيه وفي جميع المصادر: (لهف) بدل (ويح)، وورد في: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 611، و"إصلاح المنطق" ص 294، و"تهذيب اللغة" (خطئ) 1/ 1060، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص 632، و"الأساس" 1/ 238، و"العباب الزاخر" أ/ 50، و"التاج" (خطأ) 1/ 145، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" 15/ 79، و"الحجة للقراء" 2/ 115، 5/ 98، (يا لهف): يا حسرة هند، وهي أخته وقيل: امرأة أبيه، (خطئن): أخطأن ولم يصبن؛ يعني: أن خيله التي أغار بها لم تصب بني كاهل؛ وهم حي من بني أسد، كان فيمن اشترك في قتل حُجْر والد امرئ القيس، (شيخه): أبوه، (باطل): هدر.

33

وإذا كان أخطأ بمعنى خَطِئ كان خَطَأً بمعنى خِطْأً (¬1)، فيكون معنى قراءة ابن عامر كمعنى قراءة العامة، وقرأ ابن كثير: (خِطاءً) مكسور الخاء ممدودًا (¬2)، وهو مصدر خاطأ وإن لم يسمع خَاطَأ، ولكن قد جاء ما يدل عليه، وهو ما أنشده أبو عبيدة (¬3): تَخَاطأتِ النَّبْلُ أحشاءَه (¬4) فتخاطأ يدلّ على خَاطَأ؛ لأن تفاعل مطاوعُ فَاعَل، كما أن تَفَعَّلَ مطاوع فَعَّل، وهذا وجه بعيد ذكره أبو علي (¬5)، والقراءة هي الأولى. 33 - قوله تعالى: [{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قال المفسرون (¬6): حقها الذي تُقْتل به: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء" 5/ 97، بتصرف. (¬2) انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 370، و"علل القراءات" 1/ 320، و"الحجة للقراء" 5/ 96، و"المبسوط في القراءات" ص 228. (¬3) البيت لأوْفَى بن مَطَر المازنيّ (جاهلي). (¬4) وعجزه: وأُخِّر يَومِي فلم يَعْجَلِ "الدِّيباج" لأبي عبيدة ص 39، وورد في: "ذيل الأمالي" للقالي 3/ 91، و"العباب الزاخر" أ/ 51، و"اللسان" (خطأ) 2/ 1205، وورد غير منسوب في "الحجة للقراء" 5/ 97، و"تفسير الطوسي" 6/ 472، و"ابن عطية" 9/ 69، و"القرطبي" 10/ 253، و"أبي حيان" 6/ 32، و"الدر المصون" 7/ 347. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 97، بنصه تقريبًا. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 15/ 80، و"السمرقندي" 2/ 267، و"الثعلبي" 7/ 108 أ. وقد أخذوا هذه الخصال الثلاث -الموجبة للقتل- من الحديث الصحيح: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة" أخرجه البخاري =

أو قتل نفس بتعمد، {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا}] (¬1) أي بغير أحد هذه الخصال، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} يعني وارثه الذي بينه وبينه قرابة توجب له المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه. وقوله تعالى: {سُلْطَانًا} قال ابن عباس: يريد حجة (¬2)، قال مجاهد: سلطانه: حجته التي جُعلت له أن يقتل قاتله (¬3). وقال الضحاك في قوله: {سُلْطَانًا} إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدّية (¬4). وقوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} اختلفوا في معنى الإسراف هاهنا؛ فقال ابن عباس: هو أن يقتل غير القاتل (¬5). ¬

_ = (6484) كتاب: الديات، باب قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، ومسلم (1676) كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم، وأخرجه "الطبري" 15/ 80 من عدة طرق. (¬1) ما بين المعقوفين معظمه مطموس في (ع). (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 81 بمعناه من طريق العوفي (ضعيفة)، ورد في "تفسير الجصاص" 3/ 200 بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 32. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 149 بنصه، ورد في "تفسير الجصاص" 3/ 200، بنحوه. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 81، بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 149 بنصه، وورد بنحوه في "تفسير الجصاص" 3/ 200، و"الماوردي" 3/ 240، و"الطوسي" 6/ 475، وورد بنصه غير منسوب في: "تفسير مقاتل" 1/ 214 ب، و"السمرقندي" 2/ 267، و"الثعلبي" 7/ 108 أ. (¬5) انظر: "تفسير البغوي"، 5/ 91، و"ابن الجوزي" 5/ 33، و"الخازن" 3/ 163، و"أبي حيان" 6/ 33، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 327 وعزاه إلى ابن المنذر من طريق أبي صالح (ضعيفة).

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: هو أن يقتل بالواحد الاثنين والثلاثة (¬1). قال طَلْقُ بن حَبِيب (¬2): هو أن يمثل بالقاتل (¬3). وقال الحسن وابن زيد: هو أن لا يرضى بالقاتل إذا كان خسيسًا فيعمد إلى أشرف قبيلة القاتل فيقتله، كفعل أهل الجاهلية (¬4)، وهذا معنى قول ابن عباس: هو أن يقتل غير القاتل، والمعنى: فلا يسرف الوليُّ في القتل، أي لا يتجاوز ما حُدَّ له. {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}، أي: أن الولي كان منصورًا بقتل قاتل وليه ¬

_ (¬1) أخرجه عن سعيد: "عبد الرزاق" 2/ 377 - بمعناه، وابن أبي شيبة (5/ 454، بنحوه، و"الطبري" 15/ 82، بنحوه، والبيهقي في السنن: الجنايات/ إيجاب القصاص على القاتل دون غيره 8/ 25، بنحوه، وورد بنحوه عن سعيد بن جبير في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 150، و"تفسير الثعلبي" 7/ 108 ب، و"الماوردي" 3/ 241، و"الدر المنثور" 4/ 327 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) طلق بن حبيب العَنَزي، الزاهد البصري من صلحاء التابعين، ثقة لكنه كان يرى الإرجاء، روى عن ابن عباس وجندب بن سفيان، وعنه: عمرو بن دينار وسليمان التميمي، مات بعد التسعين. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 490، و"ميزان الاعتدال" 3/ 59، و"الكاشف" 1/ 515، و"تقريب التهذيب" ص 283 (3040). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 454، بنحوه، و"الطبري" 15/ 82، بنحوه من طريقين، والبيهقي في "السنن" كتاب: الجنايات، باب: إيجاب القصاص على القاتل دون غيره 8/ 25، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 150، و"تفسير الجصاص" 3/ 201، و"الثعلبي" 7/ 108 ب، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 255، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 326 - 328 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 83، بنحوه عنهما، والبيهقي في "السنن" كتاب: الجنايات، باب: إيجاب القصاص على القاتل دون غيره 8/ 25، بنحوه عن ابن زيد، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 108 أ، بنحوه عنهما، انظر: "تفسير ابن الجوزى" 5/ 33، عن ابن زيد.

والاقتصاص منه، وقد حكم الله تعالى بالسلطان والنصرة لولي المقتول ظلمًا، وقد روي عن زَهْدَم الجَرْمي (¬1) عن ابن عباس: أنه قال: قلت لعلي ابن أبي طالب: وأيم الله لَيَظْهَرنَّ عليكم ابنُ أبي سفيان؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (¬2). (وقال الحسن: والله ما نُصِرَ معاويةُ على علي إلا بقول الله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}) (¬3) (¬4). وروى العلاء (¬5) عن مجاهد في قوله: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} قال: المسرف: الذي قتل القتيل الأول (¬6)؛ فهو الذي أسرف في القتل، وعلى هذا المنهي عن الإسراف القاتل الأول (¬7)، ويكون التقدير: فلا يُسرف ¬

_ (¬1) زَهْدَم بن مضرب أو مُضَرِّس -كما في "التقريب"- الجَرْمي، أبو مسلم البصري، ثقة، روى عن ابن عباس وعمران بن حصين، وعنه: قتادة وأبو التياح. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 617، و"الكاشف" 1/ 406، و"تقريب التهذيب" (2039). (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 203 بنصه، و"ابن كثير" 3/ 44، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 328 وعزاه إلى الطبراني وابن عساكر - لم أقف عليه. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬4) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 204 بنصه. (¬5) العلاء بن عبد الكريم اليَامي، أبو عَوْن الكوفي، ثقة عابد، سمع مجاهد ومرة الهمداني، وعنه: الثوري ووكيع، توفي في حدود سنة (150 هـ) انظر: "التاريخ الكبير" 6/ 514، و"الجرح والتعديل" 6/ 358، و"تقريب التهذيب" (5248). (¬6) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 151، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 33، و"القرطبي" 10/ 255. (¬7) في هذا القول تكلُّف وبعد عن الظاهر؛ فالخطاب -حسب الظاهر- موجه إلى ولي المقتول وليس للقاتل، وكيف يخاطب القاتل الأول ويقال له: لا تسرف في =

القاتل في القتل، وجاز أن يضمر وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الحال تدل عليه، ومعنى نهيه عن الإسراف: نهيه عن القتل؛ لأنه يكون بقتله مسرفًا، ويكون الضمير على هذا في قوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} للمقتول المذكور في قوله: {وَمَنْ قُتِلَ}، ويكون التقدير: فلا يُسرف القاتل -الذي يبتدئ- بالقتل؛ لأن من قُتل مظلومًا كان منصورًا؛ بأن يقتصَّ له وليُّه، أو (¬1) السلطان إن لم يكن له ولي، وهذا الاقتصاص إنما هو للمقتول انتقل إلى الولي، بدلالة أن المقتول لو أبرأ من السبب (¬2) المؤدي إلى الهلاك؛ وهو الجراحة لم يكن للولي أن يقتص، وتكون الآية على هذا ردعًا للقاتل عن القتل (¬3). وقرأ حمزة والكسائي: (فَلا تُسْرِفْ) بالتاء (¬4)، وهذه القراءة تحتمل أيضًا وجهين؛ أحدهما: أن يكون الخطاب للمبتدئ؛ القاتل ظلمًا، قيل له: فلا تسرف أيها الإنسان، فتقتل ظلمًا [من ليس] (¬5) لك قتله؛ إن من قتل مظلومًا كان منصورًا بأخذ القصاص له. والآخر: أن يكون الخطاب للولي، فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الولي فتتعدى قاتل وَلِيّك إلى من لم يقتله؛ إن المقتول ظلمًا كان ¬

_ = القتل؟! لذلك قال الألوسي: إن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه. انظر: "تفسير الألوسي" 15/ 70. (¬1) في (ب)، (ع): (و). (¬2) في جميع النسخ: (النسب)، وبالمثبت يستقيم الكلام. (¬3) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 99 - 100 بتصرف. (¬4) انظر: "السبعة" ص 380، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 372، و"علل القراءات" 1/ 322، و"الحجة للقراء" 5/ 99، و"المبسوط في القراءات" ص 228. (¬5) هذه إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، وهي ثابتة في المصدر.

34

منصورًا، وكل واحد من المقتول ظلمًا ومن ولي المقتول قد تقدم ذكره في قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (¬1). وقال أبو إسحاق في قوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}، أي: أن المقتول إذا قتل بغير حق فهو منصور في الدنيا والآخرة؛ فأما نصرته في الدنيا فقتل قاتله، وأما في الآخرة فإجزال الثواب له وتعذيب قاتله في النار (¬2). 34 - قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال الكلبي: يعني بالقيام عليه وأن يُثَمِّر مالَ اليتيم بالأرباح (¬3). وقال ابن زيد: يعني الأكل بالمعروف؛ أن تأكل معه إذا احتجت إليه، كان أُبَيّ يقول ذلك (¬4). وروى مجاهد عن ابن عباس قال: إن احتاج أكل بالمعروف، (فإذا أَيْسَر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه (¬5). وروى الحكم عن إبراهيم قال: يأكل بالمعروف) (¬6) وإن أتى على آخره (¬7). وقال قتادة: هذه الآية كانت جَهْدًا عليهم؛ لا يخالطوهم، ثم أنزل ¬

_ (¬1) ورد الوجهان في "الحجة للقراء" 5/ 100، بنصه تقريبًا. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 238 بتصرف يسير لكنه مهم؛ إذ غير عبارة الزجاج: ويخلَّد قاتله النار إلى: وتعذيب قاتله في النار، هربًا من قول الوعيدية. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 299، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 268. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 84، بنصه. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 204، بنصه. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬7) لم أقف عليه.

الله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]، فرُخِّص لهم أن يخالطوهم (¬1). فمعني {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: الحالة التي هي أحسن؛ وهو الكف عنه، وتثميره في قول بعضهم، وفي قول آخرين: الأكل بالمعروف عند الحاجة إليه، على ما ذكرنا، وهذه الآية ذكرنا تفسيرها في أواخر سورة الأنعام (¬2). وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} قال أهل المعاني: كل عقد يُقَدَّم للتوثق من الأمر فهو عهد (¬3)، فدخل في قوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} كُلّ عقد من العقود بين المسلمين؛ كعقد النكاح وعقد الشركة وعقد البيع وعقد اليمين وعقد الصلح بين المسلمين والمشركين، وكل هذا مما يجب حفظه والوفاء به وترك الخيانة فيه. وقال أبو إسحاق: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ذكر صاحب النظم وغيره في هذا وجهين (¬5)؛ أحدهما: أن المعنى: كان مسئولًا عنه بالجزاء، فحذف الصلة، كقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، أي: يؤمرون به، وكقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]، أي: يعدلون بالله. والثاني: أن العهد يُسأل فيقال: لم (¬6) نُقِضت، تبكيتًا للناقض؛ كما ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 84، بنحوه من طريقين. (¬2) آية [152]. (¬3) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 476. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 238، بمعناه. (¬5) ورد بنحوه في "تفسير الجصاص" 3/ 203، و"الماوردي" 3/ 242، و"الطوسي" 6/ 477، انظر: "الفريد في إعراب القرآن" 3/ 274، و"تفسير الألوسي" 15/ 71. (¬6) في (أ)، (د): (لهم)، والمثبت من (ش)، (ع). وهو الصحيح المنسجم مع السياق.

35

تُسأل الموؤودة تبكيتًا لوائدها وإنكارًا عليه؛ كما جاء قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} الآية. [المائدة: 116] والمخاطبة لعيسى (¬1) والإنكار على غيره. 35 - وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}، أي: أتموه ولا تبخسوا منه، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} قال الحسن: هو القَبَّان (¬2)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). وقال مجاهد: هو العدل، بالرومية (¬4). وقال الليث: هو أقوم الموازين (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (بعيسى)، والمثبت من (ش)، (ع). وهو الصحيح. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 85 بلفظه، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 203 بلفظه، و"الثعلبي" 7/ 108 ب بلفظه، و"الماوردي" 3/ 242، و"الطوسي" 6/ 476، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 268. القَبَّان: الذي يوزن به، وهو عربيٌّ أو معرب. انظر (قبن) في "تهذيب اللغة" 3/ 2880، و"اللسان" 6/ 3523. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 497 بلفظه. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 122 بنصه، و"الطبري" 15/ 85 بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 154، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 108 ب بنصه، و"الماوردي" 3/ 242، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 476 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 328 وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. واختُلف في أصل كلمة القسطاس: فقال الفخر الرازي 20/ 206: وقيل إنه بلسان الروم أو السرياني، والأصح أنه لغة العرب، وهو مأخوذ من القسط؛ وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين، وقال الألوسي 15/ 72: وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح، لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]؛ لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيًا، فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب. (¬5) انظر: "تفسير الألوسي" 15/ 72.

وقال أبو إسحاق: هو ميزان العدل؛ أيُّ ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها (¬1). [ذكر أبو (¬2) علي جواز (¬3) اللغتين فيه؛ ضم القاف (¬4) وكسرها (¬5)، وهذا كقوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9]، وكقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ} [هود: 85]، وقوله: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84]، وقوله: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا} الآية (¬6) [المطففين: 2]. وقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ} قال عطاء: يريد أقرب إلى الله (¬7)، وقال قتادة: يقول: خيرٌ ثوابًا، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} قال: وأحسن عاقبة في الخير (¬8)، المعنى: أحسن ما يؤول إليه أمر صاحب الوفاء. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 238، بنصه. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) في (ش)، (ع): (جواب). (¬4) أي: (القُسْطاس) قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. انظر السبعة ص 380، و"المبسوط في القراءات" ص 228، و"حجة القراءات" ص 402، و"التيسير" ص 140، و"النشر" 2/ 307. (¬5) أي: (القِسْطاس) قرأ بها: حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. انظر المصادر السابقة. (¬6) "الحجة للقراء" 5/ 101، بنحوه. (¬7) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 497. (¬8) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 378، بنحوه، و"الطبري" 15/ 85، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 155، بنحوه، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 45، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 329 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

36

36 - قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية. تقف من قوله: قفوت أثر فلان، أَقْفُو قَفْوًا (¬1) وقُفُوًّا، إذا اتَّبَعْتَ أثره، وسُمِّيت قافية الشِّعْر قافية؛ لأنها تَقْفو البَيْت، ثم يُثَقَّل قَفَّا بالتشديد، فيصير واقعًا كقوله: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} [الحديد: 27]، هذا معنى القفو في اللغة (¬2). قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية: لا تقل ما ليس لك به علم (¬3)، وقال مجاهد: لا تَرْمِ (¬4). وقال قتادة: لا تقل: سمعت، ولم تسمع؛ ورأيت، ولم تَرَ؛ وعلمت، ولم تعلمْ (¬5). وقال الحسن: لا تكذب على فؤادك؛ تقول: علمت ما لم تعلم، ولا على سمعك تقول: سمعت ما لم تسمع، ولا على بصرك تقول: أبصرت ما لم تبصر (¬6). ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ)، (د). (¬2) انظر: (قفو)، (قفا) في: "تهذيب اللغة" 3/ 3013، و"المحيط في اللغة" 6/ 38، و"الصحاح" 6/ 2466، و"اللسان" 6/ 3708. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 86 مختصرًا من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 155 بنصه، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 45، و"الدر المنثور" 4/ 329 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 86 بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 155، و"تهذيب اللغة" (قفا) 3/ 3015، و"تفسير الثعلبي" 7/ 108 ب، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 92، و"اللسان" (قفا) 6/ 3708. (¬5) أخرجه بنصه "عبد الرزاق" 2/ 378، و"الطبري" 15/ 86 من طريقين، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 108 ب، و"الماوردي" 3/ 243، و"الطوسي" 6/ 477، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 329 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬6) لم أقف عليه.

وقال ابن عباس في رواية عطاء: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك، ونحو هذا القول روي عن ابن الحنفية أنه قال: هذه الآية في شهادة الزور (¬1)، هذا جملة ما ذكره المفسرون في هذه الآية، وحقيقة تأويله ما قاله الزجاج: لا تقولنَّ في شيء بما لا تعلم، والتأويل لا تُتْبِعَنْ لسانَك من القول ما ليس لك به علم (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ} إلى آخرها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها (¬3)، وفي هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل، والاستماع إلى ما يحرم، وإرادة ما لا يجوز. قال صاحب النظم: هذه أحساس هذه الأعضاء التي هي: أذن وعين وقلب؛ فالسمع حس الأذن، والبصر حس العين، والفؤاد حس القلب. وقوله تعالى: {كُلُّ أُولَئِكَ} قال أبو إسحاق: كل جمع أَشَرْتَ إليه من الناس وغيرهم من الموات، فلفظه {أُولَئِكَ} (¬4)، ونحو هذا قال الأخفش (¬5)، وأنشد لجرير: ذُمَّ المنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... والْعَيْشَ بَعْدَ أُولئِكَ الأَيامِ (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 86 بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 155، و"تهذيب اللغة" (قفا) 3/ 3015، و"تفسير الثعلبي" 7/ 108 ب، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 35، و"الدر المنثور" 4/ 329 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 239، باختصار. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 497، بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 239، بنصه. (¬5) "معانى القرآن" للأخفش 2/ 612، بنحوه. (¬6) "ديوانه" ص 452 وفيه: (الأقوام) بدل (الأيام) ولا شاهد في هذه الرواية، وورد بهذه الرواية في: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 612، و"معاني القرآن وإعرابه" =

37

أشار بأولئك إلى الأيام، وكذلك أُشير في هذه الآية بأولئك إلى البصر والسمع والفؤاد. وقوله تعالى: {كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} عادت الكناية إلى لفظ (كان) لا إلى معناه. 37 - وقوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} المَرَحُ: شدة الفَرَحِ، يقال: مَرِحَ يَمْرَحُ مَرَحًا، وهو مَرِحٌ مَرُوحٌ (¬1)، قال ابن عباس: يريد بالكبرياء والعظمة. وقال عبد الله بن مسلم: أي بالكبر والفخر (¬2). وقال الزجاج: تأويل الآية: لا تَمْشِ في الأرض مختالًا ولا فخورًا (¬3)، قال الأخفش: ولو قُرئ مرِحًا بالكسر كان أحسن في القراءة (¬4). قال أبو إسحاق: مَرِحًا اسمُ الفاعل، ومَرَحًا مصدر، وكلاهما في ¬

_ = 3/ 240، و"تفسير الماوردي" 3/ 244، و"ابن الجوزي" 5/ 35، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 15/ 87، و"الثعلبي" 7/ 108 ب، و"الطوسي" 6/ 478، و"ابن عطية" 9/ 86، (اللِّوى): اسم وادٍ من أودية بني سُلَيْم. "المحيط في اللغة" (لوى) 10/ 371. (¬1) انظر (مرح) في "تهذيب اللغة" 4/ 3371، و"المحيط في اللغة" 3/ 96، و"مجمل اللغة" 2/ 829، و"اللسان" 7/ 4170. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 256، بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 240، بنصه. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 612، بنحوه، وخالفه الطبري، فقال: وقيل: ولا تمش مرَحًا ولم يقل: مرِحًا؛ لأنه لم يُردْ بالكلام: لا تكن مرِحًا، فيجعله من نعت الماشي، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحًا، ففسّر المعنى المراد من قوله: {وَلَا تَمْشِ} "تفسير الطبري" 15/ 88، انظر كلام الزجاج بعده فقد تضمن الردّ عليه أيضًا.

الجودة سواء، غير أن المصدر أَوْكَدُ في الاستعمال، تقول: جاء زيد رَكْضًا وراكضًا، فركضًا أَوْكَدُ؛ لأنه يدل على توكيد الفعل (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ} الآية. الخرق معناه في اللغة كالشق، يقال: خرق الثوب إذا شَقَّه، وخرق الأرض إذا قطعها حتى بلغ أقصاها (¬2). قال ابن عباس: يريد {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ}: بِكِبْرِك ومشيك عليها، {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}: بعظمتك، وإنما أنت مخلوق عبد ذليل (¬3). قال الزجاج: والتأويل: إن قدرتك لن تبلغ هذا المبلغ فيكون لك (¬4) وُصْلَة إلى الاختيال (¬5)، وهذا (¬6) الذي ذكره موافق لتفسير ابن عباس، والمعنى: إنك عبد لا تقدر أن تنقص الأرض حتى تبلغ آخرها، ولا أن تُطَاول الجبال، فمن أين تستحق الكبر والفخر؟! قال ابن قتيبة: يريد أنه ليس ينبغي للعاجز (¬7) أن يَبْذَخَ (¬8) ¬

_ (¬1) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 240 بتصرف يسير. (¬2) انظر: (خرق) في "تهذيب اللغة" 1/ 1015، و"المحيط في اللغة" 4/ 193، و"اللسان" 2/ 1141. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 498 بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 36، والقرطبي 10/ 261، بلا نسبة. (¬4) في المصدر: (ذلك). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 240، بنصه. (¬6) ساقط من (د). (¬7) هذه الكلمة أصح مما في المصدر، وهي: (للفاجر)، ولعل ما في المصدر تصحيف. (¬8) البَذْخُ: الكبر، وتبذَّخ: تطاول وتكبَّر وفَخَر وعلا، والباذخ: العالي، وشرف باذخٌ: عال، والبواذخ من الجبال: الشوامخُ. انظر بذخ في "المحيط في اللغة" 4/ 321، و"الصحاح" 1/ 418، و"اللسان" 31/ 236.

38

ويستكبر (¬1)، ومعنى خَرْق الأرض في هذه الآية: نَقْبُها لا قطعها بالمسافة، وذُكِرَ في هذه الآية معنى آخر، قال قتادة: لا تمش كِبرًا ولا فَخرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك أن تبلغ الجبال، ولا أن تخرق الأرض بكبرك وفخرك (¬2)، ومعنى هذا أن مشي المرح يكون على ضربين: مَشيٌ باختيال على الأرض وتؤدة؛ بجر قدمه على الأرض كأنه يريد أن يخرقها، ومَشيٌ يتطاول في السماء بذخًا، فنهى الله تعالى في هذه الآية عنهما، وأخبر أنه لا يبلغ مما يريد كبير مبلغ، وإلى هذا أشار مجاهد؛ فقال في قوله: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} قال: الذي يمشي على عقبه، {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} قال: الذي يمشي على صدور قدميه (¬3). 38 - قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ} أشار إلى جميع ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} و {ذَلِكَ} يصلح للواحد والجميع، والمؤنث والمذكر، على ما ذكرنا في مواضع. وقوله تعالى: {كَانَ سَيِّئُهُ} قُرئ بالإضافة (¬4) والتنوين (¬5)، قال أبو ¬

_ (¬1) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 256 بنصه تقريبًا. (¬2) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 378 بنصه، و"الطبري" 15/ 88 بنصه تقريبًا، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 330 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) أي {سَيِّئُهُ} مضافًا مذكرًا، قرأ بها: عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص 380، و"علل القراءات" 1/ 323، و"الحجة للقراء" 5/ 102، و"المبسوط في القراءات" ص 228، و"تلخيص العبارات" ص 113. (¬5) أي {سَيِّئَةً} منونًا مؤنثًا، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو. انظر المصادر السابقة.

إسحاق: والإضافة أحسن (¬1)؛ لأن فيما جرى من الآيات سيئًا وحسنًا، فسيئُهُ بلا تنوين أحسن (¬2)، ويؤكد ما ذكره أبو إسحاق: ما روي أن الحسن كان يقرأ بالإضافة، ويقول قد ذَكَرَ أمورًا قَبلُ؛ منها حسن ومنها سيء، فقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} لأن ما ذُكر الحَسَنُ، والسَّيِّئُ من المذكور المكروه، ويقوّي ذلك قوله: {مَكْرُوهًا} والتذكير فيه، ولو كان {سَيِّئَةً} غير مضاف لزم أن يكون مكروهةً، سيّما وقد تقدم ذِكْرُ المؤنث، ألا ترى أن قوله (¬3): ولا أرضَ (¬4) أبْقَلَ إبْقَالَها (¬5) ¬

_ (¬1) هذا مما يؤخذ على النحويين من المفاضلة بين القراءات، مع أن كليهما سبعية متواترة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 240 بنصه تقريبًا. (¬3) البيت لعامر بن جُوَيْن الطائي (جاهلي). (¬4) في جميع النسخ: (والأرض)، والتصويب من المصادر. (¬5) وصدره: فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب" 2/ 46، وورد في "شرح المفصل" 5/ 94، و"اللسان" (بقل) 1/ 328، وورد غير منسوب في "الخصائص" 2/ 411، و"المحتسَب" 2/ 112، و"الحجة للقراء" 4/ 238، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 242، 246، و"تفسير القرطبي" 10/ 263، و"الخزانة" 1/ 45، 49، 50، 7/ 437. (مزْنة): واحد المزن، وهو السحاب يحمل الماء، (الودق): المطر، (أبقل): أخرج البقل، وهو من النبات ما ليس بشجر؛ وهو الذي لا تبق له أُرُومة على الشتاء بعدما يُرعى. والشاعر يصف أرضًا مخصبة بكثرة ما نزل بها من الغيث، والشاهد: حذف علامة التأنيث مع إسناد الفعل إلى ضمير المؤنث، على تأويل أن الأرض مكان، فكأنه قال: ولا مكان أبقل إبقالها، والمكان مذكر.

39

مستقبح (¬1) عندهم، ولو قال: أبقل الأرض، لم يُستقبح، فليس ما تقدّم ذكره مما أُنّث بمنزلة ما لم يتقدم ذِكْره؛ لأن المتقدم الذكر ينبغي أن يكون الراجعُ وَفْقَه، كما يكون وَفْقَه في التثنية والجمع (¬2). وأما من قرأ بالتنوين فقال أبو إسحاق: جعل كلًّا إحاطة بالمنهي عنه قَطْ، المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئةً (¬3)، ومعنى هذا أن من قرأ بالتنوين رأى الكلام انقطع عند قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وكان الذي بعدُ؛ من قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لا أمرًا حسنًا فيه، فقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} فأفرد ولم يضف، وعلى هذه القراءة قوله: {مَكْرُوهًا} ليس بنعت للسيئة، وإنما هو بدل منها، على تقدير: كان سَيِّئَةً وكان مكروهًا. 39 - قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} يعني ما تقدم ذِكْره، {مِنَ الْحِكْمَةِ}، قال ابن عباس: يريد من الفرائض والسُّنَن (¬4). وقال المفسرون: يعني من القرآن ومواعظه (¬5). وقال أهل المعاني: الحكمة هاهنا الدلائل التي تؤدي إلى المعرفة بالحَسَن من القبيح، والواجب مما لا يجب (¬6)، وذلك يعرف بإخبار الله تعالى. وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ} إلى آخر الآية. قال ابن عباس: هذا أدب ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي "الحجة للقراء" 5/ 102 مستقيم، وهو خطأ أو تصحيف. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 102، بتصرف واختصار يسير. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 241، بنصه. (¬4) ورد بلا نسبة في "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 499، و"تفسير ابن الجوزي" 5/ 37. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 90 بلفظه عن ابن زيد، ورد عند "الثعلبي" 7/ 109 أبنصه. (¬6) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 479.

40

من الله لخلقه، ومخاطبة للمؤمنين، يعني أن هذا خطاب لكل واحد من المؤمنين؛ كأنه قيل: ولا تجعل أيها الإنسان مع الله إلهًا آخر، وذكرنا معنى الملوم والمدحور في هذه السورة [آية 18 و29]. 40 - قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} يقال: أصفاه بالشيء: أي آثره به، ويقال للضِّياع التي يستخلصها السلطان لخاصَّته: الصَّوافي (¬1). قال أبو عبيدة في قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ}: خَصَّكم (¬2). وقال المفضل: أخلصكم (¬3). وقال أبو إسحاق: كانت الكفرة من العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، فَوُبِّخُوا، وقيل لهم: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ}، أي: اختار لكم ربكم صفوة البنين (¬4). وقال النحويون: هذه الألف ألف إنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهرِ العَوار لا جواب لصاحبه، إلا بما فيه أعظم الفضيحة (¬5)، فإن قيل ما معنى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} مع أن لهم بنات؟ قيل: معناه: أَخَلَصَ لكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأَجَلّ وجعل لنفسه الأدون؟! 41 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} معنى التَّصْرِيف في ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (صفا) 2/ 2022، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 215، و"اللسان" (صفا) 4/ 2468. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 380، بنحوه. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 499، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 37، و"الفخر الرازي" 20/ 215. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 241، بنصه تقريبًا. (¬5) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 480، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 215 بنصه، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 278، و"الدر المصون" 7/ 358.

اللغة: صَرْفُ الشيء من جهة إلى جهة، نحو تَصْرِيف الرِّيَاحِ، وتصريف الأمور والآيات (¬1)، قال أبو إسحاق: {صَرَّفْنَا}، أي: بينا (¬2)، وهو قول ابن عباس (¬3)، والأصل ما ذكرنا، ثم يصير بمعنى التَّبْيِين؛ لأن تصريفه إنما هو لِيَتَبَيَّن، ومفعول التصريف محذوف. قال صاحب النظم: تأويله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ}: بما أوجب تصريفه، كما قال في موضع آخر: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54] قال: وفيه وجه آخر، وهو أن تكون (في) زائدة، كما في موضع آخر: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15]، أي: أصلح لي ذريتي (¬4). وقال أبو علي: أي صَرَّفنا ضروبَ القولِ فيه؛ من الأمثال وغيرها مما يوجب الاعتبار به والتفكر فيه؛ كما قال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} الآية (¬5) [القصص: 51]، فعند أبي علي تقدير الآية: ولقد صَرَّفنا القول (¬6) في هذا القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: (صرف) في "المحيط في اللغة" 8/ 128، و"العباب الزاخر" ف/ 349، و"اللسان" 4/ 2434. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 241 بلفظه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 300، وورد بلا نسبة في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 216، و"القرطبي" 10/ 264. (¬4) وقد رد هذا القول أبو حيان، وقال: وهذا ضعيف لأن (في) لا تزاد. "تفسير أبي حيان" 6/ 39. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 104، مختصرًا. (¬6) ساقط من (أ)، (د).

قوله تعالى: {لِيَذَّكَّرُوا} قال ابن عباس: يريد ليتعظوا (¬1)، والأصل ليتذكروا، فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما، هذا قراءة العامة (¬2)، وقرأ حمزة والكسائي: لِيَذْكُرُوا (¬3) من الذكر، والتَّذَكُّرُ هاهنا أشبه (¬4) من الذكر؛ لأنه كأنَّ يُرادُ به التَّدَبُّر وليس التذكر الذي بعد النسيان، ولكن كما قال: {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، أي: ليتدبروه بعقولهم، وليس المراد ليتذكروه بعد نسيانهم، ويدل على هذا، أن التذكر قد لا يكون من النسيان، كقوله (¬5): تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى ومِنْ أَيْنَ شِرْبُهُ .... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأَبِلْ (¬6) يعني تَدَبَّر في ذلك وتفَكَّر من أين يشرب، وأمّا [مَنْ] (¬7) قرأ ¬

_ (¬1) ورد بلفظه بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 269، و"الثعلبي" 7/ 109 أ، و"الخازن" 3/ 165. (¬2) انظر: "السبعة" ص 380، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 374، و"الحجة للقراء" 5/ 104، و"المبسوط في القراءات" ص 229، و"التبصرة" ص 140، و"تلخيص العبارات" ص 113. (¬3) انظر المصادر السابقة. (¬4) أي: أولى. (¬5) للكميت بن زيد (ت 126 هـ). (¬6) "ديوانه" 1/ 396، وورد في: "الحجة للقراء" 1/ 317، و"اللسان" أبل 1/ 10، والشاعر يذكر حمارًا أراد ورورد الماء، (يؤامر نفسيه): المؤامرة هي المشاورة، والمعنى: يشاور نفسه مترددًا بين ورود الماء أو تركه، فكأنه يشاور نفسين؛ إحداهما تريد الورود، والأخرى تأباه. (الهجمة): الهجمةُ من الإبل: ما بين التسعين إلى المائة، وجمعها هَجَمَاتٌ وهِجَامٌ، (أَبِلَ): قال الأصمعي: أَبِلَ الرجُل يأبل أبالةً، إذا حَذِق مصْلحة الإبل والشاء، والأبِلُ والآبلُ: الحاذق برِعْيةِ الإبلِ الرفيقُ بسياستها، انظر: "تهذيب اللغة" (أبل) 1/ 109، و"المحيط في اللغة" (هجم) 3/ 385، (أمر) 10/ 284، (أبل) 10/ 350، و"اللسان" (أبل) 1/ 9. (¬7) زيادة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت.

بالتخفيف، فإن التخفيف قد جاء بهذا المعنى، كقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا} [البقرة: 63] هذا ليس على لا تنسوه ولكن تَدَّبروه (¬1)، ويجوز أن يكون المراد ذكر اللسان، والمعنى: صَرَّفنا في هذا القرآن ليذكروه، وإذا كان الكلام مُصَرَّفًا فيه على أنواع، كان أقرب من الذكر وأبعد من السأمة. وقوله تعالى: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} قال ابن عباس: يريد ينفرون من الحق ويتبعون الباطل (¬2)، قال أبو علي: أي ما يزيدهم تصريف الآيات إلا نفورًا (¬3)، أضمر الفاعل بدلالة ما تقدم عليه؛ كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]، أي: مجيء النذير. قال أهل المعاني: إنما زادهم نفورًا؛ لأنهم اعتقدوا أنها شُبَه وحِيَل، فنفروا منها أشد النفور؛ لهذا الاعتقاد الفاسد، ومنعهم ذلك من التَدبُّر لها، وإدراك منزلتها في عظم الفائدة وجلالة المنزلة (¬4). وقال أبو علي: هذا على أنهم ازدادوا نفورًا عند تفصيل الآي لهم؛ [لا] (¬5) لأن تصريف الآي نَفَّرهم (¬6)؛ ولكنهم لما ازدادوا نفورًا عند تصريف الآي نُسب ذلك إليه على الاتساع؛ كما قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]، والمعنى: ازدادوا هم نفورًا عند مجيئه فَنُسب ذلك إلى ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: تذكروه وهو تصحيف ولا يؤدي المعنى المستشهد له، وما أثبته هو الصواب ويؤيده ورودها في "الحجة للقراء" 5/ 104، وهو مصدره. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 38، بنصه. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 105، بتصرف يسير. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 109 أ، بنحوه مختصرًا، و"الطوسي" 6/ 480 بنصه تقريبًا. (¬5) إضافة من المصدر ليستقيم الكلام، وبدونها يضطرب المعني. (¬6) "الحجة للقراء" 5/ 105 بنصه.

42

مجيء النذير. 42 - قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} وقرأ ابن كثير بالياء (¬1) والمعنى: كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه، فهو مثل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ} (¬2)؛ لأنهم غيب (¬3). وقوله تعالى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} ذكر المفسرون في هذا قولين؛ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد منازعة وقتالًا؛ كما يفعل ملوك (¬4) الدنيا (¬5). وقال سعيد بن جبير: لأزالوا ملكه (¬6). وقال أبو بكر الهذلي: إذًا لابتغت الآلهة أن تزيل مُلك صاحب العرش (¬7)، والمعنى على هذا القول: إذًا لابتغوا سبيلًا إلى ممانعته ومضادته ومعاداته؛ كما قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. القول الثاني: ما ذهب إليه السدي وقتادة؛ قال السدي: إذًا لابتغت ¬

_ (¬1) وكذلك قرأ حفص عن عاصم بالياء، وقرأ الباقون بالتاء (كَمَا تَقُولُونَ)، انظر: "السبعة" ص 381، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 375، و"علل القراءات" 1/ 323، و"الحجة للقراء" 5/ 106، و"المبسوط في القراءات" ص 229. (¬2) [آل عمران: 12] قرأ حمزة والكسائي بالياء. انظر: "السبعة" ص 202، و"علل القراءات" 1/ 106، و"المبسوط في القراءات" ص 140. (¬3) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 106، بنصه تقريبًا. (¬4) (أ)، (د): (مملوك). (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 265. (¬6) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 159، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 38، و"القرطبي" 10/ 265. (¬7) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 7/ 109 ب.

44

الآلهة الحوائج من الله (¬1)، وقال قتادة: لابتغوا التقرب إليه، وعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم (¬2)، والمعنى على هذا القول: لابتغوا ما يقربهم إليه لِعُلُوِّه إليهم (¬3) وعِظَمِه عندهم، وهذا كقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19]، والأول هو قول الحسن والكلبي (¬4). 44 - قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الآية. في هذه الآية مذهبان: أحدهما: أن المراد بالتسبيح هاهنا حقيقة التسبيح، فعلى هذا السموات السبع والأرضون تسبح لله تسبيحًا حقيقيًا، {وَمَنْ فِيهِنَّ}: من الملائكة والجن والإنس، والمراد بهذا التخصيص؛ لأن الشياطين وعبدة الأصنام لا يسبحون لله تسبيحًا حقيقيًّا. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه بنحوه مختصرًا "عبد الرزاق" 2/ 378، و"الطبري" 15/ 92، من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 159 - بمعناه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 269 - بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 109 ب، بنحوه، والطوسي 6/ 481 - بمعناه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 95، و"القرطبي" 10/ 266. (¬3) الأصوب عليهم؛ لأنه هو الأظهر في المعنى، وقد جاءت في "تفسير الطوسي" 6/ 481: عليهم. (¬4) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 481، بنحوه عن الحسن، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 38، عن الحسن. وقد رجح هذا القول الخازن والألوسي، والشنقيطي وقال: ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول؛ لأن في الآية فرض المحال؛ والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مُشَارِكة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت موجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. انظر: "تفسير الخازن" 3/ 165، و"الألوسي" 15/ 82، والشنقيطي 3/ 594.

وقوله تعالي: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قال عكرمة: كل شيء حي (¬1)، ونحوه قال الحسن والضحاك: كل شيء فيه الروح (¬2)، وقال قتادة: يعنى الحيوانات والنَّامِيات (¬3)، وقال بعضهم: هذا عام في كل شيء، وكل ما خلق الله فهو يسبح بحمده، وأن صَرِيرَ السَّقْفِ وصَرِيرَ البابِ من التسبيح لله (¬4)، ولكل شيء تسبيح لا نفقه نحن ذلك؛ كما قال الله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. المذهب الثاني: أن المراد بالتسبيح هاهنا: الدلالة على أن الله -عز وجل- ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 92، بنحوه، وورد بمعناه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 159، و"تفسير الثعلبي" 7/ 109 ب، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 333 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 92 بنصه عنهما، وأبو الشيخ في العظمة ص 523 بنصه عن الضحاك، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 109 ب بنصه، و"الماوردي" 3/ 245 - بمعناه، و"الطوسي" 6/ 483 - بمعناه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 39، عنهما، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 333 وعزاه إلى أبي الشيخ عن الحسن- لم أجده. (¬3) أخرجه بمعناه "عبد الرزاق" 2/ 379، و"الطبري" 15/ 93، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 270 - بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 109 ب بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 96. والنَّامِيات: جمع نَامٍ، والنَّامِي، مثل: النبات والشجر ونحوه؛ أي كل ما ينمو ويكبر، ويقابله الصامت؛ كالحجر والجبل ونحوه. انظر (نمي)، (نمو) في "المحيط في اللغة" (10/ 417، و"اللسان" 8/ 4552. (¬4) وهو قول النخعي -كما في البغوي وغيره- وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 242، و"تفسير الطوسي" 6/ 483، انظر: "تفسير البغوى" 5/ 96 بلفظ: صرير الباب ونقيض السقف، و"ابن الجوزي" 5/ 39، و"القرطبي" 10/ 268.

45

خالقٌ حكيمٌ مُبَرَّأٌ من الأَسْوَاءِ (¬1)، فالمخلوقون والمخلوقات كلها تدل على أن الله -عز وجل- خالقها؛ كما قال في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} , أي: يخشع له ويخضع (¬2)، وقد ذكرنا هذا المعنى مستقصى عند ذكر سجود الجمادات في آيات قد مضت في هذا المعنى (¬3)، وعلى هذا قوله: {لَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ} مخاطبة للكفار؛ لأنهم لا يستدلون ولا يعتبرون. 45 - قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} في هذه قولان؛ أحدهما: أن هذه نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله إذا قرأ القرآن؛ قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل بنت حرب بن أمية؛ امرأة أبي لهب، وحويطب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه (¬4). ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 242، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 109 ب بنصه. (¬2) والقول الأول هو الراجح، لموافقته لظاهر القرآن، وتأييد السنة له، فقد أسمع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وصحابته تسبيح الجمادات، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إنكم تعدون الآيات عذابًا، وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بركة، لقد كنا نأكل الطعام مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ونحن نسمع تسبيح الطعام ... أخرجه مالك في الموطأ [التمهيد] 1/ 219، والترمذي (4633) كتاب: المناقب، باب: آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- واللفظ له، وقال: حسن صحيح، وذكره الألباني في "صحيح الترمذي" (4633)، انظر أمثلة أخرى في هذا الباب في "الشفا" 1/ 588. وقد رجح هذا القول كثير من العلماء؛ منهم: القرطبي 10/ 268، و"الخازن" 3/ 166، و"ابن كثير" 3/ 48 و"الألوسي" 15/ 84، وغيرهم. (¬3) سورة الرعد: آية [15]، وسورة النحل: آية [49]. (¬4) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 41 بنصه، و"أبي حيان " 6/ 41، بنحوه، و"القرطبي" 10/ 271 - بلا نسبة، وورد بنسبة ودون ذكر المؤذين للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- في "تفسير الثعلبي" 7/ 110 أ، و"الماوردي" 3/ 246، و"الطوسي" 6/ 483، و"ابن =

وقوله تعالى: {حِجَابًا مَسْتُورًا} قال الأخفش: أراد: ساترًا، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول: إنك لمَشْؤوم علينا ومَيْمُون، وإنما هو شَائِم ويَامِن؛ لأنه من قولهم: شأمَهُم وَيمَنَهم، والحجابُ هاهنا هو الساتر، فقال: {مَسْتُورً} (¬1)، وهذا نادر أن يكون الفاعل في لفظ المفعول (¬2)، هذا قوله، وتابعه على هذا كثير من أهل اللغة (¬3). ¬

_ = الجوزي" 5/ 41، و"الفخر الرازي" 20/ 220. وأورد بعضُ المفسرين عند هذه الآية حادثة أم جميل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- التي شهدها أبو بكر، وحجب الله رسوله عنها لما جاءت تريد إيذاءه، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: وقرأ قرآنًا اعتصم به منها، وهو هذه الآية. وهذا الخبر لا يعد من قبيل أسباب النزول عند أهل الفن، بل ولا هو من صيغه، أما قول الواحدي وغيره: نزلت في قوم .. فأيضًا لا يمكن عدّه سببًا في النزول؛ لعدم تحقق شروط قبوله؛ وهي: 1 - أن يثبت عن صحابي بإسناد صحيح فيكون له حكم الرفع. 2 - إن ثبت عن تابعي فهو مرسل، ويشترط لقبوله صحة الإسناد وأن يكون صريحًا، ويرد من طريقين عن أئمة التفسيرة كمجاهد وعكرمة. ويؤيّد ردّه أن الرواية وردت عن الكلبي، وهو مُضَعَّفٌ عند العلماء، ودليل آخر أن الواحدي -نفسه- لم يوردها في أسباب نزوله، وكما قال ابن عطية: الآية إخبار من الله لنبيه أنه يحميه من الكفرة الذين كانوا يؤذونه، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد. فلا يلزم إذًا أن يكون للآية سببُ نزول خاص. انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 270، و"الثعلبي" 7/ 110 أ، و"البغوي" 5/ 97، و"ابن عطية" 9/ 98، و"أبي حيان" 6/ 42، و"ابن كثير" 3/ 49، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 336 - 337، وعزاه إلى أبي يعلى وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي معًا في الدلائل، و"الإتقان" 1/ 90 - 91، و"التحبير" ص 86، و"مباحث في علوم القرآن" ص 83. (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 613، بتصرف يسير. (¬2) هذه الجملة ليست في معانيه، والظاهر أن الواحدي أراد تلخيص قوله؛ لأنه يفهم من قال هذا، ولأنه قال بعده: هذا قوله، لا أنه تقرير قاعدة. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 242، و"جمهرة اللغة" 1/ 263، و"تهذيب =

وقال آخرون: {مَسْتُورً} هاهنا مفعول، والمعنى أنه حجابٌ مستورٌ لا يُبْصر (¬1)، وإنما كان قُدْرةً من قُدَرِ الله تعالى وأُخْذَةً من أُخَذِه (¬2) حجبَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بحجاب (¬3) يحجبه عنهم، بحيث لا يرى النبيُ -صلى الله عليه وسلم- ذلك الحجابَ ولا المشركون، حكى هذا صاحب النظم، وهو حسن. وقال الزجاجي: يجوز أن يكون المستور هاهنا بمعنى النسب، كما تقول في الفاعل في مثل: لابِن وتَامِر (¬4) (¬5)، وتأويله: حجابٌ ذو ستْرٍ؛ ¬

_ = اللغة" (ستر) 4/ 1625، و"الإملاء" 2/ 92، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 91، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 279. ولم يرتض ابن عطية هذا التاويك وعدّه تكَلُّفًا من غير حاجة داعية إليه، وقال: وليس مثاله بمُسلَّم، وكذلك رده السمين، وقال: هو على بابه كما حققناه. انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 99، و"عمدة الحفاظ" 2/ 14، 196. (¬1) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 93/ 15، و"الثعلبي" 7/ 110 أ، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 97، و"الزمخشري" 2/ 363، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 280 وهذا القول هو الذي مال إليه الطبري -ولم يرد الأول- فقال: وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام؛ أن يكون المستور هو الحجاب، فيكون معناه: أن لله سترًا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأول وجه مفهوم. (¬2) الأُخْذةُ، بالضم: رُقية تأخذُ العين ونحوها كالسحر، ويقال بعينه اخُذٌ: وهو الذي لا يقدر صاحبه على النظر. انظر المنتخب من غريب كلام العرب 2/ 482، و"اللسان" (أخذ) 1/ 36، و"التاج" (أخذ) 5/ 346. (¬3) في جميع النسخ: (حجاب)، ولا معنى لها، وما أثبته هو الصواب وبه يستقيم الكلام. (¬4) أي: ذو لبن، وذو تمر. (¬5) لم أقف على مصدره، وورد نحوه بلا نسبة في "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 91، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 279، و"تفسير أبي حيان" 6/ 42، و"الدر المصون" 7/ 362.

46

كقولهم: جاريةٌ مَغْنوْجة (¬1)، أي ذات غُنْجٍ، ولا يقال: غَنَجْتُها؛ ومكان مَهُول: فيه هَوْل، ولا يقال: هُلْتُ المكان؛ جعلت فيه الهَوْل؛ ورجلٌ مَرْطُوب: ذو رُطوبة، ولا يقال: رَطَبْتُه (¬2). القول الثاني: أن معنى الحجاب هاهنا: الطبع الذي على قلوبهم، والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا ما يأتي به من الحكمة في القرآن فينتفعوا به، وهذا قول قتادة؛ قال: هو الأكنة (¬3)، وعلى هذا قوله: {جَعَلنَا بَيتَكَ}، أي: بين قولك وقراءتك وفهم ما تأتي به، {وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}، وهو ما لا يرونه ولا يعلمونه من الطبع على قلوبهم، وإن شئت قلت: حجابًا ساترًا، على ما ذكرنا. 46 - قوله تعالى: {عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} جمع كنان، وهو ما ستر الشيء (¬4)، قال ابن عباس: يريد مثل كنانة النبل (¬5). وقوله تعالى: {أَنْ يَفْقَهُوهُ}، أي: كراهية أن يفقهوه، وأن لا يفقهوه، وقد ذكرنا هذا في مواضع، كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}: ثقلًا وصممًا، وفيه إضمار حذف لدلالة الكلام ¬

_ (¬1) الغُنْجُ: الدَّلّ، والغنج في الجارية: تكسُّرٌ وتدلُّلٌ، وقيل: الغنج: ملاحةُ العينين. انظر: "اللسان" (غنج) 6/ 3305. (¬2) وردت هذه الأمثله في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 222، و"أبي حيان" 6/ 42، و"الدر المصون" 7/ 362. (¬3) أخرجه بلفظه: "عبد الرزاق" 2/ 379، و"الطبري" 15/ 93، وورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" 2/ 270، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 97، و"ابن الجوزي" 5/ 40. (¬4) انظر: (كنن) في "تهذيب اللغة" 4/ 3196، و"المحيط في اللغة" 6/ 144، و"الصحاح" 6/ 2188، و"اللسان" 7/ 3942. (¬5) ورد غير منسوب في "تفسير ابن عطية" 9/ 99، و"الفخر الرازي" 20/ 222.

عليه، وهو: أن يسمعوه، ودلّ عيه قوله: {أَنْ يَفْقَهُوهُ}، وهذا صريح في الرد على القدرية؛ إذ أخبر تعالى أنه حال بين قلوبهم وبين فهم القرآن؛ بما جعل عليها من الأكنة بين آذانهم وبين استماع الوحي استماعًا ينتفعون به، بما جعل فيها من الوَقْر، وهذه الآية مما سبق تفسيره في سورة الأنعام (¬1). وقوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} قال المفسرون: يعني قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو القرآن (¬2). {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} قال ابن عباس: يريد: كارهين أن يُوَحَّدَ (¬3) الله (¬4). وقال قتادة: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لما قال: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون وكبر عليهم (¬5). وقال أبو إسحاق في قوله: {نُفُورًا} يحتمل مذهَبَيْن؛ أحدهما: المصدر، المعنى: وَلَّوْا نافرين نُفُورًا، والثاني: أن يكون نفورًا جمع نافر مثل شاهد وشهود (¬6). ¬

_ (¬1) آية [25]. (¬2) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 215 أ، بنحوه، و"الطبري" 15/ 94 بنصه، و"السمرقندي" 2/ 271، بنحوه، و"هود الهواري" 2/ 422، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 110 ب بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 97، و"ابن الجوزي" 5/ 41. (¬3) في الوسيط: يُوحِّدوا، أي هم الكارهون، وعلى رواية البسيط: الضمير عام يعود عليهم وعلى غيرهم. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 504 بنصه تقريبًا. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 94، بنحوه، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 49، وورد بنحوه بلا نسبة في" تفسير هود الهواري" 2/ 422. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 243 بتصرف يسير.

47

47 - قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الآية. قال المفسرون: أمر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا -رضي الله عنه- أن يتخذ طعامًا ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك علي، ودخل عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال: "قولوا: لا إله إلا الله، لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم، فأبوا ذلك عليه" (¬1). وكانوا يسمعون من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ويقولون -بينهم متناجين-: هو ساحرٌ، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول (¬2)، فأخبر الله نبيه -عليه السلام- بذلك، وأنزل عليه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} (¬3) يحتمل أن تكون التاء زائدة. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (عليهم)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) ورد هذا المقطع في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 243 بنصه. (¬3) ورد بنحوه مختصرًا -ودون ذكر قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في "تفسير الثعلبي" 7/ 110 ب، وورد بنصه -ودون قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 505، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 42، و"الفخر الرازي" 20/ 223 بنصه، و"القرطبي" 10/ 272، ولم أقف على أثر -في كتب أسباب النزول ولا في كتب التفسير المتقدمة المتداولة- غير الثعلبي - بأن الآية نزلت في هذه الحادثة، والمعلوم أن إثبات سبب نزول آية ما يفتقر إلى دليل صحيح. وورد نحوٌ من هذه الحادثة - وفيها قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في سبب نزول صدر سورة (ص)؛ جاء في السيرة أن أشراف قريش جاؤوا أبا طالب في شأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عم، كلمةٌ واحدةٌ يُعْطُونيها تملكون بها العرب وتدينُ لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: نعمْ وأبيك وعَشْر كلمات، قال: تقولون: لا إله إلا الله، فنفروا وقالوا ما حكاه القرآن: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، فأنزل الله صدر سورة (ص). ورواية الطبري فقال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال. أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدينُ لهم بها العرب ويملكون بها العجم. يفي رواية أحمد والترمذي والبيهقي: "تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجمُ الجزية". قال=

والمعنى: نحن أعلم بما يسمعون إذ يسمعون إليك، وأنت تقرأ القرآن وتدعوهم إلى الإسلام، أخبر الله تعالى أنه عالمٌ بتلك الحالة، وبذلك الذي كانوا يسمعونه إذ يستمعون إلى الرسول. وقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} قال ابن عباس: يريد يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء (¬1) قال أبو عبيدة: نجوى مصدر ناجيت (¬2)، وذكرنا هذا الحرف عند قوله: {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]، قال أبو إسحاق: النجوى اسم المصدر، والمعنى: وإذ هم ذَوُو (¬3) نجوى (¬4)؛ أي يتناجون ويُسَارّ (¬5) بعضهم بعضًا. {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ}، قالوا: يعني الوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وحويطبًا، وقرناءهم من المشركين (¬6). ¬

_ = الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه أحمد شاكر، ورواية الحاكم والواحدي في "أسباب النزول": تَذِلّ، بدل: تدين. قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر سيرة النبي لابن هشام 2/ 27، و"المسند" 1/ 227، 362، و"سنن الترمذي" (3232): تفسير، سورة ص، و"تفسير الطبري" ط. شاكر 10/ 553، و"المستدرك " 2/ 108، و"دلائل البيهقي" 2/ 345، و"أسباب النزول" ص 380، و"تفسير ابن كثير" 3/ 50، و"شرح المسند" 2/ 314، وكل الروايات جاءت عن ابن عباس - ما عدا رواية الطبري فهي عن السدّي. (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 505، بنصه. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 381، بنصه. (¬3) في (ع) مطموسة، وفي باقي النسخ (ذوي)، وهو خطأ نحوي ظاهر، والمثبت موافق للمصدر. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 243 بتصرف يسير. (¬5) من الإسرار، وهو: الكتم والإخافاء. (¬6) ورد بنحوه مختصرًا في "تفسير مقاتل" 1/ 215 ب، و"الثعلبي" 7/ 110 ب، و"الماوردي" 3/ 237.

{إِنْ تَتَّبِعُونَ}: ما تتبعون، {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، كلام المفسرين في هذه الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول فيما بينهم مُسَارِّين، فأطلع الله نبيه على ذلك، وعلى هذا يحتاج إلى تقدير محذوف في الآية؛ لأن هؤلاء لم يتبعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصحَّ أن يقال لهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ}، ولكن التقدير: إذ يقول الظالمون، إذا تبعتموه لم تتبعوا إلا رجلاً مسحروًا, وإن كان هذا القول منهم للمسلمين فهو ظاهر ولا يحتاجون إلى إضمار، والمسحور (¬1): الذي قد سُحِرَ فاختلط عليه أمرُه، وأُزيل عن حدّ الاستواء، هذا قول أكثر أهل اللغة (¬2). وقال ابن الأعرابي: المسحور: الذَاهبُ العَقْلِ المُفْسد، وأنشد (¬3): فقالتْ: يَمينُ اللهِ أفعَلُ إنّني. . .رأيتُكَ مَسْحورًا يمينُكَ فاجرَهْ (¬4) قال: وطعامٌ مَسْحورٌ إذا أُفْسِدَ عَمَلُه، وأرضٌ مسحورة: أصابها من المطر أكثرُ مما ينبغي فأفْسَدَها (¬5). وقال أبو عبيدة: يريد بشرًا ذا رِئَةٍ (¬6). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (المستحق)، والصواب ما أثبته. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1645، بنحوه، انظر: (سحر) في "جمهرة اللغة" 1/ 511، و"المحيط في اللغة" 2/ 479، و"مجمل اللغة" 1/ 487، و"مقاييس اللغة" 3/ 138، و"الصحاح" 2/ 678، و"المحكم" 3/ 131. (¬3) للنابغة الذبياني. (¬4) "ديوانه" ص 121، وورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1640، و"اللسان" (سحر) 4/ 1952. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1640، بنصه تقريبًا (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 381 - باختصار، وواضح أنه اقتبسه من "الغريب" لابن قتيبة 1/ 256 لوروده بنصه. وبقيةكلام أبي عبيدة- كما في "تفسير القرطبي" 10/ 272 =

قال ابن قتيبة: ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المُسْتَكْرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه. قال مجاهد في قوله: {رَجُلًا مَسْحُورًا}: أي مخدوعًا (¬1)؛ لأن السحر حيلة وخديعة (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس، في قوله: {مَسْحُورًا} قال: يريد مخلوقًا (¬3). وهذا يؤكد قول أبي عبيدة: ذو سحْر (¬4)، ويجوز أن يكون من السَّحْر بمعنى: الغذاء (¬5)، ومنه قول امرئ القيس: ونُسْحَرُ بالطَّعام وبالشرابِ (¬6) ¬

_ = فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بمَلَك، وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سَحْره، ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومُسَحَّر، انظر: "تفسير الطبري" 15/ 96، و"أبي حيان" 6/ 44. (¬1) ورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 161، و"السمرقندي" 2/ 271، و"الماوردي" 3/ 247، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 246، و"البغوي" 5/ 98. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 256 بنصه. (¬3) أي بشرًا مخلوقًا. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 381 بمعناه، والظاهر أن القول مقتبس من "الغريب" لابن قتيبة ص 256 لوروده بنصه (¬5) وهو قول الليث؛ ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1641 بلفظه. (¬6) صدره: أَرَانا مُوْضِعِين لأمْر غَيْب "ديوانه" ص 43، وورد في: "البيان والتبيين" 1/ 198 و"الغريب" لا بن قتيبة 1/ 256، و"جمهرة اللغة" 1/ 511، و"تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1641، "الصحاح" (سحر) 2/ 679، و"المحكم" (سحر) 3/ 132، و"تفسير ابن عطية" 9/ 102، و"ابن الجوزي" 6/ 42، و"اللسان" (سحر) 4/ 1952، وفي بعض المصادر (لحَتْمِ) بدل =

48

والاختيار هو القول الأول؛ لقوله تعالى إخبارًا عن فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] لا يجوز أن يكون أراد مخلوقًا، وذاسحْر، وإنما أراد: مخدوعًا، والمشركون كانوا يذهبون إلى أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلَّم ما يأتي به ويُخْدع بذلك، يدلّ على هذا قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، فلذلك قالوا له: {مَسْحُورًا}. 48 - قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}، أي: بينوا لك الأشباه؛ حين شبهوك بالكاهن والساحر والشاعر والمعلَّم والمجنون. قال ابن قتيبة: وهذه الآية تدل على أن المسحور في الآية الأولى بمعنى المخدوع؛ لأنهم لو أرادوا رجلاً ذا رِئَةٍ لم (¬1) يكن في ذلك مَثَلٌ ضربوه، ولكنهم لما أرادوا رجلاً مخدوعًا -كأنه بالخديعة سُحِر- كان مثلًا ضربوه وتشبيهًا شبهوه (¬2). وقوله تعالى: {فَضَلُّوا}: أي عن الحق والطريق المستقيم، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}، قال مجاهد: مخرجًا (¬3)، وقال ابن عباس: يريد سبيل الهدى (¬4). ¬

_ = (لأمر)، قال ابن بري: (مُوضِعِين): سائرين مسرعين، و (لأمر غيب): يريد الموت، وأنه قد غُيِّب عنا وقتُه، ونحن نُلْهَى عنه بالطعام والشراب؛ فكأنَّما نُخدع. (¬1) في جميع النسخ، (ولم)، وهذه الواو رائدة أن إلى اضطراب المعنى، ويستقيم بدونها؛ كما في المصدر. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 257، بنصه. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 363 بلفظه، وأخرجه "الطبري" 15/ 97 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" 2/ 423. (¬4) ورد بلا نسبة في "تفسير ابن عطية" 9/ 104، و"القرطبي" 10/ 273، و"أبي حيان" 6/ 44.

49

49 - وقوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا}، الرَّفَتُ: كَسْرُ الشيء بيدك، يقال: رَفَتُّه، أرْفِتُه بالكسر، كما تَرْفِتُ المدَرَ والعَظمَ البالي، والرُّفاتُ: الحُطامُ من كل شيء تَكَسَّر، ويقال: رَفَتَ عظامَ الجَزُور رَفْتًا إذا كسَرَها ليطْبُخَها، ومن هذا يقال للتِّبْن: الرُّفَتُ (¬1)؛ لأنه دُقَاقُ (¬2) الزرع. وقال الأخفش: يقال: رُفِتَ رَفْتًا فهو مرفوت؛ نحو حُطِم حطمًا فهو محطوم (¬3)، والرُّفات والحُطام الاسم؛ كالجُذاذ والرُّضاض (¬4). وقال الفراء: الرفات لا واحد له؛ نحو الدُّقاق والحُطام (¬5). وقال ابن قتيبة: الرفات مثل الفُتَات (¬6)، هذا كلام أهل اللغة. قال ابن عباس في رواية عطاء: أي إذا ذهب اللحم والعروق والدم و (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: (رفت) في "جمهرة اللغة" 1/ 393، و"تهذيب اللغة" 2/ 1436، و"مجمل اللغة" 1/ 390، و"اللسان" 3/ 1686. (¬2) الدُّقَاقُ: فُتَاتُ كُلِّ شيء دُقَّ، وقيل: هو التراب اللَّيِّن الذي كسحته الريح من الأرض، ومنه الدَّقيقُ: الطحين. انظر دقق في "المحيط في اللغة" 5/ 197، و"اللسان" 3/ 1401. (¬3) ليس في معانيه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 224 بنصه، و"القرطبي" 10/ 273، وورد نحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 162 منسوبًا للكسائي وأبي عبيدة وهو بمعناه في المجاز. (¬4) الرَّضُّ: دقُّك الشيءَ، ورُضاضُ الشيء: فتاته، وكلُّ شيء كسّرته فقد رَضَضْتَه. "اللسان" (رضض) 3/ 1956. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 125 بنصه تقريبًا. (¬6) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 257 بنصه. (¬7) الواو ساقطة من (أ)، (د).

50، 51

بقيت عظام قد رَثَّتْ (¬1) وبَلِيَتْ ورَمَّت (¬2)، فإذا مسسته وجعلته بين إصبعيك انسحق (¬3). وقال في رواية الوالبي في قوله: {وَرُفَاتًا} قال: غبارًا (¬4). وقال مجاهد: ترابًا (¬5)، وهو قول الزجاج (¬6) والفراء (¬7). وقوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} انتصب خلقًا على المصدر؛ لأنه بمعنى: بعثًا جديدًا، أي: أنُبْعثُ إذا صرنا ترابًا؟!. 50، 51 - قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} الآية. اختلفوا في معنى قوله: {خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي ¬

_ (¬1) الرَّثُّ: الخَلَقُ الخَسيسُ البالي من كل شيء، ورثَّ الشيء وأرثَّ: أي خَلُقَ. انظر: "المحيط في اللغة" (رث) 10/ 124، و"اللسان" (رثث) 3/ 1580. (¬2) قال ابن الأثير: أصل هذه الكلمة من رَمَّ الميّتُ، وأرَمَّ: إذا بَلِيَ، والرِّمَّة: العظمُ البالي. "النهاية" 2/ 266. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 506 بنصه. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 97 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" 7/ 110 ب، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 105، و"القرطبي" 10/ 273، و"ابن كثير" 3/ 51، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 363 بلفظه، وأخرجه "الطبري" 15/ 97 بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 162، و"تفسير هود الهواري" 2/ 423، و"الثعلبي" 7/ 110 ب، و"الطوسي" 6/ 486، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 244، بلفظه. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 125، بلفظه.

صُدُورِكُمْ} فقال ابن عباس في رواية عطاء: يعني الموت (¬1)، وهو قول مجاهد في رواية خُصَيف وعكرمة والحسن وابن جريج وسفيان وأبي صالح وابن عمر والكلبي، قالوا: ليس شيء أكبر في صدور بني آدم من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم أحياكم (¬2). قال الكلبي: قالوا: يا محمد، أرأيت لو كنا الموت، من يميتنا؟ فأنزل الله تعالى {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} (¬3): يعني الموت. ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 98 من طريق العوفي (ضعيفة) قال: إن كنتم الموت أحييكم، والحاكم: تفسير، الإسراء 2/ 362 بلفظه من طريق مجاهد (صحيحة) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 248، و"الطوسي" 6/ 487، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وزاد نسبته إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. (¬2) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 379، بنحوه عن الكلبي، وابن أبي شيبة 7/ 134، بنحوه عن ابن عمر، و"الطبري" 15/ 98، بنحوه عن ابن عمر وابن جريج عن ابن جبير، وعن أبي صالح والحسن قالا: الموت، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 212 مختصرًا عن الحسن، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 163 - مختصرًا عن ابن عمر ومجاهد وعكرمة وأبي صالح، و"تفسير السمرقندي" 2/ 272، بنحوه عن الكلبي والحسن وعكرمة، و"هود الهواري" 2/ 424، بنحوه عن الحسن، و"الثعلبي" 7/ 110 ب مختصرًا عن مجاهد وعكرمة، و"الماوردي" 3/ 248 مختصرًا عن ابن عمر، وأورده السيوطي في "الدرالمنثور" 4/ 339، بنحوه، وزا د نسبته إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر. (¬3) لم أقف عليه، وقد انفرد المؤلف بإيراد هذا القول على أنه سببٌ في النزول، ولم يورده في كتابه: "أسباب النزول" أو تفسيره الوسيط، وهذا القول لا يعتد به -في باب أسباب النزول- لعدم وروده بسند، وحتى مع إسناده فإن الرواية عن طريق الكلبي ضعيفة كما هو معلوم.

وروي عن مجاهد أيضًا أنه قال: يعني السماء والأرض والجبال (¬1). وروي عن ابن [أبي] (¬2) نجيح عنه قال: ما شئتم فكونوا، سيعيدكم الله كما كنتم (¬3). قال أبو إسحاق: ومعنى هذه الآية فيه غموض؛ لأن القائل يقول: كيف يقال لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} وهم لا يستطيعون ذلك، فالجواب في ذلك أنهم كانوا يُقِرُّون أن الله خالقهم وينكرون أن الله يعيدهم (¬4)، فقيل لهم: إن تستشعروا أنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت -الذي هو أكبر الأشياء في صدوركم- لأماتكم الله ثم أحياكم؛ لأن القدرة التي بها أنشأكم (¬5) بها يعيدكم (¬6)، وهذا معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 379 بنصه، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 110 ب، و"الماوردي" 3/ 248، و"الطوسي" 6/ 487، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 248، و"ابن عطية" 9/ 107، و"ابن الجوزي" 5/ 44. (¬2) ساقطة من جميع النسخ. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 263 بنصه، وأخرجه "الطبري" 15/ 98 بنصه من طريقين، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 163، و"تفسير السمرقندي" 2/ 271، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي رجحه الطبري وتبعه ابن عطية ونصره، وحجته أن الله عَزَّ وَجَلَّ أطلق القول ولم يخصصه بشيء، لذلك فكل ما كبر في صدور بني آدم من خلقه يكون مقصودًا. انظر: "تفسير الطبري" 15/ 99، و"ابن عطية" 9/ 107. (¬4) في جمبع النسخ: (يعيدكم)، والعواب ما أثبته، وبه يستقيم الكلام وتنسجم الضمائر. (¬5) ساقطة من (أ)، (د). (¬6) "معاني القران وإعرابه" 3/ 244 بتصرف يسير.

يُعِيدُنَاَ}، فقل: {الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. وقوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} قال الفراء: نَغَض فلان رأسَه يَنْغُضه إنغاضًا؛ إذا حَرّكه إلى فوق وإلى أسفل، ونَغَض رأسُه إذا تَحَرَّك، ونَغَضَتْ سِنُّهُ، تَنْغَضُ وتَنْغُضُ وتَنْغِضُ، نَغْضًا ونَغَضَانًا ونُغُوضًا، وسُمِّيَ الظَّلِيمُ (¬1) نَغْضًا لأنه يُحَرِّك رأسه (¬2)، وأنشد (¬3) للعَجّاج: أَسَكَّ نَغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدَجًا ... مُسْتهرِجٌ يحمل على أن يَهْرِجَ هَرْجَانًا (¬4) ¬

_ (¬1) الظليم: هو الذَّكر من النَّعَام، وجمعه: ظِلْمان. انظر: "لتلخيص" 2/ 641، و"الصحاح" (ظلم) 5/ 1978. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 125، بنحوه بعض الفقرات، وورد بعضها بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 24، و"تهذيب اللغة" (نغض) 4/ 3621، ولعله قد ركب النص من هذه المصادر الثلاث، ولمّا كان أغلب النقل عن الفراء نسبه إليه من دونهم - والله أعلم. (¬3) الضمير يعود على الفراء، لكن الذي أنشد البيت هو الزجاج وليس الفراء. (¬4) "ديوانه" 2/ 17، وروايته مختلفة ومقلوبة: واستبدلت رُسومُهُ سَفَنَّجَا. . . أصَكَّ نَغْضًا لا يَنِي مستهدجًا وورد برواية الديوان في: "المعاني الكبير" 1/ 329، والاقتضاب ص 420، وورد صدره في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 245، و"تهذيب اللغة" (هدج) 4/ 3738، و"الصحاح" (نغض) 3/ 1109، و"تفسير الطوسي" 6/ 487، و"اللسان" (هدج) 8/ 4630، (نغض) 8/ 4489، وفي بعض هذه المصادر: (أصكَّ) بدل (أسكَّ)، (أسكَّ)؛ السَّكَكُ: الصمم، يقال: ظليم أسكّ؛ لأنه لا يسمع، وقيل: السكك: صِغَرُ الأذن ولزوقها بالرأس، (أصك)؛ الصكك: اضطراب الركبتين والعرقوبين، وظليم أصكّ: لتقارب ركبتيه؛ يصيب بعضها بعضًا إذا عدا، (سفنَّجًا): يعني بالسفنج الظليم؛ وهو ذكر النعام، (لا يَني): لا يزال، (مستهدَجا): يُحمل على الهدَج؛ وهو تقارب الخطو مع سرعة المشي. قال ابن الأعرابي: مستهدِجا: =

وهو (¬1) ضرب من العَدْو. وقال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أُخْبِر بشيء فحَرَّك رأسَه إنكارًا له: قد أَنْغَضَ رأسه (¬2). قال ابن عباس في رواية الوالبي، في قوله: {فَسَيُنْغِضُونَ} قال: يهزون (¬3). وقال مجا هد: [فسيحركونها (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: يحركون رؤوسهم تكذيبًا لهذا القول (¬5). وقال الزجاج] (¬6): فسيحركون رؤوسهم تحريك من يبطل الشيء ويسْتبطئه (¬7)، {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ}. وقال ابن قتيبة: أي يحركونها تحريك المستبعدِ رأسَه (¬8). وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ}، أي: البعث أو الإعادة، وقد ¬

_ = مستعجلاً؛ أي أُفْزعَ فمرّ، ومن رواه بكسر الدال أراد أنه لا يزال عَجْلان في عَدْوِه، (مستهرج): الهَرْجُ: الاختلاط؛ وأصل الهرج: الكثرة في الشيء. انظر: "اللسان" (هرج، سكك، صكك). (¬1) الضمير يعود على الاسْتِهْدَاج. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (نغض) 4/ 3738، بنصه تقريبًا. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 100 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة). (¬4) " تفسير مجاهد" ص 1/ 364، بنحوه. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 100، بنحوه، عن عطاء الخرساني (منقطعة)، وورد بنحوه في "تفسير الماوردي" 3/ 248، و"الطوسي" 6/ 487، وورد بنحوه عن عطاء في "تفسير مجاهد" 1/ 364، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع). (¬7) في جميع النسخ: (يستطيعه)، ولا معنى لها، والتصويب من المصدر، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 244، بنصه. (¬8) "الغريب" لابن قتيبة ص 257، بنحوه.

52

تَقدّم الفعل منهما (¬1)، والفعل يدل على المصدر، {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} قال المفسرون: يعني هو قريب (¬2)، قال ابن عباس: وعسى من الله واجب (¬3)، وذكرنا هذا عند قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. 52 - قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} انتصب يومَ على البدل من قوله: {قَرِيبًا} على معنى: قل عسى أن يكون يوم يدعوكم، ويكون تأويله: عسى أن يكون البعث قريبًا يوم يدعوكم، وهذا معنى قول أبي إسحاق: أي يعيدكم يوم القيامة (¬4)، ومعنى يدعوكم: أي بالنداء الذي يُسْمِعكم، وهو النفخة الأخيرة؛ كما قال: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41]. وقوله تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ}، أىِ: تجيبون، والاستجابة: موافقة الداعي فيما دَعا إليه؛ وهي الإجابة، إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة، فهي أوكد من الإجابة (¬5). وقوله تعالى: {بِحَمْدِهِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يقول: بأمره (¬6)، وهو قول سفيان (¬7)، ولا أدري وجه هذا القول من ¬

_ (¬1) في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} , وقوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} (¬2) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 15/ 101، و"السمرقندي" 2/ 272، و"الثعلبي" 7/ 111 أ، و"الطوسي" 6/ 488. (¬3) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 438 بنصه، وعزاه إلى ابن المنذر والبيهقي في سننه -لم أقف عليه- من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 245، بنصه. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 489، بنصه تقريبًا. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 101 بلفظه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أبلفظه , انظر: "تفسير البغوي" 5/ 99، و"ابن الجوزي" 5/ 45، و"ابن كثير" 3/ 53، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬7) ورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 165، و"الماوردي" 3/ 249.

اللغة، وقال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم يقولون: سبحانك وبحمدك، فهو قوله: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (¬1)، وقال قتادة: يقول: بمعرفته وطاعته يوم القيامة (¬2)، ومعنى هذا أنهم إذا أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة، ولكنه لا ينفعهم الحمد. وقال أبو إسحاق: يستجيبون مقرّين بأنه خالقهم (¬3)، وهذا معنى قول قتادة. قال أهل المعاني: تستجيبون بحمده: تستجيبون حامدين (¬4)، كما تقول: جاء بغضبه، أي: جاء غضبان، وخرج زيد بثيابه، وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه (¬5). وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} قال ابن عباس في رواية ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أ، بنحوه، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 364، و"ابن الجوزي" 5/ 45، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 339 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 101 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أبنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 340 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 245 بنصه. (¬4) وقد ذكر الزمخشري (2/ 363) هذا القول وزاده بيانًا فقال: (بحمده) حال منهم؛ أي حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع: ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني أنك تُحمل عليه وتُقسر قسرًا، حتى أنك تلين لين المسمح الراغب الحامد عليه. وإلى هذا القول نحا "أبو حيان" 6/ 47 أيضًا. (¬5) ورد في "تفسر الطوسي" 6/ 489 بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 227.

عطاء: يريد بين النفختين الأولى والثانية يُكَفُّ عنهم العذاب فينامون (¬1)، مثل قوله في سورة يس: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [آية:52] وهم يعذبون من حين يموتون إلى النفخة الأولى، فعلى هذا القول ظنهم اللَّبْثَ القليل يعود إلى لُبْثهم بين النفختين، وقيل: معنى هذا: تقريب وقت البعث؛ كما قال الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تَزَل (¬2)، فهؤلاء إذا رأوا يوم القيامة وشاهدوا البعث، استقصروا مدة لُبْثِهم مع ما يعلمون من طول لَبْثِهم في الآخرة، وعند الحسن وقتادة: هذا اللَّبْثُ يعود إلى لَبْثهم في الدنيا لا إلى لَبْث البرزخ. قال قتادة في قوله: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} , ذاكم والله لَمّا تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقَلَّت؛ حين عاينوا يوم القيامة (¬3). وقال الحسن: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}: في الدنيا بطول لُبْثِكم في الآخرة (¬4)، وهذه ثلاثة أقوال في معنى استقصارهم اللَّبْث (¬5). ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 272، و"الثعلبي" 7/ 111 أ، و"الماوردي" 3/ 249، وقال السمرقندي والثعلبي: هذا أصح ما قيل فيه؛ لأن بعض المبتدعة قالوا: إذا وضع الميت في قبره لا يكون عليه العذاب إلى وقت البعث، فيظنون أنهم مكثوا في القبر قليلاً. (¬2) ورد بنصه في "تفسير الجصاص" 3/ 204، و"الماوردي" 3/ 249، و"الطوسي" 6/ 488. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 102، بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير الجصاص" 3/ 204، و"الماوردي" 3/ 249، و"الطوسي" 6/ 489، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 340 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) ورد بنصه في "تفسير الماوردي" 3/ 249، و"الطوسي" 6/ 489. (¬5) وأظهرها القول الثالث؛ قول قتادة وقول الحسن الثاني، وقد اقتصر الطبري وابن كثير على ذكره، وأيّده ابن كثير بعدة شواهد قرآنية، اما القول الثاني فهو قريب =

53

ومن المفسرين من ذهب إلى أن هذا الخطاب للمؤمنين دون الكافرين، قال: وهذا أظهر في المؤمنين؛ لأنهم يستجيبون (¬1) الله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة لَبْثِهم في البرزخ؛ لأنهم كانوا غير معذبين (¬2)، والمفسرون على الأول. 53 - قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال الأخفش: جعل {يَقُولُوا} جوابًا للأمر (¬3) -في اللفظ- كما قال: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] قال الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بمكة (¬4) بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله، ائذن لنا في قتالهم، فيقول لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم أؤمر فيهم بشيء"، فأنزل الله هذه الآية (¬5). ¬

_ = من هذا، وأما القول الأول فطريقه إلى ابن عباس ضعيفة، لذلك نجد السمرقندي مع ترجيحه لهذا القول فقد أورده بصيغة التمريض. (¬1) في جميع النسخ: (لا يستجيبون) بزيادة لا، ويضطرب المعنى بذلك، والتصويب من تفسيره "الوسيط" 2/ 508. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 558 بنصه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 228، و"أبي حيان" 6/ 48. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 614 بنصه. (¬4) ساقطة من (د). (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أبنصه تقريبًا، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 495، بنحوه دون إسناد، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 272، بنحوه عن ابن عباس، والظاهر أن الكلبي يرويه عنه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 99، و"ابن الجوزي" 5/ 46، عن أبي صالح عن ابن عباس، و"القرطبي" 10/ 277، عن الكلبي.

54

ومعنى الآية: قل لعبادي المؤمنين يقولوا للكافرين الكلمة التي هي أحسن. قال الحسن: يقول له: يهديك الله (¬1)، {إِنَّ الشَّيْطَانَ}: هو الذي يفسد بينهم. (¬2) 54 - قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} الآية. فيها قولان؛ أحدهما: أن هذا الخطاب للمشركين، يقول: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ}: يوفقكم فتؤمنوا، {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}: بأن يميتكم على الكفر فيعذبكم، هذا قول ابن جريج (¬3). القول الثاني: أن الخطاب للمؤمنين يقول: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ}: بالإنجاء من كفار مكة وأذاهم، {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}: بتسليطهم عليكم، وهذا قول الكلبي (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أي حافظًا وكفيلاً، يعني ¬

_ = والحادثة تفتقر إلى إسناد لإثبات أنها سبب في النزول، وهو ما لم أقف عليه، وحسبك أنها رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومصدرها الثعلبي! وهذه الطريق هي أوهى الطرق إلى ابن عباس. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 102 بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أ، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 489 - بمعناه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 99 بنصه، و"ابن الجوزي" 5/ 47 بنصه، و"القرطبي" 10/ 277، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 340. (¬2) ورد بلفظه في "تفسير الطبري" 15/ 102، و"الثعلبي" 7/ 111 أ، و"الطوسي" 6/ 489. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 102، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 99، و"القرطبي" 10/ 278، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 341 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أ، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 250، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 2/ 100، و"القرطبي" 10/ 278، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" 2/ 272.

55

لا شيء عليك من كفرهم، فإن عليك التبليغ، وما وُكل إليك إيمانهم، والله أعلم بهم إن شاء هَدْيَهم (¬1) وإن شاء خَذْلَهم. 55 - وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: هو أعلم بهم؛ لأنه خلقهم، فهدى بعفبهم، وأضل بعضهم؛ كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. وقال أهل المعاني: إنما ذكر أنه أعلم بهم بعد قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}؛ ليدل به على أن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض وقع موقع الحكمة؛ لأنه من عالم بباطن الأمر (¬2). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} كلام المفسرين في هذا يدل على أن المعنى فيه: أن كل واحد منهم خُصّ بفضيلة؛ فقال قتادة: نعم فضّل الله بعض النبيين على بعض؛ فاتخذ إبراهيم خليلاً، وكلّم موسى تكْليمًا، وجعل عيسى كلمته وروحه، وآتى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورًا، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر (¬3). وقال الكلبي: فضّل موسى بالكلام، وإبراهيم بالخُلَّة، واصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وآتى داود زبورًا (¬4). وقال ابن عباس في هذه الآية: يريد لذلك فَضَّلت ولد آدم؛ فمنهم من ¬

_ (¬1) مطموسة في (ع)، وفي (د): (يهديهم). (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 490 بنصه. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 103، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 أ، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 100، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 341، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 301 مختصرًا.

56

عَصَمْتُ، ومنهم من خَذَلْتُ، وفَضَّلتُ داود حيث أعطيته الزبور، يعني أن ذكر تفضيل النبيين هاهنا يكون (¬1) يدلّ على تفضيل ولد آدم. وقال أبو إسحاق: معنى ذكر داود هاهنا، أن الله أعْلَمَ أنه فضَّل بعض النبيين على بعض، أي فلا تُنْكِروا تفْضِيلَ محمد، وإعطاءه القرآن، فقد أعطى الله داود الزبور (¬2)، وقرأ حمزة {زُبُوًا} بضم الزاي (¬3)، وذكرنا وجه ذلك في أواخر سورة النساء (¬4). 56 - قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} قال المفسرون: ابتلى الله قريشًا وأهلَ مكة بالقحط سنين، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (¬5) قال ابن عباس: كل شيء (زَعَمَ) في كتاب الله فهو كَذَبَ (¬6)، فعلى هذا نظم الآية: الذين ادّعيتم كذبًا من دونه، أي ادّعَيتم أنهم آلهة. وقال أبو إسحاق: أي ادْعُوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم (¬7)، ثم أخبر ¬

_ (¬1) يكون ثابتة في جميع النسخ، وقد أدت إلى اضطراب المعنى، والأولى حذفها؛ لأن الكلام يستقيم بدونها. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 245 بنصه. (¬3) انظر: "السبعة" ص 382، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 376، و"الحجة للقراء" 5/ 108. (¬4) آية [163]. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب مختصرًا، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 250, و"البغوي" 5/ 100، و"ابن الجوزي" 5/ 48، و"القرطبي" 10/ 279، ولا يُعدّ هذا سببًا في النزول -وإن عبر عنها بالصيغة الصريحة- لعدم تحقق شروطه. (¬6) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 231، و"الألوسي" 5/ 97. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 245 بنصه.

57

عن الآلهة فقال: {فَلَا يَمْلِكُونَ}، أي: فهم لا يملكون، {كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ}، يعني البؤس والشدة. {وَلَا تَحْوِيلًا} قال ابن عباس: يريد من السقم والفقر إلى الصحة والمغنى (¬1)، وفي هذا احتجاج عليهم وبيان أنهم في عبادتهم على الباطل، والتَّحْويل: النقل من حال إلى حال، ومكان إلى مكان، يقال: حَوَّلَه فتحوَّل، ويُذكر تمام هذا الحرف عند قوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] , إن شاء الله. 57 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}، أي: أولئك الذين يدعونهم المشركون، واختلفوا فيهم؛ من هم؟ فرُوي بطرق مختلفة عن ابن مسعود أنه قال: كان نفر من الإنس -قال المفسرون: وهم خزاعة (¬2) - يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجنّ، واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية (¬3). روى هذا قتادة عن عبد الله بن معبد ¬

_ (¬1) ورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب، و"السمعاني" 3/ 250، و"القرطبي" 10/ 279. (¬2) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 125، انظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 51. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 379، بنحوه من طريقين، والبخاري (4715) كتاب: التفسير، الإسراء، باب: قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ} بنحوه من طريق الأعمش، وليس فيه التصريح بالنزول، ومسلم (3030) كتاب: التفسير باب: في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} بنصه من طريق الأعمش، والنسائي في "تفسيره" 1/ 652، بنحوه، و"الطبري" 15/ 104 بنصه وبنحوه من عدة طرق ورجحه، والحاكم: التفسير/ الإسراء 2/ 362، بنحوه من طريق الأعمش، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 165، و"تفسير السمرقندي" 2/ 273، و"هود الهواري" 2/ 426، و"الثعلبي" 7/ 111 ب، و"الماوردي" 3/ 250، و"الطوسي" 6/ 491، انظر: "لباب النقول" ص 137.

الزِّمَّاني (¬1) عن ابن مسعود. وقال أبوصالح عن ابن عباس في هذه الآية: هم عيسى وعزير والملائكة، وما كان عُبِدَ من دون الله وهو لله مطيع (¬2)، ونحو هذا قال مجاهد والسدي والحسن (¬3)، قال الفراء: قوله: {يَدْعُونَ} فِعلُ الآدميين العابدين، وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ} فِعلٌ للمعبودين الذين عبدوهم (¬4). ومعنى {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال ابن عباس: يتضرعون إلى الله في طلب الجنة (¬5)، والوسيلة: الدرجة العليا (¬6). ¬

_ (¬1) عبد الله بن معبد الزِّمَّاني البصري، من جِلّة التابعين، ثقة، روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عتبة -رضي الله عنهما- وعنه قتادة وثابت. انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 173، و"ميزان الاعتدال" 3/ 221، و"الكاشف" 2/ 600 (2997)، و"تقريب التهذيب" ص 324 (324). (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 105 من طريق أبي صالح (واهية) بروايتين، وفيهما قال: عيسى وأمه وعُزير، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 166 مختصرًا، و"تفسير السمرقندي" 2/ 273 بنصه، و"الثعلبي" 7/ 111 ب بزيادة وأمه والشمس والقمر والنجوم، و"الماوردي" 3/ 251 مختصرًا، و"الطوسي" 6/ 491، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 101، و"الدر المنثور" 4/ 343 بزيادة وحذف، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 364، وأخرجه "الطبري" 15/ 106، عن السدي ومجاهد من طريقين، وورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 426، عن الحسن، و"الثعلبي" 7/ 111 ب عن مجاهد، و"الماوردي" 3/ 251 عن مجاهد، و"الطوسي" 6/ 491 عن الحسن، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 53، عن السدي. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 125 بمعناه. (¬5) ورد بنصه غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب، و"القرطبي" 10/ 279. (¬6) ومن ذلك ماورد في حديث الأذان: (.. آت محمدًا الوسيلة والفضيلة ..) أخرجه البخاري (4719) كتاب: الَتفسير، باب: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم =

وقال الزجاج: الوسيلة والسؤال والطِّلْبَةُ في معنى واحد (¬1)، وقد مرَّ ذكرى الوسيلة (¬2)، و {أُولَئِكَ} رُفع بالابتداء، و {الَّذِينَ} صفة لهم، و {يَدْعُونَ} صلة، و {يَبْتَغُونَ} خبر الابتداء. وقوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال الزجاج: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} لأنه بدل من الواو في {يَبْتَغُونَ}، والمعنى: يبتغي أيّهم هو أقرب الوسيلة إلى الله؛ أي يتقرب إليه بالعمل الصالح (¬3)، ونحو هذا قال ابن عباس في قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال: يتقربون إلى الله بصالح الأعمال؛ فيرجون رحمته، ويريدون جنته، ويخافون عذابه. قال أبو إسحاق: أي الذين يزعمون أنهم آلهة يرجون ويخافون (¬4). وقرأ ابن مسعود: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} بالتاء (¬5)، {يَبْتَغُونَ} بالياء، ¬

_ = الوسيلة ... ، (614) كتاب: الأذان، الدعاء عند النداء، قال ابن الأثير: وسل في الأصل: ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء ويُتقرَّبُ به، والمراد بها في الحديث: القرب من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي منزلة من منازل الجنَّة. انظر: "النهاية" 5/ 185. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 246 بنصه تقريبًا. (¬2) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 246، بنصه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 246، بنصه. (¬5) ورد في إعراب القرآن للنحاس 2/ 245، انظر: "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب- وذكر أن {يَبْتَغُونَ} أيضًا بالتاء، وهو مما انفرد به، وقد قال القرطبي: ولا خلاف في {يَبْتَغُونَ} أنه بالياء، و"تفسير السمعاني" 3/ 250، و"البغوي" 5/ 101، و"ابن عطية" 9/ 119، و"القرطبي" 10/ 279، ووردت {يَدْعُونَ} بالياء مبنيًّا للمجهول=

58

قال أبو عبيد: ولولا كراهة الخلاف كانت هذه القراءة آثر عندي؛ للخطاب الذي قبلها (¬1)، وذهب بعضُ المفسرين إلى أن هذه الآية من صفة الأنبياء الذين تقدم ذكرهم (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية، قال: ثم ذكر أولياءه، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية. وعلى هذا القول الآية صفة المؤمنين. 58 - قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} الآية. قال مجاهد: كل قرية في الأرض سيصيبها بعضُ هذا (¬3)؛ هلاكٌ أو عذابٌ بالقتل والبلاء، وقال قتادة: قضاء من الله كما تسمعون، ليس منه بُدّ؛ إما أن يهلكها بموت، فقد قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وإما أن يهلكها بعذاب مُستأصِل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله (¬4). وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها (¬5). ¬

_ = في "القراءات الشاذة" لابن خالويه ص 80، و"إعراب القراءات الشاذة" 1/ 792، والقراءة بالتاء في (تدعون) و (تبتغون) شاذة أيضًا. (¬1) لم أقف عليه، وُيردّ عليه بأن الالتزام بالقراءة السبعية المتواترة مقدم على مراعاة السياق. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 491 - منسوبًا إلى أبي علي، ونسب لابن فُورك في "تفسير ابن عطية" 9/ 121، و"أبي حيان" 6/ 51. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 364 بنصه، أخرجه "الطبري" 15/ 106 بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 274 بنحوه. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 107 بنصه. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 107 بنصه عن عبد الرحمن بن عبد الله، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب بنصه، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 252، و"القرطبي" 10/ 280، و"الخازن" 3/ 168.

59

وقال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب (¬1). وقال ابن عباس في هذه الآية: فَهَلْكُ أهلها قبل يوم القيامة أو يعذبهم مثل ما فعل بأهل مكة؛ عذبهم بالجوع حتى أكلوا العلهز (¬2). {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} قال: يريد مكتوبًا في اللوح المحفوظ. وقال أبو إسحاق: أي ما من أهل قرية إلا سَيُهلك (¬3)؛ إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم (¬4). 59 - قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} قال ابن عباس وقتادة والمفسرون: "سأل أهل مكة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن يُنَحِّي الجبال عنهم فيزْدرعوا (¬5) فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يناظروا، وإن شئت استأنيت بهم، قال: لا بل أستأن بهم، فأنزل الله هذه الآية" (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 1/ 216 أ، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب بنصه. (¬2) العلهز: هو الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه والقراد: دويبة متطفلة انظر: "تفسير الطبري" 14/ 186 - 187. (¬3) في المصدر: (سيهلكون) مراعاة لمعنى ما، أما الواحدي فقد راعى لفظها. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 247 بنصه. (¬5) يقال: ازْدرع إذا زرع أو أمر به لنفسه خُصوصًا. "المحيط في اللغة" (زرع) 1/ 383. (¬6) أخرجه -بنحوه عن ابن عباس من طريق ابن جبير (جيدة) - أحمد 1/ 258، والبزار [كشف الأستار] (3/ 55، والنسائي في تفسيره 1/ 655، و"الطبري" 15/ 108، والحاكم: التفسير/الإسراء 2/ 362 وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 271 بعدة روايات، وأخرجه "الطبري" 15/ 108، بنحوه عن قتادة، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" 295، وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/ 52 - بروايتين عن ابن عباس وقال: وهذان إسنادان جيدان،=

قال أبو إسحاق: (أن) الأولى نصب والثانية رفع، المعنى: ما منعنا الإرسالَ إلا تكذيبُ الأولين، والتأويل: أنهم سألوا الآيات التي استوجب بها الأولون العذاب لما كذبوا بها (¬1)، وحقيقة المعنى: إنّا لم نرسل بالآيات؛ لئلا يكذب بها هؤلاء كما كذب مَنْ قبلهم، فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة. فإن قيل: ما معنى قوله: {وَمَا مَنَعَنَا} والله تعالى لا يجوز أن يكون ممنوعًا عن شيء؟! قلنا: معناه هاهنا المبالغة في أنه لا يفعل ذلك، فكأنه قد مُنع منه؛ وذلك أن الإرادة الأزلية قد سبقت بتدبير الأمور وإمضائها؛ لا يؤخرُ منها مَقَدّم ولا يُقَدمُ مؤخّر، فإذا منعت الإرادة والمشيئة أمرًا جاز إطلاق لفظ المنع على الوجه الذي ذكرنا، والباء في قوله: {بِالْآيَاتِ} زيادة (¬2)، والمعنى: أن نرسل الآيات، والآية مختصرة؛ لأن التقدير: {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} فأهلكناهم، قال المفسرون: وسنة الله في الأمم إذا سألوا الآيات فأتتهم ثم لم يؤمنوا أن يعذبهم ولا يمهلهم (¬3). ¬

_ = وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 50، عن ابن عباس بروايتين وقال: ورجال الروايتين رجال الصحيح، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 343 وزاد نسبته إلى ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس، وقال شاكر في "شرح المسند" 2/ 96. إسناده صحيح، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" 2/ 274، عن ابن عباس، و"هود الهواري" 2/ 427، و"الثعلبي" 7/ 111 ب، انظر: "لباب النقول" ص 137. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 247 بنصه. (¬2) يقصد زيادة للتأكيد، انظر التعليق على اتاقول بالزيادة في القرآن، عند آية [10] من سورة إبراهيم. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 111 ب بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير الخازن" 3/ 169.

وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} قال ابن عباس: يريد كانت لهم عيانًا، وقال قتادة؛: بينة (¬1)، وقال مجاهد: آية مبصرة (¬2). قال الأخفش: المُبْصِرةُ: البَيِّنَة، كما تقول: المُوضِحَة والمُبَيِّنَة (¬3)، فعلى هذا أبصر واقع بمعنى بصر (¬4). وقال الفراء: جعل الفعل لها، ومعنى {مُبْصِرَةً}: مضيئة، كما قال تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، أي: مضيئًا (¬5). قال الأزهري: والقول ما قال الفراء؛ أراد: آتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي مضيئة (¬6)، وقد ذكرنا هذا في سورة يونس (¬7) وفي هذه السورة عند قوله: {آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [آية: 12]. وقوله تعالى: {ظَلَمُوا بِهَا} قال الزجاج: أي فظلموا بتكذيبها (¬8)، وعلى هذا المعنى: ظلموا أنفسهم بتكذيب تلك الآية، ويكون المضاف محذوفًا، وقال المفسرون: كذبوا وجحدوا بها (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 108 بلفظه، انظر: "تفسير الخازن" 3/ 169 بلا نسبة. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 364 بلفظه، أخرجه "الطبري" 15/ 109 بلفظه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 167 بلفظه، و"تفسير هود الهواري" 2/ 427 بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 325 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 614 بنصه. (¬4) ساقطة من (أ)، (د). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 126، باختصار. (¬6) "تهذيب اللغة" (بصر) 1/ 342، بلفظه. (¬7) آية [67]. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 247 بنصه. (¬9) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 217 أ، و"السمرقندي" 2/ 274، و"الثعلبي" 7/ 111 ب.

60

قال ابن قتيبة: ويكون الظلم: الجَحْد؛ كقوله: {فَظَلَمُوا بِهَا}، أي: جحدوا بأنها من الله، وكقوله: {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] , أي: يجحدون (¬1)، وذكرنا معاني الظلم في سورة البقرة (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ}، أي: العبر والدلالات، {إِلَّا تَخْوِيفًا}: للعباد؛ ليتعظوا ويخافوا، قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما يشاء من آياته، لعلهم يعتبرون (¬3) أو يتذكرون أو يرجعون (¬4). 60 - قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} قال مجاهد: أحاط بالناس فهم في قبضته (¬5)، وقال قتادة: يقول: يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك (¬6)، وقالا الحسن: أي حال بينهم وبين أن يقتلوك (¬7)؛ كما ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 468، بنصه (¬2) آية [35]. (¬3) في جميع النسخ: يعينون، وفي "الدر المنثور" والألوسي: (يعتبون)، والتصويب من تفسير الطبري والثعلبي، ويحتمل الرسم أنها يفيئون؛ والله أعلم. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 109 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 112 أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 102، و"ابن كثير" 3/ 55، و"الدر المنثور" 4/ 345، و"تفسير الألوسي" 15/ 104. (¬5) "تفسير مجاهد" ص 438 بنصه، وأخرجه "الطبري" 15/ 110 بنصه من طريقين، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 1/ 364، و"تفسير هود الهواري" 2/ 428، و"الماوردي" 3/ 253. (¬6) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 380 مختصرًا، وأخرجه "الطبري" 15/ 110 بنصه وبنحوه، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 274 بنصه، و"الماوردي" 3/ 253، بنحوه. (¬7) أخرجه "الطبري" 15/ 110 - بمعناه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 168 - بمعناه، والماوردي 3/ 253 - بمعناه. انظر: "تفسير السمعاني" =

قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. فعلى هذه الأقوال: معنى الآية: أن الخلق في قبضة الله وأنه محيط بهم بالعلم والقدرة، فهو مانعك منهم وحافظك، فامض لما أمرك من تبليغ الرسالة ولا تهتم. وروي عن ابن عباس من طريق عطاء أن المراد بالناس هاهنا: أهل مكة (¬1)، وإحاطته بهم إهلاكه إيّاهم عن قريب؛ إمّا موتًا وإمّا قتلاً، وإلى هذا القول ذهب مقاتل والفراء وقالا: أي أنها ستفتح لك (¬2)، وعلى هذا القول معنى الإحاطة بهم: الإهلاك؛ لقوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] وقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] وقد مرّ، والمعنى: أن الله أهلكهم، أي سيهلكهم، ولكن ذُكر بلفظ الماضي لتحقق كونه، وفي إهلاكه إياهم فتحها لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ثم أهلكهم يوم بدر قتلًا بالسيف، وأكثر ما يُذْكر أهلُ مكة في القرآن بلفظ الناس. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} اختلفوا في معنى هذه الرؤيا؛ فأكثر المفسرين على أن المراد بها: ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء (¬3). قال عكرمة: أمَا إنه ليس برؤيا ولكنّه رَأْيُ عَين، وهي رؤيا يقظة ¬

_ = 3/ 253 بنصه، و"ابن الجوزي" 5/ 53، و"الفخر الرازي" 20/ 235. (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 282، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 216 ب، و"الفخر الرازي" 20/ 235. (¬2) "تفسير مقاتل" 1/ 216 ب، بنحوه، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 126 بنصه. (¬3) وهذا القول رجحه "الطبري" 15/ 183، و"الفخر الرازي" 20/ 236.

ليست رؤيا (¬1) في المنام (¬2)، وهو قول سعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم والسدي ومجاهد وقتادة والحسن والضحاك وابن زيد وابن جريج (¬3)، وابن عباس في رواية عكرمة: قال: هي رؤيا عين أُرِيَهَا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به إلى بيت المقدس (¬4)، وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة (¬5)، وعلى هذا يصح أن يقال: رأيت بعيني رؤية ورؤيا (¬6). ومعنى قوله: {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} هو أنه ارتد بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء، وأنكروا وكذبوا، وازداد المؤمنون المخلصون إيمانًا. وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما صُدّ عن البيت عام الحُدَيْبِيَة (¬7) كان ذلك فتنة ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (ليسترونا)، والظاهر أنها كلمتان اشتبكتا في الرسم، والصحيح المثبت. (¬2) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 198 و"تفسير السمرقندي" 2/ 274. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 365، أخرجه "الطبري" 5/ 110 - 112، عنهم كلهم عدا السدي، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 168، عن ابن جبير ومجاهد والضحاك، و"تفسير الثعلبي" 7/ 112 أ، عنهم عدا إبراهيم والسدي، و"الماوردي" 3/ 253، عنهم عدا أبي مالك وإبراهيم والسدي وابن جريج، و"الطوسي" 6/ 494، عنهم- عدا أبي مالك والسدي. (¬4) أخرجه بنصه: "عبد الرزاق" 2/ 380، والبخاري (4716) كتاب: التفسير، الإسراء، و"الطبري" 15/ 110 من ثلاث طرق، و"السمرقندي" 2/ 274، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 112 أ، و"الماوردي" 3/ 253، و"الطوسي" 6/ 494. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 126، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 258. (¬6) قال ابن الأنباري: لا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلانًا رؤية، ورأيته رؤيا، إلا أن الرؤية يقل استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين. "تفسير ابن الجوزي" 5/ 53. (¬7) عام الحديبية كان في السنة السادسة من الهجرة، والحديبية: قرية متوسطة سميت باسم بئر كانت هناك، عند الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان، قال الخطابي: وسميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وبين الحديبية ومكة مسافة (25) كم تقريبًا، ويقع بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وتعرف الآن باسم الشميسي، وتقع في طريق مكة جدة القديم. انظر: "الروض المعطار" ص 190، و"معجم البلدان" 2/ 229.

لهم، فلما كان العام المقبل دخلها وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} (¬1) [الفتح: 27]، غير أن هذا القول يَضْعُف من حيث إن هذه الرؤيا كانت بالمدينة، وهذه السورة مكية، والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب: أُري بني أمية يَنْزُون (¬2) على منابرهم فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي الدنيا أُعْطُوها فسُرِّي عنه (¬3)، ونحو هذا روي عن سهل بن سعد قال: "رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني أمية يَنْزُون على منبره نَزْوَ القِرَدةِ فساءه ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 112، بنحوه من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد بنحوه في "تفسير الثعلبي" 7/ 112 أ، و"الماوردي" 3/ 253، و"الطوسي" 6/ 494، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 127، و"ابن الجوزي" 5/ 54. (¬2) النَّزْو: هو الوَثَبَان، والمقصود يتعاقبون. انظر: "المحيط في اللغة" (نزو) 9/ 93، و"اللسان" (نزا) 7/ 4402. (¬3) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 274، بنحوه، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" 6/ 509 - بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 112 أ - بنصه، وأورده "ابن الجوزي" 5/ 54 وقال: وإن كان مثل هذا لا يصح، ولكن ذكره عامة المفسرين، كذلك أشار ابن حجر إلى هذا القول ورواياته، وقال: وأسانيد الكل ضعيفة. "فتح الباري" 8/ 250. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 112 بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 112 أ - بنصه، و"الماوردي" 3/ 253 بنصه تقريبًا، و"الطوسي" 6/ 494، بنحوه، وهذا الأثر ضعيف كما قال ابن كثير 3/ 55 قال: وهذا السند ضعيفٌ جدًّا؛ فإن محمد =

وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة (¬1)، وهذه الآية مكية، ولم يكن للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- بمكة منبر، غير أنه لا يبعد أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة، كأنه رأى أن له بالمدينة منبرًا يتداوله بنو أمية. قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} هذا على التقديم والتأخير، {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ}، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} , {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} واختلفوا في هذه الشجرة؛ فالأكثرون أنها شجرة الزقوم التي ذَكر في قوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44] وهذا قول مسروق وسعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم ومجاهد وقتادة والكلبي وعكرمة والضحاك، وقول ابن عباس في رواية عكرمة من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عنه (¬2)، وكانت فتنتهم في هذه الشجرة ما ذكر ¬

_ = ابن الحسن بن زبالة متروك، وشيخه -أي عبد المهيمن بن عباس- أيضًا ضعيفٌ بالكلية، وأورد الشوكاني الأثر وضعفه، وقال: وفيه ضعف؛ فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا، إلا أن يراد بالناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحده، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا. "تفسير الشوكاني" 3/ 342، وظاهرٌ أن هذا القول وأمثاله من المُحدث. (¬1) ورد بنصه بلا نسبة في: "تفسير الخازن" 3/ 169، و"أبي حيان" 6/ 55. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 365، أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 381، عن ابن عباس وابن جبير، والبخاري (4716) كتاب: التفسير، الإسراء، عن ابن عباس، و"الطبري" 15/ 113 - 115، عنهم كلهم عدا الكلبي، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 169، عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك، و"تفسير الجصاص" 3/ 205، عنهم عدا مسروق وأبي مالك والكلبي وعكرمة، و"تفسير هود الهواري" 2/ 429، عن مجاهد، و"الماوردي" 3/ 253، عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن جبير، و"الطوسي" 6/ 494، عنهم عدا الكلبي وعكرمة.

قتادة قال: خَوَّفَ الله بها عباده ففتنوا (¬1) بذلك، حتى قال أبو جهل: زعم صاحبكم أن في النار شجرًا، والنار تأكل الشجر، وقال ابن الزِّبَعْري (¬2): ما نعلم الزقوم إلا التَّمْر والزُّبْد، فتزقموا منه، فأنزل الله حين عجبوا أن يكون في النار شجرًا: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} الآيات. (¬3) [الصافات: 63 - 66]. وروى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية (¬4). وقال في رواية عطاء: يعني الحكم بن أبي العاص (¬5)، قال: "وكان ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (فَنُبِؤا) والتصويب من تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 515. (¬2) عبد الله بن الزِّبَعْري بن قيس السهمي، أحد شعراء قريش، كان شديدًا على المسلمين في الجاهلية، يهجوهم ويحرِّض عليهم كفار قريش في شعره، فلما فتحت مكة هرب إلى نجران، فقال فيه حسان بيتًا فلما بلغه عاد إلى مكة وأسلم، واعتذر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبل عذره وحسن إسلامه، وشهد ما بعد الفتح. انظر: "الأغاني" 15/ 174، و"الاستيعاب" 3/ 36، و"أسد الغابة" 3/ 239. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 381 مختصرًا، و"الطبري" 15/ 114، بنحوه، وورد بنحوه بلا نسبة في: "تفسير مقاتل" 1/ 216 ب، و"الثعلبي" 7/ 112 أ. (¬4) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 237 بنصه، و"القرطبي" 10/ 286 وقال: وهذا قول ضعيف محدَث. وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 494 بنصه عن أبي جعفر، وقال ابن كثير 3/ 55: وقيل: المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية، وهو غريب ضعيف. (¬5) الحكم بن أبي العاص الأموي القرشي، عمّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهو أبو مروان بن الحكم، من مسلمة الفتح، أخرجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة وطرده عنها، فنزل في الطائف مع ابنه مروان، ولم يزل بها حتى رده عثمان -رضي الله عنه- إلى المدينة في خلافته، وبقي فيها، وتوفي في آخر خلافة عثمان. انظر: "الاستيعاب" 1/ 414، و"أسد الغابة" 2/ 48، و"الإصابة" 1/ 345.

رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام ولد مروان يتداولون منبره، فقصّ رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما، فلما تفرقا سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاشتد ذلك عليه، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يَتسمَّعُ إليهم، فنفاه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-" (¬1)، وهذه القصة كانت بالمدينة والسورة مكية, فيبعد هذا التفسير، إلا أن تكون هذه الآية مدنية، ولم يقل ذلك أحد، والله أعلم. ويؤكد أن يكون المراد بالشجرة الملعونة: الحكم، قول عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه، فأنت فَضَضٌ (¬2) من لعنة الله (¬3). والأكثرون على القول الأول، وهو الظاهر (¬4). قال أبو إسحاق: فإن قال: قائل ليس في القرآن ذكر لعنها، فالجواب في ذلك أنه لُعِنَ الكفارُ وهم آكلوها -فعلى هذا يكون التقدير: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}: آكلوها- قال: وجواب آخر: وهو أن العرب تقول لكل طعام مكروه ضَارّ: ملعون (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 255، بنحوه، وأشار ابن حجر إلى هذا القول، وقال: وإسناده ضعيف. "فتح الباري" 8/ 251. (¬2) قال ثعلب: معناه: أي خرجت من صُلْبه متفرقًا، يعني ما انفضَّ من نطفة الرجل وتردد في صُلبه، وقيل في قولها: فأنت فَضَضٌ من لعنة الله: أرادت إنك قِطعة منها وطائفة منها. "اللسان" (فضض) 6/ 3427. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (فضض) 3/ 2800، بنحوه، و"الاستيعاب" 1/ 415، بنحوه، انظر: "أسد الغابة" 2/ 38 بنحوه، و"اللسان" (فضض) 6/ 3427 بنصه، وأورده الألوسي 15/ 107 بمعناه وعزاه إلى ابن مردويه عنها. (¬4) وهو ما رجحه "الطبري" 15/ 115، وقال ابن حجر: وهذا هو الصحيح، وذكره ابن أبي حاتم عن بضعة عشر نفسًا من التابعين. "فتح الباري" 8/ 251. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 248 - بنصه- الكلام المعترض.

61

وقال بعضهم: يعنى الشجرة الملعونة التي ذُكرت في القرآن؛ وهي شجرة الزقوم (¬1)، وعلى هذا (في) هاهنا ظَرَفٌ للذِّكر لا لِلَّعن. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} قال: المذمومة (¬2)، ويدل أن المراد بالشجرة هاهنا شجرة الزقوم: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}، أي: نخوفهم بالزَّقوم فما يزدادون إلا كفرًا وعتوًا، وهو ما زادوا من التكذيب والإنكار حين سمعوا بذكر هذه الشجرة في القرآن، وقد روي عن ابن عباس: أنه فسر الشجرة الملعونة بالكَشُوث (¬3)، وهو قول ضعيف وتفسير لا يليق بالآية. 61 - قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الآية. ذكر أهل المعاني في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين؛ أحدهما: أنه على معنى ما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا، محققين لظن (¬4) إبليس فيهم، مخالفين موجب نعمة ربهم على أبيهم وعليهم (¬5)، والثاني: أن المعنى: واذكر بتمادي هؤلاء المشركين وازديادهم عتوًّا قصة إبليس حين عصى وأبى السجود (¬6)، وذكرنا معنى هذه الآية وهذه القصة في سورة البقرة (¬7). ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44]. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 55، بلفظه. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 115، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 112 أ، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 254 بلفظه، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 366، و"ابن الجوزي" 5/ 56، و"القرطبي" 10/ 286، و"الخازن" 3/ 170. (¬4) في (أ)، (د): (بظن)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح، والأصح ظن كما في تفسير الطوسي. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 496، بنصه تقريبًا. (¬6) ورد نحوه في "تفسير الطبري" 15/ 116، و"الثعلبي" 7/ 113أ، و"القرطبي" 10/ 287. (¬7) آية [34].

62

وقوله تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} قال المفسرون وأهل المعنى: امتنع إبليس من السجود لآدم وأنكر أن يسجد له وقال: أنا ناري، وهذا طيني (¬1)، (وذلك أن الفروع ترجع إلى الأصول؛ فتكون على قدرها في التكبير أو التصغير، فلما اعتقد إبليس لعنه الله أن النار أكرم أصلاً من الطين خامنه أنه أكرم ممن خلق من طين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها من جنس واحد، وأن الله يُعرِّفُها بالأعراض كيف شاء، مع كرم جوهر الطين بكثرة ما فيه من المنافع التي تقاوم منافع النار أو تُوفِي عليها) (¬2)، وقال أبو إسحاق: المعنى: لمن خلقته طينًا، وطينًا منصوب على الحال، المعنى: أنك أنشأته في حال كونه من طين (¬3). 62 - قوله تعالى: {قَالَ} يعني إبليس، {أَرَأَيْتَكَ} قال الزجاج: هو في معنى أخبرني، والكاف لا موضح لها؛ لأنها ذكرت في المخاطبة توكيدًا (¬4)، وذكرنا الكلام في هذا الحرف مستقصى في سورة الأنعام (¬5)، {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}: لِمَ كرمته عليّ؟! قال: موضح هذا نصب بأَرَأَيْتَ، والجواب محذوف، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت عليّ لم كَرَّمْتَه عَليَّ، وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟! فَحُذف هذا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه (¬6)، ومعنى {كَرَّمْتَ عَلَيَّ}: أي فَضَّلت، قال ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" 1/ 216 ب، و"الطوسي" 6/ 496، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 256، و"ابن الجوزي" 5/ 57، و"الفخر الرازي" 21/ 3. (¬2) ما بين القوسين ورد بنصه تقريبًا في "تفسير الطوسي" 6/ 496. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249، بتصرف. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249، بنصه. (¬5) آية [40]. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249، بنصه.

ابن عباس: والكرم اسم جامع لكل ما يحمد (¬1). وقوله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} قال ابن عباس في رواية الوالبي: لأستولين (¬2). وقال الحسن: لأغوينَّ (¬3)، وقال مجاهد: لأحتوينَّ (¬4)، وروي عنه أنه قال مثل الزِّيَاق (¬5)، هذا قول المفسرين. وقال ابن زيد: لأضلنهم (¬6)، وقيل: لأستأصلنَّهم بالإغواء (¬7). فأما كلام أهل اللغة في هذا الحرف، فروى محمد بن سَلاَّم أنه سأل يونس عن هذه الآية فقال: يقال: كأن في الأرض كلأً فاحتنكه الجراد؛ أي ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 287، بلا نسبة. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 117 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 254، و"الطوسي" 6/ 497، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 56، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 347 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) لم أقف على هذا القول، وورد عنه تفسيره بـ: لأستأصلن ذريته، في "تفسير هود الهواري" 2/ 429. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 365 بلفظه، وأخرجه "الطبري" 15/ 117 بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" 2/ 429، و"الطوسي" 6/ 497، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 347 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬5) لم أقف عليه، والزياق: هو ما أحاط بالعمق من القميص. انظر (زيق) في: "الصحاح" 4/ 1492، و"اللسان" 3/ 190، و"متن اللغة" 3/ 80. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 117 بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 497 - بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 57، و"القرطبي" 10/ 287، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 347 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬7) ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 113 ب، و"الماوردي" 3/ 254، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 366, و"الفخر الرازي" 21/ 4.

أتى عليه، ويقول أحدُهُم: لم أجد لِجاماً فاحْتَنَكْتُ دَابَّتي، أي ألقيتُ في حَنَكها حبلًا قُدْتُها به (¬1). وتفسير هذا الحرف لا يخرج عن هذين الأصلين الذين ذكرهما يونس، فمن قال: لأستأصلنهم ولأستولين عليهم، فأصله من احتِناكِ الجرادِ الزرعَ، وهو أن يأكلها ويستأصلها باحتناكها فيفسدها، ومن هذا يقال للجماعة المنتجعين: الحنك، يقال: ما تركَ الأحْنَاكُ في أرضنا شيئًا، يعنون: الجماعات المارة، ومنه قول أبي نُخَيْلَة (¬2): إنا وكُنَّا حَنَكًا نَجْدِيًّا (¬3) (¬4) هذا هو الأصل، ثم يُسمى الاستيلاء على الشيء وأخذ كله احتناكًا، حتى يقال: احتَنَكَ ما عند فلان، أي أخذه كله من علم أو مال أو غير ذلك (¬5)، واحتنكت السَّنَةُ [أموالنا] (¬6) إذا استأصلتها، وأنشد أهل اللغة: ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) 1/ 944، بنصه. (¬2) الرَّاجز أبو نُخيلة، اسمه يَعْمر، وكني أبا نُخَيلة لأن أمه ولدته إلى جنب نخلة -كما قال ابن قتيبة- وفي "الأغاني" عن الأصمعي وابن حبيب أنه لا يعرف له اسم غيره، وله كنينان: أبو الجُنيد وأبو العِرماس، كان عاقًا لأبيه فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه، ثم عاد وبقي مشكوكًا في نسبه، مطعونًا عليه، مات سنة (145 هـ) انظر: "الشعر والشعراء" ص 399، و"الأغاني" 20/ 403، و"الخزانة" 1/ 165. (¬3) وعجزه: لمَّا انْتَجَعْنا الورقَ المرْعِيَّا ورد في "الأساس" ص 203، و"اللسان" (حنك) 2/ 1028. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) 1/ 943، بنصه. (¬5) ورد نحوه في "مجاز القرآن" 1/ 384. (¬6) زيادة يقتضيها السياق؛ كما في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249.

نَشْكو إليْك سَنَةً قد أجْحَفَتْ واحْتَنَكَتْ أموالَنَا وجلَّفَتْ (¬1) ومن قال: لأغوينّهم ولأقودنّهم إلى المعاصي؛ كما روي عن مجاهد أنه قال: مثل الزِّياق، فأصله من قولهم: حَنَكَ الدابةَ يَحْنُكُها، إذا ربط في حنكِها الأسفل حَبْلًا يقودها به (¬2)، ومثله: احتنك، وأنشد ابن الأعرابي (¬3): فإنَّ لدَينا مُلْجِمِينَ وحانِكًا (¬4) والمعنى على هذا الأصل: لأقودنّهم حيث شئت، كمن يُربط في حَنَكه الزياق فيقاد. قال الأخفش في قوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ}: لأستأصلَنَّهم ولأستميلَنَّهم (¬5)، ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في "مجاز القرآن" 1/ 384، و"تفسير الطبري" 15/ 116، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249، و"تفسير الثعلبي" 7/ 113 ب، و"الماوردي" 3/ 254، و"الطوسي" 6/ 497، و"ابن عطية" 9/ 134، و"القرطبي" 10/ 287، و"الدر المصون" 7/ 380، في بعض الروايات: جَنَّفَتْ واجتلفت بدل جلَّفَتْ؛ (الجَلْفُ): القَشْرُ، والجالفةُ: السَّنة التي تذهبُ بأموال الناس؛ من جلفت الشيءَ: إذا قلَعْتَه واستأصلْتَه. "العباب الزاخر" ف/ 67. (¬2) ذكره ابن السكيت في "الإصلاح" ص 71 بنصه، وورد بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 258، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 171، انظر (حنك) في: "تهذيب اللغة" 1/ 944، و"المحيط في اللغة" 2/ 383. (¬3) البيت لزَبَّان بن سَيَّار الفزَاري، كما في "تهذيب اللغة" (حنك) 1/ 944، وتصحفت في اللسان إلى: زياد، والصحيح أنه زبان، كما في "الاشتقاق" ص 283. (¬4) صدره: فإن كنتَ تُشْكَى بالجِماع ابنَ جعفر ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) 1/ 944 , و"اللسان" (حنك) 2/ 1028. (¬5) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (حنك) 1/ 944، بنصه.

فذكر القولين، ونحوه قال أبو عبيدة سواءً (¬1)، واختار الفراء والزجاج وابن قتيبة الأول (¬2)، وهو أنه مأخوذ من احتناك الجراد الزرع، وكلا القولين مأخوذ من الْحَنَك على ما بَيَّنَا. وقوله تعالى {إِلَّا قَلِيلًا} يعني المعصومين، قال ابن عباس: يريد بالقليل أولياء الله الذين عصمهم (¬3)، وهم الذين استثناهم الله -عز وجل- في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فإن قيل: كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ فالجواب عن هذا: أن الله تعالى كان قد أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك (¬4) الدماء، على قول بعض المفسرين (¬5)، وكان إبليس قد علم بذلك، وقيل: إنما قال ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزمًا، فقال بَنُو هذا مِثلُه في ضعف العزيمة، وهذا معنى قول الحسن (¬6). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 1/ 384، بنصه (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 127، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 260. (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 57، بنصه. (¬4) في (أ)، (د): (ولا يسفك) بزيادة (لا) والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح المتسق مع السياق. (¬5) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 497، بنصه. (¬6) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 498 بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 287، و"أبي حيان" 6/ 58 وقال: وهذا ليس بظاهر؛ لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة. وما قاله أبو حيات متوجه، إلا أن يكون الحسن أراد بقوله ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك" أخرجه مسلم (2611) كتاب: البر والصلة، باب. خلق الإنسان خلقًا لا يتمالك.

63

63 - قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ} أي قال الله تعالى لإبليس: اذهب، وهذا اللفظ يتضمن معنى إنظاره وتأخير أجله، {فَمَنْ تَبِعَكَ} أي أطاعك وتبع أمرك وتسويلك {مِنْهُمْ}: أي من ذرية آدم، {فَإِنَّ جَهَنَّمَ} الفاء تتضمن ها هنا جواب الشرط، وهذه المسألة قد مضت في مواضع، {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} من وَفَرْته أفِره وَفْرًا وفِرَةً، وهذا مُتعد، واللازم قولك: وَفر المالُ يَفر وُفُورًا فهو وافر (¬1)، قال الزجاج: {جَزَاءً مَوْفُورًا}، أي: مُوَفَّرًا، يقال: وَفَرْته أَفِرُهُ وهو مَوْفُورٌ، وأنشد لزهير: ومن يَجْعَلِ المعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ ومَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ (¬2) (¬3) وانتصب جزآءً على المصدر. 64 - قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} قال الفراء: اسْتَخِف (¬4). وقال أبو إسحاق: معناه: استدعه استدعاءً تستخفه به إلى جانبك (¬5)، ويقال له: فَزَّه (¬6) الخوف واستفزه، أي أزعجه واستخفه، قال أبو ذؤيب: ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (وفر) 4/ 3925 بنصه. (¬2) "شرح ديوان زهير" ص 30، و"شرح القصائد السبع" ص 287، وورد في "الأغاني" 2/ 160، و"تفسير الطوسي" 6/ 497، و"الفخر الرازي" 21/ 5، و"الدر المصون" 7/ 381، وورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 172، و"الخزانة" 2/ 410، (8/ 127، (يَفِرْه): يجعله وافرًا، ومعناه: من اصطنع المعروف إلى الناس وقَى عرضه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 249، بنصه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 127، بلفظه. (¬5) "معاني القرآن وإعرإبه" 3/ 250 بنصه تقريبًا، وقد نقله من "تهذيب اللغة" (فز) 3/ 2785 لوروده بنصه. (¬6) في (أ)، (د): (أفزوه)، والمثبت من (ش)، (ع) هو الصواب.

شَبَبٌ أفزَّتْهُ الكلابُ مُرَوَّعُ (¬1) ومعنى صيغة الأمر هاهنا: التهدد، كما يقال للإنسان: اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك (¬2). وقال الزجاج: الأمر إذا تقدمه نهي عما يؤمر به، كان المعنى في الأمر: الوعيد؛ لأنك قد تقول: لا تدخل هذه الدار، فإذا حاول أن يدخلها قلت: ادخلها، فَلَسْتَ تأمره بدخلولها، ولكنك تُوعِده، وهذا في الاستعمال كثير، ومثله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقد نهوا أن يتبعوا أهواءهم (¬3). ومعنى الآية: يقول: ازعج واستخفف من استطعت من بني آدم. {بِصَوْتِكَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: صوته كلّ داعٍ دعا (¬4) إلى معصية الله تعالى (¬5)، وقال عطاء عنه: كل متكلم في غير ذات ¬

_ (¬1) صدره: والدّهرُ لا يبقى على حَدَثَانِهِ "ديوان الهذليين" ص 10، وورد في "الصحاح" (فز) 3/ 890، و"اللسان" (فزز) 6/ 3409، و"التاج" (فزز) 8/ 123، وورد بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (فز) 3/ 2785، و"المخصص" 8/ 33، (الشَّبب): الثور المسنّ، (أفزّته): استخفته وطردته. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 499، بنصه تقريبًا. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 251، بتصرف يسير. (¬4) انقلب الكلام في جميع النسخ كالتالي: صوته دعا كل داعٍ إلى. والتصويب من "تفسير الطبري" و"الدر المنثور". (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 118 بنصه، وورد بنحوه في "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"الثعلبي" 7/ 113 ب، و"الطوسي" 6/ 499، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 348 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

الله فهو صوت الشيطان (1) وقال مجاهد: هو الغناء والمزامير (2)، وهو قول عكرمة (3). وقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} قال الفراء في كتاب المصادر، يقال: أجلب إجلابًا، والجلَبة: الصوت، وربما قالوا: الجَلَبُ، كما قالوا: الغَلَبَةُ والغَلَبُ، والشَّفَقَةُ والشَّفَقُ (4). وقال الليث: أجْلَبُوا وجَلَّبوا من الصّياح (5)، ونحوه قال أبو عبيدة (6). وقال أبو إسحاق في (فعل وأفعل): وأجلب على العدو إجلابًا إذا جمع عليه الخيول (7). وقال ابن السكيت: يقال: هم يُحْلِبون عليه، وُيجْلِبون عليه بمعنى؛ أي يُعينون عليه (8). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: أجْلَبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا تَوَعَّدَه الشر وجَمَعَ عليه الجمع، بالجيم (9)، هذا قول أهل اللغة في معنى

_ (1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 518، بنصه. (2) أخرجه "الطبري" 15/ 118، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 172، بنصه، و"تفسير الجصاص" 3/ 205، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 113 ب، بنصه، و"الماوردي" 3/ 255، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 499، بنحوه. (3) لم أقف عليه. (4) لم أقف عليه، وورد بنحوه في "تفسير الطبري" 15/ 118، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 6/ 21. (5) ورد في "تهذيب اللغة" (جلب) 1/ 626 بنصه. (6) ليس في "مجاز القرآن". (7) "فعلت وأفعلت" ص 21، بنصه تقريبًا. (8) و (9) ورد في " تهذيب اللغة" (جلب) 11/ 90 بنصه.

الإجلاب، ومعنى الآية على قول الفراء وأبي عبيدة: (صِح عليهم بخيلك ورجلك) (¬1)، وأخْبِثهم (¬2) عليهم بالإغواء، وعلى قول أبي إسحاق، معناه. ما ذُكِر؛ أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكائدك (¬3)، وتكون الباء في: {بِخَيْلِكَ} زائدة في هذا القول، وعلى قول ابن السكيت، معنى الآية: أعن عليهم بخيلك ورجلك؛ أي أعن نفسك عليهم بخيلك، ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف؛ كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا معنى قول مقاتل في هذه الآية (¬4). واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: كل راكب أو راجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده (¬5)، ونحو هذا القول روى مجاهد عنه، والوالبي وعطاء (¬6)، وروى ليث عن مجاهد قال: خيله: من استخف منهم معه على الخيل في المعاصي، ورجله: من استخف منهم معه على رجليه في المعاصي (¬7). وقال الفراء: يعني خيل المشركين ورجالهم (¬8)، ويدخل في هذا كل ¬

_ (¬1) تكررت العبارة ما بين القوسين في (أ)، (د)، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 105. (¬2) يقال: أخبث فهو مُخبث؛ إذا صار ذا خُبثٍ وشرّ. "تهذيب اللغة" (خبث) 1/ 973. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 250، بنصه. (¬4) "تفسير مقاتل" 1/ 217 أ، بنحوه. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 118، بنحوه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بنحوه في "معانى القرآن" للنحاس 14/ 73، و"تفسير الجصاص" 3/ 250, و"الثعلبي" 7/ 113 ب، و"الطوسي" 6/ 499. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) أخرجه "الطبرى" 8/ 108، بخحوه. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 127، بنصه.

راكب وماش في معصية الله، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 95] والجند يَعُمُّ الفارسَ والراجلَ، هذا قول جماعة أهل التفسير وعامتهم، ومن أهل التأويل من يقول: يجوز أن يكون هذا مَثَلاً؛ كما تقول للرجل المجدّ في الأمر: جئت بِخيلك ورجْلك (¬1)، والرَّجْلُ جمع رَاجِل، كما قالوا: تَاجرٌ وتَجْرٌ، وصاحِبٌ وصَحْبٌ، وراكبٌ ورَكْبٌ (¬2)، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وروى حفص عن عاصم {وَرَجِلِك} مكسورة الجيم (¬3)، قال أبو زيد: يقال: رَجْلٌ ورَجِلٌ بمعنى واحد، ومثله: حَذْرٌ وحَذِرٌ، ونَدْسٌ ونَدِسٌ (¬4)، وأنشد (¬5): أما أُقَاتِلُ عن دِيني على فَرسٍ ... ولا كذا رَجُلًا إلا بأصْحَابِ (¬6) ¬

_ (¬1) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 111، بنصه. (¬2) ورد في "تفسير الطبري" 5/ 119، بنحوه، و"الحجة للقراء" 5/ 110، بنصه. (¬3) انظر: "السبعة" ص 382، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 377، و"علل القراءات" 1/ 324، و"الحجة للقراء" 5/ 109، و"المبسوط في القراءات" ص 229، وقرأ أبو بكر عن عاصم والباقون ساكنة الجيم. (¬4) النَّدُس: الصوت الخفي، ورجل نَدْسٌ ونَدُسٌ وندسٌ أي فَهِمٌ سريع السمع فَطِن، وقال يعقوب: هو العالم بالأمور والأخبار. وقال الليث: السريع الاستماع للصوت الخفي."اللسان" (ندس) 7/ 4383. (¬5) البيت لحيي بن وائل. (¬6) ورد في "النوادر" ص 148؛ و"اللسان" (رجل) 3/ 1597، وورد بلا نسبة في "الحجة للقراء" 5/ 110، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 1/ 464 , و"تفسير ابن عطية" 9/ 137, و"شرح المفضل" 5/ 133 , وفي النوادر, قال أبو حاتم: وقوله رجُلاً: معناه رَاجلاً، كما تقول العرب: جاءنا فلان حافيًا، ورَجُلاً أي راجلاً

كأنه قال: أمَا أقاتل فارسًا ورَاجِلًا (¬1)، وعلى هذه القراءة: {وَرَجِلِكَ} واحدٌ يعني به الكثرة، وقال ابن الأنباري: أخبرنا ثعلب عن سلمة عن الفراء قال: يقال هو رَاجِلٌ ورَجِلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان بمعنى (¬2) , وأنشد (¬3): عَلَيَّ إذا أبْصَرتُ ليلى بخَلْوَةٍ. . . أن ازدار بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافياً (¬4) وقوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} اختلفت الروايات في تفسير مشاركة الشيطان بني آدم في الأموال والأولاد عن ابن عباس؛ فقال في رواية الوالبي: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} وهو كل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، {وَالْأَوْلَادِ} ما قَتَلوا منهم وأتوا فيهم الحرام (¬5)، ونحو هذا ¬

_ (¬1) "النوادر" ص 148. ذكر البيت والتعليق، وورد في "الحجة للقراء" 5/ 110، بنحوه، والظاهر أنه نقله من الحجة. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 6، وفي "اللسان" (رجل) 3/ 1597 رَجلَ الرَّجُلُ رَجَلاً، فهو راجل ورَجُلٌ ورَجِلٌ ورَجِيلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان. (¬3) البيت لمجنون بني عامر، وهو قيس بن الملّوح (ت 68 هـ). (¬4) ورد في "ديوانه" ص 301، 306. بروايتين: الأولى: حلفت لئن لاقيت ليلى بخلوة ... أطوف ببيت الله رَجْلاَنَ حافيا والثانية: عليّ لئن لاقيتُ ليلى بخلوة ... زيارةُ بيت الله رَجْلان حافيا وورد بلا نسبة في "اللسان" (رجل) 3/ 1597، و"مغني اللبيب" ص 601، و"شرح التصريح" 1/ 385، و"شرح شواهد المغني" 2/ 859، و"شرح الأشموني" 2/ 312، وفي بعض الروايات: لاقيت، وزُرتُ وجئتُ بدل أبصرت، وبخُفْيةٍ بدل بخلوة. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 121 من طريق ابن أبي طلحة صحيحة ولفظه: ماقتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام، ومن الطريق نفسها في رواية أخرى 15/ 119. قال: =

روى عنه مجاهد؛ فقال: كل مال أُخذ بغير حقه، وكل ولد زنا (¬1)، وهو معنى ما روى عنه عطاء، ويدخل في هذا: الزنا والغصوب والمعاملات الفاسدة والربا وقتل الأولاد والوأد، وروى عنه عكرمة في مشاركته في المال: بتبتكهم آذان الأنعام (¬2). وقال في رواية العوفي: هو ما كانوا يحرمونه من الأنعام (¬3)، وهو قول قتادة قال: أما في الأموال: فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة، وأما في أولادهم: فإنهم هودوهم ونصّروهم ومجّسوهم (¬4). وقال في رواية أبي صالح: مشاركته إياهم في الأولاد: تسميتهم أولادهم [عبد] (¬5) الحارث وعبد شمس وعبد فلان (¬6). ¬

_ = كل مال في معصية الله، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 113 ب وفيه ذكر الأموال فقط، وفي رواية أخرى ذكر الأولاد فقط، فلعل الواحدي -رحمه الله- جمع الروايتين في سياق واحد. (¬1) ورد عن مجاهد في "تفسيره" 1/ 366 قال: شركته في الأموال: الحرام، وفي الأولاد: الزنا، وأخرج الطبري 15/ 120 من عدة طرق عن مجاهد قال: أولاد الزنا. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 6/ 21، بنصه. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 120 بنصه (ضعيفة)، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 113 ب- بمعناه، و"الماوردي" 3/ 255، بمعناه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 58. (¬4) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 381، بنحوه، وأخرجه "الطبري" 15/ 121 في روايتين، ذكر في إحداهما الأموال 15/ 121، وفي الثانية الأولاد، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 113 ب. دون ذكر الأولاد. (¬5) إضافة يقتضيها السياق. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 121 بنصه (ضعيفة)، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 205، بضه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 113 ب، بنصه، و"الماوردي" 3/ 256، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 499، بنحوه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 348 وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

65

قال أبو إسحاق: أي أمرهم بأن يجعلوا من أموالهم شيئًا لغير الله، كما قال الله: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] , والشركة في الأولاد: قولهم: عبد العزى وعبد الحارث (¬1). وقوله تعالى: {وَعِدْهُمْ} قال الفراء: أي قل لا جنة ولا نار (¬2)، قال الزجاج: {وَعِدْهُمْ}: بأنهم لا يبعثون (¬3)، ثم قال الله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 65 - قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. قال عطاء عن ابن عباس والكلبي: يريد أوليائي ليس لك عليهم حجة في الشرك (¬4). وقال قتادة: عباده الذين لا سلطان له عليهم المؤمنون، وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} (¬5) [النحل: 100]. وقوله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} قال أبو إسحاق: وكيلًا لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس (¬6)، وهذا يدل على أن المعصوم من عصمة الله. 66 - قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} الإزجاء: سوق الشيء حالاً بعد حال، ذكرنا ذلك في قوله: {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 250، بتصرف يسير. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 127، بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 250, بنصه. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 520، بنصه عن ابن عباس. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 122، بنصه. (¬6) "معانى القرآن وإعرابه" 3/ 251، بنصه.

67

88]، قال السدي: يُسَيِّر (¬1)، ونحوه قال الزجاج (¬2)، {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}: في طلب التجارة. {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} قال ابن عباس: يريد بأوليائه وأهل طاعته (¬3)، والخطاب في قوله: {رَبَّكُمُ} عام، وفي آخر الآية خاص. 67 - قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} قال ابن عباس: يريد يا معشر المشركين، يعني أن الخطاب للمشركين، وفَسَّرَ الضر هاهنا نجوف الغرق. وقوله تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ}، أي: زال وبطل من تدعون من الآلهة، {إِلَّا إِيَّاهُ}: إلا الله تعالى، و {إِيَّاهُ}: استثناء بعد الإيجاب، فيكون موضعه نصبًا كما تقول: بطلت الآلهة إلا الله، قال ابن عباس: نسيتم اتخاذ الأنداد والشركاء وتركتموهم وأخلصتم لله (¬4)، {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ}: من الغرق والبحر وأخرجكم {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}: عن الإيمان والإخلاص، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬5). وقال أبو إسحاق: الإنسان هاهنا يعني به الكفار خاصة (¬6)، وفي هذا احتجاج على الكفار حيثُ لمَّا وقعوا في الشدة التي لا يُطْمَع في قدرة أحد على كشفها أخلصوا الدعاء لله بكشف ذلك البلاء، فلما نَجَّاهم بطروا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 251، بلفظه. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 520، بنصه. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 521، بنصه. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 303، بلفظه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 251، بنصه.

68

النعمة وكفروا به. 68 - ثم بَيَّن أنه قادر أن يهلكهم في البر بمثل ما يهلك في البحر، فقال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ} قال الليث: الخسف سُؤوخُ الأرض بما عليها (¬1)، يقال: خسف الله به الأرض، أي غاب به فيها، ومعني الخسف والخسوف: الدخول في الشيء، يقال: عين خاسفة؛ وهي التي غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة، أي: غائرة الماء، والشمسُ تُخْسَفُ خُسُوفًا، وهو دخولها في السماء كأنها تكون في جُحْرٍ (¬2)، فمعنى قوله: {يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ}: يُغَيِّبُكم ويُذْهِبُكم في جانب البر، وهو الأرض، وإنما قال: {جَانِبَ الْبَرِّ} لأنه ذكر البحر في الآية الأولى، فهو جانب، والبر جانب، أخبر الله تعالى أنه (¬3) كما قدر أن يغيبهم في الماء قادر أن يغيبهم في الأرض، قال ابن عباس في قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} يريد: حيث أعرضتم حين سلمتم من هول البحر. وقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} معنى الحَصْبِ في اللغة الرمي، يقال: حَصَبَ أحْصُبُ حَصْبًا إذا رميت، والحَصْبُ: الرمي (¬4)، ومنه قوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أي تلقون فيها، ومعنى قوله: {حَاصِبًا} عذابًا يحصبهم، أي: يرميهم بحجارة، ويقال للريح التي ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (خسف) 1/ 1029 بنصه. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (خسف) 1/ 1030، بنحوه، انظر: (خسف) في "المحيط في اللغة" 4/ 267، و"اللسان" 2/ 1157. (¬3) في (أ)، (د): (أنه قال)، والطاهر أن (قال) زائدة، وقد أن إلى اضطراب المعنى، والمثبت من (ش)، (ع). (¬4) انظر: (حصب) في "تهذيب اللغة" 1/ 834، و"الصحاح" 1/ 112، و"اللسان" 2/ 894.

تحمل الترب والحصباء: حاصب، وللسحاب يرمي بالثلج والبرد: حاصب؛ لأنه يرمي بهما رميًا، ومنه قول الفرزدق: مُسْتَقْلِينَ شَمالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنا ... بِحاصبٍ كَندِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (¬1) أي سحاب حاصب ثلجًا كنديف القطن، فحذف الموصوف والمشبه وأقام المشبه به، وهو قوله: كنديف القطن، وقال أبو إسحاق: الحاصب: التراب الذي فيه حصباء (¬2)، والحاصب على هذا ذو الحصباء، مثل: اللابن والتامر، وعلى هذا فُسِّرَ بيتُ الأخطل: تَرْمي الخصال (¬3) بِحَاصِبٍ مِنْ ثَلْجها ... حتى يَبِيتَ على العِضَاهِ جِفالا (¬4) أي ترميها بذي حصباء من ثلجها، يعني: سحابًا فيه ثلج، فهو يرمي بها. ¬

_ (¬1) "ديوانه" 1/ 213، وورد في "مجاز القرآن" 1/ 385، و"الكامل" 3/ 57، و"الموشح" ص 127 وفيه: تضربهم، و"تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ، و"السمعاني" 3/ 262، و"ابن الجوزي" 5/ 61، و"القرطبي" 10/ 292، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 15/ 124، و"الطوسي" 502/ 6، و"ابن عطية" 9/ 142. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 251، بنصه. (¬3) في الديوان وجميع المصادر: (العِضَاهُ)، والمعنى واحد. (¬4) "ديوانه" 1/ 108، وورد في "تفسير الطبري" 15/ 124، و"ابن عطية" 9/ 142، و"شرح ديوان الأخطل" ص 387 (ترمي): الضمير يعود على ريح الشمال، (الخصال): جمع خَصْلة وخُصْلة؛ وهو العُنقود، والخَصْلة والخُصْلة والخَصَلة كل ذلك: عُودٌ فيه شوك , (العضاه): من شَجر الشوك؛ وهو ما كان له أُرومَةٌ تبقى على الشتاء، قيل: واحده عضة وعِضَهةَ وعِضاهَة، (جفالاً)؛ الجفال: ما تراكم من الثلج بعضه فوق بعض. انظر: "المحيط في اللغة" (عضه) 1/ 109، و"اللسان" (خصل).

69

وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} قال قتادة: يقول: مانعًا ولا ناصرًا (¬1)، والمعنى: لا تجدوا أحدًا وكلتم إليه أموركم أو تكلون إليه أموركم فهو يمنعكم وينصركم. 69 - قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ}، أي: في البحر، {تَارَةً أُخْرَى}، أي: مرة أخرى، قال الليث: {تَارَةً} ألفها واو وجمعها تِيَرٌ، وتجمع تارات أيضًا (¬2)، قال الفراء: والفعل منها: أترت، أي: أعدت تارة وتارتين وتِيَرًا، مثل: قَامَة وقِيَم (¬3)، وقال لبيد يصف عِيرًا: يُديم سَحِيلَهُ وَيُتِيرُ فيه ... وَيُتْبِعُها خِنَافًا في زِمَالِ (¬4) أي يديم نهيقه ويعيده مرة أخرى. وقوله تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ}، القاصف: الكاسر، يقال: قَصفَ الشيءَ يقصفه قصفًا، إذا كسر (¬5) كسرًا بشدّة، والقاصف من الريح التي (¬6) تكسر الشجر وتدق كل شيء وتحطمه (¬7)، وأراد هاهنا ريحًا ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 123 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 349 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (تار) 1/ 418، بنصه. (¬3) لم أقف عليه، انظر: "الشامل لجموع التصحيح والتكسير" 3/ 319. (¬4) "شرح ديوان لبيد" ص 84، وورد في "تهذيب اللغة" 1/ 419، و"اللسان" (تور) 1/ 455، وفي الجميع (يُجِد) بدل (يديم)، (يُجِدُّ): من أجدَّ يجد من الجد في الأمر، (سحيلًا)؛ السحيل: الصوت يقطّعه في جوفه، (خنافًا): يقال خنفت الدابة: مالت بيديها في أحد شقيها من النشاط، والخانف: الذي يشمخ بأنفه من الكبر، (زمال)؛ الزمال: العدو في جانب. انظر: "اللسان" (خنف) 2/ 1279. (¬5) هكذا في جميع النسخ، والأولى كسره. (¬6) ساقطة من (أ)، (د). (¬7) انظر (قصف) في "تهذيب اللغة" 3/ 2978، و"المحيط في اللغة" 5/ 271، و"الصحاح" 4/ 1416، و"اللسان" 6/ 3654.

70

شديدة تقصف الفلك وتغرقهم. وقوله تعالى: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ}، أي: بكفركم، حيث سَلِمتم ونجوتم في المرة الأولى، ويُقرأ قوله: {أَنْ يَخْسِفَ} وأخواته من الأفعال (¬1) بالياء والنون، فمن قرأ بالياء (¬2) لأن ما قبله على الواحد الغائب، وهو قوله: {إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ}، ومن قرأ بالنون (¬3) فلأن هذا النحو قد ينقطع بعضه من بعض، وهو سهل؛ لأن المعنى واحد، ألا ترى أول قد جاء: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 2] , فانتقل من الجمع إلى الإفراد، كذلك ها هنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحدٌ، وكلٌّ حَسَنٌ (¬4)، ويؤكد النون: 70 - قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} قال ابن عباس: يريد فضلنا (¬5)، وهو كقوله: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] روى ميمون بن مهران عنه في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} قال ابن عباس: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم يأكل بيديه (¬6). ¬

_ (¬1) هي: (أو نرسل)، (أن نعيدكم)، (فنرسل عليكم)، (فنغركم) (¬2) هم: نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص 383، و"علل القراءات" 1/ 325، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 377، و"الحجة للقراء" 5/ 111، و"المبسوط في القراءات" ص 229. (¬3) هم: ابن كثير أبو عمرو، انظر المصادر السابقة. (¬4) "الحجة للقراء" 5/ 111 بتصرف يسير، وهناك توجيه آخر لابن خالويه: فالحجة لمن قرأه بالنون: أنه جعله من إخبار الله عن نفسه، والحجة لمن قرأه بالياء: أنه جعله من إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه. "الحجة في القراءات" ص 219. (¬5) ورد في تفسير"الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 522. (¬6) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 77 - مختصرًا، وهو في "تفسير الثعلبي" =

وروى عنه أيضًا أنه قال: بالعقل (¬1). وقال الضحاك: بالنطق والتميز (¬2). وقال عطاء: بامتداد القامة وتعديلها (¬3). وقال يمان: بحسن الصورة (¬4). وقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد في البحر على السفن، وفي البر على الإبل والخيل والبغال والحمير (¬5). وقوله تعالى: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال: يريد الثمار والحبوب والمواشي. وقال مقاتل: السمن والزُّبْدُ والحلاوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم (¬6). ¬

_ = 7/ 114 أ، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 350 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. وورد بنحوه منسوبًا للكلبي في "تفسير الماوردي" 3/ 257. (¬1) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ - بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 63، و"الخازن" 3/ 172. (¬2) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 277، لكنه قال: بالعقل والتمييز، و"تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ، بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 63، و"الفخر الرازي" 21/ 13، و"القرطبي" 10/ 294. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 14/ 17 أ. لكنه قال: بتعديل القامة وامتدادها، انظر المراجع السابقة. (¬4) ورد في "الثعلبي" 7/ 114 أ، بنصه، وانظر: "زاد المسير"، و"القرطبي". (¬5) ورد بنصه بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ، وتفسير "الوسيط" 2/ 523. (¬6) ليس في تفسيره، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ، بنصه، انظر: "تفسيرالبغوي" 5/ 108، و"القرطبي" 10/ 295.

{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}؛ روى مكحول عن ابن عباس في هذا، قال: البهائم تأكل بأفواهها، وابن آدم يأكل بيده (¬1)، ونحو هذا قال عكرمة (¬2). وقال محمد بن جرير: فضلناهم بتسليطهم على البهائم والوحوش، وكثيرٌ من خلق الله سخرناها لهم (¬3). وقال السدي: فُضِّلوا على البهائم والدواب والوحوش، وهم الكثير (¬4). وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا (¬5) عن طائفة من الملائكة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم (¬6). وقال أبو إسحاق: قال {عَلَى كَثِيرٍ}، ولم يقل: على كل من خلقنا؛ لأن الله فضل (¬7) الملائكة (¬8)، ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوانات التي لا تعقل ولا يتميز. ¬

_ (¬1) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 176، بنحوه. (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" 5/ 77 مختصرًا، عن عكرمة عن ابن عباس. (¬3) "تفسير الطبري" 15/ 125، بنحوه. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 523، بنصه. (¬5) ساقطة من (د)، وفي (ش)، (ع): (غير). (¬6) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ، بنصه، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 263، و"البغوي" 5/ 108، و"الخازن" 3/ 172، وورد عن ابن عباس في "تفسير السمرقندي" 2/ 277، و"ابن الجوزي" 5/ 62. (¬7) في جميع النسخ: (لأن الله فضل الله الملائكة)، بزيادة لفظ الجلالة بعد فضّل. (¬8) لم ينقل الدليل على هذه الدعوى مع أنه أشار إليها في المصدر، وهو قوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]، ودلالته ليست صريحة، ولعل هذا السبب في عدم نقله إيّاه، ولذلك حال ابن عطية في تفسيره 9/ 146: وهذا غير لازم الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي.

ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس في قوله: {عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا}، قال: يريد غير (¬1) الملائكة في هذا الموضع، لم يُفَضَّل ولدُ آدم عليهم. وذهب قوم إلى تفضيل ولد آدم على الملائكة، واحتجوا بما روي عن زيد بن أسلم في هذه الآية، قال: قالت الملائكة: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا؛ يأكلون فيها ويتمتعون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في (¬2) الآخرة فقال: "وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان" (¬3). ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (عزل)، والمثبت هو الصحيح المتسق مع السياق. (¬2) ساقطة من (د). (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 382، بنصه، و"الطبري" 15/ 126 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 أ، بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 58، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 350، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. قال ابن كثير 3/ 58: وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد روي من وجه آخر متصلًا وذكره، وكذلك أورده في "التاريخ" 1/ 55، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وقال: هو أصح، والحديث المرفوع رواه الطبراني بسنده عن عبد الله بن عمرو وهو بنحوه، وللحديث طريقان يلتقيان عند صفوان بن سليم فمن بعده، قال الطبراني [كما في مجمع البحرين (1/ 119)]: لم يروه عن صفوان إلا طلحة وأبو غسان محمد بن مطرف. والحديث ضعيف بالروايتين؛ قال الهيتمي في "المجمع" 1/ 82: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه إبراهيم بن عبد الله المصيصي، وهو كذاب متروك، وفي سند الأوسط طلحة بن زيد وهو كذاب أيضًا، وقال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" بذيل الكشاف 4/ 100: وقد لفقوا أخبارًا منها: أن الملائكة قالت .. الحديث. وذكر رواياته وعزاها إلى أصحابها. وللحديث شاهد عن ابن عمر، وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 1/ 36، بنحوه وقال: هذا حديث لا يصح. والخلاصة أن الحديث بجميع رواياته وشواهده ضعيف لكونه مرسلاً -كما هنا- والموصول ضعيف لضعيف رواته, وحسبك إيراد ابن الجوزي له في العلل , وقول ابن حجر فيه.

قال أبو هريرة: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده (¬1)، وهذا الخلاف في التفضيل إنما يجري بين الناس في تفضيل صالحي المؤمنين على الملائكة -ما عدا الرسل والأنبياء من بني آدم (وجبريل وميكائيل وإسرافيل (¬2) وعزرائيل (¬3) من الملائكة، فإن هؤلاء في الملائكة كالرسل من بني آدم) (¬4) - وأصحابنا أيضًا مختلفون في هذه المسألة؛ فمنهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة، ومنهم من يأبى ذلك، كما ذكرنا عن ابن عباس والسدي، وهو اختيار أبي إسحاق. قال العلماء من أصحابنا: هذه من المسائل التي لا يستحب الخوض فيها والإبلاغ، وكذلك الكلام في تفضيل الأنبياء على مشاهير الملائكة (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" 1/ 174 بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 277، بنصه، و"الثعلبي" 7/ 114 أ، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 109، و"ابن عطية" 5/ 64. مرفوعًا، و"الخازن" 3/ 173، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 350، وورد في "الكنز" 1/ 145، ومثل هذا القول مما لا يقال بالعقل فله حكم الرفع، وقد أخرجه ابن ماجه (3954): الفتن، كتاب: باب: المسلمون في ذمة الله من طريق أبي المُهَزِّم عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه. وهو ضعيف لضعف أبي المهزم، قال عنه في "التقريب" ص 676 رقم (8397): متروك، وقد ضعف الحديث الألباني وذكره في "ضعيف ابن ماجه" ص 318 (857). (¬2) في (أ): (اسرآيل)، والمثبت من (د) (¬3) قال ابن كثير: وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل، والله أعلم. "البداية والنهاية" 1/ 47. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع). (¬5) مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر مما تنازع فيها العلماء قديمًا, قال ابن كثير في "البداية والنهاية"1/ 54: وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = أقوال، فأكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم، وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن العاص. ثم ساق حادثة جرت بين يدي عمر بن عبد العزيز في المسألة. وقد فَصَّل شارح العقيدة الطحاوية القول في المسألة وصنَّفَ الذين تكلموا في المسألة، فقال: وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة، وإلى المعتزلة تفضيلُ الملائكة، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضلُ الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً، وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة، وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية، وقالت الشيعة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة، ومن الناس من فصَّل تفصيلًا آخر، ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر: إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. ثم بَيّنَ أن الإمام الطحاوي لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي أو إثبات، وعزا ذلك إلى متابعة أبي حنيفة -رحمه الله- حيث توقف في الجواب عن هذه المسألة، وقد مال هو كذلك إلى التوقف وقال: فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا .. أولى. "شرح العقيدة الطحاوية" ص 275، وإذا كان بعض السلف قد أمسك عن الحديث في هذه المسألة فإن آخرين قد تكلموا فيها، وقد أشار ابن تيمة إلى ذلك فقال: قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة، وتروى على رؤوس الناس، ولو كان هذا منكرًا لأنكروه، فدل على اعتقادهم ذلك "مجموع الفتاوى" 4/ 371، ومن هؤلاء الذين تحدثوا في هذه المسألة: إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فقد كان يقول: بنو آدم أفضل من الملائكة ويقول أيضًا: يخطئ من فضل الملائكة، ومنهم الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، فقد قال: الصحيح تفضيل الأنبياء والصالحين على الملائكة، والملائكة أفضل من الفسقة، وقال أيضًا: الأنبياء أفضل من الملائكة، وجبريل وإسرافيل وميكائيل أفضل من الأولياء. انظر: "لوامع الأنوار" 2/ 198 - 399. وقد ذهب ابن تيمة إلى تفضيل صالحي البشر على الملائكة، وذكر ثلاثة عشر دليلًا على ذلك؛ ثم قال: فهذا -هداك الله- وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا أنموذجًا نهجنا به السبيل , وفتحنا به الأبواب إلى درك =

كما لا يستحب الكلام في المخايرة بين الأنبياء؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "لا تخايروا بين الأنبياء و (¬1) لا تفضلوني على يونس بن متى"، ¬

_ = فضائل الصالحين، من تدبّر ذلك وأوتي منه حظًا رأى وراء ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من الاقول والعلم إلا ظاهره، ولا من الحقائق إلا رسومها؛ فوقعوا في بدع وشبهات، وتاهوا في مواقف ومجازات، ثم رد على حججهم قائلاً: وها نحن نذكر ما احتجوا به. "مجموع الفتاوى" 4/ 350 - 392. وقال ابن القيم: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صالحي بني آدم أيهما أفضل؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فتصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. قال ابن القيم: وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه. انظر: "لوامع الأنوار البهية" 2/ 398 - 409. نقلاً عن بدائع الفوائد. ويضاف إلى هذا أن الملائكة خلقوا للعبادة لذلك لا يعصون الله ما أمرهم، في حين أن البشر خلقوا للعبادة أيضًا مع ابتلائهم بالثمر والخير فتنة، فهم معرضون للشهوات والأهواء فلا يصل أحدهم إلى الطاعة إلا بجهد جهيد وصبر طويل، بخلاف الملائكة الذين جبلوا على الطاعة، فهل يستوي من طبع على الطاعة بمن يتكلف الطاعة وتتجاذبه الأهواء والشهوات الصارفة له عن الطاعة؟! أملاه عليّ شيخي. (¬1) لم يتبين لي إن كانت هذه الواو عاطفة لمقطعين أو لحديثين، وهو الأرجح لعدم ورود حديث واحد يجمع بين النهي عن التخيير بين الأنبياء والنهي عن تفضيل رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على يونس عليه السلام -فيما وقفت عليه في كتب التخريج- ولم أجد هذا التركيب إلا ما ذكر ابن كثير -على سبيل الحكاية- في "البداية والنهاية" 1/ 237، قال: حيث قد ورد في بعض الأحاديث: "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى". أما على اعتبار أنهما مقطعين لحديثين فقد وردت عدة =

وحديث اليهودي الذي قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر فَلُطم، ثم أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، مشهور في الصحيح (¬1)، فالأحسن التأدب بأدب رسول الله ¬

_ = روايات للمقطعين كل على حدة؛ فمن روايات المقطع الأول: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تخيروا بين الانبياء" أخرجه مسلم (2373/ 160) كتاب: الفضائل، باب: فضائل موسى 4/ 1845، عن أبي سعيد الخدري، وأبو داود (4669) كتاب: السنة، باب: في التخيير بين الأنبياء 5/ 51، و"مشكل الآثار" 1/ 452، و"شرح السنة": كتاب: الفضائل، باب: فضائل سيد الأولين والآخرين 13/ 204، وورد برواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله) في: "مشكل الآثار" 1/ 452، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 492، و"شرح السنة" 13/ 204. أما المقطع الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تفضلوني على يونس بن متى) فقد ورد في "الشفا" 1/ 265، و"إتحاف السادة المتقين" للزبيدى 2/ 105، و"مناهل الصفا" ص 22. قال السيوطي: لم أقف عليه بهذا اللفظ، والذي في صحيح البخاري: (لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى). وفي الصحيحين من حديث ابن عباس وأبي هريرة: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى). ولأبي داود من حديث عبد الله بن جعفر: (لا ينبغي أن يقول أنا أفضل من يونس بن متى). انظر الروايات الأخرى بنحوها في: "صحيح البخاري" (3413) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، ومسلم (2376)، (2377) كتاب: الفضائل، باب: في ذكر يونس -عليه السلام-، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 494. (¬1) ونصه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصْعَقُون يوم القيامة، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله"، ولهذا الحديث عدة روايات، أخرجه أحمد 3/ 41، والبخاري في عدة أماكن، منها (3408) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، الرقاق باب: نفخ الصور (7472) كتاب: التوحيد باب: في المشيئة والإرادة، ومسلم (2373/ 160) كتاب: الفضائل , فضائل موسى، وأبو داود: السنة: باب: في التخيير بين الأنبياء, و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 493، وورد في "الشفا" 1/ 439، و"الكنز" 11/ 507.

71

-صلى الله عليه وسلم-، ومِثلُ هذه الطريقة حَسَنٌ في الصحابة، بترك الخوض في تفضيل بعضهم على بعض (¬1)، وإن كنت تعلم بالدليل والاعتقاد ما تعلم (¬2)، فالأحسن ترك الخوض والإبلاغ، والجري على مثل عادة بعضهم مع بعض. 71 - قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال أبو إسحاق: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى: اذكر يوم ندعو, قال: وجوز أن يكون منصوبًا بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو (¬3). قال أبو علي الفارسي: الظرف ها هنا بمنزلة إذا؛ لأنه لا يجوز أن ¬

_ (¬1) دلَّت نصوص القرآن على وجود التفاضل بين الناس، كما في قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 21]، كما وردت نصوص في الكتاب والسنة تدل على وقوع التفاضل بين الصحابة -رضي الله عنهم-، لذلك ذهب أهل السنة والجماعة إلى القول بالتفاضل بين الصحابة -رضي الله عنهم- عمومًا والخلفاء الأربعة خصوصًا، بعد إثبات فضيلة الصحبة لكل صحابي. يقول شيخ الإسلام -في بيان أصول أهل السنة والجماعة في الصحابة-: ويقبلون ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع؛ من فضائلهم ومراتبهم، فيفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة- كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. بل قد -رضي الله عنهم- ورضوا عنه .. ، ويقرون بما تواتر به النقل عن علي -رضي الله عنه- وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي -رضي الله عنه- كما عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على تقديم عثمان في البيعة. انظر: "مجموع الفتاوى" 3/ 152، 4/ 421. (¬2) الظاهر من كلام الواحدي -رحمه الله- إثبات التفاضل على النحو السابق، لكنه يرى عدم الخوض في هذه المسألة على سبيل التعصب لأحدهم مما قد يؤدي معه إلى انتقاص الآخرين. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 252، بنصه تقريبًا.

يكون العامل فيه ما قبله من قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ}؛ لأنه فعل ماض، وليس العامل أيضًا يدعو؛ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف تعلق بما دلّ عليه قوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬1)؛كما أن قوله: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] على تقدير: أإذا متنا بعثنا، كذلك هاهنا يُجعل الظرفُ بمنزلة إذا، فيصير التقدير: إذا دُعي كل أناس لم يُظْلموا، ومثل هذا سُوّي قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} الآية [فصلت: 19]. وقوله تعالى: {بِإِمَامِهِمْ} الإمام في اللغة معناه: كل من ائتَمَّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة، والنبيّ إمام أُمّته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين، وإمام الغلام في المكتب: ما يتعلمه كل يوم (¬2)، واختلفوا في معنى الإمام هاهنا، فروى معمر عن قتادة، وشبل عن أبي نجيح عن مجاهد: بنبيهم (¬3)، ورُوي ذلك مرفوعًا عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4). ويكون المعنى على هذا: أن ينادي يوم القيامة فيقول: هاتوا متبعي ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وذُكر هذا القول في:"الإملاء" 2/ 94، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 94. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (أم) 1/ 205، بنصه، انظر: "العين" (أمم) 8/ 428، و"مقاييس اللغة" 1/ 28، و"اللسان" (أمم) 1/ 133. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 382 بلفظه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 126 بلفظه عنهما من طرق، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" 3/ 205، عنهما، و"السمرقندي" 2/ 277، عن مجاهد، و"الثعلبي" 7/ 114 ب، و"الماوردي" 3/ 258، و"الطوسي" 6/ 504، عنهما، و"الدر المنثور" 4/ 351 وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن مجاهد. (¬4) لم أقف عليه مسندًا، وورد عنه بلفظه في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 ب ,"الفجر الرازي" 21/ 17.

إبراهيم، هاتوا متبعي في موسى، هاتوا متبعي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيقوم أهلُ الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الطغاة في عبادة الأوثان، هاتوا متبعي رؤساء الضلالة في اعتقاد الجهالة، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: إمام هدى أو إمام ضلالة (¬1)، ونحو هذا روى علي بن أبي طلحة فقال: بأئمتهم في الخير والشر (¬2). وقال في رواية أبي صالح: برئيسهم (¬3)، ويدخل في هذا كل من كانوا يأتمون به في الدنيا، وعلى هذا التفسير قال أبو علي: الباء في بإمامهم تكون على ضربين؛ أحدهما: أن تكون متعلقة بالفعل الذي هو ندعو في موضع المفعول الثاني؛ كأنه قيل: ندعو كل أناس بكونهم تبعة وشيعة لإمامهم؛ كما تقول: أدعوك باسمك، فيكون كقولك: أدعوك زيدًا، ويجوز أن تتعلق بمحذوف، ذلك المحذوف في موضع الحال؛ كأنه ندعو كل أناس مُخَلَّطين بإمامهم، أي يُدعون وإمامهم فيهم (¬4)؛ نحو: ركب شأنه (¬5)، وجاء في جنوده (¬6)، فيكون الدعاء على هذا الوجه متعديًا إلى ¬

_ (¬1) ورد في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 252 بنصه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 114 ب، بنحوه، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 263، بنصه، و"البغوي" 5/ 109، و"ابن الجوزي" 5/ 64، و"الدر المنثور" 4/ 351 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه. (¬3) ورد في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 260 بلفظه (ضعيفة)، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 64. (¬4) في جميع النسخ: (فيه) والصحيح المثبت؛ لأن الضمير يعود على جمع. (¬5) أي قصده. "القاموس" (شأن) ص 1208. (¬6) لم أقف عليه، وذكر نحوه في "مشكل إعراب القرآن" 2/ 32، و"البيان في غريب =

مفعول واحد خلاف الوجه الأول. وقال الضحاك وابن زيد: يعني بكتابهم الذي أنزل عليهم (¬1). وهو رواية وَرْقَاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬2)، ونحوه قال أبو صالح (¬3). ويكون المعنى على هذا: أن ينادى يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، وتقدير الباء على ما ذكرنا. وقال الحسن: بكتابهم الذي فيه أعمالهم (¬4)، وهو قول الربيع وأبي العالية (¬5)، وابن عباس في رواية عطية قال: إمَامُه ما عمل وأملى فكُتب ¬

_ = إعراب القرآن" 2/ 94، و"تفسير الفخر الرازي" 21/ 17، و"الإملاء" 2/ 94، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 291، و"الدر المصون" 7/ 390. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 127 بلفظه عنهما، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 177، بلفظه عن الضحاك، و"تفسير الثعلبي" 4/ 117 ب بنصه عنهما، و"الماوردي" 3/ 258 بنصه عن ابن زيد، انظر "تفسير البغوي" 5/ 109. (¬2) "تفسير مجاهد" 1/ 367 بلفظه، وأخرجه "الطبري" 15/ 127 بلفظه، وورد بلفظه في: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 252، و"تفسير الثعلبي" 7/ 114 ب، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 59. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 109، بنصه. (¬4) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 382، بنصه، و"الطبري" 15/ 127، بنصه، وورد في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 260، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 177 - بلفظه، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 32، بنصه، و"تفسير الجصاص" 3/ 205، بنحوه، و"السمرقندي" 2/ 277، بنصه. (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 127 بلفظ بأعمالهم عنهما، وورد بهذا اللفظ في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 434، عن أبي العالية، و"تفسير السمرقندي" 2/ 277،عن أبي العالية، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 109؛ عن أبي العالية.

عليه (¬1)، وعلى هذا سُمِّي الكتاب إممامًا [لأنه يؤتم بما أحصاه، قاله ابن قتيبة (¬2)، وهذا كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] فسمى الكتاب إمامًا) (¬3)، وأما تقدير الباء على هذا القول، فهو بمعنى مع، أي يدعى كل أناس ومعهم كتابهم، كقولك: ادفعه إليه برُمَّته (¬4)، أي ومعه رُمَّته، قاله أبو علي (¬5)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق، قال: ويدل عليه سياق الآية (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، الفتيل: القشرة التي في شق النواة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة (¬7)، وهو قول أكثر المفسرين (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 126 بنصه (ضعيفة)، وورد في "الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 459، بنحوه. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬4) الرُّمّة: هي القطعة من الحبل، وأصله البعير يُشد في عنقه حبل، فيقال أعطاه البعير برُمَّته، قال الجوهري: أصله أن رجلاً دفع إلى رجل بعيرًا بحبل في عنقه، فقيل ذلك لكل من دفع شيئًا بجملته. انظر: "المحيط في اللغة" (رم) 10/ 216، و"الصحاح" (رمم) 5/ 1936، و"اللسان" (رمم) 3/ 1736. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ليس في معانيه. (¬7) ورد في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 252، بنحوه من طريق عكرمة (جيدة). (¬8) أخرجه بنحوه عن قتادة: "عبد الرزاق" 2/ 382، و"الطبري" 15/ 127، وورد بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 260، و"نزهة القلوب" ص 351، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 177، و"المفردات" ص 623، و"تفسير المشكل" ص 230، و"تفسير الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه.

72

وأهل اللغة قالوا: وهذا يضرب مثلًا للشيء الحقير التافه (¬1)، ومثله: القطمير والنقير في ضرب المثل به، والمعنى: لا يُنْقَصون من الثواب بمقدار فتيل. قال عطاء عن ابن عباس: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، يريد. لا يُنقصون فتيلًا من الثواب، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الفتيل: ما خرج بين إصبعك فتفتله؛ كالشيء الحقير (¬2)، وهو فعيل، من الفتل. 72 - قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} الآية. قال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية، فقال: اقرأ ما قبلها: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} إلى قوله: {تَفْضِيلًا} فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النِّعَم -التي قد رأى وعاين- فهو في أمر الآخرة -التي لم ير ولم يعاين- أعمى وأضل سبيلًا (¬3). وروى أبو رَوْق عن الضحاك عن ابن عباس قال: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب، فهو عما وصفت لك في الآخرة ولم تره أعمى وأضل سبيلا (¬4)، ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (فتل) 3/ 2738 بنصه، انظر: (فتل) في "مقاييس اللغة" 4/ 472، و"الصحاح" 5/ 1788، "اللسان" 6/ 3344. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (فتل) 3/ 2738، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 18، و"تنوير المقباس" ص 303. (¬3) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 177، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 110، و"ابن الجوزي" 5/ 66، و"الفخر الرازي" 21/ 18، و"القرطبي" 10/ 298، و"الدر المنثور" 4/ 357 وعزاه إلى الفريابي وابن أبي حاتم، من طريق عكرمة جيدة. (¬4) أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 36، 56 بنصه من طريق الضحاك، (منقطعة)، ورد بمعناه في: "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"الطوسي" 6/ 504، انظر: "تفسير =

يقول: وأبعد حجة، قال قتادة: من عاين الشمس والقمر فلم يؤمن فهو أعمى عما يغيب عنه أن يؤمن به (¬1)؛ هذا قول المفسرين في هذه الآية. وقوله تعالى: {في هَذِهِ} الإشارة إلى النِّعَم التي ذكرها على رواية عكرمة، وبه قال السدي (¬2)، وعلى قول الآخرين: الإشارة إلى الدنيا (¬3)، وبه قال مجاهد (¬4). وقوله تعالى: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ}، أي: في أمرها على تقدير المضاف، وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالًّا كافرًا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً؛ لأنه (¬5) في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته (¬6). واختار أبو إسحاق هذا القول، فقال: تأويله أنه إذا عَمِيَ في الدنيا وقد عَرَّفَه الله الهدى وجعل له إلى التوبة وُصْلَةً، وفَسَحَ له في ذلك إلى وقت ¬

_ = ابن عطية" 9/ 150، و"ابن الجوزي" 5/ 66، و"الفخر الرازي" 21/ 19، و"القرطبي" 10/ 128، و"الدر المنثور" 4/ 352 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 128 بمعناه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 55، بنحوه، وورد بمعناه في: "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"السمرقندي" 2/ 278، و"الطوسي" 6/ 504، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 150، و"ابن كثير" 2/ 59. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 66. (¬3) وقد رجح هذا القول "الطبري" 15/ 129، و"ابن عطية" 9/ 151. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 128 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"السمرقندي" 3/ 277، و"الطوسي" 6/ 505، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 150، و"ابن الجوزي" 5/ 65، و"ابن كثير" 2/ 59. (¬5) في (أ)، (د): (الآية)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح. (¬6) ورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 433 - بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 110، و"ابن الجوزي" 5/ 66، و"الفخر الرازي" 21/ 19، و"القرطبي" 10/ 298.

مماته، فعمي عن رشده ولم يَتُبْ، {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} , أي: أشد عمى، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}؛ لأنه لا (¬1) يجد طريقًا إلى الهداية (¬2). وقال أبو علي: معنى قوله: {فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى}، أي: أشد عمى، إنه في الدنيا كان مُمَكَّنًا من الخروج عن عَمَاه بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إلى الخروج من عماه؛ لأنه قد حصل على عمله، ولذلك قوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}؛ لأن ضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه (¬3). وعلى هذا القول: لا يُحتاج إلى تقدير المضاف في قوله: {فِي الْآخِرَةِ}، وهذا قول الحسن وقتادة؛ روينا ذلك عنه في مسند التفسير، والعمى في الآية المراد منه: عمى القلب، ولذلك جاز {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} بمعنى أشد عمى، ولو كان من عمى العين لم يجز أعمى بمعنى أشَدَّ عمى. قال الفراء: [العرب إذا قالوا: هو أفعل منك، قالوه فيما كان فعله على ثلاثة أحرف، فإذا زاد على ثلاثة أحرف لم يقولوا: هو أفعل منك، حتى يقولوا: هو أشدّ حمرة منك؛ لأنه يقال في الفعل منه: أحمر، وأما في العمى فإنه يقال: فلان أعمى من فلان في القلب، ولا يقال: هو أعمى منه في العين؛ وذلك أنه لما جاء على مذهب أحمر وحمراء تُرك فيه أفعل منه كما ترك] (¬4) في كثير من أشباهه. قال: وبعض النحويين يقول: أجيزه في الأعمى والأعشى والأعرج ¬

_ (¬1) في (د): (لم). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 253، بتصرف يسير. (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 113، بتصرف. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د)

والأزرق (¬1)؛ لأنا نقول: عَمِي وزَرِق وعَرِج وعَشِي، ولا نقول: حَمِر ولا بَيِض ولا صَفِر. قال الفراء: وليس ذلك بشيء؛ إنما يُنظر في هذا إلى ما يجوز أن يكون أقل أو أكثر، فيكون أفعل دليلًا على قلة الشيء وكثرته، ألا ترى أنك تقول: فلان أجمل من فلان؛ لأن جماله يزيد على جماله، ولا تقول للأعشى: هذا أعمى من ذلك، ولا لميتين هذا أموت من ذا، فأمّا قول الشاعر (¬2): أمَّا الملوكُ فأنتَ اليومَ ألأَمُهُم ... لُؤمًا وأبيضُهُم سِرْبالَ طبَّاخِ (¬3) فهو شاذ؛ هذا كلامه (¬4)، وعلى هذا التحديد إنما يجوز أن يقال: أفعل منك فيما يكون فعله على ثلاثة أحرف، وذلك الشيء مما يقل ويكثر، وما عدا هذا فإنما يقال فيه: أفعل منه، شاذًّا. ¬

_ (¬1) هذه من مسائل الخلاف المشهورة بين البصريين والكوفيين، فذهب الكوفيون إلى جواز استعمال ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان، وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان. انظر التفصيل حول هذه المسألة في: "الإنصاف" ص 124، و"شرح المفصل" 6/ 93، و"المقرب" 1/ 72، و"الخزانة" 8/ 230. (¬2) هو طرفة بن العبد (جاهلي). (¬3) "ديوانه" ص 18، و"اللسان" (بيض) 1/ 397، وورد بلا نسبة في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 379، "تفسير الثعلبي" 4/ 117 ب، و"الطوسي" 6/ 505، و"القرطبي" 10/ 299، و"اللسان" (عمي) 5/ 3115، و"شرح التصريح" 1/ 324، وله رواية اخرى استشهد بها النجاة في باب أفعل التفضيل، وهي: إذا الرجالُ شتَوْا واشتدَّ أَكلهمُ ... فأنت أبيضهُم سربالَ طبَّاخِ ورد هذه الرواية في: "الإنصاف" ص 124، و"شرح المفصل" 6/ 931، و"المقرب" 1/ 73، و"الخزانة" 8/ 230. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 128، نقل طويل تصرف فيه.

وقرأ أبو عمرو {فِي هَذِهِ أَعْمَى} بكسر الميم، {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} بفتح الميم (¬1)، قال أبو علي الفارسي: أمال الألف من الكلمة الأولى ولم يملها من الثانية؛ لأنها بمعنى أفعل من كذا، مثل أَبْلَه من فلان، وليست عبارة عن الموؤفِ (¬2) الجارحةِ المصاب ببصره، فإذا كان كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة؛ لأن آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسنُ الإمالةُ في الأواخر؛ لأنها موضع الوقف، والألف تخفى في الوقف، فإذا أمالها نحا بها نحو الياء ليكون أظهر لها وأبين، ومما يقوِّي ذلك أن من العرب من يقلب هذه الألفات ياءات في الوقف فيقول: أَفعي، بإظهار الياء في اللفظ، وحُبْلي، وقد حذف في الآية من أفعل -الذي هو للتفضيل- الجار والمجرور، وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، المعنى: وأخفى من السر، فلذلك قوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى}، أي: منه في الدنيا. ومعنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طرق الثواب، ويدل على أن المراد بقوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى}: أشد عمى، قوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} فكما أن هذا لا يكون إلا على أفعل من كذا، كذلك المعطوف عليه، انتهى كلامه. (¬3) فأراد أبو عمرو أن يفرق بين ما هو اسم وبين ما هو بمعنى أفعل منه، فغاير بينهما بالإمالة وتركهما. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" ص 383، و"علل القراءات" 1/ 325، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 378، و"الحجة للقراء" 5/ 112، و"المبسوط في القراءات" ص 229. (¬2) في (ش)، (ع): (المألوف)، وفي هامش (ش) كتب: (أحسبه المؤوف). (¬3) "الحجة للقراء" 5/ 112، وهو نقل طويل تصرف فيه بالحذف والإضافة والتقديم والتأخير والاختصار.

73

73 - قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} الآية. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوه شططًا، وقالوا: متعنا باللات سنة وحرّم وادينا كما حَرَّمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فأبى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يجبهم، فأقبلوا يردون على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مسألتهم ويكررون، وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر -رضي الله عنه-: أما ترون رسول الله قد أمسك عن جوابكم كراهية لما تجيئون (¬1) به، وقد هَمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعطيهم ذلك فأنزل الله هذه الآية. (¬2) قال أبو إسحاق: معنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت (إن) واللام للتوكيد (¬3)، وذكرنا معنى (إن) إذا دخل على الفعل أنها مخففة من الثقيلة في قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، وقيل: إنه بمعنى قد، وقد مرّ هذا في مواضع (¬4)، ومعنى كادوا: هَمّوا وقاربوا ذلك. وقوله تعالى: {لَيَفْتِنُونَكَ}، أي: ليستزلونك عن الذي أوحينا إليك، أي: يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك، يعني القرآن، والمعنى ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (تحبون) والتصويب من أسباب النزول للمؤلف. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 130 مختصرًا من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 115 أ، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 259 مختصرًا، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 297 بنصه -بلا سند- من طريق عطاء (منقطعة)، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 111، و"ابن الجوزي" 5/ 67، و"الفخر الرازي" 21/ 20، والأثر ضعيف من الطريقين؛ طريق العوفي وعطاء. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 253، بنصه. (¬4) في (أ)، (د). (موضع).

75

عن حكمه، وذلك في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن. وقوله تعالى: {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ}، أي: لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قولهم: قل: الله أمرني بذلك، {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}، قال أبو إسحاق: أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك (¬1) (خليلاً. قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ}، أي: على الحق بعصمتنا إياك، {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) (¬2) إِلَيْهِمْ}، أي: تميل، {شَيْئًا قَلِيلًا}، شيئًا: عبارة عن المصدر، أي ركونًا قليلاً. قال ابن عباس: يريد: حيث سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيته (¬3). وروي عن قتادة: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال -لما نزلت هذه الآية-: "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" (¬4). 75 - ثم توعده في ذلك أشدّ التوعد لو فعله، فقال: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ¬

_ (¬1) في (أ)، (د): (اتخذوك). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬3) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 68، بنصه، و"الفخر الرازي" 21/ 21. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 131 بنصه، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 7/ 115 ب، و"الماوردي" 3/ 260، و"الطوسي" 6/ 507، و"البغوي" 15/ 112، و"الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" [ذيل الكشاف] 4/ 101، وهذا الأثر مرسل كما قال ابن حجر، وورد في "المجمع" 10/ 181 متصلاً عن ابن عمر، وقال رواه البزار -لم أجده- وفيه راوٍ متروك، وورد في: "كشف الخفاء" 1/ 217، و"الكنز" 2/ 186، وورد نحوٌ من هذا الدعاء ضمن حديث أبي بكرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله". أخرجه أحمد 5/ 42، والبخاري في "الأدب المفرد": باب الدعاء عند الكرب، ص 242، وأبو داود (5090) في الأدب، باب ما يقول أذا أصبح، وحسنه الألباني في "صحيح الأدب المفرد" ص 242 (701).

76

ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}، أي: ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال ابن عباس والمفسرون كلهم (¬1)، ومعنى ضِعفِ العذاب: ضِعفُ ما يعذب غيره. قال أبو إسحاق: لأنه نبيّ يضاعف له العذاب على عذاب غيره لو جنى هذه الجناية؛ كما قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لأن درجة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ودرجة آله الذين وصفهم الله فوق في درجة غيرهم (¬2)، قال ابن عباس: ورسول الله معصوم، ولكن هذه مخاطبة لأمته لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه (¬3). 76 - قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} الآية. قال قتادة: هَمَّ أهلُ مكة بإخراج نبي الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا؛ ولكن الله كَفَّهم عن إخراجه (¬4) حتى أمره الله بالخروج، ولَقَلَّ ما ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 218 أ، بنصه، وأخرجه "عبد الرزاق" 2/ 383 بنصه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 131 بنصه عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن قتادة ومجاهد والضحاك، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 179، و"تفسير السمرقندي" 2/ 279، عن ابن عباس ومجاهد وأبي الشعثاء، و"تفسير الثعلبي" 7/ 115 ب، والماوردي 3/ 260، و"الطوسي" 6/ 506 في الأخيرين عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 254، بنصه تقريبًا. (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 300، و"أبي حيان" 6/ 65، وحمل الآية على ظاهرها أولى، ولها نظائر في القرآن وهو ما أشار إليه "الطبري" 15/ 131، و"البغوي" 5/ 112، و"القرطبي" 10/ 301 (¬4) في جميع النسخ. إخراجهم والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

لبثوا بعد خروج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من مكة حتي بعث الله عليهم القتل يوم بدر (¬1)، وهذا قول مجاهد (¬2). وقال ابن عباس في رواية عطاء: حسدت اليهود مقام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فإن كنت نبيًا فالحق بها، وإن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة، فأنزل الله هذه الآية (¬3)، وهذا قول الكلبي وعبد الرحمن بن غنم، واختيار الفراء (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 383 - بمعناه، و"الطبري" 15/ 132، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 115 ب، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 261 - مختصرًا، و"الطوسي" 6/ 508 - مختصرًا، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 298 مختصرًا، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 353 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 133 بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 115 ب، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 508 مختصرًا، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 298 مختصرًا. (¬3) أورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 298 بنصه -بلا سند- بهذه الرواية (منقطعة)، وقد ضعف هذا القول ابن عطية، وقال: وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه. كما ضعف ابن كثير القولين قائلاً: قيل: نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة، وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك، وقيل إنها نزلت بتبوك، وفي صحته نظر. انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 157، و"ابن كثير" 3/ 60. (¬4) أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 254، عن ابن غنم بزيادة منكرة؛ هي: فصدَّق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله الآية، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 115 ب، بنحوه عنهما، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 298، بنحوه عن ابن غنم، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 112، عن الكلبي, وذكره ابن كثير3/ 60 وقال: وفي هذا الإسناد. نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يغز تبوك عن قول اليهود, وإنما غزاها امتثالاً لقوله=

والقول الأول اختيار أبي إسحاق (¬1)، وهو الوجه؛ لأن السورة مكية؛ (¬2)، فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية، وقد قال عبد الرحمن بن غنم: هذه الآية أنزلت بعد ما ختمت السورة (¬3)، والأرض في قوله: {لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} على القول الأول: مكة، وعلى القول الثاني: المدينة، وكثر في التنزيل ذكر الأرض، والمراد منها مكان مخصوص؛ ¬

_ = تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر} [التوبة: 29]، وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه، والله أعلم. وأورده السيوطي في "لباب النزول" ص 139 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد وله شاهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم. وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، اختلف في صحبته، فأثبت له الصحبة البخاري وابن لهيعة والليث ورجحه ابن حجر، وذكره ابن سعد وابن حبان في ثقات التابعين ورجحه ابن عبد البر وابن الأثير، وقالا: كان مسلمًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، ولم يفد عليه، وقال الذهبي: ويحتمل أن تكون له صحبة، ويعرف بصاحب معاذ، لملازمته له، وهو أفقه أهل الشام، وكانت له جلالةٌ وقَدْر، مات سنة (78 هـ). انظر: "الاستيعاب" 2/ 390، و"أسد الغابة" 3/ 482، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 45، و"الإصابة" 2/ 417، و"تهذيب التهذيب" 2/ 543، انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 129. (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 154. (¬2) وهو ما رجحه جمهور المفسرين، وقال الطبري: لأن الآية جاءت في سياق خبر الله -عز وجل- عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر ... فهو بأن يكون خبرًا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. "تفسير الطبري" 15/ 133. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 115 ب، بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 301، وهو بهذا القول يؤكد مدنية السورة؛ وفي القرطبي زيادة بيان وهو قوله: وأنها نزلت في تبوك.

كقوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] يعني: من حيث كانوا يتصرفون فيه لمعاشهم، وقوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} [يوسف: 80] يعني: الأرض التي كان قَصَدَها للامتيار (¬1) منها، ومثله كثير (¬2). فإن قيل: أليس قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] يعني مكة، والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه، وقال في هذه الآية: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} فكيف الجمع بينهما، على قول من قال: الأرض في هذه الآية: مكة؟! قلنا هَمُّوا وقصدوا إخراجه، كما قال الله -عز وجل-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك} [الأنفال: 30]، ثم قبل أن يُتِمُّوا ذلك أمر الله تعالى نبيه -عليه السلام- بالخروج، فخرج منها بأمر الله خائفًا منهم ومن مكرهم، وكان خروجه بأمر الله سببًا لسلامته مما كانوا يدبرونه فيما بينهم، ألا ترى أن قتادة قال: هموا بإخراجه ولو فعلوا ذلك ما نوظروا على ما حكينا عنه في هذه الآية، وجاز إضافة الإخراج إليهم في قوله: {أَخْرَجَتْكَ}؛ لأنهم هموا بذلك وأُمر بالخروج منها لقصدهم إخراجه، فلما كانوا سببًا في خروجه أضيف ذلك إليهم. {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}، أعلم الله أنهم لو فعلوا ذلك لم يلبثوا بعده إلا قليلاً، أي لو أخرجوك لاستأصلناهم كسنتنا فيمن قبلهم، ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (الامتيار)، والتصويب من الحجة للقراء. (المِيرَةُ): جلب الطعام للبيع وللعيال، قال الأصمعي: يقال: ماره يَمُورُه إذا أتاه بمِيرة؛ أي بطعام. أنظر: (مير) في "المحيط في اللغة" 10/ 285، و"اللسان" 7/ 4306. (¬2) ورد نحوه في "الحجة للقراء" 5/ 115.

وقرئ {خَلَفكَ} (¬1)، و {خَلَفكَ} (¬2)، وهو في القراءتين جميعًا على تقدير حذف المضاف كأنه؛ لا يلبثون بعد خروجك. وزعم الأخفش: أن خلافك في معنى خلفك، وروى ذلك يونس عن عيسى (¬3)، وهذا كقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81]، وقد مرّ. قال أبو علي الفارسي: الآية على تقدير حذف المضاف؛ كقول ذي الرُّمَّة: له واحفٌ فالصُّلْبُ حتى تَقَطَّعَتْ ... خِلَافَ الثُّرَيَّا من أرِيكٍ مآرِبُه (¬4) المعني: خلاف طلوع الثريا (¬5) ,وذكرنا الكلام في إذا وإلغائها في سورة النساء (¬6). ¬

_ (¬1) بفتح الخاء وسكون اللام، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. انظر: "السبعة" 383، و"علل القراءات" 1/ 326، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1380، و"الحجة للقراء" 5/ 113، و"المبسوط في القراءات" ص 230. (¬2) بكسر الخاء وفتح اللام وبعدها ألفٌ، قرأ بها: ابن عامر حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. (المصادر السابقة). (¬3) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 113 بنصه، وزاد: وأن معناه: بَعْدَكَ (¬4) "ديوانه" 2/ 842، وورد في: "الحجة للقراء" 5/ 114، (واحف والصلب): هما موضعان للرعي، (خلاف الثريا): يريد بعد طلوع الثريا، (أريك): اسم جبل بالبادية، يقول: تقطعت حوائج هذا الحمار من هذا الموضع؛ لأنه يبس مرعاه، فتحوَّل إلى غيره. (¬5) "الحجة للقراء" 5/ 114، بنصه تقريبًا. (¬6) أشار الواحدي -رحمه الله- في سورة النساء: [67] أنه استوفى الكلام في أحكام (إذًا) عند قوله تعالى: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [آية: 53]، وهذه الآية داخلة في السقط الذي وقع في التفسير. وقد ذكر السمين ثلاثة أوجه في رفع {لَا يَلْبَثُونَ} وإعمال (إذًا) فقال: =

77

77 - قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} قال الفراء: نصب سُنّة على العذاب المضمر، أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا (¬1). وقال الزجاج: سُنَّة منصوب بمعنى لا يلبثون (¬2)، هذا كلامهما ويحتاج إلى شرح وبيان في هذا، وهو أن يقول: سُنَّة منصوبة؛ لأنها وضعت موضع المصدر، ومعنى السنّة هاهنا: التعذيب، وتأويل الآية: أنهم يعذبون تعذيب الأمم قبلهم إذا أخرجوا رسلهم أو قُتلوا، ودل قوله: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ}: على تعذيبهم، وكأنه قيل: وإذًا يعذبون تعذيب غيرهم، ومعنى قول الزجاج: سُنَّة منصوب بمعنى لا يلبثون، هو ما ذكرنا من أنه يدل على يعذبون، ومعنى قول الفراء: أنه منصوب بالعذاب المضمر هو هذا سواء، فاعرفه فإنه مشكل الظاهر. وقال صاحب النظم: أضاف هذه السنة إلى الرسول، والسنة لله -عز وجل- كما قال في أثره: {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}، وإنما حسن أن ينسبها إلى ¬

_ = أحدهما: أنها توسطت بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون {لَا يَلْبَثُونَ} عطفًا على قوله {لَيَسْتَفِزُّونَكَ}. الثاني: أنها متوسطة بين قسمٍ محذوفٍ وجوابه فألغيت لذلك، والتقدير: ووالله إذا لا يلبثون. الثالث: أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره، فألغيت لذلك، والتقدير: وهم إذًا لا يلبثون. وفي قراءة أبي شاذًا (لايلبثوا) على إعمال (إذا) ووجه النصب أنه لم يجعل الفعل معطوفًا على ما تقدم ولا جوابًا ولا خبرًا؛ لأنه قد يقع مستأنفًا، والتقدير: إن فعلوا ذلك إذا لا يلبثوا خلافك. انظر: "الدر المصون" 7/ 394، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 293، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه ص 80. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 129، بنصه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 255, بمعناه

الرسل؛ لأنه من أجلهم سَنَّها، فأضافها إليهم، هذا كلامول، وهو على ما قال، فإن التعذيب يقع بالأمم لا بالرسل، ولكن أضيف إلى الرسل لما كان بسببهم ومن أجلهم، وتحقيق هذا أن يقال: إنه حذف المضاف، على معنى: سنة أمم من قد أرسلنا، فحذف المضاف، وحَسّن حذف المضاف هاهنا ما ذكره صاحب النظم، وهو: أن هذه السنة كانت لأجلهم، يدل على صحة ما ذكرنا قول ابن عباس والمفسرين في هذه الآية. قال ابن عباس: يريد هذه سنتي فيمن كذب أوليائي، وتَقوَّل عليّ الباطل. وقال سفيان بن عيينة: يقول: لم نرسل قبلك رسولاً فأخرجه قومه إلا أُهلكوا (¬1). وقال أبو إسحاق: يقول: إنا سننا هذه السُّنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم وقتلوه (¬2)، لم يلبثهم العذاب أن ينزل بهم (¬3)، والسُّنّة لله -عز وجل- في الأمم، ولما كان المراد بالسُّنّة هاهنا التعذيب أضيف مرة إلى المفعول على حذف المضاف -كما بينا-، ومرة إلى الفاعل في قوله: {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}، قال ابن عباس: يريد لا خُلف لسُنّتي ولا لقضائي ولا لموعدي (¬4). وقال أهل المعاني: أي ما أجرى الله به العادة لم يتهيأ (¬5) لأحد أن ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 530، بنصه. (¬2) في (ش): (قتلوهم)، وفي (ع): (قتلوا). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 255, بنصه. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 530, بنصه. (¬5) في (أ)، (د): (ننهنا).

78

يقلب تلك العادة (¬1). 78 - قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} اختلف أهل المعاني والمفسرون في معنى (دلوك الشمس) على قولين؛ أحدهما: أن دلوكها غروبها، وهو اختيار الفراء (¬2) وابن قتيبة (¬3)، واحتج الفراء بقول الشاعر (¬4): غُدْوَةً حتى دَلَكَتْ بَرَاحِ (¬5) ¬

_ (¬1) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 530، بنصه بلا نسبة. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 129. (¬3) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 261. (¬4) نسب لقطرب في: "تفسير القرطبي" 10/ 303، و"اللسان" (برح) 1/ 245. (¬5) وصدره: هذا مَقَامُ قدَمَيْ رَبَاحِ ورد بلا نسبة في "مجاز القرآن" 1/ 387، و"نوادر أبي زيد" ص 315، و"تفسير الطبري" 15/ 136، و"جمهرة اللغة" 1/ 274، و"الأزمنة والأمكنة" ص 286، و"المخصص" 9/ 25، و"تهذيب الألفاظ" ص 393 وفيه: (اليوم) بدل (غدوة)، و"تفسير الثعلبي" 7/ 116 أ، و"ابن عطية" 9/ 163، و"أبي حيان" 6/ 68، وورد برواية (ذبَّبَ) بدل (غُدْوَة) في "معاني القرآن" للفراء 2/ 129، و"تهذيب اللغة" (برح) 1/ 302، (دلك) 2/ 1220، و"الصحاح" (برح) 1/ 356، و"تفسير الماوردي" 3/ 263، و"شرح المفصل" 4/ 60، و"تفسير القرطبي" 10/ 303، و"اللسان" (برح) 1/ 245، وورد برواية: (للشمس) بدل (غدوة) في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 255، و"تفسير الطوسي" 6/ 509، (رباح): اسم ساقٍ على بئر، قال الفراء: يعني الساقي (ذَبَّب). طرد الناس، (براح)؛ يقول: حتى قال بالراحة على العين، فينظر هل غابت , وقال "الطبري" 15/ 136: (براج) يروى بفتح الباء فمن روى ذلك بكسرها، فإنه يعني: أشبه يضع الناظركفه على حاجبه من شعاعها =

أي غابت، واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرُّمَّة: ولا بالآفلات (¬1) اللّوَالِكِ (¬2) القول الثاني: أن دلوك الشمس زوالها وزيغوغتها عن كبد السماء، والصحابة مختلفون في هذا، فروى نافع وسالم عن ابن عمر قال: دلوك الشمس: زيغها حين تزول (¬3)، هذا قول ابن عباس في رواية داود بن الحصين (¬4) قال: ¬

_ = لينظر ما لقي من غبارها، وهذا تفسير أهل الغريب ... ومن روى بفتح الباء، فإنه جعله اسمًا للشمس، (دلكت): مالت للغُيوب. (¬1) في جميع النسخ: (بالأفلاف)، والتصويب من الديوان وجميع المصادر. (¬2) وتمامه كما في "الديوان" 3/ 1734: مصابيحُ ليست ليست باللَّواتي تقودُها ... نُجومٌ ................. وورد في "الغريب" لابن قتيبة 1/ 261، و"تفسير الثعلبي" 7/ 116 أ، و"الماوردي" 3/ 262، و"ابن عطية" 9/ 163، و"ابن الجوزي" 5/ 72، و"القرطبي" 10/ 303، و"اللسان" (دلك) 3/ 1412، و"تفسير أبي حيان" 6/ 68، وفي "اللسان" (صبح) 4/ 2389: المصباح من الإبل: الذي يبرك في معرَّسه فلا ينهض حتى يصبح وإن أثير، وقيل: المِصْبَحُ والمِصْباح من الإبل: التي تُصبحُ في مبركها لا ترعى حتى يرتفع النهار، وهو مما يستحب من الإبل؛ وذلك لقوتها وسمنها. والمقصود هنا: أنها من الشبع لا تبالي ألَّا ترحل، (الآفلات): الغائبات. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 384 بمعناه من طريق سالم، وابن أبي شيبة 2/ 44 بمعناه من طريق نافع، و"الطبري" 15/ 135 بمعناه من طريق نافع، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 181 بمعناه من طريقها، و"تفسير السمرقندي" 2/ 280، بنحوه من طريق سالم. (¬4) داود بن الحصين، أبو سليمان المدني، مولى عثمان بن عفان , محدّث مشهور , ثقة إلا في عكرمة , رُمي برأي الخوارج, روى عن أبيه والأعرج، وعنه: إسحاق ومالك، مات سنة (135 هـ). =

دلوكها إذا فاء الفيء (¬1). وقال في رواية عطاء: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} يريد لزوالها (¬2)، ونحو هذا روى مجاهد عنه، وهذا قول الحسن وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة (¬3). ويدل على هذا ما روي عن جابر أنه قال: طعم عندي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "هذا حين دلكت الشمس" (¬4). ¬

_ = انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 408، و"ميزان الاعتدال" 2/ 195، و"الكاشف" 1/ 379، و"تقريب التهذيب" ص198 (1779). (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 44) بنصه من هذه الطريق، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 354 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬2) ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 129 - بمعناه، أخرجه "الطبري" 15/ 135 بلفظه من طريق الشعبي، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 508 - بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 354 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 368 بمعناه، وأخرجه "عبد الرزاق" 2/ 384 - بمعناه عن قتادة وعطاء، وابن أبي شيبة 2/ 45، بلفظه عن الشعبي، وبنحوه عن مجاهد، و"الطبري" 15/ 135 بلفظه عن الشعبي عن ابن عباس والحسن وقتادة، وبنحوه عن مجاهد، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 181 بلفظه عن الشعبي عن ابن عباس، و"تفسير السمرقندي" 2/ 280 بمعناه عن قتادة والشعبي عن ابن عباس، و"الثعلبي" 7/ 116 أبلفظه عن مجاهد والحسن وعطاء، و"الماوردي" 3/ 262 - بلفظه عن الشعبي عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، و"الطوسي" 6/ 508, عن الحسن ومجاهد وقتادة. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 137، بنحوه، من طريق ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر -رضي الله عنه- قال: دعوت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اخرج يا أبا بكر قد دلكت الشمس"، فيه=

وروى جماعة عن ابن مسعود أنه قال حين غربت الشمس: هذا والذي نفسي بيده وقت الصلاة حين دلكت الشمس، ثم قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬1). وروى زِرّ بن حُبَيْش (¬2) أن عبد الله بن مسعود قال: دلوك الشمس غروبها (¬3)، وقال علي -رضي الله عنه-: دلوك الشمس غيبوبتها (¬4)، وهذا قول ابن عباس ¬

_ = رجل مجهول، وأخرجه -كذلك- من طريق الأسود بن قيس عن نُبيح العَنزي عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحوه. ورجاله ثقات، لكن الطبري لم يجزم بصحته؛ حيث قال في ترجيح هذا القول: وبذلك ورد الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان في إسناد بعضه بعض نظر، وقال بعد إيراد هذه الأخبار: فإذا كان صحيحًا ما قلنا بالذي به استشهدنا .. ، وقد استشهد بالحديث كذلك: "ابن عطية" 9/ 161، و"ابن الجوزي" 5/ 72، و"أبي حيان" 6/ 70، و"ابن كثير" 3/ 61، والحديث ضعيف. (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 384 بمعناه، وابن أبي شيبة 2/ 45، بنحوه، و"الطبري" 15/ 134، بنحوه من طرق، والطبراني في "الكبير" 9/ 262، بنحوه من عدة طرق، والحاكم: التفسير، الإسراء2/ 363، بنحوه وصححه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 116 أ، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 354 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق. (¬2) أبو مريم زِر بن حبيش الأسدي الكوفي، ثقة جليل مخضرم، سمع عمر وعليًّا -رضي الله عنهما- وعنه: عاصم بن أبي النجود والشعبي، مات سنة (82 هـ) وله (127) سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 622، و"الكاشف" 1/ 402، و"تقريب التهذيب" ص 215 (2008). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 9/ 263 بلفظه من هذه الطريق، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 181، و"تهذيب اللغة" (دلك) 2/ 1220، و"تفسير الجصاص" 3/ 206، و"السمرقندي" 2/ 280، و"هود الهواري" 2/ 436، و"الماوردي" 3/ 262، و"الطوسي" 6/ 508. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 45) عنه بمعناه، قال: دلوكها غروبها، وانظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 70 - بمعناه، وأورده السيوطي في "الدرالمنثور" 4/ 354 بمعناه =

في رواية سعيد بن جبير، وإبراهيم والسدي وابن زيد (¬1)، وهذا قول المفسرين واختلافهم. وأما المحققون من أهلِ اللغة: فإنهم ذهبوا إلى أن دلوك الشمس ميلها في الوقتين. قال الزجاج: دلوك الشمس زوالها ومَيْلها في وقت الظهر، وكذلك ميلها للغروب، وهو دلوكها أيضًا (¬2). وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب (¬3). وقال الأزهري: القول عندي في دلوك الشمس أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة؛ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {قُرْآنَ الْفَجْرِ}، فهذه خمس صلوات، وإذا جعلت الدلوك: الغروب، كان الأمر في الآية مقصورًا على ثلاث صلوات. ¬

_ = وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. وفي جميع النسخ: (غببوبته) مذكرًا، وحقها التأنيث؛ لأن الضمير يعود على الشمس وهي مؤنثة. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 134 بمعناه عن ابن عباس من طريق مجاهد (صحيحة)، وابن زيد، وورد في "تفسير الماوردي" 3/ 262 - بمعناه عن ابن عباس وابن زيد, و"الطوسي" 6/ 508 بمعناه عن ابن عباس وابن زيد، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 72، عنهم- ما عدا السدي، و"الخارن" 3/ 174، عن إبراهيم والسدي. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 255، بنصه. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 530، بنصه.

قال: ومعنى الدلوك في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أقلت: دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة، انتهى كلامه. (¬1) واللام في قوله: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} لام الأجل والسبب؛ وذلك أن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس، فيجب على الصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس. وقوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، غسق الليل: سواده وظلمته، قاله الفراء والزجاج وأبو عبيدة وابن قتيبة (¬2). قال الكسائي: غسق الليل غسوقًا، والغسق الاسم بفتح السين (¬3). وقال ابن شميل: غَسقُ الليلِ دخولُ أولِه، وأتيته حين غسق الليل، أي حين يختلط وَيسُدُّ المناظر (¬4). وقال الفراء في المصادر: أغسق الليل إغساقًا وغسق غسوقًا (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (دلك) 2/ 1220 بتصرف يسير. وقد رجح الطبري هذا القول، قائلاً: وأولى القولين بالصواب قول من قال: عني بقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: صلاة الظهر؛ وذلك أن الدلوك في كلام العرب: الميل. ثم قال: فإذا كان معنى الدلوك في كلام العرب هو الميل، فلا شك أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وكذلك رجحه البغوي 5/ 114، و"ابن عطية" 9/ 162، وذهب بعضهم إلى أن اللفظ يشمل الأمرين؛ لأن أصل الدلوك في اللغة هو الميل، والشمس تميل عند زوالها وغروبها، فلذلك انطلق على كل واحدٍ منهما. انظر: "تفسير الماوردي" 3/ 263. (¬2) جاء بنحوه في "معاني القرآن" للفراء 2/ 129، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 255، و"مجاز القرآن" 1/ 388، و"الغريب" لابن قتيبة 1/ 261. (¬3) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 26، و"أبي حيان" 6/ 68، و"القرطبي" 10/ 304 بلا نسبة. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (غسق) 3/ 2664، بنصه. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 304، و"أبى حيان" 6/ 68.

وقال الزجاج في باب الوفاق: غسق الليل وأغسق (¬1). وأصل هذا الحرف من السَّيَلان، قال أبو زيد: غَسَقت العينُ تَغْسِقُ، وهو هَملانُ العينِ بالغَمَص والماء (¬2)، والغاسق السائل، وأنشد شمر: أبْكي لِفَقْدِهِمُ بِعَيْن ثَرَّةٍ ... تَجْرِي مَسَارِبُها بِعَيْنٍ غاسقٍ (¬3) أي سائل، وليس من الظلمة في شيء، ومن هذا قيل لما يسيل من أهل النار: الغَسَّاق، فمعنى غسق الليل: أي انصب بظلامه، وذلك أن الظلمة تنزل من فوق. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الغَسَقان: الانْصِبَابُ، وغَسَقَتِ السماء: أرشَّتْ (¬4). ومنه قول عُمرَ حين غسقَ الليلُ على الظِّرابِ (¬5)، أي انصَّبَ الليلُ على الجبال (¬6). وأما قول المفسرين؛ فقال ابن عباس: غسق الليل: اجتماع الليل وظلمته (¬7). وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال: أوله حين ¬

_ (¬1) "فعلت وأفعلت" ص 69، بنحوه (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (غسق) 3/ 2664، بنصه. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (غسق) 3/ 2664، و"اللسان" (غسق) 6/ 3255. (¬4) الراء والشين أصلٌ واحد يدلّ على تفريق الشيء، والرشُّ يكون للماء والدم والدمع، ويقال: رشَّت السماءُ وأرشت، وكذلك أرشّت الطعنةُ الدم، وأرشّت العينُ الدمع. انظر: "مقاييس اللغة" 2/ 373، و"اللسان" (رشش) 3/ 1650. (¬5) ورد أثر عمر -رضي الله عنه- في: "النهاية" 3/ 156، و"اللسان" (ظرب) 5/ 2745، (غسق) 6/ 3255. والظِّراب: جمع ظَرِبٍ بوزن كَتِفٍ، وهي الروابي الصغار. قال الليث: الظَربُ من الحجارة ما كان ناتئًا في جبلٍ أو أرض خَربةٍ (¬6) ورد في"تهذيب اللغة" (غسق) 3/ 2664، بنصه. (¬7) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 182 بنصه، و"تفسير الجصاص" 3/ 206 =

يدخل (¬1) وقال ابن مسعود: غسق الليل إظلام الليل (¬2). وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس: ما الغسق؟ قال: دخول الليل بظلمته، وأنشد بيت زهير: ظلَّتْ تَجُوب يَدَاهَا وهي لاهِيَةٌ ... حتى إذا جَنَحَ الإظلامُ والغَسَقُ (¬3) (¬4) وقال الأزهري: غسق الليل عندي: غَيْبُوبةُ الشَّفق الأحمر حين تحِلُّ صلاةُ عِشاء الآخرة، يدل على ذلك سِيَاقُ الآية في الأمر بالصلوات الخمس، فيدخل الظهر والعصر والمغرب والعشاء في قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (¬5). وقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} قال ابن عباس: يريد صلاة الصبح (¬6)، وكذلك قال ابن مسعود ومجاهد ومسروق وقتادة وجميع ¬

_ = بنصه، انظر: "تفسير ابن العربي" 3/ 1219، و"القرطبي" 10/ 304، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 354 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 384 بنصه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 27. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 531. (¬3) لم أجده في ديوانه، وورد في: "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 89، و"الإتقان" 2/ 86، و"الدر المنثور" 4/ 354، وبرواية تجود في "تفسير الماوردي" 3/ 263، و"القرطبي" 10/ 304، و"أبي حيان" 6/ 68، و"شرح القصائد السبع الطوال" ص 559 بلا نسبة. (¬4) ورد في "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 89، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 27، و"أبي حيان" 6/ 68 بدون الشعر فيهما، و"الإتقان" 2/ 86، و"تفسير الآلوسي" 15/ 132، و"مسائل ابن الأزرق" [ذيل الإعجاز البياني لبنت الشاطئ] ص 574. (¬5) "تهذيب اللغة" (غسق) 3/ 2664، بتصرف. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 140, بنصه من طريق العوفي (ضعيفة)، وأورده في "الدر المنثور" 4/ 355.

79

79 - قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ}، أصل معنى الهجود في اللغة النوم (¬1)، وهو معروفٌ كثيرٌ في الشعر، وأهجدته وهجدته أي أنمته, ومنه قول لبيد قال: هجِّدْنا فقد طال السُّرى (¬2) كأنه قال: نَوِّمْنَا فإن السُّرى قد طال علينا النوم، هذا هو الأصل، وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة: الهاجد النائم، والهاجد: المصلِّي بالليل (¬3). وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي: هجَّد الليلَ الرجلُ إذا صلى من الليل، وهَجَّد: إذا نام بالليل، قال: والمتهجد يكون مصليًا ويكون ¬

_ (¬1) انظر: (هجد) في "المحيط في اللغة" 3/ 370، و"الصحاح" 2/ 555، و"اللسان" 8/ 4616. (¬2) وتمامه: قال هَجِّدْنا ........... ... وقَدَرْنَا إن خَنَا الدَّهْرِ غَفَل "شرح ديوان لبيد" ص 182، وورد في: "الأضداد" لابن السِّكِّيت [ثلاثة كتب في الأضداد] ص 194، و"مجاز القرآن" 1/ 389، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 256، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 51، و"تهذيب اللغة" (هجد) 4/ 3716 , و"الصحاح" (هجد) 2/ 55، و"تفسير الطوسي" 6/ 511، و"تفسير ابن الجوزي" 5/ 74، و"اللسان" (هجد) 4/ 4616 (خنا) 3/ 1283، (السُّري): سير الليل عامة، (قدرنا): أي وقدرنا على ورود الماء، وذلك إذا قربوا منه، (الخنى): الآفة والفساد، أي إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا، وقيل قدرنا: أي على التهجد، وقيل: على السير، والشاعر يصف نفسه بالجلد في السفر وكثرة السهر حتى تأذى رفيقه بذلك وقال له: خلنا ننام ونسحريح، قد قدرنا على ما نريد ووصلنا إلى ما نحب إن غفل عنا الدهر ولم يفسد علينا أمرنا. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) 4/ 3716 , بنصه.

نائماً (1). وروى عمرو عن أبيه قال: هَجد وهَجَّد: إذا قام مصلِّيًا، وهَجَد: إذا نام (2)، وقال الليث: تهجد إذا استيقظ اللصلاة (3). وقال ابن بُزُرْج: هَجّدْتُه: أيقظته (4)، وهذا قول أهل اللغة (5) في تفسير هذا الحرف، وعلى ما ذكروا هو من الأضداد (6)؛ كما بَيّنا، وأجاد الأزهري في تفسير التهجد فقال: المعروف في كلام العرب: أن الهاجد: النائم، وقد هجد هجودًا إذا نام، وأما المتهجِّد فهو القائم إلى الصلاة من النوم، وكأنه قيل له: متهجد؛ لإلقائه الهجود عن نفسه؛ كما قيل للعابد: متحنث؛ لإلقائه الحِنْثَ عن نفسه، وهو الإثم (7)، وعلى ما ذكر، التهجد: بمعنى الصلاة، هو من باب تَحَرَّج وتأثَّم وتحوَّب، وهو ترك الهجود، ثم صار بمعنى الصلاة لمّا كان المصلي بالليل يترك النوم. قال ابن عباس في قوله: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} فَصَلِّ بالقرآن (8)، وقال مجاهد: التهجد: بعد النوم (9)، وهذا قول عبد الرحمن بن الأسود (10)

_ (1) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) 4/ 3716، بنصه تقريبًا. (2) و (3) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) 4/ 3716، بنصه. (4) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) 4/ 3716 بلفظه، انظر: "تفسير الألوسي" 15/ 138. (5) في (أ)، (د): (الليل)، وهو خطأ ظاهر، والمثبت من (ش)، (ع) هو الصواب. (6) انظر: "ثلاثة كتب في الأضداد": للأصمعي ص 40، والسجستاني ص 123، وابن السكت ص 194، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 50. (7) "تهذيب اللغة" (هجد) 4/ 3716، بنصه. (8) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 74، بنصه. (9) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 74، بنصه. (10) عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي, أبو حفص, ثقة, روى عن أبيه =

المفسرين (¬1)، وانتصابه على أنه معطوف بالعطف على الصلاة في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} قاله الفراء (¬2) والزجاج، قال الزجاج: أي: وأقم قرآن الفجر، قال: وفي هذا الموضع فائدة عظيمة؛ تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لأنه قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، وأقم قرآن الفجر، فأمر أن يقيم الصلاة بالقراءة، حيث سميت الصلاة قرآنًا، فلا تكون صلاةٌ إلا بقراءة؛ انتهى كلامه (¬3). وقوله تعالى: {إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِكَانَ مَشْهُودًا}، كلهم قالوا: صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار (¬4). وروى أبو هريرة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح"، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} الآية. (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 368 بنصه، وأخرجه "الطبري" 15/ 139 - 140، عنهم - عدا مسروق، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 355 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 129، بمعناه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 255، بنصه. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 15/ 139، و"ابن عطية" 9/ 166. (¬5) وطرف الحديث: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل .. " الحديث، أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 522 بنصه، وأحمد 2/ 474، بنحوه، والبخاري (4717) كتاب: التفسير، سورة الإسراء، باب: قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ ...} بنصه، ومسلم (649/ 246) كتاب: المساجد، فضل الجماعة، وابن ماجه (670) كتاب: مواقيت الصلاة؛، وقت الصلاة الفجر، بنحوه، والترمذي (3135) كتاب: التفسير، الإسراء، بنحوه وقال: حسن صحيح، والنسائي: الصلاة, فضل الصلاة الجماعة =

وقال ابن مسعود: يتدارك الحارسان؛ حارس الليل وحارس النهار من الملائكة في صلاة الفجر، وإن شئتم فاقرءوا: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1). وقال الكلبي: ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الغداة خلف الإمام، تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة قبل أن تعرج ملائكة الليل، فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار، فتقول ملائكة الليل إذا صعدت إلى ربها: ربنا إنا تركنا عبادك يصلون لك، ويقول الآخرون: ربنا أتينا عبادك وهم يصلون، فيقول الله لملائكته: اشهدوا أني قد غفرت لهم (¬2)، وهذا معنى قول ابن عباس، ويريد أن ذلك كفارة لما صنعت، وفي هذا أيضًا دليل على أن السُنَّة التبكير بهذه الصلاة؛ لأنه إنما يشهدها القبيلان من الملائكة إذا بُكِّرَ بها، فإذا لم يُبَكَّر بها في أول الفجر كانت ملائكة الليل قد عرجت فلم تشهدها، والسُنَّة أن يصلى في الوقت الذي يشهدها القبيلان جميعًا. ¬

_ = 1/ 241 بنصه، و"الطبري" 15/ 141، بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 183، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" 7/ 117 أ، بنصه، و"الدر المنثور" 4/ 355 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 141، بنحوه، والطبراني في "الكبير" 9/ 265، بنحوه، وورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 437، بنحوه، و"الدر المنثور" 4/ 355 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر. (¬2) لم أقف عليه، وقد ورد بهذا المعنى حديث صحيح مشهور، رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وطرفه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ..) أخرجه البخاري (555) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاتى العصر, ومسلم (632) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة, باب: فضل صلاتي الصبح والعصر.

وعلقمة وإبراهيم وجميع المفسرين (¬1). قال الحجاج بن عمرو المازني (¬2): أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد؟! إنما التهجد: الصلاة بعد رقدة ثم صلاة بعد رقدة ثم صلاة بعد رقدة، وتلك كانت صلاة (¬3) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4)، وهذا يدل على صحة قول الأزهري في تفسير التهجد، حيث لم يجعلوا الساهر ليله كله متهجدًا، وجعلوا التهجد بعد النوم، ولو كان ضدًا للنوم لكان الساهر جميع ليله متهجدًا. ¬

_ = وعلقمة، وعنه الأعمش وهارون بن عنترة، مات سنة (99 هـ)، انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 209، و"الكاشف" 1/ 621 (3141)، و"تقريب التهذيب" (3803). (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 141 - 142 بنصه من طرق عنهم، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 183 بنصه عن علقمة والأسود، و"تفسير الجصاص" 7/ 203 بنصه عن الأسود وعلقمة، و"الثعلبي" 7/ 117 أبنصه، و"الطوسي" 6/ 511 بنصه عن الأسود وعلقمة، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 61، عنهم، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 355 وزاد نسبته إلى ابن المنذر ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة عن علقمة والأسود. (¬2) الحجاج بن عمرو المازني الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-، له صحبة، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثين؛ أحدهما في الحج والآخر في التهجد، وهو الذي ضرب مروان يوم الدار -يوم حصر عثمان -رضي الله عنه- في داره- فأسقطه، وشهد صفين مع علي. انظر: "الاستيعاب" 1/ 378، و"أسد الغابة" 1/ 692، و"الإصابة" 1/ 313، و"تقريب التهذيب" ص 153 (1132). (¬3) ساقطة من (د). (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 142 مختصرًا، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 207 بنصه، وانظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 142 و"الفخر الرزي" 21/ 30، و"القرطبي" 10/ 308، و"الألوسي" 15/ 138.

وقوله تعالى: {بِهِ} قالوا: بالقرآن نافلة لك، معنى النافلة في اللغة: ما كان زيادة على الأصل، ذكرنا هذا في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}، ومعناها أيضًا في هذه الآية: الزيادة. قال مجاهد: النافلة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- خالصة؛ من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهي نافلة له، من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل له خاصة وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتهم فليس لهم نوافل (¬1). وقال السدي: نافلة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليست لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا إنما نعمل لكفاراتها (¬2)، وهذا قول أكثر المفسرين. ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 143 بنصه، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 487 بنصه تقريبًا، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 184، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 280 مختصرًا، و"الثعلبي" 7/ 117 أ، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 264 مختصرًا، و"الطوسي" 6/ 512 مختصرًا، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 356 وزاد نسبته إلى ابن المنذر ومحمد بن نصر، ولم ير الطبري هذا القول، ورده وحكم عليه بالفساد، وقال: لا معنى له؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر عنه- أكثر ما كان استغفارًا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وكان يعد له في المجلس الواحد استغفار مئة مرة، ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك. ا. هـ. نعم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الاستغفار، لكن لا على أنه استغفار من الذنوب كذنوبنا، بل كما قال: "إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" رواه مسلم (2702) كتاب: الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار، قال ابن الأثير: الغين: الغيم، أراد ما يغشاه من السّهو الذي لا يخلو منه بشر؛ لأن قلبه أبدًا كان مشغولًا بالله تعالى. "النهاية" 3/ 403. (¬2) انظر: تفسير الفخر الرازي" 21/ 30، بنحوه، و"أبي حيان" 6/ 71.

قال أبو أمامة: إنما النافلة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقال الحسن: لا تكون نافلة إلا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقال ابن عباس خاصة (¬3)، وهذا كله مما ذكره مجاهد والسدي: أن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- للدرجات لا للكفارات. ولا يدل قوله: {نَافِلَةً} على أنها لم تكن واجبة عليه، فقد روى عطاء عن ابن عباس في قوله: {نَافِلَةً لَكَ} يريد فريضة عليك زائدة على الفرائض خُصِصتَ بها من بين أمتك (¬4)، هذا الذي ذكرنا مذهب أكثر أهل التفسير (¬5). وذهب قوم إلى أن معنى النافلة: التطوع الذي يتبرع به الإنسان، وقالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة عليه ثم نُسخت عنه فصارت نافلة، أي تطوعًا وزيادة على الفرائض يتبرع بها، وهو قول قتادة والمبرد وعبد الله بن ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي ص 155 بنصه تقريبًا، و"الطبري" 15/ 143 بنصه، والطبراني في "الكبير" 8/ 145، بنصه، والبيهقي في الشعب 3/ 28، بنصه، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 207 بنصه، و"السمرقندي" 2/ 280 - بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 356 وزاد نسبته إلى ابن نصر وابن مردويه. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 75، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 356 وعزاه إلى محمد بن نصر. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 117 أ- بلفظه، انظر: "تنوير المقباس" ص 304. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 142، بنحوه من طريق العوفي (ضعيفة)، ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 117 أ، بنحوه، و"الماوردي" 3/ 264 - مختصرًا، و"الطوسي" 6/ 511، بنحوه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 355 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 15/ 142 - 143 ورجحه، و"هود الهواري" 2/ 437، و"الثعلبي" 7/ 117 أ، و"السمعاني" 3/ 269، و"البغوي" 5/ 115.

مسلم (¬1) وانتصب نافلة بوقوع التهجد عليه؛ لأن معى التهجد: صل بالليل نافلة، أي صلاة نافلة. وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} قال ابن عباس: عسى من الله واجب (¬2)، وكذلك قال المفسرون كلهم في عسى من الله (¬3). قال أهل المعاني: وإنما كان كذلك لأن معنى عسى في اللغة: التقريب والإطماع، ومَنْ أطمع إنسانًا في شيء ثم حَرَمَه كان غارًّا، والله أكرم من أن يُطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك (¬4). قوله تعالى: {مَقَامًا مَحْمُودًا} أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة (¬5)؛ كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه ¬

_ (¬1) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 261 قال: تطوعًا، وأخرجه "عبد الرزاق" 2/ 386، و"الطبري" 8/ 130، عن قتادة، قال: تطوعًا وفضيلة لك، وورد عن قتادة -كروابة الطبري- في "تفسير الجصاص" 3/ 207، و"الثعلبي" 7/ 117 أ، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 356 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر عن قتادة. (¬2) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 185، بنحوه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، انظر: "تنوير المقباس" ص 304، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 438 بنصه، وعزاه إلى ابن المنذر والبيهقي في سننه. (¬3) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 218 ب، و"الطبري" 143/ 15، و"هود الهواري" 2/ 437، و"الطوسي" 6/ 512. (¬4) ورد نحوه في "تفسير الطبري" 15/ 143، و"الثعلبي" 7/ 117 أ، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 31، و"الخازن" 3/ 175. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 1/ 369، و"تفسير مقاتل" 1/ 218 ب، و"عبد الرزاق" 2/ 386، و"الطبري" 8/ 131 - 132، و"هود الهواري" 2/ 437، و"الثعلبي" 7/ 117 أ، و"الماوردي" 3/ 265، و"الطوسي" 6/ 512، وأورده السيوطي في =

لأمتي" (¬1)، رواه أبو هريرة. قال ابن عباس: عسى من الله واجب، يريد أعطاك الله يوم القيامة مقامًا محمودًا يحمدك فيه الأولون والآخرون، تَشْرُف فيه على جميع الخلائق، وتَسأل فتُعطى وتَشفع فتُشَفَّع، ليس أحدٌ إلا تحت لوائك (¬2) وروي عن مجاهد في تفسير قوله: {يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: يجلسه معه على العرش (¬3). وروي عن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية: يقعده على العرش (¬4)، ¬

_ = "الدر المنثور" 4/ 356 - 359 بعدة روايات عن: ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وكعب بن مالك وحذيفة وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وسلمان -رضي الله عنهم-. (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 323 بمعناه، وأحمد 2/ 441، 528 بنصه، والترمذي (3137) كتاب: التفسير، باب: ومنه سورة بني إسرائيل. بمعناه وحسنه، و"الطبري" 15/ 146 بنصه، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 484 - بمعناه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 185، بنصه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 356 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. والحديث ضعيف- كما قال شاكر في "شرح المسند" 9/ 204 - لضعف داود الأَوْديّ الذي روى الحديث عن أبيه عن أبي هريرة، وقد ضعفه كثير من العلماء، انظر: ترجمته في "ميزان الاعتدال" 2/ 211، و"تهذيب التهذيب" 1/ 572. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 534، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 372، و"تنوير المقباس" ص 304. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 308، بنحوه، و"الطبري" 15/ 145 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 118 أبنصه، و"الماوردي" 3/ 265، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 121، و"ابن الجوزي" 5/ 76، و"العلو" للذهبي ص 94. (¬4) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 118 أبنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 76, و"العلو" للذهبي ص 75.

وهذا تفسير فاسد وقول رذل، وقول مجاهد: معه، قولٌ موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير؛ وهو قوله: {يَبْعَثُكُمْ} والبعث لا يكون بمعنى الإجلاس، ومن فَسَّر البعث بالإجلاس فقد فَسَّره بضد ما وُضع له؛ لأن البعث وضع للإثارة؛ يقال: بعثت المبارك والقاعد فانبعث، هذا هو الأصل، ثم يقال: بعث الله الميت، وبعث بمعنى أرسل راجع إلى هذا، لأنه يقيمه إلى ما يرسله إليه وله، ولأن الله تعالى قال: {مَقَامًا مَحْمُودًا} ولم قل: مقعدًا، والمقام موضع القيام، يدل على هذا قوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97]، وهو موضع قدميه في حال قيامه، وقول الشاعر: هذا مقام قدمي رباح (¬1) وإذا فسد هذا الفساد الظاهر لم يُعتد به (¬2). ¬

_ (¬1) سبق. (¬2) لقد أجاد الواحدي -رحمه الله- في رد هذا القول، لكن الغريب أن الطبري -مع ترجيحه لقول الجمهور- لم يستنكر هذا القول، بل قال: إن ما قاله مجاهد قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. "تفسير الطبري" 15/ 147، ومعلوم أن عدم ورود الخبر عن المعصوم بذلك يكفي لإبطال هذا القول لا العكس، ولأن هذا الخبر غيبي عقدي فلا يثبت إلا بالخبر الصحيح ولا يجدي النظر في إثبات هذه القضية، لذلك لا محيد عن قول الجمهور في هذه القضية، وهو الذي أيّدته الأخبار الصحيحة، وكذلك الأخبار التي اعتمد عليها الطبري في تسويغ الجلوس لا تثبت؛ فقد ردها علماء الحديث، وفي مقدمتهم الذهبي، فقد أورده في "العلو" ص 75 من طريقين عن أحمد بن يونس عن سلمة الأحمر عن أشعث بن طليق عن ابن مسعود بنحوه، ثم قال: هذا حديث منكر لا يفرح به، وسلمة هذا متروك الحديث، وأشعث لم يلحق ابن مسعود، وذكر الذهبي للأثر شاهدًا بنحوه عن عبد الله بن سلام موقوفًا عيه، وقال: هذا كوقوف ولا =

وفي القول الذي عليه الناس معنى قوله: {يَبْعَثَكَ} يقيمك في ذلك

_ = يثبت إسناده، وإنما هذا شيء قاله مجاهد. كما أن له شاهدًا آخر من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في "الكبير" 12/ 61 - بنحوه، من طريق ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن ابن جبير عن ابن عباس، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 51 وقال: وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف إذا لم يتابع، وعطاء بن دينار قيل لم يسمع من سعيد بن جبير. أما أثر مجاهد فقد أورده الذهبي في "العلو" ص 94 وقال: لهذا القول طرق خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره، وعمل فيه المروزي مصنفًا. وفي سند الطبري ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف مختلط- كما في "ميزان الاعتدال" 3/ 420، وهذا الأثر مما أُنكر على مجاهد حتى قُرن في ترجمته، قال الذهبي في ترجمة مجاهد في "ميزان الاعتدال" 4/ 359: ومن أَنْكَر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: يُجلسه معه على العرش. وقال ابن عبد البر: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم؛ أحدهما هذا القول، والثاني في تأويل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] قال: معاه تنتظر الثواب. انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 311، و"أبي حيان" 6/ 72، والشوكاني 3/ 360. فالحديث باطل لا يثبت لا من جهة الخبر ولا النظر، والأغرب من قول الطبري تشبث بعض المحدثين بهذا الخبر والمبالغة في قبوله إلى حد الغلو، فقد ذكر الذهبي في "العلو" ص 100 - 101 - 117 - 118 أن بعض المحدثين قال: لو أن حالفًا حلف بالطلاق ثلاثًا أن الله يقعد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على العرش واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت! وعقب الذهبي قائلاً: فابصر -حفظك الله من الهوى- كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر .. ، وذكر النقاشر عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكرَ هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا. انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 171، و"القرطبي" 10/ 311، و"أبي حيان" 6/ 72، و"تفسير الماوردي" 3/ 265 حاشية رقم (449)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" رقم (865) 2/ 255.

المقام، يدل على هذا ما رُوي في حديث الشفاعة: " .. فأكون أول من يدعى وأول من ينادى فأقول: لبيك وسعديك .. " الحديث (¬1). وانتصب قوله: {مَقَامًا} على الظرف؛ كأنه قيل في مقام. وقوله تعالى: {مَحْمُودًا} يجوز أن يكون انتصابه على الحال مِنْ {يَبْعَثَكَ}، أي: يبعثك محمودًا يحمدك فيه الخلق، وبجوز أن يكون نعتًا في اللفظ، وهو في المعنى لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، تقديره: مقامًا محمودًا فيه أنت، ويدل على هذا الوجه ما رُوي في الحديث: "وابعثه المقام المحمود حتى يغبطه به الأولون والآخرون" (¬2)، والمعنى: ابعثه المقام المحمود فيه هو. ¬

_ (¬1) أحاديث الشفاعة كثيرة وبعدة روايات في الصحيحين وغيرهما، لكني لم أقف على حديث بهذا اللفظ، وأقرب لفظ وجدته حديثان؛ أحدهما: موصول، والآخر: مرسل، أما الحديث الموصول، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: (يُجْمَعُ الناس في صعيد، فلا تكلم نفسٌ، فأول من يتكلم محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك .. قال حذيفة: فذلك المقام المحمود) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 387، وابن أبي شيبة 6/ 323، 7/ 153، والنسائي في "تفسيره" 1/ 660، والبزار [البحر الزخار] 7/ 329، و"الطبري" 15/ 144، والحاكم: التفسير/ الإسراء 2/ 363 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ووإفقه الذهبي، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 278، وأورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 377 وقال: رواه البزار موقوفًا ورجاله رجال الصحيح، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 357 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والخطيب في المتفق والمفترق. أما الحديث المرسل؛ فأخرجه "عبد الرزاق" 2/ 387، عن معمر عن الزهري عن علي بن الحسين، أن النبي قال: (إذا كان يوم القيامة مدّ الله الأرض مد الأديم .. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها ..) الحديث. (¬2) لم أجد حديثًا بهذا اللفظ، وأقرب لفظ لهذا الحديث ما ورد في فضل الدعاء عند النداء، وروايته: عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال حين يسمع =

80

80 - قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية. روى قابوس (¬1) عن أبيه عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بمكة، ثم أُمر (¬2) بالهجرهَ، وأُنزل عليه هذه الآية (¬3)، فعلى هذا يريد {أَدْخِلْنِي}: المدينهَ واصرفني من مكة، وهذا قول الحسن وقتادة (¬4). وقال الكلبي: هذا حين خرج من المدينة يريد الشام لقول اليهود، ¬

_ = النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" أخرجه أحمد 3/ 354، والبخاري (614): الأذان، الدعاء عند النداء، والنسائي: الأذان، الدعاء عند الأذان 2/ 27، سنن البيهقي: الصلاة، ما يقول إذا فرغ من ذلك 1/ 410. (¬1) قابوس بن أبي ظِبْيان بالكسر والفتح، وأبو ظبيان والده هو حُصين بن جُنْدب الجَنْبي الكوفي، ضعيف الحديث، قال أبو حاتم: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ؛ ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، وربما رفع المراسيل وأسند الموقوف، روى عنه الثوري وجرير، مات سنة (129 هـ). انظر: "المجروحين" لابن حبان 2/ 215، و"الجرح والتعديل" 7/ 145، و"الكاشف" 2/ 126، و"ميزان الاعتدال" 4/ 287، و"تقريب التهذيب" (449). (¬2) في (د): (أمرنا). (¬3) أخرجه الترمذي (3139): التفسير، الإسراء 5/ 304 وقال: حديث حسن صحيح، و"الطبري" 15/ 148 - 149 بنصه (طريق ضعيفة لضعف قابوس)، وورد عند الثعلبي 7/ 118 ب بمعناه، و"الطوسي" 6/ 512 بمعناه، وأورده المصنف في "أسباب النزول" ص 298 بلا سند عن الحسن، وورد في "لباب النقول" ص 139. (¬4) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 389، بنحوه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 149، بنحوه عنهما، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 185، عنهما، و"تفسير السمرقندي" 2/ 281، عن الحسن، و"الثعلبي" 7/ 118 ب، عنهما، و"الماوردي" 3/ 266، عن قتادة، و"الطوسي" 6/ 512، بنحوه عنهما.

وقد ذكرنا القصة (¬1)، فقال الله له: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يعنى المدينة، {وَأَخْرِجْنِي}: (منها إلى مكة) (¬2)، {مُخْرَجَ صِدْقٍ}، أي: افتحها، واختار الفراء هذا القول (¬3). وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مُدْخل صدق، وأخرجني منه مُخْرج صدق (¬4)، ومُدخل بضم الميم مصدر الإدخال؛ يقال: أدخلته مُدخلاً، كما قال: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29]، ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق: مزجهما؛ كأنه سأل الله تعالى إدخالًا حسنًا لا يرى فيه ما يكره، وكذلك الإخراج. قال الليث: يقال: هذا رجل صدق، مضافٌ، بكسر الصاد، معناه: نِعْم الرجل هو، وامرأة صدق؛ كذلك (¬5). وذكرنا فيما تقدم أن موضوع (ص د ق) للصحة والكمال، فكأنه سأل الله أن يخرجه من مكة إخراجًا لا يلتفت إليها قلبُه، ويدخله المدينة إدخالًا يطمئن فيها قلبُه، ولذلك كان يدعو فيقول: "اللهم حبب إلينا المدينة كلما حببت إلينا مكة" (¬6)، وكل شيء أضفت إلى الصدق، فقد مدحته وجودته. ¬

_ (¬1) عند آية [76]. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 129، وهو ما رجحه "الطبري" 15/ 150 وأيّده بالسياق. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 441، بنحوه، أخرجه "الطبري" 15/ 149، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 186 بمعناه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 281، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 118 ب، بنصه، و"الماوردي" 3/ 266، بنحوه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (صدق) 2/ 1990، بنصه. (¬6) أخرجه أحمد 6/ 56، والبخاري (1889): فضائل المدينة، كراهية النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُعْرَى المدينة، ومسلم (1376): الحج، الترغيب في سكنى المدينة واللفظ له, =

وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قال ابن عباس ومجاهد: أي حُجَّة بينة تنصرني بها على جميع من خالفني (¬1). وقال الحسن وقتادة: ملكًا قويًا تنصرني به على من ناوأني، وعزًا ظاهرًا أقيم به دينك (¬2)، وهذا معنى قول الحسن: اجعلني أقيم الحدود (¬3) , وعلى هذا القول: سأل الله تعالى سلطان القدرة، وعلى القول الأول: سأل الحجة. وقد جمع بينهما أبو إسحاق فقال: أي اجعل نصرتي من عندك تسليطي بالقدرة والحجة. وقد أجاب الله دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقال: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬4) [الصف: 9]، وذهب ¬

_ = والبيهقي: الجنائز، قول العائد للمريض: كيف نجدك 3/ 382، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 566، والبغوي في "شرح السنة" 7/ 317، وكلهم عن عائشة، وكلهم -إلا مسلم- بلفظ: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة .. ". (¬1) "تفسير مجاهد" 1/ 368 مختصرًا، وأخرجه "الطبري" 15/ 151 مختصرًا عن مجاهد من طريقين، وورد مختصرًا عن مجاهد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 186، عن مجاهد، و"تفسير هود الهواري" 2/ 438، و"الثعلبي" 7/ 118 ب، و"الماوردي" 3/ 267،و"الطوسي" 6/ 512 (¬2) أخرجه " الطبري" 15/ 151 بمعناه عنهما، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 186 بمعناه عن الحسن، و"تفسير الثعلبي" 7/ 118 ب بنصه عن الحسن, و"الماوردي" 3/ 267 بمعناه عن قتادة، و"الطوسي" 6/ 512 بمعناه عنهما، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 122 بنصه عن الحسن. (¬3) ورد في "تفسر الماوردي" 3/ 267 بمعناه، انظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 73, وفييما تقيد إقامة الحدود على المنافقين، وفيه نظر! (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 257، بنصه.

81

الكلبي أيضًا إلى سلطان القدرة، فَفسَّر السلطان النصير هاهنا بِعَتَّاب بن أَسيد حين استعمله نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة، فاشتد عليهم وقال: لا يبلغني من محتلم ترك الصلاة إلا ضربت عنقه (¬1). {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. 81 - قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} قال المفسرون في شى {وَزَهَقَ}: بطل واضمحل (¬2)، وأصله من قولهم: زَهَقَتْ نَفْسُه تَزْهَقُ زُهُوقًا، وأزهقتها أنا، أي: أهلكتها (¬3)، فكأن معنى: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}: خرج إلى الهلاك، قال الليث: وكل شيء هلك وبطل فقد زهق (¬4). واختلفوا في معنى الحق والباطل هاهنا؛ فقال السدي: الحق: الإسلام، والباطل: الشرك (¬5). وقال قتادة: الحق: القرآن، والباطل: الشيطان (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" 4/ 339 مختصرًا من طريق الكلبي عن ابن عباس، ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 118 ب، بنحوه، انظر: "تفسير الزمخشري" 2/ 372، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي 2/ 133، و"الإصابة" 2/ 451. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (زهق) 2/ 1571 بنصه، و"تفسير هود الهواري" 2/ 438 - بمعناه، و"الطوسي" 6/ 512، بنحوه. (¬3) انظر (زهق) في "المحيط في اللغة" 3/ 338، و"الصحاح" 4/ 1493، و"مجمل اللغة" 1/ 443، و"اللسان" 3/ 1879. (¬4) ورد في "تهذيب اللغة" (زهق) 2/ 1571، بنصه. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 أبنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 122، بنصه. (¬6) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 389، بنصه، و"الطبري" 15/ 152 بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 186، و"الثعلبي" 7/ 119 أ، و"الماوردي" 3/ 267، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 360 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

82

وقال ابن جريج: الحق: الجهاد والقتال، والباطل: الشرك وما هم فيه (¬1). قال ابن عباس (¬2): أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل مكة أن يقف على الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}. وروي عن ابن مسعود أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون نُصُبًا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}، فجعل الصنم ينكب لوجهه (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} قال ابن عباس: يريد كل ما كان من الشيطان كان خارجًا من الحق (¬4). 82 - قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (من) هاهنا ليست للتبعيض بل هو للجنس، [كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، والمعنى: {وَنُنَزِّلُ}: من هذا الجنس] (¬5) الذي ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 152 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 أمقتصرًا على معنى الحق بنصه، والماوردي 3/ 267، بنصه. (¬2) في (أ)، (د)، (ش): (قال الله تعالى)، والصواب المثبت من (ع) (¬3) أخرجه بنحوه: "عبد الرزاق" 2/ 388، وابن أبي شيبة 7/ 403، عن جابر؛ والبخاري (4720) كتاب: التفسير، باب: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ}، ومسلم (1781) كتاب: الجهاد، باب: إزالة الأصنام من حول الكعبة، والترمذي (3138): التفسير، الإسراء، والنسائي في تفسيره 1/ 665، و"الطبري" 15/ 152, و"البغوي" 3/ 133، وورد بنصه تقريبًا في "تفسير السمرقندي" 2/ 281 , و"الثعلبي" 7/ 119 أ، و"الطوسي" 6/ 512، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 360 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 537، بنصه. (¬5) ما بين معقوفين ساقط من (أ)، (د).

هو قرآن، {مَا هُوَ شِفَاءٌ}، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (¬1)، فعلى هذا، معنى كونه شفاءً: أنه (¬2) ببيانه يزيل عمى الجهل وحَيْرَة الشك، يُستشفى به من الشبهة، ويهتدى به من الحيرة، فهو شفاء من داء الجهل. وقال ابن عباس: يريد شفاءً من كل داء (¬3)، وعلى هذا، معناه: أنه يُتَبَرَّك به؛ فيدفع الله به كثيرًا من المكاره والمضار، ويؤكد هذا الوجه ما روي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله" (¬4). وقوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: يريد ثوابًا من الله لا انقطاع له (¬5)، يعني: في تلاوته، يرحمهم الله بها ويثيبهم عليها. ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 153 بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 9/ 117 أبنصه، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 66، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 360 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق -لم أجده- وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ساقطة من (ع). (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 537، وورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 أ. (¬4) وورد في "تفسير الثعلبي" 9/ 117 أب نصه عن رجاء الغنوي، و"الزمخشري" 2/ 373، و"الفخر الرازي" 21/ 34، و"أسد الغابة" 2/ 271 في ترجمة رجاء، وورد في "تفسير القرطبي" 10/ 315، و"كنز العمال" 10/ 9 وعزاه إلى الدارقطني في الأفراد، وقد أشار إلى ضعف الحديث الذهبي -فيما نقله المناوي عنه في "الفيض" 1/ 491 في تاريخ الصحابة- فقال في ترجمة رجاء: هذا له صحبة، نزل البصرة، وله حديث لا يصح في فضل القرآن. أما الشوكاني فقد ذكره في "الموضوعات" [الفوائد المجموعة] ص 296 وقال: هو موضوع، وقال الألباني: ضعيف جدًا. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (152) (1/ 283) (¬5) ورد في تفسير "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 537

83

قوله تعالى: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} يعني لا يزيد ما هو شفاء للمؤمنين إلا خسارًا للظالمين، والفعل الذي هو (يزيد) مسند إلى ما في قوله: {مَا هُوَ شِفَاءٌ}، المراد بـ {الظَّالِمِينَ}: المشركين، قاله ابن عباس. قال قتادة: لأنه لا يحفظه ولا ينتفع به ولا ينتفعون بمواعظه (¬1)، فالقرآن سبب لهداية المؤمنين وزيادة لخسار الكافرين. 83 - قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ} قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة (¬2)، {أَعْرَضَ}، معنى أعرض في اللغة: وَلَّى عَرْضَه، أي ناحيته (¬3)، والمعنى: أنه لا يُقْبِل على الدعاء والابتهال على حسب ما يُقْبل في حال البلوى والمحنة (¬4). {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} قال مجاهد وابن عباس: تباعد (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 153، بنحوه، انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 67، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 360 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق -لم أجده- وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 538، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 80، و"الفخر الرازي" 21/ 35، والآية عامة في كل من اتصف بما فيها، وذكر الوليد من قبيل التفسير بالمثال. (¬3) انظر عرض في "المحيط في اللغة" 1/ 306، و"الصحاح" 3/ 1084، و"اللسان" 5/ 2889. (¬4) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 116، بنصه تقريبًا. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 368 بلفظه، وأخرجه "الطبري" 15/ 153 بلفظه عن مجاهد من طريقين، وورد بلفظه عن مجاهد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 187، و"تفسير هود الهواري" 2/ 438، و"الطوسي" 6/ 514، وأورده المسيوطى في "الدر المنثور" 4/ 361 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وروى شِبْل عن مجاهد: بَعُدَ مِنّا (¬1)، وقال عطاء: تَعَظَّم وتَكَبَّر (¬2). وقال أهل المعاني: بَعَّد نفسه عن القيام بحقوق نعم الله -عز وجل- (¬3)، ومعني. النَّأْي في اللغة: البُعْد، ونَأَى الشيءَ إذا بَعّده (¬4)، وذكرنا الكلام في النَّأْي عند قوله: {وَيَنْئَوْنَ عَنهُ} [الأنعام:26] , ومعنى {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} كمعنى أعرض، وفيه زيادة معنى البعد، وفي قوله: {وَنَأَى} وجوه من القراءة؛ أحدها: وهو قراءة العامة (نَئَا) بفتحتين (¬5)، وقرأ ابن عامر (نآء) مثل بَاعَ (¬6)، وهذا على القلب، وتقديره: فلعَ (¬7)، ومثل هذا في القلب: رأى وراءَ، قال كثير: وكلُّ خليلٍ راءني فهو قائلٌ ... مِن أجلِكِ هذا هامَةُ اليومِ أو غَدِ (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 67. (¬2) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 أ، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 123، و"تفسير ابن الجوزي" 5/ 80 بلا نسبة. (¬3) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 514، بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 321. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ناء) 4/ 3472، و"المحيط في اللغة" (نأى) 10/ 419، و"اللسان" (نأي) 7/ 4314. (¬5) قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص وغيرهم. انظر: "السبعة" ص 384، و"علل القراءات" 1/ 327، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 382، و"الحجة للقراء" 5/ 115، و"المبسوط في القراءات" ص 230. (¬6) انظر المصادر السابقة. (¬7) أي مقلوب الميزان فعل: فلع. (¬8) "ديوانه" ص 133، وورد في "الكتاب" 3/ 467، و"الكامل" 2/ 806، و"الحلبيات" ص 47، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 202، و"اللسان" (هوم) 8/ 4723، (رأى) 3/ 1545، (هامةُ اليوم أو غد): كناية عن اقتراب المريض من أجله؛ أي سيموت أليوم أو غدًا، وذلك من تأثير الشوق والحزن فيه، وأصل الهامة: طائر يخرج من رأس الميت -كما تزعم العرب. والشاهد: راءني يريد رآني، ولكنه قلب فأخّر الهمزة. (¬9) ورد في"الحجة للقراء" 5/ 117، بنصه.

قال أبو عبيدة: والعرب تقول ذلك، تُقَدّم الهمزة وتؤخرها (¬1) وأنشد (¬2): ولقد أراكَ تُشَآء بالأَظْعَانِ (¬3) أراد تُشَاء فأَخَّر الهمزة، ومما (¬4) قدَّموا قولهم في جمع البِئْر: آبار، وأصلها: أبآر (¬5)، فقدَّموا الهمزة مثل: جِذْع وأجْذَاع، وقِطع وأقطاع. وقرأ حمزة والكسائي: (نِئى) بإمالة الفتحتين (¬6)، ووجه ذلك: أنه أمال فتحة الهمزة لأن الألف منقلبة من الياء التي في (النَّأي)، فأراد أن ¬

_ (¬1) ليس في مجازه (¬2) للحارث بن خالد المخزومي (جاهلي). (¬3) وصدره: مرّ الحُمُولُ فما شَأَوْنَكَ نَقْرَةً "شعر الحارث بن خالد" ص 107، وورد في: "المعاني الكبير" 1/ 70، و"تهذيب اللغة" (شأي) 2/ 1817، و"المنصف" 3/ 77، و"اللسان" (شأي) 4/ 2179، و"المزهر" 1/ 479، و"نوادر أبي زيد" ص 224 نسبه للأصمعي، وورد بلا نسبة في "المخصص" 14/ 27، و"الخزانة" 8/ 167 (الحمول): الإبل عليها النساء، (شَأَوْنَكَ): شَآني الشيءُ شَاوًا: أعجبني، وقيل: حَزَنَنِي، (نقرة): النقر هو الصوت العالي، كضرب الرّحى والحجر، (الأظعان): واحده ظعينة، وهو الهودج تكون فيه المرأة، يقول: مرت الحمول فما هيجن شوقك وكنت قبل ذلك يهيج وجدك بهن إذا عاينت الحمول. انظر: "اللسان" (نقر) 8/ 4518، (ظعن) 5/ 2748. (¬4) ساقطة من (ع). (¬5) ساقط من (أ)، (د). (¬6) انظر: "السبعة" ص 384، و"علل القراءات" 1/ 327، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 382، و"الحجة للقراء" 5/ 115، و"المبسوط في القراءات" ص230.

ينحو نحوها، فأمال فتحة النون لإمالة فتحة الهمزة، ولم يمل خلاَّد (¬1) عن سُلَيْم (¬2) فتحة النون لأجل إمالة فتحة الهمزة، وقرأ (نَئِيَ) بفتح النون وكسر الهمزة (¬3). وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} قال ابن عباس: يريد إذا أصابه مرض أو فقر يئس من رحمة الله (¬4). وقال أهل المعاني: هذا من صفة الجاهل بالله، وهو ذمّ له بأنه لا يثق بفضل الله على عباده، فيطمع في كشف تلك البلية من جهته، وحَسِبَ أن الشَّرّ ضَرْبَة لازب (¬5)، ويؤوس: فعول من اليأس، ومضى الكلام في اليأس ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (خلف)، والصحيح (خلاَّد)، كما ورد في المصدر "الحجة"، و"السبعة" ص 384، و"المبسوط في القراءات" ص230، أما رواية خلف عن سُليم فهي: بإمالة النون وكسر الهمزة، كما في السبعة والحجة. وخلاَّد هو: ابن خالد، أبو عيسى الصَّيرفي الكوفي، الأحول، إمام في القراءة ثقة عارف محقق أستاذ، أخذ القراءة عرضًا عن سليم، وهو من أضبط أصحابه وأجلهم، روى القراءة عنه عرضًا أحمد الحلواني وعنبسة بن النضر، حدث عنه أبو زرعة وأبو حاتم، مات سنة (220 هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 210، و"غاية النهاية" 1/ 274، و"النشر" 1/ 166. (¬2) سُلَيْم بن عامر بن غالب، أبو عيسى الحنفي الكوفي، المقرئ صاحب حمزة الزيات وأخص تلامذته وأحذقهم بالقراءة، وهو الذي خلف حمزة في الإقراء بالكوفة، قرأ عليه خلف وخلاد، ولد سنة (130 هـ)، وتوفي سنة (188 هـ) انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 138، و"غاية النهاية" 1/ 318، و"النشر" 1/ 166. (¬3) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 117، باختصار وتصرف. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 539، انظر: "تنوير المقباس" ص 304. (¬5) أي لازم، يقول الفراء: اللاّزب واللاصق واحد , والعرب تقول: ليس هذا بِضَرْبة لازم ولازب , يبدلون الباءَ ميمًا. ورد في "تهذيب اللغة" (لزب) 4/ 3258.

84

عند قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [يوسف: 80] 84 - قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} اختلفت العبارة في تفسير الشاكلة؛ فقال ابن عباس في رواية الوالبي وعطاء: على ناحيته (¬1) , وهو قول الأخفش (¬2)، والفراء قال: ومِثْلُه الطريقة والجَدِيلة (¬3). وقال مجاهد: على جديلته (¬4)، وروي عنه: على طبيعته (¬5). قال شمر: ما رأيت تصحيفًا أشبه بالصواب مما قرأ مالك بن سليمان الهروي (¬6) في التفسير عن مجاهد في قوله: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي جديلته، فصَحَّفَ وقال: حَدٍ يليه، وهو قريب بعضه من بعض (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 154 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 ب- بلفظه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 123، و"ابن عطية" 9/ 178، و"الدر المنثور" 4/ 361 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (شكل) 2/ 1915، بلفظه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 130، بلفظه. (¬4) أخرج الطبري عنه 15/ 154 بمعناه، قال: على ناحيته. (الجديلة): هي الشاكلة والناحية. انظر: (جدل) في "المحيط في اللغة" 7/ 43، و"القاموس المحيط" (977). (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 154 بلفظه، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 188، و"تفسير الجصاص" 3/ 207، و"الطوسي" 6/ 514، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 322. (¬6) في المصدر سليمان بن مالك والصحيح ما ذكره الواحدي، ومالك بن سليمان الهروي، قاضي هراة، روى عن إسرائيل وشعبة، قال عنه العقيلي: فيه نظر, وضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: لا أعرفه. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 210، و"الضعفاء الكبير" 4/ 173، و"ميزان الاعتدال" 4/ 347. (¬7) ورد في "تهذيب اللغة" (جدل) 1/ 560، بنصه تقريبًا.

وقال الحسن وقتادة: على نيته (¬1)، وقال ابن زيد: على دينه (¬2). وقال الزجاج: على مذهبه (¬3). وقال أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته (¬4)، هذا كلامهم، وأصل هذا في اللغة من المشابهة؛ يقال لِشِبْهِ الشيء: شَكْلُه، يقال: في فلان شَكْلٌ من أبيه، وأَشْكَلَةٌ وشُكْلَةٌ وشاكلٌ ومشاكلةٌ (¬5)، ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ} [ص: 58]، أي: من مثل ذلك الأول. وقال الأخفش: يقال: هذا من شكل هذا، أي: من ضربه ونحوه (¬6). وقال الليث: الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله (¬7)، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تُشاكل أخلاقه، وعبارات المفسرين في تفسير الشاكلة متقاربة، والكل ينبئ عما يشاكل طبيعة الإنسان، وكل إنسان يجري على مذهبه وطريقته وعادته التي أَلِفَها وجُبِل عليها، والإشارة في هذا؛ أن الكافر يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر والاحتساب ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 154، بنحوه عن قتادة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 188، عن الحسن، و"تفسير الثعلبي" 7/ 119 ب، عن قتادة، و"الماوردي" 3/ 269، انظر: "تفسير البغوي" 3/ 133، عنهما، و"ابن الجوزي" 5/ 80، عن الحسن، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 361 وعزاه إلى هناد وابن المنذر عن الحسن. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 154 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 269، انظر "تفسير ابن عطية" 9/ 178، و"ابن الجوزي" 5/ 80، و"القرطبي" 10/ 322. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 257، بلفظه. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 389 - بلفظه، و"الغريب" لابن قتية 1/ 261، بلفظه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة" (شكل) 2/ 1915، بنصه. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (شكل) 2/ 1916، بنصه. (¬7) ورد في "تهذيب اللغة" (شكل) 2/ 1916، بنحوه.

85

عند البلاء، ألا ترى أنه قال: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}، أي: بالمؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة. 85 - قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. قال ابن عباس في رواية عطاء: اجتمعت قريش فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد بكذاب، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة، فإن شئتم فأرسلوا منكم جماعة إلى يهود يثرب حتى يسألوهم عنه، فخرج منهم طائفة حتى لقوا أحبار اليهود فسألوهم عنه، فقال لهم اليهود: سلوه (¬1) عن ثلاثة، فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي؛ سلوه عن فتية فُقِدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح، فقدم النفر من قريش إلى مكة ثم اجتمعوا فسألوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غدًا أخبركم" ولم يستثن، فأبطأ عنه الوحي أربعين يومًا لِمَا أراد الله، ثم نزل الوحي عليه بعد أربعين يومًا: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] ثم فَسَّر لهم أمر الفية الذين فُقِدوا في سورة الكهف، وفَسَّر لهم قصة ذي القرنين، وأبهم قصة الروح؛ وذلك أنه ليس في التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكر اسمه الروح، وأنزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية (¬2)، فعلى هذا القول سألته قريش عن الروح، ونحو هذا روى عكرمة ¬

_ (¬1) في (أ)، (ش)، (د): (سلوهم)، والمثبت من (ع) وهامش نسخة (أ) هو الصحيح. (¬2) ورد في "السيرة" لابن هشام 1/ 321، وأخرجه "الطبري" 15/ 155 مطولًا من طريق عكرمة، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 270 من طريق سعيد بن جبير، وورد في "دلائل النبوة" للأصبهاني ص 216، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 361 وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وفي "الباب النقول" 143، والحديث ضعيف بسبب الجهالة والاضطراب؛ إذ رواه ابن إسحاق في رواية الطبري عن رجل من أهل مصر, وفي رواية البيهقي عن رجل من أهل مكة, لكن في سورة الكهف آيات تشير إلى حدوث الأسئلة.

عن ابن عباس (¬1) وقال ابن مسعود: سألته اليهود عن الروح وذَكر في (¬2) ذلك قصة (¬3) , ونحو هذا قال مجاهد (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 255، والترمذي (3141) في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، وقال حسن صحيح، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 264، وأبو يعلى في "مسنده" 4/ 381، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 192، والحاكم 2/ 531 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 269، وأورده المصنف في "أسباب النزول" ص 299. (¬2) في (أ)، (د): (وذكرو ذلك)، والمثبت من: (ش)، (ع). (¬3) ورد لهذه القصة عدة روايات، منها ما رواه الشيخان، البخاري (125) كتاب: العلم، باب قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، ومسلم (2794)، في الجنة والنار، باب سؤال اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: بينا أنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حرث وهو متكئٌ على عسيب إذ مرّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه؟ [أي ما إربكم وحاجتكم إلى سؤاله] وقال بعضهم: لا يستقبلُكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يردّ عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحيُ قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، أخرجه أحمد 1/ 389، والبخاري (4721) التفسير، الإسراء، ومسلم (2794) الموضع السابق، والترمذي (3141) في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 263، والنسائي في "تفسيره" 1/ 670، و"الطبري" 15/ 155، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 459، وأبو نعيم في "الدلائل" 2/ 357، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 189، و"تفسير السمرقندي" 2/ 282، و"الثعلبي" 7/ 119 ب، وأوردها المصنف في "أسباب النزول" ص 299، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 361 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في الدلائل, وليس فيها؛ بل في "الأسماء والصفات". (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 369 , وأخرجه "الطبري" 15/ 156 من طريقين.

واختلفوا في الروح المسؤول عنه؛ فقال علي بن أبي طلحة: هو مَلَك (¬1)، وهو قول علي -رضي الله عنه- قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يُسَبّح الله -عز وجل- بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (¬2)، ونحو هذا قال سعيد بن جبير، قال: ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل، وهو المذكور في قوله -عز وجل-: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} (¬3) [النبأ: 38]. وقال الحسن وقتادة: هو جبريل (¬4)، قال أبو إسحاق: ومن تأول ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة "الطبري" 15/ 156، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 462. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 156 بنصه، وابن الأنباري في "الأضداد" ص 423، بنصه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 194، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 462، بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 ب، بنصه، و"الماوردي" 3/ 269 - بنحوه، و"الطوسي" 6/ 515، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 361 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والأثر ضعيف، لجهالة أحد الرواة، وهو شيخ أبي هران الذي لم يسم، حيث قال: ... حدثني أبو هران يزيد بن سمرة القيساري عمن حدثه عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: الحديث. وقال ابن عطية: وما أظن القول يصحُّ عن علي -رضي الله عنه-، وقد ضعفه الفخر الرازي -كذلك- من عدة وجوه، وقال ابن كثير: وهذا أثر غريب عجيب. انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 181، و"الفخر الرازي" 21/ 39، و"ابن كثير" 3/ 69. (¬3) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 120 أمطولاً، وانظر: "البغوي" 5/ 125، و"الخازن" 3/ 179، وقد ورد في هذا الأثر أشياء غيبية غريبة لا يصح الاقول بها إلا بخبر صحيح عن المعصوم، وهو ما لم أقف عليه، وحسبك لرده أن مصدره الثعلبي! (¬4) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 388 بلفظه عنهما، و"الطبري" 15/ 156 بلفظه عن =

فدليله قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194]، وقال مجاهد: الروح: خَلْقٌ ليسوا بالملائكة على سورة بني آدم، يأكلون، ولهم أيد وأرجل ورؤوس (¬1). وقال أبو صالح: يشبهون الناس، وليسوا بالناس (¬2). وقال قوم: هو القرآن (¬3)، وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد، من أتاك بهذا القرآن، فبين الله أنه من عنده، فقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قال أبو إسحاق: ودليل هذا القول قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وتأويل تسمية القرآن بالروح أن القرآن حياة القلوب ¬

_ = قتادة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 190، عن الحسن، و"تفسير السمرقندي" 2/ 282، عنهما، و"الثعلبي" 7/ 119 ب، عنهما, ولا وجه البتة لتفسيره بجبريل هنا. (¬1) أخرجه "الطبري" 30/ 23، بنحوه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 197، بنحوه، وورد بنحوه في: "تفسير السمرقندي" 2/ 282، و"الثعلبي" 7/ 119 ب، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 125، قال الفخر الرازي -تعقيبًا على هذا القول والذي يليه-: ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئًا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول، وأيضًا فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه. "تفسير الفخر الرازي" 21/ 39. (¬2) أخرجه "الطبري" 30/ 23 بنصه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 195 بنصه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 463، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 119 ب، بنحوه، وهو كسابقه. (¬3) أخرجه بلفظه "الطبري" 30/ 23، عن ابن زيد، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 196، عن الضحاك، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 190، و"تفسير السمرقندي" 2/ 282، و"هود الهواي" 2/ 440، عن الحسن، و"الثعلبي" 7/ 120 أو"الماوردي" 3/ 269، عن الحسن، و"الطوسي" 6/ 515, عن الحسن، وهو أيضًا بعيد هنا.

وحياة النفوس (¬1) فيما تصير إليه من الخير عند الله -عز وجل- (¬2). وقال آخرون: هو روح الحيوان (¬3)، وهو الأظهر في الكلام الذي يسبق إلى الأفهام (¬4)، ونذكر هاهنا الكلام في الروح واشتقاقه ومعناه وبالله التوفيق، الروح الذي يحيا به البدن يُذَكّر وُيؤَنث، وأكثر الناس على أن اشتقاقه من الريح، والريح في الأصل روح، والعرب تسمي النفخ والنفس الذي يخرج من الإنسان روحًا. قال ذو الرُمَة: فقلتُ له ارفعها إليك وأحْيِها ... برُوحك واجعله لها قِيتَةً قدْرا (¬5) ¬

_ (¬1) في (د): (النفس). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 258، بنصه تقريبًا. (¬3) ورد في "تفسير الجصاص" 3/ 207، بلفظه، و"الثعلبي" 7/ 120، بمعناه، و"الماوردي" 3/ 270، بلفظه، و"الطوسي" 6/ 515، بلفظه. (¬4) وهذا هو القول المشهور والصحيح، وعليه أكثر المفسرين، ذكره البيهقي في "الأسماء والصفات" ص 459، والسمعاني في "تفسيره" 3/ 274، وقال أبو حيان 6/ 75 هو قول الجمهور، وقد ذهب إليه: "الجصاص" 3/ 207، والطوسي 5/ 515، والسمعاني 3/ 274، و"البغوي" 5/ 126، و"الخازن" 3/ 179، وابن حجر في "الفتح" 8/ 255 وقال: وجنح ابن القيم -في كتاب "الروح" 2/ 524 - إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] قال: وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسًا. ثم قال: ولا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، وأيده بما رواه "الطبري" 15/ 156، عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق العوفي في هذه أنهم سألوه عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية. (¬5) "ديوانه" 3/ 1429 برواية: (واقْتَتْهُ) بدل: (واجعله)، وورد في "تهذيب اللغة" (راح) 2/ 1313 و"الأسماء والصفات" ص 461، و"الأساس" 1/ 4378, =

يذكر نارًا ناولها صاحبه، وقوله: (أحيها بروحك)، أي: بنفخك، وقد قال الله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] وقال آخرون: سمي روحًا لأنه يهتز وينبسط وينتشر في جميع البدن، من قولهم: رجْلٌ أروح، ورِجلٌ روحاء، هي التي في صَدْرِ قدمها انبساط، وقَصْعَةٌ رَوْحَاءُ قريبة القَعْرِ منبسطة، وإناء أروح (¬1)، وسميت الخمر رَاحًا لاهتزاز البدن وخفته وانبساطه عند شربها (¬2). واختلفوا في ماهية (¬3) الروح (¬4)؛ فقال قوم: إن الروح هو الدم، ألا ترى أن من نزف دمه مات، والميت لا يفقد جِسْمُه إلا الدم (¬5)، وزعمت ¬

_ = و"اللسان" (روح) 3/ 1766، و"المفردات" ص 687 بلا نسبة. (ارفعها): أي ارفع النار، (اقتته): افتَعِلهُ من القوت، وقاته يقوته قُوتًا: أطعمه قُوتَه، وأقاته يُقِيتُهُ: جعل له ما يقوته، ويقال: ما له قوت ليلة، وقِيتُ ليلة، وقيتَةُ ليلة، نحوُ: الطعْمِ والطِّعْمَةِ. (¬1) انظر: راح في "تهذيب اللغة" 2/ 1313، و"المحيط في اللغة" 3/ 198، و"مقاييس اللغة" 2/ 454، و"الصحاح" 1/ 367، و"اللسان" 3/ 1766. (¬2) انظر: "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" 2/ 504. (¬3) في جميع النسخ: (مائية)، والصواب المثبت كما دلّ عليه التفصيل بعده. (¬4) ليت الواحدي -رحمه الله- لم يخض في هذا الموضوع الفلسفي الذي لا طائل من ورائه ولا يقوم عليه عمل، وبحث لا يستند إلى علم، لذلك كان الأولى، بل الواجب أن يفوض أمر ماهية الروح ومسكنه ومدخله ومخرجه -مما تكلم عنه- إلى الله تعالى، كما قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وما أحسن ما قاله ابن الجوزي، قال: وقد اختلف الناس في ماهية الروح .. ولا يُحتاج إلى ذكر اختلافهم؛ لأنه لا برهان على شيء من ذلك، وإنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة، فأما السلف فإنهم أمسكوا عن ذلك، لقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} انظر: "البغوي" 5/ 126، و"ابن الجوزي" 5/ 83. (¬5) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 126، و"الخازن" 3/ 179.

طائفة أن الروح استنشاق الهواء، ألا ترى أن المخنوق ومن مُنع عن استنشاق الهواء يموت (¬1). وأخبرني العروضي عن الأزهري قال: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا الهيثم يقول: الروح إنما هو النَّفَسُ الذي يتنفسه الإنسان، وهو جار في جميع الجسد، فإذا خرج لم يتنفس بعد خروجه، وإذا تَتَامَّ خروجه بقي بصره شاخصًا نحوه حتى يُغْمض، وهو بالفارسية جان (¬2). وزعم ابن الروندي (¬3) أنه جسم لطيف أُسكن البدن (¬4). وقال عامة المعتزلة والنجارية (¬5): ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الخازن" 3/ 179. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (راح) 2/ 1313، بنصه. (¬3) أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، وقيل: الرِّيوَنْديّ، الزنديق الشهير، كان من متكلمي المعتزلة ثم تزندق واشهر بالإلحاد، وقيل: كان لا يستقر على مذهب، كان غاية في الذكاء ولم يك زكي النفس، صنف كتبًا كثيرة يطعن فيها على الإسلام، وألَّف لليهود والنصارى يحتجُّ لهم في إبطال نبوة سيد البشر، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، قيل: كان أبوه يهوديًا فأسلم هو، فكان بعض اليهود يقول للمسلمين: لا يفسد هذا عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة، قال ابن الجوزي: وإنما ذكرته ليعرف قدر كفره، وقال ابن حجر: إنما أوردته لألعنه، مات سنة (298 هـ). انظر: "المنتظم" 13/ 108، و"وفيات الأعيان" 1/ 94، و"سير أعلام النبلاء" 14/ 59، و"لسان الميزان" 1/ 194. (¬4) ورد في "مقالات الإسلاميين" ص 332، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 126، و"الخازن" 3/ 179 بلا نسبة فيهما. (¬5) هم أتباع الحسين بن محمد النجّار، من فوق المرجئة، يعتقدون أن الإيمان بالقول دون العمل، وأن من كان مؤمنا لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر، ويثبتون للفعل فاعلين؛ الله تعالى والعبد، واتفقوا مع المعتزلة في نفي بعض الصفات =

الروح عرض (¬1)، ومثله حكى القلانسي (¬2) من أصحابنا عن عبد الله ابن سعيد (¬3). وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى خلق الأرواح من ستة أشياء: من جوهر النور والطِّيبِ والبقاء والحياة والعلم والعلو، ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيًا؛ تبصر العينان وتسمع الأذنان، ويكون طَيبًا فإذا خرج نَتِنَ الجسدُ، ويكون باقيًا فإذا زايله الروح لم يعلم شيئًا، ويكون الجسد علويًّا لطيفًا مادام فيه الروح، فإذا خرج صار سفليًّا كثيفًا (¬4). وقال محمد بن موسى الواسطي (¬5): خلق الله الأرواح ¬

_ = والقول بخلق القرآن، وهم أكثر من عشر فرق بالري. انظر: "مقالات الإسلاميين" 135، و"الفرق بين الفرق" 25، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" 39. (¬1) ورد في "مقالات الإسلاميين" ص 334 بلا نسبة، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 126 بلا نسبة، و"الروح" لابن القيم 2/ 573 بلا نسبة. (¬2) أبو أحمد مصعب بن أحمد الغدادي القلانسي [نسبة إلى القلانس -جمع قلنسوة- وعملها]، شيخ الصوفية، صاحب أبي حمزة وعليه تخرج، وكان أبو حمزة والجنيد وجماعة المشايخ يكرمونه ويقدمونه على غيره، وكان أبو سعيد ابن الأعرابي ينتمي إليه في التصوف وصحبه إلى أن مات، حج سنة (270 هـ) فمات بمكة. انظر: "حلية الأولياء" 10/ 306، و"اللباب في تهذيب الإنساب" 3/ 67، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 170. (¬3) عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي المفسّر، أبو سعيد الأشج، حدث عن هُشيم وأبي بكر بن عياش، وعنه الأئمة الستة وابن خزيمة، قال الذهبي: رأيت تفسيره مجلدٌ، مات سنة (257 هـ) انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 73، و"سيرأعلام النبلاء" 12/ 182، و"طبقات المفسرين" للداوودي 1/ 235. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 5/ 126 مختصرًا، و"الخازن" 3/ 179 مختصرًا. (¬5) محمد بن موسى الواسطي، قاضى الرملة، قال ابن يونس -في تايخ مصر- كان =

من (¬1) بين الجمال والبهاء، فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر (¬2) وقال أبو قِلابَة: ما خلق الله شيئًا أطيب من الروح وما انتزع من شيء إلا نتن (¬3)، والاختيار في ماهية الروح أنه جسم لطيف توجد به الحياة, وقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} إلى قوله: {يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ} [آل عمران: 169، 170] يدل على أن الروح جسم؛ لأن الارتزاق والفرح من صفات الأجسام، والمراد بهذا أرواحهم لأن أبدانهم قد بليت في التراب، وكذلك ما روي: "أن أرواح الشهداء تَعْلُقُ من شجر الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش" (¬4)، وهذا الفعل لا يتأتى من العَرَض. ¬

_ = عالمًا بالفقه والتفسير، ويتفقه على مذهب أهل الظاهر، وقد رمي بالقدر، مات سنة (320 هـ). انظر: "طبقات المفسرين" للسيوطي ص 117، و"طبقات المفسرين" للداوودي 2/ 264. (¬1) في د: (ما). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف على هذه الرواية بنصها، بل وردت مفرداتها في أحاديث متفرقة، أقربها: عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أروح الشهداء في طير خُضرٍ تَعْلُقُ من ثمرة الجنة أو شجر الجنة .. " أخرجه أحمد 6/ 386، والترمذي (1641) كتاب فضل الجهاد، باب ما جاء في ثواب الشهداء 4/ 176 وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني في "الكبير" 19/ 66، بنحوه، وفي رواية عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] فقال: "أرواحهم في جوف طير خُضرٍ لها قناديل معلقةٌ بالعرش .. " أخرجه مسلم (1887) في الأمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة 3/ 1502، والترمذي (3011) كتاب تفسير القرآن, باب ومن سورة آل عمران، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2801): الجهاد، باب فضل الشهادة =

وأما مدخل الروح ومخرجه، فقال قوم: يدخل من المنافذ كلها ويخرج من المنافذ كلها، وقال بعضهم: يدخل من الأنف ويخرج من الفم. وحكى علي بن مهدي (¬1) -من أصحابنا- أنه يدخل من حيث شاء الله ويخرج من الأنف، لقولهم: مات حتف أنفه (¬2)، وأما مسكنه فقال قوم: مسكن الروح القلب، وعمله شائع في جميع البدن كقرصة الشمس مسكنها الفلك ونورها ينتشر في الدنيا. وقال آخرون: مسكنها الدماغ، وقيل: مسكنه الدم، وقال بعضهم: ¬

_ = في سبيبل الله، والبيهقي: السير، باب فضل الشهادة في سبيل الله 9/ 163، (تَعْلُقُ): أي تتناول. (¬1) علي بن محمد بن مهدي الطبري الأشعري، أبو الحسن، تلميذ أبي الحسن الأشعري، صحبه بالبصرة وأخذ عنه، كان من المبرزين في علم الكلام والقوَّامين بتحقيقه، وله كتاب تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات، كان حافظًا للفقه والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحًا مبارزًا في النَّظر، توفي في حدود سنة (380 هـ) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 466، و"تبيين كذب المفتري" ص 195، و"الوافي بالوفيات" للصفدي 22/ 143، و"طبقات الفقهاء الشافعية" للعبادي ص 85 (¬2) جزء من حديث رواه عبد الله بن عتيك -رضي الله عنه-، وطرفه: "من خرج من بيته مجاهدًا في سبيل الله .. -إلى أن يقول- أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله -عز وجل-" ثم يقول الرواي: والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... ، أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 210، وأحمد 4/ 36، والطبراني في "الكبير" 2/ 191، والحاكم 2/ 88، وصححه ووافقه الذهبي، وورد في "تهذيب اللغة" (حتف) 1/ 737 , وأورده في "المجمع" 5/ 277 وقال: وفيه محمد بن إسحاق مدلس, وباقية رجال أحمد ثقات، انظر: "مجمع الأمثال" 2/ 266، و"المستقصى" 2/ 338، ويُروى: حتف أنْفَيْه, ومعناه: أي مات بلا ضرب ولا قتل , قال أبو عبيد: هو أن يموت موتًا على فراشه من غير قتل ولا غرق ولا سبْع ولا غيره.

هو يشتمل جميع البدن، ففي كل بعضٍ من أبعاضِ البدن بعضٌ مِن أبعاضِ الروح، واحتج بقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم: 17]، وهذا كله إذا رجعت إلى التحقيق ضرب من التكلُّف (¬1)؛ لأن الله تعالى أبهم على ذلك (¬2). قال عبد الله بن بُريدة: ما يبلغ الجن والإنس والملائكة والشياطين علم الروح، ولقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يدري ما الروح (¬3). وقال الفراء: الروح هو الذي يعيش به الإنسان، لم يخبر الله به أحدًا من خلقه، ولم يعط علمه أحدًا من عباده (¬4). وقال في قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من علم ربي لا تعلمونه (¬5)، وقيل: من خلق ربي، أي: أنه مخلوق له. وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، أي: بالإضافة إلى علم الله تعالى، وذلك أن اليهود كانت تدّعى علم كل شيء بما في كتابهم التوراة، فقال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قال أبو إسحاق: وقليل وكثير لا يصلح إلا بالإضافة، وإنما يَقِلُّ الشيء عند ما هو أكثر منه، وكذلك يكثر عند ما هو أقل منه (¬6)، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (التكليف). والصواب ما أثبته. (¬2) لذلك كان الأولى أن لا يخوض في هذه المسألة أصلاً. (¬3) ورد في "الأضداد" لابن الأنباري ص 426 مختصرًا، وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ص 193، بنصه، انظر:"تفسير السمعاني" 3/ 275، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 362 مختصرًا، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬4) ورد في " تهذيب اللغة" (راح) 2/ 1313، بنصه تقريبًا. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 130، بنحوه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 258، بتصرف يسير.

86

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وذلك حين لم يعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم الروح، ولم يبين الله له ذلك، قال له: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، يدل على هذا: قوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. 86 - قال أبو الفتح الموصلي: ليست اللام في: {لَئِنْ} بجواب القسم، وإنما الجواب: لنذهبنّ، وعليه وقع الحَلِف، واللام في {لَئِنْ} زائدة مؤكدة، ويدل على أن اللام الأولى زائدة أن الثانية هي التي تلقت القسم (1)، [ونظير] (2) جواز سقوط الأولى في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 73]، وإذا قلتَ: والله لئن (3) قمت لأقومن، كان اعتماد القسم على اللام في لأقومن، واللام في لئن (4) زائدة مؤكدة (5). ومعنى الآية: أي إني أقدر أن آخذ (ما أعطيتك؛ كأنه يقول: لم تؤت إلا قليلاً من العلم، وإن شئتُ أن آخذ ذلك) (6) قدرت. قال أبو إسحاق: لو شئنا لمحونا من القلوب ومن الكتب حتى لا يُوجَد له أثر (7)، {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}، أي: لا تجد من يُتَوكَّل عليه في رد شيء منه، كقوله: {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء: 86].

_ (1) في (أ)، (د)، (ش): (الاسم)، والمثبت من (ع) وهو الصواب. (2) هذه إضافة يقتضيها الساق، وقد وردت هذه الكلمة في المصدر بنحو هذا السياق. (3) و (4) في (أ)، (د)، (ش): (لأن)، والمثبت من (ع) وموافق لما في المصدر. (5) "سر صناعة الإعراب" 1/ 396 - 397، باختصار وتصرف. (6) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د) (7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 258, بنصه.

87

87 - ثم قال: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال الفراء: هو استثناء، كقوله: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ} (¬1) [يوسف: 68]. وقال أبو إسحاق: {رحَمَتَ} استثناء ليس من الأول (¬2)، المعني لكن الله رَحِمَك، فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} قال ابن عباس: يريد حيث جعلتك سيدَ ولد آدم، وختمت بك النبيين، وأعطيتك المقام المحمود (¬4). 88 - قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا} الآية. هذا احتجاج من الله تعالى عليهم بالمعجزة، أعلمهم -وهم أهل البيان وتأليف الكلام- عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن تعاونوا عليه، قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (¬5) [الأنفال: 31]. وقال مقاتل: إن نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- تحداهم أولاً فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13]، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم وقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، فعجزوا، فآيسهم الله تعالى عن معارضته بمثل ما أتى به في هذه الآية (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 130، بنصه. (¬2) أي أنه ليس متصلاً، بل هو استثناء منقطع. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 259، بنصه. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 546 بنصه، وبلا نسبة في "تفسير الفخر الرازي" 21/ 54، و"القرطبي" 10/ 325، و"الخازن" 3/ 180. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 120 ب، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 84. (¬6) "تفسير مقاتل" 1/ 219 أ، بنحوه.

قال أهل المعاني: والمثل الذي طُلب منهم في التحدي كلام له نظم كنظم القرآن في أعلى طبقات البلاغة، إذا قُوبل به ظهر أنه في تلك المنزلة، كما يكون بين الشعراء من معارضة القصيدة بالقصيدة؛ كمعارضة علقمة (¬1) لامرئ القيس، ومعارضة جرير للفرزدق (¬2)، ثم لمّا عرضوا القرآن على جميع أجناس كلامهم عجزوا عن المعارضة في النظم بَلْهَ البلاغة، وذلك أن كلامهم لم يخرج من أجناس ثمانية؛ أربعة معقودة وأربعة منثورة؛ فالمنثورة منها أربعة أجناس: منها الكلام الذي يدور بين الناس فيما يحتاجون إليها، ومنها الرسائل، ومنها الخُطَب، ومنها السجع، فلم يكن واحد من هذه الأجناس يشبه نظم القرآن، وبعض ما يُحتَاج إليه في هذه الآية قد ذكرنا في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} في سورة البقرة (¬3). وقوله تعالى: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} هذا جواب (لئن) بالرفع (¬4). قال الفراء: والعرب إذا أجابت (لئن) بـ (لا) جعلوا ما بعد (لا) رفعًا، لأن (لئن) كاليمين، وجواب اليمين بـ (لا) مرفوعٌ، وربما جزم الشاعر ¬

_ (¬1) علقمة بن عَبَدَة بن النعمان، شاعر جاهلي من بني تميم، لقب بالفحل لأنه خلف على امرأة امرئ القيس لما حكمت له بأنه أشعر منه، فطلقها، عدّه الجمحي في الطبقة الرابعة من فحول شعراء الجاهلية، وله قصيدة طويلة في معارضة امرئ القيس. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 137، و"الشعر والشعراء" ص 125، و"الأغاني" 21/ 205، و"المنتخب في محاسن أشعار العرب" 1/ 17، و"الخزانة" 3/ 282. (¬2) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 517، بنحوه. (¬3) آية: [23]. (¬4) قال الطوسي 6/ 517: وإنما رفعه لأنه غلب جواب القسم على جواب (إن) لوقوعه في صدر الكلام.

بـ (لئن) وجوابها؛ لأن (لئن): (إن) التي يجازى بها زيدت عليها لام، وأنشد للأعشى: لئن مُنِيْتَ بنا عن غِبّ معركة ... لا تُلْفِنا من دماء القوم ننتَفِلُ (¬1) فجزم الجواب بـ (لا) (¬2). قال: وأنشدني الكسائي (¬3): لَئِنْ تَكُ قد ضَاقتْ عليكم بلادُكُم ... لَيَعْلَمْ ربي (¬4) أن بيتي لواسعُ (¬5) (¬6) فجزم بلئن (¬7). ¬

_ (¬1) "ديوانه" ص 149 وفيه: لم تلفنا، وورد في "تفسير الطبري" 15/ 159، و"الطوسي" 6/ 517، و"ابن عطية" 9/ 186، و"اللسان" (نفل) 8/ 4510، و"تفسير أبي حيان" 6/ 78، و"الدر المصون" 7/ 407، و"الخزانة" 11/ 329، وورد بلا نسبة في: "شرح ابن عقيل" 4/ 45، و"شرح الأشموني" 4/ 69، (منيت): ابتليت، ننتفل، الانتفال: التبرؤ، يقال: انتفل من الشيء تبرأ منه. (¬2) وكان حقه الرفع لا تلفينا بإثبات الياء، جوابًا للقسم المتقدم على الشرط، لكنه جزمه بحذفها لأنه جعله جوابًا للشرط بإنْ ولم يُجِب القسم، بل حذفه لدلالة جواب الشرط عليه. انظر: "شرح ابن عقيل" 4/ 45. (¬3) البيت للكميت بن معروف. (¬4) ساقطة من (د). (¬5) ورد في "الخزانة" 10/ 68، 11/ 331 وفيه: بيوتكم، وواسع، وورد بلا نسبة في: "الدر المصون" 2/ 46، و"شرح التصريح" 2/ 254، و"شرح الأشموني" 3/ 397، 4/ 72. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 131، بتصرف واختصار. (¬7) يقول السمين: ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماضٍ، وقد يكون مضارعًا. وهنا قد حذف للضرورة -كما قال البغدادي- لأن القياس يقتضي أن يقول: لئن كانت. وأن يقول في الجواب؛ ليعْلَمنّ. انظر: "الدر المصون" 2/ 46,و"شرح التصريح" 2/ 254, و"شرح الأشموني" 4/ 72 , و"الخزانة" 10/ 68 , 11/ 351.

89

وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} الظهير: المعين المظاهر لك، وهو فعيل بمعنى المظاهر. قال ابن عباس: يريد معينًا (¬1)، مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. 89 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} أي بَيّنا، وذكرنا الكلام في هذا في هذه السورة (¬2)، قال ابن عباس: وأراد بالناس أهل مكة (¬3)، {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}، أي: من كل نوع وشِبْه، يريد من الأمثال التي يجب بها الاعتبار، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ} قال ابن عباس: يريد أكثرَ أهلِ مكة (¬4). {إِلَّا كُفُورًا} يريد جحودًا للحق وإنكارًا، وذلك أنهم أنكروا القرآن وكونه معجزة بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وهو قوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} قال ابن عباس: لن نصدقك (¬5) 90 - قال المفسرون: نزلت في رؤساء مكة اقترحوا عليه ما ذكر الله عنهم في هذه الآيات (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه منسوبًا إليه، وأخرجه "الطبري" 15/ 159، عن ابن جريج، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 193، وبلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 283. (¬2) عند آية [41]. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 305، و"تفسير الفخر الرازي" 21/ 55، و"الألوسي" 15/ 167 بلا نسبة فيهما. (¬4) ورد بلا نسبة في "زاد المسير" 5/ 85، و"الفخر الرازي" 21/ 55، و"القرطبي" 10/ 327. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 305، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 15/ 159، و"السمرقندي" 2/ 283. (¬6) ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 219 ب، و"السيرة" لابن هشام 1/ 315 مطولاً، =

وقوله تعالى: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} وذلك أنهم سألوه أن يُجري لهم نهرًا كأنهار الشام والعراق، وقرئ {تَفْجُرَ} بالتخفيف (¬1)، يقال: فَجَرْتُ الماءَ فَجْرًا وفَجَّرتُه تفجيرًا وتَفْجرةً، (فمن ثَقَّل (¬2) أراد كثرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحد فَلِتَكَرُّر الانفجار فيه يحسن أن يثقل، كما تقول: ضُرِّب زيد، إذا كثر الضرب فيه، فيُكَثُّر فِعْلُه وإن كان الفاعل واحدًا، ومن خفف فلأن الينبوع واحد، ودليل التشديد من التنزيل قوله: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: 33]، ودليل التخفيف قوله: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60] والانفجار مطاوع الفجر) (¬3). ومضى الكلام في الفجر والانفجار في سورة البقرة (¬4). وقوله تعالى: {يَنْبُوعًا} يعني عينًا يَنْبَع الماء منه، وهو مفعول من نَبَع ¬

_ = أخرجه "الطبري" 15/ 159 من طريق عكرمة عن ابن عباس، وورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 442، و"الثعلبي" 7/ 120 ب، وأورده المصنف -بلا سند- في "أسباب النزول" ص 300، و"تفسير البغوي" 5/ 128، و"ابن الجوزي" 5/ 85، و"الفخر الرازي" 21/ 56، و"القرطبي" 10/ 328، و"ابن كثير" 3/ 70، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 367 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. والحديث في إسناده رجل مجهول، فقد رواه ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر قدم منذ أربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس - كما في رواية الطبري. (¬1) أي بفتح التاء وتسكين الفاء وضم الجيم مع التخفيف، قرأ بها: عاصم وحمزة والكسائي، انظر: "السبعة" ص 385، و"علل القراءات" 1/ 328، و"الحجة للقراء" 8/ 115، و"المبسوط في القراءات" 230، و"النشر" 2/ 308. (¬2) أي بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم، وقرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبن عامر. انظر المصادر السابقة. (¬3) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 119 , بتصرف. (¬4) آية [60].

91

الماءُ يَنْبَعُ ويَنْبُعُ نَبْعًا ونُبوعًا ونَبْعَانًا، ذكره الفراء (¬1) والليث (¬2). قال أهل المعاني: وإنما لم يجابوا إلى ما سألوا؛ لأنهم طلبوا ذلك دليلاً على صدقه، وقد أتاهم من القرآن بما يدل على صدقه، فليس لهم أن يطلبوا دليلاً آخر إلا بعد القدح في الدليل الأول بما يبين أنه شبهة لا يدل على صحة المعنى، فأما طلبهم الدليل على جهة الإنكار الأول فهو سفه وجهل لا يستحقون أن يجابوا إليه. 91 - قوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} هذا أيضًا كان فيما اقترحوا عليه، وقوله: {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ} عطف على قوله: {أَوْ تَكُونَ}. 92 - {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ}، هذا كان فيما اقترح عليه المشركون، قالوا له: فأسقط السماء علينا، قال ابن عباس: يعنون العذاب، وهو كما زعمت (¬3). قال عكرمة: كما زعمت يا محمد أنك نبي، فأسقط السماء علينا (¬4). وقال آخرون: كما زعمت أن ربك إن شاء فعل (¬5)، وكذا ذكر المفسرون بالقصة (¬6). وقوله تعالى: {كِسَفًا} فيه وجهان من القراءة؛ جزم السين (¬7) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 131، بنحوه. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (نبع) 4/ 3497، بنصه تقريبًا. (¬3) ورد في تفسيره "الوسيط" 2/ 548 بنصه تقريبًا؛ بدون ضمير الفصل وهو. (¬4) انظر: "تفسير الرازي" 21/ 57. (¬5) انظر: "تفسير الرازي" 21/ 57، و"أبي حيان" 6/ 79. (¬6) عند آية [90]. (¬7) قرأ بها: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي، انظر: "السبعة" ص 385، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 382، و"علل القراءات" 1/ 329، و"الحجة للقراء" 5/ 119، و"المبسوط في القراءات" ص 231، و"التيسير" ص 141, و"النشر" 2/ 309.

وفتحها (¬1). قال أبو زيد: يقال: كَسَفْتُ الثوبَ أكْسِفُه كَسْفُا، إذا قَطَّعته قِطَعًا (¬2) وقال الليث: الكَسْفُ: قَطْعُ العُرْقُوب (¬3)، والكِسْفَة: القطعة. قال الفراء: وسمعت أعرابيًّا يقول لبزاز: أعطني كِسْفة، يريد قطعة كقولك: خِرْقَة (¬4). روى عمرو عن أبيه: يقال لخِرَق القميص قبل أن يُؤَلَّفَ: الكِسَف، واحدها كِسْفَة (¬5)، فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوهًا، أحدها: أن يكون جمع كِسْفة، على حد دِمْنَةٍ ودِمَن (¬6)، وسِدْرة، وسِدَر هذا قول الفراء (¬7)، وقال الكسائي: من وَحَّد خفف (¬8). ¬

_ (¬1) قرأ بها: ابن عامر ونافع وعاصم. انظر المصادر السابقة. (¬2) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 119، بنصه، و"تفسير الطوسي" 6/ 518، بنصه. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (كسف) 4/ 3143 بنصه. (العُرْقُوب): هو العصبُ الغليظُ المُوَتَّر فوق عقبِ الإنسان، أو خلف الكعبين. انظر: "اللسان" (عرقب) 5/ 2909، "متن اللغة" 4/ 83. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 131 بتصرف يسير، وورد في "تهذيب اللغة" (كسف) 4/ 3143, بنصه. (¬5) ورد في "تهذيب اللغة " (كسف) 4/ 3143، بتصرف يسير. (¬6) الدِّمنة: آثار الناس وما سَوَّدوا، وقيل: ما سوَّدوا من آثار البعر، والجمع: دمن، وهو البعر، ودمَّنت الماشيةُ المكانَ: بعَرت فيه وبالت. انظر: "اللسان" (دمن) 3/ 1428. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 131، بنحوه، ورد في "تهذيب اللغة" (كسف) 4/ 3143، بنحوه، وما في التهذيب أقرب. (¬8) لم أقف عليه. قال القرطبي: قال الأخفش: من قرأ: كسْفًا من السماء، جعله، واحداً, ومن قرأ: كِسَفًا, جعله جمعاً. "تفسير القرطبي" 10/ 330.

قال أبو علي: إذا كان المصدرُ الكسْفَ, فالكسْفُ (¬1): الشيء المقطوع؛ كما يقال في الطَّحْن والطِّحْن، والسَقي والسِّقي (¬2)، ويؤكد هذا قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور: 44] , وذكر الزجاج وجهاً ثالثًا، فقال: من قرأ كِسْفًا فكأنه قال: أو تسقطها طبَقًا علينا، واشتقاقه من كَسَفْتُ الشيء إذا غَطَّيته (¬3)، ومن فتح السين فهو جمع كِسْفَةٍ مثل قِطْعَةٍ وقِطَعٍ، وسِدْرَةٍ وسِدَرٍ، وهو نصب على الحال في القراءتين جميعًا، كأنه قال: أو تسقط السماء علينا مقطعة (¬4). قال ابن عباس في قوله: {كِسَفًا}: قطعًا (¬5) وقال مجاهد: السماء جميعًا (¬6)، وهذا على قراءة من سَكَّن السين، ومعناه كما قال الزجاج: طبقًا، أو كما قال أبو علي: قطعة واحدة. وقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} ذكروا في هذا ثلاثة أقوال: قال ابن عباس في رواية الضحاك: عيانًا (¬7)، وهو قول قتادة وابن ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (والكسف) بالواو عطفًا، والصواب ما أثبته من المصدر بالفاء؛ لأنه جواب شرط قرن بالفاء. (¬2) "الحجة للقراء" 5/ 119، بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 259، بنصه. (¬4) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 120، بنحوه (¬5) أخرجه "الطبري" 15/ 161 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، ومن طريق العوفي (ضعيفة)، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" 3/ 273، و"الطوسي" 6/ 519. (¬6) "تفسير مجاهد" 1/ 370، وأخرجه "الطبري" 15/ 161 بنصه من طريقين، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 196 (¬7) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 87، أورده السيوطي "الدر المنثور" 4/ 367 وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

جريج (¬1)، والمعنى: تأتي بهم حتى نراهم مقابلة، والعرب تُجري القبيل في هذا المعنى مجرى المصدر، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وذكرنا هذا عند قوله: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام: 111]، وهذا القول منهم يدل على جهلهم بصفة الله؛ حيث لم يعلموا أنه لا يجوز على الله المقابلة. القول الثاني: ما قاله ابن عباس في رواية عطاء: يريد فوجًا بعد فوج (¬2). قال الليث: وكل جيل من الجن والناس قبيل (¬3)، ذكرنا ذلك في قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف: 27]، وهذا قول مجاهد (¬4). القول الثالث: أن قبيلًا معناه هاهنا ضامنًا وكفيلاً، روي ذلك عن ابن عباس (¬5)، وذكره الزجاج وابن قتيبة (¬6). قال الزجاج: يقال: قَبُلْتُ به أقْبُل، كقولك: كَفُلت أكفُل (¬7)، وهو ¬

_ (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 389 بلفظه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 162، بنحوه عنهما، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 194 بلفظه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" 7/ 121 أبلفظه، و"الماوردي" 3/ 273، بنحوه عنهما، و"الطوسي" 6/ 520، بنحوه عنهما. (¬2) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 58. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (قبل) 3/ 2876، بنصه. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 370 بمعناه، أخرجه "الطبري" 15/ 162 بمعناه من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 121 أبمعناه، انظر: "زاد المسير" 5/ 88. (¬5) ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 121 أبلفظه، انظر: "زاد المسير" 5/ 88، و"القرطبي" 10/ 331. (¬6) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 262، بنحوه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 259، بنصه تقريبًا.

93

على هذا واحدٌ أريد به الجمع، وقد جاء [فعيل مفردًا] (¬1) يُراد به الكثرة، كقول رؤبة: دَعْها فما النَّحْوِيُ من صديقِها (¬2) وكقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬3) [النساء: 69]، واختار أبو علي أن يكون معناه المعاينة، قال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرًا كالنذير والنكير، قال: ولو أريد به الكفيل لكان خليقًا أن يجمع على فعلاء كما قالوا: كفلاء؛ لأنه في الأصل صفة وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، قال: ويدل على أن المراد بالقبيل المعاينة لا الكفيل قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21]، وكما اقترح ذلك غيرهم في قوله: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقد مرّ (¬4). 93 - قوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} قال المفسرون: كان فيما اقترحوا من الآيات أن يكون له جنان وكنوز وقصور من ذهب، فذلك قوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين من (ش)، (ع) وفي (أ)، (د): (فصل مفرد). (¬2) "ديوانه" ص 182، وورد في "جمهرة اللغة" 20/ 656، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 1/ 295، و"الأغاني" 20/ 367، و"أساس البلاغة" 2/ 11، و"شرح شواهد الإيضاح" 573, و"اللسان" (ذبح) 3/ 1486، (صدق) 4/ 2418، و"تخليص الشواهد" ص 184. والشاهد: أنه قال من صديقها: أي من أصدقائها، فهو مفرد وقع موقع الجمع. (¬3) قال الواحدي -رحمه الله-: قال الفراء: وإنما وحّد الرفيق وهو حقه الجمع؛ لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع. (¬4) "الحجة للقراء" 3/ 386، بنصه تقريبًا.

والسدي: من ذهب (¬1). قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله: (أو يكون لك بيت من ذهب) (¬2). قال أبو إسحاق: وأصل الزُّخْرُف والزَّخْرَفة في اللغة: الزينة (¬3)، يدل على ذلك قوله: {إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس: 24]، أي: أخذت كمال زينتها, ولا شيء في تحسين بيت وتزيينه كالذهب، فليس يخرج قول المفسرين عن الحق في هذا (¬4). وقال الحسن: الزخرف: النقوش (¬5). وفَسَّرنا الزخرف في سورة الأنعام [112] وسورة يونس [24]. وقوله تعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} قال المفسرون: قال عبد الله بن ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 1/ 370 بلفظه، وأخرجه بلفظه: "عبد الرزاق" 2/ 390، عن قتادة، و"الطبري" 15/ 163، عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة) وعن مجاهد وقتادة من طرق، وورد بلفظه في: "تفسير هود" 2/ 442، عن ابن عباس، و"الماوردي" 3/ 273، عن ابن عباس وقتادة، و"الطوسي" 6/ 520، عنهم عدا السدي، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 367 وعزاه إلى عبد بن حميد عن قتادة. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 163 بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 195، و"الثعلبي" 7/ 121 ب، و"الماوردي" 3/ 273، أورده السيوطي في "الدر" 4/ 367 وزاد نسبته إلى أبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" وأبي نعيم في الحلية - لم أقف عليه. وهذه قراءة شاذة، تعد من قبيل التفسير، لمخالفتها سواد المصحف. انظر: "تفسير أبي حيان" 6/ 80. (¬3) انظر (زخرف) في "تهذيب اللغة" 2/ 1520، و"المحيط في اللغة" 4/ 465, و"اللسان" 3/ 1821. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 260، بتصرف. (¬5) لم أقف عليه.

أُمَيَّة: لا أؤمن بك يا محمد أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّمًا، ثم ترقى فيه وأنا انظر حتى تأتيها، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، فذلك قوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ}، قال الفراء: يقال: رَقِيتُ، وأنا أرقى، رَقْيُا ورُقْيًّا ورُقِيًّا، وأنشد (¬1): أنتِ التي (¬2) كَلَّفتِني رَقْي الدَّرْج ... على الكِلالِ والمَشِيبِ والعَرْج (¬3) قال: [والمعنى إلى السماء، غير أنهم قالوا: أو تضع سُلَّمًا فترقى عليه إلى السماء فذهبت (في) إلى السُلَّم] (¬4). وقوله تعالى: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وقال ابن عباس ومجاهد: كتابًا نقرأه منشورًا من رب العالمين إلى فلان وفلان، عند كل رَجُل منا صحيفة يصبح عند رأسه يقرأها (¬5)، (قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي) (¬6)، أي: ¬

_ (¬1) نسب في "اللسان" لابن بري. (¬2) في جميع النسخ: (أنت)، وفي جميع المصادر: (الذي). (¬3) ورد في: "اللسان" (رقا) 3/ 1711، وورد بلا نسبة في "الطبري" 15/ 163، و"الرازي" 21/ 58، (الكلال): الضعف والإعياء. و"متن اللغة" 5/ 95. (¬4) ورد ما بين المعقوفين -فقط- في "معاني القرآن" للفراء 2/ 131، بنصه، وورد قوله بنحوه وبلا نسبة في "تفسير الطبري" 15/ 163 (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 370، بنحوه، وأخرجه "الطبري" 15/ 164، بنحوه عن مجاهد من طريقين، وورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 443، بنحوه عن مجاهد، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 88، عن ابن عباس، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 367 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. (¬6) قرأ بها: ابن كثير وابن عامر. انظر: "السبعة" ص 385، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 383، و"علل القراءات" 1/ 330، و"الحجة للقراء" 5/ 121، و"المبسوط في القراءات" ص 231، و"النشر" 2/ 309.

94

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك, وقرئ: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} (¬1) ,على الأمر له بأن يقول ذلك. قال ابن عباس: يقول: عَظُمَ ربي وكَرُمَ، {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، كقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، أي: إن هذه الأشياء ليس في قوى البشر أن يأتوا بها، فلا وجه لطلبكم هذه الآيات مني مع صفتي أني بشر. 94 - قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬2)، {أَنْ يُؤْمِنُوا}، أي: الإيمان والتصديق، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}: أي البينات والرشاد من الله تعالى على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو القرآن، {إِلَّا أَنْ قَالُوا}، أي: إلا قولهم في التعجب والإنكار، {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} قال أهل المعاني: ووجه تعجبهم من بعث الله بشرًا رسولاً، جهلهم في التعظيم؛ وهو قولهم: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، كما توهموا أن عبادة الأصنام تجوز من طريق التعظيم لله (¬3)، و {رَسُولًا} منصوب على أنه مفعول ثان للبعث، كقولك: بعثت زيدًا رسولاً إلى فلان، وفي إنكارهم كون البشر رسولاً اقتضاءُ أن يُبْعَثَ إليهم مَلَكٌ، وكأنه قيل: أبعث الله بشرًا رسولاً؟! هلا بعث مَلَكًا (¬4) رسولاً! 95 - فقال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ ¬

_ (¬1) قرأ بها: نافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي. انظر: المصادر السابقة. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 89، و"تنوير المقباس" ص 305، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 219 ب، و"السمرقندي" 2/ 284. (¬3) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" 6/ 521 (¬4) في (د): (ما كان) ,وفي (أ): (ما كا)، ويبدو أنها تصحفت عن (ملكًا).

مُطْمَئِنِّينَ} قال الحسن: قاطنين (¬1)، وقال الكلبي: مقيمين (¬2)، وقال الزجاج: مستوطنين الأرض (¬3)، وأصل الطمأنينة السكون، وجُعل هاهنا عبارة عن المقام والاستيطان؛ لأنه يقال: سكن فلان بلدة كذا، وسكن دار فلان، وإن كان فيها ماشيًا منقلبًا في حاجاته، وليس يراد السكون الذي هو ضد الحركة، كذلك هاهنا ليس المراد بالاطمئنان الذي هو ضد المشي، إنما المراد به الإقامة، كما ذكرنا عن أهل التفسير. وقوله تعالى: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أن الأعدل والأبلغ في الأداء إليهم بشرٌ (¬4)؛ لأنه لا يُرْسِل إلى خلق إلا ما كان من جنسهم، فلو كان في الأرض بدل الآدميين ملائكة، لنزلنا عليهم ملكًا رسولاً (¬5) فإن قيل: لم جاز أن يرسل إلى النبيّ وهو بشر ملكٌ ليس من جنسه، ولم يجز أن يرسل غير النبيّ من البشر؟ الجواب: أن النبيّ قد اختير للهداية والمصلحة، وهو صاحب معجزة، فصارت حاله بذلك مقاربة لحال الملك، مع أن الجماعة الكثيرة ينبغي أن يُتَخيّر لها ما يجتمع عليه هَمُّها، إذا أريد الصلاح لجميعها بما لا يحتاج إليها في الواحد منها. ¬

_ (¬1) ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 522، بلفظه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 305، ورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 219 ب، و"السمرقندي" 2/ 284، و"هود الهواري" 2/ 443. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 261، بنصه. (¬4) في (أ)، (د): (بشرًا)، وهو خطأ نحوي ظاهر. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 261 بتصرف.

96

96 - قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فسرنا هذا في آخر سورة الرعد [آية: 43]. 97 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} قال ابن عباس: من يرد الله هُدَاه (¬1)، {فَهُوَ الْمُهْتَدِ}، {وَمَنْ يُضْلِلْ} قال: ومن يخذل، {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ}: يهدونهم من دون الله، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}، في حديث أبي هريرة، قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم، قال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، إنهم يتقون (¬2) بوجوههم كل حَدَبٍ وشَوْك" (¬3). وقوله تعالى: {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، ثم قال: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: 53]، وقال: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان: 12]، وقال: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]، فكيف قال في هذه الآية: {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}، ثم أجاب ¬

_ (¬1) ورد في "الوسيط" 2/ 552، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 90. (¬2) في (ش): (يتقوه). (¬3) جزء من حديث طرفه: "بحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف .. " أخرجه الترمذي (3142) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل بنصه عن أبي هريرة وحسنه، و"الطبري" بنصه دون الزيادة بين التنصيص، وورد في "تفسير الثعلبى" 7/ 121 ب، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 368 وزاد نسبته إلى ابن مردويه وأبي داود والبيهقي في البعث -لم أجده فيهما, وللحديث شاهد من طريق أنس بن مالك -رضي الله عنه- دون الزيادة بين التنصيص- أخرجه: أحمد 3/ 167 , والبخاري (4760) كتاب: التفسير، سورة الفرقان 4/ 1784، ومسلم (2806) كتاب: الجنة والنار، باب. صفات المنافقين، يحشر الكافر على وجهه 4/ 2161، والحاكم: التفسير، الفرقان 2/ 402.

ابن عباس: فقال عميًا لا يرون شيئًا يسرهم، صُمًّا لا يسمعون شيئًا يسرهم، بكمًا لا ينطقون بحجة (¬1). وقال في روايهَ عطاء: يريد عُميًا عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، وبكمًا عن مخاطبة الله تعالى، وصُمًّا عما مدح الله به أولياءه (¬2). وقال مقاتل: هذا حين يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فيصيرون عميًا بكمًا صمًا لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك (¬3). وقوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ} الخبو: سكون النار، يقال: خبت النار تخبو إذا سكن لهيبها، ومعنى خبت سَكَنت وطَفِئت، ويقال في مصدره: الخبؤ، وأخبأها المخبئ، أي أخمدها (¬4). قال الكميت: مؤجِّج نيرانِ المكارم لا المُخْبي (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 168بنصه (صحيحة)، وورد بنحوه مختصرًا في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 197، و"تفسير الثعلبي" 7/ 121 ب، و"الماوردي" 3/ 275، و"الطوسي" 6/ 524، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 61، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 368 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬2) انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 90، و"الفخر الرازي" 21/ 61، و"أبي حيان" 6/ 82 بلانسبة. (¬3) "تفسير مقاتل" 1/ 220 أ، بنحوه. (¬4) انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 177، و"تهذيب اللغة" (خبأ) 1/ 97، و"المحيط في اللغة" (خبو) 4/ 427، و"اللسان" (خبا) 2/ 1098. (¬5) صدره: ومنّا ضرارٌ وابْنَماهُ وحاجبٌ

98

قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} قال ابن عباس: سُعِّر العذابُ عليهم بأشد مما كان (¬1)، وقال ابن قتيبة: زدناهم نارًا تَتَسَعَّر، أي تَتَلَهَّب (¬2) , ومضى الكلام في السعير في سورة النساء [آية:10]. 98 - قوله تعالى {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ} هذه الآية مفسرة في هذه السورة (¬3) 99 - ثم أجابهم الله عن إنكارهم البعث بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} الآية. ومعنى {أَوَلَمْ} هاهنا: أولم يعلموا، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ} [البقرة: 258]، والمعنى: ألم يعلموا أن من قدر على خلق السموات في عظمها، {قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}، أي: على أن يخلقهم ثانيًا، وأراد بمثلهم إيّاهم، وذلك أن مثل الشيء مساوٍ له في حالته، فجاز أن يُعَبِّرَ به عن الشيء نفسه، وخَلْقُ مِثْلِهم كخلقهم، والمعنى: قادر على أن يخلق مثلهم في ضعفهم وصغرهم، هذا ¬

_ = ومنا لقيط .... مؤرث نيران .... وورد في "مجاز القرآن" 1/ 391، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 175، و"الأزهية" ص 24، و"اللسان" (خبا) 2/ 1098، وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" 3/ 1308، (ابنماه): تثنية ابن، حيث زادوا في (ابن) ميمًا للتوكيد وألحقوها الإعراب، وحركوا النون بحركتها، فقالوا: جاءني ابنُمٌ، ورأيت ابنَمًا، ومررتُ بابنِمٍ، وقالوا في الجمع: هؤلاء ابنُمونَ، (المخبي): الذي يطفئ النار؛ يقال: خبت النار والحرب، تخبو خبوًا وخُبُوًا: سكنت وطفئت وخمد لهبها، وهي خابية، وأخْبيتها أنا: أخمدتها. (¬1) أخرج "الطبري" 15/ 168 بمعناه من طريق العوفي (ضعيفة)، وابن الأنباري في "الأضداد" ص 176 - بمعناه من طريق ابن جريج "صحيحة"، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 369 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) "الغريب" لابن قتيبة 1/ 262، بنصه. (¬3) عند آية [98].

100

معنى قول أكثر المفسرين (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: {قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} يريد عبيدًا يوحدونني ويعظمونني ولا يعدلون بي شيئًا (¬2)، فالمعنى على هذا يخلق مثلهم في الخلقة والشبه، ويكون المعنى كقوله: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]. وقوله تعالى: {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]، والقول هو الأول (¬3)؛ لأنه أشبه بما قبله، ولأنه لا دليل على توحيد المخلوقين مثلهم في الآية، وتَمَّ الكلام، أي لا دليل في الآية على أن الذين يخلقهم أمثالهم يوحدونه ويعظمونه كما ذكرتم. قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} قال ابن عباس: يريد أجل الموت وأجل القيامة (¬4)، وهذا جواب لاستدعائهم العذاب في قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا}، {فَأَبَى الظَّالِمُونَ} أي المشركون، {إِلَّا كُفُورًا}: جحودًا بذلك الأجل، وهو البعث والقيامة. 100 - وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} قال أبو إسحاق: {أَنْتُمْ} مرفوعة بفعل مضمر، المعنى: قل: لو تملكون أنتم؛ لأن (لو) يقع بها ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 15/ 169، و"السمرقندي" 2/ 285، و"هود الهواري" 2/ 444، و"الثعلبي" 7/ 122 أ. (¬2) ذكره الفخر الرازي 21/ 62 بلا نسبة، وورد في "تفسير الألوسي" 15/ 1775 بلا نسبة بصيغة التمريض وردَّه. (¬3) وهو الصحيح والذي عليه الجمهور -كما ذكر- ولم يكن حاجة إلى إيراد القول الثانى المرجوح جدًا خاصة أن طريقه مقطوعة. (¬4) ورد في "الوسيط" 2/ 554 بنصه، وورد بلا نسبة "تفسير الزمخشري" 2/ 376، و"ابن عطية" 9/ 204، و"القرطبي" 10/ 334 و"الخازن" 3/ 182.

الشيء لوقوع غيره، فلا يليها إلا الفعل، فإذا وليها الاسم عمل فيه الفعل المضمر (¬1)، وأنشد قول المُتَلَمِّس (¬2): فلو غيرُ أخوالي أرادوا نَقِيصَتِي ... نَصَبْتُ لهم فَوقَ العَرانِينِ مِيسَاً (¬3) المعنى: لو أراد غير أخوالي (¬4). وأنشد غيره لجرير (¬5): لو غَيْرُكم عَلِقَ الزُّبَير بحبله ... أدّى الجوارَ إلى بني العَوّامِ (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "المقتضب" 3/ 77، و"الكامل" 1/ 279، و"مغني اللبيب" ص 353، و"الدرر اللوامع" 5/ 99. (¬2) المتلمس؛ هو جرير بن عبد المسيح، من بني ضُبَيعة، وأخواله بنو يَشْكُر، وهو خال طرفة بن العبد، شاعر جاهلي مُفْلقٌ مُقلّ، عدّه الجمحي في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية، دبّر عمرو بن هند ملك الحيرة قتله هو وطرفة بعد أن هَجَوَاه، فنجا المتلمس وهرب إلى بني جفنة ملوك الشام وقتل ابن أخته، قتله عامل البحرين، توفي نحو سنة (569 م). انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 155، و"الشعر والشعراء" ص 99، و"لأغاني" 24/ 216، و"الخزانة" 6/ 345. (¬3) "ديوانه" ص 29، وورد في "الأصمعيات" ص 245، و"مختارات ابن الشجري" ص 122، و"تفسير ابن الجوزي" 5/ 91، و"الخزانة" 10/ 59، وورد بلا نسبة في: "الكامل" 1/ 279، و"المقتضب" 3/ 77، و"تذكرة النحاة" ص 490، و"اللسان" (نقص) 8/ 4523، وفي الديوان وجميع المصادر -عدا ابن الجوزي-: (جعلت) بدل (نصبت). (نقيصتي): تنقصي، (العرانين): جمع عِرْنين؟ وهو أعلى قصبة الأنف، (ميسما): الميسم: هو الآلة التي يوسم بها، ومقصوده: أَسِمُهم على العرانين، أي أهجوهم هجاءً يبقى أثرُه في وجوهم ويلزمهم لزوم الميسم للأ نف. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 262، بنصه. (¬5) ساقطة من (ش). (¬6) "ديوانه" ص 453 وفيه (ورَحْلَهُ)، وورد في: "الكامل" 1/ 279، =

أي لو عَلِقَ غيْرَكُمْ، والخطاب في هذه الآية للمشركين، قال ابن عباس: {قُلْ}: يا محمد (¬1)، {لَّوْ انتُمْ}: يا معشر المشركين، {تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} يريد خزائن الرزق، {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ} يريد إذا لبخلتم. قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شُحًّا وبُخْلاً، قال: وهذا جواب لقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (¬2) يريد أنهم طلبوا عين ما في بلدهم ليكثر مالهم ويتسع عيشهم، فأعلمهم الله أنهم لو ملكوا الكثير لبخلوا؛ لأنهم جُبِلوا على الإمساك، والبخيل لا ينفعه كثرة المال. وقوله تعالى: {خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} خشية منصوب على أنه مفعول له. قال ابن عباس: خشية الفقر (¬3)، وقال قتادة: خشية الفاقة (¬4). قال أبو عبيدة: يقال: قد أملق الرجل إملاقًا، وأنفق إنفاقًا، إذا قَلّ ماله (¬5). ¬

_ = و"شرح شواهد المغني" 2/ 657، و"الخزانة" 5/ 432، و"الدرر اللوامع" 5/ 98، وورد بلا نسبة في "المقتضب" 3/ 78، و"تفسير الطوسي" 6/ 525، و"مغني اللبيب" ص 353. (¬1) ورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 15/ 170، و"الطوسي" 6/ 525. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 261، بنصه مع تقديم وتأخير. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 170 بلفظه من طريق الحجاج عن ابن جريج (صحيحة)، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 198. (¬4) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 390 - بلفظه، و"الطبري" 15/ 170 بلفظه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 198 - بمعناه، و"تفسير الماوردي" 3/ 276 - بمعناه، و"الطوسي" 6/ 525 - بمعناه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 369 - 370، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 208 وعبارته: {مِنْ إِمْلَاقٍ}: من ذهاب ما في أيديكم؛ يقال: أملق فلان؛ اي ذهب ماله.

قال المبرد: المعروف في الإنفاق أنه إخراج المال عن اليد، فإن كان قد روي في اللغة معنى الإعدام فهو كما قال أبو عبيدة، وإلا فمعنى الكلام في الآية: خشية أن يستفرغكم الإنفاق ويُجْحِفَ بكم، فيكون الكلام من باب حذف المضاف على تقدير: خشية ضرر الإنفاق وما أشبهه (¬1)، وهذا معنى قول السدي: خشية أن ينفقوا فيفتقروا (¬2). وقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: بخيلًا (¬3)، يقال: قَتَرَ يَقْتِرُ ويَقْتُر قَتْرًا، وأقْتَرَ إقتارًا، وقَتَّر تَقْتيرًا، إذا قَصَّر في الإنفاق (¬4). قال الليث: القَتْرُ: الرُّمْقة في النَّفقة؛ وهو أن ينفق ما (¬5) يُمْسِك الرّمَق (¬6). فإن قيل في الناس: الجواد المُبَذِّر، فلم قيل: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}؟ الجواب: أن الأغلب عليهم البخل والاقتصار، ولا اعتبار بالنادر، على أن ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 554، بنصه. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 170 بلفظه عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، ومن طريق ابن جريج (صحيحة)، وعن قتادة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 199، عن ابن عباس، و"تفسير الماوردي" 3/ 276، عنهما, أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 369 وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن ابن عباس، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة. (¬4) انظر: (قتر) في "جمهرة اللغة" 1/ 393، و"المحيط في اللغة" 5/ 360، و"مجمل اللغة" 2/ 742، و"اللسان" 6/ 3525. (¬5) في (أ)، (د)، (ش): (ماله)، والمثبت من. (ع)، وبه يستقيم المعنى، وهو أقرب لما في المصدر. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (قتر) 3/ 288، بتصرف.

101

كل أحد بخيل بالإضافة إلى جُود الله؛ إذ لو ملك خزائن ربه لادّخر معظمها لنفسه، والله -عز وجل- يفيضها على عباده لا يمنعه عن ذلك الإبقاء لنفسه، لأنه يجلّ عن لحَاق النفع والضر. وقال أبو إسحاق: يعني بالإنسان هاهنا الكافر خاصة، كما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:6, 8]، أي: المال (¬1)، {لَشَدِيدٌ}: لبخيل (¬2)، وهذا قول الحسن (¬3). 101 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} الآية. وجه اتصال معنى هذه الآية بما قبلها أنه ذكر في هذه الآية إنكارَ فرعونَ آياتِ موسى مع وضوحها، فيكون في ذلك تشبيها لحال هؤلاء المشركين بحاله وتسلية للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-. واختلفوا في الآيات التسع مع اتفاقهم أن منها: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فهذه خمس، وأما الأربعة الباقية، فروى قتادة عن ابن عباس قال: هي يده البيضاء عن غير سوء، وعصاه إذا ألقاها، وما ذكر في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130] قال: {السِّنِينَ} لأهل البوادي حتى هلكت مواشيهم، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأهل القرى، وهاتان آيتان (¬4)، ونحو هذا ¬

_ (¬1) ساقطة من (ع). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 261، بتصرف يسير. (¬3) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 276، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 335، وورد بلا نسبة في: "تفسير مقاتل" 1/ 220 أ، و"هود الهواري" 2/ 445، والجمهور -كما في "التفسير الماوردي"- على أنها عامة، وهو الصحيح. (¬4) أخرجه "عبد الرازق" 2/ 390, بنحوه , و"الطبري" 15/ 171, بنحوه من طريقين, وورد في:"تفسير السمرقندي" 2/ 285, بنحوه , و"الثعلبي" 7/ 122 أ, =

روى أبو صالح وعكرمة (¬1)، وهذا قول مجاهد (¬2). وقال محمد بن كعب القرظي بدل السنين ونقص من الثمرات فَلْق البحر والطمسة، وهي أن الله تعالى مسخ أموالهم حجارة ميت النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير (¬3)، وهذا الذي ذكرنا أجود ما قيل في تفسير الآيات (¬4). وقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال ابن عباس: فأسأل يا محمد بني إسرائيل (¬5)، يريد المؤمنين من قريظة والنضير، {إِذ جَآءَهُم} يريد موسى، ونظم الآية على غير ما هو عليه في الظاهر؛ لأن (إذ) تتعلق بالإتيان لا بالسؤال، وتقدير الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، {إِذ جَاَءَهُم}: ¬

_ = و"الماوردي" 3/ 277، و"الطوسي" 6/ 527 وفي المصادر الثلاثة الأخيرة: العقدة بلسانه [وفيه نظر؛ لأن وجه الآية فيه غير ظاهر]، وفَلْق البحر بدل السنين ونقص الثمرات، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 370، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق. (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 171، بنحوه عن عكرمة، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 122 أ، بنحوه عن عكرمة، و"الطوسي" 6/ 527، بنحوه عن عكرمة عن ابن عباس. (¬2) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 200، و"تفسير الثعلبي" 7/ 122 أ، و"الطوسي" 6/ 527. (¬3) أخرجه "الطبري" 15/ 171، بنحوه، لكنه ذكر الحجر بدل فلق البحر، وعرفّ الطمسة بقوله: دعا موسى وأمَّن هارون، فقال {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 122 أمع زيادات، و"الماوردي" 3/ 277، كرواية الطبري، و"الطوسي" 6/ 527، بنحوه. (¬4) قال ابن كثير 3/ 75: وهذا القول ظاهر جلي، حسن قوي، يقصد قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. (¬5) ورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" 15/ 173، و"الثعلبي" 7/ 122 ب، و"هود الهواري" 2/ 445، و"البغوي" 5/ 134، و"الخازن" 3/ 183.

بني إسرائيل فسألهم، إلا أنه لمّا عُلِّق السؤال ببني إسرائيل كُنِّى عنهم [في قوله: {جَاءَهُمْ} والمراد: إذ جاء آباءهم الذين كانوا في ذلك الوقت، ولكنهم لمَّا كانوا من بني إسرائيل كنى عنهم] (¬1)؛ لتقدم ذكر بني إسرائيل في الجملة، وقوله: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اعتراض دخل في كلام متصل. وقال أهل المعاني في معنى هذا السؤال: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُمر بأن يسألهم لا ليعرف ذلك من جهتهم، ولكن لينكشف لعامة اليهود بقول علمائهم صِدقُ ما أتى به وأَخْبَر عنه، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}، قيل في المسحور هاهنا: إنه بمعنى الساحر؛ كالمشؤوم والميمون، وذكرنا هذا في قوله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] هذا قول الفراء وأبي عبيدة (¬2)، وقيل: إنه مفعول من السحر؛ أي أنك قد سُحِرت فأنت تحمل نفسك على هذا الذي تقوله للسحر الذي بك (¬3). وقال محمد بن جرير: أي مُعْطَى عِلْم السحر، فهذه العجائب التي تأتي بها من سحرك (¬4)، فأجابه موسى: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (د). (¬2) ليس في المعاني ولا المجاز، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 122 ب، بنحوه عنهما، وهو مصدره، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 135، و"القرطبي" 10/ 336، عنهما، و"ابن الجوزي" 5/ 94، و"الفخر الرازي" 21/ 65، كلاهما عن الفراء. (¬3) ورد نحوه في "تفسير الطبري" 15/ 173 - 174، و"الماوردي" 3/ 278، و"الطوسي" 6/ 528. (¬4) "تفسير الطبري" 15/ 173 - 174، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 122 ب بنصه، والظاهر أنه اقتبسه منه لا من الطبري.

102

102 - بقوله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ} يعني الآيات، {إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} أي عِبرٌ أو دلالات، وذكرنا معنى البصائر في آخر سورة الأعراف [: 203]. وقراءة العامة بفتح التاء (¬1)، [وقرأ الكسائي: علمتُ بضم التاء (¬2)، والاختيار عند الجميع فتح التاء، وهو قراءة ابن عباس، وضم التاء] (¬3) قراءة علي -رضي الله عنه-، وكان يقول: والله ما عَلِمَ عدو الله، ولكن موسى هو الذي عَلِم، فبلغ ذلك ابن عباس فاحتج بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى (¬4). وقال الزجاج: (الأجود في القراءة فتح التاء؛ لأن عِلم فرعونَ) (¬5) بأنها آيات من عند الله أوكد في الحجة (¬6)؛ فموسى يحتج عليه بما علم ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" ص 386، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 383، و"علل القراءات" 1/ 330، و"الحجة للقراء" 5/ 122، و"المبسوط في القراءات" ص 231، و"التبصرة" ص 141، و"النشر" 2/ 309. (¬2) انظر المصادر السابقة. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د). (¬4) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للفراء 2/ 132، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 201، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 384، و"تفسير الثعلبي" 7/ 122 ب، وانظر: "تفسير الرازي" 21/ 65، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 370 - 371 وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم، دون رد ابن عباس -رضي الله عنه-. قال أبو حيان 6/ 86: وهذا القول عن علي -رضي الله عنه- لا يصح؛ لأنه رواه كلثوم المرادي، وهو مجهول. (¬5) ما بين التنصيص ساقط من (أ)، (د) (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 263 بنصه. وعبارته الأجود غير جيدة؛ لأنها تقتضي انتقاص القراءة الأخرى السبعية.

هؤلاء بما علم موسى، وأما من ضم التاء فحجته ما ذكرنا عن علي. فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج عليه بعلمه، وعلمه لا يكون حجة على فرعون؟ فالجواب: أنه لما قيل له: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، قال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ}، فكأنه نفى ذلك وقال: لقد علمتُ صحةَ ما أَتَيْتُ به علمًا صحيحاً؛ علم العقلاء (¬1)، وفي قوله: {مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} دليل على قول من يقول: إن الآيات التسع كانت آيات من التوراة، وهو ما رُوي عن صفوان بن عسال (¬2) عن يهوديين سألا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشركوا بالله، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا, ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، قال؛ فَقَبَّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبيّ" (¬3). ¬

_ (¬1) ورد في "الحجة للقراء" 5/ 123، بنحوه، و"تفسير الطوسي" 6/ 526، بنحوه (¬2) صفوان بن عسال -رضي الله عنه- صحابي من بني الرَّبَض بن زاهر المرادي، سكن الكوفة، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنتي عشرة غزوة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث، روى عنه عبد الله ابن مسعود، وزِر بن حُبَيْش، وعبد الله بن سَلِمَة. انظر: "الاستيعاب" 2/ 279، و"أسد الغابة" 3/ 28، و"الإصابة" 2/ 189. (¬3) أخرجه بنحوه: ابن أبي شيبة 7/ 329، وأحمد 4/ 239، والترمذي (3144) كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وقال: حسن صحيح، والنسائي: تحريم الدم والسحر 7/ 111، و"الطبري" 15/ 172 بنصه وبنحوه من طرق، والطبراني 8/ 83، والحاكم 1/ 9 وصححه، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 97، والبيهقي في "الدلائل" 6/ 268 وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 199 بنصه مع زيادة في =

وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} قال الكلبي: وإني لأعْلَمُك يا فرعون (¬1)، {مَثْبُورًا} قال ابن عباس: ملعونًا (¬2). وقال قتادة: مهْلَكًا (¬3)، وقال مجاهد: هالِكًا (¬4). قال الفراء: المثبور: الملعون المحبوس عن الخير، والعرب تقول: ما ثَبَرك عن هذا؟ أي ما منعك منه وما صرفك (¬5). وروى أبو عبيد عن أبي زيد: ثَبَرْتُ فلانًا عن الشيء: رَدَدْتُه عنه (¬6). ¬

_ = آخره، و"الماوردي" 3/ 277، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 527، بنحوه. قال ابن كثير 3/ 75: وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سَلِمَة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون. وعليه فالحديث لا دلالة فيه، فضلاً عن كونه ضعيفًا. (¬1) ورد بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" 2/ 286، وهو قول أكثر المفسرين، كما قال ابن الجوزي 5/ 94. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 175 بلفظه من طريق سعيد بن جبير، ومن طريق ابن أبي طلحة (كلاهما صحيحة)، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 203, و"تفسير السمرقندي" 2/ 286، و"الثعلبي" 7/ 122 ب، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 371 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 391 بلفظه، و"الطبري" 15/ 176، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 203 بلفظه، و"تهذيب اللغة" (ثبر) 1/ 471، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" 2/ 386 بلفظه، والماوردي 3/ 278، بنحوه. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 371، بنحوه، أخرجه "الطبري" 15/ 176 بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 203، و"تهذيب اللغة" (ثبر) 1/ 471، و"تفسير الثعلبي" 7/ 122 ب، و"الطوسي" 6/ 528. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 132، بنصه تقريبًا. (¬6) ورد في "تهذيب اللغة" (ثبر) 1/ 471, بنصه.

103

وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: المثْبُور: الملْعُون المطْرود المُعَذَّب (¬1)، هذا وجه قول ابن عباس. وأما وجه قول مجاهد وقتادة، فقال الزجاج: ثُبِرَ الرجل فهو مثبور إذا أهلك (¬2)، والثبور الهلاك، قال شمر: ومَثَلٌ للعرب: إلى أُمّه يأوي من ثُبِر؛ أي مَن أُهلِك (¬3). قال أبو عبيد: والمعروف في الثبور الهلاك، والملعون هالك (¬4). 103 - قوله تعالى: {فَأَرَادَ} قال ابن عباس: يريد فرعون (¬5) {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ}، أي: يخرجهم، يعني: موسى وقومه بني إسرائيل، ومضى تفسير الاستفزاز في هذه السورة [آية: 64]، {مِنَ الْأَرْضِ} يعني: أرض مصر (¬6). قال أبو إسحاق: جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل وبالتنحية، وهذه الآية وما بعدها تسلية للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذ قص عليه -في إِثْر ما ذكر من تكذيب قومه وهمهم بإخراجه- قصة فرعون، وما همّ به من استفزاز موسى وبني إسرائيل من أرض مصر، حتى أهلكه الله تعالى وأورثهم ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (ثبر) 1/ 471، بنصه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 263، بنصه. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (ثبر) 1/ 471 بنصه، انظر: "اللسان" (ثبر) 1/ 469، و"موسوعة أمثال العرب" 2/ 650. (¬4) لم أقف على مصدره. (¬5) ورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 7/ 123أ، و"الطوسي" 6/ 529، و"البغوي" 5/ 135، و"ابن الجوزي" 5/ 135. (¬6) ورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" 2/ 446, و"الثعلبي" 7/ 123 أ؛ و"الطوسي" 6/ 529, والبغوي" 5/ 135.

104

أرضهم وديارهم وأموالهم، لذلك أظهر نبيه محمدًا (¬1) -صلى الله عليه وسلم- على المشركين, ورده إلى مكة ظاهرًا عليهم، فأنجز وعْدَه، ونصر عبده. 104 - وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} قال ابن عباس: يريد القيامة (¬2)، {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}، أي: جميعًا، في قول مجاهد وقتادة (¬3). وقال ابن عباس: يريد من كل موضع (¬4). وروى منصور عن أبي رَزين (¬5): من كل قوم (¬6). قال الفراء: من هاهنا وهاهنا (¬7). وقال الزجاج: من كل قبيلة (¬8). وروى عمرو عن أبيه: اللفيف: الجمع العظيم من أخلاط شتى، ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ)، (د). (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 306، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 220 ب، و"الطبري" 15/ 176، و"السمرقندي" 2/ 286، و"الثعلبي" 7/ 123 أ، وهذا هو قول الجمهور. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 371 بلفظه، أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 391 - بلفظه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 177 بلفظه عنهما من طرق، وورد بلفظه: في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 204، عنهما، و"تفسير هود" 2/ 446، عن مجاهد، و"الثعلبي" 7/ 123أ، و"الماوردي" 3/ 278، عن قتادة. (¬4) ورد في "تفسير الماوردي" 3/ 278 بمعناه، وفي "تفسير الطبري" 15/ 177، عنه من طريق العوفي (ضعيفة): جميعًا. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) أخرجه "الطبري" 15/ 177 بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 204 (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 132، بنصه. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 263, بنحوه.

105

فمنهم الشريف والدني، والمطيع والعاصي، والقوي والضعيف (¬1). وقال المبرد: الأكثر عند العرب أن اللفيف إنما يقال للمختلطين من كل شيء خلطته بشيء فقد لففته، ومنه قيل: لفَفَتَ الجيوشَ إذا ضربت بعضها ببعض، والتفت الزحوف (¬2). والمعنى: جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطًا، يعني جميع الخلق؛ المسلم والكافر والبر والفاجر. 105 - قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} الحق نقيض الباطل، وهو الثابت الذي لا يزول، كما أن الباطل: الزائل الذاهب، وأراد بالحق هنا: الدين الحق والأمر الحق، وهو ما كان عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- والكناية في: {أَنْزَلْنَاهُ} للقرآن، ومعناه: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين القائم، قال أبو علي الفارسي: (الباء) في: {وَبِالْحَقِّ} في موضع الحال من الضمير في {أَنْزَلْنَاهُ}، يعني أنه بمعنى: مع، كما تقول: نزل بِعُدّته وخرج بسلاحه، والمعنى: أنزلنا القرآن مع الحق. وقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} قال: يحتمل الجار فيه ضربين؛ أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول: نزلت يزيد، والثاني: أن يكون حالاً من الضمير الذي في نزل، هذا كلامه (¬3)، وعلى القول الأول: الحق محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن القرآن نزل به عليه، وعلى القول الثاني: معناه نزل مع الحق، كما قلنا في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ}. ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (لفف) 4/ 3281، بنصه. (¬2) لم أقف عليه، وورد نحوه بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 7/ 123 أ، و"الطوسي" 6/ 529، و"الفخر الرازي" 21/ 66. (¬3) لم أقف عليه.

106

106 - قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} يَنْتَصبُ قرآنًا بإضمار فعل، مثل الذي ظهر (¬1)، قال أبو علي: (وَقُرْءَانًا) يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون محمولًا على {أَنْزَلْنَاهُ} كأنه قال: بالحق أنزلناه وأنزلنا قرآناً, فانتصابه على أنه مفعول به، والوجه الآخر: أن تعطفه على ما يتصل به كأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وذا قرآن وصاحبَ قرآن (¬2)، فحذف المضاف (¬3)، وعلى ما ذكر أبو علي -في القول الثاني- يجب أن يكون القرآن نكرة لوصفه له بالجملة من غير الذي، وقد ذكر في قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزمر: 28] أنه يجوز أن يكون نكرة (¬4)، وذلك غير جيد لتنكير (¬5) الاسم العلم (¬6)، و {فَرَقْنَاهُ}: فَصَّلناه، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (¬7). ¬

_ (1) مذهب سيبويه؛ أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعدُ؛ أي: وفرقناه قرآنًا، "تفسير ابن عطية" 9/ 215. (¬2) في (أ)، (د)، (ش): (قرآنًا). وهو خطأ نحوي ظاهر، والمثبت من (ع) وموافق لما في المصدر. (¬3) "المسائل الحلبيات" ص 298، بنصه. وهذا القول فيه تكلف وبعد عن ظاهر القرآن الواضح، وظاهر الآيتين أن الله تعالى وصف القرآن الكريم بثلاث صفات، أنه كله حق لأنه نزل من عنده، والثاني: أن جميع ما فيه حق لا مرية فيه، والثالث: أنه جاء محكمًا مفصلًا وواضحًا بَيّنًا، أو أراد وصفه بأنه نزل منجمًا مفرقًا بحسب الوقائع والأحداث. أملاه عليّ أ. د. فضل عباس، أحد علماء الأردن المعاصرين. (¬4) المصدر السابق ص 297، بنحوه. (¬5) في (أ)، (د)، (ش): (لنكير)، والمثبت من (ع). (¬6) وهذه إشارة إلى أنه من القائلين بأن القرآن علم مرتجل، وهي مسألة خلافية بين العلماء في أصل القرآن، هل هو مشتق أو علم مرتجل؟ انظر: "مناهل العرفان" 1/ 14، و"المدخل لدراسة القرآن الكريم" ص 17، و"مباحث في علوم القرآن" ص 16. (¬7) أخرجه "الطبري" 15/ 178 بلفظه من هذه الطريق (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" 7/ 123 أ.

وقال سعيد بن جبير عنه: نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى في السنين التي نزل فيها (1). وقال قتادة: كان بين أوله وآخره عشرون سنة (2)، وهو معنى قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}، وقال السدي: قطعناه آية آية وسورة سورة، ولم ننزله جملة (3)، والاختيار عند الأئمة: فرقناه مخففًا (4)، وفَسّره أبو عمرو: بَيَّناه (5). وقال الفراء: أحكمناه (6) وفصَّلناه؛ كما قال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] أي يُفَصّل (7). قال أبو عبيد: والتخفيف أعجب إليّ لأن تفسيره: بَيّناه، ومن قرأ بالتشديد (8) لم يكن له معنى إلا أنه أُنزل متفرقًا، والتأويل الأول أعجب إليّ

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 178، بنحوه من طريق عكرمة (حسنة) , وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 530، بنحوه. انظر: "تفسير الرازي" 21/ 68، عن ابن جبير. (2) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 391 بنصه، و"الطبري" 15/ 178 بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 530 بنصه. (3) ورد في تفسيره "الوسيط" 2/ 559، بنصه، وهو في معنى قول ابن عباس وقتادة السابقين. (4) قرأ بها السبعة وعامة قراء الأمصار، انظر: "تفسير الطبري" 15/ 178، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 384. (5) ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 205 بلفظه. (6) في جميع النسخ: (حكيناه)، والصواب ما أثبته؛ لأنه هو المناسب للمعنى والمقابل لقوله: فصلناه، وقد ورد في المصدر والتهذيب: أحكمناه (7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 133 بنصه تقريبًا، انظر: "تهذيب اللغة" (فرق) 3/ 2778. (8) أخرجها الطبري عن ابن عباس 15/ 178، ونسبت في "القرأءات الشاذة" لابن خالويه ص81 إلى أُبيّ وابن عباس ومجاهد, وأوردها ابن جني في "المحتسب" 2/ 23، ونسبها إلى علي وابن عباس وابن مسعود وأُبيّ والشعبي والحسن وقتادة وغيرهم. وفي "الإتحاف" ص 287 قرأ بها ابن محيصن. وزاد ابن عطية 9/ 216 أن في قراءة ابن مسعود وأبي زيادة كلمة (عليك)، أي: فَرَّقْنَاه عليك لتقرأه، وكلتا الروايتين قراءة شاذة كما هو ظاهر.

وأشرق، هذا كلامه (¬1)، وحصل من هذا أن معنى الفَرْق تفصيل يتضمن التبيين، والتفريق لا يتضمن التبيين، ولهذا فسروا هاهنا وفي قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ} [الدخان: 4] بالتبيين. ومما يرجح التخفيف ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقتُ أفْرُقُ بين الكلام، وفَرَّقتُ بين الأجسام (¬2)، ويدل على هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬3)، ولم يقل: يفترقا، والتفرق مطاوع التفريق، والافتراق مطاوع الفرق، ومعنى: {عَلَى مُكْثٍ} على تؤدة وتَرَسُّل، قاله مجاهد (¬4). قال الفراء: يقال: مَكُثَ ومَكَثَ ومَكِثَ، ويقال في الفعل: مَكُث ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (فرق) 3/ 2778 بنصه. (¬3) أخرجه بلفظه: أحمد 2/ 9، عن ابن عمر، والبخاري (2079) كتاب: البيوع، باب: إذا بيَّن البيّعان عن حكيم بن حزام، والدارمي: البيوع، في البيعان بالخيار 2/ 325، عن حكيم، والطبراني في "الكبير" 3/ 199، عن حكيم، والحاكم: البيوع، البيعان بالخيار 2/ 16، عن سمرة بن جندب، والبيهقي: البيوع، المتبايعان بالخيار 5/ 269، عن ابن عمر. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 371 بمعناه؛ قال: على ترتيل، وأخرجه "عبد الرزاق" 2/ 391, بلفظه، و"الطبري" 15/ 179 بلفظه وبمعناه، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 205 و"تفسير هود الهواري" 2/ 446، و"الماوردي" 3/ 279، و"الطوسي" 6/ 531.

107

ويَمْكُث ومَكَث يَمْكَث (¬1)، والفتح قراءة عاصم في قوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (¬2) [النمل: 22]، قال: فَرَّقَه الله في التنزيل ليفهمه الناس، فقال: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}. وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} قال ابن عباس: [نجوما بعد نجوم، وشيئًا بعد شيء (¬3). 107 - قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} قال ابن عباس] (¬4): {قُلْ}: لأهل مكة، {آمِنُوا}: بالقرآن (¬5)، {أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} وهذا تهديد؛ أي فقد أنذر الله ووعد (¬6) وبَلَّغَ الرسول، فاختاروا ما تريدون، كما قال: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55]. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل نزول القرآن، قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- خروا سجدًا (¬7). ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" (مكث) 4/ 3433 مختصرًا , وورد في "تفسير الفخر الرازي" 21/ 68 مختصرًا، ومكث مثلثة الأول بمعنى اللَّبْث والإقامة، انظر: "إكمال الإعلام بتثليث الكلام" 1/ 15، و"الدرر المبثّثة في الغرر المثلثة" ص 190. (¬2) انظر: "السبعة" ص 480، و"الحجة للقراء" 5/ 380، و"المبسوط في القراءات" ص 278، و"التيسير" ص 167. (¬3) لم أقف عليه، وأخرجه "الطبري" 15/ 179 - 180 بمعناه عن الحسن وقتادة، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 531، وورد في "الوسيط" 2/ 559 بنصه غير منسوب. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ش). (¬5) ورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" 1/ 221 أ، و"الطبري" 15/ 180، و"الوسيط" للواحدي 2/ 559. (¬6) في (أ)، (د): (ووعده)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬7) أخرجه "الطبري" 15/ 181, بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 123 أ، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 532، بنحوه.

وقال ابن عباس: منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل (¬1)، وعلى هذا ليس المراد بقوله: {أُوتُوا الْعِلْمَ} أهل الكتاب، وإنما هم طلاب الدين. وقوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} قال ابن عباس في رواية؛ الوالبي: يخرون للوجوه (¬2)، وهو قول قتادة (¬3). وقال في رواية عطاء: يريد: يسجدون بوجوههم وجباههم وأذقانهم (¬4). قال أبو إسحاق: والذَّقَنُ مجمع اللَّحْيَيْنِ (¬5)، وهو عضو من أعضاء الوجه، وكما يبتدئ المبتدئ يَخِرُّ فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذَّقَنُ (¬6)، وعلى هذا إنما خص الذقن بالذكر؛ لأنه أقرب أبعاض الوجه إلى الأرض، وهو هاهنا عبارة عن الوجه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه, وورد بلا نسبة في: "تفسير البغوي" 5/ 136, و"ابن عطية" 9/ 217, و"الفخر الرازي" 21/ 69. (¬2) أخرجه "الطبري" 15/ 180 بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" 3/ 209، و"الثعلبي" 7/ 123 أ، و"الماوردي" 3/ 280، و"الطوسي" 6/ 532، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 372 وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 392 بلفظه، و"الطبري" 15/ 180 بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 8/ 205، و"تفسير الجصاص" 3/ 209، و"الماوردي" 3/ 280، و"الطوسي" 6/ 532. (¬4) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 560 بنصه بلا نسبة. (¬5) في (أ)، (د): (للجبين)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهوالصحيح والموافق للمصدر. انظر: "المحيط في اللغة" (ذقن) 5/ 375. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 264، بنصه.

وروى عبد الرزاق عن معمر قال: قال الحسن: لِلّحى (¬1)، وعلى هذا القول: الأذقان عبارة عن اللِّحَى، وخصت بالذكر لأن المعنى أنهم يضعونها على الأرض للسجود تواضعًا لله تعالى، واللِّحْية تُلْقي بالإكرام والتنظيف، فإذا أذلوها في التراب فهو غاية التواضع، واللام هاهنا بمعنى على، كقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات: 2] أي عليه، والعرب تقول: سقط فلان لفيه، أي على فيه، قال الشاعر: فخر صريعًا لليدين وللفم (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 392 بلفظه، و"الطبري" 15/ 180 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" 3/ 359، و"الماوردي" 3/ 280، و"الطوسي" 6/ 532. (¬2) صدره: تناولهُ بالرُّمحِ ثُمَّ اتَّنَى لَهُ نسب لجابر بن حُنَيّ التَّغْلِبي في "المفُضَّليات" ص 212، و"شرح شواهد المغني" 2/ 562. ونسب لربيعة بن مُكدَّم في "الأغاني" 16/ 75 برواية: وهتكت بالرمح الطويل إهابه ... فهوى ............ ونسب لعمام بن مقشعر البصري في "معجم الشعراء" ص 101 برواية: دلفته بالرمح من تحت بزه ونسب للأشعث الكندي في "الأزهية" ص 288 برواية: تناولْت بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيَابَهُ وورد بلا نسبة في: "أدب الكاتب" ص 511، و"تفسير الزمخشري" 2/ 378، و"القرطبي" 10/ 341، و"رصف المباني" ص 297، و"الجنى الداني" ص 101، و"مغني اللبيب" ص 280، و"شرح الأشموني" 2/ 388. (تناوله بالرمح): طعنه، (اتَّنَى): أراد اثتنى فأدغم الثاء في التاء، فأبدلهما تاءً، ويروى انثنى، (خرّ): سقط. "شرح اختيار المفضل" 2/ 955.

والمعنى أنهم يبادرون إلى السجود فيسقطون على الأذقان أولاً إذا وقعوا بالأرض إلى أن نصبوا (¬1) جباههم على الأرض للسجود؛ لأن الذقن ليس من أعضاء السجود، ويدل على هذا (¬2) قوله: {يَخِرُّونَ} ولم يقل: يسجدون؛ لأنه أراد مسارعتهم إلى ذلك حتى إنهم ليسقطون ويقولون في سجودهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا}، أي: ينزهونه ويعظمونه، {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}: أي وعده بإنزال (¬3) القرآن وبعث محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب؛ لأن الوعد ببعث محمد -صلى الله عليه وسلم- سبق في كتابهم، فهم كانوا ينتظرون ذلك الوعد. وذكر الليث وجهًا آخر في قوله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} فقال: العرب تقول إذا خَرّ الرجل فوقع على وجهه: خَرّ للذقن، وكذلك الشجر والحجر إذا قلبه السيل يقال: كبه السيل للذقن (¬4)، ويدل على ما ذكره قول امرئ القيس يصف سيلًا شديدًا (¬5): يَكُبُّ على الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ (¬6) ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ , والعبارة قلقة, ولعلها (يصيبوا) من الإصابة, وهي الإنسب للسياق. (¬2) في (أ)، (د)، (ش): (أن هذا) والمثبت من (ع). (¬3) في (أ)، (د): (بأنزل)، والمثبت من (ش)، (ع). (¬4) ورد بنحوه غيرمنسوب في "تفسير الفخر الرازي" 21/ 69. (¬5) في (أ)، (د): (سبيلًا شديد)، والصحيح المثبت من (ش)، (ع) لغويًّا ونحويًّا. (¬6) وصدره: وأضْحى يَسُحُّ الماءَ عن كلِّ فيقةٍ "ديوانه" ص 121، وورد في: "أساس البلا غة" ص 299 مادة: (ذقن)، و"اللسان" (كهبل) 7/ 3945، (ذقن) 3/ 1506 (فيقة): الفيقة: الفترة ما بين الحلبتين، (كنهبل): أصله كَهْبَل والنون فيه زائدة، وهو شجر عظام من العِضاه، وقيل: صنف من الطَّلح قصار الشوك، والمعنى: كأنه يقول: إن المطر يسح ويسكن أخرى، يكب على الأذقان دوح الكنهبل، يقتلع شجر الكنهبل من أصوله ويلقيه على أم رأسه لشدة سحه وهيجه.

109

فلما استعمل ذلك في الشجر إذا سقط واستعير له الذقن، كان ذكره في الإنسان الذي له الذقن أولى. وقوله تعالى: {سُجَّدًا} حال (¬1) مقدرة، المعنى: يَخِرّون مقدرين للسجود؛ لأن الإنسان في حال خُرُورِه لا يكون ساجدًا، قاله أبو إسحاق في قوله: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬2) [مريم: 58]، ومثله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقد مرّ. قال أبو إسحاق: و (إن) و (اللام) في: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} دخلتا للتوكيد (¬3)، ومضى الكلام في مثل هذا في مواضع. 109 - قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} أعاد هذا لأن الأول للسجود، والثاني لغير السجود، ولكن للذّلة والخشوع عند استماع القرآن، يدل عليه قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}، ويجوز أن يكون تكرير القول دلالة تكرر الفعل منهم. وقوله تعالى: {يَبْكُونَ} معناه الحال، {وَيَزِيدُهُمْ}، أي: القرآن، {خُشُوعًا}: تواضعًا، وذكرنا معنى الخشوع في أوائل سورة البقرة (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ)، (د)، (ش): (قال)، والمثبت من (ع). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 335، بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 264، بنصه. (¬4) آية [45].

110

110 - قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} الآية. قال ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو ساجد ذات ليلة: يا رحمن، فسمعه أبوجهل -وهم لا يعرفون الرحمن-، فقال: إن محمدًا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهًا آخر مع الله يقال له: الرحمن، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} (¬1) ,أي: قل يا محمد: ادعوا الله يا معشر المشركين (¬2)، {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} أي إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن. {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى واحدٍ، فقال: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} المعنى أي أسماء الله تدعوا {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3). وقال المبرد: يقول إذا دعوتم الله الرحمن فإنما تدعون واحداً، يعني أن تَخْيِيره (¬4) بين أن يُدْعى الله وبين أن يدعى الرحمن إنّما هو لأنهما واحد، يَدلّ على هذا: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬5) قال النحويون: (أي) في الكلام تقع في ثلاثة مواضع؛ أحدها: الاستفهام، والآخر: الجزاء، والثالث: الخبر (¬6)، فإذا كان استفهامًا أو جزاءً لم تَحْتَج إلى صلة، وعمل ¬

_ (¬1) أخرجه "الطبري" 15/ 182، بنحوه من طريق أبي الجوزاء (ضعيفة)، وورد بنحوه في "تفسير الثعلبي" 7/ 123 ب، و"الماوردي" 3/ 281، و"الطوسي" 6/ 533، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص 302، بنحوه بلا سند، وأورده السيوطي في "الدر" و"اللباب" 5/ 348، ص 142 وعزاه إلى ابن مردويه. (¬2) في جميع النسخ: (يا معشر المؤمنين)، والصواب ما أثبته، كما في "الطبري" 15/ 182، و"ابن كثير" 3/ 77، وسياق الكلام يدل عليه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 264، بنصه (¬4) في (أ)، (د)، (ش): (يختبره)، والمثبت من (ع). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ذكر في "الأزهية" أنها تأتي على سنة أوجه: تكون جزاءً، واستفهامًا، وخبرًا, وتعجبًا، ونداءً، ونعتًا فيه معنى المدح، انظر:"حروف المعاني" للزجاجي ص 62، و"الأزهية" ص 106، و"مغني اللبيب" ص 107.

فيها ما بعدها، ولم يجز أن يحمل فيها ما قبلها إلا ما يَجُرّ، وسنذكر ذلك عند قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12] إن شاء الله، وإذا كانت خبرًا احتاجت إلى صلة نحو صلة الذي، ويعمل فيها ما قبلها وما بعدها سوى صلتها؛ كقولك: لأضربن أيهم في الدار. قال الفراء: العرب تقول: أيّ وأيّان وأيّون، إذا أفردوا (أيًّا) أنَّثُوها وجمعوها، وأنَّثُوها فقالوا: أيّة وأيّتان وأيّات، وإذا أضافوها إلى ظاهر أفردوها، وذكّروا فقالوا: أيّ الرجلين؟ وأيّ المرأتين؟ وأيّ الرجال؟ وأيّ النساء؟ وإذا أضافوا إلى مُكَنّى المؤنث أنثوا وإلى مُكَنّى المذكر ذَكّروا، فقالوا: أيّهما وأيّتهما للمرأتين، قال الله -عز وجل-: {أَيًّا مَا تَدْعُوا}، وقال زهير في لُغة من أَنّث: وزوَّدُوكَ (¬1) اشتياقًا أَيَّةً سَلَكُوا (¬2) يُرادُ أَيّةُ وجْهة، فانَّثها حين لم يُضِفْها؛ ولو قال: أيًّا سلكوا، بمعنى: أيّ وجهة، كان جائزًا، ويقول لك قائل: رأيتُ رجلا، فتجيبه: أيًّا؟ ويقول: رجلين، فتقول: أَيَّيْن؟ وفي الرجال: أَيّون؟ وفي المرأة: أيّة؟ وفي النساء: أيّات؟ (¬3) و (ما) في قوله: {أَيًّا مَا} صلة، كقوله: {جُندٌ مَّا ¬

_ (¬1) في (أ)، (د)، (ش): (زودك)، والمثبت من (ع) وهو موافق للديوان. (¬2) وصدره: بانَ الخليطُ ولم يأْوُوا لمَن ترَكوا "شرح ديوان زهير" ص 164, وورد في "الخزانة" 5/ 453 , (الخليط): المجاور لك في الدار, (ولم يأوُوا):لم يرحموا, (وأيَّةً سلكوا):أيّ جهةٍ سلكوا فأنت مشتاق. (¬3) ورد في "تهذيب اللغة" (أي) 1/ 241 نقل طويل مع تصرف يسير.

هُنَالِكَ} [ص: 11] , و {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40]، و {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح: 25]، و {تَدْعُونَ} في موضع جزم بأي؛ لأنه من حروف الشرط والجزاء، يقول: أيّهم يعط أعط، وعلامة الجزم في تدعوا سقوط النون التي تثبت للرفع في يفعلون، وجواب الشرط (الفاء) في قوله: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. وقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سَبُّوه وسَبُّوا من جاء به، فأوحى الله إليه: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} فيسمعه المشركون فيسبوه، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} فلا يسمع أصحابك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}، أي: أسمعهم القرآن أحيانًا يأخذوا عنك) (¬1)، وهذا قول قتادة والسدي (¬2)، واختيار أبي إسحاق، قال: المخافتة: الإخفاء، والجهر: رفع الصوت. وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا جهر بالقرآن سبّ المشركون القرآن، فأمر الله أن لا يعرّض القرآن لسبهم، وأن لا يخافت مخافتةً لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه فقال: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}، أي اسلك طريقًا بين الجهر ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه من طريق سعيد: أحمد 1/ 23, والبخاري (4722) كتاب التفسير, باب {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}، ومسلم (446) في الصلاة، باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية، و"الطبري" 15/ 184 من طرق، والطبراني في "الكبير" 12/ 55، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 207، و"تفسير الثعلبي" 7/ 123 ب، و"الماوردي" 3/ 281، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص 303، بنحوه. (¬2) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 392، بنحوه عن قتادة، و"الطبري" 15/ 186، بنحوه من طريقين عن قتادة.

والمخافتة (¬1)، يقال: خَفَتَ صوته يَخْفِت خُفُوتًا وخُفَاتًا، إذا ضَعُفَ وسكن، وصوتٌ خَفِيتٌ، أي: خَفِيضٌ، ومن هذا يقال للرجل إذا مات قد خَفَتَ، أي انقطع كلامه، وخفت الزرع إذا ذَبُلَ ولَانَ، وزرع خَافِت، والرجل يخافت بقراءته: إذا لم يبين قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القومُ إذا تشاوَرُوا بينهم (¬2)، وقال الجعدي: ولَسْتُ وإنْ عَزُّوا عليّ بِهَالِكٍ ... خُفاتًا ولا مُسْتَهْزِمٍ ذاهبِ العَقْلِ (¬3) يقول: لست أهلك خفاتًا أي ضعفًا لمصاب من أُصبت به منهم، وإن كانوا أعزة، ولكني أتصبَّر وأتجلَّد، هذا الذي ذكرنا في الجهر والمخافتة بالصلاة مذهب أكثر المفسرين (¬4)، ومعنى الصلاة في هذا القول: القراءة، وذلك أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة، فسميت القراءة صلاة، كما سميت الصلاة قراءة في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [آية: 78]، وقد مرّ. وفي الآية قول ثان؛ وهو أن المراد بالصلاة الدعاء، وهذا قول أبي هريرة وعائشة ومجاهد (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 265، بنصه تقريبًا. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" (خفت) 1/ 1064، بنحوه، انظر: (خفت) في "المحيط في اللغة" 4/ 313، و"الصحاح" 1/ 248، و"اللسان" 2/ 1208. (¬3) "شعر النابغة الجعدي" ص 225، وورد في "تهذيب اللغة" (خفت) 1/ 1064، و"اللسان" (خفت) 2/ 1208، (خفاتًا): ضعفًا وتذَلُّلاً، (مستهزم): جزوع. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 1/ 221 أ، و"الطبري" 15/ 184، و"السمرقندي" 2/ 287، و"الثعلبي" 7/ 123 ب، و"الماوردي" 3/ 281، و"الطوسي" 6/ 534، وقد رجحه الطبري لصحة الإسناد الذي روي به عن صحابي وهو ابن عباس من طريق سعيد، ولآنه أشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل. (¬5) "تفسير مجاهد" 1/ 372 بلفظه، أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 200 بلفظه، و"الطبري" 15/ 184 بلفظه من طرق عن مجاهد، وورد بلفظه في تفسير الثعلبي 7/ 124 أ، و"الطوسي" 6/ 534.

قال أبو هريرة في الآية: يعني بذلك الدعاء والمسألة (¬1). وقالت عائشة: هي في الدعاء (¬2)، وروي هذا مرفوعًا: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "إنما ذلك في الدعاء لا ترفع صوتك، فتكثر ذنوبك, فيُسمع منك، فتُعيَّر به" (¬3)، وهذا قول إبراهيم وابن عباس في رواية عطاء (¬4)، كل هؤلاء قالوا: في الدعاء، وعلى هذا: الصلاة الدعاء، والجهر به منهي عنه، وكذلك الإسرار الذي هو إخفاء، والمستحب منه ما بين ذلك، وحدّه أن يُسْمِع نفسه (¬5)؛ كما روي عن ابن مسعود أنه قال: لم ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 21/ 71، و"ابن الجوزي" 5/ 101. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 200 بلفظه، و"الطبري" 15/ 183 بلفظه من طرق، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 207، و"تفسير الماوردي" 3/ 281، و"الطوسي" 6/ 534، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص 304 بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 375 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬3) لم أقف عليه مسندًا، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 124، بنحوه، و"الفخر الرازي" 21/ 71 بنصه. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 200 بلفظه عن ابن عباس من طريق عكرمة (حسنة)، وعن عطاء 6/ 97، و"الطبري" 1/ 1845 بلفظه عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن عطاء، وورد في "تفسير الطوسي" 6/ 534 بلفظه عن ابن عباس وعطاء، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 137، و"الخازن" 3/ 184 فيهما عن إبراهيم. (¬5) يؤيّده ما رواه الشيخان عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس اربعوا [أي: ارفقوا] على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم" أخرجه البخاري (2992) كتاب الجهاد، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم (2704) كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر واللفظ له.

111

يخافت من أسمع أذنيه (¬1)، وفي الآية قول ثالث؛ وهو ما روى منصور عن الحسن ومعمر (¬2) عنه قال: لا تُراء بعلانيتها ولا تسئْ سريرتها (¬3)، وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي، قال: يقول لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة للناس (¬4)؛ وعلى هذا القول: الجهر بالصلاة هو إعلانها مراءاة، والمخافتة بها تركها مخافة أو إساءتها سرًّا؛ على ما قال الحسن. 111 - قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الآية. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: "إنها آية العزة"، وكان يعلمها الصغير من أهله والكبير (¬5). وقال قتادة: كذّب الله بهذه الآية اليهودَ والنصارى وأهلَ الفِرَاء ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 200 بنصه، و"الطبري" 15/ 188 بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 376. (¬2) في جميع النسخ (مغيرة)، والصواب ما أثبته من تفسير عبد الرزاق والطبري. (¬3) أخرجه "عبد الرزاق" 2/ 393، بنحوه من طريق معمر، و"الطبري" 15/ 187 بنصه من طريق منصور ومعمر وعوف، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" 7/ 124 أ، و"الماوردي" 3/ 281، و"الطوسي" 6/ 534. (¬4) أخرجه "الطبري" 15/ 187 بنصه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، والطبراني في "الكبير" 12/ 256، بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 124 أ، بنصه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 375 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (¬5) لم أقف عليه مسندًا، وأخرج "الطبري" 15/ 189، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعلِّم أهله هذه الآية، الصغير من أهله والكبير، وفي "تفسير الثعلبي" 7/ 124 أقال معاذ -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: آية العز: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}. انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 345, و"ابن كثير" 3/ 78.

عليه (¬1). وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} قال ابن عباس: لم يكن له ولي ينصره ممن استذله (¬2). وقال مجاهد: لم يحالف أحدًا ولم يبتغ نصر أحد (¬3)، فليس له حليف من خلقه ولا ناصر، يعني: أنه لا يحتاج إلى ولاء النصرة والمحالفة، وإنما يحتاج إلى ذلك من يُستذلُ وُيقْهر، وهو العزيز القهار، وهو معنى قول أبي إسحاق: لم يحتج أن ينتصر بغيره، {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}، أي: عَظِّمه تعظيمًا عظمةً تامةً (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ) , (د)، (ش): (عنه)، والمثبت من (ع) و"الوسيط"، وقد ورد قولُ قتادة في "تفسير الوسيط" 2/ 564، بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 345 بلا نسبة. (¬2) ورد بمعناه في "تفسير الزمخشري" 2/ 379 بلا نسبة، و"القرطبي" 10/ 345، عن الحسن بن الفضل، و"الخازن" 3/ 185 بلا نسبة. (¬3) "تفسير مجاهد" 1/ 304 بنصه، وأخرجه "الطبري" 15/ 189 بنصه من طريقين، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 376 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وفيه: لم يخف أحدًا. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 265، بنصه.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الكهف إلى آية (31) تحقيق د. عبد العزيز بن محمد اليحيى

سورة الكهف

سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا}. ذكرنا معنى العَوج والفرق بينه وبين العِوج في قوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} [آل عمران: 99] (1). روى الوالبي عن ابن عباس في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} قال: (ملتبسًا) (2). ومعناه: التباس، أي: لم يجعل ملتبسًا لا يُفهم، ومعوجًا لا يستقيم. وقال أبو إسحاق: (لم يجعل فيه اختلافًا) (3). كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. يدل على هذا قوله: {قَيِّمًا} قال ابن عباس: (يريد مستقيمًا عدلاً) (4). وذكرنا الكلام في القيِّم

_ (1) العَوج بالفتح: ما كان منصوبًا كالحائط والعود. والعِوج بالكسر: ما كان في بساط أو أمر نحو: دين، ومعاش. انظر: "تهذيب اللغة" (عاج) 3/ 2264، و"معجم مقاييس اللغة" (عوج) 4/ 180، و"لسان العرب" (عوج) 5/ 3154، و"القاموس المحيط" (عوج) ص 200، و"المفردات في غريب القرآن" (عوج) 351. (2) "جامع البيان" 169/ 127، و"الكشف والبيان" 3/ 385/ أ، و"الدر المنثور" 4/ 381 وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق علي عن ابن عباس. (3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 267. (4) "جامع البيان" 15/ 190، و"الكشف والبيان" 3/ 385 أ، و"معالم التنزيل" 5/ 143, و"المحرر الوجيز" 9/ 288,و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 80, و"الدر المنثور" 4/ 381.

2

عند قوله: {دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] , وجميع أهل اللغة والتفسير قالوا: (هذا من التقديم والتأخير، وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيمًا ولم يجعل له عوجًا) (¬1). 2 - وقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} قال ابن عباس: (يريد: لينذر عذابًا شديدًا) (¬2) [قال الفراء: (مع البأس أسماء مضمرة يقع عليها الفعل قبل أن يقع على البأس) (¬3). يعني أن] (¬4) المفعول الأول للإنذار محذوف على تقدير: لينذر الكافرين بأسًا، كما قال في ضده: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}، فأظهر (¬5). وفسر الزجاج فقال: (أي لينذرهم بالعذاب البئيس) (¬6). وقوله تعالى: {مِنْ لَدُنْهُ} قال ابن عباس: (يريد من عنده) (¬7). وقال الزجاج:- (من قِبَلِهِ) (¬8). قال: (وفي لدن لغات يقال: لدُ، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 191، و"معالم التنزيل" 5/ 143، و"المحرر الوجيز" 9/ 228، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 616. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 192، و"تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 80، و"المحرر الوجيز" 9/ 228، و"زاد المسير" 5/ 103، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 352. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 133. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬5) انظر: "لكشاف" 2/ 379، و"الدر المصون" 7/ 437، و"البحر المحيط" 6/ 96. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج ص 3/ 267. (¬7) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة "معالم التنزيل" 5/ 143، و"المحرر الوجيز" 9/ 228، و"زاد المسير" 5/ 103. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 267.

ولَدُنْ، ولَدَى، والمعنى (¬1) واحد. قال: وهي لا تتمكَّن تمكُّن عند؛ لأنك تقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: هو لدني صواب (¬2)، وتقول (¬3): عندي مال عظيم، والمال غائب عنك، ولدن لما يليك لا غير) (¬4). وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (من لَدُنِهِ)، بشم الدال الضمة وبكسر النون والهاء (¬5). وهي لغة الكلابيين (¬6). روى أبو زيد عنهم أجمعين: (هذا من لدُنِه، فتحوا اللام وضموا الدال وكسروا النون) (¬7). قال أبو علي الفارسي: (في لدُنْ لغات: لدن مثل سبعٍ، وتخفف ¬

_ (¬1) قوله: (المعنى) ساقط من نسخة: (س). (¬2) قوله: (ولا تقول: هو لدني صواب)، مكرر في نسخة (س). (¬3) (ويقول) في نسخة (س). (¬4) ذكره الزجاج مختصرًا في "معاني القرآن" 3/ 303، وأورده الأزهري في "تهذيب اللغة" (لدن) 4/ 3256، والفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 125. (¬5) انظر: "السبعة" 388، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 124، و"المبسوط" 233، و"التبصرة" 247، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 54، و"العنوان في القراءات" 122. (¬6) الكلابيون: بطن عظيم من عامر بن صعصعة من العدنانية، وهو بنو كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن قيس بن عيلان، كانت ديارهم حمى ضرية، وهو حمى كليب، وحمى الربذة في جهات المدينة المنورة، وفدك والعوالي، ثم انتقلوا إلى الشام. انظر: "نهاية الأرب" ص 365، و"معجم قبائل العرب" 3/ 989، و"التعريف في الأنساب" ص 77. (¬7) "تهذيب اللغة" (لدن) 4/ 3256، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 125.

الدال، فإذا خففت على ضربين أحدهما: أن تحذف (¬1) الضمَّة من الدال فيقال: لدن. والآخر: أن تحذف الضمة من الدال وتنقل إلى اللام، فيقال: لدن، مثل: عضد، وفي كلا الوجهين يجتمع في الكلمة ساكنان: الدال المنقول عنها الحركة، والمحذوفة منها مع النون. فأما قراءة عاصم: (من لَدْنِهِ) (¬2) فالكسرة في النون ليست بجر، إنما هي كسرة للتقاء الساكنين، وذلك أن الدال أسكنت كما أسكنت في سبُعٍ، والنون ساكنة، فلما التقى ساكنان كسر الثاني منهما وأشمت (¬3) الدال الضمة، لتدل على أنها كانت متحركة بها، كما قالوا: أنت تَغْزُين. وقولهم: قُيل، أشمت الكسرةُ فيهما الضمة، لتدل على أن الأصل فيهما التحريك بالضم، وإن كان إشمام عاصم ليس بحركة خرجت إلى اللفظ، وإنما هو تهيئة العضو لإخراج الضمة، ولو كانت حركة لم يلتق ساكنان ولم تكسر النون لاجتماعهما) (¬4). وليس يحتمل هذا الموضع من الكلام في لدن أكثر مما ذكرنا، وما بقي نذكره عند قوله: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76]، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في نسخة (س): (أن تخفف)، وهو تصحيف. (¬2) من طريق شعبة عن عاصم. انظر: "السبعة" (388)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 124، و"التبصرة" (247)، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 54. (¬3) الإشمام: إطباقك الشفين بعد الإسكان وتدع بينهما انفراجًا ليخرج النفس بغير صوت، وذلك إشارة للحركة التي ختصت بها الكلمة، ويكون في المرفوع والمضموم، ولا يعرف ذلك الأعمى؛ لأنه لرؤية العين. انظر: "التحديد في الإتقان والتجويد" ص 98، و"البرهان في تجويد القرآن" ص 66. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 124، و"البحر المحيط" 6/ 96، و"الدر المصون" 7/ 438.

3

والجار في قوله: "من لدنه" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون صفة النكرة التي هي قوله: "بأسًا"، وفيها ذكر الموصوف. والآخر: يكون متعلقًا بشديد (¬1). وقوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} قال الزجاج: (المعنى بأن لهم أجرًا حسنًا) (¬2). قال ابن عباس: (يريد ثوابًا عظيمًا) (¬3). وقال السدي: (هو الجنة) (¬4). 3 - قوله تعالى: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} بمعنى: خالدين (¬5). وهو حال للمؤمنين من قوله: (أن لهم أجرًا) (¬6). 4 - وقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قال ابن عباس: (يريد بعذاب الله ونقمته) (¬7). قال الكلبي، والسدي: (يعني اليهود والنصارى) (¬8). ¬

_ (¬1) "الدر المصون" 7/ 439)، و"الجدول في إعراب القرآن الكريم" 15/ 112. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 268. (¬3) "جامع البيان" 15/ 192، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 80 بمعناه بدون نسبة. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 143 بدون نسبة، و"المحرر الوجيز" 229/ 9 بدون نسبة، و"الدر المنثور" 4/ 382 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) "جامع البيان" 15/ 192، و"القرطبي" 10/ 348، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 80. (¬6) "المحرر الوجيز" 9/ 229، و"البحر المحيط" 6/ 96، و"الدر المصون" 7/ 439، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 268. (¬7) ذكره ابن جرير الطبري في "تفسيره" 15/ 193 بدون نسبة، وكذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 104. (¬8) "المحرر الوجيز" 9/ 203: بدون نسبة، و"زاد المسير" 5/ 104 بدون نسبة، و"الدر المنثور" 7/ 382 ونسبه لابن أبي حاتم.

5

5 - قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ} أي: بذلك القول {مِنْ عِلْمٍ} يعني: قالوه جهلاً، وافتراء على الله تعالى {وَلَا لِآبَائِهِمْ} اختار الفراء {كَلِمَةً} بالنصب. قال الفراء: (من نصب أضمر الفاعل؛ كأنه قيل: كبرت تلك الكلمة كلمة، ومن رفع لم يضمر شيئًا، كما تقول: عظم قولك) (¬1). وقال الزجاج: (المعنى: كبرت مقالتهم كلمة، و {كلِمَةً} منصوب على التمييز)؛ هذا كلامه (¬2). ومعنى التمييز في هذا: أنك إذا قلت: كبرت المقالة، أو الكلمة، جاز أن يتوهم أنها كبرت كذبًا، أو جهلاً، أو افتراء، فلما قلت: كلمة، ميزتها من محتمل فانتصب، كما تقول في باب التمييز. قال أبو عبيد: (والنصب وجه القراءة؛ لأن الكلمة قد ذكرت قبل، وهي قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، فصارت مضمرة في (كبرت) (¬3). قال الأخفش: (هذه في النصب كقول الشاعر: ولقد علمت إذا العشار ترَوَّحت .... هدج الرئال تكبهن شمالاً (¬4) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 134. قراءة النصب هي القراءة الصحيحة الثابتة، وقراءة الرفع قراءة شاذة قرأ بها: الحسن وابن محيصن. انظر: "معا ني القرآن" للزجاج 3/ 268، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 265، و"مشكل إعراب القرآن" ص 437، و"القراءات الشاذة" ص 81. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 268. (¬3) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "البحر المحيط" 6/ 97، و"الدر المصون" 7/ 440، و"التفسير الكبير" 21/ 78، و"روح المعاني" 18/ 204. (¬4) البيت للأخطل. انظر: "ديوان" ص387، و"معاني القرآن" للأخفش 1/ 616، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 581.

6

أي: تكبُّهنَّ الرياح شمالاً، وهاهنا كأنه قيل: كبرت تلك الكلمة) (¬1). {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]. 6 - قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} قال ابن عباس، ومجاهد: (قاتل نفسك) (¬2). وهو قول المفسرين، وأهل المعاني (¬3). قال الفراء في المصادر: (بَخَعَها، يبخَعُهَا، بخعًا، وبخوعًا) (¬4). وقال الليث: (بَخَعَ الرجل نفسه إذا قتلها غيظًا من شدة وجده بالشيء) (¬5). وأنشد قول ذي الرمة (¬6): ألا أيُّهذا الباخعُ الوجد نفسه ... لشيءٍ نحته عن يديه المقادر قال أبو عبيدة: (كان ذو الرمة ينشد الوجد رفعًا) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 616. (¬2) "جامع البيان" 15/ 194، و"الدر المنثور" 4/ 382 وعزاه لابن المنذر. (¬3) "جامع البيان" 15/ 194، و"بحر العلوم" 2/ 289، و"الكشاف" 2/ 380، و"زاد المسير" 5/ 104، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 268، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 393. (¬4) لم أقف عليه. وذكره ابن منظور بلا نسبة في "لسان العرب" (بخع) 1/ 222. (¬5) ذكرت نحوه كتب اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" (بخع) 1/ 285، "ومقاييس اللغة" (بخع) 1/ 206، و"لسان العرب" (بخع) 1/ 222، و"القاموس المحيط" (بخع) ص 702. (¬6) البيت الذي الرمة. انظر: "ديوانه" (251)، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 393، و"تهذيب اللغة" (بخع) 1/ 286، و"مقاييس اللغة" (نجع) 1/ 206، و"الصحاح" (نجع) ص 17، و"اللسان" (نجع) 1/ 222، و"الدر المصون" 7/ 442. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 393.

وقال الأصمعي: (يقول: إنما هو الوجد بالفتح) (¬1). وأصل معنى البَخْع: الجهد، يقال: بَخَعْت لك نفسي، أي جهدتها، ذكره الفراء، والأخفش (¬2). وفي حديث عائشة: (أنها ذكرت عمر فقالت: بَخَعَ الأرض) (¬3). أي: جهدها حتى أخرج ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي: (بَخَعْتُ الأرض بالزراعة، إذا أنهكتها وتابعت (¬4) حراثتها، ولم تجمَّها عامًا، وبَخَعَ الوجدُ نفسه إذا أنهكها، وأنشد بيت ذي الرمة) (¬5). وعلى هذا معنى: {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: ناهكها، وجاهدها حتى تهلكها، ولكن أهل التأويل كلهم قالوا: قاتل نفسك ومهلكها؛ والأصل هو ما ذكرنا (¬6). وقوله تعالى: {عَلَى آثَارِهِمْ} قال الزجاج: (أي من بعدهم) (¬7). وهذا كلام العرب يقولون: مات فلان واحدًا على أثر فلان، أي: بعده، وأصل هذا من التأثير، والأثر الذي هو العلامة، وذلك أنهم يقولون: خرجت في أثر فلان، وجئت على أثره، يعنون بعده، كأنهم يريدون أثر سلوكه ¬

_ (¬1) "الدر المصون" 7/ 442. (¬2)) "معاني القرآن" للفراء 2/ 134، و"تهذيب اللغة" (بخع) 1/ 285. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 102،و"التفسير الكبير" 21/ 79، و"تهذيب اللغة" (بخع) 1/ 285. (¬4) في نسخة (ص): (بايعت)، وهو تصحيف. (¬5) "تهذيب اللغة" (بخع) 1/ 285، و"الدر المصون" 7/ 442. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (بخع) 1/ 285، و"مقاييس اللغة"، (بخع) 1/ 206، و"لسان العرب" (بخع) 1/ 222، و"القاموس المحيط" (بخع) ص 702، و"الصحاح" (بخع) 3/ 1183، و"المفردات في غريب القرآن" (بخع) ص 38. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 268.

الطريق، ثم كثر هذا حتى استعمل بمعنى بعد حيث لا يتحقق الأثر، كقول: مات فلان على أثر فلان أي: بعده، وأثر كذا بكذا أتبعه إياه (¬1)، ومنه قول متمم (¬2): فأثر سيل الواديين بديمةٍ أي: أتبعه بمطر. ومعنى {عَلَى آثَارِهِمْ} هاهنا: من بعدهم، وتحقيقه ما بينَّا، وليس يريد من بعد موتهم، وإنما التأويل: من بعد توليهم وإعراضهم عنك (¬3). قوله تعالى: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} قال ابن عباس وغيره: (يعني القرآن) (¬4). {أَسَفًا} قال مجاهد: (جزعاً) (¬5). ¬________ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) 1/ 119، و"مقاييس اللغة" (أثر) 1/ 53، و"الصحاح" (أثر) 2/ 574، و"اللسان" (أثر) 1/ 25، و"المفردات" (أثر) ص 9. (¬2) هذا صدر بيت لمتمم يصف الغيث، وعجزه: ترشِّح وسميًّا من النبت خروعا والمعنى: أتبع مطرًا تقدم بديمة بعده انظر: "الشعر والشعراء" ص 219، و"الأغاني" 15/ 298، و"المفضليات" ص 268، و"خزانة الأدب" 1/ 236، و"تهذيب اللغة" (أثر) 1/ 119، و"لسان العرب" (أثر) 1/ 25. (¬3) "جامع البيان" 15/ 194، و"معالم التنزيل" 5/ 144، و"المحرر الوجيز" 9/ 232 - 233، و"زاد المسير" 5/ 105. (¬4) "جامع البيان" 15/ 194، و"معالم التنزيل" 5/ 144،و"الكشاف" 2/ 280، و"الدر المنثور" 4/ 382. ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة الزمر الآية رقم (23): {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} الآية. (¬5) "جامع البيان" 15/ 195،"المحرر الوجيز" 9/ 233 و"زاد المسير" 5/ 105.

7

وقال السدي: (حزنًا) (¬1). وقال سفيان: (غضبًا) (¬2). وجمع ابن عباس بينهما فقال: (يريد: غضبًا وحزنًا) (¬3). وقال الزجاج: (والأسف: المبالغة في الحزن والغصب) (¬4). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: (غضبان أسفًا) في سورة الأعراف. وانتصابه يجوز أن يكون على المصدر، ودل ما قبله من الكلام على أنه تأسف، ويجوز أن يكون مفعولاً له أي: للأسف، كقولهم: جئتك ابتغاء الخير (¬5). وقال الزجاج: ({أَسَفًا} منصوب؛ لأنه مصدر في موضع الحال) (¬6). وفي هذه الآية إشارة إلى نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كثرة الحرص على إيمان قومه حتى يؤدي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف، والفاء في قوله: {فَلَعَلَّكَ} جواب الشرط، وهو قوله: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} قدّم عليه، ومعناه التأخير. 7 - قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} قال مجاهد: (ما عليها من شيء من البحار، والجبال، والأشجار، والنبات) (¬7). والمعنى: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 195، و"المحرر الوجيز" 9/ 233 عن قتادة، و"زاد المسير" 5/ 105 عن ابن عباس وابن قتيبة، و"تفسير القرآن العظيم" عن قتادة 3/ 81. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 144، و"الدر المنثور" 4/ 382، وعزاه لابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 3/ 385 بدون نسبة. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشف والبيان" 3/ 385 ب، و"المحرر الوجيز"، 9/ 233، و"معالم التنزيل" 5/ 144، و"زاد المسير" 5/ 105، و"الكشاف" 2/ 473، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 81. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 269. (¬5) انظر: "الكشاف" 3/ 380، و"البحر المحيط" 6/ 98، و"الدر المصون" 7/ 443، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 266، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 394. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 268. (¬7) "جامع البيان" 15/ 195، و"زاد المسير" 5/ 105 - 106، و"الدر المنثور" =

إنا زينّا الأرض بما خلقنا فيها من الماء، والمعادن، وأنواع المخلوقات، ويدخل في هذا كل ما على الأرض من ذي الروح والجماد. وقوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ} قال ابن عباس: (يريد الاختبار في خلقه بما يفهمون) (¬1). ومضى الكلام في مثل هذا في مواضع (¬2). وقوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال الحسن: (أيّهم أزهد في الدنيا زهدًا، وأترك لها تركًا) (¬3). وهذا قول أبي إسحاق قال: (فالحسن العمل من زهد فيما زيِّن له من الدنيا) (¬4). وقال مقاتل: (أيهم أصلح فيما أوتي من المال) (¬5). وذكر قتادة في تفسير هذه الآية قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدنيا خضرة حلوة، ¬

_ = 4/ 383 وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 289 بلا نسبة. (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 195، و"النكت والعيون" 3/ 285، و"زاد المسير" 5/ 106، و"التسهيل لعلوم التنزيل" ص 376، و"لباب التأويل" 4/ 192. (¬2) نحو قوله تعالى في سورة هود الآية رقم (7): {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [لملك:2]، وقال سبحانه في سورة الملك الآية رقم (2) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 195 - 196، و"بحر العلوم" 2/ 289، و"النكت والعيون" 3/ 285، و"معالم التنزيل" 5/ 144، و"الجامع لأحكام القرآن"10/ 355. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 269. (¬5) ذكر نحوه البغوي في "تفسيره" 5/ 144 بدون نسبة. وكذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 106.

8

وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا فتنة الدنيا" (¬1). قال الزجاج: (و {أَيُّهُمْ} رفع بالابتداء؛ لأن لفظه لفظ الاستفهام) (¬2). والمعنى: ليختبر أهذا أحسن أم هذا، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا ما يخبر، وإنما يعمل فيه ما بعده. ثم أعلم جل وعز أنه [مبيد] (¬3) ومُفْن ذلك كله. 8 - بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]. قال أبو عبيد: (الصعيد: المستوي من الأرض) (¬4). وقال الزجاج: (الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه) (¬5). ومثله قال المفضل. وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم (¬6). وأما الجرز فقال الفراء: (الجُرُز: الأرض لا نبات فيها، يقال: جُرِزَت الأرض فهي مجروزة، وجَرَزَها الجرادُ أو النساء أو الإبل أكلت ما عليها) (¬7). وقال الزجاج: (الجرز: الأرض التي لا تنبت، كأنها تأكل النَّبْت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" كتاب: الرقائق باب: أكثر أهل الجنة الفقراء 4/ 2098، والترمذي في "جامعه" كتاب: الفتن باب: ما جاء في ما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه 4/ 483، وابن ماجه في "سننه" كتاب: الفتن، باب: فتنة النساء 2/ 1325، والإمام أحمد في "مسنده" 3/ 19. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 269. (¬3) في الأصل وجميع النسخ التي اطلعت عليها: (مبتدأ)، وما أثبته في الأصل هو الصواب عندي، وهو الذي يدل عليه السياق، وهو المثبت في تفسيره الوسيط. (¬4) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 275، و"تهذيب اللغة" (صعد) 2/ 2014. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 269. (¬6) عند قوله سبحانه في سورة النساء الآية رقم (43)، وفي سورة المائدة الآية رقم (6): {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 134.

9

أكلاً، يقال: أرض جُرُز، وأرَضُون أَجْرازٌ) (¬1). وامرأة جَرُوز إذا كانت أكولا، وسيف جرَّاز إذا كان مستأصلاً (¬2)، ونذكر شيئًا من هذا عند قوله: {نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27] إن شاء الله. قال مجاهد في هذه الآية: (بلاقع ليس فيه نبات) (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: (يريد يوم القيامة يجعل الله الأرض جرزًا ليس فيها ماء ولا نبات) (¬4). 9 - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} الآية. ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]. وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحًا، فقال: (كان النضر ابن الحارث من شياطين قريش، كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قدم الحيرة (¬5) وتعلم بها أحاديث رستم (¬6)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 269. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (جرز) 1/ 580، و"مقاييس اللغة" (جرز) 1/ 441، و"الصحاح" (جرز) 3/ 866، و"المفردات في غريب القرآن" (جرز) (91). (¬3) "جامع البيان" 15/ 196، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 81، و"تفسير مجاهد" 1/ 373. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 236، و"زاد المسير" 5/ 106 - 107، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 81، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 356. (¬5) الحِيرة -بكسر الحاء وسكون الياء-: مدينة مشهورة على ثلاثة أميال من الكوفة، تقع على نهر يربطها بالفرات، وكانت مسكنًا لملوك العرب في المجاهلية التابعين لمملكة الفرس، وهى قريبة من النجف. انظر: "معجم البلدان" 2/ 328، و"معجم المعالم الجغرافية" ص 107. (¬6) رستم الشديد بن دستار بن بريمان، من ملوك الفرس. انظر: "تاريخ الطبري" =

واسفنديار (¬1)، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مجلسًا ذكر فيه الله تعالى، وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: وإنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه فهلمّوا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، فبعثته قريش، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط (¬2) إلى أحبار يهود [بالمدينة، وقالوا لهما: سلوا عن محمد، وعن صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم مما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود] (¬3) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصفوا لهم صفته، وأخبروهم بأمره وببعض قوله، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فهو متقوّل. فأقبل النضر بن الحارث وصاحبه حتى قدما مكة وقالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبراهم بما قالت اليهود. فجاؤوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألوه عن هذه الأشياء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أخبركم بما سألتم عنه غدًا". ولم يستثن، ¬

_ = 1/ 504، و"الروض الأنف" 2/ 52، و"الكامل في التاريخ" 1/ 137. (¬1) اسفنديار بن بشتاسب، من ملوك الفرس. انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 562، و"الروض الأنف" 2/ 52، و"الكامل في التاريخ" 1/ 154. (¬2) عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن أبي معيط، من مقدمي قريش في الجاهلية، كنيته أبو الوليد، وكنية أبيه أبو معيط، كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، أسر يوم بدر وقتل وصلب. انظر: "الروض الأنف" 2/ 76، و"ابن الأثير" 2/ 27، و"الأعلام" 4/ 240. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه خبر، حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدًا واليوم خمس عشرة ليلة، وشقّ عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من الله -عز وجل- بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتية، والرجل الطوّاف) (¬1). وافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله لما أنكروه عليه من ذلك وهو قول: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، فذكر أنه أنزل عليه القرآن للإنذار والتبشير إلى قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، يعني قريشًا في قولهم: الملائكة بنات الله (¬2). ثم عاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم من الإسلام بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} الآية. ثم قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أيهم أتبعُ لأمري وأعمل بطاعتي، {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}، يعني أنَّ ما على الأرض فانٍ زائل، وأن المرجع إلى فأجزي كلا بعمله، فلا يحزنك ما ترى وتسمع. ثم أخبر عن ما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: {أَمْ حَسِبْتَ} فقال أبو إسحاق: (معناه: بل حسبت) (¬3). والكلام في {أَمْ} في مثل هذا ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 197، و"بحر العلوم" 2/ 290، و"المحرر الوجيز" 9/ 229 - 230، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 83، و"الدر المنثور" 4/ 380، و"أسباب النزول" للواحدي ص 306، و"لباب النقول في أسباب النزول" ص 143، و"جامع النقول في أسباب النزول" ص 208، و"الفتح السماوي" 2/ 494. (¬2) نحو قوله تعالى في سورة النحل الآية رقم (57): {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}، وقوله سبحانه في سورة الصافات الآية رقم (149): {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}. (¬3) "معاني القرآن" 1/ 285.

الموضع قد ذكرناه في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة: 214] وفي غيره من مواضع (¬1). وقوله: {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} يعني أولئك الفتية الذين سئل عن قصتهم (¬2). و {الْكَهْفِ} قال الليث: (كالمغارة في الجبل) (¬3). روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: (كل القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين (¬4)، وحنان (¬5)، والأواه (¬6)، والرقيم) (¬7). وروى عكرمة أيضًا عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال: (زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها) (¬8)؛ ونحو هذا قال السدي (¬9). ¬

_ (¬1) نحو قوله سبحانه في البقرة الآية رقم (108). {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى} [البقرة: 108] الآية وقوله سبحانه في سورة السجدة الآية رقم (3): {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} الآية. (¬2) في نسخة: (س): (بعضهم)، وهو تصحيف. (¬3) "تهذيب اللغة" (كهف) 4/ 3199. (¬4) الواردة في قوله سبحانه: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]. (¬5) في قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: 13]. (¬6) في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 397، و"جامع البيان" 15/ 198، و"المحرر الوجيز" 9/ 237 - 238، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 384. (¬8) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 397، و"جامع البيان" 15/ 198، و"بحر العلوم" 2/ 290، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 83. (¬9) "المحرر الوجيز" 9/ 237، و"زاد المسير" 5/ 108، و"الدر المنثور" 4/ 384 وعزاه لابن أبي حاتم، و"التفسير الكبير" 11/ 82.

وروي كن ابن أبي طلحة عنه قال: ("الرَّقِيم": الكتاب) (¬1). وهو قول مجاهد (¬2). وسعيد بن جبير قال: ("الرَّقِيم": لوح من حجارة) (¬3). وقيل: (من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم، وجعل في البناء على باب الكهف) (¬4)، ونحو هذا قال عطاء عن ابن عباس (¬5)، وهو قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا: (الرقيم: الكتاب) (¬6). والأصل فيه المرقوم ثم حُول إلى فعيل، والرَّقْم: الكتابة، ومنه قوله -عز وجل-: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 9] أي: مكتوب، وأنشدوا (¬7): ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 198، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 383، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) "جامع البيان" 15/ 985 - 199، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82 عن ابن عباس، و"الدر المنثور" 4/ 384 عزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬3) "جامع البيان" 15/ 199، و"معالم التنزيل" 5/ 145، و"المحرر الوجيز" 9/ 283، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 384. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 290، و"معالم التنزيل" 5/ 144 - 145، و"الكشاف" 2/ 381، و"المحرر الوجيز" 9/ 283، و"البحر المحيط" 6/ 101. (¬5) "جامع البيان" 15/ 199، و"معالم التنزيل" 5/ 144 - 145، و"زاد المسير" 5/ 107، و"الدر المنثور" 4/ 384. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 269، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 134، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 395، و"تهذيب اللغة" رقم 2/ 1454، و"مقاييس اللغة" رقم 2/ 425، و"المفردات في غريب القرآن" رقم (201). (¬7) لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب اللغة بدون نسبة. القَرَاح: الماء الذي لا يخالطه شيء يطيب به كالعسل والتمر والزبيب. انظر: "تهذيب اللغة" رقم 2/ 1454، و"مقاييس اللغة" مريم 2/ 425، و"لسان العرب" رقم 3/ 1709.

سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان في الماء راقمُ وقال الفراء: (الرقيم: لوح كان فيه أسماؤهم) (¬1)، ونرى أنه إنما سُمى رقيما؛ لأن أسماءهم كانت مرقومة (¬2) فيه (¬3). وقوله تعالى: {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} قال مجاهد، وسفيان: (لم يكونوا بأعجب آياتنا) (¬4). قال المفضل: (أم حسبت أنهم كانوا عجبًا من آياتنا فقط، فلا يحسن ذلك، فإن آياتنا كلها عجيب) (¬5). وقال أبو إسحاق: (أعلم الله أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله؛ لأن خلق السموات والأرض وما بينهما مما يشاهد أعجب من قصة أصحاب الكهف) (¬6). والعجب هاهنا مصدر سمي المفعول به. والتقدير: كانوا معجوبًا منهم، فسموا بالمصدر، والمفعول من هذا يستعمل باسم المصدر (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 134. (¬2) في (ص): (من قومه)، وهو تصحيف. (¬3) وهذا القول هو الراجح، وهو الذي تعضده اللغة، ورجحه أكثر المفسرين. انظر: "جامع البيان" 15/ 199، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"تهذيب اللغة" 2/ 1454، و"لسان العرب" رقم 3/ 1710. (¬4) "جامع البيان" 15/ 197، و"معالم التنزيل" 5/ 144 بدون نسبة، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 384. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 197، و"الكشف والبيان" 3/ 385 ب، و"المحرر الوجيز" 9/ 237، و"معالم التنزيل" 5/ 144، و"زاد المسير" 5/ 108، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 270. (¬7) "الكشاف" 2/ 381، و"الدر المصون" 7/ 446، و"البحر المحيط" 6/ 101، و"التفسير الكبير" 11/ 83.

10

10 - قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} الآية، "إِذْ" هنا لا يجوز أن يكون متعلقًا بما قبله على تقدير: أم حسبت إذ أوى الفتية؛ لأنه كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينهم مدة طويلة، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف، وإذ يتعلق بمحذوف كأنه قيل: اذكر إذا أوى (¬1). كما قلنا في مواضع كثيرة. ومعنى {أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}: صاروا إليه وجعلوه مأواهم (¬2). قال ابن عباس: (يريد هربوا إلى الكهف) (¬3). وذكرنا الكلام في الفتية عند قوله: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} [يوسف: 62] في سورة يوسف. وقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أخبر الله تعالى أنهم لما هربوا عمن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي: أعطنا من عندك مغفرة ورزقًا (¬4). قال ابن عباس: (يريدون تغنينا بها عن جميع من سواك) (¬5)، يعني أن قولهم: {مِنْ لَدُنْكَ} تتضمن هذا المعنى. ¬

_ (¬1) "الدر المصون" 7/ 446، و"البحر المحيط" 6/ 102، و"التفسير الكبير" 11/ 83، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 395. (¬2) "زاد المسير" 5/ 108، و"التفسير الكبير" 11/ 83، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 270. (¬3) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 287، و"المحرر الوجيز" 9/ 239، و"زاد المسير" 5/ 108. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 155 بمعناه، و"الكشاف" 2/ 381، و"المحرر الوجيز" 9/ 245، و"زاد المسير" 5/ 109. (¬5) ذكر نحوه ابن الجوزي بلا نسبة في "زاد المسير" 5/ 109، والرازى في "التفسير الكبير" 21/ 83، والألوسي في "روح المعاني" 15/ 211.

11

وقوله تعالى: {وَهَيِّئْ لَنَا} أي: أصلح، من قولك: هيأت الأمر فتهيأ {مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} الرَّشَد، والرُّشْد، والرَّشاد، والرّشَاد: نقيض الضلال (¬1). قال أبو إسحاق: (أي أرشدنا إلى ما يقرب منك ويزلف عندك) (¬2) وهذا معنى قول ابن عباس: (أرشد أفعالنا إلى محبتك) (¬3). وقال أهل المعاني: (تقدير الآية: هيئ لنا من أمرنا ذا رشد) (¬4). أي: أمر ذا رشد. فحذف الموصوف، ثم حذف المضاف أيضًا، كأنهم قالوا: هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد. 11 - قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} قال المفسرون: (معناه: أنمناهم) (¬5). قال أبو إسحاق: (أي منعناهم أن يسمعوا؛ لأن النائم إذا سمع انتبه) (¬6). فالمعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع. وهذا معنى قول ابن عباس: (فضربنا على آذانهم بالنوم) (¬7). والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 109، و"التفسير الكبير" 11/ 83، و"تهذيب اللغة" (رشد) 2/ 1411، و"مقاييس اللغة" (رشد) 2/ 318، و"لسان العرب" 3/ 1649. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 270. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 109، و"التفسير الكبير" 21/ 83، و"روح المعاني" 15/ 211، و"أنوار التنزيل" 3/ 217. (¬4) "التفسير الكبير" 11/ 83. (¬5) "جامع البيان" 15/ 204، و"بحر العلوم" 2/ 290، و"معالم التنزيل" 5/ 155، و"الكشاف" 2/ 381، و"المحرز الوجيز" 9/ 245، و"زاد المسير" 5/ 109. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 271. (¬7) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 206، و"المحرر =

نفوذ الأصوات إليها، ومن هذا النظم قال الأسود بن يَعْفُر (¬1): ومن الحَوادِثِ لا أَبالَكِ أَنَّثِي ... ضربَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدَادِ وذلك أنه كان ضريرًا لا يتمكن من المشي في الأرض، فكأن الأرض قد ضربت بالأسداد عليه، حيث منع من التصرف. وقوله تعالى: {فِي الْكَهْفِ} بيان أن محل الضرب على آذانهم بالنوم كان في الكهف، فهو ظرف له بمنزلة المكان. ثم ذكر ظرف الزمان فقال: {سِنِينَ عَدَدًا}، وذكر العدد هاهنا يفيد كثرة السنين (¬2)، وكذلك كل شيء مما يعد إذا كثر فيه العدد ووصف به أريد كثرته؛ لأنه إذا قلَّ فُهِم مقداره فلم يحتج أن يعد، وإذا كثر احتيج إلى أن يُعد، فإذا قلت: أقمت أيامًا عددًا. أردت به الكثرة (¬3). وفي انتصابه وجهان أحدهما: أنه نعت للسنين. المعنى: سنين ذات عدد، أي معدودة، هذا قول الفراء، والزجاج (¬4). وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير أحدهما: حذف المضاف. والثاني: تسمية المفعول باسم المصدر. قال الزجاج: (ويجوز أن ¬

_ = الوجيز" 9/ 245، و"معالم التنزيل" 5/ 155، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 363. (¬1) البيت للأسود بن يعفر النهشلي. الأسْدَاد: جمع سد، وهو الحاجز بين الشيئين، يشير هنا إلى ضعفه فقد عمي. انظر: "ديوانه" ص 25، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 363، و"البحر المحيط" 6/ 103، و"الدر المصون" 7/ 447، و"المفضليات" ص 216، و"اللامات" ص 103، و"لسان العرب" (سدد) 4/ 1969. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 155، و"الكشاف" 2/ 281، و"المحرر الوجيز" 9/ 245، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 363، و"البحر المحيط" 6/ 103. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 271، "التفسير الكبير" 11/ 83. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 135، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 271.

12

ينتصب على المصدر، المعنى: نعد عددًا) (¬1). 12 - قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} قال ابن عباس: (يريد من بعد نومهم) (¬2)، يعني: أيقظناهم بعد نومهم، وقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ} المفسرون يقولون في هذا: (لنرى) (¬3). وقد تكلمنا في مثل هذا عند قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143] في سورة البقرة، وقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] في سورة آل عمران. وقوله تعالى: {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} الآية، {أَيُّ} رفع بأحصى على الابتداء والخبر، ولم يوقع العلم على شيء منهما في الظاهر، وهو في الباطن واقع على ما يتضمنان من القصة، كما تقول: اذهب فاعلم أيهم قام (¬4). قال الله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]. و {أَيُّ} من حروف الاستفهام فلا يعمل فيه ما قبله، سوى ما يجر، وذكرنا هذا. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 271. (¬2) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 155، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 264، و"البحر المحيط" 6/ 103. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 155 بمعناه، و"زاد المسير" 5/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 364 وعلمه سبحانه وتعالى كامل محيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، والعلم صفة من صفاته سبحانه نثبتها له من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 24: (لنعلم أي الحزبين)، أي: لنعلم ذلك علمًا يظهر الحقيقة للناس، فلا ينافي أنه كان عالمًا به قبل ذلك دون خلقه. وانظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 132، و"العقيدة الواسطية". (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 271، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 135 و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 267، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 437.

وسنذكر استقصاء المسألة عند قوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] إن شاء الله. واختلفوا في الحزبين، فقال عطاء عن ابن عباس: (الحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة مَلِكًا بعد مَلِك، وأصحاب الكهف حزب والملوك حزب) (¬1). وقال مجاهد: (الحزبين من قوم الفتية) (¬2). وقال الكلبي: (يعني المؤمنين والكافرين) (¬3). وحكى الفراء: (أن طائفتين من المسلمين في دهر أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم) (¬4). قال من اختار هذا القول: (تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك الذي أطلقه الله تعالى على أصحاب الكهف، والمسلمون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف في قدر مدة لبثهم في الكهف) (¬5). فهذا ما وجدته للمفسرين في هذه الآية، وهو غير مقنع، ولا كاف، إذ لم يفتح غلقا. وقال صاحب النظم: [(هذا ما قصه ربنا] (¬6) فيما بعد هذا الفصل في ¬

_ (¬1) "البحر المحيط" 6/ 103، و"التفسير الكبير" 11/ 84، و"روح المعاني" 15/ 212. (¬2) "جامع البيان" 15/ 206، و"النكت والعيون" 3/ 289، و"البحر المحيط" 6/ 103، و"التفسير الكبير" 11/ 84، و"الدر المنثور" 4/ 389 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) "النكت والعيون" 3/ 289، و"زاد المسير" 5/ 114 ذكره بدون نسبة، و"روح المعاني" 15/ 212، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 292 بلا نسبة. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 136. (¬5) "المحرر الوجيز" 10/ 371، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 364، و"البحر المحيط" 6/ 104، و"روح المعاني" 15/ 212. (¬6) ما بين المعقوفين ورد في جميع النسخ بلفظ: (هذه مقتصة من بناجا)، وما أثبته هو الصواب إن شاء الله، والموافق للسياق.

قوله: {بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]، وهذا يدل على تنازع كان فيما بينهم فيما لبثوا، وكان ذلك سبب بعث الله إياهم، كما أعلمنا -عز وجل- وهو عالم بما كان منهم، وبما يكون قبل أن يكون، ويتعالى عن أن يكون شيء سببًا لعلمه، والتأويل -إن شاء الله-: ثم بعثناهم ليكون ذلك منهم، أي: تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم) (¬1). فجعل صاحب النظم {لِنَعْلَمَ} هاهنا بمعنى ليكون ذلك لنعلم كائنًا قال الله تعالى: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 33]، أي: بما ليس ولا يعلمه كائنا. قال: (والحزبان جميعًا من أصحاب الكهف، أنهم قالوا هذا القول منكرين على من قال: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]، فدل هذا على أن أصحاب الكهف كانوا حزبين) (¬2)؛ هذا كلامه، وهو بعيد؛ لأنه يجعل معنى قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12] بمعنى: ليكون بينهم تساؤل وتنازع، وهذه العبارة التي في نظم الآية لا ينسى عن هذا المعنى الذي (¬3) ذكره، وقد ارتكب في كتابه أشياء بعيدة لم أحكها لبعدها. ومعنى الآية على ما ذكره المفسرون: قتادة، ومجاهد، وغيرهما: (ليعلم أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف عدّ أمد لبثهم وعلم ذلك، وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف، وخروجهم من بيتهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر) (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الرازي في "التفسير الكبير" 21/ 83. (¬2) ذكر نحوه الرازي في "التفسير الكبير" 21/ 84. (¬3) قوله: (الذي)، ساقط من نسخة (ص). (¬4) "جامع البيان" 15/ 206، و"بحر العلوم" 2/ 292، و"النكت والعيون" 3/ 289، و"معالم التنزيل" 3/ 152، و"زاد المسير" 5/ 114، و"الدر المنثور" 4/ 389.

وأما وجه نصب قوله: {أَمَدًا} فقال الفراء: (ويكون نصبه على وجهين: إن شئت جعلته خرج من أحصى مفسرًا، كما تقول: أي الحزبين أصوب قولاً، وإن شئت أوقعت عليه اللُّباث للباثهم أمدا) (¬1). وقال أبو إسحاق نحو هذا سواء فقال: ({أَمَدًا} منصوب على نوعين: وهو على التمييز إن شئت كان على أحصى أمدا، فيكون العامل فيه أحصى، كأنه قيل: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أم هؤلاء؟. والوجه الثاني: أن يكون منصوبًا بلبثوا، ويكون أحصى متعلقًا بلما، فيكون المعنى: أيّ الحزبين أحصى للبثهم في الأمد) (¬2). قال أبو علي الفارسي: (إن انتصاب الأمد بالتمييز عندي ممتنع غير مستقيم؛ وذلك أنه لا يخلو من أن يحمل أحصى على أن يكون فعلاً ماضيًا، أو أفعل نحو: أحسن وأعلم، فلا يجوز أن يكون أحصى أفعل، وغير مثال الماضي لأمرين أحدهما: أنه يقال: أحصى يحصى في التنزيل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] وأفعل يفعل لا يقال منه: هو أفعل من كذا، فأما قولهم: ما أولاه للخير، وما أعطاه للدرهم، فمن الشاذ النادر الذي حكمه أن يحفظ لقلته، وسبيل ما كان كذلك أن لا يقاس عليه، ولا جوز أن يكون أحصى أفعل من كذا لهذا. والأمر الآخر: هو أن ما ينتصب على التمييز في نحو: هو أكثر منك مالاً، وأحسن وجهًا، وأغزر علمًا، هو في المعنى فاعل، وإن كان في اللفظ منتصبًا، ألا ترى أن الأمد ليس هو الذي أحصى، فهو خارج عن ما عليه (¬3) الأسماء المنتصبة على التمييز، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 136. (¬2) "معانى القرآن" للزجاج 3/ 271. (¬3) في نسخة (ص). (عن حد ما عليه).

14

وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون منها كان أحصى مثالاً ماضيًا، ويكون المعنى: لنعلم أي الحزبين أحصى أمدًا للبثهم، فيكون الأملى على هذا منتصبًا بأنه مفعول به، والعامل فيه أحصى الذي هو فعل، ومن قدّر أن أحصى أفعل من كذا فمخطئ لما ذكرنا) (¬1). وهذا الذي ذكره أبو علي قول ثالث؛ لأن {أَمَدًا} عند الفراء وأبي إسحاق: ينتصب إما على التمييز، أو على الظرف، وعند أبي علي أنه مفعول به (¬2). قال (¬3): (ويجوز مع تأويل أحصى أفعل من كذا أن ينتصب الأمد بلبثوا، ويكون المعنى: للبثهم أمدا أي في الأمد، يتصل أحصى باللام، قال: وهذا القول مستكره؛ لأنك جعلت أحصى أفعل من كذا. قال: ومن قدّر أحصى فعلا وقدّر انتصاب الأمد بلبثوا دون أحصى فقد أساء، وعدل بالكلام عن وجهه، ألا ترى أن الكلام: أحصيت كذا، وفي التنزيل {أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة: 6]، و {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]، فأوصل الفعل بلا حرف، وإذا كان تأويله انتصاب الأمد بلبثوا يؤدي إلى أن الفعل الذي هو أحصى المتعدي بلا حرف يتعدى بحرف استقبحنا هذا التأويل، وكرهناه، واستبعدناه) (¬4). 14 - قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال المفسرون: (ألهمناها ¬

_ (¬1) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 932. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 136، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 271، و"الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 932. (¬3) لفظ: (قال)، ساقط من نسخة (س). (¬4) "الاغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 938.

الصبر وثبتناها) (¬1) وذكرنا معنى الربط على القلب في سورة الأنفال (¬2). وقوله تعالى: {إِذْ قَامُوا} قال عطاء ومقاتل: (يعني من النوم) (¬3). وهذا يتعدّى من وجوه، أحدها: أن الله تعالى استأنف قصتهم بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [الكهف: 13] الآية، فلأنه قال: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وكانوا قد قالوا هذا قبل نومهم في الكهف، ولكن الوجه تفسير {قَامُوا}: (أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار الذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم، فربط الله على قلوبهم بالصبر واليقين حتى قالوا بين يديه: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم، حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله -سبحانه وتعالى- ووحدانيته، وأنهم إن دعوا غيره وعبدوه كان ذلك شططا) (¬4). وفي تفسير شبل عن مجاهد قال: (إنهم أبناء عظماء مدينتهم، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسن القوم: إني لأجد في نفسي شيئًا ما أظن أن أحدًا يجده. قالوا: ما تجد؟ ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 257، و"النكت والعيون" 3/ 289، و"زاد المسير" 5/ 115، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 365. (¬2) عند قوله سبحانه: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]. (¬3) "البحر المحيط" 6/ 106، و"روح المعاني" 15/ 218، و"التفسير الكبير" 11/ 98 وقال: وهذا بعيد؛ لأن الله استأنف قصتهم بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [آية 13]. (¬4) هذا قول جمهور المفسرين. انظر: "جامع البيان" 15/ 207، و"معالم التنزيل" 5/ 156، و "الكشاف" 2/ 383، و"زاد المسير" 5/ 115، و"ابن كثير" 3/ 83 - 84.

15

قال: أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض. فقالوا: نحن كذلك نجده في أنفسنا، فقاموا جميعًا فقالوا: ربنا رب السموات والأرض) (¬1). وقوله تعالى: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي: كذبًا وجورًا، قاله المفسرون (¬2). ومعنى الشطط في اللغة: مجاوزة القدر (¬3). قال الفراء: (يقال: قد أشطّ في السَّوم، إذا جاوز القدر، ولم أسمع إلا أَشطَّ، يُشِطُّ، إِشطَاطًا، شَطَطًا) (¬4). وحكى الزجاج وغيره: (شَطَّ الرجل وأَشَطَّ إذا جار) (¬5). ومنه قوله: {وَلَا تُشْطِطْ} [ص: 22]، ومثله أَشَطَّ، وأصل هذا من قولهم: بما شَطَّت الدار، إذا بعدت، فالشَّطَطُ في القول بعد عن الحق؛ وهو هاهنا منصوب على المصدر، والمعنى: لقد قلنا إذا قول شَطَط، قاله الزجاج (¬6). 15 - وقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} هذا من قول أصحاب الكهف، ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بحجة بينة. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 207، و"زاد المسير" 5/ 110، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 365، و"الدر المنثور" 4/ 388 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) "جامع البيان" 15/ 208، و"معالم التنزيل" 5/ 156، و"المحرر الوجيز" 9/ 251، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 84. (¬3) "مقاييس اللغة" (شط) 3/ 165، و"القاموس المحيط" (شط) ص 674، و"لسان العرب" (شطط) 4/ 2263، و"المفردات في غريب القرآن" (شطط) (260). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 403. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 272. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 172.

16

قال الزجاج: (ومعنى {عَلَيْهِمْ} أي على عبادة الآلهة) (¬1). وهذا قول يوجب تقدير حذف المضاف، أي: هلا يأتون على عبادتهم، أو على اتخاذهم بسلطان بين، ثم حذف المضاف (¬2). وقال صاحب النظم: (ظاهر قوله: {لَوْلَا يَأْتُونَ}، حث وسؤال، وتأويله نفي وإبطال، على معنى: اتخذوا من دونه آلهة لا يأتون عليهم يسلطان؛ لأن في قولك: لولا فعلت كذا، دليل على أنه لم يفعله، وكان من حقه أن يفعل، وهذا من باب الإيماء إلى الشيء بالشيء)؛ انتهى كلامه (¬3). وعلى قوله أيضًا يرجع حقيقة التأويل إلى تقدير حذف المضاف؛ لأن معنى {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} لا يأتون على عبادتهم، أي: على عبادة الآلهة، على هذا يحسن الكلام؛ لأن الحجة على الآلهة ضد الحجة لهم، فلابد من تقدير حذف المضاف، وإذا كان كذلك فالقول الأول أولى؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى العدول عن ظاهر قوله: {لَوْلَا يَأْتُونَ}، والكناية في قوله: {عَلَيْهِمْ} يجوز أن تكون عن القوم في قوله: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا} وهو الظاهر، ويجوز أن تكون عن الآلهة. 16 - وقوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} قال ابن عباس: (هذا من قول تمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإذا اعتزلتموهم، أي: فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبًا، يعني عبدة الأصنام) (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 272. (¬2) "الكشاف" 2/ 382، و"الدر المصون" 7/ 454، و"روح المعاني" 15/ 219. (¬3) ذكر نحوه الرازي في "التفسير الكبير" 21/ 98، و"البحر المحيط" 6/ 106، و"روح المعاني" 15/ 219. (¬4) "زاد المسير" 5/ 116، و"البحر المحيط" 15/ 107.

{وَمَا يَعْبُدُونَ} قال أبو إسحاق: ({مَا} نصب، المعنى: واعتزلتم ما يعبدون إلا الله، فإنكم لن تتركوا عبادته) (¬1)، وذلك أنهم كانوا يشركون بالله فقال: اعتزلتم الأصنام ولم تعتزلوا الله ولا عبادته، وهذا قول الفراء وهو: (أن {مَا} اسم وليس بنفي) (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قال: (يريد لم يعبد أصحاب الكهف إلا الله) (¬3). وهذا يحمل على أن الله أخبر عنهم أنهم لم يعبدوا غيره، وعلى هذا لا يكون هذا حكايته قولهم؛ والقول ما قاله الفراء، والزجاج، وأهل التفسير (¬4)، يدل على صحته ما روي أنه في مصحف عبد الله: (وما يعبدون من دون الله) (¬5). وهذا يقطع يكون "ما" اسماً. وقوله تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} قال الفراء: (هذا جواب "إذ" كما تقول: إذ فعلت كذا فافعل كذا) (¬6)، ومعناه: صيروا إليه واجعلوه مأواكم. {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي: يبسطها عليكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} قال ابن عباس: (يسهل عليكم ما خوفكم من الملك وظلمه، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 272. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 136. (¬3) ذكرت نحوه كتب التفسير بلا نسبة انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 253، و"البحر المحيط" 6/ 106، و"روح المعاني" 15/ 220، و"فتح القدير" 3/ 273. (¬4) "جامع البيان" 95/ 201، و"الكشاف" 2/ 382، و"زاد المسير" 5/ 116، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 136، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 272. (¬5) "جامع البيان" 15/ 209، و"معالم التنزيل" 5/ 156، و"المحرر الوجيز" 9/ 253، و"زاد المسير" 5/ 81، و "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 367. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 136.

ويأتيكم من الله اليسر والرفق واللطف) (¬1). وقال الكلبي: (يعني غداء يأكلونه) (¬2). ويقال: (مخرجا) (¬3). وكل ما ارتفقت به فهو مِرْفَق، ويقال فيه أيضًا: مَرْفَق، ويقال فيه أيضًا: مَرْفِق بفتح الميم وكسر الفاء، كقراءة أهل المدينة (¬4)، وهما لغتان في مِرْفَق اليد، والأمر، والمتكأ، قال أبو عبيدة: (المَرْفَق: ما ارتفقت به، وبعضهم يقول: المَرْفِق، فأما ما في اليدين فهو مِرْفَق) (¬5). وقال الأخفش: ({مِرْفَقًا} أي: شيئًا يَرْتَفقُون به، مثل المِقْطَعِ) (¬6). ومن قرأ: مَرْفِقًا، جعله اسما مثل المسجد، ويكون لغة. قال أبو علي: (قوله: جعله اسما، أي: جعل المِرْفَقَ اسمًا ولم يجعله اسم المكان ولا المصدر من رَفَقَ يَرْفُقُ، كما أن المسجد ليس باسم الموضع من سَجَدَ يَسْجُدُ، وقوله: أو يكون لغة أي: لغة في اسم المصدر، كما جاء المَطْلِعُ ونحوه، ولو كان على القياس لفتحت اللام) (¬7). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 116، و"البحر المحيط" 6/ 107. (¬2) لم أقف عيه. (¬3) "جامع البيان" 15/ 209، و"بحر العلوم" 2/ 293. (¬4) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (مِرْفَقًا) بكسر الميم وفتح الفاء. وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي عن أبي بكر عن عاصم: (مَرْفِقَا) بفتح الميم وكسر الفاء. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 130، و"السبعة" ص 388، و"الغاية" ص 305، و"التبصرة" ص 248، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 56، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 310. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 395 (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 617. (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 131.

17

قال الفراء: (وأكثر العرب على كسر الميم، من الأصل ومن مِرْفَق الإنسان، والعرب أيضًا تفتح الميم فيهما، فهما لغتان في هزا وفي هذا) (¬1). وكأن الذين فتحوا الميم أرادوا أن يفرقوا بين المَرْفَق من الإنسان، وقال يونس: (الذي أختار المَرْفَق في الأمر، والمِرْفَق في اليد) (¬2). وقال الأصمعي: (لا أعرف إلا الكسر فيهما) (¬3)؛ يعني كسر الميم في الأمر واليد، وذكر قطرب اللغتين جميعًا فيهما (¬4). 17 - قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} الآية، التاء في قوله: {وَتَرَى} لمخاطب، أي: ترى أنت أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم، وليس أن من خوطب بهذا يرى ذلك، ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو، ومعناه: أنك لو رأيته على هذه الصورة (¬5). ومعنى {تَزَاوَرُ} قال ابن عباس: تتنحى (¬6). وقال في رواية الوالبي: (تميل عنهم) (¬7). ومعنى التَّزَاور: التمايل من الزَّوْر والأزور، فإن قيل: التَّزاور إنما يستعمل في زيارة بعض الناس بعضا، فكيف يحسن استعمال ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 136. (¬2) "تهذيب اللغة" (رفق) 2/ 1444. (¬3) "معاني القرآن" للزحاج 3/ 272، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 268. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 273. (¬5) "زاد المسير" 5/ 117، و"القرطبي" 10/ 368، و"التفسير الكبير" 11/ 99. (¬6) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "القرطبي" 10/ 368، و"إرشاد العقل السليم" 5/ 211، و"روح المعاني" 15/ 222. (¬7) "جامع البيان" 15/ 210، و"الدر المنثور" 4/ 391 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

بمعنى الميل، كما قالوا: تمايل، أجروا تَزَاور مجرى تمايل، قال الشاعر (¬1): كَلَون الحِصَان الأنبطِ البطن قائمًا ... تمايل عنه الجلُّ واللونُ أشقرُ وكذلك قالوا: تجانف، بهذا المعنى (¬2)، وقراءة أهل الكوفة: بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر: تَزْوَرُّ (¬3). قال أبو الحسن: (لا يوضع في هذا المعنى إنما يقال: هو مزْوزٌّ عني، أي: منقبض) (¬4). ويدل على أن معنى ازوزَّ انقبض قول عنترة (¬5): ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة. والنبط: بياض الجنبين، فإذا كان الفرس أبيض البطن فهو أنبط. قال الليث: النبط والنبطة: بياض تحت أبط الفرس، وربما عرض حتى يغشى البطن والصدر. انظر: "ديوانها" (227)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 133، و"تهذيب اللغة" (نبط) 4/ 3497، و"لسان العرب" (نبط) 7/ 4326. (¬2) الزَّوْرُ: الميل في وسط الصدر، ويقال للقوس: زَوْرَاء لميلها. والازوار عن الشيء: العدول عنه. انظر: "تهذيب اللغة" (زار) 2/ 1499، و"اللسان" (زور) 3/ 1887. (¬3) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: (تَزَّاور) بثديد الزاي. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (تَزَاور) خفيفة. وقرأ ابن عامر: (تَزْور) بغير ألف، على وزن: تحمر. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 131، و"السبعة" ص 388، و"الغاية" ص 305، و"التبصرة" ص 248، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 56. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 132، و"الدر المصون" 7/ 457، و"روح المعاني" 15/ 222. (¬5) هذا صدر بيت لعنترة، وعجزه: وشكا إلى بعبرة وتحمحم ازور من وقع القنا، أي: أعرض الفرس لما رأى الرماح تقع بنحوه. واللبان: الصدر، وقيل: ما بين الثديين ويكون للإنسان وغيره. والتحمحم: الصوت الخفي، فإن اشتد فهو الصهيل. انظر: "ديوانه" ص 18، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 132، و"الجامع لآحكام القرآن" 10/ 386.

ازورَّ من وقع القنا بلبانهِ أي: انقبض. والذي حسَّن القراءة به قول جرير (¬1): وفي الأظعان عن طلح ازورار فظاهر استعمال هذا في الأظعان مثل استعماله في الشمس (¬2). وقوله تعالى: {ذَاتَ الْيَمِينِ}، أي: ناحية اليمين، فذات هاهنا صفة قامت مقام الموصوف، كأنه قيل: ناحية ذات اليمين. قال الأخفش: (وهو نصب على الظرف) (¬3). وقوله تعالى: {تَقْرِضُهُمْ} قال الوالبي عن ابن عباس: (تذرهم) (¬4). وقال قتادة: (تدعهم) (¬5). وقال مقاتل: (تجاوزهم) (¬6). وقال الأخفش، والزجاج، وأبو عبيدة: (تعدل عنهم وتتركهم) (¬7). وقال الكسائي: (قرضت المكان، أي: عدلت عنه) (¬8). ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت لجرير. وصدره: عفن على الأماعز من حبي عسفن: عدلن. والأماعز: الواحد أمعز: وهو المكان الصلب الكثير الحجارة والحصى. وطلح: مكان. انظر: "ديوانه" ص 182، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 133. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 133. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 617. (¬4) "جامع البيان" 15/ 212، و"الكشف والبيان" 3/ 388 أ. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 336، و"جامع البيان" 15/ 212، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 369. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 388 أ، و"تفسير المشكل" لمكي بن أبي طالب ص 142. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 157، و"زاد المسير" 5/ 117 بدون نسبة، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 273، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 396. (¬8) "تهذيب اللغة" (قرض) 3/ 2932، و"روح المعاني" 15/ 222.

وأنشد قول ذي الرمة (¬1): إلى ظُعُنٍ يَقْرضْن أقواز مشرفٍ ... شمالا عن أيمانهن الفوارسُ وقال أبو عبيد: (القرض في أشياء) فمنها: القطع، وكذلك السير في البلاد إذا قطعتها، وأنشد البيت (¬2). قال أبو عبيدة: (تقول لصاحبك: هل وردت مكان كذا؟ فيقول المجيب: إنما قرضته ذات الشمال، إذا مرَّ به وتجاوز عنه وهو على شماله) (¬3). قال الكلبي: (يقول إذا طلعت الشمس مالت عن كهفهم ذات اليمين، يعني: يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، يعني: شمال الكهف لا تصيبه، وكان كهفهم نحو بنات نعش (¬4) في أرض الروم) (¬5). ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة. القَوَز: كثيب الرمل المستدير. ومشرف، والفوارس: موضعان. انظر: "ديوانه" (313)، و"المحرر الوجيز" 9/ 257، و"الكشاف" 2/ 388، و"البحر المحيط" 6/ 93، و"تهذيب اللغة" (قرض) 3/ 2932، و"الدر المصون" 7/ 458، و"لسان العرب" (قرض) 6/ 3590. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (قرض) 3/ 2932. (¬3) ذكره في "مجاز القرآن" 1/ 396. (¬4) بنات نعش: سبعة كواكب، فأربعة منها نعش؛ لأنها مربعة، وثلاثة منها بنات، يقال للواحد منها: ابن نعش؛ لأن الكوكب مذكر. انظر: "تهذيب اللغة" (نعش) 4/ 3611، و"مقاييس اللغة" (نعش) 5/ 450، و"لسان العرب" (نعش) 7/ 4474، و"القاموس المحيط" (نعش) ص 607. (¬5) "زاد المسير" 5/ 157، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 369، وذكره "الكشف والبيان" 3/ 388 أبلا نسبة.

وقال المفسرون: (أعلم الله تعالى أنه ثواهم في مَقنَاة (¬1) من الكهف مستقبلاً بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها، وتغير أوانهم، وتبلي ثيابهم) (¬2). وقال أبو علي الفارسي: (إذا مالت الشمس عنهم إذا طلعت، وتجاوزتهم إذا غربت، دلَّ أن الشمس لا تصيبهم ألبتة، أو في أكثر الأمر، فتكون صورهم محفوظة) (¬3). هذا الذي ذكرنا قول المفسرين قالوا في سبب ميل الشمس عنهم: (إنهم كانوا في مَقْنَاة) (¬4). وقال أبو إسحاق: (هذا التفسير ليس ببين، إنما جعل الله فيهم هذه الآية أن الشمس لا تقربهم في مطلعها ولا عند غروبها) (¬5)، ودل عليه قوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} يعني: أن الله تعالى بقدرته (¬6) حبس عنهم ضوء الشمس وحرها عند طلوعها وغروبها، فلا تنالهم طالعة ولا غاربة، لا بكونهم في مكان لا تصيبه الشمس، ولكن ¬

_ (¬1) المَقْنُوَةُ، خفيفة، من الظل: حيث لا تصيبه الشمس في الشتاء. قال أبو عمر: مَقْنَاةٌ ومَقْنُوة بغير همز. وقال ابن السكيت: المَقْنَأَة: المكان الذي لا تصيبه الشمس. انظر: "تهذيب اللغة" (قنا) 3/ 3050، و"لسان العرب" (قنأ) 6/ 3746. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 388 أ، و"بحر العلوم" 2/ 293، و"النكت والعيون" 3/ 290، و"معالم التنزيل" 5/ 117، و"المحرر الوجيز" 9/ 255. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 134. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 157، و"المحرر الوجيز" 9/ 255، و"البحر المحيط" 6/ 108، و"أضواء البيان" 4/ 435. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 273. (¬6) قوله: (بقدرته)، ساقط من نسخة (س).

بقدرة الله تعالى جعل ذلك آية من آياته، كما قال: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} (¬1). ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف، ينالهم فيه برد الريح، ونسيم الهوى فقال: "وهم في فجوة منه" أي: من الكهف، والفجوة: متسع في مكان (¬2). قال أبو عبيدة: (وجمعها فَجَوات) (¬3) وفِجَا، نحو: زَكوات وزِكَاء. ومنه الحديث: (فإذا وجد فجوة نصّ) (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) "الكشاف" 2/ 382، و"المحرر الوجيز" 9/ 295. وهذا القول هو الراجح -والله أعلم- للقرينة القرآنية وهي قوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 34: وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله، إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة، كرامة لهؤلاء القوم الصالحين الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا. وقال الشوكاني في "تفسيره" 3/ 392: فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية، ويؤيده أيضًا إطلاق الفجوة وعدم تقيدها بكونها إلى جهة كذا. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 273، و"التفسير الكبير" 11/ 100. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (فج) 10/ 507، و"مقاييس اللغة" (فجَّ) 3/ 2742، و"القاموس المحيط" (فج) ص 200، و"الصحاح" (فجَّ) ص 206، و"المفردات في غريب القرآن" (فجج) ص 373. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 396. (¬4) النص: نصَّ الدابة ينصها نصًّا: رفعها في السير، قال أبو عبيد: النص التحريك حتى تستخرج من الناقة أقصى سيرها. وأصل النص أقصى الشيء وغايته، ثم سمي به ضرب من السير سريع. انظر: "تهذيب اللغة" (نصَّ) 4/ 3585، و"لسان العرب" (نصص) 7/ 4441. (¬5) أخرجه البخاري "صحيحه" كتاب: الجهاد، باب: السرعة في السير 3/ 1093، =

18

وقال مجاهد: (الفجوة: المكان الذاهب) (¬1). يعني: الذاهب في السعة والعرض. قال ابن عباس في قوله: "وهم في فجوة" (يريد في سعة) (¬2)، {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، أي: ذلك التزاور والقرض من دلائل قدرة الله ولطفه بأصحاب الكهف. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَد} أشار إلى أن الله تعالى هو الذي تولى هداية أصحاب الكهف] (¬3)، ولولا ذلك لم يهتدوا، فالمهتدي من هداه الله كهؤلاء، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}، كدقيانوس الكافر وأصحابه. 18 - قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ} معنى هذا الخطاب على ما ذكرنا في قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ}، أي: لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظًا، هو جمع: أيقاظ، ويقظ، ويقظان، قا له الأخفمش، وأبو عبيدة، والزجاج (¬4). وأنشدوا لرؤبة (¬5): ¬

_ = ومسلم في "صحيحه" كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة 2/ 936، وأبو داود في "سننه" كتاب الحج، باب الدفعة من عرفة 2/ 472، والنسائي في "سننه" كتاب الحج، باب كيف يسير من عرفة 5/ 183، ومالك في "الموطأ" كتاب الحج، باب السير إلى عرفة 1/ 392. (¬1) "جامع البيان" 15/ 145، و"تفسير مجاهد" 446. (¬2) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 212 - 213 بمعناه، و"الكشف والبيان" 3/ 388 ب، و"معالم التنزيل" 5/ 157، و"المحرر الوجيز" 9/ 295. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 274، و "معاني القرآن" للأخفش 1/ 617، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 396. (¬5) هذا صدر بيت لرؤبة، وعجزه: وسيف غيَّاظٍ لهم غِيَاظا انظر: "ديوانه" ص 81، "مجاز القرآن" 1/ 397، و"معاني القرآن"، للزجاج 3/ 274، و"جامع البيان" 15/ 213.

ووجدوا إخوانهم أيقاظا ومثله: نَجْدٌ، نُجد، وأَنْجاد. وقوله تعالى: {وَهُمْ رُقُودٌ} أي: نائمون، وهو مصدر سمِّي به، كما يقال: قوم ركوع، وقعود، وسجود، يوصف الجميع بالمصدر (¬1)، ومن قال: إنه جمع راقد، فقد أبعد؛ لأنه لم يجمع فاعل على فعول (¬2). (وإنما يحسبون أيقاظًا؛ لأن أعينهم مفتحة وهم نيام) (¬3)؛ قاله الكلبي. وحكى أبو إسحاق: (لكثرة تقلبهم، يظن أنهم غير نيام. قال: ويدل على هذا قوله: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}) (¬4)، وعلى هذا يجب أن يكثر تقلبهم. قال قتادة: (ذكر لنا أن أبا عياض (¬5) قال: كان لهم في كل عام ¬

_ (¬1) "القرطبي" 10/ 370، و"التفسير الكبير" 11/ 101، و"روح المعاني" 15/ 224. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 157، و"الدر المصون" 7/ 460، وقال القاسمي في "تفسيره" 10/ 4032: وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود؛ لأن فاعلا لا يجمع على فعول، مردود بما نص عليه النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل. (¬3) "النكت والعيون" 3/ 291، و"معالم التنزيل" 5/ 158، و"الكشاف" 2/ 383، و"المحرر الوجيز" 9/ 259، وقال الألوسي في "تفسيره" 15/ 224: ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 274. (¬5) عمرو بن الأسود العنسي، الهمداني، الدمشقي، الدارني، أبو عياض، مخضرم، من كبار التابعين، أخرج له الستة، وكان من زهاد الشام الكبار، روى عن عمر وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وروى عنه عدد من التابعين، توفى -رحمه الله- في خافة معاوية -رضي الله عنه-. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 153، و"الجرح والتعديل" 3/ 220، و"الحلية" لأبي نعيم 5/ 155، و"تهذيب التهذيب" 8/ 4.

تقليبتان) (¬1). وهو قول أبي هريرة (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء: (لئلا تأكل الأرض لحومهم، ولا تبليهم) (¬3). وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (يمكثون رقودًا على أيمانهم تسع سنين، ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودًا تسع سنين) (¬4). و {ذَاتَ} منصوبة على الظرف؛ لأن المعنى: نقلبهم في ناحية اليمين، كما قلنا في قوله: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ}. وقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: (هربوا ليلاً من ملكهم، فمروا براع معه كلب، فتبعهم على دينهم ومعه كلبه) (¬5). وقال كعب: (مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارًا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي، أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم) (¬6). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 213، و"المحرر الوجيز" 9/ 260 ذكره بدون نسبة، و"الدر المنثور" 4/ 291، و"التفسير الكبير" 11/ 101. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 158، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 370، و"التفسير الكبير" 11/ 101. (¬3) "جامع البيان" 15/ 214، و"معالم التنزيل" 5/ 158، و"زاد المسير" 5/ 118، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 85. (¬4) "روح المعاني" 15/ 225، وذكره الرازي في "التفسير الكبير" 11/ 101 وقال: هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها، ولفظ القرآن لا يدل عليها، وما لم يأت فيه خبر صحيح فكيف يعرف؟ (¬5) "المحرر الوجيز" 9/ 261، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 370، و"التفسير الكبير" 11/ 101، و"الدر المنثور" 4/ 388. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 370، و"التفسير الكبير" 11/ 101، و"روح المعاني" 15/ 225.

وقال عبيد بن عمير: (كان ذلك كلب صيدهم) (¬1). ومعنى: {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} أي: يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين، ومنه الحديث في الصلاة: أنه نهى عن افتراش السبع، وقال: "لا تفترش ذراعيك افتراش السبع" (¬2)، هو أن يضعهما على الأرض، والذراع: اسم جامع في كل ما يسمى يدًا من ذوي الأيدان. قال الليث: (الذراع: من طرف المرفق إلى أطراف الأصبع الوسطى) (¬3). قال ابن السكيت: (الذراع مؤنثة، تقول: هذه ذراع) (¬4). قال أبو علي: (لولا حكاية الحال لم يعمل اسم الفاعل في ذراعيه؛ لأنه إذا مضى اختص وصار معهودًا، فخرج بذلك من شبه الفعل، ألا ترى أن الفعل لا يكون معهودًا، فكما أن اسم الفاعل إذا وصف وحقر لم يعمل عمل الفعل لزوال شبهه عنه، كذلك إذا كان ماضيًا، ولكن المعنى على ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 261، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 370، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 85، و"التفسير الكبير" 11/ 101، و "محاسن التأويل" 11/ 4032. (¬2) أخرجه ابن ماجه في "سننه" كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب الاعتدال في السجود 2/ 288، وأبو داود في "سننه" كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود 1/ 539، والنسائي في "سننه" كتاب التطبيق، باب النهي عن بسط الذراعين في السجود، وأحمد في "مسنده" 5/ 447، وأخرج نحوه الترمذي في "جامعه" كتاب الصلاة، باب ما جاء في الاعتدال في السجود حديث رقم (275) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأورده ابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب الصلة، باب هيئة الركوع والسجود 5/ 374. (¬3) "تهذيب اللغة" (ذرع) 2/ 1277، و"القاموس المحيط" (الذراع) ص 716، و"لسان العرب" (ذرع) 3/ 1495. (¬4) "تهذيب اللغة" (ذرع) 2/ 1277، و"القاموس المحيط" (الذراع) ص 716، و"الصحاح" (ذرع) 3/ 1209.

حكايته الحال الماضية) (¬1). وهذا الفضل نذكره بأشرح من هذا عند قوله: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]. وقوله تعالى: {بِالْوَصِيدِ} قال ابن عباس في رواية على وعطاء: (بالفناء) (¬2)، وهو قول أكثر المفسرين، قال مجاهد والضحاك: (يعني فناء الكهف) (¬3)، وبه قال أكثر أهل اللغة. روى أبو عبيد عن الأحمر (¬4): (الوصيد: الفناء) (¬5). وقال الزجاج: (الوصيد: فناء البيت، وفناء الدار) (¬6). وقال أبو عبيدة: (الوصيد: الفناء، والجميع وصائد ووصدٌ) (¬7). وقال يونس والأخفش والفراء: (الوَصِيد والأصَيد لغتان، مثل: ¬

_ (¬1) "الكشاف" 2/ 383، و"البحر المحيط" 6/ 109، و"الدر المصون" 7/ 460، و"شرح الكافية الشافية" 2/ 1043. (¬2) "جامع البيان" 15/ 214، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 142، و"اللغات في القرآن" ص 33، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 137، و"معالم التنزيل" 5/ 158، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 243. (¬3) "جامع البيان" 15/ 214، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 137، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 453، و"معالم التنزيل" 5/ 158. (¬4) أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريا اللؤلؤي البجلي بالولاء، أبو عبد الله المعروف بالأحمر، عالم بالأخبار والأنساب، أصله من الكوفة، وكان يسكنها تارة، ويسكن البصرة تارة أخرى، أخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبد الله بن سلام وغيرهما، وله مصنفات وكتب. انظر: "بغية الوعاة" (177)، و"إنباه الرواة" 1/ 170، و"الأعلام" 1/ 27. (¬5) "تهذيب اللغة" (وصد) 1/ 165. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 274. (¬7) "مجاز القرآن" 3/ 274.

الوِكَاف (¬1) والإكاف) (¬2). وقال الكسائي: (أهل تهامة (¬3) يقولون: الوصيد، وهو الفناء، وأهل نجد (¬4) يقولون: الأصيد، والقرآن بلغة تهامة نزل) (¬5). وقال السدي: (الوصيد: الباب، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس) (¬6). واختيار المبرد قال: ({بِالْوَصِيدِ} عند أهل اللغة: بالباب، أي: بحضرة الباب، يقال: فلان بالباب، وإنما يراد بحضرة الباب). وقال عطاء: (الوصيد: عتبة الباب) (¬7). وهو اختيار ابن قتيبة قال: (لأنهم يقولون: أوصد بابك، أي: أغلقه، قال: وأصله أن تلصق الباب ¬

_ (¬1) يقال: استوكف: استقطر، والوِكَاف لغة في الإِكَاف. والوكفُ: الإثم والعيب، والوكف: النطع، والوِكَاف والإكَاف: يكون للبعير والحمار والبغل، والجمع وكف. انظر: "تهذيب اللغة" (وكف) 4/ 3946، و"مقاييس اللغة" (وكف) 6/ 139، و"الصحاح" (وكف) 4/ 1441، و"لسان العرب" (وكف) 8/ 4908. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 137، و"تهذيب اللغة" (وصد) 1/ 165، و"التفسير الكبير" 11/ 101. (¬3) تِهَامة -بكسر التاء-: اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز ومكة من تهامة، وقي: تهامة إلى عرق اليمن إلى أسياف البحر إلى الجحفة وذات عرق. انظر: "معجم البلدان" 2/ 63، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 44. (¬4) نَجْد -بفتح أوله وسكون ثانيه-: اسم للأرض العريضة التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها العراق والشام، فما ارتفع من بطن الرمة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق. انظر: "معجم البلدان" 5/ 261، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 175. (¬5) "جامع البيان" 15/ 215، و"زاد المسير" 5/ 119، و"تهذيب اللغة" (وصد) 1/ 165. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 158، و"الكشاف" 2/ 383، و"زاد المسير" 5/ 119. (¬7) "تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 142، و"النكت العيون" 3/ 292، و"معالم التنزيل" 3/ 154، و"الكشاف" 2/ 383.

بالعتبة [إذا أغلقته، والكهف لم يكن له باب ولا عتبة، وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت] (¬1)، قال: وقد يكون الوصيد الباب نفسه) (¬2)، وأنشد (¬3): بأرض فضاءٍ لا يسدُّ وصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غير منكرِ ويقال: أصدت الباب، وأوصدته إذا أطبقته، وباللغتين قرئ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] (¬4). فمن قال: أَصَدت بالهمزة، قال: الأصيد، ومن قال: أوصدت، قال: الوصيد، ويقال للمطبق: الأصاد والوصاد، وهذا الاشتقاق يوجب أن يكون معنى الوصيد: الباب المطبق المجافى، فالذين قالوا: إنه الباب، وافق قولهم أصل اللفظ في اللغة، ويكون معنى الوصيد في الكهف: بأنه المسدود، كما روي في القصة: أن باب الكهف سدَّ عليهم، والذين قالوا: إنه الفناء؛ فلأن الكلب إذا كان داخل الكهف وراء بابه المسدود كان بالفناء؛ لأن ما جاوز فم الكهف كان من جملة الفناء، والكلب كان في آخر الفناء عند الباب. والقولان صحيحان على ما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬2) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 265، و"النكت والعيون" 3/ 292. (¬3) البيت ينسب إلى عبيد بن وهب العبسي. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 265، و"النكت والعيون" 3/ 292، و"البحر المحيط" 6/ 93، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 351، و"روح المعاني" 15/ 226، و"الدر المصون" 7/ 461. (¬4) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر، والكسائي: (موصدة) بغير همز، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم: (مؤصدة) بالهمز. انظر: "السبعة" ص 686، و"التبصرة" ص 381، و"المبسوط في القراءات" ص 410، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 377.

بينا (¬1)؛ وأما ما روي عن سعيد بن جبير أنه فسر الوصيد: (الصعيد، والتراب) (¬2)؛ فإنه أراد الفناء، ولكنه عبر بالصعيد. وقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}، أي: أشرفت عليهم، يقال: أطلعت فلانًا على الشيء فاطلع هو، قال الله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ} [الصافات: 55]. {لوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا}، أي: لأدبرت وانقلبت منهم فرارًا. قال الزجاج: (منصوب على المصدر؛ لأن معنى وليت منهم: فررت منهم) (¬3). {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي: فزعًا وخوفًا، قال المفسرون: (هو أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد) (¬4). وقال أبو إسحاق: (قيل في التفسير: إنهم طالت شعورهم جدًا، وأظفارهم، فلذلك كان الرائي لو رآهم لهرب مرعوبًا) (¬5). ¬

_ (¬1) قال الطبري في "تفسيره" 15/ 215: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال الوصيد: الباب أو فناء الباب، حيث يغلق الباب، وذلك أن الباب يوصد، وإيصاده إطباقه وإغلاقه من قول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8]. وانظر: "أضواء البيان" 4/ 41. (¬2) "جامع البيان" 15/ 214، و"المحرر الوجيز" 9/ 263، و"زاد المسير" 5/ 119، و"الدر المنثور" 4/ 392. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 275. (¬4) "جامع البيان" 15/ 215، و"النكت والعيون" 3/ 293، و"معالم التنزيل" 5/ 159، و"المحرر الوجيز" 9/ 264. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 275. وهذا قول بعيد، ولو كانت حالهم هكذ لم يقولوا {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]، وإذا الصحيح -والله أعلم- في آمرهم أن الله -عز وجل- حفظ لهم الحالة التى ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم آية. قال الشوكاني في "تفسيره" 3/ 393: ويدفعه قوله تعالى: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} =

وفي قوله: {وَلَمُلِئْتَ} قراءتان: التخفيف، والتشديد (¬1)، والاختيار التخفيف. قال أبو الحسن: (الخفيفة أجود في كلام العرب، يقولون: ملأتني رعبًا، ولا يكادون يعرفون (¬2) ملأتني) (¬3). ويدل على هذا كثرة استعمالهم الملء كقوله (¬4): فيملأ بيتنا أقطًا وسمنًا وقول الآخر (¬5): ومن مالئ من شيء غيره إذا ... راح نحو الحمرة البيض بالدُّمى وقول الآخر (¬6): ¬

_ = فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئًا ولا وجدوا من أظافرهم وشعورهم ما يدل على طول المدة. وانظر: "المحرر الوجيز" 9/ 264، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 373. (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع: (ولَمُلِّئْت) بالتشديد والهمز. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (ولملئت) بالتخفيف والهمز. انظر: "السبعة" (389)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 134، و"الغاية" ص 305، و"التبصرة" 248، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 310. (¬2) من هنا ساقط حتى قوله: (.. المختلفون في عدد) من نسخة (ص). (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 134، و"التفسير الكبير" 11/ 101. (¬4) هذا صدر بيت لامرئ القيس. وعجزه: وحسبك من غنى شبع وريُّ والأقطُ: شيء يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك ثم يمصل. والسَّمنُ: سلاء الزبد. انظر: "ديوانه" ص 171، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 134، و"التفسير الكبير" 11/ 102، و"لسان العرب" (سمن) 4/ 2104. (¬5) لم أهتد إلى قائله، وأورد أبو علي الفارسي الشطر الأول منه في كتابه "الحجة للقراء السبعة" 5/ 135 بدون نسبة، وكذلك الرازي في "التفسير الكبير" 11/ 102. (¬6) هذا شطر بيت من الرجز. وبعده: =

19

لا تملأ الدَّلو وعرِّق فيها وقول الآخر (¬1): امتلأ الحوض وقال قطني وامتلأ يدل على ملأ؛ لأنه مطاوعه، وقد جاء الثقيل أيضًا، أنشدوا للمُخبَّل السعدي (¬2): وإذا فتك النعمان بالنَّاس محرمًا ... فملئ من كعب بن عوفٍ سلاسله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} أشار إلى ما تقدم من قوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11]، وقوله: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقوله: {وَنُقَلِّبُهُمْ} أي: كما فعلنا بهم هذه الأشياء بعثناهم، قال ابن قتيبة: (أجسامهم من تلك النومة التي تشبه الموت) (¬3). 19 - وقوله تعالى: {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} قال أبو علي الجرجاني: (ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم) (¬4). ¬

_ = ألا ترى حبار من يسقيها عرِّق: عرِّق الدلو جعل فيها ماء قيلاً. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 135، و"تهذيب اللغة" (عرق) 5/ 2459، و"لسان العرب" (عرق) 5/ 2905، و"التفسير الكبير" 11/ 102، و"مجالس ثعلب" ص 238. (¬1) هذا شطر بيت من الرجز. وبعده: مهلاً رويدًا قد ملأت بطني قطني: بمعنى حسبي. وقد تقدم. (¬2) هذا البيت ضمن قصيدة قالها حينما بعث النعمان إلى كعب بن عوف جيشًا في الشهر الحرام وهم آمنون فقتل فيهم وسبى. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 135، و"تهذيب اللغة" (فتك) 3/ 2737، و"لسان العرب" (فتك) 6/ 3343، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 374. (¬3) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 265 (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة الرازي "التفسير الكبير" 21/ 102، والطبرسي في "مجمع =

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} قال ابن عباس: (يريد كم لنا منذ دخلنا الكهف) (¬1). {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال المفسرون: (إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله في آخر النهار، لذلك قالوا: {يَوْمًا} فلما رأوا الشمس قالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، وكان قد بقيت من النهار بقية) (¬2). {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} قال ابن عباس: (يرد تمليخا رئيسهم رد علم ذلك إلى الله) (¬3)، {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}، الورق: اسم للدراهم. وقال أبو عبيدة: (الفضة كانت مضروبة دراهم أو لا) (¬4)؛ يدل على هذا ما روي: (أن عرفجة (¬5) اتخذ أنفًا من ورق) (¬6). وفيه لغات: وَرِق، ¬

_ = البيان" 6/ 705، وقال الشوكاني في "فتح القدير" 3/ 293: ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار. (¬1) ذكره "زاد المسير" 5/ 120، و"التفسير الكبير" 11/ 103 بدون نسبة. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 293، و"معالم التنزيل" 5/ 159، و"زاد المسير" 5/ 120، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 375. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 159، و"زاد المسير" 5/ 120، و"التفسير الكبير" 11/ 103. (¬4) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (ورق) 4/ 3874. (¬5) عرفجة بن أسعد بن كريب، وقيل: ابن صفوان التيمي، العطاردي، أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أصيب أنفه يوم الكلاب بالجاهلية، وكان من أهل البصرة، روى عنه ابنه طرفة، وابن ابنه عبد الِرحمن. انظر: "أسد الغابة" 3/ 518، و"الاستيعاب" 3/ 1062، و"الإصابة" 2/ 467، و"تهذيب التهذيب" 7/ 176. (¬6) أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في ربط الأسنان =

وَوَرْق، وَوِرْق، مثل كَبِد، وكَبْد، وكِبْد، ذكر ذلك الفراء والزجاج (¬1). وكسر الواو أردؤها. ويقال أيضًا: للورق: الرِّقَة، قال الأزهري: (أصله: وِرْقَة، مثل: صِلَة وعِدَة) (¬2). وإنما قال هذه؛ لأنه عني بالورق الدراهم أو الفضة. قال ابن عباس: (وكانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم، فهربوا منه) (¬3). ويعني بالمدينة: دقسوس، وهي مدينتهم، ويقال: هي اليوم طرسوس (¬4). وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: أحل الذبائح) (¬5). ¬

_ = بالذهب 4/ 434، والترمذي في "جامعه" كتاب: اللباس، باب: ما جاء في شد الأسنان بالذهب 4/ 211 وقال: هذا حديث حسن غريب. والنسائي في "سننه" كتاب: الزينة، باب: من أصيب أنفه هل يتخذ أنفًا من ذهب 8/ 163، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 342، وابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب: الزينة، فصل: في أنواع من الحلي متفرقة 4/ 731، وابن حجر في "الكافي الشاف" ص 103. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 137، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 275. (¬2) "تهذيب اللغة" (ورق) 4/ 3876، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 270. (¬3) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة انظر: "جامع البيان" 15/ 216، و"الجامع لأحكام القرآن" 15/ 375، و"التفسير الكبير" 11/ 103. (¬4) طَرَسوس: بفتح أوله وثانيه وسينين مهملتين بينهما واو ساكنة: عجمية رومية، وهي في الإقليم الرابع، وقالوا: سميت بـ (طرسوس بن الروم بن اليفز بن سام بن نوح)، وقيل: إن مدينة طرسوس أحدثها سليمان كان خادمًا للرشيد في سنة نيف وتسعين ومائة، وهي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. انظر: "معجم البلدان" 4/ 28، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 152. (¬5) "زاد المسير" 5/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 375، و"الدر المنثور" 4/ 392، و"البحر المحيط" 6/ 111.

وهو قول سعيد بن جبير (¬1)، واختيار الفراء (¬2). قالوا: لأن عامة بلدهم كانوا مجوسًا، وفيهم قوم يخفون إيمانهم. وقال مجاهد: (أيها أحل، وكان لهم ملك غشوم يظلم الناس في طعامهم وأسواقهم، فقالوا لصاحبهم: لا تبتع طعامًا فيه ظلم ولا غصبًا) (¬3). وذكر أبو إسحاق القولين جميعًا وقال: (الآية من باب حذف المضاف؛ لأن المعنى: أي أهلها أزكى طعامًا، أي: أحل، إما من جهة أنه ذبيحة مؤمن، وإما من جهة أنه لا غصب فيه، هذا معنى قوله. قال: و {أَيُّهَا} رفع بالابتداء، و {أَزْكَى} خبره، و {طَعَامًا} منصوب على التمييز) (¬4). وقوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ} قال ابن عباس: (يريد يكون ذلك في ستر وكتمان) (¬5)، يعني دخول المدينة وشراؤه الطعام، ومعنى {وَلْيَتَلَطَّفْ}: وليدقق النظر وليحتل حتى لا يطلع عليه. وقوله تعالى: {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} قال ابن عباس: (يريد لا يخبرن بكم، ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة) (¬6). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 223، و"تفسير القرآن" للصنعاني 4/ 400، و"زاد المسير" 5/ 185. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 137. (¬3) "زاد المسير" 5/ 122، و"البحر المحيط" 6/ 11، و"التفسير الكبير" 11/ 103. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 276. (¬5) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 160 بدون نسبة. (¬6) ذكره "جامع البيان" بدون نسبة 15/ 224، وكذلك "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 375، و"التفسير الكبير" 11/ 103.

20

وقال أبو إسحاق: (أي إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما يقع فيه) (¬1). وهذا خلاف ما ورد في التفسير، فقد ذكر السدي وغيره: (أن الرسول خرج من عندهم وقد أخذ عليه المواثيق، لئن أخذت لتدلن علينا ولا تستأثر بالشهادة) (¬2)؛ وهذا أليق بحالهم مما ذكره أبو إسحاق. والمعنى ما قاله ابن عباس، أنه لا يتولى إعلام أحد، ثم إن عرف واحد دل على أصحابه ليشاركوه في الشهادة. 20 - قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}، أي: يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم، من قولهم: ظهرت على فلان إذا علوته، وظهرت على السطح إذا صرت فوقه، ومنه قوله: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، أي: عالين (¬3) غالبين، وكذلك قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، أي: ليعليه، وقد مر. وقوله تعالى: {يَرْجُمُوكُمْ} قال ابن عباس: (يقتلوكم) (¬4). والرجم بمعنى القتل قد ورد كثيرًا في التنزيل كقوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] وقوله: {لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] وقوله: {أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20]، وأصله: الرمي. قال أبو إسحاق: (أي يقتلوكم بالرجم، والرجم من أخبث القتل) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 276. (¬2) ذكر نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 389 أ. (¬3) قوله: (عالين) ساقطة من نسخة (س). (¬4) ذكره "النكت والعيون" بدون نسبة 3/ 295، وكذلك "معالم التنزيل" 5/ 160 بدون نسبة، و"زاد المسير" 5/ 122، و"التفسير الكبير" 11/ 103. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 276.

21

ولما كانوا بالرجم سمي القتل: رجما، وقد يسمى السب والشتم: رجما، وهو قول ابن جريج في هذه الآية (¬1)، وذلك لأنه رمي بالقبيح من القول. وقوله تعالى: {يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} قال ابن عباس: (يردوكم إلى دينهم) (¬2)، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} أي: إن رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة. قال الزجاج: ("إذ" يدل على الشرط، أي: ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبدًا) (¬3). 21 - وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} الآية. قال العلماء بأخبار القدماء: (إن الفتية لما هربوا من ملكهم دقيانوس ودخلوا الكهف، أمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم، ويدعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشًا وجوعًا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرًا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ، وقد توفي الله تعالى أرواحهم وفاة النوم، ثم إن رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلا التابوت في البنيان الذي بنوا على باب الكهف، وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء قومًا مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ثم انقرض أهل ذلك الزمان وخلفت بعدهم قرون وملوك كثيرة، وملك أهل تلك ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 224 بدون نسبة، و"النكت والعيون" 3/ 295، و"زاد المسير" 5/ 122. (¬2) ذكره "زاد المسير" بدون نسبة 5/ 122، و"التفسير الكبير" 11/ 103. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 276.

البلاد رجل صالح يقال له: تندوسيس، وتحزب الناس في ملكه أحزابًا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب، فكبر ذلك على الملك الصالح وبكى إلى الله وتضرع إليه، وقال: أي رب، قد ترى اختلاف هؤلاء فأبعث لهم آية تبين لهم أن البعث حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها. فألقى الله تعالى في نفس رجل (¬1) من أهل ذلك البلد الذي هو به الكهف أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف فيبني (¬2) به حظيرة لغنمه ففعل ذلك، وحجب الله الفتية عن الناس بالرعب، فلم يتجاسر أن يدخل عليهم أحد، وبعث الله الفتية من نومهم فجلسوا فرحين، وأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعامًا، فاطلع الناس على أمرهم كما ذكر في القصة، وبعثوا إلى الملك الصالح تندوسيس ليعلمونه الخبر، ليعجل القدوم عليهم وينظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكه آية للعالمين، فتية بعثهم الله وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، فلما بلغه الخبر حمد الله تعالى، وركب معه أهل مدينته حتى أتوا مدينة أصحاب الكهف، ثم صعدوا نحو الكهف حتى أتوه. فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}، أي: أطلعنا وأظهرنا عليهم)، كذا قال المفسرون (¬3). وذكرنا هذا عند قوله: {فَإِنْ عُثِرَ} [المائدة: 107]. وقوله تعالى: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} قال ابن عباس: (يريد الملك ¬

_ (¬1) قوله: (رجل)، ساقط من نسخة (س). (¬2) في (س): (فيجنى)، وهو تصحيف. (¬3) انظر: "جامع البيان" 15/ 225، و"الكشاف" 2/ 384، و "تفسير القرآن العظيم" 3/ 87، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 378، و"الدر المنثور" 4/ 388.

ورعيته) (¬1)، أن البعث والثواب والعقاب حق، والقيامة لا شك فيها. وقوله تعالى: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} اختلفوا في هذا التنازع، فالأشبه ما قال عكرمة: (أن أهل ذلك الزمان تنازعوا بالبعث) (¬2). كما ذكرنا في القصة. والمراد بقوله: {أَمْرَهُمْ} ما تنازعوا فيه من أمر البعث. و {إِذْ} منصوب بقوله: {أَعْثَرْنَا}، والمعنى: أطلعنا عليهم إذ وقعت المنازعة في أمرهم (¬3). قال أبو إسحاق: (ويجوز أن يكون منصوبًا بقوله: {لِيَعْلَمُوا} أي: ليعلموا في وقت منازعتهم) (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} (وذلك أن الرجل إذ خرج ليشتري لهم الطعام لما وقف يتنازع، نظروا إلى درهمه، فإذا عليه صورة دقيانوس)، وذكر القصة (¬5). فعلى هذا التنازع: هو تنازع القوم مع هذا الواحد الذي كان يطلب لهم الطعام وتكذيبهم إياه فيما كان يخبر به. وقال قوم: (يعني تنازعوا في قدر مكثهم ولبثهم) (¬6). وقيل: (تنازعوا ¬

_ (¬1) ذكره "النكت والعيون" بدون نسبة 3/ 295، و"معالم التنزيل" 5/ 161 بدون نسبة، و"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 123. (¬2) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 21، و"معالم التنزيل" 3/ 156، و"زاد المسير" 5/ 123. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 276، و"إملاء ما من به الرحمن" ص 296. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 276. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 295، و"الكشاف" 2/ 384، و"زاد المسير" 5/ 123، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 87. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 161، و"التفسير الكبير" 11/ 104.

في عددهم) (¬1)، وهذا لا يتجه؛ لأن قوله: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ} إما أن يتعلق بقوله: {أَعْثَرْنَا}، أو بقوله: {لِيَعْلَمُوا} على ما بينا. وإذا جعلنا التنازع في قدر المكث أو في العدد لم يصح المعنى، إلا أن يجعل تمام الكلام عند قوله: {لَا رَيْبَ فِيهَا}، ثم يقول: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ}، أي: اذكر يا محمد {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}: مدة مكثهم، أو في عددهم فلا يتعلق بما قبله. ومنهم من قال: (هذا التنازع يعود إلى التنازع في البنيان، والمسجد)، يروى هذا عن ابن عباس (¬2). يدل على هذا سياق الآية، وهو قوله: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}، يعني استروهم من الناس، قال ذلك المفسرون (¬3). وقوله تعالى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يدل على أنه وقع تنازع في عدتهم، فمعنى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، أي: بعددهم كما قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22]، ويحتمل أن هذا من قول الله ابتداء، ويحتمل أنه من قول بعض الناس الذين تكلموا في عددهم (¬4). وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} قال ابن عباس: (يريد المؤمنين الذين لم يشكوا في البعث). قال المفسرون: (هم تندوسيس الملك وأصحابه) (¬5). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 161، و"زاد المسير" 5/ 123، و"التفسير الكبير" 11/ 104. (¬2) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 296، و"معالم التنزيل" 5/ 161، و"زاد المسير" 5/ 123، و"البحر المحيط" 6/ 113. (¬3) "الكشاف" 2/ 384، و"زاد المسير" 5/ 123، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 87، أي: سددوا عليم باب كهفهم، و"التفسير الكبير" 11/ 105. (¬4) "البحر المحيط" 6/ 113، و"التفسير الكبير" 11/ 105. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 161، و"الكشاف" 2/ 184، و"زاد المسير" 5/ 124، و"روح المعاني" 15/ 236.

22

{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} قال أبو إسحاق: (هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور؛ لأن المساجد للمؤمنين) (¬1). ومعنى: {عَلَيْهِمْ} هاهنا وفي قوله: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} أنهم يجعلون وراء ذلك، كما يقال: بني عليه جدارًا، إذا حوطه وجعله وراء الجدار، وقد ذكر في قصتهم: (أن الملك جعل على باب الكهف مسجدًا يصلى فيه، وجعل عنده عيدًا عظيمًا، وأمر أن يؤتى كل سنة) (¬2). وقد نسقت شرح هذه الآية على ما أمكن، والآية مشكلة الظاهر والنظم، والله أعلم بما أراد. 22 - قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الآية. قال المفسرون: (إن نصارى نجران (¬3) كانوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقالت اليعقوبية (¬4) منهم: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية (¬5): كانوا خمسة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 277. (¬2) ذكر نحوه البغوي في "معالم التنزيل" بلا نسبة 5/ 161، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 392 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬3) نَجْرَان: بفتح النون وإسكان الجيم: بين مكة واليمن، قيل: أول من عمرها نجران بن زيدان بن سبأ بن قحطان، وكان أهلها يدينون بالنصرانية، حتى فتحت سنة عشر صلحًا، وهي الآن مدينة من مدن المملكة العربية السعودية. انظر: "معجم البلدان" 5/ 266، و"معجم ما استعجم" (1298)، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 176. (¬4) اليعقوبية: فرقة من النصارى، منسوبون إلى يعقوب البرذعاني وكان راهبًا بالقسطنطينية، قالوا: إن المسيح هو الله نفسه -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- وإنه تعالى مات، وإن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر، ثم قام ورجع كما كان، وإنه عاد محدثًا وأن المحدث عاد قديمًا. انظر: "الملل والنحل" ص 226 - 227، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" 1/ 49. (¬5) النسطورية: فرقة من فرق النصارى، منسوبون إلى نسطور، وكان بالقسطنطينة، قالوا: إن مريم لم تلد الإله، وإنما ولدت الإنسان، وإن الله تعالى لم يلد الإنسان =

سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم)، هذا حكاية ما ذكره المفسرون (¬1). ونظم الآية يوجب أن يكون هذا التنازع بعد نزول الآية؛ لأن الله تعالى قال: {سَيَقُولُونَ}، وهذه السين للتأخير، فالآية تكون نازلة قبل هذا التنازع، أخبر الله فيها أنه سيقع نزاع في عددهم، ثم وقع ذلك على ما في الآية، يدل على هذا أن السورة مكية ووفد نجران إنما أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة. واختلف النحويون في نظم هذه الآية وسقوط الواو من قولهم: رابعهم وسادسهم، ودخولها في ثامنهم، بعد اجتماعهم على أن قوله: {ثَلَاثَةٌ} مرفوع بالابتداء محذوف على تقدير: هم ثلاثة (¬2). فقال صاحب النظم: ({رَابِعُهُمْ} ابتداء و {كَلْبُهُمْ} خبره، وهو جملة في موضع الحال لقوله: {ثلاثةٌ} (¬3). وتأويله: سيقولون ثلاثة بهذه ¬

_ = وإنما ولد الإله -تعالى الله عما يقولون- انظر: "الملل والنحل" ص 225، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" 1/ 49. (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، و"بحر العلوم" 2/ 295، و"معالم التنزيل" 5/ 161، و"الكشاف" 2/ 385، و"زاد المسير" 5/ 124، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 382. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 277، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 271. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "البحر المحيط" 6/ 114، و"الدر المصون" 7/ 466، و"روح المعاني" 15/ 240. وقال العكبري في "إملاء ما من به الرحمن" ص 396: رابعهم مبتدأ وكلبهم خبره، ولا يعمل اسم الفاعل هنا لأنه ماض والجملة صفة لثلاثة وليس حالاً، إذ لا عامل لها؛ لأن التقدير: هم ثلاثة، وهم لا يعمل ولا يصح أن يقدر هؤلاء لأنها إشارة إلى حاضر ولم يشيروا إلى الحاضر.

الحال فيكون قوله: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} توقيتًا للآية وحالاً لهم، وكذلك قوله: {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ}، قال أبو الفتح الموصلي: (لا يجوز أن تكون الجملة حالاً لثلاثة؛ لأنك لو فعلت ذلك لم يجد الحال ما ينصبها، ألا ترى أن التقدير: سيقولون: هم ثلاثة، وليس في قولك: هم ثلاثة ما يجوز أن ينصب الحال) (1). وقال آخرون: ({رَابِعُهُمْ} وصف لثلاثة، على أن يكون {كَلْبُهُمْ} رفع برابع، كما تقول: عندي غُلامٌ ضاربه زيد، فيرفع ضاربه؛ لأنه وهف لغلام، وترفع زيد بفعله، وهو الضرب) (2). قال أبو الفتح: (وهذا الوجه أيضًا غير جائز، من قبل أن رابعهم في هذا الموضع، وإن كان اسم فاعل، فإنه أراد به الماضي، وإذا كان اسم الفاعل ماضيًا في المعنى لم يجز أن يعمل عمل الأفعال، لا رفعًا ولا نصبًا؛ ألا ترى أنك لا تقول: هذا رجل غلام أخوه، فترفع الأخ بفعل، وتجعل الغلام فعلا له؛ لأن اسم الفاعل إذا أريد به الماضي جرى مجرى غلام ورجل وفرس وما لا معنى فعل فيه، فقد بطل إذن أن يرتفع {كَلْبُهُمْ} بما في {رَابِعُهُمْ} من معنى الفعل) (3). وقد ذكرنا هذا الفصل عند قوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، من كلام أبي علي. وقال بعضهم: ({رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} مبتدأ وخبر، والجملة وصف لثلاثة، كما تقول: هؤلاء ثلاثة غُلامهم رابعهم) (4). قال أبو الفتح: (وهذا الوجه غير سائغ ولا مختار، وإن كان في غير هذا الموضع جائزًا. والذي منع من إجازته هاهنا وضعفها أن الجملة التي

_ (1) و (2) و (3) و (4) "سر صناعة الإعراب" 2/ 643

في آخر الكلام [فيها واو العطف، وهو قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، فكما ظهرت الواو في آخر الكلام] (¬1) فكذلك هي -والله أعلم- مرادة في أوله؛ لتتجنَّس الجمل في أحوالها والمراد بها، فكأنه قيل: سيقولون: ثلاثة ورابعهم كلبهم، ويقولون: خمسة وسادسهم كلبهم رجمًا بالغيب، ويقولون: سبعة وثامنهم كلبهم، إلا أن الواو حذفت من الجملتين المتقدمتين؛ لأن الذي فيهما من الضمير يعقدهما بما قبلهما لا عقد الحال ولا عقد الوصف لما ذكرنا، ولكن عقد الإتباع، لا سيما وقد ظهرت الواو في الجملة الثالثة، فدل ذلك على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين)، انتهى كلامه (¬2). ونحو هذا قال أبو علي في هذه الآية فقال: (قوله: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} و {سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}، جملتان استغني عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى، وهي قوله: {ثلاثةٌ}، والتقدير: هم ثلاثة) (¬3). وهذا الذي ذكره أبو علي وأبو الفتح في وجه نظم هذه الآية معنى قول أبي إسحاق: (دخول الواو في {وَثَامِنُهُمْ} وإخراجها من الأول واحد) (¬4). وعلى ما قالوا قوله: {رَابِعُهُمْ} عطف على خبر الابتداء الذي هو ثلاثة، كما تقول: هو حلو وحامض. و {كَلْبُهُمْ} مرفوع على أنه نعت لقوله: {رَابِعُهُمْ}. ¬

_ (¬1) ما بين المعاقوفين مكرر في نسخة (س). (¬2) "سر صناعة الإعراب" 2/ 644. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 1/ 28. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 227.

وقوله تعالى: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} الرجم: القول بالظن والحَدْس (¬1). ومنه قول زهير (¬2): وما هو عنها بالحديث المرجَّم وذلك أنه رمى الظن إلى ذلك الشيء. قال أبو إسحاق: (أي تقولون ذلك رجما، أي ظنًّا وتخرصًا) (¬3). ومعنى قول المفسرين: ظنًّا من غير يقين. وقوله تعالى: {بِالْغَيْبِ} الباء هاهنا ظرف للرجم، والتأويل: يرجمون القول فيهم بالغيبة عنهم، وتلخيصه: بالمكان الغائب عنهم، كما تقول: هو يحسن القول فيك بالغيب، ويظهر الغيب، والمعنى: أنهم يقولون هذا القول من غير مشاهدة. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قال ابن عباس: (حين وقعت الواو وانقطعت العدة) (¬4)؛ يريد أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وإلى هذا المعنى أشار أبو إسحاق فقال: (وقد يجوز أن يكون الواو ¬

_ (¬1) الحَدَس: التوهم في معاني الكلام والأمور. انظر: "تهذيب اللغة" (حدس) 1/ 764، و"مقاييس اللغة" (حدس) 2/ 33، و"القاموس المحيط" (الحدس) ص 537، و"الصحاح" (حدس) 3/ 915، و"لسان العرب" (حدس) 2/ 805. (¬2) هذا عجز بيت لزهير بن أبي سلمى. وصدره: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم انظر: "ديوانه" ص 81، و"تهذيب اللغة" (رجم) 2/ 1375، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي ص140، و"خزانة الأدب" 3/ 10، و"لسان العرب" (رجم) 3/ 1602، و"همع الهوامع" 2/ 92، و"الدر المصون" 7/ 467. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 277. (¬4) "الكشاف" 2/ 385، و"روح المعاني" 15/ 242.

يدخل ليدل على انقطاع القصة وأن الشيء قد تمَّ) (¬1). إلى هاهنا إخبار عما يقوله المختلفون في عدد (¬2) أصحاب الكهف، ثم قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}، أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس. قال ابن عباس: (أنا من ذلك القليل) (¬3). فقال في رواية الضحاك: (أنا من أولئك القليل، ثم ذكرهم بأسمائهم، فذكر سبعة) (¬4). وقال في رواية عكرمة: (كانوا سبعة) (¬5). وقال في رواية سعيد بن جبير: (كانوا سبعة أو ثمانية) (¬6). وقال في رواية عطاء الخراساني: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}، يعني أهل الكتاب) (¬7). وروى السدي عن ابن عباس قال: (أرجو أن أكون من القليل، أظن القوم كانوا ثلاثة، يقول واحد منهم: كم لبثتم؟ فقال الثاني: لبثنا يومًا أو بعض يوم، قال الثالث: ربكم أعلم بما لبثتم) (¬8). وقوله تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} قال السدي: (يقول بما ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 277. (¬2) من قوله: (يعرفون ملأتني ..) إلى هنا ساقط من نسخة (ص). (¬3) "جامع البيان" 15/ 226، و"تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 337، و"معالم التنزيل" 5/ 162، و"الكشاف" 2/ 385، و"الدر المنثور" 4/ 393. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 162، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 384، و"الدر المنثور" 4/ 393. (¬5) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 456، و"جامع البيان" 15/ 226، و"النكت والعيون" 3/ 297، و"المحرر الوجيز" 9/ 275. (¬6) ذكره الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 75 ونسبه لابن جريج. (¬7) "جامع البيان" 226/ 15، و"الكشف والبيان" 389/ 3، و"الكشاف" 2/ 385. (¬8) "بحر العلوم" 395/ 2، و"المحرر الوجيز" 9/ 275، و"معالم التنزيل" 162/ 5.

أوحى إليك من القرآن) (¬1). وقال سفيان: (إلا بما قصصنا عليك في القرآن) (¬2). وروي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك في قوله: {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} (حسبك ما قصصنا عليك من شأنهم) (¬3). وقال ابن زيد: (المراء الظاهر: أن تقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تعلمون عدتهم) (¬4)؛ يعني إنما يعلمهم القليل. ومعنى المراء في اللغة: الجدال، يقال: مَارَى يُماري، مُمارَاة ومِراء، أي: جادل (¬5). قال أبو إسحاق: (أي لا تأت في أمرهم بغير ما أوحي إليك، أي: أفت في قصتهم بالظاهر الذي أنزل عليك) (¬6). فعلى ما قالوا المراء الظاهر هو: أن يجادلهم بما أنزل إليه من أنه لا يعلم عددهم إلا القليل، كما قال ابن زيد. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" بلا نسبة 9/ 275، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 384. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 227، و"النكت والعيون" 3/ 238، و"زاد المسير" 5/ 127، و"لباب التأويل" 4/ 207. (¬3) "جامع البيان" 15/ 227، و"تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 337، و"النكت والعيون" 3/ 298، و"زاد المسير" 5/ 127، و"الدر المنثور" 4/ 393. (¬4) "جامع البيان" 15/ 227، و"زاد المسير" 5/ 127. (¬5) المِرَاء: المماراة والجدل، وأصله في اللغة: الجدال وأن يستخرج الرجل من مناظرة كلامًا ومعاني الخصومة وغيرها. انظر: "تهذيب اللغة" (مرى) 4/ 3383، و"مقاييس اللغة" (مرى) 5/ 314، و"مختار الصحاح" (مرا) (260)، و"المصباح المنير" (المرئ) ص 217. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 277/ 3

23

وقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ}، أي: في أصحاب الكهف {مِنْهُمْ}، أي: من اليهود وأهل الكتاب. قال الفراء: (هم فريقان أتوه من أهل نجران: يعقوبي ونسطوري، فسألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عددهم فَنُهي) (¬1). قال أصحابنا: (وهذا دليل على منع المسلمين من استفتاء اليهود والنصارى) (¬2). 23 - قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} ذكرنا قبل هذا سبب نزول هذه الآية (¬3). قال المفسرون: (هذا تأديب من الله تعالى لنبيه -عليه السلام-، وأمر له بالاستثناء فيما يعزم بمشيئة الله، إذا قلت لشيء: إني فاعله غدًا، فقل: إن شاء الله) (¬4). قال الفراء في قوله: (إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ}: إلا أن يريد الله) (¬5). قال أبو إسحاق: (موضع {أَن} نصب، المعنى: لا تقولن إني أفعل إلا بمشيئة الله) (¬6). جعل أبو إسحاق {أَن} مع الفعل مصدرًا وأضمر الباء. وقال الأخفش: (أي: إلا أن يقول: إن شاء الله. فأجزأ من ذلك ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 138. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 384. (¬3) عند قوله سبحانه في سورة الإسراء (85) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. وعند قوله سبحانه في سورة الكهف (9) {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}. (¬4) "جامع البيان" 15/ 228، و"معالم التنزيل" 5/ 162، و"المحرر الوجيز" 9/ 277، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 88. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 138. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 278.

24

هذا، وكذلك إذا طال الكلام أجزأ فيه، شبيه بالإيماء؛ لأن بعضه يدل على بعض) (¬1). ونحو هذا روي عن المبرد عن الكسائي والفراء قالا: (المعنى إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يقول: إن شاء الله) (¬2)؛ فأضمر القول، ومثله كثير في القرآن، وهذا على ما ذكروا، ولما حذف يقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال. 24 - وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أكثر الناس على أن معناه: إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله تعالى فاذكره، وقله إذا ذكرت. قال ابن عباس رواية عطاء: (يريد الاستثناء ولو بعد شهر) (¬3). يعني أن من قال: أفعل غدًا كذا وكذا، ونسي أن يقول: إن شاء الله، فقد واقع ما نهى الله عنه، فإذا ذكر أنه كان قد نسي الاستثناء فقاله وضع عنه الحرج. وقال سعيد بن جبير: (إذا قلت لشيء إنك فاعله غدًا، فنسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم ذكرت، فقل: إن شاء الله، وإن كان بعد يوم أو شهر أو سنة) (¬4). وقال أبو العالية: (إذا ذكرت فاستثن) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 618. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 138، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 397. (¬3) "زاد المسير" 5/ 129، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 89، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 386، و"التفسير الكبير" 11/ 110. (¬4) "الكشاف" 2/ 386، و"زاد المسير" 5/ 128، و"الدر المنثور" 4/ 394، و"التفسير الكبير" 11/ 110. (¬5) انظر: "جامع البيان" 15/ 229، و"المحرر الوجيز" 9/ 278، و"زاد المسير" 5/ 129، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 89، و"الدر المنثور" 4/ 394.

وقال عمرو بن دينار: (له الاستثناء متى ما ذكر) (¬1). هذا كله فيما يعد من نفسه أن يفعله من غير يمين، فإن حلف ثم استثنى بمشيئة الله متصلاً بيمينه فلا حنث عليه، كذلك روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حلف فقال: إن شاء الله، لم يحنث" (¬2). وروى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فهو بالخيار" (¬3). ولا خلاف في هذا بين الناس، وإنما الخلاف فيه إذا انقطع الاستثناء عن اليمين، روى قتادة عن الحسن في الرجل يحلف فيستثني في يمينه قال: (له ثنياه إذا اتصل كلامه، ولم يكن بين ذلك كلام) (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في "الوسيط" 3/ 431، وذكرته كتب الفقه بلا نسبة. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 1235، و"أحكام القرآن" للجصاص 5/ 41، و"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 273، و"المغني" لابن قدامة 13/ 485. (¬2) أخرجه ابن ماجة في "سننه" كتاب: الكفارات، باب: الاستثناء في اليمين 1/ 680، النسائي في "سننه" كتاب الأيمان والنذر باب: الاستثناء 7/ 23، والترمذي في "جامعه" كتاب: النذور والأيمان باب: ما جاء في الاستثناء في اليمين 4/ 91 وقال: حديث حسن. والإمام أحمد في "مسنده" 2/ 275، والدارمي في "سننه" كتاب: النذور والأيمان باب: في الاستثناء في اليمين 2/ 106، وابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب: الأيمان، باب: في الاستثناء في اليمين 11/ 664. (¬3) أخرج نحوه الترمذي في "جامعه" كتاب: النذور والأيمان، باب: الاستثناء في اليمين 4/ 91، والنسائي في "سننه" كتاب: الكفارات، باب: الاستثناء 7/ 23، وابن ماجة في "سنة" كتاب: الكفارات، باب: الاستثناء في اليمين 1/ 680، والإمام أحمد في "مسنده" 2/ 6، ومالك في "الموطأ" كتاب: الأيمان، باب: ما لا تجب فيه الكفارة من اليمين 2/ 477 والدارمى في "سننه"، كتاب. النذور والأيمان باب: في الاستثناء في اليمين 2/ 106، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 395. (¬4) "المحرر الوجيز" 9/ 278، و"زاد المسير" 5/ 129، و"تفسير القرآن العظيم" =

وقال طاووس: (له ثنياه ما كان في مجلسه) (¬1). وعن حماد (¬2) قال: (إن استثنى في نفسه فليس بشيء حتى يسمع نفسه) (¬3). وقال الحسن: (إذا حرك لسانه أجزأ عنه) (¬4). ومذهب الشافعي -رحمه الله-: أن الحالف إذا نسي الاستثناء موصولاً بكلامه، فات وقته في الطلاق والعتاق وسائر الأيمان (¬5). حتى قال بعض أصحابنا: (إنما ينفعه الاستثناء إذا أنشأ أول يمينه مع نية الاستثناء ثم وصله باليمين، فإن أنشأ اليمين ثم بدا له أن يستثني فوصل الاستثناء لم ينفعه) (¬6). والصحيح: أنه إذا اتصل نفع، ووقع موقعه (¬7). ¬

_ = 3/ 89، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 386، و"المغني" لابن قدامة 13/ 273. (¬1) "الكشاف" 2/ 386، و"المحرر الوجيز" 9/ 278، و"التفسير الكبير" 11/ 110، و"روح المعاني" 15/ 249، و"الدر المنثور" 4/ 394. (¬2) حماد بن زيد بن درهم الأزدي، تقدمت ترجمته. (¬3) ذكرته كتب الفقه بلا نسبة. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 5/ 41، و"المحلى" 8/ 406، و"بلغة السالك" 1/ 700، و"المغني" لابن قدامة 3/ 485، كتاب: "الأيمان والنذور" لأبي فارس ص 37. (¬4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 283 بلا نسبة، وابن قدامة في "المغني" 13/ 485. (¬5) انظر: "الأم" للشافعي 7/ 65، و"روضة الطالبين" 11/ 3، و"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 274. (¬6) انظر: "الأم" للشافعي 7/ 65، و"روضة الطالبين" 11/ 4، و"أحكام القرآن" للجصاص 5/ 41، و"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 283، و"المغني" لابن قدامة 13/ 484. (¬7) وهذا ما عليه جمهور العلماء. قال الإمام الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 15/ 229: فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال إلا أن يكون استثناؤه موصولاً بيمينه، وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 79: والتحقيق الذي لا شك فيه أن =

وروي عن ابن عباس أنه قال: (يستثني الرجل في يمينه متى ما ذكر، وإن تطاول الزمان، وقرأ هذه الآية) (¬1). وهذا لا يصح؛ لأن سبيل الاستثناء أن لا يكون منفردًا بنفسه، هو مضمر كلام غيره، والآية وردت في غير اليمين، وليس في الآية: ولا تحلفن على شيء إني فاعل ذلك غدًا، يدل على هذا سبب نزول الآية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف قال: غدًا أخبركم، ولم يحلف على ذلك، ويؤكد هذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منه، فليأتِ الذي هو خير ويُكَفّر عن يمينه" (¬2). ولو كان يخرج بقوله: إن شاء الله عن الحنث، لقال: وليقل: إن شاء الله، وأيضًا فإن الإنسان إذا حلف من غير نية [فقد تمت يمينه واستقرت، ¬

_ = الاستثناء لا يصح إلا مقترنًا بالمستثنى منه، وأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين، ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أنه تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك، لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك. وانظر: "روضة الطالبين" 11/ 4، و"بداية المجتهد" 8/ 406، و"أحكام القرآن" للكيا الهراس 4/ 207، و"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 273، و"المغني" لابن قدامة 13/ 484. (¬1) ذكرت نحوه كتب التفسير. انظر: "جامع البيان" 15/ 229، و"الكشف والبيان" 3/ 389 أ، و"المحرر الوجيز" 9/ 278، و"معالم التنزيل" 5/ 162، و"زاد المسير" 5/ 129، و"ابن كثير" 3/ 89. (¬2) أخرجه البخاري كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] 8/ 229، ومسلم، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها 3/ 1268، والنسائي كتاب: الأيمان والنذور، باب: الكفارة قبل الحنث 7/ 9، وابن ماجة كتاب: الكفارات، باب: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها 1/ 681 ومالك في "الموطأ" كتاب: الأيمان، باب: ما جاء فيه الكفارة من الأيمان 2/ 478.

فلم يجز أن ينقض حكمها شيء يحدثه بعد ذلك، بخلاف ما يقارنه الاستثناء] (¬1)؛ لأنه لا يستقر، على أن كثيرًا من المفسرين حملوا قوله: {اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} على غير الاستثناء؛ لأن قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} ابتداء كلام آخر وقصة أخرى، والاستثناء الذي ذكر وقع في موضعه متصلاً. قال عكرمة: ({وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال: إذا غضبت) (¬2) ومعناه أنه إنما يغضب لما يطرأ عليه من نسيان ذكر الله، فأمر بذكر الله ليزول غضبه. وروي عن السدي والضحاك أنهما قالا: (هذا فيمن نسي صلاة فعليه أن يصليها إذا ذكرها) (¬3). وقال المبرد: (إن ابن عباس أعلم من أن يسقط حكم الحنث بالاستثناء الذي لا يصله الحالف بيمينه، ولعله قال هذا في الاستثناء من غير يمين كما قال المفسرون، قال: إذا نسي أن يقول: إن شاء الله، ثم ذكر فليقله. فظن بعض الناس أنه يقول ذلك في اليمين، فروي عنه ذلك في اليمين) (¬4). قوله تعالى: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} إلى آخرها، قال أبو إسحاق: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت في بقية النسخ. (¬2) "جامع البيان" 15/ 229، و"معالم التنزيل" 5/ 163، و"المحرر الوجيز" 9/ 278، و"زاد المسير" 5/ 129، و"الدر المنثور" 4/ 395. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 163، و"الكشاف" 2/ 387، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 386. (¬4) انظر: "جامع البيان" 15/ 229. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 79/ 4: والتحقيق الذي لا شك فيه أن الاستثناء لا يصح، إلا مقترنًا بالمستثى منه وأن المستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين، ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أن تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك، وهذا في غاية البطلان كما تري.

25

(أي قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف) (¬1). قال المفسرون: (إن الله -عز وجل- فعل به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين، وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف) (¬2). وقال بعضهم: (هذا نبأ أمر أن يقوله مع الاستثناء إذا ذكر، وهو كفارة نسيان الاستثناء أن يقول: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} إلى آخرها) (¬3). والمعنى: عسى أن يهدين حتى لا أنسى الاستثناء بمشيئته، وهو أقرب رشدًا من أن ينسى ذلك. وقال بعضهم: (هذا فيما ينساه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يذكر الله تعالى فسأله أو يذكره ما نسي، أو يهديه لما هو خير له من ذكر ما نسيه) (¬4). 25 - قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} الآية، اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين أحدهما: أن هذا إخبار عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك (¬5). وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك قال: (إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوي أبعد مما بين السماء والأرض ثم تلا: {وَلَبِثُوا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 278. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 163، و"الكشاف" 2/ 387، و"زاد المسير" 5/ 129 و"التفسير الكبير" 11/ 111. (¬3) "جامع البيان" 15/ 230، و"معالم التنزيل" 5/ 164، و"المحرر الوجيز" 9/ 281، و"الدر المنثور" 4/ 395. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 164، و"الكشاف" 2/ 387. (¬5) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 458، و"جامع البيان" 15/ 230، و"معالم التنزيل" 5/ 16، و"النكت والعيون" 3/ 300.

فِي كَهْفِهِمْ} الآية، ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلاثمائة سنة وتسع سنين، قال: فلو كانوا لبثوا ذلك لم يقل الله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}، ولكنه حكى مقالة القوم، فقال: سيقولون: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} الآية (¬1). وقال قتادة: (هذا قول أهل الكتاب، فرد الله عليهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} قال: ويدل على صحة هذا قراءة ابن مسعود: قالوا لبثوا في كهفهم) (¬2). ونحو هذا قال مطر الورّاق (¬3) (¬4). القول الثاني: أن هذه الآية إخبار عن الله تعالى، أخبر عن قدر لبثهم في الكهف من يوم دخلوا إلى أن بعثهم الله وأطلع عليهم الخلق (¬5)؛ وهذا قول مجاهد قال في هذه الآية: (هو عدد ما لبثوا) (¬6)، ونحوه قال عبد الله بن عبيد بن عمير (¬7)، ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 130، و"الدر المنثور" 4/ 395 وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬2) "جامع البيان" 15/ 230، و"معالم التنزيل" 5/ 164، و"النكت والعيون" 3/ 300، و"المحرر الوجيز" 9/ 282، و"الدر المنثور" 4/ 395. (¬3) مطر بن طهمان الوراق، أبو رجاء الخراساني السلمي، مولى علي، من أهل البصرة، روى عن: أنس، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وروى عنه: إبراهيم بن طهمان، ومعمر بن هشام، وشعبة، وغيرهم كثير، وكان من أكبر أصحاب قتادة، وثقه بعض العلماء، توفي سنة 125 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 287، و"الكاشف" 3/ 149، و"ميزان الاعتدال" 4/ 126، و"تهذيب التهذيب" 10/ 152. (¬4) "جامع البيان" 15/ 231، و"المحرر الوجيز" 9/ 282. (¬5) "جامع البيان" 15/ 231، و"عالم التنزيل" 5/ 164، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 89، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 386. (¬6) "جامع البيان" 15/ 231، و"الكشف والبيان" 3/ 389 أ. (¬7) عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، المكي، أبو هاشم، إمام تابعي مشهور، عرف بالصلاح والتقوى، وثقة العلماء، وروى لي الأربعة، ومسلم في "صحيحه"، =

والضحاك (¬1). واختاره الزجاج وقال: (هو الأجود عندي) (¬2)، وهو اختيار ابن قتيبة (¬3). وعلى هذا القول معنى قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} ما قاله القتبي: (وهو أنهم اختلفوا في لبثهم فقال الله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} الآية، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} أي. وأنا أعلم بما لبثوا من المختلفين) (¬4). وهذا معنى قول الزجاج، والكلبي: (قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها، فنزلت: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} (¬5). وقال كثير من أهل التفسير: (معنى قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} أن أهل الكتاب قالوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن الفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله -عز وجل- عليهم وقال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} بعد أن قبض أرواحهم المرة الثانية إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله تعالى) (¬6). ¬

_ = روى عن أبيه وغيره، عنه الأوزاعي وطائفة من التابعين، توفي -رحمه الله- سنة 113 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 249، و"الجرح والتعديل" 2/ 101، و"الحلية" 3/ 354، و"تهذيب التهذيب" 5/ 308، و"شذرات الذهب" 1/ 194. (¬1) "جامع البيان" 15/ 231، و"زاد المسير" 5/ 130. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 278. (¬3) "تفسير غريب القرآن" لابن قتية 1/ 266. (¬4) "تفسير غريب القرآن" لابن قتية 1/ 267. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 165، و"زاد المسير" 5/ 92، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 279. (¬6) "جامع البيان" 15/ 231، و"معالم التنزيل" 5/ 165، و"المحرر الوجيز" 9/ 28، و"زاد المسير" 5/ 130.

هذا الذي ذكرنا تفسير الآية (¬1)، فأما إعرابها فقال ابن عباس في رواية عطاء: (نزل قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ} فلم يدرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسنين، أم أشهر، أم أيام، أم ساعات، حتى نزل جبريل فقال: {سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (¬2)؛ ونحو هذا قال الضحاك، ومقاتل (¬3). وعلى هذا أجاز ابن مجاهد الوقف على ثلاثمائة، لفصل ما بينهما في النزول (¬4). والاختيار ترك الوقف؛ لأن سنين وإن نزل بعد ثلاثمائة فقد التحق به في قول جميع النحويين، وصار التقدير: سنين ثلاثمائة. قاله الفراء، والزجاج، وأبو عبيدة، والكسائي. وعلى هذا {سِنِينَ} في موضع نصب بالفعل (¬5). قال أبو إسحاق: (ويجوز في تقدير العربية أن يكون سنين معطوفًا على ثلاث، عطف البيان والتوكيد) (¬6). وقال أبو علي: {سِنِينَ} بدل من قوله: {ثَلَاثَ ¬

_ (¬1) قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 15/ 231: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عز ذكره، ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودًا إلى أن بعثهم الله ليتساءلوا بينهم وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ثلاثمائة سنين، وذلك لأن الله بذلك أخبر في كتابه. وقال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 89: والظاهر من الآية إنما هو أخبار من الله لا حكاية عنهم، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها، والله أعلم. وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 9/ 283. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "جامع البيان" 15/ 231، و"الكشف والبيان" 3/ 389 أ، و"معالم التنزيل" 5/ 165، و"زاد المسير" 5/ 130، و"لباب النقول في أسباب النزول" 144، و"جامع النقول في أسباب النزول" 2/ 209. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 389 أ. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة "المكتفى في الوقت والابتداء" 368. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 138، و"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 272، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 278. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 278.

مِائَةٍ} وموضعه نصب، كما أن موضع المبدل منه كذلك وهذا كما تقول: أعطيته ألفا درهما ومائة أثوابا) (¬1). قال الفراء: (ويجوز أن يكون {سِنِينَ} نصبا بالتفسير للعدد، كما قال عنترة (¬2): فيها اثنتان وأربعون حلوبةً ... سودًا كخافية الغراب الأسحم [وهي جمع مفسرة كما يفسر الواحد) (¬3). وقال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون {سِنِينَ} من نعت المائة، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث، كما قال الشاعر، وأنشد البيت)] (¬4) (¬5). فجعل سودا نعتا للحلوبة، وهي في المعنى نعت لجملة العدد. وهذا القول أحسن من قول الفراء؛ لأنه جعل سودًا تفسيرًا للعدد، وليس كذلك تفسير العدد حلوبة، وسودًا نعت للحلوبة راجع إلى جملة العدد، كذلك قوله: {سِنِينَ} نعت المائة راجع إلى جملة العدد، وعلى هذا يكون {سِنِينَ} في محل الجر، غير أنه يفتح النعت بالسنين؛ لأنها اسم جامد فلا يحسن النعت بها. ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 141. (¬2) البيت لعنترة. كَخَافِية الغُرَاب: أواخر الريش من الجناح مما يلي الظهر، وسميت بذلك لخفائها. والأسْحم: الأسود. والشاهد فيه قوله: (سودا) وهو حال من النكرة (حلوبة) في بعض التخريجات، وفيه دليل على مجيء صاحب الحال نكرة واستشهد به أبو حيان على نعت التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى. انظر: "ديوانه" ص 13، و"الحيوان" 3/ 425، و"خزانة الأدب" 7/ 390، و"شرح شذور الذهب" ص 311، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري 305، و"شرح القصائد العشر" 217، و"المقاصد النحوية" 4/ 487. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 138. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 278. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ.

وقد حصل في قوله: {سِنِينَ} خمسة أوجه من الإعراب: الظرف، وعطف البيان، والبدل، والتفسير، والنصت. هذا الذي ذكرنا وجه قراءة العامة وهو تنوين (مِائَةٍ)، وقراءة حمزة، والكسائي: "ثلاثمائةِ سنين" مضافة غير منونة (¬1)، وهذه قراءة غير جيدة (¬2). قال أبو الحسن: (لا يحسن إضافة المائة إلى السنين، لا تكاد العرب تقول: مائة سنين) (¬3). وقال صاحب النظم: (من أضاف وأظهر العدد اعتسف) (¬4). إلا أن أبا الحسن قال: (هو جائز، وقد يقوله بعض العرب) (¬5). ¬

_ (¬1) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: (ثلاث مائةٍ سنين) منونًا. وقرأ حمزة، والكسائي: (ثلاث مائةِ سنين) مضافًا غير منون. انظر: "السبعة" لابن مجاهد (390)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 136، و"المبسوط" (234)، و"التبصرة" (248)، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 58، و"النشر" 2/ 310. (¬2) قول المؤلف -غفر الله له- هذه قراءة غير جيدة. غير جيد؛ لأنها قراءة سبعية صحيحة ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز الطعن فيها. قال ابن عطية في "تفسيره" 9/ 285: وهي قراءتنا معشر المغاربة ولا يقوم فيها مخالفة قانون النحاة المشار إليه بقول الخلاصة: ومائة والألف للفرد أضف. لأن القرآن برواية أهل السبع عن رسول -صلى الله عليه وسلم- حجة على النحاة لا العكس، لا سيما وأبو علي الفارسي يرى أن قاعدة إضافة المائة إلى الفرد، أغلبية لا كلية مطردة، وبهذا يرد على من أنكر هذه القراءة. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 117: وقرأ حمزة والكسائي مائة بغير تنوين مضافًا إلى سنين أوقع الجمع موقع المفرد، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 137، و"مجمع البيان" 3/ 716. (¬4) ذكر نحوه الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 137 بلا نسبة. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 137.

26

قال الفراء: (مِنَ العرب من يضع السنين في موضع سنة، وهي حينئذٍ (¬1) في موضع خفض لمن أضاف) (¬2). وقوله تعالى: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} قال أبو إسحاق: (لا يكون على معنى تسع ليال، ولا تسع ساعات؛ لأن العدد يعرف تفسيره، فإذا تقدم تفسيره استغنى بما تقدم عن إعادة ذكر التفسير، تقول: عندي مائة درهم وخمسة، فتكون الخمسة قد دل عليها ذكر الدراهم) (¬3). وقال أبو علي: ({وَازْدَادُوا تِسْعًا} أي: ازدادوا لُبث تسع، فحذف المصدر وأقيم المضاف إليه مقامه، وانتصاب تسع انتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، كما أن المضاف لو ظهر وأضيف إلى التسع كان كذلك) (¬4). 26 - قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} ذكرنا تفسيره في الآية المتقدمة. وقوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذكرنا تفسيره في آخر سورة هود (¬5). {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} قال الأخفش: (أي ما أبصره وأسمعه! كما تقول: أكرم به! أي ما أكرمه! قال: ويدلك على ذلك أن العرب تقول: يا ¬

_ (¬1) في (ص): (مسد)، وهو تصحيف. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 138. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 279. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 1/ 323. (¬5) عند قوله سبحانه في سورة هود الآية رقم (123): {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}.

أمة الله أكرم يزيد! فهذا معناه ما أكرمه! ولو كان يأمرها أن تفعل شيئًا لقال: أكرمي زيدًا) (¬1). وقال الفراء: ({أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} يريد الله، كقولك: أكرم بعبد الله! ومعناه: ما أكرم عبد الله! وكذلك قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] ما أسمعهم وما أبصرهم!) (¬2). وقال أبو إسحاق: قوله: ({أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أجمع العلماء أن معناه: ما أسمعه وأبصره! أي: هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم) (¬3). وقال أبو علي: (العرب تتسع فتقيم المثال الذي يختص بالأمر مقام الخبر، والمثل المختص بالخبر موقع الدعاء والأمر مما أقيم من أمثلة الأمر موقع الخبر قولهم: أكرم يزيد! وقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38]، ومعنى هذا ما أكرم زيدًا، واسمعوا وأبصروا، أي: صار زيد ذا كرم، وصار هؤلاء ذوي أسماع وأبصار. قال: وموضع الباء مع ما بعده من المنجر رفع، كما أن الباء في: {كَفَى بِاللَّهِ} [العنكبوت: 52] كذلك فوقع مثال الأمر هاهنا موقع الخبر، كما وقع مثال الخبر موقع الأمر في الدعاء في مثل: غفر الله لزيد، وقطع الله يد فلان، وجاء في التنزيل: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] فهذا لفظه كلفظ أمثلة الأمر، ومعناه الخبر، ألا ترى أنه لا وجه للأمر هاهنا وأن المعنى مده الرحمن مدا، ويدلك على أن المراد بقوله: أكرم يزيد! أن معناه أنه قد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 618. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 139. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 280.

كرم، وأن الكرم وما أشبهه من الأحداث لا يخاطب ولا يؤمر ولا ينهى، وأنه ليس للأمر هاهنا معنى ولا متوجه، وأيضًا فإنك إذا قلت: يا زيد أكرم بعمرو، فليس يخلو هذا الفعل من أن يكون له فاعل، وفاعله لا يخلو من أن يكون المخاطب أو المتعجب منه، فلو كان المخاطب لوجب أن يجمع الضمير في الفعل ويلحق علامة التأنيث، فلما لم يفعل من ذلك شيء، بل أجروا هذا الفعل بعد المذكر والمؤنث والجمع والتثنية مجرى واحد أعلم أن فاعله المتعجب منه دون المخاطب، وثبت أن الجار مع المجرور في موضع رفع) (¬1). هذا الذي ذكره أبو علي أصل هذا الكلام، وشرح وضعه، ثم صار من ألفاظ التعجب حتى لا فصل بين قولك: ما أحسن زيدًا! وقولك: أحسن بزيد، وإذا كان كذلك فقدله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} قال المفسرون: (ما أبصر الله بكل موجود، وأسمعه بكل مسموع) (¬2). وقال ابن زيد: (معناه أنه يرى أعمال أهل السموات والأرض، ويسمع منهم) (¬3). هذا الذي ذكرنا إجماع من أهل العلم أن قوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} معناه ما أبصره وأسمعه!. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: (معناه أبصر أوليائي بعجائب القرآن، وأسمع به أوليائي) (¬4). وعلى هذا {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} المراد به ¬

_ (¬1) ذكر نحوه في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 205. (¬2) "جامع البيان" 15/ 232، و"معالم التنزيل" 5/ 165، و"النكت والعيون" 3/ 300. (¬3) "جامع البيان" 15/ 232، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 89. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 131، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 388، و"روح المعاني" 15/ 155.

الأمر، والمفعول محذوف على تقدير: أبصرهم وأسمعهم، وقوله: {بِهِ} أي: بالقرآن، كأنه قيل: اجعلهم يبصرون بالقرآن غيري، وولايتي ويسمعون ذلك (¬1). والقول الذي عليه الناس هو الأول. وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} قال المفسرون: (أي ليس لأهل السموات والأرض من دون الله) (¬2). والكناية تعود إلى أهل السموات والأرض، وقد سبق ذكرهم في قوله: {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وهم من غيبها، أي: مما غابوا فيها. وقال عطاء عن ابن عباس: ({مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} يريد قد عرفوا عظمتي وربوبيتي فلم يتخذوا من دوني وليًّا) (¬3). وعلى هذا الكناية في قوله تعود إلى المؤمنين خاصة من أهل السموات والأرض (¬4). وقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} قال أبو إسحاق: (هذا على معنيين أحدهما: أنه جرى ذكر علمه وقدرته، فأعلم أنه لا يشرك في حكمه بما يخبر به من الغيب أحدًا كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]. ويكون على معنى: أنه لا يجوز أن يحكم حاكم ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 300، و"زاد المسير" 5/ 131، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 388. والحق أن يقال في تفسير هذه الآية: ما أبصره وما أسمعه -صلى الله عليه وسلم- وذكر في كتاب الله -عز وجل- آيات كثيرة تدل على اتصافه سبحانه بالسمع والبصر الذي يليق بجلاله. وقال ابن سعدي في "تفسيره" 5/ 27: تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. (¬2) "جامع البيان" 15/ 232، و"معالم التنزيل" 53/ 165، و"الكشاف" 2/ 387، و"زاد المسير" 5/ 131. (¬3) ذكره الطبري في "جامع البيان" 15/ 232 بدون نسبة. (¬4) "البحر المحيط" 6/ 117، و"روح المعاني" 15/ 256.

27

إلا بما حكم الله، وبما دل عليه حكم الله، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون شريكًا في حكمه يأمر بحكم كما أمر الله) (¬1). وقرأ ابن عامر: ولا تشرك (¬2)، على معنى: ولا تشرك أنت أيها الإنسان في حكمه أحدًا، على النهي عن الإشراك في حكمه، أي: لا يكن كمن قيل فيه: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)} [الأعراف: 191]. وعلى هذه القراءة في الآية رجوع من الغيبة إلى الخطاب، والقراءة الأولى التي عليها العامة أشبه لتقدم اسم الغيبة، وهو قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ}، والهاء للغيبة فكذلك قوله: {وَلَا يُشْرِكُ} أي: ولا يشرك الله في حكمه أحدًا (¬3). 27 - قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} قال المفسرون: (معناه: أَتبع القرآن) (¬4). وقوله تعالى: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قال ابن عباس: (يريد لمواعيده) (¬5). وإلي هذا أشار الزجاج فقال: (أي ما أخبر الله به، وما أخبر به فلا مبدل له) (¬6). وعلى هذا المعنى: لا مبدل لحكم كلماته مما وعد به وأمر، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 280. (¬2) قرأ ابن عامر الشامي: (ولا تشرك) بالتاء جزمًا. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وحمزة، وعاصم، والكسائي: (ولا يشرك) بالياء والرفع. انظر: "السبعة" (390)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 141، و"الغاية في القراءات العشر" (306)، و"العنوان في القراءات السبع" ص 122، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 310. (¬3) "جامع البيان" 15/ 233، و"النكت والعيون" 3/ 300، و"زاد المسير" 5/ 131. (¬4) "جامع البيان" 15/ 233، و"معالم التنزيل" 5/ 165، و"المحرر الوجيز" 10/ 392، و"زاد المسير" 5/ 93. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 165، و"روح المعاني" 15/ 257. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 280. ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة الأنعام: =

28

وقال الكلبي: (لا مغير للقرآن) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} قال مجاهد: (ملجأ) (¬2) وقال الفراء: (الملتحد: الملجأ) (¬3). وقال أبو عبيدة: (معدلا) (¬4). وقال الزجاج: (أي لن تجد معدلا عن أمره ونهيه) (¬5). وأصل هذا الحرف: من الميل، ومن قال: ملجأ، فهو يؤول إلى هذا المعنى أيضًا؛ لأنك إذا لجأت إلى شيء فليس يكون إلا بالميل منك إليه، وذكرنا هذا الحرف عند قوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103]. وقال ابن زيد في هذه الآية: (لا تجدون من دونه ملجأ ولا أحدا يمنعكم) (¬6). 28 - قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} مفسرا بما فيه من النزول، واختلاف القراءة في سورة الأنعام (¬7). ¬

_ = 115: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 389/ ب، و"معالم التنزيل" 3/ 158. (¬2) "جامع البيان" 15/ 233، و"معالم التنزيل" 5/ 166، و"النكت والعيون" 3/ 301، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 90. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 398. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 398. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 280. (¬6) "جامع البيان" 15/ 154. (¬7) عند قوله سبحانه في سورة الأنعام: 52: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}.

وقوله تعالى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} قال علي عن ابن عباس: (يقول لا تتعداهم إلى غيرهم) (¬1). وقال عطاء عنه: (يريد يصدهم بالنظر والمحبة لهم) (¬2). وقال الفراء: (لا تصرف عيناك عنهم) (¬3). وقال الزجاج: (لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة) (¬4). والنهي في الظاهر واقع على العينين، والمراد منه صاحب العينين، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله تعالى: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال المفسرون: (يعني مجالسة أهل الشرف والغنى) (¬5). وقال أهل المعاني: (قوله: {تُرِيدُ} هاهنا في موضع الحال) (¬6)، أي: مريدًا، نهي أن يرفع بصره عن ضعفاء المؤمنين مريدًا مجالسة الأشراف. وكان -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على إيمان الرؤساء طمعًا في إيمان أتباعهم، ولم ينسب إلى إرادة زينة الحياة الدنيا؛ لأنه لم يمل إلى الدنيا قط ولا إلى أهلها، وإنما كان يلين في بعض الأحيان للرؤساء طمعًا في إيمانهم، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 234. (¬2) ذكرت نحوه كتب التفسير بلا نسبة انظر: "جامع البيان" 15/ 234، و"بحر العلوم" 2/ 297، و"النكت والعيون" 3/ 302، و"المحرر الوجيز" 9/ 293، و"زاد المسير" 5/ 132. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 140. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 281. (¬5) "جامع البيان" 15/ 235، و"معالم التنزيل" 5/ 166، و"النكت والعيون" 3/ 302، و"زاد المسير" 5/ 133. (¬6) "الكشاف" 2/ 388، و"البحر المحيط" 6/ 119، و"الدر المصون" 7/ 474.

فعوتب بهذه الآية، وأمر بأن يجعل إقباله على المؤمنين، وأن لا يلتفت إلى غيرهم، ونهي أن يكون له حال يميل فيها إلى الأشراف دون الضعفاء، ومثل هذه الآية قوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 5، 6]. وقوله تعالى: {لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} قال ابن عباس: (يريد عيينة وأباهه) (¬1)، أي: لا تطعهم في تنحية الفقراء عنك ليجلسوا إليك. وسئل أبو العباس عن قوله: {لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقال: (من جعلناه غافلاً. قال: ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلاً، ووجدته غافلاً) (¬2)، وتأويل {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} تركناه غُفْلا عن الذكر، كالأرض الغُفْل التي لا علامة بها، والكتاب الغُفْل الذي لا شكل عليه. وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قال مجاهد: (ضياعا) (¬3). وقال قتادة: (ضاع أكبر الضيعة) (¬4). وقال السدي: (هلاكا) (¬5). وقال أبو الهيثم: (أمر فرط، أي: متهاون به) (¬6). وشبه أن يكون أصل هذا من التفريط، وهو تقديم العجز، وهذا بمعنى قول أبي إسحاق (¬7). ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه، ومعنى هذا أنه ترك الإيمان ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 166 بدون نسبة، و"زاد المسير" 5/ 133، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 392. (¬2) "تهذيب اللغة" (غفل) 3/ 2681. (¬3) "جامع البيان" 15/ 236، و"معالم التنزيل" 5/ 167، و"زاد المسير" 5/ 133، و"الدر المنثور" 4/ 399. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 167. (¬5) "جامع البيان" 15/ 236، و"بحر العلوم" 2/ 297. (¬6) "تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 281.

والاستدلال بآيات الله واتبع هواه. الليث: (الفَرَطُ: الأمر الذي يُفَرَّط فيه، تقول: كل أمر فلان فَرَط) (¬1)، ونحو هذا قال الفراء: (فُرُطا: متروكًا قد ترك فيه الطاعة) (¬2). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد أنه أفرط في مسألته، وأحب أن يرتفع عند الله بغير تقوى) (¬3)، يعني حين أراد مجالسة النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرب منه، والتقدم على أهل الإيمان من غير طاعة وتقى. وعلى هذا الفَرَط اسم من الإفراط وهو مجاوزة الحد، ونحو هذا روي عن مقاتل أنه قال في قوله: {فُرُطًا} قال: (سرفا) (¬4). فيحتمل أنه يريد بالمسرف ما ذكرنا عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد ما ذكره الكلبي والفراء. قال الكلبي: (قال عيينة: إنا رؤوس مضر (¬5) وأشرافها، فإن نسلم يسلم الناس بعدنا) (¬6). وقال الفراء: (إنه أفرط في القول فقال: نحن رؤوس مضر وأشرافها، ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 16/ 118، و"تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 140. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة الألوسي في "روح المعاني" 15/ 265. (¬4) "معالم التنزيل" 15/ 167، و"النكت والعيون" 3/ 302، و"البحر المحيط" 6/ 120، و"روح المعاني" 15/ 265. (¬5) مضر: نسبة إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو جد جاهلي تنتسب إليه كثير من القبائك العدنانية، وهو أخو ربيعة بن نزار. انظر: "سير ابن هشام" 1/ 73، و"الأنساب" 5/ 318، و"الإيناس بعلم الإنساب" ص 29، و"المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب" ص 403. (¬6) ذكر نحوه البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 167، و"زاد المسير" 5/ 133، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 392.

29

وليس كذلك) (¬1). وعلى هذا كان أمره فُرُطا لإفراطه في القول والبذخ حين قال: إنه رأس العرب وهم أتباعه على دينه. ويقال: أمر فُرُط، أي مجاوز فيه الحدود. روي عن أبي زيد البلخي أنه قال: (معناه: قدما في الشر) (¬2). وعلى هذا أصله من قوله: فَرَطَ منه أمر، أي: سبق وبدر (¬3). ومنه قوله تعالى: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه: 45]، ومنه يقال: فرس فُرُط، أي: سريعة، قال لبيد (¬4): فُرُط وشاحي إذ غدوتُ لجامها 29 - قوله تعالى: {وقُلِ} قال عطاء عن ابن عباس: (وقيل يا محمد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 140. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" بلا نسبة (فرط) 3/ 2773، و"لسان العرب" (فرط) 6/ 3391. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773، و"مقاييس اللغة" (فرط) 4/ 490، و"القاموس المحيط" (فرط) ص (681)، و"لسان العرب" 6/ 3391، و"الصحاح" (فرط) 3/ 1148. وقال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 15/ 236: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه ضياعًا وهلاكًا من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذا أسرف فيه وتجاوز قدره. وكذلك قوله {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، معناه وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر واحتقار أهل الإيمان سرفًا قد تجاوز حده فضيع بذلك الحق وهلك. (¬4) هذا عجز بيت لبيد، وصدره: ولقد حميتُ الخيل تحمل سكَّتى والفرَطُ: الفرس السريعة التي تتفرط الخيل أي تتقدمها. وشاحي، لجامها: أن الفرسان كان أحدهم يتوشح اللجام، وتوشحه إياه أن يلقيه على عاتقه ويخرج يده منه. انظر: "ديوانه" 315، و"تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773، و"لسان العرب" (فرط) 6/ 3391، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي 195.

لمن جاءك من أهل الدنيا شريفًا أو وضيعًا) (¬1). قال المفسرون: قل لهؤلاء الذين أمروك بتنحية الفقراء عنك، وإدناء مجلسهم ليؤمنوا بك. وقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} قال الكسائي: (يعني هو الحق من ربكم، وهو الإسلام) (¬2). وقال الأخفش: (أي قل: هو الحق) (¬3). قال أبو إسحاق: (أي الذي أتيتكم به الحق من ربكم) (¬4). وهذا معنى قول قتادة: ({الْحَقُّ} هذا القرآن) (¬5). وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} قال السدي: (هذا على وجه الوعيد) (¬6). وقال قتادة: (إن ربكم بين ثم خير) (¬7)؛ يعني التخيير ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه انظر: "جامع البيان" 15/ 237، و"بحر العلوم" 2/ 297، و"المحرر الوجيز" 9/ 294، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 91. (¬2) ذكره الألوسي في "روح المعاني" 15/ 266 ونسبه للكرماني. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 618. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 281. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 389 ب بلا نسبة، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 297، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 399 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬6) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 325 بدون نسبة. (¬7) لم أقف على القول. وقال الشنقيطي -رحمه الله- عند هذه الآية 4/ 92: المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير وإنما المراد بها التهديد والتخويف، والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية، والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف أنه أتبع ذلك بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] الآية، وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف، إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم، وهذا أوضح كما ترى. وقال ابن =

الذي هو للتهديد، كما قال الزجاج: (هذا الكلام ليس بأمر لهم ما فعلوا منه فهم فيه مطيعون، ولكنه كلام وعيد وإنذار، قد بين بعده ما لكل فريق من مؤمن وكافر) (¬1). هذا الذي ذكرنا قول أكثر أهل التفسير (¬2). وروى الوالبي عن ابن عباس والضحاك في هذه الآية يقول: (من يشاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر) (¬3). وهو كقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، فعلى هذا القول قوله: {فَمَن شَآءَ}، أي: من شاء الله، فالمشيئة مسندة إلى الله. وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي: هيأنا وأعددنا. ومضى الكلام في معنى الإعتاد (¬4). {لِلظَّالِمِينَ} الذين عبدوا غير الله تعالى (¬5). {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} معنى السرادق في اللغة: كل ما أحاط ¬

_ = تيمية في "العقيدة الواسطية" 45: وأهل السنة وسط بين الجبرية والقدرية لأن الجبرية يثبتون قضاء الله في أفعال العبد ويقولون: إنه مجبر لا قدرة له ولا اختيار، والقدرية ينكرون قضاء الله في أفعال العباد ويقولون: إن العبد قادر مختار لا يتعلق فعله بقضاء الله. وأهل السنة يثبتون قضاء الله في أفعال العبد ويقولون: إن له قدرة واختيارًا أودعهما الله فيه متعلقتين بقضاء الله، فيثبتون للعبد مشيئة واستطاعة وهي القدرة إلا أنهما تابعان لمشيئة الله تعالى. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 281. (¬2) "جامع البيان" 15/ 237، و"معالم التنزيل" 5/ 167، و "المحرر الوجيز" 9/ 294. (¬3) "جامع البيان" 15/ 238، و"معالم التنزيل" 5/ 167، و"الدر المنثور" 4/ 399. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة النساء: 18: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. (¬5) ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة لقمان (13): {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

بشيء واشتمل عليه من ثوب أو حائط. وأكثر ما يستعمل في الفسطاط. قال الليث: (السرادق: كالحجرة المحوطة من غزل غليظ منسوج مضرب الأسفار للملوك، والجمع: سرادقات) (¬1). قال رؤبة (¬2): سرادق المجد عليك ممدود قال الأزهري: (ويقال للغبار الساطع، والدخان الشاخص المحيط بالشيء: سرادق) (¬3). قال لبيد يذكر الإبل (¬4): رفعن سرادقًا في يوم ريح ... يصفق بين ميل واعتدال هذا معنى السرادق في اللغة (¬5). فأما التفسير فروى أبو سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سرادق النار أربع جدر، كثف كل جدار منها مسيرة ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سردق) 2/ 1669. (¬2) هذا عجز بيت لرؤبة، وصدره: يا حكم بن المنذر بن الجارود انظر: "ديوانه" ص 172، و"الكتاب" 1/ 313، و"المفصل" 2/ 5، و"الدر المصون" 7/ 478، و"لسان العرب" (سردق) 4/ 1988. (¬3) "تهذيب اللغة" (سردق) 2/ 1669. (¬4) البيت للبيد بن ربيعة العامري. السرادق هنا: الغبار الساطع، والدخان الشاخص المحيط بالشيء. انظر: "ديوانه" ص 108، و"تهذيب اللغة" (سردق) 2/ 1669 - 1670، و"المخصص" 10/ 66، و"لسان العرب" (سردق) 4/ 1989. (¬5) السرادق هو: كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب، أو الحائط المشتمل على الشيء. انظر: "تهذيب اللغة" (سردق) 2/ 1669، و"الصحاح" (سردق) 4/ 1496، و"القاموس المحيط" (السرادق) ص 893.

أربعين سنة" (¬1) وقال الكلبي: (هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة) (¬2). وبهذا فسِّر قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43]، وقوله: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30] الآية؛ وهذا اختيار أبي عبيدة، وابن قتيبة (¬3). وقوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} قال المفسرون: أي مما هم فيه من العذاب وشدة العطش. {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} قال أبو عبيد: (المهل: كل فِلِزٍّ (¬4) أذيب) (¬5). وروي في حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه أوصى في موضعه فقال "ادفنوني ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "جامعه" كتاب: جهنم، باب: ما جاء في صفة شراب أهل النار 4/ 609، والإمام أحمد في "مسنده" 3/ 29، وابن المبارك في "الزهد" 2/ 90، وأبو نعيم في "الحلية" 10/ 290، وابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب: القيامة، باب: في ذكر الجنة والنار 10/ 514، والطبري في "جامع البيان" 15/ 239، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 168، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 3/ 92، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 399. (¬2) "جامع البيان" 15/ 239، و"تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 338، و"زاد المسير" 5/ 134. (¬3) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 267، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 398. (¬4) الفِلِزّ بكسر الفاء واللام وتشديد الزاي: نحاس أبيض تجعل منه القدور المفرغة، أو خبت الحديد، أو الحجارة، أو جواهر الأرض كلها، أو ما ينفيه الكير من كل ما يذاب منها. انظر: "تهذيب اللغة" (فلز) 3/ 2828، و"مقاييس اللغة" (فلز) 4/ 451، و"القاموس المحيط" (الفلز) ص (520)، و"لسان العرب" (فلز) 6/ 3460. (¬5) "غريب الحديث" لأبي عبيد 3/ 217، و"تهذيب اللغة" (مهل) 4/ 3464.

في ثوبي هذين، فإنما هما للمهل والتراب" (¬1). قال أبو عبيدة: (المهل في هذا الحديث: الصديد والقيح) (¬2). وقال أبو عمرو: (المهل في شيئين: هو في حديث أبي بكر: القيح والصديد، وفي غيره: دردي الزيت) (¬3). وقال اليث: (المهل: ضرب من القطران، يقال: مَهَلْتُ البعير فهو مَمْهُول) (¬4). وروى شمر عن ابن شميل: (المهل عندهم الملَّة إذا حميت جدًّا رأيتها تموج) (¬5). وقالت العامرية: (المهل عندنا السُّمّ) (¬6). هذا معنى المهل في اللغة، وهو على ستة معان. روى أبو سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "بماء كالمهل" قال: "كعكر الزيت" (¬7). ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 298، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 395، و"تهذيب اللغة" (مهل) 4/ 3464، و"غريب الحديث" لأبي عبيد 3/ 217، و"الفائق في غريب الحديث" للزمخشري 3/ 395. (¬2) "تهذيب اللغة" (مهل) 4/ 3464. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 395، و"تهذيب اللغة" (مهل) 4/ 3464. (¬4) "تهذيب اللغة" (مهل) 4/ 3465. (¬5) "تهذيب اللغة" (مهل) 4/ 3465. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 394 بلا نسبة، و"أضواء البيان" 4/ 95، و"تهذيب اللغة" مهل 4/ 3465. (¬7) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 222، والترمذي في "جامعه" كتاب: جهنم، باب: في صفة شراب أهل النار 4/ 608 قال: هذا حديث إنما نعرفة من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، باب: صفة النار وأهلها 9/ 279، والطبري في "جامع =

وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: (كدردي الزيت) (¬1). ونحو هذا روى عنه الوالبي والعوفي (¬2). وقال مجاهد: "كالمهل" (القيح والدم) (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: (هو عكر القطران) (¬4). وروى قتادة والحسن عن ابن مسعود: (أنه سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة فخلطهما، فأذيبا حتى إذا أزبدا وانماعا قال: هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو شراب أهل النار) (¬5). وإلى هذا القول ذهب من قال في تفسير المهل: هو الذي قد انتهى حره؛ لأنه لا شيء أشد حرارة من هذه الجواهر إذا أذيبت. وهذا القول هو اختيار الزجاج فقال: (يعني أنهم ¬

_ = البيان" 25/ 132، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 168، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 92، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 400، وابن حجر في "الكافي الشاف" (103) وقال: أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، وتعقب قوله: بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة من دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث. (¬1) "جامع البيان" 15/ 158، و"بحر العلوم" 3/ 297، و"معالم التنزيل" 3/ 160، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 84، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 394. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 303، و"زاد المسير" 5/ 95. (¬3) "جامع البيان" 15/ 158، و"معالم التنزيل" 3/ 160، و"النكت والعيون" 3/ 303، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 84. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 394، و"البحر المحيط" 6/ 121. (¬5) "جامع البيان" 15/ 158، و "الكشف والبيان" 3/ 389، 7ب، و"معالم التنزيل" 3/ 160، و"المحرر الوجيز" 10/ 396، و"زاد المسير" 5/ 95، و"الدر المنثور" 4/ 400.

يغاثون بماء كالرصاص المذاب والصُّفْر أو الفضة) (¬1). وقوله تعالى: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} يقال: شويتُ اللحم أشويه شيًّا، فإذا شويته لنفسك خاصة قلت: أشويت. قال لبيد (¬2): فاشتوى ليلة ريحٍ واجتمل وانشوى اللحم انشواء، ويقال: اشتوى أيضًا بهذا المعنى (¬3). روى الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية قال: "فإذا قربه إليه سقط فروة وجهه فيه" (¬4). وقال ابن عباس: (يشويه حتى يسقط لحم وجهه) (¬5). ثم ذمه فقال: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 282. (¬2) هذا عجز بيت للبيد، وصدره: أو نهته فأتاه رزقه اجتمل: انتفع بالشحم، والشحم يسمى الجميل. انظر: "ديوان لبيد" ص 140، و"مقاييس اللغة" (شوى) 3/ 225، و"لسان العرب" (شوا) 4/ 2367. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (شوى) 2/ 1950، و"مقاييس اللغة" (شوى) 3/ 224، و"لسان العرب" (شوا) 4/ 2367، و"مختار الصحاح" (شوى) ص (148). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 222، والترمذي في "جامعه" كتاب: جهنم، باب: ما جاء في صفة شراب أهل النار 4/ 608، وقال: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، باب: صفة النار وأهلها 9/ 279، وأخرج نحوه الحاكم في "مستدركه" كتاب: التفسير، سورة الكهف 2/ 368، والطبري في "جامع البيان" 15/ 241، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 3/ 92، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 400. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة.

{بِئْسَ الشَّرَابُ} هذا الماء الذي وصفنا. {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} أي: ساءت النار مرتفقا، وهو نصب على التمييز (¬1). ومعنى المرتفق في اللغة: ما يرتفق به (¬2). قال ابن عباس: (يريد وبئس ما ارتفقوا به) (¬3). واختلفت العبارات عن المفسرين في هذا، فقال مجاهد: (مجتمعا) (¬4). وقال عطاء: (مقرًّا) (¬5). وقال الزجاج: (منزلا) (¬6). وقال ابن قتيبة: (مجلسا) (¬7). ومعنى هذه الألفاظ واحد، وهي كلها ترجع إلى أصل واحد، فيجوز أن ترجع إلى ما ذكرنا، وذلك أن المنزل والدار مما يرتفق به، ويجوز أن يكون أصلها من الارتفاق وهو الاتكاء على المرفق، ومنه قول الهذلي (¬8): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 282. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" (الرفق) ص 887، و"الصحاح" (رفق) 4/ 1482، و"لسان العرب" (رفق) 3/ 1696. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 241، و"بحر العلوم" 2/ 298، و"زاد المسير" 5/ 136، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 92. (¬4) "جامع البيان" 15/ 158، و"معالم التنزيل" 5/ 168، و"المحرر الوجيز" 9/ 299، و"النكت والعيون" 3/ 303. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 168، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 395، و"البحر المحيط" 6/ 121، و"روح المعاني" 15/ 269. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 282. (¬7) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 267. (¬8) هذا صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، ورد برواية: نام الخلي وبت مشتجرا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح الخليُّ: الذي ليس به هم. والصَّابُ. شجر بتهامة إذا قطع منه عود خرج منه لبن =

30

نام الخلي وبتُّ مرتفقا وهذا قول ابن السكيت في قوله: {مُرْتَفَقًا} قال: (متكأ) (¬1). وكل موضع نزلته وقعدت فيه فهو مرتفق لك ومتكأ. 30 - ثم ذكر ما وعد المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. واختلف النحويون في جواب {إِنَّ} الأولى، فذكر أبو إسحاق وأبو علي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن خبره قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} على إضمار منهم، فحذف الراجع من الخبر؛ لأنه معلوم أن الله إنما لا يضيع أجر من أحسن عملاً من المؤمنين، فأما من أحسن عملاً من غير المؤمنين فإن الله يحبط عمله. الوجه الثاني: أن المعنى إنا لا نضيع أجرهم، إلا أنه وقع المظهر موقع المضمر؛ لأن من أحسن عملاً في المعنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات. الوجه الثالث: أن الخبر قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} ويكون قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ} اعتراضًا بين الاسم والخبر، وجاز ذلك؛ لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا (¬2). وذكر الفراء وجهين آخرين أحدهما: (أن قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ} من عمل صالحًا، فترك الكلام الأول واعتمد على ¬

_ = إذا أصاب العين أحرقها. انظر: "ديوان الهذليين" 1/ 104، و"شرح أشعار الهذليين" 1/ 120، و"الدر المصون" 7/ 485، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 395، و"لسان العرب" (صوب) 4/ 2520. (¬1) "تهذيب اللغة" (رفق) 2/ 1444. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 283، و"الجحة" للقراء السبعة 3/ 63.

31

الثاني كقول الشاعر (¬1): إنَّ الخليفة إنَّ الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم الثاني: أن يجعل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} في مذهب جزاء ويضمر، فيصير كأنك قلت: إن من عمل صالحًا فإنا لا نضيع أجره) (¬2). والقول ما ذكره أبو إسحاق وأبو علي (¬3). 31 - قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} قال أبو إسحاق: (أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال: سوار في اليد بالكسر، وقد حُكي: سوار، وحكى قطرب: إسوار، وذكر أن أساور جمع إسوار)؛ انتهى كلامه (¬4). وقال أبو زيد: (هو سوار المرأة، وسوار المرأة، وأسورة لجماعتها، وهما قلبان يكونان في يدها) (¬5). قال أبو علي: (قول من قال: سوار صحيح، يدل عليه قوله (¬6): ¬

_ (¬1) البيت لجرير، وصدره: يكفي الخليفة أن الله سربله انظر: "ديوان جرير" ص 431، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 140، و"خزانة الأدب" 4/ 344، و"البحر المحيط" 6/ 121، و"الدر المصون" 7/ 481، و"معجم الشواهد النحوية" ص 595، و"المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية" 2/ 883، و"أبيات النحو في تفسير البحر المحيط" ص 313. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 140. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 273، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 398، و"البحر المحيط" 6/ 121، و"الدر المصون" 7/ 481. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 283. (¬5) ذكر نحوه "تهذيب اللغة" (سار) 2/ 1594 بلا نسبة، وكذلك الصحاح (سور) 2/ 690. (¬6) البيت لعدى بن زيد العبادي، وصدره: عن مبرقات بالبرين وتبدو

وفي الأكفِّ اللامعات سور ففعل يجمع به هذا النحو، فأما من حكى أسوار فهذا الضرب من الأسماء قليل جدًّا، إلا أن الثقة إذا حكى شيئًا لزم قبوله، ونظيره قولهم: الإعصار، والإسكان، ولا يجوز عندي أن يكون الجمع الذي جاء في التنزيل مكسرا على هذا الواحد، ألا ترى أنه لو كان كذلك لوجب ثبات الياء في التكسير ليكون على زنة: دنانير؛ لأن حرف اللين إذا كان رابعًا في الواحد، ثبت أنه الآخر الذي هو سوار جمع على أسورة، ثم جمع أسورة على أساور، كما حكى سيبويه من جمعهم أسقية على: أساق (¬1). ولو كان أساور التي في التنزيل جمع: أسوار، لكان يجب أن يكون أساوير، فلما كانت بغير الياء كانت جمع: سِوَار، كما أن أسقية جمع: سقاء، ثم جمع على: (أساق) (¬2). قال سعيد بن جبير: (على كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت) (¬3). وقال أهل المعاني: (السوار: زينة تلبس في الزند من اليد، وهو من زينة الملوك تسور ¬

_ = المبرقات: النساء المتزينات والبرين: جمع برة، وهو الحلي. وسور: جمع سوار. انظر: "ديوان عدي" ص 127، و"الكتاب" لسيبويه 4/ 359، و"المخصص" 4/ 46، و"المنصف" 1/ 338، و"الحجة للقراء السبعة" 2/ 150، و"شرح المفصل" 5/ 44، و"شرح الكافية" لابن مالك 4/ 1837، و"اللسان" (لمع) 7/ 4074. (¬1) "الكتاب" لسيبويه 3/ 230 (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" لأبي علي الفارسي ص 940. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 169، و"زاد المسير" 5/ 137، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 396.

في اليد وتتوج على الرأس) (¬1). ويروى: (أن كسرى كان له تاج وسواران، فأتي بها عمر -رضي الله عنه-) (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} قال الزجاج: (هما نوعان من الحرير) (¬3). وقال المفسرون: (السندس: ما رقَّ من الديباج، والإستبرق: مما غلظ منه) (¬4) قال المرقش (¬5) (¬6): تراهنَّ يلبسن المشاعر مرَّةً ... وإستبرق الديباج طورًا لباسها وهو اسم أعجمي أصله بالفارسية: [استبر، ونقل من العجمية إلى العربية، كما سمي الديباج، وهو منقول من الفارسية] (¬7). قال أبو علي: (الإستبرق لا تخلو حروفه من أن تكون أصولًا كلها أو ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (سار) 2/ 1594، و"الصحاح" (سور) 2/ 690، و"لسان العرب" (سور) 4/ 2148. (¬2) ذكره ابن حجر في الإصابة في "تمييز الصحابة" 3/ 69 عند ترجمة سراقة بن مالك -رضي الله عنه-، و"أسد الغابة" 2/ 180 ترجمة سراقة بن مالك. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 284. (¬4) "جامع البيان" 15/ 243، و"معالم التنزيل" 5/ 169، و"المحرر الوجيز" 9/ 302. (¬5) ربيعة بن سعد بن مالك، ويقال هو: عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، أحد المتيمين، كان يهوى ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك، وهو شاعر جاهلي، عرف بالشجاعة والقوة، والمرقش لقب غلب عليه، بسبب قوله بيت من الشعر فلقب به. انظر: "الشعر والشعراء" ص 119، و"خزانة الأدب" 8/ 313. (¬6) البيت للمرقش ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 243، و"النكت والعيون" 3/ 305، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 397، و"الدر المصون" 7/ 484، و"فتح القدير" 3/ 404. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.

بعضها أصولًا وبعضها زائدًا، ولا يجوز أن تكون أصولا؛ لأنه ليس من كلامهم في الأسماء والأفعال ما هو على ستة أحرف أصول، ولا يجوز أن تكون الهمزة وحدها زائدة؛ لأنها لم تلحق زائدة أول بنات الأربعة، فإن لا تلحق أوائل بنات الخمسة أجدر، فإذا لم يجز هذا فلابد من أن ينضم إليها في الزيادة غيرها، فلا يجوز أن تكون السين؛ لأنها لم تزد مع الهمزة أولاً، ولا يجوز أيضًا أن تكون التاء مع الهمزة، كما لم يجز أن تكون السين، فإذا لم يجز هذا علمت أن الزيادة، وهي التاء والسين مع الهمزة، وأن الكلمة من الثلث، ولما نقلت فأعربت وافق التعريب وزن استفعل الذي هو مثال من أمثلة الماضي، إلا أن الهمزة منه قطعت لينقل من مثال الفعل إلى الاسم، وكان قطع الهمزة أحد ما نقل به الفعل إلى أحكام الاسم، وجعل النحويون هذا الحرف ومجيء الهمزة مقطوعة فيه أصلاً لجميع ما أوله همزة موصولة إذا نُقل سمي به، فقطعوا الهمزة في جميع ذلك، يقال: لو سميت رجلاً بأضرب وأشرب أو أقتل قطعت الهمزة في جميع ذلك؛ لأنه ليس من حكم الاسم أن يلحق همزة الوصل أولها، والحروف التي لحقت همزة الوصل أولها كما لابن والاسم أشبهت الأفعال عند النحويين لما لحق أواخرها الحذف الذي يلحق الأفع الذي الجزم، فلحق أولها همزة الوصل أيضًا لهذه المشابهة التي بينها) (¬1). وروي عن ابن محيصن (¬2) أنه كان يقرأ: واستبرق، موصولة الألف ¬

_ (¬1) ذكر نحوه مختصرًا في "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" (944). (¬2) محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي، إمام فاضل، علم بالقراءات، ثقة محدث، قرأ القرآن على عدد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقرأ عليه عدد من التابعين، توفي -رحمه الله- في مكة سنة 123 هـ. انظر: "الوافي بالوفيات" 3/ 223، =

مفتوحة الآخر على مثال الماضي (¬1)، نحو: استفعل، وذلك لا يجوز؛ لأنه ليس هذا الحرف استفعل من برق، وإنما وافق اللفظ، واللفظ في التقريب [كما أن سراويل في التقريب] (¬2) وافق هذا اللفظ وإن لم يكن في كلامهم، وإذا كان كذلك لم يتبع أن يجعل مثال الماضي، ولكنه اسم جنس، يدلك على ذلك دخول لام المعرفة عليه، والجار في نحو قوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]. وإذا كان كذلك ففتحه لا يجوز إذ ليس بفعل، وإذا لم يكن فعلاً كان اسمًا أعجميًّا [معربًا واقعًا على الجنس، كما أن السندس والخَزّ (¬3) كذلك] (¬4) كان بمنزلة الديباج والفِرنْد (¬5)، والبَرِيم (¬6)، ونحو ذلك من الأسماء المنقولة نكرة، وليس من باب إبراهيم وإسماعيل، وإذا كان من ¬

_ = و"غاية النهاية" 2/ 167، و"معرفة الكبار" 1/ 98، و"تهذيب التهذيب" 7/ 474، و"شذرات الذهب" 1/ 162. (¬1) "المحتسب" لابن جني 2/ 29، و"القراءات الشاذة" للقاضي ص 63، و"إتحاف فضلاء البشر" 2/ 213. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ. (¬3) الخَزُّ: نوع منه الثياب معروف مشتق منه، عربي صحيح، وهو من الجواهر المصوف بها. انظر: "القاموس المحيط" (الخز) ص 510، و"الصحاح" (خزز) 3/ 877، و"لسان العرب" (خزز) 2/ 1149، و"مختار الصحاح" (خزز) ص (73). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ. (¬5) الفِرِنْدُ: دخيل معرب وهو اسم للثوب. ويطلق على السيف. انظر: "تهذيب اللغة" (فرند) 3/ 2783، و"القاموس المحيط" (الفرند) ص 306، و"الصحاح" (فرند) 2/ 519، و"لسان العرب" (فرند) 6/ 3405. (¬6) البَرِيْمُ: ثوب فيه قز وكتان. وقيل: خيط ينظم فيه خرز فتشده المرأة على حقويها. انظر: "تهذيب اللغة" (برم) 1/ 321، و"معجم مقاييس اللغة" (برم) 1/ 231، و"الصحاح" (برم) 5/ 1869.

هذا الضرب لم يكن فيه إلا الصرف إلا أن يُسمَّى به شيء فينضم إلى مثال الفعل التعريف، فإذا لم يكن كذلك فترك الصرف فيه لا يستقيم. وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} يقال: اتكأ الرجل، وأصله: اوتكا، مثل: اتزن من الوزن، والتُكأة أصلها: وُكأة، ومنه التَّوكؤ، وهو: التحامل على الشيء، قال الله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18]؛ ورجل تُكأة إذا كان كثير الاتِّكاءِ، وهو في الأصل وكأة، فقلبت الواو تاء كما قالوا: تكلة في موضع وكلة ويقال: تكأ الرجل يتكئ مثل اتكأ، وأوكأت فلانًا إذا نصبت له متكأ (¬1). وقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ} جمع أريكة. قال الليث: (وهي سرير حجلة، فالحجلة والسرير أريكة، وجمعها: أرائك) (¬2). وهو قول المفسرين؛ قال ابن عباس ومجاهد: {الْأَرَائِكِ} هو: السُّرر في الحجال) (¬3). ولا يكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة. وقال أبو إسحاق: ({الْأَرَائِكِ}: الفرش في الحجال) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (تكئ) 1/ 445، و"الصحاح" (وكأ) 1/ 82، و"لسان العرب" (وكأ) 8/ 4904. (¬2) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (أرك) 1/ 149، و"تاج العروس" (أرك) 13/ 504، و"القاموس المحيط" (الأراك) ص 931، و"لسان العرب" (أرك) 1/ 64 وقال: هي الأسرة، وهي في الحقيقة الفرش، كانت في الحجال أو في غير الحجال، وقِل: الأريكة لسرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة. (¬3) "جامع البيان" 15/ 243، و"تفسير القرآن" 3/ 93، و"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 398، و"الدر المنثور" 4/ 403. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 284.

قال ابن عباس (¬1): (يريد الأَسِرَّة من ذهب مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء (¬2) إلى أيلة (¬3)، وما بين عدن (¬4) إلى الجابية (¬5)). وما نزلت من الصفة أعظم. ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 398. (¬2) صنعاء: موضعان أحدهما: باليمن وهي العظمى، وأخرى: قرية بالغوطة من دمشق، وصنعاء اليمن: اسمها قديمًا أزال، وبينها وبين عدن ثمانية وستون ميلاً، وهي قصبة اليمن، وأحسن بلادها، وقيل: سميت بصنعاء بن أزال بن يقطن بن عابر وهو الذي بناها، وأثنى عليها العلماء ومدحوها ونسب إليها خلق كثير. وصنعاء دمشق: قرية كانت في جانبها الغربي على باب دمشق دون المزة، مقابل مسجد خاتون خريت، وهي اليوم مزرعة وبساتين وقد خربت من العمران، وينسب إليها جماعة من المحدثين والعلماء. انظر: "معجم البلدان" 3/ 425، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 182، و"معجم ما استعجم" ص 843. (¬3) أيلة: بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم، مما يلي الشام، وقيل: هي مدينة عامرة في بلاد الشام بين الفسطاط ومكة على شاطى بحر القلزم، وقيل: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم -عليه السلام-. انظر: "معجم البلدان" 1/ 292، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 19. (¬4) عدن بالتحريك وآخره نون، وهو من قولهم: عدن بالمكان إذا أقام به، وبذلك سميت عدن، وهي مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، وهذا الموضع هو مرفأ مراكب الهند والتجار يجتمعون إليه، لأجل ذلك فإنها بلدة تجارة وعدن جنوبية تهامة وهو أقدم أسواق العرب، وقيل: سميت عدن: بعدن بن سينان بن نفيشان بن إبراهيم. وقيل غير ذلك. انظر: "معجم البلدان" 4/ 89، و"معجم ما استعجم" 3/ 924، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 55. (¬5) الجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من أعمال الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصقر في شمالي حوران، وهي قرية معروفة بجنب نوى على ثلاثة أميال منها من جانب الشمال، وإلى هذه القرية ينسب باب الجابية أحد أبواب دمشق، وسميت الجابية تشبيهًا بما يجبى فيه الماء، فإن الجابية اسم للحوض، فسميت =

وقوله تعالى: {نِعْمَ الثَّوَابُ} قال: يريد طاب ثوابهم وعظم، {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} يعني حسنت الأرائك مرتفقا، أي: موضع ارتفاق، بمعنى اتكأ؛ قاله الفراء في المصادر (¬1). ومر معنا تفسير المرتفق آنفًا. ¬

_ = جابية لكثرة مياهها، وقيل: سميت بذلك لاجتماع الناس بها وكثرتهم فيها لكونها أرضًا خصبة. انظر: "معجم البلدان" 2/ 19، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 60. (¬1) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" بلا نسبة (رفق) 2/ 1444، وابن منظور في "لسان العرب" (رفق) 3/ 1695.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبى الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (32) من سورة الكهف إلى آخر سورة طه تحقيق د. عبد العزيز بن محمد اليحيى أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبى الجزء الرابع عشر

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبى الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (32) من سورة الكهف إلى آخر سورة طه تحقيق د. عبد العزيز بن محمد اليحيى أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبى الجزء الرابع عشر

جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد اثناء النشر الواحدى, على بن أحمد التفسير البسيط لأبى الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدى (ت 468 هـ)./عبد العزيز بن محمد اليحيى, الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 - (مجموعة) 0 - 871 - 04 - 9960 - 978 (ج 14) 1 - القرآن الكريم ... 2 - الواحدى, على بن أحمد أ-العنوان ... ب-السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 0 - 871 - 04 - 9960 - 978 (ج 14)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبى الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [14]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

باقي سورة الكهف

32

32 - قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد ابني ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين، فاتخذ أحدهما القصور والأجنة، والآخر كان زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، فكان إذا عمل أخوه شيئًا من زينة الدنيا أخذ مثل ذلك فقدم لآخرته، واتخذ به عند الله الأجنة والقصور، حتى نفذ ماله. فضربهما مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة) (¬1). وقال الكلبي: (هما أخوان من بني مخزوم (¬2): أحدهما مؤمن وهو: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد (¬3) زوج أم سلمة. والآخر: كافر وهو: الأسود (¬4). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 169 - 170، "المحرر الوجيز" 9/ 305 - 306، "النكت والعيون" 3/ 306، "زاد المسير" 5/ 138 - 139. (¬2) بني مخزوم: هذه النسبة ترجع إلى قبيلتين: إحداهما تنسب إلى بني مخزوم بن عمرو، ومخزوم قريش هو: مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وقد نسب إلى هذه القبيلة خلق كثير، وأما مخزوم بن المغيرة فقد نسب إليه عدد كبير. انظر: "الأنساب" 5/ 225، "اللباب" 4/ 179، "نهاية الأرَب" (281)، "الاشتقاق" 2/ 269. (¬3) عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، أبو سلمة المكي، أمه برة بنت عبد المطلب، وكان أخًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، توفي -رضي الله عنه- بالمدينة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة الرابعة من الهجرة، فتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بزوجته أم سلمة -رضي الله عنه-. انظر: "أسد الغابة" 3/ 190، "الإصابة في تمييز الصحابة"، "سيرة ابن هشام" 1/ 252، "تهذيب التهذيب" 5/ 251. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "بحر العلوم" 2/ 298، "معالم التنزيل" 5/ 169 - 170، "الكشاف" 2/ 389، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 399.

33

قال أبو إسحاق: (كان المشركون سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشورة اليهود عن قصة أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن هذين الرجلين فأعلمه الله الجواب؛ لأنه مثل له -صلى الله عليه وسلم- وللكفار، ومثل لجميع من آمن بالله، وجميع من عَنَدَ عنه وكفر به) (¬1). فقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} منصوب (¬2) على معنى المفعول. وقوله تعالي: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} الحفُّ: الإطافة بالشيء، يقال: حفَّ القوم بسيدهم يَحُفُّون بضم الحاء إذا أطافوا به وعكفوا (¬3)، ومنه قوله: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]. والمعنى: جعلنا النخل مطبقًا بها {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} أي: بين الجنتين {زَرْعًا} ثم أخبر أنهما كاملتان في مادة حملهما وأعنابهما، والزرع الذي بينهما. 33 - فقال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} ذكرنا الكلام في (كلا) عند قوله: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الإسراء: 23]، وأما {كِلْتَا} فذهب سيبويه إلى أنها فعلى بمنزلة الذكرى، وأصلها كلوى، فأبدلت الواو تاء كما أبدلت في أنحت وبنت (¬4). والذي يدل على أن لام "كلتا" معتلة قولهم في مذكرها: كِلَى، وكِلَى فِعَل، ولامه معتلة بمنزلة لام حِجَى وَرِضَى، وهما من الواو لقولهم: حَجَى يَحْجُو، والرضوان، ولذلك مثلها سيبويه بما اغتسلت لامه فقال: (هي بمنزلة شروى) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 284. (¬2) في (ص): (رجلين منصوب). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (حف) 1/ 869، "الصحاح" (حف) 4/ 1344، "القاموس المحيط" (حف) ص 801، "لسان العرب" (حفف) 2/ 930. (¬4) "الكتاب" لسيبويه 3/ 364. (¬5) "الكتاب" لسيبويه 3/ 364.

وأما أبو عمرو الجرمي فذهب إلى أنها معتلة وأن التاء فيها علامة تأنيثها (¬1). وخالف سيبويه، وشهد بفساد هذا القول أن التاء لا تكون علم تأنيث الواحد إلا وقبلها فتحة، مثل: حَمْزَة وطلحة وقاعدة، أو تكون قبلها ألف نحو: سعلاة وعزهاة، والسلام في كلتا ساكنة كما ترى. ووجه آخر: أن علامة التأنيث لا تكون أبدًا وسطا، إنما تكون آخرا لا محالة، وكلتا اسم مفرد يفيد معنى التثنية فلا يجوز أن يكون علامة تأنيثه التاء، وما قبلها ساكن، وأيضًا فإن فعلى مثال لا يوجد في الكلام أصلاً، فيحمل هذا عليه، فإن سميت بـ (كلتا) رجلاً لم تصرفه في قول سيبويه معرفة ولا نكرة؛ لأن ألفها للتأنيث بمنزلة ألف ذكرى، وتصرفه نكرة في قول أبي عمرو, لأن أقصى أحواله عنده أن يكون كتائهة وقاعدة وعزة وحمزة (¬2). وقوله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا} قال الأخفش: (جعل الفعل واحدًا ولم يقل: آتتا, لأنه جعل ذلك لقوله: {كِلْتَا} هو في اللفظ، ولو جعله على معنى قولك: كلتا، لقال: آتتا) (¬3). ونحو هذا قال الزجاج (¬4). ومعنى {آتَتْ أُكُلَهَا} صاحبها أكلها أي: أدت إليه ريعها تامًا من غير نقصان، وهو قوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} قال ابن عباس والمفسرون: (لم تنقص منه شيئًا) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 402، "البحر المحيط" 6/ 123، "الدر المصون" 7/ 336، "روح المعاني" 15/ 274. (¬2) انظر: "البحر المحيط" 6/ 123، "الدر المصون" 7/ 336، "روح المعاني" 15/ 274. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 619. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 285. (¬5) "جامع البيان" 15/ 244، "معالم التنزيل" 5/ 171، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 93، "الدر المنثور" 4/ 403.

يقال: ظلمهُ حقه إذا نقصه، وقد مر. {وَفَجَّرْنَا} أي: أنبطنا (¬1) وأخرجنا {خِلَالَهُمَا} وسط الجنتين {نَهَرًا} أخبر أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أعذب الشرب، والكلام في التفجير والخلال قد مر في سورة بني إسرائيل (¬2). قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي: كان للأخ الكافر أموال كثيرة، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة في قوله: {ثَمَرٌ} يقول: (مال) (¬3). وقال مجاهد: (ذهب وفضة) (¬4). وقال قتادة: (يقول ومن كل المال) (¬5). واختلف القراء في قوله: {ثَمَرٌ} علي ثلاثة أوجه: ثُمُر بضم الثاء والميم وهو قراءة أكثر القراء، وقرأ أبو عمرو: بضم الثاء وسكون الميم، وقرأ عاصم: بفتحهما (¬6). ¬

_ (¬1) النبط: الماء الذي ينبط من قعر البئر إذا حفرت. انظر (نبط) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3497، "القاموس المحيط" ص (689)، "معجم مقاييس اللغة" 5/ 381. (¬2) عند قوله تعالى في سورة الإسراء الآية: (90، 91): {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا}. (¬3) "جامع البيان" 15/ 245، "النكت والعيون" 3/ 306، "المحرر الوجيز" 9/ 308، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 93. (¬4) "جامع البيان" 15/ 245، "معالم التنزيل" 5/ 171، "الكشاف" 2/ 390، " الدر المنثور" 4/ 403. (¬5) "جامع البيان" 15/ 245، "المحرر الوجيز" 9/ 358، "النكت والعيون" 3/ 306، "البحر المحيط" 6/ 125. (¬6) قرأ أبو عمرو البصري: (ثُمْر) بضم الثاء وسكون الميم. وقرأ عاصم: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم. وقرأ الباقون (ثُمُر) بضم الثاء والميم. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 142، "السبعة" ص 39، "المبسوط في القراءات" ص 234، "التبصرة" ص 248، "النشر في القراءات العشر" 2/ 310.

قال الليث: (الثَمَر: حمل الشجر) (¬1). والثُمُر أنواع المال، يقال: أثمر الرجل إذا كثر ماله، وثَمَّر الله مال فلان , أي: كثره. وروى الفراء بإسناده عن مجاهد قال: (ما كان في القرآن من ثُمُر فهو مال، وما كان من ثَمَر فهو من الثمار) (¬2). وقال ابن زيد: (الثُّمُر الأصل، والثَّمَرة ما يجتنى من ذي الثمر) (¬3). ويجمع ثَمَرَات مثل: رَقَبَة ورَقَبات، قال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ} [النحل: 67]، وثِمَار أيضًا مثل: رِقَاب في جمع رَقَبَة، ويجوز أن يُكسَّر ثَمَار على ثُمُر ككِتَاب وكُتُب، ويجوز في جمع ثَمَرَة وجهان آخران: ثَمَر مثل: بَقَرة وبَقَر، وثُمْر أيضًا كبَدَنة وبُدْن وخَشَبَة وخُشْب. فقراءة أبي عمرو بالتخفيف تحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون جمع ثِمَار، فخفِّف نحو كتُب في جمع (¬4) كِتَاب. الثاني: أن يكون جمع ثمرة مخفف نحو خُشْب جمع في (¬5) خَشَبَة. الثالث: أن يكون ثُمُر واحد مثل ثَمَر فخفف نحو (¬6) عَنُق وطُنُب. فعلى أي: هذه الوجوه كان، جاز إسكان العين (¬7) وساغ (¬8). وأما قراءة العامة بضمتين , فلأن أهل اللغة فرقوا بين الثُمر والثمَر ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 498. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 144. (¬3) "جامع البيان" 15/ 246، "النكت والعيون" 3/ 306، "البحر المحيط" 6/ 125. (¬4) قوله: (في جميع) ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ. (¬5) كلمة: (في) ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ. (¬6) كلمة: (نحو) ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ. (¬7) في (س): (العنق). (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 143.

فقالوا: الثَمَر المال، والثُمُر المأكول. وأكثر المفسرين على أن الثَمَر هاهنا: الأموال، وعلى قول ابن زيد الثُمُر: الأصول التي تحمل الثمرة لا نفس الثمرة. وهذه القراءة أقوى الوجوه لقوله: {فأصبحَ يُقلِّب كفَّيه عَلَى ما أَنْفَقَ فيها} أي: في الجهة، والنفقة إنما تكون على ذوات الثمر في أغلب العرف (¬1). وقال أبو إسحاق: (الثُمُر هاهنا أحسن؛ لأن قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} قد دل على الثَمَر) (¬2). وحكي عن أبي عمرو أنه قال: (الثَمَر والثُمُر أنواع المال) (¬3). وهو المراد في هذه الآية، لا الثمرة التي تُجنى، دل على هذا قوله: "وأحيط بثَمَره" أي: أهلك جنته وماله وأصول نخله وشجره، وإذا كان كذلك فمن قرأ: بثُمْره وثُمُره كان قوله أبين، وأما قراءة عاصم في قوله: "وكان له ثَمَر" يعني ثَمَر (¬4) نخله وكرمه، فليس بالجيد (¬5) , لأن هذا قد فُهم من قوله: {آتَتْ أُكُلَهَا} وفي قوله: "وأحيط بثمره" كأنه أخبر عن بعض ما أصيب وأمسك عن بعض، وقراءة الباقين في قوله: "وأحيط بثمرة" جيدة عامة في الثَمَرة والأصول , لأنه لا يكون أن يصاب الأصل ولا يصاب الثمرة. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 245 - 246، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 143. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 285. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 143، "البحر المحيط" 6/ 125، "التفسير الكبير" 21/ 125. (¬4) قوله: (ثمر) ساقط من الأصل. (¬5) قول المؤلف -غفر الله له-: (فليس بجيد). ليس بجيد، فإن أراد القراءة، فهي سبعية ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز ردها ولا تضعيفها. وإن أراد المعنى، فقد وافقت وجهًا صحيحًا من أوجه اللغة العربية.

34

وقال محمد بن سلام: (قال سلام أبو المنذر القارئ (¬1): من قرأ: "ثَمَر" قال: من كل المال، ومن قرأ: "ثُمُر" فهو جمع ثَمَره. فأخبرت بذلك يونس فقال: هما سواء) (¬2). وهذا على أنه جعل الثُمْر جمع ثَمَرة، كما ذكرنا في خَشَبَة وخُشب، والصحيح الفرق بين القراءتين على ما ذكرنا. والثمّر في جمع الثَّمَرة صحيح، غير أن الثُّمُر هاهنا الأولى أن يحمل على الأموال كما بينا (¬3). 34 - وقوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} قال ابن عباس: (يريد لأخيه) (¬4). {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: يراجعه في الكلام ويجاوبه. قال ابن عباس: (وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه؟ فقال: قدمته بين يدي لأقدم عليه) (¬5). فقال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} روى أبو عبيد عن أبي زيد: (النفر والرهط ما دون العشرة من الرجال) (¬6). ¬

_ (¬1) سلام بن سليمان المزني الضري أبو المنذر، المقرئ، عالم باللغة والنحو، والقراءات، من علماء خرسان، قرأ على عاصم الجحدري، وروى عن الحسن، ومطر الوراق، وثابت وغيرهم، وقرأ عليه يعقوب الحضرمي، وكان صدوق، صالح الحديث، توفي رحمه الله سنة 171 هـ انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 259، "تهذيب التهذيب" 4/ 284، "الكاشف" 1/ 413، "ميزان الاعتدال" 2/ 177، "غاية النهاية" 1/ 309، "معرفة القراء الكبار" 1/ 132. (¬2) "تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 498. (¬3) وعلى هذا قول أكثر المفسرين. انظر: "جامع البيان" 15/ 245، "إرشاد العقل السليم" 5/ 221، "الدر المصون" 7/ 80. (¬4) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 306 بدون نسبة. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 171، "المحرر الوجيز" 9/ 309، "النكت والعيون" 3/ 306. (¬6) "تهذيب اللغة" (نفر) 4/ 3627، "لسان العرب" (نفر) 8/ 4498.

وقال أبو العباس: (النفر، والقوم، والرهط هاهنا معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء) (¬1). وقال الليث: (يقال: هؤلاء عشرة نفر أي: عشرة رجال، ولا يقال: عشرون نفرًا, ولا ما فوق العشرة) (¬2). قال ابن عباس: (يريد كثرة العبيد وعزة فيهم) (¬3). وقال الزجاج: (أخبر أن ناصره كثير) (¬4). وقال قتادة في هذه الآية: تلك والله أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر، وهم الخدم والحشم) (¬5). مقاتل: (يعني ولدًا) (¬6). دليله قوله: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} وقال المفسرون: (يعني عشيرة ورهطًا) (¬7). ومنه قول امرئ القيس (¬8): ماله لا عدَّ من نفره أي: من رهطه وعشيرته. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (نفر) 4/ 3627، "لسان العرب" (نفر) 8/ 4498. (¬2) "تهذيب اللغة" (نفر) 4/ 3627. (¬3) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 246، "المحرر الوجيز" 9/ 309، "زاد المسير" 5/ 142، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 403. (¬4):معاني القرآن" للزجاج 3/ 285. (¬5) "جامع البيان" 15/ 246، "معالم التنزيل" 5/ 171، "ابن كثير" 3/ 93. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "البغوي" 5/ 171، "روح المعاني" 15/ 275. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 171، "البحر المحيط" 6/ 125، "روح المعاني" 15/ 275، "التفسير الكبير" 21/ 125. (¬8) هذا عجز بيت لامرئ القيس يصف رجلاً بجودة الرمي. وصدره: فهو لا تنمي رميتة لا عد من نفره: دعاء له يوهم الدعاء عليه وهو كقولهم: ماله قاتله الله. انظر: "ديوان امرئ القيس" ص 76، "لسان العرب" (نفر) 8/ 4499.

35

35 - قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [قال المفسرون: (أخذ بيد أخيه المسلم فأدخله جنته] (¬1) يطوف به فيها، ويريه إياها ويعجبه منها) (¬2). وقوله تعالى: {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال ابن عباس: (يعني خارجًا عن الإيمان إلى الكفر بالله) (¬3). قال الزجاج: (وكل من كفر بالله فنفسه ظلم , لأنه يولجها النار، وأي ظلم للنفس فوق هذا) (¬4). وقوله تعالى: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} أنكر أن الله تعالى يفني الدنيا، لما رأى ما راقه وكبر في نفسه، وتوهم بجهله أنه يدوم، وأن مثله لا يبيد ولا يفنى. 36 - قوله تعالى: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} قال ابن عباس: (أنكر البعث والثواب والعقاب) (¬5). وقال أبو إسحاق: (أخبر أخاه بكفره بالساعة، وبكفره بفناء الدنيا) (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 171، "الكشاف" 2/ 390، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 404. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 246، "المحرر الوجيز" 9/ 310، "معالم التنزيل" 5/ 171، "الكشاف" 2/ 484، "زاد المسير" 5/ 142. ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة لقمان الآية رقم (13): {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 285. (¬5) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 246، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 463، "المحرر الوجيز" 9/ 312 - 313، "معالم التنزيل" 5/ 171، "زاد المسير" 5/ 142 - 143. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 285.

37

وقوله تعالى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} الآية، قال ابن عباس: (يريد إن كان البعث حقًا) (¬1) {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} يريد: كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني في الآخرة أفضل منه لكرامتي عليه (¬2). وقال أهل المعاني: (هذا يدل على أن صاحبه المؤمن قد أعلمه أن الساعة تقوم، وأنه يبعث، فأجابه بأن قاله له: إن كان الأمر على ما أعلمتني أني أبعث، ليعطيني في الآخرة خيرًا مما أعطاني في الدنيا؛ لأنه لم يعطني هذا في الدنيا إلا وهو يريدني) (¬3). وقال ابن زيد: (شك، ثم قال على شكه في الرجوع إلى ربه: ما أعطاني هذا إلا ولي عنده خير منه) (¬4). تهكما سولته له نفسه. واختلفوا في قوله: {مِنْهَا} فقرؤا بالإفراد والتثنية (¬5). والإفراد أولى من حيث كان أقرب إلى الجنة المفردة في قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ}، والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين. 37 - فأجابه صاحبه مكفرًا له بهذا القول فقال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 404 بلا نسبة. (¬2) وما تضمنته هذه الآية من جهل الكفار واغترارهم بالحياة الدنيا جاء مبينًا في آيات أخر ومنها في سورة فصلت الآية رقم (50): {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 172، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 286. (¬4) "جامع البيان" 247/ 15. (¬5) قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (خيرًا منها) بالإفراد. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر. (خيرًا منهما) بالتثنية. انظر: "السبعة" ص 390، "الحجة" 5/ 144، "المبسوط في القراءات" 234، "التبصرة" ص 248، "العنوان" ص 123.

38

مِنْ تُرَابٍ} قال ابن عباس: (يريد أن آدم خلق من تراب) (¬1). ثم ولده من نطفة، وإذا كان أبوه من تراب فهو من تراب، ومعنى النطفة في اللغة: الماء، يقال: في القربة نطفة من ماء (¬2). ولا فعل للنطفة. قال الأزهري: (والعرب تقول للماء القليل والكثير: نطفة) (¬3). وسمى الله عز وجل المني نطفة قال: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]. وقوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} قال الكلبي: (جعلك معتد الخلق والقامة, صحيح اليدين، والرجلين، والعينين) (¬4). والتسوية: جعل الشيء على المقدار. وقال الزجاج: (أي: ثم أكملك) (¬5). وهذا الجيد في تفسير سواك هاهنا, لأن العرب تقول للغلام إذا تم شبابه: قد استوى، ومنه قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] أي: تم شبابه واجتمع، فالتسوية هاهنا: واقع الاستواء بالمعنى الذي ذكرنا، يقال: سواه الله رجلاً فاستوى. 38 - ثم أعلمه صاحبه أنه موحد لله فقال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في "جامع البيان" 15/ 247 بدون نسبة، و"المحرر الوجيز" 9/ 311، "روح المعاني" 15/ 276. ويشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (نطف) 4/ 360، "مقاييس اللغة" (نطف) 5/ 440، "الصحاح" (نطف) 4/ 1434، "لسان العرب" (نطف) 7/ 4462. (¬3) "تهذيب اللغة" (نطف) 4/ 3601. (¬4) ذكرت نحوه كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "إرشاد العقل السليم" 5/ 222، "البحر المحيط" 6/ 127، "روح البيان" 5/ 247، "فتح القدير" 3/ 409. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 286.

وأصله: لكن أنا، كما هو في قراءة أُبي (¬1)، فخفف الهمزة التخفيف القياسي، وألقى حركتها على النون فصار لكننا، فاجتمع المثلان، فأدغموا المثل الأول في الثاني بعد أن أسكنوها، فصار في الدرج: لكنا هو الله، فلم تثبت ألف أنا في الوصل، كما لم تثبت الهاء في الوصل في نحو: إِرْمه، وأُغزه، و (كِتَابِيهْ) [الحاقة: 19]، و (حِسَابِيهْ) [الحاقة: 20]؛ لأنها إنما تلحق في الوقف لتبين (¬2) الحرف الموقوف عليه، فإذا وقف على {لَكِنَّا} أثبت الألف في الوقف، كما تثبت الهاء في الوصل، وإذا لم يقف حذفها، هذا وجه قراءة العامة (¬3). ومثل هذه القراءة في الإدغام ما حكاه أبو زيد في قول من سمعه يقرأ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] (يريد: على الأرض، لكنه خفف الهمزة، وألقى حركتها على لام المعرفة فصار: (على الرض)، فاجتمع لامان مثلان فأدغم الأول في الثاني) (¬4). وهذا كله في إجراء المنفصل مجرى المتصل في نحو: شدَّ، وحلَّ. وقرأ ابن عامر، ونافع في رواية المسيبي (¬5): {لَكِنَّا} بإثبات الألف ¬

_ (¬1) "المحتسب" 2/ 29، "المحرر الوجيز" 311/ 9 - 313، "البحر المحيط" 6/ 128، "الدر المصون" 7/ 493. (¬2) في الأصل: (ليس) وهو تصحيف. (¬3) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (لكنا هو الله) بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 145، "العنوان في القراءات" ص 307، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 61، "النشر في القراءات العشر" 2/ 311. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 145. (¬5) هو: إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن المسيبي، عالم بالقراءات، تقدمت ترجمته.

في الوصل والوقف (¬1). وهذا على إجراء الوصل مجرى الوقف. وهو غير مختار في القراءة. فتكون كقراءة حمزة: (ومكر السيئ) بالجزم في الوصل (¬2). غير أن أبا علي الفارسي ذكر وجهًا جيدًا لهذه القراءة، فجعل النون والألف في {لَكِنَّا} الضمير المتصل في نحو: فعلنا, ولم يجعله الضمير المنفصل وهو: أنا، كما ذكرنا في القراءة الأولى فقال: (أدغم النون من لكن لسكونها في النون من علامة الضمير، فيكون على هذا في الوصل والوقف {لَكِنَّا} بإثبات الألف لا غير، ألا ترى أن أحدًا لا يحذف الألف في: نحن فعلنا. وعاد الضمير الذي دخلت عليه لكن على المعنى، ولو عاد على اللفظ لكان: لكنا هو الله ربنا) (¬3). وقال أبو إسحاق في توجيه هذه القراءة: (أثبت الألف في الوصل، كما كان يثبتها في الوقف، وهذا على لغة (¬4) من قال: أنا قمت، فأثبت الألف، قال الشاعر (¬5): ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر الشامي، ونافع المدني في رواية المسيبي: (لكنا هو الله) بإثبات الألف في الوصل والوقف. انظر: "السبعة" ص 391، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 145، "الغاية" ص 307، "التبصرة" ص 249. (¬2) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر، والكسائي، وعاصم: (ومكر السيئ) بكسر الهمزة. وقرأ حمزة: (ومكر السيئ) ساكنة الهمزة انظر: "السبعة" ص 535، " الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 212، "المبسوط في القراءات" ص 309، "النشر في القراءات" 3/ 352. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 146، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 275 - 276. (¬4) في الأصل: (لون) وهو تصحيف. (¬5) البيت لحميد بن ثور. قد تذريت السنا: أي علوت ذروته، وبلغت غاية المجد. والشاهد فيه. ثبوت ألف أنا في الوصل. انظر: "ديوانه" ص 133، "أساس =

أنَا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذريت السناما ثم قال: فأما: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} فهو الجيد بإثبات الألف؛ لأن الهمزة قد حذفت من أنا فصار إثبات الألف عوضًا من الهمزة) (¬1). فاختار قراءة ابن عامر على قراءة عامة القراء (¬2). ورد ذلك عليه أبو علي فيما استدرك عليه فقال: (لا أرى ما قاله كما قال , وذلك أن هذه الألف تلحق للوقوف، ولا يسوغ أن تلحق في الوصل، ألا ترى أن الهمزة في: ذيل أمه قد حذفت حذفًا على غير الحذف الذي توجه قياس التخفيف، ولم يعوض منها، فأن لا يعوض منها في التخفيف القياسي أجدر؛ لأنها في هذا الوجه في تقدير الثبات، ولولا ذلك لم يحرك حرف اللين، كقولهم: جيل في تخفيف جيال، فلما كانت في تقدير الثبات لم يلزم منها بدل. ومما يؤكد أن العوض لا يجب أن (أنا) علامة ضمير، وعلامات الضمير لا ينكر كونها على حرف أو حرفين، بل ذلك الأغلب من أحوالها والأكثر، وأيضًا فلو جاز أن تثبت الألف التي حكمها أن تلحق في الوقف دون الوصل للحذف اللاحق للحرف، للزم أن تثبت الهاء التي تلحق في الوقف [أيضًا إذا لحق كلمة محذوفة منها نحو: عه، وشه، وارمه، ¬

_ = البلاغة" 1/ 298، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 287، "الحجة للقراء السبعة" 15/ 46، "شرح المفصل" 3/ 93، "المنصف" 1/ 10، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 957. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 286. (¬2) قال الزجاج في "معانيه" 3/ 288: والأجود إتباع القراء، ولزوم الرواية, فإن القراءة سنة، وكلما كثرت الرواية في الحرف وكثرت به القراءة فهو المتبع، وما جاز في العربية ولم يقرأ به قارئ فلا تقرأن به فإن القراءة به بدعة، وكل ما قلت فيه الرواية وضعف عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ ولا ينبغي أن تقرأ به.

39

واغزه، فتثبت] (¬1) في هذا الضرب ليكون عوضًا من المحذوف من الكلمة، فإذا لم يجز هذا أحدًا فالأول كذلك لا فصل) (¬2). وقوله تعالى: {هُوَ} من {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ضمير علامة الحديث والقصة، كما أنه قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97] وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] كذلك، ويسمى هذا الضمير على شريطة التفسير، وقد مضت هذه المسألة مشروحة عند قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} [يوسف: 77]. وهذا الضمير يدخل على المبتدأ والخبر، فيصير المبتدأ والخبر في موضع خبره. وقوله تعالى: {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} قال أبو إسحاق: (دل خطابه على أن صاحب الجنتين مشرك عابد مع الله غيره) (¬3). وهذا من أبي إسحاق قول بمفهوم الخطاب. 39 - ثم أقبل على أخيه يلومه فقال: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} بمعنى: هلا، وتأويله التوبيخ. {قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} ذكر الفراء والزجاج في {مَا} وجهين: أحدهما: أنه في موضع رفع على معنى: الأمر ما شاء الله، أو: هو ما شاء الله. والمعنى: أن الأمر بمشيئة الله، وفي هذا رد على الأخ الكافر، حيث قال حين دخل جنته: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} فرد عليه الأخ المؤمن وقال: هلا قلت حين دخلتها: الأمر بمشيئة الله وما شاء الله كان. الوجه الثاني: أن {مَا} في موضع نصب بـ (شاء) على معنى الشرط ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ. (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 959. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 286.

والجزاء، ويكون الجواب مضمرًا على تقدير: ما شاء الله كان. ويكون التأويل: أي شيء شاء الله كان، فطرحت كان وأضمرته، وجاز طرح الجواب كما قال: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا} [الأنعام: 35] الآية. ليس له جواب , لأن معناه معروف (¬1). وقوله تعالى: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} قال أبو إسحاق: (أي لا يقوى أحد على ما في يديه من ملك ونعمة إلا بالله، ولا يكون له إلا ما شاء الله) (¬2). قال ابن عباس: (ثم رجع إلى نفسه) (¬3). فقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا}. قال الفراء: ({أَنَا} إذا نصبت {أَقَلَّ} عماد، وإذا رفعت {أَقَلَّ} فهي اسم، والقراءة بهما جائزة) (¬4)، هذا كلامه (¬5). وقال أبو إسحاق بيانًا فقال: ({أَنَا} يصلح لشيئين: إن شئت كانت توكيدًا للنون والياء، وإن شئت كانت فصلاً، كما تقول: كنت أنت القائم) (¬6). و {أَقَلَّ} هو منصوب مفعول ثان لترن، ويجوز رفعه على أن يكون {أَنَا} ابتداء، و {أَقَلَّ} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني لترن) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 45، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 288. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 290. (¬3) ذكر نحوه السمرقندي بلا نسبة في "بحر العلوم" 2/ 300، والرازي 21/ 127. (¬4) قراءة النصب للجمهور. وقراءة الرفع لعيسى بن دينار، وهي قراءة شاذة لا يقرأ بها. انظر: "الكشاف" 2/ 391، "البحر المحيط" 6/ 129، "الدر المصون" 7/ 496. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 145. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 288. (¬7) "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 499، "مشكل إعراب القرآن" 2/ 442، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 276 - 277.

40

40 - قوله تعالى: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ} قال ابن عباس: (يريد في الآخرة) (¬1). قال الزجاج: (وجائز أن يكون أراد في الدنيا) (¬2). {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} قال ابن عباس في رواية عطاء: (نارًا من السماء) (¬3). وهو قول الكلبي (¬4). وقال قتادة والضحاك: (عذابًا) (¬5). وقال ابن زيد: (قضاء من أمر الله يقضيه) (¬6). هذا كلام المفسرين في تفسير الحسبان، [وذلك كله معنى، وليس بتفسير. وتفسيره ما ذكره أهل اللغة، قال الأخفش: (الحُسْبَان)] (¬7) المرامي، واحدتها حُسْبَانة) (¬8). وقال ابن الأعرابي مما روى عنه ثعلب من رواية أبي عمرو: (أراد بالحسبان المرامي، قال: والحُسْبَانة: السحابة، والحُسْبَانة: الصاعقة) (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 315 بلا نسبة، والماوردي في "النكت والعيون" 3/ 307. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 290. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 173، "النكت والعيون" 3/ 307، "الدر المنثور" 4/ 406. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 300، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 94، "الدر المنثور" 4/ 406، "البحر المحيط" 6/ 129. (¬5) "جامع البيان" 15/ 249، "معالم التنزيل" 5/ 173، "النكت والعيون" 3/ 307، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 94. (¬6) "جامع البيان" 249/ 15، "الكشف والبيان" 389/ 3/ ب، "البحر المحيط" 6/ 129. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬8) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 498، "تهذيب اللغة" (حسب) 1/ 811. (¬9) "تهذيب اللغة" (حسب) 1/ 811، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 408.

وقال النضر: (الحُسْبَانُ: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة ينزع القوس ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فلا تمر بشيء إلا عقرته من صاحب سلاح وغيره، فإذا نزع في القصبة خرجت الحُسْبَان كأنها غيثة مطر، فتفرقت في الناس، واحدها حُسْبَانَة، قال: والمرامي مثل المسالِّ دقيقة فيها شيء من طُول لا حُروف لها) (¬1). ونحو هذا قال أبو عبيدة، وابن قتيبة، وكل أهل اللغة (¬2). والمعنى في هذه الآية: أن يرسل عليها عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك (¬3). فجعل الآية من باب حذف المضاف، وجعل الحسبان بمعنى حساب ذنوبه، قال الأزهري: (الذي قاله الزجاج بعيد، والقول ما قاله الأخفش وابن الأعرابي والنضر. والمعنى والله أعلم: أن الله يرسل عليها مرامي من عذابه، إما بَرَدا، وإما حِجَارة أو غيرهما مما يشاء) (¬4). وقول المفسرين يوافق قول أهل اللغة, لأن ما قالوه لا يخرج عن أن يكون مرامي. وقال أهل المعاني: (إنما سُمِّي المرامي حُسبَانا, لأنها تكثر كثرة الحسبان) (¬5). وذكرنا الحسبان بمعنى الحساب في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96]. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (حسب) 1/ 811، "لسان العرب" (حسب) 2/ 867. (¬2) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 267، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 403، "تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 143. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 295، "القرطبي" 15/ 458، "البحر المحيط" 6/ 129. (¬4) "تهذيب اللغة" (حسب) 1/ 811. (¬5) "تهذيب اللغة" (حسب) 1/ 811، "لسان العرب" (حسب) 2/ 867.

وقوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} قال ابن عباس: (أرضا لا نبات فيها). وهو قول الكلبي وغيره (¬1). والزَّلق في اللغة: المكان المزلقة، ومنه قول الشاعر (¬2): فمن علا زلقا عن غرة زلقا والذي في الآية ليس من هذا؛ لأنه ليس أنها تفسير مزلقة، ولكن معناه: أنها تفسير جرداء لا نبات بها، من قولهم: زَلَقَ رأسه، وأَزْلَقه، وزَلَقه إذا حلقه، والزَّلْق: الحَلْق، والزَّلق: المحلوق، كالنَّقْض والنَّقَض فشبه الصعيد الذي لا نبات فيه بالرأس المحلوق (¬3). قال الفراء: (الزَّلَق التراب الذي لا نبات فيه) (¬4). وقال قتادة: وفي قوله: {صَعِيدًا زَلَقًا} يقول: (قد حصد ما فيها فلم يُتْرَك فيها شيءٌ) (¬5). وذهب ابن قتيبة إلى الإملاس فقال: (الزَّلق: الإملاس الذي تزل عليه الأقدام) (¬6). وهذا الذي ذكره هو الأصل، من أن المراد: ذهاب النبات لا الإملاس. والمعنى: أن هذا العذاب يهلكها ويبطل غلتها. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 249، "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 94، "الدر المنثور" 4/ 407. (¬2) هذا عجز بيت لابن يسير. وصدره: اقدر لرجلك قبل الخطو منزلها انظر: "الكامل في اللغة" للمبرد 4/ 127. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (زلق) 2/ 1550، "مقاييس اللغة" (زلق) 3/ 21، "القاموس المحيط" (زلق) ص 891، "الصحاح" (زلق) 4/ 1491. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 145. (¬5) "جامع البيان" 15/ 249، "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "الدر المنثور" 4/ 407. (¬6) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 267.

41

41 - قوله تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} قال ابن عباس: (يعني النهر الذي من خلالها) (¬1) (¬2). {غَوْرًا} يقال: غَارَ الماء في الأرض، يَغُور غَورًا، أو غوورًا إذا ذهب، وغَارَت العين في الرأس فهي غائرة (¬3). وفي قوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} وجهان أحدهما: ذا غور فحذف المضاف (¬4). والثاني: وهو قول جميع أهل المعاني: أن الغور هاهنا بمعنى: الغائر أقيم المصدر مقام الصفة للمبالغة، كما يقال: وجه فلان نور ساطع، وعلى هذا يقال: ماء غَوْرٌ، ومياه غُورٌ، كما يقال: رجل عدل (¬5). قال الشاعر (¬6): ¬

_ (¬1) في نسخة (ص): (في جلالها)، وهو تصحيف. (¬2) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 307، "البحر المحيط" 6/ 129، "فتح القدير" 3/ 2620. (¬3) "تهذيب اللغة" (غار) 8/ 184، "القاموس المحيط" (الغور) 452، "الصحاح" (غور) 2/ 774، "لسان العرب" (غور) 6/ 3312. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 409، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 277. (¬5) "جامع البيان" 15/ 249، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 409، "البحر المحيط" 6/ 129، "إرشاد العقل السليم" 5/ 223، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 290، "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 267. (¬6) هذا جزء من عجز بيت ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. والبيت: هريقي من دموعهما سجاما ... ضياع وجاؤوني نوحا قياما انظر: "جامع البيان" 15/ 249، "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 409. وذكره ابن منظور في "لسان العرب" (نوح) 8/ 4570 برواية أخرى ونسبها لثعلب فقال: سمعن بموته فظهرن نوحا ... قياما ما يحل لهن عود

42

وجاؤوني نوحًا قيامًا يريد (¬1): نساء نائحات قائمات، فوصفهن بالمصدر. وقال قتادة في قوله: {غَوْرًا} يقول: (ذاهبا قد غار في الأرض) (¬2). وقوله تعالى: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي: لا يبقى له أثر يطلبه به. وقال الكلبي: (لن تستطيع له حيلة) (¬3). 42 - قوله تعالى {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} معنى "أحيط" هاهنا: أهلك, أى أحاط العذاب بثمره، كما يحيط القوم بعدوهم فيهلكونهم عن آخرهم (¬4). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة:81]. وقوله تعالى: {بِثَمَرِهِ} قال ابن عباس: (بأشجار الثمر والنخل) (¬5). وذكرنا الكلام واختلاف القراء في هذا عند قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34]. وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} قال ابن عباس: (يضرب يديه واحدة على الأخرى ندامة) (¬6). وقال الكلبي: (يصفق بالواحدة على ¬

_ (¬1) في (س): (يعني). (¬2) "جامع البيان" 15/ 250، وذكر نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 389 ب. (¬3) ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 300 بلا نسبة، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 409. (¬4) "جامع البيان" 15/ 250، "معالم التنزيل" 5/ 173، "الكشاف" 2/ 391، "البحر المحيط" 6/ 130. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 409، "التفسير الكبير" 21/ 109. (¬6) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 389/ 3/ ب، "بحر العلوم" 2/ 300، "معالم التنزيل" 5/ 173.

الأخرى ندما) (¬1). وقال أبو عبيدة، والزجاج، والمفضل، وابن قتيبة: (يقال: فلان يقلب كفيه على ما فاته، وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرًا، والعرب تقول للرجل إذا ندم على الشيء وجعل يفكر فيه: يقلب يديه وكفيه؛ لأن ذلك يكثر من فعله. فصار تقليب الكف عبارة عن الندم كعض اليد) (¬2). قال الشاعر (¬3): كمغبون يعض على يديه ... يُقلب كفَّه بعد السباع وقوله تعالى: {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} يقال: أنفقت في هذه الدار، وفي هذا الثوب كذا وكذا، وأنفقت عليها أيضًا، فيجوز أن يكون هاهنا بمعنى: على، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. وقوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ومضى الكلام في هذا مستقصى في سورة البقرة (¬4). والعروش في هذه الآية تعم سقوف الأبنية، وما عُرِش للكروم. يريد: أنها ساقطة على سقوفها خالية من عريشها (¬5). وقوله تعالى: {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} تمنى منه حين لا ينفعه التمني. أخبر الله تعالى أنه سلبه ما أنعم عليه في الدنيا، فندم حين لم ينفعه الندامة، وتمنى أنه كان موحدًا غير مشرك. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 250، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 93، ونسباه لقتادة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 289/ 3، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 268، "تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 144. (¬3) لم أهتد إلى قائله. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة البقرة: 259: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} الآية. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 173، "المحرر الوجيز" 9/ 316، "الكشاف" 2/ 391.

43

43 - قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال ابن عباس: (لم ينصره النفر الذين افتخر بهم في قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا}) (¬1). قال الفراء والزجاج: ({يَنْصُرُونَهُ} محمول على معنى الفئة، ولو حمل على لفظها لقيل: تنصره، كما قال: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} [آل عمران: 13]) (¬2). {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} بأن يسترد بدل ما ذهب منه. قال الزجاج: (وما كان هو أيضًا قادر على نصرة نفسه) (¬3). وقال قتادة: (وما كان ممتنعًا) (¬4). وقد تمت هاهنا قصة الأخوين، وضربت مثلاً للمؤمن مع الكافر، فالكافر تغره دنياه ويتبجح بها ويظن أنها تبقى له، والمؤمن يصبر على نوائبها احتسابًا من الله تعالى جميل الأجر وجزيل الذخر، ولا يركن إليها لما يعلم من فنائها. وقبل ذكر قصة الأخوين ذكر الله تعالى ما أعد للكافرين في قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] إلى آخر الآية، وما أعد للمؤمنين في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 30 - 31] الآيتان. 44 - ثم عاد الكلام إلى ما قبل القصة فقال: {هُنَالِكَ} قال الكلبي: (يقول عند ذلك، وهو يوم القيامة) (¬5). ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 250 - 251، "بحر العلوم" 2/ 300، "الجامع لأحكلام القرآن" 10/ 410، "إرشاد العقل السليم" 5/ 224، "روح المعاني" 15/ 284. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 145، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 289. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 289. (¬4) "جامع البيان" 15/ 251، "النكت والعيون" 3/ 308، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 410، "الدر المنثور" 4/ 407. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 309، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 300 بدون نسبة، وكذلك القرطبي 10/ 411.

وذكرنا عند (¬1) قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] أنه يجوز أن يشار بهنالك إلى المكان، وإلى ما مضى من الزمان. وقوله تعالى: {الْوَلَايَةُ} أكثر القراء على فتح الواو (¬2)، والولاية: نقيض العداوة، ومعناها التولي، وهو مصدر الوَلِيِّ (¬3). وروي عن أبي عمرو، والأصمعي أنهما قالا: (الولاية بالكسر هاهنا لحن (¬4)، والكسر في فعالة يجيء فيما كان صنعة نحو: الخياطة والصناعة (¬5)، أو معنى متقلدًا كالكتابة والإمارة والخلافة، وليس هنا معنى تولي أمر، إنما (¬6) الولاية من الدين) (¬7). وكذلك التي في الأنفال: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72]. وأما ولاية الأمور فهو بالكسر، كولاية السلطان، ومن أهل اللغة من يقول: يجوز الفتح في هذه، والكسر في تلك. كما قالوا: الوِكالة ¬

_ (¬1) قوله: (عند) ساقط من الأصل. (¬2) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم، وأبو عمر: (الولاية) بفتح الواو. وقرأ حمزة، والكسائي: (الولاية) بكسر الواو. انظر: "السبعة" ص 392) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 149، "التبصرة" ص 248، "العنوان" ص 123. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (ولى) 4/ 3955، "مقاييس اللغة" (ولى) 6/ 141، "لسان العرب" (ولى) 8/ 4920. (¬4) قولهما: (أن الكسر هنا لحن). قول لا يعول عليه , لأنه مخالف لقراءة سبعية ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقراءة الثابتة حجة على اللغة، فلا يجوز ردها أو تضعيفها، كما أن الفتح والكسر هنا جائز عند أكثر أهل اللغة. (¬5) في (ص): (الصياغة). (¬6) في (س): (إنما هو الولاية). (¬7) "المحرر الوجيز" 9/ 318، "البحر المحيط" 6/ 130، "الدر المصون" 7/ 499، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 149.

والوَكالة، والوصاية والوصاية بمعنى واحد (¬1). وقوله تعالى: {لِلَّهِ الْحَقِّ} من كسر القاف جعله من وصف الله سبحانه، ووصفه بالحق وهو مصدر كوصفه بالعدل وبالسلام (¬2). والمعنى: أنه ذو الحق وذو السلام. وكذلك الإله معناه ذو العبادة، ويدل على صحة هذه القراءة: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]، ويصدقه قراءة عبد الله: (هنالك الولاية لله وهو الحق) (¬3). وقرأ أبو عمرو والكسائي: {للهِ الحقُّ} بضم القاف (¬4). جعلا الحق من صفة الولاية، وحجتهما قراءة أبي: (هنالك الولاية الحقّ لله) (¬5). ومعنى وصف الولاية بالحق: أنه لا يشوبها غيره، ولا يخاف فيها ما يخاف في سائر الولايات من غير الحق. وأما معنى الآية فقال أبو إسحاق: (في تلك الحال بيانُ الولاية لله أي: عند ذلك يتبين وليُّ الله بتولي الله إياه) (¬6). قوله: (في تلك الحال) ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 150، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 399، "الدر المصون" 7/ 498. (¬2) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: (لله الحقِّ) بالكسر. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 149، "الغاية في القراءات العشر" ص 307، " التبصرة" ص 249، "النشر" 2/ 311. (¬3) انظر كتاب قراءة عبد الله بن مسعود ص 124. (¬4) قرأ أبو عمرو البصري، والكسائي: (لله الحقُّ) بالضم. انظر: "السبعة" ص 392، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 149، "المبسوط في القراءات" 235، "حجة القراءات" 418. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 173، "روح المعاني" 15/ 285، "البحر المحيط" 6/ 131. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 289.

يعني: في حال مجازاة الله الكافر والمؤمن الولاية لله، على معنى: هنالك يتبين ذلك على ما ذكر. وقال ابن قتيبة: (يريد يومئذ يتولون الله ويؤمنون به، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون) (¬1). وهذا أظهر من قول الزجاج. وذهب غيرهما في معنى الولاية في هذه الآية: إلى تولي الأمر، لا إلى معنى الموالاة، فقال: (معنى الآية: في ذلك الموطن الذي هو موطن الجزاء لا يتمكن أحد من نصرة أحد، بل الله تعالى يتولى ذلك، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين، لا يملك ذلك أحد من العباد، فالولاية يومئذ تخلص له كما قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] (¬2). وقوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} يقول: هو أفضل ثوابًا يقول: هو أفضل ثوابًا ممن يرجى ثوابه. قال أهل المعاني: (قوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} مع أنه لا يثبت إلا هو، على تقدير: لو كان يثبت غيره لكان هو خير ثوابًا) (¬3). وقيل: (هذا على ادعاء الجهال والكفار أنه قد يثبت غير الله) (¬4). {وَخَيْرٌ عُقْبًا} وعُقُبَا (¬5). وهما لغتان في العاقبة يقال: عُقْب، وعُقُب، وعَاقِبَة وعُقْبى، والعقب لا يكون لله تعالى كما يكون الثواب له. ولا يجوز ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" 1/ 268. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 173، "النكت والعيون" 3/ 309، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 411، "التفسير الكبير" 21/ 129. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 411. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 411. (¬5) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: (عُقُبا) مضمومة القاف. وقرأ عاصم، وحمزة: (عُقْبا) ساكنة القاف. انظر: "السبعة" ص 392، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 150، "التبصرة" ص 249، "العنوان" ص 123، "حجة القراءات" ص 419.

45

أن يضاف العاقبة إلى الله تعالى أو يوصف بالعاقبة، وإنما المعنى عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره، فهو خير عقب طاعة وإثابة ونصرة وما يكون من هذا المعنى، ثم حذف المضاف إليه (¬1). {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. 45 - قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال ابن عباس: (يريد لقومك) (¬2). وقوله تعالى: {كَمَاءٍ} الكاف في محل الرفع لخبر ابتداء محذوف، أي: هو كماء يعني: مثل الحياة الدنيا (¬3). {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} يعني: المطر (¬4). {فَاخْتَلَطَ} فالتف واجتمع به، بذلك الماء أي: بسببه؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالماء (¬5). وقال أبو إسحاق: (تأويله أنه نجع في النبات حتى خالطه، فأخذ النبات زخرفه) (¬6). يريد: أن النبات شرب من ذلك الماء فبدأ فيه الري والنضارة، فعلى هذا الوجه قد اختلط النبات بالماء حيث يروى به. وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ} أي: النبات {هَشِيمًا} معنى الهَشْم في اللغة: الكسر، والهَاشِم: الذي يَهْشِم الخبز ويكسره في الثريد، وبه سمي ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" 1/ 268، "مجاز القرآن" 1/ 405، "القرطبي" 1/ 411. (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 174 بدون نسبة، وكذلك القرطبي 10/ 411. (¬3) "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 400 "المحرر الوجيز" 9/ 319، "الدر المصون" 7/ 500. (¬4) "جامع البيان" 15/ 264، "معالم التنزيل" 5/ 174. (¬5) "المحرر الوجيز" 9/ 319، "النكت والعيون" 3/ 309، "القرطبي" 10/ 412. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 291.

هَاشِم، والهَشِيم: ما تَكَسَّر وتَهَشَّم وتَحَطَّم من يَبَسِ النبات (¬1). وقال المفسرون في الهشيم: (أنه الكسير المتفتت) (¬2). وقوله تعالى: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} الذَّرُّ حمل الريح الشيء ثم تثيره، يقال: ذَرَتْه الريح، تَذْرُوه، وتَذْرِيه، وبه قرأ عبد الله: (تَذْرِيه الرياح) (¬3). وتَذْرُوة، وتَذْرِية وتُذْرِية لغات أربع (¬4). قال المفسرون: (تَرْفعه وتُفْرقه وتنسفه) (¬5). وهذه الآية مختصرة من قوله في سورة يونس: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] الآية. وقد شرحناها هناك. قال أبو إسحاق: (أعلم الله أن الحياة الدنيا زائلة، وأن مثلها هذا المثل) (¬6). وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرً} أي: على كل شيء من الإنشاء والإفناء قادرًا، أنشأ النبات ولم يكن، ثم أفناه. قال الحسن: (كان الله على كل شيء مقتدرًا أن يكونه قبل كونه) (¬7). قال الزجاج وهو مذهب ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (هشم) 4/ 3763، "مقاييس اللغة" (هشم) 6/ 53، "القاموس المحيط" (هشم) 1170،"الصحاح" (هشم) 4/ 2058. (¬2) "جامع البيان" 15/ 252، "معالم التنزيل" 5/ 174، "المحرر الوجيز" 9/ 325، "النكت والعيون" 3/ 309. (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 320، "الكشاف" 2/ 392، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 413، "البحر المحيط" 6/ 133. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ذرا) 2/ 1272، "لسان العرب" (ذرا) 3/ 1491. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 174، "المحرر الوجيز" 320/ 9، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 95، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 413. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 291. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 291.

46

النحويين في هذا: (أن معناه كان مقتدرًا لم يزل) (¬1). أي: ما شاهدتم من قدرته ليس بحادث عنده. وهذا مما سبق بيانه قديمًا. {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]. 46 - قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال المفسرون: (هذا رد على عيينة بن حصين، والأقرع والرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء. أخبر الله تعالى أن ذلك مما يُتَزيَّن به في الحياة الدنيا ويُتَجمل به، لا مما ينفع في الآخرة) (¬2). {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} يعني: ما يأتي به سلمان، وصهيب، وفقراء المسلمين (¬3). واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات، فقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (هي الصلوات الخمس) (¬4). وهو قول مسروق، وإبراهيم، ومحمد بن كعب (¬5). وقال في رواية عطاء: (يريد سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (¬6). وهذا قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك (¬7). وروي ذلك مرفوعًا: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمَّي هذه الأذكار الباقيات الصالحات ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 291. (¬2) "جامع البيان" 15/ 253. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 414، "التفسير الكبير" 21/ 131. (¬4) "جامع البيان" 15/ 254، "معالم التنزيل" 5/ 175، "المحرر الوجيز" 9/ 322، "النكت والعيون" 3/ 310. (¬5) المذكور في الطبرى وابن كثير خلاف هذا انظر: 15/ 255، وابن كثير 3/ 96. (¬6) "جامع البيان" 15/ 254، "معالم التنزيل" 5/ 174، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 96. (¬7) "جامع البيان" 15/ 256، "معالم التنزيل" 5/ 174، "بحر العلوم" 2/ 301، "الكشف والبيان" 3/ 389 ب.

فقال: "وهي الباقيات الصالحات") (¬1). روى ذلك أنس، وأبو هريرة، والخدري -رضي الله عنهم-. وزاد عثمان، وابن عمر، وسعيد بن المسيب: (لا حول ولا قوة إلا بالله، مع هذه الأذكار في تفسير الباقيات الصالحات) (¬2). وقال فى رواية العوفي: (هي الكلام الطيب) (¬3). وهذا أيضًا راجع إلى ذكر الله؛ لأنه الكلام الطيب. وقال في رواية الوالبي: (هي الأعمال الصالحات وجميع الحسنات) (¬4). وهو قول قتادة قال: (هي كل ما أريد به وجه الله) (¬5). واختاره الزجاج فقال: (هي كل عمل صالح يبقى ثوابه) (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" كتاب: القرآن، باب: ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى 1/ 210، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 268، والهيثمي في "مجمع الزوائد" كتاب: الصلاة، باب: فضل الصلاة وحقنها للدم 1/ 297، وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، ورجاله ورجال الصحيح، غير الحارث بن عبد الله مولى عثمان وهو ثقة. وابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب: التفسير سورة الكهف 2/ 220، والطبراني في "الصغير" 1/ 145، وابن عدي في "الكامل" 6/ 2585، والطبري في "تفسيره" 15/ 255، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 408. (¬2) "جامع البيان" 15/ 255، "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "النكت والعيون" 3/ 310، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 96، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 414، "تفسير الباقيات الصالحات وفضلها" 32. (¬3) "جامع البيان" 15/ 256، "النكت والعيون" 3/ 310، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 96، "الدر المنثور" 4/ 409. (¬4) "جامع البيان" 15/ 256، "معالم التنزيل" 5/ 175، "المحرر الوجيز" 9/ 322، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 96. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 175، "الكشاف" 2/ 392، "الدر المنثور" 4/ 410. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 292. (¬7) والراجح -والله أعلم- أن الباقيات الصالحات: كل عمل خير، فلا وجه لقصرها =

47

قوله تعالى: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} قال ابن عباس: (يريد أفضل ثوابًا وأفضل أملاً من المال والبنين) (¬1). وهذا على عادة خطاب العرب تقول في الشيئين: هذا خير، وإن لم يكن في الثاني شيء يُخيَّر به. كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، ومعلوم أنه، لا خير في مستقر أهل النار، وإلى هذا المعنى أشار الفراء فقال في قوله: {وَخَيْرٌ أَمَلًا} الأمل للعمل الصالح خير من الأمل للعمل السيئ) (¬2). وقال ابن قتيبة: ({وَخَيْرٌ أَمَلًا} مما يؤملون) (¬3). أي: هو خير أن يؤمل. 47 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ} قال الزجاج: (هو منصوب على معنى واذكر، ثم قال: ويجوز أن يكون نصبه على معنى: خير يوم تسير الجبال، أي: خير في القيامة) (¬4). وهذا الوجه يحسن لو لم يكن في {وَيَوْمَ} الواو (¬5). وقوله تعالى: {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} معنى التسيير: جعل الشيء يسير، وقال الكلبي: (تُسير الجبال عن وجه الأرض، كما تُسير السحاب في ¬

_ = على عمل دون آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهذا اختيار كثير من المفسرين. انظر: "جامع البيان" 15/ 256، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 414، "أضواء البيان" 4/ 109. (¬1) ذكره القرطبي 10/ 144 بدون نسبة، وكذلك "روح المعاني" 15/ 287. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 146. (¬3) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 268. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 292. (¬5) "مشكل إعراب القرآن" 1/ 443, "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 279.

الدنيا، ثم تكسر فتعود في الأرض) (¬1). وهذا معنى قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} [الواقعة: 5، 6] وقرئ: {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} علي بناء الفعل للفاعل (¬2). وهذه القراءة أشبه بما بعده من قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ}، وحجة القراءة الأولى قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: 20]، وقوله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 3]، فبني الفعل للمفعول به. وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} قال ابن عباس: (يريد لا جبل ولا بناء ولا شجر ولا ماء) (¬3). وقال مجاهد: (لا خَمَر (¬4) فيها) (¬5). وقال الكلبي: (ظاهرة ليس عليها شيء) (¬6). وقال أهل المعاني: (لا شيء يسترها، يحشر الناس فيكونون كلهم في صعيد واحد، يرى بعضهم بعضًا) (¬7). وهذا قول قتادة في البارزة: (أنها ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "تفسيره" 3/ 311 بدون نسبة، وكذلك القرطبي في "تفسيره" 10/ 416. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: (ويوم تُسير الجبالُ) بالتاء، ورفع الجبال. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (ويوم نُسير الجبالَ) بالنون، ونصب الجبال. انظر: "السبعة" ص 393، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 151، "التبصرة" ص 249، "العنوان" 123، "النشر" 2/ 311. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 389 ب بدون نسبة. (¬4) قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (خَمَر) 1/ 1100: الوهدة: خَمر، والأكمة: خَمر، والجبل: خَمر، والشجر: خَمر، وكل ما خلفك فهو خمر. وانظر: "القاموس المحيط" (الخمر) 387، "الصحاح" (خمر) 2/ 650. (¬5) "جامع البيان" 15/ 257، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 98، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 465، "تفسير مجاهد" 1/ 377. (¬6) ذكر نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 389 ب بدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 302. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 145، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 292.

الظاهرة التي لا بناء عليها ,ولا شجر) (¬1). وقال عطاء: (قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها) (¬2). وحكى الكلبي هذا القول أيضًا فقال: (ويقال برز كل شيء فيكون على ظهرها) (¬3). وذكره الفراء فقال: ({وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} يقول: أبرزنا أهلها من بطنها) (¬4). والقول الأول هو الأولى (¬5). وهذا لا يصح إلا على بعد. واستكره بأن يجعل برز بمعنى: أبرز، فقد قال ابن هانئ (¬6) في قول لبيد (¬7): ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 257، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 98، "الدر المنثور" 4/ 411. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "معالم التنزيل" 5/ 176، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 417. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 257، "الكشف والبيان" 3/ 390 أ، "النكت والعيون" 3/ 311، "لباب التأويل" 4/ 215، "الجامع حكام القرآن" 10/ 417. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 146. (¬5) وهذا هو الراجح -والله أعلم- وما عليه جمهور المفسرين، فهي ظاهرة وليس عليه ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، أي: قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها وهدم نيانها فهي بارزة ظاهرة. انظر: "جامع البيان" 15/ 167، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 416، "أضواء البيان" 4/ 111. (¬6) محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي، أبو القاسم، يتصل نسبة بالمهلب بن أبي صفرة، أشهر المغاربة على الإطلاق، وقد عاصر المتنبي، وولد بإشبيلية ورحل إلى المنصورية بقرب قيروان مدة قصيرة، ثم رحل إلى مصر، وقتل غيلة برقة سنة 362 هـ وله ديوان مطبوع. انظر: "وفيات الأعيان" 2/ 4، "النجوم الزاهرة" 4/ 67، "شذرات الذهب" 3/ 41، "الأعلام" 7/ 130. (¬7) هذا عجز بيت للبيد. وصدره: =

48

النَّاطق المبروز والمختوم قال: (يقال: بَرَزْته بَرَز، بمعنى: أبرزته) (¬1). ويكون معنى الآية على هذا: وترى الأرض مبرزة ما فيها، كما قال: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4]. وهذه لغة شاذة لا يفسر بها كتاب الله. وقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ} أي: المؤمنين والكافرين، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة. {فَلَمْ نُغَادِرْ} أي: لم نترك ولم نخلف، يقال: غَادَرَه وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر, لأنه ترك الوفاء، والغدير: الماء الذي غادره السيل والمطر (¬2). 48 - وقوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} يعني المحشورين. {صَفًّا} الصف مصدر وصف به، ووضع موضع الحال، فهو بمعنى مصفوفين: كل زمرة وأمة صف (¬3). وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} القول هاهنا مضمر، أي: يقال لهم: لقد جئتمونا. أو فيقول لهم الله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال ابن ¬

_ = أو مذهب جدد على ألواحه المَبْرُوز: المكتوب المنشور، من أبرز الكتاب إذا أخرجه ونشره. المخْتُوم: الذي لم ينشر. انظر: "ديوان لبيد بن ربيعة" ص 151، "تهذيب اللغة" (برز) 1/ 310، "لسان العرب" (برز) 1/ 255. (¬1) "تهذيب اللغة" (برز) 1/ 310. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (غدر) 3/ 2638، "القاموس المحيط" (غدر) ص 448، "الصحاح" (غدر) 2/ 766. (¬3) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 280، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 443، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 400، "الدر المصون" 7/ 505.

عباس: (يريد حفاة عراة غرلاً) (¬1) وقيل: (يعني فرادى) (¬2). كما قال في سورة الأنعام: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية. وقال أبو إسحاق: (أي بعثناكم كما خلقناكم) (¬3). لأن قوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} يعني: بعثناكم. وقوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ} خطاب لمنكري البعث خاص، ومعناه: بل زعمتم في الدنيا أن لن تُبعثوا, لأن الله وعدهم البعث فلم يصدقوا، والمعنى: {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} للبعث والجزاء، و {بَلْ} هاهنا إيذان بأن القصة الأولى قد تمت وبدأ في كلام آخر، وذلك أن الآية عامة في المؤمن والكافر إلى قوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ} فلما أخذ في كلام خاص لأحد الفريقين أدخل {بَلْ} ليؤذن بتحقيق ما سبق، وتوكيد ما يأتي بعده، كقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]، وقد يجيء {بَلْ} في الكلام لترك ما سبق من غير إبطال له (¬4)، كقول لبيد (¬5): ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشف والبيان" 3/ 389 ب، "بحر العلوم" 2/ 302، "معالم التنزيل" 5/ 176 بمعناه بدون نسبة، "النكت والعيون" 3/ 312، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 417. ويشهد لهذا حديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين" قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ..) الحديث. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 398 ب، "معالم التنزيل" 5/ 176، "الكشاف" 2/ 392، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 417. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 292. (¬4) "البحر المحيط" 6/ 134، "الدر المصون" 7/ 506، "إرشاد العقل السليم" 5/ 226، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 400، "أضواء البيان" 4/ 116. (¬5) البيت للبيد. نوار: اسم امرأة. ونأت: بعدت. والأسباب: الحبال. =

49

بل ما تذكر من نوار وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها لم يرد ببل هاهنا إبطال ما سبق، وإنما أراد الإذان بترك الكلام الأول، كما تقول: دع ذا، واترك ذا، عند تمام ما يتكلم به والانتقال إلى غيره، كما قال امرئ القيس (¬1): فدع ذا وسلِّ الهمَّ عنك بجسرةٍ 49 - قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قال المفسرون: (يعني كتب أعمال الخلق) (¬2). و {الْكِتَابُ} اسم الجنس، فيعمُّ عند الإطلاق. قال أبو إسحاق: (معناه ووضع كتاب كل امرئ بيمينه أو شماله) (¬3). وقوله تعالى: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: (يريد المشركين. {مُشْفِقِينَ} قال: خائفين) (¬4). ومعنى الإشفاق في اللغة: الخوف والحذر من وقوع المكروه، ويقال: شَفَقَ بمعنى أَشْفَقَ شفقةً، وإشْفاقًا فهو مشفق وشَفِق، وأصل الحرف من الرقة (¬5). وسنذكر ذلك مستقصى عند قوله: {فَلَا ¬

_ = والرِّمام: الحبال الضعاف التي أخلقت وكادت تتقطع. انظر: "ديوانه" ص 166. (¬1) هذا صدر بيت لامرئ القيس. وعجزه: ذمولٍ إذا صام النَّهار وهجرا جَسْرَة: يقال ناقة جسرة طويلة ضخمة، والجسر العظيم من الإبل. ذَمُول: السريعة. انظر: "ديوانه" ص 63، "تهذيب اللغة" (صام) 2/ 1965، "لسان العرب" (هجر) 4619. (¬2) "جامع البيان" 15/ 258، "معالم التنزيل" 5/ 177، "النكت والعيون" 3/ 312، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 96. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 293. (¬4) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 258/ 15، "البغوي" 3/ 177 بدون نسبة، "القرطبي" 10/ 418، "الرازي" 11/ 134، "أضواء البيان" 4/ 249. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (شفق) 2/ 1900، "القاموس المحيط" (شفق) 3/ 897، "لسان العرب" (شفق) 4/ 2292.

أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] إن شاء الله. وقوله تعالى: {مِمَّا فِيهِ} أي: من الأعمال السيئة. {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} لوقوعهم في الهلكة يدعون بالويل على أنفسم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} أي: لا تاركًا صغيرة، فقوله: {لَا يُغَادِرُ} في موضع الحال، قال ابن عباس في رواية عكرمة: (الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك) (¬1). ونحو هذا روى عنه الذبال بن عمرو الأوزاعي فيما كان يعظ به المنصور (¬2) (¬3). ونحو هذا روي عن الحسن عن ابن عباس، وهو قول ابن أبي ليلى (¬4)، والكلبي (¬5). وقال في رواية عطاء: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} يريد: ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 177، "الكشاف" 2/ 393، "القرطبي" 10/ 419، "الدر المنثور" 4/ 411. (¬2) عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، أبو جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، وأول من عني بالعلوم من ملوك العرب، وكان عارفًا بالفقه والأدب محبًا للعلم والعلماء، ولي الخلافة بعد وفاه أخيه السفاح سنة 136 هـ، وعرف بالشجاعة والحزم، توفي ببئر ميمون من أرض الحجاز محرمًا بالحج، ودفن في الحجون بمكة سنة 158 هـ، ودامت خلافته 22 عامًا. انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 53، "الجرح والتعديل" 5/ 159، "تاريخ الطبري" 9/ 292، "الأعلام" 4/ 117. (¬3) "جامع البيان" 15/ 258. (¬4) عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، تابعي ثقة، قرأ القرآن على أبيه، وقرأ عليه أخوه محمد بن عبد الرحمن، وأبوهما ممن قرأ على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وله رواية قليلة في "السنن". انظر: "التاريخ الكبير" 6/ 390، "الكاشف" 2/ 368، "غاية النهاية" 1/ 609 , "تهذيب التهذيب" 8/ 219، "معرفة القراء الكبار" 1/ 66. (¬5) "المحرر الوجيز" 9/ 326، "النكت والعيون" 3/ 312، "القرطبي" 10/ 419.

50

من أعمالنا {وَلَا كَبِيرَةً} يريد: الشرك) (¬1). وقال سعيد بن جبير: (الصغيرة: اللمم، والكبيرة: الزنا) (¬2). وقوله تعالى: {إِلَّا أَحْصَاهَا} أي: عدَّها، وأثبتها، وكتبها، وحفظها، كل هذه ألفاظ المفسرين (¬3). والمعنى: إني أحصيت وأثبت في الكتاب. فأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعًا. قال قتادة في هذا: (اشتكى القوم -كما تسمعون- الإحصاء، فإياكم والمحقرات من الذنوب، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه) (¬4). وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي: في الكتاب مكتوبًا مثبتًا ذكره. {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} قال الزجاج: (أي: يعاقبهم، فيضع العقوبة موضعها في مجازاة الذنوب، قال: وأجمع أهل اللغة: أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه) (¬5). وتأويل هذا: أنه لا يعاقب أحدًا بغير جرم، وهو معنى قول الضحاك: (لا نأخذ أحدًا بجرم لم يعمله) (¬6). 50 - قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} قال المفسرون: ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 418 بلا نسبة. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 177، "الكشاف" 2/ 393، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 419، "البحر المحيط" 6/ 135. (¬3) "جامع البيان" 15/ 258، "معالم التنزيل" 5/ 177، "الكشاف" 2/ 393، "أضواء البيان" 4/ 116. (¬4) "جامع البيان" 15/ 258، "النكت والعيون" 3/ 313، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 419، "الدر المنثور" 4/ 411. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 293. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 178، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 419.

أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس، وما أورثه الكبر، فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} أي: واذكر يا محمد {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد أن ملائكة السماء الدنيا يقال لهم: الجن) (¬1). مقل قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] يعني حين قالوا: الملائكة بنات الله. وكان ابن عباس يقول: (لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود) (¬2). وروى سعيد عن قتادة قال: (كان من قبيل من الملائكة يقال لهم: الجن) (¬3). وقال شهر بن حوشب: (كان إبليس من الجن الذين ظفر بهم الملائكة) (¬4). وقال الحسن: (ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس) (¬5). وقد ذكرنا الخلاف في هذا في سورة البقرة عند ذكر قصة آدم بالشرح (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 259، "زاد السير" 5/ 153، "المحرر الوجيز" 9/ 329. (¬2) "جامع البيان" 15/ 260، "الدر المنثور" 4/ 412. (¬3) "جامع البيان" 15/ 260، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 404، "الدر المنثور" 4/ 412. (¬4) "جامع البيان" 15/ 261، "البحر المحيط" 6/ 136، "الدر المنثور" 4/ 413، "روح المعاني" 15/ 292. (¬5) "جامع البيان" 15/ 260، "معالم التنزيل" 5/ 178، "النكت والعيون" 3/ 312. (¬6) عند قوله سبحانه في سورة البقرة (34) {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. (¬7) والذي عليه كثير من المفسرين رحمهم الله تعالى أن إبليس كان من الملائكة، أو =

وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ذكر أهل التأويل في هذا ثلاثة أوجه: أحدها وهو الأكثر: أن معناه خرج عن أمر ربه إلى معصيته في ترك السجود. وهو قول الفراء، وأبي عبيدة. قال الفراء: (أي خرج عن طاعة ربه، والعرب تقول: فسقت الرطبة من قشرها لخروجها منه، وكأن الفأرة إنما سميت فويسقة لخروجها (¬1) من جحرها على الناس) (¬2). وقال أبو عبيدة: ({فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي: جار ومال عن طاعته) (¬3)، وأنشد لرؤية (¬4): ¬

_ = من طائفة منهم يقال لهم: الجن. قال الطبري بعد أن ذكر الأقوال في هذه المسألة: "وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها، وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله -جل ثناؤه- خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى، فخلق بعضًا من نور وبعضًا من نار وبعضًا مما شاء من غير ذلك، وليس في ترك الله الخبر عما خلق منه ملائكته واخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن مسماهم .. وأما خبر الله عنه أنه من الجن فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جنا فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم". انظر: "جامع البيان" 1/ 227، "المحرر الوجيز" 1/ 246، "معالم التنزيل" 1/ 63، "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 294، "البحر المحيط" 1/ 153. (¬1) قوله: (لخروجها)، ساقط من نسخة (ص). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 147. (¬3) "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 406. (¬4) هذا عجز بيت لرؤية يصف إبلاً منعدلة عن قصد نجد. وصدره: يهوين في نجد وغورًا غائزًا. انظر: "ديوانه" 190، "مجاز القرآن" 1/ 406، "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، "البحر المحيط" 6/ 136، "الزاهر" 1/ 218، "لسان العرب" (فسق) 6/ 3414.

فواسقًا عن قصده جوائرا الوجه الثاني: ما ذكره الأخفش قال: (معنى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} نحو قول العرب: اتخم عن الطعام، أي: عن أكله، ولما رد هذا الأمر فسق) (¬1). ونحو هذا حكى الزجاج عن قطرب (¬2). قال أبو العباس: (ولا حاجة به إلى هذا, الفسوق معناه: الخروج، {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي: خرج) (¬3). الوجه الثالث: ما ذهب إليه سيبويه والخليل: (أن معنى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أتاه الفسق لما أُمِرَ فعصى، وكان سبب فسقه أمر ربه، كما تقول: أطعمه عن جوع وكساه عن عُرِي، المعنى: كان سبب فسقه الأمر بالسجود، كما كان سبب الإطعام الجوع، وسبب الكسوة العري) (¬4). قال أبو عبيد: (وهذه الكلمة -يعني الفسوق- لم أسمعها في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها، وإنما تكلمت بها العرب بعد نزول (¬5) القرآن) (¬6). قال أهل المعاني المبرد وغيره: (هي كلمة فصيحة على ألسنة العرب) (¬7). وأوكد الأمور ما جاء في القرآن، ومعناه: الخروج، كما قال: فواسقا ... البيت (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 261، "تهذيب اللغة" (فسق) 6/ 3414. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 294. (¬3) "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، "لسان العرب" (فسق) 6/ 3414 (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 94، "المحرر الوجيز" 9/ 330، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 420، "التفسير الكبير" 21/ 137. (¬5) في (ص): (تبدل)، وهو تصحيف. (¬6) ذكر نحوه ابن منظور في "لسان العرب" (فسق) 6/ 3414. (¬7) "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، "لسان العرب" (فسق) 6/ 3414 (¬8) يريد به بيت رؤبة السابق الذكر. =

وقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} قال قتادة: (وهم أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنوا آدم) (¬1). {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} قال الكلبي: (ليس تصلون له ولا تصومون، ولكن من أطاع شيئًا فقد عبده) (¬2). واختلف في كيفية ولادة إبليس وحصول ذريته، فقال مجاهد فيما روى عنه ابن جريج: (أن إبليس أدخل ذكره في دبره، فباض خمس بيضات فهم ذريته) (¬3). وقال الشعبي في هذه الآية: (لا تكون ذريته إلا من زوجة) (¬4). وروى عبد الله بن المغيرة (¬5): (أن أبا هريرة قال: اسم امرأة إبليس ¬

_ = وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل اللغة والتفسير أن الفسق معناه: الخروج. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 147، "المحرر الوجيز" 9/ 329، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 420، "البحر المحيط" 6/ 136، "إرشاد العقل سليم" 5/ 227، "أضواء البيان" 4/ 121. (¬1) "جامع البيان" 15/ 262، "معالم التنزيل" 5/ 179، "البحر المحيط" 6/ 136، "إرشاد العقل السليم" 5/ 227. (¬2) ذكر نحوه السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 302. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 179، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 420، "إرشاد العقل السليم" 5/ 227، "الدر المنثور" 4/ 413. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 179 بمعناه، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 420، "البحر المحيط" 6/ 136، "روح المعاني" 15/ 295. (¬5) عبد الله بن عثمان بن المغيرة الثقفي، إمام زاهد، تابعي محدث، روى عن ابن عباس وغيره من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه ابن جريح والحسن البصري وغيرهما من التابعين. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 111، "تهذيب التهذيب" 5/ 317، "الخلاصة" ص 206، "تقريب التهذيب" ص 207.

ردة) (¬1). وروى ليث عن مجاهد قال: (ذريته الشياطين) (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} أعلم الله تعالى أنه من العداوة والحسد لبني آدم على مثل الذي كان لأبيهم. قال ابن عباس: (يريد كما أخرج أبويكم من الجنة) (¬4). وقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} قال ابن عباس: (يريد حيث استبدلوا بالرحمن عبادة الشيطان) (¬5). وقال الحسن: (بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم أن أطاعوا إبليس، فبئس ذلك لهم بدلاً) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا القول. وقد ذكر ابن عطية مثل هذا القول في "تفسيره" 10/ 413 ثم قال: "وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب: مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطانًا يسمى خنزب، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانًا يسمى الولهان، والله أعلم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره". (¬2) "جامع البيان" 15/ 262، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 421. (¬3) والحق في ذلك -والله أعلم- أن الله أخبر أن لإبليس أتباعًا وذرية، وأنهم يوسون إلى بني آدم ليضلوهم. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي، بل يتوقف الأمر فيه على النقل الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬4) لم أقف على القول. ويشهد له قوله تعالى في سورة البقرة الآية رقم (36) {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 390 أ، "بحر العلوم" 2/ 302، "معالم التنزيل" 3/ 167. (¬6) "زاد المسير" 5/ 154 , "معالم التزيل" 5/ 180، ونسبه لقتادة، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 420.

51

وقال الزجاج: (بئس ما استبدل به الظالمون من رب العزة إبليس) (¬1). والمعنى: بئس هو بدلاً أي: إبليس. {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}. [الكهف: 51] 51 - وقوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: ما أحضرتهم يعني إبليس وذريته (¬2). قال صاحب النظم: (أومأ بقوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} إلى أنه لم يشاورهم في خلق السموات والأرض ولا في خلق أنفسهم) (¬3). أي: أنه خلقها وخلقهم على ما أراد وقدر من غير مشاورة لهم، وإنما ضمن الإشهاد الإيماء إلى المشاورة؛ لأن الرجل إذا أراد مشاورة إنسان أشهده نفسه، أو شهده بنفسه، يدل على صحة هذا المعنى قوله: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} أي: الشياطين الذين يضلون الناس. وقال أهل المعاني: هذه الآية تأكيد في زجرهم عن اتخاذ إبليس وذريته أولياء. يقول: ليس عندهم علم ما تحتاجون إليه فتقبلوا أنتم على إتباعهم، فإني لم أشهدهم خلق السموات والأرض. وقيل: (إن هذه الآية إخبار عن كمال قدرة الله تعالى، واستغنائه عن الأنصار والأعوان) (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 294. (¬2) "جامع البيان" 15/ 263، "معالم التنزيل" 5/ 180، "المحرر الوجيز" 9/ 333، "النكت والعيون" 3/ 315. (¬3) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 180 بدون نسبة، والسمرقندي في "النكت والعيون" 3/ 315. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 390 أ، "بحر العلوم" 2/ 303.

52

قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} قال قتادة: (أعوانا) (¬1). ولفظ العَضُد يستعمل كثيرًا في معنى العون، وذلك أن العضْد قوام اليد، منه الاعتضاد وهو التَّقوِّى، واعتضدت بفلان معناه: استعنت به، ومن هذا قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 53] أي: سنعينك ونقويك، وكل معين فهو عضد، وعاضدني فلان أي: عاونني، وفي العضد لغات: عَضُد، وعَضْد، وعُضُد، وعُضْد (¬2). والناس على أن معنى هذا: استغنى الله تعالى بقدرته عن الأنصار. وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: لم يعضدوا لي وليًا, ولم ينصروا لي عبدًا, ولم يقوموا لأحد من أوليائي بحق) (¬3). ومعنى هذا: أنهم لو نصروا أولياء الله لكان كأنهم نصروا الله، ولما لم يفعلوا ذلك أخبر الله تعالى أنه لم يتخذهم أعوانًا. والقول هو الأول، وإنما قال: عَضُد على واحد لوفاق الفواصل. 52 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ} أي: الله تعالى، وقراءة العامة: بالياء لقوله: {شُرَكَائِيَ} وقرأ حمزة: بالنون (¬4)، حملاً على ما تقدم في المعنى من قوله: {وَمَا كُنْتُ} [الكهف: 51] فكما أن كنت للمتكلم كذلك: نقول، والجمع والإفراد في ذلك بمعنى. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 263، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 341، "الدر المنثور" 4/ 412. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (عضد) 3/ 2471، "مقاييس اللغة" (عضد) 4/ 348، "القاموس المحيط" (العضد) 1/ 299، "الصحاح" (عضد) ص 509. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وعاصم: (يقول) با لياء. وقرأ حمزة: (نقول) بالنون. انظر: "السبعة" ص 393، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 151، "المبسوط في القراءات" 236، "التبصرة" ص 249، "النشر" 20/ 311.

قال ابن عباس: (يريد يوم القيامة) (¬1). قال المفسرون: (يقول الله تعالى يوم القيامة: ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي) (¬2). وهو قوله: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} قال ابن عباس: (يريد في الدنيا) (¬3) {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} قال أنس: (هو واد في جهنم من قيح ودم) (¬4). وهو قول مجاهد، وعبد الله بن عمر (¬5). وقال نوف البكالي: (هو واد بين أهل الضلال وبين أهل الإيمان) (¬6). وقال البكالي: (هو واد يفرق به (¬7) بين أهل لا إله إلا الله ومن سواهم) (¬8). وهذا القول يوافق قول ابن عباس في رواية عطاء فإنه قال: (يريد حِجازًا وحاجزْا) (¬9). ونحو هذا قال ابن الأعرابي في الموبق قال: (وكل حاجِز بين شيئين فهو مُوبِق) (¬10). وعلى هذا القول الكناية في قوله: {بَيْنَهُمْ} يعود ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 181 بلا نسبة، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 303. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 181، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 2. (¬3) ذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 101 بلا نسبة، والسمرقندي 2/ 303. (¬4) "جامع البيان" 15/ 265، "المحرر الوجيز" 9/ 335، "النكت والعيون" 3/ 316 "تفسير القرآن العظيم" 3/ 1012. (¬5) "جامع البيان" 15/ 264، "معالم التنزيل" 5/ 181 بمعناه بدون نسبة لابن عمر، "المحرر الوجيز" 9/ 335، "الدر المنثور" 4/ 414. (¬6) ذكره الطبري في "تفسيره" 15/ 264 ونسبه إلى عمرو البكالي، وكذلك ابن كثير 3/ 101، "والجامع لأحكام القرآن" 11/ 3. (¬7) قوله: (به)، ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ. (¬8) "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 468، "الدر المنثور" 4/ 414، "أضواء البيان" 4/ 127. (¬9) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 2. (¬10) "معالم التنزيل" 3/ 101، "أضواء البيان" 4/ 128، "تهذيب اللغة" (وبق) 4/ 3828، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 2.

إلى الفريقين من المؤمنين والكافرين، وليس يعرف للموبق بمعنى الحاجز اشتقاق. وقال ابن عباس في رواية الوالبي: (مهلكا) (¬1). وهو قول قتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدي (¬2). وجميع أهل المعاني (¬3). قال الفراء: (يقول: جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا، أي: مهلكا لهم في الآخرة) (¬4). وعلى هذا {بَيْنَهُمْ} ينتصب انتصاب المفعول به؛ لأنه جعل البين بمعنى التواصل، فلا ينتصب انتصاب، والكناية تعود على المشركين فقط (¬5). وقال أبو إسحاق: (أي جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم أي: يهلكهم) (¬6). والبين على هذا ظرف، والموبق على القولين في مصدر، كأنه قيل: جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكًا لهم في الآخرة. والتأويل: سبب هلاك. هذا تقدير قول الفراء. وعلى قول أبي إسحاق كأنه قيل: جعلنا بينهم هلاكًا. يعني: عذابًا يهلكهم. ونص الضحاك على لفظ الهلاك فقال في قوله: {مَوْبِقًا}: (هلاكًا) (¬7). قال الفراء في "المصادر": (يقال: وَبِقَ، يَوبقُ، وَبَقاً، فهو وَبِق، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 264، "المحرر الوجيز" 9/ 335، "النكت والعيون" 3/ 316، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 92. (¬2) "جامع البيان" 15/ 264، "تفسير الصنعاني" 1/ 341، "معالم التنزيل" 3/ 101. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 295، "معاني القرآن" للفراء 2/ 147، "تفسير المشكل من غريب القرآن" 2/ 268. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 147، "تهذيب اللغة" (وبق) 4/ 3828. (¬5) "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 400. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 295. (¬7) "جامع البيان" 15/ 264، "معالم التنزيل" 3/ 101، "النكت والعيون" 3/ 316.

قال: وبنو عامر (¬1) يقولون: يابِق، وتميم (¬2) تقول: يَبِق والمصدر واحد) (¬3). وحكى الكسائي: (وَبَقَ، يَبِقُ، وُبُوقًا، فهو وابِق، قال: ولم أسمعها (¬4). وذكر الزجاج هذه اللغات كلها (¬5). وذُكِرَ في تفسير الموبق قولان آخران لا يدرى لهما أصل. أحدهما: ما روي عن الحسن أنه قال: (جعلنا بينهم عداوة يوم القيامة) (¬6). فقال بعض أهل المعاني في هذا: يعني عداوة مهلكة. وهذا بعيد. والقول الآخر: ما قاله أبو عبيدة قال في تفسير الموبق: (أنه الموعد، واحتج بقول الشاعر (¬7): ¬

_ (¬1) بنو عامر: بطن من قيس عيلان من العدنانية، وهذه النسبة إلى ثلاثة رجا: عامر بن لؤي، وعامر بن صعصعة، وعامر بن عدي بن نجيب. انظر: "الأنساب" للسمعاني 4/ 113، "التعريف في الأنساب" ص 78، "معجم قبائل العرب" 3/ 422، "الجمهرة" ص 280. (¬2) تميم: قبيلة كبيرة، قوية من العدنانية، منازلهم في نجد والبصرة، واليمامة، ويمتدون إلى الكوفة، ويمكن حصرهم اليوم في ثلاثة بطون: بطن حنظلة بن مالك ابن زيد بن مناة بن تميم، وبطن سعد بن زيد بن مناة بن تميم، وبطن عمر بن تميم. انظر: "نهاية الأرب" 177، "معجم قبائل العرب" 1/ 125، "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 222، "الأنساب" للسمعاني 1/ 478. (¬3) "جامع البيان" 15/ 265، "لسان العرب" (وبق) 8/ 4705. (¬4) "جامع البيان" 15/ 265، "تهذيب اللغة" (وبق) 4/ 3828. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 295. (¬6) "جامع البيان" 15/ 264، "المحرر الوجيز" 9/ 335، "النكت والعيون" 3/ 316، "الكشاف" 2/ 394، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 101. (¬7) البيت لخفاف بن ندبة السلمي. شَرَوْرَى، والسِّتَار، وتِعَار: أسماء أماكن وجبال لبني سليم. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 406، "تهذيب اللغة" 4/ 3828 (وبق)، "الأصمعيات" (15)، "لسان العرب" (وبق) 8/ 4755.

53

وجاد شرورى والستار فلم يدع ... تعارًا له والواديين بموبق قال: معناه بموعد) (¬1). ولم يذكر أحد من أهل اللغة وَبَقَ بمعنى: وعد، ثم وإن صح، فأي معنى لقوله: وجعلنا بينهم موعدًا. وهذا القول فاسد لفظًا ومعنى. وقد قال الأخفش: (موبق مثل: موعد) (¬2). ولعله رأى هذا فظن أنه يقول: هو مثله في التفسير. وذهب عليه أن يريد ذلك في اللفظ؛ لأنه قال: هو مثل: موعد، من وَبَقَ يَبِقُ. فظن أن وَبَقَ بمعنى: وعد، لما رأى مثل موعد. والله أعلم (¬3). 53 - قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} قال ابن عباس: (يريد المشركين) (¬4). وهي تتلظى حنقا عليهم {فَظَنُّوا}، قال ابن عباس، ومجاهد: (تيقنوا) (¬5). وقال السدي: (استيقنوا) (¬6). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 406،"تهذيب اللغة" (وبق) 4/ 3828. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 619. (¬3) الراجح -والله أعلم- هو أن "وبق" بمعنى: هلك. قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 15/ 265: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ومن وافقه في تأويل الموبق المهلك، وذلك أن العرب تقول في كلامها: قد أوبقت فلانًا، إذا أهلكته، ومنه قوله -عز وجل -: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} بمعنى: يهلكهن. وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 3/ 101، "أضواء البيان" 4/ 127، "تهذيب اللغة" (وبق) 4/ 3828 (¬4) ذكره الطبري في "جامع البيان" 15/ 265 بدون نسبة، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 181، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 303. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 2/ 336، "الكشاف والبيان" 3/ 391 أ، "الكشاف" 2/ 489، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 110، "البحر المحيط" 6/ 137. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 391 أ، "بحر =

وهو قول جميع المفسرين (¬1). والظن هاهنا بمعنى: العلم. وقوله تعالى: {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} قال ابن عباس: (أنهم واردوها) (¬2). وقال الحسن: (أنهم داخلوها) (¬3). وقال مجاهد: (مقتحموها) (¬4). ومعنى المواقعة في اللغة: ملابسة الشيء بشدة، يقال: واقَعَهُ مُوَاقَعَةً، وأَوْقَعَ به إِيْقاعاً، ومنه: وقائع الحروب، وتَوَقَعَ أي: ترقب وقعة شيء، ومن هذا يقال للجماع: الوِقَاع؛ لأنه يلابسه بدفع وشدة (¬5). والمعنى: ملابسون إياها ملابسة تقع بهم وتشتد عليهم. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} قال ابن عباس: (يريد قد أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب ولا على الرجوع عنها) (¬6). وقال أهل اللغة: (معنى المصرف: المعدل. وهو الموضع الذي يصرف إليه) (¬7). ¬

_ = العلوم" 2/ 303، "معالم التنزيل" 5/ 181، "لباب التأويل" 4/ 218، "إرشاد العقل السليم" 5/ 229. (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 390 أ، "بحر العلوم" 2/ 303، "معالم التنزيل" 5/ 181. (¬2) ذكر نحوه بلا نسبة السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 303، والماوردي في "النكت والعيون" 3/ 317. (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 390 أبدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 303. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 390 أ. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (وقع) 4/ 3935، "مقاييس اللغة" (وقع) 6/ 133، "القاموس المحيط" (وقع) (826)، "الصحاح" (وقع) 3/ 1301، "لسان العرب" (وقع) 8/ 4895. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بلا نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 181، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 110، "لباب التأويل" 4/ 218. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 295، "تهذيب اللغة" (صرف) 2/ 2007،=

54

قال أبو كبير الهذلي (¬1): أزهير هل عن شيبةٍ من مَصْرِفِ والمصرف في هذه الآية: موضع، وليس بمعنى المصدر، ولو كان مصدرًا كان مفتوح الراء. 54 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} مفسرًا في سورة بني إسرائيل في موضعين (¬2). وقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} قال ابن عباس: (يريد النضر بن الحارث، وجداله في القرآن) (¬3). وقال الكلبي: (يعني أبي بن خلف) (¬4) (¬5). ¬

_ = "القاموس المحيط" (صرف) ص 772، "الصحاح" (صرف) 4/ 1385، "لسان العرب" (صرف) 8/ 2435 (¬1) هذا صدر بيت لأبي كبير الهذلي. وعجزه: أم لا خلود لباذل متكلف انظر: "شرح أشعار الهذليين" 3/ 1084، "جامع البيان" 15/ 266، "النكت والعيون" 3/ 317، "البحر المحيط" 6/ 138، "الدر المصون" 7/ 510، "مجاز القرآن" 1/ 407، "لسان العرب" (صرف) 8/ 2435. (¬2) سورة الإسراء الآية رقم (41): {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا}. وقوله في الآية رقم (89): {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [سورة الإسراء] (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 181، "المحرر الوجيز" 9/ 337، "البحر المحيط" 6/ 139. (¬4) أبي بن خلف بن وهب الجمحي، كان من أشد الناس وأكثرهم أذى للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللصحابة رضوان الله عليهم، رماه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد بحربة فقتله. انظر: "جوامع السير" ص 54، "الكامل في التاريخ" 2/ 148 , "الأعلام" 2/ 22. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 181، "البحر المحيط" 6/ 139، "القرطبي" 11/ 5.

55

وقال أبو إسحاق: (معناه كان الكافر، ويدل عليه قوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56] الآية. وإن قيل: هل يجادل غير الإنسان؟ قيل: إن إبليس قد جادل، وإن كل ما يعقل من الملائكة، والجن يجادل، ولكن الإنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً) (¬1) (¬2). 55 - قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} قال ابن عباس: (يريد أهل مكة) (¬3). {أَنْ يُؤْمِنُوا} أي: الإيمان {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} محمد -صلى الله عليه وسلم- جاءهم من الله بالرشاد والبيان (¬4). وهذا مفسر في سورة بني إسرائيل (¬5). وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} عطف على أن يؤمنوا. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} قال صاحب النظم: ({سُنَّةُ اَلأَوَّلِينَ} أنهم إذا تمردوا ولم يؤمنوا أن يعذبوا ويهلكوا) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 296. (¬2) الأولى -والله أعلم- أن تكون عامة في المؤمن والكافر، ويؤيد هذا ما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طرقه وفاطمة ليلاً فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئًا، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]. (¬3) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 339، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 110، "روح المعاني" 15/ 300. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 182، "فتح القدير" 3/ 422. (¬5) عند قوله سبحانه في سورة الإسراء الآية رقم (94): {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}. (¬6) لم أقف عليه. ويشهد لهذا عدد من الآيات التي تحققت فيها سنته سبحانه في إهلاك من كفر وصد عن سبيله فعم قوم نوح الغرق، وأهلكت عاد الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم فجعل الله عاليها سافلها قال سبحانه =

يقول: فقدرت على هؤلاء العذاب أي: لم أقدر عليهم الإيمان، فذلك الذي يمنعهم من الإيمان؛ لأني قد قدرت عليهم الإهلاك وهو سنة الأولين (¬1) -وهذه الآية على هذا التفسير دليل إثبات القدر. وقال أبو إسحاق: (المعنى إلاَّ طلب أن تأتيهم سنة الأولين، وسنة الأولين أنهم عاينوا العذاب فطلب المشركون ذلك {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] (¬2). وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} قال ابن عباس والكلبي: (يريد قتل المؤمنين إياهم ببدر) (¬3). معنى {قبُلًا}: عيانًا أي: مقابلة. قرأ أهل الكوفة: قُبُلاً (¬4)، وهو يحتمل تأويلين أحدهما: أنه بمعنى قِبَلاً، فقد ¬

_ = في سورة العنكبوت الآية رقم (40): {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. (¬1) ويشهد لهذا عدد من الآيات في كتاب الله، يقول -سبحانه وتعالى- في سورة يونس الآية (96، 97): {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. وقوله تعالى في سورة يونس الآية (101): {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 296. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 182 بمعناه، "المحرر الوجيز" 9/ 340، "الكشاف" 2/ 294، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 469. وذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 6 ونسبه لابن عباس والكلبي. (¬4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: (قِبَلاً) بكسر القاف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (قُبُلاً) بضم القاف. انظر: "السبعة" ص 393، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 152، "المبسوط في القراءات" 236، "التبصرة" ص 249، "النشر" 2/ 311.

56

قال أبو زيد: (لقيت فلانًا قِبَلاً ومُقابَلَةً وقَبَلاً وقُبُلاً وقَبَلِيّاً وقبيلاً) (¬1). أي: صنفاً صنفاً، كل قبيل منه غير صاحبه، ويجوز أن يكون ضربًا واحدًا، ويجيئهم منه شيء بعد شيء. وهذا الحرف قد مضى تفسيره في سورة بني إسرائيل (¬2)، والأنعام (¬3). 56 - وقوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} قال ابن عباس: (يريد المستهزئين، والمقتسمين وأتباعهم) (¬4). وجدالهم بالباطل: أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم على ما كانوا يقترحون. وقوله تعالى: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} قال ابن عباس: (ليبطلوا به ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-) (¬5). ومعنى الإدحاض: الإذهاب والإهلاك. يقال: دَحَضَتْ رجله تَدْحَضُ دَحْضًا أي: زلت. ودَحَضْتَ حجته: إذا أبطلتها (¬6). ومن هذا ما روي في الحديث: (أنه كان يصلي الأولى حين تَدْحَض ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 267، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 153، "لسان العرب" (قبل) 6/ 3520. (¬2) عند قوله سبحانه في سورة الإسراء الآية رقم (92): {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}. (¬3) عند قوله سبحانه في سورة الأنعام الآية رقم (111): {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 6. (¬5) ذكره الطبري في "جامع البيان" 15/ 267 بدون نسبة، وكذلك الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 390 ب. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" دحض) 2/ 1154، "مقاييس اللغة" (دحض) 2/ 332، "القاموس المحيط" (دحض) 642, "الصحاح" (دحض) 3/ 1075.

57

الشمس) (¬1). أي: تزول وتزلق عن بطن السماء. وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} يعني القرآن {وَمَا أُنْذِرُوا} وإن جعلت {مَا} موصولاً بمعنى: الذي، كان الراجع من الصلة محذوفًا على تقدير: وما أنذروا به أي: خوفوا به من النار والقيامة. وإن جعلت بمعنى المصدر لم يحتج إلى الراجع، ويكون المعنى: واتخذوا آياتي هزوا (¬2). والهزؤ: مصدر وصف به، كقوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67]، وقد مر. 57 - قوله تعالى: {وَمَنْ أَظلَمُ} استفهام بمعنى التقرير أي: لا أحد أظلم: {مِمَّن ذُكِرَ}. قال ابن عباس: (وعظ) (¬3). ولهذا دخلت الباء في {بِآيَاتِ رَبِّهِ} يريد: العقاب والعذاب. {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} قال: (يريد فتهاون بها) (¬4). قال قتادة في هذه الآية: (إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن من أعرض عن ذكر الله فقد اغتر أكبر الغرة) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج نحوه البخاري كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الظهر عند الزوال 1/ 200، وأبو داود كتاب: الصلاة باب: وقت صلاة الظهر 1/ 285، وابن ماجه كتاب الصلاة، باب: وقت الظهر 1/ 221، والنسائي كتاب المواقيت، باب: أول وقت الظهر 1/ 176، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 420. (¬2) "الكشاف" 2/ 394، "البحر المحيط" 6/ 139، "التفسير الكبير" 21/ 141. (¬3) ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 182 بدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 304، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 7. (¬4) ذكره القرطبي في "تفسيره" 10/ 112 بدون نسبة، والشوكاني في "فتح القدير" 3/ 423. (¬5) لم أقف عليه. ويدل عليه قوله سبحانه في سورة طه الآيات (124، 125، 126): {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}.

58

وقوله تعالى: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} قال قتادة: (نسي ما سلف من الذنوب الكبيرة) (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} مفسر في سورة بني إسرائيل (¬2)، والأنعام (¬3). {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} قال ابن عباس: (يريد إلى الإيمان) (¬4). {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} قال أبو إسحاق: (أخبر الله أن هؤلاء بأعيانهم أهل الطبع) (¬5). 58 - قوله تعالى: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} قال المفسرون: (يعني البعث والحساب) (¬6). {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} قال الأخفش، وأبو عبيد: (منجا، من وأل يئل وألاً على فعول) (¬7). وأنشد أبو عبيدة للأعشى (¬8): وقد أخالس ربَّ البيت غفلته ... وقد يحاذر مني ثم ما يئل وقال الفراء: ({مَوْئِلًا}: منجا وهو: الملجأ) (¬9). ومعناهما واحد، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 268، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 304 بلا نسبة. (¬2) عند قوله سبحانه في سورة الإسراء الآية رقم (46) {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} الآية. (¬3) عند قوله سبحانه في سورة الأنعام الآية رقم: (25) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}. الآية. (¬4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 7 بلا نسبة. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 297. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 183، "الكشاف" 2/ 394، "الدر المنثور" 4/ 416. (¬7) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 619. (¬8) البيت للأعشى. أخالس: خلس الشئ أي سرقه. ثم ما يئل: ما ينجو. انظر: "ديوانه" ص 59، "مجاز القرآن" 1/ 408، "جامع البيان" 15/ 269، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 8، "البحر المحيط" 6/ 132، "الدر المصون" 7/ 513. (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 148.

59

والعرب تقول: إنه ليوائل إلى موضعه. يريدون يذهب إلى حرزه، والمنجا والملجأ في هذا لفظ المفسرين. قال ابن عباس في رواية الوالبي: (ملجأ) (¬1). وهو قول الكلبي ومجاهد في رواية إسرائيل (¬2). وروى ورقاء عنه: (محرزًا) (¬3). وقال قتادة وابن زبد: (منجا) (¬4). 59 - وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} قال الزجاج: ({وَتِلْك} رفع بالابتداء، و {الْقُرَى} صفة لها، و {أَهْلَكنَاهُمْ} خبر الابتداء. قال: وجائز أن يكون موضع {وَتِلْكَ الْقُرَى} نصبا، ويكون {أَهْلَكْنَاهُمْ} مفسرًا للناصب، ويكون المعنى: وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم) (¬5). قال الأخفش: (أراد أهلها لذلك قال: {أهلَكْنَاهُمْ} حملة على القوم والأهل) (¬6). قال ابن عباس: (يريد ما أهلك بالشام واليمن لما ظلموا وأشركوا وكذبوا بالأنبياء) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 269، "النكت والعيون" 3/ 320، "القرطبي" 11/ 8. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 269، "معالم التنزيل" 5/ 183، "النكت والعيون" 3/ 320، "الكشاف" 2/ 489، "القرطبي" 10/ 112. (¬3) "جامع البيان" 15/ 269، "النكت والعيون" 3/ 320، "البحر المحيط" 6/ 140. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 341، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 390 أبدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 304. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 298. (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 619. (¬7) لم أقف عليه. وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها، وأنواع الهلاك الذي وقع عليها جاء مفصلاً في آيات أخرى كثيرة، كما جاء في القرآن الكريم من قصة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب, وقوم موسى.

{وَجَعَلْنَا لِمَهلِكِهِم} والمهلك هاهنا يجوز أن يكون: مصدرًا، وأن يكون: وقتًا، والمعنى: جعلنا لإهلاكهم أو لوقت إهلاكهم، وكل فعل على أفعل. فالمصدر واسم الزمان والمكان فيه سواء، تقول: أدخلتُه مُدْخلاً وهذا مُدْخله، أي: المكان الذي يدخل منه وقت إدخاله (¬1). وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {لِمَهْلَكِهم} بفتح الميم واللام (¬2)، وهو مصدر هلك يهلك، والمعنى لوقت هلاكهم يكون المهلك مصدرًا مضافًا إلى الفاعل (¬3). قال أبو علي: (ويجوز على لغة تميم أن يكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول؛ لأنهم يقولون: هلكني زيد، كأنهم جعلوه من باب رجع، ورجعته، وغاض الماء وغضته، وعلى هذا حمل بعضهم (¬4): ومهمهٍ هالك من تعرَّجا قال: هو بمنزلة: مُهْلِكِ مَنْ تَعَرَّجا. فقدل: {لِمَهْلَكِهم}، على قول ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 148، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 297، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 283، " إملاء ما من به الرحمن" 1/ 401. (¬2) قرأ عاصم في رواية أبي بكر: (لِمَهْلَكِهم) بفتح الميم واللام الثانية. انظر: "السبعة" ص 393، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 156، "المبسوط في القراءات العشر" ص 236، "التبصرة" ص 249. (¬3) "الدر المصون" 7/ 515، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 283، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 444، "معاني القرآن" للفراء 2/ 148. (¬4) هذا عجز بيت للعجاج وصدره: عصرًا وحضنا عيشة المعذلجا انظر: "ديوانه" 2/ 43، "المحتسب" 1/ 92، "المقتضب" 4/ 180، "الخصائص" 2/ 210، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 156، "الدر المصون" 7/ 515.

60

من عَدَّى: هلكت مصدر مضاف إلى المفعول به، نحو {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]. وقرئ في رواية حفص (¬1): {لِمَهْلِكِهِم} بفتح الميم وكسر اللام (¬2). قال أبو إسحاق: (هذا على أن يكون مهلك اسما للزَّمان، يقال: هلك يهلك، هذا زمن مهلكه) (¬3). قال أبو علي: (ويجوز أن يكون مصدرًا، وقد جاء المصدر من باب فعل يفعل بكسر العين قال: {إِلىَّ مَرْجِعُكُمْ} [آل عمران: 55]، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، والفتح في المصدر أكثر وأوسع) (¬4). وقوله تعالى: {مَوْعِدًا} قال ابن عباس: (يريد وقتًا) (¬5). وقال مجاهد: (أجلا) (¬6). 60 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} الآية. روي عن أبي بن كعب من طرق كثيرة أنه قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 156. (¬2) قرأ عاصم في رواية حفص: (لِمَهْلِكِهم) بكسر اللام فيهما وفتح الميم. انظر: "الغاية في القراءات" ص 308، "العنوان في القراءات" ص 123، "حجة القراءات" ص 421، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 65. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 297. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 157. (¬5) ذكره الماوردي في "تفسيره" 3/ 321 بدون نسبة. (¬6) "جامع البيان" 15/ 270، "النكت والعيون" 3/ 321، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 469.

موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا خضر (¬1)، فسأل موسى السبيل إلى لقياه فجعل الله له الحوت آية. [وقيل؛ إذا فقدت الحوت] (¬2) فأرجع فإنك ستلقاه" (¬3). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فأبلغ في الخطبة، وحدث في نفسه أن أحدًا لم يؤت من العلم ما أوتي، فعلم الله الذي حدث نفسه من ذلك فقال له: يا موسى إن من عبادي من قد آتيته من العلم ما لم أوتك، قال: إي ربي من عبادك؟ قال: نعم، ¬

_ (¬1) الخضر هو صاحب موسى-عليه السلام-، وقد اشتهر بهذا اللقب وسمي به في القرآن والسنة، وقد أخرج البخاري في "صحيحه" 6/ 309 بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما سمي الخضرة لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". قال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" 15/ 327: قيل إنما سمي الخضر خضرا: لحسنه وإشراقة وجهه، وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح؛ فإن كان ولابد من التعليل بأحدهما فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى بل لا يلتفت إلى ما عداه. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬3) "جامع البيان" 15/ 278، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 340، "معالم التنزيل" 5/ 184، "المحرر الوجيز" 9/ 347 - 348، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 103، "الدر المنثور" 4/ 417، "تفسير النسائي" 2/ 8. وأخرجته كتب الصحاح والسنن من عدة طرق. فقد أخرجه البخاري في كتاب التفسير سورة الكهف 8/ 409، وفي كتاب: العلم 1/ 173، وكتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الخضر 6/ 431، وكتاب: التوحيد 13/ 448، وأخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب: الفضائل، باب: فضل الخضر -عليه السلام- 4/ 1850، وأخرجه الترمذي في "جامعه" كتاب: التفسير سورة الكهف 8/ 558، وأخرجه أبو داود في "سننه" كتاب: السنن, باب: في القدر حديث رقم (4705)، وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 117.

قال: فدلني على هذا الرجل الذي آتيته من العلم ما لم تؤتني حتى أتعلم منه قال: يدلك عليه بعض زادك. فقال لفتاه يوشع: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} الآية، فكان فيما تزود حوتًا مالحاً في زبيل (¬1)، ثم كان من أمرهما ما قص الله في كتابه) (¬2). فقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} معناه: واذكر إذ قال موسى، لما في قصته من العبرة وقوله تعالى: {لِفَتَاهُ} أجمعوا أنه: يوشع بن نون. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد غلامه) (¬3). قال الفراء، والزجاج: (وإنما سمي فتى موسى؛ لأنه كان ملازمًا له يأخذ عنه العلم ويخدمه) (¬4). وقوله تعالى: {لَا أَبْرَحُ} قال جميع أهل التأويل: (معناه لا أزال) (¬5). يقال: برحت أفعل كذا أي: ما زلت، ومنه قوله تعالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91]، أي: لن نزال. وأصله من قوله: برح الرجل ¬

_ (¬1) الزبيل: الجراب، وقيل: وعاء يحمل فيه. انظر: "تهذيب اللغة" (زبل) 2/ 1509، "لسان العرب" (زبل) 6/ 15. (¬2) "جامع البيان" 15/ 278، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 405، "ابن كثير" 3/ 103، "الدر المنثور" 4/ 421. وأخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة الكهف 8/ 409، ومسلم في كتاب الفضائل باب: فضل الخضر 4/ 1850، والترمذي في كتاب: التفسير: سورة الكهف 8/ 588، والنسائي في "تفسيره" 2/ 8. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "جامع البيان" 15/ 271، "النكت والعيون" 3/ 321، "المحرر الوجيز" 9/ 346 - 347، "زاد المسير" 5/ 164، "القرطبي" 11/ 11. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 299، "معاني القرآن" للفراء 2/ 154. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 185، "المحرر الوجيز" 9/ 348، "النكت والعيون" 2/ 323، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 9.

براحا، إذا راح من موضعه، ومنه قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} [يوسف: 80] وقد مرَّ بنا، فإذا قلت: ما برح يفعل كذا، فكأنك قلت: أقام يفعل ذلك، ودام على حاله تلك من غير مفارقة. قال أبو إسحاق: (معنى {لَا أَبْرَحُ}: لا أزال، ولو كان معناه لا أزول كان محالاً؛ لأنه إذا لم يزل من مكانه لا يقطع أرضًا، وأنشد (¬1): وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله مُنْتَطِقًا مُجِيدًا أي: لا زال) (¬2). وقال صاحب النظم: (قوله: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} مكفوف عن إتمام نظمه؛ لأن فيه إضمارًا وهو: لا أبرح أمضى ماضيًا، أي: سائرًا حتى أبلع مجمع البحرين) (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد ملتقى البحرين العذب والمالح) (¬4). وقال قتادة: (يعني بحر فارس وبحر الروم) (¬5). وكان مجمع البحرين الموضع الذي وعد موسى للقاء الخضر -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) البيت لخداش بن زهير. منتطق: يقال جاء فلان منتطقًا فرسه إذا جنبه ولم يركبه. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 298، "المقاصد النحوية" 2/ 64،"أساس البلاغة" 2/ 454، "خزانة الأدب" 9/ 243، "شرح ابن عقيل" 1/ 264، "تهذيب اللغة" (نطق) 4/ 3602، "لسان العرب" (نطق) 7/ 4463. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 298. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" 2/ 395، "إملاء ما من به الرحمن" ص 401، "البحر المحيط" 6/ 144، "الدر المصور" 7/ 517، "التفسير الكبير" 21/ 145. (¬4) "جامع البيان" 15/ 271، "الدر المنثور" 4/ 417. (¬5) "جامع البيان" 15/ 271، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 405، "معالم التنزيل" 5/ 185، "المحرر الوجيز" 9/ 349.

وقوله تعالى: {أَوْ أَمْضِيَ} أو أسير. {حُقُباً} قال ابن عباس فيما روى عنه الوالبي يقول: (دهرًا) (¬1). وقال في رواية عطاء: (الحقب الواحد بضع وثمانين سنة، السنة ثلاثمائة وستون يومًا، اليوم الواحد ألف سنة) (¬2). وقال مجاهد: (الحقب سبعون خريفاً) (¬3). وأمما أهل اللغة فإنهم كلهم قالوا: (الحقب ثمانون سنة) (¬4). قال صاحب النظم: ({أَوْ} بمعنى حتى، مثل قولك: لا آتيك أو تكرمني، فيرجع تأويل الآية: لا أبرح ماضيًا إلى أن أمضي حقبًا حتى أبلغ مجمع البحرين. قال: ونظير هذا في الكلام أن تقول: لا أزال إلى أن أسير سنة حتى أقضى حاجتي. ومعنى إلى أن أسير سنة: وإن احتجت إلى أن أسير سنة) (¬5). وعلى ما ذكر يكون في الآية تقديم وتأخير، ولا يجوز أن يجعل {أَوْ} للعطف؛ لأنه ليس المراد حتى أبلغ مجمع البحرين وحتى أمضي حقبا، و {أَوْ} هاهنا الناصبة للفعل بإضمار أن كما تقول: لألزمنك ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 272، "النكت والعيون" 3/ 322، "ابن كثير" 3/ 103. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "التسهيل لعلوم التنزيل" ص 385، "الكشاف" 2/ 490، "التفسير الكبير" 21/ 146، "أنوار التنزيل" 3/ 230، "زاد المسير" 5/ 165، "مدارك التنزيل" 2/ 956، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 10. (¬3) "جامع البيان" 15/ 272، "النكت والعيون" 3/ 322، "ابن كثير" 3/ 103، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 11. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 299، "معاني القرآن" للفراء 2/ 154، "تفسير المشكل من غريب القرآن" ص 144. (¬5) ذكر نحوه بلا نسبة "البحر المحيط" 6/ 145، "الدر المصون" 8/ 517 , "إملاء ما من به الرحمن" 401، "التفسير الكبير" 21/ 146.

61

أو تعطيني حقي، التقدير: إلى أن تعطيني حقى (¬1)، ومنه قول امرئ القيس (¬2): فقلت له لا تبك عينك إنَّما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا المعنى: إلى أن نموت. 61 - قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا} يعني: موسى وصاحبه. {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} قال ابن عباس: (يريد ملتقى العذب والمالح) (¬3). وعلي قول قتادة: (ملتقى بحر الروم وبحر فارس) (¬4). وهو حيث وعد لقاء الخضر. وقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} إلى آخر الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (كان فيما تزودا حوتًا مالحًا في زبيل، وكان يصيبان منه عند العشاء والغداء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المكتل (¬5) فأصاب الحوت [ندى البحر فتحرك في] (¬6) المكتل فقلب المكتل، وانسرب في البحر) (¬7). ¬

_ (¬1) "البحر المحيط" 6/ 145، "الدر المصون" 7/ 520، "إملاء ما من به الرحمن" ص 401، "روح المعاني" 15/ 312. (¬2) البيت لامرئ القيس. انظر: "ديوانه" ص 64، "الكتاب" لسيبويه 3/ 47، "خزانة الأدب" 4/ 212، "المقتضب" 2/ 28، "اللامات" ص 68، "شرح المفصل" 7/ 22. (¬3) "جامع البيان" 15/ 271، "الدر المنثور" 4/ 417. (¬4) "جامع البيان" 15/ 271، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 405، "معالم التنزيل" 5/ 185، "المحرر الوجيز" 9/ 349. (¬5) المكتل: الزنبيل يحمل فيه التمر وغيره. انظر: "تهذيب اللغة" (كتل) 4/ 3100، "القاموس المحيط" (الكتلة) ص 1052، "لسان العرب" (كتل) 6/ 3822. (¬6) في جميع النسخ: جرى البحر فترك المكتل. وما أثبته هو الصواب والموافق للسياق، والمخبت في "الوسيط" للمؤلف 3/ 157. (¬7) "جامع البيان" 15/ 278، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 408، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 103، "الدر المنثور" 4/ 421.

وروى أبي بن كعب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما أراد موسى أن يطلبه قيل له: تزود معك حوتًا مالحًا فحيث (¬1) يفقد الحوت ثم تجد الرجل، فانطلق هو وفتاه حتى أتيا الصخرة، فقال لفتاه: امكث حتى آتيك، وانطلق موسى لحاجته، فجرى الحوت حتى وقع في البحر، فقال فتاه: إذا جاء نبي الله حدثته، فأنساه الشيطان" (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء: (نسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى) (¬3). {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} قال: (يريد مسيرًا) (¬4). وفي حديث أبي: "جعل لا يصيب الحوت شيئًا من الماء إلا جمد، حتى اتخذ سبيله في البحر سربًا شبه النقب" (¬5). وقال قتادة: (جعل لا يسلك طريقًا إلا صار الماء جامدًا) (¬6). وقال الربيع بن أنس: (انجاب الماء على مسلك الحوت فصارت كوة لم تلتئم) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ص): (فحنت)، وهو تصحيف. (¬2) سبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 390 أ، "بحر العلوم" 2/ 305 وذكره بدون نسبة. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة "المحرر الوجيز" 9/ 352، "بحر العلوم" 2/ 305، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 13. (¬5) سبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬6) "جامع البيان" 15/ 274، "المحرر الوجيز" 9/ 352، "البحر المحيط" 6/ 145. (¬7) ذكرته كتب التفسير ونسبته لأبي بن كعب. انظر: "جامع البيان" 273/ 15، "الكشف والبيان" 3/ 39 أ، "لباب التأويل" 4/ 223، "معالم التنزيل" 5/ 186، "زاد المسير" 5/ 166، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 103.

وروي أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي بن كعب قال: "ما انجاب الماء مذ كان الناس غير مكان الحوت الذي دخل منه كالكوة، حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه" (¬1). هذا معنى قوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}. وقال الكلبي: (كان عند تلك الصخرة التي نزلا عندها عين ماء فتوضأ يوشع من ذلك الماء، فانتضح على الحوت في المكتل ثم طفر في البحر) (¬2). والسَّرب معناه في اللغة: المحفور في الأرض لا نفاذ له، شبه مسلك الحوت في الماء (¬3)، والماء منجاب عنه بالسَّرب. كما قال الفراء: (حيي الحوت بالماء الذي أصابه من العين، فلما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب) (¬4). هذا قول المفسرين في هذه الآية. وعلى ما قالوا في نظم الآية تقديم وتأخير على تقدير: فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت [سبيله في البحر سربا، ونسي يوشع أن يذكر ذلك لموسى؛ لأن النسيان لم يتقدم على ذهاب الحوت] (¬5)، ذهب الحوت فنسي الفتى أن يذكر ذلك لموسى حتى جازوا ذلك المكان على ما في القرآن من الآيات بعد هذه الآية. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 273، "معالم التنزيل" 5/ 186، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 103. وسبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 186، "بحر العلوم" 2/ 305، "الكشاف" 2/ 395، "روح المعاني" 15/ 314، "التفسير الكبير" 21/ 146. (¬3) انظر (سرب) "تهذيب اللغة" 3/ 1663، "الصحاح" 1/ 146، "اللسان" 4/ 1981. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 154. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

وقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} إجماع المفسرين أن النسيان هاهنا معناه: نسيان الفتى ذكر قصة الحوت لموسى، والناسي كان أحدهما، وأضيف إليهما جميعًا. واختلفوا في وجه هذا فقال الفراء: (إنما نسيه يوشع فأضافة إليهما كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح دون العذب) (¬1). وعلى هذا أضيف إليهما توسعا، وذكر غيره العلة في جواز هذا التوسع فقال: (إنهما كانا جميعًا تزوداه لسفرهما، فجاز إضافته إليهما كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم) (¬2). وقال أبو علي الفارسي: (هذا من باب حذف المضاف. المعنى: نسي أحدهما حوتهما، فلما حذف المضاف عادت الكناية إلى الفعل فقيل: نسيا. قال: وكذلك قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن: 22] المعنى: من أحدهما، وفيه حذف أيضًا من وجه آخر وهو أن التقدير: نسيا أمر حوتهما وقصته؛ لأن يوشع نسي أن يذكر أمره لموسى على ما بينا) (¬3). هذا الذي ذكره مذهب المفسرين، وجميع أهل المعاني، وقد أغنى الزجاج عن الحذف والتقديم والتأخير الذي يلزم على مذهب هؤلاء فقال في قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} (كان النسيان من يوشع أن يقدمه، وكان النسيان من موسى أن يأمره فيه بشيء) (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 154. (¬2) "جامع البيان" 15/ 273، "المحرر الوجيز" 9/ 354، "النكت والعيون" 3/ 323، "روح المعاني" 15/ 314. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 311. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 299.

62

وعلى هذا المعنى لما بلغا مجمع بينهما نسي يوشع أن يقدم الحوت للأكل، ونسي موسى أيضًا أن يأمره بذلك، فلما نسياه حيا بإذن الله، وذهب في البحر، فصح المعنى واستغنى عن تقدير الحذف والتقديم والتأخير، غير أن مذهب المفسرين في النسيان ما ذكرنا أولى. وذكر في انتصاب قوله: {سَرَبَاً} وجهين أحدهما: أنه مفعول ثان، كما تقول: اتخذت زيدًا وكيلاً. والثاني: أن "سَرَبا" هاهنا مصدر سرب ينسرب إذا ذهب على وجهه (¬1). منه قول الشاعر (¬2): ونحن خلعنا قيده فهو سارب وذكرنا هذا عند قوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، وكأنه قيل: سَرب الحوت سربًا، ودل عليه قوله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 63]؛ لأنه بمعنى سرب، ولهذا نظائر كثيرة في التنزيل. وعلى هذا قد حصل في معنى السرب قول آخر. وبنحو هذا القول أخبرني العروضي عن الأزهري قال: (أخبرني المنذري عن ابن اليزيدي عن أبي حاتم. في قوله: {سَرَبًا} قال: أظنه يريد ذهابًا يسرب سربًا، كقولك: يذهب ذهابًا) (¬3). 62 - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا} أي: ذلك المكان الذي كانت عنده ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 299، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 445، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 283، "تهذيب اللغة" (سرب) 2/ 1663. (¬2) هذا عجز بيت للأخنس بن شهاب التغلبي، وصدره: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم انظر: "تهذيب اللغة" (سرب) 2/ 1662، "لسان العرب" (سرب) 4/ 1980. (¬3) "تهذيب اللغة": (سرب) 2/ 1663.

63

الصخرة وذهب الحوت. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انطلقا وأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال" (¬1). ولم يجد النَّصَب حتى جاوز حيث أمره الله تعالى {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} الآية. ونحو هذا قال ابن عباس وجميع المفسرين: (إنه لم ينْصَب حتى جاوز الموضع الذي يريده، فلما خرج من حد الموضع نصب فدعا بالطعام ليأكل) (¬2). والغداء: الطعام الذي يؤكل بالغداة. كالعشاء: الطعام الذي يؤكل بالعشي. والنَّصب: التعب والوهن الذي يكون عن الكلال (¬3). قال الليث: (النَّصب الإعياء من العناء، والفعل نَصِبَ يَنْصَب، وأنْصَبَنِي هذا الأمر) (¬4). 63 - قال المفسرون: فلما قال له موسى ذلك تذكر قصة الحوت؛ لأنه كان من عنده عذابهما، فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63] الآية. قال صاحب النظم: (الأمر عند الناس قوله: أرأيت من رؤية البصر، وليس كذلك، إنما هي كلمة وضعت لتنبيه المسؤول (¬5) عنه وبعثه على ¬

_ (¬1) سبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬2) "جامع البيان" 15/ 278، "معالم التنزيل" 5/ 186، "الكشاف" 2/ 396، "لجامع لأحكام القرآن" 11/ 13. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (نصب) 4/ 3581، "مقاييس اللغة" (نصب) 5/ 434، "القاموس المحيط" (نصب) 1/ 138. (¬4) "تهذيب اللغة" (نصب) 4/ 3581. (¬5) في نسخة (ص): (على ما يسأل عنه).

التفهم والإجابة كما قال -عز وجل -: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11]، والدليل على ذلك أن الفاء في قوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} يدل على أنه جواب لمعنى يقتضي الفاء، والتأويل: إن شاء الله أرأيت. أي: اسمع وتفهم فإني نسيت الحوت) (¬1). ونحو هذا قال أبو علي الفارسي: (وأما ما جاء أرأيت فيه بمعنى انتبه فقوله: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} كأن المعنى: انتبه فإني نسيت الحوت، ولذلك دخلت الفاء كما تدخل في جواب الجزاء. ومثله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ} [الملك: 30]، كأنه انتبهوا فمن يأتيكم) (¬2). وقوله تعالى: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} يعني: حين نزلا هناك ووضع يوشع المكتل الذي فيه الحوت عند الصخرة. وقوله تعالى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} قال ابن عباس في حديث أبي بن كعب مرفوعًا: (فإني نسيت الحوت أن أحدثكه) (¬3). وعلى هذا المعنى نسيت قصة الحوت وأمره على ما ذكرنا. ثم اعتذر فقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} وذلك؛ لأنه لو ذكر لموسى قصة الحوت عند الصخرة ما جاوزها موسى، وما ناله النصب الذي شكاه في قوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} فاعتذر فتاه من ذلك بأن أنساه الشيطان إياه. قال أهل المعاني: (معناه شغل قلبي بوسوسته حتى نسيته؛ لأن الشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما عرضه له) (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر أبو علي الفارسي نحوه في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 309. (¬2) ذكر نحوه في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 309. (¬3) سبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬4) "النكت والعيون" 3/ 324، "التفسير الكبير" 21/ 147.

وقوله تعالى: {أَنْ أَذْكُرَهُ} قال أبو إسحاق: ({أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل من الهاء لاشتمال الذكر على الهاء في المعنى، وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان) (¬1). قال ابن عباس: (يريد أن أحدث بقصة الحوت) (¬2). وهذه الآية تدل على صحة قول المفسرين في قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا}. وقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا) (¬3). ونحو هذا قال قتادة، ومجاهد، وابن زيد (¬4). وقد ذكرنا: أن مسلك الحوت لم يلتئم فدخل موسى ذلك المسلك. وينتصب {عَجَبًا} على هذا بوقوعه موقع الحال، كأنه قيل: واتخذ موسى سبيل الحوت عاجبًا من ذلك الأمر (¬5). قال مجاهد: (تعجب موسى من أثر الحوت في البحر ودورانه التي غاب فيها) (¬6). وقال ابن زيد: (أي شيء أعجب من حوت كان دهرًا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيًا حتى مشى في البحر) (¬7). وهذا القول اختيار الفراء ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 300. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 278، "الكشف والبيان" 3/ 391 أ، "بحر العلوم" 2/ 305، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 271، "المحرر الوجيز" 9/ 354 - 355، "النكت والعيون" 3/ 324. (¬3) "جامع البيان" 15/ 275. (¬4) "جامع البيان" 15/ 275، "تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 472. (¬5) "إملاء ما من به الرحمن" ص 402، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 445، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 284. (¬6) "جامع البيان" 15/ 276، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 284. (¬7) "جامع البيان" 15/ 275،"معالم التنزيل" 5/ 187.

فقد قال: (واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا) (¬1). ويجوز أن ينتصب عجبا بأنه نعتُ محذوفٍ؛ كأنه قيل: سبيلاً عجبًا. ذكره ابن قتيبة (¬2). وهذا القول الذي ذكرنا عن هؤلاء بعيدة لأن اتخاذ موسى سبيل الحوت مسلكًا كان بعد أن ارتدا على آثارهما قصصًا، إلا أن تحمل النظم على التقديم والتأخير، ولكن التقريب أن يجعل قوله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} من قول يوشع [إخبارًا عن الحوت أنه فعل ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من المفسرين فقالوا: (هذا من قول يوشع] (¬3) يقول: اتخذ الحوت سبيله في البحر سبيلاً عجبًا) (¬4). وذكر الزجاج هذا القول (¬5). وذكر كثير من أهل العلم: (أن الكلام قد تمَّ عند قوله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} ويحسن الوقف هاهنا ثم تقول (¬6): {عَجَبًا}) (¬7). ووجه هذا ما قاله أبو إسحاق: (وهو أن يكون قال يوشع: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} فأجابه موسى فقال: {عَجَبًا} كأنه قال: أعْجَبُ عَجَبًا) (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 154. (¬2) "تفسير غريب القرآن" 1/ 268. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ص). (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 187، "المحرر الوجيز" 9/ 355، "الكشاف" 2/ 396، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 14. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 300. (¬6) قوله: (تقول)، ساقط من (ص). (¬7) "المحرر الوجيز" 9/ 355، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 14، "البحر المحيط" 6/ 146، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 370، "الإيضاح" 2/ 259، "القطع والإئتناف" ص 448. (¬8) "معالم التنزيل" 5/ 187، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 300.

64

ونحو هذا حكى أبو حاتم (¬1) عن أهل التفسير فقال: (إنهم قالوا: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} تمام، ثم قال: {عَجَبًا} أي: أعْجَبُ عَجَبًا، وعلى هذا يجوز أن يكون العجب راجعًا إلى يوشع أخبر عن اتخاذ الحوت سبيله في البحر، ثم أخبر عن تعجبه من ذلك) (¬2). والوقف على قوله: {فِي الْبَحْرِ} مذهب الحسن، وعيسى بن عمر (¬3)، ويعقوب (¬4). قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (لما قال هذا يوشع ذكر موسى ما كان عهد إليه أنه يدلك عليه بعض زادك) (¬5). 64 - فقال: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (أي هذه حاجتنا) (¬6). وهذا اللفظ يحتمل معنيين أحدهما: أن المراد بحاجته التي كان يطلبها الخضر -عليه السلام-، وعلى هذا الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى الخضر. هذا قول ذكره المتأخرون من أهل التفسير. والصحيح: أنه ¬

_ (¬1) هو السجستاني. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 391، "بحر العلوم" 2/ 306، "المحرر الوجيز" 9/ 355، "لباب التأويل" 4/ 222، "الكشاف" 2/ 492، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 14، "إرشاد العقل السليم" 5/ 233. (¬3) في (ص): (عيسى بن مريم)، وهو تصحيف. (¬4) "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 370، "القطع والائنتاف" ص 448، "الإيضاح" 2/ 259. (¬5) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 324 بدون نسبة، وذكر نحوه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 417. (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 391 أبدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم " 2/ 306.

أراد بقوله: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} انسراب الحوت (¬1)؛ لأن هذا جواب لقول يوشع حين أخبره بذلك الحوت، وعنده الخضر في ذلك المكان الذي تنسرب فيه السمكة، فقال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي: نطلب ونريد من العلامة، ولو أراد الخضر بقوله: {مَا كُنَّا نَبْغِ} لقال: ذلك من كنا نبغي. ولكن يوشع لم يخبره عن الخضر بشيء حتى يكون معنى قوله: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} الخضر. ودل كلام أبي إسحاق، والفراء على هذا القول (¬2). وقوله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} قال المفسرون: (رجعا وعادا عودهما على بدئهما في الطريق الذي جاءا منه) (¬3). {قَصَصًا} أي: يقصان آثارهما قَصَصا. والقَصَص: إتباع الأثر (¬4)، وقد مر ذكره. وانتصابه على المصدر (¬5). ودل قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} حتى انتهيا إلى الصخرة التي فعل عندها الحوت ما فعل، وأبصر موسى أثر الحوت فأخذا أثر الحوت يمشيان على الماء حتى انتهيا إلى جزيرة من جزائر البحر فوجدا الخضر (¬6). ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 356، "الكشاف" 2/ 396، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 15، "البحر المحيط" 6/ 147. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 300، "معاني القرآن" للفراء 2/ 155. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 187، "المحرر الوجيز" 9/ 356، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 103 - 104، "الكشاف" 2/ 396. (¬4) "العمدة في غريب القرآن" ص 191. (¬5) "البحر المحيط" 6/ 147، "الدر المصون" 7/ 525، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 445. (¬6) "جامع البيان" 15/ 279، "الدر المنثور" 4/ 421.

65

65 - فذلك قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} أي: صادفا وأدركا الخفر. قال المفسرون: (اسمه بليا بن ملكان) (¬1). وقال مقاتل بن سليمان: (اسم المذكور في القرآن اليسع) (¬2). قال مجاهد: (سمي الخضر؛ لأنه إذا صلى اخضر ما حوله) (¬3). وقوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} قال ابن عباس: (يريد نبوة) (¬4). {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} قال: (أعطاه علمًا من علم الغيب) (¬5). 66 - {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} وقرئت: ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 188، "البحر المحيط" 6/ 147،"روح المعاني" 15/ 319. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 325، "البحر المحيط" 6/ 147، "روح المعاني" 15/ 319. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 188، "النكت والعيون" 3/ 325، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 16، "الدر المنثور" 4/ 424 وقد صح عند البخاري 6/ 309، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إنما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. وانظر:"صحيح مسلم بشرح النووي" 15/ 136، "مسند الإمام أحمد" 2/ 312. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 325، "الكشاف" 2/ 396، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 16. وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 356. والخضر نبي عند الجمهور، والآية شهد بنبوته؛ لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله. وقال القرطبي 11/ 16: إن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي. وانظر: "الزهر النضر في نبأ الخضر" ص 110،"الخضر بين الواقع والتهويل" ص 62، "الخضر نسبه ونبوته" ص 17، "الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة" ص 18. (¬5) "جامع البيان" 15/ 276، "معالم التنزيل" 3/ 188، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 16.

رَشَدا (¬1)، ومثله كثير في العربية نحو: البُخْل والبَخَل، والعُجْم والعَجَم، والعُرْب والعَرَب. قال أبو علي الفارسي: (فُعْل وفَعَل قد أجرى العرب كل واحد منهما مجرى الآخر (¬2)، ألا ترى أنهم جمعوهما جمعًا واحدًا فقالوا: تاجٌ وتِيْجان، وقاعٌ وقِيْعان، وحُوت وحِيْتان، ونُوْنٌ ونيْنان، وكما جمعوا فعلاً على فعلٍ نحو: أَسَد وأُسْد، ووَثَن ووُثْن، جمعوا فُعْلا على فُعْلٍ أيضًا، كما جمعوا فَعَلاً وذلك قولهم: الفلك، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] أراد الواحد. وقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]، أراد الجمع. وقيل: أرجح الوجهين قراءة من قرأ: رَشَدا، لاتفاقهم على الفتح في قوله: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]. وقد اجتمعا في أن كل واحد منهما فاصلة. فأما وجه انتصابه فقوله: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} حال من قوله: {أَتَّبِعُكَ}، والراجع إلى الموصول في قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} محذوف تقديره: مما علمته. و {رُشْدًا} منصوب على أنه مفعول له، كأنه قيل: أتبعك للرشد. ويجوز أن يكون مفعولاً به تقديره: هل أتبعك على أن تعلمني رشدًا مما علمته (¬3). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (رشدا) مضمومة الراء خفيفة الشين. وقرأ ابن عامر: (رُشُدا) مضمومة الراء والشين، وقرأ أبو عمرو البصري: (رَشَدا) مفتوحة الراء والشين. انظر: "السبعة" ص 394، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 154، "التبصرة" ص 250، "حجة القراءات" ص 422، "النشر" 2/ 311. (¬2) في نسخة (ص): (الأثري)، وهو تصحيف. (¬3) "مشكل إعراب القرآن" 1/ 445، "إملاء ما من به الرحمن" 402، "الدر المصون" 7/ 525.

67

ومعنى: {رُشدًا} أمرا ذا رشد، وعلما ذا رشد) (¬1)، وذكرنا معنى الرشد عند قوله: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشَدِ} [الأعراف: 146] وفي موضع آخر. وهذه الآية بيان عما يوجبه العلم من تعظيم صاحبه، ألا ترى كيف دعت موسى مع جلالة شأنه وما أتاه الله من التوراة والعلم، في إتباع من يتعلم منه فيزداد إلى علمه. قال أبو إسحاق: (وفيما فعل موسى وهو من جلة الأنبياء عليهم السلام من طلب العلم والرحلة في ذلك، ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأحاط بأكثر ما يدركه أهل زمانه، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه) (¬2). وقال قتادة: (لو كان أحد مكتفيًا من العلم لاكتفى موسى نبي (¬3) الله حيث قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} الآية) (¬4). 67 - وقوله تعالى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} هذا قول الخضر لموسى عليهما السلام. قال ابن عباس: (يريد لن تصبر على صنيعي؛ لأني علمت علم غيب، علم ربي) (¬5). 68 - وقال أبو إسحاق: (ثم أعلمه العلة في ترك الصبر، فقال: ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 155. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 301. (¬3) في (س): (نجبى)، وهو تصحيف. (¬4) "روح البيان" 15/ 274، "مجمع البيان" 6/ 446. (¬5) ذكر نحوه "جامع البيان" 15/ 280، "ومعالم التنزيل" 3/ 173، و"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 16.

69

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} أي: كيف تصبر على ما ظاهره منكر، والأنبياء والصالحون لا يصبرون على ما يرونه منكرًا) (¬1). وقال الكلبي: (يقول لا ينبغي لرجل صالح أن يصحبني يرى مني ما ينكر لا يغيره) (¬2). وقال ابن عباس: (يريد لم تحط بعلم الغيب) (¬3). وقال الزجاج: (نصب {خُبْرًا} على المصدر؛ لأن معنى {لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} أي: لم يخبره خبرا) (¬4). ومعنى لم يخبره خبرا: لم يعلمه. والخبر: علمك بالشيء، يقال: من أين خبرت هذا؟ أي: علمت. وليس هذا من الخبر بمعنى التجربة. وقد روي ذلك عن عطاء في هذه الآية قال: (يريد لم يخبر من علم الغيب شيئًا) (¬5). وهو بعيد مع قوله: {لَمْ تُحِطْ بِهِ} ولفظ الإحاطة يستعمل في معنى العلم لا في معنى التجربة، فقوله: {لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} كقولك: لم تحط به علمًا. 69 - {قَالَ} موسى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} قال الكلبي: (يقول لا أسألك عن شيء حتى تكون أنت تحدثني) (¬6) {وَلَا أَعْصِي لَكَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 301. (¬2) ذكر السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 306 بدون نسبة، وكذلك القرطبي 11/ 16. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 391 أ. وذكر نحوه بدون نسبة:"جامع البيان" 15/ 283، "النكت والعيون" 3/ 326. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 302. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 283، "الكشف والبيان" 3/ 391 أ، "النكت والعيون" 3/ 326، وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 420 نحوه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وابن مردويه. (¬6) ذكره نحوه السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 306 بدون نسبة.

70

أَمْرًا} قال ابن عباس: (يريد ولا أخالفك في شيء) (¬1). 70 - قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} قال ابن عباس: (وذلك أنه كان رجلاً يعمل على الغيب) (¬2). وقوله تعالى: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} قال: (يريد حتى أكون أنا الذي أفسره لك؛ لأنه قد غاب علمه عنك) (¬3). هذا كلامه، وتفسير {أُحْدِثَ لكَ مِنْهُ ذِكْراً} أبتدئ بذكره لك وبيانه. 71 - وقوله تعالى: {فَاَنطَلَقَا} روي عن أبي بن كعب مرفوعًا أنه قال: (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة وكلموهم أن يحملوهما، فحملوهما بغير أجر، فلما ولجوا البحر أخذ الخضر فأسًا فخرق لوحًا من السفينة، فحشاها موسى بثوبه، وقال له: {أَخَرَقنَهَا} الآية) (¬4). فذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَكبَا في اَلسَّفِينَهِ} أراد ركبا البحر في السفينة، فحذف المفعول للعلم به. والسفينة معروفة أصلها: من السَّفن وهو القشر، سميت لِسَفْنِهَا وجه الماء كأنها تَقْشرة، وهي فَعِيلَة بمعنى فَاعِلة. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (قيل لها سَفِينَة؛ لأنها تَسْفِنُ الرَّمْل إذا قلَّ الماء. قال: ويكون مأخوذًا من السَّفن، وهو الفأس التي ينجر ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 189، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 104، "لباب التأويل" 4/ 223. (¬2) ذكر نحوه "جامع البيان" 15/ 283، و"معالم التنزيل" 5/ 189، و"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 16. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 391 أ، "الدر المنثور" 4/ 420 وعزاه لابن عساكر. (¬4) سبق تخريج الحديث في أول القصة.

به النجار) (¬1). ومنه قوله (¬2): كما تخوَّف عود النبعة السَّفن فهي على هذا فعيلة بمعنى مَفْعولة؛ لأنه نُحِتَت من الخشب بالسَّفَن فهي مَسْفونة، أي: منجورة منحوتة (¬3). وقوله تعالى: {خَرَقَهَا} أي: شقها. جاء في التفسير: (أنه قلع لوحين مما يلي الماء) (¬4)، فقال موسى منكرًا عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قال مجاهد: (منكرا) (¬5). وهو قول قتادة، والمفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سفن) 2/ 1708. (¬2) هذا عجز بيت اختلف في نسبته. وصدره: تخوَّف الرَّحل منها تامكًا صلبًا تخوف: التخوف التنقص شيئًا فشيئًا. والتامك: السنام المرتفع. والنبعة: واحدة النبع وهو شجر تتخذ منه القسي. والسَّفن: مبرد الحديد الذي ينحت به الخشب. انظر: "الجامع البيان" 14/ 113، "الكشاف" 2/ 411، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 110، "تهذيب اللغة" (سفن) 2/ 1708، "لسان العرب" (سفن) 4/ 2032، "الصحاح" (سفن) 5/ 2136. (¬3) انظر المواضع السابقة من: "تهذيب اللغة"، "الصحاح"، "لسان العرب". (¬4) "معالم التنزيل" 3/ 173، "المحرر الوجيز" 9/ 360، "النكت والعيون" 3/ 327، "الكشاف" 2/ 397. (¬5) "جامع البيان" 15/ 284، "المحرر الوجيز" 9/ 361، "النكت والعيون" 3/ 327، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 19. (¬6) "جامع البيان" 15/ 284، "فتح القدير" 3/ 431.

72، 73

وقال أبو عبيدة: (داهية نكرا) (¬1)، وأنشد (¬2): قد لقي الأقران منِّي نكرا ... داهيةً دهياء إدًّا إمرا وقال الكسائي: (شديدًا عظيمًا) (¬3). من أَمِر الأمر إذا كبر أمرا بفتح الميم، والإمر الاسم (¬4). 72، 73 - فقال له الخضر محققًا ما كان قال له أولاً: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} روى ابن عباس، وأبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت الأوُلى من أمر موسى في النسيان، والثانية العذر، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص" (¬5). فعلى هذا معنى قوله: {نَسِيتُ} غفلت عن التسليم لك، وترك الإنكار عليك ونسيت ذلك. وروي عن ابن عباس نفسه أنه قال: (بما تركت من عهدك) (¬6). وهو قول الكلبي يقول: (ما تركت من وصيتك) (¬7). وعلى هذا القول النسيان ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 409. (¬2) لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب التفسير واللغة بدون نسبة. انظر: "الطبري" 15/ 284، "النكت والعيون" 3/ 327، "القرطبي" 11/ 19، "مجاز القرآن" 1/ 409، "الدر المصون" 7/ 528، "شواهد الكشاف" ص 130، "اللسان" (أمر) 1/ 129. (¬3) "روح المعاني" 15/ 337. (¬4) "جامع البيان" 15/ 285، "القرطبي" 11/ 19، "فتح القدير" 3/ 432، "لسان العرب" (أمر) 1/ 129. (¬5) "جامع البيان" 15/ 184، "النكت والعيون" 3/ 327، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 105. وسبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬6) "جامع البيان" 15/ 285، "معالم التنزيل" 5/ 190، "النكت والعيون" 3/ 327، "الكشف والبيان" 3/ 391 أ. (¬7) "النكت والعيون" 3/ 328، وذكره "بحر العلوم" 2/ 307 بدون نسبة، وكذلك "جامع البيان" 15/ 285، و"الكشاف" 2/ 493.

بمعنى: الترك، لا بمعني الغفلة. وروي عن أبي بن كعب نفسه أنه قال: (لم ينسها ولكنها من معاريض الكلام) (¬1). وهذا القول مروي عن أبي عمرو بن العلاء قال: (ما كان نسي (¬2)، ولكن هذا من معاريض الكلام) (¬3). ومعني هذا: أنه اعتذر بالنسيان كالعادة في الكلام، وأن لفظ النسيان كثيرًا ما يذكر معترضًا به من غير حقيقة. وقال بعضهم: (أراد أنه لم يقل له: نسيت فيكون كاذبًا, ولكنه قال: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} فأوهمه النسيان تعريضًا) (¬4). وقد حصل في قوله: {بِمَا نَسِيتُ} ثلاثة أوجه (¬5). قوله تعالى: {وَلَا تُرْهِقْنِي} قال ابن عباس في رواية عطاء: (تلحقني) (¬6). روى سلمة عن الفراء: (رهِقَني الرجل، يَرْهَقني، رهقًا، أي: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 15/ 285، "الكشف والبيان" 3/ 391 أ، "المحرر الوجيز" 9/ 362، "البحر المحيط" 6/ 150، "روح المعاني" 15/ 338. (¬2) في (ص): (مني)، وهو تصحيف. (¬3) لم أقف عليه عن أبي عمرو. وذكره "جامع البيان" 15/ 285 ونسبه لأبي بن كعب، وكذلك "الكشف والبيان" 3/ 391، و"المحرر الوجيز" 9/ 362، و"زاد المسير" 5/ 171، و"الدر المنثور" 4/ 428. وذكره "بحر العلوم" 2/ 307، ونسبه لابن عباس، وكذلك "معالم التنزيل" 5/ 190، و"النكت والعيون" 3/ 327، و"زاد المسير" 5/ 171، و"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 20. (¬4) "المحرر الوجيز" 9/ 262، "بحر العلوم" 2/ 307. (¬5) والقول الأول -والله أعلم- هو الراجح وهو قول جمهور العلماء. قال ابن جرير الطبري 15/ 184: والصواب من القول في ذلك أن يقول أن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذه بما نسي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه وهو لعهده ذاكرًا للصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك معناه من الخبر. وانظر: "المحرر الوجيز" 9/ 362، "البحر المحيط" 6/ 150. (¬6) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 328 بدون نسبة.

لَحِقَني وغَشِيَني، وأَرْهَقته إذا أَرْهَقَته غيرك) (¬1). وقال أبو إسحاق: (معنى {تُرْهقِنى} تغشيني) (¬2). ونحو ذلك قال ابن قتيبة (¬3)، وهو قول العامة. ويغشني ويلحقني بمعنى واحد، ومن لحق شيئًا فقد غشيه. وقال الكلبي في قوله: ({وَلَا تُرْهِقْنى} لا تكلفني) (¬4) قال أبو زيد: (أرهقتُه عُسْرًا إذا كلَّفته ذاك) (¬5). وهذا قريب من الأول، والكلام في هذا الحرف قد سبق عند قوله: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]. ومعنى الآية؛ عاملني باليسر لا بالعسر، ولا تضيق عليَّ الأمر في صحبتي إياك (¬6). وقال الفراء في قوله: {وَلَا تُرْهِقْنىِ}: (لا تعجلني) (¬7). قال ابن شميل: (أرهَقَني القوم أن أصلِّي، أي: أعْجَلُوني) (¬8). وقال ابن الأعرابي: (إنه لرَهِقٌ أي: سريع إلى الشر سريع الحِدَّة) (¬9). وقال الكسائي: (فيه رَهَق، أي: خفِّة وحدِّة) (¬10). والأحسن في تفسير ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (رهق) 2/ 1479. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 302. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 269. (¬4) "النكت والعيون" 3/ 328، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 307 بدون نسبة. (¬5) "تهذيب اللغة" (رهق) 2/ 1489. (¬6) "جامع البيان" 15/ 185، "معالم التنزيل" 5/ 190، "البحر المحيط" 6/ 150. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 155. (¬8) "تهذيب اللغة" (رهق) 2/ 1489، "تاج العروس" (رهق) 13/ 183. (¬9) "تهذيب اللغة" (رهق) 2/ 1489، "لسان العرب" (رهق) 3/ 1756. (¬10) "لسان العرب" (رهق) 3/ 1756.

74

{ترهقني} مع قوله: {مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قول ابن عباس، والكلبي. وقول الفراء بعيد في تفسير الآية، لا يحسن أن نقول: لا تعجلني من أمري عسرا، والله أعلم. 74 - وقوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} في حديث أبي بن كعب: (أنهما خرجا مع الصبيان فقال به هكذا، كأنه اجتذب رأسه فقلعه. وأشار عبد الرزاق (¬1) حين روى هذا الحديث بأصابعه الثلاثة: السبابة، والوسطى، والإبهام وفتحها) (¬2). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أن ذلك الغلام كان من أحسن أولئك الغلمان وأصبحهم) (¬3). وقال أبو العالية: (كان الخضر عبدًا لا تراه الأعين، ورآه موسى، ولو رآه الناس يقتله ما تركوه) (¬4). ¬

_ (¬1) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ أبو بكر الحميري بالولاء، من علماء اليمن، حدث عن جماعة منهم: الأوزاعي، والثوري، ومالك بن أنس، وحدث عنه: الإمام أحمد وغيره. توفي -رحمه الله- سنة 211 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 548، "ميزان الاعتدال" 2/ 609، "سير أعلام النبلاء" 9/ 563. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 340، "معالم التنزيل" 5/ 190، "المحرر الوجيز" 9/ 364. وسبق تخريج الحديث في أول القصة. (¬3) "جامع البيان" 15/ 286. وذكر نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 391 أ، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 308. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 20، "فتح القدير" 3/ 436 وقال رحمه الله: وأقول ينبغي أن ينظر من أين له هذا؟ فإن لم يكن مستندًا إلاَّ قوله: ولو رآه القوم .. الخ , فليس ذلك بموجب لما ذكره، أما أولاً: فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن =

قال موسى حين رأى ذلك: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} قال ابن عباس ومجاهد: (لم يبلغ الحلم) (¬1). ومعنى الزاكية: الطاهرة من الذنوب، وذلك؛ لأنه كان صغيرًا لم يبلغ حد التكليف. وقرئ: زاكيه (¬2). وهي البرئية من الذنوب. كذا قال الأعمش وغيره، وهو قول أبي إسحاق (¬3). وقال الفراء: (الزَاكِية والزَكِية مثل: القَاسِية والقَسِية) (¬4). قال الليث: (الزكاة: الصلاح) (¬5). ورجل زاكٍ وزَكِي أي: تَقِي، ومنه قوله تعالى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] أي: صلاحًا. قال الكسائي: (والفعل منه زَكَوْتُ، يزْكُو، زُكُوًا، وزكاءً ممدود) (¬6). هذا الذي ذكرنا أنه كان صبيًا لم يبلغ الحنث، قول أكثر المفسرين (¬7). ¬

_ = يراه أهل السفينة وأهل الغلام، لا لكونه لا تراه الأعين بل لكونه فعل ذلك من غير إطلاعهم. وأما ثانيًا: فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء، فسلموا لأمر الله. وانظر: "أضواء البيان" للشنقيطي 4/ 173. (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 191، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب، و"زاد المسير" 5/ 172. (¬2) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: (زاكية) بالألف. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (زكية) بغير ألف مع التشديد. انظر: "السبعة" ص 395، "المبسوط في القراءات" ص 237، "التبصرة" ص 250، "حجة القراءات" ص 424، "النشر" 2/ 313. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 303، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 155. (¬5) "تهذيب اللغة" (زكا) 2/ 1542. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 391/ ب، وذكر نحوه بدون نسبة "تهذيب اللغة" (زكا). (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 191، "المحرر الوجيز" 9/ 364، "النكت والعيون" 3/ 328، "زاد المسير" 5/ 172.

وقال الضحاك: (كان غلامًا يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه) (¬1). وقال الكلبي: (كان يقطع الطريق) (¬2). وعلى هذا معنى قوله: "زاكية" ما قال قتادة: (الزاكية التائبة) (¬3). يعني النامية، وكل شيء يزداد ويسمن فهو يزكو، زكاء والمعنى: أنه كان غلامًا مقتبل الشباب (¬4). أو تقول معنى زاكية على تفسير الضحاك والكلبي: (أنها كانت زاكية في رأي العين؛ لأنه لم يجن جناية توجب قتله بحضرة موسى) (¬5). وقوله تعالى: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} قال ابن عباس: (يريد من غير قود) (¬6). والمعنى: بغير قتل نفس: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْراً} أي: فظيعًا منكرًا لا يعرف. قال قتادة: (والنكر أشد من الإمر) (¬7). وهو اختيار ابن كيسان (¬8). والمعنى على هذا: لقد جئت شيئًا أنكر من الأول. وقال أبو إسحاق: (و {نُّكْرًا} أقل من قوله: {إِمْرًا}؛ لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة) (¬9). وانتصاب قوله: {شَيْئًا ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 191، "الكشف والبيان" 3/ 391. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 191، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 22، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب. (¬3) "جامع البيان" 15/ 286، "النكت والعيون" 3/ 329. (¬4) "النكت والعيون" 3/ 329، "زاد المسير" 5/ 173. (¬5) "جامع البيان" 15/ 286، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب. (¬6) "جامع البيان" 15/ 286 بغير نسبة. (¬7) "جامع البيان" 15/ 287، "معالم التنزيل" 5/ 191، "النكت والعيون" 3/ 330، "الدر المنثور" 4/ 428. (¬8) "الكشف والبيان" 3/ 391 ب. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 303.

76

نُّكْراً} على المفعول به؛ لأن المعنى: أتيت شيئًا نكرا. قال الزجاج: (ويجوز أن يكون معناه جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء أمضى الفعل فنصب) (¬1). 76 - قوله تعالى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} قال أهل المعاني: أراد إن سألتك سؤال توبيخ وإنكار، كما قال في السفينة: {أَخَرَقْتَهَا} وفي الغلام: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا} وذاك أن السؤال على وجوه: منه ما هو: طلب الأخبار عن المعنى للفائدة، ومنه ما هو: للتقرير، ومنه ما هو: للتوبيخ. والكناية في قوله: {بَعْدِهَا} تعود إلى النفس المقتولة. وقوله تعالى: {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِى عُذرًا} قال ابن عباس: (يريد أنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا) (¬2). وقال أهل المعاني: (هذا إقرار من موسى بأن الخضر قد قدم إليه ما يوجب العذر عنده، فلا يلزمه ما أنكر) (¬3). وروي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية فقال: "استحيا نبي الله موسى عندها, ولو صبر لرأى ألفا من العجائب" (¬4). ¬

_ (¬1)؛ "معاني القرآن" للزجاج 3/ 303. (¬2) "زاد المسير" 5/ 175. (¬3) ذكره نحوه "المحرر الوجيز" 9/ 367، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 286. (¬4) أخرجه البخاري في التفسير، سورة الكهف 8/ 409، ومسلم في الفضائل، باب فضائل الخضر 4/ 1851، وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" 15/ 186، والترمذي في الدعوات، باب ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه 5/ 463، وأبو داود في "سننه" كتاب الحروف والقراءات 4/ 286، وابن أبي شيبة في "المصنف" 10/ 219، والحاكم في "المستدرك" 2/ 574، وأورده السيوطي في "الدر" 4/ 428.

واختلف القراء في قوله: (مِن لَّدُنِّي) فقراءة العامة: بتشديد النون، وقرأ أهل المدينة: بتخفيفها (¬1). قال أبو إسحاق: (الأجود تشديد النون؛ لأن أصل نون لَدُنْ الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك زدت نونًا ليِعْلَمَ سكون النون الأولى، تقول: من لدنْ زيدٍ، فتسكن النون ثم تضيف إلى نفسك فتقول: من لَدُنِي، كما تقول: عن زيدٍ، ثم تقول: عَنِي) (¬2). وقال أبو علي: (من قال من لَدُنِّي زاد النون التي تزاد مع علامة المضمر المجرور والمنصوب، في نحو مِنِّي، وعَنِّي، وقَطْنِي، وضَرَبَني، فأدغم الأولى الساكنة في التي تزاد مع الضمير، فصار من لدنِّي، وهذا هو القياس والذي عليه الاستعمال. ومن خفف فإنه لم يلحق النون التي تلحق علامة الضمير في نحو: ضَرَبني، وقدني كما قال (¬3): ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (من لدنِّي) بتشديد النون. وقرأ نافع: (من لَدُنِي) بضم الدال مع تخفيف النون. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (من لدني) بشم الدال شيئًا من الضم، مع تخفيف النون. انظر: "السبعة" ص 397، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 160، "التبصرة" ص 250، "حجة القراءات" ص 424، "النشر" 2/ 313. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 303. (¬3) هذا صدر بيت لحميد بن مالك الأرقط. وعجزه: ليس الإمام بالشحيح الملحد قَدْني: حسبي. الخبيبان: عبد الله بن الزبير وابنه، وقيل: هما عبد الله وأخوه مصعب. انظر: "الكتاب" 2/ 371، "الخزانة" 5/ 382، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 161، "المحتسب" 2/ 223، "الكامل" ص 84، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 304، "مغني اللبيب" 1/ 170، "الإنصاف" ص 108، "لسان العرب" (خب) 2/ 1087.

قَدْنِي من نصر الخُبَيْبَيْن قدي لم يلحق النون، كذلك قرأ نافع: لدني. ولا تكون النون المحذوفة نون لدن لثبوته في قولك: لدنه، ولدنك، ولدنَّا) (¬1). وقال أبو إسحاق: (ومن قال: لدني، لم يجز له أن يقول: عَنِي، ومِنِي؛ لأن لَدُن اسم غير متمكن، ومن، وعن حرفان جاءا لمعنى، ولدن مع ذلك أثقل من: مِنْ، وعَنْ، والدليل على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون قولهم: قدنى، في معنى: حسبي) (¬2)، هذا كلامه. وذكر الفرق بين لدني مخفف، ومتى خفف لا يجوز من وجهين أحدهما: أن لَدُنْ اسم والاسم يجوز الحذف فيه كقولهم: قَدِي. والآخر: أن لدن أثقل من (من). وقال أبو علي فيما استدرك عليه: (النون مع الياء التي للمتكلم إنما اجتلبت ليسلم سكون الحرف، كما اجتلبت في (قد)، كذلك ثم استجيز الحذف في لدن، كما استجيز في (قد): (قدي)، فيجب أن ينظر في أي: موضع يجوز الحذف في (قدي)، فيجوز في لدن على ذلك الحد. فوجدنا الحذف في (قد) إنما وقع في الضرورة في الشعر دون الكلام، ولم يجيء الحذف في غير الشعر فإذا كان كذلك فلا يستحسن على هذا الحذف في القراءة من لدني؛ لأنه ليس بموضع ضرورة، ولم يفصل أبو إسحاق ما يجوز في الشعر، مما يجوز في الكلام والقرآن، حتى صار الجائز في الضرورة يتوهم من كلامه جوازه في الكلام. فإن قيل: إن الحذف للنون في (لدني) أدنى مزية في الحسن على (قدي)، لاجتماع المثلين فيه وهم ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 161، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" 968. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 303.

يكرهون اجتماعهما، فيكون الحذف فيه أمثل منه في (قدي)، فيجوز في الكلام. قلنا: ليس بأمثل؛ لأن المثلين ليسا بلازمين، فلا يستحسن فيهما ما يستحسن في اللازمين من الحذف للتخفيف، على أنه قد يجرى غير اللازم مجرى اللازم في الإدغام نحو: علماء بنو فلان، وكثير من الأحكام. وإجازة (لدني) في الكلام قياسًا على هذا وجيه، والأول أعجب إلينا. وأما فصله بين (لدني)، و (مني)، بأن أحدهما اسم والآخر حرف، فغير صحيح؛ لأنه لو امتنع الحذف في [منِّي وعنِّي؛ لأنهما حرفا معنى لامتنع في إنِّي وأَنني، ولَعَلِي ولَعَلَنِي، وكأني وكأنَنِي، وليتني وليتي فلما لم يمتنع الحذف في] (¬1) النون من هذه الكلم وهي حروف، دل أن الحذف في النون من منِّي لم يمتنع من حيث كان حرفا , ولذلك لم يجر الحذف في لدني من حيث كان اسمًا , وليس في كون الكلمة اسمًا ما يوجب الحذف منه أو يجوزه فيه، بل ظاهر الأمر يوجب أن تبقية الزيادة في الاسم أولى، إذ الاسم للزيادة أحمل، وإنما امتنع الحذف في مني وعني؛ لأن هذه النون [اجتلبت ليسلم به سكون الحرف كما] (¬2) اجتلبت لتسلم به الحركة في ضرني ويضربني، فحذفه هو خلاف ما قصدوا له وإبطاله، والحذف في قدي إنما جاز في الشعر للضرورة، والشاعر إذا اضطر حذف ورد الكلمة إلى الأصل، ولو اضطر فحذف في مني وعني لجاز ذلك أيضًا وكان أمثل من قدي؛ لأنه مثلان في قد، وما لم تجتمع المتماثلة أو المتقاربة لم يحسن الحذف في الكلام، وإنما يجيء في الضرورة، ألا ترى أن ليت لما لم يجتمع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومثبت في بقية النسخ. (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في الأصل.

المماثلة فيه لم يحذف في الكلام، وإنما جاء الحذف في بيت الكتاب. وأما قوله: (ولدن أثقل من مني، فلذلك حذف) فليس بشيء أيضًا، ألا ترى أنه قد حذف من قد وهو مثل: من في أنه على حرفين، فليس الحذف في هذه الحروف معتبرًا به لثقلها ولخفتها، وإنما الإثبات في هذه الحروف لما ذكرت من أنه ليسلم السكون أو الحركة، والحذف للضرورة إلا عند اجتماع الأمثال نحو: كأن، وأن، أو المتقاربة: كلعل، فإن هذا يجوز في الكلام، والأحسن فى لدن ألا يحذف في الكلام ويلحق بباب قد) (¬1). وروى أبو عبيدة عن الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: (من لدن بضم اللام وتسكين الدال) (¬2). قال ابن مجاهد: (وهو غلط) (¬3). قال أبو علي: (يشبه أن يكون التغليط منه في وجه الرواية, فأما من جهة اللغة ومقاييسها فهو صحيح، ألا ترى أن عَضُد إذا خفف فتخفيفه على ضربين أحدهما: أن تحذف الضمة وتبقى فتحة الفاء على حالها، فيقال: عَضْدٌ. والآخر: أن تلقى الحركة التي هي الضمة على الفاء، وتحذف الفتحة فيقال: عُضْدٌ (¬4). وكذلك (¬5): أرني، ولدني، إلا أن التخفيف في لدني مستقبح من حيث أنه امتناع بعد الحذف والنون، وإن كسرت من أجل مجاورة الياء في نية سكون، فكما أنه إذا سكنت النون لم يجز الإسكان في ¬

_ (¬1) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 972 - 990. (¬2) "السبعة" ص 397، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 162، "المبسوط في القراءات" 237. (¬3) "السبعة" ص 397. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 162. (¬5) في (ص): (ولذلك).

الدال، كذلك إذا حركت وكانت في نية سكون، ألا تراهم قالوا: لم يردد الرجل، فلم يدغموا لما كان الآخر في نية سكون، كما لم يدغموا إذا كان على لفظ السكون، ووجه الجواز فيه ما مر من: أنه قد يجري المنفصل مجرى المتصل في نحو: وَهُوَ، ولَهُو، هذا الذي ذكرنا الكلام في وجوه القراءة (¬1). فأما حكم هذه الكلمة: فاعلم أن لدن اسم غير متمكن، حذفت اللام منها في حال الإضافة إلى المظهر في نحو قولهم: مِنْ لدُ الحائط. وقول الشاعر (¬2): من لد شولا فإلى إتلائها و (¬3): من لد لحييه إلى منحوره وكان القياس ألا يحذف منه شيء لمشابهة الاسم للحرف في البناء، ¬

_ (¬1) "السبعة" ص 397، "الحجة للقراءة السبعة" 5/ 161، "المبسوط" 237، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 69، "النشر" 2/ 313. (¬2) هذا من مشطور الرجز لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب اللغة بلا نسبة. الشَّوْل: النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، وقيل غير ذلك الإتلاء: مصدر أتلت الناقة إذا تلاها ولدها أي تبعها. انظر: "الكتاب" 1/ 134، "خزانة الأدب" 2/ 84، "شرح أبيات مغني اللبيب" 6/ 287،"سر صناعة الإعراب" 2/ 546، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 125، "أوضح المسالك" ص 49، "المقاصد النحوية" 2/ 51، "لسان العرب" (لدن) 7/ 4022. (¬3) هذا عجز بيت لغيلان بن حريث يصف فيه فرسًا أو بعيرًا بطول العنق. وصدره: يستوعب البوعين من جريره واللحي: العظم الأسفل من الشدق. والمنحور والنحر: الصدر. انظر: "الكتاب" 4/ 234، "المخصص" 14/ 60، "شرح شواهد الشافية" ص 161، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 969، "اللسان" (لدن) 7/ 4022.

والحرووف لا تحذف إذا لم تكن مضاعفة، وليس هنا تضعيف، إلا أنه لما كان اسمًا وإن كان مشابهًا لحروف اللين استجيز الحذف فيه في حال الإضافة إلى المظهر، فألزم الرد في حال الإضافة إلى المضمر، ليكون ذلك دلالة علي أن الحذف لم يكن بقياس فيه، فكأنه جرى مجرى الأشياء التي تحذف في اللفظ للتخفيف، والمراد إثباتها، فإذا اتصل بالمضمر رد إلى أصله كقولهم: أعْطَيْتُكُمُوه ونحوه، كذلك قيل في هذا: من لدنه ولدنا). هذا كلام أبي علي (¬1). وقال ابن كيسان: (لَدُن حرف يَخْفِض، وربما نُصِب بها، وقال: وحكى البصريون: أنها تنصب غدوة خاصة من بين الكلام) (¬2). وأنشدوا (¬3): مازال مهري مزجر الكلب منهم ... لدن غدوةً حتى دنت لغروب وأجاز الفراء في: غُدْوَة: الرفع، والنصب، والخفض (¬4). قال ابن كيسان: (من خفض بها أجراها مجرى: مِنْ، وعَنْ، ومن رفع أجراها مجرة مذْ، ومن نصب جعلها وقتا، وجعل ما بعدها ترجمة عنها) (¬5). وإن ¬

_ (¬1) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 969 - 971. (¬2) "تاج العروس" (لدن) 18/ 506، "لسان العرب" (لدن) 7/ 4022. (¬3) البيت لأبي سفيان بن حرب. انظر: "الحيوان" 1/ 318، "الدرر" 3/ 138، "جواهر الأدب" ص 128، "الروض الآنف" 3/ 164، "المقاصد النحوية" 3/ 429، "تاج العروس" (لدن) 18/ 506، "لسان العرب" (لدن) 7/ 4022. (¬4) "سر صناعة الإعراب" 2/ 543، "لسان العرب" (لدن) 7/ 4022. (¬5) "تاج العروس" (لدن) 18/ 506، "لسان العرب" (لدن) 7/ 4022.

شئت أضمرت كان، كما قال (¬1): من لد شولا فإلى إتلائها أراد: من لد كانت شولا. وحكى أبو عمرو عن أحمد بن يحيى، والمبرد أنهما قالا: (العرب تقول لَدُن غُدْوَةٌ، وغُدْوَةً، وغُدوةٍ، فمن رفع أراد: لدن كانت غدوةٌ، ومن نصب أراد: لَدُنْ كان الوقت غدوةً، ومن خفض أراد: من عند غدوةٍ) (¬2). وقال أبو الفتح الموصلي: (إنهم شبهوا النون في لدن بالتنوين في ضارب فنصبوا غدوة، نحو: هذا ضارب زيدًا، ووجهه الشبه بينهما اختلاف حركة الدال قبل النون، وذلك لأنه يقال: لدن، ولدن بفتح الدال وضمها، فلما اختلفت الحركات قبل النون شابهت النون التنوين، وشابهت الحركتان قبلها باختلافهما حركات الإعراب في نحو: ضَارِبٌ، وضاربًا، فلما أشبهت النون التنوين من حيث ذكرنا انتصب غدوةً تشبيهًا بالمفعول، وكذلك شبه بعضهم غدوةً بالفاعل، فرفعها فقال: لدن غدوةٌ، كما تقول: أقائم زيد؟ ومنهم من يلزم القياس فيها، فيجر بها فيقول: لدن غدوةٍ) (¬3). قال سيبويه: (ولا تنصب مع لدن غير غُدوة، فلا تقول: لدن بكرةً؛ لأنها لم تكثر في كلامهم كثرة غدوة) (¬4). قال أبو الفتح: (ويزيد عندك في شبه نون لدن بتنوين اسم الفاعل، أن ¬

_ (¬1) سبق عزو البيت وتوثيقه. (¬2) "تهذيب اللغة" (لدن) 4/ 3256، "تاج العروس" (لدن) 18/ 506،"لسان العرب" (لدن) 7/ 4022. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 2/ 542. (¬4) "الكتاب" لسيبويه 1/ 210، 3/ 119.

77

العرب قد حذفتها في بعض المواضع تخفيفًا، فقالت: من لَدُ الحائط، ولَدُ الصلاةِ، وقد حذفوها أيضًا ولا ساكن بعدها. أنشد سيبويه (¬1): من لد شولا فإلى إتلائها فلما حذفت النون تارة، وثبتت أخرى، قوي شبه النون بالتنوين الذي حذف تارة وثبت أخرى) (¬2). وقال القاضي أبو سعيد السيرافي في (¬3) حكم لدن: (أن يخفض بها على الإضافة؛ لأن النون من أصل الكلمة بمنزلة الدال من عند، كما قال الله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] غير أن من العرب من ينصب بها، وإنما يفعل ذلك؛ لأنه ينزع النون عنها فيقال: لَدُ، فشبهت الأصلية بالزائدة حين ثبتت في حال وسقطت في حال، كما ثبتت الزائدة في حال وسقطت في حال) (¬4). وكنت قد وعدت في أول هذه السورة، عند قوله: {مِن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] بسط الكلام في هذا الحرف، وقد ذكرت ذلك على حد الإيجاز والله المستعان. 77 - قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} هي: أنطاكية (¬5) في ¬

_ (¬1) سبق عزو البيت وتوثيقه. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 2/ 546. (¬3) قوله: (في)، ساقط من نسخة (ص). (¬4) ذكره نحوه بلا نسبة "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 287، "سر صناعة الإعراب" 2/ 546، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 966، "إملاء ما من به الرحمن" ص 403. (¬5) أنطاكية: بالفتح: السكون قصبة العوصم من الثغور الشامية، وهي من أعيان البلاد وأمهاتها، موصوفة بالنزاهة والحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء وكثرة الفواكه وسعة الخير، قيل إن أول من بناها وسكها: أنطاكية بنت الروم بن اليقن بن سآم بن نوح -عليه السلام-، وقيل إن أول من بناها: أنطيغونيا في السنة السادسة من موت الإسكندر ولم يتمها، فأتمها بعد سلوقوس، وقيل غير ذلك، وفتحها أبو عبيدة بن الجراح سار إليها من حلب، وألزم أهلها بالجزية. انظر: "معجم البلدان" 1/ 266.

قول ابن عباس (¬1). والأيلة، في قول ابن سيرين (¬2). وقوله تعالى: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} روى أبي بن كعب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانوا أهل القرية لئام" (¬3). والتضييف والإضافة فيه بمعنى واحد، يقال: ضافَه وتَضَيَّفه إذا نزل به وصار له ضيفًا، وأضافه وضيَّفه إذا أنزله وقراه، وأصل هذا في اللغة: من الميل والإمالة، يقال: ضاف يضِيف إذا مال، وأضافه إذا أماله، يقال: هذا مُضاف إلى كذا، أي: ممال إليه، ومنه قيل للدَّعي: مُضاف؛ لأنه مستند إلى قوم ليس منهم (¬4). ومنه: (قوله -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الصلاة: "إذا أضفت الشمس للغروب") (¬5). أي: مالت. ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 192، "المحرر الوجيز" 9/ 270 ذكره بدون نسبة، "زاد المسير" 5/ 175. (¬2) "جامع البيان" 15/ 288، "معالم التنزيل" 5/ 192، " المحرر الوجيز" 9/ 270، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 24. (¬3) سبق تخريج الحديث وعزوه في بداية القصة. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (ضاف) 3/ 2080، "القاموس المحيط" (الضيف) ص 830، "مقاييس اللغة" (ضيف) 3/ 380، "الصحاح" (ضيف) 4/ 1392. (¬5) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها 3/ 531، والترمذي في الجنائز، باب كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها 3/ 348، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في الجنائز، باب الساعات التي نهى عن إقبار الموتى فيهن 4/ 62، وابن ماجه في الجنائز، باب =

قال أبو عبيد: (ومنه سمي الضَّيف ضيفًا، يقال: ضِفْت فلانًا إذا ملت إليه، وأضفته: إذا أَمَلْتَه إليك) (¬1). ومن الناس من فرق بين التضييف والإضافة، قال شمر: (سمعت رجاء بن سلمة (¬2) يقول: التَّضيف الإطعام، تقول: ضيَّفته إذا أطعمتَه، وأضافه إذا لم يُطْعِمْهُ. وقال في هذه الآية معناه: فأبوا أن يطعموهما) (¬3). وقال أبو الهيثم: (هما عندنا بمعنى واحد) (¬4). وقال الفراء في هذه الآية: (لو قرئت يُضيِفُوهُما كان صوابًا) (¬5). وقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارً} هو الجَدْرُ، والجِدَارُ، ومنه الحديث: "حتى يبلغ الماء الجَدْرُ" (¬6). ومكان جَدِير ومجدور: قد بني ¬

_ = ما جاء في الأوقات التي لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن 1/ 486، والإمام أحمد 4/ 152، وأورده الألباني في "إرواء الغليل" 2/ 2368 وقال: صحيح. (¬1) "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 22، "تهذيب اللغة" (ضاف) 3/ 2080. (¬2) رجاء بن أبي سلمة مهران أبو المقدام الفلسطيني، نزل البصرة ثم تحول إلى الشام، روى عن: عمر بن عبد العزيز، وعمرو بن شعيب، والزهري، وغيرهم، وروى عنه: ابن عون، وابن عبلة، وبشر بن المفضل وغيرهم وثقه العلماء، وكان من أفاضل أهل زمانه، توفي رحمه الله سنة 61 هـ , وله من العمر سبعين سنة. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 503، "الكشاف" 1/ 308، "حلية الأولياء" 6/ 92، "تهذيب الكمال" 9/ 161، "تهذيب التهذيب" 3/ 231 (¬3) "تهذيب اللغة": (ضاف) 3/ 2081، "لسان العرب" (ضيف) 5/ 2625. (¬4) "تهذيب اللغة": (ضاف) 3/ 2081. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 155. (¬6) أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب: الصلح، باب: إذا أشار الإمام بالصلح فأبي حكم عليه 3/ 171، ومسلم في "صحيحه" كتاب: الفضائل، باب: وجوب إتباعه -صلى الله عليه وسلم- 4/ 1829، وأبو داود في "سننه" كتاب: الأقضية أبواب: من القضاء =

حواليه جدار؛ وأصله من الرفع، ومنه: أجدرت الشجرة إذا أخرجت في الربيع وأطلعت، ومنه: الجدري (¬1). وقوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} الإرادة في صفة الجِدَار مجاز على جميع أهل المعاني، ومعناه: قرب أن ينقض، وذلك على التشبيه بحال من يريد أن يفعل (¬2). قال الفراء: (وذلك من كلام العرب أن يقولوا: الجدار يريد أن يسقط) (¬3). ومثله قوله تعالى: {ولَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154]، وقوله: {فَإِذَا عَزَمَ اَلأَمْرُ} [محمد: 21]، يريد: أن إضافة السكوت إلى الغضب، والعزم إلى الأمر، كإضافة الإرادة إلى الجدار. ¬

_ = 4/ 51، والترمذي في "جامعه" كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء 3/ 644، والنسائي في "سننه" كتاب: آداب القضاة باب: الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان 8/ 173، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 5. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (جدر) 1/ 557، "مقاييس اللغة" (جدر) 1/ 431، "القاموس المحيط" (الجدار) ص 362،"الصحاح" (جدر) 2/ 609. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 175، "المحرر الوجيز" 9/ 371، "الكشاف" 2/ 398، "البحر المحيط" 6/ 151. وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 179: وزعم من لا علم عنده: أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها, لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الإنقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، مع أنه من الأساليب العربية إطلاق في الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 156.

وقال الكسائي: (قوله للجدار: {يُرِيدُ} من أفصح كلام العرب، وإنما إرادة الجدار ميله) (¬1). قال أبو عبيد: (وهذا كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تتراءى ناراهما") (¬2). وإنما هو أن تكون ناران كل واحدة من صاحبتها بالموضع الذي لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القرب (¬3). وقال ابن قتيبة: (الجدار إذا أشرف على الانهيار يقال فيه: جدار يهم أن ينقض، أو يكاد، أو يقارب، وأياما يقال فقد جعل فاعلا, ولا يوصل إلى هذا المعنى إلا بمثل هذه الألفاظ. قال: والعرب تقول بأرض بني فلان شجر قد صاح، إذا طال وتبين للناظر بطوله جعلوه كأنه صائح؛ لأن الصائح يدل على نفسه بصوته) (¬4). ويقال: شجر واعد إذا نور؛ كأنه ما نور وعد أن يثمر، وكل هذا مجاز كلام العرب واستعارتهم، وأنشد أبو عبيدة في مثل هذه الآية (¬5): ¬

_ (¬1) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" 2/ 398، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 25، "البحر المحيط" 6/ 151. (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب: الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود 3/ 104، والترمذي في "جامعه"، كتاب: السير، باب: ما جاء كراهية المقام بين أظهر المشركين 4/ 132، والنسائي في كتاب: القسامة، باب: القود بغير حديدة 8/ 26، والطبراني في "المعجم الكبير" 1/ 109، والحاكم في "المستدرك" 2/ 141، وصححه ووافقه الذهبي، وأحمد في "مسنده" 4/ 365، والطبري في "جامعه" 15/ 290، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 432، وقال عنه الألباني في "إرواء الغليل" 5/ 29: صحيح. (¬3) "جامع البيان" 15/ 290. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 132. (¬5) البيت للحارثي.

يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل وأنشد الفراء (¬1): إنَّ دهرًا يلف شملي بجملٍ ... لزمان يهم بالإحسان وأنشد أبو عبيد لذي الرمة، يذكر حوضًا دارسًا قد كان (¬2): ... قد هم بالبيود ومثل هذا كثير مستفيض في كلامهم. وقال أبو إسحاق: (الجدار لا يريد إرادة حقيقية، إلا أن هيئته في التهيؤ للسقوط قد ظهرت، كما تظهر أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإرادة إذا كانت الصورتان واحدة) (¬3). وأنشد ¬

_ = انظر: "مجاز القرآن" 1/ 410، "جامع البيان" 15/ 289، "النكت والعيون" 3/ 331، "الكشاف" 2/ 398، القرطبي 1/ 168، "لسان العرب" (رود) 3/ 1772. (¬1) البيت ينسب لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-. الشَّمل: الاجتماع يقال: جمع الله شملك، وجمع الله شملهم أي: ما تشتت من أمرهم. والجُمل: جماعة الشيء، وأجمل الشيء: جمعه عن تفرقه. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 156، "جامع البيان" 15/ 289، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب، "الكشاف" 2/ 368، "زاد المسير" 5/ 123، "روح المعاني" 16/ 6، "تهذيب اللغة" (دهر) 2/ 1240، "لسان العرب" (دهر) 3/ 1439. (¬2) هذا شطر من بيت لذي الرمة يقول فيه: من عطن قد هم بالبيود ... طلاوة من جائل مطرود بيد: باد الشيء يبيد بيودًا: إذا انقطع وذهب، وباد يبيد إذا هلك. انظر: "ديوان شعر ذي الرمة" (160)، "جامع البيان" 15/ 290. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 306، وقال الطبري 15/ 187: والذكره نقول به في =

الراعي يصف إبلا (¬1): في مهمة فلقت به هاماتها ... فلق الفؤوس إذا أردن نصولا وقوله تعالى: {أَنْ يَنْقَضَّ} معنى الانقضاض: السقوط بسرعة يقال: انقض الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه ليسقط علي شيء. وقال الليث؛ (يقال: قضضنا عليهم الخيل فانقضت عليهم أي: أوقعنا عليهم فوقعت، وأنشد (¬2): قضوا غضابًا عليك الخيل من كثبٍ وهذا قول مجاهد في هذه الآية: (يريد أن يسقط) (¬3). ¬

_ = ذلك: أن الله عز ذكره بلطفه جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم مما لا تحسه أبصارهم، وقد علمت أن معناه قد قارب من أن يقع أو يسقط، وإنما خاطب -جَلَّ ثناؤه- بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه وقد عقلوا ما عني به، وإن استعجم عن فهمه ذو البلادة والعمى، وضل فيه ذو الجهالة والغبا. (¬1) البيت لعبيد بن حصين النميري الراعي. انظر: "ديوانه" ص 128، "جامع البيان" 15/ 290، "الكشاف" 2/ 398، "القرطبي" 11/ 26، "التفسير الكبير" 21/ 157، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 306، "وضح البرهان في مشكلات القرآن" 2/ 39، "لسان العرب" (رود) 3/ 1772. (¬2) لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (قض) 3/ 2982، "لسان العرب" (قضض) 6/ 3161. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة، انظر: "جامع البيان" 15/ 290، "بحر العلوم" 2/ 308,"المحرر الوجيز" 9/ 374، "معالم التنزيل" 5/ 193، "الكشاف" 2/ 494، "زاد المسير" 5/ 176.

وقال آخرون: (معنى {يَنْقَضَّ} ينكسر، يقال: قضضت الشيء إذا كسرته ودققته، ومنه قيل للحَصَى الصغار: قضض (¬1). وكلا اللفظين ذكرهما المفسرون في تفسير {يَنْقَضَّ} فقالوا (ينكسر ويسقط)، وذكرهما ابن قتيبة (¬2). وقوله تعالى: {فَأَقَامَهُ} روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (انتهى إلى جدار مائل فدفعه بيده فقام) (¬3). وقال مجاهد: (مسحه بكفه حتى استوى) (¬4). ومعنى أقامه: سواه، وذلك أن قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} معناه: مال، كأنه قال: فوجدا جدارًا قد مال فأقامه. فقال موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذتَ عَلَيْهِ} أي: على إقامته وإصلاحه {أَجرًا} قال الفراء: (لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر) (¬5). وقال أبو إسحاق: (وذلك أنهما لما نزلا القرية لم يضيفهما أهلها، فقال موسى: لو شئت لأخذت أجرة إقامتك هذا الحائط) (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (قض) 3/ 2982، "القاموس المحيط" (قضض) ص 652، "الصحاح" (قض) 3/ 1102. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 269، "النكت والعيون" 3/ 175، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 25. (¬3) سبق تخريج الحديث وعزوه في بداية القصة. (¬4) ذكر نحوه البغوي 5/ 193 ونسبه لسعيد بن جبير، وكذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 374، والقرطبي 11/ 27، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 429. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 156. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 306.

وروى هارون. بن عنترة (¬1) عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية قال: (كان قول موسى في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله) (¬2). وقراءة العامة: {لَتَّخَذْتَ}، افتعلت من الأخذ. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: لَتَخِذْتَ (¬3). وهي قراءة مجاهد، واختيار أبي زيد الأنصاري قال: (وكذلك هو مكتوب في الإمام، ومن قرأ: لاتخذت، فإنه يخالف الكتابة) (¬4). قال الليث: (يقال: اتَّخذ فلان يتَّخِذ اتِّخاذًا، ويقال: تَخِذَ يتخذ تخذًا، وتَخِذْتُ مالاً كسبتُه، ألزمت التاء الحرف كأنها أصلية) (¬5). قال ¬

_ (¬1) هارون بن عنترة بن عبد الرحمن الشيباني، أبو عبد الرحمن بن أبي وكيع الكوفي، تابعي ثقة، روى عن أبيه، وعبد الرحمن بن الأسود، وسعيد بن جبير، ومحارب ابن دثار، وروى عنه: ابنه عبد الملك، وعمر بن مرة، وسفيان الثوري وغيرهم، وثقه أكثر العلماء، توفي رحمه الله من 142 هـ. انظر: "الثقات" لابن حبان 7/ 582، "الكاشف" 3/ 214، "الجرح والتعديل" 9/ 92، "تهذيب التهذيب" 11/ 10، "ميزان الاعتدال" 4/ 284. (¬2) "زاد المسير" 5/ 178، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 33، "البحر المحيط" 6/ 153، "روح المعاني" 16/ 8. (¬3) قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم: (لتَّخذْتَ) وكلهم أدغم إلا ما روى حفص من عاصم فإنه لم يدغم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: (لَتَخِذْتَ) بكسر الخاء، وكان أبو عمرو يدغم الذال، وابن كثير يظهرها. انظر: "السبعة" ص 396، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 163، "التبصرة" ص 250، "العنوان في القراءات" ص 24، "النشر" 2/ 314. (¬4) "تهذيب اللغة" (أخذ) 1/ 130، "لسان العرب" (أخذ) 1/ 37. (¬5) "تهذيب اللغة" (أخذ) 1/ 130، "لسان العرب" (أخذ) 1/ 37، "تاج العروس" (أخذ) 5/ 345.

الفراء: (وأصلها اتَّخَذَ افْتَعَل) (¬1). وحكى (¬2) النضر: (اسْتَخَذْتُ عليهم يدًا أي: اتَّخَذْتُ) (¬3). ومثل هذا حكى سيبويه: (استخذ فلان أرضًا) (¬4). قال أبو علي الفارسي: (وتأويله على أمرين أحدهما: أنه اتخذ فأبدل السين من التاء الأولى. والآخر: أنه استفعل من تخذ فحذف التاء التي هي فاء من تخذت) (¬5). وكلهم أنشدوا (¬6): وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفًا كأفحوص القطاة المطرَّق فحصل من هذا أن تَخِذ لغة بمعنى اتخذ، وأصله: اتخذ، على ما قال الفراء، كأنهم لما رأوا التاء في اتخذ ظنوها أصلية فقالوا في الثلاثي: تخذ، كما قالوا: اتقى من يتقي (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 156. (¬2) في (ص): (حلي)، وهو تصحيف. (¬3) "تاج العروس" (أخذ) 5/ 345، "لسان العرب" (أخذ) 1/ 37. (¬4) "الكتاب" لسيبويه 4/ 483. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 163. (¬6) البيت للممزق العبدي، واسمه: شأس بن نهار. غرزها: الغرز للناقة مثل الحزام للفرس، والنسيف: أثر ركض الرجل بجنبي البعير. والأفحوص: المبيض، والمطرق: وصف للقطاة إذا حان خروج بيضها. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 163، "الخصائص" 2/ 287، "الأصمعيات" ص 65، "الحيوان" 2/ 298، "مجالس العلماء" للزجاجي ص 333، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 993، "تهذيب اللغة" (نسف) 4/ 3562، "لسان العرب" (فحص) 6/ 3356. (¬7) "إملاء ما من به الرحمن" ص 403، "سر صناعة الإعراب" 1/ 198.

78

قال أبو إسحاق: (وأصل تَخِذْتُ: أخَذْتُ) (¬1). وأنكر عليه أبو علي وقال: (تَخِذْتُ فعلت وأَخَذْتُ فعلت، وإبدال الحرف من الكلمة ليس يوجب تغيير بنائها عما كان عليه قبل البدل، لكن ينبغي أن يحافظ على البناء الأول، ليكون أدل على أنه قد أبدل منه شيء، ولا يظن أنه بناء آخر وصياغة أخرى) (¬2). وقال ابن الأنباري: (العرب تجعل تَخَذَ وتَخِذَ مستغنيا عما سقط منه، قائمًا بنفسه، جاريًا مجرى طعم أطعم، وعلمت أعلم، وبنوا يقنت على أيقنت، واتقى على يتقى، فلم يغيروا شيئًا من ماضيه ولا مستقبله ليجرى مجرى ما الساقط مظهر معه، وهو بالأفعال، وهذا لافتنانهم وإسباغ مبانيهم في لغاتهم) (¬3). وقال أبو العباس: (الاختيار لاتخذت؛ لأنه هو أصل الحرف يعرى من الحذف واللبس، قال: والقراءة الأخرى من لغة معروفة) (¬4). 78 - قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} معناه: هذا الذي عليه فراق بيني وبينك، هذا الكلام، والإنكار على ترك الأجر هو المفرق بيننا (¬5). وذلك أن موسى قد كان قال له: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئٍ بَعْدَهَا} الآية. وقيل معناه: (هذا وقت فراق بيني وبينك) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 307. (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 992. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "سر صناعة الإعراب" 1/ 98، "البحر المحيط" 6/ 152. (¬4) ذكر نحوه "تهذيب اللغة" (أخذ) 1/ 130، "لسان العرب" (أخذ) 1/ 37. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 193، "النكت والعيون" 3/ 331، "الكشاف" 2/ 399، "زاد المسير" 5/ 177. (¬6) "معالم التزيل" 5/ 193؛ "النكت والعيون" 3/ 331.

79

وقال الزجاج: (المعنى هذا فراق بيننا، أي: هذا فراق اتصالنا، وكرر "بين" تأكيدًا، ومثل هذا من الكلام: أخزى الله الكاذب مني ومنك) (¬1). قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون "بين" هاهنا ظرف وموضعًا) (¬2). فلما قال الخضر هذا أخذ موسى بطرف ثوبه فقال: حدثني. فقال الخضر: {سَأُنَبِّئُكَ} الآية (¬3). 79 - ثم فسر له فقال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} هذه الآية دلالة على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم كانوا مساكين مع أنهم كانوا يملكون سفينة وهي تساوى جملة من الدنانير (¬4)، وذكرنا هذا عند قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية، ويجوز أن تكون المسكنة هاهنا لم يعن بها الفقر وقلة ذات اليد، لكن أريد بها عدم الناظر وانقطاع الحيلة، كما يقال للذي يظلمه عدوه: مسكين فلان. يراد بالمسكين المستضعف المهتضم، وإن كان كثير المال واسع الملك. ومن هذا الباب ما روي في الحديث: "مسكين لا زوجة له" (¬5). يعني ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 304. (¬2) ذكر نحوه "التفسير الكبير" 21/ 158، "البحر المحيط" 6/ 152، "روح المعاني" 16/ 8. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 193، "روح المعاني" 16/ 8. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 194، "المحرر الوجيز" 9/ 376، "النكت والعيون" 3/ 332. (¬5) أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"، كتاب: النكاح، باب: الحث على النكاح 4/ 252 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقا إلا أن أبا نجيح لا صحبة له. وابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب: النكاح، باب: في الحث على النكاح والترغيب فيه 11/ 429، و"الترغيب والترهيب" للمنذري 3/ 67، وقال: ذكره =

في العجز عن الصبر في بعض الأحوال وضعف الحيلة، وإن كان له مال كثير (¬1). وقوله تعالى: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} قال مجاهد: (أخرقها) (¬2). وعَابَ في اللغة يكون على معان ثلاثة يقال: عَابَ فلان فلانًا يعيبه عَيبًا، ورجل عَيَّاب، وعاب الحائط، والشئ إذا صار ذا عيب (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أكثر أهل العلم من المفسرين وأصحاب المعاني قالوا: {وَرَاءَهُمْ} هاهنا معناها أمامهم) (¬5). وكذا كان ابن عباس يقرأ: (وكان أمامهم ملك) (¬6). ووراء بمعنى: أمام، ورد كثيرًا في التنزيل والشعر، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} ¬

_ = رزين ولم أره في شي من أصوله. وذكره الما وردي في "النكت والعيون" 3/ 332، و"منتخب الكنز بحاشية مسند الإمام أحمد" 6/ 390. (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 377، "النكت والعيون" 3/ 332، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 34، "روح المعاني" 16/ 9، وقال ابن عطية في "تفسيره" 9/ 377: وتحرير هذا عندي أنهما لفظان يدلان على ضعف الحال جدًا، ومع المسكنة انكشاف وذل وسؤال، ولذلك جعلهما الله صنفين في قسم الصدقات. (¬2) "جامع البيان" 16/ 1، "الدر المنثور" 4/ 430. (¬3) في (س) قال: وعبته أنا، قال أبو الهيثم: ومنه قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أي: أجعلها ذات عيب. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (عاب) 3/ 2263، "مقاييس اللغة" (عيب) 4/ 189، "الصحاح" (عيب) 1/ 190. (¬5) "جامع البيان" 16/ 1، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب، "بحر العلوم" 2/ 309، "معالم التنزيل" 5/ 194، "النكت والعيون" 3/ 332، "الكشاف" 2/ 399. (¬6) "جامع البيان" 16/ 1، "معالم التنزيل" 5/ 194، "المحرر الوجيز" 9/ 378، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 34.

[إبراهيم: 17]، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] , وقول لبيد (¬1): أليس ورائي إن تراخت منيتي وهذا قول أبي حاتم، وأبي عبيد، وابن السكيت، وأبي عبيدة، والفراء، والزجاج (¬2)، وذكرنا هذا في سورة إبراهيم (¬3). وأنشد أبو عبيدة: لسوار بن المضرب السعدي (¬4): أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا أي: أمامي (¬5). قال: ووراء الرجل خلفه، ووراءه قدامه، وأنشد أيضًا (¬6): ¬

_ (¬1) هذا صدر بيت للبيد بن ربيعة وعجزه: لزوم العصا تحنى عليها الأصابع انظر: "ديوانه" ص 89، "البحر المحيط" 6/ 154، "الدر المصون" 7/ 537، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305، "تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3878، "لسان العرب" (ورى) 8/ 4823. (¬2) "مجاز القرآن" 1/ 412،"معاني القرآن" , للفراء 2/ 157، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 288، "البحر المحيط" 6/ 154. (¬3) عند قوله سبحانه في سورة إبراهيم الآية رقم (17): {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}. (¬4) البيت لسوار بن المضرب السعدي. انظر: "مجاز القرآن" 1/ 412، "جامع البيان" 16/ 1، "النكت والعيون" 3/ 332، "البحر المحيط" 6/ 154، "الدر المصون" 7/ 537، "الكامل" ص 289، "جمهرة اللغة" 1/ 236، "لسان العرب" (ورى) 8/ 4823. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 412. (¬6) البيت لعروة بن الورد. انظر: "ديوانه" ص 114، "الأضداد" لابن الأنباري 69 ص، "البحر المحيط" 6/ 154، "الدر المصون" 7/ 537، "روح المعاني" 16/ 9.

أليس ورائي أن أدبَّ على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي ولا خلاف بين أهل اللغة أن وراء يجوز أن تكون بمعنى قدام، واختلفوا في معنى ذلك، فقال الفراء: (لا يجوز أن يقال لرجل بين يديك: هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الأيام والليالي والدهر، تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد، جاز الوجهان؛ لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته كان بين يديك) (¬1). وقال غيره: (يجوز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع؛ لأنها جهة مقابلة لجهة، فكأن كل واحد من الجهتين وراء الآخر، إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجسام التي لا وجه لها مثل: حجرين متقابلين كل واحد منها وراء الآخر) (¬2). وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد. قال أبو علي: (وقد حكى متقدمو أهل اللغة وقوع الاسم على الشيء وعلى ضده، وصنفوا فيه الكتب؛ كقطرب، والتوَّزي (¬3)، ويعقوب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 157. (¬2) "البحر المحيط" 6/ 154، ونسبه لأبي علي، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 36، "روح المعاني" 16/ 10. (¬3) عبد الله بن ثابت بن يعقوب بن قيس بن إبراهيم أبو محمد العبقسي، النحوي، التوزي نسبة إلى توَّز مدينة في فارس عند بحر الهند، سكن بغداد، روى عن أبيه عن هذيل بن حبيب تفسير مقاتل بن سليمان، وروى عن عمر بن شبَّة النميري، وروى عنه أبو عمر بن السماك، ولد سنة 223 هـ، وتوفي رحمه الله سنة 330 هـ، ودفن بالرملية. انظر: "إنباه الرواة" 2/ 112، "طبقات ابن قاضي شهبه" 2/ 26، "طبقات القراء" 1/ 411، "النجوم الزاهرة" 3/ 199.

وغيرهم، وربما أنكر ذلك بتعسف وتأويلات غير سهلة، وليس ينكر ان اللفظ الواحد يقع على الشيء وعلى خلافه، فلذلك لا ينبغي أن ينكر وقوعه على الشيء وضده؛ لأن الضد ضرب من الخلاف، فإن زعموا أن ذلك يلبس [فهو في الخلاف أيضًا يلبس)] (¬1) (¬2). وروى الأزهري بإسناده عن ابن السكيت قال: (وراء، وأمام، وقدام يؤنَّثن ويُذَكَّرن، ويصغر أمام فيقال: أُمَيِّم ذلك وأُمَيِّمة، وقُدَيْدِيم ذلك وقديديمه، وهو وريئ ذلك (¬3) الحائط، ووريئة الحائط) (¬4). قال أبو علي: (اللام من هذه الكلمة همزة، والقول في تحقيرها: وُرَئِّيةٌ مثل: وديعة، حكى ذلك أبو عثمان وغيره، ولو كان من باب الوري والتواري لكان تحقيره: وريَّةً، قال: ومن نادر ما جاء في هذه الكلمة دخول الهاء في تحقيرها مع أنها على أربعة أحرف، وكذلك دخلت في قُدَيْديمة تحقير قُدَام، وأنشد (¬5): قديديمة التجريب والحلم إنني ... أرى غفلات العيش قبل التجارب وما كان على أربعة أحرف لا تدخله هاء التأنيث (¬6)، كما تدخل عامة ما كان على ثلاثة أحرف، وذلك أن الحرف الأصلي قام مقام الزائد، كما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسحة: (ص). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 187. (¬3) قوله: (ذلك)، ساقط من (ص). (¬4) "تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3878. (¬5) البيت للقطامي. انظر: "ديوانه" ص 44، "خزانة الأدب" 7/ 86، "المقتضب" 2/ 273، "شرح المفصل" 5/ 128، و"اللمع في العرية" ص 303، "لسان العرب" (قدم) 6/ 3552. (¬6) في نسخة (ص): (في التحقير).

قام مقامه في قولهم: لم يَغْزُ، ولم يَرْمِ، ولم يَخْشَ، ألا ترى أن هذه اللامات حذفت كما تحذف الحركات للجزم، فأما دخولها على قُدَيْديمةٍ، ووُرَيِّئةٍ فمن الأشياء التي شذت فترد إلى الأصل المرفوض نحو: استحوذ، والقصوى، والقود) (¬1). وهذا الذي ذكره أبو علي خلاف ما ذكره ابن السكيت؛ لأنه لم يجعل الهمز أصلاً (¬2). قال أبو علي: (ووراء معرفة لا يصرف للتأنيث والتعريف) (¬3). والآية تدل على أن معنى وراء أمام؛ لأنه لو كان بمعنى خلف كانوا قد جاوزوه فلا يأخذ سفينتهم. واختار الزجاج أن يكون وراء بمعنى: خلفهم قال: (هذا أجود الوجهين- وعلى هذا قال: يجوز أن يكون: كان رجوعهم في طريقهم عليه، ولم يكونوا عالمين بخبره، فأعلم الله الخضر خبره حتى عاب السفينة لتسلم من الغصب) (¬4). وقوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} قال أهل المعاني: (أراد كل سفينة صالحة) (¬5). وكذا كان يقرأ ابن عباس، وأبي، وحذفت في قراءة الناس للعلم بها (¬6). وروي في حديث أبي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة: "أن الخضر ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 188. (¬2) "تهذيب اللغة" (ورى) 4/ 3878. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 190. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 309، "زاد المسير" 5/ 179، "روح المعاني" 16/ 10، "فتح القدير" 3/ 437. (¬6) "جامع البيان" 3/ 16، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب، "بحر العلوم" 2/ 309، "زاد المسير" 5/ 179، "البحر المحيط" 6/ 154، "الدر المنثور" 4/ 430.

80

قال (¬1): وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، فإذا مرت عليه فرآها منخرقة تركها، ورقعها أهلها بقطعة خشب فانتفعوا بها" (¬2). 80 - قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} الآية. روى ابن عباس عن أبي بن كعب قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: في قوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} قال: كان طبع يوم طبع كافرًا، وكان قد ألقى عليه محبة من أبويه) (¬3) (لأرهقهما طُغْيَانًا وَكُفْرًا) وكذا كان يقرأ ابن عباس، وأبي: (وأما الغلام كان كافرًا وكان أبواه مؤمنين) (¬4). وقوله تعالى: {فَخَشِينَا} قال الفراء (فعلمنا) (¬5). وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6). وهي قراءة أبي: (فخاف ربك) (¬7). على معنى: علم ربك، وذكرنا الخوف بمعنى: العلم عند قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُوصٍ} [البقرة: 182] الآية. وقال قطرب والأخفش: (معناه فكرهنا) (¬8). ¬

_ (¬1) قوله: (قال)، مكرر في نسخة: (ص). (¬2) سبق تخريج الحديث وعزوه في بداية القصة. (¬3) سبق تخريج الحديث وعزوه في بداية القصة. (¬4) "جامع البيان" 16/ 3 ذكره عن قتادة عن أبي، "معالم التنزيل" 5/ 194، "المحرر الوجيز" 9/ 381، "النكت والعيون" 3/ 334، "الدر المنثور" 4/ 430. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 157. (¬6) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 194، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 36، "زاد المسير" 5/ 179. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 36، "معاني القرآن" للفراء 2/ 157، "البحر المحيط" 6/ 155. (¬8) "معاني القرآن" لأخفش 2/ 620.

قال أبو إسحاق: (الخشية من الله معناه الكراهة، ومعناها من الآدميين الخوف) (¬1). قال ابن الأنباري: (الخشية صلحت خبرا عن الله بمعنى الكراهية، فإذا وصف المخلوق بها أفادت هلعًا وفزعًا، وإذا أخبر بها عن الخالق دلت على تأويل الكراهة، كما كان الاستهزاء من المخلوق سفها، ومن الخالق استدراجا) (¬2). {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81]. وقال قوم: (هذا من كلام الخضر، ولا يجوز أن يكون فخشينا عن الله بل الخضر -عليه السلام- خشي أن يرهق الغلام أبويه طغيانًا وكفرا فلذلك قتله، قالوا: والدليل على أن هذا من كلام الخضر قوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} ولو كان من كلام الله لقال: فأردنا أن نبدلهما خيرًا منه ولم يعد ذكر الرب) (¬3). والظاهر يعضد هذا، غير أن أبا إسحاق قال: (هذا جائز أن يكون عن الله بمعنى فكرهنا، وقوله: {فَأَرَدْنَا} بمعنى فأراد الله، ولفظ الإخبار عن الله كذا أكثر من أن يحصى) (¬4). هذا كلامه. وقول من قال: إنه من كلام الخضر ظاهر جلي. وقوله تعالى: {أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي: يغشيهما ويكلفهما، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305. (¬2) ذكر نحوه مختصرًا "المحرر الوجيز" 9/ 381، "زاد المسير" 5/ 179، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 36، "البحر المحيط" 6/ 155. (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 381، "الكشاف" 2/ 400، "زاد المسير" 5/ 179، "البحر المحيط" 6/ 155، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 36. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305.

81

قال المفسرون: (خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه ويدينا بدينه) (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (كان الغلام يؤذي الجيران، ويفعل القبيح، وكان أبواه يحلفان عنه بالكذب طغيانًا وكفرًا) (¬2). 81 - وقوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا} وقرئ: بالتخفيف (¬3). وبدل وأبدل متقاربان في المعنى، كما أن نزل وأنزل كذلك. وفرق قوم بينهما، وذكرنا ذلك عند قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] الآية. قوله: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (خيرًا منه دينًا) (¬4). وهو قول قتادة (¬5). ومعنى هذا ما قاله الكلبي، والفراء: (خيرًا منه صلاحًا) (¬6). والزكاة: الصلاح، والزاكي: الصالح، ذكرنا ذلك عند قوله: {نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] وفسر الصلاح: بالدين؛ لأن الصلاح يكون من الدين. وكذلك تفسير ابن جريج الزكاة في هذه الآية: (بالإسلام) (¬7). فيكون كتفسير ابن عباس بالدين. ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 15/ 194، "زاد المسير" 5/ 179، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 36، "الدر المنثور" 4/ 430. (¬2) ذكر نحوه المارودي في "تفسيره" 3/ 333، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 179، الألوسي في "روح المعاني" 16/ 11. (¬3) قرأ نافع، وأبو عمرو البصري: (أن يبدلهما) بالتشديد. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وعاصم: (أن يبدلهما) بالتخفيف. انظر: "السبعة" ص 396، "الحجة" 5/ 164، "التبصرة" ص 251، "النشر" 2/ 314. (¬4) "زاد المسير" 5/ 180، "القرطبي" 11/ 37، بدون نسبة، "روح المعاني" 16/ 11. (¬5) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 37 بدون نسبة. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 157، "الكشف والبيان" 3/ 391 ب. (¬7) "جامع البيان" 16/ 4، "معالم التنزيل" 5/ 195، "المحرر الوجيز" 9/ 193، "النكت والعيون" 3/ 334، "الدر المنثور" 4/ 431.

وقوله تعالى: {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} والرُّحْمُ، والرُّحُمُ، والرَّحْم: العطف والرحمة (¬1). قاله أبو عبيدة، والزجاج (¬2). وأنشد أبو عبيدة للعجاج (¬3): ولم تعوَّج رحم من تعوَّجا وأنشد غيره لرؤبة (¬4): يا منزل الرَّحم على إدريس ... ومنزل اللعن علي إبليس ويستعمل الرحم بمعنى القرابة لا بمعنى الشفقة. ويقال: فلان أشفق منك رحما، وفلان أمس رحما من فلان أي: قرابة. وأما الذي في الآية فقال قتادة: (أبر بوالديه) (¬5). وهو قول ابن عباس قال: (أوصل للرحم، وأبر بوالديه) (¬6). وروى عنه سعيد بن جبير: (وأقرب مودة) (¬7). وهذا قول أكثر المفسرين جعلوا البدل: أبر بالوالدين. ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" 1/ 270، "العمدة في غريب القرآن" ص 192، "لسان العرب" (رحم) 3/ 1613. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305، "مجاز القرآن" 1/ 412. (¬3) البيت للعجاج. انظر: "ديوانه" 2/ 66، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 413، "جامع البيان" 16/ 4، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 166، "لسان العرب" (رحم) 3/ 1613. (¬4) البيت لرؤبة. انظر: "ديوانه" ص 175، "المحرر الوجيز" 9/ 193، "البحر المحيط" 6/ 155، "الدر المصون" 7/ 539، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 166، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 290 والشطر الأول منه في "لسان العرب" (رحم) 3/ 1613. (¬5) "جامع البيان" 16/ 4، "معالم التنزيل" 5/ 195، "النكت والعيون" 3/ 335، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 110. (¬6) "زاد المسير" 5/ 180، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 37. (¬7) ذكره النحاس في "إعراب القرآن" 2/ 290 بدون نسبة.

ومنهم من جعل الوالدين أبر بالبدل، وهو قول ابن جريج، والفراء. قال ابن جريج: (أرحم به منهما بالذي قتل الخضر) (¬1). يعني رحمة الوالدين عليه أكثر. وقال الفراء: (أقرب أن يرحماه) (¬2). فعلى هذا، الرحم من جهة الوالدين، وعلى القول الأول الرحم من جهة الولد، وكلهم على أن معنى الرحم هاهنا: الرحمة والشفقة والعطف، غير أن الزجاج قال في هذه الآية: (أقرب عطفا، وأمس بالقرابة) (¬3). وَهِمَ؛ لأن الأولاد لصلب الوالدين سواء في القرابة، ولا يكون بعضهم أمس بالقرابة من بعض. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي بن كعب: "فوقع أبوه على أمه فنقلت: فولدت خيرًا منه زكاة وأقرب رحما" (¬4). وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (ولدت جارية فولدت نبيا) (¬5). وروى عكرمة عنه في قوله: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قال: (ولدا كان في بطن أمه) (¬6). وقال مجاهد: (كان ذلك الولد جارية) (¬7). وهو قول جميع ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 4. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 157. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 305. (¬4) سبق تخريج الحديث وعزوه في بداية القصة. (¬5) "جامع البيان" 16/ 4، "النكت والعيون" 3/ 335، "زاد المسير" 5/ 181، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 37. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة انظر: "جامع البيان" 16/ 4، "لباب التأويل" 4/ 227، "الكشاف" 2/ 496، "زاد المسير" 5/ 126، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 110، "التفسير الكبير" 21/ 161، "البحر المحيط" 6/ 155. (¬7) "النكت والعيون" 3/ 335 بدون نسبة، وذكر نحوه الثعلبي عن الكلبي 3/ 391 ب، "بحر العلوم" 2/ 309.

82

المفسرين إلا ابن جريج، فإنه قال: (أبدلهما الله غلامًا مسلمًا، وكان المقتول كافرًا) (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا) (¬2). وهذا قول الباقر (¬3). والجمع بين هذا وبين قوله في رواية سعيد: (ولدت نبيا)، أن السبعين كانوا من نسلها ولم تلد لبطنها إلا نبيًا. قال مطرف (¬4) في هذه الآية: (أيم الله لقد كان أبوه فرحا بمولده، وحزينًا بمقتله، ولو عاش كان في بقائه هلكتهما، فقضاء الله خير من قضائك لنفسك، وما يقضيه الله لك بما تكرهه خير من قضائك لنفسك بما تحب يا بني، فاستخر الله وارض) (¬5). 82 - قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} يعني: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 4/ 16، "النكت والعيون" 3/ 334، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 110، "زاد المسير" 5/ 181. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 195، "المحرر الوجيز" 9/ 383، "زاد المسير" 5/ 181، "البحر المحيط" 6/ 155. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 391 ب، "روح المعاني" 16/ 12. (¬4) مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي العامري، أبو عبد الله البصري، من كبار التابعين، ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان من عباد أهل السمرة وزهادهم، روى عن: أبيه، وعثمان، وعلي، وعمار بن يسار وغيرهم، وروى عنه: عبد الله بن هاني، والحسن البصري، وسعيد الجريري. وكان من أهل البصرة وثقه العلماء، توفي رحمه الله في أول ولاية الحجاج، وقيل سنة 95 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 312، "الكاشف" 3/ 150، "تذكرة الحفاظ" 1/ 64، "تهذيب التهذيب" 10/ 157. (¬5) "جامع البيان" 16/ 4 ذكره عن قتادة، "معالم التنزيل" 3/ 177، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 110، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 38، "الدر المنثور" 4/ 430.

القرية التي ذكرها في قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف: 77]، وقوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} روى أبو الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كان ذهبًا وفضة) (¬1). وهذا قول عكرمة وقتادة (¬2). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (كان لوحًا من ذهب فيه مكتوب: عجبا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبا لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبا للمؤمن كيف يفرح، عجبا لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي. وفي الشق الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبي لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في التفسير سورة الكهف 5/ 313، وقال: هذا حديث غريب. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير 2/ 369 وقال: حديث صحيح. وعلق عليه الذهبي بقوله: قلت: بل يزيد بن يوسف متروك. وقال الحافظ بن حجر في "الكافي الشاف" ص 104 حديث رقم (324): وفيه يزيد بن يوسف الصنعاني وهو ضعيف. وأورده البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 195. (¬2) "جامع البيان" 16/ 6، "معالم التنزيل" 5/ 195، "المحرر الوجيز" 9/ 384، "النكت والعيون" 3/ 336، "زاد المسير" 5/ 181 وقال الطبري في "تفسيره" 16/ 6: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب القول الذي قاله عكرمة؛ لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال، وأن كل ما كنز فقد وقع عليه اسم الكنز فإن التأويل موصوف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك لعلل. وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 3/ 110، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 307. (¬3) "جامع البيان" 16/ 5، "معالم التنزيل" 5/ 196، "النكت والعيون" 3/ 336، "زاد المسير" 5/ 181. =

وهذا قول الحسن (¬1)، وأكثر أهل التفسير (¬2). وقال في رواية سعيد بن جبير، وكريب: (كان صحفا وعلما) (¬3). وهو قول مجاهد: (كان صحفا للغلامين فيها علم) (¬4). قال أبو إسحاق: (المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه: المال المدفون والمدَّخر، فإذا لم يكن المال قيل: عنده كنز علمٍ، وله كنز فهمٍ، والكنز هاهنا بالمال أشبه. قال: وجائز أن يكون الكنز كان مالاً مكتوب فيه علم على ما روي، فهو مال وعلم عظيم من توحيد الله وإعلام أن محمد -صلى الله عليه وسلم- مبعوث) (¬5). وعلى ما ذكره أبو إسحاق قول من قال: (إنه كان صحفا فيها علم)، بعيد. قال ابن الأنباري: (من قال: إن الكنز كان علمًا سمى العلم كنزًا؛ لأنه يتعجل من نفعه أفضل بما ينال من ناحية الأموال) (¬6). فمعنى قوله: ¬

_ = وأخرجه البيهقي في "الشعب" 1/ 64، والبزار، كما في "كشف الأستار" 3/ 57. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 53: رواه البزار من طريق بشر بن المنذر عن الحارث بن عبد الله اليحصبي ولم أعرفهما. وقال الحافظ بن حجر في "الكافي الشاف" ص 105: رواه الواحدي من رواية محمد بن مروان السدي الصغير عن أبان عن أنس مرفوعًا، وأبان والسدي الصغير متروكان. (¬1) "جامع البيان" 16/ 6، "النكت والعيون" 3/ 336، "زاد المسير" 5/ 181 منسوب لابن عباس، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 111. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 196، "القرطبي" 11/ 38، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 112. (¬3) "جامع البيان" 16/ 5، "معالم التنزيل" 5/ 196، "النكت والعيون" 3/ 3366، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 369 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (¬4) "جامع البيان" 16/ 5، "النكت والعيون" 3/ 336، "زاد المسير" 5/ 181. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 307. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 181، وذكره بلا نسبة: "النكت والعيون" 3/ 336، "المحرر الوجيز" 9/ 384، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 38.

{كَنْزٌ لَهُمَا} مثل الكنز، كما يقال: هو الأسد شدة، والقمر حسنا معناه: مثل الأسد، ومثل القمر. وعلى قول من قال: إنه مال، لم يكن الكنز حرامًا على أهل ذلك الزمان. قال قتادة: (كانت الكنوز حلالاً لمن كان قبلنا، وكانت الغنائم محرمة عليهم، فأحل الله لنا الغنائم، وحرم علينا الكنوز) (¬1). وقوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحا) (¬2). قال جعفر بن محمد: (كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة أباء) (¬3) (¬4). {فَأَرَادَ رَبُّكَ} يا موسى {أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} قال ابن عباس: (أن يكبرا ويعقلا) (¬5). {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} ومضى الكلام في بلوغ الغلامين الأشد. ولما أراد الله تعالى أن يبقي ذلك إلى بلوغ الغلامين حتى يستخرجاه ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 6، "الكشاف" 2/ 400، "الدر المنثور" 4/ 431. (¬2) "جامع البيان" 16/ 6، "معالم التنزيل" 5/ 196، "بحر العلوم" 3/ 310، "زاد المسير" 5/ 182. (¬3) "جامع البيان" 16/ 5، "معالم التنزيل" 5/ 196، "المحرر الوجيز" 9/ 384، "الكشاف" 2/ 400، "زاد المسير" 5/ 127. (¬4) قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" 3/ 112 عند قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} وفيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى الدرجات في الجنة لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن ووردت به السنة. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 310، "معالم التنزيل" 5/ 196، "زاد المسير" 5/ 182.

83

أمر الخضر حتى أقام الجدار لأن لا ينهدم. وقولى تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} منصوب على ضربين: أحدهما: على معنى أراد ذلك للرحمة، كما تقول: أنقذتك من الهلكة رحمة لك، والثاني: أن يكون منصوبًا على المصدر؛ لأن ما تقدم من الكلام معناه: رحمهما الله بذلك. وهذا معنى قول أبي إسحاق (¬1). وقوله تعالى: ({وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} قال ابن عباس: (يريد انكشف لي من الله علم فعملت به {ذَلِكَ تَأْوِيلُ} قال: يريد هذا تفسير {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}) (¬2). وتسطع بمعنى تستطيع، ويذكر الكلام فيه عند قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} إن شاء الله. 83 - قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} الآية. قد ذكرنا أن اليهود سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح، وقصة أصحاب الكهف، وعن رجل طواف بلغ شرق الأرض وغربها؟ فكان من جوابه في الروح وقصة أصحاب الكهف ما تقدم (¬3). واختلفوا في ذي القرنين فقال مجاهد: (كان نبيا) (¬4). وهو قول عبد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 307. (¬2) "مجمع البيان" 6/ 754، وذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 6، "بحر العلوم" 2/ 310، "معالم التنزيل" 5/ 196، "لباب التأويل" 4/ 228، "زاد المسير" 5/ 182، "الكشاف" 2/ 496. (¬3) سبق توثيقه عند قوله سبحانه في سورة الكهف (9): {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 197، "النكت والعيون" 3/ 337، "فتح القدير" 3/ 438، ذكروه بدون نسبة.

الله بن عمرو (¬1). وقال علي -رضي الله عنه-: (كان عبدًا صالحًا أحب الله فأحبه الله، وناصح الله فنصحه الله) (¬2). وروى عقبة بن عامر (¬3) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول أمره أنه كان غلامًا من الروم أعطي ملكًا" (¬4). فهو ملك على هذا القول. وروى خالد بن معدان (¬5): (أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع رجلاً ¬

_ (¬1) "بحر العلوم" 2/ 310، "زاد المسير" 5/ 184، "فتح القدير" 3/ 443. (¬2) "جامع البيان" 16/ 8، "معالم التنزيل" 5/ 197، "النكت والعيون" 3/ 337، "الدر المنثور" 4/ 435. (¬3) عقبة بن عامر بن عيسى بن عمرو بن عدي بن عمرو الجهني، أبو حماد، ويقال أبو عمرو، روى عن عمر بن الخطاب، وروى عنه: أبو أمامة، وابن عباس، وقيس بن أبي حازم وغيرهم، ولي أمرة مصر من قبل معاوية -رضي الله عنه- سنة 58 هـ، وكان من القراء، عالمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، يجيد الشعر والكتابة، شهد أحد، وتوفي في آخر خلافة معاوية رضي عنهما. انظر: "أسد الغابة" 3/ 550، "الإصابة" 4/ 250، و"الجرح والتعديل" 6/ 313، "تهذيب التهذيب" 7/ 216. (¬4) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" 16/ 8 بسنده عن عقبة بن عام، وذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 388 وقال: وهو حديث واهي السند. وأورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 112 قال: وفيه طول ونكاره ورفعه لا يصح وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه في كتابه دلائل النبوة وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني وهو ابن قيليس المقدوني الذي تؤرخ به الروم، وأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه. وأخرجه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 436 وعزاه لابن عبد الحكم في فتح مصر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر. (¬5) خالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي، أبو عبد الله، الشامي، الحمصي، روى عن ثوبان وابن عمر وغيرهما من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه عدد من التابعين، توفي =

يقول: يا ذا القرنين. فقال: اللهم غفرا، أما رضيتم أن تتسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة) (¬1). والله أعلم أي: ذلك كان. واختلفوا أيضًا في تسميته بذي القرنين فقال علي -رضي الله عنه-: (دعا قومه إلى الله فضربوا على قرنه (¬2) الأيمن فمات، فأحياه الله، ثم دعا قومه إلى الله فضربوا على قرنه الأيسر فمات، فأحياه الله فسمي ذو القرنين) (¬3). قال أبو إسحاق: (ويجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قطري الأرض، مشرق الأرض ومغربها) (¬4). وهذا قول الزهري قال: (إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرنها من مطلعها) (¬5). وقال محمد بن إسحاق عن وهب: (إنما سمي [ذا القرنين؛ لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس) (¬6). ويقال: (إنما سمي] (¬7)؛ لأنه كانت له ¬

_ = رحمه الله سنة 104 هـ. انظر: "تاريخ الثقات" ص 142، "الكاشف" 1/ 208، "تهذيب التهذيب" 2/ 118. (¬1) "معالم التنزيل" 3/ 198، "الكشاف" 2/ 400، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 46. (¬2) في (ص، س): (قرية)، وهو تصحيف. (¬3) "جامع البيان" 16/ 8، "معالم التنزيل" 5/ 198، "المحرر الوجيز" 9/ 390، "النكت والعيون" 3/ 337، "الدر المنثور" 4/ 435. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 308. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 198، "النكت والعيون" 3/ 337، "تهذيب اللغة" (قرن) 3/ 2947. (¬6) "جامع البيان" 16/ 9، "المحرر الوجيز" 10/ 442، "زاد المسير" 5/ 183، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 112. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

84

ضفيرتان) (¬1). وقوله تعالى: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} أي: خبرا يتضمن في ذكره. 84 - قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} قال على -رضي الله عنه-: (سخر الله له السحاب فحمله عليها، ومد له في الأسباب، وبسط له النور وكان الليل والنهار (¬2) عليه سواء) (¬3). وهذا معنى تمكينه في الأرض، وهو: أنه سهل عليه المسير فيها، وذلل له طرقها، وحزومها حتى تمكن منها أنى شاء (¬4). وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} قال علي عن أبي طلحة عن ابن عباس: (علما) (¬5). وهو قول قتادة، وابن زيد، والضحاك، وابن جريج قالوا: (علما يتسبب به إلى ما يريد) (¬6). وقال أبو إسحاق: (أي آتيناه من كل شيء يبلغ به في التمكن أقطار الأرض) (¬7). {سَبَبًا} أي: علما يوصله إلى حيث يريد. قال المبرد: (وكل ما وصل شيئًا بشيء فهو سبب) (¬8). وهذا بما يقدم فيه القول، وقال بعض ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 198، "المحرر الوجيز" 9/ 389، "النكت والعيون" 3/ 337، "زاد المسير" 5/ 184. (¬2) قوله: (والنهار)، ساقط من نسخة: (س). (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 198، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 113، "روح المعاني" 16/ 30. (¬4) في (ص): (أين شاء). (¬5) "جامع البيان" 16/ 8، "زاد المسير" 5/ 185، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 48، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 104. (¬6) "جامع البيان" 16/ 8، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 113، "الدر المنثور" 4/ 445. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 308. (¬8) ذكره بلا نسبة الأزهري في "تهذيب اللغة" (سب) 3/ 1605، "لسان العرب" (سبب) 4/ 1909.

85

المتأولين: (المعنى: وآتيناه من كل شيء بالخلق إليه {سَبَبًا} أي: علما ومعونة) (¬1). 85 - وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} قال مجاهد: (طريقًا بين المشرق والمغرب) (¬2). وهو قول قتادة، والضحاك، وابن زيد، والكلبي وجميعهم (¬3). قال أبو عبيدة: (اتبع طريقًا وأثرا) (¬4). والمعنى على هذا: أنه، اتبع طريقًا يؤديه إلى مغرب الشمس. وعلى هذا السبب الثاني غير الأول؛ لأن معناه: الطريق، والأول بمعنى: العلم. وقال أبو إسحاق: (فأتبع سببا من الأسباب التي أوتي) (¬5). وذلك أنه أوتي من كل شيء سببا فأتبع من تلك الأسباب التي أوتي سببا في المسير إلى المغرب. وعلى هذا القول هما سواء. والقراءة الجيدة: فاتبع، وقرئ: فأتبع بقطع الألف (¬6). قال الأصمعي: (ومعناه: لحق، يقال: أتبعْتُ القوم لحقتهم، واتَّبع إنما هو أن يتتبع آثارهم وإن لم يلحقهم) (¬7). وذكرنا هذا عند ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "بحر العلوم" 2/ 310، "معالم التنزيل" 5/ 198، "لباب التأويل" 4/ 229، "القرطبي" 11/ 48، "التفسير الكبير" 21/ 165. (¬2) "جامع البيان" 16/ 10، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 113، "الدر المنثور" 4/ 445. (¬3) "جامع البيان" 16/ 10، "بحر العلوم" 2/ 310، "زاد المسير" 5/ 185. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 413. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 308. (¬6) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو البصري: (فاتبع) بالوصل والتشديد. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (فأتبع) بالقطع والتخفيف. انظر: "السبعة" ص 398، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 166، "التبصرة" ص 251، "النشر" 2/ 314. (¬7) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 290، "لسان العرب" (تبع) 1/ 416.

86

قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] 86 - وقوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي: ذات حمأة وهي: الطين الأسود المنتن (1). قال ابن السكيت: (أحمأتُ الركيَّة القيت فيها الحمأة، وحمأتُها إذا نزعت حَمْأتَها) (2). ونحو هذا روى أبو عبيد عن أبي زيد (3). وقال الأصمعي في الأجناس: (على القلب من هذا) (4). قال الأزهري: (وليس ذلك بمحفوظ، والصواب ما قاله ابن السكيت) (5). ويقال: حمئت البئر تحمأ حمأ إذا صارت ذات حمأة فهي حمئة، وهذه قراءة ابن عباس، ومجاهد، وفسراها: (حَمَأة سوداء، وطينة سوداء) (6). ولما اختلف ابن عباس ومعاوية في حَمِئة وحامية، أرسلا إلى أبي بن كعب: (أين تجد الشمس تغرب؟ فقال: في طينة سوداء. فوافق ابن عباس) (7). وقرأ ابن الزبير، وابن مسعود: حامِية، من غير همز (8). وهي فاعلة من

_ (1) "جامع البيان" 16/ 11، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 49، "فتح القدير" 3/ 444. (2) "تهذيب اللغة" (حما) 1/ 909. (3) و (4) "تهذيب اللغة" (حما) 1/ 909، "لسان العرب" (حمم) 2/ 1006. (5) "تهذيب اللغة" (حما) 1/ 909. (6) "جامع البيان" 16/ 11، "بحر العلوم" 2/ 311، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 113. (7) "جامع البيان" 16/ 11، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 411، "معالم التنزيل" 5/ 199، "المحرر الوجيز" 9/ 393، "الدر المنثور" 4/ 445. (8) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: (حمئه) مهموزة بغير ألف. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (حاميه) بألف من غير همز. =

حَمِيَت تَحْمَى فهي حامية أي: حارة، ويدل على صحة هذه القراءة ما روي: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى الشمس حين غابت فقال: "في نار الله الحامية، في نار الله الحامية") (¬1). وقال ابن عباس في رواية الوالبي والحسن في قوله: "في عين حامية" (عين حارة) (¬2). وتترجح هذه القراءة؛ لأنها تجمع المعنيين (¬3). وهو ما ¬

_ = انظر: "السبعة" ص 398، "الحجة" للقراءة السبعة 5/ 169، "العنوان في القراءات" 124، "المبسوط في القراءات" ص 237. (¬1) أخرج الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 207، وانظر: "المطالب العالية" 3/ 350، و"الكافي الشاف" لابن حجر ص 104، والطبري في "جامع البيان" 16/ 12، وابن عطية 9/ 393، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 113 وقال: رواه الإمام أحمد عن يزيد ابن هارون، وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 447، وزاد في نسبته لأبي يعلى، وابن منيع، وابن مردويه. (¬2) "جامع البيان" 16/ 12، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 410، "زاد المسير" 5/ 1850، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 114. (¬3) قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 12: والصواب من القول في ذلك عندي: أن يقال أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ولكل واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ: في عين حامية واصفها بصفتها التي هي لها وهي الحرارة، ويكون القارئ: في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأ وطين، وقد رُوِي -بكلا صفتيهما اللتين قلت: إنهما من صفتها- أخبار. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 105: ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار.

ذكره أبو إسحاق فقال: (وقد تكون حارة ذات حمأةٍ) (¬1). وقال أبو علي: (يجوز أن تكون حامية فاعِلةً من الحَمَأة، فخفف الهمزة بأن قلبت ياء محضة، على قياس قول أبي الحسن، وعلى قول الخليل كانت بَين بَين) (¬2). وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} أي: عند العين: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} قال ابن الأنباري: (من قال: إن ذا القرنين كان نبيا، فإن الله قال له كما يقول للأنبياء إما بتكلم، أو بوحي، ومن قال: لم يكن نبيا قال: معنى {قُلْنَا} هاهنا: ألهمنا) (¬3) {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} قال ابن عباس: (يريد إما أن [تقتل {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} قال: وإما أن تسبيهم) (¬4). قال المفسرون: (يريد إما أن] (¬5) تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه، وإما أن تأسرهم فتعلمهم وتبصرهم الرشاد) (¬6). وعلى هذا المراد بالتعذيب: القتل، وباتخاذ الحسن فيهم: أن لا يقتلهم بل يأسرهم فيسلموا عنده. وقال الكلبي في قوله: {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (يريد تعفو أو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 308. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 169. (¬3) ذكرته كتب التفسير. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 199، "المحرر الوجيز" 9/ 395، "زاد المسير" 5/ 185، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 52. (¬4) ذكرت كتب بالتفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 11، "معالم التنزيل" 5/ 200، "المحرر الوجيز" 9/ 395، "لباب التأويل" 4/ 229، "أنوار التنزيل" 3/ 235. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬6) "جامع البيان" 16/ 12، "معالم التنزيل" 5/ 200، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 114، "بحر العلوم" 2/ 311.

87

تنعم) (¬1). وعلى هذا المراد باتخاذ الحسن فيهم: عفوهم وتركهم. والأول القول؛ لأنه (¬2) لو أمر بتركهم والعفو عنهم لم يكن في الدعوة فائدة. قال أبو إسحاق: (أباح له الله عز وجل هذين الحكمين يعني: القتل، والأسر، كما أباح لمحمد الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض) (¬3). يعني قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. قال ابن الأنباري: (موضع {أَن} نصب؛ لأن المعنى: اختر التعذيب أو اتخذا الحسن عندهم، فأفادت {إِمَّا} التخيير، قال: ويجوز أن يكون رفعا بتأويل: إما هو التعذيب، وإما هو الاتخاذ) (¬4). قال قتادة: (فقضى فيهم بقضاء الله، وكان عالمًا بالسياسة) (¬5). 87 - فقال: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} قال ابن عباس: (يريد أشرك) (¬6) {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ}: نقتله إذا لم يرجع عن الشرك. {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} بعد قتلي إياه {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} يعني في النار، وعذاب الله إياه بالنار أنكر من عذاب القتل. قاله الزجاج (¬7). ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 200، "النكت والعيون" 3/ 339، "لباب التأويل" 4/ 230، "التفسير الكبير" 21/ 167. (¬2) قوله: (القول لأنه)، ساقط من نسخة (س). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 309. (¬4) ذى بلا نسبة في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 291، "إملاء ما من به الرحمن" ص 404، "البحر المحيط" 6/ 160، "الدر المصون" 7/ 542. (¬5) لم أقف عليه وذكره المؤلف في "تفسيره الوسيط" 3/ 165. (¬6) "مجمع البيان" 6/ 757. وذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 186، "الكشاف" 2/ 497، "أنوار التنزيل" 3/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 114، "روح المعاني" 16/ 34، "إرشاد العقل السليم" 5/ 243. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 309.

88

88 - {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} يكون هذا الجزاء من الله تعالى، والحسنى هاهنا على معنيين أحدهما: الجنة، وأضيف الجزاء إليها وهي الجزاء، كما قال: {حَقُّ الْيَقِينِ}، {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}، و {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وهذا قول الفراء (¬1). والثاني: أن تكون الحسنى حسناته، ويكون المعنى: له جزاء الخلال الحسنة التي آتاها وعملها. وهذا القول ذكره الفراء أيضًا، واختاره أبو علي وحرره (¬2). ويجوز أن يكون هذا الجزاء المذكور من ذي القرنين، وهو قول ابن عباس؛ كأنه قال: أتفضل عليه وأعطيه. وعلى هذا لا يكون معنى الحسنى: الجنة؛ لأن الجزاء بها لا يجزيه إلا الله عز ذكره، ومضى الكلام في الحسنى عند قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] الآية. وقرأ أهل الكوفة: فله جزاءً نصبا منونًا (¬3). قال الفراء: (أي فله الحسنى جزاء، نصبت {جَزَاءً} هو على التفسير) (¬4). وقال الزجاج: ({جَزَاءً} مصدر منصوب في موضع الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيًا بها جزاء) (¬5). ونحو هذا قال أبو علي: (هو مصدر واقع موقع الحال، المعنى: فله الحسنى مجزية) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 159. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 159، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 170. (¬3) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر: {جَزَاءً الْحُسْنَى} منونًا منصوبًا. انظر: "السبعة" ص 398، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 170، "الغاية في القراءات" 312، "التبصرة" ص 251، "النشر" 2/ 315. (¬4) "معاني القرآن" للفراء2/ 159. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 309. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 170.

89

قال الأخفش: (وهذا لا يكاد العرب تكلم به مقدما إلا في شعر) (¬1). وذكر ابن الأنباري في انتصاب {جَزَاءً} وجهين أحدهما: (المصدر على معنى: فيجزى الحسنى جزاء، كما يقال: هو لك هبة. والآخر: أن ينتصب على التفسير بمعنى: فله الحسنى من جزاء، كما قالوا: لك أسمنها كبشا، أي: من كبش) (¬2). وقوله تعالى: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} قال الكلبي: (أي خيرًا) (¬3). وقال مجاهد: (معروفًا) (¬4). وقال أبو إسحاق: (أو نقول له قولا جميلاً) (¬5). وقال عباس: (يريد كما يحيي المؤمنون بعضهم بعضًا، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: يكن لك ما لنا، وعليك ما علينا) (¬6). فجعل القول باليسر هاهنا السلم والمشاركة معه في الخير والشر. 89 - وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} إخبار عن ذي القرنين أنه سلك طريقًا آخر مما يوصله إلى المشرق. 90 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قال قتادة: (لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، وذلك ¬

_ (¬1) ذكره الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 170. (¬2) ذكر بلا نسبة في "إملاء ما من به الرحمن" ص 404، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 292، "المحرر الوجيز" 9/ 395، "الدر المصون" 7/ 543. (¬3) ورد نحوه بلا نسبة في "جامع البيان" 16/ 13، "الكشاف" 2/ 401، "بحر العلوم" 2/ 311. (¬4) "جامع البيان" 16/ 13، "معالم التنزيل" 5/ 200، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 114، "الدر المنثور" 4/ 448. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 309. (¬6) لم أقف عليه.

91

أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء) (¬1). ونحو هذا قال الحسن (¬2). وقال الكلبي بإسناده عمن لقيهم: (كان أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى، وقال: كانوا عراة حفاة) (¬3). وعلى هذا القول لا ستر بينهم وبين الشمس مما يلبسون. وعلى القول الأول من البناء. وجمع بينهما أبو إسحاق فقال: (لم يكن لهم شيء يظلهم من سقف ولا لباس) (¬4). 91 - قوله تعالى: {كَذَلِكَ} اختلفوا في المشبه به، والمشار إليه فقال الزجاج: (يجوز أن يكون التقدير: وجدها تطلع على قوم، كذلك القبيل الذي كانوا عند مغرب الشمس وأن حكمهم حكم أولئك) (¬5). وقال غيره: (المعنى كما بلغ مغرب الشمس فكذلك بلغ مطلعها) (¬6). وقيل: (أتبع سببًا، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 14، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 347، "معالم التنزيل" 5/ 200، "زاد المسير" 5/ 188. (¬2) "جامع البيان" 16/ 14، "معالم التنزيل" 5/ 200، "المحرر الوجيز" 9/ 398 - 399، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 54. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 201، "الكشاف" 2/ 401، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 54، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 15. ولعل هذه من الروايات الإسرائيلية. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 309. وقال ابن عطية في "تفسيره" 9/ 398: والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم وفعلها لقدرة الله تعالى فيهم، ونيلها منهم، ولو كان لهم أراب تغني لكان سترًا كثيفًا، وإنما هم في قبضة القدرة سواء كان لهم أسراب أو دور أو لم يكن، ألا ترى أن الستر عندنا نحن إنما هو من السحاب والغمام وبرد الهوى، ولو سلط الله علينا الشمس لأحرقتنا فسبحان المنفرد بالقدرة التامة. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 309. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 201، "بحر العلوم" 2/ 311، "زاد المسير" 5/ 188.

92

كما أتبع سببا) (¬1). والقول ما قاله أبو إسحاق؛ لأن التشبيه بالكاف يجب أن يرجع إلى أقرب المذكور إليه، والأقرب وجود القوم لا البلوغ والإتباع. وقوله تعالى: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} قال مقاتل: (وقد أحطنا بما قبله علما) (¬2). أي: علمنا ما كان عنده من الجيوش والعدة. وهذا معنى قول ابن عباس؛ لأنه يقول: (يقول الله سبحانه: مكنته (¬3) وملكته) (¬4). يعني أنا أعطيته ما كان عنده، وإذا كان عطاؤه كان معلومه. 92 - {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} ثالثًا، مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض. 93 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قرئ: بالفتح، والضم (¬5). قال أبو عبيدة: السُّد مضموم إذا كان مخلوقًا من فعل الله تعالى، فإن كان من فعل الآدميين فهو سَدّ مفتوح) (¬6). وهذا قول عكرمة (¬7)، والأخفش (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 14، "زاد المسير" 5/ 188 - 189، "البحر المحيط" 6/ 161. (¬2) "بحر العلوم" 2/ 311. (¬3) في (ص): (مكية)، وهو تصحيف. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 15، "بحر العلوم" 2/ 312، "النكت والعيون" 3/ 342، "المحرر الوجيز" 9/ 399، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 19. (¬5) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بفتح السين. وقرأ ابن عامر، ونافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر {بين السُّدين} بضم السين. انظر: "السبعة" ص 399، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 171، "المبسوط في القراءات" ص 237، "التبصرة" ص 251. (¬6) "مجاز القرآن" 1/ 414، "تهذيب اللغة" (سد) 2/ 1655. (¬7) "جامع البيان" 16/ 15، "معالم التنزيل" 5/ 201، "زاد المسير" 5/ 189 - 190. (¬8) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (سد) 2/ 1655.

93

وقال الكسائي: (ضم السين وفتحها سواء) (¬1). وقال ابن الأعرابي: (كل ما قابلك فَسَدَّ ما وراءه فهو سَدّ وسُدّ، وهذا نحو: الضَعف والضُعف، والفَقر والفُقر) (¬2). وقال أبو علي الفارسي: (يجوز أن يكون السَّد مصدرًا، والسُّد المسدود كالأشياء التي يفصل فيها من المصادر والأسماء، نحو: السِّقي والسُّقي، والطِّحن والطُّحن، والشِّرب والشُّرب، والقَبْض والقُبْض، وإذا كان كذلك فالأشبه بين السدين؛ لأنه المسدود، وأما من فتح السين جعله اسما للمسدود نحو: نَسجُ اليمن، وضَربُ الأمير) (¬3). وقال الأخفش: (المفتوحة أكثر اللغتين) (¬4). قال ابن عباس: (هما جبلان سَد ذو القرنين ما بينهما جاجزًا بين يأجوج ومأجوج ومن سواهم) (¬5). وقوله تعالى: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي: يعلمونه فلا يستنبطون من فحواه شيئًا، وقرئ: يُفقهون بضم الياء (¬6). والمعنى: لا يكادون يفقهون ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (سد) 2/ 1655، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 293. (¬2) "زاد المسير" 5/ 189، "تهذيب اللغة" (سد) 2/ 1655، "الحجة" 5/ 171. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 171. (¬4) ذكره الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 171. (¬5) "جامع البيان" 16/ 16، "معالم التنزيل" 5/ 201، "بحر العلوم" 2/ 312. (¬6) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {يَفْقَهُونَ} بفتح الياء والقاف. وقرأ حمزة، والكسائي: {يُفقِهون} بضم الياء وكسر القاف. انظر: "السبعة" ص 399، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 172، "المبسوط" ص239، "التبصرة" ص252.

94

أحدًا قولاً، فحذف أحد المفعولين كما حذف من قوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا} [الكهف: 2] وهذا الحذف غير ضيق. قال ابن عباس: (يريد لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم) (¬1). 94 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} إن قيل: كيف خاطبوا ذا القرنين وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يَفهمون ولا يُفهمون؟ والجواب عن هذا أن يقال: كلم عنهم قوم آخرون مترجمة عن لغتهم، فنسب القول إليهم، لما كان بأمرهم وإرادتهم، وهذا على قول من يجعل يكادون صلة كقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] (¬2). ومن لم يجعل صلة قال: هم يفقهون وُيفقهون وإذا قلت: لا يكاد فلان يفعل كذا، كان المعنى أنه يقارب أن لا يفعل ولكن يفعل (¬3). وذكرنا هذا عند قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. وقوله تعالى: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} أكثر أهل العلم على أن هذين اسمان أعجميان مثل: طالوت وجالوت، وهاروت وماروت، لا ينصرفان للتعريف والعجمة (¬4). والقراءة فيها: بترك الهمز، وقرأ عاصم بالهمز (¬5). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 201، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 312 بدون نسبة. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 201 - 202، "زاد المسير" 5/ 190، "فتح القدير" 3/ 445. (¬3) "زاد المسير" 5/ 190، "روح المعاني" 16/ 38، "مفاتح الغيب" 21/ 170. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 310، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 173. (¬5) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (ياجوج وماجوج) بغير همز. وقرأ عاصم: (يأجوج ومأجوح) بالهمز. انظرت: "السبعة" ص399، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 172، "الغاية في القراءات" ص 312، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 77.

قال الليث: (والهمز لغة رديئة) (¬1). وذكر الأخفش، والزجاج، وأبو علي وجه جواز كون الاسمين عربيين فقالوا: (من همز يأجوج يجوز أن يكون عربيًا، ويكون على وزن يفعول مثل: يربوع من أَجَّةِ النار والحر، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس وأما يأجوج فيمن همز: فمفعول (¬2) من أجَّ، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة كما ذكرنا، ويجوز أن يكون فاعول من مجَّ، والكلمتان على هذا من أصلين، وليستا من أجل واحد، ويكون ترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف، كأنه اسم للقبيلة كمجوس. وهذه التمثيلات لا يصح فيها إن جعلتها من العجمي؛ لأن العجمي لا يشتق (¬3) من العربية) (¬4). قال ابن الأنباري: (وجه همزه على هذا القول أنه لا يعرف له أصل، كما أن العرب همزت حروفًا لا تعرف للهمزة فيها أصل، كقولهم: لبأت (¬5)، ورثأت (¬6)، واستنشأت الريح (¬7)، وإذا كان هذا معروفًا في أبنية ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وهو قول ضعيف لا يصح، لأنه مخالف لقراءة سبعية ثابتة متواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقراءة الصحيحة حجة على اللغة. (¬2) قوله: (فمفعول)، ساقط من نسخة (ص). (¬3) في (ص): (لا يسبق)، وهو تصحيف. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 310، "معاني القرآن" للأخفش (621)، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 173. (¬5) لبأت: اللبأ هو أول اللبن في النتاج، تقول لبأت الناقة إذا حلبت لباء. انظر: "تهذيب اللغة" (لب) 4/ 3224، "الصحاح" (لبأ) 1/ 70. (¬6) رثأت: الرِثيئة الحامض يحلب عليه فيخثر. انظر: "تهذيب اللغة" (رث) 2/ 1358، "لسان العرب" (رثأ) 3/ 1579 - 1580. (¬7) اسْتَنْشأت: من نَشَيْت الريح بلا همز أي: شممتها. والاستنشاء يهمز ولا يهمز، وقيل: هو من الإنشاء: الابتداء. =

العرب كان معروفًا في الألفاظ التي أصلها للعجم) (¬1). هذا هو الكلام في أصل الكلمتين من العربية. وأما المسمون بهذين الاسمين فقال وهب: (هم من ولد يافث بن نوح، أب الترك) (¬2). وهذا قول مقاتل بن سليمان (¬3). وقال الضحاك: (هم جيل من الترك) (¬4). وقال السدي: (الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت تعبر، فجاء ذو القرنين فبنى السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك) (¬5). وقال كعب: (هم نادرة في ولد آدم، وذلك أن آدم احتلم ذات يوم، وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم) (¬6). ¬

_ = انظر: "تهذيب اللغة" (نشأ) 4/ 3566، "لسان العرب" (نشأ) 7/ 4418. (¬1) ذكره "فتح القدير" 3/ 312، وورد معناه بلا نسبة في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 294، "إملاء ما من به الرحمن" ص 404، "البحر المحيط" 6/ 163، "الدر المصون" 7/ 545. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 202، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 116، "روح المعاني" 16/ 38. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 56، "فتح القدير" 3/ 445. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 202، "زاد المسير" 5/ 190، "روح المعاني" 16/ 38. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 202، "زاد المسير" 5/ 190، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 58، "البحر المحيط" 6/ 163. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 203، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 56. وذكره ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" 3/ 116 وقال: وهذا قول غريب جدًا، لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحيكه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة. والله اعلم. =

وقال ابن عباس في رواية عطاء: (هم عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء) (¬1). وقوله تعالى: {مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} قال قتادة: (هما: حيَّان حيَّا سوء، كانا أهل بغي وظلم على من جاورهما) (¬2). وقال الكلبي: (كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء الذين شكوهم إلى ذي القرنين أيام الربيع، فلا يدعون فيها شيئًا أخضر إلا أكلوه) (¬3). وقوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} وقرئ: خَرَاجًا (¬4). قال ابن عباس: (يريد: جعلاً) (¬5). قال الليث: (الخَرْجُ والخَرَاجُ شيء واحد، وهو شيء يُخرجه القوم من مالهم بقدر معلوم) (¬6). والمعنى على هذا: هل نخرج إليك من أموالنا ¬

_ = وقال القرطبي 11/ 56: وهذا فيه نظر، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يحتلمون. وانظر: "روح المعاني" 16/ 38. (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 202، "زاد المسير" 5/ 133. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 59 بدون نسبة، "البحر المحيط" 6/ 164. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 204، "الكشاف" 2/ 402. (¬4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: (خرجا) بغير ألف. وقرأ حمزة، والكسائي: (خراجا) بألف. انظر: "السبعة" ص400، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 174، "المبسوط" ص 239، "التبصرة" ص 252. (¬5) "جامع البيان" 16/ 22، "المحرر الوجيز" 9/ 403، "زاد المسير" 5/ 191، "البحر المحيط" 6/ 164، "الدر المنثور" 4/ 451. (¬6) "زاد المسير" 5/ 191، "البحر المحيط" 6/ 164، "تهذيب اللغة" (خرج) 1/ 1003.

[شيئًا كالجُعل لك عطية نخرجه إليك من أموالنا] (¬1)، وكل ما استخرج من ضَرِيبة وجزية وغلة فهو خَراج وخَرْج، ومنه الحديث: "الخَرَاخ بالضمان" (¬2). يعني الغَلَّة، سمي خراجا وخَرْجا؛ لأن المؤدي يُخرجه، والآخذ يستخرجه. وفصل قوم بين الخَرْج والخراج فقالوا: (الخرج المصدر لما يخرج من المال كالضرب والقطع، والخراج الاسم لما يخرج من الأرض ونحوه كالنبات والحصاد فالخرج والخراج بمنزلة الحصد والحصاد). وهذا معنى قول الفراء والزجاج (¬3). وقال ابن الأعرابي -ونحو هذا قال ثعلب-: الخرج أخص، والخراج أعم. يقال: أدَّى خرج رأسه، وأخذ الإمام خراج البلد) (¬4). وقد حكى أبو عبيدة: (العبد يؤدي إليك خرجه أي: غلته، والرعية تؤدي إلى الأمير الخرج) (¬5). فحكى الخرجة في الضريبة التي على الأرضين فدل أن كلامهما بمعنى. وقال العجاج (¬6): ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مكرر في (ص). (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب: البيوع، باب: ما جاء فيمن يشتري العبد ويستعمله ثم يجد به عيبًا 3/ 581 وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي، كتاب: البيوع، باب: الخراج بالضمان 7/ 182، وابن ماجه كتاب: التجارات، باب: الخراج بالضمان 2/ 753، وأبو داود في كتاب: البيوع باب: فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا 3/ 777، والحاكم 2/ 15 وصححه، ووافقه الذهبي. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 310، "معاني القرآن" للفراء 2/ 159. (¬4) "البحر المحيط" 6/ 164، "روح المعاني" 16/ 39. (¬5) "تهذيب اللغة" (خرج) 1/ 1003. (¬6) هذا عجز بيت العجاج، وصدره: =

95

يوم خراجٍ يُخْرِج السمرَّجا وهذا ليس على الضرائب التي ألزمت الأرضين؛ لأن ذلك لا يكاد يضاف إلى وقت من يوم وغيره، وإنما هو شيء مؤبد لا يتغير عما عليه (¬1) وقال أبو الحسن: (لا أدري أيهما أكثر في بلاد العرب) (¬2). 95 - ويدل على أن المراد بالخَرْج والخَرَاج هاهنا: العطية منهم له، قوله تعالى في جوابه لهم: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} والمعنى: ما مكني فيه من الاتساع في الدنيا، خير من خرجكم الذي تبذلونه لي، ومكَّن منقول من مكن يقال: مكُنَ مَكَانَةً، وهو مَكِين عند السلطان من قوم مُكناء، ومكَّن غيره إذا جعله ذا تمكن. وقراءة العامة: ما مَكَّنِّي بنون واحدة مشددة (¬3). أدغموا النون في النون لاجتماع النونين كقوله: {لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] وقرأ ابن كثير: بنونين؛ لأنهما من كلمتين والثانية غير لازمة؛ ¬

_ = عكف النبيط يلعبون الفنزجا الفنزجا: يعني به رقص المجوس إذا أخذ بعضهم يد بعض وهم يرقصون. السمرجا: يوم للعجم يستخرجون فيه الخراج في ثلاث مرات، وعربه رؤبة بأن جعل الشين سينًا. انظر: "ديوانه" ص 25، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 174، "تهذيب اللغة" (السمرج) 2/ 1753، "لسان العرب" (شمرج) 4/ 2323. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 174. (¬2) ذكر نحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" (خرج) 1/ 1003. (¬3) قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم: (ما مكنِّي) بنون واحدة مشددة. وقرأ ابن كثير: (ما مكنني) بنونين. انظر: "السبعة" ص 400، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 176، "المبسوط في القراءات" ص 239، "النشر" ص 3152.

96

لأنك تقول: مكنتك ومكنته فلم تدغم (¬1). قال ابن عباس: (يريد ما أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم) (¬2). وقولى تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} قال: (يريد بقوة الأبدان) (¬3). وقال الزجاج: (بعمل يعملونه) (¬4). معنى: {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} سدًّا وحاجزًا. قال ابن عباس: (وهو أشد الحجاب) (¬5). ومعنى الرَّدم في اللغة: سدُّك بابًا كله أو ثلمةً أر مدخلاً، يقال: رَدَمَه يردمه ردمًا (¬6). قال أبو إسحاق: (والرَّدْمُ في اللغة أكثر من السدِّ؛ لأن الردم ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردم إذا كان قد رُقِع رقعة فوق رُقعة) (¬7). 96 - قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} لم يرد فأتوني استدعاء تمليك عين، ولكن تمليك المناولة بالأنفس؛ لأنه كلفهم المعونة على عمل السد ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 177، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 78. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 23، "بحر العلوم" 2/ 312، "المحرر الوجيز" 9/ 403، "النكت والعيون" 3/ 342، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 19، "التفسير الكبير" 21/ 171، "أنوار التنزيل" 3/ 236. (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 403، "معالم التنزيل" 5/ 204، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 60 (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 311. (¬5) "جامع البيان" 16/ 23، "الدر المنثور" 4/ 452، "روح المعاني" 16/ 40، "فتح القدير" 3/ 446. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (ردم) 2/ 1395، "القاموس المحيط" (ردم) ص1112، "المعجم الوسيط" (ردم) 1/ 339، "مختار الصحاح" (ردم) (101). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 311.

بقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} ولم يقل: الخرج الذي بذلوه، فلا يسألهم الحديد أيضًا (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس: (يريدا احملوا إلى زبر الحديد) (¬2) ألا ترى أنه فسره بالحمل إليه لا بمعنى التمليك. قال الفراء: (معناه: آتوني) (¬3). يريد: فلما ألقيت الباء زيدت ألف، كما تقول: قد أتيتك زيدًا، تريد: أتيتك يزيد، ويقوي هذا المعنى الذي ذكرناه قراءة من قرأ: ائتوني (¬4). موصولاً من الإتيان على معنى جيؤني، وهو هاهنا حسن لاختصاصه بالمعونة فقط دون أن يكون سؤال عينه. وعلى هذه القراءة انتصب زبر الحديد بحذف الحرف اتساعًا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني على حد: أمرتك الخير، والتقدير: ايتوني بزبر الحديد (¬5). وزبر الحديد: قطعه في قول الجميع. قال الليث: (زبرة الحديد: قطعة ضخمة منه) (¬6). وأصلها الاجتماع ومنه: زبرى الأسد، وهي: ما اجتمع من الشعر على كاهله، وزَبَرْت الكتاب: إذا كتبته؛ لأنك جمعت ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 405، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 60، "البحر المحيط" 6/ 164. (¬2) "زاد المسير" 5/ 192. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 160. (¬4) قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وحفص عن عاصم: (ردما آتوني) بالمد. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (ردما آئتوني) بالقصر وكسر التنوين ووصل الألف. انظر: "السبعة" ص 400، "الحجة" 5/ 175، "التبصرة" ص 252، "المبسوط" ص 240. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 175، "حجة القراءات" ص434، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 79. (¬6) "تهذيب اللغة" (زبر) 2/ 1506، "لسان العرب" (زبر) 3/ 1804.

حروفه، وزبرة الحديد: جملة مجتمعة منه (¬1). قال ابن عباس في تفسير {زُبَرَ الْحَدِيدِ}: (هي على قدر الحجارة التي يبنى بها قدر ما يحمل الرجل) (¬2). ومعنى الآية: أنه يأمرهم أن ينقلوا إليه زبر الحديد ليعمل بها الردم في وجوه يأجوج ومأجوج، فأتوه بها فبناه {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال الفراء: (ساوى وسوَّى بينهما: واحد) (¬3). والمعنى: أنه جمع زبر الحديد ووضع بعضها على بعض بين الصدفين حتى سوى بينهما بالحديد. والصدفان: (الجبلان) في قول جميع المفسرين (¬4). قال أبو عبيدة: (الصدفان جانبا الجبل) (¬5). ونحوه قال الزجاج (¬6). وقال الأزهري: (الصَّدف والصُّدْفة الجانب والناحية، يقال: لجانبي الجبل إذا تحاذا صدفان لتصادفهما أي: تلاقيهما، ومن هذا يقال: صادفت فلانا أي: لاقيته) (¬7). ويقال للبناء العظيم المرتفع: صَدَف. شبه بجانب الجبل، ومنه الحديث: (إذا مر بصدف مائل أسرع المشي) (¬8). وفيه ثلاثة ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (زبر) 2/ 1506، "مقاييس اللغة" (زبر) 3/ 44، "الصحاح" (زبر) 2/ 666 "لسان العرب" (زبر) 3/ 1804. (¬2) ذكر نحوه الطبري في "جامع البيان" 16/ 24، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 313. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 160. (¬4) "جامع البيان" 16/ 24، "المحرر الوجيز" 9/ 407، "معالم التنزيل" 5/ 205، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 61. (¬5) "مجاز القرآن" 1/ 414. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 311. (¬7) "تهذيب اللغة" (صدف) 2/ 1989. (¬8) أخرجه الإمام أحمد 2/ 356 عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأورده القرطبي 11/ 61، وأورده الأزهري في "تهذيب اللغة" (صدف) 12/ 146.

أوجه من القراءة: الصدفين بضم الصاد والدال، والصدفين بفتحهما، والصدفين بضم الصاد وتسكين الدال (¬1). وكلها لغات في هذه الكلمة فاشية. وقوله تعالى: {قَالَ انْفُخُوا} قال ابن عباس: (يريد انفخوا على زبر الحديد بالكير) (¬2). قال الزجاج: (جعل بينهما الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، وهو قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} والحديد إذا أُحمي بالفحم والمنفاخ صار كالنار) (¬3). وقوله تعالى: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} قال ابن عباس: (أذاب النحاس، ثم أفرغه على زبر الحديد فاختلط ولصق بعضه ببعض، حتى صار جبلاً صلدًا من حديد ونحاس) (¬4). قال قتادة: (وهو كالبُرْد المحبَّر طريقة سوداء، وطريقة حمراء) (¬5). والقطر: النحاس الذائب، وأصله من القطر وذلك أنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء (¬6). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر: (الصدفين) بضم الصاد والدال. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (الصدفين) بفتح الصاد والدال. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (الصدفين) بضم الصاد وتسكين الدال. انظر: "السبعة" ص 401، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 177، "العنوان في القراءات" ص 125، "التبصرة" ص 252، "النشر" 2/ 316. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 313، "القرطبي" 11/ 62، "روح المعاني" 16/ 41. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 311. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 313، "معالم التنزيل" 5/ 205، "الكشاف" 2/ 402، "زاد المسير" 5/ 193، "القرطبي" 11/ 62. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 205، "زاد المسير" 5/ 193، "القرطبي" 11/ 62، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 116. (¬6) انظر: (قطر) في "تهذيب اللغة" 3/ 2990، "مقاييس اللغة" 5/ 105، "القاموس المحيط" ص 463، "الصحاح" 2/ 796، "المعجم الوسيط" 2/ 744.

97

ومضى الكلام في الإفراغ. وقرئ: ايتوني (¬1)، موصولاً من الإتيان على معني: جيؤوني به. واللفظ على اتصال الفعل إلى المفعول الثاني بالحرف، إلا أنه أعمل الفعل الثاني وهو الإفراغ، ولو أعمل الأول لكان أفرغه عليه، وقد وصل الفعل الأول هاهنا إلى المفعول الثاني بلا حرف، كما ذكرنا في قراءة من قرأ إيتوني بزبر الحديد، ومن قرأ آتوني أفرغ عليه فمعناه: ناولوني. كما ذكرنا في أول الآية (¬2) قال ابن الأنباري: (يجوز أن يكون (قِطْرًا) معمول {آتُونِي} وأضمر لأفرغ مفعول على تقدير: أفرغه، وحذف لدلالة (قِطْرًا) عليه. ويجوز أن يكون معمول أفرغ وأضمر لآتوني مفعول على تقدير: آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه) (¬3). 97 - قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا} أصله: (استطاعوا) فلما اجتمعت متقاربتان، وهما التاء والطاء، أحبوا التخفيف بالإدغام، كما أحبوا ذلك في المثلين، فلما لم يسمع التخفيف بالإدغام لتحريك ما لم يتحرك في ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: (آتوني) ممدودا. وقرأ حمزة، وعاصم في رواية أبي بكر: (آئتوني) قصرا. انظر: "السبعة" ص 401، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 178، "الغاية في القراءات" (313)، "التبصرة" ص 253. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 178، "حجة القراءات" (434)، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 79. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 295، "إملاء ما من به الرحمن" (405)، "الكشاف" 2/ 398، "الدر المصون" 7/ 549.

موضع، وذلك أنه كان يلزم تحريك السين لئلا يجتمع ساكنان، ولم تْحرك سين استفعل في موضع، فلما لم يسمع هذا عدل عن الإدغام إلى الحذف، كما أنه لما اجتمع المثلان في قولهم: على الماء بنو فلان، حذفوا أحد المثلين، فقالوا: عَلْمَاءِ، ولم يسمع الإدغام، وإن كانت تتحرك لام المعرفة في الماء، فحذفوا الأول من المثلين حيث لم يتجه الإدغام. والحذف في اسطاع أولى، لأن هذه السين لم تتحرك في موضع شيء من الحركات، وقد تحرك لام المعرفة نحو قولهم: أَلَحْمَرُ في الأحمر، فلما حذفوا في: عَلْماء أحد المثلين، ولم يدغموا مع جواز تحريك لام المعرفة فلا يؤدي إلى الجمع بين ساكنين كان الحذف في اسطاع أولى. وقد أجروا المتقاربين في مجرى المثلين فقالوا: بلغني لما كانت النون متقاربة للام وكانت تدغم فيها نحو: مَنْ لَكَ، أريد إدغام في هذا الموضع أيضًا، فلما لم يسمع ذلك عندهم خففوا بالحذف كما خففوا به في المثلين. وفي (استطاع) لغة ثالثة وهو قولهم: يستيع في يستطيع، وهذا يحتمل أمرين أحدهما: [أنه أبدل من الطاء التي هي فاء التاء لقربها من الحرف الذي قبلها، فأبدل التاء لتوافق السين في الهمس، كما أبدل الدال] (¬1) من التاء في نحو: ازدان ليوافق ما قبله في الجهر. والآخر: أن يكون حذف الطاء لما يستقيم إدغام ما قبلها من المتقارب فيها، كما حذف المثل والمقارب من: عَلْماء بنو فلان، وبَلْعَنْبَر، ويكون هذا في أنه حذف من الكلمة الأصل للتخفيف، بمنزلة قولهم: تقيت، ألا ترى أنه في الأصل اتَّقى فحذف الفاء التي هي في الأصل واو، فلما حذفها سقطت همزة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

الوصل المجتلبة لسكون الفاء فبقي: تَقَيْتُ على فعلت (¬1). فأما قولهم: أسطاع بقطع الألف، يُستطيع بضم الياء، فقال أبو علي الفارسي: (قولهم: أسطاع أَفْعَلَ، وإنما ألحقت السين لنقل الحركة إلى الفاء وتهيئة الكلمة بنقل الحركة فيها للحذف، ألا ترى أنها هيأت الكلمة للحذف منها في نحو: لم يَسْطِعْ، ومثل السين في ذلك الهاء، ففي قول من قال: أهَرَاق يُهَريق، فالهاء في: أنها عوض مثل السين في اسْطاع، وليس هذا العوض بلازم، ألا ترى أن ما كان نحوه لم يلزم هذا العوض) (¬2). هذا كلامه.؟ وشرحه أبو الفتح الموصلي فقال: (قولهم: أسطاع يستطيع، ذهب سيبويه فيه إلى أن أصله: أطاع يُطِيع، وأن السين زيدت عوضًا من حركة عين الفعل، وذلك أن أطاع أصله: أطْوَع، فنقلت فتحة الواو إلى الطاء، فانقلبت الواو ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن) (¬3). وتعقب أبو العباس هذا القول فقال: (إنما يعوض من الشيء إذا فقد وذهب، فأما إذا كان موجودًا في اللفظ فلا وجه للتعويض منه، وحركة العين التي كانت في الواو قد نقلت إلى الطاء التي هي الفاء، ولم تعدم، وإنما نقلت (¬4) فلا وجه للتعويض من شيء موجود غير مفقود (¬5). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 181، "سر صناعة الإعراب" 1/ 199، "الكتاب" لسيبويه 4/ 285. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 179. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 199، "الكتاب" لسيبويه 4/ 285، 483. (¬4) في (ص): (وإنما نقلت الطاء التي هي الفاء). (¬5) "سر صناعة الإعراب" 1/ 199، "الممتع" (224)، "شرح المفصل" 10/ 6.

(والذي يدل على صحة قول سيبويه في هذا وأن السين عوض من حركة عين الفعل، هو أن الحركة التي هي الفتحة، وإن كانت كما قال أبو العباس موجودة منقولة إلى الفاء لما فقدتها العين، فسكنت توهنت بالسكون، وبالتهيؤ للحذف عند سكون اللام وذلك قولك: لا تُطِع، وأطِع، ولم يُطِع، ففي كل هذا قد حذفت العين لالتقاء الساكنين، ولو كانت العين بحالها متحركة لما حذفت؛ لأنه لم يكن هناك التقاء ساكنين، ألا ترى أنك لو قلت: أطْوَع، يُطْوِع (¬1)، ولم يُطْوِع، وأَطْوَعْ زيدا، لصحت العين ولم تحذف، فلما نقلت عنها الحركة وسكنت، سقطت لاجتماع الساكنين، فكان هذا توهينًا وضعفًا للعين، فجعلت السين عوضًا عن سكون العين الموهِّن لها المسبب لقلبها، وحركة الفاء بعد سكونها لا تدفع عن العين ما لحقها من الضعف في السكون والتهيؤ للحذف عند سكون اللام. ويؤكد ما قال سيبويه من أن السين عوض من ذهاب العين، أنهم قد عوضوا من ذهاب حركة هذه العين حرفًا آخر غير السين، وهو الهاء في قول من قال: أهْرَقت فسكن الهاء، وجمع بينها وبين الهمزة، فالهاء هاهنا عوض من ذهاب فتحة العين؛ لأن الأصل: أرْوَقت، فجعلوا الهاء عوضًا من نقل فتحة العين عنها إلى الفاء، وأنشد (¬2): فأصبحت كالمهريق فضلة مائه ... لضاحي سرابٍ بالملا يترقرق ¬

_ (¬1) في نسخة (ص): (تطوع). (¬2) ينسب هذا البيت لكثير. الضاحي: البارز. والمَلاَ: الصحراء. وترقرق: يلمع. انظر: "ديوانه" ص237، "سر صناعة الإعراب" 1/ 202، "الأغاني" 9/ 12، "وصف المباني" ص 401، "لسان العرب" (هرق) 8/ 4655.

انتهى كلامه (¬1). أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني (¬2) عن ابن السكيت قال: (يقال ما أستطيع، وما أسطيع، وما أستيع، وما أسطيع أربع لغات) (¬3). وقد ذكرنا وجوهها. وقرأ حمزة: {فما اسْطَّاعوا} مشددا الطاء، كأنه أدغم بالافتعال في الطاء (¬4). قال أبو إسحاق: (من قرأ بهذه القراءة فهو لاحن مخطئ، زعم ذلك الخليل، ويونس، وسيبويه وجميع من يقول بقولهم، وحجتهم في ذلك: أن السين ساكنة وإذا أدغمت التاء في الطاء صارت طاء ساكنة، ولا يجمع بين ساكنين) (¬5). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 202، "الكتاب" لسيبويه 4/ 285، 483. (¬2) عبد الله بن الحسن بن أحمد الأموي، أبو شعيب الحراني، إمام ثقة، محدث صدوق، لازم ابن السكيت وأخذ عنه، توفي رحمه الله في بغداد سنة 295 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 435، "إنباه الرواة" 2/ 115، "سير أعلام النبلاء" 13/ 536، "لسان الميزان" 3/ 271. (¬3) "تهذيب اللغة" (طاع) 3/ 2152. (¬4) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وعاصم: (فما اسطاعوا) بتخفبف الطاء. وقرأ حمزة: (فما اسطاعوا) مشددة الطاء. انظر: "السبعة" ص 401، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 178، "المبسوط في القراءات" ص 240، "التبصرة" ص 253. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 312. إن طعنهم في قراءة حمزة رحمه الله مردود، فهي قراءة متواترة، والجمع بين الساكنين في هذا سائغ، جائز، مسموع في مثله فقد ذكر أن الجزري في "النشر" 2/ 316 عن أبي عمرو قوله: ومما يقوي ذلك ويسوغه أن الساكن الثاني لما كان =

قال أبو علي: (وقد قرأت القراء غير حرف من هذا كقوله: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء: 154] في قراءة من شدد الدال فأدغم فيها تاء افتعل (¬1)، وكذلك قراءة من قرأ: {لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35] (¬2)، ¬

_ = اللسان عنده يرتفع عنه وعن المدغم ارتفاعة واحدة صار بمنزلة حرف متحرك، فكأن الساكن الأول قد ولى متحركًا. وذكر في "غيث النفع" ص 150: أن منع الجمع بين الساكنين أصل مختلف فيه عند أهل العربية، والقراءة لا تتبع العربية، بل العربية تتبع القراءة، لأنها مسموعة من أفصح العرب وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من بعده. وقال ابن الحاجب: إذا اختلف النحويون والقراء كان المصير إلى القراء أولى، لأنهم ناقلون عمن ثبتت عصمته من الغلط، ولأن القراءة ثبتت تواترًا وما نقله النحويون آحاد. وانظر: "المحرر الوجيز" 9/ 408، "النشر" 2/ 316، "إتحاف فضلاء البشر" ص 295، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 80. (¬1) قرأ نافع: (لا تعْدّوا) بتسكين العين وتشديد الدال. وروى عنه ورش: (لا تعدوا) بفتح العين وتشديد الدال. وقرأ بقية القراء: (لا تعدوا) بتخفيف الدال، وإسكان العين. انظر: "السبعة" ص 240، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 190، "التبصرة" ص 185، "النشر" 2/ 253. (¬2) قرأ أبو بكر عن عاصم: (أمن لا يهِدّي) بكسر الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ حفص عن عاصم: (أمن لا يهدي) بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش عن نافع: (أمن لا يَهَدّي) بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ حمزة، والكسائي: (أمن لا يَهْدي) بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال. وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع: (أمن لا يهدي) بفتح الياء وتشديد الدال. انظر: "السبعة" ص 326، "التبصرة" ص 220، "المبسوط في القراءات" ص 200، "إتحاف فضلاء البشر" ص 249، "النشر" 2/ 283.

{يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] (¬1). وقدمنا وجه ذكر هذا النحو) (¬2). وقال ابن الأنباري: (عظم تشنيع البصريين على حمزة في هذا الحرف، وتلحينهم إياه، وقولهم: جمع بين ساكنين لا ينبسط اللسان عليهما، وفي هذا تعد منهم عليه إذ جرى إلى مثله جماعة هن القراء، فلم ينسبوا إلى الذي نسب إليه، فقد قرأ الحسن: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] بالإدغام (¬3)، فإنه يقرؤه، ويقرأ {نَحْنُ نَقُصُّ} [يوسف: 3]، {وَالْحَرْثِ ذَلِكَ} [آل عمران: 14]، ومعلوم أن الإدغام إذا وقع هاهنا اجتمع ساكنان، وقرأ: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: 31] (¬4) بالإدغام، {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] (¬5) في نظائر يطول ذكرها، ولا وجه للتشنيع على ¬

_ (¬1) قرأ حمزة: (يخْصمون) بإسكان الخاء وتخفيف الصاد. وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع: (يخْصّمون) بإسكان الخاء وتشديد الصاد. وقرأ ورش عن نافع، وابن كثير: (يخَصّمون) بفتح الخاء وتشديد الصاد. وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: (يخِصمون) بكسر الخاء وتشديد الصاد. انظر: "السبعة" ص 541، "التبصرة" ص 306، "المبسوط في القراءات" ص 312، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 217. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 181. (¬3) قرأ أبو عمرو البصري، والحسن: (شهر رمضان) بإدغام راء (شهر) في راء (رمضان). انظر: "إتحاف فضلاء البشر" 1/ 154، "القراءات الشاذة" ص 46. (¬4) قرأ الحسن: (فتخطفه الطير) بكسر الخاء والطاء وتشديدها. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص 315، و"القراءات الشاذة" ص 685. (¬5) قرأ الحسن: (يخطف) بكسر الياء والخاء والطاء المشددة. انظر. "إتحاف فضلاء البشر" ص 128، و"القراءات الشاذة" ص 28.

98

الأئمة والرؤساء في الخير بما يعرف له مساغ وطريق إلى الصواب) (¬1). وقوله تعالى: {أَنْ يَظْهَرُوهُ} قال ابن عباس وغيره: (أن يصعدوه ويعلوه) (¬2). يقال: ظهرت السطح إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] معناه: ليعلنه. وقوله تعالى: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} يقال: نقبت الحائط: إذا خرقت فيه خرقا يخلص إلى ما وراءه (¬3). قال أبو إسحاق: (أي ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وإملاسه، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته) (¬4). 98 - قوله تعالى: {قَالَ هَذَا} قال ذو القرنين لما فرغ من بنائه هذا. قال أبو إسحاق: (أي التمكين الذي أدركت به السد {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} (¬5). وهذا معنى قول ابن عباس: (يريد معونة من ربي حيث ألهمني وقواني) (¬6). وقال ابن الأنباري: (يجوز أن تكون الإشارة بهذا إلى السد، أي: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ذكره ابن عطية في تفسيره 5/ 408 بدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 313. (¬3) "تهذيب اللغة" (نقب) 4/ 3639، "مقاييس اللغة" (نقب) 5/ 465، "القاموس المحيط" (النقب) ص 139، "الصحاح" (نقب) 1/ 227. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 312. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 312. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 314، "النكت والعيون" 3/ 345، "زاد المسير" 5/ 195. وقال ابن سعدي في "تفسيره" 5/ 93: (هذا رحمة من ربي) أي: من فضله وإحسانه علي.

هذا السد رحمة من ربي) (¬1). {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} يعني: القيامة، في قول ابن عباس (¬2). وقال الكلبي: (يقول: أجل ربي أن يخرجوا منه) (¬3). {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي: دَكَه دَكًا، ويجوز أن يكون المعنى: جعله ذا دك. ومن قرأ: في دكاء ممدودة (¬4)، كان التقدير: جعله مثل دكَّاء، وهي: الناقة التي لا سنام لها (¬5)، فحذف المضاف ولابد من تقدير الحذف؛ لأن السد مذكر ولا يوصف بدكاء؛ لأنه من وصف المؤنث. ومضى الكلام في هذا في سورة الأعراف (¬6). {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} يعني: بالثواب والعقاب في القيامة، في قول ابن عباس (¬7). ¬

_ (¬1) ورد بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 402، و"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 63، و"البحر المحيط" 6/ 165. (¬2) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 205 بدون نسبة، و"بحر العلوم" 2/ 314، و"زاد المسير" 5/ 195. (¬3) "جامع البيان" 16/ 27، "بحر العلوم" 2/ 314، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 65. (¬4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: (دكًّا) منون غير مهموز ولا ممدود. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: (دكاء) ممدود مهموز بلا تنوين. انظر: "السبعة" ص402، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 182، "المبسوط في القراءات" 240، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 81 (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (دك) 2/ 1212، "القاموس المحيط" (دك) (939)، "الصحاح" (دك) 4/ 1548، "المعجم الوسيط" (دكه) 1/ 291. (¬6) عند قوله سبحانه في سورة الأعراف الآية رقم (143): {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. (¬7) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 345، "معالم =

99

وقال الكلبي: (وكان أجل ربي بخروجهم حقًّا كائنًا) (¬1). 99 - قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يقال: ماجَ الماء يَمُوج إذا اضطرب، وماجَ الناس إذا في دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء (¬2). قال كثير من المفسرين: (تركنا الجن والإنس يدخل بعضهم في بعض يوم القيامة) (¬3). والصحيح أن قوله: {بَعْضَهُمْ} الكناية فيه عن يأجوج ومأجوج. يقول: تركناهم يوم انقضاء السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم (¬4). ثم ذكر نفخ الصور بعد هذا فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} لأن: خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} حشرنا الخلق كلهم. 100 - قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} الآية. قال الفراء: (أبرزناها حتى نظر إليها الكفار) (¬5). وقال أبو إسحاق: (تأويل {عَرَضْنَا} أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها ¬

_ = التنزيل" 53/ 205، "زاد المسير" 5/ 195، "الكشاف" 2/ 498، و"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 63، "التفسير الكبير" 21/ 172. (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 28، "النكت والعيون" 3/ 345، "معالم التنزيل" 5/ 205، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 117، "روح المعاني" 16/ 42. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (ماج) 4/ 3322، "القاموس المحيط" (الموج) ص 206، "الصحاح" (موج) 1/ 342، "لسان العرب" (موج) 7/ 4297. (¬3) "جامع البيان" 16/ 28، "معالم التنزيل" 5/ 209، "الكشاف" 2/ 403، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 65، "الدر المنثور" 4/ 454. (¬4) "جامع البيان" 16/ 28، "معالم التنزيل" 5/ 209، "النكت والعيون" 3/ 345، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 65. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 160.

101

ورأوها) (¬1). ومضى الكلام في العرض (¬2). 101 - قوله تعالى: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} الغطاء ما تغطيت به أو غطيت به، والجمع الأغطية، يقال: غطا الشيء، وغطا عليه إذا ستره (¬3). ومعنى قوله: في {أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} كقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]. قال ابن عباس في قوله: {عَنْ ذِكْرِي} (يريد عما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من البينات والهدى) (¬4). وصف الله تعالى هؤلاء الكفار بأنهم عمي عن آيات الله، وأدلة توحيده لما سبق لهم من الشقاء، وإذا لم يبصروا أدلة توحيده، وعجائب قدرته لم يتذكروا بقلوبهم؛ لأن العين رائد القلب، ألا ترى أن الشاعر يقول (¬5): ألا إنما العينان للقلب رائد ... فما تألف العينان فالقلب يألف وهذا أبلغ في وصف غفلتهم من أن لو قيل (¬6): في غطاء عن الذكر؛ لأن وصفهم بالعمى عن الأدلة يوجب غفلة قلوبهم، ووصفهم بعمى القلوب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 313. (¬2) عند قوله سبحانه في سورة البقرة الآية رقم (31): {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. (¬3) "تهذيب اللغة" (غطى) 3/ 2678، "مقاييس اللغة" (غطو) 4/ 429، "لسان العرب" (غطى) 6/ 3273، "المصباح المنير" (غطو) ص 171. (¬4) ذكرت التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 31، "بحر العلوم" 2/ 314، "معالم التنزيل" 5/ 209، "الكشاف" 2/ 500، "لباب التأويل" 4/ 235، "فتح القدير" 3/ 450. (¬5) لم أهتد إلى قائله. (¬6) في (ص): (أن لو قيل قلوبهم).

102

لا يوجب عمى أبصارهم (¬1). وقوله تعالى: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} قال ابن عباس (¬2): (يريد لا يسمعون القرآن ولا يحبونه) (¬3). وقال أبو إسحاق: (كانوا لعدواتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلو عليهم، كما تقول للكاره لقولك: ما يقدر أن يسمع كلامي) (¬4). قال ابن الأنباري: (كان يثقل عليهم السمع وهم له مستطيعون، كما تقول: ما أستطيع البصر إليك. معناه: لما ثقل علي كنت كأني غير مستطيعه. قال: ويجوز أن يكون الله منعه الاستطاعة؛ لأن يسمع الهدى، وجعل على بصره غطاء عقابًا من الله له على عناده الحق) (¬5). 102 - قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} يقول: أفظنوا أنهم يتخذونهم أربابًا من دوني، وعنى بالعباد هاهنا: المسيح، والملائكة (¬6). وقال ابن عباس: (يعني الشياطين، تولوهم وأطاعوهم من دون ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 12/ 731، "فتح القدير" 3/ 450. (¬2) قوله: (عباس)، ساقط من نسخة (ص). (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 314، "معالم التنزيل" 5/ 209، "لباب التأويل" 4/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 65، "مدارك التنزيل" 2/ 967، "إرشاد العقل السليم" 5/ 347. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 313. (¬5) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" 3/ 402، "التفسير الكبير" 12/ 731، "البحر المحيط" 6/ 165. (¬6) "جاء البيان" 16/ 31، "المحرر الوجيز" 9/ 413، "معالم التنزيل" 5/ 209، "زاد المسير" 5/ 196.

الله) (¬1). وقال مقاتل: (يعني الأصنام سماها عبادًا) (¬2)، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]. وجواب هذا الاستفهام محذوف. قال ابن عباس: (يريد أني لا أغضب لنفسي، ولا أعاقبهم) (¬3). ويدل علي هذا المحذوف قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}، لأن هذا يدل على أنه يريد عقوبتهم. وقال قوم: (هذا لا يقتضي جوابًا؛ لأنه أراد بالأولياء هاهنا الأنصار، والمعنى: أفحسبوا أنهم اتخذوهم أنصارا يمنعونهم من عذابي ويدفعون عنهم) (¬4). وهذا معنى قول الزجاج في هذه الآية قال: (تأويله: أفحسبوا أن ينفعهم اتخاذهم عبادي أولياء) (¬5). وقوله تعالى: {نُزُلًا} قال أبو إسحاق: (هو بمعنى: منزلا) (¬6). وهو ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 209، "زاد المسير" 5/ 196، "البحر المحيط" 6/ 166، "التفسير الكبير" 21/ 174. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 209، "زاد المسير" 5/ 196، "التفسير الكبير" 21/ 174. وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "تفسيره" 4/ 190: والأظهر المتبادر من الإضافة في قوله: "عبادي" أن المراد بهم نحو الملائكة، وعيسى، وعزيز، لا الشاطين ونحوه؛ لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالبًا، وقد بين تعالى أنهم لا يكونون أولياء لهم في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}. الآية. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 209، "زاد المسير" 5/ 196. (¬4) "زاد المسير" 5/ 196، "البحر المحيط" 7/ 166. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 314. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 314.

103

معني قول ابن عباس: (يريد هي مثواهم ومصيرهم) (¬1). والنُّزُل على هذا التفسير المنزل. وقال آخرون: النُّزُل ما يقال للضيف إذا نَزَل، والنزالة الضيافة، ومنه قوله (¬2): فجاءت بيتن للنزالة أرشما. والمعنى: أن جهنم معدة لهم عندنا، كما يهيؤ النُّزل للضيَّف النازل (¬3). 103 - وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أي: بالقوم الذين هم أخسر الخلق فيما عملوا. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يرد كفار أهل الكتاب) (¬4). وهو قول الكلبي: (اليهود والنصارى) (¬5). وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (هم الرهبان أصحاب الصوامع) (¬6). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 210. (¬2) هذا عجز بيت للبعيث، يهجو جريرًا، وصدره: لقى حملته أمُّه وهي ضيفةً أرْشَما: الأرشم الذي يتشمم الطعام ويحرص عليه. انظر: "تهذيب اللغة" (نزل) 4/ 3555، "لسان العرب" (رشم) 3/ 1652. (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 413، "معالم التنزيل" 5/ 210، "الكشاف" 2/ 403، "زاد المسير" 5/ 197، "البحر المحيط" 6/ 166. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 210. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 210، "النكت والعيون" 3/ 347، ونسبه لسعد بن أبي وقاص، وكذلك "زاد المسير" 5/ 197. (¬6) "جامع البيان" 16/ 32، "النكت والعيون" 3/ 347، "زاد المسير" 5/ 197، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 66.

104

وعنه أيضًا أنه قال: (هم أهل حَرَوْرَاء) (¬1) (¬2) 104 - وقوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} يجوز في {الَّذِينَ} الخفض بالنعت للأخسرين. ويجوز الرفع على الاستيئناف على معنى: هم الذين ضل سعيهم، بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} يظنون أنهم بفعلهم محسنون، والصنع: مصدر صَنَع إليه معروفًا يصنع صنعًا، وأكثر ما يستعمل الصنع في الأعمال الحسنة (¬3). 105 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ} أي: الأخسرين أعمالاهم: {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} جحدوا دلائل توحيده وقدرته {وَلِقَائِهِ} وكفروا بالبعث، والثواب، والعقاب. {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} قال ابن عباس: (بطل اجتهادهم) (¬4). ¬

_ (¬1) حَرَوراء: بفتحتين وسكون الواو وراء أخرى وألف ممدودة: قرية بظاهر الكوفة، وقيل موضع على ميلين منها، نزل به الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فنسبوا إليها. انظر: "معجم البلدان" 2/ 245. (¬2) "جامع البيان" 16/ 34، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 348، "المحرر الوجيز" 9/ 415، "معالم التنزيل" 5/ 210 وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 119: إن هذه الآية تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، ولا هؤلاء بل هي أهم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود، كما قاله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2: 4]. (¬3) "تهذيب اللغة" (صنع) 2/ 2064، "الصحاح" (صنع) 3/ 1245، "المعجم الوسيط" (الصنع) 1/ 236، "مختار الصحاح" (صنع) ص 155. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 210، "المحرر الوجيز" 9/ 415، "زاد المسير" 5/ 97، "لباب التأويل" 4/ 236.

{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} روى المفسرون في تفسير هذا: حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليؤتين يوم القيامة بالعظيم، الطويل، الشروب، الأكلول فلا يزن عند الله جناح بعوضه"، ثم يقول: "اقرؤا {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية" (¬1). وقال كعب بن عجرة (¬2): (يؤتى برجل يوم القيامة فيوزن بحبة فلا يزنها، فيوزن بجناح بعوضة فلا يزنها، ثم قرأ هذه الآية) (¬3). ونحو هذا قال عبيد بن عمير (¬4). وروى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: (يريد أن ليس لهم وزن يوم القيامة، إنما يوزن من له عمل صالح، وكان على التوحيد) (¬5). وهذه الأقوال في الظاهر تدل على أن أعيان الرجال يوزنون، وليس كذلك؛ لأن ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 35، "المحرر الوجيز" 9/ 416، "معالم التنزيل" 5/ 211، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 119، "الدر المنثور" 4/ 456. وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 466، وأورده الحافظ بن حجر في "فتح الباري" 8/ 426، ومسلم في "صحيحه" كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم 3/ 2147. (¬2) كعب بن عجرة القضاعي، حليف الأنصار، صحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعاش في المدينة، وشهد الحديبية، ثم سكن الكوفة، وتوفي -رضي الله عنه- في المدينة سنة 52 هـ. انظر: "الاستيعاب" 3/ 1321، "الإصابة" 5/ 600. (¬3) "جامع البيان" 16/ 35، "النكت والعيون" 3/ 347، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 119، "الدر المنثور" 4/ 457. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 66، "الدر المنثور" 4/ 457. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 35، "المحرر الوجيز" 9/ 416، "الكشاف" 2/ 500، "زاد المسير" 5/ 198، "لباب التأويل" 4/ 236، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 67، "التفسير الكبير" 21/ 174، "روح المعاني" 16/ 49.

الأعمال توزن يوم القيامة. والصحيح في هذا ما قاله أهل المعاني، روى أبو العباس عن ابن الأعرابي في هذه الآية قال: (العرب تقول: ما لفلان عندنا وزن، أي: قدر، لخسته، ويوصف الجاهل بأنه لا وزن له، لخفته بسرعة طيشه، وقلة تثبته فيما ينبغي أن يتثبت فيه) (¬1). فالمعنى على هذا: أنهم لا يعتد بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ومنزلة (¬2). وحديث أبي هريرة محمول أيضًا على هذا، وهو: أن العظيم، الأكول، الشروب لا قدر له ولا وزن عند الله، إذا لم يكن من أهل التوحيد. وقال بعضهم: (معنى هذا خفة موازينهم من الحسنات، وذلك أن الموازين إنما ترجح بالطاعات، وتنقص بالمعاصي، فيوضع الكافر في الميزان يوم القيامة فلا يزن شيئًا لخلوه مما يثقل الميزان به من توحيد الله) (¬3). وذكر ابن الأنباري وجه ما ذكره المفسرون فقال: (إن الله عز وجل يأمر بوزن أهل الكفر تحقيرًا لهم، وتصغيرًا لأمرهم، حتى يتبين الخلق أنهم لا يزنون في ذلك المشهد وزن ذرة ولا جناح بعوضة) (¬4). يدل على صحة هذا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 98، "تهذيب اللغة" (وزن) 4/ 3886. (¬2) "المحرر الوجيز" 9/ 416، "معالم التنزيل" 5/ 210 - 211، "النكت والعيون" 3/ 347، "زاد المسير" 5/ 198. (¬3) "جامع البيان" 16/ 35، "النكت والعيون" 3/ 347، "الكشاف" 2/ 403، "زاد المسير" 5/ 198. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة "النكت والعيون" 3/ 347، "الكشاف" 2/ 403، "زاد المسير" 5/ 198، "التفسير الكبير" 21/ 174، "البحر المحيط" 6/ 167.

106

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس، يعلوهم فيه نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال من عصارة أهل النار" (¬1). قال أبو بكر: (وإنما يجعلون أمثال الذر تصغيرًا لهم عند أنفسهم، ومن يحضر القيامة) (¬2). وذكر من عنده في الآية وجهان: الكافر يقدم علي بسيئات لا حسنة معها، والموازين القسط يوزن فيها حسنات العبد وسيئاته، فإذا خلا الكافر من الحسنات، وحصل على السيئات استحق النار بغير وزن، ولا إقامة ميزان، وما فعل الكافر في الدنيا من نصرة مظلوم، وإطعام جائع، وعمل بر يكافؤ عليه في الدنيا بتوسعة له في الرزق، ويقدم على الله صفرا من كل خير. الثاني: لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا؛ لأن الوزن عليهم لا لهم؛ لأنه لا عمل لهم من أعمال الخير يوزن. الوجه الثالث: هو ما ذكره أبو العباس عن ابن الأعرابي، وقد حكيناه (¬3). 106 - قوله تعالى: {ذَلِكَ} الذي ذكرت من حبوط أعمالهم، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "جامعه" كتاب: صفة القيامة، باب: ما جاء في شدة الوعيد للمتكبرين 4/ 565 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 179، وابن الأثير في "جامع الأصول" كتاب: في الكبر والعجب النوع الثالث 10/ 616، والمنذري في "الترغيب والترهيب" كتاب: الآداب وغيره، باب: الترغيب في التواضع والترغيب من الكبر 3/ 541. (¬2) ورد نحوه بلا نسبة في "النكت والعيون" 3/ 347، "زاد المسير" 5/ 198، "التفسير الكبير" 21/ 174. (¬3) انظر: "النكت والعيون" 3/ 348، "زاد المسير" 5/ 198، "التفسير الكبير" 21/ 174، "فتح القدير" 3/ 451.

107

وخسة قدرهم. ثم ابتدأ فقال: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون {ذَلِكَ} في موضع نصب، بمعنى: فعل الله ذلك الاحتقار بكفرهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال مع الجملة) (¬1). وقوله تعالى {بِمَا كَفَرُوا} أي: بكفرهم واتخاذهم آياتي، يعني: القرآن. {وَرُسُلِي هُزُوًا} قال ابن عباس: (يريد الذين كانوا يستهزئون بالنبي -صلى الله عليه وسلم-) (¬2). وإنما قال: {وَرُسُلِي} والمراد محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن من استهزأ به فقد استهزأ بجميع الرسل؛ لأن الإيمان واجب بهم، فالكفر بواحد كفر بالجميع. ونحو هذا قال الكلبي: (ورسلي محمد -صلى الله عليه وسلم-) (¬3). وقوله تعالى: {هُزُوًا} مصدر، والمراد المفعول به. 107 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الفردوس ربوة الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأحسنها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس" (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره نحوه بلا نسبة في "إملاء ما من به الرحمن" ص 405، "البحر المحيط" 6/ 167، "روح المعاني" 16/ 49. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 315، "معالم التنزيل" 5/ 211، "المحرر الوجيز" 9/ 416. (¬3) ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 315 بدون نسبة. (¬4) أخرجه الطبري في "جامع البيان" 16/ 37 بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 211، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 120. وأخرج نحوه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: درجات المجاهدين 6/ 11، ومسلم كتاب: الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين 1/ 163، والترمذي كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة درجات الجنة 4/ 673، وابن ماجه في المقدمة باب: فيما أنكرت الجهمية 1/ 66، والإمام أحمد في "مسنده" 2/ 335.

وقال كعب: (هو البستان الذي فيه الأعناب) (¬1). وهو قول الليث قال: (الفردوس جنة ذات كرم، يقال: كَرْم مُفَردس أي: مُعَرَّش) (¬2). وقال الضحاك: (هي الجنة الملتفة الأشجار) (¬3). وهو اختيار المبرد قال: (الفردوس -فيما سمعت من كلام العرب-: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وجمعه الفراديس. قال: ولهذا سمي باب الفراديس بالشام) (¬4). وأنشد لجرير (¬5): فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا ... ما بعد يبرين من باب الفراديس. وقال مجاهد: (هو البستان بالرومية) (¬6). واختاره الزجاج فقال: (هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، وأنشد لحسان (¬7): وإن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 36، "المحرر الوجيز" 9/ 417، "معالم التنزيل" 5/ 211، "زاد المسير" 5/ 199. (¬2) "زاد المسير" 5/ 199، "تهذيب اللغة" (فردوس) 3/ 2762. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 211، "زاد المسير" 5/ 199، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 120. (¬4) ذكره الأزهري بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (فردوس) 3/ 2762. (¬5) البيت لجرير من قصيدة قالها يهجو التيم. يبرين: مكان في بلاد بني سعد. والفراديس: مكان بدمشق. انظر: "ديوان جرير" ص 250. (¬6) "جامع البيان" 16/ 36، "المحرر الوجيز" 9/ 418، "معالم التنزيل" 5/ 211، "النكت والعيون" 3/ 348، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 111. (¬7) البيت لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- من قصيدة قالها يمدح فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "ديوان حسان" 92، "المحرر الوجيز" 9/ 418، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 315، "سيرة ابن هشام" 4/ 350، "لسان العرب" (فردس) 6/ 3375.

108

قال: وحقيقته: أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين) (¬1). ومعنى {كَانَتْ لَهُمْ} قال ابن الأنباري: (في علم الله قبل أن يخلقوا) (¬2). وقوله: {نُزُلًا} أي: منزلا. قال أبو علي: (ويجوز أن يكون {نُزُلًا} يراد به القوت الذي يقام للنازل أو الضيف، فيكون النزل القوت، وهذا الوجه يحتاج فيه إلى تقدير المضاف على معنى: كانت له ثمار جنات الفردوس، أو نعيمها. قال: ويجوز أن يكون النُزُل جمع نَازِل، ويكون حالاً والعامل فيه معنى الفعل في لهم) (¬3). 108 - ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} قال الليث: (الحِوَلُ يجرى مجرى التَّحويل، تقول: حُوِّلوا عنها تحويلا وحِولا) (¬4). قال الأزهري: (فالتحويل مصدر حقيقي من حوَّلت، والحول اسم يقوم مقام المصدر) (¬5). ونحو هذا قال ابن قتيبة في تفسير (حِوَلًا): (تَحْوِيلا) (¬6). ورواه أيضًا أبو العباس عن ابن الأعرابي (¬7). وقال أبو عبيدة (حِوَلًا): (تحويلا) (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 315. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 199. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 6/ 264. (¬4) "تهذيب اللغة" (حال) 1/ 709. (¬5) "تهذيب اللغة" (حال) 51/ 709. (¬6) "تفسر غريب القرآن" 1/ 271. (¬7) "تهذيب اللغة" (حال) 1/ 709. (¬8) "مجاز القرآن" 1/ 416.

109

[قال الفراء: (وهو مصدر تحولت، ذكر على أصله)] (¬1) (¬2). يعني بحذف الزوائد، كالصغر والعوج. ونحو هذا قال الزجاج: (أي لا يريدون عنها تحويلا) (¬3). قال ابن عباس: (لا يريدون أن يتحولوا عنها، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى، والجنة ليست هكذا) (¬4). وقال مجاهد في قوله: (حِوَلًا) (متحولا) (¬5). يعني بالتحول المصدر، وذكر الزجاج وجهين آخرين في الحول، أحدهما: قال: (يقال: قد حال من مكانه حِوَلاً، كما قالوا في المصادر: صَغُرَ صِغَرًا، وعَظُم عِظَمًا وعادني حبها عِوَدًا، فعلى هذا الحِوَل الحِيلَةُ، فيكون المعنى على هذا: لا يحتالون منزلا غيرها) (¬6). 109 - قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ} الآية. روى عكرمة عن ابن عباس، قال: (قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} إلى قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فقالوا: أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، فأنزل الله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} الآية) (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (ص). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 161. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 315. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 212. (¬5) "جامع البيان" 16/ 38، "المحرر الوجيز" 9/ 418، "الدر المنثور" 4/ 458، "فتح القدير" 3/ 452. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 315. (¬7) "المحرر الوجيز" 9/ 419، "معالم التنزيل" 5/ 212، "زاد المسير" 5/ 201، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 69، "أسباب النزول" للوحدي ص 308.

ومعنى المداد في اللغة: المجيء شيئًا بعد شيء على اتصال، ومنه يقال للزيت الذي يوقد به السراج: مداد (¬1). قال الأخطل (¬2): رأوا بارقات بالأكف كأنها ... مصابيح سرج أوقدت بمداد أي: بزيت يمدها. قال ابن الأنباري: (سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب) (¬3). وأصل هذا من الزيادة والكثرة، من قوله: مد النهر إذا كثر ماؤه ومده نهر آخر، ومنه قوله: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]، قال مجاهد: (لو كان البحر مدادًا للقلم، والقلم يكتب، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) (¬4). قال ابن عباس: (يريد أن كلماته أعظم من أن يكون لها أمد) (¬5). والكلام القديم صفة من صفات ذاته (¬6)، فلا يجوز أن يكون لكلامه غاية ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (مد) 4/ 3361، "القاموس المحيط" (المد) 1/ 318، "الصحاح" (مدد) 2/ 537، "لسان العرب" (مدد) 7/ 4158. (¬2) البيت للأخطل، غياث بن غوث بن الصلت التغلبي. سرج: السراج الزاهر الذي يزهر بالليل، والمسرجة التي توضع فيها الفتيلة. انظر: "لسان العرب" (مدد) 7/ 4156. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 201، والطبري في "مجمع البيان" 6/ 770، والشوكاني في "فتح القدير" 3/ 454، وذكر نحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" (مد) 4/ 3361. (¬4) "جامع البيان" 16/ 39، "معالم التنزيل" 15/ 212، "زاد المسير" 5/ 201. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 39، "معالم التنزيل" 15/ 212، "المحرر الوجيز" 9/ 420، "لباب التأويل" 4/ 237، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 120، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 69. (¬6) الكلام صفة من صفات الله عز وجل نثبتها كما أثبتها لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل =

ومنتهى، كما ليس له غاية وحد، فأوصاف ذاته غير محدودة أيضًا. وهذا رد على اليهود حين ادعوا أنهم أوتوا العلم الكثير، وكأنه قيل لهم: أي: شيء الذي أوتيتم في علم الله، فكلماته التي لا تنفذ ولا تتناهى، كما لو كتبت بماء البحار وأضعاف ذلك. وقال ابن عباس في تفسير {كَلِمَاتُ رَبِّي}: (يريد مواعظ الشكر (¬1) مني، أو مواعيد ربي وعلمه في خلقه) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} أي: بمثل البحر في كثرة مائه مدادا زيادة له. وأراد لو جئنا بمثله مدادًا له، والمدد: كل شيء زاد في شيء. يقال أمددناهم بمدد أي: بقوم يزيدون في عددهم. قال الزجاج: ({مَدَدًا} منصوب على التمييز، يقول: ملؤ هذا، ومثل هذا ذهبًا، أي: من الذهب) (¬3). كقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون {مَدَدًا} منصوب على المصدر لجئنا بتقدير: لمدد البحر بمثله مددا، كما تقول: جاء فلان ركضا. قال: ويجوز أن يكون نائبا عن الحال بتقدير: لو جئنا بمثله مادين) (¬4). ¬

_ = ولا تشبيه، وهو صفة ذاتية باعتبار أصله؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلمًا، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته يتكلم متى شاء بما شاء. وقد تقدم التعليق مرارا على الأقوال التي يوردها الواحدي والمتعلقة بالأسماء والصفات. وانظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 172، "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى" للشيخ: محمد بن عثيمين ص 33، "العقيدة الواسطية" ص 43. (¬1) في (ص): (الشك)، وهو تصحيف. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 69. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 316. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة في "المحتسب" 2/ 35، "إملاء ما من به الرحمن" ص 405، =

110

110 - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} قال ابن عباس: (علم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه) (¬1). وهذا أمر من الله لرسوله بأن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره، إلا أنه أكرم بالوحي وهو قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا شريك له. ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية: (أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني لأصلي، وأتصدق، وأحب مع ذلك أن يطلع عليه الناس، فأنزل الله هذه الآية) (¬2). والإشارة في ذكر توحيده هاهنا إلى من راءى بعمله (¬3)، فكأنه أشرك فيه غير الله، والمعبود واحد لا يقبل الشركة. قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} لقاء البعث والمصير إلى الله، والرجاء يذكر بمعنى الخوف؛ لأنه يتضمن الخوف، ومنه قول الهذلي (¬4): إذا لسمعته النَّحل لم يرج لسعها ¬

_ = "البحر المحيط" 6/ 169، "الدر المصون" 7/ 558. (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 213، "زاد المسير" 5/ 302، "مجمع البيان" 5/ 770. (¬2) "جامع البيان" 16/ 40،"المحرر الوجيز" 9/ 421، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 69، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير 4/ 329، "أسباب النزول" للواحدي 308، "لباب النقول في أسباب النزول" ص 145. (¬3) في (ص): (بعلمه). (¬4) هو صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وعجزه: وخالفها في بيت نوبٍ عواسل اللسع: لما ضرب بمؤخرة، واللسع لذوات الإبر من العقارب والزنابير ونحوها والنوب: النحل وهو جمع نائب لأنها شرعى وتنوب إلى مكانها. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 144، "معاني القرآن" للفراء 1/ 286، "تفسير غريب القرآن" 1/ 271، "تهذب اللغة" (ناب) 4/ 3476، "اللسان" (نوب) 8/ 4569.

أي: لم يخف. وهذا قول الكلبي، ومقاتل (¬1). وهو باطل عند الفراء؛ لأن الرجاء لا تذهب به العرب مذهب الخوف إلا مع الجحد (¬2). كقوله: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]، و {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. قال ابن الأنباري: ("من" حرف شرط، والشرط يقع على ما لم يتحصل، فجرى الشرط في هذا مجرى الجحد) (¬3). وقال سعيد بن جبير: (من كان يأمل ثواب الله) (¬4). وقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} أي: خالصًا لا يرائي به. والمفسرون والصحابة على أن هذه الآية نزلت: في النهي عن الرياء، وذكروا في تفسير هذه الآية: ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قال الله: أنا خير الشركاء، من عمل لي عملاً وأشرك فيه غيري، فأنا منه بري، وهو للذي أشرك" (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره ابن عطية في "تفسيره" 9/ 420 بدون نسبة، و"بحر العلوم" 2/ 315، و"معالم التنزيل" 5/ 213، و"النكت والعيون" 3/ 349، "أضواء البيان" 4/ 200، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 1/ 271، و"تفسير المشكل" لمكي ص 145. وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 200: الرجاء يستعمل في رجاء الخير، ويستعمل في الخوف أيضًا، واعلم أنهما متلازمان فمن كان يرجو ما عند الله من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 286. (¬3) ذكر نحوه في "زاد المسير" 3/ 205، "مجمع البيان" 6/ 770، "روح المعاني" 16/ 53. (¬4) "جامع البيان" 16/ 39، "بحر العلوم" 2/ 315، "النكت والعيون" 3/ 350، "الدر المنثور" 4/ 460. (¬5) أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب: الزهد، باب: من أشرك في عمله غير الله 3/ 2289، وابن ماجه في سننه، كتاب: الزهد، باب: الرياء والسمعة =

وهذا قول عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس (¬1) (¬2). وقال كثير بن زياد (¬3): (قلت للحسن: قول الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} الآية، قال: في المؤمن نزلت. قلت: مشركا بالله؟ قال: لا، ولكن أشرك في عمله، يريد الله به والناس، فذلك الذي يرد عليه) (¬4). وقال سعيد بن جبير في قوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (ولا يرائي) (¬5). ¬

_ = 2/ 1405، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 122، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 460 وعزاه لأحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬1) شداد بن أوس بن ثابت المنذر بن حرام، أبو علي، الأنصاري، النجاري الخزرجي، ابن أخي حسان بن ثابت، وهو من فضلاء الصحابة وعلمائهم، توفي -رضي الله عنه- سنة 64 هـ. انظر: "حلية الأولياء" 1/ 264، "الجرح والتعديل" 4/ 328، "تهذيب التهذيب" 4/ 315، "شذرات الذهب" 1/ 64، "طبقات ابن سعد" 7/ 401. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 125، والحاكم في "المستدرك" 3/ 506 وصححه، والطبري في "تفسيره" 16/ 40، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 460 وعزاه لأحمد وابن أبي الدنيا وابن مردويه والهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 221. (¬3) كثير بن زياد، أبو سهل البرساني الأزدي، العتكي، البصري، سكن بلخ، وكان ثقة، وهو من أكابر أصحاب الحسن، روى عن: الحسن، وعمر بن عثمان، وأبي سمية، وأبي العالية، وروى عنه: حماد بن زيد، وجعفر بن سلمان، وعمرو بن الرماح البلخي وغيرهم، وثقه العلماء وأُثنوا عليه. انظر: "الثقات" لابن حبان 7/ 353، "الكشاف" 3/ 4، "ميزان الاعتدال" 3/ 404، "تهذيب الكمال" 24/ 112، "تهذيب التهذيب" 8/ 370. (¬4) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 459 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) "جامع البيان" 16/ 40، "المحرر الوجيز" 9/ 421، "النكت والعيون" 3/ 350، "زاد المسير" 5/ 203، "الدر المنثور" 4/ 459.

ونحو هذا قال مجاهد، وموسى بن عقبة (¬1) (¬2). هذا الذي ذكرنا قول الجمهور، وروى الوالبي عن ابن عباس: (أن هذه الآية أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وليست في المؤمنين) (¬3) والصحيح الذي عليه الناس، وقد بين ذلك ابن عباس فيما روى عنه عطاء، وهو أنه قال: (قال الله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ}، ولم يقل: ولا يشرك بربه؛ لأنه أراد العمل الذي يعمل الله، ويحب أن يحمد عليه، قال: وكذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها، كيلا يعظمه ويوقره من يصله بها) (¬4). قال الكلبي، ومقاتل: (نزلت هذه الآية في رجل يقال له: جندب بن زهير (¬5)، قال: يا رسول الله أعمل العمل ألتمس به ثواب الله وأحب أن ¬

_ (¬1) موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي، مولى آل الزبير، تابعي جليل، روى عن: أم خالد بنت سعيد بن العاص، والأعرج، وعكرمة، وعروة بن الزبير وغيرهم، وروى عنه: بكير بن الأشج، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن جريج وغيرهم، وكان ثقة، كثير الحديث، اشتهر بالصلاح والتقوى، توفي سنة 141 هـ بالمدينة. انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 154، "الكاشف" 3/ 186، "ميزان الاعتدال" 4/ 214، "تهذيب التهذيب" 10/ 121. (¬2) "جامع البيان" 16/ 40، "النكت والعيون" 3/ 350، "الدر المنثور" 4/ 457. (¬3) "الدر المنثور" 4/ 458، "روح المعاني" 16/ 55، "فتح القدير" 3/ 455، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 297. (¬4) "روح البيان" 5/ 309، "مجمع البيان" 5/ 770. (¬5) جندب بن زهير الأزدي، الغامدي، أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، عالم، زاهد، تقي، ورع، روى عنه عدد من التابعين منهم: أبو عثمان الهندي، والحسن البصري، وتميم بن الحارث، قتل -رضي الله عنه- في موقعة صفين وكان مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أميرًا على الرجالة.=

يثني عليَّ به، فأنزل الله فيه هذه الآية) (¬1). ونحو هذا قال مجاهد (¬2)، وطاووس (¬3). ¬

_ = انظر: "أسد الغابة" 1/ 303، "الإصابة" 1/ 249، "الاستيعاب" 1/ 219، "الكاشف" 1/ 132، "تهذيب التهذيب" 2/ 118، "سير أعلام النبلاء" 3/ 174. (¬1) "النكت والعيون" 3/ 350، "زاد المسير" 5/ 203، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 70، "تفسير مقاتل" ص 231، "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص 307، "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص 145، "جامع النقول في أسباب النزول" ص 211، وذكره ابن حجر في "الكافي الشاف" 4/ 105. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 72، "زاد المسير" 5/ 203، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 112، "الدر المنثور" 4/ 459، "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص 307، "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص 145، "جامع النقول في أسباب النزول" (211). (¬3) "جامع البيان" 16/ 40، "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 348، "زاد المسير" 5/ 203، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 69، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 120، "الدر المنثور" 4/ 459، "أسباب نزول القرآن" للواحدي ص 307، "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص 145، "جامع النقول في أسباب النزول" ص 211.

سورة مريم

سورة مريم

1

تفسير سورة مريم بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {كهيعص} قال ابن عباس في رواية عطاء: (كاف: كاف، ها: هاد، عين: عالم، صاد: صادق، والياء: يد من الله على خلقه) (¬1). وهذا قول الكلبي، وزاده بيانا فقال: (معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده) (¬2). وعلى هذا كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله. وذكر أبو الهيثم قال: (روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في "كهيعص": هو كاف، هاد، يمين، عزيز، صادق) (¬3). قال أبو الهيثم: (جعل الياء من يمين من قولك: يمن الله الإنسان يمينه، يمنًا، ويُمْنًا فهو مَيْمُون، قال: فَاليَمِيْنُ واليَامِنُ يكونان بمعنى واحد كالقدير والقادر) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "جامع البيان" 16/ 41، "بحر العلوم" 2/ 317، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 74. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 5، "جامع البيان" 16/ 42،"معالم التنزيل" 5/ 218، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 74. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 5، "جامع البيان" 16/ 41، "معالم التزيل" 5/ 218، "الدر المنثور" 4/ 465. (¬4) "تهذيب اللغة" (يمن) 4/ 3984.

وقال أبو إسحاق: (قال أكثر أهل اللغة: إنها حروف التَّهَجِّي تدل على الابتداء بالسورة) (¬1) (¬2). وقُرئ: ها، يا، بالتفخيم والإمالة (¬3). قال أبو علي: (إمالة هذه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 317. (¬2) قال الطبري في "تفسيره" 1/ 93: والصواب من القول عندي في تأويل مفاتيح السور التي هي حروف المعجم: أن الله ثناؤه جعلها حروف مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف؛ لأنه عن ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد. وقال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 40: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعه التي يتخاطبون بها. وقال الشوكاني في "تفسيره" 3/ 364: وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعًا في ذلك شيء، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روي عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفه المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف ورد العلم في مثيلها إلى الله سبحانه. انظر: "المحرر الوجيز" 1/ 138، "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 154، "التفسير الكبير" 2/ 5، "التحرير والتنوير"1/ 94، " أضواء البيان" 4/ 399، "مشكل القرآن" لابن قتيبة 299. (¬3) قرأ: أبو بكر عن عاصم، والكسائي: (كهيعص) بإمالة الهاء والياء. وقرأ: أبو عمرو البصري: (كهيعص) بإمالة الهاء وفتح الياء. وقرأ: ابن عمر، وحمزة: (كهيعص) بإمالة الياء وفتح الهاء. وقرأ: نافع المدني: (كهيعص) بين اللفظين فيهما، وذكر عنه الفتح. وقرأ: ابن كثير المكي، وحفص عن عاصم: (كهيعص) بفتحهما وتبيين الدال. انظر: "السبعة" ص 406، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 184، "المبسوط في القراءات" ص 242، "حجة القراءات" ص 437، "التبصرة" ص 255.

الحروف لا يمتنع؛ لأنها ليست بحروف معنى، وإنما هي أسماء لهذه الأصوات) (¬1). قال سيبويه: (قالوا: يا، تا؛ لأنها أسماء ما يتهجى به) (¬2). (فلما كانت أسماء غير حروف [جازت فيها الإمالة كما جازت في الأسماء، ويدلك على أنها أسماء غير حروف] (¬3) أنها إذا أخبرت عنها أعربتها، كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها، فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء، فكذلك هذه الحروف، وإذا كانت أسماء شاعت فيها الإمالة) (¬4). وروى حفص عن عاصم: عين صاد بين النون (¬5). قال أبو عثمان: (بيان النون مع حروف الفم (¬6) لحن؛ إلا أن هذه تجري على الوقف عليها والقطع لها مما بعدها، فحكمها البيان وأن لا تُخفى) (¬7). (وقول عاصم هو القياس فيها، وكذلك أسماء العدد حكمها على الوقف وعلى أنها منفصلة مما بعدها، ومما يبين أنها على الوقف أنهم قالوا: ثلاثة، أربعه، فألقوا حركة الهمزة على الهاء لسكونها ولم يقلبوها تاء وإن كانت موصولة لما كانت النية بها الوقف، فكذلك النون ينبغي أن ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 185/ 5. (¬2) "الكتاب" لسيبويه 2/ 267. (¬3) ما بين المعقوفتين ساقط من (س). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 185. (¬5) انظر: "السبعة" ص 407، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 185. (¬6) في (ص): (الفهم)، وهو تصحيف. (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 185.

2

تبين؛ لأنها في نية الوقف والانفصال مما بعدها. ولمن لم يبين أن يستدل بتركهم قطع الهمزة في قولهم: {الم (1) اللَّهُ} [آل عمران: 1،2] ألا ترى أن الهمزة لم تقطع، وإن كانت في تقدير الانفصال مما قبلها، وكما لم تقطع الهمزة في (الم الله) وفي قولهم: واحد اثنان، كذلك لم تبين النون؛ لأنها جعلت في حكم الاتصال كما كان الهمزة فيما ذكرنا) (1). كذلك قال أبو الحسن: (تبين النون أجود في العربية؛ لأن حروف العدد والهجاء منفصل بعضه من بعض، وعامة القراء على خلاف التبيين) (2). 2 - وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} قال أبو إسحاق: ("ذكر" مرتفع بالمضمر المعنى: هذا الذي نتلو عليك ذكر) (3). قال الأخفش: (كأنه قال: ومما نقص عليك ذكر رحمة ربك) (4). وذكر الفراء وجها آخر فقال: (الذكر مرفوع بكهيعص) (4). وأنكره الزجاج فقال: (هذا محال؛ لأن كهيعص ليس مما أنباء الله به عن زكريا، ولم يجيء في شيء من التفسير أن كهيعص هو قصة زكريا) (6). وقول الفراء صحيح على قول من يقول: كهيعص اسم لهذه السورة،

_ (1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 186. (2) "معاني القرآن" للأخفش 1/ 173، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 186. (3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 318. (4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 624. (5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 161. قال أبو البقاء في "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 110: وفيه بعد؛ لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها. (6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 318.

3

وهو قول الحسن (¬1). ويصير المعنى كأنه قيل هذه السورة ذكر رحمة ربك، وقد تضمنت هذه السورة قصة زكريا. وذكر صاحب النظم هذا القول فقال: (هذه الحروف كأنها اسم لهذه السورة، فصارت مبتدأ وصار خبرها في قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} (¬2) (¬3). وقال ابن الأنباري مصححًا قول الفراء منكرًا على الزجاج: (تلخيص قول الفراء كهيعص ابتداء ذكر رحمة ربك، وتقدمه ذكر رحمة ربك ثم حذف المضاف، وافتتاح الشيء داخل فيه ومحسوب من جملته) (¬4). والمراد بالرحمة هاهنا: إجابة الله تعالى زكريا حين دعاه وسأله الولد (¬5). وانتصب قوله: "عبده" بالذكر، ومعنى الآية على التقديم والتأخير تقديرها: ذكر ربك عبده بالرحمة، هذا قول الفراء، والزجاج، وصاحب النظم (¬6). وقال الأخفش: (انتصب العبد بالرحمة كما نقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا) (¬7). وهذا هو الوجه؛ لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة رحمته زكريا بإجابة دعائه، وليس يحتاج في هذا القول تقدير التقديم والتأخير. 3 - قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} بمعنى: الخافي، يقال: ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 352، "معالم التنزيل" 5/ 217، "زاد المسير" 5/ 206. (¬2) في (ص): (ثم حذف المضاف)، زائد على الأصل. (¬3) ذكره نحوه بلا نسبة "المحرر الوجيز" 9/ 423، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 75، "البحر المحيط" 6/ 172. (¬4) أورده بلا نسبة "المحتسب" 2/ 37، "المحرر الوجيز" 9/ 425، "البحر المحيط" 6/ 172، "الدر المصون" 7/ 561. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 354، "التفسير الكبير" 11/ 179، "فتح القدير" 3/ 458. (¬6) "معاني القرآن للفراء" 2/ 261، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 318. (¬7) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 624.

خفي الشيء يخفى، خفاء، فهو خاف، وخفي كما يقال: سامع وسميع (¬1). قال ابن عباس: (يريد يخفي ذلك في نفسه) (¬2). قال ابن جريج: (لا يريد رياء) (¬3). وهذا يدل على أن المستحب في الدعاء الإخفاء. قال الحسن: (وقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله -عز وجل- يقول (¬4): {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (¬5). وذكر الله عبدا صالحًا ورضي قوله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} وقال الكلبي: (أخفاه وأسره عن قومه لئلا يسمعوه) (¬6). وهذا يقرب من قول من قال: إنما أخفى؛ لأنه خاف أن يلام على مسألته الولد عند كبر سنه فدعاء الله خفيا من قومه. وهذا القول حكاه ابن الأنباري عن الكلبي، ومقاتل بن سليمان قالا: (إنما أخفى نداءه استيحاء من أن يرى الناس شيخا كبيرا يتمنى الولد ويحب أن يرزقه) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (خفى) 1/ 1070، "المعجم الوسيط" (خفى) 1/ 247. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 354، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 113، " الجامع لأحكام القرآن" 11/ 76، "التفسير الكبير" 21/ 180، "روح المعاني" 16/ 59. (¬3) "جامع البيان" 16/ 45، " النكت والعيون" 3/ 354، "المحرر الوجيز" 9/ 426، "زاد المسير" 5/ 206، "الدر المنثور" 4/ 466. (¬4) قوله: (يقول)، ساقط من (ص). (¬5) ذكر نحوه مختصرًا الهواري في "تفسيره" 3/ 6. (¬6) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 318، "زاد المسير" 5/ 206، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 76، "التفسير الكبير" 11/ 180، "البحر المحيط" 6/ 173 "أنوار التنزيل" 4/ 2. (¬7) "النكت والعيون" 3/ 354، "زاد المسير" 5/ 206. وقال الشقيطي في "أضواء =

4

4 - قوله تعال {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} وهن: ضعف يَهِن وَهْنا، ووَهَنا، فهو واهنِ، وأوهنه يُوهِنُه (¬1). {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} أي: انتشر فيه الشيب كما ينتشر شعاع النار في الحطب، وهذا من أحسن الإشارة إذ شبه بياض الشيب وانتشاره في الرأس بشعاع النار وانتشارها (¬2). وأصل هذا الحرف من الاشتعال يقال: غارة مُشْعِلة، وقد أَشْعَلَت إذا تفرقت. قال ابن السكيت: (جاء جيش كالجراد المُشْعِل، وهو الذي يخرج في كل وجه، وكَتِيْبَةٌ مُشْعَلَةُ: إذا انتشرت) (¬3). قال جرير (¬4): عَايَنْت مُشْعِلَةَ الرِّعَالِ كَأنَّها طَيْرٌ ... تُغَاوِلُ في شَمَامِ وُكُوْرا ويقال أيضًا: أَشْعَلْت جَمْعَهم، أي: فرقتهم، ومنه يقال: أَشْعَلْتُ النار في الحطب، أي: فرقتها فيه فَاشْتَعَلَت. قال الزجاج: (يقال للشيب إذا كثر جدا: قد اشتعل رأس فلان) (¬5). قال لبيد (¬6): ¬

_ = البيان" 4/ 204 بعد ذكر هذه الأقوال: كل ذلك ليس بالأظهر، والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (وهن) 4/ 3966، "مقاييس اللغة" (وهن) 6/ 149، "القاموس المحيط" (وهن) 1239، "لسان العرب" (وهن) 8/ 4935. (¬2) انظر: "النكت والعيون" 3/ 355، "المحرر الوجيز" 9/ 426، "الكشاف" 2/ 405، "الإيضاح في علوم البلاغة" 302، "البرهان في علوم القرآن" 3/ 435. (¬3) "تهذيب اللغة" (شعل) 2/ 1891. (¬4) البيت لجرير في قصيدة يهجو بها الأخطل، المُشْعَلَة: المتفرقه والرِّعَال: قطع الخيل. وتُغاوِلُ: تبادر سرعة. وشَمَام: جبل. انظر: "ديوان جرير" ص 224، "تهذيب اللغة" (غال) 3/ 2624، "لسان العرب" (غول) 6/ 3319. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 319. (¬6) البيت للبيد من قصيدة يتحدث فيها عن مآثره ومواقفه، ويأسى لفقد أخيه أربد. انظر: "ديوان لبيد بن ربيعة" ص 140.

أَلَمْ تَرَى رَأْسي أَمْسَى وَاضِحًا ... سُلِّطَ الشَّيْب عَلَيْه فَاشْتَعَل أي: انتشر وكثر، والإشتعال للشيب إلا أنه نقل الفعل إلى الرأس فخرج الشيب مفسرًا ولذلك نصب كما يقال: ألم رأسه، ووجع بطنه (¬1). وقال بعضهم: انتصب قوله: "شيبا" على المصدر كأنه قال: شاب رأسي شيبًا (¬2). قال ابن الأنباري: (المعنى واشتعل شيب الرأس، فنقل الفعل عن الشيب إلى الرأس وانتصب الشيب بتحول الفعل عنه وخروجه من الوصف، يعني من أن يوصف بأنه فاعل، كما يقال: مررت برجل حسن وجها، نقلوا الحسن إلى الرجل، فلما انعدل الحسن عن الوجه انتصب بخروجه عن الوصف. قال: ويجوز أن يكون الشيب نائبًا عن المصدر، والتأويل واشتعل الرأس اشتعالا، فسد الشيب مسد الاشتعال، كما تقول: جاء فلان ركضا، والتأويل ركض ركضا أو جاء مجيئًا) (¬3). ومعنى الشيب: مخالطة الشعر الأبيض الأسود، وهو موافق لمعنى الشايب الذي يخلط الشيء بغيره (¬4). وقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} أي: بدعائي إياك، والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول {رَبِّ شَقِيًّا} قال ابن عباس: (لم تكن تخيب ¬

_ (¬1) "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 110، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 301. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 624، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 301. (¬3) ذكره نحوه بلا نسبة "إملاء ما من به الرحمن" ص 406، "المحرر الوجيز" 9/ 426، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 77، "الدر المصون" 7/ 565. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (شاب) 2/ 1799، "مقاييس اللغة" (شيب) 3/ 232، "القاموس المحيط" (شيب) 99، "المعجم الوسيط" (شيب) 1/ 502.

5

دعائي إذا دعوتك) (¬1). [وقال مجاهد: (كنت تعرفني الإجابة إذا دعوتك)] (¬2) (¬3). وهذا قول الجميع. ويقال: شقي فلان بكذا (¬4) إذا أتعب بسببه ولم يحصل له طائل، يقول: لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب. 5 - وقوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أراد بالموالي: الورثة، وهم العصبة، والكلالة. قاله ابن عباس في رواية الضحاك، وهو قول مجاهد، وجميع أهل التفسير (¬5). قال الزجاج: (ومعنى "الموالي": هم الذين يلونه في النسب، كما أن معنى القرابة: الذين يقربون منه بالنسب) (¬6). وقال الفراء: ({الْمَوَالِيَ} هم: بنو العم، وورثته، والولي والمَوْلَى في كلام العرب واحد) (¬7). ويقول تعالى: {مِنْ وَرَائِي} أي: من بعد موتي، واختلفوا في معنى ¬

_ (¬1) ذكرته بعض كتب التفاسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 46، "النكت والعيون" 3/ 355، "معالم التنزيل" 5/ 218، "تنوير المقباس" 254. (¬2) ذكره الطبري في "تفسيره" 16/ 46 بدون نسبة، وكذلك الماوردي في "تفسيره" 3/ 355. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) قوله: (بكذا)، ساقط من (س). (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 3، "جامع البيان" 16/ 46 - 47، "النكت والعيون" 3/ 355، "المحرر الوجيز" 9/ 427، "معالم التنزيل" 5/ 218. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 219. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 161.

خوفه فقال بعضهم: (خاف أن يرثه غير الولد) (¬1). وقيل: (خاف أن تذهب النبوة من نسبه إلى بني الأعمام) (¬2). وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا يكون خوفًا من الموالي، والصحيح في معنى خوفه ما ذكره أبو علي فقال: (الخوف لا يكون من الأعيان في الحقيقة، إنما يكون من معان فيها، فإذا قال القائل: خفت الله، وخفت الوالي، وخفت الناس، فالمعنى: خفت عقاب الله ومؤاخذته، وخفت عقوبة الوالي، وملامة الناس، وكذلك أي: "خفت الموالي من ورائي"، أي خفت تضيج بني عمي، فحذف المضاف، والمعنى تضييعهم للدين، ونبذهم إياه وإطراحهم له، فسأل ربه وليا يرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين، وكأن الذي حمله على مسألة ذلك ما شاهدهم عليه من تبديلهم للدين وتوثُّبِهِم على الأنبياء وقتلهم إياهم) (¬3). ويؤكد هذا ما روى عطاء عن ابن عباس قال: (يريد بالموالي بني إسرائيل) (¬4). وبنو إسرائيل كانوا يبدلون ويقتلون الأنبياء (¬5)، وعلى هذا ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 427، "الكشاف" 2/ 405، "زاد المسير" 5/ 209، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 78. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "جامع البيان" 16/ 46، "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 3، "الكشف والبيان" 3/ 2 أ، "معالم التنزيل" 5/ 218، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 124، "زاد المسير" 5/ 209. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 189. (¬4) ذكر في كتب التفاسير بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 355، "الكشاف" 2/ 405، "روح المعاني" 16/ 61، "الدر المصون" 7/ 566. (¬5) وإلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة البقرة الآية (59): {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} الآية. =

6

سَمَّى بني إسرائيل موالي؛ لأنهم كانوا بني أعمامه. وقوله تعالى: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي: عقيما لا تلد، وهذا الذي قاله زكريا إخبار عن خوفه فإما مضى حين كانت امرأته لا تلد، وكان هو آيسًا من الولد لذلك ذكره بلفظ الماضي في "خفت" "وكانت". وقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أي: ابنا صالحًا يتولاه، قال أبو إسحاق: (قوله: {وَلِيًّا} يدل على أنه سأل ولدًا دَيِّنًا؛ لأن غير الدَّيِّنِ لا يكون وليا لنبي) (¬1). 6 - قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} قرئ: بالرفع، والجزم (¬2). فالرفع على صفة الولي، كأنه سأل وليا وارثًا علمه ونبوته، والجزم على جواب الأمر، والرفع أصح القراءتين، إذ ليس المعنى على الجزاء وذلك؛ لأنه ليس كل ولي يرث، وإذا كان كذلك لم يسهل الجزاء من حيث لم يصح إن وهبته ورث؛ لأنه قد يهب له وليا لا يرث بأن يموت قبله، أو لا يصلح لخلافة النبوة، وإذا كان كذلك كان الوجه الرفع، ووجه الجزم أنه أراد بالولي وليا وارثًا، فيصح الشرط بأن تقول: إن وهبت ورث إذا كان المسؤول وليًا وإرثًا (¬3). ¬

_ = وقال سبحانه في الآية (61): {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 320. (¬2) قرأ: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: (يرثنني ويرث) برفعهما. وقرأ: أبو عمرو والبصري، والكسائي: (يرثني ويرث) بالجزم فيهما. انظر: "السبعة" ص 407، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 191، "العنوان في القراءات" 126، "النشر" 2/ 317. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 191.

واختلفوا فيم يرثه هذا الولي فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يرث النبوة) (¬1). وهو قول أبي صالح: (يكون نبيا كما كانت أباؤه أنبياء) (¬2). وقال مجاهد والسدي: (يرث العلم والنبوة) (¬3). وقال الكلبي: (يرث مكاني وحبورتي) (¬4). وقال قتادة: (نبوتي وعلمي) (¬5). وقال ابن قتيبة: (يرثني الحبورة، وكان زكريا حبرا، {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} الملك، قال: وكذلك قيل في التفسير) (¬6). وقال قوم: أراد وراثة المال. وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة قال: (يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة). وهو قول الحسن وسفيان (¬7). والصحيح القول الأول (¬8). ¬

_ = قرئ بالرفع والجزم كما مر معنا آنفا، وثبتت القراءة بهما وصحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا وجه لتضعيف قراءة الجزم. (¬1) "التفسير الكبير" 11/ 184، وذكره بدون نسبة ابن الجوزي في "تفسيره" 5/ 209، وكذلك القرطبي في "تفسيره" 16/ 81. (¬2) "جامع البيان" 16/ 47، "الدر المنثور" 4/ 467. (¬3) "جامع البيان" 16/ 48، "الوسيط" 3/ 176. (¬4) "روح المعاني" 16/ 62، وذكره بدون نسبة البغوي في "تفسيره" 5/ 219، والزمخشري في "كشافه" 2/ 405. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 5، "جامع البيان" 16/ 48، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 124. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 2/ 2. (¬7) "النكت والعيون" 3/ 356، "معالم التنزيل" 5/ 219، "زاد المسير" 5/ 209، "الدر المنثور" 4/ 467. (¬8) وهو قول جمهور المفسرين، وتشهد له الأحاديث الصحيحة. قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 124: إن النبي أعظم مزلة وأجل قدرًا =

قال أبو إسحاق: (لا يجوز أن يخاف زكريا أن يورث المال؛ لأن أمر الأنبياء والصالحين أنهم لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جعله الله لهم) (¬1). وكان يحيى بن يعمر (¬2) يقول: (لئن كان إنما قال يرثني مالي إن كان إذا لجشعا) (¬3). قال أبو علي: (لا يخلو هذا من أن يكون أراد يرث مالي، وعلمي، ونبوتي، وفيما أثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" (¬4). دلالة على أن الذي سأل أن يرثه وليه ليس ¬

_ = من أن يشفق على حاله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثه عصابته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه. والثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ومثل هذا لا يجمع ولا سيما أن الأنبياء كانوا أزهد شيء في الدنيا. والثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نورث مما تركنا صدقه". وعلى هذا فيتعين أن المراد ميراث النبوة. وانظر: "زاد المسير" 5/ 209، "أضواء البيان" 4/ 206. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 320. (¬2) يحيى بن يعمر العدواني، أبو سليمان البصري، قاضي مرو، إمام تابعي ثقة، فقيه مقرئ، نحوي أديب، عالم باللغة، يقال أنه أول من نقط المصحف، مات -رحمه الله- قبل المائة وقيل بعدها. انظر:"سير أعلام النبلاء" 4/ 441، "غاية النهاية" 2/ 381، "تهذيب التهذيب" 11/ 305، "معجم البلدان" 20/ 42. (¬3) لم أقف عليه، وهو قول بعيد؛ لأنه لا يصح أن يقال ذلك في حق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهو وصف لا يليق بمكانة نبي الله زكريا -عليه السلام-، وحاشاه أن يوسف بالجشع وهو صفة ذم، والأنبياء عليهم السلام لهم صفات المدح والثناء فمَد اصطفاهم الله واختصهم بالنبوة وشرفهم بها. (¬4) أخرجه البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنقبة فاطمة عليها السلام 3/ 1360، ومسلم: كتاب: الجهاد والسير باب قول =

المال، فإذا بطل هذا ثبت الوجه الآخر، على أنه لا يجوز على نبي الله أن يقول: أخاف أن يرثني بنو عمي وعصبتي على ما فرضته لهم، ويدل على صحة هذا قراءة عثمان -رضي الله عنه-: (وإني خَفَّتِ الموالي) (¬1). أي: أنهم قَلُّوا وقَلَّ من كان منهم يقوم بالدين فسأل وليا يقوم به) (¬2). وبين عبد الله بن مسلم هذا فقال: (زكريا لم يرد يرثني مالا، وأي مال كان لزكريا فيظن به عن عصبته حتى يسأل الله أن يهب له ولدًا يرثه، لقد جَلَّ هذا المال إذا وعَظُم عنده، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا الذين لها يعملون وللمال يكدحون، وإنما كان زكريا ابن آذر نجارا وكان حبرا). كذلك قال وهب بن منبه (¬3). وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له، والذين قالوا: يرثني مالي رووا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: (رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته) (¬4). وهذا لا يدل على أنه فسر الآية بوارث ¬

_ = النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا نورث ما تركناه صدقة" (3/ 1379، والترمذي في "جامعه" كتاب: السير، باب: ما جاء في تركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 4/ 135، وقال: حديث صحيح، وأخرجه النسائي: كتاب: قسم الفيء 7/ 95، والإمام أحمد في مسنده 1/ 4. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 189، "مختصر ابن خالويه" 83، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 5، "المحتسب" 2/ 37. (¬2) "الحجة السبعة" للفراء 5/ 189. (¬3) لم أقف على هذا القول. ولكن له شواهد، فقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كان زكريا نجارا. انظر: "صحيح مسلم" كتاب الفضائل، باب: من فضائل زكريا عليه السلام 4/ 1847، وابن ماجه كتاب: التجارات، باب: الصناعات 2/ 727، وأحمد 2/ 296، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 114. (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" 16/ 37 بسنده عن قتادة، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 3، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 1 ب، والماوردي في "النكت" =

7

الوالي وإنما أراد -صلى الله عليه وسلم-: وما كان عليه من وراثة النبوة والعلم، كأنه يقول: لو لم يسأل الله ولدا يرثه علمه ونبوته ما كان الله ليضيع دينه، وكان يرث ما كان قوم به من أمر الدين غير ولده. وقولى تعالى: {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أكثر الناس على أن هذا يعقوب بن إسحاق، وكان زكريا من سبط يهوذا بن يعقوب (¬1). وقال الكلبي: (هو يعقوب بن ماتان، رؤوس بني إسرائيل وبنو ملوكهم، وكان آل يعقوب أخوال ولده؛ لأن امرأة زكريا حنة أخت مريم بنت عمران بن ماتان) (¬2). قوله تعالى: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} الرضى بمعنى المرضي، قال ابن عباس: (يريد يكون عبدًا مرضيا في الصلاح والعفاف والنبوة) (¬3). 7 - وقوله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا} فيه إضمار والمعنى: استجاب الله دعاءه فقال: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} وذكرنا في سورة آل عمران هذه القصة (¬4). ¬

_ = 3/ 356، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 11/ 13، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 467 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 124، وقال: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح، والله أعلم. (¬1) "الكشاف" 2/ 405، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 124، "زاد المسير" 5/ 209، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 82. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 356، "زاد المسير" 5/ 209، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 82، "روح المعاني" 16/ 62. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 2 أ، "المحرر الوجيز" 9/ 430، "معالم التنزيل" 5/ 219، "التفسير الكبير" 21/ 185. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة آل عمران الآية (39): {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}

وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قال ابن عباس في رواية عكرمة: (لم يسم أحد قبله يحيى) (¬1). وهذا قول قتادة، والكلبي، وابن جريج، والسدي، وابن زيد، واختيار القتبي (¬2). وعلى هذا فالفضيلة تثبت ليحيى من حيث أن الله تعالى تولى تسميته باسم لم يسبق به، ولم يكل تسميته إلى الأبوين فكان ذلك تفضيلًا له من هذا الوجه. قال الزجاج: (قيل: سمي يحيى؛ لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها) (¬3). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} يريد: (لم يكن له في سابق علمي نظير ولا شبه) (¬4). وقال في رواية الوالبي: (لم تلد العواقر مثله ولدًا) (¬5). وهذا قول سعيد بن جبير: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قال: (عدلاً) (¬6). وقال مجاهد: (مثلًا) (¬7). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 210،"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 73، "روح المعاني" 16/ 65، "الدر المنثور" 4/ 468، "تفسير ابن عباس" 2/ 599. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 6، "جامع البيان" 16/ 50، "النكت والعيون" 3/ 357، "معالم التنزيل" 5/ 219. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 49، "الكشف والبيان" 3/ 2/ أن "النكت والعيون" 3/ 357، "معالم التنزيل" 5/ 220، "زاد المسير" 5/ 211، "المحرر الوجيز" 9/ 432، "تفسير القرآن العظيم " 3/ 124. (¬5) "جامع البيان" 16/ 49،"النكت والعيون" 3/ 357، "المحرر الوجيز" 9/ 431، "معالم التنزيل" 5/ 220. (¬6) "الدر المنثور" 4/ 468، وقال: شبيهًا. "الكشف والبيان" 3/ 3. (¬7) "جامع البيان" 16/ 49، "المحرر الوجيز" 9/ 431، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 124، "زاد المسير" 5/ 211.

8

وعلى هذا القول فالمراد بالسمي: المثل والنظير كقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، أي: مثلا وعدلا، ولم يكن ليحيى مثل من البشر من حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط. 8 - وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} مضى الكلام في معنى هذا الاستفهام في سورة آل عمران (¬1). وقوله تعالى: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} قال كثير من الناس: (كَانَت) هاهنا زيادة (¬2)، والمعنى: وامرأتي عاقرًا، كما قال في موضع آخر: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]. قال ابن الأنباري: (كَانَت) هاهنا ماضٍ، معناه الحال كأنه قال: وكائنة امرأتي في الحال، فصلح وضع الماضي في وضع الدائم؛ لأن المعنى مفهوم غير ملتبس، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، و {كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]. المعنى: وكائن الله غفورا أبدا. قال: وفي المسألة جواب ثالث: وهو أنه لما بشر بالولد وقع في نفسه أنه يكون بزوال العقر عن زوجته فقال بعد وقوع هذا المعنى في نفسه {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي: إلى هذا الوقت الذي لا أدري أزال العقر عنها أم لا؟ قال: وهذا جواب جيد صحيح) (¬3). ¬

_ (¬1) عند قوله سبحانه في سورة آل عمران الآية: (40): {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}. (¬2) التعبير بلفظ الزيادة، لا يصح القول به في القرآن الكريم، فإن كل حرف منه ورد ليدل على معنى من المعاني فزيادة المبني تدل على زيادة المعنى والمنزل الحكيم سبحانه لا ينزل الشيء إلا لفائدة. (¬3) ذكر نحوه في "المحر الوجيز" 9/ 432، "زاد المسير" 5/ 211، "التفسير الكبير" 21/ 184.

قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} قال أبو عبيد: (يقال للشيخ إذا ولى وكبر: عَتَا، يَعْتُو، عِتِيّا) (¬1). وقال أبو عبيدة: (كل مبالغ في شيء أو كفر فقد عَتَا، عِتِيّا، فهو عَاتٍ) (¬2). وقال أبو إسحاق: (كل شيء انتهى فقد عَتَا يَعْتْوا عُتُوًّا وعِتيًا) (¬3). وقال الفراء: (يقال للشيخ إذا كبر عَتَا وعِتِيا) (¬4). قال أهل المعاني: (يقال للذي غيره الزمان إلى حال اليبس والجفاف: هو عَاتٍ وعَاس) (¬5). وبهذا المعنى فسره مجاهد فقال: (هو نحول العظم) (¬6). وهو قول قتادة (¬7). وقال ابن قتيبة: {عِتِيًّا} هو أي: يبسا ومنه يقال: ملك عَاتٍ إذا كان قاسي القلب غير لين) (¬8). وقال ابن عباس في معنى قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (لا ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (عتا) 3/ 2313، "لسان العرب" (عتا) 5/ 2804. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 2. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 320. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 162. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 357، "لسان العرب" (عتا) 5/ 2804. (¬6) "جامع البيان" 16/ 51، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 125، "زاد المسير" 5/ 211، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 7. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 6، "جامع البيان" 16/ 5، "النكت والعيون" 3/ 357، "معالم التنزيل" 5/ 220. (¬8) "تفسير غريب القرآن" 272.

أقدر على مجامعة النساء) (¬1). وهذا راجع إلى ما ذكرنا من معنى اليبوسة. وروى عمرو بن ميمون: (أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أخبرني عن قول الله -عز وجل-: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} ما العتي؟ قال: اليبوس من الكبر) (¬2). وقرأ القراء: عُتِيا بالضم، وعِتيا بالكسر (¬3). وكذلك: (صليا) [مريم: 70]، (بكيا) [مريم: 58]، (جثيا) [مريم: 68]، والأصل في هذا أن ما كان من فُعُول جمعا من المعتل اللام، فاللام إذا كانت واوا لزمه القلب على الإطراد إلى الياء، ثم تقلب واو فُعول إلى الياء لادغامها في الياء، وتكسر عين الفعل كما كسرت في مرمي ونحوه، وذلك نحو: حَقْو وحُقِي، ودَلْو ودُلِي، وعَصَا وعُصِي، وصَفَا وصَفِي، وكسر الفاء مطرد في هذا نحو: دِلِي، وحِقِي، وعِصِي، وجاز ذلك؛ لأنها غيرت تغيرين وهما: أن الواو التي هي لام قلبت، والواو التي كانت قبلها قلبت أيضا، فلما غيرت تغيرين قويا على هذا التغيير من كسر الفاء هذا في الجمع، فأما ما كان من ذلك مصدرا فالقياس فيه أن يصح نحو: العُتْو والقُلُو؛ لأن واوه لم يلزمها الإنقلاب كما لزمها في الجمع، ولكن لما كانوا قد قلبوا الواو من هذا ¬

_ (¬1) ذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 6/ 780، وورد بلا نسبة في "جامع البيان" 16/ 50، "بحر العلوم" 2/ 319، "الكشف البيان" 3/ 3 أ. (¬2) ذكر بلا نسبة في "بحر العلوم" 2/ 319، "النكت والعيون" 3/ 357، "الكشف والبيان" 3/ 3 أ. (¬3) قرأ: ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: (عُتيا) بالضم، وقرأ: حمزة، والكسائي، وحفصر عن عاصم: (عتيا) بالكسر. انظر: "السبعة" ص 407، "الحجة للاقراء السبعة" 5/ 192، "المبسوط في القراءات" ص 242، "التبصرة" ص 255.

9

النحو وإن كان مفردا نحو: مَرْمِي وقلبوا ما كان قبل الآخر بحرف كما قلبوا الآخر نحو: صيَّم، وكان هذا على وزنه غير أيضًا تغيرين كما غيروا في الجمع ثم أجرى المصدر مجرى الجمع في كسر الفاء منه، ويروى أن في حرف عبد الله: (ظلما وعليا) [النمل: 14] في علو (¬1). وقال الله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا} [الفرقان: 21] وقال في موضع آخر: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] يعني هاهنا كالذي في هذه الآية. وقد ذكرنا في هذا النحو في قوله تعالى: {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا} [الأعراف: 148]. 9 - قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ} قال الزجاج: (أي الأمر كما قيل لك) (¬2). وقال مقاتل بن سليمان: (كَذَلِكَ: بمعنى: هكذا) (¬3). قال ابن الأنباري: (وعلى هذا القول كَذَلِكَ: بجملته في موضع نصب، ولا يقضي على الكاف بانفراد مما بعدها) (¬4). {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} قال الفراء: (أي خلقه على هين) (¬5). قال ابن عباس: (يريد: أردًّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع، وأفتق رحم امرأتك بالولد) (¬6). ¬

_ (¬1) " الحجة للقراء السبعة" 5/ 193، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 305، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 111، "الدر المصون" 7/ 569. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 321. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 232. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 406، "إملاء ما من به الرحمن" ص 407، "البحر المحيط" 6/ 175، "الدر المصون" 7/ 571. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 3/ 162. (¬6) "مجمع البيان" 5/ 780، "روح البيان" 5/ 317.

{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} يحيى. قرئ: خلقناك (¬1)، لكثرة ما جاء من (¬2) لفظ الخلق مضاف إلى لفظ الجمع كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [الحجر: 26]، في مواضع. وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، ولغة الجمع قد جاء بعد لفظ الافراد كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1]، ثم قال: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء: 2]. واختار أبو عبيد التاء (¬3)؛ لأنها تشاكل الياء في: {عَلَيَّ هَيِّنُ}. وقال أحمد بن يحيى (¬4): (الاختيار النون والألف؛ لأن فيه زيادة حرف وبكل حرف عشر حسنات) (¬5). والقراءة غير مخالفة خط المصحف؛ لأنهم يسقطون الألف من الهجاء في مئل هذا البناء؛ ولأن فيه الفخامة والتعظيم لاسم الله -عز وجل- وله المثل الأعلى. وقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} يريد أنه كان عدما فأوجده بقدرته، وفي هذا رد على القدرية في تسميتهم المعدوم شيئًا (¬6). والله تعالى يقول ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: (خلقتك) بالتاء من غير ألف. وقرأ: حمزة، والكسائي: (خلقناك) بالنون والألف. انظر: "السبعة" ص 408، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 195، "التبصرة" ص 255، "النشر" 2/ 317. (¬2) قوله: (من لفظ الخلق مضاف إلى) ساقط من نسخة: (س). (¬3) ذكره بلا نسبة الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 195. (¬4) هو: ثعلب، تقدمت ترجمته. (¬5) لم أقف عليه. ويشهد له ما صح من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف". (¬6) قال القاضي علي بن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 117: أهل السنة عندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، وأن المعدوم ليس بشئ في الخارج، ولكن الله =

10

لزكريا حين كان معدوما: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}. قال الزجاج: (أي فخلق الولد لك كخلقك) (¬1). 10 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} قال قتادة: (سأل نبي الله آية على حمل امرأته بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة مشافهة) (¬2). قال ابن الأنباري: (وفي سؤاله الآية وجوه: أحدها: أن التماسه الآية كان على معنى المزيد من الله والتكرمة من الله بإعطائه الآية، ليتم نعمة إلى نعمة، وكلتاهما يد من الله -عز وجل- عنده. والثاني: [أنه لما بشر بالولد كان على يقين منه، غير أنه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه] (¬3). والثالث: أنه لما بشر بالولد غلب عليه طبع البشرية، فسأل الآية ليزداد بها يقينا وإيمانا، فعاقبه الله بأن حبس لسانه ثلاث ليال حين احتاج إلى مشافهة الملائكة بالبشارة إلى علامة تدل على صحة ما وعد به) (¬4). وإلى هذا ذهب الكلبي ومقاتل (¬5)، وقتادة، قال (¬6) قتادة: (قوله: {آيَتُكَ ¬

_ = يعلم ما يكون قبل أن يكون، ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كان شيئًا في علمه تعالى. وانظر: "أضواء البيان" 4/ 217. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 321. (¬2) "جامع البيان" 16/ 52، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 7. (¬3) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س). (¬4) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 52، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 7، "معالم التنزيل" 3/ 189. (¬5) "تفسيرمقاتل" 232. (¬6) قوله: (قال)، ساقط من نسخة (س).

11

أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} حبس لسانه عقوبة لما سأل الله الآية بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة، وكان لا يفيض بكلمة إنما يومئ إيماء) (¬1). {قَالَ آيَتُكَ} أي قال الله علامتك على خلق الولد لذلك {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ}، أي: تمنع الكلام فلا تقدر عليه {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} صحيحًا من غير ما بأس ولا خرس. قال مجاهد: (أي لا يمنعك مرض) (¬2). و {سَوِيًّا} هو منصوب على اقال. قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون {سَوِيًّا} نعت مصدر محذوف على معنى أن لا يكلم الناس تكليمًا سويًا، يصحح هذا أنه كان يشير في الليالي الثلاث ولا يتكلم تكلما صحيحا) (¬3). 11 - قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} قال ابن زيد: (من مصلاه) (¬4). {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} قال ابن عباس: (يريد أشار إليهم) (¬5)، وهو قول القرظي (¬6)، وقال قتادة: (أو ماء إليهم) (¬7). وقال مجاهد: (كتب إليهم في ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 52، وذكره الهواري في "تفسيره" 3/ 7 بدون نسبة، "الدر المنثور" 2/ 192. (¬2) "جامع البيان" 16/ 52، "معالم التنزيل" 5/ 220، "الدر المنثور" 4/ 469. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "المسير الكبير" 21/ 190، "البحر المحيط" 6/ 176، "الدر المصون" 7/ 573. (¬4) "جامع البيان" 16/ 53، "النكت والعيون" 3/ 358، "الدر المنثور" 4/ 469. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 53، "المحرر الوجيز" 10/ 16، "النكت والعيون" 3/ 358، "معالم التنزيل" 5/ 221، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 58. (¬6) "روح المعاني" 16/ 71، "فتح القدير" 3/ 264. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 6، "جامع البيان" 16/ 54، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "روح المعاني" 16/ 71.

12

الأرض) (¬1). وهو قول الحكم، وإبراهيم (¬2). ويدل على صحة الإشارة قوله: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ومعنى أمره إياهم بالصلاة ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان يأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا) (¬3). والمعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة. فلما كان وقت حمل امرأته ومنع الكلام خرج عليهم فأمرهم بالصلاة. 12 - وقوله تعالى: {يَا يَحْيَى} قال أبو إسحاق: (المعنى فوهبنا له وقلنا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}) (¬4). قال ابن عباس: (التوراة بقوة) (¬5). قال مجاهد: (بجد) (¬6). وقال ابن عباس: (بقوة منك أعطيتكها وقويتك على حفظها والعمل بما فيها) (¬7). {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} قال: (يريد النبوة في صباه وهو ابن ثلاث سنين) (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 54، "معالم التنزيل" 5/ 221، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 85. (¬2) "جامع البيان" 16/ 54، "الدر المنثور" 4/ 469. (¬3) "روح المعاني" 16/ 71، "الدر المنثور" 4/ 469، "تنوير المقباس" 254. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 321. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 359، "تنوير المقباس" 254. (¬6) "جامع البيان" 16/ 55، "النكت والعيون" 3/ 359، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 86، "الدر المنثور" 4/ 470. (¬7) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 436، "النكت والعيون" 3/ 360، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 86، "التفسير الكبير" 21/ 191. (¬8) "زاد المسير" 5/ 213، "روح المعاني" 16/ 72، "الدر المنثور" 4/ 470 ونسبة لقتادة.

13

وقال مجاهد: (الحكم والفهم هو أنه أعطي فهما لكتاب الله حتى حصل له عظيم الفائدة) (¬1). وقال معمر: (هو أن الصبيان قالوا له: اذهب بنا نلعب. فقال ما للعب خلقت) (¬2). وقال الحسن: ({وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}: اللب) (¬3). والحكم عند العرب: ما يمنع من الجهل والخطأ ويصرف عنهما (¬4). 13 - قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} الحنان معناه في اللغة: العطف والرحمة. يقال: حنانك وحنانيك يذكره الرحمة والبر، ومنه قول الشاعر (¬5): حَنَانَيْكَ بَعضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ ويقال: حَنَّ عليه أي: عطف عليه، وحَنَّ إليه أي: نزع إليه (¬6)، ونحو ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 213، "الدر المنثور" 4/ 470، "فتح القدير" 3/ 466. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 6، "جامع البيان" 16/ 55، "النكت والعيون" 3/ 360، "المحرر الوجيز" 9/ 436. (¬3) "زاد المسير" 5/ 213. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (حكم) 1/ 885، "مقاييس اللغة" (حكم) 2/ 91، "الصحاح" (حكم) 5/ 1901، "لسان العرب" (حكم) 2/ 951. (¬5) هذا عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا انظر: "ديوانه" 66، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 2، "الكتاب" لسيبويه 1/ 348، "همع الهوامع" 1/ 190، "الدر المصون" 7/ 575، "لسان العرب" (حنن) 2/ 1030، "جمهرة أشعار العرب" 3/ 449. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (حن) 1/ 945، "القاموس المحيط" (الحنين) 1188، "الصحاح" (حنن) 5/ 2104.

هذا قال المفسرون في معنى الحَنَان، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} يقول: (رحمة من عندنا) (¬1). وهو قول عكرمة، وقتادة، والربيع (¬2). وقوله تعالى: {وَزَكَاةً} قال ابن عباس: (يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص) (¬3). وقال قتادة: (هي العمل الصالح) (¬4). وهو قول الضحاك وابن جريج (¬5). ومعنى الآية: وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملا صالحا في إخلاص، فعلى هذا الموصوف بالحنان والزكاة يحيى؛ لأن الله آتاه إياهما. وقال ابن عباس في رواية عكرمة: (لا أدري ما الحنان؟ غير أني أظنه يعطف الله على عبده) (¬6). ونحو هذا قال مجاهد في تفسير: {وَحَنَانًا} (تعطفا من ربه على يحيى) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 55، "النكت والعيون" 3/ 360، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "زاد المسير" 5/ 214، "الدر المنثور" 4/ 471. (¬2) "جامع البيان" 16/ 55، "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 7، "النكت والعيون" 3/ 360، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126. (¬3) "معالم التزيل" 5/ 222، "زاد المسير" 5/ 214. (¬4) "جامع البيان" 16/ 57، "معالم التزيل" 5/ 222، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "زاد المسير" 5/ 214. (¬5) "جامع البيان" 16/ 58، "النكت والعيون" 3/ 360، "معالم التزيل" 5/ 222. (¬6) "جامع البيان" 16/ 56، "المحرر الوجيز" 9/ 437، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "الدر المنثور" 4/ 471. (¬7) "جامع البيان" 16/ 56، "النكت والعيون" 3/ 360، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "زاد المسير" 5/ 214.

وقال أبو إسحاق في تفسير {وَزَكَاةً}: (الزكاة التطهير) (¬1). وعلى هذا معني الآية: وآيتنا يحيى تعطفا منا عليه، وتطهيرا إياه من عندنا، والموصوف بالحنان والزكاة هو الله تعالى على هذا القول؛ لأنه ذو الرحمة على يحيى والمطهر له. وقال قوم: الحنان والزكاة يعودان إلى زكريا، وهو قول الكلبي والفراء. قال الفراء: (وفعلنا ذلك رحمة لأبويك) (¬2). وقال الكلبي في قوله: {وَزَكَاةً} (يعني: صدقه تصدق الله بها على أبويه) (¬3). وعلى هذا القول يحتاج إلى إضمار كما ذكره الفراء ويكون التقدير: وفعلنا ذلك يعني هبة الولد واستجابة الدعاء حنانا من لدنا أي: رحمة منا على زكريا، وزكاة، وصدقة منا عليه (¬4). وقوله تعالى: {وَكَانَ تَقِيًّا} قال ابن عباس: (جعلته يتقيني ولا يعدل بي غيري) (¬5). قال المفسرون: (وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها) (¬6). كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من الناس عبد إلا قد هم بخطيئه أو عملها غير ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 322. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 163. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 222. (¬4) قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 229: والتحقيق فيه إن شاء الله هو أن المعنى: وأعطيناه زكاة أي: طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 88. (¬5) "زاد المسير" 5/ 214. (¬6) "جامع البيان" 16/ 58، "المحرر الوجيز" 9/ 438، "معالم التنزيل" 5/ 222، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 88.

14

يحيى بن زكريا" (¬1). 14 - قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} البَرُّ بمعنى البار كالصب والطب فعل بمعنى فاعل، والمعنى لطيفا بهما محسنا إليهما (¬2). {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} قال الكلبي: (هو الذي يقتل على الغضب ويضرب على الغضب) (¬3). {عَصِيًّا} عاصيا. قال ابن عباس: (يريد لا يرتكب لي معصية) (¬4). 15 - قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} الآية، قال أبو إسحاق: (سلام مما يبتدأ به في النكره؛ لأنه اسم يكثر استعماله تقول: سلام عليك، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 16/ 58، والصنعاني في "تفسيره" 2/ 7، والإمام أحمد في "مسنده" 1/ 215، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 126، بروايات مختلفة وضعفها جميعا. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 226: والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعًا: إما بانقطاع، وإما بعنعنة مدلس، وإما بضعف راوٍ كما أشار له ابن كثير وغيره. وأخرج نحوه ابن أبي شيبه في مصنفه موقوفًا على عبد الله بن عمرو بن العاص 11/ 561، و"الحاكم في مستدركه" 2/ 373 وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 471 وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتاده. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (بر) 1/ 308، "مقاييس اللغة" (بر) 1/ 177، "القاموس المحيط" (البر) 1/ 348، "الصحاح" (برر) 2/ 588، "لسان العرب" (برر) 1/ 252. وانظر: "معالم التنزيل" 5/ 222، "بحر العلوم" 2/ 320، "زاد المسير" 5/ 215، "أضواء البيان" 4/ 229. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 3 ب، وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 122 بدون نسبة. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 2 ب، "المحرر الوجيز" 9/ 440، "معالم التنزيل" 5/ 222، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "لباب التأويل" 4/ 240، "روح المعاني" 16/ 73.

والسلام عليك، وأسماء الأجناس يبدأ بها؛ لأن فائدة نكرتها قريب من فائدة معرفتها تقول: لبيك وخير بين يديك، وإن شئت قلت: والخير بين يديك) (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: (يريد سلام عليه مني في هذه الأيام) (¬2). وقال الكلبي: (سلامة له منا) (¬3). وقال سفيان بن عيينه: (أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، وأحكاما يشير له بها عهد، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله فيها بالكرامة يحيى بن زكريا فسلم عليه بالمواطن الثلاثة) (¬4). فقال: {وَسَلَامٌ عَلَيْه} الآية. قال ابن الأنباري: (لم يقصد باليوم قصد يوم واحد؛ لأنه يجوز أن يموت بالليل، وأن لا يولد نهارا، ولكن اليوم يقع على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي) (¬5). وتلخيص معنى الآية: ويسلم عليه في زمان مولده، وكذلك ما بعده. وقد قال الكلبي عن ابن عباس: (وسلم عليه حين ولد) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 329. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 58، "المحرر الوجيز" 9/ 440، "زاد المسير" 5/ 215، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 126، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 89، "لباب التأويل" 4/ 240. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 3 ب. (¬4) "جامع البيان" 16/ 59، "معالم التنزيل" 5/ 222، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 127، "زاد المسير" 5/ 215. (¬5) ذكر نحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" (يوم) 4/ 3990، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 215. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 3 ب.

16

16 - قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} قال ابن عباس: (يعني واذكر يا محمد من أمر مريم لأهل مكة) (¬1). {إِذِ انْتَبَذَتْ} قال الكلبي والزجاج: (تنحت) (¬2). وأصله من النبذ، وهو طرحك الشيء ورميك به. يقال: نبذْتُه ناحية فانتبذ، وجلس فلان نَبْذَةً ونُبُذَةً أي ناحية، وانْتَبَذَ فلان ناحية أي: تنحى ناحية (¬3). وقال قتادة: (انفردت) (¬4). وقال ابن قتيبة: (اعتزلت) (¬5). والقولان معنى، وليس بتفسير، وتفسير (انتبذت): تَنحَّت. {مِنْ أَهْلِهَا} يعني ممن كانوا معها في الدار {مَكَانًا شَرْقِيًّا} إلى مكان في جانب الشرق. وقال ابن السكيت: الشرق: الشمس، والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس) (¬6). قال ابن عباس في رواية عطاء: (أن مريم أذاها القمل (¬7) في رأسها ¬

_ (¬1) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 59، "بحر العلوم" 2/ 320، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 8، "المحرر الوجيز" 9/ 441، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 95. والأولى العموم فالذكر لأهل مكة ولغيرهم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 4 أ، "معاني القرآن للزجاج" 3/ 322. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (نبذ) 4/ 3494، "الصحاح" (نبذ) 2/ 571، "المعجم الوسيط" (نبذ) 2/ 897، "المفردات في غريب القرآن" (نبذ) 480، "لسان العرب" (نبذ) 7/ 4322. (¬4) "جامع البيان" 16/ 59، "النكت والعيون" 3/ 361، "الكشف والبيان" 3/ 4 أ. (¬5) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 2/ 3. (¬6) "تهذيب اللغة" (شرق) 2/ 1865. (¬7) القمل: دواب صغار من جنس القردان إلا أنها أصغر منها، واحدتها قملة. انظر: تهذيب اللغة (قمل) 9/ 186، "الصحاح" (قمل) 5/ 1805، "لسان العرب" (قمل) 6/ 4743.

17

كنت أن تجد خلوة فتفلي رأسها، فخرجت في يوم شديد البرد فجلست في مشرقة الشمس) (¬1). وقال عكرمة: (أنها كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ثم أنها أرادت الغسل من الحيض فتحولت إلى مشرقة دارهم للسغل) (¬2). فذلك قوله: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} ونحو هذا قال الكلبي (¬3). 17 - قوله: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ} أي من دون أهلها لئلا يرونها {حِجَابًا} سترًا حاجزًا. قال ابن عباس: (يريد جعلت الجبل بينها وبين الناس) (¬4). والحجاب: الجبل كقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] وهذا قول مقاتل (¬5). وقال السدي: (حجابا من الجدران) (¬6). {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} قال المفسرون: (بينما هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبريل -عليه السلام- في صورة شاب أمرد وضيء الوجه) (¬7). ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 215، "الكشاف" 2/ 407، "البحر المحيط" 6/ 180 بدون نسبة. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 223، "الكشف والبيان" 3/ 4 أ. (¬3) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 4 أ، "معالم التنزيل" 5/ 223، "الكشاف" 3/ 505، "أنوار التنزيل" 4/ 4، "روح المعاني" 16/ 75، "مجمع البيان" 5/ 784، "روح البيان" 5/ 321. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف البيان" 3/ 4 أ، "معالم التنزيل" 5/ 223، "الكشاف" 2/ 506، "لباب التأويل" 4/ 141، "التفسير الكبير" 21/ 196، "البحر المحيط" 6/ 180. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 223، "تفسير مقاتل" 232، "الكشف والبيان" 3/ 4 أ. (¬6) "جامع البيان" 16/ 60، "النكت والعيون" 3/ 361، "المحرر الوجيز" 9/ 442، "زاد المسير" 5/ 215. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 223، "الكشاف" 2/ 407، "زاد المسير" 5/ 217، "الكشف والبيان" 3/ 4 أ.

18

فذلك قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يعني جبريل {فَتَمَثَّلَ} فتصور وتشبه {لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} معتدلًا تامًّا. 18 - قال ابن عباس: (فلما رأت جبريل يقصد نحوها نادته مر بعيد) (¬1) بقوله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي مخلصا مطيعا. قال أبو إسحاق: (تأويله إني أعوذ بالله منك، فإن كنت تقيا فستتعظ بتعوذي بالله منك) (¬2). 19 - قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} هذا جواب جبريل -عليه السلام- لمريم {لِأَهَبَ لَكِ} اللام متعلقة بمعنى قوله: {رَسُولُ رَبِّكِ} أي: أرسلني ليهب لك. ومن قراء: لأهب (¬3)، استند إلى المتكلم وهو جبريل والهبة لله سبحانه، والرسول والوكيل قد يسندون هذا النحو إلى أنفسهم، وإن كان الفعل للموكل والمرسل للعلم به، وإن الرسول مترجم عنه (¬4). وقوله تعالى: {غُلَامًا زَكِيًّا} قال قال ابن عباس: (يريد نبيا) (¬5). وقال ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 223 بدون نسبة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 323. (¬3) قرأ: ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: (لأهب) بالهمز. وقرأ: أبو عمرو البصري، وورش عن نافع: (ليهب) بغير همز. انظر: "السبعة" ص 408، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 195، "التبصرة" ص 256، "النشر" 2/ 317. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 195. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "مجمع البيان" 5/ 784، "التفسير الكبير" 21/ 199، "روح المعاني" 16/ 77. "فتح القدير" 3/ 468.

20

الكلبي: (يعني صالحا) (¬1). وهو قول الضحاك (¬2). وقيل: (طاهرا من الذنوب) (¬3). وقيل: (ناميا على الخير) (¬4). 20 - {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لم يقربني زوج {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فاجرة زانية. وقال ابن عباس: (تريد ليس لي زوج، ولست بزانية، وليس يكون الولد إلا من زوج أو من الزنا) (¬5). ويقال: بَغَت المرأة تبغي بَغْيًا إذا فجرت، وأصله: من البَغْي والذي هو الطلب وذلك أنهم يبغين بالفجور، والعرب تسمي الإماء البَغَايا والواحدة منها: بَغِي، ذكره ابن السكيت (¬6). وذلك أن العرب كانوا يأمرونهن بالمباغاة تكسبا بهن فكن يبغين الأجور فجرى هذا الاسم على الإماء. وبغي فعيل بمعنى فاعل ويكون منقولا غير مبني على الفعل فلذلك ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التزيل" 5/ 223، "بحر العلوم" 2/ 320، "لباب التأويل" 4/ 241، "روح المعاني" 16/ 77. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 9، "معالم التنزيل" 5/ 223، "بحر العلوم" 2/ 320. (¬3) "جامع البيان" 16/ 61، "معالم التزيل" 5/ 223، "زاد المسير" 5/ 217، سعيد "فتح القدير" 3/ 468. (¬4) "زاد المسير" 5/ 218، "التفسير الكبير" 11/ 219، "روح المعاني" 16/ 77. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 62، "المحرر الوجيز" 9/ 444، "معالم التنزيل" 3/ 191، "زاد المسير" 5/ 218، "لباب التأويل" 4/ 241. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (بغي) 1/ 367، "مقاييس اللغة" (بغي) 1/ 272، "المفردات في غريب القرآن" (بغي) ص 55، "لسان العرب" (بغا) 1/ 321.

21

لم تدخله الهاء، وقد ذكرنا تمام هذا الفصل عند قوله: (والنطيحة) (¬1). وقال ابن الأنباري: (إن بغي النساء أغلب عليه، قل ما تقول العرب: رجل بغي، إنما يغلب عليهم امرأة بغي، ورجل عاهر فاجر، فلما انفردت المرأة بالوصف استغنى عن إلحاق علامات التأنيث، وجرى مجرى حائض وطالق) (¬2). وقال المازني: (بغي (¬3) ليس بفعيل إنما هو فعول الأصل بغوي فلما التقت واو وياء وسبق أحدهما بالسكون أدغمت الواو في الياء فقيل: بغي، كما تقول: امرأة صبور بغير هاء؛ لأنها بمعنى صابرة) (¬4). 21 - قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} مفسر في هذه السورة (¬5). ومعنى الهين: المتأتي من غير مشقة، والهين من باب الصيب والميت (¬6). قال ابن عباس: (يريد يسير أن أهب لك غلاما من غير فحل) (¬7). ¬

_ (¬1) عند قوله سبحانه في سورة المائدة الآية رقم (3): {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} الآية. (¬2) "الكشاف" 2/ 407،"زاد المسير" 5/ 218، "إملاء ما من به الرحمن" ص 408، "الدر المصون" 7/ 578. (¬3) في (س): (يعني)، وهو تصحيف. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" 2/ 408، "المحرر الوجيز" 9/ 444، "إملاء ما من به الرحمن" 408، "الممتع" 1/ 549، "الدر المصون" 7/ 578. (¬5) عند قوله سبحانه في هذه السورة الآية رقم (9): {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (هَيَن) 4/ 3698، "القاموس المحيط" (هَيَنَ) (1240)، "المفردات في غريب القرآن" (هَيَن) ص 547. (¬7) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 62، "بحر =

22

{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} قال: (يريد عجيبة للناس) (¬1). كونه غلاما ليس له أب {وَرَحْمَةً مِنَّا} لمن تبعه وصدق به. وقوله تعالى: [{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} عطف جملة على جملة، واللام تعلق بمحذوف تقديره] (¬2): ولنجعله آية للناس، {وَرَحْمَةً مِنَّا} خلقناه. وقال ابن الأنباري: (هو معطوف على مضمر محذوف التقدير: هو علي هين لننفعك به ولنجعله، فحذف الكلام الأول اختصارا ودل الثاني عليه) (¬3). {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي كان خلقه أمرا محكوما به مفروغا منه سابقا في علم الله أن يقع. 22 - قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ} هو مختصر والمعنى: فنفخ فيها جبريل فحملته. وحذف ذلك؛ لأن النفخ قد بين في غير هذا الموضع، والقرآن كله كتاب واحد (¬4). قال ابن عباس: (دنا منها جبريل فأخذ ردن قميصها فنفخ فيه فحملت مريم من ساعتها بعيسى ووجدت حس الحمل) (¬5). فذلك قوله: ¬

_ = العلوم" 2/ 321، "زاد المسير" 5/ 218، "مجمع البيان" 5/ 789، "مدارك التنزيل" 2/ 975، "روح البيان" 5/ 323. (¬1) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 218، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 91، "روح المعاني" 16/ 78. (¬2) ما بين المعقوتين ساقط من نسخه (س). (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 91، "التفسير الكبير" 21/ 200، "البحر المحيط" 6/ 181، "الدر المصون" 7/ 579. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة التحريم الآية رقم (12): {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}. وقوله في سورة الأنبياء الآية رقم (91): {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}. (¬5) "جامع البيان" 16/ 62، "الكشاف" 2/ 408، "زاد المسير" 5/ 218، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 91، "الدر المنثور" 4/ 478.

{فَحَمَلَتْهُ}. وقوله تعالى: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد. قال ابن عباس: (يريد أقصى الوادي) (¬1). وهو: وادي بيت لحم (¬2) (¬3). وهذا الإنتباذ إنما كان عند وضعها، فرارا من زكريا ومن قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج. قال ابن عباس: (ما هو إلا أن حملت فوضعت) (¬4). وعلى هذا دل ظاهر قوله: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ} ذكر الانتباذ عقب الحمل، والانتباذ إنما كان عند الوضع (¬5) والقَصِي فَعِيْل بمعنى فَاعِل من قَصَى يَقْصُو إذا بعد (¬6)، ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 92. (¬2) بيت لحم: بالفتح وسكون الحاء قرية قرب البيت المقدس، عامرة حافلة، وهي مهد عيسى -عليه السلام-، ومن قرى فلسطين. انظر: "معجم البلدان" 1/ 521. (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 445، "معالم التنزيل" 5/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 92، "أضواء البيان" 4/ 240. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 321، "معالم التنزيل" 5/ 224، "الكشاف" 2/ 408، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 119 وقال: وهذا غريب، "الدر المنثور" 4/ 479، "زاد المسير" 5/ 218. (¬5) وهذا خلاف قول الجمهور. قال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 129: فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر .. والفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه. وقال ابن عطية في "تفسيره" 9/ 445: وظاهر قوله: (فأجاءها المخاض) يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات على ذلك. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 244: وأظهر الأقوال أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (قصا) 3/ 2969، "مقاييس اللغة" (قصوى) 5/ 94، "لسان العرب" (قصا) 6/ 3657، "المفردات في غريب القرآن" (قصى) 405.

23

قال الراجز (¬1): لَيَقْعُدنَّ مَقْعَدَ القَصِي ... مِنِّي ذَي القَاذُورةِ المَقْلِي 23 - قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أي: الجأها واضطرها يقال: جاء بها وأجاءها بمعنى هذا قول جميع أهل اللغة (¬2)، وأنشدوا لزهير (¬3): أَجَأَتْهُ المَخَافَةُ والرَّجَاء قالوا: والعرب تقول في أمثالها: شر مَا أَلجَأكَ إلى مُخَّةِ عُرْقُوب (¬4). يريدون اضطرك وألجأك إليها. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في تفسير أجاءها: (ألجأها) (¬5). والمخاض: وجع الولادة وهو الطلق، ومَخِضتِ المرآة تَمْخَضُ مَخَاضًا، وناقة مَاخِض وشاة مآخِضٌ إذا دنا ولادتها (¬6)، ويقال ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 63، "معاني القرآن للفراء" 2/ 70، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 334، "لسان العرب" (ذا) 3/ 1472. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 324، "معاني القرآن" للفراء 2/ 164، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 112، "المحتسب" 2/ 39، "غريب القرآن لابن الملقن" 239. (¬3) هذا عجز بيت لزهير، وصدره: وَجَار سارَ مُعْتَمِدًا إليكُم انظر "ديوانه" ص 13، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 324، "المحرر الوجيز" 9/ 446، "البحر المحيط" 6/ 182، "الدر المصون" 7/ 581، "لسان العرب" (جيأ) 2/ 736. (¬4) المعنى: أن العرقوب لا مخ له، وإنما يلجأ إليه من لا يقدر على شيء. انظر: "جامع البيان" 16/ 63، "معاني القرآن" للفراء 2/ 164، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 324، "لسان العرب" (مخ) 7/ 4155. (¬5) "جامع البيان" 16/ 64، "النكت والعيون" 3/ 363، "معالم التنزيل" 5/ 225، "الدر المنثور" 4/ 481. (¬6) في (ص): (ولادها).

أيضًا دجاجة مَاخِضٌ إذا قربت أن تبيض، ومنه قول الراجز (¬1): تُنْقِضُ إنْقضَاض الدَّجَاجِ المُخَّضِ والمخاض من الإبل: الحوامل، سميت مخاضًا تفاؤلا بأنها تَمْخِضُ بالولد إذا أنجبت (¬2). وقوله تعالى: {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} الجذع: ساق النخل، قال ابن عباس: (نظرت مريم إلى أكمة (¬3) فصعدت مسرعة، فإذا على الأكمة جذع نحو جذع نخلة فأسرعت المشيء حتى سارت إلى الجذع) (¬4). فذلك قوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} قال المفسرون: (وكان جذع نخلة يابسة لس لها سعف) (¬5). ولهذا قال الله تعالى: {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} ولم يقل إلى ¬

_ (¬1) هذا عجز البيت وصدره: وَمَسدٍ فَوْقَ محالٍ نُغَّيضِ ذكر البيت الأزهري في "تهذيب اللغة" (مخض) 4/ 3358 بدون نسبة، وكذلك "لسان العرب" (مخض) 7/ 4153. (¬2) نظر: "تهذيب اللغة" (مخض) 4/ 3358، "مقاييس اللغة" (مخض) 5/ 304، "القاموس المحيط" (مخض) 2/ 653، "لسان العرب" (مخض) 7/ 4153. (¬3) الأكمة: هو الموضع الذي هو أشد ارتفاعا مما حوله، وهو دون الجبال ومثل الروابي. انظر: "تهذيب اللغة" (أكم) 1/ 177، "الصحاح" (أكم) 5/ 1862، "لسان العرب" (أكم) 1/ 103. (¬4) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشاف" 2/ 506، "زاد المسير" 5/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 90، "مجمع البيان" 5/ 590، "روح المعاني" 16/ 81، "لباب التأويل" 4/ 242. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 321، "المحرر الوجيز" 9/ 446، "معالم التنزيل" 5/ 225، "زاد المسير" 5/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 92.

النخلة؛ لأنها لم يبق منها إلا الجذع. وقوله تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} قال السدي: [(قالت في حال الطلق: يا ليتني مت قبل هذا استحياء من الناس) (¬1). وقيل:] (¬2) (إنما قالت ذلك بطبع البشرية خوف الفضيحة) (¬3). وقيل: (إنما جاز أن تتمنى الموت قبل تلك الحال التي قد علمت أنها من قضاء الله، لكراهتها أن يعصي الله بسببها إذ كان الناس يتسرعون إلى القول في ذلك بما يسخط الله جل وعز) (¬4). وقال أبو إسحاق: (معناه لو خيرت قبل هذه الحال بين الموت أو الدفع إلى هذه الحال لاختارت الموت) (¬5). ومعنى قوله: {قَبْلَ هَذَا} أي: قبل هذا اليوم، أو هذا الوقت، أو هذا الأمر (¬6). وقوله تعالى: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} قال أبو إسحاق: (النسي في كلام العرب الشيء المطروح لا يؤبه له) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 66، "النكت والعيون" 3/ 364، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 121. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخه (س). (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 447، "معالم التنزيل" 5/ 225، "الكشاف" 2/ 108، "روح المعاني" 16/ 82. (¬4) "النكت والعيون" 3/ 364، "الكشاف" 2/ 409، "زاد المسير" 5/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 92. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 324. (¬6) "زاد المسير" 5/ 220، "روح المعاني" 16/ 82، "فتح القدير" 3/ 469. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 324.

قال الشنفري (¬1) (¬2): كَأَنَّ لَهَا في الأرضِ نِسْيًا تَقُصُّه ... عَلَى أُمِّهَا وإِن تُكَلِمْكَ تَبْلَتِ يصف امرأة بالخفى (¬3). وقال الأخفش، وأبو عبيدة: (النسي ما أغفل من شيء حقير ونسي) (¬4). وقال يونس: (العرب تقول إذا ارتحلوا من المنزل انظروا أنساكم، أي: الشيء اليسير نحو: العصا، والقدح، والشِّظَاظ (¬5).) (¬6). هذا معنى النسي في اللغة. فأما التفسير فقال ابن عباس: (نسيًا: متروكا لا يذكر) (¬7). ¬

_ (¬1) الشنفري بن مالك الأزدي، والشنفري اسمه، وقيل لقب له لأنه غليظ الشفة، واختلف في اسمه، وهو شاعر جاهلي فحل، له أشعار في الفخر والحماسة وأشهرها لاميته، وهو من عدائي العرب. انظر: "نزهة الألباء" 1/ 408، "الأعلام" 5/ 85، "الخزانة" 3/ 343. (¬2) البيت للشنفري يصف امرأة كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئًا ضاع منها. تبلت: انقطعت في كلامها فلا تطيله. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325، "شرح المفضليات" 201، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 46، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 196، "وضح البرهان في مشكلات القرآن" 2/ 46، "المخصص" 12/ 27، "لسان العرب" (نسا) 7/ 4417. (¬3) في (ص): (بالخفر). (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 4، "تهذيب اللغة" (نسى) 4/ 3565. (¬5) الشِّظَاظُ: خُشَيْبَة عَقْفَاء محددة الطرف توضع في الجوالق أو بين الأونين يشد بها الوعاء. انظر: "تهذيب اللغة" (شظ) 2/ 1879، "لسان العرب" (شظظ) 2/ 1879، "مختار الصحاح" (شظظ) 338. (¬6) "الكشاف" 2/ 408، "تهذيب اللغة" (نسى) 4/ 3565. (¬7) ذكر نحوه "جامع البيان" 16/ 66، و"النكت والعيون" 3/ 364، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 129، "زاد المسير" 5/ 221، "الدر المنثور" 4/ 481.

وهو قول قتادة (¬1). وقال عكرمة، والضحاك، ومجاهد: (حيضة ملقاة) (¬2). والمنسي: المفعول؛ من نسيت الشيء ضد ذكرته، ويجوز أن يكون مفعولًا من نسيت بمعنى: تركت، وهو هاهنا من صفة الشيء، ومعناه المبالغة؛. لأن النسي وإن كان حقيرًا فقد يطلب ويذكر، فهي تقول ياليتني (¬3) كنت ذلك الشيء الذي لا يذكر ولا يطلب. وقال السدي: ({وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أي نسي ذكري، ومنسيا أي: نسي أثري فلا يرى لي أثر ولا عين) (¬4). وقرئ: نسيا بالفتح (¬5). قال الفراء: (هما لغتان مثل: الجَسْر والجِسْر، والحَجْر والحِجْر، والوَتْر والوِتْر. والنسي: ما تلقيه المرآة من خرق اعتلالها وهو اللقَى) (¬6). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 66، "بحر العلوم" 2/ 321، "النكت والعيون" 3/ 364، "معالم التنزيل" 5/ 245، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 129. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 364، "معالم التنزيل" 5/ 225، "زاد المسير" 5/ 221، "الدر المنثور" 4/ 481. (¬3) في (س): (بالشيء)، وهو تصحيف. (¬4) "جامع البيان" 16/ 66. (¬5) قرأ: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (نِسيا) بكسر النون. وقرأ: حمزة، وعاصم في رواية حفص: (نَسيا) بفتح النون. انظر: "السبعة" ص 408، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 196، "المبسوط في القراءات" 243، "النشر" 2/ 318. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 164.

24

وقال أهل اللغة: (الكسر أعلى اللغتين) (¬1). ويجوز في غير هذا أن يكون النسي مصدرًا كالنسيان كما يقال: العصي والعصيان، والآتي والإتيان، أنشد الفراء (¬2): مِنْ طَاعَة الرَّب وعَصْى الشَّيْطَان وأنشد (¬3) (¬4): أَتْيُ الفَوَاحِشِ فِيْهمُ مَعْرُوفَة ... وَيرَونَ فِعْلَ المَكْرُمَات حَرَاما 24 - قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قال ابن عباس: (سمع جبريل كلامها وعرف جزعها فناداها من تحتها أسفل منها تحت الأكمة (¬5). {أَلَّا تَحْزَنِي}. وهذا قول الضحاك، والسدي، وقتادة: (أن المنادي كان جبريل، ناداها من سفح الجبل) (¬6). وقال مجاهد، والحسن: (الذي ناداها عيسى) (¬7). وهو قول وهب، وسعيد بن جبير، وابن زيد (¬8). ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 9/ 352، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 196، "الدر المصون" 7/ 582. (¬2) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 165 بلا نسبة، وكذلك الطبري في "جامع البيان" 16/ 66. (¬3) في (ص): (وأنشد أيضًا). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 165. (¬5) ذكره نحوه "جامع البيان" 16/ 67، "النكت والعيون" 3/ 364، "المحرر الوجيز" 9/ 450، "معالم التنزيل" 5/ 226، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 7، "جامع البيان" 16/ 67 - 68، "النكت والعيون" 3/ 364، "معالم التنزيل" 5/ 226، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 321. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 6، "جامع البيان" 16/ 68 "بحر العلوم" 2/ 321، "النكت والعيون" 3/ 364، "المحرر الوجيز" 9/ 450. (¬8) "جامع البيان" 16/ 68، "معالم التنزيل" 5/ 226، "تفسير القرآن العظيم" =

قال أبو إسحاق: (ويكون المعنى في مناداة عيسى لها أن يبين الله لها الآية في عيسى) (¬1). وقال أبو علي: (وأن يكون المنادي لها عيسى أشبه وأشد إزالة لما خامرها من الوحشة والاغتمام لما يوجد به طعن عليها) (¬2): ولهذا كان الاختيار قراءة من قرأ: مَنْ تَحْتَهَا بفتح الميم (¬3)، يعني به عيسى. وهو من وضع اللفظة العامة موضع الخاصة كما تقول: رأيت مَنْ عندك، وأنت تعني أحدًا بعينه (¬4). وقوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال ابن عباس: (يريد السري الجدول، وكان ساقيه للماء قبل ذلك، ثم انقطع [الماء منه، فأرسل الله الماء فيه لمريم) (¬5). ¬

_ = 3/ 131، "الدر المنثور" 4/ 482، وهذا ما رجحه الطبري في "تفسيره" 16/ 68، وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 246: أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى وتدل على ذلك قرينتان الأولى: أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور. والقرينة الثانية: أنها لما جاءت به قومها تحمله وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 197. (¬3) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: (مَن تَحْتَها) بفتح الميم والتاء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (مِن تَحْتِها) بكسر الميم والتاء. انظر: "السبعة" ص 408، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 197، "النشر" 2/ 318. (¬4) في (س): (يعني). (¬5) ذكر نحوه "جامع البيان" 16/ 69، و"النكت والعيون" 3/ 365، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 131، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 94.

وهذا قول عامة المفسرين (¬1). قال أبو إسحاق: (وروي عن الحسن أنه قال: (يعني عيسى عليه السلام، كان والله سريا من الرجال) (¬2). فعرف الحسن أن من العرب من يسمي النهر سريا (¬3). فرجع إلى هذا القول. ولا خلاف بين أهل اللغة أن السري: النهر بمنزلة الجدول) (¬4). وأنشد للبيد (¬5): ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 7، "جامع البيان" 16/ 69 - 70، "النكت والعيون" 3/ 365، "المحرر الوجيز" 11/ 23، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 121. وجمهور المفسرين على ذلك وهو ما رجحه ابن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" 16/ 71، وابن كثير 3/ 121. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 248: أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر الصغير، والدليل على ذلك أمران أحدهما: القرينة من القرآن فقدله: {فَكُلِي وَاشْرَبِي} قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به. الأمر الثاني: حديث جاء بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "إن السرى الذي قال الله لمريم: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} نهر أخرجه الله لها لتشرب منه". فهذا الحديث المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف؛ أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه. (¬2) "جامع البيان" 16/ 70، "النكت والعيون" 3/ 365، "معالم التنزيل" 5/ 226، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 131، "زاد المسير" 5/ 222. (¬3) السَّرِي: الجدول وهو قول جميع أهل اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" (سري) 2/ 1680،"لسان العرب" (سرا) 4/ 2002، "المفردات في غريب القرآن" (سري) ص 231. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325. (¬5) البيت للبيد وقد ورد في معلقته. عُرْضَ: الناحية. ومَسْجُورَة: عين مملوءة. القُلام: نبت ينبت على الأنهار، قيل هو نوع من الحمض. انظر "ديوانه" ص 170، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 176، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325، "الدر المصون" 7/ 584.

25

فتوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِزًا قُلامُهَا ومعنى قوله: (تَحْتَكِ) قال الكلبي: (بحيال قدميك) (¬1). فجعل تحت هاهنا إسما للجهة المحاذية للمتمكن، وهذا يوافق قول من قال: (إن جبريل ضرب الأرض من تحت قدمها) (¬2). ويقال: (إن عيسى ضرب برجله فظهر عين ماء عذب وجرى) (¬3). وقيل: (معنى قوله: {تَحْتَكِ سَرِيًّا} لم يكن الجدول محاذيًا لهذه الجهة، ولكن المعنى جعله دونك، وقد يقال: فلان تحتنا أي: دوننا في المواضع). قال ذلك أبو الحسن (¬4). وقال بعض المفسرين: (معنى قوله: (تَحْتَكِ) أن الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى، وإن أمرته بالإمساك أمسك لقوله تعالى فيما أخبر عن فرعون: (وهذه الأنهار تجرى من تحتي) (¬5) أي: من تحت أمري) (¬6). 25 - قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ} الهز معناه: التحريك (¬7)، يقال: هَزَزْتُه فاهْتَزَّ، ومعنى {إِلَيْكِ} اجذبيه إليك أي: حركيه بأن تجذبيه إليك. ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 364. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 226، "الكشف والبيان" 3/ 4 أ، "التفسير الكبير" 11/ 205. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 226، "روح المعاني" 16/ 83. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 197. (¬5) سورة الزخرف الآية رقم: (51). (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 226، "الكشف والبيان" 3/ 4 أ، "التفسير الكبير" 11/ 205، "روح المعاني" 16/ 83. (¬7) انظر: "مقاييس اللغة" (هز) 6/ 9، "القاموس المحيط" (هز) ص 529، "الصحاح" (هزز) 3/ 901، "المفردات في غريب القرآن" (هزز) ص 542.

وقوله تعالى: {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} قال الأخفش: (الباء زائدة) (¬1). وهي تزاد كثيرًا في الكلام يقال: خذ بالزمام، وتناول بالخطام، ومد بالحبل، وأعطني بيدك، وأنشد: بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُه ... وَأَسْفَلُه بِالمَرْخِ والشَّبَهَانِ (¬2) ونحو هذا قال الفراء، قال: (والعرب تقول: هَزَّ بِه وَهَزَّه، وقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} [الحج: 15]، معناه فَلْيَمدْدُ سببا) (¬3). ويقال: ألقى بيده، أي ألقى يده، قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195]. قال أبو علي: (ويحتمل أن يكون معنى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أي: بهز جذع النخله رطبا فحذف المضاف) (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 626، وقال أبو السعود في "تفسيره" 3/ 579: الباء صلة للتوكيد. وقول أبو السعود أولى من القول بالزيادة، وذلك أدبا مع القرآن الكريم فإن كل حرف ورد فيه يقصد به معنى من المعاني. ولذلك قال ابن جرير -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 73: تدخل الباء في الأفعال وتخرج فيكون دخولها وخروجها بمعنى فمعنى الكلام: وهزي إليك جذع النخلة. (¬2) ورد البيت في عدد من الكتب ونسب إلى رجل من عبد القيس، وقيل إنه ليعلى الأحول. الشَّث: الكثير من الشيء وهو ضرب من الشجر طيب الريح مر الطعم. والشبهان: ضرب من الرياحين. انظر: "مجاز القرآن" 2/ 48، "معاني القرآن" للأخفش 2/ 626، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 200، "أدب الكاتب" 416، "الجمهرة" 1/ 45، "الدر المصون" 7/ 585، "لسان العرب" (شبه) ص 2191. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 165. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 198.

والمعنى: إذا هززت الجذع هززت بهزه رطبا، فإذا هززت الرطب سقط. وهذا على قول من يخصب الرطب بالهز، وهو قول المبرد، حكى عنه الزجاج قال: (والمعنى هزي إليك بجذع النخلة رطبا تساقط عليك) (¬1). وقوله تعالى: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} أي: تتساقط فأدغمت التاء في السين، وتساقط هاهنا بمعني: تسقط، وتفاعل مطاوع فاعل كما أن تفعل مطاوع فَعَّل وكما عدّى تفعل في: تجرعته، وغليته، وتَمَزَّزْته، كذلك عدي تفاعل فمما جاء من ذلك قول الشاعر: تُطَالِعنا خَيَالاتٌ لِسَلْمَى ... كَمَا يَتَطَالعُ الدَّينَ الغَرِيمُ (¬2) ويكون المعنى: تسقط عليك النخلة رطبا جنيا، وانتصب (رُطَبًا) على أنه مفعول به (¬3). وقرأ حمزة: تَسَاقَطْ، مخففا (¬4). حذف التاء التي أدغمها غيره، ويجوز أن يكون المعنى: تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا، فيكون انتصاب رطبا على الحال، وجاز أن يضمر الثمرة وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن ذكر النخلة يدل عليها، وعلى هذا الوجه تساقط مطاوع (¬5)، وعلى قول ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325. (¬2) البيت لسلمة بن الخرشب الأنماري. ويريد به أن خيال صاحبته يكثر معاودته، كما يلح الدائن على المدين بكثرة ترداده عليه. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 199، "المحتسب" 2/ 358، "المفضليات" 39. (¬3) "الحجه للقراء السبعة" 5/ 198، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 113، "الدر المصون" 7/ 588. (¬4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: (تساقط) بفتح التاء وتشديد السين. وقرأ حمزة: (تَسَاقط) بفتح التاء وتخفيف السين. انظر: "السبعة" ص 409، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 198، "المبسوط في القراءات" ص 243، "حجة القراءات" ص 442. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 200.

الفراء، والزجاج (¬1) انتصب (رُطَبًا) على التمييز والتفسير؛ لأن الفعل نقل من الرطب إلى النخلة فلما حول الفعل إليها خرج الرطب مفسرًا كقولهم: تصبب عرقا، كذلك تساقطت النخلة رطبا (¬2). وروى حفص عن عاصم: تُسَاقِطْ على وزن تفاعل (¬3)، وساقط بمعنى: أسقط، قال يصف الثور والكلاب (¬4): يُسَاقِطُ عَنْهُ رَوْقُهُ ضَارِيَاتِهَا ... سِقَاطَ حَدِيدِ القَيْنِ أَخْوَلَ أَخْوَلاَ وقوله تعالى: (رُطَبًا) الرُّطَبُ: الناضج من البسر (¬5)، وقد أَرْطَبَتِ النخلة وأَرْطَبَ القوم إذا أَرْطَبَ نخلهم، ورَطَّبْتَ القوم أطعمتهم رُطَبًا. والجَنَى بمعنى المَجْنِي يقال: جَنَيْتُ الثمر، وأَجْنَيْته، وجَنَا الشجرة ما جُنِي منها (¬6). قال ابن عباس: (فعجبت مريم من قول جبريل حين قال لها: ¬

_ (¬1)) "معاني القرآن" للفراء 2/ 166، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 325. (¬2) "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 113، "الدر المصون" 7/ 588. (¬3) قرأ حفص عن عاصم: (تُسَاقِط) بضم التاء وكسر القاف مخففة السين. وقرأ أبو بكر عن عاصم: (تَسُاقط) بفتح التاء وتشديد السين. انظر: "السبعة" ص 409، "الحجة للقراء السبعة" 198، "العنوان في القراءات" 126، "التبصرة" ص 256. (¬4) البيت لضابئ البرجمي، يصف الثور والكلاب. الروق: القرن. أَخْوَل أَخْوَلاَ: متفرقا. انظر: "المحتسب" 2/ 41، "الخصائص" 2/ 130، "تهذيب اللغة" (خال) 1/ 969، "لسان العرب" (خول) 3/ 1294. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (رطب) 2/ 1421، "الصحاح" (رطب) 1/ 136، "لسان العرب" (رطب) 3/ 1664، "المفردات في غريب القرآن" (رطب) 197. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (جني) 1/ 674، "مقاييس اللغة" (جني) 1/ 482، "المفردات في غريب القرآن" (جنى) ص 101، "لسان العرب" (جني) 2/ 707.

26

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} وذلك أنه كان جذعًا نخرًا ليس له سعف فلمَّا هزته نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع، ثم خرج من بين السعف، ثم نظرت إلى الطلع قد اخضر فصار بلحا، ثم نظرت إلى البلح قد احمر فصار زهوا، ثم نظرت إلى البسر الأحمر قد صار رطبا كل ذلك طرفة عين قبل أن يرتد إليها طرفها، فجعل الرطب يقع بين يديها في أقماعه ولا يتشدخ منها شيء، فطابت نفسها) (¬1). 26 - قوله تعالى: {فَكُلِي} قال ابن عباس: (من الرطب {وَاشْرَبِي} من السري {وَقَرِّي عَيْنًا} يريد بعيسى) (¬2). قال الكسائي: (قَرِرْتُ به عينا أَقَرُّ، قُرَّةً، وقُرُورًا) (¬3). وبعضهم يقول: قَرِرْتُ، أَقَرُ، القُرَّةُ المصدر، والقُرَّة كل شيء قَرَّتْ به عينك، وأَقَرَّ الله عينه فَقَرَّت (¬4). قال الأصمعي: (أَقَرَّ مأخوذ من القُرُّ والقِرَّة، وهما البرد، ومعنى أَقَرَّ الله عينه أبرد الله دمعه؛ لآن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة (¬5). قال المنذري: (وعرض هذا القول على أحمد بن يحيى فأنكره، ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 95، "روح المعاني" 16/ 85، "البحر المحيط" 6/ 184. (¬2) ذكر نحوه "معالم التنزيل" 5/ 227، و"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 96، "تنوير المقباس" 255. (¬3) "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924. (¬4) "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924، "لسان العرب" (قرر) 6/ 3581. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 367، "زاد المسير" 5/ 224، "إعراب القرآن" للنحاس 311، "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924، "لسان العرب" (قرر) 6/ 3581.

وقال: الدمع كله حار في فرح كان أو حزن) (¬1). وحكي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: (أَقَرَّ الله عينك سكن الله عينك بالنظر إلى ما تحب. أي: صادفت ما يرضيك فَتَقَرّ عينك من النظر إلى غيره. والعرب تقول للذي يدرك ثاره: وقعت بقرك، أي: صادف فؤادك ما كان متطلعا إليه فَقَرَّ) (¬2). وقولهم: فلان قُرَّة عيني معناه رضي نفسي، أي: ترضى نفسي وتَقر وتسكن بقربه مني ونظري إليه (¬3). قال أبو عمرو الشيباني: (أقر الله عينه أنام الله عينه، والمعنى صادف سرورًا يذهب سهره فينام) (¬4)، وأنشد (¬5): أَقَرَّ بِه مَوَالِيْك العُيُونَا أي: نامت عيونهم لما ظفروا بما أرادوا. وقال الفراء: {وَقَرِّي عَيْنًا} جاء في التفسير: طيبي نفسا، وإنما نصبت العين؛ لأن الفعل كان ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924. (¬2) "زاد المسير" 5/ 224، "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924، "لسان العرب" (قر) 6/ 3581. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924، "مقاييس اللغة" (قر) 5/ 7، "الصحاح" (قرر) 2/ 788، "المفردات في غريب القرآن" (قر) 397، "لسان العرب" (قر) 6/ 3581. (¬4) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 311، "تهذيب اللغة" (قر) 3/ 2924، "لسان العرب" (قرر) 6/ 3581. (¬5) هذا عجز بيت ينسب لعمرو بن كلثوم وصدره: بيوم كريهة ضربًا وطعنًا انظر: "تهذيب اللغة" (قرر) 3/ 2924، "لسان العرب" (قرر) 6/ 3581.

لها، فصيرته للمرأة فمعناه لتقر عينك، فإذا حول الفعل عن صاحبه إلى ما قبله نُصب صاحب الفعل على التفسير، كقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4]، معناه: فإن طابت أنفسهن، ومثله: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} (¬1)، وسؤت به ظنا) (¬2). وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} ترين كان في الأصل ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من يرى وترى، ونقلت فتحتها إلى الراء، فصار تريين فلما تحركت الياء الأولى وانفتح ما قبلها صارت ألفا، فاجتمع ساكنان أحدهما الألف المنقلبة في الياء والأخرى ياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار (تَرَيْنَ) ثم حذفت النون علامة للجزم؛ لأن قوله: إما حرف شرط فبقي ترى، ثم دخلته نون التأكيد وهي منقلة فكسرت الياء أعني ياء التأنيث لالتقاء الساكنين إذ النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى منها ساكنة فصار تنوين (¬3). قال الزجاج: (وكذلك تقول للمرآة: اخشينَّ زيدا) (¬4). يعني أن ياء التأنيث تكسر لأجل نون التأكيد وكذلك تقول: ألم تَرَى القوم، ولم تَخْشَى الرجل فتحرك بالكسر مع لام المعرفة وسائر السواكن كذلك حركتها مع النون الشديدة بالكسر ولم ترد اللام التي حذفتها لالتقاء الساكنين لما حركت الساكن الذي كنت حذفت اللام لالتقائها معه؛ لأن حركة الالتقاء الساكن غير لازمه وهي في تقدير السكون كما لم ترد في قولك: رَمَتِ ابنك ¬

_ (¬1) سورة هود الآية رقم: (77)، وسورة العنكبوت الآية رقم: (33). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 166. (¬3) "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 113، "الدر المصون" 7/ 591. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 327.

ونحوه، وإذا قلت للواحدة: تَرَيْنَ كان اضافته على ضمير التأنيث وليست لام الفعل؛ لأن لام الفعل قد حذفت لالتقاء الساكنين كما ذكرنا، فإن خاطبت جماعة نساء قلت: كيف تَرَيْنَ؟ فالياء لام الفعل، وليست التي للضمير كما كانت] (¬1) في خطاب الواحدة ألا ترى أن قولك: أَنْتُنَّ تَذْهَبْنَ، تلي فيه الباء التي هي لام الفعل علامة الضمير للتأنيث وهي النون، فقياس المعتل في هذا قياس الصحيح، ولذلك لو قلت للواحدة: كيف تَرَيْنَك كانت النون علامة للرفع والياء علامة الضمير، ولو قلت لجماعة نساء: كيف تَرَيْنَكُنَّ، كانت النون علامة الضمير والياء لام الفعل، فإذا ألحق الجازم والناصب ترين، وتأتين حذفت النون للجزم والنصب، ولو لحق فعل الجميع لم تحذف النون كما لم تحذف في؛ لم تَضرِبنَ. ذكر هذا كله أبو علي الفارسي في "المسائل الحلبية" (¬2). قوله تعالى: {فَقُولِي} فيه اختصار؛ لأن المعنى: فإما ترين من البشر أحدًا فسألك عن ولدك فقدلي: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} قال ابن عباس: (صمتا) (¬3). ومعنى الصوم في اللغة: الإمساك عن الأكل وعن الكلام (¬4). والمعنى أوجبت على نفسي لله تعالى أن لا أتكلم. وقال قتادة: (صامت من الكلام، والطعام، والشراب) (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: (فأرسل الله الماء فيه لمريم ..) إلى هنا ساقط من نسخة: (س). (¬2) "المسائل الحلبيات" لأبي علي الفارسي 87. (¬3) "جامع البيان" 16/ 74، "بحر العلوم" 2/ 322، "النكت والعيون" 3/ 367، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 131، "زاد المسير" 5/ 225، "الدر المنثور" 4/ 485. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (صام) 2/ 1964، "مقاييس اللغة" (صوم) 3/ 323، "القاموس المحيط" (صام) ص 1131، "المفردات في غريب القرآن" (صوم) 291. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 8، "جامع البيان" 16/ 74، "النكت والعيون" =

وعلى هذا معنى قوله: {نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} هو الصوم المعروف الذي هو عبادة. قال السدي، وابن زيد: (كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام، كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم الصائم حتى يمسي) (¬1). ويدل على صحة هذا القول قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} أي: إني صائم فلا أكلم اليوم أحدًا. ولو أريد بالصوم هاهنا الصمت فقط لم يحتج إلى قوله فلن أكلم اليوم. وأيضًا فإنه قال: {نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} والصوم الذي هو لله إنما هو (¬2) ترك الطعام لا ترك الكلام. قال المفسرون: (كان قد أذن لها أن تقول: {نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [ثم تسكت ولا تتكلم بشيء آخر) (¬3). وقال قوم: (كانت تقول هذا القدر إشارة بحيث يعرف أنها ممسكة عن الكلام) (¬4). وأما سبب أمرها] (¬5) بترك الكلام فقال ابن مسعود، وابن ¬

_ = 3/ 367، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 331. (¬1) "جامع البيان" 16/ 74، "المحرر الوجيز" 9/ 458، "معالم التنزيل" 5/ 227، "زاد المسير" 5/ 225، "الدر المنثور" 4/ 485. (¬2) قوله: (هو)، ساقط من نسخة (س). (¬3) "النكت والعيون" 3/ 368، "المحرر الوجيز" 9/ 458، "معالم التنزيل" 5/ 227،" الجامع لأحكام القرآن" 11/ 98. وهذا قول جمهور المفسرين. قال أبو حيان في "تفسيره" 6/ 195: إن المعنى فلن أكلم اليوم إنسيا بعد قولي هذا، وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليه المعنى أي: فإما ترين من البشر أحدًا وسألك أو حاورك الكلام فقولي. وانظر: "أضواء البيان" 4/ 254. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 322، "المحرر الوجيز" 9/ 458، "معالم التنزيل" 5/ 228، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 131. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

27

زيد، ووهب: (أمرت بالصمت؛ لأنها لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة في شأن ولدها، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ به ساحتها) (¬1). وقيل في قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} خصت الإنس لأنها كانت تكلم الملائكة (¬2). 27 - قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} قال ابن عباس في رواية: (خرجت مريم من عندهم ضحى تتشرق للشمس (¬3) ليس بها (¬4) قلبه (¬5)، فجاءت عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار) (¬6). وقال الكلبي: (أتت به قومها تحمله بعد أربعين يوما، وذلك أنها ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملت عيسى إلى قومها، فلما دخلت عليهم ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين) (¬7). فقالوا: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} قال أبو عبيدة: (كل فائق من عجب أو عمل فهو: فري، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 75، "النكت والعيون" 3/ 368، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 131، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 98. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 228، "الكشاف" 2/ 409، "زاد المسير" 5/ 225، "الدر المنثور" 4/ 485. (¬3) قوله: (للشمس)، ساقط من نسخة (س). (¬4) في (ص): (فيها). (¬5) قلبه: أي ما به على يخشى عليه منها. وقيل: معناه ما به شيء يقلقله. انظر: "تهذيب اللغة" (قلب) 3/ 3026، "الصحاح" (قلب) 1/ 205، "المعجم الوسيط" (قلب) 2/ 753، "لسان العرب" (قلب) 6/ 3713. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 99، "زاد المسير" 5/ 226. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 228، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 99، "الكشاف والبيان" 3/ 5 / أ.

28

وهو هاهنا: عجب) (¬1). وقال الفراء [والزجاج وجميع أهل اللغة: (الفَرِي: الأمر العظيم، يقال فلان يَفْرِي الفَرِي] (¬2) إذا كان يعمل عملا يفضل فيه الناس) (¬3). ومنه قول -عليه السلام- في صفة عمر: (فلم أرَ عبقريا يَفْرِي فَرِيَّه) (¬4). قال ابن عباس: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي: عظيما منكرا لا يعرف منك ولا من أهل بيتك) (¬5). وهذا قول مجاهد، وقتادة، والسدي قالوا: (الفري: العظيم من الأمر) (¬6). 28 - قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} اختلفوا في هارون من هو؟ فقال ابن عباس في رواية عطاء: (أن مريم كانت عابدة، وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له هارون، تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون) (¬7). وهذا قول قتادة، وكعب، وابن زيد قالوا: (هارون رجل صالح من ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 7. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬3) "تهذيب اللغة" (فرا) 3/ 2756، "لسان العرب" (فرا) 6/ 3408. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: "فضائل الصحابة" باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لو كنت متخذًا خليلًا" 3/ 1345، ومسلم في صحيحه كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل عمر -رضي الله عنه- 4/ 1860، والترمذي في جامعه كتاب: الرؤيا، باب: ما جاء في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/ 468، والإمام أحمد في "مسنده" 2/ 28، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 5/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 2028. (¬5) "زاد المسير" 5/ 226، "تنوير المقباس" 255. (¬6) "جامع البيان" 16/ 77، "النكت والعيون" 3/ 368، "المحرر الوجيز" 9/ 459، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 132، "الدر المنثور" 4/ 486. (¬7)) "جامع البيان" 16/ 77، "معالم التنزيل" 5/ 228، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 100.

بني إسرائيل ينسب إليه من عرف بالصلاح) (¬1). والمعنى: يا شبيهته في العفة. ونحو هذا روى المغيرة بن شعبة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقال السدي: (عنوا هارون أخا موسى، ونسبت مريم إلى أنها أخته؛ لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم) (¬3). وقال الكلبي: (كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل) (¬4). وقيل: (إن هارون هذا كان فاسقا معلنا بالفسق فشبهت به) (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 9، "جامع البيان" 16/ 77، "النكت والعيون" 3/ 368، "المحرر الوجيز" 9/ 459، "معالم التنزيل" 5/ 228. (¬2) الحديث رواه المغيرة بن شعبة وقال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤن "يا أخت هارون" وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم. أخرجه مسلم في صحيحه كتاب: الآداب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء 2/ 1685 والترمذي في جامعه كتاب: التفسير سورة مريم 2/ 144، والنسائي في "تفسيره" 2/ 29، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 252، أخرجه الطبري في "جامع البيان" 16/ 78، والماوردي في "النكت والعيون" 3/ 368، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 228، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 323، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 459، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 486 وزاد في نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي. (¬3) "جامع البيان" 16/ 78، "النكت والعيون" 3/ 369، "المحرر الوجيز" 9/ 460، "معالم التزيل" 5/ 228، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 132. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 323، "معالم التنزيل" 5/ 228، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 100، "روح المعاني" 16/ 88. (¬5) "جامع البيان" 1/ 786، "بحر العلوم" 2/ 323، "النكت والعيون" 3/ 369،=

29

وقوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} قال ابن عباس: (يريد زانيا) (¬1). {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} يريد زانية. وذكرنا الكلام في البغي في هذه السورة (¬2). والمعنى في نفي الزنا عن أبويها تعريض بزناها، كأنهم قالوا: لم يكونا زانيين فمن أين لك هذا الولد؟. قال الفراء: (أي أهل بيتك أخوك وأبوك صالحون وقد أتيت أمرا عظيما) (¬3). 29 - قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} قال ابن عباس: (تريد أن كلموه وهو يرضع فنظر بعضهم إلى بعض تعجبا منها حين أشارت إليه) (¬4). {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ} الآيه. وقال أبو إسحاق: (أشارت إليه بأن يجعلوا الكلام معه، ودل على أنها أشارت إليه في الكلام، قوله: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}) (¬5). قال ابن عباس: (يريد في الحجر رضيعا) (¬6). ¬

_ = "المحرر الوجيز" 9/ 461، "معالم التنزيل" 5/ 228، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 132. هذا القول بعيد، والراجح -والله أعلم- من هذه الأقوال ما ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه والذي مر بنا آنفًا. وانظر: "جامع البيان" 16/ 78، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 132، "فتح القدير" 3/ 473، "أضواء البيان" 4/ 271. (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 229، "النكت والعيون" 3/ 369، "تنوير المقباس" ص 255. (¬2) عند قوله سبحانه في الآية رقم: (20): {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 167. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 102. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 328. (¬6) ذكره "المحرر الوجيز" 9/ 262 بدون نسبة، و"النكت والعيون" 3/ 370 ونسبة لقتادة، و"زاد المسير" 5/ 226.

والمَهْدُ: الموضع الذي يُهَيَأ لينام فيه الصبي (¬1). فيجوز أن يكون الحجر كما ذكره ابن عباس، وقتادة، والكلبي (¬2). ويجوز أن يكون: سريرا كالمَهْد المعروف للصبيان (¬3). واختلفوا في {كَانَ} هاهنا فقال أبو عبيدة: ({كَانَ} هاهنا حشو زائد (¬4)، والمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد) (¬5). وهذا اختيار ابن قتيبة، وكثير من أهل التفسير ذكروه (¬6)، واحتجوا بقول الفرزدق (¬7): فَكَيْفَ إذَا رَأَيْتَ دِيَارَ قَوْمٍ ... وَجِيْرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَام وقال قوم: ({كَانَ} في معنى وقع وحدث) (¬8). والمعنى: كيف نكلم ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (مهد) 4/ 3461، "الصحاح" (مهد) 2/ 541، "المفردات في غريب القرآن" (مهد) ص 476، "المصباح المنير" (المهد) ص 582. (¬2) "جامع البيان" 16/ 79، "النكت والعيون" 3/ 370، "زاد المسير" 5/ 226. (¬3) "النكت والعيون" 3/ 369، "معالم التنزيل" 5/ 229، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 102. (¬4) هذا القول بعيد ولا يليق أن يوصف كلام الله بالحشو الزائد، وكتاب الله هو الحكم في اللغة. قال القرطبي 11/ 102: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت (صبيا). وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 328، "البيان في غريب القرآن" 2/ 124، "البحر المحيط" 6/ 187. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 7، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 328، "البحر المحيط" 6/ 187. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 229، "زاد المسير" 5/ 228، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 102. (¬7) البيت للفرزدق قاله في قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك. انظر "ديوانه" ص 597، "خزانة الأدب" 9/ 217، "الكتاب" 2/ 153، "المقتضب" 4/ 116، "الدر المصون" 7/ 595، "لسان العرب" (كون) 7/ 3961. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 328، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 308.

30

صبيا قد حدث في المهد. وقال الزجاج: (وأجود الأقوال أن يكون في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه؟ كما تقول: من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه) (¬1). قال ابن الأنباري: (لا يجوز أن يكون الكون مُلْغًى، وهو عامل في الصبي النصب، وقول من قال: إن {كَانَ} بمعنى حدث قبيح أيضا؛ لأن الصبي لما انتصب بالكون لم يكن الكون بمعنى الحدوث؛ لأنه إذا كان بمعنى الوقوع والحدوث استغنى عن خبره، كما تقول: كان البرد وكان الحر، تريد وقع وحدث -ثم اختار قول الزجاج- قال: والذي نذهب إليه أن يكون {مَنْ} في معنى الجزاء و {كَانَ} بمعنى يكون، والتقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل عظتي؟ معناه: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في باب الجزاء، كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10] معناه: إن شاء يجعل) (¬2). قال السدي: (لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: سخريتها بنا حيث تأمرنا أن نسأل هذا الصبي أعظم علينا مما صنعت) (¬3). 30 - وكان عيسى يرضع فلما سمع كلامهم لم يزد على أن ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وأشار بسبابته فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وقال ابن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 328. (¬2) ذكر في "زاد المسير" 5/ 228، "البحر المحيط" 6/ 187، "الدر المصون" 7/ 594. (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 462، "الكشاف" 2/ 410، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 133، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 102.

31

عباس: (أقر بالعبودية على نفسه، وبربوبية الله أول ما تكلم) (¬1). {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} أي: حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة فيما قضى وسبق، وهذا إخبار عما سبق له مما هو كائن فيما بعد. وقال قوم: (أخبر عما حصل له؛ لأن الله تعالى علمه وهو في بطن أمه التوارة والحكمة والخط وجعله نبيا ينبئ عن الله، وكان كلامه في حال الرضاع معجزته، وذلك أن الله تعالى كمل عقله في ذلك الوقت). والأول قول عكرمة وجماعة (¬2). والثاني معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). 31 - قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} قال ابن عباس: (لأن أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته) (¬4). وقال مجاهد: (جعلني معلما للخير نفاعا) (¬5). وقال غيره: (بركته (¬6) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (¬7). {وَأَوْصَانِي} أمرني، وتقدم إلى {بِالصَّلَاةِ} بإقامتها {وَالزَّكَاةِ} أي: ¬

_ (¬1) ذكر نحوه "معالم التنزيل" 5/ 230، و"ابن كثير" 3/ 133، "القرطبي" 11/ 102، "فتح القدير" 3/ 332. (¬2) "جامع البيان" 16/ 80، "المحرر الوجيز" 9/ 464، "معالم التنزيل" 5/ 230، "ابن كثير" 3/ 133، "الدر المنثور" 4/ 487. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 323، "ابن كثير" 3/ 133، "زاد المسير" 5/ 229. والقول الأول أولى، وقد ضعف القول الثاني عدد من المفسرين، قال ابن عطية في "تفسيره" 11/ 29: وهذا في غاية الضعف. (¬4) "معالم التزيل" 3/ 195. (¬5) "جامع البيان" 16/ 81، "المحرر الوجيز" 9/ 464، "معالم التنزيل" 5/ 230، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 133، "زاد المسير" 5/ 229. (¬6) في (س): (تركته)، وهو تصحيف. (¬7) المراجع السابقة.

32

زكاة الأموال (¬1). وقيل: معنى الزكاة هاهنا: (طهارة الجسد من الذنوب واجتناب المعاصي) (¬2). 32 - {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} مطيعا لها لطيفا بها، وهو عطف على {مُبَارَكًا} (¬3). قال ابن عباس: (لما قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} ولم يقل: بوالدي علموا أنه شيء من الله) (¬4). {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا} متعظمًا يقتل ويضرب على الغضب (¬5). {شَقِيًّا} عاصيا لربه (¬6). 33 - قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ} قال أبو إسحاق: (لما جرى ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام كان الأحسن أن يذكر ثانية بالألف واللام، ومعنى السلام هاهنا: عموم العافيه؛ لأنه مصدر سَلَّمْتُ سَلاَمًا) (¬7). قال المفسرون: (السلامة عليَّ من الله تعالى يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان) (¬8). وهذا معنى ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-! قال: "ما من مولود يولد إلا ويطعن الشيطان في جنبه وذلك حين يستهل صارخا، إلا عيسى بن ¬

_ (¬1) المراجع السابقة. (¬2) "جامع البيان" 16/ 81، "المحرر الوجيز" 9/ 463. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 329، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 313، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 114. (¬4) "زاد المسير" 5/ 230، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 11/ 103. (¬5) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 124، "القرطبي" 11/ 103. (¬6) "جامع البيان" 16/ 82، "النكت والعيون" 3/ 371، "معالم التنزيل" 5/ 230، "زاد المسير" 5/ 230، "الدر المنثور" 4/ 488. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 329، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 124. (¬8) "الطبري" 16/ 82، "الماوردي" 3/ 371، "البغوي" 5/ 230، القرطبي 11/ 104.

34

مريم، فإنه ذهب يطعن فطعن في الحجاب" (¬1). والآية مفسرة في قصة يحيى في هذه السورة (¬2). قال ابن عباس والمفسرون: (كلمهم عيسى بهذا ثم سكت فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان) (¬3). 34 - قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} قال أبو إسحاق: (أي ذلك الذي قال {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} الآيات، هو عيسى بن مريم، لا ما يقول النصارى من أنه ابن الله وأنه إله) (¬4). {قَوْلَ الْحَقِّ} {الْحَقِّ} هاهنا يجوز أن يراد به الله تعالى، وهو قول مجاهد (¬5). ويرتفع (قَوْل) على أنه نعت لعيسى (¬6)، أي: ذلك عيسى بن مريم قول الله، أي: كلمته، والكلمة قول، ويجوز أن يضاف القول إلى الحق (¬7)، ومعناه: القول الحق، كما قيل: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95، الحاقة 51]، و {وَعْدَ الصِّدْقِ} [الأحقاف: 16]، و {الدَّارُ ¬

_ (¬1) أخرج نحوه البخاري في "صحيحه"، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} 3/ 1265، ومسلم، في الفضائل، باب فضل عيسى -عليه السلام- 4/ 1838، والإمام أحمد 2/ 553، والماوردي في "النكت والعيون" 3/ 371. (¬2) عند قوله سبحانه في الآية رقم (15): {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 323، "المحرر الوجيز" 9/ 466، "معالم التنزيل" 5/ 230، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 104، "الدر المنثور" 4/ 488. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 329. (¬5) "جامع البيان" 16/ 83، "النكت والعيون" 3/ 372، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 105 ذكره بدون نسبة. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 168، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 313، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 144، "الدر المصون" 7/ 598. (¬7) "جامع البيان" 16/ 83، "معاني القرآن" للفراء 2/ 168.

الْآخِرَةِ} [يوسف: 109] وعلى هذا يجوز أن يرتفع {قَوْلَ الْحَقِّ} على النعت لعيسى كما ذكرنا، ويجوز أن يرتفع على أنه خبر ابتداء مضمر (¬1)، دل عليه قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} والمعنى: هذا الكلام قول الحق، أي: هذا الذي ذكرنا من صفته، وأنه ابن مريم قول الحق، ومن قرأ: قَوْلَ الحق، بالنصب فهو نصب على المصدر (¬2)، أي: قال قول الحق. [وقال أبو علي: (أما النصب فهو أن قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} هو يدل على: أَحقُّ قَولَ الحَقّ] (¬3). وتقول: هذا زيدُ الحقّ لا الباطل؛ لأن قول هذا زيد، بمنزله أحُقُّ، كأنك قلت: أحُقُّ الحَقَّ، وأَحَقُّ قَولَ الحَقِّ) (¬4). ويكون على هذا التقدير اعتراضا بين الصفة والموصوف؛ لأن التقدير: ذلك عيسى بن مريم الذي فيه. وقال الفراء: (وإن نصبت القول وهو في النية من نعت عيسى كان صوابا، كأنك قلت: هذا عبد الله الأَسَدَ عَاديًا، كما تقول: أَسَدًا عَاديِا) (¬5). وقوله تعالى: {الَّذِي} هو هو من نعت عيسى {فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: يشكون فيختلفون، فيقول قائل: هو ابن الله، ويقول آخر: هو الله (¬6). ثم ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 83، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 114، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 201، "الدر المصون" 7/ 598. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: (قولُ الحق) رفعا. وقرأ عاصم، وابن عامر: (قولَ الحق) نصبا. انظر: "السبعة" ص 409، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 201، "التبصرة" ص 256. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 202. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 168. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 8، "جامع البيان" 16/ 83 - 84، "النكت والعيون" 3/ 372، "معالم التزيل" 5/ 231.

35

نفى عن نفسه اتخاذ الولد. 35 - فقال؛ {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} إن مع الفعل بمنزلة المصدر أي: ما كان له اتخاذ الولد على معنى أن ذلك ليس من صفته، ولا مما يليق به؛ لأن الولد مجانس للوالد، وكذلك من اتخذ ولدا إنما يتخذه من جنسه والله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يكون له ولد، ولا أن يتخذ ولدا، وذكر ابن الأنباري في هذا وجهين: أحدهما: (أن هذه من المقلوب على معنى ما كان للولد أن يتخذه الله، فدخلت اللام في غير موضعها على مذهب العرب في الاتساع وقد تقدم لهذا نظائر. والثاني: أن المعنى ما كان ينبغي لله أن يتخذ من ولد، فنابت اللام عن الفعل الذي هو ينبغي، وتأويل لا ينبغي: لا يصلح ولا يستقيم) (¬1). وقوله تعالى: {مِنْ وَلَدٍ}: {مِنْ} زائدة مؤكدة لاستغراق الجنس، فلا يجوز أن يتخذ ولدا واحدا ولا أكثر، هذا معنى قول الزجاج: ({مِنْ} مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة) (¬2). ثم نزه نفسه عن مقالتهم بقوله سبحانه، ثم بين السبب في كون عيسى من غير أب فقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: إذا أراد أن يحدث ولدا من غير أب {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} كما فعل بآدم إذ خلقه من غير أب ولا أم، وهو قوله تعالى: {مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل ¬

_ (¬1) ذكر نحوه بلا نسبة في "المحرر الوجيز" 9/ 469، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 107. (¬2) "معاني القرآن للزجاج" 3/ 329. وقول الزجاج أولى من القول بالزيادة، وذلك أدبًا مع كتاب الله -عز وجل- فإن وجل فإن كل حرف ورد فيه يقصد به معنى من المعاني.

36

عمران: 59]، والمعنى: أن كون عيسى إنما كان بقضاء الله وإرادته، وإذا أراد أمرا لم يتعذر عليه، وأوجده على الوجه الذي أراده، والكلام في مثل هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] الآية. 36 - قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} الآية. ذكر الفراء في فتح {أَن} ثلاثة أوجه أحدها: العطف على عيسى بن مريم، بتأويل ذلك عيسى بن مريم، وأن الله ربي وربكم، فيكون في موضع رفع. والثاني: ولأن الله ربي ربكم [فاعبدوه، فيعمل فيه فاعبدوه] (¬1) وهذا الوجه اختيار أبي علي (¬2). وروي وجه رابع عن أبي عمرو بن العلاء وهو: أن المعنى وقضى الله ربي وربكم (¬3)، ومن كسر استأنف الكلام وجعله معطوفا على المستأنف قبله وهو (¬4) قوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ويجوز أن يكون استئنافًا بالواو من غير عطف، ويؤكد هذا الوجه ما روي في قراءة أبي: أن الله ربي وربكم، بغير واو (¬5). وعلى الأوجه كلها الآية من كلام عيسى لقومه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخه (س). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 203. (¬3) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 315، " الجامع لأحكام القرآن" 11/ 108، "البحر المحيط" 6/ 190. وقال السمين الحلبي في "الدر المصون" 7/ 600: واستبعد الناس صحة هذا النقل عن أبي عمرو؛ لأنه من الجلالة في العلم والمعرفة بمنزلة يمنعه من هذا القول، وذلك لأنه إذا عطف على (أمرا) لزم أن يكون داخلا في حيز الشرط به (إذا) وكونه تبارك ربنا لا يتقد يشترط البته. (¬4) في (س): (وهذا). (¬5) "جامع البيان" 16/ 85، "بحر العلوم" 2/ 324، "الكشاف" 2/ 411، "البحر المحيط" 6/ 189، "معاني القرآن" للفراء 2/ 168.

37

قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة. 37 - قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} يعني: فرق النصاري اختلفوا في عيسى فقال بعضهم: هو الله (¬1)، وقال بعضهم: ابن الله (¬2)، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة (¬3). قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِهِمْ} أي: بينهم، ومن زائدة. قال المفسرون: (كانوا أحزابا متفرقين {بَيْنِهِمْ} في أمر عيسى) (¬4). {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} فشدة عذاب للذين كفروا بالله بقولهم في المسيح بأنه ابن الله وأنه إله {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: من حضور ذلك اليوم، والمشهد مصدر يراد به [الشهود، والمعنى: ويل لهم إذا جاءت القيامة (¬5). ¬

_ = واختلف القراء في قراءة هذه الآية: فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: (وأن الله ربي) بنصب الألف. وقرأ ابن عامر، وعاصم، حمزة، والكسائي: (وإن الله) بالكسر. انظر: "السبعة" ص 410، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 202، "المبسوط في القراءات" ص 243، "النشر" 2/ 318. (¬1) وهم اليعقوبية. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 8، "جامع البيان" 16/ 85 - 86، "بحر العلوم" 2/ 324، "المحرر الوجيز" 9/ 471، "زاد المسير" 5/ 232. (¬2) وهم النسطورية. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 9، "جامع البيان" 16/ 86، "وبحر العلوم" 2/ 324، "معالم التنزيل" 5/ 231، "الدر المنثور" 2/ 488. (¬3) وهم الإسرائيلية من ملوك النصارى. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 9، "جامع البيان" 16/ 86، "المحرر الوجيز" 9/ 471، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135. (¬4) "جامع البيان" 16/ 86، "المحرر الوجيز" 9/ 471، "معالم التنزيل" 5/ 231، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135. (¬5) "جامع البيان" 16/ 86، "المحرر الوجيز" 9/ 471، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135.

38

ويجوز أن يكون الحضور لهم وأضيف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما تقول: ويل لفلان] (¬1) من قتال يوم كذا، والمعنى: ويل لهم حضورهم ذلك وشهودهم إياه للجزاء والحساب (¬2). 38 - قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} قال قتادة: (ذلك والله يوم القيامة سمعوا حين لم ينفعهم السمع وأبصروا حين لم ينفعهم البصر) (¬3). وقال ابن عباس، والسدي وجميع المفسرين: (ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة) (¬4). وقال الكلبي: (يقول: ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة، وأطوعهم أن عيسى ليس الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة) (¬5). فجعل السمع هاهنا بمعنى الطاعة وهو حسن. وقال الحسن: (لئن كانوا في الدنيا صما عميا عن الحق فما أبصرهم به وأسمعهم يوم القيامة) (¬6). {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يعني أن الكافرين والمشركين ضلوا في الدنيا، وعموا عن الحق وآثروا الهوى على الهدى. وقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} لفظ التعجب كما قالوا في تفسيره: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬2) "الكشاف" 2/ 411، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 108، "البحر المحيط" 6/ 190، "فتح القدير" 3/ 477. (¬3) "جامع البيان" 16/ 86، "النكت والعيون" 3/ 373، "الدر المنثور" 4/ 489، "البحر المحيط" 6/ 191. (¬4) "جامع البيان" 16/ 87، "المحرر الوجيز" 9/ 472، "معالم التنزيل" 5/ 232، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135، "زاد المسير" 5/ 163. (¬5) "معالم التنزيل" 3/ 232، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 108، "الكشف والبيان" 3/ 7 أ. (¬6) "النكت والعيون" 3/ 373.

39

ما أسمعهم وأبصرهم (¬1)، وللتعجب لفظان أحدهما: ما أكرم زيدا، وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، والثاني: أكرم يزيد وأسمع بهم وأبصر. قال أبو علي: (وهذا مثال الأمر أقيم مقام الخبر، والمعنى: اسمعوا وأبصروا أي: صاروا ذوي سماع وإبصار، فوقع مثال الأمر هاهنا موقع الخبر، كما وقع مثال الخبر موقع الأمر في الدعاء في مثل: غفر الله لزيد، وقطع الله يد فلان، وسلام عليك، وخير بين يديك ونحوه مما يراد به الدعاء، وهو على لفظ الخبر، ومثل هذا مما جاء في التنزيل قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] فهذا لفظه كلفظ أمثلة الأمر ومعناه الخبر، ألا ترى أنه لا وجه للأمر هاهنا وأن المعنى: يمده الرحمن مداد، ويدلك على أن المراد في هذا الخبر أن السمع والبصر وغيرهما من الأحداث لا يخاطب ولا يؤمر ولا ينهي، فليس للأمر هاهنا معنى ولا متوجه) (¬2). وموضع الباء مع ما بعدها من المنجر في قولك أكرم يزيد رفع، كما أن الباء في: {وَكَفَى بِاللَّهِ} (¬3) كذلك، وذلك أن المتعجب منه وقع موقع الفاعل، وفاعل هذا الفعل المتعجب منه، فلذلك قلنا إن الجار مع المجرور في موضع رفع. 39 - قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أي: خوف يا محمد كفار مكة يوم الندامة يتحسر المسيء هلا أحسن العمل، والمحسن هلا إزداد من ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 316، " إملاء ما من به الرحمن" 1/ 114. (¬2) ذكره مختصرًا في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 205. (¬3) وردت في مواطن كثيرة ومنها ما ورد في سورة النساء الآية رقم: (6).

الإحسان. وقال أكثر أهل التأويل: (يعني الحسرة حين يذبح الموت بين الفريقين، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فلو مات أحد فرحا لمات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا لمات أهل النار) (¬1). قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تخليد أهل النار فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك) (¬2). وهذا يروى مرفوعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3). قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} هو أي: فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. والمعنى: إذ يقضى الأمر؛ لأنه لم ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 472، "النكت والعيون" 3/ 374، "معالم التنزيل" 5/ 232، "زاد المسير" 5/ 233، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 109. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 374، "الكشف والبيان" 3/ 7 أ. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أهل النار النار وأدخل أهل الجنة الجنة يجاء بالموت كأنه كبش أملح فينادي منادي: يا أهل الجنة تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون وكل قد رأوه فيقولون: نعم هذا الموت، ثم ينادي: يا أهل النار تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، وكلهم قد رأوه فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤخذ فيذبح، ثم ينادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فذلك قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} قال: أهل الدنيا في غفلة". أخرجه البخاري في "كتاب التفسير" سورة مريم 6/ 117، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4/ 2188، والترمذي في جامعه كتاب: التفسير سورة مريم 12/ 14، والدرامي كتاب: الرقائق، باب: ذبح الموت 2/ 329، وأحمد في "مسنده" 3/ 9، والنسائي في "تفسيره" 2/ 30، والطبري في "جامع البيان" 16/ 87، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 489 وزاد في نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

40

يأت بعد إلا أن ما كان من أحكام الآخرة يذكر بلفظ الماضي فىِ القرآن؛ لأنها كأنها قد وقعت حيث هي كائنة لا شك، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50]. وقال ابن جريج في قوله: ({إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} إذ ذبح الموت) (¬1). وقال مقاتل بن سليمان: (إذ قضي لهم العذاب في الآخرة وهم في الدنيا في غفلة) (¬2). وقوله تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وقال ابن عباس: (يريد في الدنيا) (¬3). وهذا استئاف إخبار عنهم أنهم في غفلة عن ذلك اليوم وأحكامه. ثم أخبر عن كفرهم بذلك اليوم فقال: {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: (لا يصدقون بالبعث) (¬4). وقال السدي: (وهم في غفلة في الدنيا عما يصنع الموت ذلك اليوم، وهم لا يؤمنون بما يصنع بالموت ذلك اليوم) (¬5). 40 - قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} أي: نميت سكانها فنرثها ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 88، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 139، "زاد المسير" 5/ 234، "البحر المحيط" 6/ 191. (¬2) "زاد المسير" 5/ 234، "البحر المحيط" 6/ 191. (¬3) ذكره بدون نسبة "المحرر الوجيز" 9/ 473، و"تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 16، "البحر المحيط" 6/ 191. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 88، "بحر العلوم" 2/ 324، "معالم التنزيل" 5/ 232، "زاد المسير" 5/ 234، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135، "لباب التأويل" 4/ 247. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 232، "زاد المسير" 5/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135، "البحر المحيط" 6/ 191.

41

ومن عليها لأني أميتهم وأهلكهم (¬1)، وهذا كقوله: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]، وذكرنا الكلام فيه. {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} بعد احيائنا إياهم للثواب والعقاب. وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} كقولك لغيرك: أرثك وأرث مالك. أي: تموت فينتقل إلى مالك. والمعنى: أنهم يموتون وتبقى الأرض لا مالك لها إلا الله -عز وجل-. 41 - قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} اقصص عليهم قصته. قال ابن عباس: (اذكر لقومك إبراهيم فقد انتهى إليهم دينه، وعرفوا أنهم من ولده، وأنه كان حنيفا مسلما) (¬2). وهو معنى قوله: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} والصديق: اسم للمبالغ في الصدق. وقد مر (¬3). 42 - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} سبق الكلام في هذه التاء في (أبت) في أول سورة يوسف (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 232، "زاد المسير" 5/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 109، "فتح القدير" 3/ 477. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 110، "التفسير الكبير" 21/ 223، "روح البيان" 5/ 336. (¬3) عند قوله سبحانه في سورة يوسف الآية رقم: (46): {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} الآية. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة يوسف الآية رقم: (4): {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. (¬5) قال الزمخشري في "الكشاف" 2/ 412: انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التميز ومن الغباوة التي يشير بعدها غباوة، كيف رتب الكلام =

43

{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} يعني الصنم (¬1)، وبخه على عبادته شيئا لا سمع له ولا بصر {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} لا يدفع عنك ضرًا ولا يكفيك شيئا. 43 - {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} قال ابن عباس: (من اليقين والمعرفة بالله) (¬2). قال أبو إسحاق: (وهذا يدل على أنه كان قد آتاه الوحي) (¬3). {فَاتَّبِعْنِي} الآية قال ابن عباس: (يريد اتبعني على جاءني من ربي أرشدك إلى دين مستقيم) (¬4). {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} قال ابن عباس: (لا تطعه) (¬5). قال أبو إسحاق: (معنى عبادة الشيطان: طاعته فيما يسول من الكفر والمعاصي) (¬6). والمعنى أن عبادتك الصنم عبادة الشيطان؛ لأن من أطاع شيئاً في معصية الله فقد عبده. 44 - {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} قيل: كان زائدة. وقيل: أنه بمعنى صار (¬7). والصحيح: أنه بمعنى الحال (¬8). أي: كائن كما ذكرنا في ¬

_ = معه في أحسن إتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا. (¬1) "جامع البيان" 16/ 89، "المحرر الوجيز" 9/ 476، "معالم التنزيل" 5/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111. (¬2) ذكره بدون نسبة "البغوي" 5/ 234، و"القرطبي" 11/ 111. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 332. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 325، "المحرر الوجيز" 9/ 476، "معالم التنزيل" 5/ 234، "ابن كثير" 3/ 137، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: المراجع السابقة، "زاد المسير" 5/ 236. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 332. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111. (¬8) "معالم التنزيل" 5/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111.

45

قوله: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ} [مريم: 8] الآية. والعصي: بمعنى العاصي على فعيل مثل القادر والقدير وبابه. 45 - {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} أخشى أن يصيبك عذاب الله بطاعتك الشيطان {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} قرينا في النار. قال الفراء: ({أَخَافُ} أي: أعلم، كقوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80]، أي: فعلمنا) (¬1). 46 - فقال أبوه مجيبا له: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} أي: أتاركها أنت وتارك عبادتها، يقال: رغب عن الشيء إذا تركه عمدا (¬2). {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} لم تمتنع عن شتمها وعيبها، ومعنى الإنتهاء: الامتناع من الفعل المنهي عنه، يقال: نهاه عن كذا فانتهى (¬3). وقوله تعالى: {لَأَرْجُمَنَّكَ} (لأرمينك بالقول القبيح وأشتمك)، قاله الضحاك، ومقاتل، والسدي، والكلبي، ومجاهد، وابن جريج (¬4). واختيار الزجاج قال: (يقال: فلان يرمي فلانا، ويرجم فلانا معناه: يشتمه) (¬5). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (لأقتلنك) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 169. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (رغب) 2/ 1432، "مقاييس اللغة" (رغب) 2/ 415، "القاموس المحيط" (رغب) ص 90، "المفردات" (رغب) ص 198. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (نهى) 4/ 3680، "الصحاح" (نهى) 6/ 2517، "المفردات في غريب القرآن" (نهى) 507، "لسان العرب" (نهى) 8/ 4564. (¬4) "جامع البيان" 16/ 91، "النكت والعيون" 3/ 374، "المحرر الوجيز" 9/ 478، "معالم التنزيل" 5/ 234، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 332. (¬6) ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 478 بدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 325.

وقال الحسن: (لأرمينك بالحجارة حتى تبعد عني) (¬1). وهذا كما روي عن ابن عباس أنه قال: (لأضربنك بالحجارة) (¬2). وذكرنا الكلام في معاني الرجم عند قوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]. وقوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} ويقال: هَجَرَ الرجل هَجْرًا إذا تباعد ونأى، وهَجَرَ في الصوم يَهْجُرُ هِجْرَانًا، قاله أبو زيد (¬3). قال ابن عباس: (واعتزلني) (¬4). وقال الكلبي: (واتركني) (¬5). {مَلِيًّا} قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد حينا) (¬6). وهو قول مجاهد (¬7). وقال عكرمة: (دهرا) (¬8). وقال الحسن: (زمانا طويلا) (¬9). وهو قول الكلبي (¬10). وقال السدي: (أبدا) (¬11). ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 374، "المحرر الوجيز" 9/ 478، "معالم التنزيل" 5/ 2354، "زاد المسير" 5/ 237، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111. (¬3) "تهذيب اللغة" (هجر) 4/ 3717، "لسان العرب" (هجر) 8/ 4617. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 7 ب، "معالم التنزيل" 5/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 111، "لباب التأويل" 4/ 248. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 7 ب، وذكر نحوه "معالم التنزيل" 5/ 234. (¬6) "النكت والعيون" 3/ 374، "زاد المسير" 5/ 237، "فتح القدير" 3/ 337. (¬7) "جامع البيان" 16/ 91، "النكت والعيون" 3/ 374، "المحرر الوجيز" 9/ 478، "معالم التنزيل" 5/ 234، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137. (¬8) "النكت والعيون" 3/ 374، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 127. (¬9) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 10، "جامع البيان" 16/ 91، "النكت والعيون" 3/ 374، "المحرر الوجيز" 9/ 478، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137. (¬10) "جامع البيان" 16/ 91، "الكشف والبيان" 3/ 7، "معالم التنزيل" 5/ 234، "الدر المنثور" 4/ 491. (¬11) "جامع البيان" 16/ 91، "بحر العلوم" 2/ 325، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137.

قال الليث: (الملِيُّ من الدهر حين طويل، ويقال: أقام مَلِيًا) (¬1). وقال الفراء: (يقال: مَلْوَةً من الدهر، ومُلْوَةً، ومِلْوَةً، ومُلاَوَةً، ومِلاَوَةً وكله من الطول) (¬2). والله يُمْلِي من يشاء فيؤجله ومنه قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ} (¬3)، قال الأصمعي: (وأَمْلَى عليه الزمن أي: طال عليه، وَأمْلِي له أي: طول له وأمهله) (¬4). قال ابن السكيت: (تَمَلَّيْت العيش: إذا عشت مَلِيًّا؛ أي: طويلًا (¬5). قال العجاج (¬6): مُلاَوَةَ مُلِّيْتُهَا كَأَنِي ... ضَارِبُ صَنْجِ نَشْوَةٍ مُغَنِّي مَلَّيتها؛ أي: طولت لي، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] وقال أبو علي الفارسي: (قالوا انتظرته مَلِيًا من الدهر، أي: متسعا منه، وهو صفة استعمل استعمال الأسماء، والمَلأَة من هذا الزيادة عرضها واستاعها، والهمزة فيه منقلبة عن حرف لين، يريد به سقوطها في التحقير، ¬

_ (¬1) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر (ملا) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3438، "القاموس المحيط" 4/ 52، "تاج العروس" 1/ 252، "اللسان" 7/ 4273. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 169. (¬3) سورة الأعراف: (183)، وسورة القلم: (45). (¬4) "تهذيب اللغة" (ملا) 4/ 3438، "لسان العرب" (ملا) 47/ 273. (¬5) انظر: "لسان العرب" (ملا) 7/ 4273، "تاج العروس" (ملا) 1/ 252. (¬6) البيت للعجاج. والصَّنْجُ: هو الذي يتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر، وقيل الصنج: ذو الأوتار الذي يلعب به. انظر: "تهذب اللغة" (ملا) 4/ 3438، "لسان العرب" (ملا) 7/ 4273.

47

ولو كانت الهمزة لاما لم تسقط) (¬1). وروي عن ابن عباس في قوله: {مَلِيًّا} قال: (سالم العِرض لا يصيبك مني مكروه) (¬2). وهو قول قتادة، وعطية، والضحاك قالوا في معنى {مَلِيًّا} قال: (سويا سليما) (¬3). وأصل هذا من قولهم: فلان مَلِئٌ بهذا الأمر. والقول هو الأول؛ لأن الملي بالأمر أصله الهمز (¬4). قال أبو زيد: (مَلُؤ الرجل، يَمْلُؤُ، مَلاَءَة فهو مَلِئ) (¬5). ولم يروى عن القراء: (وَأهْجُرنِى مليئًا) بالهمز. 47 - فقال إبراهيم مجيبا لأبيه: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه (¬6). وذلك أنه لا يؤمر بقتاله على كفره فلذلك قال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} وسئل سفيان بن عيينة: (أيجوز السلام على أهل الذمة؟ فقال: نعم، إنما حضر ذلك في دار الحرب، فأما في السلم فلا، وقد قال الله ¬

_ (¬1) ذكر نحوه في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 102. (¬2) "جامع البيان" 16/ 92، "النكت والعيون" 3/ 374، "المحرر الوجيز" 9/ 479، "معالم التنزيل" 5/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 10، "جامع البيان" 16/ 92، "بحر العلوم" 2/ 325، "النكت والعيون" 3/ 374، "معالم التنزيل" 5/ 235. (¬4) قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 92: وأولى القولين بتأويل الآية عندي قول من قال: معنى ذلك واهجرني سويا سليما من عقوبتي؛ لأنه عقيب قوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيء والذي هو أولى بأن يتبع ذلك المتقدم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له. (¬5) "تهذيب اللغة" (ملا) 4/ 3438. (¬6) "جامع البيان" 6/ 92، "النكت والعيون" 3/ 375، "المحرر الوجيز" 9/ 480، "معالم التنزيل" 3/ 198، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137.

تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} [الممتحنة: 8] الآية، وقال في قصة إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4]، فاستثنى الاستغفار، ولم يستثن السلام) (¬1). وقد قال إبراهيم: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} سأدعو لك ربي بالمغفرة والتوبة، وذلك أنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله في بابه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفرله، واستغفاره له يتضمن مسألة التوحيد؛ لأنه لا يغفر له ما ثبت على شركه، ألا ترى أن الله تعالى قال: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] أي: لما مات على شركه ترك الاستغفار له. والمعنى على هذا سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته (¬2). وقيل: (أنه وعد أباه الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور على المصر على الكفر فلما أعلمه الله، (¬3) ما فيه قطع الاستغفار وبريء من أبيه) (¬4). قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} قال ابن عباس، ومقاتل: (لطيفا بارا)] (¬5). وهو قول أكثر المفسرين. ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي 11/ 11 أو قال: والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية، وقال النقاش: حليم خاطب فيها كما قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}. (¬2) "بحر العلوم" 325/ 2، "النكت والعيون" 3/ 375، "المحرر الوجيز" 9/ 480، "معالم التنزيل" 5/ 235، "زاد المسير" 5/ 237. (¬3) من قوله: (وموضع الباء مع ما بعدها ..) إلى هنا ساقط من (س). (¬4) "المحرر الوجيز" 9/ 480، "ابن كثير" 3/ 137، "فتح القدير" 3/ 483. ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]. (¬5) "جامع البيان" 16/ 92، "ابن كثير" 3/ 137، "زاد المسير" 5/ 238، "فتح القدير" 3/ 337. وما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

قال الزجاج: (يقال: تَحَفَّى به تَحَفِّيًا، وحَفِي به حَفْوَة إذا بره وألطفه) (¬1). وقال الكلبي: ({حَفِيًّا}: عالما) (¬2). وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). قال جابر: (معينا) (¬4). وذكر الفراء القولين جميعا (¬5). والكلام في هذا قد مر مستقصى في قوله: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187]. قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ} أي: أتنحى عنكم وأفارقكم. يقال: عَزَلْتُه عن الشيء نحيته عنه فَاعْتَزَل (¬6). وقوله تعالى: {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: أعتزل ما تعبدون من دون الله يعني: الأصنام (¬7). {وَأَدْعُو رَبِّي} أعبده {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أرجو أن لا أشقى بعبادته، وفي هذا إشارة إلى أنهم شقوا بعبادة الأصنام؛ لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 333. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 375، "معالم التنزيل" 5/ 235. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 7، "معالم التنزيل" 5/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 113. (¬4) ذكره أبو حيان في "النهر المارد" بدون نسبة 1/ 392، وكذلك ابن سعدي في "تيسير الكريم الرحمن" 5/ 113. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 169. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (عزل) 5/ 2930، "مقاييس اللغة" (عزل) 4/ 307، "المفردات في غريب القرآن" (عزل) 334، "مختار الصحاح" (عزل) 430. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 236، "المحرر الوجيز" 9/ 481، "زاد المسير" 5/ 238. (¬8) "معالم التنزيل" 5/ 239، "زاد المسير" 5/ 238.

49

49 - {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هاجرهم بالخروج إلى ناحية الشام (¬1). {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله (¬2). {وَكُلًّا} من هذين {جَعَلْنَا نَبِيًّا}. 50 - قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} قال الكلبي: (المال والولد) (¬3). وهو قول الأكثرين قالوا: (رحمته ما بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق) (¬4). فقوله: {مِنْ رَحْمَتِنَا} في محل النصب بوقوع الهبة عليه. وقال آخرون: (يعني الكتاب والنبوة) (¬5). {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ} أي: ثناء حسنا في الناس {عَلِيًّا} مرتفعا سائرا في الناس (¬6). وكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم، واللسان يذكر ويراد به: القول واللغة، وإضافته إلى الصدق مدح له، والعرب إذا مدحت شيئًا أضافته إلى الصدق يقال: فلان رجل صدق. قال الله تعالى: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]. وقال: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2]، وتقول العرب: إن لسان الناس عليه لحسنة، وحسن، أي: ثناؤهم، يقولون: إن شفة الناس عليك لحسنة (¬7). 51 - قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} قال ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 9/ 481، "الكشاف" 2/ 413، "زاد المسير" 5/ 328. (¬2) "جامع البيان" 1/ 936، "زاد المسير" 5/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 113. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 236، "الكشاف" 2/ 414، "زاد المسير" 5/ 838. (¬4) "جامع البيان" 16/ 93، "المحرر الوجيز" 9/ 481، "معالم التنزيل" 5/ 236. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 236، "فتح القدير" 3/ 483. (¬6) "جامع البيان" 16/ 93، "المحرر الوجيز" 9/ 481، "معالم التنزيل" 5/ 236، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 138، "زاد المسير" 5/ 240. (¬7) "تهذيب اللغة" (لسن) 4/ 3262.

52

الكلبي: (أخلص العبادة والتوحيد لله تعالى (¬1). أي: جعلها خالصة من شائبة تفسدها. وقال الزجاج: (جعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسه) (¬2). ومن قرأ: {مُخْلَصًا} بالفتح (¬3). فهو الذي أخلصه الله وجعله مختارا خالصا من الدنس، فحجة من كسر اللام قوله: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146]، وحجة من فتحها قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]. 52 - وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ} قال ابن عباس: (يريد حيث أقبل من مدين (¬4)، ورأى النار في الشجرة، وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر، فلما انتهى إلى الشجرة ناداه الله) (¬5). وهو قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 94، "معالم التنزيل" 5/ 236، "زاد المسير" 5/ 240، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 138، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 114، "التفسير الكبير" 21/ 231. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 333. (¬3) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية الكسائي عن أبي بكر والمفضل عن عاصم: (مُخْلِصًا) بكسر اللام. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية يحيى عن أبي بكر، وحفص عنه: (مُخْلَصا) بفتح اللام. انظر: "السبعة" 410، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 252، "المبسوط في القراءات" ص 244، "حجة القراءات" ص 445. (¬4) مدين: مدينة على البحر الأحمر، محاذية لتبوك من الجنوب على نحو ست مراحل، وكانت منازل العاربة من طسم، وجديس، وأميم، وجرهم، وقد هلك من هلك من بقايا العاربة بمدين، وخلفهم فيها بنو قحطان ابن عابر فعرفوا بعرب مدين. انظر: "محجم البلدان" 5/ 77، "معجم ما استعجم" 4/ 1201، "نهاية الأرب" ص 19. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظ: "تفسير القرآن العظيم" 3/ 110، "البحر المحيط" 6/ 199، "مجمع البيان" 5/ 800، "روح البيان" 5/ 339. =

الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] وقوله تعالى: {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} أي: من ناحية الجبل، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه: زبير (¬1). وقوله تعالى: {الْأَيْمَنِ} قال الكلبي: (يعني يمين موسى، ولم يكن للجبل يمين ولا شمال) (¬2). ونحو هذا قال الفراء وقال: (إنما هو الجانب الذي يلي يمين موسى، كما تقول: عن يمين القبلة وشمالها) (¬3). {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي: مناجيا، والنجي بمعنى: المناجي كالجليس، والنديم، قاله الفراء، والزجاج (¬4). وقد يكون النجي اسما ومصدرًا، وذكرنا ذلك عند قوله: {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد قربه الله وكلمه) (¬5). وهذا قول جماعة جعلوا معنى هذا التقريب أن أسمعه كلامه (¬6). وهو قول أبي عبيدة، واختيار الزجاج قال: (قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاة الله وهي كلام الله -عزوجل-) (¬7). ¬

_ = ويشهد لهذا ما ورد في سورة القصص الآية رقم: (30): {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 236، "زاد المسير" 5/ 240، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 58، "التبيان في أقسام القرآن" 165، "فتح القدير" 3/ 483. (¬2) ذكره بدون نسبة "بحر العلوم" 2/ 326، و"النكت والعيون" 3/ 376، "المحرر الوجيز" 9/ 482، "معالم التنزيل" 5/ 236. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 169. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 333، "معاني القرآن" للفراء 2/ 169. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 236. (¬6) "بحر العلوم" 1/ 326، "النكت والعيون" 3/ 376، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 114. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 333.

53

قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (قربه حتى سمع صريف القلم حين كتب في اللوح) (¬1). وهو قول الكلبي، ومجاهد (¬2). وقال الحسن: (أدخل في السماء الدنيا فكلم) (¬3). 53 - قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} أي: من نعمتنا {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}. قال ابن عباس: (يريد حيث سألني) (¬4). فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29 - 30] الآية. [قال الكلبي: (وكان معه وزيرا) (¬5). و {نَبِيًّا} منصوب بوهبنا على تقدير ووهبنا له من رحمتنا نبيا أخاه هارون] (¬6) على أن تجعل أخاه بدلا من نبيا، ولا يجوز أن تجعل أخاه منصوبا بوهبنا؛ لأنه لم يسأل الله أن يهب له أخا إنما سأله أن يشرك أخاه في نبوته ويجعله وزيرًا [له ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 94، "النكت والعيون" 3/ 376، "المحرر الوجيز" 9/ 485، "معالم التنزيل" 5/ 237، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 128. (¬2) "جامع البيان" 16/ 95، "بحر العلوم" 2/ 326، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 138، "الدر المنثور" 4/ 492. (¬3) ذكرته كتب التفسير ونسبته للسدي. انظر: "بحر العلوم" 2/ 326، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 138، "أضواء البيان" 4/ 297. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 7 ب، "معالم التنزيل" 5/ 237، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 138، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 114، "التفسير الكبير" 21/ 231. ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة القصص الآية رقم (34): {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 326، " المحرر الوجيز" 9/ 485، "لباب التأويل" 4/ 249، "روح البيان" 5/ 339. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

54

فوهبه الله ذلك بأن] (¬1) أكرم أخاه بالنبوة (¬2). يدل على هذا ما روى عكرمة عن ابن عباس قال. (هارون أكبر من موسى [وإنما وهبت له نبوته)] (¬3) (¬4). 54 - قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} قال مجاهد: (لم يعد شيئا إلا وفي به) (¬5). قال مقاتل: (أقام ينتظر إنسانا لميعاد ثلاثة أيام) (¬6). وقال الكلبي: (أقام حتى حال عليه الحول) (¬7). وقال عطاء عن ابن عباس: (وعده إنسان أن يعود إليه فأقام ولم يبرح من مكانه، وكان في ضميره أن لو أقام سنة لم يخلفه موعده، حتى أتاه جبريل فقال: إن الفاجر الذي سألك أن تقعد حتى يعود إليك هو إبليس، فلا تقعد ولا كرامة) (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬2) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 319، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 115. (¬3) "جامع البيان" 16/ 71، "الكشاف" 2/ 414، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 138، "فتح القدير" 3/ 483. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬5) "بحر العلوم" 2/ 326، "معالم التنزيل" 5/ 237، "زاد المسير" 5/ 245. (¬6) "بحر العلوم" 2/ 326، "النكت والعيون" 3/ 376، "معالم التنزيل" 5/ 237، "زاد المسير" 5/ 240. (¬7) "بحر العلوم" 3/ 326، "معالم التنزيل" 5/ 237، "الكشف والبيان" 3/ 8/ أ. وذكره ابن عطية في "تفسيره" 9/ 485 بدون نسبة، وقال: وهذا بعيد غير صحيح. والراجح في ذلك قول مجاهد -رحمه الله- فإن إسماعيل لم يعد شيئًا إلا وفي به، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 115 أو قال: وهذا بعيد ولا يصح. وذكر نحوه الماوردي في "تفسيره" 3/ 376، والزمخشري في "كشافه" 2/ 414، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 240.

55

فسماه الله صادق الوعد {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قال: (أرسل إلى جرهم) (¬1) (¬2) 55 - وقوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} قال ابن عباس: (يريد قومه) (¬3). قال الزجاج: (أهله جميع أمته، ممن كانت بينه وبينهم قرابة أو لم يكن، وكذلك أهل كل نبي أمته) (¬4)؛ لأن كل نبي (¬5) فهو بمنزلة الأب لأمته فإذا كانت الأمة كالأولاد له (¬6) فهم أهله. قاله مقاتل (¬7). نظيره: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] أي: قومك. وقوله تعالى: {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} قال ابن عباس: (يريد التي افترضها الله عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا) (¬8). {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ ¬

_ (¬1) جرهم: بطن من القحطانية كانت منازلهم باليمن ثم انتقلوا إلى الحجاز فنزلوه ثم نزلوا مكة واستوطنوها، وكانوا ملوكًا في الحجاز حتى نزل إسماعيل عليه السلام مكة نزلوا عليه، وتزوج منهم، واستولت جرهم على البيت، ثم تفرقت قبائل العرب بسيل العرم، ونزلت عليهم حزاعة وأخرجت جرهما من مكة. انظر: "معجم قبائل العرب" 1/ 183، "الأنساب للسمعاني" 2/ 47، "نهاية الإرب" ص211، "المنتخب في ذكر أنساب العرب" ص 172. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 237، "زاد المسير" 5/ 240، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 116، "فتح القدير" 3/ 483. (¬3) ذكر في كتب التفسير بدون نسبة انظر: "بحر العلوم" 2/ 326، "النكت والعيون" 3/ 377، "معالم التنزيل" 5/ 237، "زاد المسير" 5/ 140. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 333. (¬5) في (س): (شيء)، وهو تصحيف. (¬6) قوله: (له)، ساقط من نسخة (س). (¬7) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 237، "زاد المسير" 5/ 240، "البحر المحيط" 6/ 199، "روح المعاني" 16/ 100، "أنوار التنزيل" 4/ 10. (¬8) "معالم التنزيل" 5/ 240.

56، 57

مَرْضِيًّا} قال: (يريد قام لله بطاعته) (¬1). قال الزجاج: (ويقال: فلان مَرْضُو، ومَرْضِي، وأَرْضٌ مَسْنُوَّة ومَسْنِية إذا سقيت بالسواني، والأصل الواو إلا أنها قلبت عند الخليل؛ لأنها طرف) (¬2). وقال الفراء: (الأصل الواو بدليل الرِّضْوَان، والذين قالوا مَرْضِيَّا بنوه طى رَضِيْت أَرْضِي، أصله رَضَوْت أَرْضُو فصارت الواو في رَضَوْت ياء لإنكسار ما قبلها، وغلبت الفتحة على الواو من أَرْضُو فجعلتها (¬3) ألفا وبني مَرْضِي على رَضِيْت. هذا مذهب الفراء (¬4). 56، 57 - قوله تعالى في ذكر إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال ابن عباس في رواية عطاء: (يعني الجنة) (¬5). والقصة في كيفية ذلك معروفة. وروى أنس بن مالك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 237، "لباب التأويل" 4/ 249، "التفسير الكبير" 11/ 232، "روح البيان" 5/ 341. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 334. (¬3) في (س): (فجعلها). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 170. (¬5) ذكرته كتب التفاسير من غير نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 326، "معالم التنزيل" 5/ 238، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 140، "زاد المسير" 5/ 241. (¬6) أخرج البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة 4/ 77، ومسلم في صحيحه كتاب: الإيمان، باب: الإسراء 1/ 149، والترمذي كتاب: التفسير، سورة مريم 12/ 14، وأحمد في "مسنده" 3/ 270، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 11/ 533 والحاكم في "المستدرك" 2/ 373 وصححه ووافقه الذهبي، وابن جرير الطبري في "تفسيره" 16/ 96، وابن كثير "تفسيره" 3/ 140، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 494 وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، وعبد بن حميد.

58

ونحو ذلك روى أبو سعيد الخدري (¬1). وهو قول كعب، ومجاهد قال: (رفع إلى السماء الرابعة ولم يمت كما رفع عيسى) (¬2). وروي عن ابن عباس أيضًا: (أنه رفع إلى السماء السادسة) (¬3). وهو قول الضحاك (¬4) وقال أبو إسحاق: (وجائز أن قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} في النبوة والعلم) (¬5). 58 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة، ثم بين مراتبهم في شرف النسب فقال: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} قال ابن عباس، والسدي: (يعني إدريس، ونوحا) (¬6). {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} إبراهيم؛ لأنه من ولد سام بن نوح، ويريد بالحمل مع نوح العمل في سفينته. {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يريد إسحاق، وإسماعيل، ويعقوب. وقوله تعالى: {وَإِسْرَائِيلَ} يعني: ومن ذريته وهم: موسى، وهارون، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 72، "النكت والعيون" 3/ 377، "زاد المسير" 5/ 241، "فتح القدير" 3/ 483، "الدر المنثور" 4/ 494. (¬2) "جامع البيان" 16/ 96، "بحر العلوم" 2/ 326، "النكت والعيون" 3/ 377، "المحرر الوجيز" 9/ 490، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 140. (¬3) "جامع البيان" 16/ 96، "النكت والعيون" 3/ 377، "المحرر الوجيز" 9/ 490، "الكشاف" 2/ 414، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 140، "زاد المسير" 5/ 241. (¬4) "جامع البيان" 16/ 96، " النكت والعيون" 3/ 377، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 140، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 117. وقال ابن حجر -رحمه الله- في "فتح الباري" 6/ 375: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طرف مرفوعة قوية. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 335. (¬6) "جامع البيان" 1/ 976، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 141، "أضواء البيان" 4/ 305.

59

وزكريا، ويحيى، وعيسى (¬1)، وكان لإدريس، ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح. وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب لما تباعدوا من آدم حصل لهم الشرف بإبراهيم (¬2). وقوله تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} أي: هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفينا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} قال ابن عباس: (سجدًا متضرعين إليه) (¬3). قال أبو إسحاق: (قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا) (¬4). وذكر الكلام في انتصاب سجدا عند قوله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] {وَبُكِيًّا}: جمع باك مثل ساجد وسجود، وقاعد وقعود أصله: بكوي ففعل كما فعل بمرمى ومقضى، وقد ذكرنا ذلك في هذه السور (¬5) 59 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ذكرنا الكلام في هذا في سورة الأعراف [169]. قال السدي: (هم اليهود والنصارى) (¬6). وقال مجاهد وقتادة: (هم من هذه الأمة عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 97، "المحرر الوجيز" 9/ 190، "معالم التنزيل" 5/ 240، "الكشاف" 2/ 415، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 141. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 120. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة انظر: "جامع البيان" 97/ 16، "المحرر الوجيز" 9/ 491، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 141، "التفسير الكبير" 21/ 234. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 335. (¬5) عند قوله سبحانه في الآية رقم: (8): {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 240، "زاد المسير" 5/ 245، "أضواء البيان" 4/ 308، "الدر المنثور" 4/ 499.

محمد -صلى الله عليه وسلم- قوما يتبارون ينزوا بعضهم على بعض في الأزقة (¬1) زناة) (¬2). وقوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} قال محمد بن كعب: (تركوها) (¬3) وقال القاسم بن مخيمرة (¬4): (أخروها عن وقتها) (¬5). وهو قول إبراهيم، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز (¬6). قال إبراهيم: (أضاعوا الوقت) (¬7). وقال عمر: (شربوا الخمر فأضاعوها) (¬8). ¬

_ (¬1) الزقاق: الطريق الضيق دون السكة والجمع أزقة، وزقاق. انظر: "تهذيب اللغة" (زقق) 2/ 1401، "الصحاح" (زقق) 4/ 1491، "لسان العرب" (زقق) 3/ 1845. (¬2) "جامع البيان" 16/ 99، "المحرر الوجيز" 9/ 493، "معالم التنزيل" 5/ 141، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 142، "زاد المسير" 5/ 245. (¬3) "جامع البيان" 16/ 99، "النكت والعيون" 3/ 379، "المحرر الوجيز" 9/ 493، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 142، "الدر المنثور" 4/ 499. (¬4) القاسم بن مخيمرة الهمداني، أبو عروة الكوفي نزيل الشام، تابعي، إمام عابد، محدث فقيه، توفي -رحمه الله- سنة 100 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 120، "سير أعلام النبلاء" 5/ 201، "تهذيب التهذيب" 8/ 337. (¬5) "جامع البيان" 16/ 99، "المحرر الوجيز" 9/ 493،"تفسير القرآن العظيم" 3/ 142، "زاد المسير" 5/ 245، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 122. (¬6) ذكر ابن جرير الطبري في "تفسيره" 16/ 99 رأيًا نقله عن العلماء يقول فيه: أضاعوا المواقيت ولو كان تركًا كان كفرًا. وقال القرطبي في "تفسيره" 11/ 123: وجملة القول في هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه ولا دين لمن لا صلاة له. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 241، "الكشاف" 2/ 415، "زاد المسير" 5/ 245، "الدر المنثور" 4/ 499. (¬8) ذكر نحوه "جامع البيان" 16/ 99، "النكت والعيون" 3/ 379، "المحرر الوجيز" 9/ 494،"تفسير القرآن العظيم" 3/ 142، "الدر المنثور" 4/ 499.

وقال سعيد: (هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس) (¬1). وقال السدي: (لم يتركوها ولكنهم أضاعوا وقتها) (¬2). وقال الحسن: (عطلوا المساجد ولزموا الضيعات) (¬3) (¬4). قال الزجاج: (والأشبه في تفسير: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} تركوها البته؛ لأنه يدل على أنه يعني به الكفار، ودليل ذلك قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ}) (¬5). وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قال ابن عباس: (اتبعوا المعاصي) (¬6). قال الكلبي: (يعني اللذات شرب الخمر وغيره) (¬7). المعنى: آثروا شهوات ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 241. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 99، "الكشف والبيان" 3/ 9، "بحر العلوم" 2/ 328، "معالم التنزيل" 5/ 241، "زاد المسير" 5/ 245، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 142. (¬3) الضيعة: الحرفة والتجارة، وضيعة الرجل: حرفته وصناعته، ومعاشه وكسبه. وقيل: الضياع المنازل، وسميت ضياعًا؛ لأنها تضيع إذا ترك تعهدها وعمارتها. انظر: "تهذيب اللغة" (ضيع) 3/ 2579، "الصحاح" (ضيع) 3/ 1252، "لسان العرب" (ضيع) 5/ 2624، "مختار الصحاح" (ضيع) ص 162. (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 142، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 123. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 335. والراجح -والله أعلم- أن من أخر الصلاة عن وقتها، وترك فرضا من فروضها، أو شرطا من شروطها، أو ركنا من أركانها فقد أضاعها، وإن كانت أنواع الإضاعات تتفاوت، ويدخل تحت الإضاعة تركها أو جحدها دخولًا أوليًّا. انظر: "جامع البيان" 16/ 99، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 123، "فتح القدير" 3/ 485، "أضواء البيان" 4/ 308. (¬6) ذكرته كتب المفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 241، "زاد المسير" 5/ 245، "لباب التأويل" 4/ 252، "روح المعاني" 16/ 109. (¬7) ذكره بدون نسبة البغوي "تفسيره" 5/ 241، والزمخشري في "كشافه" 2/ 415.

أنفسهم على طاعة الله، ويمكن الجمع بين القولن في الآية بأن يقال: "أضاعوا الصلاة" يعني: المقصرين فيها في هذه الأمة، {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} يعني: اليهود والنصارى والمجوس. فقد قال مقاتل في تفسيره: (استحلوا نكاح الأخت. ثم قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} يعني تاب من التقصير في الصلاة "وآمن" يعني: اليهود والنصارى) (¬1). وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال ابن عباس في رواية عطاءة (الغي: واد في جنهم) (¬2)، وهو قول ابن مسعود (¬3)، وأبي أمامة (¬4)، وشفي بن ماتع (¬5) (¬6)، ومجاهد (¬7)، ووهب (¬8)، وكعب (¬9). وعلى ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 9 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 18، "بحر العلوم" 2/ 328، "الكشاف" 2/ 405، "روح المعاني" 16/ 109. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 241، "زاد المسير" 5/ 245، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 125، "فتح القدير" 3/ 485، "الدر المنثور" 4/ 500. (¬3) "جامع البيان" 16/ 100، "النكت والعيون" 3/ 380، "المحرر الوجيز" 9/ 495، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 132. (¬4) "جامع البيان" 6/ 100، "المحرر الوجيز" 11/ 41، "معالم التنزيل" 5/ 241، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 143، "الدر المنثور" 4/ 500. (¬5) شفي بن ماتع، ويقال: ابن عبد الله الأصبحي، أبو عثمان المصري، تابعي ثقة، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة وغيرهما، وروى عنه عقبة بن مسلم، وأيوب بن بشير، وأبو هاني وغيرهم، وثقة العلماء وذكروه في كتب الثقات، وكان عالمًا حكيمًا، توفي -رحمه الله- سنة 105 هـ. انظر: "تهذيب التهذيب" 4/ 315، "الجرح والتعديل" 4/ 389، "الثقات" لابن حبان 4/ 371، "الكاشف" 2/ 14. (¬6) "أضواء البيان" 4/ 359، "الدر المنثور" 4/ 500. (¬7) "زاد المسير" 5/ 245، "البحر المحيط" 6/ 201. (¬8) "معالم التنزيل" 5/ 241، "الكشف والبيان" 3/ 9/ أ، "البحر المحيط" 6/ 201. (¬9) "معالم التنزيل" 5/ 241، "زاد المسير" 5/ 245، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 125.

هذا قال أبو إسحاق: (جائز أن يكون نهرًا وواديًا أعد للغاوين فسمي غيا) (¬1). وروي عن ابن عباس في قوله: (غَيًّا) قال: (شرا وخيبة) (¬2). وهو قول ابن زيد (¬3). وقال الضحاك: (خسرانا وعذابا) (¬4). وعلى هذا القول معنى الغي في اللغة: الفساد (¬5). روى ذلك ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (وقول الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أي: فسد عليه عيشه) (¬6). وذكر الزجاج وجها آخر في معنى الغي وهو أنه قال: (فسوف يلقون مجازاة الغي، كما قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] أي: مجازاة الأثام) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 336. (¬2) ذكر نحوه: "جامع البيان" 16/ 100، "النكت والعيون" 3/ 380، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 143، "زاد المسير" 5/ 245، "أضواء البيان" 4/ 309. (¬3) "جامع البيان" 16/ 100، "النكت والعيون" 3/ 380، "المحرر الوجيز" 9/ 494، "زاد المسير" 5/ 245، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 125. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 241، "المحرر الوجيز" 9/ 494. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (غوى) 3/ 2706، "مقاييس اللغة" (غوى) 4/ 399، "المفردات في غريب القرآن" (غوى) 369، "لسان العرب" (غوى) 6/ 3320. (¬6) "تهذيب اللغة" (غوى) 83/ 2706، "لسان العرب" (غوى) 6/ 3320. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 336. والظاهر -والله أعلم- أن هذه الأقوال متقاربة المعاني وذلك أن من فعل هذه الأفعال فسوف يلقى عذابا عظيما ومن لقيه فقد لقي خسرانا وشرا حسبه به شرا. انظر: "جامع البيان" 16/ 101، "أضواء البيان" 4/ 310.

60

ومعنى {يُلْقُونَ} هاهنا ليس بمعنى يرون فقط؛ لأن اللقاء معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية (¬1). 60 - قوله تعالى: {إَلا مَن تَابَ} قال الزجاج: ({مَنْ} في موضع النصب، أي: فسوف يلقون العذاب إلا التائبين. قال: وجائز أن يكون نصبا استثناء من غير الأول ويكون المعنى لكن من تاب) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يُظلَمُونَ شَيْئًا} قال ابن عباس: (يريد ولا ينقصون ثوابا) (¬3). 61 - قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْن} بدل من قوله: {يَدخُلُونَ اَلجَنَّةَ} (¬4). ومضى الكلام في معنى عدن (¬5). وقوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس: (يريد أنهم غابوا عما فيها مما لا عين رأت) (¬6). والمعنى أنهم لم يروها فهي غيب لهم {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} قال الكسائي: (لابد من أن يؤتى ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 241، "زاد المسير" 5/ 245. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 336. (¬3) ذكره بدون نسبة الطبري في "تفسيره" 16/ 1001. (¬4) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 320، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 115، "الدر المصون" 7/ 610. (¬5) في سورة التوبة الآية رقم: (72) عند قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 101، "الكشف والبيان" 3/ 9 أ، "المحرر الوجيز" 9/ 496، "زاد المسير" 5/ 246، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 143، "جامع البيان" 5/ 804.

62

عليه ومن أن يبلغ ويصار إليه. ولو كان آتيا لكان صوابا كما قال: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام: 134] ولكن مأتيا لرؤس الآيات) (¬1). وقال الفراء: (مأتيا ولم يقل آتيا؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته ألا ترى أنك تقول: أتيت على خمسين سنة وأتت علي خمسون سنة) (¬2). ونحو هذا في الزجاج سواء، ومثله بقولك: وصلت إلى خبر فلان، ووصل إلى خبر فلان (¬3). وذكر ابن جرير وجهًا آخر قال: (وعده في هذه الآية موعوده وهو الجنة، ومأتيا ما يأتيه أولياؤه وأهل طاعته) (¬4). 62 - قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} اللغو: الهدر من الكلام، واللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه (¬5). وقد تقدم القول في هذا (¬6). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (لغوا: باطلاً) (¬7). وقال في رواية عطاء: (اللغو: كل ما لم يكن فيه ذكر الله) (¬8). وقوله تعالى: {إِلَّا سَلَامًا} استثناء من غير الجنس، معناه: لكن ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (أتى) 1/ 118، "لسان العرب" (أتى) 1/ 22. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 170. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 336. (¬4) "جامع البيان" 16/ 101. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (لغا) 4/ 3275، "مقاييس اللغة" (لغو) 5/ 255، "المفردات في غريب القرآن" (لغا) 451، "لسان العرب" (لغا) 7/ 4049. (¬6) في سورة البقرة الآية رقم: (255) قال سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬7) "الدر المنثور" 4/ 500، "فتح القدير" 3/ 485، وذكره بدون نسبة: "جامع البيان" 16/ 102، "معالم التنزيل" 5/ 243، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 126. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 126، "فتح القدير" 3/ 485.

يسمعون سلاما (¬1). قال ابن عباس: (يريد ذكر الله وما يثابون عليه) (¬2) (¬3). وقال المفسرون: (يُحىِّ بعضُهم بعضًا بالسلام، ويرسل إليهم الرب الملائكة بالسلم) (¬4). قال الزجاج: (السلام (¬5): اسم جامع للخير؛ لأنه يتضمن السلامة. والمعنى: أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤثمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم) (¬6). وقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قال ابن عباس: (ليس في الجنة بكرة ولا عشية ولكن على قدر ما يعرفون في الدنيا من الغداء والعشاء) (¬7). [وقال الضحاك عنه: (يؤتون به على مقادير الليل والنهار) (¬8). وقال قتادة: (كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء] (¬9) أعجب به، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 102، "محرر الوجيز" 9/ 496، "الكشاف" 2/ 416، "البحر المحيط" 6/ 202 "الدر المصون" 7/ 613، "أضواء البيان" 4/ 335. (¬2) في (س): (يثابون عليه)، بدون واو. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 328، "التفسير الكبير" 21/ 237، "لباب التأويل" 4/ 252. (¬4) "جامع البيان" 16/ 102، "النكت والعيون" 3/ 381، "المحرر الوجيز" 9/ 496، "معالم التنزيل" 5/ 243، "روح المعاني" 16/ 112. (¬5) في (س): (السلم). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 337. (¬7) "الدر المنثور" 4/ 501، "فتح القدير" 3/ 485، وذكره بدون نسبة: "جامع البيان" 16/ 102، "النكت والعيون" 3/ 381. (¬8) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 143، وذكره بدون نسبة الطبري في "جامع البيان" 16/ 102. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

الوقت) (¬1). وقال الحسن: (كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء، فذكر الله جنته فقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}) (¬2). وقال الزجاج: (ليس ثم بكرة ولا عشي، ولكنهم خوطبوا بما يعقلون في الدنيا، فالمعنى: لهم رزقهم في مقدار الغداة والعشي) (¬3). وهذا قول جميع أهل التأويل (¬4). وقال أهل المعاني: (لهم رزقهم على مقادير أرِفَّة عيش في الدنيا؛ لأن أَرِفَّة عيشها (¬5) أن يكون الإنسان آكلا بكرة وعشيًّا كيف شاء، فضرب الله ذلك مثلًا لرغد العيش في الجنة، [وزمان الجنة] (¬6) كله نهار) (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 10، "جامع البيان" 16/ 102، "بحر العلوم" 2/ 329، "المحرر الوجيز" 9/ 496، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 134. (¬2) "المحرر الوجيز" 9/ 496، "معالم التنزيل" 5/ 243، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 143، "زاد المسير" 5/ 246، "الدر المنثور" 4/ 500. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 337. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 10، "جامع البيان" 16/ 102، "المحرر الوجيز" 9/ 496، "معالم التنزيل" 5/ 243، "زاد المسير" 5/ 246. (¬5) في نسخة (س): (عيش). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬7) ويشهد لهذا ما رواه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 127 قال: وخرج الترمذي في نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: (قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: "وما هيجك على هذا؟ " قال: سمعت الله تعالى يذكر في كتابه {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانو يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة" وهذا في غاية البيان. وقال العلماء. ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون =

63

63 - قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} في معنى إيراث الجنة قولان للمفسرين: أحدهما: أن معناه ننزل. وهو قول الكلبي (¬1). وجعل ذلك كالميراث من جهة أنه يملك بحال استؤنفت عن حال قد انقضت من أمر الدنيا كما ينقضي حال الميت من أمر الدنيا. القول الثاني: أن الله تعالى يورث عباده المؤمنين من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا (¬2). وقوله: {مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أي: اتقى معصية الله وعقابه بالطاعة والإيمان. ¬

_ = مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب واغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب. وانظر: "جامع البيان" 16/ 102، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 144، "الدر المنثور" 4/ 105، "الفتاوى" لابن تيمية 4/ 312، "أضواء البيان" 4/ 340. (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 243، "البحر المحيط" 6/ 201، "التفسير الكبير" 11/ 237، "روح المعاني" 16/ 113، "فتح القدير" 3/ 485. (¬2) "جامع البيان" 6/ 103، "معالم التنزيل" 5/ 143، "زاد المسير" 5/ 246، "الدر المنثور" 4/ 105، "روح المعاني" 16/ 113. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 342: قد جاء حديث يدل لما ذكر من أن لكل أحد منزلا في الجنة ومنزلا في النار، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب؛ لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم المعدة لهم بأعمالهم وتقواهم، كما قال تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ونحوها من الآيات. ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار، والواقع بخلاف ذلك كما ترى. وانظر: "روح المعاني" للآلوسي 16/ 113.

64

64 - قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآيه. روي بطرق كثيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية جوابا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬1). وقال في رواية عطاء: (سأل المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الروح فقال: غدًا أخبركم، ولم يستثن وأبطأ عليه الوحي أربعين يوما، ثم نزل جبريل فقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا (¬2) زرتنا حين أبطأ عن الوحي، فأنزل الله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} الآية) (¬3). والمفسرون كلهم [في سبب نزول] (¬4) هذه الآية على هذا، قالوا: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة مريم 6/ 118، والترمذي في جامعة كتاب. التفسير سورة مريم 12/ 15، والحاكم في "مستدركه" 2/ 611، وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في "تفسيره" 2/ 34، والإمام أحمد في "مسنده" 1/ 231، والطبراني في "الكبير" 12/ 33، والطبري في "جامع البيان" 16/ 103، والبغوي في "معالم التزيل" 3/ 202، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 329، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 144، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 501، وزاد نسبته لمسلم، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. (¬2) في (س): (لازرتنا). (¬3) أورده الطبري في "جامع البيان" 16/ 103، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 329، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 498، والماوردي في "النكت" 3/ 381، "والبغوي" في "معالم التنزيل" 5/ 243، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 145، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 502 وابن إسحاق في "السيرة" 182، والواحدي في "أسباب النزول" 308، و"لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي 145، و"جامع النقول في أسباب النزول" 212. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

(استبطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل ثم جاءه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا جبريل إن كنت لمشتاقا إليك". قال: وأنا والله يا محمد قد كنت إليك مشتاقا، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله: {وَمَا نَتَنَزَّل} الآية) (¬1). وقوله تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} قال سعيد بن جبير: ({لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر الآخرة (وما خلفنا من أمر الدنيا) (¬2). وهذا قول سفيان، وقتادة، ومقاتل (¬3). وقال الآخرون: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} الدنيا {وَمَا خَلْفَنَا} الآخرة) (¬4). وهذا قول السدي، ومجاهد (¬5). وقوله تعالى: {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} قال سعيد بن جبير: (ما بين الدنيا والآخرة) (¬6). وهو قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬7). وقال في رواية ¬

_ (¬1) أورده بسنده ابن جرير الطبري في "جامع البيان" 16/ 103، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 498، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 243، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 145 وقال: رواه ابن أبي حاتم -رحمه الله- وهو غريب. والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 502 وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" 308، و"جامع النقول في أسباب النزول" 212. (¬2) "المحرر الوجيز" 9/ 499، "معالم التنزيل" 5/ 243، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 346، "الدر المنثور" 4/ 502. (¬3) "جامع البيان" 16/ 104، "النكت والعيون" 3/ 382، "المحرر الوجيز" 9/ 500، "معالم التنزيل" 5/ 243، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145. (¬4) "النكت والعيون" 3/ 382، "المحرر الوجيز" 9/ 500، "معالم التنزيل" 5/ 243. (¬5) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 250 (¬6) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 250، "الدر المنثور" 4/ 502. (¬7) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 10 أ، "معالم التنزيل" 5/ 244، "زاد المسير" 5/ 250، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "الجامع لآحكام القرآن" 11/ 129، "التفسير الكبير" 21/ 239.

الليث: (وما بين ذلك ما بين النفختين) (¬1). وهو قول السدي (¬2)، وقتادة (¬3)، وسفيان (¬4)، والربيع (¬5)، والضحاك (¬6)، وأبي العالية (¬7). وقال أبو إسحاق: ({مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر الآخرة والثواب والعقاب، {وَمَا خَلْفَنَا} جميع ما مضى من أمر الدنيا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما يكون منا في هذا الوقت إلى يوم القيامة) (¬8). وهذا هو الاختيار؛ لأنه لم يجز للنفختين ذكر حتى يشار إليه (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 250. (¬2) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145. (¬3) "الجامع البيان" 6/ 104، "النكت والعيون" 3/ 382، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 129، "الدر المنثور" 4/ 502. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 10 أ، "بحر العلوم" 2/ 329، "النكت والعيون" 3/ 382، "المحرر الوجيز" 9/ 50، "معالم التنزيل" 5/ 244، "زاد المسير" 5/ 250. (¬5) "جامع البيان" 16/ 104، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145. (¬6) "جامع البيان" 16/ 104. (¬7) "جامع البيان" 16/ 104، "المحرر الوجيز" 9/ 500، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 250، "الدر المنثور" 4/ 502. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 337. (¬9) وقال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 6/ 105: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه ما بين أيدينا من أمر الآخرة؛ لأن ذلك لم يجيء وهو جاء فهو بين أيديهم وما خلفنا من أمر الدنيا وذلك ما قد خلفوه فمضى فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وما بين ذلك ما بين ما لم يمضي من أمر الدنيا إلى الآخرة؛ لأن ذلك هو الذي بين الوقتين، وإنما قلنا ذلك أولى؛ لأن ذلك هو الظاهر الأغلب وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه مالم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.

65

وقال ابن عباس في رواية عطاء: ({لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} يريد الدنيا يعني الأرض. {وَمَا خَلْفَنَا} يريد السموات {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} يريد الهواء) (¬1) والمعنى: أن كل ما ذكر لله فلا نقدر على فعل إلا بأمره (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} قال ابن عباس: (يريد تاركا لك منذ أبطاء عنك الوحي) (¬3). وعلى هذا النسي بمعنى الناسي، وهو التارك، وقال السدي: (ما نسيك ربك) (¬4). [وذلك أن المشركين قالوا لما أبطأ عنه الوحي: قد نسيه وودعه، فنزل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}] (¬5) ونزل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]. وقال أبو إسحاق: (أي قد علم الله ما كان وما يكون وما هو كائن وهو حافظ لذلك لا ينسى منه شيئًا) (¬6). 65 - قوله تعالى: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مالكهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: ومالك ما بينهما من خلقه {فَاعْبُدْه} أي: وحده؛ لأن عبادته بالشرك كلا عبادة {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} قال ابن عباس: (لطاعته) (¬7). وقال غيره: (اصبر على أمره ونهيه) (¬8). {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال في ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 29، وذكره بدون نسبة: "معالم التنزيل" 5/ 244، "النكت والعيون" 3/ 382. (¬2) في (س): (الأمر). (¬3) "زاد المسير" 5/ 250، وذكره الطبري في "تفسيره" 16/ 100 بدون نسبة. (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135، "الدر المنثور" 4/ 502، وذكره بدون نسبة: "الجامع البيان" 16/ 106، "معالم التنزيل" 5/ 244. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 337. (¬7) ذكره بدون نسبة: "جامع البيان" 16/ 106 "بحر العلوم" 2/ 329. (¬8) "جامع البيان" 16/ 106، "بحر العلوم" 2/ 329، "معالم التنزيل" 5/ 244، "زاد المسير" 5/ 250.

رواية الوالبي: (هل تعلم للرب مثلًا أو شبها) (¬1). وهو قول مجاهد (¬2)، وسعيد بن جبير (¬3)، وابن جريج (¬4) وعلى هذا السَّمي: عبارة عن المثل والشبيه. وقال في رواية سماك: (هل تعلم أحدًا اسمه الرحمن غيره) (¬5). وهو قول السدي (¬6). ودليل هذا القول قراءة ابن مسعود: (الرحمن هل تعلم له سميا). وقال في رواية عطاء: (هل تعلم أحدا يسمى الله غيره) (¬7). وهذا قول الكلبي (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 106، "النكت والعيون" 3/ 382، "المحرر الوجيز" 9/ 503، "معالم التنزيل" 5/ 244، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135. (¬2) "جامع البيان" 16/ 106، "النكت والعيون" 3/ 382، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 251. (¬3) "جامع البيان" 16/ 106، "معالم التنزيل" 5/ 244، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145. (¬4) "جامع البيان" 16/ 106، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 251، "روح المعاني" 16/ 116. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 130، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "الدر المنثور" 4/ 503، "البحر المحيط" 6/ 205. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 329، "المحرر الوجيز" 9/ 503، "النكت والعيون" 3/ 382، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 130. (¬7) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 145، "زاد المسير" 5/ 251، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 130. (¬8) "النكت والعيون" 3/ 382، "معالم التنزيل" 5/ 244، "الكشف والبيان" 3/ 10 أ.

66

وقال أبو إسحاق: (تأويله -والله أعلم- هل تعلم له سميا يستحق أن يقال له: خالق، وقادر، وعالم بما كان وبما يكون، فذلك ليس إلا من صفة الله) (¬1). وعلى هذا لا سمي لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمي [بشيء من أسمائه فإنه غير مستحق للوصف به، والله تعالى حقيقته ذلك الوصف. وقال مقاتل: (لا يسمى باسم الله غير الله، لما حاول المشركون التسمية باللهِ قالوا: اللات، وقالوا في العزيز: العزى) (¬2). 66 - قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} يعني الكافر الذي لا يؤمن بالبعث إذا مات (¬3). {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} يقول ذلك استهزاء وتكذيبا منه بالبعث. قال ابن عباس في رواية عطاء: (نزلت في الوليد بن المغيرة) (¬4). وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح: (نزلت في أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية يفتها بيده ويقول: زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نموت) (¬5). وقال صاحب النظم: (اللام في قوله: {لَسَوْفَ} لام تأكيد يؤكد بها ما بعدها من الخبر، وهذا الإنسان كافر لا يؤمن بالبعث، والكلام محكي عنه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 338. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 10 أ، "بحر العلوم" 2/ 329، "النكت والعيون" 3/ 382، "الكشاف" 2/ 517، "زاد المسير" 15/ 251. (¬3) في (س): (إذا مات). (¬4) "زاد المسير" 5/ 252، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 131، "البحر المحيط" 6/ 206، "روح المعانى" 16/ 116. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 329، "المحرر الوجيز" 9/ 506، "معالم التنزيل" 5/ 245، "زاد المسير" 5/ 252، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 131.

67

فلم حكي عنه بالتأكيد وهو منكر له ومن أنكر شيئا لم يؤكده؟ قال: والجواب أن هذا من باب الحكاية والمجازاه. كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: لسوف تخرج بعد الموت حيا، فقال حاكيا ومعارضا لكلامه: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} ولا يذهب مذهب التأكيد، وإنما يذهب مذهب الحكاية والمعارضة والمجازاة لكلامه، كما تقول العرب: رأيت زيدًا، فيقول السامع: من زيدا؟ وإذا قال: مررت بزيد، قال: من زيد؟ بالخفض أتبعوا آخر الكلام أوله على الحكاية والمجازاة) (¬1). 67 - فقال الله تعالى مجيبا لذلك الكافر {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} أي: هذا الذي جحد البعث أو لا يتذكر أول خلقه فيستدل (¬2) بالإبتداء على أن الإعادة مثله، وهو قوله: {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} أي: من قبل إنكاره البعث خلقناه ولم يكن شيئا، كذلك نعيده كما قال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وقرئ: يذكر بالتشديد، والتخفيف (¬3). والتشديد في هذا المعنى أكثر؛ لأنه يراد به التدبر والتفكر وليس ذكرا عن نسيان، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، وقال: {إِنَّمَا يَتذكَّرُ أُولُوا ¬

_ (¬1) ذكر نحوه في "الكشاف" 2/ 417، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 131، "البحر المحيط" 6/ 207، "الدر المصون" 7/ 617. (¬2) في نسخة (س): (فاستدل). (¬3) قرأ عاصم، نافع، وابن عامر: (أو لا يذْكر الإنسان) ساكنة الذال خفيفة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (أو لا يذَّكَّر الإنسان) بفتح الذال مشددة الكاف. انظر: "السبعة" ص 410، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 204، "حجة القراءات" ص 445، "التبصرة" ص 256، "النشر" 2/ 318.

68

الأَلبَابِ} (¬1) وإضافته إلى أولي الألباب يدل على أن (¬2) المراد به النظر والتفكر، وزعموا أن في حرف أبي: (تتذكر) بالتاء (¬3). والمعنى: أولا يتدبر ويتفكر هذا الجاحد في أول خلقه. ومن قرأ بالتخفيف من الذكر أراد هذا المعنى أيضا، وقد ترد الخفيفة أيضًا بهذا المعنى كقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} (¬4)، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (¬5). ثم أقسم أنه يحشرهم. 68 - فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي: لنجمعنهم في المعاد. قال الكلبي: (يعني الذين أنكروا البعث) (¬6). وقوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ} أي: ولنحشرن الشياطين قرناء معهم قال المفسرون: (يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة) (¬7). وذلك أن ذكر حشر الشياطين مع حشرهم يدل على أنهم يجمعون معهم. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} قال المفسرون: (في جهنم) (¬8). وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون خارجه، ويجوز أن يكون ¬

_ (¬1) سورة الرعد (19)، وسورة الزمر (9). (¬2) قوله: (أن) ساقط من نسخة (س). (¬3) "المحرر الوجيز" 9/ 506، "الكشاف" 2/ 418، "زاد المسير" 5/ 252، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 131، "البحر المحيط" 6/ 207، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 204. (¬4) سورة المزمل (19)، وسورة الإنسان (29). (¬5) سورة المدثر (55)، وسورة عبس (12). (¬6) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 506، "معالم التنزيل" 5/ 245، "زاد المسير" 5/ 252، "لباب التأويل" 4/ 254. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 245، "الكشاف" 2/ 418، "زاد المسير" 5/ 252، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 132، "البحر المحيط" 6/ 208. (¬8) "معالم التنزيل" 5/ 245، "زاد المسير" 5/ 252، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 133.

داخله يقال: جلس القوم حول البيت، وحوالي البيت إذا جلسوا داخله مطيقين به. قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يجثون حول جهنم قبل أن يدخلوها) (¬1). وقوله تعالى: {جِثِيًّا} مستوفزين على الركب. قاله مجاهد، وسفيان (¬2). وقال السدي: (قياما) (¬3). أراد قياما على الركب وذلك لضيق المكان لا يمكنهم أن يجلسوا ولا أن يقوموا أيضا. وهو جمع: جاثٍ من قولهم: جَثَا على ركبته (¬4) يَجْثُو جُثُوًا فهو جَاثٍ (¬5). قال الله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] ويجمع الجَاثِي جُثِيَا كما قلنا في البكي، وأصله فعول وقد تقدم القول فيه (¬6). وقال ابن عباس في قوله: {جِثِيّا}: (جماعات جماعات) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" 2/ 419، "زاد المسير" 5/ 252، "الكشف والبيان" 3/ 10 ب. (¬2) "زاد المسير" 5/ 253 "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 133 "البحر المحيط" 6/ 208. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 245، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 146، "زاد المسير" 5/ 253، "الدر المنثور" 4/ 504. (¬4) في (س): (ركبتيه). (¬5) جثا: أي: جلس على ركبتيه للخصومة ونحوها. انظر: "تهذيب اللغة" (جثا) 1/ 538، "الصحاح" (جثا) 6/ 2298، "المفردات في غريب القرآن" (جثا) 88، "لسان العرب" (جثا) 1/ 546. (¬6) عند قوله سبحانه في سورة مريم الآية رقم: (58): {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. (¬7) "معالم التنزيل" 5/ 245، "زاد المسير" 5/ 253، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 133، "البحر المحيط" 6/ 208.

69

وهو قول مقاتل، والكلبي (¬1). وعلى هذا الجُثَي جمع جَثْوَة وجُثْوَة وهي: المجموع من التراب والحجارة، ومنه قول طرفة (¬2): تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صفِيْحٍ مُنَضَّدِ والأول اختيار الزجاج، وأبي عبيدة (¬3). 69 - وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} أي: لنأخذن ولنخرجن {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} من كل فرقة وجماعة {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} أي: الأعتى فالأعتى منهم، كأنه يبدأ بالتعذيب بأشدهم ثم الذي يليه. قال أبو الأحوص (¬4): (يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما) (¬5). وقال قتادة: (لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤسهم في الشر) (¬6). ونحو هذا قال الكلبي في ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 383، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 133، "الكشف والبيان" 3/ 10/ ب. (¬2) هذا بيت لطرفة بن العبد من قصيدة قالها يصف قبري أخوين غني وفقير. انظر: "شرح القصائد العشر" للتبريزي 108، "تهذيب اللغة" (جثا) 1/ 538، "لسان العرب" (جثا) 1/ 546، "شرح المعلقات السبع" للزوربي ص 90. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 338، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 9. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 346: إنه جثيهم على ركبهم وهو الظاهر، وهو قول الأكثرين، وهو الإطلاق المشهور في اللغة. (¬4) سلام بن سليم الكوفي، أبو الأحوص، عالم باللغة والتفسير، صدوق، زاهد، وثقه العلماء وأثنوا عليه، توفي -رحمه الله- سنة 199 هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" 2/ 176، "الكاشف" 3/ 269، "تذكرة الحفاظ" 1/ 250، "تهذيب التهذيب" 4/ 282، "طبقات الحفاظ" 106. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 10، "جامع البيان" 16/ 107، "بحر العلوم" 2/ 330، "المحرر الوجيز" 9/ 150، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 146، "الدر المنثور" 4/ 504. (¬6) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 135، "الدر المنثور" 4/ 504، "فتح القدير" 3/ 491.

تفسير: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} قال: (قائدهم ورأسهم في الشر) (¬1). والعتي هاهنا مصدر كالعتو وهو: التمرد في العصيان (¬2). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (أيهم أشد عصيانا) (¬3). وقال في رواية عطاء: (أيهم أعظم فرية) (¬4). وقال مقاتل: (أيهم أشد علوا في الكفر) (¬5). وقال الكلبي: (يعني جراءة بالفراء والكذب) (¬6). وقال مجاهد: (كفرا) (¬7). قال أبو إسحاق: (فأما رفع {أَيُّهُمْ} فهي القراءة، ويجوز (أيَّهُم) بالنصب، حكاها سيبويه وذكر: أنها قراءة هارون الأعور (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 245، "الكشف والبيان" 3/ 10 ب. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (عتا) 3/ 2313، "معجم مقاييس اللغة" (عتو) 4/ 225، "المفردات في غريب القرآن" (عتا) 321، "لسان العرب" (عتا) 5/ 2804. (¬3) "جامع البيان" 16/ 107، "الدر المنثور" 4/ 504. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 10 ب، "اللغات في القرآن" 34. (¬5) ذكرته التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 107، "بحر العلوم" 2/ 330، "المحرر الوجيز" 9/ 510، "معالم التنزيل" 5/ 245، "زاد المسير" 5/ 253، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 146. (¬6) "النكت والعيون" 3/ 383. (¬7) "جامع البيان" 16/ 107، "الدر المنثور" 4/ 504، "روح المعاني" 16/ 119. (¬8) هارون بن موسى بن شريك الدمشقي، أبو عبد الله التغلبي، شيخ المقرئين بدمشق في زمانه، وكان من أهل الفضل، قرأ على ابن ذكوان، وحدث عنه خلق كثير، ورحل إليه الطلبة من الأقطار لإتقانه وتبحره، صنف في القراءات والعربية، إليه رجعت الإمامة في قراءة ابن ذكوان. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي 263، "تذكرة الحفاظ" 2/ 659، "غاية النهاية" 2/ 347، "طبقات المفسرين" 2/ 347، "شذرات الذهب" 2/ 209، "معرفة القراءة الكبار" 1/ 247. (¬9) "الكتاب" 1/ 259، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" 994، "الإنصاف =

وفي رفعها ثلاثة أقوال: قال يونس: قوله: {لَنَنزِعَنَّ} معلقة لم تعمل شيئا، ثم استأنف فقال: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} ومثله عنده قول الشاعر (¬1): وَلَقَدْ أَبِيْتُ مِن الفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ ... فَأَبِيْتُ لا حَرِجٌ وَلاَ مَحْرُوْمُ والمعنى: فأبيتُ بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم (¬2). وقال سيبويه: {أَيُّهُم} مبنية على الضم؛ لأنها خالفت أخواتها، واستعمل منها حذف الابتداء تقول: اضرب لأيهم أفضل تريد أيهم هو أفضل [فيحسن الاستعمال بحذف هو، ولا يحسن: اضرب من أفضل، حتى تقول: من هو أفضل] (¬3)، ولا يحسن: كل ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا تقول أيضا: خذ الذي أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت ما، ومن، والذي هذا الخلاف بنيت على الضم في الإضافة، والنصب حسن، وإن كنت قد حذفت هو؛ لأن هو قد يجوز حذفها، وقد قرئ: {تَمَامًا عَلَى اَلَذِى أَحْسَنَ} [لأنعام: 154] على معنى الذي هو أحسن) (¬4). انتهت ¬

_ = في مسائل الخلاف" 1/ 573، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 322، "المحرر الوجيز" 9/ 150، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 133. (¬1) البيت للأخطل، وصدره في ديوانه: ولقد أكون من الفتاة بمنزل انظر: ديوانه 84، "الكتاب" 1/ 259، "الخزانة" 2/ 553، "الإنصاف" 2/ 572، "الإغفال" للفارسي 995، "الدر المصون" 7/ 631 (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 995، "إعراب القرآن" للنحاس (22312)، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 126، "الدر المصون" 7/ 721 (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) "الكتاب" لسيبويه 2/ 398، "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 573، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 223، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 997، "الدر المصون" 7/ 621.

الحكايه عن أبي إسحاق (¬1) وذكرنا أحكام "أي" في قوله: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الإسراء: 110] وفي مواضع. واعلم أن "أيًا" من الأسماء الموصوله [كمن، وما، والذي إلا أن العرب قد استعملت حذف الراجع إلى الموصول] (¬2) مع أي أكثر من استعمالهم مع الذي، وقد شرح أبو علي الفارسي ما ذكره أبو إسحاق فقال: (ينبغي أن يكون مراد يونس أن الفعل معمل في موضع كل شيعة، وليس يريد أنه غير معمل في شيء البتة، والدليل على ذلك أنه قال فيه: إن ذلك معلق. ولفظ التعليق إنما يستعمل فيما يعمل في الموضع دون اللفظ، ألا تراهم قالوا في علمت أزيد في الدار، أن الفعل معلق وهو معمل في موضع الجملة، وكذلك إذا قال هنا معلق، كان معملا في موضع الجار والمجرور، ولو أراد أنه لا عمل له في لفظ لقال ملغى، ولم يقل معلق، كما تقول في زيد ظننت منطلق، فقوله فيه معلق دلالة على مراده فيه أنه عامل في الموضع، وإن لم يكن عاملا في اللفظ، وإذا كان كذلك كان قول الكسائي في الآية مثل قول يونس؛ لأن الكسائي قال: إن قوله {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} كقولك: أكلت من طعام (¬3)، فإذا كان كذلك كان {أَيُهُم} ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 340 وقال: والذي أعتقده أن القول في هذا قول الخليل، وهو موافق للتفسير؛ لأن الخليل كان مذهبه أو تأويله في قوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} الذي من أجل عتوه يقال: أي: هؤلاء اشتد عتيا. فيستعمل ذلك في الأشد فالأشد. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬3) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 998، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 322، "إملا ما من به الرحمن" 1/ 116، "الدر المصون" 7/ 621.

70

منقطعًا من هذه الجملة وكانت جملة مستأنفة، لا يجيء (¬1) هذا على مذهب سيبويه؛ لأنه لا يرى في من مثل ما رآه الكسائي من زيادته في الإيجاب، فإن قال قائل: لم زعم سيبويه أنه إذا حذف العائد من الصلة وجب البناء على الضم؟ قيل: إن الصلة تبين الموصول وتوضحه، كما أن المضاف يبين المضاف إليه ويخصصه، فكما أنه لما حذف المضاف إليه من الأسماء التي تبينها الإضافة نحو: قبل، وبعد بنيت، كذلك لما حذفت العائد من الصلة إلى الموصول من هنا بنيت). وأطال أبو علي الكلام في هذه المسألة (¬2). وليس يليق بهذا الكتاب أكثر مما حكينا (¬3). 70 - قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} الصِّلي: مصدر صَلَى النار، صَلاَهَا، صُلِيًّا ووزنه فعول، ويجوز فيه صِلِيًا بالكسر وقد تقدم القول فيه. ومعنى الصِّلي: دخول النار ومقاساة حرها وشدتها نعوذ بالله منها. قال أبو إسحاق: (أي ثم لنحن أعلم بالذين هم أشد عتيا فهم أولى بها صليا) (¬4). يعني أن الأولى بها صليا الذين هم أشد عتيا، فهؤلاء هم الأولى بالنار صليا على معنى الابتداء بهم دون أتباعهم؛ لأنهم كانوا رؤساء في الضلالة. 71 - قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ} أي: وما منكم أحد {إِلَّا وَارِدُهَا} ¬

_ (¬1) في (س): (لا يجوز). (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" لأبي علي الفارسي ص 998. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 340، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 322، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 116، "الإنصاف" 1/ 573، "الدر المصون" 7/ 621. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 340.

وارد جهنم {كَانَ عَلَى رَبِّك} ورودكم {حَتْمًا مَقْضِيًّا} والحتم إيجاب القضاء، والقطع بالأمر، ويقال: كان ذلك الأمر حتما أي: موجبا، ويقال للأقضية والأمور التي قضى الله بكونها الحتوم، قال أمية: حنَانَي رَبِّنَا وَلَه عَنَوْنَا ... بِكَفَّيْهِ المَنَايَا وَالحُتُومُ (¬1) وقوله تعالى: {مَقْضِيًّا} أي: قضاه الله عليكم. قال ابن مسعود في قوله: {حَتْمًا مَقْضِيًّا}: (قسما واجبا) (¬2). وكان الإجماع أن هذه الآية قسم من الله بورود النار، وموضع القسم قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} الآية وهذه الآية (¬3) ترجع إلى ما قبلها بالعطف، وهي داخلة في الجملة المقسم عليها، وقيل: القسم مضمر بتقدير: وإن منكم والله إلا واردها كقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] [المعنى: والله لمن ليبطئن] (¬4) فأضمر (¬5). وأكثر الناس على الحكم بظاهر هذه الآية وهو: ¬

_ (¬1) البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر: "لسان العرب" (حتم) 2/ 771. (¬2) "جامع البيان" 16/ 114، "النكت والعيون" 3/ 385، "ابن كثير" 3/ 146. (¬3) قوله: (وهذه الآية)، ساقط من نسخة (س). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬5) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 322، "المحرر الوجيز" 9/ 510، "البحر المحيط" 6/ 209، "الدر المصون" 7/ 625. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 354: الذي يظهر لي والله أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم؛ لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم، ولا قرينة واضحة دالة على القسم، ولم يتعين عطفها على القسم، والحكم بتقدير قسم من كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه زيادة على كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه، وأقرب أقوال من قالوا: إن في الآية قسما قول من قال إنه معطوف على قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لدلالة قرينة لام القسم في الجمل المذكورة على ذلك، أما قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فهو محتمل للعطف أيضا، ومحتمل، للاستئناف والعلم عند الله تعالى.

أن الخلق كلهم يرد النار ثم ينجي الله المؤمنين (¬1). روي عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يرد الناس جهنم (¬2) ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كأجود الخيل، ثم كالراكب في رجله، ثم كشد الرَّجل، ثم كمشيه" (¬3). وقال ابن عباس في هذه الآية: (الورود الدخول، وأخذ بيد مجاهد وقال: أما أنا وأنت فسندخلها) (¬4). وخاصمه نافع بن الأزرق فقال: (إن الشيء ربما ورد الشيء ولكن لا يدخله، فقال ابن عباس: يا ابن الأزرق أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل ينجينا الله منها بعد أم لا) (¬5) وسئل جابر -رضي الله عنه- عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 115 "النكت والعيون" 3/ 385، "المحرر الوجيز" 9/ 511, "معالم التنزيل" 5/ 246، "زاد المسير" 5/ 257، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 138. (¬2) لفظ: (جهنم) ساقط من نسخة (س). (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب التفسير سورة مريم 12/ 16 ح 3159 وقال: حديث حسن. والحاكم في "مستدركه" 2/ 375 وصححه ووافقه الذهبي، وأحمد في "مسنده" 1/ 433، والدرامي في كتاب: الرقائق، باب: في ورود النار 2/ 329، وأخرج نحوه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: الصراط جسر جهنم 8/ 146، ومسلم كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية 1/ 187، والطبري في "جامع البيان" 16/ 114، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 147. (¬4) "جامع البيان" 16/ 114، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 147. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 11، "جامع البيان" 16/ 114، "بحر العلوم" 2/ 330، "المحرر الوجيز" 9/ 512، "معالم التنزيل" 5/ 246، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 147.

وسلاما، كما كانت على إبراهيم" (¬1). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (يرد الناس جميعا نار جهنم، وكان قسما من ربنا وحتما مقضيا تخلف فيها أهل الشرك وهم ظالمون، وأقام أهل الصلاة والإيمان فيها بقدر أعمالهم، ونادى المنادي فقال: إن الله يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} فخرجوا واحترق بعضهم). وذكر حديثًا طويلا (¬2). وهذا الذي ذكرنا مذهب أهل السنة واحتجوا من طريق اللفظ بأن قالوا: جرى ذكر الكافرين، ثم قال بعد: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فنظم الكلام أوجب أن هذا عام، والورود بمعنى الدخول قد أتى ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 329، ورجاله ثقات غير أبي سمية قال عنه الحافظ: مقبول، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" كتاب: البعث، باب: ما جاء في الصراط والميزان والورود 10/ 360 وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، وابن حجر في "الكافي الشاف" 157، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 47 وقال: غريب ولم يخرجوه. وكذلك القرطبي في جامعه 11/ 136، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 505 ونسبة لابن أبي حاتم وابن مردويه، وعبد ابن حميد. وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 351 بعد ذكره لهذا الحديث: أبو سمية قد ذكره ابن حبان في الثقات، وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث؛ لأن غيره من رجال الإسناد ثقات معروفون، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرى وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس وآثار جاءت عن علماء السلف -رضي الله عنهم- كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة، وذكره ابن جرير عن أبي ميسرة، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، كلهم يقولون: إنه ورود دخول. (¬2) لم أقف عليه وذكرت كتب التفسير نحوه مختصرًا. انظر: "جامع البيان" 16/ 83، "معالم التنزيل" 3/ 204 "بحر العلوم" 2/ 330، "المحرر الوجيز" 11/ 48، "الكشف والبيان" 3/ 11 أ.

في التنزيل قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99] ويراد بالورود هاهنا: الدخول، وقال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98]؛ ولأن الله تعالى قال فيما بعد: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} والنجاة لا تكون إلا مما دخلت فيه؛ ولأنه قال: {نَذَرُ الظَّالِمِين} ولم يقل وندخل الظالمين، ونذر: نترك الشيء وقد حصل في مكانه. وروى الحسن بن مسلم (¬1) عن عبيد بن عمير في هذه الآية قال: (ورودها حضورها) (¬2). وروى يزيد النحوي (¬3) عن عكرمة في هذه الآية ¬

_ (¬1) الحسن بن مسلم بن يناق، المكي، روى عن صفية بنت شيبة، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وروى عنه: ابن جريج، وأبان بن صالح، وإبراهيم بن نافع وغيرهم، وهو ثقة، ثبت، توفي -رحمه الله- سنة 98 هـ وقيل غير ذلك. انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 322، "طبقات ابن سعد" 5/ 479، "تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 161، "الكاشف" 1/ 227، "تهذيب الكمال" 6/ 325. (¬2) "زاد المسير" 5/ 178، وذكر البغوي في "تفسيره" 3/ 204 بدون نسبة. (¬3) يزيد بن أبي سعيد النحوي، أبو الحسن القرشي مولاهم، المروزي، من بني نحو بطن من الأزد، روى عن سليمان بن بريدة، وعكرمة مولى بن عباس، ومجاهد وغيرهم، وروى عنه: الحسن بن رشيد، والحسين بن واقد، ومحمد بن بشار وغيرهم، وثقه العلماء، وكان متقنًا، من العباد، تقيًا من الرفعاء، تاليًا لكتاب الله، عالمًا بما فيه، قتل سنة 131 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 368، "اللباب" 3/ 301، "الكاشف" 3/ 178، "تهذيب التهذيب" 11/ 332، "الأنساب" للسمعاني 5/ 469، "تهذيب الكمال" 32/ 143.

قال: (الورود الدخول) (¬1). وبكى عبد الله بن رواحة لما نزلت هذه الآية وقال: (إني علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أم لا) (¬2). هذا هو الكلام في الورود، ثم الله تعالى قادر بلطفه أن يسلم المؤمنين منها إذا وردوها حتى يعبروها ويخرجوا منها سالمين كما ذكرنا في حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا" (¬3). وقال خالد بن معدان: (إذا جاز المؤمنون الصراط قال بعضهم لبعض: ألم يعدنا ربنا أن نمر على جسر النار، فيقولون: بلى ولكنا مررنا عليها وهي خامدة لمرورنا) (¬4). وقال أشعث الجذامي: (بلغني أن أهل الإيمان إذا مروا بصراط جهنم تقول لهم: جوزوا عني قد بردتم وهجي ذروني لأهلي) (¬5). وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 384 بدون نسبة، وكذلك البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 246. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 11، "جامع البيان" 16/ 114، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 147، "زاد المسير" 5/ 255. (¬3) سبق تخريج الحديث وعزوه. (¬4) "جامع البيان" 16/ 114، "بحر العلوم" 2/ 330، "معالم التنزيل" 5/ 246، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 147، "زاد المسير" 5/ 255. (¬5) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 141، "روح المعاني" 16/ 122، "لباب التأويل" 4/ 256. (¬6) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 9/ 329، والقرطبي في "تذكرته" ص 234، والطبراني في "الكبير" ص 668، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" كتاب البعث، باب: =

وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد في هذه الآية قال: (من حمَّ من المسلمين فقد وردها) (¬1). لأن الحمَّى من فيح جهنم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحمَّي كير من جهنم فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار في الآخرة" (¬2) (¬3). ¬

_ = ما جاء في الميزان والصراط والورود 10/ 360، وقال: رواه الطبراني وفيه سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف. وأورده البغوي في "تفسيره" 3/ 205، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 282، وأورده الألباني في "السلسلة الضعيفة" (3413)، والحديث بجميع طرقه ضعيف فيه بشير بن طلحة ضعيف، وخالد بن دريك لم يسمع من يعلي بن منية فهو منقطع، وكذلك سليم بن منصور ضعيف. (¬1) "جامع البيان" 16/ 111، "النكت والعيون" 3/ 348، "المحرر الوجيز" 9/ 515، "معالم التنزيل" 3/ 205، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 137. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 252، عن أبي أمامة رضي الله عنه، ورواه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 305، وقال: رواه أحمد وفيه أبو حصين الفلسطيني ولم أر له راويًا غير محمد بن مطرف. وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه" كتاب الطب، باب: الحمى من فيح جهنم 5/ 2162، ومسلم في "صحيحه" كتاب السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي 4/ 1732، وابن ماجه في "سننه" كتاب الطب، باب: الحمى 2/ 1149، والدرامي كتاب الرقائق، باب: الحمى من فيح جهنم 2/ 224، والحاكم في "المستدرك" 1/ 345، وقال: صحح الإسناد ووافقه الذهبي، والطبري في "جامع البيان" 16/ 111، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 249، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 3/ 147. (¬3) قال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 352 بعد ذكره لهذا القول: وأجابوا عن الاستدلال بحديث "الحمى من فيح فجهنم" قالوا: الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع؛ لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا؛ لأن أول الكلام قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} -إلى أن قال- {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى.

وقال قوم: (إن هذا إنما يعني به المشركين خاصة) (¬1). واحتجوا بقراءة بعضهم: {وَإِن مِّنهمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). ويكون على مذهب هؤلاء معنى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} نخرجهم من جملة من يدخل النار. وقال ابن زيد: (الورود عام لكل مؤمن وكافر غير أن ورود المسلمين على الجسر، وورود الكافرين أن يدخلوها) (¬4). وهذا يروى عن الحسن، وقتادة أنهما قالا: (ورودها ليس دخولها) (¬5). قال أبو إسحاق: (وحجتهم في ذلك قوية من جهات أحدها: أن العرب تقول: وردت ماء كذا ولم تدخله، ووردت بلد كذا إذا أشرف عليه ولم يدخله، قال: والحجة القاطعة عندي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101، 102] (¬6). ومن قال بالقول الأول قال في هذه الآية: (وهم عن ¬

_ (¬1) "الجامع البيان" 16/ 110، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 136، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 138. (¬2) قرأ بها ابن عباس، وعكرمة رضي الله عنهما. انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 511، "الكشاف" 2/ 419، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 147 "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 38، "البحر المحيط" 6/ 210. (¬3) "جامع البيان" 16/ 114، "زاد المسير" 5/ 255، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 138. (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 148، "زاد المسير" 5/ 255، "روح المعاني" 16/ 122. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 136، "البحر المحيط" 6/ 209 "معاني القرآن" للزجاج 3/ 341. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 341.

72

مكروهها مبعدون؛ لأنه لا ينالهم أذاها ووهجها إذا وردوها) (¬1). 72 - قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} قال ابن عباس: (يريد اتقوا الشرك وصدقوا بنبيي) (¬2). {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} قال: (يريد المشركين والكفار والمنافقين) (¬3). {فِيهَا جِثِيًّا} قيل: على الركب، وقيل: جميعًا، وقد مر قبل ¬

_ (¬1) والراجح -والله أعلم- القول الأول. قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 114: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار وورودهما هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم فناج مسلم ومكدس فيها. وقال البغوي -رحمه الله- في "تفسيره" 5/ 249: والأول أصح، وعليه أهل السنة أنهم جميعًا يدخلون النار ثم يخرج الله -عَزَّ وَجَلَّ- منها أهل الإيمان؛ بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: اتقوا الشرك، وهم المؤمنون، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه لا ما وردت. وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 352 بعد ترجيحه لهذا القول: وأجاب من قال: بأن الورود في الآية الدخول عن قوله: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 139، "التفسير الكبير" 11/ 244، "أضواء البيان" 4/ 350. (¬2) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 12 أ، "المحرر الوجيز" 9/ 516، "معالم التنزيل" 5/ 249، "زاد المسير" 5/ 257، "إرشاد العقل السليم" 5/ 276. (¬3) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 331, "المحرر الوجيز" 9/ 516 "معالم التنزيل" 5/ 249، "التفسير الكبير" 21/ 245.

73

ذلك (¬1). 73 - قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} يعني: على المشركين {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يريد القرآن {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مشركوا قريش {لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الفقراء المؤمنين] (¬2) {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} أنحن أم أنتم {خَيْرٌ مَقَامًا} وقرئ: مُقَاما بالضم (¬3). وهما المنزل والمسكن، وكذا قال المفسرون (¬4). والمَقَام بالفتح المصدر واسم الموضع جميعًا، وفَعَلَ يَفْعُل المصدر واسم الموضع منه على مَفْعَلٍ نحو: قَتَلَن يَقْتُل، مَقْتَلاً، وهذا مَقْتَلُ فلان، وأما المُقَام بالضم فيصلح أن يكون بمعنى الإقامة فعول أقَمْت مُقَاما كما تقول: أَقَمْت إِقَامَة، ومكان الإقَامَة مُقَام أيضًا، وكذلك ما زاد من الأفعال على ثلاثة أحرف بحرف زائد أو أصلي فالمصدر اسم الموضع يكون منه على مفعل (¬5). والمَقَام والمُقَام في هذه الآية يراد به المكان كما ذكرنا. قال الأخفش: (يقال للمَقْعد المَقَام وللمشهد المَقَام) (¬6). ومنه قوله ¬

_ (¬1) عند قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}. [مريم: 68] (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬3) قرأ ابن كثير المكي: {خَيْرٌ مُقاما} بضم الميم. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم: {خَيْرٌ مَقَامًا} بفتح الميم. انظر: "السبعة" ص 411، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 205، "التبصرة" ص 256، "الغاية في القراءات" ص 317. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 11، "جامع البيان" 16/ 114، "بحر العلوم" 2/ 331 "النكت والعيون" 3/ 385 "المحرر الوجيز" 9/ 516. (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 207، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 116، "الدر المصون" 7/ 628. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 206.

تعالى: {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] أي: من مشهدك، وقد يكون المقام حيث يقوم الإنسان كقول الراجز (¬1): هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ أي: موضع قيامه. وقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} الندي فعيل بمعنى الفاعل وهو المجلس، وكذلك النادي، يقال: نَدَوْتُ القوم، أَنْدُوهم، نَدْوًا إذا جمعتهم، ويقال للموضع الذي يجتمعون فيه: النَّادِي، والنَّادِي لا يسمى نَادِيًا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لا يكون نَادِيا ومن هذا قوله: {وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} [العنكبوت: 29] ولذلك سميت دار النَّدْوة بمكة، كانوا إذا حز بهم أمر نَدَوا إليها فاجتمعوا للتشاور، وأُنَادِيك أشاورك، وأجالسك من النَّادِي (¬2). قال كُثَير: أُنَادِيْكَ مَا حَجَّتْ حَجِيْجٌ وَكَبَرَتْ ... بِفَيْفَا غَزَالٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلَّتِ (¬3) والمعنى: أن المشركين قالوا للفقراء المؤمنين أنحن أم أنتم أعظم شأنًا، وأعز مجلسًا في قومه افتخروا عليهم بمساكنهم، ومجالسهم وحسن ¬

_ (¬1) هذا صدر بيت لقطر. وعجزه: ذَبَّبَ حَتى دَلَكَتْ بَرَاحِ والبَرَاحِ: الشمس. ومعنى البيت: أن الشمس قد غربت وزالت فهم يضعون راحاتهم على عيونهم ينظرون هل غربت أو زالت. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 208، "النوادر" ص 315، "لسان العرب" (برح) 1/ 245. (¬2) "تهذيب اللغة" (ندا) 4/ 3543، "الصحاح" (ندا) 6/ 2505، "المفردات في غريب القرآن" (ندا) ص 487، "لسان العرب" (ندى) 7/ 4387. (¬3) البيت لكثير. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 208، "المنصف" 2/ 180.

74

معاشهم (¬1). 74 - فقال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} قال الليث: (الأثاث: أنواع المتاع من متاع البيت ونحوه) (¬2). وقال أبو زيد: (الأثاث: المال أجمع، المال، والإبل، والغنم، والعبيد، والمتاع قال: وواحدتها أثاثة) (¬3). وقال الفراء: (الأثاث: لا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له) (¬4). قال ابن عباس، والسدي: (الأثاث: المال) (¬5). وقال قتادة: ({أَحْسَنُ أَثَاثًا}: أكثر أموالًا) (¬6). وقال الحسن: (الأثاث: اللباس) (¬7). وقال مجاهد: (الأثاث: المتاع والزينة) (¬8). وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَحْسَنُ أَثَاثًا} قال: (مثل ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 116، "النكت والعيون" 3/ 386، "معالم التنزيل" 3/ 152، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 148، "زاد المسير" 5/ 157. (¬2) "تهذيب اللغة" (أث) 1/ 118. (¬3) "تهذيب اللغة" (أث) 1/ 118. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 171. (¬5) "جامع البيان" 16/ 116، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 149. (¬6) "جامع البيان" 16/ 116، وذكره الماوردي في "تفسيره" 3/ 386 بدون نسبة، وكذلك ابن كثير في "تفسيره" 3/ 138. (¬7) ذكر في كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 116، "النكت والعيون" 3/ 386، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 149. (¬8) "جامع البيان" 16/ 116، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 149.

الدَّرَانِيْك (¬1)، والطَّنَافِس) (¬2) (¬3). وأصل الحرف من قولهم: أَثَّ النبات يَئِثُّ أَثَاثَةً إذا كثر والتف، ويوصف به الشعر (¬4)، ومنه قوله (¬5): أَثِيْث كَقِنْوِ النَّخْلَة المُتَعَثْكِلِ وقوله تعالى: {وَرِئْيًا} قال أبو إسحاق: (منظرًا من رأيت) (¬6). قال أبو علي: (رِئْيٌ فعل من رأيت، وكأنه اسم لما ظهر وليس ¬

_ (¬1) الدَّرْنيك: ضرب من الثياب أو البسط، له خمل قصير كخمل المناديل، ويشبه فروة البعير والأسد. انظر: "تهذيب اللغة" (درنك) 2/ 1181، "مقاييس اللغة" (الدرنوك) 2/ 341، "الصحاح" (درنك) 4/ 1583، "لسان العرب" (درنك) 3/ 1369. (¬2) الطَّنْفُسَة: بضم الفاء، البساط الذي له حمل رقيق. ويقال للإنسان إذا لبس الثياب الكثيرة: مطنفس. انظر: "تهذيب اللغة" (طنفس) 3/ 2224، لسان (طفنس) 5/ 2710، "القاموس المحيط" (طنفس) 2/ 596. (¬3) ذكر نحوه بالنسبة القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 143. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (أث) 1/ 118، "مقاييس اللغة" (أث) 1/ 8، "القاموس المحيط" (أث) 1/ 1616، "المعجم الوسيط" (أث) 1/ 5، "لسان العرب" (أثث) 1/ 24. (¬5) هذا عجز بيت لامرئ القيس. وصدره: وَفَرْع يِزينُ الَمَتَن أَسْوَدَ فَاحِمِ والفرع: الشعر التام، والفاحم: الشديد السواد، العثكال: بمعنى القنو وقد يكون قطعة منه. فقد ذكر المرأة تبدي عن شعر طويل تام يزين ظهرها إذا أرسلته ثم شبه ذؤابتيها بقنو نخلة خرجت قنوانها. انظر: "ديوانه" ص 44، "شرح القصائد" للتبريزي ص 44، "شرح المعلقات السبع" ص 32، "تهذيب اللغة" (أث) 1/ 118، "لسان العرب" (أثث) 1/ 24. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 342.

75

المصدر، إنما المصدر الرأي والرؤية، ومنه قوله: {رأي العين} [آل عمران: 13] فالرأي الفعل، والرئي المرئي كالطَّحْن والطِّحْن، والسَّقْي والسِّقْي، والرَّعْي والرِّعْي) (1). وقول المفسرين في تفسير الرئي: (المنظر)، قاله ابن عباس وغيره (2). وقال الحسن: (الصور) (3). وهو راجع إلى النظر. وقرئ: وريا بغير همز. قال أبو إسحاق: (وله تفسيران: على معنى الأول بطرح الهمز، وعلى معنى أن منظرهم مُرْتو من النعمة، كأن النعيم بين فيهم) (5). قال أبو علي: (ريا بغير همز يجوز أن يكون بمعنى رئيا فخففت الهمزة، وإذا خففت لزم أن يبدل منها الياء لانكسار ما قبلها، كما تبدل في: ذيب، وبير، فإذا أبدل منها الياء وقعت ساكنة قبل حرف مثله فلابد من الإدغام، وليس يجوز الإظهار لاجتماع المثلين الأول ساكن، ويجوز أن يكون أصله غير الهمز من الري الذي هو ضد العطش، والمراد به في الآية الطراوة والنضارة؛ لأن الري يتبعه ذلك، كما أن العطش يتبعه الذبول والجهد).

_____ (1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 210 (2) "جامع البيان 16/ 117، "النكت والعيون" 3/ 386، "المحرر الوجيز" 9/ 520، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 183، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 143 (3) "المحرر الوجيز" 9/ 520، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 149، "البحر المحيط" 6/ 210. (4) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (ورئيا) مهموزة بين الراء والياء. وقرأ ابن عامر، ونافع: (وريا) بغير همز. انظر: "السبعة ص 411، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 209، "حجة القراءات" ص 447، "المبسوط في القراءات" ص 244. (5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 342. (6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 210.

75

قال الفراء: (والقراءة بغير همز وجه جيد؛ لأنه مع آيات ليست بمهموزات الأواخر) (¬1). وروي عن عاصم في بعض الروايات: وَرِئيًا مثل وريعًا (¬2). وهذا على الهمز التي هي عين إلى موضع اللام ويكون تقديره: فَلِعًا، ومن العرب من يقول: رَاءَني زيدٌ بقلب الهمز فيؤخره فرئيا من رآني (¬3). والمعنى: أن الله تعالى قد أهلك قبلهم أقوامًا كانوا أكثر متاعًا، وأحسن منظرًا فأهلك أموالهم، وأفسد عليهم صورهم فليخافوا نقمة الله بالإهلاك كسنة من قبلهم من الكفار. 75 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ في الضَّلَالَةِ} قال ابن عباس: (قل لهم يا محمد من كان في العماية) (¬4). يعني عن التوحيد ودين الله {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} قال أبو إسحاق: (فليمدد لفظ أمر في معنى الخبر، وتأويله إن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه، ويمده فيها إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كان لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزامًا، كأنه يقول أفعل ذلك وآمر نفسي، فإذا قال قائل: من زارني فلأكرمه، فهو ألزم من قوله أكرمه، كأنه قال: من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك) (¬5). وقال أبو علي: (هذا لفظه كلفظ أمثله الأمر ومعناه الخبر ألا ترى أنه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 171. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 209، "المبسوط في القراءات العشر" ص 244. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 343، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 209، "المحتسب" 2/ 44. (¬4) ذكرته كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 119، "زاد المسير" 5/ 259. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 343.

لا وجه للأمر هاهنا، وأن المعنى مده الرحمن مدا) (¬1). وابن عباس فسره أيضًا بالخبر فقال: (يريد فإن الله يمد له فيها حتى يستدرجه) (¬2). وقد تقدم القول في وضع بعض الأمثلة موضع البعض في آيات. ومعنى المد في الضلالة ذكرناه في قوله: {وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]. وقال صاحب النظم: (من شرط وللشرط جزاء واجتمع في قوله: {فَلْيَمْدُدْ} جزاء الشرط والفاء دليل عليه، وابتداء الأمر ولو تمحض جزاء لكان يمدد ولكنه دعاء عليهم بأن يمدهم الله في الضلالة والدعاء يكون بلفظ الأمر كأنه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوا على من كان في الضلالة بهذا الدعاء، وهذا كما تقول في الكلام: من سرق مالي فليقطع الله يده، فهذا دعاء على السارق وهو جواب للشرط) (¬3). هذا معنى كلامه. وعلى ما ذكر لا يكون {فَلْيَمْدُدْ} خبرًا كما قاله الزجاج، وأبو علي، وأكد ابن الأنباري هذا الوجه فقال: (اللام في {فَلْيَمْدُدْ} لام الدعاء وتقديرها في الآية: قل يا محمد من كان في الضلالة فاللهم مد له في العمر مدا) (¬4). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا} هو متصل بالمد؛ لأن المعنى مده الله في ضلالته حتى يرى ما يوعد من العذاب أو الساعة، وإنما قال {رَأَوْا} بعد ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 2/ 205. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 12 أ، "المحرر الوجيز" 9/ 522، "معالم التنزيل" 5/ 253، "زاد المسير" 5/ 259، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144، "روح المعاني" 16/ 127. (¬3) ذكر نحوه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144. (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 421، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 141، "البحر المحيط" 6/ 212.

76

قوله {فَلْيَمْدُدْ} لأن لفظ من يصلح للواحد والجمع، وإذا مع الماضي يكون بمعنى المستقبل، والمعنى: حتى يروا ما يوعدون. وقوله تعالى: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} منصوبان على البدل من {مَا يُوعَدُونَ} (¬1). قال أبو إسحاق: (و {الْعَذَابَ} هاهنا ما وعدوا به من نصر المؤمنين عليهم، فإنهم يعذبونهم قتلاً، وأسرًا، و {اَلسَّاعَةُ} يعني بها يوم القيامة وما وعدوا فيها من الخلود في النار) (¬2). والمعنى: {فَسَيَعْلَمُونَ} بالنصر والقتل أيهم {وَأَضْعَفُ جُنْدًا} كما قاله الزجاج وأبو علي (¬3)، أهم أم المؤمنون، ويعلمون بمكانهم من جهنم ومكان المؤمنين من الجنة {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} قال ابن عباس: (أراد الله هذا الرد عليهم في قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}) (¬4). 76 - قوله تعالى: {وَيَزِيدُ الله الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} قال [الربيع بن أنس: (يزيد الله الذين اهتدوا] (¬5) بكتابه هدى بما ينزل عليهم من الآيات فيصدقون بها) (¬6). وقال الكلبي: (ويزيد الله الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 343، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 326. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 343. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 343، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 205. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 203، "المحرر الوجيز" 9/ 524، "زاد المسير" 5/ 259 "الكشاف" 2/ 522، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144. (¬5) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س). (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 119، "النكت والعيون" 3/ 387، "زاد المسير" 5/ 259، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144، "التفسير الكبير" 21/ 248.

بالناسخ) (¬1). وقيل معناه: (يزيدهم إخلاصًا وإيمانًا) (¬2). وقيل: (يزيدهم هدى بالتوفيق حتى يستكثروا من الطاعات) (¬3). وقال أبو إسحاق: (المعنى أن الله تعالى يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينًا كما جعل جزاء الكافر (¬4) أن يمده في ضلالته) (¬5). {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الأذكار والأعمال الحسنة من الطاعات التي تبقى لصاحبها ولا تحيط (¬6). {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} جزاء في الآخرة مما يفتخر به الكفار من مالهم وحسن معاشهم. ومضى القول في الباقيات الصالحات في سورة الكهف (¬7). وقوله تعالى: {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} المراد هاهنا مصدر مثل الرد، والمعنى: وخير ردًّا على عامليها للثواب، ليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت، ويقال: هذا الأمر أرد عليك أي: أنفع لك (¬8). والمعنى: أنه يرد ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 387، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144، وذكره بدون نسبة "جامع البيان" 16/ 90، "المحرر الوجيز" 9/ 524، "زاد المسير" 5/ 259. (¬2) "زاد المسير" 5/ 259، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144، "التفسير الكبير" 11/ 148. (¬3) "النكت والعيون" 3/ 387، "زاد المسير" 5/ 259، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 144، "فتح القدير" 3/ 498. (¬4) في (س): (الكافرين). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 344. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 12، "جامع البيان" 16/ 119، "معالم التنزيل" 5/ 253. (¬7) عند قوله سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" (رد) 2/ 1390، "الصحاح" (ردد) 2/ 473، "لسان العرب" (ردد) 3/ 1621، "المفردات في غريب القرآن" (رد) ص 193.

77

عليك ما تريد، كذلك أعمال المؤمنين ترد عليهم الجنة التي فقدوها بإخراج أبيهم آدم منها (¬1). ويجوز أن يكون المرد بمعنى: المرجع وكل واحد يرد إلى عمله الذي عمله، فيجمع بينه وبين ما عمل فالأعمال الصالحة خير مردًا من الأعمال السيئة (¬2). 77 - قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس وجماعة أهل التفسير: (نزلت في العاص بن وائل (¬3)، وذلك أن خباب بن الأرت كان له عليه دين فأتاه يتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بآلهة محمد، فقال خباب: والله لا أكفر بإله محمد حيًا ولا ميتًا ولا حين أبعث، فقال: أوتبعث أيضًا؟ فدع مالك قبلي، فإذا بعثت أعطيت مالًا وولدًا وقضيتك مما أعطى، يقول ذلك مستهزءًا) (¬4). وقال مقاتل والكلبي: (قال لخباب: لئن كان ما تقول حقًا فإني لأفضل ثَمَّ نصيبًا منك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} يعنىِ: العاص كفر بالقرآن) (¬5). {وَقَالَ لَأُوتَيَن} لأعطين أي: والله لأوتين القسم ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 145. (¬2) "الكشاف" 2/ 421، "زاد المسير" 5/ 259، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 145، "فتح القدير" 3/ 498. (¬3) العاص بن وائل بن هاشم السهمي، أحد المجاهرين بالعداوة والأذى للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللصحابة رضوان الله عليهم، توفي بعد الهجرة بشهرين وهو والد الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه. انظر: "جوامع السيرة" ص 53، "الكامل" لابن الأثير 2/ 48، "الأعلام" 3/ 247. (¬4) "جامع البيان" 16/ 120، "النكت والعيون" 3/ 387، "المحرر الوجيز" 9/ 526، "معالم التنزيل" 5/ 253، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 150. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 145، "الكشف والبيان" 3/ 12 ب.

مضمر {مَالًا وَوَلَدًا} يعني في الجنة بعد البعث. وقرئ: وَلَدا، ووُلْدا (¬1). قال الليث: (الولد اسم يجمع الواحد والكثير والذكر والأنثى) (¬2). قال الزجاج: (الوَلَدُ والوُلْدُ واحد مثل العَرَبُ، والعُرْبُ، والعَجَمُ، والعُجْمُ، والبَخَل، والبُخْلُ) (¬3). ونحو ذلك قال الفراء (¬4)، وأنشد (¬5). وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ... قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلدَا واحتج على استعمال المضموم في الواحد بقول العرب في المثل: (وُلْدُكِ مَنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ) (¬6)، وأنشد (¬7): ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عمر: (وَوَلَدًا) بفتح الواو. وقرأ حمزة، والكسائي: (وَوُلْدا) بضم الواو. انظر: "السبعة" ص 412، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 211، "التبصرة" ص 257، "النشر" 2/ 319. (¬2) "تهذيب اللغة" (ولد) 4/ 3951. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 344. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 173. (¬5) البيت للحارث بن حلزة. انظر: "جامع البيان" 16/ 122، "النكت والعيون" 3/ 387، "معاني القرآن" للفراء 2/ 173، "الدر المصون" 7/ 635، "تهذيب اللغة" (ولد) 4/ 3951، "لسان العرب" (ولد) 8/ 4914. (¬6) المعنى: ابنكِ الذي نَفُسْتِ به حتى أدمى النفاس عقبيك، فهو ابنك حقيقة لا من اتخذته وتبنيته وهو من غيرك. انظر: "جامع البيان" 16/ 122، "معاني القرآن" للفراء 2/ 173، "الأمثال" للسدوسي ص 51، "المستقصى في أمثال العرب" 1/ 30، "الأمثال" لابن سلام ص 147، "تهذيب اللغة" (ولد) 4/ 3950، "لسان العرب" (ولد) 8/ 4914. (¬7) لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. =

78

فَلَيْتَ فُلاَنًا كَانَ في بَطْنِ أُمَّه ... وَلَيْتَ فُلاَنا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ فهذا واحد قال: (وقيس تجعل الوُلْد جمعًا، والوَلَد واحدًا) (¬1). وقال ابن السكيت: (الوُلْدُ يكون واحدا وجمعًا) (¬2). قال أبو علي: (هو كالفُلْك الذي يكون مرة جمعًا ومرة واحدًا، ويكون لفظ واحده [موافقًا للفظ جمعه] (¬3)، قال: ويجوز أن يكون الوُلْدُ جمع وَلَد مثل أَسَدٍ، وأُسْدٍ، وثَمَرٍ، وثُمْرٍ) (¬4). 78 - قال الله تعالى مكذبًا له ومنكرًا عليه {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} قال ابن عباس، ومجاهد: (يريد أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا) (¬5). وقال الكلبي: (معناه: انظر في اللوح المحفوظ) (¬6). وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال ابن عباس: (يريد: من قال: لا إله إلا الله فارحمه بها) (¬7). ¬

_ = انظر: "جامع البيان" 16/ 122، "المحرر الوجيز" 9/ 527، "البحر المحيط" 6/ 213، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 211، "المحتسب" 1/ 365، "الدر المصون" 7/ 636، "تهذيب اللغة" (ولد) 4/ 3951، "لسان العرب" (ولد) 8/ 4914. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 173. (¬2) "تهذيب اللغة" (ولد) 4/ 3951، "لسان العرب" (ولد) 8/ 4914. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 212. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 253، "زاد المسير" 5/ 361، "القرطبي" 11/ 146. (¬6) ذكرته كتب التفسير ونسبته لابن عباس. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 253، "زاد المسير" 5/ 361، "القرطبي" 11/ 146. (¬7) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 150، و"زاد المسير" 5/ 261، و"الدر المنثور" 4/ 506.

79

وقال قتادة: (يعني: أقدم عملًا صالحًا فهو يرجوه) (¬1) (¬2). وقال السدي: (العهد: الطاعة لله -عَزَّ وَجَلَّ-) (¬3). وهذا القول منتزع مما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله: من صلى الصلوات لوقتها ولم يذرها استخفافا بها لقيني يوم القيامة وله عندي عهدًا أدخله به الجنة، ومن لم يصلها لوقتها وتركها استخفافًا بها لقيني يوم القيامة وليس له عندي عهد" (¬4). وعلى [هذا المعنى فالآية] (¬5): أم صلى الصلوات الخمس فاتخذ بها عندي عهدًا. وقال الكلبي: (أعهد إليه الله أنه يدخله الجنة) (¬6). وهو اختيار الزجاج يقول: (أم أعطى عهدًا) (¬7). 79 - وقوله تعالى: {كَلَّا} (¬8) هذه الكلمة ترد في القرآن بمعنيين ¬

_ (¬1) قوله: (فهو يرجوه)، ساقط من نسخة (س). (¬2) "جامع البيان" 16/ 122، "النكت والعيون" 3/ 388، "معالم التنزيل" 5/ 253 "زاد المسير" 5/ 261، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 146. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 122، "بحر العلوم" 2/ 332، "روح المعاني" 16/ 130. (¬4) أخرج نحوه أبو داود في "سننه" في الوتر، باب فيمن لم يوتر 2/ 131، والنسائي في الصلاة، باب فضل الخمس 1/ 164، وابن ماجه في "سننه" كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس 1/ 448، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 244، والهواري في "تفسيره" 3/ 76. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 254، "زاد المسير" 5/ 261، "القرطبي" 11/ 146. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345. (¬8) قال الألوسي في "روح المعاني" 16/ 313: وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعًا.

أحدهما: الرد لكلام تقدم (¬1). والثاني: بمعنى: حقًّا (¬2). قال الفراء: (كلا بمنزلة سوف، وتجيء حرف رد فكأنها نعم ولا) (¬3). وهذا الذي قاله (¬4) الفراء هو أصل معنى كلا، فإنه ينفي ما قبله ويحقق ما بعده، ولذلك اختلف المفسرون في معناه فجعله (¬5) بعضهم بمنزلة حقًا، وبعضهم جعله ردًا لما قبله وردعًا، وهو متضمن للمعنيين كما ذكره الفراء (¬6). وقال الكسائي: (لا تنفي حسب، وكلا تنفي شيئًا وتوجب شيئًا كقولك لرجل قال لك: أكلت شيئًا؟ قلت: لا، ويقول آخر: أكلت تمرًا فتقول (¬7): كلا، أردت أنك أكلت عسلًا لا تمرًا، قال: وتأتي كلا بمعنى قول حقًّا) قال ذلك كله أحمد بن يحيى عن سلمة عن الفراء عن الكسائي (¬8). قال الفراء: (ويجوز أن تجعلها صلة لما بعدها كقولك: كلا ورب الكعبة، فتكون بمنزلة: إي ورب الكعبة، قال الله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} ¬

_ (¬1) لفظ: (تقدم): ساقط من نسخة (س). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 117، "البحر المحيط" 6/ 214، "روح المعاني" 16/ 131، "الدر المصون" 7/ 637. (¬3) أورد نحوه بلا نسبة "الكشاف" 2/ 422، "البحر المحيط" 6/ 214، "الدر المصون" 7/ 637. (¬4) قوله: (قاله)، ساقط من نسخة (س). (¬5) قوله: (فجعله)، ساقط من نسخة (س). (¬6) "المحرر الوجيز" 9/ 528، "الكشاف" 2/ 422، "القرطبي" 11/ 147. (¬7) قوله: (فتقول)، ساقط من نسخة (س). (¬8) "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 149، "شرح كلا وبلى ونعم" لمكي بن أبي طالب ص 24.

[المدثر:22] فإذا جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقوله: {كَلَّا وَالْقَمَر} والوقف على {كَلَّا} قبيح؛ لأنها صلة لليمين) (¬1). وقال الأخفش: ({كَلَّا} ردع وزجر) (¬2). وهذا مذهب سيبويه (¬3)، وإليه ذهب الزجاج -صلى الله عليه وسلم- في جميع القرآن (¬4). قال أبو حاتم: (وتجيء {كَلَّا} بمعنى "أَلَا" التي هي للتنبيه يستفتح بها الكلام كما يستفتح بأَلَا) (¬5)، واحتج بقول الأعشى (¬6): كَلَّا زَعَمْتُمُ بِأَنَّا لاَ نُقَاتِلكُمْ ... إِنَّا لأَمْثَالِكُمْ يَا قَوْمَنَا قُتل قال ابن الأنباري: (هذا غلط منه {كَلَّا} لا تكون افتتاح الكلام، والذي في البيت بمعنى "لا"، أي: ليس الأمر على ما يقولون) (¬7). واحتج أيضًا بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6]، قال معناه: (أَلَا أن الإنسان ليطغى) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "الإيضاح في الوقف والابتداء" 2/ 776، "القطع والائتناف" ص 458، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 377، "شرح وكلا وبلى ونعم" ص 19. (¬2) "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "شرح كلا وبلى ونعم" ص 28. (¬3) "الكتاب" لسيبويه 2/ 312. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345. (¬5) "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "القطع والائتناف" ص 458، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 377، "شرح كلا وبلى ونعم" ص 25. (¬6) البيت للأعشى. انظر: "شرح القصائد" للتبريزي ص 347، "شعراء النصرانية" ص 369، "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "لسان العرب" (كلا) 7/ 3926. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "لسان العرب" (كلا) 7/ 3926. (¬8) انظر: المراجع السابقة، "شرح كلا وبلى ونعم" ص 26.

قال ابن الأنباري: (معنى {كَلَّا} في هذه الآية الذي احتج بها حقًا، كأنه قال: حقًّا إن الإنسان ليطغى، قال: ويجوز أن يكون بمعنى "لا" كأنه لا ليس الأمر على ما تظنون يا معشر الكفرة، كما قال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة} [القيامة: 1]، ولا راد لكلامه ثم ابتداء فقال: أقسم) هذا كلام أبي بكر (¬1). وقد ذكر سيبويه أن كلا بمعنى: (حقًّا) (¬2). وعلى هذا يجوز أن تكون بمعنى (أَلَا)، ولا يجوز على الوجه الذي ذكره أبو حاتم؛ لأنه يجعله افتتاحًا لا بمعنى حقًا. واختلفوا في الوقف على كلا؛ فقال أبو العباس أحمد بن يحيى: (لا يوقف على {كَلَّا} في جميع القرآن؛ لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها) (¬3). ومنهم من قال: (يوقف على {كَلَّا} في جميع القرآن) (¬4). ومنهم من قال: (يوقف على ما قبل {كَلَّا} ويبتدأ بها) (¬5). فأما في هذه الآية فقال ابن الأنباري: (الوقف على {كَلَّا} جائز؛ لأن المعنى ليس الأمر) (¬6). كذا قال، ويجوز أن يوقف على قوله: ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "شرح كلا وبلى ونعم" ص 61. (¬2) "الكتاب" 2/ 312، "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179. (¬3) انظر: "القطع والائتناف" ص 458، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 377، "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، "شرح كلا وبلى ونعم" ص 19. (¬4) الجام 11/ 147، "روح المعاني" 16/ 131، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 377. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 147، "روح المعاني" 16/ 131، "المحتسب" 2/ 45، "شرح كلا وبلى ونعم" ص 19. (¬6) "تهذيب اللغة" (كلا) 4/ 3179، وقال مكي بن أبي طالب في شرح كلا وبلى ونعم ص 19: يوقف عليها إذا كان ما قبلها يرد وينكر، ويبتدأ بها إذا كان ما قبلها لا =

80

{عَهْدًا} أي لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الله عهدا. ومنهم من قال: (معناه: ليس الأمر كما يظنه من أنه يؤتى المال والولد) (¬1). وقوله تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي: سنأمر الحفظة بإثباته لنجازيه في الآخرة {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} نزيده عذابًا فوق العذاب. 80 - وقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} فيه قولان أحدهما: (نرثه ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه). وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد (¬2). ويدل عليه قراءة ابن مسعود: (ونرثه ما عنده) (¬3). وما بعده من قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} يدل على هذا القول؛ أي: أنه يأتي الآخرة بلا مال ولا ولد. القول الثاني: ما قاله السدي قال: (نرثه أهله وماله الذي في الجنة) (¬4). وهو قول الكلبي قال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} في الجنة من الذهب والفضة والحرير فنجعله لغيره من المسلمين) (¬5). وعلى هذا معنى الآية: لا نعطيه ما يقول ونسلبه الذي آتيناه في الدنيا حتى يأتينا خاليًا منه. وهو قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أي: خاليًا من الأموال والأولاد. ¬

_ = يرد ولا ينكر، وتوصل بما قبلها وما بعدها إذا لم يكن قبلها كلام تام. وهذا المذهب أليق بمذهب القراء وحذاق أهل النظر، وهو الاختيار، وبه آخذ. (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 147. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 12، "جامع البيان" 16/ 123، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 151، "زاد المسير" 5/ 261، "الدر المنثور" 4/ 506. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 13، "جامع البيان" 16/ 123، "المحرر الوجيز" 9/ 529، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 151. (¬4) ذكره في "زاد المسير" 5/ 261 بدون نسبة، "أضواء البيان" 4/ 385. (¬5) "البحر المحيط" 6/ 214، وذكره بدون نسبة "زاد المسير" 5/ 261.

81

81 - قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} معنى العز: الامتناع من الضيم، والعزيز: المنيع من أن ينال بسؤ (¬1). والمعنى: عبدوها ليمتنعوا بها من عذابي. قال أبو إسحاق: ({لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أي: أعوانًا) (¬2). وقال الفراء: (ليكونوا له شفعاء في الآخرة) (¬3). وهذا معنى قول ابن عباس: (ليمنعوهم مني) (¬4). وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة والمنع من عذاب الله، ووحد العز؛ لأنه مصدر وكان من حق هذا المعنى أن يقال: واتخذوا من دون الله آلهة ليعزوا بها أعزة؛ لأنهم رجوا منها العز، ولكن جعلت الآلهة عزًا في اللفظ لحبهم عبادتها وقوة رجائهم في العز بها، فلغلوهم في حبها والطمع في الامتناع بها جعلت هي في اللفظ العز، وإن كانوا إنما يرجون العز بها في الحقيقة كما يقال: السخاء حاتم (¬5)، والشعر زهير، والشجاعة عنترة، وهو لا يكونون نفس هذه الأحاديث وإنما توجد بهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (عز) 3/ 2419، "مقاييس اللغة" (عز) 4/ 38، "لسان العرب" (عزز) 5/ 2925، "مختار الصحاح" (عزز) ص 429. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 171. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 123، "بحر العلوم" 2/ 333، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 148، "مجمع البيان" 5/ 817، "فتح القدير" 3/ 500. (¬5) حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، أبو عدي، شاعر جاهلي، اشتهر بالجود والكرم، والخلق والسماحة، ويضرب به المثل في جوده وكرمه، يتميز شعره بذكر السخاء والكرم، والحكم الجاهلية، توفي في السنة الثامنة بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "الشعر والشعراء" ص 143، "تهذيب تاريخ ابن عساكر" 3/ 424، "الأعلام" 2/ 151، "إنباه الرواة" 3/ 320.

82

82 - قال الله تعالى: {كَلَّا} قال ابن عباس: (يجحدون بعبادتهم) (¬1). وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن العابدين يجحدون أنهم عبدوها، وذلك لما رأوا من سوء عاقبتها (¬2). الثاني: تجحد الآلهة عبادة المشركين لها، كما قال الله في موضع آخر: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وذلك أن تلك الآلهة كانت جمادًا لا تعلم العبادة (¬3). وقيل معناه: (ما كانوا إيانا يعبدون بأمرنا وإرادتنا) (¬4). وقوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قال ابن عباس: (يقول أعوانًا) (¬5). ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 123 "بحر العلوم" 2/ 333، "معالم التنزيل" 5/ 254، "زاد المسير" 5/ 262، "الكشاف" 2/ 523، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 148، "أنوار التنزيل" 4/ 15. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 389، "المحرر الوجيز" 9/ 531، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 148. (¬3) "جامع البيان" 16/ 123، "المحرر الوجيز" 9/ 531، "معالم التنزيل" 5/ 254، "زاد المسير" 5/ 262، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 148. (¬4) "جامع البيان" 16/ 123، "التفسير الكبير" 11/ 250. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 388: (والقرينة المرجحة لهذا القول أن الضمير في قوله: {وَيَكُونُونَ} راجع إلى المعبودات، وعليه فرجوع الضمير في {يَكْفُرُونَ} للمعبودات أظهر لانسجام الضمائر بعضها مع البعض، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر والعلم عند الله تعالى). (¬5) "جامع البيان" 11/ 236، "المحرر الوجيز" 9/ 532، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 101، "الدر المنثور" 4/ 506.

وهو اختيار أبي إسحاق قال: (أي يصيرون أعوانًا عليهم) (¬1). وقال مجاهد: (تكون عونًا عليهم) (¬2). وهو قول الفراء (¬3). والمعنى: أن الأصنام التي عبدوها تكون أعوانًا على عابديها يكذبونهم ويلعنونهم ويتبرؤون منهم، وهو معنى قول عكرمة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قال: (أعداء) (¬4). وهذا اللفظ اختيار ابن قتيبة قال في قوله: (ضِدًّا): (أي أعداء يوم القيامة وكانوا في الدنيا أولياءهم) (¬5). قال الأخفش: (الضَّد يكون واحد أو جماعة مثل الرَّصد والأَرْصَاد، قال: والرَّصَدُ يكون للجماعة) (¬6). وروى ثعلب عن الفراء أنه قال: (معناه في التفسير: ويكونون عليهم عونًا) (¬7). فلذلك وحده، يقال: فلان ضد فلان، إذا كان مخالفًا كالبياض ضد للسواد، فإذا قلت: فلان ضد على فلان، كان المعنى أنه مخالف معاد له. وروى عن قتادة أنه قال في قوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قال: (قرناء في النار) (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345. (¬2) "جامع البيان" 16/ 124، "النكت والعيون" 3/ 141، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 151، "الدر المنثور" 4/ 506. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 172. (¬4) ذكرته كتب التفسير ونسبته إلى الضحاك. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 254، "النكت والعيون" 3/ 389، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 148. (¬5) "تفسير غريب القرآن" 2/ 4. (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 628. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 172، "تهذيب اللغة" (ضد) 2/ 2100. (¬8) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 12، "جامع البيان" 16/ 124، "النكت والعيون" =

83

والصحيح ما عليه الجماعة (¬1)، لقوله: {عَلَيْهِمْ} ولو قال لهم ضدا احتمل ما قاله قتادة؛ لأن الضد قد ورد في اللغة بمعنى مثل الشيء حكاه ابن السكيت عن أبي عمرو (¬2)، فلما قال: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} كان المعنى: أنهم عون عليهم أعداء لهم، ويبعد أن يفسر بالقرناء. قال ابن الأنباري: (ويجوز أن تكون الهاء في عليهم ترجع على الأصنام بتأويل ويكون الكفار على الأصنام ضد؛ لأنه يبيحون بعيبها ويخبرون بعجزها عند البراءة منها) (¬3). 83 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال الكلبي: (نزلت في المستهزئين بالقرآن) (¬4). وذكر أبو إسحاق في قوله: {أَرْسَلْنَا} وجهين: أحدهما: (أن المعنى خلينا الشياطين وإياهم فلم نعصمهم من القبول منهم) (¬5). قال أبو علي: (الإرسال يستعمل على معنى التخلية بين المرسل وبين ¬

_ = 3/ 389، "المحرر الوجيز" 9/ 532، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 151. (¬1) ويشهد لذلك قوله سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6] (¬2) "تهذيب اللغة" (ضد) 2/ 200. (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" 2/ 423، "البحر المحيط" 6/ 215، "الدر المصون" 7/ 640. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 333. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345.

ما يريد وليس يراد به معنى البعث، كما قال الراجز (¬1): أَرْسَلَ فِيْهَا بَازِلًا يَقدمه وَهُوَ بِهَا بخوا طَرِيْقًا يَعْلَمُه يريد خلى، يريد: بين الفحل وبن طروقته ولم يمنعه منها. قال فمعنى الآية: خلينا بين الشياطين وبين الكافرين. أي: لم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} [الحجر: 42]، [الإسراء:65] هذا كلام أبي علي في شرح أحد وجهي الإرسال (¬2). وإلى هذا الوجه يذهب القدرية في معنى الآية. وليس المعنى على ما يذهبون إليه (¬3). ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائله. بازلاً: يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه فهو حينئذ بازل، وهو أقصى أسنان البعير، وسميي بازلًا من البزل، ويقال للأنثى بازل وجمعها بوازل. بخبخة البعير: هدير يملأ الفم شقشقته. انظر: "تهذيب اللغة" (بزل) 1/ 328، "لسان العرب" (بزل) 1/ 276. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 389: أي: سلطانهم عليهم وقيضناهم لهم وهذا هو الصواب. خلافًا لمن زعم أن المعنى: {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ} الآية، أي: خلينا بينهم وبينهم، ولم نعصمهم من شرهم. يقال أرسلت البعير أي: خليته. قال الرازي في "تفسيره" 11/ 251: وقد تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكافر من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان، وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلابد من التأويل فتحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة، وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، =

قال أبو إسحاق: (والوجه الثاني وهو المختار: أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وكما قال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] الآية. قال: ومعنى الإرسال هاهنا: التسليط، تقول: قد أرسلت فلانًا علي فلان، إذا سلطته عليه كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] فأعلم أن من اتبعه هو مسلط عليه) (¬1). وقد بان بما ذكره أبو إسحاق أن الوجه في معنى الآية هذا. وقوله تعالى: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} معنى الأز في اللغة: التحريك والتهييج (¬2). قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة (¬3)، وأنشد لرؤبة (¬4): ¬

_ = والله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لا إرادة أن يصبر مستوليًا عليه ..... وكما خلى بين الشياطين والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 34، "العقيدة الواسطية" ص 58. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "أضواء البيان" 4/ 389. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (أز) 1/ 155، "مقاييس اللغة" (أز) 1/ 13، "القاموس المحيط" (أزت) (146)، "الصحاح" (أزز) 3/ 864، "لسان العرب" (أزز) 1/ 72. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 11، "تهذيب اللغة" (أز) 1/ 155. (¬4) البيت لرؤبة. التأفيك: من الإفك وهو الكذب. والتحزي: التكهن. والطيخ: الجهل، ويطلق على الكبر. انظر: "ديوانه" ص 64، "مجاز القرآن" 2/ 11، "الجمهرة" 1/ 17، "تهذيب اللغة" (أز) 1/ 155، "لسان العرب" (أزز) 1/ 72.

لاَ يَأْخُذُ التَّأْفِيْكُ والتَّحَزَّي ... فِيْنَا ولاَ طَيْخُ العِدَى ذُو الأَزَّ ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز، وذلك أن الماء يتحرك عند الغليان، ومنه الحديث: (إنه كان لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء) (¬1). قال أبو عبيدة: (الأزيز الإلتهاب والحركة كالتهاب النار في الحطب، يقال: أُزَّ قِدْرَك، أي: ألهب تحتها النار، وائْتَزَّتِ القدر إذا اشتد غليانها) (¬2). وقال شمر: (أقرأنا ابن الأعرابي عن المفضل: أن لقيم بن لقمان قال لأبيه: اطْبَخْ جَزُورَكَ فَأُزَّ مَاء أو وغَلَّه حَتى ترى الكَرَاديْسَ (¬3) كأنها رُؤُوس شُيُوخٍ صُلْعٍ، في كلام ذكر) (¬4). وقد حصل للأز معنيان، أحدهما: التحريك. والثاني: الإيقاد والإلهاب، وأحدهما قريب من الآخر. وكلام المفسرين غير خارج عن الأصلين، واختلفت عبارات ابن عباس وغيره في تفسير الأَزّ، فقال في ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "سننه" كتاب الصلاة، باب: البكاء في الصلاة 3/ 13، وأبو داود في "سننه" كتاب الصلاة (157)، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 25 عن مطرق بن عبد الله عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة 1/ 3، والطبري في "جامع البيان" 16/ 125، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 9/ 532، وذكره القرطبي في "تفسيره" 16/ 150، وذكره ابن حجر في "فتح الباري" 2/ 206، وقال: الحديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي في "الشمائل" وإسناده قوي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن سلمًا أخرجه. (¬2) "تهذيب اللغة" (أز) 1/ 155. (¬3) الكَرَادِيس: رؤوس العظام، واحدها: كردوس. ولك عظم تام ضخم فهو كردوس. انظر: "تهذيب اللغة" (كردس) 4/ 3122، "مقاييس اللغة" (الكردوس) 5/ 194، "القاموس المحيط" (الكردوسة) (570)، "اللسان" (كردس) 7/ 3850. (¬4) "تهذيب اللغة" (أز) 1/ 155، "لسان العرب" (أزز) 1/ 72.

رواية الوالبي: ({تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تغويهم إغواء) (¬1). وهو قول سعيد بن جبير (¬2)، وسفيان (¬3)، ومجاهد إلا أنه ذكر لفظًا آخر فقال: (تشليهم أشلًا) (¬4). وقال في رواية الضحاك: (تحرضهم تحريضًا) (¬5). وقال في رواية عطاء: (تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا) (¬6). وهو قول قتادة (¬7)، واختيار أبي إسحاق، وابن قتيبة (¬8). وروى ميمون بن مهران أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: (أخبرني عن قول الله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} قال: توقدهم) (¬9). والمعنى أنها تحركهم كما تحرك الماء بالإيقاد تحته، وهذا كما قال الأخفش والمؤرج: (توهجهم وتحركهم) (¬10). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 125، "النكت والعيون" 3/ 389، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 150. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 9 أ. (¬3) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 141. (¬4) "المحرر الوجيز" 9/ 532، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "الدر المنثور" 4/ 507، "أضواء البيان" 4/ 389. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 9 أ، "لباب التأويل" 4/ 260، "الدر المنثور" 4/ 507، "روح المعاني" 16/ 134، "فتح القدير" 3/ 501. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 150. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 12، "جامع البيان" 16/ 125، "النكت والعيون" 3/ 389 "تفسير القرآن العظيم" 3/ 151، "الدر المنثور" 4/ 507. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 345، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 2/ 4. (¬9) "الدر المنثور" 4/ 507 وعزاه لابن الأنباري. (¬10) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة.

84

وقال الضحاك: (تأمرهم أمرًا) (¬1). وهذا أضعف العبارات. 84 - قوله تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أي: بطلب العذاب لهم {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أي: أجلناهم إلى أجل يبلغونه بالعدد. وروي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال: (أنفاسهم التي (¬2) يتنفسون في الدنيا فهي معدودة كستيهم وآجالهم) (¬3). وقال في رواية عطاء: (يريد الأنفاس) (¬4). وقال الكلبي: ({إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} الليالي والأيام والشهور والسنين والساعات) (¬5). والمعنى: أنا لم نغفل عنهم نعد لهم هذه الأشياء إلى الأجل الذي أجلنا لعذابهم، وهذا من أبلغ الوعيد. ومثله: كقول عمرو بن معد يكرب في الوعيد والتهديد (¬6): أَغْنَى عَنَا المَيْتِين ... أَعُدُّ الأَعْدَاء عَدًا قيل في تفسيره: أعدا أنفاسهم لأنتهز الفرصة في الإيقاع بهم. والمعنى: لا أغفلهم، وهذا مأخوذ من الآية. ¬

_ = انظر: "تهذيب اللغة" (أز) 13/ 280، "مقاييس اللغة" (أز) 1/ 13، "القاموس المحيط" (أزت) ص 502، "لسان العرب" (أزز) 1/ 72، "الصحاح" (أزز) 3/ 864، "تاج العروس" (أزز) 8/ 7. (¬1) "بحر العلوم" 2/ 333، "الكشف والبيان" 3/ 9 أ. (¬2) قوله: (التي)، ساقط من (ص). (¬3) "جامع البيان" 16/ 126، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "الدر المنثور" 4/ 517. (¬4) "زاد المسير" 5/ 262. (¬5) "النكت والعيون" 3/ 389، "معالم التنزيل" 5/ 255 "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 150. (¬6) لم أهتد إليه.

85

85 - وقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} أي: اذكر لهم يا محمد هذا اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته واجتناب معاصيه إلى الجنة، هذا معنى قوله: {إِلَى الرَّحْمَنِ} أي: إلى جنته ومحل كرامته، قاله قتادة (¬1). {وَفدًا} قال الفراء، والأصمعي ({وَفدًا} الوَفْدُ، يَفِدُ، وَفْدًا، وَوِفَادَةً، وَوُفُودًا إذا خرج إلى ملك وأمير في فتح أوامر، ويقال: وَفَّدَ الأمير إلى الذي فوقه وأَوْفَدَ) (¬2). قال الفراء: (والوَفْدُ اسم الوَافدِين كما قالوا: صوم وفطر وزور) (¬3). وقال ابن قتيبة: (الوَفْدُ جمع الوَافِدِ، كما يقال: رَاكِب ورَكْب، وصَاحِب وصَحْب) (¬4). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (وفدا: ركبانًا) (¬5). وقال أبو هريرة: (على الإبل) (¬6). وقال سفيان: (على النوق) (¬7). وجمع ابن عباس في رواية عطاء بين ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 13، "جامع البيان" 16/ 126، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "الدر المنثور" 4/ 508. (¬2) "تهذيب اللغة" (وفد) 4/ 3925، "تاج العروس" (وفد) 5/ 322. (¬3) ذكرت كتب اللغة نحوه. انظر: "تهذيب اللغة" (وفد) 4/ 3925، "تاج العروس" (وفد) 5/ 322، "لسان العرب" (وفد) 8/ 4881. (¬4) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 2/ 4. (¬5) "جامع البيان" 16/ 127، "معالم التنزيل" 5/ 255، "زاد المسير" 5/ 263، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 152، "الدر المنثور" 4/ 508. (¬6) "جامع البيان" 16/ 127، "معالم التنزيل" 5/ 255،"تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "الدر المنثور" 4/ 508. (¬7) "جامع البيان" 16/ 127، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 152، "أضواء البيان" 4/ 391.

هذه الأقوال فقال: (من كان يحب ركوب الخيل وفد إلى الله على خيل، لا تَرُوث، ولا تبول، لَجْمُها (¬1) من الياقوت (¬2) الأحمر، ومن الزَّبَرْجَد (¬3) الأخضر، ومن الدّر (¬4) الأبيض وسُرُوحُهَا (¬5) من السندس (¬6)، ومن كان ¬

_ (¬1) لَجْمَة الدابة: موقع اللجَام من وجهها. واللَّجَام: حبل أو عصا تدخل في فم الدابة وتلزق إلى قفاه. انظر: "تهذيب اللغة" (لجم) 4/ 3238، "الصحاح" (لجم) 5/ 2027، "لسان العرب" (لجم) 7/ 4001. (¬2) اليَاقُوت: حجر من الأحجار الكريمة، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس. ويستعمل للزينة. وهو فاعول الواحدة ياقوتة والجمع اليواقيت. انظر: "الصحاح" (يقت) 1/ 271، "المعجم الوسيط" (الياقوت) 2/ 1065، "لسان العرب" (يقت) 8/ 4964. (¬3) الزَّبَرْجد: حجر كريم يشبه الزمرد، ويستعمل للزينة، وهو من الجواهر المعروفة. انظر: "تهذيب اللغة" (زبرجد) 2/ 1508، "لسان العرب" (زبرجد) 3/ 1806، "المعجم الوسيط" (الزبرجد) 1/ 388، "مختار الصحاح" (الزبرجد) ص 113. (¬4) الدُّر: العظام من اللؤلؤ، الواحدة درة، ومنه الكوكب الدري نسبة إلى الدر في صفائه وحسنه. انظر: "تهذيب اللغة" (درر) 2/ 1172، "مقاييس اللغة" (در) 2/ 255، "لسان العرب" (درأ) 3/ 1347، "القاموس المحيط" (الدر) ص 391. (¬5) السَّرِيْح: السير الذي تشد به الخدمة فوق الرسغ، والسرائح والسرح: نعال الإبل، وقيل سيور نعالها كل سير منها سريحة انظر: "تهذيب اللغة" (سرح) 2/ 1665، "القاموس المحيط" (السرح) 1/ 223، "لسان العرب" (سرح) 4/ 1984. (¬6) السُّندس: رقيق الديباج ورفيعه. والاستبرق: غليظ الديباج. انظر: "تهذيب اللغة" (سندس) 2/ 1772، "القاموس المحيط" (السندس) ص 551، "لسان العرب" (سندس) 4/ 2117، "المعجم الوسيط" (السندس) 1/ 454.

يحب ركوب الإبل فعلى نَجَائِب (¬1) لا تبعر ولا تبول، أَزِمَّتُها (¬2) الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من زبرجد وياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال) (¬3) وقال أهل اللغة: (الوفد: الركبان المكرمون) (¬4). وإلى هذا ذهب الربيع بن أنس فقال في قوله: {وَفْدًا} قال: (يُحيَّون ويعطون ويكرمون ويشفعون) (¬5). قال صاحب النظم: (هذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء؛ لأن قوله: {وَفدًا} دليل على أنهم يثابون ويجزون؛ لأن الوفد هم الرسل يقدمون على الملوك بالصلح وبالفتوح والبشارات فهم يتوقعون الجوائز، وكذلك أهل الجنة بهذه الحال) (¬6). وقال أصحاب العربية: (اسم الوفد لا يقع إلا على الركبان؛ لأن ¬

_ (¬1) النَّجِيْبُ من الإبل: القوي منها، الخفيف السريع. انظر: "تهذيب اللغة" (نجب) 4/ 3511، "القاموس المحيط" (النجيب) ص 136، "لسان العرب" (نجب) 7/ 4342، "مختار الصحاح" (نجب) ص 269. (¬2) الزَّمَام: الخيط الذي يشد في البرة، أو في الخشاش ثم يشد في طرفه المقود، وزَمَمْتُ البعير: خطمته. انظر: "تهذيب اللغة" (زم) 2/ 1559، "الصحاح" (زمم) 5/ 1944، "لسان العرب" (زمم) 3/ 1865، "المعجم الوسيط" (الزمام) 1/ 401. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 151. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 172، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 346، "تهذيب اللغة" (وفد) 4/ 3925. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 33، "الكشف والبيان" 3/ 13 أ، "الدر المنثور" 4/ 508. (¬6) ذكر نحوه الزمخشري في "الكشاف" 2/ 423 بلا نسبة، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 216.

اشتقاقه من قولهم أوفد على الشيء إذا أشرف عليه، وأنشدوا (¬1): تَرَى العِلاَفِيَّ عَلَيْهَا مُوْفَدًا ... كَأَنَّ بُرْجًا فَوْقَهَا مُشَيَّدَا ويقال: رأيت فلانًا مسْتَوْفِدًا إذا قعد منتصبًا غير مطمئن. فهذا الاسم من حيث الاشتقاق يدل على أنه يقع على الركبان؛ لأنهم أشرفوا علي مركوبهم) (¬2). ويدل على صحة هذا ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أرى وفدًا إلا ركبانًا فما وفد الله؟ الحديث بطوله) (¬3). ومن حيث العرف يدل على أن هذا ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى قائله. ورود البيت في كتب اللغة والمعاجم. العِلاَفَّي: هو الرجل المنسوب إلى علاف، رجل من الأزد وهو زبان أبو جرم من قضاعة كان يصنع الرحال، وقيل هو أول من عملها فقيل لها علافية لذلك. انظر: "تهذيب اللغة" (وفد) 4/ 3925، "لسان العرب" (وفد) 8/ 4881. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (وفد) 4/ 3925، "مقاييس اللغة" (وفد) 6/ 129، "الصحاح" (وفد) 2/ 553، "لسان العرب" (وفد) 8/ 4881، "المفردات في غريب القرآن" (وفد) ص 528. (¬3) رواه ابن كثير في "تفسيره" 3/ 141 عن ابن أبي حاتم وقال: وروى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبًا جدًا مرفوعًا عن علي -ثم ذكر الحديث وقال في نهايته- هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعًا رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه وهو أشبه بالصحة والله أعلم. وأخرجه السيوطي في "الدر" 4/ 508، وعزاه لابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن علي، وذكره القرطبي 11/ 152، والألوسي في "روح المعاني" 16/ 135. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" كتاب الجنة 12/ 161، والحاكم في "المستدرك" 2/ 377 وصححه، وتعقبه الذهبي لضعف عبد الرحمن بن إسحاق، وأخرج نحوه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 155.

86

الاسم يقع على من يُحيَّا ويكرم كما ذكره صاحب النظم، فإذا معنى الوفد: الركبان المكرمون، كما ذكره أهل اللغة، وهو اختيار أبي إسحاق (¬1). 86 - قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس في رواية الضحاك: (الكافرين) (¬2) {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} قال جماعة أهل التفسير: (عطاشا) (¬3). وزاد أبو عبيدة والفراء، والزجاج: (مشاة) (¬4). والوُرُوْدُ في اللغة معناه: الجماعة التي تَرِد الماء من طير أو إبل (¬5). قال ابن السكيت: (الوِرْدُ وُرُوْدُ القوم الماء، والوِرْدُ الماء الذي يُوْرَدُ، والوِرْدُ الإبل الوَارِدَة) (¬6). قال رؤبة (¬7): لَوْ دَقَّ وِرْدِي حَوْضَه لَمْ يَنْدَهِ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 346. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 127، "معالم التنزيل" 5/ 255، "زاد المسير" 5/ 264، "لباب التأويل" 4/ 260. (¬3) "جامع البيان" 16/ 127، "النكت والعيون" 3/ 390، "المحرر الوجيز" 9/ 535، "معالم التنزيل" 5/ 255، "ابن كثير" 3/ 153، "الدر المنثور" 4/ 509. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 172، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 346. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (ورد) 4/ 3869، "مقاييس اللغة" (ورد) 6/ 105، "الصحاح" (ورد) 2/ 549، "لسان العرب" (ورد) 8/ 4810، "المفردات في غريب القرآن" (ورد) ص 519. (¬6) "تهذيب اللغة" (ورد) 4/ 3869، "لسان العرب" (ورد) 8/ 4810 (¬7) البيت لرؤبة. لم ينده: النده الزجر عن كل شيء والطرد عنه بالصياح تقول: ندهت البعير إذا زجرته عون الحوض وغيره. انظر: "تهذيب اللغة" (ورد) 4/ 3869، "لسان العرب" (ورد) 8/ 4810.

87

قال صاحب النظم: (هذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء؛ لأن الوِرْد وُرُوْد الماء، ولا يَرِدُ أحدًا الماء إلا بعد العطش ليشرب، فأوماء بهذا إلى أنهم عطاش يساقون إلى النار) (¬1). ومضى الكلام في الورد عند قوله: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98]. 87 - قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة} أي: لا يملك هؤلاء الكافرون الشفاعة. والمعنى: لا يشفعون ولا يشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض وهو قول: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ} و {مِّن} في موضع نصب على استثناء ليس من الأول على معنى: لا يملك الشفاعة المجرمون، ثم قال: {عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} على معنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدًا فإنه يملك الشفاعة (¬2). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله) (¬3). ومضى الكلام في تفسير اتخاذ العهد عند قوله: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 78]. 88 - قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} يعني: اليهود، ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بلا نسبة. انظر: "الكشاف" 2/ 423، "زاد المسير" 5/ 264، "البحر المحيط" 6/ 217، "روح المعاني" 16/ 136، "لسان العرب" (ورد) 8/ 4810. (¬2) "جامع البيان" 16/ 128، "المحرر الوجيز" 9/ 536، "البحر المحيط" 6/ 217، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 346، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 117 "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 326. (¬3) "جامع البيان" 16/ 128، "المحرر الوجيز" 11/ 57، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 153، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 154، "الدر المنثور" 4/ 510.

89

والنصارى، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله. 89 - قال الله تعالى مخاطبًا لهم: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أي: (عظيمًا)، في قول ابن عباس، وجميع المفسرين (¬1). قال الراجز (¬2): قَدْ لَقِي الأَعْدَاءُ مِنَّي مُنْكرَا دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إِدًا إِمْرَا قال الفراء، والزجاج: (يقال: إِدًّا وأَدًّا، وهي قراءة السلمي (¬3) (¬4)، وآدّ بوزن: مَاد ومعناه: الشيء العظيم) (¬5). وأنشد الليث لرؤبة (¬6): وَالإِدَدَ الإِدَادَ وَالعَضَائِلاَ ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 13، "جامع البيان" 16/ 129، "النكت والعيون" 3/ 390، "معالم التنزيل" 5/ 255، "ابن كثير" 3/ 153، "الدر المنثور" 4/ 511. (¬2) لم أهتد إلى قائله. وذكرته كتب التفسير واللغة بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 129، "النكت والعيون" 13/ 327، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 19، "مجاز القرآن" 1/ 409، "الدر المصون" 7/ 528، "شواهد الكشاف" ص 130، "لسان العرب" (أمر) 1/ 129. (¬3) عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السلمي، من كبار التابعين، ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأبيه صحبة، قرأ القرآن وجوده وعرضه على عثمان، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم- وروى عن عدد من الصحابة، توفي -رحمه الله- سنة 74 هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 172، "الجرح والتعديل" 5/ 37، "تذكرة الحفاظ" 1/ 58، "غاية المنتهى" 1/ 413، "معرفة القراء الكبار" 1/ 52، "سير أعلام النبلاء" 4/ 267. (¬4) "جامع البيان" 16/ 129، "المحرر الوجيز" 9/ 540، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 156، "البحر المحيط" 6/ 218، "المحتسب" 2/ 45. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 173، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 346. (¬6) البيت لرؤبة. انظر: "تهذيب اللغة" (أد) 1/ 133، "لسان العرب" (أدد) 1/ 43.

90

قال: (وواحد الإِدَد إِدَّة، وواحد الأَدَاد أَدّ) (¬1). ومعنى الآية: قلتم قولًا عظيمًا. 90 - قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} وقرئ: بالياء (¬2). وكلاهما حسن، وقد تقدم ذلك. قال أبو علي: (إلحاق علامة التأنيث أحسن؛ لأن الجمع بالألف والتاء في الأصل للجمع القليل، والجمع القليل يشبه الآحاد، وكما أن الأحسن في الآحاد إلحاق العلامة في هذا النحو فكذلك مع الألف والتاء) (¬3). وأهل التأويل على أن المعنى {تَكَادُ} هاهنا: تدنو من الانشقاق، كما يقال: كاد يفعل ذلك إذا دنا من أن يفعله. وزعم أبو الحسن الأخفش أن {تَكَادُ} هاهنا معناه: نريد من غير دنو فقال: (هممن به إعظامًا لقول المشركين، ولا يكون من هم بالشيء أن يدنو منه، ألا ترى أن رجلاً لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك وقد كانت منه إرادة، ونحو هذا قال في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُف} [يوسف: 76]، أي: أردنا له) (¬4)، وأنشد: كَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ لَهْمِ الصَّبَابَةِ مَا مَضَى (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (أد) 1/ 133، "لسان العرب" (أدد) 1/ 43. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (تكاد) بالتاء. وقرأ نافع، والكسائي، (يكاد) بالياء. انظر "السبعة" ص 413، "الحجة" 5/ 213، "التبصرة" ص 257، "النشر" 2/ 319. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 214. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 627، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 215، "البحر المحيط" 6/ 219. (¬5) لم أهتد لقائله. وورد البيت في كتب التفسير واللغة. =

وقوله تعالي: {يَتَفَطَّرْن} وقرئ: ينفطرن (¬1). ومعناهما واحد، يقال: انفطر الشيء، وتفطر: إذا تشقق. قال امرئ القيس (¬2): كَخُرْعُوْبَةِ البَانَةِ المُنفَطِرْ إلا أن انفَطَر مطاوع فَطَر، وتَفَطَّر مطاوع فَطَّر، واختار أبو عبيدة ينفطرن بالنون (¬3)، لقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، وقوله: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]. قال أبو علي: (وهذا لا يدل على ترجيح هذه القراءة؛ لأن ذلك في القيامة لما يريد الله سبحانه من إبادتها وإفنائها. وما في هذه السورة إنما هو لعظم فِرْيتهم وعُتوهم في كفرهم. والمعنيان مختلفان، وتفطر بهذا الموضع ¬

_ = انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 215، "البحر المحيط" 6/ 218، "الدر المصون" 7/ 647، "معاني القرآن" للأخفش 2/ 627، "المحتسب" 2/ 31، "الأضداد" لابن الأنباري ص 97، "لسان العرب" (كيد) 7/ 3966 .. (¬1) قرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، وابن عامر: (ينفطرن) بالنون والتخفيف. وقرأ حفص عن عاصم، وابن كثير، ونافع، والكسائي: (يتفطرن) بالتاء والتشديد. انظر: "السبعة" ص 413، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 214، "التبصرة" ص 257، "العنوان في القراءات" 127. (¬2) هذا عجز بيت لامرئ القيس يصف فرسه وخروجه إلى الصيد، وصدره: بَرَهْرَهَةُ رُودَةُ رَخْصَةُ البَرَهْرَهَة: الرقيقة الجلد وقيل الملساء المترجرجة والرُوْدَة: الرخصة الناعمة، والخُرْعُوْبَة: القضيب الغض، والغض المنثني. انظر: "ديوانه" ص 69، "تهذيب اللغة" (الخرعبة) 1/ 1014، "لسان العرب" (خرعب) 2/ 1138. (¬3) "مجاز القرآن" لأي عبيدة 2/ 12، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 328.

أليق من انفطر، لما فيه من معنى المبالغة، لأنه يدل على الكثرة، كما أن فطر يدل على التكثير) (¬1). وقوله تعالى: {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} تخر: تسقط. وقد مضى الكلام فيه (¬2). والهد: الكسر الشديد والهدم، يقال: هّدَّنِي هذا الأمر وهَدّ ركني (¬3). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (هدما) (¬4). وروي عنه: (كسرًا) (¬5). وهو قول الفراء (¬6). وقال أبو عبيدة: (سقوطًا) (¬7). وهو اختيار القتبي (¬8). قال المفسرون: (لما قالوا {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} اقشعرت الأرض، وشاك الشجر (¬9)، وغضبت الملائكة، واستعرت جنهم، وفزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين) (¬10). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 214. (¬2) عند قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} الآية [الأعراف: 143]. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (هد) 4/ 3728، "مقاييس اللغة" (هد) 6/ 7، "القاموس المحيط" (الهد) ص 328، "الصحاح" (هدد) 2/ 555، "المفردات في غريب القرآن" (هدد) ص 538. (¬4) "جامع البيان" 16/ 130، "تفسير ابن كثير" 3/ 154، "القرطبي" 11/ 157. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 13 ب، وذكره "معالم التنزيل" 5/ 256 بدون نسبة، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 154، "فتح القدير" 3/ 503. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 173. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 12. (¬8) "تفسير غريب القرآن" 2/ 4. (¬9) صار ذا شوكٍ. (¬10) "المحرر الوجيز" 9/ 539، "معالم التنزيل" 5/ 256، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 154، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 58.

قال ابن عباس في رواية عطاء: (فلما كادت السموات أن تنشق، والأرض أن تنشق، والجبال أن تنهد اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان، فصار في الحيتان الشوك، وفي الأشجار الشوك) (¬1). هذا كلام المفسرين. وذهب أهل المعاني: (إلى أن هذا مثل على عادة العرب، وذلك أن العرب كانت إذا سمعت كذبًا ومنكرًا تعاظمته عظمته بالمثل الذي كان عندها عظيمًا فتقول: كادت الأرض تنشق، واظلم على ما بين السماء والأرض، فلما افتروا على الله الكذب ضرب مثل كذبهم بأهول الأشياء وأعظمها) (¬2). ومما يقرب من هذا قول الشاعر (¬3): أَلَمْ تَرَ صَدْعًا في السَّمَاءِ مُبَيَّنًا ... عَلَى ابْنِ لُبَيْنَى الحَارِثِ بنِ هِشَام وقول الآخر (¬4): وَأَصبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرًّا ... كَأَنَّ الأَرْضَ لَيْسَ بِهَا هِشَام ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 256، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 58. (¬2) "المحرر الوجيز" 9/ 541، "الكشاف" 2/ 424، "البحر المحيط" 6/ 218، "التفسير الكبير" 21/ 254، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 215. (¬3) لم أهتد إلى قائله. وقد ورد البيت في كتب التفسير. انظر: "المحرر الوجيز" 9/ 541، "البحر المحيط" 6/ 218، "ورح المعاني" 16/ 141، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 216. (¬4) البيت للحارث بن خالد بن العاص. انظر: "البحر المحيط" 6/ 218، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 216، "الاشتقاق" ص 101، "الكامل" 2/ 487، "التصريح" 1/ 212، "لسان العرب" (قثم) 6/ 3534.

91

وقول آخر (¬1): لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْر تَوَاضَعَتْ ... سُوْرُ المَدِيْنَةِ وَالجِبَالُ الخُشَّعُ 91 - قوله تعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} قال الفراء: (أن دعوا، ولأن دعوا وموضع {أَن} نصب بسقوط الخافض) (¬2). وقال الكسائي: (موضعها خفض) (¬3). وهذه المسألة قد تقدمت. ومعنى: دعوا له ولدًا سموًا له ولدًا، وجعلوا له ولدًا. أنشد ابن الأعرابي على هذا (¬4): أَلاَ رُبَّ منْ تَدْعْو صدِيْقًا وَإِنْ تَرَى ... مَقَاَلَته بِالغَيْبِ يَأتِيْكَ مَا يفْرِي قال: يريد تدعو: تحقق صداقته وتجعله صديقًا. 92 - قال الله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي: لا يليق به اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد يقتضي مجانسة وكل من اتخذ ولدًا اتخذه من جنسه والله تعالى منزه من أن يجانس شيئًا أو يجانسه شيء، محال في وصفه اتخاذ الولد، وقال المفسرون في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي} (وما يصلح) (¬5). وهذه اللفظة لا يستعمل منها المصدر والفاعل، وقد استعمل ¬

_ (¬1) البيت لجرير، قاله في قصيدة يهجو بها الفرزدق. انظر: "ديوان جرير" ص 270، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 216، "البحر المحيط" 6/ 218، "لسان العرب" (حرث) 2/ 821. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 173. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 173، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 328، "الدر المصون" 7/ 648. (¬4) لم أهتد لقائله. (¬5) "جامع البيان" 16/ 131، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 154، "زاد المسير" 5/ 265، "فتح القدير" 3/ 503.

96

منها الماضي نادرًا قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ} أي: ما كل {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} من فيها من الملائكة {الْأَرْضِ} من فيها من الخلق {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ} إلا يأتيه يوم {عَبْدًا} ذليلًا خاضعًا منقادًا يعني: أن الخلق عبيده، وأن عيسى وعزيرًا من جملة العبيد، وانتصب {عَبْدًا} على الحال {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي: عرف عددهم {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} لا يخفى عليه مبلغ جمعهم، ولا واحد منهم مع كثرتهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} بلا مال ولا معه شيء من الدنيا (¬1). وقيل -وهو الصحيح-: (أنه يأتي وحده لا أنصار له ولا أعوان؛ لاشتغال كل واحد بنفسه) (¬2). 96 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أي: يجعلهم يحب بعضهم بعضًا، فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض. قال ابن عباس: (يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين) (¬3). ونحو هذا قال مجاهد، وقتادة (¬4). ¬

_ (¬1) "بحر العلوم" 2/ 334، "زاد المسير" 5/ 265، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 160. (¬2) "جامع البيان" 16/ 132، "معالم التنزيل" 257/ 5، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 154. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 14، "جامع البيان" 16/ 132، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 144، "زاد المسير" 5/ 266، "الدر المنثور" 4/ 582. (¬4) "جامع البيان" 16/ 132، "معالم التنزيل" 5/ 257 "تفسير القرآن العظيم" 3/ 154.

وقال هرم بن حيان (¬1): (ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه محبتهم ومودتهم ورحمتهم) (¬2). وقال بعضهم: (يجعل لهم في قلوب الملائكة ودا ثم في قلوب العباد) (¬3). وهذا مروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل إني قد أحببت فلانًا فأحبه، قال: فينادي في السماء، ثم تنول له المحبة في أهل الأرض" (¬4). فذلك قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. قال عطاء عن ابن عباس: (نزلت الآية في عبد الرحمن بن عوف جعل الله له في قلوب العباد المودة لا يلقاه مؤمن إلى وقره، ولا مشرك ولا منافق إلا عظمه) (¬5). ¬

_ (¬1) هرم بن حيان الأزدي، العبدي، أحد التابعين روى عن بعض الصحابة مثل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وروى عنه الحسن البصري، اشتهر بكثرة العبادة والزهد. انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 110، "الثقات" لابن حبان 7/ 558، "التاريخ الكبير" 4/ 242، "الطبقات الكبرى" 7/ 102. (¬2) "جامع البيان" 16/ 133 "تفسير القرآن العظيم" 3/ 154 "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 161. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 161، "البحر المحيط" 6/ 220، "التفسير الكبير" 21/ 256. (¬4) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6/ 303، ومسلم في البر والصلة، باب: إذا أحب الله عبدًا حببه إلى عباده 4/ 2030، والإمام أحمد في "مسنده" 92/ 267، وانظر: ابن كثير 3/ 154، و"الدر المنثور" 4/ 513. (¬5) "القرطبي" 11/ 161، وذكره نحوه "جامع البيان" 6/ 133، وابن كثير 3/ 154، وقال: روي أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف وهو خطأ فإن هذه السورة بكاملها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك والله أعلم. انظر في "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص 146، "جامع النقول في أسباب النزول" ص 214.

97

وعلى هذا القول قال ابن الأنباري: (سمي الواحد باسم الجمع لدخول من فعل مثل فعله في مثل وصفه وحسن جزائه) (¬1). 97 - قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي: هوناه وأنزلناه بلغتك ليسهل عليك الإبلاغ {لِتُبَشِّرَ بِه} أي: بالقرآن من أطاعك {وَتُنْذِر} من عصاك. وقال الكلبي: (هوناه على لسانك) (¬2). وعلى هذا لم يرد باللسان اللغة. وقوله تعالى {قَوْمًا لُدًّا} قال أبو صالح (¬3): (عوجًا عن الحق) (¬4). وقال مجاهد: (لا يستقيمون) (¬5). وقال قتادة: (جدلًا بالباطل) (¬6). وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. وروي عن الحسن أنه قال في "تفسيره": (صما) (¬7). وزاد الربيع بيانًا فقال: (صم آذان القلوب) (¬8). ¬

_ (¬1) ذكر نحوه في "المذكر والمؤنث" ص671. (¬2) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر "بحر العلوم" 2/ 334، "معالم التنزيل" 5/ 258، "زاد المسير" 5/ 266، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 162، "لباب التأويل" 4/ 262. (¬3) هو باذام الهاشمي، مولى أم هانئ بنت أبي طالب.، تقدم (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 155، "البحر المحيط" 6/ 221، "روح المعاني" 16/ 144، "تفسير سفيان الثوري" ص 190. (¬5) "جامع البيان" 16/ 132، "معالم التنزيل" 5/ 258، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 155، "الدر المنثور" 4/ 513. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 14، "جامع البيان" 16/ 132، "النكت والعيون" 3/ 391، "الدر المنثور" 4/ 513. (¬7) "جامع البيان" 16/ 135، "معالم التنزيل" 5/ 258، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 155، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 162، "الدر المنثور" 4/ 513. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 162، "الكشف والبيان" 3/ 14 ب، وذكره ابن =

وهذه الأقوال كلها معنى وليس بتفسير. والتفسير قول قتادة، وذلك أن خصومتهم بالباطل إنما هو بصمم قلوبهم، ولو فهموا ما أتى به الي النبى -صلى الله عليه وسلم- لتركوا جدالهم، فإذا الصمم وغير ذلك مما ذكرنا من قول المفسرين معاني اللدّ لا تفسيره. قال ابن الأنباري: (وخص اللد بالإنذار؛ لأنهم إذا قامت عليه الحجة صار غيرهم لاحقًا بهم من أجل أن الذي لا عناد عنده يسرع انقياده، فالمقصود بالإنذار هؤلاء اللد المخاصمون) (¬1). قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} يعني: قبل القوم اللد وهم قريش، وهذا تخويف لهم بالإهلاك. وقوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم} أي: هل ترى من الذين أهلكناهم {مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي: (صوتًا). قاله ابن عباس والمفسرون (¬2). وقال زيد: (حسا) (¬3). وقال أهل اللغة: (الركز: الصوت الخفي) (¬4)، وأنشدوا قول لبيد (¬5): ¬

_ = كثير في "تفسيره" 3/ 155 بدون نسبة. (¬1) ذكر نحوه الزمخشري في "الكشاف" 2/ 426، والقرطبي 11/ 162. (¬2) "جامع البيان" 16/ 135، "النكت والعيون" 3/ 391، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 155 "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 162، "الدر المنثور" 4/ 514. (¬3) "جامع البيان" 16/ 135، "النكت والعيون" 3/ 391،"الجامع لأحكام القرآن" 11/ 162. (¬4) انظر (ركز) في "تهذيب اللغة" 2/ 1459، "القاموس المحيط" ص 512، "الصحاح" 3/ 880، "اللسان" 3/ 1717، "المفردات في غريب القرآن" ص 202. (¬5) البيت للبيد، ذكره في معلقه. انظر "ديوانه" ص 173، "شرح القصائد العشر" للتبريزى ص 184،"شرح المعلقات السبع" للزوزبي ص 238، "الدر المصون" 7/ 654.

وَتَوَجَّسْتُ رِكْزَ الأَنِيْسِ فَرَاعَهَا ... عَنْ ظَهرِ غَيْبٍ وَالأَنِيْسُ سَقَامُهَا ومضى الكلام في معنى أحس (¬1)، وتحقيق معنى الآية: وكم أهلكنا قبلهم من قرن بتكذيب المرسلين يعضهم بهذا، ويلزمهم الاعتبار بمن تقدم من الأمم المكذبة. ¬

_ (¬1) عند قوله سبحانه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} الآية [آل عمران: 52].

سورة طه

سورة طه

1

تفسير سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {طه} قال ابن عباس في رواية عطاء: (يا رجل، يريد محمدً -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وهو قول الحسن، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، وابن أبي نجيح عن مجاهد، والكلبي (¬2). قال عكرمة: (هي بلسان الحبشة) (¬3). وقال سعيد بن جبير والضحاك: (بالنبطية) (¬4). وقال قتادة: (بالسريانية) (¬5). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 135، "معالم التنزيل" 5/ 262، "زاد المسير" 5/ 369، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 157، "الدر المنثور" 4/ 516. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 14، "جامع البيان" 16/ 135، "الكشف والبيان" 3/ 14 ب، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 157، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 11/ 166. (¬3) "زاد المسير" 5/ 369، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 166، "الدر المنثور" 4/ 517، "التفسير الكبير" 22/ 3. (¬4) "جامع البيان" 16/ 135، "النكت والعيون" 3/ 392، "زاد المسير" 5/ 369، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 157، "الدرر المنثور" 4/ 517. (¬5) "جامع البيان" 16/ 135، "معالم التنزيل" 5/ 135، "زاد المسير" 5/ 369، "التفسير الكبير" 3/ 157.

وقال الكلبي: (هي بلغة عك) (¬1) (¬2). وأنشد لشاعرهم (¬3): إِنَّ السّفَاهَة طَه من خَلائِقكُم ... لاَ قَدسَ اللهُ أروَاحَ المَلاَعين وقال السدي: (يا فلان) (¬4). وروى خصيف عن مجاهد قال: (هي من فواتح السور) (¬5). وهو اختيار أبي إسحاق (¬6). وقال ابن عباس في رواية الوالبي: (هو قسم أقسم الله به) (¬7). وهذا القول اختيار صاحب النظم (¬8). ¬

_ (¬1) عك: بطن اختلف في نسبة، فقال بعضهم: بنو عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد من كهلان من القحطانية. وذهب آخرون إلى أنهم: من العدنانية، وعك أصغر من معد بن عدنان، أبو العدنانية. وقال آخرون: إنه عك بن الديث بن آذر، أخو معد ابن عدنان. حالفوا اليمن، ونزلوا في الأشعريين، وقيل غير ذلك. انظر "أنساب العرب" 328، "الأنساب" للسمعاني 4/ 225، "معجم قبائل العرب" 2/ 802، "التعريف بالأنساب" 125، "معجم البلدان" 4/ 143. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 392، "معالم التنزيل" 5/ 262، "القرطبي" 11/ 165، "البحر المحيط" 6/ 224. (¬3) البيت ليزيد بن المهلهل. انظر: "جامع البيان" 16/ 137، "النكت والعيون" 3/ 392، "المحرر الوجيز" 10/ 2، "الكشاف" 2/ 528،، "القرطبي" 11/ 166، "البحر المحيط" 6/ 224، "أضواء البيان" 4/ 399، "مجمع البيان" 7/ 5. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 14 ب، "ابن كثير" 3/ 157، "للقرطبي" 11/ 166. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 336، "الدر المنثور" 4/ 517، "تفسير سفيان الثوري" 192. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 349. (¬7) "جامع البيان" 16/ 136، "النكت والعيون" 3/ 393، "زاد المسير" 5/ 270، القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 166، "الدر المنثور" 4/ 517. (¬8) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 393، "زاد المسير" 5/ 270، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 166.

وفسر القرظي هذا القسم فقال: (أقسم الله عز وجل بَطوْلِه وهدايته) (¬1). وقال مقاتل بن حيان: (معناه: طاء الأرض بقدميك، يريد به التهجد) (¬2). ومال قوم إلى هذا التفسير، واحتجوا بما بعده، وبما ذكر في سبب النزول وهو: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ابتداء الوحي ربما علق إحدى رجليه في الصلاة تخشعًا وشكرًا، فقيل له: طأها. أي: طاء الأرض برجلك وضعها عليها) (¬3). وقالوا: أصله طأها من (¬4) وطئ الأرض، والهاء كناية عن الأرض ثم لينت الهمزة فقيل: طه. قال صاحب النظم: (ولو كان الأمر على ما ذهبوا إليه لما كتبت حرفين، ووجه الكتب أربعة أحرف، كمن تكتب الكلام المؤلف) (¬5). وروى الفراء بإسناده: (أن رجلاً قرأ على ابن مسعود: {طه} بالكسر. فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن أليس إنما أمر أن يطأ قدمه؟ فقال له عبد الله: {طه} هكذا أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 262، "زاد المسير" 5/ 270. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 262، "زاد المسير" 5/ 270، "الكشف والبيان" 3/ 14/ ب. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 336، "المحرر الوجيز" 10/ 2 بدون نسبة،، "الكشاف" 2/ 528، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 157، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 167. (¬4) في نسخة (س): أمر. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 174، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 168، "الدر المنثور" 4/ 517. (¬7) اختلف العلماء في الحروف الهجائية في فواتح السور وما المراد بها إلى أقوال كثيرة. والصواب -والله أعلم- أن علمها إلى الله عز وجل، وهذا ما ذهب إليه أكثر المحققين من المفسرين. قال ابن جرير الطبري في "تفسيره" 1/ 93: (والصواب =

فلو كان المعنى كما ذهبوا إليه ما أنكر ابن مسعود قراءة من قرأ: {طه} بإسكان الهاء (¬1). وأصله: طأ بالهمز فأبدلت منها الهاء، كما قالوا: هياك وهرقت، في إياك، وأرقت، ويجوز أن يكون الأصل طا من وطي على ترك الهمز، ثم أثبتت الهاء فيها للوقف، والوجهان ذكرهما أبو إسحاق (¬2). وهذه قراءة شاذة لا يقرأ بها. ¬

_ = من القول عندي في تأويل مفاتيح السور التي هي حروف المعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفًا مقطعة، ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف؛ لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد). وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الحروف إنما ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقال الشوكاني -رحمه الله- في "فتح القدير" 3/ 464: (وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم، ولي يصح مرفوعًا في ذلك شيء، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روي عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح، فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف ورد العلم في مثلها إلى الله سبحانه). وقال الدكتور محمد صالح في كتابه "تفسير سورة الرعد" ص 43 بعد أن ذكر بعض الأقوال: (ولكن الأقوال المحكية، والنقول المروية لا تصح نقلاً، ولا تسلم عقلاً، فالله أعلم بحقيقة المراد). انظر "المحرر الوجيز" 1/ 138، "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 154، "تفسير القرآن العظيم" 1/ 38، "التفسير الكبير" 2/ 5، "التحرير والتنوير" 1/ 206، أضواء البيان 4/ 399، "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 299. (¬1) قراء الحسن: (طه) بسكون الهاء من غير ألف قبلها. انظر: "القراءات الشاذة" للقاضي ص 66، "إتخاف فضلاء البشر" ص 301. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 349.

2

قال ابن الأنباري: (وجه قول من قال: إن {طه} لغة غير العرب، أن لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى من جهة اتفاق اللغتين؛ لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه -صلى الله عليه وسلم- بلسان غير قريش) (¬1). فمن بني {طه} على يا رجل قال: موضعه رفع بالنداء المفرد. ووجه قول من قال: إنه قسم أن التأويل: وحق طه وحق حروف المعجم التي نزل القرآن بها، وأثنى على الباري وسبح ومجد بما انتظم من كلمها، وموضعه خفض بإضمار واو القسم، أو نصب على أنه حلت محل: حقًا ويقينًا، ويمينًا صادقة، وحلفًا بارًا. وقول من قال: إنه من فواتح السور أن يصرف طه إلى مثل ألا في افتتاح الكلام حين يقال: ألا إن عبد الله مقيم (¬2). 2 - قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي: لتتعب وتبلغ من الجهد ما بلغت. قال أبو إسحاق: (أي لتصلي على إحدى رجليك فيشتد عليك) (¬3). قال الكلبي: (لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فأمره الله أن يخفف على نفسه، وذكر له أنه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل ذلك التعب، وكان بعد نزول هذه الآية ينام بعض الليل ويصلي بعضه) (¬4). وذكر مقاتل في سبب النزول غير هذا وهو أنه قال: (قال أبو جهل ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 269، "روح المعاني" 16/ 148، "فتح القدير" 3/ 508. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 174، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 349، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 118، "البحر المحيط" 6/ 224. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 349. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 263، "القرطبي" 11/ 167 "الكشف والبيان" 3/ 15 أ.

3

والمشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنك لتشقى بترك دنيا، وذلك لما رأوا من جهده وطول عبادته، فأنزل الله هذه الآية جوابًا للمشركين) (¬1). 3 - قوله تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً} قال الفراء: (نصبها على قوله: ما أنزلناه إلا تذكرة) (¬2). فأضمر ما أنزلناه لدلالة ما قبله عليه. قال المبرد: (لكن تذكرة أي: لكن أنزلناه تذكرة، كقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ} [الليل:19 - 20]، أي: لكن فعله ابتغاء وجه ربه) (¬3). وقال صاحب النظم: ({إِلّا} هاهنا بمعنى بل، المعنى: بل أنزلناه تذكرة) (¬4). وهذا أضعف الوجوه. ومعنى الآية: أنزلنا القرآن لتذكر به من يخشى الله، والتذكرة مصدر كالتذكير. 4 - قوله تعالى: {تَنْزِيلًا} قال الزجاج: (المعنى أنزلناه تنزيلًا) (¬5). فعلى هذا ينتصب على المصدر، وأنزلنا ونزلنا بمعنى واحد، فهو من باب المصدر على غير الصدر. وقال المبرد: (تنزيلًا بدل من تذكرة) (¬6). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 168،"التفسير الكبير" 22/ 3، "روح المعاني" 16/ 149، "تفسير مقاتل" ص 2. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 174. (¬3) ذكره الطبري في "تفسيره" 7/ 5، وذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 3، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 118،"روح المعاني" 16/ 151، "فتح القدير" 3/ 509. (¬4) ذكره بلا نسبة "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 118، "الكشاف" 2/ 529، "البحر المحيط" 6/ 225. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 350. (¬6) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة.

وقال ابن الأنباري: (معناه نزلناه تنزيلًا) (¬1). فأكد المصدر فعلًا أتى الكلام السابق بتأويله، كما قال الهذلي (¬2): مَا إِنْ يَمَسُّ الأَرْضَ إِلاَ مَنْكِبٌ ... مِنْهُ وَحَرْفُ السَّاقِ طَيَّ المِحْمَلِ نصب طي على المصدر من غير أن يذكر فعله؛ لأن ما تقدم من الكلام يدل على طوى، ومثله قول امرئ القيس (¬3): وأَلْقَى بِصَحْرَاءِ الغَبِيطِ بِقَاعَه ... نُزُولَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ وقوله تعالى: {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} قال ابن عباس: (أخبر بعظمته وجلاله) (¬4). ¬

_ = انظر: "زاد المسير" 5/ 270، "التفسير الكبير" 22/ 5، "روح المعاني" 16/ 151. (¬1) انظر المراجع السابقة. (¬2) البيت لأبي كبير الهذلي. المِحْمَلُ: مِحْمَلُ السيف. ويريد الشاعر: أنه إذا اضطجع لم يمس الأرض إلا منكبه وحرف ساقه، لأنه خميص البطن فلا يصيب بطنه الأرض. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 3/ 1074، "خزانة الأدب" 8/ 194، "شرح أبيات سيبويه" 1/ 324، "شرح شواهد الإيضاح" ص 147، "الشعر والشعراء" ص 447، "المقاصد النحوية" 3/ 54. (¬3) البيت لامرئ القيس في معلقته. الغبيط: أكمة قد إنخفض وسطها وارتفع طرفاها، وسميت غبيطًا تشبيهًا بغبيط البعير، ويقال: إن صحراء الغبيط هي أرض بني يربوع. والبِعَاع: الثقل. ونزول اليماني: أي: نزول التاجر اليماني. العِيَاب: جمع عيبة الثياب. انظر: "ديوان امرئ القيس" ص 62، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 71، "شرح المعلقات السبع" للزورني ص 59، "الخصائص" لابن جني 2/ 126. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "القرطبي" 11/ 169، "البحر المحيط" 6/ 226، "أنوار التنزيل" 4/ 18.

5

قال أبو إسحاق: (العلى جمع العليا، كما يقال: الكبرى والكبر) (¬1). قال المبرد: (وهو مثل ظُلْمَة وظُلَم، ورُكْبَة ورُكَب، وكذلك العُلْيَا والعُلَى، والدُنْيَا والدُنَى، فالألف بحذاء الهاء للتأنيث) (¬2). 5 - قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ} قال الأخفش: (هو الرحمن) (¬3). [قال المبرد: ({الرَّحْمَنِ} مرفوع على خبر المبتدأ المضمر) (¬4). لأنه لما قال: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَق} بينه فكأنه قال: هو الرحمن] (¬5)، كقوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّار} [الحج: 72]، المعنى ففي النار. قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال كثير من أهل التأويل: استوى معناه استولى (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 350. (¬2) أورد نحوه بلا نسبة العبكري في "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 118، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 169، والألوسي في "روح المعاني" 16/ 152. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 629. (¬4) انظر: "الكشاف" 2/ 529، "البحر المحيط" 6/ 226، "فتح القدير" 3/ 509. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ص). (¬6) تفسير الاستواء بالاستعلاء قول المعتزلة والجهمية والحرورية قالوا: إن استوى بمعنى استولى وملك وقهر. قال أبو الحسن الأشعري في "الإبانة عن أصول الديانة" ص 49: (فلو كان الله مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها، لكان مستويًا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء .. لأنه قادر على الأشياء مستول عليها .. ، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش: الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معناه استواء يخص العرش دون الأشياء كلها). وقال ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموعة الفتاوى" 5/ 144، في الرد على من فسر {اسْتَوَى} بـ (استولى): (ومن تلك الوجوه أنه لم يرد عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم، بل تفسير حدث من المبتدعة بعدهم، ثم هو ضعيف لغة).

وقد بينا استقصاء هذا عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (¬1). وأخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري قال: (سئل أحمد بن يحيى عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: الاستواء الإقبال على الشيء) (¬2). وقال الأخفش: (استوى أي علا تقول: استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته) (¬3). ونحو هذا قال أبو عبيدة (¬4). وعلى هذا التفسير معنى الآية: أنه عز وجل علا على العرش بقدرته وقوته، وخص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات. وعامة السلف أعرضوا عن الكلام في هذه الآية ونظائرها وذلك طريقة مالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري رحمهم الله (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: (29). وانظر تعليق المحقق عليه. (¬2) "تهذيب اللغة" (سواء) 2/ 1794. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 631، "تهذيب اللغة" (سواء) 2/ 1794. (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 15. (¬5) إن أريد إعراضهم عن معانيها؛ فهذا قول المفوضة لا قول أهل السنة، فإن أهل السنة يثبتون الأسماء والمعاني والصفات الثابتة اللائقة بالله عز وجل، وأما الإعراض في آيات الصفات فإنما يكون للكيفية فهي التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ومثل هذا يقال في معنى الاستواء، فالمنهج السوي أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، فهو سبحانه مستو على عرشه عال على خلقه، ولا يلزم لهذا أي: لازم باطل مما يلزم لاستواء المخلوقين. قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 2/ 220: (وللناس في هذا المقام مقالات كثرة جدًّا يشير هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وإسحاق بن راهوية وغيرهم من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا وهو: إمرارها كما =

6

6 - قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية، تأويلها إنه مالك كل شيء ومدبره. وقوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} قال المبرد: (يعني الهواء) (¬1). {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} الثرى في اللغة معناه: التراب الندي، وثَرَّيْتُ التربة بللتها، ويقال: ثَرِيْتُ الأرضَ ثَرَّى فهي ثَرِيَّةٌ إذا ابتل ترابها بعد الجدوبة، وأَثْرَتْ فهي ثَرِيَّة إذا كثر ثَراها، ويقال: أرض ثَرِيَّةٌ أي ذات ثَرَى، والثَرى يستعمل في أشياء كثيرة يقال: قد بدا ثَرَى الماء من الفرس، وهو حين يندى بعرقه (¬2). وقال ابن الأعرابي: يقال: فلان قريب الثَّرَى بعِيد النَّبَط للذي يعد ولا وفاء له (¬3). ويقال: إِني لأَرَى ثَرَى الغضب في وجه فلان أي: أَثَره، ومنه قول الشاعر (¬4): وإِنَّي لَتَرَّاكُ الضغَّينَةِ قَدْ أَرَى ... ثَرَاهَا من المَوْلَى فَمَ أَسْتَثْيِرُهَا ¬

_ = جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل فإن الله لا يشبه شيء من خلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. انظر: "الإبانة عن أصول الديانة" ص 48، "شرح العقيدة الطحاوية" ص 313، "الرسالة التدمرية" ص 81، "مجمع فتاوى شيخ الإسلام" ابن تيمية 5/ 95، "أضواء البيان" 2/ 316. (¬1) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "التفسير الكبير" 22/ 8، "مجمع البيان" 7/ 5، "روح المعاني" 16/ 161، وقال: {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات الكائنة في الجو كالهواء، والسحاب، وخلق لا نعلمهم هو سبحانه يعلمهم. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (ثرا) 1/ 478، "الصحاح" (ثرا) 6/ 2291، "اللسان" (ثرا) 1/ 479، "المعجم الوسيط" (ثرى) 1/ 95، "مختار الصحاح" (ثرى) ص83. (¬3) "تهذيب اللغة" (ثرا) 1/ 479، "لسان العرب" (ثرا) 1/ 479. (¬4) نسبة في "الأغاني" إلى شبيب بن البرصاء، وذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (ثرى) 1/ 479، "لسان العرب" (ثرا) 1/ 479.

7

ويقال: الثَرَى بيني وبين فلان نَد، إذا لم ينقطع ما بينك وبينه، ومنه (¬1) قول جرير (¬2): فَلاَ تُوبِسُوا بَيْنِي وبَيْنَكُمُ الثَّرَى ... فإِنَّ الذِي بَيْنِي وبَيْنَكمُ مُثْرى والمفسرون يقولون في (الثرى) في هذه الآية: أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله عز وجل (¬3). 7 - قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرّ} اختلفوا في وجه هذا النظم، ومعنى الآية، وكان من حق المقابلة أن يقول: وإن أسررت القول فإنه يعلم السر. فقال المفضل: ({وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} أي: ترفع صوتك بالقراءة {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرّ وَأخْفَى} فلا تجهد نفسك بالمبالغة في رفع الصوت؛ فإنك وإن لم تجهر [به وأسررته علم ذلك السر) (¬4). وقال صاحب النظم: (معناه وإن تجهر بالقول فتظهره] (¬5) فهو يعلم ¬

_ (¬1) قول: (ومنه)، ساقط من نسخه: (ص). (¬2) البيت لجرير. انظر: "ديوانه" ص 213، "الصحاح" (ثرى) 6/ 2293، "لسان العرب" (ثرا) 1/ 480. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 15 أ، "بحر العلوم" 2/ 336، "النكت والعيون" 3/ 394، "معالم التنزيل" 5/ 263، "زاد المسير" 5/ 270، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 169. ود ذكر ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 157 بعض هذه الروايات وضعفها وقال غريبة جدًّا، ورفعها فيه نظر. (¬4) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 270، "التفسير الكبير" 22/ 8، "الفتوحات الإلهية" 3/ 82، "مجمع البيان" 7/ 6، "فتح القدير" 3/ 510. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (س).

السر وأخفى منه فكيف الجهر) (¬1). وذكر وجهًا آخر وهو: أن يكون في الكلام اختصار على معنى: وإن تجهر بالقول، أو لم تجهر فهو يعلم السر وأخفى منه. أي فما حاجتك إلى الجهر، أي: إن في غير الجهر كفاية لك. فأما معنى: (السر وأخفى) قال ابن عباس فيما روى عنه سعيد بن جبير: (السر ما علمت أنت مما أسررت في نفسك، وأخفى من السر ما لم يكن بعد وهو كائن) (¬2). وقال في رواية الوالبي: (السر: ما أسر ابن آدم في نفسه، وأخفى: ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، والله يعلم ذلك كله، فيعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد) (¬3). وهو قول مجاهد، وقتادة، وسفيان، والضحاك، وسعيد بن جبير (¬4). وأكثرهم قالوا: (السر ما أسره في نفسه، وأخفى: ما لم يحدث به نفسه مما يكون في غد) (¬5). وقال عكرمة: (السر: ما حدث به الرجل أهله، وأخفى: ما تكلمت به في نفسك) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرت نحوه كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 5، "البحر المحيط" 6/ 226، "روح المعاني" 16/ 162. (¬2) "جامع البيان" 16/ 140، "معالم التنزيل" 5/ 264، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 170، "الدر المنثور" 4/ 519. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 264، "زاد المسير" 5/ 271، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 170، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 158، "الدر المنثور" 4/ 518. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 14 "جامع البيان" 16/ 140 "بحر العلوم" 2/ 336 "النكت والعيون" 3/ 394، "الكشف والبيان" 3/ 15 ب. (¬5) "جامع البيان" 16/ 140، "النكت والعيون" 3/ 394، "زاد المسير" 5/ 271، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 170، "الدر المنثور" 4/ 519. (¬6) "جامع البيان" 16/ 139، "بحر العلوم" 2/ 336، "الكشف والبيان" 3/ 15 ب.

وهذا قول الحسن (¬1). وعلى هذا؛ المراد: وأخفى منه إلا أنه حذف منه للعلم به. قال المفضل: (ومثله قول القائل: الله أكبر، معناه: أكبر من كل شيء) (¬2). وأنشد قول الفرزدق (¬3): إِنَّ الذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُه أَعَزُّ وأَطْوَلُ معناه: أعز وأطول من دعائم بيتك، فحذفه للعلم به. قال المبرد: (لم يقل: وأخفى منه؛ لأنه قد ذكر السر فبان ما يتصل بأخفى، كقولك: فلان كالفيل أو أعظم، والعرب تحذف ما لا يبطل المعنى استخفافًا واختصارًا، ألا تراهم يقولون: أزيد أفضل أم عمرو، وتمام الكلام: أزيد أفضل من عمرو أم عمرو أفضل من زيد) (¬4). وقال زيد بن أسلم في قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}: (يعلم أسرار العباد، وأخفى سره عنهم فلا يعلم) (¬5). فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير محذوف؛ لأن أخفى على هذا القول أَفْعَل من الإخفاء. وعلى القول الأول أفعل من الخفاء، والألف للتفضيل. وذهب قوم إلى أن (أخفى) هاهنا بمعنى الخفي، وأفعل يأتي في الكلام ولا يراد به التفضيل. كقول الشاعر: ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 264، "الكشف والبيان" 3/ 15 ب، "الدر المنثور" 4/ 519. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) البيت للفرزدق. انظر: "ديوانه" 2/ 155، "الأشباه والنظائر" 6/ 50، "خزانة الأدب" 6/ 539، "شرح المفصل" 6/ 97، "المقاصد النحوية" 4/ 42، "لسان العرب" (كبر) 6/ 3808. (¬4) ذكره نحوه بدون نسبة الطبرسي في "مجمع البيان" 7/ 6. (¬5) "جامع البيان" 16/ 140، "النكت والعيون" 3/ 394، "معالم التنزيل" 4/ 264، "زاد المسير" 5/ 271.

8

تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وإنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلُ لَسْتُ فِيهَا بأَوحَدِ (¬1) أي: بواحد. وقيل في بيت الفرزدق: إن قوله: أعز وأطول؛ بمعنى: عزيزة طويلة، وهذا قول أبي عبيدة (¬2). قال ابن الأنباري: (وهذا القول يخالف الآثار, ويبعد متناوله عند أهل النحو، إذ ترتيب أفعل أن لا يعرى من التزيد حتى يقوم بذلك دليل عند الاضطرار والبناء على الأحرف، والأشهر عند أهل الأثر أوجب) (¬3). والأولى من هذه الأقاويل ما عليه المفسرون (¬4). 8 - قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} قال المبرد: يجوز أن يكون {اللهُ} ابتداء، وخبره {لا إِلَهَ إِلا هُو} ويجوز أن تكون خبر ابتداء على ¬

_ (¬1) البيت لطرفة بن العبد. انظر: "جامع البيان" 16/ 140، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 16، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 170. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 16. (¬3) ذكره نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 162، "المحرر الوجيز" 10/ 6، "البحر المحيط" 6/ 227. (¬4) قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 140: (والصواب من القول في ذلك قول من قال: معناه يعلم السر وأخفى من السر: لأن ذلك هو الظاهر من الكلام، ولو كان معنى ذلك ما تأوله ابن زيد لكان الكلام وأخفى الله سره؛ لأن أخفى فعل واقع متعد إذ كان بمعنى فعل، على ما تأوله ابن زيد، وفي انفراد أخفى من مفعوله والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل وأن تأويل الكلام: فإنه يعلم السر وأخفى منه، فإذا كان ذلك تأويله فالصواب من القول في معنى (أخفى) من السر أن يقال: هو ما علم الله مما أخفى عن العباد ولم يعلموه مما هو كائن ولما يكن). وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 2/ 8، "غريب القرآن" لعبد الله بن المبارك ص 243، "المحرر الوجيز" 16/ 6.

9

قدير: هو الله لا إله إلا هو، نعت) (¬1). والمعنى: لا معبود يستحق العبادة غيره. {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يعني: التسعة والتسعين التي ورد بها الخبر (¬2). والحسنى تأنيث الأحسن، كالكبرى والعليا، ووحدت الحسنى والأسماء جمع؛ لأنها مؤنثه والجماعة توصف بصفة المؤنث الواحد كقوله: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة} [النمل: 60]، و {مَارِبُ أُخْرَى} [طه:18]، كأنها اسم واحد للجميع (¬3). 9 - قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} روى سلمة عن الفراء: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 332، "البحر المحيط" 6/ 227، "روح المعاني" 16/ 164 "الفتوحات الإلهية" 3/ 82 (¬2) وهو ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لله تسع وتسعون اسمًا من أحصاها دخل الجنة". أخرجه البخاري في التوحيد، باب: لله عز وجل مائة اسم غير واحد 8/ 169، ومسلم في الذكر والدعاء، باب: في أسماء الله تعالى 4/ 2062. والحديث الذي فيه ذكر الأسماء أخرجه ابن ماجه 2/ 1269، والحاكم في "المستدرك" 1/ 16، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 15، والترمذي 5/ 530، وقال: هذا حديث غريب، وذكر الأسماء ليس له إسناد صحيح. وقال ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى" 6/ 379: (وتعيينها ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-). وقال النووي في "شرح مسلم" 7/ 17: (اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه إنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث: أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصرها). انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 2/ 802، "شرح أسماء الله الحسني" للرازي ص 36، "القواعد المثلى" للشيخ محمد بن عثيمين ص 13. (¬3) "الكشاف" 2/ 530 "البحر المحيط" 6/ 227، "روح المعاني" 16/ 165.

10

(هل (¬1) تكون جحدًا، وتكون خبرًا، قال: وقول الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، من الخبر معناه قد أتى، قال: والجحد أن يقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا. قال: ومن الخبر قولك للرجل: هل وعظتك، هل أعطيتك، تقرره بأنك قد وعظته وأعطيته) (¬2). فعلى هذا قوله {وَهَلْ أَتَاكَ} استفهام يراد به التقرير والخبر. أي: وقد أتاك (حديث موسى). وقال الكلبي: (لم يكن آتاه حديثه ثم أخبره) (¬3). والصحيح أنه استفهام تقرير بمعنى الخبر (¬4). وعلى هذا فسره ابن عباس، فقال: (يريد وقد أتاك) (¬5). قال أهل المعاني: (معنى ذكر قصة موسى عليه السلام هاهنا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- مما ناله من أذى قومه، وتثبيت بالصبر على ذلك، كما صبر أخوه موسى حتى نال الفوز في الدنيا والآخرة) (¬6). 10 - قوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا} قال وهب: (استأذن موسى عليه السلام شعيبًا (¬7) بالرجوع إلى والديه فأذن له، فخرج بأهله فولد له ابن في الطريق ¬

_ (¬1) في (س): (هل قد تكون). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 213. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 171، "التفسير الكبير" 22/ 14. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 264، "البحر المحيط" 6/ 229. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 171، "التفسير الكبير" 22/ 14، وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 264 بدون نسبة. (¬6) "الكشاف" 2/ 531، "البحر المحيط" 6/ 229، "التفسير الكبير" 22/ 14، "روح المعاني" 16/ 164. (¬7) لم يرد دليل صحيح في أن الذي صاهره موسى عليه السلام هو نبي الله شعيب، ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك شيء، وقد توسع شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد =

في ليلة شاتية مثلجة، وقد حاد عن الطريق فقدح موسى النار فلم تنور المقدحة شيئًا، فبينما هو في مزاولته ذلك أبصر نارًا من بعيد عن يسار الطريق، فذلك قوله: {إِذْ رَأَى نَارًا}) (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: (كان موسى رجلاً غيورًا لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته، فأخطأ الطريق في ليلة مظلمة فرأى نارًا من بعيد) (¬2) {فَقَالَ لِأَهْلِهِ} يريد امرأته بنت شعيب {امْكُثُوا} أقيموا مكانكم، الخطاب لامرأته ولكنه خرج على ظاهر لفظ الأهل، فإن الأهل يقع على الجماعة كما يقال: أهل البيت (¬3). {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} قال المبرد: (ويقول الذي يبصر الشيء من بعيد مما تسكن إليه نفسه: آنست كذا أي رأيته لي أنسًا، ويقال: أنس الطائر إذا ¬

_ = على من يقول بذلك القول في رسالة جميعها في ذلك ضمن "جامع الرسائل" 1/ 63، وقال فيها: وإن كان الثعلبي قد ذكر أنه شعيب النبي فقد قال ما ليس له به علم وما لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة ولا عمن يحتج بقوله من علماء المسلمين، وخالف في ذلك ما ثبت عن ابن عباس والحسن البصري مع مخالفته أيضًا لأهل الكتاب فإنهم متفقون على أنه في هو شعيب النبي فإن في التوراة عند اليهود والإنجيل الذي عند النصارى أن اسمه: (يثرون) وليس لشعيب النبي عندهم ذكر في التوراة. (¬1) "جامع البيان" 16/ 142، "زاد المسير" 5/ 272، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 171، "الكشف والبيان" 3/ 16 أ، "الدر المنثور" 4/ 519. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 171، وذكره نحوه البغوي في "تفسيره" 5/ 265، بدون نسبة، وابن عطية في "تفسيره" 10/ 7. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (أهل) 1/ 227، "الصحاح" (أهل) 4/ 1628، "القاموس المحيط" (أهل) ص 963.

كان مما يصيد فرأى صيدًا) (¬1). قال العجاج (¬2): أَنَسَ خِرْبَانَ فَضاَءٍ فَانْكَدَرْ وذكرنا هذا الحرف عند قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]، والأصل فيه ما ذكره المبرد. والمفسرون يقولون: (رأيت وأبصرت) (¬3). وقوله تعالى: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} القبس: شعلة من نار يقتبسها من معظم النار (¬4). قال أبو زيد: (أقبست الرجل علمًا بالألف، وقبسته نارًا إذا جئته بها، فإن كان طلبها قال: أقبسته بالألف) (¬5). وقال الكسائي: (أقبسته نارًا وعلمًا سواء، وقد يجوز طرح الألف منهما) (¬6). قال المبرد: (والأصل واحدة لأن كلاهما مستضاء به) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (أنس) 1/ 217، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 172، "البحر المحيط" 6/ 230. (¬2) البيت للعجاج. الخِرْب: ذكر الحبارى، وقيل: هو الحبارى كلها. انظر: "ديوانه" ص 17، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 287. (¬3) "النكت والعيون" 3/ 395، "معالم التنزيل" 5/ 265، "المحرر الوجيز" 10/ 8، "الكشاف" 2/ 531، "زاد المسير" 5/ 272. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (قبس) 3/ 2871، "مقاييس اللغة" (قبس) 5/ 48, "الصحاح" (قبس) 3/ 960، "لسان العرب" (قبس) 6/ 3510. (¬5) "تهذيب اللغة" (قبس) 3/ 2871. (¬6) "تهذيب اللغة" (قبس) 3/ 2871، "لسان العرب" (قبس) 6/ 3510. (¬7) انظر: "الفتوحات الإلهية" 3/ 83، "فتح القدير" 3/ 511.

11

وقوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قال ابن عباس: (من يدل على الطريق) (¬1) وقال مجاهد: (هاديًا يهدي إلى الطريق) (¬2). قال الفراء: (أراد: هاديًا فذكره بلفظ المصدر) (¬3). قال الزجاج: (رجاء أن يجد عند النار من يهديه للطريق) (¬4). لأن النار لا تخلو من أهل لها وناس عندها. قاله السدي (¬5). 11 - قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} قال ابن عباس: (لما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبًا من حسن ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة ولا كثرة ماء الشجرة يغير حسن ضوء النار، فسمع النداء من الشجرة {يَا مُوسَى}) (¬6). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 142، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 159، "الدر المنثور" 4/ 519. (¬2) "جامع البيان" 16/ 143، "الدر المنثور" 4/ 519. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 175. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 351. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشاف" 2/ 531، "زاد المسير" 5/ 272، "التفسير الكبير" 22/ 15، "مجمع البيان" 7/ 10، "روح المعاني" 5/ 369. (¬6) "بحر العلوم" 2/ 337، "معالم التنزيل" 5/ 511، "القرطبي" 11/ 172. قال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 293: (والنداء المذكور في جمغ الآيات المذكورة نداء الله له، فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى، ولا يعقل أنه كلام مخلوق ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم بعض الملاحدة الجهلة، فالله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام. وقال ابن تيمية -رحمه الله- في "العقيدة الواسطية" ص 35: قول أهل السنة في كلام الله أنه صفة من صفاته لم يزل ولا يزال يتكلم بكلام حقيقي بصوت لا يشبه أصوات =

12

قال نوف (¬1): (فلما سمع النداء قال: من أنت الذي تناديني وتدعوني؟ قال: أنا ربك الأعلى فذلك قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}) (¬2). وقرئ: {أَنِّي} بالفتح (¬3). قال الزجاج: (من فتح كان المعنى نودي أني أنا ربك. وموضع أن نصب، ومن كسر فالمعنى: نودي، فقال الله له: إني ربك) هذا كلامه (¬4) وشرحه أبو علي فقال: (من كسر فلأن هذا الكلام حكاية، كأنه نودي فقيل: يا موسى إني أنا ربك. ومن فتح كان المعنى: نودي بكذا، ونادى قد يوصل بحرف الجر) (¬5). قال (¬6): نَادَيْتُ باسمِ رَبِيْعةَ بَنِ مُكْدَّمٍ ... أَن المُنَوَّهَ باسْمِهِ المَوْثُوقُ 12 - وقوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الخلع: النزع، يقال: خلع ثوبه ¬

_ = المخلوقين وحروف يتكلم بما شاء ومتى ما شاء وكيف شاء وأدلتهم على ذلك كثيرة. وانظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 172، "الفتاوى" لابن تيمية 5/ 52. (¬1) قوله: (قال نوف)، ساقط من نسخة: (س). (¬2) "أنوار التنزيل" 4/ 19، "الفتوحات الإلهية" 3/ 84. (¬3) قرأ ابن كثير المكي، وأبو عمرو البصري: (أَنَّيَ) بفتح الألف والياء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ونافع: (إِني) بكسر الألف. انظر: "السبعة" ص 417، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 218، "المبسوط" في القراءات ص 247، "التبصرة" ص 258. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 351. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 218. (¬6) البيت للفرزدق يمدح فيه حمزة بن عبد الله بن الزبير. كما في أخباره في "الأغاني"، وذكرته كتب التفسير واللغة بدون نسبة. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 218، "المحرر الوجيز" 10/ 9، "البحر المحيط" 6/ 230، "خزانة الأدب" 2/ 521، "إيضاح الشعر" للفارسي ص 429، "مجمع البيان" 7/ 7.

خلعًا (¬1) والنعل: ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض، يقال: نَعِلَ، يَنْعَلُ، فهو نَاعِل، وانْتَعَل بكذا (¬2). واختلفوا لم أمر بخلع النعل فروى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية قال: "كانتا من جلد حمار ميت" (¬3). وهو [قول علي -رضي الله عنه-، وسفيان، وكعب والأكثرين (¬4). قال الكلبي: (كانت نعلاً، فقيل] (¬5) له: لا تدخل الوادي وهما ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (خلع) 1/ 1084، "مقاييس اللغة" (خلع) 2/ 209، "الصحاح" (خلع) 3/ 1205، "مختار الصحاح" (خلع) ص 78. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (نعل) 4/ 3614، "القاموس المحيط" (نعل) ص 1063، "لسان العرب" (نعل) 7/ 4477، "المفردات في غريب القرآن" (نعل) ص 449. (¬3) أخرجه الترمذي في "جامعه" كتاب اللباس، باب: ما جاء في لبس الصوف 7/ 240، وقال: (حديث غريب، وحميد هو ابن علي الكوفي ... منكر الحديث). وأخرجه مالك في "الموطأ" في ما جاء في الانتعال (795) موقوفًا على كعب الأحبار، وذكره ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" 2/ 688، في ترجمة حميد الأعرج، وابن جرير في "تفسيره" 16/ 144، وقال: (في إسناده نظر يجب التثبت فيه). والذهبي في "ميزان الاعتدال" 1/ 614، في ترجمة حميد الأعرج، والحاكم في "المستدرك" 2/ 379، وصححه، وقال الذهبي: (في الإسناد حميد بن قيس كذا وهو خطأ، إنما هو حميد الأعرج الكوفي أحد المتروكين). وأورده ابن حجر في "الكافي" ص 108، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 266، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 159، والسيوطي في "تفسيره" 4/ 522. وسبب إعلال العلماء لسند هذا الحديث وجود حميد الأعرج فقد ضعفه جمهور العلماء. انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 226، "الكامل" لابن عدي 2/ 688، "ميزان الاعتدال" 1/ 614، "تهذيب التهذيب" 3/ 53. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 14، "جامع البيان" 16/ 144، "النكت والعيون" 3/ 396، "زاد المسير" 5/ 273، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 159. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).

عليك) (¬1). وقال ابن عباس: (يريد: باشر الأرض بقدميك فإنك بواد مقدس) (¬2) وقال الحسن: (كانتا من جلد بقرة ذكية، ولكنه أمر بخلعها ليباشر تراب الأرض المقدسة فيناله بركتها) (¬3). وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، وابن جريج (¬4). قال ابن أبي نجيح: (يقول: أفض بقدميك إلى بركة الوادي) (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحو بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 16 ب، "بحر العلوم" 2/ 337، "الكشاف" 2/ 531، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 173، "التفسير الكبير" 22/ 17. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 144، "النكت والعيون" 3/ 396، "معالم التنزيل" 5/ 266، "زاد المسير" 5/ 273، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 173. (¬3) "جامع البيان" 16/ 144، "زاد المسير" 5/ 273، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 173. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 14، "جامع البيان" 16/ 144، "النكت والعيون" 3/ 396، "معالم التنزيل" 5/ 266. (¬5) "جامع البيان" 16/ 144. (¬6) قال الطبري في "تفسيره" 16/ 144: (وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمره الله تعالى بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي إذ كان واديًا مقدسًا، وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار، ولا لنجاستهما ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة، وإن قوله: (إنك بالواد المقدس) يعقبه دليلًا واضحًا على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا, ولو كان الخبر الذي روي عن ابن مسعود صحيحًا لم نعده إلى غيره، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه). وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 192: (وأظهرها عندي والله تعالى أعلم: =

وقوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} أي: المطهر (¬1). قال ابن عباس في رواية عطاء: (قدسته مرتين) (¬2). وهو قول عكرمة (¬3). وقال في رواية الوالبي: (المقدس المبارك) (¬4). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21]. وقوله تعالى: (طوى) قال ابن عباس: (هو اسم الوادي) (¬5). وهو قول جميع المفسرين (¬6). وقال الحسن: (أي طوى بالبركة مرتين) (¬7). فعلى هذا (طوى) مصدر من قولك: طويته طوى. قال عدي بن زيد (¬8): أُعَاذِلُ إِنَّ اللَّوْمَ في غَيْرِ كُنْهِه ... عَليَّ طُوى مِنْ غَيَّك المُتَرَدَّدِ ¬

_ = أن الله أمره بخلع نعليه أي: نزعهما من قدميه ليعلمه التواضع لربه حين ناداه، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم يستوجب من العبد كمال التواضع والخضوع، والله أعلم). (¬1) "جامع البيان" 16/ 145، "بحر العلوم" 2/ 337، "النكت والعيون" 3/ 396، "المحرر الوجيز" 10/ 10. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 396. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشف والبيان" 3/ 16 ب، "النكت والعيون" 3/ 396، "جامع البيان" 16/ 145، "معالم التنزيل" 3/ 213، "المحرر الوجيز" 10/ 10، "الكشاف" 2/ 531. (¬4) "جامع البيان" 16/ 145، "النكت والعيون" 3/ 396. (¬5) "جامع البيان" 16/ 145، "زاد المسير" 5/ 273، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 159، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 175، "الدر المنثور" 4/ 523. (¬6) "جامع البيان" 16/ 145، "ابن كثير" 3/ 159، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 175. (¬7) "جامع البيان" 16/ 145، "النكت والعيون" 3/ 396، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 175، "الدر المنثور" 4/ 523. (¬8) البيت لعدي بن زيد التميمي. انظر: "جامع البيان" 16/ 145، "زاد المسير" 5/ 273، "مجمع البيان" 7/ 9، "روح المعاني" 16/ 170، "لسان العرب" (طوى) 5/ 2730.

أراد إن لومك مكرر علي، والصحيح هو الأول. قال أبو إسحاق: ويجوز فيه أربعة أوجه، -يعني من القراءة -: ضم الطاء، وكسرها، والإجراء، وترك الإجراء (¬1)، فمن أجرى فلأنه مذكر سُمّيَ بمذكر على فُعَل نحو: حُطَم وصُرَد، ومن لم يجري ترك صرفه من جهتين أحدهما: أن يكون معدولًا عن طاء، فيصير مثل عُمَر. والآخر: أن يكون اسمًا للبقعة، كما قال الله عز وجل: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30]. قال: وإذا كُسِرَ طِوى فهو مثل: مِعى، وضِلع. ومن لم ينون جعله اسمًا للبقعة) هذا كلامه (¬2). وقال أبو علي: (الصرف من وجهين أحدهما: أن يجعل اسم الوادي فيصرف؛ لأنه مذكر سمَّي بمذكر. والوجه الآخر: أن يجعل طوى صفة، وذلك في قول من قال: إنه قُدس مرتين، فيكون طِوى كقولك: ثنى، ويكون صفة كقوله: {مَكَانًا سُوًى} [طه:58]، وقومٌ على، وجاء في (طوى) الضم والكسر، ما جاء في قوله: (مكان سوى) الكسر والضم، وكذلك يقال: ثِنى وثُنى. قال: ومن لم يصرف احتمل أمرين أحدهما: أن يكون (طوى) اسمًا لبقعة أو أرض وهو مذكر، فهو بمنزلة امرأة أسميتها باسم مذكر فيجتمع التعريف والتأنيث. والثاني: أن يكون معدولًا كعمر، فإن قلت: إن عمر معدول عن عامر، وهذا الاسم لا يعرف عمَّ عُدل، فإنه ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: (طُوى) غير مجراة، مضمومة الطاء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (طُوى) مجراة، مضمومة الطاء. وقرأ الأعمش، والحسن: (طِوى) بكسر الطاء. انظر: "السبعة" ص 417، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 219، "العنوان في القراءات" ص 129، "النشر" 2/ 319، "القراءات الشاذة" للقاضي ص 66. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 351.

13

لا يمتنع العدل عما لم يخرجوه إلى الاستعمال، ألا ترى أن جُمَع وكُتَع معدولتان عما لم يستعملا، فكذلك يكون طوى) (¬1). 13 - قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} قال الكلبي: (أنا اخترتك برسالتي لكي تقوم بأمري) (¬2). {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أي: اعمل بما آمرك به وأنهاك عنه. 14 - وقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فيه وجهان: أحدهما -وهو الذي عليه العامة-: أن معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، كنت في وقتها أو لم تكن (¬3). وهذا المعنى ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نسي صلاة، أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، إن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " (¬4). والثاني: معناه أقم الصلاة لأن تذكرني؛ لأن الصلاة لا تكون إلا بذكر الله. وهذا قول الحسن (¬5). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 219. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 267، "الكشاف" 2/ 532، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 176، "روح المعاني" 16/ 1701، "فتح القدير" 3/ 512. (¬3) "جامع البيان" 16/ 112، "بحر العلوم" 2/ 338، "النكت والعيون" 3/ 397، "معالم التنزيل" 5/ 267، "زاد المسير" 5/ 275، "ابن كثير" 3/ 160. (¬4) أخرجه البخاري في المواقيت، باب: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها 2/ 70، ومسلم في المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة 1/ 477، والترمذي في الصلاة 1/ 114، وأبو داود في الصلاة 1/ 250، والطبري في "جامع البيان" 16/ 148، والصنعاني في "تفسيره" 1/ 15، والإمام أحمد في "مسنده" 3/ 100. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 148، "المحرر الوجيز" 10/ 11، "النكت والعيون" 3/ 397، "الكشاف" 2/ 532، "زاد المسير" 5/ 275، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 177، "التفسير القيم" ص 357.

15

ومجاهد قال: (إذا صلى عبد ذكر ربه) (¬1). واختاره ابن قتيبة فقال: (لتذكرني فيها) (¬2). 15 - قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قال أكثر المفسرين: (أخفيها من نفسي)، وهذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء بن السائب (¬3). وهذا التفسير موافق لما روي: أن في مصحف أبي: (أكاد أخفيها من نفسي) (¬4)، (فكيف يعلمها مخلوق)، وفي بعض القراءات: (أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها) (¬5). قال أبو إسحاق: (والله أعلم بحقيقة هذا التفسير) (¬6). وكأنه لم يعلم (معنى) (¬7) هذا، وعلمه قطرب، والمبرد، وابن الأنباري، قال قطرب: (هذا على عادة مخاطبة العرب بعضهم بعضًا، إذا بالغوا في كتمان السر: كتمته حتى من نفسي، والمعنى لم أطلع عليه أحدًا) (¬8). وأنشد (¬9): ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 148، "النكت والعيون" 3/ 397، "معالم التنزيل" 5/ 267، "الدر المنثور" 4/ 524. (¬2) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 2/ 8. (¬3) "جامع البيان" 16/ 149، "بحر العلوم" 2/ 338، "النكت والعيون" 3/ 397، "معالم التنزيل" 5/ 267، "زاد المسير" 5/ 275. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 338، "النكت والعيون" 3/ 397، "معالم التنزيل" 5/ 267، "الكشاف" 2/ 532، "زاد المسير" 5/ 276. (¬5) "معالم التنزيل" 5/ 267، "الكشاف" 2/ 532، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 185، "الكشف والبيان" 3/ 16. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 352. (¬7) زيادة من (ص). (¬8) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 276، والقرطبي 11/ 185. (¬9) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 16 ب بدون نسبة, وكذلك القرطبي في =

أيامَ تَصْحَبني هِنْد وَأخبرُها ... ما أكتم النَّفْسَ مِنْ حَاجِي وأَسْرَارِي أي: أخبرها بما لا أطلع عليه أحدًا، هذا معناه. وقال المبرد: (هذا مستعمل في الكلام وجار على الأفواه أن يقول القائل -إذا أراد أن يستر شيئًا سترًا شديدًا-: أنا أسر هذا من نفسي، وأكاد أسره من نفسي. أي: أقارب ذلك، فيأتي على جهة المثل، وعلى المبالغة في ستر الشيء) هذا كلامه (¬1). وعلى هذا معنى الآية: إن الله تعالى بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله. وهذا موافق لما قال ابن عباس في تفسيره: (قد أخفها من الملائكة يقول: لا أظهر عليها أحداً). قاله في رواية سعيد بن جبير والوالبي (¬2). والمعنى: أنه لم يطلع على وقت قيام الساعة ملكًا مقربًا, ولا نبيًا، حتى لو جاز أن يخفيه عن نفسه أخفاها. قال ابن الأنباري: (والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف؛ لأن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت) (¬3). هذا معنى قول المفسرين في هذه الآية (¬4). وكاد -على قولهم- للمقاربة. ¬

_ = "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 185، وذكره "البحر المحيط" 6/ 233 بدون نسبة بلفظ: أيام تصحبني هند وأخبرها ... ما كدت أكتمه عني من الخبر (¬1) ذكرته كتب التفسير. انظر: "زاد المسير" 5/ 276، "البحر المحيط" 6/ 233، "مجمع البيان" 7/ 11، "فتح القدير" 3/ 513. (¬2) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 160، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 185، "الدر المنثور" 4/ 525. (¬3) ذكرته كتب التفسير. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 15، "زاد المسير" 5/ 276، "البحر المحيط" 6/ 233. (¬4) "جامع البيان" 16/ 149، "النكت والعيون" 3/ 397، "المحرر الوجيز" 10/ 5.

ولأهل المعنى وجوه من التأويل، قال ابن الأنباري وهو قول الأخفش: ({أَكَادُ أُخْفِيهَا}: أريد أخفيها) (1). وعلى هذا {أَكَادُ} لا يكون للمقاربة، ولا يحتاج أن يقال: من نفسي، يقول الله تعالى: أريد إخفاء الساعة. قال أبو بكر: (ويجوز أن يكون {أَكَادُ} مزيدًا للتوكيد فيكون المعنى: إن الساعة آتية أخفيها) (2). ونذكر جواز زيادة كاد عند قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، إن شاء الله. وقال قطرب: (يقال: أخفيت الشيء: إذا كتمته، وأخفيته: إذا أظهرته، كما يقال: أسررت الشيء بالمعنيين) (3). وذكر أبو عبيد: أخفيت بالمعنيين جميعًا (4). وهذا أيضًا مذهب أبي عبيدة في هذه الآية قال: (أخفيها أظهرها) (5). واحتج بقول الشاعر (6): فَإِنْ تَكْتِمُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ ... وَإِنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لاَ نَقْعُدِ رواه بضم النون، وغيره يرويه بفتحها من خفاء إذا أظهر. وقال أبو الفتح الموصلي: ({أَكَادُ أُخْفِيهَا} تأويله عند أهل النظر:

_ (1) و (2) "الأضداد" لابن الأنباري ص 97. (3) انظر: "تهذيب اللغة" (خفي) 1/ 1070، "لسان العرب" (خفا) 2/ 1216. (4) "تهذيب اللغة" (خفى) 1/ 1070. (5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 16. (6) البيت لامرئ القيس. انظر: "ديوانه" 1/ 1070، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 17، "الأضداد" لابن الأنباري ص 96، "تهذيب اللغة" (خفى) 1/ 1070 , "لسان العرب" (خفا) 2/ 1216.

أكاد أظهرها. وتلخيص هذه اللفظة: أكاد أزيل عنها خفاها، وخفاء كل شيء: غطاؤه، من ذلك خفاء القِرْبة للكساء الذي يكون عليها. وأَفْعلت يأتي والمراد به السَّلْب والنفي، كقولهم: أَعْجَمْت الكتاب وأَشْكَلته أي: أزلت عجمته وإشكاله، وأَشْكيته أزلت ما يشكوه) (¬1). وهذا الذي ذهبوا إليه في معنى الآية يوافق قول ابن عباس في رواية عطاء قال: (يريد: أكاد أظهرها) (¬2). وعلى هذا معنى الآية: إن الله تعالى أخبر عن إرادته إظهار الساعة كما قال: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]. غير أن هذا المعنى أصح في قراءة من قرأ: (أَخفيها) بفتح الألف (¬3)؛ لأن كلام العرب الجيد: خفيت الشيء: أظهرته، وأخفيته: سترته. قال الأزهري: (هذه اللغة الجيدة) (¬4). وقد روي: خفيت بالمعنيين المتضادين، كما روى أخفيت، وكتاب الله تعالى يفسر بأفصح اللغات. وروي عن بعض أهل اللغة في هذه الآية وجه آخر وهو أن المعنى: الساعة آتية أكاد، وتم الكلام هاهنا (¬5). والمعنى: أكاد أن آتي بها، ثم ابتدأ فقال: ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 38 (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 149، "الكشف والبيان" 3/ 16 ب، "بحر العلوم" 3/ 338، "المحرر الوجيز" 10/ 15، "زاد المسير" 5/ 277، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 160. (¬3) قرأ سعيد بن جبير: (أكاد أخفيها) بفتح الألف. انظر: "جامع البيان" 16/ 150، "الكشاف" 2/ 430، "تهذيب اللغة" (خفى) 1/ 1070، "المحتسب" 2/ 47. (¬4) "تهذيب اللغة" (خفي) 1/ 1070. (¬5) "جامع البيان" 16/ 152، "النكت والعيون" 3/ 973، "المحور الوجيز" 10/ 15، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 379.

16

أخفيها، والمعني: لكني أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى، وهذا وجه لا بأس فيه (¬1). وقوله تعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} قال ابن الأنباري: (من قال: أخفيها معناه: أظهرها، جعل اللام في {لِتُجْزَى} من صلة أخفيها، والمعنى: أظهرها للجزاء، ومن قال: أخفيها: أسترها، جعل اللام معلقة بقوله: إن الساعة آتية لتجزي كل نفس) (¬2). وبهذا قال الزجاج (¬3). وقوله تعالى: {بِمَا تَسْعَى} بما تعمل من خير وشر. 16 - قوله تعالى: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ} الصد: الصرف عن الخير، يقال: صده عن الإيمان وعن الحق، ولا يقال: صده عن الشر. والمعنى لا يمنعنك ولا يصرفنك (¬4). ¬

_ (¬1) والقول الأول هو قول جمهور المفسرين، قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 150: (والذي هو أولى بتأويل الآية من القول قول من قال: معناه أكاد أخفيها من نفسي؛ لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء. وإنما وجهنا معنى أُخفيها بضم الألف إلى معنى أسترها من نفسي؛ لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب الستر، يقال: قد أخفيت الشيء إذا سترته، وأما وجه صحة القول في ذلك فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم، وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئًا يقطع العذر، والذي ذكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف، قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلاً مستفيضًا). (¬2) "الأضداد" لابن الأنباري ص 96. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 353. (¬4) انظر "تهذيب اللغة" (صد) 2/ 1984 "مقاييس اللغة" (صد) 3/ 282، =

17

وقوله تعالى: {عَنْهَا} قال الفراء: (يريد عن الإيمان بها) (¬1). وقال الزجاج: (عن التصديق بها) (¬2). {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} أي: من لا يؤمن بأنها تكون. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} مراده وخالف أمر الله {فَتَرْدَى} فتهلك، يقال: رَدِيَ، يَرْدَى، رَدًى فهو رَدٍ، ومثله تَرَدَّى إذا هلك (¬3)، قال الله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11]. والظاهر أن هذا خطاب لموسى، ثم هو نهي لجميع المكلفين عن ترك الإيمان بالساعة والتأهب لها، وإنذار بالهلاك لمن فعل ذلك (¬4). وجعل أبو إسحاق هذا خطابًا لنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هو خطاب سائر أمته) (¬5). ومعنى {وَلَا يَصُدُّنَّكَ}: لا يصدنكم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1]، فَنُبِه النبي -صلى الله عليه وسلم- وخوطب هو وأمته بقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}. 17 - قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} قال أبو إسحاق: ¬

_ = "القاموس المحيط" (صد) 1/ 292، "لسان العرب" (صد) 7/ 2409. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 177. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 353. (¬3) انظر: "القاموس المحيط" (ردى) 4/ 1287، "الصحاح" (ردي) 6/ 2354، "لسان العرب" (ردى) 5/ 1630، "المفردات في غريب القرآن" (ردأ) ص 194. (¬4) "المحرر الوجيز" 10/ 16، "البحر المحيط" 6/ 233، "روح المعاني" 16/ 173. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 0353 الراجح -والله أعلم- أن الخطاب لموسى عليه السلام، وهو ما عليه جمهور المفسرين. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 16، "البحر المحيط" 6/ 233، "التفسير الكبير" 22/ 23.

18

({تِلْكَ} اسم مبهم يجري مجرى التي، ويوصل كما توصل التي , المعنى: ما التي بيمينك) (¬1). وقال الفراء: (معنى: {تِلْكَ} هذه) (¬2). و {بِيَمِينِكَ} في مذهب صلة لتلك؛ لأن تلك وهذه توصلان كما توصل الذي. فتلك على قول الزجاج بمعنى: التي، وعلى قول الفراء بمعنى: هذه، كما أن ذلك يكون بمعنى هذا، كما بينا في قوله: {ذَلِكَ} في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]. وقال أهل المعاني: (معنى سؤال موسى عما في يده من العصا التنبيه له عليها, ليقع المعجز بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها) (¬3). وقد كشف أبو إسحاق عن هذا المعنى فقال: (هذا الكلام لفظه لفظ الاستفهام ومجراه في الكلام مجرى ما يسأل عنه، ويجيب المخاطب بالإقرار به لتثبت عليه الحجة بعد ما اعترف، فيستغنى بإقراره عن أن يجحد بعد وقوع الحجة، ومثله من الكلام أن تُرِي المخاطب ماءً فتقول: ما هذا؟ فيقول ماء. ثم تحيله بشيء من الصبْع فإن قال: إنه لم يزل هكذا، قلت: ألست قد اعترفت بأنه ماء) (¬4). 18 - قوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} جواب الاستفهام والسؤال عما في يده، قال وهب: (لما قال موسى: {هِيَ عَصَايَ}، قال الله تعالى: وما تصنع بها) (¬5). ولا أحد أعلم منه بذلك، قال موسى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}؛ لأن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 353. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 177. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 339، "النكت والعيون" 3/ 399، "الكشاف" 2/ 533، "البحر المحيط" 6/ 233. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 354. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة.

هذا جواب السؤال عما يصنع بها؟ والسؤال الأول يكفيه من الجواب قوله: {هِيَ عَصَايَ} ومعنى التَوكُؤ (¬1): التحامل على العصا في المشي، ومنه الاتكَأ، أصله: الاوتكأ، والمعنى: أعتمد عليها إذا مشيت (¬2). وقوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قال الأصمعي: (هَشَّ يَهِشُّ هَشَّاً: إذا خبط الشجر فألقاه لغنمه) (¬3). قال الفراء: (أي أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه الغنم) (¬4). قال الراجز (¬5): أَهُشُّ بالعَصا عَلَى أَغْنَامِي مِنْ نَاعِمِ الأَرَاكِ وَالبَشَامِ قال الزجاج: (واشتقاقه من أني أُحيلُ الشيء إلى الهشاشة والإمكان) (¬6). وذلك أن الهش من كل شيء فيه رخاوة، يقال: رجل ¬

_ = انظر: "زاد المسير" 5/ 278، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 186، "التفسير الكبير" 22/ 26، "روح المعاني" 16/ 177. (¬1) في (س): (التوكيد)، وهو تصحيف. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (تكئ) 1/ 445، "لسان العرب" (وكأ) 8/ 4904، "المعجم الوسيط" (أوكأ) 2/ 1052، "المفردات في غريب القرآن" (وكأ) ص 532، "القاموس المحيط" (توكأ) (56). (¬3) "لسان العرب" (هش) 8/ 4667، "الصحاح" (هشش) 3/ 1027. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 177. (¬5) لم أهتد إلى قائله. وذكرته كتب التفسير واللغة بدون نسبة. والأراك، والبَشَام: نوعان من الشجر تأكلهما الماشية، وفي أغصانهما لين، ولهما ريح طيب، ويستاك بهما. انظر: "جامع البيان" 16/ 154، "النكت والعيون" 3/ 399، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 187، "مجاز القرآن" 2/ 17، "فتح القدير" 3/ 517، "تهذيب اللغة" (بشم) 1/ 340، "لسان العرب" (أرك) 1/ 64. (¬6) "معانى القرآن" للزجاج 3/ 354.

هَش، وجوز هش، وإذا خبط الشجر فسقط ورقه سهل على الغنم تناوله. قال عكرمة: (يقال: أضرب الشجر فيتساقط الورق على غنمي) (¬1). وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} المآرب: الحوائج، واحدتها مأرَبة بفتح الراء وضمها، حكاهما جميع أهل اللغة (¬2). وحكى ابن الأعرابي: (مأربِة بكسر الراء) (¬3). ومنه المثل: مَأرُبَة لا حَفَاوة (¬4). وكذلك الأرب والإربة ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31]. وقوله تعالى: {أُخْرَى} جاء على لفظ صيغه الواحدة؛ لأن مأرب في معنى جماعة، فكأنه جماعة من الحاجات أخرى. وقاله الزجاج (¬5). وذكرنا مثل هذا في قوله: {الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، قال مجاهد، وسفيان والمفسرون: (ولي فيها حاجات أخرى) (¬6). وقال عطاء، وقتادة: (منافع أخرى) (¬7). وذكر المفسرون تلك ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 154، "الدر المنثور" 4/ 526. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (أرب) 1/ 142، "مقاييس اللغة" (أرب) 1/ 89، "الصحاح" (أرب) 1/ 87، "لسان العرب" (أرب) 1/ 55، "المفردات في غريب القرآن" (أرب) ص 15. (¬3) "تهذيب اللغة" (أرب) 1/ 142، "لسان العرب" (أرب) 1/ 55. (¬4) "مجمع الأمثال" للميداني، "فرائد اللآلي في مجمع الأمثال" 2/ 273. والمعنى: إنما يكرمك لأرب له فيك، لا لمحبته لك. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 355. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 15، "جامع البيان" 16/ 154، "النكت والعيون" 3/ 399، "معالم التنزيل" 5/ 268، "الدر المنثور" 4/ 526. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 15، "الطبري" 16/ 154، "الدر المنثور" 4/ 526.

الحوائج التي كانت في عصاه، فقال ابن عباس في رواية عطاء: (إذا أتيت إلى بئر فقصر الرشا، وصلته بالعصا حتى ينال الماء، وإذا أصابني حر الشمس أقمتها في الأرض، وجعلت لي عليها ظلاً بثوب يسترني من الشمس، وإذا خفت شيئًا من هوام الأرض قتلتها بالعصا) (¬1). وقال وهب: (كان لها شعبتان ومحجن (¬2) تحت الشعبتين، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين، وكان إذا شاء ألقاها على عاتقه، فعلق بها قوسه، وكنانته (¬3)، ومَرْجونَته (¬4)، ومِخْلاته (¬5)، وثوبه وزادًا إن كان معه، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه) (¬6). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 187. (¬2) الحجن: اعوجاج الخشبة وغيرها. والمحجن: خشبة أو عصا معقفة الرأس. انظر: "تهذيب اللغة" (حجن) 1/ 753، "مقاييس اللغة" (حجن) 2/ 141، "القاموس المحيط" (حجن) 4/ 1188، "لسان العرب" (حجن) 1/ 791. (¬3) الكنانة: الجعبة تتخذ للنبل والسهام. انظر: "تهذيب اللغة" (كن) 4/ 3196، "الصحاح" (كن) 6/ 2188، "لسان العرب" (كنن) 7/ 3943، "المعجم الوسيط" (الكنانة) 2/ 801. (¬4) المَرْجُونة: القفة، وهي الزبيل، لها معاليق تعلق بها في آخر الزاد يوضع فيها الزاد والتمر. انظر: "تهذيب اللغة" (قفف) 3/ 3021، "القاموس المحيط" (رجن) 4/ 1199، "لسان العرب" (قفف) 6/ 3704. (¬5) المخلات: ما يوضع فيه الحشيش الرطب. وبه سميت المخلاة. والخلي: هو الحشيش الذي يحتش من بقول الربيع، وقد اختليته، وبه سميت المخلات، والواحدة خلاة، وأعطني مخلاة أخلي فيها. انظر: "القاموس المحيط" (الخلي) 4/ 1281، "لسان العرب" (خلا) 2/ 1258، "الصحاح" (خلا) 6/ 2331. (¬6) "الدر المنثور" 4/ 520، "التفسير الكبير" 22/ 27، "روح المعاني" 16/ 176.

19

19 - قوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} قال الكلبي: (ألقها من يدك) (¬1). وقال وهب: (قال له الرب: (ألقها يا موسى) فظن موسى أنه يقول ارفضها فألقاها على وجه الرفض) (¬2). ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون. 20 - فذلك قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} تشد، وتمشي مسرعة على بطنها. قال ابن عباس: (فابتلعت الصخور والشجر وكل ما مرت به) (¬3). 21 - وخاف موسى فناداه ربه: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} وذلك أن الله تعالى أراد أن يري موسى ما أعطاه من الآيات التي لا يقدر عليها مخلوق؛ لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون ولا يولي مدبرًا. ولم يذكر خوف موسى في هذه السورة، وذكر في سورة القصص (¬4). وقوله هاهنا: {وَلَا تَخَفْ} يدل على خوفه. وقوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} قال عطاء والسدي: (نردها عصا كما كانت) (¬5). ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "بحر العلوم" 2/ 339، "زاد المسير" 5/ 279، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 161. (¬2) "جامع البيان" 16/ 156، "معالم التنزيل" 5/ 269، "الدر المنثور" 4/ 520. (¬3) "جامع البيان" 16/ 156، "الكشاف" 2/ 534، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 190، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 161، "الدر المنثور" 4/ 527. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة [القصص: 31]: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 157، "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 36، "معالم التنزيل" 5/ 269، "زاد المسير" 5/ 270، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 161.

قال ابن عَباس: ({سِيرَتَهَا} حالتها) (1). وقال مجاهد. (هيئتها) (2). وقال أبو عبيدة: (خلقتها الأولى) (3). يقال لمن كان على شيء فتركه، ثم عاد فتحول إليه: عاد إلى سيرته. وقال المبرد: (أي يجعلها كما كانت) (4). والسيرة: الهيئة (5). والمعنى في الآية: أنها تجري على ما كانت تجري عليه من قبل، من كونها عصا، ونحو هذا قال أبو إسحاق في السيرة: (أنها الهيئة، يقال إذا كان القوم مشتبهين: هم على سيرة واحدة. قال: و {سِيرَتَهَا} منصوبة على إسقاط الخافض، وأفضى الفعل إليها، والمعنى: إلى سيرتها، فلما حذفت (إلى) أفضى الفعل، وهو {سَنُعِيدُهَا} فنصب) (6). قال وهب: (لما أمره الله بأخذها أدنى طرف المدرعة (7) على يده، فقال له مَلك: أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شيئًا؟ قال: لا, ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت. فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية وقبض، فإذا عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعه

_ (1) و (2) "جامع البيان" 16/ 157، "الدر المنثور" 4/ 527. (3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 18. (4) ذكر بلا نسبة في "المحرر الوجيز" 10/ 21، "زاد المسير" 5/ 180، "البحر المحيط" 6/ 235. (5) انظر: "القاموس المحيط" (السير) 2/ 4، "الصحاح" (سير) 2/ 691، "لسان العرب" (سير) 4/ 2169، "المفردات في غريب القرآن" (سار) ص 247. (6) "معاني القرآن" للزحاج 3/ 355. (7) المدرعة: ضرب من الثياب التي تلبس ولا تكون إلا من الصوف. انظر: "تهذيب اللغة" (درع) 2/ 175، "مقاييس اللغة" (درع) 2/ 268، "القاموس المحيط" (درع) 4/ 7، "الصحاح" (درع) 3/ 1206.

22

التي كان عهدها إذا توكأ بين الشعبتين) (¬1). 22 - قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} اختلفوا في الجناح هاهنا، فقال أبو عبيدة (كل ناحيتين جناحان) (¬2). وقال المبرد: (الجناح الجانب) (¬3). فعلى هذا الجنب والإبط جناح، وهذا قول الكلبي، والسدي في هذه الآية (¬4). واختيار ابن قتيبة (¬5). وقال الفراء، والزجاج: (جناح الإنسان عضده إلى أصل غبطه) (¬6). وهذا قول مجاهد قال: ({إِلَى جَنَاحِكَ} تحت عضدك) (¬7). وهذا القول أشبه؛ لأن يدي الإنسان مشبهتان بجناح الطائرة ولأنه قال: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} والمعنى: أدخل يدك تحت عضدك تخرج بيضاء، ولو كان المراد بالجناح الجنب والإبط لم يقل: تخرج. وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد إلى صدرك) (¬8). ولا أدري كيف فسر الجناح بالصدر!. ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 161، "الدر المنثور" 4/ 520، "روح المعاني" 16/ 179، "الزهد" للإمام أحمد ص 63. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 18. (¬3) ورد نحوه بلا نسبة في "بحر العلوم" 2/ 339، "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 191. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 339، "الكشف والبيان" 3/ 17 أ. (¬5) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 278. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 178، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 355. (¬7) "جامع البيان" 16/ 257، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 36، "النكت والعيون" 3/ 400، "معالم التنزيل" 5/ 270، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 162. (¬8) "التفسير الكبير" 22/ 30.

وقوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} أراد وأخرجها تخرج بيضاء، وكذلك قوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ} [النمل: 12]، المعنى: أخرجها تخرج، وذكرنا مثل هذا في قوله تعالى: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} [البقرة: 61]. قال ابن عباس: (كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار، كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءًا) (¬1). فذلك قوله: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص، في قول جميع المفسرين (¬2). قال الليث: (ويكنى بالسوء عن اسم البرص) (¬3). وقال أبو عمرو: ({سُوءٍ} أي: برص) (¬4). وقال المبرد: (السوء إذا أطلق فهو البرص، وإذا وصلوه بشيء فهو كل ما يسؤ، والأغلب عليه عند العرب من الأدواء البرص) (¬5). وقوله تعالى: (آية أخرى) قال الأخفش: (جعل {آيَةً} بدل من {بَيْضَاءَ}) (¬6). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 270، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 191. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 15، "جامع البيان" 16/ 158، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 36، "بحر العلوم" 2/ 339، "معالم التنزيل" 5/ 270. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (ساء) 2/ 1583، "لسان العرب" (سوأ) 4/ 2160. (¬4) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (ساء) 2/ 1583، "لسان العرب" (سوأ) 4/ 2160، "المفردات في غريب القرآن" (سوأ) ص 252، "مختار الصحاح" (سوأ) ص 134. (¬5) ذكر نحوه بلا نسبة في: "المحرر الوجيز" 10/ 22، "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "زاد المسير" 5/ 280، "البحر المحيط" 6/ 236، "تهذيب اللغة" (ساء) 2/ 1583. (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 629.

23

وقال الزجاج: (هي اسم في موضع الحال، المعنى: تخرج بيضاء مبينة آية أخرى. قال: ويجوز أن تكون منصوبة على آتيناك آية أخرى، أو نؤتيك آية؛ لأنه لما قال: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} كان في ذلك دليل أنه يعطى آية، فلم يحتج إلى ذكر آتينا؛ لأن في الكلام دليلاً عليه) (¬1). قال المبرد: (ولا تكون أخرى إلا بعد الأولى) (¬2) قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 20]. 23 - قوله تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} تأنيث الأكبر، وهي نعت الآيات، ولم يقل الأكبر لما ذكرنا في قوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]. ولو قيل الكبر لجاز وحسن، ولكن لوفاق رؤوس الآي جاءت الكبرى, ويجوز أن تكون {الْكُبْرَى} نعتًا لمنعوت محذوف على تقدير: لنريك من آياتنا الآية الكبرى, وهذا مذهب أبي عبيدة (¬3). وبه قال جماعة من المفسرين (¬4). قال ابن عباس: (كانت يد موسى أكبر آياته) (¬5). وقال الكلبي: (يده أعظم ما رأى من الآيات) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 355. (¬2) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" بلا نسبة 11/ 191، والرازي في "التفسير الكبير" 22/ 30. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 18. (¬4) "جامع البيان" 16/ 158، "معالم التنزيل" 5/ 270، "المحرر الوجيز" 10/ 22, "الكشاف" 2/ 534، "التفسير الكبير" 22/ 30. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "معالم التنزيل" 5/ 270، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 191. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 17 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 191، "التفسير الكبير" 22/ 30، "فتح القدير" 3/ 518.

24

وقال الثوري: (يده هي الآية الكبرى) (¬1). 24 - قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي: جاوز القدر في العصيان، وذلك أنه خرج من معصيته إلى فاحش تجاوز به معاصي الناس. قال أهل المعاني: (وفي الآية محذوف؛ لأن المعنى: إذهب إلى فرعون فادعه إلى توحيد الله {إِنَّهُ طَغَى}؛ لأنه أمر بالذهاب إليه، وأن يدعوه إلى التوحيد) (¬2). 25 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ذكرنا الكلام في معنى شرح الصدر في سورة الأنعام (¬3). يقول افتح صدري ووسعه لقبول الحق. ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 270، "الكشف والبيان" 3/ 17/ ب، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 191، "التفسير الكبير" 22/ 30، "الفتوحات الإلهية" 3/ 88. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 237: (ويبعد ما قيل من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا؛ لأنه ذكر عقيب اليد). {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} لأنه جعل الكبرى مفعولاً ثانيًا لنريك وجعل ذلك راجعًا إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سؤ، وقد ضعف قوله هذا؛ لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون، وأما العصا ففيها تغيير اللون، وخلق الزيادة في الجسم، وخلق الحياة، والقدرة، والأعضاء المختلفة، وابتلاع الشجر والحجر ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مرارًا فكانت أعظم من اليد). (¬2) "جامع البيان" 16/ 158. (¬3) عند قوله سبحانه في سورة [الأنعام: 125]: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}.

26

قال ابن عباس: (يريد حتى لا أخاف غيرك. وذلك أنه كان يضيق صدره بما كلف من مقاومة فرعون وحده، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحدًا لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله، وإذا علم ذلك حق العلم لم يخف فرعون وإن اشتدت شوكته، وكثر جنوده) (¬1). 26 - قوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} قال ابن عباس: (يريد سهل علي مابعثتني له) (¬2). 27 - {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} العقدة: الربطة في الحبل والخيط (¬3). وأراد بالعقدة هاهنا رثة (¬4) كانت في لسانه، تمنعه من الإنطلاق في الكلام. قال سعيد بن جبير، وهو قول العامة: (عجمة من جمرة نار أدخلها في فيه) (¬5). والقصة في ذلك معروفة (¬6). قال ابن عباس: (يريد أطلق عن لساني ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 270. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 159، "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "المحرر الوجيز" 10/ 23، "معالم التنزيل" 5/ 271، "زاد المسير" 5/ 281. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (قعد) 3/ 2511، "مقاييس اللغة" (عقد) 4/ 86، "المعجم الوسيط" (عقد) 2/ 613، "المفردات في غريب القرآن" (عقد) ص 341. (¬4) الرثة: عجلة في الكلام، وقلة أناة، وقلب لبعض الحروف، فتسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الكلام. والأرث: الذي في لسانه قعدة وحبسه، ويعجل في كلامه, فلا يطاوعه لسانه. انظر: "تهذيب اللغة" (رث) 2/ 1359، "القاموس المحيط" (الرث) (169) , "لسان العرب" (رثت) 3/ 1580. (¬5) "جامع البيان" 16/ 159، "القرطبي" 16/ 11، "الدر المنثور" 4/ 528. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 36، "بحر العلوم" 2/ 339، "النكت والعيون" 3/ 400 , "معالم التنزيل" 5/ 271. =

29

العقدة التي فيه حتى يفهموا كلامي) (¬1). 29 - قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} قال المفسرون: (عونًا وظهيرًا من أهل بيتي) (¬2). قال أبو إسحاق: (الوزير في اللغة اشتقاقه من الوَزَرِ، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلكة، وزير الخليفة معناه: الذي يعتمد على رأيه في أموره ويلتجئ إليه. وقوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ} [القيامة: 11] معناه: لا شيء يعتصم به من أمر الله) (¬3). وقال غيره: (قيل لوزير السلطان: وزير؛ لأنه يَزِرُ عن السلطان أثقال ما أسند إليه من تدبير الولاية، أي: يحمل. وزَرْتُ الشيء أي: حملته، أَزِرُه وَزْرًا) (¬4). وذكرنا هذا عند قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ)} [الأنعام: 31]. الآية. وقال الليث: (الوَزِيرُ الذي يَسْتَوزره الملك فيستعين به، وصناعته الوزارة، وهو يُوَازر الملك مُوَازَرة أي: يعاونه، والزرع يُوَازِر بعضه بعضًا إذا ¬

_ = ذكر بعض المفسرون هذه القصة وبها فسروا العقدة، ولم يثبت في هذا خبر صحيح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد نسب هذا التفسير لبعض التابعين والذي يظهر -والله أعلم- أنه من قبيل الإسرائيليات، وأولى ما فسرت به العقدة ما ذكره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 18 حيث قال: مجاز العقدة في اللسان كل ما لم ينطق بحرف أو كانت منه مسكة من تمتمة أو فأفأة. (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "الكشاف" 2/ 535. (¬2) "جامع البيان" 16/ 160، "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "معالم التنزيل" 5/ 271. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 357. (¬4) "البحر المحيط" 6/ 239، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 278، "تهذيب اللغة" (وز) (4/ 3883، "القاموس المحيط" (الوزر) 2/ 528, "لسان العرب" (وزر) 8/ 4824.

30

تلاحق والتفَّ) (¬1). وذكر المفضل الوجهين اللذين ذكرناهما في الوزير) (¬2) 30 - قوله تعالى: {هَارُونَ أَخِي} يجوز في نصب {هَارُونَ} وجهان أحدهما: أنه مفعول الجعل على تقدير: اجعل هارون أخي وزيري. والثاني: على البدل من وزير. والوجهان ذكرهما الفراء، والزجاج (¬3). و {أَخِي} نعت لهارون. 31 - قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قال المفسرون: (قوي ظهري وأعني به) (¬4). قال ابن الأعرابي: (الأَزْرُ: القوة، والأزر: الظهر، والأزر: الضعف. وفسر قوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} بالقوة، والظهر والضعف) (¬5). وأنشد أبو عبيدة على أن الأزر في هذه الآية الظهر (¬6)، قول ذي الرمة (¬7): ¬

_ (¬1) ذكرت نحوه كتاب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 4/ 3883، "الصحاح" (وزر) 2/ 845، "القاموس المحيط" (الوز) ص 528، "لسان العرب" (وزر) 8/ 4824. (¬2) ذكرت نحوه كتاب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 243، "الصحاح" (وزر) 2/ 845، "القاموس المحيط" (الوزر) 2/ 154، "لسان العرب" (وزر) 15/ 284. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 178، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 356. (¬4) "جامع البيان" 16/ 160، "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "معالم التنزيل" 5/ 271، "زاد المسير" 5/ 282. (¬5) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 278، "تفسير غريب القرآن" لابن الملقن ص 245، "تهذيب اللغة" 4/ 3883، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 337. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 18. (¬7) البيت لذي الرمة. المحافظة: الذب عن المحارم، والمنع لها عند الحروب. انظر: "ديوان ذي الرمة" ص 220، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 18.

32

إِذَا مُدَّت الأَيْدِي الكِرَام إِلى العُلَى ... وشُدَّ لأَيَّامِ المُحَافَظَةِ الأَزْرُ ويقال: آزَرَه ووَازَرَه: إذا عاونه. ونذكر الكلام فيه عند قوله: {فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ} [الفتح: 29]. إن شاء الله. 32 - {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي: اجمع يبني وبينه في النبوة، فالمراد بالأمر هاهنا: النبوة، قاله ابن عباس، والكلبي (¬1). وقراءة العامة: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} على الدعاء، وقرأ ابن عامر: (أَشدد به أزري وأُشركه) على الجواب والمجازاة (¬2)، والوجه الدعاء؛ لأنه معطوف على ما تقدمه من قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 26,25]، فكما أن ذلك كله دعاء فكذلك ما عطف عليه، وأما الاشتراك في النبوة لا يكون إلا من الله سبحانه، اللهم إلا أن يجعل أمره شأنه الذي هو غير النبوة، وإنما ينبغي أن يكون النبوة، كما فسره ابن عباس. فأما {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} فحمله على الإخبار وغير الدعاء أسهل، ولا يسوغ أن يحمل {وَأَشْرِكْه} في أمري على غير النبوة؛ لأنه قد ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 161، "المحرر الوجيز" 10/ 26، "معالم التنزيل" 5/ 271، "زاد المسير" 5/ 282، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 192. (¬2) قرأ ابن عامر الشامي: (أَشدد به) بفتح الهمزة وجعلها ألف المتكلم، وقرأ: {وَأَشْرِكْه} بضم الهمزة على الجواب والمجازاة. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم: {اشْدُدْ بِهِ} بوصل الألف والإبتداء بالضم، وقرأوا: {وَأَشْرِكْهُ} بفتح الهمزة على الدعاء. انظر: "السبعة" ص 417، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 221، "التبصرة" ص 259، "حجة القراءات" ص 452، "المبسوط في القراءات" ص 247.

33

جاء ما يعلم فيه مسألة موسى لذلك (¬1)، وذلك قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي} [القصص: 34] الآية 33 - قوله تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} [قال الكلبي: (يقول: نصلي لك كثيرًا] (¬2). 34 - {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} بحمدك والثناء عليك بما أوليتنا من نعمك، ومننت به علينا من تحميل رسالتك) (¬3). فاستجاب الله دعاءه وقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} أي: أعطيت ما سألت. قال الكلبي: (فلق الله له صدره، وحل عقدة من لسانه، وبعث معه أخاه هارون) (¬4). قال الأزهري: (سُؤل الإنسان: أمنيته التي يطلبها، والتسويل تفعيل منه وهو تزين ذلك، وأصل السؤال مهموز، غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز لما كثر في كلامهم) (¬5). وقال الراعي فلم يهمز السول (¬6): اخْتَرْتُكَ النَّاسُ إِذْ رَثَّتْ خَلاَئِقُهُم ... واعْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَه السُّولُ ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 222. (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س). (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 272. (¬4) ذكره الطبري في "جامع البيان" 16/ 161 بدون نسبة، وكذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 26. (¬5) "تهذيب اللغة" (سول) 2/ 1791. (¬6) البيت للراعي. رثت: الرثأة قلة الفطنة، وضعف الفؤاد. والخليقة: الفطرة يقال: إنه لكريم الطبيعة، والخليقة، والسليقة بمعنى واحد. انظر: "تهذيب اللغة" (سول) 2/ 1791، "لسان العرب" (سول) 4/ 2157.

37

37 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} أي: أحسنا إليك وأنعمنا عليك قبل هذه المرة، والمن: الإحسان إلى من لا يَسْتَثيِبه (¬1). وذكرنا معاني المَن عند قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] الآية. 38 - وقوله تعالى: {مَرَّةً أُخْرَى} تفسيره قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} قال المفسرون: (وحي إلهام) (¬2). مثل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] أي: ألهمناها حين عيت بأمرك، بلطف إلهامنا إياها ما كان فيه سبب نجاتك من القتل. وقوله تعالى {مَا يُوحَى} أي: ما يلهم، ثم فسر هذا الملهم بقوله: 39 - {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ}. وذكر ابن الأنباري في قوله: {مَا يُوحَى} وجهين أحدهما: (أن معناه وأوحينا إلى أمك الذي يجوز أن يوحى إليها، والضرب الذي يمكن أن تكون مختصة به؛ لأنه ليس كل الأمور يصلح وحيها إليها، فكأنها اختصت بما يجوز أن يختص به أمثالها ممن ليس بنبي ولا رسول. والثاني: أن {مَا يُوحَى} أفاد في الآية توكيد أوحينا، كأنه قيل: أوحينا إلى أمك إيحاء) (¬3). ومعنى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} اجعليه فيه بأن ترميه فيه، واستعمل لفظ القذف هاهنا للعجلة، كي تعجل قبل أن يطلع ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (منّ) 4/ 3453، "القاموس المحيط" (منّ) ص 1233، "الصحاح" (منن) 6/ 2207، "لسان العرب" (منن) 7/ 4277،"المفردات في غريب القرآن" (منن) ص 474. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 37، "بحر العلوم" 2/ 340، "معالم التزيل" 5/ 272، "المحرر الوجيز" 10/ 26. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 283، والطبرسي في "مجمع البيان" 5/ 17.

عليها الذابحون. ومعنى القذف في اللغة: الرمي بالسهم والحصى والكلام وكل شيء، ويقال للسب: القذف؛ لأنه رمي بالقبيح من القول (¬1). وقوله تعالى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} قال ابن عباس: (يريد النيل) (¬2) قال الليث: ({الْيَمِّ}: البحر الذي لا يدرك قعره ولا شطاه) (¬3) قال الأزهري: ({الْيَمِّ}: البحر، وهو معرب وأصله بالسريانية، فعربته العرب وأصله: يم، ويقع اسم اليم على ما كان ماؤه ملحًا زعاقًا، وعلى النهر الكبير العذب الماء كالذي في هذه الآية، وهو نهر النيل بمصر وماؤه عذب. قال الله تعالى: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} فجعل له ساحلاً، وهذا كله دليل على بطلان قول الليث في اليم) (¬4). قال صاحب النظم: (اشترك في قوله: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ} الأمر والجزاء؛ لأنه جواب لقوله: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} وهو أمر بالإلقاء، فصار كقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، فقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} أمر وله جواب، وجوابه في قوله: (نحمل)، ودخول الواو واللام دلالة على استئناف أمر لنفسه، كما قال الشاعر (¬5): ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (قذف) 3/ 2907، "مقاييس اللغة" (قذف)، "القاموس المحيط" (قذف) (843)، "الصحاح" (قذف) ص 4/ 1414، "لسان العرب" (قذف) 6/ 3560. ويشهد لهذا المعنى قوله سبحانه في سورة [النور: 23]: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 161، "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 195. (¬3) "تهذيب اللغة" (يم) 4/ 3984. (¬4) نفسه. (¬5) اختلف في نسبة هذا البيت.

فَقُلْتُ ادْعِي وأَدْعُ فَإنَّ أَنْدَى ... لِصَوْتِ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ بمعنى: ولأَدْعُ أنا، فهو جواب وأمر لنفسه بذلك، وذكرنا هذا في قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ} [مريم: 75] (¬1)). وهذا الذي ذكره صاحب النظم شرح ما ذكره الفراء وبيانه (¬2). والساحل: شاطئ البحر، والوادي سمي ساحلاً؛ لأن الماء يسحله أي: يقشره إذا علاه، وهو فاعل بمعنى مفعول هاهنا، ذكره الأزهري (¬3). وذكر في التفسير: أن النيل ألقاه إلى مشرعة (¬4) آل فرعون (¬5). ¬

_ = فنسب للأعشى في "الكتاب" 1/ 426، "الرد على النحاة" ص 128، "العيني" 4/ 392، "الدرر" 2/ 9، وليس في ديوانه. ونسب للفرزدق في "آمالي القالي" 2/ 92، وليس في ديوانه. ونسب لدثار بن شيبان النمري ذكر ذلك: "الأغاني" 2/ 159، "سمط اللآلي" ص 726، "لسان العرب" (ندى) 7/ 4388. وذكر بغير نسبة في: "الإنصاف" 9/ 4، "سر صناعة الإعراب" 1/ 392، "مجالس ثعلب" ص 456، "معنى اللبيب" 1/ 397. (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 26، "الكشاف" 2/ 536، "البحر المحيط" 6/ 241، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 326. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 179. (¬3) "تهذيب اللغة" (سحل) 2/ 1645. (¬4) الْمَشْرَعةُ: التي يَشْرَعها الناس فيشربون منها ويستقون، وربما شرعوها دوابهم حتى تشرعها وتشرب منها، والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يستقى منه بالرشاء. انظر: "تهذيب اللغة" (شرع) 2/ 1858، "القاموس المحيط" (الشريعة) ص 732، "الصحاح" (شرع) 3/ 1236، "لسان العرب" (شرع) 4/ 2238. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "المحرر الوجيز" 10/ 26، "زاد المسير" 5/ 284، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 195.

وقوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} يعني فرعون، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قال ابن عباس في رواية عطاء: (لا يراك أحد إلا أحبك، لا مؤمن ولا كافر) (¬1). وقال سلمة بن كهيل (¬2): (حببتك إلى عبادي) (¬3). وقال عكرمة: (حسن وملاحة) (¬4). فحيث أبصرت وجهه آسيه (¬5)، قالت لفرعون: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} وروي عن ابن عباس أنه قال: (أحبه وحببه إلى خلقه) (¬6). وقال العوفي: (جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 284. (¬2) سلمة بن كهيل الحضرمي، التنعي، الكوفي أبو يحيى من كبار التابعين، روى له الستة، وروى عن سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما، وروى عنه الثوري وغيره، وهو ثقة، ثبت في الحديث، وكان فيه تشيع قليل، توفي -رحمه الله- سنة 121 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 221، "الجرح والتعديل" 2/ 170، "الكامل" 5/ 96، "تهذيب التهذيب" 4/ 115، "شذرات الذهب" 1/ 159. (¬3) "جامع البيان" 16/ 161، "النكت والعيون" 3/ 402، "معالم التزيل" 5/ 272، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 164، "الدر المنثور" 4/ 529. (¬4) "جامع البيان" 16/ 161، "النكت والعيون" 3/ 402، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 196، "الدر المنثور" 4/ 529. (¬5) آسية بنت مزاحم، زوجة الطاغية فرعون، وهي من أفضل النساء لإيمانها وصبرها , وقد ورد بذلك الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما رواه الإمام أحمد 1/ 316، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" 2/ 594 أنه قال: "أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مز احم امرأة فرعون". (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "معالم التنزيل" 5/ 273، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 196.

رآه) (¬1). وقال قتادة: (ملاحة كانت في عيني موسى ما رآه أحد إلا عشقه) (¬2). وقال في رواية سعيد بن جبير: (ألقى عليه منها محبة لم يلق منها على أحد من البشر) (¬3). وهذا كلام المفسرين. فأما ظاهر اللفظ فإنه يقتضي أن الله تعالى أحبه، وحب الله تعالى إياه أعظم نعمة وأجمل إحسان (¬4). ومن قال: إنه حببه إلى خلقه كان المعنى: ألقيت عليك محبة للعباد، وهي مني مخلوقة لي. ومن فسر هذه المحبة بالحسن والجمال كان المعنى: ألقيت عليك سبب محبة، فسمي سبب الحب حبًا، أو حذف المضاف. وقال أبو عبيدة في هذه الآية: (يقول: جعلت لك محبة عندي وعند ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 196. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "معالم التنزيل" 5/ 273، "زاد المسير" 5/ 284، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 196، "الدر المنثور" 4/ 529. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 161، "المحرر الوجيز" 10/ 29، "التسهيل لعلوم التنزيل" ص 403، "مجمع البيان" 7/ 18، "روح المعاني" 16/ 189. (¬4) قال الإمام الطبري في "تفسيره" 16/ 161: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله ألقى محبته على موسى كما قال جل ثناؤه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فحببه إلى آسية امرأة فرعون حتى تبنته وغذته وربته. وقال ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" ص 20: (ومحبة الله صفة من صفاته الفعلية ودليلها قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. ويشهد لهذا ما رواه البخاري في التوحيد، باب: كلام الرب مع جبريل قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض".

غيري) (1). أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك امرأته آسية فتبنتك. واستعملت لفظة الإلقاء للمبالغة في هذا المعنى، والعرب تقول إذا أحب الواحد منهم أخاه: ألقيت عليك رحمتي وشفقتي، فيكون هذا أبلغ من قولهم: رحمتك وأشفقت عليك (2). وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ} قال المفسرون: (ولتربي تغذي) (3). يقال: صنع الرجل جاريته، وصنعها إذا رباها، وصنع فرسه إذا داوم على علفه والقيام عليه، ومن هذا يقال: فلان صنيع فلان، وصنيعته، إذا رباه وأبه حتى يخرجه (4). وقوله تعالى: {عَلَى عَيْنِي} ذكر المفسرون في تفسيره: (مرآى مني) (5). وهو جائز من حيث اللفظ، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله لا يغيب عن رؤيته شيء. والصحيح في هذا ما روى قتادة أنه قال: (لتغذى على محبتي وإرادتي) (6). واختاره أبو عبيدة وذكره فقال: (أي لتربي وتغذي على محبتي وما أريد.

_ (1) و (2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 19. (3) "جامع البيان" 16/ 162، "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 38، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 179. (4) انظر: "تهذيب اللغة" (صنع) 2/ 2065، "القاموس المحيط" (صنع) ص 738, "الصحاح" (صنع) 3/ 1245، "لسان العرب" (صنع) 4/ 2508. (5) "جامع البيان" 16/ 163، "الكشف والبيان" 3/ 17 ب، "معالم التنزيل" 5/ 273 , "المحرر الوجيز" 10/ 30. (6) "النكت والعيون" 3/ 402، وذكرته كتب التفسير بدون لفظ الإرادة. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 16، "جامع البيان" 16/ 162، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 179، "الدر المنثور" 4/ 529.

قال: والعرب تقول: اتخذه لي على عيني، أي على محبتي) (¬1). وقال ابن الأنباري: (العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غذى فلان على عيني أي على المحبة مني والإشفاق) (¬2). وأنشد لخفاف بن ندبة (¬3): إِن تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُها ... فَعَمْدًا عَلى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا وذكر صاحب النظم في اللام التي في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أوجهًا أحدها: (أنها متصلة بما قبلها، وهو قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}؛ لأن ذلك الإيحاء كان من أسباب تربية موسى على ما أراد الله، وعلى هذا يجب أن تكون الواو مقحمة زائدة في {وَلِتُصْنَعَ}. الثاني: أن اللام متصلة بما بعدها، وهو قوله تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} كأن المعنى: ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 19. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 284، والألوسي في "روح المعاني" 16/ 190. وقال ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" ص 22: (إن عيني الله من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به ينظر بهما ويبصر ويرى ودليل ذلك قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ولا يجوز تفسيرها بالعلم ولا بالرؤية مع نفي العين لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف على ثبوت العين لله). وأولى ما حملت عليه هذه الآية أن يقال فيها: أي: على نظر مني ومرئ فأنت بحفظي ورعايتي. انظر: "الفتاوى" لابن تيمية 3/ 133، "تيسير الكريم الرحمن" 5/ 156، "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى" ص 90. (¬3) البيت لخفاف بن ندبة، قاله بعد قتله لمالك بن حمار، سيد بني شمخ بن فزارة. انظر: " الشعر والشعراء" ص 212، "الخزانة" 5/ 443، "الأغاني" 13/ 135، "لسان العرب" (عين) 6/ 3199.

40

ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك، وقولها: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} قال: وقيل أيضًا: ولتصنع على عيني فعلمنا ذلك، كما قلنا في مثل هذا في مواضع) (¬1). 40 - قوله تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} [يعني حين قالت لها أم موسى: قصيه فاتبعت موسى على أثر الماء. وقوله تعالى: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص: 12] الآية. (¬2)، قال الفراء: (كثير وهو من كلام العرب أن تجتزي بحذف كثير من الكلام إذا كان المعنى معروفًا) (¬3). وقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أي: يرضعه ويضمه إليه (¬4)، وذكرنا هذا عند قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]. فقيل له: ثم رددناك إليها كي تقر عينها بك وبرؤيتك. وذكرنا الكلام في قراءة العين عند قوله: {وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم: 26]. وقوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} يعني: القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه (¬5). ¬

_ (¬1) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 537، "البحر المحيط" 6/ 242، "التفسير الكبير" 22/ 54، وقال: ويجوز أن تكون الواو مقحمة أي: ألقيت عليك محبة مني لتصنع، وهذا بعيد. وقال الألوسي في "روح المعاني" 16/ 190: وزعم أنه متعلق بألقت على أن الواو مقحمة ليس بشيء. (¬2) في (ص) قال: (حين تركت موسى المراضع). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 179. (¬4) "جامع البيان" 16/ 163، "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "بحر العلوم" 2/ 340، "معالم التنزيل" 5/ 273، "زاد المسير" 5/ 285. (¬5) كما قال سبحانه في سورة [القصص: 15]: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا =

وقوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} قال ابن عباس: [(يريد الهم الذي كنت تخافه من عذاب الله، ومن قتل فرعون، فخلصناك منه حين هربت إلى مدين) (¬1). وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: (أختبرناك اختبارًا) (¬2). واختاره الزجاج، وابن قتيبة (¬3). وقال الفراء: (أبتليناك بغم القتل) (¬4). وتفسير {وَفَتَنَّاكَ} بالاختبار والابتلاء صحيح، إلا أنه لا يأتي بالمعنى هاهنا، والوجه ما ذكره ابن عباس في رواية عطاء قال: (يريد خلصناك إخلاصًا من الذبح وغيره) (¬5). وهذا قول سعيد بن جبير حين سأله عن الفتون ما هو؟ في حديث طويل (¬6). ¬

_ = فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}. (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 164، "زاد المسير" 5/ 285، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 164، "التفسير الكبير" 22/ 54، "ارشاد العقل السليم" 6/ 16. (¬2) "جامع البيان" 16/ 164، "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "معالم التنزيل" 5/ 273، "زاد المسير" 5/ 285، "الدر المنثور" 4/ 529. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 357، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 279. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 179. (¬5) "جامع البيان" 16/ 164، "الكشف" 2/ 237، "زاد المسير" 5/ 285. (¬6) "جامع البيان" 16/ 164، "بحر العلوم" 2/ 340، "الكشف" 2/ 537، "ابن كثير" 3/ 164، وقال -رحمه الله- بعد أن ساق الحديث بطوله: وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس -رضي الله عنه- مما أبيح =

وعن مجاهد في رواية ابن أبي نجيح قال: (الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها أولها: أن أمه حملته في السنة التي كان يذبح الأطفال فيها، ثم: إلقاؤه في البحر، ثم: منعه الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم: جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم: تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم: مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتله) (¬1). وهذا معنى قولهما وقد اختصرته. وكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير ويقول عند كل بلية: (هذا من الفتون يا ابن جبير) (¬2). ويؤكد هذا ما روي عن سفيان أنه قال: (بلغني عن ابن عباس في هذه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قال: بلاء على كل بلاء) (¬3). وعلى هذا معنى {وَفَتَنَّاكَ}: خلصناك من تلك المحن، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبيث وشائب (¬4). والفتون مصدر. قال ابن الأنباري في القول الأول: (معناه الامتحان الذي يبتلى معه صبر الممتحن، والأنبياء وأهل الخير يختبرهم الله تعالى ليسعدهم، ويجعل حسن العقبى لهم، فتفسير: {وَفَتَنَّاكَ} ابتليناك بغم القتل، يعني: قتل ¬

_ = نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره والله أعلم. انظر: "الدر المنثور" 4/ 530، "مجمع الزوائد" للهيثمي 7/ 66، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير أصبغ بن زيد، والقاسم بن أبي أيوب وهما ثقتان. (¬1) "جامع البيان" 16/ 164، "النكت والعيون" 3/ 403، "معالم التنزيل" 5/ 273، "زاد المسير" 5/ 285، "الجامع" 11/ 198. (¬2) "جامع البيان" 16/ 164، "بحر العلوم" 2/ 341، "الكشاف" 2/ 537، "زاد المسير" 5/ 285، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 164، "الدر المنثور" 4/ 530. (¬3) "زاد المسير" 5/ 285. (¬4) انظر (فتن) في: "تهذيب اللغة" 3/ 274، "مقاييس اللغة" 4/ 472، "القاموس المحيط" (1220)، "لسان العرب" ص 3344.

القبطي. والفتنة] (¬1) في القول الثاني: الإخلاص من قولهم: فتنته (¬2) فتنة في النار، إذا خلصته مما يتعلق به مما يفسده) (¬3). وقوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ} [نظم الآية: وفتناك فتونًا، فخرجت خائفًا إلى أهل مدين، فلبثت سنين] (¬4) ولكنه من الحذف الذي ذكره الفراء (¬5). وقوله تعالى: {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} يعني بلد شعيب، وكان على ثمان مراحل من مصر. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قال ابن عباس: (يريد موافقًا للنبوة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة) (¬6). وقال قتادة: (على قدر الرسالة والنبوة) (¬7). وقال ابن كيسان: (على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء) (¬8). والعرب تقول: جاء فلان على قدر، إذا جاء لميقات ¬

_ (¬1) من قوله: (يعني حين قالت لها أم موسى ..) إلى هنا ساقط من نسخة (س)، ومن قوله: (يريد الهم الذي كنت تخافه ..) إلى هنا ساقط من نسخة (ص). (¬2) قوله: (فتنه) ساقط من نسختي: (س، ص). (¬3) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 537، "زاد المسير" 5/ 285، "البحر المحيط" 6/ 243. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬5) "جامع البيان" 16/ 167، "معاني القرآن" للفراء 2/ 179. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 198. (¬7) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "جامع البيان" 16/ 167، "النكت والعيون" 3/ 403، "ابن كثير" 3/ 164. (¬8) "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "معالم التنزيل" 5/ 274، "القرطبي" 11/ 198.

الحاجة إليه (¬1)، قال جرير (¬2): نَالَ الخِلاَفَةَ إِذْ كَانَتْ لَه قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ وعلى هذا معنى القدر: قدر السن [الذي هو: أربعون سنة] (¬3) وهو مبلغه. قال الزجاج: (قيل: على قدر من تكليمي إياك) (¬4). وهو هذا المعنى الذي ذكرناه وإنما لم يوصف القدر وهو نكره؛ لأنه معلوم عند الله، وعند الناس كم هو. وقال مجاهد: ({عَلَى قَدَرٍ} علي موعد) (¬5). وهذا أيضًا بالمعنى الأول؛ لأنه لم يسبق بين الله وموسى مواعدة للمجيء حتى يقال: إن موسى أتى على ذلك الوعد، ولكن المعنى: على الموعد الذي وعده الله وقدره في علمه أن يوحي إليه الرسالة وهو أربعون سنة. وهذا معنى قول محمد بن كعب: (ثم جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء) (¬6). وقال الفراء: (يريد على ما أراد الله من تكليمه) (¬7). يعنىِ على ذلك السن. وقال الكلبي: (وافق الكلام عند الشجرة) (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 167، "تهذيب اللغة" (قدر) 3/ 2896، "لسان العرب" (قدر) 11/ 3545. (¬2) البيت لجرير من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-. انظر: "ديوانه" ص 211، "جامع البيان" 16/ 168، "النكت والعيون" 3/ 404، "الأضداد" ص 279، "أمالي المرتضى" 2/ 57، "همع الهوامع" 1/ 167. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 357. (¬5) "جامع البيان" 16/ 168، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 38، "النكت والعيون" 3/ 403، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 198، "ابن كثير" 3/ 157. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "معالم التنزيل" 5/ 274، "القرطبي" 11/ 198. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 179. (¬8) "الكشف والبيان" 3/ 18 أ.

41

وقال الليث: (وإذا وافق الشيء الشيء قلت: جاء قدره) (¬1). وروى مغيرة (¬2) عن إبراهيم: (أنه كان يكره أن يضرب المثل في القرآن) (¬3). مثل قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}. 41 - قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الاصطناع: اتخاذ الصنيعة وهي الخير تسديه إلى الإنسان، وهذا افتعال من الصنع (¬4). قال الشاعر (¬5): فَإذا اصْطَنَعْتَ صَنِيعَة فَاقْصد بِها ... الله ولِذَوي القَرَابة أَودَع ومعنى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} قال ابن عباس: (يريد اصطنعتك لوحيي ورسالتي) (¬6). وقال الكلبي (¬7): (اخترتك بالرسالة لنفسي، لكي تحبني وتقوم بأمري) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (قدر) 3/ 2896. (¬2) مغيرة بن مقسم الضبي أبو هاشم، مولاهم، الكوفي، الأعمى أحد الأئمة الأعلام، ومن رواة السنة، روى عن إبراهيم النخعي، وروى عنه الثوري، وثقه العلماء وكان ذكيًا، حافظًا، صاحب سنة توفي -رحمه الله- سنة 136 هـ وقيل غير ذلك. انظر: "الطبقات لابن سعد" 6/ 235، "الجرح والتعديل" 4/ 228، "التذكرة" للذهبي 1/ 135، "ميزان الاعتدال" 2/ 496، "تهذيب التهذيب" 10/ 269، "شذرات الذهب" 1/ 191. (¬3) لم أهتد إليه. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (صنع) 2/ 2065، "القاموس المحيط" (صنع) ص 738، "الصحاح" (صنع) 3/ 1245، "لسان العرب" (صنع) 4/ 2508. (¬5) البيت لهذيل الأشجعي. انظر: "تهذيب اللغة" (صنع) 2/ 2065، "الكامل" 2/ 123. (¬6) "زاد المسير" 5/ 286، "القرطبي" 11/ 198،"روح المعاني" 16/ 193. (¬7) في (س): (قال الكلبي: تقول اخترتك). (¬8) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 168، "معالم التنزيل" 5/ 274، "زاد المسير" 5/ 286، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 170، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 199.

قال أهل المعاني: (معنى {لِنَفْسِي} لتتصرف بإرادتي ومحبتي). وجاز {لِنَفْسِي} بمعنى لمحبتي؛ لأن المحبة أخص شيء بالنفس، فحسن أن يجعل ما اختص بها مختصًّا بالنفس على هذا الوجه. وهذا معنى قول ابن عباس: (لوحيي ورسالتي) (¬1). لأن تبليغه الوحي وقيامه بأداء الرسالة تصرف على إرادة الله تعالى ومحبته (¬2). وقال بعضهم: (معنى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}: اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي) (¬3). أي: لتتكلم عني وتبلغ عني وتقيم حجتي على خلفي. وهذا ظاهر في معنى لنفسي، وقد كشف عنه أبو إسحاق فقال: (تأويله: اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب عني والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 199، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 198 "روح المعاني" 16/ 193. (¬2) قال ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 264: وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيستدل بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية كاليد والوجه قال أبو حنيفة: (له يد ووجه ونفس كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس فهو له صفة بلا كيف) فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفيًا ولا إثباتًا لئلا يثبت معنى فاسد أو ينفى معنى صحيح وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 170: أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي أي: كما أريد وأشاء. انظر: "الفقه الأكبر" ص 36، "تيسير الكريم الرحمن" 5/ 158، "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى". (¬3) "المحرر الوجيز" 10/ 32، "روح المعاني" 16/ 193.

42

عليهم) (¬1). 42 - قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} قال ابن عباس: (يعني الآيات التسع التي بعث بها موسى) (¬2). وقال آخرون: (بحججي) (¬3). وقال ابن الأنباري: (يجوز أن يريد {بِآيَاتِي} العصا، واليد، وأوقع عليهما اسم الجمع، ويجوز أن يريدهما مع حل العقدة من لسانه التي لم يزل موسى يعرف بها) (¬4). قال الكلبي: (وكان هارون يومئذ بمصر، فألهم أن يتلقى موسى، فتلقاه من مصر، فلما لقي موسى قال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي) (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا تَنِيَا} أي: (لا تضعفا ولا تفترا)، قاله المفسرون (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 274، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 198، "روح المعاني" 16/ 193. ويشهد لذلك قوله سبحانه في سورة [الإسراء: 101]: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}. (¬3) "جامع البيان" 16/ 168، "زاد المسير" 5/ 286، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 170، "لباب التأويل" 4/ 270. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 287، وذكر بلا نسبة في "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "التفسير الكبير" 22/ 57، "البحر المحيط" 6/ 245. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 274 بدون نسبة، وكذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 287. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "جامع البيان" 16/ 169، "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 39، "بحر العلوم" 2/ 344.

43

يقال: وَنَى، يَنِي، وَنْيًا، ووَانٍ إذا ضعف (¬1). قال العجاج (¬2): فَمَا وَنَى مُحَمَد مُذْ أَنْ غَفَر ... لَه الإِلَه مَا مَضَى ومَا غَبَر ويقال: هو وَانٍ في الأمر ومُتَوَان. وقوله تعالى: {فِي ذِكْرِي} قال الفراء: (في ذكري، وعن ذكري سواء) (¬3). والمعنى: لا تقصرا في ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما. وذكر النعمة شكرها. 43 - قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} تكرير الأمر بالذهاب للتأكيد. {إنه طغى} قد مر في هذه السورة (¬4). 44 - {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} ذكر ابن عباس فيه قولين: أحدهما: (كنياه) (¬5)، وهو قول عكرمة، والسدي (¬6). واختلفوا في كنيته فقيل: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (وني) 4/ 3960، "مقاييس اللغة" (وني) 6/ 146، "القاموس المحيط" (الونى) 4/ 1344، "الصحاح" (وني) 6/ 2531، "لسان العرب" (وني) 8/ 4928. (¬2) البيت لرؤبة بن العجاج. انظر: "ديوانه" ص 15، "جامع البيان" 16/ 169، "النكت والعيون" 3/ 404. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 179. (¬4) عند قوله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24]. (¬5) "زاد المسير" 5/ 288، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 200، "الدر المنثور" 4/ 536، "روح المعاني" 16/ 195. (¬6) "جامع البيان" 16/ 169، "الكشف والبيان" 18/ 3 أ، "النكت والعيون" 3/ 405، "معالم التنزيل" 5/ 274. (¬7) الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "النكت والعيون" 3/ 405، "معالم التنزيل" 5/ 274, "زاد المسير" 5/ 288.

والثاني: (أن القول اللين هو: أن موسى أتاه فقال له: تسلم وتؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم إلى الموت، وملكًا لا ينزع منك حتى تموت، ولا ينزع منك لذة المطعم والمشرب والنكاح حتى تموت، وينسى في أجلك أربع مائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة) (¬1). فهذه الكلمات اللينات التي أتى بها موسى فرعون، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وأبي صالح السدي عن أبي مالك، ومرة عن ابن مسعود، وناس من الصحابة (¬2). وقال مقاتل: يعني بالقول اللين: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 19,18] (¬3). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أي: ادعوه على الرجاء والطمع، لا على الناس من فلاحه، فوقع التعبد لهما على هذا الوجه؛ لأنه أبلغ في دعائه إلى الحق بالحرص الذي يكون من الراجي (¬4). وقد كشف أبو إسحاق عن هذا المعنى فقال: (خاطب الله العباد بما ¬

_ (¬1) انظر المراجع السابقة والذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذا من أخبار بني إسرائيل، ولم يصح في ذلك شيء ولو كان في التفصيل هذا منفعة لنا لبينه القرآن الكريم وذكرته السنة النبوية. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 274، "زاد المسير" 5/ 288. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 18 أ، "معالم التنزيل" 5/ 274، "تفسير مقاتل" 2 أ. وقال القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره" 11/ 200: القول اللين هو: القول الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشيء يلين لينا، وشيء لين ولين مخفف منه، والجمع أليناء، فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولاً لينا، فمن دونه أحرف بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 275، "المحرر الوجيز" 10/ 33، "القرطبي" 11/ 200.

45

يعقلون، والمعنى في هذا عند سيبويه: اذهبا على رَجَائِكُمَا وطَمَعكُما (¬1). والعلم من الله قد أتى من رواء ما يكون، وإنما تبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب، ولا تدري أيقبل منها أم لا، وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم، ومعنى (لعل) متصور في أنفسهم، وعلى تصور ذلك تقوم الحجة، وليس علم الله بما سيكون يجب به الحجة على الآدميين، ولو كان ذلك لم يكن في الرسل فائدة) (¬2). وقال ابن الأنباري: (مذهب الفراء في {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} كي يتذكر ويخشى في تقديركما وما تمضيان عليه) (¬3). 45 - قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أي: يبادر ويعجل بعقوبتنا. قاله ابن عباس، ومجاهد، والمفسرون (¬4). وجميع أهل اللغة. [يقال: فَرَطَ علينا فلان إذا عجل بمكروه، وفَرَطَ منه أمرًا أي: بدر وسبق (¬5). وقال الكسائي] (¬6): (يقال: فَرَطَ عليهم، يَفْرُطُ، فُرُوطًا، وفَرْطًا، وفُرطَانا) (¬7). ¬

_ (¬1) "الكتاب" لسيبويه 2/ 148. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 357. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 288، "البحر المحيط" 6/ 246. (¬4) "جامع البيان" 16/ 170، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 39، "النكت والعيون" 3/ 405، "معالم التنزيل" 5/ 275، "زاد المسير" 5/ 289. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 358، "تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773, "مقاييس اللغة" (فرط) 4/ 490، "القاموس المحيط" (فرط) ص 680، "الصحاح" (فرط) 3/ 1148، "المفردات في غريب القرآن" (فرط) ص 376. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن (ص). (¬7) ذكرت نحوه كتب اللغة بدون فسبة. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2773، "لسان العرب" 6/ 3389، "المعجم الوسيط" (فرط) 2/ 683.

46

وقال الأصمعي: (يقال: فَرَطْتُ القوم، وأنا أَفْرِطُهم فَرْطًا إذا تقدمتهم، ومنه الفَارِطُ والفَرَطُ إلى الماء) (¬1). وذكرنا هذا الحرف عند قوله: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62]. وقال ابن الأعرابي: (الفَرَطُ: العجلة، يقال: فَرَطَ يَفْرُطُ) (¬2). وقوله تعالى: (أو أن يطغى) أي: يجاوز الحد في الإساءة بنا. قال الكلبي: (يقتلنا) (¬3). 46 - {قَالَ لَا تَخَافَا} جواب لقولهما: {إِنَّنَا نَخَافُ} [وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} وعد لهما في النصرة والمعونة والغلبة] (¬4) (¬5). وقوله تعالى: {أَسْمَعُ وَأَرَى} قال ابن عباس: (أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنع) (¬6). والمعنى: لست بغافل عنكم فلا تهتما (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773. (¬2) "تهذيب اللغة" (فرط) 3/ 2773. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشف والبيان" 3/ 18 ب، "معالم التنزيل" 5/ 275، "لباب التأويل" 4/ 270، "روح المعاني" 5/ 19. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن (ص). (¬5) إن ما جاء في القرآن من ألفاظ المعية حق على حقيقته وظاهره، يقول الشيخ ابن عثيمين في "القواعد المثلى" ص 71: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وتدبيرًا وسلطانًا وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه. وقال ابن سعدي في "تفسيره" 5/ 160: أي: أنتما بحفظي ورعايتي أسمع قولكما وأرى جميع أحوالكما فلا تخافا منه. انظر: "الفتاوي" لابن تيمية 5/ 103، "العقيدة الواسطية" ص 33. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 275. (¬7) السمع والرؤية من صفات الله عز وجل الثابتة له على الوجه اللائق به عز وجل نثبتها له كما =

47

47 - قوله تعالى: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} قيل: العصا (¬1)، وقيل: اليد (¬2). وقال ابن الأنباري: (أراد جميع (¬3) آيات موسى، فذكرها بلفظ الواحد، كما تقع اللفظة على جماعة الألفاظ والكلمة على جملة الكلمات) (¬4). {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} قال عطاء عن ابن عباس: (يريد من الله عز وجل على من اتبع البيان الذي جاء به موسى) (¬5). وقال أبو إسحاق: (ليس يعني به التحية، وإنما معناه: أن من اتبع الهدى يسلم من عذاب الله وسخطه، والدليل على أنه ليس سلام: أنه ليس ابتداء لقاء وخطاء) (¬6). والذي ذكره عطاء يحتمل التحية ويحتمل ما قاله أبو إسحاق. وقال الفراء: (يريد والسلامة على من أَتبع الهدى، ولمن ابتع الهدى ¬

_ = أثبتها لنفسه من غير تحريف ولا تعطل ولا تشبيه ولا تمثيل، وقد يراد مع إدراك السمع والرؤية النصر والتأييد. انظر: "العقيدة الواسطية" ص 25، "الفتاوى" لابن تيمية 3/ 134، "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى". (¬1) "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 39، "بحر العلوم" 2/ 345، "زاد المسير" 5/ 290، "القرطبي" 11/ 203. (¬2) "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 39، "بحر العلوم" 2/ 345، "زاد المسير" 5/ 290. (¬3) قوله: (جميع) ساقط من نسخة (س). (¬4) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 539، "المحرر" 10/ 35، "البحر المحيط" 6/ 246، "روح المعاني" 16/ 198، وقال: وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا بيان الحجة فكأنه قيل: جئناك بما يثبت مدعانا. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 171، "زاد المسير" 5/ 290، "الجامع لأححَام القرآن" 11/ 204. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 358.

48

واحد. قال: ويدل على صحة هذا المعنى. 48 - قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}) (¬1). أي: إنما يعذب الله تعالى من كذب بما جئنا به، وأعرض عنه، فأما من اتبعه فإنه يسلم من العذاب. وقيل: هذه أرجى آية (¬2) في كتاب الله للمؤمنين، وذلك أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب أنبياء الله وأعرض عن الإيمان (¬3). و {الْعَذَابَ} هاهنا اسم الجنس وظاهر هذا موجب أن من صدق وآمن لم يكن عليه شيء من العذاب. 49 - وقوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} قال أبو إسحاق: (المعنى فأتياه فقالا له ما أخبر الله في كتابه، فقال لهما فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} دليل على أنهما أتياه فقالا له) (¬4). وفي قوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} وجهان أحدهما: أن المعنى فمن ربك وربه يا موسى، فغلب الخطاب؛ لأن المخاطب كان موسى دون هارون. [الثاني: أن كليهما مخاطب، ترك ذكر هارون] (¬5) اكتفاء بموسى ولموافقة رؤوس الآي (¬6). ويدل على أن المخاطب موسى دون هارون قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا} ولم يقل: قالا ولو كان الخطاب لهما كان الجواب منهما. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 180. (¬2) في (س): (إنه)، وهو تصحيف. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 18 ب، "القرطبي" 11/ 204، "البحر المحيط" 6/ 247. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 358. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 18 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 204.

50

50 - وقوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} فيه وجهان أحدهما: ما قاله مجاهد وهو أنه قال: (لم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا) (¬1). وأكثر أقوال المفسرين تعود على هذا. قال عطية، ومقاتل: ({أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} يعني صورته) (¬2). فهذا كقول مجاهد؛ لأن المعنى خلق كل جنس من الحيوان على صورة أخرى. وقال الحسن، وقتادة: (أعطى كل شيء صلاحه وما يصلحه) (¬3). والمعنى ما يصلحه من الخلق والصورة، فكل شيء أعطي من الصورة ما يصلح لما خلق له. وقوله تعالى: (ثم هدى) قالوا: هداه لما يصلحه من معيشته ومشربه ومنكحه إلى غير ذلك. وهذا القول اختيار أبي إسحاق وبينه فقال: (معناه: خلق كل شيء على الهيئة التي بها ينتفع، والتي هي أصلح الخلق له، ثم هداه لمعيشته) (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد أتقن كل ما خلق) (¬5). والمعنى على هذا: أعطى كل شيء تمام خلقه. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 172، "الكشف والبيان" 3/ 18 ب، "معالم التنزيل" 5/ 276، "زاد المسير" 5/ 291، "القرطبي" 11/ 204، "الدر المنثور" 4/ 538. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 18 ب، "زاد المسير" 5/ 291، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 205، "البحر المحيط" 6/ 247. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 1/ 16، "جامع البيان" 16/ 172، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 40، "بحر العلوم" 2/ 345، "النكت والعيون" 3/ 406. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 358. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 172، "المحرر الوجيز" 10/ 36، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 172.

[الوجه الثاني في تفسير هذه الآية قول الكلبي، والسدي قالا: (أعطى الرجل المرأة، والبعير الناقة، والذكر الأنثى من جنسه) (¬1). وعلى هذا المعنى أعطى كل شيء من جنس خلقه] (¬2). وصرح السدي بهذا اللفظ قال: (أعطى الذكر الأنثى مثل خلقه (ثم هدى) قال: إلى الجماع) (¬3). وهو قول الكلبي (¬4). والمعنى: ألهم كيف يأتي الذكر الأنثى في النكاح. وهذا القول اختيار ابن قتيبة (¬5)، والفراء. قال الفراء: (أعطى الذكر من الناس امرأة مثله من صنفه، والشاة شاة، والثور بقرة (ثم هدى) ألهم الذكر المأتى) (¬6). قال أبو إسحاق: (وهذا التفسير جائز؛ لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى، ولم يرى ذكرًا قد أتى أنثى قبله، فألهمه الله ذلك وهداه إلى المأتى. قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى؛ لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة) (¬7). وروي عن الضحاك قول آخر في {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قال: (يعني اليد: البطش، والرجل: المشي، واللسان: النطق، والعين: البصر، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 172، "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 40، "زاد المسير" 5/ 291، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 204. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬3) "جامع البيان" 16/ 172، "زاد المسير" 5/ 291، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 204. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 40. (¬5) "تفسير غريب القرآن" ص 279. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 181. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 359.

51

والأذن: السمع) (¬1). والمعنى على هذا: أعطى كل عضو من الأعضاء ما خلق له من النفع الذي فيه (¬2). والخلق في هذا القول في معنى المخلوق، والبطش والمشي والنظر وهذه المعاني كلها مخلوق لله تعالى، أودعها الأعضاء وأعطاها. والاحتجاج على فرعون من هذا الجواب: أنه قد ثبت خلق وهداية لا خلاف، ولابد لهما من خالق وهاد، ذلك الخالق والهادي هو الرب، لا رب غيره، فلما دعاه إلى دين الله وإتباع الهدى واحتج عليه بأن الرب هو الخالق الهادي. 51 - قال له فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} قال ابن عباس: (يريد ما حال القرون التي مضت) (¬3). ومعنى البال هاهنا: الحال والشأن (¬4). والمعنى: ما حالها فإنها لم تقر بالله وبما تدعو إليه، ولكنها عبدت ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 19 أ، "معالم التنزيل" 5/ 277، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 205، "أضواء البيان" 4/ 418. (¬2) قال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 419: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة, لأنه لا شك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 173، "معالم التنزيل" 5/ 277، "زاد المسير" 5/ 291، "لباب التأويل" 4/ 271، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 205. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (بال) 1/ 263، "الصحاح" (بول) 4/ 1642، "لسان العرب" (بول) 1/ 389، "المفردات في غريب القرآن" (بال) ص 67، "مختار الصحاح" (بول) ص 28.

52

الأوثان. ويعني بالقرون الأولى: الأمم المتقدمة مثل: قوم نوح، وعاد، وثمود. 52 - فقال موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} قال أبو إسحاق: (أي أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها) (¬1). وعلى هذا يكون التقدير: علم أعمالها عند ربي {فِي كِتَابٍ} قال الكلبي: (اللوح المحفوظ) (¬2). والمعنى: أن أعمالهم مكتوبة مثبتة. ومعنى هذا الجواب أنهم يجازون بما عملوا، وأنت تجازى بما تعمل، كما قال في آية أخرى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]. وقوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} تأكيد وتحقيق للجزاء بالأعمال. قال: يريد لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا ينسى من وحده حتى يجازيه. وقال الكلبي: (لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم، حتى يوافيهم بأعمالهم بالحسن حسنًا وبالسيئ سيئًا) (¬3). قال الفراء: (يقال أضللت الشيء: إذا ضاع منك مثل: الدابة وما أشبهها إذا انفلت منك، وإذا أخطأت موضع الشيء الثابت مثل: الدار والمكان، قلت: ضللته ولا يقال أضللته) (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 359. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 19 أ، "بحر العلوم" 2/ 345، "معالم التنزيل" 5/ 277، "المحرر الوجيز" 10/ 40، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 205. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 173، "معالم التنزيل" 5/ 277، "زاد المسير" 5/ 292، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 208. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 181.

وقال أبو إسحاق: (ضَلَلْتُ الشيء أَضِلُّه إذا جعلته في مكان لم تدر أين هو، وأَضْلَلْتُه أضعته) (¬1). وتقدير الآية: لا يضله ربي ولا ينساه، يعني به الكتاب، ويجوز لا يضلها ولا ينساها، يعني به القرون. هذا كلامهما، والمعنى على ما ذكر الفراء: لا يخطئ ربي كما ذكره الكلبي. وعلى ما ذكر أبو إسحاق معنى يضل: ينسى. وقد قال مجاهد: (يضل ربي ولا ينسى هما شيء واحد) (¬2). وقال السدي: (لا يغفل ولا يترك شيئًا) (¬3). فجعل النسيان بمعنى: الترك. وفي قول مجاهد النسيان معناه: ضد الذكر. وقال أبو عمرو: (يقال أَضْلَلْتُ بعيري: إذا كان معقولاً فلم يهتد لمكانه، وأَضْلَلْتُه إِضْلاَلاً: إذا كان مطلقًا فذهب ولا يدري أين ذهب وأخذ، وكل ما جاء من الضَّلال من قِبَلِك قلت: ضَلَلْتُه، وما جاء من المفعول به قلت: أَضْلَلْته. قال: وأصل الضلال: من الغيبوبة، يقال: ضَلَّ الماء في اللبن إذا غاب، وضَلَّ الكافر غاب عن الحجة، وضَلَّ الناسي إذا غاب عن حفظه) (¬4). وقوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} أي: لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء. وقال ابن الأنباري: (مذهب مقاتل في هذه الآية: أن عدو الله فرعون كان قد قال له مؤمن آل فرعون: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 359. (¬2) "جامع البيان" 16/ 173، "الكشف والبيان" 3/ 19 أ، "بحر العلوم" 2/ 345 , "الدر المنثور" 4/ 538. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 345. (¬4) "تهذيب اللغة" (ضل) 3/ 2129، "لسان العرب" (ضلل) 5/ 2602.

53

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} [غافر: 31 - 31]. وكان هذا في قلب فرعون يحب أيعلم حالاتهم، فلما أورد موسى عليه الآية الباهرة التي عجز عن معارضتها أحب أن يعلم من جهته أخبارهم، ولم يكن عند موسى في ذلك الوقت علم بأخبارهم؛ لأنه عرف أخبار القرون من التوراة ولم تنزل التوراة على موسى إلا بعد هلكة فرعون وغرقه) (¬1). فلذلك قال موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} يعني: اللوح المحفوظ، {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} قال وذهب الأولون إلى أن المعنى في: {لَا يَضِلُّ رَبِّي} لا يضل الكتاب من ربي. قال وهذا باطل؛ لأن الخافض لا يحتمل له سقوط في مثل هذا المكان، لا يجوز أن تقول: سقط الدرهم كمك. وأنت تريد من كمك، كذلك هاهنا لا يجوز) (¬2). 53 - قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} وقرئ: مهدًا (¬3). قال أبو علي: (المهد مصدر كالفرش، والمهاد مثل الفِراش والبِساط، وهما اسم ما يفرش ويبسط، ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء فجمع كما يجمع فَعْل على فِعَال والأول أبين، قال: ويجوز أن يكون المعنى في قوله: {مَهْدًا} ذات مهد، فيكون في المعنى كقول من قال: مهادًا) (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 3 أ، "النكت والعيون" 3/ 407، "زاد المسير" 5/ 292. (¬2) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 539، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 208، "البحر المحيط" 6/ 248، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 122. (¬3) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر: (مهادا) بالألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (مهدا) بغير ألف. انظر: "السبعة" ص 418، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 223 "التبصرة" ص 259، "المبسوط في القراءات" ص 248. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 223.

وقوله تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} السلك: إدخال الشيء في الشيء يسلكه فيه قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]، والطاعن يسلك الرمح في المطعون (¬1). أدخل في الأرض لأجلكم طرقًا تسلكونها، كما قال ابن عباس: (سهل لكم فيها طرقًا) (¬2). ولما كانت الطرق المسلوكة ممتدة على الأرض ظاهرة عليها جعلت كأنها مسلوكة فيها، وإن كانت من الأرض تشبيهًا بالشيء الذي يسلك في الشيء. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني: المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} قال صاحب النظم: (تم الإخبار والحكاية عن موسى عند قوله: {مَاءً} ثم أخبر الله تعالى عن نفسه متصلاً بالكلام الأول بقوله: {فَأَخْرَجْنَا} يدل على هذا قوله: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54]، قال: وقد قيل: إن معناه مضاف إلى موسى على تأويل: الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا نحن معاشر عباده {بِهِ} بذلك الماء {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} على الحراثة، أي: إنما حرثناه بذلك الماء، ولولا ذلك الماء ما نبت كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63]، فأضاف الحراثة إليهم) (¬3). وقوله: {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} قال ابن عباس: (يريد أصنافًا من النبات مختلفة) (¬4). وقال الكلبي: ({شَتَّى} مختلفاً ألوانه أبيض وأحمر ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (سلك) 2/ 173، "مقاييس اللغة" (سلك) 3/ 97 , "القاموس المحيط" (سلك) ص 943، "الصحاح" (سلك) 4/ 1591، "لسان العرب" (سلك) 4/ 2073. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 278، وذكره الطبري في "تفسيره" 16/ 174 بدون نسبة. (¬3) لم أقف على قول صاحب النظم. وذكر نحوه "المحرر الوجيز" 10/ 40، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 29، "التفسير الكبير" 22/ 68، "روح المعاني" 16/ 206. (¬4) "جامع البيان" 16/ 174، "الدر المنثور" 4/ 539.

وأخضر وأصفر كل لون منها زوج) (¬1). وقال الفراء: ({شَتَّى} مختلف الألوان والطعوم) (¬2). والزوج: اللون، والأزواج: الألوان، قال الأعشى (¬3): وَكُلُّ زَوْجٍ منْ الدَّيْبَاجٍ يَلْبَسُهُ ... أَبُو قُدَامَةَ مَحْبُوا بِذَاكَ مَعَا وتقدم الكلام في معاني الزوج (¬4). وقوله تعالى: {شَتَّى} معناه: مختلف متفرق، ولا واحد له من لفظه، مثل: فوضى، يقال: شتَّ الشيء إذا تفرق، يَشِتُّه شَتَّا وشَتَاتًا وشَتّتَه إذا فرقه، وأَشَتَّه وشَتّتَه ويقال: وقعوا في أمرٍ شَتّ وشتَّى (¬5). و {شَتَّى} في هذه الآية نعت للأزواج؛ لأن المراد ألوان مختلفة، ويجوز أن يكون من نبات (¬6). قال الأخفش: (كل ذلك مستقيم) (¬7). ذكر ابن الأنباري القولين فقال: (النبات يقع على جمع لا ينفرد ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 278 بدون نسبة. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 181. (¬3) البيت للأعشى. والديباج: ضرب من الثياب. والحبوة: الثوب الذي يحتبى به. انظر: "ديوانه" ص 108، "تهذيب اللغة" (زاج) 2/ 1497، "لسان العرب" (زوج) 3/ 1886. (¬4) عند قوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (شت) 2/ 1825، "مقاييس اللغة" (شت) 3/ 177، "القاموس المحيط" (شت) ص 154، "الصحاح" (شت) 1/ 254، "لسان العرب" (شت) 4/ 2192، "المفردات في غريب القرآن" (شتت) ص 255. (¬6) "الكشاف" 2/ 540، "البحر المحيط" 6/ 251، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 122. (¬7) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 631.

54

واحده، وكذلك {شَتَّى}) (¬1). وذهب بها مذهب: عطشى، وكسلى، وإن قدر واحد النبات نباتة، وواحد شَتَّى شَتيت صح ووضح التشاكل، وإن حمل {شَتَّى} على أزواج، وقدر أزواجًا شَتَّى من نبات فهو معنى صحيح. 54 - قوله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا} أي: مما أخرجنا بالمطر من النبات، {وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} يقال: رعت الماشية الكلأ رعيًا، ورعاها صاحبها رعاية، إذا أسامها وسرحها وأراحها (¬2). والمعنى: أسيموا مواشيكم فيما أنبتناه بالمطر، وهذا أمر إباحة (¬3) معناه التذكير بالنعمة، قال ابن عباس: هذا كقوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} -إلى قوله- {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 27 - 32]) (¬4). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} معنى ما ذكر من الدلالة على توحيده {لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} قال اللحياني: (النَّهْيَة: العقل، والنُّهَى جمع نُهْيَه، ورجل نَهٍ ونَهِىُّ من قوم نَهِين وأَنْهِياء، ولقد نَهُوَ ما شاء، كل ذلك من العقل. وسمي العقل نَهْيَة؛ لأنه يُنْتَهَى إلى ما أَمَر به، لا يُجَاوز أَمْرَه) (¬5). وقال أبو إسحاق: (يقال: فلان ذُو نُهْيةٍ، ومعناه ذُو عَقل يَنْتَهي به عن ¬

_ (¬1) أورده بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 540، "زاد المسير" 5/ 292، "التفسير الكبير" 22/ 69، "البحر المحيط" 6/ 251. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (رعى) ص 1430، "القاموس المحيط" (الرعى) ص 1289، "الصحاح" (رعى) 6/ 2358، "لسان العرب" (رعى) 3/ 1676، "المفردات في غريب القرآن" (رعى) ص 198. (¬3) في (ص): (افاته)، وهو تصحيف. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشاف" 2/ 540، "الفتوحات الإلهية" 3/ 96، "أضواء البيان" 4/ 423. (¬5) "تهذيب اللغة" (نهى) 4/ 3680.

المقابح ويدخل به في المحاسن، قال: وقال أهل اللغة: ذُو النُّهْيِةِ الذي يُنْتَهَى إلى رأيه وعقله، قال: وهذا أحسن أيضًا) (¬1). وهذا معنى قول اللحياني في اشتقاق النهيه. وقال أبو علي: (لا يخلو النُّهَى من أن يكون مصدرًا كالهدى، أو جمعًا كالظلم. وقوله تعالى: {لِأُولِي النُّهَى} يقوي أنه جمع لإضافة الجمع إليه، وإن كان المصدر يجوز أن يكون مفردًا في موضع الجمع؛ لأنه لا يثنى ولا يجمع، والنُّهى معناه في اللغة: الثبات والحبس، ومنه النهى والتنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع فيه لشغله ولمنعه بارتفاع ما حوله من أن يسيح فيذهب على وجه الأرض) (¬2). هذا كلامه. وقد رجع القولان في اشتقاق النُّهية إلى قول واحد، وهو الحبس، والنُّهية هي التي تنهي وتحبس عن المقابح (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: ({لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} يريد العبرة لذوي العقول) (¬4). يريد للذين يتناهون بعقولهم عن معاصي الله. ونحو هذا قال الضحاك (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 359. (¬2) لم أهتد إليه. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (نهى) 4/ 3680، "القاموس المحيط" (نهاه) ص 1341، "الصحاح" (نهى) 6/ 2517، "لسان العرب" (نهى) 8/ 4564، "المفردات في غريب القرآن" (نهى) ص 507. (¬4) "الدر المنثور" 4/ 539، "روح المعاني" 16/ 207، وذكره الطبري في "تفسيره" 16/ 175 بدون نسبة. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 19/ أ، "معالم التنزيل" 5/ 278، "روح المعاني" 16/ 207.

55

وقال في رواية الوالبي: (لذوي التقى) (¬1). وقال قتادة: (لذوي الورع) (¬2). وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك أن ذا العقل يكون ورعًا تقيًا، ليس أن النهي تكون بمعنى الورع والتقى. وقال أهل المعاني: (إنما اختص أولو النهى؛ لأنهم أهل الفكر والاعتبار والتدبر والاتعاظ) (¬3). 55 - قوله تعالى: {مِنْهَا} أي: من الأرض، وجرى ذكرها عند قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [طه: 53]، {خَلَقْنَاكُمْ} يعني خلق آدم من الأرض والبشر كلهم منه (¬4). {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي: بعد الموت {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} يريد عند البعث، يعني كما أخرجكم أولًا عند خلق آدم من الأرض. قال الزجاج: (لأن إخراجهم وهم تراب بمنزلة خلق آدم من تراب، فكأنه قال -والله أعلم-: ومنها نخلقكم تارة أخرى) (¬5). ومضى الكلام في تارة عند قوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء: 69]. 56 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} يعني فرعون {آيَاتِنَا كُلَّهَا} يعني الآيات التسع ومضى تفصيلها (¬6). {فَكَذَّبَ} نسب جميع ذلك إلى الكذب، ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 19 أ، "الدر المنثور" 4/ 539. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 19 أ، "معالم التنزيل" 5/ 278، "الدر المنثور" 4/ 539. (¬3) ذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 181 والزجاج في "معاني القرآن" 3/ 359. (¬4) ويشهد لهذا قوله سبحانه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360. (¬6) عند قوله سبحانه وتعالي: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101].

57

أو نسب موسى إلى الكذب {وَأَبَى} وأمتنع أن يقبل التوحيد، ونَسَب موسى إلى السحر. 57 - وهو قوله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} يعني: مصر {بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك، فتمتلكها وتخرجنا منها. 58 - {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} فلنقابلن ما جئتنا به من السحر بسحر مثله {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} الموعد في اللغة: يجوز أن يكون اسمًا للوعد فيكون مصدرًا، ويجوز أن يكون اسمًا لمكان الوعد (¬1). كقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} [الحجر: 43]. فالموعد هاهنا ينبغي أن يكون مكانًا؛ لأن جهنم مكان، ويجوز أن يكون الموعد اسمًا لزمان الوعد، كقوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، والذي في هذه الآية هو المصدر: اجعل بيننا وبينك وعدًا، ويدل على هذا قوله: {لَا نُخْلِفُهُ} أي: لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف: أن يعد العدة فلا ينجزها. وقوله تعالى: {مَكَانًا سُوًى} ينتصب على الظرف للوعد (¬2)، وعند البصريين لا يجوز أن يكون ظرفًا للوعد الظاهر في الآية ويتعلق به؛ لأنه قد وصف بالجملة التي هي {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} وإذا وصف لم يجز أن يتعلق به بعد الوصف له شيء منه؛ لأنه لا يوصف الاسم قبل تمامه، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (وعد) 4/ 3915، "القاموس المحيط" (وعده) 1/ 326، "الصحاح" (وعد) 2/ 551، "لسان العرب" (وعد) 8/ 4871، "المفردات في غريب القرآن" (وعد) ص 526. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 224، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 122، "إعراب القرآن" للنحاس3/ 42، "البحر المحيط" 6/ 253

وكذلك لا يعطف عليه ولا يؤكد ولا يخبر عنه، والوصف والعطف والتوكيد والخبر كل هذا يؤذن بتمام الاسم، فلا يجوز أن يتعلق بالاسم بعد هذه الأشياء شيء، مثال ذلك أنك لا تقول: هذا ضارب ظريف زيدًا على أن ينصب زيدًا بضارب؛ لأنك وصفت الضارب فلا يتعلق به بعد الوصف شيء، وكذلك لا يجوز المعطي عمرًا زيدًا، على أن ينصب زيدًا بالمعطي؛ لأنك قد أخبرت عنه، ولا يجوز مررت بالضارب وعمرو زيدًا، ولا مررت بالضارب نفسه زيدًا؛ لأنك لا تؤكد ولا تعطف على الاسم وقد نفيت منه بقيه، وكذلك البدل لا يجوز أن يبدل من الاسم قبل تمامه كقولك: مررت بالضارب أخيك زيدًا، على أن تبدل الأخ من الضارب، وقد جاء في الشعر شيء من هذا كقول بشر بن أبي خازم (¬1): إِذَا فاقِدٌ خَطْباءَ فَرْخَين رَجَّعَتْ ... ذَكَرتُ سُلَيمَى في الخَلِيطِ المُباين أعمل فاقدا بعد وصفه بخطباء. وهذا الذي جاء منه في الشعر يحمل النحويون مثله على إضمار فعل آخر مثل الذي ظهر، كأنه قال بعد قوله خطباء: فقدت فرخين، ودل عليه فاقد، كذلك قوله تعالى: {مَكَانًا} لا يجوز على ما ذكرنا أن يتعلق بموعد، ولكنه يتعلق بمحذوف يدل عليه الظاهر، كأنه قيل: عدنا مكانا سوى، ويجوز أن يتعلق بالموعد المذكور في الآية؛ لأنه ظرف والظرف (¬2) يتجوز فيه ما لا يتجوز في غيره، ألا ترى ¬

_ (¬1) البيت لبشر بن أبي خازم. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 225، "المقرب" لابن عصفور 1/ 124، "المقاصد النحوية" 3/ 560، "شرح شاهد الألفية" للعيني 3/ 560، "لسان العرب" (فقد) 6/ 3444، "مجمع البيان" 7/ 25. (¬2) في (ص): (والمظروف).

أن الظروف تقع مواقع لا يقعها غيرها (¬1). ومما جاء مثل هذا في التنزيل قوله تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]، فالظرف الذي هو (إذ) يتعلق بالمقت الأول؛ لأن المعنى: لمقت الله إياكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم الآن، فقوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ} يتعلق بالمقت الأول، وقد وقع بعد الاختلاف عنه بقوله أكبر من مقتكم الآن، وهذا يحمل على أحد الوجهين الذين ذكرناهما من تقدير الحذف، كأنه قيل: مقتكم إذ تدعون، أو على أنه ظرف يتجوز فيه. قال أبو علي الفارسي: (ولم نعلم في التنزيل مجيء (¬2) شيء من هذا إلا في الظرف) (¬3). ويجوز أن يكون الموعد في هذه الآية اسمًا لزمان الوعد، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، فيكون مجيء الموعد اسمًا للزمان، كقولهم: كان هذا مقدم الحاج، ومبعث الجيوش، ومضرب الشُّوْل (¬4) أي: وقت قدومهم ووقت بعثهم، ووقت ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 226. (¬2) في نسخة (س): (جيء). (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 226. (¬4) الشُّوْل من النوق: التي قد أتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها، فلم يبق في ضروعها إلا شَول من اللبن، أي: بقية وأما الناقة الشائل بغير هاء: فهي التي ضربها الفحل فشالت بذنبها، أي: رفعته تري الفحل أنها لا قح، وذلك آية لقاحها. انظر: "تهذيب اللغة" (شال) 2/ 1811، "مقاييس اللغة" (شول) 3/ 230، "القاموس المحيط" (شالت) (1021)، "الصحاح" (شول) 5/ 1742، "لسان العرب" (شول) 4/ 2363.

ضربها، وأنشد أبو الحسن (¬1): كُلَّمَا قُلْتُ: غَدًا مَوعِدنا ... غَضِبَتْ هِنْدٌ وَقالَت بَعْدَ غَدْ والموعد في هذا البيت اسم للزمان، والكلام في انتصاب مكانًا على هذا الوجه يكون كما ذكرنا في الوجه الأول في موعد؛ لأن التقدير: اجعل بيننا وبينك وقت وعد، أو زمان وعد لا نخلفه نحن ولا أنت في مكان سوى. والذي يختاره أبو علي في وجه نصب {مَكَانًا}: (أن يكون مفعولًا ثانيًا لجعلت بمنزلة قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، في أنه انتصب على أنه مفعول ثان لجعلت) (¬2). وعلى هذا يجب أن يكون الموعد اسمًا للمكان، ويجوز أن يكون بدلًا منه. وأما معنى (سوى) قال الزجاج: ({مكانا سوى} ويقرأ: سُوى بالضم (¬3). ومعناه: مَنْصفًا أي مكانًا يكون النَّصفَ فيما بيننا وبينك، وقد جاء في اللغة سواء ممدود مفتوح بهذا المعنى تقول: هذا مكان سواء، أي متوسط بين المكانين) (¬4). وقال أبو عبيدة: (مكان سُوى وسِوى بضم أوله وبكسر، مثل: طُوى ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن أبي ربيعة. انظر: "ديوانه" ص 323، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 228. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 228. (¬3) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي: (مكانا سِوى) بكسر السين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: (مكانا سُوى) بضم السين. انظر: "السبعة" ص 418، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 223، "المبسوط في القراءات" ص 248، "التبصرة" 259. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360.

وطِوى وهو المكان المنصف فيما بين القريتين) (¬1)، وأنشد لموسى بن جابر الحنفي (¬2): وإِنَّ أَبانا كانَ حَلَّ بِبَلدَةٍ ... سِوى بين قَيْسٍ عَيْلاَنَ والفِزْرِ فسِوى مثل: بِلى، وقِرى، ومِعى، ورِيي، وقِمع، وضِلع، وقِطع. وسُوى بالضم مثل: ضُحى وسُدى وهُدى ومثل: صُرَد وحُطَم ونحو ذلك. وقال أبو علي: (سِوى فِعَلْ من التسوية، فكأن المعنى: يستوي مسافته على الفريقين فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، وهذا ما يقل في الصفات ومثله: قوم عِدىً، [وأما فُعَلْ فهو في الصفات أكثر من فِعَل نحو: دَليلٍ خُنَعْ] (¬3)، ومالٍ لُبَدْ، ورَجلٍ حُطَمٍ) (¬4). هذا كلام أهل اللغة في هذا الحرف (¬5). فأما قول المفسرين فقال قتادة: (نصفا) (¬6). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 20. (¬2) البيت لموسى بن جابر الحنفي. انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 20، "جامع البيان" 16/ 134، "النكت والعيون" 3/ 408، "المحرر الوجيز" 10/ 43، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 224، "الخزانة" 1/ 146، "الأغاني" 10/ 107، "لسان العرب" (سوى) 4/ 2163. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 224. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 181، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360 ن "الحجة للقراء السبعة" 5/ 224، "تهذيب اللغة" (سوى) 2/ 1795، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 279. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "جامع البيان" 16/ 176، "الدر المنثور" 4/ 540.

وقال مقاتل: (عدلا بيننا وبينك) (¬1). ونحوه قول السدي (¬2). وقال مجاهد: (منصفا بيننا وبينك) (¬3). وقال ابن مسلم: (وسطًا بين القريتين) (¬4). وهذه الأقوال بمعنى واحد. وقال ابن زيد: (مكانًا مستويًا يتبين الناس ما بيننا فيه) (¬5). وعلى هذا التسوية من صفة المكان، لا من صفة المسافة إليه، كأنه قيل: مكانًا لا يحجز الناظر إليه من (¬6) انخفاض وارتفاع. وقيل (مكانا سوى) أي: تستوي حالنا في الرضا به (¬7). وقال الكلبي: ((سوى) يعني سوى هذا المكان) (¬8). يعني الذي كان فرعون فيه وقت خطابه موسى. و (سوى) على هذا القول يكون بمعنى: غير، ويحتاج إلى تقدير محذوف. وقال عطاء عن ابن عباس: ((مكانا سوى) يريد موضعًا معروفاً) (¬9). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "معالم التنزيل" 5/ 279، "تفسير مقاتل" ص 3. (¬2) "جامع البيان" 16/ 176، "بحر العلوم" 2/ 236، "النكت والعيون" 3/ 408، "الدر المنثور" 4/ 540. (¬3) "جامع البيان" 16/ 176، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 42، "بحر العلوم" 2/ 346، "معالم التنزيل" 5/ 279، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 212. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "بحر العلوم" 2/ 346، "النكت والعيون" 3/ 408، "معالم التنزيل" 5/ 279، "زاد المسير" 5/ 205. (¬5) "جامع البيان" 16/ 176، "النكت والعيون" 3/ 408، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 212، "الدر المنثور" 4/ 540. (¬6) في (س): (شيء من الخفاء). (¬7) "التفسير الكبير" 22/ 72، "روح المعاني" 16/ 217. (¬8) "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "معالم التنزيل" 5/ 279، "القرطبي" 11/ 212. (¬9) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "ابن كثير" 3/ 173، "الفتوحات الإلهية" 3/ 97، "روح المعاني" 16/ 217.

59

وهذا القول يشبه معنى قول ابن زيد. والقول ما عليه الجمهور. ومعنى الآية: اجعل بيننا وبينك موعدًا لنجيء بسحر مثل الذي جئت به، فننظر أينا يغلب صاحبه. 59 - قوله تعالى: {قَالَ} أي: موسى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [إن جعلت الموعد اسمًا لزمان الوعد رفعت اليوم على خبر الابتداء، من حيث كان الثاني هو الأوّل كما ذكرنا في البيت الذي أنشده أبو الحسن] (¬1)، وإن جعلت الموعد بمعنى الوعد، فقال أبو إسحاق: (المعنى وقت موعدكم يوم الزينة) (¬2). وقال أبو علي: (اليوم ظرف أشبه فيه، فجعله الأوّل لما كان فيه، وأخرج من أن يكون ظرفًا ويدل على هذا قوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ألا ترى أن قوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} ليس من الظروف في شيء، فلولا أن اليوم في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} قد خرج من أن يكون ظرفًا لم يعطف عليه ما لا يكون ظرفًا) (¬3). ومن قرأ: يومَ الزينة بالنصب (¬4)، فقال أبو إسحاق: (يوم منصوب على الظرف، المعنى: يقع يوم الزينة) (¬5). قال أبو علي: (وعلى هذه القراءة يضمر قوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ما يكون مبنيًا عليه، كأنه قيل: موعدكم يقع يوم الزينة، وموعدكم أن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 227. (¬4) قرا الحسن، والمطوعي: (يومَ الزينة) بنصب يوم. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 227، "القراءات الشاذة" للقاضي ص 67. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360.

يحشر الناس ضحى. وإن عطفت وأن يحشر على الزينة لم يحتج إلى إضمار، ويكون المعنى: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس) (¬1). واختلفوا في {يَوْمُ الزِّينَةِ} فقال الأكثرون: (كان ذلك يوم عيد لهم يتزينون فيه) هذا قول مجاهد، وقتادة، ومقاتل، وابن جريج، والسدي، وابن زيد، ومحمد بن إسحاق، والكلبي (¬2). قال الكلبي: (ويقال: يوم سوق كانت تكون لهم يتزينون فيها) (¬3). وقال سعيد بن جبير: (كان ذلك يوم عاشورا) (¬4). وقوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} يعني ضحى ذلك اليوم، ويريد بالناس: أهل مصر. قال الكلبي: (يقول: يحشرون إلى العيد ضحى فينظرون إلى أمري وأمرك) (¬5). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 227. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "جامع البيان" 16/ 177، "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "النكت والعيون" 3/ 409، "معالم التنزيل" 5/ 279، "زاد المسير" 5/ 205، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 173، "الدر المنثور" 4/ 540، "تفسير مقاتل" 3 ب. (¬3) ذكره القرطبي في "تفسيره" 11/ 213، ونسبة لسعيد بن المسيب، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 174، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 540، ونسباه لسعيد بن جبير. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "بحر العلوم" 2/ 346، "معالم التنزيل" 5/ 279، "زاد المسير" 5/ 294، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 213. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 177، "معالم التنزيل" 5/ 279، "النكت والعيون" 3/ 409، "زاد المسير" 5/ 294، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 213.

60

وقال الفراء: (يقول: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد) (¬1). ولم يرد أن الناس يحشرون ليجتمعوا لأمر موسى، ولكن جرت عادتهم بحشر الناس (¬2) في ذلك اليوم لعيد كان لهم، أو سوق على ما ذكر في التفسير (¬3). فواعده موسى ذلك اليوم ذلك الوقت. قال الفراء: (وموضع {أَنْ} رفع يرد على اليوم، وخفض يرد على الزينة، ويكون التقدير: يوم الزينة والحشر) (¬4). ونحو هذا قال أبو إسحاق: (موضع {أَنْ} رفع، المعنى: موعدكم حشر الناس ضحى، وتأويله: إذا رأيتم الناس قد حشروا ضحى. قال: ويجوز أن يكون في موضع خفض عطفاً على الزينة، المعنى: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى) (¬5). قال الليث: (الضحو ارتفاع النهار، والضحى فوق ذلك) (¬6). وقال أبو الهيثم: (الضُّحَى على فُعَل: حين تطلع الشمس فيصفوا ضؤها، والضَحاء بالفتح والمد: إذا ارتفع النهار) (¬7). 60 - قوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} يجوز أن أن يكون المعنى: تولى فرعون ذلك الأمر، أي: تولاه بنفسه (¬8). ويجوز أن يكون المعنى: فرجع ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 182. (¬2) في (ص): (النا)، وهو تصحيف. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "جامع البيان" 16/ 177، "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "النكت والعيون" 3/ 409، "معالم التنزيل" 5/ 279، "زاد المسير" 5/ 294، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 173، "الدر المنثور" 4/ 540. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 182. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360. (¬6) "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2094. (¬7) "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2094. (¬8) "روح المعاني" 16/ 220.

61

إلى أهله وانقلب لاستعداد مكائده، وهو قول الكلبي (¬1). وقال مقاتل ابن سليمان: ({فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} أعرض من الحق، وعما يلزمه من الطاعة) (¬2). وقوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي: مكره وحيله، وذلك جمعه سحرته {ثُمَّ أَتَى} أي: حضر الموعد. 61 - {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} أي: للسحرة الذين جمعهم فرعون ليغلبوا موسى، وهم المعنيون بقوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} {وَيْلَكُمْ} قال أبو إسحاق: (منصوب على ألزمهم الله ويلَا. قال: ويجوز أن يكون منصوبًا على النداء، كما قال: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا} [يس: 52]) (¬3). {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ} قال ابن عباس: (لا تشركوا مع الله أحدًا) (¬4). وقال آخرون: (لا تقولوا اليد والعصا ليستا آيتين من قبل الله فإنكم عند هذا القول تكذبون على الله) (¬5). {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} ويقرأ: فيُسحتكم بضم الياء (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 295، "ابن كثير" 3/ 174، "البحر المحيط" 6/ 154. (¬2) "تفسير مقاتل" 3 ب، "زاد المسير" 5/ 595. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360. (¬4) "زاد المسير" 5/ 206. (¬5) "تفسير مقاتل" 3 ب. (¬6) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو، وابن عمر: {فَيُسْحِتَكُمْ} بفتح الياء. وقرأ عاصم في رواية حفص، وحمزة، والكسائي: {فَيُسْحِتَكُمْ} بضم الياء. انظر: "السبعة" ص 419، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 228، "النشر" 2/ 220.

يقال: سَحَته وأَسْحته إذا استأصله وأهلكه (¬1)، قاله أبو عبيدة، والأخفش، والفراء، والزجاج، وجميع أهل اللغة (¬2)، وأنشدوا للفرزدق (¬3): وعَضُّ زَمانٍ يا بنَ مَرْوانَ لم يَدَع ... مِنَ المالِ إِلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّف قال ابن عباس في رواية الوالبي: ({فَيُسْحِتَكُمْ}: فيهلككم) (¬4). وهو قول مجاهد، ومقاتل، والكلبي (¬5). وقال قتادة، وأبان بن تغلب (¬6): (فيستأصلكم) (¬7). وقال في رواية ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 182، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 361، "المفردات في غريب القرآن" (سحت) ص 235، "لسان العرب" (سحت) 4/ 1949. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 21، "معاني القرآن" للفراء 2/ 182، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 361. (¬3) البيت للفرزدق من قصيدة يهجو فيها جريرًا، ويفخر بمآثر قومه. السُّحت: ما خبث من المكاسب وحرم، وأَسْحَت الرجل: استأصل ما عنده. مُجْلِف: الذي أتى عليه الدهر فأذهب ماله. انظر: "ديوانه" ص 386، "جامع البيان" 16/ 178، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 21، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 229، "شرح المفضليات" ص 396، "الخزانة" 2/ 347، "لسان العرب" (جلف) 2/ 660. (¬4) "جامع البيان" 16/ 178. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "معالم التنزيل" 5/ 280، "تفسير مقاتل" 3 ب. (¬6) أبان بن تغلب الربيعي، أبو سعد الكوفي، روى عن: أبي إسحاق السيعي، والحكم بن عتيبة، وفضيل بن عمر، وروى عنه: موسى بن عقبه، وشعبة، وحماد ابن زيد، وابن عيينة وغيرهم، وثقه أهل العلم، وهو من أهل الصدق في الروايات، ومن النساك الثقات، عرف بالفصاحة والبيان. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 296، "الكاشف" 1/ 74، "ميزان الاعتدال" 1/ 5، "تهذيب التهذيب" 10/ 81. (¬7) "تفسير القرآن" الصنعاني 2/ 17، "جامع البيان" 16/ 178، "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "معالم التزيل" 5/ 280.

62

عطاء: (فيجهدكم بعذاب) (¬1). قال الليث: (يقال: سحتناهم بلغنا مجهودهم في المشقة عليهم. قال: وأسحتناهم لغة) (¬2). قال أهل المعاني: (السَّحت في اللغة معناه: استقصى الحلق، يقال: سَحَت الشَّعر إذا استقصى حَلقه، وسَحَت الحالق إذا استأصل، وأَسْحَت الخاتن في ختان الصبي إذا استأصله) (¬3). والمعنى: إن العذاب إذا أتى من قبل الله أخذهم عن آخرهم. وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} قال ابن عباس: (خيب (¬4) من ادعى مع الله إلهًا آخر) (¬5). وقال قتادة: (خسر من كذب على الله ونسب إليه باطلًا) (¬6). 62 - قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال ابن عباس: (يريد فتشاوروا بينهم) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 19 ب، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 46. (¬2) "تهذيب اللغة" (سحت) 2/ 1637. (¬3) انظر (سحت): "تهذيب اللغة" 2/ 1637، "مقاييس اللغة" 3/ 143، "القاموس المحيط" 1/ 153، "الصحاح" 1/ 252، "لسان العرب" 4/ 1949. (¬4) في (ص): (خسر). (¬5) "المحرر الوجيز" 10/ 46، "لباب التأوبل" 4/ 273. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 346، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 215، "لباب التأويل" 4/ 273، "مجمع البيان" 7/ 30، "فتح القدير" 3/ 533. (¬7) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 9/ 280، "زاد المسير" 5/ 296، "الجامع لأحكام القرآن" =

وقال آخرون: (تناظروا فيما بينهم) (¬1). يعني السحرة، والتشاور في الأمر كالتناظر فيه، وذلك أن السحرة تنازعوا فيما أمرهم به فرعون من معارضة موسى، وتشاوروا بينهم سراً من فرعون وقومه وذلك قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قال قتادة: (قالوا: إن كان ساحرًا فإنا سنغلبه، وإن كان من السماء كما يزعم فله أمر) (¬2). وقال محمد بن كعب: (قال بعضهم لبعض: لو كان هذا سحرًا لعرفناه، كما أن الكاتب إذا كتب عرف الذي يعرف الكتاب بما كتب) (¬3). وقال الكلبي: (تكلم السحرة فيما بينهم سرًا من فرعون فقالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه) (¬4). وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج (¬5). وقال محمد بن إسحاق: (لما قال موسى: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الآية، تراد السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول (¬6) ساحر، ثم قالوا وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (¬7). ¬

_ = القرآن" 11/ 215، "التفسير الكبير" 22/ 73، "روح المعاني" 16/ 220. (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 280، "التفسير الكبير" 22/ 73، "روح المعاني" 16/ 220. (¬2) "جامع البيان" 16/ 178، "النكت والعيون" 3/ 410، "زاد المسير" 5/ 207، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 215. (¬3) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 280، "مجمع البيان" 7/ 30، "روح المعاني" 16/ 221، "فتح القدير" 3/ 533. (¬4) "النكت والعيون" 3/ 410، "معالم التنزيل" 5/ 280، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 215. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 183، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 361. (¬6) في (ص). (يقال). (¬7) "جامع البيان" 16/ 178، "معالم التنزيل" 5/ 280، "روح المعاني" 16/ 221.

63

[وهو قول السدي في: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قال: (أسروا دون موسى. 63 - بقولهم: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ})] (¬1) (¬2). [وعلى قول السدي، وابن يسار نجواهم: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}] (¬3) إلى قوله: {من استعلى}. وعلى قول الآخرين نجواهم ما ذكروا. وقال أبو علي الفارسي: (التنازع إنما هو في أمر موسى وهارون هل هما ساحران؟ على ما ظنوه من أمرهما. وقد تقدم من قولهم ما نسبوهما فيه إلى السحر وهو قولهم: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه: 57] (¬4). قوله تعالى: {قَالُوا} أي: السحرة قال بعضهم لبعض: {إِنْ هَذَانِ} يعنون موسى وهارون {لَسَاحِرَانِ}. واختلفوا في وجه ارتفاع {هَذَانِ} بعد قوله: {إِنْ} بعد اجتماعهم على أن هذا لغة حارثية، وذلك أن بالحارث بن كعب (¬5)، وخثعما (¬6)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬2) "جامع البيان" 16/ 178، "النكت والعيون" 3/ 410، "زاد المسير" 5/ 297، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 215. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ص). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 230. (¬5) بالحارث بن كعب: ينسب إليه فخذ من القحطانية، وهم بنو الحارث بن كعب من مذحج. انظر: "نهاية الأرب" 2/ 203، "معجم قبائل العرب" 1/ 102. (¬6) خثعم: قبيلة تنسب إلى خثعم بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، وخثعم: جبل قيل أن هذه القبيلة سميت بذلك لنزولها إياه وتعاقدها عليه، وقيل: سموا بذلك من الخثعمة وهي: أن يدخل كل واحد من الرجلين إصبعه في منخر ناقته ينجو به ثم يتعاقدا، وقيل غير ذلك.

وزبيدًا (¬1)، وقبائل من اليمن يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وذلك أنهم يقلبون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا، فعاملوا ياء التثنية أيضًا هذه المعاملة، كما قال قائلهم (¬2): تَزَوَّدَ مِنَا بَيْنَ أُذْنَاهُ ضَرْبَةً ... دَعَتْهُ إلى هابِي التُّرَابِ عَقِيمِ فقال أذناه وهو خفض؛ لأن النون مفتوحة والياء بعد ساكنة، فقلبت الياء ألفاً وأنشدوا أيضًا على هذه اللغة (¬3): ¬

_ = انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 387، "الأنساب" 2/ 326، "تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 289، "التعريف في الأنساب" ص 187، "المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب" ص 503. (¬1) زبيدًا: قبيلة قديمة من مذحج، أصلهم من اليمن، نزلوا الكوفة، وتنسب إلى زبيد واسمه: منبه بن صعب، وهو زبيد الأكبر، وإليه ترجع قبائل زبيد، ومن ولد منبه بن ربيعة، وهو زبيد الأصغر، وقيل لهم زبيد: لأن منبهًا الأصغر قال: من يزبدني رقده؟ فأجابه أعمامه كلهم من زبيد الأكبر، فقيل لهم جميعًا: زبيد. وقيل نسبة إلى موضع في اليمن. انظر: "الأنساب" للسمعاني 3/ 135، "معجم البلدان" 3/ 131. (¬2) البيت لهوبر الحارثي. هابي التراب: ما اختلط منه بالرماد. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 20 أ، "المحرر الوجيز" 11/ 85، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 217، "سر صناعة الإعراب" 2/ 704، "جمهرة اللغة" ص 707، "خزانة الأدب" 7/ 453، "شرح المفصل" 3/ 128، "تاج العروس" (هبا) 10/ 405، "لسان العرب" (صرع) 4/ 2433. (¬3) البيت للمتلمس من قصيدة يعاتب فيها خاله الحارث اليثسكري. الشُّجَاع: الحية الذكر. المَسَاغ: المدخل. صَمَّم: عض ونيب فلم يرسل ما عض. انظر: "ديوانه" ص 34، "الأصمعيات" ص 246، "الشعر والشعراء" ص 80، "خزانة الأدب" 7/ 487، "معاني القرآن" للفراء 2/ 184، "معاني القرآن" =

فَأَطْرَقَ إِطْراقَ الشُّجَاعِ وَلَو يَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاه الشُّجَاعُ لَصَّمَمَا وقول آخر (¬1): أَي قَلُوصٍ رَاكِب تَرَاهَا ... طَارُوا عَلاَهُنَّ مطْر عَلاَهَا وهذه ليست ياء التثنية، ولكن لما كانت اللام قبل الياء في عليها مفتوحة قلبوها ألفًا، وحكى هذه اللغة جميع النحويين (¬2). وحكى أبو إسحاق عن النحويين القدماء قولين أحدهما: (أن هنا هاء مضمرة، المعنى: إنه هذان لساحران، وهذه الهاء كناية عن الأمر والشأن فحذفت، و {هَذَانِ} ابتداء وخبره {لَسَاحِرَانِ}. القول الثاني: أن معنى {إِنْ} نعم) (¬3)، وينشدون (¬4): ¬

_ = للزجاج 3/ 362، "المؤتلف والمختلف" ص 71، "الحيوان" 4/ 263، "لسان العرب" (صمم) 4/ 2500. (¬1) البيت لرجل من بني الحارث ولم يذكر اسمه. قَلوص: القَلوص بفتح القاف الناقة الفتية. طَاروا: نفروا مسرعين، وارتفعوا على إبلهم. انظر: "الكشف والبيان" 20/ 20 ب، "بحر العلوم" 2/ 347، "الإنصاف" ص 18، "تأويل مشكل القرآن" ص 50، "الخصائص" 2/ 269، "التصريح على التوضيح" 1/ 65، "همع الهوامع" 1/ 39، "شرح المفصل" 7/ 68. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 184، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 363، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 230، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 344، "الإنصاف" ص 18 "التصريح على التوضيح" 1/ 65، "همع الهوامع" 1/ 39، "شرح المفصل" 8/ 68. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 363. (¬4) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات. انظر: "ديوانه" ص 66، "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 50، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 363، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 345، "سر صناعة الإعراب" =

وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَكَ ... وَقَدْ كَبِرْتَ فَقلْتُ إِنَّه هذا الذي ذكرنا حكاية القولين. فأما معنى نعم هاهنا فقال أبو علي: (معنى نعم هاهنا وإن لم يتقدم سؤال يكون نعم جوابًا له، كما تقدم في قوله: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فقد تقدم: (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا) إلى قوله: {بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:57، 58] فيكون نعم منصرفًا إلى تصديق أنفسهم فيما ادعون من السحر، و {إِنْ} بمنزلة: نعم (¬1). وقد قال سيبويه: (نعم عدة وتصديق) (¬2). هذا كلامه (¬3). وعلى هذين القولين أدخلت اللام على خبر المبتدأ وكان من حقها أن تدخل على المبتدأ دون خبره، وهذا قول النحويون فيه: أنه يجوز في الشعر على الضرورة (¬4). وأنشدوا في ذلك (¬5): ¬

_ = 2/ 492، "خزانة الأدب" 11/ 213، "شرح أبيات سيبويه" 2/ 375، "الخصائص" 2/ 269، "لسان العرب" (أنى) 1/ 156. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 230. (¬2) "الكتاب" 1/ 475، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 230. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 230، "أعراب القرآن" للنحاس 2/ 343. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 184، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 363، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 230. (¬5) لم أهتد إلى قائله. وذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر: "خزانة الأدب" 10/ 323، "سر صناعة الإعراب" 1/ 378، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 263، "شرح التصريح" 1/ 174، "المقاصد النحوية" 1/ 556، "شرح ابن عقيل" 1/ 237، "فوائد القلائد" ص 81، "شرح الأشموني" 1/ 100، "لسان العرب" (شهرب) 4/ 2352.

خالِي لأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ ... يَنَلِ العُلاءَ ويَكْرُمِ الأَخوَالا وأنشدوا أيضًا (¬1): أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ويقبح حمل كتاب الله على لغة لا تجوز في السعة ومختار الكلام. قال ابن الأنباري: (أنكر الكسائي والفراء هذا (¬2)؛ لأن المبتدأ لا يحال بينه وبين خبره باللام، لا يقال: عبد الله لقائم؛ لأنّ اللام تحجز بين الحرفين، ومنع الذي بعدها من تقريب الذي قبلها) (¬3). وقال أبو إسحاق: (هذا أجود ما سمعنا إن {أَن} بمعنى: نعم، واللام وقعت موقعها المعنى: نعم هذان لهما ساحران. قال: وعرضت هذا القول على محمد بن يزيد، وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد (¬4) ¬

_ (¬1) هذا صدر بيت من الرجز ينسب إلى رؤية بن العجاج وعجزه: تَرْضى مِنَ اللحْمِ بِعظْمِ الرَقَبة الحُلَيْس: تصغير حلس وهو كساء رقيق يوضع تحت البرذعة، وأصل هذه كنية الأتنان. الشَّهْرَبَه: العجوز الكبيرة انظر: "ديوان رؤبة" ص 170، "شرح التصريح" 1/ 174، "شرح المفصل" 3/ 130، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 1105، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 363، "الخزانة" 3/ 130، "أوضح المسالك" 1/ 210، "المقاصد النحوية" 1/ 535، "لسان العرب" (شهرب) 4/ 2352. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 184. (¬3) ذكر نحوه الفراء في "المعاني" 2/ 184، والعكبري في "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 123، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 20 ب، ومكي في "الكشف" 2/ 100 (¬4) إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي، روى عن: عبد الله بن مسلمة القعقبي، وإسماعيل بن أبي أويس، وعمرو بن مرزوق، وحجاج بن المنهال وغيرهم كثير، وثقه العلماء وأثنوا عيه، اشتهر بصدقه وصلاحه، ولي القضاء ببغداد، توفي -رحمه الله- سنة 283 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 158، "كتاب الثقات" 8/ 105.

فقبلاه، وذكر أنه أجود ما سمعاه) (¬1). قال أبو علي: (ما ذكره أبو إسحاق من التقدير تأويل غير مرضي، وذلك أن هذه اللام للتأكيد، ويقبح أن يذكر التأكيد ويحذف نفس المؤكد، ألا ترى أن إظهار المؤكد وترك إضماره وحذفه أولى من أن يحذف ويذكر ما يؤكده، ولو كان المبتدأ محذوفًا من الآية كما ذهب إليه أبو إسحاق لم يحتج معه إلى التأكيد باللام، ويدلك على أن هذا ليس بالوجه أن النحويين أنشدوا (¬2): أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْربَه وحملوا هذا على الضرورة، وعلى أنه أدخل اللام على خبر المبتدأ، وكان من حقها أن تدخل على المبتدأ، فلو كان ما ذكره وجهًا في الآية لكان النحويون لا يحملون هذا الكلام على الضرورة، ويقدرون فيه ما قدر من أنه دخل على مبتدأ محذوف، ولا يحملونه على الاضطرار إذا وجدوا له مصرفاً قريبًا إلى الاختيار والسعة، فحملهم ذلك على الضرورة دلالة على أنهم تجنبوا ما ذكر من التقدير؛ لأنه أذهب في باب الفتح والضرورة مما حملوه عليه) (¬3). وقال الفراء: (الوجه في هذه المسألة أن تقول وجدت الألف من هذا دعامة وليست بلام فعل، فلما ثنيت زدت عليها نونًا ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول في كل حال، كما قالت العرب: (الذي) ثم زادوا نونًا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 363. (¬2) سبق ذكر البيت وعزوه. (¬3) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص 1013.

تدل على الجماع فقالوا: (الذين) في رفعهم ونصبهم وخفضهم، كذلك تركوا (هذان) بالألف في رفعه ونصبه وخفضه) (¬1). وحرر صاحب النظم هذا القول فقال: (هذا اسم منهوك؛ لأنه على حرفين أحدهما: حرف علة وهو الألف وهاء للتنبيه، وليس من الاسم فلما ثني واحتيج إلى ألف التثنية لم يوصل إليهما لسكون الألف الأصلية، واحتيج إلى حذف أحدهما فقالوا: إن حذفنا الألف الأصلية بقي الاسم على حرف واحد، وإن أسقطنا ألف التثنية كان في النون منها عوض ودلالة على معنى التثنية، فحذفوا ألف التثنية، فلما كانت الألف الباقية هي ألف الاسم واحتاجوا إلى إعراب التثنية لم يغيروا الألف عن صورتها؛ لأن الإعراب واختلافه في التثنية والجمع إنما يقع على الحرف الذي هو علامة التثنية والجمع، فتركوها على حالها في النصب والخفض، وعلى هذا القول الألف في هذان التي كانت في هذا ليس الذي جلبتها التثنية) (¬2). قال أبو علي: (لو كان الأمر على ما زعم لم تقلب هذا الألف في تثنيته فقط (¬3)، كما أن الألف التي في هذا لا تنقلب على حال، وفي كون هذه الألف مرة ياء ومرة ألفًا دلالة على أنه كسائر التثنية، ويدل على أن هذا الألف للتثنية أن التي كانت في الواحد قد حذفت، كما حذفت الياء من الذي والتي إذا قلت: اللذان واللتان واللذين واللتين، فالياء كانت في الاسم قد حذفت وجيء بالتي للتثنية، كذلك تحذف من قولهم: هذا، ألفه، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 184. (¬2) ذكر نحوه مختصرًا بلا نسبة الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 231. (¬3) في (ص): (قط).

وتلحق التي تكون علمًا للتثنية، ومن ثم انقلبت مرة ياء ومرة ألفًا، والتي تثبت لا يتعاوره القلب، ولا تزول عن أن تكون ألفًا) (¬1). هذا كلامه. وهذه الأقوال هي التي قالها المتقدمون من النحويين، ولم يسلم من هذه الأقوال على الاعتبار إلا قول من يقول: إنها لغة بلحارث. وقد قال ابن عباس في قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}: (هي لغة بلحارث بن كعب) ذكره عطاء عنه (¬2). وقال أبو إسحاق في ارتضاء هذا المذهب في هذه الآية: (حق الألف أن تدل على الاثنين وكان حقها ألّا تتغير كما لم تتغير ألف رحى وعصى، ولكن نقلها إلى الياء في النصب والخفض أبين وأفضل بين المرفوع والمنصوب والمجرور) (¬3). وقال الفراء في ارتضاء المذهب: (العرب جعلوا الواو تابعة للضمة والياء متابعة للكسرة نحو قولهم: مسلمون ومسلمين، فلما رأوا الياء من الاثنين لم يمكنهم كسر ما قبلها وثبت مفتوحًا تركوا الألف تتبعه فقالوا: رجلان في كل حال. وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في: كلا الرجلين في النصب والخفض وهما اثنان) (¬4). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 231. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 180، "معالم التنزيل" 5/ 281، "النكت والعيون" 3/ 411، "زاد المسير" 5/ 297، "الكشاف" 2/ 543، "البحر المحيط" 6/ 255، "إرشاد العقل السليم" 6/ 25. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 364. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 184.

وحكى ابن الأنباري قولًا آخر للفراء وهو: (أن الألف في هذان شبهت بالألف في: تفعلان ويفعلان، فلما كانت تلك الألف لا تتغير في تثنية الفعل لم يغيروا هذه الألف في شبه الاسم) (¬1). وذكر علي بن عيسى النحوي (¬2) قولًا آخر فقال: (إنما جاز {إِنْ هَذَانِ} لضعف عمل {إِنً} وذلك أنها تعمل بالشبه للفعل وليست بأصل في العمل، ألا ترى أنها لما خففت لم تعمل، فلما ضعف عملها لم تعمل في هذان) (¬3). هذا الذي ذكرنا كله وجه قراءة العامة. وقرا أبو عمرو: إن هذين بالياء (¬4). بخلاف المصحف، واحتجاجه في ذلك أنه روي: أنه غلط من الكتاب، وإن في الكتاب غلطًا ستقيمه العرب بألسنتها. يروي ذلك عن عثمان، وعائشة -رضي الله عنهما- (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" بلا نسبة 3/ 20 ب، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 219. (¬2) علي بن عيسى بن علي أبو الحسن النحوي، المعروف بالرماني، تقدمت ترجمته. (¬3) ذكره الألوسي في "روح المعاني" 16/ 223. (¬4) قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم: (إن هذان لساحران). وقرا أبو عمرو البصري: (إن هذين لساحران). انظر: "السبعة" ص 419، "الحجة" 5/ 229، "التبصرة" ص 260، "النشر" 2/ 321. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 20 ب، "معالم التنزيل" 5/ 280، "المحرر الوجيز" 10/ 297، "زاد المسير" 5/ 297، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 216، "البحر المحيط" 6/ 255، "الإتقان" 1/ 182. وقد رد العلماء هذا الأثر المروي عن عائشة وعثمان -رضي الله عنهما- من جهة إسناده ومتنه، فلا يصح الاحتجاج به على رد القراءة المتواترة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى" 2/ 252: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} لحن وأن عثمان -رضي الله عنه- قال: إن في المصحف =

وهذه القراءة هي قراءة عيسى بن عمر (¬1). قال أبو إسحاق: (ولا أجيزها؛ لأنها خلاف المصحف، ولا أجيز مخالفته؛ لأن إتباعه سنة) (¬2). ¬

_ = المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح. وقال في "تفسيره" 5/ 209: ومن زعم أن الكتاب غلط فهو الغالط غلطًا منكرًا، فإن المصحف منقول بالتواتر وقد كتبت عدة مصاحف وكلها مكتوبة بالألف فكيف يتصور في هذا غلط. وقال الألوسي في "روح المعاني" 16/ 224: والذي أجنح إليه تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر، ولم يقبل تأويلاً ينشرح له الصدر ويقبله الذوق، وإن صححه من صححه، والطعن في الرواية أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن الذي وصل إلينا بالتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يألوا جهدًا في إتقانه وحفظه. وقال الدكتور عبد الحي الفرماوي في كتابه "رسم المصحف" ص 131 بعد أن ضعف هذه الرواية: وقد ذكر بعض العلماء هذه الرواية في كتبهم بحسن قصد من غير تحر ولا دقة فاتخذها أعداء الإسلام من المارقين والمستشرقين للطعن في الإسلام وفي القرآن، لتوهين فقه المسلمين بكتاب ربهم - .. ثم قال-: ويجاب عن تصحيح السيوطي: بأن هذه الرواية على فرض صحتها، فهي رواية آحادية لا يثبت بها قرآن، وهي معارضة للقطعي الثابت بالتواتر فهي باطلة مردودة، فإن من قواعد المحدثين أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضًا لنص القرآن أو السنة أو الإجماع أو صريح العقل، حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء منه يزول به المحذور، وهذه الرواية مخالفة للمتواتر القطعي الذي تلقته الأمة بالقبول فيها باطلة لا محالة. انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 106، "جامع البيان" 16/ 180، "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 14، "دقائق التفسير" 5/ 202، "الإتقان" 1/ 182، "مناهل العرفان" 1/ 186، "رسم المصحف بين المؤيدين والمعارضين" ص 131. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 361، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 343، "البحر المحيط" 6/ 255، "التفسير الكبير" 22/ 74. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 364.

وقرا ابن كثير وحفص عن عاصم: إنْ هذان بتخفيف {إِنْ} (¬1)، على معنى ما هذان إلا ساحران كقوله: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186]، وإن إذا خفف كان الوجه أن يرفع الاسم بعدها، وإذا كان كذلك رفع هذان بعدها، وأدى مع ذلك خط المصحف. قال أبو إسحاق: (أستحسن هذه القراءة، وفيها إمامان عاصم والخليل، وكان يقرا بهذه القراءة، والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل؛ ولأن هذه القراءة توافق قراءة أبي في المعنى، وإن خالفه اللفظ) (¬2). وقراءته: إن ذان إلا ساحران (¬3). وقال الأخفش: ({إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} خفيفة في معنى ثقيلة، وهي لغة لقوم يرفعون بها، وإن ثقلت فهي لغة لبني الحارث بن كعب الاثنين في كل موضع) (¬4). هذا كلامه. وقد بأن أن القراءة الصحيحة في هذه الآية قراءة العامة، وقراءهَ من خفف {أَن} على التعليل (¬5). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: (إنْ هذان) بتخفيف (إنّ). وقرا نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (إنَّ هذان) بتشديد (إنّ). وكذلك قرأ أبو عمرو: بتشديد (إنّ). انظر: "السبعة" ص 419، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 229، "التبصرة" ص 260، "المبسوط في القراءات" ص 249. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 364. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 20 ب، "بحر العلوم" 2/ 348، "النكت والعيون" 3/ 410، "الكشاف" 2/ 542، "التفسير الكبير" 22/ 75. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 629. (¬5) وقوله المؤلف -رحمه الله-: (وقد بأن أن القراءة الصحيحة) لا يفهم منه أن =

وقوله تعالى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قال عكرمة: (يذهبا بخياركم) (¬1). وقال الحسن، وأبو صالح: (بأشرافكم) (¬2). وعن أبي صالح: (بسراة الناس) (¬3). وقال مجاهد: (أولوا العقل والشرف والأسنان) (¬4). وهذه الأقوال معناها واحد، هو معنى قول ابن عباس في رواية الوالبي: (أمثلكم) (¬5). قال الزجاج: (معناه بجماعتكم الأشراف. قال: والعرب تقول للرجل الفاضل: هذا طَرِيقَة قَومِه، ونَظِيرة قَومِه، ونَظُورَة قَومِه، للرجل الفاضل، ¬

_ = القراءة الأخرى قراءة ضعيفه؛ لأنها قد ثبتت القراءة بها وصحت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما وصلت إلينا بالتواتر، فلا يجوز ترجيح قراءة على أخرى؛ لأنها كلها ثابتة متواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والقراءة سنة متبعة. أما عن توجيه القراءة فما ذكره المؤلف -رحمه الله- هو قول جمهور العلماء من المفسرين. قال أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 255: والذي نختاره في تخريج هذه القراءة بأنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائمًا، وهي لغة كنانة ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 184، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 364، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 347، "التفسير الكبير" 22/ 75، "روح المعاني" 16/ 223، "الفتاوى" لابن تيمية 2/ 252. (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 20 ب، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 175. (¬2) "جامع البيان" 16/ 182، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 175، "الدر المنثور" 4/ 541. (¬3) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 162، "تفسير سفيان الثوري" ص 1954. (¬4) "جامع البيان" 16/ 186، "النكت والعيون" 3/ 411، زاد المسير" 5/ 300، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 174، "الدر المنثور" 4/ 541. (¬5) "زاد المسير" 5/ 208.

وإنما تأويله: هذا (الذي) (¬1) ينبغي أن يجعله قومه قدوة، ويسلكوا طريقته، وينظروا إليه ويتبعوه) (¬2). وقال الفراء: (العرب تقول للقوم: هؤلاء طَريقة قومهم، وطرائق قومهم لأشرافهم (¬3)، ويقولون للواحد أيضًا: طَريقة قومه ونَظُورة قومه ونَظيرة قومه، ويقولون للجمع بالتوحيد، والجميع يعني طريقه، وطرائق، قال: ومن ذلك قوله: {طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]) (¬4). وجعل الزجاج الآية من باب حذف المضاف، فقال: (المعنى عندي: يذهبا بأهل طريقتكم المثلى، قال: وكذلك قول العرب: هذا طريقة قومه، معناه هذا صاحب طَريقة قومه) (¬5). هذا كلامه. وليس يحتاج إلى تقدير المضاف على ما ذكره الفراء، فإن الطريقة اسم للأفاضل على معنى أنهم الذين يقتدى بهم ويتبع آثارهم، كما تسلك الطريقة، فتقدير المضاف تكلف. و (المثلي) تأنيث الأمثل، والأمثل معناه في اللغة: الأفضل، يقال: فلان أَمْثَل قومه أي: أفضلهم، وهم الأماثل (¬6). ومنه قول الشاعر (¬7): ¬

_ (¬1) كذا في نسخة (س) وهو أصوب، وكذا هي في معاني الزجاج، وفي غيرها (الفتى). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 364. (¬3) في نسخة (س): (أشرافهم). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 185. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3342، "القاموس المحيط" (المثل) 4/ 48، " مقاييس اللغة" (مثل) 5/ 297، "المعجم الوسيط" (الأمثل) 2/ 854، "لسان العرب" (مثل) 7/ 4134، "المفردات في غريب القرآن" (مثل) ص 463. (¬7) لم أهتد لقائله. وذكره نحوه: "تاج العروس" (نصف) 6/ 256، ونسبة لابن =

وَإِنْ أَتَوكَ فَقالوا إِنَّها نصَفٌ ... فَإِنَ أَمْثَل نِصْفَها الذِي ذَهَبا أي: أشقهما وأفضلهما. قال الأخفش والكسائي: (يقال: قد مَثَلَ يَمْثُلُ مُثُولًا، أي: صار فاضلًا) (¬1). واختلف لم قيل للأفضل أَمْثَل؟ فقال بعضهم: معنى الأمثل: الأشبه بالحق، ثم صار اسمًا للأفضل (¬2). وقيل: معنى الأمثل في اللغة: الأظهر، من قولهم: مَثَلَ الشيء يَمْثُلُ مُثُولًا: إذا قام وانتصب فظهر للعيون (¬3). قال لبيد (¬4): ثمَّ أَصدَرْناهُما في وارِدٍ ... صادِرٍ وَهْمٍ صُواه قَدْ مَثَلْ أي: انتصب وظهر، ولما كان الفاضل الشريف ظاهرًا من القوم ¬

_ = العربي، وكذلك ابن منظور في "لسان العرب" (نصف) 7/ 4443 بلفظ: وإن أتوك فقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفها الذي غبرا (¬1) ذكر نحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" (مثل) 4/ 3343. (¬2) "القاموس المحيط" (المثل) 1056، "لسان العرب" (مثل) 7/ 4134، "المفردات في غريب القرآن" (مثل) ص 462. (¬3) انظر: "الصحاح" (مثل) 7/ 4134، "مقاييس اللغة" (مثل) 5/ 297، "المعجم الوسيط" (مثل) 2/ 853، "لسان العرب" (مثل) 7/ 4134، "المفردات في غريب القرآن" (مثل) ص 462. (¬4) البيت للبيد بن ربيعة. أصدرناهما في وارد: الصادر والوارد الطريق، يقال: طريق صادر أي: أنه يصدر بأهله عن الماء، أو طريق وارد يرد بهم. وَهْم: واسع ضخم. والصُوَى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي المجهولة يستدل بها على طرقها، واحدتها صُوة. انظر: "ديوان لبيد بن ربيعة" ص 143،"تهذيب اللغة" (صدر) 2/ 1987، "لسان العرب" (صدر) 4/ 2411.

بفضله وشرفه قيل له: الأمثل. ومعنى الآية ما روى الشعبي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: ({وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يصرفا وجوه الناس إليهما) (¬1). والمعنى: أن يغلبا بسحرهما، فتمثل إليهما السادة والأشراف منكم. وقال قتادة: (طريقتكم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالًا، فقالوا: إنما يريد أن يذهبا بهما لأنفسهم) (¬2). فجعل قتادة هؤلاء الأفاضل من بني إسرائيل. وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي: (هم بنو إسرائيل) (¬3). هذا الذي ذكرنا قول المفسرين، وأهل التأويل، وعلى هذا مقاتل، والكلبي (¬4). وقال ابن زيد: (ويذهبا بالطريقة التي أنتم عليها في السيرة) (¬5). وهذا القول اختيار أبي عبيدة، والكسائي، قال أبو عبيدة: ({بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [بسنتكم ودينكم وما أنتم عليه) (¬6). وقال الكسائي: ({بِطَرِيقَتِكُمُ} يعني سنتكم وهداكم وسمتكم) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 183، "الكشف والبيان" 3/ 20 ب، "معالم التنزيل" 5/ 282، "زاد المسير" 5/ 300، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 174. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "جامع البيان" 16/ 183، "الكشف والبيان" 3/ 20/ ب، "النكت والعيون" 3/ 411، "معالم التنزيل" 5/ 282. (¬3) "جامع البيان" 16/ 182، "روح المعاني" 16/ 224. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 20، "تفسير مقاتل" 4 أ. (¬5) "جامع البيان" 16/ 183، "النكت والعيون" 3/ 412، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 175، "الدر المنثور" 4/ 541. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 23. (¬7) "الكشف والبيان" 3/ 20 ب.

64

و (المثلى)] (¬1) نعت للطريقة. ولا إشكال على هذا القول، و (المثلى) تأنيث الأمثل، بمعنى: الأفضل، وبمعنى: الأظهر (¬2). 64 - قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} قال الفراء: (الإجماع: الأحكام والعزيمة على الشيء، تقول: أجمعت الخروج، وعلى الخروج، مثل: أزمعت، وأنشد (¬3): يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَع ... هَلْ أَغْدُون يَومًا وأَمْرِي مُجْمَعُ يريد قد أحكم وعزم عليه) (¬4). وقال أبو إسحاق: (معناه: ليكن عزمكم كلكم على الكيد مُجْمَعًا لا تختلفوا) (¬5). ومضى الكلام معنى الإجماع عند قوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]. وقرا أبو عمرو: فاجْمَعوا (¬6)، موصولًا من الجمع، وحجته ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 185، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 364. (¬3) لم أهتد إلى قائله. وذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 183، "النكت والعيون" 3/ 412، "الجامع لأحكام القرآن" 12/ 121، "معاني القرآن" للفراء 2/ 158، "وضح البرهان في مشكلات القرآن" 2/ 64، "تهذيب اللغة" (جمع) 1/ 652، "لسان العرب" (جمع) 2/ 681، "نوادر أبي زيد" ص 133، "إصلاح المنطق" ص 263. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 185. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365. (¬6) قرأ: نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي وعاصم: (فَأجْمِعوا) بقطع الألف وكسر الميم. وقرا أبو عمرو البصري: (فَاجمَعوا) بوصل الألف وفتح الميم. انظر: "السبعة" ص 419، "الحجة للقراء السبعة" ص 232، "المبسوط في القراءات" ص 249، "التبصرة" ص 260.

قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60]. قال الفراء: (معناه: فلا تَدعوا من كيدكم شيئًا إلا جئتم به) (¬1). وقال الزجاج: (جيئوا بكل ما تقدرون عليه، ولا تبقوا منه شيئًا) (¬2). واختار الأخفش هذه القراءة وقال: (إنما يقولون بالقطع إذا قالوا: أجمعنا على كذا وكذا، فأما إذا قالوا: أجمعوا أمركم، وأجمعوا شركأكم، فلا يقولون إلا بالوصل. والقطع أكثر القراءة، ولعله لغة في جمع؛ لأنّ داب فَعَلت وأَفْعلت كثير) (¬3). قال أبو علي: (يشبه أن يكون ذلك على لغتين، كما ظنه أبو الحسن، كقول الشاعر) (¬4) (¬5): وأَنْتُمُ مَعْشَرٌ زيدٌ عَلَى مِائَةٍ ... فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ طُرًّا فَكِيْدُوني وقال الهذلي (¬6): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 185. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365. (¬3) ذكر نحوه "معاني القرآن" للأخفش 2/ 571، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 232. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 232. (¬5) البيت لذي الإصبع العدواني. مَعْشَر: المعشر الجمع ولا واحد له من لفظه، ومعشر الرجل أهله. طُرًّا: جمعًا. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 233، "شرح المفصل" 1/ 30، "لسان العرب" (عشر) 5/ 1295، "مجمع البيان" 7/ 29. (¬6) البيت لأبي ذؤيب الهذلي يصف حُمرًا. الجَزْع، ونُبَاع، وأُولاَت ذِى العَرجَاء: أسماء أماكن. والنَّهَب المُجْمَع: إبل القوم التي أغار عليها اللصوص، وكانت متفرقة في مراعيها فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت لهم ثم طردوها وساقوها. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 17، "المفصليات" ص 423، "الجامع لأحكام =

فَكَأَنَّهَما بالجِزْعِ بَيْنَ نُبَايعٍ ... وَأَولاَتِ ذِي العَرْجَاءِ نَهْبٌ مُجْمَعُ أي: مجموع، وهذا فيما يتواصى به السحرة من جمع كيدهم، وما يستظهرون به من المبالغة في سحرهم. وقوله تعالى: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} قال أبو عبيدة: (الصف: موضع الجمع، ويسمى المصلّى: الصف، يقال: هل أتيت الصف اليوم؟ أي: المصلّى الذي يصلى فيه. قال: وقد يكون على المصدر، كما تقول: جاءوني صفًا أي: مصطفين) (¬1). وذكر أبو إسحاق الوجهين فقال: (معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت صَفا بمعنى أتيت المصَلّى، قال: ويجوز أن يكون {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي: مصطفين مجتمعين ليكون أنظم (¬2) لأموركم وأشد لهيئتكم) (¬3). والمفسرون يقولون في قوله: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا}: (جميعًا)، قاله مقاتل، والكلبي، وابن عباس في رواية عطاء (¬4). وهو بمعنى: مصطفين {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} قال ابن عباس: (يريد قد سعد اليوم من غلب) (¬5). ¬

_ = القرآن" 11/ 220، "تهذيب اللغة" (جمع) 1/ 652، "لسان العرب" (جمع) 2/ 678. (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 23. (¬2) قوله: (ليكون أنظم)، ساقط من نسخة (س). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 21 أ، "معالم التنزيل" 5/ 283، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 221، "تفسير مقاتل" 4 أ. (¬5) "زاد المسير" 5/ 301، وذكره الطبري في "تفسيره" 16/ 184 بدون نسبة.

65

قال الليث: (ويقال لكل من قهر أمرًا أو علاه: اعتلا، واستعلاه واستعلى عليه) (¬1). وقال الزجاج: ((استعلى) أي: علا بالغلبة) (¬2). 65 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} قال الفراء: (المعنى: اختر أحد هذين الأمرين) (¬3). والمراد بالإلقاء هاهنا: إلقاء العصا على الأرض، وكانت السحرة معهم عصي، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، كما قال الله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (¬4)، ولما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول. 66 - فقال موسى: {بَلْ أَلْقُوا} أمرهم بالإلقاء أولًا، لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم بم معهم، ثم يلقي هو عصاه فتبتلع كل ذلك على ما ذكر (¬5). وقوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} في الكلام محذوف تقديره: فألقوا فإذا حبالهم. [قال أبو إسحاق: (وترك هاهنا؛ لأنه قد جاء في موضع آخر: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44] (¬6)] (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (علا) 3/ 2536. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 185. (¬4) وردت في سورة [الأعراف: 107]، وفي سورة [الشعراء: 32]. (¬5) ويشهد لذلك قوله سبحانه: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45]. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 365.

قال ابن عباس في رواية عطاء: (كان عدد السحرة سبعين ألف رجل، ومع كل رجل عصا وحبل غليظ مثل حبال السفن) (¬1). وقال عكرمة، وابن جريج: (كانوا تسع مائة) (¬2). وقال محمد بن إسحاق: (كانوا خمسة عشر ألفًا) (¬3). وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} يقال خُيل على الرجل تخييلا: إذا أدخل عليه التهمة والشبهة، وأصل هذا الحرف: من الشَبَه والاشتباه الذي ينافي الحق والحقيقة، ومنه الخَيَال الذي يشبه الشيء وليس منه كخَيال الإنسان في المرآة، وخَياله في النوم، وأَخَال الشيء إذا اشتبه وأشكل فهو مخيل (¬4)، ومنه قول الشاعر (¬5): والصَّدْقُ أَبْلَجُ لا يُخَيلُ سَبِيلُهُ ... والصَّدقُ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلبَابِ ومعنى هذه الآية كمعنى قوله: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 184، "النكت والعيون" 3/ 413، "المحرر الوجيز" 10/ 52، "الكشاف" 2/ 543. (¬2) "جامع البيان" 16/ 185، "النكت والعيون" 3/ 413، "التفسير الكبير" 22/ 83. (¬3) "جامع البيان" 16/ 185، وذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 52 بدون نسبة. وقال الألوسي في "روح المعاني" 16/ 225 بعد ذكر هذه الأقوال: ولا يخفى حال الأخبار في ذلك، والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم. وقال الشنقطي في "أضواء البيان" 4/ 438 بعد ذكر هذه الأقوال: وهذه الأقوال من الإسرائيليات. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (خال) 1/ 966، "القاموس المحيط" (خال) ص 996، "الصحاح" (خيل) 4/ 1692، "لسان العرب" (خيل) 3/ 1304. (¬5) لم أهتد إلى قائله. وذكر في كتب اللغة بلا نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (خال) 1/ 968، "لسان العرب" (خيل) 3/ 1304.

67

116] وذكر الكلام فيه. وموضع (أن) من قوله: {أَنَّها تَسْعَى} رفع على معنى يخيل إليه سعيها (¬1). قال الكلبي: (خُيل إلى موسى أن الأرض حيات كلها، وأنها تسعي على بطنها) (¬2). وكثير من الكلام اللائق بهذه الآيات قد مضى في سورة الأعراف (¬3). 67 - قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ} قال الفراء: (أحس (¬4) ووجد) (¬5). وقال الزجاج: (أضمر) (¬6). وقال في موضع آخر: (وقع في نفسه الخوف) (¬7). وقد ذكرناه مستقصى في سورة هود (¬8). وقوله تعالى: {خِيفَةً مُوسَى} أي: خوفًا، وأصلها: خوفه فانقلبت ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 186، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 366، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 348. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 222. اختلف العلماء هل للسحر حقيقة أم لا؟ فقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 437: والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين: أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخيل لا حقيقة له، ومنه ما هو تخيل لا حقيقة له. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 44، "التفسير الكبير" 3/ 213، "أحكام السحر والسحرة" للرازي ص 110، "السحر" للدكتور مسفر الدميني ص 25، "السحر بين الحقيقة والخيال" للدكتور أحمد الحمد ص 37. (¬3) وردت قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة الأعراف (103 - 162). (¬4) في (س): (أجس). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 182. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 61. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 5/ 553. (¬8) عند قوله سبحانه: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].

68

الواو ياء لانكسار الخاء (¬1). وإنما خاف موسى؛ لأن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس على الناس أمره، ولا يؤمنوا به. هذا معنى قول الكلبي، ومقاتل (¬2). وقيل: (كان خوف طباع، لكثرة ما يخيل له من الحيات العظام)، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق (¬3). 68 - فقال الله تعالى: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} قال ابن عباس: (يريد أنت الغالب) (¬4). والمعنى: أنت الأعلى عليهم بالظفر والغلبة. 69 - {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني العصا {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} قال الزجاج: (القراءة بالجزم (¬5)، جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها تلقفه) (¬6)، هذا كلامه. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 367، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 349. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 21 أ، "معالم التنزيل" 5/ 283، "البحر المحيط" 6/ 260، "التفسير الكبير" 22/ 84، "تفسير مقاتل" 4 أ. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 349، وذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 413، "معالم التنزيل" 5/ 283، "المحرر الوجيز" 10/ 54، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 222. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 284، "زاد المسير" 5/ 305، "القرطبي" 11/ 223. (¬5) قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (تَلقَّفْ مَا صَنعوا) بتشديد القاف وجزم الفاء. وقرأ عاصم في رواية حفص: (تَلْقَفُ مَا صَنعوا) بتخفيف القاف ورفع الفاء. وقرأ ابن عامر الشامي: (تَلْقَّفُ مَا صَنعوا) بتشديد القاف ورفع الفاء. انظر: "السبعة" ص 420، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 235، "المبسوط في القراءات" ص 249، "النشر" 2/ 321. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 367.

وشرحه أبو علي فقال: (وجه قراءة من قرأ: {تَلْقَفُ} بالرفع، وهي قراءة ابن عامر: أنه في موضع الحال، والحال يجوز أن يكون من الفاعل المُلْقِي، ويجوز أن يكون من المفعول المُلْقَى، فإن جعلته من الفاعل المُلْقِي جعلته المُتلَقَّفَ، وإن كان التَّلَقُفُ في الحقيقة للعصا، ووجه جعل المُتَلَقَّف أن التَّلَقُفُ في الحقيقة للعصا، ووجه جعل المُتَلَقَّف أن التَّلَقُف بإلقائه كان فجاز أن ينسب إليه، والفعل كثيرًا يضاف إلى المسبب، ويجوز أن يكون الحال من المفعول، وجعلت تَلْقَفْ حالًا، وإن لم تتلقف بعد، كما جاء في التنزيل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وكما أجاز النحويون: مررتُ برجلٍ معه صقر صائدًا به غدًا، وهذا النحو من الحال كثير في التنزيل وغيره) (¬1). وقال: ({تَلْقَفْ} على التأنيث، حملًا للكلام على المعنى؛ لأنه المراد بما في يمينه العصا. ومن قرأ: تلقفْ بالجزم، فعلى أن يكون جوابًا، كأنه: إن تُلْقِهِ تَلَقَّفْ، ويجوز أن يكون تَلْقَفْ خطابًا لموسى، كما ذكر في قراءة من رفع يجوز أن يكون حالًا للفاعل) (¬2). وذكرنا معنى التلقف في سورة الأعراف مستقصى (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} أي: الذي صنعوه كيد ساحر. وقرئ: كيد سحر (¬4). وساحر أقوى؛ لأنّ الكيد للساحر في الحقيقة وليس ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 236. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 236. (¬3) عند قوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117]. (¬4) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: {كَيْدُ سَاحِرٍ} بالألف.

للسحر، ومن قرأ: كيد سحر، أضاف الكيد إلى السحر على التوسع، وأراد كيد ذي سحر، فيكون المعنى مثل كيد ساحر، ويجوز أن يكون معنى كيد سحر: كيد من سحر كما قالوا: قميص حرير، وجبة وَشْي، ذكر ذلك ابن الأنباري (¬1). والمعنى: الذي صنعوه تخيل سحر لا حقيقة له. [وقوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} قال ابن عباس: (ولا يسعد الساحر حيث ما كان) (¬2). وروى جندب بن عبد الله البجلي (¬3): أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} قال: لا يأمن حيث وجد" (¬4). ¬

_ = وقرأ حمزة، والكسائي: (كيد سحر) بغير ألف. انظر: "السبعة" ص 421، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 237، "حجة القراءات" ص 458، "الغاية في القراءات" ص 323. (¬1) ذكر بلا نسبة في "الكشاف" 2/ 545، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 224، "التفسير الكبير" 22/ 85، "البحر المحيط" 6/ 260. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 284، "زاد المسير" 5/ 306. (¬3) جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، ينسب إلى جده، أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- روى عنه الحسن، وابن سيرين، وأخرج له الجماعة، توفي -رضي الله عنه- سنة 64 هـ. انظر: "الاستيعاب" 1/ 219، "أسد الغابة" 1/ 303، "الإصابة" 1/ 249، "تهذيب التهذيب" 2/ 118، "سير أعلام النبلاء" للذهبي 3/ 174، "الكاشف" 1/ 132. (¬4) أورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 175، وقال: وقد روى أصله الترمذي موقوفًا ومرفوعًا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 541، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 210، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 48، والشوكاني في "نيل الأوطار" باب: ما جاء في حد السحر 7/ 632، والألوسي في "روح المعاني" 16/ 230. =

70

قال أبو إسحاق: (معناه حيث كان الساحر يجب أن يقتل. قال: وكذلك مذهب أهل الفقه في السحرة) (¬1). ونحوه هذا المعنى ذكر الفراء] (¬2) (¬3). 70 - وقوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} ففعل ما أمر به موسى، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} وترك ذكره؛ لأنه ذكر في سورة الأعراف (¬4)، والشعراء (¬5) أنه ألقى عصاه، فتلقفت ما صنعوا، وما يقع من الكلام في تفسير هذه الآية قد سبق في سورة الأعراف (¬6). ¬

_ = وأخرج الترمذي في جامعه نحوه في كتاب الحدود، باب: ما جاء في حد السحر 4/ 60، والحاكم في "المستدرك" 4/ 360، وصححه ووافقه الذهبي، وذكره ابن حزم في "المحلى" 11/ 396، وابن حجر في "فتح الباري" 10/ 236، والذهبي في "الكبائر" ص 46. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 367. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 186. اختلف العلماء في حكم السحر والساحر، والصحيح -والله أعلم- أن السحر نوعان منه ما هو كفر، ومنه ما لا يبلغ درجة الكفر، فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فإنه يقتل كفرًا، وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ الكفر فهو محل خلاف بين العلماء، والراجح -والله أعلم- أنه لا يقتل. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 48، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 61، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 31، "المبسوط" للسرخسي 10/ 208، "الزواجر" 2/ 104، "المغني" لابن قدامة 8/ 151. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬4) عند قوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117]. (¬5) عند قوله سبحانه: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45]. (¬6) سورة الأعراف الآيات: (117 - 120).

71

71 - قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} الكلام في هذا، ووجه اختلاف القراء في {آمَنْتُمْ} (¬1). قد تقدم في سورة الأعراف (¬2). بوصل الباء إذا كان باللهِ تعالى، وإذا كان بغيره وصل باللام، كذا جاء في التنزيل (¬3)، مثل قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى} [يونس: 83]، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90]، {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]؛ لأنه يراد به مجرد التصديق، وقد قال في سورة الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123]، فهما بمعنى واحد. قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} قال ابن عباس: (يريد معلمكم) (¬4). وقال: (ولذلك يقول أهل مكة: جئت (¬5) من عند كبيري، [وحتى أستأذن كبيري) (¬6). وقال الكسائي: (الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري) (¬7)] (¬8). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: (آمنتم) على لفظ الخبر. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، ونافع: (آمنتم) بهمزة ممدودة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (أآمنتم) بهمزتين الثانية ممدودة انظر: "السبعة" ص 421، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 238، "حجة القراءات" ص 458. (¬2) عند قوله سبحانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123] الآية. (¬3) "الكشاف" 2/ 546، "البحر المحيط" 6/ 261، "روح المعاني" 16/ 231. (¬4) "زاد المسير" 5/ 207. (¬5) في (ص) (حيث)، وهو تصحيف. (¬6) "الكشاف" 2/ 545، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 23. (¬7) "زاد المسير" 5/ 207، "فتح القدير" 3/ 537. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص).

وقال محمد بن إسحاق: (إنه لعظيم السحار) (¬1). والكبير في اللغة: الرئيس (¬2)، ومنه قوله تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} [يوسف: 80]، يعني رئيسهم الذي هو أعلمهم، ولم يرد الكبير في السن، ولهذا يقال للمعلم: الكبير. قال أهل المعاني: جعل نسبتهم إلى اتباع رئيسهم بالسجود علة لصرف الناس عن اتباع موسى. وقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} قال المبرد: (المعنى على جذوع النخل، وإنما وقعت في ومعانيها الوعاء، كقولك: زيد في الدار، والمتاع في الوعاء؛ لأنّ الجذع جعل كأنه قد حل فيه، فصار الجذع له مكانًا كالبيت) (¬3). كما قال الأسدي (¬4): تَداركت شَمْاسًا ويَحْيى وخالدِا ... وقَد نصبت فَوقَ الجُذُوع قُبُورهَا أي: جعلت الجذوع لهم مكان القبور، ونحو هذا قال أبو عبيدة، والفراء، والزجاج (¬5) وأنشدوا (¬6): ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 188 "فتح القدير" 3/ 537. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (كبر) ص 3090، "القاموس المحيط" (كبر) ص 468، "لسان العرب" (كبر) 6/ 3807. (¬3) ذكره مختصرًا في "المقتضب" 2/ 318. (¬4) لم أهتد إليه. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 123، "معاني القرآن" للفراء 2/ 186، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 368. (¬6) اختلف في نسبة هذا البيت، فنسب لسويد بن أبي كأهل. انظر: "الأزهية" ص 278، "شرح شواهد المغني" 1/ 479، "الكشف والبيان" 3/ 21 "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 224، "السان العرب" (شمس) 4/ 2324.=

72

وَهُم صَلَبُوا العَبدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةِ ... فَلا عَطَستْ شَيْبَانُ إِلاَ بِأجْدَعا ولما كانت الجذوع تضمهم كما يضم الوعا ما فيه قيل: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38]، أي: عليه. {وَلَتَعْلَمُنَّ} أيها السحرة {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا} لكم {وَأَبْقَى} وأدوم أنا على إيمانكم، أو رب موسى على ترككم الإيمان به. 72 - قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} أي: لن نفضلك ولن نختارك {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} قال ابن عباس: (يريد من اليقين والعلم) (¬1). وقال مقاتل: (يعني اليد والعصا) (¬2). وقال عكرمة: (هو أنهم حيث خروا سجدًا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة التي إليها يصيرون) (¬3). ونحو هذا قال القاسم بن أبي بزة (¬4): (ما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها عند ¬

_ = ونسب البيت لامرأة من العرب. انظر: "الخصائص" 2/ 313، "شرح المفصل" 8/ 21، "لسان العرب" (فيا) 10/ 373. وورد بلا نسبة في: "جامع البيان" 16/ 118، "البحر المحيط" 2/ 261، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 24، "معاني القرآن" 3/ 368، "المقتضب" 2/ 319، "أدب الكاتب" ص 506. (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 225. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 21 ب، "معالم التنزيل" 5/ 285، "تفسير مقاتل" 4 ب. (¬3) "النكت والعيون" 3/ 414، "الكشاف" 2/ 545، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 225، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 176، "الدر المنثور" 4/ 542، "أضواء البيان" 4/ 472، وقال: والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات. (¬4) القاسم بن نافع بن أبي بزة، واسم أبي بزة: يسار، وقيل نافع، مولى عبد الله بن السائب بن صيفي المخزومي المكي، ويكنى القاسم بأبي عبد الله، وأصله من همدان، تابعي ثقة، روى عن: أبي الطفيل، وأبي معبد، ومجاهد، وسعيد بن =

73

ذلك قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}) (¬1). وقوله تعالى: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} ذكر الفراء والزجاج فيه وجهين أحدهما: (لن نؤثرك على الله والذي خلقنا. والثاني: أنه قسم) (¬2). {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} قال ابن عباس وجميع المفسرين: (فاصنع ما أنت صانع) (¬3). {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} قال ابن عباس: (يريد إنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا، فأما في الآخرة فليس لك فيها حظ ولا سلطان) (¬4). 73 - قوله تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} قال ابن عباس: (الشرك الذي كنا فيه) (¬5). {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} روي: (أن فرعون ¬

_ = جبير. وروى عنه: عمرو بن دينار، وعبد الملك بن أبي سليمان، وابن جريج وغيرهم كثير، توفي -رحمه الله- سنة 124 هـ بمكة. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 122، "طبقات ابن سعد" 5/ 479، "الثقات" لابن حبان 7/ 330، "شذرات الذهب" 1/ 162، "تهذيب التهذيب" 89/ 278. (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 21 ب، "معالم التنزيل" 5/ 285، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 176، "الدر المنثور" 4/ 542. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 187، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 368. (¬3) "جامع البيان" 16/ 189، "الكشف والبيان" 3/ 22 أ، "النكت والعيون" 3/ 415، "معالم التنزيل" 5/ 285، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 226. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 189، "معالم التنزيل" 5/ 285، "النكت والعيون" 3/ 415، "زاد المسير" 5/ 307، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 176. (¬5) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 350، "زاد المسير" 5/ 307، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 226، "مجمع البيان" 7/ 35.

74

كان يكره الناس على تعلم السحر) (¬1). وروي: (أنه أكرههم على معارضة موسى بالسحر) (¬2). والقولان مرويان في التفسير. {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قال ابن عباس: (يريد ثواب الله خير وأبقى) (¬3). فعلى هذا المضاف محذوف. وقال أبو إسحاق: (أي الله خير لنا منك وأبقى عذابًا) (¬4). وهذا جواب قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71] وهذا معنى قول محمد بن إسحاق: (والله خير منك [ثوابًا وأبقى عقابًا) (¬5). وقال محمد بن كعب: (والله خير منك إن أطيع، وأبقى عذابًا منك] (¬6) إن عصي) (¬7). 74 - قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} هذا ابتداء كلام من الله تعالى وانتهى الإخبار عن السحرة (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 189، "الكثف والبيان" 3/ 22أ، "بحر العلوم" 2/ 350، "معالم التنزيل" 5/ 285، "المحرر الوجيز" 7/ 58، "زاد المسير" 5/ 307. (¬2) "المحرر الوجيز" 3/ 58، "الكشاف" 2/ 546، "زاد المسير" 5/ 308، "التفسير الكبير" 22/ 89، "روح المعاني" 16/ 233. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 226. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 369. (¬5) "جامع البيان" 16/ 190، "معالم التنزيل" 5/ 285، "ابن كثير" 3/ 176. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬7) المراجع السابقة، "الدر المنثور" 4/ 542، "فتح القدير" 3/ 538. (¬8) "بحر العلوم" 2/ 350، "معالم التنزيل" 5/ 286، "المحرر الوجيز" 10/ 59، "الكشاف" 2/ 546.

وقيل: (هذا أيضًا إخبار عنهم أنهم قالوه) (¬1). والكناية في قوله: {إِنَّهُ} الأمر والشأن، أي: بأن الأمر والشأن هذا، وهو أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة، ويجوز أن يكون هاء الإضمار على شريطة التفسير، وبينا ذلك في سورة يوسف [90]. ومعنى {مُجْرِمًا} قال ابن عباس في رواية الضحاك: (المجرم الكافر) (¬2). وقال في رواية عطاء: (يريد أجرم، وفعل مثل ما فعل فرعون) (¬3). {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} قال: (يريد لا يموت فيستريح، ولا يحيي فيفتر عنه العذاب) (¬4). قال الكلبي: (ولا يحيي فيها حياة تنفعه) (¬5). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 286، "المحرر الوجيز" 10/ 59، "الكشاف" 2/ 546، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 226، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 177. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 190، "بحر العلوم" 2/ 350، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 227، "مجمع البيان" 7/ 35، "البحر المحيط" 6/ 262. (¬3) "مجمع البيان" 7/ 35. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 350، "زاد المسير" 5/ 309، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 227، "مجمع البيان" 7/ 35، "البحر المحيط" 6/ 262، "فتح التقدير" 5/ 538. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" 5/ 309، "البحر المحيط" 6/ 262، "فتح القدير" 5/ 538. ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]

وروى أبو نضرة (¬1) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم تُميتهم النار إماتة حتى يصيروا فحمًا، ثم يخرجون ضبائر (¬2) فيلقون على أنهار الجنة، فيرش عليهم من أنهار الجنة، حتى ينبتوا كما تنبت الحبة في حميل السيل) (¬3) (¬4). قال المبرد: (تأويل قوله: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} لا يموت ميتة مريحة، ولا يحيى حياة ممتعة، وهو يألم كما يألم الحي ليفهم ذلك، ويبلغ بهم حالة الموتى في المكروه، إلا أنه لا يبلغ الحالة التي يبطل فيها عن الفهم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، وكذلك يقولون لمن يكلم ولم يبلغ حاجته: تكلمت ولم تتكلم، أي: لم ¬

_ (¬1) المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، العوفي، البصري، من الطبقة الوسطى، من علماء التابعين، وثقه عدد من العلماء، وشهدوا له بالصلاح والتقوى. توفي -رحمه الله- سنة 108 هـ انظر: "تهذيب التهذيب" 10/ 302، "سير أعلام النبلاء" 4/ 129، "تقريب التهذيب" 2/ 275. (¬2) الضبائر: جماعات الناس، يقال: رأيتهم ضبائر أي: جماعات. انظر: "تهذيب اللغة" (ضبر) 3/ 2087، "مقاييس اللغة" (ضبر) ص386، "الصحاح" (ضبر) 2/ 718، "لسان العرب" (ضبر) 4/ 2547. (¬3) حميل السيل: ما حمله السيل من الغثاء والطين، وكل محمول فهو حميل. انظر: "تهذيب اللغة" (حمل) 1/ 925، "الصحاح" (حمل) 4/ 1678، "القاموس المحيط" (حمله) (987)، "لسان العرب" (حمل) 2/ 1001. (¬4) أخرجه النسائي في "سننه" كتاب التطبيق، باب: موضع السجود 2/ 163، والترمذي في صفة جهنم، باب: (10) 4/ 615، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في الرقاق، باب: ما يخرج الله من النار برحمته 2/ 238، وأورده في "الدر المنثور" 2/ 542، وزاد نسبته لابن مردويه عن أبي سعيد.

75

تبلغ) (¬1). كما قال ابن مرداس (¬2) (¬3): وقَدْ كُنْتُ في الحَرْبِ ذا تُدْرَاءٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا ولَمْ أُمْنَعِ لأنه عندما أعطيه يقصر عن حقه، بأنّه قد وصل إليه القليل لم يمنع. وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (¬4): أَلاَ مَا لِنَفْسٍ لا تَمُوُت فَيَنْقَضِي ... شَقاهَا ولا تَحْيَا حَياةً لَهَا طَعْمُ 75 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} قال ابن عباس: (مصدقًا) (¬5). {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [قال: (يريد قد أدى الفرائض) (¬6). فهذا من صفة النكرة ¬

_ (¬1) ذكر نحوه "المحرر الوجيز" 10/ 59، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 89، "البحر المحيط" 6/ 262. ويشهد له قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]. (¬2) عباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي، أبو الهيثم، الصحابي، تقدم. (¬3) البيت لعباس بن مرداس. ذا تدرأ: أي: ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب ففيه قوة على دفع أعدائه. انظر: "ديوانه" ص 84، "الشعر والشعراء" 2/ 752، "شرح التصريح" 2/ 119، "شرح شواهد المغني" 2/ 925، "المقاصد النحوية" 4/ 69، "همع الهوامع" 2/ 120، "لسان العرب" (درأ) 3/ 1347. (¬4) ذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 415، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 227، "أضواء البيان" 4/ 478، "لسان العرب" (طعم) 8/ 165. (¬5) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 350، "لباب التأويل" 4/ 276، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 226، "مجمع البيان" 7/ 35، "مدارك التنزيل" 2/ 1016. (¬6) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. =

التي هي الحال] (¬1)، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} قال: (قصرت دونها الصفة) (¬2). قال ابن عباس فيما روى عنه سعيد بن جبير: (لله عباد ولدوا في الإسلام ونشؤا في أعمال البر، لم يخالطوا المعاصي وأهلها حتى ماتوا على ذلك، إذا كان يوم القيامة نادى المنادي: أين من أتى ربه مؤمنًا فاضلًا قد عمل الصالحات بصدق النية، فعرف القوم صفتهم، فقالوا: لبيك دعوتنا، قال: فإن الله يقول: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ} الآية، وعقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم حتى دخلوا الجنة) (¬3). والآية دليل على أن الأمور بخواتيمها وأن الإيمان بالموافاة لقوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} ودليل على أن الدرجات إنما تستحق بالأعمال الصالحة، وقد يدخل الجنة من لا ينال الدرجات العلى. وهذا معنى قوله-عليه السلام-: "تدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون الدرجات بأعمالكم" (¬4). ¬

_ = انظر: "جامع البيان" 16/ 190، "زاد المسير" 5/ 309 ذكره منسوب لابن عباس، "لباب التأويل" 4/ 276، "مجمع البيان" 7/ 35، "روح المعاني" 16/ 240. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬2) ذكر نحوه بدون نسبة "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 227، "فتح القدير" 5/ 539. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) أخرج البخاري نحوه في "صحيحه" كتاب الرقائق، باب: القصد والمداومة على العمل 5/ 2373، ومسلم في "صحيحه" كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله تعالى 4/ 2169، وابن ماجة كتاب الزهد، باب: التوفي على العمل 2/ 1405، والإمام أحمد في "مسنده"2/ 222، والدارمي في "سننه" كتاب الرقائق، باب: لن ينجي أحدكم عمله 2/ 215.

76

76 - قوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} قال عطاء عن ابن عباس: (من قال لا إله إلا الله) (¬1). ونحو ذلك قال الكلبي (¬2). ومعنى {تَزَكَّى} تطهير من الذنوب بالطاعة بدلًا من التدنس بالمعاصي. وقصد أن يكون زاكيا في الخير. 77 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} سر بهم ليلًا من أرض مصر {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} أي: اجعل لهم طريقًا في البحر بالضرب بالعصا حتى ينفلق لهم البحر عن طريق (¬3). فعدي الضرب إلى الطريق لما دخله هذا المعنى، وهو أنه أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب. وقوله تعالى: {يَبَسًا} قال الليث: (طريق يبس: لا نداوة فيه ولا بلل) (¬4). وقال أبو عبيدة: (يَبَسْ وَيبْس بمعنى: يَابس) (¬5)، وأنشد لعلقمة بن عبدة (¬6): ¬

_ (¬1) "الكشاف" 2/ 546، "التفسير الكبير" 22/ 91، "روح المعاني" 16/ 235. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 22 أ، "معالم التنزيل" 5/ 286. (¬3) "جامع البيان" 16/ 191، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 45، "معالم التنزيل" 5/ 286. (¬4) "تهذيب اللغة" (يبس) 4/ 3973. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 24. (¬6) البيت لعلقمة بن عبدة التميمي. خَشْخَش: الخشخاش الجماعة عليهم سلاح ودروع. واليَبَس: بالفتح اليابس، وهو نقيض الرطوبة. انظر: "ديوانه" ص 107، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 24، "الاقتضاب" ص 460، "لسان العرب" (خشخش) 2/ 1164.

تَخَشْخَشُ أَبْدَانُ الحَدِيْدِ عَلَيهِمُ ... كَمَا خَشْخَشَتْ يَبْسَ الحَصَاد جَنُوُب وقال الأزهري: (يقال للأرض إذا يَبِسَت: يَبَس، وللبقول والحطب يَبِس (¬1)، وأنشد (¬2): ولَمْ يَبْقَ بالخَلْصاءِ مِما عَنَتْ بِه ... مِنَ الرُّطَبِ إلا يَبْسُهَا وهَجِيرُها وقال أبو إسحاق: (يقال: يَبَسَ الشيء يَبَسًا ويُبْسًا ويَيْسًا ثلاث لغات في المصدر، وطريقًا يَبَسًا نعت بالمصدر والمعنى: طريق ذا يَبَسٍ) (¬3). قال مجاهد: (يَبَسًا يابِسًا) (¬4). وذلك أن الله تعالى أيبس لهم ذلك الطريق حتى لم يكن فيه ماء ولا طين. وقوله تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} قال ابن عباس وجميع المفسرين: (لا تخاف [أن يدركك فرعون، ولا أحد من خلفك، ولا تخشى البحر) (¬5). وقال سيبويه: ({لَا تَخَافُ دَرَكًا}] (¬6) رفعه على وجهين أحدهما: على ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (يبس) 4/ 3973. (¬2) البيت لذي الرمة. والخلصاء: مكان. وعنت به: أنبتته نباتًا حسنًا. واليبس: ما يبس من العشب والبقول التي تتناثر إذا يبست. والهجير: يبيس الحمض الذي كسرته الماشية. وهجر: ترك. انظر: "ديوان ذي الرمه" ص 305، "تهذيب اللغة" (يبس) 4/ 3973، "لسان العرب" (هجر) 8/ 4616. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 369. (¬4) "جامع البيان" 16/ 143، "الدر المنثور" 4/ 543. (¬5) "جامع البيان" 16/ 191، "الكشف والبيان" 3/ 22 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 45، "النكت والعيون" 16/ 191، "معالم التنزيل" 5/ 286. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ص).

الحال، كقولك: غير خائف ولا خاش، كلما قال: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، أي مستكثرًا، قال: ويكون على قطع وابتداء أي: أنت لا تخاف) (¬1). وقرأ حمزة: لا تخف جزمًا (¬2). وله وجهان: أحدهما ما ذكره الزجاج وهو: (أنه نهي عن أن يخاف، معناه: ولا تخف أن يدرككم (¬3) فرعون) (¬4). والثاني: ما ذكره أبو علي وهو: (أنه جعله جواب الشرط على معنى إن تضرب لا تخف دركًا ممن خلفك) (¬5). قال أبان بن تغلب (¬6) وأبو عبيد: (لو كان لا يخف لكان لا يخشى) (¬7). وهذا لا يلزم حمزة لوجوه أحدها: ما ذكره الفراء وغيره: (أنه نوى بقوله: (ولا تخشى) الاستئناف) (¬8). كما قال الله تعالى: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]، فاستأنف بثم، ويكون المعنى: لا تخف ¬

_ (¬1) ذكره الرازي في "التفسير الكبير" 22/ 92، وذكر نحوه الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 239، والعكبري في "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 125. (¬2) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وعاصم: (لا تخافُ دركا) رفعًا بألف. وقرأ حمزة: (لا تخفْ دركا) جزمًا بغير ألف. انظر: "السبعة" ص 421، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 239، "الغاية في القراءات" ص 323، "النشر" 2/ 321. (¬3) في نسخة (ص) يدكك. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 370. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 239. (¬6) هو الجريري، له كتاب في غريب القرآن توفي سنة (141 هـ) (¬7) أورد نحوه الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 370 بلا نسبة، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 547، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 228. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 187، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 125.

العدو وراءك على النهي، أو على الجواب وأنت لا تخشى الغرق أمامك. وذكر (¬1) الفراء وجهًا آخر قال: (ولو نوى حمزة بقوله: (ولا تخشى) الجزم، وإن كانت فيه الياء كان صوابًا، كما قال (¬2): هُزَّي إِلَيْكِ الجِذْعَ يُجْنِيْكِ الجَنَى [وقال آخر (¬3): هَجَوْتَ زَبَّانَ ثمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ... مِنْ هَجْمِ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ] (¬4) وقال آخر (¬5): ¬

_ (¬1) في (ص): (وذلك)، وهو تصحيف. (¬2) لم أهتد إلى قائله. وذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. الجَنَى: الرطب والعسل، وكل ثمر فهو جنى، والإجتناء أخذك إياه. انظر: "جامع البيان" 16/ 192، "معاني القرآن" للفراء 2/ 187، "تهذيب اللغة" (جنى) 1/ 674، "لسان العرب" (جنى) 2/ 707. (¬3) ينسب هذا البيت لأبي عمرو بن العلاء، يخاطب به الفرزدق عندما جاء إليه معتذرًا من أجل هجو بلغه عنه. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 240، "معاني القرآن" للفراء 2/ 188، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 352، "الإنصاف" 19، "خزانة الأدب" 8/ 359، "سر صناعة الإعراب" 2/ 360، "معجم الأدباء" 11/ 158، "شرح شواهد الشافية" ص 406، "شرح المفصل" 10/ 104. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬5) البيت لقيس بن زهير العبسي. تنمي: تبلغ. لبون: اللبون من الشاة والإبل ذات اللبن. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 240 "الكتاب" 1/ 32، "الخزانة" 3/ 534، "الخصائص" 1/ 333، "الأغاني" 17/ 131، "شرح شواهد الشافعية" ص 408، "معاني القرآن" للفراء 2/ 188، "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 352، "سر صناعة الإعراب" 1/ 78، "المحتسب" 1/ 67.

أَلَمْ يَأتِيْكَ والأَنْبَاءُ تَنْمَي ... بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَاد فأثبت الياء (¬1) في موضع جزم، ولسكونها جاز ذلك) (¬2). قال أبو علي: (وهذا لا يحمل على ما ذكره الفراء؛ لأن ذلك إنما يجيء في ضرورة الشعر كقوله (¬3): كَأَنْ لَمْ تَرَ قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا ولكن تقدر أنه حذف الألف المنقلبة عن اللام للجزم، تم أشبعت الفتحة؛ لأنها فاصلة، فأثبت الألف عن إشباع الفتحة [ومثل هذا مما يثبت في الفاصلة قوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]، وقد جاء إشباع هذه الفتحة] (¬4) في كلامهم) (¬5)، قال (¬6): فَأَنْتَ مِنْ الغَوائِلِ حِينَ تُرْمَى ... ومِن ذَمَّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ ¬

_ (¬1) في (س): (الثاني)، وهو تصحيف. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 188. (¬3) هذا عجز بيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، وصدره: وتضحك مني شيخة عبشمية انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 76، "الحجة" 5/ 239، "ذيل الأمالي" ص 134، "خزانة الأدب" 2/ 201، "الأغاني" 16/ 258، "شرح شواهد المغني" 2/ 675، "المحتسب" 1/ 65، "شرح المفصل" 5/ 97، "لسان العرب" (شمس) 2/ 1926. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ص). (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 240. (¬6) اليت لابن هرمة يرثي ابنه. والغوائل: نوازل الدهر. بمنتزاح: ببعد عنه. انظر: "ديوان ابن هرمة" 92، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 240، "المحتسب" 1/ 166، "المسائل الحلبيات" 112، "الأشباه والنظائر" 2/ 30، "سر صناعة الإعراب" 1/ 25، "الخصائص" 2/ 316، "شرح شواهد الشافية" ص 25، "الإنصاف" 1/ 25، "خزانة الأدب" 7/ 557، "لسان العرب" (نزح) 14/ 104.

وقال أبو الفتح الموصلي: (العرب قد تشبع الفتحة فيتولد بعدها ألف؛ لأن الألف في الحقيقة فتحة مشبعة، أنشد سيبويه (¬1): فَبَيْنَا نَحْنُ نَرقُبُه أَتَانَا ... عُلِّقَ وَفْضَةٍ وَزِنادَ راعِي أراد: بين نحن نرقبه، فأشبع الفتحة فحدثت بعدها ألف، قال: ومثل هذا يفعلون في الضمة فتتولد الواو، وفي الكسرة فتتولد الياء) (¬2). والدَّرَك اسم من الإدراك يوضع موضع المصدر (¬3). قال الليث: (الدَّرَك: إدراك الحاجة يقال: بكر ففيه درك) (¬4). وقال شمر: قال أبو عدنان: (يقال: أدركوا ماء الرُّكَيَّةَ (¬5) إِدْراكًا ودَرَكًا) (¬6). قال الأخفش: (ومعنى الآية: اضرب لهم طريقًا لا تخاف فيه دركا، وحذف فيه كما تقول: زيد أكرمت أي: أكرمته، وكما قال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا ¬

_ (¬1) البيت ينسب لرجل من قيس عيلان. الوفضة: خريطة يحمل فيها الراعي أداته وزاده. والزناد: ما تقدح به النار. انظر: "الكتاب" 1/ 171، "المحتسب" 2/ 78، "سر صناعة الإعراب" 1/ 23، "شرح شواهد المغني" 2/ 798، "خزانة الأدب" 7/ 74، "شرح المفصل" 4/ 97، "الأشباه والنظائر" 2/ 36، "لسان العرب" (بين) 1/ 561. (¬2) "سر صناعة الإعراب" 1/ 23. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (درك) 2/ 1176، "لسان العرب" (درك) 3/ 1363، "المعجم الوسيط" (الدرك) 1/ 281. (¬4) "تهذيب اللغة" (درك) 2/ 1176، "لسان العرب" (درك) 3/ 1363. (¬5) الرُكَية: بئر تحفر، وهي جنس للركية وهي البئر. انظر: "تهذيب اللغة" (ركا) 2/ 1455، "لسان العرب" (ركا) 3/ 1722، "المعجم الوسيط" (الركية) 1/ 371. (¬6) "تهذيب اللغة" (درك) 2/ 1176.

78

تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أي: لا تجزي فيه) (¬1). 78 - قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أي: لحقهم كقوله. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] وقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]، والباء في {بِجُنُودِهِ} في موضع حال من الفاعل على معنى ومعه جنوده، كما يقال: ركب بسلاحه، وخرج بثيابه، وهذا اللحاق إنما كان أن أول مقدمة فرعون قرب من ساقة قوم موسى وهم يعبرون البحر، أو يحمل على الإشراف على اللحاق والقرب منه (¬2). ويجوز أن كون اتبع مطاوع تبع كقوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} [هود: 99]، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص: 42]، والباء على هذا تكون زائدة، كما يزاد في كثير من المفعولات نحو (¬3): لاَ يَقْرأَنَ بالسُّورِ وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: فأتبعهم موصولة (¬4). وعلى هذا الباء للتعدية؛ لأن اتبع بمعنى تبع كما يقال: شوى واشتوى، وحفى واحتفى، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 632. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 370، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 241. (¬3) هذا جزء من عجز بيت ينسب إلى الراعي النميري وتمامة: هُنْ الحَرائِرُ لا رَبَاتُ أَحْمِرة ... سُودُ المحَاجِر لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ انظر: "ديوانه" 122، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 241، "أدب الكاتب" 521، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 4، "خزانة الأدب" 9/ 107، "المخصص" 14/ 70، "مجالس ثعلب" ص 365، "شرح أبيات المغني" 1/ 128، "لسان العرب" (سود) 4/ 2141. (¬4) قرأ عبيد عن هارون عن أبي عمرو (فأتبعهم فرعون) موصولة. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 240.

وفدى وافتدى والمعنى: لحق جنوده بهم (¬1). قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ، وجائز أن لا يكون، إلا أنه قد كان معهم) (¬2). وقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} قال ابن عباس: (يريد: الغرق) (¬3). وقال أبو إسحاق: فغشيهم من البحر ما غَرَّقَهم) (¬4). وشرح ابن الأنباري هذا فقال: (يسأل فيقال: ما الفائدة في قوله: {مَا غَشِيَهُمْ}؟ فيقال: المعنى غشيهم من اليم البعض الذي غشيهم [لأنه لم يغشهم كل مائه، بل الذي غشيهم] (¬5) بعضه فقال الله تعالى: {مَا غَشِيَهُمْ} ليدل على أن الذي غرقهم بعض الماء وأنهم لم يغرقوا بجميعه) (¬6). هذا كلامه. وأجود منه ما ذكره محمد بن يزيد الثمالي وهو أنه قال: (معناه: غشيهم من اليم ما عرفتم أنه غشيهم) (¬7). كما قال أبو النجم (¬8): ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 241، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 125. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 370. (¬3) ذكره كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 191، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 45، "النكت والعيون" 3/ 416، "معالم التنزيل" 5/ 287 "زاد المسير" 5/ 316. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 370. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخه: (ص) (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 311، وأورد نحوه بلا نسبة الزمخشري في "الكشاف" 2/ 547، "البحر المحيط" 6/ 264. (¬7) ذكر نحوه في "الكامل" 1/ 44. (¬8) هذا الرجز لأبي النجم. انظر: "الخزانة" 1/ 439، "الأغاني" 9/ 75، "الكشاف" 4/ 59، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 178، "المصنف" 1/ 10، "الخصائص" 3/ 337.

79

أَنا أَبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي أي: شعري ما قد عرفتم. وقال سيبويه: (من كلام العرب: إن فعلت كذا وكذا فأنت أنت، أي: أنت كما تعرف، ويقولون: الناس ناس، أي: هم كما قد عرفتم) (¬1). ومعنى {غَشِيَهُمْ} علاهم وسترهم. 79 - {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} حيث دعاهم إلى عبادته (وما هدى) ما هداهم إلى مراشدهم، وهذا تكذيب له إذا قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]. وقال ابن عباس: (يريد ما أرشد نفسه) (¬2). وعلى هذا معنى (ما هدى) ما هدى نفسه. والمعنى: أنه أهلك نفسه وقومه بضلاله ودعائهم إلى الضلالة حتى أوردهم مواقع الهلكة. 80 - قال ابن عباس: (ثم ذكر الله تعالى منته على بني إسرائيل فقال: {بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} يعني فرعون أغرقه بمرآى منهم) (¬3). {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} وذلك أن الله تعالى وعد موسى بعد أن أغرق فرعون التأني جانب الطور الأيمن، فيؤتيه التوراة فيها بيان ما يحتاجون إليه، وقد ذكرنا هذا المعنى عند قوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 229، وذكره بدون نسبة "بحر العلوم" 3/ 350، "معالم التنزيل" 5/ 287. (¬3) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 287، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 178، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 223، "إرشاد العقل السليم" 6/ 23، "روح المعاني" 16/ 238.

لَيْلَةً} [البقرة: 51]. واختلف القراء في: واعدنا ووعدنا (¬1) (¬2). وزعم أبو الحسن الأخفش أن: (واعدنا لغة في وعدنا) (¬3). وإذا كان كذلك، فمن قرأ بالألف لم يدل اللفظ على أن الفعل من الاثنين، كما أن استحر واستقر ونحو ذلك من بناء استفعل، لا يدل على استدعاء الفعل، والقراءة بوعد أحسن؛ لأنّ واعد هاهنا بمعنى وعد، ويعلم من وعد أنه فعل واحد لا محالة، وليس واعد كذلك فالأخذ بالأبين أولى (¬4). وهذا الذي ذكرنا زيادة في توجيه القراءتين لم نذكرها في سورة البقرة (¬5). وهذا الوعد إنما كان لموسى، ولكن خوطبوا به؛ لأن الوعد كان لأجلهم (¬6). والمعنى: واعدناكم إتيان جانب الطور فحذف المضاف، والمراد بالأيمن الجانب الذي على يمين موسى (¬7)، وقد مر (¬8). ¬

_ (¬1) قوله: (ووعدنا) ساقط من نسخة (ص). (¬2) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: (وواعدناكم) بالنون. وقرا أبو عمرو البصري: (ووعدناكم) بغير ألف. وقرأ حمزة والكسائي: (وواعتكم) بالتاء. انظر: "السبعة" 422، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 241، "حجة القراءات" 460، "الغاية في القراءات" 323، "المبسوط في القراءات" 249. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 242. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 242. (¬5) عند قوله سبحانه في سورة البقرة الآية رقم (51): {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}. (¬6) "الكشاف" 2/ 547، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 230، "البحر المحيط" 6/ 265، "التفسير الكبير" 22/ 95. (¬7) "القرطبي" 11/ 230، "البحر المحيط" 6/ 265، "التفسير الكبير" 22/ 96. (¬8) عند قوله سبحانه في سورة مريم الآية رقم (52): {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}.

81

وقيل في التفسير: (وعدهم الله جانب الجبل ليسمعوا كلام الله -عز وجل- لموسى بحضرتهم هناك) (¬1). 81 - قوله تعالى: {كُلُوا} أي: وقلنا لهم كلوا {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وهذا أمر يقتضي التعديد بالنعم {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} قال ابن عباس في رواية الوالبي: (يقول لا تظلموا) (¬2). وقال مقاتل: (ولا تعصوا) (¬3). والمعنى لا تبطروا فيما أنعمت عليكم فتظالموا. وهذا المعنى قول من قال: (لا تتقووا بنعمي على معاصي) (¬4). وقال الكلبي: (لا تجحدوا نعمة الله فيما رزقكم منه فتكونوا طاغين) (¬5). وقال مقاتل: (لا تتعدوا ما حد الله لكم في المن والسلوى فتتجاوزوا قدر ما يكفيكم وتدخروا، فمتى ادخرتم منهما شيئًا فأنتم في ذلك طاغون) (¬6). وقوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي: يجب، قاله قتادة وغيره (¬7). ¬

_ (¬1) "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 353. (¬2) "جامع البيان" 16/ 144، "الكشف والبيان" 3/ 22 ب، "معالم التنزيل" 5/ 287، "البحر المحيط" 6/ 265. (¬3) "تفسير مقاتل" 5 أ. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 22 ب، "النكت والعيون" 3/ 416، "معالم التنزيل" 5/ 287. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 22 ب، "معالم التنزيل" 5/ 287، "البحر المحيط" 6/ 265. (¬6) "تفسير مقاتل" 5/ أ، وذكر نحوه: "بحر العلوم" 2/ 351، "النكت والعيون" 3/ 416، "معالم التنزيل" 5/ 287. (¬7) المروي في كتب التفسير عن قتادة: ينزل عليكم غضبي. انظر: "تفسير القرآن للصنعاني" 2/ 17، "جامع البيان" 16/ 193.

وقرئ: {فَيَحِلَّ} {وَمَنْ يَحْلِلْ} بالكسر والضم (¬1). قال الفراء: (والكسر أحب إلي من الضم؛ لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع، ويحل: يجب، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع) (¬2). وقال الزجاج: ({فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ} معناه فيجب عليكم، ومن قرأ: بالضم، فمعناه التنزيل) (¬3). هذا كلامه، ومعنى القراءتين قريب من السواء؛ لأن من قرأ بالكسر فمعناه: من حَل الشيء يَحِل حَلا وحَلال إذا حُلت عنه عقدة التحريم، وزال عنه الحظر والحجر والمنع، فمعنى يحل عليكم: ينزل بكم وينالكم بعدما كان ذا حظر وحجر ومنع عنكم، ومن فسر يحل يجب، فهو معنى وليس بتفسير، وذلك أنهم ما لم يطغوا كان العذاب ممنوعًا محظورًا عليهم، فإذا طغوا ارتفع ذلك الحظر فحل العذاب لهم، ومعنى غضب الله: عذابه إياهم (¬4)، ويقوي هذه القراءة قوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 39]، أي: ينزل به بعد أن لم يكن، وقوله: {أم ¬

_ (¬1) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وعاصم: (فيحِل .. ومن يحلِل) بالكسر في الحاء من (فيحِل) واللام الأولى من (يحلِل)، وقرأ الكسائي: (فيحُل عليكم) بضم الحاء، (ومن يحلُل عليه) بضم اللام. انظر: "السبعة" ص 442، "الحجة" 5/ 243، "التبصرة" 260، "النشر" 2/ 321. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 188. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 370. (¬4) الغضب صفة من صفات الله سبحانه، نثبتها له سبحانه كما أثبتها لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه، وتأويلها العذاب لا يصح؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، وليس عليه دليل. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 684، "العقيدة الواسطية" 23.

أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) [طه: 86]، ولم يختلفوا في كسر هذين، ومن قرأ بالضم فوجهه: أن الغضب لما كان يتبعه العقوبة والعذاب جعله بمنزلة العذاب فقال: يَحُل أي: ينزل. فجعله بمنزلة قوله: حَلَّ بالمكان يَحُلَّ. هذا معنى قول أبي علي وبعض كلامه (¬1). وقوله تعالى: (فقد هوى) يقال: هَوَى يَهْوِي هَوِيًا: إذا سقط من علو إلى أسفل، وهَوَتْ العُقَابُ تَهْوِى هُوِيًا: إذا سقطت على صيد، وهَوَى يَهْوِي هَوِيًا: إذا وقع مَهْواه، وهَوَى فُلان: إذا مات، قال النابغة (¬2): وقال الشامتون هوى زياد ... لكل منية سبب مبين وهَوَى: إذا هلك. ومنه قول كعب بن سعد (¬3) (¬4): هَوَتْ أمُّه ما يَبْعَثُ الصُّبُح غادِيَا أي: هلكت أمه. هذا معاني (هوى) في اللغة (¬5). فأما التفسير فقيل: ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 243. (¬2) البيت للنابغة الذبياني. الشماتة: فرح العدو. وقيل: الفرح ببلية تنزل بمن تعاديه. انظر: "تهذيب اللغة" (هوى) 4/ 3813، "لسان العرب" (هوا) 8/ 4726. (¬3) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬4) هذا صدر بيت لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه. وعجز البيت: ومَاذَا يُودي الليلُ حِينَ يَؤُوبُ انظر: "تهذيب اللغة" (هوى) 4/ 3813، "الصحاح" (هوى (6/ 39، "لسان العرب" (هوا) 15/ 169، "الأمالي" للقالي 2/ 150، "التكملة" للصنعاني (هوى) 6/ 540. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (هوى) 4/ 3813، "مقاييس اللغة" (هوى) 6/ 15، "القاموس المحيط" (الهواء) 4/ 404، "الصحاح" (هوى) 6/ 2537 "لسان العرب" (هوا) 8/ 4726.

(هلك) (¬1). وقيل: (صار إلى الهاوية، بمعنى تردى فيها) (¬2). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (يقول: فقد شقي) (¬3). قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} قال ابن عباس في رواية الوالبي وعطاء: (تاب من الشرك) (¬4). {وَآمَنَ}: وحد الله وصدقه {وَعَمِلَ صَالِحًا}: أدى فرائض الله، وعمل صالحًا فيما بينه وبين الله {ثُمَّ اهْتَدَى} قال في رواية عطاء: (علم أن ذلك بتوفيق من الله له) (¬5). وقال في رواية الوالبي: (لم يشكك) (¬6). وقال في رواية أبي صالح: (علم أن له ثوابًا بهذا) (¬7)، هذا قول سفيان، والكلبي، والشعبي، ومقاتل (¬8). واختيار الزجاج؛ لأنه يقول: (ثم أقام على إيمانه) (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 5 أ. (¬2) "جامع البيان" 16/ 194، "بحر العلوم" 2/ 351، "معالم التنزيل" 5/ 288. (¬3) "جامع البيان" 16/ 194، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 178، "الدر المنثور" 4/ 544. (¬4) "جامع البيان" 16/ 194، "معالم التنزيل" 5/ 288، "زاد المسير" 5/ 312، "الدر المنثور" 4/ 544. (¬5) "معالم التنزيل" 3/ 227، "زاد المسير" 5/ 214. (¬6) "جامع البيان" 16/ 194، "النكت والعيون" 3/ 416، "زاد المسير"، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 231، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 79، "الدر المنثور" 4/ 544. (¬7) "زاد المسير" 5/ 312، "الدر المنثور" 4/ 544. (¬8) "جامع البيان" 16/ 195، "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "بحر العلوم" 2/ 351، "النكت والعيون" 3/ 417، "معالم التنزيل" 5/ 288، "تفسير مقاتل" 5 ب. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 370.

83

وقال عطاء بن يسار: (ثم أصاب بقوله وعمله السنة) (¬1). وهذا نحو قول سعيد بن جبير: (لزم السنة والجماعة) (¬2). وقال فضيل الناجي (¬3): (اتبع السنة) (¬4). وقال زيد بن أسلم: (علم علما يحسن به عمله. قال: يقول: {اهْتَدَى} كيف يعمل) (¬5). ونحو هذا قال ابنه: (أصاب العمل بالعلم) (¬6). 83 - قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، قال المفسرون: (كانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه، وخلف السبعين يلحقون به على أثره) (¬7). فقال الله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 417، "زاد المسير" 5/ 312، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 179، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 233، "لباب التأويل" 4/ 276. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 288، "زاد المسير" 5/ 312، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 231، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 179، "الدر المنثور" 4/ 544. (¬3) فضيل الناجي. ذكره ابن حجر في "التهذيب" وقال: مجهول، وعنه حفص بن حميد القمي. انظر: "تهذيب التهذيب" 8/ 270، "تهذيب الكمال" 23/ 311، "تقريب التهذيب" 2/ 114. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 23 أ. (¬5) "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "معالم التنزيل" 5/ 288، "زاد المسير" 5/ 312. (¬6) "جامع البيان" 16/ 195، "النكت والعيون" 3/ 417، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 231. (¬7) "جامع البيان" 16/ 195، "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "بحر العلوم" 2/ 351، "معالم التنزيل" 5/ 288، "زاد المسير" 5/ 312.

84

قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد رقة من الله -عز وجل-) (¬1). يعني رحمة؛ كأنه يقول: إنما سأله الله -عز وجل- عن سبب عجلته رحمة عليه، ومحبة له وإلا فكان هو عالمًا بذلك. 84 - فقال موسى: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} وذكرنا معنى أولاء عند قول: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119]، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قال الكلبي: (لتزداد رضا) (¬2). 85 - قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} قال أبو إسحاق: (أي ألقيناهم في فتنة ومحنة من بعدك) (¬3). وقال ابن الأنباري: (صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل لما سبق لهم في حكمنا من بعد انطلاقك من بينهم) (¬4). {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} قال ابن عباس: (يريد أن الضلالة كانت على يدي السامري) (¬5). يعني أنه كان سبب إضلالهم حين دعاهم إلى الضلالة، كما قال الكلبي: (فهم السامري إلى عبادة العجل) (¬6). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 233. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 351، "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "معالم التنزيل" 5/ 288، "زاد المسير" 5/ 313. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 271. (¬4) ذكره الشوكاني في "فتح القدير"، وقال ابن سعدي في "تفسيره" 5/ 180: ابتليناهم اختبرناهم فلم يصبرا وحين وصلت إليهم المحنة كفروا. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 7، "معالم التزيل" 5/ 288، "النكت والعيون" 3/ 418، "زاد المسير" 5/ 213، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 233. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 289، "روح المعاني" 16/ 244، "روح البيان" 5/ 414.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (كان السامري من أهل باجرمى (¬1) وقع بأرض مصر، فدخل في بني إسرائيل، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل وفي نفسه ما في نفسه) (¬2). وقال في رواية عطاء: (كان السامري رجلًا من القبط، جارًا لموسى آمن به وصدقه وخرج معه فابتلي) (¬3). وقال أبو إسحاق: (الأكثر في التفسير: أنه كان عظيمًا من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسَّامِرَة (¬4) وهم إلى هذه الغاية في الشام تعرف بالسامريين) (¬5). وروي عن راشد بن سعد (¬6) أنه قال: (قال الله لموسى: إن قومك ¬

_ (¬1) بَاجَرْمَى: بفتح الجيم، وسكون الراء، وميم وألف مقصورة: قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة. انظر: "معجم البلدان" 1/ 313. (¬2) "بحر العلوم" 2/ 352، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 233، "الدر المنثور" 4/ 545، "التفسير الكبير" 22/ 101. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 234، "التفسير الكبير" 22/ 101، "روح المعاني" 16/ 244. (¬4) في (ص): (السامري). (¬5) "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 47، "الكشاف" 2/ 549، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 234، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 371، "التفسير الكبير" 22/ 101. (¬6) راشد بن سعد المقرائي، ويقال: الحيراني الحمصي، تابعي ثقة، كان من أثبت أهل الشام، شهد صفين مع معاوية -رضي الله عنه-، روى عن: ثوبان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص وغيرهم، وروى عنه: صفوان بن عمرو، ومعاوية بن صالح، وعلي بن أبي طلحة، وغيرهم كثير، توفي -رحمه الله- سنة 113 هـ. =

86

اتخذوا من بعدك عجلًا جسدًا له خوار. قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا. قال: فأنت أضللتهم يا رب؟ قال: يا موسى إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم) (¬1). ومعنى هذا أنهم كانوا يعتقدون التشبيه حين قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فجزاهم الله بذلك الاعتقاد أن فتنهم بالعجل، فهذا معنى قوله: رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم. وقال عطاء عن ابن عباس: (قال موسى: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلًا من حليهم، فمن جعل له الجسد والخوار (¬2)؟ قال الله تعالى: أنا. قال موسى: وعزتك، وجلالك، وارتفاعك، وعلو سلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم الحكماء) (¬3). 86 - قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} سبق الكلام في هذا في سورة الأعراف (¬4). {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} ¬

_ = انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 483، "الكاشف" 1/ 299، "ميزان الاعتدال" 2/ 35، "تهذيب التهذيب" 3/ 195. (¬1) "الدر المنثور" 4/ 545، "روح المعاني" 16/ 247. (¬2) الخَوار: صوت الثور، وما اشتد من صوت البقرة والعجل، تقول: خَار يَخُور خَوارا. انظر: "تهذيب اللغة" (خار) 1/ 959، "القاموس المحيط" (الخوار) 2/ 25، "الصحاح" (خور) 2/ 651، "لسان العرب" (خور) 3/ 1285. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235، "الدر المنثور" 4/ 544، "روح المعاني" 16/ 247. ولعل هذه من الروايات الإسرائيلية التي رويت في هذا الباب. (¬4) عند قوله سبحانه في سورة الأعراف الآية رقم: (150): {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}.

87

صدقًا لإيتاء الكتاب (¬1). {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} مدة مفارقتي إياكم (¬2) {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} بعبادتكم العجل، وتلخيص المعنى: أم أردتم أن تصنعوا صنعًا يكون سبب غضب ربكم؛ لأن أحدًا لا يتطلب غضب ربه، ولكن قد يأتي سبب ذلك {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي، هذا في قوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150]. وقال مجاهد: ({فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} قال عهدي) (¬3). يعني ما عهد إليهم موسى وأوصاهم به من الإقامة على طاعة الله. وقيل في التفسير: ({فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي: تركتم السير على أثري) (¬4). وهذا إنما يصح لو روي أن موسى وعدهم ذلك، ولم نر في شيء من الروايات أن موسى وعد قومه: أن يسيروا على أثره. وقال ابن الأنباري: ({فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي: نسبتموه إلى الخلاف) (¬5). يعني وعده بالرجوع إليهم. 87 - قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قال قتادة: ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 3/ 418، "معالم التنزيل" 5/ 289، "الكشاف" 2/ 549، "زاد المسير" 5/ 313، "روح المعاني" 16/ 244. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "بحر العلوم" 2/ 351، "النكت والعيون" 3/ 418، "معالم التنزيل" 5/ 289، "زاد المسير" 5/ 313. (¬3) "زاد المسير" 5/ 313، "التفسير الكبير" 22/ 202، "تفسير مجاهد" 464. (¬4) "جامع البيان" 16/ 196، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 46، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 234. (¬5) ذكر نحوه بلا نسبة القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 234، والرازي في "التفسير الكبير" 22/ 102.

(بطاقتنا) (¬1). وقال مقاتل: (ونحن نملك أمرنا) (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية الوالبي يقول: (بأمرنا) (¬3). وقال مجاهد: (بأمر نملكه) (¬4). قال الفراء: (في التفسير إنا لم نملك الصواب وإنما أخطأنا) (¬5). وحكى الزجاج أيضًا: ({مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} بأن ملكنا الصواب) (¬6). ومعنى هذا أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ، وقالوا: إنا لم نملك أمرنا حتى وقعنا بالذي وقعنا فيه من الفتنة، وهذا التفسير لا يطرد عليه نظم الآية، ولا يبقى معه معنى كقراءة من قرأ: بِمُلْكِنَا بالضم (¬7). ولكان يجب أن يقولوا: فأخرج لنا عجلًا جسدًا، ولكن الصحيح ما ذكره بعض أهل التفسير: (أن هذا من قول المؤمنين الذين لم يعبدوا العجل) (¬8). ولعل هذا أصح؛ لأن العتاب جرى معهم في سوء خلافتهم من ترك الإنكار على عبدة العجل، فقالوا له: ما أخلفنا موعدك الذي وعدناك من حسن الخلافة، ونحن نملك ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 17، "جامع البيان" 16/ 197، "النكت والعيون" 3/ 418، "زاد المسير" 5/ 313، "الدر المنثور" 4/ 547. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "تفسير مقاتل" 5 ب. (¬3) "جامع البيان" 16/ 197، "الدر المنثور" 4/ 547، "فتح القدير" 3/ 544. (¬4) "جامع البيان" 16/ 197، "الدر المنثور" 4/ 547. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 189. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 371. (¬7) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: (بمِلْكِنَا) بكسر الميم. وقرأ نافع، وعاصم: (بِمَلْكِنَا) بفتح الميم. وقرأ حمزة، والكسائي: (بِمُلْكِنَا) بضم الميم. انظر: "السبعة" 422، "الحجة" 5/ 244، "التبصرة" 261، "النشر" 2/ 321. (¬8) "النكت والعيون" 3/ 418، "زاد المسير" 5/ 314، "التفسير الكبير" 22/ 102، "أضواء البيان" 4/ 494.

شيئًا من أمرنا، أو نطيق ردهم عن عظم ما ارتكبوا؛ لأنا كنا مغلوبين لقلتنا وكثرتهم، وكذا جاء في رواية: (إن الذين لم يعبدوا العجل كانوا اثني عشر ألفا وافتتن الباقون بالعجل وكانوا جميعًا ستمائة ألف) (¬1). وأكثر القراء: بِمِلْكِنَا بالكسر (¬2). والتقدير: بملكنا أمرنا، فأضيف المصدر إلى الفاعل وحذف المفعول، كما أنه قد يضاف إلى المفعول، ويحذف الفاعل في نحو: {دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24]، ومن قرأ: بِمِلكنا فهو المصدر الحقيقي يقال: مَلَكْتُ الشيء أَمْلِكُه مَلْكًا، والمِلْكُ ما مُلِكَ مثل: الطَّحْن والطِّحْن، والسَّقي والسِّقي، وقد وضع الاسم موضع المصدر، كما قال (¬3): وَبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرَّتَاعَا ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 23 أ، "معالم التنزيل" 5/ 288، "الكشاف" 2/ 549، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 234. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: (بِمِلْكِنَا) بكسر الميم. انظر: "السبعة" ص 422، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 244، "المبسوط في القراءات" 250، "حجة القراءات" 471. (¬3) هذا عجز بيت للقطامي من قصيدة يمدح فيها زفر بن الحارث الكلابي، وصدر البيت: أَكُفْرأَ بَعَدَ رَدِّ الموْتِ عِنِّي الرتاع: الإبل الراعية. يقول: لا أكفر معروفك بعد أن أطلقتني من الأسر، وأعطيتني مائة من الإبل الرتاع. انظر: "ديوانه" ص 37، "تذكرة النحاة" ص 456، "خزانة الأدب" 8/ 136، "الشعر والشعراء" 2/ 723، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 245، "الخصائص" 2/ 221، "شرح المفصل" 1/ 20، "همع الهوامع" 1/ 188، "لسان العرب" (عطا) 5/ 3001.

أعمل الاسم إعمال المصدر (¬1). ومن قرأ: بِمُلكنا بضم الميم فمعناه بقدرتنا وسلطاننا، يعني لم نقدر على ردهم، وأنكر أبو عبيد هذه القراءة (¬2)، فقال: (المُلْك إنما هو من السلطان والعزة، وأي مُلْك كان لبني إسرائيل يومئذ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين) (¬3). كما قال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} [الأعراف: 137] وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5]. فليس الأمر كما ذهب إليه؛ لأنه ليس معنى الملك هاهنا: السلطان الشديد والكبرياء، وإنما معناه: القدرة فقط (¬4). وأصل الملك راجع إلى معنى واحد ذكرناه عند قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. على أن أبا الحسن الأخفش حكى: (أن الملك مصدر في المالك) (¬5). وحكى الفراء: (مَالِي مُلْك أي: شيء أَمْلِكُه) (¬6). وعلى هذا معنى الوجوه كلها واحد (¬7). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 245. (¬2) لعل الإنكار للمعنى وليس للقراءة، فالقراءة ثابتة بالتواتر فلا يجوز إنكارها. (¬3) "غريب الحديث" لأبي عيدة 3/ 136، "جامع البيان" 16/ 198، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 245. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 245. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 245. (¬6) "معاني الفراء" للفراء 2/ 189. (¬7) قال ابن جرير الطبري "تفسيره" 16/ 199: وكل هذا الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى؛ لأن من لم يملك نفسه لغلبة هواه على ما أمر فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول فعل فلان هذا الأمر وهو لا يملك نفسه وفعله وهو لا يضبطها، =

ثم ذكروا قصة إتخاذ العجل فقالوا: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي: أثقالاً وأحمالًا (¬1). قال قتادة: (كانت حليا تعوروها (¬2) من آل فرعون فساروا وهي معهم) (¬3). وقال مجاهد: (أوزارًا من زينة الحلي الذي استعاروه من آل فرعون وهي الأثقال) (¬4). وهذا قول ابن عباس، والسدي، وابن زيد (¬5). والأكثرين: أن (الأوزار) هي الأحمال، و {زِينَةِ الْقَوْمِ} حلي آل فرعون استعارة بنو إسرائيل قبل خروجهم من مصر فبقي في أيديهم، وكان موسى قد أمرهم بذلك (¬6). وقال الزجاج: (يعنون بالأوزار: حليا كانوا أخذوها من آل فرعون، ¬

_ = وفعله لا يطيق تركه وإذا كان ذلك كذلك فسواء بأي القراءات الثلاث قرأ ذلك القاري. (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "الكشف والبيان" 3/ 23، "جامع البيان" 16/ 199، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 47، "النكت والعيون" 3/ 418. (¬2) العارية والعارة: ما تداولوه بينهم، وقد أعاره الشيء وأعاره منه، والمعاورة والتعاور: شبه المداولة والتداول في الشيء يكون بين اثنين، واستعار الشيء واستعاره منه: طلب منه أن يعيره إياه. انظر: "تهذيب اللغة" (عار) 3/ 2273، "القاموس المحيط" (العور) 2/ 97، "لسان العرب" (عور) 5/ 3165، "مختار الصحاح" (عور) ص 462. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "جامع البيان" 16/ 199. (¬4) "جامع البيان" 16/ 199، "النكت والعيون" 3/ 418، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 47. (¬5) "جامع البيان" 16/ 199، "النكت والعيون" 3/ 418. (¬6) "جامع البيان" 16/ 199، "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 47، "النكت والعيون" 3/ 418، "معالم التنزيل" 5/ 289.

حين قذفهم البحر فألقاهم على الساحل، فأخذوا الذهب والفضة وسميت أوزارًا. قال: وسميت أوزارًا؛ لأن معناها الآثام) (¬1). ونحو هذا ذكر الفراء (¬2). وعلى هذا المراد بزينة القوم: ما كان معهم حين أغرقوا من مصوغات الذهب والفضة للمناطق وزينة الدواب، وغير ذلك فسميت أوزارًا، بأن معناها أثام لم يحل لهم أخذها (¬3). وعلى هذا القول يجوز أن يكون المراد بالأوزار الأحمال؛ لأن الوزر في اللغة: الحمل (¬4). وقرئ: بالتشديد وضم الحاء (¬5). المعنى: جعلونا نحمل، وحُمِلْنا على ذلك وأُردنا له وكلفنا حمله، ومن قرأ: حَمَلْنا أراد أنهم فعلوا ذلك. قال أبو عبيد: (وهو الاختيار؛ لأنّ التفسير قد جاء أنهم حملوا معهم ما كان في أيديهم من حلي آل فرعون) (¬6). وقوله تعالى: {فَقَذَفْنَاهَا} أي: طرحناها، واختلفوا أين طرحوها؟ وكيف فعلوا؟ فقال قتادة: (لما مضت ثلاثون يومًا ولم يرجع موسى قال السامري: هذه العقوبة التي أصابتكم بتخلف موسى عن الوقت الذي وقته ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 372. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 189. (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 289. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 4/ 3883، "القاموس المحيط" (الوزر) 2/ 154، "الصحاح" (وزر) 2/ 845، "لسان العرب" (وزر) 8/ 4823. (¬5) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (حُمِّلنا) بضم الحاء وتشديد الميم، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (حَمَلنا) بفتح الحاء وتخفيف الميم. انظر: "السبعة" ص 423، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 246، "حجة القراءات" ص 462، "المبسوط في القراءات" ص 250. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعانى 2/ 17.

لرجوعه إليكم، إنما أصابتكم بالحلي التي معكم، فاجمعوها حتى يجيء موسى فنقضي منه فجمعت ودفعت إليه) (¬1). وعلى هذا معنى {فَقَذَفْنَاهَا} ألقيناها إليه، وهذا قول قتادة قال: (فقذفوها إليه) (¬2). وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (قال لهم هارون: إنكم تحملتم أوزارًا من زينة آل فرعون فتطهروا منها، فإنها نجسة، وأوقد لهم ناراً وقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. قالوا: نعم فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الحلي فيقذفونها فيه، حتى استلب الحلي فيها) (¬3). وعلى هذا معنى {فَقَذَفْنَاهَا} ألقيناها في النار. ونحو هذا ذكر الزجاج (¬4). وقال السدي: (قال هارون لهم: إن الحلي غنيمة ولا تحل لكم الغنيمة فاحفروا لهذا الحلي حفرة فاطرحوه فيها) (¬5). وعلى هذا المعنى فقذفناها في الحفرة. قوله تعالى: {فَكَذَلِكَ} أي: فكما ألقيت (ألقى السامري) قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد ألقى الحلي -وهو الذهب- في النار) (¬6). وهذا اختيار الزجاج والفراء، قالا: (وكذلك فعل السامري؛ أي: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 199، "النكت والعيون" 3/ 418، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 236. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 17. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 352، "معالم التنزيل" 5/ 289، "الدر المنثور" 4/ 546. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 372. (¬5) "جامع البيان" 16/ 200، "معالم التنزيل" 5/ 289، "روح المعاني" 16/ 247. (¬6) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 199، "المحرر الوجيز" 10/ 76، "معالم التنزيل" 5/ 290 منسوب لابن عباس، "زاد المسير" 5/ 315، "الكشاف" 2/ 550، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 180.

88

ألقى حليًا كان معه في النار) (¬1). وعلى هذا دل كلام مجاهد؛ لأنه يقول: (فلذلك صنع السامري) (¬2). أي: فعل كما فعلنا. وقال آخرون: (وكذلك ألقى السامري يعني: ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل) (¬3). قال قتادة: (وقد كان صر في عمامته قبضة من أثر فرس جبريل يوم جاوز ببني إسرائيل فقذفها فيها) (¬4). فهذا معنى قول ابن عباس في رواية السدي عن أبي مالك عنه (¬5). وعلى هذا معنى {أَلْقَى} ألقى القبضة التي كانت معه من التراب. ولعل الأقرب هذا القول (¬6)؛ لأن الله تعالى أتبعه. 88 - بقوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (لما أسبكت الحلي في النار أقبل السامري إلى النار، فقال لهارون: يا نبي الله ألقي ما في يدي؟ قال: نعم، ولا يظن هارون إلا أنه لبعض ما جاء به غيره من تلك الحلي والأمتعة، فقذفه فيها، وقال: كن عجلًا جسدًا له ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 189، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 372. (¬2) "جامع البيان" 16/ 200، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 235، "تفسير مجاهد" 465. (¬3) "جامع البيان" 16/ 199، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 47، "بحر العلوم" 2/ 352، "معالم التنزيل" 5/ 290، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235. (¬4) "جامع البيان" 16/ 199، "معالم التنزيل" 5/ 290، وذكر نحوه الصنعاني في "تفسير القرآن" 2/ 17. (¬5) "جامع البيان" 16/ 200، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 180، "الدر المنثور" 4/ 545. (¬6) قال ابن عطية 10/ 72: وروي -وهو الأصح الأكثر-: (أنه ألقى الناس الحلي في حفرة أو نحوها وألقى هو عليه القبضة فتجسد العجل، وهذا وجه فتنة الله تعالى لهم، وعلى هذا انخرقت للسامري عادة، وأما على أن يصوغه فلم تنخرق له عادة وإنما فتنوا حينئذٍ بخواره فقط، وذلك الصوت قد تولد في الأجرام بالصنعة).

خوار، فكان للبلاء والفتنة) (¬1). وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: (قال لهم هارون: اجمعوا هذا الحلي حتى يجيء موسى فيقضي فيه، قال: فجمع ثم أذيب، فلما ألقى السامري القبضة تحول عجلًا جسدًا له خوار) (¬2). وقال علي بن أبي طالب: (لما تعجل موسى إلى ربه، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، فضربه عجلًا ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار) (¬3). وقال قتادة: (ضربها صورة بقرة، وقذف فيها القبضة فأخرج لهم عجلًا جسدًا له خوار، فجعل يخور خوار البقرة) (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: ({فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا} يريد لحماً ودمًا {لَهُ خُوَارٌ} كما يخور الحي من العجول) (¬5). وذكر في التفسير وحكاه الزجاج (¬6). وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة: (أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل، فقال له: ما تصنع؟ قال: اصنع ما ينفع ولا يضر. وقال: ادع. فقال: اللهم أعطه ما يسأل كما يجب. فسأل الله أن ¬

_ (¬1) "بحر العلوم" 2/ 352، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235، "الدر المنثور" 4/ 547، "روح المعاني" 16/ 247. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 419. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 152، "الدر المنثور" 4/ 545. (¬4) "جامع البيان" 16/ 200، "النكت والعيون" 3/ 419، وذكر نحوه الصنعاني في "تفسير القرآن" 2/ 17. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 152، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 372.

جعل للعجل خوار) (¬1). وقال الحسن: (صور بقرة صاغها من الحلي الذي كان معهم ثم ألقى عليها من أثر فرس جبريل فانقلبت حيوانًا يخور) (¬2). وقال مجاهد: (خواره حفيف الريح إذا دخلت جوفه) (¬3). قال أبو إسحاق: (الذي قاله مجاهد من أن الخوار حفيف الريح، فيه أسوغ إلى القبول؛ لأنه شيء ممكن، والتفسير الآخر من: أنه خار، ممكن في محنة الله) (¬4). وقوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} أكثر أهل التفسير: (فقال السامري هذا إلهكم [وإله موسى) (¬5). وروي عن علي -رضي الله عنه-: (فقال لهم السامري: هذا إلهكم)] (¬6) (¬7). وقال قتادة: (فقال عدو الله: هذا إلهكم) (¬8). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، "معالم التنزيل" 5/ 289، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 180، "الدر المنثور" 4/ 546. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 419. (¬3) "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 48، "بحر العلوم" 2/ 352، "النكت والعيون" 3/ 419، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 372. (¬5) "جامع البيان" 16/ 201 "زاد المسير" 5/ 315، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 236، "روح المعاني" 16/ 248. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬7) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 2/ 412، "زاد المسير" 5/ 315 "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 236، "لباب التأويل" 4/ 277، "إرشاد العقل السليم" 6/ 36. (¬8) "المحرر الوجيز" 11/ 99، "زاد المسير" 5/ 315، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 236، روح المعانى 16/ 248.

والمفسرون يقولون: فقال: هذا إلهكم. وفي التنزيل: {فَقَالُوا} فيحتمل أن المعنى: وقال السامري ومن تابعه ممن افتتن بالعجل. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (عكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوه شيئًا قط) (¬1). وقوله تعالى: {فَنَسِيَ} روي السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله: {فَنَسِيَ} قال: (إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه) (¬2). ونحو هذا قال في رواية عطاء: (أي ضل وأخطأ الطريق) (¬3). وروى سماك بن حرب عنه قال: (نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم) (¬4). ونحو هذا روى عكرمة عنه (¬5). وقال السدي: ({فَنَسِيَ} يقول: ترك موسى إلهه هاهنا وذهب يطلبه) (¬6). وقال قتادة: (يقول: إن موسى إنما طلب هذا، ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر) (¬7). وعلى هذا قوله: {فَنَسِيَ} إخبار عن السامري [أنه قال ذلك. ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 167. (¬2) "جامع البيان" 16/ 201 "تفسير القرآن" 3/ 180، وذكره "معالم التنزيل" 5/ 290 بدون نسبة، وكذلك "المحرر الوجيز" 1/ 78. (¬3) "زاد المسير" 5/ 315، "البحر المحيط" 6/ 269، "روح المعاني" 16/ 248، وذكره "معالم التنزيل" 3/ 228 بدون نسبة، وكذلك "القرطبي"11/ 236. (¬4) "القرطبي" 11/ 236، "ابن كثير" 3/ 180، وذكره نحوه "الدر المنثور" 4/ 547. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 352، "زاد المسير" 5/ 315، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 180، "أضواء البيان" 4/ 497. (¬6) "جامع البيان" 16/ 201 وذكره "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 236 بدون نسبة. (¬7) "جامع البيان" 16/ 201 "بحر العلوم" 2/ 352، "النكت والعيون" 3/ 419، "زاد المسير" 5/ 315، "البحر المحيط" 6/ 269.

89

وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: ({فَنَسِيَ} أي: ترك ما كان عليه من الإسلام) (¬1). يعني السامري] (¬2)، وعلى هذا القول قوله: {فَنَسِيَ} كلام الله تعالى في وصف السامري أنه نسي، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان؛ لأنه نافق لما عبر البحر (¬3)، فعيرهم الله بصنيعهم، وقال موبخًا لهم: 89 - {أَفَلَا يَرَوْنَ} قال المبرد: (أفلا يعلمون؛ لأن رأيت على ضربين: على رؤية القلب، وعلى رؤية العين، وما كان من رؤية القلب فالمراد به العلم) (¬4). وقوله تعالى: {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} قال أبو إسحاق: (الاختيار الرفع ويكون المعنى: أنه لا يرجع، كما قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ} [الأعراف: 148]، قال: ويجوز أن لا يرجع ينتصب بأن) (¬5). قال المبرد: ({أَنَّ} هاهنا مخففة من الثقيلة والمعنى: أنه لا يرجع، كقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20]، ولا يكون بعد العلم إلا ثقيلة، ومخففة من الثقيلة، وتخفف إذا جئت بالعوض نحو: السنن وسوف، نحو: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 201 "النكت والعيون" 3/ 419، "زاد المسير" 5/ 315، "ابن كثير" 3/ 180، "البحر المحيط" 6/ 269، "أضواء البيان" 4/ 497. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل ومن نسخة (ص). (¬3) قال ابن جرير في الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 201: (والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء وهو أن ذلك خبر من الله عز ذكره عن السامري أنه وصف موسى بأنه نسي ربه، وأن ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري، لإجماع الحجة من أهل التأويل عيه وأنه عقيب ذكر موسى، وهو أن يكون خبرًا من السامري عنه بذلك أشبه من غيره). (¬4) ذكره نحوه في "المقتضب" 2/ 31. (¬5) "معانى القرآن" للزجاج 3/ 373

90

علمت أن سيذهبون، وأن سوف يذهبون، وعلى (¬1) هذا قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله خففت الأولى من الثقيلة؛ لأنك جئت بالعوض وهو لا وشددت الثانية؛ لأنه الإيجاب (¬2). وهذا الفصل مستقصى عند قوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71]، ومعنى {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} لا يكلمهم ولا يرد لهم جوابًا، كما قال في هذا المعنى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148]. وقوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} توبيخ لهم إذا عبدوا من لا يملك ضرًا من ترك عبادته، ولا ينفع من عبده، وتركوا عبادة من يملكها. 90 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل أن يأتي موسى، وذلك أنه لما رأى ما وقعوا فيه قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} قال عطاء عن ابن عباس: (ضللتم به) (¬3). وقيل: (ابتليتم به) (¬4). {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} لا العجل {فَاتَّبِعُونِي} في عبادته {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} ولا أمر السامري، فعصوه. 91 - وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} لن نزال مقيمين على عبادة العجل (¬5). {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فلما رجع موسى. ¬

_ (¬1) في (ص): (ومن). (¬2) "المقتضب" 3/ 7. (¬3) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 236 بدون نسبة. (¬4) "جامع البيان" 16/ 202، "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، "المحرر الوجيز" 10/ 78، "زاد المسير" 5/ 315، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 236. (¬5) "جامع البيان" 16/ 202، "معالم التنزيل" 5/ 290، "زاد المسير" 5/ 316. "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 237.

92

92 - {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أي: افتتنوا في دينهم. وقال الكلبي: (كفروا وأخطأوا الطريق) (¬1) 93 - {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} لا زائدة (¬2) أي: ما منعك من اتباعي واللحوق بي، وترك المقام بين أظهرهم ليرغبهم خروجك من بينهم (¬3). وقيل: (من اتباعي في الإنكار عليهم) (¬4). {أفَعَصَيْتَ أَمْرِي} هو قال ابن عباس: (يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله عصيان منك) (¬5). وعلى هذا إنما عذله على المقام فيما بينهم وقد كفروا، ثم أخذ برأس أخيه غضبًا منه عليه. الكلبي: (أخذ شعره بيمينه ولحيته ¬

_ (¬1) ذكره في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 237 بدون نسبة. (¬2) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 80: (ذهب حذاق النحاة إلى أنها مؤكدة وأن في الكلام فعلًا مقدرًا كأنه قال ما منعك ذلك أو حضك أو نحو هذا على أن لا تتبعن وما قبل وما بعد يدل على هذا ويقتضيه). وقال الزركشي في "البرهان" 3/ 90: (وقيل ليست بزائدة من وجهين: 1 - أن التقدير ما دعاك إلى ألا تتبعني؛ لأن الصارف عن الشيء داع إلى تركه فيشتركان في كونهما من أسباب عدم الفعل. 2 - إن التقدير: ما منعك من ألا تتبعني، وهذا أقرب مما قبله؛ لأن فيه إبقاء المنع على أصله، وعدم زيادتها أولى؛ لأن حذف حرف الجر مع أنه كثير لا تصل إلى المجاز، والزيادة في درجتها. قالوا: وفائدة زيادتها تأكيد الإثبات، فإن وضع {لَا} نفي ما دخلت عليه فهي معارضة للإثبات ولا يخفى أن حصول الحكم مع المعارض أثبت مما إذا لم يعترضه المعارض أو أسقط معنى ما كان من شأنه أن يسقط). وانظر: "النبأ العظيم" الدكتور محمد عبد الله دراز 130 - 136. (¬3) "جامع البيان" 16/ 202، "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، "معالم التنزيل" 5/ 291. (¬4) "زاد المسير" 5/ 316، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 238. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 237.

94

بشماله) (¬1). ولم يذكر هاهنا أخذه لذكره في سورة أخرى (¬2)؛ ولأن قوله: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} يدل على الأخذ، فلما أخذ موسى ذلك منه. 94 - {قَالَ ابْنَ أُمَّ} أضافه إلى الأم دون الأب ترقيقًا واستعطافًا، هذا معنى قول الكلبي (¬3). وقال أبو إسحاق: (وقيل في هارون إنه لم يكن أخا موسى لأبيه وكان أخاه لأمه) (¬4). وقرئ: (يابن أم) بالكسر والفتح (¬5). وذكرنا الوجه في سورة الأعراف (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 237، "التفسير الكبير" 22/ 109، "روح المعاني" 16/ 251. (¬2) عند قوله سبحانه: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] الآية. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، "المحرر الوجيز" 10/ 81، "روح المعاني" 16/ 25 وقال: (فإن الجمهور على أنهما كان شقيقين). (¬4) ذكر هذا القول "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، ولم أجده بهذا اللفظ عند الزجاج، والذي ورد في "معاني القرآن" للزجاج 3/ 373 قوله: وقد قيل في هارون إنه لم يكن أخا موسى لأمه. وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 81: وقالت فرقة لم يكن هارون أخا موسى إلا من أمه، وهذا ضعيف. (¬5) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: (يابن أمَّ) بفتح الميم، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (يابن أمِّ) بكسر الميم. انظر: "السبعة" 423، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 248، "العنوان في القراءات" ص 130. (¬6) عند قوله سبحانه في سورهَ الأعراف الآية رقم (150): {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

وقوله تعالى: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} أراد ولا شعر رأسي. فإن قيل: الأخذ باللحية يؤدي إلى الاستخفاف بمن فعل به، فلم فعل ذلك موسى؟ والجواب: أن العادة في ذلك الزمان لم تكن كهذه العادة بل كان يجري ذلك مجرى القبض على اليد، والأشياء تختلف حكمها بحسب العادة فيها (¬1)، وقيل: (إنه أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على لحيته؛ لأنه لم يكن يتهم عليه كما لا يتهم على نفسه) (¬2). قال ابن الأنباري: (وقع في نفس موسى أن هارون (¬3) عصى الله بترك اتباعه، فأخذ بلحيته ورأسه غضبًا لله، وتأديبًا لهارون) (¬4). وقوله تعالى: {إِنِّي خَشِيتُ} قال ابن عباس: (يريد إن أنا أتيتك) (¬5) بمعنى: إن فارقتهم واتبعتك {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال ابن عباس: (يريد (¬6): جماعتهم) (¬7). وذلك أنه لو لحق بموسى لصاروا أحزابًا: حزب يسيرون معه، وحزب يتخلفون عنه مع الإيمان والإنكار على عبدة العجل، وحزب مع السامري، فلا يؤمن أن يصيروا في الخلاف إلى تسافك، فاعتذر بما مثله يقبل؛ لأنه وجه من وجوه الرأي (¬8). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 239. (¬2) "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 55. (¬3) في (ص): (أن موسى)، وهو تصحيف. (¬4) ذكره ابن الجوزي بلا نسبة في "زاد المسير" 5/ 317. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة انظر: "معالم التنزيل" 5/ 291، "زاد المسير" 5/ 317، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 239، "روح المعاني" 16/ 251. (¬6) قوله: (يريد)، ساقط من نسخة (س). (¬7) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 203، "معالم التنزيل" 5/ 291، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 239، "لباب التأويل" 4/ 278. (¬8) "جامع البيان" 16/ 204، "الكشف والبيان" 3/ 23 ب، "القرطبي" 11/ 239.

95

وقوله تعالى: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} يعني: ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك: اخلفني في قومي (¬1). وقال ابن جريج في قوله: (ألا تتبعني) أي: في شدة الزجر لهم عن الكفر بالله وعبادة غير الله) (¬2). وقال في قوله: {خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: (خشيت من العنف بهم أن يتفرقوا أحزابًا فيقتل بعضهم بعضًا) (¬3). فلما اعتذر هارون بهذا العذر. 95 - قال موسى للسامري: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قال ابن عباس: (يريد ما قصتك) (¬4). قال المفسرون: (ما شأنك الذي دعاك إلى ما صنعت) (¬5). وأصل الخطب: الجليل من الأمر، كأنه قيل له: ما هذا الأمر العظيم الذي صنعت (¬6). وقال الزجاج: (ما أمرك الذي تخاطب به) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 204، "معالم التنزيل" 5/ 291، "القرطبي" 11/ 239. (¬2) ذكرته كتب التفسير نحوه بدون نسبة انظر: "النكت والعيون" 3/ 420، "زاد المسير" 5/ 317، "القرطبي" 11/ 237، "لباب التأويل" 4/ 278. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 291، "زاد المسير" 5/ 317، "القرطبي" 11/ 239. (¬4) ذكره "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 239 بدون نسبة. (¬5) "جامع البيان" 16/ 204، "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "بحر العلوم" 2/ 353، "معالم التنزيل" 5/ 291، "المحرر الوجيز" 10/ 82. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (خطب) 1/ 1052، "القاموس المحيط" (الخطب) 1/ 62، "لسان العرب" (خطب) 2/ 1194، "المفردات في غريب القرآن" (خطب) 150. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 374.

96

96 - قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} يقال: بصر الرجل إذا صار عليمًا بالشيء (¬1). قال أبو عبيدة: (علمت ما لم تعلموا) (¬2). وقال ابن عباس: (عرفت مالم تعرفوا) (¬3). وقرئ: {يَبْصُرُوا} بالياء والتاء (¬4). من قرأ بالياء فالمعنى: بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل، ومن قرأ بالتاء: صرف الخطاب إلى الجميع. قال له موسى: وما الذي أبصرت دون بني إسرائيل؟ قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} قال ابن عباس وجميع المفسرين: (يريد أثر فرس جبريل) (¬5). قال أبو إسحاق: (كان رأى فرس جبريل، فقبض قبضة من تراب حافر الفرس) (¬6). وروى السدي عن أبي عمارة (¬7) عن علي -رضي الله عنه- قال: (إن جبريل لما نزل ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (بصر) 1/ 341، "مقاييس اللغة" (بصر) 1/ 253، "الصحاح" (بصر) 2/ 591، "مختار الصحاح" ص 54، "المصباح المنير" 1/ 50. (¬2) مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 26. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "معالم التنزيل" 5/ 291، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 239، "التفسير الكبير" 22/ 113. (¬4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: (يبصروا) بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي: (تبصروا) بالتاء. انظر: "السبعة" 424، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 249، "التبصرة" 261، "النشر" 2/ 322. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 17، "جامع البيان" 16/ 205، "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 49. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 374. (¬7) قيس أبو عمارة الفارسي مولى الأنصار، وقيل: مولى سودة بنت سعد مولاة بني =

ليصعد بموسى إلى السماء أبصره السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس) (¬1). وعلى هذا معنى {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي: رأيت ما لم تروه. وقال الكلبي: (قال السامري: رأيت جبريل على الفرس، وحي الحياة بلقاء أنثى، خطوها مد البصر، فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها، فما لقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم، فحين رأيت قومك سألوك أن تجعل لهم إلهًا (¬2)، حدثت لي نفسي بذلك {فَنَبَذْتُهَا}) (¬3). وعلى هذا معنى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي: علمت ما لم تعلم بنو إسرائيل من أخذ تراب حافر فرس جبريل. وقال الكلبي بإسناده عن ابن عباس: (لما أمر ¬

_ = ساعدة من الأنصار، روى عن: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم، وروى عنه: إسماعيل بن أبي أويس، وخالد بن مخلد، ومعن بن عيسى، وثقة العلماء وأثنوا عليه، وروى له ابن ماجه وغيره، توفي -رحمه الله- سنة 160 هـ. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 106، "الثقات" 9/ 15، "تهذيب التهذيب" 8/ 406، "الكاشف" 2/ 403، "تهذيب الكمال" 24/ 89. (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 239، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 181 وقال: غريب. "التفسير الكبير" 22/ 110، "روح المعاني" 16/ 253. (¬2) ويشهد لهذا قوله سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. (¬3) ذكره الصنعاني مختصرًا في "تفسير القرآن" 2/ 17، وذكره "القرطبي" 11/ 239 بدون نسبة، وأورد نحوه ابن كثير 3/ 182. وقد ورد في حديث الفتون عن ابن عباس ما يخالف ذلك فقد قال: (اجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلًا أجوف ليس فيه روح له خوار، ثم قال ابن عباس: والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل دبره فتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك). انظر: "مجمع الزوائد" كتاب التفسير - سورة طه 7/ 64.

97

فرعون بذبح ولدان بني إسرائيل كانت المرأة تلد فتطرح ولدها حيث لا يشعر به أصحاب فرعون، فيأخذ الولدان الملائكة، فيربوهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل، فغذاه فلما رآه على فرسه عرفه، فقبض القبضة من تحت حافر فرسه) (¬1). وقوله: إنها إذا جعلت في موات حي، فذلك قوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أي: من أثر فرسه يعني من حيث وضع عليه حافره {فَنَبَذْتُهَا} وألقيتها في صورة العجل {وَكَذَلِكَ} وكما حدثتك يا موسى {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} زينت لي نفسي من أخذ القبضة وإلقائها في صورة العجل. 97 - قوله تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ} روي في التفسير: (أن موسى -عليه السلام- همَّ بقتل السامري، فنهاه الله عن ذلك وقال: لا تفعل، فإنه سخي) (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر نحوه "جامع البيان" 16/ 205، وكذلك "بحر العلوم" 2/ 352، وأورده "النكت والعيون" 3/ 423 بدون نسبة، وكذلك "معالم التنزيل" 5/ 292، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 11/ 101 وقال: (هذا ضعيف). "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 240، والرازي في "التفسير الكبير" 22/ 111 وقال: (والذي ذكروه من أن جبريل -عليه السلام- هو الذي رباه فبعيد). ولعل هذا القول من الروايات الإسرائيلية التي ذكرت في هذا الباب. (¬2) السخاوة والسخاء: الجود، والسخي: الجواد. انظر: "تهذيب اللعة" (سخا) 7/ 487، "القاموس المحيط" (السخي) 4/ 341، "لسان العرب" (سخا) 9/ 208، "مختار الصحاح" (سخا) 291. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 241، "روح المعاني" 16/ 256. وهذا القول من الروايات الإسرائيلية التي ذكرها أهل التفسير في هذه الآية.

فقال له موسى: {فَاذْهَبْ} أي: من بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} قال ابن عباس: (لك (¬1) ولولدك) (¬2). والمساس: فِعال من المساسة ومعنى لا مساس: لا يمس بعضنا بعضًا (¬3). قال الكلبي: (يقول: لا يخالط أحداً ولا يخالطك) (¬4). وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يؤاكلوه ولا يقربوه (¬5). وقال أبو إسحاق: (التأويل: أن موسى حرم (¬6) مخالطة السامري، والمعنى: أنك في الدنيا لا تخالط جزاء لفعلك) (¬7). وعلى هذا كأن موسى صيره مهجورًا، وأمر قومه بمجانبته، وأن لا يخالطوه ولا يؤاكلوه ولا يبايعوه، هذا معنى ما ذكر في هذه الآية (¬8). غير أن اللفظ لا يدل على هذا؛ لأنه إذا هجر لم يقل: لا مساس إنما يقال له ذلك (¬9). ¬

_ (¬1) قوله: (لك)، ساقط من نسخة (ص). (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 292، "روح المعاني" 16/ 256. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (مس) 4/ 339، "مقاييس اللغة" (مس) 5/ 271، "لسان العرب" (مسس) 7/ 4201، "المفردات في غريب القرآن" (مسس) ص 467. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 206، "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 240. (¬5) "جامع البيان" 16/ 206، "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "النكت والعيون" 3/ 424، "معالم التنزيل" 35/ 292. (¬6) قوله: (حرم)، ساقط من نسخة (ص). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 473. (¬8) "جامع البيان" 16/ 206، "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "المحرر الوجيز" 10/ 84، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 240. (¬9) قال الرازي -رحمه الله- في "تفسيره" 22/ 113: وهذا الإعتراض ضعيف؛ لأن الرجل إذا بقي طريدًا فريدًا فإذا قيل له كيف حالك؟ فله أن يقول: لا مساس. أي: =

على أن ابن الأنباري ذكر في هذا وجهين أحدهما: (أن السامري ألهم هذا القول، وأجبر عليه إذلالا له وتصغيرًا لشأنه. والثاني: (أن الفعل نسب إلى السامري وهو في المعنى لغيره. وتلخيصه: فاذهب فإن لك في الحياة أن يقال لك: لا مساس فنسب إليه قول غيره تحقيقًا للزوم الفعل وبقائه) (¬1)، هذا كلامه. والصحيح ما ذكر في التفسير من وجه آخر: أنه جعل يهيم في البرية مع الوحوش والسباع لا يمس أحدًا ولا يمسه أحد، عاقبه الله بذلك) (¬2). وكان إذا لقى أحدًا يقول: لا مساس أي: لا تقربني ولا تمسني، وصار ذلك عقوبة له ولولده حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك (¬3). وذكر: (أنه إن مس واحدًا من غيرهم أحدًا منهم حمَّ كلاهما في الوقت) (¬4). ¬

_ = لا يماسني أحد ولا أماس أحدًا، المعنى: إني أجعلك يا سامري في المطرودين بحيث لو أردت أن تخبر غيرك عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس، وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى نظم الكلام. (¬1) ورد نحوه بلا نسبة في "زاد المسير" 5/ 319، "البحر المحيط" 6/ 275، "روح المعاني" 16/ 256. (¬2) "النكت والعيون" 3/ 423، "معالم التنزيل" 5/ 292، "زاد المسير" 5/ 319، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 41. (¬3) "جامع البيان" 16/ 206، "الكشف والبيان" 3/ 24، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 49. "زاد المسير" 5/ 319. قول المؤلف -رحمه الله-: (إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك) قول يحتاج إلى دليل فليس في ظاهر الآية دليل على هذا القول. وقد قال سبحانه في سورة النجم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. (¬4) "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "معالم التنزيل" 5/ 292، "الكشاف" 2/ 551 "زاد المسير" 5/ 319، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 241.

وهذا معنى ما ذكره قتادة في قوله: {لَا مِسَاسَ} قال: (عقوبة لهم) (¬1). ومعنى: أن ذلك في الحياة أي: أنك ما دمت حيًّا تعاقب بهذه العقوبة فإذا صرت إلى الآخرة جوزيت بما تستحق، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} قال ابن عباس: (يريد موعد القيامة) (¬2). والموعد هاهنا هصدر يعني أن لك وعدًا لعذابك {لَنْ تُخْلَفَهُ} وقرئ: بفتح اللام (¬3)، فمن كسر اللام كان المعنى: لن تخلف ذلك الوعد أي: ستأتيه ولا مذهب لك عنه، ومن فتح اللام كان المعنى: لن تخلف ذلك الوعد أي: سيأتيك به الله ولن يتأخر عنك. قال أبو إسحاق: (أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد. ومن قرأ: {لَنْ تُخْلَفَهُ} فالمعنى: أنك تبعث وتوافي القيامة لا تقدر على غير ذلك) (¬4). وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} قال ابن عباس: (يريد الذي طفقت تعبده وظللت عليه مقيمًا) (¬5). وظلْتَ أصله. ظلَلت. ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 242، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 183، "الدر المنثور" 4/ 548. (¬2) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 242 بدون نسبة. (¬3) قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (لن تخلَفه) بفتح اللام. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (لن تخلِفه) بكسر اللام. انظر: "السبعة" ص 424، "الحجة" 5/ 249، "حجة القراءات" ص 463، "التبصرة" ص 261. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 375. (¬5) "جامع البيان" 16/ 207، "زاد المسير" 5/ 319، "فتح القدير" 3/ 549.

قال الزجاج: (ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر) (¬1). والعرب تفعل ذلك كثيرًا، قال ابن مغراء (¬2) (¬3): مَسْنَا السَّمَاءَ فَنِلْنَاهَا وطَالَهُمُ ... حَتَى رأَوا أُحُدًا يَمْشِي وَثَهْلانَا فحذفوا أحد السينين من مسسنا استثقالا للجمع بينهما ومثله كثير. وقوله تعالى: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} قال ابن عباس في رواية الوالبي: (يقول بالنار) (¬4). وروي عنه: (فحرقه بالنار ثم ذراه في البحر) (¬5) (¬6). وقال الكلبي: (أحرق العجل بالنار، ثم دق، ثم ذري في البحر) (¬7). وهو النسف. وقال السدي: (أخذ موسى العجل فذبحه، فسأل منه دمًا كما يسيل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 375. (¬2) أوس بن مغراء من بني ربيعة بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد، شاعر اشتهر في الجاهلية، وعاش زمنًا في الإسلام، له شعر في الهجاء والمدح. انظر: "الشعر والشعراء" ص 457، "سمط اللآلي" ص 795، "الأغاني" 5/ 12، "الأعلام" 2/ 31. (¬3) البيت لأوس بن مغراء السعدي. انظر: "تهذيب اللغة" (مس) 4/ 339، "لسان العرب" (مسس) 17/ 4201. (¬4) "جامع البيان" 16/ 208، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 182، "الدر المنثور" 4/ 549، "روح المعاني" 16/ 257. (¬5) في (ص): (في اليم). (¬6) "جامع البيان" 16/ 208، "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "الدر المنثور" 4/ 549، "روح المعاني" 16/ 258. (¬7) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر. "جامع البيان" 16/ 153، "معالم التنزيل" 5/ 293، "زاد المسير" 5/ 319، "القرطبي" 11/ 242، "التفسير الكبير" 22/ 113.

من العجل إذا ذبح، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم) (¬1). وهذا على معنى حرق عظامه بالمبرد، كما قال الكلبي: (ثم دق). وهذا على قراءة من قرأ: لَنُحْرِقَنَّه وليست قراءته في مشهور القراءة (¬2). والصحيح: أن ذلك العجل صار لحمًا ودمًا، وإذا كان كذلك فالحرق بالمبرد فيه بعيد. وفي حرف عبد الله: لنذبحنه ثم لنحرقنه (¬3). وروى عطاء عن ابن عباس: (فبرد بالمبارد ثم ألقي في البحر) (¬4). وهذا يحمل على برد عظامه، إلا على قول مجاهد فإنه لم يجعله لحمًا ودمًا، وحينئذ برد العجل بالمبرد وهو من الذهب. والدليل على أن المبرد كان للعظام قول ابن مسلم في قوله: {لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (أي: لنطيرن تلك البرادة والرماد في البحر) (¬5). والرماد يكون لما أحرق بالنار. ومعنى النسف: نقض الشيء لتذهب به الريح، وهو: التذرية (¬6). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 24 أ، "القرطبي" 11/ 242، وذكر نحوه "جامع البيان" 16/ 208، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 50. (¬2) قرأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بفتح النون وضم الراء. وقرأ الحسن: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بضم النون وسكون الحاء وكسر الراء. انظر: "جامع البيان" 16/ 258، "المحتسب" 2/ 58، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 57، "غريب القرآن" لابن قتيبة 281، "غريب القرآن" لابن الملقن 249. (¬3) "جامع البيان" 16/ 208، "الكشف والبيان" 3/ 24/ أ، "بحر العلوم" 2/ 353، "المحرر الوجيز" 10/ 87، "الكشف" 2/ 552. (¬4) ذكر نحوه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 549 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 208، "بحر العلوم" 2/ 353، "معالم التنزيل" 5/ 293، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 143. "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 243. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (نسف) 4/ 3561، "القاموس المحيط" (نسف) 3/ 199.

98

98 - قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذا أيضًا إخبار عن موسى أنه قال لقومه. والمعنى: إلهكم الذي يستحق العبادة الله لا العجل {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} تامًا لم يضق علمه عنه، فلا يخفى عليه شيء والتقدير: وسح كل شيء علمه، ثم نقل الفعل عن العلم ونصب على اقفسير، وهي لفظة عجيبة في الفصاحة. 99 - {كَذَلِكَ} كما قصصنا عليك نبأ موسى وقومه {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} قال ابن عباس: (يريد القرآن) (¬1). ثم أوعد على الإعراض عنه وترك الإيمان به 100 - فقال: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} قال مجاهد: (إثمًا) (¬2). قال أهل المعاني: (إثمًا عظيمًا) (¬3). لأن الوزر معناه: الحمل الثقيل (¬4) 101 - {خَالِدِينَ فِيهِ} أي: في عذابه عذاب ذلك الوزر {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} قال الوالبي عن ابن عباس: (يقول: بئس ما حملوا) (¬5). [وقال ¬

_ = "الصحاح" (نسف) 4/ 1431، "لسان العرب" (نسف) 7/ 4411، "المفردات في غريب القرآن" (نسف) 490. (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 209، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 244. (¬2) "جامع البيان" 16/ 209، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 50، "البحر المحيط" 6/ 278، "الدر المنثور" 4/ 549. (¬3) "القرطبي" 11/ 244، "البحر المحيط" 6/ 278، "روح المعاني" 16/ 259. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 4/ 3883، "القاموس المحيط" (الوزر) 2/ 154، "الصحاح" (وزر) 2/ 845، "لسان العرب" (وزر) 8/ 4823. (¬5) "جامع البيان" 16/ 209، " الدر المنثور" 4/ 549،"فتح القدير" 3/ 385.

102

عطاء عنه: (يريد: بئس يوم القيامة {حِمْلًا} يريد: سوء العذاب) (¬1). وقال الكلبي: (بئس ما حملوا] (¬2) على أنفسهم من المآثم كفرا بالقرآن) (¬3). قال أبو إسحاق: (المعنى. بئس الوزر لهم حملاً يوم القيامة، وحملاً منصوب على التمييز) (¬4). 102 - قوله تعالى {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} وقرأ أبو عمرو (ننفخ) بالنون، والوجه قراءة العامة (¬5) لقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} (¬6)، وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18]، ولأن النفخ يكون من المَلَك الموكل بالصور بأمر الله، فالأجود أن يقرأ على غير تسمية الفاعل، ووجه قراءة أبي عمرو: أنه على معنى إضافة الأمر بالنفخ إلى الله تعالى، ويقوي ذلك ما عطف عليه من قوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} يقال: زَرِقَت عينه، تَزْرَقُ، زَرَقًا، وزُرْقَةً، وازْرَاقَّت، ازرِقَاقًا (¬7). ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 209، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 244، "فتح القدير" 3/ 385. (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س). (¬3) "معالم التنزيل" 5/ 293، "مجمع البيان" 7/ 47، "البحر المحيط" 6/ 278. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 376. (¬5) قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وعاصم: (ينفح) بالياء، وقرأ أبو عمرو البصري: (تنفخ) بالنون. انظر: "السبعة" ص 424، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 250، "حجة القراءات" ص 463،"التبصرة" 261. (¬6) وردت هذه الآية في سور متعددة: في الكهف: (99)، ويس: (51)، والزمر (68)، وق: (20). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (زرق) 2/ 1525، "القاموس المحيط" (الزرق) 3/ 240،=

قال ابن عباس: (يريد: بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهًا) (¬1). قال: (يريد: زرق العيون سود الوجوه) (¬2). وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين: (أن معنى الزرق هاهنا أن في عيونهم زرقًا، وهي الخضرة في سواد العين) (¬3). كعين السَّنَّوْرُ (¬4) والعرب تتشاءم بالزرت وتذمه (¬5). والمعنى في هذا: تشويه الخلق بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقال الكلبي: (زرقا: عميا) (¬6). وذكره الفراء وابن الأعرابي، والزجاج (¬7)، قال الزجاج: (يخرجون من قبورهم بصراء ويعمون في المحشر. قال: وإنما قيل للعمى: زرق؛ لأن السواد يزرق إذا ذهب نواظرهم) (¬8)، هذا كلامه، ولم يكشف عن المعنى. ¬

_ = "الصحاح" (زرق) 4/ 1489، "لسان العرب" (زرق) 3/ 1827. (¬1) ذكر نحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 321 بدون نسبة. (¬2) "روح المعاني" 16/ 260، وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 294 بدون نسبة. (¬3) "الكشف والبيان" 3/ 24 ب، "بحر العلوم" 2/ 354، "عالم التنزيل" 5/ 294، "فتح القدير" 3/ 551. (¬4) السَّنَّوْرُ: الهر، مشتق منه، وجمعه السَّنَانيِر. انظر: "لسان العرب" (سنر) 4/ 2117، "المعجم الوسيط" (السنور) 1/ 454. (¬5) قال الزمخشري في "تفسيره" 2/ 553: إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب؛ لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السيال، أزرك العين. (¬6) "زاد المسير" 5/ 321، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 244، "التفسير الكبير" 22/ 114، وذكرته بعض كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 210، "بحر العلوم" 2/ 354، "النكت والعيون" 3/ 424. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 191، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 376، "تهذيب اللغة" (زرق) 2/ 1525. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 367.

وذكر ابن قتيبة فقال: (أي بيض العيون من العمى قد ذهب الناظر والسواد) (¬1). وهذا كلامه كما قال؛ لأن العرب تسمى كل أبيض صافي البياض: أزرق، ويقال للمياه الصافية: زرق، قال زهير (¬2): فلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقًا جِمَامهُ ... وَضَعْنَ عِصيّ الحَاضِر المتَخَيَمِ ويقال للأسنة: زرق لصفاء لونها (¬3). وهذا التفسير يوافق قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} [الإسراء: 97]، وحكى الفراء، والزجاج في تفسير {زُرْقًا}: (عطاشا) (¬4). ورواه أيضًا أبو العباس عن ابن الأعرابي (¬5). قال أبو إسحاق: (ومن قال: عطاشا فجيد أيضًا؛ لأنهم من شدة العطش يتغير سواد أعينهم، حتى يزرق) (¬6). وهذا الذي ذكره صحيح؛ لأن ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 282. (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى. زرقاء: الزرقة: شدة الصفاء، يقال: ما أزرق إذا اشتد صفاؤه. جِمَامَة: الجمام جمع جم الماء، وجمته وهو: ما اجتمع منه في البئر والحوض وغيرهما. وضع العصي: كناية عن الإقامة. الحاضر المتخيم: الحاضر النازل على الماء والمتخيم المقيم، وأصله من تخيم إذا نصب الخيمة. انظر: "ديوان زهير" ص 78، "المحرر الوجيز" 10/ 91، "البحر المحيط" 6/ 279، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 133، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 141، "تهذيب اللغة" (زرق) 2/ 1525، "لسان العرب" (زرق) 3/ 18027. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (زرق) 2/ 1525، "القاموس المحيط" (الزرق) 3/ 240، "لسان العرب" (زرق) 3/ 1827. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 191، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 376. (¬5) "تهذيب اللغة" (زرق) 2/ 1525. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 376.

103

العطش يؤثر في العين، ومن مات عطشا ظهر ذلك في سواد عينيه، ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86]. وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي في تفسير {زُرْقًا}: (طامعين فيما لا ينالونه) (¬1). ووجه هذا التفسير: أن من يتطلع إلى شيء وطال به انتظاره يقول: قد ابيضت عيني بطول انتظاري (¬2). 103 - قوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ}. قال ابن عباس والمفسرون: (يتسارون بينهم) (¬3)، وذكرنا معنى هذا الحرف عند قوله: {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} وذلك لهول ما عاينوا نسوا مقدار مدة لبثهم في الدنيا، فيقولون هذا القول (¬4). وقيل: (يذهب عنهم طول لبثهم في الدنيا فيقولون هذا القول) (¬5). وقيل: (يذهب عنهم طول لبثهم في قبورهم لشدة ما يرون من أحوالهم التي دهمتهم فكأنهم كانوا نيامًا فانتبهوا) (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس: ({إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} يريد من النفخة ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (زرق) 2/ 1525. (¬2) ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة يوسف الآية رقم (84): {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}. (¬3) "جامع البيان" 16/ 211، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 51، "النكت والعيون" 3/ 425، "معالم التنزيل" 5/ 294، "المحرر الوجيز" 10/ 92. (¬4) "جامع البيان" 16/ 211، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 51، "معالم التنزيل" 5/ 294، "زاد المسير" 5/ 321، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 245. (¬5) "جامع البيان" 16/ 211، "الكشف والبيان" 3/ 24 ب، "زاد المسير" 5/ 321. (¬6) "الكشف والبيان" 3/ 24 ب، "النكت والعيون" 3/ 425، "معالم التنزيل" 5/ 294، "زاد المسير" 5/ 321.

104

الأولى إلى الثانية، وذلك أنه يكف العذاب عنهم بين النفختين، فإذا كانت النفخة الثانية بعثوا) (¬1). وذلك قوله: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. 104 - قال الله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي: بالنجوى بينهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} هو قال ابن عباس في رواية عطاء: (أعدلهم) (¬2). [وقال الكلبي: (أعدلهم] (¬3) قولاً) (¬4). وقال السدي: (أمثلهم حالاً) (¬5). وقال سعيد بن جبير: (أوفاهم عقلاً) (¬6). وعنه أيضًا: (أعلمهم في نفسه) (¬7). وهو اختيار الزجاج قال: (أعلمهم عند نفسه بما يقول) (¬8). وقال الفراء: (أجودهم قولاً في نفسه وعندهم) (¬9). والمعنى في {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أشبههم طريقة بأهل العقل. وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63]. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 321، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 245، وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 294 بدون نسبة. (¬2) ذكره السمرقندي في "تفسيره" 5/ 294 بدون نسبة. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س). (¬4) ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 231 بدون نسبة. (¬5) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 24 ب، "بحر العلوم" 2/ 354، "معالم التنزيل" 5/ 294، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 245. (¬6) "جامع البيان" 16/ 211، وذكره "بحر العلوم" 2/ 354 بدون نسبة. وكذلك "معالم التنزيل" 5/ 294. (¬7) "جامع البيان" 16/ 211، "الدر المنثور" 4/ 550. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 376. (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 161.

105

{إِنْ لَبِثْتُمْ} أي: في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين النفختين على ما ذكرنا. {إِلَّا يَوْمًا} قال ابن عباس: (وقد لبثوا أربعين سنة؛ لأن ما بين النفختين أربعين سنة) (¬1). 105 - قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} قال ابن عباس: (سأل رجال من ثقيف (¬2) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية) (¬3). وقوله تعالى: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} قال الكلبي: (يقلعها قلعًا) (¬4). وقال الزجاج: (النسف: التذرية تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية) (¬5). وقال المفسرون: (يصيرها الله رملاً يسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا) (¬6) ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 5/ 321، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 245، "روح المعاني" 16/ 261، وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 294 بدون نسبة. (¬2) ثقيف: بطن من هوازن من العدنانية، وينسبون إلى ثقيف، وهو: ثقيف بن منبه بن بكر بن هوزان بن قيس بن عيلان بن مضر، وقيل إن اسم ثقيف: قيس. ونزلت هذه القبيلة بالطائف، وانتشرت منها في البلاد. انظر: "نهاية الأرب" ص 198، "الأنساب" 1/ 558، "المنتخب في ذكر أنساب العرب" ص 412. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 354، "معالم التنزيل" 5/ 264، "المحرر الوجيز" 10/ 92، "زاد المسير" 5/ 322، وذكر نحوه الهواري في "تفسيره" 3/ 52، "لباب النقول في أسباب النزول" ص 146، "جامع النقول في أسباب النزول" ص 216. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 211، "بحر العلوم" 2/ 354، "معالم التنزيل" 5/ 294، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 345، "لباب التأويل" 4/ 280. (¬5) "معانى القرآن" للزجاج 3/ 376. (¬6) "النكت والعيون" 3/ 425، "الكشاف" 2/ 553، "زاد المسير" 5/ 322، =

106

106 - {فَيَذَرُهَا} أي: يدع أماكنها من الأرض إذا نسفها (قاعا) قال الفراء: (القَاع: ما انبسط من الأرض، وفيه يكون السَّراب نصف النهار، وجمعه: قِيْعَة، كما قالوا: جَارٌ وجِيْرَة) (¬1). وقال الليث، والأصمعي: (القَاع: أرض واسعة سهلة مطئنة قد انفرجت عنها الجبال والأكام) (¬2). وقال: هذه قَاع، وثلث أَقْوَع، وأقْوَاع كثيرة، وتجمع القِيعَة والقِيعَان، وهو: ما استوى من الأرض وما حواليه أرفع منه، وهو مصب المياه، ويصغر: قُوَيْعَةً في قول من أنت، ومن ذكر قال: قُوَيْعٌ، ودلت هذه الواو أن ألفها واوا (¬3). وقال رؤبة (¬4): وَوَدَّعْن أَقْوَاعَ الشَّمَالِيلِ بَعْدَمَا ... ذَوَى بَقْلُهَا أَحْرَارُهَا وذُكُورُهَا وقوله تعالى: {صَفْصَفًا} قال الفراء: (هو الأملس الذي لا نبات فيه) (¬5). ¬

_ = "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 245. ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة القارعة الآية رقم: (5): {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}. (¬1) "معاني الفراء" 2/ 254. (¬2) "تهذيب اللغة" (قاع) 3/ 2858. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (قاع) 3/ 2858، "مقاييس اللغة" (قوع) 5/ 42، "القاموس المحيط" (قاع) 3/ 77، "الصحاح" (قوع) 3/ 1274، "لسان العرب" (قوع) 6/ 3775، "المفردات في غريب القرآن" (قيع) ص 415. (¬4) هذا البيت ينسب لذي الرمة، ولم أقف عليه منسوبًا لرؤبة. الأقول: جمع قاع وهي الأرض المستوية حرة الطين لا رمل فيها ولا حجارة. الشماليل: مكان. أحرار البقل: ما روق منه وحلى، والذكر: ما خشن منه. انظر: "ديوان ذي الرمة" ص 305، "تهذيب اللغة" (قاع) 3/ 2858، "لسان العرب" (قوع) 6/ 3775. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 191.

107

وقال الزجاج: (المستوي من الأرض) (¬1). وقال ابن الأعرابي: (الصفصف: القرعاء) (¬2). وأنشد شمر (¬3): إِذَا رَكِبْتَ دَاوَّيةً مُدْلَهِمَّةً ... وَغَرَّدَ حَادِيْهَا لَهَا بِالصَّفَاصِفِ قال ابن عباس والمفسرون في قوله: {قَاعًا صَفْصَفًا}: (مستويا لا نبات فيه أملس) (¬4). هذا قول مجاهد، والسدي، وابن زيد (¬5). 107 - قوله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} العِوَج: بكسر العين في الدين، وفي الطرف، وفيما لا ينتصب. والعَوَج: بالفتح في العود (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا أَمْتًا} قال أبو عبيدة: (الأمت: إرتفاع وهبوط، يقال: مَدَّ حَبْلَه حتى ما ترك فيه [أَمَتًا، ومَلأَ سقاءه حتى لم يدع فيه أمتا) (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 377. (¬2) "تهذيب اللغة" (صف) 2/ 2028. (¬3) البيت ينسب لشمر. الدو: الفلاة الواسعة، وداوية: إذا كانت بعيدة الأطراف، مستوية واسعة. مدلهمة: المدلهم الأسود، وادلهم الليل والظلام، وفلاة مدلهمة: لا علامة فيها. غرد: طرب في الصوت والغناء، والتغريد الصوت. حاديها: حدى الإبل وحدابها زجرها وساقها، والحدو سوق الإبل والغناء لها. انظر: "تهذيب اللغة" (صف) 2/ 2528، "لسان العرب" (صفف) 4/ 2462. (¬4) "جامع البيان" 16/ 212، "النكت والعيون" 3/ 426، "معالم التنزيل" 5/ 295، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 246. (¬5) "جامع البيان" 16/ 212، "بحر العلوم" 2/ 354، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 246، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 183. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (عاج) 3/ 2264، "مقاييس اللغة" (عوج) 4/ 179، "القاموس المحيط" (عوج) 1/ 201، "لسان العرب" (عوج) 5/ 3155، "المفردات في غريب القرآن" (عوج) ص 351. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 29. ومن قوله (أمتا) ساقط من (س) ينتهي ص 558.

وأنشد ليزيد بن شيبة النميري (¬1) (¬2): لَهَا صُوْرَةٌ كَالشَّمْس أَشْرَقَ ضَوؤهَا ... لُبَاخِية هَيْفَاء لَيسَ بِهَا أَمْتُ قال المبرد: (الُبَاخِيَّة الممتلئة الخلق) (¬3). وقال الليث: (الأَمت: أن يصب في السِّقا ماء فلا يمتلئ فينثني، فذلك الشيء هو الأَمْت. وتقول للقربة إذا امتلأت: لاَ أَمْتَ فيها) (¬4). وقال الفراء: (الأَمْتُ موضع النَّبْكُ (¬5) من الأرض وهو ما ارتفع منها، وسمعت العرب يقولون: مَلأَ القِربة مَلأً لا أَمْتَ فيه) (¬6). ¬

_ (¬1) يزيد بن مقسم الثقفي، من مواليهم، وضبة أمه، وهو شاعر كبير من أهل الطائف مات أبوه وخلفه صغيرًا فحضنته أمه فنسب إليها، انقطع إلى الوليد بن يزيد فكان لا يفارقه، ولما انتقلت الخلافة إلى هشام أبعده، وبقي في الطائف، يقال: أن له ألف قصيدة اقتسمها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشحارها، وكان يتعمد الإتيان بغريب اللغة، مات بالطائف سنة 130 هـ. انظر: "تهذيب الكمال" 32/ 350، "تهذيب التهذيب" 11/ 317، "تقريب التهذيب" 1/ 605. (¬2) ورد هذا البيت في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 30. (¬3) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (لبخ) 14/ 423. (¬4) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (أمت) 1/ 194، "الصحاح" (أمت) 1/ 241، "لسان العرب" (أمت) 1/ 124. (¬5) النَّبْك هي: الأرض فيها صعود وهبوط، والجمع نَبَك بالتحريك، وقال الأصمعي: النبك: ما ارتفع من الأرض، وقيل: كل رابية من روابي الرمال كانت مسلكة الرأس ومحددته. انظر. "تهذيب اللغة" (نبك) 4/ 3499، "القاموس المحيط" (النبكة) 3/ 321، "الصحاح" (نبك) 4/ 2612، "لسان العرب" (نبك) 7/ 3428. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 191.

وقال ابن الأعرابي: (الأَمْتُ: وَهْدَةٌ بَين نُشُوزٍ) (¬1). قال ابن عباس في رواية الوالبي: ({لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} يقول: واديا، {وَلَا أَمْتًا} يقول: رابية) (¬2). وقال قتادة: ({لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} أي: صدعا {وَلَا أَمْتًا} ولا أكمة) (¬3). وهذا كقول ابن عباس سواء. وقال الكلبي: ({لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} وهي الأودية {وَلَا أَمْتًا} يعني النَّبَاك) (¬4). وقال مجاهد: (لا انخفاضا ولا ارتفاعا) (¬5). وقال عكرمة عن ابن عباس: (ليس فيها منخفض ولا مرتفع) (¬6). وقال في رواية بن الأزرق: (الأَمْت: الشيء الشاخص من الأرض) (¬7). وقال في رواية عطاء: ({وَلَا أَمْتًا} يريد نتوا) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (أمت) 1/ 194. (¬2) "جامع البيان" 16/ 213، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 52، "النكت والعيون" 3/ 426، "زاد المسير" 5/ 323، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 246، "الدر المنثور" 4/ 550. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 19، "جامع البيان" 16/ 213، "معالم التنزيل" 5/ 295، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 246، "الدر المنثور" 4/ 550. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 323 بدون نسبة، وكذلك القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 346. (¬5) "جامع البيان" 16/ 213، "الكشف والبيان" 3/ 24 ب، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 52، "معالم التنزيل" 5/ 295، "زاد المسير" 5/ 323. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 246، "الدر المنثور" 4/ 550. (¬7) "الدر المنثور" 4/ 550، وعزاه لأبن الأنباري. (¬8) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشاف" 2/ 553، "البحر المحيط" 6/ 280، "روح المعاني" 16/ 263، "أنوار التنزيل" 4/ 30.

108

وقال السدي: (العوج: الطريق في الجبال، والأمت: الروابي) (¬1). فهذه أقوال أهل اللغة والمفسرين في الأَمْت أنه: المرتفع. وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن قال: (العوج: ما انخفض من الأرض، والأمت: ما نشز من الروابي) (¬2). 108 - قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} قال الفراء: (صوت الداعي للحشر) (¬3). قال المفسرون: (يتبعون صوت داعي الله تعالى الذي يدعوهم إلى موقف القيامة) (¬4). {لَا عِوَجَ لَهُ} قال الفراء: (لا عوج لهم عن الداعي، وجاز أن يقول: {لَهُ}؛ لأن المذهب إلى الداعي وصَوته، فهو كما تقول في الكلام: دَعَوتني دَعْوةً لا عوج لك عنها، أي: إني لا أعوج لك ولا عنك) (¬5). وقال أبو إسحاق: (المعنى لا عِوَج لهم عن دعُائة، لا يقدرون أن لا ¬

_ (¬1) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 295، "زاد المسير" 5/ 323، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 246، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 183. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 295. وقال الطبري -رحمه الله- في "جامع البيان" 16/ 213: (أصوب الأقوال في تأويله: ولا ارتفاع ولا انخفاض؛ لأن الانخفاض لم يكن إلا عن ارتفاع، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام لا ترى فيها ميلا عن الاستواء ولا ارتفاعًا ولا انخفاضًا ولكنها مستوية ملساء كما قال جل ثناؤه: {قَاعًا صَفْصَفًا}). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192. (¬4) "جامع البيان" 16/ 214، "الكشف والبيان" 3/ 24، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 52، "معالم التنزيل" 5/ 295. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192.

يَتَّبِعوا) (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس: (يريد: البعيد والقريب سواء كلهم يتبع الصوت ولا يتعوج عنه) (¬2). {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} قال الوالبي عنه: (يريد: سكنت) (¬3). وقال عطاء: (يريد: خضعت وذلت) (¬4). وهو قول السدي: (ذلت) (¬5). وهو قوله: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} همس الأقدام أخفى ما يكون من الصوت، وقال أبو عبيدة: (الهمس والرِّكْز واحد وهو: الصوت الخفي. ويقال: همس لي بكذا، أي: أخفاه إلي) (¬6). وذكر عن ابن عباس أنه تمثل بقول الراجز (¬7): وَهُنَّ يَمْشِيْنَ بِنَا هَمِيْسَا يعني: صوت أخفاف الإبل في سيرها. وقال أبو الهيثم: (إذا مَضَغَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 377. (¬2) ذكره الطبري في "جامع البيان" 16/ 214 بدون نسبة. (¬3) "جامع البيان" 16/ 214، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 184. (¬4) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 295 بدون نسبة. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 355، "عالم التنزيل" 5/ 295، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 30. (¬7) هذا صدر بيت من الرجز ذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. وعجزه: إن يصدق الطير تبكي لميسا انظر: "جامع البيان" 16/ 214، "الكشف والبيان" 3/ 25 أ، "النكت والعيون" 3/ 427، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247، "مجمع البيان" 7/ 49، "روح المعاني" 16/ 164، "معاني القرآن" للفراء 2/ 192، "تهذيب اللغة" (همس) 4/ 3793، "لسان العرب" (همس) 8/ 4700.

الرجل الكلام وفُوه مُنضَمُّ قيل: هَمَس يَهْمِس هَمْسا) (¬1). قال (¬2): يَأْكُلْنَ مَا في رَحْلِهِنَّ هَمْسَا والهَمُوسُ من أسماء الأسد؛ لأنه يَهْمِس في الظلمة، أي: يطأ وطأً خفيا (¬3). ومنه قول أبي زبيد (¬4) (¬5): فَيَأتُوان يُدْلِجُون ويَأْتِ يَسرِي ... بَصِيرٌ بِالدُّجَي هَادٍ هَمُوسُ يعني: الأسد. قال ابن عباس في رواية الوالبي في قوله: {إِلَّا هَمْسًا} يقول: (الصوت الخفي) (¬6). وفسر ذلك الصوت في رواية سعيد بن جبير وعطاء فقال: (يريد ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" (همس) 4/ 3793. (¬2) لم أهتد إلى قائله، وقد ذكرته كتب التفسي بلا نسبة. وقبله: لقد رأيت عجبًا قد أمسا ... عجائزًا مثل السعالي خمسا انظر: "خزانة الأدب" 7/ 167، "شرح شذور الذهب" 128، "الكتاب" 3/ 284، "المقاصد النحوية" 4/ 357، "أوضح المسالك" 4/ 132، "جمهرة الذهب" ص 841، "شرح المفصل" 4/ 106، "تهذيب اللغة" (همس) 4/ 3793، "تاج العروس" (همس) 4/ 275، "لسان العرب" (همس) 8/ 4700. (¬3) "تهذيب اللغة" (همس) 4/ 3793 (¬4) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬5) البيت لأبي زبيد الطائي. الدلجة: سير السحر، يقال: أدلج القوم: ساروا من آخر الليل. الدجى: سواد الليل. انظر: "تهذيب اللغة" (همس) 4/ 3793، "لسان العرب" (همس) 1/ 4700. (¬6) "جامع البيان" 6/ 215، "النكت والعيون" 3/ 427، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 184، "الدر المنثور" 4/ 551.

109

صوت وقع الأقدام كمشي الإبل) (¬1). وهذا قول أكثر المفسرين قالوا: (يعني: صوت ثقل الأقدام إلى الحشر). وهذا قول عكرمة، وسفيان، والحسن والسدي (¬2)، واختيار الفراء، والزجاج (¬3). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (يعني: تحريك الشفاه بغير نطق) (¬4). وهو قول مجاهد: (الكلام الخفي) (¬5). قال الليث: (الهمس: حس الصوت في الفم مما لا إشراب له من صوت الصدر، ولا جهارة في المنطق، ولكنه كلام مهموس في الفم كالسر) (¬6). والمعنى على هذا التفسير: سكنت الأصوات ولا يجهر أحد بكلام إلا كالسر في الإشارة بالشفة وتحريك الفم بغير صوت. 109 - قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} قال الفراء: ({مَنْ} في موضع نصب، لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له أن يشفع فيه) (¬7) هذا كلامه والمعنى: لا تنفع الشفاعة أحد من الناس إلا من أذن الله ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 215، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 184، "الدر المنثور" 4/ 551. (¬2) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "جامع البيان" 16/ 215، "الكشف والبيان" 3/ 25 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 53، "زاد المسير" 5/ 323. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192، "معاني الزجاج" 3/ 377. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 295، "زاد المسير" 5/ 323، "الدر المنثور" 4/ 551. (¬5) "جامع البيان" 16/ 215، "الكشف والبيان" 3/ 25 أ، "معالم التنزيل" 5/ 295، "زاد المسير" 5/ 323، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247. (¬6) "تهذب اللغة" (همس) 4/ 3793. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192.

أن يشفع له فذلك الذي تنفعه الشفاعة، والكناية في قوله: {لَهُ} تعود إلى {من} وهو المشفوع له المأذون له في شفاعته (¬1). وقوله تعالى: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} يعني قال: لا إله إلا الله. قاله ابن عباس، والكلبي (¬2). قال الفراء: (يقال: رضيت لك عملك، ورضيته منك) (¬3). وهذا يدل على أنه لا حظ في الشفاعة لغير المؤمن، وذكر في الآية وجه آخر وهو: أن المعنى لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن، فعلى هذا من أذن هو الشفيع لا المشفوع له {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} إن كان مؤمنا، فإن الكافر لا يؤذن له في الشفاعة، ولا يكون شفيعًا ولا مشفوعًا له، وعلى هذا التأويل الكنايتان تعود إلى الشفيع (¬4). والآية تدل على أن الشفيع إنما يشفع بعد الإذن إذا كان مؤمنا. قال الكلبي: (وذلك أن الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأباء والأبناء يشفعون) (¬5). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 215، "المحرر الوجيز" 11/ 95، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 296، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247، "روح المعاني" 16/ 265. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192. (¬4) "المحرر الوجيز" 10/ 95، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247. (¬5) لم أقف عليه، ويشهد له ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا قال: (فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط).

110

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن الرجل من أمتي ليشفع بالقبيلة، ويشفع للفئام من الناس، ويشفع للعصبة، والثلاثة وللرجلين وللرجل" (¬1) (¬2). قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الكناية راجعة إلى الذين ذكروا في قوله: {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} (¬3) أي: يعلم ما يصيرون إليه من الثواب والعقاب. {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما قد وقع من أعمالهم. قال ابن عباس: (يريد ما قدموا وما خلفوا) (¬4). 110 - وقال الكلبي: ({يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الآخرة {وَمَا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "جامعه"، كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة 4/ 541، وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه الإمام أحمد 3/ 20. وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف مدلس، قال الذهبي في "الميزان" قال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبو سعيد. قلت: يوهم أنه الخدري. وقال النسائي وجماعة: ضعيف. (¬2) والشفاعة نوعان: الأول: شفاعة نفاها القرآن وأخبر أنها لا تقبل وهي الشفاعة للكفار والمشركين فقال سبحانه في سورة المدثر الآية (48): {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. النوع الثاني: شفاعة أثبتها القرآن وهي الشفاعة للمؤمنين الموحدين ولا تحصل إلا بشرطين: الأول: إذن الله للشافع بالشفاعة كما قال سبحانه في سورة البقرة الآية رقم (255): {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الآية. الثاني: رضاه سبحانه عن المشفوع له بأن يشع له كما قال سبحانه في سورة الأنبياء الآية رقم: (28): {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. انظر: "العقيدة الطحاوية" ص 252، "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" ص 204. (¬3) سورة طه الآية رقم: (108). (¬4) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" 5/ 296، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248، "التفسير الكبير" 22/ 119، "مجمع البيان" 7/ 50.

111

خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا) (¬1). وقال مجاهد: ({مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما مضى من الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} الآخرة) (¬2). وقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} الظاهر أن الكناية في قوله {بِهِ} تعود إلى {مَا} في قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: هو يعلم ذلك وهم لا يعلمونه (¬3). وعلى هذا كلام ابن عباس حيث قال: (يريد ولا يحيطون بشيء من علمه أي: بما علمه) (¬4). ويجوز أن تعود الكناية إلى الله تعالى؛ لأن عباده لا يحيطون به علمًا (¬5). 111 - قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} قال ابن عباس في رواية الوالبي، وقتادة: (ذلت) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره "جامع البيان" 16/ 215، ونسبة لقتادة، وذكره الهواري في "تفسيره" 3/ 53 بدون نسبة، وكذلك البغوي في "تفسيره" 5/ 296. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "التفسير الكبير" 22/ 119، "مجمع البيان" 7/ 50، "روح المعاني" 16/ 265. (¬3) "جامع البيان" 16/ 215، "معالم التنزيل" 5/ 296، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248. (¬4) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة انظر: "جامع البيان" 16/ 216، "معالم التنزيل" 5/ 296، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248، "التفسير الكبير" 22/ 119. (¬5) "جامع البيان" 16/ 216، "معالم التنزيل" 5/ 296، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248، "الدر المنثور" 4/ 551. (¬6) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "جامع البيان" 16/ 216، "بحر العلوم" 2/ 355، "النكت والعيون" 3/ 427، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248، "الدر المنثور" 4/ 552.

وقال مجاهد، وسفيان: (خشعت) (¬1). وقال السدي: (استسلمت) (¬2). قال عطاء عن ابن عباس: (خضعت) (¬3). قال أبو إسحاق: (معنى {وَعَنَتِ} مهو في اللغة: خضعت، يقال: عَنَا يَعْنُوا إذا خَضعَ، ومنه يقال: أخذت البلاد عَنْوَةً إذا أخذت غَلَبَة، وأُخِذت بِخِضوعٍ من أهلها) (¬4). وقال أهل المعاني: (معنى {وَعَنَتِ} خضعت وذلت خضوع الأسير في يد المالك القاهر له، والعاني: الأسير لخضوعه وذله) (¬5). قال أبو عبيدة: (وكل من ذل واستكان فقد عَنَا، والاسم منه العنوة (¬6). وأنشد للقطامي (¬7): وَنأَتْ بِحَاجَتِنَا وَرُبَّتَ عَنْوَةٍ ... لَكَ مِن مَوَاعِدِها التي لَمْ تَصْدُقِ أي: رب ذلة وخضوع منك لها لأجل مواعدها. ومن هذا يقال: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 216، "النكت والعيون" 3/ 427، "تفسير سفيان الثوري" ص 196. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 25 بدون نسبة. (¬3) "الدر المنثور" 4/ 552، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 52 بدون نسبة، وذكره ابن الملقن في "تفسير غريب القرآن" ص250. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 377. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (عنا) 3/ 2580، "مقاييس اللغة" (عني) 4/ 146، "القاموس المحيط" (عنوت) 4/ 267، "الصحاح" (عنا) 6/ 2440، "لسان العرب" (عنت) 5/ 3120، "المفردات في غريب القرآن" (عنت) 349. (¬6) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (عنا) 3/ 2585، وورد نحوه مختصرًا في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 30. (¬7) البيت لعمر القطامي. انظر: "ديوانه" ص 35، "تهذيب اللغة" (عنا) 3/ 2580، "معجم مقاييس اللغة" (عني) 4/ 146، "لسان العرب" (عنن) 5/ 3139.

أخذت الشيء عَنْوَة أي: غلبة بذل المأخوذ منه، ومن صريح التفسِر وعنت. قال: (والعاني الأسير، والعاني العبد) (¬1). وقال الفراء: (عَنَا يَعْنُوا عَنْوا إذا خضع، وقولهم: أخذت الشيء عَنْوة يكون غلبة، ويكون عن تسليم وطاعة ممن يؤخذ منه الشيء؛ لأنه على طاعة الذليل للعزيز) (¬2). وأنشد أهل التفسير في {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} بمعنى: ذلت وخضعت، قول أمية (¬3): مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاء مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّته تَعْنُو الوجُوهُ وتَسْجُدُ وفسر طلق بن حبيب (¬4) عَنْو الوجوه في هذه الآية: (بالسجود) (¬5). هذا الذي ذكرنا قول أكثر أهل التأويل. وقال الكلبي: (وعملت الوجوه. قال: ويقال نصبت) (¬6). واختاره الفراء فقال في تفسيره: (يقال: نصبت به، وعملت له) (¬7). وعلى هذا عَنَت من العَنَا بمعنى التعب، والعَنَا: الحبس في شدة وذل، هذا أصل معناه، ثم قيل لكل تعب: عَنَا، يقال: لقيت من فلان عَنْيَة وعَنَاء أي: تَعَبا، وعَنَّيْتُه أُعَنِّيه تَعْنِية إذا أسرته فحبسته مضيقا عليه في الشدة، وكل حبس ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 30، "تهذيب اللغة" (عنا) 3/ 2580. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192. (¬3) البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 25، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248. (¬4) تقدمت ترجمته في سورة الإسراء. (¬5) "جامع البيان" 16/ 216، "الكشف والبيان" 3/ 25 أ، "النكت والعيون" 3/ 428، "معالم التنزيل" 5/ 296، "المحرر الوجيز" 10/ 96، "الدر المنثور" 4/ 552. (¬6) "النكت والعيون" 3/ 427، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 248. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 192.

112

طويل عَنية (¬1)، ومنه قول الشاعر (¬2): قَطَعْتَ الدَّهْرَ كَالسَّدِمِ المُعَنَّى ... تُهَدِّرُ في دِمَشْقَ ومَا تَرِيمُ قال ابن قتيبة: (والعاني بمعنى الأسير) (¬3). من هذا، فالقولان إذًا يعودان إلى أصل واحد ومعنى واحد؛ لأن نصب الوجوه يعني به: السجود لله تعالى. وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} قال ابن عباس: (يريد حْسر من أشرك بالله -عز وجل-) (¬4). 112 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} يجوز أن تكون {مِن} هو للتبعيض فيكون المعنى: شيئًا من الصالحات، ويجوز أن تكون للجنس فيكون المعنى: ومن يعمل الصالحات {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} جملة في موضع نصب على الحال. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (عنا) 3/ 2580، "مقاييس اللغة" (عني) 4/ 146، "القاموس المحيط" (عنوت) 4/ 367، "الصحاح" (عنا) (6/ 2440، "لسان العرب" (عنت) 5/ 3120. (¬2) البيت للوليد بن عقبة يخاطب فيه معاوية رضي الله عنهما. السَّدِمُ: الذي يرغب عن فحلته فيحال بينه وبين الافه ويقيد إذا هاج، فيرعى حوالي الدار، وإن سأل جعل له حجام يمنعه عن فتح فمه. الهدير: تردد صوت البعير في حنجرته. الريم: البراح يقال: ما يريم يفع ذلك أي: ما يبرح، وريم المكان: أقام به. انظر: "تهذيب اللغة" (عني) 3/ 2580، "الصحاح" (عنا) 6/ 2441، "لسان العرب" (سدم) 4/ 1976. (¬3) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 282. (¬4) "معالم التنزيل" 5/ 296، "زاد السير" 5/ 324، "روح المعاني" 16/ 266.

وقوله تعالى: {فَلَا يَخَافُ} في موضع جواب الشرط، والمبتدأ محذوف مراد بعد الفاء، المعنى: فهو لا يخاف (¬1). وهذا كقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [البقرة: 126]، {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ} [الجن: 13]. وقرأ ابن كثير: فلا يخف على النهي (¬2). وهو حسن؛ لأن المعنى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فيأمن؛ لأنه لم يفرط فيما وجب عليه، ونهيه عن الخوف أمر بالأمن، ولفظ الآية في قوله: فلا تخف على النهي، والمراد الخبر بأن المؤمن الصالح لا خوف عليه، وإذا كان كذلك كان معنى القراءتين واحد (¬3). وقوله تعالى: {ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قال الفراء: (تقول العرب: هضمت لك من حقي أي: تركته) (¬4). وقال المبرد، والزجاج: (الهضم النقص، يقال: فلان هضمني حقي، أي: نقصني، وكذلك هذا يهضم الطعام أي: ينقص ثقله) (¬5). ومنه للدواء هَاضوم؛ لأنه يقع في الطعام الذي كظ فيهضمه، وقيل للخميص ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 252. (¬2) قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (فلا يخاف) بالألف على الخبر. وقرأ ابن كثير المكي: (فلا يخف) على النهي. انظر: "السبعة" ص 424، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 251، "حجة القراءات" ص 464، "المبسوط في القراءات" ص250. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 252. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 193. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 377.

البطن: هضم (¬1). وقال أبو عبيدة: ({وَلَا هَضْمًا} نقيصة (¬2)، وأنشد للبيد (¬3): ومُقَسِّمٌ يُعْطِي العَشِيْرَةَ حَقَّهَا ... ومُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِهَا هَضَّامُهَا قال ابن عباس في رواية الوالبي: (لا يخاف أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته، ولا أن يهضم من حسناته) (¬4). ونحو هذا قال الحسن (¬5). وقال في رواية عطاء: (لا ينتقص من ثوابه، ولا يحط من حسناته) (¬6). وأجاد الضحاك في قوله: (لا يخاف ظلما): (لا يؤخذ بذنب لم يعمله {وَلَا ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (هضم) 4/ 3767، "مقاليس اللغة" (هضم) 6/ 55، "القاموس المحيط" (هضم) 4/ 191، "لسان العرب" (هضم) 8/ 4672، "المفردات في غريب القرآن" (هضم) 543. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 31. (¬3) البيت للبيد بن ربيعة العامري. غَذْمَر: المغذمر الذي يركب الأمور فيأخذ من هذا ويعطي هذا ويدع لهذا من حقه، ويقال للرئيس الذي يسوس عشيرته بما شاء من عدل وظلم: مغذمر. انظر: "ديوانه" ص 179، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 31، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 205، "شرح المحلقات السبع" للزوزني ص 250، "تهذيب اللغة" (غذمر) 3/ 2642، "لسان العرب" (غذمر) 6/ 3222. (¬4) "جامع البيان" 16/ 218، "الكشف والبيان" 3/ 25/ ب، "النكت والعيون" 3/ 428، "معالم التنزيل" 5/ 296، "زاد المسير" 5/ 324، " الدر المنثور" 4/ 552. (¬5) "جامع البيان" 16/ 217، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 53، "النكت والعيون" 3/ 428. (¬6) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 218، "المحرر الوجيز" 10/ 97، "النكت والعيون" 3/ 428، "معالم التنزيل" 5/ 297، "زاد المسير" 5/ 324.

113

هَضْمًا} لم يبطل حسنه عملها) (¬1). وقال الكلبي: ({فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا} يعنىِ ذهابا لعمله كله {وَلَا هَضْمًا} يقول: لا ينتقص من عمله شيء) (¬2). 113 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} أي: وكما بينا في هذه السورة {أَنْزَلْنَاهُ} أنزلنا هذا الكتاب {قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي: بينا فيه ضروب الوعيد وما فيه العقاب. قال قتادة: (يعني: عذابه ووقائعه في الأمم قبلكم) (¬3). {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ من قبلهم. {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} قال ابن عباس: (موعظة فينتفعون بها) (¬4). يعني: يحدد لهم القرآن ذكرًا واعتبارًا واتعاظًا فيتذكروا به عقاب الله للأمم المكذبة فيعتبروا ويتفكروا، وهذا معنى قول قتادة في قوله: {ذِكْرًا}: (جدا وورعا) (¬5). وذكر الفراء قولين هما للكلبي {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} يقول: (لو أخذوا ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "معالم التنزيل" 5/ 297، "زاد المسير" 5/ 324، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 184. (¬2) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة انظر: "جامع البيان" 16/ 216، "المحرر الوجيز" 10/ 97، "معالم التنزيل" 5/ 297، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 185، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 249. (¬3) "جامع البيان" 16/ 218. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 97، "معالم التنزيل" 5/ 297، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250، "روح المعاني" 16/ 267. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 18، "جامع البيان" 16/ 219، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 255، "الدر المنثور" 4/ 552.

114

به كان القرآن لهم شرفًا بإيمانهم به) (¬1). وهذا كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، ويقال: ({أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} عذابًا أي: يتذكرون حلول العذاب الذي وعدوه) (¬2). 114 - قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ} أي: جل عن إلحاد الملحدين، ونزه عما يقول المشركون في صفته (¬3). ويجوز أن يكون المعنى: تعالى استحق في المدح صفات لا تساوى؛ لأنه أقدر من كل قادر، وأعلم من كل عالم، وقادر سواه محتاج إليه وهو غني عنه. {الْمَلِكُ الْحَقُّ} قال ابن عباس: (يريد الذي بيده الثواب والعقاب) (¬4). يعني أنه يملكها. و {الْحَقُّ} معناه: ذو الحق، وقد مر وتقدم الكلام فيه (¬5). وقوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} قال ابن عباس في رواية عطاء وأبي صالح: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي، ولا يفرغ جبريل مما يريد من التلاوة حتى يتكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأوله حرصًا منه على ما كان ينزل عليه، وشفقة على القرآن مخافة الإنفلات ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 193، وذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 219، "بحر العلوم" 2/ 355، "المحرر الوجيز" 10/ 97. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 193، وذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 355، "المحرر الوجيز" 15/ 97، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250. (¬3) "جامع البيان" 16/ 219، "معالم التنزيل" 5/ 297، "زاد المسير" 5/ 325، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 185. (¬4) ذكر نحوه الألوسي في "روح المعاني" 16/ 267 بدون نسبة. وكذلك الشوكاني في "فتح القدير" 3/ 389. (¬5) عند قوله سبحانه في سورة الأنعام الآية رقم (62): {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.

والنسيان، فنهاه الله عن ذلك) (¬1). فقال: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} أي: بقراءته {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} من قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته عليك. وقال المفضل: (من قبل أن يوفى ويتمم) (¬2). وقال السدي: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه جبريل بالقرآن أتعب نفسه في حفظه حتى يستوعبه يتخوف أن يصعد جبريل ولم يحفظه فينسى ما علمه، فأنزل الله هذه الآية) (¬3). قال عطاء عن ابن عباس: (وهذا كقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}) [القيامة: 16] (¬4). وهذا قول الكلبي، واختيار الفراء، وابن قتيبة (¬5). وقال مجاهد، وقتادة: (لا تتله على أحد حتى نبينه لك) (¬6). وعلى ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "زاد المسير" 5/ 325، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 185، "الباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص 147، "جامع النقول في أسباب النزول" 217، وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه"، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} 9/ 187، ومسلم في "صحيحه"، كتاب الصلاة، باب الاستماع للقراءة 1/ 330، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 552. (¬2) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "النكت والعيون" 3/ 429، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250، "التفسير الكبير" 22/ 122. (¬3) "الدر المنثور" 4/ 552، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 219، "بحر العلوم" 2/ 356، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 54، "معالم التنزيل" 5/ 297، "المحرر الوجيز" 15/ 98. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 12/ 93، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 283. (¬6) "جامع البيان" 16/ 225، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "معالم التزيل" 5/ 297، "زاد المسير" 5/ 326، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250.

هذا نهى عن تلاوة الآية التي تنزل عيه، وإملائه على أصحابه قبل أن يتبين له معناها. وهذا معنى رواية عطية عن ابن عباس قال: (لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله) (¬1). وذكر بعض أهل التفسير أن معنى هذه الآية: (لا تسأل إنزال القرآن من قبل أن يأتيك وحيه) (¬2). وروى جرير (¬3) عن الحسن في سبب نزول هذه الآية: (أن رجلاً لطم امرأته، فجاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تطلب القصاص فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما القصاص، فأنزل الله هذه الآية، فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلت: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]) (¬4). ولا تعلق لهذه الآية في القصة التي ذكرها الحسن حتى يقال إنها نازلة فيها، إلا لقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بالقصاص، وأبى الله ذلك وأنزل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وقد تقدم بيانه (¬5). وأمره في هذه الآية ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 220، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب. (¬2) "النكت والعيون" 2/ 429، "زاد المسير" 5/ 325، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250. (¬3) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي، البصري أحد التابعين وعد من صغارهم، روى عن: الحسن وابن سيرين وقتادة وغيرهم وروى عنه: ابنه وابن المبارك وغيرهما، وثقة أكثر العلماء، توفي -رحمه الله- سنة 175. انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 504، "ميزان الاعتدال" 1/ 392، "تهذيب التهذيب" 2/ 69. (¬4) "بحر العلوم" 356/ 2، "زاد المسير" 5/ 326، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250، "الدر المنثور" 4/ 553، "لباب النقول في أسباب النزول" 68. (¬5) عند قوله سبحانه في سورة النساء الآية رقم (34): {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية.

115

بأن يسأل الله تعالى زيادة علم، والمعنى: علمني ما لا أعلمه (¬1). وقيل معناه: (زدني علمًا بالقرآن ومعانيه) (¬2). وهذا موافق للتفسير الأول في الآية. 115 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} أي: أمرناه وأوصينا إليه. قال الكلبي والسدي: (عهدنا إليه ألا يأكل من الشجرة) (¬3). وقال ابن عباس: (ألا يقرب الشجرة) (¬4). {مِنْ قَبْلُ} قال الكلبي: (من قبل أن يأكل من الشجرة) (¬5). وقال غيره: (من قبل هؤلاء الذين فقضوا عهدي وتركوا الإيمان بي) (¬6). وهم الذين ذكرهم في قوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 225، "النكت والعيون" 3/ 429، "معالم التنزيل" 5/ 297، "الكشاف" 2/ 555. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "النكت والعيون" 3/ 429، "معالم التنزيل" 5/ 297. (¬3) ذكره "زاد المسير" 5/ 327 بدون نسبة. (¬4) "الدر المنثور" 4/ 553، "التفسير الكبير" 22/ 124. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 54، "المحرر الوجيز" 10/ 100، "معالم التنزيل" 5/ 297، "لجامع لأحكام القرآن" 11/ 251. (¬6) "جامع البيان" 16/ 220، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "معالم التنزيل" 5/ 297، "زاد المسير" 5/ 327، وقال ابن عطية -رحمه الله- في "المحرر الوجيز" 10/ 100: (وهذا التأويل ضعيف وذلك أن يكون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضة عليه وأما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد أن لا يعجل القرآن مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي نحوف لتكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد).

الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [طه: 113] والمعنى: أنهم نقضوا العهد، فإن آدم أيضًا عهدنا إليه {فَنَسِيَ} قال ابن عباس: (فترك عهدي) (¬1). وقال مجاهد: (ترك ما أمر به) (¬2). وقال السدي: (ترك عهدنا) (¬3). وقال أبو إسحاق: ({فَنَسِيَ} هاهنا فترك؛ لأن الناسي لا يؤاخذ بنسيانه) (¬4). هذا قول الجميع في أن نسي هاهنا: ترك. وحمل ابن زيد النسيان هاهنا على الذي هو ضد الذكر (¬5). ولا يصح هذا؛ لأن الناسي لا يؤاخذ بنسيانه، ولأن إبليس حين استغواهما ذكرهما النهي فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} [الأعراف: 20]. وقوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} معنى العزم: عقد القلب على أمر يفعله، وهو توطين النفس على الفعل، هذا معناه في اللغة (¬6). قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد صبرًا عن أكل الشجرة) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 225، "زاد المسير" 5/ 327. (¬2) "جامع البيان" 16/ 225، "النكت والعيون" 3/ 430، "زاد المسير" 5/ 328، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 251، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 185. (¬3) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 220، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "المحرر الوجيز" 10/ 150، "معالم التنزيل" 5/ 297، "زاد المسير" 5/ 328، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 185. (¬4) "معاني القرآن للزجاج" 3/ 378. (¬5) "جامع البيان" 16/ 221، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 251. (¬6) انظر (عزم): "تهذيب اللغة" 3/ 2425، "القاموس المحيط" 4/ 149، "الصحاح" 5/ 1985، "لسان العرب" 5/ 2932، "المفردات في غريب القرآن" 334. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 250، "روح المعاني" 16/ 269.

117

والمعنى: أنه لم يصبر على ما وطن عليه نفسه من ترك ما نهي عن أكله، وهو معنى قول الحسن: (صبرًا عما نهي عنه) (¬1). وقال عطية العوفي: (عن ما حفظنا لما أمر به) (¬2). وقال السدي: (صبرًا على الذنوب) (¬3). وقال عبد الله بن مسلم: (رأيا معزوما عليه) (¬4). وقيل: (عقدًا ثابتًا حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له) (¬5). 117 - قوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد شقاء الدنيا ونصبها) (¬6). وقال الحسن: (عني به شقاء الدنيا، ألا ترى ابن آدم إلا ناصبا شقيا) (¬7). وقال سعيد بن جبير: (أهبط إلى آدم ثورا أحمر كان يعتمل عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فكان ذلك شقاؤه) (¬8). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 297. (¬2) "جامع البيان" 16/ 221، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "بحر العلوم" 2/ 356، "النكت والعيون" 3/ 430، "معالم التنزيل" 5/ 297، "الدر المنثور" 4/ 554. (¬3) "بحر العلوم" 2/ 256. (¬4) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 283. (¬5) "زاد المسير" 5/ 328. (¬6) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 151، "معالم التنزيل" 5/ 298، "زاد المسير" 5/ 328، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 253. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 253، "الدر المنثور" 4/ 555. (¬8) "جامع البيان" 16/ 222، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "بحر العلوم" 2/ 357، "معالم التنزيل" 5/ 298، "المحرر الوجيز" 10/ 101، "الدر المنثور" 4/ 555.

118

وقال السدي: (الحرث والزرع والعجن والخبر) (¬1). وقال زيد بن علي: (فتشقى في كد المعيشة) (¬2). قال الفراء: (ولم يقل: فتشقيا، لأن آدم المخاطب وفي فعله اكتفاء من فعل المرأة) (¬3). يعني: أن أول الآية خطاب لآدم، وصرف الخطاب في آخرها إلى آدم لوفاق الفواصل، وكان في خطابه اكتفاء عن خطاب حواء كما قال: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} اكتفى بالقعيد عن صاحبه. 118 - قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ} {إِنَّ} في موضع نصب بأن، كما تقول: إن لك مالا (¬4). و {أَلَّا تَجُوعَ} بمعنى الشبع، كأنه قيل: إن لك الشبع فيها والاكتساء. قال الكلبي: (من لباس الثور) (¬5). قال ابن عباس: (يريد أن لك ما دمت في الجنة ألا تجوع فيها) (¬6). (ولا تعرى) يقال: عَرِيَ فلان من ثوبه يَعْرَى عُرْيًا فهو عَارٍ وعُرْيَانٌ، والأنثى عُرْيَانَةٌ وعَرِيَةٌ والمصدر العُرِي وسمي العُرْيَان العُرِي (¬7). ومنه الحديث: (أن ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 5/ 298، "زاد المسير" 5/ 328، "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 253. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 222، "معالم التنزيل" 5/ 298، "زاد المسير" 5/ 328، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 186. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 193. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 193. "معاني القرآن" للزجاج 3/ 378، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 59. (¬5) ذكر نحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 25 ب. (¬6) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 222، "بحر العلوم" 2/ 357، "معالم التنزيل" 5/ 299، "القرطبي" 11/ 253، "ابن كثير" 3/ 186. (¬7) فرس عري، أي: لا سرج عليه ولا غيره. يقال: دابة عري، وخيل أعراء، ورجل عريان، وامرأة عريانه إذا عريا من أثوابهما. =

119

النبي -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسًا لأبي طلحة عُرْيًا) (¬1). قال الأزهري: (والعرب تقول: فَرَس عُرْيٌ. وخَيل أَعْرَاءٌ ولا يقال رَجل عُرْيٌ)] (¬2) (¬3). 119 - قوله: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا} قال أبو إسحاق: {وَأَنَّكَ} في موضع نصب نسقا على قوله: {أَلَّا تَجُوعَ} ويجوز أن تكون في موضع رفع، وإن كان معطوفًا على اسم إن؛ لأن معنى إن زيدًا قائم زيد قائم، فيكون المعنى ذلك أنك لا تظمأ) (¬4). يعني كأنه لم يذكر أن في أول الآية الأولى. ومن قرأ: وإنك بالكسر على الاستئناف، وعطف جملة كلام على جملة (¬5). وقوله تعالى: (ولا تضحى) يقال: ضَحَا الرجل إذا برز للشمس فأصابه حرها، ضَحَا، وضُحِيًّا (¬6). وقال النضر: (ضَحَا للشمس يَضْحَى، ¬

_ = انظر: "تهذيب اللغة" (عرا) 3/ 2373، "القاموس المحيط" (العرى) 4/ 361، "الصحاح" (عرا) 6/ 2424، "لسان العرب" (عرا) 5/ 2919. (¬1) أخرج نحوه البخاري في الجهاد، باب مبادرة الإمام عند الفزع 3/ 1084، ومسلم، في الفضائل، باب في شجاعة النبي وتقدمه في العرب، والترمذي في "جامعه"، في الجهاد، باب ما جاء في الخروج عند الفزع 4/ 171، وابن ماجه في الجهاد باب الخروج في النفير 2/ 996، والإمام أحمد في "مسنده" 2/ 147. (¬2) "تهذيب اللغة" (عرا) 3/ 2373. (¬3) من قوله: (أمت وملأ سقاءه ..) ص 523 إلى هنا ساقط من نسخة (ش). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 378. (¬5) قرأ نافع، وعاصم في رواية أبي بكر: (وإِنك) بكسر الألف، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (وأَنك) مفتوحة الألف. انظر: "السبعة" ص 424، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 251، "المبسوط في القراءات" ص 251، "حجة القراءات" ص 464. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2093، "مقاييس اللغة" (ضحى) 3/ 291، =

ضُحُوًّا (¬1). وقال ابن الأعرابي: (ضَحِيْتُ للشمس، وضحَيْتُ، أَضْحَى منهما جميعًا) (¬2). وحكى شمر: (ضَحِي، يَضْحَى، ضُحِيًا، وضَحَا، يَضْحُو، ضُحُوًّا) (¬3). وأنشد الزجاج (¬4): رَأَتْ رَجُلاً أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضحَى وأَمَّا بِالعَشِّي فَيَخْصَر قال ابن عباس في رواية الضحاك يقول: (لا تعطش فيها كما يعطش أهل الدنيا، ولا يصيبك فيها حر كما يصيب أهل الدنيا) (¬5). وقال في رواية عكرمة: (لا تصيبك الشمس) (¬6). وقال في رواية الوالبي، وعطاء: (لا يصيبك فيها حر ولا عطش) (¬7). والمعنى: لا تبرز ¬

_ = "القاموس المحيط" (الضحو) 4/ 354، "الصحاح" (ضحا) 6/ 2456، "لسان العرب" (ضحا) 5/ 2559. (¬1) "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2093. (¬2) "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2093، "لسان العرب" (ضحا) 5/ 2559. (¬3) "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2093، "لسان العرب" (ضحا) 2559. (¬4) البيت لعمرو بن أبي ربيعة. انظر: "ديوانه" ص 94، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 378، "الأغاني" 1/ 81، "خزانة الأدب" 5/ 315، "المحتسب" 1/ 284، "مغني اللبيب" 1/ 55، "الممتع في التصريف" 1/ 375، "تهذيب اللغة" (ضحا) 3/ 2093، "لسان العرب" (ضحا) 5/ 2559. (¬5) ذكر نحوه الطبري 16/ 223 بدون نسبة، وكذلك السيوطي في "الدر" 4/ 555. (¬6) "جامع البيان" 16/ 223، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "عالم التنزيل" 5/ 299، "الدر المنثور" 4/ 555. (¬7) "جامع البيان" 16/ 223.

120

للشمس فيؤذيك حرها؛ لأنه ليس في الجنة شمس إنما هو ظل ممدود. 120 - وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} كقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} في سورة الأعراف [20] {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} قال الكلبي: (على شجرة من أكل منها لم يمت) (¬1). (وملك لا يبلى) لا يفنى. قال ابن عباس: (وهذا كقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20]) (¬2). 121 - قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} قال الكلبي: (بأكله من الشجرة) (¬3). (فغوى) أي: فعل ما لم يكن له فعله (¬4). وقيل: (ظل حيث طلب الخلد والملك بأكل ما نهي عن أكله) (¬5). هذان قولان حكاهما المفسرون. وقال ابن الأعرابي: (الغي: الفساد) (¬6). وقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي: فسد عليه عيشه، وقال ابن قتيبة: (الغي ضد الرشد، كما أن المعصية ضد الطاعة) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 357 بدون نسبة. (¬2) وذكر القول ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 329، بدون نسبة. (¬3) ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 223 بدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "تفسيره" 2/ 357. (¬4) "جامع البيان" 16/ 224، "الكشف والبيان" 3/ 25 ب، "معالم التنزيل" 5/ 229. (¬5) "بحر العلوم" 2/ 357، "عالم التنزيل" 5/ 223. (¬6) "معالم التنزيل" 5/ 229، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 257، "تهذيب اللغة" (غوى) 8/ 218، وذكره الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 535، وقال: وهذا خلاف الظاهر. (¬7) قال القرطبي في "تفسيره" 11/ 257: (فغوى) فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا، والغي الفساد، وهو تأويل حسن، وهو أولى من تأويل من يقول (غوى) معناه ضل، من الغي الذي هو ضد الرشد.

122

وقد أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه بالله والقسم إنه لمن الناصحين (¬1)، حين دلاه بغرور ولم يكن ذنبه عن إرصاد وعداوة وإرهاص كذنوب أعداء الله، فنحن نقول: عصى وغوى، كما قال الله في القرآن ولا نقول: آدم عاص وغاوي؛ لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدم، ولا نية صحيحة كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقول: خياط حتى يكون معاودًا لذلك الفعل معروفًا به (¬2). 122 - وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} قال ابن عباس: (اصطفاه وتاب عليه) (¬3). عاد عليه بالعفو. {هَدَى} قال الكلبي: (هداه بالتوبة) (¬4). 123 - {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} قال ابن عباس: (يريد آدم وإبليس) (¬5). ¬

_ (¬1) ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة الأعراف الآية رقم (21): {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}. (¬2) قال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1261: "لا يجوز لأحد منا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يتبدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز في آبائنا الأدنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم، الذي عذره الله -عز وجل- وتاب عليه وغفر له). وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 255، "التفسير الكبير" 22/ 128، "أضواء البيان" 4/ 538. (¬3) ذكره الطبري في "جامع البيان" 16/ 224، بدون نسبة، وكذلك البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 300. (¬4) ذكر هـ السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 357 بدون نسبة. وكذلك البغوي 5/ 300. (¬5) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 224، "بحر العلوم" 2/ 357، "زاد المسير" 5/ 330، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 258. =

124

والآية مفسرة في سورة البقرة (¬1). وقوله تعالى: {فَلَا يَضِلُّ} أي: في الدنيا (ولا يشقى) [في الآخرة. قال ابن عباس: (أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}] (¬2) (¬3). 124 - {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} قال ابن عباس: (يريد عن موعظتي) (¬4). وقال الكلبي: (عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه) (¬5). {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} الضَّنْك أصله في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضَنْك يقال: منزل ضَنْك، وعيش ضَنْك، وضَنُك عيشه يَضْنَك ضَنَاكَة وضَنْكًا (¬6). وأنشد أبو عبيدة قول عنترة (¬7): ¬

_ = وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 539: (الظاهر أن ألف الإثنين في قوله: {اهْبِطَا} راجعة إلى آدم وحواء، خلافًا لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم، والتثنية باعتبار آدم وحواء فقط، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما). (¬1) عند قوله سبحانه في سورة البقرة الآية رقم: (38): {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ص). (¬3) "جامع البيان" 16/ 224، "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "بحر العلوم" 2/ 357، "النكت والعيون" 3/ 431، "معالم التنزيل" 5/ 300، "الدر المنثور" 4/ 556. (¬4) "زاد المسير" 5/ 330. (¬5) "زاد المسير" 5/ 330، وذكره السمرقندي 2/ 357، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 301 بدون نسبة. (¬6) انظر (ضنك) في: "تهذيب اللغة" 3/ 2138، "مقاييس اللغة" 3/ 373، "القاموس المحيط" (الضنك) 4/ 311، "الصحاح" 4/ 1598، "لسان العرب" 5/ 2613، "المفردات في غريب القرآن" 299. (¬7) البيت لعنترة. =

إِنَّ المَنِيةَ لَو تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثلي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ المَنْزِلِ ومنه قيل للمرأة الضخمة الكثيرة اللحم: ضِنَاك؛ لأن جلدها قد ضاق بلحمها، والضَنَك في الأصل مصدر ثم وصف به، ولذلك قيل معيشة ضَنْكا (¬1). وأكثر ما جاء في التفسير المعيشة الضَنْك: (أنه عذاب القبر) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود (¬2). وقال الحسن، والكلبي، وابن زيد، وقتادة: (هو عذاب النار، وأكل الزقوم، والغسلين، والضريع) (¬3). ¬

_ = انظر: "ديوانه" 252، "النكت والعيون" 3/ 431، "المحرر الوجيز" 10/ 106، "البحر المحيط" 6/ 286، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 32، "مختار الشعر الجاهلي" 1/ 288. (¬1) "تهذيب اللغة" (ضنك) 3/ 2138. (¬2) أخرجه الطبري في "جامع البيان" 16/ 227، والصنعاني في "تفسيره" 2/ 21، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، والهواري في "تفسيره" 3/ 75، والسمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 357، والماوردي في "النكت" 2/ 413، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 301، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 557، والحاكم في "المستدرك"، كتاب التفسير- سورة طه 2/ 381 وقال: هذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره "مجمع الزوائد" في "كتاب التفسير" سورة طه 7/ 67 وقال: رواه الطبراني، وفيه المسعودي وقد اختلط وبقية رجاله ثقات. (¬3) "جامع البيان" 16/ 226، "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "النكت والعيون" 3/ 431، "معالم التنزيل" 5/ 301 "الكشف" 2/ 558، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 11/ 259، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 187، "الدر المنثور" 4/ 558، ولعل المراد ما جاء في الآيات التالية: =

وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه) (¬1). وقال في رواية الوالبي: (الشقي) (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قيل في التفسير: (أعمى البصر) (¬4). وقيل: (أعمى الحجة) (¬5). قال أبو إسحاق: (وتأويله أنه لا حجة له يهتدي إليها، أن له حجة ¬

_ = الزقوم ورد في قوله سبحانه في سورة الواقعة: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ}. والغسلين ورد في قوله سبحانه في سورة الحاقة: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}. والضريح ورد في قوله سبحانه في سورة الغاشية: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}. (¬1) "زاد المسير" 5/ 228، "روح المعاني" 16/ 277. وذكره الطبري في "جامع البيان" 16/ 226 ونسبة لأبي سعيد الخدري، وكذلك البغوي في "تفسيره" 5/ 301. (¬2) "جامع البيان" 16/ 226، "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "معالم التنزيل" 5/ 301، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 187، "الدر المنثور" 4/ 557. (¬3) قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 548: (قد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة أن المعيشة الضنك في الآية: عذاب القبر. وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية، ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا، وطعام الضريع، والزقوم، فتكون معيشته ضنكًا في الدنيا والبرزخ والآخرة، والعياذ بالله تعالى). وانظر: "جامع البيان" 16/ 229، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 259، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 187. (¬4) "جامع البيان" 16/ 229، "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "بحر العلوم" 2/ 358، "النكت والعيون" 3/ 431، "معالم التنزيل" 5/ 301، "المحرر الوجيز" 15/ 107. (¬5) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 20، "جامع البيان" 16/ 165، "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "تفسيركتاب الله العزيز" 3/ 58، "معالم التنزيل" 5/ 301، "الدر المنثور" 4/ 558.

125

وأنه يعمى عنها) (¬1). وقال غيره: (العمى إذا أطلق كان الظاهر عمى البصر) (¬2). وعلى هذا يدل ما بعده من. 125 - قوله: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} عن حجتي {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} بها في الدنيا، ولا أدري كيف وجه هذا، ومتى كان الكافر بصيرًا بحجته، ولا حجة له في الدنيا ولا في الآخرة (¬3). 126 - قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ} أي: قال الله مجيبًا لهذا الكافر كذلك الأمر كما ترى. {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} تركتها ولم تؤمن بها {وَكَذَلِكَ} وكما تركتها {الْيَوْمَ تُنْسَى} تترك في النار. هذا قول ابن عباس، والكلبي، وأهل التفسير (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 379. (¬2) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 107، "البحر المحيط" 6/ 287، "روح المعاني" 16/ 287، "إرشاد العقل السليم" 6/ 48. (¬3) قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 229: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله عز شأنه وجل ثناؤه عم بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ولم يخصص منه معنى دون معنى فذلك على ما عمه فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: قال رب لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله). وانظر: "المحرر الوجيز" 15/ 158، "البحر المحيط" 6/ 287، "أضواء البيان" 4/ 548. ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة بني إسرائيل الآية رقم (97): {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}. (¬4) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 20، "جامع البيان" 16/ 230، "الكشف والبيان" =

127

127 - {وَكَذَلِكَ} كما ذكرنا {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} قال ابن عباس: (أشرك) (¬1). {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} لا أفظع وأعظم مما ذكر في عذاب القبر، وهذا يدلس على أن المراد بقوله: {مَعِيشَةً ضَنْكًا} عذاب القبر. 128 - قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} نبين لهم إذا نظروا يعني لكفار مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا} قال الفراء: ({كَمْ} في موضع نصب بأهلكنا، ومثله من الكلام: أو لم يتبين لكم من يعمل خيرًا يجز به، فجملة الكلام فيها معنى رفع، ومثله أن تقول: قد تبين لي أقام عبد الله أم زيد) (¬2). قال أبو إسحاق: (والمعنى أفلم يتبين لهم الأمر بإهلاك من قبلهم من القرون) (¬3). ¬

_ = 3/ 26 أ، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 58، "بحر العلوم" 2/ 358، "معالم التنزيل" 5/ 301، "المحرر الوجيز" 10/ 108، "الدر المنثور" 4/ 558. (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 16/ 231 بدون نسبة، وذكره "الدر المنثور" 4/ 559 ونسبة لسفيان. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 195. قال ابن جرير الطبري في "تفسيره" 16/ 167 بعد أن ذكر قول الفراء: (وليس الذي قال الفراء من ذلك كما قال: لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للإستفهام بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة، ومعنى الكلام ما قد ذكر قبل وهو أفلم يتبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة، وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: أفلم يهد لهم من أهلكنا، فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله هي في موضع رفع بقوله: يهد لهم، وهو أظهر وجوهه وأصح معانيه، وإن كان للذي قاله وجه ومذهب على بعد). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 379.

129

وقوله تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} يعني: أهل مكة كان يتّجرون ويسيرون في مساكن عاد وثمود، وفيها علامات الإهلاك يقول: فلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بالذين رأوا مساكنهم (¬1). 129 - وقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي: في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة وهو قوله: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} يعني القيامة وهو عطف على الكلمة، وقد أخر عن موضعه والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزامًا (¬2). هذا قول الجميع. وقال مجاهد: [{وَأَجَلٌ مُسَمًّى} يعني الدنيا (¬3). وعلى هذا الأجل في تركهم عن العذاب، ومن قال: هو القيامة] (¬4) فهو أجل تعذيبهم، واللِزَام يجوز أن يكون فعالا من الملازمة، ويجوز أن يكون مصدرًا كاللزوم، والمعنى: لكان العذاب لازمًا لهم، فهو مصدر وصف به، وأضمر اسم كان، وهو العذاب لتقدم ذكره وللعلم به (¬5)، والمعنى: لعذبوا في الدنيا ولزمهم العذاب كما لزم القرون الماضية لما كذبوا الرسل، هذا معنى الآية. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 16/ 231، "معالم التنزيل" 5/ 352، "المحرر الوجيز" 10/ 111، "زاد المسير" 5/ 333، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 260. ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة إبراهيم الآية رقم: (45): {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}. (¬2) "جامع البيان" 16/ 232، "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "بحر العلوم" 2/ 358، "النكت والعيون" 2/ 432، "الدر المنثور" 4/ 559. (¬3) "جامع البيان" 16/ 232. (¬4) ما بين المعقوفين مكرر في الأصل وفي نسخة (س). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (لزم) 4/ 3260، "القاموس المحيط" (لزم) 4/ 175، "الصحاح" (لزم) 5/ 2029، "لسان العرب" (لزم) 7/ 4027.

وقال أبو عبيدة: (اللزام: الفيصل) (¬1). ونحو هذا روى ثعلب عن ابن الأعرابي: (اللَّزْمُ: فصل الشيء من قوله تعالى: {لَكَانَ لِزَامًا} أي: فيصلاً) (¬2). وعلى هذا معنى الآية: لكان العذاب فصلاً بينك وبين قومك، أي: لوقع الفصل بتعذيبهم، وتخبط المفسرون في تفسير اللِّزَام فقالوا: (أخذا وموتًا، وعذاب يوم بدر) (¬3) (¬4). وكلل ذلك وَهْم لا يصح تفسير اللزام به، وتصحيحه أن يقال: لكان الأخذ أو الموت أو القتل كما وقع ببدر لزامًا، أي: لازما لهم فالذي ذكروا في تفسير اللزام هو تفسير المضمر من اسم كان لا تفسير اللزام (¬5). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 32. (¬2) "تهذيب اللغة" (لزم) 4/ 3260. (¬3) بدر: هو ماء مشهور بين مكة والمدينة، أسفل وادي الصفراء، بينه وبين المدينة ثمانية وعشرون فرسخًا، وفيه حصلت الموقعة المشهورة بين المسلمين وكفار قريش في رمضان سنة 2 للهجرة، وبدر الآن فيها إمارة متابعة لإمارة المدينة المنورة، وغالب سكانها بنو سالم بن حرب. انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 231، "معجم البلدان" 1/ 357، "معجم المعالم الجغرافية" 41، "مراصد الاطلاع" 1/ 170، "قاموس الأمكنة والبقاع" ص 46. (¬4) "جامع البيان" 16/ 232، "النكت والعيون" 3/ 432، "المحرر الوجيز" 10/ 111، "زاد المسير" 5/ 333، "الدر المنثور" 4/ 559. (¬5) قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 16/ 232: (ولولا كلمة سبقت من ربك يا محمد أن كل من قضى له أجلاً فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} يقول وقت مسمى عند ربك سماه لهم في أم الكتاب وخطه فيه هم بالغوه ومستوفوه لكان لزامًا يقول للازمهم الهلاك عاجلاً). وانظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 209، "غريب القرآن" 283، "معاني القرآن" للفراء 2/ 195، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 380.

130

130 - قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أمره بالصبر إلى أن يحكم الله، ثم حكم فيهم بالقتل، فنسخ الصبر على ما يسمع من أذاهم (¬1). {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} صل لله بالحمد له والثناء عليه (¬2). {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يريد: الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يريد: العصر (¬3). {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} (¬4) ساعاته واحدها إِنْيٌ مثل: نِحْيٍ وأَنْحَاء، وإِنْيً مثل: مِعيً وأَمْعَاء (¬5)، قال الأعشى (¬6): ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 3/ 26 أ، "معالم التنزيل" 5/ 302، "زاد المسير" 5/ 333، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 260، "التفسير الكبير" 22/ 123. والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا نسخ في هذه الآية، فالآية تأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على ما كان يفعله كفار قريش وما يقولونه ويتهمونه به، وفي نفس الوقت تتوعد المشركين بعقاب الله الشديد في الآخرة، فلا تعارض بين الأمر بالصبر وقتالهم. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 251، "نواسخ القرآن" لابن الجوزي 399، "قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ" 140، "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" 40. (¬2) "جامع البيان" 16/ 233، "معالم التنزيل" 5/ 302، "زاد المسير" 5/ 333. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 20، "جامع البيان" 16/ 168، "الكشف والبيان" 3/ 26/ أ، "بحر العلوم" 2/ 358، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 188. (¬4) في نسخة (ص): أناء الليل ساعاته. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (أنى) 1/ 225، "القاموس المحيط" (أنى) 4/ 301، "الصحاح" (أنا) 6/ 2273، "لسان العرب" (أنى) 1/ 167. (¬6) هذا عجز بيت ينسب لأبي أثيلة المتنخل الهذلي، ولم أقف عليه منسوبًا للأعشى. وصدر البيت: حُلْو وَمْر كَعَطْفِ الاقِدْح مِرَتُهُ انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 102، "شرح أشعار الهذليين" 3/ 1283، "الشعر والشعراء" 2/ 666، "المنصف" 7/ 107، "كتاب حروف المدود والقصور" 64، "تهذيب اللغة" (أنى) 1/ 225، "لسان العرب" (أنى) 1/ 161، "الصحاح" (أنا) 6/ 2273.

بِكُلِّ إِنْيٍ قَضَاهُ اللَّيلُ يَنْتَعِلُ وأنشد بن الأعرابي في الإنى (¬1): أَتَمَّتْ حَمْلَهَا في نِصْف شَهر ... وَحَمْلُ الحَامِلاَتِ إِنىً طَويلُ قال ابن عباس: (يريد أول الليل المغرب والعشاء) (¬2). {فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} يريد: الظهر. هذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآية من أوقات الصلاة المكتوبة، قول ابن عباس في رواية عطاء، ومذهب مجاهد، وقتادة (¬3). وعلى هذا سمي وقت صلاة الظهر أطراف النهار؛ لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني، فجعل الطرفان أطرافًا على مذهبهم في تسمية الإثنين باسم الجمع كقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقد مر. وهذا قول الفراء في هذه الآية (¬4). وقال أبو العباس: (جمع الطرفين؛ لأنه يلزم في كل نهار يعود) (¬5). ومن المفسرين من حمل أطراف النهار على: الغدوة والعشية (¬6). وعلى هذا استفاد من الآية بقوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}. وقال ابن الأعرابي: (أطراف النهار: ساعاته) (¬7). وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} قال ابن عباس: (يريد: الثواب ¬

_ (¬1) لم أقف على قائله. وذكرته كتب اللغة بلا نسبة. انظر: "تهذيب اللغة" (أنى) 1/ 225، "لسان العرب" (أنى) 1/ 161. (¬2) "معالم التنزيل" 5/ 302، "زاد المسير" 5/ 230. (¬3) "تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 20، "جامع البيان" 1/ 2336، "زاد المسير" 5/ 333، "الدر المنثور" 4/ 559. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 195. (¬5) "تهذيب اللغة" (طرف) 3/ 2181. (¬6) "جامع البيان" 16/ 233، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 59. (¬7) "تهذيب اللغة" (طرف) 3/ 2181.

131

والمعاد واجبًا من الله لك) (¬1) وفيه قراءتان: ضم التاء وفتحها (¬2). فمن فتح التاء وهو الذي فسره ابن عباس فحجته قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]. ومن ضم التاء فحجته قوله: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] ويكون المعنى لعلك ترضى بفعل ما أمرك به من الأفعال التي يرضاها الله، أو ترضى بما تعطاه من الدرجة الرفيعة (¬3). واختار أبو عبيد هذه القراءة لاحتمالها معنيين أحدهما: ترضى: تعطى الرضى، والآخر: يرضاك الله، قال: (وتصديقها قوله: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] قال: وليس في الآخرة إلا وجه واحد) (¬4). هذا كلامه. 131 - قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية، قال أبو رافع (¬5): (نزل ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. ويشهد لهذا المعنى قوله سبحانه في سورة الضحى الآية رقم (5): {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}. والحق أن الله تعالى لا يجب عليه شيء لخلقه، وما يعطيهم فهو فضل منه وكرم. قال الألوسي في "روح المعاني" 16/ 283: رجاء أن تنال عنده ما ترضى به نفسك من الثواب، واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى. (¬2) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وعا صم في رواية حفص: (لعلك تَرضى) بفتح التاء، وقرأ الكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (لعلك تُرضى) بضم التاء. انظر: "السبعة" ص 425، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 252، "المبسوط في القراءات" ص 251، "التبصرة" ص 261 (¬3) "جامع البيان" 16/ 234، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 6، "بحر العلوم" 2/ 359. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 253، "حجة القراءات" ص 464. (¬5) أبو رافع، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اشتهر بكنيتته، واسمه على المشهور أسلم، دخل في الإسلام قبل بدر ولم يشهدها، وشهد أحدًا وما بعدها، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- =

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضيف فبعثني إلى يهودي فقال: "قل له إن رسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: بعني وأسلفني إلى رجب". وأتيته فقلت له ذلك، فقال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن (¬1). فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته، فقال: "والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه"، قال: فنزلت هذه الآية) (¬2). ¬

_ = وعن بعض الصحابة- رضوان الله عليهم-، توفي -رضي الله عنه- في آخر خلافة عثمان بن عفان وقيل في أول خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أجمعين. انظر: "الاستيعاب" 1/ 61، "الإصابة" 1/ 54، "الكاشف" 3/ 294. (¬1) الرهن: ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه. يقال: رهنت فلانًا دارًا رهنًا، وارتهنته إذا أخذه رهنًا. انظر: "تهذيب اللغة" (رهن) 2/ 1491، "القاموس المحيط" (رهن) 4/ 230، "الصحاح" (رهن) 5/ 2128، "لسان العرب" (رهن) 3/ 1757. (¬2) "جامع البيان" 16/ 235، "الكشف والبيان" 3/ 26 ب، "بحر العلوم" 2/ 359، "النكت والعيون" 3/ 433، "معالم التنزيل" 5/ 303، "الدر المنثور" 4/ 560، "أسباب النزول" للواحدي ص 313، "لباب القول في أسباب النزول" ص 147، "جامع النقول في أسباب النزول" ص 217. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 126، "كتاب البيوع"، باب البيع إلى أجل. وقال: رواه الطبراني في "الكبير" والبزار وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف. وذكره ابن حجر في "الكافي الشاف" ص 109 وقال: (وفيه موسى بن عبيدة وهو متروك). وقال ابن عطية -رحمه الله- في "تفسيره" 10/ 116 بعد ذكر هذا القول: (وهذا معترض أن يكون سببا لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه مات ودرعه مرهونة بهذه القصة اقي ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم والصبر على أقوالهم والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا إذ ذاك منحصر عندهم صائر بهم إلى خزي).

وقوله تعالى: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} قال أبي بن كعب: (أشباها من الكفار) (¬1). يعني أشكالاً من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة، وذلك أنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد فسرنا هذه الآية في آخر سورة الحجر (¬2). وقال أبي بن كعب في هذه الآية: (فمن لم يتعز بعزة الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه، ولا يشفى غيظه، ومن لم ير الله عليه نعمة إلا في مطعمه ومشربه نقص علمه وحضر عذابه) (¬3). وقوله تعالى: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال ابن عباس، والسدي: (زينة الدنيا) (¬4). وقال أهل اللغة: (زهرة الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها، وأصلها من زهرة الشجرة، وهي الأنوار التي تروق عند الرؤية) (¬5). قال أبو إسحاق: (و {زَهْرَةَ} منصوب بمعنى متعنا؛ لأن معناه جعلنا لهم ما متعناهم به زهرة الحياة الدنيا) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 16/ 235، "المحرر الوجيز" 15/ 116، "التفسير الكبير" 22/ 136، "روح المعاني" 16/ 283. (¬2) عند قوله سبحانه في سورة الحجر الآية رقم: (88): {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}. (¬3) "معالم التنزيل" 3/ 237. (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 3/ 189، وذكره الطبري في "تفسيره" 16/ 235 ونسبة لقتادة، وكذلك الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 433، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 560. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (زهر) 2/ 1569، "مقاييس اللغة" (زهر) 3/ 31، "القاموس المحيط" (الزهرة) 2/ 43، "الصحاح" (زهر) 2/ 674، "لسان العرب" (زهر) 3/ 1877. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 380.

132

وقوله تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} قال السدي: (لنبتليهم) (¬1). والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلي المختبر شكرهم بما أنعمنا عليهم. وقال أبو إسحاق: (لنجعل ذلك فتنة لهم) (¬2). قال ابن عباس: (ضلالة مني لهم) (¬3). وعلى هذا معنى لنفتنهم فيه لنضلهم بأن أقلد لهم النعمة فيزيدوا كفرًا وطغيانًا. وهذا تفسير أشبه بحال الكفار وبمعاملة الله معهم. {وَرِزْقُ رَبِّكَ} قال ابن عباس: (يريد: في المعاد) (¬4). وقال السدي وعْيره: (يعني الجنة) (¬5) {خَيْرٌ وَأَبْقَى} أكبر وأدوم. 132 - قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} روي: (أنه لما نزلت هذه الآية كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذهب إلى علي وفاطمة كل صباح فيقول: "الصلاة" فكان يفعل ذلك أشهر متوالية) (¬6). ومعنى الأهل هاهنا: قومه ومن كان على دينه (¬7). وذكرنا هذا عند ¬

_ (¬1) ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 359 بدون نسبة، وكذلك القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 262. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 381. (¬3) "التفسير الكبير" 22/ 136. (¬4) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 119، "معالم التنزيل" 5/ 354، "زاد المسير" 5/ 335، "الكشاف" 2/ 560، "الباب التأويل" 4/ 287. (¬5) "الدر المنثور" 4/ 560، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 2/ 359 بدون نسبة. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 263، "التفسير الكبير" 22/ 7137، "روح المعاني" 16/ 284، "فتح القدير" 3/ 564. (¬7) "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 61، "بحر العلوم" 2/ 359، "النكت والعيون" 3/ 434، "معالم التنزيل" 5/ 304، "زاد المسير" 5/ 335

133

قوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} الآية. {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} للاستعانة على الصبر عن محارم الله -عز وجل-؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (¬1). {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} قال ابن مسلم: (لا نسألك رزقا لخلقنا، ولا رزقا لنفسنا) (¬2). {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} قال عبد الله بن سلام: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أنزل بأهله ضيق أو قال شدة أمرهم بالصلاة ثم تلا هذه الآية) (¬3). وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ} قال ابن عباس، والسدي: (يريد: بالعاقبة الجنة) (¬4). وقوله تعالى: {لِلتَّقْوَى} قال الأخفش: (أي لأهل التقوى) (¬5). قال ابن عباس: (يريد: الذين صدقوك واتبعوك واتقوني) (¬6). 133 - قوله تعالى: {وَقَالُوا} يعني المشركين {لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} هلا يأتينا محمد بآية من ربه كما أتى بها الأنبياء نحو الناقة والعصا (¬7). قال أبو إسحاق: (وقد أتتهم الآيات ولكنهم طلبوا أن يأتيهم ما ¬

_ (¬1) ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت الآية رقم (45): {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. (¬2) ذكرته كتب التفسير من غير نسبة. انظر: "بحر العلوم" 2/ 359، "معالم التزيل" 5/ 304، "زاد المسير" 5/ 336، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 263. (¬3) "معالم التزيل" 5/ 304، "الدر المنثور" 5/ 561، "التفسير الكبير" 22/ 137، "روح المعاني" 16/ 285، "فتح القدير" 3/ 564. (¬4) "الدر المنثور" 4/ 561، "التفسير الكبير" 22/ 137. (¬5) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 631. (¬6) "معالم التزيل" 5/ 304. (¬7) "جامع البيان" 16/ 237، "زاد المسير" 5/ 336، "الجامع لأحكام القرآن" =

يقترحون) (¬1). قال الله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} يعني: أو لم تأتيهم بالقرآن ببيان ما في التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر أُمِّي بما فيها من غير قراءة كتاب على ما تصدقه أهل الكتب. هذا معنى قول الكلبي وغيره (¬2). وفيه قول آخر وهو: (أن المعنى أولم تأتهم ببيان ما في الكتب من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أولئك، وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن) (¬3). وقال بعض أهل التفسير: {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} ما تقدم من البشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في الكتب المتقدمة وبيان نعته وصفته) (¬4). ¬

_ = 11/ 264، "فتح القدير" 3/ 564، ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة هود: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}. وقوله سبحانه في سورة الشعراء: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 381. (¬2) "الكشف والبيان" 3/ 27، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 195، "التفسير الكبير" 22/ 137. (¬3) "جامع البيان" 16/ 237، "معالم التنزيل" 5/ 304، "زاد المسير" 5/ 336، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 264. (¬4) "بحر العلوم" 2/ 359، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 264، "التفسير الكبير" 22/ 137. كما قال سبحانه في سورة الصف الآية رقم (6): {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.

134

134 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ} يعني مشركي مكة {بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل بعث محمد ونزول القرآن {لَقَالُوا} يوم القيامة {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك في {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} نعمل بما فيها يعني بما نزل على ذلك الرسول ويأتينا به {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} في جهنم، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. 135 - قوله تعالى: {قُلْ} أي: قل لهم يا محمد {كُلٌّ} منا ومنكم {مُتَرَبِّصٌ} مهو نحن نتربص بكم وعدا لنا فيكم، وأنتم تتربصون بنا الدوائر فتستريحوا منا (¬1). {فَتَرَبَّصُوا} أي: فانتظروا. {فَسَتَعْلَمُونَ} إذا جاء أمر الله وقامت القيامة {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} قال ابن عباس: (يريد الدين المستقيم) (¬2). {مَنِ اهْتَدَى} أي: من الضلالة أنحن أم أنتم. ¬

_ (¬1) ويشهد لهذا قوله تعالى في سورة الطور الآيتان (30، 31): {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}. (¬2) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" 3/ 434، "معالم التنزيل" 5/ 305، "زاد المسير" 5/ 337، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 265، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 190.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الأنبياء إلى آية (56) من سورة المؤمنون تحقيق د. عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الخامس عشر

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [15]

جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468)./ عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 7 - 872 - 04 - 9960 - 978 (ج 15) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 7 - 872 - 04 - 9960 - 978 (ج 15)

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الأنبياء إلى آية (56) من سورة المؤمنون تحقيق د. عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الخامس عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الأنبياء

(21) سورة الأنبياء (22) الحج (23) المؤمنون حتى آية 56

1

تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام بسم الله الرحمن الرحيم 1 - قوله: {اقْتَرَبَ} افتعل من القُرْب (¬1). يقال: قَرُب الشيء واقترب، كما يقال: كسب واكتسب. قال المبرِّد: هما (¬2) واحد، إلا أن افتعل مؤكد (¬3). ومعنى الاقتراب هاهنا: قصر (¬4) المدة التي بينهم وبين الحساب (¬5). ¬

_ (¬1) القرب: نقيض البعد، وهو الدنو. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 124 (قرب)، "لسان العرب" لابن منظور 1/ 662، 663، 666 (قرب). (¬2) في (ع): (وهما). (¬3) لم أجد من ذكره عنه. قال أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 295: (اقترب) افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو (قرب)، كما تقول: ارتقب ورقب. وقيل: هو أبلغ من "قرب" للزيادة التي في البناء. ا. هـ. وذكر الزبيدي في "تاج العروس" 4/ 13 (قرب) أن شيخه أبا عبد الله الفاسي نقل عن ابن عرفه: (اقترب) أخص من (قرب) فإنه يدل على المبالغة في القرب. قال الزبيدي: ولعل وجهه أنَّ افتعل يدل على اعتمال ومشقة في تحصيل الفعل، فهو أخص مما يدل على القرب بلا قيد، كما قالوه في نظائره. اهـ. وقال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 8/ 17: والاقتراب مبالغة في القرب، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل، أي: اشتد قرب وقوعه بهم. (¬4) في (ع): (قصد)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "التبيان" للطوسي 7/ 202.

وقوله تعالى: {لِلنَّاسِ} قال الكلبي: يعني أهل مكة (¬1). {حِسَابُهُمْ} قال المفسرون: محاسبة الله إياهم على أعمالهم (¬2). وقال عطاء، عن ابن عباس (¬3): يريد عذابهم: لأن من نوقش الحساب عذب (¬4). فعلى هذا الحساب: يعني به (¬5): العذاب. وقال الزجاج: المعنى -والله أعلم-: اقترب للناس (¬6) وقت حسابهم (¬7). ¬

_ (¬1) ورد هذا القول في "تنوير المقباس" ص 200، الذي هو من رواية الكلبي. وذكر الزمخشري في "الكشاف" 2/ 561 نحو هذا القول عن ابن عباس ثم قال: هذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين. قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 122: عام في جميع الناس، وإن كان اليسار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، ويدل على ذلك ما بعده من الآيات، وقوله (وهم في غفلة معرضون) يريد الكفار. (¬2) هذا نص كلام الثعلبي في "تفسيره الكشف والبيان" 3/ 27 أ. وأصله عند الطبري في "جامع البيان" 1/ 17: حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم. (¬3) في (ع): (عن الكلبي)، وهو خطأ. (¬4) لم أجده من رواية عطاء، عن ابن عباس. وهذه الرواية عن ابن عباس باطلة، وقد تقدم الكلام عنها. وجاء في "تنوير المقباس" من تفسير ابن عباس ص 200: (دنا لأهل مكة ما وعد لهم في الكتاب من العذاب. وهذا التفسير لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه مروي عنه من طريق محمد بن مروان السدي، عن الكلبي، عن أبي صالح، وهذا الإسناد من أضعف الأسانيد عن ابن عباس. انظر: "العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (3 ب). وقد نسب هذا القول -يعني أن المراد بالحساب هنا العذاب- إلى الضحاك. وذكره الماروردي في "النكت والعيون" 3/ 435 والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 167. (¬5) به: زيادة (¬6) في (ع) زيادة بعد قوله: (للناس). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 383.

وعلى (¬1) هذا يعني به القيامة كما قال في سورة أخرى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]. قال أهل المعاني: واقتراب (¬2) حسابهم يحمل على أحد معنيين: إما لأن كل ما هو آت فهو قريب، وإما أنه قريب بالإضافة إلى ما مضى من الزمان (¬3). وقوله تعالى: {فِي غَفْلَةٍ} قال الكلبي: جهالة (¬4). وقال المفسرون: عما الله فاعل بهم ذلك اليوم (¬5). {مُعْرِضُونَ} عن [التأهب] له (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) في (ع): (فعلى). (¬2) في (أ): (واقترب). (¬3) ذكر الماوردي (3/ 435)، والزمخشري في "الكشاف" 2/ 561، وابن الجوزي 5/ 339، والرازي في "مفاتيح الغيب" 22/ 139 هذين المعنيين من غير نسبة لأحد. وزاد الرازي القول الثاني بيانًا بقوله: إنَّ المعاملة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر؛ فإنه لا يقال: اقترب الأجل، أما إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال: اقترب الأجل، فعلى هذا الوجه قال العلماء: إن فيه دلالة على قرب القيامة، ولهذا الوجه قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "بعثت أنا والساعة كهاتين" [رواه البخاري في صحيحه (11/ 347) كتاب الرقاق]. وذكر الرازي قولاً ثالثًا: أن معنى اقتراب حسابهم أنه مقترب عند الله تعالى. قال: والدليل عليه قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. (¬4) لم أجده. (¬5) هذا كلام الطبري في "تفسيره" 1/ 17 مع تصرف يسير. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) الطبري 17/ 2، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 27 أ.

2

وقال عطاء، عن ابن عباس: أعرضوا عمّا جاء به (¬1) محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2). 2 - قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: من وعظ بالقرآن على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬3). {مُحْدَثٍ} أي: با لإنزال، تنزل (¬4) السورة بعد السورة، والآيةُ بعد الآية (¬5). وهذا معنى قول المفسرين: أي في زمن بعد زمن (¬6). وقال مقاتل: يحدث الله الأمر بعد الأمر (¬7). ومعنى الإحداث راجع إلى الإنزال وتلاوة جبريل -عليه السلام- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬8). وقوله تعالى: {اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} قال ابن عباس: يريد يسمعون (¬9) ¬

_ (¬1) في (أ، د): (جاتة)، وفي (ت): (جاءه). (¬2) ذكر هذا القول القرطبي 11/ 267، ولم ينسبه لأحد. (¬3) انظر: "الطبري" 2/ 17، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 27 ب. (¬4) في (أ)، (ت): (ننزل)، بإهمال أوله. (¬5) ذكر هذا القول الطوسي في "التبيان" 7/ 202 ولم ينسبه لأحد. (¬6) ذكر أبو حيان في "البحر" 6/ 296 نحو هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬7) ذكره عنه: الثعلبي 3/ 27 ب، والبغوي 5/ 309. (¬8) قال الطبري 17/ 2: يقول تعالى ذكره: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس. وقال أبو العباس أحمد بن تيمية "مجموع الفتاوى" 12/ 522: المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديدًا، فإن الله كان ينزل القرآن شيئًا بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخرًا. وكك ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب. (¬9) في (ع): (يستمعون).

3

القرآن مستهزئين (¬1). وقال الحسن وقتادة: أي كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل (¬2). 3 - قوله تعالى: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} قال ابن عباس: أي عما يراد بهم (¬3). وقال السدي: عما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬4). وانتصابه على وجهين: أحدهما: إلا استمعوه لاعبين لاهية قلوبهم، لأن قوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في موضع الحال (¬5). والثاني: أن يكون منصوبًا بقوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (¬6). وهذا قول الفراء (¬7)، والمبرد، والزجاج (¬8). وقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} تناجوا فيما بينهم يعني المشركين الذين وُصفوا باللهو واللعب. ¬

_ (¬1) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 339. ونحوه في "تنوير المقباس" ص 200. (¬2) ذكره بنصه عن الحسن وقتادة: الطوسي في "التبيان" 7/ 203، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 136 أ. وذكر هذا القول عن الحسن: الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 436، والقرطبي في تفسيره 11/ 268. (¬3) لم أجده. (¬4) لم أجده. (¬5) فيكون قوله "لاهية" حالا بعد حال من فاعل "استمعوه". وهذا قول الكسائي. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 63، "البيان في غريب إعراب القرآن" لأبي البركات ابن الأنباري 2/ 157، "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري 21/ 130، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 130. (¬6) فيكون منصوبًا على الحال من الضمير في "يلعبون". انظر ما تقدم من مراجع في الفقرة السابقة. (¬7) "معاني القرآن": 2/ 198. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 383.

ثم بين من هم فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا (¬1). وفي محل {الَّذِينَ ظَلَمُوا} وجوه (¬2): أحدها: البدل من الواو في {وَأَسَرُّوا} فيكون في موضع رفع (¬3). قال المبرد: وهذا كقولك في الكلام: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله. على البدل مما في انطلقوا (¬4). والثاني: أن يكون رفعًا على الذم على معنى: هم الذين ظلموا. أويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: (أعني) (¬5) الذين ظلموا] (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) مثله في "تنوير المقباس" ص 200. (¬2) في (ع): (وجوه)، وهو خطأ. (¬3) وهذا قول سيبويه كما في "الكتاب" 2/ 41. وجود هذا القول الزجاج في "معانيه" 3/ 383، وحسنه ابن جزي الكلبي في "التسهيل" 3/ 47، واستظهره الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 555. (¬4) ذكره البغوي 5/ 310، والقرطبي 11/ 269 هذا القول بنصه عن المبرد. ونسب أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 297 للمبرد القول بأن "الذين" بدل، وذكر السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 132 أن هذا القول معزو للمبرّد. (¬5) أعني: زيادة من "معاني القرآن" للزجاج يتضح بها المعنى. (¬6) ساقط من (أ)، (ت). (¬7) من قوله أن يكون رفعا .. إلى هنا. هذا نص كلام الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 383 - 384. وفي رفع "الذين" وجوه أخرى منها. الأول: أن يكون في موضع رفع بـ"أسرّوا" وسيذكره المصنف. الثاني: أن يكون "الذين" مبتدأ، و"أسروا" جملة خبرية قدمت على المبتدأ. وهذا القول حكاه الثعلبي عن الكسائي. الثالث: أن يكون الذين مرفوعًا بفعل مقدر تقديره: يقول الذين كفروا. =

ويجوز أن يكون في موضع خفض تبعًا للناس، كأنك قلت (¬1): اقترب للناس الذين ظلموا (¬2). وقد قال قومٌ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في موضع رفع بأسرّوا، واستعمل الفعل مقدما كما يستعمل مؤخرا. قالوا: وعلامة الجمع ليست بضمير (¬3). فيجوز: انطلقوا إخوتك، وانطلقا صاحباك، تشبيها بعلامة التأنيث، نحو: ذهبت جاريتك (¬4). فجعلوا الألف والواو في التثنية والجمع كهذه التاء التي تقدم لتؤذن ¬

_ = وحسن هذا الوجه النحاس وقال: فالدليل على صحة هذا الجواب أن بعده: "هل هذا إلا بشر مثلكم" فهذا الذي قالوه. الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هم الذين ظلموا. الخامس: أنه مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: الذي يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم. وفي نصبه وجه آخر سوي ما ذكره الواحدي، وهو نصبه على الذمّ. انظر: "إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب 2/ 477، "البيان في غريب إعراب القرآن" لأبي البركات الأنباري 2/ 158، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 32 - 133. (¬1) في (ع): (تقول). (¬2) فيكون "الذين" في موضع جر نعتا "للناس". وهذا قول الفراء. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 198، "إعراب القرآن" لابن الأنباري 2/ 158. وقيل: الذين في موضع جر وهو بدل من "الناس". قال أبو حيان: وهو أبعد الأقوال. "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 297. (¬3) في (أ): (لضمير). (¬4) قاله أبو عبيدة، والأخفش، وغيرهما. انظر. "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 101، 2/ 35، "معاني القرآن" للأخفش 2/ 475، 632، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 297، "الدر المصون" للسمين 8/ 133. وذكر الطوسي "التبيان" 7/ 204 هذا القول ونسبه لقوم كما فعل الواحدي.

بالتأنيث (¬1). قال الأخفش: وهذا على لغة الذين يقولون (¬2): "أكلوني البراغيت"، و"ضربوني (¬3) قومك" (¬4). وقال المبرد: الذي قالوه يجوز، ولكنه بعيد لا يختار في القرآن (¬5). قال صاحب النظم (¬6): لأنه ليس من مذهب العرب أن يظهروا العدد في ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" لسيبويه 2/ 40. (¬2) في (ت): (يقولوني)، وهو خطأ. (¬3) في (ع): (وضربني)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 475، 632. (¬5) ذكره عن المبرّد: الطوسيُّ في "التبيان" 7/ 204. وذكر أبو حيان في "البحر" 6/ 297 أنه قيل: إنها لغة شاذة. ولم ينص على أحد. وكذا ذكر السمين في "الدر المصون" 8/ 133 أن بعضهم ضعف هذه اللغة. ثم قال أبو حيان: وقيل: والصحيح أنها لغة حسنة، وهي من لغة أزد شنوءه، وخرج عليه قوله: "ثم عموا وصموا كثير منهم" [المائدة: 71]. (¬6) تنبيه: ذهب د. جودة المهدي في كتابه "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص 141 إلى أن صاحب النظم الذي ينقل عنه الواحدي هو الحسين بن علي بن نصر بن منصور الطوسي؛ لأن الداودي ذكر له في "طبقات المفسرين" 1/ 141 - 142 كتاب نظم القرآن. والصواب خلاف ما قال، وأن صاحب النظم هو الحسن بن يحيى الجرجاني، ولو أن د. المهدي رجع إلى كتاب "تاريخ جرجان" للسهمي لرجح هذا، مع أنه نقل عن ابن قاضي شهبة في كتابه طبقات النحاة قوله -وهو يتناول مصادر تفسير البسيط في ترجمته للواحدي- وكتاب "نظم القرآن" للجرجاني، وليس هو عبد القاهر الجرجاني كما غلط فيه الإمام فخر الدين الرازي إنّما هذا تأليف شخص ذكره حمزة السهمي في "تاريخ جرجان". ومما يدل على أن مؤلف النظم الذي ينقل عنه الواحدي هو الحسن بن يحيى الجرجاني لا الحسن بن علي الطوسي أن الثعلبي -شيخ الواحدي- ذكر الجرجاني وذكر كتابه "النظم"، فقال في مقدمة تفسيره "الكشف والبيان" 1/ 8 أ -وهو يذكر مصادره-: كتاب "النظم" =

الفعل المتقدم للأسماء؛ لأن الفعل إذا تقدم الاسم فليس فيه ضمير، إنما هو فعل ابتدئ وصاحبه بالخيار من بعد في تفسيره بمن شاء وبما شاء، فلذلك خلا من الضمير، ووحد في الصورة. وإذا تقدمت الأسماء فالفعل معطوف عليها؛ لأنه (¬1) ليس لصاحب الكلام أن يزول بالفعل عن الأسماء التي أرصدها للفعل، فإذا كان معطوفا عليها وقد أضمرت الأسماء فيها وبضمنها (¬2)، فلا بد حينئذ من إظهار العدد فقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} فعل قد تقدمت الأسماء عليه، وهم الذين ذكرهم في قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، وقد تكرر ذكرهم إلى أن قال (¬3): {وَأَسَرُّوا} فجاء قول {وَأَسَرُّوا} معطوفا عليها، وصارت الأسماء مضمرة في هذا الفعل. هذا كلامه. وما ذكرنا من الوجوه في إعراب {الَّذِينَ ظَلَمُوا} قول الفراء والزجاج (¬4) والكسائي والمبرد. وقوله تعالى: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ترجمة سرهم، أي: تناجوا بهذا القول فيما بينهم يريدون: أن محمدا بشر آدمي مثلكم، لحم ¬

_ = "النظم": قرأ علينا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب بلفظه قال: قرأت على أبي النضر محمد بن محمد بن يوسف بـ"طوس" قال: قرأت على أبي علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني". وتقدم أن الجرجاني يروي عنه أبو النضر -كما ذكر ذلك السهمي في "تاريخ جرجان". ويدل على ذلك أيضًا أن ابن الجوزي قال في "زاد المسير" 9/ 165: وقال الحسين -هكذا في المطبوع وهو تصحيف- بن يحيى الجرجاني، ويقال له صاحب النظم. (¬1) (لأنه): ساقطة من (ع). (¬2) (ويضمنها) مهملة في (ع). (¬3) في (أ): (قالوا)، وهو خطأ. (¬4) (والزجاج) ساقط من (أ).

4

ودم، ليس مثل الملائكة. {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قال ابن عباس: يريدون أن الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- سحر (¬1). وقال السدي: يقولون إن متابعة محمد -صلى الله عليه وسلم- متابعة السحر (¬2). والمعنى: أتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر (¬3). فأطلع الله نبيه على ما تناجوا به 4 - وقال له: {قَالَ رَبِّي} أي: قل لهم يا محمد ربي {يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي لا يخفي عليه شيء مما يقال في السماء والأرض. وقرأ أهل الكوفة (¬4) "قال ربي" على إضافة القول إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وكذا هو في مصاحفهم (¬5) يعنون: قال محمد: ربي يعلم القول في السماء والأرض. ¬

_ (¬1) روى الطبري (17/ 3) هذا القول عن ابن زيد. (¬2) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 616، وعزاه لابن أبي حاتم في "تفسيره". (¬3) ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 203، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 136 أهذا القول ولم ينسباه لأحد. (¬4) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: (قال ربي) بألف على الخبر، وقرأ الباقون بغير ألف (قل) على الأمر. "السبعة" لابن مجاهد 428، "المبسوط" لابن مهران (253)، "التبصرة" لمكي بن أبي طالب 263، "التيسير" لأبي عمرو الداني 154، "النشر" لابن الجزري 2/ 323. (¬5) من قوله: وقرأ أهل .. إلى هنا، هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 254 مع اختلاف في بعض العبارات. والقائل وكذا هو في مصاحفهم هو ابن مجاهد كما نقله عنه أبو علي، وهو في "السبعة" ص 428. وانظر أيضًا: "علل القراءات" للأزهري 2/ 453، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 60، "حجة القراءات" لأبي زرعة بن زنجلة ص 465 - 466.

5

{وَهُوَ السَّمِيعُ} لما تكلموا به (¬1) {الْعَلِيمُ} بما قولوا وبما في قلوبهم. 5 - قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا} قال المبرد: "بل" لها موضعان في الكلام يجمعهما (¬2) شيء واحد وهو التنقل من خبر إلى خبر، ومن أمر إلى أمر، وقد يكون الانتقال رغبة عن الأول، إمَّا غلط القائل فاسْتَثْبَتَ (¬3) وترك الأول وإما نسي فذكر. وقد يكون لما فرغ من خبر انتقل إلى آخر على أن الأول (¬4) مصحح مفروغ منه، والذي يأتي من عند الله [لا يكون] (¬5) إلا الانتقال من خبر إلى خبر، وكلاهما محكم (¬6). قال صاحب النظم: فقوله -عز وجل-: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} خبر (¬7) من الله -عز وجل- معطوف على قوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي أنهم قد قالوهما (¬8) جميعًا، إلا أنهم خلطوا من جهة الحَيْرة التي دخلتهم في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يدروا ما قصته، فقالوا: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فأعلم الله -عز وجل- أنهم قالوا هذه الأقوال على حيرة منهم في أمره. ¬

_ (¬1) في (أ): (أنه)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (مجمعهما). (¬3) في (أ)، (ت): (فاستب)، مهملة الآخر. (¬4) في (د)، (ع): (إلى آخر عن الأول). (¬5) ساقط من (ع). (¬6) في "المقتضب" 3/ 305 نحو هذا القول باختصار. وانظر: "حروف المعاني والصفات" للزجاجي ص 29، "الأزهية في علم الحروف" للهروي ص 229 - 230، "رصف المباني في شرح حروف المعاني" للمالقي ص230، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 130 - 131. (¬7) في (أ)، (ت): (وخير). (¬8) في (أ)، (ت): (قالوا هما)، وهو خطأ.

وقوله تعالى: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أي: الذي أتى به النبي (¬1) -صلى الله عليه وسلم- أضغاث أحلام. قال قتادة: تخاليط (¬2) رؤيا رآها في المنام (¬3). وذكرنا الكلام في أضغاث الأحلام (¬4) في سورة يوسف. وقوله تعالى: {بَلِ افْتَرَاهُ} أي: اختلقه وفتعله من نفسه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. قال أبو إسحاق (¬5): أي أخذوا ينقضون [أقوالهم] (¬6) بعضها ببعض، فمرة يقولون: هذه أحلام، ومرة يقولون (¬7): هذا شعر، ومرة (¬8): هذا (¬9) مفترى (¬10). وعلى هذا معنى "بل": الإخبار عنهم بنقضهم قولهم في القرآن، ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (الرسول). (¬2) في (أ): (مخاليط). (¬3) ذكره بهذا النص عن قتادة: الطوسي في "التبيان" 7/ 203، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 136 ب، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" (ج1 ق 2)، والطبري في "تفسيره" 16/ 118 طبعة شاكر عن قتادة - في قوله (قالوا أضغاث أحلام) [يوسف: 44] قال: أخلاط أحلام. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 617 عن ابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجا عن قتادة في قوله "بل قالوا أضغاث أحلام" قال: أي: فعل الأحلام، إنما هي رؤيا رآها. (¬4) في (د): (أضغاث أحلام). (¬5) هو أبو إسحاق الزجَّاج. (¬6) كشط في (ت). (¬7) (يقولون): ساقط من (أ). (¬8) في (د): (ومرة ومرة). تكرار. (¬9) في (أ): (هذه)، وهو خطأ. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 384.

6

وانتقالهم عما قالوه أولا إلى آخر. والمعنى: أنهم قالوا في القرآن قول متحير قد بهره ما سمع؛ فمرة يقول: سحر، ومرة يقول: شعر، ومرة يقول: افتراء، لا يجزم على أمر واحد (¬1). وقوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} قال ابن عباس: مثل الناقة التي أتى بها صالح، والعصا التي أتى بها موسى (¬2). قال أبو إسحاق: فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال إذا كُذّب بها (¬3). وفي الآية حذف يدل عليه الكلام، على تقدير: كما أرسل الأولون بالآيات. 6 - فقال الله تعالى مجيبا لهم: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} قبل (¬4) مشركي مكة {مِنْ قَرْيَةٍ} يعني أهلها {أَهْلَكْنَاهَا} وصفٌ للنكرة التي هي قرية (¬5). والمعنى: ما آمنت (¬6) قرية مهلكة بالآيات المرسلة {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} يعني: أنَّ الأمم التي أهلكناها بتكذيبها بالآيات لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم، فكيف يؤمن هؤلاء؟ ووجه الاحتجاج عليهم من هذه الآية هو أن مجيء الآيات لو كان ¬

_ (¬1) ذكر الطوسي في "التبيان" 7/ 203 - 204 هذا المعنى من غير نسبة لأحد. (¬2) ذكره الألوسي في "روح المعاني" 17/ 11. وروي الطبري 17/ 4 عن قتادة نحوه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 384. (¬4) في (د)، (ع): (من). (¬5) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 126، "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري 2/ 130. (¬6) في (أ)، (ت): (ما أتت).

سببًا يؤدي [إلى الإيمان من غير إرادة الله لهم ذلك لكان سببا] (¬1) إلى إيمان أولئك لا محالة، فلما بطل أن يكون سببا لإيمانهم، بطل أن يكون سببًا لإيمان هؤلاء. وهذا احتجاج على القدرية (¬2) ظاهر (¬3)، وبيان أن مجيء الآيات لا ينفع مع القضاء السابق بالكفر، كما لم ينفع الأمم السالفة. ويزيد لهذا تأكيدًا ما روى عطاء، عن ابن عباس في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا} يريد: كان في (¬4) علمي (¬5) هلاكها (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ)، (ت). (¬2) القدرية: هم الذين نفوا القدر، وقد حدثت بدعتهم في أواخر زمن الصحابة، وقيل: إن أول من ابتدعه رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه من أبناء المجوس، وتلقاه عنه معبد الجهني الذي قال: "لا قدر، والأمر أنف"، ولما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة -رضي الله عنهم- كابن عمر وابن عباس وغيرهما. وقد تبنَّى المعتزلةُ القول بنفي القدر؛ ولذا سموا أيضًا بالقدرية، وجعلوه من أصول مذهبهم، وأدخلوه تحت ما يسمى عندهم بـ"العدل"، ومن قولهم في هذا: أن العبد هو خالق أفعاله خيرها وشرها بدون سبق قدر، وليس لله في أفعالهم صنع ولا تقدير، وأن الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة، والله منزه عن فعل القبيح وأن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية، فلا تكون فعلا له ولا قدرها. انظر في تفصيل ذلك والردّ عليهم: "الفَرْق بين الفرق" للبغدادي ص 114 - 115، التبصير في الدين لأبي المظفر الاسفراييني ص 37 - 38، والملل والنحل للشهرستاني 1/ 43، 45، "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 384 - 385، 8/ 258 - 261، "شرح العقيدة الطحاوية" ص 276 فما بعدها، "تاريخ الجهمية والمعتزلة" لجمال الدين القاسمي ص 71 - 73. (¬3) ظاهر: ساقطة من (د)، (ع). (¬4) (في): ساقطة من (أ). (¬5) في (أ): (علي)، وهو خطأ. (¬6) ذكره القرطبي 11/ 271 عن ابن عباس.

7

فعلى هذا معنى {مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أردنا إهلاكها بتكذيبها والتقدير الأول في {أَهْلَكْنَاهَا} هو معنى قول الكلبي. 7 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} هذا جواب لقولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] (¬1). يقول الله: لم نرسل قبل محمد إلا رجالا من بني آدم، لا ملائكة. {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} قال الحسن، وقتادة، والكلبي: يعني أهل التوراة والإنجيل (¬2). وقال السدي: يعني اليهود والنصارى (¬3). يقول (¬4): سلوهم هل جاءهم إلا رجال (¬5) يوحى إليهم. {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أن الرسل بشر. وأنكر قوم هذا التفسير، وقالوا: لا يجوز مراجعة اليهود والنصارى في شيء، وقالوا: المراد بأهل الذكر من آمن منهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم-. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء قال: يريد أهل التوراة الذين آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- (¬6). ¬

_ (¬1) هذا قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 228. (¬2) ذكره عن الحسن وقتادة: الطوسي في "التبيان" 7/ 205، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 137 ب، والماوردي في "النكت والعيون" 3/ 438. ورواه الطبري 17/ 5، عن قتادة. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 22 عن الكلبي قال: يعني أهل التوراة. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 132، وعزاه لابن أبي حاتم. ذكره عند قوله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43]. (¬4) في (ت): (بقوله). (¬5) في (أ): (رجالاً). (¬6) روى الطبري 14/ 109 من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: يعني أهل الكتب =

وقال ابن زيد: يعني (¬1): فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن. قال: وأراد بالذكر هاهنا القرآن (¬2). وقال أبو إسحاق: هذا السؤال إنما يكون لمن (¬3) كان مؤمنا من أهل الكتاب لأن القبول من أهل الصدق والثقة (¬4). هذا قول هؤلاء. والوجه القول الأول (¬5)؛ لأن الله تعالى أمر المشركين بهذا السؤال لا المسلمين وهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب أقرب منهم إلى تصديق من آمن. واليهود والنصارى لا ¬

_ = الماضية، وروي أيضًا 14/ 109 من طريق مجاهد قال: إن محمدًا رسول الله في التوراة والإنجيل. (¬1) (يعني): ساقطة من (د)، (ع). (¬2) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 28 أ. ورواه الطبري 17/ 5 مختصرًا. وقد رد ابن عطية -رحمة الله- هذا القول، فقال في "المحرر الوجيز" 10/ 127: الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله عباده، فأهل القرآن أهل ذكر، وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت: لأنهم كانوا خصومهم. كما استبعده الرازي، فقال في "التفسير الكبير" 22/ 144: وهو بعيدة لأنهم كانوا -يعني المشركين- طاعنين في القرآن وفي الرسول -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) في (أ): (ممن)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 385 وفيه: لأن القول يكون .. وفيه أيضًا أهل الكتب. (¬5) وبه قال الطبري، والبغوي، وابن عطية، والرازي، وابن كثير وغيرهم، واستظهره أبو حيان. قال ابن عطية: وإنما أحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فتجيء شهادتهم -بأن الرسل قديمًا من البشر لا مطعن فيها- لازمة لكفار قريش. انظر: "الطبري" 17/ 5، و"معالم التنزيل" 3/ 311، و"المحرر الوجيز" 10/ 127، و"التفسير الكبير" 22/ 144، و"البحر المحيط" 6/ 298، و"تفسير ابن كثير" 3/ 174.

8

ينكرون أن الرسل كانوا بشرا وإن أنكروا نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وهذا السؤال مختصّ بالكفار (¬1) في هذه المسألة فقط. فأما المسلمون فلا يجوز لهم مراجعة أهل الكتاب في شيء من الدين (¬2). وهذه الآية بعينها قد مضت في سورة النحل (¬3). 8 - قوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} يعني الرسل {جَسَدًا} قال أبو إسحاق: جسد هو واحد ينبئ (¬4) عن جماعة، أي: وما جعلناهم ذوي أجساد (¬5). وعند الفراء أنه بمنزلة المصدر؛ لأنه يقال شيء مجسد، فهو (¬6) مشتق من فعل فلذلك لم يجمع (¬7). وقوله تعالى: {لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [قال ابن عباس: يريد: إلا يأكلون (¬8) الطعام] (¬9) (¬10). ونحو هذا قال الزجاج. قال (¬11): وذلك أنهم قالوا: {مَالِ هَذَا ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (الكفارة)، هو خطأ. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" للرازي 22/ 144. (¬3) في سورة النحل: 43. (¬4) في (ت): (يثني)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 385. (¬6) في (د)، (ع): (وهو). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 199، والطبري 17/ 5. (¬8) في (د)، (ع): (يأكلوا). (¬9) ساقط من (أ). (¬10) أخرج ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 5/ 617، عن ابن عباس أنه قال: لم نجلهم جسدًا ليس يأكلون الطعام، إنّما جعلناهم جسدًا يأكلون الطعام. (¬11) (قال): ساقطة من (ع).

9

الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] فأُعلموا أن الرسل أجمعين يأكلون الطعام (¬1). وروى أبو عمر (¬2) عن أبوي العباس (¬3) أنهما قالا: العرب (¬4) إذا جاءت بجحدين (¬5) في كلام: كان الكلام إثباتًا وإخبارا. قالا: ومعنى الآية: إنما جعلناهم جسدا ليأكلوا (¬6) الطعام. قالا: ومثله من الكلام ما سمعت منك ولا أقبل منك [وإنما سمعت منك لأقبل] (¬7) (¬8). وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} يعني: أنهم يموتون كسائر البشر. 9 - قوله تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أي: أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك مخالفيهم، وهو قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ} أي: من العذاب الذي [وعدناهم أن] (¬9) ينزل (¬10) بمن كذَّبهم. {وَمَنْ نَشَاءُ} قال ابن عباس: يعني الذين صدقوهم (¬11). {وَأَهْلَكْنَا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 385. (¬2) في (ت): (أبو عمرو)، وهو خطأ. (¬3) في (د)، (ع): (أبو العباس)، هما ثعلب والمبرد). (¬4) في (د)، (ع): (زيادة (إن) قبل قوله: (العرب). (¬5) في (د)، (ع): (يجحدون)، وهو خطأ. (¬6) في (أ): (ليأكلون)، وهو خطأ. (¬7) ساقط من (د)، (ع). (¬8) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 341 عن المبرد وثعلب إلى قوله: "الطعام". (¬9) ساقط من (أ). (¬10) في (أ): (نزل). (¬11) ذكره ابن الجوزي 5/ 341، ولم ينسبه لأحد.

10

الْمُسْرِفِينَ} (¬1) قال: يريد المشركين (¬2). وفي هذا تخويف لكفار (¬3) مكة، ثم مَنَّ عليه بالقرآن 10 - فقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} قال ابن عباس: أنزلنا إليكم يا معشر قريش {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال: يريد فيه شرفكم، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] (¬4). يريد إنه لشرف. وهذا اختيار الفراء (¬5)، وابن قتيبة. وذلك أنه كتاب عربي بلغة قريش. وقال الحسن: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي (¬6): ما تحتاجون إليه من أمر دينكم (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (المشركين)، وهو خطأ. (¬2) ذكر الطوسي في "التبيان" 7/ 206، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 317 ب هذا القول عن قتادة. (¬3) في (د)، (ع): (للكفار). (¬4) أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 232 - 233 عن ابن عباس قال: فيه شرفكم. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 617، عزاه لعبد بن حميد وابن بردويه وابن حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان". وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 341: قاله أبو صالح، عن ابن عباس وذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 174 منسوبًا إلى ابن عباس. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 200. (¬6) (أي): ساقطة من (أ). (¬7) ذكره بهذا اللفظ عن الحسن الطوسي في "التبيان" 7/ 206، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 137 ب، والبغوي في "تفسيره" 5/ 311، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 341. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 617 عن الحسن بلفظ: فيه دينكم، أمسك عليكم دينكم كتابكم. وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

11

وقال السدي: ما تعنون به (¬1) من أمر (¬2) دنياكم وآخرتكم وما بينكم (¬3). وقال مجاهد: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} حديثكم (¬4). قال أبو إسحق: يعني (¬5) ما تلقونه من رحمة أو عذاب (¬6). وقوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} قال ابن عباس: يريد أفلا تعقلون ما فضلتكم (¬7) به على غيركم؛ أنزلتكم حرمي، وبعثت فيكم نبيي (¬8). ثم خوفهم بهلاك من كان في مثل حالهم من التكذيب. 11 - فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا} قال مجاهد والسدي: أهلكنا (¬9). وقال ¬

_ (¬1) في (ت): (يغنون)، وفي (أ): (تعنون). (¬2) أمر: ساقطة من (د)، (ع). (¬3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 617 بلفظ: فيه ذكر ما تعنون به وأمر أخرتكم ودنياكم وعزاه لابن أبي حاتم في تفسيره. (¬4) "تفسير مجاهد" 1/ 497 ورواه الطبري 17/ 6 - 7. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 617 وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) (يعني): ساقطة من (أ). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 385. قال القرطبي 11/ 273 بعد أن ذكر أقوالاً في معنى الآية نحو ما ذكر الواحدي هنا-: وهذه الأقوال بمعنى، والأول- يعني أن المراد بالذكر هنا الشرف- يعمها، إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، لأنه معجزته، وهو شرفٌ لنا إن عملنا بما فيه، دليله قوله -عليه السلام-: "والقرآن حجة لك أو عليك". (¬7) في (د)، (ع): (فضلتم). (¬8) ذكره ابن الجوزي 5/ 341 باختصار، ولم ينسبه لأحد. (¬9) "تفسير مجاهد" 1/ 407 - 408 ورواه الطبري 17/ 7 عن مجاهد، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 618 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولم أجد من ذكره عن السدي.

الكلبي: عذبنا. وأصل القصم في اللغة: كسر الشيء ودقة، يقال: قصمته فانقصم (¬1). قال الشاعر: كأن لم يلاق المرء عيشًا بنعمة ... إذا نزلت بالمرء قاصمة الظهر (¬2) يعني: داهية شديدة تكسر (¬3) الصلب. وقال أبو إسحق: معنى (¬4) قصمنا: أهلكنا وأذهبنا، يقال: قصم الله عمر الكافر (¬5)، أي: (¬6) أذهبه (¬7). وقوله تعالى: {مِنْ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: يريد مدائن كانت باليمن، حَضُوراء (¬8)، وبيت شِبَام (¬9)، مدائن كثيرة (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "العين" 5/ 7، "مقاييس اللغة" لابن فارس 5/ 92 (قصم). (¬2) عجز هذا البيت في "العين" 5/ 70 (قصم) من غير نسبة. وهو بشطريه في "أساس البلاغة" للزمخشري 2/ 259 من غير نسبه أيضًا. (¬3) في (أ): (ينكسر)، وهو خطأ. (¬4) معنى: ساقطة من (د)، (ع). (¬5) في (أ): (الكافرين). (¬6) أي: ساقطة من (أ). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 386. (¬8) في (أ)، (د)، (ع): (حصوراء)، بالمهملة، والمثبت من (ت). وحضوراء: بالفتح ثم الضم وسكون الواو ويقال: حضور على وزن فعول-: بلدة باليمن سميت بحضور بن عدي بن مالك، وهو سبأ الأصغر. انظر: "معجم البلدان"، لياقوت 3/ 9296، "معجم ما استعجم" للبكري 1/ 455. (¬9) في (ع)، (د): (شيام)، وشبام: بكسر أوله، اسم مشترك بين عدد من المواضع باليمن. انظر في تفصيل ذلك: "الإكليل" للهمداني ص 48، "معجم البلدان" 5/ 226 - 227، "معجم المدن والقبائل" للمقحفي ص 223 - 225. (¬10) ذكر الزمخشري في "الكشاف" 2/ 564، والرازي في "التفسير الكبير" 22/ 145 وابن جزي الكلبي في "التسهيل" 3/ 49، وأبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 300 =

12

وقال الكلبي: هي حصون بني أزد (¬1). {كَانَتْ ظَالِمَةً} أي: كافرة، يعني أهلها {وَأَنْشَأْنَا} وأحدثنا وأوجدنا "بعدها" بعد إهلاك أهلها (¬2) {قَوْمًا آخَرِينَ}. 12 - قوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} أي: رأوا عذابنا بحاسة البصر. ويجوز أن يكون المعنى لما ذاقوا عذابنا (¬3). قال المفسرون: هؤلاء كانوا عربا كذبوا بنبيهم وقتلوه؛ فسلط الله عليهم بُخْتُنَصّر (¬4) حتى قتلهم وسباهم ونكأ فيهم (¬5) (¬6). ومعنى البأس هاهنا: القتل بالسيوف. ¬

_ = واللفظ لابن جزي وابن حيان: عن ابن عباس قال: قرية باليمن يقال لها حضور، وعند أبي حيان: حضوراء. قال الزمخشري: وظاهر الآية على الكثرة، ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية. وقال ابن جزي: وظاهر اللفظ أنه على العموم؛ لأن (كم) للتكثير، فلا يريد قرية معينة، وقال أبو حيان: وما روي عن ابن عباس .. ، فيحمل على سبيل التمثيل لا على التعيين في القرية؛ لأن كم تقتضي التكثير. (¬1) في جميع النسخ: (أريد)، والتصويب من تفسير عبد الرزاق، وصفة جزيرة العرب للهمداني (ص 156)، "الدر المنثور"، وغيرها. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 22، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 618 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) انظر: البغوي 5/ 312، وابن الجوزي 5/ 342، والقرطبي 11/ 274. (¬4) بضم الباء والتاء وفتح النون والصاد المشددة قيل هو ابن الملك "نابو بولصر" ملك بابل، فتولى بعد أبيه. وقال الأصمعي: إنما هو"بوختنصر". (¬5) في (أ)، (ت): (ونكأ فيهم)، مهملة. (¬6) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 28 أ. وانظر ما تقدم من التعليق على قول ابن عباس.

وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} يفرون، وينهزمون، ويهربون من العذاب. هذا قول المفسرين (¬1). وأصل معنى الركض في اللغة: ضرب الرجل مَرْكَلَي (¬2) الدابة برجليه. يقال: ركض الفرس، إذا كده (¬3) بساقيه، فلما كثر هذا على ألسنتهم استعملوه في الدواب، فقالوا: هي تركض، كأن الركض منها، وأصل الركض: الضرب (¬4). يقال: ركضت المرأة ذيلها عند المشي، إذا ضربنه برجلها، وركض (¬5) البعير كما يقال: رمح ذو الحافر، ومنه قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] أي: اضرب الأرض بها، وقد ركض الرجل إذا فَرَّ وعدا (¬6). والأصمعي يقول: ركضت الدابة (¬7)، ولا يقال: ركض هو (¬8). ¬

_ (¬1) كمجاهد والسدي والربيع وغيرهم. انظر: "الطبري" 17/ 8، "الدر المنثور" للسيوطي 5/ 618. (¬2) في جميع النسخ: (من كلي)، والصواب: (مر كلي) كما في "التهذيب" للأزهري 10/ 37، وغيره. قال الجوهري في "الصحاح" 4/ 7112 (ركل): (ومَرَاكل الدابة: حيث يركلها الفارس برجله إذا حركه للركض، وهما مركلان. (¬3) في (د)، (ع): (أكده). (¬4) الضرب: ساقط من (أ)، (ت). (¬5) في (أ): (فركض). (¬6) هذا الكلام في معنى الركض منقول عن "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 37 - 39 "ركض" مع تصرف وحذف. وانظر: (ركض) في "الصحاح"، للجوهري 3/ 1079 - 1080. (¬7) (الدابة): ساقطة من (أ)، (ت). (¬8) قول الأصمعي في "تهذيب اللغة" 10/ 39 (ركض).

وقال شِمْر (¬1): وقد وجدنا في كلامهم: رَكَضَت الدابة في سيرها، وركض الطائر في طيرانه (¬2). ومنه قوله: لو كان يُدْرِكُه رَكضُ اليعاقيب (¬3) وقال سيبويه (¬4): ركضت (¬5) الدابة وركضته (¬6). وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [يجوز أن يكون المعنى: يركضون دوابهم] (¬7)، [ويجوز أن يكون المعنى: يركضون] (¬8) هم بأنفسهم ¬

_ (¬1) ضبط هذا الاسم محقق "تهذيب اللغة" للأزهري هكذا: شِمْر، بكسر الشين وسكون الميم. وضبط في بعض مصادر ترجمته المطبوعة هكذا: شَمِر، بفح الشين وكسر الميم. وضبط في بعضها: شَمْر. (¬2) قول شمر في "تهذيب اللغة" 10/ 39 مادة (ركض). (¬3) هذا عجز بيت لسلامة بن جندل السعدي يصف فيه الشباب الذاهب، وصدره: ولى حثيثا وهذا الشيب يطلبه وهو في "ديوانه" ص 91، "المفضليات" ص 119، "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 166، "مقاييس اللغة" 2/ 29 (حث)، "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 278 (عقب)، المحكم لابن سيده 6/ 434 (ركض)، "لسان العرب" 2/ 622 (عقب). واليعاقيب في البيت قيل: يعني اليعاقيب من الخيل، سميت بذلك تشبيها بيعاقيب الحجل لسرعتها، وقيل: يعني ذكرر الحجل. انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 278، "لسان العرب" 1/ 622. (¬4) (سيبويه): ساقط ميت (أ). (¬5) هكذا في (ع). وفي باقي النسخ: (ركض)، والمثبت هو الموافق لما في الكتاب. (¬6) "الكتاب" 4/ 58، وفيه: (وركضتها). (¬7) ساقط من (ت). (¬8) ساقط من (د)، (ع).

13

على معنى يفرون كما ذكره المفسرون. وجملة المعنى (¬1): يهربون سراعاً (¬2). 13 - قوله تعالى: {لَا تَرْكُضُوا} قال المفسرون: لما أخذتهم السيوف وانهزموا -وكانوا قد خرجوا من مساكنهم لقتال بختنصر فلما انهزموا- مروا على دورهم منهزمين، وديارهم (¬3) بها أهلوهم وذراريهم فلم يلووا (¬4) عليهم فنادتهم الملائكة استهزاء بهم {لَا تَرْكُضُوا} (¬5). [والتقدير في النظم فقيل لهم: لا تركضوا] (¬6). قال صاحب النظم: ومن عادة العرب إذا ظفر الواحد منهم بواتر له (¬7) أن يقول له (¬8) مثل هذا القول، كما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (الأمر). (¬2) انظر: "التبيان" للطوسي 7/ 208. (¬3) (ديارهم): ساقطة من (أ)، (ت). (¬4) في (أ)، (ت): (فلوتلوا). (¬5) ذكر الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 28 أنحوًا من ذلك. وانظر: "الدر المنثور" 5/ 618 - 619. والأظهر أن الآيات وصف قصة كل قرية، وأنه لم يرد تعيين حضوراء ولا غيرها، فالمعنى على هذا: أن أهل تلك القرى الظالمة لما تيقنوا أن العذاب نازل بهم لا محالة ركضوا فارين، فقيل لهم- على وجه الهزء والتهكم: لا تركضوا هاربين من العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. فاحذروا -أيها المخاطبون- أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل، فيحل بكم كما حل بأولئك. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 130 - 131، "تفسير ابن كثير" 3/ 174، "تفسير ابن سعدي" 3/ 270. (¬6) ساقط من (د)، (ع). (¬7) بواتر: أي: من أصابه بوتر، والوتر: الجناية التي يجنيها الرحل على غيره من قتل أو نهب أو سبي. "لسان العرب" 5/ 274 (وتر). (¬8) (له): ساقطة من (أ)، (ت)

هَلَّا سألت جُمَوع كنْدَة ... يوم ولَّوا أين أينا (¬1)؟ (¬2). فجاء هذا على تلك العادة التي هي بينهم. وقوله تعالى: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} قال الكلبي: خولتم (¬3) ونعمتم (¬4) فيه (¬5). وقال ابن عباس: يريد ما كنتم تتنعمون فيه (¬6). وقال السدي: {إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أن تجبرتم (¬7). وقال ابن قتيبة: أي إلى نعمكم التي أترفتم (¬8). ومضى الكلام في هذا عند قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16]. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} قال قتادة: أي شيئاً من دنياكم، استهزاء بهم (¬9). ¬

_ (¬1) في (ت)، (أ): (أبنا)، والصواب ما في (ع)، (ر). (¬2) البيت لعبيد بن الأبرص ضمن أبيات يقولها لامرئ القيس، وكان امرؤ القيس قد توعَّد بني أسد إذ قتلوا أباه. وكندة قوم امرئ القيس. والبيت في "ديوان عبيد" ص 142، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 161، و"مشكل القرآن" له أيضًا ص 186، و"معاني القرآن" للفراء 1/ 177. (¬3) خولتم: أي: أعطيتم وملكتم. "الصحاح" للجوهري 4/ 1690 (خول)، "القاموس المحيط" 3/ 372. (¬4) في (ت): (تعميم). (¬5) انظر: البغوي 5/ 312، ابن الجوزي 5/ 342. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" ص 200. (¬7) لم أجده. (¬8) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 284. وفيه أي: إلى نعمكم التي أترفتكم. (¬9) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 22، والطبري 17/ 8، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 618 وعزاه لعبد الرازق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

14

والمعنى على هذا أن الملائكة قالت لهم: ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون [شيئًا] (¬1) من دنياكم، فإنكم أهل ثروة ونعمة، استهزاء بهم، كما ذكره قتادة. وهذا في الحقيقة توبيخ لهم؛ إذ جهلوا قدر نعمة الله عليهم بنذيب نبيه والإقدام على قتله، فوبختهم الملائكة بهذا ألقول، وذكَّروهم ما كانوا فيه من النعم؛ ليكون ذلك أشد لتحسرهم. وقول قتادة في هذه الآية هو (¬2) الصحيح، وذكرت أقوال، وهي بعيدة في المعنى، قال السدي: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} يوم القيامة (¬3). وقال الكلبي: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} عن قتل هذا النبي (¬4). وقال الحسن: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي تعذبون (¬5). وكل هذه الأقوال بعيدة عن معنى هذه الآية. قال أبو [إسحاق] (¬6). ويجوز لعلكم تسألون فتجيبون عما تشاهدون إذا رأيتم ما نزل بمساكنكم وما أترفتم فيه (¬7). 14 - قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} قال المفسرون: لما رأوا أن الصوت (¬8) لا يسكت عنهم، وهو قو [ل الملائكة لهم [لا تركضوا] (¬9) الآية ¬

_ (¬1) كشط في (ت). (¬2) في (1): (وهو). (¬3) لم أجده. (¬4) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 342. (¬5) لم أجده. (¬6) ما بين المعقوفين كشط في (ت). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 386. (¬8) في (ت): (الصواب)، وهو خطأ. (¬9) ما بين المعقوفين كشط في (ت).

15

ولم يروا شخصاً ينادي بذلك الصوت، ورأوا أنهم يُقتلون، عرفوا أنَّ الله تعالى هو سلَّط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، قالوا عند ذلك: (ياويلنا) (¬1). قال قتادة: ما كان هجيراهم (¬2) إلا الويل (¬3). {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} قال ابن عباس: لأنفسنا حيث كذبنا رسل ربنا. والمعنى: أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب، وقالوا هذا على سبيل التندم حين لم ينفعهم الندم. 15 - قال الله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي: ما زالت الكلمة (¬4) التي هي قولهم: يا ويلنا دعاءهم يدعون بها على أنفسهم. أي: لم يزالوا يردّدونها. قال ابن عباس: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} يريد: قولهم (¬5). وهذا الآية كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} [الأعراف: 5]. الآية. وقوله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} بالسيوف كما يحصد ¬

_ (¬1) انظر: الثعلبي 3/ 28 أ، البغوي 5/ 312، القرطبي 11/ 274. وما ذكر هنا الله أعلم بصحته. (¬2) هجّيراهُم: يعني دأبهم وعادتهم وشأنهم. "الصحاح" 2/ 852 (هجر)، "القاموس المحيط" 2/ 158. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 22، والطبري 17/ 9، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 618 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) في (أ)، (ت): (العلّة)، هو خطأ. (¬5) مثله في "تنوير المقباس" ص 200.

16

الزرع بالمنجل (¬1) (¬2). ومضى الكلام في الحصيد عند قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]. وقوله تعالى: {خَامِدِينَ} أي: ميتين، كخمود (¬3) النار إذا طفئت. 16 - قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} يريد لم خلقهما عبثا وباطلا (¬4)، خلقناهم لأمر وهو ما ذكره ابن عباس فقال (¬5): لأجازي أوليائي، وأعذَّب أعدائي (¬6). وقال غيره: خلقناهم حجة ودلالة على قدرتنا ووحدانيتنا؛ ليعتبروا خلقها ويتفكروا فيها (¬7)، فيعلموا أنَّ العبادة لا تصلح إلا لخالقها (¬8). ¬

_ (¬1) المنْجَل -كمنبر-: هو حديدة يُحْصد بها الزرع. "الصحاح" 5/ 1826 "نجل"، "القاموس المحيط" 4/ 54. (¬2) انظر:"تفسير الطبري" 17/ 9. وهذا القول بناء على أن القرية هنا حضوراء، والأولى عدم تخصيص الحصد بالسيوف بل يحصدون بالعذاب. قال ابن كثير 3/ 174: حتى حصدناهم حصيدًا. قال ابن عطية في المحرر 10/ 130: "حصيدًا" أي: بالعذاب تركوا كالحصيد، و"الحصيد" يشبه بحصيد الزرع بالمنجل، أي: ردّهم الهلاك كذلك. (¬3) في (أ): (لخمود). (¬4) وهذا تفسير قتادة. انظر: "الطبري" 17/ 9، "الدر المنثور للسيوطي" 5/ 619. (¬5) في (أ)، (ت): (يقال). (¬6) ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 302 هذا القول بمعناه ونسبه للكرماني. قال: إنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء. (¬7) في (ت): (يتفكروها فيها)، وهو خطأ. (¬8) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 343 ولم ينسبه لأحد. وقال الطبري 17/ 9: (وما خلقنا ..) إلا حجة عليكم أيها الناس، ولتعتبروا بذلك كله. فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء، وأنه لا تكون الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء غيره. فيظهر أن مراد الواحدي بقوله "غيره": هو الطبري.

17

17 - قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد النساء (¬1). وهو قول الحسن، وقتادة، قالا: اللهو بلغة أهل اليمن: المرأة (¬2). وقال (¬3) في رواية الكلبي، عن أبي صالح عنه: اللهو: الولد بلغة حضرموت (¬4). وهو قول السدي (¬5). قال الزجاج وغيره: تأويله في اللغة: أن المرأة لهو الدنيا، وكذلك الولد (¬6). والمعنى على ذي اللهو أي: الذي يُلهى به. ومعنى اللهو: طلب التزويج (¬7) عن النفس. ¬

_ (¬1) ذكر البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 313، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 343 هذه الرواية عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: المرأة. (¬2) قول الحسن رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" 5/ 620. ورواه الطبري 17/ 10 عن الحسن من غير قوله بلغة أهل اليمن. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 عن الحسن أنه قال: النساء. وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر. وأما قول قتادة: فقد رواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 22، والطبري 17/ 10، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) (قال): ساقطة من (أ)، (ت). (¬4) روى الفراء في كتابه "معاني القرآن" 2/ 200 هذه الرواية قال: حدثنا حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فذكرها. وذكرها البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 313 وابن الجوزي 5/ 343. (¬5) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 عن السدي، وعزاه لابن أبي حاتم. وذكره البغوي 5/ 313، وابن الجوزي 5/ 343. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 386. (¬7) في جميع النسخ (التزويج)، وفي "لسان العرب" 15/ 259: وطلب اللهو الخلو، أي: طلب الخلو التزويج. وقد يكون صواب العبارة: طلب الترويح عن النفس.

يقول: لو أردنا أن نتخذ ولداً ذا لهو أو امرأة ذات لهو. {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}. قال المفسرون: من الحور العين (¬1). وهذا إنكار على من أضاف الصاحبة والولد إلى الله تعالى، واحتجاج عليهم بأنه لو كان جائزا في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويستر ذلك لأن من قدر على ستر النقص لم يظهره، وهذا معنى قوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أي: من عندنا بحيث لا تطلعون عليه (¬2). قال ابن قتيبة في هذه الآية: التفسيران في اللهو متقارنان؛ لأن امرأة الرجل لهوه (¬3)، [وولده لهوه] (¬4)، لذلك (¬5) يقال: امرأة الرجل وولده ريحانتاه، وأصل اللهو: الجماع، كني عنه باللهو (¬6)، كما كني عنه بالسر، ثم قيل للمرأة: لهو؛ لأنها تجامع. قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي (¬7) أي: النكاح. ¬

_ (¬1) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 هذا القول من رواية ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي. وذكره البغوي 5/ 313، وأبو حيان 6/ 302، ولم ينسباه لأحد. (¬2) ذكر هذا المعنى: الطوسي في "التبيان" 7/ 209، والجشمي في "التهذيب" 6/ 139 ب، والبغوي 5/ 313، وأبو حيان في "البحر" 6/ 302، ولم ينسبوه لأحد. (¬3) في (د)، (ع): (إن المرأة للرجل لهوه). (¬4) ساقط من (ت). (¬5) في (أ)، (ت): (ولذلك). (¬6) باللهو: ساقطة من (د)، (ع). (¬7) البيت أنشده لامرئ القيس ابن قتيبة في "مشكل القرآن" ص 163. وهو في "ديوانه" ص 28، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 76 وفيه: وألا يحسن السر أمثالي، =

وتأويل الآية: أن النصاري لما قالت في المسيح وأمه ما قالت قال الله -عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} صاحبة كما تقولون، لا تخذنا ذلك (من [لدنا] (¬1)) عندنا (¬2)، ولم نتخذه من عندكم [لأنكم تعلمون] (¬3) أنَّ (¬4) ولد الرجل وزجه يكونان عنده لا عند غيره (¬5). وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} هو قال المفسرون -ابن عباس (¬6)، وقتادة، والسدي وغيرهم-: ما كنا فاعلين (¬7). قال الفراء (¬8)، والزجاج (¬9) والمبرد: يجوز أن تكون "إن" (¬10) للنفي هاهنا، كقوله: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ¬

_ = و"معاني القرآن" للقراء 1/ 53 وفيه: وألا يشهد السر، و"خزانة الأدب" 1/ 64. قال البغدادي في "الخزانة" 1/ 64: بسباسة: امرأة من بني أسد، وكبر: شاخ، واللهو مصدر لهوت بالشيء إذا لعبن به. قال في "الصحاح": وقد يكنى باللهو عن الجماع. (¬1) (لدنا): موضعها بياض في (ت). (¬2) (عندنا): ساقطة من (د)، (ع). (¬3) ساقط من (د)، (ع). (¬4) (أنَّ): ساقطة من (أ). (¬5) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 613 - 164 مع تصرف يسير. (¬6) في (د)، (ع): (وابن عباس). (¬7) ذكره ابن الجوزي 5/ 344 عن ابن عباس. وقول قتادة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 22، والطبري 17/ 10. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 618 عنه، بلفظ: إن ذلك لا يكون ولا ينبغي. وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. وقول السدي ذكره عنه ابن كثير في تفسيره 3/ 175. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للفراء 2/ 200. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 387. (¬10) (إنْ): ساقطة من (ت).

18

[الملك: 20] {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4] ويكون المعنى تحقيقا لكذبهم في وصف الله تعالى بالولد والصاحبة أي (¬1): ما فعلنا ذلك [ولم نتخذ صاحبة ولا ولدا. قالوا: ويجوز أن يكون للشرط، أي: إن كنا ممن يفعل ذلك] (¬2)، ولسنا ممن يفعله. فيكون ذلك توبيخا لهم هد توبيخ. قال أبو إسحاق: القول الأول قول المفسرين، والقول الثاني قول النحويين، وهم أجمعون يقولون القول الأول، ويستجيدونه؛ لأن "إن" تكون في معنى النفي، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام، تقول: إن كنت [لصالحا، معناه: ما كنت] (¬3) إلا صالحا (¬4). وقال الفراء: أشبه الوجهين بمذهب العربية أن تكون "إن" بمعنى (¬5) الجزاء (¬6). 18 - قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} معنى (¬7) "بل" (¬8) هاهنا: إبطال لكلامهم [ووصفهم الله] (¬9) بما لا يجوز. يقول: دع ذلك فإنه باطل كذب. {نَقذِفُ بِاَلحقِ} قذف بالشيء (¬10)، إذا رمى به (¬11). أي: نسلط الحق ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (إنْ)، وهو خطأ. (¬2) ساقط من (ت). (¬3) ساقط من (د)، (ع). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 387. (¬5) في (أ): (المعنى). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 200 مع اختلاف يسير. (¬7) (معنى): ساقطة من (ع). (¬8) بل: ساقطة من (أ)، (ت). (¬9) بياض في (ت). (¬10) في (أ): (الشيء). (¬11) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 74 (قذف)، "الصحاح" للجوهري 4/ 1414 (قذف)، "المفردات للراغب" الأصفهاني ص 397.

على باطلهم، [ونلقيه عليه حتى يذهبه. قال أبو إسحق: يعني بالحق القرآن (¬1)، على باطلهم (¬2)] (¬3) وهو كذبهم {فَيَدْمَغُهُ} قال الكلبي: فيهلكه (¬4). قال ابن قتيبة: يكسره. وأصل هذا إصابة الدماغ بالضرب وهو مقتل (¬5) (¬6). وحقيقة ما قاله أبو إسحق: {فَيَدْمَغُهُ} فيذهبه (¬7) ذهاب الصغار والاذلال (¬8). {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: زائل، ذاهب (¬9). قال ابن عباس: كما يذهب السهم من الرمية. وقال قتادة: هالك (¬10). وذكرنا هذا عند قوله: {وَزَهَقَ اَلبَاطِلُ} [الإسراء: 81] والمعنى: ¬

_ (¬1) قال ابن عطية 10/ 135: الحق عام في القرآن والرسالة والشرع. (¬2) ساقط من (د)، (ع). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 387. (¬4) ذكره الثعلبي 3/ 28 ب، والبغوي 3/ 313، ولم ينسباه لأحد. (¬5) في (أ)، (ت): (مقيل)، وهو خطأ. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 285. (¬7) فيذهبه: ساقطة من (ز). (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 387. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 391 - 392 (زهق)، "لسان العرب" 10/ 147 (زهق). (¬10) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 23، والطبري 17/ 11، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

إنما (¬1) نبطل كذبهم بما تبين من الحق حتى يضمحل (¬2) ويذهب. ثم أوعدهم على كذبهم فقال: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} قال ابن عباس: يريد واديا في جهنم (¬3)، يقول لكم يا معشر الكفار الويل من كذبكم (¬4) ووصفكم الله (¬5) بما لا يجوز. قال مجاهد: {مِمَّا تَصِفُونَ} [مما تكذبون، كقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] (¬6). وحقيقة تأويله ما ذكره أبو إسحق: أي:] (¬7) مما تكذبون في وصفكم ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (إنَّا). (¬2) يضمحل: أي: ينحل. "القاموس المحيط" 4/ 5. (¬3) ذكره عنه القرطبي في "تفسيره" 11/ 277. وفي طبعتي "الدر المنثور" 1/ 82 دار المعرفة، 1/ 202 دار الفكر: (أخرج هناد في "الزهد" وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ويل سيل من صديد في أصل جهنم -وفي لفظ- ويل واد في جهنم .. ". وهو تصحيف في الطبعتين، والصواب: عن أبي عياض. انظر: "الزهد" لهناد 1/ 83، و"تفسير الطبري" 2/ 267 طبعة شاكر، وابن أبي حاتم 1/ 243. وجاءت رواية "ويل واد في جهنم" مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد روي الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 75 وغيره عن أبي سعيده -رضي الله عنه- مرفوعاً: "ويل واد في جهنم" .. الحديث. قال ابن كثير -رحمه الله- "تفسيره" 1/ 117: وهذا الحديث -بهذا الإسناد مرفوعًا- منكر. والأظهر في هذا أن الويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. قاله ابن كثير في "تفسيره" 1/ 117. (¬4) العبارة في (د)، (ع): (الويل لكم الويل ممن كذبكم). (¬5) لفظ الجلالة لم يرد في (د)، (ع). (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 28 ب، ورواه الطبري 17/ 11 من طريق ابن جريج عن مجاهد قال. "سيجزيهم وصفهم" قال: قولهم الكذب في ذلك. (¬7) ساقط من (أ)، (ت).

19

الله بأنَّ له ولدا (¬1). وقال الحسن في هذه الآية: هي والله (¬2) لكل واصف كذب (¬3) إلى يوم القيامة (¬4). يعني من وصف كذباً على الله في صفاته وأحكامه (¬5)، فهو من أهل هذه الآية (¬6). ثم بين أن جميع المخلوقين عبيده. 19 - فقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي (¬7): عبيداً ومِلْكاً (¬8) {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة. [قال أبو إسحق: أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله عباد الله] (¬9) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 387. (¬2) في (د)، (ع): (لله)، وهو خطأ. (¬3) في المطبوع من ابن أبي شيبة 17/ 507: كذوب. (¬4) رواه أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 506 - 507، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 ونسبه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث. (¬5) في (د)، (ع): (وأحكامه). (¬6) قال الطبري 17/ 11: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} يقول: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته، وقيلكم: إنه اتخذ زوجة وولدا، وفريتكم عليه. ثم قال -بعد أن ذكر قول مجاهد المتقدم وقول من قال "تصفون" تشركون-: وذلك وإن اختلفت به الألفاظ فمعانيه متفقة: لأن من وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك وأشرك به ووصفه بغير صفته، غير أن أولى العبارات أن يعبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه. اهـ. (¬7) أي: ليست في (د)، (ع). (¬8) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 28 ب. (¬9) ساقط من (أ)، (ت).

{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [لا يأنفون عن عبادته] (¬1) ولا يتعظمون عنها (¬2)، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. الآية. وقد مرَّ. {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} يقال: حَسَر (¬3) واستَحْسَر، إذا تعب وأعيا. والحسير: المنقطع إعياء وكلالاً (¬4). هذا معناه وتفسيره. وهذا قول قتادة، ومقاتل: لا يُعْيون (¬5). وقال السدي: لا ينقطعون من العبادة (¬6). وقال مجاهد (¬7): لا يحسرون (¬8). وقال ابن قتيبة: لا يعجزون (¬9). وهذه الأقوال صحيحة متقاربة، ورويت أقوال بعيدة: ¬

_ (¬1) ساقط من (أ)، (ت). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 387. (¬3) كضرب وفرح. "القاموس المحيط" 2/ 8. (¬4) من قوله يقال .. وإعياء. هذا كلام الزجاج في "معانيه" 3/ 385. ومن قوله الحسير: .. .. إلى آخره. هذا كلام ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 285. وانظر: "تهذيب اللغة" 4/ 287 (حسر)، "تاج العروس" للزبيدي 11/ 13 (حسر). (¬5) قول قتادة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 23، والطبري 17/ 12. وقول مقاتل في "تفسيره" 2/ 12 ب. (¬6) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 5/ 621. (¬7) في (د)، (ع): (مقاتل)، وهو خطأ. والصواب مجاهد. (¬8) رواه الطبري 17/ 12. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 620 ونسبه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وهو في تفسير مجاهد 1/ 408 - 409. (¬9) في "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 285: (لا يعنون).

قال الكلبي، عن ابن عباس: لا يستنكفون (¬1) وقال عطاء عنه: لا يخالفون (¬2) ربوبيتي. وقال الوالبي عنه: لا يرجعون (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 441 ونسبه للكلبي. ونسبه القرطبي لابن عباس: 11/ 278. (¬2) في (ت)، (ز): (يخافون)، وهو خطأ. (¬3) رواه الطبري 17/ 12 من طريق الوالبي، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 62 ونسبه لابن أبي حاتم. وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 28 ب، وقد تكلم العلماء على رواية الوالبي عن ابن عباس، فقال أبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 75 عن هذا الطريق: وهو صحيح عن ابن عباس، والذي يطعن في إسناده يقول: ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة. قال أبو جعفر: وها القول لا يجب طعنا؛ لأنه أخذه عن رجلين ئقتين، وهو في نفسه ثقة صدوق. ثم روى النحاس بسنده عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: بمصر كتاب التأويل عن معاوية بن صالح، لو جاء رجل إلى مصر فكتبه ثم انصرف ما كانت رحلته عندي ذهبن باطلا. وقال الذهبي في "ميزان الأعتدال" 3/ 134 - ترجمة علي بن أبي طلحة- روى معاوية بن صالح، عنه، عن ابن عباس تفسيرًا كبيرًا ممتعا. وقال ابن حجر في "العجاب في بيان الأسباب" (ق 3 ب): (وعليُّ صدوق، ولم يلق ابن عباس لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه؛ فلذا كان البخاري وأبو حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة". وقال أيضًا في "تهذيب التهذيب" 7/ 340 - في ترجمة علي-: "ونقل البخاري من تفسيره رواية معاوية بن صالح، عنه، عن ابن عباس شيئًا في التراجم وغيرها ولكنه لم يسميه يقول: قال ابن عباس، أو يذكر عن ابن عباس". وقال السيوطي في "الإتقان" 2/ 532: وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يُحصى كثرة، وفيه روايات وطرت مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه.

20

وقال ابن زيد: لا يملون (¬1). وهذه الأقوال بعيدة من تفسير الاستحسار وأقربها قول ابن زيد. 20 - قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ينزهون الله دائمًا بقولهم سبحان الله {لَا يَفتُرُونَ} لا يضعفون ولا يملون (¬2). قال الكلبي: التسبيح منهم بمنزلة التبسم من الإنسان. وقال كعب: سهل عليهم التسبيح كسهولة فتح الطرف والتنفس على الإنسان (¬3). وقال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك (¬4) تسبيحهم دائم (¬5). وهذا معنى (¬6) قول المفسرين: إن الملائكة قد ألهموا التسبيح كما يلهمون النفس (¬7). 21 - ثم عاد إلى توبيخ المشركين فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} قال المبرد: (أم) هاهنا تقريع وتوبيخ كالألف إلا أنَّ فيها زيادة انتقال عن ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 12، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 7/ 28 ب. (¬2) في (1): (يملكون)، وهو خطأ. (¬3) رواه الطبري 17/ 12، وأبو الشيخ في "العظمة" 2/ 738 - 739، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 1/ 48، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 621 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "شعب الإيمان". (¬4) في (أ): (فلذلك). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 387، 388. (¬6) (معنى): ساقطة من (د)، (ع). (¬7) انظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 28 ب.

22

خبر (¬1) إلى خبر معناه: بل اتخذوا. وهذا معنى "أم" المنقطعة حيث وقعت (¬2). وعنى بالآلهة الأصنام. وقوله تعالى: {مِنَ الْأَرْضِ} لأن أصنامهم كانت من الأرض من أي جنس كانت، من حجارة، أو خشب، أو ذهب، أو فضة. {هُمْ يُنْشِرُونَ} أي: يُحيُون. يقال: أنشر الله الميت فانتشر، أي: أحياه فحيي (¬3). وهذا توبيخ لهم على عبادتهم جمادًا من الأرض لا يقدر على شيء. وقال المفضل: لفظ الآية استفهام ومعناه جحد (¬4). وعلى هذا معنى الآية: لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء، وإن شئت جعلت هذا الاستفهام الذي معناه الإنكار والجحد واقعاً على الإنشار في المعنى، وإن كان في الظاهر على الاتخاذ على تقدير: أينشر آلهتهم التي اتخذوها؟ أي: ليست لها هذه الصفة، كما تقول: أزيدًا نضرب؟ توقع الاستفهام على زيد، والمراد الاستفهام عن الضرب. 22 - ثم ذكر الدلالة على توحيده وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} أي: في السماء والأرض، وجرى ذكرهما قبل. {آلِهَةٌ} معبودين يستحقون العبادة. {إلا اللهُ} قال الزجاج: "إلا" صفة في ¬

_ (¬1) في (ت): (خبر إلى خبر)، وهو خطأ. (¬2) ذكره القرطبي 11/ 278 عن المبرد باختصار. وانظر: "شرح التسهيل" لابن عقيل 2/ 455 - 456، "رصف المباني" للمالقي ص 179 - 180، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 55 - 56، "الجنى الداني" للمرادي ص 205 - 206. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 338 (نشر)، "تاج العروس" 14/ 215 (نشر). (¬4) ذكره القرطبي 11/ 278.

معنى غير، ولذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها، وأنشد (¬1): وكلُّ أخٍ مُفارقُه أخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ وقال: المعنى: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه (¬2). وعلى هذا التقدير: آلهة غير الله، فغير الله صفة الآلهة على معني: آلهة هم غير الله كما يزعم المشركون (¬3). وقال الأخفش (¬4) في هذه الآية: إلا وما بعدها بمنزلة غير، تقول: لو كان فيهما أحد إلا أنت لم أبل (¬5) [أي غيرك، وكذلك لو أنه إلا أنت لم أبل ¬

_ (¬1) البيت أنشده الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 3878 من غير نسبة. وهو منسوب لعمرو بن معدي كرب في: "الكتاب" 2/ 334، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 131، "البيان التبيين" للجاحظ 1/ 228، الطبري 8/ 527. وهو في ديوان عمرو ص 187، ونسبه الآمدي في "المؤتلف والمختلف" ص 85 لحضرمي بن عامر الأسدي ضمن أبيات قالها. وهو من غير نسبة في: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 296، "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 424. قال الشنتمري في "تحصيل عين الذهب" 1/ 371: وهذا على مذهب الجاهلية، وكأنه قاله قبل الإسلام، ويحتمل أنه يريد في مدة الدنيا. اهـ. والفرقدان: نجمان قريبان من القطب يهتدي بهما. انظر الصحاح للجوهري 2/ 519 "فرقد"، "القاموس المحيط" 1/ 323. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 388. وهذا قول سيبويه والكسائي وغيرهما. انظر: "الكتاب" 2/ 313 - 332، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 67. (¬3) وذهب الفراء إلى أن "إلا" هنا بمعنى سوى، وتقديره: لو كان فيهما آلهة سوى الله. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 200، "إعراب القرآن" لابن الأنباري 2/ 159. (¬4) في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 295: ... وقد يكون {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 99] رفعا، تجعل (إلا) وما بعده في موضع صفة بمنزلة: غير ... ومثلها {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فقوله (إلا الله) صفة. (¬5) قال سيبويه في "الكتاب" 4/ 405: وسألته -يعني الخليل- عن قولهم: لم أبل، فقال: هي من باليت، ولكنهم لما أسكنوا اللام حذفوا الألف؛ لأنه لا يلتقي ساكنان.

إلا غيرك، ولو كان إلا أياك لم أبل] (¬1) كأنك قلت كغيرك. قال أبو علي في "الإيضاح": تقول: جاءني القوم إلا زيدًا، فتنصب الاسم بعد إلا على الاستثناء، ويجوز أن ترفعه إذا جعلت إلا وما بعدها صفة فتقول: جاءني القوم إلا زيد، وعلى هذا قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬2). فظهر أن قوله: {إلاَّ اللهُ} ليس باستثناء إنما هو صفة للآلهة كما ذكرنا. وقوله تعالى: {لَفَسَدَتَا} أي: لخربنا وبطلتا وهلكتا، وهلك من فيهما لوجود التمانع بين الآلهة (¬3)، فلا يجرى أمر العالم على النظام، ويؤدي ذلك ¬

_ (¬1) ساقط من (أ)، (ت). (¬2) "الإيضاح العضدي" لأبي علي الفارسي 1/ 229. (¬3) يشير الواحدي بهذا إلى الدليل المشهور عند المتكلمين الذي يسمونه دليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته، فإما: أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أولا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع ببن الضدين، والثالث ممتنع، ويستلزم أيضًا عجز كل واحد منهما والعاجز لا يكون إلها، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزًا لا يصلح للإلهية. انظر: "الإنصاف" للباقلاني ص 34، "الشامل في أصول الدين" للجويني ص 352، "غاية المراد" للآمدي ص 151 - 152، "منهاج السنة النبوية" لأبي العباس أحمد بن تيمية 3/ 304 - 305، "شرح الطحاوية" ص 78 - 79. لما كان كلام الواحدي هنا قد يفهم منه المقصود بهذه الآية دليل التمانع فإنه ينبغي الإشارة هنا إلى ما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن جزي الكلبي وابن أبي العز الحنفي وغير واحد من أهل العلم وهو: أن طوائف من المتكلمين والمفسرين =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = يظنون أن دليل التمانع الذي تقدم ذكره هو الدليل المذكور في القرآن في قوله "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"، وليس الأمر كذلك، فإن هؤلاء -كما يقول ابن أبي العز- في "شرحه" للطحاوية ص 86 - 87: "غفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل أرباب، وأيضًا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا، وأيضًا فإنه قال: "لفسدتا" ولم يقل: لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحدًا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه، فإن قيامه إنما هو بالعدل وبه قامت السموات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد". اهـ. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" ص 461: "هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام من ذكر دليل التمانع على وحدانية الرب تعالى، فإن التمانع يمنع وجود المفعول لا يمنع وجوده بعد فساده". ويقول في كتابه "منهاج السنة النبوية" 3/ 334 - 335 بعد ذكره لدليل التمانع وبيان أنه دليل عقلي صحيح، ثم تنبيه على غلط من ظن أن هذا الدليل هو المقصود من قوله "لو كان فيهما آلهة إلا الله" يقول: والمقصود هنا أن من هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشئ من عبادة ما سوى الله تعالى؛ لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم، وما سوى الله لا يصلح، فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة، فإنه سبحانه هو المعبود المحبوب لذاته، كما أنه هو الرب الخالق بمشيئته. وهذا معني قول النبي -صلي الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته، وهو الغاية والمعين، وهو البارئ المبدع الخالق، ومنه ابتداء كل شيء، والغايات تحصل بالبدايات، والبدايات بطلب =

23

إلى هلاك العالم؛ لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لا يجري على النظام وهذا كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42] الآية. والمعنى: على نفي أن يكون في الأرض أو في السماء آلهة فهم (¬1) غير الله وإذا بطل ذلك ثبت أنه لا إله غيره. ثم نزه نفسه عما يصفه به الكافرون من الشريك والولد بقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}. 23 - قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} قال الكلبي: لا يسأل الله عن فعله والناس يسألون عن أعمالهم (¬2). وقال الضحاك: لا يسأل عما يقضي في خلقه، والخلق مسؤلون (¬3) عن أعمالهم (¬4). وقال أبو إسحق: لا يسأل في القيامة عن حكمه في عباده، ويَسْألُ عباده عن أعمالهم إيجاباً للحجة عليهم (¬5). قال المفسرون (¬6): إن الله تعالى لا يسأل عما يحكم في عباده من ¬

_ = بطلب الغايات، فالإلهية هي الغاية، ... وهو الذي يستحق لذاته أن يعبد ويحب ويحمد ويمجد، وهو سبحانه يحمد نفسه ويثني على نفسه ويمجد نفسه، ولا أحد أحق بذلك منه حامداً محمودًا". اهـ. (¬1) (فهم): ساقطة من (ت). (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 201. (¬3) في (ت): (مسؤل). (¬4) رواه الطبري 17/ 14. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 622 وعزاه لابن أبي حاتم فقط. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 388. (¬6) معناه عند الطبري 17/ 14، و"الكشف والبيان" للثعلبى 32/ 8 ب.

24

إعزاز وإذلال،. وهدى وضلال، وإسعاد وإشقاء؛ لأنه الرب مالك الأعيان، والخلق يُسألون سؤال توبيخ يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم (¬1) كذا وكذا؛ لأنهم العبيد وواجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته؟. وهذا معنى ما روي عن أبي الأسود الديلي قال: غدوت على عمران ابن حصين يوما من الأيام فقال: أبا الأسود رأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون؟ قال: قلت: بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً فقلت (¬2): إنه ليس شيء إلا خَلْقُ الله وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال: سددك الله ما سألتك إلا لأجرب عقلك (¬3). وهذا الآية بتفسير المفسرين والصحابة دليل ظاهر على القدرية في مسألة القدر. 24 - ولما أبطل الله تعالى أن يكون إله سواه من حيث العقل بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أبطل جواز اتخاذ آلهة سواه من حيث الأمر بقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} وهذا استفهام إنكار وتبكيت كما ذكرنا في قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} وأعيد هاهنا لأنه أعيد عليهم ¬

_ (¬1) في (ت): (لم تعلم). (¬2) في (ت): (وقلت). (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 438، ومسلم في "صحيحه" 4/ 2041، والطبري 30/ 211، واللالكائي في "شرح أصول السنة" 3/ 542.

احتجاج من وجه آخر وهو (¬1) قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: بينتكم (¬2) على ما تقولون من جواز اتخاذ إله سواه. {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} (¬3) يعني القرآن يقول: فيه خبر (¬4) من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من المفسرين من يجعل هذا أيضًا من صفة القرآن يقول: معناه: وخبر من قبلي من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة. وهذا مذهب السدي والكلبي (¬5). وعلى هذا المعنى: أنه لما طالبهم بالبرهان على ما هم عليه من الشرك أمره أن يذكر لهم برهانه على ما هو عليه من التوحيد وهو القرآن الذي فيه ما تحتاج إليه هذه الأمة من الأحكام مع أخبار الأمم السالفة. وقال ابن عباس -في رواية عطاء- في قوله: {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}: يريد التوراة والإنجيل وما أنزل الله من الكتب (¬6). وهذا القول هو اختيار الزجاج وعبد الله بن مسلم (¬7) وصاحب النظم. والمعنى على هذا القول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} هذا القرآن وهذه ¬

_ (¬1) (وهو): ساقط من (د)، (ع). (¬2) في (ت): (بينكم). (¬3) موضع هذا بياض في (ت). (¬4) في (ت): (خير). (¬5) ذكره الرازي 22/ 158 عن السدي، ونسبه أيضًا لسعيد بن جُبير وقتادة ومقاتل. ولم أجد من ذكره عن الكلبي وقد روى الطبري 17/ 15 هذا المعنى عن قتادة. (¬6) ذكره البغوي 5/ 314 من رواية عطاء، عن ابن عباس. (¬7) هو ابن قتيبة، وقوله في كتابه "غريب القرآن" ص 285.

الكتب التي أنزلت قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أقر باتخاذ إله [سواه؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود] (¬1) سواه من (¬2) حيث الأمر بذلك. قال أبو إسحاق: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل (¬3) أنبأ أمته بأن لهم إلهاً غير الله فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله (¬4). وقال صاحب النظم: لما قال عز وجل: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، أي: حجتكم على ما تفعلون قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قل لهم: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} أي القرآن الذي أنزل علي {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أي: ما عند اليهود والنصارى، هل فيه شيء (¬5) أني أذنت لأحد، أو أمرته بأن يتخذ إلهاً دوني؟ وهل في ذلك (¬6) كله إلا أني أنا الله وحدي لا شريك لي؟ فلما توجهت الحجة عليهم ذمهم على جهلهم بمواضع الحق وتركهم للتأمل والتفكر فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}. ويدل (¬7) على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ¬

_ (¬1) ساقط من (أ)، (ت). (¬2) موضع (سواه من) بياض في (ت). (¬3) في (أ)، (ت): (الرسول)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 389. (¬5) شيء: ليست في (د)، (ع). (¬6) في (أ)، (ت): (ذكر). (¬7) في (ع): (يدل).

26

26 - قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} قال ابن عباس: يريد من الملائكة (¬1). {سُبْحَانَهُ} نزه نفسه عما يقولون {بَلْ عِبَادٌ} بل هم عباد يعني الملائكة. {مُكْرَمُونَ} قال ابن عباس: يريد أكرمتهم واصطفيتهم (¬2). 27 - {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم. وقال ابن مسلم: أي لا يقولون حتى يقول ويأمر وينهى، ثم يقولون عنه (¬3). وقال غيره: لا يخرجون بقولهم عن حد ما أمرهم به فقولهم طاعة لربهم. 28 - قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الآخرة {وَمَا خَلْفَهُمْ} يريد الدنيا (¬4). وعنه أيضًا: أي ما قدموا وأخروا من أعمالهم أي ما عملوا وما هم عاملون (¬5). وقال السدي على عكس قول عطاء (¬6). {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} قال ابن عباس: لمن قال لا إله إلا الله (¬7). ¬

_ (¬1) مثله في "تنوير المقباس" ص 201. (¬2) انظر المرجع السابق ص 201. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 285. (¬4) ذكره عنه القرطبي 11/ 281. (¬5) رواه بنحوه الطبري 17/ 16 من طريق العوفي عن ابن عباس. وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 28 ب. (¬6) لم أجده. (¬7) رواه الطبري 17/ 16. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 624 وعزاه للطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في البعث.

29

وقال مجاهد: لمن رضي عنه (¬1). وقال السدي: للمؤمنين. {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} أي: خشيتهم منه فأضيف المصدر إلى المفعول {مُشْفِقُونَ} خائفون لا يأمنون مكره. وذكرنا الكلام في هذا أبلغ عند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} (¬2). 29 - قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} أي: الملائكة {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} من دون الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} قال قتادة: (¬3)، والضحاك (¬4)، والسدي، والكلبي: يعني إبليس لعنة الله, لأنه أمر بطاعته ودعا إلى عبادة نفسه (¬5). {كَذَلِكَ} كما جزيناهم جهنم {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يريد المشركين. 30 - قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أولم يعلموا {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا} قال أبو عبيدة، والزجاج: السموات لفظ الجمع يراد به الواحد، لذلك قال: {كَانَتَا} لأنه أراد السماء والأرض (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 17، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 624 وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) المؤمنون: 57. ولم تتقدم، وستأتي بعد. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 23، والطبري 17/ 17، وذكره السيوطي في في "الدر المنثور" 5/ 625 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 625 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) قال ابن عطية 10/ 140: وهذا ضعيف؛ لأن إبليس لم يرد قط أنه ادعى ربوبية. اهـ. والأظهر أن يقال إنّ السياق في الملائكة، والمعنى على سبيل الفرض أنهم يقولون ذلك، وهم لا يقولونه. انظر: "روح المعاني" للآلوسي 17/ 33. (¬6) قول أبي عبيدة في كتابه "مجاز القرآن" 2/ 36. وقول الزجاج في كتابه: "معاني القرآن" 2/ 390.

وهذا معنى قول الأخفش: جعلهما صنفين كقول العرب: لقاحان سوداوان (¬1) وفي كتاب الله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41] (¬2). قوله تعالى: {رَتْقًا} الرتق معناه في اللغة: السد. يقال: رتقت الشيء فارتتق، ومنه الرتقاء وهي المنضمة الفرج (¬3). وقوله تعالى: {فَفَتَقْنَاهُمَا} الفتق: الفصل بين الشيئين الذين كانا ملتئمين أحدهما متصل بالآخر، فإذا فرق بينهما فقد فتقا. ويقال: فتق الخياط يفتقها، ومنه يقال: أفتق قرن الشمس، إذا أصاب فتقا من السحاب فبدا منه (¬4). قال أبو إسحاق: وقيل {رَتْقًا} لأن الرتق مصدر، المعنى: كانتا ذواتي رتق (¬5). واختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أوجه: أحدها: ما رواه عطاء، عن ابن عباس قال: يريد أن السماء لم تكن تنزل مطرًا، والأرض لا تنبن نباتًا، ففتق الله -عَزَّ وَجَلَّ- السماء بالمطر والأرض ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للأخفش 2/ 634: (سودان). (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 633 - 634. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 69، "الدر المصون" 8/ 147. (¬3) انظر: (رتق) في "تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 53 - 54)، "الصحاح" للجوهري 4/ 480، "لسان العرب" 10/ 114. (¬4) انظر: (فتق) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 62، "الصحاح" للجوهري 4/ 1539 - 1540، "لسان العرب" 10/ 296 - 297. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 390.

بالنبات (¬1). وهذا قول مجاهد في رواية أبان بن تغلب (¬2)، وعطية العوفي، وابن زيد (¬3)، واختيار الفراء (¬4) وابن قتيبة (¬5). ¬

_ (¬1) روى الحاكم في "مستدركه" 2/ 382 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 43 من طريق طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس بنحوه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله طلحة واه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 625 وعزاه للفريابي وعبد بن حميد والحاكم والبيهقي في "الأسماء والصفات". وأخرج أبو نعيم في "الحلية" 1/ 320 من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا أتاه فسأله عن قوله {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني ما قال، فذهب إلى ابن عباس فسأله قال: نعم، كانت السماء رتقاء لا تمطر .... فذكره بنحوه ما هنا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 625 وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي نعيم في الحلية. وفي "الدر المنثور" 5/ 625: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله "كانتا رتقا" قال لا يخرج منهما شيء "ففتقناهما" قال: فتقت السماء بالمطر، وفتقت الأرض بالنبات. فهذه روايات ثلاث عن ابن عباس رضي الله عنهما، يعضد بعضها بعضًا. (¬2) هو أبان بن تغلب، أبو سعد -وقيل: أبو أمية- الربعي، الكوفي، الشيعي، المقرئ. قال ابن عدي: وهو من أهل الصدق في الروايات، وإن كان مذهبه مذهب الشيعة. وقال الذهبي: وهو صدوق في نفسه، عالم كبير، وبدعته خفيفة، لا يتعرض للكبار. وقال ابن حجر: ثقة تكلم فيه للتشيع. توفي سنة 140 هـ، وقيل: 141 هـ. "الكامل" لابن عدي 1/ 380، "تهذيب الكمال" للمزي 2/ 6 - 8، "سير أعلام النبلاء" للذهبي 308 - 309، "تقريب التهذيب" لابن حجر 2/ 30، "غاية النهاية" لابن الجزري 1/ 4. ولم أجد هذه الرواية عن مجاهد من طريق أبان، لكن وجدتها من طريق خصيف، عن مجاهد رواه سفيان الثوري في "تفسيره" (ص 200) عن خصيف. (¬3) رواها الطبري في "تفسيره" 17/ 17. وذكرها الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 29 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 201. (¬5) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 286.

الوجه الثاني: أن المعنى كانتا شيئًا واحدا ملتزقتين، ففصل الله بينهما بالهواء. وهذا قول الحسن، وقتادة (¬1)، والضحاك (¬2)، ورواية عكرمة عن ابن عباس (¬3). قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحاً توسطتها ففتحها بها (¬4). الوجه الثالث: أن المعنى كانت السموات مرتتقة فجعلت سبع سموات، وكذلك الأرضون. وهذا قول أبي صالح (¬5)، ومجاهد في رواية ابن أبي نجيج (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 18 عن الحسن وقتادة، وذكره عهما السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 626 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ذكره عن الضحاك الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 29 أ. وروى سفيان الثوري في "تفسيره" ص 200 عن الضحاك قال: كن سبعًا ملتزقات ففتق بعضهن عن بعض. ورواه الطبري 17/ 18 من طريق الضحاك، عن ابن عباس. (¬3) روى سفيان في "تفسيره" ص 200 عن أبيه، عن عكرمة، سئل ابن عباس رضي الله عنهما. أيهما كان قبل الليل أو النهار؟ فقرأ "أو لم ير .... " الآية ثم قال: وهل كانن بينهما إلا ظلمة. وكذا رواه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1368. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 23 والطبري 17/ 19 من طريق عكرمة مختصرًا. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 29 أ. وهو من الإسرائيليات. (¬5) رواه عنه الطبري 17/ 19، وأبو الشيخ في "العظمة" 3/ 1025، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 626 ونسبه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأي الشيخ في العظمة. (¬6) رواه الطبري 18/ 18، وأبو الشيخ في "العظمة" 3/ 1026، وذكره السيوطي في "الدر المنثور": 5/ 626 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشخ في "العظمة".

والسدي (¬1)، واختيار أبي إسحق، قال: المعنى أن السموات كانت سماء واحدة (¬2) مرتتقة، ففتقها الله، فجعلها سبعًا وجعل الأرض سبع أرضين (¬3). وأكثر الناس على القول الأول، وهو أنهما كانتا منسدتين لا فرج فيهما فصدعهما الله بما يخرج منهما. قال أبو إسحاق: ويدل على هذا التفسير قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬4). أي: وأحيينا بالماء الذي نزله من السماء {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يعني أنه سبب لحياة كل شيء، ويدخل فيه الشجر والنبات على التبع، ويكون التقدير: وجعلنا من الماء حياة كل شيء حي. وهذا قول قد حكي (¬5)، وتحتمله دلالة الآية. والمفسرون على قول آخر. قال قتادة: كل شيء حي خلق من الماء (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 19. وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 29 أ. (¬2) في (أ)، (ت): (واحد). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 390. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 390. وقال الطبري 17/ 19 عن هذا القول أنه أولى الأقوال بالصواب، لدلالة قوله "وجعلنا من الماء كل شيء حي" على ذلك، وأنّه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدّمه من ذكر أسبابه. وقال ابن عطية في "المحرر" 10/ 141: وهذا قول حسن، يجمع العبرة وتعديد النعمة واحبيبة بمحسوس بين، ويناسب قوله {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار. (¬5) انظر: "الطبري" 17/ 19 - 20. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 23، والطبري 17/ 20.

وقال أبو العالية -في هذه الآية-: يعني النطفة (¬1). قال المفسرون (¬2) إنَّ كل شيء حي فهو مخلوق من الماء كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]. وعلى هذا لا يتعلق قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ} بما قبله، وهو احتجاج آخر على المشركين. وقوله تعالى: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} أي: أفلا يصدقون بعد هذا البيان. 31 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} ذكرنا تفسير هذه القطعة عند قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} في سورة النحل [آية: 15]. وتقدير قوله: {أَنْ تَمِيدَ} كتقدير قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] وذكرنا الخلاف بين النحويين في هذه المسألة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص 45، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 626 وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في "الأسماء والصفات". (¬2) انظر: "الطبري" 17/ 20، و"الثعلبي" 3/ 29 أ. (¬3) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}. وقد اختلف النحويون في تقدير "أن تميد" ونحوها من الآيات فعند الكوفيين "إنْ" بمعنى لئلا، أو ألَّا، على تقدير: لئلا تميد، لئلا تضلوا. وقال البصريون: المحذوف هاهنا مضاف، على تقدير: مخافة أن تميد أو كراهة أن تميد، وكراهة أن تضلوا. ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إلى مقامه، قالوا: و"لا" حرف جاء لمعنى النفي فلا يجوز حذفه، وحذف المضاف أسوغ وأشيع من حذف "لا". انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 297، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 511، =

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي: في الرواسي. {فِجَاجاً} قال أبو عبيدة: يعني المسالك (¬1). وقال أبو إسحق: كل مخترق بين جبلين فهو فج (¬2). وقال الليث: الفج: الطريق الواسع بين الجبلين (¬3). وقال أبو الهيثم: الفج: طريق في الجبل واسع، يقال: فَجٌّ وأفُجٌّ وفِجَاج (¬4). والفج في كلام العرب: تفريجك بين الشيئين، يقال: فججت رجلي أفجهما (¬5) فجًّا، إذا وسعت بينهما. ومنه قيل للطريق بين جبلين: فج؛ لأنه كأنه فرج بين الجبلين. ويقال: افجج فلان افتجاجا، إذا سلك الفجاج (¬6). وذكر بعض أهل التفسير أن الكناية عن قوله: {فِيهَا فِجَاجًا} عائدة إلى الأرض (¬7). ¬

_ = 2/ 393، "الإملاء" للعكبري 1/ 205، 2/ 132، "البحر المحيط" 3/ 408 - 409، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 46، "الجنى الداني في حروف المعاني" للمرادي ص 224 - 225. (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 37. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 390. (¬3) قول الليث في "العين" 6/ 24 "فج" مع اختلاف في آخره [في قبل جبل ونحوه]. (¬4) قول أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 597 - 508 "فَجَّ". (¬5) في جميع النسخ: (أفجها)، والتصويب من "تهذيب اللغة". (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 508 (فجَّ) منسوبًا إلى الأصمعي. (¬7) نسبه الرازي في تفسيره 22/ 165 إلى الكلبي، وهو اختيار الطبري فقد قال في تفسيره 17/ 21: وإنما اخترنا القول الآخر، وجعلنا الهاء والألف من ذكر الأرض، لأنها إذا كانت من ذكرها دخل في ذلك السهل والجبل، وذلك أن ذلك =

32

والأولى أن تعود إلى الجبال؛ لما ذكرنا أن الفج في اللغة: الطريق بين الجبلين، وابن عباس أيضًا قال في تفسير هذه الآية: وجعلنا من اجبال طرقًا؛ حتى يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار للتجارات وغيرها (¬1). وقوله تعالى: {سُبُلًا} تفسير للفجاج، وبيان له. وفائدته أن الفج في موضوع اللغة يجوز أنه لا (¬2) يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً، فلما ذكر الفجاج بين أنه جعلها سبلاً نافذة مسلوكة. 32 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} السقف معناه في اللغة: غماء البيت (¬3)، والسماء للأرض كالسقف للبيت، فجعلت السماء سقفًا ¬

_ = كله من الأرض، وقد جعل الله لخلقه من ذلك كله فجاجا سبلاً، ولا دلالة تدل على أنه عني بذلك فجاج بعض الأرض -التي جعلها لهم سبلا- دون بعض، فالعموم بها أولى. وقال ابن عطية في "المحرر" 10/ 144 عن هذا القول إنه أحسن. واستظهره أبو حيان في "البحر" 6/ 309. ويدل لهذا القول قوله تعالى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 19 - 20]. (¬1) ذكره عن ابن عباس ابن الجوزي 5/ 349. وذكره القرطبي 11/ 285 مختصرًا. وذكر الرازي 22/ 164 أوله ثم قال: وهو قول مقاتل، والضحاك، ورواية عطاء عن ابن عباس. وقد روى الطبري 17/ 21 من طريق ابن جريج قال: قال ابن عباس وجعلنا فيها فجاجا سبلا" قال: بين الجبال. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 627 وعزاه للطبري وابن المنذر. وهي رواية ضعيفة؛ لأن ابن جريج لم يلق ابن عباس. قال الإمام أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني وسمعت. فحسبك. "تهذيب التهذيب" 6/ 404. (¬2) (لا): ساقطة من (أ). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 413 وفيه هذا الكلام منسوبًا إلى الليث، و"الصحاح" للجوهري 4/ 1375، وفي "العين" 5/ 81: سقف: عماد البيت، و"لسان العرب" لابن منظور 9/ 155 (سقف).

وسميت به، قال الله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] يعني السماء. وقوله تعالى: {مَحْفُوظًا} قال ابن عباس: من الشياطين بالنجوم (¬1). وهو قول الكلبي، واختيار الفراء (¬2) ودليل هذا التأويل قوله {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17]. وذكر أبو إسحاق وجهًا آخر قال: حفظه الله من الوقوع على الأرض إلا بإذنه (¬3). ودليل هذا قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65]. وزاد غيره: محفوظا من الهدم، ومن أن يلحقها ما يلحق غيرها من السقوف على طول الدهر (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 5/ 349 من رواية أبي صالح عن ابن عباس. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 201. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 390. (¬4) جاء عن قتادة نحو هذا القول، فقد ذكر أبو حيان 6/ 39 عنه أنه قال: حفظ من البلى والتغير على طول الدهر. وقيل إن الحفظ هنا شامل لما تقدم، لدلالة الآيات المتقدمات. قال ابن عطية 10/ 144: والحفظ هاهنا عام في الحفظ من الشياطين. وقوى الرازي 22/ 165 القول بأن المراد الحفظ من الوقوع والسقوط اللذين يجري مثلهما لسائر السقوف؛ لأن حمل الآيات عليه مما يزيد هذه النعمة عظما لأف سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه على المكلفين. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]. ومما يقوي هذا القول ويعضده أن الآيات سبقت للدلالة على التوحيد فكان تجريد العناية لبيان نعمة الله على عباده بحفظ هذه السماء من السقوط أولى من بيان حفظها من الشياطين.

33

وقال مجاهد: {سَقْفًا مَحْفُوظًا} مرفوعًا (¬1). وهذا معنى وليس بتفسير. وذلك أنه مرفوع رفعًا لا يطمع أحد أن يناله بنقض أو يبلغه بحيلة، فرفعه سبب حفظه من أن يبلغه أحد. وقوله تعالى: {وَهُمْ} قال ابن عباس: يريد المشركين (¬2). {عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (¬3) قال الكلبي وغيره من المفسرين: شمسها وقمرها ونجومها (¬4). {مُعْرِضُونَ} لا يتدبرونها، ولا يتفكرون فيها، فيعلموا (¬5) أن خالقها لا شريك له. 33 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {كُلُّ} يعني الطوالع كلها. {فِي فَلَكٍ} قال الليث: الفلك في الحديث (¬6) دوران (¬7) السماء. وهو ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 22، وأبو الشيخ في "العظمة" 3/ 1038. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 627 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جريج وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 201. (¬3) في (د)، (ع): (آياتنا)، وهو خطأ في الآية. (¬4) انظر: "الطبري" 17/ 22، "تنوير المقباس" ص 201، القرطبي 11/ 285. (¬5) في (ع): (فيعلمون)، وهو خطأ. (¬6) في "تهذيب اللغة" 10/ 254: جاء في الحديث أنه دوران السماء. والمراد بالحديث ما رواه أبو عيد في غريب الحديث 4/ 96: أن رجلاً أتى رجلاً وهو جالس عند عبد الله بن مسعود فقال: إني تركت فرسك يدور كأنه في فلك، قال عبد الله للرجل: اذهب فافعل به كذا وكذا. (¬7) في (أ): (دور).

اسم الدوران خاصة، وأما المُنجمون فيقولون: سبعة أطواق (¬1) دون السماء قد رُكِّبت فيها النجوم السبعة، في كل طوق منه (¬2) نجم، وبعضها أرفع من بعض، يدور فيها بإذن الله (¬3). وروى أبو عبيدة عن الأصمعي: الفلك: قطع من الأرض تستدير وترتفع عما حولها (¬4)، والواحدة فلكة. قال الراعي: إذا جِفْنَ هَوْلَ بُطونِ (¬5) البِلادِ ... تَضَمَّنَها فَلَكٌ مُزْهِرُ (¬6) يَقول: إذا خافت الأدغال (¬7) وبطون الأرض ظهرت الفلك (¬8). والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فَلْكةُ المغزل، وتفلك ثدي الجارية (¬9). ¬

_ (¬1) جمع طوق، وهو: كل ما استدار بشيء. "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 242 "طوق"، "القاموس المحيط" 3/ 259. (¬2) (منه): ساقطة من (د)، (ع)، وفي (أ): (ومنه)، وفي "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 254 منها. (¬3) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 54 "فلك". وهو في "العين" 5/ 374 "فلك" مع اختلاف يسير، وليس فيه: في الحديث. وما ذكره الليث عن المنجمين لا دليل عليه من كتاب أو سنة صحيحة أو مشاهدة. (¬4) في (أ): (حوله). (¬5) هكذا في (أ)، (ت) والمطبوع من ديوان الراعي بطبعتيه -طبعة راينهرت فايبرت ص 107، وطبعة نوري القيسي وهلال ناجي ص 208. وفي (د)، (ع): (إذا خفن هولا بطول)، وفي المطبوع من "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 254: (بصون). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 208، "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 254. "فلك"، واللسان 10/ 478: (فلك). (¬7) في جميع النسخ: (الإدخال)، والتصويب من "تهذيب اللغة" و"اللسان". (¬8) رواية أبي عبيد عن الأصمعي في "تهذيب اللغة" 10/ 254. (¬9) انظر: (فلك) في: "الصحاح" 4/ 1604، "لسان العرب" 10/ 478.

هذا (¬1) معنى الفلك في قول أهل اللغة. وأما المفسرون، فقال السدي في قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ}: كل في مجرى واستداره (¬2). وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء، وكل شيء استدار فهو فلك (¬3). وعلى هذا المراد بالفلك: السماء، والسماء مستديرة، والنجوم تدور فيها وهذا معنى قول مجاهد: كهيئة حديدة الرحى (¬4) (¬5). يريد: أن النجوم تسير وتجري حول القطب (¬6) كدوران (¬7) الرحى على حديدته (¬8). وعلى (¬9) هذا معنى قول أكثرُ المفسرين، قالوا: الفلك مدار النجوم الذي يضمها (¬10). ¬

_ (¬1) في (ت): (وهذا). (¬2) ذكر الماوردي 3/ 445 عن السدي قال: الفلك: السماء. (¬3) ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 254، والبغوي 5/ 317 عن الكلبي الشطر الأول منه. وروي عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 24 عن الكلبي الشطر الثاني منه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 627 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر. (¬4) الرَّحى: هي الحجر التي يطحن بها. "لسان العرب" 14/ 312 (رحا). (¬5) رواه الطبري 17/ 22، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 628 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) القُطْب: كوكب بين الجدي والفرقدين. قيل: وهو كوكب صغير أبيض، لا يبرح مكانه أبدًا، والجدي والفرقدان تدور عليه. "الصحاح" للجوهري 1/ 204 (قطب)، "لسان العرب" 1/ 682 (قطب). (¬7) في (ع): (كودان). (¬8) في (د)، (ع): (حديدة). (¬9) في (أ)، (ت): (وهذا) معنى. (¬10) هذا قول الثعلبي 3/ 29 أبنصّه.

وقال الحسن: الفلك طاحونة [كهيئة فَلْكة المغزل (¬1). يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة] (¬2). وقال ابن زيد: الفلك الذي بين السماء والأرض [من] (¬3) مجاري النجوم والشمس والقمر (¬4). وهذا كقول المنجمين، جعلوا الفلك في السماء. وقال أبو عبيدة: الفلك: القطب الذي تدور به النجوم (¬5). وهذا القول بعيد؛ لأن الله تعالى قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فيجب أن يكون الفلك اسمًا لما يتضمن النجوم وتجري فيه، ويكون مدورًا. وقوله تعالى: {يَسْبَحُونَ} أي: يجرون بسرعة كالسابح في الماء، وقد قال في موضع آخر في صفة النجوم: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3]، والسبح لا يختص بالجري في الماء فقد يقال للفرس الذي يمد يديه في الجري (¬6): سابح (¬7)، ومنه قول الأعشى: ¬

_ (¬1) ذكره البخاري تعليقًا في صحيحه (كتاب التفسير- سورة الأنبياء 8/ 435) ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" 4/ 257 فقال: قال ابن عيينة في تفسيره عن عمرو، عن الحسن في قوله "كل في فلك يسبحون" قال: مثل فلكة المغزل تدور. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) زيادة من الطبري 17/ 23، والدر المنثور. (¬4) رواه الطبري 17/ 23، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 627 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 38. (¬6) في (أ)، (ت): (البحر)، وما أثبتناه من (د)، (ع) هو الصحيح والموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬7) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 338 (سبح)، بتصرف.

وَسَابحٍ ذِي مَيْعَةٍ (¬1) ضَامِر (¬2) وتَوهَّم بعضهم أن السبح يختص بالسير في الماء، فجعل الفلك موجًا من الماء تسير فيه النجوم لما رأى قوله: {يُسَبحُونَ} (¬3). وحكى الفراء هذا القول في "تفسير الفلك" (¬4). ولما وصف النجوم بفعل ما يعقل (¬5) جُمِعَ (¬6) فعلها جَمْعَ فعل ما يعقل، قال أبو إسحق: قيل {يَسْبَحُونَ} هو كما يقال لما يعقل: لأنَّ هذه الأشياء وصفت بالفعل (¬7) كما يوصف ما يعقل، كما قالت العرب -في رواية جميع النحويين-: "أكلوني البراغيث" لما وصفت بالأكل قيل: ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (منعة)، والمثبن من (د)، (ع). وهو الموافق لما في "تهذيب اللغة"، وديوان الأعشى. (¬2) هذا عجز البيت، وصدره: كم فيهم من شَطْبَة خَيْفق وهو في "ديوانه" ص 417، وفيه: ضابر، و"تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 338 "سبح"، و"اللسان" 2/ 471 (سبح). وهو أحد أبيات قصيدة يفضل فيها عامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة في المنافرة التي جرت بينهما. والمعنى: كم فيهم من جواد سابح نشيط سابق. انظر: "لسان العرب" 8/ 345 (ميع)، "القاموس المحيط" 2/ 76، "ديوان الأعشى مع التعليق عليه" ص 417. (¬3) هذا قول الكلبي، فقد ذكر الرازي 22/ 167 أنه قال: الفلك ماء تجري فيه الكواكب، واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء. ثم ردّ عليه بقوله: لا يسلم فإنه يقال في الفرس يمد يديه في الجري: سابح. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 201. (¬5) في (ع): (ما تعقل). (¬6) جمع: ساقطة من (ع). (¬7) في (ع): (بالعقل).

34

أكلوني (¬1)، وأنشد للجعدي: تَمرَّزْتُها والدِّيكُ يدعو صباحَه ... إذا ما بَنوُ نَعَش دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا (¬2) وهذا قول أبي عبيدة (¬3)، والفراء (¬4)، والمبرد، وجميع أهل اللغة (¬5). وذكرنا هذا عند قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. 34 - قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الخلد: اسم من الخلود، وهو البقاء الدائم (¬6). يقول: ما خلَّدنا قبلك أحدًا من بني آدم. يعني أن سبيله سبيل من مضى قبله من الرسل ومن بني آدم في الموت. {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} موضع الاستفهام قوله: {فَهُمْ}، ولكنه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 391 مع اختلاف يسير. (¬2) البيت أنشده الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 391 من غير نسبة، وروايته فيه: شربت بها والديك يدعو صباحه وهو في مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 38، "لسان العرب" 6/ 355 (نعش) بمثل رواية الواحدي منسوبًا للجعدي. وفي "ديوانه" ص 4 والكتاب لسيبويه 2/ 47 بمثل رواية الزَّجاج. وفي "معاني القرآن" للأخفش 2/ 644: بكرتها والديك .. من غير نسبة. قال السيرافي في "شرح أبيات سيبويه" 1/ 476: تمززتها: شربنها قليلاً قليلاً، وقوله: يدعو صباحه: أي: يدعو في وقت إصباحه، وقوله: دنوا: مالت بنات نعش إلى جانب السماء. اهـ. قال ابن منظور 6/ 355: وبنات نعش: سبعة كواكب. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 38. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 201. (¬5) كالخليل وسيبويه وغيرهما. انظر "الكتاب" 2/ 47، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 69 - 75، "إعراب القرآن" لابن الأنباري 2/ 16. (¬6) انظر: (خلد) في "تهذيب اللغة" للأرهري 7/ 277، "الصحاح" للجوهري 2/ 469، "لسان العرب" 3/ 164.

31

قدم إلى أول الكلام، وذكرنا هذا عند قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} (¬1). والمعنى: إن مت أفهم الخالدون؟ استفهام إنكاري، أي: لا يخلدون، يعني مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. فقيل لهم: إن مات محمد فأنتم أيضًا تموتون (¬2). وهو (¬3). 35 - قوله تعالى (¬4): {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. والإضافة في {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} في تقدير الانفصال؛ لأنه لما يستقبل ولكن عاقبن الإضافة التنوين. والمعنى على التنوين كقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1]، {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وقد أحكمنا هذا الفصل في سورة النساء عند قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} قال الوالبي، ¬

_ (¬1) الأنبياء: 21. ولم يتقدم البحث عند هذه الآية. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 29 ب، والبغوي 5/ 318. وقيل إن سبب هذه الآية أن بعض المسلمين قال: إن محمدًا لن يموت، وإنما هو مخلد، فأنكر ذلك رسول الله -صلي الله عليه وسلم - ونزلت. وهذا قول مقاتل. وقيل: إن سبب الآية أن كفار مكة طعنوا على النبي -صلي الله عليه وسلم - بأنه بشر، وأنه يأكل الطعام ويموت، فكيف يصح إرساله. فنزلت الآية. وهذه الأقوال لا تعتمد على رواية صحيحة، فالله أعلم. انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 145، "تفسير الرازي" 22/ 169، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 310. (¬3) (وهو): ساقط من (أ). (¬4) (تعالى): زيادة من (أ).

36

عن ابن عباس: أي: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، وكلها بلاء (¬1). وقال ابن زيد: نبلوكم بما تحبون وما تكرهون، لننظر كيف شكركم وصبركم فيما تحبون وفيما تكرهون (¬2). وقال الكلبي: {بِالشَّرِّ} بالفقر والبلايا {وَالْخَيْرِ} بالمال والولد. {فِتْنَةً} قال ابن عباس: يريد اختبارًا مني {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} تردون للجزاء بالأعمال حسنها وسيئها. 36 - قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس: يعني المستهزئين. [وهم الذين ذكرناهم في قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (¬3)] (¬4). {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} أي: ما يتخذونك إلا مهزوا به، كقوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] وقد مرَّ. وقال السدي: نزلت في أبي جهل، مرَّ به النبي -صلي الله عليه وسلم- فضحك، وقال: ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 25، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 629 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة. (¬2) رواه الطبري 17/ 25 بنحوه. (¬3) الحجر: 95. قال الواحدي في "البسيط": (إنا كفيناك المستهزئين) بك، وهم خمسة نفر من المشركين: الوليد بن المغيرة. والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث. سلط الله عليهم جبريل حتى قتل كل واحد منهم أي: بآفة وكفى نبيه شرهم. هذا قول عامة المفسرين. اهـ. والأولى أنها عامة في كل مستهزئ. (¬4) ساقط من (د)، (ع).

هذا (¬1) نبي بني عبد مناف (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ} [فيه إضمار القول (¬4)، وهو جواب إذا (¬5). وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} كلام معترض بين إذا وجوابه. قال ابن عباس في قوله: {يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}] (¬6): يعيب أصنامكم. ونحوه قال الكلبي (¬7). ¬

_ (¬1) (هذا): ساقطة من (أ)، (ت). (¬2) بنو عبد مناف بطن من بطون قريش، من العدنانية. وهم بنو عبد مناف -ومناف اسم صنم وأصل اسم عبد مناف المغيرة- بن قصي بن كلاب بن مرة. ومن أفخاد بني عبد مناف: بنو هاشم وبنو المطلب وبنو عبد شمس وبنو نوفل. وكان بنو هاشم وبنو عبد شمس متقاسمين رئاسة بني عبد مناف. انظر: "نسب قريش" للمصعب الزبيري ص 14 - 15، "البداية والنهاية" 2/ 254 - 255، "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" للقلقشندي ص 311، "معجم قبائل العرب" لكحالة 2/ 735. (¬3) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 5/ 630. وهي رواية ضعيفة, لأنها مرسلة، فلا يعتمد كونها سببًا لنزول هذه الآية. وقال الألوسي 17/ 48: وأنا أرى أن القلب لا يثلج لكون هذا سببا للنزول. اهـ. قال ابن عطية 10/ 148: وظاهر الآية أن كفار مكة وعظماءهم يعمهم هذا المعنى من أنهم ينكرون أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر آلهتهم، وذكره لهم بفساد. (¬4) في (د)، (ع): (من القول)، والمعنى: أن فيه إصمار "يقولون"، فيكون المعنى: وإذا رآك الذين كفروا -إن يتخذونك إلا هزوا- يقولون: أهذا ... (¬5) وفي جواب إذا وجه آخر وهو "إن" النافية وما في حيزها في قوله "إن يتخذونك" واستظهره أبو حيان. انظر: "البحر المحيط" 6/ 312. "الدر المصون" 8/ 155. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) ذكر ابن الجوزي 5/ 350 هذا القول من غير نسبة. وانظر. "تنوير المقباس" ص 202.

قال الفراء: وأنت قائل للرجل: لئن ذكرتني لتندمنّ. وأنت تريد: بسوء، فيجوز ذلك. وأنشد قول عنترة: لا تذكري فرسي وما أطْعَمْتُهُ ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب (¬1) أي: لا تعيبي (¬2) مهري فجعل الذكر عيبًا (¬3). وقال أبو إسحاق: يقال: فلان يذكر الناس، أي: يغتابهم، ويذكرهم بالعيوب. [ويقال: فلان يذكر الله، أي: يصفه بالعظمة، ويثني عليه] (¬4). وإنّما يحذف مع الذكر ما عقل معناه (¬5). وقال أهل المعاني: الذكر لا يكون بمعنى العيب (¬6) في كلام العرب، وحيث يراد به العيب حذف منه السوء (¬7). كما (¬8) قال الزَّجَّاج؛ فلان يذكر الناس أي: يذكر مساوءهم وعيوبهم. ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 272: لا تذكري مهري ... وفي "معاني القرآن" للفراء 2/ 203: لا تذكري مهري ... جلد الأشهب. وفي "معاني القرآن" للزجاج 3/ 392 من غير نسبة: وفيه: (لونك) في موضع (جلدك). وعند الطبري 17/ 25: لا تذكري مهري ... الأجرب. وهو من قصيدة يقولها لامرأة له تذكر خيله وتلومه في فرس كان يؤثرها. انظر: "شرح ديوان" عنترة للشنتمري ص 272. (¬2) في (أ)، (ت): (تعيين)، وعند الفراء في "معانيه" 2/ 203: لا تعيبين بأثرة مُهري. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 203. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 392. (¬6) في (أ)، (ت): (اللعب)، وهو خطأ. (¬7) في (د)، (ع): (بشر). (¬8) (كما): ساقطة من (أ)، (ت).

وقوله تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} وذلك أنهم قالوا ما نعرف الرحمن (¬1). قال صاحب النظم: "هم" الثانية (¬2) اختصاص، أي أنَّهم كافرون دون غيرهم، كما تقول في الكلام إذا قيل لك: [إنَّ زيدًا قال لك] (¬3): إنك ظالم، فقلت: بل زيدٌ هو ظالم. فهو اختصاص له من بين غيره لهذا الوصف (¬4). وقيل (¬5): إنّه تأكيدٌ للكافرين، فقد (¬6) وصفهم الله بغاية الجهل حيث هزئوا ممن جحد إلهية (¬7) من (¬8) لا نعمة له (¬9)، وهم يجحدون إلهية مَنْ كُلُّ ¬

_ (¬1) قال ابن عطية في "المحرر" 10/ 148: وظاهر الكلام أن "الرحمن" قصد به العبارة عن الله تعالى، كما لو قال: وهم بذكر الله، وهذا التأويل أغرق في ضلالهم وخطئهم. وقال ابن جزي 3/ 55: "وهم كافرون" والجملة في موضع الحال، أي: كيف ينكرون ذمك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن، فهم أحق بالملامة، وقيل -فذكر سبب النزول- ثم قال: والأولى أغرق في ضلالهم. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي 3/ 279: وفي ذكر اسمه الرحمن هنا بيان لقباحة حالهم، وأنهم كيف قابلوا الرحمن -مسدي النعم كلها، ودافع النقم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع السوء إلا هو- بالكفر والشرك. اهـ (¬2) في (ت): (البائنة)، وهو خطأ. (¬3) ساقط من (أ)، (ع). (¬4) ذكر الرازي 23/ 170 هذا المعنى باختصار. (¬5) انظر: "تفسير الرازي" 23/ 170، "البحر" 6/ 312، "الدر المصون" 8/ 155. (¬6) في (د)، (ع): (وقد). (¬7) في (د)، (ع): (الإلهية). (¬8) في (ع): (ممن). (¬9) في (أ)، (ت) زيادة: (وهم يجحدون إلهية من لا نعمة له)، وهي خطأ.

37

نعمة فهي منه (¬1) (¬2). 37 - قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية: فذهب كثيرٌ منهم إلى أن المراد بالإنسان هاهنا: آدم. وقالوا: لما نفخ فيه الروح لم تبلغ رجليه حتى استعجل، وأهوى إلى عنقود من عنب الجنة ليأكل منه، وأراد الوثوب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان، وأورث أولاده العجلة. وهذا قول عكرمة (¬3)، وسعيد بن جبير (¬4)، والسدي (¬5)، والكلبي (¬6). وقال آخرون: معناه: خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إياه، وذلك أن الله تعالى خلق آدم في آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فأسرع في خلقه قبل مغيبها. وهذا مذهب مجاهد، قال؛ خلق الله آدم بعد كل شيء آخر النهار، فلما أحيا الروح رأسه (¬7) ولم تبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس (¬8). وهذا القول اختيار قطرب قال: في قوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ ¬

_ (¬1) في (أ): (فهي منه ومنه)، وفي (ت): (فهي منه منه). (¬2) انظر: القرطبي 11/ 288. (¬3) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 630 وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) رواه الطبري: 17/ 26، وذكره السيوطي في "الدر المنثور": 5/ 630 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬5) رواه الطبري 17/ 26. (¬6) نسبه للكلبي: الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 447. (¬7) في (د) , (ع): زيادة (ووصلت إلى)، وما في (أ)، (ت). هو الموافق لما في تفسير الثعلبي. (¬8) تفسير الثعلبي 3/ 29 ب.

مِنْ عَجَلٍ} أي: من سرعة الأمر في خلقه (¬1). وقال قتادة: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قال: خلق عجولًا (¬2). وهذا القول اختيار جميع أهل اللغة (¬3) والمعاني. والإنسان هاهنا اسم الجنس. قال الفراء: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} كأنك قلت: بنيته وخلقته من العجل (¬4) وعلى العجلة (¬5). وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر الشيء: خلقت منه، كما تقول: أنت من لعب [وخلقت من لعب] (¬6)، تريد المبالغة بوصفه باللعب، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] (¬7). وقال المبرد: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: من شأنه العجلة (¬8). وهذه ثلاثة أقوال عليها أهل التفسير والمعاني. ¬

_ = وقد رواه الطبري 17/ 26، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وعزاه لابن شيبة وعبد بن حميد وابن جريج وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ في "العظمة". (¬1) لم أجد هذا القول عن قطرب. وقد ذكر الشريف الرضي في "الأمالي" 1/ 416 عن قطرب أنه أجاب بأن في الكلام قلبا، وأن المعنى: خلق العجل من الإنسان. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 24. (¬3) (اللغة): ساقطة من (أ)، (ت). (¬4) عند الفراء: العجلة. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 203. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ت). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 392. مع تقديم وتأخير. (¬8) لم أجد من ذكره عنه.

وقال أبو عبيدة: تأويل الآية على القلب، أي: خلق العجل من الإنسان (¬1). ولا وجه لحمله على القلب مع ماله على (¬2) الاستواء من المعنى المفهوم (¬3). وقال نفطويه: قال بعض الناس: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: من طين، وأنشد (¬4): والنبع ينبت بين الصخر (¬5) ضاحية ... والنخل ينبت بين الماء والعجل ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 38، ولفظه: مجازه مجاز: خلق العجل من الإنسان. (¬2) في (د)، (ع): (من). (¬3) وقد ردّ ذلك أيضًا الإمام الطبري، فقال في "تفسيره" 17/ 27: وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره. اهـ. (¬4) عجز هذا البيت في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 469 "عجل"من إنشاد نفطويه، من غير نسبة لأحد. والبيت في "غريب القرآن وتفسيره" لليزيدي ص 255، من غير نسبة، وروايته فيه: النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل منبته في السهل والعجل و"أمالي المرتضى" 1/ 469 وروايته: والنبع ينبت بين الصخر ضاحية ... والنخل ينبت بين الماء والعجل ثم قال المرتضى 1/ 470: وقد رواه ثعلب، عن ابن الأعرابي، وخالف في شيء من ألفاظه، فرواه: النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل منبته في السهل والعجل و"اللسان" 11/ 428 "عجل" بمثل رواية ثعلب، عن ابن الأعرابي، وعجزه في "الكشاف" 2/ 573 ثم قال: والله أعلم بصحته. والنغ: شجر تتخذ منه الفسي، وهو من أشجار الجبال، الواحدة منه نبعه. "لسان العرب" 8/ 345 (نبع). (¬5) في جميع النسخ: (النخل)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتنا.

قال: وليس عندي في هذا حكايته عمن يرجع إليه. [هذا كلامه] (¬1) (¬2). والعجل بمعنى الطين قد حكي من (¬3) كلام العرب. رواه أبو عمر، عن أبي العباس (¬4)، عن ابن الأعرابي (¬5). [وهو صحيح ولكنه لا يصح تفسير] (¬6) هذه الآية به، ولا يليق بالمعنى المراد من الآية. وتأويل الآية: خلق الإنسان عجولًا, ولذلك (¬7) يستعجل ربه بالعذاب. ومن قال معنى الآية: إن آدم خلق على عجلة - يقول: إنَّ ذلك أورثه وأولاده العجلة، فاستعجلوا (¬8) في كل شيء حتى العذاب. والآية نازلة في أهل مكة حين استعجلوا العذاب. قال ابن عباس -في رواية عطاء-: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} يريد: النَّضْر بن الحارث، وهو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] الآية (¬9). ¬

_ (¬1) بياض في (ت). (¬2) قول نفطويه في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 369 (عجل) وفيه تسميته بابن عرفه. (¬3) في (د)، (ع): (في). (¬4) في (أ)، (ت): (ابن عباس)، وهو خطأ. (¬5) ذكر هذه الرواية من هذا الطريق الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 369 "عجل". (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ت). (¬7) في (أ)، (ت): (وكذلك)، وهو خطأ. (¬8) في (أ)، (ت): (واستعجلوا). (¬9) ذكره ابن الجوزي 5/ 351، والرازي 22/ 171 من رواية عطاء عن ابن عباس. وذكره الزمخشري 2/ 573 منسوبًا إلى ابن عباس. وهذه الرواية عن ابن عباس باطلة كما تقدم، ولذا استظهر الزمخشري والرازي وأبو حيان وغيرهم أن المراد بالإنسان هنا: الجنس. قال الرازي 22/ 171: وهذا القول يعني القول بأن المراد بالإنسان الجنس - أولى؛ لأن الغرض ذم القوم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا =

38

وقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} قال (¬1): يريد القتل ببدر (¬2). {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} أي أنه نازل بكم. قال ابن عباس: وهو تهديد ووعيد. 38 - {وَيَقُولُونَ} يعني المشركين {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الذي تعدنا أنا نعذب. قال ابن عباس: يريدون (¬3) وعد القيامة (¬4) {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنا نعذب. ¬

_ = الإنسان على النوع. وقال أبو حيان 6/ 313: والذي ينبغي أن تحمل الآية عليه هو القول الأول؛ لأنه المناسب لآخرها. (¬1) يعني ابن عباس. (¬2) ذكره ابن الجوزي 5/ 352 ونسبه إلى مقاتل. وذكر الرازي 22/ 172 ثلاثة أقوال في الآية: أحدها: أنها هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: "فلا تستعجلون" أي: أنها ستأتي لا محالة في وقتها. ثانيهما: أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول. ثالثهما: أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن. ثم قال الرازي: والأول أقرب إلى النظم. وذكر أبو حيان في "البحر" 6/ 313 الأقوال التي ذكرها الرازي ثم قال: والأول أليق، أي: سيأتي ما يسوؤكم إذا متم على كفركم، كأنه يريد يوم بدر وغيره في الدنيا والآخرة. ا. هـ والأظهر أن المراد بالآيات ما توعدهم الله من العذاب في الدنيا كما قال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50] ويدخل فيه ضمنا يوم بدر وغيره. والعذاب في الآخرة كما قال تعالى في {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54] وكما قال تعالى في هذه الآيات بعد ذلك {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} الآيات. وقوله {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]. (¬3) في (د)، (ع): (يريد)، وما أثبتنا من (أ)، (ت). وهو الصواب. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 29 ب، وابن الجوزي 5/ 352، والقرطبي 11/ 289 من غير نسبة. والأظهر أنهم يريدوت كل ما وعدهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون في الدنيا والآخرة.

39

39 - فقال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ} العلم هاهنا بمعنى (¬1) المعرفة، فلا يقتضي (¬2) مفعولًا (¬3) ثانيًا، و {حِينَ} نصب بوقوع العلم عليه، أي: لو عرفوا ذلك الوقت وذلك الحين (¬4). {لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} [قال ابن عباس: يريد ساعة يدخلون النار] (¬5). {وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} لإحاطتها بهم {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ¬

_ (¬1) بمعنى: ساقطة من (ع). (¬2) في (ع): (ينقضي)، وفي (د): (بنقفي مهملة). (¬3) في (د)، (ع): (معروفا)، وهو خطأ. (¬4) في "يعلم" في هذه الآية ومفعوله ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره الواحدي هنا، أن "يعلم" عرفانية فهي تتعدي إلى مفعول واحد، ومفعول "يعلم" هو "حين"، فالحين منصوب على أنه مفعول به، وليس منصوبا على الظرفية، ويكون التقدير مثل ما قدره الواحدي أي: لو يعرفون حين وقوع العذاب بهم، ونحو ذلك. ثانيهما: ما ذكره الزمخشري وغيره أن فعل "يعلم" منزل منزلة اللازم، فهو متروك بلا تعدية والغرض منه إثبات الفعل لفاعله، مع قطع النظر عن اعتبار تعلق الفعل بمن وقع عليه، والمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. فلم يعتبر هنا ودوع العلم على معلومات من اتصف بذلك العلم. وعلى هذا فـ"حين" منصوب بمضمر، أي: حين لا يكفون عن وجوههم النار يعلمون أنهم كانوا على باطل. وثالثهما: ما ذكره أبو حيان: أن مفعول "يعلم" محذوف للدلالة ما قبله أي: لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستعجلوه، و"حين" منصوب بالمفعول الذي هو مجيء. واستظهر أبو حيان هذا الأخير، واستظهر الشنقيطي الأول. انظر: "الكشاف" للزمخشري 2/ 573، "البحر المحيط" لأبي حيان 9/ 313 , "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 158 - 159، "أضواء البيان" للشنقيطي 4/ 575 - 576. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (د)، (ع).

40

يمنعون مما نزل بهم. وجواب "لو" محذوف، على تقدير: لو علموا ذلك ما استعجلوا ولا قالوا متى هذا الوعد. [وقال الزَّجَّاج: وجواب "لو" محذوف، المعنى: لعلموا صدق الوعد؛ لأنهم قالوا {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}] (¬1) (¬2). وجعل الله الساعة موعدهم فقال: 40 - قوله: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} قال ابن عباس: فجأة (¬3). يعني القيامة (¬4). {فَتَبْهَتُهُمْ} قال عطاء، عن ابن عباس: تصيبهم البهتة (¬5). قال الزَّجَّاج: فتحيّرهم (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ت). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 3/ 392 - 393. قال ابن عطية 10/ 153: حذف جواب "لو" إيجازًا لدلالة الكلام عليه، وأبهم قدر العذاب لأنه أبلغ وأهيب من النص عليه. وقال ابن عاشور في كتابه "التحرير والتنوير" 17/ 70: وحذف جواب "لو" كثير في القرآن، ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب. (¬3) مثله في "تنوير المقباس" ص 202. وذكر الطبري 17/ 29، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 29 ب، "المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 153. (¬4) ذكره القرطبي 11/ 290، ثم قال: وقيل: العقوبة، وقيل: النار فلا يتمكنون من حيلة. أهـ. وقال الزمخشري 2/ 573: إلى النار أو إلى الوعد؛ لأنه في معنى النار، وهي التي وعدوها، ... أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة. قال أبو حيان في "البحر" 6/ 314: والظاهر أن الضمير عائدٌ إلى الناس. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 أعن ابن عباس في قوله "فتبهتهم" قال: تفجؤهم. (¬6) "معاني القرآن"، للزجاج 3/ 393.

41

يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيّره (¬1). وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]. ويقال: بهته: أخذه بغتة [بهتا (¬2). فعلى هذا معنى {فَتَبْهَتُهُمْ} مهو تأخذهم بغتة] (¬3): أي: تفجؤهم. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} صرفها عنهم {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون التوبة أو معذرة. 41 - ثم عزى نبيه عليه السلام فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي: كما استهزأ قومك بك {فَحَاقَ} نزل وأحاط {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} من الرسل {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي العذاب الذي استهزأوا به وكذبوا به. 42 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} يقال: كلأك (¬4) الله كلاءة أي: حفظك وحرسك (¬5). قال ابن هرمة: إنَّ سُليمي واللهُ يَكْلَؤهَا (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "بهت" في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 421، "الصحاح" للجوهري 1/ 244 "لسان العرب" لابن منظور 2/ 12. (¬2) انظر: (بهت) في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 421، "الصحاح" للجوهري 1/ 244 "لسان العرب" لابن منظور 2/ 12. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬4) في (ت): (كلال). (¬5) "تهذيب اللغة" 15/ 365 (كلأ) منسوبًا إلى الليث. وهو في كتاب "العين" 5/ 407 مادة (كلأ). (¬6) هذا صدر البيت، وعجزه: ضنَّت بشيء ما كان يرْزؤها وهو في "ديوانه" ص 55 و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 39، والطبري 17/ 30، و"تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 360 (كلأ).

وقال أبو زيد: اكتلأت من الرجل اكتلاءً، إذا ما احترست منه. ويقال: أكتلأت عيني، إذا حذرت أمرًا فأسهرك (¬1) فلم تنم (¬2). وقال المبرد: أكتلأت بهذه الدار إذا تحصَّنت بها وجعلتها تحفظك. قال ابن عباس: يريد من يمنعكم (¬3) {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ}. وقال الكلبي: {مِنَ الرَّحْمَنِ} من عذاب الرحمن (¬4). قال أبو إسحاق: معناه: من يحفظكم من بأس الرحمن (¬5). كما قال: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 63] أي: عذاب الله، كما قال في موضع آخر: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} [غافر: 29]. ونحو هذا قال الفراء (¬6). والمعنى: من يحفظكم مما يريد الرحمن إحلاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة. وهو استفهام إنكار، أي: لا أحد يفعل ذلك (¬7). وقال مجاهد في هذه الآية: من يدفع عنكم بالليل والنهار إلا ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" 10/ 362. فسهرت له. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 361 - 362 (كلأ) نقلاً عن أبي زيد. (¬3) ذكره البغوي 5/ 325 منسوبًا إلى ابن عباس. وقد روى الطبري 17/ 29 عن ابن عباس قال: يحرسكم. (¬4) ذكر هذا القول الرازي 22/ 174، والقرطبي 11/ 29، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 160 من غير نسبة لأحد. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 293. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 2/ 204. (¬7) وعلى هذا يكون المعنى: لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله البتة إلا الله تعالى؛ أي: فكيف تعبدون غيره؟. وقال أبو حيان في "البحر" 6/ 314: هو استفهام وتوبيخ. فعلى هذا يكون توجه إليهم بالتقريع والتوبيخ: كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم بالليل والنهار إلى ما لا ينفع ولا يضر.

43

الرحمن (¬1). وليس هذا بالوجه (¬2). وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} قال ابن عباس: يريد القرآن (¬3). وقال غيره: عن مواعظ ربهم (¬4). {مُعْرِضُونَ} أي لا يعتبرون. 43 - قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ} أي: تجيرهم وتحفظهم، وقوله تعالى: {مِنْ دُونِنَا} مؤخّر معناه التقديم، أي: آلهة من دوننا تمنعهم، وتم الكلام. ثم وصف اَلهتهم بالضعف فقال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} [أي: فكيف تنصرهم؟. ¬

_ (¬1) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 201 عن مجاهد دون قوله إلا الرحمن. وفي "الدر المنثور" 5/ 632: وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد .. قال: يحفظكم. (¬2) وحكى الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 478 القولين، واستظهر قول من قال: "من الرحمن" أي: من عذابه وبأسه قال: ونظيره من القرآن {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63]. وقال أبو العباس ابن تيمية في "الفتاوى" 27/ 441، 35/ 372: "قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن" بدلًا عن الرحمن. وهذا أصح القولين كقوله تعالى {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] أي: لجعلنا بدلاً منكم كما قاله عامة المفسرين، ومنه قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم. اهـ. واقتصر ابن كثير في "تفسيره" 3/ 179 على هذا القول ولم يحك غيره واستشهد له يقول الراجز: جارية لم تلبس المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا أي لم تذق بدل البقول الفستق. اهـ. (¬3) ذكره القرطبي 11/ 291 من غير نسبة. (¬4) قاله الطبري 17/ 30. وقد جمع البغوي 5/ 320 القولين، فقال: عن القرآن ومواعظ الله.

قاله ابن عباس (¬1). والتقدير: آلهتهم لا يستطيعون نصر أنفسهم] (¬2)، فقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ} خبر ابتداء محذوف دل عليه ما قبله من ذكر الآلهة، وإذا لم تقدر على منع نفسها عما يراد بها فكيف تقدر على منع عابديها؛ كما ذكره ابن عباس. وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ مِنَّا} يعني الكفار (¬3). {يُصْحَبُونَ} قال الكلبي: يقول: لا يجارون من عذابنا (¬4). وقال مجاهد: لا ينصرون (¬5). قال الفراء: {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي: يجارون، يعني الكفار (¬6). وقال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منّا أحدٌ؛ لأن المجير صاحب الجار (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره أبو حيان في "البحر" 6/ 314 عن ابن عباس. وكذلك السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 161. وانظر البغوي 5/ 320، وابن الجوزي 5/ 353، والرازي 22/ 174، والقرطبي 11/ 221 فقد ذكروا هذا القول من غير نسبة وذكروا التقديم والتأخير. ولم يذكره القرطبي. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ت). (¬3) وقيل الضمير للأصنام. وهو مروي عن قتادة. واستظهر أبو حيان هذا القول، وقال عنه الألوسي إنه الأولى بالمقام. انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي 5/ 353، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 314، "روح المعاني" للآلوسي 17/ 52. (¬4) مثله في "تنوير المقباس" ص 202. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 24، والطبري 17/ 30. وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 أ. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 202. (¬7) في "غريب القرآن": منها، صاحب لجاره. (¬8) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 286.

وعلى هذا معنى الصحبة: الإجارة، وذلك أن من صحب إنسانًا أجاره مما يخاف، تقول العرب: إنَّ لك من فلان صاحبًا، أي: يجيرك (¬1) ويمنعك (¬2). [فلما كانت] (¬3) الصحبة تقتضي الإجارة سميت الإجارة به. والعرب تقول: صحبك الله أي: حفظك الله وأجارك، ويقولون للمسافر: في صحبة الله وكلاءته (¬4). وهذا وجه صحيح، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا في رواية العوفي (¬5)، قال: ولا الكفار منا يجارون (¬6). وهو (¬7) معنى قول مجاهد: لا يُنصرون. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (مجيرك)، وما أثبتناه من (د)، (ع) هو الأنسب لما بعده. (¬2) هذا كلام الفراء في "معانيه" 2/ 205 مع تصرف يسير. (¬3) مطموس في (ت). (¬4) انظر: "صحب" في: "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 262، "لسان العرب" 1/ 520، "تاج العروس" للزبيدي 3/ 188. (¬5) رواية العوفي عن ابن عباس يرويها المفسرون -كالطبري وابن أبي حاتم وغيرهم- من طريق محمد بن سعد العوفي، عن أبيه، عن عمه الحسين بن عطية بن سعد العوفي، عن أبيه، عن جده عطية العوفي، عن ابن عباس. وقد بين ضعف هذا الطريق السيوطي في "الإتقان" 2/ 535. وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" 1/ 263: وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة، إن صح هذا التعبير، وهو معروف عند العلماء بتفسير العوفي. (¬6) رواه من طريق العوفي عن ابن عباس: الطبري 17/ 31، وابن أبي حاتم (كما في "تغليق التعليق" 4/ 258، وذكر سنده من طريق العوفي). وقد رواه الطبري 17/ 31 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، بمثله. وروى الطبري 17/ 30 - 31 وابن أبي حاتم (كما في "الدر المنثور" 5/ 632) من طريق ابن جريج قال: قال ابن عباس. (يصحبون) ينصرون. (¬7) (وهو): ساقط من (د)، (ع).

وقال المازني: أصحبت الرجل أي: منعته، وأنشد للهذلي (¬1): يرعى بروض الحَزْنِ من أبِّهِ ... قُرْيَانة (¬2) في غاية (¬3) تُصْحَبُ (¬4) (¬5) قال: تصحب: تمنع وتحفظ. قال: وهو من قول الله تعالى: {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي: يمنعون (¬6). وعلى هذا قوله: {يُصْحَبُونَ} مهه من الإصحاب لا من الصحبة. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (الهذلي). ولم يتميز لي من المراد به، فالهذليون الشعراء كثير. (¬2) (قريانة): ساقطة من (أ)، (ت). ومهملة في (ع)، و (د): (قربانة). (¬3) في (أ)، (ت): (غاية). ومهملة في (د)، (ع). (¬4) في (أ)، (ع): (بصحب). مهملة وبياض في (ت). والمثبت من (د). (¬5) إنشاد المازني لبيت الهذلي في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 263 "صحب". وهو منسوب للهذلي في: "لسان العرب" 1/ 520 "صحب" ووقع في المطبوع: قربانه في عابه. و"تاج العروس" للزبيدي 3/ 188 (صحب). والبيت أيضًا في "مقاييس اللغة" لابن فارس 1/ 6 (أب) منسوبًا لأبي داود من إنشاد شبيل بن عزرة. وهو في ديوان أبي داود الإيادي ص 296. وهو في كتاب "الذيل والتكملة" للصغاني 10/ 185: (صحب) من غير نسبة. قال محقق كتاب "الذيل والتكملة في الحاشية": وفي حاشية نسخة (ح): (أنشد الأزهري البيت للهذلي، وليس في أشعار هذيل. وقال الدينوري في كتابه النبات -وذكر الأبّ-: وقد أنشد شبيل بن عزرة بيتا مفتعلا نسب إلى أبي داود في وصف حمار وحشي، وأنشد البيت. وهو مفتعل كما قال وليس لأبي داود. اهـ. قال المازني كما في "تهذيب اللغة" 2/ 263: أبُّه: كلؤه. قُريانه: مجاري الماء إلى الرياض، الواحد: قريّ، قال: تصحب: تُمنْع وتحفظ: اهـ. (¬6) قول المازني في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 262 - 263، و"لسان العرب" 1/ 520، و"تاج العروس" للزبيدي 3/ 188. (¬7) رواه الطبري 17/ 30، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 5/ 632.

44

وعلى هذا ليس الصحبة بمعنى الحفظ، والمعنى: لا يصحبهم الله خيرًا، أي: لا يجعل رحمته أو كلاءته صاحبًا لهم، والباء في قوله (¬1) بخير للتورية. 44 - ثم ذكر الله تعالى أن هؤلاء اغتروا بطول الإمهال إذ لم يُعَجَّلوا بالعقوبة، فقال: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ} يعني أهل مكة متعهم الله بما أنعم عليهم {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} فاغترّوا بذلك، فقال الله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}. قال ابن عباس: يعني القرية تخرب حتى يكون [العمران] (¬2) في ناحية منها. قاله في رواية عكرمة (¬3). والمعنى: ألا يرون أنا نخرب القرى بأن ننقص من أطرافها نخرب ما حولها، أفلا (¬4) يخافون أن نفعل ذلك بقريتهم؟ نخربها بموتهم وهلاكهم (¬5). ¬

_ (¬1) يعني في قول قتادة. (¬2) زيادة من الطبري يستقيم بها المعنى. (¬3) رواه الطبري (16/ 494 - 495 شاكر)، من طريق عكرمة، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 667 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) في (ت): (فلا). (¬5) قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" 3/ 180 عند هذه الآية: اختلف المفسرون في معناه، وأحسن ما فسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27] والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وأهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإبحائه لعبادة المؤمنين. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 582: ما ذكره ابن كثير رحمه الله صواب، =

وهذا معنى قول مجاهد وعكرمة، قالا: ننقصها من أطرافها بالموت وقبض الناس (¬1). يخوفهم بالهلاك بعد طول الإمهال. وقال الكلبي: نفتح من أطرافها لمحمد (¬2). وهو قول السدي (¬3). وقد أحكمنا هذا القول في آخر سورة الرعد (¬4). ثم وبخهم فقال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي: أفتغلبون محمدًا (¬5)؟ وقيل: أفهم الغالبون أم نحن؟ (¬6) بعد أن فتحنا على محمد ما حول مكة. وهذا معنى قول ابن عباس: يريد بل لي الظفر، والغلبة (¬7) لأنبيائي، ¬

_ = واستقراء القرآن العظيم يدل عليه. وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله، والكفر بما جئت به "أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" أي: بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط وهم يمرّون بديارهم، وكما أهلكنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق كل ذلك بسبب تكذيب الرسل والكفر بما جاؤا به .. فاحذروا من تكذيب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم. (¬1) قول مجاهد رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 201، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 339، والطبري 16/ 496 تحقيق شاكر، وقول عكرمة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 339، والطبري 16/ 496 تحقيق شاكر. (¬2) ذكره عنه الرازي في "تفسيره" 22/ 175. (¬3) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 666 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) سورة الرعد: 41. (¬5) الطبري 17/ 32 مع تصرف يسير. (¬6) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 30 أ. (¬7) هنا يبدأ الخرم في نسخة (ت).

45

وحزبي هم الغالبون. 45 - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} الآية. ذكرنا (¬1) أن الإنذار يتعدى إلى مفعولين بغير حرف جر كقوله: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] وقوله: {أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا} [النبأ: 40]، وفي تعديته بالباء -هاهنا-، قال أبو علي: يجوز أن يكون لمّا دل على التخويف أجرى مجراه، تقول: أنذرته بكذا كما تقول: خوفته بكذا (¬2). وكذا جاء في التفسير: أخوفكم بالقرآن (¬3). والمعنى: أنذرتكم بالوحي الذي يوحيه الله إلى لا (¬4) من قبل نفسي. وذلك أن الله أمر بإنذارهم، كقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70]، ونحو هذا من أمره بالإنذار. هذا مذهب المفسرين ومعنى قولهم. وقال أبو علي: ويجوز أن يكون الوحي: الموحى، فسمى بالمصدر مثل الخلق والصيد، والموحى (¬5) هو العذاب، فيكون كقوله: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} تمثيل ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عند قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]. (¬2) "الحجَّة" لأبي علي الفارسي 1/ 253. (¬3) قال الطبري 17/ 32: أخوفكم به بأسي. وذكره البغوي 5/ 321 وابن الجوزي 5/ 354 والقرطبي 11/ 292 من غير نسبة لأحد من المفسرين. (¬4) (لا): ساقطة من (أ). (¬5) في "الحجة" 1/ 254: والوحي. (¬6) "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 254.

للكفار، يعني: كما أن الصُّم لا يسمعون النداء إذا أنذروا شيئًا كذلك هؤلاء في تركهم الانتفاع بما سمعوا، فالصم: الذين لا يسمعون. قال أبو إسحاق: الصم هاهنا: المعرضون عما يتلى عليهم من ذكر الله، فهم بمنزلة من لا يسمع (¬1). وقال أبو علي: هذا على وجه الذم لهم والتقريع بتركهم سمع ما يجب عليهم استماعه والانتهاء إليه، وقد تقول لمن تُقرّعه بتركه ما تدعوه إليه: ناديتك فلم تسمع. وقرأ ابن عامر: (ولا تُسْمِعُ الصُّمَ) (¬2) حمله على ما قبله، والفعل مسندٌ إلى المخاطب فكذلك قوله: (ولا تسمع) مسند إليه، والمعنى: أنهم معاندون، فإذا أسمعتهم لم يعملوا (¬3) بما سمعوه، ولم ينقادوا له كما لا يسمع الصم (¬4) (¬5). قال أبو علي: ولو كان كما قال [ابن عامر] (¬6) لكان: إذا تنذرهم، فأما {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} فحسن أن يتبع {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ} كقراءة العامة (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 393. (¬2) بالتاء مضمومة وكسر الميم، و"الصم" نصبًا. وقرأ الباقون: "ولا يسمع" بفتح الياء والميم، "الصم" رفعًا. "السبعة" ص 429، "التبصرة" ص 263، "التيسير" ص 155. (¬3) في (أ): (يعلموا)، وهو خطأ. (¬4) في "الحجة": الأصم. (¬5) "الحجة" لأبي على الفارسي 5/ 255 مع تقديم وتأخير. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "الحجة" 5/ 255. وليس فيه كقراءة العامة. وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 467 - 468، "الكشف" لمكي 2/ 110 - 111.

46

46 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} يقال: نفحت الرائحة تنفح نفحًا ونفوحًا, وله نفحة طيبة ونفحة خبيثة، ونفحت الدابة إذا رمحت برجلها، ونفحه بالسيف إذا تناوله شزرًا (¬1)، ونفحه بالمال نفحًا، وله نفحات من المعروف أي: دفعات (¬2). هذا معنى النفح في اللغة، ثم يقال: نفحة الريح، ونفحة الدم: أول (¬3) فورة منه (¬4). قال أبو إسحاق: أي: مسهم (¬5) أدنى شيء من العذاب (¬6). وقال المبرد: النفحة: الدفعة (¬7) من الشيء التي دون معظمه. يقال: نفحه نفحة بالسيف للضربة الخفيفة. وهذا موافق لقول ابن عباس في "تفسيره" {نَفْحَةٌ} قال: طرف (¬8). ¬

_ (¬1) في (ع): (شررًا). ومعنى تناوله شزرًا: أي: تناوله بالسيف من بعيد ومال بطعنه يمينا أو شمالا فذهب به عن الوجه وأصاب طرفا منه. انظر: "الصحاح" 2/ 697 (شزر)، 1/ 412 (نفح)، "لسان العرب" 4/ 454 - 405 "شزر". (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 11 - 112 (نفح) منسوبًا إلى الليث، إلا أن فيه (نفح الطيب) بدل (نفحت الرائحة) كما هنا. وهو في "العين" 3/ 249 (نفح) مع اختلاف يسير جدًّا. (¬3) في (د): (أوفورة)، وفي (ع): (أي: فورة)، والصواب ما أثبتنا، وهو الموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 113 (نفح) منسوبًا إلى خالد بن جنبة من رواية شمر عنه. وانظر: (نفح) في "الصحاح" 1/ 412 - 413، "لسان العرب" 2/ 622 - 623. (¬5) في (د)، (ع): (مستهم). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 393. (¬7) في (د)، (ع): (الوقعة). (¬8) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 أ، والبغوي 5/ 321، وابن =

47

وقال ابن كيسان: قليل (¬1). وقال ابن جريج: نصيب (¬2). من قولهم: نفحه من ماله إذا أعطاه. وقال غيره: أي الدفعة اليسيرة (¬3). ومعنى الآية: لئن أصابهم طرف من العذاب؛ لأيقنوا (¬4) بالهلاك، ودعوا على أنفسهم بالويل، مع الإقرار بأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك وتكذيب محمد -صلى الله عليه وسلم-. 47 - قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} القسط معناه في اللغة: العدل (¬5). وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3]. قال الفراء: {الْقِسْطَ} من صفة الموازين وإن كان موحدًا، وهو كقوله (¬6) للقوم: أنتم رضًا وعدل (¬7). وقال (¬8) أبو إسحاق: وقِسْط مثل عدل مصدر يوصف به، تقول: ¬

_ = الجوزي 5/ 354، والقرطبي 11/ 293، وأبو حيان في "البحر" 6/ 316. (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 30 أ، والقرطبي 11/ 293. (¬2) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 أ، والبغوي 5/ 321، والقرطبي 11/ 293، وأبو حيان في "البحر" 6/ 316. (¬3) ذكره القرطبي 11/ 293 من غير نسبة لأحد. والأقوال المذكورة في تفسيره "نفحة" لا يعارض بعضها بعضًا فهي اختلاف تنوع لا تضاد. (¬4) في (د)، (ع): (لا يعر)، مهملة. (¬5) انظر: (قسط) في "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 388، "الصحاح" للجوهري 3/ 1152، "لسان العرب" لابن منظور 7/ 377. (¬6) عند الفراء 2/ 205: كقولك. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 205. (¬8) في (أ): (قال).

ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط، والمعنى: ذوات قسط (¬1) واختلفوا في {الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} فقال الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان (¬2). وروي أحاديث كثيرة في الميزان الذي يوزن به الأعمال (¬3)، وذكرنا الكلام في الموازين عند قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]. وقال مجاهد: هذا مَثَلٌ وإنّما أراد بالميزان العدل (¬4). ونحو هذا روى عن قتادة والضحاك (¬5). قال أبو إسحاق: وهذا سائغ في باب اللغة، إلا أنّ الأولى أن يتبع ما جاء بالأسانيد الصحاح (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 394 مع تصرف يسير. (¬2) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 418 وعزاه لابن المنذر واللالكائي. (¬3) ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: التوحيد - باب "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" 13/ 537 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". وما رواه الحاكم في "مستدركه" 4/ 586 من حديث سلمان -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لو سعت .. " الحديث. وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني كما في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 2/ 656. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 أبهذا اللفظ. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 28، والطبري 17/ 33. (¬5) ذكره عن قتادة والضحاك الرازي 22/ 176، والقرطبي 14/ 293، وأبو حيان في البحر 6/ 316. وذكره عن الضحاك أيضًا: الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 319. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 391 عند قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} الآية (8) من سورة الأعراف. قال القشيري (كما في تفسير القرطبي =

وقوله تعالى: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال الفراء: في يوم القيامة (¬1). {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} لا ينقص من إحسان محسن (¬2)، ولا يزاد في إساءة مسيء. {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} قال الزَّجَّاج: وإن كان العمل مثقال حبة (¬3). وقال أبو علي: وإن كان الظلامة مثقال حبة. قال: وهذا حسن لتقدم ¬

_ = 7/ 165) -معلقًا على قول الزجاج-: وقد أحسن فيما قال إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا. اهـ. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 205. وحكى أبو حيان هذا القول عن الكوفيين، قال: ووافقهم عليه ابن قتيبة من المتقدّمين، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين. اهـ. وعلى هذا فاللام بمعنى "في" فيكون المعنى: ونضع الموازين القسط في يوم القيامة. وفي اللّام وجهان آخران: أحدهما: قال الزمخشري: مثلها: جئتك لخمس ليال خلون من الشهر. فعلى هذه القول تكون اللام للتوقيت بمعنى "عند"، فيكون معنى الآية: ونضع الموازين القسط عند يوم القيامة. ثانيهما: أنها على بابها من التعليل، ولكن على حذف مضاف، أي: لأهل يوم القيامة، أو: لحساب يوم القيامة وبه قال الطبري وابن عطية وغير واحد. انظر: "الطبري" 17/ 33، "المحرر" لابن عطية 10/ 158، "الكشاف" للزمخشري 2/ 574، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 316، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 164 - 165، "التحرير والتنوير" لابن عاشور 17/ 84، "أضواء البيان" للشنقيطي 4/ 585 - 586. (¬2) في (ع): (مسيء)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 394.

قوله: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} وإذا (¬1) ذكر (تُظلم) فكأنَّه ذكر الظلامة، كقولهم: من كذب كان شرًا له (¬2). وقرأ نافع: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} رفعًا (¬3) على إسناد الفعل إلى المثقال (¬4). ومثقال الشيء ميزانه من مثله (¬5)، والمعنى: وإن كان قدر مما يزن {حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}. {أَتَيْنَا بِهَا} قال أبو إسحاق: أي: جئنا بها (¬6). يعني أحضرناها للمجازاة بها. {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قال ابن عباس: أي عالمين حافظين (¬7) (¬8). والكلام في الباء التي في (¬9) {بِنَا} (¬10) ذكرناه مستقصى (¬11). ¬

_ (¬1) في "الحجة": فإذا. (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 256. (¬3) وقرأ الباقون: "مثقال" نصبًا. "السبعة" ص 429، "التبصرة" ص 263، "التيسير" ص 155. (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 256. فمن رفع "مثقال" جعل "كان" تامّة لا تحتاج إلى خبر، وتكون بمعنى: حصل ووجد ووقع. ويكون "مثقال" فاعل لـ"كان" والمعنى: وإن حصل للعبد مثقال .. "علل القراءات" للأزهري 2/ 407، "إعراب القراءات السبع" وعللها 2/ 61 - 62، "الكشف" لمكي 2/ 111. (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 80 (ثقل). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 394. (¬7) (حافظين): ساقطة من (د)، (ع). (¬8) ذكره البغوي 5/ 322. ومثله في "تنوير المقباس" ص 202. (¬9) (في): ساقطة من (أ). (¬10) في (د)، (ع): (البناء). (¬11) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]

48

قال الزَّجَّاج: موضع الباء رفع (¬1). المعنى (¬2): وكفينا حاسبين. و {حَاسِبِينَ} (¬3) منصوب على وجهين: على التمييز، وعلى الحال (¬4). وقال السدي في قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} - قال: محصين (¬5). والحَسْبُ في اللغة معناه: العد (¬6). ومن قال: حافظين عالمين؛ فلأن من حسب شيئًا حفظه وعلمه. 48 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} قال مجاهد وقادة: يعني التوراة التي تفرق بين الحلال والحرام (¬7). {وَضِيَاءً وَذِكْرًا} من صفة التوراة. قال الفراء: والواو مقحمة كهي في قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا} [الصافات: 6، 7] ¬

_ (¬1) قال ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 1/ 141: وقوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} إنَّما هو: كفى الله، وكفينا .. فالباء وما عملت فيه في موضع مرفوع -رفع- بفعله، كقولك: ما قام من أحد، فالجار والمجرور في موضع مرفوع بفعله. (¬2) (المعنى): ساقط من (د)، (ع). (¬3) (حاسبين): في هامش (أ). (¬4) انظر: "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري 1/ 168. (¬5) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 5/ 634. (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 329 (حسب). (¬7) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 450 عن مجاهد وقتادة لكن وقع عنده: فرق فيها بين الحق والباطل. وذكره ابن الجوزي 5/ 354 عن مجاهد وقتادة بمثل رواية الواحدي هنا. وقد روى سفيان في "تفسيره" ص 201 عن مجاهد قال: فرق بين الحق والضلالة. وروى الطبري 17/ 34 عن مجاهد قال: الكتاب. وفي "تفسير مجاهد" 1/ 411: الفرقان هذا الكتاب. وروى الطبري 17/ 34 عن قتادة قال: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل.

والتقدير: الفرقان ضياء وذكرا (¬1). {لِلْمُتَّقِينَ}. والواو عند البصريين لا يجوز أن تزاد، ولكن هذا كله (¬2) من نعوت التوراة: الفرقان (¬3) والضياء والذكر، فعطف بعضها على بعض (¬4). قال الزَّجَّاج {وَضِيَاءً} -هاهنا- مثل قوله: {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 46] (¬5). وقال ابن زيد: معنى الفرقان هاهنا: البرهان الذين فرَّق به بين حقه (¬6) وباطل فرعون وتلا قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] (¬7). ¬

_ (¬1) ليس هذا نصّ كلام الفراء في معانيه 2/ 205، فإنه قال فيه: (3/ 30 ب): (والواو علي هذا التأويل مقحمة زائدة كقوله (إنا زينا ...). (¬2) في (د)، (ع): (كلمة)، وهو خطأ. (¬3) في (أن): (والفرقان)، وهو خطأ. (¬4) هذا مقتبس من كلام الزجاج، فإنّه قال في "معانيه" 3/ 394: وعند البصريين أن الواو لا تزاد ولا تأتي إلا بمعنى العطف. وانظر في هذه المسألة: "سر صناعة الإعراب" 2/ 645، "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري 2/ 456 - 462، "مغني اللبيب" لابن هشام 2/ 473 - 474. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 395. (¬6) عند الماوردي وابن الجوزي: بين حق موسى. (¬7) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 450، وابن الجوزي 3/ 355. لكن ليس عندهما الاستشهاد بالآية. وقد رواه الطبري 17/ 34 بنحوه ثم قال: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل؛ وذلك لدخول الواو في الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة -كما قال من قال ذلك- لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء. ثم ذكر الطبري القول الأول الذي حكاه الواحدي عن مجاهد وقتادة، ثم قال: إن ذلك وإن كان الكلام يحتمله فإن الأغلب من معانيه ما قلنا، والواجب أن يوجه معاني كلام الله إلى الأغلب الأشهر من وجوهما المعروفة عند =

وهذا مثل قول السدي في {الْفُرْقَانَ} قال: هو النصر الذي أوتي موسى (¬1). وعلى هذا قوله "وضياء" يعني التوراة أكبر (¬2) استضاؤوا (¬3) بها حتى اهتدوا في دينهم، وكأنّه قيل: آتيناهما البرهان والنصر والضياء يعني: الكتاب الذي فيه ضياء، وذكرا للمتقين كي يذكروه ويعملوا بما فيه ويتعظوا بمواعظه. ¬

_ = العرب ما لم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسليم له من حجة خبر أو عقل. ونصر ابن القيم في "بدائع الفوائد" 2/ 15 هذا القول وأيَّد آخرون القول بأن الفرقان هنا التوراة. قال ابن كثير 3/ 181: وجامع القول في هذا أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نورًا في القلوب وهداية، وخوفا وإنابة وخشية ... وقال الألوسي 17/ 57 والمراد بالفرقان: التوراة، وكذا الضياء والذكر، والعطف كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم إلى أن قال: والمعنى: وبالله لقد آتيناهما كتابا جامعًا بين كونه فارقًا بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، وذكرًا يتعظ به الناس ويتذكرون. ثم ذكر الألوسي الأقوال الأخرى في معنى الفرقان، ثم قال عن القول الأول -يعني قول مجاهد وقتادة-: وهو اللائق بتناسق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات. (¬1) ذكره الثعلي 3/ 30 ب عن ابن زيد، وذكره المارودي 3/ 450 وابن الجوزي 5/ 355 عن الكلبي، وذكره الرازي 22/ 178 عن ابن عباس، ولم أجد من ذكره عن السدي. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: التي. (¬3) في (أ): (استيضاؤا)، وهو خطأ.

49

وكثير (¬1) مما يقع من الكلام في هذه الآية قد سبق في قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] الآية. 49 - وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي في الدنيا ولم يروه. والمعنى: يخشون ربهم غائبين عن الآخرة وأحكامها (¬2). {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} أي: من (¬3) أهوالها وعذابها {مُشْفِقُونَ} خائفون. 50 - قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ} قال أبو إسحاق: المعنى هذا القرآن ذكر لمن تذكر به وعظة لمن اتعظ (¬4). {مُبَارَكٌ} تقدم تفسيره في قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]. {أَفَأَنْتُمْ} [يا أهل مكة] (¬5) {لَهُ مُنْكِرُونَ} إياه جاحدون مكذبون. 51 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} قال مجاهد: هداه (¬6) ¬

_ (¬1) في (د): (وكبير)، وهو خطأ. (¬2) وقيل المعنى: يخافونه ولم يروه. قاله الجمهور. وقيل المعنى: يخافونه في غيبتهم وخلواتهم وحيث لا يراهم أحد. قاله الزجاج، ورجّحه ابن عطية، وقال عنه الرازي: وهذا هو الأقرب. انظر: "المحرر الوجيز" 10/ 59، ابن الجوزي 5/ 356، الرازي 22/ 179. (¬3) (من): ساقطة من (أ). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 395 إلى قوله ذكر. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬6) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 201، 202، والطبري 17/ 16. وذكره السيوطيِ في "الدر المنثور" 6/ 635 بلفظ هديناه. وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

51

ونحوه قال الزجاج (¬1)، والفراء (¬2)، واعتبرا (¬3) بقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون (¬4). وقال (¬5) مجاهد: أي: هديناه صغيرًا (¬6). وهذا قول المفسرين (¬7)، وا ختيار الفراء (¬8) والزَّجَّاج (¬9)، قالوا: آتيناه هداه حَدَثًا. وعلى هذا التقدير: من قبل بلوغه (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 395. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 206. (¬3) في (أ): (واعتبروا). (¬4) وهذا مروي عن ابن عباس، والضحاك. انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي 5/ 357، والرازي 22/ 180. قال السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 167: وهذا أحسن ما قدر به المضاف إليه. (¬5) في (ع):) قال). (¬6) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 201، 202 بلفظ: هداه صغيرا، ورواه الطبري 17/ 36، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 635 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 30 ب. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 206. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 395. (¬10) ذكره ابن الجوزي 5/ 356 من رواية أبي صالح عن ابن عباس، وحكاه الرازي 22/ 180 عن مقاتل. قال أبو حيان في "البحر" 6/ 320: وأبعد من ذهب إلى أن القدير: من قبل بلوغه، أو من قبل نبوته، .. ، أو من قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل، بخلاف: من قبل موسى وهارون، لعدم ذكرهما وقربه.

يعني: حين كان في السَّرَب (¬1)، ألهمناه الرشد والهدى حتى عرف الحق من الباطل. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي: نعلم (¬2) أنَّه موضع لإيتاء (¬3) الرشد، وأنه يصلح للنبوة (¬4). ¬

_ (¬1) السرب (بفتحتين): حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض. "لسان العرب" لابن منظور 1/ 466 (سرب). وما ذكره الواحدي هنا هو كلام الفراء في "معانيه" 2/ 206. وهذا القول معتمد على روايات خلاصتها: أن إبراهيم حين ولد خيف عليه من ملك زمانه وكان ذلك الملك قد أخبره منجموه أن ولدًا يقال له إبراهيم يولد في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا يفارق دين الملك ويكسر الأصنام، فكان الملك يقتل كل غلام يولد في ذلك الشهر من تلك السنة، فجعل في سَرَب، فبقى في ذلك السرب خمسة عشر شهرًا، ثم قال لأمه أخرجيني، فلما خرج من ذلك السرب أراه الله ملكوت السموات والأرض، كما قصه الله في سورة الأنعام. انظر: "الطبري" 11/ 474، 480 - 483. وهذه الرواية لا صحة لها، وليس لها ما يعضدها من كتاب أو سنة صحيحة، بل متلقاة عن بني إسرائيل. قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 181: وما يذكر من الأخبار عنه من إدخال أبيه له في السرب -وهو رضيع- وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسيرين وغيرهم، فعامتها أحاديث بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيحة وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفًا، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص في من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين لبينتهُ هذه الشريعة الكاملة. (¬2) (نعلم): ساقطة من (د)، (ع). (¬3) في (أ): (لإتنا)، وهو خطأ. (¬4) قال ابن عطية في "المحرر" 10/ 161: وهذا نحو قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

52

52 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [قال أبو إسحاق: (إذ) في موضع نَصْب. المعنى: آتيناه رشده في ذلك الوقت (¬1) (¬2) الذي قال لأبيه وقومه] (¬3) وهم يعبدون الصنم {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} يعني: الأصنام (¬4). والتمثال: اسم للشيء المصنوع مُشَبَّها بخلق من خلق الله. وجمعه: التماثيل. وأصله من مَثَّلْتُ الشيء بالشيء، إذا شَبَّهته به (¬5). واسم ذلك المُمَثَّل تمثال (¬6). وقوله تعالى: {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي: على عبادتها مقيمون، ¬

_ (¬1) الوقلت: ساقطة من (د). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 395 إلى هنا. وأما قوله "الذي ... " فليس من كلام الزجاج، بل هو تتمة الواحدي. وجوز أبو البقاء العكبري في "الإملاء" 2/ 134 وتبعه السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 8/ 167 أن يكون (إذ) منصوبًا بـ (رشده) أو (عالمين) أو ينتصب بإضمار أعني أو باضمار اذكر، أي: اذكر وقت. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 73، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 480. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 30 ب وعلى هذا فاللام في قوله (لها عاكفون) بمعنى (على) أي: عاكفون عليها، كقوله تعالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91]. وقيل: اللام للعله، أي: عاكفون لأجلها. وقيل: اللام أفادت الاختصاص. وقيل: ضُمِّن (عاكفون) معنى عابدين، فلذلك أتى باللام. واستظهر أبو حيان أن تكون اللام للتعليل. وقال السمين الحلبي: والأولى أن تكون اللام لتعليل، وصلة (عاكفون) محذوفة، أي: عاكفون لأجلها لا لشيء آخر. "الكشاف" للزمخشري 2/ 575، "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري 2/ 134، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 320، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 168. (¬5) عند الأزهري 15/ 98، إذا قدرته به. (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 98 (مثل). وانظر: (مثل) في: "الصحاح" 5/ 1816 "لسان العرب" 11/ 613 - 614.

53 - 55

فأجابوه بأنَّهم وجدوا آباءَهم يعبدونها، فاقتدوا بهم وقلدوهم في عبادتها، فأجابهم إبراهيم بأنَّهُم -في تقليد الآباء- وآباءهم (¬1) كانوا في ضلال مبين بعبادة الأصنام. وهذا الذي ذكرنا معنى 53 - 55 - قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} إلى قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} يعنون: أجاد أنت فيما تقول محق (¬2)، أم أنت لاعب مازح؟ وهذا جهل منهم إذ تخيلوا المحق لاعبًا هازلاً، فأجابهم إبراهيم بما يزيل تخيلهم ويدلهم على أن المستحق للعبادة هو الله لا الصنم. 56 - وهو قوله تعالى: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي: على أنه ربكم ورب السموات والأرض. 57 - قوله تعالى: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} معنى الكيد: ضر الشيء بتدبير عليه (¬3) {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} تنطلقوا ذاهبين. قال المفسرون: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا (¬4) أعجبك ديننا (¬5). فقال إبراهيم -سِرًّا من قومه (¬6) -: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} الآية. ¬

_ (¬1) في (أ): (آباؤهم)، وفي (د)، (ع): (آباءهم). والعبارة في "الوسيط" 3/ 241: فأجابهم إبراهيم بأنهم فيما فعلوه وآباءهم كانوا في ضلال مبين. وعند ابن الجوزي 5/ 357: فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءهم في ضلال مبين. (¬2) في (د)، (ع): (بحق). (¬3) في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 327 (كيد). الكيد: التدبير بحق أو باطل. وانظر (كيد) في: "الصحاح" 2/ 533، "لسان العرب" 3/ 383 - 384. (¬4) في (ع): (دينا)، وهو خطأ. (¬5) الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 ب بنصه عن السدي. والله أعلم بصحة ذلك. (¬6) في (ع): (قوطه).

58

هذا قول مجاهد وقتادة قالا: لم يسمع هذا القول من إبراهيم إلا رجل واحد، وهو الذي أفشاه عليه (¬1). وقال الآخرون: لما خرج الناس إلى عيدهم وبقي ضَعْفَى الناس قال إبراهيم: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ} الآية فسمعوها منه (¬2). 58 - قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} الجَذُّ: القطع والكسر للشيء الصلب. والجُذَاذُ: قطع ما كُسر. الواحدة (¬3): جُذاذة (¬4). وهو مثل الحُطام والرُّفات والدُّقاق (¬5). قال أبو إسحاق: وأبنية كل (¬6) ما كسر وقطع على فُعال (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 30 ب عن مجاهد وقتادة بنصه. ورواه الطبري 17/ 37 بنحوه عن مجاهد، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 636 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. وأورده الطبري 17/ 37 بمعناه عن قتادة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 637 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) هذا كلام السدي، ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 303 ب. ورواه الطبري 17/ 38. ورواه ابن أبي حاتم (كما في "الدر المنثور" 5/ 36/ أ، عن ابن مسعود نحو هذا القول والله أعلم بصحة ذلك. (¬3) في (أ): (الواحد)، وهو كذلك في "الوسيط" 3/ 242. وما أثبتناه في (د)، (ع) هو الموافق لما في "تهذيب اللغة" للأزهري10/ 470. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 469 - 47 (جذذ) منسوبًا إلى الليث. ومن قوله (والجذاذ: قطع .. جذاذة) في "العين" 6/ 11 (جذ). وانظر (جذاذ) في: "الصحاح" 2/ 561، "لسان العرب" 3/ 479. (¬5) الرفات: هو ما بلي فتفتت: "تاج العروس" للزبيدي 4/ 526 (رفث). والدقاق: هو فُتات كل شيء. "القاموس المحيط" 3/ 232. (¬6) في (أ): (كلما). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 396.

وقرأ الكسائي {جِذَاذًا} (¬1) بكسر الجيم (¬2). قال الفراء والزجاج: وهو جمع جذِيذ، مثل: ثَقيل وثِقال، وخَفيف وخِفَاف (¬3). والجذيذ بمعنى: المجذوذ، وهو المكسور. ويقال للحنطة المطحونة طحنًا غليظًا: جذيذ. قال المفسرون: لما انطلقوا إلى عيدهم رجع إبراهيم إلى بيت الأصنام، وجعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج فذلك قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} (¬4). قال أبو إسحاق: أي كَسَّر الأصنام إلا أكبرها (¬5). وهذا قول المفسرين (¬6). قال: وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه، لا في الخلقة (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (جذاذ)، وهو خطأ. (¬2) وقرأ الباقون بضمها. "السبعة" ص 44، "التبصرة" ص 264، "التيسير" ص 155. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 206، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 396. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 408، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 63 - 64. (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 30 ب، 31 أنقلاً عن السدي. وذكره الطبري 17/ 38 عن السدي. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 396. (¬6) انظر: "الطبري" 17/ 38 - 39، و"الدر المنثور" 5/ 636 - 637. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 396. قال الرازي 22/ 183 بعد ذكر الأمرين: ويحتمل في الأمرين، يعني في التعظيم والخلقة.

59، 60

وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي: لكي يرجعوا إلى إبراهيم ودينه وإلى مما يدعوهم إليه بوجوب الحجة عليهم في عبادة ما لا يدفع عن نفسه، ويتنبهوا (¬1) على (¬2) جهلهم وعظيم خطأهم. ويجوز أن يكون المعنى: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي ينصرفون من عيدهم، فيرون الأصنام على تلك الصفة فيتبين لهم ضلالتهم (¬3). 59، 60 - قوله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} قال المفسرون: لما رجعوا من عيدهم ونظروا إلى آلهتهم وهم جذاذ قالوا هذا القول مستفهمين عمن صنع ذلك ومنكرين عليه بقولهم: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي فعل ما لم يكن له أن يفعل (¬4). ويجوز أن يكون (مَن) ابتداء وخبره قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، والمعني: قالوا فاعل (¬5) هذا ظالم، فلا يكون في الكلام استفهام (¬6). والأول الوجه (¬7)؛ لأن قول من قال: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} جواب الاستفهام. ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (وبنتبهوا). (¬2) في "الوسيط" 3/ 242: إلى. (¬3) وقيل الضمير للصنم الكبير، أي: يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم، فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء. انظر: "التسهيل" لابن جزي 3/ 59. واستظهر ابن عطية في "المحرر" 10/ 162 أن الضمير لإبراهيم لدخول لعل في الكلام مما يضعف رجوع الضمير للصنم. (¬4) الطبري 17/ 39، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أ. وانظر: "الدر المنثور" 5/ 636 - 637. (¬5) (فاعل): ساقط من (ع). (¬6) وتكون (من) موصولة بمعنى الذي. (¬7) واستظهره السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 174 فتكون (من) استفهامية =

ولما قالوا هذا قال قائل منهم: أنا سمعت إبراهيم يقول {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}. وهذا على قول من قال: سمع قول إبراهيم واحد منهم فأفشاه. وعلى القول الآخر: وقال الذين سمعوا، وهم الضَّعْفَى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}. والظاهر هذا القول؛ لإضافة القول إلى جماعة. ومعنى {يَذْكُرُهُمْ} أي: بالعيب (¬1). وقد مر. {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} قال أبو إسحاق: يرتفع {إِبْرَاهِيمُ} على وجهين: أحدهما: على معنى: يقال له هو إبراهيم (¬2)، وعلى النداء على معنى: يقال له: يا إبراهيم (¬3). ¬

_ = وجملة (إنه لمن الظالمين) استئنافية لا محل لها من الإعراب. وانظر: "الإملاء" للعكبري 2/ 134. (¬1) في (أ): (بالغيب)، وهو خطأ. (¬2) و (إبراهيم) على هذا الوجه خبر مبتدأ مضمر. انظر: "الإملاء" 2/ 134، "الدر المصون" 8/ 176. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 396. وفي رفع (إبراهيم) وجه ثالث ذكره الزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري 2/ 576 - 577 بعد ذكر الوجهين اللذين ذكرهما الواحدي هنا: والصحيح أنه فاعل (يقال)؛ لأن المراد الاسم لا المسمى. وبين ابن عطية في "المحرر" 10/ 164 ذلك بقوله -بعد أن ذكر الوجهين: والوَجْه عندي أنه مفعول ما لم يسم فاعله، على أن تجعل (إبراهيم) غير دال على الشخص، بل تجعل النطق دالاً علي بناء هذه اللفظة، وهذا كما تقول: (زيد وزن فَعْل) أو (زيدٌ ثلاثة أحرف) فلم تدل بوجه على الشخص بل دللت بنطقها على نفس اللفظة. فعلى قول الزمخشري وابن عطية يكون التقدير: يقال له هذا القول وهذا اللفظ، أو يطلق عليه هذا اللفظ، و (إبراهيم) نائب فاعل لـ (يقال). وقد ذكر أبو حيان في "البحر" 6/ 324 قول ابن عطية والزمخشري، وتعقبه بأن هذا مختلف في إجازته بين النحويين، فمنهم من يجيز نصب القول للمفرد مما لا =

61

61 - ولما بلغ هذه القصة نمروذ (¬1) وأشراف قومه {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} أي بالذي يقال له إبراهيم {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما قاله فيكون ذلك حجة عليه بما فعل. وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، قالوا: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة (¬2) ¬

_ = يكون مقتطعًا من جملة ولا مفردًا معناه معنى الجملة، ولا مصدرًا ولا صفة له بل لمجرد اللفظ نحو: قلت زيدًا، إلى أن قال: ومن النحويين من منع ذلك، وهو الصحيح؛ إذ لا يحفظ من لانهم: "قال فلانٌ زيدا .. وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل. أهـ وتعقب الألوسي 17/ 64 كلام أبي حيان بقوله (وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري وابن عطية، ويكفي الظهور مرجحًا في مثل هذه المطالب. وقد ذكر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 17/ 99 - 100 مسلكا يحصل به التخلص من قول المانعين، وهو أن (يقال) مُضمن لمعنى: يُدْعى أو يسمى، فكأنَّ تقدير الآية: سمعنا فتى يذكرهم يُدْعى -أو يُسَمَّى- إبراهيم. قال ابن عاشور: ورفع (إبراهيم) على أنه نائب فاعل (يقال) لأن فعل القول إذا بُني للمجهول كثيرًا ما يُضمن معنى الدعوة أو التسمية، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحت، وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد أو يسمى إبراهيم، أي: ليس هو من الناس المعروفين. وفي رفع (إبراهيم) وجه آخر ذكره أبو البقاء العكبري في "الإملاء" 2/ 134، والسمين في "الدر المصون" 8/ 176: وهو أن (إبراهيم) مبتدأ محذوف الخبر، أي: يقال له: إبراهيم فاعلٌ ذلك. (¬1) في (ع): (نمرود). (¬2) رواه عن قتادة: الطبري 17/ 40 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 617 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. ورواه عن السدي: الطبري 17/ 40. وذكره عن الحسن وقتادة والسدي كل من: الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 451، والبغوي 5/ 324، والرازي 22/ 184 وزاد نسبته لعطاء وابن عباس. قال الألوسي 17/ 64 عن هذا القول: والترجي -يعني قوله (لعلهم) - أوفق له.

62

وقال ابن إسحاق: لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به (¬1). أي: يحضرون. وذكر الفراء والزجاج القولين جميعًا (¬2). 62 - فلما أتوا به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} الآية، أسند فعله إلى كبير الأصنام الذي لم يكسره، واختلفوا في وجه هذا. فالذي عليه المفسرون: أن إبراهيم عليه السلام أراد إقامة الحجة عليهم، فقال: فعل هذا كبيرهم، غضب من أن تعبدوا (¬3) معه هذه الصغار فكسرهن، ورووا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، كلها (¬4) في الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]. وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وقوله لساره (هي أختي) " (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 40 عن ابن إسحاق. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 206، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 396. وقد ذكر الرازي 22/ 184 عن مقاتل والكلبي أنه المراد مجموع الوجهين، فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه. (¬3) في (أ): (أن تُبد). (¬4) (كلها): ساقطة من (د)، (ع). (¬5) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 403 - 404، والبخاري في صحيحه (كتاب الأنبياء - باب قول الله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 6/ 388 فتح)، ومسلم في صحيحه (كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل 4/ 1840. وأبو داود في "سننه" كتاب الطلاق، باب: في الرجل يقول لامرأته: يا أختي 6/ 296 , والترمذي في "جامعه" كتاب: التفسير، سورة الأنبياء 9/ 5 - 6 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، مع اختلاف بينهم في بعض الألفاظ. وسبب قول إبراهيم لسارة: هي أختي ما رواه الأئمة المتقدم ذكرهم إلا الترمذي -واللفظ للإمام أحمد- وهو بقية الحديث: قال: (ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم الليلة بامرأة. قال: فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه =

قالوا: وجائز أن يكون الله أذن له في ذلك ليُوبخ (¬1) قومه ويعرفهم خطأهم، كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] (¬2)، ولم يكونوا سرقوا شيئًا. هذا مذهب المفسرين في هذه الآية] (¬3). وأما أهل المعاني فإنهم تأولوها على غير هذا الوجه. روي عن (¬4) الكسائي (¬5) أنه كان يقف عند قوله (بل فعله) ويقول. معناه: فعله من فعله، ثم يبتدئ {كَبِيرُهُمْ هَذَا} (¬6). وقال ابن قتيبة: جعل إبراهيم النطق شرطًا للفعل فقال: فعله كبيرهم هذا إنْ كانوا ينطقون (¬7). ¬

_ = معك؟ قال: أختي. وعند مسلم: (إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك). (¬1) (أ): (لتوبيخ). (¬2) ووقع في نسخة (د): (إنكم سارفون). وأثبتنا الآية. (¬3) هذا كلام الطبري في "تفسيره" 17/ 41، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 31 أ. مع اختلاف في بعض الألفاظ. وصحح البغوي 5/ 325 هذا القول للحديث: (لم يكذب ...). (¬4) (عن): ساقطة من (أ). (¬5) في (د)، (ع) (قال)، وهو خطأ. (¬6) ذكر هذا عن الكسائي الثعلبي 3/ 31 أ، والبغوي 5/ 325، وابن الجوزي 5/ 360، وأبو حيان 6/ 325، والقرطبي 11/ 300. قال ابن حجر في "الفتح" 6/ 392 عن قول الكسائي هذا: ولا يخفى تكلفه. (¬7) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أبنصه عن ابن قتيبة وهو في "مشكل القرآن" ص 268 مع تقديم وتأخير، وقال الألوسي في "روح المعاني" 17/ 65 عن قول ابن قتيبة: وهو خلاف الظاهر.

وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُمْ} اعتراض بين الكلامين كما تقول: عليه الدراهم فاسأله إن أقر. والمعنى: إن قدروا على النطق قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق والفعل. وفي ضمنه: أنا فعلت ذلك (¬1). وهذا معنى قول الزجاج (¬2). وقال غيره: هذا الكلام خرج مخرج الخبر، وليس بمعنى الخبر، إنما هو إلزام يدل على ذلك الحال، كأنه قال: بل ما تنكرون أن يكون فعله كبيرهم هذا (¬3). والإلزام قد يكون بلفظ الخبر، والمعنى فيه: من اعتقد عبادتها لزمه أن يثبت لها فعلا. أي: فعله كبيرهم فيما يلزمكم (¬4). والفراء اختار مذهب المفسرين، وقال: قد أيد الله أنبياءه بأكثر من هذا (¬5). والذين أحالوا أن يكون هذا كذبًا تأولوه على ما ذكرنا من الوجوه، وقالوا في قوله لساره هي أختي كانت أخته في الدين، وفي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي: مغتم بضلالتكم حتى كأني سقيم، وأما ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أبنصه. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 397. (¬3) هذا: ليست في (ع). (¬4) ذكره هذا القول الحاكم في "التهذيب" 6/ 151 ب، والطوسي في "التبيان" 7/ 229 - 230، والماوردي في "النكت والعيون" 3/ 452. من غير نسبة لأحد. وذكره بمعناه الزمخشري 2/ 577 قال: ويجوز أن يكون حكاية لما يقول إلى تجويز مذهبهم كأن مثال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم، فإنَّ من حق من يُعبد ويُدعى إلها أن يعبد على هذا وأشد منه. وذكره القرطبي 11/ 300 من غير نسبة. وابن جزي 3/ 60 من غير نسبة. قال: كأنه يقول: إن كان إلها فهو قادر على أن يفعل أو إنه لم يقدر فليس بإله، ولم يقصد الإخبار المحض؛ لأنه كذب. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 207.

أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات أراد إلا ثلاث كلمات هن في صورة الكذب في الظاهر، فأطلق عليها اسم الكذب لما أشبهت الكذب في الظاهر، ولم يرد به حقيقة الكذب (¬1). ¬

_ (¬1) نصَر هذا القول جماعة من العلماء منهم ابن العربي والقرطبي وابن تيمية وابن القيم. فقد ذكر ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1264 - 1265 خلاف الناس في ظاهر المقصود به، فذكر أولاً أن منهم من قال: هذا تعريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، ثم ذكر أقوالًا أخرى، ثم قال: والأول أصح لأنه عدده على نفسه، فدل على أنه خرج مخرج التعريض، وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، وهم كما قال إبراهيم لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}. فقال إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا، ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا يفعلون ولا ينفعون ولا يضرون؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم الحجة عليهم منهم. ولهذا يجوز عند الأئمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه .. " قال القرطبي في "تفسيره" 11/ 300 - بعد ذكره للخلاف: (كان قوله من المعارض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، أي: سلوهم إن يطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل. وهذا هو الصحيح؛ لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض". وقال ابن تيمية في "الفتاوى" 28/ 223: (ولكن تباح عند الحاجة الشرعية (المعاريض) وقد تُسمى كذب؛ لأن الكلام يعني به المتكلم معنى، وذلك المعنى يريد أن يفهمه المخاطب، فإذا لم يكن عل ما يعنيه فهو الكذب المحض، وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض. وهي كذب باعتبار الأفهام، وإن لم تكن كذبًا باعتبار الغاية السائغة ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم يكذب .. وهذه الثلاثة معاريض". وقال: ولهذا نفى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال: الحرب خدعة. وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها. ومن هذا الباب قول الصديق. هذا هادي يهديني -وفي عزوة بدر قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن من ماء". =

64

وأما ما احتجوا به من قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} تأويله: إنكم لسارقون يوسف، وكانوا قد سرقوه من أبيه حين أخفوه عنه في البئر (¬1). وكل هذا تكلف واحتيال مع ورود الخبر بأن إبراهيم كذب ثلاث كذبات، ويؤيد هذا حديث الشفاعة المروى في الصحيح (¬2): أن الناس إذا جاؤا إلى إبراهيم ليشفع لهم يعتذر بهذه الكذبات. 64 - قوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم فقال بعضهم لبعض {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي: هذا الرجل في مسألتكم إياه وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها (¬3). وقيل: أنتم الظالمون بعبادتكم الصغار مع هذا الكبير (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد: حيث يعُبد (¬5) من لا يتكلم (¬6). ¬

_ = وقال ابن القيم في تعليقه على "سنن أبي داود" 6/ 296 - 297: وسمى قول إبراهيم هذا كذبًا لأنه تورية. وقد أشكل على الناس تسميتها كذبة، لكون المتكلم إنما أراد اللفظ المعنى الذي قصده، فكيف يكون كذبًا؟ والتحقيق في ذلك: أنها كذبٌ بالنسبة إلى إفهام المخاطب، لا بالنسبة إلى غاية المتكلم، فإن الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم، ونسبة إلى المخاطب، فلما أراد الموري أنه يفهم المخاطب خلاف ما قصده بلفظه أطلق الكذب عليه بهذا الاعتبار، وإن كان المتكلم صادقا باعتبار قصده ومراده. (¬1) انظر القرطبي 9/ 231. (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الأنبياء 6/ 395. (¬3) "تفسير الطبري" 17/ 41، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أ. (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أ. وقد ذكره ابن الجوزي 5/ 364 عن وهب بن منبه. (¬5) هكذا في (أ). وفي (د): (حبب يعبد). وفي (ع): (حدث يعبد)، وفي "الوسيط" 3/ 343: حيث عبدتم. ولعل صواب العبارة: حيث تعبدون. (¬6) ذكره ابن الجوزي 5/ 364 وأبو حيان في "البحر" 6/ 325 منسوبًا إلى ابن عباس =

65

فعلى هذا معناه: أنتم الظالمون أنفسكم بعبادتكم من يقدر على الكلام، وكأن هذا إقرار منهم على أنفسهم بالكفر واقترابٌ من قبول (¬1) حجة إبراهيم. 65 - قوله تعالى: ثم أدركتهم الشقاوة، فعادوا إلى كفرهم وهو قوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} قال الفراء: نُكسوا نكسًا، ونكس المريض نكسا (¬2). وقال الليث: النكس: قلبك شيئًا على رأسه تنكسه، ونُكس في مرضه نُكسا (¬3). وقال شمر: النكس في أشياء، ومعناه يرجع إلى قلب الشيء ورده (¬4) وجعل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره (¬5). قال المبرد: ومنه نُكس المريض إذا خرج عن مرضه ثم عاد إلى مثله. ¬

_ = وذكره الرازي 22/ 186 بمعناه من غير نسبة وقال عنه: وهو الأقرب. وذكره القرطبي 11/ 301 بمعناه، واقتصر عليه فقال: أي: بعبادة من لا ينطق بلفظه ولا يملك لنفسه لحظة. وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس. (¬1) (قبول): ساقطة من (د)، (ع). (¬2) لم أجده في كتاب: "معاني القرآن" للفراء 2/ 20 في هذا الموطن، ولا في مظانه من تفسيره. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 70 (نكس) منسوبًا إلى الليث. ونُكْس: ضبطها الزبيدي في "تاج العروس" 16/ 577 الضم والفتح (النكس والنكس) وهو في العين 5/ 314 (نكس) مع اختلاف يسير. (¬4) في (د)، (ع): (رده)، وغير واضح في (أ). (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 71 (نكس).

وقال ابن شُمَيل نكست فلانًا في ذلك الأمر، أي رددته فيه بعد ما خرج (¬1). وهذا هو المعنى بالآية. قال الكلبي: يقول: رجعوا على أمرهم الأول الشرك بالله بعد المعرفة والصدق من قول إبراهيم (¬2). وهذا معنى قول السدي: نكسوا (¬3) في الكفر (¬4). ومعنى قول ابن عباس: نكسوا في الفتنة (¬5). والمعنى: ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم كما ينكس الذي يرد إلى أمره الأول بعدما خرج منه. وهذا معنى ما جاء في التفسير: أدركت القوم حيرة (¬6). أي: أنهم حاروا في الأمر فلم يهتدوا، وعادوا إلى التمادي في كفرهم. وقال الفراء: رجعوا عن قولهم عندما عرفوا من حُجة إبراهيم (¬7). يعني: أنهم عرفوا حجة إبراهيم فأقروا على أنفسهم بالظلم، ثم رجعوا عن ذلك، وعادوا لكفرهم (¬8) (¬9). هذا الذي ذكرنا معنى أحد القولين ¬

_ (¬1) قول ابن شميل في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 71 (نكس). (¬2) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 452 معناه من غير نسبة لأحد. (¬3) (نكسوا): ساقطة من (د)، (ع). (¬4) روى الطبري 17/ 42 عن السدي قال: في الفتنة. (¬5) رواه الطبري 17/ 42 عن السدي كما تقدم. ولم أجد من ذكره عن ابن عباس. (¬6) رواه الطبري 17/ 42 عن قتادة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 637 عن -قتادة وتصحف (حيرة) إلى (غيره) - وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 207. (¬8) في (د)، (ع): (إلى كفرهم). (¬9) تعقب الطبري 17/ 42 هذا القول بعد ذكره عن بعض أهل الحربية -يعني الفراء- فقال: (وأما قول من قال من أهل العربية ما ذكرنا عنه، فقول بعيد عن المفهوم، لأنهم لو كان رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم ما احتجوا عليه بما هو حجة =

في {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} وهو موافق لقول ابن عباس في تفسير {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}. القول الثاني في {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ}: أنهم طأطؤا رؤوسهم خجلة من إبراهيم حيث ظهرت (¬1) حجته. وحكى (¬2) الكلبي أيضًا هذا القول (¬3). واختاره بعض أهل المعاني فقال: نكسوا رؤوسهم خَجْلة. ويقال لمن أطرق: نكس بصره ونكس رأسه. ومنه قول الفرزدق: وإذا الرجال رأوا يَزيدَ رأيتهم ... خُضْعَ الرقاب نَوَاكِس الأْبصَار (¬4) ¬

_ = له، بل كانوا يقولون له: لا نسألهم، ولكن نسألك فأخبرنا من فعل ذلك، وقد سمعنا أنك فعلت ذلك. ولكن صدقوا القول فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} وليس هذا رجوعًا عما كانوا عرفوا، بل هو إقرار به. (¬1) في (ع): (أظهرت)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (حكى). (¬3) ذكره الزمخشري في "الكشاف" 2/ 577، والرازي 22/ 186، والقرطبي 11/ 301، وأبو حيان 6/ 325 من غير نسبة لأحد. (¬4) البيت في ديوانه 1/ 304، "الكتاب" 3/ 633، "الكامل" للمبرد 2/ 57 - 58، "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 72 (نكس)، الخزانة للبغدادي 1/ 204، 211. وهو من قصيدة يمدح بها آل المهلب. ويزيد المذكور في البيت هو ابن المهلب بن أبي صفرة، أحد شجعان العرب وكرمائهم، كان واليا على خراسان، ثم صار أمير العراقيين بعد موت الحجاج , كان جوادًا ممدحًا كثير الغزو والفتوح. توفي مقتولاً في صفر سنة 102 هـ. "العبر" للذهبي 1/ 93، "خزانة الأدب" للبغدادي 1/ 217. وقوله (خضع): (قال البغدادي 1/ 211: (خضع) بضمتين: جمع خضوع، مبالغة خاضع عن الخضوع وهو التطامن والتواضع، .. ويحتمل أن يكون (خُضع) -بضمة فسكون-: جمع أخضع، وهو الذي في خلقه تطامن، وهذا أبلغ من الأول، أي: ترى أعناقهم إذا رأوه كأنها خلقت متطامنة من شدة تذللهم. أهـ.

يعني: مطرقين مطأطئي الرؤوس. وكذلك من خجل واستحيا أو خزي وافتضح. والقول هو الأول. ولو فعلوا هم ذلك خجلًا لقيل: ثم نكسوا رؤوسهم، فلما قيل: نكسوا على رؤوسهم، على الفعل الذي لم يسم فاعله، ظهر أن المعنى: رُدوا على ما كانوا عليه من أول الأمر. وفيه إثبات للقضاء والقدر، وهو أن الله فعل ذلك بهم للشقاوة التي أدركتهم. وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ} فيه إضمار القول، أي: فقالوا لإبراهيم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} (¬1). قال ابن عباس: لقد علمت أن هذه الأصنام لا تتكلم (¬2). قال الزجاج: اعترفوا بعجز ما يعبدونه عن النطق (¬3). وقال الفراء: العلم بمنزلة اليمين، ولذلك لقي بما يلقى به اليمين، كقوله (¬4): والله ما أنت بأخينا. قال: ولو أدخلوا (¬5) (أن) قبل (ما) فقيل: لقد علمت أن ما فيك خير، [كان صوابًا] (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر أبو حيان 6/ 325، والسمن الحلبي 8/ 179 أن قوله (لقد علمت) جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه معمولان لقول مُضْمر، وذلك القول المُضْمر حال من مرفوع (نكسوا)، والتقدير: أي: نكسوا قائلين والله لقد علمت. (¬2) تقدم نحو هذا عن ابن عباس في قوله: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 397. (¬4) عند الفراء: كقول القائل. (¬5) عند الفراء: ولو أدخلت العرب. (¬6) ساقط من (د)، (ع). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 207 مع تصرف.

66

وذكرنا أن العلم يقع بمنزلة اليمين في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] الآية. 66 - فلما اتجهت الحجة عليهم بإقرارهم وبَّخهم إبراهيم فقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا}. قال السدي: يقول لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئاً {وَلَا يَضُرُّكُمْ} قال: يقول إذا لم تعبدوها لم يضركم. وهذا معنى قول الكلبي: لا ينفعكم إن عبدتموه ولا يضركم إن تركتموه (¬1). وفي هذا حث على عبادة من يملك النفع بالثواب إذا عبد، والضر بالعقاب إذا لم يعبد، وهو الله تعالى. 67 - ثم حقَّرهم وحقَّر معبودهم (¬2)، فقال: {أُفٍّ لَكُمْ} أي (¬3) نتنًا لكم (¬4) {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}. وذكرنا الكلام في (أف) في سورة سبحان (¬5). وقوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} قال ابن عباس: يريد العقل بعينه (¬6). ¬

_ (¬1) مثله في تنوير المقباس ص 203. (¬2) في (د)، (ع): (معبوديهم). (¬3) (أي): زيادة من (د)، (ع). (¬4) هذا تفسير الزجاج في "معانيه" 3/ 398. قال الطبري 17/ 42: (أف لكم) أي: قبحا لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله. وقال الزمخشري 2/ 577: (أف) صوت إذ صوت له عُلم أن صحابه متضجر. أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. (¬5) انظر: "البسيط" [الإسراء: 23]. (¬6) ذكر هذا المعنى أبو حيان في "البحر" 6/ 326 ولم ينسبه لأحد، حيث قال: ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء, وهو العقل فقال (أفلا تعقلون).

68

يعني: أليس لكم عقل فتعلموا أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا (¬1) عن الجواب، غضبوا. 68 - فقالوا: {حَرِّقُوهُ} قال الكلبي: قال ملكهم نمروذ: حرقوه بالنار (¬2) {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}. وقال مجاهد: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر، فقال (¬3): هل تدري يا مجاهد (¬4) من أشار بتحريق إبراهيم بالنار؟ قال: قلت: لا. قال: رجل من [أعراب فارس] (¬5) قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن وهل للفرس من أعراب؟ قال نعم، الكرد، هم أعراب (¬6) فارس، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) (وعجزوا، غضبوا): ساقطتان من (د)، (ع). (¬2) حكى هذا القول من غير نسبة لأحد: البغوي 5/ 326، والزمخشري 2/ 578 والرازي 22/ 187، وقال عنه إنه المشهور، والقرطبي 11/ 303. (¬3) في (د)، (ع):) قال). (¬4) في (أ): (محمد)، وهو خطأ. (¬5) في جميع النسخ: من الأعراب. والتصحيح والزيادة من الطبري، ليستقيم بذلك المعنى. (¬6) في (د)، (ع): (أكراد)، وهو خطأ. (¬7) (بالنار): ساقطة من (ع). (¬8) رواه الطبري 17/ 43 قال: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: تلوت .. فذكره. وإسناد هذا الأثر ضعيف جدًا، لعلل منها: أولاً: ابن حميد: هو محمد بن حميد الرازي، ضعيف "التقريب" 2/ 156. ثانيًا: سلمة: وابن الفضل: صدوق، كثير الخطأ "تقريب" 2/ 318. ثالثًا: محمد بن إسحاق مدلس. رابعًا: ليث بن أبي سليم: ضعيف.

69

وقوله تعالى: {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} أي: بتحريق إبراهيم؛ لأنه يعيبها ويطعن عليها، فإذا حرقتموه كان ذلك (¬1) نصرًا منكم إياها. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} قال ابن إسحاق (¬2): إن كنتم ناصريها، أي: لا تنصروها منه إلا بالتحريق بالنار (¬3). قال ابن عباس: ففعلوا ذلك، وألقوه في الجحيم، ثم نجاه الله منها، ووقاه حرها، وهو: 69 - قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا} قال السدي: وكان جبريل هو الذي ناداها (¬4) (¬5). فقال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} أي: ذات برد وسلامة. قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها (سلامًا) لمات إبراهيم من بردها (¬6). ¬

_ (¬1) ذلك: في حاشية (ع) .. وعليها علامة التصحيح. (¬2) في (د)، (ع): (أبو إسحاق)، وهو تصحيف. والصواب ما في (أ)؛ لأن هذا كلام ابن إسحاق كما سيأتي تخريجه، وليس هذا النص موجودا في "معاني القرآن" للزجاج. (¬3) رواه الطبري 17/ 43 عن ابن إسحاق. (¬4) في (د)، (ع): (ناداه)، وهو خطأ. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 32 أ. ورواه الطبري 17/ 44، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 639 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. قال أبو حيان في "البحر" 6/ 328: والظاهر أن القائل (قلنا يا نار) هو الله تعالى. وقال الرازي 22/ 188، وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى، وهو الأليق الأقرب بالظاهر. (¬6) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أ. ورواه الطبري 17/ 44، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 640 وعزاه للفريابي وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. وهذه الرواية عن ابن عباس منقطعة؛ لأنها من رواية السدي عن ابن عباس، والسدي لم يلق ابن عباس. وسيأتي نحوه عن علي -رضي الله عنه-. وهي رواية ضعيفة كما سيأتي تقريره.

70

قال المفسرون: لما انتهى إبراهيم إلى النار أخذت الملائكة بضبعيه (¬1) فأقعدوه على الأرض، فإذا عينُ ماء عذب وورد أحمر ونرجس، وأنزل الله زربِية (¬2) من الجنة فبُسطَت في الجحيم، وما أحرقت النَّار من إبراهيم إلا وثاقه، وبعث الله إليه جبريل مع قميص من حرير الجنة، وقال له: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي (¬3). وقال علي -رضي الله عنه- في قوله: {كُونِي بَرْدًا} قال: بردت حتى كادت تقتل (¬4)، فقال: (كوني سلامًا) لا تؤذيه (¬5). 70 - قوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} يعني التحريق بالنار {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} أي: الأخسرين أعمالًا. قال ابن عباس: وهو (¬6) أن الله سلط البعوض على نمروذ وخيله حتى ¬

_ (¬1) بضبعيه: أي: بعضديه واحدها: ضبع. انظر: "الصحاح" 3/ 1547 (ضبع). (¬2) زَرْبيَّة -بفتح الزاي وقيل: تكسر وتضم أيضًا، وسكون الراء: واحدة زرابي، والزربية: البساط، وقيل: كل ما بسط واتكىء عليه، وقيل: الطنفسَة. انظر: "لسان العرب" 1/ 447) زرب)، "تاج العروس" للزبيدي 3/ 12 (زرب). (¬3) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 31 أبتصرف، وهو مجموع من كلام السدي وكعب الأحبار ومحمد بن إسحاق بن يسار. وانظر: "الطبري" 17/ 44 - 45. قال ابن عطية في "المحرر" 10/ 169: وقد أكثر الناس في قصص حرق إبراهيم عليه السلام وذكروا مدة بقائه في النار وصورة بقائه فيها مما رأيت اختصاره هنا لقلة صحته، والصحيح من ذلك أنه ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه بردًا وسلامًا , فخرج منها سالمًا، فكانت أعظم آية. (¬4) عند الطبري: تقتله. (¬5) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 202، والطبري في "تفسيره" 17/ 44 من طريق الأعمش، عن شيخ، عن علي بن أبي طالب. وفي سنده مجهول. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 641 وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير. (¬6) في (د)، (ع): (هو).

71

أخذت (¬1) لحومهم وشربت دماءهم، فرأى عظام أصحابه وخيله تلوح، ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته (¬2). والمعنى: أنهم كادوه بسوء فانقلب عليهم ذلك. 71 - قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ} أي من نمروذ وكيده. {وَلُوطًا} وهو ابن أخ إبراهيم، وكان قد آمن به، وهاجر من أرض العراق إلى أرض الشام، فذلك قوله تعالى: {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي: بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء (¬3). وقال أبي بن كعب: سماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس (¬4). ¬

_ (¬1) عند القرطبي 11/ 305 والأظهر أنه نقله عن الواحدي: أكلت. (¬2) ذكره القرطبي 11/ 305 منسوبًا إلى ابن عباس. وذكره البغوي 5/ 329، وابن عطية 10/ 170، وابن الجوزي 5/ 368 من غير نسبة لأحد. والأظهر في معنى (الأخسرين أعمالا) ما قاله ابن عطية والزمخشري وابن عاشور: قال ابن عطية 10/ 170: وكانوا في خسارة من كفرهم وغلبته لهم. وقال الزمخشري 2/ 578: فأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين. غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمكبت، وفزعوا إلى القوة والجبروت فَنَصَره وقواه. وقال ابن عاشور 17/ 107: أي: فخابوا خيبة عظيمة، وذلك أن خيبتهم جمع لهم بها سلامة إبراهيم من أثر عقابهم وأن صار ما أعدوه للعقاب آية وتأييدًا لإبراهيم عليه السلام. ذكر الألوسي 17/ 70 نحو قول الزمخشري، ثم ذكر قول ابن عباس من غير نسبة، ثم قال: والمعول عليه التفسير الأول. (¬3) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 32 ب. (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 32 ب. وبنحوه رواه الطبري 17/ 46 من طريق =

72

ومعنى البركة: ثبوت الخير النامي (¬1). وروى العوفي عن ابن عباس {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قال: هي مكة ونزول إسماعيل بها (¬2). والمفسرون كلهم على أنها الشام (¬3). وقوله تعالى: {إِلَى الْأَرْضِ} (إلى) من صلة (نجيناه) (¬4) يعني (¬5): نجيناه ولوطًا فخرجا إلى الأرض (¬6). 72 - قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} يعني حين سأل ولدًا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فاستجاب الله دعاءه، ووهب له إسحاق ولدًا. ¬

_ = الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية عن أبي -رضي الله عنه-، وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 642 وعزاه لابن أبي حاتم فقط. وفي سند الطبري أن الحسين بن واقد وهو ضعيف وله أوهام. انظر: "تقريب التهذيب" 1/ 180، 243. والخبر مُتلقى عن أهل الكتاب، والله أعلم. وقال ابن عطية في "المحرر" 10/ 172 لما ذكر هذا الأثر: وهذا ضعيف. (¬1) انظر: (برك) في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 230 - 231، "الصحاح" للجوهري 4/ 1575، "المفردات" للراغب الأصبهاني ص 44. (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 33 أمن رواية العوفي عن ابن عباس. ورواه الطبري 17/ 47 من طريق العوفي عن ابن عباس. (¬3) اختاره الطبري 17/ 47، وصوبه الثعلبي 3/ 33 أ. (¬4) نجيناه: ساقط من (أ). (¬5) في (د)، (ع): (أي. (¬6) يريد المؤلف أن قوله (ونجيناه) مُضمن لمعنى أخرجناه بالنجاة، فلما ضُمن معنى أخرج تعدى (ونجيناه) بحرف الجر (إلى). ذكر هذا الوجه أبو حيان 6/ 329, والسمين 8/ 180. وذكر أبو حيان احتمالا آخر وهو أن حرف الجر (إلى) يتعلق بمحذوف في موضح الحال من الضمير في (ونجيناه) أي: ونجيناه منتهيًا إلى الأرض. ولا تضمين في (ونجيناه) على هذا القول. وانظر: "الدر المصون" 8/ 180 - 181.

وقوله تعالى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} النافلة: اسم على فاعله، ليس له فعل, وهو كالنفل. ومعناه: الزيادة [على الأصل] (¬1) (¬2). ذكرنا (¬3) ذلك عند قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]. والنافلة: ولد الولد؛ لأن الأصل كان الولد [فصار ولد الولد] (¬4) زيادة على الأصل (¬5). قال ابن عباس: نَفَّله يعقوب. يريد: زيادة، زاده يعقوب من إسحاق (¬6). وهذا قول أبي بن كعب، وقتادة، وابن زيد (¬7)، قالوا: سأل واحدًا فأعطاه الله يعقوب زيادة على ما سأل. فعلى هذا النافلة يعقوب خاصة ومعناها: الزيادة على الأصل. وقال آخرون: معنى النافلة -هاهنا- العطية، وكل عطية تبرع بها معطيها فهي نافلة. ¬

_ (¬1) ساقط من (د)، (ع). (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 355 (نفل) بنحوه. وانظر (نفل) في: "الصحاح" للجوهري 5/ 1833، "لسان العرب" لابن منظور 11/ 671 - 672، "بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي 5/ 109. (¬3) في (د)، (ع): (وذكرنا). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 356 (نفل) بنصه. (¬6) ذكره الثعلي في "الكشف والبيان" 3/ 33 أعن ابن عباس. وقد رواه الطبري 17/ 49 بمعناه عن ابن عباس من طريق العوفي. (¬7) ذكره عنهم الثعلبي 3/ 33 أ. ورواه الطبري 17/ 48 عن قتادة وابن زيد.

وهذا مذهب مجاهد وعطاء في هذه الآية، قالا: معنى النافلة العطية, وإسحاق ويعقوب كانا جميعًا من عطاء الله تعالى (¬1). وعلى هذا النافلة لا يختص بيعقوب. والأكثرون على القول الأول وهو اختيار الفراء والزَّجَّاج. [قال الفراء: النافلة: يعقوب خاصة؛ لأنه ولد الولد (¬2). ونحو هذا قال الزجاج] (¬3) (¬4). وقال الأزهري في هذه الآية: وهبنا لإبراهيم إسحاق، وكان كالفرض له، ثم قال: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} فالنافلة يعقوب خاصة؛ لأنه ولد الولد، أي: وهبناه له (¬5) زيادة على الفرض له (¬6). وعلى هذا القول الحسن والضحاك (¬7) والكلبي؛ لأنهم قالوا في قوله: {نَافِلَةً}: فضلاً. قال الكلبي: وهو ولد الولد (¬8). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 أبنصه، عن مجاهد وعطاء. وقد رواه عن مجاهد مختصرًا الطبري في "تفسيره" 17/ 48 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 643 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وعن عطاء رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 202، والطبري 17/ 48. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 207. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (د)، (ع). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 398. (¬5) في جميع النسخ: (وهبنا له)، والتصحيح من "تهذيب اللغة" للأزهري. (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 356 (نفل). وبقية كلامه: وذلك أن إسحاق وهب له بدعائه، وزيد يعقوب تفضلا. (¬7) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" (3/ 33 أ) عن الحسن والضحاك. (¬8) روى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 24 عن الكلبي قال: دعى بإسحاق فاستجيب له =

ويصح الوقف (¬1) على إسحاق في هذا القول ثم يبتدئ {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} على معنى: وزدناه (¬2) يعقوب نافلة. واختار أبو جعفر النحاس (¬3) القول الثاني وقال: الظاهر (¬4) في العربية أن يكون الثاني معطوفًا على الأول، داخلًا فيما دخل فيه من غير إضمار فعل (¬5). ¬

_ = وزيد يعقوب. قال ابن جزي الكلبي 3/ 62: واختار بعضهم الوقف على (إسحاق) لبيان المعنى، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول. (¬1) في (ع): (الولد)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (وزيادة)، والصواب ما أثبتناه من (د)، (ع). (¬3) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس، المصري، النحوي، اللغوي، المفسير، الأديب. سمع الحديث، وأخذ عن أصحاب المبرد كالزجاج وغيره. وصنف تصانيف نافعة منها "معاني القرآن"، و"إعراب القرآن"، و"الناسخ والمنسوخ". و"القطع والآئتناف" وغيرها. توفي في ذي الحجة سنة 338 هـ. "طبقات النحويين واللغويين" ص 239، "معجم الأدباء" 4/ 224 - 230، "إنباه الرواة" 1/ 136 - 139، "سير أعلام النبلاء" 15/ 401 - 402، "البداية والنهاية" 11/ 222، "بغية الوعاء" 157، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 68 - 70. (¬4) في القطع والائتناف: البين. (¬5) "القطع والائتناف" للنحاس ص 476. واختار هذا القول ابن عطية لأنه أبين. انظر: "المحرر" 10/ 173. وقال عنه الرازي 22/ 191 إنه أقرب، لأنه تعالى جمع بينهما، ثم ذكر قوله (نافلة) فإذا صلح أن يكون وصفًا لهما فهو أولى. وقال الطبري 17/ 48: النافلة: الفضل من الشيء يصير إلى الرجل من أي: شيء كان كذلك، وكلا ولديه إسحاق ويعقوب كان فضلاً من الله تفضل به على إبراهيم، وهبة منه له. وجائز أن يكون عني به أنه آتاهما إياه جميعًا نافلة منه له، وأن يكون بمعنى أنه آتاه نافلة يعقوب، ولا برهان يدل على أي: ذلك المراد من الكلام، فلا شيء أولى -أن يقال في ذلك- مما قال الله: ووهب الله لإبراهيم إسحاق ويعقوب نافلة.

73

وقوله تعالى: {وَكُلًّا} يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب (¬1) {جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أنبياء عاملين بطاعة الله. 73 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} سبق الكلام في الأئمة عند قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] والمعنى: جعلناهم رؤساء يقتدى بهم في الخير {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك (¬2) (¬3). قال ابن عباس: يدعون إلى عبادة الله (¬4). {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} قال ابن عباس: شرائع النبوة (¬5). {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} قال الزجاج: إنما جاز حذف الهاء من إقامة؛ لأن الإضافة عوض منه، ولا يجوز -عند (¬6) الإفراد (¬7) - بغير هاء (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 17/ 49، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 أ. وجزم أبو حيان في "البحر" 6/ 329 أنه (وكلا) يشمل كل من ذكر: إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 592: وهو الظاهر. وما قاله أبو حيان واستظهره الشنقيطي ليس بظاهر، بل ما ذكره الواحدي -وهو قول الطبري والثعلبي وجماعة المفسرين- هو الأظهر, لأنه كما قال ابن عاشور 17/ 109: الحديث الأخير فيهم، وأما لوط فإنه ذكر على طريق المعية، وسيخُص بالذكر بعد هذه الآية- انتهى. (¬2) (بذلك) ساقطة من (د)، (ع). (¬3) "تفسير الطبري" 17/ 49. (¬4) نحوه في "تنوير المقباس" ص 203. (¬5) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 369، وذكره البغوي 5/ 331 من غير نسبة. (¬6) (عند) ليست في (د)، (ع). وكأنها في (أ): (عنده). (¬7) يعني عدم الإضافة. (¬8) عبارة الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 398 هي: (إقام) مفرد قليل في اللغة، =

74

{وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} قال ابن عباس: مطيعين (¬1). 74 - قوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ} انتصب (لوطًا) (¬2) بفعل مُضْمر تقديره: وآتينا لوطًا آتيناه. والنصب هاهنا أحسن من الرفع؛ لأن قبل (آتينا) فعل (¬3) وهو قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ} وليس كقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (¬4) ويجوز أن يكون منصوبًا على: واذكر لوطًا. وهذا كله قول الفراء والزجاج (¬5). وقوله تعالى: {حُكْمًا} قال ابن عباس: يريد النبوة (¬6). ¬

_ = تقول: أقمت إقامة. فأما (إقام الصلاة) فجائز؛ لأن الإضافة عوض من الهاء. أهـ. فأنت ترى أن الزجاج لم يقل: ولا يجوز -عند الإفراد- لغيرها: بل قال عن هذا أنه قليل في اللغة وسيأتي الكلام على هذه المسألة عند قوله تعالى {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 37] لأن الواحدي بسط الكلام هناك. (¬1) ذكره بالقرطبي 11/ 305 من غير نسبة لأحد. (¬2) (لوطًا): ساقطة من (د)، (ع). (¬3) هكذا في جميع النسخ: (فعل)، وفي "معاني القرآن" للزجاج 3/ 398: فعلا. (¬4) النور: 1. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 207 - 208، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 398 - 399. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 75، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 480، " الإملاء للعكبري" 2/ 135. (¬6) ذكره الماوردي 3/ 455 منسوبًا إلى .. ، وذكره ابن الجوزي منسوبًا إلى ابن عباس، وذكره الزمخشري 2/ 579 من غير نسبة. وقيل المراد بـ (حكماً): (حمة. وقيل: فصل القضاء بين الخصم. قال الشنقيطي 4/ 594 بعد ذكره للأقوال المتقدمة: أصل الحكم: المنع. فمعنى الآيات: أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل.

75

{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} يعني أهلها، والقرية سدوم (¬1)، والمراد بالخبائث إتيان الذكور [في قول ابن عباس والمفسرين (¬2). وجمعها لإضافتها إلى فاعليها، وإن كان إتيان الذكور] (¬3) خصلة واحدة من الخبائث. وقيل: إنه أراد ذلك وسائر ما كانوا يأتونه من المنكرات (¬4). ثم ذمهم يقول: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}. 75 - قوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} قال ابن عباس: يريد الجنة (¬5). وقال غيره: أدخلناه في رحمتنا بإنجائنا إياه من القوم السوء وهلاكهم (¬6). {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} يعني من الأنبياء. ¬

_ (¬1) سَدُوم: بالدال المهملة، وقيل بالذال المعجمة، قرية بالشام، وهي أكبر مدائن قوم لوط. انظر: "معجم البلدان" 5/ 53، "مراصد الاطلاع" 2/ 700. (¬2) ذكره الماوردي 3/ 455، والقرطبي 11/ 309 من غير نسبة. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) انظر: "الطبري" 17/ 49، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 أ. (¬5) نحوه في "تنوير المقباس" ص 203. وذكره الزمخشري 2/ 579، والقرطبي 11/ 306 من غير نسبة، وذكر الرازي 22/ 192 عن ابن عباس والضحاك أنهما قالا: الثواب. وهو بمعنى ما هنا. (¬6) هذا قول الطبري في "تفسيره" 17/ 49. قال الثشقيطي 4/ 595: (في رحمتنا) شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة، كما في الحديث الصحيح "تحاجت الجنة والنار" الحديث، وفيه: "فقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" أهـ. والحديث الذي أشار إلى الشنقيطي رواه البخاري كتاب: "التفسير" (تفسير سورة ق) 8/ 595 فتح ومسلم كتاب "الجنة وصفة نعيمها وأهلها" 4/ 2186.

76

76 - قوله تعالى: {وَنُوحًا} منصوب على معنى واذكر نوحًا (¬1) كذلك من ذكر بعده من النبيين في هذه السورة (¬2). {إِذْ نَادَى} دعا ربه {مِنْ قَبْلُ} من قبل إبراهيم ولوط لأنه كان قبلهما (¬3)، دعا على قومه بالهلاك فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ} [نوح: 26] الآية. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} يعني من كان معه في سفينته {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال ابن عباس: يريد الغرق وتكذيب قومه له (¬4). 77 - قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أن منعناه منهم أن يصلوا إليه ¬

_ (¬1) (نوحًا) ساقطة من (أ). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 399 مع اختلاف يسير. وفي نصب (نوحًا) وجه آخر: وهو أنه معطوف على (لوطا) فهو مشترك معه في عامله الذي هو (آتينا) المفسر بـ (آتيناه) الظاهر، وكذلك (داود وسليمان)، والتقدير: ونوحا آتيناه حكما، وداود وسليمان آتيناهما حكما. "الإملاء" للعكبري 2/ 135، "الدر المصون" 8/ 84 - 185. (¬3) قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 17/ 113: وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أنبياءه سنته المرادة له، تعريضًا بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسله شاذة ولا فاذة. (¬4) ذكره البغوي 5/ 331، وابن الوزي 5/ 370، والرازي 22/ 193 منسوبًا إلى ابن عباس. وقال الرازي عن هذا القول بعد ذكره لثلاثة أقوال في الكرب أولهما: أنه الغرف وثانيهما: أنه تكذيب قومه له، وثالثهما: أنه مجموع الأمرين وعزاه لابن عباس: وهو الأقرب؛ لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة، وكان ينال منهم كل مكروه، وكان الغم يتزايد بسبب ذلك، وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضًا على غم وخوف من حيث أنه لم يعلم من الذي يتخلص من الغرق ومن الذي يغرق، فأزال الله عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن معه. وعلى الوجه الثاني اقتصر ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 185.

78

بسوء. و (من) في قوله: {مِنَ الْقَوْمِ} (¬1) من صلة معنى النصر (¬2). قال المبرد: وكأن تقديره: ونصرناه من مكروه القوم (¬3). وقال أبو عبيدة (من) بمعنى على (¬4). والأول الوجه. وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [قال الكلبي] (¬5): يعني الصغير والكبير (¬6)، فلم يبق منهم أحد (¬7). 78 - قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} أكثر المفسرين على أن الحرث كان كرمًا قد نبتت عناقيده (¬8). وهو قول ابن مسعود (¬9)، ومسروق (¬10)، ¬

_ (¬1) (من القوم) ساقطة من (د)، (ع). (¬2) وعلى هذا الوجه (نصرناه) ضمن معنى منعناه، وقدره بعضهم بعضمناه أو أنجيناه، ولما ضمن هذا المعنى عدي تعديته، فعدى بـ (من). انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 330، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 184، "أضواء البيان" للشنقيطي 4/ 530. قال ابن عاشور 17/ 113: وهو أبلغ من تعديته بـ (على) لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المنعة والحماية فلا يناله العدو بشيء، وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة. أهـ. (¬3) ذكره الرازي 22/ 194 عن المبرد. (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 33 أ، ولم أقف عليه في مجال القرآن. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬6) (والكبير) ساقط من (د)، (ع). (¬7) ذكره القرطبي 11/ 306 من غير نسبة لأحد. وانظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 185. (¬8) في (د)، (ع): (عنبًا قيده). (¬9) رواه الطبري 17/ 51، والحاكم 2/ 885، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 118، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 546، وعزاه لابن جرير وابن مردويه والحاكم والبيهقي في "سننه". (¬10) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 205، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 26، =

ومعمر (¬1)، وشريح (¬2)، وابن عباس في رواية عطاء (¬3). وقال قتادة: كان زرعا (¬4). وقوله تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي: رعت ليلًا. في قول جميع المفسرين (¬5). قال ابن السكيت: النَّفْشُ: أن تنتشر (¬6) الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ. وقد أنفشها صاحبها، إذا أرسلها بالليل ترعى بلا راعٍ. وهي غنم نُفَّاش (¬7) وَنَفَاش ونَفَش (¬8). وأنشد: ¬

_ = وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 546، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 26. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" 17/ 51، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 33 أ. (¬3) ذكره عن ابن عباس: البغوي 5/ 331 من غير نص على أنه من رواية عطاء. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 26، والطبري 17/ 50. وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 33 أ. قال الطبري 17/ 51: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} والحرث: إنما هو حرث الأرض. وجائز أن يكون ذلك كان زرعًا، وجائز أن يكون غرسًا، وغير ضائر الجهل بأي ذلك كان. (¬5) انظر: "الطبري" 17/ 51 - 53، و"الدر المنثور" للسيوطي 5/ 646 - 647. (¬6) في (أ): (إذ ينتشر)، وفي (ع): (أو ينشر)، والتصويب من "تهذيب اللغة" و"إصلاح المنطق". (¬7) كرُمَّان. كذا ضبطها الزبيدي في "تاج العروس" 17/ 422 (نفش). (¬8) بالتحريك كذا ضبطها الجوهري في "الصحاح" 3/ 10 (نفش)، والفيروزآبادي في "القاموس المحيط" 2/ 290 (نفش). وذكر الزبيدي في "تاج العروس" 17/ 422 (نفش) وجهًا آخر وهو: نفَّش، كَسْكَّر.

فما لها الليلة من إنفاش (¬1) وقال الليث. إبلٌ نَافِشَةٌ ونَوَافِشٌ، وهي التي تردد بالليل في المرعى (¬2) بلا راعٍ (¬3). وكانت هذه القصة على ما ذكره المفسرون: أن رجلين (¬4) دخلا على ¬

_ (¬1) هذا الشطر من الرجز في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 377 من إنشاد ابن السكيت في رواية الحرّاني عنه، وقبله: أجرس لها يا ابن أبي كباش والشطر المستشهد به ليس في إصلاح المنطق لابن السكيت (ص 41) وإنما فيه الشطر الأول: أجرس .. لكن ذكر الشطرين أبو البقاء العكبري في كتابه "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" 2/ 783، ونسب الرجز لرجل من بني فقعس، قال: ويقال: هو لمسعود عبد بني الحارث بن حجر الفزاري. والشطر في "التكملة" للصاغاني 3/ 331 منسوبًا لمسعود عبد بني الحارث. وفي "تاج العروس" 17/ 406 (نجش) منسوبًا لأبي محمد الفقعسي، أو مسعود. ومن غير نسبة في: "الصحاح" 3/ 1022 (نفش)، "اللسان" 6/ 36 (جرس)، 6/ 351 (نفش)، 6/ 358 (نفش). وكلام ابن السكيت في "تهذيب اللغة" للأزهري (11 - 376 - 377) (نفش) مع اختلاف في العبارة، وليس في التهذيب: ونفاش ونفش. وهو أيضًا في "إصلاح المنطق" لابن السكيت ص 41. (¬2) في (د)، (ع): (المراعي). (¬3) "العين" 6/ 268 (نفش): (وإبل نوافش): ترددت بالليل في المراعي بلا راعٍ. وفي "مقاييس اللغة" لابن فارس 5/ 461 (نفش): (نفشت الإبل: ترددت وانشرت بلا راع، وفعلها نفش، وإبل نُفَّاش ونوافش. (¬4) ذكر ابن عاشور 17/ 119: أن ما ورد في الروايات عن ذكر رجلين، فإنما يحمل على أن الذين حضرا للحصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث، وإلا فإن الغنم كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ ذلك من قوله تعالى (غنم القوم)، وكذلك كان الحرث شركة بين أناس كما يؤخذ ذلك مما أخرجه ابن جرير من كلام مرة ومجاهد وقتادة، وما ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم عن مسروق .. أهـ. بتصرف.

داود، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا (¬1) أنفلتت (¬2) غنمه ليلاً فوقعت في حرثي ولم (¬3) تبق منه شيئًا، فقال (¬4): لك رقاب الغنم، فقال سليمان -وهو عنده: أو غير ذلك؟: ينطلق أصاب الكرم (¬5) بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم، فقال داود: القضاء ما قضيت، وحكم بذلك، فهو قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (¬6). قال ابن عباس: يريد لم يغب عني من أمرهم شيئًا. قال الفراء: جمع اثنين فقال (لحكمهم) وهو يريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع (¬7)، وهو مثل قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} (¬8) [النساء: 11] يريد: أخوين (¬9). وقال غيره: إنما جمع لذكر القوم الذين تحاكموا إليه، والحكم لا ¬

_ (¬1) (هذا) ساقطة من (ع). (¬2) في (أ): (انفتلت)، وفي (د): (انقلبت)، وفي (ع): (انقلب) مهملة. والتصويب من "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 أفالنص منقول عنه. وانفلتت: من الانفلات وهو التخلص من الشيء فجأة من غير تمكث. "لسان العرب" لابن منظور 2/ 66 (فلت). (¬3) في (د)، (ع): (فلم). (¬4) يعني داود عليه السلام. (¬5) الكرم: العنب. "الصحاح" للجوهري 5/ 2020 (كرم). (¬6) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 أ- ب، و"تفسير الطبري" 17/ 51 - 54. (¬7) عند الفراء: إذ جمع اثنين. (¬8) في جميع النسخ: (وإن)، وهو خطأ. (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 208 مع تصرف في العبارة. وفيه: أخوين فما زاد.

79

ينفك عن تعلقه بالمحكوم له وعليه، ولذلك جمع (¬1). وقال (¬2) الكلبي: قَوَّم داود الغنم والكرم، فكانت (¬3) القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وأمَّا في حكم سليمان فذكر أن القيمتين كانتا (¬4) مستويتين: قيمة (¬5) ما نالوا من الغنم، وقيمة ما أفسدت الغنم من الكرم (¬6). 79 - قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي: القضية (¬7) والحكومة، فكنَّى عنهما؛ لأنه قد (¬8) سبق ما يدل عليها من ذكر الحكم. [وهذا الحكم] (¬9) الذي حكما (¬10) به بعضه موافق لشرعنا، وبعضه مخالف. أما الموافق فهو الحكم بالضمان على صحابي الماشية إذا أفسدت بالليل حرثًا، وكذا هو في شرعنا وهو ما رواه الزهريّ، عن حرام بن سعد ابن محيصة (¬11): ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الطبري 17/ 51. وبه علل الجمع ابن عطية 10/ 184، والزمخشري 2/ 576 وغيرهما. (¬2) في (د)، (ع): (قال). (¬3) في (د)، (ع): (وكانت). (¬4) (كانتا) ساقطة من (د)، (ع). (¬5) (قيمة) ساقطة من (أ). (¬6) من قوله: فذكر أن القيمتين .. إلى هنا. هذا كلام الفراء بنصه في "معانيه" 2/ 208. (¬7) في (د)، (ع): (القصة). (¬8) (قد) ليست في (د)، (ع). (¬9) ساقط من (أ). (¬10) في (أ): (حكمنا)، وهو خطأ. (¬11) هو حرام بن سعد بن مُحيصة بن مسعود بن كعب الأنصاري، أبو سعد ويقال: أبو سعيد. روى عن جده محيصة، والبراء وقيل لم يسمع من البراء. وروى عنه =

أن ناقة للبراء (¬1) بن عازب دخلت حائطًا لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى على البراء بن عازب بما أفسدته الناقة، وقال: "على أصحاب الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط (¬2) حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار" (¬3). ¬

_ = الزهري على اختلاف عليه فيه -توفي بالمدينة سنة 113 هـ. قال الذهبي وابن حجر: ثقة. "طبقات ابن سعد" 5/ 258، "الثقات" لابن حبان 4/ 184، "الكاشف" للذهبي 1/ 211، "تهذيب التهذيب" 2/ 223، "تقريب التهذيب" 1/ 157. (¬1) في (أ): (البراء). (¬2) في (د)، (ع): (الحائط). (¬3) هذا الحديث -بهذا اللفظ- ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 33 ب من رواية الزهري، عن حرام بن محيصة. وهذا الحديث رواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، عن حرام بن محيصة، مرسلا: ومن طريق الإمام مالك رواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 435، والبيهقي في "سننه" 8/ 341، والبغوي في "تفسيره" 5/ 332. ورواه ابن ماجة في "سننه" (أبواب الأحكام -الحكم فيما أفسدت المواشي بالليل 2/ 42 عن طريق الليث، عن الزهري، عن حرام، بنحوه مرسلاً. ورواه الطبري 17/ 53 من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن حرام، بنحوه مرسلا. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 436، والبيهقي في "سننه" 8/ 342 من طريق سفيان ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وحرام بن محيصة، بنحوه مرسلاً. قال ابن عبد البر في "التمهيد" 11/ 81 - 82: هكذا رواه جميع رواة الموطأ -فيما علمت- مرسلا، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب مرسلا إلا أن ابن عيينة رواه عن الزهري عن سعيد ابن المسيب وحرام بن محيصة. ثم قال: هذا الحديث -وإن كان مرسلاً- فهو حديث مشهور، أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز، وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة به العمل، وقد زعم الشافعي أنه تتبع مراسيل سعيد بن المسيب فألفاها صحاحًا وأكثر الفقهاء -يحتجون بها. أهـ. لكن قد رواه بعض أصحاب الزهري، عنه. موصولاً: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = فرواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 14/ 221 وابن ماجة في "سننه" (أبواب الأحكام) الحكم فيما أفسدت المواشي بالليل 2/ 42، والبيهقي في "سننه" 8/ 341 من طريق سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن البراء قال: أن ناقة لآل البراء أفسدت .. ، فذكره بنحوه. - ورواه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 295، والبيهقي في "سننه" 8/ 341 من طريق محمد بن مصعب وأبو داود في "سننه" كتاب: البيوع، باب: المواشي تفسد زرع قوم 9/ 483، والبيهقي في "سننه" 8/ 341 من طريق الفريابي، والبيهقي في "سننه" 8/ 341 من طريق أيوب بن سويد، كلهم -يعني ابن مصعب والفريابي وابن سويد- عن الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بنحوه. وقد خالف هؤلاء الثلاثة أبو المغيرة -من أصحاب الأوزاعي- فرواه عن الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام، مرسلا. لم يذكر البراء. لكن المقدم رواية الثلاثة؛ لأنهم جماعة وأبو المغيرة فرد. قاله الألباني. -ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 82 عن معمر، عن الزهري، عن ابن محيصة، عن أبيه، أن ناقة للبراء. فذكر نحوه. وقد رواه من طريق عبد الرزاق - بزيادة أبيه- الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 436،، أبو داود في "سننه" كتاب: البيوع، باب: المواشي تفسد زرع قوم 9/ 483، والبيهقي في "سننه" 8/ 342 والواحدي في "تفسيره الوسيط" 3/ 246. قال البيهقي في "السنن" 8/ 341 بعد ذكره لهذه الرواية: وقد خالفه -يعني عبد الرزاق- وهيب وأبو مسعود الزجاج عن معمر، فلم يقولا: عن أبيه. وقد ذهب الألباني إلى تصحيح رواية الأوزاعي وابن عيسى الموصولة، وقال في سلسلة الأحاديث الصحيحة (مج 1/ ق 3/ ص 81) -بعد ذكره لرواية عبد الرزاق وكلام أهل العلم فيها: لكن قد وصله الأوزاعي بذكر البراء فيه- في أرجح الروايتين عنه. وقد تابعه عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة، عن البراء .. وعبد الله بن عيسى وابن عبد الرحمن بن أبي ليلى -وهو ثقة محتج به في الصحيحين- فهي متابعة قوية للأوزاعي على وصله، فصح بذلك الحديث، ولا يضره إرسال من أرسله؛ لأن زيادة الشاقة مقبولة، فكيف إذا كانا ثقتين؟ وقد قال الحاكم عقب رواية الأوزاعي: صحح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي. ووافقه الذهبي. أهـ

وروي عن الشعبي: أن شاة دخلت على حائك (¬1) فأفسدت عليه غزله، فاختصموا إلى شريح، فقال شريح: إن كان نهارًا فلا ضمان على صاحبها، وإن كان ليلاً ضَمِن. ثم قرأ هذه الآية (¬2). وأما الذي يخالف شرعنا: هو (¬3) أن الحكم في شرعنا ضمان ما أفسدت الماشية بالقيمة أو المثل، لا تسليم الماشية ولا تسليم منافعها (¬4). ويتعلق من يقول: إن كل مجتهد مصيب (¬5) بهذه الآية، ويقول: إن الله تعالى أثنى على كل واحد منهما بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. ومن قال: المصيب واحد (¬6) يقول -في هذه الآية: إن الله تعالى خص سليمان بتفهيم القضية (¬7)؛ فدل أن الثاني على غير الصواب، ولو كان على ¬

_ (¬1) الحائك: هو الذي ينسج الثياب. انظر: "الصحاح" للجوهري 4/ 1582 (حوك). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 82، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 9/ 436، والطبري في "تفسيره" 17/ 52، وابن حزم في "المحلى" 11/ 5. (¬3) في (أ): (وهو). (¬4) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 223، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 11/ 314. (¬5) وهو قول جمهور المتكلمين من الأشاعرة: كالأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الاسفراييني وابن فورك وغيرهم، ومن المعتزلة: كأبي الهذيل وأبي علي ؤأبي هاشم وأتباعهم. انظر: "الفصول في أحكام الأصول" للجصاص 4/ 307، "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى 5/ 1553، "المحصول" للرازي جـ 2/ ق 3/ ص 47 - 48، "نهاية السول" للأسنوي 4/ 560. (¬6) وهو قول كافة الفقهاء، وينسب إلى بعض الأئمة الأربعة. انظر: "الفصول" للجصاص 4/ 328، "التمهيد في أصول الفقه" للكلوذاني الحنبلي 4/ 316 - 317، "المحصول" للرازي جـ 2/ ق 3/ ص 49، "نهاية السول" للأسنوي 4/ 560. (¬7) في (د)، (ع): (القصة).

الصواب لم يكن لتخصيص سليمان فائدة؛ لأن الأول أيضًا قد فهم صوابًا على قول من يقول كل مجتهد مصيب، وقوله (¬1) {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ثناء عليهما بالحكم والعلم في غير هذه القضية وداود كان (¬2) قد أوتي حكمًا وعلمًا وإن لم يصب في هذه المسألة، والذي يدل على هذا أنه قال: {حُكْمًا وَعِلْمًا} فذكر (¬3) بلفظ التنكير، ولو أراد الثناء عليهما في هذه المسألة بالحكم والعلم لقال: وكلا آتينا حكمها وعلمها. وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحًا وهي تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير (¬4). وهذا كقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] وقال سليمان بن حيان: كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت والطير (¬5) حتى يشتاق (¬6). وهذا أشبه بالآية؛ لأن الله تعالى قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} وتسخيرها أن تطيعه إذا أمرها بالتسبيح (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (بقوله). (¬2) (كان) ليست في (د)، (ع). (¬3) (فذكر) ساقطة من (د)، (ع). (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 ب عن وهب بنصه. وقد روى أبو الشيخ في العظمة 5/ 1703 عن وهب قال: أمر الله الجبال والطير أن تسبح مع داود إذا سبح. (¬5) (والطير) في (د)، (ع) وليست في (أ). (¬6) رواه أبو الشيخ في "العظمة" 5/ 1706 من طريق الفريابي، عنه. لكن المطبوع من العظمة: سليم بن حيان، وهو تصحيف. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 650 عن سليمان بن حيان، ونسبه للفريابي. (¬7) الأشبه -والله أعلم- بالآية الأول، وهي أنها كانت تجاوبه الجبال الصم والطير البهم إذا سبح وأثنى على الله، وذلك لأمرين: =

وتقدير الآية: وسخرنا (¬1) الجبال يُسبحن مع داود. وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ} قال أبو إسحاق: نصبه من وجهين: أحدهما: على معنى: وسخرنا الطير، والآخر: على معنى: يسبحن مع الطير (¬2). وقوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} قال ابن عباس: يريد ما فعل بهم (¬3). يعني: من التفهيم، وإيتائنا الحكم، والتسخير. ¬

_ =الأول: دلالة قوله تعالى في سورة أخرى (يا جبال أوبي معه والطير) والتأويب: الترجيع. الثاني: القرينة التي في الآية وهي (مع) حيث قال (وسخرنا مع) ولو كن كما قال الواحدي لكان: وسخرنا لداود الجبال، مثل ما قال في حق سليمان بعد ذلك (ولسليمان الريح). وانظر ما قاله ابن عاشور 17/ 120. (¬1) في (أ): (وسخرت). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 400. ويكون نصبه على الوجه الأول على أنه معطوف على (الجبال) ونصبه على الوجه الآخر على أنه مفعول معه. انظر: "إعراب القرآن" للأنباري 2/ 163، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 331، "الدر المصون" 8/ 185. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 203. قال الشنقيطي 4/ 673: والظاهر أن قوله (وكنا فاعلين) مؤكد لقوله (وسخرنا مع داود الجبال يُسبحن والطير) والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب وخارق للعادة مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة. وقال الألوسي 17/ 76: (وكنا فاعلين) تذييل لما قبله، أي: من شأننا أن نفعل أمثاله، فليس ذلك ببدع منا وإن كان ذلك بديعًا عندكم. وذهب الزجاج والزمخشري إلى أن (فاعلين) هنا بمعنى قادرين فقال الزجاج 3/ 400 أي: وكنا نقدر على ما نريده. وقال الزمخشري 2/ 580: أي: قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم. وتعقب الشنقيطي 4/ 763 هذا القول، وذكر أنه ظاهر السقوط، وعلل ذلك بقوله: لأن تأويل (وكنا فاعلين) بمعنى كنا قادرين بعيد، ولا دليل عليه.

80

80 - قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} اللَّبُوس (¬1): الدرع. فكل (¬2) شيء لبسته فهو لَبُوس، قال الشاعر (¬3): الْبَسْ لكلِّ حالة لَبُوسَها هذا أصله. وهو فعول بمعنى: مفعول، كالركوب والحلوب ثم جعلت (¬4) اسمًا للدرع؛ لأنها تُلْبَس (¬5). قال قتادة: أول من صنع الدروع داود، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها (¬6) وحلَّقها (¬7). ¬

_ (¬1) (اللبوس) ساقطة من (د)، (ع). (¬2) في (د)، (ع): (فهو كل). (¬3) هو بيهس الفزاري، وكان سابع سبعة إخوة، فأغار عليهم أناسٌ من بني أشجع، وهم في أبلهم، فقتلوا منهم ستة، وبقي منهم بيهس، وإنما تركوه لأنه كان يُحمق، فتركوه احتقارا له، ثم إنه مر يومًا بنسوة من قومه يصلحن امرأة منهن يردن أن يهدينها لبعض من قتل إخوته، فكشف عن دبره، وغطى رأسه، فقلن: ويحك، أي: شيء تصنع؟ فقال: ألبس لكل حالة لبُوسها ... إما نعيمها وإما بُوسها و"الخبر في الفاخر" للمفضل بن سلمة ص 62 - 63، "لسان العرب" 6/ 202 - 203 (لبس). والبيت أيضًا في: "إصلاح المنطق" لابن السكيت ص 333 من غير نسبة لأحد، "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 2/ 393، "تاج العروس" للزبيدي 16/ 466 (لبس). (¬4) في (د)، (ع): (جعل). (¬5) انظر (لبس) في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 443، "الصحاح" للجوهري 3/ 974، "لسان العرب" لابن منظور 6/ 202 - 203. (¬6) سردها بتخفيف الراء وتشديدها: نسجها بإدخال الحلق بعضها في بعض وثقبها. انظر: "الصحاح" للجوهري 2/ 487، (سرد) "لسان العرب" لابن منظور 3/ 211 (سرد)، "تاج العروس" للزبيدي 8/ 186 - 187 (سرد). (¬7) ذكره الثعلي في "الكشف والبيان" 33/ 3 ب، بهذا اللفظ. وقد رواه عبد =

فجمعت الخفة (¬1) والتحصين (¬2). وقوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ} أي: ليحرزكم (¬3) وقال ابن عباس: ليمنعكم (¬4). يعني اللبوس وقال الزجاج: ويجوز ليحصنكم الله (¬5). [قال أبو علي] (¬6): ويجوز (¬7) أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم يدل عليه علمناه (¬8). ومن قرأ بالنون (¬9) (¬10) فلتقدم قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ}، ومن قرأ (بالتاء) حمله على المعنى؛ لأن اللبوس الدرع (¬11). وقوله تعالى: {مِنْ بَأْسِكُمْ} أي من حربكم (¬12). ¬

_ = الرزاق في "تفسيره" 2/ 27، والطبري 17/ 55 من قوله (كانت صفائح). (¬1) في (أ): (الحلقة)، وهو خطأ. (¬2) قوله: فجمعت الخفة والتحصين. هذا كلام الزجاج في "معانيه" 3/ 400. (¬3) الطبري 17/ 55، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 ب. (¬4) "تنوير المقباس" ص 203. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 400. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) في (د): (فيجوز). (¬8) في (د)، (ع): (ما علمناه)، وهو خطأ. (¬9) في (د)، (ع): (بالتنوين). وهو خطأ. (¬10) قرأ أبو بكر عن عاصم: (لتحصنكم) بالنون، وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: (لتحصنكم) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. "السبعة" ص 430، "التبصرة" ص 264، "التيسير" ص 155. (¬11) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 258 مع تقديم وتأخير. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 408 - 409، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 469، "الكشف" لمكي 2/ 112. (¬12) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 33 ب.

81

وقال السدي: من وقع السلاح فيكم (¬1). ووقع السلاح حرب. وقال ابن عباس: من السيف والسهم والرمح (¬2). وعلى هذا التقدير: من آلة بأسكم. فحذف المضاف. وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} يريد فهل أنتم يا معشر أهل (¬3) مكة {شَاكِرُونَ} يعني بطاعة الرسول وتصديقه. 81 - قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} قال أبو إسحاق: الريح نسق على الجبال. المعنى: وسخرنا لسليمان الريح (¬4). وقوله تعالى: {عَاصِفَةً} أي شديدة الهبوب (¬5). قال ابن عباس: إن أمر الريح أن تعصف عصفت وإذا أراد أن ترخي أرخت. وذلك قوله في سورة ص {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] والمعنى: أنها كانت تشتد (¬6) إذا أراد، وتلين إذا أراد (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 650. (¬2) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 460، والقرطبي 11/ 320 عن ابن عباس بلفظ: من سلاحكم. وانظر: "تنوير المقباس" ص 203. (¬3) في (د)، (ع): (يا معشر قريش). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 400 مع اختلاف بعض الألفاظ. ويجوز أن ينصب (الريح) بفعل مقدر. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 67، "الإملاء" للعكبري 2/ 135 - 136، "الدر المصون" 8/ 187. (¬5) الطبري 17/ 55، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 34 ب. (¬6) تشتد: ساقطة من (ع). (¬7) هذا أحد الوجوه في التوفيق بين قوله تعالى في آية الأنبياء واصفًا الريح المسخرة لسليمان بأنها (عاصفة) وفي سورة ص (رخاء). وعلى ذلك فالريح تكون عاصفة تارة ورخاء تارة بحسب اختلاف مقصد سليمان منها. وهناك وجهان آخران في =

{تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قال ابن عباس: يريد أرض الشام. وقال الكلبي: يعني فلسطين بارك الله فيها بالماء والشجر والنخل. وينا هذا عند قوله: {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]. قال الفراء: كانت تجري بسليمان إلى كل موضع، ثم تعود به من يومه إلى منزله، فذلك قوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (¬1). وقوله تعالى: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [قال (¬2) ابن عباس: يريد بكل شيء فعلنا. وقال أهل المعاني] (¬3): وكنا بكل شيء علمناه عالمين بصحة التدبير ¬

_ = التوفيق بين الآيتين: أحدهما: أن هذه الريح المسخرة لسليمان قد جمعت أمرين: فهي رخاءٌ في نفسها أي: رخية طيبة كالنسيم، وعاصفة في عملها كما قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد، فهي آية إلى آية، ومعجزة إلى معجزة. ذكره الزمخشري 2/ 580. الثاني: قال بعضهم: إن العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدواب في الإسراع إلى الوطن ولذلك قال {عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام مسكن سليمان، والرخاء في البدأة {حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] أي: حيث يقصد؛ لأن ذلك وقت تأن وتدبير وتقلب رأي. ذكره ابن عطية 10/ 186. وانظر: "البحر المحيط" 6/ 332. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 209. وهذا من أخبار بني إسرائيل، فالله أعلم بصحته. قال أبو حيان في "البحر" 6/ 333: وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان، ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما قصه الله في كتابه وفي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أهـ يعني ما صح من حديثه -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) إلى قوله (قال) ينتهي الخرم من نسخة شستربتي، ويبدأ الموجود من قوله: ابن عباس. (¬3) ما بين المعتقوفين ساقط من (د)، (ع).

82

فيه وعلمنا أن ما (¬1) يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه (¬2). 82 - قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون موضع (من) نصبًا نسقًا (¬3) على الريح، ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء، ويكون (له) الخبر (¬4). والغوص: الدخول تحت الماء (¬5). أي: يدخلون تحت الماء له وبأمره، فيستخرجون له الجواهر من البحر (¬6). {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} أي سوى الغوص من البناء وغيره من الأعمال (¬7). قاله الكلبي (¬8)، والفراء (¬9)، والزجاج (¬10). قال الكلبي: كان الرجل في زمان سليمان يأتيه، فيسأله أن يبعث معه شيطانًا فيعمل له، فيبعث معه شيطانًا. ¬

_ (¬1) (ما) ساقطة من (د)، (ع). (¬2) ذكره البغوي 5/ 335 بنصه، ولم ينسبه لأحد. (¬3) عند الزجاج في معانيه: عطفًا. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 401. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 76، "الإملاء" للعكبري 2/ 136، "الدر المصون" 8/ 188. (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 158 (غوص) نقلاً عن الليث. وانظر: "الصحاح" للجوهري 3/ 1047 (غوص). (¬6) من قوله: أي .. إلى هنا: منقول عن الثعلبي 3/ 34 أ. (¬7) قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" ص 204. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 206. (¬10) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 401.

83

وقوله تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} قال أبو إسحاق: كان أن الله يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا (¬1). ونحو هذا قال الفراء (¬2). وشال الكلبي: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} من أن يهيجوا (¬3) أحدًا في زمانه (¬4). وقيل: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} حتى لا يخرجوا من أمره (¬5). 83 - قوله تعالى: هوَ {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} قال ابن عباس: دعا ربه (¬6). {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وأصابني الجهد {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أكثرهم رحمه. وهذا تعريض منه بمسالة الرحمة إذ أثنى عليه بأنه (¬7) الأرحم وسكت. وقال أهل العلم: لم يكن هذا جزعًا من أيوب؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} ولكن هذا دعاء منه لله تعالى ألا ترى أن الله تعالى قال: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 401. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 209. (¬3) غير واضحة في (أ)، (ت). ومعنى يهيجوا: يثيروا لمشقة أو ضرر. "لسان العرب" لابن منظور 2/ 394 (هيج)، "تاج العروس" للزبيدي 6/ 286 - 287 (هيج). (¬4) ذكره الرازي 22/ 202 عن الكلبي، وذكره الفراء في "معانيه" 2/ 209 من غير نسبة لأحد. (¬5) هذا قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 343 أ. وكل ما ذكر داخل في الحفظ، وقد قال تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] وقال {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 38]. وبالجملة فالله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فسادٌ في الجملة فيما هم مسخرون فيه. قاله الزمخشري 2/ 581. (¬6) ذكره البغوي 5/ 337، وابن الجوزي 5/ 374 من غير نسبة لأحد. (¬7) في (أ): (فإنه).

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} (¬1). وروي عن ربيعة بن كلثوم (¬2) أنه قال: دخلنا على الحسن (¬3) وهو يشتكي ضرسه وهو يقول: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، اقتدى بأيوب عليه السلام في دعائه ليستجاب له كما استجيب لأيوب (¬4). على أن الجزع إنما هو الشكوى إلى الخلق، فأما من اشتكى إلى الله تعالي ما حل به فليس يسمى جازعًا؛ لأنه مثاب على ذلك إذا كان إلى الله، والجازع مذموم، وقول يعقوب عليه السلام {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا يحمل على الجزع. وهذا معنى ما قال سفيان بن عيينة (¬5) في هذه الآية: من شكا إلى الله لم يعد ذلك بشكوى ولا جزع، ألم تسمع قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قال وكذلك من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعًا ألم تسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أجدني مغمومًا وأجدني ¬

_ (¬1) قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 39 ب: (سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب -رحمه الله- يقول: حضرتُ مجلسًا غاصًّا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب (مسني الضر) شكاية، وقد قال الله تعالى (إنا وجدناه صابرا) فقلت: ليس هذا بشكاية، وإنما هو دعاء بيانه قوله (فاستجبنا له) والإجابة تعتقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه. أهـ. (¬2) هو ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري، روى عن أبيه والحسن البصري وغيرهما. قال الذهبي: ثقة وقال ابن حجر: صدوق يهم. "الكاشف" للذهبي 1/ 307، "تهذب التهذيب" 3/ 263، "تقريب التهذيب" 1/ 248. (¬3) هو البصري. (¬4) لم أجده. (¬5) ذكره ابن الجوزي 5/ 374.

84

مكروبًا" (¬1)، وقوله: "بل أنا وارأساه" (¬2). وليس في مثل هذا شكوى من الله، ولا قلة رضا بقضائه، بل رغبة فيه. 84 - قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} قال ابن عباس يريد الأوجاع (¬3). {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال: إن الله تعالى رد إليه أهله ومثلهم معهم (¬4). والمراد بالأهل: الأولاد (¬5). قال الكلبي: كانت امرأته ولدت له سبع ¬

_ (¬1) هذا طرف من حديث طويل رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 3/ 129 عن الحسين بن علي -رضي الله عنه- وفيه أن جبريل عليه السلام قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- كيف تجدك؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 35: رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث. (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، أو وارأساه، أو اشتد بي الجوع 10/ 123 من طريق القاسم بن محمد قال: قالت عائشة: وارأساه. الحديث وفيه: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بل أنا وارأساه". ورواه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 228، وابن ماجة في "سننه" الجنائز، باب: ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها 1/ 270 من طريق آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! قال: "بل أنا وارأساه" الحديث. قال البوصيري في "الزوائد" 1/ 475: إسناد رجاله ثقات، ورواه البخاري من وجه آخر عن عائشة مختصرًا. (¬3) ذكر الرازي 22/ 10 والقرطبي 11/ 326 القول بأن الله رد على أيوب أهله بأعيانهم ومثلهم معهم. ونسباه إلى جماعة منهم الكلبي. وروى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 27 عن الكلبي قال: آتاه الله أهله في الدنيا، ومثلهم معهم في الآخرة. (¬4) رواه الطبري 17/ 72 من طريق العوفي. (¬5) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 40 أ.

بنات وسبعة بنين، وكانوا هلكوا في بلاء أيوب، فنشروا له، وولدت له امرأته مثلهم سبعة بنين وسبع بنات (¬1). وهذا قول ابن مسعود، وقتادة، وكعب، [والحسن، قالوا (¬2): أير الله له أولاده] (¬3) وأوُتي مثلهم في الدنيا. وقال عكرمة: إن الله خيره، فاختار إحياء أهله في الآخرة، ومثلهم (¬4) في الدنيا، وأوتي على ما اختار، وذلك أنه قال: يكونون لي في الآخرة، وأوتى مثلهم (¬5) في الدنيا (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر الفراء مثل هذا النص -مع اختلاف يسير- في "معانيه" 2/ 209 وصدره بقوله: وذُكر. وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 378 - 379 مثله وعزاه إلى أبي صالح عن ابن عباس، ومعلوم أن هذه الرواية في الغالب من طريق الكلبي. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 40 أعن ابن مسعود وقتادة وكعب، ثم ذكر عن الحسن نحوه. ورواه عن ابن مسعود الطبري في "تفسيره" 17/ 72، والطبراني في "الكبير" 9/ 254، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 654، 655 وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني. وهو من رواية الضحاك عن ابن مسعود، والضحاك لم يلق ابن مسعود، فهي رواية منقطعة ولذا قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 67: وإسناد منقطع. ورواه الطبري 17/ 73 عن الحسن وقتادة وروى عبد الرزاق 2/ 27 عن الحسن قال: آتاه الله أهله في الدنيا ومثلهم معهم من نسلهم. وقد وردت رواية عن الحسن أخرجها ابن عساكر وابن المنذر (كما في "الدر المنثور" 5/ 654 - 655) أنه قال: (وآتيناه أهله) في الدنيا (ومثلهم معهم) في الآخرة. (¬3) ما بين المعقوفين كشط في (أ). (¬4) في (د)، (ع): (وأوتي مثلهم)، والصواب ما في (ت). (¬5) في (ت): (مثلهم معهم)، والصواب ما في (د)، (ع). (¬6) رواه الطبري 17/ 72 بنحوه، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 656 وعزاه لابن جرير.

85

وهذا (¬1) قول مجاهد في رواية ليث (¬2). والقول الأول هو الظاهر. وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} قال الفراء: فعلنا ذلك رحمة من عندنا (¬3). {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} قال ابن عباس: موعظة للمطيعين (¬4). قال محمد بن كعب: أيما مؤمن أصابه بلاءً فليذكر ما أصاب أيوب، وليقل إنه قد أصاب من هو خير مني أعظم من هذا (¬5). 85 - قوله تعالى: {وَذَا الْكِفْلِ} قال ابن عباس -في رواية عطاء (¬6): إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه: أني أريد قبض روحك، فأعرض ملكك علي بني إسرائيل، فمن يكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم بالنهار لا يفطر، ويقضي بين الناس، ولا يغضب، فادفع ملكك إليه. ففعل ذلك، فقام شاب، فقال: أنا أتكفل لك بهذا. فتكفل ووفى به، ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (وذلك). (¬2) رواية ليث عن مجاهد رواها الطبري 17/ 72 - 73. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 209. (¬4) انظر البغوي 5/ 347، وابن الجوزي 5/ 379. قال القرطبي 11/ 327: أي: وتذكيرًا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له -وهو أفضل أهل زمانه- وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيهًا لم على إدامة العبادة واحتمال الضرر. وقال ابن كثير 3/ 190: أي: وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا, وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء وله الحكمة البالغة في ذلك. (¬5) رواه الطبري 17/ 73، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 656 وعزاه لابن جرير. (¬6) (عطاء) ساقط من (أ)، (ت).

فشكر الله تبارك وتعالى له، ونبأه (¬1) (¬2). وهذا قول مجاهد، وقتادة. وقال أبو موسى الأشعري: لم يكن نبيًّا, ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي (¬3)، وكفل بصلاته؛ لذلك سمي ذا الكفل (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ، د): (مناه). وفي (ع): (مناه) مهملة. والتصويب من الوسيط والرازي وابن الجوزي. (¬2) ذكره الرازي 22/ 210 - 211 منسوبًا إلى ابن عباس في رواية, وذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 348 وابن الجوزي 5/ 380 ونسباه إلى عطاء. وقد روى ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 3/ 190 - 191 من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش عن ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل، فاحتضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب، فذكر نحو القصة. قال ابن كثير 3/ 191: وهكذا روى عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وأبي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف والله أعلم. وفي "الدر المنثور" 5/ 663: وأخرج ابن سعيد النقاش في كتاب القضاة عن ابن عباس، فذكر نحو هذه القصة. (¬3) وقع في المطبوع من الطبري 17/ 75: فوفى. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 27 عن معمر، عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري، فذكره. ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبري في "تفسيره" 17/ 75. ورواه الطبري 75/ 17 من وجه آخر عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أبي موسى الأشعري، فذكره. وهذا رواية منقطعة؛ لأن قتادة لم يلق أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- وقد رواه موصولا ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 191 من طريق أبي الجماهر، أخبرنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن كنانة بن الأخنس قال: سمعت أبا موس الأشعري فذكره بنحوه. وفي سندها سعيد بن بشير الأزدي ضعفه الإمام أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي وأبو داود وقال فيه ابن نمير: منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال الساجي: حدث عن قتادة بمناكير. وقال ابن حبان: كان ردئ الحفظ، فاحش الخطأ، يرويَ عن قتادة مالا يتابع =

86

قال الحسن: ذو الكفل نبي اسمه ذو الكفل (¬1). وقوله تعالى: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} قال ابن عباس: يريد على طاعة الله، وعن معاصي الله (¬2). 86 - قوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} قال: يريد ما أنعم به (¬3) عليهم من النبوة، وما صيرهم إليه في الجنة من الثواب (¬4). وقال أهل المعاني: أدخلناهم في رحمتنا يقتضي أنه قد غمرتهم الرحمة، وليس كذلك رحمناهم (¬5). 87 - قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ} أي: واذكر ذا النون. وهو يونس بن متى (¬6) سماه الله تعالى ذا النون لما حبسه في بطن النون، وهو الحوت كما قال في موضع آخر: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]. ¬

_ = عليه. انظر: "تهذيب التهذيب" لابن حجر 4/ 8 - 10. وبالجملة فهذه الرواية عن أبي موسى ضعيفة. والله أعلم. والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 664 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر. قال أبو حيان في "البحر" 6/ 334: وقيل في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح. (¬1) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 464، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 379، والقرطبى 11/ 328. قال ابن كثير 3/ 190: وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. (¬2) ذكره ابن الجوزي 5/ 380 ولم ينسبه لأحد. (¬3) (به) ليست في (د)، (ع). (¬4) ذكره البغوي 5/ 349 ولم ينسبه لأحد. (¬5) ذكره هذا المعنى: الطوسي في "التبيان" 7/ 242، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 57 أ- ب) ولم ينسباه لأحد. (¬6) متى: بفتح الميم، وتشديد المثناه، مقصور. وهو اسم أبيه -على الصحيح- كما ورد ذلك في حديث ابن عباس، انظر: "فتح الباري" 8/ 451.

وقوله تعالى: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} قال الضحاك: مغاضبًا لقومه (¬1). وهو قول ابن عباس في رواية العوفي، قال: إن شعيا (¬2) النبي والملك الذي كان في وقته وذلك القوم أرادوا أن يبعثوه إلى ملك كان قد غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، فقال (¬3) يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري أنبياء. فألحوا عليه، فخرج مغاضبا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم فكان من قصته ما كان (¬4). وعلى هذا عوقب بتركه ما أمره به شعيا وقومه لأن الله تعالى قال فيه: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} والمليم: الذي أتى ما يلام عليه. وقال آخرون: إنه ذهب مغاضبا لربه. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬5)، وابن مسعود، وسعيد بن جبير. ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 أ. ورواه الطبري 17/ 76، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 665 وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) هو شعيا بن أمصيا، وقيل: ابن آموس. أحد أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان، وكان قبل زكريا ويحيى، وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام، قتله بنو إسرائيل لما وعظهم وذكرهم بالله. تاريخ الطبري 1/ 532 - 537، "الكامل" لابن الأثير 1/ 143 - 145، "البداية والنهاية" لابن كثير 2/ 32 - 33، "دائرة المعارف الإسلامية" 13/ 316. (¬3) في (ت): (فقالوا)، وهو خطأ. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 أمن رواية العوفي عن ابن عباس. وقد رواه الطبري 17/ 76 مختصرًا جدًا قال: غضب على قومه. (¬5) ذكره عن ابن عباس الرازي 22/ 214، والقرطبي 11/ 329، وأبو حيان في "البحر" 6/ 335.

قال ابن عباس: لما وعد قومه العذاب، وخرج من بينهم، ورُفع عنهم العذاب بعد ما أظلهم على ما ذكر في القصة، فلما بلغ ذلك يونس أبق من ربه إلى الفلك المشحون. وروى مسروق عن عبد الله في قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} قال: عبد أبق من ربه (¬1). وقال سعيد بن جبير: ذهب مغاضبًا لربه (¬2). ونحو هذا قال الحسن (¬3). وإلى هذه الطريقة مال ابن قتيبة، فإنه يقول في هذه الآية: يستوحش كثير (¬4) من الناس من أن يُلحقوا بالأنبياء ذنوبًا، ويحملهم التنزيه لهم على مخالفة كتاب الله، واستكراه التأويل، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة، [روي في الحديث: أنه] (¬5) ليس من نبي إلا (¬6) وقد أخطأ وهمّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 255 من طريق مسروق، عن عبد الله قال: عبد أبق من سيده. الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 68: وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف. (¬2) رواه عنه الثوري في "تفسيره" ص 204، والطبري 17/ 77. (¬3) رواه الطبري 17/ 77. (¬4) كثير: ساقط من (أ)، (ت). (¬5) ما بين المعقوفين كشط في (أ). (¬6) إلا: ساقطة من (ت). (¬7) روى الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 254، وأبو يعلى في "مسنده" 4/ 418 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم ليس يحيى بن زكريا". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 209: وفيه علي بن زيد ضعفه الجمهور، وقد وثق، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 114 بعد ذكره للحديث عن ابن عباس: وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة.

ولذلك قال (¬1) يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] يريد: ما أضمره وحدث به نفسه [عند حدوث الشهوة. فإن كان ذو النون] (¬2) قد غاضب قومه فبأي ذنب (¬3) عوقب بالتقدم الحوت والحبس (¬4) في الظلمات؟ وما الأمر الذي ألام فيه؟ فنعاه (¬5) الله عليه إذ يقول {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} والمليم الذي أجرم جرمًا استوجب به اللوم. ¬

_ (¬1) هذا أحد وجهين في قائل هذه المقالة، والوجه الثاني أن قائل هذا هي امرأة العزيز حيث قال تعالى: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 51 - 53]. قال أبو العباس بن تيمية في "الفتاوى" 10/ 298: وقوله {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ...} الآية من كلام امرأة العزيز، كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن. ثم ساق الآيات ثم قال: فهذا كله كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن، لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه. ثم ذكر قول من قال إن هذا من كلام يوسف وتعقبه بقوله: وهذا قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه. وقال ابن كثير في "تفسيره" 2/ 481، وهذا القول -يعين أن هذا من كلام امرأة العزيز- هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام .. لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك. واستظهر هذا القول أيضًا أبو حيان في "البحر" 5/ 317 هذا القول، ثم ذكر قول من قال إن هذا من كلام يوسف، وتعقبه بقوله: ومن ذهب إلى أن قوله (ليعلم) إلى آخره من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدل على أنه من قول يوسف. (¬2) ما بين المعقوفين كشط في (أ). (¬3) في (أ): (من غير ذنب). (¬4) بعد قوله: (والحبس) يبدأ السقط في نسخة (أ). (¬5) في (ت): (فعناه).

ولم أخرجه من أولي العزم من الرسل حين يقول لنبيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]؟ وإن كان مغاضبًا لقومه (¬1) فإن كان غضبه قبل أن يؤمنوا فإنما غضب على من يستحق في المدة أن يغضب (¬2). وإن كان الغضب عليهم بعد أن آمنوا فكيف يجوز أن يغضب على قومه حين آمنوا؟ وبه بعث، وإليه دعى. ولكن (¬3) نبي الله عليه السلام لمّا أخبرهم (¬4) عن الله أنه مُنزل العذاب عليهم لأجل، ثم بلغه بعد مضى الأجل أنه لم يأتهم ما وعدهم، خشي أن ينسب إلى الكذب، ويعيّر به، وُيحقق عليه، لا سيما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه، فدخلته (¬5) الأنفة والحمية، وكان مغيظًا بطول ما عاناه من تكذيبهم وهُزئهم وأذاهم واستخفافهم بأمر الله، مشتهيًا لأن ينزل بأس الله بهم. هذا إلى ضيق صدره وقلة صبره على ما صبر على مثله أولو العزم من الرسل. وقد روي في الحديث (¬6): أنه كان ضيق الصدر، فلما حُمِّل أعباء ¬

_ (¬1) (لقومه) ساقطة من (ت). (¬2) العبارة في "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 405: (فإن كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ذهب مغاضبًا على قومه قبل أن يؤمنوا، فإنما راغم من استحق -في الله- أن يراغم، وهجر من وجب أن يهجر، واعتزل من علم أن قد حقت عليه كلمة العذاب. (¬3) في "المشكل" لابن قتيبة ص 407: (فكأن). (¬4) في (د)، (ع): (خبرهم). (¬5) في (ت): (فأخذته)، وما أثبتناه هو الموافق لما في "مشكل ابن قتيبة" ص 407. (¬6) روى الطبري في "تفسيره" 17/ 77 والحاكم في "مستدركه" 2/ 584 - 585 عن وهب بن منبه اليماني قال: إن يونس بن متى كان عبدًا صالحًا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة -وهلا أحمال لا يحملها إلا قليل- تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فقذفها تحت يديه، وخرج هاربًا منها، يقول الله =

النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع (¬1) تحت الحمل الثقيل. فمضى على وجهه مُضي الآبق (¬2) الناد (¬3) لقول (¬4) الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 139، 140] انتهى كلامه (¬5). وأكثر أهل المعاني اختاروا قول ابن عباس في رواية العوفي. قال الأخفش: إنه قد أذنب بتركه قومه، وإنما غاضب بعض الملوك، ولم يغاضب ربه، كان (¬6) أعلم بالله من ذلك (¬7). وأما وجه قول (¬8) ابن عباس في رواية عطاء، فإنه من الصغائر التي يُجوّزها كثير من الناس على ما ذكره ابن قتيبة، وليس قول من قال مغاضبًا لربه على ظاهره ومعناه: مغاضبًا لأمر ربه وهو رفعه العذاب عنهم وكان ¬

_ = لنبيه -صلى الله عليه وسلم- {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 124 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. والرواية كما ترى عن وهب بن منبه فهي من أخبار بني إسرائيل، وليس لها ما يعضدها من كتاب أو سنة صحيحة، فالله أعلم بصحتها. (¬1) الرُّبع: هو الفَصيل يُنتج في الربيع، وهو أول النتاج. "الصحاح" للجوهري 3/ 1212 (ربع)، "لسان العرب" لابن منظور 8/ 105 (ربع). (¬2) الآبق: هو الهارب من العبيد من غير خوف ولا كد عمل، أو استخفى ثم ذهب. "لسان العرب" 10/ 3 (أبق)، "القاموس المحيط" 3/ 208. (¬3) موضع (الناد) بياض في (د)، (ع). والناد: الشارد. "القاموس المحيط" 1/ 341. (¬4) هكذا في جميع النسخ، وفي "المشكل" لابن قتيبة ص 408: (يقول). (¬5) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 402 - 408 بتصرف. (¬6) في (د)، (ع): (وكان). (¬7) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 635. (¬8) في (ت): (وجه قوله).

يشتهي وقوعه بهم. وأما قول ابن عباس وابن مسعود: عبد (¬1) آبق من ربه، أي: من أمر ربه حين أُمر أن يعود إليهم بعد رفع العذاب عنهم فلم يعد، وركب البحر. ويدُل على صحة ما ذكرنا ما روي عن ابن عباس في قصته: أنه لمّا خرج من بطن الحوت أنبت الله له شجرة من يقطين (¬2)، فكان (¬3) يستظل بورقها حتى قوي بعض القوة، فمضى يومًا إلى شط البحر، ثم رجع إلى تلك الشجرة، فوجدها قد جفت، فبكى حزنًا عليها، فأوحى الله إليه: أتحزن على شجرة أنبتها لك، وقد أردت أن أهلك أكثر من مائة ألف من عبادي، إذهب إلى قومك (¬4). وهذا يدل على أنه اشتهى نزول عذاب الله بقومه، وكره دفعه عنهم، وأن ركوبه البحر كان معصية لله (¬5) بترك أمره، إذ أمره أن يعود إليهم. فأما أن يقال إنه غاضب ربه، فهم عظيم، ولا يجوز القول بذلك في الأنبياء. وروي وجه آخر من التأويل في قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} وهو أن ¬

_ (¬1) (عبد) زيادة من (د)، (ع). (¬2) يقطين: هو كل شجر لا يقوم على ساق، نحو الدباء والقرع والبطخ، "لسان العرب" لابن منظور 13/ 345 (قطن). (¬3) في (د)، (ع): (وكان). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 578 - 579 من طريق عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بنحوه. وعبد الله بن مسلم وابن هرمز المكي ضعيف كما قال الحافظ بن حجر في "التقريب" 1/ 323. لكن روى ابن أبي شيبة 11/ 542 عن ابن مسعود نحو هذا. قال ابن حجر في "الفتح" 6/ 452: وإسناده صحيح أهـ. ويظهر أنه من أخبار بني إسرائيل. والله أعلم. (¬5) في (ت): (الله)، وهو خطأ.

معنى المغاضبة هاهنا: الأنفة؛ لأن الآنف من الشيء يغضب، فتُسمى الأنفة غضبًا، والغضب أنفة؛ إذ (¬1) كان كل واحد سببًا (¬2) من الآخر، فمعنى {ذَهَبَ مُغَاضِبًا} ذهب (¬3) أنفًا من ظهور خلف وعده وقال: والله لا أرجع إليهم كذابًا أبدًا، وعدتهم العذاب في يوم ما فلم يأت. وهذا الوجه اختيار ابن قتيبة (¬4). وفي رواية أبي صالح: أن ملكًا من ملوك بني إسرائيل كان أمره بالمسير (¬5) إلى ننوى (¬6) ليدعو أهلها، بأمر شعيا النبي فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبًا للملك، فعاقبه الله (¬7) بالتقام الحوت، فلما قذفه الحوت بعثه الله (¬8) إلى قومه، فدعاهم، وأقام بينهم حتى آمنوا (¬9). ¬

_ (¬1) في "المشكل" ص 406: (إذا). (¬2) في "المشكل" ص 406: (بسبب). (¬3) في (ت): (وذهب). (¬4) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 406. قال القرطبي في "تفسيره" 11/ 331 بعد حكايته لهذا القول، وأنه من قولهم غضب إذا أنف: وهذا فيه نظر، فإنه يقال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة -وإن كانت من الأنفة- فالأنفة لابد أن يخالطها الغضب، وذلك الغضب -وإن دق- على من كان؟ وأنت تقول لهم يغضب على ربه ولا على قومه. أهـ (¬5) في (د)، (ع): (بالمصير). (¬6) نينوى: بكسر أوله وسكون ثنانية وفتح النون والواو، قرية بالموصل. انظر: "معجم البلدان" 8/ 368، "مراصد الاطلاع" 3/ 1414. (¬7) لفظ الجلالة ليس في (ت) في الموضعين. (¬8) لفظ الجلالة ليس في (ت) في الموضعين. (¬9) ذكر رواية أبي صالح: ابن قتيبة في "مشكل القرآن" ص 409 بهذا النص.

وعلى هذا مغاضبته كانت قبل رسالته. ولكن الصحيح الذي تواترت به الرواية أن (¬1) هذه المغاضبة (¬2) كانت بعد إرسال الله إياه إلى قومه ورفع العذاب عنهم بعد ما أظلهم. ووجه المغاضبة ما ذكرنا، وهو أنه كره رفع العذاب عنهم وأنف من أن يُجربوا عليه كذبًا؛ فأبق إلى الفلك المشحون. وقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} فيه قولان: أحدهما: ظن أن لن نقضي عليه العقوبة. وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ورواية عطية عن ابن عباس (¬3). قال ابن عباس: أراد الظن بعينه. يعني (¬4): ليس الظن-هاهنا- بمعنى العلم، بل هو بمعنى الحسبان. واختار الفراء والزجاج هذا القول. ¬

_ (¬1) في (ت): (أو). (¬2) في (د)، (ع): (المعصية). (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 ب عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، والعوفي عن ابن عباس. وعن مجاهد رواه الطبري 17/ 78 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 654، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 665 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات. وعن قتادة والكلبي: رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 27، والطبري في "تفسيره" 17/ 78. وقول الضحاك رواه الطبري في "تفسيره" 17/ 78، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 665 - 666 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. ورواية عطية عن ابن عباس رواها الطبري في "تفسيره" 17/ 78، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 653 وذكرها السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 666 وعزاه لابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات. (¬4) (يعني) ساقطة من (ت).

قال الفراء: ظن أن لن نقدر عليه من العقوبة ما قدرنا (¬1). وقال الزجاج: ونَقْدر بمعنى: نُقَدِّر (¬2). ويقال: قدَّر الله الشيء وقَدَرَهُ، أي: قضاه. والقَدْر يكون بمعنى التقدير، ويدل عليه قوله: ومُفْرهَةٍ عَنْسٍ قَدَرْتُ لساقها ... فَخَرَّت كما تتَّايَع (¬3) الرّيحُ بالقَفْلِ (¬4) ويدل على صحة هذا قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري (فظن أن لن نُقَدِّر عليه) [بالتشديد (¬5)، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة (فظن أن لن يُقَدَّر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 209. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 402 وفيه: ويقْدر بمعنى: يُقدِّر. (¬3) في (ت): (سايغ)، وفي (د)، (ع): (تتابع). والمثبت من "تهذيب اللغة"، و"اللسان" وغيرهما. (¬4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. وهو في "ديوان الهذليين" 1/ 38 وروايته فيه: لرجلها في موضع (لساقها)، و (تتابع) في موضع تتابع، و"لسان العرب" 8/ 38 (تبع)، 11/ 561 (قفل). والشطر الأخير في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 145 (تاع)، 9/ 160 (قفل). قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 145: (يقال: اتايعتت الريح بورق الشجر إذا ذهبت به. وأصله: تتايعت به. وقال أبو ذؤيب يذكر عقره ناقته، وأنها كاست على رأسها فخرت) - ثم ذكر شطر البيت ثم قال: (والقفل: ما يبس من الشجر). وبين السكري في "شرح ديوان الهذليين" 1/ 39 معنى هذا البيت على رواية -تتابع- فقال: قوله (ومفرهة): (يعني ناقة تأتي بأولاده فواره، و (عنس): (شديدة)، (قدرت لرجلها): (أي: هيأت وضربت رجلها فخرت لما عرقبتها، (كما تتابع الريح بالقفل): (القفل: النبات اليابس)، و (تتابع): (تتابع. يقول: خرت هذه الناقة حين ضربت رجلها كما تمر الريح باليبس فيتبع بعضه بعضًا. أهـ (¬5) بنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال. وذكر هذه القراءة عنهما: الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 ب، البغوي 5/ 35، الرازي 22/ 215، القرطبي 11/ 332. وذكرها عن الزهري وحده: ابن الجوزي 5/ 382، أبو حيان 6/ 335، السمين الحلبي 8/ 191.

عليه)] (¬1) بضم الياء والتشديد (¬2)، وقرئ قوله (¬3) {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] بالوجهين من التخفيف والتشديد (¬4). القول الثاني: فظن أن لن يضيق عليه الحبس. وهذا معنى قول ابن عباس [في رواية عطاء ومنصور. قال] (¬5) في رواية عطاء: أن لن نعاقبه (¬6). وقال في رواية منصور: يعني (¬7) البلاء الذي أصابه (¬8). وهذا الوجه اختيار أبي الهيثم وابن قتيبة. قال أبو الهيثم: المعنى: فظن أن لن يضيّق عليه، من قوله عز وجل {وَمَن ¬

_ (¬1) ساقط من (ت). (¬2) ذكر هذه القراءة عنهما الثعلبي 3/ 41 ب، القرطبي 11/ 332، وذكرها عن عبيد ابن عمير وحده: الرازي 22/ 215. (¬3) (قوله) زيادة من (د)، (ع). (¬4) قرأ ابن كثير: (نحن قدرنا) بتخفيف الدال، وقرأ الباقون: (قدرنا) بتشديدها. "السبعة" ص 623، "التبصرة" ص 344، "التيسير" ص 207. وقرأ الكسائي: (والذي قدر) بتخفيف الدال، وقرأ الباقون: (قدر) بتشديدها. "السبعة" ص 680، "التبصرة" ص 377، "التيسير" ص 221. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (د)، (ع). (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 ب عن عطاء وكثير من العلماء. (¬7) (يعني) زيادة من (د)، (ع). (¬8) رواه الطبري 17/ 79 من رواية منصور، عنه. وهي رواية منقطعة فإن منصور بن المعتمر لم يدرك ابن عباس، وفيها ضعف من جهة محمد الرازي شيخ الطبري، لأنه ضعيف. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 156.

{قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: من ضيق عليه (¬1) [وكذلك قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] بمعنى: ضيّق عليه] (¬2). وقدر (¬3) ضيّق الله على يونس أشد تضييق ضيقه على معذب في الدنيا؛ لأنه سجنه في بطن الحوت (¬4). وقال ابن قتيبة: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيّق عليه، وأنا نخليه ونمهله، والعرب تقول: فلان مقدّر (¬5) عليه في الرزق ومقتر عليه، بمعنى واحد، أي: مضيق عليه. عاقب الله يونس عن حميته وأنفته (¬6) وإباقته (¬7) (¬8) وكراهته العفو عن قومه وقبول إنابتهم بالحبس له والتضييق عليه في بطن الحوت (¬9). وروى عوف، عن الحسن، أنه (¬10) قال: معناه: فظن أنه يعجز ربه ¬

_ (¬1) في (ت): (يعني: نضيق عليه)، وما أثبتناه من (د)، (ع). وهو الموافق لما في "تهذيب اللغة" 9/ 20. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ت). (¬3) (قد) ليست في (د)، (ع). (¬4) قول أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 20 (قدر). (¬5) في "المشكل" مقدر .. في (ع): (يقدر)، وفي (د): (يقدر) غير منقوط الأول، وفي (ت): (مغيزر) وقد أثبتنا ما في "المشكل"؛ لأنه الموافق لما بعد: ومُقتر. (¬6) في (ت): (وأبقته). وهو خطأ. (¬7) في (ت): (وإباقه). وما أثبتنا من (د)، (ع). وهو الموافق لما في "المشكل". (¬8) في (ت) زيادة: (وأبقته بعد، وإباقته)، وهو تكرار من الناسخ، وليست في نسختي (د)، (ع)، ولا في "المشكل". (¬9) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 408 - 409 بتصرف. (¬10) (أنه) بياض في (ت).

فلا نقدر عليه (¬1). وهذا التأويل بعيد، ولا يجوز مثله على الأنبياء (¬2). قال أبو الهيثم: من اعتقد أن يونس ظن أن لن يقدر الله عليه فهو كافر؛ لأن يونس رسول، لا يجوز ذلك الظن عليه (¬3). وقال الأزهري: قوله (أن لن نقدر عليه) لا يجوز أن يكون من القدرة؛ لأن من ظن هذا فقد كفر، والظن شك، والشك في قدرة الله كفر، وقد عصم الله أنبياءه عن مثل ما ذهب إليه هذا المتأول، ولا يتأول مثله إلا جاهل بكلام العرب ولغاتها (¬4). وقد ذهب الأخفش إلى مثل ما روي عن الحسن، فقال: فظن أن يفوتنا (¬5). فقال أبو حاتم: لم يدر الأخفش ما معنى (نقدر) وذهب إلى القدرة ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 ب من رواية عوف عن الحسن. ورواه الطبري في "تفسيره" 17/ 79 من رواية عوف، عن سعيد بن أبي الحسن. (¬2) قال الطبري 17/ 79 عن هذا القول: ووصفه -يعني يونس- بأنه ظن أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، وصف له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وقال القرطبي 11/ 331: وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. ثم ذكر أن المهدوي حكاه عن سعيد بن جبير أو الثعلبي عن الحسن. ثم ذكر رواية أخرى عن الحسن أنه قال: هو من قوله تعالى {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي: يضيق، ثم قال القرطبي: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن. (¬3) قول أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 20 (قدر) مع حذف. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 21. (¬5) ذكره عن الأخفش: أبو بكر بن الأنباري في كتابه "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ ص 777، والأزهري في "تهذيب اللغة" 9/ 20.

ولو علم أن معنى (نقدر) نضيق لم يخبط هذا الخبط، ولم يكن عالمًا بكلام العرب، وكان عالمًا بقياس النحو (¬1). وروي عن ابن زيد أنه قال: هذا إستيفاه (¬2) (¬3). أي استفهام على معنى: أفظن. وهذا الوجه بعيدٌ أيضا؛ لأنه لا (¬4) يحذف حرف الاستفهام إلا في ضرورة الشعر سيما إذا لم يتبعه ما يدل عليه (¬5). وقوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} يعني: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. قاله ابن عباس (¬6) وجميع المفسرين (¬7). وروي عن سالم بن أبي الجعد أنه قال: ظلمة جوف الحوت، ثم ¬

_ (¬1) قول أبي حاتم في "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 20 (قدر). (¬2) في (ت، د): (استنفاه)، وفي (ع): (اسعاه)، غير منقوطة. (¬3) ذكره بهذا اللفظ عن ابن زيد: النحاس في "القطع والائتناف" ص 479 في إحدى النسخ. وقد رواه الطبري في "تفسيره" 17/ 79 بلفظ: استفهام، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 41 ب، بمثل رواية الطبري. (¬4) في (د)، (ع): (لم). (¬5) هذا كلام النحاس في كتابه "القطع والائتناف" ص 479، وقال الطبري 17/ 79 - 80: وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك، والعرب لا تحذف من الكلام شيئًا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلًا على أنه مراد في الكلام. (¬6) رواه الطبري 17/ 80. (¬7) انظر: "الطبري" 17/ 80، و"الكشف والبيان" للثعلي 3/ 42 أ، وابن كثير 3/ 192، و"الدر المنثور" للسيوطي 5/ 666.

ظلمة جوف الحوت الآخر (¬1) الذي ابتلعه، ثم ظلمة البحر (¬2). قال الفراء: يقال: ظلمة البحر، وبطن الحوت ومعاؤها الذي كان فيه يونس فتلك الظلمات (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال محمد بن قيس (¬5): {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} حين عصيتك، وما صنعت ¬

_ (¬1) في (ت): (الأخرى). (¬2) ذكره عن ابن أبي الجعد -بهذا اللفظ- الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 42 أ. وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 11/ 543 - 544 مختصرًا عنه قال: حوت في حوت، وظلمة البحر. ورواه الطبري 17/ 80 عنه قال: أوحى الله إلى الحوت ألا تضر له لحمًا ولا عظمًا، ثم ابتلع الحوت حوت آخر (فنادى في الظلمات) ظلمة الحوت، ثم حوت، ثم ظلمة البحر. والقول بأن الحوت ابتلعه حوت آخر قول الله أعلم بصحته، وهو من الإسرائيليات. (¬3) في (ت): (الكلمات)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 209. قال ابن عطية 10/ 197: ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول كما قال (في غيابات الجب) وكل جهاته ظلمة فجمعه سائغ. وقال الزمخشري 2/ 851: أي: في الظلمة الشديدة المتكاتفة في بطن الحوت كقوله {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] وقال أبو حيان 6/ 335: وجمع الظلمات لشدة تكاتفها، فكأنها ظلمة مع ظلمة. (¬5) هو محمد بن قيس المدني، قاص عمر بن عبد العزيز، أبو إبراهيم، ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو أيوب، مولى معاوية بن أبي سفيان. روى عن أبي هريرة وجابر وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وعنه ابن أبي ذئب والليث بن سعد وأبو معشر وغيرهم. وكان ثقة عالمًا كثير الحديث. توفي بالمدينة أيام الوليد بن يزيد سنة 125 هـ أو 126 هـ. "طبقات ابن سعد" (القسم المتمم) ص 325، "الكاشف" للذهبي 3/ 91، "تهذيب التهذيب" 9/ 414.

من شيء. فلم أعبد غيرك (¬1). وهذا معنى قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} (¬2). وروى محمد بن سعد (¬3)، عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دعاء ذي ¬

_ (¬1) ذكره بهذا الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 42 أ. وقد رواه الطبري 17/ 81 من طريق أبي معشر قال: قال محمد بن قيس: قوله (لا إله إلا أنت سبحانك) ما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك (إني كنت من الظالمين) حين عصيتك. (¬2) قال أبو العباس أحمد بن تيمية: فإن يونس عليه السلام ذهب مغاضبا، وقال تعالى {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وقال تعالى {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} ففعل ما يلام عليه، فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه، والاعتراف بأنه لا إله إلا هو، فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره فلا يطاع الهوى، فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الله وحده، وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية بما حصل من المغاضبة ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته لله وتألهه له وأن يقول (لا إله إلا أنت) وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك فإن قول العبد: لا إله إلا أنت يمحو أن يتخذ إلهه هواه. فكمل يونس صلوات الله عليه تحقيق إلهيته لله، ومحو الهوى الذي يتخذ إلها من دونه، لم يبق له صلوات الله عليه وسلامه عند تحقيق قوله (لا إله إلا أنت) إرادة تزاحكم إلهية الحق، بل كان مخلصًا لله الذين إذ كان من أفضل عباد الله المخلصين. وقوله {سُبْحَانَكَ}، يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، يقول: أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب، بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي. انتهى كلامه رحمه ملخصا مع تصرف. انظر: "الفتاوى" 10/ 248 - 287. (¬3) هو محمد بن سعد بن أبي وقاص، أبو القاسم، القرشي، الزهري، المدني. روى عن أبيه وعثمان وطائفة. وكان ثقة عالماً. قام على الحجاج مع ابن الأشعث، فأسر يوم دعي الجماجم، فقتله الحجاج سنة 82 هـ. "طبقات ابن سعد" 5/ 167، 6/ 221، "سير أعلام النبلاء" 4/ 348، "تهذيب التهذيب" 9/ 183.

88

النون (¬1) في بطن الحوت {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" (¬2). وقال الحسن وقتاده: هذا القول من يونس اعتراف بذنبه، وتوبة من خطيئة، تاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه، فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬3). 88 - قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي: أجبنا دعاءه {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} قال ابن عباس: يريد من تلك الظلمات (¬4). {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قال: وكذلك أفعل بأوليائي. وروي مرفوعًا (¬5): أن قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} شرط الله لمن دعاه بها أن يجيبه كما أجاب يونس، وينجيه كما أنجاه. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (قال ذو النون). (¬2) رواه الترمذي في جامعه كتاب: الدعوات، باب: 85/ 9/ 479 تحفة، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ص 416، والحاكم في "مستدركه" 1/ 505، والطبراني في الدعاء 2/ 838. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 170، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 110 - 111 وفي أوله قصة، كلهم من طريق محمد بن سعد، عن أبيه، به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 68 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة. والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه العلامة أحمد شاكر في تعليقه عن المسند 3/ 35 وصححه الألباني كما في "صحيح الجامع" 1/ 637. (¬3) ذكر الزمخشري 2/ 582 عن الحسن قال: ما نجاه الله إلا بإقراره على نفسه بالظلم. (¬4) ذكره البغوي 5/ 352 من غير نسبة وانظر: "تنوير المقباس" ص 204. قال أبو حيان 6/ 335. والغم ما كان ناله حين التقمه الحوت ومدة بقائه في بطنه. (¬5) رواه الطبري 17/ 82 من حديث سعد بن أبي وقاص. وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وقد ضعف. انظر: "التقريب" 2/ 37.

{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي (¬1): كما أنجينا ذا النون. وروي عن عاصم أنه قرأ: (نجي) مشددة (¬2) الجيم (¬3). وخط المصحف بنون واحدة. قال الفراء (¬4)، والزجاج (¬5)، وابن مجاهد (¬6): لأن النون الثانية (¬7) تخفى مع الجيم وهي ساكنة، فلا تظهر على اللسان، فلما خفيت حذفت من الخط، وهي في اللفظ ثابتة. وقال أبو علي: إنما حذفت النون من الخط كراهية لاجتماع صورتين متفقتين، وقد كرهوا ذلك في الخط في غير هذا الموضع، وذلك أنهم كتبوا نحو: الدنيا والعليا بالألف، ولولا الياء التي قبل الألف لكتبوها بالياء كما كتبوا نحو: نهمى وحبلى، وأخرى ونحو ذلك بالياء، فلما كرهوا الجمع بين صورتين متفقتين في هذا النحو كذلك كرهوه في (ننجي) فحذف (¬8) النون الساكنة (¬9). ¬

_ (¬1) (أي): ساقطة من (أ). (¬2) في (أ): (مشدد). (¬3) قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: (نجي) بنون واحدة ومشددة الجيم، وقرأ الباقون بنونين مخففا. "السبعة" ص 430، "المبسوط" ص 254، "التبصرة" ص 264، "التيسير" ص 155، "النشر" 2/ 324. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 209. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403. (¬6) انظر "السبعة" لابن مجاهد. (¬7) موضع (ثانية) بياض في (ت). (¬8) في "الحجة": (فحذفوا). (¬9) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 260.

وأما قراءة عاصم فقد حكم عليها الزجاج (¬1) والفراء (¬2) وجميع النحويين بالغلط عليها وأنها لحن (¬3). ثم ذكر الفراء لها وجهًا فقال: أضمر المصدر في (بني) فنوى به الرفع، ونصب المؤمنين، فيكون كقولك ضرب الضرب زيدًا؛ ثم تكني عن أنْضرب فتقول: ضُرب زيدًا، وكذلك (¬4) نُجي النجاء زيدًا (¬5). وممن صوّب هذه القراءة واختارها أبو عبيد، فقال (¬6): وإنما (¬7) قرأها عاصم كذلك اتباعًا للخط، وله مخرجان في العربية: أحدهما: أن يريد (نُنَجّي) (¬8) مشددة لقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} ثم تدغم النون الثانية في الجيم (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 210. (¬3) قال السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 193: وهذه القراءة متواترة، ولا التفات على من طعن علي قارئها، وإن كان أبو علي قال: هي لحن. وهذه جرأة منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجاج. (¬4) في (أ): (وكذا). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 210. (¬6) اختيار أبي عبيد وقوله في "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 78، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 112 - 113، القرطبي 11/ 335. وبعضه في "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 55، "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه 2/ 67، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 469 - 470، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 335. (¬7) في (د)، (ع): (إنما). (¬8) في (أ)، (ت): (ننج). (¬9) سيأتي بيان ضعف هذا التوجيه.

والمخرج الثاني: ذكره (¬1)، وهو ما ذكر الفراء، وذكره ابن قتيبة أيضًا وأنشد (¬2): ولو ولدت قُفَيْره جَرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بذلك الجرْوِ الكلابا (¬3) نصب الكلاب على إضمار المصدر (¬4). ¬

_ (¬1) يعني ذكره أبو عبيد. (¬2) في "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 55: (وأنشدني بعض النحويين. ثم ساق البيت. وقد نسب البغدادي في "خزانة الأدب" 1/ 163 هذا البيت لجرير، وتبعه في ذلك الشنقيطي في "الدرر اللوامع" 1/ 44. والبيت بلا نسبة في "الحجة" للفارسي 5/ 260، و"الخائص" لابن جني 1/ 379، وأمالي ابن الشجري 2/ 215، و"همع الهوامع" للسيوطي 1/ 162. قال البغدادي في "الخزانة" 1/ 163: قفيرة -بتقديم القاف والفاء والراء المهملة: اسم أم الفرذدق، والجرو -مثلث الجيم- ولد السباع. وهذا البيت من قصيدة لجرير يهجو بها الفرزدق مطلعها: أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت: لقد أصابا ولم أجد هذا البيت في ديوانه المطبوع. (¬3) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 55 - 56. (¬4) ذكر الواحدي وجهين في توجيه هذه القراءة، وهناك وجهان آخران: الوجه الأول: وهو أصح الأقوال -ما ذكره أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 78 قال: ولم أسمع في هذا -يعني توجيه هذه القراءة- أحسن شيء سمعته من علي بن سليمان -يعني الأخفش الأصغر- قال: الأصل (ننجي) فحذف إحدى النونين لاجتماعهما، كما يحذف إحدى التائين لاجتماعهما نحو قول الله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] الأصل: تتفرقوا. قال النحاس: والدليل على صحة ما قال أن عاصمًا يقرأ (نجي) بإسكان الياء، ولو كان على ما تأوله من ذكرناه -بعد الوجهين الذين ذكرهما- لكان مفتوحًا. انتهى كلامه. وعلى هذا الوجه خرج أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة فقال في كتابه "الخصائص" 1/ 398: وأما قراءة من قرأ: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فليس على إقامة المصدر مقام الفاعل ونصب المفعول الصريح, لأنه عندنا على حذف إحدى نوني (ننجي) كما حذف ما بعد =

وأما تسكين الياء من (نُجّيْ) على قراءة عاصم فقال ابن الأنباري: سكنت الياء من (نجي) وهو فعل ماض؛ لأن جماعة من العرب يستثقلون تحريك الياء فيقولون: بقي فلان، ورضي فلان. وإلى هذا ذهب الحسن فقرأ (¬1): (وذروا ما بقيْ من الربا)، قال الشاعر: ليت شِعْري إذا القيامةُ قامَتْ ... وَدُعِي بالحسابِ أين المصيرا (¬2) (¬3) ¬

_ = حرف المضارعة في قوله سبحانه (تذكرون) أي: تتذكرون، ويشهد أيضًا لذلك سكون لام (نجي) ولو كان ماضيا لانفتحت اللام إلا في الضرورة. وجود هذا الوجه أبو شامة المقدسي في "إبراز المعاني" ص 601 وقال أيضًا: وهو وجه سديد غريب لا تعسف فيه، ويشهد له أيضًا حذف إحدى النونين من (تحاجوني)، و (تبشروني) و (تأمروني). واستظهره أيضًا ابن هشام في "أوضح المسالك" 3/ 350، وحسنه السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 191 واستشهد له. لكن مكي بن أبي طالب ضعف هذا الوجه في كتاب مشكل "إعراب القرآن" 2/ 483، وتبعه أبو البقاء العكبري في "الإملاء" 2/ 136 قالا- واللفظ للعكبري: وهذا ضعيف لوجهين: أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فيبعد حذفها، والثاني: أن حركتها غير حركة النون الأولى فلا يستقل الجمع بينهما. وقد رد السمين الحلبي في "الدر" 8/ 192 على أبي البقاء فقال: أما كون الثانية أصلاً فلا أثر له في منع الحذف، ألا ترى أن النحويين اختلفوا في إقامة واستقامة أي: الألفين المحذوفة؟ مع أن الأولى هي أصل لأنها عين الكلمة. وأما اختلاف الحركة فلا أثر أيضًا؛ لأن الاستثقال باتحاد لفظ الحرفين على أي: حركة كانا. أهـ. الوجه الثاني: أن (نجي) فعل ماض مسند لضمير المصدر، فضمير المصدر أقيم مقام الفاعل، و (المؤمنين) منصرب بإضمار فعل مقدر، وليس منصوبا بنجي والتقدير: وكذلك نجي هو -أي: النجاء- ننجي المؤمنين. ذكر أبو حيان 6/ 335، والسمين الحلبي 8/ 193 هذا الوجه. (¬1) قراءة الحسن في: "الشواذ" لابن خالويه ص 17، القرطبي 3/ 369، "البحر المحيط" 2/ 337، "الدر المصون" 2/ 637. (¬2) في (أ)، (ت)، (ع): (المصير)، والمثبت من (د) وبقية المصادر. (¬3) هذا البيت أنشده ابن الأنباري في "شرحه للقصائد السبع الطوال الجاهليات" =

قال: وقال الفراء (¬1): وقوم (¬2) من العرب يكرهون تحريك الياء فيجعلونها ألفاً فيقولون في بقي: بقا (¬3)،، وفي نعي (¬4): نعا. وأنشد (¬5): لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا ... على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا وأنشد أيضًا (¬6): ¬

_ = ص 295، ولم ينسبه لأحد. وهو من غير نسبة في: "إيضاح الشعر" لأبي علي الفارسي 2/ 314، "أمالي ابن الشجري" 1/ 36، القرطبي 11/ 335. قال القرطبي: سكن الياء في (دعي) استثقالا لتحريكها وقبلها كسره. (¬1) لم أجد قول الفراء. (¬2) (وقوم): ساقطة من (أ)، (ت). وهؤلاء القوم هم طي كما سيأتي. (¬3) في (أ)، (ت): (بقي، نعي). (¬4) في (أ)، (ت): (بقي، نعي). (¬5) البيت لزيد الخيل، وهو في ديوانه ص 62، و"النوادر" لأبي زيد ص 279، والطبري 11/ 69. قال أبو زيد: يقول ما أخشى ما بقي قيسي يسوق إبلا؛ لأني أغير عليهم. أهـ والتصعلك: الفقر. "الصحاح" للجوهري 4/ 1596 (صعلك). والشاهد من البيت قوله: مما بقا. إذ أصله: ما بقي، فقلبت الياء ألفا. (¬6) هذان الشطران لزيد الخيل أيضًا، وقد روت المصادر -على خلاف بينها في بعض الألفاظ- هذا الشعر هكذا: أفي كل عام مأتم تبعثونه ... على محمر عود أثيب ومارُضا تجدون خمشا بعد خمش كأنَّه ... على فَاجعَ من خير قومكم نُعا والبيتان في: ديوان زيد الخيل ص 55، "النوادر" لأبي زيد ص 302 - 303، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 121، و"خزانة الأدب" للبغدادي 9/ 494. والبيت الأول في "الكتاب" لسيبويه 1/ 129، "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 176، "لسان العرب" 12/ 4 (أتم). وهما من قصدة قالها زيد مجيبًا لكعب بن زهير، وكان زيد قد أخذ فرسًا لكعب، فقال كعب: =

أفي كلِّ عَامٍ مَأتَمٌ تُحْدِثُونَه ... على فَاجِعٍ من خير قومِكم (¬1) نُعَا (¬2) قال: وشبيه هذا إسكانهم الياء المنكسر ما قبلها في النصب كقول رؤبة: كأن أيْدِيهنَ بالقاعِ القَرِق (¬3) (¬4) ¬

_ = لقد نال زيد الخيل مالَ أخيكُمُ ... فأصبح زيدٌ بعد فَقْر قد اقتنى فقال زيد: أفي كل ... قال البغدادي في "الخزانة" 9/ 494 - 495: قوله (أفي كل عام). إلخ استفهام توبيخي، و (المأتم) مهموز، وهو الجماعة من النساء -يجتمعن لحزن أو فرح، والمراد به هنا الحزن. وقال أبو زيد ص 303: (المحمرَ: الفرس يشبه الحمار، .. و (العود): (المسن): أثيب: أعطى ثوابه. وقال السيرافي 1/ 121: المحمر: البرذون، وقيل هو السكيت الذي لا خير منه من الخيل. يريد أنهم يجمعون نساء ليبكين على هذا المحمر .. والفاجع: الهالك الذي يؤذي أهله فقده .. و (رضا) و (نعا) أصلهما (رضي ونعي) فقلبت الياء فيها ألفا، وهذه لغة طائية. أهـ (¬1) في (أ)، (ت): (قومك). (¬2) في (ت): (ناعيا). (¬3) في (أ): (القرف). (¬4) هذا الرجز لرؤبة، وبعده: أيدي جوار يتعاطين الورق. وهو في "ديوانه" (ص 179)، و"الكامل" للمبرد 2/ 320، و"العمدة" لابن رشيق 2/ 193، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 105، و"خزانة الأدب" 8/ 347. وغير منسوب في "مقاييس اللغة" لابن فارس 5/ 75 (قرق)، و"الخصائص" ابن جني 1/ 306، و"أمالي المرتضى" 1/ 561، و"لسان العرب" 10/ 321 (قرق)، و"همع الهوامع" للسيوطي 1/ 53. والشاهد فيه إسكان الياء من (أيديهن) والقياس فتحها. قال ابن الشجري في "أماليه" 1/ 105: ضمير (أيديهن) للإبل، والقاع: المكان المستوي، والقرق- بفتح القاف الأولى وكسر الراء: الأملس، و (جوار) -بفتح الجيم: جمع جارية،=

وهذا وجه قول من أجاز هذه القراءة. والذين لم يجيزوها أبطلوا هذا، قال الزجاج: لا يجوز ضرب زيدا. تريد: ضرب الضرب؛ لأنك إذا قلت: ضرب زيد، فقد علم أن (¬1) الذي ضُرِبَهُ ضَرْبٌ، فلا فائدة من إضماره وإقامته مقام (¬2) الفاعل (¬3). وقال أبو علي: قول من قال إنه يسند الفعل إلى المصدر ويضمره لأن الفعل دل عليه فذلك مما يجوز في ضرورة الشعر والبيت الذي أنشد (¬4): ولو ولدت قفيره ... لا يكون حجة في هذه القراءة (¬5). وأما ما ذكره أبو عبيد (¬6) أنه (ننجي) من التنجيه فادغم النون في الجيم [هذا لا وجه له؛ لأنه لا يجوز إدغام النون في الجيم] (¬7) سيما والنون متحركة والجيم مشددة بالتضعيف (¬8). ¬

_ = ويتعاطين أي: يناول بعضهن بعضًا. والورق: الدراهم وفي التنزيل {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19]. أهـ وقال المرتضى في "أماليه" 1/ 561: شبه حذف منا سمهن له بحذف جوار يلعبن بدراهم، وخص الجواري لأنهن أخف يدا من النساء. (¬1) عند الزجاج: أنه. (¬2) عند الزجاج: مع الفاعل. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403. (¬4) في (د)، (ع): (أنشدوا)، والمثبت من باقي النسخ هو الموافق لما في الحجة. (¬5) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 260. (¬6) في (د)، (ع): (أبو علي)، وهو خطأ. (¬7) ساقط من (د)، (ع). (¬8) وضعفه أيضًا النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 78، وقال عنه ابن خالويه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 67 إنه غلط، وضعفه جدًّا السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 193.

وحمل أبو علي وجه هذه القراءة على أن الراوي عن (¬1) عاصم غلط في (¬2) روايته وأن الغلط جاءه (¬3) من جهة الراوي لا من جهة عاصم، فقال إن عاصمًا ينبغي أن يكون قرأ (ننجي المؤمنين) بنونين وأخفى (¬4) الثانية؛ لأن هذه النون (¬5) تخفى مع حروف الفم وتبيينها لحن، فلما أخفى عاصم ظن السامع أنه إدغام، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام من حيث كان كل (¬6) واحد غير مبين (¬7) ويدل على هذا إسكانه الياء من (نجي) والفعل إذا ¬

_ (¬1) في (ع): (من). (¬2) في (أ): (لي). (¬3) في (أ): (جاءه). (¬4) في (أ)، (ت): (واخفاء). (¬5) في (أ)، (ت): (النونين). (¬6) (كل): ساقطة من (أ)، (ت). (¬7) هذه دعوى لا دليل عليها، فإنه الراوي عن عاصم هو أبو بكر بن عياش، وهو إمام ضابط القراءة حتى قال ابن مجاهد في "السبعة" (ص 71) - في سياق كلامه عن سبب عدم غلبة قراءة عاصم على أهل الكوفة: وإلى قراءه عاصم صار بعض أهل الكوفة، وليست بالغالبة عليهم؛ لأن أضبط من أخذ عن عاصم أبو بكر بن عياش -فيما يقال- لأنه تعلمها منه تعلما: خمسا خمسا. وكان أهل الكوفة لا يأتمون في قراءة عاصم بأحد ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش، وكان أبو بكر لا يكاد يمكن من نفسه من أرادها منه، فقلت بالكوفة من أجل ذلك وقل من يحسنها. أهـ. ثم إن هذه القراءة هي الموافقة لرسم المصحف ولذلك اختارها أبو عبيد، وقد بين العلماء وجهها من العربية. فلا مجال بعد ذلك للطعن فيها وتغليط رواته، لا سيما وقد قرأ بها ابن عامر أيضًا كما تقدم تخريج القراءه، ولم ينفرد بها أبو بكر، أفيقال أيضًا إن ابن عامر أو الرواة عنه غلطوا فظنوا أنه إدغام فالتبس عليهم الإخفاء بالإدغام؟!.

89

كان مبنيًّا للمفعول به وكان ماضيًا لم يسكن آخره فإسكان الياء يدل على أنه قد قرأ (ننجي) كما روى حفص عنه (¬1)، ومما يمنع أن يظن ذلك به نصب قوله (المؤمنين) ولو كان على ما لم يسم فاعله لوجب أن يرتفع لأن الفعل إذا بني للمفعول ينبغي أن يسند إليه كما يسند المبني للفاعل إليه (¬2). 89 - قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} قال ابن عباس: يريد وحيدا بلا ولد (¬3). وهذا كقوله: {مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم: 5 - 6]، الآية. وقوله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} قال ابن عباس: أفضل الوارثين. وقال المفسرون: رد الأمر إلى الله (¬4). ومعنى هذا: إنه أثنى على الله بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه أفضل من بقي حيًّا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون ويبقى هو، هذا معنى قولهم رد الأمر إلى الله (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم بيان سبب إسكان الباء. (¬2) "الحجة" للفارسي 5/ 259 - 260 مع تصرف. (¬3) في "تنوير المقباس" ص 204: وحيدا بلا معين. (¬4) الطبري 17/ 83، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 42 ب. (¬5) ويحتمل أن يكون معنى قول المفسرين. رد الأمر إلى الله، ما قاله الزمخشري 2/ 582، وابن جزي 3/ 67، وأبو حيان 6/ 636: ثم رد أمره إلى الله مستسلمًا، فقال (وأنت خير الوارثين) أي: إن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي فإنك خير وارث. وقد اعترض على هذا الوجه وأنه لا يناسب مقام الدعاء فإن من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه. وذكر الألوسي 17/ 87 احتمال أن يكون معنى رد الأمر إلى الله من قبيل: ارزقني إن شئت، ولكن المقصود منه إظهار الرضا والاعتماد على الله -عزّ وجلّ- ولو لم يجب دعاءه. =

95

95 - وقوله تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال قتادة: كانت عاقرًا فجعلها الله وَلودًا (¬1). وقال الكلبي: كانت عقيمًا لم تلد شيئًا قط، فأُصلحت بالولد فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة (¬2). وهذا قول أكثر المفسرين أن إصلاح زوجه (¬3) إزالة عقرها (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله، فلم تكن تخالفه ولا تعصيه، وانقطع لسانها عنه (¬5). والأول أشبه (¬6). ¬

_ = والأقرب أن معنى قوله {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ما قاله ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 193: دعاء وثناء مناسب للمسألة. وبينه ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 17/ 135 بقوله: وجملة (وأنت خير الوارثين) ثناء لتمهيد الإجابة، أي: أنت الوارث الحق فاقض علي من صفتك العالية شيئًا، وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها، كما قال أيوب (وأنت أرحم الراحمين)، ودل ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية سورة مريم {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}. (¬1) رواه الطبري 17/ 83، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 670، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ذكر الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 468 عن الكلبي أنه قال: ولدت له وهو ابن بضع وسبعين سنة. (¬3) في جميع النسخ: زوجها. وهو خطأ. والتصويب من "الوسيط" 3/ 350. (¬4) انظر: "الطبري" 17/ 83، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 42 ب، "ابن كثير" 3/ 193، "الدر المنثور" للسيوطي 5/ 670. (¬5) رواه الحاكم في "مستدركه" 3/ 383 من طريق طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس. وقال: حديث صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بقوله: طلحة واه. (¬6) وقال ابن كثير 3/ 193، والأظهر من السياق الأول. وقال ابن عطية 10/ 200: وعموم اللفظة يتناول كل وجوه الإصلاح.

وقوله: {إِنَّهُمْ} الظاهر أن الكناية تعود إلى زكريا ويحيى وامرأة زكريا (¬1). ويدل على هذا ما روي أن أبا بكر -رضي الله عنه- خطب فقال في خطبته: (وإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: (إنهم كانوا يسارعون) الآية (¬2). وقال بعض المفسرين: {إِنَّهُمْ} (¬3) يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة (¬4). ومعنى {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} قال ابن عباس: يبادرون في طاعة الله (¬5) وأداء فرائضه، ويتنافسون (¬6) في المعروف على عباد الله (¬7). وقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} الرَّغَبُ والرَّغْبُ والرَّغْبَةُ كلها ¬

_ (¬1) هذا قول الطبري 18/ 83. وذكره الماوردي 3/ 468، وابن الجوزي 5/ 385 من غير نسبة. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 258، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في تفسير ابن كثير 3/ 193، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 35، والحاكم في "مستدركه" 2/ 383 - 384 كلهم من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الله القرشي، عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر، .. فذكره. قال الحاكم بعد إخراجه 2/ 384: هذا حديث صحيح الإسناد. لكن تعقبه الذهبي بقوله: عبد الرحمن بن إسحاق كوفي ضعيف. وقد ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 671 وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان. (¬3) (إنهم): زيادة من (د)، (ع). (¬4) هذا قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 42 ب. وقد ذكره البغوي 5/ 353، والزمخشري 2/ 582 وابن الجوزي 5/ 385 من غير نسبة لأحد. (¬5) لفظ الجلالة سقط من (د)، (ع). (¬6) في (د)، (ع): (وينافسون). (¬7) انظر: "تنوير المقباس" ص 204.

91

مصادر (¬1)، وكذلك في الرَّهَب (¬2). والرغباء والرهباء اسمان منهما، يقال: الرهباء من الله والرغباء إليه (¬3). وانتصابها على المصدر على معنى: يرغبون رغبًا، ويرهبون رهبًا، أو على المفعول له أي: للرغب (¬4) والرهب (¬5). قال ابن عباس: يريد راغبين في الجنة وخائفين من النار (¬6). {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} قال مجاهد: متواضعين (¬7). وقال قتادة: ذُلُلَ لأمر الله (¬8). 91 - قوله تعالى {وَالَّتِي}: يعني مريم بنت عمران. {وَالَّتِي} في ¬

_ (¬1) انظر (رغب) في: "تهذيب اللغة" 8/ 121، "لسان العرب" 1/ 422 - 423. "القاموس المحيط" 1/ 74، "تاج العروس" 2/ 508. (¬2) انظر (رهب) في: "تهذيب اللغة" 6/ 290، "لسان العرب" 1/ 436، "القاموس المحيط" 1/ 76، "تاج العروس" 1/ 537. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 292 - 293 مع تصرف منسوبًا إلى الليث. وهو بنحوه في "العين" 4/ 47. وانظر ما تقدم من مصادر في (رغب) و (رهب). (¬4) في (أ)، (ت): (الرغب)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403، "الإملاء" للعكبري 2/ 136، "البحر المحيط" 6/ 336، "الدر المصون" 8/ 194. (¬6) نحوه في "تنوير المقباس" ص 204. (¬7) ذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 193 عن مجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 671 عن مجاهد وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬8) ذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 193 عن الحسن وقتادة بلفظ: متذللين لله -عز وجل-. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 670 عن قتادة بلفظ (أذلاء). وعزاه لابن جرير -ولم أره فيه- وابن المنذر وابن أبي حاتم. قال ابن كثير 3/ 193 بعد سياقه لهذه الأقوال: وهذه الاقوال متقاربة.

محل النصب بالعطف على ما قبلها (¬1). {أَحْصَنَتْ} أحرزت ومنعت عن الفساد. {فَرْجَهَا} ذكر الفراء والزجاج أنه يعني: جيبها (¬2). قال الفراء: ذكر المفسرون أنه جيب درعها (¬3). وهذا محتمل؛ لأن الفرج معناه في اللغة: كل فرجة بين شيئين، ولذلك (¬4) يقال [لما بين قوائم الدابة: الفروج. ومنه قوله: تَسُدُّ به فرجها من دبر (¬5). أراد ما بين] (¬6) فخذيها ورجليها (¬7). ¬

_ (¬1) أو ينتصب بإضمار اذكر. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 78، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 481، "الدر المصون" 8/ 194. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 210. (¬4) في (ت): (وكذلك). (¬5) هذا عجز بيت لامرئ القيس، وصدره: لها ذنبٌ مثل "ذيل العروس" وهو في "ديوانه" ص 164، "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 45 (فرج)، "مقاييس اللغة" لابن فارس 4/ 499، (فرج) "لسان العرب" 2/ 342 (فرج)، "تاج العروس" للزبيدي 6/ 143 (فرج). وهذا البيت من قصيدة قالها امرؤ القيس بعد قتله لثعلبة بن مالك، ويصف فرسه التي ركبها عند قتاله له .. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ت). (¬7) من قوله كل في جه إلى هنا في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 44 - 45 (فرج) منسوبًا إلى الليث- وهو في "العين" 6/ 109 (فرج) إلى قوله فهو فرج. وانظر المراجع اللغوية المتقدمة في تخريج البيت.

وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج. وهذا أبلغ في الثناء عليها من أن يجعل فرجها بمعنى الفرج المعروف للنساء؛ لأنها إذا منعت حبيب يرعها فهي لنفسها أمنع وأشد إحصانًا. وقد قيل: {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} حفظت فرج نفسها (¬1). وقوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قال المفسرون: أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها (¬2). وعلى هذا المراد: فنفخنا في درعها. فحذف المضاف (¬3) ويجوز أن ¬

_ (¬1) نسب ابن عطية في "تفسيره" 10/ 201 هذا القول إلى الجمهور. وقال الطبري 17/ 84: والذي هو أولى القولين -عندنا بتأويل ذلك- قول من قال: أحصنت فرجها من الفاحشة؛ لأن ذلك هو الأغلب من معنييه عليه، والأظهر في ظاهر الكلام. وقال ابن عطية 10/ 201: وهو ظاهر القرآن. وقال عن القول الأول إنَّه ضعيف. وما اختاره الطبري وابن عطية ذهب إليه أبو العباس بن تيمية في "الفتاوى" 17/ 262، واستظهره أبو حيان في "البحر" 6/ 336 واستشهد عليه بقولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]. (¬2) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 43 أ. بنصه. (¬3) يرد هذا قوله تعالى في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}. قال أبو العباس بن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى" 17/ 262: وقد ذكر المفسرون أن جبريل نفخ في حبيب درعها، والجيب هو الطوق الذي في العنق .. ، وذكر أبو الفرج وغيره قولين: هل كانت النفخة في حبيب الدرع أو في الفرج؟ فإن من قال بالأول قال: في فرج درعها، وأن من قال: هو مخرج الولد قال الهاء كناية عن غير مذكور، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها، وهذا ليس بشيء، بل هو عدول عن صريح القرآن. وهذا النقل إن كان ثابتًا لم يناقض القرآن، وإن لم يكن ثابتاً لم يلتفت إليه، فإن من نقل أن جبريل نفخ في جيب الدرع فمراده أنه -عليه السلام- لم =

يكون المراد في نفسها. والمعنى: وأجرينا (¬1) فيها روح المسيح كما تجري الربح بالنفخ، وذلك أن الله تعالى أجرى فيها روح عيسى بنفخ جبريل، وأحدث بذلك النفخ المسيح في رحمها (¬2). وقوله تعالى: {مِنْ رُوحِنَا} يريد من روح عيسى. وأضاف الروح إليه إضافة الملك على معنى التشريف والتخصيص (¬3). وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} قال الفراء، والزجاج، والكسائي: وحد الآية بعد ذكرهما جميعًا لمّا كان شأنهما ¬

_ = يكشف بدنها ... ، فنفخ في جيب الدرع فوصلت النفخة إلى فرجها. والمقصود إنما هو النفخ في الفرج كما أخبر الله في آيتين، وإلا فإن النفخ في الثوب فقط من غير وصول النفخ إلى الفرج مخالف للقرآن، مع أنه لا تأثير له في حصول الولد، ولم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا نقله أحد عن عالم معروف من السلف. أهـ. (¬1) في (د)، (ع): (فأجرينا). (¬2) هذا قول الثعلبي 3/ 43 أ. وذكره الماوردي في "النكت والعيون" 3/ 469 مختصرًا، وابن الجوزي 5/ 385 من غير نسبة. (¬3) وفيه وجه آخر ذكره الزمخشري 2/ 583 وأبو العباس بن تيمية في "الفتاوى" 17/ 263. وأبو حيان في "البحر" 6/ 336 والألوسي في "روح المعاني" 17/ 88 وهو أن الروح هنا جبريل كما قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. قال أبو العباس ابن تيمية: فقوله {فَنَفَخْنَا فِيهَا} أو {فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أي: من هذا الروح الذي هو جبريل، وعيسى روح من هذا الروح، فهو روح من الله بهذا الاعتبار، و (من) لابتداء الغاية. وقال: ولهذا قيل في المسيح {وَرُوحٌ مِنْهُ} باعتبار هذا النفخ.

92

واحدًا، وكانت الآية فيهما آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية وذلك أنه لم يكن امرأة وَلَدْت بلا رجل، ولا رجل وُلِدَ بلا ذكر غير عيسى وأمه. هذا كلامه (¬2). والمعني: أن الآية فيهما واحدة وهي كون عيسى من غير أب وولادة أمه من غير ذكر. ومعنى كونهما آية للعالمين ما ظهر فيهما من التي دلت على قدرة الله. 92 - قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} قال ابن عباس: يريد دينكم (¬3). وهو قول الحسن (¬4)، ومجاهد (¬5)، وجميع المفسرين (¬6). وقال الكلبي: ملتكم (¬7). ومضى الكلام في معاني الأمة. وقال ابن قتيبة: الأمة: الدين. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي: على دين. وقال النابغة: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 210، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 404. وقال السمين الحلبي 8/ 195 - بعد ذكره لهذا الوجه: أو نقول: إنه حذف من الأول لدلالة الثاني أو بالعكس، أي: وجعلنا ابن مريم آية، وأمه كذلك. وهو نظير الحذف في قوله تعالى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 204. (¬3) رواه الطبري 17/ 85 وإسناده حسن، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 672 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬4) ذكره عنه الطوسي في "التبيان" 7/ 245. (¬5) رواه الطبري 17/ 85. (¬6) انظر: "ابن كثير" 3/ 194، و"الدر المنثور" للسيوطي 5/ 672. (¬7) في "الدر المنثور" 5/ 672. وأخرج عبد بن حميد عن الكلبي قال: لسانكم لسان واحد.

وهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ؟ (¬1) أي: ذو دين. والأصل أنه يقال للقوم يجتمعون على دين واحد: أمه، فتقام الأمة مقام الدين (¬2). قوله تعالى: {أُمَّةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: يريد دينًا واحدًا (¬3). قال الفراء وأبو عبيد: نصب {أُمَّةً وَاحِدَةً} على القطع، لمجيء النكرة بعد تمام الكلام (¬4). والمعنى: أن هذه الشريعة التي بيّنتها لكم في كتابكم دينًا واحدًا. قال الحسن: بيّن لهم ما يتقون وما يأتون (¬5). ثم قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} إبطالًا لما سواها من الأديان (¬6). ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت للنابغة، وصدره: حَلفْتُ فلم أترك لنفسك ريبة وهو في "ديوانه" ص 35، و"مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 446، و"معاني القرآن" للأخفش 1/ 419، و"تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 635 (أم)، و"الصحاح" للجوهري 5/ 1864 (أمم)، و"لسان العرب" 12/ 24 (أمم). (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 446. (¬3) رواه الطبري 17/ 85 بسند حسن، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 672 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 210. ولم أجد من ذكره عن أبي عبيد. ومعنى القطع: الحال. وفي نصب (أمة) وجه آخر وهو البدل من (هذه). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 79، "البحر المحيط" 6/ 337، "الدر المصون" 8/ 195. (¬5) ذكره عنه ابن كثير في "تفسيره" 3/ 194. (¬6) قوله: (إبطالا ..) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 43 أ.

وعند الزجاج (أمة) نصب على الحال والمعنى: أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلًا فيها (¬1). هذا كلامه (¬2). والمعني: هذه أمتكم ما دامت واحدة واجتمعتم عليها، فإذا خالفتم (¬3) فليس من خالف [الحق من] (¬4) حملة أهل الدين الحق (¬5)، ومثله في الكلام أن تقول: فلا صديقي عفيفا، أي: ما دام عفيفا، وما بقي على العفة، فإذا خالف العفة لم يكن صديقك. وقوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} قال ابن عباس: فاطيعون (¬6). أي: لا دين سوى ديني، ولا رب غيري. وفي هذا حث على الاجتماع، وتجنب الاختلاف (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (فيه)، وما في (د)، (ع) هو الموافق لما في "المعاني" للزجاج. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 403. (¬3) في (أ): (خالفهم)، وهو خطأ. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ت). (¬5) من قوله: (فإذا خالفتم. إلى هنا)، هذا معنى قول الزجاج 3/ 403. (¬6) مثله في "تنوير المقباس" ص 204. (¬7) والمقصود أن الله تعالى بعد أن ذكر الأنبياء المتقدمين قال مخاطبًا الناس كافة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني أن دينكم دين جميع الأنبياء ورسل الله- الذين هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون وبهديهم تقتدون فقد كانوا على ملة واحدة ودين واحد وطريقة واحدة لا اختلاف فيها وأصول العقائد كما قال الله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" [رواه البخاري في "صحيحه"- كتاب الأنبياء 6/ 478]. فالدين=

93

ولما حث المؤمنين على الاجتماع ذم غيرهم من المشركين واليهود والنصارى بالاختلاف فقال: 93 - قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال ابن عباس: يريد المشركين اتخذوا من دونه آلهة (¬1). هذا كلامه في رواية عطاء. والصحيح أن هذا إخبار عن جميع مخالفي شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: اختلفوا في الدين فصاروا فيه فرقًا وأحزابًا. ويجوز أن يكون هذا الاختلاف راجعا إلى اختلاف أهل كل ملة كاختلاف اليهود فيما بينهم واختلاف النصارى وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يرجع إلى مخالفتهم دين الحق. وعلى هذا معنى {أَمْرَهُمْ} أي: الأمر الذي شرع لهم ودعوا إليه. والمعنى الأول من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 159] والمعنى الثاني من قراءة من قرأ: (فارقوا دينهم) (¬2). قال الكلبي: يقول فرقوا دينهم فيما بينهم يلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض، كل فرقة يرون أنهم على الحق (¬3). ¬

_ = واحد والرب واحد ولهذا قال: {وأَنَا رَبُّكُمُ}. فإن كان الرب واحدًا والدين واحدًا -وهو عبادة الله وحده- كان الواجب عليكم القيام بهذه العبادة ولهذا قال {فَاعْبُدُونِ} وكان اللائق هو الاجتماع على هذا الأمر وعدم التفرق. انظر: "التسهيل" لابن جزي 3/ 68، و"البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 337، وابن كثير 3/ 194، و"تيسير الكريم المنان" لابن سعدي 3/ 398. (¬1) في (د)، (ع): (إلهًا). (¬2) قرأ حمزة، والكسائي: (فارقوا) بالألف مخففًا. وقرأ الباقون: (وفرقوا) بغير ألف مشددًا. "السبعة" ص 274، "التبصرة" ص 200، "التيسير" ص 108. (¬3) ذكره البغوي 5/ 353 عن الكلبي إلى قوله: من بعض. وذكر الماوردي 3/ 470 عن الكلبي قال: تفرقوا.

والتقطع في هذه الآية واقع بمنزلة التقطيع. قال أبو عبيدة والزجاج: أي اختلفوا وتفرقوا؛ لأن تقطعهم أمرهم بينهم تفرقة (¬1). قال الأزهري (¬2): ويجوز أن يكون قوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: تفرقوا في أمرهم [ونَصَبَ أمرهم] (¬3) بحذف (في) قال: وهذا القول أصوب (¬4). وعلى هذا التقطع (¬5) لازم (¬6). ثم أخبر-عزّ وجلّ- أن مرجع جميع أهل الأديان إليه، وأنه مُجازٍ جميعهم فقال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} قال ابن عباس: يريد الذين عبدوا غيري، والذين وحدوني وأطاعوني. وقال أهل المعاني: كل إلينا راجعون أي: إلى حكمنا في الوقت الذي لا يقدر على الحكم سوانا. كما يقال رجع أمرهم إلى القاضي أي: ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 42، "ومعاني القرآن" للزجاج 3/ 404. (¬2) في (أ)، (ت): (الزهري)، وهو تصحيف. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (د)، (ع). (¬4) هذا النص عن الأزهري ليس موجودًا في المطبوع من "تهذيب اللغة" 1/ 187 - 196 (قطع)، فلعله سقط من المطبوع، أو من النسخة الخطية المعتمد عليها في الطباعة. وهو موجود بهذا النص في "لسان العرب" لابن منظور 8/ 276 (قطع) منسوبًا إلى الأزهري. وهو عند القرطبي 11/ 339 عز الأزهري إلى قوله: بحذف (في). (¬5) في (ع): (القطع). (¬6) وعلى الوجه الأول يكون (أمرهم) منتصبًا على أنه مفعول به، وعدى (تقطعوا) لأنه بمعنى: قطعوا. انظر: "الإملاء" للعكبري 2/ 136 - 137، "الدر المصون" 8/ 196.

94

إلى حكمه (¬1). 94 - قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} قال صاحب النظم: (من) هاهنا للتبعيض. أي: ومن يعمل شيئًا من الصالحات. أي من أداء الفرائض، وغيرها من صلة الرحم، ونصر المظلوم، ومعونة الضعيف، ونحو ذلك من أعمال البر. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال ابن عباس: وهو مصدق بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به (¬2). {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا جحود لعمله (¬3). يعني: أنه يقبل ويشكر بالثواب عليه ولا يبطل (¬4). والكُفْران والكُفُور والكُفْر مصادر مثل الشُّكْران والشُّكُور والشُّكْرُ (¬5). قال ابن مسلم: أي: لا يُجْحد ما عمل (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول: الطوسي في "التبيان" 7/ 246، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 3/ 160 أ، والقرطبي في "تفسيره" 11/ 339 من غير نسبة لأحد. والذي يظهر أن قول أهل المعاني صادرٌ بسبب التأويل. والصواب أن المعنى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي: صائرون إليه سبحانه يوم القيامة، فيحكم بينهم في ذلك اليوم ويجازى جميعهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر كما قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55]. انظر: "تفسير الطبري" 17/ 85، "تفسير ابن كثير" 3/ 194. (¬2) انظر: "التبيان" للطوسي 7/ 246، "التهذيب" للحاكم الجشمي 6/ 160 أ. (¬3) في (أ): (لعلمه)، وهو خطأ. (¬4) انظر: "الطبري" 17/ 86، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 43 أ. (¬5) الطبري 17/ 86، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 404. وانظر: "الصحاح" للجوهري 2/ 807 (كفر)، و"لسان العرب" لابن منظور 5/ 144 (كفر). (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 288.

95

وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} قال صاحب النظم: الهاء كناية للسعي على معنى: وإنا كاتبون لسعيه. وهذا وهم. الهاء كناية لـ (من) في قوله (فمن يعمل) والمعني (¬1): وإنا كاتبون لمن يعمل عمله. ولو كان على ما قال لقيل: وإنا وإياه كاتبون؛ لأنه يقال: كتب عمله، ولا يقال: كتب لعمله، ولكن يقال: كتب له عمله (¬2). والمعنى: نأمر الحفظة بأن يكتبوا لذلك العامل ما عمل من الخير لنجازيه به. 95 - قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} هذه آية كثرت فيها الأقوال وتقسمت فيها الخواطر والآراء ولم يقع لها شرح شاف، ولا بيان لتفسيرها كاف. والذي يدل عليه (¬3) ظاهر اللفظ- وبه قال كثير من المفسرين: أن الحرام هاهنا بمعنى الواجب. قال قتادة (¬4)، عن ابن عباس [: معناه: واجب عليها ألا ترجع إلى دنياها إذا هلكت (¬5). ¬

_ (¬1) ذكر أبو البقاء العكبري 2/ 137 الوجهين في عود الضمير من غير نسبة، وقدم ما قاله صاحب النظم ثم قال: وقيل: يعود على (من). وعلى ما ذكر صاحب النظم اقتصر الزمخشري 2/ 582، والرازي 22/ 220، والسمين الحلبي 8/ 197 وغيرهم من المفسرين. لكن الألوسي 17/ 90 ذكر القولين ثم تعقب القول الثاني -الذي اختاره الواحدي- بقوله: وليس بشيء. (¬2) في (د)، (ع): (يقال: له كتب عمله). (¬3) في (د)، (ع): (عليها). (¬4) (قتادة): ساقط من (د)، (ع). (¬5) ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 5/ 48 من رواية قتادة، عن ابن عباس، .. وهو منقطع. وقد رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 5/ 673 عن قتادة.

وروى عكرمة، عن ابن عباس] (¬1): أنه قرأ (وَحِرْمٌ) قال: وجب (¬2) قال الزجاج: وجاء أيضًا عن ابن عباس أنه قال: حتم عليهم لا يرجعون (¬3) إلى دنياهم. قال: وجاء في "التفسير" (حِرْمٌ) في معنى: حتم (¬4). وعن سعيد بن جبير: أنه قرأ (وحِرْمٌ على قرية) فسئل عنها فقال: عزم عليها (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬2) رواه الأزهري في "تهذيب اللغة" 5/ 48 بسنده، عن عكرمة، عن ابن عباس، به. وقد نسب السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 672 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ (وحرم على قرية) قال: وجب على قرية .. وقد طالعت تفسير سعيد بن منصور (ل 155 أ) فوجدته رواه من طريق عكرمة، عن ابن عباس، وفيه ذكر القراءة دون التفسير. ورواه الطبري 17/ 86 من طريق عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، فأما رواية عكرمة ففيها ذكر القراءة والتفسير لكن ليس فيه (حرم) بمعنى وجب، وأما رواية سعيد بن جبير ففيه ذكر القراءة عن ابن عباس دون التفسير، ثم تفسير سعيد بن جبير نفسه لحرم بمعنى: حرم. لكن ذكر ابن كثير -وهو يعتمد كثيرًا على تفسير ابن أبي حاتم- في "تفسيره" 3/ 194 عن ابن عباس أنه قال: وجب. فلعل هذا التفسير وقع في رواية ابن أبي حاتم أو غيره ممن ذكر السيوطي دون رواية سعيد بن منصور والطبري. وذى النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 79 من رواية ابن عيينة. وهشيم وغيرهما، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله (وحرام) قال: وجب. (¬3) عند الزجاج: ألا يرجعوا. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 404. (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 48 وفيه: وقال أبو معاذ النحوي .. قال: وحدثت عن سعيد بن جبير، فذكره. وقد رواه الطبرى 17/ 86 من طريق أبي المعلى يحيى بن ميمون، عن سعيد بن =

والذين قانوا إن حرامًا -هاهنا- بمعنى: واجب أنشدوا (¬1) قول الخنساء: وإن (¬2) حراماً لا أرى الدَّهْر باكيًا ... على شَجْوِهِ إلا بكْيت على عَمْرو (¬3) أي: واجب. ونحو هذا قال عطاء، عن ابن عباس، في قوله: {وَحَرَامٌ} قال: يريد حتماً مني (¬4). وقال الكلبي: يقول: وجب على أهل قرية (أهلكناها) يريد عذبناها {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إلى الدنيا أبدًا. قال: يعني أهل مكة من أهل القرى، لا يرجعون إلى يوم القيامة. هذا الذي ذكرنا قول واحد في هذه الآية، ومعناه: إن الله تعالى كتب على من أهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة، وأن لا يرجع إلى الدنيا ¬

_ = جبير، عن ابن عباس أنه قرأ (وحرم على قرية) قال -يعني أبا المعلى- فقلت لسعيد: أي: شيء حرم؟ قال: عزم. (¬1) ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 288. (¬2) عند ابن قتيبة ص 288: (فإن). (¬3) البيت أنشده ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 288 من غير نسبة لأحد. ونسبه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 43 أللخنساء بمثل رواية الواحدي هنا. ونسبه لها أيضًا القرطبي 11/ 340 لكن عنده: على صخر. وهو عند أبي حيان في "البحر المحيط" 6/ 338 - 339، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 198 - 199 منسوبًا للخنساء لكن روايته: حرامٌ علي لا أري الدهر باكيًا ... على شجوه إلا بكيت على صَخْر ولم أجد هذا البيت في ديوانها. (¬4) ذكر ابن الجوزي 5/ 387 هذا القول عن عطاء.

عزمًا منه ذلك حتماً. وفي (¬1) هذا تخويف لكفار مكة بأنهم إن عذبوا وأهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة. وإلى هذا أشار الكلبي فيما حكينا عنه. وهذا التفسير موافق لظاهر اللفظ؛ إلا أن حراماً بمعنى: وجب نادر، وهو مقبول من أهل التفسير، ولم يحتج في هذا القول إلى تقدير محذوف أو حكم على حرف بزيادة (¬2). القول الثاني: أن معنى الآية: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. أي: أهلكناهم بالاستئصال والاصطلام؛ لأنهم إنما لا يرجعون للاستئصال الواقع بهم والإبادة لهم. وخبر المبتدأ على هذا محذوف، تقديره: وحرام على قرية أهلكناها بالاستئصال بقاؤهم أو حياتهم. ونحو ذلك مما يكون في الكلام دلالة عليه. وهذا القول ذكره أبو علي (¬3). وإلى نحو هذا [من التقدير -الذي ذكره أبو علي-] (¬4) ذهب الزجاج وقطرب (¬5) في معنى هذه الآية. قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى أنه لا يضيع عمل عامل من المؤمنين في قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} الآية، ذكر في هذه الآية أنه قد حرم قبول أعمال الكفار. والمعنى: حرام على قرية أهلكناها أن يُتقبل منهم عملٌ؛ لأنهم لا يرجعون، أي: لا يتوبون كما قال -عزّ وجلّ-: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى ¬

_ (¬1) في (ت): (في). (¬2) في (أ)، (ت): (بزيادة). (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 3/ 382، وانظر 5/ 261. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) لم أجد من ذكره عن قطرب.

قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] فأعلم أنهم لا يتوبون أبدًا، وكذلك {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} معناه: قد علم منهم أنهم لا يتوبون. هذا كلامه (¬1). ونحتاج في هذا إلى شرح، وهو أن نقول: معنى هذا القول: وحرام على قرية حكمنا عليها بالهلاك -لعلمنا بأنهم لا يرجعون عن كفرهم- أن قبل منهم طاعة أو نثيبهم على عمل. فنحتاج إلى تقدير لام في (أنهم) كما قدر أبو علي باء وإلى إضمار خبر المبتدأ كما أضمره هو. وذكر (¬2) قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} احتجاجًا بأن قوله: {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} معناه: لا يرجعون من الشرك لحكم الله عليهم [بذلك كما قال] (¬3) {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية، واحتج على أن الله لا يقبل عمل كافر بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] وهذا الذي ذهب إليه أبو إسحاق معنى قول [قتادة (¬4). هذا كله إذا جعلت] (¬5) (لا) في قوله: {لَا يَرْجِعُونَ} غير زائدة (¬6). ¬

_ (¬1) ليس هذا كلامه بنصه، بل فيه زيادة وتصرف وحذف. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 405. (¬2) يعني الزجاج، وليس عند الزجاج الاحتجاج بهذه الآية بل فيه قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} انظر: "المعاني" 3/ 405. (¬3) ما بين المعقوفين بياض في (ت). (¬4) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 673 وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر. وانظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 194. (¬5) ما بين المعقوفين بياض في (ت). (¬6) وفي الآية وجه آخر حسن تكون فيه (لا) غير زائدة، و (حرام) على بابها. وهو أن الله -عز وجل- قال في الآيات التي قبل هذه الآية {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} فبين-عز وجل- أن الخلق راجعون إليه وأنه لا كفران لسعي أحد. ثم=

فإن جعلت (لا) زائدة، وهو قول ابن جريج، وأبي عبيد (¬1)، وابن قتيبة (¬2)، وكثير من أهل التفسير والمعاني، فالمعنى: حرام على قرية مهلكة رجوعهم إلى الدنيا كما قال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ] (¬3) يَرْجِعُونَ} [يس: 50]، و (أن) في موضع رفع بأنّه خبر المبتدأ الذي هو ¬

_ = قال بعد ذلك: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي: ممتنع على أي: قرية أهلكها الله انتفاء الرجوع إلى الآخرة، فإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع، والمعنى: أنهم يجب رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة، ويكون الفرض إبطال قول من ينكر البعث. انظر: "تفسير الرازي" 22/ 121، "البحر المحيط" 6/ 338، "الدر المصون" 8/ 199. وقد أشار ابن عطية في "المحرر" 10/ 204 إلى هذا المعنى بقوله: ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بين، وذلك أنه ذكر من عمل صالحًا وهو مؤمن، ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب، ولا يرجعون إلى معاد؛ فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم، فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء، أي: ممتنع على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون، بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه. فتكون (لا) على بابها، والحرام على بابه، وكذلك الحرام، فتأمله) أهـ. (¬1) ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 80 هذا القول عن أبي عبيد ولم يرضه، حيث قال: (وأما قول أبي عبيد: إن (لا) زائدة فقد رده عليه جماعة؛ لأنها لا تزاد في مثل هذ الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال). وذكر هذا القول عن أبي عبيد أيضًا: القرطبي 11/ 340، وأبو حيان 6/ 338. (¬2) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 245، وانظر: "غريب القرآن" له ص 288. قال الطبري 17/ 78: وقد زعم بعضهم أنها في هذا الموضع صلة فإن معنى الكلام: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا. وأهل التأويل الذين ذكرناهم -يعني ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة- كانوا أعلم بمعنى ذلك منه. (¬3) بياض في (ت).

حرام، و (لا) زائدة (¬1) لزيادتها في مواضع ذكرناها أنها صلة فيها. ومعنى هذا القول كمعني القول الأول في هذه الآية. وذكر على تقدير زيادة (لا) قول آخر، وهو: أن المعنى: وحرام على قرية حكمنا بهلاكها للشقاء الذي كتبنا عليها أن يرجعوا عن الشرك ويؤمنوا (¬2). ومعنى حرام على الأقوال كلها -غير القول الأول- أنهم يمنعون عن ذلك كما يمنعون من الأشياء المحرمة في الشرع، وليس كحظر الشريعة الذي إن شاء المحظور عليه ركبه وإن شاء تركه، وكان الأمر فيه موقوفاً على اختياره (¬3). والحرام بمعنى المنع قد ورد في التنزيل في مواضع كقوله: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] أي: منعهم منهما، وقوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] يعني تحريم منع، وهذا كما تقول: حرمت عليّ لقاءك أي: منعتني من ذلك (¬4)، ولم يرد تحريم شرع. وقرئ (¬5) (وحرْمٌ) (¬6) وهو بمعنى حرام في قول جميع أهل اللغة كما ¬

_ (¬1) من قوله: (فالمعنى: حرام .. إلى هنا) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 3/ 261 مع اختلاف يسير. (¬2) ذكر الرازي 22/ 221، وأبو حيان 6/ 339 عن مجاهد والحسن قالا: لا يرجعون عن الشرك. (¬3) انظر: "المحرر" لابن عطية 10/ 204. (¬4) في (أ): (مالك). (¬5) في (أ)، (ت): (وقرأ). (¬6) قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (وحرم) بكسر الحاء وإسكان الراء من غير ألف. وقرأ الباقون: (وحرم) بالألف. "السبعة" ص 431، "التبصرة" ص 264، "التيسير" ص 155.

96

يقال حل (¬1) وحلال (¬2). 96 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} معنى (حتى) هاهنا كمعنى (حتى) في قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} (¬3). وقرئ (¬4) (فتحت) مخففاً ومشددًا (¬5). فمن خفف -وهي القراءة المعروفة (¬6) - فلأن الفعل في الظاهر مسند إلى هذين الاسمين، ولم يحمل ذلك على الكثرة حتى تشدد بمنزلة {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] ولأن المعنى على حذف المضاف لأن التقدير: فتح سد يأجوج ومأجوج، فحذف المضاف وأدخلت علامة التأنيث لما حذف المضاف (¬7)؛ لأن يأجوج ومأجوج مؤنثان (¬8) بمنزلة القبيلتين. ومن قرأ بالتشديد شدد لكثرة القبيلتين المسماتين بهذين الاسمين وعددهما كثير (¬9). ومعنى فتحهما: إخراجهما عن السد الذي جعلا وراءه وكأنهما قيدا ¬

_ (¬1) في (أ)، (ت): (حال)، وهو خطأ. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 404، "علل القراءات" للأزهري 2/ 412، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 68. (¬3) يوسف: 110. ويعني المؤلف أن (حتى) هنا للغاية. وفيها وجه آخر، وهو أنها ابتدائية. واستظهره ابن عطية 10/ 205، وانظر: "الدر المصون" 8/ 202. (¬4) في (أ)، (ت): (قرأ). (¬5) قرأ ابن عامر: (فتحت) مشددة التاء، وقرأ الباقون: (فتحت) خفيفة. "السبعة" ص 431، "التبصرة" ص 193، "التيسير" ص 102. (¬6) في (أ): (المعرفة). (¬7) هنا ينتهي الموجود من نسخة (ت). (¬8) في (د)، (ع): (مؤنثتان). (¬9) انظر: "الحجة" للفارسي 5/ 262، "علل القراءات" للازهري 2/ 415، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 470.

بذلك السد، وإذا ارتفع السد انفتحا. وتقدم الكلام في يأجوج ومأجوج في سورة الكهف [آية: 94]. وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} معني الحدب في اللغة: الحُدور في صبب، والجمع: حِدَاب (¬1). ومنه قيل: حدبة الظهر. وقال الفراء (¬2) والزجاج (¬3): الحدب كل أكمة من الأرض مرتفعة. وقوله تعالى: {يَنْسِلُونَ} النسلان: مشية الذئب إذا أسرع (¬4). والماشي ينسل، إذا أسرع. يقال: نسل في العدو يَنْسِلُ ويَنْسُلُ -بالكسر والضم- نسولاً (¬5) ونسلانًا] (¬6). ذكر ذلك الكسائي وغيره وأنشدوا قول الجعدي (¬7): بَرَد الليلُ عليه فَنَسَل واختلفوا في المعنيين بقوله: {وَهُمْ} فأكثر المفسرين على أن (هم) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 429 (حدب) منسوبًا إلى الليث. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 211. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 405. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 428 (نسل) منسوبًا إلى الليث. (¬5) هكذا في جميع النسخ. ولم تذكر المصادر اللغوية التي اطلعت عليها هذا التصريف. وإنما ذكرت: نَسْلًا ونَسَلًا ونَسَلانًا. (¬6) انظر (نسل) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 428، "الصحاح" للجوهري 5/ 1830، "لسان العرب" لابن منظور 11/ 660 - 661، "القاموس المحيط" 4/ 57. (¬7) هذا عجز بيت، وصدره: عَسَلان الذئب أمْسى قَارباً وقد أنشده للجعدي .. أبو عيدة في "مجاز القرآن" 2/ 42. وهو في "ديوانه" ص 90. وهو منسوب للبيد في: "الكامل" للمبرد 1/ 369، و"الجمهرة" لابن دريد 3/ 32. ومن غير نسبة في: الطبري 17/ 91، و"تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 428، و"لسان العرب" 11/ 661 (نسل).

كناية عن يأجوج ومأجوج وهو قول ابن مسعود (¬1). والمعنى: وهم من كل نشز (¬2) من الأرض يسرحون، يعني أنهم يتفرقون في الأرض فلا يرى أكمة (¬3) إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين. وقال آخرون (¬4): {وَهُمْ} يعني الخلق كلهم يحشرون إلى أرض (¬5) الموقف فهم يسرعون من كل وجه كما قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} يريد من كل وجه يخرجون (¬6). وهذا قول مجاهد (¬7)، وكان يقرأ (وهم من كل جدث ينسلون) اعتبارًا بقوله {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (¬8) والظاهر هو الأول (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 43 ب. وقد رواه الطبري 17/ 90، والحاكم في "مستدركه" 4/ 496 ضمن أثر طويل. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على الطبري 3/ 297. (¬2) في (أ): (بشر)، وهو خطأ. والنَّشَز -بفتح الشين وإسكانها: المكان المرتفع. "الصحاح" للجوهري 3/ 899 (نشز). (¬3) الأكمة: التل وكل موضع يكون أشد ارتفاعًا مما حول. "القاموس المحيط" 4/ 75. (¬4) ذكر هذا القول الثعلبي 433 ب، ولم ينسبه لأحد. (¬5) في (أ): (الأرض). (¬6) انظر: "تنوير المقباس" ص 204. (¬7) رواه الطبري 17/ 90، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 673 وعزاه لعبد بن حميد والطبري. (¬8) يس: 51. وقد ذكر قراءة مجاهد والتعليل الئعلبي في "الكشف والببان" 3/ 43 ب. انظر: "الشواذ" لابن خالويه ص 93، المحتسب لابن جني 2/ 66، "تعليل القراءات الشاذة" للعكبري ص 261. (¬9) وصوبه الطبري 17/ 90، وصححه ابن الجوزي 5/ 389، واستظهره أبو حيان في "البحر" 6/ 339.

97

97 - قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ} اختلفوا في هذه الواو: فقال الفراء: الواو مقحمة زائدة، المعنى: حتى إذا فتحت اقترب، ودخول الواو هاهنا بمنزلة قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، ومثله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103، 104]، ومعناه: ناديناه، وأنشد قول أمرىء القيس (¬1): فلمَّا أجَزْنَا ساَحَة الحيّ وانْتَحَى ... بنا بَطْن خَبْتٍ ذي حقاف عَقنْقَلِ قال: يريد: انتحى (¬2). ¬

_ (¬1) البيت أنشده الفراء في "معاني القرآن" 2/ 21 وروايته: ذي قفاف. وهو في ديوان امرئ القيس ص 15 من معلقته، ورواية شطره الثاني: بنا بطن ذي ركام عقنقل و"شرح القصائد السبع الطوال" لابن الأنباري ص 54 مثل رواية الفراء، و"تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 148 (جئز) وفيه: ذي حقاف، و"لسان العرب" 5/ 326 (جوز) وفيه: ذي قفاف، قال: ويروى ذي حقاف. قال البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 217: ومعى (أجزنا): (قطعنا وخلفنا، وساحة الحي: فناؤه، و (انتحى) اعترض. والحقف: الكثيب من الرمل يعوج وينثني، وبطنه: ما انخفض وغمض، و (ركامه): (ما تراكم منه بعضه فوق بعض، والعقنقل: ما تعقد منه ودخل بعضه في بعض. اهـ. وانظر: "شرح السبع الطوال" لابن الأنباري ص 54 - 55، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 86. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 211 دون قوله: الواو زائدة مقحمة. وقد قال بزيادة الواو في هذه المواطن الكوفيون، ومنع من زيادتها جمهور البصريين. قال ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 2/ 646 بعد ذكره لقول الكوفيين في إجازة أ، تكون الواو زائدة: فأما أصحابنا -يعني البصريين- فيدفعون هذا التأويل البتة، ولا يجيزون زيادة هذه الواو، ويرون أن أجوبة هذه الأشياء محذوفة للعلم بها والاعتياد في مثلها. =

ونحو هذا قال الكسائي (¬1) قال: والعرب تدخل الواو في جواب (حتى إذا) (¬2) و (لما) و (حين) و (ساعة) و (يوم) و (الواو) (¬3) و (الفاء) و (ثم)، ومعناها الطرح فتقول: لما فعلت كذا وحين فعلت كذا، وأقبل (¬4) يفعل أو ثم أقبل، والمراد أقبل يفعل، ومعنى (ثم) والواو الطرح. قال أبو إسحاق: والواو عند البصريين لا يجوز أن تدخل ويكون معناها الطرح، وجواب (حتى إذا) [مضمر في الآية] (¬5) لأن قوله: {يَا وَيْلَنَا ¬

_ = وقال في 2/ 649: وذهب أصحابنا إلى أن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره. وذكر ابن جني الجواب عن الآيتين اللتين استشهد بهما الفراء فقال 2/ 646 - 647 عن قوله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ}: وتأويل ذلك عندنا على معنى: فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أدرك ثوابنا ونال المنزلة الرفيعة عندنا .. وكذلك قوله -عز وجل-: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} تقديره: صادفوا الثواب الذي وعدوه. أهـ. وأما البيت الذي استشهد به الفراء فقد قال أبو عبيدة كما في "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 55: (وانتحى): (نسق على (أجزنا) وجواب فلما أجزنا: (هصرت بفودي رأسها). أهـ. وانظر أيضًا: "الكتاب" لسيبويه 3/ 103، "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري 2/ 456 - 462، "شرح المفصل" لابن يعيش 9/ 150، "رصف المباني" للمالقي ص 487 - 488، "الجنى الداني" للمرادي ص 164 - 166، "مغني اللبيب" لابن هشام 2/ 417. (¬1) ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 80، والقرطبي 11/ 342 عن الكسائي أن الواو في هذه الآية زائدة. (¬2) في (أ): (إذ). (¬3) في (أ): (الواو). (¬4) في (أ): (قيل). (¬5) ساقط من (أ). وفي (أ) عوضا منه: (أنتم).

قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ} هاهنا قول محذوف، المعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا. وخروج يأجوج ومأجوج من أعلام الساعة (¬1). {الْوَعْدُ الْحَقُّ} قال ابن عباس: يريد القيامة (¬2). قال الكسائي (¬3): ويجوز أن يكون واقترب عطفاً على "إذا فتحت" ويكون قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} جواباً لهما لـ {حَتَّى إِذَا} ولقوله {وَاقْتَرَبَ}. قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} قال الفرَّاء (¬4): تكون "هي" عمادًا (¬5) يصلح في موضعها "هو" فتكون كقوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} [النمل: 9] ومثله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] فجاز (¬6) التأنيث؛ لأن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 405، والثعلبي 433 ب. وحسّن النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 81 قول الزجاج في تقدير جواب إذا. وحكى أبو حيان 6/ 339 تقدير الزجاج ثم قال: أو تقديره: فحينئذ يبعثون. وفي جواب (إذا) وجه آخر -سيذكره المصنف عن الكسائي- وهو {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال الزمخشري 2/ 584، واختاره ابن عطية 10/ 205 وحكا أبو حيان 6/ 339، والسمين الحلبي 8/ 202 عن الحوفي. (¬2) الثعلبي 3/ 43 ب، البغوي 5/ 355، القرطبي 11/ 342 من غير نسبة. (¬3) ذكر النحاس في"إعراب القرآن" 3/ 81 عن الكسائي أنه أجاز أن يكون جواب "إذا" "فإذا شاخصة". (¬4) (الفراء): ساقطة من (ز). (¬5) العماد عند الكوفيين هو ما اصطلح عليه البصريون بقولهم: ضمير الفصل. قال ابن عقيل في "شرح التسهيل" لابن مالك 1/ 119: وسموه بذلك لأنه يعتمد عليه في الفائدة، إذ يتبين به أن الثاني ليس بتابع للأول. وانظر: "همع الهوامع" للسيوطي 1/ 68. (¬6) في (د)، (ع): (فجاءت)، وفي المطبوع من الفراء: فجاء.

الأبصار مؤنثة والتذكير للعماد. قال: وسمعت بعض العرب يقول: كان مرة وهو ينفع الناس أحسابهم. فجعل "هو" عمادًا. قال: وأنشدني بعضهم (¬1): بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ... فَهَلْ هو مَرْفُوعٌ بما هاهنا رأسُ [أراد فهل يرفع (¬2) رأس بما هاهنا فجعل هو عمادا] (¬3) قال: وإنْ شئت جعلت "هي" للأبصار كنيت عنها، ثم أظهرت الأبصار لتفسيرها (¬4) كما قال الشاعر (¬5): ¬

_ (¬1) البيت أنشده الفراء في "معانيه" 2/ 212 ونسبه لبعضهم، وأنشده أيضًا 1/ 52 مع بيتين قبله عن بعض العرب، والبيتان قبله هما: فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته ... على العيس في آباطها عرق يبس بأن السلامي الذي بضرية ... أمير الحمى قد باع حقي بني عبس بثوب ودينار ..... والبيتان من غير نسبة في: الطبري 2/ 313، 17/ 93، "البحر المحيط" 6/ 340، "الدر المصون" 8/ 250. (¬2) في (ع): (يرتفع). (¬3) قوله: أراد .. عمادا. هذا من كلام الواحدي وليس من كلام الفرّاء. (¬4) عند الفراء: لتفسرها. (¬5) البيت أنشده الفراء في "معانيه" 2/ 212 من غير نسبة. وهو من غير نسبة: الطبري 17/ 92، "المحرر الوجيز" 10/ 208، القرطبي 11/ 342، "البحر المحيط" 6/ 340، "الدر المصون" 8/ 205. ونسبه الأصبهاني في "الأغاني" 1/ 442، 16/ 234 لمالك بن كعب والد كعب بن مالك الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، ورواية "الأغاني": "خليلتي" مكان ظعينتي. قال الأصفهاني 16/ 234 عن مالك بن أبي كعب: وهو شاعر وله خبرٌ، وذكر في حرب الأوس والخزرج. والظَّعينة: هي المرأة في الهودج، هذا هو الأصل، ثم كثر ذلك حتى قيل للمرأة بلا هودج ظعينة. انظر: "لسان العرب" 13/ 271 (ظعن).

لعمرُ أبيها لا تقول ظعينتي .... ألا فَرَّعَنِّي مالك بن أبي كعب فذكر الظعينة وقد كنَّى عنها. انتهى كلامه (¬1). وعلى هذا إضمار على شريطة التفسير (¬2) [أضمر الأبصار، ثم فسرها بقوله: {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3) وقد ذكرنا معنى الإضمار على شريطة التفسير] (¬4) وبيَّنا هذه المسألة عند قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} [يوسف: 77] من كلام أبي علي (¬5). وقال المبرِّد -في هذه الآية-: قال سيبويه؛ إذا كان الخبر عن مذكر فحق الاضمار أن يكون بعلامة التذكير نحو قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] وكذلك: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3] تقديره: إن الأمر هذا، وإذا كان الخبر عن مؤنث يصلح أن يكون الإضمار بعلامة التأنيث ويكون تقديره: القصة نحو قولك: إنها أمَةُ الله خارجة، وإنَّها دارك خير من دار زيد، أي القصة كذا، ولو قلت: إنّه دارك، أي: إن الأمر، كان جيدًا بالغا، وإنما مِلْت إلى الضمير الذي يدل على القصة ليُنْبئْ عن أنَّك تريد أنْ يذكر مؤنثًا (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 212. (¬2) قال نور الدين الجامي في شرحه لكافية ابن الحاجب 1/ 351: الشريطة والشرط واحد، وإضافتها إلى التفسير بيانية، أي: أضمر عامله على شرط وهو تفسيره. (¬3) وهذا قول الزمخشري. انظر: "الكشاف" 2/ 584. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) انظر: "البسيط" سورة يوسف: 77. (¬6) انظر: "المقتضب" 2/ 144 - 145، "الكتاب" 1/ 69 - 71، 2/ 72، "شرح المفضل" لابن يعيش 3/ 116، "ارتشاف الضرب" لأبي حيان 1/ 486 - 487، "شرح التسهيل" لابن عقيل 1/ 116.

98

وهذا قول ثالث في هذه الكناية. وقد يكون التقدير في الآية: فإذا القصة شاخصة أبصار الذين كفروا (¬1)، أي: القصة أنَّ أبصارهم عند ذلك تشخص كقوله: {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] وقد مر. قال الكلبي: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله (¬2). وقوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا} أي: قالوا يا ويلنا "قد كنا في غفلة من هذا" قال ابن عباس: يريد في الدنيا كنا في عماية عما يراد منا {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أنفسنا بتكذيب محمد -صلى الله عليه وسلم- واتخاذ الآلهة. 98 - قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} يعني الأوثان. والخطاب لأهل مكة {حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال الليث: الحصب: الحطب الذي يلقى (¬3) في تَنُّور أو في (¬4) وَقُود (¬5). ¬

_ (¬1) فتكون "هي" ضمير القصة و"شاخصة" خبر مقدم، و"أبصار" مبتدأ مؤخر. وقال السمين الحلبي 8/ 204 عن هذا الوجه إنه الأجود. وذكر الثعلبي 3/ 144 وجهًا آخر، وهو أنَّ تمام الكلام عند قوله "هي" على معنى: فإذا هي بارزة واقفة، يعني من قربها كأنها حاضرة، ثم ابتدأ: "شاخصة أبصار الذين كفروا" علي تقديم الخبر على الابتداء. قال أبو حيان 6/ 340: وهذا وجه متكلّف، متنافر التركيب. (¬2) ذكره البغوي 5/ 355 عن الكلبي. (¬3) (يلقى): ساقطة من (أ). (¬4) (في): ساقطة من (د)، (ع). (¬5) قوله الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 260 (حصب). وهو في "العين" 3/ 123 (حصب) مع اختلاف يسير جدًا.

وقال الفراء: ذكر أن الحصب في لغة اليمن: الحطب. وقال: والحصب في لغة أهل نجد ما رميت به في النار (¬1). وقال الزَّجَّاج: كل ما يرمى به في جهنم حصب (¬2). والأصل في هذا ما ذكره ابن قتيبة: {حَصَبُ جَهَنَّمَ}: ما ألقي فيها. وأصله (¬3) من قولهم: حَصَبْتُ فلانًا، إذا، رميته أحصبه (¬4) حصْبًا -بتسكين الصاد- وما رميت به: حصَب، بفتح الصاد. كما لَقول: نفضت الشجر نفضًا [والنفض بفتح الفاء اسم ما نفضت] (¬5) (¬6). ونحو هذا قال الأزهري سواء (¬7). قال ابن عباس في قوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬8) يريد وقودها (¬9). وقال مجاهد، وقتادة، وعكرمة: حطبها (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 212. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 406. (¬3) في "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 288: وأصله من الحصباء، وهي الحصى. يقال: حصبت. (¬4) "أحصبه" مقحمة من كلام الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 260، وليس من كلام ابن قتيبة. (¬5) ما بين المعقوفين عند ابن قتيبة ص 2388: وما وقع من ثمرها، نفض. وعند الأزهري 4/ 260: والمنفوض نفض. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 288 مع حذف وزيادة وتصرّف. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 260 "حصب". (¬8) (حصب): ساقطة من (د)، (ع). (¬9) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 44 أ. وقد رواه الطبري 17/ 94 بإسناد حسن عن ابن عباس قال: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} شجر جهنم. (¬10) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 44 أعن مجاهد وقتادة وعكرمة. =

وقال الضحاك: يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء (¬1). وقوله تعالى: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال ابن عباس: يريد فيها داخلون (¬2). ¬

_ = وعن مجاهد رواه الطبري 17/ 94، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 680 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وعن قتادة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 30 والطبري 17/ 94. وعن عكرمة رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 205، والطبري في "تفسيره" 17/ 94. وذكره البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنبياء 8/ 435 معلقا، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" 3/ 508 من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق سفيان الثوري. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 680 عن عكرمة، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. (¬1) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 144 أعن الضحاك بنصّه. ورواه الطبري 17/ 94 بنحوه، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 680 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬2) قال عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 11: أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس: الورود: الدخول. وقال نافع: لا. قال: فقرأ ابن عباس: (أنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم أنتم لها واردون) وليس في هذه الرواية تسمية من سمع ابن عباس. وقد رواه الطبري 17/ 111، والمروزي في "زوائد الزهد" ص 499 من طريق آخر عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل يقال له أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول الله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ..} الآية. قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر هل تصدر عنها أم لا. ورواه هناد في "الزهد" 1/ 164 قال: ثنا الحارثي، عن ليث، عن مجاهد قال: سأل نافع ابن الأزرق ابن عباس عن قوله "وإن منكم إلا واردها" .. فقال ابن عباس: أما أنا وأنت يا ابن الأزرق فسندخلها، فانظر هل يخرجنا الله منها أم لا. وقال السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 535. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن =

99

99 - قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ} يعني الأصنام آلهة كما يزعم الكفار. {مَا وَرَدُوهَا} يحتمل أن يكون المعنى: ما ورد عابدوها النار. ويحتمل أن يقال: ما وردهم (¬1) أي: الأصنام النار. والأولى أن يقال: {مَا وَرَدُوهَا} يعني العابدين والمعبودين لقوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني العابد والمعبود. 100 - قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا} في جهنم {زَفِيرٌ}. {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} قال ابن مسعود -في هذه الآية- "إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت (¬2) من نار، ثم جعلت التَّوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى؛ فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم (¬3) أن في النار أحدًا (¬4) يعذب غيره (¬5). ¬

_ = منصور، وهنّاد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس، فقال ابن عباس: الورود الدخول .. ثم ساق مثل رواية عبد الرزاق. (¬1) في (د)، (ع): (ودوهم). ولعل الصواب: وردوها. (¬2) (توابيت): جمع تابوت، وهو: الصندوق. "لسان العرب" لابن منظور 2/ 17 (تبت). (¬3) (منهم): ساقطة من (د)، (ع). (¬4) في (ع): (أحدٌ). وهو خطأ. (¬5) رواه الطبري 17/ 95، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 314 من طريق المسعودي، عن يونس بن خباب، عن ابن مسعود، بنحوه. وفي سنده علتان: الأولى: المسعودي وهو عبد الرحمن بن عبد الله. وقد اختلط قبل موته- انظر: "تقريب التهذيب" 1/ 487. والثانية: يونس بن خباب صدوق يخطىء، ولم يسمع من ابن مسعود. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 3784. =

101

101 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية، قال الكلبي: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشًا، وهم في المسجد مجتمعون، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، فتلا عليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيات الثلاث، فشق ذلك عليهم، فأتاهم عبد الله بن الزبعري السهمي، فرآهم قد ظهر ذلك منهم، فقال: مالي أراكم بحال لم أركم (¬1) عليها قبل أن أفارقكم؟ فقالوا: إنَّ محمدًا يزعم أنَّا وما نعبد في النار، فقال ابن الزبعري: والذي جعلها بيته لو كنت هاهنا لخصمته. وقالوا: وهل لك أن نرسل إليه (¬2) فتكلمه (¬3)؟ قال: نعم. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعثت (¬4) إليه قريش أتاهم رجاء أن يسلموا، فبعثوا إليه، فأتاهم، فقال ابن الزبعرى: أرأيت يا محمد ما قلت لقومك آنفاً أخاصٌ أم عام؟ ¬

_ = ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 255 من طريق يحيي الحماني، عن قيس بن الربيع، عن يونس بن خباب، عمن حدثه، عن عبد الله بن مسعود فذكره بنحوه. وفيه علتان: الأولى: ما ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 69 بقوله: وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف. والثانية: جهالة الراوي عن ابن مسعود. وقد رواه ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 197 من طريق المسعودي، عن أبيه، قال: قال ابن مسعود، فذكره بنحوه باختصار. وهو منقطع. فالأثر لا يصح عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. وقد ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 681 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في صفة النار، والطبراني والبيهقي في البعث. (¬1) في (أ): (أراكم). (¬2) في (أ): (الله). وهو خطأ. (¬3) فتكلمه: ساقطة من (د)، (ع). وهي في (أ): (فيكلمه)، والصواب ما أثبتنا. (¬4) في (أ)، (ع): (بعث).

قال: بل عام، من عبد شيئًا من دون الله فهو وما يعبد في النار. قال: قد خصمتك ورب الكعبة [أليست اليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد المسيح، وبنو مليح (¬1) يعبدون الملائكة؟] (¬2) فان كانوا هم ومعبودوهم في النار فما آلهتنا خير من معبوديهم (¬3)، فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يأتيه جبريل، ولم يجبهم ساعة، فأنزل الله هذه الآية (¬4). وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابن الزبعرى: بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك. وأنزل الله هذه الآية (¬5). وأراد بقوله: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} عزيرًا، وعيسى، والملائكة. وهذا قول يروى عن ابن عباس (¬6). وهو قول مجاهد، وسعيد ¬

_ (¬1) بنو مليح: بطن هن خزاعة، من القحطانية. وهم بنو مليح بن عمرو بن عامر بن لحي. انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 238، "معجم قبائل العرب" لكحالة 3/ 1138. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) في (أ): (معبودهم). (¬4) ذكره عن الكلبي: هودُ بن محكّم الهواري. والكلبي متهم بالكذب فلا يعتمد عليه في رواية. قال ابن عطية 1/ 213. ولا مرية أنها مع نزولها في خصوص مقصود تتناول كل من سعد في الآخرة. (¬5) روى الطبري 17/ 97 عن محمد بن حميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، فذكره مرفوعًا بنحوه. وإسناده لا يصح لضعف شيخ الطبري محمد بن حميد، ولإرساله. (¬6) روى الطبري 17/ 96 من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وفيه عطاء بن السائب قد اختلط في آخره. لكن يشهد له رواه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" 3/ 59 عنه بلفظ: عيسى بن مريم -عليه السلام- ومن كان معه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 68: رواه =

ابن جبير، وأبي صالح، والضحاك (¬1)، والسدي. وقال آخرون: هذه الآية مستأنفة ليست ترجع بمعناها إلى ما قبلها، وهي عامة في كل من سبقت لهم (¬2) من الله السعادة. وهذا مذهب أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- روي أنه قال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد (¬3)، وسعيد (¬4)، وعبد الرحمن بن عوف (¬5). ¬

_ = البزار، وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار وثقه ابن معين وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. (¬1) روى الطبري في "تفسيره" 17/ 69 - 97 هذا القول عن مجاهد وسعيد وأبي صالح والضحاك. (¬2) في (أ): (له). (¬3) هو سعد بن أبي وقاص. (¬4) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، العدوي، القرشي. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن السابقين الأولين، شهد المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهد حصار دمشق وفتحها، فولاه عليها أبو عبيدة بن الجراح. توفي بالعقيق سنة 50 هـ وقيل: 51 هـ وحمل إلى المدنية. "الاستيعاب" 2/ 614، "سير أعلام النبلاء" 1/ 124، "الإصابة" 2/ 44. (¬5) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 372 - 374: رواه ابن أبي حاتم، والثعلبي، وابن مردويه في تفاسيرهم، من حديث محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، ثنا ليث -وتصحف في المطبوع إلى ليس- بن أبي سليم، عن ابن عم النعمان بن بشير- وفي المطبوع من "الدر المنثور" 5/ 681: عن النعمان بن بشير، وهو خطأ- وكان من سمار علي قال: تلا علي .. ثم قال الزلعي بعد سياقه للأثر: انتهى بلفظ الثعلبي لم يذكر فيه سعدًا، ولفظ ابن أبي حاتم: وعبد الرحمن بن عوف أو قال: سعد، شك فيه. ورواه ابن عدي في الكامل عن داود بن علية الحارثي، عن ليث بن أبي سليم، =

وهذا اختيار أكثر (¬1) أهل المعاني. قالوا: وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} أراد أوثان قريش، ولو كان عزير وعيسى والملائكة داخلًا تحت الكلام لقيل: ومن تعبدون، ولأن الخطاب (¬2) لمشركي مكة وهم كانوا أصحاب أوثان والإشارة بقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ} إلى تلك الأصنام التي وقف عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت حول الكعبة. وقوله لآبن الزبعري هي عامة يعني في ما عبد من دون الله من غير العقلاء، وسكوته عند إلزامه إياه حديث عزير وعيسى إنما كان لإرادة أن يكون الجواب من الله إنْ صح أنه سكت. ¬

_ = به، فذكره، ولم يذكر سعدًا كالثعلبي. أهـ كلام الزيلعي. وفي النسخة الموجودة عندي من "تفسير الثعلبي" 3/ 44 ب ذكر سعدًا في الأثر، فلعله سقط من نسخته التي اعتمد عليه. والأثر عند ابن عدي في "الكامل" 3/ 986. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 682 وعزاه لابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه. وهذا الأثر عن علي -رضي الله عنه- فيه علتان: الأولى: ضعف ليث بن أبي سليم، والثانية: جهالة ابن عم النعمان بن بشير. وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه 12/ 51 - 52، والطبري في "تفسيره" 17/ 96، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 198 عن محمد بن حاطب قال: سمعت عليًّا يخطب، فقرأ هذه الآية "إن الذين سبقت .. قال عثمان -رضي الله عنه- منهم". ولفظ ابن أبي حاتم: عثمان وأصحابه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 681 - 682 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير. وإسناده صحيح. (¬1) أكثر: ساقطة من (د)، (ع). (¬2) في (د)، (ع): (الكلام).

102

ومعنى قوله: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قال ابن عباس وعكرمة: يريد الرحمة (¬1). وقال ابن زيد: السعادة من الله لأهلها (¬2). وروي عن ابن عباس: الحسنى الجنة (¬3). وقد سبق من الله للمؤمنين الوعد بها. 102 - قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي: حسها وحركة تلهّبها. والحَسِيسُ والحِسُّ: الحركة (¬4). وقال الليث: الحِسُّ والحسيس تسمعه من الشيء يمر منك قريبًا ولا تراه، وأنشد في صفة باز (¬5): ترى الطير العتاق يظلن منه ... جنوحا إن سمعن له حسيسا (¬6) ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 393 عن ابن عباس وعكرمة أنهما قالا: الجنة. (¬2) رواه الطبري 17/ 98، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 681 وعزاه لابن مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم. (¬3) ذكره عنه ابن الجوزي كما تقدم. وانظر: "تنوير المقباس" ص 205. وشهد لهذا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. والمعاني في تفسير "الحسنى" متقاربة. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري (حسن) بنصّه. (¬5) قول الليث وإنشاده في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 408 - 409 (حس). وهو في كتاب "العين" 3/ 16 (حس)، ولم ينسب البيت لأحد. والبيت من غير نسبة أيضًا في "لسان العرب" 2/ 428 (جنح)، 6/ 50 (حسس)، "تاج العروس" للزبيدي 6/ 350 "جنح"، 15/ 4536 (حسس). (¬6) قول الليث وإنشاده في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 408 - 409 (حس). وهو في كتاب "العين" 3/ 16 (حس)، ولم ينسب البيت لأحد. =

103

وقال أبو عبيدة: الحسيس والحس والجَرْس واحد، وهو الصوت الخفي الذي لا (¬1) يحس (¬2). وقال ابن عباس: لا يسمعون حسيسها كما يسمع أهلها حسيسها من مسيرة خمسمائة عام. والظاهر أن هذا مطلق لا يسمعون حسيسها أبداً. وقال بعض المفسرين: يعني إذا نزلوا منازلهم من الجنة (¬3). وعلى هذا كأنهم قبل دخول الجنة يسمعون حسّ النار. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} قال ابن عباس: يريد في الجنة. ومعنى الشهوة والاشتهاء ذكرنا فيما تقدم (¬4). 103 - قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قال سعيد بن ¬

_ = والبيت من غير نسبة أيضًا في "لسان العرب" 2/ 428 (جنح)، 6/ 50 "حسس"، "تاج العروس" للزبيدي 6/ 350 (جنح)، 15/ 4536 (حسس). (¬1) لا: ساقطة من (أ). (¬2) في "مجاز القرآن" 2/ 42: أي: صوتها، والحس والحسيس واحد. لكن قال البخاري في "صحيحه" 8/ 435 (فتح) في أول تفسير سورة الأنبياء: .. وقال غيره: .. الحسيس والحس والجرس والهمس واحد. وهو الصوت الخفي. قال ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 436 شارحًا لقول البخاري "وقال غيره": كذا لهم -يريد ابن حجر لرواة الصحيح- وللنسفي -وهو أحد رواه الصحيح- "وقال معمر"، ومعمر هذا بالسكون هو أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي، وقد أكثر البخاري نقل كلامه، فتارة يصرّح باسمه وتارة يبهمه. (¬3) قال الطبري والثعلبي. انظر: "الطبري" 17/ 98 و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 44 ب. (¬4) انظر: "البسيط" عند قوله تعالي: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81].

جبير، والضحاك، والكلبي، والثوري (¬1): إطباق جهنم [على أهلها الفزع الأكبر] (¬2). وقال الحسن: هو أن يؤمر (¬3) بالعبد إلى النار (¬4). وقال ابن جريج: هو ذبح الموت بين الفريقين (¬5). وقال ابن عباس: هو النفخة الأخيرة (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 44 ب عن ابن جبير والضحاك. ورواه الطبري في "تفسيره" 17/ 98، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 682، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. ورواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 30 عن الكلبي. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (د)، (ع). (¬3) عند الطبري والثعلبي: حين يؤمر. (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 44 ب. ورواه الطبري 17/ 99، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 682 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬5) رواه الطبري 17/ 99. وانظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 44 ب. (¬6) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 44 ب. ورواه الطبري 17/ 99 من رواية العوفي، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 682 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. واختار الطبري هذا القول وقال: وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وأمن منه، فهو مما بعده أحرى أن لا يفزع، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده. واستدل الثعلبي في "الكشف" 3/ 44 ب لهذا القول بقوله {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ..} [النمل: 87]. وقال ابن الجوزي 5/ 594: ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}. وذهب ابن عطية -رحمه الله- إلى أن الفزع الأكبر عام من غير تخصيص بشيء، فقال في المحرر 10/ 212: والفزع الأكبر عام في كل هول يكون في يوم القيامة، فكأن يوم القيامة بجملته هو الفزع الأكبر، وإن خُصِّص شيء من ذلك فيجب أن =

وهذا (¬1) كمما قال في رواية عطاء، يريد البعث. يعني أنهم لا يحزنون للبعث كما يحزن غيرهم ممن يعلم أنه يصير إلى النار. قوله تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: تستقبلهم ملائكة الرحمة. قال ابن عباس: وذلك عند خروجهم من القبور (¬2). ومعنى التلقي: التعرض (¬3) للقاء الشيء، والمُسْتَقْبِلُ متعرض للقاء مُستَقْبَلَه (¬4). {هَذَا يَوْمُكُمُ} أي يقولون لهم (¬5) (هذا (¬6) يومكم الذي كنتم توعدون) أي: توعدونه في الدنيا. ¬

_ = يقصد الأعظم هو له. ثم ذكر ابن عطية الأقوال المخصصة لذلك الفزع، ثم قال: وهذا -يعني قول من قال: هو وقت النفخة الآخرة- وما قبله أشبه أن يكون فيها الفزع؛ لأنها وقت لرجم الظنون وتعرّض الحوادث، فأما وقت ذبح الموت ووقوع طبق جهنّم فوقت قد حصل فيه أهل الجنّة في الجنّة، فذلك فزع بين أنه لا يصيب أحدًا من أهل الجنة فضلًا عن الأنبياء، اللهم إلا أن يريد: لا يحزنهم الشيء الذي هو عند أهل النار فزعٌ أكبر، فأمّا إن كان فزعًا للجميع فلا بدّ مما قلنا من أنه قبل دخول الجنة. أهـ. (¬1) (وهذا). ساقطة من (أ). (¬2) ذكره القرطبي 11/ 346 وأبو حيان في البحر 6/ 342 عن ابن عباس. وذكره ابن كثير 3/ 199 مقتصرًا عليه من غير نسبة. وقيل إنّ هذا التلقي قبل دخول الجنة رواه الطبري 17/ 99 عن ابن زيد، فالملائكة تستقبلهم على أبواب الجنة، يهنئونهم يقولون "هذا ...) (¬3) في (أ): (التعريض). (¬4) انظر (لقا) في "تهذيب اللغة" 9/ 298، "الصحاح" 6/ 2484، "لسان العرب" 15/ 256. (¬5) (لهم): زيادة من (أ). (¬6) (هذا): ساقطة من (أ).

104

104 - قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السَّماء. وهذا يدل على أنَّ المراد بالفزع الأكبر البعث؛ لأنّه يقع في ذلك اليوم. وقال أبو علي: {يَوْمَ نَطْوِي} يكون في انتصابه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلًا من الهاء المحذوفة من الصلة، ألا ترى أن المعنى: هذا يومكم الذي كنتم (¬1) توعدونه. والآخر: أن يكون منتصبًا بـ"نعيده" (¬2). وقوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ} اختلفوا في معنى {السِّجِلِّ}: فقال ابن عباس -في رواية عطاء-: يريد ملَكًا يقال له السجل (¬3)، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه (¬4). وهذا قول السدي، قال: السجل: ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنْسان دُفع كتابه إلى السجل (¬5) فطواه ورفعه إلى يوم القيامة (¬6). ¬

_ (¬1) كنتم: ساقطة من (د)، (ع). (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 263. وجوز أبو حيان 6/ 342، وتبعه السمين الحلبي 8/ 208 أن يكون "يوم" منصوبًا بـ"لا يحزنهم" و"تتلقاهم"، أو يكون منصوبًا بإضمار أذكر أو أعني. (¬3) في (أ): (سجل). (¬4) ذكره عن ابن عباس: الرازي 22/ 228، والقرطبي 11/ 347، وأبو حيان 6/ 343. ورواية عطاء عن ابن عباس هذه باطلة، وقد تقدم الكلام فيها. (¬5) في جميع النسخ: (سجل)، والتصحيح من تفسير ابن كثير "الدر المنثور". (¬6) رواه عن السدي بهذا اللفظ ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 200، و"الدر المنثور" 5/ 683. ورواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 206، والطبري 17/ 100 عن السدي مختصرًا، بلفظ: (السجل) ملك.

وهذا القول مروي عن ابن عمر أيضًا (¬1). وقال (¬2) في رواية أبي الجوزاء، وعكرمة: السجل كاتب كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 99، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 200، و"الدر المنثور" للسيوطي 5/ 683 من طريق يحيى بن يمان، قال: حدثنا أبو الوفاء الأشجعي، عن أبيه، عن ابن عمر قال: السجل ملك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورًا. (¬2) يعني ابن عباس. (¬3) رواه أبو داود في "سننه" (كتاب الخراج والإمارة والفيء- باب اتخاذ الكاتب 8/ 154، والنسائي في التفسير 2/ 74، والطبري في تفسيره 17/ 100، وابن أبي حاتم في تفسيره (كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 200، والبيهقي في "سننه" 10/ 126 كلهم من طريق يزيد بن كعب. عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، به. وفي سنده يزيد بن كعب وهو العوذي قال الذهبي في "الميزان" 4/ 348: لا يدري من ذا أصلًا. وقال ابن حجر في التقريب 2/ 370: مجهول. وعمرو بن مالك وهو النكري قال عنه ابن حجر في "التقريب" 2/ 426: صدوق له أوهام. وقد تابع يزيد بن كعب يحيى بن عمرو بن مالك فرواه عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس به. ورواه من هذا الوجه الطبراني في "المعجم الكبير" 12/ 170، وابن عدي في "الكامل" 7/ 2662، والبيهقي في "سننه" 10/ 126. لكن قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 5/ 348 - بعد ذكره لهذه المتابعة-: ويحيى هذا ضعيف جدًّا، فلا يصلح للمتابعة. وذكر ابن كثير في "تفسيره" 3/ 200 وفي "البداية والنهاية" 5/ 348 عن ابن عمر شاهدًا لهذا الأثر رواه الخطب البغدادي في "تاريخه" 8/ 175 من حديث حمدان ابن سعيد، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر =

قال أستاذنا أبو إسحاق (¬1) -رحمه الله-: هذا قول غير قوي؛ لأن كُتّاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا معروفين، ليس (¬2) يعرف فيهم من يسمى بهذا الاسم (¬3). قال الزجاج: وقيل: السجل بلغة الحبش الرَّجُل (¬4). وعلى هذه ¬

_ = قال: كان للنبي-صلى الله عليه وسلم- كاتب يقال له سجل، فأنزل الله {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ}. ثم قال ابن كثير في "تفسيره": وهذا منكر جدًّا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلًا، وكذلك ما تقدم عن ابن عباس -من رواية أبي داود وغيره- لا يصح أيضًا، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه -وإن كان في سنن أبي داود- منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي. وقال في "البداية والنهاية" 5/ 347: وعرضت هذا الحديث -يعني حديث ابن عباس- على شيخنا الحافظ الكبير أبي الحجاج المزي فأنكره جدًا، وأخبرته أن شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية كان يقول: هو حديث موضوع وإن كان في سنن أبي داود، فقال شيخنا المزي: وأنا أقوله. وقال ابن القيم في تعليقه على ("سنن أبي داود" 8/ 154 حاشية عون المعبود): (سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يعرف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتبٌ اسمه السجل قط. أهـ. أما رواية عكرمة عن ابن عباس فقد ذكرها الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 45 أ. (¬1) هو أبو إسحاق، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، النيسابوري. صاحب التفسير الكبير المسمى بـ"الكشف والبيان". (¬2) في (د)، (ع): (ولم). (¬3) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 45 أإلى قوله: معروفين. ولم أجد في "تفسيره" قوله. وليس .. وأصل الكلام للطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 17/ 100. قال ابن كثير في تفسيره 3/ 200: وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، قال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معورفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل. وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 406.

الأقوال لا يعرف السجل اشتقاق. وقال مجاهد: السجل: الصحيفة التي فيها الكتاب. يعني المكتوب (¬1). وهذا اختيار (¬2) الفراء (¬3) وابن قتيبة (¬4)، وهو الذي يعرفه أهل اللغة من معنى السجل (¬5). وهو قول الكلبي في روايته عن ابن عباس (¬6) (¬7). وقال قتادة: كطي الصحيفة فيها الكتب (¬8). وأصله في المساجلة، والمساجلة مأخوذ (¬9) من السِّجل، وهو الدلو ¬

_ (¬1) رواه الفريابي في "تفسيره" (كما في "تغليق التعليق" 4/ 259)، والطبري 17/ 100 عن مجاهد مختصرًا، بلفظ: السجل: الصحيفة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 684 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وهو في "تفسير مجاهد" 1/ 417 بمثل رواية الفريابي وغيره. (¬2) في (د)، (ع): (واختار هذا). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 213. (¬4) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة (ص 288). (¬5) هذا قول الطبري في "تفسيره" 17/ 100. (¬6) في (أ): (في رواية ابن عباس)، وهو خطأ. (¬7) لم أجده من رواية الكلبي عن ابن عباس، وروى الطبري 17/ 100 هذا القول عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة الوالبي، والعوفي. قال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 200: والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة. قاله علي بن أبي طلحة والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، أي: على الكتاب بمعنى المكتوب، كقوله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أي: على الجبين، وله نظائر في اللغة. (¬8) ذكره عنه ابن كثير 3/ 200. (¬9) في المطبوع من "تهذيب اللغة" 10/ 587، و"اللسان" 11/ 325: مأخوذة. =

مَتْلأى ماء. والرجلان يستقيان بالسجل فيكون لكل واحد منهما سجل. هذا هو الأصل، ثم قيل لكل أمر بين اثنين يكون (¬1) لهذا مرَّة ولهذا (¬2) مرة: هو بينهما سجال: ومساجلة، ومنه قول اللهبي (¬3): من يساجلني يساجلْ ماجدًا ... يملأ الدلو إلى عَقْدَ الكَرَبْ (¬4) (¬5). ¬

_ = وأشار محقق "تهذيب اللغة" في الحاشية أنَّ في الأصل: "مأخوذ". (¬1) (يكون): ساقطة من (ع). (¬2) في (أ): (ولذلك). (¬3) هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، القرشي. يقال له الذهبي نسبة إلى أبي لهب. شاعر من فصحاء بني هاشم، كان معاصرًا للأحوص والفرزدق، وله معهما أخبار. ومدح عبد الملك بن مروان، وهو أول هاشمي يمدح أمويًّا. توفي في خلافة الوليد ابن عبد الملك. "معجم الشعراء" للمرزباني 178، "المؤتلف" للآمدي ص 35، "الأعلام" للزركلي 5/ 150. (¬4) في (أ): (الكذب)، وهو خطأ. (¬5) البيت للهبي يقوله مفتخرا، وهو منسوب له في: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 229، "والمعاني الكبير" لابن قتيبة 2/ 795، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 71، والطبري 12/ 94، و"الكامل" للمبرد 1/ 110، و"تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 586 "سجل"، و"لسان العرب" 11/ 326 (سجل). والكرب: هو الحبل الذي يشد على الدلو. "لسان العرب" لابن منظور 1/ 714 "كرب". والكلام الذي ذكره الواحدي هنا مع البيت منقولٌ من مواضع متفرقة من "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 584 - 588 "سجل". وانظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 45 أ.

ثم قيل للمكاتبة: مساجلة؛ لأنَّ المبتدئ يكتب مرة والمجيب أخرى، ولما قيل للكاتبة مساجلة قيل للكتاب: سِجل، وسَجَّل أي: كتب السجل. هذه أربعة أقوال في السجل. وعلى الأقوال الثلاثة المتقدمة (¬1) قوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ} المصدر مضاف إلى الفاعل، والمراد بالكتاب وبالكتب علي اختلاف القراءتين (¬2): الصحائف كما تقول: كطي زيد الكتب، ومن أفرد فإنه واحد يراد به الكثرة. وتكود اللام (¬3) في (للكتاب) زائدة كالتي في: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]. هذا كلام أبي علي (¬4). وعلى القول الرابع (¬5) المصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل (¬6) محذوف عن (¬7) اللفظ كقوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24] والتقدير: كطي الطاوي السجل، فحذف الطاوي وأضيف المصدر إلى المفعول، كما أن المعنى في سؤال نعجتك: بسؤاله نعجتك. وقوله تعالى: {لِلْكُتُبِ} أي: لدرج (¬8) الكتب، فحذف المضاف، والمراد بالكتب والكتاب: المكتوب. هذا كله قول أبي علي (¬9). ¬

_ (¬1) يعني أن السجل ملك، أو كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الرجل بلغة الحبشة. (¬2) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: "للكُتُب" على الجمع والكاف والتاء مضمومتان وقرأ الباقون "للكتاب" على التوحيد. "السبعة" ص 431، "التَّبْصرة" ص 264، "التيسير" ص 155. (¬3) اللام: ساقطة من (أ). (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 264. وانظر: "حجّة القراءات" لابن زنجلة ص470 - 471، 2/ 114 - 115. (¬5) يعني أن السجل: الصحيفة. (¬6) (والفاعل): ساقط من (د)، (ع). (¬7) في "الحجة" 5/ 264: من. (¬8) درج الكتاب: طيه وداخله. "تاج العروس" للزبيدي 5/ 556 (درج). (¬9) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 264 مع تصرف.

وقال المبرد: يجوز أن يكون الكتاب بدلاً من السجل، كأنه قيل: كطي الكتاب (¬1)، واللام مؤكدة. هذا كلامه (¬2). ويجوز تقدير آخر وهو أن (¬3) السجل يكون بمنزلة الفاعل لما كان بانطوائه ينطوي المكتوب فيه، جعل كأنه يطوي الكتاب. وتم الكلام (¬4)، ثم قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (¬5) وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم (¬6) حفاة عراة غُرلاً (¬7)، كذلك نعيدهم يوم القيامة. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا (¬8) بموعظة (¬9)، فقال: "إنَّكم مَحشورون حفاة عراة كما ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (السجل)، وهو خطأ. (¬2) لم أجده. (¬3) (أنّ): ساقطة من (د)، (ع). (¬4) في (أ): (الكتاب)، وهو خطأ. (¬5) هذا قول الفراء 2/ 213، والطبري 17/ 101، والزجاج 2/ 406. والمعنى أن الكلام انقطع عند قوله "للكتب" ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذٍ، فقال: كما بدأنا أول خلق نعيده. وقيل: إن الله تعالى لما قال "وتتلقاهم الملائكة .. " الآية، عقبه بقوله "يوم نطوي السماء .. " فوصف اليوم بذلك، ثم وصفه بوصف آخر فقال "كما بدأنا أول خلق نعيده". انظر: "الرازي" 22/ 228. (¬6) في (أ): (أمهاتكم). (¬7) (غرلا): جمع أغرل، وهو الأقلف الذي لم يختن. الفائق في "غريب الحديث" للزمخشري 1/ 137، "غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 154. (¬8) (خطيبًا): ساقطة من (أ). (¬9) (بموعظة): ساقطة من (د)، (ع).

بدأكم (¬1) أول خلق نعيده" (¬2) ونحو هذا روت عائشة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). القول الثاني: ما ذكره الفراء والزجاج، قال الفراء: ثم استأنف فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي: نعيد الخلق كما بدأناهم (¬4). وقال الزجاج: نبعث الخلق كما ابتدأناه، أي: قدرتنا على الابتداء (¬5). وقال أبو علي: المعنى نعيد الخلق إعادة كابتدائه، أي كابتداء الخلق والخلق هاهنا اسم الحدث لا الذي يراد به المخلوق (¬6). القول الثالث: ما روي عن ابن عباس أنه قال: نهلك كل شيء كما كان أول مرة (¬7). وهذا معنى قوله في رواية عطاء. وعلى هذا المعنى: كما بدأنا أول خلق نعيده إلى الفناء والهلاك. وعلى هذا ليس الكلام بمستأنف بل هو متصل بالأول يقول: نطوي السماء ثم نعيده (¬8) إلى الفناء. قال ابن عباس: كما بدأ خلقها ثم يذهب فلا يكون شيء. ¬

_ (¬1) هكذا في جمغ النسخ. وفي مصادر التخريج: بدأنا. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 351 تحقيق شاكر، والبخاري في "صحيحه" كتاب التفسير -تفسير سورة الأنبياء 8/ 437، ومسلم في "صحيحه" 41/ 2194 من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس بألفاظ مقاربة. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" 17/ 102، وصححه القرطبي 11/ 348. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 213. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 406. وفيه: كما ابتدأناهم. (¬6) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 263. مع اختلاف يسير. (¬7) رواه الطبرى في "تفسيره" 17/ 102 من رواية العوفي، عنه. (¬8) في (أ): (ونعيده).

05 1

وقوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْنَا} قال الزجاج: منصوب على المصدر؛ لأن قوله: {نُعِيدُهُ} بمعنى وعدنا هذا وعدا (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} قال ابن عباس: يريد الفعل بعينه. ومعنى هذا ما ذكره الزجاج: أي قادرين على فعل ما نشاء (¬2). وقال الآخرون (¬3): يعني البدء والإعادة. والمعنى إنا كنا فاعلين (¬4) ما وعدناكم من ذلك والموعود هو الإعادة. 105 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الزبور: جميع (¬5) الكتب المنزلة من السماء، والمراد بالذكر أم الكتاب الذي عند الله. هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد (¬6)، واختيار أبي إسحاق، قال: الزبور جميع الكتب: التوراة والإنجيل والقرآن (¬7)، زبور ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 406. وانظر: "البحر المحيط" 6/ 344، "الدر المصون" 8/ 213. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 407. (¬3) هذا قول الطبري 17/ 102، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 45 ب. (¬4) عند الطبري 17/ 102: إنا كنا فاعلي. (¬5) في (د)، (ع): (جمع)، وهو خطأ. (¬6) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 45 ب عن ابن جبير ومجاهد وابن زيد. ورواه عن سعيد بن جبير سفيان في "تفسيره" ص 206، وسعيد بن منصور في "تفسيره" ل 155 أ، وهناد في "الزهد" 1/ 123، والطبري في "تفسيره" 17/ 103، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 685 وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير. ورواه عن مجاهد الطبري 17/ 103، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 685 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ورواه عن ابن زيد الطبري 17/ 103. (¬7) في المطبوع من المعاني: الفرقان.

لأنّ الزبور والكتاب في معنى واحد، يقال: زبرت وكتبت، والمعنى: ولقد كتبنا في الكتب من بعد ذكرنا في السماء (¬1). قال ابن عباس في رواية الكلبي، والضحاك، والسدي: الذكر: التوراة، والزبور: الكتب المنزلة بعد التوراة (¬2). وقال في رواية عطاء: يريد زبور داود من بعد التوراة. وهذا قول عامر الشعبي (¬3). والمختار قول سعيد لأنَّه الأجمع (¬4)، وتأويل الكلام: لقد حكمنا فأثبتنا حكمنا في الكتب من بعد أم الكتاب. {أَنَّ الْأَرْضَ} يعني أرض الجنة. قاله ابن عباس -في رواية عطاء- ومجاهد والسدي، وأبو صالحِ، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وابن زيد (¬5)، واحتجوا بقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [الزمر: 74] الآية، {يَرِثُهَا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 407. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 45 ب عن ابن عباس والضحاك. ورواه الطبري في "تفسيره" 17/ 103 عن ابن عباس من طريق العوفي. ورواه عن الضحاك أيضًا 17/ 103. ورواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 30 عن الكلبي. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 555، والطبري في "تفسيره" 17/ 103، والحاكم في "مستدركه" 2/ 587، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 686 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم. (¬4) وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 17/ 104، وما نقله الواحدي بعد ذلك من قوله: وتأويل الكلام. هو كلام الطبري رحمه الله. (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" 17/ 104 من طريق مجاهد عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 687 وعزاه للفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم. =

106

عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قالوا: المؤمنون العاملون بطاعة الله (¬1). وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني الدنيا تصير للمؤمنين من هذه الأمة، وهذا حكم من الله -عَزَّ وَجَلَّ- بإظهار الدين وقهر الكافرين (¬2). 106 - قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} يعني القرآن في قول الجميع (¬3). {لَبَلَاغًا} لكفاية. يقال: في هذا الشيء بلاغٌ وبُلْغةٌ وتَبَلُّغ (¬4)، أي: كفاية (¬5). والبلوغ: الوصول، والبلاغ: سبب الوصول، وهو ما يوصل به إلى ¬

_ = وروى الطبري 17/ 104 - 105 هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وابن زيد. وذكر ابن كثير في "تفسيره" 3/ 201 هذا القول عن أبي العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وأبي صالح وغيرهم. (¬1) انظر: "الطبري" 17/ 104 - 105، و"تفسير ابن كثير" 3/ 201، و"الدر المنثور" 5/ 686 - 687. (¬2) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 45 ب عن ابن عباس بهذا النّصّ. وقد ذكر الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 4/ 693 أن القولين كليهما حق داخل في الآية ويشهد لكل منهما قرآن. واستشهد للأول -أنها أرض الجنة- ما استشهد به الواحدي، واستشهد للثاني بآيات منها قوله تعالى "وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا" [الأحزاب: 27]، وقوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] وغيرها من الآيات. (¬3) انظر "الطبري" 17/ 105، الثعلبي 3/ 45 ب. وقيل: الإشارة في قوله {إِنَّ فِي هَذَا} أي: المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. انظر "القرطبي" 11/ 349، "البحر المحيط" 6/ 344. (¬4) في (د)، (ع): (تبليغ). (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 139 "بلغ" منسوبًا إلى الليث.

107

الشيء كبلاغ المسافر (¬1). والمعنى: أن من اتبع القرآن وعمل به كان القرآن بلاغه إلى الجنة (¬2). قوله تعالى: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} قال ابن عباس: مطيعين (¬3). وقال كعب: هم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان سماهم الله سبحانه وتعالى عابدين (¬4). وذكر (¬5) بعضهم: البلاغ في هذه الآية بمعني التبليغ، على معنى: إنّ في القرآن تبليغًا من الله إلى خلقه، فلا يبقى لأحد بعده عذر. وهذا بعيد؛ لتخصيص العابدين بالذكر، ولأنه قال "بلاغًا لقوم" فوجب أن يكون البلاغ لهم، ولو كان بمعنى التبليغ لم يوصل باللام. 107 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: في رواية عطاء: يريد للبر والفاجر؛ لأن كل نبي غير محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا كُذِّب أهلك الله من كذَّبه، ومحمد أُخر من كذّبه إلى موت أو قيامة، والذي صدقه عُجلت له الرحمة في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" 4/ 1316 "بلغ"، "لسان العرب" 8/ 419، "القاموس المحيط" 3/ 103. (¬2) انظر: "الطبري" 17/ 105، "الكشف والبيان " للثعلبي 3/ 45 ب. (¬3) ذكره القرطبي 11/ 349 عن ابن عباس، وذكره الماوردي 3/ 475 من غير نسبة. وقد روى الطبري 17/ 106 من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: عالمين. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 686 وزاد نسبته لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ذكره بهذا اللفظ عن كعب: الثعلبيُ في "الكشف والبيان" 3/ 45 ب. وقد رواه الطبري 17/ 105 - 106 عنه بنحوه مفرَّقَا. قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 201: "لقوم عابدين" وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحجه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. (¬5) في (د)، (ع): (وذكرهم)، وهو خطأ.

وقال في رواية سعيد بن جبير: تمت الرحمة لمن آمن به (¬1)، ومن (¬2) لم يؤمن عوفي مما أصاب الأمم قبلنا من المسخ (¬3) والخسف والقذف (¬4). وقال الكلبي: يعني الجن والإنس. وقال ابن زيد: يعني المؤمنين خاصة (¬5). ¬

_ (¬1) به: ساقطة من (د)، (ع). (¬2) في (د)، (ع): (ولمن)، وهو خطأ. (¬3) المسخ: تحويل خلق إلى صورة أخرى. "لسان العرب" 3/ 55 (مسخ). (¬4) رواه الطبري 17/ 106، وابن أبي حاتم (كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 202) من طريق المسعودي، عن سعيد بن المرزبان البقال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بنحوه. ورواه الطبري في "المعجم الكبير" 12/ 23 من طريق أيوب بن سويد، عن المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بنحوه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 69: رواه الطبراني، وفيه: أيوب بن سويد، وهو ضعيف جدًّا وقد وثقه ابن حبان بشروط فيمن يروى عنه وقال: إنه كثير الخطأ، والمسعودي قد اختلط. وقد ذكر هذا الأثر عن ابن عباس السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 687 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي في "الدلائل". (¬5) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 45 ب. ورواه الطبري 17/ 106 بنحوه واختار الطبري 17/ 106 العموم. فإن قيل: الكفار لم يرحموا به، فالجواب من وجهين: الأول: ما ذكره الطبري 17/ 106 - وجاءت به الرواية عن ابن عباس- وهو أنه دفع به عنهم عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبه. الثاني: ما ذكره غير واحد منهم ابن جزي في التسهيل 3/ 72، والألوسي في روح المعاني 17/ 104 واستظهره، والشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 694 واستظهره، واللفظ له: أنه ما أرسل هذا النبي الكريم صوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم؛ لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خيري الدنيا والآخرة إن اتبعوه، ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تل الرحمة =

108

108 - قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قال الكلبي: يعني مخلصون العبادة (¬1). ومعناه: فهل أنتم مسلمون (¬2) لهذا (¬3) الوحي (¬4) الذي يوحى (¬5) إليَّ من إخلاص الإلهية والتوحيد لله. والمراد بهذا الاستفهام الأمر (¬6)، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬7). وقد مرَّ. 109 - قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} قال ابن عباس: يريد فإن لم يسلموا {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ} قال: يريد للحرب {عَلَى سَوَاءٍ} يريد على بيان (¬8). والمعنى: أعلمتكم أنّي حرب لكم إعلامًا ظاهرًا، أستوي أنا وأنتم في العلم به، فاستوينا في العلم (¬9). وقال أبو إسحاق: أعلمتكم بما يوحى إلى لتستووا في الإيمان به (¬10). ¬

_ = العظمى ... ويوضح ذلك قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]. (¬1) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 399 ونسبه إلى ابن عباس. (¬2) فيكون "مسلمون" بمعنى مستسلمون أو مذعنون أو منقادون. انظر: "الطبري" 17/ 107، وابن كثير 3/ 202. (¬3) في (ع): (بهذا). (¬4) (الوحي): ساقطة من (أ). (¬5) في (د)، (ع): (أوحي). (¬6) نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 399 إلى أهل المعاني. (¬7) هود: 14. ووقع في (أ)، (د): (هل أنتم مسلمون)، وهو خطأ. (¬8) القرطبي 11/ 350 من غير نسبة لأحد. وانظر الماوردي 3/ 476. (¬9) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 289. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 408.

ومعنى هذا على سواء. وقد مرَّ. وقال أبو علي الفارسي: سواء تحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون صفة لمصدر محذوف، التقدير: آذنتكم إيذانا على سواء، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ} [البقرة: 181] التقدير: كتابة كما كتب، فحذف المصدر. ومعنى إيذانا على سواء: إعلامًا نستوي في علمه لا أستبد أنا به (¬1) دونكم؛ لتتأهبوا لما يراد منكم. والثاني: أن يكون حالاً. فإذا جعلته حالاً أمكن فيه ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون حالاً من الفاعل (¬2). والآخر: أن يكون حالاً من المفعول به (¬3). والثالث: أن يكون منهما جميعًا، على قياس ما جاء في قول عنترة: متى ما نلتقي فردين ترجف ... روادف إليتيك وتستطارا (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) في (أ): (لا استيدابانه)، وفي (د)، (ع): (لا ستيذانابه)، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) يعني الرسول -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) يعني المخاطبين، وهم الكفار. (¬4) البيت في "ديوانه" ص 234، وفيه: روانف. و"تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 14 (طار)، و"أمالي ابن الشجري" 11/ 16، و"المخصص" لابن سيده 2/ 44، و"لسان العرب" 4/ 513 "طير". وفي جميع ما مضى: روانف. وهو من قصيدة قالها عنترة يهجو بها عمارة بن زياد العبسي أحد سادة عبس، وكان يحسد عنترة ويقول لقومه: إنكم أكثرتم ذكره، والله لوددت أني لقيته خاليًا حتى أعلمكم أنه عبد، قال الشنتمري في شرحه لديوان عنترة ص 234: قوله: نلتقي فردين: أي: منفردين أنا وأنت .. ، والروانف: جوانب الإليتين وأعلاها وإجدتها رانفة. ومعنى ترجف: تضطرب جزعًا وجبنا، وتستطار: تكاد تطير، والألف في تستطار ضمير الروانف لأنهما في معني رانفين، ويجوز أن تكون ضمير الإليتين. اهـ. وانظر "الخزانة للبغدادي" 3/ 377. والشاهد فيه: نصب "فردين" على الحال من ضميره النهاعل والمفعول في "نلتقي". (¬5) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 483 - 484، "إعراب القرآن" للأنباري =

111

111 - وقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي} ما أدري {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} قال ابن عباس: يريد أجل القيامة لا يدريه أحد لا نبي ولا ملك (¬1). {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} قال الزجاج: ما أدرى لعل ما آذنتكم به {فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي: اختبار (¬2). يعني: ما أخبرهم (¬3) به من أنه لا يدري وقت عذابهم وهو القيامة، وكأنه قيل: لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم. وهذا معنى قول سعيد ابن جبير والأكثرين: أن الفتنة هاهنا بمعنى الاختبار (¬4). وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: لعله هلاككم (¬5). يعني: أنهم يزدادون طغيانًا وتماديًا في الشر بتأخير العقوبة عنهم (¬6). وقوله تعالى: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي: تتمتعون إلى (¬7) إنقضاء آجالكم. 112 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} قال قتادة: كانت الأنبياء ¬

_ = 2/ 166 - 167، "الدر المصون" 8/ 216. (¬1) ذكره القرطبي 11/ 350 عن ابن عباس. ثم قال القرطبي: وقيل: آذنتم بالحرب، ولكن لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 408. (¬3) في (أ): (اختبرهم). (¬4) لم أجد من ذكره عن سعيد، وقد ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 253، والجشمي في "التهذيب" 6/ 164 ب ولم ينسباه لأحد. (¬5) في (د)، (ع): (هلاكهم). (¬6) ذكره الماوردي 3/ 477 من غير نسبة لأحد. (¬7) في (د)، (ع): (في)، وهو خطأ.

يقولون ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق. فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (¬1). فعلى هذا معنى {بِالْحَقِّ} أي: بعذاب كفار قومي الذي هو حق نازل بهم. ويدل على هذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا شهد قتالاً قال: رب احكم بالحق (¬2). قال الكلبي: فحكم عليهم بالقتل (¬3) يوم [بدر، ويوم] (¬4) أحد، ويوم الأحزاب، ويوم خيبر، ويوم الخندق. فدل على أن المسئول بقوله: {احْكُمْ بِالْحَقِّ} عذاب قومه، والمعنى على هذا القول: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع. وقال أبو عبيدة: معناه: رب احكم بحكمك [الحق] (¬5)، فأقيم الحق (¬6) مقامه؛ لأن حكمه لا يكون إلا حقًّا (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 9/ 685. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 30، والطبري 17/ 108 عن قتادة مرسلاً. وهو ضعيف لإرساله، ومراسيل قتادة من أوهى المراسيل. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 689، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، به مرسلا. (¬3) في جميع النسخ: (القتل)، والمثبت من "الوسيط" 3/ 255. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) زيادة من "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 46 أ. (¬6) في (أ): (بالحق)، هو خطأ. (¬7) لم أجده في المطبوع من "مجاز القرآن". وهو عند القرطبي 11/ 351 منسوبًا إلى أبي عبيدة. وذكره الطبري 17/ 108 هذا القول وصدّره بقوله: وقد زعم بعضهم أن معنى .. فذكره، ثم قال الطبري: ولذلك وجه, غير أن الذي قلناه -يعني القول الأول الذي ذكره الواحدي، وهو أن معخى الحق هنا عذاب قومه- أوضح وأشبه بما قاله أهل التأويل، فلذلك اخترناه.

وقال أهل المعاني: هذا الدعاء مما تُعبّد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله، ويدعو به، وإن كان الله لا يفعل غيره، لما في ذلك من التضرع (¬1)، والعبودية كقوله (¬2): {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] والله منجز وعده، وإن لم يسأل ذلك، وقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7، 8] الآيتان (¬3). وقرأ حفص (¬4) {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} يعني قال الرسول ذلك (¬5). وقوله تعالى: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قال ابن عباس: يريد من تكذيبهم النبي وخلافكم إياه، واتخاذكم الحجارة أربابًا. وقال غيره (¬6): على ما تكذبون في قوله {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] وقولكم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26]. والمعنى {عَلَى مَا تَصِفُونَ} من كذبكم وباطلكم. والوصف بمعنى الكذب -على الوجه الذي ذكرنا- قد ذكر في مواضع من التنزيل كقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139]، وقوله: {وَلَكُمُ ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (النضر)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (لقوله). (¬3) ذكره هذا المعنى باختصار الطوسي في "التبيان" 7/ 253 ولم ينسبه لأحد. (¬4) قرأ حفص عن عاصم: (قال) بألف، وقرأ الباقون: (قُل) بغير ألف. "السبعة" ص 431، "التبصرة" ص 264، "التيسير" ص 156. (¬5) أي: إخبار عن الله عز وجل عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- فهي مسألة سألها ربه، وقراءة الباقين: (قل) على الأمر، أي: قل يا محمد: يا رب احكم بالحق فهو تعلم من الله لنبيّه أن يسأله الحكم بالحق. "علل القراءات" الأزهري 2/ 417، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 471. (¬6) هذا قول الطبري في "تفسيره" 17/ 109.

الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقوله سبحانه وتعالى: {مَا تَصِفُونَ} وقرئ (تصفون) بالتاء والياء (¬1). فمن قرأ بالتاء ففي الآية إضمار، أي: وقيل للمشركين: وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون. ومن قرأ بالياء فهو (¬2) إخبار عن الكفار (¬3). ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان: (يصفون) بالياء على الغيبة. وقرأ الباقون: (تصفون) بالتاء على الخطاب. "السبعة" ص 432، "النشر" 2/ 325. (¬2) (فهو): ساقطة من (د)، (ع). (¬3) انظر: "الحجة" للفارسي 5/ 265، "علل القراءات" للأزهري 2/ 417.

سورة الحج

سورة الحج

1

تفسير سورة الحج بسم الله الرحمن الرحيم 1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬1) {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} احذروا عقابه بطاعته (¬2). قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} الزلزلة: شدة الحركة على الحال الهائلة، وكأنَّ أصله من قولهم: زلَّت (¬3) قدمه، إذا (¬4) زالت عن الجهة بسرعة، ثم ضُوعف فقيل: زَلْزَل الله قدمه، كما قيل: دكَّه ودَكْدَكَه (¬5) (¬6). واختلفوا في هذه الزلزلة: فقال علقمة، والشعبي: هي من أشراط (¬7) الساعة، وهي في (¬8) الدنيا ¬

_ (¬1) ذكره أبو حيان في "البحر" 6/ 349 من غير نسبة، وقال: والظاهر أن قوله: "يا أيها الناس" عام. (¬2) الطبري 17/ 109. (¬3) في (د)، (ع): (زلزت). (¬4) في (أ): (أي). (¬5) في (أ): (دكدك له)، وهو خطأ. (¬6) من قوله: الزلزلة: شدة ... إلى ضوعف. نقلا عن الكشف والبيان للثعلبي 3/ 46 ب. (¬7) في (د)، (ع): (شرائط). (¬8) (في): ساقطة من (أ).

قبل (¬1) يوم القيامة (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء لأنه قال: يريد النفخة الأولى (¬3). يعني أن هذه الزلزلة تكون معها. وقال الحسن والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة (¬4). ورويا بإسناديهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية والتي بعدها، فقال له الناس: يا رسول الله أي يوم هذا؟ قال: "هذا يوم يقول الله لآدم يا آدم قم فأبعث بعث النار" (¬5). والحديث مشهور (¬6). ¬

_ (¬1) في (د): (قيل)، وهو خطأ. (¬2) رواه سفيان في "تفسيره" ص 258، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 410، والطبري 17/ 109 عن علقمة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 7 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. ورواه الطبري 17/ 109 عن الشعبي، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 7 وعزاه لابن جرير وابن المنذر. (¬3) ذكره القرطبي 12/ 4، وأبو حيان في "البحر" 6/ 349 من غير نسبة لأحد. (¬4) ذكره عنهما البغوي 5/ 363، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 403. (¬5) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" 155 أ، والترمذي في "جامعه" كتاب التفسير. ومن سورة الحج 9/ 9 - 10، والنسائي في "تفسيره" 2/ 82، والطبري 17/ 111، والحاكم في "مستدركه" 2/ 233 من طريق، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين، نحو ما ذكر هنا لكن في سائر الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو القائل "أتدرون أيّ يوم ذلك". وليس الناس كما في الرواية التي ساقها الواحدي. وأما رواية السدي لهذا الحديث فلم أجدها. (¬6) الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (كتاب التفسير -سورة الحج 8/ 441)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادي بصوت: =

2

وقال أبو إسحاق: وقيل إنّها الزلزلة التي تكون معها الساعة (¬1). وهذا قول الكلبي، قال (¬2): إن زلزلة الساعة قيام الساعة (¬3) (¬4). يعني أن هذه الزلزلة تقارن قيام الساعة وتكون معها. وهذا كما روي عن ابن عباس أنه قال في {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} قيام الساعة (¬5). قوله {شَيْءٌ عَظِيمٌ} يعني أنه لا يوصف لعظمه. وهذه الآية بيانٌ عما يوجبه شدة أهوال القيامة من التأهّب لها. 2 - قوله تعالى {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني (¬6): ترون (¬7) تلك الزلزلة (¬8). ¬

_ = إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى الله" الحديث .. وفط: "فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد". الحديث. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 409. (¬2) قال: ساقطة من (د)، (ع). (¬3) مثله في "تنوير المقباس" ص 205. (¬4) في (د) زيادة بعد قوله الساعة: (يعني أن هذه الزلزلة الساعة قيام الساعة. وهو تكرار وخطأ من الناسخ. (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 363، وابن الجوزي 5/ 403. (¬6) في (ع): (معنى). (¬7) في (أ): (يرون). (¬8) استظهر هذا القول أبو حيان 6/ 249، والسمين الحلبي 8/ 222. وقيل الضمير في قوله "ترونها" عائدٌ إلى الساعة، يعني: ترون الساعة. وقال ابن كثير: هذا من باب ضمير الشأن، ولهذا قال مفسرًا له: "تذهل كل مرضعة ... " 3/ 205. وانظر: القرطبي 12/ 4، "البحر المحيط" 6/ 349 - 350، "الدر المصون" 8/ 222.

وانتصب {يَوْمَ} لأنه ظرف لقوله {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي في ذلك اليوم تذهل (¬1). قال الفرَّاء: ذَهَلْتُ عن كذا. وَذَهِلْتُ قليلة (¬2) تذهل فيها جميعًا بفتح الهاء ليس غيره، وأذهلتُه: أنسيته (¬3) إذْهالاً (¬4). ويقال: ذَهَلَ ذَهلاً وذُهولاً، إذا ترك الشيء وتناساه (¬5) على عمد أو شغله عنه شغل. هذا معنى الذهول في اللغة (¬6). فأما تفسير قوله (¬7) {تَذْهَلُ} فقال الليث (¬8) والضحاك (¬9) وابن قتيبة (¬10) وأبو عبيدة (¬11): تَسْلو. وأنشدوا قول كثير (¬12): ¬

_ (¬1) وهذا قول الزمخشري 3/ 4، وأبي حيان 6/ 349. وجوز أبو البقاء العكبري 2/ 139 وتبعه السمين الحلبي 8/ 222 أن يكون انتصاب (يوم) على أنه ظرف لـ"عظيم"، أو على إضمار: اذكر. (¬2) (قليلة): ساقطة من (ع). (¬3) (أنسيته): ساقطة من (أ). (¬4) ليس في المطبوع من الفراء، وفي الطبري 17/ 113 نحوه باختصار. (¬5) من قوله "وتناساه" يبدأ الموجود من نسخة الظاهرية [ظ]. (¬6) انظر: "ذهل" في: "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 261، "الصحاح" للجوهري 4/ 1702، "لسان العرب" 11/ 259. (¬7) في (د)، (ع): (فأما التفسير في قوله). (¬8) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 261 (ذهل). وانظر: "العين" 4/ 49. (ذهل). (¬9) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 46 ب، وذكره ابن حجر في "الفتح" 8/ 441 من رواية ابن المنذر عن الضحاك. (¬10) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 290. (¬11) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 44. (¬12) هو أبو صخر، كثير بن عبد الرحمن بن الأسود، الخزاعي، المدني. شاعر =

صحا قلبه يا عَزَّ أو كادَ يَذْهَلُ (¬1) وقال الزجاج: تحير (¬2). وقال الكلبي: تلهى فلا تحرف ولدها صغيرًا كان أو كبيرًا، اشتغالًا بنفسها (¬3). وقال المفسرون: تنسى وتترك ولدها للكرب الذي نزل بها (¬4). وهذا قول مقاتل بن حيان (¬5). وقال ابن عباس: تُشْغل (¬6). وقوله: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} قال أبو إسحاق: مرضعة جاءت على الفعل على أرضعت، ويقال: امرأة موضع أي: ذات رضاع (¬7). ¬

_ = مشهور، يعرف بكثير عزة؛ لأنه تتيم بعزة بنت جميل الصخرية، وشبب بها، وهو من غلاة الرافضة القائلين بالرجعة. مات سنة 105 هـ، وقيل 106 هـ، وقيل 107 هـ. "طبقات فحول الشعراء" 2/ 540، "الشعر والشعراء" ص 334 - 344، "معجم الشعراء" ص 243، "سير أعلام النبلاء" 5/ 152، "شذرات الذهب" 1/ 131. (¬1) المنشد من قول كثير هو صدر بيت له من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وعجزه: وأضْحى يريد الصَّرمَ أو يتبدَّل. وهو في "ديوانه" ص 254، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 44، و"الكامل" للمبرد 2/ 299. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 409. (¬3) ذكره عنه الماوردي في النكت والعيون 4/ 6 مختصرًا. (¬4) هذا قول الطبري في "تفسيره" 17/ 113، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 46 ب. (¬5) ذكره عنه الثعلبي في الكشف والبيان 3/ 46 ب. (¬6) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 46 ب. قال القرطبي 12/ 4 بعد ذكره للأقوال المتقدمة: والمعنى متقارب. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 409 - 410. وفي المطبوع: ومرضحة جَارٍ على المفعل على ما أرضعت، ويقال ...

وهذا (¬1) معنى قول الأخفش: إنما أراد -والله أعل - الفعل ولو أراد الصفة لقال: موضع (¬2). قال المبرد: ولما (¬3) قال تبارك وتعالى {عَمَّا أَرْضَعَتْ} كان حق هذا مرضعه. قوله: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} قال الحسن في هذه الآية: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام (¬4). وعلى هذا -وهو قول جميع المفسرين (¬5) - يكون التقدير: عمن أرضعت (ما) يكون بمعنى (من) (¬6). وقال المبرد: (ما) بمعنى المصدر أي: تذهل عن الإرضاع (¬7). يعني لا ترضع ولدها الصغير. والأول الوجه (¬8). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (هذا). (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 635. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في "بدائع الفوائد" 4/ 21 - 22: المرضع: من لها ولد تُرضعه، والمرضعة من ألقمت الثدي للرضيع. وعلى هذا فقوله تعالى "يوم ترونها ذهل كل مرضعة عما أرضعت" أبلغ من موضع في هذا المقام؛ فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة، فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر هو أعظم عندها من اشتغالها بالرَّضاع. (¬3) في (ظ): (لما). (¬4) رواه الطبري 17/ 114. (¬5) انظر: الطبري 17/ 114. (¬6) فتكون "ما" على هذا الوجه موصولة بمعنى: الذي. انظر "الأملاء" للعكبري 2/ 139، "البحر المحيط" 6/ 350، "الدر المصون" 8/ 224. (¬7) ذكره عنه القرطبي 12/ 4. (¬8) واستظهره أبو حيان 6/ 350 وقال: ويقويه تعدي "تضع" إلى المفعول به في قوله "حملها" لا إلى المصدر، وانظر: "الدر المصون" 8/ 224.

وقوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} قال الكلبي: كل حبلى تضع ولدها لتمام أو غير تمام. يعني: من هول ذلك اليوم، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأنَّ بعد البعث لا يكون حبلى. وعند شدة الفزع تلقي المرأة جنينها، وقد ذكرت العرب هذا في أشعارها (¬1)، ووصفوا شدة [الفزع به قال مُزَرِّدُ (¬2) أخو (¬3) الشَّمَّاحْ في] (¬4) مرثيّة عمر -رضي الله عنه-: تضل [الحصان البكر تُلقي جنينها ... نثا خبر فوق المُطيّ مُعلّق] (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) في (ظ): (أشعار). (¬2) هو مُزَرِّد بن ضرار بن حرملة، المازني، الذبياني، العطفاني يقال: اسمه يزيد، ومزرد لقبه. وهو فارس وشاعر جاهلي. وكان هجاء في الجاهلية، أدرك الإسلام فأسلم. وهو الأخ الأكبر للشماخ الشاعر. "طبقات فحول الشعراء" 1/ 132، "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 195، "معجم الشعراء" للمرزباني ص 483، "الاستيعاب" لابن عبد البر 4/ 1470، "أسد الغابة" 4/ 351، "الإصابة" 3/ 385. (¬3) في (د)، (ع): (أخ). (¬4) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬5) كشط في (ظ). (¬6) هذا البيت أحد أبيات قيلت في رثاء عمر -رضي الله عنه- كما قال الواحدي، وقد اختلف في نسبتها. قال ابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" 12/ 194: والأكثرون يروونها لمزرّد أخي الشَّمَّاخ، ومنهم من يرويها للشَّمَّاخ نفسه. وقال التبريزي في "شرح ديوان الحماسة" 3/ 65 - معلقًا على قول أبي تمام: وقال الشَّمَّاخ يرثي عير بن الخطاب-: وقال أبو رياش: الذي عندي أنه لمزرّد أخيه، وقال أبو محمد الأعرابي: هو لُجزء بن ضرار أخيه. والبيت في "ديوان الحماسة" لأبي تمام 1/ 541 منسوبًا للشماخ، وفي ملحق =

أي: لهول ما تسمع من نعي [عمر تلقي جنينها. وقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ} قال صاحب النظم: خاطب] (¬1) جماعة الناس بقوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} ثم أفرد وترك مذهب الجمع في قوله {وَتَرَى} وذلك (¬2) من فنون الخطاب كما جاز (¬3) أن يخاطب عينًا ثم يترك مخاطبته إلى الحكاية عن غائب كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] جاز أن ينادي جميعًا ويخاطبه (¬4) ثم يرجع (¬5) إلى واحد، ويجوز على الضد من هذا كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬6) [الطلاق: 1]. قال الحسن: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} من الخوف {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} ¬

_ = "ديوان الشماخ" ص 448 - 449 وذكر الخلاف فيه، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 3/ 1092، و"شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 3/ 65، و"شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد 12/ 194، والرواية عندهم: "يلقى" مكان "تُلقي"، على تقدير: يُلقى نثا خبر -يعني ظهوره- جنينها قال المرزوقي في "شرحه": الحصان العفيفة، .. والبكر: التي حملت أول حملها، والنثا: يستعمل في الخير والشر، يقال: نثوت الكلام أنثوه نثوا، إذا أظهرته. فيقول: ترى الحامل يسقط حملها ما ينثى من خبر سار به الركبان وتقاذفته الأقطار استفظاعًا لوقوعه واستشعارًا لكل بلاءً وخوف منه. اهـ. وذكر التبريزي مثل قول المرزوقي وزاد: و"نثا خبر" يجوز أن يكون مرفوعًا على أنه فاعل ومنصوبا على أنه مفعول به، وإذا كان منصوبًا يروى: تلقى -بالتاء، ومعلق نعت للخبر جعله .. لأنَّ الراكب أخبر بقتله. (¬1) كشط في (ظ). (¬2) في (أ): (ذلك). (¬3) في (ظ)، (د): (أجاز). (¬4) في (د)، (ع): (وتخاطبه)، وفي (ظ): (مهملة). (¬5) في (د)، (ع): (ترجع). (¬6) النساء: ليست في (أ).

وما هم بسكارى من الشراب (¬1). وهذا قول ابن عباس (¬2)، وجميع المفسرين (¬3). وقال أهل المعاني: وترى (¬4) الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم فيضطربون اضطراب السكران من (¬5) الشراب (¬6). يدل على صحة هذا قراءة من قرأ "وتُرَى (¬7) الناس" بضم التاء (¬8). أي: تَظُنّهم. قال الفرّاء -في هذه القراءة-: وهو وجه جيّد (¬9). وحكى صاحب النظم عن بعض النحويين: أن قوله (ترى) كلمة موضوعة على الإفراد وتأويلها التشبيه، كأنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- قال: وكأنَّ الناس سكارى. واحتج بقول: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11] معنى {أَرَأَيْتَ} هاهنا للتنبيه على السؤال والإجابة، وكذلك قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] وقد مرَّ. قال: ولا ينكر أن تكون "ترى" كلمة ضمنت ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 115. (¬2) ذكره عنه الرازي في "تفسيره" 23/ 4. (¬3) انظر الطبري 17/ 115، و"الدر المنثور" للسيوطي 6/ 7 - 8 (¬4) وفي (ظ): (ويرى). (¬5) في (ظ): (في)، وهو خطأ. (¬6) ذكره الثعلبي في الكشف والبيان 3/ 546 باختصار، وعزاه لأهل المعاني. (¬7) في (ظ): (ويرى). (¬8) نُسبت هذه القراءة لأبي هريرة، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، وأبي نهيك وقراءة الجمهور: "وترى" بفتح التاء. "الشواذ" لابن خالويه ص 94، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 85، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 46 ب، القرطبي 12/ 5، "البحر المحيط" 6/ 350، "الدر المصون" 8/ 224. (¬9) "معانى القرآن" للفراء 2/ 215.

معنى لا يظهر في بنية صورتها (¬1) ولذلك تركت على حال واحدة بعد العطف بها على مخاطبة جماعة. و {سُكَارَى} جمع سكران. وقرئ (سكرى) (¬2). قال أبو الهيثم: النعت (¬3) [الذي على فعلان يجمع] (¬4) على فُعالى (¬5) وفَعالى مثل: غَيْرانَ وغُيَارَى وغَيارى (¬6)، وسكران [وسكارى. وإنما قالوا سكرى، وأكثر] (¬7) ما يجيء فَعلى جمعًا لفعيل بمعنى مفعول, [مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى وصريع وصرعى] (¬8)؛ لأنه شبه بالنَّوكى (¬9) والجمعى [والهلكى لزوال عقل السكران (¬10). ¬

_ (¬1) العبارة في (أ): (ولا ينكر أن تكون "ترى" كلمة في معنى لا يطهر ضمنت نيه صورتها)، وهي عبارة ركيكة. (¬2) قرأ حمزة والكسائي: "سكرى" بفتح السين من غير ألف، وقرأ البافون: "سكارى" بضم السين وبألف بعد الكاف. "السبعة" ص 434، "التبصرة" ص 265، "التيسير" ص 156. (¬3) في (ظ): (البعث)، وهو خطأ. (¬4) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬5) في (ظ): (فعال)، وهو خطأ. (¬6) غيارى: سا قطة من (ظ)، وفي (أ): (عبارى). وغيارى: جمع غيران وهو فعلان من المغيرة وهي الحمية والأنفة. انظر: "لسان العرب" 5/ 42 "غير". (¬7) غيارى: ساقطة من (ظ)، وفي (أ): (عبارى). وغيارى: جمع غيران وهو فعلان من المغيرة وهي الحمية والأنفة. انظر: "لسان العرب" 5/ 42 "غير". (¬8) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬9) في (أ): (بالنكوى)، هو خطأ. والنَّوْكى: جمع أنوك، وهو: الأحمق. "الصحاح" للجوهري 4/ 1613 (نوك). (¬10) قول أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 57 (سكر).

وقال سيبريه: قالوا رجل سكران] (¬1) وقوم سكرى. قال: وذلك أنهم جعلوه كالرضى (¬2). قال أبو علي: ويجوز "سكرى" من وجه آخر وهو أن سيبويه حكى رسول سَكِرٌ (¬3)، وقد جمعوا هذا البناء على فَعْلَى (¬4) فقالوا: هَرِمٌ وهَرْمى وزَمِنٌ وزَمْنى وضَمِنٌ وضَمْنى (¬5)؛ لأنه من باب الأدواء والأمراض التي ورصاب بها، فَفَعلى في هذا الجمع -وإن كان كعطشى- فليس يراد بها المفرد، إنّما يراد بها تأنيث الجمع كما أن الباضعة (¬6) والطَّائفة (¬7) وإن كان على لفظ الضّاربة والقائمة فإنّما لتأنيث الجمع دون تأنيث الواحد من المؤنث (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬2) "الكتاب" لسيبويه 3/ 649. (¬3) "الكتاب" لسيبويه 3/ 646. (¬4) في (أ): (فعل)، وهو خطأ. (¬5) زَمن: أي مبتلى بين الزَّمانة، والزمَّانة: العاهة. "لسان العرب" 13/ 199 (زمن). ضمن: هو الذي به ضمانة في جسده من زمانة أو بلاء أو كسر أو غيره. "الصحاح" للجوهري 6/ 2155، "لسان العرب" 13/ 260 (ضمن). (¬6) (الباضعة): مهملة في (أ). والباضعة هي: الفرق من الغنم، أو القطعة التي انقطعت من الغنم. "الصحاح" للجوهري 3/ 1186 (بضع)، "القاموس المحيط" للفيروزآبادي 3/ 5. (¬7) تصحفت في المطبوع من "الحجة" إلى: الطائعة. والطائفة من الشيء: القطعة والجزء منه. ومنه الجماعة من الناس. "الصحاح" للجوهري 4/ 137 (طوف)، "لسان العرب" 9/ 226 (طوف). (¬8) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 266 - 267. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 419، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 472، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 116.

3

ونحو هذا قال الفراء في قراءة من قرأ (سكرى) قال: وهو وجه جيد في العربية؛ لأنه بمنزلة الهلكى والجرحى، والعرب تجعل فَعَلى علامة لجمع كل ذي زمانة وضرر وهلاك، ولا يبالون أكان واحده فاعلاً أم فحيلاً أم فعلان. قال: ولو قيل "سكرى" على أن (¬1) الجمع يقع عليه التأنيث فيكون كالواحدة كان وجها، كما قال الله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] و {الْقُرُونِ الْأُولَى} (¬2) و {النَّاسَ} جماعة فجائز (¬3): أن يقع ذلك عليهم، وأنشد: أضحت بنو عامر غَضْبَى أنُوفُهم ... أنَّى عفوت (¬4) فلا عارٌ ولا باس فقال غضبى للأنوف على ما فسَّرت لك (¬5). وقوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} دليل على سكرهم من خوف العذاب. 3 - قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} قال المفسرون: نزلت في النَّضْر بن الحارث، كان كثير (¬6) الجدال، وكان ينكر أن الله قادرٌ على إحياء من بَلِيَ وصار ترابًا (¬7). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الوليد بن المغيرة وعتبة بن ¬

_ (¬1) (أنَّ): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬2) طه: 51، القصص: 43. (¬3) في (ظ): (فجاز). (¬4) في (أ): (عفرت)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 214 - 215. والبيت الذي أنشده الفراء قال عنه: وأنشدني بعضهم. (¬6) في (ظ): (كبير). (¬7) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 47 أ.

ربيعة (¬1). والمعني: أنه يخاصم (¬2) في الله فيزعم أنه غير قادر على البعث. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني أنه لا علم له في ذلك إنما (¬3) [يقوله بإغراء من الشيطان وطاعته إياه] (¬4). وهو قوله {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} أي يتبع ما يسول له الشيطان قال ابن عباس] (¬5): والمريد الذي يتمرد على الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬6). وقال (¬7) أهل اللغة في المريد قولين (¬8): أحدهما: أنه المتجرد للفساد. والثاني: أنَّه العاري من الخير. وذلك أن أصله في اللغة: الإملاس، والمريد (¬9): المتملس من ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عن ابن عباس، وقد ذكر الماوردي 4/ 6، وابن الجوزي 5/ 405 عن ابن عباس أنها نزلت في النَّضر بن الحارث. والصواب أنه لم يثبت أنها نزلت في واحد من هؤلاء بعينه، بل هي نازلة فيمن جادل في الله بغير علم ومنهم هؤلاء المذكورون، ثم هي بعد عامة في كل من اتصف بهذه الصفة. انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 226، "البحر المحيط" 6/ 351. (¬2) في (أ): (فخاصم). (¬3) في (ظ): (وإنّما). (¬4) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬5) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬6) انظر: "تنوير المقباس" ص 206. (¬7) في (ظ): (قال). (¬8) انظر: (مرد) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 118 - 119، "لسان العرب" لابن منظور 3/ 400 - 401. (¬9) في (ظ): (فالمريد).

4

الخير، ومنه قوله: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل: 44] وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101]. 4 - قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}. قال ابن عباس: قضى الله تعالى أن من أطاع إبليس أضله ولم يرشده وصيره إلى عذاب السعير (¬1). والكناية في قوله {عَلَيْهِ} (¬2) عائدة على (¬3) الشيطان، وكذلك في قوله {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ} (¬4) (¬5). وهذه الآية دليل على أنَّ (¬6) الله قد كتب في الأزل وقضى على الشيطان إضلال من تولاه، وأنَّ ذلك من الله تعالى حكم (¬7) لا نكير (¬8) عليه فيه. ¬

_ (¬1) ورد نحوه باختصار عن مجاهد وقتادة. انظر الطبري 17/ 116، "الدر المنثور" 6/ 8. (¬2) (عليه): ساقطة من (ظ). (¬3) في (ظ): (إلى). (¬4) (فأنّه): ساقطة من (ظ). (¬5) وقيل الكناية في "عليه"، "أنّه"، تعود على "من" الأولى، أي المجادل. واستظهره أبو حيّان. وقيل الضميران في "عليه"، "أنه" عائدان على "من" الأولى. والضمير في "فأنّه" ضمير الشأن. وقال ابن عطية -بعد أن ذكر أن الضمير في "عليه" عائد على الشيطان ثم ذى احتمالاً أنه يعود على المتولي-: والذي يظهر لي أن الضمير في "أنّه" الأولى للشيطان، وفي الثانية لـ"من" الذي هو المتولي. "المحرر" لابن عطية 10/ 27، "البحر المحيط" 6/ 351، "الدر المصون" 8/ 229 - 230. (¬6) (أن): ساقطة من (أ). (¬7) (حكم): ساقطة من (ظ). (¬8) في (ع): (لا يكبر)، وهو خطأ.

وفيه تكذيب للقدرية في امتناعهم عن إضافة القدر إلى الله تعالى في الضلال والكفر، وعندهم أن شيئًا من اللطف لم يبق إلا وقد فعله الله بعباده فلم يؤمنوا, ولو منع شيئًا من اللطف خرج عن الإلهية، فإلاههم بزعمهم في صورة عاجز على الحقيقة لا يقدر أن يفعل ما يصير الناس به (¬1) مؤمنين وهم أبدا يقولون (¬2): إضلاله إياهم وقضاؤه عليهم بالكفر سفه. فيقال (¬3) ففي خلقه إيّاهم مع علمه بما سيكون منهم مثل ذلك السفه فلم خلقهم وهو يعلم أنهم لا يتعاطون سوى الكفر؟ وفي خلق القدرة لهم حتى يكفروا بها!. فبان بهذا أن الدين كله في الاستسلام للقدرة وتفويض الأمر إلى المشيئة من غير تحكم، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال (¬4) أبو إسحاق: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} (أنَّه) في] (¬5) موضع أرفع (فأنَّه] (¬6) يضله) عطف عليه، والفاء الأجود فيها أن تكون [في معنى الجزاء، وجائز كسر إنَّ مع الفاء وتكون (¬7) جزاءً] (¬8) لا غير. والتأويل: كتب على الشيطان [إضلال متوليه (¬9) وهدايتهم إلى عذاب السعير. وحقيقة ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): زيادة (إليه) بعد قوله الناس. (¬2) في (أ): (يقول)، وهو خطأ. (¬3) في (ظ): (فقال)، وهو خطأ. (¬4) في (ظ): (يزعمون). (¬5) في (أ): (وقال). (¬6) بين المعقوفين كشط من (ظ). (¬7) في المعاني: ويكون. (¬8) بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬9) في (أ): (متوالية)، وهو خطأ.

"أن"] (¬1) الثانية أنها مكررة على جهة التوكيد؛ لأن المعنى: كتب عليه أنه من تولاه أضله. انتهى كلامه (¬2). قال أبو علي: إعراب هذه الآية مشكل، وأنا أشرحه -إن شاء الله- وأبيّن موضع السَّهو فيه. قوله {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} (أنه) في موضع رفع وهي توصل من الجمل (¬3) بالابتداء والخبر. وخبر الابتداء معلومٌ وجوهه. وقوله {مَنْ تَوَلَّاهُ} لا تخلو "مَن" مِن أن تكون (¬4) بمنزلة "الذي" وتكون بمعنى الجزاء. [فإن كان بمعنى الجزاء] (¬5) فالفاء في "فأنَّه" إنّما هو جواب الجزاء، ولا تكون العاطفة [لأنَّها إذا كانت جوابًا للجزاء لم يجز أن تكون العاطفة] (¬6) كما أنها إذا كانت داخلة على خبر المبتدأ إذا كان المبتدأ موصولاً، وكانت جملته بمعنى الجزاء لم تكن العاطفة نحو قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274] فـ"من" على هذا الوجه في موضع رفع، و {تَوَلَّاهُ} في موضع جزم لكونه شرطًا، والفاء وما بعدها في موضع جزم لوقوعه موقع جزاء الشرط، و"أن" من قوله "فأنه يضله" موضعه رفع بإضمار مبتدأ بين الفاء و"إنّ"، لترتفع "أنَّ" على أنَّه (¬7) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 411. (¬3) في "الإغفال" ص 1031: وهي ما توصل بالجمل. (¬4) في "الإغفال" ص 1031: فلا يخلو "من" فيه من أن تكون ... (¬5) ساقط من (ظ)، (د)، (ع) وليس موجودًا في الإغفال. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬7) (أنه): ساقطة من (ظ).

خبرُ مبتدأ (¬1) محذوف تقديره: فشأنه أنَّه يُضلّه، أو أمره، أو نحو ذلك مما يصلح أن يكون مبتدأ لهذا الخبر، إذ كانت "أنَّ" لا تكون مبتدأة وإنَّما تكون مبنية على شيء، ومثل هذا قوله {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] فارتفاع "أنَّ" بما ارتفع به "أنّ" في قوله {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} وقوله] (¬2) {مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} في موضع رفع لوقوع جميع ذلك خبرًا لـ"أنّ". كما أنَّ {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} إلى قوله {خَالِدًا فِيهَا} (¬3) في موضع رفع لوقوعها خبرًا لـ"أنَّ"، فالفاء في "فإنه" ليست بعاطفة في (¬4) هذا الوجه. وإن كان "من" من قوله {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} بمعنى "الذي" (¬5) فالتقدير: كتب على الشيطان أن الشيطان الذي تولاه. فاسم "أنَّ" الهاء التي هي ضمير الشيطان و"من" اسم مبتدأ وخبره {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} فالقول في ارتفاع "أنَّ" من قوله "فأنه" على هذا الوجه كالقول في الوجه الأول وما يقدر فيه من الإضمار الذي يكون "أنَّ" مبنيًّا عليه، وتقديره: الذي تولاه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}] (¬6) فله إضلاله [أو"فشأنه إضلاله] (¬7) وهدايته إياه إلى عذاب ¬

_ (¬1) في (أ): (لمبتدأ). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) فيها: ساقطة من (أ). (¬4) في "الإغفال" ص 1035: على. (¬5) هذا هو شرح الاحتمال الثاني في معنى "من" من قول "من تولاه" الذي ذكره أبو علي في أول كلامه بقوله: وقوله "من تولاه" لا تخلو "من" من أن تكون بمنزلة الذي أو تكون بمعنى الجزاء. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ).

السعير. فالفاء في هذا الوجه أيضًا داخلة لمعنى الجزاء، ولا يجوز أن تكون العاطفة. ألا ترى أنك لا تقول: زيد فمنطلق. فتعطف الخبر على مبتدأه، وإنّما دخلت هنا لما في الصلة من معنى الجزاء كقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274]، وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. ومثله في التنزيل كثير. فإذا لم يخل من الوجهين اللذين ذكرنا، وكانت الفاء في كلا الوجهين متعلقة بها لا على جهة العطف لما بينا ثبت أنَّ قول أبي إسحاق: أنّ (¬1) "فأنه" عطف على "أنَّ" خطأ؛ إذ كانت الفاء لا تخلو: إما أن تكون مع ما بعدها في موضع جزم لوقوعه جزاء للشرط، واما أن تكون مع ما بعدها في موضع رفع لوقوعها خبرًا لمبتدأ واقع مع خبره موقع خبر "أنَّ" من قوله {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ}. وإذا بطل أن تكون الفاء للعطف بطل قول أبي إسحاق في "أنَّ" من قوله "فأنّه يضله" موضعها رفع أيضًا أن يكون مرفوعًا من الجهة التي ذكر وهو خطأ (¬2) ثانٍ (¬3) لزمه لجعله الفاء عاطفة و"أن" من قوله "فأنّه يضله" لا يجوز أن تكون معطوفة على الأولى (¬4)؛ لأنه لا يخلو من أن يكون خبر مبتدأ، أو يكون جواب شرط، ومحال أن يعطف خبر المبتدأ على المبتدأ ¬

_ (¬1) أنّ: ساقطة من (ظ). (¬2) في (أ): (التي ذكره)، هو خطأ. (¬3) في (أ): (فإن)، وهو خطأ. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (الأول)، والمثبت مش (أ). وهو الموافق لما في "الإغفال" ص 1040.

5

بحرف (¬1) عطف أو يعطف جواب الشرط على شىء قبل الشرط (¬2). 5 - قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬3) {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} قال: يريد إن كنتم في شك من القيامة {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} زيد آدم (¬4). قال أبو إسحاق: قيل للذين جحدوا البعث وهم المشركون إن كنتم في شك من (¬5) أن الله يبعث الموتى فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم (¬6) لا تجدون في القدرة فرقًا بين ابتداء الخلق وبين إعادته. ثم بين لهم ابتداء خلقهم فأعلمهم (¬7) أنَّهم خلقوا من تراب، وهو خلق آدم -عليه السلام-، ثم خُلِقَ ولده من نطفة، ثم من علقة ثم من مضغة، فأعلمهم أحوال خلقهم (¬8). وقال (¬9): صاحب النظم: معنى الآية إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من تراب. ¬

_ (¬1) في (أ): (لحرف)، وهو خطأ. (¬2) "الإغفال" لأبي علي الفارسي 2/ 1031 - 1040. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 86، "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب 2/ 486، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري 2/ 168 - 169، "البحر المحيط" 6/ 351، "الدر المصون" 8/ 227 - 228. (¬3) مثله في "تنوير المقباس" ص 206، وذكره ابن الجوزي 5/ 406 من غير نسبة لأحد. (¬4) مثله في "تنوير المقباس" ص 206. (¬5)) من): ساقطة من (أ). (¬6) (فإنكم): ساقطة من (ظ). (¬7) في (ظ): (وعلَّمهم). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 412. (¬9) في (أ): (قال).

وقوله {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني ولد آدم (¬1)، خلقه من مني الأب. ومعنى النطفة في اللغة: الماء القليل. يقال: في الغدير نطفة زرقاء، أي بقية ماء صاف. وأصلها من النَّطف (¬2) وهو: القطر، يقال: نطفت السحابة وهي تُنْطُفُ -بالضم- نَطْفًا. وليلةٌ نَطُوف: تمطر حتى الصباح، والذي يخلق منه الولد يسمى نطفة، لأنه ماء يقطر (¬3). وقوله: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} العلق الدم الجامد قبل أن ييبس، والقطعة علقة منه (¬4) (¬5)، ومنه قول القُطامي: تَمجُّ عُروقُها عَلَقًا مُتَاعا (¬6) وذلك أن النطفة المخلوق منها الولد تصير دمًا غليظًا. وقوله: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} المضغة قطعة لحم، وقلب الإنسان مضغة من جسده وإذا صارت العلقة لحمة فهي مضغة. ¬

_ (¬1) آدم: ساقطة من (ظ). (¬2) في (ظ): (النطفة). (¬3) انظر: (نطف) في: "تهذيب اللغة" 13/ 365 - 366، "الصحاح" 4/ 1434، "لسان العرب" 9/ 335 - 336. (¬4) منه: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬5) انظر: "علق" في "تهذيب اللغة" 11/ 243، "الصحاح" 4/ 1529، "لسان العرب" 10/ 267. (¬6) هذا عجز بيت للقطامي من قصيدة يمدح بها زفر بن الحارث الكلابي، وصدره: وَظَلَّتْ تَعْبِطُ الأيدي كُلُوما وهو في "ديوانه" ص 33، "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 144 (تدع)، "لسان العرب" 7/ 348 (عبط). والمتاع: القيء. "لسان العرب" 8/ 38 (تيع).

قال ابن عباس. يريد من (¬1) لحم. وهذا كله في الأطوار أربعة أشهر، وهذا معنى ما روي في الحديث: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغة، ثم يبعث الملك فينفخ فيها الروح" (¬2). قال ابن عباس: [ثم يصوّر] (¬3) في العشر بعد الأربعة الأشهر، ثم ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المُتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، فإذا تحرَّك في جوفها علمت أن فيه ولدًا (¬4) (¬5). قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال ابن الأعرابي: {مُخَلَّقَةٍ} قد بدا خلقه {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} بعد (¬6) لم يصور (¬7) (¬8). هذا الذي ذكره ابن الأعرابي: مخلقة قدرًا (¬9) هو معنى المخلقة في اللغة. وأما أهل التفسير: فإن مجاهدًا والسدي اتفقا (¬10) على أنَّ المخلقة ¬

_ (¬1) (من): ساقطة من (ظ). (¬2) رواه البخاري كتاب "القدر" 12/ 477، ومسلم كتاب "القدر" 4/ 2036 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، فذكره. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) في (ظ)، (ع)، (د): (ولد)، وهو خطأ. (¬5) ذكره عنه القرطبي 12/ 6 باختصار. (¬6) (بعد): ساقطة من (ظ)، (ع) وهي في (د): (قد). (¬7) في (أ): (يتصور). وغير واضحة في (د). (¬8) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 28. (¬9) (مخلقة قدرًا): ساقطة من (أ). وسقط من (ع): (قدرا). (¬10) (اتفقا): زيادة من (ظ).

وغير المخلقة: يعني بهما السقط. قال (¬1) مجاهد -في رواية ابن نجيح- {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال: السقط مخلوق وغير مخلوق (¬2). وقد كشف السدي عن هذا المعنى الذي ذكره مجاهد فقال: هذا في السقط، المرأة تسقط النطفة بيضاء والعلقة، وتسقط اللحم لم يخلق، وتسقط قد صور [بعضه، وتسقط قد صور] (¬3) كله (¬4). ويدل على أن هذا (¬5) في السقط قوله {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} يعني ما يولد لتمام المدة ولم تسقطه (¬6) المرأة (¬7). وذهب آخرون إلى أنَّ المخلقة في غير السقط، وغير المخلقة: هو السقط. قال (¬8) ابن عباس -في رواية عكرمة-: المخلقة ما (¬9) كان حيًّا، وغير المخلقة ما كان من سقط (¬10). ونحو هذا قال مجاهد -في رواية خُصَيف- قال: المخلقة: الولد، ¬

_ (¬1) في (ظ): (وقال). (¬2) رواه الطبري 17/ 117 عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح. (¬3) ما بين المعقوفين في حاشية (ظ). (¬4) ذكره عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 407. (¬5) العبارة في (ظ): (ويدل على هذا أنه). (¬6) في (أ): (ولم تسقط). (¬7) سيأتي بيان ضعف هذا القول مع القول الذي بعده. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (وقال). (¬9) في (ظ): (ما قد كان حيًا). (¬10) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 10.

وغير مخلقة: السقط (¬1) وقال ابن عباس في رواية عطاء: المخلقة: ما أخذ منه الميثاق، وغير المخلقة: ما لم يؤخذ منه الميثاق ولا يكون مخلوقًا. ويدل على صحة هذا التفسير ما روى علقمة، عن عبد الله بن مسعود (¬2): إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله -عَزَّ وَجَلَّ- ملكًا فقال: يا رب مخلقة أم غير مخلقة؛ فإن قال غير مخلقة مجّتها (¬3) الأرحام، وإن قال مخلقة، قال: يا رب ما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه (¬4) صفة هذه النطفة (¬5). وعلى هذا القول معنى (المخلقة): المخلوقة كما ذكره ابن عباس -في رواية عطاء- وهو: أنه أكمل خلقه بنفخ الروح فيه، فما أكمل خلقه بالروح ولد لتمام حيًّا، وما سقط كان غير مخلقة، أي: غير حي بإكمال خلقه بالروح (¬6). ¬

_ (¬1) رواه عنه سعيد بن منصور في "تفسيره" 155 ب من رواية خصيف. (¬2) في (ظ): (ابن عباس)، وهو خطأ. (¬3) صحتها: رمتها. "الصحاح" 1/ 340 (مجج). (¬4) (منه): ساقطة من (ظ). (¬5) رواه بهذا اللفظ الطبري في "تفسيره" 17/ 117، قال ابن حجر في "الفتح" 1/ 419: وإسناده صحيح. وهو موقوف لفظا، مرفوع حكمًا. اهـ. ورواه بنحوه مطولاً ابن أبي حاتم (كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 207 و"الدر المنثور" 6/ 9)، والواحدي في "الوسيط" 3/ 259. والأثر لا يدل كما قال الواحدي على صحة هذا التفسير؛ لأنّ الأثر في النطفة: "إذا وقعت النطفة". وظاهر القرآن أن قوله تعالى "مخلقة وغير مخلقة" وصفٌ للمضغة لا للنطفة. (¬6) ذكره ابن الجوزي 5/ 406 - 407 عن ابن عباس.

وقال (¬1) الكلبي: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} يقول مخلوق وغير مخلوق، فالمخلوق: هو التمام من الولد، وغير المخلوق: هو السقط. وهذا القول مذهب أكثر أهل التفسير (¬2)، وهو قول أبي عبيدة في ¬

_ (¬1) في (د)، (ع): (وقد قال). (¬2) وهو اختيار الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 17/ 117. قال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 5/ 22 - 23 - بعد أن ذكر أن هذا القول اختيار الطبري. وغير واحد من أهل العلم-: هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري -رحمه الله- لا يظهر صوابه، وفي الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك وهي قوله -جل وعلا- في أول الآية "فإنا خلقناكم من تراب" لأنّه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة وخلقناكم من مضغة غير مخلقة. وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة فيه من التناقض كما ترى. فافهم. فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة السقط، لأن قوله "ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى" يفهم منه أن هناك قسمًا آخر لا يقره الله في الأرحام إلى ذلك الأجل المسمى وهو السقط؟. فالجواب: أنَّه لا تعين فهم السقط من الآية؛ لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقرّه إلى أجل مسمّى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء. أما السقط فقد دلت الآية على أنّه غير مراد بدليل قوله "فإنا خلقناكم" الآية؛ لأن السقط الذي تلقيه أمُّه ميتًا -ولو بعد التشكيل والتخطيط- لم يخلق الله منه إنسانًا واحداً من المخاطبين بقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية، فظاهر القرآن يقتضي أن كلا من المخلقة وغير المخلقة يخلق منه بعض المخاطبين في قوله "يا أيها الناس .. " الآية اهـ. وفي جواب الشنقيطي أيضًا ردّ على قول من قال السقط مخلوق وغير مخلوق.

المخلقة: أنها المخلوقة (¬1). وفي هذا مذهب ثالث وهو: أن المخلقة وغير المخلقة كلاهما (¬2) من صفة الولد الذي يولد، وليسا ولا أحدهما من صفة السقط. وهو مذهب قتادة، واختيار أبي إسحاق وثعلب. قال قتادة في قوله {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}: تامة وغير تامة (¬3). وقال (¬4) أبو إسحاق: وصف أحوال الخلق أنَّ منهم من يتم (¬5) مضغته فيخلق له الأعضاء التي تكمل آلات الإنسان، ومنهم من لا يتمم الله (¬6) خلقه (¬7). وقال أبو العباس (¬8): الناس خلقوا على ضربين: منهم تام الخلق، ومنهم خَدِيخٌ ناقصٌ غيرُ تام (¬9). وعلى هذا القول معنى المخلقة: التام الخلقة والأعضاء (¬10). فحصل ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 44. (¬2) في (أ): (كلاها). (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 32، والطبري 17/ 117. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 11 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير. (¬4) في (ظ): (قال). (¬5) في (ظ): (تتم)، وفي (د): (تتم)، مهملة، وفي (ع): (يتم)، وما أثبتنا هو الموافق لما في المعاني. (¬6) الاسم الجليل كتب في حاشية (ظ)، وعليه علامة التصحيح. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 412. (¬8) هو ثعلب. (¬9) ذكره عن أبي العباس الأزهري في "تهذيب اللغة" 7/ 28 (خلق). (¬10) قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 5/ 23 - 24 عن هذا القول أنه أولى الأقوال في الآية وهو القول الذي لا تناقض فيه؛ لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضًا لا =

في المخلقة ثلاثة أقوال في معناها وتفسيرها. قوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} اختلفوا في مفعول (¬1) التبيين (¬2). فقال (¬3) ابن عباس: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون (¬4). يعني أن الله تعالى خلق بني آدم ليبين لهم من أشدهم وما يحتاجون إليه في العبادة. وقال الزجاج: أي. ذكرنا أحوال خلق الإنسان لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم ابتداءنا (¬5) خلقكم (¬6). ¬

_ = ليتناقض بعضه مع بعض. وعزاه إلى قتادة والضحاك. قال: واقتصر عليه الزمخشري ثم نقل الشنقيطي عن الزمخشري -وقول الزمخشري في "الكشاف" 3/ 5 - أنه قال: والمخلقة: المسوّاه الملساء من النقص والعيب، يقال: خلق السواك والعود: إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة ملساء، إذا كانت ملساء، كانَّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة أملس من الجوب ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. قال الشنقيطي: وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام. ثم ذكر الشنقيطي شواهد من شعر العرب وكلامهم في هذا المعنى. (¬1) في (ظ): (معنى). (¬2) في (د)، (ع): (لنبين). (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (قال). (¬4) ذكره البغوي 5/ 366، وابن الجوزي 5/ 407 من غير نسبة لأحد. (¬5) في (ظ): (ابتداء). (¬6) ليس في المطبوع من "معاني الزجاج" 3/ 412 إلا قوله: أي ذكرنا أحوال خلق الإنسان.

وقال (¬1) صاحب النظم: لنبين لكم أن البعث حق يدل على هذا أن الآية أنزلت دلالة على البعث (¬2). وقال ابن مسلم: لنبين لكم كيف نخلقكم في الأرحام (¬3). وقال (¬4) أهل المعاني: لندلكم على مقدورنا بتصريف ضروب الخلق (¬5). قوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} أي (¬6): نثبت (¬7) في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إلى أجل الولادة. ويجوز أن يكون المعنى: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} فلا يخرج (¬8) الأجل المعتاد {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} سماه الله لذلك (¬9) الولد في أم الكتاب، ¬

_ (¬1) في (ظ): (قال). (¬2) ذكر ابن عطية في "المحرر" 10/ 229، وابن الجوزي 5/ 407 هذا القول مختصرًا من غير نسبة لأحد. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 290. (¬4) في (ظ): (قال). (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 47 أمن غير نسبة لأحد. وانظر: "الكشاف" للزمخشري 3/ 5. حيث قال: 3/ 5: وورود الفعل غير معدى إلى المبيَّن إعلامٌ بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه الا يكتنهه ولا يحيط به الوصف. (¬6) في (د): (أن)، وهو خطأ. (¬7) في (أ): (يثبت)، وفي (ظ): (يثيب)، ومهملة في (د)، وفي (ع): (نبت)، وما أثبتنا هو الصواب. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (فلا يكون سقطا بخرج)، بزيادة: (يكون سقطا)، وهذه الزيادة تخل بالمعنى ويظهر لي أن ناسخ النسخة التي نسخت منها تلك النسخ رجع نظره إلى الجملة التي قبل هذه الجملة فهي مشابهة لها. (¬9) في (أ): (كذلك)، وهو خطأ.

وذلك أن مدة الحمل تختلف فيمتد من ستة أشهر إلى أربع سنين. والقراءة في "ونقرُّ" بالرفع، وروى المفضل (¬1)، عن عاصم: "ونقرَّ" بالنصب (¬2). قال أبو إسحاق: ولا يجوز فيه إلا الرفع، ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام، وإنَّما خلقهم ليدلَّهم على رشدهم وصلاحهم (¬3). وقال (¬4) صاحب النظم: انقطع الخبر عند قوله {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} ثم ابتدأ خبرًا آخر فقال (¬5): {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} ولذلك ارتفع؛ لأنه منقطع مما قبله. وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ث} قال الزجاج: "طفلًا" في معنى أطفال، ¬

_ (¬1) هو المفضل بن محمد، الضبي، الكوفي، اللغوي، أبو محمد. كان من جلّة أصحاب عاصم، قرأ عليه، وتصدَّر للإقراء. وهو صاحب المفضليات" المشهورة. قال الخطيب البغدادي: كان إخباريا علامة موثقا. لكن قال أبو حاتم الرازي: متروك القراءة والحديث. قال الذهبي -معلقًا على قول أبي حاتم: قلت: قد شذ عن عاصم بأحرف. وقال أبو حاتم السجستاني: ثقة في الأشعار، غير ثقة في الحروف. توفي سنة 168 هـ. "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 8/ 318، "تاريخ بغداد" 13/ 121، "إنباه الرواة" 3/ 298، "معرفة القراء الكبار" للذهبي 1/ 131، "غاية النهاية" 2/ 357 "لسان الميزان" لابن حجر 6/ 81. (¬2) ذكرها النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 87 من رواية المفضل، عنه. وهي رواية شاذة لا تصح عن عاصم؛ لأنَّ المفضل متروك القراءة. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 412. (¬4) في (ظ): (قال). (¬5) في (ظ)، (د): (قال)، وفي (أ): (وقال)، والمثبت من (ع).

ودلَّ عليه ذكر الجماعة، وكأنَّ طفلا يدل على معنى: ونُخْرِج (¬1) كل واحد منكم (¬2). طفلاً (¬3). وقال المبرد: انتصب "طفلاً" على المصدر الذي هو في موضع الحال. وقد قال قوم: تمييز. والذي قال جائز في هذا الموضع كقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] فهذا لا يكون إلا تمييزا، إلا أنّا قدمنا المصدر؛ لأنَّه قد استعمل مصدرًا كالرّضا والعدل الذي يقع على الواحد والجماعة، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور: 31] فهذا فيه دليل على أنه مصدر (¬4). وقال أبو عبيدة: طفلاً في موضع أطفال (¬5). وأنشد (¬6): ¬

_ (¬1) في (أ): (يخرج)، مهمل الأول. وفي (ط)، (د): (يخرج)، مهملة. والمثبت من (ع). وفي المطبوع من المعاني: ويخرج. (¬2) في (أ): (منهم). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 412. (¬4) ذكر هذا القول عن المبرد باختصار القرطبي 12/ 12، وأبو حيان 6/ 352 والسمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 232. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 44. (¬6) هذا الشطر من الرجز أنشده أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 195 ونسبه للغنوي. وهو بلا نسبة في "الكتاب" 9/ 201، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 437، المقتضب للمبرد 2/ 172، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 83. ونسبه السيرافي في شرح أبيات سيبويه 1/ 212، والشنتمري في "تحصيل عين الذهب" 1/ 107، وابن منظور في "لسان العرب" 14/ 423 "شجا" للمسيب بن زيد بن مناة الغنوي يخاطب به حنظلة بن الأعرف الضبابي، وكان حنظلة قد غزا غَنيّ فأخذ غلامًا منتهم، فبيع ذلك الغلام، فخفي شأنه زمانًا، ثم وجدته غنيّ في بيت ختنٍ لحنظلة بن الأعراف فأخذوا الغلام وقتلوا ختن حنظلة، فبلغهم أن =

في حلقكم (¬1) عظم وقد شجينا وقال أبو الهيثم: الصبي يدعى طفلا حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم. قال: والعرب تقول: جاريةٌ طِفْلٌ، وجاريتان طِفْلٌ، وجَوارٍ طفلٌ وغلامٌ طفلٌ، وغلمان طفل (¬2). [ويقال: طفل] (¬3) وطفلة وطفلان وطفلتان في القياس وأطفال، ولا يقال: طفلات (¬4) (¬5). وأطفلت المرأةُ والظبيةُ (¬6)، إذا صارت ذات طفل (¬7). قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} ذكر صاحب النظم منه وجهين: ¬

_ = الأعرف يتبعهم ويتوعدهم، فقال المسيب: مالك يا أعرف تبتغينا إلى أن قال: في حلقكم عظمٌ وقد شجينا. قال السيرافي: الشاهد فيه قوله "في حلقكم" فوحّد وهو يريد في حلوقكم، فوضع الواحد في موضع الجمع .... وقوله "في حلقكم عظم وقد شجينا" هو على طريق المثل، يعني أنهم بمنزلة من قد غصّ بشيء في حلقه لأجل قتل ختنهم، ونحن قد شجينا بشيء في حلوقنا من أجل العلام الذي قد سبي هنا. اهـ. (¬1) في (أ)، (د)، (ع) خلقكم. والمثبت من (ظ) وباقي مصادر التخريج. (¬2) وغلمان طفل: ليست في المطبوع من "تهذيب اللغة" 3/ 348. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬4) في "تهذيب اللغة" 13/ 348 نقلاً عن أبي الهيثم: ويقال: طفلٌ، وطفلةٌ، وطفلان، وأطفال، وطفلتان، وطفْلات في القياس. وكذا في "اللسان" 11/ 402 (طفل). وعند القرطبي 12/ 12: ويقال أيضًا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال، ولا يقال: طفلات مثل ما عند الوحدي. (¬5) قول أبي الهثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 348. (¬6) في (ظ): (الضبية). (¬7) "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 348 (طفل) نقلا عن الليث.

أحدهما: أَن يكون فيه إضمار على تأويل: ثم نخرجكم طفلا، ثم نعمركم (¬1) لتبلغوا أشدكم (¬2). والوجه الآخر: أن تكون "ثم" في قوله {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا} مقحمة (¬3) [كما تقحم الواو؛ لأنها من حروف النسق ومعناه: ثم نخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم (¬4)] (¬5). قال ابن عباس: يريد ثماني عشرة سنة (¬6). قال الزَّجَّاج: وتأويله الكمال والقوة والتمييز وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين (¬7). وهذا مما قد تقدم القول فيه. قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} قال ابن عباس: يريد من قبل ذلك. يعني من قبل بلوغ الأشد (¬8). {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي: أخسّه وأدونه، وهو الخرف، ¬

_ (¬1) في (ظ): (نقمكم). (¬2) ذكر ابن الجوزي 5/ 40 هذا الوجه، ولم ينسبه لأحد. (¬3) في (أ): (مفخمة، تفخّم). (¬4) ذكر القرطبي 12/ 12 هذا الوجه، وصدره بقوله: وقيل. وهذا الوجه الذي ذكره الواحدي عن صاحب النظم -مردود؛ قال أبو حيان في البحر 5/ 110: وغير ثابت من "لسان العرب" زيادة "ثم". (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 149 عند قوله تعالى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 153] عن ابن عباس -من رواية أبي صالح- أنه قال: ما بين ثماني عثمرة إلى ثلاثين سنة. ثم ذكر قولاً آخر أنه: ثماني عشرة سنة، وعزاه لسعيد بن جبير ومقاتل. (¬7) "معاني القرآن" للز جاج 3/ 413. (¬8) ذكره ابن الجوزي 5/ 408 ولم ينسبه لأحد.

يخرف حتى لا يعقل، وبيَّن ذلك بقوله {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}. قال ابن عباس: يريد يبلغ من السن ما يتغير (¬1) عقله حتى لا يعقل شيئًا (¬2). قال: وليس ذلك إلا في أهل الشرك (¬3). وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة، واحتجّ بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5، 6] قال: إلا الذين قرأوا القرآن (¬4). قوله {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} قال الزَّجَّاج: ثم دلَّهم على إحيائه (¬5) ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (سعد) مهملة. وفي (أ): (يتعين)، والمثبت من (ع). (¬2) في "الوسيط" 3/ 260 عن ابن عباس: يبلغ السن من بعد ما يتغير عقله حتي لا يعقل شيئا. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 468 عنه من رواية عطاء بمعناه. عند قوله تعالى {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70]. وهذه الرواية لا تصح عن ابن عباس، وكم شوهد من أهل الإسلام من ردّ إلى أرذل العمر، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر" رواه البخاري كتاب الدعوات، باب التعوذ من البخل 11/ 178. (¬4) رواه الطبري 30/ 346 بنحوه، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 558 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وقد روى سعيد بن منصور في تفسيره (ل 155 ب) وابن أبي شيبة في مصنفه 10/ 468 عنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمل. ثم قرأ {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70]. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 146 وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) في (أ): (إحياء).

الموتى بإحيائه الأرض (¬1). وقال صاحب النظم: هذا فصل منقطع مما قبله؛ لأنَّ الأول مخاطبة جماعة وهذا مخاطبة واحد، وهو معطوف على ما قبله بمثل معناه لأنّه من تبيين وجوب البعث (¬2). قال الليث: أرض جامدة مقشعرةٌ لا نبات فيها إلاَّ يبيس (¬3) مُتَحطّم (¬4)، والهامد (¬5) من الشجر: اليابس (¬6). وقال شمر: الهامد: الأرض المسنتة (¬7)، وهمودها (¬8) ألا يكون فيها حياة (¬9) والرَّماد (¬10) الهامد: المتلبّد البالي بعضه فوق بعض. وهمد (¬11) الثوب يهمد همودًا، إذا تناثر من البِلى (¬12). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 413. (¬2) ذكره القرطبي 12/ 13 بمعناه من غير نسبة لأحد. (¬3) في (أ): (مهملة). وفي (ظ): (يبس). (¬4) من (أ): (فيحكم)، وهو خطأ. (¬5) في (ظ): (والهادرة). (¬6) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 228 "همد". وهو في "العين" 4/ 31 "همد" بنصه. (¬7) في (أ): (المسننة)، وفي (ظ)، (د): (المسنة). وفي (ع): (المسه)، مهملة. والتصويب من "تهذيب اللغة" 6/ 228. وفي "تهذيب اللغة" 12/ 385: قال ابن شميل: أرضٌ مسنته: لم يصبها مطرٌ فلم تُنبت. (¬8) في (أ): (وهودها)، وهو خطأ. (¬9) في جميع النسخ: (حيا)، والتصويب في "تهذيب اللغة" 6/ 228. (¬10) في (ظ)، (د)، (ع): (والمراد)، وهو خطأ. (¬11) في (أ): (وهذا)، وهو خطأ. (¬12) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 228 (همد).

قال (¬1) الأصمعى: همدت (¬2) النار إذا طفئت ألبتة (¬3) (¬4). قال الأعشى: قالت قُتَيْلةُ ما لجسمك شاحبًا ... وأرى ثيابك باليات هُمَّدا (¬5) (¬6) قال ابن عباس: هامدة يريد التي قد تلبَّدت وذهب عنها النَّذى. وقال مجاهد: هالكة. يعني جافة (¬7) يابسة؛ لأن هلاك الأرض يُبسها. وقال قتادة: غبراء متهشمة (¬8). [يعني متهشمة] (¬9) النبت. وقال أبو إسحاق: يعني جافة ذات تراب (¬10). ¬

_ (¬1) قال: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬2) في (أ): (همت)، وهو خطأ. (¬3) ألبتة مهملة في (د). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 228 "همد" من رواية أبي عبيد، عن الأصمعي. (¬5) همدا: ساقطة من (ظ). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 227، والرواية فيه (سايئا) في موضع (شاحبا)، والطبري 17/ 119، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 174، والقرطبي 12/ 13. (¬7) في (أ): (حاقة)، وهو خطأ. (¬8) قال السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 11: وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "وترى الأرض هامدة" أي: غبراء متهشمة. وهذه الرواية عن قتادة ليست موجودة في تفسير عبد الرزاق والطبري في هذا الموطن من سورة الحج كما عزى إليها السيوطي، وإنما موجودة في تفسير قوله تعالى "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة" [فصلت: 39] فروى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 188 والطبري 24/ 122 عن قتادة في قوله "ترى الأرض خاشعة" قال: غبراء متهشمة. (¬9) ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 413.

وقال ابن مسلم: ميتة يابسة كالنار إذا طفئت فذهبت (¬1). وقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} قال المفسرون: تحركت بالنبات (¬2). والمعنى على هذا تحركت بالنبات عند وقوع الماء، وذلك أن الأرض ترتفع عن النبات إذا ظهر فذلك تحركها، وهو معنى قوله {وَرَبَتْ} أي: ارتفعت وزادت. وقال الليث: يقال اهتزت الأرض (¬3) إذا أنبتت (¬4). وقال المبرد: أراد (¬5) اهتز نباتها (¬6). وعلى هذا حذف المضاف الذي هو النبات [فقيل: اهتزت. والاهتزاز في النبات أظهر، ويقال: اهتز النبات] (¬7) إذا طال (¬8). وقوله {وَرَبَتْ} أي زادت ونمت، أي الأرض أو نباتها على ما ذكرنا. ويقال: ربا الشيء، إذا زاد، ومنه الرَّبوة والرِّبا (¬9). ¬

_ (¬1) غريب القرآن لابن قتيبة ص 290. (¬2) الطبري 17/ 119، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 47 ب. (¬3) (الأرض): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 350 (هزَّ) بنصِّه، لكن من غير نسبة لأحد. وكأنَّ في المطبوع سقطًا، وهو في العين 2/ 346 "هزّ" مع اختلاف يسير جدًّا. (¬5) أراد: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬6) ذكره عن المبرد ابن الجوزي 5/ 408، والقرطبي 12/ 13. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 350 (هز)، "لسان العرب" 5/ 424 (هزز). وقال أبو حيان في البحر 5/ 353: واختزازها: تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 272 - 274 (ربا).

وقوله {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} قال ابن عباس: من كل صنف حسن (¬1). والبهجة: حسن الشيء ونضارته (¬2). والبهيج بمعنى المبهج، وهو الحسن الصورة الذي تمتع العين برؤيته. قال المبرّد: هو الشيء المشرق الجميل (¬3)، ومنه قوله: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]. وعلى هذا هو فعيل من بهج (¬4)، وهو قول أبي زيد (¬5)، قال: بهيج حسن (¬6)، وقد (¬7) بَهُج بَهاجة وبَهْجة (¬8). ويقال: تباهج الروض إذا كثر نواره (¬9). وأنشد الليث (¬10): ¬

_ (¬1) روى ابن أبي حاتم (كما في "الدر المنثور" 6/ 11) عنه قال: "بهيج" أي حسن. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 64 "بهج" عن الليث، وهو في العين 3/ 394 (بهج). (¬3) ذكره الرازي 23/ 9 عن المبرّد. (¬4) في (أ): (بهيج)، وهو خطأ. (¬5) في جميع النسخ: (ابن زيد)، وهو تصحيف. والتصويب من "تهذيب اللغة" وغيره. (¬6) (حسن): ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬7) في (ظ)، (د)، (ع): (قد). (¬8) قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" 6/ 65 (بهج). (¬9) في "تهذيب اللغة" 6/ 64، "لسان العرب" 2/ 216: نَوْرُهُ. (¬10) هذا الشطر أنشده الليث في العين 3/ 394 من غير نسبة، والرواية فيه: "نوارها" في موضع "نواره". وقال: يصف الروضة. وهو في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 64 (بهج)، و"لسان العرب" 2/ 9216 (بهج)، وتاج العروس 5/ 431 (بهج). وفي "التكلمة" للصاغاني 1/ 403 أن القائل هو أسد بن ناعصة، وصدره فيها: في بَطْنِ وادٍ مُسْجَهرٍّ رَفْرَفِ

6

نوَّارُهُ مُتَباهج يَتَوَهَّجُ وأكثر أهل (¬1) النحو على أنَّ بهيج هاهنا (¬2) فعيل بمعنى فاعل، وهو قول الأخفش وابن مسلم (¬3). 6 - قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} قال أبو إسحاق: المعنى الأمر ذلك. أي الأمر ما وصف لكم وبين بأن الحق هو الله [قال: ويجوز أن يكون نصبًا علي معنى: فعل الله ذلك بأنه هو الحق] (¬4)، والأجود أن يكون موضع "ذلك" رفعًا (¬5). قال أبو علي: موضع "ذلك" من الإعراب لا يخلو من أحد وجهين: أحدهما (¬6) رفع، أو نصب. أمَّا جهة النصب فعلى أن يكون مفعولاً بفعل مضمر يدل عليه ما قبله من الأفعال المذكورة كما ذكره أبو إسحاق. وأمّا جهة الرفع فلا يخلو من أن يكون مبتدأً أو خبرًا, ولا يجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف وهو الأمر والشأن على ما ذكره أبو إسحاق لأنه إذا قدر كذلك (¬7) بقى الجار في (¬8) قوله "بأنَّ الله" (¬9) غير متعلق بشيء وذلك لأنَّ الجار إنّما يتعلق بقوله "ذلك" إذا قَدَّرته مبتدأ بتوسط (¬10) فعل مقدر ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، ع): (هذا). (¬2) العبارة في (ظ)، (د)، (ع): (علي بهيج يقال هاهنا)، وهي عبارة ركيكة. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص290. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 413 مع تقديم وتأخير. (¬6) أحدهما: ساقطة من (أ). (¬7) في (أ): (ذلك)، وهو خطأ. (¬8) (في): ساقطة من (أ). (¬9) في (أ): (وقوله "أن الله")، وهو خطأ. (¬10) في (أ): (يتوسط)، وهو خطأ.

محذوف لدلالة الجار على، والمعنى: ذلك فعله الله أو بَيَّنَه (¬1) الله بأن الله هو الحق، ثم حذف الفعل وصار الجار مع المجرور في موضعه خبرًا لـ"ذلك". وإذا قدرت "ذلك" خبر مبتدأ لم يجز أن يتعلق به الجار؛ لأن تعلق حرف الجر بالاسم لا يخلو من أمرين: إما أن يتعلق به على التقدير الذي تقدم، أو يتعلق به (¬2) كما يعلق إذا كان الخبر اسم فاعل، نحو: ذاهب وقائم فيتصل الجار به [كما يتصل بالفعل نحو: هذا ذاهب به، أو قائم إلى عَمْرو وليس قولنا ذلك اسم فاعل فيتصل به هذا الاتصال، ولا يجوز أن يكون بتعلق الجار به (¬3)] واتصاله بذلك، وهو مقدر خبر مبتدأ من حيث اتصل به وهو مقدر مبتدأ، وذلك أنَّك إذا قدرت مثل الفعل الذي يوصل الجار إلى ذلك وتعلقه به وجب أن يكون ذلك الفعل خبره، وإذا كان خبره كان ذلك مبتدأ، إذ لا متصل للفعْل (¬4) بقوله ذلك إلا من هذه الجهة، واتصاله به يخرجه عن أن يكون خبرًا [فإذا لم يجز أن يكون موضع "ذلك" رفعًا على أنه خبر مبتدأ] (¬5) وجب أن يكون موضعه رفعًا على أنه مبتدأ، والجار مع المنجر به في موضع خبره لا يجوز غير ذلك (¬6). وأما معنى الآية فهو أن يقول: فعل الله ذلك -يعني ما ذكر من ابتداء الخلق وإحياء الأرض، ذلك الذي ذكر فعله (¬7) الله بأنه هو (¬8) الحق أي: ذو الحق. ¬

_ (¬1) في "الإغفال" ص 1046: أو نَبَّه. (¬2) في (ظ): (بهما). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬4) في (ظ): (إذْ لا يتصل الفعل)، وفي (د): (إذ لا يتصل للفعل). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) "الإغفال" لأبي علي الفارسي 2/ 1044 - 1047. (¬7) ي (ظ)، (د)، (ع): (فعل الله). (¬8) هو: ليست في (ظ)، (د)، (ع).

7

يعني أنَّ جميع ما يأمر به ويفعله هو الحق لا الباطل كما يأمر به الشيطان من الباطل. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} أي: وبأنه يحي الموتى. والمعنى أحيا الأرض وفعل ما فعل بقدرته على إحياء الموتى وبأنه قادر على ذلك، وقادر على كل (¬1) ما أراد وهو قوله {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. 7 - قوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} موضع "أنَّ" خفض فيِ الظاهر بالعطف على ما قبله من قوله (¬2) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إلا أنه لا يصح في المعنى حمله بالعطف على ما قبله؛ لأنه لا يمكن أن يقال: فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، ولكن يضمر لـ"أنَّ" فعلاً ينصبه، ودلَّ عليه ها تقدم، وهو أن يقول: المعنى: ولتعلموا أن الساعة آتية [أي بَدْءُ الخلق وإحياء الأرض بالماء دلالة لكم لتعلموا بها أن القيامة آتية] (¬3) وأن البعث حق وهو قوله {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. 8 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} أي في قدرة الله على البعث والإعادة. قال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا جهل (¬4). وقال الكلبي: نزلت في النضر بن الحارث (¬5). ¬

_ (¬1) (كل): ساقطة من (ظ). (¬2) من قوله: (ليست) في (ظ)، (د)، (ع). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬4) ذكره عنه الزمخشري 3/ 6، والقرطبي 12/ 15، وأبو حيان 6/ 354. (¬5) ذكره عنه الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 8. وذكره أبو حيان 6/ 354 وعزاه للجمهور. ولم يثبت من هذا شيء.

9

وقوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مضى تفسيره في هذه السورة. {وَلَا هُدًى} قال ابن عباس: ليس معه من ربه رشاد ولا بيان {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} له نور (¬1). 9 - وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} يقال: ثنيت الشيء، إذا حنيته (¬2) وعطفته (¬3). ذكرنا ذلك في قوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5]. والعِطْفُ: الجانب (¬4). وعِطْفَا الرجل: ناحيتاه عن يمين وشمال، ومنكب الرجل: عطفه وإبطه. قال ابن الإعرابي: عطف كل إنسان ودابة: شقاه من لَدُنْ رأسه إلى وركيه (¬5). وأصله من العطف، وهو: اللي، والعطف: الموضع الذي يعطفه الإنسان، أي: يلويه ويميله عند الإعراض والانحراف عن الشيء (¬6). ¬

_ (¬1) قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 5/ 40: قال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة "بغير علم" أي بدون علم ضروري حاصل لهم بما يجادلون به "ولا هدى" أي استدلال ونظر عقلي يهتدي به العقل للصواب "ولا كتاب منير" أي وحي نّير واضح يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري، ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وحي، فهو جاهلٌ محضٌ من جميع الجهات. (¬2) في (أ): (حسه)، مهملة. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 134 (ثنى) بنصِّه. (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 47 ب. (¬5) من قوله: وعطفا الرجل ... إلى هنا، نقلاً عن "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 180 (عطف). (¬6) انظر: (عطف) في: "الصحاح" للجوهري 4/ 1405، "لسان العرب" 9/ 250 - 251، "القاموس المحيط" 3/ 176.

واختلفت (¬1) عبارة المفسرين في تفسير قوله {ثَانِيَ عِطْفِهِ}: قال ابن عباس: مستكبرًا في نفسه (¬2). وقال الضحاك: شامخًا (¬3) بأنفه (¬4). وقال مجاهد وقتادة: لاويًا عنقه (¬5). وقال ابن زيد والعوفي: معرضًا عما يُدعى إليه كبرًا (¬6). ونحوه (¬7). قال ابن جريج (¬8). وقال السدي: معرضًا من العظمة ينظر في جانب واحد (¬9). وهذه الألفاظ تعود إلى معنى واحد وهو الإعراض والتكبر. ¬

_ (¬1) في (أ): (واختلف). (¬2) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 47 ب. ورواه الطبري 17/ 121 وإسناده حسن، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 13 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) في (ظ): (سافحًا)، وهو خطأ. (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 47 ب. (¬5) ذكره عنهما الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 47 ب. ورواه عن مجاهد الطبري 17/ 121. ورواه عن قتادة عبد الرزاق 2/ 33، والطبري 17/ 121. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 12 وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) ذكره عنهما الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 47 ب. وعن ابن زيد رواه الطبري 17/ 121، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 12. وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. وعن العوفي رواه الطبري 17/ 121 من طريق العوفي عن ابن عباس. (¬7) في (ظ): (ونحو ما قال)، وفي (د)، (ع): (ونحو قال). (¬8) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 47 ب. ورواه الطبري 17/ 121. (¬9) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 12 عن قتادة مثل هذا القول.

قال أبو إسحاق: وهذا يوصف به المتكبر. والمعنى: ومن الناس من يجادل في الله متكبرًا (¬1) (¬2). وقال المبرد: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} عبارة عن التكبر والتهاون. تقول العرب: أتانا فلان ثاني عطفه وثاني جيده وشماخًا بأنفه. وأنشد (¬3): يَهْدِي إلى خَنَاهُ ثاني الجيد (¬4) أي: متهاونًا. قال: والعطف ما انعطف من العنق والمنكبين. وسمي الرداء العطاف؛ لأنه يقع في ذلك الموضع (¬5). وانتصب "ثاني" على الحال، والتنوين فيه مقدر، والإضافة في تقدير ¬

_ (¬1) في (أ): (مكبرا). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 414. (¬3) في (أ) زيادة: (فقال قوله وأنشد). (¬4) هذا عجز بيت للشمَّاخ من قصيدة يهجو بها الربيع بن علباء السلمي، وصدره: نبئت أن ربيعًا إن رعى إبلا وهو في "ديوانه" ص 115، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 46، و"المعاني الكبير" لابن قتيبة 1/ 496، و"الكامل" للمبرد 1/ 10، 2/ 403 و"الاقتضاب" للبطليوسي 3/ 411. قال ابن قتيبة في المعاني: أي صارت له إبل يرعاها، أرادك أن استغنى واستطال بذلك. "ثاني الجيد" أي رخي البال غير مكنز. وقال البطليوسي: يقول لما كثرت إبله وحسنت حاله أبطرته النعمة. وقيل معناه: أنا نغزوه في أيام الربيع حين يهيج الحيوان وطلب السفاد، وفي ذلك الوقت يغزو بعضهم بعضا. (¬5) انظر: "الكامل" للمبرّد 1/ 10، 2/ 403 ففيه نحو من هذا، وفيه البيت. وفي "معاني القرآن" للنحاس 4/ 382 عن المبرد: العطف: ما انثنى من العنق ... الموضع.

الانفصال (¬1)، كما ذكرنا في قوله: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] و {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] ومواضع أخرى (¬2). ومثل قوله {ثَانِيَ عِطْفِهِ} في المعنى قوله: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] الآية وقوله {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [قال ابن عباس: عن طاعة الله (¬3) (¬4). والمعنى: يجادل في الله بغير علم مستكبرًا لاويًا عنقه ليضل عن سبيل الله] (¬5) ويذهب عنه لا (¬6) أنّ له على ما يجادل فيه محجة أو دلالة (¬7) أو لديه فيه بيانًا. ومثل هذا في المعنى قوله {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا} (¬8) [النحل: 54. 55] فيمن جعل اللام الجارة، أي أشركوا ليكفروا بما بيناه لهم، لا لأنَّ (¬9) لهم على ذلك حجة وبيانًا. وقوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} قال ابن عباس: يريد الذي (¬10) أصابه يوم بدر (¬11). ¬

_ (¬1) انظر: "المعاني القرآن" للزجاج 3/ 414. (¬2) عند قوله تعالى {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. (¬3) لفظ الجلالة لم يرد في (أ). (¬4) ذكره القرطبي 12/ 13 من غير نسبة لأحد. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) في (ظ): (إلا)، وهو خطأ. (¬7) (أو دلالة): ساقط من (أ). (¬8) في (ظ): (يكفرون) بدلا من (يشركون)، وهو خطأ. (¬9) في (أ): (أنَّ). (¬10) بعد قوله: (الذي) يبدأ المفقود من نسخة الظاهرية (ظ) ومقداره صفحتان. (¬11) ذكره عنه الرازي 23/ 12، وانظر: "تنوير المقباس" ص 206.

10

10 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} قال أبو إسحاق: المعنى: يقال له هذا العذاب بما قدمت يداك، وموضع "ذلك" رفع بالابتداء، وخبره {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}، وموضع "أنَّ" من قوله {وَأَنَّ اللَّهَ} خفض؛ لأن المعنى: بما قدمت وبأنّ الله. قال: ويجوز أن يكون موضع "ذلك" رفعًا على خبر الابتداء، المعنى: الأمر ذلك بما قدمت يداك، ويكون موضع "أنَّ" الرفع على معنى: والأمر أنَّ الله ليس بظلام للعبيد (¬1). وأبطل أبو علي أن يكون "ذلك" خبر الابتداء؛ لأنَّ الجار يبقى غير متعلق بشيء. والقول في هذه الآية كالقول في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} لا فصل بينهما وإذا بطل هذا بطل أن يكون موضع "أنَّ" في قوله {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} رفعًا؛ لأنه إذا لم يجز إضمار الأمر الذي يكون مبتدأ لقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} لم يجز إضماره هاهنا، وإذا لم يجز ذلك كان موضعه جرًا بالعطف (¬2) على "ما" المنجر بالباء (¬3). وأما معنى هذه الآية فهو مما ذكرناه في سورة الأنفال عند قوله {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51]. 11 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أكثر المفسرين على أن المعنى: على شك (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 414. (¬2) في (أ): (جوابًا لعطف). (¬3) كلام أبي علي في "الإغفال" 2/ 1048 - 1049. (¬4) انظر الطبري 17/ 123، والدر المنثور 6/ 14.

11

وهو قول مجاهد (¬1) والسدي وقتادة (¬2)، واختيار أبي إسحاق (¬3) وأبي زيد وابن الأعرابي. روى ابن اليزيدي (¬4) عن أبي زيد: على حرف على شك (¬5). وقال ابن الأعرابي: [الحرف] (¬6) الشك في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 483 أ. ورواه سعيد بن منصور في "تفسيره" ل 155 ب، والطبري 17/ 123. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 14 وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 33، والطبري 17/ 123 عن قتادة، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 14 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 414. (¬4) في (أ): (ابن الزيدي)، وهو خطأ. وابن اليزيدي هو: إبراهيم بن يحيى بن المبارك بن المغيرة، أبو إسحاق بن أبي محمد العدوي مولاهم، المعروف بابن اليزيدي. بصري سكن بغداد وسمع من أبيه وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وغيرهم. وكان ذا قدر وعلم بالنحو واللغة والقراعة والأدب. له مصنفات كثيرة منها: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" كبير جدًّا، و"مصادر القرآن" بلغ فيه إلى سورة الحديد. توفي سنة 225 هـ. واليزيدي: نسبة إلى يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، وكان أبوه يحيى بن المبارك مؤدبًا, لأولاده منقطعًا إليه، فنسب إليه. انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 209، "إنباه الرواة" 1/ 224 - 226، "اللباب" لابن الأثير 3/ 411، "غاية النهاية" 1/ 29، "طبقات المفسرين" للداود 1/ 25 - 27. (¬5) ذكره الأزهرى في "تهذيب اللغة" 5/ 12 من رواية ابن اليزيدي، عن أبي زيد. (¬6) زيادة من "تهذيب اللغة".

يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي شك (¬1). ونحو هذا قال أحمد بن يحيى (¬2). وهذا الذي قالوا هو معنى "حرف" في هذه الآية لا تفسيره. وتفسير الحرف في اللغة: الطرف وهو منتهى الجسم، والحرف والطرف والجانب نظائر في اللغة. والانحراف: الانعدال إلى الجانب وقلم محرف قد عدل بقطعة عن الاستواء والحرف منعدل إلى الجانب عن (¬3) الوسط (¬4). وقال أبو الفتح الموصلي: أما الحرف فالقول فيه أن (ح ر ف) أينما وقعت في الكلام (¬5) يراد به حد الشيء وحدته، من ذلك حرف الشيء إنما هو حده وناحيته، وطعام حريف: يراد به (¬6) حدته. ورجل محارف: أي محدود عن الكسب والخير، ومثله محرف كأنَّ الخير قد حرف عنه ما يحرف القلم (¬7). وقولهم: انحرف فلان عني، من هذا، كأنّه جعل بيني وبينه حدًّا بالبعد والاعتزال. ومنه قولهم لهذه البقلة الحادة: الحُرْف (¬8)، سمي بذلك ¬

_ (¬1) ذكره عنه ابن جني في "سر صناعة الإعراب" 1/ 14. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 5/ 15 من رواية أبي العباس -وهو ثعلب: أحمد ابن يحيى- عن ابن الأعرابي. (¬3) في (ع): (إلى)، وهو خطأ. (¬4) انظر: "حرف" في "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 12، 14، "الصحاح" للجوهري 4/ 1132، "لسان العرب" 9/ 41 - 43. (¬5) في (أ): (الكلاف)، وهو خطأ. (¬6) به: ساقطة من (د)، (ع). (¬7) العبارة في "سر صناعة الإعراب": ومثك مجرَّف ومجلَّف، كأنَّ الخير قد جُرِّف عن وجلف، كما يجلف القلم ونحوه. (¬8) الحُرْف: حبَّ الرشاد. "القاموس المحيط" 3/ 127.

لحدته. هذا كلامه (¬1) وعلى القول الأول أصل الحرف من الميل سمي الطرف حرفًا لميله عن (¬2) الوسط, وعلى قول أبي الفتح أصله من الحدّة والطرف حرفٌ لحدته. قال أبو إسحاق: وحقيقته أنه يعبد الله على حرف الطريقة في الدين، لا يدخل فيه دخول متمكن (¬3). وقال أبو عبيدة -في قوله: {عَلَى حَرْفٍ} -: أي لا يدوم. قال: وتقول (¬4): إنَّما أنت على حرف (¬5)، أي لا أثق بك (¬6). قال أبو الفتح: وهذا راجع إلى ما قدمناه لأن تأويله أنه قلق في دينه، على غير ثبات ولا طمأنينة ولا استحكام بصيرة، فكأنه معتمد (¬7) على حرفٍ دينه غير واسط فيه، كالذي هو على حرف جبل ونحوه، يضطرب اضطرابا ويضعف قيامه، فهو يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف، فقيل للشاك في دينه أنه يعبد الله على حرف؛ لأنه لو عبده على يقين وبصيرة لم يكن في حرف يسقط عنه بأدنى شيء يصيبه. وهذا المعنى ظاهر في قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} الآية (¬8). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" لابن جني 1/ 14، 15. (¬2) في (أ)، (د): (على). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 414. (¬4) في (د)، (ع): (ويقولون). (¬5) هكذا في جميع النسخ و"سر صناعة الإعراب"، وفي مجاز القرآن: إنما أنت لي على حرف. بزيادة (لي). (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 46. (¬7) في (د)، (ع): (متعمّد). (¬8) "سر ساعة الإعراب" لأبي الفتح ابن جني 1/ 14.

وقال بعض أهل المعاني: إنما قيل للشاك في دينه: يعبد الله علي حرف؛ لضعفه واضطرابه في طريق العلم إذْ (¬1) لم يتمكن في الدلائل المؤدية إلى الحق، فأدنى شبهة تعرض له ينقاد لها ولا يعمل في حلها. وقال المبرد: والعرب تقول: فلان على حرف، إذا كان بين قوم يظهر الميل إلى أحدهم وفي نفسه من الآخرين شيء. ومعناه الشك وأصله من حرف الشيء، نحو: الحيل والدكان والحائط الذي القائم عليه غير مستقر. هذا الذي ذكرناه كله يعود إلى معنى واحد. وقال (¬2) ابن قتيبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (¬3) واحد (¬4) أي: على وجه واحد ومذهب واحد (¬5). واختار الأزهري هذا القول فقال: كأنَّ الخير والخصب ناحية، والضر والشر والمكروه ناحية أخرى، فهما حرفان، وعلى العبد أن يعبد خالقه على الحالتين (¬6). أعني السَّرّاء والضراء، ومن عبد الله على السرَّاء وحدها دون أن ¬

_ (¬1) في (أ): (إذا). (¬2) في (د)، (ع): (قال). (¬3) إلى هنا ينتهي المفقود من نسخة (ظ)، والموجود يبدأ من قوله: (يعبد الله). (¬4) هكذا في جميع النسخ، والأظهر حذفا فليس (واحد) عند ابن قتيبة. (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 290. (¬6) في (أ) زيادة بعد قوله (الحالتين): (فقد عبده عباده)، وهي زيادة ناشئة من انتقال نظر الناسخ إلى الكلام الذي بعده. وليست في "تهذيب اللغة" للأزهري.

يعبده على الضراء فقد عبده على حرف، ومن عبده على الحالتين فقد عبده عبادة العبد المقر بأنَّ له خالقًا (¬1) يصرفه كيف يشاء، وهو في ذلك عادل غير ظالم له (¬2). فعلى هذا معنى قوله (¬3) {عَلَى حَرْفٍ} على وجه واحد، وهو إذا أصاب خيرًا عبده، وإن أصابه شر ترك عبادته، على ما ذكره الأزهري. وقال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه (¬4). ويكون معنى {عَلَى حَرْفٍ} في هذا القول: على شك. قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} إن أصابه رخاء (¬5) وعافية وخصب، وكَثُر ماله اطمأن على عبادة الله بذلك الخير الذي أصابه. والكناية في {بِهِ} تعود إلى الخير. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} اختبار بجدب وقلة مال {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} قال أبو إسحاق: رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان (¬6). وقال المبرد: تأويله قلب وجهه عمَّا كان عليه من الدين والعبادة. ويجوز أن يكون المعنى انقلب على وجهه الذي توجه (¬7) منه، وهو الكفر. ويكون معنى الوجه على هذا: طريقه الذي جاء منه (¬8)، وهو الكفر. ¬

_ (¬1) في (أ): (بأنه خالق)، وهو خطأ. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 12 - 13 مع تصرف في العبادة. (¬3) في (ظ): (فعلى هذا المعنى في قوله). (¬4) ذكره عنه الثعلبي 3/ 48 أ، والبغوي 5/ 268 - 269، والقرطبي 12/ 18. (¬5) في (أ): (رجاء). وهو تصحيف. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 414. (¬7) توجَّه: مهملة في (أ). (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (منهما).

قال الكلبي وغيره من المفسرين: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة. وكان أحدهم إذا صح جسمه، ونتجت (¬1) فرسه مهرًا حسنًا، وولدت امرأته غلامًا، وكثر ماله، رضي واطمأن، وقال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرًا. وإن أصابه وجع في (¬2) المدينة، وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه (¬3)، وذهب ماله، وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان، فقال له (¬4): والله ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرًا. فينقلب عن دينه. وذلك الفتنة (¬5). ¬

_ (¬1) نتجت: ولدت. لسان العرب 2/ 374 (نتج). (¬2) (في): ليست في (ظ)، (د)، (ع). (¬3) في (ظ): (رماله). ورماكه: جمع رمكه، والرمكة: الفرس والأنثى من البراذين. الصحاح للجوهري 4/ 1588 (رمك)، "لسان العرب" 10/ 434 (رمك). (¬4) (له): ساقطة من (أ)، (ع). (¬5) ذكره بهذا اللفظ الثعلبي في الكشف والبيان 3/ 47 ب، 48 أمن غير نسبة لأحد. وذكره عن الكلبي الرازي في "تفسيره" 23/ 13. وقد رواه بنحوه الطبري في "تفسيره" 17/ 122 من رواية العوفي عن ابن عباس. وروى البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الحج، باب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} 8/ 442 نحوه مختصرًا عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله، قال: هذا دين سوء. وروى ابن أبي حاتم، كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 209 بإسناد حسن عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلمون. فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالحٌ فتمسكوا به. وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه "ومن الناس .. " الآية.

12

وقوله تعالي: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} يعني هذا الشاك خسر دنياه حيث لم يظفر بما طلب من المال، وخسر آخرته بارتداده عن الدين {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي الضرر الظاهر. يعني ذلك الذي فعل من انقلابه على وجهه وذلك (¬1) الخسران الذي لحقه هو الخسران المبين. وخسر يدل على الخسران؛ لأنّ الفعل يدل على المصدر. 12 - قوله: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: هذا المرتد يدعو (¬2) راجعًا إلى الكفر يعبد سوى الله {مَا لَا يَضُرُّهُ} في معاش إن لم يعبده، ولا ينفعه إنْ أطاعه، يعني الحجارة التي كانوا يعبدونها، ذلك الذي فعل {هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} أي: عن الحق والرشد. 13 - قوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} هذه الآية كثير (¬3) الاختلاف في إعرابها، ووجه دخول اللام في قوله {لَمَنْ}، وأذكر الأقوال التي حكاها أبو إسحاق، وأتبع كل قول منها ما ذكر عليه إن شاء الله. قال أبو إسحاق: قد اختلف الناس في تفسير هذه (¬4) اللام وفي {يَدْعُو} بأي شيء هي متعلقة، ونحن نفسر (¬5) جميع ما قالوه وما أغفلوه ¬

_ = وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 13 وقال: بسند صحيح، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه. (¬1) في (أ): (أو ذلك). (¬2) (يدعو): ساقط من (أ). (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع) في تفسير هذه الآية، في اللام وفي يدعو. وما أثبتنا من (أ) هو الموافق لمعاني الزجاج. (¬5) في (أ): (وعن تفسير)، وهو خطأ.

مما هو أبين من جميع ما قالوه: إنْ شاء الله. قال البصريون والكوفيون: اللام معناها (¬1) التأخير، المعنى: يدعو من لضره (¬2) أقرب من نفعه. ولم يشبعوا الشرح ولا قالوا من أين جاز أن تكون اللام في غير موضعها (¬3)؟ وشرح ذلك: أنَّ اللام لليمين والتوكيد، فحقها أن تكون أول الكلام، فقدِّمت لتُجعل في حقها وإن كان أصلها أن تكون في "لضرّه" (¬4) كما أنَّ لام "إن" حقها أن تكون في الابتداء، فلمَّا لم يجز أن تلي "إنَّ" جعلت في الخبر في مثل قولك: إن زيدًا لقائم. ولا يجوز: إن لزيدًا قائم، فإذا أمكنك (¬5) أن تكون في الاسم كان ذلك أجود في الكلام تقول (¬6) إنَّ في ذلك لآية. فهذا قول (¬7). قال أبو علي: من زعم أنَّ هذه اللام في قوله "لمن ضره" كان حكمها أن تكون في المبتدأ الذي في صلة "من" وهو الضُرّ ثُمَّ قُدِّم (¬8) إلى الموصول -وهو "من"- فهو مخطىء؛ لأنَّا قد أحاط علمنا بهذه اللام والمواضع التي (¬9) يستعملونها فيها، وتلك المواضع: ¬

_ (¬1) في (أ): (معناه). (¬2) في (أ): (يدعوا لمن يضره)، وهو خطأ. (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (موضع. وفي (د) علامة .. بعدها. (¬4) هكذا في (ظ)، (د)، (ع). والمعاني للزجاج. وفي (أ): (يضره)، ولعل الصواب في (ضره). (¬5) في المطبوع ص المعاني 3/ 415: أمكن. وقد أشار المحقق في الحاشية إلى أنه في الأصل (أمكنك)، فقام بتغييرها. (¬6) في (ظ): (ويقول). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 415. (¬8) في جميع النسخ: (ثم أخر)، والتصوب من "الإغفال" للفارسي 2/ 1507. (¬9) في (ظ): (الذي).

منها المبتدأ، وهي فيه (¬1) على ضربين: إمَّا أن تكون للتأكيد مجردًا من تلقّي السم. وإمّا أن يكون لتلقي القسم والتأكيد. ومنها "إنَّ" وهي تستعمل معها على ضربين أيضًا: إمَّا أن تدخل على اسم "أنّ" إذا فصل بينها وبين "إنَّ" نحو: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} (¬2)، ولا تمنع "إنَّ" من أن تعمل في اسمها النصب؛ لأنَّ التقدير بها أول الكلام قبل "إنَّ". وإمَّا أنْ تدخل على خبرها، وهي تدخل على جميع أنواع خبر "أنَّ" من المفرد والجملة، نحو: إن زيدًا لأبوه منطلق، والفعل المضارع، ولا تدخل على الفعل الماضي إذا كان خبرًا لإنَّ، ومنها دخولها (¬3) على خبر المبتدأ في الشذوذ والضرورة كقوله (¬4): أم الحليس لعجوز شهربة (¬5) ¬

_ (¬1) في "الإغفال" 2/ 1507: وهي فيه. (¬2) (إنَّ): ساقطة من (أ). (¬3) في جميع النسخ: دخوله. وأشار محقق "الإغفال" 2/ 1060 إلى أنّها في الأصل: دخولها. وفي نسختين من الإغفال: دخوله. فأثبتنا ما في النسخة الأصل للإغفال. (¬4) هذا شطر من الرجز، وشطره الآخر: ترضى من اللحم بعظم الرَّقَبة وهو بلاد نسبة في: الطبري 16/ 181، و"الصحاح" للجوهري 1/ 159 (شهرب) , و"اللسان" 1/ 510، "تاج العروس" 3/ 169 (شهرب). قال العيني في "المقاصد النحوية" 1/ 535: قائلة رؤبة بن العجاج، ونسبة الصاغاني في "إيجاب" إلى عنترة بن عروس، وهو الصحيح. اهـ وهو في "ديوان رؤبة" ص 170. قال العيني 1/ 535 - 536: والحُليس بضم الحاء المهملة وفتح اللام وآخره سين مهملة. والشهربة: العجوز الكبير. وانظر ما تقدم من مراجع في اللغة. (¬5) في (ظ). (شهرة).

وكما حكى أبو الحسن (¬1) في حكايته نادرة: إنَّ زيدًا وجهه لحسن (¬2). فإذا كان حق هذه اللام أنْ تدخل على المبتدأ، أو على اسم "إن" وخبرها من حيث دخلت على المبتدأ، وكان دخولها على خبر المبتدأ ضرورة وشذوذًا (¬3) مع أنَّ خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ، أو راجع [في المعنى إلى ما هو المبتدأ فدخوله في الموصول والمراد به] (¬4) الصلة ينبغي أن لا يجوز؛ لأن الصلة ليست بالموصول، كما أن خبر المبتدأ [هو] المبتدأ (¬5). فتبين بهذا أن قول من قال التقدير بها في الآية التأخير إلى الصلة خطأ، وأنّه تارك (¬6) لمذهب العرب في تأويله إياها هذا (¬7) التأويل. ويفسد هذا القول أيضًا أن اللام إذا كان حكمه (¬8) أن تكون في الصلة، ثم قدم إلى الموصول فغير سائغ، كما أن سائر ما يكون في الصلة لا يتقدم على الموصول. وأما تشبيهه تقدّم هذه اللام في الآية بتأخرها عن الاسم إلى الخبر في "إنَّ" فلا يشتبهان، وهو بعيد من الصواب؛ لأنه لا شيء يجب ويلزم له أن تقدم هذه اللام إلى الموصول من الصلة، كما كان في اسم "إنّ" سبب ¬

_ (¬1) هو الأخفش سعيد بن مسعدة. (¬2) في (أ): (إن زيدًا لوجهه لحسن)، وهو خطأ. (¬3) في "الإغفال" 2/ 1056: أو شذوذًا. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬5) هو: زيادة من الإغفال. (¬6) في (أ): (لتارك). (¬7) في (ظ): (بهذا). (¬8) في الإغفال 2/ 1060: حكمها، وأشار المحقق إلى أنه في بعض النسخ: حكمه.

يوجب تأخيرها إلى الخبر وهو اجتماع حرفين بمعنى واحد، ففساد هذا التشبية بين. وأما قوله: ولا يجوز إنَّ لزيدا قائم، فتمثيل سوء فيه إيهام (¬1) أنَّ اللام التقدير بها أن تكون بعد "إنّ" وليس كذلك (¬2)؛ لأنَّ تقدير اللام أن (¬3) تكون قبل "إن" يدلك على ذلك تعليقه الفعل وَوَقْعُهُ (¬4) به عن "إنَّ" في نحو علمت إنَّ زيدًا لمنطلق. ولو (¬5) كان التقدير بها (¬6) الوقوع بعد "إن" لفتح الفعل [في] "إنَّ" (¬7)؛ لأنّه لم يكن له كاف عن "إنّ" وفتحها، ويدل أيضًا (¬8) على أن التقدير بها التقديم قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فلو لم يكن التقدير بها التقديم على "إن" لكفت "إنَّ" عن العمل كما كفت الفعل عن العمل في نحو: علمت لزيد خيرٌ منك. فلما لم تكفّ "إنَّ" عن أن تعمل في اسمها كما كف الفعل ولم يعلقه؛ علمنا أن التقدير بها التقديم على "إن"، ويقوّي ذلك من (¬9) السمع ¬

_ (¬1) في (أ): (إبهام). (¬2) في (أ): (ذلك)، وهو خطأ. (¬3) في (أ): (بأن). (¬4) في (أ): (وومعه) مهملة، وفي (ظ): (ووقعه)، وفي (د)، (ع): (ووقفه)، ولعل الصواب ما أثبتنا، ففي "الإغفال" 2/ 1067: ووقوعه على "إنَّ" المكسورة في نحو قولك: علمت إنّ زيدًا لمنطلق. (¬5) في (ظ): (فلو) (¬6) في (ظ): (فيها). (¬7) زيادة من "الإغفال" 2/ 1607. (¬8) أيضًا: ليست في (ظ)، (د)، (ع). (¬9) من: ساقطة من (ط).

قولهم: لهنك (¬1) رجل صدق (¬2). فاللام قبل "إنَّ" فتأمَّل هذا الكلام أي على هذا القول (¬3). قال أبو إسحاق: وقالوا أيضًا: إنَّ "يدعو" معه هاء مضمرة وأنَّ "ذلك" من قوله {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ} في موضع رفع و"يدعو" في موضع الحال المعنى: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه. المعنى في حال دعائه إياه، ويكون {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، وخبره {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (¬4). قال أبو علي: إنْ قال قائل: على هذا القول كيف يجوز هذا التأويل في التنزيل وحذف الهاء إنما يسوغ في الصلة والصفة، وليس هذا بصلة ولا صفة؟ والقول عندي أنَّ ذلك غير ممتنع لمضارعة الحال الصفة. ألا ترى أنَّك إذا قلت: جاء زيد راكبًا، فقد فصل راكب بين مجيئين أو أكثر كما أن قولك: جاءني رجل ظريف يفرق بين رجلين أو رجال والحال في هذا كالصفة، فتقدير قوله "ذلك هو الضلال البعيد" يدعو أشير إليه مدعوا (¬5) (¬6). وزاد أبو الفتح الموصلي بيانا لهذا القول فقال: في "يدعو" من قوله {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} هاء منصوبة بـ"يدعو" محذوفة، وتكون الجملة في موضع نصب على الحال من "ذلك" في قوله {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [التقدير: ذلك ¬

_ (¬1) في (أ): (لمعنك). (¬2) (صدق): ساقطة من (أ). (¬3) "الإغفال" 2/ 1051 - 1068 مع تصرّف. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 415 - 416. (¬5) في "الإغفال" 2/ 1069: يدعو على هذا، أشير إليه مدعوًّا. (¬6) "الإغفال" لأبي علي 2/ 1068 - 1069 مع تصرّف.

هو الضلال] (¬1) البعيد مدعوًّا. وغير منكر حذف الهاء من الحال؛ لأنها تضارع الصفة، والصفة يجوز فيها حذف الهاء جوازًا حسنًا، من ذلك قولك: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت. ومن أبيات الكتاب (¬2): أبحتَ (¬3) حِمَى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح (¬4) أي حميته. فعلى هذا تقول: نظرت إلى زيد تضرب (¬5) هند، [أي: ضربه هند] (¬6)، فحذف الهاء من الحال لمضارعتها الصفة. وتكون اللام في "لمن" لام الابتداء و"من" مرفوعة بالابتداء، وقوله "لبئس المولى" خبر "من" كأنَّه قال: للذي ضره أقرب من نفعه لبئس المولى. واللام التي في "لبئس" هي اللام التي يتلقى بها القسم في نحو: لناموا فما إنْ مِنْ رقيب ولا صالي (¬7) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬2) في (أ) زيادة: (فقال)، بعد قوله: (الكتاب). (¬3) في (أ): (أبحب). (¬4) البيت في الكتاب 1/ 87 منسوبًا لجرير، وهو في "ديوانه" 1/ 89. وأمالي ابن الشجري 1/ 5، و"المقاصد النحوية" 4/ 75. قال الشنتمري في "تحصيل عين الذهب" 1/ 45: يخاطب عبد الملك بن مروان فيقول: ملكت .. وأبحت حماها بعد مخالفتها لك، وما حميت لا يصل إليه من خالفك لقوة سلطانك، وتهامة ما تسفل من بلاد العرب ونجد ما ارتفع، وكنى بهما عن جميع بلاد العرب. (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (نظرت)، وهو خطأ. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬7) البيت لامرئ القيس وأوله: حَلَفتُ لها باللهِ حَلْفة فاجرٍ وهو في "ديوانه" ص 32، "سر صناعة الإعراب" 1/ 374, "شرح المفصل" =

وهي تدل على يمين محذوفة، فكأنه قال: للذي ضَرُّه أقرب من نفعه والله لبئس المولى. كما تقول: زيد والله لقد قام. هذا كله كلام أبي الفتح (¬1) في بيان القول الثاني من (¬2) الأقوال التي حكاها الزَّجَّاج. قال الزجاج: وفيه وجه ثالث: يكون "يدعو" في معنى يقول. ويكون "من" في موضع رفع، وخبره محذوف. ويكون المعنى: يقول لمن ضره أقرب من نفعه هو مولاي. ومثل يدعو (¬3) في معنى يقول قول عنترة: يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم (¬4) قال: ويجوز أن يكون يدعو في معنى يسمّى كما قال ابن أحمر (¬5): ¬

_ = لابن يعيش 9/ 20، "لسان العرب" 9/ 53. (حلف)، "همع الهوامع" 2/ 115، "خزانة الأدب" 10/ 71، 78. وعندهم (حديث) مكان (رقيب). والفاجر هنا: الكاذب. والصالي: الذي يصطلي بالنار. (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 402 - 403 مع تقديم وتأخير. (¬2) في (أ): (عين). (¬3) (يدعو): ساقطة من (أ). (¬4) البيت أنشده الزجاج لعنترة في "معاني القرآن" 3/ 416. وهو في ديوانه ص 9216 من معلقته، وفي "لسان العرب" 13/ 237 (شطن) قال الشنتمري في شرحه لديوان عنترة ص 216: (قوله: يدعون عنتر، أي: ينادونني يا ضتر يا عنتر، ... والأشطان: الحبال، شبَّه الرماح بها في طولها واستقامتها. وقوله: في لبان الأدهم: يعني فرسه، واللبان: الصدر، أي: إذا نظر القوم إلى الرماح وقد كثرت وأشرعت في لبان الأدهم نادونني. (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (ابن الأحمر). وهو عمرو بن أحمر بن العمّرد بن عامر، الباهلي، أبو الخطابى شاعر مخضرم، أسلم وغزى مغازي الروم، وعُمِّر تسعين سنة، ومات نحو 65 هـ. =

أهوى لها مشقصا حشرًا (¬1) فشبرقها ... وكنت أدعو قذاها الإثمد القردا (¬2) ووجه هذا القول كوجه الذي قبله (¬3). انتهت الحكاية عنه. قال أبو علي: أقول إنَّ الدعاء بمعنى القول سائغ، وهذا الوجه الذي أجازه ممكن، أعني أن يصرف يدعو إلى معنى يقول فيحكى (¬4) ما بعدها إذا (¬5) كان في معنى القول وضربًا منه، واللام في "لمن" لام ابتداء، ¬

_ = "الشعر والشعراء" 223، "معجم الشعراء" للمرزباني ص 24، "الإصابة" 3/ 112، "الأعلام" 5/ 72. (¬1) في (أ): (حش)، وفي (ظ): (فردا). (¬2) اليت أنشده الزجاج لابن أحمر في "معاني القرآن" 3/ 416. وهذا البيت ضمن أبيات قالها ابن أحمر لما رماه رجلٌ يقال له مخشي بسهم فذهبت عينه، فقال: شلت أنامل مخشي فلا جبرت ... ولا استعان بضاحي كفِّه أبدا أهوى لها ... وهو في "ديوانه" ص 49، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 13، "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 223، "المعاني الكبير" لابن قتيبة أيضًا 2/ 988، والطبري 16/ 131. والمشقص: نصل السهم، أو السهم الذي فيه نصل طويل أو عريض. حَشْر: لطيف القُذذ وهي الريش قد بُريت وحدّدت وسويت. شبرقها: مزّقها، أدعو: أسمّي، الإثمد: الكحل، القرد: المتلبِّد. انظر "لسان العرب" 4/ 192 (حشر)، 10/ 171 (شبرق)، 3/ 348 (قرد)، "تاج العروس" 18/ 15 - 16 (شقص)، 7/ 468 (ثمد). قال ابن قتيبة في "المعاني الكبير" 2/ 988: يقول: كنت من إشفاقي عليها أسمي ما يصلحها -يعني الإثمد- قذى، فكيف ما يؤذيها؟ وقوله: أدعو: أسمِّي. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 416. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (فيحلى). (¬5) في "الإغفال" 2/ 1071: إذْ.

وموضع "من" رفع، والخبر مضمر. ولا يجوز أن يكون الخبر {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أعني خبر "لمن" لأن الكافر المتمسك بعبادة الأصنام لا يقول للصنم لبئس المولى (¬1). وزاد أبو الفتح لهذا القول بيانًا فقال: "يدعو" بمنزلة (¬2) يقول، أي يقول لمن ضره أقرب من نفعه إله (¬3) أو رب، فتكون "من" (¬4) مرفوعة بالابتداء، وخبرها محذوف مقدر، ويدل على أن "يدعو" بمنزلة يقول قول عنترة: يدعون عنترة أي يقولون: يا عنترة، فدل يدعون عليها. فإن قيل: فلم جعلوا خبر "من" محذوفا دون أن يكون قوله {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} كما أجزتم في القول الثاني؟ قيل: إنَّ الكفار ليسوا (¬5) يقولون لمن يدعونه إلها: لبئس المولى، ولو قالوا ذلك لما عبدوه. ومعنى {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} ذم لمعبودهم لا على الحكاية عنهم ولكن على الإخبار، أخبر الله تعالى أن من ضره أقرب من نفعه فإنَّه بئس المولى. فإنْ قيل: فإذا كان الأمر كذلك فكيف جاز أن يقول يدعو بمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إله، والكافر لا يقول ذلك؟ قيل: إنَّ ذلك على حكاية (¬6) قولنا (¬7) نحن فيه أي يقول لمن ضره أقرب من نفعه عندنا وفي قولنا إله عنده. ¬

_ (¬1) "الإغفال" لأبي علي الفارسي 2/ 1071 - 1072 مع تصرف. (¬2) في (أ): (يميله). (¬3) إله: ساقطة من (ظ). (¬4) من: ساقطة من (أ). (¬5) (ليسوا): ساقطة من (ظ). (¬6) في (ظ)، (د)، (ع): (الحكايهَ). (¬7) في (ظ): (وقولنا).

وقد جاءت هذه الحكاية عنهم مجيئًا واسعًا من ذلك قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وقوله: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] وقالوا هذا بعد إيمانهم وتقديره: يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرًا، فأمَّا نحن فنعلم (¬1) أنك لست بساحر. انتهى كلامه (¬2). وهذا القول -أنَّ "يدعو" بمعنى: يقول- هو قول الأخفش ذكره في كتابه (¬3)، واختيار المبرّد. قال المبرد: يدعو بمعنى: يقول، كقول (¬4) القائل: ما يدعى فلان فيكم أي: ما يقال له. فمعناه: يقول لمن ضره أقرب من نفعه إله، فالخبر (¬5) محذوف لما دل عليه من قوله "يدعو من دون الله". قال أبو علي: فأما قوله: يجوز أن يكون يدعو (¬6) في معنى يسمى، فقدل ممتنع غير جائز في الآية وقد أجاز سيبويه فقال: يقول دعوته زيدًا إذا أردت مني سميته فتعديه إلى مفعولين (¬7). والذي منع من (إجازة ذلك في الآية دخول لام (¬8) الابتداء في الكلام وإذا حمله على هذا التأويل لزمه ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (نعلم). (¬2) "سر صناعة الإعراب" 1/ 404 - 406 مع تقديم وتأخير وتصرّف. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 635 - 636. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (كما يقول القائل). (¬5) في (ظ): (والخبر). (¬6) في (أ): (يدعوه). (¬7) "الكتاب" 1/ 37. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (اللام).

أن] (¬1) يعلقه, لأنّه لا يعمله في اللفظ. والتعليق (¬2) فيه لا (¬3) يجوز؛ لأنَّ التعليق إنَّما يجوز فيما (¬4) يجوز فيه الإلغاء (¬5)، وهو علمت وبابه، ولو جاز التعليق (¬6) في سمَّيت لجاز أن تقول: سميت (¬7) أخوك زيد، كما تقول: علمت لزيد منطلق. وهذا قول الخليل وسيبويه وجميع البصريين (¬8). إذ التعليق لا يجوز فيما عدا علمت وبابه، والبيت الذي أنشده يجوز أن يكون يدعو فيه بمعنى يسمى؛ لأنه لا شيء فيه يمنع من ذلك كما منع منه في الآية دخولُ اللام. ألا ترى أنَّ (¬9) قوله: وكنت أدعو قذاها الإثمد القردا أنه بمنزلة (¬10) "كنت أدعو أخاك زيدًا". فلا يجوز أن يكون يدعو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين في حاشية (د)، وعليه علامة التَّصْحيح. (¬2) التعليق: هو إبطال عمل الفعل القلبي لفظًا لا محلاً لمانع، وسمي تعليقًا لأنه إبطال في اللفظ مع تعليق العامل بالمحل وتقدير إعماله. انظر: "شرح التسهيل" لابن عقيل 1/ 368 - 369، و"همع الهوامع" للسيوطي 1/ 155، "معجم المصطلحات النحوية" لمحمد اللبدي ص 155. (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (فلا). (¬4) في (أ): (فيها)، وهو خطأ. (¬5) الإلغاء: هو إبطال العمل لفظًا ومحلاً لغير مانع لضعف العامل. انظر: "شرح التسهيل" لابن عقيل 1/ 364، "همع الهوامع" 1/ 153، "موسوعة النحو والصرف" لإميل بديع ص 261. (¬6) في (د)، (ع): (التعلق). (¬7) انظر: "الإغفال" 2/ 1078. (¬8) انظر: الكتاب 3/ 149، "شرح المفصل" لا بن يعيش 7/ 86، "أوضح المسالك" لابن هشام 1/ 313 - 317، "همع الهوامع" للسيوطي 1/ 153 - 154. (¬9) في (ظ): (إلي). (¬10) في (ظ)، (د)، (ع). (بمعنى كنت).

بمعنى يسمى في الآية كما جاز [في تأويله الذي] (¬1) في (¬2) هذا البيت (¬3). قال أبو إسحاق: وفيها وجه رابع -وهو الذي أغفله الناس-: أنَّ "ذلك" في موضع نصب بوقوع "يدعو" عليه، ويكون "ذلك" في تأويل الذي، ويكون المعنى: الذي هو الضلال البعيد يدعو، ويكون {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} مستأنفًا. وذا مثل قوله {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] على معنى: ما التي بيمينك؟ (¬4). قال أبو علي: وهذا الوجه هو الحسن، أعني أن يتأوّل (¬5) "ذلك" بمعنى "الذي"، ويجعل قوله "هو الضلالة البعيد" صلته، ويجعل (¬6) الموصول في موضع نصب (¬7)، فتكون اللام حينئذٍ داخلاً (¬8) على اسم مبتدأ موصول، وقوله {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} في موضع رفع لوقوعه خبر المبتدأ، واللام التي في (¬9) قوله {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} لام اليمين، وهي التي إذا دخلت على المضارع لزمته النون، وهذا ما يجب أن تحمل الآية عليه (¬10) (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬2) (في): ساقطة من (أ). (¬3) "الإغفال" للفارسي 2/ 1073 - 1078 مع تصرف. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 30/ 416. (¬5) في (أ): (تناول)، وهو خطأ. (¬6) في (ظ): (ويحتمل). (¬7) في "الإغفال": نصب بيدعو. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (داخلٌ)، وهو خطأ، وفي الإغفال: فتكون اللام حينئذ داخلة. (¬9) (في): ساقطة من (ظ). (¬10) في (ظ)، (د)، (ع): (ما يجب على الآية). (¬11) "الإغفال" للفارسي 2/ 1062 - 1063 مع تصرف.

وتعقَّب الموصلي هذا القول وزاده بيانًا، وقال: وجه هذا القول أن تجعل "ذلك" بمنزلة "الذي" وتجعل الجملة التي هي قوله {هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} صلة له، وتنصب (¬1) "ذلك" التي بمعنى "الذي" بيدعو، فيصير التقدير: يدعو الذي [هو الضلال البعيد، ثم تقدم المفعول الذي] (¬2) هو "الذي"، فصار كما تقول: زيد يضرب (¬3)، و"ذلك" قد استعملت بمعنى "الذي" نحو قوله {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219] فيمن رفع الجواب فقال "قل العفو" (¬4). وقد ذكرنا هذا فيما تقدَّم. هذا الذي ذكرنا هو الأقوال التي ذكرها أبو إسحاق في كتابه، وكلام الإمامين أبي علي وأبي الفتح عليها. ثم ذكر أبو علي -من عند نفسه- قولاً خامسًا وهو: أن تجعل يدعو في قوله {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} تكرارًا للفعل الأول على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء من فاعله، ولا تعديه إذ قد عديته مرة. هذا كلامه (¬5). وشرحه أبو الفتح فقال: يجعل (¬6) "يدعو" تكرارًا و"يدعو" الأولى وهو قوله {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وترك إعمال الثاني؛ لأنَّها قد أعملت متقدمة، فاستغني فيها عن إعادة العمل، كما تقول: ضربت زيدًا ضربت. حكى ذلك ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (وانتصب)، والمثبت من (أ)، و"سر صناعة الإعراب". (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬3) العبارة في "سر صناعة الإعراب": ثم يقدم المفعول الذي هو "الذي" فيصير التقدير: الذي هو الضلال البعيد يدعو، كما تقول: زيدًا يضرب. و"ذا" .. (¬4) "سر صناعة الإعراب" لابن جني 1/ 403. (¬5) "الإغفال" للفارسي 2/ 1062. (¬6) (يجعل): ساقط من (ظ)، (د)، (ع)،

سيبويه، وتكون اللام في "لمن" لام الابتداء و"من" مرفوعة بالابتداء، وقوله "لبئس المولى" خبر "من" (¬1) (¬2). على ما بينا في القول الثاني. وقال الفراء -في هذه الآية-: جاء التفسير: يدعو من ضره أقرب من نفعه، وكذا هو في قراءة عبد الله (¬3) "يدعو من ضره" وقد حالت اللام بين الفعل والمفعول في قراءة العامة. ولم نجد العرب تقول: ضربت لأخاك، ولا رأيت لزيدًا. وترى أن جواز ذلك في الآية لأن "من" حرفٌ لا يتبين فيه (¬4) الإعراب؛ فاستجيز الاعتراض باللام دون الاسم. وذكر عن العرب أنَّهم قالوا: عندي لما غيره خير منه، فحالوا باللام دون الرافع، وموقع اللام كان ينبغي أن يكون في "ضره" (¬5) وفي قولك: عندي ما لغيره خير منه. فهذا وجه (¬6). واعتمد ابن الأنباري هذا فذكره في كتاب "الوقف والابتداء" (¬7). وأما معنى الآية: فقال السدي: ضره في الآخرة بعبادته (¬8) إياه أقرب من النفع (¬9). ¬

_ (¬1) في (ظ): (خبره من ضره)، وفي (د)، (ع): (خبر من ضره). (¬2) "سر صناعة الإعراب" 1/ 402 - 403. (¬3) انظر: الطبري 17/ 124، "الشواذ" لابن خالويه ص 94، الثعلبي 3/ 48 أ، القرطبي 12/ 20، "البحر المحيط" 6/ 357. (¬4) في (أ): (فيها). (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (خبره)، وهو خطأ. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 217. وتتمته: هذا وجه القراءة للاتّباع. (¬7) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 871. (¬8) في (أ): (بعبادة)، وهو خطأ. (¬9) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 15.

قال الزَّجَّاج: فإن قال قائل: كيف يقال {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ولا نفع (¬1) من قبله ألبَتَّة. فالعرب تقول لما لا يكون: هذا بعيد. والدليل على ذلك قوله {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] هذا كلامه (¬2). ومعنى هذا (¬3): أنه لما كان يقال لما لا يكون هذا بعيد، فنفع الصنم بعيد؛ لأنه لا يكون، فلمَّا كان نفعه بعيدًا قيل لضره أنَّه (¬4) أقرب من نفعه، على معنى أنَّه كائن (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (ولا يقع)، وهو خطأ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 415. (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (ومعنى الآية هذا). (¬4) أنه: ليست في (ظ)، (د)، (ع). (¬5) ذكر البغوي في "تفسيره" 5/ 369 أن هذه الآية -يعني قوله {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} من مشكلات القرآن ثم قال: وفيها أسئلة. أولها: قالوا: قد قال الله في الآية الأولى "يدعو من دون الله ما لا يضره" وقال -هاهنا- "لمن ضره أقرب من نفعه" فكيف التوفيق بينهما؟. وللعلماء أجوبة أخرى أقربها جوابان: الأول: ما ذكره أبو حيان في البحر 6/ 355 بقوله: ونفى هنا التفسير والنفع وأثبتهما في قوله "لمن ضره أقرب من نفعه" وذلك لاختلاف المتعلق، وذلك أن قول "ما لا ينفعه" هو الأصنام والأوثان ولذلك أتى التعبير عنها بـ"ما" التي لا تكون لآحاد من يعقل، وقوله "يدعو لمن ضره" هو من عبد باقتضاء وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون مما ينادى به رب العالمين من التسبيح والتقديس، فهؤلاء -وإن كان منهم نفع مّا لعابديهم في دار الدنيا- فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم إذْ هم في الدنيا مملوكون للكفّار وعابدون لغير الله، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم، ولهذا كان التعبير هنا بـ"من" التي هي لمن يعقل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = قال الشنقيطى في "أضواء البيان " 5/ 47 - بعد ذكره لجواب أبي حيان-: وله اتجاه. ثم ذكر البغوي قول السدي وكلام الزجاج من غير نسبة لهما، واقتصر عليه. الثاني: ما ذكره أبو العباس ابن تيمية في الفتاوى 15/ 269 - 275 وخلاصة جوابه: أن قوله تعالى: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} هو نفي لكون المدعو المعبود من دون الله يملك نفعا أو خيرا، وهذا يتناول كل ما سوى الله من الملائكة والبشر والجن والكواكب والأوثان كلها، فما سوى الله لا يملك -لا لنفسه ولا لغيره- ضرا ولا نفعا، كما قال الله تعالى في سياق نهيه عن عبادة المسيح {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]. وقد قال لخاتم الرسل {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]. وقال على العموم {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]. فالمنفي في قوله {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} هو قدرة من سوى الله على النفع والضر، فنفى الله فعلهم، وأما قوله "ضره أقرب من نفعه" فالمثبت اسم مضاف إليه فإنّه لم يقل: يضر أعظم مما ينفع، بل قال "لمن ضره أقرب من نفعه" والشيء يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسه، فقد يضاف إلى محله وزمانه ومكانه وسبب حدوثه وإن لم يكن فاعلا كقوله {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، وكقول الخليل عن الأصنام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] فنسب الإضلال إليه. ولا ريب أن بين المعبود من دون الله وبين ضرر عابديه تعلق يقتضي الإضافة. فما يدعى من دون الله هو لا ينفع ولا يضر، ولكن هو السبب في دعاء الداعي له وعبادته إياه. وعبادة ذلك ودعاؤه هو الذي ضره، فهذا الضر المضاف إليه غير الضر المنفي عنه. فضرر العابد له بعبادته يحصل في الدنيا والآخرة وإن كان عذاب الآخرة أشد. اهـ. وقد ارتضى هذا الوجه في الجمع ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 17/ 216 حيث قال: ولما كان الضُرّ الحاصل من الأصنام ليس ضرًا ناشئا عن فعلها بل هو =

14

وقوله {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي: الناصر {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي: الصاحب والمخالط. قال المبرد: والعشير: المعاشر وهو المخالط. والعشيرة تأويلها: المجتمعة إلى أب واحد. وقولهم: بُرمة (¬1) أعشار، إنما هي كسور عن أصل واحد (¬2). ولما ذكر الشاك في الدين بالحيرة (¬3) والرجوع إلى الكفر، وذمه بالخسران وعبادة ما لا ينفعه، ذكر (¬4) ثواب المؤمنين فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. 14 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} قال ابن عباس: يريد أوليائه وأهل طاعته. وقال غيره: {يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيعطي ما شاء (¬5) من كرامته أهل طاعته، ¬

_ = ضر ملابس لها أثبت التفسير بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذْ قال تعالى: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ولم يقل: لمن يضر ولا ينفع. لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تنافي بين قوله "ما لا يضره" وقوله "لمن ضره". اهـ. (¬1) في (أ): (تُرمه)، وهو خطأ. والبُرْمة: قدر من حجارة. "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 220 (برم). وفي "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 411 (عشر): (والعرب تقول: بُرمة أعشار، أي متكسرة. (¬2) انظر (عشر) في: "تهذيب اللغة" 1/ 411، "الصحاح" 2/ 747، "لسان العرب" 4/ 574. (¬3) في (ظ): (بالخير). (¬4) في (ظ): (وذكر). (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (وقوله).

15

وما شاء (¬1) من الهوان أهل (¬2) معصيته (¬3). وهذا يدل على تكذيب (¬4) من (¬5) زعم أن المؤمن يدخل الجنة باستيجابة (¬6) ذلك على الله بطاعته (¬7). وعلى تصديق قول (¬8) الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لن يدخل الجنة أحدٌ إلا برحمة الله" (¬9). ورحمته: إرادته الخير (¬10). 15 - قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أكثر أهل التفسير على أن الهاء في (ينصره) كناية عن محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬11). ¬

_ (¬1) في (ظ): (يشاء)، في الموضعين. (¬2) في (ظ): (لأهل). (¬3) هذا قول الطبري 17/ 125 بنصه. (¬4) (تكذيب): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (أن)، وهو خطأ. (¬6) (باستيجابة) مهملة في (أ)، (ظ)، (د)، والمثبت من (ع). (¬7) هذا قول المعتزلة. انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني 1/ 45. (¬8) (قول): ساقطة من (ظ). (¬9) روي هذا الحديث بعدة ألفاظ، أقربها إلى لفظ المصنف رواية الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 390 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه البخاري في "صحيحه" كتاب: المرضى، باب: تمني المريض الموت 10/ 127، ومسلم في "صحيحه" كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: لن يدخل أحد الجنة بحمله، بل برحمة الله 4/ 2170 بلفظ: "لن يُدْخِل أحدًا منكم عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: "ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة". (¬10) هذا تأويل. والصواب أن الرحمة صفة من صفات الله وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله. فنثبتها لله سبحانه من غير تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل. (¬11) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 48 ب وانظر الطبري 17/ 125 - 127.

قال ابن عباس: يريد أن لن ينصر الله محمدًا (¬1). وهو قول قتادة (¬2)، والسدي، والكلبي (¬3)، وابن زيد (¬4)، واختيار الفراء والزجاج. قال الزجاج: أي من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظًا، وهو تفسير قوله {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (¬5) فليشدد حبلاً في سقفه (¬6) {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي: ليمد الحبل حتى ينقطع (¬7) فيموت مختنقًا (¬8). وقال الفراء: من كان منكم يظن أن الله لن ينصر محمدًا (¬9) بالغلبة حتى يظهر دين الله فليجعل في سماء بيته حبلاً ثم ليختنق، فذلك قوله {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (¬10) أي: اختناقًا. وفي قراءة عبد الله (ثم ليقطعه) يعني السبب (¬11). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 126 - 127، والحاكم في "مستدركه" 2/ 386، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 15 وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 33، والطبري 17/ 126. (¬3) ذكره عن السدي والكلبي الرازي 23/ 15، وأبو حيان في "البحر" 6/ 357. (¬4) رواه الطبري 17/ 126، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 16. (¬5) في (ظ): (من)، وهو خطأ. (¬6) في (أ): (شقفه). (¬7) في (ظ) زيادة: (الحبل)، بعد قوله (ينقطع)، وليست عند الزجاج. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 417. (¬9) العبارة في (ظ)، (د)، (ع): (أن لن ينصر الله محمدا)، وما أثبتنا من (أ) هو الموافق لمعاني الفراء. (¬10) في (ظ)، (د)، (ع) زيادة: (فذلك) بعد قوله: (ثم ليقط) , ولا معنى لها. (¬11) "معاني القرآن" للفراء 2/ 218.

وعلى هذا القول النصر معناه: حسن المعونة وعون المظلوم والإظهار بالغلبة. ومعنى (فليقطع) فليختنق في قول جميع المفسرين (¬1). ووجه ما ذكره (¬2) الزجاج والفراء أنه يقطعه بجذبه إياه حتى ينقطع، فيموت اختناقًا. وذكر الأزهري وجها آخر فقال: أجمع المفسرون على أن تأويل قوله {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ثم ليختنق، وهو محتاج إلى شرح يزيد في بيانه، ومعنى {لْيَقْطَعْ} ليمد الحبل مشدودًا على حلقه مدًا شديدًا حتى يقطع (¬3) حياته ونفسه خنقًا (¬4). وعلى هذا معنى {لْيَقْطَعْ} ليقطع نفسه. والقول هو الأول، ويدل عليه قراءة عبد الله (ليقطعه) بالهاء الراجع إلى السبب. قال الأزهري: والمعنى: فليختنق غيظًا حتى يموت، فإن الله (¬5) مظهره ولا ينفعه غيظه (¬6). ¬

_ (¬1) القول بأن معنى (فليقطع) فليختنق في قول جميع المفسرين محل نظر، فقد قيل (فليقطع) أي فليقطع النصر أو الوحي عن محمد -صلى الله عليه وسلم- إن تهيأ له ذلك. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 90، "النكت" للماوردي 4/ 12، "زاد المسير" 5/ 414. (¬2) في (أ): (ذكرناه)، وهو خطأ. (¬3) في (ظ): (تنقطع). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 188 (قطع). (¬5) لفظ الجلالة لم يرد في (د)، (ع). وفي (ظ): (فإنه مظهره). (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 160 (نصر) وفي المطبوع: ولا ينفعه موته خنقًا. وفي "اللسان" 5/ 210: ولا ينفعه غيظه وموته خنقًا. فيظهر أن (غيظه) ساقطة من المطبوع.

قوله تعالى: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} أي: صنيعه وحيلته {مَا يَغِيظُ} (ما) بمعنى المصدر، أي: هل يذهبن كيده غيظه؟ ويجوز أن يكون (ما) بمعنى: (الذي)، والمعنى (¬1): هل يذهبن كيده الذي يغيظه؟ (¬2). والأول قول الفراء والزجاج (¬3). ويقال: غظتُ فُلانًا أغيظُه غَيْظًا (¬4). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: غاظهُ وأغَاظَهُ وغَيَّظه بمعنى واحد (¬5). وشرح ابن قتيبة هذه الآية على هذا القول بأبلغ بيان فقال: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطؤون ما وعد الله رسوله (¬6) من النصر، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يتم له أمره، فقال الله {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على مذهب العرب في الإضمار لغير مذكور (¬7)، وهو يسمعني أعده النصر والإظهار والتمكين، أو كان (¬8) يستعجل به قبل الوقت الذي قضيت أن يكون ذلك فيه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} أي: بحبل {إِلَى السَّمَاءِ} يعني سقف البيت، وكل شيء علاك (¬9) وأظلك فهو سماء، والسحاب: سماء، يقول ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (وهو المعنى). (¬2) "تفسير الطبري" 17/ 128، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 48 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 218، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 417. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 173 (غاظ) نقلاً عن الليث. وهو في "العين" 4/ 439 (غيظ). (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 173 (غاظ) عن ثعلب، عن ابن الأعرابي. (¬6) في (أ): (ورسوله)، وما أثبتناه هو الموافق للمشكل ص 358. (¬7) العبارة في (ظ)، (د)، (ع): (لغيره في الإضمار مذكور. وهي عبارة غير مفهومة. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (إذ كان)، وفي "المشكل" ص 358: (وإن كان. (¬9) في (أ): (وكل ما علاك)، والمثبت هو الموافق للمشكل ص 358.

الله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} (¬1) [ق: 9]، وقال سلامة بن جندل (¬2) يذكر قتل (¬3) كسرى النعمان (¬4): هُوَ المُدْخِلُ النُّعمانَ بيتًا سماؤه نُحورُ ... الفُيول (¬5) بعد بَيْتِ مُسَرْدَق (¬6) ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (وأنزلنا)، وهو خطأ. (¬2) هو: سلامة بن جندل بن عبد عمرو، من بني كعب بن سعدة التميمي، أبو مالك. شاعر جاهلي قديم، وهو من فرسان تميم المعدودين، في شعره حكمة وجودة، وهو ممن يصف الخيل فيحسن. "طبقات فحول الشعراء" 1/ 155، "الشعر والشعراء" ص 166، "خزانة الأدب" 4/ 29، "الأعلام" للزركلي 3/ 106. (¬3) في (أ): (قبل)، وفي (د): (قبل): بإهمال ثانية. ومهملة في (ظ)، (ع). (¬4) هو: النعمان بن المنذر بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، أبو قابوس. من أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية، ملك الحيرة بعد أبيه، وكانت متابعة للفرس، وهو صاحب إيفاد العرب على كسرى، نقم عيله كسرى أمرًا فعزله وسجنه حتى مات، وقيل ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته، فهلك نحو 15 ق. هـ. انظر: "الكامل" لابن الأثير 1/ 246، "البداية والنهاية" 1/ 199، "الأعلام" للزركلي 8/ 43. (¬5) في (أ): (القبول). (¬6) البيت أنشده ابن قتيبة لسلامة في "مشكل القرآن" ص 358. وهو في "ديوانه" ص 184، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 399 ومنه (المولج) في موضع (المدخل)، و (صدور) في موضع (نحور). والطبري 15/ 238 بمثل رواية أبي عبيدة، و"لسان العرب" 10/ 158 وفيه صدور). وبيت مُسردق: هو أن يكون أعلاه وأسفله مشدود كله. "لسان العرب" 10/ 158 (سردق) "القاموس المحيط" 3/ 244.

يعني: سقفه، وذلك أنه أدخله بيتًا فيه فيلة فتوطأته حتى قتلته (1). وقوله (¬2) {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قال المفسرون: ليختنق. وقوله {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (¬3) هل يذهب ذلك ما (¬4) في قلبه؟. وفعل هذا رجل وَعَدْتَه شيئًا مرة بعد مرة، ووكدت على نفسك الوعد (¬5)، وهو يراجعك في ذلك، ولا تسكن نفسه إلى قولك، فتقول له: إن كنت لا تثق بما أقول، فاذهب فاختنق (¬6). تريد: اجهد جهدك. هذا معنى قول المفسرين. انتهت الحكاية عنه (¬7). ومعنى {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} إلي آخر الآية إنما أمر بالخنق لا على وجه الإلزام، ولكن (¬8) إشارة إلى أنه لا حيلة له، وليس يتوصل إلى تقديم النصر قبل وقته، وإخراج ما يظن من (¬9) أن محمدًا -عليه السلام- لا ينصر عن قلبه فلم يبق له (¬10) إلا الخنق ليستريح (¬11) من غيظه بتأخر النصر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قال الشاعر: ¬

_ في (أ): (فيه قبله)، وانظر قصة قتل كسرى للنعمان في: "الكامل" لابن الأثير 1/ 287 - 289، "خزانة الأدب" للبغدادي 3/ 383 - 386. (¬2) في (أ): (قوله). (¬3) من بعد (فلينظر) ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬4) في (ظ): (مما). (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (الوعيد)، وهو خطأ. (¬6) في (أ): (واختنق). (¬7) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 358 - 359 مع اختلاف يسير. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (لكن). (¬9) (من): زيادة من (أ). (¬10) (له): ليست في (ظ)، (د)، (ع). (¬11) في (أ): (لتستريح).

إنْ كنت لا ترضى بما قد ترى (¬1) ... فدونك الحبل به فاختنق (¬2) أي: لا سبيل إلى تغييره (¬3)، فإنْ غاظك ما تراه ولا ترضاه فخذ الحبل واختنق حتى تستريح. وذُكر أنَّ هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان (¬4) تباطؤوا عن الإسلام، وقالوا نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا (¬5) ولا يؤوننا، فنزلت هذه الآية ذما لهم على هذا الظن واستعجالهم ما (¬6) قد وعدهم (¬7) الله (¬8). ولابن زيد طريق آخر في تفسير هذه الآية، وهو أن جعل السماء في ¬

_ (¬1) في (أ): (إن كنت لا ترى بما قد ترضى)، وهو خطأ. (¬2) لم أهتد لهذا البيت. (¬3) مهملة في (أ). (¬4) أسد: قبيلة عظيمة، تنسب إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهذه ذات بطون كثيرة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 11، 479، "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" للقلقشندي ص 47 - 48، "معجم قبائل العرب" لكحالة 1/ 21. وغطفان: بطن عظيم متسع كثير الأفخاذ، وهم بنو غطفان بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. انظر: "الجمهرة" ص 248، "نهاية الأرب" ص 348، "معجم قبائل العرب" لكحالة 3/ 888 - 889. (¬5) يميروننا: يعني: يجلبوا لنا الطعام. "لسان العرب" 5/ 188 (مير). (¬6) في (ظ): (بما). (¬7) في (أ): (وعده). (¬8) ذكره الطبري 17/ 128 من غير سند، وذكره ابن الجوزي 5/ 412 عن مقاتل. وهو في "تفسير مقاتل" 2/ 21 أ.

قوله {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} السماء المعروفة، وقال: معناه: من كان يظن (¬1) أن لن ينصر الله نبيه، ويكايده (¬2) في أمره، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه، فإن أصله في السماء، فذلك قوله {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي الذي يأتيه من الله، فلينظر هل يقدر على إذهاب (¬3) غيظه بهذا الفعل؟ (¬4). وهذا التفسير لا يوافق معنى قوله {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} (¬5) لأن من ظن ذلك لا يقال له: إن كنت تظن أنه غير منصور فاقطع النصر عنه. ولو كان أول الكلام: من يغيظه أن ينصره الله، أو ما أشبه هذا؛ حج (¬6) تفسير ابن زيد، وليس في أوائل (¬7) الآية: من أراد أن يكايده، أو يقطع النصر عنه، أو شيء من هذا المعنى الذي بني ابن زيد تفسير باقي الآية عليه. هذا الذي ذكرنا كله على قول من يقول الهاء في (ينصره) كناية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومذهب مجاهد والضحاك (¬8): أن الهاء كناية عن (من) في قوله {مَنْ كَانَ}. ¬

_ (¬1) في (أ): (نظر)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (لكابده). (¬3) في (أ): (ذهاب). (¬4) ذكر عنه بهذا اللفظ الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 48 ب. وقد رواه الطبري 17/ 126، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 16 بنحوه. (¬5) في (أ): (بنصر الله): وهو خطأ. (¬6) في (أ): (أصح)، وهو خطأ. (¬7) في (ظ)، (د)، (ع): (أواخر). (¬8) يظهر أن الواحدي اعتمد في نسبة هذا القول على الطبري، فقد قال الطبري في "تفسيره" 17/ 127: وقال آخرون: الهاء في (ينصره) من ذكر (من) ... ثم قال =

قال مجاهد: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} أن لن يرزقه الله (¬1). وهذا القول هو اختيار أبي عبيدة، قال: {أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} أن لن يرزقه (¬2). قال: ووقف علينا رجل من بني أبي بكر (¬3) بن كلاب فقال: من ينصرني نصره الله. أي: من يعطيني أعطاه الله. وأنشد للراعي: ¬

_ = الطبري: ذكر من قال ذلك. ثم ذكر الطبري آثارًا عن مجاهد وغيره، ثم قال 175/ 128: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فليمدد بسبب) يعني: بحبل (إلى السماء) يعني: سماء البيت. أهـ. والنص -كما ترى- ليس فيه ما يدل على أن الضحاك يرى أن الهاء عائدة إلى (من). وقد جاء عن الضحاك ما يخالف ما نسب إليه، فقد روى عبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 6/ 16 عنه في الآية قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا، فليجعل حبلاً في سماء بيته، فليختنق به، فلينظر هل يغيظ ذلك إلا نفسه؟. (¬1) رواه الطبري 17/ 127، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 15 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. (¬2) في (د)، (ع): (أن لن ينصره) أن لن يرزقه. (¬3) في المطبوع من "المجاز" 2/ 46، بني بكر، وأشار المحقق إلى أنه في نسخة: بني أبي بكر. وما ذكره الواحدي هنا من قوله (ابن كلاب) ليس في المجاز لأبي عبيدة فيحتمل أن يكون السائل من بني أبي بكر -كما وقع في إحدى نسخ المجاز وكما نسبه الواحدي إلى بني أبي بكر ابن كلاب- وهو كما قال ابن الأثير في تهذيب الأنساب 1/ 170 نسبة إلى أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، واسمه عبيد، ينسب إليه كثير. أهـ. ويحتمل أن يكون السائل من بني بكر -كما وقع في بعض نسخ المجاز- وهو كما قال ابن الأثير (1708) نسبة إلى بكر بن وائل، أبو بكر بن عبد مناة من كنانة بن خزيمة، أو بكر بن عوف بن النخع. وقد وقع عند ابن الجوزي 5/ 4، والرازي 17/ 23، وأبي حيان 3/ 357، والشنقيطي 5/ 51، من بني بكر.

أبوك الذي أجْدى عليَّ بَنَصْرِهِ ... فأنْصت عنّي بعده كُلَّ قائل (¬1) وأصل هذا من قولهم: نصرت السماء أرض كذا، إذا سَقَتْها (¬2). قال أبو عبيد: نُصَرت البلاد، فهي منصورة. ونُصِرَ القوم، إذا غِيثُوا (¬3). وأنشد (¬4): من كان أخْطاه الربيع فإنّما ... نُصرَ الحجاز بغَيث عبد الواحد (¬5) قال ابن قتيبة -على هذا القول-: كأنه يريد من كان قانطا من رزق الله ورحمته فليفعل ذلك الذي ذكره (¬6) من الاختناق، ولينظر هل يذهب كيده - ¬

_ (¬1) البيت أنشده أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 25/ 46 - 47. وهو في "ديوانه" ص 209 من أبيات يمدح بها يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وفيه (فأسكت) في موضع (فأنصت). و"الاشتقاق" لابن دريد ص 110 وفيه (فأسكت). وهو من غير نسبة في: "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 155، و"اللسان" 2/ 99، و"تاج العروس" 5/ 123 (نصت). (¬2) انظر (نصر) في: "تهذيب اللغة" 12/ 160، "الصحاح" 2/ 829، "لسان العرب" 5/ 211. (¬3) هكذا في جميع النسخ و"اللسان" لابن منظور 5/ 211. وفي المطبوع من "تهذيب الأزهري": أعيثوا. (¬4) في (أ): (وأنشد الشاعر فقال). (¬5) قول أبي عبيد وإنشاده في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 159 - 160 منسوبًا إليه. والبيت لابن ميادة يمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك. وهو في "ديوانه" ص 112)، و"الوحشيات" (الحماسة الصغرى) لأبي تمام ص 270، وفيه: (يجود) في موضع (يغيث). ومن غير نسبة في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 160 (نصر)، و"المخصص" لابن سيدة 9/ 121، و"اللسان" 5/ 211 (نصر). (¬6) في (أ): (ذكر).

أي: حيلته- غيظه لتأخر الرزق عنه؟ (¬1). وقوله: {مَا يَغِيظُ} يعني حنقه أن لا يرزق. وهذا ذم على سوء الظن بالله. وفي قوله {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قراءتان: كسر اللام وتسكينها (¬2). والأصل (¬3) الكسر عند الابتداء، فإذا تقدمها الواو والفاء أو (ثم) (¬4) فمن أسكن مع الفاء (¬5) والواو فلأنهما (¬6) يصيران كشيء من نفس الكلمة؛ لأن كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه. فسكن اللام، كما ذكرنا فيمن سكن (وهي) (فهي) (¬7) (¬8). وأما (ثم) فإنه ينفصل بنفسه ويسكت عليه، فليس في هذا كالفاء والواو [ولهذا لم يسكن أبو عمرو بعد (ثم). ومن سكن بعده شبه الميم من (ثم) بالواو والفاء] (¬9) وجعله كقولهم: (أراك (¬10) منتفخًا). وعلى ¬

_ (¬1) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 365. وليس فيه: الذي ذكره من الاختناق. (¬2) قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وورش عن نافع: (ثم ليقطع) بكسر اللام، وقرأ الباقون بسكون اللام: (ثم ليقطع). "السبعة" ص 434 - 435، "التبصرة" ص 265، "التيسير" ص 156، "الإقناع" 2/ 705. (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (فالأصل). (¬4) في (أ): (وثم)، والمثبت من باقي النسخ هو الموافق لما في الحجة. (¬5) في (أ): (مع الواو والفاء). (¬6) في (ظ): (فإنهما)، وهو خطأ. (¬7) في (أ): (وفي)، وهو خطأ. (¬8) في "الحجة" للفارسي 5/ 270: وقبل ذلك قولهم: {وَهِىَ} [هود: 42]، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 74]. (¬9) ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬10) في (أ)، (د): (اذاك)، وفي (ظ)، (ع): (اداك)، والتصويب من "الحجة" 5/ 270.

هذا قول العجاج: فَبَاتَ مُنْتَصْبًا وما تكَرْدَسا (¬1) (¬2) وهذا مما تقدم الكلام فيه. ومن قرأ بعض هذا بالسكون وبعضه بالحركة (¬3) من {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا} {وَلْيُوفُوا} {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29] فإنه أخذ بالوجهين لاجتماعهما في الجواز (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ): (بكردشا). (¬2) هذا الشطر من الرجز للعجاج بهذه الرواية (منتصبا) في "الحجة" للفارسي 1/ 408، 5/ 270، و"الخصائص" لابن جني 2/ 338، وفي "اللسان" 1/ 758 (نصب) من غير نسبة. وروايته في "ديوان العجاج" ص 130، و"تهذيب اللغة" 10/ 423 (كردس)، و"اللسان" 6/ 195 (كردس): (فبات منتصا وما تكردسا. ولا شاهد فيه على هذه الرواية. وهو يصف فيها حمارًا وحشيًّا، وبعده: إذا أحس نبأة توجسا. قال الأصمعي في "شرحه لديوان العجاج" ص 130: (قوله (منتصبا) أي منتصبًا. والمكردس: الذي قد رمى بنفسه. (¬3) قرأ بعض هذا بالسكون وبعضه بالحركة: أبو عمرو، وابن عامر في غير رواية ابن ذكران، وورث عن نافع، وابن كثير في رواية قنبل. فقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وورش عن نافع: (ثم ليقطع)، (ثم ليقضوا) بكسر اللام، ووافقهم في (ليقضوا) وحدها ابن كثير في رواية قنبل. ووافق هؤلاء المتقدمون بقية القراء في قراءة (وليوفوا)، (وليطوفوا) بإسكان اللام. أمَّا رواية ابن ذكوان عن ابن كثير فبالكسر في المواطن الأربعة. "السبعة" ص 434 - 435، "المبسوط" لابن مهران 257، "التبصرة" ص 215، "التيسير" ص 156، "النشر" 2/ 326. (¬4) من قوله: (والأصل) إلى هنا هذا كلام الفارسي في "الحجة" 5/ 269 - 270 مع تصرف وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 420 - 421، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 73، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 473 - 474.

16

16 - وقوله {وَكَذَلِكَ} أي: ومثل ذلك. يعني ما تقدم من آيات القرآن (¬1). وإن شئت قلت: وهكذا. وهو مذهب مقاتل بن سليمان (¬2). {أَنْزَلْنَاهُ} أنزلنا القرآن. {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال ابن عباس: يريد لأهل التوحيد. {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} أي: وأنزلنا إليك أن الله يهدي. قال ابن عباس: يعني (¬3) يرشد إلى دينه {مَنْ يُرِيدُ}. وهذا الآية دليل على أن مِلاك الهدى والضلالة منوط بالإرادة تكذيبًا للقدرية. 17 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، تقدم الكلام في تفسير هؤلاء الفرق المذكورة (¬4) إلى قوله {وَالْمَجُوسَ}. قال الأزهري: والمجوس معرب، أصله: منْج كُوش، وكان رجلاً صغير الأذنين، هو أول من دان بدين المجوس، ودعاهم إلى المجوسية، فعربته (¬5) العرب فقالت: مجوس، وربما تركت العرب صرف مجوس تشبيهًا بالقبيلة وذلك أنه اجتمع فيه التأنيث والعجمة، ومنه قوله (¬6): ¬

_ (¬1) انظر البغوي 5/ 371، و"زاد المسير" لابن الجوزي 5/ 414 - 415. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 21 أ. (¬3) في (ظ): (يريد). (¬4) انظر: "البسيط" 1/ 756، 57 أ، ب أزهرية. (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (فعربت). (¬6) هذا عجز بيت أنشده الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 602 من غير نسبة وهو للتوأم اليشكري، أجاز به قال امرؤ القيس، وكان امرؤ القيس قد نازع التوأم وقال له: إن كنت شاعرًا فملط -التمليط: أن يقول الشاعر نصف بيت ويتمه الشاعر الآخر. "القاموس المحيط" 2/ 387 (ملط) - أنصاف ما أمول وأجزها، فقال =

كنَارِ مَجُوس تَسْتَعرُ اسِتْعَارا وقد تمجَّس الرجل إذا دان (¬1) بدين المجوس، ومَجَّس غَيره إذا علَّمه دين المجوسية (¬2). وقال غير الأزهري: المجوس يقال إنهم سموا بذلك لأن الميم جُعلت بدلاً من النون، كان يقال لهم النجوس (¬3) لنجاستهم وتدينهم باستعمال النجاسة، وقد تعتقب الميم النون مثل الغيم (¬4) والغين والأيم والأين (¬5). ¬

_ = التوأم: نعم، فقال امرؤ القيس: أصاح أريك برقا هب وهنا ويروى: أحارِ ترى بُريقا هب وهنا فقال التوأم: كنَارِ مَجُوس تَسْتَعرُ اسِتْعَارا وهذا البيت مع الخبر في "ديوان امرئ القيس" ص 174 من رواية الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، وفي "لسان العرب" 6/ 213 (مجس)، و"تاج العروس" للزبيدي 20/ 123 (ملط). ونسب سبيويه في "الكتاب" 3/ 254، والجوهري في "الصحاح" 3/ 977 (مجس) البيت لامرئ القيس. وهو من غير نسبة في: كتاب "ما ينصرف وما لا ينصرف" للزجاج ص 82، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري 2/ 139، "تاج العروس" للزبيدي 16/ 496 (مجس). (¬1) في (أ): (كان)، وهو خطأ. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 601 - 602 (مجس). وانظر: "الصحاح" للجوهري 3/ 977 (مجس)، "لسان العرب" 6/ 213، 215 (مجس). (¬3) في (ظ)، (ع)، (د): (المجوس)، وهو خطأ. (¬4) في (أ): (الغنم والغنن)، وهو خطأ. (¬5) لم أجد من ذكر هذا القول فيما وقفت عليه من المصادر اللغوية. وقد ذكره =

والقول ما ذكره الأزهري. قوله {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني مشركي العرب. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قال أبو إسحاق: خبر (إن) الأولى جملة الكلام مع (إن) الثانية (¬1). يعني قوله {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ}. قال الفراء: وربما قالت العرب: إن أخاك إن الدين عليه لكثير. فيجعلون (إن) في خبره. وأنشد: إن الخليفة إن الله سربله ... البيت (¬2) ¬

_ = باختصار السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 245 ولم ينسبه لأحد. والغيم والغين: السحاب. والأيم والأين: الحية. انظر: "الإبدال والمعاقبة والنظائر" للزجاجي ص 105، "الإبدال" لأبي الطيب اللغوي 2/ 423، 434. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 417. (¬2) كلام الفراء وإنشاده في "معاني القرآن" له 2/ 218. والبيت لجرير من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن عبد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وتتمته: سِرْبال ملك به تُرْجَى الخواتيمُ وهو في "ديوانه" 2/ 672 وروايته فيه: يكفي الخليفة أن الله سربله، ولا شاهد فيه على ذلك. و"خزانة الأدب" 10/ 364 - 368 وعجزه عنده: لباس ملك به تُرْجى الخواتيم. قال البغدادي 10/ 364: سربله: ألبسه، يتعدى لمفعولين أولهما ضمير الخليفة، والثاني اللباس بمعنى الثوب .. وتُرجى -بالزاي والجيم- والإرجاء: السوق. والخواتيم: جمع خاتام لغة في الخاتم. يريد إن سلاطين الآفاق يرسلون إليهم خواتمهم خوفًا منه، فيضاف ملكهم إلى ملكه. ويروى (ترجى) بالراء المهملة من الرجاء. وهذه الرواية أكثر من الأولى.

وهذا كما ذكرنا (¬1) في قوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. قال الفراء: وإنما جاز هذا لأن الاسمين قد اختلفا، فحسن رفض الأول وجعل الثاني كأنه هو المبتدأ، فحسن لاختلاف اسمي (¬2) (إن)، ولا يجوز: إنك إنك (¬3) قائم، ولا: إن أباك إنه قائم؛ لاتفاق الاسمين (¬4). قال الزجاج: وليس بين البصريين خلاف في أن (إن) (¬5) تدخل على كل ابتداء وخبر، تقول: إن زيدًا إنه قائم (¬6). فأجاز أبو إسحاق ما استقبحه الفراء ولم يجزه. وقال صاحب النظم: لما قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وما تبع ذلك (¬7) من الكلام وطال صارت (إن) كأنها مُلغاة لتباعدها عن خبرها (¬8) فأعاد (¬9) ذكرها عند الجواب؛ ليعلم أن الجواب متصل بالابتداء توكيدًا للشرح. قال: ويجوز أن يكون إنما وجب أن يقدم ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مبتدأ الخبر (¬10) على نظم: إن الله يفصل (¬11) يوم القيامة بين الذين آمنوا والذين ¬

_ (¬1) في (ع): (ذكره)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (إسم). (¬3) إنك (الثانية): ساقطة من (ظ). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 218 مع تصرف واختلاف في العبارة. (¬5) (إن): ساقطة من (ظ). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 418. (¬7) ذلك: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬8) في (أ): (حيزها). (¬9) في (أ): (وأعاد). (¬10) في (أ): (الخير). وهو تصحيف. (¬11) في (ظ) زيادة (بينهم) بعد قوله (يفصل).

هادوا. فلما قدم ذكرهم في الابتداء أعاد ذكر اسمه بالتقديم ليدل على أن وضع مبتدأيه (¬1) على هذا النظم. ومعنى {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} قال ابن عباس: يقضي بينهم يوم القيامة. وفسر الزجاج هذا الفصل والقضاء بين هؤلاء الفرق بإدخال المؤمنين الجنة والآخرين النار، واحتج بقوله بعد هذا {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}. وقوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. وقوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} من أعمال هؤلاء الفرق. قال ابن عباس: شهيد على ما في قلوبهم عالم به. وقال أهل المعاني: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يفصل بين الخصوم في الدين يوم القيامة بما يضطر إلى العلم بصحة الصحيح فيبيض وجه المحق ويسود وجه المبطل (¬2). ومعنى الشهيد: العلم بما شاهده، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يعلم كل شيء قبل أن يكون بأنه علام الغيوب. 18 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَر} ألم تعلم؛ لأن المراد الرؤية بالقلب والفعل. وقد ذكرنا هذا في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} [البقرة: 243] الآية. وقوله: {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} قال الفراء: يعني أهل السموات {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} قال: يعني كل خلق [من الجبال ومن الجن وأشباه ¬

_ (¬1) في (أ): (مبتدأ به). (¬2) انظر القرطبي 12/ 23 فقد ذكر هذا القول مختصرًا بمعناه، وصدره بقول: قيل.

18

ذلك (¬1). وقوله {وَالشَّمْسُ} إلى قوله {وَالدَّوَابُّ} وصف الله تعالى هذه الأشياء كلها] (¬2) بالسجود واختلفوا في معنى سجود هذه الأشياء، والصحيح أن المراد بسجودها خضوعها وذلتها وانقيادها لمولاها فيما (¬3) يريد منها (¬4). وهذا القول هو اختيار الزجاج والنحاس. قال الزجاج: السجود هاهنا الخضوع لله، وهو طاعة مما خلق الله من الحيوان والموات فالسجود هاهنا سجود طاعة واحتج بقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] (¬5). وقال النحاس: هذا القول صحيح بيّن، فكل شيء منقاد لله -عَزَّ وَجَلَّ- على ما خلقه، وعلى ما رزقه، وعلى ما أصحه وعلى ما أسقمه، وليس هذا سجود العبادة (¬6). وقال قوم: إن السجود من هذه الأشياء التي هو موات ومن الحيوان الذي لا يعقل إنما هو أثر الصنعة فيها والتسخير والتصوير الذي يدعو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 219. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) في (أ): (بما). (¬4) بل الصحيح ما قاله الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 340 بعد ذكره لهذه الآية: فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها. أهـ. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 418. (¬6) من قوله: وقال قوم .. إلى قوله: أثر الصنعة فيها. منقول عن "معاني القرآن" للزجاج 3/ 418. ومن قوله: "والتسخير ... إلخ" منقول عن "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 49 أ.

العارفين إلى السجود لله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1) وهذا القول كالأول لأن تسخيرها وأثر الصنعة فيها لخضوعها وذلتها لخالقها ويدل على أن غير العاقل يوسف بسجود الخضوع قول الشاعر (¬2): ترى الأكْمَ فيها سُجَّدًا للحَوافِرِ أي: خشعت من وطي الحوافر عليها. هذا الذي ذكرنا مذهب أرباب المعاني (¬3). ¬

_ (¬1) "القطع والائتناف" للنحاس 489. (¬2) هذا عجز بيت لزيد الخيل، وصدره: بجيش تضلُّ البُلْق في حَجَراته وهو في "ديوانه" ص 66، وتأويل "مشكل القرآن" ص 322، و"المعاني الكبير" 2/ 890 كلاهما لابن قتيبة، والطبري 2/ 242، و"الكامل" للمبرد 2/ 201، والرواية عندهم: (منه) في موضع (فيها). وهو من غير نسبة في: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 418، "الأضداد" لابن الأنباري ص 295، و"الصحاح" للجوهري 2/ 483 (سجد)، و"للسان" 3/ 206 (سجد). والرواية عندهما: فيها. والبلق: جمع بلقاء، والبلقاء: هي الفرس التي يكون فيها بلق يعني: سواد وبياض. أو البلقاء: الفرس التي ارتفع التحجيل فيها إلى الفخذين. و (حجراته): نواحيه، والأكم: جمع أكمه: وهي التل أو الموضع يكون أشد ارتفاعًا مما حوله. انظر: "لسان العرب" 10/ 25 (بلق)، 4/ 168 (حجر)، "القاموس المحيط" 3/ 214 , 4/ 75. قال ابن قتيبة في "المعاني الكبير" 2/ 89: يقول: إذا ضلت البلق فيه مع شهرتها فلم تعرف فغيرها أحرى أن تضل، يصف كثرة الجيش، ويريد أن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر. (¬3) نسب الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 49 أهذا القول لأرباب الحقائق.

وقال مجاهد: سجود الجماد وكل شيء سوى المؤمنين تحول ظلالها كما قال: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] (¬1). قال أهل المعاني: كأنه يجعل ذلك لما فيه من العبرة بتصريف الشمس في دورها عليه سجودًا (¬2). وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع إلى مطلعه (¬3). وعلى هذا فكل شيء مما خلقه (¬4) الله تعالى يسجد لله حقيقة السجود ويدل عليه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] وقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] إلا أنا لا نعلم كيفية ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وقال أرباب الأصول: الجمادات لا تعقل ولا يتميز فإن حدثت لها حالة (¬5) في التمييز فذلك (¬6) بأن الله تعالى يحدث لها في تلك الحالة عقلاً وتمييزًا، وإلا فالتمييز منها محال ما دامت على حقيقة صنعتها الأولى. ¬

_ (¬1) ذكره عن مجاهد: الثعلبي 3/ 49 أوبنحوه رواه الطبري 17/ 130. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 17 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 268، والجشمي في "التهذيب" 6/ 171 ب من غير نسبة لأحد. (¬3) ذكره الثعلبي 3/ 49 أ، ورواه الطبري 17/ 130. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 18 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (خلق). (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (حال). (¬6) في (ظ)، (د)، (ع): (فذاك).

قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} يعني المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى. {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظله، قاله مجاهد (¬1). فعلى هذا قوله {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} من جملة الساجدين. وقال قوم: تم الكلام في وصف الساجدين عند قوله {وَالدَّوَابُّ} ثم ابتدأ فقال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (¬2). روى ابن الأنباري عن ابن عباس أنه قال: وكثير من الناس في الجنة (¬3). وقال في رواية عطاء: وكثير من الناس يوحده وليس كلهم وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده (¬4). وعلى هذا يصح الوقف على {وَالدَّوَابُّ}، ثم ابتدأ بذكر فريقي الجنة والنار والإيمان والكفر. وقال آخرون؛ التمام عند قوله {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} وانقطع ذكر الساجدين ثم ابتدأ فقال {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي: بإبائه وامتناعه من السجود وهؤلاء غير داخلين في جملة الساجدين (¬5). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 49 أعن مجاهد بنصه. وقد رواه الطبري 17/ 130. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 17، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. (¬2) انظر: "المكتفى في الوقف والابتدا" للداني ص 393. (¬3) رواه ابن الأنباري في كتابه "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 872. وذكره القرطبي 12/ 24 عن ابن عباس من رواية ابن الأنباري. وذكره أبو عمرو الداني في كتابه "المكتفى في الوقف والابتدا" ص 393 عن ابن عباس. (¬4) ذكره الرازي 23/ 20 من رواية عطاء، عن ابن عباس. (¬5) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 782، "القطع والائتناف" =

قال الفراء: قوله {حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يدل على أن المعنى: وكثير أبى السجود؛ لأنه لا يحق عليه العذاب إلا بتركه السجود (¬1). وهذا القول هو اختيار نافع والكسائي وأبي حاتم (¬2) وهو أن الوقف على (الناس). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} قال الفراء: يريد من يُشقْهِ الله فما له من مُسْعد (¬3). وكذا روى عن ابن عباس (¬4). وقال في رواية عطاء: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} يريد (¬5): من تهاون بعبادة الله (¬6). يعني أن تهاونه بعبادة الله [من إهانة الله] (¬7) إياه وطرده {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} يريد أن مصيره إلى النار وليس إلى الكرامة كما يُكْرم أولياؤه (¬8). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي: في خلقه من الإهانة والكرامة والشقاء والسعادة. ¬

_ = للنحاس ص 488 - 489، "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" للأشموني ص 255. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 219. (¬2) ذكره عنهم النحاس في "القطع والائتناف" ص 488. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 219. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 207. (¬5) يريد: ساقطة من (ظ)، وفي (د)، (ع): (يريد: ومن يهن الله) من تهاون. (¬6) ذكره عنه القرطبي 17/ 24. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬8) قال الطبري 17/ 130: (فما لي من مكرم) بالسعادة يسعده بها.

19

19 - وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} يعني: الفرق الخمسة الكافرة والمؤمنين، وهم الذين ذكروا في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. فالخصم: اسم للواحد وللجميع، فقدله هذان {خَصْمَانِ} كالفئتين، لذلك قال {خَصْمَانِ} لأنهما جمعان. قاله الزجاج (¬1). وزاد الفراء: وليسا برجلين، ولو قيل: اختصما كان صوابًا، ومثله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] يذهب إلى الجمع، ولو قيل: اقتتلتا لجاز (¬2). وذكرنا معنى الاختصام عند قوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وقوله: {فِي رَبِّهِمْ} أي: في دين ربهم. قال الكلبي: وذلك أن اليهود والنصارى قالوا نحن أولى بالله منكم يا معشر المسلمين؛ لأن نبينا قبل نبيكم وديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم. فقال المسلمون: بل نحن أولى وأحق بالله، آمنا بكتابنا ونبينا ونبيكم، وكفرتم أنتم بنبينا حسدًا. فكان هذا خصومتهم في ربهم (¬3). هذا قول مجاهد والحسن (¬4)، وابن عباس في رواية عطاء (¬5)، وأكثر ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 419. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 1/ 220. (¬3) روى الطبري 17/ 132 عن عاصم والكلبي أنهما قالا: أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل. وذكر الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 49 أعن الكلبي قال: هم المؤمنون والكافرون. (¬4) رواه الطبري 17/ 132 عن مجاهد والحسن قالا: هم المؤمنون والكافرون. (¬5) لم أجد من ذكره من رواية عطاء، لكن رواه الطبري 17/ 132 من رواية العوفي =

المفسرين (¬1)، واختيار الزجاج (¬2) والفراء (¬3)، وقالوا: الخصمان هم المؤمنون والكافرون. وروي عن أبي ذر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الذين بارزوا يوم بدر من الفريقين، وكان من المسلمين حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث (¬4)، ومن الكفار عتبة وابنه الوليد وشيبة ابنا ربيعة (¬5) وأقسم أبو ذر أن هذه الآية نزلت في هؤلاء الستة (¬6). ¬

_ = بنحو ما ذكره الواحدي هنا عن الكلبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 20 وعزاه لابن جرير وابن مردويه. (¬1) انظر: الطبري 17/ 132، " الكشف والبيان" 3/ 49 أ، و"الدر المنثور" 6/ 20. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 3/ 419 فقد ذكر نحو رواية الكلبي. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 219، فقد ذكره نحو رواية الكلبي. (¬4) هو: عبيدة بر الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، القرشي، المطلبي. أحد السابقين الأولين. أسلم قديما، وكان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، ثم هاجر، وشهد بدرًا وبارز فيها وأصيب في المبارزة، فاحتمل وبه رمق، ثم توفي بالصفراء -قرية بين المدينة وينبع- في العشر الأخير من رمضان سنة اثنين من الهجرة رضي الله عنه. وكان ابن ثلاث وستين سنة. "طبقات ابن سعد" 3/ 50، "الاستيعاب" 3/ 1020، "أسد الغابة" 3/ 356، "سير أعلام البنلاء" 1/ 256، "الإصابة" 2/ 442. (¬5) هو: شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، أحد زعماء قريش في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، وناصبه العداء، قتله حمزة رضي الله عنه يوم بدر بعد مبارزته. "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 356، "البداية والنهاية" 3/ 277، "الأعلام" للزركلي 3/ 181. (¬6) روى البخاري كتاب: التفسير -سورة الحج- باب: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 8/ 443، ومسلم كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 4/ 2323 عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقسم قسمًا إن هذه =

والظاهر هو الأول للإشارة بقوله {هَذَانِ} إلى الفئتين المذكورتين في قول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية (¬1). وروي عن عكرمة أنه قال: الخصمان هما الجنة والنار (¬2). وهذا ليس بالقوي ولا المرضي (¬3). ثم بيّن الله تعالى حال الفريقين فقال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس: يعني أهل الخمسة الأديان (¬4). {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} قال الأزهري: أي (¬5): خيطت وسويت وجعلت لبوسًا لهم (¬6). ¬

_ = الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر. وروى البخاري كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل 7/ 297، والنسائي في "تفسيره" 2/ 85 عن علي رضي الله عنه قال: فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. (¬1) واختاره الطبري 17/ 133. قال ابن كثير 3/ 212: وقول مجاهد وعطاء أن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- والكافرون يريدون إطفاء نور إيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، وهو اختيار ابن جرير وهن حسن، ولهذا قال "فالذين كفروا ... أهـ. (¬2) رواه الطبري 17/ 132 - 133. (¬3) قال الألوسي في "روح المعاني" 17/ 134: وأما ما قيل من أن المراد بهذين الخصمين الجنة والنار فلا ينبغي أن يختلف في عدم قبوله خصمان أو ينتطح فيه كبشان. (¬4) ذكره القرطبي 12/ 26 بمعناه من غير نسبة. (¬5) (أي): ساقط من (ظ) , (د)، (ع). (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 188 (قطع).

21

قال ابن عباس: يريد حين صاروا إلى جهنم لبسوا المقطعات مقطعات النيران (¬1). قال شمر: المقطعات من الثياب كل ثوب يقطع ثم يخاط (¬2). وهذا القول هو الصحيح في تفسير المقطعات (¬3). قال أبو إسحاق: وجاء في التفسير أن الثياب التي من (نار) (¬4) من نحاس قد أذيب (¬5). وهذا الذي ذكره هو قول سعيد بن جبير (¬6). 21 - وقوله {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} الحميم (¬7) الماء الحار. وأحمَّ نفسه إذا غسلها بالماء الحار، ومثله استحم إذا اغتسل بالحميم. [والحمام مشتق من الحميم. والمحم: الإناء الذي يسخن فيه الماء.] (¬8) والحميم عند ابن الأعرابي من الأضداد يكون الماء الحار والبارد (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره عنه بمعناه ابن الجوزي 5/ 417، وذكره البغوي 8/ 374 وصدره بقوله: وقال بعضهم. وذكره القرطبي 12/ 26 من غير نسبة. (¬2) قول شمر في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 188 - 189 (قطع). (¬3) قال أبو حيان 6/ 36: والظاهر أن هذا المقطع من النار. (¬4) في (أ): (من النار)، والمثبت من باقي النسخ وهو الموافق لما في المعاني. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 419. (¬6) رواه الطبري 17/ 133، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 21 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. (¬7) (الحميم): قلادة من (ظ)، (د)، (ع). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬9) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 15 (حم) وبعضه عن الليث وبعضه عن الأصمعي. والقائل: والحميم عن ابن الأعرابي .. هو الأزهري. وانظر: "العين" 3/ 33 (حم)، "الأضداد" لابن الأنباري ص 138)، "الصحاح" للجوهري 5/ 1905 (حمم)، "لسان العرب" 12/ 153 - 154 (حمم).

20

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الحميمَ ليصبُّ على رؤوسهم فينفذ (¬1) الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت (¬2) ما في جوفه، حتى يبلغَ (¬3) قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان" (¬4). وقال ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابها (¬5). والذي ذكر في الخبر هو معنى 20 - قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}. قال الليث: الصهر: إذابة الشحم، والصهارة ما ذاب منه، ويقال صهرته فاصطهر، ويقال للحرباء (¬6) إذا تلألأ ظهرها (¬7) من شدة الحر قد صَهَرَهُ الحر واصطهر الحرباء (¬8). ¬

_ (¬1) ينفذ: أي يخرق ويجوز. "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري 2/ 296، "غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 424. (¬2) فيسلت: أي يقطع ويستأصل. "لسان العرب" 2/ 45 (سلت). (¬3) في (ظ)، (ع)، (د): زيادة (إلى). (¬4) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 374 والترمذي أبواب صفة جهنم، باب: ما جاء في صفة شراب أهل النار 7/ 302 - 303، والطبري في "تفسيره" 17/ 133 - 134، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 212، والحاكم في "مستدركه" 2/ 387، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 182 - 183 من طريق أبي السمح، عن أبي حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، به. قال الألباني في "تخريج" أحاديث "مشكاة المصابيح" 3/ 1581. وإسناده ضعيف. (¬5) ذكره عنه الزمخشري في "الكشاف" 3/ 9، والرازي في "تفسيره" 23/ 22. (¬6) في (أ): (للحوباء)، وهو خطأ. والحِرْباء: دويبة ذات قوائم أربع، دقيقة الرأس، مخططة الظهر، تستقبل الشمس بنهارها. قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 5/ 24 (حرب). (¬7) في "تهذيب اللغة": ظهره. ولعله أصوب لأن الحرباء ذكر أم حبين، انظر الأزهري. (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 109 (صهر) نقلا عن الليث. =

وقال ابن السكيت: يقال صهرته الشمس إذا اشتد وقعها عليه (¬1). وأنشد أبو عبيدة (¬2) وغيره (¬3) لابن أحمر (¬4): تروى (¬5) لقى ألقي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر (¬6) وقال أبو زيد في قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} هو الإحراق، صَهَرتُه بالنار (¬7) أصهره أنضجه (¬8) (¬9). ونحو هذا قال الكسائي في تفسير الصهر: أنه الإحراق ¬

_ = وهو في "العين" 3/ 412 مادة (صهر). مع اختلاف يسير جدًا وفيه إذا تلألأ ظهره. (¬1) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 109 مادة (صهر) عن ابن السكيت. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 48. (¬3) الطبري 17/ 134. والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 49 ب. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (ابن الأحمر). (¬5) في جميع النسخ: (تردي)، والتصويب من مجاز القرآن والطبري وغيرهما. (¬6) البيت أنشده أبو عبيدة لابن أحمر في "مجاز القرآن" 2/ 48. وهو في ديوان ابن أحمر ص 68، "الأضداد" لابن الأنباري ص 165، و"مقاييس اللغة" لابن فارس 5/ 261 (لقى) وعنده: (تؤوي) في موضع (تروي)، و"الصحاح" للجوهري 2/ 717 (صهر)، 6/ 2364 (روى)، و"لسان العرب" 4/ 472 (صهر)، ومن غير نسبة في الطبري 17/ 134. وهو من أبيات له يصف فيها فرخ قطاة. وقوله (تروى) تسقي، قال أبو عبيدة: تفسير له راوية .. كما رواية القوم عليهم. أهـ (لقى) قال ابن الأنباري: اللقى: الشيء الملقى لا يلتفت إليه، فشبه الفرخ به. أهـ و (صفصف) الصفصف: المستوى من الأرض. قاله الفيروزآبادي 3/ 163. (تصهره الشمس فما ينصهر) قال الجوهري: أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. (¬7) في (ظ): (النار). (¬8) في (أ): (نضجته)، وفي "تهذيب اللغة": أنضجته. (¬9) قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 109 (صهر).

والإنضاج (¬1). قال قتادة: يُذاب (¬2) بذلك الحميم ما في بطونهم (¬3). وهذا عبارة الفراء (¬4)، وهو معنى الحديث الذي ذكرنا. وهو قول جاهد (¬5). ولفظ ابن عباس في رواية نافع بن الأزرق (¬6). وقال ابن عباس في رواية عطاء: ينضج. وذكر (¬7) الأزهري عن أهل التفسير: يُغلي به ما في بطونهم حتى يخرج من أدبارهم (¬8). وهذا هو اختيار الزجاج (¬9). وهو من قولهم صهرته الشمس، إذا اشتد وقعها عليه. فمعنى {يُصْهَرُ}: يُنضج، وُيحرَّق، وُيذَاب، وُيغْلى. كل هذا صحيح مروي. والمعنى: أن أمعاءهم وشحومهم تذاب وتحرق بهذا الحميم، وتنشوي جلودهم فتتساقط من حره (¬10). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (أ): (بدأت)، وهو خطأ. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 34، والطبري 17/ 135. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 225. (¬5) رواه الطبري 17/ 134، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 22 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) روى ابن الأنباري والطستي في "مسائله" كما في "الدر المنثور" 6/ 22 عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله (يصهر) قال: يذاب. (¬7) في (أ): (وذكرنا)، وهو خطأ. (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 109. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 419. (¬10) انظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 49 ب.

21

21 - وقوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال الليث: المقمعة: شبه الجُرز (ا) من الحديد والعمد يضرب بها الرأس وجمعها المقامع (¬2) (¬3). وأنشد (¬4): ويمشي معد حوله بالمقامع وأصله من قولهم: قمعت رأسه إذا ضربته ضربًا عنيفًا. قال أبو عبيد: يقال: قمعت الرجل وأقمعته، بمعنى واحد (¬5). قال الضحاك في قوله (¬6) {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: هي المطارق (¬7). وقال ابن عباس: يريد أن زبانية جهنم تقمعهم بمقامع الحديد يضربونهم بها كلما أرادوا أن يخرجوا منها (¬8). ¬

_ (ا) في (أ): (الجوز)، وفي (ظ): (الحر)، وفي (د): (الحرز)، وفي (ع): (الحرر)، وفي "تهذيب اللغة" 7/ 293: الجرزة، والصواب ما أثبتنا. والجُرْز (بالضم، وبضمتين كما قال الزبيدي في "تاج العروس" 15/ 52 قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 69 (جرز): (هو عمود من حديد). ونقل الأزهري عن الليث قال: والجُرز من السلاح، والجميع: الجِرَزَة. (¬2) في (أ): (مقامع)، والمثبت من باقي النسخ والعين والتهذيب. (¬3) قول اليث في "العين" 1/ 189، وهو في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 293 (قمع) من غير نسبة. (¬4) هذا الشطر أنشده الليث في "العين" 1/ 185 (قمع) ولم ينسبه لأحد. وذكره الفيروزآبادي في "بصائر ذوي التمييز" 4/ 297 نقلاً عن اليث، ولم ينسبه. وفي المطبوع من البصائر: وتمشي معد. (¬5) قول أبي عبيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 291 (قمع). (¬6) في جميع النسخ: (قولهم). (¬7) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 166. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 22 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬8) (منها): ساقطة من (أ).

22

وقال الحسن: إن (ا) النار ترميهم بلهبها، إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرون ساعة (¬2) 22 - فذلك قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} يعني: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي أخذ بأنفاسهم، حتى ليس لها مخرج ردوا إليها بالمقامع. قال المفسرون: إن جهنم لتجيش (¬3) بهم، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج، فيردهم الخزان فيها (¬4). وهذا كما قال الحسن. ويقول لهم الخزنة: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} والحريق: الاسم من الإحتراق. قال أبو إسحاق: وهذا لأحد الخصمين. 23 - وقال في الخصم الذين هم المؤمنون: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬5) وهي مفسرة في سورة الكهف إلى قوله {وَلُؤْلُؤًا} وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف، واللؤلؤ (¬6) كباره، والمرجان صغاره. ويجوز فيه تخفيف الهمزتين (¬7) ويجوز تخفيف إحداهما وتحقيق ¬

_ (ا) في (ظ)، (د)، (ع): (من)، وهو خطأ. (¬2) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 417، وذكره الزمخشري في "الكشاف" 3/ 9 والرازي 23/ 22 إلى قوله سبعين خريفًا. (¬3) تجيش: أي تغلي وترتفع، "لسان العرب" 6/ 277 (جيش). (¬4) انظر الطبري 17/ 135، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 49 ب. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 419. (¬6) في (ظ)، (د)، (ع): (فاللؤلؤ). (¬7) في (ظ)، (د)، (ع): (الهمزة).

الثانية (¬1). والمعنى: أنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ. أي منهما؛ بأن يُرصع اللؤلؤ في الذهب. وقرئ (ولؤلؤا) بالنصب (¬2) على: ويحلون لؤلؤا. ويجوز أن يحمل على موضع الجار والمجرور؛ لأن موضعهما نصب، ألا ترى أن معنى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [يحلون فيها أساور] (¬3). فحمله على الموضع (¬4). وقوله {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} يعني أنهم يلبسون في الجنة ثياب (¬5) الإبريسم (¬6)، وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" للفارسي 5/ 268، "إعراب القراءات السبع عللها" لابن خالويه 2/ 73. فقد ذكرا ذلك. قال ابن خالويه: والأصل الهمز. قال ابن خالويه: العربية تحتمل همزتهما، وترك الهمز فيهما، وهمز إحداهما كل ذلك جائز، والأصل الهمز، وتركه تخفيف بالواو. (¬2) قرأ نافع وعاصم (ولؤلؤا) بالنصب، وقرأ الباقون (ولؤلؤ) بالخفض. "السبعة" ص 435، "التبصرة" ص 266، "التيسير" ص 157. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) من قوله: والمعنى: (أنهم يحلون أساور .. إلى هنا) نقلاً عن "الحجة" للفارسي 5/ 268 مع اختلاف يسير. وانظر: "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 73، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 474. (¬5) في (أ): (لباب)، وهو خطأ. (¬6) الإبريسم: نوع من الحرير. "القاموسر المحيط" 4/ 79. (¬7) رواه البخاري كتاب. اللباس، باب: لبس الحرير للرجال 10/ 284، ومسلم كتاب: =

24

24 - قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي: أرشدوا إلى الطيب من القول. قال ابن عباس: يريد لا إله إلا الله والحمد لله (¬1). وزاد ابن زيد: والله أكبر (¬2). وقال السدي: إلى القرآن (¬3). {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} إلى الإسلام، وهو دين الله وطريقه (¬4). والحميد: المحمود في أفعاله (¬5). ¬

_ = اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال .. والحرير على الرجل .. 3/ 1641 - 1642 من حديث ابن الزبير: سمعت عمر يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- .. فذكره. ورواه البخاري في الموطن السابق ومسلم في الكتاب والباب السابقين 3/ 1645 من حديث أنس رضي الله عنه. (¬1) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 418، والقرطبي 12/ 30، وأبو حيان 6/ 361. وذكره البغوي عنه 5/ 376 بدون قوله الحمد لله. وذكره الرازي 23/ 22 عنه من رواية عطاء: هو قولهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}. (¬2) رواه الطبري 17/ 136، وذكره الثعلبي 3/ 50 أ. (¬3) ذكره عنه البغوي 5/ 376، وابن الجوزي 5/ 418. والرازي 23/ 22، وأبو حيان 9/ 361 بنفس عبارة الواحدي. قال أبو حيان 6/ 361: والطيب من القول إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلا الله والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها، ويكون الصراط طريق الإسلام، وإن كان إخبارًا عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم (الحمد لله الذي صدقنا وعده) وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة. (¬4) انظر الطبري 17/ 136، فعلى هذا القول معنى صراط الحميد، أي طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه. (¬5) والحميد: اسم من أسماء الله. واستظهر هذا القول أبو حيان 6/ 361. وقال ابن عطية 10/ 253 - بعد ذكره للقول الأول: ويحتمل أنه يريد بالحميد نفس =

25

25 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال الفراء: رد يفعلون على فعلوا (¬1)؛ لأن المعنى: أن الصد منهم كالدائم فاختير له يفعلون، كأنك قلت: إن الذين كفروا (¬2) من شأنهم الصد، ومثله قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} [الرعد: 28] قال: وإن شئت (¬3) قلت: رد (¬4) يفعلون على فعلوا، لأن معناهما كالواحد فلو قيل: إن الذين كفروا وصدوا لم يكن فيه ما يسأل عنه (¬5). وهذا معنى قول الكسائي: إن الذين كفروا ويصدون ولم يقل وصدوا وهي هيئة (¬6) يعني أنه بمعنى الماضي. ونحو هذا قال الزجاج: لفظ المستقبل عطف به (¬7) على الماضي، لأن معنى {الَّذِينَ كَفَرُوا} الذين هم كافرون، وكأنه قال: إن الكافرين والصادين (¬8). فهؤلاء جعلوا لفظ المستقبل هاهنا بمنزلة الماضي. قال أبو علي: المعنى عندي إن الذين كفروا وصدوا [فلما كان ¬

_ = الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله تعالى {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109]. أهـ. (¬1) أي عطف (يصدون) على (كفروا). (¬2) عند الفراء 2/ 221: إن الذين كفروا [و] من شأنهم الصد. زيادة واو. (¬3) في (أ): (إن شئت). (¬4) (رد): ساقطة من (ظ). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 220 - 221 مع اختلاف. (¬6) (هيئ) ة: مهملة في (ظ)، (د)، (ع). (¬7) في (ظ)، (د): (به عطف). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 420.

المعطوف عليه ماضيًا بل على أن المراد بالمضارع أيضًا الماضي، ويقوي هذا قوله {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [محمد: 1]. قال: ويجوز أن يكون المضارع على بأبه كأنه قال: إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون مع ما تقدم من كفرهم. والأول كأنه أقوى. والإرادة بمثال المضارع الماضي مذهب سيبويه لأنه قال (¬1): ويقع يفعل في موضع فعل في بعض المواضع وأنشد الشاعر (¬2) فقال: ولقد أمرُّ على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني (¬3) على معنى: ولقد مررت. انتهت الحكاية عن أبي علي (¬4). وذكرنا هذا وبيانه عند قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] الآية. قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} [قال أبو إسحاق: {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} (¬5)] وقف التمام، ومعنى {جَعَلْنَاهُ ¬

_ (¬1) "الكتاب" 3/ 24. (¬2) في (أ): (وأنشد)، والمثبت من باقي النسخ. (¬3) البيت أنشده سيبويه في "الكتاب" 3/ 24 منسوبًا لرجل مولد من بني سلول، وذلك في "المقاصد النحوية" للعيني 4/ 58 وفيه. وأعف ثم أقول ما ... ، و"تحصيل عين الذهب" للشنتمري 1/ 416. ونسبه الأصمعي في "الأصمعيات" ص 126 لشمر بن عمرو الحنفي، وروايته فيها: (مررت) في موضع (أمر)، ولا شاهد فيهما على هذه الرواية. والبيت بلا نسبة في: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 323، والطبري 2/ 351 وروايته فيه: فمضيت عنه وقلت: لا يعنيني، و"الخصائص" لابن جني 3/ 330. وانظر: "الخزانة" 1/ 357. (¬4) لم أجده بنصه. وانظر: "الحجة" 3/ 35. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)

لِلنَّاسِ} كما قال {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] ويكون {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} رفعا على الابتداء والخبر (¬1). وهذا معنى قول الفراء: جعل الفعل -يعني جعلناه- واقعًا على الهاء واللام التي في الناس، ثم استأنف وقال: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}. قال: ومن شأنِ العرب أن يستأنفوا بسواء (¬2) إذا جاءت بعد حرف قد تم به الكلام، فيقولون: مررت برجل سواءٌ عنده الخير والشر. والخفض جائز. وإنما اختاروا الرفع لأن سواء بمعنى واحد. ولو قلت: مررت على رجل واحد عنده الخير والشر لرفعت (¬3). قال أبو علي: قوله {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي مستقرًا ومنسكًا (¬4) ومتعبدًا. والمعنى على أنه نصبه لهم منسكًا ومتعبدًا (¬5) كما قال {وُضِعَ لِلنَّاسِ}، وقوله {سَوَاءً الْعَاكِفُ} رفع على أنه خبر ابتداء مقدم، المعنى: العاكف والبادي فيه سواء. ومن نصب فقال (سواء (¬6)) أعمل المصدر عمل (¬7) اسم الفاعل فرفع (العاكف) (¬8) [به كما يرفع بمستواه لو قال: مستويًا فيه العاكف ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 420. (¬2) في (أ): (السواء)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 222. والعبارة الأخيرة فيه: لأن سواء في مذهب واحد، كأنك قلت: مررتُ على رجل واحدُ عند الخير والشر. وليس فيه لرفعت. (¬4) في (أ): (أو منسكا). (¬5) في (أ): (كررت جملة:، (والمعنى أنه نصب لهم منسكًا ومتعبدًا). (¬6) قرأ حفص عن عاصم: (سواء) نصبًا، وقرأ الباقون (سواء) رفعا. "السبعة" ص 435، "التبصرة" ص 266، "التيسير" ص 157. (¬7) في (ظ)، (ع): (على)، وهو خطأ. (¬8) في "الحجة" 5/ 271: فرفع (العاكف فيه) كما يرفع.

والباد. فرفع العاكف] (¬1) بمستوٍ كذلك يرفعه بسواء. والأكثر الرفع في نحو هذا وأن لا تجعل هذا النحو من المصدر بمنزلة اسم الفاعل في الإعمال. ووجه إعماله أن المصدر قد يقام مُقَام اسم الفاعل في الصفة في نحو: رجل عدل. فيصير عدل كعادل (¬2). قال المفسرون في قوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} خلقناه وبنيناه (¬3) للناس كلهم لم يخص به منهم بعضا دون بعض (¬4). {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال ابن عباس: يريد الحاضر، والبادي: الذي يأتيه من البلاد، هم فيه سواء (¬5). وقال سفيان: العاكف فيه: المقيم، والبادي: الذي ينتابه (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط عن (أ). (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 270 - 272. مع اختلاف يسير وتقديم وتأخير وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 423، "إعراب القراءات وعللها" لابن خالويه 2/ 74. وذكر مكي بن أبي طالب وأبو شامة وجهاً آخر في قراءة النصب، قال أبو شامة: ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في (جعلناه)، و (للناس) هو المفعول الثاني، أي جعلناه لهم في حال استواء العاكف والبادي فيه. "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 2/ 118، "إبراز المعاني" لأبي شامة ص 604. (¬3) هكذا في جميع النسخ. وفي "الكشف والبيان" للثعلبي (جـ 3 ل 50 أ) المنقول منه النص، و"البسيط" 3/ 265: بنيناه. (¬4) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 50 أ، وانظر الطبري17/ 137. (¬5) روى ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 24 من ابن عباس (العاكف) أهل مكة (والباد) من كان من غير أهلها. (¬6) انظر: "المحرر" لابن عطية 10/ 256 عن سفيان الثوري.

[وقال قتادة: العاكف: أهله، والبادي: غيرهم (¬1). وقال السدي: العاكف المقيم فيه من أهل البلد، والبادي الذي ينتابه] (¬2) من غير أهله. وقال عطاء: العاكف أهل مكة، والبادي من أتاه من أرض غربة (¬3) وقال الفراء: العاكف من كان من أهل مكة، والبادي من نزع إليه بحج أو عمرة (¬4). وقال الزجاج: العاكف المقيم بها، والبادي النازع إليها من أي بلد كان (¬5). وقال ابن قتيبة: البادي الطارئ من البدو (¬6). ومعنى البادي: النازع إليه من غربة. من قولهم: قد بدا القوم إذا خرجوا من الحضر إلى الصحراء والمسافر باد وهو خلاف الحاضر (¬7). واختلفوا في أن العاكف والباد في إيش (¬8) يستويان؟. فذهب (¬9) الأكثرون إلى أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما بأحق بالمنزل يكون فيه من الآخر. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 34، والطبري 17/ 137. (¬2) ما بين المعقوفبن ساقط من (ظ). (¬3) رواه الطبري 17/ 138 بمعناه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 221. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 421. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 291. (¬7) انظر: "لسان العرب" 14/ 67 (بدا). (¬8) غير منقوطة في (أ). ومعنى إيشٍ: أي شيء. (¬9) في (ظ): (فذكر).

وقال عبد الرحمن بن سابط: العاكف فيه ومن يجيء من الحجاج والمعتمرين سواء في المنازل غير أن لا يخرج أحد من بيته (¬1). وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وابن زيد، وأبي صالح (¬2). ومن مذهب هؤلاء: أن كراء دور مكة وبيعها حرام لقوله تعالى {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} فجعل الطارئ كالمقيم فيه فليس أحد أحق بمنزلة من أحد إلا أن يكون سبق إلى منزل. قال أبو علي: واستواء العاكف والبادي فيه دلالة على أن (¬3) أرض الحرم لا تملك، ولو ملكت لم يستويا فيه وصار العاكف فيها (¬4) أولى بها من البادي لحق ملكه، ولكن سبيلها كسبيل المساجد الذي من سبق إليها كان أولى [بالمكان لسبقه، وسبيل المباح الذي من سبق إليه كان أولى] (¬5) به (¬6). وهذا مذهب ابن عمر، قال: سواء أكلت مُحرّمًا أو كراء دار مكة (¬7). وعلى قول هؤلاء المسجد الحرام في هذه الآية معناه الحرم كله كقوله: {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وقد مر. وقال آخرون (¬8): معنى {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في تفضيله وتعظيم ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 79 - 80، ورواه الطبري 17/ 137 بنحوه. (¬2) روى الطبري 17/ 137 هذا القول عن هؤلاء جميعًا. وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 50 أعنهم سوى قتادة. (¬3) أن: ساقطة من (ظ)، (د). (¬4) في (ظ): (فيه). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 271. (¬7) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" (جـ3ل 50أ) (¬8) في (ظ): (وقال آخرون) مكررة مرتين.

حرمته وإقامة المناسك به (¬1). وهو مذهب مجاهد (¬2) والحسن (¬3)، وقول من أجاز بيع (¬4) دور مكة. وعلى قول هؤلاء المراد بالمسجد الحرام عين المسجد الذي يصلي فيه اليوم. قال إسماعيل بن إسحاق القاضي: فظاهر القرآن يدل على أن المسجد الذي يكون فيه قضاء النسك وقضاء الصلاة، وكان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والطواف فيه، ويدعون أنهم أربابه وولاته (¬5)، وفي هذا نزل قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآية. فأما المنازل فلم تزل (¬6) لأهل مكة الدور والمساكن، غير أن المواساة تجب في أيام الموسم. وجرت في هذه المسألة مناظرة بين الشافعي وإسحاق الحنظلي -رحمهما الله- بمكة (¬7)، وكان إسحاق (¬8) لا يرخص في كراء بيوت مكة، فاحتج الشافعي عليه بقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحج: 40] فنسب الديار إلى مالكيها، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: "من أغلق بابه فهو ¬

_ (¬1) (به): ساقطة من (أ). (¬2) رواه الطبري 10/ 137 - 138. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) بيع: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬5) في (أ): (وولاه). (¬6) في (ط)، (د)، (ع): (يزل غير منقوط أوله. (¬7) انظر خبر هذه المناظرة مفصلًا في: "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم ص 180 - 181، "مناقب الشافعي" للبيهقي 1/ 213 - 215، "طبقات الشافعية" للسبكي 2/ 89 - 90. (¬8) في (ظ)، (د): (أبو إسحاق)، وهو خطأ.

آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" (¬1) وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وهل ترك لنا عقيل من رِباع؟ " (¬2). قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جميع أهل المعاني قالوا في (بإلحاد) زيادة (¬3)، معناه: ومن يُرِدْ فيه إلحادًا بظلم، وهو قول الفراء (¬4)، والأخفش (¬5)، والمبرد (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 292، ومسلم في "صحيحه" كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة 3/ 1408 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري كتاب: الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها 3/ 450، ومسلم كتاب: الحج، باب: النزول بمكة للحاج وتوريث دورها 2/ 984 من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. والربع: الدار. الصحاح للجوهري 3/ 1211 (ربع). (¬3) قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1276: تكلم الناس في دخول الباء (هاهنا)، فمنهم من قال: إنها زائدة. وهذا مما لا يحتاج إليه في سبيل العربية؛ لأن حمل المعنى على الفعل أولى من حمله على الحرف، فيقال المعنى: ومن يهم فيه بميل يكون ذلك الميل ظلمًا؛ لأن الإلحاد هو الميل في اللغة، إلا أنه قد صار في عرف الشريعة ميلا مذمومًا، فرفع الله الإشكال، وبين أن الميل بالظلم هو المراد هنا. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 363 - بعد ذكره لقول من قال إن الباء زائدة: والأولى أن تُضَمَّن (يرد) معنى (يتلبس) فيتعدى بالباء. وقال ابن كثير 3/ 214: والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى (يهم)، ولذا عداه بالباء فقال (ومن يرد فيه بإلحاد) أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار (بظلم) أي عامدًا قاصدًا أنه ظلم ليس بمتأول. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 223. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 636. (¬6) في نسبة هذا القول للمبرد والزجاج لظر. فإن أبا جعفر النحاس في كتابه "معاني القرآن" 4/ 395 بعد أن حكى عن الأخفش القول بأن الباء زائدة قال: وهذا عند أبي العباس خطأ؛ لأنه لا يزاد شيء لغير =

والزجاج (¬1). قال الفراء: سمعت أعرابيًّا من ربيعة (¬2) -وسألته عن شيء- فقال: أرجو بذاك (¬3). يريد أرجو ذاك (¬4) قال: ودخلت الباء في {بِإِلْحَادٍ} لأن تأويله: ومن يرد بأن (¬5) يلحد فيه. ودخول الباء في (أن) أسهل منه في الإلحاد؛ لأن (أن) تُضمر (¬6) الخافض (¬7) معها كثيرًا، فاجتمعت (¬8) [دخول ¬

_ = معنى. والقول عنده أن يريد ما يدل على الإرادة، فالمعنى: ومن إرادته بأن يلحد بظلم كما قال الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تَمثّلُ لي ليلى بكل سبيل وأما الزجاج فقد قال في كتابه "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 421. وقال أهل اللغة إن معنى الباء الطرح. المعنى: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم وأنشدوا: ثم ذكر الزجاج بيتين من الشعر. ثم قال: والذي يذهب إليه أصحابنا أن الباء ليست بملغاة، المعنى عندهم: ومن إرادته فيه بأن يلحد بلظم، وهو مثل قوله: أريد لأنسى ذكرها. البيت. (¬1) المرجع السابق. (¬2) ربيعة اسم لقبائل كثيرة. ولم يتميز لي المراد بهاهنا. انظر: "اللباب" لابن الأثير 2/ 15 - 16، "معجم قبائل العرب" لكحالة 2/ 420 - 426. (¬3) في جميع النسخ: بذلك. وأثبتنا ما في كتاب الفراء 2/ 223. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (بذلك)، وهو خطأ. (¬5) في (ظ): (أن). (¬6) في (د)، (ع): (يضم)، وهو خطأ. (¬7) عند الفراء في "المعاني" 2/ 223: "الخوافض" وكذا الطبري 17/ 139 حيث نقل نص الفراء من غير تصريح باسمه. (¬8) عند الفراء في "المعاني": فاحتملت، وكذا الطبري 17/ 139 حيث نقل نص الفراء من غير تصريح باسمه.

الخافض وخروجه؛ لأن الإعراب لا يتبين فيها وقل] (¬1) دخولها في المصادر لتبين الإعراب (¬2) فيها وأنشد (¬3): ألا هل أتاها والحوادث جَمَّة ... بأنَّ أمرأ القيس بن تَمْلِك بيقرا (¬4) فأدخل الباء على (أن) وهي في موضع رفع (¬5). وقال المبرد: قال آخرون: إنما يحمل هذا على مصدره. والمعنى: من كانت إرادته واقعة بالإلحاد (¬6)، فدخلت الباء للمصدر. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬2) عن الفراء في "المعاني": لتبين الخفض والرفع فيها. (¬3) في (أ) قلا دة: (الشاعر)، بعد قوله: وأنشد. والأولى حذفها. (¬4) البيت أنشده الفراء2/ 222 لامرئ القيس، وهو في "ديوانه" 392 من رواية السكري وغيره، والطبري 17/ 139، و"الصحاح" للجوهري 2/ 595 (بقر)، "لسان العرب" 4/ 75 (بقر)، و"خزانة الأدب" 9/ 524 - 527. وهذا البيت من قصيدة طويلة قالها بعد أن ذهب إلى الروم مستنجدًا بقيصر للأخذ بثأر أبيه. قال البغدادي في "الخزانة" 9/ 526. قوله: (ألا هل أتاها) الضمير لحبيبته، وقوله (والحوادث جمة) أي كثيرة، جملة اعتراضية بين الفعل وفاعله ... ، وفائدة الاعتراض: الإخبار بأن هجرته عن بلاده حادئة من الحوادث، والعرب تتمدح بالإقامة في البدو .. و"تملك" -بفتح المثناة الفوقية: اسم امرأة. فمنهم يعني من الشراح- من قال: أمه تَمْلك، ومنهم من قال جدته، ويحتمل أن تكون جدته من قبل أمه أو أمهاتها. والله أعلم. أهـ و (بيقرا): (قيل: بَيْقَرا لرجل بيقرة، إذا هاجر من أرض إلى أرض، وقيل: بَيْقر الرجل أقام بالحضر وترك قومه بالبادية. وقيل: بيقر الرجل إذا خرج من الشام إلى العراق. "الصحاح" للجوهري 2/ 595، "لسان العرب" 4/ 75. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 222 - 223. (¬6) في (ظ)، (د)، (ع): (على الإلحاد).

وأنشد الزجاج (¬1) على هذا المذهب قول كثير: أُريد لأنْسى ذكرها ... البيت قال: والمعنى: إرادتي لهذا، ومعنى الإلحاد في اللغة: العدول عن القصد (¬2). وذكرنا ذلك في سورة النحل (¬3). واختلفوا في المراد بالإلحاد بالظلم المتوعد عليه بالعذاب الأليم: فقال مجاهد وقتادة: هو الشرك وعبادة غير الله (¬4). وهو قول عطاء (¬5)، وهو قول حبيب بن أبي ثابت، والكلبي. وذكر هو سبب نزوله قال (¬6): نزل في عبد الله بن خطل (¬7) حين قتل ¬

_ (¬1) البيت أنشده الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 421 من غير نسبة، وهو بتمامه: أريد لأنسى ذكرها فكأنَّما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل وهو في "ديوان كثير" ص 108، "الكامل" للمبرد 3/ 97، و"أمالي القالي" 2/ 63، "لسان العرب" 3/ 188 (رود)، و"المقاصد النحوية" للعيني 2/ 249، و"خزانة الأدب" 10/ 329. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 421. (¬3) عند قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103]. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 50 ب عنهما. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 34، والطبري 17/ 140 عن قتادة. (¬5) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 155 ب) من طريق حبيب بن أبي ثابت، عنه قال: القتل والشرك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 29 وعزاه لسعيد وعبد ابن حميد وابن المنذر. وقال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 394: وروى هشيم، عن الحجاج، عن عطاء (ومن يرد فيه بإلحاد) قال: من عبد غير الله عز وجل. وقد تقدم أن الرواية عن عطاء هي من طريقه. وجاء عنه تفسير آخر، فروى الطبري 17/ 141 عنه قال: هم المحتكرون الطعام بمكة. (¬6) في (ظ): (وقال). (¬7) هو: عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل: غالب بن هلال بن خطل، اسم خطل:=

الأنصاري، وارتد وهرب إلى مكة (¬1)، فنزل فيه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} يعني يميل عن الإسلام، ثم يظلم، فيدخل الحرم بشرك (¬2). وقال آخرون: هو كل شيء كان منهيا عنه، حتى قال ابن مسعود: لو أن رجلًا بـ (عدن أبين) (¬3) همَّ أن (¬4) يعمل بسيئة عند البيت أذاقه الله عذابًا أليما (¬5). وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى، ¬

_ = عبد بن مناف، من بني تيم بن فهو بن غالب، كان اسمه عبد العُزى فأسلم فسمي عبد الله، ثم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان له مولى مسلم فغضب عليه غضبة، فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فلهذا أهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه فقتل وهو معلق بأستار الكعبة يوم فتح مكة، واشترك في قتله أبو برزة الأسلمي وسعيد بن حريث المخزومي. "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 29، "الكامل في التاريخ" لابن الأثير 2/ 169، "البداية والنهاية" 4/ 297، "فتح الباري" لابن حجر 4/ 61. (¬1) المصادر السابقة. (¬2) ذكره الرازي 23/ 25 عن مقاتل. وقد روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 215 من طريق ابن لهيعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله (ومن يرد فيه بإلحاد): (نزلت في عبد الله بن أنيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إلى مكة، فنزلت فيه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}. وسنده ضعيف، لضعف ابن لهيعة. (¬3) في (أ): (بعدان أيبن)، وهو خطأ. و (عدن أبين) مدينة مشهورة على ساحل بحر اليمن، ويقال لها (عدن أبين) للتمييز بينها وبين (عدن لاعة) في بلاد حجة باليمن. انظر: "معجم البلدان" لياقوت 6/ 126 - 127، "مراصد الاطلاع" للبغدادي 2/ 923، "معجم المدن والقبائل اليمنية" للمقحفي ص 279. (¬4) (أن): ساقطة من (ج)، (د)، (ع). (¬5) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 65 - 66 وإسحاق بن راهويه في "مسند =

فتكتب عليه ولم يعلمها (¬1). وهذا قول السدي (¬2)، وابن زيد (¬3)، ومجاهد في رواية عثمان بن الأسود (¬4). وقال ابن عباس: هو استحلال ما حرم الله (¬5). وهذا قول ابن جريج (¬6). ¬

_ = كما في "المطالب العالية" لابن حجر ص 515، و"إتحاف المهرة" للبوصيري (جـ 3 ل 90 ب)، والبزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" للهيثمي 3/ 60، والطبري في "تفسيره" 17/ 141، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 214 - 215، والحاكم في "مستدركه" 2/ 387 - 388. قال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 215 - بعد أن ذكر سند ابن أبي حاتم ورواية الإمام أحمد: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 70: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن حجر في "المطالب العالية" 3/ 352 والمسندة ص 515: (قوي الإسناد). وقال البوصيري في "إتحاف المهرة" 3/ 90 ب بعد ذكره لرواية إسحاق: هذا إسناد موقوف صحيح. (¬1) رواه الطبري 17/ 141، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 29 وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر. (¬2) انظر الطبري 17/ 140 - 141. (¬3) في الطبري 17/ 141 عنه قال: الإلحاد: الظلم في الحرم. (¬4) روى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 34 عن الثوري، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 55 ب) عن ابن المبارك كلاهما يعني الثوري وابن المبارك عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: بيع الطعام بمكة إلحاد. ورواه سعيد بن منصورل 55 ب عن إسماعيل بن زكريا عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم. (¬5) رواه الطبري 17/ 140 عنه من رواية العوفي. (¬6) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 50

وقال في رواية عطاء: هو قتل ما نهى الله عنه من الصيد، ودخول مكة بغير إحرام، وأخذ حمام مكة، وأشياء كثيرة لا يجوز للمحرم أن يفعلها (¬1). وعلى هذا القول هذا الإلحاد والظلم يختص باستحلال محظورات الإحرام وركوبها (¬2). وقوله {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال أبو إسحاق (¬3): هو خبر (إن) للمذكور في أول الآية. قال: والمعنى أن الكافرين والملحدين (¬4) في المسجد الحرام نذيقهم (¬5) من عذاب أليم. قال: ويجوز أن يكون محذوفا فيكون المعنى: إن الذين هذه صفتهم هلكوا (¬6). والعرب ربما تحذف الخبر إيجازا واختصارا كما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (لا يجوز أن يفعلها المحرم). (¬2) قال الطبري 17/ 141: وأولى الأقوال: التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس من أنه معني بالظلم في هذا الموضع: كل معصية لله، وذلك لأن الله عم بقوله (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) ولم يُخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه. وقال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 394: وأبين ما قيل فيه أن معنى (بإلحاد بظلم) لكل معصية؛ لأن الآية عامة. وقال أبو حيان في "البحر" 6/ 363 - بعد ذكره للأقوال: والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر، إذ الكلام يدل على العموم. وقال ابن كثير 3/ 215: وهذا الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها. (¬3) (إسحاق): مكان بياض في (أ). ثم (أ) بعد ذلك (وعلى هذا القول) وقد ضرب عليه الناسخ، لأنه مكرر بسبب إنتقال نظره إلى السطر الذي قبله. (¬4) (والملحدين): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬5) عند الزجاج: (نُذقُهم). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 420 مع تصرف يسير.

26

رأى عبد الله بن عمر، فقال: "إن عبد الله" (¬1). ولم يزد على هذا كأنه أراد: إن عبد الله رجل صالح، أو ما أشبهه. قال أبو إسحاق: والأول الوجه (¬2) (¬3). 26 - قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الكلام في (بوأنا) قد سبق في مواضع منها قوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 121] وقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]. وقوله {لِإِبْرَاهِيمَ} أدخل اللام ولم يدخلها في {بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4). وذكر الفراء فيه وجهين: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" 9/ 246 عن مجاهد قال: شهد ابن عمر -رحمه الله- الفتح: وهو ابن عشرين ومعه فرس حرور ورمح ثقيل فذهب ابن عمي يختلي لفرسه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن عبد الله". قال الهيثمي في "المجمع" 9/ 246: ورجاله رجال الصحيح إلا أن مجاهدًا أرسله. تنبيه: وقع في المطبوع من "مجمع الزوائد": (إن عبد الله رجل صالح) ولفظ (رجل صالح) زادها المعلق على المجمع كما نبه هو على ذلك في الحاشية حيث قال: (رجل صالح) مستدركة من "شذرات الذهب". وهذا خطأ من المعلق، فإن حديث (إن عبد الله رجل صالح) بزيادة (رجل صالح) حديث آخر رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: التعبير، باب: الاستبرق ودخول الجنة في المنام 12/ 403 عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت في المنام كأن في يدي سرقة من حرير، لا أهوي بها إلى مكان في الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إن أخاك رجل صالح)، أو قال: (إن عبد الله رجل صالح) أهـ. (¬2) في (أ): (أوجه)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن" للز جاج 3/ 420. (¬4) في (أ): (بوأنا بني إسرائيل).

أحدهما: أن اللام دخلت (¬1)؛ لأن المعنى: جعلنا (¬2) [وكذلك (¬3) فسره ابن عباس (¬4). قال أبو إسحاق: جعلنا] (¬5) مكان البيت مُبوَأً لإبراهيم (¬6). وقال مقاتل بن حيان: هيأنا (¬7). وعلى هذا اللام من صلة معنى (بوأنا) لا من صلة لفظه (¬8). الوجه الثاني (¬9): أن اللام صلة للتأكيد كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] (¬10). وقال بعض أهل اللغة: تفسير {بَوَّأْنَا} هاهنا: بيّنا له مكان البيت، يدل على هذا ما ذكره السدي: أن الله لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبنى، فبعث الله ريحا خجوجا (¬11)، فكنست له ما حول الكعبة عن الأساس الأول ¬

_ (¬1) في (أ) زيادة: (على) بعد قوله (دخلت)، ولا معنى لها. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 223. (¬3) في (أ): (ولذلك)، وهو خطأ. (¬4) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 أ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 422. (¬7) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 أ. (¬8) في (ظ)، (د)، (ع): (لفظ). (¬9) (الثاني): ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬10) "معاني القرآن" للفراء 2/ 223، وفيه: وإن شئت كان بمنزلة قوله: (قل عسى أن يكون ردف لكم) معناه: ردفكم. (¬11) عند الطبري: يقال لها ريح الخجوج. والخجوج: هي الريح الشديدة المرأ والملتوية في هبوبها. "القاموس المحيط" 1/ 184.

الذي كان البيت عليه قبل أن رفع (¬1) أيام الطوفان (¬2). وقال الكلبي: بعث الله سحابة على قدر البيت في العرض والطول فيها رأسٌ يتكلم له لسان وعينان، فقامت بحيال (¬3) البيت، وقالت: يا إبراهيم ابن علي قدري. فذلك قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} (¬4). وقال بعض أهل المعاني: {بَوَّأْنَا} أصله من (باء) إذا رجع (¬5)، وتفسير {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} جعلنا مكان البيت له مبوأ يرجع إليه بعلامة، [وتلك العلامة] (¬6) ما ذكره السدي والكلبي. قوله تعالى {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [قال الكلبي: لما فرغ إبراهيم من البيت، وطاف به أسبوعًا، أوحى الله إليه: أن يا إبراهيم لا تشرك بي شيئًا] (¬7). وعلى هذا في الكلام محذوف وهو: وأوحينا إليه، أو: وعهدنا إليه. {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أي لا تعبد معي غيري. قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (رفع)، وفي "الوسيط" 2/ 266: يرفع. (¬2) رواه الطبري 17/ 143 عنه دون قوله: الذي مكان البيت .. الطوفان. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 31 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. والله أعلم بصحة ذلك فهو من الإسرائيليات. (¬3) بحيال: أي بإزاء. "الصحاح" للجوهري 4/ 1679 (حيل). (¬4) انظر: "الدر المنثور" 6/ 30. والله أعلم بصحة ذلك. (¬5) ذكرهذا المعنى الطوسي في "التبيان" 7/ 274، والجشمي في "التهذيب" 6/ 173 من غير نسبة لأحد. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) ساقط من (ظ).

27

وفي هذا رد على مشركي مكة؛ لأنهم كانوا يَدّعون أنهم (¬1) على دين إبراهيم، فأخبر الله تعالى أنهم قد كَذَبُوا؛ لأن إبراهيم كان موحدًا قد أوحى (¬2) إليه: أن لا تشرك باللهِ شيئًا. وقال المبرد: معنى لا تشرك باللهِ شيئًا: وحد الله كأنه قيل له (¬3): وحدني في هذا البيت. قوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} قال قتادة: من الشرك وعبادة الأوثان (¬4). وقال عبيد بين عمير: من الآفات والريب (¬5). وهذا مما سبق تفسيره في سورة البقرة (¬6). قوله: {وَالْقَائِمِين} يعني: المصلين (¬7) الذين هم قيام في صلاتهم. 27 - قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} معنى التأذين: النداء والتصويت للإعلام (¬8) وذكرنا ذلك عند قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44] وقوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ} [يوسف: 70] وقوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 3]. ¬

_ (¬1) (أنهم): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬2) في (ظ): (وأوحي). (¬3) (له): ساقطة من (أ). (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 34، والطبري 17/ 143. (¬5) رواه الطبري 17/ 143. (¬6) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]. (¬7) في (ظ): (والمصلين). (¬8) انظر: (أذن) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 17 - 18، "الصحاح" للجوهري 5/ 2068، "لسان العرب" 13/ 9، 12.

قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن (¬1) في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ. فصعد إبراهيم على أبي قبيس والمقام معه، ثم صاح: يا أيها الناس إن الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام، ليثيبكم به الجنة ويجيركم (¬2) من عذاب النار. نادى ما شاء الله من ذلك، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. من (¬3) أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين على قدر ذلك. فذلك (¬4) قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} (¬5). هذا الذي ذكرنا هو (¬6) قول جماعة المفسرين إلا الحسن، فإنه قال: هذا الأمر بالتاذين للنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، ففعل ذلك حيث قال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج (¬7). وإنما قال: {يَأْتُوكَ} (¬8) وإن كانوا يأتون الكعبة، لأن المنادي كان ¬

_ (¬1) في (أ): (فأذن). (¬2) في (ظ): (يخرجكم)، وهو خطأ. (¬3) في (ظ): (فمن). (¬4) (فذلك): ساقطة من (أ). (¬5) ذكر نحو هذا ابن كثير في "تفسيره" 3/ 216 ثم قال: هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم. أهـ. وانظر الطبري 17/ 144 - 145، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 51 أ، و"الدر المنثور" للسيوطي 6/ 32 - 35. (¬6) (هو): ساقطة من (ط). (¬7) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 أوصدره بقوله: وزعم الحسن. أهـ. وهذا القول المروي عن الحسن خلاف الظاهر. (¬8) (رجالا): في (أ): (يأتوك رجالا).

إبراهيم فمن أتى الكعبة حاجًا فكأنه قد أتى إبراهيم عليه السلام، لأنه مجيب نداه. وفيه أيضا تشريف لإبراهيم حين خوطب بالإتيان. ورجال: جمع راجل، مثل: صَاحِب وصِحَاب، وقَائِم (¬1) وقِيَام (¬2). وبُدئ بذكرهم تشريفًا لهم لزيادة تعبهم. وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: وركبانًا. والضمور: الهزال، ومثله الضُّمْرُ (¬3)، ضَمُرَ يَضْمُرُ ضُمُورًا (¬4). قال ابن عباس: يريد الإبل وغيره (¬5). قال الكلبي: لا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلا وقد ضمر. وقوله {يَأْتِينَ} جمع الفعل لمعنى (¬6) كل، ولو قال يأتي على اللفظ صح (¬7). قوله {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: طريق بعيد. قاله الجميع (¬8). وذكرنا الكلام في الفج عند قوله: ميه {فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء: 31]. والعميق: البعيد. قال الليث: الفج: المضرب البعيد (¬9). ¬

_ (¬1) وقائم: ساقطة من (أ). (¬2) من قوله: (ورجال) إلى هنا منقول عن "معاني القرآن" للزجاج 3/ 422 بنصه. (¬3) الضُّمْر: بالضم وبضمتين. و (ضمر) كنصر وكرم. قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" 2/ 76 (ضمر). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 36 مادة (ضمر) نقلا عن الليث. (¬5) رواه الطبري 17/ 146 دون قوله (وغيره). (¬6) في (ظ): (بمعنى). (¬7) صح: ساقطة من (أ). (¬8) انظر الطبري 17/ 146، وابن كثير 3/ 216، و"الدر المنثور" 6/ 36. (¬9) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 290 (عمق) نقلا عن الليث. وانظر: "العين" 1/ 186 - 187 (عمق)، (معق).

وقال غيره (¬1): هو الشعب الواسع بين جبلين. قال (¬2): ويقال: مَعِيق وعَميق، العميق في الطريق أكثر. قال الفراء لغة أهل الحجاز عميق، وبنو تميم تقول (¬3): معيق (¬4). وتقول العرب (¬5): بئر عميقة ومعيقة، [وقد] (¬6) أعمقتها وأمعقتها، وقد عمُقَت ومَعُقَت مَعَاقَةَ، وإنها لبعيدة العَمْق والمَعْق (¬7). والأمْعَاق والأعْمَاق: أطراف المفازة البعيدة (¬8). قال رؤبة (¬9): ¬

_ (¬1) القائل: وقال غيره. هو الأزهري انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 295. (¬2) يعني الليث كما في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 290 (عمق)، انظر: "العين" 1/ 186 - 187. (¬3) تقول: ساقطة من (ظ). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 295 (عمق)، وليس هذا النص موجودًا في معاني الفراء انظر 2/ 224. (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (والعرب تقول). (¬6) زيادة من "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 290. (¬7) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 290 (عمق) غير منسوب لأحد. (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 290 (عمق) منسوبًا لليث. وهو في كتاب "العين" 1/ 187 (عمق) مع اختلاف يسير، ومعه بيت رؤية كاملا منسوبا إليه. (¬9) هذا شطر من أرجوزة لرؤبة في وصف مفازة، وهو في ديوانه ص 104، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 380، والطبري 15/ 88، و"تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 290 (عمق)، و"اللسان" 10/ 271 (عمق)، "خزانة الأدب" 10/ 25 - 26. قال البغدادي في "الخزانة" 10/ 25، 1/ 81: (وقاتم) مجرور بـ (رب) المحذوفة بعد الواو. وهو صفة لموصوف محذوف، أي: رب بلد قاتم. قال الأصمعي: القُتْمةُ: الغبُرة. وأسود قاتم أي رب بلد مُغْبَرّ. والأعمال: جمع عمق بفتح العين وضمها، وهو ما بعد من أطراف المفاوز. والخاوي: الخالي. و"المخترق" بفتح الراء: مكان الاختراق، من الخرق وهو الشق، استعمل في قطع المفازة.

28

وقاتم الأعماق خاوي المخترق 28 - قوله: {لِيَشْهَدُوا} أي: ليحضروا مشاهد مكة ومشاعرها. يعني: الناس الذين ذكروا في قوله {يَأْتُوكَ}. قولى: {مَنَافِعَ لَهُمْ} قال ابن عباس في رواية أبي رزين: هي الأسواق (¬1). وهو قول سعيد بن جبير والسدي: يعني التجارة (¬2). واختيار ابن قتيبة (¬3). وعلى هذا المنافع تختص بمنافع الدنيا. وقال في رواية عطاء: منافع لهم في الدنيا والآخرة (¬4). وهو قول مجاهد: يعني التجارة، وما يرضي الله سبحانه من عمل الدنيا والآخرة (¬5). والمنافع على هذا القول شائعة في الأجر والتجارة (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 3/ 51 أعنه من رواية أبي رزين. ورواه الطبري 17/ 146 عنه من رواية أبي رزين. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 37 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (¬2) ذكره عن سعيد الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب، ورواه عنه الطبري 17/ 146. وذكره عن السدي ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 424. (¬3) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 292. (¬4) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 37 عنه، وذكره ابن كثير 3/ 216 عنه رضي الله عنه ولم يبين من رواه عنه. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 36، والطبري 17/ 147. (¬6) قال ابن الجوزي 5/ 425: وهو أصح.

وقال العوفي، وسعيد بن المسيب، والباقر (¬1): هي العفو والمغفرة (¬2). فخصوا المنافع بمنافع الآخرة. وهذا القول اختيار أبي إسحاق، قال: ليشهدوا ما ندبهم الله إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم (¬3). قوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أيام الحج، وهي يوم عرفة والنحر وأيام التشريق (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ): (النامر). (¬2) ذكره عنهم جميعًا الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب. وعن الباقر رواه الطبري 17/ 147. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 423 قال الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" 17/ 147: وأولى الأقوال بالصواب: قول من قال: عني بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة، وذلك أن الله عم لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة ولم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت. (¬4) ذكره عن ابن عباس من رواية عطاء البغوي في "تفسيره" 5/ 378. وذكره الرازي 23/ 29 عنه من رواية عطاء لكن ليس فيها ذكر يوم عرفة. وهذه الرواية التي ذكرها الواحدي هنا عن ابن عباس ضعيفة. وقد جاء عن ابن عباس روايات في المراد بالأيام المعلومات أصحها أن الأيام المعلومات هي أيام العشر. رواه البخاري عنه تعليقًا بصيغة الجزم كتاب: العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق 2/ 457، ووصله ابن حجر في "الفتح" 2/ 458، و"تغليق التعليق" 2/ 377 من رواية عبد بن حميد في "تفسيره" من طريق عمرو بن دينار: سمعت ابن عباس -وفيه: والأيام المعلومات أيام العشر. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 228 من طريق هُشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: المعلومات: العشر. وإسناده صحيح. وذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 216 من رواية شعبة وهشيم، عن أبي بشر، عن=

وهذا القول اختيار أبي إسحاق (¬1). وقال الحسن وقتادة: الأيام المعلومات أيام عشر ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريق (¬2). وإنما قيل لهذه معدودات لأنها قليلة، وقيل لتلك معلومات للحرص على علمها (¬3) بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها (¬4). وقال مقاتل: المعلومات: أيام التشريق (¬5). وهذا قول القرظي، لأنه ¬

_ = سعيد عن ابن عباس. وذكر هذا القول عن ابن عباس السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 562 فقال: وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والمروزي في العيدين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الشعب والضياء" في "المختاره" من طرق، عن ابن عباس قال: الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق. (¬1) اختار أبو إسحاق الزجاج في كتابه "معاني القرآن" 3/ 423 أن الأيام المعلومات هي يوم النحر والأيام التي بعده ينحر فيها -قال: لأن الذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله: (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام). فلم يذكر الزجاج يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة ليس من أيام النحر، فقول الواحدي: وهذا القول -يعني قول ابن عباس في رواية عطاء- اختيار أبي إسحاق. خطأ. (¬2) رواه عن قتادة عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 37، والطبري 17/ 148. وذكره عن الحسن الزمخشري 3/ 11، وابن الجوزي 5/ 425، وابن كثير 3/ 216. وهذا القول هو أصح الروايات عن ابن عباس كما قدمنا. وهو قول أكثر المفسرين كما قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 216 - بعد ذكره هذا القول عن ابن عباس: وروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وسعيد بن حبير، والحسن والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي، وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل. أهـ. (¬3) في (أ): (عملها)، وهو خطأ. (¬4) هذا قول الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان" (جـ 3 ل 51 ب). (¬5) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 51 ب.

جعل المعدودات والمعلومات واحدة (¬1). والاختيار قول ابن عباس. قال أبو إسحاق: لأن الذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬2). [يعني أن هذه الأيام يجب أن تختص بأيام الذبح، لأن قوله {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬3) المراد به التسمية عند الذبح. قال قتادة: كان (¬4) يقال: إذا ذبحت نسيكتك فقل: بسم الله والله أكبر، اللهم منك عن فلان (¬5). ونحو هذا ذكر الكلبي. وأول وقت الذبح يوم النحر إذا طلعت الشمس، ومضى من اليوم مقدار صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن ذبح قبل هذا لم يحتسب من الضحايا، وآخر أيام الذبح إذا غربت الشمس يوم الثالث عشر، فهي أربعة أيام، والليالي في خلال هذه الأيام وقت (¬6) ذبح (¬7). ومن فسر المعلومات بالعشر من ذي الحجة قال: لما كان يقع هذا النوع من الذكر في آخر يوم منها جاز أن يوصف الذكر بأنه فيها كلها، لأن هذا اليوم وهو اليوم العاشر من جملة العشر فالذكر واقع في العشر، والعشر ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 423. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) (كان): ساقطة من (أ). (¬5) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 37 وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬6) في (ظ): (للذبح). (¬7) انظر: "الأم" 2/ 187، "الحاوي الكبير" للماوردي 4/ 378، "المغني" لابن قدامة 5/ 300 - 301، "روضة الطالبين" للنووي 3/ 199 - 200، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 42 - 44.

ليس تخلو من هذا الذكر. قوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} أي: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام. قال ابن عباس: يريد البدن من الإبل والبقر والضأن والمعز، كل ذلك يريدون بها الله سبحانه وتعالى. و {بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} هي الأنعام، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في أول سورة المائدة. وفي هذا دليل على أن الضحايا والهدايا مختصة بالأنعام، وتفسيرها ما ذكره ابن عباس، وذكرناه في مواضع (¬1). قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} قال ابن عباس: أجاز الله تعالى الأكل مما أهديت، وأما الكفارة فلا يأكل منها أصحابُها. قال أبو إسحاق: {فَكُلُوا مِنْهَا} ليس بأمر لازم، من شاء أكل من أضحيته ومن شاء لم يأكل، وإنما هو إباحة كما قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وإنما قال {فَاصْطَادُوا} لأنه قد كان حظر عليهم الصيد وهم محرمون، فأباح لهم الصيد، وكذلك هذا الأمر هاهنا بعد حظرهم كان (¬2) على أنفسهم أكل الأضاحي، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لم يستحلوا أن يأكلوا من نسائكهم شيئًا، فأعلم الله عز وجل أن ذلك جائز (¬3). هذا معنى قول ابن عباس: أجاز الله الأكل بما أهديت. وقوله (¬4) (أما الكفارة فلا يأكل منها أصحابها): كل هدي كان صاحبه متطوعًا به جاز له ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. (¬2) كان: ليست عند الزجاج، وهي في جميع النسخ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 423. (¬4) يعني ابن عباس.

الأكل، فأما إذا كان كفارة وجبرانًا لنقصان نسك أو ترك نسك، فلا يجوز له أن يأكل منه، وذلك مثل دم القرآن والتمتع (¬1)؛ لأنه وجب بترك أحد الميقاتين، وكذلك دم الإساءة لأنه وجب بسبب مجاوزة الميقات وكذلك دما (¬2) القَلَمِ والحلق وسائر المحظورات (¬3)، وإنما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من لحم هديه (¬4)، لأنه أفرد الحج فلم يجب عليه في حجه دم (¬5). والذي ذكرنا في قوله {فَكُلُوا} أنه أمر إباحة هو قول جميع المفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) هذا مذهب الشافعي. وذهب جمهور العلماء إلى جواز الأكل من دم القرآن والتمتع، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل من هديه وكان قارنًا، وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تمتعن معه في حجة الوداع، وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة، ثم ذبح عنهن النبي -صلى الله عليه وسلم- البقرة، فأكلن من لحمها. انظر تفصيل ذلك في: "صحيح البخاري" كتاب: الحج، باب: ما يأكل من البدن 3/ 557 - 558، "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 236، "المغني" لابن قدامة 5/ 444 - 446. (¬2) في (ظ): (دم). (¬3) انظر: "الأم" 2/ 184، "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 337، "الحاوي" 4/ 187، "المغني" 5/ 444 - 446، "روضة الطالبين" 3/ 221 - 222، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 44. (¬4) روى مسلم في "صحيحه" كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/ 892 من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. (¬5) الصواب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا للأحاديث الصحيحة الصريحة، ومن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" كتاب: الحج، باب: جواز التحلل بالإحصار وجواز القرآن 2/ 904 عن ابن عمر أنه أوجب حجا مع عمرته، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثم قال: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وانظر بسط القول في هذا الأمر وتحقيقه في "زاد المعاد" لابن القيم 2/ 107 - 122. (¬6) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 235.

قال إبراهيم ومجاهد: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل. وكان أهل الجاهلية إذا نحروا لم يستحلوا أكل ذبائحهم (¬1). قوله {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} قال ابن عباس: البائس: الذي ظهر بؤسه في ثيابه ووجهه، وبان البؤس عليه. والفقير الذي لم يظهر بؤسه، وثيابه نقيه، ووجهه وجه غني (¬2). وهذا الذي ذكره يوجب الفرق بينهما، وحينئذ فيجب أن يكون (والفقير) بواو العطف، وإذا ذكر معه (¬3) بغير حرف العطف فهو من صفة البائس. والبائس: الذي ناله (¬4) بؤس، وهو شدة الفقر. يقال: قد بؤس وبئس، إذا صار ذا بؤس. ذكر ذلك الزجاج (¬5). وروي عن ابن عباس: أنه فسر البائس هاهنا بالزَّمِن (¬6). ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" ل 156 ب، والطبري 17/ 148 عن إبراهيم دون قوله (وكان أهل .. وذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 217 عن إبراهيم بنحو ما ذكره الواحدي مع تقديم وتأخير. وذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 37 بلفظ (كان المشركون لا يأكلون ذبائح نسائكهم) فأنزل الله (فكلوا ..) فرخص للمسلمين فمن شاء .. وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وعن مجاهد رواه الطبري 17/ 148 دون قوله: وكان المشركون. (¬2) ذكره عنه الرازي 23/ 29. (¬3) (معه): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬4) في (أ): (يناله). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 423. (¬6) رواه الطبري 17/ 148 من رواية العوفي عنه.

وقال عطاء ومجاهد: هو الذي يسألك (¬1) ويمد إليك يده (¬2). قال أصحابنا: من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} فتقسم الأضحية على هذين الأمرين (¬3)، ومنهم من قال: يقسمها أثلاثًا لما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت، ألا فكلوا (¬4) وادخروا (¬5) وائتجروا" (¬6) أي: اطلبوا الأجر بالإطعام. فيقسمها أثلاثًا على الأوامر الثلاثة (¬7). الدافة: الجماعة التي (¬8) يدفون أي: يسيرون سيرًا ليس بالشديد (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (يسأل). (¬2) رواه الطبري 17/ 149. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 38. وعزاه لعبد بن حميد. (¬3) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي 4/ 385، "روضة الطالبين" للنووي 3/ 223. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (كلوا). (¬5) في (أ): (فادخروا). (¬6) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 51، ومسلم في "صحيحه" كتاب: الأضاحي 3/ 1561، وأبو داود في "سننه" كتاب: الأضاحي باب: حبس لحوم الأضاحي 8/ 7 - 8، والنسائي في "سننه" كتاب: الضحايا، باب: الادخار من الضحايا 7/ 235 من حديث عائشة رضي الله عنها باللفظ المذكور هنا، لكن في روايتهم (وتصدقوا) بدل (وائتجروا). وقد وردت هذه اللفظة في الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" كتاب: الأضاحي، باب: حبس لحوم الأضاحي 8/ 9 من حديث نبيشة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم، فقد جاء الله بالسعة، فكلوا وادخروا وائتجروا". (¬7) انظر: "الحاوي الكبير" 4/ 380، "روضة الطالبين" 3/ 223. (¬8) (التي): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬9) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 14/ 72 (دف) من رواية أبي عبيد، عن أبي عمرو.

29

ولعل قومًا وردوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنهى أصحاب الضحايا عن أكلها لتشبع الواردة (¬1). 29 - قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال أبو إسحاق: أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير (¬2). وقال النضر: التفث: النسك من مناسك الحج، رجل تَفِث: أي: مُغْبرٌّ (¬3) شعث، لم يدَّهن ولم يستحد (¬4). قال الأزهري: لم يفسر أحد من اللغويين التفث كما فسره ابن شميل، جعل التفث الشعث، وجعل قضاءه إذهاب الشعث بالحلق وما أشبهه (¬5). وقال ابن الأعرابي في قوله {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال: قضاء حوائجهم من الحلق والتنظيف (¬6). وقال المبرد: التفث هاهنا فضول الشعر والأظفار من شعر الإبطين والعانة، وأصل التفث في كلام العرب: فعل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها و {لْيَقْضُوا} أي: ليحكموا (¬7) الأمر فيه (¬8). ¬

_ (¬1) في حديث عائشة الذي تقدم تخريجه: (دف أهل أبيات من أهل البادية حُضرة الأضحى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادخروا ثلاثًا ثم تصدقوا بما بقي" الحديث. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 423. (¬3) في (أ): (مغير). (¬4) قول النضر بن شميل في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 266 (تفث). (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 266 (تفث). (¬6) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 267 (تفث). (¬7) في (أ): (فيحكموا). (¬8) ذكره الرازي 23/ 30 عن المبرد.

هذا كلام أهل اللغة في التفث، والأمر على ما قاله الزجاج، وليس له أصل في اللغة يسند إليه وإنما عرف ذلك من التفسير. ويشبه أن يكون الأمر على ما ذكره المبرد من (¬1) أن التفث معناه في اللغة: الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار. والقلم والحلق من أعمال الحج، ثم سمى أعمال الحج كلها التفث. يدل (¬2) على هذا ما روي عن عكرمة أنه قال: التفث. الشعر والظفر (¬3). يعني ما طال منهما. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الذبح، وحلق الرأس والشعر كله، وقص الأظفار (¬4). وقال في رواية الوالبي: هو وضع الإحرام بحلق الرأس، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحوها (¬5). ¬

_ (¬1) من: ساقطة من (أ). (¬2) في (ظ): (ويدل). (¬3) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 84، والطبري 17/ 149. (¬4) روى سعيد بن منصور في "تفسيره" 156 أ، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 85، الطبري في "تفسيره" 17/ 149، والأزهري في "تهذيب اللغة" 14/ 266 من طريق عبد الملك بن أبي سيمان، عن عطاء، عن ابن عباس قال في التفث: حلق الرأس، والأخذ من العارضين، ونتف الإبط، وحلق العانة، والموقف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة، ورومي الجمار، وقص الأظفار وقص الشارب والذبح. هذه رواية سعيد بن منصور وليس في رواية ابن أبي شيبة ذكر الموقف بعرفة أو السعي، ورواية الطبري نحو رواية سعيد، ورواية الأزهري نحو رواية ابن أبي شيبة. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب من رواية الوالبي. ووراه الطبري 17/ 150 من رواية الوالبي، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 40 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال في رواية عكرمة: قضاء النسك كله (¬1). وهو قول ابن عمر (¬2)، ومجاهد (¬3)، والقرظي (¬4) أنه: مناسك الحج: من الوقوف والطواف، والسعي، ورمي الجمار، وأخذ الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، وقص الأظفار. قال أبو إسحاق: كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال (¬5). قال أصحابنا: ذكر الله تعالى النحر في الآية الأولى في قوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ثم عقب ذلك بقضاء التفث؛ فدل على أن ترتيب أفعال يوم النحر: أن يبدأ الحاج بنحو الهدي بعد رمي الجمار ثم بالحلق وهذا من طريق الندب بالسنة لا من طريق الوجوب (¬6). وأفعال يوم النحر أربعة: الرمي، والنحر، والحلق، والطواف، وهو طواف القرض. ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن سعى على إثر طواف ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 5/ 426 وابن كثير في "تفسيره" 3/ 217 من رواية عكرمة، عنه. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 85، والطبري 17/ 149. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 39 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 85، والطبري 17/ 149. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 40 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 85، والطبري 17/ 149. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 40 وعزاه لابن أبي شيبة. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 424. (¬6) انظر: "الحاوي" 4/ 186، "المغني" 5/ 320، "روضة الطالبين" 3/ 102.

القدوم، وإن كان قد سعى يحسب له ذلك (¬1) من فرض حجه؛ لأن السعي يجوز أن يتقدم على الوقوف بعرفة، ولكن لا يصح سعي إلا في إثر طواف (¬2). وطواف الفرض لا يصح إلا بعد الوقوف بعرفة. وتقديم أفعال يوم النحر بعضها على بعض يجوز (¬3)، وما (¬4) سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[يوم النحر] (¬5) عن شيء (¬6) قدم أو أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" (¬7). والقراءة في تسكين لام {لْيَقْضُوا} وتحريكها ذكرنا وجهها عند قوله {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (¬8). وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال ابن عباس: هو نحو ما نذروا من البدن (¬9). وقال مجاهد: يعني نذر الحج والهدي، وما نذر الإنسان من ¬

_ (¬1) (ذلك): ساقطة عن (أ). (¬2) انظر: "الحاوي" 4/ 157، "المغني" 5/ 240، "روضة الطالبين" 3/ 90. (¬3) وهذا قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم. والحديث الآتي ذكره دليل عليه. انظر: "الأم" 2/ 183، "الحاوي" 4/ 186 - 187، "المغني" 5/ 320، "روضة الطالبين" 3/ 102. (¬4) في (د)، (ع): (ومما)، وهو خطأ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬6) في (ظ): (عن شيء يوم النحر)، تقديم وتأخير. (¬7) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الحج، باب: الفتيا على الدابة عند الجمرة 3/ 569، ومسلم في "صحيحه" كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحو قبل الرمي 2/ 948 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬8) في (أ): (ثم ليقضوا)، وهو خطأ. (¬9) رواه الطبري 17/ 150 من رواية علي بن أبي طلحة، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 40 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

شيء يكون في الحج (¬1). والمعنى: وليوفوا بما (¬2) نذروا لله من هدي وبدنة وغير ذلك. وقال بعضهم: يعني الذين نذروا أعمال البر في أيام حجهم أمرهم الله بالوفاء بها (¬3). وربما ينذر الرجل أن يتصدق إن رزقه الله لقاء الكعبة (¬4). وإن كان على الرجل نذور مطلقة لا يتقيد بأهل بلدة (¬5) مخصوصة فالأفضل (¬6) أن يتصدق ويهدي إلى الكعبة وأهلها فذلك قوله {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي: وليتموها بقضائها، ولذلك لم يقل بنذورهم كما قال {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111] وقال {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} [الفتح: 10]؛ لأن المراد به الإتمام. والإتمام لا يقتضي الجارة. قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يعني الطواف الواجب ويسمى (¬7) طواف الإفاضة، لأنه يكون بعد الإفاضة من عرفات، ويُسمى طواف الزيارة لأنه يزور البيت (¬8) بعد الوقوف (¬9). ويكون هذا الطواف في يوم النحر أو بعده. ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 40. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 40 مختصرًا، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) في (أ): (مما). (¬3) ذكره ابن الجوزي 5/ 427 من غير نسبة لأحد. (¬4) يعني رؤية الكعبة. (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (بلد). (¬6) في (أ): (والأفضل). (¬7) في (أ): (وسمي). (¬8) في (أ): (إليها)، وهو خطأ. (¬9) في (أ): (الطواف)، وهو خطأ.

قال عطاء عن ابن عباس: إن كانت معك امرأة فإذا رميت (¬1) جمرة العقبة وزرت البيت حلت لك، وإن لم (¬2) تكن معك امرأة فلا (¬3) عليك أن تزور البيت حتى تفرغ من جميع أيام الجمار. يعني بالزيارة الطواف. قال أصحابنا: الآية تدل على وجوب الطواف بالبيت. فلو طاف فدخل (¬4) الحجر أو مشى على جدار الحجر لم يحسب طوافه؛ لأنه طاف في البيت (¬5)، وذلك أن الحجر من البيت (¬6). وقوله {الْعَتِيقِ} روى (¬7) ابن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما سَمَّى الله (¬8) البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط" (¬9). ¬

_ (¬1) في (ظ): (فارميت)، وهو خطأ. (¬2) (لم): ساقطة من (ظ). (¬3) في (د)، (ع): (ولا). (¬4) في (ظ): (ودخل)، وفي (د)، (ع): (أو دخل). (¬5) في (ظ): (بالبيت). (¬6) انظر: "الأم" 2/ 150 - 151، "الحاوي الكبير" للماوردي 4/ 149، "روضة الطالبين" للنووي 3/ 80 - 81. (¬7) في (أ): (وروى). (¬8) في (د)، (ع): (إنما سمي البيت العتيق). (¬9) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 201، والترمذي في "سننه" كتاب: التفسير، سورة الحج 9/ 14، والبزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" 2/ 45، والطبري في "تفسيره" 17/ 151 - 152، والحاكم في "مستدركه" 2/ 389، والواحدي في "الوسيط" 3/ 268 - 269 كلهم من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث، عن ابن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن ابن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، به. وضعفه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 296، بعبد الله بن صالح كاتب الليث. وضعف هذا الحديث الألباني كما في "ضعيف الجامع" 2/ 210.

وهذا قول مجاهد وقتادة وابن عباس والكلبي (¬1)، قالوا: أُعتق من الجبابرة، فلم يسلط عليه جبار أراد دخوله، ولكن يذل له ويتواضع. وهذا القول أكثر ما جاء في التفسير (¬2). وقال سفيان بن عيينة: سمي بذلك لأنه لم يملك قط (¬3).-هو قول مجاهد- في رواية عبيد المكتب (¬4) - قال: ليس لأحد فيه شيء (¬5). فعلى هذا يُسمي العتيق؛ لأنه لم يدعه أحد من الناس. قال الزجاج: وقيل {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الذي أعتق من الغرق أيام الطوفان (¬6)، ودليل هذا القول {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} ¬

_ (¬1) ذكره عن مجاهد وقتادة وابن عباس: الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 51 ب. وعن مجاهد رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 37، والطبري 17/ 151، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 41 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وعن قتادة رواه الطبري 17/ 151. وعن ابن عباس رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 41. (¬2) انظر: الطبري 17/ 151، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 51 ب. (¬3) ذكره عن ابن عيينة الثعلبي في "الكشف والبيان" (جـ 3 ل 52 أ). والبغوي 5/ 382، وابن الجوزي 5/ 428. (¬4) هو عبيد بن مهران المكتب، الكوفي، مولى لبني ضَبَّة. روى عن مجاهد والشعبي وغيرهما. وهو ثقة قليل الحديث. "طبقات ابن سعد" 6/ 340، "الكشاف" للذهبي 2/ 239، "تهذيب التهذيب" 7/ 74، "تقريب التهذيب" 1/ 545. (¬5) ذكره الثعلبي 3/ 52 أ. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 37 - وقد تصحف فيه المكتب إلى المكتري- والطبري 17/ 151 عن مجاهد من رواية عبيد المكتب. (¬6) وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة. انظر ابن كثير 3/ 218، و"الدر المنثور" 6/ 41.

30

[الحج: 26] وهذا دليل أن البيت رفع وبقي مكانه (¬1). وعلى هذه الأقوال العتيق بمعنى: المعتق. يقال: أعتقت المملوك فهو معتق وعَتِيقٌ (¬2). فالبيت (¬3) مُعتقٌ من الجبابرة ومن ملك الناس ومن الغرق. وقال الحسن: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: البيت القديم (¬4). وهو قول ابن زيد (¬5) ودليل هذا التأويل قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية. وعلى هذا القول {الْعَتِيقِ}: فعيل من عتق يعتق إذا صار عتيقًا قديمًا (¬6). وقول من قال إن العتيق: بمعنى الكريم من قولهم: فرس عتيق ليس بشيء؛ لأن معنى العتيق في الخيل: السابق، يقال عتقت الفرس إذا سبقت الخيل فنجت (¬7) (¬8). وليس يحسن هذا المعنى في البيت. 30 - قوله تعالى: {ذَلِكَ} قال أبو إسحاق: موضع (ذلك) رفع. المعنى: الأمر ذلك (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 424. (¬2) هذا قول الزجاج بنصه 3/ 424. (¬3) في (أ): (قال فالبيت). (¬4) ذكره عنه الزجاج 3/ 424. وذكره السيوطي بمعناه في "الدر المنثور" 6/ 41 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) رواه الطبري 17/ 151. (¬6) انظر (عتق) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 210، "الصحاح" للجوهري 4/ 1250. (¬7) (فنجت): ساقطة من (أ). (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 210 من رواية أبي عبيد عن الأصمعي. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 424.

يعني ما ذكر من أعمال الحج. وقوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} قال الليث: الحرمة ما لا يحل انتهاكه، وتقول: فلان له حُرمة، أي تحرم منا لصحبة (¬1) أو حق (¬2). وقال الزجاج: الحرمة: ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه (¬3). وأما معنى الحرمات -هاهنا- فقال عطاء: هي معاصي الله (¬4). وعلى هذا الحرمات: هي ما نهي عنها، ومنع من الوقوع فيها وانتهاكها، وتعظيم حرمات الله ترك ما حرمه الله. وقال مجاهد: الحرمة مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه (¬5). فزاد مجاهد المناسك والمأمور بقيامها، وقد جمع في هذا القول المأمور به والمنهي عنه [فالمأمور به من مناسك الحج حرم التفريط فيه] (¬6) والمنهي عنه من المعاصي حرم ملابستها فهي كلها حرمات. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد فرائض الله عز وجل وسننه (¬7). وهذا القول هو أجمع الأقوال لأنه يجمع المأمور به والمنهي عنه. ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (الصحبة)، وهو خطأ. وعند الأزهري: تحرم بنا بصحبة أو بحق. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 44 (حرم) نقلا عن الليث، وهو في "العين" 3/ 223 وفيه: بصحبة وبحق. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 424. (¬4) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 44 عنه، وعزاه لعبد بن حميد. (¬5) رواه الطبري 17/ 153، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 44 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬7) ذكره القرطبي 12/ 54 من غير نسبة.

وكثير من أهل التأويل اختاروا في معنى الحرمات هاهنا أنها المناسك، لدلالة ما يتصل بها من الآيات عليه، فقال أبو إسحاق: {حُرُمَاتِ اللَّهِ}: الحج والعمرة وسائر المناسك. ثم قال: وكل ما فرضه الله فهو من حرمات الله (¬1). يعني أن تفسير الحرمات في هذه الآية ما ذكر، ويجوز أن يسمى الفرائض كلها حرمات الله؛ لأنها مما يحرم التفريط فيها. وقال ابن قتيبة: يعني رمي (¬2) الجمار، والوقوف بجمع، وأشباه ذلك، وهي شعائر الله (¬3). وهذه كلها (¬4) من المناسك. وعلى هذا تعظيم المناسك: القيام بها. وخص ابن زيد الحرمات بما يقع عليه اسم الحرام، فقال: الحرمات: هي خمس: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام (¬5) (¬6). ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وقد مر. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 424. (¬2) (رمي): ساقطة من (ظ). (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 292. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (وهذا كله). (¬5) (والإحرام): ساقطة من (أ). (¬6) رواه الطبري 17/ 153 وليس في روايته هي خمس، والإحرام وكذا ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 أبمثل رواية الطبري. وذكره البغوي 5/ 383 بمثل رواية الواحدي دون قوله: هي خمس. وذكره أبو حيان في "البحر" 6/ 366 بمثل رواية الواحدي لكن بدل الإحرام: المحرم حتى يحل.

وقوله: {فَهُوَ} أي: التعظيم. والفعل يدل على المصدر، فكنى عنه (¬1). وقوله {خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} يعني في الآخرة. وقال ابن عباس: فإن ذلك زيادة له في طاعة الله والمخافة منه. وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} يعني: الإبل والبقر والغنم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي: تحريمه يعني في سورة المائدة من الميتة والمنخنقة. الآية (¬2). قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} الرجس: الشيء القذر. وكل قذر رجس (¬3). وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وقوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} [الأنعام: 125]. والأوثان: جمع وثن. قال شمر: الأوثان عند العرب: كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها، وكانت النصارى تنصب الصليب وتعظمه، وهو كالتمثال، ولذلك سماه الأعشى وثنًا، فقال: تطوف (¬4) العُفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 366. (¬2) وهي الآية الثالثة من سورة المائدة. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 581 (رجس). (¬4) في (ظ)، (ع): (تطوف): وفي (د): (يطوف) وفي (أ): (بطوف)، وفي "تهذيب اللغة" (تطوف). (¬5) البيت في "ديوانه" ص 21 ص قصيدة يمدح بها قيس بن معد يكرب، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 88، و "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 224 (عفا)، 15/ 144 (وثن)، و"اللسان" 13/ 443 (وثن).

أراد بالوثن: الصليب. وسمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصليب وثنًا كما سماه الأعشى (¬1)، وهو ما روي أن عدي بن حاتم قال: قدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "ألق هذا الوثن عنك" (¬2) أراد به الصليب (¬3). واشتقاق هذا اللفظ من قولهم: وَثَن الشيء، إذا قام في مكانه وثبت. والواثن: الشيء المقيم الراكد في مكانه. قال رؤبة: على أخلاء الصَّفاء الوُثَّن (¬4) ¬

_ = والعفاة: جمع عاف ومعتف، وهو كل من جاءك يطلب فضلا أو رزقًا. "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 224 (عفا). (¬1) قوله: وسمى .. الأعشى. هذا من كلام الواحدي. أما شِمْر فإنه بعد أن فسَّر الوثن في البيت بالصليب قال: وقال عدي بن حاتم: قدمت. (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 106، والترمذي في "جامعه" كتاب: التفسير، سورة براءة 8/ 492، والطبري في "تفسيره" 14/ 210 (شاكر)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 42 ب، والطبراني في "الكبير" 17/ 92، والبيهقي في "سننه" 10/ 116. وقد حسن هذا الحديث أبو العباس بن تيمية في كتابه "الإيمان" ص 64، وحسنه الألباني في كتاب "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" ص 19، 20. (¬3) قول شمر في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 144 (وثن). (¬4) هذا الشطر من الرجز لرؤبة أنشده الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 145 في سياق كلام نقله عن الليث، ثم قال الأزهري: قال الليث: يروى بالثاء والتاء. قال الأزهري: المعروف: وتَنَ يَتِنُ وتونا، بالتاء .. ولم أسمع (وثن) بهذا المعنى لغير الليث، ولا أدري أحفظه عن العرب أم لا؟ أهـ. وهذا الشطر في "لسان العرب" 13/ 442 (وتن، وثن). وهو في "ديوان رؤبة" ص 163 ضمن أرجوزة يمدح بها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وروايته في الديوان (الوُتَّنِ).

[يعني الدوم (¬1) على العهد] (¬2) (¬3). فسمى الصنم وثنًا، لأنَّه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. والمعنى: كونوا على جانب من الأوثان فإنها رجس. قال ابن عباس: يريد عبادة الأوثان (¬4). وعلى هذا فالرجس عبادة الأوثان، لأنها سبب الرجس، وهو المأثم في قول الكلبي (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: الرجس: العذاب (¬6). وهو قول ابن زيد (¬7). وقال الزجاج: الرجس: اللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة (¬8). وهذا الأقوال ذكروها في قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} [الأنعام: 125]. قال الأخفش في هذه الآية: المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها. أي: عبادتها (¬9). ¬

_ (¬1) (الدوم): ساقط من (د)، (ع). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬3) من قوله: الواثن: الشيء .. إلى هنا. نقلا عن "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 145 (وثن) وهو منسوب فيه إلى الليث. (¬4) روى الطبراني 17/ 154 من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: فاجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان. (¬5) ذكره عنه البغوي في "تفسيره" 3/ 187. (¬6) ذكره البغوي3/ 187، وابن الجوزي 3/ 121 عن عطاء. (¬7) رواه عنه الطبري 12/ 111 (شاكر). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 2/ 290. (¬9) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 638.

وعلى هذا سميت عبادتها رجسًا؛ لأنها تؤدي (¬1) إلى الرجس الذي هو اللعنة والعذاب. وعلى قول الكلبي هي رجس؛ لأنها مأثم. وقال أبو إسحاق: (من) هاهنا تخليص (¬2) جنس من أجناس (¬3)، المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن (¬4). وهذا قول أكثر أهل التأويل جعلوا (من) هاهنا تبيينًا للجنس. وعلى هذا الرجس: الوثن، سمي رجسًا كما سمي عبادتها (¬5) رجسًا في القول الأول. وليس الرجس في هذه الآية من القذارة والاستقذار في شيء. وقال المبرد: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} والأوثان كلها رجس، وتأويله -والله أعلم: فاجتنبوا الرجس (¬6) المضاف إلى هذا الاسم، كما قال -عز وجل- في وصف أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] وكلهم مؤمن، ولكن تأويله -والله أعلم-: المضافين إلى هذا الوصف. قال: ومن ذلك قول سيبويه في أول كتابه: هذا باب علم ما الكلم من العربية (¬7)، أي: ما الكلم المضاف ¬

_ (¬1) في (أ): (لا تؤدي)، وهو خطأ. (¬2) عند الزجاج في "معانيه": لتخليص. (¬3) هو أن تذكر شيئًا تحته أجناس، والمراد أحدها، فإذا أردت واحدًا منها بينته، كهذه الآية. فلو اقتصر على الرجس لم يعلم المراد، فلما صرح بذكر الأوثان علم أنها المراد من حسن الرجس. وقرنت بـ (من) للبيان. انظر: "شرح المفصل" لابن يعيش 8/ 12، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 349 - 350، "البرهان" للزركشي 4/ 417. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 425. (¬5) في (أ): (عادتها). (¬6) (الرجس): ساقط من (أ). (¬7) "الكتاب" لسيبويه 1/ 12.

إلى هذه اللغة التي يقال لها العربية؛ لأن الكلم بعضها، كما أن الرجس ليس بعض الأوثان. انتهى كلامه (¬1). وهذا هو معنى ما ذكره الزجاج. قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الزور (¬2): الباطل والكذب (¬3). واختلفوا في معنى قول الزور -هاهنا- فذهب قوم إلى أنه الشرك بالله. وهو أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك (¬4) هو لك (¬5) يريدون الصنم. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد قولهم: الملائكة بنات الله. وروى خريم بن فاتك (¬6): أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام خطيبًا، فقال: "عدلت شهادة الزور بالشرك بالله". مرتين، ثم قرأ هذه الآية (¬7). يريد أنه قد جمع في النهي بين ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) (الزور): ساقطة من (أ). ومكانها: (حنفاء لله). (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 238 نقلاً عن ابن السكيت. (¬4) هكذا في جميع النسخ. وفي "البسيط"، وعند الثعلبي: إلا شريكًا. (¬5) هذا قول مقاتل بن حيان رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 45. (¬6) هو: خُريم بن فَاتِك بن الأخْرم -ويقال: خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك- الأسدي أسد خزمة، أبو أيمن، ويقال: أبو يحيى. له صحبة. قيل إنه شهد بدرًا، وقيل لم يشهدها وإنما شهد الحديبية، وقيل إنما أسلم يوم الفتح، توفي في عهد معاوية. "طبقات ابن سعد" 6/ 38، "الاستيعاب" 2/ 46، "أسد الغابة" 2/ 112، "الإصابة" 1/ 423. (¬7) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 321، وأبو داود في "سننه" كتاب: القضاء، باب: في شهادة الزور 10/ 7، وابن ماجه في "سننه" كتاب: الأحكام، شهادة =

عبادة الوثن وشهادة الزور (¬1). وهذا قول عبد الله بن مسعود (¬2)، ووائل بن ربيعة (¬3). ¬

_ = الزور 2/ 50 كلهم من طريق سفين بن زياد العصفري، عن أبيه، عن حبيب بن النعمان، عن خريم بن فاتك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح فلما انصرف قام قائمًا فقال: .. الحديث. وليس في رواية الإمام أحمد تكرار القول. وعند أبي داود وابن ماجه: ثلاث مرات. ورواه الطبري 17/ 154 مختصرًا. ورواه الطبراني في "الكبير" 4/ 209 بمثل رواية أبي داود وابن ماجة. قال الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 383 - 384: قال ابن القطان في كتابه "الوهم والإيهام": حديث خريم -وتصحف في المطبوع- إلى خزيم -بن فاتك لا يصح؛ لأنه من رواية زياد العُصفري وهو مجهول، عن حبي بن النعمان الأسدي ولا يعرف بغير هذا ولا يعرف حاله. أهـ. وضعفه أيضًا الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لأبي عبيد ص 100، وأعله بالجهالة والاضطراب. (¬1) قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الإيمان" ص 100 معلقًا على الحديث والآية: نهى الله عنهما معًا في مكان واحد، فهما في النهي متساويان، وفي الأوزار والمأثم متفاوتان. (¬2) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 9327، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 257، والطبري في "تفسيره" 17/ 154، والطبراني في "الكبير" 9/ 114. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 201. وإسناده حسن. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 45 وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، والبيهقي. (¬3) وائل بن ربيعة، روى عن ابن مسعود، يُعَدّ في الكوفيين، روى عنه المسيب بن رافع وشمر بن عطية. هذا مجموع ما قاله عنه ابن سعد في "طبقاته" 6/ 204، والبخاريَ في "التاريخ الكبير" 8/ 1760، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 9/ 43، وابن حبان في "الثقات" 5/ 495. =

31

وذكر أبو إسحاق قولا آخر، فقال: الآية تدل على أنهم نُهُوا أن يُحرِّمُوا ما حرم أصحابُ الأوثان نحو قولهم {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] ونحو تحريمهم (¬1) البحيرة والسائبة (¬2)، فأعلمهم الله عز وجل أن الأنعام محللة إلا ما حرم منها، ونهاهم الله عن قول الزور وهو أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام ليفتروا على الله كذبًا (¬3) (¬4). 31 - وقوله: {حُنَفَاءَ} قال ابن عباس: يريد موحدين. وهذا كقول من قال: مسلمين مستقيمين على الدين (¬5). والحنيف: المائل عن الأديان كلهاه ¬

_ = وروى هذا الأثر عنه سعيد بن منصور في "تفسيره" ل 156 أ، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 259، والطبري في "تفسيره" 17/ 154. (¬1) تصحفت في المطبوع من "معاني الزجاج" إلى: نحرهم. (¬2) البحيرة: هي الناقة التي كان أهل الجاهلية يشقون في أذنها شقًا، والبحر في كلام العرب: الشق. والسائبة: هي المسيبة المُخَلاة. وكان أهل الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه، فيحرم الانفاع به على نفسه، أو يجعله لبعض آلهته. وبين أهل التفسير خلاف في صفة البحيرة والسائبة وكيفية عمل أهل الجاهلية فيها والسبب الذي من أجله كانوا يفعلون ذلك. انظر: "تفسير الطبري" 11/ 116 - 134، "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 37 - 38 (بحر)، 13/ 99 (سيب)، تفسير ابن كثير 2/ 107 - 108. (¬3) في (أ): (الكذب)، والمثبت من باقي النسخ هو الموافق لما في معاني الزجاج. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 425. قال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 46 - بعد ذكره للأقوال في معنى الزور: والمعاني متقاربة، وكل كذب وزور، وأعظم ذلك الشرك. ثم قال: والذي يوجب حقيقة المعنى. فذكر قول أبي إسحاق من غير نسبة. (¬5) ذكر الماوردي في "النكت" 4/ 23 عن الضحاك قال: مسلمين لله.

إلى دين الإسلام (¬1). وهذا القول اختيار الزجاج؛ لأنه قال: تأويله: مسلمين لا يميلون إلى دين غير (¬2) الإسلام (¬3). وقال مجاهد: {حُنَفَاءَ} (¬4) متبعين (¬5). والحنيفية عند مجاهد إتباع الحق. وقال السدي والحسن: حَجَّاجًا (¬6). والحنيفية عند العرب: حج البيت (¬7). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]. قوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} قال الكلبي: غير مشركين بالله في التلبية، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 110 (حنف). (¬2) دين: زيادة من (أ). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 425. (¬4) في (أ): (حنيفًا)، وهو خطأ. (¬5) رواه الطبري 3/ 107 (شاكر)، عند قوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 46 وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 396 - 397 عن ابن عباس في قوله (حنيفا) يقول: حاجا. ثم قال ابن أبي حاتم: وروى الحسن، والضحاك، وعطية، والسدي، نحو ذلك. وروى الطبري في "تفسيره" 3/ 104، 106 عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن الحنيفية قال: هو حج هذا البيت. وروى الأزهري في "تهذيب اللغة" 5/ 110 بإسناده عن مرزوق قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (حنفاء لله غير مشركين به) قال: حجاجًا. وكذلك قال السدي قال. حنفاء: حجاحًا. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 110 (حنف)، "لسان العرب" 9/ 57 (حنف).

وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في تلبيتهم بقولهم (¬1): إلا شريك هو لك. وقال عبد الله بن القاسم (¬2) مولى أبي بكر -رضي الله عنه-: كان الناس يحجون وهم مشركون، وكانوا يُسمون الحنفاء، لأن العرب تسمى الحاج: الحنيف، فلما أسلموا نزلت {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (¬3). أي: كما أنهم كانوا حنفاء مشركين فأنتم حنفاء غير مشركين بالله. ثم ضرب لمن أشرك مثلا، فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ} [أي سقط] (¬4) {مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} يقال: خَطِفَ يَخْطَفُ، إذا أخذ بسرعة (¬5). وخَطَفَ يَخْطِفُ أيضًا (¬6). وذكرنا الكلام فيه عند قوله {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20]. وقرأ نافع (فتخطِّفه الطير) بالتشديد (¬7). وإنما هو فتتخطِفه فحذف تاء ¬

_ (¬1) في (ظ): (يقولون). (¬2) هو: عبد الله بن القاسم، التيمي، البَصري، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. رأى عمر، وروى عن جابر وابن عباس وغيرهما. وثقه ابن حبان، وقال ابن القطان: مجهول. وقال ابن حجر: مقبول. "التاريخ الكبير" للبخاري 5/ 173، "الثقات" لابن حبان 5/ 46، "الكاشف" للذهبي 2/ 118، "تهذيب التهذيب" 5/ 359، "تقريب التهذيب" 1/ 441. (¬3) رواه الطبري 3/ 106 (شاكر) بنحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 45 بنحوه وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 425. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" الأزهري 7/ 241 - 243 (خطف). (¬7) "السبعة" ص 436، "التبصرة" ص 266، "التيسير" ص 157. وقرأ الباقون بإسكان الخاء وتخفيف الطاء.

التّفعّل (¬1)، وكلتا القراءتين حكايته حال تكون (¬2). قال ابن عباس: يريد تخطف لحمه. وقوله: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تسقطه. يقال: هوى إذا سقط من أعلى إلى أسفل (¬3). وقد مر (¬4). قوله {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} قال ابن عباس وغيره: بعيد (¬5). والسحق: البُعد. يقال: سحقًا له وبعدًا، وأسحقه الله سحقًا، وإنه لسحيق: بعيد (¬6). والفعل منه (¬7) سَحُقَ يَسْحَقَ (¬8). قال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن أشرك به (¬9) في بعده من الهدى ¬

_ (¬1) هكذا في (أ): وهو الموافق لما في "الحجة" للفارسي. وفي (ظ): (الفعل)، وفي (د)، (ع): (التفعيل). (¬2) هذا كلام أبي علي الفارسي في "الحجة" 5/ 276. وقال أبو منصور الأزهري في "علل القراءات" 2/ 424: من قرأ (فتخطفه) والأصل (فتختطفه) فأدغم التاء في الطاء، وألقيت حركة التاء على الخاء ففتحت. وبنحوه قال ابن خالويه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 77. وانظر أيضًا: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 476، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 119. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 488 (هو ى). (¬4) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]. (¬5) انظر الطبري 17/ 155، و"الدر المنثور" 6/ 46. (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 24 (سحق) عن الليث مع اختلاف يسير. وانظر: "العين" 3/ 37 (سحق). (¬7) في (أ): (به). (¬8) قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" 3/ 244: والسحق -بالضم وبضمتين-: البعد، وقد سَحُق -ككرم وعلم- سُحقا بالضم. (¬9) (به): ساقطة من (ظ).

وهلاكه (¬1). وذكر أهل المعاني قول قتادة، فقال الزجاج: هذا مثل ضربه الله للكافر في بُعده من الحق، فأعلم أن بُعد من أشرك به من الحق كبعد من خر من السماء، فذهبت به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد (¬2). ونحو هذا قال ابن قتيبة (¬3). وقال غيره: شبه حال المشرك (¬4) بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه في المكان السحيق، كذلك الكافر لا يملك لنفسه شيئًا ولا دفع ضر يوم القيامة حتى يقع في النار، فهو هالك لا محالة (¬5). وقال أبو علي الفارسي: المعنى في هذا (¬6) أنه قوبل به قوله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ} [البقرة: 256] فكما كان المؤمن في إيمانه متمسكًا بالعروة الوثقى] (¬7)، ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 38، والطبري 17/ 155، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 46 وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 425. (¬3) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 293. (¬4) في (أ)، (د)، (ع): (الشرك). (¬5) ذكر الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 أنحو هذا المعنى باختصار، ونسبه إلى أهل المعاني. وذكره البغوي 5/ 384 إلى قوله: المكان السحيق. ولم ينسبه لأحد. (¬6) في (ظ): (هذه). وفي (ع): (ذلك). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع).

32

كان المشرك بعكس ذلك فلم يتمسك لكفره (¬1) وشركه بشيء يتعلق به، ولم يتمسك بما له فيه أمان من الخُرُور ونجاةٌ من الهُوي واختطاف الطير له، كالمؤمن المتمسك بإيمانه فصار كمن خر من السماء، فهوت به الريح، فلم يكن له في شيء من ذلك مُتعلق ولا معتصم فيكون له ثبات (¬2). 32 - قوله تعالى: {ذَلِكَ} أي: الأمر ذلك، كما قلنا في قوله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} ذكره المبرد عن سيبويه في هذه الآية (¬3). قوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قال مجاهد في رواية الحكم وابن أبي نجيح يعني استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الهدي إذا أشعر وقلد، ثم نحر حتى يسيل دمه، ثم وقف في موقف عرفة. فعلى هذا يعني بتعظيم شعائر الله: استعظام الهدايا والضحايا. والشعائر: جمع شعيرة، وهي البدن يقال: أشعر الرجل بدنته، إذا جعل عليها علامة ليعلم أنه أوجبها بدنة (¬5) وهو مذهب الشافعي (¬6) رحمه ¬

_ (¬1) في (ظ): (مكفره). وفي (د)، (ع): (بكفره). (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 276. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" القسم الأول من الجزء الرابع ص 295 من رواية الحكم، ولكن ليس فيها: واستسمانها. ورواه عبد بن حميد في "تفسيره" كما في "تغليق التعليق" لابن حجر 3/ 87، والطبري 17/ 156 من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به. (¬5) انظر: (شعر) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 417، "الصحاح" للجوهري 2/ 698 "لسان العرب" 4/ 413. (¬6) انظر: "الأم" 2/ 183، "الحاوي الكبير" 4/ 372 - 373، "روضة الطالبين" 3/ 189.

الله في الإبل والبقر بجرح سنامها من الجانب الأيمن وهي مستقبلة القبلة كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأما الغنم فإنها ضعيفة لا تحتمل الإشعار. والشعيرة بمعنى المُشْعَرة، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. وعلى هذا القول المُهْدِي مندوب إلى طلب الأسمن والأعظم من الهدايا لقوله تعالى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ومن الشعائر التي أريد بها الضحايا قول الكُميت: نُقَتِّلهُم جيلًا فجيلاً نَرَاهُمُ ... شَعَائِر قُرْبَانٍ بِهِم يُتَقَرَّبُ (¬1) وهذا القول اختيار الزجاج؛ لأنه قال: والذي يعني به هاهنا البُدن (¬2). وقوله: {فَإِنَّهَا} قال الفراء: يريد: فإن الفعلة كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 153] ومن بعده جائز. ولو قيل: فإنه من تقوى القلوب كان جائزًا. هذا كلامه (¬3). ¬

_ (¬1) البيت في "هاشميات الكميت" ص 67، بمثل الرواية هنا. وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 146 منسوبًا للكميت، وفيه: تراهم ... بها يتقرب. وهو في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 418 (شعر)، و"اللسان" 4/ 414 (شعر)، و"تاج العروس" للزبيدي 12/ 190 (شعر) من إنشاد أبي عبيدة وبمثل روايته، من غير نسبة للكميت. قال أبو رياش القيسي في "شرحه لهاشميات الكميت" ص 67: (جيلًا فجيلا: جيشًا وخلقًا بعد خلق. يقول: نجعل قتل الخوارج قربة إلى الله كما تُقرب الشعائر إلى الله. (¬2) "معانى القرآن" للزجاج 3/ 426. (¬3) "معانى القرآن" للفراء 2/ 225.

33

وليس بقوي ولا ظاهر هاهنا، والصحيح أن المعنى: فإن تعظيمها، فحذف المضاف لدلالة {يُعَظِّمْ} على التعظيم كما قال {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [الحج: 30] فكنى عن التعظيم لما دل يعظم عليه، كذلك هاهنا حذف التعظيم لما كان يعظم يدل عليه، والمعنى: فإن (¬1) اتخاذ البدن من أعظمها وأسمنها من تقوى القلوب. قال ابن عباس: يريد من التقوى الذي اتقاه المتقون. وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب (¬2)، كما روي في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره (¬3). 33 - قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا} أي: في الشعائر {مَنَافِعُ} أكثر أهل التفسير على أن المراد بهذا: أن (¬4) في الهدايا منافع لصاحبها إلى أن يسميها هديا ويشعرها، فله منافع رسلها (¬5) ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها (¬6) {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو أن يسميها هديًا فتنقطع المنافع بعد ذلك. ¬

_ (¬1) (فإن): ساقطة من (ظ). (¬2) انظر: القرطبي 12/ 56. (¬3) هذا قطعة من حديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 277، ومسلم في "صحيحه" كتاب: البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم 4/ 1986 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) أن: ساقطة من (أ). (¬5) رسلها: أي لبنها. "لسان العرب" 11/ 282 (رسل). (¬6) في (أ): (ظهرها).

وهذا قول مجاهد، وعطاء، والضحاك، وقتادة، ورواية مقسم عن ابن عباس، والكلبي (¬1)، قال: تُحلب وتركب إلى أن تُقلَّد وتُسمَّى. وهؤلاء لا يرون الانتفاع بلبنها ولا بوبرها ولا بظهرها بعد أن سُميت هديًا، ويقولون: لا ينتفع بها غير أهل الله (¬2)، إلا عند الضرورة المخوف معها الموت. وروى ابن أبي نجيج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: {لَكُمْ فِيهَا} أي: في الهديا منافع، قال: هو ركوبها وشرب لبنها إن احتاج {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى أن تنحر (¬3). وهذا مذهب الشافعي (¬4) رحمه الله، وعنده أن المُهْدِي لو ركب هديه ركوبًا غير فادح (¬5) فلا بأس، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر برجل يسوق بدنة، ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 عنهم جميعًا إلا الكلبي. ورواه الطبري في "تفسيره" 17/ 157 - 158 عنهم إلا الكلبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 46 عن مجاهد، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير. وابن أبي حاتم. ورواه سعيد بن منصور في "تفسيره" ل 156 أعن عطاء والضحاك، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 46 عنهما، وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) يعني: فقراء الحرم. (¬3) رواه الطبري 17/ 158 عن عطاء من طريق ابن أبي نجيح إلى قوله: إن احتاج. أما قوله (إلى أجل مسمى) إلى أن تنحر، فرواه الطبري 17/ 158 من رواية ابن جريج قال: قال عطاء: فذكره. (¬4) انظر: "الأم" 2/ 183، "الحاوي" للماوردي 4/ 376 - 377، "فتح الباري" 3/ 537. (¬5) غير فادح: غير مثقل. "لسان العرب" 2/ 540 (فدح).

فأمره بركوبها، وقال: (اركبها) فقال: إنها هدي فقال: (اركبها)، فقال: إنها هدي فقال: (اركبها ويحك) (¬1). وله أن يحلب لبنها، والآية تدل على هذا؛ لأن قوله {لَكُمْ فِيهَا} أي: في الشعائر، فالكناية عنها، ولا تسمى شعائر قبل إيجابها وتسميتها (¬2). وهذا يدل على إباحة الانتفاع بها وهي تسمى شعائر (¬3). وعلى هذا القول المراد بالأجل المسمى: نحرها وذبحها. وقوله {ثُمَّ مَحِلُّهَا} أي: حيث يحل [نحرها. وذكرنا هذا عند قوله {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وقوله {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يعني عند البيت العتيق. وهو] (¬4) الحرم كله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ فِجاج مكة منحرٌ ومَذبح، وكلُّ فِجاجِ مِنى مَنْحر ومَذْبح" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه بنحوه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 275 من حديث أنس رضي الله عنه، لكن فيه (بدنه) بدل قوله (هدي). ورواه بنحوه البخاري في "صحيحه" كتاب: الحج، باب: ركوب البدين 3/ 536، ومسلم كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها 2/ 960 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لكن عندهما (بدنه) بدل (هدى) و (ويلك) بدل (ويحك). (¬2) في (أ): (تسمينها)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "الأم" 2/ 183، "الحاوي" للماوردي 4/ 376، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 282، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 56 - 57. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) رواه أبو داود في "سننه" كتاب: الحج، باب: الصلاة بجمع 5/ 413، وابن ماجه في "سننه" كتاب. المناسك، باب. الذبح 2/ 186 من حديث جابر رضي الله =

وكثيرمن المفسرين يقولون: عني بالبيت العتيق: الحرم كله؛ لأن الحرم كله منحر (¬1). وهذا وَهْمٌ لا يعبر عن الحرم بالبيت العتيق ولا يفهم ذلك منه؛ لأن البيت اسم للبنية المعروفة، فلا يقع على الحرم كله. واحتج من قال بهذا بقول {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] يعني الحرم كله. وهذا لا يُشبه قوله {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} لأن الحرم كله مسجد، على معنى أنه يجوز الصلاة فيه (¬2) كما روي في الحديث: "جُعِلت لي الأرضُ مسجدًا" (¬3). فسماها كلها مسجدًا على المعنى الذي ذكرنا. والبيت لا يقع على الحرم كله، لو كان الأمر على ما قالوا لقيل: ثم محلها البيت العتيق، أي: الحرم، فلما قيل {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬4) دل على أن المعنى: عند البيت ¬

_ = عنه مرفوعًا، بلفظ: (كل عرفة موقف، وكل مني منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر). وحسن هذا الحديث الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 162. ومعنى فجاج: جمع فج وهو الطريق الواسع بين الجبلين. "الصحاح" للجوهري 1/ 332 (فجج). (¬1) انظر: الطبري 17/ 160، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 52 ب. (¬2) (فيه): ساقطة من (أ). (¬3) هذا قطعة من حديث رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الصلاة، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" 1/ 533 ومسلم في "صحيح" كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة 1/ 37 من حديث جابر رضي الله عنه، وأوله: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي". (¬4) (العتيق): زيادة من (أ).

وما يقرب منه؛ لأن (إلى) تضم الشيء إلى الشيء، وتقربه منه (¬1). هذا الذي ذكرنا كله على قوله من يقول: الشعائر: الهدايا. وقال آخرون: الشعائر المناسك (¬2) كلها، ومشاهد (¬3) مكة. وهي المعالم التي أمر الله بالقيام بها، وندب إليها منها: عرفة، والجمار، والصفا والمروة، والمشعر الحرام. وهذا قول ابن زيد (¬4)، ورواية أبي رزين عن ابن عباس (¬5). وعلى هذا معنى تعظيم الشعائر: توقيرها، وترك الاستهانة بها. قوله {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي: بالتجارة والأسواق، قال ابن عباس: لم يذكر منافع إلا للدنيا (¬6) {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى أن يخرج من مكة (¬7). وقيل: {مَنَافِعُ} بالأجر والثواب لإقامة المناسك وتعظيم الشعائر {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى انقضاء أيام الحج (¬8). وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا} المحل (¬9) على هذا القول مصدر أضيف إلى ¬

_ (¬1) انظر "الأزهية في معاني الحروف" ص 282، "رصف المباني" ص169، "الجنى الداني" 385 - 386. (¬2) في (ع): (الهدايلك). (¬3) في (ظ): (أي مشاهد). (¬4) رواه الطبري 17/ 156، 159. (¬5) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 ب من رواية أبي رزين، عن ابن عباس. (¬6) في (أ): (الدنيا). (¬7) رواه الطبري 17/ 159 عنه من طريق أبي رزين إلى قوله: للدنيا. وذكر باقيه الثعلبى في "الكشف والبيان" 3/ 52 ب عنه من رواية أبي رزين. (¬8) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 52 ب وصدره بقوله: وقال بعضهم. (¬9) (المحل). ساقط من (ظ)، (د)، (ع).

34

المفعول أي: الحل من هذه الأعمال إلى البيت العتيق، وهو الطواف به بعد قضاء المناسك. و {إِلَى} هاهنا صلة لفعل محذوف، وهو القصد أو الحج. والمعنى: ثم محلكم أيها المحرمون حجكم وقصدكم {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بالزيارة والطواف. وهذا معنى قول محمد بن أبي (¬1) موسى (¬2): محل المناسك الطواف بالبيت (¬3). 34 - قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أي: جماعة مؤمنة. يعني من الذين سلفوا وتقدموا {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} المنسك هاهنا: المصدر من نَسَك يَنْسُك، إذا ذبح القربان (¬4) (¬5). وذكرنا معنى النسك في سورة البقرة (¬6). قال مجاهد في قوله {مَنْسَكًا}: يريد إهراقة الدماء (¬7). ¬

_ (¬1) (أبي): ساقطة من (ظ). (¬2) محمد بن أبي موسى. روى عن زياد الأنصاري عن أبي بن كعب، وروى عنه داود ابن أبي هند. وهو مجهول. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري 1/ 236، "تهذيب التهذيب" 9/ 483. (¬3) رواه الطبري 17/ 160 من طريق داود بن أبي هند، عنه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 47، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) في (أ): (القران)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 74 (نسك). (¬6) عند قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]. (¬7) رواه الطبري 17/ 161 وذكره السيوطي "الدر المنثور" 6/ 47 وعزاه لعبد بن حميد وابن، أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال عكرمة (¬1)، وقتادة (¬2)، ومقاتل بن حيان: يعني ذبحًا. وقراءة العامة بفتح السين، وقرأ حمزة والكسائي بكسرها (¬3). قال أبو علي (¬4): الفتح أولى لأنه لا يخلو من أن يكون مصدرًا أو مكانًا، وكلاهما مفتوح العين إذا كان الفعل على: فَعَل يَفْعُل، نحو: قَتَل يَقْتُلُ مَقْتَلا، وهذا مَقْتَلُه. ووجه الكسر: أنه قد يجيء اسم المكان على المَفْعِل من هذا النحو، نحو: المَطْلِع من طَلَع يَطْلُع، والمسجد من سجد يسجد، فيمكن أن يكون هذا بما شذَّ عن قياس الجمهور، فجاء اسم المكان على غير القياس، ولا يقدم على هذا إلا بالسمع، ولعل الكسائي سمع ذلك. هذا كلامه (¬5). ¬

_ (¬1) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 213 عن أبيه، عن عكرمة بلفظ: ذبائح هم ذابحوها. وذكره النحاس في "معاني القرآن" 4/ 409 من رواية سفيان، بلفظ. ذبحًا. وبمثل لفظ النحاس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 47 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬2) ذكر الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 24، والقرطبي 12/ 58 عن قتادة أنه قال: (منسكا) حجًّا. (¬3) "السبعة" ص 436، "التبصرة" ص 266، "التيسير" ص 157، "الإقناع" لابن الباذش 2/ 607. (¬4) في (أ): (أبو الفتح) سقطت لفظة (على)، فتحرفت الكلمة إلى (أبو الفتح). (¬5) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 278، وقوله: (الفتح أولى) لا وجه له، لأن القراءة سنة متبعة. وقوله. (ولعل الكسائي سمع ذلك) ذكره نحوه السمينُ الحلبي في "الدر المصون" 8/ 274 عن ابن عطية، ثم تعقبه بقوله: وهذا الكلام منه غير مرضي، كيف يقول: ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. الكسائي يقول: قرأت به فيكف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات، وهو روايته لذلك قرآنًا متواترًا؟ وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 424، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 477، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 119.

والذي يدل على أن الكسائي سمع ذلك أنه قال في كتابه (¬1): (منسكًا). و"منسكا" لغتان، كل (¬2) قد قرئ بها (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: {مَنْسَكًا} يريد شريعة. يعني الذبح لأنه من جملة ما شرع. وقال الكلبي: عيدًا (¬4). يعني وقتًا للذبح. فعلى هذا المنسك، اسم لزمان الذبح. قال (¬5) أبو إسحاق: المنسك في هذا الموضع يدل على معنى النحر، فكأنه قال: لكل أمة أن تتقرب بأن تذبح الذبائح لله، ويدل على ذلك قوله {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} المعنى: ليذكروا اسم الله على نحو ما رزقهم من بهيمة الأنعام (¬6). وخص بهيمة الأنعام، لأنَّ البهيمة من غير الأنعام لا يحل ذبحها وأكلها كالخيل والبغال والحمير (¬7)، فالبهيمة من الأنعام هي التي يجوز أن تُذبح في المناسك. في هذه الآية دليل على أنَّ الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة بل ¬

_ (¬1) لعله ذكره في كتاب "معاني القرآن" له، وهو مفقود. (¬2) كل: زيادة من (أ). (¬3) انظر: "إعراب القراءات وعللها" لابن خالويه 2/ 77. (¬4) ذكره عنه الماوردي 4/ 25. (¬5) في (أ) بعد قوله قال: (فومله)، وليست في باقي النسخ، ولا معنى لها. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 426. (¬7) الطبري 17/ 160، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 52 ب.

كانت لكل أمة، وعلى أنَّ الضحايا لم تزل من الأنعام، وأنَّ التسمية على الذبح كانت مشروعة. قوله تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال أبو إسحاق: أي لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم (¬1) إلا الله وحده (¬2). وقوله {أَسْلِمُوا} أي: انقادوا وأطيعوا. وقال ابن عباس: أخلصوا (¬3). وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: المتواضعين (¬4). وقال مجاهد: المطمئنين إلى الله سبحانه (¬5). وقال الأخفش: الخاشعين (¬6). وقال ابن جرير: الخاضعين (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (ذبائحهم). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 427. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 48 عن مقاتل بن حيان، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 ب عن ابن عباس وقتادة. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 38 والطبري 17/ 161 عن قتادة. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 580 عن الضحاك، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 49 عنه وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) ذكره عنه بهذا اللفظ الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 ب. ورواه الطبري 17/ 161 مقتصرًا على أدلة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 48 بمثل رواية الطبري وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 ب. ولم أجده في كتابه "معاني القرآن". (¬7) قوله في "تفسيره" 17/ 161 بأطول من هذا حيث قال: الخاضعين لله بالطاعة، المذعنيق له بالعبودية، المنيبين إليه بالتوبة.

35

قال الزَّجَّاج: اشتقاقه من الخَبْت (¬1)، وهو المنخفض من الأرض. فكل مخبت (¬2) متواضع (¬3). وذكرنا معنى الإخبات عند قوله {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23]. 35 - قوله تعالى {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قال ابن عباس: يريد: خافت. قال مقاتل بن حيان: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} عندما يخوّفون (¬4). وهذا على أنهم إنما توجل قلبوهم إذا خوفوا بالله، ليس (¬5) أنهم يخافونه حتى لا يرجونه. وقوله {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} يعني من البلاء والمصائب في طاعة الله. قاله ابن عباس ومقاتل (¬6). {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} في أوقاتها، يؤدونها كما استحفظهم الله. قال أبو إسحاق في قوله] (¬7) {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ}: القراءة الخفض وإسقاط النون، والخفض على الإضافة. [ويجوز: والمقيمين الصلاة (¬8)، إلا أنه بخلاف المصحف] (¬9). ويجوز أيضًا -على بعد-: والمقيمي ¬

_ (¬1) في (أ): (الخبت، مخبث)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (الخبت، مخبث)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 427. مع اختلاف يسير. (¬4) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 49 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) في (أ): (وليس). (¬6) ذكره عن مقاتل السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 49 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) هذه القراءة مروية عن ابن مسعود. "الشواذ" لابن خالويه ص 95. وانظر: "تعليل القراءات الشواذ" للعكبري ص 267. (¬9) ساقط من (ظ).

الصلاةَ (¬1)، على حذف النون ونصب الصلاة لطول الاسم (¬2)، وأنشد سيبويه (¬3). ¬

_ (¬1) هذه قراءة ابن أبي إسحاق والحسن، ورويت عن أبي عمرو. "الشواذ" لابن خالويه ص 95، "المحتسب" لابن جني 2/ 80. (¬2) قال أبو الفتح عثمان بن جني في "المحتسب" 2/ 80: أراد "المقيمين" فخذف النون تخفيفا، لا لتعاقبهما الإضافة. وقال العكبري في "تعليل القراءات الشواذ" ص 267: (والنون محذوفة للتخفيف لطول الكلمة، مثل قولهم: الحافظو .. (¬3) ذكر الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 427 إنشاد سيبويه لهذا البيت، لكن في المعاني "نطف" في موضع "وكف". والبيت أنشده سيبويه في الكتاب 1/ 185 - 186 ونسبه لرجل من الأنصار وروايته فيه: والحافظو ... من ورائنا نطف. وهو في "شرح شواهد الإيضاح" للقيسي 127، و"خزانة الأدب" 4/ 272 - وفيه: من ورائنا نطف، 4/ 275 - 279 وفيه:- من ورائنا وكف) منسوبًا لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي، وفي الاقتضاب للبطليوسي 3/ 207 منسوبًا لقيس بن الخطيم، وهو في ديوان قيس 115، وفي "لسان العرب" 9/ 363 "وكف" منسوبًا لعمرو بن امرئ القيس أو قيس بن الخطيم. ومن غير نسبة في "الإيضاح العضدي" للفارسي ص 175، "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 393 "وكف". قال البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 207: العورة: المكان الذي نخاف منه العدو، والوكف هاهنا- العيب، ويروى: نطف وهو نحو الوكف. يقول: نحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون به من بيع ثغرهم وقلة رعايته، هذا على رواية من روى من ورائنا، ومن روى من ورائهم أخرج الضمير مخرج الغيبة على لفظ الألف واللام؛ لأن معنى "الحافظو العشيرة" نحن الذين يحفظون عورة العشيرة، كما تقول: أنا الذي قام، فيخرج الضمير مخرج الغيبة وإن كنت تعني نفسك؛ لأن معناه: أنا الرجل الذي قام، وقد يقولون: أنا الذي قمت، فعلى هذا رواية من روى: من ورائنا. اهـ. وانظر: "الخزانة" 4/ 274 - 275.

والحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف وزعم أنه شاذ. انتهت الحكاية عن أبي إسحاق (¬1). ويحتاج هاهنا إلى أن نذكر طرفًا (¬2) من شرح باب الإضافة مع الألف واللام. قال أبو علي في كتاب "الإيضاح": إذا ألحقت الألف واللام اسم الفاعل قلت: هذا الضارب زيدًا، ولا يجوز إضافة الضارب إلى زيد. فإن ثنيت (¬3) قلت: الضاربان زيدًا، فإن حذفت النون قلت: الضاربا زيد، وكذلك الجميع، وقد يجوز إذا حذفت النون من اسم الفاعل في الاثنين والجميع إذا ألحقته (¬4) الألف واللام أنْ تنصب فتقول: الضاربو زيدًا، وهكذا أنشدوا: الحافظو عورة العشيرة قال: والأكثر الجر كما قال تعالى: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} هذا كلامه (¬5). ومعنى الضارب زيدًا أي: الذي ضرب زيدًا، ولا تجوز الإضافة في هذا، ويجوز في التثنية والجمع (¬6) نحو: الضاربا زيد والضاربو زيد، وذلك لأنَّ زيدًا في التثنية والجمع يعاقب نون التثنية والجمع، والنون قد تكون مع الألف واللام، وزيد في الضارب زيد لا يعاقب تنوينًا، لأنه لا يكون ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 427. (¬2) العبارة في (ظ): (ويحتاج إلى أن يذكرها هنا طرفا). (¬3) في (أ): (نسيت)، وهو خطأ. (¬4) في (ظ): (ألحقتهما)، وفي باقي النسخ: (لحقته)، والتصويب من كتاب "الإيضاح". (¬5) "الإيضاح العضدي" لأبي علي الفارسي 1/ 175. (¬6) في (ظ)، (د)، (ع). (الجميع).

التنوين مع الألف واللام، فلا يكون في الإضافة فائدة، وذلك أن الغرض في الإضافة اللفظية أن يحذف التنوين، فيحصل في اللفظ اختصار وتخفيف بسقوط التنوين ويعاقبه المفعول المنصوب فينجرّ (¬1) لقيامه مقام التنوين في اللفظ، وليس في الضارب تنوين فيحذف لذلك، فإذا قلت: "الضارب زيد" كنت قد عدلت عن الأصل الذي هو النصب لغير غرض لفظي ولا حقيقي، وفي التثنية والجمع جاز الإضافة في اللفظ وعلى هذا قوله عز وجل {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ}، كما قال: الفاتحو باب الأمير المبهم، وأما من قال الضاربا زيدا والضاربو زيدا فإنه لم (¬2) يحذف النون لأجل الإضافة، ولكنه يحذفه لطول الاسم، ولا يجعل لحذفه تأثيرًا (¬3) في الحكم، ويبقى النصب على أصله كالبيت الذي أنشده سيبويه، والأصل (¬4) في حذف النون لامتداد الاسم في بيت الكتاب (¬5): ¬

_ (¬1) في (أ): (فيجر). (¬2) موضع (لم) بياض في (ظ). (¬3) تأثيرًا ليست واضحة في (ظ). (¬4) في (ظ). (أصل). (¬5) البيت في "الكتاب" 1/ 186 منسوبًا للأخطل. وهو في "ديوانه" ص 387 أو ص 44، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 536 و"أمالي ابن الشجري" 2/ 306، و"شرح المفصل" لابن يعيش 3/ 154، "المقاصد النحوية" للعيني 1/ 324، و"خزانة الأدب" 6/ 6 - 7. قال البغدادي في الخزانة 6/ 7: البيت من قصيدة للأخطل يفتخر بقومه ويهجو جريرًا، والألف للنداء، وبنو كليب ابن يربوع: رهط جرير. فخر الأخطل على جرير بمن اشتهر من قوله من بني تغلب وساد كعمرو بن كلثوم التغلبي قاتل عمرو بن هند ملك العرب، وعضم أبي حنش قاتل شرحبيل بن عمرو بن حجر وغيرهم من سادات تغلب. والأغلال جمع غل =

أبني كليب إن (¬1) عمي اللذا قتلا ... الملوك وفككا الأغلالا أراد اللذان فحذف النون لطول الاسم بالصلة، إذ قد اجتمع الذي والفعل والفاعل والمفعول، لأن جميع ما يتعلق بالموصول واصل في جملته وجار مجرى الجزء (¬2) من الاسم، ألا ترى أن تقديمه ممتنع، والأحسن إذا حذفت النون الكسر، لأجل أن النون إذا حذف وجب أن يكون له أثر في اللفظ، وإذا قصد النصب وجب أن تبقى النون لفظًا، غير أن الذي ينصب مع الحذف لا يعتد بالحذف (¬3) حرصًا على إبقاء لفظ (¬4) النصب. هذا الذي ذكرنا شرح ما ذكره أبو إسحاق مجملًا وهو مذهب البصريين (¬5). وقال الفراء: إنَّما جاز النصب مع حذف النون؛ لأنَّ العرب لا تقول في الواحد إلا بالنصب. فيقولون: هو الآخذ حقه، ينصبون الحق، لا يقولون إلا ¬

_ = وهو طوق من حديد يجعل في عنق الأسير، ... إي إنَّ عميّه يفكان الغل من عنق الإسراء وينجونهم من أسر أعدائهم قسرًا عليهم. اهـ قال السكري في "شرح ديوان الأخطل" 1/ 108 - 159، أحد عميه أبو حنش عصم بن النعمان قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو آكل المراء يوم الكلاب الأول، والآخر دوكس بن الفدوكس بن مالك بن جشم. وانظر الخلاف في أسماء عميه في "الخزانة" 6/ 8 - 9. (¬1) (إن): ساقطة من (أ). (¬2) في (ظ)، (ع): (الجرّ). (¬3) في (أ): (الحرف). (¬4) في (أ): (اللفظ). (¬5) انظر: "شرح المفصّل" لابن يعيش 2/ 122 - 123، "الفوائد الضيائية" للجامي 2/ 14.

36

ذلك، والنون مفقودة، فبنوا الاثنين والجميع على الواحد، فنصبوا بحذف النون، والوجه في الاثنين والجميع الخفض؛ لأنَّ نونهما قد تظهر إذا شئت وتحذف إذا شئت، وهي في الواحد لا تظهر، فلذلك نصبوا، ولو خفض في الواحد لجاز ذلك، ولم أسمعه إلا في قولهم: الضّارب الرجل، فإنّهم يخفضون الرجل وينصبونه، فمن خفضه شَبَّهَه بمذهب قولهم: مررت بالحسن الوجه، فإذا أضافُوه إلى مكنّى قالوا: أنْت (¬1) الضَّارِبُهُ، وأنتما (¬2) الضَّارِبَاهُ (¬3)، وأنتم الضَّاربوه. والهاء في القضاء عليها خفض في الواحد والاثنين والجمع، ولو نويت بها النصب كان وجهًا. وكان ينبغي لمن نصب أن يقول: هو الضارب إيّاه، ولم أسمع ذلك. هذا كلامه (¬4). وهو كما ذكرنا من مذهب البصريين إلا في إضافة الواحد، فإنه يجوزه وعندهم لا يجوز ذلك. وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال ابن عباس والكلبي: يريد يتصدقون من الواجب وغيره. وقال مقاتل: يؤذون الزكاة في طاعة ربهم (¬5). 36 - قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} قال الزجاج: البدن بتسكين الدال وضمها، بَدَنَةٌ وبُدْنٌ وبُدُنٌ، مثل قولك: ثَمَرَةٌ وثُمْر وثُمُرٌ قال: وإنما سميت بدنة لأنها تبدن أي: تسمن (¬6). ¬

_ (¬1) (أنت): ساقطة من (أ). (¬2) في (ظ)، (د)، (ع): (وأنتم). (¬3) في (ظ): (الضاربان). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 226. (¬5) أنظر: "تفسير مقاتل" 2/ 25 ب. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 428.

وقال الليث وغيره: البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير مما يجوز في الهدي والأضاحي، ولا تقع على الشاة، وسميت بدنة لعظمها (¬1). قال ابن السكيت: يقال: بدن (¬2) الرجل يبدن بَدْنًا وبدانة فهو بادن إذا ضخم، وهو رجل بَدَنٌ إذا كان كبيرًا، وأنشد (¬3): أمْ (¬4) ما بكاءُ البدن الأشيب (¬5) وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون سميت بدنة لعظمها وضخامتها. ويجوز أن يكون سميت لسنّها، رجل بدن إذا كان كبير السنن، وبدنت أي أسنت، وبدنت أي: سمنت وضخمت (¬6). والمفسرون يقولون في تفسير البدنة: إنّها الإبل والبقر. وهو قول عطاء ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 144 نقلاً عن الليث وغيره. (¬2) (بدن): ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). وبدن كبصر وكرم. قاله الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" 4/ 200. (¬3) البيت أنشده ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص 330، للأسود بن يعفر، وأوله: هل لشباب فَاتَ من مَطلْبِ هو في "ديوان الأسود" ص 21 وروايته فيه: "البائس" في موضع "البدن"، و"أدب الكاتب" لابن قتيبة ص 265، و"تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 144 (بدن)، وفيه: "بقاء" في موضع "بكاء"، و"لسان العرب" 13/ 48 (بدن). قال البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 209: يقول: هل يمكن طلب الشباب الغائب واسترجاعه، بل كيف يبكي الرجل الأشيب شوقًا إلى أحبته؟. وذلك لا يليق به. (¬4) في (أ)، (ظ): (أمّا). (¬5) قول ابن السكيت وإنشاده في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 144، وهو في "إصلاح المنطق" ص 330. (¬6) لم أجد من ذكره عنه. وانظر: "بدن" في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 144، "الصحاح" للجوهري 5/ 2077، "لسان العرب" 13/ 48 - 49.

والسدي (¬1). وقوله تعالى: {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي: من أعلام دينه. والمعنى: جعلنا لكم فيها عبادة لله -عز وجل-، من سوقها إلى البيت، وتقليدها، وإشعارها، ونحرها، والإطعام منها. ومضى الكلام في تفسير الشعائر (¬2). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 52 ب. ورواه الطبري 17/ 163 عن عطاء بلفظ: البقرة والبعير. وللمفسرين في البدن قول آخر وهو أنها الإبل خاصّة، ذكره الماوردي 4/ 26 وعزاه للجمهور. وحكاه القرطبي 12/ 61 عن ابن مسعود وعطاء والشافعي. وحكى القول الأول عن مالك وأبي حنيفة. ثم قال القرطبي: والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء، لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة" الحديث. فتفريقه -عليه السلام- بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال لها بدنة. والله أعلم. وأيضًا قوله تعالى: "فإذا وجبت جنوبها" يدل على ذلك، فإن الوصف خاصٌ بالإبل، والبقر يضجع ويذبح كالغنم. انتهى من القرطبي 12/ 61. والحديث الذي أشار إليه القرطبي رواه البخاري في صحيحه (كتاب الجمعة -باب فضل الجمعة 2/ 366، ومسلم في صحيحه (كتاب الجمعة -باب الطيب والسواك يوم الجمعة 2/ 582 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح ابن كثير 3/ 221 أنَّ البقرة يطلق عليها بدنة شرعًا. ونقل ابن الجوزي 5/ 432 عن القاضي أبي يعلى أنه قال: البدنة اسمٌ يختص الإبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. اهـ. والذي يظهر أن البدن في الآية هي الإبل للتعليل الذي ذكره القرطبي، والبقرة تدخل في مسمى البدن من حيث اتحاد الحكم بينهما. (¬2) في (ظ): (الشعيرة).

وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال ابن عباس: يريد في الدنيا والآخرة (¬1). قال المفسرون: يعني النفع في الدنيا والأجر في العقبى (¬2). وذكرنا هذا (¬3) المعنى (¬4) مستقصىً عند قوله {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلا أن المراد بتلك المنافع الدنيا لقوله {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} والمراد بالخير هاهنا خير الدنيا والآخرة، كما ذكر ابن عباس. قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي: على نحرها، لأنَّ السنة أن يذكر الله عند نحرها. قال ابن عباس: هو أن يقول: بسم الله، والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك (¬5). وقوله {صَوَافَّ} جمع صافّة، وهي فاعلة من الصَفّ، وهو جعل الأجسام يلي أحدها الآخر على منهاج واحد (¬6). قال ابن عباس في رواية ابن أبي مليكة: قيامًا (¬7). وقال ابن عمر: قيامًا مقيدة، سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الزمخشري في "الكشاف" 3/ 14، وأبو حيان في "البحر" 6/ 369. وذكره القرطبي 12/ 61 من غير نسبة، وصوبه. (¬2) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 52 ب، 53 أ. (¬3) (هذا): ساقطة من (أ). (¬4) في (ع): (الكلام). (¬5) هذا مجموع روايات رواها الطبري 17/ 164 من طريق أبي ظَبيان، عن ابن عباس. (¬6) انظر: "لسان العرب" 9/ 194 (صفف)، "القاموس المحيط" 3/ 162 - 163. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 4/ 83 عنه من رواية ابن أبي مليكة. (¬8) رواه البخاري في صحيحه كتاب الحج -باب نحر الإبل مقيَّدة 3/ 553، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الحج- باب نحر البدن قيامًا، مقيّدة 2/ 956).

وقال مجاهد: الصَّواف: إذا عُقلت (¬1) إحدى يديها وقامت على ثلاث (¬2)، وتنحر كذلك (¬3). وعلى هذا هي صواف، لأنها قد صفت أيديها وأرجلها إذا وقفن على منهاج واحد، كما روى ليث، عن مجاهد قال (¬4): يسوى بين أوظافها (¬5) (¬6). يعني لئلا يتقدم بعضها على بعض فلا تكون صواف. وفي هذا دليل على أنها تُنْحر قائمة واقفة مصفوفة، لأنها إن كانت باركة أو ماشية لا تكون صافة، ولا يتصور الصف في البدنة الواحدة إلا أن يقال إنها إذا وقفت صفت يديها أو رجليها (¬7) إذا لم يعقل إحداهما، ولكن يتصور في البدن إذا وقفن فصففن أيديهن معقولة وغير معقولة، والدليل على أنها تعقل إحدى يديها قراءة عبد الله: "صوافن" (¬8) وهي القائمة على ثلاث ¬

_ (¬1) في (أ): (علّقت). (¬2) في (أ): (ثلاثة). (¬3) ذكره عنه الثعلبي في الكشف والبيان 3/ 53 أ. وفيه: إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت ... كذلك. وبنحوه مختصرًا رواه الطبري 17/ 164. (¬4) قال: ساقطة من (ط). (¬5) في (ظ)، (د)، (ع): (أوطانها. والصواب ما في (أ). وأوظافها: جمع وَظيف، قال الجوهري في الصحاح 4/ 1439 "وظف": الوظيف: مستدق الذراع والساق من الخيل والإبل ونحوها. (¬6) رواه الطبري 17/ 164 من رواية ليث، عن مجاهد. (¬7) في (ظ)، (د)، (ع): (رجليها أو يديها). (¬8) انظر الطبري 17/ 165، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 99، "الشواذ" لابن خالوية ص 95، "المحتسب" لابن جني 2/ 81.

قوائم، ونذكر تفسيرها عند قوله {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31]. وقال أبو إسحاق -في قوله: {صَوَافَّ} -: أي قد صفت قوائمها (¬1). وقال أبو عبيدة: تصفّ بين أيديها (¬2). وقال ابن قتيبة: أي: قد صُفَّت أيديها (¬3). وقال ابن عباس في رواية أبي ظبيان في قوله {صَوَافَّ} قال: معقولة (¬4). ونحوه قال عطاء، والفرَّاء (¬5). وهو معنى وليس بتفسير، وذلك أنها إذا عقلت إحدى يديها وقفت فصفت يدها مع يد التي إلى جنبها. وكثير من الصحابة قرؤوا "صوافي" (¬6) على معنى: خالصة لله، جمع صافية، أي: لا يشركوا في التسمية على (¬7) نحرها أحدًا. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين (¬8). ويدل من الآية على أنها تُنْحر قيامًا. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 428. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 50. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 293. (¬4) رواه الطبري 17/ 164، والبيهقي في "السنن" 5/ 237 من طريق أبي ظبيان. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 226. (¬6) رويت هذه القراءة عن أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. ونسبت إلى الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وسليمان التيمي وجماعة. انظر: الطبري 17/ 163، "الشواذ" لابن خالويه ص 95، "المحتسب" لابن جني 2/ 81، "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 53 أ، "البحر المحيط" 6/ 369. (¬7) في (ظ)، (د)، (ع): (إلي). (¬8) وهو ومروي عن الحسن وطاووس والزهري وابن زيد. انظر الطبري 17/ 165، وابن كثير 3/ 222.

قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} قال أبو عبيدة (¬1)، والزَّجَّاج (¬2)، وجميع أهل اللغة (¬3): سقطت إلى الأرض. يقال: وجب الحائط يجب وَجْبَةَ إذا سقط، وسمعت له وجْبَةً، أي. وقعة، ووجبت الشمس إذا وقعت للغروب في المغيب، ووجب الشيء إذا (وقع لازمًا، ووجب القلب وجيبًا إذا] (¬4) وقع وتحرك باضطراب (¬5)، وأنشدوا لأوس بن حجر يرثي (¬6): ألم تكسف الشمس والبدر ... والكواكب للجبل الواجب (¬7) وقال الكميت: ألم ترني لقيت ضباء (¬8) أنس ... بخيف مني ولم تجب الجنوب (¬9) (¬10) ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن " لأبي عبيدة 2/ 51. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 428. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 222 (وجب)، "لسان العرب" 1/ 794 (وجب). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (د)، (ع). (¬5) انظر "معاني القرآن" للزجاج 3/ 428، "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 222 - 223 مادة "وجب"، "لسان العرب" 1/ 794 "وجب". (¬6) يرثي: ساقطة من (أ). (¬7) البيت في "ديوانه" ص 10، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 51، والطبري 17/ 166، و"التعازي والمراثي" للمبرد ص 33، و"السمط اللآلي" ص 466. وهو من أبيات يرثي بها فضالة بن كلدة، وبعده: لفقد فضالة لا تستوي الـ ... فُقُود ولا خُلّة الذَّاهب (¬8) في (أ): (طلبا)، وهو خطأ. (¬9) في (و)، (ع): (الجبوب)، وهو خطأ. (¬10) هذا البيت والذي بعده أثبتها المعلق على "مجاز القرآن" 2/ 51 في الهامش، =

وقال آخر: حلفت برب مكة والهدايا ... غداة النحر واجبة الجنوب (¬1) قال ابن عباس ومجاهد، والضحاك: خرت لجنوبها (¬2). وذلك عند نزف دمها وخروج الروح منها، ولذلك قال ابن زيد في تفسيرها: فإذا ماتت (¬3). لأنها تقف ما دامت الروح تبقى فيها، فإذا سقطت إلى الأرض فذلك حين تهدأ (¬4) وتسكن حركتها، وهو وقت الأكل منها، ولذلك عقَّب الله تعالى هذه الحالة بالأمر بالأكل منها فقال: {فَكُلُوا مِنْهَا} وهذا يدل على أنّه لا ينبغي للمرء أن يعجل فيقطع منها ليأكل قبل أن يتم نحرها، ولكن يصبر حتى تسكن حركتها وكذلك السلخ يُبْتدأ بعد السكون، وهذا معنى قول عمر -رضي الله عنه-: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق (¬5) (¬6). ¬

_ = وذكر أنهما كتبا في حاشية نسخة "س" منسوبين للكُميت. واعتمد جامع ديوان الكميت على هذه الحاشية فأورد الأول في "ديوانه" 1/ 81، والثاني في 1/ 125 وأحال على حاشية المجاز. (¬1) في (د)، (ع): (الجبوب)، وهو خطأ. (¬2) ذكره عن ابن عباس السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 53 بلفظ: سقطت على جنبها. وعزاه لابن أبي حاتم. ورواه الطبري 17/ 166 عن مجاهد بلفظ سقطت على الأرض. (¬3) رواه الطبري 17/ 166. (¬4) في (أ): (يهدى)، وهو خطأ. (¬5) في (ظ): (قبل أن تزهق). (¬6) رواه الثوري في جامعه (كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 22، ومسند عمر بن الخطاب له أيضًا 1/ 335، والبيهقي في "السنن الكبرى" 9/ 278 عن عمر رضي الله عنه، به). ورواه عنه عبد الرزاق "المصنف" 4/ 495، وابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 292 - 293 عنه بلفظ: وذر، وعند ابن أبي شيبة: وأقرّوا الأنفس حتى تزهق.

ولهذا ايضا نُهي عن النَّخْع (¬1)، وهو أن يقطع الحلقوم والمريء بعد الذبح وفري الأوداج (¬2)، وذلك غير جائز؛ لأنه زيادة جراحة بعد تمام الذبح. ومعنى النخع: قطع النخاع، وهو العرق الذي في الفقار (¬3). وذكرنا وجه هذا الأمر فيما تقدم من هذه السورة. قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} القانع في الآية بمعنيين: أحدهما: أنه من القُنُوع بمعنى المسألة. يقال: قنع (¬4) يقنع قنوعًا، إذا سأل. والقانع: السائل. ومنه الحديث في ذكر من لا تجوز شهادته: "ولا شهادة القانع مع أهل البيت" (¬5). ¬

_ (¬1) روى البخاري في صحيحه (كتاب الذبائح والصيد- باب النحر والذبح 9/ 640) تعليقا عن نافع أن ابن عمر نهى عن النَّخع. وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 167 ففيه: وفي الحديث: "ألا لا تنخعوا الذبيحة حتى تجب". ومثله في "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري 3/ 414، و"غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 389. ولم أجد هذا الحديث. (¬2) الأوداج: جمع ودج، والودج: عرق في العنق، وهما ودجان. الصحاح للجوهري 1/ 347 (ودج). (¬3) انظر: (نخع) في "تهذيب اللغة" 1/ 67، "الصحاح" للجوهري 3/ 1288، "القاموس المحيط" 3/ 87. والفقار: جمع فقرة -بالكسر- وفقرة وفقارة -بفتحهما- وهو: ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. "لسان العرب" 5/ 61 (فقر)، "القاموس المحيط" 2/ 111. (¬4) كمنع. قاله الفيروزآبادي في "القاموس" 3/ 76. (¬5) هذا طرف حديث رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 156، والترمذي في "جامعه" كتاب الشهادات 6/ 580 - 581، والدراقطني في "سننه" 4/ 244، =

قال أبو عبيد (¬1): هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفَهُم، وأنشد (¬2): لمالُ المرء يُصلِحُه فيغني ... مَفَاقِرَةُ أعفُّ من القُنُوع أي: من المسألة (¬3). ومن هذا قول لبيد: وإعطائي المَوْلَى على حين فقره ... إذا قال أبْصِرْ خَلَّتي وقُنُوعي (¬4) المعنى الثاني: أن القانع الذي لا يسأل وهو من القناعة. يقال: قَنِعَ يقنع ¬

_ = والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 202 من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. قال الترمذي بعد روايته للحديث: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد ابن زياد الشَّامي، ويزيد يضعّف في الحديث. وضَعّف هذا الحديث بيزيد: الدارقطني والبيهقيُ. (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (أبو عبيدة)، وهو خطأ. (¬2) البيت أنشده أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 156 للشمَّاخ. وهو في "ديوانه" ص 56، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 51، و"المعاني الكبير" لابن قتيبة 1/ 489 - 499، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 428، والطبري 17/ 68، "الأضداد" لابن الأنباري ص 66 - 67. (¬3) قول أبي عبيد وإنشاده في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 59 "قنع" كتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 156 لكن فيه: هو الرجل يكون مع الرجل يطلب فضله ويسأل معروفه. وهو في كتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 156، والكلام مفسر فيه مثل ما نقله الأزهري عنه. (¬4) البيت في "ديوانه" ص 71، وفيه "خشوعي" في موضع "قنوعي". وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 52، والطبري 17/ 170 بمثل الرواية هنا. قال الطوسي في شرحه لديوان لبيد ص 71: (المولى: ابن العم، الخلّة. الحاجة، خلَّتي وقنوعي: الاستكانه وسوء الحالة.

قناعة وَقَنعًا (¬1) وقُنعَانًا (¬2)، إذا رضي بما قُسم له وترك المسألة والتعرض (¬3) قال ابن السكيت: ومن العرب من أجاز القُنُوع بمعنى القناعة، وكلام العرب الجيد هو الأول (¬4). قال أبو زيد: قال بعضهم: القانع: السائل، وقال بعضهم: المتعفف؛ وكلُّ يصلح (¬5). فذكر الوجهين. وكقول أبي زيد ذكر أبو عبيدة (¬6) والزَّجَّاج (¬7) الوجهين. وأما المعتر: فقال الأزهري: قال أهل اللغة: المعتر: الذي يُطِيف بك يطلب ما عندك سألك أو سكت عن السؤال (¬8). وقال ابن الأعرابي: عررت (¬9) فلانًا واعتررته وعروته (¬10) واعتريته (¬11)، إذا أتيته تطلب معروفه (¬12). ¬

_ (¬1) قنعًا: ساقطة من (أ). (¬2) في (ظ): (وقناعًا)، وفي (د)، (ع): (وقناعًا). (¬3) انظر: "قنع" في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 259، "الصحاح" للجوهري 3/ 1273، "لسان العرب" 8/ 298. (¬4) قول ابن السكيت في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 259 (قنع). (¬5) قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 259 (قنع). (¬6) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 51 - 52. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 428. (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 99 (عَرَّ). (¬9) في المطبوع من "تهذيب اللغة" 1/ 99: عروت. (¬10) في المطبوع من "تهذيب اللغة" 3/ 99: وعررته. (¬11) في (د)، (ع): (واعتروته). (¬12) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 99 (عرَّ)

ونحو هذا قال أبو عبيدة (¬1)، وأنشد لحسان: لعمرك ما المعتر يأتي بيوتنا ... لنمنعه بالضّايع المتهضم (¬2) فحصل من هذا أن القانع يجوز أن يكون السائل وغير السائل، وكذا المعتر إلا أنه لا ينفك من تعرض ونوع طلب. وعلى هذين الوجهين كلام المفسرين. منهم من يقول: القانع: الذي يسأل والمعتر الذي يأتيك بالسلام ويريك وجهه ولا يسأل، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3)، وزيد بن أسلم (¬4)، وابنه (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، والكلبي (¬7)، والحسن (¬8)، وبكر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 51. (¬2) البيت أنشده أبو عبيدة لحسان في "مجاز القرآن" 2/ 52، وروايته عنده: لعمرك ما المعترُّ يأتي بلادنا ... لنمنعه .............. (¬3) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 55 هذا القول عن ابن عباس من غير ذكر من رواه عنه، وعزاه لابن المنذر. وذكر هذا القول عن ابن عباس النحاس في "معاني القرآن" 4/ 413. وذكره ابن الجوزي وعزاه لابن المنذر. وذكر هذا القول عن ابن عباس النحاس في "معاني القرآن" 4/ 413. وذكره ابن الجوزي 5/ 433 وقال: رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس. وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 22. (¬4) وقوله ذكره عنه بنحوه الثعلبي في "الكشف" 3/ 53 أ. ورواه الطبري 17/ 169 بنحوه. (¬5) ذكره عنه بنحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 53 أ. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 38، والطبري 17/ 168، والبيهقي في "سننه" 9/ 294. (¬7) ذكره الثعلبي 3/ 53 أ، والطبري 17/ 168 (¬8) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 156 ب)، وابن أبي شيبة في مصنّفه =

ومنهم من يقول بعكس هذا فيقول: القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ: السائل الذي يعتريك ويسأل. وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي (¬1)، وعكرمة، وقتادة (¬2)، وإبراهيم، ومجاهد (¬3)، قالوا: القانع الذي يقنع ويجلس، والمعتر الذي يعتريك ويسأل. وروي عن ابن عباس قول ثالث وهو: أن كلاهما الذي لا يسأل، وهو رواية العوفي عنه، قال: القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك (¬4). ونحو هذا روى ليث عن مجاهد قال: القانع: جارك وإن كان موسرًا، والمعتر: الذي يعتريك ولا يسألك (¬5). وهذا أيضًا رواية خصيف عنه (¬6). وعلى هذا إنما يُطْعم القانع بأن يرسل إليه، كما روى قابوس، عن أبيه (¬7)، عن ابن عباس قال: القانع من أرسلت إليه في بيته (¬8). ¬

_ = 4/ 72، والطبري 17/ 168، والبيهقي في "السنن الكبرى" 9/ 294. (¬1) ذكره الثعلبي 3/ 53 أمن رواية الوالبي. ورواه الطبري 17/ 167. (¬2) رواه الطبري 17/ 167 عن عكرمة - وقتادة. (¬3) رواه الطبري 17/ 168، والبيهقي في "السنن" 9/ 294. (¬4) ذكره الثعلبي 3/ 53 أمن رواية العوفي. ورواه الطبري 17/ 167. (¬5) رواه الطبري 17/ 167 من رواية ليث، عنه. (¬6) روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 72، والطبري 17/ 167 من طريق خصيف، عن مجاهد قال: القانع: أهل مكة، والمعتر الذي يعتريك فيسألك. (¬7) هو: أبو ضبيان حصين بن جندب. (¬8) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 9/ 294 من طريق قابوس، عن أبيه، عن ابن =

37

والمستحب للمُهْدي أن يطلب القانع والمعتر، فيعطيهما جميعًا، قيامًا بالأمر وامتثالًا له. قوله تعالى: {كَذَلِكَ} كذلك أي: مثل ما وصفنا من نحرها قيامًا، والإطعام منها {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} نعمة منا عليكم لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال ابن عباس: يريد لكي تطيعوني. وشكر الله طاعة له واعتراف بإنعامه. 37 - قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} قال الكلبي: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا دماءها حول البيت قربة إلى الله، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله هذه الآية (¬1). ¬

_ = عباس بلفظ: القانع بما أرسلت ... وهذا الأثر ضعيف لضعف قابوس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 54 - 55 بمثل لفظ البيهقي، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "سننه". واختار الطبري 17/ 170 أن القانع: السائل، والمعتر هو الذي يأتيك معترًا بك لتعطيه وتطعمه، وعّلل ذلك بقوله: لأنه لو كان المعني بالقانع -في هذا الموضع: المكتفى بما عنده والمستغني به- لقيل: وأطعموا القانع والسائل، ولم يقل "وأطعموا القانع والمعتر" وفي اتباع ذلك قوله "والمعتر" الدليل الواضح على أن القانع معني به السائل .. وقال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 413 عن القول بأن القانع هو السائل والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك، إنه أحسن ما قيل في هذا وهو الصحيح في اللغة. واستظهر هذا القول الشنقيطي في "أضواء البيان" 5/ 695. (¬1) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 55 - 56 نحوه عن ابن عباس، وعزاه لابن المنذر وابن مردويه. =

وقال الزَّجَّاج: كانوا إذا ذبحوا لطَّخُوا البيت بالدم (¬1). والمعنى: لن يصل إلى الله اللحوم ولا الدماء أي: لن يتقرب إليه بها. وقال مقاتل بن حيّان: لن يُرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يرفع إلى الله منكم الأعمال الصالحة والتقوى (¬2). والمعنى لن يتقبل الله اللحوم ولا الدّماء، ولكن يتقبل التقوى فيها وفي غيرها بإيجاب الثواب عليها. وقيل: لن يبلغ رضا الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يبلغه التقوى منكم (¬3). وقال الأزهري: لن يصل إلى الله ما يُنيلكم به ثوابه غير التقوى، دون اللحوم والدماء (¬4). قوله: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} قال ابن عباس: يريد النيّات. وقال إبراهيم: التقوى ما أُريد به وجهه (¬5). ¬

_ = وذكر ابن الجوزي 5/ 434 نحوه من رواية أبي صالح، عن ابن عباس. وذكر ابن كثير في "تفسيره" 3/ 225 نحوه من رواية ابن أبي حاتم عن ابن جريج. ولم يثبت في سبب نزول هذه الآية شيء صحيح. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 429. (¬2) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 56، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬3) ذكر هذا القول الطوسي في "التبيان" 7/ 284، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 179 ب، ولم ينسباه لأحد. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 372 دون قوله: دون اللحوم والدماء. (¬5) رواه الطبري 17/ 170. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 56، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم بلفظ: ما التمس به وجه الله تعالى.

38

وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به (¬1). وحقيقة معنى هذا الكلام يعود إلى القبول. وذلك أنّ (¬2) ما يقبله الإنسان يقال: قد ناله ووصل إليه. فخاطب الله تعالى الخلق كعادتهم في تخاطبهم والمعنى. لن يقبل الله اللحوم ولا الدماء إذا كانت من غير تقوى الله، وإنما يقبل منكم ما تتقونه به. وهذا دليل على أن شيئًا من العبادات لا يصح إلا بالنية، وهو أن ينوي بها التقرب إلى الله وأداء (¬3) أمره واتقاء عقابه. وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} تقدم تفسيره قبيل. {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال ابن عباس: يريد على ما بين لكم وأرشدكم لمعالم (¬4) دينه (¬5) ومناسك حجه. وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا (¬6) {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} قال: يريد الموحّدين (¬7) (¬8). 38 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} قال المفسرون: يعني غائلة المشركين (¬9). وقال أبو إسحاق: هذا يدل على النصر من عنده، أي: فإذا فعلتم هذا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 429. (¬2) أن: ساقطة من (د)، (ع). (¬3) في (أ)، (ع): (وإذا)، وهو خطأ. (¬4) في (أ): (إلى دينه). (¬5) في (د)، (ع): (دينكم). (¬6) ذكره البغوي 5/ 388 من غير نسبه. (¬7) في (أ): (المحدين). (¬8) ذكره عنه البغوي 5/ 388، وأبو حيان في "البحر" 6/ 370. (¬9) الطبري 17/ 171، والثعلبي 3/ 53 ب.

وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه في نحرهم وإشراكهم بالله، فإنّ الله يدفع عن حزبه (¬1). وقُرئ: "إنَّ الله يدافع" (¬2). من دافع. وهو بمعنى دفع، وإن كان من المفاعلة، مثل: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاه الله (¬3). قال الأخفش: أكثر الكلام "إن الله يدفع" بغير ألف. قال: ويقولون دفع الله عنك. قال: ودافع عربية إلا أن الأولى (¬4) أكثر (¬5). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} قال ابن عباس: يريد: خانوا الله، وجعلوا معه شريكًا، وكفروا نعمه (¬6). وقال أبو إسحاق: إنَّ من ذكر غير اسم الله، وتقرب إلى الأصنام بذبيحة؛ فهو خوان كفور (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 429. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو (يدفع) بغير ألف. وقرأ الباقون (يدافع) بالألف. "السبعة" ص 437، "التبصرة" ص 266، "التيسير" ص 157. (¬3) "الحجة" للفارسي 5/ 279 مع اختلاف يسير. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 425، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 79، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 120. وذكر ابن زنجلة في "حجة القراءات" ص 478 وجها آخر في توجيه قراءة (يدافع) فقال: وحجتهم أنَّ "يدافع" عن مرات متواليات. اهـ وبينه مكي في "الكشف" 2/ 15 بقوله: وقد تكون "فاعل" للتكرير، أي: يدفع عنهم مَرَّة بعد مرة. (¬4) في "الحجة": الأول. (¬5) قول الأخفش في "الحجة" للفارسي 5/ 279. ولم أجده في "معاني القرآن" للأخفش. (¬6) ذكره عنه البغوي 5/ 388. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 429.

39

وقال أهل التفسير: كل خوان في أمانة الله كفور لنعمته (¬1) (¬2). 39 - وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} قال ابن عباس فيما روى عنه سعيد بن جبير (¬3)، وقتادة (¬4)، والزهري (¬5): هذه أول آية نزلت في القتال. وقال سعيد بن جبير: لما أخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيَّهم ليهلكن. فنزلت هذه الآية. قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال (¬6). قال المفسرون: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، ويشكون ذلك فيقول لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اصبروا فإنّي لم أؤمر بالقتال"، حتى هاجر فأنزل الله هذه الآية (¬7). ¬

_ (¬1) في (ط)، (د)، (ع): (لنعمه)، وعند الثعلبي: بنعمته. (¬2) هذا قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 53 أ. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 39، والإمام أحمد في "مسنده" 3/ 261 - 262، والنسائي في "التفسير" 2/ 88، والطبري في "تفسيره" 17/ 172، والحاكم في "مستدركه" 2/ 66 كلهم من طريق سفيان الثوري، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند 3/ 261: إسناده صحيح. (¬4) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 39، والطبري 17/ 173. (¬5) رواه عنه النسائي في "تفسيره" 2/ 89 - 90. (¬6) رواه الترمذي في جامعه (كتاب التفسير -باب ومن سورة الحج 9/ 15) من رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ثم قال: وقد رواه غير واحد عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير مرسلا وليس فيه عن ابن عباس. (¬7) ذكره الثعلبي 3/ 53 ب بنصَّه. قال الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 388 - بعد ذكره لما ساقه الزمخشري من وهو مثل الرواية هنا-: غريب جدًّا، وعزاه للواحدي في الوسيط. =

وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد -في هذه الآية- قال: ناس مؤمنون مهاجرون خرجوا من مكة إلى المدينة، وكانوا يمنعون، فأدركهم كفار قريش، فأذن الله للمؤمنين بقتال الكفار (¬1). وعلى هذا القول الآية نازلةٌ في قوم مخصوصين بأعيانهم. والقول الأول عليه أهل التفسير. قال مقاتل بن حيان: إن مشركي مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة، فاستأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتالهم، فنهاهم فلما خرج إلى المدينة أنزل عليه بالمدينة هذه الآية، وهي أول آية نزلت عليهم (¬2) في القتال (¬3). وقرئ "أذن" بفتح الألف وبضمها (¬4). فمن فتح الألف بني الفعل ¬

_ = وقال ابن حجر في "الكافي": لم أجده هكذا. ثم قال: وهو منتزع من أحاديث أقربها ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان في قوله "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا": وذلك أن مشركي مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة، فأستاذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتالهم بمكة فنهاهم؛ ليمتحن بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فلما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أنزل عليه "أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا". وذكر الطبري عن الضحاك: أن الصحابة رضي الله عنهم استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتال الكفار إذ آذوهم واشتطوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة وسرا، فأنزل الله "إن الله لا يحب كل خوان كفور، فلما هاجروا أطلق لهم قتلهم وقتالهم، فقال "أذن للذين يقاتلون" الآية. (¬1) رواه الطبري 17/ 173 عنه من رواية ابن أبي نجيح، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 57 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل". (¬2) (عليهم): ساقطة من (ط)، وفي (د)، (ع): (نزلت في القتال عليهم). (¬3) تقدم في كلام ابن حجر أنَّ ابن أبي حاتم أخرجه عنه. (¬4) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وابن عامر: "أذن" مفتوحة الألف، وقرأ =

للفاعل لما تقدم (¬1) من ذكر الله تعالى (¬2)، وقوله {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} في موضع نصب ومن ضم الألف بني الفعل للمفعول به، والمعنى على أن الله سبحانه وتعالى أذن لهم في القتال، والجار والمجرور في موضع رفع لإسناد الفعل المني للمفعول إليهم. والمأذون لهم في القتال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وقوله: "يقاتِلون" أي: الذين يقاتلون عدوهم الظالمين لهم بإخراجهم عن ديارهم. وهم المؤمنون. وقرئ "يقاتَلون" بفتح التاء (¬4)، أي: الذين يقاتلهم المشركون، وهم المؤمنون، ويقوي هذه القراءة أن الفعل الذي بعده مسند إلى المفعول به وهو قوله: "ظلموا" (¬5). ¬

_ = الباقون بضمها. "السبعة" ص 437، "التَّبصرة" ص 266، "التيسير" ص 157، "الإقناع" 2/ 706. (¬1) في (ظ): (علي ما تقدّم)، وفي "الحجة" للفارسي: فلما تقدم. (¬2) يعني أنَّه قرب من قوله -قبلها-: "إن الله لا يحب كل خوان كفور"، فأسندوا الفعل إلى الله لتقدم اسمه وأنَّ الفعل قرب منه. قاله ابن زنجلة في "حجة القراءات" ص 478. (¬3) من قوله: من فتح الألف إلى هنا. هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 280 - 281 مع تقديم وتأخير. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 426، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 478، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 120. (¬4) قرأ نافع، وحفص عن عاصم، وابن عامر: "يقاتلون" بفتح التاء، وقرأ الباقون بكسر التاء. "السبعة" ص 437، "التبصرة" ص 266: "التيسير" ص 157، "الإقناع" 2/ 706. (¬5) من قوله: الذين يقاتلون عدوهم ... إلى هنا. هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 280 - 281 مع تقديم وتأخير. =

40

وفي الآية محذوف يدل على ظاهر الكلام. قال الفراء (¬1) والزجاج (¬2): المعنى: أذن لهم أن يقاتلوا. وقال أبو علي: المعنى فيه: أذن للذين يقاتَلون بالقتال. قال (¬3): وحذف مثل هذه من الكلام للدلالة (¬4) عليه حسن كثير (¬5). وقوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} قال المبّرد: أي من أجل أنّهم ظلموا. وقال أبو إسحاق: بسبب ما ظلموا (¬6). قال ابن عباس: اعتدوا عليهم وظاهروا عليهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم. قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} قال مقاتل: يعني نصر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فنصرهم عليهم (¬7). وقال أبو إسحاق: هذا وعبد من الله بالنَّصر (¬8). 40 - قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} ["الذين" في ¬

_ = وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 478 - 479، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 121. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 227. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 430. (¬3) (قال): ساقطة من (ظ). (¬4) في (ظ): (بالدلالة). (¬5) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 281. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 430. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 26 أ. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 430 بنحوه.

موضع خفض، المعنى: أذن للذين أخرجوا من ديارهم] (¬1) (¬2). قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} قال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4): أي لم يخرجوا إلا بأن وحَّدُوا الله، فأخرجتهم (¬5) عبدة الأوثان لتوحيدهم. وعلى هذا: "لم يخرجوا" مضمر في الآية، ودل عليه ذكر الإخراج في أول الآية والاستثناء المذكور (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (د)، (ع). (¬2) هذا كلام الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 430. ويكون "الذين" في موضع خفض؛ لأنه بدل من "الذين" الأولى، أو صفة له. وجوز أبو البقاء في الإملاء 2/ 145 أن يكون "الذين" في موضع نصب بأعْني، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ تقديره: هم الذين. وتبعه في ذلك أبو حيّان 6/ 374، والسمين الحلبي 8/ 282. وانظر أيضًا: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 100، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري 2/ 176 - 177. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 227. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 430. (¬5) في (ظ): (فأخرجهم). (¬6) وعلى قول الفراء والزجَّاج يكون الاستثناء في قوله: "إلا أن يقولوا". متصلاً، ويكون "أن يقولوا" في محل جر على البدل. وتبع الفراء والزجاج في هذا الزمخشري 3/ 16 فقال: أي لغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإفراج والتيسير. ومثله {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59]. وذكر أبو حيان 6/ 374 قول الزجاج والزمخشري وتعقبهما بقوله: وما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدل لا يكون إلا إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي .. وأما إذا كان الكلام موجبًا أو أمرًا فلا يجوز البدل .. ولو قلت في غير القرآن: أخرج الناس من ديارهم إلا بأن يقولوا لا إله إلا الله، لم يكن كلاما. وانظر: "الدر المصون" 8/ 282 - 283، "فتح القدير" للشوكاني 3/ 457.

وقال سيبويه: هذا من الاستثناء المنقطع، المعنى: لكن بأن يقولوا ربنا الله (¬1). والمعنى: ولكن أخرجوهم بتوحيدهم. وذكر الفرَّاء هذا القول أيضًا، فقال: وإن شئت جعلت "أنْ" مستثناة كما قال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] (¬2). وحكى المبرد عن بعضهم قولاً آخر، وهو: أنَّ المعنى أخرجوا من ديارهم بأن جعل الحق في إخراجهم، أي: الذين استحقوا به الإخراج قولهم: ربنا الله، كما تقول: ما غبت علي إلا أنّي منصفٌ، أي: جعلت سبب غضبك إنصافي. أي: عدوانًا وظلمًا (¬3). هذا كلامه (¬4). وعلى هذا الاستثناء متصل، واستثنى التوحيد من الباطل لضرب من المبالغة كقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفَهم ... بهن فلول (¬5) من قِرَاعِ الكتائب (¬6) ¬

_ (¬1) "الكتاب" لسيبويه 2/ 325. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 227. (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (ظلمًا وعدوانا). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في (ظ): (كلول). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 44، و"الكتاب" 2/ 326، "المعاني الكبير" لابن قتيبة 1/ 360، "الكامل" للمبرد 1/ 51، "همع الهوامع" للسيوطي 1/ 132، "شرح أبيات مغني اللبيب" للبغدادي 3/ 16. قال البغدادي 3/ 19: وهو من قصيدة يمدح بها عمرو بن الحارث الأصغر من ملوك الشام الغسَّانيين، ويقال نهم: بنو جفنه. قال السيرافي في "شرح أبيات سيبويه" 2/ 51: يمدح آل جفنه الغسانيين. والفلول =

فاستثنى ما ليس بعيب من جملة العيب، وهو ضرب من المبالغة في الكلام، والمعنى على أنَّهم لا يعابون إلا بما ليس بعيب، كذلك هؤلاء ما أخرجوا من ديارهم إلا بما لا يوجب الإخراج. وقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وقرئ: "ولولا دفاع الله" (¬1). ومضى الكلام في هذا في الآية السابقة. قال أبو علي: ويجوز أن يكون الدفاع من دفع، كالكتاب من كتب، ولا يراد به مصدر فاعل، ولكن مصدر الثلاثة مثل: الكتاب والقيام والغياث (¬2) (¬3). وقوله: {لَهُدِّمَتْ} الهَدَم: مصدر هدمت البناء، إذا نقضته. يقال: هدمته فانهدم. والهدم: المهدوم (¬4). ¬

_ = جمع فل، وهو الثلم الذي يكون في السيف. والمعنى: أنهم يغزون كثيرًا ويضاربون الأقران، فسيوفهم قد تفلّلت. والقراع والمقارعة: المضاربة بالسيوف، وقوله "ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم مفللة هو بمنزلة: ليس فيهم عيب على وجه، لأنه إذا كان تفليل سيوفهم هو عيبهم -وهذا المعنى يمدح به- فلا عيب فيه على وجه. وهذا يقوله الناس على طريقة المبالغة في المدح. (¬1) قرأ نافع: "ولولا دفاع الله" بالألف وكسر الدال، وقرأ الباقون "ولولا دفع الله" بغير ألف وفتح الدال. "السبعة" ص 437، "المبسوط" لابن مهران ص 258. (¬2) في "الحجة": العتاب. (¬3) "الحجة" للفارسي 5/ 278. (¬4) انظر: (هدم) في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 222، "الصحاح" للجوهري 5/ 2057، "لسان العرب" 12/ 603.

وقرئ "لهدمت" بالتخفيف والتشديد (¬1). فالتخفيف يكون للكثير والقليل، يدلك على ذلك أنّك تقول: ضربت زيدًا ضربة، وضربته ألف ضربة. فاللفظ في الكثرة والقلة على حال واحدة. والتشديد يختص به الكثير (¬2). وقوله: {صَوَامِعُ} جمع صومعة، وهي مُتَعبّد الراهب. قال الأزهري: الصومعة من البناء سميت صومعة لتلطيف أعلاها. يقال: صَمَّع الثريدة، إذا رفع رأسها وحدَّده (¬3)، وكذلك صعنبها (¬4). وسُميت الثريدة إذا سويت كذلك صومعة. ومن هذا يقال: رجل أصمع إذا كان حادّ الفطنة (¬5). قال مجاهد، والضحاك (¬6): يعني صوامع الرهبان. ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع: "لهدمت" بتخفيف الدال، وقرأ الباقون "لهدمت" بتشديد الدال. "السبعة" ص 438، "التبصرة" ص 267، "التيسير" ص 157، "الإقناع" 2/ 706. (¬2) من قوله: فالتخفيف يكون ... إلى هنا هذا كلام أبي علي الفارسي في "الحجة" 5/ 279. وانظر: "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 78، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 121. (¬3) في (ظ)، (د)، (ع): (وحدده)، وفي (أ): (وحدّده)، وهو الموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬4) في (أ)، (ع): (وصعسها) مهملة، وفي (ظ): (وصعبتها)، وفي (د): (وصعنبها)، وهو الموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 61 (صمع)، وقوله "ومن هذا يقال: رجل ... في 2/ 60. (¬6) ذكره الثعلبي 3/ 53 ب عنهما. ورواه الطبري 17/ 175 عنهما. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 60 وعزه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

وقال قتادة: الصوامع للصابئين (¬1). وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق (¬2). وقوله: {وَبِيَعٌ} [جمع بِيعة] (¬3)، وهي كنيسة النصارى في قول أهل اللغة (¬4) والمفسرين (¬5). وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} قال أبو إسحاق وأبو العباس (¬6). هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية صلوتا (¬7). وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضحاك (¬8)، ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 53 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 39، والطبري 17/ 176. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 60 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) ذكره عنه ابن كثير في "تفسيره" 3/ 226. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) انظر: (بيع) في "تهذيب اللغة" 3/ 239، "الصحاح" للجوهري 3/ 1189. (¬5) هذا قول أبي العالية وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. قال ابن كثير 3/ 226. وقيل "بيع" كنائس اليهود، حكاه ابن جرير 17/ 176 والثعلبي 3/ 53 ب عن مجاهد وابن زيد. وأما في اللغة فإن ابن منظور قال في "لسان العرب" 8/ 26 (بيع): والبيعة -بالكسر- كنيسة النصارى، وقيل: كنيسة اليهود. (¬6) قول أبي إسحاق في كتابه "معاني القرآن". وقول أبي العباس -ثعلب- في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 239 (صلى). (¬7) في (أ): (صلاتا)، وهو خطأ. (¬8) ذكره الثعلبي 3/ 53 ب عن ابن عباس والضحاك وقتادة. وعن ابن عباس رواه الطبري 17/ 176 من طريق العوفي بلفظ: الكنائس. وليس فيه تقييدها باليهود، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 59 عن ابن =

ومقاتل (¬1). وقوله: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} يعني مساجد المسلمين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في قول ابن عباس وغيره (¬2). وأما معنى الآية: فقال أبو إسحاق: تأويل هذا: لولا أن الله دفع بعض الناس ببعض لهُدّم في كل شريعة نبي (¬3) المكان الذي يصلى فيه، فكان لولا الدفع لهدم في زمن موسى -عليه السلام- الكنائس التي كان يصلى فيها في شريعته، وفي زمن عيسى (¬4) -عليه السلام- الصوامع والبيع، وفي زمن محمد -صلى الله عليه وسلم- المساجد (¬5). وقال الأزهري: أخبر الله جل ثناؤه أنه لولا دفعه الناس (¬6) عن الفساد ¬

_ = عباس بلفظ: كنائس الهود. وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 59 عن ابن عباس رواية أن الصلوات: كنائس النصارى. وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. وعن قتادة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 39، والطبري 17/ 176، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 60 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. وعن الضحاك رواه الطبري 17/ 176، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 6 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 26 أ. وفي الصلوات قول آخر أنَّها مساجد للمسلمين وأهل الكتاب. رواه الطبري 17/ 177 وغيره عن مجاهد وابن زيد. (¬2) ذكره عن ابن عباس السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 59 وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬3) في المعاني: لهم في شريعة كل نبيّ. (¬4) (عيسى) ساقطة من (أ). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 431. (¬6) في (ظ): (للناس).

ببعض الناس لهدمت متعبدات كل فريق من أهل دينه وطاعته في كل زمان. فبدأ بذكر البيع لأن صلوات من تقدَّم من أنبياء بني إسرائيل وأصحابهم (¬1) كانت فيها قبل نزول القرآن، وأحدثت المساجد وسمّيت بهذا الاسم بدهم. فبدأ جلَّ ثناؤه بذكر الأقدم، وأخَّرَ ذكر الأحدث (¬2) وهذا مذهب أكثر أهل التأويل في هذه الآية. وقال ابن زيد: الصَّلوات: صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدو (¬3). وقال الأخفش: وعلى هذا فالصلوات لا تهدم، ولكن يحمل على فعل آخر كأنه قال: وتركت صلوات (¬4). وقال أبو عبيدة: إنَّما يعني مواضع الصلوات (¬5). والقول هو الأول. وقال الحسن: يدفع عن هدم (¬6) مصليات أهل الذمة بالمؤمنين (¬7). وعلى هذا القول لا يحتاج إلى التفسير (¬8) الذي ذكرنا في القول ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة": وأمهم، الفرقان. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 239. قال ابن كثير 3/ 226: وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمارًا وأكثر عبادًا وهم ذوو القصد الصحيح. (¬3) رواه الطبري 17/ 177، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 60 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 636. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 52 وعبارته: مجازه مصليات. (¬6) في (أ): (هم). (¬7) ذكره عنه الثعلبي 54/ 3 أ. (¬8) في (د)، (ع). (تفسير).

41

الأول، غير أن الأول (¬1) أولى؛ لأنهم قبل أن صاروا أهل الذمة حين كانوا على الحق كانت متعبداتهم مدفوعًا عنها، وأيضَّا فإنه يلزم أن يبدأ بدكر المساجد لفضلها، إذ بطلت البيع والكنائس في الإسلام. وقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: ينصر (¬2) دينه وشريعته ونبيه. قال ابن عباس: يريد ينصر محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. قال مقاتل: وقد فعل، نَصر محمدًا (¬3) ونَصر أهل دينه (¬4). وقال أبو إسحاق: أي: من أقام شريعة من شرائعه نصر على إقامة ذلك (¬5). وهذا وعد من الله بنصر من ينصر دينه وشريعته. وقوله {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} قال ابن عباس: على خلقه {عَزِيزٌ} منيع في سلطانه وقدرته (¬6). وقال مقاتل: {عَزِيزٌ} في انتقامه من عدوه (¬7). 41 - قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ} ذهب بعض النحويين (¬8) إلى أن هذا بدل من قوله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} ¬

_ (¬1) في (أ): (الأولى)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (لينصر). (¬3) في (أ): (محمد)، وهو خطأ. (¬4) "تفسير مقاتل" 3/ 26 أ. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 431 (¬6) انظر: الطبري 17/ 178، وابن كثير 3/ 226. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 26 أ (¬8) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 101.

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ} كل هذا من وصف قوم واحد (¬1). وعلى هذا ذكر الله تعالى المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، ثم ذكر أنه كان ينصر في كل زمان أهل دينه، ويدفع عنهم بالغزاة، ولولا ذلك لغلب عدوهم حتى تخرب (¬2) متعبداتهم، وكذا يفعل بهذه الأمة، ينصرهم حتى يأمنوا في مساجدهم وديارهم، ثم عاد إلى وصفهم فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ}. وقال أبو إسحاق: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ} من صفة ناصِريه (¬3). يعني قوله {مَنْ يَنْصُرُهُ} وعلى هذا هو في محل النصب (¬4). ومعنى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا من البلاد غير مقهورين. وقوله: {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ ¬

_ (¬1) وعلى هذا القول فـ"الذين" في موضع خفض. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 101، "الإملاء" للعكبري 2/ 145، "البيان في إعراب غريب القرآن" للأنباري 2/ 177. (¬2) في (ظ): (تحرب)، وفي (د): (بحرب)، وفي (ع): (نحرب). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 431. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 101، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 494، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري 2/ 177. وذكر أبو البقاء العكبري في "الإملاء" 2/ 145 أن إعراب: "الذين إن مكناهم" مثل إعراب "الذين أخرجوا" واستظهره أبو حيان 6/ 376، وجوَّز ذلك السمين 8/ 286، 8/ 286 وقال: ويزيد هذا عليه -يعني: "الذين إن مكناهم"- بأن يجوز أن يكون بدلاً من "من ينصره" ذكره الزجَّاج، أي: ولينصرن الله الذين إن مكناهم في الأرض.

42 - 44

الْمُنْكَرِ} قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان (¬1). وقال قتادة: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2). ونحو هذا قال مقاتل (¬3). وقال محمد بن كعب: هم الولاة (¬4). وقال أبو العالية: هم هذه الأمة (¬5). وهذا قول الحسن (¬6). وعكرمة: أهل الصلوات الخمس (¬7). وهذه الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ قرنا بالصلاة والزكاة. وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} كقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]. والمعنى: أنه يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مُدَّع. 42 - 44 - ثم عزى نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن تكذيبهم إياه، وخوف مخالفيه بذكر من كذَّب نبيه فأُهلك (¬8) بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} إلى قوله: {وَكُذِّبَ مُوسَى} ¬

_ (¬1) ذكره عنه القرطبي 12/ 73، وأبو حيان في "البحر" 6/ 376. (¬2) ذكره عنه الثعلبى 3/ 54 أ. (¬3) انظر: "تفسيره" 3/ 26 أ. (¬4) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 60 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) ذكره عنه الثعلبى 3/ 54 أ. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 60 عنه أنه قال: أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وكذا ذكره ابن كثير 3/ 226. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 3/ 54 أ، والنحاس في "معاني القرآن" 4/ 419. (¬7) ذكره عنه الثعلبي 3/ 154 أ. (¬8) في (ظ): (وأهلك).

[قال بعض أهل المعاني. إنما قال: {وَكُذِّبَ مُوسَى}،] (¬1) ولم يقل: وقوم موسى كما ذكر (¬2) قوم غيره من الأنبياء؛ لأن قوم موسى كانوا بني إسرائيل وهم آمنوا به، وإنما كذّبه فرعون وقومه، وغيره من الأنبياء كذَّبه قومه الذين كانوا من نسبه (¬3). وقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: أخَّرت العقوبة عنهم وأمهلتهم (¬4). يقال: أمْلى الله لفلان في العمر، إذا أخَّر عنه أجله (¬5). وأصل هذا من المَلَوين (¬6). وذكرنا هذا عنِد قوله {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]. وقوله: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي: بالعذاب. قال ابن عباس: يريد: فعذبتهم (¬7). {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام معناه التقرير، والنكير اسم من الإنكار. يقول: كيف أنكرت عليهم بالعقوبة. ألم أبدلهم بالنعمة نقمة، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ط). (¬2) في (أ): (ذكره). (¬3) ذكر القرطبي 12/ 73 وأبو حيان 6/ 376 هذا المعنى، ولم ينسباه لأحد. (¬4) انظر الطبري 17/ 179، والثعلبي 3/ 54 أ. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 405 (ملا)، "الصحاح" للجوهري 6/ 2497 (ملا). (¬6) الملوان: اللفعل والنهار، أو طرفاهما. انظر: "الصحاح" للجوهري 6/ 249، (ملا)، و"لسان العرب" لابن منظور 15/ 291 "ملا". (¬7) في (أ): (تعذيبهم).

45

وبالكثرة (¬1) قلة، وبالحياة هلاكًا، وبالعمارة خرابًا؟ (¬2). وقال أبو إسحاق: أي: ثم أخذتهم، فأنكرت أبلغ إنكار (¬3). 45 - {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} (¬4) أي: وكم من قرية. ومعنى وكم من قرية: عدد كثير (¬5). يعني القرى المهلكة بظلم أهلها حين كذبوا نبيهم. وذكرنا الكلام في "كأين" في سورة آل عمران (¬6). وقوله (¬7): "أهلكتها" وقرئ "أهلكناها" (¬8) والاختيار التاء؛ لقوله {فَأَمْلَيْتُ} {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} (¬9). ومن قرأ بالنون ذهب إلى أمثاله مما ذكر بلفظ الجمع كقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11] و {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] و {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} [يونس: 13] (¬10). ¬

_ (¬1) في (ج): (والكثرة). (¬2) هذا كلام الطبري 17/ 179 مع تصرف. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 431. (¬4) في (أ)، (ظ)، (د): (وكأيّن)، وهو خطأ. (¬5) هذا من كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن" 3/ 431. (¬6) عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]. (¬7) (وقوله): ليست في (أ). (¬8) قرأ أبو عمرو: "أهلكتها" بالتاء مضمومة من غير ألف على لفظ التوحيد، وقرأ الباقون: "أهلكناها" بالنّون بلفظ الجمع. انظر: "السبعة" ص 438، "التبصرة" ص 267، "التيسير" ص 157. (¬9) قال مكي في الكشف 2/ 121 - 122: وحجة من قرأ بالتاء أنه حمله على لفظ التوحيد الذي أتى بالتاء قبله وهو قوله: "فأمليت للكافرين ثم أخذتهم"، وحمله أيضًا على لفظ التوحيد بعده في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48] فكان حيل الكلام على ما قبله وما بعده أحسن وأليق. (¬10) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 281 - 282 مع تصرف. =

وقوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: أهلها ظالمون بالتكذيب والكفر {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} مضى تفسيره مستقصى في سورة البقرة (¬1). وقوله: {وَبِئْرٍ} ذكر الفراء في كسره ثلاثة أوجه: أحدها: العطف على العروش (¬2). والثاني: الإتباع كقراءة من قرأ {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالخفض. الثالث: العطف على {مِنْ قَرْيَةٍ} (¬3). وهذا هو المختار (¬4)، والأولان خلفٌ (¬5)؛ لأن المعنى وكم من بئر معطلة وقصر مشيد تركوها بعد إهلاكهم (¬6). قوله تعالى: {مُعَطَّلَةٍ} أي: متروكة من العمل والاستقاء. ومعنى ¬

_ = قال مكي في "الكشف" 2/ 122. وحجة من قرأ بلفظ الجمع أنه أفخم، وفيه معنى التعظيم، وبه جاء القرآن في مواضع. وانظر "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 480. (¬1) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]. (¬2) قال أبو حبان 6/ 377: وجعل "وبئر معطلة وقصر مشيد" معطوفين على "عروشها" جهل بالفصاحة، وقال السمين الحلبي 8/ 287 عن هذا القول، وليس بشيء. وكذا قال الألوسي 17/ 166. (¬3) انظر كلام الفراء في "معاني القرآن" 2/ 228. (¬4) وقال عنه السمين الحلبي 8/ 287، هذا هو الوجه. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 102، "البحر المحيط" 6/ 377. (¬5) أي خطأ. قال الجوهري: الخلف: الرديء من القول. يقال سكت ألفًا وتكلم خلفًا، أي: سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ. الصحاح 4/ 1354 (خلف). (¬6) في (ط)، (د)، (ع): (هلاكهم).

التعطيل: الترك من العمل. قال الليث: وإذا (¬1) ترك الثغر بلا حام يحميه فقد عطل، وبئر معطلة: لا يستقى منها، ولا ينتفع بمائها (¬2). قال المبرد: والمعطل: المتروك على هيئته، وأصله مأخوذ من العطل، وهو: الجسم. وكأنها متروكة كما هي (¬3). قل ابن عباس: يريد: بئر لا يستقى منها (¬4). قوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى المشيَّد، وهو المطول (¬5) المرفوع، وذكرنا ذلك في قوله: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وهو قول قتادة، والضحاك، ومقاتل (¬6). والثاني: أنه المجصص يقال: شاده يشيده، إذا بناه بالشِّيد وهو ¬

_ (¬1) في (أ): (فإذا)، وفي (د)، (ع): (إذا)، والمثبت من (ظ) وهو الموافق لما في "تهذيب اللغة". (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 166 (عطل) نقلا عن الليث. وفي "العين" 2/ 9 (عطل): وبئر معطلة: أي لا تورد ولا يستقى منها. (¬3) لم أجد من ذكره عنه. (¬4) روى الطبري 17/ 180 عن ابن عباس "وبئر معطلة" قال: التي قد تركت وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 61 وعزاه لابن جرير وابن المنذر. (¬5) في (أ): (المطلول)، وهو خطأ. (¬6) ذكره الثعلبي 3/ 54 أعنهم جميعًا. وعن قتادة رواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 40، والطبري 17/ 181 بلفظ: كان أهله شيدوه وحصنوه. وعن الضحاك رواه الطبري 17/ 181 بلفظ: طويل. وهو في "تفسير مقاتل" 2/ 26 ب.

الجص والنورة (¬1) وأنشد أبو عبيدة (¬2) لعدي بن زيد: شماده مرمرًا وجلله كِلْسًا ... فللطير في ذراه وكور (¬3) وقال أبو إسحاق: أصل الشيد: الجص والنورة، وكل ما بني بهما أو ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 394 (شاد)، "الصحاح" للجوهري 2/ 495 "شيد"، "لسان العرب" 3/ 244 (شيد). والنورة بالضم: الهناءُ، وهو من الحجر يُحرق ويسوّى منه الكلس. "لسان العرب" 5/ 244 "نور"، "تاج العروس" للزبيدي 14/ 306 "نور". (¬2) في (د)، (ع): (أبو عبيد)، والصواب ما في (أ)، (ظ). (¬3) البيت أنشده أبو عبيدة لعدي بن زيد في كتابه "مجاز القرآن" 2/ 53. وهو في ديوان عدي بن زيد ص 88، "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 13، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 294، "الكامل" 1/ 90، والطبري 17/ 182، "الجمهرة" لابن دريد 3/ 45 "كلس"، "لسان العرب" 6/ 197 "كلس". والرواية عندهم "جلله" إلا الديوان والجمهرة فإن الرواية فيهما: "خلله"، ثم قال ابن دريد بعد روايته للبيت: هكذا رواه الأصمعي بالخاء معجمة، وقال: ليس جلله -بالجيم- بشيء -وروى غيره بالجيم- وقال الأصمعي: إنَّما هو "خلله" أي: صير الكلس في خلل الحجارة، وكان يضحك من هذا ويقول: متى رأوا حصنًا مصهرجًا. المرمر: الرخام. "الصحاح" للجوهري 2/ 814 (مرر). و"الكلس" -بالكسر-: ما طلبي به حائط أو باطن قصر شبه الجص من غير آجر، وقيل هو الصاروج -يعني النورة وأخلاطها التي تطلى بها النزل، فارسي معرب- أو مثل الصاروج. انظر: "لسان العرب" 6/ 197 (كلس)، 2/ 310 (صرج)، "تاج العروس" للزبيدي 16/ 448 (كلس). (ذراه): أعلاه. الصحاح للجوهري 6/ 2345 (ذرا). (كُور): جميع وكر، وهو العش. "لسان العرب" 5/ 252 "وكر".

46

بأحدهما فهو مَشِيد (¬1) بفتح الميم وكسر الشين. وهذا قول عطاء، وعكرمة، وأبي صالح، والسّدي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأكثر المفسرين (¬2). ومن المفسرين من يخصص البئر المذكورة في هذه الآية -وهو قول الضحاك، والسدي- قالا: كانت هذه البئر باليمن (¬3). وليس بالوجه. 46 - ثم حث على الاعتبار بحال من مضى من الأمم المكذبة فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد: أفلم يسر قومك في أرض ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 432. وقوله: "بفتح الميم وكسر الشين" هذا من كلام الواحدي. (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 54 أعن عطاء وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير. ورواه عن هؤلاء الأربعة الطبري 17/ 180 - 181. ورواه عن عطاء وعكرمة عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 39. ولم أجده من ذكره عن أبي صالح والسدي. قال ابن كثير 3/ 227 بعد ذكره للأقوال: والأقوال متقاربة، ولا منافاة بينهما، فإنه لم يحمل أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي في "تيسير الكريم الرحمن" 3/ 327 - 328: وكم من قصر تعب عليه أهله، فشيدوه ورفعوه وحصنوه وزخرفوه، فحين جاءهم الأمر لم يغن عنهم شيئا، وأصبح خاليًا من أهله. (¬3) ذكره الثعلبي 54/ 3 أعن الضّحاك. وذكر فيها قصّة. وذكره القرطبي 12/ 75 عن الضحاك وغيره، وساق عنه قصّة طويلها في خبر هذه البتر وأصحابها. الله أعلم بصحة هذا الخبر.

الشام وأرض اليمن {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي يعلمون بها مدلول ما يرون من العبر. (والمعنى: أفلم يسيروا فيعقلوا بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم. والتأويل: فتكون لهم قلوبٌ عاقلة [عالمة؛ لأن قوله) (¬1) {يَعْقِلُونَ بِهَا} صفة للنكرة، وقبل أن يسيروا لهم قلوب ولكن غير عاقلة، فإذا ساروا واعتبروا كانت لهم قلوب عاقلة] (¬2) وعلى هذا النحو قوله {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}. قال ابن عباس: يريد من يسمع فلم يجب فلم يسمع. يعني أنهم غير سامعين إذا صمُّوا عن دعائك، أفلا يسيرون فيسمعوا (¬3) أخبار الأمم المكذبة فيعتبروا. قال ابن قتيبة -في هذه الآية والتي قبلها-: وهل شيء أبلغ في العظة والعبرة من هذه الآية؟ لأن الله تعالى أراد (¬4): أفلم يسيروا في الأرض، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتو، وأبادهم بالمعصية، فيروا من تلك الآثار بيوتًا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرًا لشُرب أهلها قد عُطّلت (¬5) (¬6)، وقصرًا بناه ملكها (¬7) بالشيد قد خلا من السكن وتداعى ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬3) في (أ): (فيسمعون)، وهو خطأ. (¬4) (أراد): موضعه بياض في (ظ). (¬5) في (أ): (غلطت)، وهو خطأ. (¬6) العبارة عند ابن قتيبة: وبئرًا كانت لشُرب أهلها قد عطل رشاؤها وغار معينها، وقصرًا. (¬7) عند ابن قتيبة: ملكه.

بالخراب؛ فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله وبأسه، مثل الذي (¬1) نزل بهم. ونحو هذا قوله {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]. انتهى كلامه (¬2). ثم ذكر الله تعالى أنَّ (¬3) أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر، وإنما عميت أبصار (¬4) قلوبهم فقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ}. قال الفراء: الهاء هاء عماد يوفى (¬5) بها "إنَّ" ويجوز مكانها "إنَّه"، وكذلك هي في قراءة عبد الله (¬6). وقال غيره: هي إضمار على شريطة التفسير. والمعنى: فإنَّ الأبْصار لا تعمى. ويجوز أن تكون الهاء لإضمار القصة. وذكرنا هذه الأقوال مشروحة في تفسير قوله {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97]. وقوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ذكر الفراء وأبو إسحاق (¬7): أن هذا من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام، كقوله {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167]، وقوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. والتوكيد جار في الكلام مبالغ في الإفهام. وقال غيرهما: هذا التوكيد فائدته أنه يمنع من ذهاب الوهم إلى غير ¬

_ (¬1) (الذي): ساقطة من (أ). (¬2) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 10. (¬3) (أن): ساقطة من (أ). (¬4) (أبصار): ساقطة من (أ). (¬5) عند الفراء. تُوَفّى. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 228. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 228، و"معاني القرآن" للزجاج 3/ 432.

47

معنى القلب المعروف، لأنَّه قد يذهب إلى أنَّ فيه اشتراكًا كقلب النَّخلة، فإذا (¬1) أكد كان أنس للبس بتجويز الاشتراك. 47 - قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} قال ابن عباس: كانوا يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، فأنزل الله هذه الآية (¬2). والمعنى: يسألونك أن تأتي بعذابهم عاجلًا غير مؤخّر. وقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي: في أن ينزل بهم العذاب (¬3) في الدنيا. قاله الفراء (¬4). وقال ابن عبَّاس: يريد بهذا يوم بدر (¬5). قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قال مجاهد وعكرمة وابن زيد: هو من أيَّام الآخرة (¬6). ويدل على هذا ما روي في الحديث: "أن الفقراء يدخلون الجنة قبل ¬

_ (¬1) في (أ): (وإذا). (¬2) في "تنوير المقباس" ص 209: (استعجله النضر بن الحارث قبل أجله. وذكر الثعلبي 3/ 54 ب، والبغوي 5/ 391، والقرطبي 12/ 88 أنها نزلت في النضر بن الحارث. ذكروا ذلك من غير سند ولا نسبة لأحد. قال القرطبي: وقيل نزلت في أبي جهل بن هشام. وجميع ما ذكر لا يثبت بمثله سبب في نزول الآية، والله أعلم. (¬3) في (د)، (ع): (في نزول العذاب بهم). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 229. (¬5) ذكر هذا القول الثعلبي 543 ب ولم ينسبه لأحد. (¬6) ذكره الثعلبي 3/ 54 ب عن مجاهد وعكرمة، ورواه عنهما الطبري في "تفسيره" 17/ 183. وذكره البغوي 5/ 392 عن ابن زيد.

الأغنياء بنصف يوم: خمس مائة عام" (¬1). وعلى هذا معنى الآية أنَّهم يستعجلون بالعذاب (¬2) وإنّ يومًا من أيّام عذابهم في الآخرة ألف سنة. قال الفراء: ففي هذه الآية وعبد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة (¬3) وقال (¬4) أبو إسحاق: الذي تدل عليه الآية (¬5) أنهم استعجلوا العذاب، فأعلم الله أنه لا يفوته شيء، وأن يومًا عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعلجون به (¬6) من العذاب وتأخره في القدرة، إلا أنَّ الله تفضَّل بالإمهال، فالفرق بين التأخير والتقديم تفضل الله بالنَّظرة (¬7) (¬8). وهذا الذي ذكره معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬9). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 343، والترمذي في "جامعه" (أبواب الزهد - باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم 7/ 21 - 23) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال المنذري: ورواته محتج بهم في الصحيح. وقال ابن القيم في "حادي الأرواح" ص 110: (ورجال إسناده احتج بهم مسلم في "صحيحه". (¬2) في جميع النسخ: يستعلجون العذاب إنّ. والتصويب من "الوسيط" للواحدي 3/ 275. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 229 بمعناه. (¬4) في (أ): (قال). (¬5) في (ظ): (الآخرة)، وهو خطأ. (¬6) به: ساقطة من (أ). (¬7) في (أ): (بالنظر). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 433 مع اختلاف يسير. (¬9) ذكر البغوي 5/ 392 أن هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.

والمعنى: إنَّ يومًا عنده في الإمهال وألف سنة سواء؛ لأنَّه قادرٌ عليهم متى شاء (¬1) أخذهم. وقد كشف أبو إسحاق عن هذا بأبلغ بيان (¬2). وذُكر وجه ثالث (¬3) في تفسير هذه الآية وهو: أنَّ المعنى: وإنَّ يومًا عند ربك من أيَّام عذابهم في الآخرة كألف سنة في الثِّقل والاستطالة، فكيف يستعجلون بالعذاب لولا جهالتهم. وهذا الوجه لأصحاب المعاني، ذكره الأخفش وغيره (¬4). قال أبو علي: وقد جاء في كلامهم وصف اليوم ذي الشدائد والجهد بالطول، وجاء وصف (¬5) خلافه بالقصر. أنشد أبو زيد (¬6): تطاولت أيام معن بنا ... فيومٌ كشهرين إذ يُسْتَهل (¬7) وقال آخر: يطول اليوم لا ألْقاك فيه ... وحَوْلٌ (¬8) نلتقي فيه (¬9) قصير (¬10) ¬

_ (¬1) في (أ): (متى ما شاء). (¬2) (بيان): ساقطة من (ظ). (¬3) هكذا في (ظ)، (د)، (ع). وفي (أ): (وذكر وجهًا ثالثًا)، فيعود على أبي إسحاق. والصواب ما أثبتنا؛ لأنه أبا إسحاق لم يذكر هذا الوجه، ولقول الواحدي بعد ذلك: وهذا الوجه لأصحاب المعاني .. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 638. وقد ذكر هذا الوجه الثعلبي 3/ 54 ب وعزاه لأهل المعاني. (¬5) في (ظ): (وجه)، وهو خطأ. (¬6) البيت ذكره أبو علي في "الحجة" 5/ 283 من إنشاد أبي زيد ومن غير نسبة لأحد، ولم أهتد لقائله. (¬7) في (أ): (يسهل). (¬8) في "الحجة": ويوم. (¬9) في (ظ)، (د). (ع)، (حول). (¬10) البيت في "الحجة" 5/ 283 من غير نسبة لأحد.

وقال جرير: ويومٌ كإبْهام الحُبارى لَهَوتُه (¬1) (¬2) وهذا كما يقال: أيّام الهُموم طوال، وأيام السرور قصار (¬3). فهذه أوجه ثلاثة (¬4) في تأويل هذه الآية. وروي عن ابن عباس أنه قال -في قوله {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} الآية: هو من الأيَّام التي خلق الله فيها السَّموات والأرض (¬5). وهذا لا يتوجّه في معنى الآية؛ لأن تلك الأيام قد مضت، إلا أن يُحمل على أن (¬6) المراد أنّ أيّام الآخرة بمقدار هذه المدة فيعود المعنى إلى القول الأول. روى (¬7) ابن أبي مليكة: أنّ ابن عباس سئل عن هذا وعن قوله (¬8) {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فقال: يومان ذكرهما الله ¬

_ (¬1) هذا الشطر من البيت لم أجده في "ديوانه"، وهو في "الحجة" 5/ 283 من غير نسبة. وإبهام الحُبارى يضرب به المثل، فقال: أقصر من إبهام الحبارى. انظر مجمع الأمثال للميداني 2/ 536. (¬2) قول أبي علي، والأبيات في "الحجة" 5/ 283. (¬3) قوله: وهذا كما يقال ... هذا كلام الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 54 ب. (¬4) في (ظ): (ثلاث)، وهو خطأ. (¬5) رواه الطبري 17/ 173، وابن أبي حاتم (كما في تفسير ابن كثير 3/ 228). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 62 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) أن: ساقطة من (ظ). (¬7) في (ظ): (وروى). (¬8) في (ظ): (وعن قوله يوم كان ...)، وفي (د)، (ع): (وعن قوله كان مقداره ...).

48 - 51

تعالى في كتابه أكره أنْ أقول في كتاب الله ما لا (¬1) أعلم (¬2). وقرئ "مما يعدّون" و"تعدّون" (¬3). فمن قرأ بالياء فوجهه قوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} فيكون الكلام من وجه واحد، ومن قرأ بالتاء فوجهه أنه أعمّ، ألا ترى أنه يجوز أن يُعنى به المستعجلون وغيرهم من المسلمين (¬4). 48 - 51 - ثم أعلم الله أنه قد أخذ قومًا بعد الإملاء والتأخير فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} الآية وهي مفسرة فيما سبق قبيل. وما بعدها ظاهر التفسير إلى قوله {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي: عملوا في إبطالها {مُعَاجِزِينَ} قال ابن عباس: مشاقين معاندين مغالبين (¬5). وقال الأخفش: مسابقين (¬6). ومعنى المعاجزة في اللغة: محاولة عجز المغالب (¬7). قال أبو أسحاق وأبو علي: {مُعَاجِزِينَ} ظانين ومُقدرين أن ¬

_ (¬1) في (ظ): (مما لا أعلم)، وفي (د)، (ع): (بما لا أعلم). (¬2) رواه عبد الرزاق 2/ 108، والطبري 29/ 72. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 537 وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف والحاكم. (¬3) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: "مما يعدون" بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. "السبعة" ص 439، "التبصرة" ص 267، "التيسير" ص 158. (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 283 مع اختلاف يسير. وانظرة "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 480، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 122. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 54 ب دون قوله معاندين. ورواه الطبري 17/ 185 بلفظ: مشاقين. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 543 ب. (¬7) انظر: "عجز" في: "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 340، "لسان العرب" 5/ 369 - 370.

يعجزوننا (¬1)، لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور، وأنه لا جنة ولا نار (¬2) وهذا معنى قول قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليه، ولن يعجزوه (¬3). وهذا [في المعنى] (¬4) كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4]. ومن قرأ "مُعجِّزين" (¬5) فالمعنى أنهم كانوا يُعجزون من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: ينسبونهم إلى العجز، كقولهم: جهلته وفسقته. وهذه قراءة مجاهد، وزعم (¬6) في تفسير معجزين: مثبطين، أي: يئبطون الناس عن الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (يعجزونا). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 433، "الحجة" للفارسي 5/ 284. (¬3) ذكره بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 54 ب. وقد رواه عبد الرزاق 2/ 40، والطبري 17/ 185 دون قوله: فلا يقدر عليهم. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 64 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬5) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: "معجِّزين" بتشديد الجيم من غير ألف. وقرأ الباقون: "معاجزين" بألف بعد العين وتخفيف الجيم. "السبعة" ص 439، "التبصرة" ص 267، "التيسير" ص 158. (¬6) في "الحجة": وزعموا أن مجاهدًا فسَّر. (¬7) تفسير مجاهد رواه الطبري 17/ 1786: مبطئين، يبطئون الناس عن اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 64 مثل لفظ الطبري وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬8) من قوله: وهذا في المعنى .. إلى هنا. هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 284 مع تصرّف. وانظر أيضًا في توجيه القراءة: "علل القراءات" للأزهري 2/ 428 - 429، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 481، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 123.

52

وعلى هذا ليس المراد بالتعجيز النسبة إلى العجز، والمراد به طلب عجزهم (¬1) وجعلهم عاجزين بالتثبيط وأسبابه؛ كي يعجزوا فلا يؤمنوا. ثم أخبر عن هؤلاء أنّهم أصحاب النار بقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. 52 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الرسول: الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانًا، ومحاورته إيَّاه (¬2) شفاهًا. والنبي: الذي (¬3) تكون نبوته إلهامًا أو منامًا. فكلّ رسول نبيّ، وليس كل نبي رسولاً (¬4). ¬

_ (¬1) أي: عجزهم الناس. (¬2) في (أ): (ومجاورته إياها)، وهو خطأ. (¬3) في (ظ): (التي). (¬4) هذا كلام الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 55 أمع اختلاف يسير. وقد اختلف في الفرق بين الرسول والنبي على أقوال: أحدها: ما ذكره المؤلف. الثاني: أن النبي الرسول هو من أنزل عليه كتاب وشرع مستقل يدعو الناس إليه، والنبي المرسل -الذي هو غير الرسول- هو من لم ينزل عليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44]. الثالث: أن الرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وهو مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه، والنبي هو المنبأ عن الله، فالله ينبئه بالغيب، وهو ينبئ الناس بالغيب. وقريب من هذا القول قول من قال: النبي هو من أوحي إليه وحي ولم يؤمر بتبليغه، والرسول هو النبي الذي أوحي إليه وأمر بتبليغ ما أوحي إليه. وهذا الأخير أضعف الأقوال، قال الشنقيطي 5/ 735 معللًا عدم صحة هذا القول-: لأن قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآيه يدل على أن=

وهذا معنى قول الفراء: الرسول: النبي المرسل، والنبي: المحدَّث (¬1) الذي لم يرسل (¬2). قوله: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} قال ابن عباس -في رواية عطاء- إلا إذا قرأ (¬3) وهذا معنى قول المفسرين: تلا (¬4) وقال مجاهد: إذا قال (¬5). وذكرنا التَّمنّي بمعنى التلاوة والقراءة مستقصى بذكر الحجج (¬6) في سورة البقرة عند قوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. قوله: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: تلاوته. قال المفسرون -بألفاظ مختلفة ومعاني متفقة-: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على إيمان قومه أشد الحرص، فجلس يومًا في ناد من أنديتهم (¬7)، وقرأ عليهم سورة النجم (¬8)، فلما أتى على قوله {أَفَرَأَيْتُمُ ¬

_ = كلًا منهما مرسل، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير. وانظر: "النكت والعيون" للماوردي 4/ 36، "تفسير الرازي" 23/ 46، "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 18/ 7، "روح المعاني" للألوسي 17/ 172 - 173، "أضواء البيان" للشنقيطي 5/ 735. (¬1) المحدث: هو الملهم. "لسان العرب" 2/ 134 (حدث). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 229. وقوله عن النبي أنه الذي لم يرسل يردُّه كما تقدم قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية. (¬3) روى البخاري في "صحيحه" 8/ 438 تعليقًا، والطبري في "تفسيره" 17/ 190 من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله (إذا تمنى) إذا حدث. (¬4) انظر: الطبري 17/ 190، الثعلبي 3/ 55 أ، "الدر المنثور" 6/ 69. (¬5) رواه الطبري 17/ 190. (¬6) في جميع النسخ: (الحج)، والصواب ما أثبتناه. (¬7) في (أ): (أيديهم)، وهو خطأ. (¬8) في (د)، (ع): (سورة والنجم).

اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان في أمنيته حتى وصل به "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي" ثم قرأ السورة كلها حتى بلغ آخرها، فسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسجد أصحابه معه، وسجد المشركون لذكره (¬1) آلهتهم، وفرحوا بذلك، وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه (¬2) جبريل -عليه السلام-، وأخبره بما جرى من الغلط على لسانه، وقال: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا. فاشتد ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله هذه الآية، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه، فقال المشركون: قد ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، وازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه، وأما المؤمنون فقالوا -حين نسخ الأولى-: آمنا بما قال محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا قول ابن عباس (¬3)، ¬

_ (¬1) في (أ): (لذكر). (¬2) في (د)، (ع): (فأتى). (¬3) ورد هذا القول عن ابن عباس من طرق، وكلها لا تخلو من مقال. الطريق الأول: طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: رواه أبو بكر البزار في "مسنده" (كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" للهيثمي 3/ 72)، والطبراني في "الكبير" 12/ 53 من طريق أميَّة بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -فيما أحسب، أشك في الحديث-: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بمكة، فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فجرى على لسانه -وفي رواية الطبراني: ألقى الشيطان على لسانه- تلك الغرانيق العلي فذكره بنحوه مختصرًا. ثم قال البزار: لا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد، وأميّة بن خالد ثقة مشهور، وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس. اهـ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 115: رواه البزار والطبراني ... ورجالهما رجال الصحيح. وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 65 وزاد نسبته لابن مردويه، وقال: بسند رجاله ثقات. وتعقَّب الألباني في "نصب المجانيق" ص 6، قول السيوطي: "بسند رجاله ثقات"، فقال ذلك يوهم أنَّه ليس بمعلول، وهذا خلاف الواقع، فإنَّه معلول بتردَّد الراوي في وصله. اهـ. وذكر ابن كثير في "تفسيره" 3/ 229 رواية البزار، وقبل أن يسوقها قال: ولم أرها -يعني قصة الغرانيق- مسندة من وجه صحيح. وجاءت هذه الرواية عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس دون شك من الراوي في وصله، رواها ابن مردويه في "تفسيره" (كما في تخريج "أحاديث الكشاف" للزيلعي 2/ 394، من طريق أبي بكر محمد بن علي المقرئ البغدادي، ثنا عثمان بن الطيالسي، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ. فساق الحديث. قال الألباني في "نصب المجانيق" ص 8 - 9: (وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال "التهذيب" إلا من دون ابن عرعرة، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقرئ البغدادي. وقد أورده الخطيب في "تاريخ بغداد" ... ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا، فهو علة هذا الإسناد الموصول. ثم ذكر الألباني أن الصواب عن عثمان بن الأسود إنما هو عن سعيد بن جبير مرسلاً كما رواه الواحدي في "أسباب النزول" ص 256 - 257، خلافا لرواية ابن مردويه عنه. ثم قال الألباني: وبالجملة، فالحديث مرسل، ولا يصح عن سعيد بن جبير موصولا بوجه من الوجوه. اهـ. وقد تقدَّم كلام ابن كثير أنه لم ير هذه القصة مسندة من وجه صحيح. الطريق الثاني: طريق العوفي، عن ابن عباس: رواه من هذا الطريق الطبري 17/ 189 قال: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، فذكره بمعناه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 66 من طريق العوفي، عن ابن عباس، =

والسدي (¬1)، ومجاهد (¬2)، وقتادة (¬3)، والزهري (¬4)، ¬

_ = وعزاه لابن جرير وابن مردويه. قال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "الطبري" 1/ 263 عن هذا الإسناد: وهو إسناد مسلسل بالضعفاء. وقال الألباني: وهذا إسناد ضعيف جدًا، مسلسل بالضعفاء. "نصب المجانيق" ص 17. الطريق الثالث والرابع والخامس: فرواه ابن مردويه كما في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 394، "فتح الباري" 8/ 439، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 66 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومن طريق أبي بكر الهذلي وأيوب عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق سليمان التيمي عمن حدثه عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة النجم. وساق الحديث. قال ابن حجر في "الفتح" 8/ 439 بعد سوقه لهذه الطرق الثلاث ورواية سعيد بن جبير المرسلة -وستأتي- وغيرها: وكلّها سوى طريق سعيد بن جبير إمَّا ضعيف أو منقطع. وقال الألباني في "نصب المجانيق" ص 17 عن هذه الطرق الثلاث: وكلها ضعيفة. (¬1) رواه ابن أبي حاتم (كما في "الدر المنثور" 6/ 69 عن السدي قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد ليصلي، فقرأ ... وساق الحديث بمعناه، وهو مرسل. (¬2) رواه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 6/ 69 عنه، مختصرًا. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 40، والطبري 17/ 191. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 86 وعزاه لابن أبي حاتم فقط. قال الألباني في "نصب المجانيق" ص 12: وهو صحيح إلى قتادة، ولكنه مرسل أو معضل. (¬4) رواه ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 229 - 235، و"الدر المنثور" للسيوطي 6/ 66 عن الزهري مطولاً. قال الألباني في "نصب المجانيق" ص 9: فهو مرسل، بل معضل. اهـ ورواه الطبري 17/ 189 عن ابن شهاب: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فذكره مختصرًا. =

والضحاك (¬1)، وسعيد بن جبير (¬2)، ومحمد بن كعب (¬3) وغيرهم (¬4). ¬

_ = وذكر ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 439 هذه الرواية وذكر أنها مرسلة وأنّ رجال إسنادها على شرط الشيخين. وقال السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 66 - بعد عزوه هذه الرواية لعبد بن حميد وابن جرير: مرسل صحيح الإسناد. قال الألباني في "نصب المجانيق" ص 9: وإسناده إلى أبي بكر بن عبد الرحمن صحيح كما قال السيوطي تبعًا للحافظ، لكن علته أنّه مرسل. (¬1) رواه الطبري 17/ 189 قال: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ..) الآية: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، فذكره بنحوه. قال الألباني في "نصب المجانيق" ص 15: (وهذا إسناد ضعيف منقطع مرسل). (¬2) رواه الطبري 17/ 188 - 189، وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "فتح الباري" 8/ 439، "الدر المنثور" 6/ 65 - 66 من طرق عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير. وقد صحح إسناده ابن حجر في "الفتح" والسيوطي في "الدر المنثور"، وقال الألباني في "نصب المجانيق" ص 5: (وهو صحيح الإسناد إلى ابن جبير كما قال الحافظ. اهـ. ورواه الواحدي في "أسباب النزول" ص 257 من طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، بنحوه مختصرًا. (¬3) رواه الطبري 17/ 187 - 188 من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، فذكره مطولاً. قال الألباني في "نصب المجانيق" ص 12: ويزيد هذا ثقة، لكن الراوي عنه ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه. اهـ. وقد رواه الطبري 17/ 186 - 187 من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس قالا ... فذكره بنحوه. قال الألباني ص 11: وأبو معشر ضعيف كما قال الحافظ في "التقريب". (¬4) ورد هذا القول أيضًا عن أبي العالية، وعروة بن الزبير. فأمّا قول أبي العالية فرواه الطبري 17/ 439، وذكره السيوطي في "الدر المنثور": =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = 6/ 68، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم، وقال: بسند صحيح. وذكر ابن حجر في "الفتح" 8/ 439 أن رجال إسناده رجال الصحيحين. وقال الألباني في "نصب المجانيق" ص 11: وإسناده صحيح إلى أبي العالية، لكن علته الإرسال. ورواية عروة بن الزبير رواها الطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 23 وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 72: فيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة. وهذه الرواية المعروفة بقصّة الغرانيق اختلف العلماء فيها، وهم فريقان: الفريق الأول: القائلون بثبوتها؛ وهم على قولين: القول الأول: أن الشيطان ألقى على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمات، ثم إنَّ الله أحكم آياته ودحر الشيطان ولقَّن نبيه حجته. وممن صحت عنه الرواية ممن قال بهذا القول من المفسرين: سعيد بن جبير وقتادة وأبي العالية. وبهذه القصة فسر هؤلاء آيات الحجّ. وتبعهم في ذلك طائفة من المفسرين ذكروا هذه القصة في كتبهم ولم ينكروها، وبها فَسَّروا الآيات، منهم: الطبري، والثعلبي، والواحدي، والزمخشري. وحكى الآلوسي 17/ 178 هذا القول عن بعض المتأخرين، فقال: وذهب إلى صحة القصّة أيضًا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني. القول الثاني: أنَّ هذه القصّة ثابتة، لكنَّ فيها ما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه .. فيتعين تأويله. قال الآلوسي 17/ 186: وتوسَّط جمع في أمر هذه القصّة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني -عفا الله تعالى عنه- من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- نطق بما نطق عمدًا معتقدًا للتلبيس أنه وحي حاملاً له على خلاف ظاهره، ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة أثبات وإليه أميل، بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني، واختلفوا فيه على أوجه .... ثم ذكر الآلوسي هذه الأوجه، وخلاصة ما ذكره -وذكره قبله البغوي 5/ 94، والقاضي عياض في الشفا 4/ 163 - 177، وابن حجر في "الفتح" 8/ 439 - 440:- قيل: جرف ذلك على لسانه -صلى الله عليه وسلم- حين أغفى إغفاءه وهو لا يشعر. وقد ردَّ هذا القول القاضي عياض. وقيل: لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله أثناء تلاوته على تقدير التقريع والتوبيخ للكفّار، وأنَّه ليس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = من القرآن، بل قاله بعد السكت، ثم رجع إلى تلاوته. وقيل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وصل إلى قوله (ومناة الثالثة الأخرى) خشي المشركون أن يأتي بعدها بشئ يذم الهتهم به، فبادروا إلى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- على عادتهم في قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشيطان شيطان الإنس، وأن المشركين أشاعوا ذلك وأذاعوه وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، فحزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه، فسلاه الله بقوله: "وما أرسلنا من قبلك .... " الآية، وبين للناس الحق من ذلك الباطل. وقيل: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرتل القرآن، ارتصده الشيطان في سكته من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها. وقال ابن حجر من هذا الوجه أنه أحسن الوجوه .... اهـ. ولا يخفى أن هذه أوجه متكلفة تحتاج إلى دليل، ولذا قال الألوسي عنها 7/ 186: وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها. وممن ذهب إلى هذا القول -يعني تصحيح القصة من تأويل ما يستنكر فيها- الحافظ ابن حجر، وتبعه السيوطي، والمناوي في الفتح السماوي 2/ 483 - 847. قال ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 439 - بعد أن ذكر روايات القصّة عن ابن عباس وسعيد بن جبير-: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير -يعني المرسل- إما ضعيف وإمَّا منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصّة أصلا، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما رجال الصحيح. ثم ذكر الحفاظ ابن حجر رواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن ورواية أي العالية، ثم نقل كلامًا لأبي بكر بن العربي والقاضي عياش في إبطال هذه القصّة، ثم قال: "وجميع ذلك لا يتمشّى على القواعد؛ فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دَلَّ ذلك على أنَّ لها أصلاً، وقد ذكرت أن تلاوته أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها ممن يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرَّر ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر". وقد ردَّ الألباني في كتابه "نصب المجانيق" ص 19 - 24 على الحافظ ابن حجر اعتماده في تصحيحه لهذه الرواية على كثرة الطرق عن ابن عباس إضافة إلى ما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = صح من المراسيل عن بعض التابعين، وحاصل ردّه: أولاً: أنَّ قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، كما نبه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين منهم الحافظ أبو عمرو من الصلاح حيث بين أنّه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت فمن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهمًا بالكذب، أو كون الحديث شاذًا. قال الألباني ص 21: ومن هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصّة، فإن طرقه كلها ضعيفة جدًا، فلا تقوى بها أصلاً. ثانيًا: أن الحديث المرسل، ولو كان المرسل ثقة، لا يحتج به عند أئمة الحديث كما بينه ابن الصلاح واختاره الخطيب وابن حجر وغيرهم، وسبب عدم احتجاج المحدثين بالمرسل من الحديث هو جهالة الواسطة التي روي عنها المرسلُ الحديث، فقد يكون المحذوف صحابيًا، ويحتمل أن يكون تابعيًا، وعلى الاحتمال الثاني يحتمل أن يكون ضعيفًا ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الاحتمال الثاني يحتمل أن يكون حمل على صحابي ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني يعود الاحتمال السابق ويتعدد. وأكثر ما وجد بالاستقراء من رواية بعض التابعين عن بعض ستة أو سبعة. لكن بعض العلماء كالشافعي رحمه الله وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية قبل المرسل إذا اعتضد بمجيئه من وجه آخر بشرط أن يكون مُرْسلة آخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، وكأن ذلك ليغلب على الظن أنَّ المحذوف في أحد المرسلين هو غيره في المرسل الآخر. قال الألباني ص 23: ومع أن التحقق من وجود هذا الشرط في كل مرسل من هذا النوع ليس بالأمر الهين، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يرد إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفًا، وعليه يحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الذكر ينجبر بمثله الحديث ... ويحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوى الحديث بكثرة طرقه ... إلى أن قال ص 24: إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، ألفيناها كلها مرسلة، حاشى حديث ابن عباس ولكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل، فينبغي النظر في هذه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = المراسيل، وهي سبعة، صحَّ إسناد أربعة منها، وهي مرسل سعيد بن جبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي العالية، ومرسل قتادة، وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين لأنَّهم من طبقة واحدة: فوفاة سعيد بن جبير سنة (90 هـ)، وقتادة سنة بضع عشرة ومائة، والأول كوفي، والثاني مدني، والأخيران بصريان. فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصّة وروها عنه واحدًا لا غير مجهول، وجائز أن يكون جمعًا ولكنهم ضعفاء جميعًا. فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقبول حديثهم هذا، لا سيما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمسَّ المقام الكريم، فلا جرم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها. اهـ الفريق الثاني: القائلون ببطلانها. وهؤلاء قالوا: هذه الرواية معلولة بالضعف والإرسال، فليس في رواياتها ما يصلح للاحتجاج، ثم أن مما يؤكد ضعفها وبطلانها ما في متنها من النكارة مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، فقد جاء في تلك الروايات أن الشيطان تكلَّم على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلك الكلمات التي تمدح آلهة المشركين. وهذا الأمر قد دل الكتاب والسنّة والنظر على بطلانه. فأما القرآن فدل على بطلانه من جهتين: الجهة الأولى: دلالة آيات القرآن على وجه العموم على بطلان هذا القول، فقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]، وقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222]، وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. فهذه الآيات وغيرها دالة على بطلان القول بإلقاء الشيطان على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك المقالة. وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 5/ 729: قد دلَّت آيات قرآنية على بطلان هذا القول، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وإخوانه من الرسل وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]، وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ... وعلى القول المزعوم أنَّ الشيطان ألقى على لسانه -صلى الله عليه وسلم- ذلك الكفر البواح، فأي سلطان أكبر من ذلك؟. الثانية: أن سياق آيات النجم على وجه الخصوص يدل على بطلان هذا القول: قال القاضي عياض 4/ 153 - 154: هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، وهذا مما لا يخفى على أدنى متأمِّل، فكيف بمن رجح حُلمه، واتّسع في باب البيان ومعرفة الكلام علمه؟. وقد بين الشنقيطي 5/ 729 هذا الوجه بقوله: وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين وهو أن الشنقيطي 5/ 729 هذا الوجه بقوله: وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشرك الأكبر والكفر البواح -الذي لا شك في بطلانه- في نفس سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة واضحة على بطلان هذا القول؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وليس من المعقول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرًا عن ذكره لها بخير المزعوم إلا وغضبوا، ولم يسجدوا؛ لأن العبرة بالكلام الأخير. اهـ. وأما السنة فقد روى الدارمي 1/ 125، وأبو داود في العلم -باب كتابة العلم 10/ 79 عن عبد الله بن عمرو قال: "كنت أكتب كلَّ شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: أكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" ولا شك أن تلك الكلمات من أعظم الباطل المنافي للحق. وأما النظر، فقال ابن العربي في أحكام القرآن 3/ 1300: النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أرسل إليه الملك بوحيه، فإنّه يخلق له العلم به، حتى يتحقق من أنه رسول من عنده، ولولا ذلك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ما صحت الرسالة، ولا تبينت النبوة، فإن خلق الله له العلم به تميّز عنده من غيره، وثبت اليقين، واستقام سبيل الدين، ولو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري أملك هو أم إنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس -ألقت عليه كلاما، وبلغت إليه قولا- لم يصح له أن يقول: إنه من عند الله، ولا ثبت عندنا أن أمر الله، فهذه سبيل متيقنة، وحالة متحققة لا بد منها، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها أو يتشبه بها ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلا من حقيقة، فارتفع بهذا الفصل اللبس، وصح اليقين في النفس. وقال أيضًا 3/ 1301: أن قول الشيطان: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى للنبي -صلى الله عليه وسلم- قبله منه، فالتبس عليه الشيطان بالملك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرق بينهما. وأنا من أدنى المؤمنين منزلة وأقلهم معرفة بما وفقني الله وآتاني من علمه، لا يخفى علي وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله، ولو قاله أحدٌ لكم لتبادر الكلّ إليه قبل التفكير بالإنكار والرَّدع والتقريب والتشنيع، فضلاً عن أن يجهل النبي -صلى الله عليه وسلم- حال القول، ويخفى عليه قوله، ولا بتفطن لصفة الأصنام بأنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى، وقد علم علمًا ضروريًا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنطق ولا تضر، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع، بهذا كان يأتيه جبريل الصباح والمساء، وعليه انبنى التوحيد، ولا يجوز نسخُه .. فكيف يخفى هذا على الرسول؟. ونذكر هنا بعض العلماء والمفسرين قديما وحديثا الذين ردوا هذه الرواية، فمنهم: -محمد بن إسحاق بن خزيمة. الإمام المعروف، قال الرازي في "تفسيره" 23/ 50: روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنَّه سئل عن هذه القصّة؟ فقال: هذا وضع من الزنادقة. وصنف فيه كتابًا. - ابن حزم فقد قال في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 4/ 48: وأما الحديث الذي فيه: "وإنّهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل. - أبو بكر البيهقي صحب كتاب "السنن الكبري" وغيرها، فقد نقل عنه الرازي في تفسيره 23/ 50 أنَّه قال: هذه القصّة غير ثابتة من جهة النقل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = - أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 300 - 1303 فقد ردّها في عشر مقامات. - القاضي عياض في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى" 4/ 139 - 177 حيث بين بطلانها سندًا، ثم شرع في بيان بطلانها متنا. - الرازي في "تفسيره" 23/ 50 - 54 فقد ذكر أنَّ القرآن والسنَّة والمعقول يدل على بطانها، ثم شرع في بيان بطلانها. - القرطبي في "أحكام القرآن" 12/ 80 - 85. - أبو حيان في "البحر المحيط" 6/ 381 - 382 حيث قال: وذكر المفسرون في كتبهم: ابن عطية والزمخشري، فمن قبلها ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا إلى المعصوم صلوات الله عليه. ثم ذكر بعض أقوال العلماء في ردّه ووجوب اطراحه، ثم قال: ولذلك نزهت كتابي عن ذلك فيه ثم ردَّ ذلك بالقرآن والنظر. - الحافظ ابن كثير، فقد قال في "تفسيره" 3/ 229: قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنَّا منهم أنَّ مشركي قريش قد أسلموا، ولكنَّها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. - البيضاوي فقد قال في "تفسيره" 2/ 96: وهو مردود عند المحققين. - وردها من شرَّاح صحيح البخاري: العيني في كتابه "عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري" 19/ 66. وردّها أيضًا الشوكاني في "فتح القدير" 3/ 462 فقال: "ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله". ثم شرع في ردّه وعلى هذا القول، فمعنى نسخ ما يلقي الشيطان: إزالته وإبطاله، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أتوا العلم. لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي، ومعناه: الإبطال والإزالة من قولهم: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر. ومعنى "يحكم آياته": يتقنها بالإحكام، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإلقائه المذكور، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقي في قراءة الرسول والنبي، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = كافرهم بذلك الإمتحان جاء موضحًا في آيات كثيرة قدمناها مرارًا، كقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} الآية [المدثر: 31]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] أي لأنها فتنة، كما قال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 62 - 64]. لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ظهر كذب محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن الشجر لا ينت في الموضع اليابس، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات. وقد نقل العلامة القاسمي في "محاسن التأويل" 12/ 46 - 56 عن الشيخ محمد عبده مفتي مصر في هذه الآيات كلاما جيدًا، ومما قاله: "لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن، أن قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآيات، يحكي قدرًا قدر للمرسلين كافة، لا يعدونه ولا يقفون دونه،. ويصف شنشنة عرفت فيهم، وفي أممهم. فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى: أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم، ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه! .. ذكر الله لنبيه حالا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله، ليبين له سنته فيهم. وذلك بعد أن قال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} [الحج: 42] إلى آخر الآيات، ثم قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم. ثم تبعه إلاَّمر الإلهي بأن يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لقومه: إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم. وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدي وطرق السعادة، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين، أي يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك. ولك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة - هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم. وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبي -صلى الله عليه وسلم- من المعاجزة في الآيات، قد ابتلي به الأنبياء السابقون. فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف، ويضادّون أمانية، ويحولون بينه وبين ما يبتغي، بما يلقون في سبيله من العثرات. فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا، يجب أن تفسر الآية وذلك يكون على وجهين: الأول: أن يكون (تمنَّى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) وهو معنى قد يصح. وقد ورد استعمال اللفظ فيه؛ قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما: تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله أول ليله ... تمنى داود الزبور على رسل غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل على المعنى المفهوم من قولك (ألقيتُ في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد أراده. أو نسبت إليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث يؤدى إليه. وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه. ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا حدث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أنزل إليه في هدى لهم، قام في وجهه مشاغبون، يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه. ويتقوّلون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس، ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل. وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا، ويجاهدون في الحق، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين، ولا بهزء المستهزئين إلى أي يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة. فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها، ويثبت آياته ويقررها. وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض، وهم ضعفاء العقول، بتلك الشبه والوساوس، فينطلقون وراءها. ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة، فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم. ثم يتمحص الحق عند الذين أتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلمون أن الحق من ربك فيصدقون به، فتخبت وتئن له قلوبهم. والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقرّ بالعقل في قرارة اليقين. وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم، وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. وسواء أرجعت الضمير في (أنه الحق) إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهي أو إلى القرآن، وهو أجلّها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين هؤلاء الذين أتوا العلم هم الذين آمنوا. وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم. ولم يجعل للوهم عليها سلطانا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم. وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب. لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات شئونهم إليه. حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقوا حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب، القتل أو الأسر. ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة. وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. ما أقرب هذه الآيات من مغازيها، إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10] ثم قال: =

وأما وجه جواز هذا الغلط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن عباس في رواية عطاء: إن شيطانًا يقال له الأبيض كان قد أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة جبردل وألقى في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهن (¬1) الغرانقة العلى وإن شفاعتهن لترتجى (¬2). ¬

_ = {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] إلخ الآيات. وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى. فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. والراسخون في العلم هم الذين أتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم. فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم. وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن رامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان. وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد، لن يغني عنهم من الله شيئًا. فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم الأنباء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه. وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران، لا مدخل لها في آيات سورة الحج، هذا هو الوجه الأول في تفسير آيات (وما أرسلنا) إلى آخرها، على تقدير أن (تمنَّى) بمعنى (قرأ) وأن (الأمنية) بمعنى (القراءة) والله أعلم". ثم ذكر الشيخ محمد عبده وجهًا ثانيًا في تفسير الآيات مبنيًّا على أن التمني هو على معناه المعروف من الأمنية. واقتصرنا على الوجه الأول؛ لأن عامّة المفسرين على أن التمني هنا بمعنى القراءة. (¬1) في (ظ)، (ع): (وإنّهن). (¬2) ذكره الرازي 23/ 53 من روايه عطاء عن ابن عباس، وذكره القرطبي 12/ 84 عن ابن عباس، وذكره البغوي 5/ 394 من غير نسبه. وهذا قول لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه.

وقال السدي عن أصحابه: لما وقع من هذا ما وقع أنزل الله هذه الآية يطيب نفس محمد ويخبر (¬1) أن الأنبياء قبله قد كانوا مثله ولم يبعث نبي (¬2) قط إلا تمنى (¬3) أن يؤمن قومه ولم (¬4) يتمن ذلك نبي قط إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه (¬5) {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (¬6). وعلى هذا (تمنى) في قوله {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} من الأمنية، لا بمعنى قرأ، ويكون المعنى إذا أحب شيئًا ألقى الشيطان في محبته. وهذا دليل على جواز الخطأ والنسيان على الرسل، ثم لا يقارُّون على ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (ويخبر). (¬2) في (أ)، (ظ): (نبيًّا). (¬3) في (ع): (يتمنى). (¬4) لم: ساقطة من (أ). (¬5) في جميع النسخ: (قومه قوله "فينسخ ...) بزيادة قوله، وهي زيادة يختل بها المعنى فحذفناها، وهي ليست موجودة في الوسيط 3/ 277. (¬6) لم أجد هذه الرواية عن السدي عن أصحابه. وقد ذكرها البغوي 5/ 394 عن ابن عباس بأخصر مما هنا. والرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة. أما ما سوى ذلك فيجوز عليهم الخطأ والنسيان لكن لا يقارّون على ذلك. وعلى ذلك دل الكتاب والسنة. انظر: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 10/ 290، 295 وما بعده. (¬7) حكي القرطبي 21/ 86 هذا القول عن الثعلبي ثم قال: ولكن إنَّما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأمَّا أنَّ يضاف إليه من قولهم: "تلك الغرانيق العلى" =

وعلى ما قال ابن عباس إنما قاله الشيطان على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أثناء قراءته، وأوهم أنَّه من القرآن، ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- إحساس بذلك، بل كان فتنة من الله لعباده المؤمنين والمشركين، وعلى هذا يدل قوله {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} الآية (¬1). قال أبو إسحاق: وذلك محنة من الله -عز وجل-، وله أن يمتحن بما شاء (¬2)، فألقى الشيطان على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهل الشقاق والنفاق ومن في قلبه مرض (¬3). وروي عن الحسن أنه قال في هذه الآية: أراد (¬4) بالغرانيق العلى الملائكة (¬5). وهذا غير مرضي من القول؛ لأن الله تعالى قال: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [أن (¬6) يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة، ثم وإنْ أُخذَ] (¬7) بهذا (¬8) فليس يمنع هذا القول من أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سمع منه ما ليس بقرآن (¬9). ¬

_ = فكذبٌ على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء. اهـ (¬1) قد تقدم بيان بطلان هذا القول. (¬2) في (د)، (ع): (يشاء). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 433 - 434. (¬4) في (د)، (ع): زيادة إنّه قبل (أراد). (¬5) ذكره عنه الماوردي 4/ 35، والقرطبي 12/ 85 (¬6) هكذا في جميع النسخ، ولعلها: أي. (¬7) ساقط من (ظ). (¬8) في (ظ). (فهذا). (¬9) انظر الثعلبي 3/ 55 أ - ب.

وذهب بعض المتأولين (¬1) إلى أنَّ "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" ليس بثناء على آلهة المشركين ولا مدح لها، ولكن يكون التقدير فيه: تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى عندكم وفيما تذهبون إليه، لا أنَّها في الحقيقة كذلك، كما قال {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي عند نفسك. وهذا في البعد، كما روي عن الحسن؛ لأن هذا التأويل لا يمنع من سماع هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بين القرآن. فإذًا (¬2) الصحيح في هذا أن يقال: إنّه من السهو الذي لا يعرى منه بشر، ثم لا يلبث أن ينبهه الله (¬3) عليه، وإما أن يقال إنَّه كان من الشيطان فتنة للناس كما ذكرنا. وقوله: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [إن قلنا] (¬4) أن الشيطان تكلم بهذا على لسانه فهو ظاهر، وإن قلنا إنّه سهى وغلط (¬5)؛ فإن ذلك السهو من جهة الشيطان ووسوسته فهو من إلقائه. ومفعول {أَلْقَى} غير مذكور في اللفظ لأنه كان معلومًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه حين نبه على غلطه ألا ترى أنه نقل نقلًا مستفيضًا. وقوله {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي: يرفعه ويبطله بتنبيه ¬

_ (¬1) انظر: "النكت والعيون" للماوردي 4/ 35، "الشفا" للقاضي عياض 4/ 173، "فتح الباري" لابن حجر 8/ 440. (¬2) في (أ): (فإذن). (¬3) لفظ الجلالة ليس في (ظ). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) في (د)، (ع): (سهو وغلط).

53

النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ينسخ ما ليس منها. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما أوحى إليه نبيه {حَكِيمٌ} في خلقه. قاله ابن عباس (¬1). 53 - قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هذه اللام تتعلق بقوله: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (¬2) أي: ليجعل الله ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض. قال ابن عباس: شك ونفاق، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع، وازدادوا تحيرًا، وظنوا أن محمدًا يقول الشيء من عند نفسه ثم يندم فيبطله، وكذلك المشركون ازدادوا شرًّا وضلالة وتكذيبًا (¬3)، وهو قوله {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}. قال ابن عباس: يريد المشركين، وهم الذين لا تلين قلوبهم لأمر الله (¬4). وهذا صريح في أن الله تعالى أراد فتنتهم وضلالتهم (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي 12/ 86 من غير نسبة. (¬2) في معلّق اللام في قوله "ليجعل" ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره المؤلف وهو أنها متعلقه بـ"ألقى"، واستظهره الشنقيطي 5/ 733. الثاني: أنها متعلّقة بـ"يحكم" أي: يحكم الله آياته ليجعل. وهذا القول: عزاه أبو حيان 6/ 382 للحوفي، واستظهره السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 298. الثالث: أنها متعلقة بـ"ينسخ" وإليه ذهب ابن عطية 10/ 308. (¬3) ذكره البغوي 5/ 395 هذا القول إلى قوله: فيبطله. من غير نسبة لأحد. وانظر "النكت" للماوردي 4/ 36، و"البحر" لأبي حيان 6/ 382. (¬4) روى الطبري 17/ 191 عن ابن جريج هذا القول مختصرًا. وذكر الماوردي 4/ 36، والبغوي 5/ 395 هذا القول من غير نسبة. (¬5) في (ظ): (وضلالهم).

54

قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} قال الكلبي: يعني أهل مكة. {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} قال ابن عباس: لفي اختلاف شديد (¬1). وقال الزجاج: الشقاق غاية العداوة (¬2). 54 - قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هذه اللام تتعلق بقول {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} في المعنى لقوله (¬3): {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} يعني: نسخ ذلك وإبطاله ورفعه وأحكام الله آياته من الباطل حق من الله. والمراد بالذين أوتوا العلم المؤمنون، الذين أوتوا التوحيد والقرآن. قاله ابن عباس، والكلبي، وغيره (¬4). وقال السدي: صدقوا بما نسخ الله (¬5). وهو معنى قوله {فَيُؤْمِنُوا بِهِ}. وقوله: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} قال الكلبي: ترق (¬6) للقرآن قلوبهم. ثم بين أنَّ (¬7) هذا (¬8) الإيمان والتصديق والإخبات إنما هو بلطف الله ¬

_ (¬1) ذكره البغوي 5/ 395 من غير نسبة لأحد. وذكر الماوردي 6/ 36 في الآية وجهين: أحدهما: لفي ضلال بعيد. وعزاه للسدي، والثاني: لفي فراق للحق بعيد إلى يوم القيامة. وعزاه ليحيى بن سلام. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 434. (¬3) في (ظ): (كقوله). (¬4) ذكره هذا القول البغوي 5/ 395، وابن الجوزي 5/ 443 من غير نسبة لأحد. (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 395، وابن الجوزي 5/ 443. (¬6) في (ظ): (يرق القرآن). (¬7) (أنَّ): ساقطة من (أ). (¬8) في (ع): (هذه).

55

وهدايته إيّاهم فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. 55 - قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس: يريد المشركين. {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} المِرية والمُرية -بالكسر والضم- لغتان (¬1) (¬2) معناها: الشك. ومنه الامتراء والتماري (¬3). وقوله {مِنْهُ} أي: مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. يقولون: ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها؟ قاله السدي عن أصحابه (¬4). وقال ابن جريج: من القرآن (¬5). {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} يعني: القيامة {بَغْتَةً} فجأة. وهذا وعيد لهم بالقيامة، وهم لم يدركوها (¬6) في حياتهم، ولكن الله تعالى أوعدهم وذكر ¬

_ (¬1) (لغتان): ساقطة من (ظ). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري 9/ 2491 (مرا)، "لسان العرب" 15/ 277 (مرا). (¬3) قوله: "الشك ومنه الامتراء والتَّماري" في "تهذيب اللغة" 15/ 285 (مري) منسوبًا إلى الليث. (¬4) ذكره البغوي 5/ 397، والقرطبي 12/ 87 من غير نسبة. (¬5) ذكره الثعلبي 3/ 55 ب. ورواه الطبري 17/ 192. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 69 - 70 وعزاه لابن المنذر. واختار هذا القول الطبري 17/ 192 - 193 وقال: وذلك أن ذلك من ذكر قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أقرب منه من ذكر قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} والهاء من قوله (أنّه) أي من ذكر القرآن وإلحاق الهاء في قوله: {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} بالهاء من قوله: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أولى من إلحاقها بما التي في قوله: {مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} مع بعد ما بينهما. (¬6) في (ظ): (يذكروها).

أنَّهم يترددون في حيرتهم (¬1) وشكّهم إلى أن تفجأهم الساعة أو يقتّلوا، وهو قوله {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}. قال أبو إسحاق: أصل [العقم] (¬2). العقم في الولادة. قال: هذه امرأة عقيم، كما قال الله -عز وجل-: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] وكذلك: رجل عقيم، إذا كان لا يولد له (¬3). الأصمعي: يقال: عَقَامٌ وعَقيم (¬4) مثل بَجَال وبَجيل (¬5). وجمعها: عقمٌ، ويقال: عقمت المرأة فهي معقومة وقد عقم الله رحمها وأعقمها (¬6). وروى عمرو (¬7)، عن أبيه: عَقِمَت المرأة تَعْقَمُ عَقْمًا، وعَقَمَت تَعْقُم عُقْمًا، وعَقُمَت تَعْقُم عَقَمًا (¬8)، وهي عقيم إذا كانت لا تحمل (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (حياتهم). (¬2) زيادة من "معاني القرآن" للزجاج. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 434. (¬4) كسحاب وأمير. قاله الفيروزآبادي 4/ 152. (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 288 (عقم) من رواية أبي عبيد، عن الأصمعي. قال ابن منظور: رجل بجال وبجيل: يبجله الناس. وقيل: هو الشيخ الكبير العظيم السيد مع جمال ونبل. "لسان العرب" 11/ 44 (بجل). (¬6) من قوله: (وجمعها ...) إلى هنا، هذا كلام أبي الهيثم كما في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 288 (عق)، دون قوله: وأعقمها. (¬7) هو: عمرو بن إسحاق بن مرار، الشيباني، اللغوي. (¬8) كفرح ونصر وكرم. قاله الفيروزابادي 4/ 152. (¬9) "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 289 (عقم) من رواية عمرو عن أبيه.

وقال أبو العباس: عقمت المرأة إذا لم تحمل، وهي عقيم (¬1). وأنشد أبو إسحاق (¬2): عقم النساء فما يلدن ... شبيهه إن النساء بمثله عُقْم وأصل هذا من العقم، وهو القطع. ومنه يقال: المُلْك عقيم؛ لأنه تقطّع فيه الأرحام بالقتل والعقوق. هذا قول أبي عمرو (¬3). وعلى هذا العقيم: التي قطعت ولادتها. وقال أبو عبيد: العقم: الشَّد (¬4). يقال للمرأة: معقومة الرحم كأنَّها مشدودتها، ومنه الحديث: "وتعقم أصلاب المنافقين فلا يقدرون على السجود" (¬5) أي: تشد وتيبس مفاصلهم. ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكر هذا القول عن أبي العباس ثعلب، ولا عن أبي العباس المبرّد. (¬2) البيت أنشده أبو إسحاق الزجاج في "معاني القرآن" 3/ 434 ولم ينسبه لأحد. ووقع في المطبوع: عقيم)، وهو خطأ. والبيت ذكره أبو عمرو الشيباني في روايته لديوان أبي دهْبل الجمحي ص 66، قال: حدثني موسى بن يعقوب قال: أنشدني أبو دهبل قوله في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ثم ساق أبياتًا ومنها هذا البيت. ونسب البيت أيضًا لأبي دهبل في: "عيون الأخبار" لابن قتيبة 1/ 279، و"نسب قريش" لأبي عبد الله المصعب الزبيري ص 331، لكن عنده قالها في مدح عبد الله الأزرق بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس، و"الحماسة" لأبي تمام ص 257، و"شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 4/ 75، وقال: قالوا يمدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والبيت نسبه ابن منظور في "لسان العرب" 12/ 412 (عقم) لأبي دهبل -وروايته فيه "نسبه" في موضع (ما) - ثم قال: وقيل: هو للحزين الليثي. (¬3) قول أبي عمرو الشيباني في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 289 "عقم". وانظر: "لسان العرب" 12/ 413 (عقم). (¬4) في (أ). (السدَّ). (¬5) هذا قطعة من حديث رواه أبو عبيد في كتابه "غريب الحديث" 4/ 71 عن عبد الله =

هذا هو الكلام في أصل العقيم في اللغة. ثم يقال: "يوم عقيم" للذي لا يأتي فيه خير. ويوم القيامة عقيم على الكفّار؛ لأنّه لا يأتي لهم بخير كما

_ = ابن مسعود موقوفًا. قال أبو عبيد: حدثنيه عبد الرحمن مهدي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعود. ورواه الطبري في "تفسيره" 29/ 39 من حديث عبد الرحمن، به موقوفاً بلفظ: ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كانَّما فيها السَّفافيد. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 15/ 191 - 195، والحاكم في "مستدركه" 4/ 598 - 600 والطبراني في الكبير 9/ 413 - 416 من حديث سفيان به، مطولاً جدًا، موقوفا، بمثل لفظ الطبري. وقال الحاكم بعد إخراجه 4/ 600: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه. وقال الذهبي -متعقبًا قول الحاكم-: قلت: ما احتجا بأبي الزعراء. أهـ. وهذا الخبر عن المنافقين رواه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا إسحاقُ بن راهوية في مسنده (كما في المطالب العالية لابن حجر 4/ 365 - 367)، والطبراني في الكبير 9/ 416 - 421، والحاكم في "مستدركه" 4/ 590 ولفظ إسحاق: "وتدمج أصلاب المنافقين، فتكون عظمًا واحدا، كأنها صياصي البقر، ويخرّون على أقفيتهم". قال ابن حجر في "المطالب" 4/ 367 بعد ذكره لرواية إسحاق: هذا إسناد صحيح متصل، ورجاله ثقات. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 343: رواه كله الطبراني في طرق، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة. وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك" 4/ 592 - 593 ما أنكره حديثًا على جودة إسناده، وأبو خالد -يعني الدالاني- شيعي منحرف. اهـ. وذكر هذا الحديث السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 257 وعزاه لإسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والطبرابي والآجري في "الشريعة" والدارقطني في "الرؤية" والحاكم وابن مردويه والبيهقي في "البعث".

يأتي للمؤمنين. والريح العقيم: التي لا تأتي بمطر ولا سحاب ولا تلقح (¬1) شجرًا (¬2). وأما التفسير: فقال ابن عباس: يريد يوم بدر (¬3). وهو قول قتادة (¬4)، ومجاهد (¬5)، والسدي (¬6)، وأبيّ بن كعب (¬7). واختلفوا: لم سُمِّي يوم بدر عقيمًا. فقال ابن عباس: لأنّه ليس ليوم بدر نظير من الأيام لا قبله ولا بعده، لم تقاتل الملائكة مع نبيّ قط إلاّ مع محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم تقاتل مع محمد إلا يوم بدر. وعلى هذا سمي عقيمًا، لأنه لا نظير له في عِظَمِه بقتال الملائكة فيه، فكأنَّ الدهر عقيم عن مثل ذلك اليوم. وقال الكلبي: يوم عقيم لا فرج (¬8) فيه وهو يوم بدر. ¬

_ (¬1) في (أ): (الذي، يلقح). (¬2) انظر: (عقم) في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 288، "الصحاح" للجوهري 5/ 198، "لسان العرب" 12/ 413. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 70 وعزاه لابن مردويه والضياء في المختارة. (¬4) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 41، والطبري 17/ 193. (¬5) رواه الطبري 17/ 193. (¬6) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 444. (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 41 عن قتادة قال: بلغني أن أبيّ بن كعب كان يقول: أربع آيات أنزلت في بدر. هذه إحداهن "يوم عقيم" يوم بدر. وهو منقطع. ورواه الطبري 17/ 193 من هذا الوجه مختصرًا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 70 وعزاه لابن مردويه. (¬8) في (أ)، (ظ)، (د): (لا فرح)، والمثبت من (ع).

56 - 57

وهذا اختيار الزَّجَّاج، قال: اليوم العقيم هو الذي لا يأتي فيه خير كالريح العقيم (¬1). وقال ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء (¬2). وعلى هذا القول سُمّي عقيمًا لانقطاع أعمارهم وفناء آجالهم، فلم يروا بعد ذلك اليوم ليلاً ولا نهارًا، فكأنَّ ذلك اليوم عليهم يومًا لا ليل لهم بعده. وروي عن عكرمة والضحاك في قوله {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}: إنه القيامة (¬3). والوجه القول الأول (¬4)؛ لأن ذكر القيامة قد تقدّم في قوله {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}. 56 - 57 - قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} يعني يوم القيامة لله وحده يحكم بينهم بما ذكر من قوله {فَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله {عَذَابٌ مُهِينٌ}. 58 - ثم ذكر فضل المهاجرين وقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الكلبي: من مكة إلى المدينة في طاعة الله. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 434. (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 55 ب بهذا اللفظ، ورواه الطبري 17/ 193. (¬3) ذكره عنهما الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 55 ب. ورواه عنهما الطبري 17/ 193. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 70 عن الضحاك، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬4) وهو اختيار الإمام الطبري 17/ 193 قال: وذلك أنَّ الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضًا هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرتين باختلاف الألفاظ، وذلك لا معنى له.

{ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} تسوية بين حالتهم من القتل أو الموت على الفراش. ولهذا قال فضالة بن عبيد (¬1) ورأى جنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى-: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ. وقرأ هذه الآية (¬2). قوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} قال ابن عباس: يريد لا انقطاع له (¬3). وقال السدي: هو رزق الجنة (¬4). وقرئ قوله {ثُمَّ قُتِلُوا} بالتخفيف والتشديد (¬5). فالتخفيف يكون للكثير (¬6) والقليل، والتشديد حسن؛ لأنهم قد أكثر فيهم القتل في وجوه توجهوا إليها (¬7). ¬

_ (¬1) هو: فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري، الأوسي. صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسلم قديمًا، وشهد أحدًا وما بعدها، وشهد بيعة الرضوان. ولي الغزو لمعاوية، ثم ولي له قضاء دمشق، وكان ينوب عن معاوية في الإمرة إذا غاب. توفي سنة 53 هـ، وقيل بعدها. "طبقات ابن سعد" 7/ 401، "الاستيعاب" 3/ 1262، "أسد الغابة" 4/ 182، "سير أعلام النبلاء" 3/ 113، "البداية والنهاية" 8/ 78، "الإصابة" 3/ 201. (¬2) رواه الطبري 17/ 194 - 195 وابن أبي حاتم (كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 232) عن فضالة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 71 وعزاه لا بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) ذكر البغوي 5/ 396 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬4) انظر: "الدر المنثور" 6/ 71. (¬5) قرأ ابن عامر: "قتلوا" مشددة التاء، وقرأ الباقون: "قتلوا" خفيفة التاء. "السبعة" ص 439، "المبسوط" لابن مهران ص 258، "النشر" 2/ 327. (¬6) في (د)، (ع): (للكثرة). (¬7) هذا كلام أبي على في "الحجة" 5/ 284. وانظر: "إعراب القراءات وعللها" لابن خالويه 2/ 83، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 481.

59

59 - قوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} قال ابن عباس: يريد الجنة. وقرىء: {مُدْخَلًا} بضم الميم وفتحها (¬1)، فالضمّ (¬2) يجوز أن يراد به الإدخال، ويكون المعنى أنهم إذا أدخلوا أكرموا، فلم يكونوا كمن ذكر في قوله {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34]. ويجوز أن يعني به الموضع، ويرضونه لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فهو خلاف المدخل الذي قيل فيه {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] الآية. والفتح يجوز أن يكون الدخول (¬3)، ويجوز أن يكون موضعه كالمدخل. ودل {لَيُدْخِلَنَّهُمْ} على الدخول؛ لأنَّهم إذا أدخلوا دخلوا، فكأنه قال: ليُدْخلنهم فيَدخلون مَدْخلًا (¬4). وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم (¬5). 60 - قوله تعالى: {ذَلِكَ} قال أبو إسحاق: "ذلك" في موضع رفع، ¬

_ (¬1) قرأ نافع "مدخلا" بفتح الميم، وقرأ الباقون بضمها. "السبعة" ص 439، "التبصرة" ص 182، "التيسير" ص 95، "الاقناع" 2/ 629. (¬2) في "الحجة": المدخل يجوز أن يراد به الإدخال. (¬3) في "الحجة": وحجة من قال مدخلا أن المدخل يجوز أن يكون الدخول. (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 284 - 285 مع تقديم وتأخير. وانظر: "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 83، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 481 - 482. (¬5) ذكره عنه القرطبي 12/ 89. وذكره ابن الجوزي 5/ 446 والبغوي 5/ 397 من غير نسبة.

المعنى: الأمر ذلك، أي (¬1): الأمر ما قصصنا عليكم (¬2). ثم قال: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي: من جازى الظالم بمثل ما ظلمه. وسمي جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في جنس المكروه كقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، فالأول سيئة والمجازاة عليها سميت سيئة بأنها وقعت إساءة بالمفعول به، لأنه فعل [به] (¬3) ما يسوؤه (¬4). وذكرنا هذا في قوله {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]. قال الحسن: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} يعني: قاتل المشركين كما قاتلوه (¬5). {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي: ظلم بإخراجه من منزله. قيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين قاتلوا قومًا من المشركين غير مبتدئين بالقتال بل دفعًا لهم عن أنفسهم، ثم أخرجوا من ديارهم (¬6). قال الضحاك، عن ابن عباس في قوله {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}: يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حين أحوجوا (¬7) إلى مفارقة أوطانهم (¬8). ¬

_ (¬1) (أي): ساقطة من (أ). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 435. وعلى هذا "ذلك" خبر مبتدأ مُضمر، وانظر "الإملاء" للعكبري 2/ 146، "الدر المصون" 8/ 296. (¬3) زيادة من معاني الزجاج يستقيم بها المعنى. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 30/ 435 مع اختلاف يسير. (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 397. (¬6) انظر: "التهذيب في التفسير" للجشمي 6/ 186 ب. (¬7) في (أ): (حين أخرجوا)، وفي (ظ): (حتى أخرجوا). (¬8) ذكره البغوي 5/ 397 من غير نسبة لأحد.

قوله: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} يعني: هذا المظلوم الذي بغي عليه وعده الله النَّصر. قال ابن جريج: يعني نصرته محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه (¬1). {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} قال ابن عباس: يريد عفى عن المؤمنين مساوءهم، وغفر لهم ذنوبهم (¬2). وذكر مقاتل بن سليمان السَّبب في نزول هذه الآية وتفسيرها فقال: إنَّ مشركي مكة لقوا المسلمين في ليلتين بقيتا من المحرم، فقال بعضهم لبعض: إنَّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا القتال، فبغوا على المسلمين، فقاتلوهم وحملوا عليهم، وثبت المسلمون فنصر الله المسلمين عليهم، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية (¬3). فالمعني بـ"من" (¬4) في قوله {وَمَنْ عَاقَبَ} المؤمنون، جازوا الكفار وقاتلوهم كما قاتلوهم، وبغيهم عليهم: أنَّهم لم يرتدعوا ولم يكفوا عن القتال بمناشدتهم إياهم. 59 - وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} قال مقاتل: عنهم {غَفُورٌ} لقتالهم في الشهر الحرام (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 195 بمعناه (¬2) ذكره البغوي 5/ 397 من غير نسبة. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 27 ب. وهذا القول غير معتمد في سبب نزول هذه الآية لأن مقاتل بن سليمان كذّبوه. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 272. (¬4) في (أ): (مَّمن). (¬5) "تفسيره مقاتل" 2/ 27 ب.

61

61 - قوله: {ذَلِكَ} أي: ذلك النصر الذي أنصره من بُغي عليه بأنّي القادر على ما أشاء، فمن قدرته أنَّه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية (¬1). ومن قدر على ذلك قدر على نصرة من شاء ومعنى {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} قد سبق فيما مضى. قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قال ابن عباس: {سَمِيعٌ} لدعاء محمد ومن معه من المؤمنين {بَصِيرٌ} بهم حيث جعل فيهم البرَّ (¬2) والتقوى والدين (¬3). 62 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} أي: ذلك الذي فعل من نصر المؤمنين بأنّه (¬4) {هُوَ الْحَقُّ} أي: ذو الحق في قوله وفعله، فدينه حق وعبادته حق، كل ما يصدر عنه من أمر ونهي حق، والمؤمنون الذين آمنوا به وصدقوا رسوله هم المحقون؛ فيستحقون من الله النصر. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي: الذي ليس بشيء ولا ينفع عبادته. قاله مقاتل (¬5). {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأشكال (¬6) {الْكَبِيرُ} الذي كل شيء سواه يصغر مقداره. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 17/ 195، الثعلبي 3/ 56 أ. (¬2) في (د)، (ع): (البر والفاجر)، بزيادة (والفاجر)، وهو خطأ. (¬3) ذكره ابن الجوزي 5/ 447 مختصرًا من غير نسبة. (¬4) في (أ): (وأنَّه). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 27 أ. (¬6) الحق أنَّ "العلي" يتضمن ثلاثة أمور، وهي علو الذات وعلو القدر وعلو القهر. وكلام المؤلف هنا حيدة منه عن إثبات علو الذات. وانظر بيان ذلك في قسم الدراسة عند الكلام على عقيدة المؤلف.

62

63 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الآية. حكى المبرد (¬1) والزجاج (¬2) عن سيبويه (¬3): أنه سأل الخليل عن هذه الآية ورفع قوله {فَتُصْبِحُ} وهو جواب الاستفهام بالفاء ووجهة النصب؟ فقال: هذا ليس بجواب لقوله {أَلَمْ تَرَ}، لأنه (¬4) لو كان كذلك لكان التقدير: ألم تر فتصبح، بل هذا واجب و {أَلَمْ تَرَ} تنبيه، وكأنَّه في التقدير-والله أعلم-: اسمع يا فلان: أنزل الله من السماء ماء فكان (¬5) كذا وكذا. وأنشد الخليل للنّابغة (¬6): ¬

_ (¬1) "المقتضب" 2/ 21. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 436. (¬3) انظر: "الكتاب" 3/ 36. (¬4) في (أ): (الآية)، وهو خطأ. (¬5) في (أ): (وكان). (¬6) إنشاد الخليل لبيتي النابغة في "الكتاب" 3/ 36 ورواية البيت الأول فيه: ولا زال قبرٌ بين تُبْنى وجاسم ... عليه من الوَسْمِى جَوْدٌ ووابل والبيتان في "المقتضب" للمبرد 2/ 19 بمثل الرواية التي ساقها الواحدي، ويظهر أنه نقل البيتين من المبرد؛ فقد قال قبل قليل: حكى المبرد .... وهما في: "ديوان النابغة" ص 121 من قصيدة يرثي بها النعمان بن الحارث الغَسَّاني مع اختلاف ففيه: سقى الغيث قبرا بين بصري وجاسم ... بغيث من الوسمي قطر ووابل وينبت .... قال الشنتمري في "شرحه لديوان النابغة" ص 121 - 122: ("بُصْرى وجاسم" هما موضعان بالشام، والوسمي: أول المطر؛ لأنه بسم الأرض بالنبات، .... والوابل: أشد المطر، وينبت حوذانًا: أي ينبت هذا المطر الذي دعا للقبر به، والحوذان والعوف: ضربان من النبت طيب الرائحة، وقوله "سأتبعه" أي: سآتي عليه بخير القول وأذكره بأجمل الذكر. اهـ. والسَّح: الصَبّ المتتابع. "لسان العرب" 2/ 476 (سحح).

63

فلا زال قبرٌ بين بصرى وجاسم ... عليه من الوسمي سح ووابل فينبتُ حوذانًا وعوفًا مُنورًا ... سأتبعه من خير ما قال قائل [وقال: لم يرد لا زال فينبت، ولكنَّه لما دَعَى بالغيث] (¬1) قال: فينبت أي: فهو ينبت كأنَّه خبرٌ لقصة تكون عن هذا الغيث. ونحو هذا قال الفراء -في هذه الآية- فقال: (ألم تر) معناه خبر، كأنَّك قلت في الكلام: اعلم أنَّ الله يُنزل من السماء ماء فتصبح الأرض. وهو مثل قول الشاعر (¬2): ألم تسأل الربع القديم فينطقُ (¬3) ¬

_ (¬1) ساقطة من (ع). (¬2) البيت أنشده الفراء في "معاني القرآن" 2/ 229 من غير نسبة، وتتمته: وهل تُخْبرَنْكَ اليوم بيداءُ سملقُ وهو بلا نسبة في الكتاب 3/ 37 وفيه: (القواء) في موضع (القديم)، والطبري 17/ 197 بمثل رواية الفرّاء. والبيت لجميل بن معمر، وهو في "ديوانه" ص 144، "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 2/ 201، "شرح المفصل" لابن يعيش 7/ 36، 37، "شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 474، "لسان العرب" 10/ 164 (سملق)، "خزانة الأدب" 8/ 524، 526 - 527، وروايتهم جميعًا: القواء. قال الشنتمري في "تحصيل عين الذهب" 1/ 422: الشاهد فيه رفع "ينطق" على الاستئناف والقطع، على معنى: فهو ينطق .. والرَبْع المنزل، والقواء: القفر. وجعله ناطقًا للاعتبار بدروسه وتغيره. ثم حقق أنه لا يجيب ولا يخبر سائله لعدم القاطنين به. والبيداء: القفر. والسملق: التي لا شيء بها. اهـ وعند السيرافي 2/ 201: البيداء: الصحراء الواسعة. قال البغدادي 8/ 528: وقوله: (وهل تخبرنك) إلخ ردَّ على نفسه بأن مثله لا ينطق فيجيب. (¬3) "معانى القرآن" للفراء 2/ 229.

قال الخليل: المعنى فهو مما ينطق (¬1). هذا كلامهم. وعند النحويين (¬2) يجوز الرفع في الجواب بالفاء على تقدير الاستئناف، كقراءة من قرأ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ} [البقرة: 245] بالرفع (¬3)، أي: فهو يضاعفه (¬4) وكما رفع في هذه الآيات. وذكرنا عند قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] أن (¬5) {أَلَمْ تَرَ} تكون بمعنى التنبيه. فحصل في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن قوله [فتصبح] ليس بجواب الاستفهام؛ لأنَّ هذا استفهام معناه التنبيه. والثاني: أنه جواب الاستفهام بالرفع على ما ذكره النحويون. قال ابن عباس وغيره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني المطر (¬6) {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} بالنبات (¬7) {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} ¬

_ (¬1) قول الخليل في "معاني القرآن" للزجاج 3/ 346. وهو بنحوه في "الكتاب" 3/ 37. (¬2) انظر: "الكتاب" 3/ 31، "ارتشاف الضرب" لأبي حبان 2/ 408 - 409، "شرح المفصل" لابن يعيش 7/ 36 - 37. (¬3) قرأ أبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: "فيضاعفه" بالألف ورفع الفاء. وقرأ ابن كثير: "فيضعّفُه" بغير ألف وتشديد العين ورفع الفاء. وقرأ ابن عامر: "فيضعّفَه" بغير ألف وتشديد العين ونصب الفاء. وقرأ عاصم: "فيضاعفه" بألف ونصب الفاء. "السَّبعة" ص 184 - 185، "التبصرة" ص 161، "التيسير" ص 81. (¬4) أو يكون معطوفًا على "يقرض الله"، انظر "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 139، "إبراز المعاني" لأبي شامة 363. (¬5) أنّ: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع). (¬6) ذكره ابن الجوزي 5/ 447 من غير نسبة لأحد. (¬7) ذكره البغوي 5/ 397، وابن الجوزي 5/ 447 من غير نسبة لأحد.

64

بأرزاق عباده (¬1). وقال مقاتل: باستخراج النبات من الأرض (¬2). {خَبِيرٌ} قال ابيت عباس: خبير بما في قلوب العباد من القنوط (¬3). يعني عند تأخر المطر. وقال غيره: خبير بما يحدث من ذلك الماء ومن ذلك النبت (¬4) (¬5). 64 - قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قال مقاتل: عبيده وفي ملكه (¬6). {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} عن عباده {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه وأهل طاعته. قاله ابن عباس. 65 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد البهائم التي تركب وتؤكل (¬7). قوله: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} "الفلك" بالنصب نسق على "ما" ¬

_ (¬1) ذكره عنه الرازي 23/ 62، والقرطبي 12/ 92. وذكره البغوي 5/ 397 من غير نسبة. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 27 ب. (¬3) ذكره عنه الرازي 23/ 62، والقرطبي 12/ 92. (¬4) في (أ): (النبات)، والمثبت من باقي النسخ هو الموافق لما عند الطبري. (¬5) هذا قول الطبري 17/ 196. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 27 ب. (¬7) ذكره البغوي 5/ 398، وابن الجوزي 5/ 448 من غير نسبة. قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" 3/ 233: أي من حيوان وجماد وزروع وثمار كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].

66

و"تجري" حال أي: وسخر لكم الفلك في حال جريها (¬1). {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} قال الزجاج: المعنى: كراهة (¬2) أن تقع، [وموضع "أنْ" نصب بيمسك، وهو مفعول له، المعنى: لكراهة أن تقع] (¬3) (¬4). وقال مقاتل: لئلا تقع (¬5). وهذا على مذهب الكوفيين (¬6). وذكرنا الكلام في هذه المسألة في مواضع (¬7). قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} قال مقاتل: يعني لرفيق رحيم بهم فيما سخر لهم وحبس عنهم السماء فلا تقع عليهم فيهلكوا (¬8). 66 - قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} بعد أن كنتم نطفًا ميتة. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند آجالكم. ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج بنصَّه في "معاني القرآن" 3/ 437. وجوَّز أبو البقاء في الإملاء 2/ 146 أن يكون انتصاب "الفلك" عطفًا على لفظ الجلالة على تقدير: وأن الفلك تجري في البحر، و"تجري" خبرٌ على هذا. وتبع السمين الحلبي 8/ 302 أبا البقاء في هذا. واستظهر أبو حيان 6/ 387 ما قاله الزجاج، واستبعد ما جوزه أبو البقاء، وقال: وهو إعراب بعيدٌ عن القصاحة. (¬2) في (أ): (كراهية)، والمثبت هو الموافق لما في كتاب الزجاج. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 437. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 27 ب. (¬6) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]. (¬7) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 27 ب.

67

{ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث والحساب والثواب والعقاب (¬1). {إِنَّ الْإِنْسَانَ} قال ابن عباس: يعني جماعة من المشركين (¬2). قال الكلبي: هو الكافر (¬3). {لَكَفُورٌ} قال مقاتل: لكفور لنعم الله في حسن خلقه حين لا يوحده (¬4). 67 - قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ} أي: لكل قرن مضى {جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} قال ابن عباس: يريد شريعة هم عاملون بها (¬5). وقال مقاتل وغيره: يعني ذبيحة في عيدهم هم ذابحوه (¬6). وهذا ممَّا (¬7) تقدم الكلام فيه في هذه السورة (¬8). ¬

_ (¬1) الطبري 17/ 198، الثعلبي 3/ 56 أ. (¬2) ذكر الرازي 23/ 63 والقرطبي 12/ 98 وأبو حيان 6/ 387 عنه أنه قال: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف. قال الرازي: والأولى تعميمه في جميع المنكرين. وقال أبو حيان بعد ذكره لقول ابن عباس-: وهذا على طريق التمثيل. وقيل: هذا وصفٌ للجنس؛ لأن الغالب على الإنسان كفر النّعم كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].انظر: القرطبي 12/ 93. (¬3) ذكر الرازي 23/ 63، وأبو حيان 6/ 387 هذا القول عن ابن عباس. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 28 أ. (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 398. وروى عنه الطبري 17/ 198 - من طريق الوالبي، قال: عيدا. (¬6) انظر: تفسير مقاتل 2/ 28 أ. وجاء نحوه عن عكرمة. انظر: "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 73. (¬7) في (أ): (ما). (¬8) عند قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34].

{فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} يعني في أمر الذبائح. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في بديل بن ورقاء الخزاعي (¬1) وبشر بن سفيان الخزاعي (¬2)، ويزيد بن خنيس وغيرهم من كفار قريش وخزاعة، خاصموا النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين في أمر الذبيحة، فقالوا: ما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه أو ما قتلتم أنتم بسكاكينم؟ (¬3). قال أبو إسحاق: معنى قوله {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} لا تنازعهم ولا تجادلهم، والدليل على ذلك قوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ}، وكان هذا قبل القتال. فإن قيل (¬4): فلم قيل: فلا ينازعنك في الأمر وهم قد نازعوه؟ فالمعنى: إنَّ هذا نهيٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن منازعتهم كما تقول: لا يخاصمنّك فلان في هذا أبدًا، أي: لا تخاصمه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا من اثنين؛ لأنَّ المجادلة ¬

_ (¬1) هو: بُديل بن ورقاء بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى بن ربيعة الخزاعي، كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، يدعوه إلى الإسلام، وأسلم قبل الفتح، وقيل يوم الفتح، وشهد حنينًا، واستعمله -صلى الله عليه وسلم- على سبى هوازن، وسار مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، وشهد حجة الوداع. "طبقات ابن سعد" 4/ 294، "الاستيعاب" 1/ 150، "أسد الغابة" 1/ 170، "الإصابة" 1/ 145. (¬2) هو: بشر -قال ابن هشام: ويقال: بسر- بن سفيان بن عمر بن عويمر الكعبي الخزاعي، كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسلم سنة ست، وبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- عينًا إلى قريش إلى مكة، وشهد الحديبية، وله ذكر في حديث الحديبية، وسكن مكة. "طبقات ابن سعد" 4/ 458، "السيرة النبوية" لابن هشام 3/ 356، "الاستيعاب" 1/ 166، "الإصابة" 1/ 153. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 28 أ. (¬4) في (أ) زيادة: (لهم) بعد قوله: (قيل)، وهو خطأ.

68، 69

والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا (¬1) قلت: لا يجادلنّك فلان، فهو بمنزلة لا تُجادلنَّه. ولا يجوز هذا في قولك: لا يضربنك فلان، وأنت تريد لا تضربه. ولكن لو قلت: لا يضاربنّك فلان، لكان (¬2) كقولك: لا تضاربن فلانًا. هذا كلام أبي إسحاق (¬3). وقوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} قال مقاتل بن سليمان: يعني إلى معرفة ربك وهو التوحيد (¬4). وقال ابن عباس: يريد قم بشرائع الحنيفية. والمعنى على هذا: ادع إلى الإيمان به وإعمال ما شرع من الشريعة. قوله: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى} دين {مُسْتَقِيمٍ} وهو قال ابن عباس: لم يخلق دينًا أقوم ولا أفضل منه ولا أحب إلى الله -عز وجل- 68، 69 - قوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} قال الكلبي: خاصموك في أمر الذبيحة (¬5). وقال مقاتل: جادلوك في أمر الذبائح (¬6). يعني هؤلاء النفر. {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال ابن عباس: يريد من تكذيبهم ¬

_ (¬1) في (أ): (وإذا). (¬2) (لكان): ساقط من (ظ). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 437. مع اختلاف يسير. وقيل معنى "فلا ينازعنك في الأمر": فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عمّا أنت عليه من الحق. وهذا كقوله {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص: 87] أشار إليه ابن كثير 3/ 334. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 28 أ. (¬5) ذكره ابن الجوزي 5/ 449 ولم ينسبه لأحد. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 28 أ.

النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقال مقاتل: الله أعلم بما تعملون وما نعمل، فذلك قوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬2). وعلى هذا في الآية محذوف حذف لدلالة الباقي عليه. والمعنى: أيضًا يحكم بيننا وبينكم. يعني: أنَّه عالم بأعمالنا فهو يحكم بيننا وبينكم يوم القيامة {فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: تذهبون فيه إلى خلاف ما نذهب. وهو معنى قول ابن عباس: يريد في خلافكم إيّاي (¬3). قال الكلبي ومقاتل: نسختها آية السيف (¬4). وهذا النسخ الذي قالا لا يرجع إلى الحكم، لأنَّ الله يحكم يوم القيامة بين المحق والمبطل فيدخل المحق الجنة والمبطل النار، ولكن النسخ يعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر بالقتال كان يقاتل من خالفه ولم يصدقه، ولا يدفع بالقول والمداراة كما أمر في هذه الآية بأن يقول إذا جادلوه: ¬

_ (¬1) ذكره عنه القرطبي 17/ 94. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 28 أ. (¬3) ذكره القرطبي 12/ 94 من غير نسبة، وفيه: آياتي بدل إيّاي. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 28 أ. وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لهبة الله بن سلاهه ص66، "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" لابن البارزي ص 41. والمراد بآية السيف هي قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقيل: في قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وقيل هما معًا. انظر: الإتقان للسيوطي 2/ 67، "روح المعاني" للألوسي 10/ 50. والقول بالنسخ محل نظر؛ لأنه لا دليل على النسخ، ولا تعارض بينها وبين آية السيف.

70

{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}. 70 - قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحج: 70]. [قال ابن عباس] (¬1): يريد قد علمت وأيقنت أني أعلم ما في السماء والأرض. وهذا استفهام يراد (¬2) به التقرير كقوله: ألستم خير من ركب المطايا قوله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} يعني ما يجري في السماء والأرض، كلّ ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، وذلك أن الله تعالى خلق القلم واللوح، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة (¬3). قوله: {إِنَّ ذَلِكَ} أي: علمه بجميع ذلك {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: سهل. فلا يخفى عليه شيء يتعذر العلم به. وقال ابن جريج: إنَّ الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة على ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬2) في (أ): (يريد). (¬3) روى أبو يعلى في مسنده 4/ 217، والطبراني في "المعجم الكبير" 12/ 8 - 96 واللفظ له عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 190: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وروى مسلم في "صحيحه" (كتاب القدر 4/ 2044) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء".

71

الله يسير (¬1). 71 - قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال الكلبي: يعني أهل مكة (¬2). {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} قال ابن عباس: يريد حجة (¬3). {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أنها آلهة {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} وما للمشركين من مانع من العذاب. 72 - قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} قال ابن عباس: يريد: بان لهم ما هم فيه من الضلالة وما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الهدى. {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} قال مقاتل: ينكرون القرآن أن يكون من الله (¬4). والمنكر بمعنى: الإنكار، والتأويل: أثر الإنكار من الكراهية والعبوس. وذهب بعضهم (¬5) إلى أنَّ المنكر هاهنا مفعول الإنكار وليس بمعنى المصدر وقال: وتأويله: يتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان من تغيّرها (¬6) عند سماع القرآن. ¬

_ (¬1) رواه الطبري 17/ 200 - 201. واختار الأول لأنَّه أقرب مذكور إلى قوله: "يسير"، هو وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ}. (¬2) ذكر ابن الجوزي 5/ 9451، والقرطبي 12/ 95 هذين القولين من غير نسبة لأحد. (¬3) ذكر ابن الجوزي 5/ 9451، والقرطبي 12/ 95 هذين القولين من غير نسبة لأحد. (¬4) "تفسيرمقاتل" 2/ 28 أ. (¬5) هو: الإمام الطبري رحمه الله. وقوله هذا في "تفسيره" 17/ 201. (¬6) في (أ): (تغييرها)، وهو خطأ.

قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} قال الليث: السطو: شدة البطش. والفحل يسطو على طروقته (¬1). وقال أبو زيد والفراء: كادوا يبطشون بهم (¬2). ومنه يقال: الأيدي السواطي، التي تتناول الشيء. والساطي من الرجال الذي يسطو بقرنه فيبطش به ويتناوله. والله ذو سطوات أي: أخذات شديدة. ويقال: سطوت به وسطوت عليه (¬3). وقال المبرد: يقال سطا زيد على عمرو وبعمرو. إذا تطاول عليه ليضع منه. وقال أبو إسحاق: يكادون يبطشون (¬4). وقال مجاهد (¬5) ومقاتل (¬6): يكادون يقعون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وهو قوله: {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي: يبسطون إليهم أيديهم بالسوء. قوله: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} قال المفسرون: قل يا محمد لهم: أفأنبئكم بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون (¬7). ثم ¬

_ (¬1) قوله في "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 24، 25 (سطا). وهو في "العين" 7/ 277 مادة (سطا). وطروقته: أنثاه. "لسان العرب" 10/ 216 (طرق). (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 24 عن الفراء وأبي زيد. وقول الفراء في "معاني القرآن" له 2/ 230. (¬3) انظر: (سطا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 24، "الصحاح" للجوهري 6/ 2376، "أساس البلاغة" للزمخشري ص 439، "لسان العرب" 14/ 384. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 438. (¬5) رواه الطبري 17/ 202 عن مجاهد مختصرًا. (¬6) "تفسيرمقاتل" 2/ 28 أ. (¬7) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 56 ب.

ذكر (¬1) ذلك فقال: {النَّارُ}. قال أبو إسحاق: أي هو النار أو هي النار، كأنهم (¬2) قالوا: ما ذلك الذي هو شر؟ فقيل: النارُ. قال: ويجوز الخفض على البدل من (شر) والنصب على أعني (¬3). قال: والرفع أثبت في النحو (¬4). ونحو هذا قال الفراء: سواء ترفع (النار) لأنها معرفة فسرت الشر وهو نكرة، كما تقول: مررت برجلين: أبوك وأخوك. ولو نصبتها بما عاد من ذكرها ونويت بها الاتصال بما قبلها كان وجهًا. ولو خفضتها على الباء: أنبئكم بشر من ذلكم [بالنار، كان صوابًا. والوجه الرفع (¬5). وذهب مقاتل في تفسير قوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ}] (¬6) إلى غير ما ذكرنا وهو أنه قال: إن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا: ما شأن محمد وأصحابه أحق بهذا الأمر منا والله إنهم لشر خلق الله، فأنزل الله {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} من النبي وأصحابه من وعده الله النار وصار إليها يعني الكافر فهم أشرار الخلق (¬7). وهذا تعسف وتفسير لا يساعده اللفظ. وقال بعض أهل المعاني: معنى الآية: بشر عليكم مما يلحق التالي ¬

_ (¬1) في (أ) زيادة (من) بعد قوله: (ذكر)، وهو خطأ. (¬2) في (ط)، (د)، (ع): (وكأنهم)، والمثبت من (أ) هو الموافق لما في المعاني. (¬3) في (أ): (أعلى) والعبارة عند الزجاج: فهو على معنى: أعني النار. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 438. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 230. (¬6) ما بين المعقوفين كرره ناسخ (أ) مرتين. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 28 ب.

73

منكم، أوعدهم الله تعالى على سطوتهم بأهل الحق عقوبة هي شر من سطوتهم بالذي يتلو القرآن (¬1). 73 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} قال أبو إسحاق: لما عبدوا من دون الله ما لا يسمع ولا يبصر وما لم ينزل به حجة، أعلمهم الله الجواب فيما جعلوه له مثلاً، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} يعني الأصنام (¬2). قال ابن عباس، والكلبي، ومقاتل (¬3): {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهو يعني كفار مكة {ضُرِبَ مَثَلٌ} يعني ذكر شبه الصنم {فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. ثم أخبر عنه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: تعبدون من دون الله من الأصنام، وكانت ثلاثمائة وستين صنمًا حول الكعبة {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابًا في صغره وقلته. وقال الأخفش في هذه الآية: إن قيل فأين (¬4) المثل الذي ذكره الله في قوله {ضُرِبَ مَثَلٌ}؟ قلت: ليس هاهنا مثل؛ لأن المعنى أن الله تعالى قال: ضرب لي مثل، أي: شبه بي الأوثان، ثم قال: فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي في قولهم، إنهم لن يقدروا على خلق ذباب ولو اجتمعوا له، أي: فكيف تُضرب هذه الآلهة في ضعفها وعجزها مثلاً لله وهو رب كل شيء ليس له شبه ولا مثل (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 302، والقرطبي 12/ 96 ولم ينسبه لأحد. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 438. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 28 ب. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (أين). (¬5) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 637 مع تصرف. وقول الأخفش هذا محل نظر، فإن =

وتأويل الآية: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي، فاستمعوا حالها وصفتها، ثم بين ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. الآية. والذُّبَاب اسم واحد للذكر والأنثى، وجمعه القليل: أذِبَّة، والكثير: ذِبَّان مثل غُراب وأغْرِبَة وغِرْبان (¬1). قال الزجاجي (¬2): وسُمي هذا الطائر ذبابًا لكثرة حركته واضطرابه وسرعة انتقاله إلى الموضع الذي يُذَبّ عنه وينحى (¬3). ¬

_ = الظاهر المتبادر أن في الآية مثلا، والضارب للمثل هو الله -عز وجل- ضرب مثلا لما يعبد من دونه. انظر "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 390، والألوسي 17/ 200. وانظر: شرح الإمام ابن القيم لهذا المثل في كتابه "إعلام الموقعين" 1/ 181 فقد بين -رحمه الله- أنه حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قبله، ثم شرع في بيان المثل. (¬1) هذا كلام الطبري 17/ 203 والثعلبي 3/ 56 ب لكن ليس عندهما للذكر والأنثى. وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 451/ 14 (ذب)، "الصحاح" للجوهري 1/ 126 (ذبب)، "لسان العرب" 1/ 382 (ذبب). (¬2) في (أ): (الزجاج)، والأظهر ما في باقي النسخ لأن هذا الكلام ليس موجودًا في كتاب "معاني القرآن". والزجاجي هو: عبد الرحمن بن إسحاق، أبو القاسم الزجاجي، أحد أئمة العربية. لزم أبا إسحاق الزجاج -وإليه ينسب- حتى برع في النحو، وأخذ عن أبي بكر بن السراج وعلي بن سليمان الأخفش وغيرهما. صنف "الجمل في النحو" الكتاب المشهور -وبه يعرف- وغيره من المصنفات. توفي سنة 339 هـ وقيل 340 هـ. "طبقات النحويين واللغويين" ص 129، "نزهة الألباء" ص 306، "إنباه الرواة" 2/ 160، "سير أعلام النبلاء" 15/ 475، "بغية الوعاة" 2/ 77. (¬3) لم أجده.

وأصل (ذب ب) (¬1) على هذا الترتيب موضوع (¬2) في كلامهم لسرعته في (¬3) الحركة والانتقال والاضطراب والمجيء والذهاب، ومنه قولهم: ذبب الرجل وذبذب، إذا أخذ في السير وأسرع. وذباذبُ الهودج: ما تعلق منه فيتردد في الهواء. والذَّبْذَبُ: ذكر الرجل، سُمّي بذلك لتردده. الذبّ: الرجل الخفيف الحركة (¬4). قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} أي: إن سلبهم الذباب شيئًا مما عليهم لا يقدرون أن يستردوا وينزعوا ذلك من الذباب. ومعنى الاستنقاذ والإنقاذ: التخليص (¬5). وذكرنا ذلك عند قوله {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم الزعفران فيجف، ويأتي الذباب فيختلسه (¬6)، فقال الله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} يريد من العطر {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} يريد الذباب. وقال السدي عن أصحابه: كانوا يجعلون للأصنام طعامًا فيقع عليه ¬

_ (¬1) في (أ): (ذب). (¬2) في (أ): (موضع)، وهو ساقط من (ظ). (¬3) (في): ساقطة من (أ). (¬4) انظر (ذبب) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 414، "الصحاح" للجوهري 1/ 126 - 127، "مقاييس اللغة" لابن فارس 2/ 348 - 349 (ذب)، "لسان العرب" 1/ 384 (ذبب). (¬5) انظر (نقذ) في "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 74، "الصحاح" للجوهري 2/ 572، "لسان العرب" 3/ 516. (¬6) ذكره عنه البغوي 5/ 400، وابن الجوزي 5/ 452، والقرطبي 12/ 97.

الذباب فيأكل، فلا يستطيع أن يستنقذه منه (¬1). وقال مقاتل: أي فكيف (¬2) يعبدون من لا يخلق ذبابًا، ولا يمتنع من الذباب (¬3). وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن الذين عُبدوا من دونه لا يقدرون على خلق واحد قليل ضعيف من خلقه ولا على استنقاذ تافه حقير منه (¬4). قوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قال ابن عباس: {الطَّالِبُ}: الصنم، {وَالْمَطْلُوبُ}: الذباب. هذا قوله في رواية عطاء (¬5). وهو قول الكلبي، وابن زيد (¬6)، ومقاتل (¬7)، قالوا: {الطَّالِبُ} هو (¬8) الصنم الذي سلبه الذباب ولم يمتنع منه، {وَالْمَطْلُوبُ} هو الذباب. وعلى هذا معنى الآية: ضعف {الطَّالِبُ} الذي هو الصنم فلم يطلب ما سلب منه، وضعف المطلوب منه وهو الذباب السالب. وهذا القول اختيار الفراء، فقال: {الطَّالِبُ}: الآلهة، {وَالْمَطْلُوبُ} ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم عنه كما في "الدر المنثور" 6/ 75. وذكره عنه البغوي 5/ 400، وابن الجوزي 5/ 452، والقرطبي 12/ 97. (¬2) في (أ): (كيف). (¬3) "تفسيرمقاتل" 2/ 28 ب. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 438. (¬5) ذكره ابن الجوزي 5/ 452 عن عطاء، عن ابن عباس. ورواه الطبري 17/ 203 هذا القول عن ابن عباس من طريق ابن جريج قال: قال ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 75 وعزاه لابن جرير وابن المنذر. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 3/ 56 ب. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 28 ب. (¬8) (هو): ساقطة من (ظ).

74

الذباب، وفيه معنى المثل (¬1). وروى عن ابن عباس: {الطَّالِبُ}: الذباب، {وَالْمَطْلُوبُ}: الصنم (¬2). وذلك أن الذباب يطلب ما يسلب الصنم من طيب أو طعام والصنم المطلوب منه السلب. وقال الضحاك: يعني العابد والمعبود (¬3). وهذا معنى قول السدي: الطالب: الذي يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه (¬4) (¬5). 74 - قوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} قال ابن عباس (¬6)، ومقاتل (¬7)، والزجاج (¬8): ما عظموا الله حق عظمته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقال أبو عبيدة: ما عرفوا الله حق معرفته ولا وصفوه حق صفته (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 230. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 56 ب. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 56 أ. (¬4) (إليه): ساقطة من (ظ). (¬5) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 75. قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 182 - بعد ذكره للأقوال المتقدمة في معنى الطالب والمطلوب-: والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمُستلِب والمُستلَب. (¬6) ذكره ابن الجوزي 5/ 453، والقرطبي 12/ 98 من غير نسبة لأحد. (¬7) "تفسيرمقاتل" 2/ 28 ب. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 438. (¬9) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 54. وفيه: مبلغ صفته.

75

وهذا مما قد تقدم (¬1) فيه الكلام (¬2). ثم أعلم الله -بعد ذكره ضعف المعبودين- قوته فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} قال ابن عباس: على خلقه {عَزِيزٌ} في ملكه. وقال مقاتل: إن الله لقوي في أمره منيع في ملكه، والصنم لا قوة له ولا منعة (¬3). وقال الكلبي: نزلت هذه الآية في جماعة من يهود المدينة قالوا: فرغ الله من خلق السموات والأرض فأعيا فاستلقى فاستراح، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وكذب أعداء الله فنزل قوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (¬4). 75 - قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} قال ابن عباس والمفسرون: يريد إسرافيل وجبريل وميكائيل وملك الموت {وَمِنَ النَّاسِ} يريد النبيين (¬5). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (د)، (ع): (مما تقدم الكلام)، دون قد. (¬2) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 28 ب. (¬4) ذكره الرازي 23/ 69 عن الكلبي. وذكره الماوردي 4/ 40 وعزاه لابن عباس. وهذا القول في سبب نزول هذه الآية لا يصح قال الآلوسي 17/ 203: الظاهر أن قوله (ما قدروا) إلخ إخبار عن المشركين وذم لهم. وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 182: فمن جعل هذا -يعني الذي قال الله فيه ضعف الطالب والمطلوب- إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره. (¬5) انظر الطبري 17/ 204، والثعلبي 3/ 57 أ.

76

قال مقاتل (¬1) وغيره (¬2): إن الوليد بن المغيرة قال: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} (¬3) [ص: 8] فأنزل الله هذه الآية فأخبر بأن الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه فيجعلهم رسله وأنبياءه، ذلك كله بيد الله {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لمقالتهم {بَصِيرٌ} بمن يتخذه رسولاً (¬4). 76 - قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن عباس: يريد ما قدموا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} يريد ما خلفوا (¬5). وقال الحسن: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما عملوه {وَمَا خَلْفَهُمْ} وما (¬6) هم عاملون مما لم يعلموا بعد (¬7). وقال مقاتل: يعلم ما كان قبل خلق الملائكة ويعلم ما يكون بعد خلقهم (¬8). 77 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} قال المفسرون: أي: صلوا، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود (¬9). {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} قال مقاتل: يقول: وحّدوا ربكم (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 28 ب. (¬2) ذكره الطبري 17/ 204 وصدره بقوله: قيل. والثعلبي 3/ 57 أ، وصدره بقوله: ويقال. ولا يعتمد على هذا في سبب نزول هذه الآية. (¬3) في (أ): (أنزل). (¬4) الطبري 17/ 254، الثعلبي 3/ 57 أ. (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 401. (¬6) في (ظ): (مما)، وفي (ع): (ما). (¬7) ذكره عنه البغوي 5/ 401. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 28 ب. (¬9) الطبري 17/ 204. وانظر البغوي 5/ 401. (¬10) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ.

78

يعني: أن من أشرك بعبادته غيره لم (¬1) يوحده، وعبادته إنما تصح مع التوحيد فجاز أن يسمي التوحيد عبادة؛ لأنه أصل العبادة وأعظمها. وقال أبو إسحاق: أي: اقصدوا بركوعكم وسجودكم الله -عز وجل- وحده (¬2). {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} قال مقاتل: الخير الذي أمرتم به (¬3). كأنه بمعنى (¬4) الصلاة. وقال ابن عباس: يريد صلة الرحم ومكارم الأخلاق (¬5). وقال الزجاج: الخير كل ما أمر الله به {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال: لترجوا أن تكونوا على فلاح (¬6). وقال ابن عباس: يريد: كي تسعدوا وتبقوا في الجنة (¬7). وذكرنا قديمًا هذين المذهبين في {لَعَلَّكُمْ} أينما كان في القرآن (¬8). 78 - قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} قال ابن عباس -في رواية عطاء: بنية صادقة (¬9) - وعلى هذه حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله تعالى. ¬

_ (¬1) في (ظ): (ولم). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 439. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ. (¬4) في (ظ)، (د)، (ع): (يعني). (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 401، والزمخشري 3/ 23، وأبو حيان 6/ 391. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 439. (¬7) ذكره عنه البغوي 5/ 401، وذكره ابن الجوزي 5/ 454 من غير نسبة لأحد. (¬8) انظر: "البسيط" ظهر قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. (¬9) ذكر هذا القول البغوي 5/ 402، وعزاه لأكثر المفسرين.

وقال مقاتل بن حيان: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} يعني العمل أن تجتهدوا (¬1) فيه (¬2). وقال السدي: هو أن يطاع فلا يعصى (¬3). وقال مقاتل بن سليمان: يقول اعملوا لله بالخير حق عمله، نسختها الآية التي في التغابن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (¬4). ونحو هذا قال الضحاك (¬5) سواء. واختاره الزجاج (¬6). ¬

_ (¬1) في (ظ): (يجهدوا). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" 6/ 78. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" 6/ 78. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 57 أ، وذكر الطبري 17/ 205 هذا القول ثم قال: وهذا قول ذكره عن الضحاك عن بعض من في روايته نظر. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 439. والقول بنسخ هذه الآية لا دليل عليه، ولا تعارض بين هذه الآية وآية التغابن، ولهذا قال أبو عثمان النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 577: وهذا لا نسخ فيه. وقال مكي بن أبي طالب في "إيضاح ناسخ القرآن ومنسوخه" ص 310: والقول في هذا أنه محكم، ومعناه: جاهدوا في الله بقدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وقال ابن عطية 10/ 326: ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من أول الأمر، فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعًا ثابتًا فيقال إنه نُسِخ بالتخفيف، وإطلاقهم النسخ في هذا غير محدق. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 8: ولم يصب من قال إن الآيتين -يعني هذه الآيهَ وقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]- منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق، وحق تقاته وحق جهاده. هو ما يطيقه كل عيد في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل. فحق =

وروي عن ابن عباس: جاهدوا في سبيل الله أعداء الله باستفراغ الطاقة فيه (¬1). وروي عنه (¬2) أيضًا: {حَقَّ جِهَادِهِ} أي لا تخافوا (¬3) في الله لومة لائم (¬4). وقال عبد الله بن المبارك: حق الجهاد مجاهدة النفس والهوى (¬5). قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي: اختاركم واصطفاكم واستخلصكم لدينه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قالوا جميعًا: من ضيق (¬6). واختلفوا في وجه رفع الحرج. فروي عن ابن عباس أنه قال: جعل الله (¬7) الكفارات مخرجًا (¬8). يعني أن (¬9) من أذنب ذنبًا جعل له منه مخرجًا (¬10)، إما بالتوبة، أو بالقصاص، أو برد المظلمة، أو بنوع كفارة فلم يُبتل المؤمن بشيء من ¬

_ = التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء، وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} والحرج الضيق، بل جعله واسعًا يسع كل أحد. (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 57 أ. (¬2) في (ظ): (عن ابن عباس). (¬3) في (أ)، (ظ)، (د): (تخاف. والمثبت من (ع) هو الموافق لما عند الطبري والثعلبي. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 3/ 57 أ. ورواه الطبري 17/ 205. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 57 أ. (¬6) انظر: الطبري 17/ 206، "الدر المنثور" 6/ 79 - 80. (¬7) لفظ الجلالة زيادة من (أ). (¬8) سيأتي تخريجه. (¬9) (أن): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬10) في (د)، (ع): (مخرج).

الذنوب إلا جُعل له منه مخرج. وهذا رواية الزهري عنه (¬1). وروي عنه قول آخر، قال: هذا في هلال شهر رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الهلال، وفي الفطر (¬2) وأشباهه حتى يتيقنوا (¬3). وعلى هذا رفع الحرج يعود إلى أنا أمرنا بالأخذ باليقين عند الاشتباه. وروي عن أبي هريرة أنه قال لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج أن نسرق أو نزني؟ قال: بلى. قال (¬4): قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ¬

_ (¬1) روى الطبري في "تفسيره" 17/ 205 - 206 عن الزهري قال: سأل عبد الملك بن مروان علي بن عبد الله بن عباس عن هذه الآية {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فقال علي بن عبد الله: الحرج: الضيق، فجعل الله الكفارات مخرجًا من ذلك. سمعت ابن عباس يقول ذلك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 79 وعزاه لمحمد بن يحيى الذهلي في "الزهريات" وابن عساكر. وروى ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 78 - 79 من طريق ابن شهاب، أن ابن عباس كان يقول في قوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}: توسعة الإسلام، وما جعل الله من التوبة ومن الكفارات. (¬2) في (أ): (الفطرة). (¬3) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" ل 156 ب، والطبري 17/ 207 وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 6/ 79 من طريق عثمان بن يسار -وتصحف في المطبوع من الطبري والدر المنثور إلى: بشار، والصواب يسار كما في "التاريخ الكبير" للبخاري 6/ 173، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 6/ 257 - عن ابن عباس. وليس قوله (حتى يتيقنوا) في رواية أحد منهم، وإنما أدخلها الواحدي من كلام الثعلبي 3/ 57 ب، حيث ذكر الثعلبي هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬4) (قال): ساقطة من (ظ).

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}؟ قال: ذلك الإصر (¬1) الذي كان على بني إسرائيل، وضعه الله عنكم (¬2). وقال مقاتل بن حيان: يعني إباحة الرخص عند الضرورات، كالقصر في الصلاة، والتيمم، وأكل الميتة، والإفطار عند المرض والسفر (¬3). وهو قول الكلبي (¬4)، واختيار الزجاج (¬5). قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال أكثر النحويين (¬6): (ملة) منصوب على الأمر، معناه: اتبعوا ملة أبيكم. وقال المبرد: أي عليكم ملة أبيكم (¬7). ¬

_ (¬1) في (ج)، (د)، (ع): (الأمر). (¬2) رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 78 عن محمد قال: قال أبو هريرة لابن عباس، فذكره. (¬3) ذكره السيوطي عنه في "الدر المنثور" 6/ 80 بأطول من هذا، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) ذكره عنه البغوي 5/ 403. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 440. وما ذكر هنا من الأقوال داخل في معنى الآية، وكل ذكر مثلا على رفع الحرج. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1305 - بعد أن ذكر وجوهًا من رفع الحرج: ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 8 - 9: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} والحرج: الضيق، بل جعله واسعًا يسع كل أحد، .. ، وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما .. وقد وسع الله -سبحانه وتعالى- على عباده غاية التوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته .. ثم ذكر -رحمه الله- أمثلة لذلك. (¬6) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 106، "الإملاء" للعكبري 2/ 147، "البحر المحيط" 6/ 391، "الدر المصون" 8/ 309. (¬7) لم أجده.

وتأويل عليكم: اتبعوا واحفظوا. وهذا قول الأخفش (¬1)، والفراء (¬2)، والزجاج (¬3). قال الفراء: ويجوز أن يكون المعنى كملة أبيكم فإذا ألقيت (¬4) الكاف نصبت (¬5). وقال أبو إسحاق: وجائز أن يكون منصوبًا بقوله: (¬6) {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} فعل أبيكم إبراهيم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 638. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 231 وفيه: وقد تنصب (ملة إبراهيم) على الأمر بها. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 440. (¬4) في (أ): (الغيت). (¬5) عبارة الفراء في "معانيه" 2/ 231 هي: وقوله: (ملة أبيكم) نصبتها على: وسع عليكم كملة إبراهيم؛ لأن قوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يقول: وسعة وسمحه كملة إبراهيم، فإذا ألقيت الكاف نصبت. وقد تنصب (ملة إبراهيم) على الأمر بها؛ لأن أول الكلام أمر كأنه قال: اركعوا والزموا ملة إبراهيم. انتهى كلامه. فليس في عبارة الفراء: ويجوز، بل إنه ذكر هذا القول ثم ذكر قولا آخر وصدره بقوله: وقد -وهو القول الذي ذكر الواحدي أنه قول الفراء- فعكس الواحدي الأمر. والله أعلم. وهذا الوجه الذي ذكره الفراء استبعده مكي في "مشكل إعراب القرآن" 2/ 495، والأنباري في "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 179. (¬6) في (أ)، (ظ): (اعبدوا)، وهو هكذا في "معاني الزجاج". (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 30/ 440. ونحو هذا قال الزمخشري 3/ 24: كأنه قال: وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم. ثم حذف المضاف -يعني توسعة- وأقيم المضاف إليه -يعني ملة- مقامه. وعلى هذا القول انتصاب (ملة) على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف. واستظهر هذا الوجه السمين الحلبي 8/ 310. وقيل (ملة) منصوبة على الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم. =

وعلى هذا أقيم قوله (ملة) مقام المصدر، وذلك أن فعل إبراهيم هو ملته وشرعه (¬1). وقوله: {أَبِيكُمْ} إن حمل الكلام على تخصيص العرب (¬2) بالخطاب في هذه الآية، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، وإن حمل (¬3) على التعميم فهو أبو المسلمين كلهم؛ لأن حرمته على المسلمين كحرمة الوالد كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا لكم مثل الوالد" (¬4). وكقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. وهذا معنى قول الحسن (¬5). قال المفسرون: وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم، لأنها داخلة في ملة محمد عليهما (¬6) السلام (¬7). ¬

_ = وقيل: منصوبة بـ (جعلها) مقدرًا. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 106، "الإملاء" للعكبري 2/ 147، "البحر المحيط" 6/ 390، "الدر المصون" 8/ 309 - 310. (¬1) في (ظ): (شرعه). (¬2) (العرب): ساقطة من (أ). فأصبحت العبارة في (أ): (على تخصيص الخطاب). (¬3) في (أ): (عمل)، وهو خطأ. (¬4) هذا قطعة من حديث رواه الدارمي في "مسنده" 1/ 172، الإمام أحمد في "مسنده" 13/ 100، والنسائي في "سننه" كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستطابة بالروث 1/ 38، وابن ماجة في "سننه" كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاد بالحجارة والنهي عن الروث والرمة 1/ 3 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال العلامة أحمد شاكر في "قعليقه على المسند" 13/ 100: إسناده صحيح. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 57 ب. (¬6) عليهما السلام: في حاشية (أ) وعليها علامة التصحيح. وفي (ظ): (عليهم السلام)، وفي (د)، (ع): (صلى الله عليهما وسلم)، وأثبتنا ما في (أ) لأنه الموافق لما عند الثعلبي. فالنص منقول منه. (¬7) "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 57 ب.

وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال جماعة المفسرين وأهل المعاني: هو كناية عن الله تعالى (¬1). أي (¬2): الله تعالى سماكم المسلمين قبل إنزال القرآن في الكتب التي أنزلت قبله. وقال مقاتل بن حيان: {مِنْ قَبْلِ} وهو يعني [في أم الكتاب (¬3). {وَفِي هَذَا} قالوا (¬4): يعني القرآن. وقال ابن زيد: هو كناية عن إبراهيم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الطبري 17/ 207 - 208، الثعلبي 3/ 57 ب، ابن كثير 3/ 236 "الدر المنثور" 6/ 80 - 81، "معاني القرآن" للفراء 2/ 231، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 440. (¬2) في (ظ): (أن). (¬3) ذكره ابن الجوزي 5/ 457 ولم ينسبه لأحد. (¬4) قالوا: يعني جماعة المفسرين وأهل المعاني. وانظر فقرة (3). (¬5) ذكره الثعلبي 3/ 57 ب، ورواه الطبري 17/ 208، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 81 وعزاه لابن أبي حاتم. قال الطبري 17/ 208: ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك؛ لأنه معلوم أن إبراهيم لم يُسم أمة محمد مسلمين في القرآن؛ لأن القرآن أُنزل من بعده بدهر طويل، وقد قال الله تعالى ذكره {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن الله الذي لم يزل ولا يزال. أهـ. وقال الشنقيطي 5/ 750 وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم غير صواب، ثم ذكر الشنقيطي الأولى وهو مثل ما قال الطبري، وأشار إلى أن ابن جرير نبه عليها. ثم قال: القرينة الثانية. أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله لا إلى إبراهيم، فقوله (هو اجتباكم) أي الله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ} أي الله. أهـ. فظهر بذلك أن القول الأول هو الصحيح، وصوبه ابن كثير 3/ 236 وغيره.

يعني] (¬1) أن إبراهيم سماكم المسلمين من قبل هذا الوقت، وفي هذا الوقت وهو قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] (¬2). وذكر أبو إسحاق القولين، وقال في القول الثاني: أي حكم إبراهيم أن كل من آمن بمحمد موحدًا لله فقد سماه إبراهيم مسلمًا (¬3). قوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ} أي: اجتباكم وسماكم المسلمين ليكون محمد (¬4) عليه السلام {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} يوم القيامة بالتبليغ {وَتَكُونُوا} أنتم {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أن الرسول قد بلغهم. وهذا قول ابن عباس، وقتادة (¬5)، وجميع المفسرين (¬6). وقد سبق الكلام في هذا عند قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. الآية. وقوله {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} قال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يسخط ويكره (¬7). وقال الحسن: تمسكوا بدين الله (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين في حاشية (ظ)، وعليه علامة التصحيح. (¬2) الثعلبي 3/ 57 ب مع تصرف. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 440. (¬4) في (ظ)، (ع): (محمدًا)، وهو خطأ. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 42، والطبري 17/ 208. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 81 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬6) انظر: الطبري 17/ 208، الثعلبي 3/ 57 ب، "الدر المنثور" 6/ 81. (¬7) ذكره عنه البغوي 5/ 404، وابن الجوزي 5/ 457. (¬8) ذكره عنه الثعلبي 3/ 57 ب.

وقال مقاتل: وثقوا بالله (¬1). {هُوَ مَوْلَاكُمْ} قال ابن عباس: ناصركم (¬2). والمعنى: هو الذي يتولى أموركم. وذكرنا معنى المولى فيما تقدم (¬3). ثم مدح نفسه فقال: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} قال مقاتل: يقول: نعم المولى هو لكم، ونعم النصر هو لكم (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ. (¬2) انظر البغوي 5/ 404، وابن كثير 3/ 237. (¬3) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150]. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ. (¬5) هنا ينتهي الموجود من نسخة (د). وكتب في ختامها: انتهت. العاشر، ويتلوه في الحادية عشر سورة المؤمنون -عليهم السلام- وهو قوله -عز وجل- {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} قال الليث: (قد) حرف، وفي آخر الأصل: (والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم).

سورة المؤمنين

(23) سورة المؤمنين

تفسير سورة المؤمنين (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} قال الليث: (قد) حرف يُوجَبُ به الشيء (¬2)، كقولك: قد كان كذلك (¬3). والخبر (¬4) أن تقول: كان كذا، فأدخل (قد) توكيدًا لتصديق ذلك (¬5). وقال النحويون (¬6): قد تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة. قبل حال قيامها. وعلى هذا قول الشاعر: ¬

_ (¬1) في (ظ): (السورة التي يذكر فيها المؤمنون). (¬2) في (أ) زيادة: (الحال)، بعد قوله: (الشيء)، وليست في باقي النسخ ولا في "تهذيب اللغة" ولا "لسان العرب". فلعله انتقال نظر من الناسخ إلى السطر الذي بعده (¬3) في "تهذيب اللغة": قد كان كذا أو كذا. (¬4) هكذا في (د) و"لسان العرب"، وفي (أ) و"تهذيب اللغة": والخير. وفي (ظ): (والخبر). (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 267 (قد) عن الليث. والنص في "لسان العرب" 3/ 346 (قد) منسوبًا إلى "التهذيب". والنص في "العين" 5/ 16 (قد): (وأما قد فحرف يوجب الشيء، كقولك: قد كان كذا وكذا، والخبر أن تقول: كان كذا وكذا، فأدخل (قد) توكيدًا لتصديق ذلك. (¬6) انظر: "شرح المفصل" لابن يعيش 8/ 147 "ارتشاف الضرب" لأبي حيان 3/ 256، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 195، "الجنى الداني في حروف المعاني" للمرادي ص 255.

أمّ صَبي قَدْ حَبَا أو دَارِج (¬1). كأنه قال: حَاب أو دَارج. قال الفراء: الحال (¬2) في الفعل الماضي لا يكون إلا بإضمار (قد) أو بإظهارها، كقوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] لا يكون حصرت حالاً إلا بإضمار قد (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الشطر من الرجز نسبه البغدادي في "خزانة الأدب" 4/ 238 لراجز اسمه جندب من عمرو يعرض فيه بإمرأة الشماخ بن ضرار الشاعر المشهور، وكانت أم صبي، واسمها سُليْمى، فقال: طَيْفُ خَيَالٍ من سُلَيْمى هائجي إلى أن قال: ياليتني كلَّمت غير حَارجِ قبل الرَّواح ذاتَ لون باهجِ أم صَبي ... وقيل إن الرَّجز للشمَّاخ نفسه، وهو في "ديوانه" ص 363. وهذا الشطر بلا نسبة في: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 37، "سر صناعة الإعراب" لابن جني 2/ 641، "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 643 (درج)، أمالي ابن الشجري 2/ 167، "أوضح المسالك" لابن هشام 3/ 61. وحَاب: يقال حبا الصبي حَبْوًا: مشى على أسته وأشرف بصدره. وقال الجوهري: وحبا الصبي على أسته حبوّا: إذا زحف. "الصحاح" للجوهري 6/ 2307 (حبا)، "لسان العرب" 14/ 161 (حبا). ودارج: قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 643 (درج): (يقال للصبي إذا دب وأخذ في الحركة: درج يدرج درجانًا، فهو دارج. (¬2) (الحال): ساقطة من (ظ). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 1/ 24. وقوله: لا يكون حصرت حالا. ذكرها الواحدي بالمعنى وهي في المعاني: يريد -والله أعلم- جاءوكم قد حصرت صدورهم. =

و (قد) هاهنا يجوز أن تكون تأكيدًا لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريبًا للماضي من الحال، ويكون المعنى: أن الفلاح قد حصل لهم، وأنهم عليه في الحال. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد قد سعد المصدقون وبقوا في الجنة (¬1). وقال أبو إسحاق: أي قد نالوا البقاء الدائم (¬2). وروى (¬3) حميد، عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده، وقال لها (¬4): تكلمي. فقالت: قد أفلح المؤمنون" (¬5). ¬

_ = وقد وافق الفراء جمهور البصريين في هذه المسألة. وذهب الكوفيين إلى أن الفعل الماضي يجوز أن يقع حالاً من غير تقدير. وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين. وصحح أبو حيان قول الكوفيين معللا ذلك بكثرة وروده في "لسان العرب" كثرة توجب القياس وتمنع التأويل، لأن تأويل الكثير ضعيف جدًا. انظر: "الإنصاف" للأنباري 1/ 253 - 258، "شرح المفصل" لابن يعيش 2/ 66 - 67، "التبيين عن مذاهب النحويين" للعكبري ص 386 - 390، "البحر المحيط" لأبي حيان 3/ 317، 7/ 493، "ارتشاف الضرب" 2/ 370. (¬1) ذكره عنه البغوي 5/ 408، وروى الطستي في مسائله كما في "الدر المنثور" 6/ 83 عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فقال: فازوا وسعدوا. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 5. (¬3) من هنا يبدأ خرم في نسخة (ظ)، ومقداره صفحتان. (¬4) (لها): ساقطة من (أ). (¬5) أخرجه الحاكم في "مستدركه" 2/ 392، وابن عدي في "الكامل" 5/ 837، =

2

[وهذا كما يروى عن كعب أنه قال: إن الله غرس جنة عدن بيده، ثم قال للجنة: تكلمي. فقالت: قد أفلح المؤمنون] (¬1). لما علمت فيها (¬2) من كرامة الله لأهلها (¬3). 2 - وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال الزهري (¬4): هو سكون المرء في صلاته (¬5). وذكرنا أن معنى (¬6) الخشوع في اللغة: السكون (¬7). وعلى هذا المعنى يدور كلام المفسرين في تفسير الخاشعين في الصلاة. فقال السدي: متواضعون (¬8). وقال مجاهد وإبراهيم: ساكنون (¬9). ¬

_ = والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 403، والخطيب في "تاريخ بغداد" 10/ 118 كلهم من طريق علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس، به. قال الحاكم بعد إخراجه لهذا الحديث: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فتعقبه الذهبي بقوله: قلت: بل ضعيف. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬2) (فيها): ساقطة من (أ). (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 43، والطبري 1/ 18. (¬4) في (ع): (الأزهري)، وهو خطأ. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 43، والطبري 18/ 2، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 85 وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. (¬6) معنى): ساقطة من (ع). (¬7) انظر: (خشع) في "تهذيب اللغة" 1/ 152، "لسان العرب" 8/ 71، "القاموس المحيط" 3/ 18. (¬8) لم أجده عنه، وهذا تفسير مقاتل. انظر: "تفسيره" 29 أ، والثعلبي 3/ 58 أ. (¬9) رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 55، والطبري 18/ 2، عن مجاهد بلفظ: السكون فيها، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 85 بلفظ: الخشوع في =

وقال عمرو بن دينار: هو السكون وحسن الهيئة (¬1). وقال الحسن وقتادة: خائفون (¬2). وهذا معنى؛ لأن (¬3) من سكن في صلاته إنما هو لخوفه من الله. فالخوف معنى للخشوع وليس بتفسير له. وكذلك قول من فسره بغض البصر وخفض الجناح (¬4). كل ذلك يؤول إلى السكون، يدل عليه ما روي عن ابن عباس -في هذه الآية- قال: خشع (¬5) من خوف الله، فلا يعرف مَنْ على يمينه ولا مَنْ على يساره (¬6). وروي عن ابن سيرين قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى نظر في السماء، ¬

_ = الصلاة: السكوت فيها. وعزاه لابن المبارك وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. ورواه عن إبراهيم الطبري في "تفسيره" 18/ 2 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 84 بلفظ: ساكتون، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير. قال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 442: وقول مجاهد وإبراهيم في هذا حسن؛ وإذا سكن الإنسان تذلل ولم يطمح ببصره ولم يحرك يديه. (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 58 أ. (¬2) ذكره عنهما الثعلبي و"الكشف والبيان" 3/ 58 أ. ورواه عبد الرزاق 2/ 43، والطبري 14/ 3 عن الحسن. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 84 أن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر أخرجوا عن قتادة قال: الخشوع في القلب هو الخوف. ولم أر زيادة هو الخوف عند الطبري 18/ 3. (¬3) في (ع): (لا من. وبينهما بياض. (¬4) هذا تفسير الحسن البصري كما عزاه إليه الطبري 18/ 2، وتفسير مجاهد كما عزاه إليه الثعلبي 3/ 58 أ. (¬5) في (أ): (يخشع). (¬6) ذكره البغوي 5/ 408 بنحوه، وعزاه لسعيد بن جبير.

3

حتى نزلت هذه الآية، وكان بعد ذلك يضع (¬1) بصره حيث يسجد (¬2). 3 - قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} قال ابن عباس في رواية عطاء -وهو قول الضحاك: عن الشرك بالله (¬3). وقال الحسن: عن المعاصي (¬4). وروي عن ابن عباس: عن الحلف الكاذب (¬5). وقال مقاتل: الشتم والأذى إذا سمعوا من كفار مكة (¬6). وقال الزجاج (¬7) وغيره (¬8): هو كل باطل ولهو وهزل، ومعصية وما لا يحمد (¬9) في القول والفعل. ¬

_ (¬1) في (ز): (يغض)، وهو خطأ. (¬2) رواه أبو داود في كتابه "المراسيل" ص 41، وعبد الرزاق في "المصنف" 2/ 254، والبيهقي في "السنن الكبرى" 2/ 283 عن ابن سيرين بنحوه. قال الألباني في "إرواء الغليل" 2/ 71: ضعيف. (¬3) ذكره البغوي 5/ 409 من رواية عطاء عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي 5/ 460 من رواية أبي صالح عن ابن عباس. وذكره عن الضحاك النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 109، والقرطبي 12/ 15. (¬4) ذكره الثعلبي 3/ 58 ب، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 43، والطبري 18/ 3، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 87 وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر. قال النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 109: ومن أحسن ما قبل فيه قول الحسن .. ، فهذا قول جامع ... وبمثل قول النحاس قال القرطبي 12/ 15. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 58 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 6. (¬8) عند الثعلبي (جـ3 ل 58 ب): (غيرهم: ما لا يحمل في القول والفعل. (¬9) في (ع): (يحمل) مهملة. وعند الثعلبي: يجمل.

4

وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى بالإعراض عن اللغو شغلهم الجدُّ فيما أمرهم الله به عن اللغو. وهذا معنى قوله قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما شغلهم عن الباطل (¬1). وذكرنا الكلام في اللغو عند (¬2) قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]. 4 - قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} قال ابن عباس: يزكون أموالهم ابتغاء مرضات الله. وقال الكلبي: للصدقة الواجبة مُؤدون (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى {فَاعِلُونَ}: مؤتون (¬4). يعني أن الإيتاء فعلٌ، فعبر الله عنه (¬5) بلفظ الفعل كما قال أمية: المُطْعمُون الطَّعَام في السَّنَة ... الأزْمَة والفاعلون للزكوات (¬6) وحكى الأزهري عن بعضهم: والذين هم للعمل الصالح فاعلون. قال: وكذلك قوله: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (¬7) [الكهف: 81] أي: خير منه عملًا صالحًا (¬8). ¬

_ (¬1) رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 55، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 339 وفيهما: ما وقذهم عن الباطل. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 87 وعزاه لابن المبارك. (¬2) في (ع): (في). (¬3) ذكره البغوي 5/ 409 من غير نسبة لأحد. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 6. (¬5) في (ع): (فعبر عنه). (¬6) البيت في "ديوانه" ص 165، و"الكشاف" للزمخشري 3/ 26، و"الجامع" للقرطبي 12/ 105، و"البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 396. والسَّنَة الأزْمَة: الشديدة المجدة. انظر: "لسان العرب" 12/ 16 (أزم). (¬7) (أ)، (ع): (هو خير منه زكاة)، وهو خطأ. (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 320، (زكا)

5

5 - قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} قال الليث: الفرج اسم يجمع سوءات الرجال والنساء. فالقبلان (¬1) وما حواليهما كله فرج، وكذلك من الدواب (¬2). ومعنى الفرج في اللغة: الفرجة بين الشيئين (¬3). ولهذا سُمي ما بين قوائم الدابة الفروج. ومنه قول الشاعر (¬4): لها ذَنَبٌ مثلُ ذيل العروس ... تَسُدُّ به فرجها من دُبُر والمراد بالفروج هاهنا: فروج الرجال خاصة، لدلالة ما بعدهما عليهما. قال الكلبي: يعني يعفون عما لا يحل لهم. وقال الزجاج: يحفظون فروجهم عن المعاصي (¬5). 6 - قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} قال الفراء: معناه إلا من أزواجهم (¬6). وعلى هذا القول {عَلَى} بمعنى: من. وحروف الصفات متعاقبة (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ) زيادة: (هما) بعد قوله: (فالقبلان)، وليست في (ع) ولا في "تهذيب اللغة". (¬2) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 44 - 45 (فرج)، وهو في "العين" 6/ 109 (فرج). (¬3) انظر (فرج) في: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 44، "لسان العرب" 2/ 341. (¬4) في (ع): (ومنه قوله: وقائل هذا البيت هو: امرؤ القيس. وقد تقدم تخريج هذا البيت. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 6. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 231. (¬7) حروف الصفات: هي حروف الجر، أو حروف الإضافة كما يسميها البصريون. قال ابن يعيش في "المفصل" 8/ 7: (وقد يسميها الكوفيون حروف الصفات، لأنها تقع صفات لما قبلها من المنكرات) أهـ. وفي تعاقب حروف الصفات أو الجر مذهبان للنحويين: 1 - مذهب الكوفيين: أنها تتعاقب وينوب بعضها عن بعض. وهو الذي ذكره =

وقال الزجاج: دخلت {عَلَى} هاهنا لأن المعنى (¬1): أنهم يلامون (¬2) في إطلاق ما حُظر عليهم، إلا على أزواجهم فإنهم لا يلامون، والمعنى: أنهم يلامون على سوى أزواجهم وملك أيمانهم (¬3). وعلى هذا القول {عَلَى} من صلة اللوم المضمر، ودل عليه ذكر اللوم في آخر الآية (¬4). ¬

_ = الواحدي هنا. 2 - مذهب البصريين: أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض بقياس، وما أوهم ذلك فهو عندهم إما مؤول تأويلا يقبله اللفظ، وإما على تضمين فعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف، وإما على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى. انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 129 - 130، "همع الهوامع" للسيوطي 2/ 35. وانظر ما كتبه ابن جني في "الخصائص" 2/ 306 - 315، وابن القيم في "بدائع الفوائد" 2/ 20 - 22 حول هذا الموضوع فهو مفيد. (¬1) في (أ): (معنى). (¬2) في (ع): (لا يلامون). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 6. (¬4) وهذا الوجه الذي ذكره الزجاج وبينه الواحدي، ذكره الزمخشري في "الكشاف" 3/ 26 ضمن وجوه منها: أن (على) متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير (حافظون) والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي حافظون لفرجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم. من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلانة. ونظيره كان زياد على البصرة، أي: واليًا عليها. وقد اعترض أبو حيان 6/ 396 على هذه الوجوه وذكر أنها متكلفة، وقال: والأولى أن يكون من باب التضمين، ضمن (حافظون) معنى: ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى بـ (على) كقوله {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]. وانظر أيضًا: "الإملاء" للعكبري 2/ 146، "الدر المصون" 8/ 317 - 318، "روح المعاني" للألوسي 18/ 6.

7

قال مجاهد: يحفظ فرجه إلا من امرأته أو أمته، فإنه لا يلام على ذلك (¬1). وقال مقاتل: يعني (¬2) حلايلهم والولايد، فإنهم لا يلامون على الحلال (¬3). وقال أهل المعاني: هذه الآية مخصوصة بالحالة التي تصح (¬4) فيها وطء الزوجة والأمة، وهي أن لا تكون حائضًا ولا مُظاهرًا عنها، فلا تكون الأمة مزوجة ولا في عدة زوج. ولم يذكر (¬5) هذه الأحوال هاهنا للعلم بها (¬6) (¬7). وقيل: المعنى أنهم لا يلامون من جهة وطء زوجة أو ملك يمينه، وإن استحق اللوم من وجه آخر إذا كان وطؤه في إحدى هذه الحالات (¬8). 7 - قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي (¬9): طلب سوى الأزواج والولائد. ¬

_ (¬1) ذكره البغوي 5/ 410 من غير نسبة لأحد. (¬2) في (ع): (معنى). (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ. وفيه: الحلائل. (¬4) في (ع): (يصح). (¬5) في (ع): (تذكر). (¬6) ذكر هذا المعنى: الطوسي في "التبيان" 7/ 309، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 193 أ - ب، ولم ينسباه لأحد. (¬7) هنا ينتهي الخرم. في نسخة (ظ). (¬8) ذكر هذا المعنى: الطوسي في "التبيان" 7/ 309، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 193 أ - ب، ولم ينسباه لأحد. (¬9) في (ظ): (وإن).

و {وَرَاء} هاهنا (¬1) بمعنى: سوى. قاله ابن الأعرابي (¬2) وغيره (¬3)، كقوله (¬4): {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] وقد مر. [وعلى هذا الوراء مفعول الابتغاء. قال أبو إسحاق: فمن طلب ما بعد ذلك (¬5)] (¬6). وعلى هذا الوراء ظرف، ومفعول الابتغاء محذوف (¬7). وذكره مقاتل فقال: فمن ابتغى الفواحش بعد الأزواج والولائد (¬8). وذلك إشارة إلى الأزواج والإماء. وذكرنا قديمًا أن (ذلك) يجوز أن (¬9) يشار به إلى كل مذكور مؤنثًا كان أو مذكرًا (¬10). وقوله: {فَأُولَئِكَ} يعني المبتغين {هُمُ الْعَادُونَ} قال الزجاج: الجائرون الظالمون (¬11). وقال المبرد: المتجاوزون إلى ما ليس لهم. يعني: يتعدون الحلال إلى الحرام (¬12). فالأول من عدا أي: جار ¬

_ (¬1) في (أ): (هنا). (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 5/ 3051 من رواية أبي العباس ثعلب، عنه. (¬3) هو قول الطبري 18/ 4، والثعلبى 3/ 58 أ. (¬4) في (أ): (لقوله). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 7. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ظ). (¬7) انظر: "القرطبى" 12/ 107، "البحر المحيط" 6/ 397. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 29 أ - ب. (¬9) في (ع): (إلى). (¬10) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]. (¬11) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 7. (¬12) ذكر هذا المعنى: الطوسي في "التبيان" 7/ 309، والجشمي في "التهذيب" 6/ 193 أ - ب ولم ينسباه لأحد.

8

وظلم، والثاني من عدا، أي: جاوز (¬1). وهما يرجعان إلى أصل واحد؛ لأن الظالم مجاوز ما حُدَّ له. 8 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} فيه قولان: أحدهما: أنها (¬2) أمانات الناس التي ائتمنوا عليها. وهو قول ابن عباس (¬3). والثاني: أنها أمانات بين الله وبين عبده مما لا يطلع عليه إلا الله، كالوضوء والغسل من الجنابة والصيام وغير ذلك. وهو قول الكلبي (¬4). وأكثر المفسرين على القول الأول (¬5). وقرأ ابن كثير (لأمانتهم) واحدة (¬6)، ووجهه: أنه مصدر واسم جنس فيقع على الكثرة، وإن كان مفردًا في اللفظ، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: (عدا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 108 - 109، "الصحاح" للجوهري 6/ 2420 - 2421، "القاموس المحيط" للفيروزآبادي 4/ 260. (¬2) (أنها): ساقطة من (ع). (¬3) ذكره الثعلبي 3/ 58 ب من غير نسبة لأحد. (¬4) ذكر الجشمي في "تهذيبه" 6/ 193 هذا القول باختصار ولم ينسبه لأحد. (¬5) انظر: "الطبري" 18/ 5، والثعلبي 3/ 58 ب، وابن كثير 3/ 239. قال أبو حيان 6/ 397، والظاهر عموم الأمانات، فيدخل فيها ما ائتمن الله تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد، فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس ... قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. (¬6) وقرأ الباقون (لأماناتهم) جماعة. "السبعة" ص 444، "التبصرة" ص 269، "التيسير" ص 158. (¬7) في (أ): (وكذلك)، وهو خطأ.

[الأنعام:108] وجمع (¬1) في قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [المؤمنون: 63]. والأمانة تختلف ولها ضروب نحو: الأمانة التي بين الله وبين عبده كالصيام والصلاة والاغتسال، والأمانة التي بين العبيد في حقوقهم كالودائع والبضائع (¬2)، ونحو ذلك بما تكون اليد فيه [يد] (¬3) أمانة، واسم الجنس يقع عليها كلها (¬4). ووجه الجمع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] (¬5). وقد مر. والأمانة مصدر سُمِّي به المفعول. وقوله: {وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}. وقال الكلبي: يقول وحلفهم الذي يؤخذ ¬

_ (¬1) في (أ): (رجع)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (والصنائع)، والمثبت من (ظ)، (ع) هو الموافق لما في "الحجة"، وعند البغوي: الصنائع. (¬3) (يد): زيادة من "الوسيط" 3/ 284 يستقيم بها المعنى. (¬4) من قوله: (ووجهه ... إلى هنا) نقلا عن "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 287. وليس فيه: (واسم الجنس يقع عليها كلها). وذكر ابن خالويه وابن زنجلة أن وجه الإفراد أن الله قال بعد ذلك (وعهدهم) ولم يقل: وعهودهم. وقال مكي بن أبي طالب: فآثر التوحيد -يعني ابن كثير- لخفته، ولأنه يدل على ما يدل عليه الجمع، ويقوي التوحيد أن بعده (وعهدهم) وهو مصدر. "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 85، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 482 - 483، "الكشف" لمكي 2/ 125. (¬5) "الحجة" للفارسي 5/ 288. وانظر: "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 85، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 483. وقال مكي بن أبي طالب في "الكشف" 2/ 125: فأما من جمع فلأن المصدر إذا اختلفت أجناسه وأنواعه جمع، والأمانات التي تلزم الناس مراعاتها كثيرة، فجمع لكثرتها، ... وقد أجمعوا على الجمع في قوله {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58].

9

عليهم. وقيل: يعني العقود التي عاقدوا الناس عليها (¬1). ومعنى {رَاعُونَ} حافظون. قال أبو إسحاق: أصل الرعي (¬2) في اللغة: القيام على إصلاح ما يتولاه من كل شيء، تقول: الإمام يرعى رعيته، والقيّم بالغنم يرعى غنمه، وفلان يرعى ما بينه وبين فلان، أي: يقوم على إصلاحه (¬3). يقال: رَعَى يَرْعَى رَعْيا وَرعَاية (¬4). 9 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} وقرئ: صلاتهم (¬5). فمن أفرد فلأن الصلاة في الأصل مصدر كالعمل والأمانة (¬6)، ومن جمع فلأنه قد صار اسمًا شرعيًا لانضمام ما لم يكن في أجل اللغة أن ينضم إليها (¬7). قال إبراهيم: عني الصلوات المكتوبة (¬8). وقوله: {يُحَافِظُونَ} قال ابن عباس: يريد على مواقيتها (¬9). وهو قول ¬

_ (¬1) هذا قول الطبري 18/ 5، والثعلبي 3/ 58 ب. (¬2) مكان (الرعي) بياض في (ظ). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 6/ 7. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 162 (رعى)، "القاموس المحيط" 4/ 335. (¬5) قرأ حمزة، والكسائي: (صلاتهم) على التوحيد، وقرأ الباقون: (صلواتهم) بالألف على الجمع. "السبعة" ص 444، "التيسير" ص 158، "الإقناع" 2/ 708. (¬6) في (ظ): (والإعانة). (¬7) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 288. وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 483، "الكشف" لمكي 1/ 505 - 506. (¬8) رواه الطبري 18/ 5. (¬9) لم أجده عن ابن عباس، وهو مروي عن ابن مسعود. انظر: "الدر المنثور" 6/ 89.

10

الكلبي، ومقاتل (¬1)، ومسروق (¬2)، والجميع (¬3). قال أبو إسحاق: المحافظة على الصوات أن تُصلى في أول وقتها (¬4)، فأما (¬5) الترك فداخل في باب الخروج عن الدين (¬6). 10 - قوله: {أُولَئِكَ} يعني: المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة. {هُمُ الْوَارِثُونَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم يرثون منازل أهل النار من الجنة. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، قال: فدلك (¬7) قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} " (¬8). وهذا تفسير ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬2) رواه الطبري 18/ 5. (¬3) انظر: الطبري 18/ 5، و"الدر المنثور" 6/ 89. (¬4) عند الزجاج: في أوقاتها. (¬5) في (ظ): (وأما). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 7. (¬7) في (ع): (وكذلك). (¬8) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" 156 ب، وابن ماجه في "سننه" أبواب الزهد، صفة الجنة 2/ 458، والطبري 18/ 5 - 6، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 3/ 239. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 90 وعزاه لمن تقدم وزاد نسبته لابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "البعث". قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 3/ 327: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 3/ 442. وذكره الألباني في صحيح الجامع 2/ 1010 وقال: صحيح.

النبي -صلى الله عليه وسلم-. القول الثاني: أنهم يرثون بيوتهم ومنازلهم التي بنيت بأسمائهم في الجنة. وهو قول الكلبي ورثوا الجنة دون الكفار خلصت لهم بأعمالهم - واختيار أبي إسحاق (¬1). والمعنى: أنهم يؤول أمرهم إلى نعيم الجنة (¬2). قال المبرد: وأصل الميراث: العاقبة وإن لم يكن للأول منها شيء بسبب نسب، وإنما معناه الانتقال عن (¬3) هذا إلى هذا كما قال -عز وجل- {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا} [الأعراف: 137] الآية. وقد مر. فعلى (¬4) القول الأول: هم وارثون (¬5) ورثوا من (¬6) أهل النار منازلهم من الجنة. ويجوز أن يُسمى ميراثًا وإن لم يستحقوا ذلك بنسب. وعلى القول الثاني: صارت عاقبتهم الجنة. فهم وارثون ورثوا منازلهم التي بنيت لهم في الجنة. ¬

_ (¬1) قول الواحدي إن هذا اختيار أبي إسحاق محل نظر؛ لأن أبا إسحاق قال في كتابه "معاني القرآن" 4/ 6: "أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس" روى أن الله - جل ثناؤه جعل لكل امرئ بيتًا في الجنة وبيتًا في النار، فمن عمل عمل أهل النار ورث بيته من الجنة من عمل عمل أهل الجنة، ومن عمل عمل أهل الجنة ورث بيته من النار من عمل عمل أهل النار. والفردوس أهله .. فأبو إسحاق اقتصر على هذا القول ولم يحك غيره. (¬2) ذكر هذا المعنى الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 58 ب وعزاه لبعضهم. (¬3) في (ع): (من). (¬4) في (ظ): (زيادة (هذا)، بعد قوله (فعلى). (¬5) في (ع): (الوارثون). (¬6) (من): ساقطة من (أ)، (ظ).

11

11 - ثم ذكر ما يرثون فقال: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وهو البستان بلغة الروم (¬1). وقيل: بلغة الحبشة (¬2). ومضى الكلام في تفسير الفردوس في آخر سورة الكهف. قال ابن عباس: يريد خير الجنان. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يريد خلود (¬3) لا موت معه (¬4)، ولذة لا انقطاع لها، وملك لا زواله له، وشيء لا يعلمه إلا الله. 12 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} السلالة: فعالة من السل، وهو استخراج الشيء من الشيء. يقال: سللت الشعر من العجين فانسل، وسللت السيف من غمده فانسل. ومن هذا يقال للنطفة: سُلَالة، وللولد: سَلِيل (¬5) وسلالة (¬6). قالت ينت النعمان بن بشير (¬7) لزوجها روح بن زنباع (¬8): ¬

_ (¬1) هذا قول مجاهد وسعيد بن جبير. انظر: "الطبري" 16/ 36، و"الدر المنثور" 5/ 468، "المهذب للسيوطي" ص 120 - 121. (¬2) هذا قول عكرمة. ذكره عنه الثعلبي 3/ 58 به قال الفراء في "معاني القرآن" 2/ 231: وهو عربي أيضًا، العرب تُسمى البستان الفردوس. (¬3) في (ظ): (خلودًا، وملكًا). (¬4) في (ظ): (فيه). (¬5) في (ظ): (السليل). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 8، "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 292 (سل) فقد نسب فيه بعض ما ذكر هنا لأبي الهيثم والليث، "الصحاح" للجوهري 5/ 1731 (سلل)، "لسان العرب" 11/ 339 (سلل). (¬7) هي: هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري -رضي الله عنه- فصيحة، كانت تحت روح بن رنباع ثم تزوجها الحجاج، ثم عبد الملك بن مروان. ولها معهم أخبار. انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان 3/ 95، "أعلاء النساء" لكحالة 5/ 256 - 259. (¬8) هو: روح بن زنباع بن روح بن سلامة، الجذامي، أبو زرعة، أمير فلسطين وسيد =

12

وهل كنت إلا مُهرة عربية ... سَلِيلَة أفْراس تَحَلَّلَها بَغْلُ (¬1) وقال آخر (¬2): ¬

_ = قومه وقائدها وخيبها وشجاعها، وكان شبه الوزير لعبد الملك يستشيره في أمره. توفي سنة 84 هـ. "سير أعلام النبلاء" 4/ 251، "البداية والنهاية" 9/ 52، 54 - 55، "شذرات الذهب" 1/ 951، "الأعلام" للزركلي 3/ 34. (¬1) البيت في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 55 منسوبًا لبنت النعمان بن بشير الأنصارية، وفيه: سلالة، تَجللها: بالجيم. وهو منسوب لهند بنت النعمان في "أدب الكاتب" لابن قتيبة ص 35، وروايته فيه: وهل هذه إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجَلَّلها نَغْل و"اللآلى في شرح أمالي القالي" لأبي عبيد البكري ص 179، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي 6/ 115 وروايتها مثل ابن قتيبة لكن عند البكري: بغل، وفي المطبوع من العقد: بعل. و"نسب الأصبهاني في الأغاني" 9/ 229 هذا البيت لحميدة بنت النعمان تهجو زوجها روحًا. وروايته: وهل أنا .. تجللها بَغْل. والبيت من غير نسبة في الطبري 18/ 8، "اللسان" 11/ 339 (سلل). قال البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 49 عن رواية (بغل): (وأنكر كثير من أصحاب المعاني هذه الرواية، وقالوا: هي تصحيف؛ لأن البغل لا ينسل، والصواب: (نغل) بالنون، وهو الخسيس من الناس والدواب. أهـ. ونقل هذا أيضًا ابن منظور في "لسان العرب" 11/ 339 عن ابن بري. قال البطليوسي 3/ 50: (وهل هند إلا مهرة) مثل ضربته. وذلك أنها انصارية، وكان روح بن زنباع جذاميا، والأنصار أشرف من جذام، فقالت: إنما مثلي ومثل روح: مهرة عربية عتيقة علاها بغل. (¬2) ذكر محقق "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 55 أنه كتب في حاشية نسخة (س) من المجاز: وقال الشاعر - يعني بني علي بن أبي طالب: سوى أنهم ... البيت. وفي المجاز (ألقوا) في موضع (قالوا). ولم أهتد لقائل هذا البيت.

سوى أنهم للحق أهل وأنهم ... إذا نسبوا قالوا: سلالة أحمد واختلفوا في المعنى بالإنسان في هذه الآية: فقال ابن عباس -في رواية عطاء- يريد آدم (¬1). وهو قول قتادة (¬2)، ومقاتل (¬3)، واختيار الفراء (¬4). قال قتادة: استل (¬5) آدم من طين، وخلقت ذريته من ماء مهين. ونحو هذا قال الفراء: السلالة التي تسل من كل تربة (¬6). وكذا روي في خلق آدم -عليه السلام- أن طينه استل من الأرض طيبها وسبخها (¬7) وجميع أنواعها (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 462، والرازي 23/ 84، وأبو حيان 6/ 398. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 44، والطبري 18/ 7. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬4) يظهر أن الواحدي اعتمد في نسبة هذا القول إلى الفراء على الأزهري، فإن الأزهري في "تهذيب اللغة" 12/ 293 ذكر قول قتادة: استل آدم ... ، ثم قال: وإلى هذا ذهب الفراء. أما كتاب الفراء "معاني القرآن" 2/ 231 فليس فيه ذكر لشيء من ذلك، وإنما فيه: السلالة ... (¬5) في (ظ)، (ع): (أسل). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 231. (¬7) سبخها: السبخُ: المكان يسبخ فيبنت الملح، والسبخة - محركة ومسكنة: أرض ذات نَزٍّ وملح. انظر: "لسان العرب" 3/ 2224 (سبخ) "تاج العروس" 7/ 269 (سبخ). (¬8) روى أبو داود في "سننه" كتاب: السنة، باب: في القدر 12/ 455، والترمذي في "جامعه" كتاب: التفسير، سورة البقرة 8/ 290 وغيرهما عن أبي موسى الأشعري =

وقال الكلبي: السلالة: الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك، فذلك الذي يخرج هو السلالة (¬1). ونحو هذا قال مقاتل (¬2). وعلى هذا أريد بالسلالة ذلك الطين الذي يخرج من الأصابع عند العصر. والوجه قول قتادة والفراء (¬3). وروي عن ابن عباس ما يدل على أن المراد بالإنسان في هذه الآية: ابن آدم، لا آدم، وهو ما رواه أبو يحيى الأعرج (¬4) أنه قال: السلالة صفوة (¬5) الماء الرقيق الذي يكون منه الولد (¬6). وهذا قول مجاهد وعكرمة. ¬

_ = -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب". وصححه الألباني. انظر: "صحيح الجامع" 1/ 362. (¬1) ذكره عنه أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" 2/ 135، والقرطبي 12/ 109. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬3) قال ابن كثير 3/ 240 عن هذا الوجه: وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق، فإن آدم خلق من طين لازب. (¬4) هو: مصدع، أبو يحيى الأعرج، المعرقب. مولى عبد الله بن عمرو، ويقال مولى معاذ بن عفراء. روى عن علي وابن عباس وغيرهما. قال عمار الدهني: كان مصدع عالمًا بابن عباس. قال ابن المديني: وهو الذي مر به علي بن أبي طالب وهو يقص فقال له: تعرف الناسخ والمنسوخ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت. قال ابن حبان: كان يخالف الأثبات في الروايات وينفرد بالمناكير. وقال الذهبي في "الكاشف": صدوق. وقال في "المغني": تكلم فيه. وقال ابن حجر: مقبول. "الكاشف" للذهبي 2/ 47، "المغني في الضعفاء" للذهبي 2/ 659، "تهذيب التهذيب" 10/ 158، "تقريب التهذيب" 2/ 251. (¬5) في (أ): (صفو). (¬6) رواه الطبري 18/ 7 عنه من رواية أبي يحيى الأعرج: مقتصرًا على: صفوة الماء.=

13

قال مجاهد: {سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}: من مني (¬1) آدم (¬2). قال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر (¬3) سلًا (¬4). وعلى هذا القول أراد بالإنسان: ولد آدم. جعله اسمًا للجنس وهو اختيار الكلبي، لأنه قال في قوله: {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} (¬5) هو ابن آدم (¬6). وقوله: {مِنْ طِينٍ} أراد تولد السلالة من طين خلق آدم منه كما قال الكلبي: يقول من نطفة، سُلت تلك النطفة من طين والطين آدم (¬7). 13 - ويدل على أن المراد بالإنسان ابن آدم قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} يعني ابن آدم؛ لأن آدم لم يكن نطفة في رحم. وعلى القول الأول عادت الكناية إلى ابن آدم لا إلى الإنسان المذكور في الآية الأولى (¬8)، وجاز ذلك لأنه (¬9) لما ذكر (¬10) الإنسان - والمراد به ¬

_ = وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 91 بمثل السياق هنا، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬1) في (ع): (بني)، وهو خطأ. (¬2) رواه الطبري 18/ 7، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 91 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. (¬3) في (ظ): (الطين). (¬4) ذكره عنه البغوي 5/ 411. (¬5) في (ظ)، (ع): (خُلق)، وهو خطأ. (¬6) ذكره عنه أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" 2/ 135. (¬7) ذكره عنه البغوي 5/ 411. (¬8) في (أ): (الأول). (¬9) لأنه: ساقط من (ظ)، (ع). (¬10) في (ع): (ذكرنا).

14

آدم- دل (¬1) ذلك على إنسان مثله (¬2)، وعرف ذلك بفحوى الكلام فكُني عنه وهذا قول صاحب النظم. ومثل هذا في القرآن (¬3) قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} [المائدة: 101] فالكناية في (عنها) ليست (¬4) تعود على (أشياء) المذكورة في قوله: {عَنْ أَشْيَاءَ} ولكنها تعود على (¬5) أشياء أخر (¬6) سواها لا هي، وجاز ذلك لأن المذكورة دلت عليها من حيث اجتمعتا في اللفظ. وقد مر. وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} يعني مستقر، وموضع قرار، فسماه بالمصدر. قوله: {مَّكِينٍ} قال المفضل: مطمئن غير مضطرب (¬7). يقال: مكين: بين المكانة (¬8). قال ابن عباس والمفسرون في قوله: {مَّكِين}: يريد الرحم، مُكن فيه بأن هُيىء لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له (¬9). 14 - قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} مفسر في سورة الحج إلى قوله: ¬

_ (¬1) في (ظ): (ودل). (¬2) العبارة في (ظ): (على أن له إنسان مثله). (¬3) في (ع) زيادة: (كثير) بعد قوله (القرآن). (¬4) (ليست): ساقطة من (ع). (¬5) في (أ): (إلي). (¬6) (أُخَر): ساقطة من (أ). (¬7) لم أجده. (¬8) قوله: (يقال: مكين) إلى هنا في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 292 (مكان) منسوبًا لأبي زيد. (¬9) انظر: "الطبري" 18/ 9.

{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} (¬1). {عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} وقرئ كلاهما (عظمًا) على الواحد (¬2). قال الزجاج (¬3): التوحيد والجمع هاهنا جائزان؛ لأنه يعلم أن الإنسان ذو عظام، وإذا ذكر على التوحيد فلأنه يدل على الجمع، ولأن معه اللحم ولفظه لفظ الواحد فقد علم أن العظم يراد به العظام. قال: وقد (¬4) يجوز من التوحيد إذا (¬5) كان في الكلام دليل على الجمع ما هو أشد من هذا. قال الشاعر: في حلقكم عظم (¬6) وقد شجينا (¬7) يريد في حلوقكم عظام (¬8). وقال أبو علي: الجمع أشبه بما جاء في التنزيل في غير هذا الموضع كقوله (¬9) {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} [الإسراء: 49] {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" [لحج: 5]. (¬2) قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر بن عياش: (عظما فكسونا العظم) واحدًا ليس قبل الميم ألف بفتح العين وإسكان الظاء فيهمها. وقرأ الباقون: (عظاما فكسونا العظام) بالجمع فيهما، بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها. "السبعة" ص 444، "التبصرة" ص 269، "التيسير" ص 158، "النشر" 2/ 328. (¬3) قوله: (على الواحد قال الزجاج): (كررت مرتين في (ظ). (¬4) (قد): ساقطة من (ع). (¬5) في جميع النسخ: وإذا. والتصحيح من المعاني. (¬6) في (ع): (عظما). (¬7) تقدم تخريج هذا الشطر. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 8 - 9. (¬9) في (ظ): (في قوله).

[النازعات: 11] {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ} [يس: 78]. والإفراد لأنه اسم (¬1) جنس، فأفرد كما أفرد (¬2) المصادر (¬3) وغيرها من الأجناس نحو: الإنسان والدرهم والشاء والبعير (¬4). قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا} قال ابن عباس: يعني نفخ الروح فيه (¬5). وهو قول السدي، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، والربيع، وأبي العالية (¬6)، وابن زيد (¬7). واختيار القتيبي (¬8). وقال قتادة: هو نبات الشعر والأسنان (¬9). وهو قول الضحاك (¬10). ¬

_ (¬1) (اسم): ساقط من (ع). (¬2) في "الحجة": تفرد. (¬3) في (ع): (الهادر). (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 288 - 289. وانظر: "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 85 - 86، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 484، "الكشف" لمكي 2/ 126. (¬5) رواه الطبري 18/ 9، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 91 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬6) في (ظ): (وأبو العالية). (¬7) ذكره الثعلبي 3/ 58 ب عنهم سوى السدي والربيع. ورواه الطبري 18/ 10 عنهم سوى السدي. ذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 241 عن هؤلاء جميعاً. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 92 عن مجاهد وعكرمة وأبي العالية، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. (¬8) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 296. (¬9) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 44، والطبري 18/ 10 عنه دون قوله: الأسنان. وذكره بهذا اللفظ البغوي في "تفسره" 5/ 412. (¬10) رواه الطبري 18/ 10. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 92 وعزاه لعبد بن حميد.

وروي (¬1) عن ابن عمر أنه قال: هو استواء الشباب (¬2). وهو قوله مجاهد (¬3) في بعض الروايات (¬4) وحكى الزجاج قولاً آخر وهو: أن جُعل ذكرًا وأنثى (¬5). واختار صاحب النظم القول الأول، وقال (¬6): قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا} إلى قوله: {لَحْمًا} قصة واحدة، ثم قال {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ} فجاء به على نظم سوى اللفظ الأول الذي درج عليه ما قبله من قوله خلقنا وخلقنا، والإنشاء هو الابتداء، فدل هذا على أنه أراد به نفخ الروح؛ لأنه لا يحتمل أن يكون خلقًا آخر إلا بأن يزول عن كيفيته (¬7) الأولى وهي أنه كان لحمًا وعظمًا ¬

_ (¬1) في (أ): (يروى). (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 58 ب. (¬3) (مجاهد): ساقط من (ع). (¬4) ذكره الثعلبي 3/ 58 ب عنه من رواية ابن أبي نجيح وابن جريج. ورواه الطبري 18/ 10 - 11 عنه من الطريقين المتقدمين. وذكره عن مجاهد السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 92 وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 9. والقول الذي حكاه الزجاج مروي عن الحسن البصري. ذكره النحاس في "معاني القرآن" 4/ 449، والبغوي في "تفسيره " 5/ 412. قال ابن عطية في "المحرر" 10/ 336 - بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة- وغيرها: وهذا التخصيص كله لا وجه له، وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها آخر، وأول رتبة من كونه آخر هو نفخ الروح فيه، والطرف الآخر هو تحصيله المعقولات إلى أن يموت. وصحح القرطبي 12/ 110 ما ذكره ابن عطية. (¬6) في (ع) زيادة (في) بعد (وقال). (¬7) في (أ)، (ظ): (كيفية).

مواتًا، فلما حصل فيه الروح صار خلقًا آخر، حيوانًا بعد أن كان مواتًا. قال: وفي هذا دليل على أن الجنين إذا استوى عظمه ولحمه على العظم فقد صار إنسانًا تكون به الأمة أم ولد، والجنين ولدًا (¬1) إن شاء الله. قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أي استحق التعظيم والثناء بأنه (¬2) لم يزل ولا يزال. والكلام في هذا مما قد (¬3) سبق (¬4). قوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي: المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير. والعرب تقول: قدرت الأديم وخلقته، إذا قسِته (¬5) لتقطع منه مزادة أو قربة أو خُفًا (¬6) (¬7). وقال مجاهد: وتصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين (¬8). قال الليث: رجل خالق، أي: صانع. وهن الخالقات، للنساء (¬9). وقال مقاتل بن سليمان: يقول: هو أحسن خَلْقًا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها التي لا يتحرك منها شيء (¬10). ¬

_ (¬1) في (ع): (ولد)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (بالله)، وهو خطأ. (¬3) في (ظ)، (ع): (مما سبق). (¬4) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. (¬5) في "تهذيب اللغة": والعرب تقول: خلقت الأديم، إذا قدرته وقسته. (¬6) في (أ): (وخفا). (¬7) هذا كلام الأزهري في "تهذيب اللغة" 7/ 26 (خلق). (¬8) رواه الطبري 8/ 11. (¬9) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 27 (خلق). وفي "العين" 4/ 151 (خلق) والخالق: الصانع. وليس فيه وهن الخالقات للنساء. وإنما فيه. وامرأة خليقة: ذات جسم وخلق. (¬10) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب.

15

ومعنى يخلقون: يصنعون. 15 - قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} بعد (¬1) ما ذكرنا من تمام الخلق. قال مقاتل (¬2). {لَمَيِّتُونَ} (¬3) عند آجالكم. 17 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} قال المفسرون (¬4) وأهل اللغة (¬5) كلهم: يعني: سبع سموات، كل سماء طريقه. قيل: سميت طريقة لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض (¬6). قال الليث: السموات السبع والأرضون السبع طرائق بعضها فوق بعض (¬7). يقال: طارق الرجل نعليه، إذا أطبق نعلًا على نعل. وطارق الرجل بين ثوبين، إذا لبس ثوبًا على ثوب، وهو الطِّرَاق (¬8). وقال أبو عبيدة: كل شيء فوقه مثله، فهو طريقة (¬9). ¬

_ (¬1) (بعد): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬3) (لميتون) لم تكتب في (ع) في هذا الموضع. بل كتبت ضمن الآية التي قبلها. (¬4) انظر: الطبري 18/ 12، والثعلبي 3/ 60 أ. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري، "المستدرك" (ص 228 - 229)، "لسان العرب" 10/ 220 (طرق). (¬6) ذكره الثعلبي 3/ 60 ب وصدره بقوله: قيل. وهو قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 56، والطبري 18/ 12 وغيرهما. (¬7) "تهذيب اللغة" للأزهري "المستدرك" ص 228 - 229 (طرق) نقلاً عن الليث. وهو في "العين" 5/ 97 (طرق). (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري "المستدرك" ص 233 (طرق)، مع اختلاف يسير. (¬9) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 56 ولفظه: كل شيء فوق شيء، فهو طريقه.

وقال ابن قتيبة: إنما سميت طرائق؛ لأن بعضها فوق بعض، ويقال: ريش طراق (¬1). قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} قال مقاتل: يعني خلق السماء وغيره (¬2). وقال الزجاج: أي لم يكن ليغفل عن حفظهن. كما قال الله -عز وجل-: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] (¬3). وهذا معنى قول الفراء: عما خلقنا غافلين: يقول: كنا له حافظين (¬4). وهذا الذي ذكراه (¬5) هو ما قاله (¬6) المفسرون: وما كنا عن (¬7) خلقنا غافلين من أن تسقط السموات عليهم، بل أمسكنا السماء بقدرتنا لكيلا (¬8) تسقط على الخلق فتهلكهم (¬9). قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى: إنا لِحِفْظِنَا إياهم خلقنا السموات (¬10). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 296. وفيه: ريش طرائق. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 9. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 232. (¬5) في (ظ): (ذكرنا). (¬6) في (ظ): (قال). (¬7) في (أ): (عن. والمثبت من (ظ)، (ع) هو الموافق لما عند الثعلبي. (¬8) في (أ): (كيلا). (¬9) هذا كلام الطبري 18/ 12 والثعلبي 3/ 60 أ. وذكره الرازي 23/ 87 وعزاه لسفيان بن عيينة. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 9 وفيه: خلقنا هذا الخلق.

18

أي لم نغفل عن الخلق إذ (¬1) بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب، التي بها ينتفعون، وأنزلنا منها عليهم الماء. وكأن هذا أقوى الوجوه. وهو معنى قول الحسن، يعني: ننزل (¬2) عليهم ما يحييهم من المطر (¬3). 18 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بقدر يعلمه الله. وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة (¬4). قال ابن عباس: يريد النيل. وعلى هذا القول الماء المذكور في الآية مخصوص (¬5). وقال الكلبي: هو المطر. وعلى هذا معنى {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} يريد ما يبقى في الغُدران والمستنقعات والدُّحلان (¬6)، أقر الله الماء فيها لينتفع به الناس في الصيف وعند انقطاع الأمطار. وقال آخرون (¬7): هو العيون والينابيع التي يخرج الماء منها، وذلك ¬

_ (¬1) في (أ): (إلا)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (نزل). (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 60 أ. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬5) ولا وجه لهذا التخصيص، لعدم الدليل. (¬6) في (اْ): (الدجلان)، وفي (ع): (الدخلان)، والصواب ما في (ظ). وهو جمع دحل، والدحل والدُّحل: هوة تكون في الأرض وفي أسافل الأودية، فيها ضيق ثم تتسع. "الصحاح" 4/ 1695 (دحل)، "لسان العرب" 11/ 237 (دحل). والغُدْران: جمع غدير، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل. "الصحاح" 2/ 766 - 767 (غدر). (¬7) ذكره البغوي 5/ 413 وصدره بقول: قيل.

من ماء السماء أودعه الله الأرض. وهذا معنى قول مقاتل بن سليمان، فقد قال: يعني العيون (¬1). وقال أبو إسحاق: هو دجلة والفرات وسيحان وجيحان، فقد روي أن هذه الأنهار الأربعة من الجنة (¬2). ومعنى {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} (¬3) جعلناه ثابتًا فيها لا يزول (¬4). قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} قال ابن عباس: يريد أنه سيغيض ويذهب. يعني النيل. وعلى هذا كأن الله تعالى وعد أنه يذهب النيل حتى ينقطع (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬2) روى مسلم في صحيحه كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة 4/ 2183 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سيحان وجيحان والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة". وروى النحاس في "معاني القرآن" 4/ 450، وابن عدي في "الكامل" 6/ 2316، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 1/ 57، والواحدي في "الوسيط" 3/ 286 كلهم من طريق مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض ... فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} .. " الحديث. وهذا الحديث قال عنه ابن عدي بعد روايته أنه منكر المتن. وضعف إسناده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 95. (¬3) في (أ): (أسكناه)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 10. (¬5) لا دليل على هذا من كتاب أو سنة صحيحة.

20

وعلى (¬1) قول الكلبي معناه: وإنا لقادرون على أن لا ننزل عليكم المطر، حتى تهلكوا وتهلك حروثكم وأنعامكم. وقال مقاتل: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فتغور العيون في الأرض فلا يقدر عليه (¬2). 20 - قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ} عطف على (جنات) في قوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} (¬3). وأجمع المفسرون كلهم على أن هذه شجرة الزيتون (¬4). وخصت هذه الشجرة بالذكر؛ لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي ولا يراعيها (¬5) أحد من العباد. وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدهن الذي (¬6) تعظم به الفائدة وتكثر (¬7) المنفعة، فذكرت للنعمة (¬8) فيها والمن بها (¬9). قوله: {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} مضى الكلام في الطور (¬10). واختلفوا في {سَيْنَاءَ} فقال ابن عباس - في رواية عطاء: يريد الجبل الحسن (¬11). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (وعلى هذا قول ...) بزيادة (هذا). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 112، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري 2/ 181. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 13، الثعلبي 3/ 60 أ، "الدر المنثور" 6/ 95. (¬5) في (أ): (ولا يرا عليها). (¬6) في (ظ): (الذي يطعم وتعظم به الفائدة). (¬7) في (ظ): (وتذكر). (¬8) في (ظ): (النعمة). (¬9) ذكر مثل هذا الطوسي في "التبيان" 7/ 316، ولم يعزه لأحد. (¬10) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {ورفعنا فوقكم} [البقرة: 63]. (¬11) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 466 من رواية أبي صالح، وذكره عن عطاء.

[وهو قول قتادة (¬1). وقال الضحاك: وهو بالنبطية (¬2) (¬3). وقال عكرمة: بالحبشية (¬4) وقال مقاتل: كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء، يعني: الحسن] (¬5) (¬6). وقال الكلبي: {طُورِ سَيْنَاءَ}: الجبل المشتجر (¬7). وقيل: معنى {سَيْنَاءَ} البركة، كأنه قيل: جبل البركة. وهذا قول ابن عباس في رواية عطية (¬8). وقال مجاهد: {سَيْنَاءَ} حجارة (¬9). يعني أن سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. والأصح في هذا أن يقال: {سَيْنَاءَ} اسم ذلك المكان الذي به هذا ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق 2/ 45، والطبري 18/ 13، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 95، وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) في (أ): (بالقبطية)، وهو خطأ. (¬3) رواه الطبري 18/ 13، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 95 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬4) رواه عنه الطبري 30/ 240 عند قوله {طُورِ سَيْنَاءَ} [التين: 2]. وذكره عنه السيوطي في كتابه: "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" ص 102 من رواية ابن جرير وابن أبي حاتم. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 45 بلفظ: ذو شجر. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 96 وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر. (¬8) ذكره الثعلبي 3/ 60 أمن رواية عطية. ورواه الطبري 18/ 3. (¬9) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 96 وعزاه لعبد بن حميد. وذكره عنه البغوي 5/ 414، وابن الجوزي 5/ 466.

الجبل؛ لأن سيناء لا تعرف في العربية (¬1). وهذا قول ابن زيد. قال: هو الجبل الذي نودي منه موسى -عليه السلام- وهو بين مصر وأيلة (¬2). ونحو هذا روى الضحاك عن ابن عباس (¬3). واختار (¬4) الزجاج أنه اسم المكان (¬5). وخُص هذا الجبل بنبات الزيتون فيه، لأن أول ما نبت الزيتون نبت هناك. قاله مقاتل (¬6). واختلف القراء في قوله (¬7) {سَيْنَاءَ} فقرئ بفتح السين وكسرها (¬8) (¬9). قال أبو إسحاق: من قال (سَيْنَاء)، فهو على وزن صحراء، لا ينصرف، ومن قال (¬10) بكسر السين فليس في الكلام فعلاء نحو: ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 18/ 14. (¬2) ذكره عنه بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 60 أ. ورواه الطبري 18/ 14 بنحوه. وأيلة: بلدة على ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام. انظر: "معجم البلدان" 1/ 391، "مراصد الاطلاع" 1/ 138. (¬3) روى الطبري 18/ 14 نحوه عن ابن عباس من رواية عطاء الخراساني. (¬4) (واختار): ساقطة من (ع). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 10. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 29 ب. وما ذكره يحتاج إلى دليل. فالله أعلم. (¬7) (قوله): زيادة من (أ). (¬8) في (أ)، (ع): (وكسره). (¬9) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: (سيناء) مكسورة السين. وقرأ الباقون بفتحها. "السبعة" ص 444 - 445، "التبصرة" ص 269، "التيسير" ص 158. (¬10) في (ظ): (قرأ).

عِلباء (¬1)، غير منصرف، إلا أن سيناء هاهنا اسم للبقعة ولا (¬2) ينصرف (¬3). وشرح أبو علي هذا الفصل فقال: من فتح السين لم ينصرف الاسم (¬4) عنده في المعرفة ولا النكرة؛ لأن الهمزة في هذا البناء لا تكون إلا للتأنيث ولا تكون للإلحاق، ألا ترى أن فَعْلَالَا (¬5) لا يكون إلا في المضاعف نحو: الزَّلزال، والقَلْقَال (¬6)، وإذا اختص هذا البناء هذا الضرب (¬7) لم يجز أن يُلحق به شيء. وأمَّا من كسر السين فالهمزة فيه منقلبة عن الياء (¬8) كعِلباء وحِرباء، وهي الياء (¬9) التي ظهرت في نحو: درحاية (¬10) لما بنيت على التأنيث، ¬

_ (¬1) في (أ، ع): (علياء)، وفي (ظ): (علياء) مهملة. وعلباء: عصب العنق، واسم رجل. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 406، "الصحاح" للجوهري 1/ 188 (علب). (¬2) في (ع): (لا ينصرف). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 10 مع حذف واختصار. (¬4) في (ع): (والاسم). (¬5) في (أ، ع): (فعلال)، وهو خطأ. (¬6) القلقال: يقال: قلقل الشيء قَلْقَله وقِلْقَالا وقَلْقَالا وقُلقَالا، أي حرَّكه فتحرك فاضطرب فإذا كسرته فهو مصدر، وإذا فتحته فهو اسم مثل الزلزال والزُّلزال، والاسم: القُلقال والقَلْقال. ورجل قلقال: صاحب أسفار. "لسان العرب" 11/ 566 (قلل). (¬7) في "الحجة": اختص البناء هذا الضرب. (¬8) في (أ): (التاء) وفي (ظ): (مهملة). (¬9) في (ع): (جرباء)، وهو خطأ. (¬10) في (أ): (درجاف)، وفي (ع): (درجايه)، وفي (ظ): مهملة. والتصويب من "الحجة". و (درحَايه): (في "تهذيب اللغة" 4/ 416: قال أبو عبيد: إذا كان مع القصر سمن فهو درحاية.

وإنما لم ينصرف على (¬1) هذا القول وإن (¬2) كان غير مؤنث؛ لأنه جعل اسم بقعة أو أرض، فصار بمنزلة امرأة سميت بجعفر (¬3). قوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} وقرئ: تُنبت (¬4). قال الزجاج: يقال: نبت الشجر وأنبت في معنى واحد، قال زهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينًا لهم حتى إذا أنبت البَقْل (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (وعلى)، والتصويب من "الحجة". (¬2) في (أ): (فإن). (¬3) "الحجة" للفارسي 5/ 289 - 290. وانظر: "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 127، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 326 - 328. (¬4) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (تُنْبُتُ) بضم التاء وكسر الباء، وقرأ الباقون: (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الباء. "السبعة" ص 445، "التبصرة" ص 269، "التيسير" ص 159. (¬5) هذا البيت أنشده الزجاج لزهير في "معاني القرآن" 4/ 10. وهو في "ديوان زهير" ص 41 من قصيدة يمدح بها سنان بن أبي حارثة المُري، وفيه: (بها) مكان (لهم)، و (نبت) مكان (أنبت). و"المعاني الكبير" لابن قتيبة 1/ 539، "جمهرة اللغة" لابن دريد ص 257، 1262، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 102، "لسان العرب" 2/ 96 (نبت)، و"خزانة الأدب" 1/ 50. وقبل هذا البيت: إذا السَّنة الشَّهْباء بالناس أجحفت ... ونال كِرامَ المال في السَّنةِ الأُكْلُ رأيت ... قال الشنتمري في "شرحه لديوان زهير" ص 41: (قوله: (رأيت ذوي الحاجات يعني الفقراء والمحتاجين. والقطين: أهل الرجل وحشمه، والقطين أيضًا: الساكن في الدار النازل فيها، وأراد هنا الساكن. يعني أن الفقراء يلزمون بيوت هؤلاء القوم يعيشون من أموالهم حتى يَخصِب الناس وينبت البقل). وانظر "شرح ثعلب لديوان زهير" ص 920، و"شرح شواهد المغني" 1/ 315. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 10.

قال (¬1) أبو علي: قد قالوا أنبت في معنى: نبت، وكأن الهمزة في أنبت مرة للتعدي ومرة لغيره، يكون من باب: أحال وأجرب وأقطف، أي: صار ذا حيال وجرب، والأصمعي ينكر أنبت، ويزعم أن قصيدة زهير التي فيها: [حتى إذا] (¬2) أنبت البقل، متهمة. وإذا (¬3) جاء الشيء مجيئًا كان للقياس فيه مسلك وروته الرواة لم يكن بعد ذلك موضع مطعن (¬4). وأما وجه القراءة (¬5)، فمن قرأ {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} احتمل وجهين: أحدهما: أن يجعل الجار زائدًا، يريد: تنبت الدهن (¬6). ولحقت الباء كما لحقت في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] أي: لا تلقوا أيديكم، يدلك على ذلك قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 8] (¬7) (¬8). وقد زيدت هذه الباء مع الفاعل كما زيدت مع المفعول، وزيادتها مع ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (وقال). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬3) في (ع): (إذا). (¬4) "الحجة" 5/ 292. (¬5) في (ظ): (القراء). (¬6) في (أ): (بالدهن)، وهو خطأ. (¬7) قوله [أن تميد بكم] ساقط من (ظ)، (ع). (¬8) وعلى هذا الوجه تكون حجة من ضم التاء من قوله (تُنبت) أنه جعله رُباعيًا من: أنبت ينبت، وتكون الباء في (بالدهن) زائدة، لأن الفعل يتعدى إذا كان رباعيًا بغير حرف، كأنه قال: تنبت الدهن، لكن دلت بالباء على ملازمة الإنبات للدهن، كما قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فأتى بالباء، و (اقرأ) يتعدى بغير حرف لكن دلت الباء على الأمر بملازمة القراءة. أهـ من "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 127.

المفعول به أكثر، وذلك نحو قوله (¬1): ألم يأتيك والأنْبَاء تَنْميِ ... بما لاقَتْ لَبُون بني زياد وقد زيدت مع هذه (¬2) الكلمة بعينها قال: ¬

_ (¬1) هذا البيت أول أبيات لقيس بن زهير بن جُذيمة بن رواحة القيسي، وكان سيد قومه، ونشأت بينه وبين الربيع بن زياد القيسي شحناء في شأن درع ساومه فيها، ولما نظر الربيع إلى الدرع وهي على ظهر فرس قيس أخذها ثم ركض بها فلم يردها عليه، ثم إن قيسًا طرد إبلا للربيع، وقيل إبله وإبل إخوته، فقدم بها مكة، فباعها من عبد الله بن جدعان التيمي، معاوضة بأدراع وأسياف، وفي هذا يقول قيس: ألم يأتيك ............ وبعده: ومَحْبَسُها على القُرشي تُشُرى ... بأدْراع وأسياف حداد انظر: "خزانة الأدب" 8/ 365 - 369. والبيت في "ديوانه" ص 29 وروايته فيه: ألم يبلغك: "معاني القرآن" للفراء 2/ 223، "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 340، "المقاصد النحوية" للعيني 1/ 230، "لسان العرب" 14/ 14 (أتى)، "شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 328، 2/ 808. "خزانة الأدب" 8/ 361. وهو غير منسوب في "الكتاب" 1/ 316، "الخصائص" لابن جني 1/ 336، "سر صناعة الإعراب" 1/ 87، 2/ 631. قال البغدادي في "الخزانة" 8/ 364: و"الأنباء": جمع نبأ وهو خبرٌ له شأن. و (اللبون): (قال أبو زيد: هي من الشاء، والإبل ذات اللبن .. وقيل: اللبون: الإبل ذوات اللبن. وبنو زيادهم: الربيع، وعمارة، وقيس، وأنس، بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي، والمراد لبون الربيع بن زياد فإن القصة معه. وانظر: "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 340 - 343. (¬2) في (ع): (بهذه).

بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ (¬1) صَدْرُه (¬2) ... وأسفله بالمرخ والشِّمبُهان (¬3) أي: المرخ (¬4). ويجوز أن يكون الباء متعلقًا بغير هذا الفعل الظاهر، ويقدر (¬5) مفعولاً ¬

_ (¬1) في (أ): (الشت)، وفي (ظ)، (ع): (الشب)، والتصويب من "الحجة". (¬2) في "الحجة": حوله. (¬3) البيت أنشده أبو علي في "الحجة" 5/ 291 من غير نسبة، وعنده: (حوله) مكان (صدره). ونسبه الأصفهاني في "الأغاني" 19/ 112 ليعلى الأحوال اليشكري من قصيد قالها في سِجنه لما سجنه عبد الملك بن مروان وروايته: (السدر). وليعلى نسبهُ ابن السيد البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 341، والبغدادي في "الخزانة" 5/ 276 ضمن قصيدة له. ثم ذكر 5/ 278 أنه يقال: إنها لعمرو بن عمارة الأزدي من بني خنيس، ويقال: إنها لجواس بن حيان من أزد عمان. ونسبه ابن منظور في "لسان العرب" 13/ 506 (شبه) لرجل من عبد القيس، ثم قال -بعد روايته للبيت: قال ابن بري: قال أبو عبيدة: البيت للأحول اليشكري واسمه يعلى. وهو من غير نبسة في: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 48، " أدب الكاتب" لابن قتيبة ص 416، "معاني القرآن" للأخفش 2/ 626، الطبري 16/ 72 وعندهما- الأخفش والطبري: (السدر) مكان (الشث)، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 421، وتصحف (الشث) في المطبوع إلى: البث. قال البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 393 - 394: الشثُّ: شجر طيب الريح مر الطعم فيما ذكر الخليل، وقال أبو حنيفة: أخبرني بعض الأعراب قال: الشَّث: مثل شجر التفاح الصغار. والمرخ: شجر خوار خفيف العيدان ليس له ورق ولا شوك، تصنع منه الزناد، وهو من أكثر الشجر نارا. والشبهان: شجر يشبه السمر. كثير الشوك وهو من العضاة. وقال الخليل: الشبهان: الثمام. أهـ. والشبهان: ضبطه البغدادي 5/ 276 بفتح الشين المعجمة وضم الموحدة وفتحها. (¬4) في "الحجة": حمله على: ويُنْبِتُ أسْفَلهُ المرخَ. (¬5) في (ظ): (ونقدر).

محذوفًا تقديره: وينبت جناها أو ثمرها وفيها دهن وصبغ (¬1). قال أبو الفتح الموصلي في شرح هذا الوجه الثاني: ذهب كثير من الناس إلى أن الباء في قوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} زائدة، وأن تقديره: تنبت الدهن. وهذا عند حذاق أصحابنا على غير وجه الزيادة، وتأويله عندهم: تنُبْت ما تنبته والدهن فيه، كما تقول: خرج زيد بثيابه، أي: وثيابه عليه، وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه، كما أنشده الأصمعي (¬2): وَمُسْتَنّةٍ كاسْتِنان الخَرُو ... ف قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالمِرْوَدِ أي: قطع الحبل ومروده فيه (¬3). وأنشد أبو علي في هذا الوجه فقال (¬4): ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 291 - 292 مع تقديم وتأخير. وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 485، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 127. (¬2) إنشاد الأصمعي لهذا البيت في "سر صناعة الإعراب" لابن جني 1/ 134، وفي "المحتسب" 2/ 88 لابن جني أيضًا ولم يذكر قائله. وقد ذكر الجوهري في "الصحاح" 4/ 1348 (خرف) أن الأصمعي أنشده في كتاب (الفرس) ونسبه لرجل من بني الحارث. وكذا قال ابن منظور في "لسان العرب" 9/ 66 (خرف). والبيت بلا نسبة في: "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 350 (خرف)، "المخصص" لابن سيده 6/ 137. قال ابن منظور 9/ 66 - 67: وقوله: (مستنة): (يعني طعنة فار دَمُها باستنان، والاستنانُ والسنُّ: المَرُّ على وجهه، يريد أن دمها مر على وجهه كما يَمْضي المُهْر .. والمِرْودَ: حديدة توتد في الأرض يُشَدّ فيها حَبْل الدَّابة. قال الجوهري 4/ 1348: والخروف: الحَمَلُ، وربَّما سُمِّي المُهْرُ إذا بلغ ستَّة أشهر أو سبعة أشهر خروفا، حكاه الأصمعي. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 134 (¬4) (فقال): ليست في (ظ)، (ع).

يَعْثُرْنَ في حَدِّ الظُّبَاتِ (¬1) كَأنَّما ... كُسِيَتْ بُرُودَ بني يَزِيدَ الأذْرُعُ (¬2) أراد يعثرن مطعونات، فالجار (¬3) والمجرور في موضع الحال، ويكون الوجه في الآية على أن المفعول محذوف والباء للحال، والتقدير: تنبت ثمرة بالدهن (¬4)، [فحذف المفعول، و (بالدهن) في موضع الحال كأنه نبت وفيه دهن] (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): (الظهات، وفي (ع): (الطهات)، ومثلها في (ظ) مهملة. والتصويب من "سر صناعة الإعراب" وغيره من مصادر تخريج الخبر. (¬2) البيت في "سر صناعة الإعراب" 1/ 134، و"المحتسب" 2/ 88 من غير ذكر لإنشاد أبي علي، بل نسب البيت للهذلي. وهو منسوب لأبي ذؤيب الهذلي في "ديوان الهذليين" 1/ 10، "المفضليات" ص 425 وفيها: (تزيد) مكان (يزيد)، "اللسان" 2/ 95 (نبت) وفيه (تزيد)، "خزانة الأدب" (ب 1/ 274) وهو من قصيدة له مشهورة أولها: أمن المنون وريبها ..... تتوجع. وهو في هذا البيت يصف حُمَر وحش أصابتها السهام، فقوله (في حد الظبات) الظُّبات: جمع (ظبة) وهو طرف النصل من أسفل، وبنو يزيد: قوم كانوا تجارًا بمكة نسبت إليهم هذه البرود، وهي برود حمر، فشبه طرائق الدم على أذرع تلك الحُمر بطرائق تلك البرود الحمر. انظر: "شرح ديوان الهذليين" للسكري 1/ 25 - 26، "شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف" لأبي أحمد العسكري ص 446، وفيه الكلام على رواية (يزيد)، و (تزيد). وتصويب ابن دريد تصويب رواية (يزيد) وتخطئة (تزيد)، "خزانة الأدب" للبغدادي 1/ 274 - 277. (¬3) في (ظ): (والجار). (¬4) في (ع): (والدهن). (¬5) ساقط من (ع). (¬6) لم أقف على قول أبي علي وإنشاده.

وذكر أبو علي (¬1) وجهين آخرين (¬2): أحدهما: أن الآية من باب حذف المضاف، فيكون (¬3) معنى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي: بذي الدهن أي: تنبت ما فيه دهن. والوجه الثاني: أن يكون أنبت بمعنى نبت، وتكون الباء للتعدي (¬4). كما أنها لو كانت في (¬5) نبت فكان كذلك (¬6). ومن قرأ {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} جاز (¬7) أن يكون الجار فيه للتعدي أنبته ونبت به (¬8)، ويجوز أن يكون الباء في موضح حال كما كان في القراءة الأولى، ولا تكون للتعدي ولكن: تنبت وفيها دهن (¬9) (¬10). ¬

_ (¬1) (أبو علي) ساقط من (ظ)، (ع). (¬2) ذكر أبو علي هذين الوجهين في "الحجة" 5/ 55 عند قوله تعالى: {ينبت} [النحل: 11]. (¬3) في (ظ)، (ع): (ويكون). (¬4) في "الحجة": وإذا ثبت (أنبت) في معنى: نبت، جاز أن تكون الباء للتعدي. وأبو علي يشير بهذا إلى إنكار الأصمعي لهذا كما تقدم. (¬5) في "الحجة": مع. (¬6) وعلى هذا الوجه تكون القراءتان على هذه اللغة بمعنى واحد. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 433 - 434، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 127. (¬7) في (ع): (أجاز). (¬8) به ساقطة من (أ). وفي (ظ): (ونبته)، والمثبت من (ع) وهو الموافق لما في "الحجة". (¬9) في (ع): (ودهن). (¬10) من قوله: ومن قرأ .. إلى هنا نقلا عن "الحجة" لأبي علي 5/ 292. وفي الباء في قوله (بالدهن) وجه آخر ذكره ابن كثير 3/ 243 وهو أنها دخلت لأن فعل (ينبت) مضمن لمعنى فعل آخر، قال: وأما على قول من يضمن الفعل، فتقديره: تخرج بالدهن، أو: تأتي بالدهن، ولهذا قال: (وصبغ) أي أدم. قاله قتادة (للآكلين) أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ.

21

قوله: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} وصبغ للآكلين) قال الليث: الصبغ والصباغ: ما يصطبغ به من الأدم (¬1). وقال غيره: الأصل (¬2) في الصبغ (¬3) والصباغ: هو ما يلون (¬4) به الثياب، فشبه به ما يصطبغ به. وذلك أن الخبز (¬5) يُلون بالصبغ إذا غمر فيه، والاصطباغ بالزيت الغَمْس فيه للائتدام به (¬6). والمراد بالصبغ: الزيت. في قول ابن عباس. فإنه يُدَّهن به ويؤتدم (¬7). وهو اختيار الفراء (¬8). جعل الصبغ الزيت. وقال مقاتل: جعل الله في هذه الشجرة أدمًا ودهنًا (¬9). وعلى هذا الأدم: الزيتون، والدهن: الزيت. وهو اختيار الزجاج، قال: يعني بالصبغ: الزيتون (¬10). 21 - قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 27 (صبغ) نقلا عن الليث. وهو في "العين" 4/ 374 ما يصطبغ في "الأطعمة" ونحوها أي يؤتدم. (¬2) (الأصل): ساقطة من (ظ). (¬3) في (أ): (والصبغ). (¬4) في (ظ): (يكون)، وهو خطأ. (¬5) في (أ)، (ع): (الحر). مهملة وفي (ظ): (الحبر). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 28 - 29 (صبغ)، "لسان العرب" 8/ 437 (صبغ). (¬7) في (ظ): (ويؤتدم به). (¬8) الفراء ساقطة من (ظ)، (ع). وانظر: كلام الفراء في "معاني القرآن" 2/ 233. (¬9) "تفسير مقاتل" 30 أ، وفيها: إدامًا. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 11. قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 8/ 27 بعد حكاية هذا القول عن الزجاج: وهذا أجود القولين؛ لأنه قد ذكر الدهن قبله.

مفسرة (1) في سورة النحل (2). {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} في ظهورها، وألبانها، وأوبارها، وأصوافها، وأشعارها. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قال ابن عباس: من لحومها وأولادها والكسب عليها (3). قوله: {وَعَلَيْهَا} قال ابن عباس: يريد الإبل خاصة (4). {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} قال الكلبي: أما في البحر فالسفن، وأما في البر فالإبل (5). وهذه الآية تدل على أنه يجوز أن يذكر أشياء، ثم يكنى (6) عن بعضها، فتعود الكناية إلى البعض لا إلى الجميع، وذلك أن الأنعام اسم للإبل والبقر والغنم، ولسنا نحمل على شيء منها إلا الإبل، فعادت الكناية إليها من جملة الأنعام. والبقر منهي عن ركوبها في الحديث الذي ورد: "أن رجلاً ركب بقرة، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحراثة". والحديث مشهور (7).

_ (1) في (ظ)، (ع): (مفسر). (2) عند قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. (3) و (4) ذكرهما ابن الجوزي 5/ 468 من غير نسبة لأحد. وانظر: "تنوير المقباس" ص 212. (5) ذكره البغوي 5/ 415، وابن الجوزي 5/ 468 من غير نسبة. (6) في (ظ): (يعني). (7) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الحرث، باب: استعمال البقر للحراثة 5/ 8، ومسلم في "صحيحه" كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضل أبي بكر الصديق 4/ 1855.

23

ونظير هذه الآية في تذكير النعمة بالحمل على الإبل والسفن قوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70]. 23 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ} قال ابن عباس: يعزي نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن غير أمته قد كذبوا أنبياءهم وجحدوا بالبعث (¬1) (¬2). {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} قال ابن عباس: أطيعوا الله. وقال مقاتل: وحدوا الله (¬3). {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ما غيره لكم رب ومعبود. {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أو لا تتقونه بالطاعة والتوحيد. قال ابن عباس: يريد: أفلا تخافون الله (¬4). 24 - قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} قال ابن عباس: يريد أن يرأسكم ويسودكم (¬5). والمعنى: يريد أن يصير له الفضل عليكم فيكون متبوعًا، وأنتم له تبع (¬6). {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أن لا نعبد (¬7) شيئًا سواه {لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} لأرسل ملائكة فكانوا (¬8) رسله، ولم يرسل بشرًا آدميًّا. {مَا سَمِعْنَا} الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد. ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (البعث). (¬2) ذكره ابن الجوزي: 5/ 469 بمعناه وعزاه للمفسرين. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 30 أ. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 16، والبغوي 5/ 415. (¬5) انظر: "القرطبي" 12/ 118. (¬6) هذا قول الطبري ونصه 18/ 16. (¬7) في (ط): (يعبدوا). وفي (ع): (يعبد). والمثبت من (أ) هو الموافق لما عند الطبري. (¬8) في (ظ)، (ع): (وكانوا).

25

{فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} قال ابن عباس: في الأمم الماضية (¬1). والباء قوله {بِهَذَا} (¬2) زائدة (¬3)، و {فِي} ظرف لمحذوف. كأنه قيل: ما سمعنا بهذا سابقًا أو كائنًا في آبائنا الأولين. 25 - قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي حالة جنون، وهي غمرة تغطي العقل وتستره (¬4). وقال الفراء: {حَتَّى حِينٍ} أي إلى وقت ما. ولم يعنوا بذلك وقتًا معلومًا، وهو كقول القائل: دعه إلى يوم ما (¬5). 26 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي} قال ابن عباس ومقاتل: انصرني بتحقيق قولي في العذاب أنه نازل بهم في الدنيا على من لم يطعني ولم يسمع رسالتي (¬6). {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بتكذيبهم إياي. والمعنى: انصرني بإهلاكهم ¬

_ (¬1) ذكره عنه القرطبي 12/ 118. (¬2) في (ع): (هذا). (¬3) هذا القول محل نظر، والأظهر في هذا أن فعل (سمعنا) مُضمن لمعنى فعل آخر فلذا عُدي بالباء. قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" 18/ 43: ولما كان السماع المنفي ليست سماعًا بآذانهم لكلام في زمن آبائهم، بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا، عُدي فعل (سمعنا) بالباء لتضمينه معنى الاتصال. أهـ. (¬4) انظر: "لسان العرب" 13/ 92 (جنن). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 234 مع اختلاف يسير. وهذا كلام الطبري 18/ 17 بنصه، ولم ينسبه الطبري لأحد. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 30 أإلى قوله: نازل بهم في الدنيا. وذكر الرازي 23/ 93 هذا القول، ولم ينسبه لأحد.

27، 28

جزاء لهم بتكذيبهم. قال أهل المعاني: وهذا دعاء عليهم بالإهلاك (¬1) من أجل التكذيبة (¬2) 27، 28 - قوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} مفسر في سورة هود إلى قوله. {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} (¬3). قوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي ادخل في سفينتك. وذكرنا تفسيره عند قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر: 12]. 29 - قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} المنزل يجوز أن يكون مصدرًا بمنزلة: أنزلني إنزالاً مباركًا، وعلى هذا يجوز أن يعلى الفعل إلى مفعول آخر. ويجوز أن يكون المنزل موضعًا للإنزال كأنه قيل: أنزلني مكانًا أو موضعًا. وعلى هذا الوجه قد استوفى الإنزال مفعوليه. وقرأ أبو بكر عن عاصم (مَنزِلًا) بفتح الميم وكسر الزاي (¬4). ويجوز على هذه القراءة الوجهان، أحدهما: أن يكون موضع نزول. والآخر أن يكون مصدرًا. ودل (أنزلني) على أنزل (¬5) فانتصب (منزلًا) على أنه مصدر. وعلى الوجه الأول على أنه محل (¬6). ¬

_ (¬1) في (ظ): (بإهلاكهم). (¬2) ذكر الجشمي في "تهذيبه" 6/ 197 ب نحو هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬3) انظر: "البسيط" سورة هود: 37 - 38. (¬4) وقرأ الباقون: (منزلا) بضم الميم وفتح الزاي. "السبعة" ص 445، "التبصرة" ص 269،"التيسير" ص 159. (¬5) في "الحجة": على نزلت. (¬6) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 294 - 294 مع تقديم وتأخير وتصرف. وانظر في توجيه القراءتين أيضًا. "علل القراءات" للأزهري 2/ 434، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 128.

والمفسرون على أنه أُمر أن (¬1) يقول عند استوائه على الفلك: الحمد لله، وعند نزوله منها (¬2) {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬3). قال مجاهد (¬4): [قال نوح] (¬5) حين خرج من السفينة {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬6). وقال مقاتل: يعني بالبركة أنهم توالدوا وأكثروا (¬7) (¬8). وهذا يدل على أن هذا الدعاء كان عند الهبوط. وقال الكلبي: منزلا مباركًا بالماء والشجر. وقال ابن عباس في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} يريد من السفينة، مثل قوله: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48] (¬9). وذهب بعض أهل المعاني إلى أن المنزل المبارك هو السفينة؛ لأنها كانت سبب النجاة (¬10). ¬

_ (¬1) (أن): ساقطة من (ظ). (¬2) في (أ): (فيها). (¬3) انظر: "الطبري" 18/ 18، و"الدر المنثور" 6/ 97. (¬4) في (ع) (مقاتل)، وهو خطأ. (¬5) ما بين المعقوفين في (ع): (يعني ...). (¬6) رواه الطبري 18/ 18 بلفظ: قال نوح حين نزل من السفينة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 97 بمثل لفظ الطبري وعزاه لابن أبي شيبة وعبدين حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) في (أ)، (ظ): (وكثروا)، والمثبت من (ع) هو الموافق لما في "تفسير مقاتل". (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 30 ب. (¬9) ذكره عنه القرطبي 12/ 120. (¬10) ذكر الطوسي في "التبيان" 7/ 321 هذا القول ونسبه للجبائي، وكذا ذكرِه الجشمي في "التهذيب" 6/ 198 أ، وذكر الماوردي 4/ 53 وابن الجوزي 5/ 47، والقرطبي 12/ 120 هذا القول من غير نسبة لأحد. =

30

30 - قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني في أمر نوح والسفينة وهلاك أعداء الله. {لَآيَاتٍ} لدلالات على قدرة الله ووحدانيته، وعبرًا لمن اعتبر. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} وما كنا إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره (¬1). 31 - 35 - قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} يعني عادًا قوم هود، [وأراد (¬2) بقوله] (¬3): {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} هودًا. والباقي ظاهر إلى قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} الآية. قال الفراء: أعيدت (أَنَّكُمْ) مرتين ومعناهما واحد، إلا أن ذلك حسن لما فرق بينهما بإذا، وهي في قراءة عبد الله (أيعدكم إذا مُتم وكنتم ترابا وعظامًا أنكم مخرجون) (¬4). وقال أبو إسحاق: {أَنَّكُمْ} موضعها نصبٌ على معنى: أيعدكم بأنكم إذا متم. وموضع (أن) الثانية عند قوم كموضع الأولى، وإنما ذكرت توكيدًا. والمعنى على هذا القول: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. فلما بعد ما بين (أن) الأولى والثانية بقوله (إذا متم وكنتم تربًا وعظامًا) أعيد ذكر (أن) كما قال -عز وجل-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] المعنى: فله نار جهنم (¬5). ¬

_ = قال القرطبي 12/ 120: وبالجملة فالآية تعليم من الله-عز وجل-لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا. (¬1) في (أ): (وتنكيره). (¬2) (وأراد): في هامش (أ) وعليها علامة التصحيح. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬4) "معاني الفراء" للفراء 2/ 234 مع اختلاف يسير. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 11.

قال أبو علي الفارسي: لا يخلو (أن) الثانية في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} الآية، وفي (¬1) قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ} الآية، وفي قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) [الأنعام: 54] من أن يكون: بدلاً من الأول (¬3)، أو يكون مكررًا (¬4) للتأكيد وطول الكلام، أو يكون زائدًا غير معتد (¬5) به كما في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} (¬6)، أو يكون مرتفعًا بالظرف. فمذهب (¬7) سيبويه (¬8): أن الثانية بدل من الأولى، ومذهب أبي العباس (¬9) وأبي عمر الجرمي أنه مكرر للتأكيد، ومذهب أبي الحسن (¬10) أنه مرتفع بالظرف (¬11)، ¬

_ (¬1) في (ع): (في). (¬2) قوله: [سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح] ساقط من (ع). وفي (أ): (بيان)، وفي (ظ) قوله: (سوءًا بجهالة). ثم سقط ما بعده وهو قوله (ثم تاب من بعده وأصلح). وفي الإغفال الآية كاملة. (¬3) هكذا في (أ)، (ظ)، والإغفال. وفي (ع): (الأول. وقد غيرها محقق الإغفال إلى الأولى. وأشار إلى ذلك في الحاشية 2/ 1081. (¬4) هكذا في جميع النسخ وفي الإغفال أيضا، وقد غيرها محقق الإغفال إلى: تكون مكرره. وغير ما بعدها أيضًا. وأشار إلى ذلك في الحاشية 2/ 1081. (¬5) في (ظ)، (ع): (غير متعد)، وفي (أ): (غير متعديه)، وانظر: "الإغفال" 2/ 1081. (¬6) النساء: 155، المائدة: 13. (¬7) في (أ): (فذهب). (¬8) "الكتاب" 3/ 132 - 133. (¬9) هو: المبرد وانظر قوله في "المقتضب" 2/ 356. (¬10) هو: الأخفش. (¬11) ذكر الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 289 في هذه الآية {أَيَعِدُكُمْ} أن الآخرة بدل من الأولى.

ولم يقل أحد أنه زائد غير معتد به (¬1). قال سيبويه (¬2): مما جاء مبدلًا قوله: {أَيَعِدُكُمْ ...} الآية، فكأنه (¬3) قال: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. وذلك أريد بها ولكنه إنما قدمت (أن) الأولى. ليعلم بعد أي شيء الإخراج. قال ت وزعم الخليل أن مفعل ذلك قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}. قال أبو على: لا يجوز عندي (¬4) أن تكون (أن) الثانية في شيء من الآي بدلاً من الأولى، وذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تبدل (أن) من (أن) (¬5) وحدها من غير أن تتم بصلتها، وإما أن تبدل منها (¬6) بعد تمامها بصلتها. فلا يجوز أن تبدل منها من غير أن تتم بصلتها (¬7)؛ لأنها قبل أن تتم بصلتها حرف؛ ولم (¬8) نرهم أبدلوا الحرف من الحروف كما أبدلوا (¬9) الاسم من الاسم والفعل من الفعل. ولا يجوز أن يكون مبدلًا منها في الآية بعد تمام الصلة؛ لأن صلة الأولى لم تتم، وإنما تتم اسمًا إذا استوفت صلتها تامة. وصلتها يكون اسمًا كان مبتدأ قبل دخولها عليه مع خبره، ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (غيرمتعد به). (¬2) "الكتاب" لسيبويه 3/ 132 - 133. (¬3) في (ع): (وكأنه). (¬4) (عندي): ساقطة من (ع). (¬5) من أن: ساقط من (ظ). (¬6) في (ظ): (منهما). (¬7) في "الإغفال" 2/ 1083، خ ل 112 أ: (من غير أن تتم كل واحدة بصلتها). وأشار محقق الإغفال إلى سقوطها من بعض النسخ. (¬8) في (ع): (ولا). وفي ساقطة من (ظ). (¬9) في جميع النسخ: أبدل. والتصويب من "الإغفال" 2/ 183، (خ) 121 أ.

وقوله: {إِذَا مِتُّمْ} لا يكون خبرًا لاسم (أن) كما لا يجوز أن يكون خبرًا له قبل دخول (أن)، ألا ترى أنك لو قلت: أنتم (¬1) إذا متم، لم يجز؛ لأن الظرف من الزمان لا يكون خبرًا عن الجثث (¬2)، فكذلك (¬3) لا يجوز أن تكون (إذا) خبرًا لاسم (أن) من قوله: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ}، وإذا لم يجز أن يكون خبرًا له فقد ثبت أن {أَنَّكُمْ} الأولى لم تستوف صلتها، وإذا لم تستوف صلتها لم يجز البدل منها؛ لأن الاسم المبدل منه حكمه أن يكون تامًا. وكذلك لا يجوز أن تكون الثانية بدلاً من الأولى في قوله: {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ} لأن الشرط وحده دون الجزاء لا يكون خبرًا لاسم (أن)، كما لم يجز أن يكون خبرًا للمبتدأ (¬4). وأبو العباس يذهب إلى أن الثانية مكررة توكيدًا، ولست تريد بها إلا ما أردت بالأولى. قال (¬5): وهذا أحسن الأقاويل عندي في هذه الآية (¬6). قال أبو علي: قول أبي العباس (¬7) لا يجوز عندي أيضًا، لأنه لا يخلو من أن يقع التكرير للتأكيد في (أن) وحدها دون صلتها أو مع صلتها. فلا يجوز التكرير (¬8) فيها وحدها، كما لا تكرر سائر الموصولات دون ¬

_ (¬1) في (ع): (أنكم). (¬2) في (أ): (الجثث). وفي (ظ): (الجثب). والمثبت من (ع)، والإغفال. (¬3) في (ظ)، (ع): (فلذلك). (¬4) في (ظ)، (ع): (لمبتدأ). (¬5) القائل هو: أبو العباس المبرد. (¬6) انظر: "المقتضب" 3/ 356 - 357. (¬7) في (أ): (يقول أبو العباس)، وهو خطأ. (¬8) في (أ): (التكرار)، والمثبت من باقي النسخ هو الموافق لما في "الإغفال".

صلاتها، ولو كررت اسمًا موصولاً نحو: ضربت الذي في الدار [الذي في الدار] (¬1)، لم تكرره إلا مستوفيًا لصلته [فلا يجوز أن يكون (أن) أيضًا مكررًا مفردًا من صلتها غير مستوفية لها] (¬2). فلا يجوز في شىِء من الآي الثلاث التكرير؛ لأن الأولى لم تستوف صلتها في واحدة منها. فقد بان الدخل في هذا القول أيضًا. وهو عندي أشبه من القول الأول. وإذا بان فساد القولين ثبت أنها مرتفعة بالظرف الظاهر الذي هو (إذا) كأنه (¬3) في التقدير: أيعدكم أنكم إذا متم إخراجكم. كما تقول: وقت موتكم إخراجكم. فموضع (إذا متم) إلى قوله (مخرجون) رفع، لكون ذلك جملة ووقوعه (¬4) كله خبرًا لـ (أن) الأولى. فأما موضع (¬5) (إذا) فنصبٌ من حيث انتصب مثل: يومَ الجمعة القتالُ، واليومَ الإخراج. وحكم هذا أن تُضمر للمرفوع خبرًا (¬6) يكون إياه في المعنى، أو يكون له (¬7) فيه ذكر؛ لأن يوم الجمعة ليس بالقتال ولا له فيه ذكر، وذلك الخبر المُضْمَر: كائن أو حادث أو يحدث، وما أشبه (¬8) ذلك. فإذا أضمر هذا لعلما: الذي لابد من إضماره عمل في الظرف. ولا يجوز أن يكون العامل في الظرف الإخراج نفسه من جهة أن الكلام لا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬3) في (أ): (فكأنه)، والمثبت من باقي النسخ هو الموافق لما في "الإغفال". (¬4) في (ع): (وقوعه). (¬5) في (أ): (مواضع)، وهو خطأ. (¬6) في "الإغفال" أن يضمر له خبر. وقال المحقق: في (ش): (خبرًا). (¬7) في الإغفال: أو يكون له خبر. وأشار المحقق إلى سقوط (خبر) من (ش). (¬8) في (ع): (أو ما أشبه).

يتم ولا يكون له خبر، فيحتاج إلى ما يصير خبرًا له ثم يحذف هذا (¬1) الخبر الذي ذكرت لك أنه لابد من إضماره (¬2)، ويدل على حذفه هذا المنتصب. وكذلك (إذا) في الآية حكمه حكم قولك: غدًا الرحيل. كأن التقدير في الأصل: إذا متم إخراجكم كائن أو حادث أو يحدث، فـ (إذا) منتصب (¬3) بالخبر المقدر انتصاب غد (¬4)، وحذف الخبر كما حذف من غد، ثم قام (إذا) مقام الخبر المحذوف فصار فيه ضميره كما صار في سائر الظروف، ثم قام مقام الفعل فرفع (¬5) كما رفع قوله غدًا الرحيل. فـ (غدًا) و (إذا)، و (في الدار)، وما أشبه ذلك من الظروف كان أصله ما عرفتك من الانتصاب بالفعل الذي تقدم (¬6) أو ما يقوم مقامه، ثم يختزل فتقوم هي مقام المختزل، فتصير مواضعها لذلك (¬7) رفعًا نحو: زيد في الدار، ونحو: القتال إذا أتيت زيدًا، فيرفع (¬8) الظاهر كما يرفع المضمر (¬9)، فإذا قدم الظرف (¬10) لم يكن له موضع من الإعراب، كما أنه ليس لقولك مبتدئًا: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (وهذا)، والتصويب من "الإغفال" 2/ 1092. (¬2) في (أ، ع): (إضمار)، والمثبت من (ظ) و"الإغفال". (¬3) في (ظ)، (ع): (انتصب). (¬4) في (ظ): (غدا). (¬5) في "الإغفال" 2/ 1095: فرفع أن. (¬6) في "الإغفال" 2/ 1095: (الذي يقدر). (¬7) في (أ): (بذلك)، والمثبت من باقي النسخ و"الإغفال" 2/ 1095. (¬8) في (ط)، (ع): (فرفع). (¬9) في "الإغفال" ص 1095 بعد قوله زيدًا: ثم تقدم فترفع الظاهر كما رفع المُضمر. (¬10) في (ظ)، (ع): (فرفع).

(قام زيد) موضع من الإعراب يخالف لفظه [كما أن لقولك عندك (¬1) من قولك: زيد عندك موضع يخالف لفظه] (¬2) وهو الرفع لوقوعه موضع خبر الابتداء، فكذلك (¬3) حكم (إذا) في الآية، إلا أنه لما وقع موضع الخبر مع ما بعده قلنا إن الجملة بأسرها معها في موضع رفع، وأنها إذا كانت متقدمة (¬4) مرتفعًا بها الاسم لا موضع لها (¬5) من الإعراب مخالفًا للفظها (¬6) من حيث لم يكن لقولك (¬7): في الدار، وعندك -من قولك: في الدار زيد، وعندك عمرو- موضع من الإعراب لقيامهما (¬8) مقام ما لا موضع له، فعلى هذا حكم هذه الظروف في قيامها (¬9) مقام الفعل. وأبو العباس يقول- في هذه الآية: إن ارتفاعه بالظرف حسن جميل. هذا كله كلام أبي علي في كتاب (¬10) الإصلاح (¬11). وقال في كتاب "الحجة": من قدر [في] (¬12) (أنَّ) الثانية البدل فإنه ¬

_ (¬1) في (ع): (عندي)، والتصويب من "الإغفال". (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ظ). (¬3) في جميع النسخ: وكذلك، مقدمه .. له .. للفظه)، والمثبت من "الإغفال". (¬4) نفسه. (¬5) نفسه. (¬6) نفسه. (¬7) في (ظ): (كقولك)، وهو خطأ. (¬8) في (ظ): (لمقامها). (¬9) في (أ): (مقامها)، والمثبت من (ظ)، (ع) هو الموافق لما في "الإغفال". (¬10) في (أ): (وكتاب). (¬11) "الإغفال" لأبي علي الفارسىِ 2/ 1081 - 1097 مع تصرف واختصار. (¬12) (في): زيادة من "الحجة" يستقيم بها المعنى.

ينبغي أن يقدر محذوفًا ليتم بذلك الكلام فيصح البدل، إذ لا يبدل من الاسم إلا بعد تمام الكلام فيكون التقدير: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم، فيكون خبرًا لـ (أنَّ) وهو اسم الزمان، والإخراج حدث واسم الزمان يصح أن يكون خبرًا عن الأحداث. وإذا لم يقدر هذا المحذوف لم يتم الكلام؛ لأن قوله: {إِذَا مِتُّمْ} لا يصح أن يكون خبرًا عن المخاطبين بقوله: {أَنَّكُمْ} لأنهم أعيان (¬1)، وأسماء الزمان لا يصح أن تكون خبرًا عن الأشخاص، وإذا (¬2) قدرت هذا التقدير صح أن يكون (أَنَّكُم) الثانية بدلاً من الأولى. ومن قدر في الثانية التكرير لم يحتج إلى تقدير محذوف (¬3). قال: فأما (¬4) قول أبي إسحاق {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} إن موضع (أنَّ) الأولى نصبٌ على معنى: أيعدكم بأنكم فإن (¬5) وعدت تتعدى إلى مفعولين، وتعديه إلى المفعول الثاني بغير حرف، ولا حاجة إلى تقدير الباء ألا ترى أن ما جاء في التنزيل من هذا بغير الباء فمن ذلك قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ} [الفتح: 20] {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ} [طه: 80] وجانب مفعول ثان ولا يكون ظرفًا لاختصاصه {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] و {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} [الفتح: 29] و {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] فلم يتعد وعدت في كل هذا إلى المفعول الثاني بالباء، وكذلك ينبغي أن يكون المفعول الثاني في {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} لا ¬

_ (¬1) في (ع): (أعوان). (¬2) في (ظ)، (ع): (فإذا). (¬3) "الحجة" 2/ 61. (¬4) في (ظ). (وأما). (¬5) في (أ): (قد).

36

تحتاج فيه إلى تقدير حرف الخفض (¬1). 36 - قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} معنى (هيهات): بَعُدَ الأمرُ جدًّا حتى امتنع. وهو صوت بمنزلة صَهْ ومَهْ، إلا أن هذه الأصوات الأغلب عليها الأمر والنهي، وهذا في الخبر، ونظيره شتان، أي: بعد ما بينهما جدًا. وهذا الذي ذكرنا هو معنى ما ذكره أبو علي في كتاب "الإيضاح". فإنه ذكر فيه باب الأسماء التي سميت بها الأفعال فذكر فيه (رويد) بمعنى: أروِد أي: أمهل، و (إيه) بمعنى: حدث، وصَه ومَهْ بمعنى: أُسكت. وقال: أكثر ما تستعمل هذه الأسماء في الأمر والنهي، وقد جاء شيء من ذلك في الخبر، وذلك قولهم: شتان زيد وعمرو، فهذا بمنزلة: بعد زيد وعمرو، وقالوا: سرعان ذا إهالة (¬2)، بمعنى: سَرُع، وقالوا (¬3): هيهات زيد، ¬

_ (¬1) "الإغفال" للفارسي 2/ 1101 - 1103. (¬2) سرعان -مثلثة السين- بمعنى: سرع، والإهالة: الودك. و (سرعان ذا إهالة) مثل أصله: أن رجلا كانت له نعجة عجفاء، ورُغامها يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له: ما هذا الذي يسيل؟ فقال: ودكها. فقال السائل ذلك القول. وقيل إن أصل هذا المثل أن رجلاً كان يُحَمّق، اشترى شاة عجفاء يسيل رُغامها هزالا وسوء حال، فظن أنه ودك فقال: (سرعان ذا إهالة). و (إهالة) منصوب على الحال، و (ذا) إشارة إلى الرغام، أي: سرع هذا الرغام حال كونه إهالة وهو مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني 2/ 11 - 112، "لسان العرب" 8/ 152 (سرع)، "القاموس المحيط" 3/ 37، "تاج العروس" للزبيدي 21/ 186 (سرع). (¬3) (قالوا): ساقطة من (أ).

يريدون: بعد. هذا كلامه (¬1). وقد ثبت أن هيهات اسم سمي به الفعل وهو بعد في الخبر لا في الأمر كما عليه أكثر بابه، وتفسير هيهات: بَعُدَ، وليس له اشتقاق؛ لأنه بمنزلة الأصوات، وفيه زيادة معنى ليس في بَعُدَ، وهي أن المكلم بهيهات يخبر عن اعتقاده استبعاد ذلك الشيء الذي يخبر عن بُعْدِه، وكأنه بمنزلة أن تقول: بعد جدًّا وما أبعده، لا على أن يعلم المخاطب مكان ذلك الشيء في البعد فـ[حسب، كما لو قال: بعد زيد، يفهم من هذا أنه يخبر عن مكانه في البعد] (¬2). ففي هيهات زيادة معنى على بعد وإن كنا (¬3) نفسره ببعد. قال الفراء - في قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}: لو لم تكن اللام في (ما) كان صوابًا. ودخول اللام عربي، ومثله في الكلام: هيهات لك، وهيهات أنت منا، وهيهات لأرضك. وأنشد (¬4): ¬

_ (¬1) "الإيضاح العضدي" ص 191. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬3) في (ظ): (كان). (¬4) البيت أنشده الفراء في "معانيه" 2/ 235 من غير نسبة، وروايته عنده: فأيهات أيهات العَقيقُ ومَن به ... وأيْهات وَصْل بالعقيق نواصله والبيت لجرير، وهو في "ديوانه" 2/ 965 بمثل رواية الفراء لكن فيه (تواصله) مكان (نواصله)، و"النقائض" لأبي عبيدة 2/ 632: و"الخصائص" لابن جني 3/ 42 بمثل رواية الواحدي لكن فيه (ومن به) مكان (وأهله). و"شرح المفصل" لابن يعيش 4/ 35 بمثل رواية الواحدي. و"اللسان" 13/ 553 (هيه) بمثل رواية الواحدي لكن فيه (نحاوله) مكان (نواصله) قال أبو عبيدة في "النقائض" 2/ 632. والعقيق: وادٍ لبني كلاب بالعالية.

فَهَيْهات هيهات الحقيقُ وأهلُه (¬1) ... وهيهات خِلُّ بالعقيق نُوَاصِلُه فمن لم يدخل اللام رفع الاسم. ومعنى هيهات: بعيد (¬2) كأنه قال: بعيد (¬3) العقيق وأهله، ومن أدخل اللام قال (هيهات) أداة ليست (¬4) بمأخوذة من فعل [فأدخلت لها اللام كما يقال: هَلُمَّ لك، إذْ لم تكن مأخوذة] (¬5) من فعل (¬6). وقال أبو إسحاق: {هَيْهَاتَ} موضعها الرفع، وتأويلها (¬7): البعد لما توعدون. قال: ويقال: هيهات ما قلت، وهيهات لما قلت، فمن قال: هيهات لما قلت فمعناه البعد لقولك (¬8)، ومن نون هيهات جلها نكرة، ويكون المعنى: بُعدًا (¬9) لما توعدون (¬10). قال أبو علي: فيما أصلح (¬11) عليه قوله في هيهات [أن موضعه] رفع ¬

_ (¬1) في (ع): (وأرضه). (¬2) في (ع): (بعد). (¬3) عند الفراء: كأنه قال: بعيد (ما توعدون) وبعيد العقيق ... (¬4) في (ظ)، (ع): (ليس). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 235 مع اختصار. (¬7) في (ظ): (تأويلها). (¬8) عند الزجاج: فمن قال: هيهات ما قلت، فمعناه: البعد ما قلت، ومن قال: هيهات لما قلت. (¬9) عند الزجاج: بعد. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 13. (¬11) في (ظ): (مما يصلح).

وإجراؤه (¬1) إياها (¬2) مجرى البعد في أن موضعه رفع، كما أن البعد رفع في قولك: "البعد لزيد" خطأ، وذلك أن هيهات اسم [سُمي به الفعل فهو اسم لبعد (¬3) كما أن شتان كذلك، وهيهات] (¬4) أشبه الأصوات نحو: مَه وصه وما لا حظ في الإعراب، وكما لا يجوز أن يحكم لشتان بموضع من الإعراب -من حيث كان اسمًا للفعل فلا موضع له من الإعراب كما لا موضع لقام من قولنا: قام زيد، وما أشبهه- كذلك لا يجوز أن يحكم لهيهات بأن موضعه رفع، ولو جاز أن يكون موضعه رفعًا لدلالته على معنى البعد لكان شتان أيضًا مرتفعًا لدلالته على ذلك، وليس (¬5) للاسم الذي سُمي (¬6) به الفعل موضع من الإعراب، كما لم يكن للفعل الذي جعل هذا اسمًا له موضع، فإذا ثبت أنه اسم سمي به الفعل كشتان لم يجز أن يخلو من فاعل ظاهر أو مضمر كما أن الفعل لا يخلو من ذلك، ولولا أن شتان وهيهات كبعد قولك: شتان زيد وهيهات العقيق لما تم الكلام به وبالاسم، فلما تم الكلام به علمنا أنه بمنزلة الفعل وأن الاسم مرتفع به، إذ لا يخلو من أن يكون بمنزلة الفعل أو بمنزلة المبتدأ، فلا يجوز أن يكون بمنزلة المبتدأ (¬7)؛ لأن المبتدأ هو الخبر في المعنى أو يكون له فيه ذكر وليس ¬

_ (¬1) في "الإغفال" 2/ 1125: (إجراؤه)، وأشار المحقق إلى أنه في نسخة (ش): وإجراؤه. (¬2) في "الإغفال" 2/ 1125: (إياه). (¬3) (لبعد): ساقط من (أ). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬5) في "الإغفال" 2/ 1126: (فليس) وهي ساقطة من (ظ). (¬6) في "الإغفال" 2/ 1126: تُسمى. (¬7) في "الإغفال" 2/ 1128: (الابتداء).

هيهات العقيق (¬1) ولا شتان يزيد (¬2) ولو كان هيهات اسمًا للمصدر لما وجب بناؤه لأن المعنى الواحد قد يسمى بعدة أسماء ويكون ذلك كله معربًا، وأيضًا فإنك تقول: هيهات المنازل وهيهات الديار، فلو (¬3) كان هيهات مبتدأ لوجب أن يجمع، إذ لا يكون المبتدأ واحدًا والخبر جمعًا. وأظن الذي حمل أبا إسحاق على أن قال: (هيهات: معناه البعد، وموضعه رفع كما أنك لو قلت: البعد لزيد كان البعد رفعًا). أنه لم ير (¬4) في قوله: {هَيْهَاتَ} فاعلا ظاهرًا مرتفعًا فحمله على أن موضعه رفع كالبعد. والقول في هذا أن في (هيهات) ضميرًا مرتفعًا، وذلك الضمير عائد إلى قوله: {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} الذي هو بمعنى الإخراج، كأنهم لما قالوا -مستبعدين للوعد بالبعث ومنكرين له- {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فكان قوله: {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} بمعنى الإخراج وصار (¬5) في (هيهات) ضمير له، والمعنى: هيهات إخراجكم للوعد، أي (¬6): بعد إخراجكم للوعد إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم ونشركم بعد إضمحلالكم، فاستبعد أعداء الله إخراجهم ونشرهم لما كانت العِدة به بعد الموت، إغفالاً منهم للتدبر وإهمالاً (¬7) للتفكر في قوله: ¬

_ (¬1) في "الإغفال" 2/ 1128: وليس هيهات بالعقيق. (¬2) هكذا في (ع) والإغفال. وفي (أ): (يريد)، وهي مهملة في (ظ). (¬3) في "الإغفال" 2/ 1129: ولو. (¬4) في "الإغفال" 2/ 1130: لم يرد، والصواب ما هنا. (¬5) في "الإغفال" 2/ 1130: صار. (¬6) في (ع): (الذي). (¬7) في (ع): (وإمهالا).

{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} ففاعل هيهات هو هذا الضمير العائد إلى {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} التي هو بمعنى الإخراج كما أن فاعل هيهات في قول الشاعر: فهيهات هيهات العقيق الاسم الظاهر: وإنما كرر (¬1) هيهات في الآية والبيت للتأكيد. وأما (¬2) قوله: (ويقال: هيهات ما قلت وهيهات لما قلت، فمن قال هيهات ما قلت فمعناه البعد ما قلت ومن قال لما قلت فمعناه البعد لقولك) فقد ذكرنا أن هيهات لا يجوز أن يكون كالبعد وأنه اسم سمي به الفعل فإجازته في هيهات ما قلت (¬3) على أنه البعد ليس بجائز وإنما ما قلت يرتفع بهيهات كما يرتفع ببعد، أما (¬4) إجازته هيهات لما قلت فإنما قاسه على قوله (¬5) {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} وليس قولك مبتدئًا: (هيهات لما قلت) مثل الآية، لأن التي في الآية فيها ضمير كما أعلمتك ولا ضمير فيها مبتدأ (¬6). فبان (¬7) أن قولك: (هيهات لما قلت) ليس كما قاسه عليه (¬8)؛ لأنه ¬

_ (¬1) في (ع): (تكرر). (¬2) في "الإغفال" 2/ 1132: فأما قوله. (¬3) في "الإغفال" 2/ 1132: فإجازته هيهات ما قالت. (¬4) في "الإغفال" 2/ 1132: فأما. (¬5) قوله: ساقط من (ع). (¬6) في "الإغفال" 2/ 1133: مبتدأ، وفي (أ): (مبتدأه)، وأشار المحقق إلى أنه في نسخة ش: مبتداه. (¬7) في "الإغفال" 2/ 1133: (فتبين)، وفي بعض النسخ كما أشار المحقق. فبين. (¬8) في (ع): (عليك).

حال (¬1) من ضمير الفاعل، فإن قال: هيهات لقولك، وكانا (¬2) في هيهات (¬3) كما في الآية جاز وإلا امتنع. وقوله: (فأما من نون هيهات فجعلها نكرة ويكون المعنى: بعدًا لما قلت منه اختلاف) (¬4). قيل: إنه إذا نُوَّن كان نكرة، ووجه هذا القول أن هذه التنوين (¬5) في الأصوات [إنما تُثْبت] (¬6) علمًا للتنكير وتحذف علمًا للتعريف، كقولهم: عَاقِ وعاقٍ، وإيه وإيهٍ، ونحو ذلك، فجائز أن يكون المراد بهيهات إذا نون التنكير. وقيل: إنه إذا نون أيضًا كان معرفة كما كان قبل التنوين كذلك، وذلك أن التنوين في (مسلمات) ونحوه نظير النون في (مسلمين)، فهي إذا ثبتت لم تدل على التنكير كما تدل عليه في (عاق)؛ لأنه بمنزلة ما لا يدل على تنكير (¬7) ولا تعريف، فهو على تعريفه الذي كان عليه قبل دخول التنوين، إذ ليس التنوين فيه كالذي في (عاق). قال أبو العباس في هذا الوجه: هو قول قوي. انتهى كلام أبي علي (¬8). وحصل في معنى هيهات ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) في "الإغفال" 2/ 1133: خال بالمعجمة، وأشار المحقق إلى أنه في نسخة (ش): (حال). (¬2) في (ظ)، و"الإغفال": (فكان). (¬3) في "الإغفال" 2/ 1133: (فكان في هيهات ضمير كما في الآية .... (¬4) في "الإغفال" 2/ 1133: (ويكون المعنى: بعدٌ لما قلت ففيه اختلاف. (¬5) في بعض نسخ "الإغفال" كما أشار المحقق 2/ 1133: أن التنوين. (¬6) ساقط من (ظ). (¬7) في (ع): (التنكير). (¬8) "الإغفال" للفارسي 2/ 1125 - 1134 بتصرف.

أحدهما. أنه بمنزلة الصفة كقولك (¬1) بعيد. وهو قول الفراء. والثاني: أنه بمنزلة البُعد. وهو قول الزجاج وابن الأنباري. والثالث (¬2): أنه بمنزلة بَعُدَ. وهو قول أبي علي وغيره من حذاق النحويين. فهو إذن على هذه الأقوال تكون بمنزلة الصفة والمصدر (¬3) والفعل. وفيه لغات: فتح التاء بلا تنوين. قال الفراء: إنهما أداتان (¬4) جمعتا فصارتا بمنزلة خمسة عشر (¬5). قال: ويجوز أن يكون نصبها (¬6) كنصب قولك: رُبت وتُمت، وأنشد (¬7): ¬

_ (¬1) في (ع): (لقولك). (¬2) من (ظ): وفي باقي النسخ: (والآخر). (¬3) في (ظ): (والبُعْد). (¬4) في (ع): (أداأتان)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 235. (¬6) في (ع): (نصبها نصبها). (¬7) قول الفراء وإنشاده نقله عنه الواحدي بواسطة "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 485 (هيه)، وهو مع اختلاف في بعض ألفاظه في "معاني القرآن" 2/ 236. والبيت أنشده الفراء في "معانيه" 2/ 236 من غير نسبة، وفيه (بل ربتما) مكان (ياربتما). والبيت منسوب لضمرة بن ضَمْرة النَّهشلي في "النوادر" لأبي زيد ص 2532، "المعاني الكبير" لابن قتيبة 2/ 1005، وروايتهما: (بل ربتما)، و"خزانة الأدب" 9/ 384 وفيها (ياربتما). ومن غير نسبة في: الطبري 18/ 21، "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 64 (شعا)، "لسان العرب" 14/ 435 (شعا). قال البغدادي في "الخزانة" 9/ 384 - 385. ماوي: منادي مرخَّم ماوية. اسم امرأة. و (يا) في قوله (ياريتما) للتنبيه لا للنداء .. (ب). التاء لحقت (رب) للإيذان =

مَاويّ ياربتما غارةٍ ... شَعْواءَ كاللَّذْعَةِ بِالميسَمِ ونحو هذا ذكر أبو إسحاق فقال: من فتحها فلأنها بمنزلة الأصوات وليست مشتقة من فعل فبنيت هيهات كما بنيت (¬1) ذَيَّة (¬2) (¬3). ويجوز التنوين مع الفتح. قال ابن الأنباري: من قال هيهاتًا بالتنوين (¬4) شبهه بقوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] (¬5). يعني أن هيهاتًا بمنزلة بعيدًا. ويجوز هيهات بكسر التاء. قال الفراء: هو بمنزلة دَرَاكِ ونَظَارِ (¬6). يعني أن دراك اسم للأمر بمعنى ¬

_ = بأن مجرورها مؤنث، و (ما) زائدة بين رب ومجرورها .. ، والغارة: اسم من أغار القوم إغارة، أي: أسرعوا في السير. (الشعواء): (الغارة المنتشرة، وهي بالعين المهملة، واللذعة بالذال المعجمة والعين المهملة، ثم لذعته النار، إذا أحرقته، والميسم: ما يوسم به البعير بالنار. أهـ. قال ابن قتيبة في "المعاني" 2/ 1005: يريد كأنها -يعني الغارة- في سرعتها لذعه بميسم في وَبْر. (¬1) في (ع): (كما بنيت هيهات)، كررت هيهات خطأ. (¬2) في (أ): (إيه)، وفي (ع): (ربه). والمثبت من (ظ) وهو الموافق لما في "معاني القرآن" للزجاج. يقال: كان من الأمر ذَيَّة وذَيَّة بمعنى: كَيْتَ وكيْت. "تاج العروس" للزبيدي 4/ 423 (ذيت). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 12. (¬4) (بالتنوين): ساقطة من (ط)، (ع). (¬5) قول ابن الأنباري في "تهذيب اللغة" 6/ 484 (هيهات) بنصه. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 235. قال الجوهري: وقولهم: دَرَاكِ أي أدْرِكْ، وهو إسم لفعل الأمر، وكسرت الكاف لاجتماع الساكنين؛ لأن حقها السكون للأمر. وقولهم: نَظَارِ، مثل قَطَامِ، أي: انتظره. "الصحاح" 2/ 830 (انظر)، 4/ 1589 (درك).

أدرك مبني على الكسر، كذلك هيهات اسم لبَعُدَ مبني على الكسر. ويجوز التنوين مع الكسر. قال (¬1) ابن الأنباري: من نون مع (¬2) الكسر شبه بالأصوات كقولهم: غاقٍ وطاقٍ (¬3). قال: ويجوز الرفع بغير تنوين وبتنوين (¬4)، ومن العرب من يقول: أيْهات في هذه اللغات كلها، ومنهم من يقول: (أيْهان) بالنون، ومنهم من يقول: (أيها) بلا نون، ومن قال (أيها) حذف التاء كما حذف الياء من حاشَى فقيل (¬5): حاش لله. وأنشد (¬6): ومن دُونِي الأعْراضُ والقِنْعُ (¬7) كلُّه ... وكُتْمانُ أيْها ما أشَتَّ وأبْعَدا قال: والمستعمل من هذه اللغات كلها استعمالًا غالبًا (¬8) الفتح بلا تنوين (¬9). ¬

_ (¬1) في (ع): (قال قال) تكرار. (¬2) في "تهذيب اللغة": من قال هيهات لك بالتنوين. (¬3) غاق: حكايته صوت الغراب. "الصحاح" للجوهري 4/ 1539 (غيق). (¬4) في "تهذيب اللغة" 6/ 485، ومن قال هيهات لك بالرفع ... ومن رفعها ونون. وليس فيه ويجوز الرفع بغير تنوين وبتنوين. (¬5) في (أ): (وقيل). (¬6) إنشاد ابن الأنباري في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 485 (هيه) ولم يذكر قائله. وهو أيضًا في "لسان العرب" 13/ 554. والأعراض: جمع عرض، والأعراض: قرى بين الحجاز واليمن. والقِنْعِ بالكسر. ثم السكون: جبل وماء لبني سعد بن زيد بن مناة بن تميم باليمامة. انظر: "معجم البلدان" 1/ 289 - 290، 7/ 175. (¬7) في (أ): (والنَّفع)، وفي (ظ): (والقع) وفي (ع): (والعنع)، مهملة. (¬8) في المطبوع من "تهذيب اللغة". عاليًا. وأشار المحقق الحاشية إلى (غالبا). (¬9) كلام ابن الأنباري في "تهذيب اللغة" 6/ 485 (هيهات) مع اختلاف يسير في العبارة. وانظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص 439 - 440.

قال الأزهري. واتفق أهل اللغة على أن تاء هيهات ليست بأصلية أصلها هاء. قال أبو عمرو بن العلاء: إذا وصلت [هيهات فدع التاء (¬1) على] (¬2) حالها، وإذا وقفت فقل: هيهاه (¬3). ويدل على هذا ما روي [عن سيبويه أنه قالما هي بمنزلة علقاه (¬4). يعني في] (¬5) التأنيث (¬6). وإذا كان كذلك كان الوقف [بالهاء. قالما الفراء: كان الكسائي يختار الوقوف على الهاء] (¬7) وأنا أختار [التاء في] (¬8) الوقوف على [هيهات (¬9). وعنده] (¬10) أن هذه التاء ليست بهاء تأنيث. وأما (¬11) ما ذكره المفسرون في هذا: فقال ابن عباس -في رواية ¬

_ (¬1) في (ع): (الهاء)، وهو خطأ. (¬2) ما بين المعقوفين كشد في (ظ). (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 484 (هيهات). (¬4) عَلْقَاة: شجرة تدوم خضرتها في القَيْظ، وقضبانها دقاق طوال عَسرٌ رضها، وأورقها لطاف، يتخذ منها المكانس، "لسان العرب" 10/ 264 (علق)، "القاموس المحيط" 3/ 267. (¬5) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬6) روى ذلك عنه الزجاج 4/ 12 وهذا نصه. وانظر: "الكتاب" 3/ 291. (¬7) ما بين المعقوفين كشط في (ف). (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 236 مع تصرف في العبارة. (¬10) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬11) في (أ): (أما).

37

عطاء- في هذه الآية: يعنون أنَّ ذلك لا يكون (¬1). وقال الكلبي: يقول بعيدًا بعيدًا ما يعدكم ليوم البعث. وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: هي كلمة بَعُد (¬2). 37 - قوله: {إِنْ هِيَ} (هي) كناية عن الحياة، ودل عليها قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} كأنهم قالوا: ما الحياة إلا ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي يَعِدُ بعد البعث. {نَمُوتُ وَنَحْيَا} قال مجاهد: أي نهلك نحن ويبقى أبناؤنا، ويهلك أبناؤنا ويبقى أبناؤهم (¬3). ونحو هذا قال الكلبي (¬4) ومقاتل (¬5). وقال آخرون: أي يموت قوم منا ويحيا آخرون (¬6). 38 - قوله تعالى: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي في ذكره البعث. 39 - قوله: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} تقدم تفسيره هاهنا. ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي 5/ 472 هذا القول وعزاه المفسرين. (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 61 أ، والبغوي 4/ 37 والقرطبي 12/ 122. وقد أخرج الطبري 18/ 20 عن ابن عباس أنه قال: بعيد، بعيد، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 98 وعزاه لابن جبير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) ذكر النحاس في "معاني القرآن" 4/ 458 هذا المعنى، ولم ينسبه لأحد. (¬4) ذكره عنه الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 53 بنحوه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 30 ب. (¬6) ذكر الماوردي 4/ 53 هذا القول ونسبه لابن عيسى. وذكره البغوي 2/ 417 ولم ينسبه لأحد. وذكر السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 342 هذا القول واستظهره. وفيه وجه ثالث ذكره النحاس 4/ 458 وهو أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والمعنى: وما هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت كما قال تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43].

40

40 - قوله: {قَلِيلٍ} أي قال الله تعالى للنبي الذي دعاه بالنصرة {عَمَّا قَلِيلٍ} أي عن قليل من الزمان والوقت. قال ابن عباس: يريد بعد الموت. ويجوز أن يحمل على وقت نزول العذاب بهم في الدنيا لأنهم يندمون عند معاينة العذاب. قوله: {لَيُصْبِحُنَّ} هذه اللام لام القسم على معنى: والله ليصبحن نادمين (¬1). قال الكلبي وغيره: على التكذيب والكفر (¬2). 41 - قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة واحدة ماتوا عن آخرهم بتصدع قلوبهم (¬3). وقوله: {بِالْحَقِّ} أي باستحقاقهم العذاب بكفرهم (¬4). وهو معنى قول ابن عباس: يريد حيث كذبوا. يعني: أن العذاب نزل بهم بتكذيبهم. وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} الغثاء: ما جاء به السيل من نبات قد يبس. وقياس جمعه أغثيـ[ـة وأغْثَاء] (¬5) قال امرؤ القيس: من السَّيْلِ والأغْثَاءِ فَلْكَةُ مِغْزَ [ل (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "القرطبي" 12/ 124، "البحر المحيط" 6/ 406، "الدر المصون" 8/ 343. (¬2) ذكره البغوي 5/ 418 من غير نسبة. وانظر: "الطبري" 18/ 22، والثعلبي 3/ 60 أ. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 30 ب. والله أعلم بصحة ذلك. (¬4) انظر هذا المعنى عند الطبري 18/ 22. (¬5) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬6) هذا عجز بيت لامرئ القيس، وهو من معلقته، وصدره: كأن طمية المُجيمر غدوة وهو في "ديوانه" ص 25 لكن فيه (الغُثَّاء) مكان (الأغثاء) شرح القصائد السبع =

وكل ما يحمله السيل] (¬1) على رأس الماء من قصب وحشيـ[ش وعيدان شجر ونحو ذلك فهو غثاء (¬2). وقال أبو زيد:] (¬3) غثاء الماء يَغْثُو [وغُثَاء، إذا كثر فيه البَعَرُ والورق والقصب (¬4). قال المفسرون:] (¬5) صيرناهم هلكى (¬6). قال الكلبي: [يبسوا كما يبس الغثاء من نَبْت الأرض فهمدوا. وقال] (¬7) مقاتل: جعلناهم كالشيء البالي من نبت (¬8) الأرض يحمل ¬

_ = الطوال لابن الأنباري ص 108، "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 339 (عرف)، "شرح القصائد" العشر للخطيب التبريزي ص 129، "لسان العرب" 13/ 283 (عرف)، وعندهم جميعًا (الغثاء). وذكر ابن الأنباري في "شرحه" ص 108 أن الفراء رواه: من السيل والأغثاء، قال ابن الأنباري: وهو قليل في جمع المدود. وذكر محقق "ديوان امرئ القيس" ص 375 أن (الأغثاء) وردت في رواية الطوسي والبطليوسي وأبي سهل لديوان امرئ القيس. قال ابن الأنباري ص 108: (المُجَيْمر: أرض لبني قزارة، و (طمية): (حبلٌ في بلادهم. فيقول: قد امتلأ المجيمر، فكأن الجبل في الماء فُلكة مِغْزل لما جمع السيل حوله من الغثاء. أهـ. (¬1) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬2) انظر: "الصحاح" 6/ 243 - 244 (غثا)، "لسان العرب" 15/ 114 - 115 (غثا). (¬3) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬4) قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 176 (غثى). (¬5) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬6) الطبري 18/ 22. (¬7) ما بين المعقوفين كشط في (ظ). (¬8) في (أ): (نبات)، والمثبت من (ظ)، (ع) هو الموافق لما في "تفسير مقاتل".

42

السيل، شبَّه أجسادهم بالشيء اليابس البالي (¬1). وقوله: {فَبُعْدًا} أي بُعدًا لهم من الرحمة، وهي كاللعنة التي هى إبعاد من رحمة الله (¬2). والمعنى على: ألزمهم الله (¬3) بُعدًا لهم. وقال مقاتل: فبعدًا في الهلاك (¬4). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ} [هود: 95] الآية. قوله: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يعني المكذبين. وقال مقاتل: يعني المشركين (¬5). 42 - قوله: {قُرُونًا آخَرِينَ} قال ابن عباس: يريد بني إسرائيل (¬6). وقيل: يعني جماعات مثل قوم صالح ولوط وشعيب وسائر الأنبياء (¬7). 43 - {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} أي أمة (¬8) من هذه القرون. {أَجَلَهَا} الوقت (¬9) الذي حدد لهلاكها. {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} (¬10) عن ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 30 ب. (¬2) ذكر الماوردي 4/ 54 هذا المعنى وعزاه لابن عيسى. (¬3) لفظ الجلالة زيادة من (ع). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 30 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 30 ب. (¬6) ذكره عنه القرطبي 12/ 125، وأبو حيان 6/ 407. وهو محمول -إن صح عن ابن عباس- على التمثل. (¬7) وهذا القول أظهر، ويدخل فيه الأول. (¬8) أمه، الوقت: ساقطان من (ع). (¬9) نفسه. (¬10) في (أ): (وما يتأخرون)، وهو خطأ في الآية.

44

الوقت الذي قدر لهلاكهم. وهذا الآية مما قد (¬1) سبق تفسيره (¬2). 44 - قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} اختلفوا في تترى، فأكثر القراء على ترك التنوين فيها (¬3) (¬4)؛ لأنها فَعْلى من المواترة، وفعلى لا يُنون كالتقوى والدعوى. قال أبو علي: والأقيس أن لا يصرف لأن المصادر تلحق أواخرها ألف التأنث كالدعوى والعدوى والذكرى والشورى (¬5). وقال الفراء: أكثر العرب على ترك التنوين يُنزل بمنزلة تقوى (¬6). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (تَتْرَا) منونة. وهذا القراءة تحتمل وجهين: أحدهما: أن تترى بمنزلة فعلا (¬7)، والألف فيه بمنزلتها في رأيت زيدًا وعَمرًا. والآخر: أن تكون الألف للإلحاق نحو أرطى (¬8) ومعزى. ¬

_ (¬1) (قد): زيادة من (ظ)، (ع). (¬2) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: 5] (¬3) في (ظ): (منها). (¬4) قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (تترا) بلا تنوين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو؛ كما سيذكر الواحدي: (تترا) منونة. "السبعة" ص 446، "التبصرة" ص 269، "التيسير" ص 159. (¬5) "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 295. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 435، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 488، "الكشف" لمكي 2/ 129. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 236. (¬7) في (ظ)، (ع): (فعلاء). (¬8) في (أ): (رطى) وأرطى: شجر من شجر الرمل. والواحدة: أرطأة. "الصحاح" للجوهري 6/ 2358 (رطا).

وهذان (¬1) الوجهان ذكرهما الفراء وأبو علي. أما الفراء فإنه يقول: من نون جعل الألف كألف الإعراب (¬2). يعني التي في (زيدًا) و (عمرًا). قال: وإن شئت جعلت (¬3) كأنها أصلية فتكون بمنزلة المعزى، ويكون الوقف (¬4) عليها حينئذ بالياء وإشارة إلى الكسر، وإن جعلتها ألف إعراب لم تُشر إلى الكسر، لأنك لا تشير إلى ألفات الإعراب بالكسر، لأنك لا تقول: رأيت زيدًا (¬5) ولا عَمْرا (¬6). وقال أبو علي: من قرأ (تَتْرا) أمكن أن يريد به فعلا (¬7) من المواترة فتكون الألف بدلاً من التنوين، وإن (¬8) كان في الخط بالياء كان للإلحاق، والإلحاق في غير المصادر ليس بالقليل نحو: أرطى ومعزى، فإن كان في الخط ياء لزم أن يحمل على فعلى دون فعل (¬9). ومن قال: تترى وأراد به فعلا فحكمه أن يقف بالألف مفخمًا، ولا يميلها إلا في قول من قال: ¬

_ (¬1) في (أ)، (ع): (والوجهان ...). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 236. (¬3) في "معاني القرآن": جعلت بالياء. (¬4) في (ظ)، (ع): (الوقوف)، أثبت محقق كتابه الفراء: الوقوف وأشار إلى أن في بعض النسخ: الوقف. (¬5) أثبت محقق كتاب الفراء: زيدي ولا عمري. وقال في الحاشية: كتبت الألف فيهما ياء للإمالة كما يكتب الفتى والندى. ورسما في (أ): (وزيدًا وعمرا) وكتب فوق كل منهما. (يقال). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 236. (¬7) في "الحجة": فعلى. (¬8) في (ظ): (ولو)، في (أ)، (ع) و"الحجة": (وإن). (¬9) في "الحجة": فعلا.

رأيت عنتًا (¬1)، وهذا ليس بالكثير، ولا تحمل عليه القراءة ومن جعل الألف للإلحاق أو التأنيث أمال الألف إذا وقف عليها (¬2). والزجاج وأبو العباس يختاران (¬3) أن تكون الألف في قراءة من قرأ بالتنوين ألف الإعراب. قال أبو العباس: من قرأ (تترى) بغير تنوين فهو مثل شكوى غير منونة، ومن قرأ تترًا (¬4) مثل شكوت شكوى (¬5). وقال أبو الفتح: من نون جعل ألفها للإلحاق بمنزلة ألف أرطى ومعزى، ومن لم ينون جعل ألفها للتأنيث بمنزلة ألف سكرى وغضبى (¬6). وعلى القراءتين التاء الأولى بدل من الواو وأصلها: (وترى) و (وترا) (¬7)، فأبدل التاء من الواو كما قالوا: تولج وأصله وولج من ولج. وأنشد أبو إسحاق (¬8): فإن يَكُنْ أمْسَى البِلَى تَيْقُورِي أي: وْيقُوري فَيْعُول من الوقار (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (عثتًا)، وفي (ظ): (مهملة)، وفي (ع) و"الحجة": (عنتًا). (¬2) "الحجة" لأبي علي 5/ 296. (¬3) في (أ): (يختار). (¬4) في "تهذيب اللغة" 14/ 311: تترى. (¬5) قول أبي العباس في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 311 (تترى) مع تقديم وتأخير. (¬6) "سر صناعة الإعراب" (146 - 147). (¬7) في (أ): (موتري). (¬8) أنشد أبو إسحاق الزجاج هذا الشطر من الرجز في "معاني القرآن" 4/ 14 ومن غير نسبة وهو للعجاج كما في "ديوانه" ص 224، "الكتاب" 4/ 32، "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 311 (تترى)، "لسان العرب" 5/ 290 (وقر). (¬9) قوله: وعلى القراءتين إلى هنا نقلا عن "معاني" الزجاج 4/ 106 مع اختلاف يسير.

والمعنى: إن يكن أمسى الكبر وقاري، أي صوت وقورًا لبلاي وكبري (¬1). فقوله {تترى} فعلى أو فعلا من المواترة. قال الأصمعي: واترت الخبر: أتبعت بعضه بعضًا، وبين الخبرين هُنَيْهة (¬2). وقال أبو عبيدة: (تترى) بعضها في أثر بعض، يقال: جاءت كتبه تترى (¬3). وقال غيرهما: المواترة: المتابعة. أصل هذا كله من الوِتْر وهو الفرد (¬4)، ومعنى واترت: جعلت كل واحد بعد صاحبه فردًا فردًا. حكاه الزجاح (¬5) والأزهري (¬6). وقال محمد بن سلّام: سألت يونس عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} فقال (¬7): متقطعة (¬8) متفاوتة، وجاءت الخيل تترى (¬9) إذا جاءت ¬

_ (¬1) قال السيرافي في "شرح أبيات" سيبويه 2/ 423 - 424: يقول: إن كن بلي جسمي وضعف جسمي قد صيراني وقورًا قليل الحركة، يريد أنه صار وقورًا لكبره وبلاه وضعفه، وفي (يكن) ضمير الأمر والشأن، و (البلى) اسم أمسى، و (تيقوري): خبر أمسى. أهـ. (¬2) قول الأصمعي في "تهذيب اللغة" 14/ 311 (تترى). وأصله عند الزجاج في "معانيه" 4/ 14 لكن فيه: هنيفة. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 95. (¬4) في (أ): (الفر). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 14. (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 311 (تترى). (¬7) في (أ): (قال). (¬8) في (أ)، (ع): (منقطعة)، والمثبت من (ظ) وهو الموافق للتهذيب. (¬9) (تترى): ساقطة من (أ).

متقطعة، وكذلك الأنبياء بين كل نبيين دهر طويل (¬1). وقال أبو هريرة: لا بأس بقضاء رمضان تترى (¬2)، [أي متقطعًا] (¬3). وكلا المعنيين قريب من السواء؛ لأن أصل (¬4) المعنى من الإفراد، فإذا جاء الشيء فردًا فردًا (¬5) يقال فيه: تترى، سواء اتصل أو انقطع. وفي الآية المراد إرسال الرسل بعضها في إثر بعض غير متصلين كما قال يونس. ونحو هذا ذكر المفسرون في تفسير (تَتْرَا). فقال ابن عباس: يريد بعضها خلف بعض (¬6). وقال السدي ومقاتل (¬7): بعضهم في أثر بعض. وقال مجاهد: أتبع بعضها بعضًا (¬8). وتترى في القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال؛ لأن المعنى متواترة. ¬

_ (¬1) قول ابن سلام في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 311 (تترى). (¬2) قول أبي هريرة -رضي الله عنه- في "تهذيب اللغة" 14/ 311 (تترى) بهذا اللفظ. وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 32 بلفظ: لا بأس بقضاء رمضان متفرقًا. وبنحو رواية أبي شيبة رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 243، 244، والبيهقي في "سننه" 4/ 258. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ع). (¬4) في (ظ)، (ع): (الأصل). (¬5) (فردا) الثانية: ساقطة من (ظ). (¬6) روى الطبري 18/ 23 من طريق علي بن أبي طلحة، عنه قال: يتبع بعضها بعضًا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 99 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وقال: وفي لفظ قال: بعضهم على أثر بعض. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬8) رواه الطبري 18/ 24، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 99 وعزاه لابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

45

قوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} قال ابن عباس: فأهلكنا الأول والآخر. والمعنى: أهلكنا الأمم بعضهم (¬1) في أثر بعض. وقال مقاتل: فأتبعنا بعضهم بعضًا في العقوبات والإهلاك (¬2). {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد لمن بعدهم من الناس يتحدثون بأمرهم وشأنهم (¬3). والأحاديث جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به (¬4). والمعنى: أنهم يتحدث بهم على طريق المثل في الشر (¬5)، ولا يقال: جعلته (¬6) حديثًا في الخير (¬7) (¬8). 45 - قوله تعالى: {بِآيَاتِنَا} يعني الدلائل التي كانت لها من الجراد والقُمَّل وأخواتهما (¬9). {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} قال ابن عباس: وحُجَّة بينة (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (بعضها). (¬2) "تفسر مقاتل" 2/ 31 أ. (¬3) ذكره البغوي 5/ 418 من غير نسبة، وهو في "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬4) انظر: "حدث" في: "تهذيب اللغة" 4/ 405، "الصحاح" 1/ 278 - 279. (¬5) في (أ): (النشر)، وفي (ع): (الشيء)، وهما خطأ. (¬6) في (أ): (جعل)، وهي ساقطة من (ظ). (¬7) في (أ)، (ظ): (الخبر)، وهو خطأ. (¬8) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 59، وعزاه الثعلبي 3/ 61 ب للأخفش، وهو قول الطبري 18/ 24. وانظر: "تاج العروس" للزبيدي 5/ 221 "حدث" فقد نقل عن بعضهم أنها تقال أيضًا في الخير واستشهد لذلك. (¬9) في (أ): (وأخواتها). (¬10) ذكره البغوي 5/ 418 من غير نسبة.

46

قال مقاتل: يعني اليد والعصا (¬1). 46 - قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا} قال ابن عباس: عن عبادة الله. وقال الكلبي ومقاتل (¬2): تكبروا (¬3) عن الإيمان بالله. {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم. وهو معنى قول ابن عباس. علوا (¬4) علوًا على بني إسرائيل علوًا كبيرًا. قال المبرد: يقال: علا فلان، إذا ترفع وطغى وتجاوز، ومنه قوله تعالى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 31] أي لا تطغوا ولا تتكبروا (¬5) علي، ومنه قوله: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] يعني استعلاءً بالباطل وبما لا يجب، وهو من تعدى الحق تجبرًا وتكبرًا (¬6). وقال مقاتل: يعني متكبرين عن توحيد الله (¬7). 47 - وذكر تفسير هذا العلوّ فيما (¬8) بعد وهو قوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} قال ابن عباس ومقاتل: أنصدّق إنسانين مثلنا من لحم ودم ليس (¬9) لهما علينا فضل (¬10). {وَقَوْمُهُمَا} يعني بني إسرائيل. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ل 31 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" ل 31 أ. (¬3) (تكبروا): ساقطة من (أ). (¬4) في (أ): (علا). (¬5) في (ظ): (وتتكبروا)، بدون (لا). (¬6) انظر: (علا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 183، "الصحاح" للجوهري 6/ 2435، "لسان العرب" 15/ 83، 85. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬8) في (أ): (فيها). (¬9) في (ز): (وليس). (¬10) "تفسير مقاتل" ل 31 أوليس فيه قوله (من لحم ودم).

49

{لَنَا عَابِدُونَ} قال ابن عباس: مطيعون (¬1) (¬2). قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان لملك عابدًا له، ومن ذلك قيل (¬3) لأهل الحيرة (¬4): العباد؛ لأنَّهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم (¬5). وقال المبرد: العابد: المطيع والخاضع، ومنه اشتق العبد. ومنه قوله: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44] أي: لا تطعه (¬6) (¬7). 49 - قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} قال الكلبي ومقاتل (¬8): يعني التوراة جملة واحدة. ¬

_ (¬1) في (أ): (يطيعون). (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 61 ب، والبغوي 5/ 419، وابن الجوزي 5/ 475، وذكره الماوردي في النكت 4/ 55 وعزاه لابن عيسى. (¬3) في (ظ)، (ع): (قال). (¬4) الحيرة -بكسر لحاء ثم سكون الياء-: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة. "معجم البلدان" 3/ 376. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 589. والعبارة فيه: وكل من دان لملك هو عابد له، ومنه سمي أهل الحيرة العباد. أمّا ما ذكره الواحدي (العرب تسمي ...) وكذلك زيادة (لأنهم كانوا أهل طاعة ... العجم) فهذه العبارة من قول (والعرب ... العجم) ذكرها الطبري في "تفسيره" 18/ 25 وكذلك الثعلبي 3/ 61 ب. فالواحدي نقلها إمّا من الطبري أو من الثعلبي وهو الأقْرب، ثم نسبها إلى أبي عبيدة. والله أعلم. (¬6) في (ظ): (لا تطيعه). (¬7) انظر: (عبد) في "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 234، 236، "الصحاح" للجوهري 2/ 503. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ.

50

{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لكي يهتدوا به (¬1) من الضلالة. قال مقاتل: يعني بني إسرائيل؛ لأن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون وقومه (¬2). 50 - وقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي دلالة على قدرتنا وعبرة يعتبر بها ويتوصل (¬3) بها إلى العلم بتوحيدنا وقدرتنا. هذا معنى قول المفسرين (¬4). قال أبو إسحاق: لم يقل آيتين لأن المعنى فيها (¬5) آية واحدة (¬6). وهي ولادة من غير أبْ، فكانت الآية فيها واحدة (¬7). قال: ولو قيل آيتين لجاز؛ لأنَّهما قد كان في كل واحد منهما ما لم يكن في ذكر ولا أنثى، من أن مريم ولدت من غير فحل وعيسى كان روحًا من الله ألقاه (¬8) إلى مريم ولم يكن هذا في أحد قط (¬9). قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي جعلناهما يأويان إلى ربوة، وهي المكان المرتفع من الأرض (¬10). وقد مر في سورة ¬

_ (¬1) (به): ساقطة من (أ). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬3) في (ع): (فيتوصل). (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 25، والثعلبي 3/ 61 ب. (¬5) في (ظ)، (ع): (لأن المعنى فيهما معنى آية. بزيادة معنى. وليست هذه الزيادة عند الزجاج. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 14. (¬7) انظر: "الطبري" 18/ 25. (¬8) في (أ): (ألقاها). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 14. (¬10) انظر: "الطبري" 18/ 25، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 14، "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 273 (ربو).

البقرة (¬1). واختلفوا في هذه الربوة: فقال عبد الله بن سلام: هي دمشق (¬2). وهو قول سعيد بن المسيب (¬3)، وسعيد بن جبير (¬4)، ومقاتل (¬5)، ورواية عكرمة عن ابن عباس (¬6). وقال الحسن والضحاك: هي غُوطَة دمشق (¬7). وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: يريد بيت المقدس (¬8). وهو قول قتادة (¬9)، وكعب وقال: (¬10) هو أقرب الأرض إلى السماء ¬

_ (¬1) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]. (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 193، 194، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 61 ب - 62 أ. (¬3) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 45، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/ 191، والطبري 18/ 26، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 194، 195 وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 101 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم والطبراني. (¬4) ذكره عنه الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 56. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬6) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 192، 193 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 101 وقال: بسند صحيح. وزاد نسبته لوكيع والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وتمام الرازي في "فضائل النبوة" بلفظ: أنبئنا أنها دمشق. وذكره النحاس في "معاني القرآن" 4/ 462 من رواية عكرمة، عن ابن عباس بلفظ: نبئت أنّها دمشق. (¬7) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 197 عن الحسن. وذكره الثعلبي 3/ 62 أعن الضحّاك. (¬8) ذكره عنه من رواية عطاء: البغوي 5/ 419، وابن الجوزي 5/ 476. (¬9) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 45، والطبري 18/ 27، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 201، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 100 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد. (¬10) في (ظ)، (ع): (قال: وهو أقرب).

بثمانية عشر ميلًا (¬1). وهذا القول يروى أيضًا عن سعيد بن جبير (¬2)، وعكرمة (¬3)، والحسن (¬4). وروي عن أبي هريرة أنّه قال: هي الرَّمْلة (¬5). وقال السدي عن أصحابه: أنها أرض فلسطين من الشام (¬6) قوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} أي مستوية يستقر عليها. قال ابن عباس: هي أرض مستوية مرتفعة منبسطة (¬7). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 46، والطبري 18/ 27، والله أعلم بصحة ذكره. (¬2) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر. ولم أره عند ابن جرير. (¬3) لم أجد من ذكره عنه. (¬4) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 476. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 46، والطبري (ب 18/ 26)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 251. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد وأبي نعيم وابن أبي حاتم. وإسناده ضعيف، لأنَّ بشر بن رافع قال عنه الذهبي في "المغني" 1/ 105: قال أحمد وغيره: ضعيف. وقال ابن حجر في "التقريب" 1/ 99: ضعيف الحديث. وفيه أيضًا أبو عبد الله الدوسي ابن عم أبي هريرة قال الذهبي في "المغني" 2/ 795: لا يعرف. وتعقب الطبري هذا القول بأن الرملة لا ماء بها معين. انظر: الطبري 18/ 27. والرَّملة: مدينة بفلسطين، وكانت قصبتها. "معجم البلدان" لياقوت 4/ 286. (¬6) ذكره البغوي 5/ 419 عن السدي. قال الطبري 18/ 27 - بعد حكايته للأقوال في المكان الذي وصفه الله بهذه الصفة-: وأولى الأقوال بتأويل ذنك. أنَّها مكان مرتفع ذو استواء وماء ظاهر. وصَوَّب النحاس في "معاني القرآن" 4/ 463 هذا القول. (¬7) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 بنحوه وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال قتادة: ذات ثمار (¬1). ذهب إلى أنّه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها (¬2). و"قرار": مصدر يراد به موضع قرار كقوله: {مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] وقد مر. قوله: {وَمَعِينٍ} قال ابن عباس -في رواية عكرمة-: يعني أنها دمشق (¬3). وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المعين: الماء (¬4). وروى جابر (¬5)، عنه أنه: الماء البخاري (¬6)، وهو قول مقاتل (¬7). وروى سفيان، عنه أنه قال: المعين: الماء الظاهر (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 45، والطبري 18/ 28. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد وابن عساكر. (¬2) هذا قول الطبري. انظر تفسيره 18/ 28. (¬3) رواه ابن عساكر 1/ 192 - 193، وانظر تخريج الأثر عن ابن عباس ص 66 فهذا بقيته. (¬4) رواه الطبري 18/ 27 من طريق ابن أبي نجيح. (¬5) هو: جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، روى عن مجاهد وآخرين. واختلف فيه فوثقه شعبة والثوري، وضعفه الإمام أحمد وآخرون، وكدّبه بعضهم، وكان يؤمن بالرجعة. قال ابن حجر: ضعيف، رافضي. توفي سنة 127 هـ، وقيل: 128 هـ، وقيل: 132 هـ. انظر: "تهذيب الكمال" للمزي 4/ 456 - 472، "المغني" للذهبي 1/ 126، "تهذيب التهذيب" 2/ 46 - 51 و"تقريب التهذيب" 1/ 123 كلاهما لابن حجر. (¬6) ذكره عن مجاهد بهذا اللفظ -السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. ولم أره عند ابن جرير الطبري. (¬7) انظر "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬8) في (ظ)، (ع): (الطاهر)، بالمهملة، وهو خطأ لأن المراد أنه ظاهر تراه العيون. (¬9) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 329 عند قوله: {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} =

وهذا قول عكرمة، وسعيد (¬1)، والسدي. واختلفوا في اشتقاق معين: فقال الفَرَّاء: لك (¬2) أن تجعل المعين مفعولًا من العين (¬3)، وأن تجعله فعيلًا من الماعون، يكون أصله المَعْن، والمعن: الاستقامة (¬4). واختار الزَّجَّاج وابن قتيبة القول الأول. واستبعد (¬5) الزَّجَّاج أن يكون فعيلًا من المعن وقال: هذا بعيد؛ لأنَّ المعن في اللغة: الشيء القليل، ومعين: ماء جار من العيون (¬6). وقال ابن قتيبة: {وَمَعِينٍ} ظاهر من الماء، وهو مفعول من العين، كأنَّ أصله معيون، كما يقال: ثوبٌ مخيط، وبرٌ مكيل (¬7). واختار أبو علي القول الثاني، وزيف القول الأول، وقال: ليس المعن في اللغة الشيء القليل، ولكنَّه السهل الذي ينقاد ولا يعتاص (¬8)، ¬

_ = [الملك: 30] رواية عن بن عباس في قوله: "بماء معين" قال: ظاهر. ثم قال السيوطي: وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة مثله. (¬1) في (أ): (سعيد وعكرمة). وروى هذا القول عن سعيد: الطبري 18/ 27 وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 198 ووقع فيه: "الظاهر" بالمهملة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) (لك): ساقطة من (أ). (¬3) في (أ): (المعين)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 237. (¬5) في (أ): (فاستبعد). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 15 مع تقديم وتأخير. (¬7) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 297. (¬8) في (ظ)، (ع): (ولا يعتاض)، وهو خطأ. ويعتاص: يصعب استخراجه. انظر: "لسان العرب" 7/ 58 (عوص).

ومن هذا يقال: أمعن بحقِّه إذا أقرَّ، ومعنان (¬1) الماء: مسايله ومجاريه. والماعون: ما يسهل على معطيه من غير أن يكرثه، كالكلأ والماء والنار وسمي الزكاة ماعونًا لهذا (¬2). وروى أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي: معن الماء يمعن إذا جرى. [وأمعن أيضًا] (¬3)، وأمعنته أنا، ومياه معنان (¬4). ومعنان (¬5): جمع معين، كقضيب وقضبان (¬6). قال (¬7): ويدلك على (¬8) أن الميم فيه فاء [وليس من العين (¬9)] (¬10) أن أبا الحسن قال (¬11): قد حكي في قوله: {وَمَعِينٍ}: معن يمعن معانة. ¬

_ (¬1) مُعنان بالضمّ: كذا ضبطه الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" 4/ 272 (المعن). (¬2) "الإغفال" لأبي علي الفارسي 2/ 1135 - 1137، وما نقله الواحدي عن أبي علي من قوله: ومن هذا يقال: أمعن ... ماعونا لهذا. هو في الإغفال منسوبًا لابن الأعرابي من رواية أحمد بن يحيى. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬4) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" 3/ 16 من رواية ثعلب -أحمد بن يحيى- عنه. ورواه النحاس في "معاني القرآن" 4/ 465 بإسناده عن ابن الأعرابي من طريق أحمد بن يحيى "ثعلب". (¬5) (ومعنان): ساقط من (أ). (¬6) انظر: "لسان العرب" 13/ 410 - 411 "معن". (¬7) يعني أبا علي الفارسي. (¬8) في (ظ): (أن). (¬9) (من العين): ساقط من (ظ). (¬10) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬11) "العبارة في الإغفال" 2/ 1137: أن أبا الحسن قد حكى في قوله ... وأبو الحسن هو الأخفش، ولم أجد كلامه في معاني القرآن.

فمعين فعيل من هذا، لا يتجه على غير ذلك. فأما من ذهب فيه (¬1) إلى أنه من العين فما أرى قوله لا بعيدًا من الصواب ممتنعًا، ألا ترى أنه لا يقال: عين الماء إذا رؤى جاريًا من العين، وإنّما يقال: عين، إذا أصيب بعين، وله عندنا وجيه (¬2) ضعيف، وذلك أنَّ أبا زيد حكى أنهم يقولون للجبان: مفؤود، ولا فعل (¬3) له. وحكى أبو زيد أيضًا أنهم يقولون: مُدَرْهَمٌ (¬4) ولم (¬5) يقولوا دُرْهِمَ، فيجوز على قياس هذا الذي حكاه أبو زيد أن يكون معين مفعولاً، وإن لم يقل: عين. والقياس على هذا الشَّاذ النادر لا يراه سيبويه (¬6)، وليس ينبغي أن يؤخذ بهذا لضعفه، مع (¬7) فُشوّ (¬8) الأول وكثرته وظهور المعنى الذي وصفناه (¬9). ثم ذكر (¬10) بإسناد له (¬11) عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير في ¬

_ (¬1) (فيه): ساقطة من (ظ). (¬2) في (أ): (وجه). (¬3) في الإغفال 2/ 1138: قال: ولا فعل له. (¬4) مُدَرْهَم: -بفتح الهاء-: كثير الدوام. "لسان العرب" 12/ 699 "درهم"، "القاموس المحيط" 4/ 111. (¬5) في (ع): (ولا). (¬6) انظر: "الكتاب" 2/ 402، 4/ 8. (¬7) (مع): ساقطة من (ظ). (¬8) في (ظ): (فشؤه). (¬9) في (أ): (وصفت)، وفي (ظ)، (ع) والإغفال. (وصفاه). (¬10) يعني أبا علي الفارسي. (¬11) في (أ): (بإسناده).

51

قوله: {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} قال: سائح (¬1). وذكر بعض أصحاب المعاني أن معينًا فعيل من أمعن إذا أسرع. فهو فعيل بمعْنى مفعل (¬2). 51 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا} اختلفوا في هذا الخطاب: فذهب قوم إلى أنه خطاب لجميع الرسل، كأنَّه إخبار عمل قيل لهم. وهذا قول الضحاك، ومعنى قول ابن عباس- في رواية عطاء (¬3). ويدل على هذا حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) "الإغفال" لأبي علي الفارسي 2/ 1137 - 1140 مع تصرف -وأثره سعيد- الذي روه أبو علي في الإغفال رواه الطبري 29/ 23 من طريق سالم، عنه بلفظ: ظاهر. (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "لسان العرب" 13/ 409 (معن). (¬3) ذكر البغوي 5/ 420، والرازي 23/ 104، والقرطبي 12/ 128 هذا القول من غير نسبة لأحد. وهذا القول هو أقرب الأقوال، لأنَّه أوفق للفظ الآية. قاله الرازي 23/ 104 ولدلالة الحديث الذي ساقه الواحدي. وهو نداء خطاب لجميع الرسل باعتبار زمان كل واحد منهم، فدخل فيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو القول الثاني- وعيسى -صلى الله عليه وسلم- وهو قول ابن جرير- دخولاً أوّليًّا. وإنَّما ذكر أن الرسل نودوا بذلك ووصُّوا به، ليعتقد السامع أن أمرًا نودي له جميع الرسل ووصُّوا به حقيقٌ أن يؤخذ به ويعمل عليه. قاله الزمخشري 3/ 34. (¬4) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 328، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة - باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها 2/ 703، والترمذي في "جامعه" (كتاب التفسير- باب: ومن سورة البقرة 8/ 333 - 334.

وهذا يدل على أن الله تعالى عمَّ المرسلين بهذه الآية. وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2): يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وحده. واختاره الفراء، والقتيبي، والزَّجَّاج. قال الفراء: أراد النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فجمع كما يقال في الكلام للرجل الواحد: أيها القوم كُفُّوا عنا أذاكم. قال: ومثله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} (¬3) وهو (¬4) نعيم بن مسعود، كان رجلاً من أشجع (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 3/ 62 أعنهم سوى الكلبي. وذكره ابن الجوزي 5/ 477 مثل الثعلبي وزاد ابن عباس ثم قال: في آخرين. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬3) آل عمران: 173. (¬4) في (أ): (وهم). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 237. وما ذكره الفراء من أن المراد بالناس في قوله (الذين قال لهم الناس) هو نعيم بن مسعود قول حكاه القرطبي 12/ 279 عن مجاهد وعكرمة ومقاتل والكلبي. وأنَّ أبا سفيان بعد وقعة أحد جعل لنعيم بن مسعود جُعْلا على أنْ يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيخبره أن قريشًا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها. ثم حكى القرطبي عن جماعة من أهل العلم: أن المراد بالناس: ركب عبد القيس، مرُّوا بأبي سفيان فدَسَّهم إلى المسلمين ليثبطوهم. وقيل: الناس هنا: المنافقون. وقيل: هم ناس من هذيل سألهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي سفيان فقالوا: "قد جمعوا لكم". قال القرطبي 12/ 280: فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع. وقد صوَّب ابن عطية 3/ 298 - 299 القول بأن الناس هم ركب عبد القيس. وعزاه للجمهور. وضعف القول بأن لفظة "الناس" تطلق على رجل واحدإن هذه الآية، ووصف القول بأن الناس هو نعيم بن مسعود بالشذوذ. وانظر: الطبري 7/ 405 - 413، وابن كثير 1/ 428 - 430.

وقال الزَّجَّاج: إنّما خوطب بهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قيل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ}، وتضمن هذا الخطاب أن الرسل جميعًا كذا أمروا (¬1). وقال ابن قتيبة: خوطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع (¬2). وذهب أخرون إلى أن هذا إخبار عما قيل لعيسى -عليه السلام- وهذا الخطاب له (¬3). واختار محمد بن جرير هذا القول، واحتج بحديث أبي إسحاق السبيعي (¬4)، عن عمرو (¬5) بن شرحبيل في هذه الآية قال: كان عيسى يأكل من غزل أمّه (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 15. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة 3/ 297. (¬3) هذا قول الطبري 18/ 28، والثعلبي 3/ 62 أ. (¬4) هو: عمرو بن عبد الله، الهمداني، السبيعي، الكوفي، أبو إسحاق. شيخ الكوفة، وعلامها، ومحدثها. كان من العلماء العاملي، وقال علي بن المدينة: حفظ العلم على هذه الأمة ستة: ذكر منهم أبا إسحاق. قال الذهبي ثقة، حجة بلا نزاع، كبر وتغير حفظه تغير السن ولم يختلط. وقال ابن حجر: ثقة، عابد، اختلط بآخرة. توفي سنة 127 هـ، وقيل: 128 هـ. "طبقات ابن سعد" 9/ 313، "سير أعلام النبلاء" 5/ 392، "غاية النهاية" 1/ 602، "تهذيب التهذيب" 8/ 63، "تقريب التهذيب" 2/ 73، "طبقات الحفاظ" للسيوطي ص 43. (¬5) في (أ): (عمرة)، وهو نصحيف. (¬6) رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 28 عن عمرو، به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 100 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقد تعقَّب ابن عطية في "المحرر" 10/ 365 هذه الرواية بقوله: والمشهور أنه كان يأكل من بقل البرية.

وروي هذا القول مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل من غزل أمه" (¬1). قوله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال الضحّاك: أمرهم أن لا يأكلوا إلا حلالاً طيبًا (¬2)، كلهم أمرهم بذلك (¬3). والمعنى: كلوا من الحلال. قاله ابن عباس. قال الزَّخَّاج: وكل مأكول حلال مستطاب (¬4). ويقول قوم: إذا قلنا إنَّ هذا خطاب لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فالمراد بالطيبات الغنائم وأنها ما أحلت إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬5). قال الزَّجَّاج: وأطيب الطيبات الغنائم (¬6). ومضى الكلام في الطيبات عند قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (¬7). قوله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي اعملوا (¬8) بما أمركم الله به، وأطيعوه في أمره ونهيه. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} لا يخفى عليَّ شيء من أعمالكم. ¬

_ (¬1) رواه عبدان في الصحابة كما في "الدر المنثور" 6/ 102 عن حفص بن أبي جبلة مرفوعًا. ثم قال السيوطي: مرسل، حفصٌ تابعي. (¬2) (طيبا): ساقطة من (ظ). (¬3) رواه عنه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 أ) دون قوله: كلهم أمرهم بذلك. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 15 وتتمته: فهو داخل في هذا. (¬5) لم أجده. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 15. (¬7) البقرة: 57، 172. (¬8) (اعملوا): ساقطة من (أ).

52

52 - قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} في "إنَّ" ثلاثة أوجه من القراءة: أحدها: فتح الألف مع تشديد النّون (¬1) (¬2). قال الفراء: الفتح على قوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وبأن هذه (¬3) أمتكم، فموضعها خفض لأنها مردودة على (ما). قال: وإن شئت كان منصوبًا بفعل مُضْمرَ كأنك قلت: واعلمْ هذا. هذا (¬4) كلامه (¬5). والوجه في هذه القراءة ما ذكره أبو إسحاق وشرحه (¬6) أبو علي. قال أبو إسحاق -في قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} -: أي فاتقون لهذا (¬7). قال أبو علي: المعنى في هذه القراءة في قول الخليل وسيبويه (¬8) أنّه محمول على الجار، التقدير: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. أي اتقون (¬9) لهذا. ومثل ذلك عندهم قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] أي لأن المساجد لله لا تدعوا معه غيره. ¬

_ (¬1) في (أ): (مع التشديد للنّون). (¬2) أي: "وأنَّ هذه". وبها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو. "السبعة" ص 446، "المبسوط" لابن مهران ص 262، "التبصرة" ص 270، "التيسير" ص 159. (¬3) عند الفراء: وعليم بأن هذه. (¬4) (هذا): الثانية ساقطة من (ظ). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 237. (¬6) في (أ): (شرحه)، بدون واو. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 15. (¬8) "الكتاب" 3/ 126 - 127. (¬9) في "الحجة": اعبدوني.

وكذلك عندهما قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] [كأنَّه فليعبدوا ربَّ هذا البيت لإيلاف قريش] (¬1)، أي: ليقابلوا هذه النّعمة بالعبادة للمنعم عليهم بها (¬2). الوجه الثاني من القراءة: فتح الألف مع تخفيف "أن" (¬3). ومعنى هذه القراءة على تقدير الأولى. ألا ترى أنّ "أنَّ" إذا خُفِّفت اقتضت ما يتعلق به (¬4) اقتضائها وهي غير مخفّفة (¬5). قال أبو علي: والتخفيف حسن في هذا؛ لأنَّه لا فعل بعدها ولا شيء مما يلي (¬6) أن، وإذا كان كذلك كان تخفيفها حسنًا، ولو (¬7) كان بعدها فعل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 297. ويتحصل في نقل الواحدي عن الفراء والزجاج وأبي علي أن في قراءة من قرأ "أنَّ هذه" ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّها على حذف اللام، أي: ولأنّ هذه، وهذه اللام تتعلق بـ"اتقون". الثاني: أنها معطوفة على ما قبلها وهو قوله "بما تعملون" أي: إني عليم بما تعملون وبأنَّ هذه. الثالث: أن في الكلام حذفًا، تقديره واعلموا أنَّ هذه أمتكم. "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 488، "الكشف" لمكي 4/ 129، "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري 2/ 150، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 349. (¬3) أي: "وأنْ هذه" بفتح الألف وسكون النون، وهي قراءة ابن عامر. "السبعة" ص 446، "المبسوط" لابن مهران ص 262، "التبصرة" ص 270، "التيسير" ص 159. (¬4) في (ظ)، (ع): (بها)، والمثبت من (أ) و"الحجة". (¬5) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 297. وانظرت "علل القراءات" للأزهري 2/ 436، "الكشف" لمكي بن أبي طالب 2/ 129. (¬6) في "الحجة": ما لا يلي. (¬7) في (ظ): (وإن).

53

لم يحسن حتى تُعوّض السّين أو سوف أو (لا) إذا كان في نفي. فإذا لم يكن فعل بعدها (¬1) ساغ التخفيف، ومثله قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] (¬2). الوجه الثالث: كسر الألف مع التشديد (¬3)، على الاستئناف (¬4). ومعنى الآية: أنتم أهل دعوة واحدة ونصرة؛ فلا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا (¬5). قال مقاتل: يقول: هذه ملتكم التي أنتم عليها يعني ملة الإسلام ملة واحدة. عليها كانت الأنبياء والمؤمنون الذين نجوا من العذاب الذين ذكرهم الله في هذه السورة (¬6). ومضى الكلام في تفسير هذه الآية في سورة الأنبياء [آية: 92]. وأعلم الله (¬7) أن قومًا جعلوا دينهم أديانًا فقال (¬8): 53 - {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} قال مجاهد: هؤلاء أهل الكتاب (¬9). ¬

_ (¬1) (بعدها): ساقطة من (أ). (¬2) "الحجة" للفارسي 5/ 297. وانظر: "أوضح المسالك" لابن هشام 2/ 265. (¬3) أي: "وأنَّ هذه"، وهي قراءة عاصم، وحمزة، والكسائي. "السبعة" ص 446، "المبسوط" لابن مهران 262، "التَّبصرة" ص 270، "التيسير" ص 159. (¬4) "الحجة للفارسي" 5/ 297. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 436، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 488. (¬5) هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 297 بنصِّه. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬7) في (ظ): (والله أعلم). (¬8) من قوله: وأعلم الله إلى هنا. هذا قول الزجاج في "معانيه" 4/ 15. (¬9) رواه الطبري 18/ 30.

وقال الكلبي: يعني مشركي العرب واليهود (¬1)، والنصارى تفرّقوا أهواءً وأحزابًا (¬2). والكلام في هذا قد سبق في نظيرتها (¬3) في سورة الأنبياء [آية: 93]. قوله: {زُبُرًا} قال مجاهد وقتادة: كتبًا (¬4). قال أبو إسحاق: وتأويله جعلوا دينهم كتبًا مختلفة جمع زبور (¬5). وهي كتب أحدثوها- يحتجون فيها لمذاهبهم (¬6). وقرئ (زبرًا) بفتح الباء (¬7). ومعناه: قطعًا. جمع زُبْرة كقوله: {زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] (¬8). قال ابن عباس: يريد فِرقًا (¬9). وقال السدي ومقاتل: قِطعًا فرقًا، فصاروا أديانًا: يهودًا ونصارى وصابئين ومجوسًا وأصنافًا شتى كثيرة (¬10). ¬

_ (¬1) في (ظ): (اليهود). (¬2) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 478، والرازي 23/ 105. (¬3) في (ظ): (نظيرها). (¬4) رواه عن مجاهد الطبري في "تفسيره" 18/ 30، وذكره السيوي في "الدر المنثور" 6/ 103 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم. ورواه عن قتادة: عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 46، والطبري 18/ 29، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 103 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 16. (¬6) هذا كلام الطبري 18/ 30، والثعلبي 2/ 62 أ. (¬7) وهي قراءة الأعمش وأبي عمرو في رواية. انظر: "الشواذ" لابن خالويه ص 99، "البحر المحيط" 6/ 338، القرطبي 12/ 130. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 238 و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 46. (¬9) ذكره البغوي 5/ 42 ولم ينسبه لأحد. (¬10) ذكر الماوردي 4/ 57 أوَّله عن السدّي. وقول مقاتل في "تفسيره" 2/ 31 أ.

54

وقال الفراء: المعنى في زُبُر وزُبَر واحد (¬1). يعني أن الزُبْرة بمعنى القطعة تجمع على زُبُر وزُبَر، وعلى هذا ليس للكتب في الآية معنى، ويدل على هذا أنّ الذين قالوا من المفسرين في الآية فرقًا وقطعًا لم يقولوه في قراءة من قرأ بفتح الباء، وإنَّما فسروه على قراءة العوام. وقد قال المبرد: {زُبَرًا} أي فرقًا مختلفة وأحدها زَبُور. والزُّبَر واحدها زُبْرة وهي القطعة (¬2). وعلى هذا الزبور الفرقة والطائفة. وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} قال ابن عباس: يريد بما عندهم من خلاف النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرورون. وقال مقاتل: يقول: كل أهل ملة بما عندهم من الدين راضون (¬3). ومضى الكلام في الفرح عند قوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]. وقال الفراء: يقول معجبون بدينهم يرون أنهم على الحق (¬4). 54 - قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قال مقاتل: يعني كفار مكة، يقول: خل عنهم في غفلتهم (¬5). وقال ابن عباس: يريد في ضلالتهم (¬6). وهو قول قتادة (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 238. (¬2) لم أجده. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 238. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 3/ 62 أ. (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 46.

55، 56

وقال ابن زيد: عماهم (¬1). وقال الفراء: في جهالتهم (¬2). وقال الزَّجَّاج: في عمايتهم وحيرتهم (¬3). ومعنى الغمرة في اللغة: هي ما يغمرك ويعلوك ويغطي عليك. يقال: ما أشد غمرة هذا النهر، أي: يغطي على من دخله (¬4). ثم الجهالة والضلالة والحيرة مما يغطي على قلب الإنسان وعقله، فيقال لها: غمرة. وذكرنا (¬5) الكلام فيها عند قوله: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93]. وقوله: {حَتَّى حِينٍ} قال ابن عباس: يريد نزول العذاب بالسيف أو بالموت (¬6). 55، 56 - قوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} قال الفراء: (ما) في موضع الذي، وليست بحرف واحد: يقول: أيحسبون أنَّ ما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين أنّا جعلناه لهم ثوابًا (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 62 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 238. (¬3) "معاني القرآن" اللزجاج 4/ 16. قال الشنقيطي في أضواء "البيان" 5/ 795: وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجع إلى شيء واحد .. وهو أنَّه أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال والغي والمعاصي. (¬4) انظر: (غمر) في "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 128 - 129، "الصحاح" للجوهري 2/ 772، "لسان العرب" 5/ 29. (¬5) في (أ): (ذكرنا). (¬6) ذكره الرازي 23/ 105 بمعناه من غير نسبة. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 238.

وقال الزجاج: تأويل الآية: أيحسبون أنّ إمداد الله لهم بالمال والبنين مجازاة لهم؟ وإنَّما هو استدراج لهم من الله -وهو معنى قوله: {لَا يَشْعُرُونَ} (¬1) - و (ما) في معنى الذي، المعنى: أيحسبون أنّ الذي غرهم به (¬2) من مال وبنين نسارع (¬3) لهم في الخيرات (¬4). ومثل هذا ذكر صاحب النظم فقال: انتظام الآيتين بإضمار الباء على تأويل: نسارع لهم به في الخيرات (¬5) كما قال -عز وجل-: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬6) ¬

_ (¬1) قوله: وهو معنى قوله "بل لا يشعرون" مدرجة من كلام الواحدي وليست من كلام الزجاج. (¬2) (به): ساقطة من (ظ). (¬3) عند الزجاج: نسارع لهم به. (¬4) "معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 16، وفي "ما" وجهان آخران: أحدهما: أن تكون مصدرية، والتقدير: أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعةٌ منا لهم في الخيرات. الثاني: أنَّها مهيئة كافَّة. وبه قال الكسائي، وحينئذ يجوز الوقف على "زبنين". انظر: "القرطبي" 12/ 131، "البحر المحيط" 6/ 409، "الدر المصون" 8/ 351. (¬5) مراد صاحب النظم أن "ما" بمعنى الذي وهي اسم "أنّ"، وصلتها ما بعدها، وخبر "أنَّ" هو الجملة من قوله "نسارع لهم في الخيرات" والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره: نسارع لهم في الخيرات. قال أبو حيان وحسَّن حذفه استطالة الكلام مع أمْن اللَّبس. وقيل: الرابط بين هذه الجملة واسم "أنَّ" هو الظاهر الذي قام مقام الضمير من قوله "من الخيرات" إذْ الأصل: نسارع لهم فيه، ثم أظهْر فأوقع "الخيرات" موقعه تعظيمًا وتنبيها على كونه من الخيرات، ولا حذف على هذا التقْدير. انظر: "القرطبي" 12/ 130، "البحر المحيط" 6/ 409، "الدر المصون" 8/ 351. (¬6) النحل: 50، التحريم: 6.

[أي: يؤمرون] (¬1) به وكما (¬2) قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] بالله غيره. قال ابن قتيبة: {نُسَارِعُ} بمعنى (¬3): نُسرع (¬4). والمعنى: [أيحسبون أنَّا تقدم لهم ثواب أعمالهم لرضانا عنهم. وقال ابن عباس] (¬5): أيحسبون أن الذي بسطت لهم في الرزق فأغنيتهم وأكثرت أموالهم (¬6) وأولادهم إن ذلك خير لهم بل هو شر لهم {لَا يَشْعُرُونَ} لا يعلمون غيبي (¬7). وقال مقاتل: يقول: لا يشعرون أن الذي أعطاهم من المال والبنين هو شر لهم كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬2) في (أ): (فكما). (¬3) (بمعنى): ساقطة من (ظ). (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 298. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) (أموالهم): ساقطة من (أ، ظ)، وفيهما: وأكثرت أولادهم. (¬7) في (أ): (غبني). (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية - 110، 111 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (57) من سورة المؤمنون إلى آخر سورة النور سورة الفرقان تحقيق د. سليمان بن إبراهيم الحصين أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء السادس عشر

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [16]

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ؛ سليمان بن إبراهيم الحصين، الرياض 1430 هـ 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 4 - 873 - 04 - 9960 - 978 (ج 16) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 4 - 873 - 04 - 9960 - 978 (ج 16)

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية - 110، 111 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (57) من سورة المؤمنون إلى آخر سورة النور سورة الفرقان تحقيق د. سليمان بن إبراهيم الحصين أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء السادس عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من آية (57) من سورة المؤمنون إلى آخر سورة النور تحقيق د. عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ

57

57 - ثم ذكر المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} الخشية من الله خشيته (¬1) من عذابه (¬2) وسخطه. والإشفاق: الخوف، يقول: أشا مشفق (¬3) من هذا الأمر. أي: خائف (¬4) (¬5). قال ابن عباس: يريد أشفقوا (¬6) من (¬7) عذابي، ولم يأمنوا مكري. وقال الكلبي: خائفون من عذابنا (¬8). وهذه صفة أهل طاعته في الدنيا. وقال مقاتل: مشفقون من عذابه (¬9). هذا قول المفسرين، وقد ذكروا ما يشفقون منه وهو العذاب، وحذف ذكره للإحاطة به والمعنى: والذين هم لما هم عليه من خشية الله مشفقون من عذابه (¬10). ولا يصح نظم الآية إلا بإضمار ما أشفقوا منه؛ لأنّه لا يقال: خشي من خشية الله إلا بإضمار مفعول لخشي. فإن جعلت من خشية الله مفعول خشي لم يحسن، لأنَّه لا يُخشى من الخشية، كذلك هؤلاء لم يشفقوا من الخشية إنما أشفقوا من العذاب لما انطووا عليه من خشية الله وحذر عذابه. ¬

_ (¬1) في (أ): (خشية). (¬2) في (ظ)، (ع): (عقابه). (¬3) في (ع): (مشفوق)، وفي (ظ): (مشفقون). (¬4) في (ظ): (خائفون). (¬5) هذا القول في "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 332 "شفق" منسوبًا إلى الليث. وانظر: "لسان العرب" 10/ 179 - 180 "شفق". (¬6) في (أ): (شفقوا). (¬7) (من): ساقطة من (أ)، (ع). (¬8) ذكره عنه الرازي 23/ 106، وأبو حيان 6/ 410. (¬9) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬10) في (ظ)، (ع): (عقابه).

58

58 - قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس ومقاتل: يصدقون بالقرآن أنه من عند الله (¬1). 59 - {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} الأوثان في العبادة، ولا يعبدون معه غيره، لكنهم يوحدون ربهم. قاله الكلبي ومقاتل (¬2). وقال أهل المعاني: هذا بيان بأن (¬3) خصال الإيمان لا تصلح إلا بترك الإشراك، وليس (¬4) على ما يقوله أهل الجاهلية: إنا مؤمنون بالله، وهم يعبدون معه غيره (¬5). 60 - وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال ابن عباس: يريد يعملون الأعمال الصالحة ويتصدقون (¬6) بالصدقة الكثيرة وقلوبهم خائفة من الله -عز وجل- أن لا يقبل ذلك منهم (¬7). وقال الكلبي: قلوبهم خائفة ألا تقبل منهم. وقال الحسن: يعملون ما عملوا من البر والعمل الصالح (¬8) وقلوبهم وجلة أيتقبل منهم أم لا (¬9)؟. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬3) في (أ)، (ع): (أن). (¬4) في (أ)، (ع): (ليس). (¬5) ذكر هذا المعنى الطوسي في "التبيان" 7/ 334 ولم ينسبه لأحد. (¬6) في (أ): (ويصدّقون). (¬7) روى الطبري 18/ 33 عن ابن عباس قال: يعملون خائفين. (¬8) في (ظ): (من العمل الصالح. سقط فيها البر). (¬9) روى وكيع في "الزهد" 1/ 390، وأحمد في "الزهد" ص 286، والطبري 18/ 32 عن الحسن الشطر الأول مه، ولفظ باقيه عندهم: وهم مشفقون -وعند الطبري: يخافون- أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربَّهم.

وقال مجاهد في هذه الآية: المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل (¬1). وقال قتادة والسدي: يُعطون ما أعطوا ويعملون ما عملوا من خير وقلوبهم خائفة من الله (¬2). وهذا المعنى الذي ذكره المفسرون هو ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق (¬3)؟ قال: "لا كما ابنة الصديق! ولكنّه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه" (¬4). وكانت عائشة تقرأ: (يأتون ما أتوا) (¬5) أي يعملون ما عملوا. يقال: ¬

(¬1) رواه الطبري 18/ 32، وذكره السيوطي في الدر المنثور" 6/ 106، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. (¬2) رواه عن قتادة: عبد الرزاق في تفسيره 2/ 46، والطبري 18/ 33، وذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 وزاد نسبته لعبد بن حميد. ولم أجد من ذكره عن السدي. (¬3) (ويسرق): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬4) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 159، والترمذي في (كتاب التفسير -ومن سورة المؤمنين 9/ 9، 20، وابن ماجه في أبواب الزهد- باب التوقي على العمل 2/ 425، والطبري في "تفسيره" 18/ 34، والحاكم في "مستدركه" 2/ 393 - 394، والبغوي في "معالم التنزيل" 5/ 421. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 105 وعزاه لمن تقدم سوى البغوي، وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين. وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان. والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني كما في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 95 - 97. (¬5) بفتح الياء، وألف بعدها، و"ما أتوا" مقصور. انظر: "الشواذ" لابن خالويه ص 98، "المحتسب" لابن جني 2/ 895، "تعليل القراءات الشواذ" للعكبري ص 275.

فلان يأتي العمل الصالح ويأتي العمل الخبيث، ولهذا (¬1) ذهب وَهْمُها (¬2) إلى أنّه الذي يزني ويشرب (¬3) ويسرق. وسألها عبيد بن عيير عن قراءتها فقالت: أشهد لكذلك (¬4) كان رسول الله يقرؤها، وكذلك أنزلت (¬5). والقراء اليوم مجمعون على {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}. قال ابن عمر: يؤدون الزكاة (¬6). وإنّما خَصَّ إيتاء الزكاة من بين الطاعات؛ لأن من أدّى الزكاة وأطاع الله فيها فهو في غيرها أطوع، وكأنَّ إيتاء الزكاة عبارة عن الأعمال ¬

_ (¬1) في (ظ): (وهذا). (¬2) وهمها: أي ظنها. انظر: "الصحاح" للجوهري 5/ 2054 (وهم). (¬3) ويشرب: ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (كذلك). (¬5) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 أ)، والإمام أحمد في مسنده 6/ 95، 144. والبخاري في كتابه "الكنى" ص 28. قال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 248: فيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف. قال ابن كثير 3/ 248: والمعنى على القراءة الأولى -يعني يؤتون- وهي قراءة السبعة وغيرهم أظهر، لأنَّه قال "أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون" فجعلهم من السابقين، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى -يعني: يأتون ما أتوا- لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين. والله أعلم. اهـ. (¬6) رواه الطبري 18/ 32 من رواية ابن أبجر، عن ابن عمر. وفي سنده جهالة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 106 وزاد نسبته للفريابي. وذكر ابن عطية 10/ 370 عن ابن عباس وابن جبير أنهما قالا: هو عام في جميع أنواع البرّ. ثم قال ابن عطية: وهذا حسن، كأنَّه قال: والذين يعطون من أنفسهم في طاعه الله ما بلغه جهدهم.

الصالحة، إذْ هو الأفضل والأشق على النفس. قال الحسن في هذه الآية: المؤمن جمع إحْسانًا وشفقة (¬1). فأما نظم الآية فقد ذكر الفراء وجهًا، وذكر الزَّجَّاج وجها آخر، وجمعها صاحب النظم وشرحهما. قال الفراء: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أنّهم (¬2) من أنَّهم فإذا ألقيت (مِنْ) نصبت (¬3). وقال الزَّجَّاج: قلوبهم خائفة؛ لأنهم إلى ربهم راجعون، أي لأنهم يوقنون بأنّهم يرجعون إلى الله يخافون (¬4). وقال صاحب النظم: في هذه الآية قولان: أحدهما: أن يكون قوله: {وَجِلَةٌ} واقعًا على قوله: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وهو على تأويل: خائفون (¬5) رجوعهم. أي يخافون رجوعهم إلى ربِّهم. [فيكون الخوف منهم واقعًا على البعث والحساب وما يكون فيهما. وهذا معنى قول الفراء. والقول الآخر: أن يكون الخوف واقعًا على مضمر، وقوله: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ} سببًا له على تأويل: وقلوبهم وجلةٌ أنَّها لا تقبل منهم لعلمهم أنهم إلى ربهم] (¬6) راجعون. والخوف واقع (¬7) على أنه لا يقبل منهم نفقاتهم. ¬

_ (¬1) رواه الطبري 18/ 32. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 105 وزاد نسبته لابن أبي حاتم. (¬2) عند الفراء: وجلةٌ من أنّهم. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 238. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 17. (¬5) في (أ)، (ع): (خائفة). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) في (أ): (واقع عليه على أنّه) بزيادة عليه.

61

وقوله (¬1) {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} سببٌ لهذا الخوف (¬2). وهذا معنى قول أبي إسحاق وأكثر المفسرين لأنهم جعلوا الخوف واقعا على أن لا يقبل (¬3) منهم (¬4). 61 - وقوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} يبادرون في الأعمال الصالحة التي ذكر الله لهم قبل هذه الآية. قال الزَّجَّاج: يقال: أسرعت وسارعت في معنى واحد إلا أن سارعت أبلغ من أسرعت (¬5). وهذا كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] وقد مرّ. وقوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قال أبو إسحاق: فيه وجهان: أحدهما: هم إليها سابقون (¬6). وهذا قول الفراء (¬7)، ومعنى قول ابن عباس: ينافسون فيها أمثالهم من أهل البر والتقوى (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (قوله) سقطت الواو. (¬2) والمعنى على هذا: سبب الوجل الرجوع إلى ربهم. انظر: "الدر المصون" 8/ 353. (¬3) في (ظ)، (ع): (يتقبّل). (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 32، القرطبي 12/ 132. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 17. قال السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 353 - مبينا قول الزجاج-: يعني من حيث إنّ المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المغالبة. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 17. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 238. (¬8) ذكره عنه الماوردي 4/ 59، والبغوي 5/ 422.

وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. وعلى هذا المعنى: هم إلى الخيرات سابقون غيرهم لإسراعهم فيها ومبادرتهم إليها. والوجه الآخر: هم من أجلها، أي من أجل اكتسابها، كما تقول: أنا أكوم فلانا لك، أي: من أجلك (¬1) (¬2). والمعنى على هذا القول: وهم لأجل الخيرات سابقون غيرهم، أي إنما يسبقون غيرهم لأجل اكتسابها. وذكر صاحب النظم على هذا الوجه معنى آخر لقوله: {سَابِقُونَ} فقال: تأويل الآية: وهم من أجلها، أي: من أجل مسارعتهم في الخيرات سابقون يوم القيامة إلى الجنَّة يسبقون (¬3) غيرهم ممن لا يسارع في الخيرات (¬4). وعلى هذا، الكناية في لها تعود [إلى المسارعة ودل عليها قوله: {يُسَارِعُونَ}، وعلى ما قال أبو إسحاق يعود] (¬5) إلى الخيرات (¬6). ¬

_ (¬1) في (ظ): (لأجلك). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 17. (¬3) في (ظ)، (ع): (أي يسبقون). (¬4) ذكر مكي في "الهداية إلى بلوغ النهاية" 3/ 116 هذا القول ولم ينسبه لأحد. وانظر: "الكشاف" 3/ 35، "الدر المصون" 8/ 354. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬6) قال الطبري 18/ 34 - بعد أن ذكر أن بعضهم تأوّل ذلك بمعنى: وهم إليها سابقون، وبعضهم بمعنى: وهم من أجلها سابقون-: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي قاله ابن عباس من أنَّه سبقت لهم من الله السعادة قبل مسارعتهم في الخيرات، ولما سبق لهم من ذلك سارعوا فيها. قال: وإنَّما قلت ذلك أولى التأويلين بالكلام؛ لأنَّ ذلك أظهر معنييه، وأنَّه لا حاجة بنا إذا وجهنا =

62

62 - قوله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قال الكلبي: إلا طاقتها من العمل فمن لم يستطع أن يصلي قائمًا فليصل جالسًا (¬1) (¬2). وهذا مما سبق الكلام فيه في سورة البقرة (¬3). ولا تعلق للقدرية بهذه الآية إن احتجوا بها علينا في تكليف الكافر الإيمان مع إرادة الله كفره، لأنّ الآية تحمل على ما (¬4) لا يتوهم وجوده في المعقول مثل تكليف الأعمى أن ينظر والزَّمِن أن يمشي. فأمّا إيمان الكافر فذلك جائز في الموهوم أن يكون منه والإرادة مغيبة عنا وعنه. ثم يلزمهم مثل هذا في العلم وذلك أنّ كلّ من سبقت الإرادة له بالكفر فقد سبق العلم بأنه يموت كافرا والعلم لا يتبدل والمعلوم لا يتغير. فإن لزمنا على الإرادة تكليف ما لا يطاق لزم القدرية على العلم تكليف ما لا يطاق. وقوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد اللوح ¬

_ = تأويل الكلام إلى ذلك إلى تحويل اللام التي في قوله "وهم لها" إلى غير معناها الأغلب عليها. اهـ. وقول ابن عباس الذي أشار إليه رواه هو في "تفسيره" 18/ 34 وابن أبي حاتم (كما في "تغليق التعليق" لابن حجر 5/ 190، ورواه البخاري في صحيحه (كتاب القدر- باب حق القلم على علم الله 11/ 491) معلقا. قال ابن حجر في "الفتح" 11/ 492: ويجمع بين تفسير ابن عباس وظاهر الآية أن السعادة سابقة وأن أهلها سبقوا إليها، لا أنهم سبقوها. (¬1) في (ظ): (قاعدًا). (¬2) ذكر البغوي 5/ 422 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬3) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. (¬4) في (أ): (عليها).

63

المحفوظ (¬1) وفيه مكتوب كل شيء سبق في علم الله. {يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} يبين بالصدق (¬2). والنطق مستعارٌ للكتاب يراد به التبيين. ومعنى الآية: أنا لا نكلّف نفسًا إلا ما أطاقت من العمل، ونعلم إيش يعمل (¬3)؛ لأنا قد أثبتنا عمله في اللوح المحفوظ، فهو ينطق به ويبينه. قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قال ابن عباس: لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثقال ذرَّة (¬4). 63 - قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ} قال مقاتل: يعني الكفار {فِي غَمْرَةٍ} في غفلة (¬5). وقال الكلبي: في جهالة (¬6). وقد مَرَّ قبيل (¬7). وقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ} قال مجاهد: يعني القرآن (¬8). وهو قول مقاتل ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. وفي الكتاب. هنا- قول آخر حكاه الثعلبي 3/ 62 ب وهو أنه كتاب إحصاء الأعمال الذي تكتبه الحفظة. واستظهر هذا القول ابن عطية 10/ 376، والقرطبي 12/ 134. وقال عنه الشنقيطي في "أضواء البيان" 5/ 796 إنّه الحق. واستدل له بقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. (¬2) الطبري 18/ 35. (¬3) في (أ): (استعمل). (¬4) ذكر ابن الجوزي 5/ 481 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬6) ذكره عنه الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 58 عند قوله "في غمرتهم حتى حين". (¬7) عند قوله تعالى {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}. (¬8) رواه الطبري 18/ 35، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 106 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر.

يقول: في غفلة من الإيمان بهذا القرآن (¬1). وذكر أبو إسحاق وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون هذا إشارة إلى [ما وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة. والثاني: أن يكون إشارة إلى] (¬2) الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم محصاة فيه (¬3). قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} قال ابن عباس: يريد مما سبق في علمي وكان في اللوح المحفوظ. وقوله: {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قال الكلبي: ولهم أعمال خبيثة من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله في الآيات (¬4) السابقة (¬5). وقال مقاتل: يعني غير الأعمال الصالحة التي ذكرت عن المؤمنين (¬6). وعلى هذا الإشارة بقوله ذلك تعود إلى ما ذكر من أعمال البر على المؤمنين. وقال السدي: {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قبل أن يقع بهم العذاب، وذلك يوم بدر. وعلى هذا الإشارة تعود إلى قوله: {حَتَّى حِينٍ} يعني يوم بدر. يقول: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 17 - 18 مع اختلاف يسير. (¬4) في (أ): (الإيمان)، وهو خطأ. (¬5) ذكره البغوي 5/ 422 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب.

لهم أعمال مكتوبة عليهم لا بد من (¬1) أن يعملوها قبل يوم بدر. وقال صاحب النظم: {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} من غير ذلك كما قال: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2) أي لهم أعمال سوى ما في قلوبهم من الغمرة التي غمرتها وغلبت عليها. قوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [قال ابن عباس: يريد لا بد أن يعملوها (¬3). وقال مقاتل: يقول وهم لتلك الأعمال الخبيثة عاملون،] (¬4) أي أنهم سيعملونها لا بد لهم من أن يعملوها (¬5). وقال مجاهد: أعمال لا بد لهم من أن يعملوها (¬6). وقال حميد (¬7): سألت الحسن عن قوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال: أعمال لم يعملوها سيعملون بها (¬8). وقال أبو إسحاق: أخبر الله -عز وجل- بما سيكون منهم، فأعلم أنهم سيعملون أعمالاً تباعد (¬9) من الله غير الأعمال التي ذكروا بها (¬10). ¬

_ (¬1) (من): ساقطة من (أ). (¬2) يونس: 38، هود: 13. (¬3) ذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 107 وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) ما بين المعقوفبن ساقط من (ع). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬6) رواه الطبري 18/ 36، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 107 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) هو: حميد الطويل. (¬8) رواه الطبري 18/ 36 عن حميد، به. وفيه: سيعملونها. (¬9) في (ع): (لا تباعد)، وهو خطأ. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18.

64

وقال الفراء: أعمال منتظرة مما سيعملونها (¬1). قال صاحب النظم: {لَهَا عَامِلُونَ} أي بها فتقوم اللام مقام الباء، وقد تكون بمنزلة قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وقد يكون بمنزلة من أجل أي: ولهم أعمال سواها هم (¬2) من أجل الغمرة التي على قلوبهم عاملون إياها. وفيه دليل على ثبوت القدر لإيجابه -عز وجل- إتيانهم (¬3) أعمالاً يعملونها قبل كونها هذا كلامه. وقد ترى إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أنَّ هذا إخبار عمّا سيعملونه من أعمالهم (¬4) الخبيثة التي كتبت عليهم لا بد لهم أن يعملوها. ففي هذا دليل على أن كلا ميسر لما خلق له وأن هؤلاء كتب عليهم ما هم عاملون. 64 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} قال ابن عباس، والكلبي، ومقاتل، والسدي: جبابرتهم وأغنياءهم ورؤوسهم (¬5). قال المبرّد: المترف: المتقلب في لين العيش (¬6). ومنه قوله -عز وجل- ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 238. (¬2) (هم): ساقطة من (أ). (¬3) في (أ): (إيتنافهم) وفي (ظ)، (ع): (إيتنامهم) ولعل الصواب: إتيانهم. (¬4) في (أ): (أعمال). (¬5) "تفسر مقاتل" 2/ 31 ب. وذكر الماوردي 4/ 6 عن الكلبي أنه قال: الموسع عليهم بالمال والولد. وذكر الثعلبي 3/ 62 عن بعضه من غير نسبة الأحد. (¬6) (العيش): ساقطة من (ظ)، (ع).

{وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [المؤمنون: 33] (¬1). وقوله: {بِآلْعَذَابِ} يعني بالسيوف يوم بدر. وهو قول ابن عباس (¬2)، ومجاهد (¬3)، وقتادة (¬4)، ومقاتل (¬5)، والسدي. وقال الكلبي (¬6)، والضحاك (¬7): يعني بالجوع سبع سنين، حين دعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬8). والقول هو الأول. وهو اختيار أبي إسحاق قال: العذاب الذي أخذوا به السيف (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "ترف" في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 271، "لسان العرب" 9/ 17. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 62 ب. (¬3) رواه الطبري 18/ 37، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 107 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) رواه عبد الرزاق 2/ 47، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 107 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬6) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 482. (¬7) ذكره عنه الثعلبي 3/ 62 ب. وذكره ابن الجوزي 5/ 482. مع القائلين بالقول الأول. (¬8) روى البخاري في الدعوات -باب الدعاء على المشركين 11/ 194 - 195، ومسلم في المساجد- باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة 1/ 466 - 467 من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم كسني يوسف". (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18. والأولى عدم تقييده بعذاب معين. قال ابن كثير 3/ 249: أي إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا، عذاب الله وبأسه ونقمته بهم.

قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قال ابن عباس: يتضرعون (¬1). وقال السدي ومقاتل: يصيحون إلى الله (¬2). وقال الزجاج: يضجون (¬3). قال المبرد: هو الضجيج الشديد. وأنشد أبو عبيدة (¬4): إنَّنِي والله (¬5) فاقْبَلْ حَلِفي (¬6) ... بأبِيلٍ (¬7) كلَّما صَلَّى جَأرْ (¬8) ¬

_ (¬1) أخرج الطبري 18/ 37 وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 6/ 108 عن ابن عباس قال: يستغيثون. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 11/ 177 "جأر" عن السدّي. وانظر: "تفسير مقاتل" 312 ب وفيه: يضجون. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18. (¬4) في (أ): (أبو عبيد)، وهو خطأ. (¬5) في (ظ)، (ع): (واه). (¬6) في (ع): (خلفي) ومهملة في (ظ). (¬7) في جميع النسخ: (بابيل) مهملة. والمثبت من مجاز القرآن وغيره. (¬8) البيت أنشده أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 60 عند هذه الآية من سورة "المؤمنون" ونسبه لعدي بن زيد، وروايته "فاسمع" مكان "فأقبل". وأنشد قبل ذلك 1/ 361 عند قوله {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] منسوبًا لعدي وروايته هناك: (فاقبل). وهو في "ديوان عدي بن زيد العبادي" ص 61، "المعاني الكبير" لابن قتيبة 2/ 837، "الأغاني" للأصفهاني 2/ 113، "مقاييس اللغة" 1/ 42 والصاحبي في "فقه اللغة" (ص 107) كلاهما لابن فارس، "الصحاح" للجوهري 4/ 1619 "أبل"، "لسان العرب" 11/ 7: (أبل)، "خزانة الأدب" 1/ 65. ورواية "الديوان" و"الأغاني": (لأبيل) مكان (بأبيل). ورواية "الديوان" و"الصاحبي": "حلفتي" مكان (حلفي). وهذا البيت من قصيدة ذكر "صاحب الأغاني" 2/ 113 أنه قالها عندما سجنه =

65

65 - قوله: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ}. أي يقال لهم: لا تجأروا اليوم. فأضمر القول. قال ابن عباس: يريد لا تتضرعوا] (¬1) عندما أتاكم العذاب. {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} قال مقاتل: يقول: لا تمنعون منا (¬2). والمعنى: لا تُحفظون من أمر يريده الله بكم. يعني القتل ببدر. قال قتادة: نزلت في الذين قتلوا يوم بدر (¬3). ثم ذكر أن إعراضهم عن القرآن أوجب أخذهم بالعذاب بقوله: 66 - {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} قال ابن عباس والمفسرون: يريد القرآن (¬4). ¬

_ = النعمان بن المنذر ومطلعها: أبلغ النعمان مني مَألكا قال ابن منظور 11/ 7: الأبيل -بوزنه الأمير- الراهب. سُمّي به لتأبّله عن النساء وترك غشيانهن ... ، وقيل: هو راهب النَّصارى. والباء في قوله (بأبيل) تحتمل وجهين: الأول: أن تكون بمعنى الكاف، وهذا ما ذكره ابن فارس في الصاحبي، وقال: قالوا: معناه: كأبابيل، وهو ... الثاني: أن تكون باء القسم، فهو يريد استحلاف النعمان بالله أن يقبل حلفه بالأبيل. وهذا ما أشار إليه ابن منظور 11/ 7 بعد إنشاده للبيت، حيث قال: وكانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب. (¬3) رواه عبد الرزاق 2/ 47، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 107 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬4) انظر: "الطبرني" 18/ 38، والثعلبي 3/ 63 أ.

67

قوله: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} قال مقاتل: تتأخّرون عن الإيمان به تكذيبًا بالقرآن (¬1). ومضى الكلام في النكوص (¬2) عند قوله: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] 67 - قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} أكثر المفسرين على أن الكناية في قوله: {بِهِ} (¬3) تعود إلى الحرم، أو إلى البيت، أو إلى البلد مكة. قال مجاهد: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} بالبلد مكة (¬4). وقال أبو صالح: بالبيت (¬5). وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬6). قال قتادة: مستكبرين بالحرم، يقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 31 ب، 32 أ. (¬2) في (ع): (النكص). (¬3) (به): ساقطة من (ظ). (¬4) رواه الطبري 8/ 38، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 108 وزاد نسبته لعبد ابن حميد وابن أبي حاتم. (¬5) لم أجد من ذكر عنه هذا القول. وقد روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 108 عن أبي صالح قال: بالقرآن. (¬6) رواه النسائي في "تفسيره" 2/ 98، والحاكم في "مستدركه" 2/ 394 من رواية سعيد بن جبير، عنه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 109 وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬7) رواه عبد الرزاق 2/ 47، والطبري 18/ 39، 40، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 108 وزاد نسبه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

ونحو هذا قال السدي، ومقاتل، وإبراهيم (¬1). واختاره الفراء، والزجاج، وابن قتيبة، [وأبو علي. قال الفراء: {بِهِ} بالبيت العتيق، يقولون: نحن أهله (¬2). وقال الزجاج: {بِهِ} بالبيت الحرام (¬3). وقال ابن قتيبة] (¬4): {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بالبيت العتيق، يفخرون ويقولون: نحن ولاته (¬5). وقال أبو علي: مستكبرين بالبيت والحرم لأمنكم فيه، مع خوف سائر الناس في مواطنهم (¬6) (¬7). وعلى هذا فالكناية عن غير مذكور. وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} يريد بالقرآن (¬8). وذكر أبو إسحاق هذا الوجه فقال: ويجوز أن تكون الهاء للكتاب، فيكون المعنى: فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين بالكتاب، أي: يحدث لكم بتلاوته عليكم استكبارًا (¬9). ¬

_ (¬1) قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 32 أ، ولم أجد من ذكره عن السدي وإبراهيم. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 239. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 298. (¬6) في (أ): (مواصلتهم). (¬7) "الحجة" لأبي علي 5/ 298. (¬8) تقدّم أن هذا القول قال به أبو صالح. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18 - 19. وجوَّد ابن عطية 10/ 378 هذا الوجه. وذكر الزمخشري 3/ 36 وأبو حيان 6/ 412، والسمين الحلبي 8/ 358 وجهًا =

والمعنى على هذا القول: مستكبرين بسبب القرآن أو الكتاب. قوله: {سَامِرًا} السَّمر (¬1): حديث القوم بالليل. يقال: سمر يسمر سمرًا، فهو سأمر (¬2). ومنه الحديث: "جدب (¬3) عمر السمر بعد العشاء" (¬4). وذكر أبو إسحاق اشتقاق السَّمر فقال: إنما سموا سمارا من السمر وهو (¬5) ظل القمر، وكذلك السمرة في الألوان مشتقة من هذا. هذا كلامه (¬6). والسمر عنده ظل القمر. وقال الفراء: السمر كل ليلة ليس فيها قمر، ومنه قول العرب: لا ¬

_ = أجود من هذا وهو أن الكناية في "به" تعود للقرآن و"مستكبرين" ضُمِّن معنى مكذِّبين فعدى بالباء. وهو مناسب لقوله تعالى قبل ذلك {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} فهؤلاء جمعوا بين التكذيب والاستكبار. (¬1) في (ع): (السمر: الحديث، حديث). (¬2) انظر: (سمر) في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 419، "الصحاح" للجوهري 2/ 688، "لسان العرب" 4/ 377. (¬3) في (أ): (جدب)، وفي (ظ): (حدث)، وهي ساقطة من (ع). (¬4) رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" 3/ 308، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 279 عن حذيفة -رضي الله عنه-: أن عمر جدب لنا السمر بعد العشاء. وعند أبي عبيد: العتمة. ورواه ابن أبي شيبة 3/ 279 أيضًا عن سلمان بن ربيعة قال: كان عمر بن الخطاب يتجدب لنا السمر بعد العتمة. وذكره ابن كثير في "سند عمر بن الخطاب" 1/ 199 من حديث ابن مسعود: أجدب لنا عمر السمر بعد العشاء. قال أبو عبيد في "غريب الحديث" 3/ 308: قوله: جدب السمر يعني: عابه وذَمَّه. وانظر: "تهذيب اللغة" 10/ 673 "جدب" فقد ذكر الحديث وتفسير أبي عبيد له. (¬5) (وهو): ساقطة من (أ)، (ع). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18، وليس في المطبوع: في الألوان.

أفعل ذلك السمر والقمر، أي: ما طلع القمر وما لم يطلع (¬1). وجعل ابن أحمر السمر ليلاً فقال (¬2). من دونهم إن جئتهم سمرًا ... حَيُّ (¬3) حلالٌ لملمٌ عكرُ (¬4) أراد إنْ جئتهم ليلاً (¬5). [والحديث بالليل سُمّي سمرًا باسم (¬6) الليل] (¬7)، أو لأنهم كانوا يتحدثون (¬8) بالليلة المقمرة في ظلّ القمر (¬9). ¬

_ (¬1) كلام الفراء في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 419 من رواية سلمة عن الفراء، وليس في "معاني القرآن". (¬2) بيت ابن أحمر بهذه الرواية في: "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 419 (سمر)، "لسان العرب" 12/ 550 (لملم)، "تاج العروس" للزبيدي 12/ 73 (سمر). وهو في "ديوان ابن أحمر" ص 92، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 60، "الذيل والتكملة" للصاغاني 3/ 35 (سمر) مع اختلاف في المصراع الثاني، فروايته عندهم: عزف القيان ومجلس غمر وصدر البيت في "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 298 منسوبًا لابن أحمر. وقوله "حي حلال" قال الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 439 "حلل": قال أبو عبيد: الحلال: جماعات بيوت الناس، واحدها حلة، قال: وحي حلال، أي: كثير. اهـ. و"لملمٌ": مجتمعٌ. "لسان العرب" 12/ 550 (لملم). و"عكر": مختلط. "الصحاح" للجوهري 2/ 756 (عكر). (¬3) في (ع): (حتى). (¬4) في (ظ): (عكرا). (¬5) من قوله: وجعل ابن أحمر ... إلى هنا. نقلاً عن "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 419 (سمر). (¬6) في (أ): (اسم). (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬8) في (ع): (يحدثون). (¬9) انظر: "لسان العرب" 4/ 377.

وذكر المفضل على العكس من هذا فقال: السمر الحديث بالليل، ثم كثر ذلك حتى سموا الظلمة سمرًا (¬1). ومنه قولهم: حلف فلان بالسمر والقمر (¬2). واختلفوا في السمر هاهنا: فالأكثرون على أن السامر هاهنا: اسم للجماعة الذين يسمرون. وهو معنى قول ابن عباس (¬3) وأكثر المفسرين (¬4). قال أبو إسحاق: السامر: الجماعة الذين (¬5) يتحدثون ليلاً (¬6). وقال المبرّد (¬7): السامر: اسم للجماعة (¬8)، ويقال: هو في السَّامر. أي: السُّمّار (¬9)، وأنشد لوضَّاح اليمن (¬10): ¬

_ (¬1) ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 12/ 420 نحو هذا القول عن الأصمعي. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 420، "لسان العرب"4/ 377. (¬3) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 109 عن ابن عباس في قوله: "سامرًا تهجرون" قال: كانت قريش يتحلقون حلقا تحدثون حول البيت. وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 39، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 108 - 109. (¬5) (الذين): موضعها بياض في (ظ). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18. (¬7) ذكر النحاس في "معاني القرآن" 4/ 475 عن المبرد أوَّله بمعناه. (¬8) في (ظ): (الجماعة). (¬9) في (أ): (السما). (¬10) هو: عبد الرحمن- وقيل: عبد الله، وقيل: وضاح- بن إسماعيل بن كلال، من آل حولان، الحميري، شاعر غزل ونسيب. قيل أنه قدم مكة حاجًا في خلافة الوليد بن عبد الملك فرأى "أم البين" بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد فغزل بها، فقتله الوليد. "فوات الوفيات" 1/ 253، "الأغاني" 6/ 30 - 44، "النجوم الزاهرة" 1/ 266، "الأعلام" 3/ 299.

قالت: إذا جئت أبا جابر فَأتِ إذا ما هجع السَّامر (¬1) وقال الأزهري: قد جاءت للعرب حروف على لفظ فاعل وهي جمع. فمنها الجامل وهي الإبل تكون فيها المذكور (¬2) والإناث، والسَّامر: القوم يسمرون ليلاً، والحاضر: الحي النَّازل على الماء، والباقر: البقر (¬3) (¬4). وذهب قوم إلى أن السامر هاهنا واحد في معنى الجمع كما يراد بالواحد الجمع كقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]. وهو مذهب المفضل وأبي عبيدة (¬5)، وأنشد (¬6): ¬

_ (¬1) البيت في "الأغاني" للأصبهاني 6/ 216 ورواية صدره فيه: قالت: لقد أعييتنا حُجَّةَ ..... فَأتِ وفي "ديوان المعاني" لأبي هلال العسكري 1/ 226 ورواية صدره: قالت: فأمَّا كنت أعييتنا أحد أبيات قصيدة يذكر فيها "روضة" صاحبة، ومطلعها: قالت: ألا لا تَلِجْن دارنا ... إن أبانا رجل غائر (¬2) في (أ): (الذكورة). (¬3) في (ظ)، (ع): (والبقر). (¬4) تهذيب اللغة" 12/ 419 "سمر" مع اختلاف في بعض الألفاظ وتقديم وتأخير. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 60. ولم أجد من ذكره عن المفضل، وقد ذكره الثعلبي 3/ 62 ب - 63 أهذا القول وصدره بقوله: قيل، والثعلبي ينقل عن المفضّل. (¬6) ورد البيت في حاشية نسخة (س) من المجاز من غير نسبة كما ذكر ذلك محققه 2/ 60. وهو بلا نسبة في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 200 (حضر)، "المحكم" لابن سيده 3/ 86، "لسان العرب" 4/ 197 (حضر). وعجزه بلا نسبة في "مقاييس اللغة" لابن فارس 4/ 106. =

في حاضر لجب بالليل سامره ... فيه الصَّواهلُ والرَّاياتُ والعكر وقال مجاهد: بالقول في القرآن (¬1). وقال الكلبي: يقولون الهُجْرَ من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقال السدي: تهجرون محمدًا بالشتيمة (¬3). وقال إبراهيم: تقولون فيه غير الحق (¬4). ونحو هذا قال عكرمة (¬5). وقال الحسن: تهجرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكتاب الله (¬6). ¬

_ = والحاضر: الحيّ العظيم، والحي إذا حضروا الدار التي بها مجتمعهم. ابن سيدة 3/ 86. لجب: أي ذو جلبة وكثرة. "الصحاح" 1/ 218 (لجب). والصواهل: قال ابن منظور 11/ 386: الصَّواهِل: جمع الصَّاهلة، مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل، وهو الصوت كقولك: سمعت رواي الإبل. والصَّهيل للخيل. والرايات: الأعلام، واحدها راية. "القاموس المحيط" 4/ 338 (روى). والعكرُ: قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" 4/ 106: العكرُ: القطيع الضَّخْم من الإبل فوق الخمسمائة. ثم أنشد عجز البيت. (¬1) رواه الطبري 18/ 40، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 108 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬2) روى عبد الرزاق 2/ 47 عن الكلبي قال: يقولون هجرًا. والهجر: القبيح من الكلام. "القاموس المحيط" 2/ 158. (¬3) لم أجد من ذكره عنه. (¬4) روى الطبري 19/ 9، وابن أبي حاتم 7/ 180 عن إبراهيم النخعي في قوله تعالى {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] قال: قالوا فيه غير الحق، ألم تر إلى المريض قال غير الحق. (¬5) روى عبيد بن حميد كما في "الدر المنثور" 6/ 109 عنه قال: تهجرون الحق. وذكر النحاس عنه في "معاني القرآن" 4/ 476 أنه قال: تشركون. (¬6) رواه عبد الرزاق 2/ 47، والطبري 18/ 41، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 108 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر.

وقال مقاتل: تهجرون القرآن فلا تؤمنون به (¬1). وذكر الفراء، والكسائي، والزجاج، القولين جميعًا. قال الفراء: إذا كان الليل وسمرتم هجرتم القرآن والنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا من الهجر، أي تتركون ذلك وترفضونه. قال: ويجوز أن تجعله من الهذيان قال: هجر الرجل في منامه، إذا هذى. أي أنكم تقولون فيه ما ليس فيه ولا يضره فهو كالهذيان (¬2). ونحو هذا ذكر الكسائي (¬3)، والزجاج (¬4). واختار (¬5) المفضل، وأبو علي القول الثاني. فقال المفضل: يعني تهجرون القرآن وترفضونه فلا تلتفتون إليه. وقال أبو علي: المعنى أنكم كنتم (¬6) تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي، فلا تنقادون له وتكذبون به، كقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} (¬7). وقرأ نافع {تُهجِرون} بضم التاء (¬8)، وهو قراءة ابن عباس ومجاهد (¬9)، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 239 مع اختلاف يسير. (¬3) ذكر النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 118 عنه أنه قال: تهجرون: تهذون. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 18. (¬5) في (أ): (واختيار). (¬6) (كنتم): ساقطة من (أ). (¬7) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 298. (¬8) وكسر الجيم. وقراءة الباقين بفتح التاء وضم الجيم. "السبعة" ص 446، "التيسير" ص 159، "النشر" 2/ 329. (¬9) قراءة ابن عباس في "معاني القرآن" للفراء 2/ 239، "معاني القرآن" للنحاس 4/ 476. وقد روى الأزهري في "علل القرآن" 2/ 437 من طريق مجاهد، عن ابن عباس هذه القراءة.

وقالا: هو من الهجر وهو الُفحْش، وكانوا يسبُّون النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خلوا حول البيت (¬1). يقال: هجر يهجر هجرًا وهجرانا (¬2)، إذا صرم (¬3) وتباعد ونأى. وهجر يهجر هجرا، إذا قال غير الحق (¬4)، ومنه قول أبي سعيد الخدري لبنيه: إذا طفتم (¬5) بالليل فلا تلغوا ولا تهجروا (¬6). أي: لا تهذوا (¬7). ¬

_ (¬1) من قوله "وهو قراءة ابن عباس" إلى هنا. هذه عبارة الفراء كما في "معاني القرآن" 2/ 239 و"تهذيب اللغة" 6/ 41 مع اختلاف يسير في أوله وزاد الواحدي مجاهدًا. وقد روى الطبراني في "الكبير" 11/ 74 من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذا الحرف "مستكبرين به سامرًا تهجرون" قال: كان المشركون يهجرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعرهم. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 73: وفيه يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف. اهـ. ورواه الحاكم في "مستدركه" 2/ 246 مرفوعًا من طريق يحيى به، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ... الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فتعقّبه الذهبي بقوله: قلت: بل يحيى متروك، قال النسائي. وقد ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 109 بمثل رواية الحاكم، ونسبه إليه وإلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه. (¬2) بالكسر قاله الفيروزآبادي 2/ 157. (¬3) صرم: قطع. "لسان العرب" 12/ 313 (صرم). (¬4) انظر: (هجر) في "الصحاح" للجوهري 2/ 851، "لسان العرب" 5/ 251 - 254. (¬5) في (أ): (حلفتم). (¬6) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 6/ 42 عن أبي سعيد. ورواه أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 63 - 64. (¬7) "تهذيب اللغة" 6/ 42 منسوبًا لأبي عبيد، وهو في "غريب الحديث" 2/ 64.

والهجر هو الإفحاش في النطق. قاله الكسائي والأصمعي (¬1). ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- في زيارة القبور: "فزوروها ولا تقولوا هُجرا" (¬2) ويقال من هذا: أهْجَر الرجل يهجر. قال الشَّمَّاخ: كما جدة الأعراق قال ابنُ (¬3) ضَرَّةٍ عليها كلامًا جار فيه وأهْجَرا (¬4). والاختيار القراءة الأولى؛ لأنها تجمع (¬5) المعنيين (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره عنهما الأزهري في "تهذيب اللغة" 6/ 42 (هجر) من رواية أبي عبيد عنهما. وهو في "غريب الحديث" 2/ 63 لأبي عبيد. (¬2) رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 63، والإمام أحمد في "مسنده" 5/ 361، والنسائي في "سننه" (كتاب الجنائز- باب زيارة القبور 4/ 89) من حديث بريدة. قال الألباني في "الصحيحة" 3/ 576 عن رواية النسائي: بسند صحيح. (¬3) في (أ): (لضرة)، وفي (د)، (ع): (لي ضرة)، والتصويب من غريب الحديث والتهذيب وغيرهما. (¬4) بيت الشمَّاخ في "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 63، "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 42 "هجر"، "المحتسب" لابن جني 2/ 96 - 97 وفيه: الأعراف، وهو تصحيف، "الصحاح" للجوهري 2/ 851 (هجر)، "لسان العرب" 5/ 253 "هجر". كلهم بمثل الرواية هنا. والبيت في "ديوانه" ص 135 وروايته فيه: مَمجّدة الأعراق. وقال عبد الله بن بَرَّي في كتابه "التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح" 2/ 235: المشهور في رواية البيت عبد أكثر الرواة "مبرأة الأخلاق" عوضًا من قوله: كما جدة الأعراق، وهو صفة لمخفوض في بيت قبله، وهو: كأن ذراعيها ذراعا مدلة ... بعيد السباب حاولت أن تَعَذَّرا يقول: كأنَّ ذراعي هذه الناقة في حسنهما وحسن حركتهما ذراعا امرأة مدلة بحسن ذراعيها أظهرتهما بعد السَّباب لمن قال فيها من العيب ما ليس فيها، وهو قول ابن ضرتها، ومعنى تعذّر: أي تعتذر من سوء ما رميت به. اهـ. (¬5) في (أ): (جمع). (¬6) انظر في توجيه القراءتين: "علل القراءات" للأزهري 2/ 437، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 92 - 93، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 489.

وتقدير الآية: مستكبرين به سامرين هاجرين. غير أن الحال ترد بعبارات (¬1) فتكون أحسن، كما تقول: رأيت فلانًا راكبا يحدث وهو غضبان. [فتغير عبارات الحال، ويكون أحسن (¬2) من أن تقول: رأيته راكبًا محدثًا غضبان] (¬3). واختلفوا في موضع الوقف في هذه الآية: فالأكثرون على أن الوقف في آخرها؛ لأنّه منتهى ذكر الأحوال، ولا يحسن الوقف في أثنائها (¬4) (¬5). وقال أبو حاتم (¬6): يحسن الوقف على قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ} ثم يبتدئ {بِهِ سَامِرًا} (¬7) وهذا مذهب النحاس وابن الأنباري. قال النحاس: {بِهِ} أي بالبيت {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} آياتي أو تهذون (¬8). وقال ابن الأنباري: {مُسْتَكْبِرِينَ} وقف حسن، ثم تبتدئ {بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} على معنى: بالبيت العتيق تهجرون النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن في وقت سمركم. قال: ويجوز أن يكون معنى {تَهْجُرُونَ} تهذون (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (بمسارات). (¬2) في (أ): (من احسن). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬4) في (أ): (أبنائها). (¬5) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 503، "منار الهدى" للأشموني ص 263. (¬6) هو: أبو حاتم السجستاني. (¬7) ذكره عنه النحاس في "القطع والائتناف" ص 503، "الداني في المكتفى" ص 402، الأشموني في "منار الهدى" ص 263. (¬8) "القطع والائتناف" ص 503. ووقع في المطبوع: إبنيائي أو تهزؤن. (¬9) "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 792 - 793.

68

وقال العباس بن الفضل (¬1): الوقف الكافي {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} (¬2). وعلى هذا يكون قوله: (سامرًا) حالا مؤخرة في التقدير، أي: تهجرون سامرين بالليل. 68 - قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أي: أفلم يتدبروا القرآن فيعرفوا ما فيه من العبر والآيات الدالة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم-. وذكرنا معنى التدبّر عند قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]. وقوله: {أَمْ جَاءَهُمْ} الآية. قال ابن عباس: يريد: أليس قد أرسلنا نوحًا وإبراهيم والنبيين إلى قومهم؟ فكذلك بعثنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وهذا استفهام يتضمن الإنكار. وكذلك ما بعده من قوله: 69 - {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} قال ابن عباس: أليس هو محمد بن عبد الله؟ يعرفونه صغيرًا وكبيرًا، صادق اللسان يفي بالعهد ويؤدي الأمانة (¬4). وفي هذا توبيخ لهم وإنكار عليهم بالإعراض عنه بعد ما عرفوا نسبه وصدقه وأمانته. ¬

_ (¬1) هو: أبو القاسم، العباس بن الفضل بن شاذان بن عيسى، الرازي، المقرئ. إمام في القراءة متقن مشهور. صاحب القاطع والمبادئ. روى عنه القراءة ابن مجاهد وغيره. وبقي إلى سنة 310 هـ. "معرفة القراءة" للذهبي 1/ 236، "غاية النهاية" لابن الجزري 1/ 352 - 353. (¬2) ذكر قوله النحاس في "القطع والائتناف" ص 503، و"الدّاني في المكتفى" (ص 402). (¬3) ذكر هذا المعنى البغوي 5/ 423 وابن الجوزي 5/ 484 من غير نسبة لأحد. (¬4) ذكره عنه البغوى 5/ 423.

70

قال سفيان، وأبو صالح في هذه الآية: بلى، قد عرفوه (¬1) ولكنهم (¬2) حسدوه. 70 - قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد: وأيّ جنون يرون به؟. {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} بالتنزيل الذي هو الحق. يعني القرآن في قول ابن عباس (¬3). وقال مقاتل: يعني بالتوحيد (¬4). {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} للقرآن أو التوحيد (¬5) {كَارِهُونَ}. 71 - قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} قال أبو صالح (¬6)، وابن جريج (¬7)، ومقاتل (¬8)، والسدي (¬9)، والكلبي (¬10): الحق هو الله. والمعنى: لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكًا لفسدت السموات والأرض. ¬

_ (¬1) في (ع): (عرفوا). (¬2) ذكره القرطبي 12/ 140 عن سفيان. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 110 عن أبي صالح، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولم أره في المطبوع من الطبري. (¬3) ذكر ابن الجوزي 5/ 484 هذا المعنى من غير نسبة لأحد. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬5) في (ع): (للتوحيد). (¬6) رواه الطبري 18/ 42، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 110 وزاد نبته لعبد ابن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) رواه عنه الطبري 18/ 43. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬9) ذكره عنه البغوي 5/ 424، وابن الجوزي 5/ 484. (¬10) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 47.

وقال الفراء والزجاج: ويجوز أن يكون المراد بالحق -هاهنا-: التنزيل، أي: نزل بما (¬1) يريدون ويحبون (¬2). يعني (¬3) من جَعْل (¬4) شريك وإثبات آلهة. {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. وقد مرَّ. وقال بعض أهل المعاني: الحقّ لما كان يدعو إلى المحاسن والأهواء تدعو إلى المقابح؛ فلو أَتبع الحق داعي الهوى لدعى إلى المقابح التي فيها الفساد والاختلال (¬5)، فكان يوجد بطلان الأدلة وامتناع الثقة بالمدلول عليه، فكان (¬6) ينقلب الأمر ويكثر الفساد (¬7). قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} أي: جاء فيه فخرهم وشرفهم. قال ابن عباس: هو كقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا} [الأنبياء: 10]: وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] (¬8). ¬

_ (¬1) في (ظ): (ما). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 239، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 19. (¬3) (يعني): ساقطة من (أ). (¬4) في (ظ): (فعل). (¬5) في "التبيان" 7/ 338: والاختلاط. (¬6) في (أ): (وكان). (¬7) ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 338 ولم ينسبه لأحد. (¬8) ذكره عنه البغوي 5/ 424.

72

وقوله: {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} قال: يريد تولوا عما جاء به من شرف الدنيا والآخرة (¬1). 72 - قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا}. قال ابن عباس: يريد مالا يعطونك. وقال مقاتل: يعني لم يسألهم محمدٌ أجرًا على الإيمان بالقرآن (¬2). وقال أبو إسحاق: أي لم تسألهم على ما أتيتهم به أجرا (¬3). قوله: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} قال ابن عباس: فعطاء ربك خير (¬4). وقال مقاتل: فأجر ربك أفضل من خراجهم (¬5). والمعنى: أنّ أجر ربك وثوابه خير لك. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أفضل من أعطى وأجزل (¬6) وآجر. وقال أهل المعاني: قد دلت الآية على أن غير الله يرزق، ولولا ذلك لم يجز {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬7). ويقال: رزق الأمير جنده فارتزقوا ارتزاقا (¬8). 73 - {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتَدْعُوهُمْ} يعني كفار قريش {إِلَى صِرَاطٍ ¬

_ (¬1) ذكر الماوردي 4/ 63 هذا المعنى عن السدي. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 19. (¬4) ذكر البغوي 5/ 424 وابن الجوزي 5/ 485 هذا المعنى من غير نسبة لأحد. وذكره أبو حيان 6/ 415 نحو هذا المعنى عن الكلبي. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬6) (وأجزل): ساقطة من (أ)، (ظ). (¬7) ذكر الرازي 23/ 112 هذا القول وعزاه للجبَّائي. (¬8) "تهذيب اللغة" للأزهري 8/ 429 (رزق) منسوبًا إلى الليث.

74

مُسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام. 74 - قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} قال ابن عباس، ومقاتل: بالبعث والثواب والعقاب {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} عن الدين لعادلون (¬1). وقال الفراء: لمعرضون عن الدين (¬2). يقال: نكب فلان عن الطريق تنكب نكوبًا، إذا عدل عنه، والنعت منه: ناكب. ويقال: نكَّبَ عن الصَّواب تنكيبًا، ونكَّب غيره، يتعدّى ولا يتعدّى (¬3). وفي الحديث (¬4): "نكَّبْ عنا ابن (¬5) أم عبد" أي: نَحِّه عنا. ويقال: تنكب عنا فلان تنكبا، أي: مال عنا (¬6). وينشد قول سعد بن ناشب (¬7): ¬

_ (¬1) روى الطبري 18/ 44 عن ابن عباس قال: عن الحق عادلون. وهو في "تفسير مقاتل" 2/ 31 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 240. (¬3) انظر: (نكب) في "تهذيب اللغة" 10/ 286، "الصحاح" 1/ 228، "لسان العرب" 1/ 770، "القاموس المحيط" 1/ 134، "تحفة العروس" 4/ 304 - 305. (¬4) هذا من كلام عمر -رضي الله عنه- أنه قال لهني مولاه: نكّب ... وهذا الأثر ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 286، وابن منظور في "لسان العرب" 1/ 770، والزبيدي في "تاج العروس" 4/ 305. ولم أقف عليه مسندًا. (¬5) في (أ): (إبر). (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 286، وانظر: "تحفة العروس" 4/ 305 (نكب). (¬7) في (أ): (ناسب)، وفي (ظ): (نابت)، وفي (ع): (نائب)، والتصويب من مصادر ترجمته. وهو سعد بن ناشب بن معاذ بن جعدة المارني، التميمي، من بني العنبر. شاعر فاتك من مردة العرب، من أهل البصرة، وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية. "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 464، "خزانة الأدب" 8/ 145، "الأعلام" 3/ 88.

وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْر العَوَاقِبِ جَانِبًا (¬1) [على اللزوم] (¬2). وقال الطُّهَوي (¬3): ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت لابن ناشب، وصدره: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وهو من أبيات قالها سعد وكان أصاب دمًا، فهدم بلال بن أبي بردة داره بالبصرة وحرَّقها، وقيل: إن الحجاج هو الذي هدم داره. ويقال: إن سعدًا قُتل له حميم، وإنَّه أوْعَده بلال بهدم داره إن طالب بثأره، فقال: سَأغْسلُ عَنِّي العارَ بالسَّيف جالبا ... عليَّ قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذَمَّة حاجبا الأبيات ..... والبيت في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 464، "الزهرة" لابن داود 2/ 211 "الحماسة" لأبي تمام 1/ 70، "الكامل" للمبرد 1/ 206 وفيه "فأعرض" عوضًا من "فنكّب". قال المرزوقي في "شرح الحماسة" 1/ 73: قوله: "ألقى بين عينيه عزمه" أي جعله بمرأى منه لا يغفل عنه، وقد طابق في المعنى لما قابله قوله: "ألقى بين عينيه عزمه" بقوله: "نكّب عن ذكر العواقب جانبا" ... وانتصب "جانبًا" على أنه ظرف، ونكَّب يكون بمعنى: تنكّب، والمعنى: أنه إذا هَمَّ بالشيء جعله نَصْب عينيه إلى أن ينفذ فيه ويخرج منه، ويصير في جانب من الفكر في العواقب. ويجوز أن ينتصب "جانبًا" على المفعول، ويكون "نكّب" بمعنى: حَرَّف، والمراد انحرف عن ذكر العواقب وطوى كشحه دونه. اهـ (¬2) ساقط من (ظ)، (ع). (¬3) هو: أبو الغُول الطُّهَويّ، وهو من قوم من بني طُهَيَّة يقال لهم: بنو عبد شمس بن أبي سود، وأبو سود هو ابن مالك بن حنظلة التميمي، وأمّ أبي سود: طُهَيَّة بنت =

فَنَكَّبَ عَنْهمُ دَرْأ الأعاَدِي (¬1) يُروى بالوجهين (¬2). ¬

_ = عبد شمس بن سعد بن مناة بن تميم. وكان أبو الغُول يكنى أبا البلاد، وقيل له: أبو الغول؛ لأنه -فيما زعم- رأى غولا فقتلها. وذكر التبريزي أنه شاعر إسلامي، وأمَّا البغدادي فذكر أنَّه لم يقف على كونه جاهليا أو إسلاميا. "المؤتلف والمختلف" للآمدي ص 163، "شرح الحماسة" للتبريزي 1/ 14، "خزانة الأدب" للبغدادي 6/ 438. (¬1) هذا صدر بيت لأبي الغُول، وعجزه: وداوَوْا بالجُنون من الجُنون وقبله: هُمُ مَنَعُوا حِمَى الوَقْبَى بِضَرْبٍ ... يؤلِّف بين أشتات المنُونِ فنكّب ... وهو في "الحماسة" لأبي تمام 1/ 62، "الحيوان" للجاحظ 3/ 107، "أمالي القالي" 2/ 261، "بهجة المجالس" لابن عبد البر 1/ 516 وفيه "ظلم" عوضًا من "درأ"، "خزانة الأدب" للبغدادي 6/ 434. قال التبريزي في "شرح ديوان الحماسة" 1/ 17: نكَّب قد جاء متعديًا إلى مفعولين، ... ، والأكثر نكبته عن كذا، ... معناه: أن الضَّرْب حَرَّف عن هؤلاء القوم اعوجاج الأعداء وخلافهم، والدرء: أصله الدفع، ثم استعمل في الخلاف؛ لأن المختلفين يتدافعان. "وداوَوْا بالجنوب من المجنون" أي داوَوْا الشر بالشر، كما قالوا: الحديد بالحديد يفلح، والجنون هاهنا مثل ومعناه: اللجاج في الشر وركوب الرأس فيه. اهـ. (¬2) يعني على التعدي واللزوم. فعلى رواية التعدّي: نكّبَ عنهم درأ الأعادي. يكون المعى: أن الضرب حَرَّف وأمال عن هؤلاء القوم درأ الأعادى. كما ذكر التبريزي. وعلى رواية اللزوم: فنكب عنهم درأ الأعادي. يكون نكَّب بمعنى تنكّب، والمعنى أن درأ الأعادي عَدَل وتنحّى عنهم.

75

ويقال أيضا: نكب ينكب (¬1) إذا مال، والنعت منه أنكب (¬2) ونكباء (¬3). 75 - {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} قال المفسرون: يعني الجوع الذي أصابهم بمكة سبع سنين (¬4). قوله: {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} لتمادوا في ضلالتهم يترددون. يقال: لجَّ فلان يلج ويلج لغتان (¬5). قال: لججنا ولجت هذه في التغضّب (¬6) قال الفراء: يقال: لَجَجْت -بالفتح والكسر- لَجاجَة ولَجَجَا (¬7). 76 - قوله: {أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} قال ابن عباس: يريد بالأمراض والحاجة (¬8). ¬

_ (¬1) كفرح ونصر. "لسان العرب" 1/ 770، "القاموس المحيط" 1/ 134. (¬2) في (ظ): (نكب). (¬3) انظر: (نكب) في "تهذيب اللغة" 10/ 285، "الصحاح" 1/ 228، "أساس البلاغة" للزمخشري 2/ 474. (¬4) ذكره ابن الجوزي 5/ 485 عن ابن عباس، وهو معنى قول الطبري 18/ 44 ورواه عن ابن جريج باختصار. (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 492 (لج) نقلاً عن الليث. (¬6) لم أجده. (¬7) قول الفراء في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 493 (لج). وليس في كتابه معاني القرآن. وفي التهذيب. لَجِجْتُ ولجَجْت (¬8) ذكر القرطبي 12/ 143 هذا القول ولم ينسبه لأحد. وقد روى النسائي في "تفسيره" 2/ 98 - 99، وابن حبان في صحيحه "الإحسان" 2/ 252)، والطبراني في "الكبير" 11/ 370 كلهم من طريق علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا محمد: أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العِلْهِز -يعني الوبر والدم- فأنزل الله -عز وجل- "ولقد أخذناهم بالعذاب ... " الآية. =

77

وقال مقاتل: يعني الجوع (¬1). قال أبو إسحاق: والذي أُخذوا به الجوع (¬2). {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي ما تواضعوا. يقال: أكانه يكينه إكانة إذا أخضعه (¬3) حتى استكان وأدخل عليه من الذل ما أكانه (¬4). وقال ابن عباس: يريد ما رجعوا عن معاصي الله. وقال الكلبي: لم يذلوا ولم تذل قلوبهم. وقال مقاتل: يقول: فما استسلموا، يعني الخضوع (¬5) {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} يقول: وما يرغبون إلى الله في الدعاء (¬6). 77 - قوله: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس -في رواية الوالبي-: ذاك يوم بدر (¬7). ¬

_ = قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 73: وفيه علي بن الحسين بن واقد وثَّقه النسائي وغيره وضعفه أبو حاتم. اهـ. لكن رواه الحاكم في "مستدركه" 2/ 394 من طريق علي بن الحسين بن شقيق، عن الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، به. وعلي هذا ثقة حافظ روى عن الحسين بن واقد وغيره وروى عنه البخاري وغيره. قاله ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 7/ 298، "تقريب التهذيب" 2/ 34. فهذه الطريق تقوي الأولى. وقد رواه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" 2/ 727 من طريق آخر عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، لكن ليس فيه ذكر لآية. (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 19. (¬3) في (ظ): (خضعه). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 374 "كان" منسوبًا إلى أبي سعيد البغدادي الضرير. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 14/ 357، والطبري 18/ 45 من رواية الوالبي.=

وهو قول مجاهد (¬1). واختيار الزجاج (¬2). وقال -في رواية عطاء- يريد الموت (¬3). وقال مقاتل وغيره: يعني الجوع (¬4). وقال السدي: هو فتح مكة (¬5). {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} قال: أُبلسوا يومئذ تغيرت ألوانهم حين نظروا إلى أصنامهم تُنكّس على وجوهها. ومعنى {مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير. وتقدم [لكلام في] (¬6) معنى المبلس في سورة الأنعام (¬7). ¬

_ = وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 114 ونسبه أيضًا لابن مردويه. (¬1) ذكره عنه البغوي 5/ 425. وقد روى عنه الطبري 18/ 46 أنّه الجوع، وذكر عنه الثعلبي 3/ 63 ب أنه القحط. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 4/ 19 وقد صدره بقوله: قيل، ثم قال: السيف والقتل. قال ابن عطية 10/ 388 وهذا القول يردّه بأن الجدب الذي أصابهم كان بعد وقعة بدر. (¬3) ذكره البغوي 5/ 425: هذا القول وصدَّره بقول: قيل. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 32 أ. وهو اختيار الطبري 18/ 46. واستشهد على ذلك بخبر ابن عباس في المجاعة التي أصابت قريش واستظهره أبو حيان 6/ 415. وقيل: هو يوم القيامة. والمعنى: حتى إذا عذّبوا بنار جهنم أبلسوا، كقوله تعالى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 12] وقوله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 74، 75]. ذكر هذا القول أبو حيان 6/ 416 - 417. وقيل: هو توعّد بعذاب غير معين. وصوّب هذا القول ابن عطية 10/ 389. (¬5) ذكر القرطبي 12/ 143 هذا القول عن عكرمة. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

78

78 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} خلق {لَكُمُ السَّمْعَ} الذي تسمعون به {وَالْأَبْصَارَ} الذي تبصرون بها {وَالْأَفْئِدَةَ} القلوب التي بها يعقلون. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} قال مقاتل: يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه (¬1). وذكر نا الكلام في مثل هذا عند قوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}. [البقرة: 88]. 80 - قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} قال ابن عباس: يولد المولود حيًا ثم يمته ثم يبعثه. {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين، كما تقول في الكلام: لك الأجر والصلة، أي أنك تصل وتؤجر (¬2). وفسرنا اختلاف الليل والنهار في سورة البقرة (¬3). قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [قال ابن عباس: حيث تجعلون لي شريكًا من خلقي. وقال مقاتل: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}] (¬4) توحيد ربكم فيما ترون من صنعه فتعتبرون (¬5). ثم عَيَّرهم بقولهم وأخبر عنهم أنهم قالوا مثل من كان قبلهم فقال: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} قال الكلبي: بل كذبت قريش ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 32 ب. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 240. (¬3) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ} [البقرة: 164]. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ع). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 32 ب.

84

حين (¬1) أخبرتهم (¬2) بالبعث مثل ما كذب الأولون رسلهم. 84 - {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ} قال الكلبي: لما كذبوه أتاه جبريل فقال: يا محمد قل لأهل مكة: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} من خلق (¬3) {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} من خالقها ومالكها (¬4). 85 - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (¬5) قال ابن عباس: يريد إقرارهم له بالربوبية، {قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} قال: يريد: أفلا تتعظون حيث تجعلون لإله السماء والأرض شريكًا. المعنى: أنكم لو تذكرتم وتفكرتم لعلمتم أن من قدر على خلق ذلك ابتداءً فهو قادرٌ على إحيائهم بعد موتهم (¬6). 86 - قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وقرئ (الله) (¬7)، وكذلك ما بعده. فمن قرأ (الله) فهو على ما يقتضيه اللفظ من جواب السؤال لأنّك إذا قلت: من رب السموات؟ فالجواب: الله. ومن قرأ (لله) فعلى المعنى (¬8)، ¬

_ (¬1) في (أ): (حى). (¬2) في (ع): (أخبرهم). (¬3) ذكره الماوردي 4/ 62 عن الكلبي في قوله {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} قال: ما بينهم من خلق. (¬4) ذكر البغوي 5/ 426 هذا المعنى من قوله: يا محمد إلى هنا. ولم ينسبه لأحد. (¬5) في (ط): (الله)، وهو خطأ. (¬6) انظر هذا المعنى عند الطبري 18/ 47، والثعلبي 3/ 63 ب. (¬7) قرأ أبو عمرو وحده: {سيقولون لله} بالألف في هذه الآية والتي بعدها. وقرأ الباقون: {سيقولون الله} وكذلك ما بعده. "السبعة" ص 447، "التبصرة" ص 270، "التيسير" ص 160. (¬8) في (أ): (الوجهين)، وهو خطأ.

وذلك أنه إذا قال: من مالك هذا الدار؟ فقال في جوابه: لزيد. إجابة على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ؛ لأن معنى من صاحب هذه الدار؟: لمن هذه الدار. والذي (¬1) يقتضيه اللفظ أن يقال في جوابه: زيد ونحوه، وإنّما استقام أن يقال في الجواب: لزيد؛ لأن معنى من مالك هذه الدر؟ ولمن (¬2) هذه الدار؟ واحد. فلذلك حملت تارة على اللفظ وتارة على المعنى. وهذا الذي ذكرنا هو معنى كلام الفراء (¬3) والزَّجَّاج (¬4) وأبي علي (¬5). وأنشد الفراء فقال: أعْلم أنني سأكون رَمْسًا ... إذا سار النَّواجعُ لا يسير فقال السائلون لمن حفرتم ... فقال المخبرون لهم: وزير (¬6) ¬

_ (¬1) في (ظ): (الذي). (¬2) في (ظ): (لمن). (¬3) انظر: "معانى القرآن" للفراء 2/ 240. (¬4) (والزجاج): ساقطة من (أ). وانظر: قوله في "معاني القرآن" له 4/ 20. (¬5) انظر: كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 301. وانظر في توجيه القراعتين أيضًا: "علل القراءات" للأزهري 2/ 439 - 440، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 93 - 94، "الحجة" لابن زنجلة 490 - 491، "الكشف" لمكي 2/ 130. (¬6) البيتان أنشدهما الفراء عن بعض بني عامر في كتابه "معاني القرآن" 2/ 240. ونسبهما الجاحظ في "البيان والتبيين" 3/ 184 للوزيريّ، وروايتهما عنده: واعلم أنَّني سأصير ميتًا ... إذا سار النَّواجع لا أسيرُ وقال السائلون: من المُسَجَّى ... فقال المخبرون لهم: وزيرُ وهما في الطبري 18/ 48 بمثل رواية الفراء. وذكر البيتين أيضًا ابن خالويه في كتابه "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 93 وصدرهما بقوله: أنشدني ابن مجاهد. =

88

فأجاب المخفوض (¬1) بمرفوع (¬2)؛ لأن معنى الكلام: فقال السائلون: من الميت؟ فقال المخبرون: الميت وزير (¬3). قال أبو علي: والجواب على اللفظ هو الوجه (¬4). قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} قال ابن عباس: أفلا تخافون حيث جعلتم لي ما تكرهون لأنفسكم، زعمتم أن الملائكة بناتي وكرهتم لأنفسكم البنات (¬5). وقال الكلبي: أفلا تتقون عبادة غير الله (¬6). 88 - قوله: {قُلْ} لهم كما محمد {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} قال ابن عباس: يريد السموات وما فوقها وما بينها (¬7) والأرضين وما تحتها وما بينها وما لا يعلمه أحدٌ غيره (¬8). ¬

_ = وذكرهما الأزهري في "علل القراءات" 2/ 439 - 440 من أنشاد الفراء عن بعض العامريين، ثم قال: وكان وجه الكلام أن يقول: فقال المخبرون لهم: لوزير. فرفعه وأراد: الميت وزيرٌ. النواجع: الذين يخرجون إلى البادية من المرْتع. انتهى كلامه رحمه الله. والرَّمْسُ: تراب القبر، والقبر نفسه. "لسان العرب" 6/ 102 (رمس). (¬1) في (ظ): (المحفوظ)، وهو خطأ. (¬2) في (ظ): (بالمرفوع). (¬3) من قوله: (فأجاب ... إلى هنا) هذا كلام الثعلبي 3/ 63 ب بنصِّه. وكذلك الطبري 8/ 48. (¬4) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 301. (¬5) ذكر القرطبي 12/ 145 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬6) ذكر ابن الجوزي 5/ 487 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬7) في (أ): (وما بينهما). (¬8) ذكره هذا القول القرطبي 12/ 145 ولم ينسبه لأحد.

قال أهل اللغة: معنى الملكوت: عظم الملك. وفعلوت (¬1) من صفة المجالغة نحو جبروت ورحموت ورهبوت (¬2) (¬3). والذي ذكره [ابن عباس] (¬4) في تفسير الملكوت موافق لهذا المعنى لأنّه أخبر عن عظيم (¬5) ملكه. وقال مجاهد: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} خزائن كل شيء (¬6). وهذا أيضًا راجع إلى المعنى الذي ذكرنا. قوله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يقال أجرت فلانًا إذا استغاث بك فحميته. وأجرت عليه، إذا حميت عنه من يَرُومه (¬7). ومعنى الآية: أنّه يمنع من السوء من يشاء، ولا يمكن منع من أراده بسوء (¬8) منه (¬9). قال مقاتل: يُؤَمِّن ولا يؤمِّن عليه أحد (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (وفعلون). (¬2) في (ظ)، (ع): (ورهبوت ورحموت). (¬3) انظر: (ملك) في "الصحاح" 4/ 160، "لسان العرب" 10/ 492، "القاموس المحيط" 3/ 320. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) في (ع): (عظم). (¬6) رواه الطبري 18/ 48، 49، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 113 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) انظر: (جور) في "تهذيب اللغة" 11/ 175 - 176، "المحكم" لابن سيده 7/ 376 - 377، "لسان العرب" 4/ 154 - 155. (¬8) في (أ): (بشيء). (¬9) انظر: "الطبري" 18/ 490. (¬10) "تفسير مقاتل" 2/ 32 ب

89

وقال الزَّجَّاج: يجير من عذابه ولا يجير (¬1) عليه أحدٌ من عذابه (¬2). 89 - قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} قال الفراء (¬3) والزجاج (¬4) وابن قتيبة (¬5): تصرفون عن الحق وتخدعون. والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلا والصحيح فاسدًا (¬6). 90 - قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} قال الكلبي: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الذي أمره الله به في هذه الآية فكذبوه (¬7)، وقالوا: بل الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه، فنزل فيهم {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} يعني بالقرآن (¬8). وقال مقاتل: بالتوحيد (¬9). {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يضيفون إلى الله من الولد والشريك (¬10). ثم نفى الولد والشريك عن نفسه فقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} قال مقاتل: يعني الملائكة (¬11). ¬

_ (¬1) في (ع): (ولا يجار). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 20. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 241. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 20. (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 229. (¬6) انظر: "الطبري" 18/ 49. (¬7) في (أ): (فكذبوا). (¬8) لم أجد من ذكره عن الكلبي. ولا يعتمد على الكلبي فيما يرويه فهو متهم بالكذب. (¬9) "تفسير مقاتل" 2/ 32 ب. (¬10) انظر: الطبري 18/ 49. (¬11) "تفسير مقاتل" 2/ 32 ب.

{وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} قال ابن عباس: ولا له شريك (¬1). {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} هذا جواب لكلام مضمر (¬2) التقدير: لو كانت معه آلهة إذن لذهب كل إله بما خلق، أي لاعتزل وانفرد بخلقه (¬3)، فلا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ومنع (¬4) الإله الآخر عن (¬5) الاستيلاء على ما خلق (¬6). قوله: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} دليل آخر على (¬7) نفي الشريك معطوف على الأول. قال الفراء: بغى بعضهم على بعض (¬8). وقال الزجاج: طلب بعضهم مغالبة بعض (¬9). وهذا معنى قول ابن عباس والمفسرين: لقاتل بعضهم بعضًا كما يفعل الملوك في الدنيا يقاتل هذا هذا (¬10). ¬

_ (¬1) ذكر البغوي 5/ 427 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬2) في (ظ): (الكلام مضمرًا). (¬3) من قوله: هذا جواب إلى هنا. هذا كلام الطبري رحمه الله في "تفسيره" 18/ 49 مع اختلاف يسير جدًّا وتقديم وتأخير. و"أصل الكلام" للفراء 2/ 241. (¬4) في جميع النسخ: (ومنع)، وفي المطبوع من "البسيط" 3/ 296: ولمنع. وأشار المحقق في الحاشية إلى أنه في بعض النسخ: منع. وعند ابن الجوزي 5/ 488: ولمنع. وعند البغوي 5/ 427: ومنع. (¬5) في (ظ): (من)، وفي باقي النسخ والوسيط والبغوي وابن الجوزي: عن. (¬6) في (ع): (في). (¬7) من قوله: "فلا في .. " إلى هنا ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 345 - 346 من غير نسبة لأحد. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 241. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 20. (¬10) ذكر البغوي 5/ 427 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد.

92

قال أهل العلم في هذه الآية: ذكر الله تعالى في أول الآية نفي الولد ونفي الشريك، ثم ذكر الدليل على نفي الشريك واقتصر عليه ولم يذكر الدليل على نفي الولد؛ لأن الدليل على نفي الشريك يتضمن نفي الولد، وذلك أن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الأجانب، فلو كان لله ولد لأظهر المنازعة كما يكون بين الإلهين (¬1)، والملكين (¬2). ثم نزّه عما وصفوه به فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}. 92 - قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} قرئ (عَالِمُ الْغَيْبِ) (¬3) رفعًا وجرًا (¬4). قال الأخفش: الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد، وأما الرفع فعلى أن يكون خبر ابتداء محذوف. قال: ويقوي (¬5) ذلك (¬6) أن الكلام الأول قد انقطع (¬7). واختار الفراء الرفع، فقال: وجه الكلام الرفع بالاستئناف، الدليل (¬8) على ذلك دخول الفاء في قوله: {فَتَعَالَى اللهُ} ولو خفضت لكان وجه الكلم ¬

_ (¬1) في (ظ): (الأهلين). (¬2) ذكر القرطبي 12/ 146 هذا المعنى باختصار ولم ينسبه لأحد. (¬3) (الغيب) ليست في (ع). (¬4) قرأ نافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي: "عالمُ" رفعًا. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وابن عامر: "عالمِ" جرًا. "السبعة" ص 447، "التبصرة" ص 271، "التيسير" ص 160. (¬5) في (ظ): (ويقول)، وهو خطأ. (¬6) في (أ): (ذاك). (¬7) كلام الأخفش في "الحجة" للفارسي 5/ 302 بنصِّه. ولم أجده في كتابه المعاني. (¬8) في (ظ): (والدليل). والمثبت من (أ)، (ع): وهو الموافق لما عند الفرّاء.

أن يكون "وتعالى" بالواو لأنه إذا خفض أراد: سبحان الله عالمِ الغيب والشهادة وتعالى، فدخول (¬1) الفاء دليلٌ على أنه أراد: هو عالمُ الغيب والشهادة فتعالى؛ ألا ترى أنك تقول: مررت بعبد الله المحسنِ وأحسنت إليه. فلو رفعت "المحسنُ" لم يكن بالواو لأنك تريد: هو المحسنُ فأحسنت إليه. قال: وقد (¬2) يكون الخفض في {عَالِمِ} تتبعه ما قبله وإن كان بالفاء؛ لأن العرب قد (¬3) تستأنف بالفاء كما يستأنفون بالواو (¬4). {قُلْ رَبِّ إِمَّا} قال صاحب النظم: "ما" قد تكون شرطًا كقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] و"إمَّا" إنَّما هو [إنْ ما، فـ] (¬5) "إنْ" شرط و"ما" (¬6) أيضًا شرط؛ فجمع بين الشرطين توكيدًا، فلما وكّد الشرط أدخل النون الثقيلة في الفعل توكيدًا، لأن النون الثقيلة تجيء (¬7) توكيدًا للأفعال (¬8). ¬

_ (¬1) في (ظ): (ودخول). (¬2) (وقد): ساقطة من (ع). (¬3) (قد): ساقطة من (ظ). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 241. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 440، "الكشف" لمكي 2/ 131. (¬5) زيادة من القرطبي 12/ 147 بها يستقيم المعنى. (¬6) في (أ): (وأما)، وهو خطأ. (¬7) في (ع): (تجيء في افعل)، ويظهر أن تكرار. (¬8) ذكر القرطبي 12/ 147 هذا المعنى باختصار إلى قوله بين الشرطين توكيدًا. ولم ينسبه لأحد.

94

وقوله: {مَا يُوعَدُونَ} قال ابن عباس: من النقمة فيهم. وقال مقاتل: يعني القتل ببدر (¬1). 94 - {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي} قال الفراء: هذه الفاء جواب لقوله: {إِمَّا تُرِيَنِّي} اعترض النداء بينهما كما تقول: إن تأتني كما زيد فعجّل (¬2)، ولو لم يكن قبله جزاء لم يجز أن تقول: يا زيد فقم، ولا أن تقول: يا رب فاغفر لي؛ لأن النداء مستأنف، [وكذلك الأمر بعده مستأنف] (¬3) لا تدخله الفاء ولا الواو (¬4). قوله تعالى: {فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال الكلبي: يعني مع (¬5) الفئة الباغية (¬6). قال أبو إسحاق: أي إن أنزلت بهم النقمة كما رب فاجعلني خارجًا عنهم (¬7). قال مقاتل: وذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يدعو على كفار مكة (¬8). 95 - فعلّمه الله كيف يدعو، وأخبر أنه قادر على إنزال العذاب بهم بقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}. ثم أمره بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال المفسرون: يعني الإعراض والصفح ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ. (¬2) في (أ)، (ظ): (فجعل). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 241. (¬5) في (ع): (في). (¬6) ذكر الرازي 23/ 118 نحو هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 21. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ.

{السَّيِّئَةَ} (¬1) وهي أذى المشركين إيّاه (¬2). والمعنى: ادفع بالخلّة التي هي أحسن -وهي الصبر والصفح- أذاهم وجفاهم (¬3). وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم (¬4). وقال أهل المعاني: إذا ذكروا المنكر فاذكر الحجَّة في فساده والموعظة التي تصرف عنه إلى ضدّه من الحق بتلطّف في الدعاء إليه والحث عليه (¬5). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (والسيئة). (¬2) الطبري 18/ 51 مع اختلاف يسير. (¬3) الثعلبي 3/ 64 أ. (¬4) ذكر هذا الطبري 18/ 51، والثعلبي 3/ 64 أ. وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لهبة الله بن سلامة ص 67، "الناسخ والمنسوخ" لابن حزم ص 46، "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" لابن البارزي ص 42. وهي على قول هؤلاء منسوخة بآية الأمر بالقتال، والصواب أنَّها محكمة غير منسوخة، ولا تعارض بينها وبين آيات الأمر بالقتال، ولذا نقل ابن الجوزي في "ناسخ القرآن ومنسوخه" ص 467 عن بعض المحققين من العلماء أنَّه قال: لا حاجة بنا إلى القول بالنسخ، لأن المداراة محمودة ما لم تضر بالدين، ولم تؤد إلى إبطال حق وإثبات باطل. اهـ. وقال ابن كثير 3/ 254: قال تعالى مرشدًا له -يعني للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يُسيء إليه ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة .. وهذا كما قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وانظر: "البحر المحيط" 6/ 422، "أضواء البيان" 5/ 818. (¬5) ذكر الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 66 هذا المعنى باخصار. وقال: حكاه ابن عيسى.

وروي عن مجاهد وعطاء أنهما قالا في قوله: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: السلام يسلم عليهم إذا لقيهم (¬1). ولا أدري هل كان يسلم على المشركين أم لا؟ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- نهانا أن نبدأهم بالسلام (¬2). قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} قال ابن عباس: يريد بما يقولون من الشرك (¬3). وقال مقاتل: بما يقولون من الكذب (¬4). ومعنى {نَحْنُ أَعْلَمُ} إنَّا (¬5) نجازيهم بما يستحقون (¬6) من الجزاء في الوقت الذي يصلح للأخذ بالعقوبة. أي (¬7): فليس يخفى علينا ما يقولون، ولسنا نغفل عن مجازاتهم. ¬

_ (¬1) رواه عن مجاهد عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 48، والطبري 18/ 51، وذكره عن عطاء السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 13 وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) روى البخاري في الاستئذان -باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين 11/ 38، ومسلم في الجهاد- باب في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره على المنافقين 3/ 1422 - 1423، من حديث أسامة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بمجلس فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ... فسلم عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-" الحديث وروى مسلم في السلام - باب في السلام على أهل الذمة 14/ 111، والترمذي في السير- باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب 5/ 227، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "لا تبدؤا اليهود والنَّصّارى بالسلام" الحديث. (¬3) ذكر ابن الجوزي 5/ 489، والقرطبي 12/ 147 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ. (¬5) في (ع): (بما). والمثبت من باقي النسخ والوسيط. (¬6) في (ظ)، (ع): (بما يستحقون به). (¬7) (أي): ساقطة من (أ).

97

ثم أمره أن يتعوذ من الشيطان ليسلم في دينه فقال: 97 - {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أي اطلب الاعتصام بك {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} الهمزات جمع همزة كقوله: تمرات (¬1) وتمرة. ومعنى الهمز في اللغة: الدفع (¬2). روى أبو عبيد عن الكسائي: همزته ولمزته ولهزته (¬3) ونهرته إذا دفعته (¬4). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من هَمزْ الشيطان ونَفثه ونفخه" فقيل: كما رسول الله ما همزه ونفثه ونفخه؟ قال: "أما همزه فالموتة، وأما نفثه فالشِّعْرُ، وأما نفخه فالكبر" (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (ثمرات وثمرة)، ومهملة في (ظ). (¬2) انظر: "لسان العرب" 5/ 426 (همز)، "القاموس المحيط" 2/ 196. (¬3) (ولهزته): ساقطة من (أ). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 164 (همز) من رواية أبي عبيد عن الكسائي. (¬5) ذكره بهذا اللفظ أبو عبيد في "غريب الحديث" 3/ 77 ولم يذكر له إسنادًا، وكذا ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 6/ 165. وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 403، وابن ماجه في "سننه" (أبواب إقامة الصلاة- باب الاستعاذة في الصلاة 1/ 145، وابن خزيمة في "صحيحه" 1/ 240، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 9/ 258، والحاكم في "مستدركه" 1/ 207، من حديث عبد الله بن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يتعوذ من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه، قال: وهمزه: المُوتة، ونفثه: الشعر، ونفخه: الكبر. وهذا الحديث ضعف إسناده البوصيري في "مصباح الزجاجة" 1/ 285. وحسَّن إسناده الحلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" 5/ 318. وله شاهدان مرسلان يتقوى بهما: أولهما: ما رواه أحمد في "مسنده" 5/ 156 من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن=

قال أبو عبيد (¬1): والموتة: المجنون. وإنَّما سمّاه همزًا؛ لأنَّه جعله من النخس والغمز، وكل شيء دفعته (¬2) فقد همزته (¬3). وعلى هذا معنى (¬4) {هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} دفعهم بالإغواء إلى المعاصي. وهو معنى قول ابن عباس والحسن: نزغات الشياطين ووساوسهم (¬5). وذلك أنّه إنما يدفع الناس إلى (¬6) المعاصي بما يوسوس إليهم من التسويل والتَّمنية (¬7). ¬

_ = قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يقول: اللهم إنّي أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزة ونفثه ونفخه. قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تعوذوا من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، قالوا: كما رسول الله وما همزه ..... الحديث. والثاني: ما رواه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 84 عن الحسن: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه، فقالوا: ما أكثر ما نستعيذ من هذا! لمن هذا؟ قال: أمّا همزه فهو المجنون، وأما نفخه فالكبر، وأما نفثه فالشعر. وبمرسل أبي سلمة صحّحه الألباني في "صحيح ابن ماجه" 1/ 135. وانظر: "إرواء الغليل" للألباني 2/ 53 - 57. والموتة: بضم الميم وفتح التاء بدون همز. (¬1) في جميع النسخ: (أبو عبيدة)، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب. (¬2) في (ظ): (رفعته)، وهو خطأ. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 165 (همز) نقلاً عن أبي عبيد. وكلام أبي عبيد في كتابه "غريب الحديث" 3/ 78. (¬4) (معنى): ساقطة من (ع). (¬5) ذكره عنهما الثَّعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 64 أ. (¬6) (إلى): ساقطة من (ظ). (¬7) كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120].

وقد يكون الهمز في اللغة بمعنى: العيب (¬1). ومنه قوله -عز وجل-: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وهو الذي يهمز أخاه في قفاه من خلفه (¬2) أي (¬3): يغتابه ويعيبه (¬4). قال المبرد: والهمز في كلام العرب: إنما هو أن (¬5) يهمز الرجل بقول قبح من حيث لا يسمع، وسميت مكايدة (¬6) الشيطان همزًا؛ لأن مكايدته خفيّة بالنزغة والوسوسة (¬7). ومن هذا قول مجاهد في تفسير الهمزات: نفخهم ونفثهم (¬8). وذلك أن الشطان ينفخ في الإنسان عند الغضب وغيره، وينفث فيه من حيث لا يشعر به. وقد يكون الهمز في اللغة بمعنى: العصر. يقال: همزت رأسه، ¬

_ (¬1) هذا قول ابن الأعرابي كما في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 164 (همز). وانظر: "الصحاح" للجوهري 3/ 902 (همز)، "لسان العرب" 5/ 426 (همز). (¬2) في (1): (خلف)، وفي (ع): (خلقه). (¬3) في (أ): (إلي). (¬4) قوله: (الذي يهمز .. خلفه). في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 164 - 165 (همز) منسوبًا إلى الليث. (¬5) في (ع): (لمن). (¬6) في (ظ): (مكايد). (¬7) لم أجده. (¬8) ذكره عنه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 64 أ. قال الإمام ابن القيم في "إغاثة اللهفان" 1/ 155: وظاهر الحديث -يعني استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- من همز الشيطان ونفخه ونفثه- أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال -وهو الأظهر- إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعًا خاصا، كنظائر ذلك.

98

وهمزت الجوز بكفي. ومنه: ومن همزنا رأسه تهشَّما (¬1) وهذا معنى قول ابن زيد في هذه الآية {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} قال: خنقهم الناس (¬2). ومعنى قول (¬3) أبي إسحاق في تفسير الهمزات أنها مس الشيطان (¬4). وذكرنا معنى مسّ الشيطان عند قوله: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. 98 - قوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} قال ابن زيد: يحضروني (¬5) في أموري (¬6) (¬7). وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن (¬8). وقال عكرمة: عند النزع والسياق (¬9). ¬

_ (¬1) من قوله: (الهمز .. إلى هنا). في "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 1645 (همز) منسوبًا إلى الليث. وهو في العين 4/ 17 (همز) وفيه: الجوزة. وليس فيه الإنشاد. وهذا الشطر من الرجز لم ينسبه الأزهري. وهو لرؤبة في "ديوانه" (1843)، "التنبيه والإيضاح" لا بن بزي 2/ 253، "اللسان" 5/ 425 (همز)، "تاج العروس" للزبيدي 15/ 388 (همز). (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 63 أ. ورواه الطبري 18/ 51. (¬3) في (ع): (تفسير). (¬4) "معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 21. (¬5) (يحضروني): ساقطة من (أ). (¬6) في (ع): (أمري). (¬7) رواه الطبري 18/ 51، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 114 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (¬8) ذكره عنه ابن القيم في "إغاثة اللهفان" 1/ 155. وذكر الزمخشري 3/ 42 هذا القول ونسبه لابن عباس. (¬9) ذكره عنه الزمخشري 3/ 42، وابن القيم في "إغاثة اللهفان" 1/ 155.

قال صاحب النظم: هذا من باب الإيماء؛ لأن معنى قوله: {أَنْ يَحْضُرُونِ} إيماءً إلى أن يصيبوني بسوء، ومنه قولهم: حضر فلان، إذا دنى موته. ويقال: اللبن (¬1) محضور ومحتضر، أي: يصاب منه، وكذا (¬2) الحُشُوش والكُنُف (¬3) مُحْتَضَرة، أي يصاب الناس (¬4) فيها، ومنه قوله-عز وجل-: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] أي مصاب منه يصيب صاحبه. هذا كلامه. والصحيح أن يقال: المعنى: وأعوذ بك ربِّ (¬5) أن يحضرون بسوء، بحذف ذكر السوء اختصارًا على أنه مفهوم المعنى، وذلك قولهم اللبن محتضر (¬6) فغط إناك، يعنون: تحتضره الدابة وغير ذلك من أهل الأرض (¬7)، والكُنُف تحتضره الشياطين والجن، وقوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} باحتضار صاحبه. وهذا معنى ما ذكره صاحب النظم من قوله: أن يصيبوني بسوء؛ لأنهم إذا حضروه بسوء أصابوه به (¬8). وحذف ذكر السوء؛ لأن الشيطان لا يحضر ¬

_ (¬1) في (ظ): (الناس). (¬2) في (أ): (وكذا). (¬3) الحُشُوش: جمع: حُش -بضم الحاء وفتحها- وهو المخرج والمتوضأ. "لسان العرب" 9/ 286 (حشش). والكنف: جمع كَنِيف وهو المرحاض. "القاموس المحيط" 3/ 192. (¬4) (الناس): ساقطة من (ظ). والعبارة في (ظ): (أي يصاب منه أي يصاب فيها). (¬5) (ربِّ) ليست في (أ). (¬6) (محتضر): ساقطة من (ع). (¬7) قولى: (قولهم اللبن محتضر ... إلى هنا). هذا كلام الأصمعي كما في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 201 (حضر). (¬8) (به): ساقطة من (أ).

99

ابن آدم إلا بسوء (¬1)، فلذا (¬2) أمر أن يتعوذ من أن يأتيه الشيطان أو يقربه. 99 - ثم أعلم -تعالى ذكره- أن هؤلاء الذين ذكروا قبل هذا الموضع ودفعوا البعث يسألون المرجع إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} قال مقاتل: يعني (¬3) الكفار (¬4). {الْمَوْتُ} قال الكلبي ومقاتل (¬5): يعني ملك الموت. وقال غيرهما: يعني (¬6) أسباب الموت ومقدماته كقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} (¬7) [إبراهيم: 17]. وقد مرّ. {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} قال ابن عباس والمفسرون: يريد إلى الدنيا (¬8). قال الفراء، والزجاج، وجميع أصحاب العربية: قوله: {ارْجِعُونِ} وهو يريد الله -عز وجل- وحده (¬9)، فجاء الخطاب في المسألة على لفظ الإخبار، لأن الله -عز وجل- قال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} [ق: 43] وهو وحده يحيي، وهذا لفظ تعرفه العرب للجليل الشأن يخبر عن نفسه بما يخبر به (¬10) الجماعة، فكذلك جاء الخطاب في {ارْجِعُونِ} (¬11). ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي 5/ 489 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬2) في جميع النسخ: (فإذا). وما أثبتناه هو الصواب. (¬3) (يعني): لست في (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ. (¬6) (يعني): ساقطة من (أ). (¬7) في (ظ): (فيأتيه). (¬8) انظر: "الطبري" 18/ 52. (¬9) في (أ). (الله وحده -عز وجل-). (¬10) في (ع): (عن الجماعة). (¬11) هذا كلاء الزجاج بنصِّه في "معاني القرآن" 4/ 21 - 22. وانظر: "معاني القرآن" =

وروي عن ابن جريج أنه قال -في هذه الآية-: إنّهم استغاثوا (¬1) بالله أولاً ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة المرجع (¬2) إلى الدنيا (¬3). واختار المبرد هذا الوجه فقال: {ارْجِعُونِ} خطاب للملائكة بعد أن قال: رب، مستغيثا. ومثل هذا يكثر (¬4) في الكلام عن العرب أن يخاطبوا أحدًا ثم يصرف المخاطبة إلى غيره، لأنَّ المعنى مشتمل على ذلك. وأنشد ¬

_ = للفراء 2/ 241 - 242. وقد جَوَّد هذا الوجه السمين الحلبي 8/ 366، واستظهره الشنقيطي في "تفسيره" 5/ 821. (¬1) في (أ): (استعانوا)، ومهملة في (ظ). (¬2) في (ظ): (المرجع). (¬3) ذكره القرطبي 12/ 149 وأبو حيان 6/ 421 عن ابن جريج. وذكر البغوي 5/ 428 هذا القول وصدَّره بقيل. وفي نسبة هذا القول إلى ابن جريج نظر؛ والأظهر أن هذا قول الطبري، وبيان ذلك: أنَّ الطبري روى في "تفسيره" 18/ 52 عن ابن جريج قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! فيقول: بل قدَّماني إلى الله. وأما الكافر فيقال: نرجعك؟ فيقول: لعلّي أعمل صالحا فيما تركت ... " الآية. ثم قال الطبري بعد ذلك: وقيل "ربِّ ارجعون" فابتدأ الكلام بخطاب الله تعالى، ثم قيل "ارجعون" فصار إلى خطاب الجماعة، والله تعالى ذكره واحد. وإنما فعل ذلك كذلك؛ لأن مسألة القوم الرّد إلى الدنيا إنّما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحهم كما ذكر ابن جريج أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله. وإنما ابتدئ الكلام بخطاب الله جل ثناؤه لأنَّهم استغاثوا به ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع والرد إلى الدنيا. اهـ. فظاهر العبارة أن قائل "وإنما ابتدىء ... الدنيا" هو الطبري. والله أعلم. (¬4) في (ظ): (كثر).

للأحوص (¬1): يا دارُ غَيَّرها البلى تغييرا (¬2) ... وسفت (¬3) عليها الريح بعدك مورا (¬4) فدعا الدار، ثم أخبر عنها، ثم خاطب صاحبها (¬5). قال: وذلك قول (¬6) النابغة (¬7): ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (للأخوص). (¬2) في (ظ): (تغيَّرا). (¬3) في (أ): (وسقت)، وفي (ظ) مهملة. (¬4) البيت في "ديوان الأحْوص" ص 130، "الكتاب" 2/ 201، "تحصيل عين الذهب" للشنتمري 1/ 312 وعندهم: "حسَّرها البلى تحسيرا" عوضًا من "غيرها البلى تغييرًا". ونسبه الأصبهاني في "الأغاني" 3/ 336، والسيرافي في "شرح أبيات سيبويه" 1/ 523 للحارث بن خالد المخزومي. وروايتهما مثل رواية الديوان إلا أنَّه وقع في الأغاني: "بورا" عوضًا من "مورا". والبيت بمثل رواية الواحدي في "معاني القرآن" للفراء 2/ 376 من غير نسبة. قال الشنتمري 1/ 312: البلى: القدم، ومعنى "سفت": طيرت، والمور: ما تطيره الريح من التراب. (¬5) انظر: "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 1/ 523. (¬6) (قول): ساقطة من (أ). (¬7) بيت النابغة هذا أول أبيات قصيدته المشهورة التي يعذر فيها للنعمان بن المنذر من وشاية بلغته عنه، ويمدحه فيها. وهو في "ديوانه" ص 14، "شرح القصائد التسع" للنَّحَّاس 2/ 733، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 512. قال أبو جعفر النحاس في شرحه 2/ 733: قوله: "يا دار ميَّة" داء مضاف، و"ميَّه" معرفة، فذلك لم يصرفها. قال الأصمعي: "العلياء": مرتفع من الأرض. و"السَّند": سند الوادي في الجبل، وهو ارتفاعه حيث يُسند فيه، أي يُصعد. و"أقوت" خلت من أهلها .. السالف: الماضي .. و"الأبد": الدَّهْر. اهـ.

100

يا دار ميَّة بالعلياء فالسند (¬1) ... أقوت (¬2) وطال عليها سالف الأبد فدعا أولاً ثم حدث عنها. 100 - قوله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله (¬3). وقال مقاتل: يعني الإيمان (¬4). وقال قتادة: إما والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة، ولكنه تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر فاعملوا فيها (¬5). قوله تعالى: {فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} قال ابن عباس: فيما مضى من عمري (¬6). وقال الكلبي: فيما كذّبت. وقال غيره: فيما ضيعت (¬7). قال الله تعالى {كَلَّا} قال ابن عباس: يقول لا ترجع إلى الدنيا {إِنَّهَا} إن مسألته الرجعة {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} يريد لابد أن يقولها عند الموت حين (¬8) يعاين عذاب الله (¬9). ونحو هذا ابن زيد (¬10). ¬

_ (¬1) في (ظ): (والسَّند). (¬2) في (أ)، (ظ): (أموت). (¬3) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص 108، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 115 وعزاه للبيهقي. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ. (¬5) ذكره عنه البغوي 5/ 428، وابن كثير 3/ 255. (¬6) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 490. (¬7) هذا قول الطبري في "تفسيره" 18/ 52، والثعلبي 3/ 64 ب. (¬8) (حين): ساقطة من (ع). (¬9) ذكر ابن الجوزي 5/ 490 هذا القول إلى قوله: الرجعة. ولم ينسبه لأحد. (¬10) روى الطبري 18/ 53 عنه قال: لابد أن يقولها.

وقال آخرون (¬1): {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} يعني أن سؤاله الرجعة كلام يقوله (¬2) ولا فائدة له؛ لأنّه لا يجاب إلى ما يسأل، فهو كلام يقوله ولا فائدة له، كقوله: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] [وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]] (¬3). وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ} قال أبو عبيدة: ومن أمامهم (¬4). وهذا مما يجوز أن يكون المراد به: ومن بين أيديهم، كما قال أبو عبيدة، ويجوز أن يكون المراد به (¬5): ومن خلفهم، كما ذكرنا في قوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} (¬6) [إبراهيم: 16]. وقد مرّ. قوله تعالى: {بَرْزَخٌ} معنى البرزخ في اللغة: الحاجز بين الشيئين كيفما (¬7) كان من عين أو معنى، نحو المسافة والجدار والأيام والعداوة وغير ذلك (¬8). وهذا معنى قول الفراء، قال: البرزخ والحاجز والمهلة (¬9) متقاربات في المعنى وذلك أنك تقول: بينهما حاجز أن يتزاورا، فتنوي بالحاجز (¬10) ¬

_ (¬1) ذكر الثعلبي 3/ 64 ب نحو هذا المعنى مختصرًا، ولم ينسبه لأحد. وذكره ابن الجوزي 5/ 49 مختصرًا. (¬2) في (ع): (هو يقوله). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 62. (¬5) (به): ساقطة من (أ). (¬6) في (أ)، (ظ): (ورائهم)، وهو خطأ. (¬7) في (ظ): (كيف). (¬8) انظر: (برزخ) في "تهذيب اللغة" 7/ 671، "الصحاح" 1/ 419، "اللسان" 3/ 8. (¬9) في (ظ): (وأنهله). (¬10) في (ع): (بالحاجة)، وهو خطأ.

المسافة وتنوي الأمر المانع (¬1)، مثل اليمين والعداوة، فصار المانع من المسافة كالمانع من الحوادث فوقع عليهما البرزخ (¬2). ومنه حديث علي -رضي الله عنه- أنه صلى بقوم فأسْوى (¬3) برزخا (¬4). أي أسقط، وأراد بالبرزخ ما بين الموضع الذي [أسقط منه إلى الموضع الذي] (¬5) انتهى إليه. قاله أبو عبيد (¬6) (¬7). وبرازخ الإيمان ما بين اليقين والشك. والبرزخ: ما بين كل شيئين. ومنه قيل للميت: هو في البرزخ؛ لأنّه بين الدنيا والآخرة (¬8). وقال أبو إسحاق: البرزخ في اللغة: الحاجز، وهو هاهنا ما بين موت الميت وبعثه (¬9). ¬

_ (¬1) في (ع): (المانع من المسافة). وهو انتقال نظر من الناسخ إلى ما بعده. (¬2) كلام الفراء بنصَّه في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 671 (برزخ). وهو في "معاني القرآن" للفراء 2/ 242 مع اختلاف يسير. (¬3) في (أ)، (ع): (بما سوى). وفي (ظ): (فاستوى). (¬4) ذكره بهذا اللفظ الأزهري في "تهذيب اللغة" 7/ 671. وذكره أبو عبيد في غريب الحديث 3/ 448 بهذا اللفظ، ثم رواه من حديث أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدًا أقرأ من علي، صلينا خلفه فقرأ برزخًا فأسقط حرفًا فرجع فقرأه ثم عاد إلى مكانه. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ). (¬6) في جميع النسخ: (أبو عبيدة)، وهو خطأ. (¬7) كلام أبي عبيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 671 (برزخ). وهو في كتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد 449/ 3. (¬8) من قوله: (وبرازخ إلى ... إلى هنا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 671 منسوبًا إلى أبي عبيد. وهو في "غريب الحديث" لأبي عبيد 3/ 448 - 449. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 52.

101

وهذا قول الضحاك وابن زيد: ما بين الموت إلى البعث (¬1) (¬2). وروي عن ابن عباس: ([بَرْزَخٌ]: حجاب (¬3). وقال السدي ومقاتل: أجل (¬4). وقال مجاهد: حجاب بينهم وبين (¬5) الرجوع إلى الدنيا وهم فيه إلى يوم يبعثون (¬6). وقال قتادة: بقية الدنيا (¬7). يعني (¬8) أنهم يكونون في البرزخ إلى أنْ تفنى الدنيا فيبعثوا. والكناية (¬9) في قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} كالكناية في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ}. وقوله: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قال أبو إسحاق: {يَوْمِ} مضاف إلى (يُبْعَثُونَ) لأن أسماء الزمان تضاف إلى الأفعال (¬10). 101 - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} قال ابن عباس- فيما روى عنه سعيد بن ¬

_ (¬1) في (ظ): (والبعث). (¬2) ذكره عنهما بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 64 ب. ورواه عنهما الطبري 18/ 53 بنحوه. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 64 ب. (¬4) ذكره الثعلبي 3/ 64 ب عن السدي. وهو في "تفسير مقاتل" 2/ 33 أ. (¬5) في (أ): (وعن). (¬6) ذكره عنه الثعلبي 3/ 64 ب. ورواه هنّاد بن السري في "الزهد" 1/ 195، والطبري 18/ 53، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 115 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي نعيم في الحلية. (¬7) ذكره الثعلبي 3/ 64 ب، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 48، والطبري 18/ 53، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 115 ونسبه أيضًا لحبد بن حميد. (¬8) (يعني): ساقطة من (ع). (¬9) في (ع): (فالكناية). (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 22.

جبير-: هي النفخة الأولى، نفخ (¬1) في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله (¬2). قوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يتناسبون (¬3) في ذلك الوقت ليعرف (¬4) بعضهم بعضًا لاشتغال كل أحد بنفسه عن غيره، ولا يسأل بعضهم بعضًا عن حاله أو لا يتعاطفون بالإنساب (¬5). وقال -في رواية عطاء-: هي (¬6) النفخة الثانية {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} قال: يريد لا تفاخر بينهم كما كانوا يتفاخرون في الدنيا {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} كما تسأل العرب في الدنيا من أي قبيلة أنت؟ (¬7). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. وعند الثعلبي: "ونفخ". (¬2) رواه الثعلبي 3/ 64 ب بإسناده من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به، إلا أن فيه "ونفخ" كالآية. ورواه البخاري في "صحيحه" (كتاب التفسير- سورة حم السجدة 8/ 555 - 556) عن سعيد قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال: "فلا أنساب بينهم" ... الحديث مطولاً، وفيه قال ابن عباس: في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور ... ورواه الطبري 18/ 54 عن سعيد عن ابن عباس بنحوه. (¬3) في (ظ): (لا يتساءلون). (¬4) في (أ): (لنعرض). (¬5) ذكر الطوسي في "التبيان" 7/ 349 هذا المعنى وصدَّره بقوله: وقيل وذكر عن الحسن أنه قال: معناه: لا أنساب بينهم يتعاطفون بها. (¬6) في (أ): (في). (¬7) ذكره عنه البغوي 5/ 429 من رواية عطاء. وذكر ابن الجوزي 5/ 490 عنه أوله من رواية عطاء. وذكر الثعلبي 3/ 64 ب عنه قوله: يريد فلا تفاخر بينهم كما كانوا يتفاخرون في الدنيا. ولم يذكر من رواه عنه.

وهذا قول ابن مسعود ومقاتل: أن المراد بقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} النفخة الثانية (¬1). قال ابن مسعود: الخلق يومئذ أشد تعلقًا بعضهم ببعض منهم في الدنيا، الأب بابنه والابن بأبيه والأخ بأخته والأخت بأخيها والزوج بامرأته والمرأة بزوجها. وتلا هذه الآية (¬2). ولابد من تقدير محذوف في الآية على تأويل: فلا أنساب يومئذٍ يتفاخرون بها ويتعاطفون بها؛ لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ إنما يرتفع التواصل والتعاطف والتفاخر بها والتَّساؤل. وهذه الآية لا تنافي قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] لأن للقيامة أحوالًا، ومواطن، منها ما يشغلهم عظم الأمر الذي ورد عليهم عن المسألة، ومنها حال يفيقون فيها فيتساءلون. وهذا معنى قول ابن عباس -في رواية المنهال بن عمرو- لما سئُل عن ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 3/ 64 ب عن ابن مسعود. وقول مقاتل في "تفسيره" 2/ 33 أ. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ. وقد رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 362 - 365 (شاكر) مطولاً، 18/ 54 مختصرًا)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (كما في تفسير ابن كثير 2/ 497)، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 64 ب - 65 أ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 202، كلهم من طريق زاذان عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، ولفظه: فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو ابنها أو على أخيها أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: "فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون". وقد صحح العلامة أحمد شاكر إسناد ابن أبي حاتم كما في "تعليقه على الطبري" 8/ 364.

الآيتين فقال: هذه تارات (¬1) يوم القيامة (¬2). وأجاب في رواية سعيد بن جبير يحمل آية التساؤل على أن ذلك في الجنة فقال: إنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون (¬3). قال أبو علي: لا يجوز أن يكون "إذا" نصبا بـ"نُفِخَ" ولا بقوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} لأن ما بعد "لا" لا يعمل فيما قبلها، فإذا لم يجز نصبه على هذين انتصب بفعل مضمر يُفسره ويدل عليه قوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}، على تقدير: تنقطع الأنساب إذا نفخ في الصور، أو لا تنفع الأنساب وما أشبه ذلك. وشرح هذه المسألة أن يذكر عند قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] الآية. ¬

_ (¬1) تارات: جمع تارة، وهي الحين والمرّة. والمراد أحوال يوم القيامة مرة بعد مرة وحينًا بعد حين. انظر: "القاموس المحيط" 1/ 381. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ، وقد روى البخاري في "صحيحه" (كتاب التفسير- سورة حم، السجدة 8/ 555 - 556)، والطبري في الكبير 10/ 301 - 302 من طريق المنهال بن عمرو عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} ... فقال ابن عباس: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وروى سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 أ) من طريق أبي إسحاق الأشجعي عن ابن عباس أنه سُئل عن الآيتين فقال: إنها مواقف، فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا، فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون. ورواه الطبري 18/ 54 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بمعناه. (¬3) رواه الطبري 18/ 54، والحاكم في "مستدركه" 2/ 395 من رواية المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.

102

102 - قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} هذه والآية (¬1) التي بعدها ذكرنا تفسيرهما في أوائل سورة الأعراف (¬2). 104 - قوله تعالى. {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} معنى اللفح: الإحراق. يقال: لفحته (¬3) النار والسموم، إذا أحرقته (¬4). وقال الزجاج: تلفح وتنفح بمعنى واحد، إلا أن اللفح أنهم تأثيرًا (¬5) من النفح (¬6). قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} الكلوح: بدو الأسنان (¬7) عند العبوس. يقال: كلح كلوحًا، وأكلحه (¬8) كذا (¬9). ويقال: دَهْرٌ كالح وبردٌ كالح. إذا كان شديدًا (¬10) (¬11). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (الآية). (¬2) انظر: "البسيط" [الأعراف: 8 - 9]. (¬3) في (أ): (ألفمه). (¬4) انظر: "لفح" في "تهذيب اللغة" 5/ 73، "الصحاح" 1/ 401، "لسان العرب" 2/ 578. (¬5) في (أ): (تأخيرًا)، وهو خطأ. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 23. وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 73. (¬7) في (أ): (الإنسان). (¬8) في (أ)، (ع): (وكلمه). وفي (ظ): (إذا كلمه). والتصويب من "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 102. (¬9) "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 102 (كلح) منسوبًا إلى الليث. (¬10) في (ظ)، (ع): (شديد)، وهو خطأ. (¬11) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 102 (كلح) دون قول: وبرد كالح. وانظر: "الصحاح" للجوهري 1/ 399 (كلح)، "المحكم" لابن سيده 3/ 31 (كلح)، "لسان العرب" 2/ 574 (كلح).

وقال الزَّجَّاج: الكالح: الذي قد شمرت شفتاه عن أسنانه، نحو ما ترى [من] (¬1) رؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمرت الشفاه (¬2). قال ابن مسعود -في هذه الآية-: ألم تر إلى الرأس المشيَّط (¬3) بالنار، وقد (¬4) بدت أسنانه وقلصت (¬5) شفتاه (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "معاني الزجاج" 4/ 23، و"تهذيب الأزهري" 4/ 102. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 23. (¬3) المشيط: يقال: شيطت رأس الغنم ... إذا أحرقت صوفه. "الصحاح" للجوهري 3/ 1139 (شيط). (¬4) في (ظ): (قد). (¬5) قلصت: أي انزوت. "لسان العرب" 7/ 79 (قلص). (¬6) رواه سفيان في "تفسيره" ص 218، وابن المبارك في "الزهد" (زوائد الزهد لأبي نعيم ص 84)، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 48 - 49، وهناد في "الزهد" 1/ 190، والطبري 18/ 59 من طريق أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بمثله. ورواه من هذا الوجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 174 - 175، والحاكم في "مستدركه" 2/ 395، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 276 بنحوه مختصرًا. وفي إسناده عند هؤلاء أبو إسحاق السبيعي قال ابن حجر في "التقريب" 2/ 73 ثقة عابد، من الثالثة، اختلط بآخرة. لكن الرواي عنه هو سفيان الثوري وهو من قدماء أصحابه الذين سمعوا منه قبل الاختلاط انظر: "هدى الساري" لابن حجر ص 430. قال ابن الكيال في كتابه "الكواكب النيرات في معرفة ص اختلط من الروا"الثقات" ص 351: (وقد أخرج الشيخان في الصحيحين لجماعة من روايهم عن أبي إسحاق، وهم ... وسفيان الثوري. اهـ. ولهذا قال الحاكم 2/ 395: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. =

وروى الخدري، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية قال: "تشويه النار فتقلص (¬1) شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتشترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" (¬2). ¬

_ = ووافقه على ذلك الذهبي. فإسناد هذا الأثر صحيح. وقد رواه الطبراني في "المعجم" 9/ 261 من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بنحوه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 73: ورجاله ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. اهـ. لكن يعضده ما تقدم. والله أعلم. (¬1) في (أ): (فتلصق). (¬2) رواه ابن المبارك في "مسنده" ص 76، و"زوائد الزهد" لأبي نعيم ص 84، والإمام أحمد في "مسنده" 3/ 88، والترمذي في "جامعه" (كتاب التفسير- ومن سورة المؤمنين 9/ 20)، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 516، والحاكم في "مستدركه" 2/ 246، 395، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 275، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 65 أ، والواحدي في "الوسيط" 3/ 298، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 182 كلهم من طريق أبي السمح -درَّاج بن سمعان- عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، به. وقد اختلف العلماء في هذا الطريق: فقال الإمام أحمد: أحاديث درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف. وقال أبو داود عن درَّاج: أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. وقال أبو حاتم: في حديثه ضعف. وضعفه النسائي والدارقطني وغيرهما. ووثقه ابن معين، وقال -لما سئل عن أحاديث دراج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد-: هذا إسناد صحيح. ووثقه ابن حبان وابن شاهين. واختار ابن حجر قول أبي داود فقال في "التقريب" 1/ 235: صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. انظر: "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي 3/ 979، "تهذيب التهذيب" لابن حجر 3/ 208 - 209، "مستدرك الحاكم" 2/ 246. وعلى هذا فإسناد هذا الحديث ضعيف، وقد ضعَّف إسناده الألباني في تخريج أحاديث المشكاة 3/ 1582.

106

ويقال له: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} قال مقاتل والكلبي: يعني القرآن (¬1). {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} قال ابن عباس: يريد: ألم تخوفوا بها (¬2). {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} فكنتم في الدنيا تكذبون القرآن ومحمدًا -عليه السلام- بالنار وعذابها. 106 - {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} وتقرأ "شقاوتنا" (¬3) ومعناها واحد، وهما مصدران. فالشقاوة (¬4) كالسعادة، والشقوة كالردة والفطنة (¬5). قال الكلبي: غلبت علينا شقاوتنا في الدنيا فلم نهتد (¬6). وقال القرظي (¬7)، ومجاهد (¬8)، ومقاتل (¬9): غلبت علينا شقاوتنا التي كتبت علينا. 107 - {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} قال الكلبي: من النار (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. وقد ذكره البغوي 5/ 430، وابن الجوزي 5/ 492 ولم ينسباه لأحد. (¬2) ذكر البغوي 5/ 430 هذا المعنى لوم ينسبه لأحد. (¬3) قرأ حمزة، والكسائي: "شقاوتنا" بالألف مع فتح الشين والقاف. وقرأ الباقون: "شقوتنا" بكسر الشين مع إسكان القاف. "السبعة" ص 448، "التبصرة" ص 271، "التيسير" ص 160. (¬4) في (ظ). (والشقاوة). (¬5) من قوله: فالشقاوة إلى هنا. هذا كلام أبي علي في الحجة 5/ 302. وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 491، "الكشف" لمكي 2/ 131. (¬6) ذكر البغوي 5/ 430 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬7) رواه الطبري 18/ 57 - 58. (¬8) رواه الطبري 18/ 57، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 1 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 118 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد. (¬9) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬10) ذكره البغوي 5/ 430، وابن الجوزي 5/ 492 ولم ينسباه لأحد.

108

قال ابن عباس: سألوا الرجعة إلى الدنيا (¬1). {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر والتكذيب والمعاصي {فَإِنَّا ظَالِمُونَ}. 108 - قوله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}. قال عبد الله بن عمرو (¬2): إنهم لا يجابون إلا بعد مُضي مثل عُمر الدنيا ثم يجابون بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا} (¬3). وقال مقاتل: يرد عليهم بعد مقدار الدنيا منذ يوم (¬4) خلقت إلى أن تفنى سبع مرات (¬5). {اخْسَئُوا فِيهَا} قال الكلبي ومقاتل: اصغوا في النار (¬6) (¬7). قال المبرد: الخسأ: إبعاد بمكروه (¬8). وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط. وقال: ابعدوا بعد الكلب (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 492. (¬2) في (ع): (عمر)، وهو خطأ. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 13/ 152 - 153، وهنّاد في "الزهد" 1/ 158، والطبري في "تفسيره" 25/ 99 عند قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77]، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 1 أ - ب، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 312، والبغوي في "شرح السنَّة" 15/ 154 كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو. وفي سنده قتادة وهو ثقة لكنه مدلس، وقد عنعنه. (¬4) (يوم): ساقطة من (ع). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. وقوله يحتاج إلى دليل. فالله أعلم. (¬6) في (ع): (الدنيا)، وهو خطأ. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬8) في (أ): (الخساو). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 24 وليس في المطبوع قوله: أبعدوا بعد الكلب. =

وذكرنا الكلام في الخسأ عند قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]. وقوله تعالى: {وَلَا تُكَلِّمُونِ} قال الكلبي: لا تسألون (¬1) الخروج منها. وقيل: لا تكلمون في رفع العذاب عنكم (¬2). والمفسرون على أن هذا نهيٌ لهم عن جميع أجناس الكلام (¬3). قال عبد الله بن عمرو: فلم ينبس (¬4) القوم بعد ذلك بكلمة، إنْ كان إلا الزَّفير والشهيق (¬5). وقال مقاتل: فلا يتكلم أهل النار بعد هذا غير أن لهم فيها زفيرًا وشهيقا (¬6). وقال قتادة: صوت الكافر في النار مثل صوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق (¬7) (¬8). ¬

_ = وقوله: أبعدوا ... ذكره الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 68 بنصِّه، ونسبه لابن عيسى. فلعله سقط من النسخ بعد قوله وقال: بعض أهل المعاني أو نحوها. (¬1) في (ظ): (تسألوني). (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 65 أولم ينسبه لأحد. (¬3) انظر: "الطبري" 18/ 59، الثعلبي 3/ 65 أ، "الدر المنثور" 6/ 120. (¬4) في (أ): (ييس)، وفي (ظ)، (ع): (ييس) مهملة. والتصويب من سائر الروايات ومعنى ينبس: ينطق. انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري 3/ 403. (¬5) هذا بقية الأثر السابق، فانظر تخريجه فيما تقدم. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬7) في (أ): (نهيق)، والمثبت من باقي النسخ وتفسير عبد الرزاق والطبري. (¬8) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 49، والطبري 18/ 60.

110

وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: يصير لهم همهمة كنباح الكلاب (¬1). وقال القرظي: إذا (¬2) قيل لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} انقطع عند ذلك رجاؤهم ودعاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، وأطبقت عليهم (¬3). قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} الآية. يعني المؤمنين. وقال ابن عباس: يريد المهاجرين (¬4). 110 - {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} وقرئ بكسر السين هاهنا وفي سورة "ص". وأجمعوا على الضم في سورة الزخرف (¬5). قال الليث: السُّخْرِيّ والسُّخْرِيَّة مصدران. يقال: سخر منه وبه سُخْرِيَّة وسُخْرِيّا (¬6). وزاد أبو زيد: سَخرَا (¬7). ومنه قوله: ¬

_ (¬1) ذكره عنه القرطبي 12/ 154. (¬2)) إذا): ساقطة من (أ). (¬3) رواه الطبري 18/ 57 - 58. (¬4) ذكره عنه ابن الجوزي 5/ 492. (¬5) قرأ نافع، وحمزة، والكسائي: "سُخريا" بضمّ السين هنا، وفي قوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63]. وقرأ الباقون: "سخريا" بكسر السين في السورتين. وأجمعوا على الضم في قوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]. "السبعة" ص 448، "التبصرة" ص 271، "التيسير" ص 160. (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 167 "سخر". وهو في "العين" 4/ 196 "سخر" بنحوه. (¬7) انظر: "الحجة" 5/ 303، و"النوادر" ص 288.

لا عجيب منها ولا سَخَر (¬1) قال: ويكون نعتًا كقولك: هم لك سخري وسخرية (¬2). قال القراءة الضم أجود (¬3). وقال الزجاج: كلاهما جيد (¬4). وحكى الكسائي اللغتين جميعًا، قال: وسمعت العرب تقول: بَحْرٌ لُجّي ولجي، ودري ودري، وكرسي وكرسي (¬5). وذهب قوم إلى الفرق (¬6) بينهما. قال يونس (¬7): سُخريا من السُّخْرة مضموم، ومن الهُزء سُخري (¬8). ¬

_ (¬1) هذا جزء من شطر بيت لأعشى باهلة عامر بن الحارث بن رباح الباهلي، ذكره أبو زيد في "النوادر" (ص 288) فقال: وقال أعشى باهلة: إني أتاني شيء لا أسربه ... من علُ لا عجيب فيه ولا سخرُ وهو من قصدة رائية هي أشهر شعره، يرثي بها أخاه لأمه المنتثمر بن وهب بن سلمة لما بلغه مقتله. قال البغدادي في "الخزانة" 1/ 191 - 192: وقوله "لا عجب" أي لا أعجب منها وإن كانت مصيبة عظيمة، لأن مصائب الدنيا كثيرة، "ولا سخر" بالموت، وقيل لا أقول ذلك سخرية، وهو بفتخين وضمتين. (¬2) انظر: "الحجة" 5/ 303، و"النوادر" ص 288. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 243. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 24. (¬5) ذكره عن الكسائي: الفراء في "معاني القرآن" 2/ 243، والنحاس في "إعراب القرآن" 3/ 124، وذكره عنه أيضًا الأزهري في "علل القراءات" 2/ 442. (¬6) في (أ): (إلى أن الفرق). (¬7) هو يونس بن حبيب. (¬8) قول يونس في "الحجة" للفارسي 5/ 303، وهو أيضًا في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 168.

وقال أبو عبيدة: سِخريًّا يسخرون منهم، وسُخريًّا يسخرونهم (¬1). وهذا قول الحسن وقتادة، قالا: ما كان من العُبُودة (¬2) فهو بالضم، وما كان من الهزء فهو بالكسر (¬3). وذكر الزجاج أن الضم والكسر واحد في معنى الهزء (¬4). وقال -من عند نفسه-: الكسر أحسن لاتباع الكسر (¬5). قال أبو علي: القراءة بكسر السين أرجح من قراءة من ضَمّ؛ لأنه من الهزء، والأكثر في الهُزء كسر السين فيما حكوه. ونرى (¬6) أنَّه إنّما كان أكثر لأنَّ السَّخّر مصدر سَخِرْتُ. حكاه أبو زيد (¬7). وفَعَلٌ وفعلٌ يكونان بمعنى، نحو: المثل والمثل والشَّبَه والشَّبْه، فكذلك السَّخَر والسّخْر إلا أنَّ المكسورة أُلزمت ياء النسب دون المفتوحة كما اتفقوا في القسم على الفتح في: لعمر (¬8) الله، ولم يخرج مع إلحاق ياء ¬

_ (¬1) قول أبي عبيدة في "الحجة" 5/ 303. وهو في "مجاز القرآن" 2/ 62 مع اختلاف في العبارة. (¬2) في (أ): (المعبودة)، وهو خطأ. وفي الحجة: العبودية. قال ابن منظور في "لسان العرب" 3/ 270 (عبد): يقال: فلان بين العُبودة والعبودية. (¬3) قولهما في الحجة للفارسي 5/ 303. وذكره عنهما النحاس في "معاني القرآن" 4/ 488 - 489، وابن الجوزي 5/ 493. (¬4) قال الزجاج في "معانيه" 4/ 24 بعد حكايته قول بعض أهل اللغة أن ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر وما كان من جهة التسخير فهو بالضم: وكلاهما عند سيبويه والخليل واحد. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 24. (¬6) في (أ): (وقرئ): وفي الحجة: وترى. (¬7) لم أجده في "النوادر" لأبي زيد، فعل أبا علي نقله من كتاب آخر لأبي زيد. (¬8) في (أ): (لعمرو).

النسب عن حكم المصدر، يدلك على ذلك قوله: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} (¬1) فأفرد (¬2)، وقد جرى على الجمع كما تفرد المصادر، فكأنَّ ياء النسب لم يقع بها (¬3) اعتداد في المعنى، كما لم يُعتدّ بها (¬4) ولم يكن حكم للنسب في نحو: أحمر وأحْمري ودؤاري (¬5)، فكانت ياء النسب في حكم الزيادة كـ (لا) في قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]. وقال الأخفش: سخري إذا أردت من سخرتُ به ففيه لغتان: الضم والكسر (¬6). والتي يراد بها السُّخْرة فالضم لا غير، ومن ثمَّ اتفقوا على الضم في التي في الزخرف. وقولهم (¬7): اتخذت فلانا سُخريّا وسُخْرة السُّخري مصدر وسُخْرة (¬8) ليست بمصدر في الهزء ولكنه كقولهم: ضُحْكَةٌ وهُزْأةٌ إذا كان يُضْحك منه. وأما وجه الضم إذا كان من الهزء فإن سَخَرًا فَعَل، وفَعَل وفُعْل (¬9) يتعاقبان علي الكلمة كالحزن والحزن والبخل والبخل (¬10)، كما كان فَعَلٌ وفِعْلٌ كذلك، إلا أنَ المضموم خُصَّ (¬11) بالنسب كما خُصَّ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (اتخذتموهم). (¬2) في (ع): (فرد). (¬3) في (ع): (بعدها). وفي الحجة: به. (¬4) في الحجة: به. (¬5) في (ع): (ودرار ودراري). (¬6) كلام الأخفش ليس في معاني القرآن، وإنَّما هو في "الحجة" لأبي علي 5/ 305. (¬7) في الحجة: فأما ما حكاه أبو زيد من قوله ... (¬8) في (أ): (سخر). (¬9) (وفعل) الثانية: ساقطة من (ظ)، (ع). (¬10) في (أ)، (ظ): (الحِل والحل). مهملة. (¬11) في (أ): (حض).

المكسور به وبقي على حكم المصدر كما بقي عليه المكسور. وإذا ثبت هذا فقوله (سخريا) في القراءتين جميعًا مصدر وصف به ولذلك أفْرد (¬1). قال ابن عباس -في هذه الآية-: يريد يستهزئون بهم. وقال مقاتل: إنّ رؤوس كفار قريش كانوا يستهزئون من بلال وعمار وخَبَّاب وصهيب وسالم وفقراء العرب، ازْدَرَوْهُم (¬2). قوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ} يريد تركتم موعظتي. وقال مقاتل: ترككم الاستهزاء لا تؤمنون بالقرآن (¬3). قال أبو علي: {أَنْسَوْكُمْ} يجوز (¬4) أن يكون منقولًا من الذي بمعنى الترك، ويمكن أن يكون (من) (¬5) الذي هو خلاف الذكر، واللفظ على أنهم فعلوا بكم النسيان، والمعنى: أنكم أنها المتخذون عبادي سُخْريا نسيتم ذكري باشتغالكم باتخاذكم إيّاهم سخريا وبالضحك منهم. أي: تركتموه من أجل ذلك، فنسب الإنساء إلى عبادِه المخلصين وإن لم يفعلوه لما كانوا كالسبب لإنسائهم، وهذا كقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] فنسب الإضلال إلى الأصنام لما كانت سببًا في الإضلال (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 303 - 305 مع تقديم وتأخير وتصرّف. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 441 - 442، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 95، "حجة القراءات" ص 492، "الكشف" لمكي 2/ 131. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬4) في (أ): (ويجوز). (¬5) زيادة من الحجة. (¬6) "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 191 - 192 عند كلامه على قوله "أو ننسها" [البقر ة: 106].

111

111 - قوله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} قال ابن عباس والمفسرون: بما صبروا على أذاكم واستهزائكم (¬1). {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقرئ (¬2) "إنَّهم" بالكسر (¬3). فمن فتح كان على معنى: جزيتهم لأنَّهم هم الفائزون. ويجوز أن يكون "أنَّهم" (¬4) في موضع المفعول الثاني لجزيت؛ لأنَّ جزيت يتعدّى إلى مفعولين، قال الله تعالى {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]. والتقدير: جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز. ومن كسر استأنف وقطعه (¬5) مما قبله، والمعنى: إنِّي جزيتهم اليوم بما صبروا، ثم أخبر فقال: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. ومثل هذا في الكسر والاستئناف والاتباع لما قبله: لبيك إن الحمد والنعمة لك وإن الحمد (¬6). وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء والزجاج (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره البغوي 5/ 431، وابن الجوزي 5/ 494 ولم ينسباه لأحد. وانظر: "الطبري" 18/ 61، والثعلبي 3/ 65 ب. (¬2) في (ظ): (قرئ). (¬3) قرأ حمزة، والكسائي: "إنَّهم" بكسر الألف. وقرأ الباقون بفتحها. "السبعة" ص 448 - 449، "التَّبْصرة" ص 271، "التيسير" ص 160. (¬4) في (ظ): (أنَّهم هم). (¬5) في (ظ): (فقطعه). (¬6) من قوله: (فمن فتح إلى هنا) هذا كلام أبي علي في الحجة 5/ 306 عدا قوله: "والمعنى: إني جزيتهم ... الفائزون". فإنه كلام أبي إسحاق الزجاج في "معاني القرآن" 4/ 24. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 442 - 443، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 492 - 493، و"الكشف" لمكي 2/ 131 - 132. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 243، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 24.

112

ومعنى {الْفَائِزُونَ} الذين نالوا ما أرادوا. والمفسرون يقولون: الناجون (¬1). 112 - وقوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} قال الله تعالى للكفار يوم البعث توبيخًا لهم على إنكار (¬2) البعث: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} يعني في القبور {عَدَدَ سِنِينَ}. قال الزجاج: (كم) في موضع نصب بقوله: (لبثتم) و (عَدَدَ سِنِينَ) منصوب بـ (كم) (¬3). وقرئ: (قل كم لبثتم) (¬4)، وهذا له معنيان: أحدهما: قل أيها الكافر المسؤول عن قدر لبثه {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 18/ 62، الثعلبي 3/ 65 ب. (¬2) في (ظ): (انكارهم)، وفي (أ): (الإنكار). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 25. وعلى هذا فـ"كم" ظرف زمان في محل نصب بـ"لبثتم"، و"عدد سنين" بدل من "كم". وذهب أبو حيان 6/ 424 إلى أن "عدد" تمييز لـ"كم". وصحح هذا الوجه السمين الحلبي 8/ 373. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 125، "الإملاء" للعكبري 2/ 152. (¬4) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: "قل كم لبثتم" بغير ألف على الأمر. وقرأ الباقون: "قال" بألف على الخبر. "السبعة" ص 449، "التَّبصرة" ص 271، التيسير ص 160. (¬5) قال أبو زرعة بن زنجلة في حجة القراءات ص 493 تتميمًا لهذا الوجه: فإخراج الكلام على وجه الأمر به للواحد والمراد الجماعة، إذْ كان المعى مفهوما، والعرب تخاطب الواحد ومرادهم خطاب جماعة إذا عرف المعنى.

113

والآخر: أن هذا أمرٌ (¬1) لمن يسألهم يوم البعث (¬2) عن قدر مكثهم. والمعنى: قل أيها السائل عن لبثهم (¬3). 113 - قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} قال ابن عباس: وذلك أن الله أنساهم ما كانوا فيه من العذاب (¬4). وقال مقاتل: استقلوا ذلك، يرون أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا يومًا أو بعض يوم (¬5). قال المفسرون: نسوا لعظم ما هم فيه من العذاب مدة مكثهم في الدنيا (¬6). وقوله: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} قال ابن عباس: يريد العارفين بالحساب (¬7). وقال قتادة ومقاتل: سل الحُسّاب (¬8). قال مجاهد: هم الملائكة (¬9). ¬

_ (¬1) في (ظ): (الأمر). (¬2) في (ظ): (يوم القيامة البعث). (¬3) قوله: (والمعنى: قل أيها السائل عن لبثهم). هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 307. (¬4) ذكره عنه الزمخشري 3/ 45، والرازي 23/ 126، والقرطبي 12/ 155، وأبو حيان 6/ 424. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬6) ذكره البغوي 5/ 432، والقرطبي 12/ 155 ولم ينسباه لأحد. (¬7) لم أجده. (¬8) رواه عن قتادة عبد الرزاق 2/ 49، والطبري 18/ 63، وابن أبي حاتم 7/ 2 ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 121 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. وهو في "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬9) رواه الطبري 18/ 63، وابن أبي حاتم 7/ 3 أ، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 122 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

114

قال مقاتل: يعني ملك الموت وأعوانه (¬1). وقال الكلبي: فأسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا (¬2). قوله: (قَالَ) أي قال الله تعالى، أو قال الذي سألهم عن قدر لبثهم. وقرئ (قل) (¬3) وهو أمرٌ للذي سألهم عن قدر لبثهم، ولا يجوز (¬4) أمرًا للكافر كما قلنا في قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ}، ولهذا فصل ابن كثير بينهما، فقرأ الأولى (قل) على الأمر وهاهنا (قال) (¬5). 114 - قوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً. قال الكلبي: لأنَّ كل ما هو آت قريب. يعني أن مكثهم في القبور وإن طال فإنه قليل لأنه متناه، ويجوز أن يكون قليلاً عند طول مكثهم في عذاب جهنم لأنّه خلود لا يتناهى. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬2) لم أجده. قال الطبري 18/ 63 - بعد ذكره للأقوال-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله -جل ثناؤه-: "اسأل العادين". وهم الذين يعدّون عدد الشهور والسنين وغير ذلك، وجائز أن يكونوا الملائكة، وجائز أن يكونوا بني آدم وغيرهم، ولا حجَّة بأي ذلك من أيّ ثبتت صحتها، فغير جائز توجيه معنى ذلك إلى بعض العادين دون بعض. وقال ابن عطية 10/ 410: وظاهر اللفظة أنَّهم أرادوا من يتصف بهذه الصّفه ولم يعينوا ملائكة ولا غيرها. (¬3) قرأ حمزة والكسائي: "قل إن لبثتم ... " الآية، على الأمر. وقرأ الباقون: "قال" على الخبر. "السبعة" ص 449، "التبصرة" ص 271، "التيسير" ص 160. (¬4) في (أ): (يجوز). (¬5) انظر: "السبعة" ص 449، "التَّبْصرة" ص 271، "التيسير" 160.

115

قوله -عز وجل- {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي قدر لبثكم. وقال مقاتل: لو أنكم كنتم تعلمون إذن لعلمتم أنكم لم تلبثوا إلا قليلًا (¬1). 115 - قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} العبث في اللغة: اللعب. يقال: عبث يعبث عبثا فهو عابث لاعبٌ بما لا يعنيه وليس من باله (¬2). واختلفوا في انتصابه: فمذهب سيبويه وقطرب أنه في موضع الحال (¬3). أي: عابثين. والمعنى أفحسبتم أنّما خلقناكم باطلاً لغير شيء، وهذا استفهام يتضمن الإنكار، أي ما خلقناكم عابثين بل خلقناكم لنثيب المحسن ونعاقب المسيء. وقال أبو عبيدة: هو نصبٌ على المصدر (¬4). ويكون التقدير: عبثنا (¬5) بخلقكم عبثًا. ويكون المعنى كما ذكرنا في الحال. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب. (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 332 بنصِّه. وهو في "العين" 2/ 111 مع اختلاف يسير جدًّا. وانظر: "الصحاح" للجوهري 1/ 286 (عبث). (¬3) ذكره عنهما الثعلبي 3/ 65 ب، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 210 أ، والقرطبي 12/ 156، ولم أقف عليه في الكتاب. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 653 ب، والفرطبي 12/ 156، والحاكم الجشمي في "التهذيب" 6/ 210 أ، وليس في مجاز القرآن. (¬5) في (أ): (عبثًا).

116

وعلى هذا المعنى بل كلام مقاتل (¬1). وقال آخرون: هو مفعولٌ له. أي للعبث (¬2). وهو اختيار الأزهري (¬3). وعليه دلّ كلام ابن عباس لأنه قال: يريد كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عذاب عليها، مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أي يهمل كما تهمل البهائم (¬4). والمعنى على هذا القول: أفحسبتم أنكم خلقتم للعبث فتعبثوا ولا تعملوا بطاعة الله (¬5). وهذا المعنى أراد علي -رضي الله عنه- في قوله: يا أيها الناس اتقوا الله (¬6)، فما خلق امرؤ عبثًا فيلهو، ولا أهمل سدى فيلغو (¬7). وهذا الوجه هو الاختيار لقوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (¬8) أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون في الآخرة للجزاء. 116 - قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ} قال مقاتل: ارتفع أن يكون خلق (¬9) شيئًا عبثا، ماخلق شيئًا إلا لشيء (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب وفيه: لعبًا وباطلاً لغير شيء. (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 65 ب ونسبه لبعض نحاة البصرة. وانظر: "الكشاف" 3/ 45، "الإملاء" للعكبري 2/ 152، "البحر المحيط" 6/ 424، "الدر المصون" 8/ 374. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 332 (عبث). (¬4) ذكر هذا القول البغوي 5/ 432، والقرطبي 12/ 156 ولم ينسباه لأحد. (¬5) لفظ الجلالة ليس في (أ). (¬6) في (ظ): (ربَّكم). (¬7) ذكره عنه الثعلبي 3/ 65 ب. (¬8) في (أ): (أنَّكم). (¬9) (خلق) ساقط من (أ). (¬10) "تفسير مقاتل" 2/ 33 ب - 34 أ.

117

وقال غيره: تعالي عمّا يصفه به الجهال من الشركاء واتخاذ الأولاد (¬1). قال أهل المعاني: تعالى الله بأن كل شيء سواه يصغر مقداره عن معنى صفته، {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي الذي يحق له الملك بأنّه ملك غير مُمَلَّك، وكل مُلْك غيره فملكه مستعار لأنه يملّك (¬2) ما ملَّكه الله (¬3). ثم وحّد نفسه فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} قال الكلبي: هو السرير الحسن (¬4). وذكرنا أن الكريم في صفة الجماد بمعنى الحسن (¬5). وارتفع (¬6) قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ} لأنه صفة قوله: {الْمَلِكُ الْحَقُّ}. 117 - ثم أوعد من أشرك به فقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا بيّنة ولا حجة ولا شهادة له. قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل (¬7). وقوله: {لَا بُرْهَانَ} من صفة النكرة -أي إلهًا لم ينزل بعبادته كتاب، ¬

_ (¬1) هذا قول الطبري 18/ 64 والثعلبي 3/ 65 ب. (¬2) في (أ): (بملك). (¬3) ذكر الطوسي في "التبيان" 7/ 355 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬4) ذكر البغوي 5/ 433، ولم ينسبه لأحد. قال ابن كثير 3/ 259: ووصفه بأنه كريم أي: حسن المنظر بهيّ الشكل، كما قال تعالى {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10]. (¬5) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]. (¬6) في (أ): (فارتفع). (¬7) رواه عن مجاهد الطبري 18/ 64، وابن أبي حاتم 7/ 5 أ. وقول مقاتل في "تفسيره" 2/ 34 أ.

118

ولا بعث بها رسول- وليس من جواب الشرط، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (¬1). وهذا وعيد، أي أنّ حساب عمله عند ربه فهو- يجازيه بما يستحقّهُ كما قال {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25، 26]. {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس: لا يسعد من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي (¬2). 118 - ثم أمر رسوله (¬3) أن يستغفر للمؤمنين ويسأل لهم الرحمة فقال: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} قال ابن عباس: يريد لمن صدقني. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يريد أفضل من رحم. قال مقاتل: أي هو أفضل رحمة من الذين يرحمون (¬4). ¬

_ (¬1) قال الزمخشري 3/ 45: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] وهي صفة لازمة نحو قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] جيء بها للتوكد، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أنه يقوم عليه برهان، ويجوز أن يكون اعتراضًا بين الشرط والجزاء كقولك: من أحسن إلى زيد -لا أحق بالإحسان منه- فالله مثيبه. اهـ، وخرَّجه أبو حيان 6/ 425 على الصفة اللازمة أو على الإعتراض، وقال: وكلاهما تخريج صحيح. وانظر: "الدر المصون" 8/ 375 - 376، "روح المعاني" 18/ 71 - 72. (¬2) ذكره البغوي 5/ 433 إلى قوله: وجحد. ولم ينسبه لأحد. وذكره القرطبي 12/ 157 ولم ينسبه لأحد. (¬3) في (أ): (رسول الله). (¬4) في تفسير مقاتل 2/ 34 أ: يعني أفضل رحمة من أولئك الذين لا يرحمون.

سورة النور

سورة النور

سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} قال أبو عبيدة والأخفش: {سُورَةٌ} رفع بالابتداء، وخبرها في {أَنْزَلْنَاهَا} (¬1). وهذا القول اختيار صاحب النظم. وأنكر الفراء والمبرد والزجاج هذا القول. فقال الفراء: ترفع السورة بإضمار هذه سورة أنزلناها. ولا ترفعها (¬2) براجع ذكرها (¬3)؛ لأن النكرات لا يبتدأ بها قبل أخبارها، إلا أن يكون ذلك جوابًا، ألا ترى أنك لا تقول: رجل قام، إنما الكلام أن تقول: قام رجلٌ. ¬

_ (¬1) قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 63. وقول الأخفش ذكره الثعلبي 3/ 66 ب. ولم أجد قوله هذا في كتاب "معاني القرآن". وجوز ابن عطيَّة في "المحرر" 10/ 414، وتبعه أبو حيَّان في "البحر" 6/ 427، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 377 أن تكون "سورة" رفعًا بالابتداء وقوله "أنزلناها" صفة لها، قال السمين: وذلك هو المسوِّغ للابتداء بالنكرة. وفي الخبر عند هؤلاء وجهان: أحدهما -وهو قول ابن عطية-: أن الخبر هو الجملة من قوله "الزانية والزاني" وما بعدها، والمعنى: السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا. الثاني: الخبر محذوف مقدم، أي: فيما يتلى عليكم سورة، أو فيما يوحى إليك سورة، أو فيما أنزلنا سورة. قاله أبو حيان والسمين. (¬2) في (ظ)، (ع): (ولا ترفع)، والمثبت منه (أ)، "معاني القرآن" للفراء. (¬3) في (أ): (وذكرها).

والنكرة (¬1) إنما توصل ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة. قال: رجل (¬2) أعجب إليّ رجل لا يقوم. ويقبح أن تقتصر على صلتها وتجعلها الخبر كقولك: رجل ضربته؛ إذ (¬3) كنت كالمنتظر بعد الصلة ويحسن في الجواب؛ لأنَّ القائل يقول لك: من في الدار؟ فتقول: رجل (¬4). وقال المبرّد: {سُوَرُةُ} رفع على خبر الابتداء، لا على الابتداء لأنَّها نكرة، وتأويله: هذه سورة أنزلناها، ونظير ذلك قولك: رجلٌ والله، أي هذا رجلٌ، وذلك إذا قلت: خير، عند قول القائل: ما أمرك؟ فإنما التقدير: هو خير، أو: أمري خير. وذلك قول القائل عند شدة البرد والحر: برد شديد وحر شديد (¬5). وقال الزَّجاج: وجه الرفع: هذه سورة أنزلناها. ورفعها بالابتداء قبيح، لأنها نكرة و {أَنْزَلْنَاهَا} صفة لها (¬6). قوله {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بالتخفيف والتشديد (¬7). قال أبو إسحاق: من خفف فمعناها: ألزمناكم العمل بما فرض فيها. ¬

_ (¬1) عند الفراء: وقبح تقديم النكرة قبل خبرها أنها توصل ثم يخبر عنها. (¬2) (رجل) ساقطة من (ع). (¬3) في (ظ)، (ع): (إذا). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 244 مع اختلاف وتصرّف. (¬5) ذكره القرطبي في "تفسيره" 12/ 158 عن المبرد باختصار. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 27. وفيه: فأما ارفع فعلى إضمار هذه سورة. وقد تقدّم ذكر قول السمين في بيان المسوّغ للابتداء بالنكرة. (¬7) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (وفرَّضْناها) بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف (وفَرَضْناها). انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 452، و"التيسير" للداني ص 161 و"الغاية" للنيسابوري ص 217، و"النشر" لابن الجزري 2/ 330.

ومن قرأ بالتشديد فهو على التكثير على معنى: إنما فرضنا فيها فروضًا. ويجوز أن يكون على معنى: بينَّا وفصلنا ما فيها من الحلال والحرام (¬1). وذكرنا معنى الفرض في اللغة عند قوله {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]. وقال أبو علي: معنى {وَفَرَضْنَاهَا} فرضنا فرائضها أي الفرائض المذكورة فيها (¬2) فحذف المضاف. والتخفيف يصلح للقليل والكثير، ومن حجة التخفيف قوله {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85]، والمعنى: أحكام القرآن وفرائض القرآن، كما أن التي في هذه السورة كذلك. والتثقيل في {وَفَرَضْنَاهَا} لكثرة ما فيها من الفرائض (¬3). قال ابن عباس في رواية مجاهد في قوله {وَفَرَضْنَاهَا}: بيناها (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 27 والعبارة فيه: ومن قرأ بالتشديد فعلى وجهين، أحدهما على معنى أنا فرضنا .. ، وعلى معنى بينا وفضَّلنا. (¬2) هذا الكلام المعترض من كلام الواحدي. وقد تقدم ذكر قول السمين في بيان المسوّغ للابتداء بالنكرة. (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 309 مع تقديم وتأخير. وقيل التشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيدًا. وانظر في توجيه القرائتين أيضًا: "علل القراءات" للأزهري 2/ 445، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 98، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 494، "البحر المحيط" 6/ 427، و"الدر المصون" 8/ 379. (¬4) بيناها: ساقطة من (ع). وبدلًا منها: يعني الأمر. وهو انتقال نظر من الناسخ. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 5 ب من طريق مجاهد عن ابن عباس به. وانظر: "تغليق التعليق" 4/ 263 - 264 ورواه الطبري في "تفسيره" 18/ 66 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، به.

2

وهو قول مقاتل (¬1). وقال في رواية عطاء: يريد: وحددناها. وقال مجاهد: {وَفَرَضْنَاهَا} يعني الأمر بالحلال والنهي عن الحرام (¬2). وهذا يعود إلى معنى: أوجبناها. ويجوز أن تكون بمعنى التبيين. والنكتة في التفسير ما ذكره أبو علي من أن هذا من باب حذف المضاف (¬3). 2 - قوله عزّ وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ذكرنا الكلام في وجه ارتفاع الزانية عند قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية [المائدة: 38] (¬4). {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} معنى الجلد في اللغة: ضرب الجلد. يقال: جلده؛ إذا ضرب جلده. كما تقول: رأسه وبطنه، إذا ضرب رأسه وبطنه (¬5). وليس حكم (¬6) الآية على ظاهرها (¬7)؛ لأن جلد المائة ليس ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ. (¬2) رواه الطبري 18/ 65، وابن أبي حاتم 7/ 6 أ، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 124 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 309. (¬4) "الزانية" رفع بالابتداء، وفي خبرها وجهان: أحدهما: أنه محذوف. قال سيبويه 1/ 143: كأنَّه لما قال -جل ثناؤه-: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} قال: في الفرائض الزانية والزاني، أو: الزانية والزاني في الفرائض. اهـ. وقدَّره بعضهم: فيما يتلى عليكم الزانية. الثاني: أن خبره جملة الأمر {فَاجْلِدُوا}، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط. وهو قول الفراء والزجاج والمبرد والزمخشري وغيرهم. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 244، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 28، "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب 2/ 508، "الكشاف" 3/ 47، "البيان" للأنباري 2/ 191، "البحر المحيط" 6/ 427، "الدر المصون" 8/ 379. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 656 (جلد). (¬6) (حكم) ساقطة من (أ). (¬7) لو قيل: وليس حكم، والآية على عمومها لكان أولى.

حدَّ كل زان على الإطلاق، إنّما هو حدّ الزاني إذا كان حرًا (¬1) بالغًا بكرًا غير محصن، وكذلك الزانية تجلد مائة إذا كانت بهذه الصفة. فالمراد بالزانية والزاني المذكورين في هذه الآية. هما اللذان جمعا هذه الأوصاف، وجلدهما يجب بنص الكتاب، وتغريب عام يجب بالسنة (¬2). قوله {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} يقال: رؤف (¬3) يرؤف رأفة ورآفةً، مثل النشأة والنشاءة (¬4). قال أبو زيد: رأف يرأف، وكل من كلام العرب (¬5). وقرأ ابن كثير {رَأْفَةٌ} هاهنا بفتح الهمزة (¬6). ¬

_ (¬1) موضع الحاء من قوله: "حرا" بياض في (ع). (¬2) روى البخاري في "صحيحه" (كتاب الحدود- باب: البكران يجلدان وينفيان، 12/ 156) عن زيد بن خالد الجهني قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام. (¬3) في (ظ)، (ع): (رأف). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 245، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 28، و"تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 238 (روى)، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 67 أ. (¬5) قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 238 (روى)، و"الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 310 وقد نقله الواحدي عن أحدهما. فظهر بذلك أن في "رأف" ثلاث لغات: رؤف، رأف، رئف. ولذا قال الفيروزآبادي 3/ 142: رأف الله تعالى بك مثلثة وانظر أيضًا "الصحاح" للجوهري 4/ 1362، "لسان العرب" لابن منظور 9/ 112 (رأف). (¬6) أي "رأفة". وقرأ الباقون بإسكان الهمزة. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 452، و"التيسير للداني" ص 161، و"الغاية" للنيسابوري ص 217، و"النشر" لابن الجزري 2/ 330.

قال أبو علي: ولعل التي قرأها ابن كثير لغة (¬1). ولم يقرأ التي في سورة الحديد وهي قوله {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً} [الحديد: 27] مفتوحة الهمز (¬2)؛ لأن العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات (¬3)، ولو فتح الهمز في الحديد لاجتمع أربع فتحات. وذكر قولان في معنى هذه الآية: أحدهما: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} فتعطلوا الحد ولا تقيموه رحمة عليهما وشفقة. وهو قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬4)، والكلبي (¬5)، وعطاء (¬6)، ¬

_ (¬1) "الحجة" للفارسي 5/ 310. قال مكي في "الكشف" 2/ 133: وهما لغتان في "فعل وفَعْله" إذا كان حرف الحلق عينه أو لامه. والفتح الأصل، وهو مصدر، والإسكان فيه أكثر وأهر. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 446، و"إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 99، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 495. (¬2) قرأ ابن كثير آية الحديد بإسكان الهمزة كالباقين. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 452 و"التيسير" للداني ص 161، و"النشر" لابن الجزري (2/ 330). (¬3) من قوله: لأن العرب .. إلى هنا هذا كلام الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 67 أ. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، وفي "مصنفه" 7/ 367، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 63، 64، والطبري 18/ 67، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 7 أعن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 125 عن مجاهد، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، وفي "مصنفه" 7/ 367. (¬6) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 367، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 64، والطبري 18/ 67، وابن أبي حاتم 7/ 7 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 1258 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.

ومقاتل (¬1)، وسعيد بن جبير (¬2)، والشعبي (¬3)، وابن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي مجلز، قالوا (¬4) في هذه الآية: ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحد (¬5). وهو اختيار الفراء وأبي علي. قال الفراء: يقول: لا ترأفوا بالزاني والزانية فتعطلوا حدود الله (¬6). وقال أبو علي: كأنه نهى عن رحمتهما؛ لأن رحمتهما قد تؤدي إلى تضييع لحد وترك إقامته عليهما (¬7). القول الثاني: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} فتخففوا الضرب ولا توجعوهما. وهو قول الحسن، وسعيد بن المسيب، والزهري، وإبراهيم، وقتادة، كل هؤلاء قالوا (¬8): يوجع الزاني ضربًا ولا يخفف رأفة. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 أ. وروى الطبري 18/ 67، وابن أبي حاتم 7/ 7 أعنه في قوله "ولا تأخذكم بهما رأفة" قال: الجلد. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 أ. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 63، والطبري 18/ 68 عنه قال: الضَّرْب. زاد الطبري: الشديد. وروى عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 6/ 125 عنه وعن إبراهيم النخعي قالا: شدة الجلد في الزنا، ويعطى كل عضو من حقه، وهذه الرواية ورواية الطبري مشعرة بأن الشعبي يقول بالقول الثاني. والله أعلم. (¬4) في (ع): (قال وفي). (¬5) هذا كلام أبي مجلز. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 245. (¬7) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 310. (¬8) ذكره الثعلبي 3/ 67 أعن الحسن وسعيد.

قال الزهري وقتادة: يجتهد في حد الزانين ولا يخفف كما يخفف في الشرب. وجلد ابن عمر جارية له (¬1) قد أحدثت (¬2). قال نافع (¬3): فقلت له: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}! قال: أو أخذني بها رأفة؟ إنَّ الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها، وقد أوجعت حين ضربت (¬4). ¬

_ = وروى الطبري 18/ 68 عنهما قالا: الجلد الشديد. ورواه ابن أبي حاتم 7/ 7 أبهذا اللفظ عن الحسن وحده. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 125 عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد والطبري. ورواه عن الزهري وقتادة: عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، والطبري 18/ 68. وروى عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 6/ 125 عن إبراهيم -يعني النخعي- وعامر -يعني الشعبي- في قوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالا: شدة الجلد في الزنا، ويعطى كل عضو منه حقه. لكن روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 63، والطبري 18/ 63 عنه قال: الضرَّب. ولذا ذكره الثعلبي 3/ 67 أمع القائلين بالقول الأول، وقبله الطبري، فإنَّه لما ذكر الروايات عن قائلي القول الأول ذكر الرواية عن إبراهيم بأنَّه الضرب. (¬1) له: ساقطة من (ع). (¬2) أحدثت: أي: زنت. انظر: "لسان العرب" 2/ 134 (حدث). (¬3) ظاهر سياق الواحدي لهذا الأثر عن ابن عمر أن نافعًا هو مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، وهو الذي قال لابن عمر: فقلت له .. والصحيح أن نافعًا هذا هو أحد رواة هذا الأثر -كما سنبين ذلك عند سوقنا للروايات- وقد وهم الواحدي في سياقه لهذا الأثر. ونافع هنا: هو نافع بن عمر بن عبد الله، الجمحي، الإمام الحافظ، المكي. (¬4) رواه الطبري 18/ 66 - 67 قال: حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا يحيى بن أبي =

وذكر الزجاج القولين جميعًا (¬1). قوله {فِي دِينِ اللَّهِ} قال ابن عباس: في حكم الله، كقوله {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في: حكمه (¬2). وقال مقاتل: في أمر الله (¬3). ¬

_ = زائدة، عن نافع بن عمر -تصحف في المطبوع إلى: نافع عن ابن عمر-، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: جلد ابن عمر جارية له أحدثت، فجلد رجليها. قال نافع: وحسبت أنَّه قال: وظهرها فقلت: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}! فقال: وأخذتني بها رأفة، إن الله لم يأمرني أن أقتلها. ورواه ابن أبي حاتم 7/ 6 ب قال: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن نافع عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن جارلة لابن عمر زنت، فضرب رجليها. قال نافع: أراه قال وظهرها. قال: قلت: لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله! قال: يا بُنيّ ورأيتني أخذتني بها رأفة! إن الله لم .. ضربت. يتبين بذلك أن قول نافع معرض في الرواية لبيان أنَّه يظن أن عبيد الله قال في حديثه: "وظهرها"، ثم عاد إلى سوق الرواية فقوله: "فقلت": القائل هو عبيد الله بن عبد الله بن عمر، يقول لأبيه عبد الله وقد جاء هذا الأثر من غير رواية نافع، فرواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 376، والطبري 18/ 67، والبيهقي في "السنن" 8/ 245 من طريق ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن عبد الله بن عمر حد جارلة له، .. فذكره بنحوه. وإسناد الطريق الأول والثاني صحيح. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 28. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1326: وهو عندي محمول عليهما جميعًا، فلا يجوز أن تحمل أحدًا رأفةٌ على زان بأن يسقط الحد أو يخففه عنه. (¬2) ذكره عنه ابن الجوزي 8/ 6 مختصرًا. وذكره بمثل ما هنا الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 67 أ، والقرطبي 12/ 166 من غير نسبة لأحد. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ.

{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قال مقاتل: يعني إن كنتم تصدقون بتوحيد الله وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحد (¬1). وهذا يقوّي القول الأول؛ لأن قوله {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} كالوعيد في ترك الحد، ومثل هذا الوعيد لا يلحق في التخفيف. قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} أي: وليحضر ضرب الزانيين. {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) رجل فما فوقه إلى ألف (¬3). وهو قول ابن عباس في رواية الكلبي عن أبي صالح (¬4)، وإبراهيم (¬5). وقال عطاء: رجلان فصاعدًا (¬6). وهو قول عكرمة (¬7)، ومقاتل بن سليمان قال: يعني رجلين فصاعدًا، يكون ذلك نكالًا لهما (¬8). وقال الزهري: ثلاثة فصاعدًا (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ. (¬2) في (أ): زيادة (قال) بعد قوله: (المؤمنين). (¬3) هذا قول مجاهد. رواه عنه الطبري 18/ 69 وابن أبي حاتم 7/ 7 ب. (¬4) روى الفراء في "معاني القرآن" 2/ 245 قال: حدثني حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه واحد فما فوقه. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 7 ب من طريق علي بن أبي طلحة عنه، من غير قوله إلى ألف. (¬5) ذكره الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه الطبري 18/ 69. (¬6) ذكره الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 60، والطبري 18/ 69. (¬7) ذكره الثعلبي 3/ 67 ب، ورواه الطبري 18/ 69، وابن أبي حاتم 7/ 7 ب. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ. (¬9) ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 61، و"الطبري" 18/ 70، وابن أبي حاتم 8/ 7 أ.

3

وقال ابن زيد: أربعة بعدد من تقبل شهادته على الزنا (¬1). وقال الحسن: {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي عشرة (¬2). وقال قضادة: نفرٌ من المسلمين (¬3). وروي عن ابن عباس: أربعة إلى أربعين (¬4). قال أبو إسحاق: أمّا من قال: واحد. فهو على غير ما عند أهل اللغة؛ لأنّ الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان. فأقل ما يجب في الطائفة عندي اثنان. والذي ينبغي أن يتحزى في شهادة عذاب الزنا (¬5) أن يكونوا جماعة؛ لأن الأغلب على الطائفة الجماعة (¬6). 3 - قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. كثر الاختلاف من المفسرين والعلماء وأهل المعاني في معنى الآية ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه الطبري 18/ 70. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 61. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 126 وعزاه لعبد بن حميد. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، والطبري 18/ 70، وابن أبي حاتم 8/ 7 أ. (¬4) ذكره عنه النيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 57 دون قوله أربعة، وزاد من المصدقين بالله. (¬5) في "معاني القرآن" 4/ 29: عذاب الزاني. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 28، 29. قال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1328: سياق الآية هاهنا يقتضي أن يكونوا جماعة لحصول المقصود من التشديد والعظة والاعتبار. ثم قال: والصحيح سقوط العدد واعتبار الجماعة الذين يقع بهم التشديد من غير حدّ.

وسبب نزولها وتأويلها، وسأذكر فيها بعون الله تعالى ما يفتح الغَلَق ويُسيغ الشرق (¬1). روى القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال: كانت نساء بالمدينة بغايا، فكان الرجل المسلم يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهوا عن ذلك (¬2). وقال الزهري: كان في الجاهلية بغايا معلوم ذلك منهن، فأراد ناسٌ من المسلمين نكاحهن، فأنزل الله هذه الآية (¬3). وقال القاسم بن أبي بزَّة: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة فنهوا عن ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) الشَّرَق: الشَّجا والغصة. "الصحاح" للجوهري 4/ 1501 (شرق). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 71، والحاكم في "مستدركه" 2/ 396 من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمر وبنحوه. وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" 9/ 194 - 195، والنسائي في "تفسيره" 2/ 110، والحاكم في "مستدركه" 2/ 193 - 194، والطبري 18/ 71، وابن أبي حاتم 7/ 11 أمن طريق آخر عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمر: "أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في امرأة يقال لها أم مهزول، وكانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه. قال فاسأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو ذكر له أمرها. قال: فقرأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {الزَّانِيَةُ} الآية. وقد ضعَّف العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" 9/ 194 - 195 إسناد الطريقين. وقال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 499: حديث القاسم عن عبد الله مضطرب الإسناد. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، 51، والطبري في "تفسيره" 18/ 73. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 51، والطبري في "تفسيره" 18/ 73.

وروى الكلبي بإسناد عن ابن عباس في نزول هذه الآية: أن المهاجرين لما قدموا المدينة لم يكن لهم مساكن ينزلونها ولا عشائر يؤوونهم وكان في المدينة بغايا متعالمات بالفجور، ولهن علامات كعلامات البياطرة (¬1)، وكنَّ مخاصيب (¬2) الرِّحال، فقال أولئك الذين ليس لهم مساكن ولا عشائر: لو أنا تزوجنا من هؤلاء فسكنا معهن في منازلهن، ونصيب من طعامهن وكسوتهن، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكروا ذلك له من شأنهم. فنزلت هذه الآية (¬3). ونحو هذا روى العوفي (¬4) وشعبة (¬5) مولى ابن عباس، عنه. ¬

_ (¬1) البياطرة: جمع بيطار، وهو معالج الدواب. "لسان العرب" 4/ 69 (بطر). (¬2) في (أ): (مخاطيب الرحال)، وفي (ظ): (مخاصيب الرجال)، وفي (ع): (مخاضيب الرجال)، ولعلها: مخاصيب الرِّحال. ففي "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 8 ب، و"الدر المنثور" 6/ 129 عن مقاتل بن حيّان: وكنَّ من أخصب أهل المدينة. قال ابن منظور في "لسان العرب" 1/ 356 "خصب" والرجل إذا كان كثير خير المنزل يقال: إنه خصيب الرَّحل. (¬3) لم أجده من هذه الرواية، وقد تقدم أنَّ رواية الكلبي عن ابن عباس باطل. (¬4) رواية العوفي عن ابن عباس رواها الطبري 18/ 72، وابن أبي حاتم 7/ 9 أوهي ضعيفة. (¬5) هو: شعبة بن دينار -وقيل: اسم أبيه يحيى- الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله ويقال: أبو يحيى، مولى عبد الله بن عباس. روى عن مولاه. وروى عن ابن أبي ذئب وعدد من أهل المدينة توفي في خلافة هشام بن عبد الملك. قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال ابن معين -في رواية-: ليس به بأس. وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به. وقال العجلي: جائز الحديث. وضعَّفه آخرون: فقد سئل عنه مالك فقال: ليس بثقة. وقال ابن معين -في رواية-: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم والنسائي والجوزجاني: =

وهو قول عكرمة، ومجاهد، وعطاء بن أي رباح (¬1)، ومقاتل بن حيان (¬2)، ومقاتل بن سليمان (¬3)، والشعبي (¬4)، وأكثر أهل ¬

_ = ليس بالقوي. وقال أبو زرعة والساجي: ضعيف. وقال البخاري: يتكلم فيه مالك، ويحتمل منه. وقال ابن سعد: ولا يحتج به. وقال ابن حيان: روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر. وقال ابن حجر: صدوق سيء الحفظ. انظر: "العلل ومعرفة الرجال" لأحمد بن حنبل 2/ 35، و"الجرح والتعديل" 4/ 367، "طبقات ابن سعد" 5/ 294، "أحوال الرجال" للجوزجاني ص 133، "الضعفاء والمتروكين" للنسائي ص (256)، "المجروحين" لابن حبان 2/ 361، "الكامل" و"الضعفاء" لابن عدي 4/ 1339، "ميزان الاعتدال" للذهبي 2/ 274، "تهذيب التهذيب" 4/ 346، "تقريب التهذيب" 1/ 351. ورواية شعبة عن ابن عباس رواها ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 272، والطبري 18/ 72، وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 129 هذه الرواية من طريق شعبة وتصحفت في المطبوع إلى سعيد عن ابن عباس، ونسبها أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردوية، وليس عند ابن أبي حاتم 7/ 9 أذكر سبب النزول. وهذه الرواية عن ابن عباس ضعيفة، لسوء حفظ شعبة. (¬1) ذكره الثعلبي 3/ 68 أعن عكرمة ومجاهد وعطاء. وعن عكرمة رواه الطبري 18/ 73. وعن مجاهد رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50 - 51، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 272 - 273، والطبري 18/ 72، وابن أبي حاتم 7/ 8 ب. وعن عطاء رواه الطبري 18/ 72، وابن أبي حاتم 7/ 11 أ. (¬2) رواه ابن أبي حاتم 7/ 9 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 127 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ - ب. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 3/ 68 أ، ورواه الطبري 18/ 73.

التفسير (¬1)، واختيار الفراء والزَّجاج (¬2). وعلى هذا القول حرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا المعلنات بزناهن وذكر أن من فعل ذلك وتزوج واحدة منهن فهو زان. والآية خاصة في تحريم نكاح المعلنة بزناها. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬3). وروى عطاء عن ابن عباس -في هذه الآية- قال: يريد لا يحل لمؤمن أن يتزوج زانية مشهورة بالزنّا ولا عابد صنم، ولا يحل لمؤمنة أن تتزوج مشركًا من عبدة الأصنام ولا مشهورًا بالزنا. ومذهب مجاهد -في هذه الآية- أنَّ التحريم لم يكن إلا على أولئك خاصة دون الناس (¬4). ومذهب سعيد بن المسيب: أن هذه الآية منسوخة، نسختها التي بعدها وهي قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] قال: فيقال إن الزواني من أيامى المسلمين (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 71/ 18 - 73، والثعلبي 3/ 68 أ، و"الدر المنثور" للسيوطي 6/ 127 - 130. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 245، و "معاني القرآن" للزجاج 4/ 29. (¬3) روى الطبري 18/ 72 معنى هذا عن عطاء وفي آخره: قيل له -يعني لعطاء- أبلغك عن ابن عباس؟ قال: نعم. (¬4) ذكر هذا القول عن مجاهد: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 101 بعد أن روى عنه أنَّه قال -في قوله {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ} الآية-: كان رجالٌ يريدون الزنا بنساء زوان بغايا معلنات، كنَّ كذلك في الجاهلية، فقيل لهم: هذا حرام، فأرادوا نكاحهن فحرم عليهم نكاحهن. (¬5) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 100، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 271، والطبري 18/ 74 - 75، =

قال أبو عبيد: فمذهب (¬1) سعيد ومجاهد في تأويلها هو الرخصة في تزويج البغي، إلا أن سعيدًا أراد أن التحريم كان عامًا ثم نسخته الرخصة، وأراد مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على أولئك خاصة دون الناس (¬2). وقد جاءت أخبار فيها دلائل على جواز تزوج الزانية: وهي ما رُوي أن رجلاً ضاف رجلاً، فافتض أخته، فرفع إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فسألهما، فاعترفا، فجلدهما مائة مائة، ثم زوّج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة (¬3). وروي أنّ غلامًا فجر بجارية، فسئلا، فاعترفا، فجلدهما عمر بن الخطاب، ثم حرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام (¬4). وروي عن ابن مسعود: أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يريد أن يتزوجها؟ قال: لا بأس بذلك (¬5). ¬

_ = والبيهقي في "سننه" 7/ 154، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 130 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وغيرهما. (¬1) في (أ): (ذهب). (¬2) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 101. (¬3) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 101. 102، والبيهقي في "السنن "الكبرى" 8/ 223 عن ابن عمر أو صفية وهي بنت أبي عبيد. ورواه بنحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 249 عن الزهري. (¬4) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 102، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 216، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 248، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 155. (¬5) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 103، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 156. وقد جاء خلاف هذا القول عن ابن مسعود، فقد روى سعيد بن منصور في "سننه" 1/ 218، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 156 عنه في الرجل يفجر =

وقال جابر بن عبد الله في مثل هذا: أوله حرام وآخره حلال (¬1). وبين ابن عباس فيما روى عنه عكرمة لهذا تمثيلًا حسنًا فقال: إنَّما مثل ذلك مثل رجل أتى حائطًا فسرق منه، ثم أتى صاحبه فالشترى منه (¬2)، فما سرق حرام وما اشترى حلال (¬3) والإجماع اليوم على هذا، وهو أن تزوج الزانية يصح (¬4)، وإن زنت لم يفسد النكاح (¬5). قال الضحاك: إذا فجرت لم يفرق بينهما، كما أنه لو فجر لم يفرق بينهما (¬6). قال أبو عبيد: فهذا مذهب من رأى أن الآية منسوخة غير معمول بها، ولهذا ترخصوا في تزويج البغايا وإمساكهن. وهي عند آخرين من العلماء ¬

_ = بالمرأة ثم يتزوجها؟ قال: لا يزالان زانيين ما اجتمعا. قال البيهقي: ومع من رخص فيه دلائل الكتاب والسنة. (¬1) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 103. وقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 249، 250 عن جابر -رضي الله عنه- قال: إذا تابا وأصلحا فلا بأس. (¬2) في (ع) زيادة: ما سرق. بعد قوله: (فاشترى منه). (¬3) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 104 عن ابن عباس. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 249 عن عكرمة قال: لا بأس هو بمنزلة رجل سرق نخلة ثم أشتراها. (¬4) في (ظ)، (ع): (فيصح) مهملف (¬5) انظر: "الحاوي" 9/ 188 - 190، "المغني" 9/ 561 - 565، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 170. (¬6) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 105.

على غير ذلك يرونها محكمة قائمة، ويفسدون النكاحَ فجورُها (¬1). روي أن عليًّا -رضي الله عنه- فرّق بين زوجين بزنا أحدهما (¬2). وروي مثل هذا عن الحسن (¬3) وإبراهيم (¬4). قال أبو عبيد: إذا عاين منها الفجور لم يكن ذلك تحريمًا بينهما ولا طلاقًا، غير أنَّه يؤمر بطلاقها أمرًا ويخاف عليه الإثم في إمساكها (¬5)؛ لأنَّ الله تعالى إنما اشترط على المؤمنين نكاح المحصنات فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]. ومع هذا لا يأمنها أن توطئ فراشه غيره، فتلحق به نسبًا ليس منه فيرث ماله، ويطلع على حرمته، فأي ذنب أعظم من هذا؟ بأن (¬6) يكون لها (¬7) معينًا بإمساكها. ولا أحسب الذين ترخصوا في ذلك بعد الفجور إلا بالتوبة (¬8) تظهر منها، كالذي يحدث به عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل أراد أن ينكح امرأة قد زنا بها؟ فقال: ليردها على الزنا فإن فعلت ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 105. (¬2) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 105 وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 263 - 264 من طريق سماك عن حنش -وتصحف في المطبوع من ابن أبي شيبة إلى حسن- بن المعتمر. وذكره البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 156 بغير إسناد. ثم قال: وحنش غير قوي. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 264. (¬4) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 106، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 264. (¬5) في (أ): (إمساكه)، والمثبت من (ظ)، (ع) والناسخ والمنسوخ. (¬6) في "الناسخ والمنسوخ": (أنْ). (¬7) في (ع): (له). (¬8) في "الناسخ والمنسوخ": (إلا بتوبة).

فلا ينكحها، وإن أبت فلينكحها (¬1) قال (¬2): وقد تسهَّل قوم في نكاحها، وإن لم تظهر منها توبة، واحتجوا بحديث الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ امرأته لا ترد يد لامس. فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاستمتاع منها (¬3) وإمساكها (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 107 من طريق أبي صالح، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب: أنَّه بلغه عن ابن عباس، فذكره. وهو مقطع. (¬2) يعني أبا عبيد. (¬3) في (1): (معها)، والمثبت من (ظ)، (ع) والناسخ والمنسوخ. (¬4) وإمساكها: ليست في الناسخ والمنسوخ. (¬5) رواه النسائي في "سننه" (كتاب: النكاح- باب: تزويج الزانية 6/ 67) من طريق حمّاد بن سلمة وغيره، عن هارون بن رئاب وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد الليثي، عن ابن عباس عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه. قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنَّ عندي امرأة هي من أحب الناس إليَّ، وهي لا تمنع يد لامس قال: "طلقها" قال: لا أصبر عنها. قال: "استمتع بها". قال النسائي بعد روايته: هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264 بعد ذكره لكلام النسائي المتقدم-: عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث، وقد خالفه هارون بن رئاب وهو تابعي ثقة من رجال مسلم فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي. اهـ. لكن قد جاءت الرواية عن ابن عباس مسندة من وجه آخر غير طريق عبد الكريم. فقد رواه أبو داود في "سننه" (كتاب: النكاح- باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء 6/ 45)، والنسائي في "سننه" (كتاب: الطلاق- باب: ما جاء في الخلع 6/ 169 - 170)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 154 - 155 من طريق عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكره بنحوه. =

وتأولوا قوله: "لا تمنع يد لامس" على البغاء. وهذا عندنا بخلاف الكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى إنَّما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم

_ = قال الحافظ المنذري في "مختصر أبي داود" 3/ 6: ورجال إسناده محتج بهم في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264: وهذا الإسناد جيِّد. وقال ابن حجر في "بلوغ المرام" ص 203: ورجاله ثقات. وصحَّح إسناده الألباني كما في تعليقه على "سنن النسائي" 2/ 731. وخالف في ذلك ابن الجوزي فحكم عليه بالوضع، وأوردوه في "الموضوعات" 2/ 272. وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" 3/ 253 بعد نقله عن النووي تصحيح هذا الحديث-: نقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد بن حنبل أنَّه قال: لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب شيء، وليس له أجل. وتمسَّك بهذا ابن الجوزي فأورده في "الموضوعات" مع أنه أورده بإسناد صحيح. اهـ. ونقل الشوكاني في كتابه "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" ص 129 كلام ابن الجوزي في وضع الحديث، ثم ذكر من صحَّحه، ثم قال: وبالجملة فإدخال هذا الحديث في الموضوعات مجازفة ظاهرة. وقال السندي في حاشيته على "سنن النسائي" 6/ 68: وقيل هذا الحديث موضوع، وردَّ بأنه حسن صحيح ورجال سنده رجال الصحيحين، فلا يلتفت إلى قول من حكم عليه الوضع. اهـ. وقد ورد هذا الحديث عن جابر -رضي الله عنه-، رواه الطبري في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين في زوائد المعجمين" للهيثمي 4/ 201 - 202، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 155، والبغوي في "شرح السنَّة" 9/ 288. وفي "تفسيره" أيضًا 6/ 10، والخلاَّل كما في "تلخيص الحبير" لابن حجر 3/ 253 من طريق عبد الكريم الجزري، عن أبي الزبير، عن جابر، بنحو حديث ابن عباس. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 335: رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح.

أنزل في القاذف لامرأته آية اللعان، وسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التفريق بينهما فلا يجتمعان أبدًا. فكيف يأمره (¬1) بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها؟ وفي حكمة أن يلاعن بينهما ولا يقره قاذفًا على حاله. هذا (¬2) لا وجه له عندنا، والذي يُحمل (¬3) عليه وجه الحديث أنَّه ليس يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إنما يحدثه هارون بن رئاب (¬4) عن عبد الله بن عبيد، ويحدثه عبد الكريم الجزري، عن أبي الزبير (¬5). وكلاهما يرسله (¬6). فإن كان له أصل، فإن معناه: أن الرجل وصف امرأته بالخُرق (¬7) وضعف الرأي وتضييع ماله، فهي لا تمنعه [من طالب] (¬8)، ولا تحفظه من سارق (¬9). ¬

_ (¬1) (يأمره) ساقطة من (أ). (¬2) في (ظ)، (ع): (هذه إلا وجه). (¬3) في (أ): (يحصل). (¬4) هو: هارون بن رئاب التميمي، الأسدي، البصري، أبو بكر أو أبو الحسن، أحد العلماء الربانيين العبّاد. روى عن أنس وابن المسيب، وعنه الأوزاعي وشعبه. قال الذهبي وابن حجر: ثقة. "الكاشف" للذهبي 3/ 213، "تقريب التهذيب" 2/ 311. (¬5) هو: محمد بن مسلم بن تدرس، أبو الزبير المكي، تقدم. (¬6) تقدّم أثناء تخريج الحديث روايات موصولة صحَّحها العلماء. (¬7) الخُرق: عدم إحسان العمل والتصرف في الأمور، والحُمْق. انظر: "القاموس المحيط" 3/ 226. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (ع). (¬9) ما اختاره أبو عبيد هنا منقول أيضًا عن الإمام أحمد والأصمعي وغيرهما. وضعَّف أبو العباس بن تيمية في "الفتاوى" 32/ 11 هذا القول. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264 وردَّ هذا بأنَّه لو كان المراد لقال: لا تردّ يد ملتمس. ونقل ابن حجر في "تلخيص الحبير" 3/ 54 عن بعض أهل العلم أنه قال: السخاء =

هذا عندنا مذهب الحديث. وإن كان الآخر مقولًا (¬1). ¬

_ = مندوب إليه؛ فلا يكون موجبًا لقوله طلّقها، ولأن التبذير إن كان من مالها فلها التصرف فيه وإن كان من ماله فعليه حفظه، ولا يوجب شيء من ذلك الأمر بطلاقها. وذكر الصنعاني في "سبل السلام" 3/ 360 هذا القول واستبده، وذكر نحو ما تقدم ثم قال: على أنَّه لم يتعارف في اللغة أن يقال: فلان لا يرد يد لامس، كناية عن الجود. (¬1) يعني القول بان المراد بقول الرجل: لا ترد يد لامس هو الفجور. وبهذا القول قال جماعة من العلماء، منهم: الخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والغزالي والنووي وغيرهم. وقد ردّ الإمام أحمد وغيره هذا القول، فقال الإمام أحمد -كما نقل عنه- لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليأمره بإمساكها وهي تفجر. وتقدّم ردّ أبي عبيد لهذا القول. واستبعده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264 وبيِّن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأذن في مصاحبة من هذا صفتها؛ لأنَّ زوجها -والحالة هذه- يكون ديوثًا. وقال عنه الصنعاني في "سبل السلام" 3/ 360: إنَّه في غاية البعد، وذلك للآية (الزاني .. وحرم ذلك على المؤمنين)؛ ولأنَّه -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر الرجل أن يكون ديوثًا. اهـ وأقرب الأقوال في توجيه "لا ترد يد لامس": أنَّ الرجل أراد أن سجيّتها لا ترد يد لامس، فهي سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب، لا أن هذا الأمر واقع منها وأنها تفعل الفاحشة. قال أبو العباس ابن تيمية في "الفتاوى" 32/ 116: لفظ اللامس قد يراد به من مسَّها بيده وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرّج، وإذا نظر إليها رجلٌ أو وضع عليها يده لم تنفر عنه، ولا تمكنه من وطئها، ومثل هذه نكاحها مكروه، ولهذا أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بفراقها ولم يوجب ذلك عليه لما ذكر أنَّه يحبّها؛ فإن هذه لم تزن ولكنها مذنبة ببعض المقدمات؛ ولهذا قال: لا ترد يد لامس فجعل اللمس باليد فقط، ولفظ اللمس والملامسة إذا عني الجماع لا يخص باليد، بل إذا قرن باليد فهو كقوله {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] اهـ.=

وهو (¬1) أشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحرى أن يظن بحديثه. ولو كان في الحديث أنها لا تمنع لامسًا أو فرج لامس؛ كان اللمس محمولًا على الجماع، ولكنه قال: يد لامس. ويحمل على ما تأوّلنا، وقد وجدنا له شاهدًا في أشعار العرب، قال جرير بن الخطفى: ألستم لئامًا إذ ترومون جاركم (¬2) ... ولولاهم لم يدفعوا كفَّ لامس (¬3) ¬

_ = وبنحو ذلك مختصرًا قال الذهبي كما في "بذل المجهود" في حل أبي داود 10/ 13 للسَّهانفوري. وقال ابن كثير 3/ 265: المراد إن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقع منها وأنها تفعل الفاحشة، ولما كان سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفراقها احتياطًا، فلما ذكر له أنَّه يحبّها ولا يقدر على فراقها، وأنَّه لا يصبر على ذلك ويخشى أن تتبعها نفسه رخَّص به في البقاء معها؛ لأنَّ محبَّته لها متحققة ووقوع الفاحشة منها متوهَّم، فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهّم الآجل. اهـ. وبمثله قال السندي في "حاشيته على النسائي" 6/ 67. وقال الصنعاني في "سبل السلام" 3/ 360: المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة من الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد عن الفاحشة. (¬1) سياق الكلام: هذا عندنا مذهب الحديث، وهو أشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وجملة: وإن كان الآخر مقولًا. معترضة. (¬2) في جميع النسخ: (جارهم)، والتصويب من "الديوان" و"الناسخ والمنسوخ" ص 111. (¬3) البيت في "ديوانه" 2/ 901 من قصيدة يجيب بها عن جنباء أحمد بن عليم وقد حدثت بينه وبين غسان بن ذهيل السليطي ملاحاة، فهجاه غسَّان فأجاب عنه جرير، وروايته في الديوان: ألستم لئامًا إذ ترومون جاركم. ولولاهم لم تدفعوا كفَّ لامس. وانظر: "النقائص" ص 26.

أراد أنكم لا تمنعون ظالمًا ولا أحدًا يريد أموالكم. انتهى كلامه (¬1). وعلى ما ذكرنا المراد بالنكاح في الآية: التزويج. [وروي عن] (¬2) ابن عباس -في هذه الآية- طريق آخر، وهو ما روى سعيد (¬3) بن جبير -في هذه الآية- قال: ليس هذا في التزويج، إنما هو في الجماع، لا يجامعها إلا زان أو مشرك، قال: الزاني لا يزني إلا بزانية (¬4). ونحو هذا روى سلمة (¬5) عن الضحاك -في تفسير هذه الآية- قال: لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله، ولا تزني حين تزني إلا بزان مثلها (¬6). ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص (108 - 111) مع اختلاف يسير، وتصرف. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬3) (سعيد) ساقط من (ع). (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 51، وابن أبي حاتم 7/ 8 أ - ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 154، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 68 أ - ب من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه. ورواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 221، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، من طريق سعيد، عن ابن عباس بنحوه مختصرًا. وذكره ابن كثير 3/ 262 من حديث الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد، عن ابن عباس بلفظ ابن أبي حاتم وقال: وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي من غير وجه أيضًا. (¬5) هو: سلمة بن نبيط بن شريط الأشجعي، أبو فراس الكوفي. روى عن الضحاك بن مزاحم وغيره. وعنه الثوري وابن المبارك وغيرهما. ثقة، يقال اختلط بآخرة "الكاشف" للذهبي 1/ 387، "تهذيب التهذيب" 4/ 158، "تقريب التهذيب" 1/ 319. (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 272، والطبري 18/ 74 من طريق سلمة، عن الضحاك به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 128 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

وروي عن يزيد بن هارون أنه قال: هذا عندي إن جامعها وهو (¬1) مستحل فهو مشرك، وإن (¬2) جامعها وهو محرِّم فهو زان (¬3). وهذا التأويل لا يعترض النسخ على الآية. قال أبو عبيد: يذهب (¬4) ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬5) إلى أن قوله {لَا يَنْكِحُ} إنما هو الجماع، ولا يذهب به إلي التزويج، والكلمة محتملة للمعنيين جميعًا في كلام العرب، والله أعلم (¬6). وقال أبو إسحاق: قول من قال: إنَّ معنى النكاح هاهنا: الوطء يبعد؛ لأنه لا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب الله إلا على معنى التزويج كقوله {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى} [النور: 32] {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49]، ولو كان المعنى على الوطء لما كان في الكلام فائدة؛ لأن القائل إذا قال: "الزانية لا تزني إلا بزان، والزاني لا يزني إلا بزانية" فليست فيه فائدة إلا على وجهة التغليظ للأمر، كما تقول للرجل الذي قد عرف بالكذب: هذا كذاب، تريد به تغليظ (¬7) أمره، والذي فيه الفائدة وتوجيه اللغة أنَّ المعنى معنى التزويج (¬8). وروي عن الحسن أنه قال -في تفسيره هذه الآية- الزاني إذا أقيم عليه ¬

_ (¬1) في (أ): (فهو). (¬2) في (أ): (فإن). (¬3) رواه الثعلبي 3/ 68 ب بإسناده عن يزيد، به. (¬4) في جميع النسخ: (فذهب)، والمثبت من "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد. (¬5) قوله "في رواية سعيد بن جبير": من كلام الواحدي. (¬6) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 112. (¬7) في (أ): (تغليظًا). (¬8) "معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 29 - 30 مع تقديم وتأخير وحذف.

الحدّ لا يزوج إلا بامرأة قد أقيم عليها الحد، وذلك المرأة إذا أقيم عليها الحد لا تزوج إلا برجل مثلها (¬1). هذا معنى قول الحسن في تفسير الآية، وقد حملها على المحدود والمجلود. وهذا الذي ذكرنا هو ما روي عن الأئمة والمتقدمين في هذه الآية. والاختيار هو القول الأول الذي منع المسلمون من مناكحة أولئك الزواني والمشركات المعلنات بالزنا. ومعنى قوله {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] أن من تزوج زانية أو مشركة من أولئك فهو زان؛ لأن ذلك النكاح فاسد وحكمه حكم السفاح، وذكر بلفظ التأكيد وليس المعنى على ظاهر اللفظ؛ لأن الزاني يجوز أن يتزوج غير زانية ولا مشركة، ولكن المعنى أنّ من تزوج واحدة منهن فهو زان، كأنه قيل: لا ينكح الزانية والمشركة إلا زان. فقلت الكلام، ثم ذكر غير مقلوب إعادة للبيان والتأكيد وهو قوله {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]. قوله {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] أي (¬2) ذلك النكاح. وقيل: حرم الزنا على المؤمنين. وهذا معنى (¬3) قول مجاهد (¬4) وابن عباس (¬5) -في ¬

_ (¬1) ذكر هذه الرواية بهذا اللفظ عن الحسن: الزَّجَّاج في "معاني القرآن" 4/ 30. وقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 273 عن الحسن قال: المحدود لا يتزوج إلا محدودة. وذكرها السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 130 ونسبها أيضًا لعبد بن حميد. (¬2) في (أ): (إذه). (¬3) (معنى) ليست في (ظ)، (ع). (¬4) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 12 أ. (¬5) انظر: "معانى القرآن" للنحاس 4/ 501، "تفسير ابن كثير" 3/ 262.

4

رواية عطاء-: أن الآية خاصة في تحريم أولئك الزواني المعروفة. وتخبط صاحب النظم في هذه الآية، وأتى بكلام مستكره (¬1) لم يفد في شيء منه إلا في وجه بعيد ذكره من القلب على غير ما ذكرنا، وهو أنه قال: يعرض في هذه الآية بعض القلب كما عرض في قوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] [على تأويل: ما كان الله ليتخذ من ولد] (¬2) فيكون التأويل في قوله {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] أي الناكح (¬3) زانية أو مشركة لا يكون إلا زانيًا؛ بمعنى: من نكح زانية أو مشركة فهو زان؛ لأنَّه لا ينكح زاينة إلا وهو راض بزناها، ولا يكون راضيًا بزناها إلا وهو أيضًا يزني، وذلك لا ينكح مشركة إلا وهو راض بالزنا، لأن المشركة محرمة عليه. وذلك المرأة إذا نكحت زانيًا أو مشركًا فقد رضيت بذلك، ولا تكاد ترضى به إلا وهي تفعله. هذا [كلامه] (¬4). 4 - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} القول في محل (الذين) من الإعراب كالقول في محل (الزانية والزاني) في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الآية (¬5). قال الكلبي: {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} يقذفون بالفرية الحراير المسلمات العفايف عن الفواحش (¬6). وهذا قول المفسرين (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (مستكو). (¬2) ساقط من (ع). (¬3) في (ع): (التناكح). (¬4) ساقط من (ع). (¬5) فصل "الذين" رفع بالابتداء، وخبره إما محذوف، أو جملة {فَاجْلِدُوهُمْ} انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 30، "الإملاء" للعكبري 2/ 153، "الدر المصون" 8/ 381. (¬6) ذكر البغوي 9/ 10 هذا المعنى، ولم ينسبه لأحد. (¬7) انظر: "الطبري" 18/ 75 - 76، والثعلبي 3/ 68 ب.

قال أبو إسحاق: ومعنى {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي: بالزنا، ولكنه لم يقل: بالزنا؛ لأن فيما تقدم من (¬1) ذكر الزانية والزاني دليلًا على أن المعنى ذلك (¬2). قال ابن الأعرابي: يقال: رمى فلان فلانًا بأمر قبيح، أي: قذفه، ومنه قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، معناه القذف (¬3). واعلم أن الإحصان المشروط في المقذوف (¬4) أو المقذوفة حتى يجب الحد على القاذف خمسة أوصاف: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعفة عن الزنا (¬5). فإن فقد وصف من هذه الأوصاف لم يجب حد القذف على (¬6) القاذف، وعليه التعزيز، وما كان تعزيرًا فلا يكون فرضًا. ويشترط في القاذف لوجوب حد القذف شرطين: البلوغ والعقل. فإذا انضم إليهما الحرية كمل الحد ثمانين جلدة، وإذا كان مملوكًا فعليه أربعون جلدة (¬7). ¬

_ (¬1) (من) ساقطة من (أ). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 30. (¬3) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 277 (رمى) دون ذكر الآية الثانية {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. (¬4) في (أ): (والمقذوفة). (¬5) انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 267، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 298، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 173. (¬6) في (أ): (وعلى). (¬7) انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 268، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 298، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 173، 174.

5

قال مقاتل: يجلد بين الضربين على ثيابه (¬1). وقال قتادة: يخفف في حد الشراب والفرية (¬2). وقال حمّاد: يحد القاذف والشارب وعليهما ثيابهما (¬3). قوله تعالى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} على ما رموهن به {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}. قال المفسرون: عدول يشهدون عليهن أنهن رأوهن يفعلن (¬4) ذلك (¬5). {فَاجْلِدُوهُمْ} يعني الذين يرمون بالزنا {ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} المحدود في القذف لا تقبل شهادته. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال ابن عباس: الكاذبون (¬6). وقال مقاتل: العاصون في مقالتهم (¬7). 5 - ثم استثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية. اختلف العلماء والمفسرون في حكم هذا الاستثناء: فذهب كثير (¬8) منهم إلى أنَّ هذا الاستثناء راجع إلى رد الشهادة والفسق، وقالوا: إذا تاب قبلت شهادته وزال فسقه. وذهب كثير منهم إلى أن الفسق يزول بالتوبة، وأما الشهادة فلا تقبل أبدًا. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 34 ب. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50. (¬3) رواه الطبري 18/ 68. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة 9/ 525 دون قوله والشارب. (¬4) في (ع): (يفعلون)، وهو خطأ. (¬5) هذا كلام الطبري 18/ 75 والثعلبي 3/ 68 ب بنصِّه. (¬6) روى الطبري 18/ 76 هذا التفسير عن عبد الرحمن بن زيد. ولم أجد من ذكره عن ابن عباس. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 34 ب. (¬8) سيذكر الواحدي من قال بذلك.

روى عطاء الخراساني عن ابن عباس في هذه الآية قال: فتاب عليهم من الفسق، فأما الشهادة فلا تجوز (¬1). وهذا قول شريح، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، وسعيد بن المسيب (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 147 من رواية عطاء الخراساني، عن ابن عباس. وذكره ابن حزم في " المحلى" 9/ 431 من رواية عطاء الخراساني، عنه، به، وقال 9/ 433: وأما الرواية عن ابن عباس فضعيفة، والأظهر عنه خلاف ذلك. وذكره ابن حجر في "فتح الباري" 5/ 257 من رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، وعزاه لعبد الرزاق، وقال: وهو منقطع، ولم يصب من قال إنّه سند قويّ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 131 عن ابن عباس، وعزاه لأبي داود في ناسخه وابن المنذر. (¬2) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" 147 - 148 عنهم جميعًا، إلا أنَّ قول قتادة من روايته عن الحسن وابن المسيب، وذكره ابن حزم في "المحلى" 9/ 431 عن إبراهيم النخعي، والحسن، وسعيد بن المسيب في أحد قوليه. وقال 9/ 433: كل من رُوي عنه أنَّه لا تقبل شهادته وإن تاب فقد رُوي عنه قبولها إلا الحسن والنخعي فقط. اهـ. وقول شريح رواه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 52، وفي "مصنفه" 7/ 388، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 171، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، والطبري 18/ 78، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 13 ب - 14 أ، والبيهقي في "السنن" 10/ 156. ولشريح قول آخر في قبول شهادته رواه البخاري في "صحيحه" (كتاب: الشهادتين - باب: شهادة القاذف، 5/ 255) معلقًا، ورواه موصولاً ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 169، والطبري 18/ 78، وقال ابن حجر في "فتح البارى" 5/ 257: بإسناد صحيح. وقول إبراهيم رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 387، وابن أبي شيبة 6/ 171، =

وهذا قول من رأى أن التوبة إنما نسخت الفسق وحده (¬1)، وقالوا: إنه قضاء من الله أن (¬2) لا تقبل شهادته أبدًا، وإنما توبته فيما بينه وبين الله. وقد رأى آخرون أنها نسخت الفسق وإسقاط الشهادة معًا (¬3). روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قال: فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل (¬4). وروى محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن ¬

_ = وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، وابن الجعد في "مسنده" 2/ 323، والطبري 18/ 79، وابن أبي حاتم 7/ 14 ب، والبيهقي في "السنن" 10/ 156. وقول الحسن رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 52، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 171 وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، والطبري 18/ 79، وابن أبي حاتم 7/ 13 ب - 14 أ، والبيهقي في "السنن" 10/ 156. وعن قتادة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 52 وفي "مصنفه" 8/ 363 والطبري 18/ 79 من رواية عن الحسن، والطبري 18/ 79 من رواية عن سعيد بن المسيب. ولقتادة قول آخر في قبول شهادته رواه عنه البخاري في "صحيحه" (كتاب: الشهادات باب: شهادة القاذف .. 5/ 255) معلقًا، ورواه موصولاً عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 362، والطبري في "تفسيره" 18/ 78 من رواية عن ابن المسيب. وقول سعيد بن المسيب رواه عنه الطبري 18/ 79. ولسعيد قول آخر في قبول شهادته رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 53، وفي "مصنفه" 7/ 384، 8/ 362، والطبري 18/ 78، وابن أبي حاتم 7/ 14 ب، والبيهقي 10/ 153. (¬1) من قوله، وهذا قول .. إلى هنا. هذا كلام أبي عبيد في "الناسخ" ص 149 بنصَّه. (¬2) في (ظ)، (ع) أي. (¬3) من قوله: (وقد رأى .. إلى هنا). هذا كلام أبي عبيد في "الناسخ" ص 149 بنصَّه. (¬4) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 149، والطبري 18/ 80، والبيهقي في "السنن" 10/ 153 من رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس به.

عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة، وهم: أبو بكرة (¬1)، وشبل بن معبد (¬2)، ونافع بن الحارث بن كلدة (¬3). ثم قال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل ومن لم يفعل لم أجز شهادته. فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته (¬4). وهذا قول الزهري (¬5)، والقاسم بن ¬

_ (¬1) في (أ): (أبو بكر بن)، وهو خطأ. وهو: أبو بكرة، نفيع بن الحارث بن كلدة. (¬2) هو: شبل بن معبد بن عبيد البجلي، الأحمسي. تابعي مخضرم، لم يصح له سماع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأمُّه سمية مولاة الحارث بن كلدة والدة أبي بكرة ونافع. "الإصابة" لابن حجر 5/ 159. (¬3) هو: نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي، أبو عبد الله، أخو أبي بكرة لأمه. كان ممن نزل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وأمه سميَّة مولاة الحارث بن كلدة أم أبي بكرة وشبل وزياد. سكن البصرة. وهو أول من أفتلى -هكذا عند ابن سعد، وفي "الإصابة": اقتنى- الخيل بالبصرة؛ سأل عمر أرضًا ليست من أرض الخراج ولا تضر أحدًا يتخذها فضاءً لخيله، فأقطعه إياها. "طبقات ابن سعد" 5/ 507، 7/ 70، "الإصابة" لابن حجر 3/ 514. (¬4) ذكره الثعلبي 3/ 68 ب من رواية ابن إسحاق، به بهذا اللفظ. ورواه الطبري 18/ 76 من طريق ابن إسحاق، به، بنحوه. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 152 من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب بنحوه. قال ابن كثير في "مسند عمر بن الخطاب" 2/ 558 - بعد ذكره لهذه الطرق-: وهذه طرق صحيحة عن عمر -رضي الله عنه-. ورواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 149، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 52 - 53، وفي "مصنفه" 8/ 362 من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة، عن ابن المسيب بمعناه. (¬5) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 150، وعبد الرزاق في "تفسيره". 2/ 52، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 9170. =

محمد (¬1)، وسالم بن عبد الله (¬2)، ومحارب بن دثار (¬3)، وحبيب بن أبي ثابت (¬4)، وابن أبي نجيح (¬5)، وعطاء (¬6)، وطاووس (¬7)، ¬

_ = ورواه البخاري في "صحيحه" (كتاب: الشهادات - باب: شهادة القاذف 5/ 255) عنه معلقًا. (¬1) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" 150، وذكره عنه ابن حزم في "المحلى" 9/ 432. (¬2) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" 150، وذكره عنه ابن حزم في "المحلى" 9/ 432. (¬3) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 151. ورواه البخاري في "صحيحه" (كتاب: الشهادات - باب: شهادة القاذف 5/ 255) معلقًا، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" 3/ 380، عن محارب، عن رواية الكرابيسي في كتاب: القضاء. وذكره عنه ابن حزم في "المحلى" 9/ 432. (¬4) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 152 من روايته عن عبد الله بن عتبة. وذكره ابن حزم في "المحلى" 9/ 432 عن حبيب. (¬5) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 152، والشافعي في "الأم" 7/ 82، والطبري 18/ 77، والبيهقي في "السنن" 10/ 153. (¬6) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (1523)، وعبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 383، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب) وابن أبي شيبة 6/ 168، والطبري 18/ 77، وابن أبي حاتم 7/ 14 ب، والبيهقي في "السنن" 10/ 153. (¬7) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 152، وعبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 383، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 168، والطبري 18/ 77، والبيهقي في "السنن" 10/ 153 من طريق ابن نجيح عنه. ورواه البخاري في "صحيحه" في الشهادات - باب: شهادة القاذف 5/ 255 عنه معلقًا، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" 3/ 379 من رواية سعيد بن منصور وغيره.

والشعبي (¬1)، وعكرمة (¬2)، ومجاهد (¬3)، وعبد الله (¬4) بن عتبة (¬5)، ¬

_ (¬1) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 151، وعبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 388، 3693، والشافعي في "الأم" 7/ 89، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 58 أ)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 170، والطبري 18/ 76، وابن أبي حاتم 7/ 14 ب، والبيهقي في "السنن" 10/ 153. ورواه عنه البخاري في "صحيحه" كتاب: الشهادات - باب: شهادة القاذف 5/ 255) معلقًا. ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" 3/ 380 من رواية الطبري وغيره. (¬2) رواه البخاري في الشهادات (باب: شهادة القاذف 5/ 255) عنه معلقًا. ووصله ابن حجر في "الفتح" 5/ 257 وفي "تغليق التعليق" 3/ 380 من رواية علي بن الجعد، عن شعبة عن يونس بن عبيد، عن عكرمة. وهو في "مسند علي بن الجعد" 1/ 600 من الرواية المذكورة. وذكره عنه ابن حزم في "المحلى" 9/ 432. وحكى عنه 9/ 431 قولًا آخر أنه لا تقبل شهادته أبدًا وإن تاب. (¬3) رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 152، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 168، والطبري 18/ 77، والبيهقي في "السنن" 10/ 153 من رواية ابن أبي نجيح عنه. ورواه البخاري في الشهادات (باب شهادة القاذف 5/ 255) عنه معلقًا. ووصله ابن حجر في "الفتح" 5/ 257 وفي "تغليق التعليق" 3/ 379 من رواية سعيد بن منصور - وغيره. (¬4) في (أ): (عبيد الله)، وهو خطأ. (¬5) هو: عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، من أبناء المهاجرين. وابن أخي عبد الله بن مسعود. ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، واختلف في رؤيته للنبي -صلى الله عليه وسلم-. فقيل له رؤيه، وقيل: لم يره فهو تابعي. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمّه عبد الله، وعن أبي هريرة وغيرهم. قال ابن سعد: وكان ثقة، رفيعًا، كثير الحديث والفتيا، فقيهًا. توفي سنة 74 هـ. "طبقات ابن سعد" 5/ 58، "الكاشف" للذهبي 2/ 107، "تهذيب التهذيب" =

والضحاك (¬1): وقول أهل الحجاز جميعًا (¬2)، واختيار الشافعي -رضي الله عنه- (¬3). والأول قول أهل العراق (¬4)، واختيار أبي حنيفة -رضي الله عنه- (¬5). قال أبو عبيد: وكلا الفريقين إنما تأوّل الآية (¬6)، فالذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع من عند قوله {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم استأنف فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون فذهبوا إلى أن الكلام معطوف بعضه على بعض فقال {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل الكلام ورأوا (¬7) أنَّه منتظم له. ¬

_ = 5/ 311، "الإصابة" 2/ 332. وقوله رواه عنه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 153، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 170، والطبري 18/ 78، والبيهقي في "السنن" 10/ 153. ورواه عنه البخاري في الشهادات - باب: شهادة القاذف 5/ 255) معلقًا. ووصله ابن حجر في "فتح الباري" 5/ 256، وفي "تغليق التعليق" 3/ 378 من رواية الطبري. (¬1) رواه عنه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، والطبري 18/ 78، والبيهقي في "السنن" 10/ 153. (¬2) قوله: وهذا قول أهل الحجاز جميعًا. هذا كلام أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 153 بنصِّه. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 68 ب. وهو في "الأم" 7/ 81. (¬4) هذا كلام أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (153). (¬5) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 273، "بدائع الصنائع" 6/ 271، "تبيين الحقائق" 4/ 218 - 219. (¬6) في "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 153: إنما تأول فيما نرى الآية. (¬7) في (أ): (وراء).

قال أبو عبيد: والذي يُختار هذا القول؛ لأن من قال به أكثر وأعلى، منهم عمر بن الخطاب فمن وراءه، مع أنه في النظر على هذا (¬1)، ولا يكون المتكلم بالفاحشة أعظم جرمًا من راكبها، ألا ترى أنهم لا يختلفون في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب، فراميه بها أيسر جرمًا إذا نزع عما قال وأكذب نفسه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من عبده كان العباد بالقبول أولى. مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ من ذلك: قوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 33 - 34] فليس يختلف المسلمون أن هذا الاستثناء ناسخ للآية من أولها، وأن التوبة لهؤلاء جميعًا بمنزلة واحدة. وكذلك قوله في الطهور حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فصار التيمم لاحقًا بمن وجب عليه الاغتسال كما (¬2) لحق من وجب عليه الوضوء، كذلك قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} إلى آخر الآية كلام واحد بعضه معطوف على بعض وبعضه تابع بعضًا، ثم انتظمه الاستثناء وأحاط به. انتهى كلامه (¬3). واختار أبو إسحاق هذا القول أيضًا، فقال: إذا استثنوا من الفاسقين خاصة (¬4) فقد وجب قبول شهادتهم أيضًا؛ لأنهم قد زال عنهم اسم ¬

_ (¬1) في "الناسخ والمنسوخ": على هذا أصح. (¬2) في جميع النسخ: (كمن)، والتصويب من "الناسخ والمنسوخ". (¬3) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 153 - 154 مع اختلاف في آخره. (¬4) في المعاني: أيضًا.

الفسق (¬1). قال: والقياس أيضًا هذا؛ لأن الله -عز وجل- يقول في الشهادات {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فليس القاذف بأشد جرمًا من الكافر، فحقّه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، كما أن الكافر إذا أسلم وأصلح قبلت شهادته. فإن قال قائل: فما الفائدة في قوله {أَبَدًا}؟ قيل: الفائدة أن الأبد لكل إنسان مقدار مدته في حياتهن ومقدار مدته فيما يتصل بقصته، فتقول: الكافر لا تقبل منه (¬2) شيئًا أبدًا، معناه: ما دام كافرًا فلا تقبل منه شيئًا (¬3)، وكذلك إذا قلت: القاذف لا تقبل منه شهادة أبدًا، فمعناه: ما دام قاذفًا، فإذا زال عنه الكفر فقد زال عنه أبده، وإذا زال عنه الفسق (¬4) فقد زال أبده، لا فرق بينهم في ذلك (¬5). وهذا الذي ذكره معنى قول الشافعي -رضي الله عنه-: وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدًا فكيف لا تقبلون شهادة القاذف وهو أحسن دينا! وقد قال الشعبي: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 32. (¬2) (منه) ساقطة من (أ). (¬3) عند الزجاج: لا يقبل منه شيء أبدًا، فمعناه: ما دام كافرًا فلا يُقبل منه شيء. (¬4) في المطبوع من المعاني: القذف. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 31 مع اختلاف يسير. (¬6) "الأم" 7/ 41 - 42 مع اختلاف يسير. وقول الشعبي رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 388، 8/ 363 وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 151، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 153. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 170، والطبري 18/ 77 بنحوه.

واختلفوا في كيفية توبته: فقال طاووس: توبته أن يكذب نفسه (¬1). وقال عامر: توبته أن يقوم مثل مقامه يكذب (¬2) نفسه (¬3). وقال آخرون: التوبة منه كالتوبة من سائر الذنوب يندم على ما قال، ويستغفر منه، ويترك العود فيما بقي من العمر (¬4). هذا كله إذا حدَّ بقذفه. فأما إذا لم يحد بعفو المقذوف عنه أو بموته قبل أن يطالب القاذف بحدٍّ أو لم يرفع إلى السلطان فإن شهادته تقبل. بهذا احتج الشافعي -رحمة الله عليه (¬5) - فقال: هو قبل أن يحد شر منه [حين يحد] (¬6) لأن الحدود كفارات فكيف تردونها في أحسن حاليه (¬7). يعني بعد الحد والتوبة. قوله {وَأَصْلَحُوا} قال ابن عباس: يريد إظهار التوبة (¬8). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 172، والطبري 18/ 80، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 131 عن طاووس وغيره وعزاه لعبد بن حميد. (¬2) في (ع): (مكذب)، وعند ابن أبي شيبة: فيكذب. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 172 - 173 عنه بهذا الفظ، ورواه بنحو الطبري 18/ 76، 77، وابن أبي حاتم 7/ 14 ب، والبيهقي في "السنن" 10/ 153. (¬4) ذكر هذا الطبري 18/ 81، والثعلبي 3/ 68ب. وحكاه الطبري عن جماعة من التابعين وغيرهم 18/ 77 - 78، 81 وعن الإمام مالك بن أنس. قال الطبري 18/ 81: وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب؛ لأن الله جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود فيه، والندم على ما سلف منه، واستغفار ربَّه منه فيما كان. (¬5) في (ع): (رضي الله عنه). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬7) "الأم" 7/ 41 - 42. (¬8) ذكر القرطبي 12/ 182 هذا القول ولم ينسبه لأحد.

وقال مقاتل: وأصلحوا العمل فليسوا بفساق (¬1). {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال ابن عباس: {غَفُورٌ} لذنبهم، يعني لقذفهم {رَحِيمٌ} بهم حيث تابوا (¬2). "فلما نزلت هذه الآية قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- على الناس في خطبة (¬3) يوم الجمعة، فقال عاصم بن عدي الأنصاري (¬4) - للنبي -صلى الله عليه وسلم-: جعلني الله فداك، لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً (¬5)، فتكلم وأخبر بما رأى جلد (¬6) ثمانين جلدة، وسماه المسلمون فاسقًا، ولا تقبل له شهادة أبدًا، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء؟ إلى أن يلتمس أربعة شهداء فقد فرغ الرجل من حاجته! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي". فخرج عاصم سامعًا مطيعًا، فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية يسترجع، فقال: ما وراءك؟ فقال: شر! وجدت شريك بن السحماء (¬7) على ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 34 ب. (¬2) ذكر القرطبي 12/ 182 الشطر الأخير منه، ولم ينسبه لأحد. (¬3) في (أ)، (ظ): (خطبته)، والمثبت من (ع)، وتفسير مقاتل. (¬4) هو: عاصم بن عدي بن الجدِّ بن العجلان البلوي، حليف الأنصار. كان سيد بني عجلان. شهد أحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يشهد بدرًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخلفه على العالية من المدينة وضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمه فيها. توفي في خلافة معاوية سنة 45 هـ وقد جاوز المائة. "طبقات ابن سعد" 3/ 466، "الاستيعاب" 2/ 781، "أسد الغابة" 3/ 75، "الكاشف" للذهبي 2/ 51، "الإصابة" 2/ 237. (¬5) (رجلاً) ساقط من (ط)، (ع). (¬6) في (أ): (فجلد)، وفي (ظ): (يجلد)، والمثبت من (ع) وتفسير مقاتل. (¬7) في (ظ)، (ع): (السمحاء)، وهو خطأ. وهو: شريك بن عبدة بن مغيث بن الجد بن العجلان البلوي، حليف الأنصار. =

بطن امرأتي خولة (¬1) يزني بها!. وهي (¬2) خولة بنت (¬3) عاصم (¬4). قال: هذا - والله (¬5) سؤالي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنفًا. فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره (¬6) هلال بن أمية بالذي كان، فبعث إليها، فقال: "ما يقول زوجك"؟ فقالت: يا رسول الله إنّه رآني وشريكًا نطيل السهر ونتحدث، فلا أدري أدركته المغيرة أو بخل علي بالطعام؟ فأنزل الله آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. وهذا قول ابن عباس في رواية جويبر، عن الضحاك، عنه (¬7). ¬

_ = وسحماء -بفتح السين وسكون الحاء- أمه. يقال إنه سعد مع أبيه أحدًا. "الاستيعاب" 2/ 705، "أسد الغابة" 5/ 66، "الإصابة" 2/ 147. (¬1) (خولة) ساقطة من (ع). (¬2) (وهي) ساقطة من (أ)، وفي (ظ): (وخولة)، فسقط منها: هي. (¬3) في (ع): (ابن)، وهو خطأ. (¬4) ذكرها بهذا الاسم ابن حجر في "الإصابة" 4/ 285 وأشار إلى قصة اللعان وقال: لها ذكر ولا يعرف لها رواية. قاله ابن منده. (¬5) (والله) ليس في (ظ)، (ع). (¬6) في (ع): (فأخبره). (¬7) ما ذكره الواحدي جاء من عدة روايات مختلفة فأدخل المصنف بعضها على بعض وساقها مساقًا واحدًا، فأول الرواية إلى قوله "فرغ الرجل من حاجته" نصُّ رواية مقاتل في "تفسيره" 2/ 34 ب، وذكرها الثعلبي في "تفسيره الكشف والبيان" 3/ 70 أ، وصدّرها بقوله: قال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل. وأما بقية الرواية من قوله: هكذا أنزلت إلى آخر الرواية، فهذا نصّ رواية جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس والتي أخرجها الواحدي في "تفسيره الوسيط" 2/ 305 - 306 بسنده إلى جويبر، عن الضحاك عن ابن عباس. لكن وقع في الرواية التي ساقها الواحدي في "الوسيط" أن المرأة قالت: يا رسول الله، إن ابن السحماء كان يأتينا في منزلنا فيتعلم الشيء من القرآن، فربما تركه عندي وخرج زوجي ولم ينكر علي ساعة من ليل ولا نهار، فلا أدري أدركته الغيرة، .. والرواية المذكورة هنا فيها: إنه رآني وشريكًا نطيل السهر ونتحدث. =

وقال مقاتل (¬1)، وآخرون (¬2): الذي وجد امرأته مع شريك بن ¬

_ = وهذه اللفظة في تفسير الثعلبي "الكشف والبيان" 3/ 70 أ. وأخذها المصنف من تفسير الثعلبي وأدخلها على رواية جويبر. ورواية جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس رواية شديدة الضعف سندًا غريبة متنًا، فأما ضعفها سندًا فلأنها من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وجويبر هذا قال عنه الذهبي في "المغني" في "الضعفاء" 1/ 138: قال الدارقطني وغيره: متروك. وقال ابن حجر في "تقريب التهذيب" 1/ 36: ضعيف جدًا. كما أن في سندها انقطاعًا فإن الضحاك لم يلق ابن عباس كما قال ذلك الأئمة. انظر: "تهذيب التهذيب" لابن حجر 4/ 453 - 454. أما غرابة المتن فلأن فيه: "فخرج عاصم سامعًا مطيعًا فاستقبله هلال" والمعروف في الروايات الصحيحة كما سيأتي أن الذي لقي عاصمًا هو عويمر ابن عمه. ولذلك قال الزيلعي في تخريجه لأحاديث "الكشاف" 2/ 421 بعد ذكره الرواية التي ساقها الزمخشري في "الكشاف" وهي نحو الرواية المذكورة هنا-: غريب بهذا السياق، وفيه تخليط، فإن حديث عاصم بن عدي رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس من غير هذا الوجه، وروى مسلم أوله عن ابن مسعود وليس فيه ذكر الأسامي. وقصة شريك وهلال رواها مسلم، وليس فيها ذكر عاصم وغيره. ثم قال الزيلعي: ونقله الثعلبي يعني الرواية التي ساقها صاحب "الكشاف" هكذا بتمامه عن ابن عباس. قال ابن حجر في كتابه تخريج أحاديث "الكشاف" معلقًا على قول الزيلعي الأخير وكأنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، والمحفوظ عن ابن عباس بغير هذا السياق وهو متفق عليه وليس فيه تسميتهم. وكلام ابن حجر يدل على أنه لم يطلع على رواية جويبر هذه. والله أعلم. ولما ذكر القرطبي رواية الواحدي هنا قال: والصحيح خلافه. يعني أن عاصمًا استقبله هلال بن أمية 12/ 184. (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ. (¬2) هذا قول مقاتل بن حيان: انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 16 ب.

السحماء (¬1): عويمر (¬2) ابن عم لعاصم بن عدي، وامرأته خولة بنت قيس بن محصن (¬3). وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم عاصم. وأما قصة هلال بن أمية: فروى عكرمة، عن ابن عباس قال: لمَّا نزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال سعد بن عبادة: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم"؟ فقال سعد: والله -يا رسول الله- إني لأعلم (¬4) أنها حق وإنّها من الله. ثم ذكر نحو حديث عاصم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما لبثوا إلا (¬5) يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية -وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- فقذف امرأته بشريك بن عبدة، وأمه السحماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البينة وإلا حد في ظهرك". فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن في أمري ما يبرئ ظهري من الحد. فنزلت آية اللعان (¬6). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (السمحاء). وهو خطأ. (¬2) هو: عويمر بن أبي أبيض العجلاني، ويقال: هو عويمر بن الحارث بن زيد بن جابر بن الجدَّ بن العجلان، وأبيض لقب لأحد آبائه. "الإصابة" 3/ 45. (¬3) نقل هذا ابن حجر في "الفتح" 9/ 448 عن القرطبي عن مقاتل بن سليمان. ولم أجد من ترجم لخولة هذه. (¬4) في (أ): (لا أعلم)، وهو خطأ. (¬5) (إلا) ساقط من (ع). (¬6) قصة هلال بن أمية التي ساقها هنا الواحدي من رواية عكرمة عن ابن عباس قد جاءت من طرق عن عكرمة عن ابن عباس، لكن الواحدي أدخل بعض الروايات على بعض وساقها مساقًا واحدًا، فمن قوله "لما نزلت" .. إلى قوله: "وكان أحد الثلاثة" رواه االإمام أحمد في "مسنده" 4/ 6 - 9 طبعة شاكر وأبو داود في "سننه" =

وقال الكلبي: الذي وجد امرأته مع شريك هو عاصم بن عدي، رجع يومًا إلى أهله فوجده على بطن امرأته، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما رأى فنزل آية اللعان (¬1). وهذه ثلاثة أقوال في الواجد امرأته مع رجل: أحدها (¬2): أنه هلال بن أمية. والثاني: أنه عويمر العجلاني. والثالث: أنه عاصم (¬3). ¬

_ = كتاب: الطلاق- باب: في اللعان 6/ 344 - 347، وأبو يعلى في "مسنده" 5/ 124 - 127، والطبري في "تفسيره" 18/ 82 - 83، وابن أبي حاتم (ج 3 ل 15 أ)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 394، والمصنف الواحدي في "أسباب النزول" ص 262 كلهم من طريق عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس به. قال الحافظ المنذري في كتابه "مختصر سنن أبي داود" 3/ 169: في إسناده عبّاد بن منصور، وقد تكلَّم فيه غير واحد، وكان قدريًا داعية. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 12 - بعد ذكره لرواية أبي يعلى-: ومداره على عبّاد بن منصور وهو ضعيف. وقال في "مجمع الزوائد" 7/ 74: رواه أحمد وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف، وقد وثق. (¬1) ذكره الرازي في "تفسيره" 23/ 165: من رواية الكلبي عن ابن عباس. وروايات الكلبي لا يعتمد عليها. (¬2) في (أ): (أحدهما). (¬3) حكى ابن حجر في "الفتح" 8/ 451 هذا القول ثم قال: فيه نظر لأنَّه ليس لعاصم فيه قصة، وإنما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة. اهـ. ومما يدل على ما قاله ابن حجر ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين في زوائد المعجمين" للهيثمي 4/ 240 عن عاصم بن عدي أنه كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما نزلت هذه الآية {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فقلت. يا رسول الله: =

6

واتفقوا على أن الموجود زانيًا هو شريك. والأظهر أن الواجد كان عويمر لكثرة ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لاعن بين العجلاني وامرأته (¬1). 6 - فأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي بالزنا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} يشهدون على صحة ما قالوا {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} وتقرأ (أربع شهادات) بالنصب (¬2). قال أبو إسحاق: من قرأ بالرفع فعلى خبر الابتداء، المعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حدّ القاذف أربع، والدليل على هذا قوله {وَيَدْرَأُ عَنْهَا ¬

_ = حتى يأتوا بأربعة شهداء قد قضى الخبيث حاجته، قال: فما قام حتى جاء ابن عمه أخي أبيه، وامرأته تحمل صبيًا وهي تقول: هو منك، وهو يقول: ليس منه، فأنزلت آية اللعان. قال: فأنا أول من تكلم به وأول من ابتلي به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 12 - 13: ورجاله رجال الصحيح. (¬1) ذكر ابن حجر في "الفتح" 8/ 405 اختلاف العلماء فيمن نزلت فيه آية اللعان، فقال: وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجَّح أنَّها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجَّح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضًا فنزلت في شأنهما معًا في وقت واحد. وقد جنح النووي إلى هذا، وسبقه الخطيب .. ويؤيد التعدد أن القائل في قصة هلال سعد بن عبادة. والقائل في قصة عويمر عاصم بن عدي .. ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول. اهـ. وذكر ابن حجر أنَّ النووي نقل عن الواحدي أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر، ثم تعقبه بقوله 8/ 451: وأما قول النووي تبعًا للواحدي وجنوحه إلى الترجيح فمرجوح، لأن الجمع مع إمكانه أولى من الترجيح. (¬2) قرأ حمزة والكسائي وحفص "أربع" رفعًا، وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 452 - 453، "التسيير" للداني ص 162 و"الغاية" لابن مهران النيسابوري ص 218، و "النشر" لابن الجزري 2/ 330.

الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ}. ومن نصب أربعًا فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، [وعلى معنى: فالذي يدرأ عنهم (¬1) العذاب أن يشهد أحدهم أربع شهادات] (¬2). بالله. هذا كلامه (¬3). وشرحه أبو علي -وزاد فيه- فقال: من نصب قوله (أربع شهادات) نصبه بالشهادة، وينبغي أن يكون قوله {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} مبنيًّا على ما يكون مبتدأ (¬4) تقديره: فالحكم أو فالفرض (¬5) أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فعليهم أن يشهدوا. وإن شئت حملته على المعنى؛ لأن المعنى: يشهد أحدهم، فقوله (باللهِ) يجوز أن يكون من صلة الشهادة ومن صلة الشهادات إذا نصبت الأربع، وقياس من أعمل الثاني. يعني حيث يجتمع فعلان لا في هذه الآية (¬6). أن يكون قوله (باللهِ) من صلة شهادات وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: ضربت وضربني زيد. ومن رفع فإن الجار والمجرور من صلة شهادات، ولا يجوز أن يكون من صلة شهادة لأنك إن وصلتها بالشهادة فقد فصلت بين الصلة والموصول ألا ترى أنَّ الخبر الذي هو أربع شهادات يفصل (¬7). وقوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في قول من نصب (أربع شهادات) يجوز ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن": عنها، وهو خطأ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 32 - 33. (¬4) (مبتدأ) ساقط من (ع). (¬5) في (ع): (الفرض). (¬6) قوله: (يعني .. الآية) هذا من كلام الواحدي. (¬7) في (أ): (تفضيل).

أن يكون من صلة (شهادة أحدهم)، فتكون الجملة التي هي من {إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في موضع نصب؛ لأن الشهادة كالعلم فتتعلق بها (إنَّ) كما تتعلق بالعلم، والجملة في موضع نصب بأنه مفعول به، و (أربع شهادات) تنتصب انتصاب المصدر. ومن رفع (أربع شهادات) لم يكن قوله (¬1) {إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في موضع نصب إلَّا من صلة شهادات دون صلة شهادة؛ لأنك إن جعلته من صلة شهادة) فصلت بين الصلة والموصول (¬2). وأما تفسير قوله: {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8]: فروى عكرمة، عن ابن عباس: أن هلال بن أمية لما قذف زوجته بشريك بن السحماء أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي، فقال: "أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا". فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من ربي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرسلوا إليها" فأرسلوا إليها فجاءت، فتلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا. فقال هلال (¬3): والله يا رسول الله لقد صدقت عليها: فقالت: كذب. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ " فقال هلال: صدقت (¬4)، وما قلت إلَّا حقًّا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاعنوا بينهما"، فقيل لهلال: اشهد. فشهد أربع ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (كقوله)، والتصويب من الحجة. (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 310 - 311. مع اختلاف يسير. وانظر: "الكشف" 2/ 134، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 509 كلاهما لمكي بن أبي طالب، "البيان" للأنباري 2/ 192، "الدر المصون" للسمين 8/ 385 - 386. (¬3) (هلال) ساقطة من (أ). (¬4) (صدقت) ساقط من (أ).

شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كان في الخامسة قيل لهلال (¬1): يا هلال، اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإنّ هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. فقال: والله لا يعذبني (¬2) عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهد الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات إنه لمن الكاذبين. فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله. كما قيل لهلال، فتلكأت ساعة، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر (¬3) اليوم، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى هي ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. [قال عكرمة] (¬4): فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ولا يدعى لأب (¬5). ¬

_ (¬1) (لهلال) ساقطة من (أ)، وفي (ع) له. (¬2) في (ع): (عذبني). (¬3) (سائر) ساقطة من (ع). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (ع). (¬5) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 6 - 9 طبعة شاكر، وأبو داود في "سننه" (كتاب: الطلاق - باب: في اللعان 6/ 344 - 347)، وأبو يعلى في "مسنده" 5/ 124 - 127، والطبري في "تفسيره" 18/ 82 - 83، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 15 أ - ب، 16 أ، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 394 كلهم من طريق عبّاد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وقال الحافظ المنذري في كتابه "مختصر سنن أبي داود" 3/ 169: في إسناده عبَّاد ابن منصور، وقد تكلم فيه غير واحد، وكان قدريًا داعية. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 12 بعد ذكره الرواية أبي يعلى: ومداره على عبّاد بن منصور وهو ضعيف. =

7

وأما من قال إن القاذف زوجته بالزنا هو عويمر بن أمية، قال: لما نزلت (¬1) آيات (¬2) اللعان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزوج والمرأة: "قوما فاحلفا بالله"، فقام الزوج عند المنبر في صلاة العصر يوم الجمعة قال: أشهد بالله إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، وقال في الثانية: أشهد بالله إني رأيت شريكًا على بطنها وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة: أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة: أشهد بالله أني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي (¬3) لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر إن كان من الكاذبين عليها في قوله. ثم قامت خولة مقام زوجها فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين، أشهد بالله أنه (¬4) ما رأى شريكًا على بطني وإنه لمن الكاذبين، أشهد الله إنّي حبلى منه وإنّه لمن الكاذبين، أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان من الصادقين. ففرّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما (¬5). 7 - قوله تعالى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} قال ابن عباس: وذلك أن الرجل يذكر أنه رأى مع امرأته رجلاً أربع مرات، ثم ¬

_ = وذكره في موطن آخر من "الزوائد" مختصرًا 7/ 74 ثم قال: رواه أحمد وفيه عبّاد بن منصور وهو ضعيف، وقد وثق. (¬1) في (ظ)، (ع): (لما نزل). (¬2) في (ع): (آية). (¬3) في (أ): (إنّي). (¬4) في (ع): (أن). (¬5) هذا نصُّ ما ذكره مقاتل في "تفسيره" 2/ 34 ب.

يقول في الخامسة: اللهم ألعنه إن كان كذب عليها. وقرأ نافع (أن) مخففة (لعنة الله) بالرفع (¬1). قال أبو الحسن: لا أعم الثقيلة إلا أجود في العربية؛ لأنك إذا خففت فالأصل عندك التثقيل فتخفف وتضمر، فأن تجيء بما عليه في المعنى ولا تكون أضمرت ولا حذفت شيئاً أجود، وكذلك {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [يونس: 10] وجميع ما في القرآن مما يشبه هذا (¬2). قال أبو علي: فأمّا قراءة نافع فقال سيبويه (¬3): لا تخفف (أن) في الكلام أبدًا وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة على إضمار القصة فيها كقوله: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وعلى هذا قول الأعشى (¬4): ¬

_ (¬1) وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب "لعنة". "السبعة" لابن مجاهد ص 453، و "التيسير" للداني ص 161 و "الغاية" لابن مهران 218، و"النشر" 2/ 330. (¬2) نقل الواحدي هذا الكلام عن أبي الحسن الأخفش من كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 314، وقد ورد نحو هذا الكلام في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 293. (¬3) انظر: "الكتاب" 3/ 163 - 164. (¬4) هذا عجر بيت للأعشى من معلّقته، وصدره: في فتية كسيوف الهند قد علموا وقبله: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعن ... شاو مشل شلول شلشل شول يقول: إنّه غدًا إلى بيت الخمَّار معه غلام يشوي اللحم، خفيف في عمله، في فتية كريمة يهينون مالهم من اللذات إذ هم على ثقة أنَّهم ميتون، فهم يبادرون اللذات قبل أن يخترمهم الأجل. وشطر البيت مع صدره في "الكتاب" 3/ 164 منسوبًا للأعشى، و"معاني القرآن" =

8

أن هالك كل من يحفى وينتعل وإنما خففت الثقيلة المفتوحة على إضمار القصة والحديث (¬1). وقد ذكرنا هذا في مواضع. قال ابن عباس: فإذا قال الرجل ذلك وقع العذاب عليها [إلا أن تحلف أربع مرات كما حلف إنه لمن (¬2) الكاذبين عليّ، فذلك قوله] (¬3). 8 - {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [أي ويدفع عنها الحد] (¬4) {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} تقول المرأة أربع مرات (¬5): أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما قذفني به (¬6)؛ وتقول في الخامسة: علي غضب الله إن كان من الصادقين، فذلك قوله: 9 - {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. ¬

_ = للأخفش 2/ 518 مع صدره من غير نسبة، و "الخصائص" لابن جني 2/ 441 من غير نسبة، و"الخزانة" للبغدادي 3/ 547، 4/ 356، و"المقاصد النحوية" 2/ 287. (¬1) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 314 - 315. قال السمين الحلبي: 8/ 387: فعلى قراءته -يعني نافعًا- يكون اسم " أن" ضمير الشأن .. ، و"لعنة الله" مبتدأ، و"عليه" خبرها. والجملة في محل خبر "أنّ" أيضًا. وانظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 518، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 496، "الكشف" لمكي 2/ 134. (¬2) في (ع): (من). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ط). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬5) في (ع): (شهادات). (¬6) (به) ساقطة من (أ).

وقرأ حفص عن عاصم (وَالْخَامِسَةَ) نصبًا (¬1) بالحمل على ما في الكلام من معنى الفعل كأنه: ويشهد الخامسة، يضمر هذا الفعل لأن في الكلام دلالة عليها. ولم يختلفوا في (وَالْخَامِسَةَ) الأولى أنها مرفوعة، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون ما قبله من قوله {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} مرفوعًا أو منصوبًا. فإن كان مرفوعًا أتبع الرَّفع ويكون محمولًا على ما قبلها من الرفع. وإن كان منصوبًا قطع عنه ولم يحمل على النصب، وحمل الكلام على المعنى، لأن معنى (¬2) قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ}: عليهم أربع شهادات وحكمهم أربع شهادات والخامسة فتحمله على هذا، كما أنَّ قوله: إلاَّ رواكد جمرهن هباء (¬3). ¬

_ (¬1) وقرأ الباقون "والخامسة" رفعًا. "السبعة" لابن مجاهد ص 453، و"التيسير" للداني (161)، و"الغاية" لابن مهران النيسابوري ص 218، و"النشر" لابن الجزري 1/ 330. (¬2) في (ع): (المعنى). (¬3) ورد هذان الشطران في "الكتاب" لسيبويه 1/ 173 - 174 مع شطريهما، من غير نسبة لأحد. والبيتان هما: بادت وغير أيهن مع البلى ... إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج أما سواء قذاه ... فبدا وغير ساره المعزاء والبيتان أيضًا غير منسوبين في "معاني القرآن" للزجاج، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 288 - 289، وهما في "الخزانة" 2/ 348. والبيت الثاني في "اللسان" 2/ 304 "شجج" من غير نسبة. وقد نسب البيتان للشمَّاخ كما في ملحق "ديوان الشمَّاخ" ص 427 - 428. ونُسب البيت الثاني لذي الرمة كما في ملحق "ديوانه" 3/ 1840. ومعنى: بادت هلكت، وغيَّر أيهن: أي علامتهن، والمراد بالرواكد أحجار =

معناه: ثم رواكد. فحمل قوله: ومشجج أما سواء قذاله (¬1). عليه ويجوز في القياس نصب (الخامسة) الأولى رفع (أربع شهادات) أو نُصب. فإن نصب فبالعطف على المنصوب، وإن رفع فعلى المعنى، لأن معنى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} يشهد أحدهما أربع شهادات ويشهد الخامسة. فتنصبه (¬2) بما في الكلام من الدلالة على هذا الفعل (¬3). وقرأ نافع (أن) مخففة (غضب الله) على الفعل (¬4). و (أن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة، وأهل العربية يستقبحون أن تلي الفعل حتى يفصل ¬

_ = الأثفية، وهبا الرماد يهبو إذا اختلط بالتراب. وقوله: ومشجح، المراد به وتد الخباء الذي شج رأسه من الدَّق، وقذاله: أعلاه، وغير ساره: أي بقيته، والمعزاء: البقعة من الأرض التي يخالط ترابها حصى وحجارة. يقول: لم يبق من آثار الأحباب سوى أحجار الأثافي ورمادها المختلط بالتراب ووتد الخباء المكسور الرأس المتغير بطول بقائه في الأرض. انظر: "اللسان" 2/ 304 (شجج) 11/ 553 (قذل)، 4/ 339 (شار). "تاج العروس" للزبيدي 15/ 337 (معز)، "شرح شواهد الكشاف" ص 322. (¬1) المرجع السابق نفسه. (¬2) في (أ): (فنصبه). (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 311 - 314 مع تصرَّف يسير. وانظر في توجيه القراءتين أيضًا: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 495، "الكشف" لمكي 2/ 135. (¬4) قرأ نافع "أن" مخففة وكسر الضاد في "غضب" ورفع الهاء من اسم الله. وقرأ الباقون بتشديد النون وفتح الضاد وجر الهاء. "السبعة" لابن مجاهد ص 453، و"اليسير" للداني ص 161، و"الغاية" لابن مهران ص 218، و"النشر" لابن الجزري 2/ 330.

بينها (¬1) وبين الفعل شيء. ويقولون: يستقبح أن تخفف ويحذف ما تعمل فيه وأن تلي ما لم تكن تليه من الفعل بلا حاجز بينهما، فتجتمع هذه الاتساعات فيها. فإن فصل بينها وبين الفعل بشيء لم يستقبحوا ذلك، كقوله {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20]، {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89]، وعلمت أن قد قام. فإذا فصل بشيء من هذا النحو بينه وبين الفعل زال بذلك أن تلى ما لم يكن حكمها أن تليه. فإن قلت: فقد جاءت {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وجاء {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8]؟ فإن "ليس" تجري مجرى "ما" ونحوا مما ليس بفعل. وأما {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ} فإن قوله (بُورِكَ) على معنى الدعاء فلم يجز دخول "لا" ولا "قد" ولا "السين" ولا شيء مما يصح دخوله في (¬2) الكلام فيصح به الفصل. وهذا مثل (¬3) ما (¬4) حكى سيبويه (¬5) من قولهم: أما أن جزاك الله خيرًا. فلم يدخل شيء من هذه الفواصل من حيث لم يكن موضعًا لها، وغير الدعاء في هذا ليس كالدعاء. ووجه قراءة نافع أنَّ ذلك قد جاء في الدعاء ولفظه الخبر، وقد يجيء في الشعر من غير الفصل (¬6). ¬

_ (¬1) في (ع): (بينهما). (¬2) (في) ساقطة من (أ)، (ط). (¬3) (مثل) ساقطة من (أ). (¬4) في (أ): (ممّا). (¬5) انظر: "الكتاب" 3/ 167. (¬6) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 315 - 316 مع اختلاف يسير. =

وأما أحكام اللعان: فاعلم أن اللعان يعتمد القذف، فلا يتصور لعان ما لم يتقدم قذف، ولا فرق بين أن يكون ذلك القذف بصريح الزنا على جهة المطاوعة، وبين (¬1) أن يكون بوطء شبهة أو بوطء كانت مستكرهة فيه لأن ذلك كله وطء حرام؛ فإذا قذف زوجته لزمه الحد وله التخلص منها بإقامة البينة أو باللعان. فإن (¬2) أقام البيّنة على زناها لزمها الحد، وإن التعيين لزمها الحد أيضًا، ولها التخلص منه باللعان (¬3). ولا يكون اللعان إلا مغلّظا بالزمان والمكان، فإن كان بمكة فعند (¬4) المقام، وإن كان بالمدينة فعلى المنبر، وكذلك في كل بلدة، وينبغي أن يكون بعد العصر يوم الجمعة أو [في أي] (¬5) وقت من الأوقات الشريفة (¬6). ¬

_ = وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 444، و"إبراز المعاني" لأبي شامة (612)، "البحر المحيط" 6/ 434. (¬1) في (ع): (أو بين). (¬2) في (أ): (وإن). (¬3) انظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 305، "المغني" 11/ 136 - 160. (¬4) في (ع): (عند). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ع). (¬6) هذا أحد قولي الشافعية، والقول الآخر أنه مستحب ولا يجب. وذهب آخرون وهو قول أبي حنيفة إلى أنَّه لا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان، لأن الله تعالى أطلق الأمر بذلك، ولم يقيده بزمان ولا مكان، فلا يجوز تقييده إلا بدليل. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي 11/ 44 - 45، "المغني" لابن قدامة 11/ 175، "روضة الطالبين" للنووي 8/ 354.

ولا يجزئ اللعان إلا بين يدي سلطان أو نائب عن السلطان (¬1). وتكون البداية بالزوج كما ذكر الله في كتابه (¬2). وكل زوج كان من أهل الطلاق كان من أهل اللعان، عبدًا كان أو حرًا، ذميًّا كان (¬3) أو مسلمًا، محدودًا في القذف أو غير محدود؛ لأن اللعان عند الشافعي أيمان وإن كان فيها شوب (¬4) شهادة (¬5). ويؤمر الزوج فيصعد المنبر والمرأة جالسة، فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بنت فلان هذه (¬6) -ويشير إليها- من الزنا بفلان بن فلان. فيسقط عنه حد قذف فلان إذا ذكره في اللعان، ثم يعيد الشهادة أربع مرات (¬7). وإن كان بها حمل فالصحيح من مذهب الشافعي أن يذكر الحمل في اللعان فينتفي (¬8). وكانت امرأة العجلاني حاملًا فلاعنها [على الحمل] (¬9) ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" 11/ 44، 133، "المغنى" 11/ 174، "روضة الطالبين" 8/ 355. (¬2) في (أ): (شأنه). (¬3) (كان) ساقطة من (ع). (¬4) في (ع): (ثبوت). (¬5) وهذا قول جمهور العلماء. وعند أبي حنيفة اللعان شهادة فلا تصح إلا من مسلمين حرين عفيفين، فإن كان كافرين أو أحدهما أو مملوكين أو أحدهما لم يصح لعانها. وهو قول الأوزاعي والزهري وغيرهما. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 286 - 287، "الحاوي" 11/ 12، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 303، "المغني" لابن قدامة 11/ 122 - 123، "الجامع" للقرطبي 12/ 186 - 187. (¬6) (هذه) ساقطة من (ع). (¬7) انظر: "المغني" 11/ 176 - 177. (¬8) انظر: "الحاوي" 11/ 63، "المغني" 11/ 161، "القرطبي" 12/ 188. (¬9) ساقط من (ع).

وانتفى النسب. فإذا انتهى إلى ذكر اللعنة في الخامسة خوفه القاضي وعرَّفه أنها موجبة، وأمر بعض من يحضر بوضع اليد على فمه إذا أراد أن يمضي على اللعنة (¬1). والسنة أن يكون بمحضر خلق؛ فإن الصبيان حضروا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وإن نكل عن اللعان ولم يتمم وجب عليه حد القذف إن (¬3) كانت محصنة. ولا تقوم أكثر كلمات اللعان مقام الجميع (¬4). وإن أكمل توجَّه (¬5) عليها حدّ الزنا كما يتوجه بالبينة إلا أن يعارض اللعان باللعان فتدفع بذلك حدّ (¬6) الزنا عن نفسها. هذا معنى قوله {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}، ثم يذكر الغضب في الخامسة. وإن نكلت عن كلمة من كلمات اللعان فكأنها نكلت عن جميع اللعان. وأيهما نكل فاشتغلنا بإقامة الحد وأقمنا فقال: دعوني ألتعن، كان ممكنًا من اللعان بخلاف النكول عن الأيمان لا يعود حق اليمين بعد ما تحقق من النكول. وهذا من شوب (¬7) الشهادات في اللعان، والشهادة ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" 11/ 177، "روضة الطالبين" 8/ 355، "القرطبي" 12/ 192. (¬2) انظر: "المغني" 11/ 174. (¬3) في (ع): (وإن). (¬4) انظر: "المغني" 11/ 152، 177، "روضة الطالبين" 8/ 351. (¬5) في (ع): (وجب). (¬6) (حدّ) ساقطة من (أ). (¬7) في (ع): (ثبوت).

مسموعة مقبولة (¬1) متى ما أقيمت (¬2). ولا يحبس واحد منهما إذا نكل ليلتعن، ولكن يعاقب هذا بحد القذف وهذه بحد الزنا (¬3). وإذا تكامل لعان الزوج اندفع عنه حد القذف، وانتفى نسب الولد المذكور في اللعان مولودًا كان أو حملاً، وارتفع الفراش، ولا حاجة إلى تطليق القاضي وتفريقه (¬4). ثم لا يجتمعان بعد ذلك أبدًا. قال رسول الله: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا" (¬5). ¬

_ (¬1) (مقبولة) ساقطة من (أ). (¬2) انظر: "روضة الطالبين" 8/ 349. (¬3) انظر: " الحاوي" 11/ 80. (¬4) هذا مذهب الشافعي وهو أن الفرقة تحصل بلعان الزوج وحده، ولا يحتاج إلى تفريق الحاكم بينهما. وذهب آخرون: إلى أنَّ الفرقة لا تحصل إلا بتلاعن الزوج وامرأته جميعًا، ولا يحتاج إلى تفريق الحاكم. وهو قول مالك وأبي عبيد وبعض الحنابلة، وهو مروي عن ابن عباس. وذهب آخرون إلى أن الفرقة لا تقع إلا بتفريق الحاكم بعد فراغهما جميعًا من التلاعن. وهو قول الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه وبعض الحنابلة. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 298، "الحاوي" 11/ 74، "المغني" 11/ 144 - 146، "روضة الطالبين" 8/ 356، "الجامع" للقرطبي 12/ 193 - 194. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" 3/ 276، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 409 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ونقل العلامة المحدث أبو الطيب محمد شمس الدين العظيم آبادي في كتابه "التعليق المغني على الدارقطني" عن "صاحب التنقيح" أنَّه قال: إسناده جيد. وروى الدارقطني في "سننه" 3/ 275، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 410 من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- في قصة المتلاعنين قال: فتلاعنا، ففرق =

وإن أكذب الزوج نفسه فإنما يؤثر تكذيبه فيما عليه، وهو عود النسب ووجوب الحد، ولا يؤثر فيما له وهو ارتفاع التحريم وعود الفراش (¬1). ولا يتعلق بلعان المرأة إلا سقوط الحد عنها (¬2). وإن أغفل ذكر الولد في اللعان استأنف (¬3) اللعان (¬4). وإن قذفها بزنا قبل النكاح فعليه الحد ولا لعان (¬5). وإن ارتفع النكاح بطلاق رجعي فالقذف واللعان في عدة الرجعية حكمها حكم ما يكون في صلب النكاح، وأما القذف بعد البينونة فإنه موجب للحد ولا لعان، إلا أن يكون ولد فله اللعان عند الشافعي لنفي النسب (¬6). وكذلك اللعان في النكاح الفاسد يجري لنفي الولد (¬7). وإذا قذف أربع زوجات فجمعهن في اللعان ورضين بذلك كان ¬

_ = الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينهما وقال "لا يجتمعان أبدًا". قال محقق "زاد المعاد" لابن القيم 5/ 391: رجاله ثقات. وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر 3/ 253، "نيل الأوطار" 8/ 77. (¬1) وهذا قول جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى إنَّه إذا أكذب نفسه جُلد الحدّ ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إذا شاء. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وغيرهم. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 302 - 303، "الحاوي" 11/ 75، "المغني" 11/ 149، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 194. (¬2) تقدم أن هذا مذهب الشافعي وحده. والجمهور على خلافه. (¬3) في (أ): (استأنف في). بزيادة (في). (¬4) انظر: "المغني" 11/ 153. (¬5) انظر: "المغني" 11/ 135، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 187. (¬6) انظر: "الأم" 5/ 117، "المغني" 11/ 133، "روضة الطالبين" 8/ 336 - 337. (¬7) انظر: "المغني" 11/ 132، "روضة الطالبين" 8/ 335 - 336.

10

جائزًا (¬1) وفرقة اللعان فسخ (¬2)؛ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة. وقال أبو حنيفة: اللعان (¬3) تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدأ (¬4). والله أعلم. 10 - قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} قال الفراء: (لولا) هاهنا متروك الجواب؛ لأنه معلوم المعنى. وكذلك كل ما كان معلوم الجواب فإن العرب تكتفي بترك جوابه، ألا ترى أن الرجل ليشتم صاحبه فيقول المشتوم: أما والله لولا أبوك، فيعلم أنه يريد لشتمتك، فمثل هذا يترك جواب، وقد قال بعد ذلك فبيّن جواب وهو قوله {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14] {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور: 21] فذلك يبين لك المتروك (¬5). وقال المبرد: تأويله -والله أعلم- لهلكتم، أو لم يبق لكم باقية، أو لم يصلح لكم أمر، أو ما أشبه ذلك من الوعيد المرجع، فحذف لأنه (¬6) لا يشكل (¬7). وأنشد لجرير فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" 11/ 183، "روضة الطالبين" 8/ 347. (¬2) وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما. انظر: "المغني" 11/ 147، "روضة الطالبين" 8/ 356. (¬3) (اللعان) ساقط من (ع). (¬4) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني 3/ 244 - 245، "تبيين الحقائق" للزيلعي 3/ 17 - 18. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 247. (¬6) في (ع): (أنَّه). (¬7) ذكر الزركشي في "البرهان" 3/ 187 هذا القول عن المبرد.

كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بحزيز رامة والمطيُّ سوامي (¬1) وقد ذكرنا هذا مستقصى فيما تقدم. وقال أبو إسحاق: المعنى والله أعلم: لولا فضل الله عليكم لنال الكاذب منكم عذاب عظيم (¬2). وهذا مما ذكره المبرّد لأن هذه الآية (¬3) من تمام قصة اللعان فتقدير الجواب بما قدره أبو إسحاق أليق (¬4) بما تقدم مما قدره المبرّد، وإن كان ذلك جائزًا (¬5). قال ابن عباس: ولولا ستر الله عليكم ورحمته. قال مقاتل: (ونعمته) لأطلع على الكاذب منهما (¬6). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" 2/ 961، "النقائض" لأبي عبيدة 1/ 258، "سر صناعة الإعراب" 2/ 648. والعَواذل: جمع عاذلة وهي اللائمة. والمُناخ -بالضم-: مبرك الإبل. والحزيز -كأمير-: الموضع من الأرض كثرت حجارته وغلظت كأنَّها السكاكين، وقيل الأرض فيها غلظ واستواء. وحزيز رامه: اسم لعدة مواضع في بلاد العرب، منها موضع في طريق البصرة إلى مكة. انظر: "معجم البلدان" لياقوت 4/ 212، "لسان العرب" 11/ 437 (عذل) 5/ 335 (حزز) 14/ 400 (سما)، "القاموس المحيط" 2/ 272. قال أبو عبيدة في "النقائض" 1/ 258 - 259: و"المطي": ما امتطى ظهره، والطا: الظهر. و"المطي سوامي" يقول: هي في بلد لا رعي فيها فهي تسمو بأبصارها إلى موضع الرعي. يقول: لو رأين مناخنا وما نلقى ما عذلننا في الطلب. اهـ مع تصرف. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 33. (¬3) في (ع): (اللام). (¬4) (أليق) ساقطة من (ع). (¬5) في (ع): (جائز). (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 35 ب: وفيه لأظهر علي الذنب يعني الكاذب منهما.

11

يعني: لولا أنّه ستر بفضله ورحمته لبيَّن الكاذب من الزوجين فيقام عليه الحد. {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} يعود على من رجع عن معاصي الله إلى ما يجب بالرحمة. {حَكِيمٌ} في خلقه فيما فرض من الحدود. قاله ابن عباس. وقال مقاتل: {حَكِيمٌ} حكم بالملاعنة (¬1). 11 - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} قال ابن عباس (¬2) والمفسرون (¬3): يعني بالكذب على عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب وأقبحه. وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه (¬4). ومعنى القلب في هذا الحديث أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف السبب والنسب لا الرمي والقذف، فالذين رموها ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 35 ب. (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 130 من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفي، عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقد تقدم في المقدمة بيان بطلان هذا الطريق وذكرنا هناك كلام ابن حبان وابن حجر. (¬3) انظر: "الطبري" 18/ 86 - 87، الثعلبي 3/ 73 ب. (¬4) ذكر هذا المعني الزمخشري 3/ 52، والبغوي 6/ 22 من غير نسبة لأحد. قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" 1/ 118 (أفك): الهمزة والفاء والكاف أصل واحد يدل على قلب الشيء وصرفه عن جهته، وأفك الرجل إذا كذب، والإفك: الكذب، وأفكت الرجل عن الشيء، إذا صرفته عنه. اهـ. وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 396 - 397 (أفك)، و"الصحاح" للجوهري 4/ 1572 - 1573 (أفك).

بالسوء قد (¬1) قلبوا الأمر عن وجهه (¬2)، فهو (¬3) إفك قبيح وكذب ظاهر. ومثله الأفيكة، والعرب تقول عند العجب من كذب إنسان: يا للأفيكة بكسر اللام وفتحها (¬4). وقوله: {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي: جماعة منكم أيها المؤمنون. والذين ذكروا منهم مسمَّى في الآثار (¬5): حسَّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة (¬6)، وحمنة بنت جحش (¬7) أخت عبد الله بن جحش الأسدي، والمنافق عبد الله بن أبي. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (فقد). (¬2) ذكر البغوي 6/ 22 هذا المعنى ولم ينسبه لأحد. (¬3) في جميع النسخ: (هو)، والتصويب من "الوسيط" للواحدي. (¬4) من قوله: (والعرب إلى هنا)، ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 396 "أفك" من رواية أبي عبيد عن الكسائي مع تقدم وتأخير. (¬5) انظر في ذلك: الطبري 18/ 86 - 87، ابن أبي حاتم 7/ 22 أ - ب "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 156 - 157. (¬6) هو: مسطح بن أثاثة بن عبَّاد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، المطلبي، المهاجري، البدري. كان اسمه عوفًا وأما مسطح فهو لقبه. شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. توفي سنة 34 هـ وهو ابن ست وخمسين سنة. "طبقات ابن سعد" 3/ 53، "الاستيعاب" 4/ 1472، "أسد الغابة" 4/ 354، "سير أعلام النبلاء" 1/ 187، "الإصابة" 3/ 388. (¬7) هي: حمنة بنت جحش بن رياب الأسدية، أخت أم المؤمنين زينب، أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كانت من المبايعات وشهدت أحدًا فكانت تسقي العطشى وتحمل الجرحى وتداويهم. وقتل عنها يوم أحد زوجها مصعب بن عمير، فتزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له أولادًا منهم محمد بن طلحة المعروف بالسَّجَّاد. "طبقات ابن سعد" 8/ 241، "الاستيعاب" 4/ 1813، "أسد الغابة" 5/ 428، "الإصابة" 4/ 266.

ذكرت عائشة رضي الله عنها هؤلاء (¬1)، وذكرهم المفسرون: فقال ابن عباس: أربعة منكم (¬2). وسمّاهم مقاتل بأسمائهم (¬3). وقوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} لا تحسبوا الإفك شرًا لكم. قال مقاتل: لأنكم تؤجرون على ما قيل لكم من الأذى (¬4). {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن الله يأجركم ويُظهر (¬5) براءتكم. والمخاطب بقوله (¬6) (لَّكُمْ) عائشة وصفوان (¬7) فيما ذكر أهل التفسير (¬8). وعلى هذا خوطبا مخاطبة الجمع. ¬

_ (¬1) ذكرتهم عائشة في الحديث الذي رواه عنها البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير - باب: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} الآية، 8/ 452 - 453، ومسلم في "صحيحه" كتاب: التوبة - باب: في حديث الإفك 4/ 2129 - 2138 وغيرهما. (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 130 من رواية عطاء. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 150 وعزاه للطبراني. وروى الطبري 18/ 86 من طريق ابن جريج عن ابن عباس ذكر هؤلاء الأربعة بأسمائهم وفيه انقطاع. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 157 ونسبه أيضًا لابن المنذر. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 35 ب ووقع فيه: وجميلة بنت جحش. وهو تصحيف. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 35 ب. (¬5) في (أ): (وتظهر). (¬6) في (أ): (لقول له). (¬7) هو: صفوان بن المعطل السلمي، الذكواني، أبو عمرو. أول مشاهده المريسيع، وكان في الساقة يومئذ، وكان من سادات المسلمين، قتل -رضي الله عنه- شهيدًا في غزو الروم سنة 60 هـ. انظر: "الاستيعاب" 2/ 725،"أسد الغابة" 3/ 26، "سير أعلام النبلاء" 1/ 545، "البداية والنهاية" 8/ 146، "الإصابة" 2/ 184. (¬8) ذكره الثعلبي 3/ 73 ب. ورواه ابن أبي حاتم 7/ 22 أعن سعيد بن جبير. وذكره الماوردي 4/ 79 وعزاه ليحيى بن سلام، وذكره ابن الجوزي 6/ 18 وعزاه للمفسرين.

وقال أبو إسحاق: قوله (لَّكُمْ) يعني هي وصفوان ومن بسببها (¬1) من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر (¬2). ويكون الخطاب لكل من رُمي بسبب، وذلك أن من سبّ عائشة فقد سبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وسب أبا بكر. وهذا هو قول ابن عباس في رواية عطاء فقال: يريد خيرٌ لرسول الله، وبراءة لسيدة النساء أم المؤمنين، وخير لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأم عائشة (¬3)، ولصفوان بن المعطل (¬4). وقوله {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} يعني من العصبة الكاذبة {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} جزاء ما اجترح من الذنب (¬5). قال مقاتل: على قدر ما خاض فيه من أمر عائشة وصفوان (¬6). وقوله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} قال الفراء (¬7): اجتمع القراء على كسر ¬

_ (¬1) في (أ): (إلى)، والمثبت من باقي النسخ والزَّجاج. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 34. وليس فيه ذكر صفوان. (¬3) هي: أم رُومان بنت عامر بن عويمر الكنانية. واختلف في اسمها، فقيل: زينب، وقيل: دَعْد. أسلمت أم رومان قديمًا وبايعت وهاجرت إلى المدينة. وهي أم عبد الرحمن وعائشة. وكانت امرأة صالحة. توفيت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة ست من الهجرة، وقيل بعد ذلك. "طبقات ابن سعد" 8/ 276، "الاستيعاب" 4/ 1935، "أسد الغابة" 5/ 483، "الإصابة" 4/ 432. (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 23/ 130 من رواية عطاء. (¬5) الثعلبي 3/ 73 ب، والطبري 18/ 87. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬7) (الفراء) ساقط من (ظ)، (ع).

الكاف، وقرأ حميد الأعرج بضم الكاف (¬1)، وهو وجه جيِّد؛ لأن العرب تقول: تولى فلان عظم كذا، يريدون أكبره (¬2) (¬3). قال الأزهري: قاس (¬4) الفراء الكبر على العظم، وكلام العرب على غيره، أخبرني المنذري، عن الحرَّاني، عن ابن السكيت قال: كبر الشيء معظمه بالكسر، وأنشد (¬5) لقيس بن الخطيم: تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدًا تكادُ تنغرف (¬6) ¬

_ (¬1) ذكر هذه القراءة عن حميد: ابن خالويه في "الشواذ" ص 101، وابن جني في "المحتسب" 2/ 103 - 104، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 73 ب - 74 أ، وابن عطية في "المحرر" 10/ 457، والقرطبي 12/ 200، وأبو حيان 6/ 437. وبها قرأ يعقوب الحضرمي. انظر: "إرشاد المبتدئ وتذكرة المنتهي في القراءات العشر" للقلانسي ص 1460، "المبسوط في القراءات العشر" لابن مهران ص 266، "النشر" لابن الجزري 2/ 331. (¬2) في (ع): (لكبره). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 247. (¬4) في (ع): (قال). (¬5) المنشد هو ابن السكيت كما في "تهذيب اللغة" للأزهري. (¬6) البيت في "ديوانه" ص 57، و"المفضَّليات" ص 788، و"تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 209، و "جمهرة اللغة" لابن دريد 2/ 394، و"لسان العرب" 5/ 129 (كبر). قال البطليوسي في "الاقتضاب" 3/ 199: وصف امرأة نشأت بين رفاهية ونعمة، فهي تنام لجلالة شأنها وأن لها من يكفيها المؤنة، فإذا قامت قامت في سكون وضعف، وكادت تنغرف؛ لرقة خصرها وثقل ردفها. اهـ. ومعنى تنغرف: قيل تَتَثَنَّى، وقيل: تنقصف من ذفّة خصرها. وانغرف العظم: انكسر. "لسان العرب" لابن منظور 9/ 264 (غرف).

ومن أمثالهم: "كبر سياسة الناس في المال". قال (¬1): وأما الكبر بالضمَّ فهو أكبر (¬2) ولد (¬3) الرجل. يقال: الولاء للكبر (¬4). ونحو هذا قال أبو عمرو بن العلاء، وخطَّأ من (ضمَّ) الكاف (¬5). وقال الكسائي: الذي سمعناه بكسر الكاف، وأظن الضَّم لغة (¬6). وقال أبو عبيدة: الكِبْر -بالكسر-: مصدر الكبير، وكبره معظمه. وبالضم مصدر الكبير في السن، فرقوا بينهما فقالوا: كبر قومه بالضم. وجعلها قوم بالضَّم (¬7). وقال الليث: الكِبْر: الإثم الكبير، وكبر كل شيء عظمه (¬8). فمن قرأ (كبره) قال: إثمه وخطاه، ومن قرأ بالضم قال: عظم هذا ¬

_ (¬1) القائل هو ابن السكيت. (¬2) في (أ)، (ع): (أكثر)، والمثبت من (ظ)، "تهذيب اللغة". (¬3) في (أ): (وكذا). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 214 (كبر) مع تصرف وزيادة. (¬5) ذكر الثعلبي 3/ 74 أقول أبي عمرو وتخطئته. وقال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 509: قيل لأبي عمرو بن العلاء: أنقرأ "والذي تولى كبْره"؟ فقال: لا. إنَّما الكبر في النسب. (¬6) روى الأزهري هذا القول في "تهذيب اللغة" 10/ 210 (كبر) عن المنذري، عن ابن اليزيدي، عن أبي زيد في قوله "والذي تولى كبره"، فذكره بنحوه. وقبل هذه الرواية ذكر الأزهري نصًا عن الكسائي، وبعد الرواية ذكر نصًا آخر عن الكسائي من رواية أبي عبيد. فاحتمال خطأ الواحدي في نسبة هذا القول وارد. والله أعلم. وقد ذكر الثعلبي 3/ 74 أعن الكسائي أنه قال: هما لغتان. يعني الضم والكسر. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 64 مع اختلاف يسير وتصرّف. (¬8) قول الليث فى "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 214 كبر. وهو في "العين" 5/ 361 (كبر) بنصّه.

القذف (¬1). واختار الزَّجَّاج هذا القول وحكاه (¬2). ومعنى {تَوَلَّى كِبْرَهُ} استبد بمعظمه وانفرد به. قال الضحاك: قام بإشاعة الحديث وإذاعته (¬3). وهو معنى (¬4) قول ابن عباس في رواية عطاء (¬5). والذي تولى كبره مختلف فيه: فقال عطاء، عن ابن عباس: هو عبد الله بن أبي (¬6). وهو قول مجاهد (¬7)، ومقاتل (¬8)، والسدي (¬9). ورواية عروة عن ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني 2/ 105، "البحر المحيط" 6/ 437، "الدر المصون" 8/ 389. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 34 - 35. (¬3) ذكره عنه البغوي 6/ 22. وروى الطبري 18/ 87، وابن أبي حاتم 7/ 22 أ، عنه قال: الذي بدأ بذلك. وانظر: "الدر المنثور" 6/ 158. (¬4) (معني) ساقطة من (أ). (¬5) روى الطبري في "الكبير" 23/ 130 من طريق عطاء، عن ابن عباس، قال في قوله "والذي تولى كبره" قال: إشاعته. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 150 وعزاه للطبراني. (¬6) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 130 من رواية عطاء عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 150 للطبراني. (¬7) رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 89، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 22 أ، و"الطبراني الكبير" 23/ 138. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 158 ونسبه أيضًا للفريابي وعبد بن حميد. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬9) ذكره عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 19.

عائشة، روى عنها في حديث الإفك أنَّها قالت: ثم ركبتُ، وأخذ صفوان بالزمام، فمررنا بملأ من المنافقين -وكانت عادتهم أن ينزلوا مُنْتَبِذين (¬1) من الناس- فقال عبد الله بن أبي رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها. قالت: وهو الذي تولى كبره (¬2). وقوله: {مِنْهُمْ} يعني من العصبة الكاذبة. {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: يريد في الدنيا الجلد. جلده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثمانين جلدة وفي الآخرة يُصيره الله إلى النار (¬3). ¬

_ (¬1) منتبذين: يعني متُنَحِّين. "لسان العرب" لابن منظور 3/ 512 (نبذ). (¬2) ذكر الثعلبي 3/ 74 أهذه الرواية -بهذا اللفظ- من رواية ابن أبي مليكة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 137 من رواية عبد الغني بن سعيد الثقفي، عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذه الرواية باطلة كما تقدم. وروى الطبراني في "الكبير" 23/ 124 - 129 من حديث ابن عمر وأبي اليسر الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب عبد الله بن أبي حدّين. لكن قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 240 عن حديث ابن عمر: وفيه إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذّاب. وقال أيضًا عن حديث أبي اليسر 6/ 280: وفيه إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذَّاب. وذكر ابن حجر في "الفتح" 8/ 479 أثرين آخرين في حدّ عبد الله بن أبي، لكنَّهما مرسلان. وذهب آخرون إلى أنَّه لم يحدّ، قال القرطبي في "تفسيره" 12/ 201: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أنَّ الذي حدَّ حسان ومسطح وحمنة، ولم يُسمع بحدِّ لعبد الله بن أبيّ. اهـ. وبهذا القول قال القاضي عياض وابن القيم وجماعة. قال ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 263: ولم يحدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنَّه =

وقال قوم الذي تولى كبره هو (¬1) حسان بن ثابت (¬2). روي عن مسروق قال: كنت عند عائشة فدخل حسان بن ثابت فألقي له وسادة فلما خرج قلت لعائشة: تدعين هذا الرجل يدخل عليكم وقد قال ¬

_ = رأس أهل الإفك، فقيل: لأنَّ الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلًا لذلك، وقد وعده الله العذاب العظيم، فيكفيه ذلك عن الحدّ. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة وهو لم يقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنّما كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين. وقيل: بل ترك حدّه لمصلحة هي أعظم من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه، وتكلّمه بما يوجب قلته مرارًا، وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام، فإنَّه كان مطاعًا فيهم، رئيسًا عليهم، فلم تؤمن الفتنة في حدِّه. ولعله ترك لهذه الوجوه كلها. اهـ. ولعل أقرب الوجوه هو الأخير، يدل عليه ما في "صحيح البخاري" كتاب "التفسير" 8/ 453 - 454 من حديث عائشة في قصة الإفك وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ .. الحديث. فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام رجل فقال لسعد: كذبت لعمر الله لنقتلنّه .. فتساور الحيّان الأوس والخزرج حتى همُّوا أن يقتتلوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخفضّهم حتى سكتوا وسكت. (¬1) في (أ): (فهو)، وهي ساقطة من (ع). (¬2) قال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 272: وهو قول غريب، ولولا أنّه وقع في "صحيح البخاري" يعنى الرواية التي سيسوقها الواحدي بعد ذكره لهذا القول. ما قد يدل على إيراد ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة. فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنَّه كان يذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ما قال وأنزل الله -عز وجل- فيه {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}! فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ ولعل الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره. وقالت: إنّه كان يدفع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). والقول هو الأول؛ لما روي عن الشَّعبي: أنه قيل لعائشة: إن حسان بن ثابت هو الذي تولى كبره؟. فقالت (¬2): [معاذ الله] (¬3)! سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول (¬4): "إن الله ليؤيد حسان بروح القدس في شعره" (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 74 أبهذا اللفظ من رواية أبي الضحى، عن مسروق. ورواه بنحوه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 515، والبخاري في التفسير سورة النور 8/ 85 ومسلم في الفضائل باب: فضائل حسان بن ثابت -رضي الله عنه- ج 4/ 1932، والطبري في "تفسيره" 18/ 88، وابن أبي حاتم 7/ 22 ب، والطبراني في "المعجم الكبير" 23/ 135، 136 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 157 - 158 ونسبه أيضًا لابن المنذر وابن مردويه. (¬2) في (أ)، (ع): (قالت). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) (يقول) ساقط من (أ). (¬5) لم أجده بهذا اللفظ. لكن أخرج الطبري في "تفسيره" 18/ 88 من طريق الشعبي عن عائشة أنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة .. وفيه. قيل: أليس الله يقول: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]؟ قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم؟ قالت: "أليس قد ذهب بصره، وكنّع بالسيف". وقد أخرج أبو داود في "سننه" كتاب: الأدب- باب: ما جاء في الشعر 13/ 357، والترمذي في "جامعه" كتاب: الأدب - باب: ما جاء في إنشاد الشعر 8/ 137 واللفظ له، والحاكم في "مستدركه" 3/ 487 من حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يؤيد حسَّان بروح القدس ما يفاخر -أو ينافح- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ".

12

12 - ثم أنكر على الذين خاضوا في الإفك فقال: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} هلّا إذ سمعتم أيها العصبة الكاذبة قذف عائشة بصفوان {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} من العصبة الكاذبة يعني حمنة وحسان ومسطحا. {بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} قال الحسن (¬1): بأهل دينهم، لأنَّ المؤمنين كنفس واحدة، ألا ترى إلى قوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]. قال الزجاج: وكذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضًا: إنَّهم يقتلون أنفسهم (¬2). وهذا معنى قول مقاتل: ألا (¬3) ظن بعضهم ببعض خيرًا بأنهم لا يزنون؟ (¬4). على هذا المعنى (¬5): ظن المؤمنون والمؤمنات بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم (¬6) خيرًا (¬7). وهذا معنى قول ابن قتيبة: بأمثالهم من المسلمين (¬8). وقال المبرد: ومثله قوله {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، [وقوله: ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 74 أ، إلى تمام الآية الأولى، وذكره عنه البغوي 6/ 23 إلى تمام الآية الثانية. وقد روى الطبري 18/ 96 عن الحسن قال: يعني بذلك المؤمنين والمؤمنات. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 36. (¬3) (ألا) ساقطة من (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬5) (المعنى) ساقطة من (أ). (¬6) في (أ): (كما بعضهم). (¬7) (خيرًا) ساقطة من (ظ). (¬8) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 301.

13

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] (¬1). وروي عن بعض الأنصار: أن امرأة أبي أيوب قالت له: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب. أكنت يا أم أيوب فاعلة أنت (¬2) ذلك؟ قالت: لا والله. قال: فعائشة -والله- خير منك. فلما نزل قوله {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] عرف أنه يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال (¬3). وعلى (¬4) هذا المعنى: ظنوا بأنفسهم خيرًا فيقولون (¬5): نحن ما نأتي ما ترمى به عائشة وصفوان فهما أولى أن لا يأتيانه كما ظن أبو أيوب وامرأته وقالوا: هذا إفك مبين، كما قال أبو أيوب. وهذا معنى قول الكلبي: لولا إذ سمعتموه ظننتم بعائشة ظنكم بأنفسكم وعلمتم أنَّ أمكم لا تفعل ذلك، وقلتم: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي: هذا القذف كذب بيّن. 13 - وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هلّا جاء العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بأربعة شهداء يشهدون بأنهم عاينوا منها ما رموها ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) (أنت) ساقطة من (ع). (¬3) رواه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 3/ 347، قال: حدثني أبي -إسحاق بن يسار- عن بعض رجال بني النجار، فذكره. ورواه الطبري 18/ 96، وابن أبي حاتم 7/ 22 ب من طريق ابن إسحاق. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 159 وزاد نسبته لابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر. وفي إسناده جهالة. (¬4) (على) ساقطة من (أ). (¬5) في (ظ)، (ع): (فيقولوا).

14

به. وهذا يدل على أنَّ الزنا لا يثبت بأقل من أربعة شهود (¬1). {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في حكم الله هم كاذبون. فدلّ هذا على أن القاذف إذا عجز عن إقامة البينة حكم بكذبه (¬2). وسئل أحمد بن يحيى (¬3) عن هذه الآية، وقيل: إذا رأى الرجل مع امرأته رجلًا وتيقّن الفاحشة ثم أخبر الإمام بذلك وعجز عن إقامة البينة فحدَّ أيكون عند الله كاذبًا؟ فقال: تأويل {عِنْدَ اللَّهِ} في حكم الله، وقد فرض علينا أن نجريه مجرى الكاذبين وإن كان في معلوم الله أنه صادق، فإن صدقه مغيب عنّا، والغيب لا يعلمه إلا الله. 14 - ثم ذكر الذين قذفوا عائشة فقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} قال ابن عباس: يريد لولا ما منّ الله به عليكم وستركم (¬4). {لَمَسَّكُمْ} لأصابكم ([فِي مَا أَفَضْتُمْ] (¬5) فِيهِ) فيما أخذتم فيه وخضتم فيه من الكذب والقذف. ويقال: أفاض القوم في الحديث إذا أخذوا فيه وأكثروا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 307، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 308. (¬2) انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 307، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 3/ 308. (¬3) هو ثعلب، ولم أجد من ذكر عنه هذا. (¬4) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 141. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 150 ونسبه للطبراني. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 78 (فاض) وفيه: "إذا اندفعوا فيه ... ".

15

وذكرنا معاني الإفاضة عند قوله {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] وقوله {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]. وقوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدنيا والآخرة. 15 - قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}. قوله (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) "إذ" من صلة قوله (لَمَسَّكُمْ) (¬1)، وتقدير الكلام: لمسّكَم ذلك الوقت حين تلقَّونه بألسنتكم. قال مجاهد (¬2)، ومقاتل (¬3): إذ يرويه (¬4) بعضكم عن بعض. وهو قول الكلبي، قال (¬5): وذلك أنَّ الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا وكذا، يتلقَّونه تلقيا (¬6). وقال الزَّجَّاج: معناه إذ يلقيه بعضكم إلى بعض (¬7). وقال الفراء: كان الرجل يلقى الرجل فيقول: أما بلغك كذا وكذا، فيذكر قصة عائشة رضي الله عنها لتشيع الفاحشة (¬8). ¬

_ (¬1) الطبري 18/ 97. وانظر: "البحر المحيط" 6/ 438، "الدر المصون" 8/ 390. (¬2) رواه الطبري 18/ 98، وابن أبي حاتم 7/ 23 أ، الطبراني في "الكبير" 23/ 142. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 160 ونسبه أيضًا للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬4) في (أ): يرونه. (¬5) قال: ساقطة من (ع). (¬6) ذكره عنه البغوي 6/ 25. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 38. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 248.

16

وقال ابن قتيبة: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} أي تقبلونه (¬1). وذكرنا معنى التلقي عند قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ} [البقرة: 37]. قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} قال ابن عباس: أي ما يعلم الله خلافه (¬2). وقال مقاتل: يقول (¬3): من غير أن تعلموا أن الذي قلتم من القذف حق (¬4). {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} وتظنون أنَّ القذف سهل لا إثم عليكم فيه (¬5). {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} في الوزر (¬6). قال ابن عباس: رموا سيدة النساء وأم (¬7) المؤمنين وزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبهتوها بما لم يكن فيها، ولم يقع في قلبها قط، والله خلقها طيّبة، وعصمها من كل قبيح (¬8). 16 - ثم زاد في الإنكار عليهم وقال: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وهلّا إذ سمعتم (¬9) القذف لعائشة رضي الله عنها {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} ما يحل وما ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 301. (¬2) رواه الطبراني (23/ 141/ 142). ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 150 ونسبه للطبرانى. (¬3) في (أ): (تقولون)، وهي ساقطة من (ع). والمثبت من (ظ)، و"تفسير مقاتل". (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬5) "الطبرى" 18/ 99. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬7) في (ع): أم. (¬8) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 142 من رواية عطاء. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 150 ونسبه للطبراني. (¬9) في (ع): (سمعتموه).

ينبغي لنا {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}. {سُبْحَانَكَ} قال مقاتل: ألا نزّهتم الربّ عن أن يُعصَى (¬1). وقال غيره (¬2): {سُبْحَانَكَ} (¬3) -هاهنا (¬4) - معناه: التَّعجب، كقول الأعشى: سبحان من علقمة الفاخر (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. قال الطبري 18/ 99: (سبحانك) تنزيهًا لك يا رب، وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء. (¬2) ذكر الثعلبي 3/ 74 ب هذا القول مختصرًا. ولم ينسبه لأحد. وذكره البغوي 6/ 25 مقتصرًا عليه. (¬3) في (أ): سبحانه. (¬4) (هاهنا) ساقطة من (ظ). (¬5) في (ع): (الفاجر)، وهو خطأ. (¬6) هذا عجز بيت للأعشى، وصدره: أقولُ لما جاءني فخره وهو في "ديوانه" ص 143، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 36، "الكتاب" لسيبويه 1/ 135، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 220، "معاني القرآن" للزَّجَّاج 3/ 190، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 8. وهو من قصيدة قالها الأعشى يفضل فيها عامر بن الطُّفيل على علقمة بن علاثة في المفاخرة التي جرت بينهما في الجاهلية. وعلقمة المذكور في البيت هو علقمة بن علاثة صحابي، قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو شيخ فأسلم، وقد استعمله عمر بن الخطاب على حوران ومات بها. وكان حصل بين علقمة وعامر بن الطفيل في الجاهلية مفاخرة، فخرج مع عامر لبيدُ والأعشى، ومع علقمة الحطيئةُ، واحتكما إلى غير واحد، فلم يحكم بينهما، حتى احتكما إلى هرم بن قطبة الفزاري، فقضى بينهما بعد سنة، وقال: أنتما كركبتي البعير يقعان معًا، ولم يفضّل، فانصرفا على ذلك، لكن الأعشى مدح عامرًا =

17

{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: افتراء عظيم (¬1). وذكرنا معنى البهتان فيما تقدم (¬2). ثم وعظ الذين خاضوا في الإفك: 17 - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} قال ابن عباس -في رواية مِقْسَم (¬3) -: يحرم الله عليكم أن تعودوا لمثله (¬4). [ونحو هذا قال الكلبي. وقال مجاهد: ينهاهم الله أن يعودوا لمثله (¬5)] (¬6). وقال غيره: يحذركم الله (¬7). وكل هذا معاني الوعظ، فإنَّ فيه التحذير والنهي والمنع. قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني أن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة، فإن آمنتم فلا تعودوا لمثل ما قلتم (¬8). 18 - {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} قال ابن عباس: يعني التي أنزلها في ¬

_ = وفضله على علقمة بأبيات منها هذا البيت. انظر: "شرح ديوان الأعشى" لثعلب ص 165، "بلوغ الأرب" للنويري 1/ 287، "الإصابة" لابن حجر 2/ 496. (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 144 من رواية عطاء. (¬2) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]. (¬3) هو: مِقْسَم بن بجرة تقدمت ترجمته. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 371، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 24 ب من رواية ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس بلفظ: يحرّج .. (¬5) رواه سفيان في "تفسيره" ص 222، والطبراني في "الكبير" 23/ 145، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 161 وعزاه للفريابي والطبراني. (¬6) ساقط من (أ)، (ع). (¬7) لفظ الجلالة ليس في (أ). (¬8) في (ع): (لمثله ما قمتم).

19

عائشة وبراءتها (¬1). وقال الكلبي: ويبين الله لكم الآيات بالأمر والنهي (¬2). {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما في قلوبكم من الندامة فيما خضتم فيه {حَكِيمٌ} حكم في القذف ثمانين جلدة. قاله ابن عباس (¬3). وقال غيره: {عَلِيمٌ} بأمر عائشة وصفوان {حَكِيمٌ} حكم ببراءتهما (¬4) (¬5). ثم هدَّد القاذفين فقال: 19 - {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أي: تفشو (¬6). يقال: شاع الشيء شيُوعًا وشيعًا وشيعانًا وشيعوعة، إذا ظهر وتفرّق. والدم يقطر في الماء فيشيع فيه، أي: يتفرّق (¬7). قال مقاتل: يعني أن يظهر الزنا، أحبّوا ما شاع لعائشة من الثناء ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 145. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 وعزاه للطبراني. (¬2) ذكره البغوي 6/ 25 ولم ينسبه لأحد. (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 145. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 وعزاه للطبراني. (¬4) في (أ): (ببراءتها). (¬5) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 74 ب. (¬6) الثعلبي 3 ل/ 74 ب. (¬7) "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 60 - 61 (شاع) عن الليث وغيره. قال الزبيدي في "تاج العروس" 21/ 301 "شيع": شيعا بالفتح وشيوعًا بالضم. وقال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" 3/ 47 "شاع": وشيعوعة كديمومة، وشيعانًا محرّكة وانظر: "الصحاح" للجوهري 3/ 1240 (شيع)، "لسان العرب" 8/ 191 (شيع).

20

السيىءّ (¬1). قوله {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس: يريد المحصنين والمحصنات (¬2). والمعنى: يحبون أن تشيع الفاحشة فيهم بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها، ويشيعوا فيما بين الناس أنهم أتوها. وقال مقاتل: {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} في صفوان وعائشة (¬3). ويحتمل أن يكون {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي فيما بين المؤمنين بأن يذكروها في مجالسهم حتى تفشو فيما بينهم. وعلى هذا لا يكون المراد بالذين آمنوا المقذوفين والمقذوفات كما كان في القول الأول. {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} يعني الجلد {وَالْآخِرَةِ} عذاب النار. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} قال ابن عباس: يعلم شر ما دخلتم فيه وما فيه من شدة سخط الله -عز وجل- {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬4). ثم ذكر فضله ومنّته عليهم بتأخير العقوبة فقال: 20 - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لولا ما تفضل الله به عليكم ورحمكم لعاقبكم (¬5) فيما قلتم لعائشة. قاله مقاتل (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 146 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 ونسبه للطبراني. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 36 أ. (¬4) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 146 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 ونسبه للطبراني. (¬5) في (أ): (لعاقبتم)، وفي (ع): (لعافيتم). (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 36 ب.

21

{وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} يعني رؤوف بكم رحمكم فلم يعاقبكم في أمر عائشة. قال ابن عباس: يريد مسطحًا وحمنة وحسان (¬1) (¬2). 21 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال مقاتل: يعني تزيين الشيطان في قذف عائشة (¬3). {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال ابن عباس: بعصيان الله وكل ما يكره الله (¬4). وقال مقاتل (¬5)، والكلبي: بالمعاصي وما لا يعرف (¬6) في شريعة ولا في سنَّة. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} ما صلح. قاله مقاتل، وأبو زيد (¬7). والزكاة تكون (¬8) بمعنى الصلاح، ومنه رجل زكي تقي. يقال: زَكَا يَزْكُو زكاءً (¬9). ¬

_ (¬1) في (ع): (وابن حسان). وهو خطأ. (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 147. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 ونسبة للطبراني. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 36 ب. (¬4) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 148 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 ونسبه للطبراني. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 36 ب. (¬6) في (ع): وقالا ما لا يعرف. (¬7) قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 36 ب، وقول أبي زيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 320 (زكا). (¬8) (تكون) ساقطة من (أ). (¬9) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 319 (زكا) عن الليث وغيره. =

وقال ابن قتيبة: ما طهر (¬1). وأجرى بعضهم هذه الآية على العموم وقال: معناها أن الله تعالى يخبر أنَّه لولا فضله ورحمته (¬2) ما اهتدى أحد ولا صلح (¬3). والآخرون يقولون: المراد بهذا الخطاب الذين خاضوا في حديث الإفك. وهو معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال- في قوله: {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} -: ما قبل توبة أحد منكم أبدًا (¬4) (¬5). والمعنى: ما طهر (¬6) من هذا الذنب وما صلح أمره بعد الذي فعل. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} قال ابن عباس: يريد: فقد شئت أن أتوب عليكم (¬7). وقال الكلبي: يصلح من يشاء (¬8). وقال غيره (¬9): يطهر من يشاء من ¬

_ = وانظر: "لسان العرب" 14/ 358 (زكا)، "القاموس المحيط" 4/ 399. (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 302. (¬2) في (ظ)، (ع): (لولا فضل الله عليكم ورحمته). (¬3) ذكر البغوي 6/ 26 هذا القول وعزاه لبعض المفسرين. وذكره ابن الجوزي 6/ 23 بمعناه ولم ينسبه لأحد. وانظر هذا القول بمعناه عند الطبري 18/ 101. (¬4) في (ع) زيادة: (من أحد) قبل قوله (أبدا). (¬5) رواه الطبراني 23/ 148 من رواية عطاء عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 ونسبه للطبراني. (¬6) في (أ): (ما ظهر). (¬7) روى ابن أبي حاتم 7/ 26 ب، والطبراني في "الكبير" 23/ 148 هذا القول عن سعيد بن جبير. وانظر: "الدر المنثور" 6/ 154. (¬8) ذكر ابن الجوزي 6/ 24 هذا القول، ولم ينسبه لأحد. (¬9) انظر: "الطبري" 18/ 101.

22

الإثم والذنب بالرحمة والمغفرة فيوفقه للتوبة. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: {سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بما في نفوسكم من الندامة والتوبة (¬1). 22 - قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ} قال ابن عباس (¬2)، وجماعة المفسرين (¬3): ولا يحلف. ويقال للحلف: الأليَّة، والألوة، والألوة والإلوة، بسكون اللام في اللغات الثلاث (¬4). قال الشاعر (¬5): قليل الألايا حافظ ليمينه ... فإن سبقت منه الألية برَّت والفعل: آلى يؤلي (¬6) إيلاءً، وتألَّى يتألَّى (¬7) تأليَّا، وائتلى يأتلي ائتلاء (¬8). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني 13/ 123 من رواية عطاء، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 وعزاه الطبراني (¬2) رواه الطبراني 13/ 123 من رواية عطاء، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 وعزاه الطبراني وقد روى الطبري 18/ 102، وابن أبي حاتم 7/ 26 ب من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس قال: لا تقسموا. (¬3) رواه الطبراني 18/ 102 - 103 وابن أبي حاتم 7/ 26 ب، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 162 - 163. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهرى 5/ 430 (ألى)، "الصحاح" للجوهري 6/ 2271 (ألا)، "لسان العرب" لابن منظور 14/ 40 (ألا). (¬5) هو: كثير، والبيت من قصيدة يرثي بها عبد العزيز بن مروان. وهو في "ديوانه" ص 325، و"الحماسة" لابن الشجري ص 97. ومن غير نسبة في "الصحاح" 6/ 2271 (ألا)، و"لسان العرب" 14/ 40 (ألا). (¬6) في (أ): (أولى). (¬7) (يتألى) ساقط من (ع). (¬8) من قوله: (والفعل .. إلى هنا) نقلاً عن "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 430 (ألى).

وقد مرَّ عند قوله: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وهذا قول العامة (¬1). وقال أبو عبيدة: لا يأتل: هو لا يفتعل من ألوت أن أفعل كذا (¬2). وما (¬3) آلو جهدًا، أي: ما أقصرَّ (¬4). يقال: ائتلى، أي: قصرَّ. وهو مؤتل (¬5). قال امرؤ القيس: نصيح على تعذاله غير مؤتل (¬6) {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} يعني: أولو الغنى والسعة في المال وهو أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- في قول جميع المفسرين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 18/ 101 - 102، الثعلبي 3/ 75 أ. (¬2) في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 65: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) مجازه: ولا يفتعل من آليت: أقسمت، وله موضع آخر من ألوت بالواو. وفي "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 431 (ألى): وقال أبو عبيدة: (ولا يأتل أولوا الفضل) من ألوت، أي: قصرت. (¬3) في (أ): (وأمّا). (¬4) في (أ): (ما أقصروا). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 431 (ألى)، "الصحاح" 2/ 2270 (ألا). (¬6) هذا عجز بيت لامرئ القيس وهو من معلقته وصدره: ألا ربَّ خصم فيك ألوى رددته وهو في "ديوانه" ص 18. قال ابن الأنباري في "شرح المعلقات السبع" ص 73 - 74: الألوى: الشديد الخصومة .. والتعذال: العذل. وقوله: "غير مؤتل" معناه: غير تارك نصحي بجهده. يقال: من ألوت وما أليت أي: ما قصرت. اهـ. (¬7) انظر: "الطبري" 18/ 102 - 103، ابن أبي حاتم 7/ 26 ب، الثعلبي 3/ 75 أ، "الدر المنثور" 6/ 162 - 163. قال القرطبي 12/ 207 بعد أن ذكر هذا القول وصحَّحه-: غير أن الآية تتناول الأمّة إلى يوم القيامة بألَّا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلت ألَّا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.

قال مجاهد: حلف أبو بكر أن لا ينفع يتيمًا كان في حجره أشاع ذلك الحديث (¬1)، فلما نزلت هذه الآية قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ولأكونن ليتيمي خير ما كنت قطّ (¬2). وقال مقاتل بن سليمان: كان مسطح بن أثاثة -وأمه أسماء بنت جندل بن نهشل (¬3) - ابن خالة أبي بكر، وكان يتيمًا في حجره، فلما بيّن عذر عائشة وكان مسطح فيمن خاض في أمرها، حلف أبو بكر أن (¬4) لا يصله بشيء أبدًا؛ لأنه أذاع على عائشة أمر القذف، وكان مسطح من المهاجرين الأولين، فأنزل الله في أبي بكر {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): في الحديث. (¬2) رواه الطبري 18/ 103، والطبرياني في "الكبير" 23/ 149. (¬3) هكذا ذكرها بهذا الاسم مقاتل بن سليمان في "تفسيره" (ج 2 ل 36 ب). وقال آخرون: أم مسطح بنت أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، وأمَّها ريطة بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة، تزوّجها أثاثة بن عبّاد بن المطلب بن عبد مناف، فولدت له مسطحًا وهندًا، وأسلمت أم مِسْطح فحسن إسلامها. قال ابن حجر: يقال: اسمها سلمى، ويقال: ريطة. وهي مشهورة بكنيتها. انظر: "طبقات ابن سعد" 8/ 228، "صحيح البخاري" كتاب: المغازي- باب: حديث الإفك 7/ 432، "أسد الغابة" لابن الأثير 5/ 618، "الإصابة" لابن حجر 4/ 472. (¬4) في (ع): أنَّه. (¬5) "تفسير مقاتل" (ج2 ل 36 ب). ومقاتل بن سليمان لا يعتمد عليه في رواية. وقد روى البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير- تفسير سورة النور 8/ 455، ومسلم في "صحيحه" كتاب: التوبة- باب: في حديث الإفك 4/ 2136 وغيرهما =

{أَنْ يُؤْتُوا} قال الزَّجَّاج (¬1)، وابن قتيبة (¬2): أن لا يؤتوا فحذف (لا). وعلى قول أبي عبيدة (¬3) لا يحتاج إلى إضمار لا. {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني مسطحًا {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} يعني وليتركوا وليتجاوزوا عن مسطح (¬4). قال ابن عباس: يريد فقد جعلت فيك يا أبا بكر الفضل، وجعلت عندك السعة والمعرفة بالله وصلة الرحم، فتعطف على مسطح، فله قرابة، وله هجرة، وله مسكنة، ومشاهد رضيتها منه يوم بدر (¬5). {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال مقاتل بن سليمان: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أما تحب أن يغفر الله لك"؟ قال: بلى. قال: "فاعف واصفح". فقال أبو بكر: قد عفوت وصفحت لا أمنعه معروفًا بعد ¬

_ = من حديث عائشة رضي الله عنها خبر الإفك، وفيه: "فلمّا أنزل الله براءتي قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا". (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 36. (¬2) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 302. (¬3) أن معنى (يأتل): يقصر. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 102، وابن أبي حاتم 7/ 27 ب، و "تفسير مقاتل" 2/ 36 ب. (¬5) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 149 من طريق عطاء، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 وعزاه للطبراني، وتصحفت فتعطف في "الدر" إلى: فتسخط.

اليوم، قد جعلت له مثلي ما كان قبل اليوم (¬1). وقال مقاتل بن حيان: حلف أبو بكر وأناس معه من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالله الذي لا إله إلا هو لا ينفع رجلاً من الذين قالوا لعائشة ما قالوا، ولا نصلهم ولا نبرهم، وكان مسطح بينه وبين أبي بكر قرابة من قبل النساء، فأقبل مسطح إلى أبي بكر ليعتذر فقال: جعلني الله فداك، والله الذي أنزل الكتاب على محمد ما قذفتها ولا تكلمت بشيء مما قيل لها أي خال -وكان أبو بكر خاله- فقال أبو بكر: قد أعجبك الذي قيل لها! قال: قد كان (¬2) بعض ذلك، فأنزل الله في شأنه هذه الآية، وأمر أبا بكر والذين معه أن ينفقوا على مسطح، فقال أبو بكر وأصحابه: والله يا مسطح ما (¬3) نمنعك ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 36 ب. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 27 ب، والطبراني في "الكبير" 23/ 150 - 151 من طريق ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، بمثله إلى قوله: بعد اليوم. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 79: وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف. وقوله: "قد جعلت له مثلي ما كان قبل اليوم" روى الطبراني 23/ 125 - 129 نحوه من حديث ابن عمر في خبر الإفك وفيه: "فلما قال: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم) بكى أبو بكر فقال: أما إذ نزل القرآن بأمري فيك لأضاعفن لك النفقة". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 240: وفيه إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذّاب. وروى ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 6/ 163 عن الحسن: أن أبا بكر صار يضعف له بعد ذلك، بعد ما نزلت هذه الآية ضعفي ما كان يعطيه. والذي في "صحيح البخاري" وغيره من حديث عائشة: "فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه". والله أعلم. (¬2) عند ابن أبي حاتم: لعله يكون قد كان بعض ذلك. (¬3) في (ظ)، (ع): (لا).

23

سؤالًا أبدًا، ولا نلومك في الذي قلت أبدًا بعد ما أنزل الله فيك ما أنزل (¬1). وقال الكلبي: كان مسطح وأصحابه من ذوي قرابة أبي بكر، فأقبلوا إليه ليصيبوا من طعامه، ويأووا إليه كما كانوا يفعلون فيما مضى، فقال لهم أبو بكر: قوموا عني (¬2) فلست منكم ولستم مني في شيء (¬3)، ولا يدخلن علي منكم رجل أبدًا. فقال مسطح: أنشدك الله والإسلام، وأنشدك بالقرابة والرحم، وأنشدك فقرنا وجهدنا أن تحوجنا إلى أحد، فإنا -والله- من خوض القوم براء، ولقد ساءنا ما كان وما سمعنا مما قال حسّان، وما كان لأحد منا فيه ذنب، فنزلت هذه الآية (¬4). 23 - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} العفايف (¬5) {الْغَافِلَاتِ} عن الفواحش كغفلة عائشة عما قيل فيها (¬6) {الْمُؤْمِنَاتِ} المصدقات بتوحيد الله وبرسوله (¬7) (¬8). {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا} عذبوا (¬9) بالجلد ثمانين {وَالْآخِرَةِ} يعذبون ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 26 ب إلى قوله: أن ينفقوا على مسطح. ولم أجد من ذكر باقيه عن مقاتل بن حيّان. (¬2) (عنّي) ساقطة من (ظ)، (ع). (¬3) في (ظ): (فلستم منّي ولست منكم في شيء). (¬4) لم أجد من ذكر هذه الرواية عن الكلبي. (¬5) روى الطبراني 23/ 153 هذا القول عن ابن عباس، وهو قول الثعلبي 3/ 75 أ. (¬6) هذا قول الثعلبي 3/ 75 أ. وروى ابن أبي حاتم 7/ 28 أ. والطبراني 23/ 152 أوله عن سعيد بن جبير. (¬7) في (أ): (ورسوله). (¬8) روى الطبراني 23/ 153 هذا القول عن ابن عباس. (¬9) في (أ): (وعذبوا).

بالنار (¬1). {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: يريد إخراجهم من الإيمان (¬2) واختلف المفسرون في حكم هذه الآية: فقال مقاتل بن سليمان: هذه الآية خاصَّة في عبد الله بن أُبي المنافق ورميه عائشة (¬3) (¬4). وقال سعيد بن جبير: هذه الآية (¬5) خاصّة فيمن [يقذف عائشة، فمن] (¬6) قذفها كان من هذه الآية (¬7). وقال الضحاك (¬8)، والكلبي (¬9): هذه الآية في عائشة وأزواج ¬

_ (¬1) من قوله: (عذبوا .. إلى هنا). هذا قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 36 ب. ورواه ابن أبي حاتم 7/ 28 ب والطبراني 23/ 152 عن سعيد بن جبير. (¬2) رواه الطبراني 23/ 153 من رواية عطاء، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 151 وعزاه للطبراني. (¬3) في (أ): (وعائشة). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 36 ب. (¬5) في (أ)، (ظ): (هذا الحكم). (¬6) ساقط من (أ). (¬7) رواه الطبري 8/ 105، والطبراني في "الكبير" 23/ 151 - 152. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 64 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬8) روى الطبري في "تفسيره" 18/ 104، والطبراني في "المعجم الكبير" 23/ 152 عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 164 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 164 عن الضحاك قال: "نزلت هذه الآية في عائشة خاصة". وعزاه للطبراني. ولم أره فيه. (¬9) روى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 55، والطبراني في "الكبير" 23/ 153 عن الكلبي. إنَّما عني بهذه الآية أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة دون سائر المؤمنات. وروى العوَّام بن حوشب (¬1)، عن شيخ من بني كاهل، عن ابن عباس قال: هذه في شأن عائشة وأزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة (¬2)، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله -عز وجل- له توبة، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قال: فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة. قال رجلٌ في المجلس: فهممت [أن أقوم فـ] (¬3) أقبّل رأسه من حسن ما فسّر (¬4). وروي عن أبي حمزة الثمالي (¬5): أنها نزلت في مشركي مكّة، كانت ¬

_ (¬1) هو: العوَّام بن حوشب بن يزيد بن الحارث الشيباني، الرَّبعي، أبو عيسى الواسطي. كان إمامًا، محدثًا، ثقة ثبتا، صاحب سنَّة وصلاح وأمر بمعروف ونهي عن منكر. توفي سنة 148 هـ. "طبقات ابن سعد" 7/ 311، "السير" للذهبي 6/ 354، "تهذيب التهذيب" 8/ 163. (¬2) (خاصة) ساقطة من (أ). (¬3) بياض في (ظ). (¬4) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 158 أ) بنحوه، والطبري في "تفسيره" 18/ 104، والطبراني في "المعجم الكبير" 23/ 153 - 154، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 75 أ، ب كلهم من طريق العوام بن حوشب عن شيخ من بني كاهل. وعند الطبري: شيخ من بني أسد، ولا منافاة فإن كاهلًا هو ابن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر كما في "اللباب في تهذيب الأنساب" لابن الأثير 3/ 79 عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 165 وزاد نسبته لابن مردويه في "تفسيره". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 80: فيه راو لم يسمّ، وبقية رجاله ثقات. (¬5) هو: ثابت بن أبي صفيّة، أبو حمزة الثُّمالي الأزدي الكوفي، مولى المهلب. من صغار التابعين. توفي في خلافة أبي جعفر المنصور. قال الذهبي: واهٍ جدًّا. وقال ابن حجر: ضعيف رافضي. =

المرأة إذا خرجت مهاجرة قالوا: خرجت لتفجر، فنزلت الآية فيهم (¬1). وقال الزجاج: قيل إن الأصل فيه أمر عائشة -رحمها الله- ثم صار لكل من رمى المؤمنات. قال: ولم يقل -هاهنا- والمؤمنين استغناء بأنه إذا رمى المؤمنة فلابد أن يرمي معها مؤمنًا، فدل ذكر المؤمنات على المؤمنين كما قيل: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] (¬2). وعلى هذا حكم الآية فيمن قذف مؤمنة ولم (¬3) يتب فإنه يعذب في الدنيا بالجلد وفي الآخرة بالنار، فإن تاب كان ممن ذكر حكمه في قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذه الآية ذكرت بعد رمي [المحصنةِ وقد مرت] (¬4) في هذه السورة. والصحيح أن الآية خاصة في قذف عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬5) لقوله: ¬

_ = "تهذيب الكمال" للمزي 4/ 357 - 359، "المغني في الضعفاء" للذهبي 1/ 120، "تقريب التهذيب" لابن حجر 1/ 116. (¬1) رواه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 75 ب عن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا، فذكره، وهذا الخبر لا يصح؛ لأن أبا حمزة واهٍ كما تقدم، ولإرساله. (¬2) "معاني القرآن للزجاج 4/ 37. (¬3) في (ظ): (فلم). (¬4) بياض في (ظ). (¬5) اختار الطبري 18/ 105 العموم وقال: لأنَّ الله عمَّ بقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} كل محصنة غافلة مؤمنة رماها رام بالفاحشة، من غير أن يخص بذلك بعضًا دون بعض. أهـ وصحح هذا القول ابن كثير في "تفسيره" 3/ 277 وعضده بما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات " .. الحديث. وفيه: "وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". اهـ. والحديث رواه البخاري كتاب: الحدود- باب: رمي المحصنات 12/ 181 ومسلم كتاب: الإيمان- باب: بيان الكبائر 1/ 91.

24

24 - {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} يوم القيامة وهو ظرف لقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قوله {أَلْسِنَتُهُمْ} قال الكلبي: تشهد عليهم يوم القيامة ألسنتهم بما تكلّموا به من الفرية في قذف عائشة (¬1). وقيل: تشهد ألسنة بعضهم على بعض من المنافقين الذين رموا عائشة بالبهتان (¬2). وقوله {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} قال ابن عباس: إن الله تعالى ختم على الألسنة، فتكلمت الجوارح، ونطقت بما عملوا في الدنيا (¬3). وهذه الآية دليل على أن الأولى واردة في قذف أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأن شهادة الجوارح غير مذكورة في جميع القرآن إلا في صفات المشركين، فمن قذفهن من المنافقين فهو من أهل هذه الآية، وإن قذفهن غير منافق عوقب بسلب الإيمان فيصير من أهلها. 25 - قوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} قال ابن عباس (¬4)، وغيره (¬5): يريد يوم القيامة يجازيهم الله جزاءهم الحق. أي (¬6): جزاءهم الواجب. وقال مقاتل: يعني حسابهم العدل (¬7). ¬

_ (¬1) روى ابن أبي حاتم 7/ 28 ب عن سعيد بن جبير، نحوه. (¬2) قال الطبري 18/ 105: عني بذلك أنَّ ألسنة بعضهم تشهد على بعض. (¬3) رواه الطبراني 23/ 133 من رواية عطاء، عن ابن عباس إلى قوله الجوارح. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 152 وعزاه للطبراني. (¬4) رواه الطبراني 23/ 155 من طريق عطاء، عن ابن عباس بنحوه. (¬5) الطبري 18/ 106. (¬6) في (ظ): (أو). (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ.

26

{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن أبيّ يشك في الدين، وكان رئيس المنافقين، فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين] (¬1)، فينقطع (¬2) الشك عنه، ويستيقن حيث لا ينفعه (¬3). قال مقاتل: {الْحَقُّ الْمُبِينُ} العدل البيّن (¬4). 26 - قوله -عز وجل-: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} قال مجاهد (¬5)، وأكثر المفسرين (¬6): {الْخَبِيثَاتُ} من الكلام والقول {لِلْخَبِيثِينَ} من الناس، {وَالْخَبِيثُونَ} من الناس {لِلْخَبِيثَاتِ} من الكلام، {وَالطَّيِّبَاتُ} من الكلام {لِلطَّيِّبِينَ} من الناس، {وَالطَّيِّبُونَ} من الناس {لِلطَّيِّبَاتِ} من الكلام. وهذا يحتمل معنيين: ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ)، (ع): (فيقطع). (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 154 - 155 من طريق عطاء، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 152 وعزاه للطبراني. قال الطبري 18/ 106: يقول: ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذ الشك عن أهل النفاق الذين كانوا فيما يعدهم في الدنيا يمترون. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ. (¬5) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 55، والطبري 18/ 107، وابن أبي حاتم 7/ 30 أ، والطبراني في "الكبير" 23/ 157 - 158. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 167، وزاد نسبته لعبد بن حميد والفريابي، وابن المنذر. (¬6) انظر: "الطبري" 18/ 106 - 108، وابن أبي حاتم 7/ 29 ب، 30 أب، والثعلبي 3/ 75 ب، وابن كثير 3/ 276، و"الدر المنثور" 6/ 167 - 168.

أحدهما: أن معنى الآية: الخبيثات من القول إنما يليق بالخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس يليق بهم الخبيثات من القول (¬1). يعني أنّ كلّ (¬2) كلام إنما يحسن في أهله فيضاف سيء (¬3) القول إلى من يليق به ذلك، وكذلك الطيب من القول، وعائشة رضي الله عنها لا يليق بها الخبيثات من الكلام، فلا يصدق فيها؛ لأنها طيبة فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها. قال مقاتل بن سليمان: {الْخَبِيثَاتُ} يعني قذف عائشة {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال (¬4) الذين قذفوها {وَالْخَبِيثُونَ} من الرجال والنساء [{لِلْخَبِيثَاتِ} يعني السيئ (¬5) من الكلام، لأنه يليق بهم الكلام السيئ و {الطَّيِّبَاتُ} يعني الحسن من الكلام {لِلطَّيِّبِينَ} من الرجال والنساء،] (¬6) يعني: الذين ظنّوا بالمؤمنين والمؤمنات خيرا {وَالطَّيِّبُونَ} من الرجال والنساء {لِلطَّيِّبَاتِ} يعني: الحسن (¬7) من الكلام، لأنَّه يليق بهم الكلام الحسن (¬8). وعلى هذا المعنى (¬9): ذمُّ القذفة بالخبث، ومدحُ الذين برَّؤا عائشة بالطهارة. ¬

_ (¬1) في (ع): (الكلام). (¬2) (كل) ساقطة من (ظ). (¬3) في (ظ): (من). (¬4) في "تفسير مقاتل" زيادة: والنساء. (¬5) في (ع): (للشيء)، والمثبت من (أ)، و"تفسير مقاتل". (¬6) ساقطة من (ظ). (¬7) في (أ)، (ع): (للحسن)، والمثبت من (ظ)، و"تفسير مقاتل". (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ. (¬9) (المعنى) ساقطة من (ظ)، (ع).

والكاشف لهذا ما ذكره الزجاج فقال: أي لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء، قال: ويجوز أن يكون معنى هذا (¬1): الكلمات الخبيثات إنّما تلصق بالخبيثات من النساء، والرجال، فأما الطاهرات الطيبات فلا يلصق بهن السب (¬2) (¬3). وهذا هو (¬4) بيان المعنى الأول الذي ذكرنا قبل حكاية قول (¬5) مقاتل. وهذا (¬6) الذي ذكرنا قول أكثر أهل التفسير والمعاني (¬7). وقال الحكم (¬8)، وابن زيد (¬9): {الْخَبِيثَاتُ} من النساء {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال {وَالْخَبِيثُونَ} من الرجال {لِلْخَبِيثَاتِ} من النساء {وَالطَّيِّبَاتُ} من النساء {لِلطَّيِّبِينَ} من الرجال {وَالطَّيِّبُونَ} من الرجال {لِلطَّيِّبَاتِ} من النساء. وهذا معنى قول ابن عباس -في رواية عطاء- قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} يعني يريد أمثال عبد الله بن أبيّ ومن يشك في الله تعالى، ¬

_ (¬1) في (ظ)، و"معاني الزجاج": (هذه)، فتكون العبارة هذه الكلمات. (¬2) عند الزجاج: شيء. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 37. (¬4) (هو) ساقطة من (ط). (¬5) (قول) ساقطة من (أ). (¬6) في (أ)، (ع): (هذا). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 248، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 515. (¬8) هو: الحكم بن عتيبة، ولم أجد من ذكره عنه. (¬9) ذكره عند الثعلبي 7/ 75 ب بهذا اللفظ. ورواه عنه الطبري 18/ 108، وابن أبي حاتم 7/ 30 أ، 31 أ، والطبراني في "الكبير" 23/ 156 بمعناه.

{وَالطَّيِّبَاتُ} يريد عائشة طيبها الله -عز وجل- لرسول الله (¬1) -صلى الله عليه وسلم- أتاه بها جبريل في سرَقَة (¬2) من حرير، فقال هذه عائشة بنت أبي بكر زوجتك في الدنيا وزوجتك في الآخرة (¬3) عوضًا من (¬4) خديجة، فسر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرّ بها عينًا {لِلطَّيِّبِينَ} يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيّبه الله لنفسه، وجعله سيد ولد آدم {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} يريد لعائشة. انتهى كلامه (¬5). وفي هذا ذمّ للمنافقين وأزواجهم بالخبث ومدح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعائشة بالطهارة، وكأنه قيل: المنافقون والمنافقات هم الذين بالصفّة التي رَمَوا (¬6) بها عائشة وصفوان، لا عائشة والنبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} قال مقاتل: يعني الطيبات ¬

_ (¬1) في (أ)، (ع): (لرسوله). (¬2) سَرَقَة: قطعة من جيِّد الحرير، وجمعها سَرَق. وقيل هي البيضاء خاصة من الحرير. "لسان العرب" 10/ 156 - 157 (سرق). (¬3) هكذا في (أ)، والطبراني. وفي (ظ)، (ع)، "الدر المنثور": (الجنَّة). (¬4) في (أ): (عن)، والمثبت من باقي النسخ والطبراني و"الدر المنثور". (¬5) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 155 - 156 من رواية عطاء، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 152 وعزاه للطبراني. ومجيء جبريل بعائشة في سرقة من حرير رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: النكاح- باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج 9/ 180، ومسلم في "صحيحه" كتاب: فضائل الصحابة- باب: في فضل عائشة 4/ 1889 - 1890 من حديث عائشة -رضي الله عنها- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أريتك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير". ورواه ابن حبان "الإحسان" 9/ 111 من وجه آخر عن عائشة بلفظ: جاء بي جبريل - عليه السلام - إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خرقة حرير فقال: "هذه زوجتك في الدنيا والآخرة" (¬6) في (أ): (رضوا).

والطيبون مبرؤون مما يقول (¬1) القاذفون (¬2). قال الفراء: يعني عائشة وصفوان فذكر الاثنين بلفظ الجمع كقوله {فَإِن (¬3) كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] يريد (¬4): أخوين، وقوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يريد داود وسليمان (¬5). وقال الزَّجَّاج: كل من قُذف من المؤمنين والمؤمنات مبرؤن مما يقول أهل الخبث القاذفون (¬6). وهذا معنى ما ذكرنا من قول مقاتل. و {أُولَئِكَ} إشارة إلى الطيبين والطيبات. وعلى قول الفراء إشارة إلى عائشة وصفوان. وهذان هما الوجهان الصحيحان في معنى الآية. وذُكر قولان (¬7) آخران: أحدهما: رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} قال: فمن كان طيبًا فهو مبرأ من كل قول (¬8) [خبيث يقوله يغفره (¬9) الله له. ومن كان خبيثًا فهو مبرأ من كل] (¬10) قول صالح يقوله، يردّه ¬

_ (¬1) في (أ): (يقولون). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ. (¬3) في جميع النسخ: (وإن). (¬4) في (أ): (يريدون). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 249 (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 38. (¬7) في (ظ)، (ع): (قولاً). (¬8) قول: ساقط من (أ)، (ظ). (¬9) في (أ): (يغفر). (¬10) ساقط من (ظ).

الله عليه ولا يقبله (¬1) منه كلٌّ برئ مما ليس له بحقّ من الكلام (¬2). وعلى هذا الإشارة بقوله {أُولَئِكَ} تعود إلى (¬3) الخبيث والطّيب من الفريقين و {يَقُولُونَ} خبرٌ عنهم لا عن غيرهم. القول الثاني: رواه طلحة بن عمرو، عن عطاء موقوفًا عليه (¬4)، وروي مرفوعًا عنه إلى ابن عباس (¬5): {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}: ألا ترى أنّك تسمع الكلمة الخبيثة من الرجل الصالح فتقول: غفر الله لفلان ما (¬6) هذا من شيمته ولا من خلقه ولا مما يقول! {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أن يكون ذلك من أخلاقهم ومن شيمتهم (¬7)، ولكن الرجل قد يكون منه الزلل. وعلى هذا الإشارة بقوله {أُولَئِكَ} تعود إلى الطيب من الفريقين، ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (لا يقبله). (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 55، والطبري 18/ 109، وابن أبي حاتم 7/ 31 ب، والطبراني في "الكبير" 23/ 161 من طريق ابن أبي نجيح. وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 167، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد والفريابي وابن المنذر. (¬3) (إلى): ساقطة من (ظ). (¬4) رواه أبو الشيخ بن حيّان في كتاب "التوبيخ والتنبيه" باب: ما روي في قول الله -عز وجل- "الخبيثات للخبيثين" الآية ص 197 من طريق طلحة بن عمرو، عن عطاء موقوفًا عليه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 168 عن عطاء موقوفًا عليه وعزاه لعبد بن حميد. (¬5) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 159 من طريق طلحة بن عمرو، عن عطاء مرفوعًا إلى ابن عباس. وسنده ضعيف جدًا؛ لأن فيه طلحة وقد تقدم بيان حاله. (¬6) في (أ): (فما). (¬7) في "التوبيخ": شيمهم.

27

والمعنى: نفي الكلمة الخبيثة عنهم، وإنْ بدرت منهم بادرة (¬1) فهم مبرؤن منها؛ لأن الله يغفرها لهم بأنها ليست من شيمتهم ولا من أخلاقهم. قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قال ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3): رزق حسن في الجنّة. 27 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. روى عدي بن ثابت (¬4) أن امرأة [من الأنصار] (¬5) جاءت إلى رسول الله (¬6) -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحدٌ (¬7) لا والد ولا ولد، فيأت الأب فيدخل علي، ولا يزال يدخل عليّ رجل من أهل بيتي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (وإن ندرت منهم نادرة). (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" 23/ 161 من طريق عطاء عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 152 ونسبه للطبراني. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ. (¬4) هو: عَدي بن ثابت الأنصاري، الكوفي. تابعي ثقة رمي بالتشيع، توفي سنة 116 هـ. "الكاشف" للذهبي 2/ 259، "تقريب التهذيب" 2/ 16. (¬5) ساقط من (ظ). (¬6) في (ظ): (النبي). (¬7) (لا): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬8) رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 110 - 111، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 76 أ، والواحدي في "أسباب النزول" ص 269 من طريق أشعث بن سوّار، عن عدي بن ثابت. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 171 ونسبه للفريابي والطبري. وهذه الرواية فيها علتان: الأولى: في سندها أشعث بن سوّار وهو ضعيف. الثانية: الإرسال، فإن عديّ بن ثابت تابعيّ.

وقوله: {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قال ابن عباس: يعني بُيوتًا ليست لكم (¬1) {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قال: يريد: حتى تستأذنوا (¬2). وهو قول عكرمة (¬3)، ومقاتل (¬4)، وقتادة (¬5)، والسدي (¬6). قال أبو إسحاق: معنى {تَسْتَأْنِسُوا} في اللغة: تستأذنوا. وكذلك هو في التفسير. والاستئذان: الاستعلام. يقول: آذنته بكذا: أعلمته، وكذلك آنست منه كذا، أي: علمت منه. ومنه قوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 7/ 32 أعن سعيد بن جبير. (¬2) رواه الطبري 18/ 110، وابن أبي حاتم 7/ 32 أمن طرق عن ابن عباس. (¬3) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 171 عن عكرمة قال: هي في قراءة أبيّ (حتى تسلموا وتستأذنوا). وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 55، والطبري 18/ 110، وابن أبي حاتم 7/ 32 أ. (¬6) لم أجد من ذكره عنه. قال العز بن عبد السلام في كتابه "الإشارة إلى الإيجاز" ص 78: {تَسْتَأْنِسُوا} تطلبوا الأنس بكم، أي: تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية، وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي: أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذنًا من شأنه أن لا يكون معه استيحاش ربّ المنزل بالداخل .. فإنَّه إذا أذن له دلّ على أنَّه لا يكره دخوله، وإذا كره دخوله لا يأذن له، والله متولي علم ما في قلبه: فلذلك عبَّر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان. وفي ذلك من الآداب أن المرء ينبغي أن لا يكون كلًا على غيره، ولا ينبغي أن يعرّض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبعي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين، وذلك عون على توفر الأخوّة الإسلامية. اهـ.

6] أي: إن علمتم، فمعنى (حَتَّى (¬1) تَسْتَأْنِسُوا): حتى تستعلموا، أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟ (¬2). وقال ابن قتيبة: الاستئناس: أن يُعلم من في الدار يقال: استأنست فما رأيت أحدًا، أي: استعلمت (¬3) وتعرّفت (¬4) (¬5). وقال الفراء: الاستئناس في كلام العرب: النظر. يقال: اذهب فاستأنس هل ترى أحدًا؟ فيكون معناه: انظر من في الدار (¬6). وقول النابغة: بذي الجليل (¬7) على مستأنس وحد (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) (حتى): ليست في (ظ)، (ع). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 39. (¬3) في (ظ): (استعملت). (¬4) في (أ): (تعرفت) سقطت الواو. (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 303. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 249. (¬7) في (ع): (الخليل)، وفي (ظ): (الخيل). (¬8) في (ع): (وحدي). (¬9) هذا عجز بيت للنابغة الذبياني، وهو من معلقته، وصدره: كأنَّ رحلي، وقد زال النهار بنا وهو في "ديوانه" ص 17، "غريب القرآن" (1) لابن قتيبة ص 303، "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 87 (أنِسَ)، "لسان العرب" 6/ 15 (أنس). قال الخطيب التبريزي في "شرح المعلقات العشر" ص 517: "زال النهار بنا" معناه: انتصف، و"بنا" بمعنى علينا، والجليل: الثُّمام، أي بموضع فيه ثمام، والمستأنس: الناظر بعينه، ومنه "إني آنست نارًا" أي أبصرت. اهـ. و (وَحَد): بفتح الواو والحاء: الرجل المنفرد. "القاموس المحيط" 1/ 343.

أراد على ثرر وحشي أحسّ بما (¬1) رابه فهو يستأنس، أي: يتبصرَّ ويتلفَّت هل يرى أحدًا (¬2). وعلى هذا معنى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} حتى تنظروا وتتعرفوا هل في البيت أحد. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قال: إنّما هو (حتى تستأذنوا) ولكنّه وَهَم من الكاتب (¬3). ¬

_ (¬1) في (ع): (أحسن ما). (¬2) من قوله: (وقول النابغة إلى هنا) نقلاً عن "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 87 (أنس). (¬3) رواه سعيد بن منصور 158 ب، والطبري 18/ 109 - 110، وابن أبي حاتم 7/ 32 أمن طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذكره ابن حجر في "الفتح" 11/ 8 وعزاه لسعيد والطبري والبيهقي، وقال: بسند صحيح عن ابن عباس. اهـ. ورواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 224، والحاكم في "مستدركه" 2/ 396 من طريق مجاهد، عن ابن عباس. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وهذا الأثر استشكله طائفة من العلماء منهم إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه "أحكام القرآن"، ذكر ذلك عنه ابن حجر في "الفتح" 8/ 9. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 280 بعد إيراده له: وهذا غريب جدًّا عن ابن عباس. وطعن في صحة هذا الأثر جماعة من العلماء منهم ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1359، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 10/ 479، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 12/ 214، وغيرهم، وبالغ أبو حيان فقال في "البحر" 6/ 445 - 446: ومن روى عن ابن عباس أن قوله "تستأنسوا" خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ "حتى تستأذنوا" فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول. اهـ. وقد بيَّن ابن حجر رحمه الله وجه هذا الأثر الذي صحّحه فقال في "الفتح" 11/ 9: وأجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقَّاها عن أبيّ بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم =

وفسر مجاهد (¬1) والكلبي الاستئناس هنا بالتنحنح والتنخّم وهو نوع من الاستعلام. وقوله {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [قال ابن عباس وجميع المفسرين. هذا على التقديم والتأخير، حتى تسلّموا على أهلها] (¬2) وتستأذنوا (¬3). وكذا هو في مصحف عبد الله مستقيم كقوله {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] وقد مرّ، وقوله {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. والاستئذان شرع (¬4) مشروع، فلا يجوز لأحد الدُّمور (¬5) في بيت غيره (¬6) لأمر الله تعالى ¬

_ = الخروج عما يوافقه، وكانت قراءة أبيّ من الأحرف التي تركت القراءة بها .. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته، يعني: ولم يطلع ابن عباس على ذلك. (¬1) رواه عن مجاهد: الطبري في "تفسيره" 18/ 111، وابن أبي حاتم 7/ 32 أ، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 172 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان". (¬2) ساقط من (ظ)، (ع). (¬3) قال الفراء في "معاني القرآن" 2/ 249: حدثني حبّان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس (حتى تستأنسوا) تستأذنوا، قال: هذا مقدّم ومؤخر، إنّما هو حتى تسلموا وتستأذنوا. وروى سعيد بن منصور في "تفسيره" 158 ب، والطبري في "تفسيره" 18/ 171 عن إبراهيم قال: في مصحف عبد الله (حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 171 وزاد نسبته لعبد بن حميد والبيهقي في "شعب الإيمان". (¬4) في (ع): (نوع). (¬5) في (ظ)، (ع): (الدخول). والدُّمور: الدخول بغير إذن. "لسان العرب" 4/ 291 (دمر). (¬6) في (ظ): (بيت أحد غيره).

بالاستئذان في هذه الآية. والسنة فيه أن يقول: السلام عليكم أأدخل (¬1) (¬2). قال قتادة -في هذه الآية- كان يقال: الاستئذان ثلاث مرات، من لم يؤذن له فيهن فليرجع. أما الأولى فيسمع الحي، وأما الثانية فيأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردّوا، ولا تقعدن (¬3) على باب قوم ردّوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات، والله أعلم (¬4) بالعذر (¬5). وقد روى أبو موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الاستئذان ثلاثة، فإن أذنوا وإلَّا فارجع" (¬6). قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} قال ابن عباس: أزكى لكم وأعظم لأجوركم. ¬

_ (¬1) في (أ): (أدخل). (¬2) روى أبو داود في "سننه" كتاب: الأدب- باب: كيف الاستئذان 14/ 81، والترمذي في "جامعه" باب: التسليم قبل الاستئذان 7/ 4901 - 491 من حديث كَلَدة بن حنبل -رضي الله عنه- أن صفوان بن أميه بعثه بلبن ولبأ وضغابيس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه ولم استأذن ولم أسلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل". قال الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 2/ 481: وإسناده صحيح. (¬3) في (أ): (ولا يفعلن)، وفي (ع): (ولا تقعد)، والمثبت من (ظ)، وابن أبي حاتم. (¬4) عند ابن أبي حاتم: أولى. (¬5) رواه ابن أبي حاتم 7/ 32 أ، ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 174 وزاد نسبته لعبد بن حميد والبيهقي في "شعب الإيمان". (¬6) ذكره بهذا اللفظ الثعلبي في "تفسيره" 3/ 76 ب. وقد رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الاستئذان- باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا 11/ 27 ومسلم في "صحيح" كتاب: الآداب- باب: الاستئذان 3/ 1694 بلفظ "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع".

28

وقال مقاتل: أفضل لكم من أن تدخلوا بغير إذن (¬1). {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أن السلام والاستئذان خيرٌ فتأخذون به. وقال ابن عباس: يريد كي تتعظوا. 28 - قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} ظاهر التفسير إلى قوله: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}. قال مقاتل: يقول (¬2): الرجوع خيرٌ لكم من القيام والقعود على أبوابهم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} إن دخلتم بإذن أو بغير إذن، فمن دخل بيتًا بغير إذن أهله قال له ملكاه (¬3) اللذان يكتبان عليه: أفّ لك عَصَيت (¬4) وآذيت. يعني: عصيت الله وآذيت أهل البيت. فلما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله: 29 - {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} (¬5). قال ابن عباس (¬6)، ومقاتل (¬7): ليس فيها ساكن بغير إذن ولا تسليم، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ. (¬2) يقول: ساقطة من (ظ). (¬3) في (ظ): الملكان. (¬4) في (أ): (عصوت). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 37 أ، ب. وقد ذكره الثعلبي 3/ 76 ب من قوله: فلما نزلت .. ولم ينسبه لأحد. وكذلك الواحدي في "أسباب النزول" ص 269 وصدّره بقوله: قال المفسرون. وهذا القول غير معتمد في سبب نزول هذه الآية: لأنّه من رواية مقاتل. وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 33 ب، 34 أعن مقاتل بن حيان نحو هذا السبب. (¬6) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 33 ب عن سعيد بن جبير، مثله. (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 37 ب.

يعني الخَانَات والفنادق (¬1). وقال مجاهد: هي البيوت التي ينزلها السَّفر (¬2) لا يسكنها أحد (¬3). قوله {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} منافع (¬4) لعلكم تتقون بها البرد والحر. قاله ابن عباس (¬5)، ومقاتل (¬6). وقال السدي: بلاغٌ لكم إلى حاجتكم (¬7). وقال أبو بكر الهذلي (¬8): يستمتع بالمنزل ثم يرتحل منه (¬9). قال أبو إسحاق: وقيل إنّه يعني الخرابات التي يدخلها الرجل لبول أو غائط، ويكون (¬10) {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} بمعنى (¬11): إمتاع، أي: تتفرّجون بها ¬

_ (¬1) الخانات: جمع خان، وهو الحانوت وهو فارسي معرب، وقيل: الخان الذي للتجار. "لسان العرب" 13/ 146. والفنادق: جمع فُندق، وهو المكان الذي ينزله الناس مما يكون في الطرق والمدائن. انظر: "لسان العرب" 10/ 313 "فندق"، "القاموس المحيط" 3/ 277. (¬2) السَّفر كالصَّحب: هم المسافرون. "لسان العرب" لابن منظور 4/ 368 (سفر). (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 55، والطبري في "تفسيره" 18/ 114. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 175 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) منافع: ساقطة من (ظ). (¬5) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 34 أعن سعيد بن جبير مثله. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 37 ب. (¬7) رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 34 أمن طريق أسباط. (¬8) هو: سُلمى -وقيل: رَوْح- بن عبد الله بن سلمى. أبو بكر الهذلي. بصري، روى عن الحسن البصري وابن سيرين وغيرهما. كان من علماء الناس بأيامهم، وهو متروك الحديث توفي سنة 167 هـ. "الاستغناء" لابن عبد البر 1/ 442، "الكاشف" 3/ 318، "تهذيب التهذيب" 12/ 45. (¬9) لم أجد من ذكره عنه. (¬10) في (أ): زيادة معنى بعد قوله (ويكون). (¬11) في (ظ): (معنى).

30

ممّا بكم (¬1). وهذا الذي ذكره هو قول عطاء، قال: هي البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الخلال والبول (¬2). 30 - {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} يقال: غضّ بصره يغضُّه غضّا، ومثله أغضى (¬3). قال جرير: فغضّ الطَّرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا (¬4) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 39. وفيه: متفرّجون فيها. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 77 أبهذا اللفظ. ورواه الطبري 18/ 114، وابن أبي حاتم 7/ 34 أعنه مختصرًا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 175 مختصرًا، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. قال الطبري 18/ 115 - بعد ذكره للخلاف في معنى البيوت غير المسكونة-: وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب أن يقال: إن الله عمَّ بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} كلَّ بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن؛ لأن الإذن إنّما يكون ليؤنس المأذون عليه قبل الدخول، أو ليأذن للداخل إن كان مالكًا، أو كان فيه ساكنًا. فأما إن كان لا مالك له. فيحتاج إلى إذنه لدخوله. ولا ساكن فيه. فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه؛ لئلا يهجم على ما لا يحب رؤيته منه. فلا معنى للاستئذان فيه. فإذا كان كذلك فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض. فكل بيت لا مالك له ولا ساكن من بيت مبني ببعض الطرق للمارّة والسابلة ليأووا إليه، أو بيت خراب قد باد أهله ولا ساكن فيه، حيث كان ذلك فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان لمتاع له يؤوبه إليه، أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك. وانظر أيضًا "أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 1364. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" "المستدرك" ص 36، "لسان العرب" 7/ 197 (غضض). (¬4) البيت في "ديوانه" 3/ 821 و"تهذيب اللغة" للأزهري "المستدرك" ص 36 =

قال ابن عباس: يريد: لا ينظروا إلى ما لا يحل لهم (¬1). وهذا قول المفسرين (¬2). وقالوا: إنّ (من) هاهنا صلة. وهو قول مقاتل، وسفيان (¬3). وقيل (¬4): إنّ (من) هاهنا لتبعيض (¬5) الغض، وهو الغض عمّ لا يحل ¬

_ = (غض)، "لسان العرب" 7/ 197 "غضض"، "خزانة الأدب" 1/ 72. وهو من قصيدة يهجو بها الراعي النُّميري. (¬1) روى الطبري 18/ 117 وابن أبي حاتم 7/ 34 أعن ابن عباس قال: يغضوا أبصارهم عما يكره الله. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 34 ب عن قتادة نحو هذا القول الذي ذكره الواحدي عن ابن عباس. (¬2) انظر: "الطبري" 18/ 116 - 117، "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 34 أ، ب، الثعلبي 3/ 77 ب، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 176 - 177. (¬3) قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 37 ب، وتتمّة كلامه: يعني: يحفظوا أبصارهم كلها عمّا لا يحل لهم النظر إليه. اهـ وقد حكى الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 89 هذا القول عن قتادة. وأما قول سفيان فلم أجده. وقد روى ابن أبي حاتم 7/ 34 أمثل هذا القول عن سعيد بن جبير. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 177 عن سعيد، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) حكى الرازي 23/ 202 هذا القول عن أكثر المفسرين. قال الثعلبي 3/ 77 أ: لأن المؤمنين غير مأمورين بغض البصر أصلاً، وإنما أمروا بالغض عمّا لا يجوز. واستظهر ابن عطية 10/ 485 هذا القول. وقوَّى القرطبي 12/ 223 هذا القول بما في "صحيح مسلم" كتاب: الآداب- باب: نظر الفجأة 3/ 99 عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفُجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. وانظر: "المحرر" لابن عطية 10/ 486، القرطبي 12/ 222، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 397. (¬5) (لتبعيض): موضعها بياض في (ظ).

النظر إليه، فأمّا (¬1) ما يحل فلا يجب الغض عنه. وقوله {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي عن الفواحش وعمَّن لا يحل. وهذا قول عامة (¬2) المفسرين (¬3). وروى الربيع (¬4)، عن أبي العالية قال: كل آية في القرآن يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلاَّ هذه الآية. قال: يحفظوا فروجهم ألاّ يراها أحد (¬5). ونحو هذا قال ابن زيد (¬6). ويدل على صحّة هذا التأويل إسقاط (من) هاهنا على قول من يجعله للتبعيض (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (وأما). (¬2) عامة: ساقطة من (ظ). (¬3) حكاه الثعلبي 3/ 77 أ، عن أكثر المفسرين. وانظر: "الطبري" 18/ 116، وابن أبي حاتم 7/ 34 ب، "الدر المنثور" 6/ 176 - 177. (¬4) هو: الربيع بن أنس. (¬5) رواه الطبري 18/ 116، وابن أبي حاتم 7/ 34 ب عن الربيع، عن أبي العالية. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 177 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. قال الجصَّاص في "أحكام القرآن" 3/ 315 - بعد ذكره لهذا القول عن أبي العالية: هذا تخصيص بلا دلالة، والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر، وكذلك سائر الآي المذكورة في غير هذا الموضع في حفظ الفروج، هي على جميع ذلك ما لم يقم الدلالة على أنَّ المراد بعض ذلك دون بعض. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 3/ 77 أ، والزمخشري 3/ 60. (¬7) قال الزمخشري 3/ 60: فإن قلت كيف دخلت -يعني "من"- في غض البصر دون حفظ الفروج؟ قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع؛ ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن .. وأما الفرج فمضيّق، وكفاك فرقًا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه.

31

وقوله (ذَلِكَ) قال مقاتل: ذلك الغض من البصر والحفظ للفرج (¬1). {أَزْكَى لَهُمْ} خيرٌ لهم عند الله وأعظم لأجورهم. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} في الفروج والأبصار (¬2). وقال ابن عباس: خبير بأعمالهم. 31 - قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} مفسّر في الآية التي قبلها إلى قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال المقاتلان (¬3): حدّث جابر بن عبد الله: أن أسماء بنت مرشدة (¬4) كانت في نخل (¬5) لها في بني حارثة، فجعلت النساء يدخلن عليها غير متأزِّرات (¬6)، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل (¬7)، وتبدو صدورهن وذَوَائِبهُن (¬8) فقالت أسماء: ما أقبح هذا. فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 37 ب. (¬2) هذا قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 37 ب. (¬3) يعني مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان. (¬4) في (ظ): (مرشد)، وهي: أسماء بنت مرشدة بن جبر بن مالك بن حويرثه بن حارثة. أسلمت أسماء وبايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. "طبقات ابن سعد" 8/ 335. (¬5) في (أ): (شغل). (¬6) غير متأزِّرات: أي غير سابغات الأزُر، والإزار كل ما واراك وسترك، وقيل هو ما يستر أسفل البدن. انظر: "لسان العرب" 4/ 16 (أزر)، "تاج العروس" للزبيدي 10/ 43 - 44 (أزر). (¬7) في (ع): (الخلاخيل)، والخلاخل: جمع خَلْخَال، وهو الحلي الذي تلبسه المرأة في ساقها. "لسان العرب" 11/ 221 (خلل). (¬8) ذوائبهن: جمع ذُؤَابة، وهي الشعر المضفور من شعر الرأس، أو الناصية أو منبتها من الرأس. "لسان العرب" 1/ 379 (ذأب)، "القاموس المحيط" 1/ 67. (¬9) قول مقاتل بن حيان رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 35 أ، وذكره عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 179 وعزاه لابن أبي حاتم. وأَمَّا قول مقاتل بن سليمان =

واختلفوا في الزينة الظاهرة التي استثنى الله بقوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: فروي عن ابن مسعود بطرق مختلفة أنَّه قال: هو الثياب: الجلباب والرداء لا يبدين قُرطًا ولا سوارًا ولا خلخالًا ولا قلادة (¬1). ¬

_ = فهو في "تفسيره" 2/ 37 ب. وهذه الرواية غير معتمدة في سبب نزول هذه الآية، لأن مقاتل بن حيَّان لم يلق جابر بن عبد الله، فروايته منقطعة، ومقاتل بن سليمان متهم بالكذب. (¬1) من هذه الطرق: أولاً: طريق أبي الأحوص -عوف بن مالك بن نضلة الجشمي- عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. وقد رواه عن أبي الأحوص أبو إسحاق السبيعي، وله عن أبي إسحاق طرق: 1 - طريق معمر بن راشد. رواه من هذا الطريق عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 56، والطبري 18/ 117 عن أبي إسحاق، به، بلفظ: "إلا ما ظهر منها": الثياب. 2 - طريق سفيان الثوري. وقد رواه عن سفيان جماعة منهم: - وكيع بن الجراح، رواه عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 283، عن سفيان، عن أبي إسحاق، بمثل لفظ معمر. - عبد الرحمن بن مهدي، رواه الطبري 18/ 117 قال: حدثنا ابن بشَّار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق. به بمثل لفظ وكيع وإسناده صحيح. - عبد الله بن وهب. رواه الطبري 18/ 117 قال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الثَّوري، عن أبي إسحاق، فذكره بمثل رواية ابن مهدي. - أبو نعيم: رواه من طريقه ابن أبي حاتم 7/ 36 أ، والطبراني 9/ 260 عن سفيان، عن أبي إسحاق به، بمثل اللفظ المتقدّم. 3 - طريق شعبة بن الحجاج. وقد رواه من طريقه الطبري 18/ 117 بمثل اللفظ المتقدم. 4 - طريق إسرائيل: وقد رواه من طريقه ابن أبي حاتم 7/ 35 ب، والطبراني في "الكبير" 9/ 260 عن أبي إسحاق، به، بلفظ: (ولا يبدين زينتهن) قال: الزينة: القرط، والدملج -وعند الطبراني: الدملوج-، والخلخال والقلادة. 5 - طريق شريك: رواه من طريقه الحاكم في "مستدركه" 2/ 397 عن أبي إسحاق، به، بلفظ: "ولا يبدين زينتهن" قال: لا خلخال ولا شنف،- ولا قرط =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ولا قلادة، "إلا ما ظهر منها" الثياب. 6 - طريق خدُيج بن معاوية: رواه من طريقه سعيد بن منصور في "تفسيره" 159 أ، والطبراني في "الكبير" 9/ 260 عن أبي إسحاق، به بلفظ: "ولا يبدين زينتهن" قال: الزينة: السوار والدملج والخلخال ولا أدب والقرط والقلادة، وما ظهر منها: الثياب والجلباب. 7 - طريق حجاج: رواه من طريقه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 4/ 284، والطبري 18/ 117، وابن أبي حاتم 7/ 35 ب عن أبي إسحاق، به، بلفظ: الزينة زينتان، زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج -وقوله: لا يراها إلى الزوج ليست عند الطبري- فأما الزينة الظاهرة فالثياب" وأما الزينة الباطنة - وعند الطبري: وما خفي- فالكحل والسَّوار والخاتم، وعند الطبري: الخلخالان والقرطان والسواران، وعند ابن أبي حاتم: الخاتم والسوار. وهذه الطرق المروية عن أبي إسحاق. ثانيًا: طريق عبد الرحمن بن يزيد -وتصحَّف في المطبوع من الطبري إلى زيد- بن قيس النَّخعي -تابعي ثقة سمع ابن مسعود- عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. رواه عن عبد الرحمن بن يزيد مالكُ بن الحارث، ورواه عن مالك بن الحارث الأعمش، وله عن الأعمش طريقان: 1 - طريق سفيان الثوري. رواه الطبري 18/ 117 من طريقه، عن الأعمش، به بلفظ: الثياب. 2 - طريق محمد بن فضيل -وتصحَّف في المطبوع من الطبري إلى الفضل. رواه من طريقه الطبري 18/ 118، وابن أبي حاتم 7/ 36 أ، عن الأعمش، به بلفظ: الرّداء. والقُرْط -بضم القاف-: نوع من الحلي يعلق في شحمة الأذن. انظر: "لسان العرب" 7/ 374 "قرط". وهذا القول هو الحق الذي يعضده الكتاب والسنة الصحيحة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}. روى البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير، سورة النور باب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 8/ 489 عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها". قال ابن حجر في "الفتح" 8/ 490 في شرح هذا الحديث: قوله: "فاختمرن، أي: غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقّنع.

وهو قول الحسن (¬1)، وماهان الحنفي (¬2)، ورواية الحكم (¬3) عن أبي ¬

_ وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" 6/ 594 في حديث عائشة هذا: وهذا الحديث الصحيح صريح في أنَّ النساء الصحابيات المذكورات فيه فَهمن أن معنى قوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يقتضي ستر وجوههن، وأنَّهن شققن أزرهن فاختمرن، أي سترن وجوههن بها امتثالًا لأمر الله في قوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} المقتضي ستر وجوههن، وبهذا يتحقق المنصف: أنَّ احتجاب المرأة عن الرجال وستر وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسِّرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} إلا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله جل وعلا يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن. اهـ. وكذلك آية الحجاب وهي قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. وانظر تفصيل ذلك في: "أضواء البيان" للشنقيطي 6/ 199 - 200، 584 - 602، "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" للشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي، "عودة الحجاب" لمحمد بن أحمد المقدم ق 3/ 181 - 329. (¬1) رواه الطبري 18/ 118 عن الحسن. وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 36 أبعد ذكره للأثر المتقدم عن ابن مسعود-: وروي عن الحسن، .. ، وأبي صالح ماهان في إحدى الروايات .. نحو ذلك. وروى سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 159 أ)، وابن أبي شيبة في "مصنّفه" 4/ 284 عنه قال: الوجه والثياب. (¬2) هو: ماهان الحنفي، أبو صالح -ويقال: أبو سالم- الكوفي. روى عن ابن عباس وأم سلمة وعدة. وكان ثقة، عابدًا. قتله الحجَّاج سنة 83 هـ "الكاشف" للذهبي 3/ 117، "تهذيب التهذيب" 10/ 25، "تقريب التهذيب" 2/ 227. وقوله رواه عنه ابن أبي شيبة 4/ 284. وتقدَّم في الهامش السابق أن ابن أبي حاتم ذكره عنه. (¬3) الحكم هو: ابن عتيبة. تقدمت ترجمته.

وائل عن ابن عباس (¬1). وقال (¬2) في رواية سعيد بن جبير: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كفّها ووجهها (¬3). وهو قول ابن مسعود في رواية سعيد بن جبير. ¬

_ (¬1) لم أجد هذه الرواية عن ابن عباس. (¬2) يعني: ابن عباس. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 284، وابن المنذر في "الأوسط" 5/ 70، والبيهقي في "السنن الكبرى" 2/ 225 من طريق حفص بن غياث، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. قال الذهبي في "المهذب في اختصار السنن الكبير" للبيهقي 2/ 180، قلت: عبد الله ضعيف. أهـ يعني ابن مسلم بن هرمز. لكن الطبري رواه 18/ 118 من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكفّ، والخاتم. فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها. وقد ذكر العلماء أجوبة عن قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية، نقتصر منها على أجودها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين: فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم. وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم". ثم ذكر أنه قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن يرى الرجالُ وجوههن وأيديهن، وكان إذْ ذاك يجوز لهن أن يظهرن الوجه والكفين، ثم لما أنزل الله -عز وجل- آية الحجاب حجب النساء عن الرجال، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت النساء ألا يظهرنها للأجانب. قال رحمه الله: "فما بقي يحل للأجانب النَّظر إلا إلى الثياب =

وقول الضحاك في رواية جويبر (¬1). وبه قال مقاتل بن سليمان (¬2)، وإبراهيم (¬3)، ومكحول، والأوزاعي. ¬

_ = الظاهرة. فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين"، "مجموع الفتاوى" 22/ 110. وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى: وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه فسَّر {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين، فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع، كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها، ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عنه أنه قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة". وقد نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه، ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ولم يستثن شيئًا وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها، والحكم ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهن من نساء المؤمنين، وقد تقدم من سورة النساء ما يرشد إلى ذلك. اهـ من كتابه "رسالة في الحجاب والسفور" ص 19. وانظر للتوسع والزيادة: "أَضواء البيان" للشنقيطي 6/ 192 - 200، "رسالة الحجاب" للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 6 - 9، "الحجاب في الكتاب والسنة" للسندي ص 21 - 26، "عودة الحجاب" لمحمد بن إسماعيل المقدم 3/ 262 - 284. (¬1) في جميع النسخ: (جبير)، وهو خطأ. والمثبت هو الصواب. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 37 ب. (¬3) روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 283 عن إبراهيم خلاف هذا القول، وهو قوله في تفسير الزينة الظاهرة بأنَّها الثياب.

ونحو هذا روى جابر [بن زيد] (¬1) عن ابن عباس قال: هو رقعة الوجه وباطن الكفّ (¬2). وقال في رواية عطاء: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يريد الكحل لأنه لا تقدر أن تغطي عينها. وزاد سعيد بن جبير عنه في رواية مسلم الملائي (¬3) عن سعيد: الخاتم (¬4). ونحو هذا روى مجاهد عن ابن عباس: أنه الكحل والخاتم (¬5). وهو قول أنس بن مالك (¬6)، وأبي صالح، وعكرمة (¬7)؛ وزاد مجاهد: ¬

_ (¬1) ساقط من (ظ). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 283، وابن أبي حاتم 7/ 35 ب من رواية جابر بن زيد، عن ابن عباس. (¬3) هو: مسلم بن كيسان الضبي، الملائي البرَّاد الأعور، أبو عبد الله الكوفي. روى عن أنس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما. قال الذهبي: واهٍ. وقال ابن حجر: ضعيف. "الكاشف" 3/ 142، "تهذيب التهذيب" 10/ 135، "تقريب التهذيب" 2/ 246. (¬4) روى سعيد بن منصور في "تفسيره" 158 ب، والطبري 18/ 118، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 85 من طريق مسلم الملائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكحل والخاتم. (¬5) روى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 56 من طريق مجاهد، عن ابن عباس في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} قال: هو الكف والخضاب والخاتم. (¬6) روى ابن المنذر في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 179. وقال البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 86 بعد ذكره لقول ابن عباس أنه الكحل والخاتم: وروى ذلك أيضًا عن أنس ابن مالك. (¬7) روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 83 عن عكرمة وأبي صالح {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} قالا: ما فوق الدرع إلا ما ظهر منها. وأخرج 4/ 285 عن عكرمة قال: (ما ظهر منها): الوجه وثغرة النحر.

الخضاب (¬1). وروي عن عائشة أنها قالت وسئلت عن الزينة الظاهرة؟: هي القُلب والفتخة (¬2) ووضعت كفها على كوعها (¬3). وهو قول السدي: الخاتم والقُلب (¬4). وقول قتادة: المسكتَان (¬5) والخاتم والكحل (¬6). وقوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الخُمُر: جمع الخِمَار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، وقد تخمَّرت المرأة واختمرت، وهي حسنةُ الخِمْرَة والخُمْرة (¬7). والجيوب: جمع الجَيْب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص (¬8)، ¬

_ (¬1) روى ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 284 عن مجاهد، قال: الخضاب والكحل. (¬2) القُلْب: -بالضم-: سوار المرأة. "القاموس المحيط" 1/ 119. والفَتْخة: بفتح وسكون ويحرّك:- خاتم كبير يكون في اليد والرجل، وقيل: حلقة من فضة تلبس في الإصبع كالخاتم. "تاج العروس" للزبيدي 7/ 307 (فتخ). (¬3) رواه البيهقي في "الكبرى" 7/ 89 بلفظ "القُلْب والفتخة، وضَمّت طرف كُمّها". وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 180 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 283 مختصرًا. (¬4) لم أجده. (¬5) في (أ): (المسكفان)، والمسكتان: واحدهما مسكة، وهي سوار من عاج أو نحوه. انظر: "لسان العرب" 10/ 486 - 487 (مسك). (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 56، والطبري في "تفسيره" 18/ 118. (¬7) من قوله: (وهي ما تغطي .. إلى هنا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 7/ 379 (خمر) منسوبًا إلى الليث، دون قوله: واختمرت، والخمرة. وهو بأخصر منه في "العين" 4/ 263 خمر). وانظر: "الصحاح" للجوهري 2/ 469 "خمر"، "لسان العرب" 4/ 227 (خمر). (¬8) انظر: "لسان العرب" 1/ 288 (جيب)، "تاج العروس" للزبيدي 2/ 201 (جيب).

والجَوْب: القطع كما يجاب الجيب (¬1)، ومنه قول طَرَفَة: رَحِيب (¬2) قِطَابُ (¬3) الجيب (¬4) منها رفيقة (¬5) ... بجس (¬6) النَّدامى بضَّة (¬7) المتجرَّد (¬8) (¬9) وقال: أجببت القميص إذا أخرجت رأسك من جيبه هذا هو الأصل، ثم صار الاجتباب اسمًا للبس، يقال: اجتاب الشيء، إذا لبسه وإن اشتمل به (¬10). قال المقاتلان في تفسير (جُيُوبِهِنَّ): صدورهن (¬11). ¬

_ (¬1) من قوله: (والجو .. إلى هنا)، هذا كلام الليث كما في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 218 "جاب". وهو في "العين" 6/ 192 (جوب). (¬2) في (أ): (رحيب)، ومثلها في (ع) مهملة. وفي (ظ): (وحبت). (¬3) في (ع): (فطاب). (¬4) في (أ): الجيب، وفي (ع) مهملة. وفي (ظ): (الحب). (¬5) في (أ)، (ع): (رقيقة)، وفي (ظ): (رميقه). (¬6) في (أ): (بحسن)، وفي (ع): (بحسن)، ومثلها في (ظ) مهملة. (¬7) في (ع): (بضة)، وفي (ظ) مهملة. (¬8) في (أ): (المنجرد). (¬9) البيت من معلقته، وهو في "ديوانه" ص 30، و"المعاني الكبير" لابن قتيبة 470، "المحتسب" لابن جني 1/ 183، "أساس البلاغة" للزمخشري 2/ 261، "خزانة الأدب" 2/ 203. قال الشنتمري "شرح ديوان طرفة" ص 30: قطَابُ الجيب: مجتمعه حيث قُطب، أي: جمع. الرحيب: الواسع. (¬10) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 218، 20 (جاب)، "الصحاح" للجوهري 1/ 104 (جوب)، "لسان العرب" 1/ 286 (جوب)، "تاج العروس" للزبيدي 2/ 208 (جوب). (¬11) قول مقاتل بن حيّان ذكره عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 36 ب. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 37 ب.

وعلى هذا المعنى: على مواضع جيوبهن؛ لأنَّ مواضع الجيوب الصدور. والمعنى: وليُلقين (¬1) مقانعهن (¬2) على جيوبهن؛ ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن (¬3) وأعناقهن، كما قال ابن عباس: تُغطي شعرها وصدرها وترائبها (¬4) وسوالفها (¬5) وكل ما زيّن وجهها مما لا يصلح أن يراه إلا زوجها وكل ذي محرم منها (¬6). وقال الكلبي: يقول: ليُرخين خمرهن (¬7) على الصدر (¬8) والنحر، وكنّ النساء قبل هذه الآية إنَّما يسدلن (¬9) خمرهن (¬10) سدلا من ورائهن كما يصنع (¬11) القبط (¬12) فلما نزلت هذه الآية شددن الخمر على النَّحر ¬

_ (¬1) في (أ): (وليعلبن)، وفي (ع): (وليقلبن)، والمثبت من (ظ) و"الوسيط" للواحدي. (¬2) مقانعهن: جمع مقْنع ومقنعة -بكسر الميم-: وهو ما تتقنع به المرأة من ثوب تغطي رأسها ومحاسنها. "الصحاح" للجوهري 3/ 1273 (قنع)، "لسان العرب" 8/ 300 (قنع). (¬3) كقردة. انظر: "القاموس المحيط" 2/ 378. (¬4) في (أ): (وترابيها). والترائب: موضع القلادة من الصدر. "لسان العرب" 1/ 230 (ترب). (¬5) سَوالفها: جمع سالفة، وهي أعلى العنق، أو ناحية مقدّم العنق من لدن مُعلَّق القُرط إلى نقرة الترقوة. "لسان العرب" 9/ 159 "سلف". (¬6) لم أجده. (¬7) في (ظ)، (ع): (خمورهن، الصدور). (¬8) في (ظ)، (ع): (خمورهن، الصدور). (¬9) يسدلن: يعني يرخين وُيرسلن. انظر: "لسان العرب" 11/ 333 (سدل). (¬10) في (أ): (خمرها). (¬11) في (ظ): (تصنع). (¬12) هكذا في جميع النسخ، وعند القرطبي 12/ 230 نقلاً عن النقّاش: النَّبط. والقِبط -بالكسر-: قوم من النصارد بمصر. وأمَّا النَّبط فهم الذين يسكنون =

والصدر (¬1). وقوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الزينة الباطنة وهي التي سوى ما ظهر منها. قال ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3): يعني ولا يضعن الجلباب وهو القناع فوق الخمار إلا لأزواجهن أو من ذكر بعدهم. قال عكرمة: في هذه الآية (¬4) لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما، قال: ولا تضع خمارها عند العم والخال (¬5). قال المفسرون (¬6) في الزينة الثانية: إنَّها الخفيَّة (¬7) التي لا يجوز لهن كشفها في الصلاة. وجملة القول في هذه الآية: أن الرجل يحرم عليه النظر إلى الحرّة ¬

_ = -السَّواد، ومنه سواد العراق، والسواد قرى المدينة وأريافها. انظر: "اللسان" 7/ 373 (قبط)، 7/ 411 (نبط)،"تاج العروس" 8/ 228 (سود). (¬1) ذكر نحو هذا الرازي 23/ 206 وعزاه للمفسرين. وذكر نحوه القرطبي 12/ 230 وذكره النيسابوري في "غرائب القرآن" 9318 وعزاه للمفسرين. (¬2) ذكره عنه البغوي 6/ 34، وابن الجوزي 6/ 32. وروى ابن أبي حاتم 7/ 36 ب عن سعيد بن جبير، مثله. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 37 ب. (¬4) الآية: ساقطة من (أ). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 338. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 182 وزاد نسبته لابن المنذر. وجمهور العلماء على أنَّ العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. انظر القرطبي 12/ 233. (¬6) الطبرى 18/ 120، الثعلبي 3/ 77 ب. (¬7) (الخفيّة): ساقطة من (أ).

الأجنبية، ويحرم عليها أن تنظر إليه، وأن تبدي له شيئًا من زينتها سوى الزينة الظاهرة على (¬1) الاختلاف المذكور، وإن أراد أن يتزوجها وأمن (¬2) على نفسه الفتنة فله أن ينظر إليها غير متأمل على الاستقصاء، وينبغي أن ينظر إليها وهي لا تعلم لما روى أبو حميد الساعدي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فلا بأس أن ينظر إليها وهي لا تعلم" (¬3). وكذلك (¬4) الشاهد العفيف ينظر لتحمّل الشهادة، والطبيب العفيف ينظر للمعالجة عند الضرورة (¬5). وقد جمع الله في هذه الآية بين البعولة والمحارم وبينهما (¬6) في هذا الحكم فرق (¬7)، وهو أنَّ البعل له أن ينظر إلى جميع بدن امرأته غير الفرج لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك ولقوله: "إنَّ ذلك يورث العمى" (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (لا على)، بزيادة (لا): وهو خطأ. (¬2) في (ظ): (أو أمِن). (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 424، والبزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" للهيثمي 2/ 159. والطبراني في "الأوسط" 1/ 498. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 276: ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬4) في (أ): (كذلك). (¬5) انظر: "الحاوي" 9/ 35 - 36، "المغني" 9/ 498، "روضة الطالبين" 7/ 29. (¬6) وبينهما: ساقطة من (ع). (¬7) في (أ): (وفرق). (¬8) رواه وابن عدي في "الكامل" 2/ 507، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 94 - 95 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها؛ فإنَّ ذلك يورث العمى". وقد حكم جماعة من الحفاظ علي هذا الحديث بأنه موضوع. منهم أبو حاتم الرازي وابن حبان وابن الجوزي. ذكر ذلك الثموكاني في "الفوائد المجموعة للأحاديث الموضوعة" ص 127. وذكر الألباني في "الضعيفة" 1/ 229 هذا الحديث وحكم عليه بالوضع ونقل أقوال أهل العلم في ذلك. قال ابن حجر في "الفتح" 1/ 364: وهو نصُّ في المسألة. اهـ.

وأمَّا المحارم المذكورون (¬1) في الآية فليس لهم أن ينظروا إلى ما بين سرتها وركبتها ولهم أن ينظروا إلى ما سوى ذلك (¬2). وأمَّا الأمة فما بين سرتها وركبتها من عورتها وليس شعرها ولا رقبتها من عورتها (¬3). ¬

_ (¬1) في (ظ): (المذكورة)، وفي (ع): (المذكور). (¬2) هذا قول بعض أهل العلم. وقال آخرون: يجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالبًا، كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك، وليس له النظر إلى ما يُستر غالبًا كالصَّدر والظهر ونحو ذلك. ومنع الحسن والشعبي والضحَّاك النظر إلى شعر ذوات المحارم. وكرهه آخرون. قال ابن قدامة: والصحيح أنه يباح النظر إلى ما يظهر غالبًا، لقول الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية، وقالت سهلة بنت سهيل: يا رسول الله، إنَّا كنا نرى سَالِمَا ولدًا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلاً، وقد أنزل الله فيهم ما علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرْضِعيه". فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها. رواه أبو داود وغيره. وهذا دليل على أنه كان ينظر منها إلى ما يظهر غالبًا، فإنها قالت: يراني فُضلاً، ومعناه: في ثياب البِذْلة التي لا تستر أطرافها .. وما لا يظهر غالبًا لا يباح، لأنَّ الحاجة لا تدعو إلى نظره، ولا تؤمن معه الشهوة ومواقعة المحظور، فحرّم النظر إليه كما تحت السَّرة. انتهى كلامه. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 317، "الحاوي" 2/ 171 - 172، "المغني" 9/ 491 - 493، "روضة الطالبين" 1/ 283. (¬3) هذا قول أصحاب الشافعي وغيرهم. وقال آخرون: الأمة يباح النظر منها للأجانب إلى ما يظهر غالبًا كالوجه والرأس واليدين والساقين، لأن عمر رأى أمة متقعنة، فضربها بالدِّرّة، وقال يا لكاع تتشبهين بالحرائر. وروى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخذ صفية قال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه؟ فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطَّأ لها خلفه ومدَّ الحجاب بينهما وبين الناس. رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: النكاح- باب: اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها 9/ 126. قال ابن قدامة: وهذا دليل على أن عدم حجب الإماء كان مستفيضًا بينهم مشهورًا، وأنَّ الحجب لغيرهن كان معلومًا. وسوَّى بعض الحنابلة بين الحرَّة والأمة لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ولأن العلّة في تحريم النظر الخوف من الفتنة، والفتنة المخوفة تستوي فيها الحرة والأمة. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 317، "الحاوي" 2/ 172، "المغني" 9/ 501، "روضة الطالبين" 1/ 283.

وقوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال المفسرون (¬1): يعني النساء المؤمنات كلهن، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تتجرّد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها. قال ابن عباس: لا يحل لهن أن يراهن يهوديات ولا نصرانيات لئلا يصفنهن لأزواجهن (¬2). ¬

_ (¬1) الثعلبي 3/ 77 بنصِّه. (¬2) ذكره عنه الزمخشري 3/ 62، والرازي 23/ 207، والقرطبي 12/ 233، وأبو حيان 6/ 448. وفي "الدر المنثور" 6/ 183: وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس (أو نسائهن) قال: لا تبديه ليهودية ولا لنصرانية. وقد حكى الرازي 23/ 207 هذا القول عن أكثر السَّلف.؟ ثم حكى قولًا ثانيًا أن المراد بـ (نسائهن) جميع النساء ثم قال: وهذا هو المذهب، وقول السلف محمول

وقوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني المماليك والعبيد، للمرأة أن ظهر لمملوكها إذا كان عفيفًا ما تظهر لمحارمها، وكذلك مكاتبها ما لم يعتق بالأداء أو بالإبراء. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وجد مكاتب إحداكن وفاء فلتحتجب عنه" (¬1). وقوله {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} أكثر القراء على خفض (غَيْرِ) (¬2) بالصفة للتابعين، وجاز وصف التابعين بـ (غير)؛ لأنَّهم غير مقصودين بأعيانهم فأجري ذلك مجرى النكرة. وقد قيل: إنّما جاز أن يوصفوا بـ (غير) في هذا النحو لقصر الوصف على شيء بعينه، فإذا قصر على شيء بعينه زال الشياع عنه فاختص. والتابعون ضربان: ذو إربة، وغير (¬3) ذي إربة، وليس ثالث. فإذا كان كذلك جاز لاختصاصه أن يجرى وصفًا على المعرفة (¬4). ¬

_ = على الاستحباب والأولى. (¬1) رواه الإمام أحمد 6/ 289، وأبو داود في العتق- باب: في المكاتب 10/ 435 - 436، والترمذي في البيوع- باب: ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي 4/ 474. عن أم سلمة مرفوعًا بلفظ "إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه". وقد نقل البيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 327 - بعد روايته لهذا الحديث- عن الشافعي قوله: ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث. وقال عنه الألباني في "إرواء الغليل" 6/ 182: ضعيف. (¬2) قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: (غيرَ أولي الإربة) نصبًا. وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم: (غير أولي الإربة) خفضًا. "السبعة" لابن مجاهد ص 455، و"التيسير" للداني ص 614، و"الغاية" لابن مهران النيسابوري ص 219، و"النشر" لابن الجزري 2/ 332. (¬3) في (ظ): (أو غير). (¬4) من قوله: بالصفة للتابعين ... إلى هنا. نقلًا عن "الحجة" لأبي علي الفارسي =

وقد أحكمنا هذه المسألة عند قوله {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. ومن نصب (غير) احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون استثناء التقدير: يبدين (¬1) زينتهن للتابعين إلاَّ ذا الإربة منهم، فإنَّهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة. والآخر: أن يكون حالاً. المعنى: والذين يتبعوهن عاجزين عنهن، وذو الحال ما في التابعين من الذكر (¬2). والإربة معناها في اللغة: الحاجة (¬3). قال أبو عبيد: الإربة والإرب: الحاجة (¬4). ومنه قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أملككم لإربه (¬5). وقد أرِبَ الرّجل إذا احتاج إلى الشيء وطلبه، يأربُ أربًا (¬6). ¬

_ = 5/ 318 - 319 مع تصرف يسير. وانظر أيضًا: "معاني القرآن" للفراء 2/ 250، "معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 42، "علل القراءات" للأزهري 2/ 450، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 106 "الكشف" لمكي 2/ 136. (¬1) من "الحجّة": لا يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. وهو خطأ، والصواب ما هنا. (¬2) من قوله: (ومن نصب (غير) .. إلى هنا)، نقلاً عن "الحجة" للفارسي 5/ 319. (¬3) انظر: (أرب) في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 527، "الصحاح" للجوهري 1/ 87، "لسان العرب" 1/ 208. (¬4) قول أبي عبيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 257 (أرب) بنصِّه. وهو بنحوه في "غريب الحديث" لأبي عبيد 4/ 336. (¬5) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الصيام- باب: المباشرة للصائم 4/ 149، ومسلم في "صحيحه" كتاب: الصيام 2/ 777 عن عائشة رضي الله عنها. (¬6) من قوله: (وقد أرب .. إلى هنا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 257 من رواية شمر عن ابن الأعرابي.

وقال الفراء (¬1): الإربة مثل الجلسة والمشية، وهو من الحاجة. يقال: أربت (¬2) لكذا فأنا آربٌ له أربا بفتح الهمزة والراء. والمآرب: الحوائج. ومنه قوله -عز وجل-: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] (¬3). وقد مرَّ. وأما التفسير: فقال مجاهد: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء (¬4). [وهو قول عكرمة وعلقمة والشعبي (¬5)، قالوا: هو الذي لا حاجة له ¬

_ وانظر: "لسان العرب" 1/ 208 (أرب)، "تحفة العروس" للزبيدي 2/ 17 (أرب). (¬1) قول الفراء ليس موجودًا في كتابه "معاني القرآن" ولا في "تهذيب اللغة". والذي في المطبوع من "معاني القرآن" 2/ 250: يقال: إرب وأرَب. والنصُّ الذي ذكره الواحدي هنا عن الفراء موجود في تفسير الطبري 18/ 123 من غير نسبة لأحد. ومعلوم أن الطبري ينقل عن الفراء من غير نسبة في كثير من الأحيان. فيحتمل أنَّ النَّص سقط من المطبوع. والله أعلم. (¬2) في (ع): (أرب). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 257 (أرب). (¬4) رواه عنه الطبري 18/ 122، وابن أبي حاتم 7/ 37 ب بلفظ: الذي لا أرب له بالنّساء. دون قوله: الأحمق. وقد روى الطبري 18/ 123 عن الزهري وطاووس هذا القول. وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 38 أ: وروي عن طاووس وعكرمة والحسن والزهري وقتادة أنَّهم قالوا: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء. (¬5) قال ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 38 أ: وروي عن علقمة والشعبي وعكرمة -في إحدى الروايات- ومقاتل بن حيان قالوا: الذي لا أرب له في النساء. وعن الشعبي رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 319، والطبري 18/ 1236 والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 96. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 185 =

في النساء] (¬1) ولا يحمله أربه على أن يراود النساء. وقال ابن عباس: هو الذي لا يستحي منه النساء (¬2). وقال في رواية عطاء: هو الرجل المسن الصالح الذي إذا قعدت وعنده امرأة غض بصره عنها (¬3). وقال عطاء: الذي لا يهمّه إلا بطنه (¬4). وهو قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬5). وقال بُسر بن سعيد (¬6): هو الكبير الذي لا يطيق النساء (¬7). ¬

_ = وعزاه لابن أبي شيبة والطبري. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (ع). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 319، والطبري في "تفسيره" 18/ 122 من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن رجل -وعند الطبري: عمن حدثه- عن ابن عباس، به. وفي سنده جهالة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 184 وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد. (¬3) ذكره الزمخشري 3/ 62، والرازي 23/ 208، ولم ينسباه لأحد. (¬4) ذكره عنه النحاس في "معاني القرآن" 4/ 525. وذكره الجصاص في "أحكام القرآن" 3/ 318، وابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1374 عنه أنه قال: هو الأبله. (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 122، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 37 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 96 من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، به. (¬6) في (أ): (بشر)، وهو خطأ. وفي (ظ): (بن أبي سعيد)، وهو خطأ. وهو بُسر بن سعيد المدني، مولى بني الحضرمي. كان من العبّاد والزهّاد، ثقة، جليلا، كثير الحديث. توفي سنة 100 هـ. "طبقات ابن سعد" 5/ 281، "السير" للذهبي 4/ 594، "تهذيب التهذيب" 1/ 437. (¬7) روه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 37 ب من طريق سالم أبي النَّضر، عن بسر بن =

وقال قتادة: هو الذي يتبعك يصيب من طعامك، ولا همَّ له في النساء (¬1). وقال مقاتل (¬2): يعني الشيخ الهرم، والعِنِّين (¬3)، والخصي، والمجنون، ونحوه (¬4). وقال الحسن: هم قوم طُبِعُوا على التخنيث، فكان (¬5) الرجل منهم يتبع الرجل يخدمه بطعامه وينفق عليه، ولا (¬6) يستطيعون غشيان النساء، ولا يشتهونه (¬7). وهذا قول الحكم (¬8)، قال: هو المخنَّث الذي لا يقوم زُبُّه. ¬

_ = سعيد، فذكره. (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 57، والطبري 18/ 122، وابن أبي حاتم 7/ 37 ب. (¬2) في (ظ): قول مقاتل متقدّم على قول قتادة. (¬3) العنِّين: هو الذي لا يأتي النساء عجزًا، أو لا يريدهن."القاموس المحيط" 4/ 249. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 37 ب. (¬5) في (ع): (وكان). (¬6) في (ظ)، (ع): (لا). (¬7) ذكره عنه ابن الجوزي 6/ 33. وذكره عنه الماوردي 4/ 95 باختصار. وذكر البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 96 عنه قال: هو الذي لا عقل له، ولا يشتهي النساء، ولا تشتهيه النساء. وذكر الثعلبي 3/ 78 أعنه قال: هو الذي لا ينتشر. وبمثله ذكره البغوي 6/ 35 وزاد: ولا يستطيع غثيان النساء ولا يشتهيهن. (¬8) قد يكون الحكم هنا هو الحكم بن عتيبة، وقد تقدم، ولم أجد من نسب إليه هذا القول. وقد يكونه الحكم بن أبان، فقد روى الطبري 18/ 123، وابن أبي حاتم 7/ 38 أمن طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي =

وقال ابن زيد: هو الذي يتبع القوم حتى كأنّه منهم، ونشأ فيهم، وليس له في نسائهم (¬1) إربة، وإنما يتبعهم لإرفاقهم (¬2) إيّاه (¬3). وروى ليث، عن مجاهد: أنه الأبله الذي لا يعرف أمر النساء (¬4) وقال سعيد بن جبير: هو المعتُوه (¬5) (¬6). وقوله {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قال المبرد: الطفل في هذا الموضع يعني به الجماعة من الأطفال، ومجازه مجاز المصدر، وكذلك {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]. والمصدر يقع على الفعل (¬7) نحو العلم والحلم (¬8). ¬

_ = الْإِرْبَةِ} قال: هو المخنَّث الذي لا يقوم زبُّه. وهو: الحكم بن أبان العدني، أبو عيسى، صدوق عابد، صاحب سنة، له أوهام. توفي سنة 154 هـ. "تهذيب التهذيب" 2/ 423 - 424، "تقريب التهذيب" 1/ 190. (¬1) في (ع): (نسائه)، وهو خطأ. (¬2) الإرفاق: إيصال الرِّفق وهو اللطف ولين الجانب. انظر: "لسان العرب" 10/ 118 (رفق). (¬3) رواه الطبري 18/ 123. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 318، والطبري 18/ 122 من طريق ليث، عن مجاهد، به. (¬5) في (أ): (المعتق). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 318، والطبري 18/ 123. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 185 وعزاه لهما. قال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 526 بعد حكايته للأقوال في معنى التابعين: وهذه الأقوال متقاربة. وقال القرطبي 12/ 234: وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همّة ينتبه بها إلى أمر النِّساء. (¬7) في (ظ)، (ع): (مغل). (¬8) انظر: "الدر المصون" 8/ 233.

وقوله {لَمْ يَظْهَرُوا} قال الفراء: يقول: لم يبلغوا أن يطيقوا النساء، وهو كما تقول: صارع فلان فلانًا فظهر عليه، أي: أطاقه (¬1) وغلبه (¬2). وقال أبو علي الفارسي: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي: لم يقووا عليها ومنه قوله {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] (¬3). والعورة: سوءة الإنسان. وكل أمر يستحى منه فهو عورة (¬4). قال مجاهد: لم يدروا ما هن من الصغر قبل الحلم (¬5). قال ابن عباس: لم يبلغ الحنث (¬6) ولم يشتق إلى النساء. وقال بُسر (¬7) بن سعيد (¬8): هو الغلام الذي لم يبلغ الحلم (¬9). وهذا قول جماعة المفسرين (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (طاقة). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 250. (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 318. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 173 "عار" نقلاً عن الليث. وانظر: "الصحاح" للجوهري 2/ 759 "عور"، "لسان العرب" 4/ 617 (عور). (¬5) رواه الطبري 18/ 124، وابن أبي حاتم 7/ 38 أوالبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 96 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 185 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬6) في (ظ): (الحلم). والحنث: البلوغ والإدراك والحُلُم. "لسان العرب" 2/ 138. (¬7) في (أ)، (ع): (بشر)، وهو خطأ. (¬8) في (أ): (مسعود)، وهو خطأ. (¬9) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 38 أمن طريق أبي النّضر، عن بُسر بن سعيد، به. (¬10) انظر: "الطبري" 18/ 124، ابن أبي حاتم 7/ 38 أ، ب، الثعلبي 3/ 78 أ، "النكت" للماوردي 4/ 96، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 185.

قالوا: ولا يجوز (¬1) للمرأة أن تضع الجلباب إلا عند هؤلاء الذين سماهم الله تعالى. وقوله {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} قال ثابت (¬2) البناني (¬3): كانت المرأة تتخذ الودع (¬4) في رجليها فإذا مرّت بالقوم ضربت إحدى رجليها بالأخرى، فأنزل الله تعالى في كتابه: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (¬5). وروى السدي، عن أبي مالك قال: كان في أرجلهن خرَزَ (¬6) فكنّ إذا مررن بالمجلس حرّكن أرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن (¬7). ¬

_ (¬1) في (ظ): (لا يجوز). (¬2) (ثابت): ساقط من (أ). (¬3) هو: ثابت بن أسلم البناني مولاهم، البصري، أبو محمد. تابعي جليل، كان رأسًا في العلم والعمل. وكان أعبد أهل زمان. وكان ثقة مأمونًا. قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: إن لكل شيء مفتاحًا، وإن ثابتًا من مفاتيح الخير. توفي سنة 127 هـ، وعاش ست وثمانين سنة. "طبقات ابن سعد" 7/ 232، "سير أعلام النبلاء" 5/ 220، "تهذيب التهذيب" 2/ 2، "تقريب التهذيب" 1/ 115. (¬4) الودَع -بإسكان الدال وفتحها-: خرز بيض تُخرجُ من البحر بيضاء شقُّها كشق النواة. "القاموس المحيط" 3/ 92. (¬5) لم أجد من ذكره عنه. (¬6) الخَرَزُ: فصوص من جيّد الجوهر ورديئه من الحجارة ونحوه، تنظم في سلك. انظر: "لسان العرب" 5/ 344 (خرز)، "القاموس المحيط" 2/ 175. (¬7) رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 225، والطبري 18/ 124، وابن أبي حاتم 7/ 38 ب كلهم من طريق السدي، عن أبي مالك.

وقال ابن عباس: يريد: ولا تضرب المرأة برجليها (¬1) إذا مشت ليسمع صوت خلخالها أو يتبيّن لها خلخال (¬2). وهذا قول عامة المفسرين (¬3). وقال أبو إسحاق: كانت المرأة ربّما اجتازت وفي رجلها الخلخال، وربما كان فيها الخلاخل، فإذا ضربت برجلها عُلم (¬4) أنها ذات خلخال وزينة، وهذا يحرّك من الشهوة فنهي عنه، كما أُمرن (¬5) أن لا يبدين زينتهن؛ لأن إسماع (¬6) صوته بمنزلة إبدائه (¬7). وقوله {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} قال ابن عباس: عما كنتم تعلمون في الجاهلية (¬8). وقال مقاتل: من الذنوب التي أصابوها مما نهي عنه من أول هذه السورة إلى هذه الآية (¬9). ¬

_ = وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 186 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬1) في (ع): (برجلها). (¬2) بيَّن الواحدي في "الوسيط" 3/ 317 أن هذه الرواية عن ابن عباس من طريق عطاء. وقد روى الطبري 18/ 124، وابن أبي حاتم 7/ 38 ب من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، نحو هذا. (¬3) انظر: "الطبري" 18/ 124، ابن أبي حاتم 7/ 38 ب، "الدر المنثور" 6/ 186. (¬4) في (أ): (أعلم). (¬5) في (أ): (أُمرِت). (¬6) في (ظ): (استماع). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 40. (¬8) ذكره عنه الرازي 23/ 210، والنيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 96، وأبو حيان 6/ 450. (¬9) "تفسير مقاتل" 2/ 38 أ.

والمعنى: راجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه (¬1). قوله تعالى {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} قرأ ابن عامر (أيّه) بضم الهاء (¬2)، ومثله {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 37]. قال أبو علي: وهذا لا يتجه لأن آخر الاسم هو الياء الثانية من (أيّ)، فينبغي وأن يكون المضموم آخر الاسم، ولو جاز أن يضم هذا من حيث كان مقترنًا بالكلمة لجاز أن يضم الميم في (¬3) (اللهم)؛ لأنَّه آخر الكلمة. ووجه الإشكال في ذلك والشبهة (¬4) أنَّ وجد هذا الحرف قد صار في بعض المواضع التي يدخل فيها بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، نحو: مررت بهذا الرجل. وليست (يا) وغيرها من الحروف التي يُنبهُ بها كذلك، فلما وجدها في أوائل المبهمة كذلك وفي الفعل في قول أهل الحجاز: هَلم، جعله في الآخر أيضًا بمنزلة شيء من نفس الكلمة، كما كان في الأول كذلك، واستجاز حذف الألف اللاحق للحرف لما رآه قد حذف في قولهم: هلم، فأجرى عليه الإعراب لما كان كالشيء الذي من نفس الكلمة. فإن قلت: فإنّه قد حرك الياء التي قبلها بالضمّ في (يا أيه)، فإنّه يجوز أن يقول (¬5): إنَّ ذلك في هذا الوضع كحركات الأتباع نحو: امرؤ وامرئ ونحو ذلك. فهذا لعلَّه (¬6) وجه شبهته (¬7)، ¬

_ (¬1) هذا "تفسير الثعلبي" 3/ 78 أ. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 455، و"التيسير" للداني ص 161 - 162 و"الغاية" لابن مهران النيسابوري ص 219، و"النشر" لابن الجزري 2/ 332. (¬3) في "الحجة": من. (¬4) في (أ): (والشبه). (¬5) في (ع): (تقول). (¬6) في (أ)، (ع): العلة. والمثبت من (ظ)، والحجة. (¬7) في (أ): (شبهه).

وينبغى أن لا يقرأ بذلك (¬1)، ولا يؤخذ به. هذا كلامه (¬2). ¬

_ (¬1) (بذلك): ساقطة من (ع). (¬2) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 320 - 321 مع تصرّف. وقول أبي علي: وينبغي أن لا يقرأ بذلك ولا يؤخذ به. قول مردود. قال القرطبي 12/ 238 بعد ذكره لتضعيف أبي علي لقراءة ابن عامر-: والصحيح أنَّه إذا ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة؛ فإن القرآن هو الحجَّة. اهـ. وقد بيَّن العلماء رحمهم الله وجه هذه القراءة. فقال أبو زرعة عبد الرحمن بن زنجلة في كتابه "حجة القراءات" ص 498: وهذه لغة، وحجته أنَّا المصاحف جاءت في هذه الثلاثة بغير ألف. قال ثعلب: كأنَّ من يرفع الهاء يجعل الهاء مع "أيّ"، اسمًا واحداً على أنه اسم مفرد. اهـ. ونقل الأزهري في "علل القراءات" 2/ 452 عن أبي بكر بن الأنباري قوله: إنَّا لغة، قال الأزهري: وأجاز قراءة ابن عامر على تلك اللغة. وقال ابن هشام في "مغني اللبيب" 2/ 403: يجوز في "أيّها" في لغة بني أسد أن تحذف ألفها وأن تضم هاؤها إتباعًا، وعليه قراءة ابن عامر. وقال أبو حيّان في "البحر المحيط" 6/ 450: ووجهه أنَّها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها، وضم "ها" التي للتنبيه بعد "أيّ" لغة لبني مالك رهط شقيق بن سلمة. وقال الشنقيطي في "تفسيره سورة النور" ص 108 عن قراءة ابن عامر-: والأظهر أن الهاء للتنبيه مثل الأولى -يعني القراءة الأولى قراءة الجمهور- ضمَّت إتباعًا لما قبلها، كما قالت العرب: هو منتن بضم تاء منتن، وفي قراءة سبعية {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] بضم نُون "أن" إتباعًا لما بعدها، ومن أنكر ذلك فسبب إنكاره جهله بلغة العرب، فإنَّه قد ثبت في القرآن الكريم، وفي الشعر العربي الفصيح، كما قال الشاعر: يا أيها القلب اللّجوج النفس وروي "أيّهُ" بضم الهاء. انتهى كلامه رحمه الله.

وقال (¬1) ابن مجاهد: كلهم يقف بالهاء على قوله {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} و {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} و {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} إلا أبا عمرو والكسائي فإنَّهما يقفان بالألف. قال: ولا ينبغي أن يتعمد الوقف على الهاء؛ لأن الألف سقطت في الوصل لسكونها وسكون اللام (¬2). قال أبو علي: الوقف على (أيها) بالألف لأنَّها إنما كانت سقطت لسكونها وسكون لام المعرفة كما قال أحمد (¬3)، فإذا وقف عليها زال التقاء الساكنين؛ فظهرت الألف كما أنك لو وقفت على (مُحلّي) من قوله: {غَيْرَ (¬4) مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] لرجعت الياء المحذوفة لسكونها وسكون اللام. وإذا (¬5) كان حذف الألف من (ها) التي للتنبيه حذف (¬6) لهذا، فلا وجه لحذفها للوقف (¬7)، ومما يضعف الحذف أنَّ الألف في الحرف (¬8)، والحروف لا يحذف منها إلا أن تكون مضاعفة (¬9). ¬

_ = وانظر أيضًا: "الدر المصون" 8/ 399، "روح المعاني" للألوسي 18/ 147. (¬1) في (أ): (قال). (¬2) قول ابن مجاهد -بهذا النصَّ في "الحجة" للفارسي 5/ 319. وهو في كتاب "السبعة" لابن مجاهد ص 455 مع اختلاف يسير. وانظر: "التبصرة" لمكي ص 273، "التيسير" للداني ص 162. (¬3) يعني: أبا بكر بن مجاهد. (¬4) غير: ليست في (ع). (¬5) في (ع): (فإذا). (¬6) في "الحجة": التي للتنبيه من (يا أيها) تُحذف لهذا. (¬7) في (ع): (في الوقف). (¬8) في "الحجة":حرف. (¬9) "الحجة" للفارسي 5/ 320 مع تصرف يسير.

32

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال ابن عباس: يريد: لكي تسعدوا في الدنيا وتبقوا في الجنة (¬1). 32 - {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} قال ابن السكيت: فلانة أيّم، إذا لم يكن لها زوج بكرًا كانت أو ثيبًا. والجميع: أيامى، والأصل أيايم، فقلبت (¬2). ورجل أيّم: لا امرأة له. وقد آمت المرأةُ تئيم أيمةً وأيمًا. وقد تأيّمت المرأة زمانًا، وتأيَّم الرجل زمانًا، إذا مكث أيامًا لا يتزوج (¬3). والحرب مأيمةٌ، أي: تقتل الرّجال فتبقى النساء بلا أزواج (¬4). وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل الذي (¬5) لم يتزوج: أيّم، وللمرأة أيّمة، قال: والأيّم: البكر والثيب، وآم الرجل يئيم أيمةٌ، إذا لم تكن له زوجة وكذلك المرأة إذا لم يكن لها زوج (¬6). ¬

_ = ولا وجه لتضعيف حذف الألف عند الوقف فعليه جمهور القراء، والقراءة سنة متبعة، وقد رُسمت في المصحف بغير ألف. قال السمين الحلبي 8/ 399: فوقف أبو عمرو والكسائي بألف، والباقون بدونها، إتباعًا للرسم، ولموافقة الخط للفظ، .. وبالجملة فالرسم سنّة متبعة. وانظر: "الكشف" لمكي 2/ 137، "البحر المحيط" 6/ 450. (¬1) ذكره عنه الرازي 23/ 10، والنيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 96، وأبو حيان 6/ 450 وعندهم: وتبقوا في الآخرة. (¬2) في "تهذيب اللغة": فقلبت الياء وجعلت بعد الميم. (¬3) في "تهذيب اللغة": إذا مكثا أيامًا وزمانًا لا يتزوجان. (¬4) قول ابن السكيت في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 621 - 622 (ام). وهو في "تهذيب الألفاظ" ص 376، و"المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" للعكبري 1/ 89 - 90. (¬5) في (ع): (إذا). (¬6) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 621 (آم).

ومنه الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من الأيمة. وهو طول العُزبة (¬1) (¬2). وقال صاحب النظم: (الْأَيَامَى) هاهنا من الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم كان قد تزوج قبل ذلك أو (¬3) لم يتزوج. والأيّم في كلام العرب: كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها. ولذلك سميت الحيّة أيِّمًا بالتشديد والتخفيف لأنَّها لا تكاد تكون في جحرها إلا وحدها، وأنشد الهذلي (¬4): إلَّا عواسر كالمراط معيدة (¬5) ... بالليل مورد أيِّم متغضِّف (¬6) ¬

_ وانظر: "الصحاح" للجوهري 5/ 1868 (أيم)، "لسان العرب" 12/ 39 (أيم). (¬1) في (أ): (العزوبة)، والمثبت من باقي النسخ و"تهذيب اللغة". (¬2) الحديث ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 15/ 621، والجوهري في "الصحاح" 5/ 1868، وذكره الزمخشري في "الكشاف" 3/ 63 بلفظ: "اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم". وذكره الزيلعي في تخريجه لأحاديث الكشاف 2/ 435 وسكت عنه ولم يخرجه. قال المعلق على تخريج الزيلعي: ذكره ابن قتيبة في كتابه "غريب الحديث" 1/ 338 وقال: يرويه سليمان بن الربيع الكوفي، عن همام، عن أبي العوام عمران بن داود القطان، عن قتادة، عن الحسن عن عمران بن حصين، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره. (¬3) في (أ): (أم). (¬4) هو أبو كبير الهذلي كما في "ديوان الهذليين" وغيره. (¬5) في (أ): (معتده). (¬6) البيت في "ديوان الهذليين" 2/ 105 منسوبًا لأبي كبير وروايته فيه: إلَّا عواسل كالمراط .. وهو في "المعاني الكبير" 185 - 186، و"الأمالي" 2/ 29، "الصحاح" للجوهري 5/ 1868 - 1869 (أيم). ومن غير نسبة في "تهذيب اللغة" 2/ 82 "عسر"، و"اللسان" 4/ 566 (عسر) وفيهما: =

والتشديد والتخفيف اللذان ذكرهما صاحب النَّظم في الأيّم الذي هو الحيّة صحيح؛ فقد ذكرهما النَّضر بن شميل (¬1). وقوله: (مِنكُمْ) ليس من صلة الإنكاح، وإنّما هو من صلة (الْأَيَامَى) كأنه قيل (¬2): وانكحوا أيامكم يعني: أيامى المسلمين؛ لذلك قال: {الْأَيَامَى مِنْكُمْ}. قال السدِّي: من لم يكن له زوج من امرأة أو رجل فهو أيّم. وقال ابن عباس: كل من ليس لها زوج وإن كانت بكرًا فهي أيِّم (¬3). قال مقاتل بن سليمان: يعني من لا زوج له (¬4) [من رجل (¬5)] (¬6) أو امرأة وهما حرّان، أمر الله تعالى أن يزوجا (¬7). ¬

_ = إلا عواسرُ كالقداح معيدة وقبل هذا البيت: ولقد وردت الماء، ولم يشرب به ... بين الربيع إلى شهور الصيِّفِ إلا عواسر .. قال السكري في "شرح ديوان الهذليين" 3/ 1085: عواسل: يعني تعسل في مشيها، تمرُّ مرَّا سريعًا، وإنما يعني ذئابًا .. ويروى: إلا عواسر، يقول: هذه الذئاب تَعسر بأذنابها، والمراط: النَّبل المتمرِّطة الريش، وقوله: معيدة، أي معيدة الشرب، والأيّم: الحيّة .. وقوله: متغضِّف أي منطو متثنٍّ، وقوله: معيدة: أي معاودة لذلك مرَّة بعد مرة. اهـ. (¬1) قول ابن شميل في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 621 (آم). (¬2) في (ع): (قال). (¬3) ذكره الرازي 23/ 210، والنيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 96 من رواية الضحاك، عنه، بمعناه. وذكر الماوردي 4/ 97 هذا القول. وعزاه للجمهور. (¬4) في (ظ): (لها). (¬5) في (أ): (زوج). (¬6) ساقط من (ع). (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 38 أ.

وقال مقاتل بن حيان: يعني الأيامى من الرجال والنساء من الأحرار (¬1). والمعنى: زوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم (¬2)، وهذا أمر ندب واستحباب (¬3)، وفيه دليل على أنّ النكاح لا يصح إلا بولي؛ لأن الله تعالى قال (وَأَنكِحُوا) فما (¬4) لم تُنكح المرأة ولم تُزوَّج لم يكن لها أن تنكح وتتزوَّج (¬5). قوله {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} قال مقاتل: يقول: وزوّجوا المؤمنين من عبيدكم وولائكم فإنّه أغض للبصر وأحفظ للفرج (¬6). فمعنى الصلاح هاهنا: الإيمان، وفي هذا دليل على أن العبد لا يتزوج إلا بإذن سيده، وكذلك الأمة (¬7). ثم رجع إلى الأحرار فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} لا سعة لهم في التزويج {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فوعدهم أن يوسّع عليهم عند التزويج {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} لخلقه {عَلِيمٌ} بهم. قاله مقاتل بن سليمان (¬8). قال أبو إسحاق: حثّ الله -عز وجل- على النكاح وأعلم أنّه سبب لنفي ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 7/ 39 أ. (¬2) الطبري 18/ 125، والثعلبي 3/ 78 أ. (¬3) انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 319. (¬4) في (ظ): (وما). (¬5) انظر: "الحاوي" 9/ 38 - 45، "المغني" 9/ 345 - 346، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 239. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 38 أ. (¬7) انظر: "الحاوي" 9/ 73، "المغني" 9/ 436، "روضة الطالبين" 7/ 101. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 38 أ.

الفقر، ويروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: عجبت لامرئ لم يلتمس الغنى في الباءة بعد قول الله تعالى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "التمسوا الرزق بالكاح" (¬2). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 40 مع اختلاف يسير. ولفظ رواية الزجاج لأثر عمر: "عجب لامرئ كيف لا يرغب في الباءة والله يقول {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. وهذا الأثر عن عمر -رضي الله عنه- رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 173 عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت مثل رجل لم يلتمس الفضل في الباءة، والله يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. وهو منقطع لإرساله. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 188 عن قتادة، وزاد نسبته لعبد بن حميد. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 170 - 171 من وجه آخر عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب: اطلبوا الفضل في النكاح. قال: وتلا عمر: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. وهو منقطع أيضًا؛ فإن الحسن لم يسمع من عمر -رضي الله عنه- انظر: "تهذيب التهذيب" لابن حجر 2/ 265 - 266. (¬2) رواه بهذا اللفظ الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 80 ب من حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 188 وعزاه للديلمي. وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 82: رواه الثعلبي في "تفسيره" والديلمي، من حديث مسلم بن خالد، عن سعيد ابن أبي صالح، عن ابن عباس رفعه بهذا. ومسلم فيه لين وشيخه. وقال الألباني في "ضعيف الجامع" 1/ 349: ضعيف. وللحديث شاهد بمعناه روي موصولًا ومرسلًا. فقد رواه موصولاً البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" للهيثمي 2/ 149، والحاكم في "مستدركه" 2/ 161 كلاهما من حديث أبي السائب سلم بن جنادة، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله =

33

33 - {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: وليطلب العفّة عن الزنا والحرام من لا يجد ما (¬1) ينكح به من صداق ونفقة. والمعنى: الذين لا يجدون طول (¬2) نكاح وقدرة نكاح فحذف المضاف. وقال صاحب النظم: النكاح هاهنا: الشيء الذي ينكح به من مهر ونفقة وما لا بد للرجل والمرأة منه إذا تناكحا، وهو مثل قولهم لما يلتحف به: لحاف، ولما يرتدي به: رداء، ولما يلبس: لباس، فكذلك (¬3) النكاح: ¬

_ = -صلى الله عليه وسلم-: "تزوّجوا النساء، فإنّهن يأتينكم بالمال". قال البزار بعد روايته: رواه غير واحد مرسلًا، ولا نعلم أحدًا قال فيه: عن عائشة إلا أبا أسامة. وقال الدارقطني في "العلل": وغير سلم يرويه مرسلاً .. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه لتفرد سلم -وقد تصحف في المطبوع إلى سالم- بن جنادة بسنده وسلم ثقة مأمون. اهـ. وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 127، وأبو داود في "المراسيل" ص 93 عن أبي توبة الربيع بن نافع، كلاهما -يعني أبا بكر بن أبي شيبة، وأبا توبة- عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، مرسلًا لم يذكر عائشة. وذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 443 متابعًا لأبي أسامة من رواية السهمي في "تاريخ جرجان" ص 242 من طريق حسين بن علوان عن هشام موصولًا. قال ابن حجر في "الكاف الشاف" ص 119: الحسين متهم بالكذب. ولذا فإن المرسل أصح كما ذكر الدارقطني وغيره. وممن ضعف هذا الحديث الألباني كما في "ضعيف الجامع" 1/ 349. (¬1) في (ظ): (مالاً). (¬2) في (ع): (طولًا). (¬3) في (ظ): (وكذلك).

هو ما ينكح به مما لا بدّ للمنكوحة به مما لا بدّ للمنكوحة منه (¬1). وعلى هذا إن صحّ فلا حذف في الآية. وقوله {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي يوسّع عليهم من رزقه. وقال ابن عباس: يريد بالحلال عن الحرام. وجملة القول في هذا أنّ من استغنى عن النكاح بعزوف نفسه عن التوقان إليه فالأولى به التفرد والتخلي لعبادة (¬2) الله (¬3) ليكون ممن يغبط بخفّة الحاذ (¬4) (¬5)؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر خفيف الحاذّ بالذي لا أهل له ولا ولد (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر القرطبي 12/ 243 هذا القول ونسبه لجماعة من المفسرين ولم يذكرهم، ثم قال: وحملهم على هذا قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فظنّوا أنَّ المأمور بالاستعفاف إنَّما هو من عدم المال الذي يتزوج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف، وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذّر. (¬2) في (أ)، (ع): (بعبادة). (¬3) في (ظ): (ربّه). (¬4) في (أ)، (ظ): (الحاء) مهملة. والحاذ: الحال. "لسان العرب" 3/ 487 (حوذ). (¬5) يشير بذلك إلى الحديث الذي رواه الترمذي في "جامعه" كتاب: الزهد- باب: ما جاء في الكفاف والصبر عليه 7/ 12، وابن ماجه في "سننه" (أبواب: الزهد- باب: من لا يؤبه له 2/ 410، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذّ .. " الحديث. وليس فيه تفسير خفيف الحاذّ. وهذا الحديث قال عنه الحاكم بعد إخراجه: هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم ولم يخرجاه، فتعقَّب الذهبيُّ الحاكم بقوله: قلت: لا، بل إلى الضعف هو. (¬6) روى ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" 3/ 1037، والخطيب البغدادي في =

ومن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد الطول فالمستحب له والمندوب إليه أن يتزوّج لقوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية. وإن لم يجد الطول فعليه بالصيام والاستعفاف ما أمكن. وقوله {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي يطلبون المكاتبة (¬1) {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي من عبيدكم ومماليككم. و (ما) هاهنا بمعنى: من، والكتاب مصدر كالمكاتبة يقال: كاتب الرجل عبده أو أمته مكاتبةً وكتابًا فهو مكاتب. والعبد مكاتب، وهو أن يقول الرجل: كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم (¬2) معلومة، فإذا أدّى ذلك فالعبد حرّ (¬3). ¬

_ = "تاريخ بغداد" 6/ 198، 11/ 225 كلهم من طريق رواد بن الجراح، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم في المائتين كل خفيف الحاذ". قالوا: يا رسول الله وما الخفيف الحاذ؟ قال: "الذي لا أهل له ولا ولد". قال الحافظ العراقي في كتابه "المغني عن حمل الأسفار" 2/ 24: حديث: خيركم في المائتين .. أخرجه أبو يعلى من حديث حذيفة، ورواه الخطابي في العزلة من حديثه وحديث أبي أمامة، وكلاهما ضعيف. (¬1) ابن أبي حاتم 7/ 40 أعن سعيد بن جبير. (¬2) نجوم: جمع نجم: وهو الوقت المضروب. ونجوم الكتابة: هو أن يُقدر العطاء في أوقات معلومة. وأصله أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت حلول دينها وغيرها، فتقول إذا طلع النجم: حلّ عليك مالي أي الثريا وكذلك باقي المنازل. انظر: "لسان العرب" 1/ 700 (نجم)، "القاموس المحيط" 4/ 179. (¬3) انظر: (كتب) في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 150، "الصحاح" للجوهري 1/ 209، "لسان العرب" 1/ 700.

قال الأزهري: وسُمّي مكاتبة لما يكتب للعبد (¬1) على السيد من العتق إذا أدّى ما تراضيا عليه من المال، وما يكتب (¬2) للسيد (¬3) على العبد من النجوم التي (¬4) يؤديها. وقال صاحب النظم: قد (¬5) وضع الناس موضع الكتاب من المكاتبة: الكتابة. والكتابة إنّما هي مصدر من كتبت (¬6) الكتاب، ولا يقال من المكاتبة إلَّا الكتاب كما في الآية، والمكاتبة مأخوذة من كتبت (¬7) الشيء إلي الشيء إذا ضممته إليه ليجتمع، وإنَّما قيل كاتب الرجل عبده، لأنَّ معناه فعل منهما جميعًا، فالعبد يجمع نجومه إلى مولاه يضم بعضها إلى بعض إلى أن يجتمع ما هو شرط (¬8) عتقه، والمولى يضم ما يؤديه إليه عبده ليجتمع كمال الشرط لعتق العبد (¬9). وهذه الآية دليل على أصل عقد الكتابة وهو عقد من عقود الإسلام، وشرطه أن يقول السيد كاتبتك على كذا وكذا على أنك إذا أدّيت هذا المال فأنت حر، أو ينوي الحرية بقلبه إن لم يذكرها بلسانه (¬10). ولا بدّ من ¬

_ (¬1) في (ظ): (العبد). (¬2) في "تهذيب اللغة": ولما يكتب. (¬3) في (ظ): (السيّد). (¬4) في (أ)، (ع): (الذي)، والمثبت من (ظ) و"تهذيب اللغة". (¬5) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 150 (كتب). (¬6) في (ع): (من). (¬7) في (أ) (كتب) في الموضعين. (¬8) (شرط): ساقطة من (ظ). (¬9) انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد 1/ 196 - 197، "لسان العرب" 1/ 700 (كتب). (¬10) هذا قول الشافعي. =

التنجيم، وأقلّه نجمان فصاعدًا، ولا تصح حالّه لأنها حينئذ تخلوا من التنجيم (¬1). وقال أبو حنيفة: تصح حالّه، ولم يشترط التنجيم (¬2). والآية دليل قال صاحب النظم: ذكرنا أن أصل الكتاب من الكتب بمعنى الجمع والضم، وأقلّ ما يقع عليه الضمّ والجمع نجمان فصاعدًا، ولا يقع على نجم واحد لأنه لا يقال فيه جمعته، ويقال في النجمين جمعت نجمًا إلى نجم، فإذا لم يكن في شرط المكاتبة ما أقله نجماه لم يقع عليه معنى الكتابة، إذ ليس فيه معنى جمع ولا ضم. وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله عليه فلم يجز الكتاب على أقل من نجمين. انتهى كلامه. ودلت الآية أيضًا على أنَّه إنما يصح كتابة العبد البالغ العاقل، ولا تصح كتابة المجنون والصبي (¬3). ¬

_ = وقال أبو حنيفة -وهو أحد الوجهين عند الحنابلة-: إذا كاتب عبده على أنجم معلومة، صحَّت الكتابة وعتق بأدائها، سواء نوى بالكتابة الحرّية أو لم ينو، وسواء قال: فإذا أدَّيت إلىّ فأنت حر، أو لم يقل، لأن الكتابة عقد وضع للعتق فلم يحتج إلى لفظ العتق ولا نيته كالتدبير. انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 325، "المغني" 14/ 451 - 452، "روضة الطالبين" 12/ 29، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 253. (¬1) انظر: "الحاوي" 18/ 146 - 149، "المغني" 14/ 449 - 450، "روضة الطالبين" 2/ 212. (¬2) انظر: "أحكام القرآن" للجصَّاص 3/ 324 - 325، "بدائع الصنائع" 4/ 140، "تبيين الحقائق" 5/ 150، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 247. (¬3) انظر: "الحاوي" 18/ 143، "المغني" 14/ 444، "روضة الطالبين" 12/ 226.

وعند أبي حنيفة تصح كتابة العبد إذا كان مراهقًا مميزًا (¬1). قال الشافعي: والابتغاء لا يكون من الأطفال والمجانين (¬2). يعني أن الله تعالى قال في {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} وهذان ليسا من أهل الابتغاء. وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} أمر ندب واستحباب في قول الجمهور (¬3). وقال قوم: إنّه أمر إيجاب فإذا سأل العبد الذي علم منه خيرًا أن يكاتبه على ما هو قيمته أو أكثر لزمه ذلك. وهو قول عمرو (¬4) بن دينار وعطاء، ورواية العوفي عن ابن عباس، وإليه (¬5) ذهب أهل الظاهر (¬6). وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد قوة على الكسب وأداء للمال (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الصنائع" 4/ 137، "تبيين الحقائق" 5/ 150. (¬2) انظر: "الأم" 7/ 363، 367، "الحاوي" 18/ 143. (¬3) انظر: الثعلبي 3/ 81 أ، الطبري 18/ 127، الرازي 23/ 217. (¬4) في (أ): (عمر)، وهو خطأ. (¬5) في (أ): (وأهل)، وهو خطأ. (¬6) ذكره عن هؤلاء جميعا: الثعلبي 3/ 81 أإلا أنه قال: وإليه ذهب داود بن علي. وهو داود الظاهري. وقد رواه عن عمرو بن دينار وعطاء: عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 370، والطبري 14/ 126، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 319. ورواية العوفي عن ابن عباس عند الطبري 18/ 128. وانظر: "المغني" 14/ 442، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 245. (¬7) في (أ): (المال). (¬8) روى البيهقي في "سننه" 10/ 317 عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الله بن عباس كان يقول "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا" إن علمت أن مكاتبك يقضيك. وروى أيضًا =

وهذا اختيار الشافعي -رضي الله عنه- فإنه قال: أظهر معاني الخير هذه الآية الاكتساب مع الأمانة (¬1). وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المراد بالخير هاهنا المال. وهو قول مجاهد (¬2)، وعطاء (¬3)، والضحاك (¬4)، وطاووس (¬5)، والمُقاتلين (¬6). ¬

_ = 10/ 317 من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا" قال: أمانة ووفاء. وروى الطبري 18/ 127، وابن أبي حاتم 7/ 40 أ، والبيهقي 10/ 317 من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إن علمتم لهم حيلة ولا تلقون مؤونتهم على المسلمين. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 191 وزاد نسبته لابن المنذر. (¬1) قوله في "الأم" 7/ 363، و"السنن الكبرى" للبيهقي 10/ 318، و"الحاوي الكبير" للماوردي 18/ 144. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 201 - 202، وعبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 370، والطبري 18/ 128. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 190 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 202، وعبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 370، والطبري 18/ 129، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 318. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 190 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) رواه سعيد بن منصور 159 ب عنه من رواية جويبر. (¬5) في (أ): (الطاووس). وقول طاووس رواه عنه سعيد بن منصور (ل 159 ب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 201، والطبري 18/ 128، وابن أبي حاتم 7/ 40 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 318. (¬6) قول مقاتل بن حيان ذكره عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 40 ب. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 38 أ.

وهو رواية العوفي عن ابن عباس (¬1). وروى ابن جريج (¬2)، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية قال الخير: المال (¬3). روى (¬4) هشيم، عن يونس قال: كنّا عند الحسن، وأخوه سعيد (¬5) عنده فتذاكرنا هذه الآية، فقال سعيد: إن كان عنده مال فكاتبه، وإن لم يكن عنده مال فلا تعلقه صحيفة يغدو بها على الناس ويروح، فيسألهم فيحرجهم ويؤثمهم (¬6). وروي أن عبدًا لسلمان قال له: كاتبني. قال له (¬7): لك مال؟ قال: لا قال: تطعمني أوساخ الناس. فأبى عليه (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 3/ 81 أعنه من رواية العوفي. وقد رواها من هذا الوجه الطبري 18/ 128. (¬2) في (ع): (ابن أبي نجيح)، وهو خطأ. (¬3) رواه ابن أبي حاتم 7/ 40 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 318 كلاهما من رواية ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، به. (¬4) في (ظ)، (ع): (لما روى). (¬5) هو: سعيد بن أبي الحسن يسار، البصري، أخو الحسن البصري. تابعي ثقة. روى عن أمه، وأبي هريرة، وعنه أخوه وسليمان التيمي. وكان يسمى راهبًا لدينه. وهو أصغر من الحسن وتوفي قبله سنة 100 هـ؛ ولما توفي حزن عليه الحسن حزنًا شديدًا وبكى. "طبقات ابن سعد" 7/ 178، "سير أعلام النبلاء" 4/ 588، "تهذيب التهذيب" 4/ 16، "تقريب التهذيب" 1/ 293. (¬6) رواه سعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 159 ب) عن هشيم، عن يونس، به. (¬7) (له): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬8) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 374، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 319، =

والأظهر هو القول الأول؛ لأنَّه لو كان المراد بالخير المال لقيل: إن علمتم لهم (¬1) خيرًا وهذا الاعتراض يحكى عن الخليل (¬2) فلما قيل {فِيهِمْ خَيْرًا} كان الأظهر الاكتساب والوفاء والأداء والأمانة. وهذا أيضًا قول ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس (¬3)، واختيار الفراء وأبي إسحاق. قال الفراء: يقول وإن رجوتم (¬4) عندهم وفاء وتأدية للكتابة (¬5). وقال أبو إسحاق: إن علمتم أنّهم يكسبون (¬6) ما يؤدونه (¬7). وقول من فسر الخير بالمال الوجه أن يحمل ذلك على الكسب والمكتسب كذي المال من حيث أنه يقدر على المال [إذا شاء] (¬8). وقال الحسن وأبو صالح في قوله (خَيْرًا) (¬9): أداء وأمانة (¬10). ¬

_ = والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 81 أكلهم من طريق أبي ليلى الكندي قال: أتى سلمان غلام له .. فذكره. وسند عبد الرزاق صحيح. (¬1) (لهم): ساقطة من (ظ). (¬2) حكاه عنه الثعلبي 3/ 81 أ. (¬3) ذكره عنهم جميعًا الثعلبي 3/ 81 أ. ورواه عن ابن عمر بمعناه الطبري 18/ 127، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 318 وقول ابن زيد ومالك رواه عنهما الطبري 18/ 127. (¬4) في (ظ): (دعوتم)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 215. (¬6) في المطبوع من المعاني: (يكتبون)، وهو خطأ. (¬7) "معاني القرآن" للزَّجاج 4/ 40. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) في (ظ)، (ع): زيادة "قال" بعد قوله (خيرا). (¬10) رواه عن الحسن: عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 371، وسعيد بن منصور في =

وقال عبيدة: وفاء وصدقا (¬1). وروى ابن سيرين، عنه قال: إذا أقاموا الصلاة (¬2). وروى يونس، عن الحسن قال: الخير: الإسلام والقرآن (¬3). وقال إبراهيم: صدقًا ووفاء (¬4). وقال سعيد بن جبير: إن علمتم أنهم يريدون (¬5) بذاك (¬6) الخير (¬7). وقال معمر (¬8): وكان قتادة يكره إذا كاتب العبد ليست له حرفة ولا وجه في شيء [أن يكاتبه الرجل] (¬9) لا يكاتبه إلا ليسأل الناس (¬10). ¬

_ = "تفسيره" ل 159 ب، والطبري 18/ 208، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 318. وعن أبي صالح: رواه الطبري 18/ 128، وابن أبي حاتم 7/ 40 ب، والبيهقي 10/ 318. (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 81 ب. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 370، وابن أبي حاتم 7/ 40 أعنه قال: إن علمتم عندهم أمانة. (¬2) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 371، وسعيد بن منصور في "سننه" ل 159 ب، وابن أبي حاتم 7/ 40 أ، والثعلبي 3/ 81 ب كلهم من طريق ابن سيرين، عن عبيدة. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 202 - 203 من رواية يونس، عن الحسن. (¬4) إبراهيم هو: النخعي. ورواه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 371، وسعيد بن منصور في "سننه" ل 159 ب، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 202، والطبري 18/ 128، والبيهقي في " السنن الكبرى" 10/ 318. (¬5) في (أ): (يريد من). (¬6) في (ظ): (بذلك). (¬7) ذكره عنه النحَّاس في "معاني القرآن" 4/ 529، وابن الجوزي 6/ 37. (¬8) هو: معمر بن راشد. (¬9) زيادة من تفسير عبد الرزاق بها يستقيم المعنى. (¬10) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 58 عن معمر، به.

وهذا يقوي أنّ المراد بالخير الاكتساب. قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ هذا خطاب للموالي، أُمروا أن يحطوا عنهم من نجوم الكتابة شيئًا، وهو قول علي (¬1) -رضي الله عنه- ومجاهد (¬2)، والثوري (¬3)، وكثير من الصحابة (¬4). ثم اختلفوا في ذلك القدر: فقال علي -رضي الله عنه-: هو ربع المال (¬5). وهو قول مجاهد (¬6). وقال الآخرون: لا يتقدر بشيء يحط عنه ما أحبّ. وكان عمر -رضي الله عنه- يحط من أول النجوم. وروى عكرمة، عن ابن عباس: أن عمر -رضي الله عنه- كاتب عبدًا له يُكنى أبا أميّة (¬7) ¬

_ (¬1) سيأتي ذكر ذلك عنه -رضي الله عنه-. (¬2) رواه عن مجاهد عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 59، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 372، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 330. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 81 أورواه الطبري 18/ 131 عنه قال: أحب أن يعطيه الربع، أو أقل منه شيئًا، وليس بواجب، وأن يفعل ذلك حسن. (¬4) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 370 - 371، الطبري 18/ 129 - 130، "السنن الكبرى" للبيهقي 10/ 329 - 330، والثعلبي 3/ 81 ب - 82 أ. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 58، وسعيد بن منصور ل 159 ب، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 369، والطبري 18/ 129، وابن أبي حاتم 7/ 41 ب والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 329، والضياء في "المختارة" 2/ 194. (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 370. (¬7) هو: أبو أميّة بن كنانة، القرشي، العدوي مولى عمر بن الخطاب ومكاتبه. اسمه عبد الرحمن، وهو جد المبارك بن فضالة المحدِّث. روى عنه ابنه فضالة. "طبقات ابن سعد" 7/ 117، "الكنى" للإمام مسلم ص 95، "الثقات" لابن حبّان 5/ 566، "الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى" 2/ 1031.

فجاءه بنجمه حين حلّ (¬1)، فقال: يا أبا أمية استعن به في مكاتبتك. فقال: يا أمير المؤمنين لو تركته حتى يكون في آخر نجم. قال: إنِّي أخاف أن لا أدرك ذاك (¬2) ثم قرأ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬3). وروى عبد الملك بن أبي بشير (¬4) قال: حدثني فَضالة بن أبي أميّة (¬5)، عن أبيه وكان غلامًا لعمر قال: كاتبني عمر على أواق (¬6) قد سمّاها، ونجمها عليّ نجومًا، فلما فرغ من الكتاب أرسل إلى حفصة (¬7) فاستقرض منها مائتي درهم، فأعطانيها وقالك استعن بها في نجومك؛ فقلت: ألا تجعلها في آخر مكاتبتي! قال: إنّي لا أدرى أدرك أم لا. قال سفيان: بلغني أنَّه كاتبه على مائة أوقية (¬8). ¬

_ (¬1) في (ظ): (هلّ). (¬2) في (ظ): (ذلك). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 371، وابن أبي حاتم 7/ 41 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 329 - 330 من طريق عكرمة، عن ابن عباس. وروى ابن سعد في "طبقاته" 7/ 118 عن عكرمة نحوه. (¬4) هو: عبد الملك بن أبي بشير، البصري، نزيل المدائن. روى عن عكرمة وحفصة بنت سيرين وآخرين. وعنه سفيان الثوري وغيره. وهو ثقة. "الكاشف" 2/ 207، "تهذيب التهذيب" 6/ 386، "تقريب التهذيب" 1/ 517. (¬5) هو: فضالة بن أبي أميّة، البصري. أبوه أبو أمية مولى عمر بن الخطاب المتقدم ذكره. وهو والد المبارك بن فضالة المحدّث. روى عنه عبد الملك بن أبي بشير. ذكره البخاري في "تاريخه الكبير" 7/ 125، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 7/ 77، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً. وذكره ابن حبان في "الثقات" 5/ 297. (¬6) أواق: جمع أوقية -بضم الهمزة وتشديد الباء-: وهي زنة سبعة مثاقيل، أو أربعين درهمًا. "لسان العرب" 10/ 12 (أوق). (¬7) هي: أم المؤمنين، وبنت أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬8) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 376، وابن سعد في "طبقاته" 7/ 118، =

وعلى هذا قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} هو أن يؤتيه مما في يده شيئًا يستعين به على الكتابة لا أن يحطَّ عنه شيئًا. وهو رواية ليث، عن مجاهد قال: مما في يديك، ليس مما على رقبته (¬1). وروى جوبير، عن الضحاك في هذه الآية قال (¬2): أن تعطيه [مما في يديك] (¬3) من مالك أو تضع (¬4) له بعض الذي كاتبه عليه (¬5) (¬6). وروى عبد الملك (¬7) وحجاج عن عطاء في قوله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} هو ما أخرج الله [لك] (¬8) من مكاتبته تعطيه، ما طابت به ¬

_ = والطبري 18/ 130، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 330 من رواية عبد الملك، عن فضالة، عن أبيه، بنحوه. وليس في رواية عبد الرزاق وابن سعد والبيهقي قول سفيان. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 372، والطبري 18/ 130 من رواية ليث، عن مجاهد، دون قوله: ليس مما على رقبته. (¬2) (قال): ساقطة من (أ). (¬3) ساقط من (ظ)، (ع). (¬4) في (ظ)، (ع): (تدع). (¬5) عليه: ساقطة من (أ). (¬6) لم أجد من ذكره عنه. (¬7) هو: عبد الملك بن أبي سليمان، كما في رواية الطبري وابن أبي حاتم. وهو: عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة، العرزمي، الكوفي كان من أحفظ أهل الكوفة، روى عن سعيد بن جبير وعطاء. قال الذهبي: قال أحمد: ثقة يخطئ. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. توفي سنة 145 هـ. "الكاشف" 2/ 209، "تقريب التهذيب" 1/ 519. (¬8) (لك): ساقطة من (أ).

نفسك وليس فيه شيء مؤقت (¬1). وقال سعيد بن جبير: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئًا من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع (¬2) إليه صدقته، ولكنّه (¬3) إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ (¬4). وعلي ما ذكرنا معنى الإيتاء: أن يحطّ من مكاتبته (¬5) شيئًا أو يردّ عليه شيئًا، أو يعطيه مما في يده شيئًا. وهو واجب عند الشافعي -رضي الله عنه- (¬6). القول الثاني: أنَّ (¬7) المعنى: وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء قال: يريد سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون (¬8). ونحوه قال زيد (¬9) وابنه (¬10). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة 6/ 371 - 372 من رواية عبد الملك وحجاج، عن عطاء. ورواه الطبري 18/ 130، وابن أبي حاتم 7 - 42 أمن طريق عبد الملك، عن عطاء إلى قوله: مكاتبته. (¬2) في (أ): (وترجع). (¬3) في (أ): (ولكن). (¬4) رواه الطبري 18/ 130 عن سعيد، به. ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 377، وابن أبي شيبة 6/ 370 عن سعيد بنحوه مختصرًا. (¬5) في (ظ)، (ع): (كتابته). (¬6) انظر: "الأم" 7/ 364، "الحاوي الكبير" 18/ 186، "روضة الطالبين" 12/ 248. (¬7) أنَّ: ساقطة من (أ). (¬8) ذكره عنه من رواية عطاء ابن الجوزي 6/ 37، والرازي 23/ 218، والنيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 100. (¬9) هو: زيد بن أسلم. (¬10) ذكره عنهما الثعلبي 3/ 82 أ. =

القول الثالث: أنَّ هذا حث للناس على إعطاء المكاتب وإعانته بما يمكنهم في (¬1) ثمن رقبته. وهو قول عكرمة (¬2)، وإبراهيم (¬3)، والكلبي (¬4)، والمقاتلين (¬5). قالوا: حضّ الناس (¬6) جميعًا الموالي وغيرهم على أن يعطوا المكاتب، وأمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقال الحسن: حث عليه المسلمين مولاه وغيره (¬7). وعلى هذا القول هو أمر نَدْب. واختار (¬8) صاحب النظم القول الثاني، وقال: قوله {فَكَاتِبُوهُمْ} خطاب للموالي، وقوله {وَآتُوهُمْ} خطاب لغيرهم من أصحاب الزكوات؛ لأنه لا يجوز للمكاتب أن يدفع فرض صدقته إلى مكاتب نفسه، فجاء الخطاب بنظم واحد وهما مختلفان كقوله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا ¬

_ = وعن زيد رواه الطبري 18/ 131، وابن أبي حاتم 7/ 42 أ. وعن ابنه -عبد الرحمن- رواه ابن أبي حاتم 7/ 42 أ. (¬1) في (أ): (من). (¬2) ذكره عنه الرازي 23/ 218، وأبو حيان 6/ 452. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 82 أ، ورواه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 376 - 377 وسعيد بن منصور في "سننه" ل 159 ب، والطبري 18/ 131. (¬4) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 59. (¬5) قول مقاتل بن حيان رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 42 أ. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 37 أ. (¬6) في (أ): (للناس). (¬7) رواه سعيد بن منصور في "سننه" ل 159 ب، والطبري 18/ 131. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 191 عنه، وعزاه لعبد بن حميد. (¬8) في (أ): (واختيار).

تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] الآية، فقد جاء الخطاب في التطليق والعضل بنظم واحد وهما مختلفان؛ لأن العضل من الأولياء، والتطليق من الأزواج، وكذلك قوله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} أومئ به إلى غير المكاتبين الذين هم الموالي (¬1). وقال غيره (¬2): يجوز أن يكون الموالي داخلين في هذا الخطاب على معنى: أن يؤتي بعضهم لمكاتب بعض لا لمكاتب نفسه. قال صاحب النظم: ولو كان المراد بالإيتاء الحطّ عنه لوجب أن يكون في عادة العربية: ضَعُوا عنهم أو قاصّوهم منه (¬3)، فلما قال {وَآتُوهُمْ} دلّ على أنَّه أراد من الزكاة إذ هو مناولة وإعطاء (¬4). وهذا الاعتراض لا يصح على قول من يجعل إيتاء المكاتب من مال نفسه، كما روينا عن عمر -رضي الله عنه-. فأما سبب نزول هذه (¬5) الآية: فقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في صُبيح (¬6) القبطي، كان ¬

_ (¬1) ذكر الرازي 23/ 219 بعضه من غير نسبة. (¬2) انظر: "الطبري" 18/ 132. (¬3) يقال: تقاصّ القوم، إذا قاصّ كل منهم صاحبه في حساب أو غيره، وأصل التَّقاص: التناصف في القصاص. انظر: "لسان العرب" 7/ 76 (قصص)، "تاج العروس" للزبيدي 18/ 107 (قصص). (¬4) ذكر أبو حيان 6/ 452 هذا القول عن صاحب النَّظم. (¬5) هذه: زيادة من (ظ). (¬6) في (أ)، (ع): (الصبيح). وقد ذكر صبيحًا هذا البخاري في "تاريخه الكبير" 4/ 318 دون نسبة إلى القبط، وساق رواية -سيأتى ذكرها- فيها أنه كان مملوكًا لحويطب بن عبد العزّى، وأن =

مملوكًا لحاطب بن أبي بَلْتَعة (¬1). وقال مقاتل بن سليمان وغيره: نزلت في حويطب (¬2) بن عبد العزى وفي غلامه صبيح (¬3) القبطي وقيل: صُبْح (¬4) طلب إليه أن يكاتبه فأبي، فأنزل الله هذه الآية، فكاتبه على مائة دينار، ثم وضع عنه عشرين دينارًا، فأداها وعتق (¬5). ¬

_ = صبحيًّا هو جد محمد بن إسحاق صاحب السير والمغازي. وذكره ابن حبان في "الثقات" 3/ 196 دون نسبة وقال: أبو عبد الله، جد محمد بن إسحاق بن يسار. يقال: إنَّ له صحبة. وذكره ابن حجر في "الإصابة" 2/ 169 دون نسبة وقال: مولى حويطب بن عبد العزّى. قال ابن السكن وابن حبان: يقال له صحبه. ثم نقل ابن حجر رواية البخاري في "تاريخه" ثم قال: قال ابن السكن: لم أر له ذكرًا إلا في هذا الحديث. اهـ. (¬1) لم أجد من ذكره عن ابن عباس. وقد نقل القرطبي 12/ 244 عن مكي بن أبي طالب قوله: هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة. (¬2) هو: حُويطب بن عبد العزّى بن أبي قيس، القرشي، العامري، أبو محمد. أسلم عام الفتح، وشهد حنينا وكان من المؤلفة، وكان حميد الإسلام. وسار إلى الشام مجاهدًا. وهو أحد الذين أمرهم عمر بتجديد أنصاب الحرم. توفي سنة 54 هـ، وقيل: 52 هـ وعاش مائة وعشرين سنة. "طبقات ابن سعد" 5/ 454، "الاستيعاب" 1/ 399، "أسد الغابة" 2/ 67، "سير أعلام النبلاء" 2/ 540، "الإصابة" 2/ 363. (¬3) في (ظ): (صبح)، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير مقاتل". (¬4) في (ظ)، (ع): (صبيح). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 38 أ، والثعلبي 3/ 81 أ. وقد روى البخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 318 - 319، وابن السكن والبارودي كما في "الإصابة" لابن حجر 2/ 170 من طريق محمد بن إسحاق، عن خاله عبد الله بن صبح وفي المطبوع من "الإصابة": عن خالد عن عبد الله. وهو خطأ -عن أبيه- وكان جدّ ابن إسحاق أبا أمِّه -قال. كنت مملوكًا لحويطب بن عبد العزى، =

قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} يعني إماءكم وولائدكم على الزنا. قال جماعة من المفسرين (¬1): نزلت في عبد الله بن أبيّ كان يكره جواري له على الكسب بالزنا، فشكون ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن عبد الله بن أبيّ! كانت له جاريتان يقال لإحداهما: مُعاذة، والأخرى: زينب، كانتا مؤمنتين فأكرههما على الزنا وهما لا يريدان (¬2). ¬

_ = فسألته الكتابة، ففي نزلت {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الآية. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 189 من رواية عبد الله بن صبيح، به. وعزاه لابن السكن في "معرفة الصحابة". (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 38 أ، ب، والطبري 18/ 132 - 133، ابن أبي حاتم 7/ 42 ب، 43 أ، الثعلبي 3/ 82 أ، ب، "تفسير ابن كثير" 3/ 288 - 289، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 192 - 194. وقد روى مسلم في "صحيحه" كتاب: التفسير- باب: في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} 4/ 2320 عن جابر -رضي الله عنه-: أن جارية لعبد الله بن أبيّ بن سلول يقال لها: مُسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (¬2) لم أجد من ذكره من رواية عطاء. وقد روى وابن أبي حاتم 3/ 42 ب، والطبراني في "الكبير" 11/ 284 من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أنَّ جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولادًا من الزّنا، فقال لها: مالك لا تزنين. قالت: والله لا أزني. فضربها، فأنزل الله -عز وجل- {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 83: ورجال الطبراني رجال الصحيح. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 193 ونسبه أيضًا للبزار وابن مردويه، وقال: بسند صحيح.

وروى الزهري، عن عمر (¬1) بن ثابت الخزرجي قال: كانت معاذة جارية لعبد الله بن أبيّ وكانت مسلمة وكان يستكرهها على البغاء، فأنزل الله هذه الآية (¬2). وقال مجاهد: كانوا يأمرون ولائدهم أن يُباغين، فكن يفعلن ذلك، فيُصبن، فيأتينهم بكسبهن، وكانت لعبد الله بن أُبي جارية فكانت تُباغي، وكرهت ذلك وحلفت لا تفعله، فأكرهها أهلها، فانطلقت فباغت ببرد (¬3) أخضر فأتتهم به، فأنزل الله هذه الآية (¬4). قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} قال ابن عباس: تعفّفا وتزويجًا (¬5). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (عمرو)، وهو خطأ. وهو عمر بن ثابت بن الحارث -ويقال: ابن الحجاج- الأنصاري الخزرجي المدني. تابعي ثقة، روى عن بعض الصحابة، وعنه الزهري وغيره. "الكاشف" 2/ 306، "تهذيب التهذيب" 7/ 430، "تقريب التهذيب" 2/ 52. (¬2) رواه "المصنف" في كتابه "أسباب النزول" ص 270 من طريق ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عمر بن ثابت، فذكره. ورواه أيضًا من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عمر بن ثابت، بنحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 193 من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عمر، بنحوه مطولًا، وعزاه للخطيب في رواة مالك. ورواه أبو موسى المديني في كتابه الصحابة كما في "الإصابة" لابن حجر 4/ 395 من طريق الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب الزهري، به، بنحوه. وهو مرسل؛ لأن عمر بن ثابت تابعي. (¬3) البُرْد -بالضم-: ثوب مخطط. "القاموس المحيط" 1/ 276. (¬4) رواه الطبري 18/ 134، ورواه ابن أبي حاتم 7/ 42 ب بنحوه، مختصرًا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 194، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬5) لم أجده عن ابن عباس. وقد روى ابن أبي حاتم 7/ 43 أ، ب عن قتادة ومقاتل. مثل شطره الأول. =

وليس هذا بشرط في النهي عن الإكراه، وإنّما هو على موافقة حال النزول، وذلك أن تلك (¬1) الجواري التي كان ابن أُبيّ يكرههن على الزنا كن مسلمات يردن التحصّن، وهو كقوله {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وليس من شرط استحقاق الثلثين أن يكن فوق اثنتين ولكن نزلت الآية (¬2) في ثلاث بنات (¬3) وقال أبو إسحاق: لا تكرهوهن على البغاء البتَّه، وليس المعنى: لا ¬

_ = وذكر الطبري 18/ 132، والثعلبي 3/ 82 ب، والماوردي 4/ 101 من غير نسبة لأحد. ولم أجد من ذكر: تزويجًا. (¬1) (تلك): ساقطة من (أ). (¬2) الآية: ساقطة من (ظ). (¬3) القول بأن الآية المستشهد بها نزلت في ثلاث بنات ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 120 من غير سند وعزاه للمفسرين، وذكره البغوي 2/ 169 من غير سند. وفي "الإصابة" لابن حجر 4/ 464 في ترجمة أمِّ كجَّة الأنصارية: ذكر الواقدي عن الكلبي في "تفسيره" عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة يقال له أم كجّة، .. فنزلت آية المواريث. وهذا القول لا يصح في نزول هذه الآية. والصحيح في هذا ما رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه" كتاب: الفرائض- باب: ما جاء في ميراث الصلب 8/ 99 - 100، والترمذي في "جامعه" كتاب: الفرائض - باب: ما جاء في ميراث البنات من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا، وإنَّ عمَّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: "يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمَّهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فهو لك". وحسَّن هذا الحديث الألباني كما في "صحيح الترمذي" 2/ 211.

تكرهوهن إن أردن تحصنًا؛ لأنَّهن إن لم يردن فليس لنا أن نكرهن (¬1). وقوله {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} هذا الشرط متعلق بقوله {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] إن أردن تحصنا. فهذا على التقديم والتأخير، وهذا القول اختيار الحسين (¬2) بن الفضل (¬3). ويجوز أن يقال: إنما شرط (¬4) إرادة التحصّن؛ لأنَّ الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة المكره التحصّن (¬5)، فإن (¬6) لم يرد التحصّن لا يتصور الإكراه؛ لأنَّه يأتي ذلك بالطبع، فلما ذكر النهي عن الإكراه شرط إرادة التحصّن؛ ليتبين (¬7) معنى الإكراه؛ لأنَّه شرطٌ صحيح في المعنى (¬8). وقوله تعالى {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني الغلَّة (¬9) والضرائب التي كانت عليهن. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 40. (¬2) في (ع): (الحسن)، وهو خطأ. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 82 ب، والبغوي 6/ 44 وتصحف الاسم في المطبوع إلى: الحسن. والقرطبي 12/ 255. وهذا الوجه ضعَّفه القرطبي. وقال أبو حيان 6/ 452: وهذا فيه بعدٌ وفصل كثير. (¬4) في (أ): (شرطه). (¬5) في (ظ): (للتحصّن). (¬6) في (أ): (وان). (¬7) في (أ): (لتبين). (¬8) ذكر البغوي 6/ 44 هذا القول وصدّره بقوله: قيل. وذكره ابن الجوزي 6/ 39 ولم ينسبه لأحد. وأشار إليه ابن العربي في أحكام القرآن. 3/ 1386 ولم ينسبه لأحد. وذكره الماوردي 4/ 101 ولم ينسبه لأحد. (¬9) الغلَّة: هي الدَّخل الذي يحصل من الإجارة والنتاج ونحو ذلك. "لسان العرب" 11/ 504 (غل).

وقال ابن عباس: يريد أن يولد له منهن ولد ليسترقَّ (¬1) الولدَ ويتبعه. وقال الكلبي: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من كسبهن وأولادهن (¬2). وروى معمرٌ، عن الزُّهري: أنَّ رجلاً من قريش أُسر يوم بدر، فكان عند عبد الله بن أبي أسيرًا، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسه، وكانت مسلمة فكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده، فأنزل الله هذه الآية (¬3). وقوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال ابن عباس (¬4)، والمفسرون (¬5): أي لهن غفور رحيم يعني للمكروهات (¬6). وكان جابر يقرأ: {فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم} (¬7). ¬

_ (¬1) في (ظ): (يسترق). (¬2) روى ابن أبي حاتم 7/ 43 ب عن سعيد بن جبير مثله. وهو قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 38 ب. (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 59، والطبري 18/ 133، وابن أبي حاتم 7/ 42 ب، 43 أ، كلهم من طريق، معمر عن الزهري، به وهو مرسل. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 193 وزاد نسبته لابن المنذر. (¬4) رواه الطبري 18/ 133، وابن أبي حاتم 7/ 43 ب) عنه بنحوه. (¬5) انظر: "الطبري" 18/ 133 - 134، ابن أبي حاتم 7/ 43 ب، 44 أ. (¬6) في (أ): (للمكروهات). (¬7) روى مسلم في "صحيحه" كتاب: التفسير- باب: في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} 4/ 2320 عن جابر قال: كان عبد الله بن أبي بن سلول يقول لجارية له: اذهبي فأبغينا شيئًا، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ (لهنّ) غَفُورٌ رَحِيمٌ}

34

وقال الحسن في هذه الآية: لهن والله، لهن والله (¬1). وقال مجاهد: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} للمكروهات على الزنا (¬2). وفي حرف عبد الله (¬3) وقرأه جماعة من القراء (¬4) {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. 34 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} قال ابن عباس، ومقاتل (¬5): يريد ما ذكر في هذه السورة من الحلال والحرام، وأمره ونهيه إلى هذه الآية، فهي تبين للناس ما أمروا به وما نهوا عنه. قوله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} قال مقاتل: يعني سنن العذاب في الأمم الخالية حين كذبوا رسلهم (¬6). والمعنى: وأنزلنا مثلًا أي: شبهًا من حالهم بحالكم في تكذيب ¬

_ = ورواه ابن أبي حاتم 7/ 43 ب عن جابر بنحوه، وفيه زيادة: هكذا كان يقرؤها يعني (لهن). قال النووي في "شرح صحيح مسلم" 18/ 164: هذا تفسير، ولم يرد أنَّ "لهن" منزَّلة. (¬1) ذكره عنه الثعلبي 3/ 82 ب، والبغوي 6/ 44 (¬2) رواه الطبري 14/ 133، وابن أبي حاتم 7/ 43 ب، 44 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 195 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬3) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 43 ب عن سعيد بن جبير قال: في قراءة ابن مسعود "لهن غفور رحيم". وذكرها السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 194 ونسبها أيضًا لعبد بن حميد. (¬4) رويت هذه القراءة عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير. انظر: "المحتسب" لابن جني 2/ 108، القرطبي 12/ 255. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 38 ب. (¬6) (رسلهم): زيادة من (ظ).

35

الرسل، وفي هذا تخويف للمكذبين بمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من الأمم حين كذبوا رسلهم. وقوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} قال الكلبي: يعني نهيًا للمتقين عن (¬1) الشرك والكبائر (¬2). 35 - وقوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معنى النور في اللغة: الضياء (¬3). وهو ضد الظلمة (¬4). قال ابن عباس في رواية عطاء: الله هادي أهل السموات وأهل الأرض (¬5). ¬

_ (¬1) (عن): زيادة من (ع). (¬2) ذكر البغوي 6/ 45 هذا القول، ولم ينسبه لأحد. (¬3) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 230 (نار) نقلاً عن ابن المظفر. (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 234 (نار) نقلاً عن ابن السكيت. وانظر: "الصحاح" للجوهري 2/ 838 (نور)، "لسان العرب" 5/ 240 (نور). (¬5) لم أجده من رواية عطاء. لكن أخرج الطبري 18/ 135، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 44 ب من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هادي أهل السموات والأرض. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197 وزاد نسبته لابن المنذر والبيهقي في "الأسماء والصفات". قال الإمام ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 8 - 9: (وقد فُسِّر قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بكونه منوّر السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض. وهذا إنما هو فعله، وإلَّا فالنور الذي هو من أوصافه قائم منه، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى. والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. فالأول كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلّني، لا إله إلا أنت"، وفي الأثر الآخر: "أعوذ بوجهك، أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات". فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله، كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. وفي معجم الطبراني والسنَّة له، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه. وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض. وأما من فسَّرها بأنه منور السموات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود. والحق أنُّه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها. وفي "صحيح مسلم" وغيره من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: "إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النَّهار وعمل النَّهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل رأيت ربك؟ قال: "نور، أنَّى أراه". سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: معناه: كان ثمَّ نور، أو حال دون رؤيته نور، فأنَّى أراه؟. قال: ويدل عليه: أنَّ في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نورًا" .. ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر: "حجابه النور" فهذا النور -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبى ذر -رضي الله عنه-: "رأيت نورًا"). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. ويبيَّن ما قاله ابن القيم من أنَّه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها ما قاله العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي في "تفسيره" 3/ 401: "الله نور السموات والأرض" الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش =

وهذا قول مقاتل (¬1)، والكلبي، وروي ذلك عن أنس (¬2) -رضي الله عنه-. والنور من صفات الله جل ثناؤه ورد ذلك في الأسماء التسعة والتسعين (¬3)، ونطق به القرآن في هذه الآية نصًا. وفسّره هؤلاء الذين ذكرناهم بالهادي، وحقيقته أن النَّور هو الذي يبيِّن الأشياء وُيري الأبصار حقيقتها (¬4)، وعلى هذا المعنى ورد النّور في ¬

_ = والكرسي والشمس والقمر والنور، وبه استنارت الجنَّة. وكذلك المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمن نور. فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات، ولهذا كل محل يفقد نوره فثمَّ الظلمة. (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 38 ب. (¬2) رواه الطبري 18/ 135 من طريق فرقد السجني، عنه قال: إن إلهي يقول: نوري هداي. وإسناد ضعيف لضعف فرقد. انظر: "المغني في الضعفاء" للذهبي 2/ 509 - 510، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر 8/ 262 - 263. (¬3) روى الترمذي في "جامعه" كتاب: الدعوات 9/ 482 عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن .. النّور". الحديث. وحديث أبي هريرة رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الدعوات- باب: لله مائة اسم غير واحدة 11/ 214 وغيره دون سرد الأسماء. وقد اختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو مدرج في الخبر من بعض الرواة. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 269: والذي عوَّل عليه جماعة من الحفاظ أنَّ سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد أنَّه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنَّهم قالوا ذلك، أي أنَّهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي، والله أعلم. (¬4) في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 235 (نار): والنور هو الذي .. حقيقتها.

صفة الله تعالى (¬1)؛ لأنَّه هو الذي يهدي المؤمنين ويبيّن لهم ما يهتدون بها من الضَّلالة. وهذا معنى قول ابن قتيبة: أي: بنوره يهتدي من في السموات والأرض (¬2). [وذكر السموات والأرض] (¬3) والمراد أهلها كما ذُكرت القُرى والقرية في مواضع من القرآن والمراد أهلها وسكانها. ويحمل هذا على حذف المضاف. وقال مجاهد في هذه الآية: مدبّر الأمور في السموات والأرض (¬4). واختار أبو إسحاق هذا القول فقال: أي مدبر أمرهما (¬5) بحكمة بالغة وحجّة نيّرة (¬6). وهذا كما يقال: فلان نور هذا الأمر ونور البلد، أي هو الذي يجريه (¬7) ويجري أمره على سنن السَّداد (¬8). وقال الضحاك والقرظي (¬9): منوّر السموات والأرض. ¬

_ (¬1) تقدَّم أن النور صفة ذاتية له سبحانه كما دل على ذلك الكتاب والسنة. (¬2) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 328. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) رواه الطبري 18/ 135، وذكره الثعلبي 3/ 82 ب، والبغوي 6/ 45 وابن الجوزي 6/ 40، وابن كثير 3/ 289. (¬5) في (ع): (أمرها). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 43. (¬7) في (ع): (أمرها). (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 43. (¬9) ذكره عنهما الثعلبي 3/ 82 ب، والقرطبي 12/ 257. وذكره البغوي 6/ 45 عن الضحَّاك.

ففسر النور بالمنوّر وهذا (¬1) على المبالغة؛ لأنَّه لما كان خالق الأنوار والشمس والقمر والنجوم التي بها نور السموات والأرض وصف بأنَّه النور كما يقال: فلان جُود وفلان كرم، ويقال في ضده: فلان لُوم وبُخل. إذا بالغوا (¬2) في وصفه بهذه الأشياء، ويقال: فلان رحمة وسخطة، وهو لا يكون في نفسه رحمة ولا سخطة وإنَّما يكونان منه (¬3). وعلى هذا الوجه يتوجّه أيضًا قول من قال: مُزيِّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء؛ لأنَّ معنى المزيّن هنا: المنوِّر. وهذا القول يروى عن أبي بن كعب وأبي العالية (¬4) والحسن (¬5). {مَثَلُ نُورِهِ} قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: مثل نوره الذي أعطاه المؤمن (¬6). ونحو هذا قال الكلبي: مثل نور الله في قلب المؤمن. وعلى هذا القول الكناية عائدة إلى الله تعالى. والمراد: مثل نوره الذي يقذفه في قلب المؤمن ويهديه به. ¬

_ (¬1) في (ع): (هذا). (¬2) في (أ) زيادة: (كان) بعد قوله: (إذا). (¬3) منه: ساقطة من (ع). (¬4) في (أ): (وأبو العالية). (¬5) ذكره عنهم الثعلبي 3/ 82 ب، والبغوي 6/ 45، والرازي 23/ 224، والقرطبي 12/ 257. (¬6) ذكره عنه البغوي 6/ 45 من رواية سعيد بن جبير. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 196 وعزاه للفريابي. وروى الطبري 18/ 137، وابن أبي حاتم 7/ 45 أمن رواية علي بن أبي طلحة، عنه، نحو هذا.

وروي عن أبي بن كعب أنه قال في هذه الآية: ثم ذكر نور المؤمن فقال {مَثَلُ نُورِهِ} يقول مثل نور المؤمن وكان أُبيّ يقرؤها (مثل نور المؤمن) قال: وهو عبد قد جعل القرآن والإيمان في صدره (¬1). وهذا القول كما روى عطاء عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مثل نور من آمن بالله (¬2). وهذا قول عامر الشعبي (¬3) (¬4). وقال السدي: مثل نوره في قلب المؤمن [قال (¬5): وهو قراءة ابن مسعود: (مثل نوره في قلب المؤمن)] (¬6). وهذا كقول الكلبي في عود الكناية إلى اسم الله تعالى. وعلى القول الثاني عادت الكناية إلى غير مذكور وهو المؤمن (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 18/ 136، وابن أبي حاتم 7/ 44 ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه. (¬2) رواه ابن أبي حاتم 7/ 45 أ، والحاكم في "مستدركه" 2/ 397 من رواية عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس، به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 196 عن ابن عباس، وعزاه لمن تقدمت ترجمته. (¬3) في (ظ)، (ع): (والشعبي)، وهو خطأ. (¬4) روى عبد بن حميد وابن الأنباري كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 196 عن الشعبي قال: في قراءة أبي بن كعب: "مثل نور المؤمن كمشكاة". (¬5) ذكر البغوي 6/ 45 قراءة ابن مسعود دون قول السدي. (¬6) ساقط من (ظ)، (ع). (¬7) ذكر ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 9 التقديرين في عود الكناية، وزاد ثالثًا -وهو ما سيذكره الواحدي فيما بعد- وهو أنَّ الضَّمير يعود لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم قال: والصحيح أنَّه يعود على الله -سبحانه وتعالى-، والمعنى: مثل نور الله -سبحانه وتعالى- في قلب عبده، وأعظم عباده نصيبًا من هذا النور رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فهذا مع ما تضمنَّه عود الضمير المذكور -وهو وجه الكلام- يتضمَّن التقادير الثلاثة وهو أتم لفظًا ومعنى. =

قال الأخفش: مثل ما أنار من الحق في بيانه (¬1). قوله {كَمِشْكَاةٍ} قال أبو عبيدة (¬2) والفراء (¬3) والكسائي (¬4): المشكاة: الكُوَّة ليست بنافذة. وأنشد أبو عبيدة (¬5) لأبي زُبيد (¬6): كأنَّ عينيه مشكاتان في حجر قيضا ... اقتياضًا (¬7) بأطراف المناقير (¬8) ¬

_ = وهذا النُّور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إيّاه، ويضاف إلى العبد إذ هو محلّه وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. اهـ. (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 641. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 66. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 252. (¬4) لم أجد قول الكسائي، فلعله في الكتاب الذي ذكره الأزهري في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة" 2/ 16، حيث قال: وللكسائي كتاب في "معاني القرآن" حسن وهو دون كتاب الفراء، وكان أبو الفضل المنذري ناولني هذا الكتاب. (¬5) ليس إنشاد أبي عبيدة في كتابه "المجاز" عند هذه الآية ولا في موضع آخر من كتابه. (¬6) هو: حرملة بن المنذر، وقيل: المنذر بن حرملة، بن معد يكرب، أبو زبيد. تقدم. (¬7) في (ع): اقتضاضًا. (¬8) البيت بهذه الرواية عند الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 83 ب، والقرطبي 12/ 257 - 258، ولم ينسباه لأحد. وورد هذا البيت برواية أخرى لصدره منسوبًا لأبي زبيد في كتابي: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 542، "الصناعتين" لأبي هلال العسكري ص 118. ورواية ابن قتيبة: كأنَّما عينه وقبان من حجر ... قيضا ... ورواية العسكري: كأن عينيه في وقَبَين من حجرٍ ... قيضا ... وهو من قصيدة له يصف فيها الأسد. والوَقْب: نُقرة يجتمع فيها الماء، وقيضا: حفرا. والمناقير: جمع "منقار" وهو =

وروى أبو عمر (¬1) عن الكسائي الإمالة في (مشكاة) وهي غير ممتنعة (¬2)؛ لأنَّ مشكاة إذا ثنّي انقلب ألفها ياء (¬3) سواء كان الألف فيها منقلبة عن ياء أو واو، وإذا كان كذلك لم تمتنع الإمالة (¬4). قال ابن عباس في رواية عطاء وسليمان [بن قتَّة (¬5)] (¬6): {كَمِشْكَاةٍ} يعني كُوَّة غير نافذة بلسان الحبش (¬7). ¬

_ = حديدة كالفأس مشككة مستديرة لها خلف ويُقطع بها الحجار والأرض الصلبة. انظر: "اللسان" 1/ 801 (وقب)، 7/ 225 (قيض)، و"تاج العروس" للزبيدي 14/ 274 (نقر). (¬1) في (ظ)، (ع): (أبو عمرو)، وهو خطأ. وهو: أبو عمر الدُّوري -كما في "السَّبعة" لابن مجاهد، و"الحجة" للفارسي- واسمه حفص بن عمر بن عبد العزيز، الدُّوري، الأزدي، البغدادي، النحوي، صاحب الكسائي. كان شيخ المقرئين في عصره. وقد طال عمره وقصد من الآفاق؛ لعلو سنده وسعة علمه. وكان عالمًا بالقرآن وتفسيره، ذا دين وخير. ويقال إنه أول من جمع القراءات. توفي سنة 246 هـ. "تاريخ بغداد" 8/ 203، "معرفة القراء الكبار" 1/ 191، "غاية النهاية" 1/ 255، "تهذيب التهذيب" 2/ 408، "شذرات الذهب" 2/ 111. (¬2) انظر: "السبعة" ص 455، "المبسوط" لابن مهران ص 108، "إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي" للقلانسي ص 416. (¬3) في "الحجة": إذا ثَّنيت انقلبت ألفها ياءً. (¬4) من قوله: (وروى أبو عمر .. إلى هنا) هذا كلام أبي علي الفارسي و"الحجة" 5/ 322 مع اختلاف يسير. (¬5) (قتة) مهملة في (أ)، (ظ). (¬6) ساقط من (ع). (¬7) روى عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 199 عن ابن عباس قال: المشكاة بلسان الحبشة. الكُوَّة.

وهذا قول السدي، والكلبي، وقتادة (¬1)، وجميع المفسرين (¬2). قالوا: هي الكُوَّة غير النافذة كما قال أهل اللغة، غير أنَّ بعضهم ذكر أنها بلغة الحبشة. وهو السُّدي، وعكرمة، والكلبي (¬3)، وسعد (¬4) بن ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عن السدي والكلبي، وعن قتادة رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 60. (¬2) نسبة المؤلف هذا القول إلى جميع المفسرين فيه تجوز. إلَّا أن يريد أن جميع المفسرين قد حكي عنهم هذا القول، أو أنَّ قولهم يرجع إلى هذا القول، فمجاهد مثلاً -الذي سيحكي الواحدي عنه قولًا آخر- روى عنه ابن أبي حاتم 7/ 45 ب أنَّه قال: المشكاة الكوة بلغة الحبشة. ومحمد بن كعب الذي سيذكره الواحدي بعد ذلك يرجع قوله إلى أنَّها كوة غير نافذة توضع فيها الفتيلة. وهكذا. فقد ذكر الطبري 18/ 137 - 138 فيها أقوالًا بعد قوله: اختلف أهل التأويل في معنى المشكاة. وذكر ابن أبي حاتم 7/ 45 ب فيها وجوها. وذكر فيها ابن الجوزي 6/ 40 ثلاثة أقوال، وحكى الماوردي في "النكت والعيون" 4/ 102 فيها خمسة أقوال: أحدها: ما ذكر المؤلف أن المشكاة كوَّة لا منفذ لها. الثاني: المشكاة: القنديل. الثالث: المشكاة: موضع الفتيلة من القنديل. الرابع: المشكاة: الحديد الذي يعلّق به القنديل، وهي التي تُسمَّى السلسلة. الخامس: المشكاة: صدر المؤمن. وحكاية الماوردي للأخير محل نظر؛ لأن مراد قائل هذا القول بيان المثل وما يقابله لا بيان لفظة المشكاة. وقد رجَّح ابن كثير 3/ 290 القول الثالث بعد أن حكاه عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد. وقال: هذا هو المشهور. (¬3) ذكر عنه الماوردي 4/ 103 أنها لفظ حبشي معرب، ولم يذكر عنه معناها. (¬4) في (أ)، (ظ): (سعيد)، والمثبت من (ع)، و"صحيح البخاري"، وجميع كتب التراجم. ووقع في المطبوع من الطبري و"الدر المنثور" و"المهذّب فيما وقع في =

عياض- وعطاء عن ابن عباس. وذكر محمد بن كعب القرظي المراد بالمشكاة فقال: هي موضع الفتيلة من القنديل (¬1). وذكره ابن أبي نجيح- عن مجاهد أيضًا فقال: هي القصبة التي في جوف القنديل (¬2). ¬

_ = القرآن من المعرب: سعيد. وهكذا وقع أيضًا في "مصنف ابن أبي شيبة" المطبوع وقد ذكر محققه أنه في الأصل وباقي النسخ: سعد. فغيَّرها إلى سعيد تبعًا للطبرق و"الدر المنثور". وهو: سعد بن عياض الثمالي - الأزدق - الكوفي - تابعي قليل الحديث. قال البخاري: خرج فمات بأرض الروم. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري" / 62 - "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم / 88 - 89 "الطبقات" لابن سعد 6/ 176 - " تهذيب التهذيب" لابن حجر 3/ 79". وقوله رواه وكيع في "تفسيره" - كما في "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" ص"1" وقد وقع فيه: سعيد عن عياض. فتصحَّفت بن إلى: (عن -عن إسرائيل- عن أبي إسحاق- عن سعد بن عياض - به. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" 10/ 70، عن وكيع - به. ورواه البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير - سورة النور 6/ 8، معلقًا. ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" 4/ 264 - و"الفتح" 7/ 8، من رواية ابن شاهين وأبي جعفر السراج في فوائده. ورواه عن ابن عياض الطبري 18/ 139 دون قوله: بلسان الحبشة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 200 وعزاه لابن أبي شيبة. (¬1) رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره" 7/ ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 199 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) رواه الطبري 18/ 10 - وابن أبي حاتم 7/ ب من رواية ابن أبي نجيح- عنه. وعندهما: الصُّفر الذي في جوف القنديل. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 200 بمثل رواية الطبري ونسبه أيضًا لعبد بن حميد.

قال الأزهري: شبّه الله سبحانه قصبة الزجاجة التي توضع فيها الفتيلة التي يستصبح (¬1) بها بكوّة غير نافذة ولذلك سمَّاه مشكاة (¬2). قوله {فِيهَا مِصْبَاحٌ} المصباح (¬3): السّراج، في قول أهل اللغة (¬4) والتفسير (¬5). قال الليث: وهو قُرطه (¬6) الذي تراه في القنديل وغيره يضيء (¬7). قال مقاتل: هو السراج التام الضوء (¬8). قال أبو علي: قوله {فِيهَا مِصْبَاحٌ} صفة للمشكاة لأنها جملة فيها ذكر يعود إلى الموصوف (¬9). وقوله {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} قال الفراء: اجتمع القراء على ضمّ ¬

_ (¬1) يستصبح بها: أي يشعل بها السرّج. "لسان العرب" 2/ 506 (صبح). (¬2) "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 301 (شكا) مع تقديم وتأخير. (¬3) في (أ): (الزجاجة)، وهو خطأ. (¬4) انظر: "صبح" في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 266، "الصحاح" للجوهري 1/ 380، "لسان العرب" 2/ 506. (¬5) لأهل التفسير أقوالٌ في المصباح: أحدها: ما ذكره المؤلف. الثاني: أنَّ المصباح: الفتيلة. الثالث: أنَّ المصباح: الضَّوء. انظر: "النكت والعيون" للماوردي 4/ 102، "زاد المسير" لابن الجوزي 6/ 40. (¬6) قُرطه: أي شُعلة النار. "القاموس المحيط" 2/ 378 (القرط). (¬7) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 4/ 266 (صبح) دون قوله: يضيء. وهو في "العين" 3/ 126 (صبح) بمثل ما في "تهذيب اللغة". (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 38 ب. (¬9) "الحجَّة" لأبي علي الفارسي 5/ 322. وانظر: "الإملاء" للعكبري 2/ 156، "الدر المصون" 8/ 405.

الزاي (¬1) وقد يقال: زجاجة وزجاجة (¬2). وروى أبو عبيد، عن الأموي (¬3) قال: هو الزُّجاج والزَّجاج والزِّجاج للقوارير (¬4). قال وأقلها الكسر (¬5). والمراد بالزجاجة هاهنا القنديل (¬6). قال أبو إسحاق: النور في الزّجاج. وضوء النار أبين منه في كل شيء، وضوؤه يزيد (¬7) في الزجاج (¬8). ثم وصف الزجاجة فقال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ودُريّ (¬9) منسوب إلى أنَّه كالدُّر في صفائه وحسنه (¬10). ¬

_ (¬1) عند الفراء: الزجاجة. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 252. (¬3) هو: عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، أبو محمد الأموي. أحد اللغويين الكوفيين. روى عنه أبو عبيد وغيره. لقي العلماء، ودخل البادية، وأخذ عن فصحاء الأعراب. وأخذ عنه العلماء. وكان ثقة في نقله، حافظًا للأخبار والشعر وأيام العرب. "تهذيب اللغة" 1/ 11 - 12، "إنباه الرواة" للقفطي 2/ 120، "بغية الوعاة" 2/ 43. (¬4) في (أ): (القوارير). (¬5) رواية أبي عبيد عن الأموي في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 454 (زجّ). (¬6) هذا قول الليث كما في "تهذيب اللغة" 10/ 454 فقد ذكره بعد رواية أبي عبيد. (¬7) في (أ): (يضيء). (¬8) "معاني القرآن" للزَّجَّاج 4/ 43 - 44. (¬9) ودري: ساقطة من (أ). و"درِّي" بضم الدال وتشديد الراء المكسورة وتشديد الياء من غير همز، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. "السبعة" ص 455 - 456، "التبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬10) من قوله: ثم وصف .. إلى هنا. هذا كلام الزَّجَّاج في "معانيه" 4/ 44.

قال أبو علي: ويجوز أن يكون فعيِّلًا من الدَّرء مخففة الهمزة انقلبت ياءً (¬1)، كما تنقلب في النسيء والنِّبي ونحوه إذا خفِّفت (¬2) ياؤه (¬3). قال أبو إسحاق: يقال للكوكب: درأ يدرأ إذا تدافع منقضًا، فتضاعف ضوؤه، وهي النجوم الدَّراري التي تدرأ. أي: ينحطُّ ويسير متدافعًا (¬4). وقال الفراء: درأ الكوكب إذ انحطّ كأنه رُجم به الشيطان فيدفعه (¬5)، والعرب تُسمّي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها: الدَّراري بغير همز (¬6). وهذا أيضًا على تخفيف الهمز؛ لأن الأصل الهمز من الدَّرء وهو الدفع. وذكرنا للدَّفع وجهين، أحدهما ذكره أبو إسحاق، والثاني ذكره الفراء. وذكر أبو علي وجهًا ثالثًا فقال: المعنى أنَّ (¬7) الخفاء اندفع عنه لتلألئه في ظهوره فلم يخف كما خفي نحو السُّها (¬8) وما لا يُحصى (¬9) من الكواكب (¬10). ¬

_ (¬1) العبارة في "الحجة": مخفَّف الهمزة فانقلبت ياءً. (¬2) في (ع): (خفف). (¬3) "الحجَّة" لأبي علي الفارسي 5/ 323. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 44 مع تقديم وتأخير. (¬5) عند الفراء: فيدمغه. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 252. (¬7) في (أ): (أنّ أنّ). مكررة. (¬8) السُّها: كوكب خفىّ في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم. "الصحاح" للجوهري 6/ 2386. (¬9) هكذا في جميع النسخ. وفي "الحجة": وما لم يُضىء. (¬10) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 323. =

[وقرأ أبو عمرو والكسائي: (درّيء) مكسورة الدال مهموزة (¬1)، وهو فعيِّل من الدَّرء الذي هو الدفع كما ذكرنا، ومثله السِّكِّير والفسيق. قال أبو عثمان (¬2)، عن الأصمعي، عن أبي عمرو (¬3) قال: مُذْ خرجت من الخندق لم أسمع أعرابيًا يقول إلا كأنّه كوكب درِّي بكسر الدال، من درأت النجوم تدرأ، إذا اندفعت، وهذا فعيِّل منه (¬4). قال سيبويه: (درّي) بكسر الدال إذا كان مضيئًا فهو مشتق من درأ يدرأ إذا (¬5) كان ضوؤه يدفع بعضه بعضًا من لمعانه (¬6). وقال ابن الأعرابي: درأ علينا فلان، أي: هجم. قال: والدِّرِّئ: الكوكب المنقض يدرأ على الشيطان (¬7). وقال خالد بن يزيد: درأ علينا فلان وطرأ إذا طلع فجأةً، ودرأ الكوكب دروءًا من ذلك (¬8). ¬

_ = وانظر في توجيه القراءة أيضًا: "علل القراءات" للأزهري 2/ 545، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 499، "الكشف" لمكي 2/ 138، "إبراز المعاني" لأبي شامة ص 614. (¬1) انظر: "السبعة" ص 456، "التَّبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬2) هو: أبو عثمان المازني. (¬3) هو: أبو عمرو بن العلاء. وفي (أ): (أبي عمر)، وهو خطأ. (¬4) من قوله: (وقرأ أبو عمرو .. إلى هنا). هذا كلام أبي علي في "الحجة" 5/ 323 مع اختلاف يسير. (¬5) (إذا): ساقطة من (أ). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 158 (دري). (¬8) قول ابن يزيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 158 - 159 (دري).

وقال نُصير الرازي: دُرُوء الكوكب طلوعه، يقال: درأ علينا (¬1). وهذا القول في الكوكب الدّرّي غير الأوّل. وقال شمر: يقال: درأت النار إذا أضاءت (¬2). وهذا قول ثالث. وقرأ حمزة (دُرِّيء) بضم الدال مهموزًا (¬3). قال الفراء: ولا تُعرف [جهة] (¬4) ضمّ أوله وهمزه؛ لأنَّه لا يكون في الكلام فعيل إلا عجميًا (¬5). وقال أبو إسحاق: لا يجوز أن يُضم الدال وُيهمز؛ لأنَّه ليس في الكلام فعيِّل، [والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا؛ لأنَّه ليس في كلام العرب شيء على فعيِّل] (¬6) (¬7). وحكى أبو بكر، عن أبي العباس (¬8) أنَّه قال: غلط من قرأ (دُرِّيء)؛ لأنَّه بناه على فعيِّل، وليس في كلام العرب فعيِّل، غير أن سيبويه (¬9) قال عن أبي الخطاب: وكوب دُريء، وهذه أضعف اللغات، قال: وهو في معنى (دُرّي) مأخوذ من الضوء والتلألؤ وليس بمنسوب إلى الدر. قال أبو علي: وجه هذه القراءة معروف، وهو أنَّه (فُعيِّل) من الدرء ¬

_ (¬1) قول نُصير في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 159 (دري). (¬2) قول شمر في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 158 (دري). (¬3) وهي أيضًا قراءة عاصم في رواية أبي بكر. "السبعة" ص 456، "التَّبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬4) زيادة من "معاني الفراء" يستقيم بها المعنى. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 252. (¬6) ساقط من (ظ). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 44 مع تقديم وتأخير. (¬8) هو: المبرّد. (¬9) انظر: "الكتاب" 4/ 268.

الذي هو الدفع، وهو صفة، ونظيره من الأسماء غير الصفة قولهم: المرِّيق (¬1)، وقد حكاه سيبويه .. [قال سيبويه] (¬2): ويكون الكلام على (فُعيِّل) وهو قليل في الكلام [قالوا] (¬3): المريِّق، حدثنا أبو الخطاب عن العرب قالوا: كوكب دري وهو صفة (¬4). هكذا قرأته (¬5) على أبي بكر (¬6) بالهمز. وقد صرَّح سيبويه بأنه فعيِّل، وأنه في الصفة مثل المرِّيق في الاسم. ويدلك أيضًا على أن (دُرّي) عنده (فعِّيل) ما قبله وما بعده في الكتاب من الفصول، فالذي قبله (فعَّيل) وهو (¬7) [في] (¬8) الاسم: السكين والبطِّيخ، والصفة: الفسِّيق (¬9)، وبعده (فُعَّيْل) في الاسم: العليق والقبيط (¬10)، والصفة: الزُّميل والسكيَّت (¬11) (¬12). ¬

_ (¬1) المُرِّيق: حبُّ العصفر. "لسان العرب" 10/ 342 (مرق). (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) زيادة من الإغفال والكتاب يستقيم المعنى بها. (¬4) "الكتاب" 4/ 268. (¬5) القارئ هو: أبو علي الفارسي. (¬6) هو: أبو بكر السراج. (¬7) في (أ): (فهو). (¬8) زيادة يستقيم بها المعنى. (¬9) انظر: الكتاب 4/ 268. (¬10) العليق: نبات يتعلق بالشجر، ويلتوي عليه. "لسان العرب" 10/ 265 (علق). والقبيط: النَّاطف، وهو نوع من الحلوى يصنع من اللوز والجوز والفُستق. انظر: "لسان العرب" 7/ 373 "قبط"، "المعجم الوسيط" 2/ 930 - 931. (¬11) في (ظ)، (ع): (السكيت) بدون واو. والسكيت: هو الذي يجيء في آخر الحلبة آخر الخيل. "لسان العرب" 2/ 44 (سكت). والزُّميل: الضعيف الجبان. "القاموس المحيط" 3/ 390. (¬12) انظر: "الكتاب" 4/ 268.

فكما (¬1) أن ما (¬2) بعد (¬3) الياء في هذه الفصول لا مات، كذلك ما بعد الياء في (دري) لام، وقد ثبت الضم مع الهمز بحكاية سيبويه وإثبات أبي الحسن (¬4) وغيره، وقول من زعم أن ذلك ليس في كلامهم مع ما حكيناه غلط، ومما يثبت ما حكيناه ويقويه قولهم: العُلِّيَّة (¬5)، وهو فعيلة من [العلو إلَّا أن اللام انقلبت للياء الساكنة قبلها (¬6)، ولا يجوز أن يكون فعيلة من] (¬7) مضاعف (¬8) العين واللام، لأن معنى العلو قائم فيه، فلا يحمل اللفظ إلى (¬9) غير العلو مع وجود هذا المعنى فيه، وهذا قول الأخفش، ومثله: السرية (¬10) وهي فعيِّلة من السَّرو (¬11)، ولأن صاحبها إذا أراد استيلادها لم يمتهنها ولم يبتذلها [كما يتبذل] (¬12) من لا يراد للاستيلاد ولا يكون فعيلة من السرِّ لأنَّ السرَّ لا يتجه فيها إلا أن يريد: [أنَّ] (¬13) المولى قد يسر بها ¬

_ (¬1) في (أ): (وكما). (¬2) ما: ساقطة من (أ). (¬3) في (ع): (بعده). (¬4) هو الأخفش. انظر: "الإغفال" ل 117 ب. (¬5) العُلية: الغرفة. "لسان العرب" 15/ 86 (علا). (¬6) قال الجوهري في "الصحاح" 6/ 2437: وأصله علِّيوة، فأبدلت الواو ياءً وأدغمت، لأن هذه الواو إذا سكِّن ما قبلها صحَّت، ... ، وهو من علوت. (¬7) ساقط من (ظ). (¬8) في (ظ)، (ع): (تضاعف)، والمثبت من (أ) هو الموافق لما في "الإغفال". (¬9) في (ع): (على). (¬10) السرِّية: هي الجارية المتَّخذة للملك والجماع. "لسان العرب" 4/ 358 (سرر). (¬11) السَّرو: الشرف والمروءة. "لسان العرب" 4/ 377 (سرا). (¬12) ساقط من (ظ)، (ع). (¬13) زيادة من الحجة يستقيم بها المعنى.

عن حرِّية (¬1). ويجوز إن أخذتها من السرور لأن صاحبها يُسر بها (¬2) أمران: أحدهما: أن يكون فعلية (¬3) من السرور. والآخر: أن تكون فعيلة (¬4) فأبدل من لام فعيلة للتضعيف حرف الليل وأدغم (¬5) ياء فعيلة فيها فصارت سرِّية (¬6). قال: ولا يكون فعيِّلة (¬7) من السراة لأن السراة: الظهر، وهي لا تؤتى من ذلك المأتى، ومن رأى ذلك جاز عنده أن يكون فعيِّلة من السراة. هذا الذي حكينا كلامه ذكر بعضه في كتاب "إصلاح الإغفال" (¬8) وبعضه في "الحجة" (¬9) في وجه تصحيح قراءة حمزة. والقدماء من النحويين ¬

_ (¬1) في (أ)، (ع): (حرية)، وهي مهملة في (ظ). قال ابن منظور في "لسان العرب" 4/ 182 (حرر): وحرية العرب: أشرافهم .. ويقال: هو من حرية قومه، أي: من خالصهم. اهـ. ووقع من المطبوع من "الحجة": عمَّن حدَّثه. وهو تصحيف. وقد تكون الكلمة: حرته. فتصحفت في النسختين، ففي "لسان العرب" 4/ 358 (سرر)، و"تاج العروس" للزبيدي 12/ 13 (سرر): والسرِّية: الأمة التي بوأتها بيتًا، وهي فعلية منسوبة إلى السِّر، وهو الجماع والإخفاء، لأن الإنسان كثيرًا ما يسرها ويسترها عن حرّته. (¬2) في "الحجة": لأنَّ صاحبها يسر بها من حيث كانت نفسًا عن الحرة. (¬3) في (ظ): (فعيلة)، وهو خطأ. (¬4) في (أ): (فعلية)، وهو خطأ. وهكذا وقع أيضًا في المطبوع من الحجة. (¬5) في (أ): (وأدغمها). (¬6) يعني أنَّها فعيلة -أي: سريرة- من السرور، فأبدل لام فعيلة -وهو الراء- للتضعيف حرف الياء فأبحت: سربية. وأدغم هذه الياء في ياء فعيلة، فأبحت: سرِّية. (¬7) في (أ): (فعيلة). (¬8) "الإغفال" 2/ 1142 - 1149. (¬9) انظر: "الحجة" 5/ 323 - 324.

على إنكارها، ويقولون في المريق: إنَّه أعجمي ذكر ذلك أبو العباس المبرد وغيره. والله أعلم. وذكر أبو عبيد لهذه القراءة وجهاً آخر فقال: كان في الأصل دروء على فعول ثم استثقلت الضمات المجتمعة فرد بعضها إلى الكسر فقيل: درِّئ، وقد وجدنا العرب تفعل هذا في فعول وهو أخف من الأول، كقراءة من قرأ: (عِتيا) [مريم: 8] بالكسر، فإذا كان التحريك ممكنًا في المثال الأخف فهو في الثقيل أحرى وأمكن (¬1). وحكى أبو إسحاق في هذا الحرف قراءة شاذة وهي (درّي) بالفتح من غير همز (¬2). قال أبو علي: ولا يكون ذلك إلا على تغيير النسب، ألا ترى أنه ليس في الكلام شيء على فعيل إلا ما حكاه أبو زيد أن بعضهم قال: عليكم بالسَّكِّينة في السَّكِينة، وذلك نادر فإذا كان كذلك علمت أنه مثل قولهم في الإضافة إلى أمية: أموي (¬3). قوله (يُوقَدُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬4) بالتاء مفتوحة ونصب ¬

_ (¬1) ذكر الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 83 ب كلام أبي عبيد مع اختلاف يسير. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 44. وقد نسبت هذه القراءة إلى: سعيد بن المسيب، ونصر بن عاصم، وأبي رجاء العطاردي، وقتادة، وزيد بن علي، والضحاك. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 36، "المحتسب" لابن جني 2/ 110، "البحر المحيط" 6/ 456. (¬3) "الإغفال" 2/ 1147. (¬4) في (أ): (وابن عمرو)، وهو خطأ.

الدال (¬1)، على أن فاعل (تَوقَّد) المصباحُ، وهذه القراءة هي البيّنة لأنَّ المصباح هو الذي يتوقد. قال امرؤ القيس: سَمَوت إليها والنُّجوم كأنَّها ... مصابيح رهبان تُشبُّ لقفَّال (¬2) ¬

_ (¬1) (توقَّد). انظر: "السبعة" ص 455 - 456، "التيسير" ص 162. (¬2) البيت في "ديوانه" ص 31 وروايته فيه: نظرت إليها والنجوم كأنها. وفي "الحجة" 5/ 324 بمثل رواية الواحدي. وفي "العمدة" لابن رشيق 2/ 45، و"خزانة الأدب" 1/ 68 بمثل رواية الديوان. وقبل هذا البيت: تنوَّرتُها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالِ قال ابن رشيق في "العمدة" 2/ 45: ومن بيان المبالغة قول امرئ القيس يصف نارًا -وإن كان فيه إغراق:- نظرت إليها والنجوم .. والبيت. يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تُشب لقفال، والنجوم كأنها مصابيح رُهبان وقد قال: تنورتها من أذرعات .. البيت، وبين المكانين بعد -لأن أذرعات بالشام ويثرب هذه المدينة- وإنما يرجع القُفال من الغزو والغارات وجه الصباح فإذا رآها من مسيرة أيام وجه الصباح، وقد خمد سناها وكلِّ موقدها، فكيف كانت أول الليل؟! وشبَّه النجوم بمصابيح الرهبان أنَّها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع، لا سيما مصابيح الرهبان لأنَّهم يكلون من سهر الليل، فربما نعسوا في ذلك الوقت. ونقل البغدادي في "خزانة الأدب" 1/ 69 عن بعضهم قوله: ومن التشبيه الصادق هذا البيت، فإنَّه شبَّه النجوم بمصابيح رهبان لفرط ضيائها، وتعهد الرهبان لمصابيحهم وقيامهم عليها لتزهر إلى الصبح، فكذلك النجوم زاهرة طول الليل وتتضاءل إلى الصبح كتضاؤل المصابيح له. وقال: "تشب لقفال" لأن أحياء العرب بالبادية إذا قفلت إلى مواضعها التي تأوي إليه من مصيف إلى مشتى إلى مربع، أوقدت لها نيران على قدر كثرة منازلها وقلتها؛ ليهتدوا بها، فشبَّه النجوم ومواقعها في السماء بتفرق تلك النيران واجتماعها من مكان بعد مكان، على حسب منازل القفال بالنيران الموقدة لهم. اهـ.

وقرئ (يُوقد) بضم الياء وبالدال (¬1)، أي: المصباح. وهذه القراءة كالأولى في المعنى. وقرئ (تُوقدُ) (¬2) أي الزجاجة. والمعنى على مصباح الزجاجة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه (¬3). وقرئ (توقَّدُ) بفتح التاء (¬4) وتشديد القاف وضم الدال (¬5). وهذا أيضًا على حمل الكلام على الزجاجة والمعنى (تتوقَّد) فحذف التَّاء الثانية (¬6). وقوله تعالى {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} قال أبو علي: أي من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلّك (¬7) على ذلك قوله {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} (¬8). روى أبو أسيد (¬9)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كلوا الزَّيت (¬10) ¬

_ (¬1) وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم. "السبعة" ص 456، "التبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬2) بضم التاء والدال والتخفيف. وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم. "السبعة" ص 456، "التبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 325. (¬4) في (أ): (الياء)، وهو خطأ. ومهملة في (ظ). (¬5) وهي قراءة مجاهد، والحسن، والسُّلمي، وابن محيصن، وجماعة، ورواية المفضل عن عاصم. "الشواذ" لابن خالويه ص 102، "البحر المحيط" 6/ 456، "الدر المصون" 8/ 407، "إتحاف فضلاء البشر" 2/ 298. (¬6) "الحجة" الفارسي 5/ 325. (¬7) في (ظ): (ويدلك). (¬8) "الحجة" للفارسي 5/ 324. (¬9) هو: أبو أسيد -بفتح الهمزة- بن ثابت، الأنصاري، الزُّرقي، المدني. قيل: اسمه عبد الله، وكان يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-. "الكنى" لدولابي 1/ 15، "الاستغناء" لابن عبد البر 1/ 92، "الاستيعاب" 3/ 875، "أسد الغابة" 3/ 189، "الإصابة" 4/ 8. (¬10) في (ظ)، (ع): (بالزيت).

وادَّهنُوا (¬1) به؛ فإنَّه من شجرة مباركة" (¬2). وروى عبد الله بن جراد (¬3) أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك في الزيت والزيتون، اللهم بارك في الزيت والزيتون" (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ): (واندهنوا). (¬2) رواه الإمام أحمد 3/ 497، والدارمي 2/ 102، والترمذي في الأطعمة- باب: ما جاء في أكل الزيت 5/ 585 والحاكم في "مستدركه" 2/ 397 - 398 والبغوي في "شرح السنة" 11/ 311 - 312 وفي "تفسيره" 6/ 47. وتصحَّف في المطبوع من "التفسير" إلى: أسد بن ثابت وأبي أسلم الأنصاري. وصوابه: أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري كلهم من طريق سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن عطاء رجل كان بالشام وليس بابن أبي رباح، عن أبي أسيد، به. وعطاء هذا قال عنه الذهبي في "الميزان" 3/ 77: ليَّن البخاري حديثه، لا يدري من هو. لكن ذكر الألباني في "الصحيحة" (1/ ح 379) لهذا الحديث شواهد من حديث عمر وأبي هريرة وابن عباس -رضي الله عنه-، ثم قال (1/ ق 4 ص 112): وجملة القول أنَّ الحديث بمجموع طريقي عمر وطريق أبي أسيد -وتصحف في المطبوع إلى:- سعيد- يرتقي إلى درجة الحسن لغيره على أقل الأحوال. والله أعلم. (¬3) في (أ): (جواد)، وهو خطأ. وهو: عبد الله بن جراد بن المنتفق بن عامر بن عقل العامري، العقيلي. له صحبة، من أهل الطائف. روى عنه يعلى الأشدق وغيره. "التاريخ الكبير" للبخاري 5/ 35، "الاستيعاب" 3/ 880، "أسد الغابة" 3/ 132، "الإصابة" 2/ 279. (¬4) رواه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 84 أمن طريق يعلى الأشدق، عن عمه عبد الله بن جراد به. وفي سنده يعلى الأشدق قال عنه البخاري: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم. =

ومن البركة في الزيت والزيتون (¬1) ما ذكره عطاء، عن ابن عباس قال: فيها أنواع من المنافع، فالزيت يُسرج به، وهو إدام، وهو دهان، وهو دباغ، وهو وقيد (¬2) يوقد بحطبه وثفله (¬3)، وليس منه شيء إلا وفيه (¬4) منافع حتى الرَّماد يُغسل به الإبريسم (¬5). ومن بركتها أنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان، وهي تنبت في منازل الأنبياء والمرسلين والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبيًا بالبركة منهم إبراهيم الخليل (¬6) - عليه السلام - (¬7) ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا. وذكر الزجاج من بركتها أنَّ أغصانها تكون مورقة من أسفلها إلى أعلاها، وليس في الشجر شيء يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمّان (¬8). ¬

_ = ليس بشيء، ضعيف في الحديث. وقال أبو زرعة: هو عندي لا يُصدّق، ليس بشيء. انظر: "التاريخ الصغير" للبخاري 2/ 165، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 9/ 303، "المغني في الضعفاء" للذهبي 2/ 760، "لسان الميزان" لابن حجر 6/ 312. (¬1) في (ع): (الزيتونة). (¬2) في (ع): (وقود)، وهما لغتان. انظر: "القاموس المحيط" 1/ 346 (الوّقد). (¬3) في (أ): وتفله. ومهملة في (ظ). والثُّفل: ما سفل من كل شيء. "لسان العرب" 11/ 84 (ثفل). (¬4) في (ظ)، (ع): (وفيها). (¬5) ذكره عن ابن عباس: القُرطبيُّ 12/ 258، وذكره ابن الجوزي 6/ 43 من غير نسبة. (¬6) (الخليل): زيادة من (ع). (¬7) من قوله: ومن بركتها. إلى هنا، ذكره الثعلبي 3/ 84 أوصدَّره بقوله: قيل. وما ذُكر يحتاج إلى دليل. والله أعلم. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 45.

وكذلك قال أبو طالب في بعض القرشيين (¬1) وقد مات بغزَّة (¬2) يرثيه: بُورك الميت الغريب كما بورك ... نضر (¬3) الرمان والزيتون (¬4) ¬

_ (¬1) هو: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، ولذا يقول أبو طالب في مطلع قصيدته: ليت شعري مسافر بن أبي ... عمرو وليت يقولها المحزون وانظر خبر موت مسافر في "الأغاني" للأصفهاني 9/ 51، و"الخزانة" للبغدادي 10/ 468. (¬2) في (أ)، (ظ): (لعده) مهملة. وغزَّة: موضع معروف من مشارف الشام، انظر: "معجم البلدان" لياقوت 6/ 289 - 290 و"معجم ما استعجم" للبكري 2/ 997. ومسافر بن عمرو لم يمت بغزَّة، وإنَّما مات بهبالة أو تباله، قال أبو طاب في تلك القصيدة: ميت صدق على هبالة أمسيت ... ومن دون ملتقاك الحجون وفي "ديوان أبي طالب" ص 51: ميت صدق على تبالة وهبالة: ماء لبني عقيل- وقيل لبني نمير .. وقد ذكره ياقوت في "معجم البلدان" 8/ 442 وذكر فيه شعر أبي طالب. وانظر: "معجم ما استعجم" 2/ 1344. وتبالة: موضع بقرب الطائف. "معجم ما استعجم" للبكري 1/ 301. أما الذي مات بغزَّة من القرشيين فهو هاشم بن عبد مناف كما ذكر ذلك ياقوت 6/ 290، والبكري في "معجم ما استعجم" 2/ 997. (¬3) في (أ): (نضر)، أهمل أوله وفي (ع): (نضو)، وفي (ظ): (نصو) مهملة. (¬4) البيت لأبي طالب وهو منسوب له في: كتاب "النَّبات" للأصمعي ص 26 حيث قال: ويقال: نَضَح الشَّجر ينضح نضحًا، إذا تفطَّر للتوريق، قال أبو طالب بن عبد المطلب: بورك الميت الغريب كما بورك ... نضحُ الرمان والزيتون. و"نسب قريش" لأبي عبد الله المصعب الزبيري ص 137 بمثل رواية: الأصمعي. وفي "ديوان شيخ الأباطح أبي طالب جمع أبي هفَّان المهزمي وشرح أبي الفتح =

ولا يحتاج دهنه إلى عصّار يستخرجه (¬1) (¬2). وهذه كلها من بركات هذه الشجرة. وقوله {زَيْتُونَةٍ} بدل من قوله {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬3). وخص الزيتونة من بين سائر الأشجار؛ لأن دهنها أضوى وأصفي (¬4). ¬

_ = ابن جني" ص 21 بمثل رواية الأصمعي. و"الأغاني" للأصفهاني 6/ 51 وعنده: بورك .. .. نضر الريحان والزيتون و"المحرر الوجيز" لابن عطية 10/ 511، والقرطبي 12/ 258 وعندهما (نبع) في موضع (نضح). و"البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 457 وعنده: "نَضْر" بمثل رواية الواحدي. و"خزانة الأدب" للبغدادي 10/ 463، 467 وذكر رواية الديوان ورواية صاحب الأغاني، لكن رواية صاحب الأغاني عنده: .. كما بورك غُصنُ الريحان والزيتون. والبيت غير منسوب في "معاني القرآن" للزَّجَّاج 4/ 45 وفي المطبوع: .. كما بورك نظم .. ، و"أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 1388 وعنده: (نضر). أما معنى البيت فقد قال البغدادي في "الخزانة" 10/ 470: "بورك الميت" إلخ جملة دعائية، والبركة: الزيادة، والنضح -بفتح النون وسكون الضّاد المعجمة بعدها حاء مهملة-: القليل .. نضح الشجر إذا تفطَّر، وأراد به اسم المفعول أي الفروع المنشقة عند ما يخرج. والزيتون معطوف على نضح. (¬1) في (ع): (يخرجه أو يستخرجه). (¬2) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 84 أ. (¬3) ذكرأبو حيّان 6/ 458 هذا القول، ثم قال. وجوَّز بعضهم أن يكون عطف بيان، ولا يجوز على مذهب البصريين، لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلا في المعارف، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات. وذكر السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 408 القولين، وذكر أن القول بالبدلية هو أشهرهما. (¬4) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 84 أ.

قوله {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} قال ابن عباس في رواية عكرمة: هي شجرة بالصحراء (¬1)، لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود لزيتها (¬2). وقال السدي: يقول: ليست بشرقيّة يحوزها المشرق دون المغرب، وليست (¬3) بغربيّة يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنّها على رأس جبل في صحراء تصيبها الشمس النهار كله (¬4). وقال الكلبي: هي بفلاة (¬5) على تلعة (¬6) من الأرض لا يصيبها ظل غرب ولا شرق، ولا يسترها من المشرق ولا من المغرب شيء، وهو أصفى الزيت (¬7). وقال قتادة: هي شجرة لا يفي عليها ظل شرق ولا غرب (¬8)، ضاحية ¬

_ (¬1) في (أ): (الصحراء). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 747 ب، 48 أمن رواية عكرمة عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201 وزاد نسبته للفريابي وذكره البغوي 6/ 47، وابن الجوزي 6/ 43 من رواية عكرمة، عنه. (¬3) في (ع): (ولا). (¬4) رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 48 أ. وذكره عنه ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 3/ 291. (¬5) فلاة: الصحراء الواسعة أو المستوية التي ليس فيها شيء. "لسان العرب" 15/ 164 (فلا). (¬6) التَّلعة: ما ارتفع من الأرض. "القاموس المحيط" 3/ 10. (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 60 عن الكلبي من قوله: ولا يسترها. (¬8) في (أ) زيادة: (ويسترها من المشارق) بعد قوله: (ولا غرب)، وهو انتقال نظر من الناسخ إلى السطر الذي قبله.

للشمس (¬1). وزيتها أصفى الزيت (¬2). ونحو هذا قال عكرمة (¬3)، ومجاهد (¬4)، وجويبر عن الضحاك (¬5)، وأكثر المفسرين (¬6). واختاره الفراء، والزجاج (¬7). قال الفراء: الشَّرقية التي تأخذها الشمس إذا شرقت ولا تصبها [إذا غربت؛ لأن لها سترًا (¬8). والغربية التي تصيبها الشمس بالعشي (¬9) ولا تصيبها] (¬10) بالغداة، فلذلك قال {لَا شَرْقِيَّةٍ} وحدها {وَلَا غَرْبِيَّةٍ} وحدها ولكنها شرقية غربية، وهو (¬11) كما تقول في الكلام: فلان لا مُسافر ولا مُقيم، إذا كان يسافر ويقيم، والمعنى أنه ليس بمنفرد بإقامة ولا سفر (¬12). ¬

_ (¬1) في (ع): (للنّهار). (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 60. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 200 وعزاه أيضًا لعبد بن حميد والطبري. ولم أره في الطبري. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 3/ 84 أ، ورواه عنه سعيد بن منصور في "سننه" 160 أ، والطبري 18/ 142، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 48 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201 من رواية عبد بن حميد عنه. (¬4) رواه الطبري 18/ 142، وابن أبي حاتم 7/ 48. (¬5) قال السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201 - بعد أن ذكر هذا القول عن ابن عباس-: (وروى عبد بن حميد عن عكرمة، والضحَّاك مثله). (¬6) انظر: "الطبري" 18/ 142، ابن أبي حاتم 7/ 47 ب، 48 أ، ب، ابن كثير 3/ 290 - 291، "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 200 - 201. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزَّجَّاج 4/ 45. (¬8) في (أ): (يسترا). (¬9) (بالعشي): ساقطة من (ع). (¬10) ساقط من (ظ). (¬11) في (أ): (وهذا). (¬12) "معاني القرآن" للفراء 2/ 253.

ونحو هذا قال أحمد بن يحيى (¬1)، فقال: يقول: هي شرقية غربية، كما تقول: ليس هذا بأبيض ولا أسود، إذا كان له من كلا الأمرين قسط ونصيب. قال الفرزدق: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم يكثر (¬2) القتلى (¬3) بها حين سلَّت (¬4) يعني: شاموا سيوفهم وأكثروا بها من القتلى. وقال الزجاج: أي تصيبها الشمس بالغداة والعشي فهو أنضر لها وأجود لزيتها وزيتونها (¬5). وفسر قوله {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} بضد التفسير الذي ذكرنا: ¬

_ (¬1) هو ثعلب. وقد ذكر عنه هذا القول الثعلبي 3/ 84 أ. (¬2) في (ظ)، (ع): (يكثروا). (¬3) في (ظ)، (ع). (القتل). (¬4) البيت في "المعاني الكبير" لابن قتيبة 2/ 899 - 900، 1081، و"الكامل" للمبرد 1/ 308، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 259 و"لسان العرب" 12/ 330 (شيم). قال ابن قتيبة 2/ 900: أراد لا يشيمون سيوفهم ولم يكثر القتلى بها، ولكنهم يشيمونها إذا أكثروا بها القتلى. وقال 2/ 1081: يقول: لم يغمدوا سيوفهم والقتلى لم تكثر حين سلت، ولكن أغمدوها حين كثرت القتلى. وقال المبرّد في "الكامل" 1/ 308: وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويله: (لم يشيموا): لم يغمدوا، (ولم تكثر القتلى) أي لم يغمدوا سيوفهم إلاَّ وقد كثرت القتلى بها حين سلت. وقال ابن الأنباري ص 295: أراد: لم يغمدوا سيوفهم حتى كثرت القتلى. (¬5) "معاني القرآن" للزجاح 4/ 45.

قال أبو مالك في قوله {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ}: هي شجرة بين (¬1) الأشجار، لا تصيبها الشمس في شرق ولا غرب (¬2). وهذا قول أبي روق، والضحاك (¬3)، وسعيد بن جبير (¬4)، قالوا: لا تصيبها الشمس لا شرقًا ولا غربًا. قال سعيد: وذاك أجود ما يكون من الزيت (¬5). وهذا القول يروى عن أبيّ بن كعب رحمه الله قال: هي شجرة التفَّ بها الشجر (¬6) فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت (¬7). وروى الربيع بن أنس (¬8)، عن أبي العالية قال: ليس هذا في الدنيا ¬

_ (¬1) في (أ): (من). (¬2) قال السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201 - بعد أن ذكر عن ابن جبير نحو هذا القول: وأخرج عبد بن حميد عن أبي مالك وكعب نحوه. (¬3) جاء عن الضحاك خلاف هذا القول، فقد ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201. بعد ذكره لقول ابن عباس: شجرة لا يظلها كهفٌ ولا جبل ولا يواريها شيء، وهو أجود لزيتها، قال: وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والضحاك .. مثله. (¬4) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (ل 160 أ)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 47 ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) رواه ابن أبي حاتم 7/ 48 بمثله. ورواه سعيد بن منصور في "سننه" (ل 160 أ) بلفظ: وهي من أجود الشَّجر. (¬6) في (ظ)، (ع): (الشجرة). (¬7) رواه الطبري 18/ 138، وابن أبي حاتم 7/ 47 ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬8) في (ظ): (عن أنس)، وهو خطأ.

إنما هو مثل ضرب (¬1). ونحو هذا قال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، وإنَّما هو مثل ضربه الله -عز وجل- (¬2). وقال ابن زيد: يعني أنها شامية؛ لأنَّ الشَّام لا شرقي ولا غربي (¬3). والقول هو الأول. قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا} زيت الزيتونة يعني: الدهن {يُضِيءُ} المكان من ضيائه وصفائه (¬4). {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ولو لم تصبه النار. واختلفوا في المراد بهذا المثل. فروي عن أبي بن كعب أنه قال: هذا مثل لعبد قد جُعل الإيمان والقرآن في صدره، فالمشكاة: قلبه، والمصباح: هو الإيمان والقرآن، والزجاجة: صدره (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عنه. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 84 أبهذا اللفظ. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 60، والطبري 18/ 142، وابن أبي حاتم 7/ 48 ب بنحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 201 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. قال الثعلبي 3/ 48 أ: وقد أفصح القرآن بأنَّها من شجر الدنيا، لأنَّه أبدل من الشجرة فقال: "زيتونة". وضعَّف هذا القول الرازي في "تفسيره" 23/ 236، وردَّه الشنقيطي كما في "تفسير سورة النور" ص 138. (¬3) رواه الطبري 18/ 142، وابن أبي حاتم 7/ 48 ب بنحوه مختصرًا. (¬4) الثعلبي 3/ 84 ب. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 85 أوعنده: المشكاة: نفسه. =

وهذا قول الكلبي، والسدي، وقتادة (¬1) والحسن، وابن زيد (¬2)، وقول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬3). قال ابن عباس في قوله {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}: يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورًا على نور، كقول إبراهيم -عليه السلام- قبل أن تجيئه المعرفة {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] من غير أن أخبره (¬4) أحدٌ أن له ربًّا (¬5)، فلما أخبره الله أنَّه ربه ازداد هدى على هدى (¬6). ¬

_ = ورواه الطبري 18/ 138، وابن أبي حاتم مفرقًا 7/ 45 أ - ب، 46 أ - ب عنه -رضي الله عنه- لكن في روايتهما أن المشكاة: صدره، والزجاجة: قلبه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197 بمثل رواية الطبري وابن أبي حاتم، وعزاه لهما وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم. (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 49 ب عن السدي وقتادة بمعناه مختصرًا. (¬2) ذكره الثعلبي 3/ 85 أعن الحسن وابن زيد: بنحوه. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 45 أعن الحسن بنحوه. ورواه الطبري في "تفسيره" 18/ 139، عن ابن زيد، بنحوه. (¬3) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 45 أمن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (مثل نوره): مثل نور من آمن بالله. (¬4) عند الطبري: يخبره. (¬5) ذكر ابن كثير 2/ 151 اختلاف المفسرين في قوله إبراهيم {هَذَا رَبِّي} هل هو مقام نظر أو مناظرة، ثم قال: والحق أنَّ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان في المقام مناظرًا لقومه، مبينًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام. ثم بيَّن ذلك وساق الأدلة على هذا الأمر. (¬6) رواه الطبري 18/ 138. وذكره مختصرًا السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في "الأسماء والصفات".

قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال مجاهد: النار على الزيت (¬1). وقال الكلبي: المصباح نور، والقنديل نور (¬2). قال ابن عباس: وهو مثل لإيمان المؤمن وعمله (¬3). وقال الحسن: يعني أن القرآن نور من الله لخلقه مع ما قد (¬4) قام لهم الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن (¬5). وقال أُبي بن كعب: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني أن المؤمن يتقلَّب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة (¬6). وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن (¬7). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {مَثَلُ نُورِهِ} يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬8). قال أبو إسحاق: وذلك جائز أن يراد بالنور في قوله {مَثَلُ نُورِهِ} محمد ¬

_ (¬1) رواه الطبري 18/ 143، وابن أبي حاتم 7/ 49 ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 200 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. (¬2) ذكره عن ابن الجوزي 6/ 43 لكن فيه الزجاجة بدلاً من القنديل. (¬3) رواه الطبري 18/ 139، وابن أبي حاتم 7/ 49 أ، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 198 ونسبه أيضًا لابن مردويه. (¬4) (قد): ساقطة من (أ). (¬5) ذكره عنه البغوي 6/ 49، وذكر الثعلبي 3/ 85 أهذا القول بنصِّه ولم ينسبه لأحد. (¬6) رواه الطبري 18/ 138، وابن أبي حاتم 7/ 49، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم. (¬7) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 49 ب، وذكره عنه البغوي 6/ 49، وابن كثير 3/ 291. (¬8) هذا مروي عن سعيد بن جبير والضحاك وكعب. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 45 أ، البغوي 6/ 45.

-صلى الله عليه وسلم- لأنَّه هو المرشد والمبيّن والناقل عن الله -عز وجل- على ما هو نيّر بيّن (¬1). والمشكاة: قلبه، والمصباح: مثل لما في قلبه من الإيمان والنّور (¬2) والنبوة والحكمة، والزجاج: مثل لصدره في الصفاء والحسن والنقاء، ثم قال: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} يقول: استنار نور محمد -صلى الله عليه وسلم- من نور إبراهيم - عليه السلام -؛ لأنَّه من ولده وعلى دينه ومنهاجه وسنّته، ويعني بالزيتونة حسن طاعة إبراهيم لله تعالى في دار الدنيا، ثم قال في صفة الزيتونة {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} يقول: إن إبراهيم -عليه السلام- لم يكن يصلي (¬3) قبل المشرق ولا قبل المغرب أي: لم يكن يصلي قبلة اليهود ولا قبلة النصارى (¬4) وقوله {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} يقول: لو أنَّ إبراهيم لم يكن نبيًا لأعطاه الله بحسن (¬5) طاعته لله في الدنيا الثواب مع الأنبياء، ثم قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} يقول: استنار نور محمد -صلى الله عليه وسلم- من نور إبراهيم. وهذا كلام ابن عباس في رواية عطاء (¬6). ونحو هذا روي عن ابن عمر (¬7) وكعب الأحبار (¬8) في هذه الآية. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 43. (¬2) (والنّور): ساقطة من (ع). (¬3) في (أ): (يصل). (¬4) في (ظ): (لليهود، للنّصارى). (¬5) في (ظ): (لحسن). (¬6) لم أجده. (¬7) رواه الطبراني في "الكبير" 12/ 317، وفي، "الأوسط" 2/ 501 - 502، وابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" 7/ 2556، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 84 ب كلهم من طريق الوازع بن نافع، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، فذكر نحوه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 83: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه الوازع بن نافع وهو متروك. (¬8) رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 137، وابن أبي حاتم في "تفسيره" مفرقًا 7/ 46 أ =

قال القرظي: المشكاة: إبراهيم، والزجاجة: إسماعيل، والمصباح: محمد -صلى الله عليه وسلم-، والشجرة المباركة: إبراهيم؛ لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا. وقوله {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} يقول: تكاد محاسن محمد -صلى الله عليه وسلم- تظهر للناس قبل أن يوحى (¬1) إليه {نُورٌ عَلَى نُورٍ} نبي مرسل من نسل نبي مرسل (¬2). وقال مقاتل: شبه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزجاجة، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمصباح، فورث النبوة من أبيه إبراهيم -عليه السلام-، وهو قوله {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬3). ¬

_ = عن شمر بن عطية قال: جاء ابن عباس رضي الله عنهما إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله "الله نور السموات والأرض"، فذكر نحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 198 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردوية. وهذا الأثر منقطع؛ فإنَّ شمَّر بن عطية. لم يلق ابن عباس. قال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1389 - بعد ذكره هذا القول-: وهذا كلّه عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه، ولكن على الطريقة التي شرعناها في قانون التأويل لا على الاسترسال المطلق الذي يخرج الأمر عن بابه، ويُحمِّل على اللفظ ما لا يطيقه. (¬1) في (ظ)، (ع): (أوحى). (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 84 ب، 85 أ، والبغوي 6/ 48، والقرطبي 12/ 263. (¬3) عند الثعلبي 3/ 85 أ: روى مقاتل، عن الضحاك: شبَّه عبد المطلب بالمشكاة .. بمثل ما ذكره الواحدي هنا. فالذي يظهر أن الواحدي نقله عن الثعلبي وأسقط الضحاك؛ لأن قول مقاتل في "تفسيره" والذي ينقل منه الواحدي عادة - يختلف عما هنا، فإن فيه 2/ 38 ب: يعني بالمشكاة صُلب عبد الله أبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويعني بالزجاجة جسد محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويعنى بالسِّراج الإيمان في جسد محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلما =

36

قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} قال ابن عباس: لدينه الإسلام (¬1). وإن شئت قلت للقرآن، وإن شئت لمحمد -صلى الله عليه وسلم- على اختلاف التفسير في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ}. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} ويبيّن الله الأشباه للناس تقريبًا إلى الأفهام وتسهيلًا لسبل الإدراك (¬2) {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. 36 - {فِي بُيُوتٍ} اختلفوا في المتصل به من قوله {فِي بُيُوتٍ} فذكر الزجاج (¬3) والفراء (¬4) قولين: أحدهما: أنَّه من صلة المشكاة على تقدير: كمشكاة فيها مصباح في بيوت [فيكون قوله {فِي بُيُوتٍ}] (¬5) وصفًا للنكرة كما كان قوله {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وصفًا لها. وهذا القول اختيار أبي علي، قال: وفي قوله {فِي بُيُوتٍ} ضمير مرفوع يعود إلى الموصوف، لأن الظرف في الصفة مثله في الصلة (¬6). ¬

_ = خرجت الزجاجة فيها المصباح من الكُوَّة صارت الكوَّة مظلمة فذهب نورها، والكوة مثل عبد الله ثم شبَّه الزجاجة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- .. ويعني بالشجرة إبراهيم. اهـ. وقد تقدَّم كلام ابن العربي في هذه الأقوال البعيدة. (¬1) ذكره عنه البغوي 6/ 49. وذكره ابن الجوزي 6/ 44 من غير نسبة. (¬2) الثعلبي 3/ 85 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 45. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 253 - 254. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) "الحجة" لأبي علي 5/ 322.

القول الثاني: أنَّ (فِي) متصلة بقوله (يُسَبِّحُ لَهُ) ويكون (¬1) (فِيهَا) تكرارًا على التوكيد كقولك: في الدار قام زيد فيها. وهذا القول إنّما هو على قراءة العامة (¬2). [وعلى قراءة] (¬3) من قرأ (يسبَّح) بفتح الباء لا تكون (في) من صلة التسبيح. وذكر غيرهما (¬4) أن (¬5) (في) من صلة (توقد). هذا الذي ذكرنا معنى قول أهل المعاني. والاختيار أن لا تجعل هذه الآية متصلة بما قبلها؛ لأنَّ الآية الأولى في (¬6) ضرب المثل لنور المؤمن بالمشكاة التي فيها مصباح يُزهر بزيت (¬7) مضيء. ولا فائدة في وصف المصباح بكونه في بيوت أو في غيرها، ولا تأكيد لضوئها بأن تُوصف (¬8) أنَّها في بيوت يذكر فيها اسم الله، وأيضًا فإنَّه وحدّ المشكاة وجمع البيوت، ولا تكون مشكاة في بيوت (¬9)، فإذن الأولى أن يقال: قوله: {فِي بُيُوتٍ} ابتداء كلام في وصف مساجد المؤمنين (¬10) ¬

_ (¬1) (ويكون): ساقطة من (أ). (¬2) قرأ جمهور القراء: "يسبّح" بكسر الباء. وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: "يُسبَّح" بفتح الباء. "السبعة" ص 456،" التبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) ذكر ذلك الطبري 14/ 144، والثعلبي 3/ 85 ب. وحكاه ابن عطية 10/ 513، وأبو حيان 6/ 457 عن الرُّماني. (¬5) (أنَّ): ساقطة من (ع). (¬6) في (ع): (من). (¬7) في (ع): (بنور زيت). (¬8) في (ع): (تذكر). (¬9) حكى الرازي 24/ 2 هذا الاعتراض عن أبي مسلم بن بحر الأصفهاني. (¬10) في (أ)، (ع): (والمؤمنين).

الذين يذكرون الله فيها ويعبدونه وُيصلّون له. وأما معنى البيوت: فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد المساجد (¬1). وهو قول أبي صالح (¬2)، ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬3)، ومقاتل (¬4)، وعكرمة (¬5)، والحسن (¬6) وأكثر المفسرين (¬7). وعلى هذا الآية عامة في جميع المساجد. قال ابن عباس فيما روى عنه سعيد بن جبير: المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تُضيء لأهل السَّماء (¬8) كما (¬9) تضيء النُّجوم لأهل الأرض (¬10). ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكره عنه من رواية عطاء. وقد روى الطبري 18/ 144، وابن أبي حاتم 7/ 49 ب هذا القول عنه من رواية علي بن أبي طلحة. ورواه الطبري 18/ 144 أيضًا من رواية العوفي. (¬2) ذكره عنه ابن أبي حاتم 7/ 49 ب، وابن كثير 3/ 292. (¬3) رواه عنه الطبري 18/ 144 من رواية ابن أبي نجيح. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 202 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬5) ذكره عنه ابن أبي حاتم 7/ 49 ب، وابن كثير 3/ 292. وله قول آخر: أنَّها البيوت كلها. رواه عنه الطبري 18/ 144، وابن أبي حاتم 7/ 50 أ. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 60، والطبري 18/ 144. (¬7) انظر: "الطبري" 18/ 144، ابن الجوزي 6/ 46، ابن كثير 3/ 292. (¬8) في (أ): (الشهادة). (¬9) (كما): ساقطة من (أ). (¬10) رواه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 85 ب من طريق بُكير بن شهاب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. وبكير بن شهاب قال فيه ابن حجر في "التقريب" 1/ 107: مقبول. ومعنى مقبول عن ابن حجر: حيث يتايع، وإلا فليَّن الحديث. انظر: "مقدمة =

ومنهم من خصَّص البيوت هاهنا، فقال: هي أربعة مساجد لم يبنهنَّ إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، وبيت (¬1) أريحا بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة ومسجد قُباء بناهما النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا قول ابن بريدة. وقال السدي: هي بيوت المدينة (¬2). وإنَّما خصَّ بيوت المدينة لأنها كانت يُصلّى فيها، ويذكر الله فيها حين نزلت هذه الآية. وروى ليث عن مجاهد قال: هي بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وقد روي مرفوعًا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية، فسئل أي بيوت هذه؟ فقال: "بيوت الأنبياء" (¬4). ¬

_ = التقريب" ص 5، ولم يتابع بكيرًا أحدٌ، فإسناده ضعيف. وذكره البغوي 6/ 49 من رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس. (¬1) (بيت): ساقط من (ع). وفيها: وأريحا. والمراد بأريحا -وهي بالفتح ثم كسر الراء-: بلدة في الأردن بالشام، بينها وبين بيت المقدس مسافة يوم للفارس. "معجم البلدان" 1/ 210. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 3/ 85 ب. (¬3) رواه ابن أبي حاتم 7/ 50 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 203 وعزاه لابن أبي حاتم. وسنده ضعيف، لأن فيه ليث بن أبي سليم وهو مجمع على ضعفه. وما تقدم عن مجاهد هو الصحيح. وذكر هذا القول عن مجاهد أيضًا ابن الجوزي 6/ 6، والقرطبي 12/ 265. (¬4) رواه ابن مردويه كما في "الدر المنثور" 6/ 203، والثعلبي في "تفسيره الكشف والبيان" 3/ 85 ب عن أنس بن مالك، وعن بريدة. وهذا الحديث لا يصح؛ لأنه من رواية نفيع بن الحارث عن أنس وبريدة. ونفيع =

والقول هو الأول. وقوله {أَذِنَ اللَّهُ} قال مقاتل: أمر الله (¬1). {أَنْ تُرْفَعَ} قال ابن عباس (¬2)، ومجاهد (¬3)، ومقاتل (¬4)، وغيرهم (¬5): أن تبنى، كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} [البقرة: 127]. وقال الحسن: (ترْفَعَ) أي: تُعظَّم (¬6). ¬

_ = هذا قال عنه الحاكم: روى عن بريدة وأنس أحاديث موضوعة. وقال ابن عبد البر: اتفق أهل العلم على نكارة حديثه وضعفه، وكذّبه بعضهم، وأجمعوا على ترك الرواية عنه، وليس عندهم شيء. وقال الذهبي: هالك، تركوه. وقال ابن حجر: متروك، وقد كذّبه ابن معين. انظر: "الاستغناء" لابن عبد البر 1/ 604، " المغني في الضعفاء" للذهبي 2/ 701، "تهذيب التهذيب" لابن حجر 10/ 470 - 472، "تقريب التهذيب" لابن حجر 2/ 306. (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬2) ذكره عنه الرازي 24/ 3، وأبو حيان 6/ 458. وروى الطبري 18/ 144، وابن أبي حاتم 7/ 49 ب عنه قال: تكرَّم، ونهى عن اللغو فيها. (¬3) رواه الطبري 18/ 145، وابن أبي حاتم 7/ 50 أ، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 202 وعزاه لعبد بن حميد أيضًا. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬5) هو الطبري: قال في "تفسيره" 18/ 144: معناه: أذن الله أن ترفع بناءً، كما قال جل ثناؤه-: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) وذلك أنَّ ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية. (¬6) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 60 - 61، والطبري 18/ 145، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 202 - 203 وعزاه لمن تقدم. وحكى الرَّازي في "تفسيره" 24/ 3 في قوله "ترفع" قولاً ثالثُا هو مجموع الأمرين: أي تبنى وتعظم. ولعل هذا الأقرب؛ لأنَّه يعم القولين. =

والمعنى: لا يتكلم فيها بالخنا (¬1). قال أبو علي: قوله ([أذن الله] (¬2) أن {تُرْفَعَ}) صفة للبيوت، والعائد منها إلى البيوت الذكر الذي في قوله {تُرْفَعَ} (¬3). قوله {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} قال مقاتل: يوحّد الله فيها (¬4). ¬

_ = قال العلامة الشنقيطي في "تفسير سورة النور" ص 141: والرفع قسمان: الأول: الرفع الحسي، وهو رفع القواعد والبناء، ومنه قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل). الثاني: الرفع المعنوي، وذلك يكون بأداء عبادة الله فيهان وصونها عما ينجسها حسيًّا كان أو معنويًا كارتكاب المنكرات. وعمارة المسجد الحقيقية هي العمارة المعنوية، فلو زخرف المسجد وارتكبت فيه المنكرات، أو لم تقم فيه عبادة الله، فليس بمعمور حقيقة. ولو بني بالنَّخل والجريد والطين وأقيمت فيه العبادة، وطهِّر من الأقذار الحسيِّة والمعنوية فهو معمور حقيقة. ولهذا كان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبنيًّا بالجريد والنخل ومع ذلك كانت عمارته أعظم من اليوم، وإن كانت عمارته الحسيّة اليوم أعظم من ذلك اليوم. (¬1) الخنا من الكلام: أفحشه. "لسان العرب" 14/ 244 (خنا). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 322. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. وفي الآية قولان آخران حكاهما الماوردي 4/ 107. أحدهما: يتلى فيها كتابه. قاله ابن عباس. الثاني: تُذكر فيها أسماؤه الحسنى. قاله ابن جرير. وما حكاه الماوردي عن ابن عباس رواه الطبري 18/ 145، وابن أبي حاتم 7/ 50 ب، عنه من رواية علي بن أبي طلحة. وقول الطبري في "تفسيره" 18/ 145. قال أبو حيان 6/ 458: (ويذكر في اسمه) ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر.

37

{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} يُصلى لله في تلك البيوت. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} يعني الصَّلوات المفروضة في قول المفسرين (¬1). 37 - {رِجَالٌ} وهي ترتفع بقوله {يُسَبِّحُ}. وقرأ ابن عامر (يُسَبَّحُ) بفتح الباء (¬2)، وهذا على أنَّه أقام الجار والمجرور مقام الفاعل، ثم فسر من يُسبّح؟ فقال: (رجال) أي: يسبّح له فيها رجال (¬3)، فرفع رجالًا بهذا المضمر الذي دلّ عليه قوله: (يسبح)؛ لأنه إذا قال (يُسَبّح) دلّ على فاعل التسبيح، ومثل هذا قول الشاعر (¬4): ¬

_ (¬1) حكى الثعلبي 3/ 86 أهذا القول عن المفسرين. وحكاه البغوي 6/ 47 عن أهل التفسير. ولم يذكرا غيره. وعليه اقتصر الطبري 18/ 146، وابن كثير 3/ 294. وحكى الماوردي 4/ 107، وابن الجوزي 6/ 47، والرازي 24/ 4 قولين في التسبيح: أحدهما: ما ذكر هنا. وعزاه الرازي للأكثرين. الثاني: أنه التسبيح المعروف. وعزاه ابن الجوزي لبعض المفسرين. واستظهر الرازي هذا الوجه: لأن الصلاة والزكاة قد عطفهما على ذلك من حيث قال "ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". والأولى عموم ذلك للصلاة والتسبيح المعروف: ولأنَّ الصلاة مشتملة على التسبيح. (¬2) وقرأ الباقون بكسرها. "السبعة" ص 456، "التَّبصرة" 273، "التيسير" ص 162. (¬3) (رجال): ساقطة من (ظ). (¬4) هذا صدر بيت، وعجزه: ومختبط مما تُطيح الطوائح وهو في "الكتاب" لسيبويه 1/ 288 منسوبًا للحارث بن نهيك، وكذلك في "شرح شواهد الإيضاح" ص 94، و"شرح المفصل" لابن يعيش 1/ 80. وهو في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 349، والطبري 14/ 21 منسوبًا لنهشل بن حرِّيّ، وروايته عندهما: ليبك يزيدُ بائس لضراعة ... وأشعثُ ممن طوّحته الطوائح وصوَّب البغدادي في "خزانة الأدب" 1/ 313 هذه النسبة، وذكر أقوالًا أخر في =

ليبك يزيد ضارع لخصومة لما قل: ليبك (¬1) يزيد دلّ على فاعل للبكاء كأنَّه قيل: من يبكه (¬2)؟ فقيل: يبكه ضارع. والوجه قراءة الجمهور، فيكون فاعل يُسبِّح (رجال) الموصوفون (¬3) بقوله: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} (¬4) أي: لا تشغلهم تجارة (¬5). ¬

_ = نسبة هذه الأبيات. والبيت من غير نسبة في: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 36، "الإيضاح العضدي"، للفارسي ص 115، و"الخصائص" لابن جني 2/ 353. وهو من أبيات في رثاء يزيد بن نهشل ذكرها البغدادي في "الخزانة" 1/ 310، أولها: لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل ... حشا جدث تَسفي عليه الروائح. قال السيرافي في "شرح أبيات سيبويه" 1/ 112: والضارع: الذي قد ذل وضعف، والمختبط: السائل، وتطيح: تهلك.، وقوله: مما تطيح (وما تطيح) مصدر بمنزلة الإطاحة، كما تقول: يعجبني ما صنعت، أي: يعجبنى صنيعك. وأراد: مختبط من أجل ما قد أصابه من إطاحة الأشياء المطيحة، أي: .. المهلكة. يريد أنه احتاج وسأل من أجل ما نزل به. وقال 1/ 111: الشاهد فيه أنه رفع "ضارع" فعلٌ، كأنه قال- بعد قوله: ليبك يزيد: ليبكه ضارعٌ. (¬1) في (أ): (ليبك). (¬2) في (أ): (يبكيك). (¬3) في (أ): (الموصوفين). (¬4) من قوله: وقرأ ابن عامر، إلى هنا. نقلاً عن "الحجة" لأبي علي 5/ 325 - 326 مع اختلاف يسير جدًا. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 456، "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 109 - 110، "حجة القراءات" لابن زنجلة 501، "الكشف" لمكي 2/ 139. (¬5) الثعلبي 3/ 86 أ، والطبري 18/ 146.

قال مقاتل: يعني الشراء (¬1). وبنحوه قال الواقدي. وعندهما أنَّ التجارة اسم للشراء هاهنا خاصة لقوله {وَلَا بَيْعٌ} فذكر البيع مفردًا. وقال الفراء: التجارة لأهل الجَلَب، والبيع ما باعه الرجل على يديه، كذا جاء في التفسير (¬2). وهذا القول أولى؛ لأن التجارة اسم للبيع والشراء فيبعد أن يخصّ بأحدهما (¬3). وخُصّت التجارة بالذكر من بين الشواغل عن الصلوات (¬4)؛ لأنَّها أعظم ما يشغل بها الإنسان عن الصلاة وأعمها (¬5). قوله {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قال المقاتلان: يعني الصلوات المفروضة (¬6). وقال عطاء: عن شهود الصلاة المكتوبة (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 253. (¬3) قد ذكر المؤلف هنا قولين، وفيه قول ثالث ذكره أبو حيان 6/ 459 قال: ويحتمل أن يكون (ولا بيع) من ذكر خاص بعد عام: لأنَّ التجارة هي البيع والشراء طلبًا للربح، ونبّه على هذا الخاص لأنَّه في الإلهاء أدخل، من قبل أنَّ التَّاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكليّة من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح؛ لأنَّ هذا يقين وذاك مظنون. (¬4) في (ظ): (الصلاة). (¬5) ذكر الثعلبي 3/ 86 أهذا القول، وعزاه لأهل المعاني. (¬6) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" (ج 7 ل 50 ب) عن مقاتل بن حيان: وذكره عنه ابن كثير 3/ 295. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 39 أ. (¬7) ذكره عنه النحاس في "معاني القرآن" 4/ 539. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 207 وعزاه للفريابي.

قال ابن عباس: يريد أنهم إذا حضر (¬1) وقت الصلاة لم يلههم حب الربح أن يأخروا الصلاة عن وقتها (¬2). وقال الثوري: كانوا يشترون ولا يدعُون الصلاة في الجماعات في المساجد (¬3). وقوله {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} قال الكلبي: يعني: وإتمام الصلاة (¬4). والمعنى: لا تشغلهم عن أدائها وإقامتها لوقتها (¬5). وفائدة قوله {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} بعد قوله {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} والمراد به الصلاة المفروضة إقامتها لوقتها (¬6). قال الزجاج: يقال: أقمت الصلاة إقامة. وكان أصلها: إقوامًا (¬7)، ولكن قلبت الواو ألفًا؛ فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما وهي المنقلبة لالتقاء الساكنين، وأدخلت الهاء عوضًا من المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا مقام الهاء المحذوفة (¬8). وزاد الفراء بيانًا فقال: ومثله مما سقط بعضه فجعلت فيه الهاء ¬

_ (¬1) في (ظ): (حضروا). (¬2) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 207 عنه، نحوه، وعزاه لابن مردويه. (¬3) لم أجده عن الثوري، وقد روى أن أبي حاتم 7/ 51 أ، ب عن الضحاك وسعيد بن أبي الحسن وعطاء نحو هذا المعنى. (¬4) ذكر ابن الجوزي 6/ 48 هذا القول مع زيادة: "أداؤها لوقتها". ولم ينسبه لأحد. (¬5) الطبري 18/ 147 مع اختلاف يسير. (¬6) ذكر البغوي 6/ 51، وابن الجوزي 6/ 48 هذا المعنى، ولم ينسباه لأحد. (¬7) في (أ): (قواما)، وفي (ظ): (أقاموا)، والمثبت من (ع)، والمعاني. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 46.

قولهم: وعدته عدةً، ووزنته زنةً، ووجدت من المال جدةً. لمَّا أسقطت الواو من أوله كثِّر بالهاء في آخره، وإنّما أستجيز سقوط الهاء من قوله {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ}؛ لإضافتهم إياها. وقالوا (¬1): الخافض وما (¬2) خفض بمنزلة الحرف الواحد، فلذلك أسقطوها (¬3) في الإضافة، وأنشد: إن الخليط أجدُّوا (¬4) البين فانجردوا (¬5) ... وأخلفوك عد (¬6) الأمر الذي وعدوا (¬7) يريد: عدة الأمر فاستجاز إسقاط الهاء حين أضافها (¬8). وقوله: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} قال ابن عباس: إذا حضر وقت الزكاة (¬9) لم يحبسوها. هذا قوله في رواية عطاء (¬10). وهو قول الحسن، قال: [يعني الزكاة الواجبة في المال (¬11). ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): زيادة: (في)، بعد قوله: (قالوا)، وليست عند الفراء في "معانيه". (¬2) في (أ): (ما) سقطت الواو. (¬3) في (ظ): (كذلك سقوطها). (¬4) في جميع النسخ: (أجد)، والتصويب من معاني الفراء وغيره. (¬5) في (ع): (وانحدروا). (¬6) في (أ): (عدا). (¬7) البيت أنشده الفراء في "معانيه" 2/ 254 من غير نسبة. وهو منسوب للفضل بن عباس اللهبي في "شرح شواهد الشافية" ص 64، و"لسان العرب" 7/ 651 (غلب)، و"المقاصد النحوية" للعيني 4/ 572. والبيت بلا نسبة في: الطبري 18/ 147، و"الخصائص" 3/ 171، و"لسان العرب" 7/ 293 (خلط). (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 254. (¬9) في (ظ) زيادة: (الواجبة في المال) بعد قوله: (الزكاة) وهو انتقال نظر من الناسخ. (¬10) ذكره عنه البغوي 6/ 51 من غير نصَّ على رواية عطاء. (¬11) ذكره عنه الثعلبي 3/ 86 ب، والقرطبي 12/ 280.

وروي عن ابن عباس أنه قال:] (¬1) يعني بالزكاة (¬2): طاعة الله والإخلاص (¬3). وعلى هذا المعنى أنهم يبذلون من أنفسهم الطاعة الخالصة لله، ولعل الأقرب هذا؛ فإنه ليس كل المؤمنين من أهل الزكاة الواجبة في المال، بل عامتهم فقراء لا تجب عليهم الزكاة فلا يحسن إخراجهم عن هذه الجملة، كيف وقد قال مقاتل (¬4) في هذه الآية: نزلت في أصحاب الصفُّة، وهم كانوا من أفقر الناس وأزهدهم في الدنيا. وقوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ذكروا فيه ثلاثة (¬5) أقوال: أحدها: أن القلوب زالت عن أماكنها من الصدور، فنشبت (¬6) في الحلوق عند الحناجر، والأبصار تزرق (¬7) فتكون زرقًا. قاله مقاتل بن سليمان (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (ظ). (¬2) في (أ): (الزكاة). (¬3) رواه عنه الطبري 18/ 147 - 148، وابن أبي حاتم 7/ 52 أمن طريق علي بن أبي طلحة. (¬4) مقاتل هنا هو ابن حيَّان. وقد ذكر عنه هذا القول الثعلبي 3/ 86 ب. (¬5) في (أ) زيادة: (أوجه) بعد قوله: (ثلاثة)، ولا معنى لها. (¬6) (فنشبت): أي علقت. الصحاح للجوهري 1/ 224 (نشب). (¬7) في "تفسير مقاتل": تتقلّب. ومعنى تزرق: يغشى سوادها بياض، وقيل خضرة في سواد العين. "لسان العرب" 10/ 138 - 139 (زرق). (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ.

ونحوه قال الضحاك: يُحشر الكافر وبصره حديد، فترزق [عيناه] (¬1)، ثم يعمى، وينقلب فلبه في جوفه يريد أن يخرج فلا يجد مخلصًا، حتى يقع في الحنجرة، فذلك قوله {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] (¬2). القول الثاني: أن القلوب تتقلب من الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب من أين يؤتون كتبهم؟ أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل؟ (¬3). القول الثالث: ذكره الفراء، والزجاج، وابن قتيبة. وهو: أنَّ من كان قلبه مؤمنًا بالبعث والقيامة ازدافى بصيرة ورأى ما وعد به، ومن كان قلبه (¬4) على غير ذلك رأى ما يوقن معه بأمر القيامة والبعث؛ فعلم بقلبه وشاهد ببصره، فذلك تقلب القلوب والأبصار. هذا كلام أبي إسحاق (¬5)، وهو معنى قول الفراء (¬6). وقال ابن قتيبة: يريد أنَّ القلوب يوم القيامة تعرف الأمر يقينًا فتنقلب عما كانت عليه من الشك والكفر، والأبصار ترى يومئذ ما كانت مغطاة عنها فتنقلب عما كانت عليه، ونحوه قوله {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22] (¬7). ¬

_ (¬1) (عيناه): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬2) رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 52 أمختصرًا. وذكره عنه الرازي 24/ 6. (¬3) هذا قول الطبري 18/ 148. ونسبه إليه ابن الجوزي 6/ 48. وذكره الثعلبي 3/ 86 ب والبغوي 6/ 51، والقرطبي 12/ 280 - 281 ولم ينسبوه لأحد. (¬4) في (أ): (في قلبه)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 47. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 253. (¬7) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 329.

38

والوجه قول أبي إسحاق لدخول قلوب المؤمنين والكافرين فيما ذكر من التفسير (¬1). 38 - قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} اللام تتعلق (¬2) بقوله {يُسَبِّحُ لَهُ} أي: يسبحون له تعالى {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن عطية 10/ 517 - بعد ذكره لهذا القول الذي ذكره الواحدي عن الفراء والزجاج وابن قتيبة-: وليس يقتضي هولًا. قال: ومقصد الآية هو وصف هول يوم القيامة .. وإنما معنى الآية عندي أنَّ ذلك اليوم -لشدة هوله ومطلعه- القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلّبة من طمع في النجاة إلى طمع، ومن حذر هلاك إلى حذر، ومن نظر من هول إلى النظر في الآخر. اهـ. واستبعد أبو حيان 6/ 459 القول الذي ذكره الواحدي، واستظهر ما قاله ابن عطية. واستظهر الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" 6/ 240 أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف كما قال تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18]، وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]، وكقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، فالدوران والزيغوغة المذكوران يُعلم بهما معنى تقلب الأبصار، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا. اهـ. (¬2) في (أ): (متعلق). (¬3) قال السمين الحلبي في كتابه "الدر المصون" 8/ 411 - بعد حكايته لهذا القول-: ويجوز تعلّقه بمحذوف، أي: فعلوا ذلك ليجزيهم. اهـ. وجوَّز أبو البقاء العكبري في "الإملاء" 2/ 156 أن تتعلق اللام بـ"يسبح"، وبـ"لا تلهيهم"، وبـ"يخافون". واستظهر أبو حيان 6/ 459 تعلّقها بيسبح. وجعل الزمخشري 3/ 69 اللام متعلقة بيسبح ويخافون، فقال: والمعنى: يسبحون ويخافون ليجزيهم.

39

قال مقاتل: يعني الذي (¬1) عملوا من الخير ولهم مساوئ فلا يجزيهم بها (¬2). والمعنى: ليجزيهم بحسناتهم؛ والمراد بالأحسن: جميع الحسنات، وهي موصوفة في مقابلة الذنوب بأنَّها أحسن (¬3). قوله تعالى {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: تفضّلا منه عليهم. وقال مقاتل: فضلا على أعمالهم (¬4). والمعنى أنه يزيدهم ما لا يستحقوه بأعمالهم (¬5). {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} مفسر فيما مضى (¬6). ثم ذكر الكفّار وضرب المثل لأعمالهم 39 - فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} قال الفراء: السَّراب ما لصق بالأرض، والآل الذي يكون ضحى كالماء بين السماء والأرض (¬7). وقال ابن السكيت: السَّراب الذي يجري على وجه الأرض كأنَّه ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (الذين)، والتصويب من "تفسير مقاتل". (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬3) ذكر الشنقيطي في "تفسير سورة النور" ص 146 وجهًا آخر فقال: أعمال الإنسان منها الحسن وهو المباح وهذا لا يجازى عليه، ومنها الأحسن وهو المندوب والواجب، وهو المراد بقوله: (أحسن ما عملوا). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬5) هذا قول الثعلبي 3/ 86 ب. قال الطبري 18/ 148: فيفضل عليهم من عنده بما أحبّ من كرامته لهم. (¬6) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 254.

الماء، وهو يكون نصف النهار وهو (¬1) الذي يلصق بالأرض (¬2). وقال أبو الهيثم: سمَّي السراب سرابًا؛ لأنه يسرب سربًا، أي: يجري جريًا. يقال: سرب الماء يسرب سروبًا (¬3). وقال الفراء: القيعة (¬4): جمع القاع، كما قالوا: جاز وجيزة. والقاع: ما انبسط من الأرض، وفيه (¬5) يكون السراب نصف النهار (¬6). وقال الليث: القاع، أرض واسعة قد انفرجت عنها (¬7) الجبال والآكام. يقال: قاعٌ وأقوع وأقواع وقيعة وقيعان، وهو ما استوى من الأرض، لا حصى فيها ولا حجارة، ولا ينبت الشجر، وما حواليه أرفع منه، وهو مصبُّ المياه (¬8). قوله تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} وهو الشديد العطش. يقال ظمئ يظمأ ظمأً فهو ظمآن (¬9). وقوله {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} قال أبو إسحاق (¬10): أي: حتى ¬

_ (¬1) في (أ): (وهي). (¬2) قول ابن الكسيت في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 416 (سرب). (¬3) قول ابن التهذيب في "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 416 (سرب). (¬4) في (أ)، (ظ): (البقيعة). (¬5) في (ظ): (وفيه وفيه) تكرار. (¬6) قول الفراء بنصه في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 33 (قاع)، وهو في كتابه "معاني القرآن" 2/ 254 وليس فيه قوله: وفيه يكون .. (¬7) في (أ): (عليها). (¬8) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 33 (قاع). (¬9) "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 401 "ظم". مع تقديم وتأخير. وانظر: "الصحاح" للجوهري 1/ 61 "ظمأ"، "لسان العرب" 1/ 116 "ظمأ". (¬10) من هنا يبدأ الخرم في نسخة (ظ).

إذا جاء إلى السَّراب وإلى موضعه رأى أرضًا لا ماء فيها (¬1). وهو معنى (¬2) {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}. قال المبرد: أي شيئًا مما حسب (¬3). وقال غيره: أي شيئًا على ما قدَّر (¬4). قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: أعمال الكفّار إذا احتاجوا إليها مثل السراب إذا رآه الرجل وقد احتاج إلى الماء، فأتاه فلم يجده شيئًا، فذلك مثل عمل الكافر يرى أن له ثوابًا وليس له ثواب (¬5). وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لعمل الكافر [يحسب أنّه في شيء كما يحسب السراب ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وكذلك الكافر] (¬6) إذا مات لم يجد عمله شيئًا (¬7). وقال مجاهد: عمل الكافر [إذا جاءه لم يجده شيئًا، وإتيانه إياه (¬8): موتُه وفراقه الدنيا (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 47. (¬2) في (ع): (قوله). (¬3) ذكر البغوي 6/ 52 هذا المعنى والذي بعده وساقهما مساقًا واحداً من غير نسبة لأحد. (¬4) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 86 ب. (¬5) لم أجده من رواية سعيد بن جبير، وقد روى الطبري 18/ 149، وابن أبي حاتم 7/ 53 أمن طريق العوفي، عن ابن عباس، نحوه. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 61، والطبري 18/ 149، وابن أبي حاتم 7/ 753. (¬8) في (أ)، (ع): (إياها)، والتصويب من الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما. (¬9) رواه الطبري 18/ 149، وابن أبي حاتم 7/ 53 ب؛ وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 210 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

وروى الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب في هذه الآية قال: كذلك (¬1) الكافر] (¬2) يجيء يوم القيامة وهو يحسب أنّ له عند الله خيرًا فلا يجده ويدخله الله النار (¬3). مقاتل: يقول: هكذا الكفار حتى إذا انتهى الواحد منهم إلى عمله يوم القيامة وجده لم يغن (¬4) عنه شيئًا، كما لم يجد العطشان السراب شيئًا، حتى انتهى إليه فمات من العطش وهلك (¬5)، فكذا (¬6) الكافر يهلك يوم القيامة (¬7). وقال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله ظنُّه كظن الذي يظن أن السَّراب ماء (¬8). وقال ابن قتيبة: الكافر يحسب ما قدم من عمله نافعه كما يحسب العطشان السراب من البعد ماءً يرويه {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} أي مات لم يجد عمله شيئًا لأنَّ الله -عز وجل- قد أبطله بالكفر ومحقه (¬9). وقوله {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} قال مقاتل: وجد الله بالمرصاد عند عمله {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} يقول جازاه بعمله (¬10). ¬

_ (¬1) (كذلك): ساقطة من (ع). (¬2) ما بين المعقوفين في حاشية (أ) وعليه علامة التصحيح. (¬3) رواه الطبري 18/ 149، وابن أبي حاتم 7/ 53 ب؛ وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 197 - 198، وعزاه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه. (¬4) في (أ): (يغن) مهملة الأول. وفي (ع): (تغن)، والمثبت من "تفسير مقاتل". (¬5) في (أ): (أو هكذا). (¬6) في (أ): (وهكذا). (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ. (¬8) "معاني القرآن" 4/ 47. (¬9) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 329. (¬10) "تفسير مقاتل" 2/ 39 أ.

وقال الفراء: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} عند عمله يقول: قدم على الله فوفاه حسابه (¬1). وقال صاحب النظم في هذه الآية: هذا نظم غامض؛ لأنَّه -عز وجل- وصف أعمال الكفار التي يريدون بها البرَّ في الدنيا بأنَّها (¬2) تبطل في الآخرة ولا تنفعهم شيئًا، فشبهها بالسراب الذي يحسب الظمآن أنه ماء فإذا جاءه لم يجده شيئًا، كذلك الكفار في أعمالهم لا تنفعهم ولا تُقبل منهم فهي كأنَّها لا شيء، وقوله {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ} متصل بالظمآن دون الكفار، إلا أنَّه -عز وجل- لما جعل الظمآن والسَّراب مثلًا للكفار في بُطول أعمالهم، أقامه (¬3) مقامهم فيما يصير إليه عاقبة أمورهم، فقال {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فجاء بذكر الظمآن على التوحيد، والمعني (¬4) به الكفّار؛ لأنَّ الظمآن هاهنا مثل لا عين يقصد بالخبر، والعين المقصود بالخبر هم الكفّار، وهم يُوفَّون الحساب، يدلك (¬5) على ذلك قوله: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [وهذا لا يحتمل اتصاله بالظمآن: لأنَّه لا يكون هنالك حساب، وإنّما الحساب في الآخرة. هذا كلامه. ومعنى هذا أن قوله {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكفار، ولكن لما ضرب الظمآن مثلًا للكفار جعل الخبر عنه كالخبر عنهم. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 254. (¬2) في (ع): (وأنَّها). (¬3) في (ع): (قامه). (¬4) في (ع): (المعني). (¬5) في (ع): (يدل).

40

قوله تعالى {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1) قال مقاتل: يخوفهم بالحساب كأنَّه قد جاء (¬2). والمعنى على هذا أنَّه عن قريب يحاسب الكفَّار. وهذا الوجه سوى ما ذكرنا الوجوه في معنى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬3) في سورة البقرة (¬4). 40 - {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} قال أبو إسحاق: أعلم الله أن أعمال الكفار إن مثِّلت بما يوجد فمثلها مثل السراب، وإن مثِّلت بما يُرى فهي كهذه (¬5) الظلمات التي وصف في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} الآية (¬6). ومعنى قوله (بما يوجد وبما يرى) يعني بالعين وبالأثر (¬7). فالتشبيه بالسراب تشبيه بعين، والتشبيه بالظلمات تشبيه بأثر وحدث. وقال صاحب النظم: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، ثم رجع إلى ذكر كفرهم فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} يعني كفرهم، ولم يذكر الكفر هاهنا ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب وفيه كأنه قد كان. (¬3) (الحساب): ساقطة من (أ). (¬4) ذكر الواحدي في "البسيط" عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] .. أقوالاً هي على سبيل الاختصار: 1 - أنه سريع الحساب لأنَّه علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه. 2 - أن المعني: والله سريع المجازاة للعباد على أعمالهم وإن كان قد أمهلهم مدة من الدهر. 3 - أنه سريع الحساب أي الإحاطه والعلم، لأنه لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا روية كالعاجزين. (¬5) في (ع): (كذلك). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 48. (¬7) في (ع): (والأثر).

إنَّما نسقه على أعمالهم لأن الكفر أيضًا من أعمالهم فشبَّهه (¬1) بالظلمات كما قال -عز وجل-: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أي من الكفر إلى الإيمان يدل على ذلك قوله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} يعني به الإيمان (¬2). وقال أبو علي الفارسي: قوله {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} معناه: أو كذي ظلمات، ويدلُّ على حذف المضاف قوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} فالضمير الذي أضيفت إليه يده يعود إلى المضاف المحذوف. ومعنى ذي ظلمات: أنَّه في ظلمات] (¬3)، ومثل (¬4) حذف المضاف هنا حذفه في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] تقديره: أو كذوي صيّب، أو أصحاب صيّب فحذف المضاف (¬5). فعلى قول أبي إسحاق، التمثيل وقع لأعمال الكافر. وهو قول عامة المفسرين (¬6)، وعلى قول صاحب النظم، التمثيل وقع لكفر الكافر، وعلى قول أبي علي، التمثيل وقع للكافر (¬7). وهو قول ابن عباس في رواية عطاء قال: هذا مثل للمشرك. ¬

_ (¬1) في (أ): (فشبَّه). (¬2) ذكره القرطبي 12/ 284 - 285 عن الجرجاني، وهو صاحب النَّظم. وذكره أيضًا عنه أبو حيان 6/ 461. (¬3) هنا ينتهي الخرم في نسخة (ظ). ويبتدئ الموجود من: (ومثل). (¬4) في (ع): (فمثل). (¬5) "الحجة" للفارسي 5/ 329 - 330. وقد تعقَّب أبو حيان 6/ 461 هذا القول بأنَّه خلاف الظاهر. (¬6) انظر: "الطبري" 18/ 150 - 151، الثعلبي 3/ 87 أ، ابن الجوزي 6/ 51. (¬7) ذكر القرطبى 12/ 284 هذا الكلام ونسبه للقشيري.

ونحو هذا قال قتادة: هو (¬1) مثل ضربه الله للكافر وأف يعمل في ظلمة وحيرة (¬2). وهو قول أبي بن كعب (¬3). وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هذا مثل قلب الكافر (¬4). وهو قول السُّدي (¬5)، ومقاتل (¬6)، والكلبي، والفراء (¬7). قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} قال أبو عبيدة: (لُجيّ) مضاف إلى اللُّجَة، وهو معظم البحر (¬8). وقال الليث: بحر لجيّ: واسع اللُّجة (¬9). وقال الفراء: بحر لُجيّ ولجيّ، كما يُقال (¬10): سُخريّ وسخري (¬11). ¬

_ (¬1) في (ظ): (وهو). (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 61، والطبري 18/ 150، وابن أبي حاتم 7/ 54 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 210 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. (¬3) رواه الطبري 18/ 151، وابن أبي حاتم 7/ 54 ب، والحاكم في "مستدركه" 2/ 399 - 400. (¬4) ذكره عنه القرطبي 12/ 284. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 54 ب، وذكره عنه ابن كثير 3/ 296. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 255 (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 67. (¬9) قول الليث في "تهذيب اللغة" 10/ 493 "لج". وهو في "العين" 6/ 19 (لجَّ). (¬10) في (أ): (تقول). (¬11) قول الفراء بنصِّه في "تهذيب اللغة" 10/ 493 (لج). ولم أجده في المطبوع من "معاني القرآن" في هذا الموضع من سورة النور، لكن ذكر الفراء عند تفسير قوله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110] بعد ذكره للقراءتين بالضم والكسر عن الكسائي أنه قال: سمعت العرب تقول بحر لجيُّ ولجيّ. انظر: "معاني القرآن" 2/ 243.

وقال المبرد: اللُّجي: العظيم اللُّجة. ومعناه: كثرة الماء. ولجج فلانٌ إذا توسَّط، ولجَّة البحر: معظم مائه حيث لا يُرى أرض ولا جبل (¬1). وقال ابن عباس: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} يريد: عميق. وهو قول قتادة (¬2)، ومقاتل (¬3). ومعنى {لُجِّيٍّ} له لجَّة، ولجتُه حيث يبعد عمقه، فهو بمعنى العميق، كما ذكره أهل التفسير. قال مقاتل: والبحر إذا كان عميقًا كان أشد لظلمته (¬4). وقوله {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} أي يعلو ذلك البحر اللجّي موج. {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} قال ابن عباس: يريد موجًا من فوق الموج (¬5). {مِنْ فَوْقِهِ} من فوق الموج] (¬6) {سَحَابٌ}. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} يعني ظُلمة البحر، وظلمة الموج، [وظلمة ¬

_ (¬1) لم أجده عن المبرد. وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 493 - 494 "لج"، "الصحاح" للجوهري 1/ 338 (لجج)، "لسان العرب" 2/ 354 (لجج). (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 61، والطبري 18/ 151، وابن أبي حاتم 7/ 54 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 210 وزاد نسبته لعبد بن حميد. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب. (¬5) ذكر الماوردي 4/ 110، وابن الجوزي 6/ 50، والقرطبي 12/ 284 هذا القول من غير نسبة لأحد. وحكى الماوردي والقرطبي قولا آخر هو: أنَّ معناه يغشاه موج من بعده، فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضًا حتى كأنَّ بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب. (¬6) ساقط من (ظ)، (ع).

الموج] (¬1) فوق الموج، وظلمة السحاب. و {ظُلُمَاتٌ} (¬2) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه ظلمات بعضها فوق بعض (¬3). ومن قرأ (¬4) (سحابٌ) بالتنوين (ظلمات) بالكسر والتنوين جعلها بدلاً من الظلمات الأولى. ومن قرأ (¬5) (سحابُ ظلمات) فأضاف السحاب إلى الظلمات، فالظلمات هي الظلمات التي تقدّم ذكرها، وأضاف السحاب إليها لاستقلال السحاب وارتفاعه في ذلك الوقت وهو وقت كون هذه الظلمات كما تقول: سحاب رحمة، وسحاب مطر، إذا ارتفع في الوقت الذي يكون فيه المطر والرحمة (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ظ). (¬2) في (أ): (وظلمات الموج). (¬3) هذا توجيه لقراءة الجمهور "ظلماتٌ" بالرفع والتنوين. وذكر مكي في "الكشف" 2/ 140 وجهًا آخر لقراءة الجمهور فقال: وحجَّة من رفع "ظلمات" أنه رفع على الابتداء، و"بعضها" ابتداء ثان، و"فوق" خبر لـ"بعض"، وخبرها حبر عن "ظلمات". ونقل أبو حيَّان 6/ 462 عن الحوفي تجويزه لهذا الوجه، ثم قال: والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة، إلَّا إن قدِّرت صفة محذوفة أي: ظلمات كثيرة كثيرة أو عظيمة بعضها فوق بعض. وانظر أيضًا "الدر المصون" 8/ 415. (¬4) هو: ابن كثير في رواية قنبل. "السبعة" ص 457، "التبصرة" ص 273، "التيسير" ص 162. (¬5) هو: ابن كثير في رواية البزّي. انظر ما تقدم من مراجع. (¬6) من قوله: (وظلمات) خبر .. إلى هنا. نقلاً عن "الحجة" للفارسي 5/ 330 مع اختلاف يسير. وانظر أيضًا: "إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 113، "حجة القراءات" لابن زنجلة 502، "الكشف" لمكي 2/ 139 - 130.

فمن قال: هذا مثل لأعمال الكافر، فالمعنى أنه يعمل في حيرة لا يهتدي لرشد، فهو في جهله وحيرته كمن في هذه الظلمات. قال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار (¬1). ومن قال: هذا مثل لكفر (¬2) [الكافر فكفره عمله كما بيَّناه. ومن قال: هذا مثل للكافر] (¬3)، فالكافر من عمله وكلامه متقلّب في ظلمات وجهالة. ومن قال هذا مثل لقلب الكافر، وهو قول عامة المفسرين (¬4)، فقال الكلبي: شبّه قلب الكافر بالبحر، يغشى ذلك البحر موج من فوق ذلك الموج موج. يعني ما يغشى قلبه من الشك والجهل والحيرة والرين والختم والطبع (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبري 18/ 151، وابن أبي حاتم 7/ 54 ب، والحاكم 2/ 399 - 400، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 198 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه. (¬2) في (ظ): (لكافر). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) نسب الثعلبي 3/ 87 أالقول بأن البحر اللجي هو مثل لقلب الكافر إلى المفسرين. ونسب ابن الجوزي 6/ 50 هذا القول للفراء، ونسب للجمهور أنه مثل لعمل الكافر. (¬5) ذكر القرطبي 12/ 285 أن هذا المعنى روي عن ابن عباس وغيره. وذكر الثعلبي 3/ 87 أنحو هذا القول ولم ينسبه لأحد. وذكر الشوكاني 4/ 40 هذ! القول ولم ينسبه لأحد، وقال عنه إنه من غرائب التفاسير، وقال: وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد. =

وقال السدي: يعني ظلمة القلب (¬1)، وظلمة الصدر، وظلمة الجوف (¬2). وهذا غير مرضي من القول، لأنَّ كل واحد بهذه الصفة لا ينفذ الضوء إلى جوفه وصدره وقلبه. إلاَّ أن يراد بظلمة قلبه أنَّه لا يُبصر نور الإيمان، ولا يعقل، ثم يبقى عليه ظلمة الصدر والجوف، فيحمل على ما قال مقاتل: قلب مظلم في صدر مظلم، وجسد مظلم لا يبصر نور الإيمان كما أن صاحب البحر إذا أخرج يده في الظلمة لم يكد يراها (¬3). فبين أن هذه الظلمات مثل لظلمات الجهل والحيرة. وقوله {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} تأكيد لشدة هذه الظلمات. وهذا اللفظ يحتمل (¬4) معنيين: أحدهما: رآها (¬5) من بعد أن كان لا يراها من شدة الظلمة. والثاني: لم يرها ولم يكد. قال الفراء: والأول (¬6) وجه العربية (¬7)؛ والثاني هو معنى الآية: لأنَّ ¬

_ = وذكر أبو حيَّان في "البحر" 6/ 463 نحو هذا المعنى وقال: والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية وعدول عن منهج كلام العرب. (¬1) في جميع النسخ: (القبر)، والتصويب من "تفسير ابن أبي حاتم". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 547 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب مع اختلاف يسير. (¬4) في (أ): (محتمل). (¬5) في (ظ)، (ع): (يراها). (¬6) في (ظ)، (ع): (فالأول). (¬7) يعني أنَّه أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب "كاد" في كلامها. قاله الطبري 18/ 151.

أقل من هذه الظلمات التي وصفها لا يرى فيها الناظر كفّه (¬1). ونحو هذا قال الزجاج سواء (¬2)، وهو قول مقاتل (¬3) والمفسرين (¬4)، قالوا: معناه: لم يرها ألبتَّه. قال الحسن: لم يرها ولم يقارب الرؤية (¬5). قال المبرّد: لم يقارب أن يراها، ومعنى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}: نفي المقاربة (¬6) من الرؤية (¬7). وقال الأخفش: إذا قلت: (لم يكد يفعل) كان المعنى: لم يقارب الفعل ولم يفعل، على صحّة الكلام، وهكذا معنى الآية. إلَّا أنَّ اللغة قد أجازت (لم يكد يفعل) وقد فعل بعد شدة (¬8)، وليس هذا صحة الكلام؛ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 255 مع زيادة يسيرة وتقديم وتأخير. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 48. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب. (¬4) انظر: " الطبري" 18/ 151، الثعلبي 3/ 87 أ. (¬5) رواه ابن أبي حاتم 7/ 55 أبمعناه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 210 بمثل رواية ابن أبي حاتم، وعزاه لعبد بن حميد. وقد ذكر هذا القول عنه أيضًا: الماوردي 4/ 111، وابن الجوزي 6/ 50، والقرطبي 12/ 285. (¬6) في (أ): (والمقاربة). (¬7) في "الكامل" للمبرد 1/ 95: (إذا أخرج يده لم يكد يراها) أي: لم يقرب من رؤيتها. وإيضاحه: لم يرها ولم يكد. وقد ذكر الثعلبي 3/ 87 أ، والبغوي 6/ 53، وابن الجوزي 6/ 50، والقرطبي 12/ 285 عن المبرد خلاف هذا القول، وهو أن معنى (لم يكد يراها): (لم يرها إلا بعد الجهد، كما يقول القائل: ما كدت أراك عن الظلمة، وقد رآه ولكن بعد يأس وشدة. (¬8) هكذا في جميع النسخ و"تهذيب اللغة" للأزهري. وفي "معاني القرآن": "لم يكد يفعل" في معنى: فعل بعد شدة.

لأنه إذا قال: (كاد يفعل) فإنما يعني قارب الفعل، وإذا قال: (لم يكد يفعل) يقول: لم يقارب الفعل. هذا كلامه (¬1). فعند الأخفش والمبرّد إذا قلت: لم يكد يفعل، نفي للفعل والمقاربة منه. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: (كدت أفعل) معناه [عند العرب: قاربتُ الفعل ولم أفعل، و (ما كدت أفعل) معناه] (¬2): فعلت بعد إبطاء، وشاهده قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] معناه: فعلوا بعد إبطاء، لتعذَّر وجدان البقرة عليهم. قال: وقد يكون (ما كدت أفعل) بمعنى: ما فعلت ولا قاربت، إذ أُكِّد الكلام بأكاد وجعل صلة (¬3). وعلى ما ذكره (يكد) صلة في الآية وتأكيد، والمعنى: لم يرها. وأنشد: سريعٌ إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما إن يكادُ قرنهُ يتنفس (¬4) ¬

_ (¬1) كلام الأخفش في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 328 (كاد)، وهو في "معاني القرآن" للأخفش 21/ 525 مع اختلاف يسير. (¬2) ساقط من (ظ). (¬3) كلام ابن الأنباري بنصه في "تهذيب اللغة" 10/ 329 (كاد) دون قوله: وجعل صلة. وفي "الأضداد" لابن الأنباري ص 98، و"الزاهر في معرفة كلام الناس" له أيضًا 2/ 90 - 91 نحو هذا الكلام. (¬4) هذا البيت أنشده ابن الأنباري في "الأضداد" ص 97 من غير نسبة، وروايته فيه: سريعًا إلى الهيجاء. وأنشده أيضًا في "الزاهر" 2/ 90 وفي "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 800 من غير نسبة. والبيت لزيد الخيل، وهو في "ديوانه" ص 74، والطبري 16/ 151، و"بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي 4/ 400، و"تاج العروس" للزبيدي 9/ 119 (كود). والهيجاء: الحرب، و"شاك سلاحه" أي: لبس سلاحه لبسًا تامًا فلم يدع منه شيئًا. وقرنه -بالكسر-: هو كفؤه ونظيره في الشجاعة والحرب. انظر: "لسان العرب" 2/ 395 (هيج) 9/ 452 (شكك)، 13/ 337 (قرن).

أراد: ما إن يتنفس. وأنشد لحسان (¬1): وتكاد تكسل (¬2) أن تجيء فراشها قال: أراد: وتكسل أن تجيء قال: ويقال معنى قوله {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}: لم يُرد أن يراها؛ لأن تلك الظلمات آيسته من تأمل يده فيكد بمعنى: يُرد، وأراد: أن يراها، فحذف (أن) وارتفع الفعل كقوله {تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64]. وقيل في قوله {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]: كذلك أردنا (¬3). قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} قال ابن عباس: من لم يجعل الله له دينًا فما له من دين (¬4). وقال السدي: ومن لم يجعل الله له إيمانًا فما له من إيمان (¬5). ¬

_ (¬1) أنشده ابن الأنباري لحسان في "الأضداد" ص 97، و"الزاهر" 2/ 914، و"إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 800، وتتمته: في جسم خرعبة وحسن قوام وهو في "ديوانه" 1/ 29، و"السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 382. وهو من قصيدة قالها يوم بدر يذكر الحارث بن هشام بن المغيرة بن مخزوم وهزيمته، وافتتحها بقوله: تبلت فؤادك في المنام خريدةٌ ... تشفي الضَّجيع ببارد بسَّام (¬2) في (أ): (ويكاد يكسل)، وهو خطأ. (¬3) هذا القول حكاه ابن الأنباري في "الأضداد" ص 97، ولم ينسبه لأحد. وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 261 وقال: ذكره ابن القاسم. يعني ابن الأنباري. وذكره البغوي 4/ 262 ولم ينسبه لأحد. وذكره القرطبي 9/ 236 ونسبه لابن الأنباري. (¬4) ذكره عنه البغوي 6/ 53، وابن الجوزي 6/ 51، والقرطبي 6/ 51. (¬5) رواه ابن أبي حاتم 7/ 55 أ. وذكره عنه ابن الجوزي 6/ 51.

41

وقال مقاتل: يعني هدى، وهو الإيمان (¬1). وقال الزجاج: من لم يهده الإسلام لم يهتد (¬2). 41 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مضى تفسير هذا في سورة الحج (¬3)، وعند قوله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وقوله: {وَالطَّيْرُ} عطف على (من) (¬4). وخص بالذكر؛ لأنَّها تكون في الجوّ بين السماء والأرض فهي خارجة عن جملة {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬5). وقوله {صَافَّاتٍ} يعني باسطات أجنحتها في الهواء (¬6). وقوله {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} قال مجاهد: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 48، وفيه: من لم يهده الله إلى الإسلام لم يهتد. (¬3) في (ظ): في سورة سبحان عند قوله: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 141، "الإملاء" للعكبري 2/ 158، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 418. (¬5) ذكر البغوي 6/ 53 هذا القول صدَّره بقوله: قيل. وذكره ابن الجوزي 6/ 51، وأبو حيان 6/ 463، ولم ينسباه لأحد. (¬6) الثعلبي 3/ 87 ب، والطبري 18/ 152. (¬7) رواه الطبري 18/ 152، وابن أبي حاتم 7/ 55 ب، وأبو الشيخ في "العظمة" 5/ 738، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 211، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. ورواه أيضًا النحاس في "معاني القرآن" 4/ 543 من طريق ابن أبي شيبة.

وذكر الفراء (¬1) والزجاج (¬2) وصاحب النظم في هذا تقديرات ثلاثًا (¬3): أحدها: أن يعود الضمير في الصلاة والتسبيح على لفظ (كلّ) أي أنَّهم يعلمون بما يجب عليهم من الصلاة والتسبيح. والثاني: أن تكون الهاء راجعة على (¬4) ذكر الله -عز وجل- بمعنى: كلُّ قد علم صلاة الله وتسبيحه الواجبين عليه. والثالث: أن يكون الذي يعلم (¬5) هو الله -عز وجل-، يعلم صلاة الكل منهم وتسبيحه. واختار (¬6) الزَّجّاج هذا القول، فقال: والأجود أن يكون: كلَّ قد علم الله صلاته وتسبيحه، ودليل ذلك قوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (¬7). وعلى هذا قال النَّحاس: كان من حكم النظم أن يكون (وهو عليم بما يفعلون) ولكن إظهار المضمر أفخم، وأنشد سيبويه (¬8): ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 255. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 4/ 48 - 49. (¬3) في (ظ)، (ع): (ثلاث). (¬4) في (ظ): (إلي). (¬5) في (ظ): (يعلمه). (¬6) في (أ): (واختيار). (¬7) "معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 49. وعلى قول الزجاج هذا يكون قوله (والله عليم بما يفعلون) تأكيد لفظيًا. واستظهر أبو حيان 6/ 463 القول الأول الذي ذكره الواحدي. واستظهره أيضًا الشنقيطي رحمه الله، واستدل بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41] فقد ذكر فيها علمه، وحمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد. انظر: "أضواء البيان" 6/ 244 - 245. (¬8) البيت أنشده سيبويه في الكتاب 1/ 62 ونسبه لسوادة بن عدي، وكذلك نسبه له السيوطي في "شرح شواهد المغني" 2/ 176. =

42

لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغَّص الموت ذا الغنى والفقيرا (¬1) (¬2) وعلى التقديرين الأولين قوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ [بِمَا يَفْعَلُونَ]} (¬3) استئناف، والمعنى: لا يخفى عليه طاعتهم وصلاتهم وتسبيحهم. 42 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد لا يملكها أحدُ غيره. وقال الكلبي: يعني خزائن السموات والأرض: المطر والرزق والنَّبات (¬4). قوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} مرجع العباد بعد الموت [والله أعلم] (¬5). ¬

_ = وهو في "ديوان عدي بن زيد العبادي" ص 65، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 417 منسوبًا لعدي. وقال الشنتمري في "تحصيل عين الذهب" 1/ 30 وقيل لأمية بن أبي الصلت. وهو من غير نسبة في "الخصائص" 3/ 53. وصحح البغدادي في "الخزانة" 1/ 381 أن البيت لعدي بن زيد. قال البغدادي في "الخزانة" 1/ 376 - 381: أي لا أرى الموت يسبقه شيء، أي لا يفوته، ... وقوله نغص الموت ... إلخ يريد: نغَّص عيش ذي الغنى والفقير. يعني أن خوف الغني من الموت ينغص عليه الالتذاذ بالغنى والسرور به، وخوف الفقير من الموت ينغص عليه السعي في التماس الغنى، لأنه لا يعلم أنه إذا وصل إليه الغنى هل يبقى حتى ينتفع به أو يقتطعه الموت عن الانتفاع؟. (¬1) في (أ): (والفقير). (¬2) قول النحاس وما أنشده لسيبويه في كتابه "القطع والائتناف" ص 513. (¬3) زيادة من (ع). (¬4) في (أ): (والحساب)، وهو خطأ. (¬5) زيادة من (ظ).

43

43 - {يُزْجِي سَحَابًا} قال المفسرون (¬1) وأهل اللغة (¬2): يسوق سحابًا. قال الليث: هو السَّوق الرقيق (¬3). وقال المبرد: يسوقه سوقًا عاجلاً؛ لأنَّ المزجى: الخفيف (¬4). وذكرنا معنى الإزجاء عند قوله {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88]. قوله: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} الأصل في التأليف: الهمز، فتقول (يؤلِّف) (¬5) بالهمز، وإذا خففت أبدلت منها الواو، وهو قراءة ورش، كما تقول: التُّودة، في التؤدة (¬6)، فالتَّحقيق (¬7) والتخفيف حسنان ولا يختلف النحويون في قلب هذه الهمزة واوًا إذا خففت (¬8). ومعنى التأليف: ضمُّ بعض الشيءُ إلى بعض (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: الطبري 18/ 153، الثعلبي 3/ 87 ب، "معاني القرآن" للنحاس 4/ 543. (¬2) انظر: (زجا) في "الصحاح" للجوهري 6/ 2367، "لسان العرب" 14/ 355. (¬3) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 155 (زجى). (¬4) قال المبرد في "الكامل" 2/ 279 عند شرحه لقول الشاعر: وراحت الريح تزجي بُلقه قال: قوله: "تزجي": يقول: تسوقه وتستحثه، ... وقال في موطن آخر 1/ 281: المزجاة: اليسيرة الحفيفة المحمل، قال الله -عز وجل-: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88]. وقال في موطن آخر 1/ 256: يقال زجَّى فلان حاجتي: أي خف عليه تعجيلها. (¬5) في (أ): (تألف)، والمثبت من باقي النسخ والحجَّة. (¬6) التُّؤدة -بفتح الهمزة وسكونها- التَّأني والتَّمهُّل. "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 244 (وأد)، "القاموس المحيط" للفيروزابادي 1/ 343 (وأد). (¬7) في (أ): (والتحقيق). (¬8) من قوله: (الأصل إلى هنا) نقلًا عن "الحجة" للفارسي 5/ 331 مع اختلاف يسير. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 378 "ألف"، "لسان العرب" 9/ 10 - 11 (ألف).

قال أبو إسحاق: أي يجعل القطع المتفرقة من السحاب قطعة واحدة (¬1). قال الفراء: (بين) لا يصلح إلا [مضافًا إلى] (¬2) اثنين (¬3) فما زاد، وفي الآية {يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} لأنَّ السحاب واحد في اللفظ ومعناه جمع، ألا ترى قوله {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12]، وواحدته: سَحَبة، وهو بمنزلة: (نخلة ونخل) و (شجرة وشجر)، وأنت قائل: فلان بين الشَّجر وبين النَّخل، والذي لا يصلح من ذلك قولك: (المال بين زيد)، فهذا خطأ حتى تقول: بين زيد وعمرو، وإن نويت يزيد أنَّه اسم لقبيلة جاز ذلك، كما تقول: (المال بين [تميم) (¬4). وقال الزجاج: يجوز أن يكون السحاب جمع سحابه ويكون {بَيْنَهُ} أي: بين] (¬5) جميعه. ويجوز أن يكون السحاب واحد إلا أنَّه قال {بَيْنَهُ} لكثرته (¬6)، كما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة؛ لأن الكوفة اسم ينتظم أمكنة كثيرة (¬7). وقوله {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} قال اللَّيث: الرَّكم: جمعك شيئًا فوق شيء حتى تجعله مركومًا ركامًا (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 49. (¬2) ساقط من (ظ). (¬3) في (ظ)، (ع): (اسمين). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 256. (¬5) ساقط من (ظ)، (ع). (¬6) في (أ): (لره). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 49 مع اختلاف يسير. (¬8) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 242 (ركم)، وهو في "العين" 5/ 369 (ركم).

وذكرنا الكلام في هذا عند قوله {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} [الأنفال: 37]. والمعنى: يجعل بعض السحاب يركب بعضًا (¬1). قوله {فَتَرَى الْوَدْقَ} يعني: القطر والمطر، في قول المفسرين (¬2). قال الليث: الودقُ: المطر كلُّه شديده وهيّنه. يقال: سحابةٌ وادقة (¬3)، وقيل ما يقولون: ودقت تدقُ (¬4). وأنشد أبو عبيدة (¬5): ¬

_ (¬1) في (ظ): (بعضه). (¬2) انظر: "الطبري" 18/ 153 - 154، الثعلبي 3/ 87 ب. وقد ذكر ابن أبي حاتم 7/ 56 أ، والماوردي 4/ 113، والقرطبي 12/ 288 - 289 في (الودق) قولين: أحدهما: ما ذكره الواحدي هنا، وعزاه الماوردي والقرطبي للجمهور. والثاني: أنَّ الودق: البرق. وانظر: "الدر المنثور" 6/ 211. (¬3) في المطبوع من "تهذيب اللغة" للأزهري: وداقه. (¬4) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 9/ 251 (ودق). وهو في "العين" 5/ 198 (ودق). (¬5) البيت أنشده أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 67 ونسبه لعامر بن جوين الطائي. وهو في "معاني القرآن" للأخفش 1/ 217، 2/ 520، و"الكامل" للمبرد 2/ 279، و"المقاصد النحوية" للعيني 2/ 464، و "شرح شواهد المغني" 2/ 943، و"خزانة الأدب" 1/ 50 منسوبًا في جميعها لعامر بن جوين. قال السيوطي في "شرح شواهد المغني" 2/ 943: "مزنة" واحدة المزن، وهو السحاب الأبيض، ويقال للمطر: حب المزن .. والودق بالدال المهملة: المطر، ودقت تدق: قطرت .. وأرض: اسم للبرية المزنة، وأبقل خبرها .. ويقال للمكان أول ما ينبت فيه البقل: أبقل. وقال البغدادي في "الخزانة" 1/ 50: وصف به أرضًا مخصبة بكثرة ما نزل بها من الغيث.

فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقال المبرد: الودقُ: المطر. سمي ودقًا لخروجه من السحاب يقال: ودقت سرته إذا خرجت (¬1). وقوله: {مِنْ خِلَالِهِ} خَلَلُ (¬2) السَّحاب: مخارج القطر، والجميع: الخلال (¬3) (¬4). قال أبو إسحاق: خلال: جمع خَلَل، مثل جَبَل وجبال (¬5). وقوله: {مِنْ خِلَالِهِ} من أضعافه (¬6). وذكرنا معنى الخلال عند قوله {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 5]. وقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} ذكر الفراء والزَّجاج في هذا تقديرين: أحدهما: وهو قول الفراء: أن الجبال في السَّماء من برد خلقة مخلوقة، كما تقول في الكلام: الآدمي من لحم ودم، فـ (من) هاهنا تسقط فتقول: الآدمي لحم ودم، والجبال برد، وكذا سمعت تفسيره (¬7). وقال أبو إسحاق: المعنى: من جبال برد فيها كما تقول: (هذا خاتم ¬

_ (¬1) في "الكامل" للمبرد 2/ 279: والودق: المطر، يقال: ودقت السَّماء يا فتى، تدق ودقا، قال الله -عز وجل- (فترى الودق يخرج من خلاله) ثم أنشد البيت المتقدّم. (¬2) في (أ): (خل). (¬3) في (أ): (الخلل). (¬4) "تهذيب اللغة" للأزهري 6/ 572 (خل) منسوبًا إلى الليث. وانظر: "لسان العرب" 11/ 213 (خلل). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 49. (¬6) لم أجد من ذكره عنه. (¬7) "معاني القرآن" 2562 - 2587.

في يدي من حديد)، المعنى: هذا حاتم حديد في يدي (¬1). قال أبو علي: مفعول الإنزال على هذا التقدير محذوف، حذف للدلالة عليه والتقدير: وينزل من السماء من جبال برد فيها بردًا، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه كما قال تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]. قال: ويجوز أن يكون (¬2) {مِنْ بَرَدٍ} في موضع نصب على قول أبي الحسن (¬3) في زيادة (من) في الإيجاب كما تقول: أكلت من طعام. فيكون البرد منزلًا على هذا (¬4). ويكون ذكر الجنس الذي منه الجبال محذوفًا إذا جعلت {مِنْ بَرَدٍ} في موضع المفعول به. واختار المبرد هذا التقدير، وقال (¬5): أي من جبال في السماء، وتلك الجبال من برد. وهذا (¬6) قول ابن عباس قال: أخبر الله تعالى أن في السَّماء جبالًا من برد (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 49. (¬2) (يكون): ساقطة من (ظ). (¬3) قال أبو الحسن الأخفش في كتابه "معاني القرآن" 2/ 464 - 465 عند كلامه عن قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]: أدخل "من" كما أدخله في قوله: "كان من حديث" .. و (ينزل من السماء من جبال فيها من برد) وهو فيما فسر: ينزل من السماء جبالًا فيها برد. قال ابن عطية 10/ 530 - بعد حكايته هذا القول عن الأخفش-: وهو ضعيف. (¬4) "الإغفال" لأبي علي الفارسي 2/ 1151. (¬5) في (أ): (قال، هذا). (¬6) في (أ): (قال، هذا). (¬7) ذكره عنه البغوي 6/ 54.

وهذا القول هو الذي عليه (¬1) التفسير (¬2)، وأصل العربية (¬3). وقالوا: (من) الأولى لابتداء الغاية؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء. والثانية: للتبعيض؛ لأن ما ينزله (¬4) الله تعالى بعض تلك الجبال التي في السماء. والثالثة لتبين الجنس؛ لأن الجنس تلك الجبال جنس البرد (¬5). ¬

_ (¬1) (عليه): ساقطة من (ظ). (¬2) ذكر الرازي 24/ 14 وأبو حيان 6/ 464 هذا القول عن مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين. (¬3) يظهر أن الواحدي اعتمد في هذا على قول الفراء. فإن الفراء بعد ذكره للتقدير الأول قال -وهو ما سيذكره الواحدي عنه من التقدير الثاني-: وقد يكون في العربية. (¬4) في (أ): (ينزل). (¬5) ذكر الثعلبي 3/ 87 ب هذا القول ولم ينسبه لأحد، وذكره البغوي 6/ 54 ونسبه لأهل النحو، وذكره الرازي 24/ 14 ونسبه لأبي علي الفارسي، وذكره الكرماني في "غرائب التفسير" 2/ 802 ونسبه لابن عيسى الرماني. وقد حكى أبو حيّان والسمين الحلبي الاتفاق على أن "من" الأولى لابتداء الغاية. وأما الثانية والثالثة ففيهما خلاف. فقيل -وهو ما ذكره الواحدي-: أن الثانية للتبعيض، والثالثة للبيان، ويكون التقدير: وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد. وقيل: الثانية للابتداء، والثالثة للتبعيض، ويكون التقدير: وينزل بعض برد من السماء من جبال فيها. وقيل: الثانية للابتداء، والثالثة زائدة، ويكون التقدير: وينزل من السماء جبالًا بردًا. وهذا القول أضعف الوجوه. فظهر بذلك أن في "من" الثانية ثلاثة أوجه: ابتدائية، أو للتبعيض، أو زائدة. وفي "من" الثالثة ثلاثة أوجه أيضًا: بيانية، أو للتبعيض، أو زائدة. وذكر "السمين" الحلبي في "من" الثالثة وجهًا رابعًا: أنَّها ابتدائية. =

وعلى هذا القول الذي يقول المفعول محذوف، لا على قول أبي الحسن. التقدير (¬1) الثاني: قال الفراء: وينزل من السماء من أمثال جبال ومقاديرها من البرد (¬2). وقال أبو إسحاق: ويكون معنى {مِنْ جِبَالٍ} من مقدار جبال من برد، كما نقول: عند فلان جبال مال (¬3)، تريد: مقدار جبال من كثرته (¬4). قال أبو علي: الجبال في هذا التقدير معناه: التكثير والتعظيم، لا التي هي خلاف السهل كما قال ابن مقبل: إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها شاعرًا مني (¬5) أطب وأشعرا وأكثر بيتا شاعرًا ضربت (¬6) به ... بطون جبال الشعر حتى تيسرا (¬7) ¬

_ = انظر: "المحرر" لابن عطية 10/ 530، "الكشاف" للزمخشري 3/ 71، "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 464، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 420 - 421. (¬1) في (ظ): (والتقدير). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 257. (¬3) (مال): ساقطة من (ع). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 49. (¬5) هكذا في جميع النسخ و"الإغفال". (¬6) في (ظ)، (ع): (عرضت). (¬7) "الإغفال" لأبي علي 2/ 1152. وقد ذكر الواحدي تقديرين اثنين في معنى "وينزل من السماء من جبال فيها من برد"، وفي الآية تقدير ثالث حكاه الماوردي 4/ 113: وهو أن السماء: السحاب، سمَّاه لعلوه، والجبال صفة للسحاب أيضًا سمي جبالًا لعظمه لأنَّها إذا عظمت أشبهت الجبال، فينزل منه بردًا. وانظر الرازي 24/ 14، "البحر" لأبي حيان 6/ 464. ابن كثير 3/ 297.

وأما تقدير مفعول الإنزال فعلى ما ذكرنا في التقدير الأول. وأما البرد: فإن اللَّيث (¬1) زعم أنَّه مطرٌ جامد. قال: وسحاب بردٌ (¬2): ذو برد؛ وقد برد القوم، إذا أصابهم البرد (¬3). وقوله {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} قال مقاتل: يصيب بالبرد من يشاء فيضره في زرعه وثمرته، ويصرفه عمن يشاء فلا يضره في زرعه وثمرته (¬4). ونحو هذا قال ابن عباس والمفسرون (¬5). وقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} السنَّا: الضوء. مثل سنا النار، وسنا البدر، وسنا البرق (¬6). ¬

_ (¬1) (الليث): ساقط من (ظ). (¬2) في (ظ): (سحاب بارد). (¬3) قول الليث في "تهذيب اللغة" 14/ 104 (برد) مصدرًا بقول الأزهري: فإنَّ اللَّيث زَعَم .. وهو في "العين" 8/ 27 (برد) بلفظ: مطر كالجمد. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب. (¬5) انظر: "الطبري" 18/ 154، الثعلبي 3/ 87 ب. وعلى هذا القول فالضمير في قوله: "به" وقوله: "ويصرفه" يعود إلى البرد؛ لأنَّه هو الأقرب إلى الضمير، فالإصابة به نقمة وصرفه نعمة. وقيل: الضمير يعود إلى (الودق)، فالإصابة به نعمة وصرفه نقمة. وقد أشار الله تعالى إلى طمع الناس في الماء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]. انتهى من "تفسير سورة النور" للشنقيطي ص 64 مع اختصار وتصرّف. وانظر أيضًا "البحر" لأبي حيان 6/ 465، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 423 فقد جوّزا هذا الوجه. واستبعده الألوسي 18/ 191. (¬6) انظر: (سنا) في "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 77، "الصحاح" للجوهري 6/ 2383، "لسان العرب" 14/ 403.

قال الليث: وقد أسنى البرقُ: إذا دخل سناه عليك بيتك، أو وقع إلي الأرض، أو طار في السَّحاب (¬1). وقال ابن السكيت: السَّنا: سنا البرق، وهو ضوؤه، يكتب بالألف ويثنَّى سنوان، ولم يعرف الأصمعي له فعلًا (¬2). وذكر الكسائي جمع السَّنا فقال: والجماع: سُنيّ وسني، بضم السين وكسرها، والنون مكسورة، والياء مشدَّدة (¬3). وقال المبرّد (¬4): السَّنى مقصور وهو اللَّمع، فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود. والأصل واحد؛ لأن معناهما الإشراق، تقول: ما (¬5) رأيت سنى ناره، أي: التماعها كما قال الشاعر: يكاد سناها في السماء يطير (¬6) قال السدي: يكاد ضوء برقه يلتمع البصر فيذهب به (¬7). ¬

_ (¬1) قول الليث في "تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 77 (سنا). وانظر: "العين" 7/ 303 "سنو". (¬2) قول ابن السكيت في "تهذيب اللغة" 13/ 77 (سنا) بنصِّه، وهو في كتاب "حروف الممدود والمقصور" لابن السكيت ص 99 مع اختلاف يسير. (¬3) لم أجده. (¬4) في "الكامل" للمبرد 1/ 220: السنا: ضوء النار، وهو مقصور، قال الله -عز وجل-: (يكاد سنا برقه ..) والسنا من الشرف. ونحوه في "الكامل" 3/ 137، 4/ 74. وانظر أيضًا " التعازي والمراثي" للمبرد ص 75. وقد ذكر القرطبي 2/ 290 هذا القول عن المبرد مختصرًا. (¬5) (ما): ليست في (ظ)، (ع). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) رواه ابن أبي حاتم 7/ 56 ب عنه بنحوه.

44

44 - وقوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} قال السدي (¬1)، والكلبي، ومقاتل (¬2): يأتي بالليل ويذهب بالنهار، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل (¬3). {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التقلب (¬4) {لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} لدلالة لأهل (¬5) العقول والبصائر على قدرة الله -سبحانه وتعالى- وتوحيده (¬6). {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يعني كل [حيوان من] (¬7) مميز وغيره مما ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 7/ 56 ب - 57 أعنه به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 212 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 39 ب، 40 أ. (¬3) هذا أحد الوجوه في معنى تقليب الليل والنهار، وفيه وجوه أخرى ذكرها الماوردي وغيره منها: أولاً: أن معنى ذلك ولوج أحدهما في الآخر، وأخذ أحدهما من الآخر. ثانيًا: أنه يغيِّر النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى، ويغيّر الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة. وتغير أحوالهما في البرد والحر وغيرهما. ثالثًا: أن تقلّبهما باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. قال الرازي: ولا يمتنع في مثل ذلك أن يريد تعالى معاني الكل، لأنَّه في الإنعام والاعتبار أولى وأقوى. انظر الماوردي 4/ 114، الرازي 24/ 15، القرطبي 12/ 290 "البحر" لأبي حيان 6/ 465، ابن كثير 3/ 297. (¬4) هذا قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 40 أ. وقيل: إن في ذلك المذكور من تسبيح من في السموات والأرض والطير له سبحانه، وإنشاء السحاب، وإنزال الودق منه، والبرد من السماء، وتقليبه الليل والنهار .. انظر: "الطبري" 187/ 155، الثعلبي 3/ 87 ب، "تفسير سورة النور" للشنقيطي ص 166. (¬5) في (أ): (أهل). (¬6) (توحيده): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬7) ساقط من (أ).

يشاهد في الدنيا (¬1). ولا يدخل الجن والملائكة في هذا؛ لأنَّا لا نشاهدهم ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء (¬2)، يدل على صحة هذا أن المفسرين قالوا في هذه الآية: من نطفة (¬3). وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} قال ابن عباس: يريد الحيّات (¬4). وقال مقاتل: يعني الهوام (¬5). ويدخل في هذا الجنس الحيتان والديدان. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير (¬6) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالبهائم والأنعام (¬7). قال أبو إسحاق: لما كان قوله: {كُلَّ دَابَّةٍ} لما يعقل ولما لا يعقل قيل: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي}. ولما خلط الجماعة وقيل (¬8): (منهم)؛ جعلت ¬

_ (¬1) هذا قول الزجاج في "معانيه" 4/ 50 مع اختلاف يسير. (¬2) ذكر البغوي 6/ 55، والقرطبي 12/ 291 هذا القول من غير نسبة لأحد. وقد روى مسلم في "صحيحه" كتاب: الزهد 4/ 2294 عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجانُّ من مَّارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم". (¬3) روى ابن أبي حاتم 7/ 57 أهذا القول عن ابن زيد، وحكاه الماوردي 4/ 114 عن السدي. وعلى هذا القول اقتصر الطبري 18/ 155. وحكى الماوردي 4/ 114، وابن الجوزي 6/ 53 في قوله: "من ماء" قولًا آخر: وهو أنه الماء المعروف، وهو أصل كل دابة. (¬4) ذكر الطبري 18/ 155 هذا القول ولم ينسبه لأحد. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ. (¬6) الطبري 18/ 155، الثعلبي 3/ 88 أ. (¬7) الطبري 18/ 155، الثعلبي 3/ 88 أ. (¬8) في (ع): (قبل).

العبارة بـ (من) (¬1) فقيل: {مَنْ يَمْشِي} (¬2). وهذا معنى ما ذكره الفراء (¬3). وقال المبرّد: قوله: {كُلَّ دَابَّةٍ} للناس وغيرهم، وإذا اختلط النوعان حُمل الكلام على الأغلب كما تقول: جاءني أخواك، وأنت تريد: أخاه وأخته وهذا الوجه المستقيم، وقد يخلط بينهما وهما في الحكم (¬4) سواء ليس أحدهما أغلب من الآخر كما قال: يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحًا (¬5) والرمح لا يتقلد، ولكنه لما كان محمولًا كالسيف سوى (¬6) بينهما. ومنه قول الآخر: شرَّاب ألبان وتمر (¬7) وأقط (¬8) ¬

_ (¬1) الباء زيادة من المعاني يستقيم بها المعنى. (¬2) "معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 50 مع تقديم وتأخير واختلاف يسير. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 257. (¬4) في (أ): (الحلم)، وهو خطأ. (¬5) البيت في "الكامل" 1/ 196 منسوبًا لعبد الله بن الزِّبعرى. وهو من غير نسبة في: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 68، "معاني القرآن" للأخفش 2/ 466، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 84 وفيه: "بعلك"، "أمالي المرتضى" 1/ 54، "أمالي ابن الشجري" 3/ 721، "الخصائص" لابن جني 2/ 431، "اللسان" 3/ 367 (لد). (¬6) في (ع): (وسمَّى)، وهو خطأ. (¬7) في (أ): (وثمر)، وهو خطأ. (¬8) أنشد المبرّد هذا البيت من الرَّجز في "الكامل" 1/ 334، 371، 2/ 275، و"المقتضب" 2/ 50 من غير نسبة لأحد. وهو في "الإنصاف في مسائل الخلاف" لأبي البركات ابن الأنباري 2/ 613، و"لسان العرب" 2/ 287 (زجج).

47

لأن الكل في باب الدخول في الحلق واحد (¬1). وقال أبو عبيدة في قوله {يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ}: لا يكون المشي إلاَّ لما له قوائم، فإذا خُلط ما لا قوائم له مع ماله قوائم جاز أن تقول: يمشي، كما تقول: أكلت خبزًا ولبنًا (¬2). وهذا ضد ما قال الزجاج في هذه الآية: كل سائر كان (¬3) له رجلان أو أربع أو لم يكن له قوائم يقال له (¬4): ماشٍ وقد مشى. ويقال لكل مستمر (¬5): ماشٍ، وإن لم يكن من الحيوان، حتى يقال: قد مشى هذا الأمر (¬6). والصحيح هذا لا ما قاله أبو عبيدة. وباقي الآية والذي بعدها ظاهر. قال ابن عباس (¬7): ثم ذكر أهل النفاق وشكّهم في الله تعالى فقال: 47 - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ} قال مقاتل: صدقنا بتوحيد الله وبالرسول محمد أنَّه من الله {وَأَطَعْنَا} قولهما، يعني المنافقين يقولون هذا بألسنتهم {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} ثم يعرض عن طاعتهما طائفة منهم {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد قولهم أمنا (¬8). ¬

_ (¬1) انظر نحو هذا الكلام للمبرد في "المقتضب" 2/ 49 - 50، "الكامل" 1/ 334، 371، 2/ 275. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 68 مع اختلاف يسير. (¬3) (كان): ساقطة من (ع). (¬4) (له): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬5) في (ظ): (مشمر) ومهملة في (ع). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 50. (¬7) لم أجد من ذكره عن ابن عباس. وقد روى ابن أبي حاتم 7/ 57 ب، 58 أعنه أبي العالية وقتادة أنها في المنافقين. (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ.

48

قال مقاتل وغيره (¬1): نزلت في بشر المنافق كان يخاصم يهوديًّا في أرض، فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمدًا يحيف علينا. فقال الله {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} يعني الذي يعرضون عن حكم الله ورسوله. 48 - {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} إلى كتاب الله {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الرسول فيما اختصموا فيه {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬2) عما يُدعون إليه من حكم الله ورسوله. وقال الفراء: إنَّما قال: {لِيَحْكُمَ}، ولم يقل: ليحكما؛ لأن المعنى: للرَّسول، وإنَّما بُدئ (¬3) بذكر الله إعظامًا لله (¬4). وذكرنا مثل هذا فيما تقدم (¬5). 49 - {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} قال ابن عباس (¬6)، ¬

_ (¬1) قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 40 أ. وذكره الثعلبي 3/ 88 أمن غير سند. وذكر الواحدي في "أسباب النزول" ص 133 من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس نحو هذا في سبب نزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء: 60]. ومقاتل والكلبي وأمثالهما لا يعتمد عليهم في الرواية. (¬2) في (أ)، (ظ): (فإذا)، وهو خطأ. (¬3) في (أ): (بدأ). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 258 مع تقديم وتأخير. (¬5) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62]. (¬6) روى الطبري 18/ 156 مثل هذا القول عن مجاهد، ورواه ابن أبي حاتم 7/ 58 أ، ب عن ابن زيد، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 4/ 547 عن عطاء. وحكاه الماوردي 4/ 115 والقرطبي 12/ 293 عن مجاهد.

ومقاتل (¬1): مسرعين. وقال الكلبي: طائعين (¬2). وقال الزَّجَّاج: الإذعان في اللغة: الإسراع مع الطَّاعة. تقول: قد أذعن لي بحقي، أي: طاوعني لما كنت التمسه منه، وصار يسرع إليه (¬3). وقال ابن الأعرابي: مذعنين: مقِّرين خاضعين (¬4). وقال المبرد: طائعين غير ممتنعين كما تقول: أذعن فلان بحقي، إذا أقرَّ به ولم يمتنع (¬5). أخبر الله تعالى أنَّ المنافقين يعرضون عن حكم الرسول لعلمهم بأنه (¬6) يحكم بالحق ولا يداهن، فإذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم بأنَّه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضًا بالحق وينتصف لهم ممَّن لهم الحق عليه. قال ابن عباس: ثم أخبر بما في قلوبهم من المرض والشك فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. قال مقاتل: يعني الكفر (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ. (¬2) روى ابن أبي حاتم 7/ 58 ب مثل هذا القول عن الحسن، وذكره الماوردي 4/ 115 وقال: حكاه ابن عيسى. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 50. (¬4) قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 320 (ذعن). (¬5) انظر نحو هذا عند الطبري 18/ 156، وانظر: "لسان العرب" 13/ 172 (ذعن). (¬6) في (ظ)، (ع): (أنَّه). (¬7) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ.

{أَمِ ارْتَابُوا} أم شكوا في القرآن. وإنَّما جاء بلفظ الاستفهام؛ لأنَّه أشد في الذم والتوبيخ، أي أنَّ هذا أمرٌ قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى البيّنة (¬1)، كما جاء في نقيضه على طريق الاستفهام لأنَّه أشد مبالغة وهو قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا (¬2) أي أنتم كذلك (¬3). وبنحو (¬4) هذا فسر ابن عباس فقال: أخبر الله تعالى بما في قلوبهم من المرض والشك. فجعل معنى هذا الاستفهام: الإخبار. قوله تعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} قال ابن عباس والمفسرون (¬5): أن يجور الله عليهم. ¬

_ (¬1) في (ع): حتى لا يحتاج فيه إلَّا إلى التنبيه. (¬2) هذا صدر بيت من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وعجزه: وأندى العالمين بطون راح وهو في "ديوانه" 1/ 89، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 36، 184، و"أمالي ابن الشَّجري" 1/ 265، و"لسان العرب" 7/ 10 (نقص)، "مغني اللبيب" لابن هشام 1/ 24. قال السيوطي في "شرح شواهد المغني" 1/ 44: المطايا: جمع مطية، وهي الدابة تمطو في مشيها أي: تسرع، وأندى: أسخى، والراح: جمع راحة وهو الكف. اهـ. (¬3) من قوله: وإنما جاء بلفظ الاستفهام .. إلى هنا. هذا قول الثعلبي في "تفسيره" 3/ 88 أمع اختلاف يسير في العبارة. وقد ذكره ابن الجوزي 6/ 55، والقرطبي 12/ 294، وأبو حيان 6/ 467 من غير نسبة. (¬4) في (أ): (ونحو). (¬5) انظر: "الطبري" 18/ 156.

51

والحيف: الميلُ في الحكم. وحيفُ النَّاحل أن يعطي بعض أولاده دون بعض (¬1). وقال المبرد: يقال: حاف علي فلانٌ في القضية، أي جار علي وألزمني ما لا يلزم (¬2). {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: لا يظلم الله ورسوله في الحكم، بل هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والإعراض عن حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). قال مقاتل: ثم نعت الصادقين في إيمانهم فقال: 51 - {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (¬4). قال الفراء: ليس هذا بخبر (¬5) ماض يخبر (¬6) عنه (¬7)، كما تقول: إنما كنت صبيًّا، ولكن معناه: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهو أدب من الله تعالى. قال: وكذا جاء في التفسير (¬8). وقال مقاتل: يقولوا سمعنا قول النبي وأطعنا أمره (¬9). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" للأزهري 5/ 264 (حاف)، وانظر: "لسان العرب" 9/ 60 (حيف). (¬2) لم أجد من ذكره عنه، وانظر: "لسان العرب" 9/ 60 (حيف). (¬3) انظر: "الطبري" 18/ 157. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ. (¬5) في (أ): (الحبر) في الموضعين. (¬6) في (أ): (الحبر) في الموضعين. (¬7) (عنه): ساقطة من (ع). (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 258. (¬9) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ.

وقال ابن عباس: وإن كان ذلك فيما يكرهون (¬1) ويضرّ بهم (¬2). قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال ابن عباس: فيما ساءه وسرّه (¬3). وقال مقاتل: في أمر الحكم {وَيَخْشَ اللَّهَ} في ذنوبه التي عملها {وَيَتَّقْهِ} فيما تعبد (¬4) فلم يعص الله (¬5). والمعنى: يتقي عذاب الله بطاعته (¬6). وفي (يتقه) وجوه من القراءات: أحدها: (يتَّقهي) موصولة بياء (¬7)، وهو الوجه؛ لأن ما قبل الهاء متحرك، وحكمها إذا تحرك ما قبلها أن تتبعها الياء في الوصل. وروى قالون (¬8)، عن نافع: بكسر الهاء ولا يبلغ بها الياء (¬9). ووجهه ¬

_ (¬1) في (ظ)، (ع): (يكرهونه). (¬2) ذكره عنه القرطبي 12/ 294. (¬3) ذكره عنه البغوي 6/ 56. وذكره الرازي 24/ 22 من غير نسبة. (¬4) في (أ): (يعبد)، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير مقاتل". (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 40 أ. (¬6) هذا قول الطبري 14/ 157 بنصِّه. (¬7) وهذه قراءة جمهور القراء. "السبعة" ص 457، "التَّبصرة" ص 274، "التيسير" ص 163. (¬8) هو: عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى، الزرقي مولى بني زهرة، أبو موسى، الملقب بقالون. قارئ المدينة في زمانه ونحويّهم. يقال إنَّه ربيب نافع، وقد اختص به كثيرًا، وهو الذي سمَّاه قالون لجودة قراءته، وهي لفظة رومية معناه: جيّد. وانقطع لإقراء القرآن والعربية، وطال عمره وبعد صيته. توفي سنة 120 هـ. "معرفة القراء الكبار" للذهبي 1/ 155، "غاية النهاية" 1/ 615، "شذرات الذهب" 2/ 48. (¬9) انظر: "السبعة" ص 457، "التبصرة" ص 274، "التيسير" ص 163.

أن الحركة قبل الهاء ليست تلزم، ألا ترى أنَّ الفعل إذا رفع دخلته الياء، وإذا دخل (¬1) الياء اختير حذف الياء بعد الهاء في الوصل مثل: (عليه) فلما كان الحرف المحذوف لا يلزم حذفه صار كأنَّه في اللفظ. وقرأ أبو عمرو: (ويتَّقه) جزمًا (¬2). ووجهه أن ما يتبع هذه الهاء من الواو والياء زائد (¬3) فردَّ إلى الأصل، وحذف ما يلحقه من الزيادة. وقد حكى سيبويه (¬4) أنه سمع: (هذه أمة (¬5) الله)، في الوصل والوقف، وهذه الهاء التي في هذه قد أجروها مجرى هاء الضمير، فلما (¬6) استجازوا الحذف في هذه فكذلك يجوز في الهاء التي للضمير. وروى حفص عن عاصم (ويتقه) ساكنة القاف مكسورة الهاء مختلسه (¬7). ووجهه أن (تقه) من (يتقه) بمنزلة: كتف، فكما (¬8) يسكن (¬9) كتف، كذلك سكَّن القاف من (تقه) (¬10) (¬11). وقد تقدَّم لهذا نظائر واستشهادات. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي "الحجّة": دخلت. (¬2) انظر: "السبعة" ص 457، "التبصرة" ص 274، "التيسير" ص 162. (¬3) في "الحجة": زائدة. (¬4) "الكتاب": 4/ 198. (¬5) في (ظ)، (ع): (آية). (¬6) في "الحجة": فكما. (¬7) انظر: "السبعة" ص 458، "التبصرة" ص 274، "التيسير" ص 163. (¬8) في (ظ)، (ع): (فلما)، والمثبت من (أ) والحجة. (¬9) في (ع): (سكن). (¬10) في (أ): (يقه). (¬11) من قوله: (يتقهي) موصولة .. إلى هنا. نقلاً عن "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 327 - 329 مع تقديم وتأخير واختلاف يسير. =

وقال ابن الأنباري (¬1): هذا على لغة من يسقط الياء ويسكن الحرف الذي قبلها في باب الجزم فيقول: لم أر زيدًا، ولم أشتر طعامًا، ولم يتَّق زيد. وهو من التوهم (¬2)، والتقدير لما ذهبت الياء (¬3) استوثقوا من الجزم بتسكين ما قبل الياء. أنشد الفراء (¬4): ومن يتَّق فإنَّ الله معه ... ورزق الله منتاب (¬5) وغاد وقال مقاتل بن سليمان وغيره (¬6): لما بيَّن الله تعالى كراهية المنافقين لحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فأنزل الله فيما حلفوا قوله ¬

_ = وانظر أيضًا في "توجيه القراءات": "علل القراءات السبع" لابن خالويه 2/ 111 - 113، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 503 - 504، "الكشف" لمكي 2/ 140 - 142. (¬1) ذكر ابن خالويه في "علل القراءات" 2/ 113 هذا القول باختصار مع البيت، ولم ينسبه لأحد. وابن خالويه يروي عن ابن الأنباري. (¬2) أي توهّم أنَّها لام الفعل فتُسكن للجزم. (¬3) (الياء): ساقطة من (ع). (¬4) لم أجده في كتابه "معاني القرآن". ويظهر أنه من تمام كلام ابن الأنباري. والبيت بلا نسبة في "الخصائص" لابن جني 1/ 306، والصاحبي في "فقه اللغة" لابن فارس ص 48، و"شرح شواهد الشافية" ص 228، و"لسان العرب" 1/ 218 (أوب) 15/ 402 (وقي) والرواية عندهم: (مؤتاب) في موضع (منتاب). وصدر البيت في "همع الهوامع" 1/ 79 بلا نسبة. (¬5) هكذا في جميع النسخ، وفي بقية المصادر التي ذكرت البيت: مؤتاب. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. وذكر الثعلبي 3/ 88 أنحوه بغير سند. وروى ابن مردويه كما في "الدر المنثور" 6/ 214 عن ابن عباس نحو هذا.

53

تعالى: 53 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قال مقاتل: من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين (¬1). وقد مرّ (¬2). {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} يا محمد {لَيَخْرُجُنَّ} إلى الجهاد ومن أموالهم وديارهم (¬3). {قُلْ لَا تُقْسِمُوا} قال ابن عباس: قل: لا تحلفوا فإنَّ الله لو بلغ منكم (¬4) الجهد. لم تبلغوه. يعني: لو كلَّفكم (¬5) ما تُقسمون عليه ما وفَّيتم بيمينكم (¬6) (¬7). وتمّ الكلام. ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} قال مقاتل بن حيان: أمرهم أن لا يحلفوا على شيء، ولكن أمرهم أن تكون منهم طاعة معروفة للنبي -عليه السلام- من غير أن يقسموا (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬2) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53]، و"البسيط" عند قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬4) (منكم): ساقطة من (ع). (¬5) في (أ): (لم تبلغوا نعمتي لو كفلكم)، وهي عبارة لا معنى لها. (¬6) في (ع): (بتمنيكم)، وهو خطأ. (¬7) لم أجده. (¬8) رواه ابن أبي حاتم 7/ 59 أ، ب وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 214 ونسبه لابن أبي حاتم.

وقال مقاتل بن سليمان: {قُلْ} لهم {لَا تُقْسِمُوا} ولكن لتكن (¬1) منكم {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} يعني حسنة [النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وهذا معنى قول الكلبي، يقول: أطيعوه وقوله المعروف من الكلام. وفسَّر ابن عباس الطاعة المعروفة] (¬3) -هاهنا- بأن يُضمروا في القلب طاعته بنيَّة خالصة (¬4). وقال أبو إسحاق: تأويله: طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدقون فيه. فالخبر مُضمر وهو: "أمثل"، وحذف لأن في الكلام دليلًا (¬5) عليه (¬6). وقال مجاهد: أي هذه طاعة معروفة منكم بالقول دون الاعتقاد. أي أنَّكم تكذبون فيما تقولون: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا خرجنا (¬7). وذكر أبو عبيدة هذا الوجه فقال: أي هذه طاعة معروفة (¬8). وعلى هذا معنى المعروفة أنها عرفت منهم، فهم يقولون ولا يفون بما يقولون. ¬

_ (¬1) في "تفسير مقاتل": ولكن هذه منكم. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) ذكر البغوي 6/ 57، والقرطبي 12/ 296 نحو هذا المعنى ولم ينسباه لأحد. (¬5) في (أ): (دلالة). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 51. (¬7) ذكر الثعلبي 3/ 88 أهذا القول وقال: وهذا معنى قول مجاهد. اهـ. وقد رواه بنحوه مختصر الطبري 18/ 157. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 214 بمثل رواية الطبري ونسبه لابن المنذر. (¬8) هذا معنى ما قاله أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 69، ونصُّه: (طاعة معروفة) مرفوعتان .. ، فرفعتا على ضمير يُرفع به، أو ابتداءً.

وقيل: طاعة معروفة منكم بالكذب (¬1) (¬2). وقد حصل في ارتفاع الطاعة ثلاثة أقوال (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل (¬4). وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بأعمالكم وسرائركم. قال مقاتل: ثم أمرهم الله بطاعته وطاعة رسوله فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬5). {فَإِنْ تَوَلَّوْا} قال الفراء: واجه القوم، ومعناه: فإن تتولَّوا، فهي في موضع جزم، ولو كانت لقوم غير مخاطبين كان فعلاً ماضيًا بمنزلة قولك: فإن قاموا، كما قال {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [التوبة: 129] هؤلاء غير مخاطبين، والجزاء يصلح فيه فَعَل ويفعل كهذه (¬6) الآية والتي في هذه السورة، وأنت تعرفهما بالقراءة بعدهما؛ ألا ترى قوله: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ¬

_ (¬1) (بالكذب): ساقطة من (ع). (¬2) هذا قول الطبري 18/ 157، والثعلبي 3/ 88 ب. (¬3) هذه الأقوال هي حسب ذكر الواحدي لها: الأول: أن تكون فاعلةً بفعل محذوف، أي: ولتكن طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأ والخبر محذوف، أي: أمثل أو أولى. الثالث: أنها خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه طاعة، أو المطلوب طاعة. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 144، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 514 - 515، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري 2/ 198، "الإملاء" للعكبري 2/ 158 - 159، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 432. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 157، الثعلبي 3/ 88 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬6) في (ظ): (هذه)، وفي (ع): (بهذه).

55

وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} ولم يقل: عليهم، وقوله {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137] فهذا يدل على فعلوا. انتهى كلامه (¬1). وقد بان بما ذكر أن قوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} (¬2) مخاطبة من الله تعالى لهم بعد أن أمر رسوله أن يخاطبهم بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، ولو كان قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} من خطاب الرسول معهم لقال: فإنما علي ما حمل. قال ابن عباس: الذي حمِّل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغهم، وحملوا أن يطيعوه (¬3). وقال مقاتل (¬4)، والسدي (¬5): يقول فإنما على محمد ما أمر من تبلغ الرسالة، وعليكم ما أمرتم من طاعتهما. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} تصيبوا الحق (¬6). {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ليس عليه إلاَّ أن يبلغ ويبين لكم. 55 - {وَعَدَ اللَّهُ} الآية، قال أبي بن كعب: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح ولا يصبحون إلاَّ فيه، فقالوا: ترون أنَّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت هذه الآية (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 258 مع تقديم وتأخير وتصرف في بعض العبارات. (¬2) (تولوا) ساقط من (ظ). (¬3) ذكره القرطبي 12/ 296 عن ابن عباس وغيره. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 59 ب عن السدي. وذكره السيوطيِ في "الدر المنثور" 6/ 214 ونسبه لابن أبي حاتم. (¬6) "الطبرى" 18/ 158. (¬7) رواه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين في زوائد المعجمين" =

وقوله {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} قال الفراء، والزَّجَّاج (¬1): إنما جاءت اللام؛ لأنَّ العدة قولٌ يصلح فيها أن، ويصلح فيها جواب اليمين، تقول: وعدتك أن آتيك، ووعدتك لآتينك، ومثله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] وتقول: وعدته لأكرمنه، بمنزلة قلت؛ لأن الوعد لا ينعقد إلا بقول (¬2). وقد فسرنا هذا في غير هذا الموضع. ومعنى {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ليجعلنهم يخلفون من قبلهم. قال المفسرون: أي لنورثنهم أرض الكفّار من العرب والعجم فنجعلهم ملوكها وساستها وسكانها (¬3). وعلى هذا الآية عامة في المؤمنين. وخصص بعضهم الآية بالخلفاء والولاة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، ومعنى قول مقاتل بن حيان. قال ابن عباس -في هذه الآية-: يريد أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ومن ¬

_ = للهيثمي 6/ 58، والحاكم في "مستدركه" 2/ 401، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 6 - 7، والحافظ الضياء المقدسي في "المختارة" 3/ 352 - 353، والواحدي في "أسباب النزول" ص 272 - 273. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 216 وعزاه أيضًا لابن المنذر وابن مردويه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 83: ورجاله ثقات. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 258، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 51. (¬2) وفي مجيء اللام في (ليستخلفنهم) وجه آخر، وهو أن اللَّام جواب قسم مضمر أي: أقسم ليستخلفنهم، ويكون مفعول الوعد محذوفًا تقديره: وعدهم الاستخلاف لدلالة (ليستخلفنهم) عليه. أو التمكين لدينكم. انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان 6/ 469، "الدر المصون" للسمين الحلبي 8/ 434. (¬3) الثعلبي 3/ 88 ب، والطبري 18/ 158.

ولي من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقال مقاتل: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} يعني أرض المدينة (¬2). وهذا يدل على أنه أراد استخلاف الخلفاء الثلاثة الذين ذكرهم ابن عباس؛ لأنَّهم كانوا في المدينة، ولم يرد تخصيص الأرض بالمدينة؛ لأن الله تعالى فتح عليهم الكثير من أرض الدنيا، وليس في أن يعدهم فتح أرض المدينة كبير (¬3) نصرة ولا تمكين في الدين. كيف والآية نازلة بعد أن كانوا في المدينة، ولكن أراد: ليجعلهم خلفاء في المدينة يسكنونها. والآية على هذا التفسير دلالة على خلافة هؤلاء، وأنَّ الوعد من الله قد سبق (¬4) باستخلافهم. [خلفاء في المدينة] (¬5). والظاهر القول الأول (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر عنه القرطبي 12/ 298 نحو هذا القول. (¬2) رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 61 أ. وروى عنه ابن أبي حاتم 7/ 60 ب أيضًا أنه قال في قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: يعني أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) في (أ): (كثير). (¬4) في (ع): (قد سبق من الله). (¬5) ساقط من (ظ)، (ع). (¬6) ويدخل في ذلك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- دخولًا أوَّليًّا "لأنَّه لم يتقدمهم أحدٌ في الفضيلة إلى يومنا هذا؛ فأولئك مقطوع بإمامتهم، متفق عليهم- وصدق وعد الله فيهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، واستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبُّوا عن حوزة؛ فنفذ الوعد فيهم، وصدق الكلام فيهم. وإذا لم يكن هذا الوعد بهم يُنجز، وفيهم نَفَذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذن؟ وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده" انتهى من كلام ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1392. وانظر ما قاله أبو حيان 6/ 469، وابن كثير 3/ 300 - 302 في إنجازه وعده للصحابة ومن بعدهم حين قاموا بالشروط في الآية.

قوله تعالي {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال مقاتل: يعني بني إسرائيل (¬1). إذ أهلك (¬2) الجبابرة بمصر وأورثهم أرضهم وديارهم. روى أبو بكر، عن عاصم: (استُخلف) بضم التاء وكسر اللام (¬3). والوجه (استخلف) ألا ترى أنَّ (¬4) اسم الله قد تقدم ذكره، والضمير في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} يعود إلى اسم الله؛ فكذلك في قوله {كَمَا اسْتَخْلَفَ} والمعنى: يستخلفنهم استخلافًا كاستخلافه (¬5) الذين من قبلهم. ووجه (استخلف) أنه مراد به ما أريد باستخلف (¬6). قوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى} قال ابن عباس: يريد يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها، ويظهر دينهم على جميع الأديان، ويملِّكهم على جميع الملوك (¬7). قوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} قرئ بالتخفيف والتشديد ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. وقوله: إذ أهلك. وديارهم. ليس من كلام مقاتل، وإنما هذا كلام الثعلبي في "تفسيره" 3/ 88 ب بنصِّه، ساقه الواحدي مبينًا به كلام مقاتل. (¬2) في (أ): (هلك). (¬3) وقرأ الباقون بفتح التاء واللام. "السبعة" ص 458، "التبصرة" ص 274، "التيسير" ص 163. (¬4) في (أ): (أنَّه). (¬5) في (أ): (كاستخلاف)، والمثبت من باقي النسخ و"الحجة". (¬6) من قوله: (وروى أبو بكر، عن عاصم) .. إلى هنا، نقلاً عن "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 331 - 332 مع اختلاف يسير. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 458، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 504. (¬7) ذكره عنه البغوي 6/ 58 إلى قوله: الأديان.

في {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} (¬1). قال الفراء: وهما متقاربان. فإذا قلت للرجل: قد بُدَّلت. فمعناه. غيِّرت وغيرت حالك ولم يأت مكانك آخر، وكلُّ ما غيِّر عن حاله فهو مبدَّل بالتشديد. وقد يجوز مبدل -بالتخفيف- وليس بالوجه. وإذا جعلت الشيء مكان الشيء قلت: قد أبدلته (¬2)، كقولك: أبدل هذا الدرهم، أي: أعطني مكانه (¬3). وبدَّل جائز. فمن شدد فكأنه جعل سبيل الخوف أمنا، ومن خفف قال: الأمنُ خلاف الخوف، فكأنَّه قال: جعل مكان الخوف أمنا، أي: ذهب بالخوف وجاء بالأمن. وهذا من سعة العربية. وقال أبو النَّجم (¬4): ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال، وقرأ الباقون بالتشديد. "التبصرة" ص 458، "الإقناع" لابن الباذش 2/ 713، "التيسير" للداني ص 163. (¬2) في (أ): (بدلته)، وهو خطأ. (¬3) في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 132 (بدل) نقل عن الفراء يزيد كلامه الذي نقله عنه الواحدي من كتابه "معاني القرآن" وضوحًا قال الأزهري: وقال أبو العباس -أحمد بن يحيى-: وقال الفراء: يقال: أبدلتُ الخاتم بالحلقة، إذا نحَّيت هذا وجعلت هذا مكانه. وبدَّلت الخاتم بالحلقة، إذا أذبته وسوّيته حلقة .. قال أبو العباس: وحقيقته أن التَّبديل: تغيير الصورة إلى صورة أخرى والجوهرة بعينها، والإبدال: تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى. اهـ. قال النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 145 - 146 بعد ذكر قول ثعلب في التفريق بين التبديل والإبدال-: وهذا القول صحيح .. غير أنَّه قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر. اهـ. (¬4) هو الفضل بن قُدامة العجلي، تقدت ترجمته في سورة النساء. =

عَزْلُ الأمير للأمير المُبْدَل فهذا يوضح الوجهين جميعًا (¬1). وقال مقاتل بن سليمان: من بعد خوفهم من كفار مكة (¬2). وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد من بعد خوف أبي بكر في الغار. والوجه: أنَّه على العموم في كل خوف كان لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال مقاتل بن حيان: فقد فعل الله بهم ذلك (¬3)، وبمن كان بعدهم من هذه الأمة فمكَّن لهم (¬4) في الأرض، وأبدلهم أمنا من بعد خوف، وبسط لهم في الأرض (¬5)، ونصرهم على الأعداء، فقد أنجز الله موعده لهم (¬6). قوله {يَعْبُدُونَنِي} قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: وعد الله المؤمنين في حال عبادتهم بإخلاصهم لله ليفعلن بهم (¬7). ¬

_ = وله أرجوزة في هشام بن عبد الملك تعد أجود أرجوزة للعرب، وأولها: الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخَّلِ "طبقات فحول الشعراء" 2/ 737، 745، "خزانة الأدب" للبغدادي 1/ 103. وهذا الشطر من الرَّجز أنشده الفراء 2/ 259 بلا نسبة. وهو من لاميّة أبي النجم المشهورة، وهو في "ديوانه" ص (204)، "وتهذيب اللغة" للأزهري 14/ 132 "بدل"، "لسان العرب" 11/ 48 (بدل). (¬1) "معاني القرآن" للفراء 3/ 259 مع تصرف. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬3) في (ظ)، (ع): (ذلك بهم). (¬4) في (أ): (فمكَّنهم). (¬5) في رواية ابن أبي حاتم: الرزق. (¬6) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 61 ب، 62 أ. (¬7) "معاني القرآن" للزَّجَّاج 4/ 51.

وهذا الوجه هو اختيار المبرد لأنَّه قال: أي عابدين لي غير مشركين. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون استئنافًا على طريق الثناء عليهم وتثبيتًا كأنه قال: يعبدونني (¬1) المؤمنون لا يشركون بي شيئًا (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس: يريد عصمة مني لهم. يعني أعصمهم عن عبادة غيري والإشراك بي. قال مقاتل: لا يشركون بي شيئًا من الآلهة (¬3). وهو قول العامة (¬4). وروى [ليث، عن] (¬5) مجاهد، عن ابن عباس: لا يخافون أحدًا غيري (¬6). ¬

_ = وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 146، "الكشاف" للزمخشري 3/ 74، "البحر المحيط" 6/ 469، "الدر المصون" 8/ 434 - 435. (¬1) في "معاني الزجاج": يعبدني. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 51. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 40 ب. (¬4) انظر: " الطبري" 18/ 159، ابن أبي حاتم 7/ 62 أ، الثعلبي 3/ 88 ب. (¬5) ساقط من (أ)، (ظ)، وفي (ع): (وروى مجاهد، عن ليث، عن ابن عباس)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتنا. (¬6) روى ابن أبي حاتم و"تفسيره" 7/ 62 أمن طريق ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئًا) قال: يعبدونني. هكذا في المخطوط، ويظهر أن فيه نقصًا. وروى الطبري 18/ 160 من طريق ليث، عن مجاهد (يعبدونني لا يشركون بي شيئًا) قال: لا يخافون غيره. هكذا لم يذكر ابن عباس. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 216 هذا القول عن ابن عباس، وعزاه لعبد ابن حميد. وذكره عن مجاهد وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. =

فجعل الإشراك في هذه الآية أن يخافوا أحدًا (¬1) غير الله. قوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} يعني بهذه النعم (¬2)، وليس يعني (¬3) الكفر بالله؛ لأن الكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله، والله [تعالى يقول: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي جحد حق هذه النعم بعد إنْعام الله] (¬4) بها. وهذا معنى قول الربيع، وأبي العالية (¬5)، وأبيّ بن كعب (¬6)، ومقاتل ابن حيان (¬7). ¬

_ = وذكره الماوردي 4/ 119، والقرطبي 12/ 300 عن ابن عباس. وهذه الرواية سواء عن ابن عباس أو مجاهد ضعيفة؛ لأن في سندها ليثًا، وهو ابن أبي سليم متفق على ضعفه. (¬1) (أحدًا): زيادة من (ع). (¬2) في (ع): (النعمة). (¬3) في (أ): (بمعنى)، وفي (ع): (معنى). (¬4) ساقط من (ع). (¬5) رواه الطبري 18/ 159 - 160، وابن أبي حاتم 7/ 62 أعن الربيع، عن أبي العالية. (¬6) لم أجد من ذكره عنه. لكن أبا العالية يروي كثيرًا عن أبيّ -رضي الله عنه-. (¬7) رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 62 أ، ب. واختار الطبري 18/ 160 هذا القول. فهو على هذا كفر وفسق غير مخرج من الملّة. وفي الآية قول آخر: أنَّه الكفر والفسق الناقل عن الملة. ذكره ابن عطية 10/ 54، وأبو حيان 6/ 470 وقالا: وهو ظاهر قول حذيفة -رضي الله عنه-. وقال الشنقيطي "تفسير سورة النور" ص 185: والأظهر أنَّ المراد الكافر الأكبر والفسق الأكبر، فهم خارجون عن طاعة الله خروجًا كليًّا، والفسق يطلق على الكفر الأكبر في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20].

57

وقوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال ابن عباس: يريد العاصون لله (¬1). وهذا يدل على أن الكفر هاهنا كفر بالنعمة لا كفر بالله [-عز وجل-] (¬2) 57 - قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} لا تحسبن يا محمد الكافرين. قال مقاتل: يعني أهل مكة يعجزوننا ويفوتوننا (¬3). قال الزجاج: أي قدرة الله محيطة بهم. وقرئت (لا يحسبن) بالياء (¬4) على حذف المفعول الأول من يحسبن [على معنى: لا يحسبن الذين كفروا إياهم معجزين، كما تقول: زيد حسبه (¬5) قائمًا، تريد: حسب نفسه قائمًا (¬6). وكأنَّه قيل: لا يحسبن] (¬7) الذي كفروا أنفسهم معجزين، وهذا في باب ظننت، تطرح فيه النفس يقال: ظننتني أفعل، ولا يقال: ظننت نفسي. ولا يجوز ضربتني، استغني عنها بضربت نفسي. ¬

_ (¬1) روى ابن أبي حاتم 7/ 62 ب هذا القول عن مجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 216 عن مجاهد وعزاه للفريابي وغيره. وذكره البغوي 6/ 59 ولم ينسبه لأحد. (¬2) زيادة من (ظ). (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 41 أ. (¬4) قرأ ابن عامر وحمزة "لا يحسبن" بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: "السبعة" ص 307، "المبسوط" لابن مهران ص 269، "إرشاد المبتدي" للفلانسي ص 464. (¬5) في (ظ)، (ع): (زيدًا حسبته)، والمثبت من (أ)، و"معاني القرآن" للزجَّاج. (¬6) (قائمًا): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬7) في هامش (أ) وعليه علامة: التصحيح.

هذا كلامه (¬1). وقال أبو علي: من قرأ بالياء جاز أن يكون فاعل الحسبان أحد شيئين: إنما أن يكون قد أضمر (¬2) ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه قال: لا يحسبن النبي الذين كفروا معجزين (¬3)، ويجوز أن يكون فاعل الحسبان: الذين كفروا، ويكون المفعول الأول محذوفًا تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم (¬4). وهذا هو الوجه الذي ذكره أبو إسحاق. والوجه قراءة العامة بالتاء لظهور مفعولي الحسبان. قال مقاتل (¬5)، والكلبي في هذه الآية: لا يحسبن الذين كفروا فايتين في الأرض هربًا حتى يخزيهم بكفرهم. وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [قال صاحب النظم: لا يحتمل أن يكون هذا متصلًا بقوله {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}، [لأن ذلك نفيٌ، وقوله {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}] (¬6) إيجاب لا نفي. فهو معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره: لا يحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض]] (¬7) بل مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 52. (¬2) في (أ)، (ع): (يضمر)، والمثبت من (ظ)، وفي "الحجة": قد تضمَّن ضميرًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) في (ع) زيادة: (في الأرض)، وهو انتقال نظر من الناسخ إلى ما بعده. (¬4) "الحجة" للفارسي 5/ 332. (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 41 أ. (¬6) ساقط من (ظ). (¬7) ساقط من (ع). (¬8) ذكره أبو حيان 6/ 470 عن صاحب النظم بأخصر مما هنا. ثم قال: واستبعد العطف من حيث إن (لا تحسبن) نهي (ومأواهم النار) جملة خبرية فلم يناسب =

58

58 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} الآية. قال الكلبي: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامًا من الأنصار يقال له: مُدلج (¬1) إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ظهيرة ليدعوه، فوجده نائمًا قد أغلق عليه الباب، فدفع الغلام الباب، وناداه ودخل، فاستيقظ عمر وجلس؛ فانكشف منه شيء، فرآه الغلام، وعرف عمر أنَّ الغلام رأى ذلك منه، فقال عمر: وَدِدْتُ -والله- أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا هذه الساعات (¬2) إلاَّ بإذن، ثم انطلق معه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجده وقد نزل عليه الوحي بهذه الآية (¬3) (¬4). ¬

_ = عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما، وهذا مذهب قوم .. ، والصحيح أن ذلك لا يشترط، بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضًا على بعض، وإن لم تتحد النوعية، وهو مذهب سيبويه. انتهى. وذكره أيضًا السمين الحلبي في "الدر المصون" 8/ 438 وصرَّح باسمه فقال: قال الجرجاني. ووهم المحقق فظَّنه عبد القاهر الجرجاني وأحال على البحر لأبي حيان. وحكى السمين في الآية قولين آخرين غير قول الجرجاني: أحدهما: أن هذه الجملة عطف على جملة النهي قبلها من غير تأويل ولا إضمار. قال: وهو مذهب سيبويه. والثاني: أنها معطوفة عليها ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية، والتقدير: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار. وعزاه للزمخشري، وهو في "تفسيره" 3/ 74. (¬1) انظر: "الإصابة" 3/ 374 فقد اقتصر على تسميته بمدلج الأنصاري ثم ذكر خبره مع عمر -رضي الله عنه-. ووقع عند الثعلبي في "تفسيره" 3/ 89 أ، والبغوي في "تفسيره" 6/ 60 مدلج بن عمرو. (¬2) في (ظ)، (ع): (الساعة). (¬3) في (أ)، (ع): (قد نزل عليه هذه الآية). (¬4) رواه ابن منده في "معرفة الصحابة" كما في "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن =

وقال المقاتلان: نزلت في أسماء بنت مرشدة (¬1) قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غُلامُهما بغير إذن؛ فأنزل الله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني العبيد والإماء والولائد والخدم (¬2). قال ابن عباس: يريد من النساء والرجال (¬3). وقال عطاء: ذلك على كل صغير وكبير أن يستأذن (¬4). [وقال أبو عبد الرحمن السُّلمي -في (¬5) هذه الآية-: هي (¬6) خاصة للنساء. الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار (¬7). ¬

_ = حجر 3/ 375 من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وإسناده باطل. وقد ذكره الثعلبي 3/ 89، والواحدي في "أسباب النزول" ص 273، والبغوي 6/ 60 كلهم عن ابن عباس من غير سند. (¬1) في (أ): (مرشد). (¬2) رواه ابن أبي حاتم 7/ 63 ب عن مقاتل بن حيان. وذكره عنه ابن كثير 3/ 303. والسيوطي في "الدر المنثور" 6/ 217 وعزاه لابن أبي حاتم. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 41 أ. وذكره الثعلبي 3/ 89 أعن مقاتل بن سليمان. (¬3) ذكره عنه الرازي 24/ 29. (¬4) رواه الطبري 18/ 162. (¬5) (في): ساقطة من (أ). (¬6) (هي): ساقطة من (ع). (¬7) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 219، والطبري 18/ 161، وابن أبي حاتم 7/ 63 ب. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 400 مختصرًا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 219 ونسبه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

قال أبو عبيد: يعني أنَّ الإماء ينبغي لهن أن يستأذنَّ] (¬1) على مواليهن في هذه الحالات الثلاث المسمَّات (¬2) هاهنا، فأما ذكور المماليك فإن عليهم الاستئذان في الأحوال كلها (¬3). وروى ليث، عن نافع، عن ابن عمر: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: هي للرجال دون النساء (¬4). قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} قال مقاتل بن حيّان: من أحراركم من الرجال والنساء (¬5). وقوله {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} يعني ثلاثة أوقات، لأنَّه فسرهن بالأوقات وهو قوله {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ}. قال ابن عباس: ثلاث مرات. ثم أخبر بأوقاتها فقال: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} يريد المقيل {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} يريد العتمة (¬6) حين يأوي ¬

_ (¬1) ساقط من (ظ). (¬2) في (أ)، (ع): (المسميات)، والمثبت من (ظ) و"الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد. (¬3) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 219. (¬4) رواه البخاري في (الأدب المفرد) ص 310، والطبري 18/ 161 من طريق ليث، عن نافع، عن ابن عمر، به. وليث هو ابن أبي سليم مجمع على ضعفه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 219، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر. واختار الطبري 18/ 161 العموم للرجال والنساء، لأن الله عمَّم ولم يخصص منهم ذكرًا ولا أنثى، فذلك على جميع من عمَّه ظاهر التنزيل. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 64 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 217 ونسبه لابن أبي حاتم. (¬6) في (أ)، (ع): (بالعتمة). والعتمة: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق. "لسان العرب" 12/ 381 (عتم).

الرجل مع امرأته (¬1). وقال صاحب النظم: قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} هاهنا بمعنى: ثلاثة (¬2) أوقات؛ لأنها لو كانت على ظاهرها لوجب أن يكون الأمر واقعًا على ثلاث دفعات، فإذا جاوزها ارتفع الأمر، وأن يكون الاستئذان ثلاث دفعات (¬3) [فلا يكون دخول إلا بعد (¬4) استئذان ثلاث دفعات] (¬5)، ويدل علي أنَّ المراد به الأوقات قوله في أثره واصفًا للأوقات-: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} ثم سمّى هذه الأوقات عورات؛ لأن الإنسان يضع فيها (¬6) ثيابه فتبدو عورته. انتهى كلامه. وإنَّما قيل ثلاث مرات للأوقات؛ لأنَّه أراد مرة في كل وقت من الأوقات التي ذكرها. قال مجاهد: يجزيهم أن يستأذنوا مرّة في هذه الأوقات (¬7) (¬8). وقال أبو إسحاق وأبو علي: أمر الله بالاستئذان في الأوقات التي يتخلَّى (¬9) الناس فيها ويتكشَّفُون (¬10)، وبيّنها فقال: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي 6/ 61 ولم ينسبه لأحد. (¬2) في (أ): (ثلاث). (¬3) في (أ): (وأن يكون الاستئذان ثلاث دفعات، فإذا جاوزها ارتفع الأمر، وأن يكون الاستئذان ثلاث دفعات"، وهو تكرار. (¬4) (بعد): ساقطة من (ظ). (¬5) ساقط من (ع). (¬6) (فيها): ساقطة من (ع). (¬7) في (ع): (الساعات). (¬8) رواه ابن أبي حاتم 7/ 64 ب. (¬9) في (أ): (ينحلل). (¬10) في (أ): (ويكشفون)، وفي (ظ)، (ع): (وينكشفون)، والمثبت من "معاني القرآن" للزجاج، و"الوسيط" للواحدي.

تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} ففصَّل الثلاث بهذه الأوقات، ثم أجمل بعد التفصيل فقال: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}، فأعلم أنها عورات، والمعنى: هي ثلاث عورات [أو هذه ثلاث عورات] (¬1) فهي خبر ابتداء محذوف. ومن قرأ (ثلاث عورات) بالنصب (¬2) جعله بدلاً من قوله (ثلاث مرات). فإن قيل: قوله: (ثلاث مرات) زمان، بدلالة أنَّه فسر بزمان -على ما بيَّنا- وليس العورات بزمان، فكيف يصح البدل منه؟ وليس هي هي. قيل: يكون ذلك على أن يُضمر (¬3) الأوقات كأنه: أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب ما كان يقع الإضافة إليه بإعراب المضاف، فعلى هذا يوجَّه (¬4) (¬5). والاختيار في العورات إسكان الواو، وحكم ما كان على فَعْلَه: من الأسماء أن تُحرك العين منه في فعلات نحو: صحفة (¬6) وصحفات، وجفنة (¬7) وجفنات. إلَّا أن التَّحريك فيما كان العين منه ياءً أو واوًا كرهه ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "ثلاث عورات" بنصب (ثلاث)، وقرأ الباقون بالرفع. "السبعة" ص 458، "التبصرة" ص 274، "التيسير" ص 163. (¬3) في (ظ): (ضمير). (¬4) في (أ): (الوجه). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 52، و"الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 333. (¬6) وقع في المطبوع من "الحجة": صحيفة. وهو خطأ. والصَّحفة: شبه قصعة مُسْلَنطحة عريضة، وهي تشبع الخمسة ونحوهم. "لسان العرب" 9/ 187 (صحف). (¬7) الجَفْنة: هي أعظم ما يكون من القصاع. "لسان العرب" 13/ 89 (جفن).

عامة العرب؛ لأنَّ العين بالتحريك تصير على صورة ما يلزمه الانقلاب من كونه متحركًا بين متحركين، فكرهوا ذلك، وعدلوا عنه إلى الإسكان، فقالوا: عوراتٌ وجوزات وبيضات، ومثل هذا في اطّراد التحريك في الصَّحيح وكراهية ذلك في المعتل قولهم في حنيفة: حنفي، وفي جديلة وربيعة: جدلي وربعيّ، فإذا أضافوا إلى مثل طويلة وجويزة قالوا: طُويلي وجويزي، كراهة: طُوليّ وجُوزيّ، لأنه يصير على ما يجب فيه القلب، وكذلك قالوا في شديد: شَديديّ، ورفضوا شدديّ الذي أثروا نحوه في ربعي كراهية التقاء التضعيف. هذا كلام أبي علي (¬1). وقال السدي -في هذه الآية-: كان أناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا (¬2) إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا الغلمان والمملوكين أن يستأذنوا في هذه الثلاث ساعات (¬3). وقال مقاتل بن حيان: هذا من المفروض يحق على الرجل أن يأمر بذلك من كان عنده من حر أو عبد أن لا يدخلوا تلك الساعات الثلاث إلا بإذن (¬4). ¬

_ (¬1) "الحجة" لأبي علي 5/ 333 - 334. (¬2) في (ظ)، (ع): (يخرجون). (¬3) رواه ابن أبي حاتم 7/ 63 ب، 64 أ. وذكره ابن كثير 3/ 303. والسيوطي في "الدر المنثور" 6/ 217 ونسبه لابن أبي حاتم. ورواية السدي هذه مع الروايتين المتقدمتين اللتين ساقهما الواحدي في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} -وهما رواية الكلبي والمقاتلين- غير معتمدة في نزول هذه الآية لعدم ثبوتها من طريق صحيح، والله أعلم. (¬4) رواه ابن أبي حاتم 7/ 64 ب، 65 أ.

قال أبو عبيدة (¬1): ولا نعلم أحدًا من العلماء أخبر عن هذه الآية بنسخ بل غلَّظُوا شأنها (¬2). قال عطاء: سمعت ابن عباس يقول: ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس لا أرى أحدًا يعمل بهن. قال عطاء: حفظت آيتين ونسيت واحدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، وقال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} إلى قوله {أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ثم (¬3) يقول الرجل بعد هذا للرجل-: أنا أكرم منك، وليس أحدٌ أكرم من أحد إلا بتقوى (¬4). وقال موسى بن أبي عائشة (¬5): قلت للشعبي -في هذه الآية-: أمنسوخة هي؟ قال: لا. فقلت: قد تركها (¬6) الناس؟ فقال: الله المستعان (¬7). ¬

_ (¬1) في (ظ): (أبو عبيدة)، وهو خطأ. (¬2) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 219. (¬3) (ثم): ساقطة من (أ). (¬4) هذا لفظ رواية أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 220. ورواه بنحوه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 179، و"الطبري" 18/ 162، وابن أبي حاتم 7/ 63 أ. (¬5) هو: موسى بن أبي عائشة، الهمداني مولاهم، الكوفي. أحد العلماء العابدين الثقات. روى عن سعيد بن جبير والشعبي وغيرهما، وعنه شعبة والسفيانان، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" 6/ 150، "تهذيب التهذيب" 10/ 352، "تقريب التهذيب" 2/ 285. (¬6) في (أ): (تركوها). (¬7) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 220، وابن أبي شيبة في "مصنفه" =

وادعى قوم النسخ في هذه الآية، واحتجوا بما روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن ناسًا من أهل العراق سألوه عن هذه الآية، فقال: إن الله رفيق رحيم بالمؤمنين يحب الستر عليهم، وكان الناس ليست لهم ستور ولا حجاب (¬1) فربما دخلت الخادم أو الولد (¬2) -والرجل على أهله- فأمروا بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم (¬3) أر أحدًا يعمل بذلك (¬4) (¬5). ¬

_ = 4/ 400، والطبري 18/ 162 - 163 وابن أبيِ حاتم 7/ 63 أ، ب عن موسى بن أبي عائشة، به. (¬1) عند أبي عبيد: حجال. (¬2) في (ع): (الوالد). (¬3) في (ظ): (ولم). (¬4) في (ظ): (ذلك). (¬5) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 221، وأبو داود في "سننه" كتاب: الأدب، باب: في الاستئذان في العورات الثلاث 14/ 96 - 97 وعندهما زيادة ذكر السؤال. ورواه أيضًا ابن أبي حاتم 7/ 63 أ، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 97 وأوله: أن رجلين سألاه -يعني ابن عباس- عن الاستئذان، فذكره بنحوه. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 303: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 219 بمثل لفظ ابن أبي حاتم والبيهقي وعزاه أيضًا لابن المنذر وابن مردويه. وقال أبو داود -بعد روايته عن ابن عباس-: وحديث عبد الله وعطاء يُفسد -وفي بعض النسخ: يُفسر- هذا الحديث. وقال البيهقي: وحديث عبد الله بن أبي يزيد وعطاء يضعف هذه الرواية. وحديث عبد الله المشار إليه رواه أبو داود في "سننه" كتاب: الأدب -باب: الاستئذان في العورات الثلاث 14/ 95، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 97 =

قال أبو عبيد: وليس وجه هذا أن يكون على الرخصة من أجل أن ابن عباس لم يخبر أنَّه نسخها قرآن، ولا أن السنّة جاءت برخصة فيها. إنما قال: لم أر أحدًا يعمل ذلك، وقد حكى عنه عطاء هذا اللفظ (¬1) على وجه الإنكار والاستبطاء للناس ألا تسمع قوله: ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس لا أرى أحدًا يعمل بهن. فرواية عطاء عندنا مفسرة للذي روى عكرمة. وليس المذهب في الآية إلا أنها محكمة قائمة لم ينسخها كتاب ولا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من أصحابه ولا التابعين بعدهم بالتَّسهل في ذلك، إلا شيئًا يروى عن الحسن أنه كان يقول: والخادمة التي تبيت مع أهل الرجل لا بأس أن تدخل بغير إذن (¬2). وقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي ليس عليكم جناح ولا عليهم في أن لا يستأذنوا بعد أن يمضي كل وقت من هذه الأوقات (¬3). قال مقاتل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} معشر المؤمنين {وَلَا عَلَيْهِمْ} يعني ¬

_ = عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن -وفي بعض نسخ أبي داود: "لم يؤمر- بها أكثر الناس آية الإذن، وإنّي لآمر جاريتي هذه تستأذن علي". وحديث عطاء ذكره الواحدي قبل ذلك. (¬1) في (ع): (القول). (¬2) "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 222. مع اختلاف يسير واختصار. وأثر الحسن رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 222 من طريق هشيم، عن يونس، عن الحسن. ورواه من وجه آخر عن يونس، عن الحسن مفصلا: الطبري 18/ 162، وابن أبي حاتم 7/ 63 ب ولفظه: إذا أبات الرجل خادمه معه فهو إذنه، وإن لم يبته معه استأذن في تلك الساعات. (¬3) هذا كلام الزجاج في "معاني القرآن" 4/ 52.

الخدم والغلمان {جُنَاحٌ} حرج {بَعْدَهُنَّ} يعني بعد العورات (¬1). وقال صاحب النظم: دلّ بقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} على أن ما عزمه على المماليك من الاستئذان في هذه الأوقات معزوم أيضًا على الموالي؛ لأنه لا يذكر رفع الجناح في شيء إلا عمَّن يلزمه جناحه، ثم أوضح ذلك بقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: أنكم كما يطوفون (¬2) عليكم تطوفون عليهم في هذه الأوقات. هذا كلامه. ويجوز أن يعود رفع الجناح في قوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} إلى أنه لا جناح على الموالي إذا لم يأمروا المماليك (¬3) بالاستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة. وقوله {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يريد أنهم خدمكم، ولا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثلاثة بغير إذن. قال مقاتل: يتقلبون فيكم ليلًا ونهارًا (¬4). وقال الفراء والزجاج: {طَوَّافُونَ} استئناف، كقولك في الكلام: إنَّما هم خدمكم (¬5) [وطوافون عليكم (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 41 أ. (¬2) في (أ): (تطوفون). (¬3) في (ظ): (لم يأمروا الموالي المماليك). (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 41 أ. (¬5) في (ع): (خدمكم ولا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثلاثة)، وهو انتقال نظر من الناسخ إلى ما قبله. (¬6) هذا قول الفراء في "معانيه" 2/ 260، وأما الزجاج فذكر هذا في "معانيه" 4/ 53 بمعناه فقال: على معنى: هم طوافون عليكم. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 147، "البيان" للأنبارى 2/ 199، "الدر المصون" 8/ 141.

قال ابن قتيبة: يريد أنهم خدمكم] (¬1)، قال الله تعالى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] أي: يطوف عليهم ولدان (¬2) في الخدمة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهرة: "إنَّما هي من الطوافين عليكم والطوافات" (¬3) جعلها بمنزلة العبيد والإماء (¬4). وقال صاحب النظم: يقال إن معنى الطواف هاهنا الخدمة ومنه قوله -عز وجل- {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] (¬5) أي يخدمهم، وفي الخبر "إنَّها من الطوافين عليكم والطوافات" فشبّه السنانير (¬6) بخدم البيت. وقوله: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال الزجاج: على معنى: يطوف بعضكم على بعض (¬7). وقال أبو الهيثم: الطائف: هو الخادم الذي يخدمك برفق وعناية وجمعه الطوَّافون (¬8). ¬

_ (¬1) في "حاشية" (ع). (¬2) (ولدان): ساقطة من (أ). (¬3) رواه أبو داود في "سننه" كتاب: الطهارة- باب: سؤر الهرة 1/ 307 - 308، والنسائي في "سننه" كتاب: الطهارة- سؤر الهرة 1/ 55، وابن ماجه في "سننه" أبواب: الطهارة- باب: الوضوء بسؤر الهرة 1/ 72 كلهم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- مرفوعًا. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" 1/ 54: وصححه البخاري والترمذي والعقيلي والدارقطني. وقال في "بلوغ المرام" ص 12: أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة. (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 307. (¬5) (مخلدون): ليست في (ظ)، (ع). (¬6) السنانير: جمع سنَّور، وهو: الهرّ. "لسان العرب" 4/ 381 (سنر). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 53. (¬8) قول أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 14/ 34 (طوف).

60

{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} قال المفسرون: يعني من الأحرار (¬1). {الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} أي في جميع الأوقات في الدخول عليكم، فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والمملوك يستأذنان في الثلاث عورات. قال سعيد بن المسيب: ليستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} في ذلك (¬2). وقال مقاتل بن حيان: الأحرار إذا بلغوا الحلم فليستأذنوا على كل حال وفي كل حين، كما استأذن الذين بلغوا الحلم من قبلهم الذين أمروا بالاستئذان على كل حال (¬3). فالمراد بقوله {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الأحرار الكبار من الرجال في قول جميع المفسرين (¬4)، إلا فيما روى عطاء، عن ابن عباس فإنه قال: يريد الذين كانوا مع إبراهيم وإسماعيل (¬5). 60 - قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} قال ابن السكيت: امرأة قاعد، إذا قعدت عن المحيض، فإذا أردت القعود قلت: قاعدة (¬6). وقال أبو الهيثم: القواعد من صفات الإناث، لا يقال: رجال ¬

_ (¬1) الطبري 18/ 164، الثعلبي 3/ 89 ب. (¬2) رواه الطبري 18/ 165، وابن أبي حاتم 7/ 66 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 220 ونسبه لابن أبي حاتم. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 66 أ. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 164، الثعلبي 3/ 89 ب، ابن كثير 3/ 303. (¬5) ذكره البغوي 6/ 62، وصدّره بقوله: وقيل. وهو قول ضعيف بعيد. (¬6) قول ابن السكيت في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 200 (قعد). وهو بنحوه في "المشوف المعلم" 2/ 652.

قواعد، يقال: رجل قاعد عن الغزو، وقوم قعَّاد وقاعدون [عن الغزو] (¬1) (¬2). والمفسرون كلهم قالوا في القواعد: هنّ اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر (¬3). قال اللَّيث: امرأة قاعد (¬4) وهي التي قعدت عن الولد وانقطع عنها الحبل من كبر (¬5)، وهن القواعد (¬6). وقال الزجاج: هي التي قعدت عن الزوج. وهذا معنى قوله {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (¬7). قال ابن عباس: يعني تزويجها (¬8). وقال السدي: هن اللاتي قد (¬9) تركن الأزواج وكبرن (¬10) (¬11). وقال الفراء: لا يطمعن أن يتزوجن من الكبر (¬12). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) قول أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 200 (قعد). (¬3) انظر: "الطبري" 18/ 165، الثعلبي 3/ 89 ب. (¬4) في (أ): (قاعدة). (¬5) في (ع): (كبرهن). (¬6) قول الليث لم أجده في "تهذيب اللغة"، ولعله سقط من المطبوع. وهو بنحوه في "العين" 1/ 143 "قعد" دون قوله: وانقطع عنها الحبل. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 53. (¬8) روى ابن أبي حاتم 7/ 66 ب هذا القول عن سعيد بن جبير. (¬9) (قد): ساقطة من (ظ). (¬10) في (ظ): (تركن الأزواج من كبر وقد كبرن عنهن). (¬11) روى ابن أبي حاتم 7/ 66 ب معنى هذا القول عن مجاهد وزيد بن أسلم. (¬12) "معاني القرآن" للفراء 2/ 261.

ويرجون في فعل جميع (¬1) النساء كقوله {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]. وقد مرّ. وقوله {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال عامّة المفسرين (¬2): يعني الجلباب والرداء والقناع الذي (¬3) فوق الخمار. فالمراد (¬4) بالثياب هاهنا: بعضها لا كلها. وهو ما ذكره المفسرون. يدل عليه ما روي أنَّ في حرف ابن مسعود (من ثيابهن) (¬5)، وفسر فقال: أن يضعن الملحفة والرداء ويقمن في الدروع وفي خمرهن (¬6). ¬

_ (¬1) في (ع): (جمع). (¬2) انظر: "الطبري" 18/ 165 - 166، ابن أبي حاتم 7/ 67 أ، الثعلبي 3/ 89 ب ابن كثير 3/ 304، "الدر المنثور" 6/ 222. (¬3) في (ع): (التي). (¬4) في (ظ): (والمراد). (¬5) روى ابن أبي حاتم 7/ 67 ب عن سعيد بن جبير قال: في قراءة ابن مسعود (أن يضعن من ثيابهن). وروى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 63، وابن أبي حاتم 7/ 67 ب عن معمر قال: في حرف ابن مسعود (أن يضعن من ثيابهن). وعلى فرض صحة هذه القراءة عن ابن مسعود فهي قراءة تفسيرية. (¬6) لم أجده بهذا اللفظ عن ابن مسعود. وروى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 63، والطبري 18/ 166، وابن أبي حاتم 7/ 67 أعن ابن مسعود في قوله: (أن يضعن ثيابهن) قال: الرداء. وروى عنه الطبري 18/ 166، وابن أبي حاتم 7/ 67 أ، والبيهقي في "السنن الكبرى" 3/ 93 قال: الجلباب. وروى عنه الطبري 18/ 166 قال: هي الملحفة. وقد روى الطبري 18/ 165، وابن أبي حاتم 7/ 67 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 93 عن ابن عباس نحو هذا المعنى. وروى ابن أبي حاتم 7/ 67 أنحوه عن أبي صالح.

وقال الحسن: رخص لها أن تمشي في درع (¬1) وخمار وتصلي فيهما (¬2). وكان ابن عباس يقرأ: [أن يضعن] (¬3) جلابيبهن (¬4). وروى السدي عن أصحابه: فليس عليهن جناح أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن (¬5). وروى خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: يرخصون للمرأة الكبيرة (¬6) التي قد آيست من النكاح أن يرى الشيء من شعرها (¬7). فعلى هذا القول يجوز لها أن تضع الخمار. والصحيح ما عليه المفسرون. ¬

_ (¬1) في (أ): (دروع). (¬2) روى عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 63، وابن أبي حاتم 7/ 67 ب عن الحسن قال: لا جناح على المرأة إذا قعدت عن النكاح أن تضع الجلباب والمنطق. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 222: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقرآن: فليس عليهن جناح أن يضعن جلابيبهن. والذي في "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 67 ب عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقول: فليس عليهن جناح أن يضعن جلابيبهن. وهذه قراءة تفسير يدل عليه ما رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 93 عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (أن يضعن ثيابهن) ويقول: هو الجلباب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 221 ونسبه أيضًا لأبي عبيد في "فضائله"، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف. (¬5) ذكره الرازي 24/ 35، والنيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 128 من رواية السدي عن شيوخه. (¬6) في (ع): (والكبيرة). (¬7) لم أجده.

قوله تعالى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} التَّبرج: التكشف وهو أن تظهر المرأة محاسنها من وجهها وجسدها (¬1). قال أبو إسحاق: التبرج إظهار الزينة وما يستدعى (¬2) به شهوة الرجل (¬3) (¬4). وقال المبرد: {مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي مبديات من زينة يستدعين بها. وقال المفسرون: يعني من غير أن يردن بوضع (¬5) الجلباب أن ترى زينتهن (¬6). قال مقاتل: لا تريد (¬7) بوضع الجلباب أن تُرى زينتها، يعني الحلي (¬8). وقال مقاتل بن حيان: يقول: ليس لها أن تضع [الجلباب] (¬9) يريد ¬

_ (¬1) انظر: (برج) في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 55 - 56، "الصحاح" للجوهري 1/ 299، "لسان العرب" 2/ 212. (¬2) في (ع): (تستدعى، الرجال). (¬3) في (ع): (تستدعى، الرجال). (¬4) قول أبي إسحاق في "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 56 (برج) بنصِّه. وليس قوله في هذا الموضع من سورة النور في كتابه "معاني القرآن"، بل ذكر هذا القول عند قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. والأظهر أن الواحدي نقل قول الزجاج عن "تهذيب اللغة" للأزهري. (¬5) في (ظ): (موضع). (¬6) الثعلبي 3/ 89 ب، الطبري 14/ 167. (¬7) في (ع): (لا يريد). (¬8) "تفسير مقاتل" 2/ 41 أ. (¬9) ليست في جميع النسخ، وهي زيادة زدناها من "تفسير ابن أبي حاتم".

61

بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزينة (¬1). وقال قتادة: إن المرأة تكون (¬2) قد حلت فيكون العضو من أعضائها حسنا فلا ينبغي لها أن تبدي ذلك لتلتمس به الزينة (¬3). وقال عطاء: تضع الجلباب في بيتها فأما إذا خرجت فلا يصلح (¬4). فعلى هذا معنى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} غير خارجات من (¬5) بيوتهن (¬6). ثم قال {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} قال ابن عباس: يستعففن فلا يضعن الجلباب (¬7). وقال مجاهد: يلبسن جلابيبهن خيرٌ لهنّ من وضع (¬8) الجلباب (¬9). قوله {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بما في قلوبكم (¬10). 61 - {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى} روى الزهري، عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 68 أ. (¬2) (تكون): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬3) لم أجده. (¬4) ذكره عنه القرطبي 12/ 310. (¬5) في (ظ): (عن). (¬6) قال القرطبي 12/ 310 بعد حكايته هذا القول عن عطاء، وذكره كلام الواحدي من غير نسبة: وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلابد لها من جلباب فوق الدِّرع، وهذا بعيد إلا إذا دخل عليها أجنبي. (¬7) روى ابن أبي حاتم 7/ 68 أعن سعيد بن جبير مثله. (¬8) في (ظ): (موضع). (¬9) رواه الطبري 18/ 167، وابن أبي حاتم 7/ 68 أعنه مختصرًا وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 222 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬10) في (ظ)، (ع): (والله سميع عليم) لقولكم بما في قلوبكم.

زَمْناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا (¬1): لا ندخلها وهم غُيَّب. فنزلت هذه الآية رخصة لهم (¬2). وهذا قول عائشة رضي الله عنها روي أنها قالت في هذه الآية: كان المسلمون يرغبون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المغازي، ويدفعون مفاتيحهم إلى الضمناء (¬3) ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا مما في منازلنا. فكانوا يتوقَّون ¬

_ (¬1) في (أ): (قالوا). (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64، وأبو عيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 244، وأبو داود في "المراسيل" ص (184)، والطبري في "تفسيره" 18/ 169 من طريق الزهري، عن عبيد الله عبد الله، به. ورواه بنحوه أبو داود في "المراسيل" ص 185، وعبد بن حميد كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 224، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 275 من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وابن المسيب. ورواه بنحوه أبو جعفر النَّحَّاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 600 - 601 من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب. ورواه بنحوه الواحدي في "أسباب النزول" ص 274 من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب. وهذه الرواية مرسلة، لكن يشهد لها رواية عائشة الصحيحة الآتية، -وقد اعتمد هذا القول الإمام الطبري في "تفسيره" 18/ 170 فقال- بعد ذكره لروايات في نزول هذه الآية-: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله: "ليس على الأعمى حرج" إلى قوله: "أو صديقكم" القول الذي ذكرنا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، .. وقال أبو جعفر النَّحاس في "الناسخ والمنسوخ " ص 602 - بعد روايته لأثر ابن المسيب وعائشة الآتي-: وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية، لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف أن الآية نزلت في شيء بعينه .. (¬3) في (ع): (الضَّمنى)، وفي (ظ): (الزَّمنى)، وعند ابن أبي حاتم: ضمناهم.

أن يأكلوا من منازلهم حتى نزلت هذه الآية (¬1). فعلى هذا معنى الآية: نفي الحرج عن الزَّمنى في أكلهم من بيوت (¬2) أقاربهم، أو بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو. وروى الكلبي، عن أبي صالح، [عن ابن عباس] (¬3) - في هذه الآية: أن الأنصار كانوا قومًا يتنزَّهون في أشياء؛ كانوا لا يأكلون مع الأعمى يقولون: الأعمى لا يبصر طيَّب الطعام ونحن نُبصره (¬4) فنسبقه إليه (¬5)؛ فيعزلونه على حده. وكانوا لا يأكلون مع المريض يقولون: لا يقدر أن يأكل مثل ما أكلنا (¬6) يمنعه من ذلك المرض، وكانوا يعزلونه على حدة؛ وكانوا لا يأكلون مع الأعرج يقولون: لا يستمكن من المجلس فإلى أن يأكل هو لقمة قد أكلنا لقمتين، فيعزلونه على حدة. فنزل في ذلك {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} يقولون: ليس على من أكل (¬7) مع الأعمى حرج (¬8). ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" للهيثمي 3/ 61 - 62، وابن أبي حاتم 7/ 70 أ، وأبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 601. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 224 ونسبه أيضًا لابن النجار وابن مردويه. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 84: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وهذه الرواية هي أصح ما ورد في سبب نزول الآية، والله أعلم. (¬2) في (ظ)، (ع): (بيت). (¬3) ساقط من (ظ)، (ع). (¬4) في (ظ)، (ع): (نُبصر). (¬5) إليه): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬6) في (ظ): (مثل أكلنا). (¬7) في (ظ): (ليس على كل من أكل). (¬8) لم أجد هذه الرواية. وهي رواية باطلة سندًا. =

وهذا معنى قول مقسم -في هذه الآية-: كانوا لا يأكلون مع الأعمى والأعرج والمريض؛ لأنهم كانوا لا ينالون من الطعام كما ينالون. فنزلت هذه الآية (¬1). ونحو هذا ذكر مقاتل بن سليمان في سبب النزول (¬2). واختار الفراء هذا القول وقال: معنى الآية: ليس عليكم في مؤاكلتهم (¬3) حرج (¬4) و (في) تصلح مكان (على) هاهنا (¬5). وعلى هذا قوله {عَلَى الْأَعْمَى} (¬6) معناه: في الأعمى. أي في مؤاكلة الأعمى فـ (على) بمعنى: في، والمضاف محذوف. وقال آخرون: كان (¬7) هؤلاء يتنزَّهون عن مؤاكلة الأصحاء؛ لأن ¬

_ = ووقع في "تنوير المقباس" الذي هو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما أنزل قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] بالظلم وخافوا من ذلك، فرخص لهم المؤاكلة من بعضهم بعض. وروى الطبري 18/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 68 ب نحو هذه الرواية عن الضحَّاك. وروى ابن أبي حاتم 7/ 68 أ، ب، 69 أعن سعيد بن جبير وسليمان بن موسى نحو هذه الرواية. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 130، والطبري 18/ 130، وابن أبي حاتم 7/ 68 ب عن مقسم. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 223 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 41 أ، ب. (¬3) في (ع): (مؤاكلتكم). (¬4) في (ظ): (تحرّج). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 261. (¬6) (على): ساقطة من (أ). (¬7) المثبت من (ع)، وفي باقي النسخ: (كانوا).

الناس يتقذَّرون منهم، فكان الأعمى لا يؤاكل الناس؛ لأنَّه لا يُبصر الطعام فيخاف أن يستأثر، وكان الأعرج يتوقَّى ذلك لأنَّه يحتاج لزمانته أن ينفسخ في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه، وكان المريض يخاف أن يفسد على الناس طعامهم بأمور قد تعتري مع المريض من رائحة بتغير أو جرح يبض (¬1) أو أنف يذن (¬2) أو بول يسلس (¬3) وأشباه ذلك فأنزل الله [عز وجل] (¬4) هذه الآية. يقول: ليس على هؤلاء حرج في مؤاكلة الناس. وهذا معنى قول (¬5) سعيد بن جبير، والضحاك (¬6)، والسدي، قالوا: كان ناس من الأنصار لا يأكلون مع هؤلاء يتقذَّرون منهم. وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: يريد ليس على هؤلاء حرج في التخلف عن الغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا قول الحسن وابن زيد (¬7). وعلى هذا تم الكلام عند قوله {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ}، وقوله {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كلام منقطع عما قبله (¬8). ¬

_ (¬1) يَبِضّ: يقطر منه الدم. انظر: "لسان العرب" 7/ 117 (بضض). (¬2) يَذَنّ: يسيل منه المخاط أو الماء. انظر: "لسان العرب" 13/ 173 (ذنن). (¬3) يسلس: أي لا يستمسك. "القاموس المحيط" 2/ 222. (¬4) زيادة من (ظ)، (ع). (¬5) (قول): ساقط من (ظ). (¬6) ذكر هذا المعنى الثعلبي 3/ 90 أعن سعيد بن جبير والضحاك. وعن الضحاك رواه الطبري 18/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 68 ب. (¬7) ذكره الثعلبي 3/ 90 أعن الحسن وابن زيد. ورواه الطبري 18/ 169 عن ابن زيد. (¬8) من قوله: تم الكلام .. إلى هنا. هذا كلام الثعلبي 3/ 90 أ.

قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير وقالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فأنزل الله تعالى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} (¬1). أي: ليس عليكم حرج في أنفسكم أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم. فمعنى {مِنْ بُيُوتِكُمْ} من بيوت أزواجكم وعيالكم، أضاف إليه؛ لأن بيت (¬2) المرأة كبيت (¬3) الزوج. ذكر هذا المعنى الفرَّاء (¬4) وابن قتيبة. قال [ابن قتيبة: وقال] (¬5) بعضهم: أراد أن تأكلوا من بيوت [أولادكم فنسب بيوت] (¬6) الأولاد إلى بيوت الآباء؛ لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم، يدلك على أن المراد بالآية (¬7) ما ذكرنا: أنَّ الناس لا يتوقون أن يأكلوا من بيوتهم حتى ينفى الحرج عنهم، وأيضًا فإنه عدَّد القرابات وهم أبعد نسبًا من الولد ولم يذكر الولد، وقد قال المفسرون في قوله: {مَا أَغْنَى ¬

_ (¬1) ذكره بهذا اللفظ عن ابن عباس: الثعلبي 3/ 90 أ. ورواه بنحوه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 243، والطبري 18/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 71 أمن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. ورواه بمعناه من وجه آخر البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 275. (¬2) في (ع): (بنت، كبنت). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 261. (¬4) ساقط من (ظ)، (ع). (¬5) في (أ): (يأكلوا). (¬6) ساقط من (أ). (¬7) في (ظ)، (ع): (كما).

عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] أراد ما أغنى عنه ماله وولده، فجعل ولده كسبا (¬1). وذكر مجاهد في سبب نزول الآية غير ما ذكر هؤلاء وقال: كانت رجال زمنى: عميًا عرجًا أولي (¬2) حاجة يستتبعهم (¬3) رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا طعامًا ذهبوا إلى بيوت آبائهم ومن عدَّدهم معهم، فكره ذلك (¬4) المستتبعون، فأنزل الله في ذلك {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (¬5) وأحل لهم الطعام حيث وجدوه (¬6). وعلى هذا معنى الآية: لا جناح على هؤلاء الزمنى ولا على من استتبعهم أن يأكلوا من بيوت أزواجهم وعيالهم أو بيوت آبائهم وأقاربهم الذين ذكروا. وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه [أو بيت ¬

_ (¬1) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 333 - 334. وقد ذكر هذا القول عن المفسرين في معنى "وما كسب" ابن الجوزي 6/ 260. (¬2) في (أ): (وإلى). (¬3) في (ظ): (ويستتبعهم). (¬4) ذلك: ساقطة من (أ). (¬5) في جميع النسخ: (لا جناح عليهم)، وهو خطأ. ووقع عند أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" وابن أبي حاتم والبيهقي: لا جناح عليكم. وهو خطأ. والتصويب من رواية الطبري. (¬6) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 243 - 244، والطبري 18/ 169، وابن أبي حاتم 7/ 69 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 275. وهو مرسل. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64 بنحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 224 مثل رواية عبد الرزاق، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

أخته] (¬1)، فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فلا (¬2) يأكل لأنه ليس ثمَّ رب البيت، فأنزل الله الرخصة (¬3). قال ابن قتيبة: وهذا من رخصته للقرابات (¬4) وذوي الأواصر (¬5)، كرخصته في الغرباء والأباعد لمن دخل حائطًا وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مرَّ في سفر بغنم وهو عطشان أن يشرب من رِسْلها (¬6)، وكما أوجب للمسافر على من مرَّ به الضيافة، توسعة منه ولطفًا بعباده، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر (¬7). وقوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قال عطاء، عن ابن عباس: يريد مماليككم (¬8)، وذلك أن السيد يملك منزل عبده. وقال الفراء: يعني: أو بيوت {مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} (¬9) يعني: بيوت عبيدكم وأموالهم. قال: ويجوز أن تكون المفاتح (¬10) -هاهنا -: الخزائن، ويجوز أن ¬

_ (¬1) ساقط من (ظ)، (ع). (¬2) في (ع): (ولا). (¬3) رواه ابن أبي حاتم 7/ 69 ب. وذكره عنه ابن كثير 3/ 305. (¬4) في (أ): (رخصة القرابات). (¬5) في (ظ): (لأواخر). والأواصر: جمع آصرة، وهي الرحم. "لسان العرب" 4/ 22 (أصر). (¬6) رِسْلها: لبنها. "القاموس المحيط" 3/ 384. (¬7) "مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 334. (¬8) ذكر الثعلبي 3/ 9 أ، والبغوي 6/ 64 هذا القول عن الضحَّاك. (¬9) في (ظ): (يعني: أو بيوت مماليككم التي ملتم مفاتحهم، يعني: بيوت عبدكم وأموالكم). (¬10) في (أ): (أن يكون معنى المفاتح).

تكون التي يفتح بها (¬1). وذكرنا المفاتح بمعنى الخزائن في (¬2) قوله {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ} [الأنعام: 59]. وهذا معنى قول مقاتل بن سليمان (¬3)، والضحاك (¬4). وقال آخرون: معنى قوله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} أي ما خزنتموه لغيركم. يريد الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة (¬5). وقال ابن عباس: عني بذلك وكيل الرجل وقيِّمه (¬6) في ضيعته (¬7) وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته (¬8). قال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير (¬9). ¬

_ (¬1) هذا معنى ما قاله الفراء في "معاني القرآن" 2/ 261 لا نصّه. (¬2) في (ع): (عند). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 41 ب. (¬4) رواه عنه الطبري 18/ 170، وابن أبي حاتم 7/ 70 أ، ب. (¬5) ذكر الرازي 24/ 37 هذا القول ونسبه للضحَّاك. (¬6) في (ع): (وخليفته). (¬7) الضَّيعة: هو مال الرجل من النَّخل والكرم والأرض. وقيّمه في ضيعته: هو الذي يقوم بأمرها وما تحتاج إليه. انظر: "لسان العرب" 8/ 230 (ضيع)، 12/ 503 (قوم). (¬8) ذكره بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 90 أ. ورواه بنحوه الطبري 18/ 170، وابن أبي حاتم 7/ 71 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 224 ونسبه أيضًا لابن المنذر والبيهقي. (¬9) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65. وذكره عنه الجصَّاص في "أحكام القرآن" 3/ 335، والبغوي 6/ 64 - 65.

وقال السدي: الرجل يوليه الرجل طعامه يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه (¬1). وقال مقاتل بن حيان: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [يعني: ما ملكتم (¬2) خزائنه (¬3). وقال قتادة: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}] (¬4) مما تحتبس يا ابن آدم (¬5). ونحو هذا يروى عن مجاهد (¬6). والمعنى: أو بيوت أنفسكم مما اختزنتم وملكتم. وهذا أبعد الوجوه؛ لأن الناس لا يتوقّون أن يأكلوا من بيوتهم. وقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال المقاتلان: انطلق رجل غازيًا يدعى الحارث بن عمرو (¬7) واستخلف مالك بن زيد (¬8) في أهله وخزائنه (¬9)، فلما رجع (¬10) الحارث من غزاته (¬11) رأى مالكًا مجهودًا قد أصابه الضرّ، فقال: ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم 7/ 70 ب. وذكره عنه ابن كثير 3/ 305. (¬2) (ما ملكتم): ساقطة من (ع). (¬3) لم أجده عن مقاتل بن حيان. وقد رواه ابن أبي حاتم 7/ 70 أعن سعيد بن جبير. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64، والطبري 18/ 170، وابن أبي حاتم 7/ 70 ب. (¬6) ذكر هذه الرواية عن مجاهد: الثعلبي 3/ 90 ب. ورواها الطبري 18/ 170. (¬7) في (أ): (عمر). (¬8) في (أ): (يزيد). (¬9) في (ظ)، (ع): (وخزانته). (¬10) في (أ): (خرج). (¬11) في (أ): (غرايه).

ما أصابك؟ قال مالك (¬1): لم يكن عندي سعة. فقال الحارث: أما تركتك في أهلي ومالي؟ قال: بلى، ولكن لم يكن يحلّ (¬2) لي مالك، ولم أكن لآكل ما لا يحلّ لي. فأنزل الله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} يعني الحارث بن عمرو حين خلَّف مالكًا في أهله (¬3). والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا (¬4) من غير أن تتزودوا أو تحملوا (¬5). وكان الحسن وقتادة (¬6) يريان دخول (¬7) الرجل بيت صديقه والتحرم من طعامه (¬8) من غير استئذان بهذه الآية. قال معمر: ودخلت على قتادة فقلت له (¬9): أشرب من هذا الحُبّ (¬10)؟ -حب فيه ماء- فقال: أنت لنا صديق، ثم قرأ {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (¬11). ¬

_ (¬1) (مالك): ساقطة من (ع). (¬2) (يحل): ساقطة من (أ). (¬3) رواه ابن أبي حاتم 7/ 70 ب، 71 أعن مقاتل بن حيَّان. وهو في "تفسير مقاتل بن سليمان" 2/ 41 ب. (¬4) في (أ): (وإن لم تحضروا ولم تعلموا). (¬5) في (ع): (من غير أن يتزودوا أو يحملوا). (¬6) ذكرها عنها بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 90 ب. وعن قتادة بمعناه رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64، والطبري 18/ 171، وابن أبي حاتم 7/ 70 ب. (¬7) في (ظ)، (ع): (دخل). (¬8) في (ظ)، (ع): (بطعامه). (¬9) (له): ساقطة من (أ). (¬10) الحُب: الجرَّة: الضخمة، أو الذي يوضع فيه الماء. "لسان العرب" 1/ 295 (حبب). (¬11) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، والطبري 18/ 171، وابن حبان في "روضة العقلاء" ص 87 عن معمر، به.

وقال ابن عباس- في رواية عطاء: أو صديقكم إذا دعاكم (¬1). وقوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} قال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن بكر (¬2) -وهم حيّ من كنانة- كان الرجل لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئًا، وربما كانت معه الإبل الحُفَّل (¬3) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه (¬4). ونصب {جَمِيعًا} على الحال. ومعنى {أَشْتَاتًا}: متفرقين، جمع شت، والشت المصدر بمعنى: التفرق، يقال: شت القوم، إذا تفرقوا. ثم يوصف به ويجمع (¬5). وهذا معنى قول قتادة، ومقاتل، والضحاك، وابن جريج، ورواية الوالبي عن ابن عباس (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر الماوردي 4/ 124 هذا القول بمعناه، ولم ينسبه لأحد. (¬2) بطن من كنانة بن خزيمة، من العدنانية، وهو بنو ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة بن خزيمة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. كانوا يقيمون حول مكة. "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 180، "معجم قبائل العرب" لكحالة 3/ 1019 - 1020. (¬3) الحُفَّل: كرُكَّع-: جمع حافلة، وهي التي امتلأ ضرعها لبنًا. انظر: "لسان العرب" 11/ 157 (حف)، "القاموس المحيط" 3/ 358. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 54. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 149، "البيان في غريب القرآن" للأنباري 2/ 200، "الدر المصون" 8/ 444. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 269 (شت)، "الصحاح" للجوهري 1/ 254 (شتت)، "لسان العرب" 2/ 48 - 49 (شتت). (¬6) ذكره الثعلبي 3/ 90 عن هؤلاء عدا مقاتل. =

وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعامًا عزلوا للأعمى (¬1) على حدى، وللأعرج على حدة. فنزلت هذه الآية [رخصة لهم (¬2)] (¬3) (¬4). وذهب قوم إلى (¬5) أنَّ هذا عام أباح الله تعالى للناس الأكل إن شاءوا مجتمعين وإن شاءوا متفرقين. وهذا قول مقاتل بن حيان (¬6)، ومعنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬7). وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرقين (¬8). ¬

_ = وقول مقاتل في "تفسيره" 2/ 41 ب. وعن قتادة: رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، والطبري 18/ 172، وابن أبي حاتم 7/ 74 ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 225 ونسبه أيضًا لعبد ابن حميد. وقول الضحَّاك وابن جريج رواه عنهما الطبري 18/ 172. ورواية الوالبي عن ابن عباس رواها الطبري 18/ 172، وابن أبي حاتم 7/ 71 أ. (¬1) في (أ): (الأعمى). (¬2) (لهم): ساقطة من (ع). (¬3) ساقط من (ظ). (¬4) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65. (¬5) (إلى): ساقطة من (ظ)، (ع). (¬6) روى ابن أبي حاتم 7/ 71 ب هذا المعنى عن سعيد بن جبير، ثم قال: وروى عنه مقاتل بن حيان نحو ذلك. (¬7) انظر: "الثعلبي" 3/ 90 ب، والبغوي 6/ 65. (¬8) ذكره الثعلبي 3/ 90 ب عنهما. =

وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا في دخول الرجل بيت نفسه والسلام على أهله ومن في بيته. وهذا قول جابر بن عبد الله، والزهري، وقتادة، وعطاء، والأعمش، ومعنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬1). وروى أبو الزبير، عن جابر قال: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬2). وروى عنه مرفوعًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها" (¬3). ¬

_ = ورواه عنهما الطبري 18/ 174. وذكره عنهما السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 225 ونسبه أيضًا لابن المنذر. قال الطبري 18/ 172 - بعد ذكره للروايات في سبب نزول الآية-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعًا معًا إذا شاءوا أو أشتاتًا متفرقين إذا أرادوا وجائز أن يكون نزل بسبب من كان يتخوف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون بسبب القوم الذين ذكر أنَّهم كانوا لا يطعمون وحدانا، وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه، والصواب التسليم لما دل عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل. (¬1) قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 7/ 91 أ: (وهو قول جابر بن عبد الله، وطاووس والزهري، وقتادة، والضحاك، وعمرو بن دينار، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس. (¬2) رواه البخاري في "الأدب المفرد" ص 319، والطبري 18/ 173، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 72 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 226 وزاد نسبته لابن مردويه. (¬3) رواه الحاكم في "مستدركه" 2/ 402 من حديث جابر مرفوعًا، وقال: غريب الإسناد والمتن.

وقال الزهري وقتادة -في قوله {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} - قالا: بيتك إذا دخلت فقل: السلام عليكم (¬1). وقال عطاء: إذا دخلت على أهلك فسلّم (¬2). وقال الأعمش: يقول: فسلموا على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم (¬3). وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: هذا (¬4) أدب من الله -عز وجل- أمر أولياءه بالسلام على أهلهم. وعلى هذا قال: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وهو يريد أهليكم، لأن أهل الرجل في نفسه. القول الثاني: أن معنى الآية: ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم بيوتًا. وهو قول الحسن، وزيد بن أسلم وابنه، والسدي، والكلبي، والمقاتلين (¬5)، كل هؤلاء قالوا: معنى الآية إذا دخلتم بيوتًا فسلموا على ¬

_ (¬1) رواه عنهما عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، والطبري 18/ 173، وابن أبي حاتم 7/ 71 ب. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 455، والطبري 18/ 173. (¬3) لم أجده. وقد روى الطبري 18/ 174 من طريق الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا دخلت المسجد .. وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد .. وإذا دخلت بيتك فقل: السلام عليكم. (¬4) (هذا): ساقطة من (أ). (¬5) قول ابن زيد ذكره عنه الثعلبي 3/ 90 ب. ورواه عنه الطبري 18/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 72 ب. وقول الكلبي رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66. وقول مقاتل بن حيان رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 72 أ، ب. وسيأتي تخريج أقوال الباقين.

أهلها وعلى من فيها من المسلمين، وليسلم بعضكم على بعض عند دخول البيت والمنازل. وعلى هذا معنى قوله {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي على أهل ملتكم. قاله السدي (¬1). وقال مقاتل: على أهل دينكم (¬2). وقال زيد بن أسلم: يقول (¬3) على المسلمين (¬4). وقال الحسن: هذا كقوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] (¬5). القول الثالث: أنَّ هذا في دخول البيوت الخالية. روى منصور (¬6) عن إبراهيم (¬7) -في هذه الآية- قال: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (¬8). وقال مجاهد -في هذه الآية-: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا (¬9) وعلى عباد الله الصالحين (¬10). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الماوردي 4/ 126. (¬2) "تفسير مقاتل" 2/ 41 ب. (¬3) يقول: ساقطة من (ع). (¬4) رواه ابن أبي حاتم 7/ 72 أ. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 3/ 90 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، والطبري 18/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 72 ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 228 وزاد نسبته لابن المنذر. (¬6) هو منصور بن المعتمر. (¬7) هو إبراهيم النَّخعي. (¬8) رواه الطبري 28/ 174 - 175 من رواية منصور عن إبراهيم. (¬9) في (ع): (عليكم). (¬10) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، وسعيد بن منصور في "تفسيره" ل 58 أ =

وهذا قول ابن عمر (¬1)، والحكم (¬2)، وماهان (¬3). وروى عمرو بن دينار، عن ابن عباس في هذه الآية قولًا رابعًا في قوله {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قال: هو المسجد إذا دخلتم فسلموا على من فيه، وقيل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (¬4). فالبيوت في هذا القول المساجد. قوله {تَحِيَّةً} ذكرنا معناها عند قوله {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86]. قال أبو إسحاق: هو نصبٌ على المصدر لأن قوله (فسلموا) بمعنى (¬5) ¬

_ =، ب، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 461، وابن أبي حاتم 7/ 72 أوذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 228 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬1) رواه عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 460، والبخاري في "الأدب المفرد" ص 310، والطبري في "تفسيره" 18/ 175. (¬2) (والحكم): في حاشية (ع)، وهو: الحكم بن عتيبة، وقوله لم أجده. (¬3) هو: ماهان الحنفي. وروى عنه هذا القول عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 461، والطبري 18/ 174. (¬4) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، والطبري 8/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 72 أ، والحاكم في "مستدركه" 2/ 401، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 91 أكلهم من طريق عمرو بن دينار، عن ابن عباس، به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 227 ونسبه أيضًا لابن المنذر والبيهقي. وصحح ابن العربي 3/ 1408 أن المراد البيوت كلها، لعموم القول، ولا دليل على التخصيص. (¬5) في (ظ): (يعني).

فتحيَّوا (¬1) ويحيي بعضكم تحية (¬2). وقوله {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قال ابن عباس: أي هذه تحية حياكم الله بها (¬3). وقال الفراء (¬4): أي من أمر الله أمركم بها تفعلونه (¬5) طاعة له (¬6). وقوله {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قال ابن عباس: يريد حسنة جميلة (¬7). وقال الزجاج: أعلم الله أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب (¬8). قوله {كَذَلِكَ} أي كبيانه في هذه الآية. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} يفصل الله لكم معالم دينكم كما بيّن في أمر الطعام والتسليم (¬9) (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (فحيوا). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 55. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 149، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 517، "الإملاء" للعكبري 2/ 160. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ، وقد روى ابن أبي حاتم 7/ 72 ب من طريق الوالبي، عن ابن عباس في قوله (تحيّة من عند الله): قال وهو السلام: لأنَّه اسم الله، وهو تحية أهل الجنَّة. (¬4) (الفراء): ساقط من (ع). (¬5) في (أ): (تفعلوه). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 262. (¬7) ذكره عنه البغوي 6/ 66. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 55 إلى قوله: طيب. أما قوله: لما فيه من الأجر والثواب. فهذا كلام الطبري في "تفسيره" 18/ 172. (¬9) في (ظ): (والسلام). (¬10) الطبري 18/ 175 مع اختلاف يسير.

62

{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفقهوا (¬1) عن الله أمره ونهيه وأدبه. 62 - قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} قال مجاهد (¬2)، وسعيد بن جبير (¬3)، والمفسرون (¬4): يعني الجمعة والغزو. وقال مقاتل بن حيان: يقول على أمر طاعة يجتمعون عليها نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك (¬5). وقوله: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قال مقاتل: نزلت في عمر بن الخطاب استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك في الرجعة إلى أهله، فأذن له وقال: "انطلق فوالله ما أنت بمنافق". يريد بذلك أن يسمع المنافقين (¬6). وقال ابن عباس: الذي استأذنه عمر بن الخطاب، وذلك (¬7) أنه استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العمرة فأذِن له، ثم قال: "يا أبا حفص لا تنسنا في صالح (¬8) دعائك" (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (تفقهون). (¬2) رواه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 242 - 243، وابن أبي حاتم 7/ 73 أ، ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 229 - 230 ونسبه أيضًا للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 73 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 230 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. (¬4) انظر: "الطبري" 18/ 175 - 176، والثعلبى 3/ 91 أ. (¬5) روى عنه ابن أبي حاتم 7/ 73 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 2/ 42 أ. وهذه الرواية لا تصح في سبب نزول هذه الآية. (¬7) في (ع): (في ذلك). (¬8) (صالح): ساقطة من (ع). (¬9) لم أجده عن ابن عباس. وقد روى أبو داود في "سننه" الصلاة - باب: الدعاء =

وقال الثُّمالي (¬1) -في هذه الآية-: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال (¬2) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يراه، فيعرف أنَّه (¬3) إنّما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء (¬4) منهم (¬5). قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده (¬6). قال الكلبي: كان ذلك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما اليوم فإذنه أن يأخذ بأنفه وينصرف (¬7). ¬

_ = 4/ 365، والترمذي كتاب: الدعوات 10/ 7، وابن ماجه المناسك- باب: فضل دعاء الحاج 2/ 155 عن ابن عمر أنه استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في العمرة فأذن له، وقال: "يا أخي أشركنا في دعائك ولا تنسنا". قال المنذري في "مختصر أبي داود" 2/ 146: وفي إسناده عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 211 عن عمر وفيه: "في صالح دعائك" وقال: رواه أحمد وأبو يعلى وفيه عاصم بن عبد الله وفيه كلام كثير وقد وثق. (¬1) هو: أبو حمزة الثمالي. (¬2) بحيال: أي بجانب. (¬3) (أنه): ساقطة من (أ). (¬4) في (ع): (يشاء). (¬5) رواه الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 291 ب بسنده عن أبي حمزة الثمالي به. وهو ضعيف؛ لضعف الثُمالي، ولإرساله. وقد ذكر البغوي 6/ 67، وابن الجوزي 6/ 68 - 69 هذا الخبر ونسباه للمفسرين. (¬6) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 242 - 243، وابن أبي حاتم 7/ 73 أ، ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 229 ونسبه أيضًا للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬7) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، وفي "مصنفه" 3/ 244.

وذكر في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب يوم الجمعة عرّض بالمنافقين في خطبته وعابهم، فربما كانوا يخرجون من المسجد ولا (¬1) يصلّون معه الجمعة فأنزل الله هذه الآية (¬2). وقال أبو إسحاق في هذه الآية: أعلم الله -عز وجل- أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيّه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع أئمتهم لا يخالفونهم، ولا يرجعون عنهم في جمع من جموعهم إلا بإذنهم، وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن على قدر ما يرى من الحظ لقوله -عز وجل- {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فجعل المشيئة إليه في الإذن (¬3). {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} أي استغفر لهم لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرًا. قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} قال ابن عباس -في رواية عطاء-: يريد من بعيد: يا أبا القاسم. ولكن افعلوا كما قال -في الحجرات-: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] (¬4). ¬

_ (¬1) في (ع): (لا). (¬2) روى أبو داود في "المراسيل" ص 47 عن مقاتل بن حيان نحوه. وذكره نحو هذه الرواية الفراء في "معاني القرآن" 2/ 262. وانظر ابن كثير 3/ 307، "الدر المنثور" 6/ 231. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 55. (¬4) رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" 1/ 46. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 230 ونسبه أيضًا لعبد الغني بن سعيد في تفسيره. وقد تقدم الكلام على هذه الرواية عن ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم 7/ 74 أ، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" 1/ 45 - 46 من =

وعلى هذا معنى الآية: أنهم أمروا بخفض الصوت إذا دعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونُهوا أن يصيحوا به من بعيد. وقال مجاهد: أمرهم أن يدعوا (¬1) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد في تجّهم (¬2) (¬3). وقال سعيد بن جبير: لا تقولوا يا محمد. قولوا: يا رسول الله (¬4). وقال قتادة: أمرهم أن يُفخِّموه ويشرِّفوه (¬5). وقال المقاتلان: يقول لا تدعوا النبي باسمه: يا محمد، يا بن عبد الله (¬6). إذا دعوتموه كما يدعو بعضكم بعضًا باسمه: يا فلان ويا ابن فلان، ولكن عظّموه وفخّموه وشرّفوه، وقولوا: يا رسول الله ويا نبي الله (¬7). ¬

_ = طريق بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحَّاك، عن ابن عباس، نحو هذا القول. وهذه الرواية فيها ضعف وانقطاع. فبشر بن عمارة ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس. انظر: "تهذيب التهذيب" لابن حجر 1/ 455، 4/ 453. (¬1) في (أ): (يدعونا). (¬2) في (أ): (تهجم). والتَّجهم: الاستقبال بوجه كريه. انظر: "لسان العرب" 12/ 111 (جهم). (¬3) رواه الطبري 18/ 177، وابن أبي حاتم 7/ 74 ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 231 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (ج7 ل 74 ب). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 231 ونسبه لعبد بن حميد. (¬5) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، والطبري 14/ 177 ورواه ابن أبي حاتم 7/ 74 ب بنحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 231 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬6) في (ع): (ولا يابن عبد الله). (¬7) قول مقاتل بن حيان رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 74 ب. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 42 أ.

وهذا قول أكثر المفسرين (¬1)، واختيار الفراء (¬2) والزَّجَّاج، قال: أعلمهم الله فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على سائر البرية (¬3) في المخاطبة (¬4). وروي عن ابن عباس قول آخر قال (¬5): نهى الله المؤمنين (¬6) أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم يقول: دعوة الرسول عليكم موجبة فاحذروها (¬7). وهذا قول الحسن، قال -في هذه الآية-: لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضهم على بعض (¬8) (¬9). وذكر المبرد وجهًا آخر فقال: يجوز أن يكون المعنى: لا تجعلوا أمره ¬

_ (¬1) انظر ابن أبي حاتم 7/ 74 ب، " الدر المنثور" للسيوطي 6/ 231. قال ابن كثير 3/ 307 - عن هذا القول-: وهو الظاهر من السياق كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} إلى آخر الآية [البقرة: 104]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله: {خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 2 - 5] فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته. اهـ. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 262. (¬3) في (أ): (النبوية). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 55. (¬5) في (ع): (قالت). (¬6) (المؤمنين): ساقطة من (ع). (¬7) رواه الطبري 18/ 177، وابن أبي حاتم 7/ 74 ب من قوله: دعوة .. من رواية العوفي، عنه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 231 ونسبه أيضًا لابن مردويه. قال ابن عطية 10/ 556 ولفظ الآية يدفع هذا المعنى. (¬8) في (ع): (كدعاء بعضكم بعضًا) أي على بعض. (¬9) رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 74 ب. وذكره عنه ابن كثير 3/ 307.

إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض، إذ (¬1) كان أمره فرضًا لازمًا (¬2). قال: ومثله قوله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]. وعلى هذا المصدر يكون مضافًا إلى الفاعل والدعاء يكون من الرسول، وهو أليق بما بعده من التهديد لمن تأخر عن الرسول وخالف أمره، وهو قوله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} (¬3). قال الليث: التَّسلل: إنسلال (¬4) جماعة، إذا ذهبوا (¬5). والسَّل: الإخراج، والتَّسلل والانسلال: الخروج. يقال: تسلل فلان من بين أصحابه، إذا خرج من جملتهم (¬6). وذكرنا هذا عند تفسير (¬7) السلالة (¬8). وقوله {لِوَاذًا} هو من الملاوذة، وهو (¬9) أن يستتر بشيء مخافة من ¬

_ (¬1) في (ع): (إذا). (¬2) ذكره عنه الرازي 24/ 39 - 40 وذكره عنه بمعناه أبو حيان 6/ 476، والسمين الحلبي 8/ 446. وذكر الماوردي 4/ 128 هذا المعنى وقال: حكاه ابن عيسى. (¬3) اختار الرازي 24/ 40، وأبو حيان 6/ 46 هذا القول، وذكرا مثل هذا التعليل. (¬4) في (أ): (استلال). (¬5) قول الليث في "العين" 7/ 193 (سلّ). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 12/ 292 - 294 (سل)، "الصحاح" للجوهري 5/ 1731 "سلل"، "لسان العرب" 11/ 338 - 339 (سلل). (¬7) في (ع): (عند قوله تفسير). (¬8) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]. (¬9) في (أ): (هو).

يراه (¬1). قال الطِّرمَّاح: تلاوذ (¬2) من حرِّ كأن أواره (¬3) ... يُذيب دماغ الضَّب فهو خدوع (¬4) أي: تستتر (¬5) بكنسها (¬6) يعني بقر الوحش. قال الفراء: إنَّما قيل لواذًا لواذًا؛ لأنها مصدر "لاوذت"، ولو كانت مصدرًا لـ"لذتُ" لكان لياذًا، كما تقول: قمت إليك قيامًا، وقاومتك قواما (¬7). ونحو هذا قال الزجاج (¬8). وذكر المبرد العلّة فقال: صحت الواو في لواذا؛ لأن فعلها صحيح، لاوذته لواذًا وعاودته عوادا، ولو اعتل الفعل لاعتل مصدره في "فعَال" نحو: قمت قيامًا، ونمت نيامًا، ولو قلت: قاومته، لقلتا قواما (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "لوذ" في: "الصحاح" 2/ 570، "لسان العرب" 3/ 508 (¬2) في (أ): (تلاود). (¬3) في (ظ): (أواره). (¬4) في (أ): (جدوع)، والمثبت من باقي النسخ والديوان. (¬5) في (ظ): (يستر). (¬6) الكُنُس: جمع مكنس، وهو مولج الوحش من الظباء والبقر تستكن فيه من الحر. "لسان العرب" 6/ 198 (كنس). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 262. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 56. (¬9) في "الكامل" للمبرد 2/ 278: .. وكذلك "فعال" إذا كان مصدرًا صحيحًا صحَّ إذا صحَّ فعله، واعتل إذا اعتل فعله، فما كان مصدرًا لـ"فاعلت" فهو "فعال" صحيح، تقول: قاولته قوالا، ولاوذته لواذا كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} أي ملاوذة، وإذا كان مصدر "فعلتُ" اعتل لاعتلال الفعل، فقلت: قمت قيامًا، ونمت نيامًا، ولذت لياذًا، وعذت عياذًا. اهـ.

قال ابن عباس -في هذه الآية-: يلوذ بغيره ويهرب. وقال المقاتلان: إنَّ المنافقين كان يثقل عليهم يوم الجمعة قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطبته، فيلوذون ببعض أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يخرجوا من المسجد، [فيقوم المنافق فينسل] (¬1) مستخفيًا مستترًا (¬2) بغيره من غير استئذان (¬3). وعلى هذا التهديد في الخروج عن المسجد يوم الجمعة. وقال ابن قتيبة: ويقال: بل نزلت هذه في حفر الخندق، فكان (¬4) قوم يتسللون بلا إذن (¬5). ومعنى {قَدْ يَعْلَمُ} التهديد بالمجازاة. وهو اختيار الفراء، قال: إن المنافقين كانوا يشهدون الجمعة فيعيبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالآيات التي تنزل فيهم، فيضجرون، فإن خفي لأحدهم القيام قام (¬6). ثم حذَّرهم الفتنة والعذاب فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يعرضون عن أمره، ودخلت (عن) لتضمن (¬7) المخالفة معنى الإعراض (¬8). {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قال ابن عباس: ضلالة (¬9). ¬

_ (¬1) زيادة من "تفسير مقاتل" يستقيم بها المعنى. (¬2) في (ظ): (متسترًا). (¬3) قول مقاتل بن حيان رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 75 أ. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 42 أ. (¬4) في (ظ): (وكان). (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 309. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 262. (¬7) في (أ): (وليحذر)، وهو خطأ في الآية. (¬8) في (ظ): (التضمن). (¬9) هذا معنى ما قاله الطبرى 18/ 178. =

يعني الكفر. قاله المقاتلان (¬1). وقال الحسن، والكلبي: بليَّة تُظهر ما في قلوبهم من النفاق (¬2). {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني القتل في الدنيا (¬3). وهذا دليل على أنَّ من خالف الرسول فهو معرض (¬4) الفتنة والقتل. ثم عظم نفسه فقال: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني عبيدًا (¬5) وملكًا وخلقًا (¬6). وفيه بيان أنه لا يجوز للعبد أن يخالف أمر مالكه الذي له ما في السموات والأرض (¬7). ¬

_ = وذكر الماوردي 4/ 129، وابن الجوزي 6/ 69 قولًا ثانيًا، ونسباه للأخفش، وهو أن "عن" زائدة، والتقدير: فليحذر الذين يخالفون أمره. وهذا قول أبي عبيدة في "المجاز" 2/ 69. والصحيح الأول. (¬1) ذكره عنه ابن الجوزي 6/ 69. وذكر عنه الثعلبي 3/ 91 ب، والزمخشري 3/ 79 أنه قال: قتل. (¬2) قول مقاتل بن حيان رواه ابن أبي حاتم 7/ 75 ب. وقول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 2/ 42 أ. وذكره الثعلبي 3/ 91 ب عن الحسن، وذكره الماوردي 4/ 129، وقال: حكاه ابن عيسى. وذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1412 من غير نسبة، ثم قال -بعد ذكره لهذا القول وغيره-: وهذه الأقوال صحيحة كلها؛ ولكن متعلقاتها مختلفة؛ فهنالك مخالفة توجب الكفر .. ، وهنالك مخالفة هي معصية. (¬3) روى ابن أبي حاتم 7/ 75 ب هذا القول عن مقاتل بن حيَّان. وذكر الماوردي 4/ 129 هذا القول ونسبه ليحيى بن سلام. ثم حكى قولًا ثانيًا وهو أنَّ العذاب هنا عذاب جهنم في الآخرة. (¬4) في (ظ): (تعرض)، وفي (أ)، (ع): (يعرض بإهمال أوله). ولعل الصواب: فهو متعرض للفتنة. (¬5) في (ظ): (عبدا). (¬6) الثعلبي 3/ 91 ب. (¬7) الطبري 18/ 179 مع اختلاف يسير.

وقوله {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} قال مقاتل: من الإيمان والنفاق (¬1). وقال الكلبي: من الاستقامة وغير ذلك (¬2). قوله: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} وهي النفخة الأخيرة يخرجون من قبورهم (¬3). {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} من الخير والشر {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} من أعمالهم {عَلِيمٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 2/ 42 أ. (¬2) "تنوير المقياس" ص 224. (¬3) روى ابن أبي حاتم 7/ 75 ب عن أبي العالية نحو ذلك. (¬4) من قوله "من الخير .. " إلى هنا. هذا قول مقاتل في "تفسيره" 2/ 42 أ.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الفرقان تحقيق د. سليمان بن إبراهيم الحصين

تفسير سورة الفرقان

تفسير سورة الفرقان (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الفرقان مكية، حكى الإجماع على ذلك البقاعي. "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" 2/ 316. قال ابن الجوزي: وحكي عن ابن عباس، وقتادة، أنهما قالا: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة؛ وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله {غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68. 70]. "زاد المسير" 6/ 71. قال الهيثمي: رواه الطبراني من رواية علي بن زيد عن يوسف ابن مهران، وقد وثقا وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" 7/ 84. إلا أن الثابت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يخالف هذا: فقد أخرج البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} رقم [4762] عن القاسم بن أبي بَزّة أنه سأل سعيد بن جبير: هل لمن قتل عمدًا من توبة؟ فقرأت عليه: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} فقال سعيد: قرأتُها على ابن عباس كما قرأتَها عليّ، فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة: النساء. "فتح الباري" 8/ 493. وأخرجه أيضًا مسلم 4/ 2318، كتاب التفسير، رقم: [3023]. والمشهور عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن السورة كلها مكية؛ قال ابن الجوزي: قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة في آخرين: هي مكية. "زاد المسير" 6/ 71. وقال السيوطي: وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل"، من طرق عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الفرقان بمكة "الدر المنثور" 6/ 234. وقال البيهقي بعد ذكر أثر ابن عباس: ولهذا الحديث شاهد في "تفسير مقاتل"، وغيره من أهل التفسير. "دلائل النبوة" 7/ 144، وعدد آياتها: سبعٌ وسبعون آية؛ من غير اختلاف. "مصاعد النظر" 2/ 319. أورد الواحدي في تفسيره: "الوسيط" 3/ 333، حديثاً في فضل هذه السورة لم يذكره هنا في تفسيره: "البسيط"، =

1

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {تَبَارَكَ} قال ابن عباس: تعالى عما قال القائلون. وروي عنه: جاء بكل بركة (¬1). وقال الفراء: البركة والتقدس: العظمة، وهما سواء، وهو كقولك: تقدس ربنا (¬2). وذكرنا الكلام في {تَبَارَكَ} في سورة: الأعراف (¬3). ¬

_ = والحديث هو: عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قرأ سورة: الفرقان؛ يبعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ودخل الجنة بغير حساب. وهو حديث موضوع، قال ابن الجوزي: وقد فرق هذا الحديث أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره فذكر عند كل سورة منه ما يخصها، وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك، ولا أعجب منهما؛ لأنهما ليسا من أهل الحديث. "الموضوعات" 1/ 174. والحديث في "تفسير الثعلبي" 8/ 91 ب. وحكم عليه بالوضع الزيلعي، في تخريجه لأحاديث الكشاف 2/ 469، والمناوي في: "الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي" 2/ 885. (¬1) لم أجد هذا القول فيما تيسر لي من المراجع، والذي ذكره ابن جرير في تفسيره 18/ 179، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: تفاعل من البركة، وهو كقول القائل: تقدس ربنا. وإسناده فيه ضعف وانقطاع؛ لأن فيه بشر بن عمارة وهو ضعيف، وفيه الضحاك وهو لم يلق ابن عباس. "تفسير ابن كثير" 1/ 113. وضعفه ابن حجر في كتابه "العجاب في بيان الأسباب" 1/ 223، وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2659، بإسناد ابن جرير، بلفظ: تفاعل من البركة. وهو كذلك عند الثعلبي في تفسيره 8/ 92 أ، ثم قال: كأن معناه: جاء بكل بركة. {تَبَارَكَ} اسم مختص بالله تعالى، لم يستعمل في غيره، ولذلك لم يصرف منه مستقبل، ولا اسم فاعل. "تفسير ابن عطية" 11/ 2، و"تفسير السمرقندي" 2/ 452. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 262، وفيه تقديم وتأخير. (¬3) عند قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] قال =

{الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} قال المفسرون: يعني القرآن (¬1). قال ابن عباس: قرآنا فرقت فيه بين الحق والباطل، وجعلت فيه المخرج من جميع الشبهات (¬2). والكلام في {تَبَارَكَ} ماض (¬3). وذكر أبو علي، في "المسائل الحلبية"، الفرق بين: {الْفُرْقَانَ} و {الْقُرْآنَ} فقال: الفرقان: صفة لأنه بمعنى الفارق (¬4). ويقوي كونه صفة ¬

_ = الواحدي: قال الليث: تفسير {تَبَارَكَ اللَّهُ} تمجيد وتعظيم. وقال أبو العباس: {تَبَارَكَ اللَّهُ}: ارتفع، والمتبارك: المرتفع. وقال ابن الأنباري: {تَبَارَكَ اللَّهُ} باسمه يتبرك في كل شيء. وقال الزجاج: {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة. (¬1) قال قتادة: هو القرآن، فيه حلال الله، وحرامه، وشرائعه، ودينه، فرق الله به بين الحق والباطل، أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2660، وزاد السيوطي 6/ 235 نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وهو قول مقاتل 42 ب. والثعلبي 8/ 92 أ. (¬2) لم أعثر على من نسبه لابن عباس، فيما لديّ من المراجع. وفي "تفسير مقاتل"، 42 ب: يعني القرآن، وهو المخرج من الشبهات. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2659، بسنده عن مجاهد وفي إسناده رجل لم يسمَّ. وقال الزجاج: والفرقان: القرآن، يُسمى فرقانًا؛ لأنه فُرِّق به بين الحق والباطل. ولم ينسبه. وذكر نحوه القرطبي 13/ 2، ولم ينسبه. (¬3) عند قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53] قال الواحدي: الفرقان مصدر فرقت بين الشيئين أفرق فرْقًا وفرقانًا، كالرجحان والنقصان، هذا هو الأصل، ثم يسمى كل فارق: فرقانًا، كتسميتهم الفاعل بالمصدر، كما سمي كتاب الله: الفرقان؛ لفصله بحججه وأدلته بين المحق والمبطل، وسمى الله تعالى يوم بدر: يوم الفرقان، في قوله: لأنه فرق في ذلك اليوم بين الحق والباطل فكان ذلك اليوم يوم الفرقان. (¬4) أي: أن الفرقان صفة لكلام الله تعالى، سواء كان هذا الكلام في القرآن، أو الإنجيل، أو التوراة. قال الماوردي 4/ 131، في تفسيره للفرقان: وقيل: إنه اسم لكل كتاب منزل كما قال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}.

مجيئه على وزن يجيء عليه الصفات، نحو: عُرْيَان، وخُمْصَان (¬1)، وهو صفة لا تجري على موصوف بل استعمل (¬2) استعمال الأسماء، كالعبد، والصاحب، فإنهما صفتان في الأصل، وقد استعملا استعمال الأسماء، ومن ثمّ لم يعمل: صاحبٌ، أعمال أسماء الفاعلين، نحو: ضارب، وقاتل، وكذلك الأَجرَعُ (¬3)، والأَبْطَح (¬4)، والأُدْم (¬5)، حيث كُسِّرت (¬6) على الأفاعل فتَعَدَّوا فيها: فُعْلا وفُعْلان، والحمر (¬7) والحمران، والسود والسودان، وإذا كثر في كلامهم هذا النحو من الصفات التي تجري مجرى الأسماء، وأن لا تجري على موصوف، كذلك: الفرقان والقرآن في الأصل مصدر وليس بصفة، إلا أن القرآن أضيف إلى ضمير التنزيل في ¬

_ (¬1) الخَمْصان، والخُمْصان: الجائع الضامر البطن. "مقاييس اللغة" 2/ 219، و"اللسان" 7/ 29. (¬2) في (أ): (استعمال). (¬3) مصدر جَرع الماء يجرعه، لا غير، والجَرَع: جمع جَرَعة، وهي: دِعص بكسر الدال من الرمل لا ينبت شيئًا. واجَرَع: التواء في قوّة من قوى الحبل تكون ظاهرة على سائر القوى. المشوف المعلم 1/ 149، و"مجمل اللغة" 1/ 184، و"القاموس المحيط" 915، وقيل: هي الرملة السهلة المستوية. "اللسان" 8/ 46. (¬4) الأبطح: البطيحة والأبطح والبطحاء: كل مكان متسع. "مجمل اللغة" 1/ 128، أو: مسيل واسع فيه دُقاقُ الحصى. "القاموس المحيط" 273. (¬5) الآدَم، هكذا من اللون: الأسمر، والأنثى: أدماء. المشوف المعلم 1/ 58، والأَدَمَة: باطن الجلد، والبشرة ظاهرها، والأَدَم: جمع الأَديم. والإدام: ما يطيب به الطعام. "مجمل اللغة" 1/ 90، والأُدمَة بالضم: القرابة، والوسيلة. "القاموس المحيط" 1388. وفي "المسائل الحلبية" ص 300: الأدهم، بدل الأدم. (¬6) أي: جمعت جمع تكسير. (¬7) في "المسائل الحلبية" ص 300 كأحمر وحمر وحمران، وأسود وسود وسودان.

قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] ولو كانت صفة لم تجز إضافته إلى نفسه (¬1). وسنذكر هذا الفصل مشروحًا إذا انتهينا إلى هذه الآية (¬2) {عَلَى عَبْدِهِ} محمد -عليه السلام- (¬3). ليكون محمد بالقرآن {لِلْعَالَمِينَ} يعني الجن، والإنس (¬4) {نَذِيرًا} مخوفًا من عذاب الله، هذا قول المفسرين في النذير أنه: محمد -عليه السلام-، وأجاز آخرون أن يكون النذير هو: القرآن، وقالوا: إنه نذير للعالمين إلى يوم القيامة (¬5). ¬

_ (¬1) "المسائل الحلبية" 299. وفيه: إن الدلالة قد قامت على أن القرآن لا يكون صفة كما جاز أن يكون الفرقان صفة، ألا ترى أن القرآن قد أضيف إلى ضمير التنزيل في قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] ولو كان صفة لم تجز هذه الإضافة فيها؛ لأن من أضاف المصدر إلى الفاعل نحو قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] لم يضف إليه اسم الفاعل فيقول: هذا ضاربُ زيد، فيضيف الصفة إلى الفاعل؛ من حيث كان اسم الفاعل هو الفاعل في المعنى، والشيء لا يضاف إلى نفسه ... وقد نقله الواحدي بالمعنى. (¬2) لم أجد في تفسير الواحدي لهذه الآية ما يتعلق بهذه المسألة، حيث ذكر فيها معنى جمع القرآن في الآية، المراد به، ونقل أقوال المفسرين وأهل اللغة في ذلك. والله أعلم. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2660، عن ابن إسحاق. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2660، عن ابن عباس. قال السمرقندي 2/ 453: وأراد هاهنا جميع الخلق. وقد يذكر العام ويراد به الخاص من الناس كقوله -عز وجل-: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47، 122] أي: على عالمي زمانهم. ويذكر ويراد به جميع الخلائق كقوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قال ابن زيد: لم يرسل الله رسولاً إلى الناس عامة إلا نوحاً -صلى الله عليه وسلم- بدأ به الخلق، فكان رسولَ أهل الأرض كلهم، ومحمدًا -صلى الله عليه وسلم- ختم به. أخرجه ابن جرير 18/ 180. قال البرسوي 6/ 188: وأما نوح -عليه السلام- فإنه وإن كان له عموم بعثة لكن رسالته ليست بعامّة لمن بعده. (¬5) ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] حيث =

2

2 - قال ابن عباس ومقاتل: ثم عظم نفسه فقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} عزيرًا، ولا عيسى، ولا الملائكة، كما قالت اليهود، والنصارى، والمشركون (¬1). {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما قال عبدة الأوثان. وقال الكلبي {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} فيعازه في عظمته (¬2). {وَخَلَقَ كُلَّ} أي مما يطلق له صفة المخلوق {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} قال ابن عباس: فجرت المقادير على ما خلق الله تعالى إلى يوم القيامة، وبعد القيامة (¬3). ¬

_ = أضاف الهداية إليه. "تفسير الرازي" 24/ 45. قال السمين الحلبي: وفي اسم يكون ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه ضمير يعود على الذي نزل؛ أي: ليكون الذي نزل الفرقان نذيرًا. الثاني: أنه يعود على الفرقان، وهو القرآن؛ أي: ليكون الفرقان نذيرًا. الثالث: أنه يعود على عبده؛ أي: ليكون عبده محمد -صلى الله عليه وسلم-، نذيرًا. وهذا أحسن الوجوه معنىً وصناعة لقربه مما يعود عليه، والضمير يعود على أقرب مذكور. الدر المصون 8/ 453. وذكر هذا الترجيح الشوكاني 4/ 58، ولم ينسبه. قال ابن زيد: النبي النذير، وقرأ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر 24] وقرأ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208]. أخرجه ابن جرير 18/ 180، وابن أبي حاتم 8/ 2660، قال ابن عطية 11/ 3: وقد يكون النذير ليس برسول، كما روي في ذي القرنين، وكما ورد في رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الجن؛ فإنهم نذر وليسوا برسل. (¬1) "تفسير مقاتل" 42 ب بتصرف. ولم ينسب الواحدي هذا القول لأحد في تفسيره "الوسيط" 3/ 333، وذكره ابن أبي حاتم 8/ 2661، عن عكرمة. وذكره القرطبي 13/ 2 ولم ينسبه. ولم أجده منسوبًا لابن عباس رضي الله عنهما فيما تيسر لي. (¬2) في "تنوير المقباس" ص 300: قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما قال مشركو العرب فيماريه. (¬3) "تفسير القرطبي" 13/ 2، ولم ينسبه.

3

وقال الكلبي: جعل لكل شيء خلقًا، ومنتهى، وأجلًا ينتهي إليه (¬1). وقال أبو إسحاق: خلق الله الحيوان وقدر له ما يصلحه ويقيمه، وقدر جميع ذلك لخلقه بحكمته وتقديره (¬2). وعلى هذا المعنى يكون: وقدر له تقديرًا من الأجل والمعيشة. وقال الآخرون: سوَّى كل ما خلق وهيأه لما يصلح له (¬3). 3 - قال ابن عباس: ثم ذكر ما صنع المشركون فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} يعني: الأصنام اتخذها أهل مكة (¬4). {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: وهي مخلوقة {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا} قال مقاتل: لا تقدر الآلهة أن تمتنع ممن أراد بها سوءًا (¬5). والمعنى: لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع فحذف المضاف. وهذا معنى قول المفسرين: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا} فيدفعونه عن أنفسهم {وَلَا نَفْعًا} فيجرونه إلى أنفسهم. ويجوز أن يكون المعنى: ولا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعونها بشيء ولا لمن يعبدها؛ لأنها جماد لا قدرة لها. وهذا معنى قول الكلبي (¬6). ولا يحتاج في هذا إلى تقدير المضاف. {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا} قال مقاتل: أن تميت أحدًا (¬7) {وَلَا حَيَاةً} ولا ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 300، بمعناه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 57. (¬3) ممن قال بهذا القول ابن جرير، 18/ 180. (¬4) "تفسير ابن جرير" 18/ 181، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 42 ب. وذكره السمرقندي 2/ 453 بنصه، ولم ينسبه. (¬6) "تنوير المقباس" ص 300. (¬7) "تفسير مقاتل" ص 42 ب.

4

يحيون أحدًا {وَلَا نُشُورًا} ولا تقدر الآلهة أن تبعث الأموات (¬1). أي: فكيف تعبدون من لا يقدر على أن يفعل شيئًا من هذا وتتركون عبادة ربكم الذي يملك ذلك كله (¬2). 4 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} ما هذا القرآن إلا إفك: كذب افتراه محمد واختلقه من تلقاء نفسه (¬3). {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} قال مجاهد: يعني اليهود (¬4). وقال مقاتل: قالوا: أعان محمدًا على هذا القرآن عدَّاس، مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي (¬5)، وجبر مولى عامر. وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير السمرقندي" 2/ 453، ثم قال: "وإنما ذكر الأصنام بلفظ العقلاء؛ لأن الكفار يجعلونهم بمنزلة العقلاء فخاطبهم بلغتهم". (¬2) "تفسير مقاتل" ص 42 ب، بتصرف يسير. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 42 ب. ونسبه الماوردي 4/ 131، والقرطبي 13/ 3، إلى ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2663، عن سعيد بن جبير: كل شيء في القرآن إفك فهو كذب. والفرق بين الافتراء والكذب، أن الافتراء: افتعال الكذب من قول نفسه. والكذب: قد يكون على وجه التقليد للغير فيه. "تفسير روح البيان" 6/ 189. وفي "لسان العرب" 15/ 154: "يقال: فرى فلان الكذب يفتريه: اختلقه". (¬4) أخرجه ابن جرير 18/ 181، وابن أبي حاتم 8/ 2663. وذكره عنه الثعلبي 8/ 92 أ. (¬5) عامر بن عبد قيس الحضرمي، له وفادة، وهو أخو عمرو. "الإصابة" 4/ 13. ولم يذكر شيئاً عن غلامه. (¬6) "تفسير مقاتل" 42 ب، ونسبه للنضر بن الحارث. وفيه: جبر مولى عامر بن الحضرمي، كان يهوديا فأسلم. وذكره الثعلبي 8/ 92 أ، ولم ينسبه. وفي "تنوير المقباس" ص 300: جبر ويسار وأبو فكيهة الرومي. قال الماوردي 4/ 132: =

قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} قال مقاتل: يقول: فقد قالوا شركًا، وكذبًا، حين زعموا أن القرآن ليس من الله (¬1)! قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول للمشركين: ما يقول محمد لأصحابه إلا كما كنت أحدثكم عن رستم وأسفنديار (¬2). وقال أبو إسحاق: نصب {ظُلْمًا وَزُورًا} على: فجاءوا بظلم وزور، فلما سقطت الباء أفضى الفِعلُ فَنَصبَ (¬3). وقال الكسائي {جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} كما تقول: أتيت أمرًا عظيمًا، وجئت أمرًا عظيمًا، وجئت شيئًا إدًّا، وشئت شيئًا نكرًا (¬4). يعني أن القول واقع عليه، وليس بمعنى حذف الخافض. وهذا أحسن وأليق مما ذكره ¬

_ = وفيمن زعموا أنه أعانه عليه أربعة أقاويل: 1 - قوم من اليهود، قاله مجاهد. 2 - عبد الله ابن الحضرمي، قاله الحسن. 3 - عدّاس، غلام عتبة، قاله الكلبي. 4 - أبو فكيهة الرومي، قاله الضحاك. ونسبه القرطبي 13/ 3، لابن عباس. قال ابن الأثير: أبو فكيهة، اسمه أفلح، وقيل: يسار، كان عبداً لصفوان بن أمية، أسلم مع بلال، أخذه أمية بن خلف وقام بتعذيبه، ثم اشتراه أبو بكر -رضي الله عنه- فأعتقه. "الكامل" 2/ 46. وهذا يدل على اختلافهم في التعيين فتبقى الآية على عمومها. والله أعلم. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 43 أ، بتصرف. (¬2) "تنوير المقباس" ص 300، و"تفسير مقاتل" ص 43 أ، بتصرف، وفيه: عن رستم وأسفنديار. وليس فيه أنها نزلت في النضر. بل فيه: وقال النضر. وهو مذكور عند الآية: 6، الفرقان، وليس عند هذه الآية. قال الهواري، 3/ 201، في تفسير قول الله تعالى: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} وقال الكلبي: عبد ابن الحضرمي، وعداس، مولى عتبة. ولم أجده في أسباب النزول للواحدي. ونسبه القرطبي 13/ 3، لابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 58. (¬4) نسبه للكسائي أبو حيان 6/ 441.

5

المفسرون (¬1). 5 - قوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال أبو إسحاق: {أَسَاطِيرُ} خبر ابتداء محذوف. المعنى: وقالوا: الذي جاء به أساطير الأولين، معناه: ما سطَّره الأولون (¬2). قال المفسرون: يعني قول النضر: هذا القرآن أحاديث الأولين حديث رستم واسفنديار (¬3). {اكْتَتَبَهَا} انتسخها محمد من: عداس، وجبر، ويسار. ومعنى {اكْتَتَبَهَا} هنا: أمر أن تكتب له، كما يقال: احتجم، وابتنى، إذا أمر بذلك. وقد يكون اكتتب بمعنى: كتب، وليس هاهنا بمعنى: كتب بنفسه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن كاتبًا، ولكنهم نسبوه إلى أنه أمر هؤلاء بأن ينسخوا له ويكتبوه له. قوله تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فأبدلت اللام الأخيرة ياءً هربًا من التضعيف (¬4). ¬

_ (¬1) قال الزمخشري 3/ 257: "وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه". (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 58، بتصرف. (¬3) "تفسير ابن جرير" 18/ 182، وقد ذكر خبر النضر مطولاً من طريق محمد بن إسحاق، وفيه مجهول. وانظر "تفسير الطوسي" 7/ 472، حيث ورد ذكر: اسفنديار، في خبر ذكره. و"تفسير الثعلبي" 8/ 96 ب، عن علي -رضي الله عنه- في شأن أهل الرس، وفيه: وكانت أعظم مداينهم اسفنديار، وهي التي ينزلها ملكهم، وكان يسمى: فركور بن عامور. (¬4) "سر صناعة الإعراب" 2/ 758، بنصه. وفيه: وقد جاء القرآن باللغتين جميعاً، قال تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] وقال عز اسمه: قال =

كقولهم: تَظَنَّيْتُ (¬1)، و: تَقَضِّيَ البازي ....... (¬2) قال المفسرون، وأهل المعاني: فهي تقرأ عليه؛ ابن عباس، ومقاتل، وأبو عبيدة، وغيرهم (¬3). والإملاء المعروف يستعمل مع الكتابة، يُملِي الرجلُ على من يكتب، وهاهنا استعمل لا مع الكتابة؛ لأن النبي لم يكن يكتب، والمعنى: يُملَى عليه ليحفظ كما يُملَى على الكاتب ليكتب، فلما كان الإملاء هاهنا مع الحفظ فُسر بالقراءة. ¬

_ = تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]. وذكره بنصه القرطبي 13/ 4، ولم ينسبه. (¬1) التظنِّي: إعمال الظن، وأصله: التظنُّن، أُبدل من إحدى النونات ياء. "اللسان" 13/ 257. و"القاموس" 1566. (¬2) جزء شطر وتمامه: تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كسر. وصدره: دانَى جناحيه من الطور فمرْ "ديوان العجاج" 52، قال محققه: دانى جناحيه من الطور، وهو الجبل، ولكنه عني هاهنا: الشام، إنما هذا مثل، يقول: انقض ابن معمر انقضاضةً من الشام، والطور بالشام، يقول: انقض انقضاض البازي ضم جناحيه، فكأن مجيئه من سرعته انقضاضُ بازٍ إذا البازي كسر، وإذا كسر ضم جناحيه. وفي "سر صناعة الإعراب" 2/ 759: تقضي: تفعُّل من الانقضاض، وأصله: تقضُّض، فأبدلت الضاد الآخرة ياءً. والبازي: واحد البُزاة التي تصيد؛ ضرب من الصقور. "لسان العرب" 14/ 72 (بزا)، و"القاموس" 1630. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب التفسير معلقاً بصيغة الجزم. "فتح الباري" 8/ 490. ولم أجده بهذا اللفظ عند مقاتل، في تفسيره، والذي فيه 43 أ: هؤلاء النفر الثلاثة يعلمون محمداً -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بالغداة والعشي. و"مجاز القرآن"، لأبي عبيدة 2/ 71، وفيه: "وهي من أمليته عليه، وهي في موضع آخر أمللت عليه". وذكره ابن جرير 18/ 183، ولم ينسبه لأحد.

6

قوله تعالى: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} قال ابن عباس: غدوةً وعشيًا (¬1). وقال مقاتل: يقولون: هؤلاء النفر الثلاثة يعلمون محمدًا طرفي النهار بالغدوة والعشي (¬2). 6 - قال الله تعالى: {قُلْ} لهم يا محمد (¬3) {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنزل القرآن الذي لا يخفى عليه شيء. قال مقاتل: وذلك (¬4) أنهم قالوا بمكة سرًّا هل هذا إلا بشر مثلكم {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء 3] (¬5)، كما أخبر الله عنهم في سورة: الأنبياء {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية، فأنزل الله في هذه السورة: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} قال ابن عباس: لأوليائه رحيمًا بهم (¬6). وقال مقاتل: {غَفُورًا} في تأخير العذاب عنهم {رَحِيمًا} لا يعجل عليهم بالعقوبة (¬7). قال أهل المعاني في قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} أنزله على ما يقتضيه العلم بباطن الأمور لا على ما تقتضيه أهواء النفوس (¬8). 7 - قوله تعالى: {وَقَالُوا} يعني: المشركين (¬9) {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ ¬

_ (¬1) لم أجده إلا في "تنوير المقباس" ص300. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 43 أ. وهو قول ابن جرير 18/ 183. (¬3) "تفسير السمرقندي" 2/ 453. (¬4) وذلك. من "تفسير مقاتل" ص 43 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 43 أ. (¬6) ذكره القرطبي 13/ 4، ولم ينسبه. (¬7) "تفسير مقاتل" ص 43 أ. (¬8) "تفسير الطوسي" 7/ 473، بنصه، ولم ينسبه. (¬9) "تفسير الطبري " 18/ 184.

يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} قال أبو إسحاق: أي شيء لهذا الرسول في حال أكله الطعام ومشيه في الأسواق، التمَسوا أن يكون الرسول على غير بِنْية الآدميين، والواجب أن يكون الرسول إلى الآدميين آدميًا ليكون أقرب إلى الفهم عنه (¬1). والمعنى: أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرًا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق لطلب المعيشة، وهذا هو الصحيح؛ ألا ترى أنهم قالوا {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي: ليستغني عن طلب المعاش. وعبر بعض البلغاء عن معنى هذه الآية فقال: يعنون أنه ليس بملَك ولا ملِك؛ وذلك أن الملائكة لا يشربون ولا يأكلون، والملوك لا يتسوقون ولا يتبذَّلون (¬2) فعجبوا أن يكون مثلَهم في الحال يمتاز من بينهم بعلو المحل والجلال، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. قوله تعالى: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} قال محمد بن إسحاق: إنهم قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: سل ربك أن يبعث معك ملَكًا يصدقك بما تقول ويجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عمّا نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق، وتبتغي المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم (¬3). وقال أبو إسحاق: طلبوا أن يكون في النبوة شركة وأن يكون الشريك ملَكًا، والله -عز وجل- يقول: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] أي: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 58، بنصه. (¬2) رجل متبَذِّل: إذا كان يلي العمل بنفسه. "تهذيب اللغة" 14/ 434 (بذل). (¬3) أخرجه ابن جرير 18/ 183، بسنده إلى ابن عباس من طريق محمد بن إسحاق مطوّلاً.

8

لم يكن ليُفهمهم حتى يكون رجلاً (¬1). وقال الفراء: {لَوْلَا} بمنزلة هلَّا (¬2). ونصب {فيكونَ} على الجواب بالفاء للاستفهام (¬3). 8 - قوله تعالى: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قال الفراء: هو مرفوع بالرد على {لَوْلَا} كقولك في الكلام: أو هلا يلقى إليه كنز (¬4)، ونحو هذا قال الزجاج: هو عطف على الاستفهام (¬5). قال ابن عباس، ومقاتل: أو ينزل إليه مال من السماء {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بستان (¬6) {يَأْكُلُ مِنْهَا} قال ابن عباس: يأكل من ثمارها. قال أبو علي الفارسي: قال الكفار: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} ليَبِين منا باقتران الملَك به وكونه معه نذيرًا، ويفترق من جملتنا. وكذلك اقترحوا عليه إلقاء كنز عليه، أو كون جنة تختص بما يأكل منها، حتى يتبين في (¬7) مأكله منهم، كما تبين باقتران الملَك به عليهم من الكفار، فقالوا فيما أخبر الله عنهم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وأنكروا أن يكون لمن ساواهم في البشرية حال ليست لهم! وقد احتج الله سبحانه عليهم في ذلك بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} الآية [الأنعام: 9] وبقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} الآية [يوسف: 109، النحل: 43]. ومن قرأ: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 58، بنصه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 262. (¬3) "معاني القرآن " للزجاج 4/ 58، بنصه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 263، بتصرف، ويعني به: {تكونُ}. (¬5) "معاني القرآن " للزجاج 4/ 59. (¬6) "تنوير المقباس" ص 301، و"تفسير مقاتل" ص 43 أ. وذكره ابن جرير 18/ 184، والثعلبي 8/ 92 ب. (¬7) (في) من نسخة (ج). وهو موافق لما في كتاب أبي علي؛ "الحجة" 5/ 335.

9

{نَأْكُلَ مِنْهَا} (¬1) فكأنه أراد أنه يكون له بذلك مزية علينا في الفعل بأكلنا من جنته (¬2). وقوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: وقال المشركون للمؤمنين (¬3): {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي: ما تتبعون إلا مخدوعًا مغلوبًا على عقله (¬4). وذكرنا تفسير المسحور عند قوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء 101] (¬5). 9 - قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} قال مقاتل: وصفوا لك الأشياء حين زعموا أنك مسحور (¬6). وذلك أنهم كانوا يقولون له مرة: ساحر، ومرة: هو شاعر، ومرة: هو مجنون ومسحور، كما أخبر الله تعالى عنهم في آي كثيرة (¬7)، فذلك ضربهم له ¬

_ (¬1) قراءة حمزة، والكسائي. "السبعة في القراءات" ص 462، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 335، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 333. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 335، باختصار. (¬3) ذكره ابن جرير 18/ 184، ولم ينسبه. (¬4) "تنوير المقباس" ص 301، و"تفسير مقاتل" ص 43 أ، و"تفسير هود الهوّاري" 3/ 201، ولم ينسبه. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قيل في المسحور هاهنا أنه بمعنى الساحر؛ كالمشؤوم والميمون، وذكرنا هذا في قوله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] وهذا قول الفراء وأبي عبيدة، وقيل إنه مفعول من السحر؛ أي أنك قد سُحِرت فأنت تحمل نفسك على هذا الذي تقوله للسحر الذي بك، وقال محمد بن جرير: أي مُعطى علم السحر، فهذه العجائب التي تأتي بها من سحرك. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 43 أ. وفيه: ساحر، بدل مسحور. (¬7) كقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]. والآية: 27، من سورة: الشعراء، والآية: 36، من سورة: الصافات. والآية: 14، من سورة: الدخان، والآيات 40 - 42 من سورة: الحاقة. وغيرها.

الأمثال، وتشبيههم حاله بحال الساحر، والشاعر، والمجنون، والمسحور. وقال أهل المعاني: مثلوه بالمسحور، وبالمحتاج المتروك، والناقص عن القيام بالأمور (¬1). قال الله تعالى: {فَضَلُّوا} قال مقاتل: عن الهدى (¬2) {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} قال ابن عباس: يريد سبيل الهدى (¬3). وهذا قول أعظم المفسرين (¬4). والمعنى: أنهم ضلوا عن قصد الطريق بتكذيبك ولا يجدون إلى الحق طريقًا (¬5). وهذه الآية بهذا التفسير تدل على أن الكافر غير مستطيع ¬

_ (¬1) لم أجد هذا القول فيما تيسر لي من كتب المعاني. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 43 أ. (¬3) أخرجه ابن جرير 18/ 185 بإسناده، من طريق ابن إسحاق، بلفظ: أي: التمسوا الهدى في غير ما بعثتك به إليهم فضلوا، فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهدى في غيره. ولم ينسبه لغيره. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2665، من قول ابن إسحاق، ولم ينسبه لغيره. ولم يذكره في "تنوير المقباس" ص 301، بل ذكر قولاً قريباً من كلام مجاهد. (¬4) هكذا في نسخة: (أ)، (ب): (أعظم)، وفي نسخة: (ج): (عُظم)؛ عُظْم الناس، وعظمهم، أي: معظمهم. "لسان العرب" 12/ 410 (عظم). وابن جرير يذكر ذلك في تفسيره؛ قال 4/ 550: وذلك قراءة عُظْم أهل الحجاز ... ولم أجد هذا القول إلا لابن عباس من طريق ابن إسحاق، كما سبق. فنسبة هذا القول لأكثر المفسرين، فيه نظر. وخاصة أنه ذكر بعد ذلك ما يخالف هذا من قول مجاهد، ومقاتل. ولما ذكر الثعلبي 8/ 92 هذا القول اقتصر عليه، ولم ينسبه لأحد. والله أعلم. (¬5) قريب من هذا قول الطوسي 7/ 474: معناه: لا يستطيعون طريقاً إلى الحق، مع تمسكهم بطريق الجهل، وعدولهم عن الداعي إلى الرشد. أما قول ابن عباس: يريد: سبيل الهدى؛ فلا يفيد هذا المعنى. قال ابن جرير 18/ 184: فلا يجدون سبيلاً إلى الحق إلا فيما بعثتك به، ثم ساق قول ابن عباس مؤيدًا له. والله أعلم.

للإيمان باستطاعته الكفر (¬1) وقال مجاهد: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} مخرجًا يخرجهم من الأمثال التي ضربوها لك (¬2). وهو قول مقاتل؛ يقول: لا يجدون مخرجًا مما وقالوا: إنك ساحر (¬3). يعني: أنهم كذبوا فيما زعموا فلزمهم هذا الكذب حتى لا يجدون منه مخرجًا بحجة أو برهان على ما قالوا. ¬

_ (¬1) هذا الفهم لا يدل عليه ما نسبه لابن عباس؛ والذي يظهر أنه تبع فيه الثعلبي، حيث قال 8/ 92 ب: فثبت أن الاستطاعة التي يحصل بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان. والآية ظاهرة في أن المراد بها: نفي أن يكون للمشركين حجة، يطعنون فيها على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعلى تقدير أن المراد بها ما ذُكر فإن الاستطاعة تنقسم إلى قسمين: 1 - استطاعة قبل الفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكاليف، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، قال عمران بن حصين -رضي الله عنه-: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ، عَنِ الصَّلاةِ فَقَالَ: "صَلِّ قَائِمًا فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ". أخرجه البخاري كتاب الصلاة، رقم: 1117، فتح الباري 2/ 587. والترمذي 2/ 207، كتاب: أبواب الصلاة، رقم: 371. 2 - استطاعة مقارنة للفعل، وهي الموجبة له، وهذه هي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]. فتاوى ابن تيمية 18/ 172، 8/ 129. فيقال في الأولى: القدرة، وفي الثانية: الإرادة. قال ابن أبي العز الحنفي: وتقسيم الاستطاعة إلى قسمين، هو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط، وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل. شرح العقيدة الطحاوية 2/ 633. (¬2) أخرجه ابن جرير 18/ 185، وابن أبي هاشم 8/ 2665، و"تفسير مجاهد" 447. ونقله عنه هود الهوّاري، في تفسيره 3/ 202. واقتصر عليه السيوطي، في "الدر المنثور" 6/ 237. واختاره السمرقندي 2/ 454 ولم ينسبه، ولم يذكر غيره. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 43 أ.

10

وقال الفراء: يقول: لا يستطيعون في أمرك حيلة (¬1). وهذا قول ثالث في الآية (¬2). والمعنى: لا سبيل لهم في دفع ما أتيتهم به من الحق ولا حيلة لهم في إبطاله. 10 - ثم أعلم الله تعالى أنه لو شاء لأعطى نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الدنيا خيرًا مما اقترحوا أن يكون له فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي: خيرا مما قالوا (¬3) من إلقاء كنز، وأن تكون لك جنة تأكل منها. وقال مقاتل: يعني أفضل من الكنز والجنة (¬4). ثم بَيَّن ذلك الذي هو خير مما قالوا بقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 263، بنصه. (¬2) هذه الأقوال الثلاثة، في المراد بالسبيل؛ القول الأول: سبيل الهدى. الثاني: مخرجاً يخرجهم من الأمثال التي ضربوها لك. الثالث: لا يستطيعون في أمرك حيلة. وكان الأولى بالواحدي. رحمه الله. أن يبين ضعف القول الأول، كما سبق، وخاصة أنه مخالف لظاهر الآية، إذ إن ظاهرها يدل على عجزهم عن مقاومة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم. وذكر الماوردي 4/ 134 في الآية ثلاثة أقوال؛ الأول: قول مجاهد، والثاني: سبيلاً إلى الطاعة لله، ونسبه للسدي، ولم أجد من نسبه له غيره. والثالث: سبيلاً إلى الخير، ونسبه ليحيى بن سلام. (¬3) هذا قول مجاهد. وما بعده من كلام الواحدي. "تفسير مجاهد" 447. وأخرجه عن مجاهد ابن جرير 18/ 185. وابن أبي حاتم 8/ 2666. وذكره عنه الثعلبي 8/ 92 ب، وذكر ابن جرير 18/ 185، قولاً آخر: خيرًا من أن تمشي في الأسواق، وتلتمس المعاش كما يلتمسه الناس. ونسبه لابن عباس، لكنه من طريق محمد بن إسحاق. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2666، من قول محمد بن إسحاق. وذكره الثعلبي 8/ 92 ب، منسوبًا لابن عباس. وهذا القول فيه تخصيص بدون مخصص، وظاهر الآية رجوع اسم الإشارة إلى كل ما سبق ذكره من اقتراحات المشركين. والله أعلم. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 43 ب.

وقال الكلبي: {مِنْ تَحْتِهَا} تحت غرفها وشجرها ومساكنها (¬1). يعني في الدنيا؛ لأنه قد شاء أن يعطيه إياها في الآخرة. قال خيثمة (¬2): قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها لا ينقصك ذلك عندنا شيئًا في الآخرة، ونزلت هذه الآية (¬3)، فزهد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثر أمر الآخرة (¬4)؛ وذلك أنه شاور جبريل في ذلك؛ فقال جبريل: تواضع لله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الفقر أحب إليّ وأن أكون عبدًا صابرًا شكورًا". وهذا معنى قول ابن عباس في رواية جويبر عن الضحاك عنه (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 301. (¬2) خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، لأبيه وجده صحبة، حدّث عن أبيه، وعائشة وغيرهم -رضي الله عنهم- أدرك ثلاثة عشر صحابيًا. ت: 80 هـ "تاريخ الثقات" للعجلي ص 145. "تهذيب التهذيب" 3/ 154. "سير أعلام النبلاء" 4/ 320. وذكره العلائي في "جامع التحصيل" ص 209. فالحديث مرسل. (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره 18/ 186، بسنده عن حبيب قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يعطى مَنْ بعدك، ولا ينقص ذلك مما عند الله تعالى، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله -عز وجل- في ذلك: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ} وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2666، بسنده عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة مختصرًا قريباً من سياق ابن جرير. وذكره السمرقندي 2/ 454. وابن كثير 6/ 95، كلاهما بدون إسناد، عن سفيان الثوري عن حبيب، به. وحبيب بن أبي ثابت، ثقة فقيه جليل، ولكنه كان كثير الإرسال والتدليس. "جامع التحصيل" للعلائي ص190، و"التقريب" ص 218. وهنا لم يصرح بالتحديث. إضافة إلى علة الإرسال من خيثمة كما سبق في ترجمته قريبًا. (¬4) هذا من كلام الواحدي -رحمه الله- وليس من الرواية. وهو بنصه في "معاني القرآن" للز جاج 4/ 59. (¬5) أخرج هذه الرواية الثعلبي 892 ب، مطوّلة جدًا. وفيها (الفقر أحب إليّ ...). =

قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}. قرئ بجزم اللام ورفعه (¬1)؛ فمن جزم فلأن المعنى: إن يشأ يجعلْ لك جنات ويجعلْ لك قصورًا. هذا قول أبي إسحاق (¬2). وشرحه أبو علي؛ فقال: من جزم {وَيَجْعَلْ لَكَ} عطفه على موضع: جعل؛ لأن موضع جعل جزم بأنه جزاء الشرط فإذا جزم {يَجْعَلْ} حمله على ذلك، وإذ كانوا قد جزموا ما لم يلِه فعل لأنه في موضع جزم كقراءة من قرأ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] (¬3) فالفعل أولى أن يحمل عليه من حيث كان الفعل بالفعل أشبه منه بغير الفعل، وحكم المعطوف أن يكون مناسبًا للمعطوف عليه ومشابهًا له. ومن رفع قطعه مما قبله واستأنف، والجزاء في هذا النحو موضع استئناف ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر تقع فيه كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬4) [البقرة: 271] هذا ¬

_ = وأخرجها الواحدي في "أسباب النزول" ص 332، من طريق الثعلبي. وهي رواية منقطعة، وضعيفة؛ فالضحاك لم يسمع من ابن عباس -رضي الله عنهما-. وجويبر ضعيف جداً. (¬1) قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: {ويجعلُ} بالرفع، والباقون بالجزم. "السبعة في القراءات" ص 462. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 336. و"النشر في القراءات العشر" 2/ 333. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 59، بنصه. (¬3) {وَيَذَرُهُمْ} فيها ثلاث قراءات: بالياء والرفع، والنون والرفع، وبالياء مع الجزم، والثالثة هي الشاهد من ذكر القراءة، وقرأ بها حمزة والكسائي وخلف. "السبعة في القراءات" ص 299، و"النشر" 2/ 273. (¬4) سبق ذكر الشاهد في الآية الأولى، وأما الآية الثانية فلم يذكر الشاهد فيها، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ} بالرفع. قرأ =

11

كلامه (¬1). وبين القراءتين فرق في المعنى؛ وهو: أن يقف على {الْأَنْهَارُ} واستأنف {ويجعلُ} فيكون المعنى: ويجعلُ لك قصورًا في الآخرة (¬2). قال أبو إسحاق: أي سيعطيك الله قصورًا في الآخرة أكثر مما قالوا (¬3). قال مجاهد في قوله تعالى: {قُصُورًا} بيوتًا مبنية مشيدة كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنًا ما كان (¬4). وقال مقاتل: إن قريشًا يسمُّون كلَّ شيء من الصوف والشعر: البيوت، ويسمون بيوت الطين: القصور (¬5). ومعنى القصر في اللغة: الحبس (¬6). وسمّي هذا المبني: قصرًا؛ لأن مَنْ فيه مقصور عن أن يوصل إليه (¬7). وكل محوط على شيء فهو قصر. 11 - ثم أخبر عن تكذيبهم بالبعث فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} (¬8) ¬

_ = نافع وحمزة والكسائي وخلف وابن عامر، بجزم الراء، وقرأ الباقون برفعها. "السبعة في القراءات" ص 191، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 236. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 336. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 337، بمعناه. والوقف على هذه القراءة على {الْأَنْهَارُ} وقف كاف. "القطع والائتناف" 2/ 479، و"المكتفى" 414. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 59، بنصه. (¬4) "تفسير مجاهد" 448. وأخرج ابن جرير 18/ 186. وابن أبي حاتم 8/ 2666. كلهم من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 43 ب، وفيه: وذلك أن قريشاً يسمّون بيوت الطين: القصور. أما ما قبله فغير موجود عند تفسير هذه الآية. (¬6) "تهذيب اللغة" 8/ 359 (قصر). ومنه قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72]. وذكر هذا الثعلبي 8/ 92 ب. (¬7) "تفسير الطوسي" 7/ 475. (¬8) الساعة: جزء من أجزاء الزمان، ويعبر به عن القيامة؛ تشبيهاً بذلك لسرعة حسابه، =

12

ومعنى {بَلْ} هاهنا: تحقيق لتكذيبهم، وإيذان أن القصة الأولى قد تمت. وذكرنا هذا عند قوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ} في سورة: الكهف [48] (¬1) {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} بيوم القيامة (¬2) {سَعِيرًا} نارًا تتلظى عليهم. 12 - ثم وصف ذلك السعير فقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ} أنث فعل السعير وهو مذكر؛ لأنه أراد النار (¬3). قال أبو عبيدة: ووصفها بالرؤية (¬4)، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوّأ بين عيني جهنم مقعدًا"، قيل يا رسول الله: وهل لها عينان، قال: "نعم، ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} " (¬5). قال الكلبي والسدي ومقاتل: من مسيرة مائة ¬

_ = كما قال تعالى: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]. "المفردات" للراغب الأصفهاني 248. (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: بل هاهنا إيذان بأن القصة الأولى قد تمت وبدأ في كلام آخر؛ وذلك أن الآية عامة في المؤمن والكافر إلى قوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ} فلما أخذ في كلام خاص لأحد الفريقين أدخل: بل، ليؤذن بتحقيق ما سبق، وتوكيد ما يأتي بعده كقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]. (¬2) "تفسير هود الهوّاري" 3/ 203. و"تفسير السمرقندي" 2/ 455. و"تفسير الطوسي" 7/ 475. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 70، بتصرف. وهناك قول آخر؛ ذكره البغوي 6/ 75، والزمخشري 3/ 360، فيه إضافة الرؤية إلى الزبانيَّة. وهو مخالف لظاهر الآية. وقد أحسن الواحدي. رحمه الله. في اقتصاره على القول الأول. (¬4) لم أجد قول أبي عبيدة في كتابه المجاز. (¬5) أخرجه ابن جرير 18/ 187، بسنده عن فُدَيك عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مرسل؛ لأن فديك وهو ابن سيمان، ويقال: ابن أبي سليمان، من أتباع التابعين يروي عن التابعين كالأوزاعي، وعباد بن عباد، وغيرهم. ولم أجد لفديك سنة وفاة. "التاريخ الكبير" 7/ رقم الترجمة: 613. و"تهذيب التهذيب" 8/ 231. وقال =

عام (¬1). {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} التغيظ: الاغتياظ، يقال اغتاظ عليه، وتَغيَّظ عليه، بمعنى: أنكر عليه أمرًا، وغضب عليه، وغظته أغيظه غيظًا إذا حملته علي الغضب. ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] ويقال أيضًا: تغيظت الهاجرة إذا اشتد حَمْيُها (¬2). قال الأخطل: لدُنْ غُدْوَةً حتى إذا ما تغَيَّظَتْ ... هواجِرُ من شعبانَ حامٍ أصيلُها (¬3) ¬

_ = عنه ابن حجر: مقبول. "التقريب" ص 779. والحديث أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2667، بسنده عن خالد بن دُريك، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اختلاف في المتن بين الطريقين. وخالد بن دريك، ثقة لكنه يرسل. "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" ص 205. و"التقريب" ص 285. وأخرجه الثعلبي في تفسيره 8/ 93 ب، من طريق خالد بن دريك. وذكر البغوي في تفسيره 6/ 74، هذا الأثر، وحكم عليه بالثبوت، ولم يذكر إسناده، ولا من خرجه. ونسبه السيوطي، في "الدر المنثور" 6/ 238 لعبد بن حميد، وابن المنذر. وذِكر الواحدي -رحمه الله- لهذا الحديث للدلالة على إثبات ظاهر الآية، وهذا مسلك حسن. قال ابن عطية 11/ 11، بعد أن ذكر أن الآية محتملة للحقيقة والمجاز: إلا أنه ورد حديث يقتضي الحقيقة في هذا .. ثم ذكر هذا الحديث. (¬1) في "تنوير المقباس" ص 301: خمسمائة عام. وكذا في "تفسير الهوّاري" 3/ 203. وذكره السمرقندي 2/ 455، ولم ينسبه. وقول مقاتل في "تفسيره" ص 43. وقول السدي أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2667. وذكره ابن كثير 6/ 96، وابن الجوزي 6/ 75. وذكر هذا القول عن الكلبي، والسدي: البغوي 6/ 74. (¬2) "تهذيب اللغة" 8/ 173 (غاظ)، ولم ينسبه. (¬3) "ديوان الأخطل" ص 569، ورواية الديوان: تقيضت. ورواية الواحدي مطابقة لرواية الأزهري: تغيظت، "تهذيب اللغة" 8/ 173، (غاظ). يصف المطايا التي حملت معشوقته، والمشاق التي تلقتها المطايا بسبب الحر. "شرح ديوان الأخطل" 567.

قال مقاتل في هذه الآية: {سَمِعُوا لَهَا} من شدة غيظها عليهم (¬1) (تغيظا) وفي سماع الغيظ قولان؛ أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف، أي: صوت تغيظ، وغليان تغيظ، كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب، وهذا قول أبي إسحاق (¬2). ويجوز أن يكون التغيظ بمعنى: الغضب، كقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] ويجوز أن يكون بمعنى: الحمي والحرارة، كما ذكرنا في قول الأخطل. القول الثاني: أن المعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرًا، كما قال: متقلدًا سيفًا ورمحًا (¬3) وقد تقدم لهذا نظائر (¬4)، وهذا قول قطرب. والزفير: آخر نهيق ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 43. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 59. ونقله الثعلبي 8/ 93 أ. واقتصر عليه الواحدي في تفسيريه، "الوسيط" 3/ 335، و"الوجيز" 2/ 775. قال ابن عطية 11/ 11: وذلك أن التغيظ لا يُسمع، وإنما المسموع أصوات دالة على التغيظ، وهي ولا شك احتدامات في النار كالذي يُسمع في نار الدنيا. قال الراغب 368: الغيظ: أشد الغضب .. ، والتغيظ: إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع، كما قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}. (¬3) شطر بيت لعبد الله بن الزبعرى، ديوانه 32، وصدره كما في الديوان: يا ليت زوجك قد غدا وأنشده المبرد 1/ 432، والثعلبي في تفسيره 2/ 93 أ، ثم قال: أي: وحاملاً رمحًا. والفراء 1/ 121، والبغوي 6/ 75، والقرطبي 13/ 8. والبيت في "تهذيب اللغة" 4/ 352 (مسح)، و"اللسان" 2/ 593، وهو في "الخصائص" 2/ 431. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 68. و"البحر المحيط" 6/ 445. كلها غير منسوب. (¬4) ذكر الواحدي هذه المسألة في تفسير قول الله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} =

الحمار (¬1). وقد مر الكلام في تفسيره (¬2). وقال المبرد: الزفير: الصوت يسمع من جوف المتغيظ، يقال: ست لفلان زفيرًا عليك (¬3). وهذا شائع في الكلام. قال عبيد بن عمير في هذه الآية: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملَك إلا خر ترعد فرائصه (¬4). ¬

_ = [المائدة: 6]؛ حيث قال: وقال جماعة من أهل المعاني: إن الأرجل معطوفة علي الرؤوس في الظاهر، والمراد فيها الغسل، وقد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف كما قال الشاعر: ياليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحاً المعنى: وحاملاً رمحاً. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 43. وعكسه الفراء؛ فقال: الزفير: أول نهيق الحمار، وشبهه، والشهيق من آخره. "معاني القرآن" 2/ 28. وذكره الأزهري، ولم يتعقبه، "تهذيب اللغة" 13/ 193 (زفر)، وصححه في 5/ 390 (شهق) وجمع بينهما ابن عطية 11/ 11، فقال الزفير: صوت ممدود كصوت الحمار المرجِّع في نهيقه. (¬2) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]: قال الليث: الزفر والزفير: أن يملأ الإنسان صدره غماً ثم يزفر به، فالزفير: إخراج النفس، والشهيق: رد النفس .. وهو قول جميع أهل اللغة. قال أبو إسحاق: هما من أصوات المكروبين المحزونين، وحكى عن أهل اللغة جميعاً أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق والشهيق بمنزلة آخر صوته، ونحو هذا قال المفسرون. (¬3) الزفر، والزفير: أن يملأ الرجل صدره غماً ثم يزفر به. والشهيق: مد النفس، ثم يزفر، أي: يرمي به ويخرجه من صدره. كتاب "العين" 7/ 360 (زفر) ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 193 (زفر) وبحثت عن قول المبرد في: "المقتضب"، و"الكامل"، فلم أجده. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 56. وابن جرير 18/ 187، وابن أبي حاتم 8/ 2667، وابن كثير 6/ 97، قولهم من طريق عبد الرزاق، وفيها زيادة: حتى إن إبراهم ليجثو على ركبتيه، فيقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وهذا الأثر =

13

وقال الكلبي: سمعوا تغيظًا كتغيظ بني آدم، وصوتًا كصوت الحمار (¬1). [وقال ابن قتيبة: قال قوم: بل يسمعون فيها تغيظ المعذبين، وزفيرهم واعتبروا ذلك بقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود 106]] (¬2) قال: والتفسير الأول أشبه بما أريد إن شاء الله؛ لأنه قال: {سَمِعُوا لَهَا} ولم يقل: سمعوا فيها، ولا منها (¬3). 13 - قوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} من جهنم (¬4) {مَكَانًا ضَيِّقًا} قال ابن عباس، والمفسرون: يضيق عليهم كما يضيق الزُّجُّ في الرمح (¬5). وسئل ¬

_ = من المغيبات مما لا مجال للعقل فيه، ولم يصرح فيه عبيد بن عمير بالرفع فيُتوقف فيه؛ لاحتمال أخذه عن بني إسرائيل. والله أعلم. وذكره السمرقندي في تفسيره 2/ 455، وصدَّره بقوله: وروي في الخبر أن جهنّم .. (¬1) في نسخة: (أ)، (ب): (ونهيق)، بدل: (كصوت الحمار)، وقول الكلبي في "تنوير المقباس" ص 301. و"تفسير السمرقندي" 2/ 455، ولم ينسبه. ونسبه له: القرطبي 13/ 8. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب). (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 210. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 43. و "تفسير هود الهواري" 3/ 203. (¬5) في "تفسير مقاتل" ص 43: كضيق الرمح في الزج. وذكره هود الهوّاري في تفسيره 3/ 203، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2668، بإسناده عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، من طريقين. وأخرجه ابن كثير 6/ 97، عنه أيضًا. وذكره السيوطي 6/ 240 عن عبد الله بن عُمَر، ونسبه لابن أبي حاتم، وهو خلاف ما في تفسير ابن أبي حاتم، كما سبق. ولعل ما في "تفسير الهوّاري" تصحيف؛ من: عمرو، إلى عمر، حيث إنه لم يذكر له إسناداً. والله أعلم. ولفظ ابن أبي حاتم موافق للفظ الواحدي. وذكر أن مجاهدًا روي عنه نحو ذلك. ونسبه الثعلبي في تفسيره 8/ 93 أ، إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- بدون إسناد. وكذا البغوي 6/ 75. وابن عطية 11/ 12. ونسبه الماوردي 4/ 134، لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. =

رسول الله عن هذه الآية، فقال: "والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط" (¬1). وقال الكلبي: إذا التقوا في أبواب جهنم تضيق عليهم كتضايق الزُّجِّ في الرمح، فالأسفلون يرفعهم اللَّهب، والأعلون يخفضهم اللَّهب، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة (¬2). فعند ذلك يدعون بالثبور. وقوله: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ} قال ابن عباس: يريد في الأصفاد، والأغلال. يعني: أن أيديهم قرنت إلى أعناقهم (¬3). وقيل: مقرنين مع الشياطين في السلاسل (¬4). وذكر مقاتل القولين؛ فقال: موثقين في الحديد ¬

_ = والزُّجُّ: الحديدة التي تُركَّب في أسفل الرمح، وتركز به الرمح في الأرض. "لسان العرب" 2/ 285 (زجج). و"القاموس" ص 244. قال الزمخشري 3/ 260: ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق، والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصاً. (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2668، من طريق نافع بن يزيد، عن يحي بن أبي أَسِيد، يرفع الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونقله عنه الثعلبي 8/ 93 أ، وابن كثير 6/ 97، وهو فيها بلفظ: ليستكرهون. خلافاً لما في النسخ الثلاث فهي بدون اللام. ونافع بن يزيد الكَلاعي، أبو يزيد المصري، ثقة عابد، ت: 168. "التاريخ الكبير" 8/ 86، رقم الترجمة 2280. و"تهذيب الكمال" 29/ 296. و"التقريب" ص 996. ويحي بن أبي أسيد ذكره المِزي، في شيوخ نافع بن يزيد، ونسبه إلى مصر. لكنّي لم أعثر على ترجمة له، ولم يذكر ابن أبي حاتم مَنْ حدثه بذلك حيث قال: قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} قرئ على يونس بن عبد الأعلى .. (¬2) ذكره عن الكلبي، الرازي 24/ 56. وهو في "تنوير المقباس" ص 301، بنحوه. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2669، عن أبي صالح، بلفظ: {مُقَرَّنِينَ} قال: مكتفين. وذكر نحوه الثعلبي 8/ 93 أ، ولم ينسبه. (¬4) "تنوير المقباس" ص 301. وذكره الثعلبي 8/ 93 أ. ونسبه الماوردي 4/ 134، ليحيى بن سلام. وهذا القول لا يسعفه ظاهر الآية.

14

وقرنوا مع الشياطين (¬1). ومضى الكلام في هذا عند قوله: {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم: 49] 14 - {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} دعوا بالويل على أنفسهم والهلاك. قاله ابن عباس (¬2) والمفسرون (¬3). وقال ابن قتيبة: هذا كما يقول القائل: واهلاكاه (¬4). وفي الحديث: "إن إبليس يكسى حُلة من النار فيسحبها وذريته مِنْ خَلْفِهِ، وهو يقول: يا ثبوراه وينادون: يا ثبورهم، حتى يَرِدوا النَّارَ فيُقالُ لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} " (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب): (في قوامع الشياطين)، وفي "تفسير مقاتل" ص 43 ب قرناً مع الشياطين. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، معلقاً بصيغة الجزم. ونصه: {ثُبُورًا} ويلاً. الفتح 8/ 490. ووصله ابن جرير 18/ 187، وابن أبي حاتم 8/ 2669، من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره الثعلبي 8/ 93 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 43. و"تفسير هود الهوّاري" 3/ 203. و"تفسير الثعلبي" 8/ 93 ب. و"تفسير الماوردي" 4/ 134. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 59. وأخرج ابن جرير 18/ 188، عن الضحاك: (الثبور) الهلاك. (¬4) "غريب القرآن"، لابن قتيبة ص 310. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2669، عن الضحاك: دعوا بالهلاك؛ فقالوا: واهلاكاه، واهلاكاه. (¬5) الحديث أخرجه مطوّلاً ابن جرير 18/ 188، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وفي إسناده: علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2669، من الطريق نفسه. وكذا الثعلبي في تفسيره 8/ 93 ب. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 304، رقم ت 12538، من طريق علي بن زيد أيضًا، عن أنس -رضي الله عنه-. وقال الهيثمي 10/ 292: رواه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح، غير علي ابن زيد، وقد وُثق. لكن أكثر أهل العلم على تضعيفه، من جهة حفظه، واختلاطه =

قال المفسرون: ادعوا ويلًا كثيرًا لأنها دائمة لهم أبدًا (¬1). وقال أبو إسحاق: أي: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة (¬2). وقال المبرد: الثبور هلاك على هلاك، ولا يكون لمرة واحدة، ومنه قولهم: ثابَر فلان على كذا، أي: دام عليه. وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] (¬3). ¬

_ = في كبره، وقلبه للأحاديث. "ميزان الاعتدال" 3/ 127. وأخرج الواحدي في "الوسيط" 4/ 336، من الطريق السابق. وصححه السيوطي 6/ 240. وقال الشوكاني 3/ 64، بعد ذكر إسناد الإمام أحمد لهذا الحديث: وفي علي بن زيد مقال معروف. وهذا الحديث يقابل ما أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4625، "الفتح" 8/ 286. ومسلم 4/ 2194، كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها، رقم: 2860، مِنْ أن أول من يكسى من أهل الجنة نبي الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-. ولفظه عندهما: من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى الله حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ .. ". (¬1) "تفسير مقاتل" ص 43. و"تفسير هود الهوّاري" 3/ 203. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2669، بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً. ونحوه عن الضحاك، وقتادة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 59. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} قال الكلبي: وإني لأعلمك يا فرعون، {مَثْبُورًا} قال ابن عباس: ملعوناً، وقال قتادة: مهلكاً، وقال مجاهد: هالكاً، قال الفراء: المثبور الملعون المحبوس عن الخير، والعرب تقول ما ثَبَرك عن هذا؟ أي ما منعك منه وما صرفك، وروى أبو عبيد عن أبي زيد: ثَبَرْت فلاناً عن الشيء: رَدَدْتُه عنه، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: المثْبُور: الملْعُون المطْرود المُعَذَّب، هذا وجه قول ابن عباس، وأما وجه قول =

15

قال الفراء: الثبور مصدر، فلذلك (¬1) قال: {ثُبُورًا كَثِيرًا} لأن المصادر لا تجمع، ألا ترى أنك تقول: قعدت قعودًا طويلاً، وضربته ضربًا كثيرًا فلا تجمع (¬2). وقال الكلبي: هذا كله نزل في أبي جهل وأصحابه (¬3). 15 - ثم ذكر ما وعده لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فقال: {قُلْ أَذَلِكَ} يعني: السعير (¬4) المذكور في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: 11] وما بعده إلى قوله: {أَذَلِكَ} مَنْ (¬5) صفته وصفة أهله {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قال أبو إسحاق: إنْ قال قائل: كيف يقال: الجنة خير من النار؛ وليس في النار خير البتَّة؟ ثم أجاب، فقال: إنما يقع التفضيل فيما دخل في صنف واحد، والجنة والنار قد دخلا في باب المنازل في صنف واحد؛ فلذلك قال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} كما قال: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] (¬6). ¬

_ = مجاهد وقتادة فقال الزجاج: ثُبِرَ الرجل فهو مثبور إذا أهلك، والثبور الهلاك، قال شمر: ومَثَلٌ للعرب: إلى أُمّه يأوى من ثَبِر؛ أي مَن أُهلِك، قال أبو عبيد: والمعروف في الثبور الهلاك، والملعون هالك. "البسيط" 3/ 166 أ، النسخة الأزهرية. (¬1) (فلذلك)، من كتاب الفراء، وهي غير موجودة في النسخ الثلاث. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 263. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 59. (¬3) "تنوير المقباس" ص 301. أبو جهل، هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشى. (¬4) "تنوير المقباس" ص 301. (¬5) من، ساقطة من نسخة: (ج). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60. وهذه الآية تدل على أن أهم شيء الفوز بالجنة، والنجاة من النار. ويشهد لهذا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلِ: "مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ قَالَ أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ الله الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ أَمَا والله =

16

وقال غيره من أهل المعاني: هذا على التذكير والتنبيه على تفاوت ما بين المنزلين والحالين (¬1). قوله: {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: وعد المتقون دخولها، أو نزولها، أو الخلود فيها، وما أشبه هذا مما يؤدي هذا المعنى، وبهذا التقدير تتم صلة الموصول وتمام المعنى، ولهذا ذكر قوله: {وُعِدَ} ولم يكن: وعدت؛ لأن الموعود دخولها. قوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} قال ابن عباس: ثوابًا ومرجعًا (¬2). 16 - قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} أي: كان دخولها ونزولها وعدًا. والدخول قد ذكرنا تقديره في قوله: {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان: 15]. ويجوز أن يعود {كَانَ} إلى الخلود، ودل عليه قوله: {خَالِدِينَ} قال ¬

_ = مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ" أخرجه أبو داود 1/ 501، كتاب الصلاة، رقم: 792. وابن ماجه 1/ 295، كتاب الصلاة، رقم: 91. وهو في صحيح أبي داود 1/ 150، رقم: 710. الدندنة: أن يتكلم الرجل بالكلام تُسمع نغمته، ولا يُفهم. "النهاية في غريب الحديث" 2/ 137. (¬1) قال في "الوسيط" 3/ 336: وهذا على التنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين، لا على أن السعير خير. ولم ينسبه. وذكر قريباً منه القرطبي 13/ 9. ونقل البرسوي 6/ 195، قول الواحدي في الوسيط، ونسبه له. قال أبو حيان 6/ 445: خير، هنا ليس تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابلة .. كقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله تعالى: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 34. و"تفسير السمرقندي" 2/ 455، ولم ينسبه. وذكره البغوي 6/ 75. ولم ينسبه.

الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة فجعلها لهم فسألوه ذلك الوعد في الدنيا فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] (¬1). أي: على لسان رسلك؛ يعنون الجنة، فلم يلجئهم يوم القيامة إلى أن يسألوه، فأدخلهم الجنة بوعده إياهم ذلك (¬2). وهذا القول هو اختيار الفراء (¬3). وقال القرظي: إن الملائكة تسأل لهم ذلك؛ وهو قوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ} (¬4) [غافر: 8]. واختار الزجاج هذا القول (¬5). وقال مقاتل: يسأله المتقون في الآخرة ما وعدهم في الدنيا وهي الجنة (¬6). وذكر الفراء وجهًا آخر فقال: هذا كما تقول في الكلام (¬7): لأعطينك ألفًا وعدًا مسؤولاً، أي: هو واجب لك فتسأله لأن المسؤول (¬8) واجب ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول ابن جرير في "تفسيره" 18/ 189، والسمرقندي 2/ 455. والثعلبي 93 ب، والبغوي 6/ 76. ولم ينسبوه لأحد. وبنحوه عند الماوردي 4/ 135، ونسبه لابن عباس -رضي الله عنهما-. وهو في "الوسيط" 3/ 336، غير منسوب. ونسبه القرطبي 13/ 8، للكلبي، ثم قال: وهو معنى قول ابن عباس. (¬2) "تنوير المقباس" ص 301، بلفظ: سألوه فأعطاهم. وذكره هود الهوّاري 3/ 203. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 263، ولم ينسبه. (¬4) ذكر هذا القول الهواري 3/ 203، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2671، عن القرظي. وكذا الثعلبي 93 ب. والماوردي 4/ 135، وهو كذلك في "الوسيط" 3/ 336. والبغوي 6/ 76. وابن كثير 6/ 98. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60. و"تفسير السمرقندي" 2/ 455، ولم ينسبه. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 43. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2671، عن أبي حازم. ونسبه الماوردي 4/ 135، لزيد ابن أسلم. (¬7) (في الكلام) من نسخة: (أ)، (ب). (¬8) في نسخة: (أ)، (ب): (السؤال).

17

وإن لم يُسأل كالدَّين (¬1). وعلى هذا المعنى: وعدًا واجبًا هو مما يُسأل وإن لم يُسأل. وهذا معنى قول ابن عباس في تفسير قوله: {وَعْدًا مَسْئُولًا} يريد: لا خلاف فيه (¬2). وهذا الوجوب من قِبَل الله تعالى هو أوجبه على نفسه أنه لا يخلف الميعاد؛ ولا يجب لأحد عليه شيء دون إيجابه (¬3). 17 - {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قال مقاتل: يجمعهم يعني: كفار مكة (¬4). وقال غيره: يعني المشركين كلهم ومن (¬5) كان يعبد غير الله (¬6)؛ لقوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال ابن عباس: ونحشر ما يعبدون من دون الله (¬7). قال ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 263. (¬2) أخرج نحوه ابن جرير 18/ 189، من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وكذا ابن أبي حاتم 8/ 2671. وذكره العز في "تفسيره" 2/ 419. وابن كثير 6/ 98، من الطريق السابق. (¬3) حاصل ما ذكر أن {مَسْئُولًا} فيها قولان: 1 - مطلوباً. والطالب له: إما المؤمنون، أو الملائكة. 2 - أن معنى: المسؤول: الواجب. "تفسير ابن الجوزي" 6/ 77. وعلى المعنى الثاني، يكون واجباً بحكم الاستحقاق، على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة. تفسير الزمخشري 3/ 261، والرازي 24/ 60. وتفسير أبي حيان 6/ 446. قال ابن كثير 6/ 98: هذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم. قال البقاعي 13/ 357: وهو من وادي {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 43 ب. (¬5) في (ج): (من) بدون واو. (¬6) ذكر هذا كله الواحدي. رحمه الله. في "الوسيط" 3/ 336، غير منسوب. (¬7) "تفسير مقاتل" ص 43 ب. و"تفسير الطوسي" 7/ 478، ولم ينسبه. وذِكرُ المعبودات هنا بلفظ {مَا} إشارة إلى أن ناطقها وصامتها جمادٌ بل عدمٌ بالنسبة إليه سبحانه. مع أن {مَا} موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، من كان أكثر استعماله في غير العقلاء. "نظم الدرر" 13/ 360. و"تفسير أبي السعود" 6/ 208.

مجاهد: عيسى، وعزيرًا، والملائكة (¬1). وقال عكرمة، والضحاك: يعني الأصنام (¬2). وقال الكلبي في هذه الآية: يعني عبدة الأوثان، والأصنام (¬3). ثم يأذن لها في الكلام ويخاطبها {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} (¬4) قال مقاتل: يقول: ءأنتم أمرتموهم بعبادتكم {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} يقول: أم هم أخطأوا الطريق (¬5). وقرئ: {نَحْشُرُهُمْ} بالياء، والنون. وكذلك {فَيَقُولُ} بالياء، والنون (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 18/ 189. وابن أبي حاتم 8/ 2672. و"تفسير مجاهد" 2/ 448. وذكره عنه الثعلبي 93 ب. والماوردي 4/ 136. وابن كثير 6/ 99. (¬2) "تفسير الثعلبي" 93 ب، منسوبًا لهما. وهو كذلك في "الوسيط" 3/ 336. والبغوي 6/ 76. وابن عطية 11/ 17. والقول الأول أرجح: لقوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] وقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. "تفسير ابن جزي" 482، و "تفسير أبي حيان" 6/ 447. (¬3) "تنوير المقباس" ص 301. وفي "تفسير البحر" 6/ 447، عن الكلبي: يحي الله الأصنام يومئذٍ لتكذيب عابديها. (¬4) الاستفهام هنا على سبيل التقريع للمشركين، كما قال لعيسى -صلى الله عليه وسلم- {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. ولأن تبرؤ المعبودين منهم أشد في حسرتهم وحيرتهم. "تفسير الرازي" 24/ 62. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 43 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2672، عن مقاتل بن حيان بلفظ: قد أخطأوا قصد السبيل. وهو عند البغوي 6/ 76، غير منسوب. (¬6) {يَحْشُرُهُمْ} قرأ بالياء: ابن كثير، وحفص عن عاصم، وبالنون: نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر. "السبعة" ص 462. و"الحجة" 5/ 337، و"إعراب القراءات" لابن خالويه 2/ 117، و"المبسوط في القراءات العشر" ص 270، و"التبصرة" ص 631، و"النشر" 2/ 333. و {فنقول} بالنون، قراءة ابن عامر، والباقون بالياء. المصادر السابقة.

18

وذلك على تلوين الخطاب من الإفراد والجمع (¬1). ثم ذكر جواب المعبودين بقوله: 18 - {قَالُوا سُبْحَانَكَ} قال ابن عباس، ومقاتل: نزهوا الله، وعظموه من أن يكون معه إله (¬2). {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} إن قيل: كيف يجوز للمعبودين أن يقولوا هذا؛ وإنما اتخذهم غيرهم أولياء من دون الله، وليس هذا الجواب يليق للسؤال المتقدم. والجواب عنه من وجوه؛ أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك [ونتخذ غيرك وليًا ومعبودًا فكيف ندعوا إلى عبادتنا، أي: إذا كنا نحن لا نعبد غيرك] (¬3) فكيف ندعوا أحدًا إلى أن يعبدنا؟. فذكر من جوابهم على أنهم لم يضلوهم، ولم يأمروهم بعبادتهم، وهو أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير الله؛ فكيف يدعون غيرَهم إلى عبادتهم. وهذا معنى قول الفراء (¬4). وقال صاحب النظم: هذا بالتدريج يصير جوابًا للسؤال الظاهر؛ وهو أن من عبد شيئًا فقد تولاه، وإذا تولاه العابد صار المعبود وليًا ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 338. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 43 ب. و"تنوير المقباس" ص 301. وذكره الهوّاري 3/ 204. والسمرقندي 2/ 455. والواحدي في "الوسيط" 3/ 336، والبغوي 6/ 76. ولم ينسبوه لأحد. قال القرطبي 13/ 10: فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل: ينطقها الله تعالى يوم القيامة؛ كما ينطق الأيدي والأرجل. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 263. وقريب من هذا في "تنوير المقباس" ص 301. و"تفسير مقاتل" ص 43 ب.

للعابدين (¬1)، ويدل على هذا قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ 40، 41] أي: لم نتخذهم أولياء وإن عبدونا في الظاهر. فدل هذا على أن العابد يُسمَّى وليًا للمعبود. ويصير المعنى: كأنهم قالوا: ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا وليًا، ولن نتخذ من دونك وليًا يعبدنا. فحذف من الكلام اتخاذ العابدين إياهم أولياء بدلالة ما ذكر عليه، وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية: يقولون ما توليناهم ولا أحببنا عبادتهم. قال: ويحتمل أن يكون قولهم: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أرادوا معشر العبيد لا أنفسهم، أي: إنا وهم عبيدك فكان لا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء، ولكنهم تواضعًا منهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم وعنوهم به، كما يقول الرجل إذا أتى أخوه كبيرةً: ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا، وهو يعني به غيره، ولهذا الإشكال قرأ من قرأ {أَنْ نَتَّخِذَ} بضم النون. وهذه القراءة أقرب في التأويل لو صحت (¬2)؛ قال أبو إسحاق: هذه القراءة خطأ؛ لأنك تقول: ما اتخذتُ من أحد وليًا، ولا يجوز: ما اتخذتُ أحدًا ¬

_ (¬1) في (ج): (للعابد). (¬2) هذه قراءة أبي جعفر المدني. "معاني القرآن" للفراء 2/ 264، و"إرشاد المبتدي" ص 466. ونسبها ابن جرير 18/ 191، للحسن، ويزيد بن القعقاع، وهو: أبو جعفر المدني. قال ابن الجزري 2/ 333، بعد أن نسبها لأبي جعفر: وهي قراءة زيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبي رجاء، وزيد بن علي .... وذكرها ابن جني في المحتسب 2/ 119. وقول الزجاج 4/ 60: وقرأ أبو جعفر المدني وحده، يعني من العشرة. وجزْمُ الواحدي -رحمه الله- بضعف هذه القراءة تبع فيه الزجاج، حيث نقل كلامه في تضعيفها، ولم يعترض عليه. وضعف ابن جرير 18/ 191، هذه القراءة لعلل ثلاث؛ لإجماع الحجة على القراءة بفتح النون، ولقوله تعالى في سورة سبأ: 40، =

من ولي؛ لأن {مِنْ} إنما دخلت لأنها تنفى واحدًا في معنى جمع، تقول: ما من أحد قائمًا، وما من رجل محبًا لما يضره، ولا يجوز: ما رجل من محب ما يضره، ولا وجه لهذا عندنا البتة. ولو جاز هذا لجاز في {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ما أحد عنه من حاجزين. ولو لم يكن {مِنْ} لصحت هذه القراءة (¬1). ¬

_ = 41 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} والعلة الثالثة ما ذكره الواحدي عن الزجاج. وقد وجه هذه القراءة ابن جني، فقال: {مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع الحال، أي: ما كان ينبغي لنا أن نُتخذ من دونك أولياء، ودخلت {مِنْ} زائدة لمكان النفي، كقولك: أتخذتَ زيداً وكيلاً، فإن نفيت قلت: ما اتخذت زيداً من وكيل، وكذلك: أعطيته درهماً، وما أعطيته من درهم. "المحتسب" 2/ 120، وقد حسن هذا التوجيه وارتضاه ابن الجزري، في "النشر" 2/ 333. وتبعه على ذلك البناء، في: "إتحاف فضلاء البشر" ص 328. ووجه هذه القراءة أيضًا الزمخشري 3/ 263. وصححها ابن القيم، في "إغاثة اللَّهفان" 2/ 237. قال ابن كثير 6/ 99، بعد ذكر هذه القراءة: وهي قريبة المعنى من الأُولى. قال البقاعي: وقراءة أبي جعفر بالبناء للمفعول، بضم النون وفتح الخاء، واضحة المعنى، أي: يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره. "نظم الدرر" 13/ 361. فالحاصل أن هذه القراءة ثابتة، مقروء بها عن أبي جعفر المدني. والله أعلم. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60. وتخطئة الزجاج لهذه القراءة لتخطئة أكثر النحويين لها! حيث قال: وهذه القراءة عند أكثر النحويين خطأٌ. ومثل هذا لا يكفي لتخطئة القراءة، إذ الاعتبار بصحة الرواية، قال ابن جني في الرد على من رد الرواية لمجرد مخالفتها للمشهور من القراءة: وكيف يكون هذا والرواية تنميه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ. "المحتسب" 1/ 33، وقال أيضًا: والقرآن يُتخير له، ولا يتخير عليه. "المحتسب" 1/ 53. وقال ابن الجزري: كل =

وقال صاحب النظم: العلة في سقوط هذه القراءة: أن {مِّن} لا تحدث إلا على مفعول، لا مفعول دونه، فإذا كان قبل المفعول [مفعول سواه لم يحسن دخول: من، مثل قوله -عز وجل-: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] فقوله: {مِنْ وَلَدٍ} لا مفعول دونه سواه] (¬1) ولو قال: ما كان لله أن يتخذ أحدًا من ولد، لم يحسن فيه دخول: (مِن)؛ لأن (¬2) الاتخاذ مشغول بـ: أحد (¬3). كذلك قوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} قد قامت النون المضمومة مقام مفعول، وشغل الاتخاذ به فلم تعمل: (مِن) في المفعول الذي بعده؛ لأن تأويله يكون مثل قولك: ما كان لزيد أن يتخذ من ولي. هذا كلامه. ومن أجاز هذه القراءة يجعل (مِن) صلة (¬4). قال الفراء: العرب تدخل (مِنْ) في الأسماء لا في الأخبار. ألا ترى أنهم يقولون: ما أخذت من شيء، وما عندي من شيء، ولا يقولون: ما ¬

_ = قراءة وافقت العربية مطلقاً، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديراً، وتواتر نقلها: هذه القراءة المتواترة المقطوع بها. ومعنى العربية مطلقاً: ولو بوجه من الإعراب .. ثم قال: والذي جمع في زماننا هذه الأركان الثلاثة، هو قراءة الأئمة العشرة التي أجمع الناس على تلقيها بالقبول، وهم: أبو جعفر، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف. "منجد المقرئين" ص 15. (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من (ج). (¬2) لأن فعل الاتخاذ مشغول. بزيادة: فعل. هكذا عند ابن القيم في "إغاثة اللَّهفان" 2/ 237. (¬3) انظر قول صاحب النظم في "إغاثة اللَّهفان" 2/ 237، وقد صرح ابن القيم بالنقل عنه، وهو مطابق لما نقله الواحدي. (¬4) "تفسير البغوي" 6/ 76.

رأيت عبد الله من رجل. فلو لم يكن في الأولياء: {مِنْ} لكان وجهًا جيدًا، وهو على قلة من قرأ به، قد يجوز أن يجعل الاسم في {مِنْ أَوْلِيَاءَ} ويجعل الخبر ما في {نَتَّخِذَ} على القلب (¬1). ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين للإيمان بالله بقوله: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} قال ابن عباس: أطلت لهم العمر فأفضلت عليهم ووسعت لهم في الرزق (¬2). وقال الفراء: ولكنك يا رب متعتهم بالأموال والأولاد (¬3). {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} قال ابن عباس: يريد تركوا الموعظة. وقال مقاتل: تركوا إيمانًا بالقرآن (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 264. (¬2) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2672، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: ذهبت أعمالهم في الدنيا ولم يكن لهم أعمال صالحة. ولم يذكر القول الذي أورده الواحدي. وقريب من هذا القول في "تفسير السمرقندي" 2/ 456، ولم ينسبه. وهو بنصه في "الوسيط" 3/ 337، منسوبًا لابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 264. قال الزمخشري 3/ 86، ط: دار الفكر حيث لم أجده في ط: دار الكتب العلمية: فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سببَ الكفر، ونسيان الذكر. والمترفون عادة هم أعداء الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ 34، 35] وقال تعالى: قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 43 ب. قال ابن قتيبة: يعني القرآن غريب القرآن 311. وممن قال: إنه القرآن، زيد بن أسلم. أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2672. وفي "تفسير =

{وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} قال مجاهد، والكلبي ومقاتل (¬1)، والمفسرون (¬2): فاسدين هالكين قد غلب عليهم الشقاء والخذلان (¬3). وقال الزجاج: البائر في اللغة: الفاسد الذي لا خير فيه (¬4). وقال الفراء: البور مصدر يكون واحدًا وجمعًا (¬5). وقال أبو عبيدة: رجل بور، ورجلان بور، وقوم بور، وكذلك الأنثى، ومعناه: هالك، وقد يقال: رجل بائر، وقوم بور. وأنشد: يا رسول المليك إن لساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بور (¬6) ¬

_ = السمرقندي" 2/ 456 تركوا التوحيد، والإيمان بالقرآن. ولم ينسبه. وذكر الثعلبي 93، في الذكر خمسة أقوال: القرآن، الرسول، التوحيد، الإسلام، ذكر الله. وكلها متلازمة. والقولان في "الوسيط" 3/ 337، بدون نسبة. (¬1) "تفسير مجاهد" 2/ 448. وأخرجه عنه ابن جرير 18/ 190. وقول الكلبي في "تنوير المقباس" ص 301. و"تفسير السمرقندي" 2/ 456. و"تفسير مقاتل" ص 43 ب. (¬2) (المفسرون) في (ج). (¬3) أخرج ابن جرير 18/ 190، وابن أبي حاتم 8/ 2673، عن ابن عباس رضي الله عنهما، من طريق علي ابن أبي طلحة: {بُورًا} هلكى. ونسبه الماوردي 4/ 137، لابن عباس. وذكر هذا القول هود الهوّاري 3/ 204. وابن الأنباري، "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 314، والثعلبي 94 أ. وهو بنصه في "الوسيط" 3/ 337، غير منسوب. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2673، عن شهر بن حوشب، {بُورًا} قال: معناه: فسدتم. ومثله عن قتادة، قال: والبور الفاسد، وإنه والله ما نسي قوم ذكر الله إلا باروا، وفسدوا. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 264. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 73. ونسبه لعبد الله بن الزبعرى. وكذا ابن جرير 18/ 191. وابن الأنباري، في "الزاهر" 1/ 315. والثعلبي 94 أ. وابن عطية 11/ 19. وهو في ديوان ابن الزبعرى 36، من قصيدة يمدح فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويعتذر إليه مما فعل؛ يعني أنه مصلح لما أفسد. الرتق: ضد الفتق. "اللسان" 10/ 114. و"القاموس" 1143. والفتق: الشق. "اللسان" 10/ 296. و"القاموس" 1182.

19

أبو الهيثم: البائر: الهالك. والبوار: الهلاك. وقال الحسن، وابن زيد: البور الذي ليس فيه من الخير شيء (¬1). ومعنى هذه الآية أن المعبودين قالوا: ما أضللناهم ولكنهم ضلوا. 19 - قال الله -عز وجل-: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} أي: فيقال للكفار حينئذ (¬2) {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي: كذبكم المعبودون بقولكم: إنهم آلهة، وإنهم شركاء (¬3). ومن قرأ {بِمَا تَقُولُونَ} بالياء (¬4)، فالمعنى {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} بقولهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} الآية (¬5). وقوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} أي: ما يستطيع الشركاء والمعبودون صرف العذاب عنكم (¬6). هذه قراءة العامَّة بالياء (¬7). ولا يحسن ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 67، عن الحسن، ومن طريقه أخرجه ابن جرير 18/ 190، وابن أبي حاتم 8/ 2673. وأخرجه عن ابن زيد: ابن جرير 18/ 191. وذكره عنهما الثعلبي 94 أ. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 448. و"تفسير مقاتل" ص 43 و"تفسير الطبري" 18/ 192. (¬3) تفسير هود الهوّاري 3/ 204. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 60. و"تفسير الماوردي" 4/ 137، ونسبه لمجاهد. (¬4) قال أبو بكر بن مجاهد: قال لي قنبل عن أبي بزة عن ابن كثير {يَقُولُونَ} {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء جميعاً. السبعة في القراءات 463، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 334. (¬5) قال مقاتل 43 ب: بقولهم إنهم لم يأمروكم أن تعبدوها. (¬6) "تنوير المقباس" ص 302. و"تفسير مقاتل" ص 43 ب. و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 642. و"تفسير هود الهوّاري" 3/ 204. وذكر الماوردي 4/ 137، أربعة أوجه، هذا أحدها. (¬7) قرأ عاصم في رواية حفص: {بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} بالتاء جميعاً. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: {بِمَا تَقُولُونَ} بالتاء {فما يستطيعون} بالياء، =

أن يجعل {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء للمتخذين الشركاء على الانصراف من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن قبله خطابًا، وبعده خطابًا، وهو قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} (¬1) وهذا مذهب مجاهد؛ لأنه قال: المشركون لا يستطيعونه (¬2). ونحو ذلك روى عطاء عن ابن عباس قال: لا يصرفون عن أنفسهم سوء العذاب. يعني المشركين. ولكن {يَسْتَطِيعُونَ} خبر عن الشركاء على ما ذكرنا، وهو مذهب مقاتل (¬3). ومن قرأ بالتاء فالمعنى: {يَسْتَطِيعُونَ} أيها المتخذون الشركاء صرفًا ولا نصرًا (¬4). قال أبو عبيد: والاختيار الياء، وتصديقها حرف ابن مسعود: {فَمَا يسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا} (¬5) فلما جاءت المخاطبة بقوله: {لَكُمُ} تبين أنه أخبر بالاستطاعة عن قوم. وتفسير الصرف هاهنا: صرف العذاب، في قول ابن عباس ومقاتل، وأكثر المفسرين، وأهل المعاني (¬6). وروي عن يونس أنه قال: الصرف: ¬

_ = وعن ابن كثير أنه قرأ بالياء في الموضعين. "السبعة" ص 463، و"المبسوط في القراءات العشر" ص 271، و"التبصرة" ص 613، و"النشر" 2/ 334. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 340، بنصه. (¬2) أخرجه ابن جرير 18/ 192، وابن أبي حاتم 8/ 2674. وتفسير مجاهد 2/ 449. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 43 ب. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 340. (¬5) أخرج هذه القراءة بإسناده ابن جرير 18/ 319، نصها: (مَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) ولعل هذا تصحيف من: لكم، إلى: لك. ثُمَّ قال: فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة، صح التأويل .... وذكره ابن عطية 11/ 20، نقلاً عن ابن أبي حاتم، لكنِّي لم أجده عنده. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. وذكره السمرقندي 2/ 456. والثعلبي 94 أ. ونسبه الماوردي 4/ 137، لزيد بن أسلم. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 61.

الحيلة. ومنه قيل: فلان يتصرف أي: يحتال (¬1). ويقال للمحتال: صيرف، وصيرفي (¬2). وقوله: {وَلَا نَصْرًا} معناه على قراءة العامَّة: ولا أن ينصروكم من عذاب الله بدفعه عنكم. وعلى قراءة من قرأ: {تَسْتَطِيعُونَ} بالتاء معناه: ولا نصرًا من العذاب لأنفسكم. يعني: ولا أن تنصروا أنفسكم بمنعها من العذاب (¬3). وقال المبرد: ولا أن ينصر بعضكم بعضًا كقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] أي: لا ينصر المشركون بعضهم بعضًا. وهذا على تفسير مجاهد وعطاء لقوله: {فما يَسْتَطِيعونَ صرْفًا} بالياء (¬4). قوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} قال ابن عباس، والحسن ومقاتل: ومن يشرك منكم (¬5). قال مقاتل: ومن يشرك بالله ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 311. حيث نسبه ليونس. وكذا الثعلبي 94 أ. وعن ابن قتيبة، ذكره الماوردي 4/ 137. وابن الجوزي 6/ 79. (¬2) في (ج): (صرف، وصرفي). (¬3) "تنوير المقباس" ص 302. (¬4) قول مجاهد، وعطاء، في الصفحة السابقة. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2674، عن ابن عباس من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك، كل شيء نسبه إلى غير الإسلام، من اسم مثل: مسرف، وظالم، ومجرم، وفاسق، وخاسر، فإنما يعني به: الكفر. وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به: الذنب، قال: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} يقول: من يكفر منكم. وذكر القرطبي 13/ 12، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أنه الشرك. وأخرجه عن الحسن عبد الرزاق 2/ 67. وعنه ابن جرير 18/ 193. و"تفسير مقاتل" ص44 أ. قال ابن عطية 11/ 20، بعد ذكره هذا لقول: وقد يحتمل أن يعم غيره من المعاصي. إلا أن سياق الآية لا يشهد له. والله أعلم.

20

منكم في الدنيا فيموت عليها (¬1) نذقه في الآخرة {عَذَابًا كَبِيرًا} يعني: شديدًا، [فلا عذاب أشد وأعظم من النار كقوله: {طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] يعني: شديدًا.]، (¬2) وكقوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] يعني: شديدًا (¬3). قال ابن عباس: ثم رجع -عز وجل- إلى ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يعزيه، فقال (¬4): 20 - {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} قال: يريد كما تأكل أنت (¬5) {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} يقول: فكيف يكون محمدٌ بدعًا من الرسل (¬6). ووجه النظم على هذا التأويل مختلف فيه؛ قال ¬

_ (¬1) عليها. هكذا عند الواحدي، ومقاتل. أي: على هذه المعصية، وإن كان الأظهر: عليه، والله أعلم. (¬2) ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب). (¬3) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. سوى ما بين المعقوفين فهو غير موجود. (¬4) هكذا في "الوسيط" 3/ 337، غير منسوب لأحد. لكن ذكر الواحدي -رحمه الله-. في "أسباب النزول" 332، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن المشركين لما عيّروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفاقة، وقالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل جبريل، - عليه السلام -، من عند ربه معزِّياً له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، رب العزة يقرئك السلام، ويقول لك: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}. وهذا غير ثابت عن ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه من طريق: جويبر عن الضحاك. وجويبر ضعيف جدًا، والضحاك لم يلق ابن عباس. وقد سبق ذلك عند تفسير الآية العاشرة، من هذه السورة. وذكره القرطبي 13/ 12، بدون إسناد. (¬5) نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 62. قال ابن الحربي 3/ 433: وإنما كان يدخلها لحاجته، أو لتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته: ويعرض نفسه على القبائل في =

الفراء: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} صلة لاسم متروك اكتفى بـ {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} منه؛ كقولك في الكلام: ما بعثت إليك من الناس إلا مَنْ إنَّه ليعطيك. ألا ترى أن قولك: ليعطيك (¬1) صلة لـ: مِن، وجاز ضميرها (¬2) كما قال: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي: ما منكم إلا من يردها. قال: ولو لم تكن اللام جوابًا لـ {إِنَّ} كانت إنَّ، مكسورةً أيضًا لأنها مبتدأة، إذ كانت صلةً. انتهى كلامه (¬3). وقال أبو إسحاق: هذا احتجاج عليهم في قوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} فقيل لهم: كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. قال: وأما دخول {إِنَّهُمْ} فعلى تأويل: ما أرسلنا [قبلك من المرسلين] (¬4) إلا هم يأكلون الطعام، وإلا إنهم ¬

_ = مجتمعهم، لعل الله أن يرجع إلى الحق بهم. وهذا يدل على أنه ينبغي لأهل العلم والفضل دخول الأسواق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس ما يتعلق بأحكام البيع والشراء، ونحو ذلك. وفي كتاب: "ظلال القرآن" 5/ 2553، كلام جيِّد في حكمة مشي الأنبياء في السوق. فليراجع. وهذه الآية أصل في تناول الأسباب، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة، وغير ذلك، وفي هذا رد على من لا يأخذ بالأسباب يزعم أنه متوكل. وقد قرر هذه المسألة القرطبي، في تفسيره 13/ 14، تقريرًا حسنًا. (¬1) هكذا: ليعطيك، في الموضعين، في النسخ الثلاث. وفي "معاني القرآن" للفراء 2/ 264: ليطيعك، من الطاعة. ولعله أقرب. والله أعلم. (¬2) أي: حذفها. حاشية "معاني القرآن" للفراء 2/ 364. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 264. وذكر ابن جرير 18/ 194، قريباً منه. ولم ينسبه. (¬4) ما بين المعقوفين في (ج). وهذه الزيادة غير موجودة في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60.

ليأكلون الطعام. وحذفت رسلًا لأن (إلا)، دليل على ما حذف، فأما مثل اللام بعد إلا فقول الشاعر: ما انطياني ولا سألتهما ... إلا وإني لحاجزي نسبي (¬1) وقال في قول الفراء: وهو خطأ بيِّن؛ لأنه لا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة (¬2). وهذه مسألة خلاف بين الكوفيين والبصريين. ذكرنا هذا قديمًا. وعلى ما قال الزجاج، الموصوف محذوف. وعلى قول الفراء، الموصول هو المحذوف. وذكر ابن الأنباري، قول الفراء واحتج عليه بأبيات ذكرناها قديمًا، فيما مضى من الكتاب؛ منها قول ذي الرُّمة: فَظَلُّوا ومنهم دمْعُه سابقٌ له .. البيت (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لكُثَيِّر بن عبد الرحمن، وتارة ينسب لصاحبته: عزة، "ديوانه" 219، وهو من قصيدة يمدح فيها عبد الملك، وعبد العزيز ابني مروان بن الحكم ... إنما يريد أنه إذا سألهما وأعطياه حجزه كرمه عن الإلحاف في السؤال. وانطياني: أعطياني. "معاني القرآن" للزجاج 4/ 62. وعند سيبويه، والمبرد، وفي الديوان: أعطياني. وقبل هذا البيت: دع عنك سلمى إذ فات مطلبها ... واذكر خليليك من بني الحكم وقد أورده منسوبًا سيبويه 3/ 145، والمبرد في "المقتضب" 2/ 346، ولم ينسبه، قال عبد السلام هارون، في تحقيقه للكتاب: الشاهد فيه كسر: إنَّ، لدخول اللام في خبرها، والجملة واقعة موقع الحال، ولو حذف اللام لم تكن إلاَّ مكسورة أيضًا لوقوع الجملة موقع الحال. ونص البيت عند الزجاج، وفي "الكتاب"، كرمي، بدل: نسبي، كما هو في النسخ كلها. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 60. (¬3) "ديوان ذي الرمة" ص 56، وعجزه: وآخرُ يَثني دمعة العين بالمَهْلِ

وقول آخر: لو قلتَ ما في قومِها لم تيثمِ ... يفضُلها في حَسَبٍ ومِيسَمِ (¬1) وذكر قولًا آخر فقال: كسرت إنَّ، بعد: إلاَّ، للاستئناف بإضمار واو بتقدير إلا وإنهم، فأضمرت الواو كما أضمرت في قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] والتأويل: أو وهم قائلون. قوله تعالى: ذكروا فيه ثلاثة أقوال (¬2)؛ أحدها: أن هذا في رؤساء المشركين؛ فقراءُ الصحابة جعلوا فتنة لهم (¬3). وهو قول: الكلبي، واختيار الفراء (¬4). قال الكلبي: {فِتْنَةٌ} بلية، ابتلي الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى (¬5)، فإذا رأى الشريفُ الوضيعَ قد أسلم قبله حمي أنفًا أن يسلم فيكون مثله، وقال: أُسلم فأكون مثل هذا الوضيع شرعًا سواء (¬6). وذكر أبو ¬

_ = ورواية الديوان: فظلوا ومنهم دمعه غالب له وأنشده الفراء كاملاً، ونسبه لذي الرمة، وقال: يريد: منهم من دمعه سابق. "معاني القرآن" للفراء 1/ 271، في تفسير سورة النساء. (¬1) أنشده سيبويه 2/ 345، والفراء "معاني القرآن" 1/ 271، وابن جني، "الخصائص" 2/ 370، والبغدادي "الخزانة" 5/ 62، ولم ينسبوه. وفي حاشية الكتاب: البيت لحكيم بن معية. وأصل: تيثم: تأثم، والميسم: الجمال من الوسامة. والشاهد فيه: حذف الموصوف؛ التقدير: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها لم تكذب فتأثم. (¬2) ذكر الماوردي 4/ 138، أربعة أقوال. وهي قريبة مما ذكر الواحدي. (¬3) "تفسير السمرقندي" 2/ 456، ولم ينسبه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 265. (¬5) "تنوير المقباس" ص 302. (¬6) "تفسير السمرقندي" 2/ 456، ولم ينسبه. ونسبه في "الوسيط" 3/ 337، للكلبي. وكذا في البحر 6/ 450. ويشهد له قوله تعالى: قال تعالى: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}. "تفسير الرازي" 24/ 65.

إسحاق هذا القول فقال: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فعلم أن مَنْ دونه في الشرف قد أسلم قَبْله فيمتنع من الإسلام لئلا يقال: أسلم مِن قَبْلِه مَنْ هو دونه (¬1). ويقيم على كفره لئلا يكون له السابقة والفضل عليه. وذلك افتتان بعضهم ببعض. القول الثاني: أن هذا عام في جميع الخلق. رُوي ذلك عن أبي الدرداء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم (¬2)، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان (¬3)، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد. بعضهم لبعض فتنة" (¬4). فهو قول الله -عز وجل-: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}. القول الثالث: أن هذا في أصحاب البلاء والمعافين. يقول الفقير: لِمَ لَمْ أجعل بمنزلة الغني. ويقول ذو البلاء؛ كالأعمى، والزَّمِن: لِمَ لَمْ أجعل بمنزلة المعافى (¬5) وذكر مقاتل: أن هذا قول في ابتلاء فقراء المؤمنين، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 26. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 265. (¬2) ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب). (¬3) ما بين المعقوفين، في (ج). (¬4) ذكره هود الهوّاري في تفسيره 3/ 205، فقال: ذكروا عن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. وذكره الثعلبي 94 أ، بإسناده عن الحسن عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-. وعنه القرطبي 13/ 18. وذكره السيوطي 6/ 244، عن الحسن، يرفعه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، مع اختلاف في اللفظ. ونسبه لابن أبي شيبة. ولكني لم أجده عنده. والحسن، هو البصري، ثقة فقيه فاضل مشهور، لكنه كان يرسل كثيرًا، ويدلس. "السير" 4/ 563، و"جامع التحصيل" 194، و"التقريب" 236. وقد عنعن الحسن في هذا الحديث فهو بهذا الإسناد لا يصح رفعه، فلعله من كلام الحسن. والله أعلم. (¬5) ذكر هذا القول ابن جرير 18/ 194، عن الحسن. ونحوه عن ابن جريج. ويشهد =

نحو: بلال، وخباب، وأبي ذر، وابن مسعود، وصهيب، وعمار، بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدًا من موالينا، [وأعواننا رذلة] (¬1) كل قوم، فقال الله لهؤلاء الفقراء: {أَتَصْبِرُونَ} على الأذى والإستهزاء (¬2) {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} إن صبرتم. فصبروا، ولم يجزعوا. فأنزل الله فيهم: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111] أي: في الدنيا على الأذى والإستهزاء من كفار قريش (¬3). وقال الفراء، على قول الكلبي {أَتَصْبِرُونَ} (¬4) يقول: هو هذا الذي ¬

_ = لهذا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ منه" البخاري، كتاب الرقاق، رقم: 6490، الفتح 11/ 322. ومسلم 4/ 2275، كتاب الزهد، رقم: 2963. (¬1) ما بين المعقوفين، من "تفسير مقاتل" ص 44 أ. لأن ما في النسخ الثلاث لا يستقيم به المعنى. (¬2) فليس لمن قد فتن فتنة دواء مثل الصبر. "إغاثة اللَّهفان" 2/ 157. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. وذكره عن مقاتل الثعلبي 94 ب. ذكر الهواري 3/ 206، عن بعض المفسرين أن هذه الآية في الأنبياء وأقوامهم. ونسبه الماوردي 4/ 138، ليحيى بن سلام، ويشهد لهذا قوله تعالى: قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ... وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك". صحيح مسلم 4/ 2197، كتاب الجنة، رقم: 2865. ولا مانع من حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدراً مشتركاً. تفسير الرازي 24/ 66. فالخطاب لجميع الناس، لاختلاف أحوالهم. "تفسير ابن جزي" 483. وانظر: "إغاثة اللَّهفان" 2/ 155. فهذه الأقوال التي ذكرها الواحدي لا تعارص بينها فهي تفسير للآية بالمثال. والله أعلم. (¬4) يعني بقول الكلبي ما سبق ذكره من فتنة الشريف من قريش بمن هو دونه. وذكر =

ترون. فمعناه: هو هذا السبق على قدر الدرجات. وقال أبو إسحاق: أي: أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وُعِد الصابرون (¬1). وقال صاحب النظم: ليس لقوله: {أَتَصْبِرُونَ} في الظاهر انتظام ما اتصل به من اللفظ؛ لأن فيه إضمارًا كأنه يقول: لنعلم أتصبرون أم لا. فأومأ بقوله: {أَتَصْبِرُونَ} إلى هذا الإضمار لأنه يقتضيه. وذكر عطاء عن ابن عباس قولًا آخر في هذه الآية؛ وهو: أن الله تعالى لما ذكر أن من أرسل قبله كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ذكر أنه جعل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- سبب ضلالة من أنكروا نبوته بقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} الآية، فقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ} يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- {لِبَعْضٍ} يعني: المشركين {فِتْنَةً} ضلالة، ثم قال لنبيه: {أَتَصْبِرُونَ} يريد: اصبر. هذا الذي ذكرنا معنى قوله (¬2). ويجوز أن يكون الاستفهام يراد به الأمر كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا. كذلك هاهنا أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالصبر على ما يسمعون من المشركين (¬3) {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (¬4) أي: بمن يصبر ¬

_ = الفراء هذا القول 2/ 265، ولم ينسبه. وعلى هذا يكون الخطاب هنا لكفار قريش. أي: أتصبرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلمان وأصحابه حتى تكونوا معهم في الدين والأمر سواء. "تنوير المقباس" ص 302. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 26. (¬2) أي: معنى قول ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الضحاك، في معنى: قوله تعالى. {أَتَصْبِرُونَ} أي: على الحق. القرطبي 13/ 18. (¬3) "تفسير السمرقندي" 2/ 456. و"تفسير أبي حيان" 6/ 450. (¬4) في هذه الآية تكريم للنبي -صلى الله عليه وسلم- بإضافته لربوبية الله.

21

وبمن يجزع (¬1). وقال ابن عباس: يريد بما تعملون (¬2). 21 - قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} قال المفسرون، وأهل المعاني: لا يخشون ولا يخافون البعث (¬3). كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] {لَوْلَا} هلا (¬4) {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} وكانوا رسلًا إلينا (¬5) {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيخبرنا أنك ¬

_ (¬1) أخرج هذا ابن جرير 18/ 195، عن ابن جريج. وذكره الثعلبي 94 ب، ولم ينسبه. ونسبه له الماوردي 4/ 138. (¬2) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2676، عن عبيد بن عمير: قال تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} قال: يعني: الناس عامَّة. ولم ينسبه لابن عباس. وقال السمرقندي 2/ 457: عالماً بمن يصلح له الغنى، والفقر. وقال الماوردي 4/ 139: بصيراً بالحكمة فيما جعل بعضكم لبعض فتنة. ولا تعارض بينها. ولم يذكره الواحدي -رحمه الله- في "الوسيط" 3/ 337. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 265. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 73. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 312. و"الطبري" 19/ 1. وحكى الماوردي 4/ 139، فيها ثلاثة أقوال، هذا أحدها ونسبه للسدي، والثاني: لا يبالون، قاله ابن عمير، والثالث: لا يأملون. وهي متقاربة. وفي "تفسير الطوسي" 7/ 482 وإذا استعملوا الرجاء مع النفي أرادوا به الخوف، كقوله تعالى: {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}. وأما ابن عطية 11/ 23، فقد ذهب إلى أن الرجاء هنا على بابه؛ لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبداً برجائه، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى. وهذا توجيه حسن. واختاره ابن جزي 483. وأبو حيان 6/ 450. والشوكاني 4/ 67. (¬4) "تنوير المقباس" ص 2، 3 أ. و"تفسير مقاتل" ص 44 أ. و"تفسير هود الهواري" 3/ 206. و"تفسير الطبري" 19/ 1 و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. وطلبهم إنزال الملائكة إما ليكونوا رسلاً إليهم كما ذكر الواحدي هنا، واقتصر عليه، وكذا في "الوسيط" 3/ 338. وإما لكي يصدقوا الرسول. كما قال تعالى {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}. وذكره في "الوجيز" 2/ 777، واقتصر عليه. وذكر الوجه الثاني الهوَّاري 3/ 206، واقتصر =

رسوله (¬1). قال الكلبي ومقاتل: نزلت في مشركي مكة؛ أبي جهل، وأصحابه (¬2). طلبوا من الآيات ما لم يأت أمةً من الأمم (¬3). قال الله -عز وجل-: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني: تكبروا (¬4) حيث سألوا الله -عز وجل- الشَّطَط (¬5)؛ لأن الملائكة لا تُرى إلا عند الموت، أو عند نزول العذاب (¬6). ¬

_ = عليه. وكذا ابن جرير 19/ 1. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2676، بسنده عن قتادة: أي: فنراهم عياناً. ولم يذكر غيره. وذكر الثعلبي 8/ 94 ب، القول الثاني. وذكر الماوردي 4/ 140، القولين. وذكر ابن كثير 6/ 101، قولاً ثالثاً، وهو عنادهم في قولهم {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} أي: بالرسالة، كما تنزل على الأنبياء، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}. (¬1) "تنوير المقباس" ص 302. بمعناه. و"تفسير مقاتل" ص 44 أ. و"تفسير هود" 3/ 206. وهذا كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ * أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء90، 92] "تفسير الطبري" 19/ 1، وأخرج بسنده عن ابن جريج، أنه قال قال كفار قريش {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} فيخبرونا أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا منهم مشابهة لليهود في قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]. وهذا كله على سبيل التعنت، وإلا ففيما جاءهم به من المعجزات كفاية. "تفسير أبي حيان" 6/ 450. وحتى لو أجيبوا فيما طلبوا لم يحصل منهم الإيمان {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]. (¬2) "تنوير المقباس" ص 302. و"تفسير مقاتل" ص 44 أ، وفيه تسمية من نزلت فيهم. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. بنصه. وهو في "الوسيط" 3/ 338، غير منسوب أيضًا. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. وما بعده غير موجود فيه. فلعله من كلام الواحدي. رحمه الله. (¬5) الشَطَط: مجاوزة القدر، قال تعالى: {وَلَا تُشْطِطْ} [ص: 22] "مجمل اللغة" لابن فارس 2/ 496. و"القاموس المحيط" 870. (¬6) الذي في "تفسير مقاتل" ص 44 أ، هو ما ذكره الواحدي بعد ذلك. وأما ما ذكره. =

{وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} قال مقاتل: علوا في القول علوًا شديدًا حين قالوا: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} (¬1). وقال ابن عباس: والله لا تدركه الأبصار فلا عين تراه. هذا كلامه (¬2). وإنما وصفوا بالعتو عند طلب الرؤية؛ لأنهم طلبوها في الدنيا عنادًا للحق، وإباءً على الله ورسوله في طاعتهما (¬3). ¬

_ = هنا فلم أجده، وقد نقله القرطبي 13/ 20، بنصه. وليس فيه نسبته لابن عباس، ولا مقاتل، ولعل هذا هو الصواب. على أنه لا يتوجه لومهم على مجرد طلبهم نزول الملائكة، وإنما لومهم على أنهم ما طلبوا ذلك للإيمان وإنما طلبوه استكباراً وعتواً. والله أعلم. قال ابن جزي 483: وقوله: {فِي أَنْفُسِهِمْ} كما يقول: فلان عظيم في نفسه. أي: عند نفسه، أو بمعنى: أنهم أضمروا الكفر في أنفسهم. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. (¬2) قول ابن عباس -رضي الله عنهما-، إذا ثبتت نسبته له؛ محمول على رؤية الله تعالى في الدنيا، أما الرؤية في الآخرة فهي ثابتة؛ قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وقال جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ". أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، رقم: 554، "الفتح" 2/ 33. ومسلم 1/ 439، كتاب المساجد، رقم: 633. وقد ألفت في ذلك كتب خاصة، مثل: "كتاب الرؤية" للدارقطني، ت: 385 هـ. ولم أجد هذا القول ولا نسبته لابن عباس. ولم يتعرض الواحدي هنا للرد على المعتزلة، القائلين بنفي رؤية الله -عز وجل-، حيث جعل القاضي عبد الجبار، هذه الآية دليلاً على مذهبه، فقال: يدل على نفي الرؤية، لأنه تعالى عَظَّم هذا القول من قائله، ولو كانت الرؤية جائزة، لم يجب ذلك فيه. "متشابه القرآن" ص 529. (¬3) قال الهوَّاري في تفسيره 3/ 206: وعصوا عصياناً كبيراً. قال الزمخشري 3/ 265: وأن الله لا يصح أن يُري .. وقد وصف العتوَّ بالكبير فبالغ في إفراطه، يعني أنهم =

قال أبو إسحاق: والعتو في اللغة: المجاوزة في القدر في الظلم (¬1). وقد مَرَّ (¬2). ثم أعلم الله تعالى أن الوقت الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة وأن الله قد حرمهم البشرى في ذلك اليوم فقال (¬3): ¬

_ = لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو. وهو مبني على مذهبه الاعتزالي في إنكار رؤية الله -عز وجل- مطلقاً، في الدنيا والآخرة. والصواب أن وصفهم بالعتو الكبير ليس لأجل طلبهم رؤية الله -عز وجل-، وإنما لأنهم لم يطلبوا الرؤية للإيمان، وإنما طلبوها عناداً واستكباراً. ويدل لذلك أن نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم- قد طلب رؤية الله -عز وجل-: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} الآية [الأعراف: 143] فلم يُلَم على طلبه الرؤية، ولم تتحقق له لعجزه في الدنيا، كما هو ظاهر من سياق الآية. وعلى هذا فإن ما ذكره الطوسي 7/ 482، وكذا الطبرسي 7/ 260، عن الجبائي أنه قال: وذلك يدل على أنهم كانوا مجسمة، فلذلك جوَّزوا الرؤية على الله التي تقتضي التشبيه. يلزم منه أن يكون نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم- كذلك! والرد هو ما سبق. ثمَّ وجدت قريباً من هذا الرد للرازي 24/ 70. قال البرسوي 6/ 200: ومن لطائف الشيخ نجم الدين في تأويلاته، أنه قال: يشير إلى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة والحشر من الكفار يتمنون رؤية ربهم بقولهم: {أَوْ نَرَى} فالمؤمنون الذين يدَّعون أنهم يؤمنون بالآخرة والحشر كيف ينكرون رؤية ربهم! وقد ورد بها النصوص فلمنكري الحشر عليهم فضيلة بأنهم طلبوا رؤية ربهم وجوزوها كما جوزوا إنزال الملائكة. وهذا كلام حسن يقابل ما ذكره الجبائي. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2676، بسنده عن عكرمة أنه قال: العتو في كتاب الله: التجبر. (¬2) قال الواحدي عند تفسير قول الله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 77]: يقال: عتا يعتو عُتُواً؛ إذا استكبر، ومنه يقال: جبار عات. قال مجاهد: العتو: الغلو في الباطل. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 63، بنصه.

22

22 - {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} وهذا جواب لقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} أُخبروا أنهم إذا رأوا الملائكة فلا بشرى لهم يومئذ. قال أبو إسحاق: {يَوْمَ} منصوب على وجهين: أحدهما: على معنى: لا بشَّرَى تكون للمجرمين يوم يرون الملائكة، {يَوْمَئِذٍ} هو مؤكدِّ لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ} ولا يجوز أن يكون منصوبًا بـ {لَا بُشْرَى} لأن ما اتصل بـ: {لَا} لا يعمل فيما قبلها. ألا ترى أنك لا تقول: زيد إلا ضارب كما تقول: لا ضارب زيدًا (¬1). ولكن لما قيل:] (¬2) لا بشرى للمجرمين، صار كأنه قيل: يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة (¬3). والوجه الآخر: أن يكون منصوبًا على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة (¬4). ثم أخبر فقال: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} قال مجاهد: يعني: يوم القيامة (¬5). وهو قول مقاتل، وعطية، والأكثرين (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس: يعني: عند الموت (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 266. من قوله: ألا ترى، إلى الحاشية، رقم: 2. وما بعده فمن الزجاج. (¬2) ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب). (¬3) قال السمين الحلبي: ولا يجوز أن يعمل فيه نفس البشرى لوجهين: أحدهما: أنها مصدر، والمصدر لا يعمل فيما قبله. والثاني: أنها منفية بـ: لا، وما بعدها لا يعمل فيما قبلها الدر المصون 8/ 470. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. وفيه: يجمعون البشرى يوم القيامة. وعند الواحدي: يمنعون. وهو الصواب. وذكر هذا الزمخشري 3/ 266. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2677. وتفسير مجاهد 2/ 449. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2677، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، وعطية العوفي، والضحاك. (¬7) "تنوير المقباس" ص302. وبه قال الهوري 3/ 206 وقد استدل الحافظ ابن=

وقوله: {لِلْمُجْرِمِينَ} قال أبو إسحاق: المجرمون: الذين اجترموا الذنوب. وهو في هذا الموضح الذين اجترموا الكفر بالله عز وجل (¬1). قوله: {حِجْرًا مَحْجُورًا} أي: حرامًا محرمًا. قاله ابن عباس، وجميع المفسرين (¬2). وأصل الحَجْر في اللغة: المنع. وحَجْرُ القضاةِ على الأيتام إنما هو منعهم. والحُجْرَة: ما حُوِّط عليه. وما مُنِعت من الوصول إليه فهو: حِجر. بكسر الحاء (¬3). قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام حِجر؛ لأنه حُجر عليه بالتحريم. ¬

_ = كثير 6/ 101، على رؤية المشركين للملائكة وقت الإحتضار بقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}: [الأنفال:50] وبقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]، ثمَّ قال: وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وجمع بين القولين؛ فقال: ولا منافاة بين هذا وما تقدم فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. وهو قول الهوَّاري 3/ 206. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 44 أ. و"تنوير المقباس" ص 302. وأخرج عبد الرزاق 2/ 76 , عن الحسن، وقتادة وبه قال الهوَّاري 3/ 256. وابن جرير 19/ 2، وأخرج عن: الضحاك، وقتادة وزاد ابن أبي حاتم 8/ 2677: عطاء الخراساني. وبه قال السمرقندي 2/ 457. وهو قول سيبويه، "الكتاب" 1/ 326. والمبرد، المقتضب 3/ 218. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. ونقله عنه إلازهري، "تهذيب اللغة" 4/ 132 (حجر).

يقال: حَجرت حِجرًا، واسم ما حجرت حِجْرٌ (¬1). ومنه: حِجْر البيت (¬2). والحِجْر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه من التخطي إلى القبيح (¬3). والأنثى من الأفراس: حِجْرٌ؛ لأنها تحجر ماء الفحل في بطنها. هذا كلام أبي عبيدة والمبرد والزجاج (¬4). وذكرنا تفسير الحِجْر عند قوله: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] (¬5). واختلفوا في أنَّ هذا مِن قول مَنْ؟ فالأكثرون على أنه من قول الملائكة (¬6). قال عطاء عن ابن عباس: تقول الملائكة: محرمًا أن (¬7) يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وقام بشرائعها. ونحوه قال الكلبي (¬8). وقال مقاتل: إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قال لهم الحفظة من الملائكة: حرامًا محرمًا عليكم أيها المجرمون أن يكون لكم البشرى كما بُشر المؤمنون (¬9). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتية ص 312. (¬2) قال ابن جرير 19/ 2؛ لأنه لا يدخل إليه في الطواف، وإنما يطاف من ورائه. (¬3) قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5]. (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 73. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. (¬5) ما ذكره الواحدي هنا أكثر وأوسع مما أحال عليه، حيث اقتصر في تفسير الحجر في آية الأنعام على قوله: معنى الحجر في اللغة: الحرام، وأصله من المنع، ومنه سمي العقل حجراً لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي، أي: منعه. (¬6) ذكر ذلك ابن جرير 19/ 2، عن الضحاك، وقتادة، ومجاهد. وبه قال الزجاج4/ 64. (¬7) في (ج): (حرامًا في أن يدخل). (¬8) "تنوير المقباس" ص 302. وفيه نسبة القول للملائكة، دون ما بعده. (¬9) "تفسير مقاتل" ص 44ب.

وقال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكفار قالوا للملائكة: بشرونا، فيقولون: {حِجْرًا مَحْجُورًا} أي: حرامًا محرمًا أن نلقاكم بالبشرى (¬1). وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج وابن قتيبة والأزهري؛ قال الفراء وابن قتيبة: حرامًا محرماً أن يكون لهم البشرى (¬2). وقال الزجاج: حرامًا محرمًا عليهم البشرى (¬3). وقال الأزهري: حُجِرَتْ عليكم البشرى فلا تبشرون بخير (¬4). وقال آخرون: هذا من قول المجرمين للملائكة (¬5)، وهذا قول مجاهد وابن جريج، واختيار أبي عبيدة والليث؛ قال مجاهد: عوذًا معاذًا ¬

_ (¬1) (بالبشرى) في (ج). وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2677، عن عطية العوفي، بمعناه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء2/ 266. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 312. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. (¬4) "تهذيب اللغة"4/ 132 (حجر). وبه قال الهوَّاري 3/ 206. (¬5) "تنوير المقباس" ص 302، حيث جعل هذا القول مشتركاً بين الملائكة، والمجرمين. وذكر الزمخشري 3/ 266، أن هذا من قول المجرمين، ثم قال: وقيل: هو من قول الملائكة. وقد ردَّ ابن جرير 19/ 3، هذا القول؟ فقال: معلوم أن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستجارة، وليست بتحريم، ومعلوم أن الكفار لا يقولون للملائكة: حرام عليكم، فيوجه الكلام إلى أن ذلك خبر عن قيل المجرمين للملائكة. وذكر الماوردي 4/ 141، أن هذا من قول الكفار لأنفسهم. ونسبه لقتادة. وبيَّن ذلك ابن عطية 11/ 26، بقوله: ويحتمل أن يكون المعنى: ويقولون: حرام محرم علينا العفو. قال ابن كثير 6/ 103: وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلاف.

يستعيذون من الملائكة (¬1)، ويقولون مقالة الجاهلية عند الاستعاذة. وقال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم شدة (¬2) شديدة، أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرًا محجورًا، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا (¬3). وقال أبو عبيدة: كان الرجل من العرب إذا لقي رجلاً في الشهر الحرام وبينهما تِرَة (¬4) يقول: حجرًا محجورًا. أي؟ دمي عليك حرام. فالمشركون يوم القيامة يقولون للملائكة مثل ذلك (¬5). وقال الليث: كان الرجل في الجاهلية يلقى رجلاً يخافه في الشهر الحرام فيقول: حجرًا محجورًا. أي: حرام محرم عليكم (¬6) في هذا الشهر فلا يَنْدَاه بشر. فإذا كان يوم القيامة رأى المشركون الملائكة فقالوا: {حِجْرًا مَحْجُورًا} وظنَّوا أن ذلك ينفعهم عندهم كفعلهم (¬7) في الدنيا (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 3، وابن أبي حاتم 9/ 2678، بلفظ: عوذاً معاذاً. الملائكة تقوله. وكذا في "تفسير مجاهد" 2/ 449، و"تفسير الهواري" 3/ 207. فهو خلاف ما حكاه عنه الواحدي. رحمه الله. من أن هذا من قول المجرمين. لكن أخرج ابن جرير 19/ 3، عن ابن جريج عن مجاهد أنه قال: عوذاً، يستعيذون من الملائكة. وسبق ذكر نقد ابن جرير لهذا القول. (¬2) (شدة) في (ج). (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 3. وأخرج عبد الرزاق 2/ 67، نحوه عن الحسن، وقتادة وأخرجه عنهما ابن أبي حاتم 8/ 2678، من طريق عبد الرزاق. (¬4) قال الترمذي 5/ 430، كتاب: الدعوات، حديث رقم: 3380: قال بعض أهل العربية: التِّرَةُ، هو: الثأر. ولم أجده عند غيره (¬5) لم أجد قول أبي عبيدة، في كتابه: "المجاز". وقريب منه في "تفسير أبي حيان" 6/ 451، منسوبًا لأبي عبيدة وكذا في "نظم الدرر" 13/ 375. (¬6) هكذا في النسخ الثلاث: عليكم. وأما في "تهذيب اللغة" 131/ 4 (حجر)، و"لسان العرب" 4/ 167: عليك. (¬7) في (ج): (كقولهم). (¬8) "العين" 3/ 74 (حجر)، وفيه: فلا يبدؤه بشر. وذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" =

وذكر صاحب النظم القولين جميعًا، فقال: هذا نظم كان في أول الدهر ثم درج، كان الرجل منهم إذا أراد حرمان الرجل شيئًا يسأله، أو يطمع فيه، قال: حجرًا محجورًا، فيعلم السائل بذلك أنه لا يريد أن يفعل، ومنه قول الشاعر: حَنَّتْ إلى النَّخْلَةَ القُصوَى فقلتُ لها ... حِجْرٌ حَرَامٌ ألا تِلكَ الدَّهاريس (¬1) ويقال فيه: إن معناه أن الرجل من العرب كان إذا سافر فخاف على نفسه قومًا لَقَوه، قال: حجرًا محجورًا، أي: حرامًا محرمًا عليِكم (¬2) التعرض لي. وعلى هذا يجب أن يكون هذا القول من الكفار، وذلك أنهم إذا رأوا الملائكة يوقعون (¬3) بهم ضربًا وتعذيبًا قالوه؛ لأنهم كانوا لا ¬

_ = 4/ 131 (حجر)، وفيه: فلا ينداه منه بشر. وفي "لسان العرب" 4/ 167: فلا يبدؤه منه بشر. وفي النسخ الثلاث قبل: فلا ينداه .. : إلا يداً. ومعناها في سياق الكلام غير واضح. ولم أجدها في المراجع السابقة. ولذا رأيت حذفها والإشارة إلى ذلك. ومعنى ينداه: يصله. "تهذيب اللغة" 14/ 192 (ندأ). وقد رد الأزهري قول الليث بقوله: فإن أهل التفسير الذين يُعتمدون مثل ابن عباس، وأصحابه فسروه على غير ما فسَّره الليث. وهذا منهج حسن؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- هم أئمة التفسير. (¬1) أنشده أبو عبيدة 2/ 73، ونسبه للمُتَلَمَّس، وفيه: النخلة، بالتعريف كما في النسخ الثلاث، خلافاً لما في "ديوان المتلبس" 96، وكذا ابن جرير 19/ 2، والماوردي 4/ 141. وفي "معجم البلدان" 5/ 320: نخلةَ القصوى: واحدة النخل، والقصوى تأنيث الأقصى، ثم ذكر بيت المتلبس. وفي "حاشية الديوان": نصب: نخلة القصوى؛ لأنه واد. والدهاريس: الدواهي، الواحدة: دَهْرَس. "تهذيب اللغة" 6/ 521 (دهرس). (¬2) في نسخة: (أ)، (ب): (عليك). (¬3) هكذا في النسخ الثلاث: (يوقعون).

23

يقولون ذلك في الدنيا إلا استعاذة ممن يريدهم بسوء. وإذا حمل على المعنى الذي قبله، وجب أن يكون من قول الملائكة؛ لأنه إئياس منهم لهم من الخير. انتهى كلامه. وفي الآية قول ثالث؛ وهو: أنَّ قوله: (حِجْرًا) من قول الكفار، و: {مَحْجُورًا} من قول الملائكة. وهو قول الحسن؛ قال: كانو إذا خافوا شيئًا قالوا: حجرًا. يتعوذون منه. فإذا كان يوم القيامة قالوا: (حِجْرًا) قالت الملائكة: {مَحْجُورًا} أن تُعَاذوا من شر هذا اليوم. فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة (¬1). قال الأزهري: والقول الأول أشبه بكلام العرب، والآية أحرى أن تكون كلامًا واحداً لا كلامين (¬2). والله أعلم (¬3). 23 - قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} قال الأزهري: يقال قدم فلان إلى أمر كذا، أي: قصده. وذكر هذه ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 132 (حجر) بمعناه. وعلى هذا الوقف على (حِجْراً) وقف تام، القطع والائتناف 2/ 481، حيث نسب هذا الوقف للحسن، دون شرح القول. ولم أجد أحداً نسب هذا القول للحسن باللفظ الذي ذكره الواحدي، غير الأزهري. وذكره الرازي 24/ 71، ونسبه للقفال، والواحدي، وفي كلامه ما يُشعر باختيار الواحدي لهذا القول؛ وهذا ليس بصواب فإن الواحدي في كتابيه: "الوسيط"، و"الوجيز"، لم يذكر هذا القول مطلقاً، وإنما ذكره هنا، وذكر بعده ردَّ الأزهري. فعبارة الرازي تحتاج إلى تحرير. وذكره القرطبي 13/ 21، وذكر عن الحسن أيضًا أيضًا قال: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا} وقف من قول المجرمين، فقال الله عز وجل: {مَحْجُورًا} عليهم أن يعاذوا أو يجابوا. (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 132 (حجر)، ويعني بالقول الأول، أن {حِجْرًا مَحْجُورًا} من قول الملائكة. (¬3) (والله أعلم) فى (ج).

الآية (¬1). قال ابن عباس: لم يكن الله تعالى غائبًا عن أعمالهم؛ ولكن يريد: وعمدنا (¬2). وهذا قول مجاهد والكلبي والفراء والزجاج، كلهم قالوا: عمدنا (¬3). وقال مقاتل: وجئنا (¬4). وأراد بلفظ المجيء: القصد أيضًا. قال أبو إسحاق: معنى قدمنا: عمدنا، وقصدنا. كما تقول: قام فلان يشتم فلانًا، يريد: قصد إلى شتم فلان. ولا يريد: قام من القيام على الرجلين (¬5). قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} قال النضر بن شميل: الهباء: التراب الذي تُطيرِّه الريح (¬6). وقال الليث: الهبوة: غبار ساطع في الهواء كأنه دخان، يقال هَبَاءً يَهبوُ هَبوًا إذا سطع. وأهبا الفرسُ الترابَ إهباءً، إذا أثاره. والهَباء: دقاقُ التُّراب ساطعُه ومنثورُه على وجه الأرض (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 9/ 48 (عمد)، ومن قبله ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 138. (¬2) "تنوير المقباس" ص 352. وفيه: عمدنا. دون ما قبله. وهو بنصه في "الوسيط" 3/ 338. (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 449. و"معاني القرآن" للفراء2/ 266. وقاله ابن قتيبة، غريب القرآن 312. والهوَّاري 3/ 257. وابن جرير 19/ 3. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2678، عن مجاهد، والسدي، وسفيان الثوري. ونسبه السمرقندي 2/ 457، للكلبي. وهو في "تنوير المقباس" ص 302. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 44 ب، بلفظ: يعني: وجئنا، ويقال: وعمدنا. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. (¬6) "تهذيب اللغة" 6/ 454 (هبا)، بنصه، وتتمته: فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم يَلْزَق لُزوقاً. (¬7) "كتاب العين" 4/ 96 (هبو)، ونقله عنه إلازهري، "تهذيب اللغة" 6/ 454 (هبا).=

وقال أبو عبيدة: الهباء مثل الغبار يدخل البيت من الكُوة إذا طلعت الشمس ليس له منثر (¬1). وقال أبو إسحاق: الهباء: ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس شبيهٌ بالغبار (¬2). وهذا قول عكرمة (¬3) ومجاهد (¬4) والحسن (¬5) والسدي والضحاك (¬6) والكلبي (¬7)، وأكثر المفسرين قالوا: هو الغبار الذي يكون في الشمس يدخل من الكوة كأنه الدقيق (¬8). وقال قتادة: هو: ما تذرو الرياح من حطام الشجر (¬9). وهو قول ابن ¬

_ =قال الفراء 2/ 266: والهباء: ممدود غير مهموز في الأصل، يصغر هُبَيٌ كما يصغر الكساء كُسَىٌ. (¬1) هكذا في النسخ الثلاث: (منثر)؛ وهي غير واضحة. وفي "مجاز القرآن" 2/ 74: مثل الغبار إذا طلعت فيه الشمس وليس له مسٌ ولا يُرى في الظل. وفي "تنوير المقباس" ص 302: ويقال: كشيء يحول في ضوء الثمس إذا دخلت في كوة يُرى، ولا يُستطاع أن يمس. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. وفيه: شبيهٌ بالضم، ولكن أبدله المحقق إلى: شبيهاً، وأشار إلى ذلك في الحاشية، ولم يبين سبب التغيير، ولا حاجة لذلك؛ فهو بالرفع ليس بخطأ حتى يصحح. (¬3) أخرجه ابن جرير 4/ 19. وابن أبي حاتم 8/ 2678. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 4. وابن أبي حاتم 8/ 2678. وتفسير مجاهد 2/ 449. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 67. وابن جرير 19/ 4. وابن أبي حاتم 8/ 2679. (¬6) أخرجه عنهما ابن أبي حاتم 8/ 2679. (¬7) "تنوير المقباس" ص 302. و"تفسير السمرقندي" 2/ 457. (¬8) ذكر نحوه ابن جرير 4/ 19، عن ابن زيد. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2679، نحوه عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. (¬9) أخرجه عبد الرزاق 2/ 67. وعنه ابن جرير 19/ 4.

عباس في رواية عطاء الخراساني (¬1)، وقول سعيد بن جير. وقال مقاتل: يعني: كالغبار الذي يسطع من حوافر الدواب (¬2). وهو قول ابن عباس في رواية عطاء بن أبي رباح، قال: هو ما يخرج من سنابك الخيل إذا ركضت (¬3). والمنثور: المفرق (¬4). قال الزجاج: وتأويله: أن الله -عز وجل- أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور (¬5). والمعنى: فجعلناه باطلاً (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، معلقًا بصيغة الجزم، (هَبَاءً مّنْثُوراً) ما تسفي به الريح. الفتح 8/ 490. ووصله ابن جرير 19/ 4، من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله، وزاد: ويبثه. وأخرج أيضًا 19/ 5، من طريق علي بن أبي طلحة: (هَبَاءً مّنثُوراً) الماء المهراق. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. و"تفسير هود الهوّاري" 3/ 207. ولم ينسبه. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2679، نحوه عن: علي -رضي الله عنه-. (¬3) "تنوير المقباس" ص 302، بمعناه. قال ابن قتيبة: والهباء المنبث: ما سطع من سنابك الخيل. "تأويل مشكل القرآن" ص 139، و"غريب القرآن" ص 312. وقال ابن أبي حاتم 8/ 2679: وروي عن ابن عباس، في بعض الروايات، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والضحاك، نحو ذلك. والسنابك، جمع: سُنْبُك، وهو: طَرَف الحافر. "القاموس المحيط" 1218. (¬4) وصف الهباء بالمنثور؛ لأنك تراه منتظمًا مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. تفسير الزمخشري 3/ 267. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 266، بلفظ: {هَبَاءً مَنْثُورًا} أي: باطلاً. وقد أوصل ابن أبي حاتم 8/ 2679، اختلاف المفسرين في الهباء المنبث، إلى خمسة أقوال. وكذا الماوردي 4/ 141. وابن الجوزي 6/ 83. وليس بينها تعارض بل يمكن أن تحمل الآية عليها، إذ المعنى كما قال الواحدي: فجعلناه باطلاً. وكل ما ذكر من الأقوال السابقة يصلح مثالاً على ذلك. والله أعلم. قال ابن كثير6/ 103: وحاصل هذه =

24

ثم أعلم فضل أهل الجنة على أهل النار فقال (¬1). 24 - {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ} قال ابن عباس: يعني يوم القيامة (¬2) {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} موضع قرار من المشركين. قال ابن عباس: يريد في ظل عرش الرحمن. وقال مقاتل: أفضل منزلًا في الجنة (¬3). والكلام في نظير هذا وهو قوله: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15] قد تقدم. وقال الفراء في هذه الآية: أهل الكلام إذا اجتمع لهم أحمق وعاقل لم يستجيزوا أن يقولوا لأحدهما: هذا أعقل الرجلين. ويقولون: لا نقول ذلك إلا لعاقلين يفضل أحدهما صاحبه. وقد قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} فجعل أهل الجنة خيرًا مستقرًا من أهل النار، وليس في مستقر أهل النار شيء من الخير فاعرفْ ذلك من خَطَائهم (¬4). ¬

_ = الأقوال التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً، إذا إنها لا شيء بالكلية. وسبب بطلانها لفقدها شرط القبول. قال الثعلبي 94 أ، أي: باطلاً لا ثواب لهم؛ لأنهم لم يعملوه لله -سبحانه وتعالى-، وإنما عملوه للشيطان. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64، بنصه. (¬2) "تنوير المقباس" ص 302. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2680، بسنده عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه-. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2681، عن قتادة. وذكره السمرقندي 2/ 457، ولم ينسبه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء2/ 267. و: خطائهم: جمع خطأ. "تهذيب اللغة" 7/ 499، و"لسان العرب" 1/ 67 (خطأ). قال ابن عطية 11/ 28: ويظهر لي أن الألفاظ التي فها عموم مَّا ويتوجه حكمها من جهات شتى، نحو قولك: أحب، وأحسن، وخير، وشر، يسوغ أن يجاء بها بين شيئين لا شركة بينهما. واستثهد ابن كثير=

يعني: أنه يجوز أن يقال: هو أعقل الرجلين وإنْ كان الثاني أحمقًا. قياساً على هذه الآية. وقال أبو طالب: إنما جاز ذلك؛ لأنه موضع، فيقال: هذا الموضع خير من ذلك الموضع. وإذا كان نعتًا لم يستقم أن يكون نعتٌ واحدٌ لاثنين مختلفين (¬1). قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} يعني: موضع القائلة (¬2). يقال: قال يقيل مقيلاً. والمقيل: الموضع، أيضًا (¬3). قال الأزهري: والقيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إذا ¬

_ = 6/ 104، على هذا التفضيل بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. واستظهر ابن جرير أن التفضيل هنا عام في جميع أحوال أهل النار في الدنيا والآخرة. قال 19/ 6: فالواجب أن يعمَّ كما عمَّ ربنا جلَّ ثناؤه، فيقال: أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقراً في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة، وأحسن منهم مقيلاً. وذهب إلى هذا الاختيار، الطوسي 7/ 484، ولم يذكر غيره، ولم ينسبه (¬1) "تهذيب اللغة" 9/ 306 (القي)، بنصه. (¬2) في "تنوير المقباس" ص {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} مبيتاً من منزل أبي جهل وأصحابه، ومبيتهم. قال ابن جرير 19/ 5: فإن قال قائل: وهل في الجنة قائلة؟ فيقال: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} فيها؟ قيل: معنى ذلك: وأحسن فيها قراراً في أوقات قائلتهم في الدنيا، وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا يمر فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوله إلى القائلة، حتى يسكنوا في مساكنهم في الجنة، فذلك معنى قوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} ثم ذكر نحوه بإسناده عن المفسرين من الصحابة والتابعين. وقال الطوسي 7/ 484: معناه: أحسن موضع قائلة، وإن لم يكن في الجنة نوم، إلا أنه من تمهيده يصلح للنوم؛ لأنهم خوطبوا بما يعرفون، كما قال: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]، على ما اعتادوه. وهذا توجيه حسن. والله أعلم. (¬3) "تهذيب اللغة" 9/ 305 (لقي).

25

اشتدَّ الحرُّ، وإن لم يكن مع ذلك نوم. والدليل على ذلك: أن الجنة لا نوم فيها (¬1). قال ابن مسعود وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة (¬2). وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون مقدار نصف النهار من أيام الدنيا، ثمَّ يقيلون من يومهم ذلك في الجنة فيما يشتهون من التحف والكرامة (¬3). وهذا هو معنى ما روي عن أهل التفسير: أنَّ أهل الجنة يصيرون إلى أهليهم في الجنة وقت نصف النهار (¬4). 25 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} (¬5) عطف على قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} و {تَشَقَّقُ} يجوز فيه أمران؛ أحدهما: أنه يراد به الآتي. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 9/ 306 (لقي) س. (¬2) ذكر نحوه ابن جرير 19/ 5، عن ابن جريج، وفيه أنه قال: وفي قراءة ابن مسعود: ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم. ولم ينسبه لابن عباس. وذكر رواية أخرى عن ابن عباس قريبة من السياق، وليست مطابقة وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2680، بسنده عن ابن مسعود، مع القراءة التي ذكرها ابن جرير. وهو بنصه في "الوسيط" 3/ 338. ونسب هذا القول الثعلبي 94 ب، لابن مسعود، وذكر نحوه عن ابن عباس. وهو عند ابن كثير 6/ 104، عن ابن مسعود. وأخرجه الحاكم 2/ 436، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 44 ب، مختصرًا. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. بنصه. قال الهوَّاري 3/ 207: قال بعضهم: وبلغنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنَّي لأعلم أي ساعة يدخل أهل الجنة الجنة، قبل نصف النهار حين يشتهون الغداء. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2680، عن سعيد بن جبير، والضحاك، وعكرمة. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2682، عن مجاهد أنه يوم القيامة.

والآخر: أن يكون حكايته حالٍ تكون، كما أنَّ قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2]، كذلك. وكما أنَّ قوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] في أنه حكاية حالٍ قد مضت (¬1). وفيه قراءتان: تشديد الشين وتخفيفها (¬2). والتقدير: تتشقق (¬3)؛ فمن شدد أدغم التاء في الشين؛ لأن الصوت بالشين يلحق بمخارج هذه الحروف التي هي من طرف اللسان وأصول الثنايا فأدغم (¬4) فيها ما أدغم في الضاد كما كانت كذلك، ومَنْ خفف حذف التاء التي أدغمها من شدد. قال أبو الحسن: الخفيفة أكثر في الكلام؛ لأنهم أرادوا الخفة فكان الحذف أخف عليهم من الإدغام (¬5). قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} قال أبو علي: المعنى: تشقق السماء وعليها غمام. وهذا كقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وقوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الرحمن: 37] (¬6). وقال الفراء: معناه فيما ذكروا: تشقق السماء عن الغمام. وعلى، وعن، والباء، في هذا الموضع كالواحد؛ لأن العرب تقول: رميت عن ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 341، بنصه. (¬2) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر، بتشديد الشين. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف. "السبعة" 464. و"معاني القرآن" للفراء2/ 267. ومعاني القراءات للأزهري 2/ 215. و"المبسوط في القراءات العشر" ص 271. و"التبصرة" ص 613. و"النشر" 2/ 334. قال ابن جرير 19/ 6: هما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. (¬4) في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 341: فأدغمن فيها كما أدغمن في الضاد لما كانت كذلك. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 341، بنصه. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 341.

القوس، وبالقوس، وعلى القوس. يراد به معنى واحد (¬1). وهذا هو معنى ما ذكره المفسرون؛ قالوا: هو: غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه لنزول الرب وملائكته (¬2). وهو الذي قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210] وهذا قول مجاهد ومقاتل والكلب؛ قالوا: ومعنى بالغمام: عن الغمام (¬3). وذكرنا معنى إتيان الله في سورة البقرة (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 267. (¬2) في "تنوير المقباس" ص 302: عن الغمام لنزول الرب بلا كيف. و"تفسير مقاتل" ص 44 ب. وليس فيه: ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. لكنه عند ابن جرير 19/ 6، وابن أبي حاتم 8/ 2682، عن مجاهد. والظاهر من الآية أن الغمام، هو: السحاب المعهود. "تفسير أبي حيان" 6/ 453. والله أعلم. (¬3) أخرجه ابن جرير 6/ 19، عن مجاهد، و"تفسير مقاتل" ص 44 ب. و"تنوير المقباس" ص 302. وبه قال ابن قتيبة، "غريب القرآن" 312. وبه قال الهوَّاري 3/ 207، ثم قال: هذا بعد البعث، تشقَّق فتراها واهية متشققة، كقوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19]. (¬4) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وجهان؛ أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف: أن يأتيهم عذاب الله، أو أمر الله أو آيات الله .. والثاني: المعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من العذاب والحساب فحذف ما يأتي به تهديداً، إذ لو ذكرما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد .. وما ذكره الواحدي عفى الله عنه صرف للفظ عن ظاهره، فالآية فيها إثبات إتيان الله تعالى لفصل الحساب والجزاء، وهو إتيان يليق بجلاله وعظمته، ومثل هذه الآية كما قال ابن كثير 1/ 566، وقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21، 22]

والمراد بالسماء هاهنا: السموات السبع. كذا قال مقاتل وابن عباس (¬1). وذكره الزجاج؛ فقال: المعنى: تتشقق سماءً سماءً (¬2). قال ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا، ومن الجن والإنس، ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها، ثم ينزل الكَرُوبِيُّون (¬3)، وحملة العرش (¬4). فذلك قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} قال مقاتل: من السماء إلى الأرض عند تشققها لحساب الثقلين (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. (¬3) الكَرُوبِيُّون: سادة الملائكة، المقربون. "النهاية في غريب الحديث" 4/ 161، و"لسان العرب" 1/ 714 (كرب)، و"القاموس المحيط" ص 167. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 450، عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما، بسياق أطول مما هو هنا. ومن الطريق نفسه أخرجه ابن جرير 19/ 6. وابن أبي حاتم 8/ 2682، أيضًا. ويوسف بن مِهران لم يرو عنه إلا ابن جُدعان، وهو ليِّن الحديث."التقريب" 1096،"ميزان الاعتدال" 4/ 474. قال ابن كثير 6/ 107، بعد ذكر هذه الرواية عن ابن أبي حاتم: مداره على علي ابن زيد بن جدعان، وفيه ضعف، وفي سياقاته غالباً نكارة شديدة. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. قال الماوردي 4/ 142: وفي نزولهم قولان؛ أحدهما: ليبشروا المؤمن بالجنة، والكافرَ بالنار. والثاني: ليكون مع كل نفس سائق وشهيد. واقتصر الواحدي في "الوجيز" 2/ 777، على أن ذلك لإكرام المؤمنين. وليس هناك ما يمنع من حصول الأمرين معاً. والله أعلم.

26

وقرأ ابن كثير {ننزل} مخففة من الإنزال (¬1) {الْمَلَائِكَةَ} نصبًا (¬2)، فجعل الفعل من الإنزال، والمصدر على فَعَّل؛ لأن أنزل مثل نزَّل، كقوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] (¬3) وقال (¬4): وقد تَطَوَّيْتُ انْطِوَاء الحِضْبِ (¬5) لما كان تطويت، وانطويت متقاربان حمل مصدر ذا علي مصدر ذا (¬6). 26 - قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} قال أبو إسحاق: الحق صفة للملك، ومعناه: أن الملك الذي هو الملك حقًا ملك الرحمن جلَّ وعزَّ يوم القيامة، كما قال عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] لأن الملك الزائل كأنه ليس بملك (¬7). وقال ابن عباس: ¬

_ (¬1) "السبعة" 464. و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 216. و"المبسوط في القراءات العشر" ص 271. و"التبصرة" ص 613. و"النشر" 2/ 334. (¬2) في (أ)، (ب): (قال مقاتل: نصباً)، ولعله خطأ من الناسخ لأن السطر الذي قبله فيه: وقال مقاتل. وهو غير موجود في "تفسير مقاتل"، ولا في (ج)، ويدل لهذا أنه عند الأزهري، في معاني القراءات 2/ 216: نصباً. لأنه مفعول به. (¬3) قال السمين الحلبي: ومثله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أي: تبتلاً. الدر المصون 8/ 477. (¬4) وقال في (أ)، (ب). ويعني به أبا علي الفارسي، في "الحجة" 5/ 342، حيث ذكر البيت، ولم ينسبه. (¬5) صدر بيت لرؤبة. "ديوانه" 16، أنشده سيبويه، "الكتاب" 4/ 82، ونسبه لرؤبة، وقال بعده: لأن تطويت وانطويت واحد. وأنشد البيت كاملاً ونسبه الأزهري. والحضب: بالكسر: ضرب من الحيات، وقيل: هو الذكر الضخم منها، واستشهد الأزهري بهذا البيت على ذلك، والشاهد فيه: أن يكون الانطواء مصدراً لتطوى. "تهذيب اللغة" 4/ 225 (حضب). وذكره أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 342، ولم ينسبه. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 342. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 65. ووصف الملك بأنه حق؛ لأنه لا يزول ولا يتغير. تفسير الرازى 24/ 75.

يريد أنَّ يوم القيامة لا مَلِك يقضي غيره (¬1). وقال مقاتل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] وحده، واليوم الكفار ينازعونه في أمره (¬2). قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} قال ابن عباس: هو على الكافرين عسير] (¬3) وهو على المؤمنين غير عسير عليهم. قال مقاتل: عسير عليهم يومئذ لشدته، ومشقته، ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة (¬4) صلاها في دار الدنيا (¬5). وفي هذه الآية تبشير عظيم للمؤمنين حيث خص ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" ص 352: {الْمُلْكُ} القضاء، {يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} العدل. وذكره في: "الوسيط" 3/ 339. ونسبه البغوي 6/ 80، لابن عباس. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. وفي إضافة الملك في يوم القيامة لاسمه تعالى: الرحمن، معانٍ عظيمة. ذكر بعضها السعدي في تفسيره 5/ 474. (¬3) ما بين المعقوفين، في نسخة: (أ)، (ب). وهو في "تنوير المقباس" ص 302، بمعناه وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2683، عن قتادة (¬4) صلاة. في نسخة: (أ)، (ب). (¬5) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. بمعناه، وذكره الثعلبي 8/ 95 ب، ولم ينسبه. وقد ورد هذا في حديث مرفوع: قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَثنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سعيد الْخُدْرِيِّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: يَوْمًا كَانَ مِقدَارُهُ خمسِينَ أَلْفَ سَنةٍ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتى يَكُونَ أَخَفَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلَيهَا في الدُّنْيَا". "المسند" 4/ 151، رقم: 11717، وأخرجه أبو يعلى الموصلي 2/ 527، من طريق الإمام أحمد، وقال الهيثمي 10/ 337: إسناده حسن، على ضعف في راويه. وذكره ابن كثير 6/ 107، ونسبه للإمام أحمد، وسكت عنه. وهذا الحديث مرسل. وابن لَهيعة، صدوق، اختلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن وهب، وابن المبارك عنه أعدل من غيرهما. المغني في الضعفاء 1/ 502. و"التقريب" ص 538 وهذا الحديث ليس من طريقهما. ودراج، هو: ابن سمعان، أبو السمح، صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. "التقريب" ص 310، وذكر ابن عدي هذا الحديث، في: الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 981، وقال: لا يتابع في دراج عليه.

27

الكافرين بشدة ذلك اليوم وعسرته (¬1). وذكر المفسرون: أن ذلك اليوم يهون على المؤمنين [بدلالة الخطاب؛ وذلك أنه لما ذكر شدته على الكفار كان مفهومه أنه يهون على المؤمنين] (¬2) فدل تفسير المفسرين لهذه الآية على مسألة المفهوم (¬3). 27 - قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} اختلف المفسرون في سبب نزوله. فقال مجاهد: إن عقبةَ (¬4) دعا مجلسًا فيهم النبي في -صلى الله عليه وسلم- لطعام، فأبى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأكل، وقال: "لا آكل حتى تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" فشهد بذلك عقبة، وطعم النبي -صلى الله عليه وسلم- من طعامه. فبلغ ذلك أمية بن خلف (¬5) فقال: صبوتَ يا عقبة، وكان خليله، فقال: لا والله ما صبوت فإن أخاك على ما تعلم، ولكنْ صنعتُ طعامًا فأبى أن يأكل حتى قلت ذلك، ¬

_ (¬1) تقديم {عَلَى الْكَافِرِينَ} للحصر، وهو قصر إضافي، أي: دون المؤمنين. تفسير ابن عاشور 19/ 11. (¬2) ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب). (¬3) وأشار إلى هذا الاستدلال القرطبي 13/ 24. والمفهوم مقابل للمنطوق، والمنطوق أصل للمفهوم. ودلالة المفهوم، المقصودة هنا هي مفهوم المخالفة. ومعناه: الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عمَّا عداه ويُسمَّى أيضًا دليل الخطاب. "الإحكام" للآمدي 3/ 63، و"روضة الناظر"، 2/ 775. (¬4) هو: عقبة بن أبي معيط، واسم أبيه: أبان بن ذكوان بن أمية، من مقدمي قريش في الجاهلية، كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، قتله يوم بدر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف. "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 366، و"الأعلام" 4/ 240. (¬5) أمية بن خلف بن وهب الجمحي، من بني لؤي. أحد جبابرة قريش في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، وهو الذي عذب بلالاً الحبشي -رضي الله عنه- في أولى ظهور الإسلام، قتل يوم بدر. "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 283، و"الأعلام" 2/ 22

واستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت له وليس من (¬1) نفسي. هذا قول مجاهد، والكلبي (¬2). وقال ابن سابط: دعا أُمية مجلسًا فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقاموا غير النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا أقوم حتى تسلمَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فشهد، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فلقيه عقبةُ فأنكر عليه، فقال: أنا قلته لطعامنا (¬3). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء الخراساني (¬4). وقال السدي: كان عقبة يغشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهمَّ أن يسلم، فلقيه ¬

_ (¬1) من (أ)، (ب). (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 451. وأخرجه عنه ابن جرير 19/ 8 وابن أبي حاتم 8/ 2683. و "تنوير المقباس" ص 302. وذكره ابن قتيبة، في تأويل مشكل القرآن 262، عن ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بين أن الآية عامة؛ فقال: فأراد سبحانه بـ {الظَّالِمُ} كل ظالم في العالم، وأراد بـ: فلان، كل من أطيع بمعصية الله، وأرضي بإسخاط الله، واستشهد على أن الظالم يراد به جماعة الظالمين، بقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. وقد ردُّ -رحمه الله- في ص: 260، على من ذهب إلى أنها نازلة في أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، ونعتهم: بالمتسمين بالمسلمين. وصرح الرازي 24/ 75، بانهم الرافضة، حيث قالوا: هذا الظالم رجل بعينه، وإن المسلمين غيروا اسمه، وكتموه، وجعلوه: فلاناً! قال الرازي في الرد عليهم: المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم، وذلك لا يحصل إلا بالعموم، وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن، وإثبات أنه غير وبدل، ولا نزاع في أنه كفر. (¬3) نسبها السيوطي 6/ 252، لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم أجد هذه الرواية في تفسير ابن أبي حاتم المطبوع. (¬4) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 68، روايتين، عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق: مِقْسَم، نحواً من هذا. وأخرجه ابن جرير 19/ 8، من طريق عطاء الخراساني. وذكره الثعبي 8/ 95 ب، وعنه الوا حدي، في "أسباب النزول" 333.

أمية بن خلف فقال: يا عقبة، بلغني أنك صبوت. قال: ما فعلت، قال: فوجهى من وجهك حرام حتى تأتيه فتتفل في وجهه! وتتبرأ منه، فيعلم قومك أنك عدو من عاداهم وفرق جماعتهم. فأطاعه، وفعل ذلك واشتد علي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله فيه يخبره بما هو صائر إليه (¬1). وهذا قول الشعبي (¬2)، ونحو هذا قال مقاتل، سواء، إلا أنه ذكر أبيًّا بدل أمية (¬3). وقال الكلبي: قال أُبي لعقبة: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا حتى تأتي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وتبزق في وجهه! وتطأ عنقه! ففعل ذلك عقبة، فأنزل الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} يعني: عقبة، في قول الأكثرين (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2685. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 95 ب، وفي خبر الشعبي، أن عقبة أسلم، فعاتبه أمية، وقال له ... إلخ. وعنه الواحدي، في "أسباب النزول" ص 333. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 44 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2684، عن قتادة. قال ابن عطية 11/ 33: ومن أدخل في هذه الآية أمية بن خلف، فقد وهم، إلا على قول من يرى {الظَّالِمُ} اسم جنس. (¬4) وممن قال بذلك عمرو بن ميمون، أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2685. وأكثر الروايات عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ورواية أخرى عن السدي، ليس فيها ذكر أنه فعل ما همَّ به من التفل، ووطْء العنق، بل في رواية مِقْسَم التصريح بأن الله تعالى لم يسلطه على ذلك، فيتعين الأخذ بها لما فيها من حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإهانة، إضافة إلى أنها أخبار تحتاج إلى تأكيد؛ لأن من رواها لم يعاصر هذه الحادثة، والله أعلم. أخرج هذه الروايات ابن جرير 19/ 8، وابن أبي حاتم 8/ 2684. وذكر الثعلبي 95 ب، عن الضحاك، أن عقبة لَمَّا فعل ذلك رجع بزاقه في وجهه، وانشعب شعبتين، فأحرق خديه، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت. وكان يحسن من الواحدي -رحمه الله- إيراد هذه الرواية وقد أعرض ابن كثير -رحمه الله- عن إيراد هذه الروايات كلها.

وفي قول ابن سابط، ورواية عطاء الخرساني، الظالم هنا: أُبي بن خلف (¬1). قال ابن عباس، في رواية عطاء بن أبي رباح، يريد: عقبة بن أبي معيط (¬2)، يقول: يأكل يديه حتى يذهب إلى المرفق، ثم تنبت، لا تزال هكذا كلما أكلها نبتت بندامة على ما فرط (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجد قول ابن سابط هذا، إلا أن ابن أبي حاتم 8/ 2686، قد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى: {لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} يعني: أبي بن خلف. فعلى هذا يكون الظالم: عقبة بن أبي معيط. والله أعلم. (¬2) في "تنوير المقباس" ص 302، الظالم: عقبة بن أبي معيط. وليس فيه ذكر شيء من هذه القصة. وفيه أيضًا تفسير اليد بالأنامل. قال النحاس: ولم يُسميا في الآية؛ لأنه أبلغ في الفائدة، ليُعلم أن هذه سبيل كل ظالم قَبِل من غيره في معصية الله -عز وجل-. "إعراب القرآن" 3/ 158. وعليه فإن الألف واللام يجوز أن تكون للعهد، فيراد به عقبة خاصة، ويجوز أن تكون للجنس، فيتناول عقبة، وغيره. "تفسير الزمخشري" 3/ 269. (¬3) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2684، نحوه عن سفيان. ونسبه في: "الوسيط" 3/ 339، لعطاء. وهو عض حقيقي لليدين، كما ذكر الواحدي -رحمه الله- من شدة ما يجد من الحسرة، والندامة، كما هو ظاهر الآية، وليس هناك ما يدفعه، وعليه فإن ما ذكره الزمخشري 3/ 268، وكذا ابن جزي ص 483، وغيرهما، من أن هذا كناية عن الغيظ والحسرة، فغير مسلم؛ لأنه صرفٌ للفظ عن ظاهره بدون دليل. قال ابن كثير 6/ 108: فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه قائلاً: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} قال البقاعي: فيكاد يقطعهما لشدة حسرته، وهو لا يشعر. "نظم الدرر" 13/ 374. لكنه بعد هذا التقرير الجيد لظاهر الآية، رجع فنقل كلام الزمخشري بنصه، في أن هذا كناية، ولم يتعقبه. قال الشوكاني 4/ 69: الظاهر أن العض هنا حقيقة، ولا مانع من ذلك، ولا موجب لتأويله. ويشهد لهذا تعدية العض بـ (على) لإفادة التمكن من المعضوض، إذا فصدوا عضاً شديداً كما في هذه الآية. "تفسير ابن عاشور" 19/ 12.

وقال أبو إسحاق: إذا كان يوم القيامة أكل يده ندمًا، وتمنى أنه آمن (¬1). وقال أبو القاسم الزجاجي: هكذا يعض على يديه يوم القيامة ندمًا وحسرة على كفره بالله. والعض على اليد يجري عندهم مجرى معاقبة اليد بما صنعت، وإن لم تكن لليد في (¬2) الكفر صنيع؛ فإن الله تعالى قد أسند الفعل إليها، فقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 51] وذلك: أن مباشرة الذنوب بها، فاللائمة ترجع عليها (¬3)؛ لأنها هي الجارحة العظمى فيسند إليها ما لم تباشره. ونظير ذلك قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] وقد مَرَّ (¬4). قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} قُرأ: (يَلَيْتَنِي) بسكون الياء، وفتحها (¬5). والأصل التحريك؛ لأنها بإزاء الكاف التي ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 65. وذكره الثعلبي 8/ 95 ب، بمعناه (¬2) في (أ)، (ب): (على) بدل: (في). (¬3) في (ج): (إليها). (¬4) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 51]: قال ابن عباس: جرحت قلوبكم. قال أهل المعاني: إنما قال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} مع أن اليد لا تعقل شيئاً للبيان عن أن اعتقاد الكفر بالقلب بمنزلة ما يعمل باليد في الجناية، ولذلك لم يذكر القلوب وإن كان بها معتمد العصيان؛ لأن القصد إظهار ما تقع به الجنايات في غالب الأمر وتعارف الناس. وقال الواحدي في تفسير آية الكهف: قال أبو عبيدة والزجاج والمفضل وابن قتيبة: فلان يقلب كفيه على ما فاته، وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرًا، والعرب تقول للرجل إذا ندم على الشيء وجعل يفكر فيه: يقلب يديه وكفيه لأن ذلك يكثر من فعله فصار تقليل الكف عبارة عن الندم كعض اليد. (¬5) قرأ بفتح الياء، أبو عمرو. وأسكنها الباقون. "السبعة" ص 464. و"النشر في القراءات العشر" 2/ 335.

للمخاطب إلا أن حرف اللين تكره فيه الحركة، فلذلك أسكن مَنْ أسكن (¬1) قال ابن عباس: يقول: ليتني اتبعت محمدًا على دينه (¬2). وقال مقاتل: ليتنيْ اتخذت مع محمد سبيلاً إلى الهدى (¬3). وقال السدي: يقول: ليتني أطعت محمدًا (¬4). وقال أبو إسحاق: تمنى أن اتخذ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- طريقًا إلى الجنة (¬5). قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَى} قرأ حمزة والكسائي بالإمالة (¬6). والإماله هاهنا وتركها حسنان، ولو قيل: إنَّ ترك الإمالة أحسن لكان قولًا. وذلك أنَّ أصل هذه الألف الياء، وكان حكمها: يا ويلتي، ويا حسرتي، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء الألف، كراهة للياء وفرارًا منها، فإذا أمال (¬7) كان عائدًا إلى ما كان تركه، وآخذًا بما رفضه، ألا ترى أن الإمالة إنما هي: تقريب الألف من الياء وانتحاء بها نحوها، والإمالة إنما تكون في الألف بأن تنحو بالفتحة التي قبل الألف نحو الكسر، فتميل الألف لذلك نحو الياء (¬8). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 342، بنصه. (¬2) في "تنوير المقباس" ص 302: استقمت على دين الرسول. (¬3) "تفسير مقاتل" ص45أ. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2685، نحوه عن السدي. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 65. ومعنى {سَبِيلًا} على هذا: سببًا ووصلة. "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 74. قال ابن عاشور 19/ 13: وأصل الأخذ التناول باليد، فأطلق هنا على قصد السير فيه، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 63]. (¬6) السبعة في القراءات 464، و"إعراب القرإءات السبع وعللَّها" 2/ 121، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 343. (¬7) في (أ)، (ب): (مال) بدون ألف. (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 342.قال السمين الحلبي معلقاً على قول أبي علي: =

قوله تعالى: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} يعني: أُبيًّا في قول الأكثرين (¬1). وفي قول الشعبي، والسدي، يعني: أمية (¬2). وفي قول ابن سابط يقول: أي ليتي لم أتخذ فلانًا، يعني: عقبة (¬3). وكانا متخالين في الدنيا (¬4). وقال مقاتل: يقول: ليتني لم أطع فلانًا (¬5). فعلى قول هؤلاء: فلان عبارة عن: الآدمي. وقال مجاهد: يعني الشيطان (¬6). وهو قول أبي رجاء (¬7). وعلى هذا القول: فلان كناية عن الشيطان. قال الزجاج: وتصديق هذا القول قوله في الآية الثانية: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (¬8). ومَنْ قال بالقول الأول قال: إنَّ قبوله من أبي بن خلف، وطاعتَه له من عمل الشيطان وإغوائه (¬9). وفلانٌ في العربية: كناية عن واحد بعينه من ¬

_ = وهذا منقوض بنحو: باع، فإن أصله: الياء، ومع ذلك أمالوا، وقد أمالوا، {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} [الزمر: 56] و (يَأَسَفَا) [يوسف: 84] وهمام كـ (يَا ويّلَتَا) في كون ألفهما عن ياء المتكلم. "الدر المصون" 8/ 480. (¬1) "تنوير المقباس" ص 302. واقتصر عليه البغوي 6/ 81. (¬2) وهو قول مقاتل 45أ. (¬3) سبق قريبًا التعليق على هذا. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2686، عن سعيد بن المسيب. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. (¬6) "تفسير مجاهد" 2/ 452. وأخرجه ابن جرير 8/ 19، وابن أبي حاتم 8/ 2686. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2686. وأبو رجاء، هو: عمران بن مِلحان، التميمي البصري، أسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- مشهور بكنيته، ثقة، معمَّر. ت: 105، عن: 120. "السير" 4/ 253، و"التقريب" 752. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 65. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 65. حاصل الأقوال في: (فلاَناً) أربعة؛ 1 - أبي بن خلف. 2 - أمية بن خلف. 3 - عقبة بن أبي معيط. 4 - الشيطان. وقد اقتصر في: "الوسيط" 3/ 339 و"الوجيز". 2/ 778، على أنه أبى. وذكر ابن عطية 11/ 33،=

الناس، قال الخليل: وتقديره: فُعَال، وتصغيره: فُعَيل (¬1)، فُلَين. قال: ولا يحسن فيه الألف واللام، يقال: فلان، وفلان آخر؛ لأنه لا نكرة له، ولكن العرب سَمَّوا به الإبل؛ فقالوا: الفلان، وهذه الفلانة، فإذا نسبت قلت: فلان الفلاني؛ لأن كل اسم ينسب إليه فإنَّ الياء التي تلحقه تُصَيَّره نكرة (¬2). وقال ابن السكيت: تقول لقيت فلانًا، إذا كنيت عن الآدميين قلته بغير الألف واللام، فإذا كنيت عن البهائم قلته بالألف واللام. تقول: حلبت الفلانة، وركبت الفلانة (¬3). وأنشد في ترخيم فلان، فقال: وهو إذا قيل له وَيْهَا فُلُ ... فإنه أحجَّ به أن يَنْكلُ (¬4) قال المبرد: قولهم: يا فل أقبل، ليس بترخيم فلان؛ ولو كان كذلك قيل: يا فلا أقبل. ومما يزيده وضوحًا قولهم للأنثى: يا فلة أقبلي. قال: ولكنها كلمة على حدة (¬5). قال: وقد تستعمل في غير النداء، كقوله: ¬

_ = كلاماً حسناً في عموم الآية، وشمولها لكل ظالم، وأنه ليس من ظالم إلا وله في دنياه خليل يعينه ويحرضه، هذا في الأغلب. (¬1) كلمة: (فعيل) في (أ)، (ب). (¬2) "الكتاب" 2/ 248، بمعناه. وما ذكره الواحدي بنصه في كتاب "العين" 8/ 326 (فلن)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 15/ 354. وذكر ابن خالويه، نحوًا من هذا، عن ابن دريد عن أبي حاتم. "إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 121. (¬3) بنصه في "إصلاح المنطق" ص 296، دون إنشاد البيت. (¬4) "تهذيب اللغة" 15/ 354 (فلن)، وفيه إنشاد البيت مع آخر بعده، ولم ينسبه. وهو كذلك في "لسان العرب" 13/ 324. ولم أجد من نسبه. (¬5) في "تهذيب اللغة" 15/ 355 (فلن): وقال المبرد: قولهم: يا فل ليس بترخيم، ولكنها على حدة. قال أبو حيان 6/ 454: وهم ابن عصفور، وابن مالك، وصاحب البسيط، في قولهم: فل، كناية عن العَلَم، كفلان. ويعني بصاحب "البسيط": ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن علي الإشبيلي. "حاشية الدر =

في لَجَّةٍ أمْسكْ فلانًا عن فُلِ (¬1) وروى أبو تراب عن الأصمعي: يا فلا، في النداء. (¬2) وهذا يقوي قول المبرد. وذكرنا معنى الخليل، في سورة: النساء (¬3). ¬

_ = المصون" 8/ 480. قال السمين الحلبي: فلان كناية عن علم من يعقل وهو منصرف، وفُلُ كناية عن نكرة من يعقل من المذكور، وفُلَة عمن يعقل من الإناث، والفلان والفلانة بالألف واللام عن غير العاقل، ويختص فُلُ، وفُلَة؛ بالنداء إلا في ضرورة. "الدر المصون" 8/ 479. (¬1) "المقتضب" 4/ 237، ولم ينسب البيت. ونسبه سيبويه لأبي النجم، "الكتاب" 2/ 248، واستشهد به على استعمال: فل، موضع فلان، في الشعر للضرورة. وأنشده الأزهري، ولم ينسبه، واستشهد به على أن اللجة: الصوت. "تهذيب اللغة" 10/ 494 (لج). وذهب ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ص 263، إلى أن قول القائل: ما جاءك إلا فلان بن فلان، يريد أشراف الناس المعروفين، كقول الشاعر: في لَجَّةِ أمْسكْ فلانًا عن فُلِ. يريد: أمسك فلانًا عن فلان، ولم يرد رجلين بأعيانهما، وإنما أراد: أنهم في غمرة الشر، وضجته، فالحَجَزة، يقولون لهذا: أمسك، ولهذا: كُفَّ. واللجة: كثرة الأصوات، "اللسان" 13/ 325. (¬2) "تهذيب اللغة" 15/ 355 (فلن)، ولفظه: أبو تراب عن الأصمعي يقال: قم يا فل، ويا فلاة. أبو تراب، خراساني لغوي، استدرك على الخليل بن أحمد في كتاب العين، ورد عليه العلماء في ذلك كما قال القفطي، وصنف كتاب: الاستدراك على الخليل، ومن هذا الكتاب أخذ الأزهري ما نقله عن أبي تراب في كتابه: "تهذيب اللغة". "إنباه الرواة على أنباه النحاة" 4/ 102. و"الفهرست" ص 92. (¬3) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]: قال أبو بكر بن الأنباري: الخليك معناه في اللغة: المُحب الكامل المحبة، والمحبوب الموفي حقيقة المحبة .. وقال بعض أهل العلم: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} أي: فقيراً إليه لا يجعل فقره وفاقته إلى غيره، ولا ينزل حاجته بسواه .. فهذان القولان ذكرهما جميع أهل المعاني؛ والاختيار هو الأول؛ لأن الله -عز وجل- =

29

29 - قوله تعالى: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} قال الكلبي: صرفني. وقال مقاتل: ردني (¬1). وكل ما أضلك عن شيء حتى لا تجده فقد صرفك وردك عنه. {عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} قال ابن عباس: يريد القرآن، وما فيه من المواعظ. وقال الكلبي: يعني القرآن، والإيمان {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} مع الرسول (¬2). وقال مقاتل: عن الإيمان بالقرآن (¬3). وقيل: عن الرسول؛ حكاه الفراء (¬4). وتمَّ الكلام هاهنا ثم قال: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} وهذا من قول الله تعالى لا من الإخبار عن قول الظالم (¬5). يقول: وكان ¬

_ = خليل إبراهيم، وإبراهيم خليل الله، ولا يجوز أن يقال: الله خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. (¬2) "تنوير المقباس" ص 302. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2687، عن عمرو بن ميمون، يعني: الإسلام. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 267. واقتصر في: "الوسيط" 3/ 339، على: القرآن والإيمان به. وفي:"الوجيز" 2/ 778، على: القرآن. وليس بين هذه الأقوال تعارض، فهي من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد. قال ابن عطية: الذكر ما ذَكر به الإنسان أمر آخرته من قرآن أو موعظة، ونحوه. (¬5) اقتصر الواحدي -رحمه الله- على هذا القول، مع أنه يحتمل أن يكون من كلام الظالم، وذلك من شدة ما يجد من الحسرة، ولوضوح الحقيقة عنده في ذلك الموقف. انظر: "تفسير الزمخشمري" 3/ 269، حيث ذكر هذا الاحتمال. وكذا ابن عطية 11/ 35. والأطهر عند الشنقيطي 6/ 305، أنه من كلام الله، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة.

الشيطان في الآخرة خذولًا للإنسان، يعني: الكافر، يتبرأ منه (¬1). هذا قول مقاتل (¬2). وأما قول ابن عباس، وهو (¬3): أن هذا الخذلان من الشيطان للكافرين في الآخرة (¬4). وقال الكلبي: يعني خذلان إبليس للمشركين ببدر، وكان معهم في صورة سراقة بن مالك، فلما عاين الملائكة تبرأ منهم. وهو قوله تعالى: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48] (¬5).وقُتل عقبة بن أبي معيط، يوم بدر صبرًا (¬6) ولم يقتل من الأسارى غيره، وغير النضر بن الحارث (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2687، عن قتادة. قال الثعلبي 8/ 95 ب: وحكم هذه الآيات عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله -عَزَّ وَجَلَّ- وذكر البغوي 6/ 82، بعد تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث النبوية في الجليس الصالح، والجليس السوء. (¬2) يوهم صنيع الواحدي -رحمه الله- هنا أن مقاتل يقول بالعموم، وليس الأمر كذلك، بل قيد الإنسان كما في تفسيره 45 أ، بعقبة. ثم قال: ونزل فيهما: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]. ونحوه في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 68، عن ابن عباس رضي الله عنهما، من طريق: مِقْسَم. (¬3) في جميع النسخ: (وهو)، والمناسب للسياق: فهو. (¬4) في "تنوير المقباس" ص 302، جعله عامًا في خذلانه عندما يحتاج إليه. (¬5) ليس هناك تعارض فيما ذكره الواحدي -رحمه الله- وليس في هذه الأمثلة ما يدل على أن هذا من كلام الكافر. وقد اقتصر في: "الوسيط" 3/ 339، و"الوجيز" 2/ 778، على أن الإنسان في الآية: الكافر. (¬6) يقال: قُتل فلانٌ صبرًا، معناه: حبسًا، ومن ذلك الصوم، سمي صبرًا، لانه حبس للنفس عن المطاعم، والنكاح، والملتذ من الشهوات. "الزاهر في معاني كلمات الناس" 2/ 201. (¬7) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. وأخرج ابن إبي حاتم 8/ 2687، عن السدي أنهما قتلا =

30

30 - قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} قال ابن عباس: يريِد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يشكوهم إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1) {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} ذكروا في المهجور قولين، قال ابن عباس: يريد: هجروا القرآن، وهجروني وكذبوني. وقال الكلبي: مهجورًا: متروكًا (¬2). وقال مقاتل: تركوا الإيمان بهذا القرآن فهم مجانبون له (¬3). هذا قول من جعله من الهجران والهجر (¬4). ¬

_ = جميعًا يوم بدر. يعني: أمية، وعقبة. وذكر السمرقندي 2/ 459، أن أبي بن خلف قُتل يوم أحد. وكذا الثعلبي 8/ 95 ب. (¬1) أخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2687، عن قتادة ونسبه ابن الجوزي 6/ 87، لمقاتل. لكنَّي لم أجده في تفسيره ولم يبين الواحدي -رحمه الله- زمن هذا القول؛ لكن البغوي 6/ 82، قال: ويقول الرسول في ذلك اليوم. يعني اليوم الذي يعض فيه الظالم على يديه، فيكون في هذا زيادة تعذيب لهم. ويحتمل أن تكون هذه الشكاية في الدنيا، وفي ذلك تعظيم لأمرها، من جهة أن الأنبياء كانوا إذا التجؤا إلى الله وشكوا إليه قومهم حل بهم العذاب، ولم يُنظروا. "تفسير الزمخشري" 3/ 269. وجعله ابن عطية 11/ 35، قول الجمهور. ثم قال: وقالت فرقة: هو حكايته عن قوله ذلك في الآخرة. وتبعه ابن الجوزي 6/ 78 ورجح الرازي 24/ 77، أن يكون ذلك في الدنيا؛ لأنه موافق للفظ، ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه. والله أعلم. (¬2) "تنوير المقباس" ص 302. وذكره الفراء 2/ 267، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. (¬4) ونسب هذا القول ابن جرير 19/ 9، إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ثم قال: وهذا القول أولى بتأويل ذلك، وذلك أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] وذلك هجرهم إياه.

وقال مجاهد: يهجرون فيه بالقول، يقولون: هو سحر (¬1). وقال إبراهيم: قالوا فيه غير الحق (¬2). وقال مِسْعَر: قالوا فيه هُجْرًا (¬3). وعلى هذا القول: المهجور، من الهجرة. وذكرنا الكلام في الهجر عند قوله: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] (¬4). وذكر الفراء والزجاج القولين؛ فقالا: يجوز أن يكون مهجورًا: متروكاً، أي: جعلوه متروكًا (¬5) مهجورًا، لا يسمعونه (¬6) ولا يتفهمونه. ويقال: إنَّهم جعلوه كالهُجر بمنزلة الهذيان. والهُجْر: ما لا ينتفع به من القول. وكانوا يقولون: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَهجُر (¬7). وعلى هذا يقال: هَجَر، يَهجُر، هَجْرًا، وهُجْرًا، والكلام مهجور. فجعلوا القرآن كلامًا لغوًا. وهو قولهم: إنَّه شعر، وسحر، وسمر، وأساطير الأولين. ويدل على صحة القول الأول ما روي عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 2/ 452. وأخرجه ابن جرير 19/ 9. وابن أبي حاتم 8/ 2687. وذكره السيوطي 6/ 253، وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 9. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2688، من طريقين؛ الأولى كرواية الطبري، والثانية، بنحوه وذكره السيوطي 6/ 253، وزاد نسبته إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) لم أجد قول مِسْعَر بن كِدَام، فيما تيسر لي من المراجع. (¬4) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية أقوال المفسرين وأهل اللغة في معنى الهجر والمراد به في الآية، وهو قريب مما ذكره هنا. (¬5) (متروكًا) في (أ)، (ب). (¬6) في (ج): (يستمعونه). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 267. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 66، بمعناه.

"من تعلم القرآن وعلق مصحفًا لم يتعاهده، ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة معلقًا به، يقول: يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورًا، اقضِ بينيى وبينه" (¬1). وذكر صاحب النظم وجهًا آخر من الهجر، فقال: يجوز أن يكون المهجور مصدرًا، كالهجر، والهجير، ويكون المعنى: اتخذوا هذا القرآن هُجرًا، أي: إذا سمعوه قالوا فيه الهجير، وقالوا: إنه هجر، كما يقال: اتخذْنَا فلانًا ضحكَة أو سُخرة، أي: إذا رأيناه ضحكنا منه وسخرنا منه. وهذا النظم أبلغ، من أن لو قيل: هجروا القرآن، أو هجروا فيه؛ لأنه يدل على أنهم جعلوا عادتهم هجر القرآن (¬2). وذكرنا تحقيق هذا الفصل عند قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] وعند قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] (¬3). ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 459: رواه الثعلبي، ثم ساق إسناده، وفيه: ثنا أبو هدبة إبراهيم بن هدبة، ثنا أنس بن مالك. ويوجد في النسخة التي عندي من "تفسير الثعلبي" سقط في سورة الفرقان من الآية: 20، إلى: 37. قال ابن حجر: أخرجه الثعلبي من طريق أبي هدبة عن أنس؛ وأبو هدبة كذاب. "الكشاف الشاف بحاشية الكشاف" 3/ 270. قال الإمام أحمد: إبراهيم بن هدبة لاشيء، روى أحاديث مناكير. وقال يحيى بن معين: كذاب خبيث. "الضعفاء والمتروكون" لابن الجوزي 1/ 58. (¬2) حاصل الأقو الذي قوله تعالى: {مَهْجُورًا} ثلاثة؛ 1 - أنهم هجروه بإعراضهم. 2 - أنهم قالوا فيه هُجراً، أي: قبيحاً. 3 - أنهم جعلوه هُجراً من الكلام، وهو ما لانفع فيه من العبث، والهذيان. "تفسير الماوردي" 4/ 143. واقتصر الواحدي في: "الوسيط" 3/ 339، و"الوجيز" 2/ 778، على القول الأول. وذكر ابن القيم أن هجر القرآن أنواع خمسة. "الفوائد" ص 81. ونحوه في "تفسير ابن كثير" 6/ 108. (¬3) قال الواحدى: قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} ذكره على النعت ولم =

31

قال ابن عباس: فعزَّاه الله -عز وجل- (¬1)، فقال: 31 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (¬2) أي: وكما جعلنا لك يا ¬

_ = يذكره على الفعل لأن النعت ألزم وأكثر من الفعل، كأنه قال: رب اجعلني من عادتي إقامة الصلاة، ولو قال: اجعلني أقيم الصلاة لم يكن فيه من المبالغة ما في المقيم، وذكرنا استقصاء هذا الفصل في قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية [الإسراء: 29]. وقال في تفسير آية الإسراء: قال صاحب النظم: لا تكاد العرب تقول جعلت يدي مغلولة، ولا جعلت رجلي مقيدة، ولا جعلت رأسي معممًا، إنما يقولون: غَلَلتُ يدي، وقَيَّدتُ رجلي، وعَمَمتُ رأسي، والعلة في هذا النظم؟ أن الفعل أقل من النعت، والنعت ألزم وأكثر من الفعل؛ كما قلنا في قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} الآية [طه: 121] لأنه قد كان منه، ولا يجوز أن يقال: آدم عاصٍ غاوٍ؛ لأن هذا نعت لازم، وكانوا يقولون: يد فلان مغلولة، أي أن المنع عادةٌ له، ولا يكادون يقولون غُلَّت يده؛ لأن هذا فعل غير لازم، والأول لازم، وقد يمنع الإنسان في مواضع المنع ولا يُرْجَع عليه بلوم، فلذلك قال -عز وجل-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي لا تكن ممسكاً عن البذل عادة، ولم يُرِدْ أن لا يمسك عند وقت الإمساك، يدل على ذلك قوله: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ومما يشبه هذا النظم، قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 45] وقد مر. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 45أ. و"تفسير هود" 3/ 209، والبغوي 6/ 83، والطبرسي 7/ 265، والقرطبي 13/ 27. ولم ينسبوه وذكره في "الوسيط" 3/ 339، ولم ينسبه. وذكره ابن الجوزي 6/ 88، وصدَّرَه بقوله: قال المفسرون. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2688، عن قتادة. وأَخرج ابن جرير 19/ 10، بسنده عن ابن عباس، أنه قال: يوطن محمداً -صلى الله عليه وسلم- أنه جاعل له عدواً من المجرمين كما جعل لمن قبله. (¬2) من فوائد هذه الآية: علو الحق على الباطل، وتبين الحق، واتضاحه اتضاحًا عظيمًا؛ لأن معارضة الباطل للحق، تزيده وضوحاً وبياناً، وكمال استدلال. تفسير السعدي 5/ 477. وإذا كان هذا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فغيرهم من السائرين على طريقهم لا بد أن ينالهم شيء من ذلك، فلا بد من الصبر على =

محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من كفار قومه (¬1). والعدوُّ هاهنا يجوز أن يكون في معنى الجماعة، كما قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} (¬2) [الشعراء: 77] قال مقاتل: يقول لا يكبرن عليك فإن إلاَّنبياء قبلك قد لقيت هذا التكذيب من قومهم (¬3). وقال السدي: لم يبعث نبي قط إلا والمجرمون له أعداء، وبعضوهم أشد عليه من بعض. وكان عدو النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش بنو أمية وبنو المغيرة (¬4). ولهذا دخل حرف التخصيص في قوله: {مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (¬5) قال الكلبي: إن كل نبي أتى قومه كان بعضهم أغلظ من بعض وأسوأ قولاً، وصنيعًا، وبعضهم يستحي من ذلك وهو ألين قولاً، وأكف شرًا. ويجوز أن يكون المراد بقوله: {عَدُوًّا} واحداً من المجرمين، ممن كان أشد المشركين ¬

_ = الأذى، وتحمل العناد والاستكبار، حتى يأتي الله بأمره ذكر البرسوي 6/ 208، عن أبي بكر بن طاهر، أنه قال: رُفعت درجات الأنبياء والأولياء بامتحانهم بالمخالفين، والأعداء. ونظير هذه الآية، قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام 112]. (¬1) "تفسير الطبري" 19/ 10، بنحوه. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2688، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {مِنَ الْمُجْرِمِينَ} قال: الكفار. وهو في "الوسيط" 3/ 339، بنصه، ولم ينسبه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 66. وجزم بهذا ابن جزي ص 484، حيث قال: العدو هنا جمع. ورجحه ابن عاشور 19/ 18. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2688. (¬5) وصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين، أي: من جملة المجرمين، فإن الإجرام أعم من عداوة الأنبياء، وهو أعظمها. "التحرير والتنوير" 19/ 18.

على نبيهم. وهذا مذهب الكلبي، ومقاتل؛ قالا: نزلت في أبي جهل (¬1). وكان لعنه الله أشدهم عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قوله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} قال ابن عباس: هاديًا لك وناصرًا على أعدائك (¬3). وقال مقاتل: هاديًا إلى دينه ومانعًا منهم (¬4). وقال أبو إسحاق: [الباء زائدة، المعنى: كفى ربك] (¬5). و {هَادِيًا وَنَصِيرًا} منصوبان على الحال. المعنى: وكفى ربُّك في حال الهداية والنَصْر. ويجوز أن يكون منصوبًا على التمييز على معنى: كفى ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 302. و"تفسير مقاتل" ص 45 أ. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 66. ولم ينسبه. ونسبه القرطبي 13/ 27 لابن عباس رضي الله عنهما. وكذا السيوطي 6/ 254، ونسبه لابن مردويه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 267. وفي هذه الآية تنبيه للمشركين ليعرضوا أحوالهم على هذا الحُكم التاريخى فيعلموا أن حالهم كحال من كذبوا من قوم نوح، وعاد، وثمود. تفسير ابن عاشور 19/ 18. (¬3) "تنوير المقباس" ص 302: {هَادِيًا} حافظًا. {وَنَصِيرًا} مانعاً مما يراد بك. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. ونحوه قال الهوَّاري 3/ 209. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2688، عن محمد بن إسحاق: إن ينصرك الله فلا يضرك خذلان من خذلك. وفي هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- بوعده بهداية كثير ممن هم معرضون عنه. "تفسير ابن عاشور" 19/ 18. قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2،1]. (¬5) ما بين المعقوفين لم أجده عند الزجاج. قال ابن عاشور 19/ 18: والباء، في قوله: {بِرَبِّكَ} تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل. وأصله: كفى ربُّك في هذه الحالة. وقع الخلاف بين أهل العلم في وقوع الزائد في القرآن الكريم، فمنهم من أنكره كالمبرد وثعلب، وأكثر العلماء على إثبات ذلك؛ لكنهم اختلفوا في تسميته فمنهم من يسميه: صلة، ومنهم من يسميه: المقحم.

32

ربُّك من الهُدَاة والنُّصَّار (¬1). وهذا مما قد تقدم فيه الكلام (¬2). 32 - وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (¬3) قال الكلبي: كانت كفار قريش يأتون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتعنتونه، ويسألونه، ويقولون: تزعم أنك رسول من عند الله أفلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة، والإنجيل، والزبور (¬4) فأنزل الله هذه ¬

_ = قال الزركشي: واعلم أن الزيادة واللغو من عبارة البصريين، والصلة والحشو من عبارة الكوفيين، قال سيبويه عقب قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء: 155]: إن (ما) لغو؛ لأنها لم تُحدث شيئًا. والأولى اجتناب مثل هذه العبارة في كتاب الله تعالى؛ فإن مراد النحويين بالزائد من جهة الإعراب لا من جهة المعنى. "البرهان في علوم القرآن" 3/ 80 وقال أيضًا: ومعنى كونه زائدًا أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد؛ فبوجوده حصل فائدة التأكيد، والواضع الحكيم لا يضع الشيء إلا لفائدة. وسئل بعض العلماء عن التأكيد بالحرف وما معناه، إذ إسقاط الحرف لا يخل بالمعنى؟ فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف. "البرهان" 3/ 82 وهذا كلام حسن. وتكلم عن هذه المسألة د. عبد الفتاح الحموز في رسالته: "التأويل النحوي في القرآن الكريم"، حيث عقد فصلاً عنوانه: الزيادة في التنزيل. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 66. (¬2) قال الواحدي في تفسير الآية 6، من سورة النساء {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} والباء في قوله: {وَكَفَى بِاللهِ} {وَكَفَى بِرَبِّكَ} في جميع القرآن زائدة. قال الزجاج: المعنى: كفى الله، كفى ربك. واستقصاء هذا مذكور في هذه السورة عند قوله: {وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا} [النساء: 45]. وتفسير هذه الآية من القسم المفقود من البسيط. (¬3) لم يسندوا فعل التنزيل لله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكونهم ينكرون ذلك، فلإنكارهم إنزال القرآن من عند الله تعالى بني الفعل للمفعول {نُزِّلَ}. والله أعلم. "نظم الدرر" 13/ 378. (¬4) "تنوير المقباس" ص 302. وهذا يدل على اعتراضهم على كيفية نزول القرآن، أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2689، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال المشركون: إن كان محمد كما يزعم نبيًا فلم يعذبه ربه، ألا ينزل عليه القرآن

الآية (¬1). والمعنى: هلا نزل عليه القرآن في وقت واحد (¬2). ¬

_ = جملة واحدة. وهذا يدل على أنهم قالوه شفقة، ورحمة!؟ وذكر القرطبي 13/ 28، أنها نزلت في كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2689، عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى فأنزل الله بل نثبت به فؤادك. ولم يذكر ابن أبي حاتم من حدثه به، بل قال: ذُكر عن عبد الرحمن بن عمر بن رُسته الأصبهاني، بسنده إلى ابن عباس، وعبد الرحمن هذا ثقة، لكن له غرائب. "ميزان الاعتدال" 2/ 579، و"التقريب" ص 592. وفيه أيضًا: حكيم بن جبير، ضعيف رمي بالتشيع. ميزان الاعتدال 1/ 583، و"التقريب" 265. ولا يلزم من هذا القول أن تكون الآية مدنية، بل هو يدل على اعتراض المشركين من قريش ومن اليهود، على طريقة إنزال القرآن. والله أعلم. واعتراض المشركين على إنزال القرآن جملة اعتراض لا طائل تحته؛ لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة، أو مفرقاً. تفسير البيضاوي 2/ 140. (¬1) قال الزمخشري 3/ 270: نُزَّل هاهنا بمعنى: أنزل، لا غير، كخبَّر بمعنى: أخبر، وإلا كان متدافعاً. قال أبو حيان 6/ 455: وإنما قال: إنَّ نُزَّل بمعنى: أنزل؛ لأن: نزَّل عنده أصلها أن تكون للتفريق، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو .. وقد قررنا أن: نزل لا تقتضي التفريق؛ لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة وذكر نحوه ابن عاشور 19/ 19. وقد ورد القرآن باللفظين، في موضع واحد، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [محمد:20]. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 66. وأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- القرآن جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، في ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، ثم نزل بعدُ مفرقاً على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد بين هذا وفصله ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرج عنه ابن أبي حاتم 8/ 2689؛ لكن إسناده ضعيف، لضعف حكيم بن جبير، انظر: ميزان الاعتدال 1/ 583، و"التقريب" 265. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2690، نحوه، مختصرًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا، وفي إسناده: أبو يحيى =

قال الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} قال الزجاج: أنزلناه كذلك متفرقًا؛ لأن معنى قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} يدل على معنى: لِمَ نزل عليه القرآن متفرقًا فأعلموا لِمَ ذلك (¬1)؛ وهو قول: {لِنُثَبِّتَ} وذهب قوم إلى أن قوله: {كَذَلِكَ} من كلام المشركين؛ فقالوا: إنهم قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ} أي: كالتوراة، والإنجيل، والكتب المتقدمة (¬2). وعلى هذا نحتاج إلى إضمار في الآية ¬

_ = الحِمّاني، واسمه: عبد الحميد بن عبد الرحمن، أبو يحي الكوفي، صدوق يخطئ، ورمي بالإرجاء. ميزان الاعتدال 2/ 542، و"التقريب" ص 566. وفيه: حبيب بن أبي الأشرس، ضعيف جدًا بل متروك. "ميزان الاعتدال" 1/ 450. و"تاريخ ابن معين" 3/ 356، رقم: [1725]. وأخرجه عنه النسائي في "السنن الكبرى" 5/ 6، من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة. وقد أورد ابن كثير 6/ 110، حديث النسائي، ولم يعلق عليه. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 66. وقد اقتصر الواحدي -رحمه الله- على هذا القول في: "الوسيط" 3/ 340، و"الوجيز" ص 778، مما يدل على اختياره له، وإن لم يصرح بهذا هنا. والله أعلم. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 267، ولم ينسبه. ونقله عنه النحاس، القطع والائتناف 2/ 483. وقال النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 160: والأولى أن يكون التمام {جُمْلَةً وَاحِدَةً}؛ لأنه إذا وقف على {كَذَلِكَ} صار المعنى: كالتوراة والإنجيل والزبور، ولم يتقدم لها ذكر. وهذا قول حسن، ولأن مشركي قريش لم يكونوا أهل كتاب حتى يطالبوا بالمثلية؛ وعليه فإن هذه الآية لا تصلح دليلاً للقول بأن الكتب السماوية السابقة كانت تنزل جملة واحدة، وما ذُكر من حكمة الإنزال المفرق تشهد للقول بأنها كانت تنزل مفرقة. وقد ورد هذا المعنى صريحاً في قولٍ لابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2690، بلفظ: لنشدد به فؤادك، ونربط على قلبك، يعني. بوحيه الذي نزل به جبريل عليك من عند الله، وكذلك يفعل بالمرسلين من قبلك. لكن في إسناده بشر بن عمارة، وهو ضعيف، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = والضحاك، وهو لم يلق ابن عباس، كما تقدم في صدر السورة. وعليه فإن ما ذكره الواحدي -رحمه الله- في آخر تفسيره لهذه الآية من أن التوراة أنزلت جملة؛ لأنها أنزلت على نبي يقرأ ويكتب، يحتاج إلى دليل يثبته، والله أعلم. وقد حَسَّن القول بأن قوله تعالى: {كَذَلِكَ} من قول المشركين، ابنُ الأنباري. نقله عنه القرطبي 13/ 29. واقتصر عليه الآلوسي 19/ 15، مع أنه صدره بـ (قيل). ولعل اقتصاره عليه لترجيحه أن نزول الكتب السابقة كان جملة. وسيأتي ذكر قوله. وردَّ هذا القول البقاعي، في "نظم الدرر" 13/ 380، وعلل ذلك بأن نزول الكتب السابقة إنما كان منجماً، ولم يكن جملة. وقد بَيَّن رأيه هذا ووضحه واستدل عليه عند تفسير قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] "نظم الدرر" 5/ 507. وذهب إلى هذا أيضًا الشوكاني، حيث قال 4/ 70: وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن، ولكنهم معاندون، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه. ومثله المراغي 19/ 12. وكذا ابن عاشور 19/ 18، وبعد أن قرر هذا قال: فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأمية، وحالة الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل تحته، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفاراً تامة قط. وقد نبه على هذا القاسمي أيضًا، ومما قاله في "محاسن التأويل" 12/ 261: والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة، لا أصل له، وليس عليه أثارة من علم، ولا يصححه عقل. وأما البرسوي 6/ 209، فقد جزم بأن إنزال القرآن منجماً فضيلة خص بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر الأنبياء. لكنه لم يذكر ما يدل على هذا التخصيص. وكذلك الآلوسي 19/ 15، حيث قال: أي: هلا أنزل القرآن عليه عليه الصلاة والسلام، دفعة غير مفرق، كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور، على ما تدل عليه الأحاديث والآثار، حتى كاد يكون إجماعاً، كما قال السيوطي. ثم رد قول من قال بخلاف ذلك، ولكنه لم يذكر شيئاً من هذه الأحاديث، والآثار. ولم يذكر السيوطي هذا في "الدر المنثور"، عند تفسير هذه الآية، وكذا لم أجده في "الإتقان". والله أعلم. وأما قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف. 145] فقد وقع الخلاف بين المفسرين هل هذه الألواح هي التوراة أم لا؟. قال ابن كثير بعد أن ذكر الخلاف: وعلى كل تقدير كانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه. "تفسير ابن كثير" 3/ 474.

ليصح النظم، وهو أن نقول: تقديره: أنزلناه متفرقًا لنثبت به فؤادك (¬1). أى: ليقوى به قلبك، فتزداد بصيرة. وذلك أنه إذا كان الوحي يأتيه متجددًا في كل أمر وحادثة كان ذلك أزيد في بصيرته، وأقوى لقلبه (¬2). وذكرنا معنى تثبيت الفؤاد عند قوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] (¬3). وقال أبو عبيدة: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنطيب به نفسك، ونشجعك (¬4). وهذا معنى ما ذكرناه. قوله تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قال ابن عباس: بيَّناه بيانًا (¬5). وقال إبراهيم: فرَّقناه في التنزيل (¬6). وهو معنى قول الحسن (¬7). وقال السدي: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 267. (¬2) "الوسيط" 3/ 340. وذكر مقاتل 45 أ، أن التثبيت هنا للقرآن في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يعني: ليثبت القرآن في قلبك. وفي "تأويل مشكل القرآن" ص 232 الخطاب هنا للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد بالتثبيت هو والمؤمنون (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: يريد: لنزيدك يقينًا، وفسر التثبيت هاهنا بالتشديد عن ابن عباس، وبالتقوية عن الضحاك، والتصبير عن ابن جريج؛ وهو الأقرب؛ لأن ما يُقص عليه من إنباء الرسل إنما هو للإعتبار بها لما فيها من حسن صبرهم على أممهم. (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 74. وفي "تنوير المقباس" ص 303: لنطيب به فؤادك، ونحفظ به قلبك. (¬5) في "الوسيط" 3/ 340، منسوبًا لابن عباس -رضي الله عنهما-: بيناه تبييناً. وهو كذلك في "الوجيز" ص 778، لكنه غير منسوب. وفي "تنوير المقباس" ص 303: تبياناً، بدل: بياناً. ونسبه الهواري 3/ 209، لقتادة، وأخرجه عن قتادة ابن أبي حاتم 8/ 2691. وأخرج أيضًا عن ابن عباس: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}، يقول: شيء بعد شيء. (¬6) أخرجه ابن جرير 19/ 11، وابن أبي حاتم 8/ 2691. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 69. وابن جرير 19/ 11، وابن أبي حاتم 8/ 2690.

فصَّلناه تفصيلًا (¬1). وقال الزجاج: أنزلناه على الترتيل؛ وهو: ضد العجلة (¬2). وقال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين (¬3). قال الليث: الرَّتَل، بفتح التاء: تنسيق الشيء. وثغر رَتِل، حسن المُتَنَضَّد. ورتلت الكلام ترتيلاً، إذا تمهلت فيه وأحسنت تأليفه. وهو يترتل في كلامه، ويترسل (¬4). فمعنى الترتيل في الكلام: أن يأتي به بعضُه في أثر بعض، على تؤدة، وتمهل؛ كما لثغر الرتَل، وهو: ضد المتراص. وهذا معنى قول مجاهد، في تفسير الترتيل: بعضه على أثر بعض (¬5). قال المفسرون: وكان بين أول نزول القرآن، وآخره، نحو من: ثلاث وعشرين سنة (¬6). وإنما أنزلت التوراة جملة؛ لأنها نزلت مكتوبة، على نبي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2691. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 66. (¬3) ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة"14/ 268 (رتل)، عن أبي العباس، بلفظ: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتمكين، أراد: في قراءة القرآن. (¬4) كتاب "العين" 8/ 113 (رتل)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 14/ 268 (رتل). قال ابن عاشور 19/ 20: اتفقت أقوال أئمة اللغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثغر مرتَّل، ورتِل ... ولم يوردوا شاهداً عليه من كلام العرب. (¬5) "تهذيب اللغة" 14/ 268 (رتل). ويجوز أن يراد بـ {وَرَتَّلْنَاهُ} أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتلاً، أي: بتمهل بأن لا يعجَل في قراءته، كقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]. "تفسير ابن عاشور" 19/ 20. وأثر وإثر معناهما واحد؛ قال ابن السكيت: يقال خرجت في أثره وإثره. "تهذيب اللغة" 15/ 121 (أثر). (¬6) أكثر أهل العلم على ذلك، وما ورد من تحديد المدة بعشرين سنة، أو: اثنتين وعشرين، فمحمول على التقريب لا التحديد. والله أعلم. وممن ورد عنه القول بعشرين سنة؟ ابن عباس، أخرجه عنه النسائي. في "السنن الكبرى" 5/ 6، =

33

يكتب، ويقرأ، وأُنزل القرآن متفرقًا؛ لأنه أنزل على نبي أمي لا يكتب، ولا يقرأ، ولأن منه: الناسخ والمنسوخ، ومنه: ما هو جواب عن أمور سألوه عنها؛ فلذلك أُنزل متفرقًا (¬1). 33 - قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} {وَلَا يَأْتُونَكَ} يعني: المشركين (¬2) {بِمَثَلٍ} (¬3) يضربونه لك في إبطال أمرك، ومخاصمتك، كما قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} {إِلَّا جِئْنَاكَ} بالذي هو الحق لترد به خصومتهم، وتبطل به كيدهم، وما جاؤا به من المثل (¬4). ¬

_ = وذكره عنه ابن كثير 6/ 110. وأخرج عبد الرزاق 2/ 69، وابن جرير 19/ 11، وابن أبي حاتم 8/ 2690، عن الحسن، أن بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة. وبه قال الفراء، 2/ 267، والزجاج 4/ 66. واقتصر عليه ابن جزي 484. وقال ابن جريج: اثنتين وعشرين، أو ثلاث وعشرين. أخرجه عنه ابن جرير 19/ 11. وممن قال بثلاث وعشرين سنة، ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 232. والهواري 3/ 209. وابن كثير 6/ 109. والشنقيطي 3/ 576. (¬1) ذكر هذا التعليل الطوسي 7/ 488، ولم ينسبه، وكذا البغوي 6/ 83. وفي هذه الآية بيان لحكمة إنزال القرآن مفرقاً، إذ لو نزل جملة لسبق الحوادث التي كانت ينزل فيها القرآن، ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل ذلك عليهم. وقد ذكر ابن قتيبة هذه الحكم في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" ص 232. والنحاس، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 159. والرازي 24/ 79، حيث ذكر ثمانية أوجه. لكن يبقى القول بأن حكمة التفريق حتى يعيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحفظه بعيد؛ لأنه لا يدل عليه لفظ الآية، ولأن الله تعالى قد تكفل له بحفظه {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى 6 - 7]. والله أعلم. والقول بالتفريق بين الكتب السابقة في كيفية نزولها لأجل اختلاف أحوال الأنبياء في القراءة والكتابة سبقت الإجابة عنه. (¬2) "تفسير الهوَّاري" 3/ 209. وابن برير 19/ 11 (¬3) تنكير مثل، في سياق النفي، يدل على التعميم. "تفسير ابن عاشور" 19/ 21. (¬4) قال البغوي 6/ 83: فسمى ما يوردون من الشبه مثلاً، وسمى ما يدفع به الشبه =

{وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي: من مَثَلهم (¬1). قال الزجاج: وحذفت من؛ لأن في الكلام دليلًا عليه، لو قلت: رأيتُ زيدًا وعمْرًا، فكان عمْرٌو (¬2) أحسن وجهًا. كان في الكلام دليل على أنك تريد: مِنْ زيد (¬3). وهذا الذي ذكرنا معني قول مقاتل، في هذه الآية (¬4) وذكر عطاء والكلبي، بيان ما يأتون به، وما يجيء الله به مما هو الحق؛ فقالا: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} كما أتوا به في صفة عيسى فقالوا: إنه خُلِق من غير أب (¬5) {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} هو أي: بما فيه نقض لحجتهم؛ وهو: آدم، خُلِق من غير أب، ولا أم. وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} الآية (¬6) [آل عمران: 59]. وأما معنى التفسير، فهو: تفعيل، من: الفسر. قال ابن الأعرابي: الفَسْرُ: كشفُ ما غطي (¬7). وقال الليث: الفسر: التفسير، وهو البيان، ¬

_ = حقًا. قال السعدي 5/ 478: وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم، من محدث، ومعلم، وواعظ، أن يقتدي بربه، في تدبيره حال رسوله، كذلك العالم يدبر أمر الخلق، وكلما حدث موجب، أو حصل موسم، أتى بما يناسب ذلك من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمواعظ الموافقة لذلك. (¬1) قال الهواري 3/ 209: وقال بعضهم: أحسن تفضيلاً. (¬2) (فكان عمرو) ساقطة من (ج). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج4/ 67. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 45 أ. (¬5) ذكر هذا القول القرطبي 13/ 30 ولم ينسبه. وذكر عن الكلبي أنه قال {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي: تفصيلاً، ومثل ذلك ذى ابن أبي حاتم 8/ 2691، عن عطاء ولم يذكر هذا المثل. (¬6) الشاهد من الآية، لم يذكر، وهو قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولم أجد هذا القول في "الوسيط"، و"الوجيز". (¬7) "تهذيب اللغة" 12/ 406 (فسر).

34

والتفصيل، والتَفْسِرَة: كل شيء يعرف به تفسير الشيء ومعناه. ولهذا قيل للبول الذي ينظر فيه الأطباء، فيستدلون به على علة العليل: تَفْسِرة (¬1) 34 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} قال الكلبي: هم أهل الكتاب. وقال مقاتل: هم كفار مكة (¬2)؛ وذلك أنهم قالوا لمحمد، وأصحابه: هم شر خلق الله. فأنزل الله هذه الآية. قال أنس: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف يحشر أهل النار على وجوههم؟ فقال:"إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم" (¬3). ¬

_ (¬1) "العين" 7/ 247 (فسر)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 12/ 406. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. وفي "تنوير المقباس" ص 303: أبو جهل وأصحابه. (¬3) أخرجه الواحدي بسنده، في "الوسيط" 3/ 340، وقال في آخره: رواه البخاري، عن عبد الله بن محمد عن يونس بن محمد. نعم، هو كذلك عند البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- في التفسير، باب {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} رقم 4760، "الفتح" 8/ 492، ولفظه: (أن رجلاً قال: يا نبي الله يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة). وأخرجه مسلم 4/ 2161، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم 2806، وفيه: قال قتادة: بلى، وعزة ربنا. وأخرجه الطبري 19/ 12، عن أنس -رضي الله عنه- من ثلاثة طرق. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، وبهذا يبطل القول بأن هذا تمثيل، كما يقال: جاءني على وجهه، أي: كارهاً. وقد ذكر هذا القول النحاس 3/ 160، وصدره بقوله: قيل، ولم يدفعه، مع أنه قد ذكر الحديث المرفوع السابق. وكذلك لك فعل ابن عطية 11/ 38. أما القرطبي 10/ 333، فقد قال بعد ذكر حديث أنس -رضي الله عنه-. فرحمه الله. وجزم ابن جزي بأن هذا حقيقة لحديث أنس -رضي الله عنه- يذكر غيره. وكذا فعل ابن كثير 6/ 110، حيث اقتصر على ذكر هذا الحديث، ثم قال: وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من المفسرين. قال =

35

قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} قال ابن عباس: يريد مصِيرًا {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي: دينًا وطريقًا (¬1). وهذه الآية من قِبَلِ قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]. وقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15]، وقد مَرَّ (¬2). قال مقاتل، في هذه الآية، يقول: هو شر منزلًا وأخطأُ طريقًا من المؤمنين (¬3). وقال أبو إسحاق: {الَّذِينَ} ابتداء، {أُولَئِكَ} ابتداءٌ ثان، وشرٌ: خبره، وهما: خبرا {الَّذِينَ} (¬4). 35 - وقوله {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} (¬5) قال مقاتل ¬

_ = البرسوي 6/ 210: ولما استكبر الكفار واستعلوا حتى لم يخروا لسجدة الله تعالى حشرهم الله تعالى على وجوههم. (¬1) أخرج نحوه ابن جرير 19/ 12، عن مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2692، عن ابن عباس: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} يقول: وأبعد حجة. (¬2) ومثلها أيضًا قوله تعالى: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] وقوله تعالى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} [مريم: 75]. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. بمعناه قال البيضاوي 2/ 141: والمفضل عليه هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- على طريقة قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ} [المائدة: 60]. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 67. (¬5) قال الرازي 24/ 80: اعلم أنه تعالى لما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} أتبعه بذكر جملة من الأنبياء، وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم. وذكر أبو حيان 6/ 457، أن تقديم ذكر نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم- لأنه نزل عليه الكتاب جملة واحدة، ومع ذلك كفروا به. وخالفه البقاعي في "نظم الدرر" 13/ 385 فقال: وقدم قصة موسى -عليه السلام-، لمناسبة الكتاب في نفسه أولاً، وفي تنجيمه ثانياً. وقال في ص 384: وفيه إشارة إلى أنه لا ينفع في إيمانهم إرسال ملَك -كما اقترحوا- ليكون معه نذيراً. أما ابن عاشور فقد ذكر (19/ 25) أن الابتداء بذكر نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم- لأنه أقرب =

36

والكلبي، يعني: معينًا على الرسالة (¬1). وقال الزجاج: الوزير في اللغة: الذي يُرجع إليه ويُتحصن برأيه والوَزَرَ: ما يُلتجأ إليه ويُعتصم به (¬2). وذكرنا تفسير الوزير، عند قوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] (¬3). 36 - {فَقُلْنَا اذْهَبَا} قال الكلبي (¬4): هذا لموسى خاصة. ونحو هذا ذكر الفراء؛ فقال: إنما أمر موسى وحده بالذهاب (¬5)، وعلى هذا خوطب ¬

_ =زمنًا من الذين ذكروا بعده. ثم قال: فإن صح ما روي أن الذين قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} اليهود، فوجه الابتداء بذكر ما أوتي موسى أظهر. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. و"تنوير المقباس" ص 303. وذكره ابن جرير 19/ 12، ولم ينسبه. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2693، نحوه عن قتادة. وذكر الهواري 3/ 209، ثلاثة أقوال: عويناً، عضداً، شريكاً في الرسالة، ثمَّ قال: وهو واحد، وذلك قبل أن تنزل عليهما التوراة، ثم نزلت فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48]. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 67. واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ} [القيامة:11]. وكذا النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 160. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال المفسرون: عوناً وظهيراً. وقال أبو إسحاق: الوزير في اللغة اشتقاقه من الوَزَر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلكة، وكذلك وزير الخليفة معناه: الذي يعتمد على رأيه في أموره ويلتحئ إليه. (¬4) (الكلب) ساقطة من (ج). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268، وقال أيضًا: وهذا بمنزلة قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]. وقال السمرقندي: يعني به موسى، كقوله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة طه [42]،: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} خاطب موسى خاصة إلى القوم. وقد نقد الفراءَ أبو جعفر النحاس، في إعراب القرآن 3/ 161، فقال: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتَاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد قال جل ثناؤه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه 44، 45] هذا هو الصواب، الموافق لظاهر =

الواحد بخطاب الاثنين، وهو من عادة العرب، كما أنشد النحويون: فقلت لصاحِبي لا تحبسانا ... بِنَزْعِ أُصولِه واجتزَّ شِيْحَا (¬1) وإن كان الخطاب لهما فهو ظاهر (¬2). قوله: {إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} يعني: فرعون وقومه (¬3). قال أهل المعاني: ذكرهم الله هاهنا بالصفة القائمة مقام الاسم؛ لأنهم كانوا عند نزول القرآن قد كذبوا بآيات موسى وإن لم يكونوا موصوفين بالتكذيب عند إرسال موسى إليهم (¬4). ¬

_ = الآية، ويؤيده قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].قال المراغي 19/ 16: فإنه وإن كان نبيًا فالشريعة لموسى -عليه السلام-، وهو تابع له فيها، كما أن الوزير متبع لسلطانه. وقد رد الرازي 24/ 81، على من استدل بكون هارون وزيرًا على أنه ليس بنبي بكلام جيد. فيراجع. وأما قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] فلا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور. "تفسير القرطبي" 13/ 31. (¬1) أنشده الفراء، "معاني القرآن" 3/ 78، وعنه ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص 291، وابن جني في "سر صناعة الإعراب" 1/ 187، ولم ينسبوه. وفي "حاشية تأويل مشكل القرآن": المعنى لا تحبسنا عن شي اللحم بأن تقطع أصول الشجر، بل خذ ما تيسر من الشيح؛ والشيح: نبت طيب الرائحة، واجتز: اقطع، والشاهد: قوله: تحبسانا: خاطب الواحد بلفظ الاثنين. وأنشده في "لسان العرب" 5/ 319 (جزز) نقلاً عن ثعلب والكسائي، ونسباه ليزيد بن الطَّثَرِية، وُيروى: واجْدَزَّ، ثم قال: قال ابن بري: ليس هو ليزيد بن الطثرية؛ وإنما هو لمضرس بن ربعي الأسدي. (¬2) وقد جزم بهذا القرطبي 13/ 30، -وهو الصحيح- وضعف القول الآخر بتصديره بقيل. ولم يتعرض الواحدي لنقد هذا القول مع أنه حري بذلك. والله أعلم. (¬3) "تنوير المقباس" ص 303، والهواري 3/ 209، والزجاج 4/ 67، وزاد: والذين مسخوا قردة وخنارير. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 45 ب، حيث جعل الآيات هنا آيات نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم- التسع. =

ويحتمل أن يكون المعنى: اذهبا بآياتنا إلى القوم الذين كذبوا، فتكون الآيات من صلة الذهاب، لا من صلة التكذيب، وتكذيبهم في ذلك الوقتِ لم يكن بآيات موسى، وإنما كان بآيات مَنْ تقدمه من الأنبياء؛ كإبراهيم وإسحاق ويعقوب. وفرعونُ حين ادعى الربوبية، وقومُه لمَّا أطاعوه، كانوا مكذبين أنبياء الله وكتبه (¬1). قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي: أهلكناهم بالعذاب (¬2) إهلاكًا. يعني: الغرق (¬3)، وما دمر عليه (¬4) من صنايعهم كقوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137]، وقال صاحب النظم: معنى الآية: فذهبا، وكُذِّبَا {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} ودخول الفاء دلالة على هذا الإضمار. والتدمير لم يكن بعد الأمر لهما بالذهاب، إنما كان بعد الذهاب والتكذيب (¬5). ¬

_ = ونسبه السمرقندي 2/ 460، للكلبي، ثم قال: وقال بعضهم: هذا التفسير خطأٌ. لأن الآيات التسع أعطاها الله تعالى موسى بعد ذهابه إليه. (¬1) اختار هذا القول الواحدي في "الوسيط" 3/ 340، واقتصر عليه، ولم يتعرض لذلك في "الوجيز". واختاره ابن الجوزي 6/ 89. وشهد لهذا العموم "تفسير مجاهد" للآيات في هذه الآية بالبينات، دون تحديد لها. أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2693. قال السمرقندي 2/ 465: {بِآيَاتِنَا} أي: بتوحيدنا، وديننا. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 179 ب، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن السدي. وذِكرُ لفظ التدمير للمبالغة في وصف ما أصابهم؛ لأنه كسر الشيء على ووجهٍ لا يمكن معه إصلاحه. "تفسير المراغي" 19/ 15 و"روح المعاني" 19/ 18. (¬3) "تنوير المقباس" ص 303. بمعناه، و"تفسير مقاتل" 45 ب. بنصه، و"تفسير هود الهواري" 3/ 209. (¬4) كذا في النسخ الثلاث: عليه، ولعل الصواب: عليهم. (¬5) قال الرازي 24/ 81: التعقيب هاهنا محمول على الحكم لا على الوقوع، وقيل: إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما ألمقصود من القصة بطولها، أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم.

37

37 - قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قال الفراء: نصبت قوم نوح بـ {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} وإن شئت بالتدمير المذكور قبلهم (¬1). قوله: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} وقال الزجاج: من كذب نبيًا فقد كذب جميع الأنبياء (¬2)، وقوم نوح إذ كذبوه، فقد كذبوا أيضًا من قبله من الرسل (¬3)، فلذلك قال: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} وهذا قول الكلبي، قال: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268. واعترض النحاس على الفراء في أنه منصوب بـ {أَغْرَقْنَاهُمْ} فقال: وهذا لا يحصل؛ لأن أغرقنا ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر، وفي قوم نوح. إعراب القرآن 3/ 161. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 67. بمعناه. واقتصر على هذا الواحدي في "الوجيز" 2/ 779، حيث قال: من كذَّب نبياً فقد كذب الرسل كلهم؛ لأنهم لا يفرقون بينهم في الإيمان. وكذا البغوي 6/ 84 وابن عطية 11/ 40. واختاره ابن كثير 6/ 110. (¬3) ما ذكره الواحدي من تكذيبهم للأنبياء الذين كانوا قبل نبي الله نوح -صلى الله عليه وسلم- غير مسلَّم؛ لأن نوحاً -صلى الله عليه وسلم- أول الرسل، ليس قبله أحد كما دل على ذلك قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، "الأصول الثلاثة وحاشيته" ص 49. ومن السنة حديث الشفاعة الطويل، وفيه: فَيَاتُونَ نُوحًا يقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أوَلُ الرُسُلِ إِلَى أَهْل الأرْضِ وَسَمَّاكَ الله عَبْدا شَكُورًا أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلا تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا أَلا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبكَ. أخرجه البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، رقم: 3340، "الفتح" 6/ 371، ومسلم 1/ 180، كتاب الإيمان، رقم: 193. ومثل ما قال الواحدي قال البقاعي 13/ 387: ولأنهم كذبوا من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما سمعوه من أخبارهم. وكذا أبو السعود 6/ 218، والقاسمي 12/ 263. وسمَّى بعضَهم البرسوي 6/ 211: كشيث، وإدريس. ويحتمل جمع الرسل في الآية ما قاله ابن عاشور 19/ 27: لأنهم أول من كذب رسولهم، فكانوا قدوة للمكذبين مِن بعدهم. وقد أجاب ابن حجر 6/ 372، على من استشكل كون نبي الله نوح -صلى الله عليه وسلم- أول الرسل، بنبوة آدم، وإدريس، عليهما الصلاة والسلام بأجوبة منها: أن نوحًا -عليه السلام- أول الرسل إلى أهل الأرض؛ لأن في زمن آدم -عليه السلام-. لم يكن للأرض أهل، وأما إدريس -عليه السلام- فلم يثبت أنه كان قبل نوح -عليه السلام-. والله أعلم.

يعني نوحًا وما جاءهم من خبر الرسل (¬1)، قال: وجوز أن يكون يعني به الواحد، ويذكر لفظ الجنس، كما تقول للرجل الذي ينفق الدرهم الواحد: أنت ممن ينفق الدراهم؛ أي: ممن نفقته من هذا الجنس. وفلان يركب الدوابَّ وإن لم يكن يركب إلا دابَّة واحدة (¬2). وهذا قول ابن عباس، ومقاتل؛ لأنهما قالا في قوله: {كَذَّبُوا الرُّسُلَ} يعني: نوحًا وحده (¬3). قوله: {أَغرَقنَاهُمْ} أي: بالطوفان (¬4). قال الكلبي: أمطر الله عليهم من السماء أربعين يومًا، وخرج ماء الأرض أربعين يومًا، فصارت الأرض بحرًا واحداً (¬5). {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ} أي: لِمن بعدهم {آيَةً} عبرة (¬6)، ودلالة على ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 303، بمعناه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 68، بنصه قال السمرقندي 2/ 461: يعني نوحًا وحده، كما قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} [المؤمنون: 51] ولم يكن إلا واحد وقت هذا الخطاب فيجوز أن يذكر الجماعة ويراد به الواحد، كما يذكر الواحد ويراد به الجماعة. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. وأيد هذا القرطبي 13/ 31، فقال: لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده. وذكر الطوسي 7/ 490، وجهاً غريباً في الآية، فقال: وقيل: المعني نوحاً، والرسل من الملائكة. (¬4) "تنوير المقباس" ص 303. و"تفسير الطبري" 19/ 13. وهذا إغراق عام، لم ينج منه سوى أصحاب السفينة فقط. "تفسير ابن كثير" 6/ 111. (¬5) هذا التحديد لم أجد له دليلاً، فالماء قد فجره الله من تحتهم، وأنزله من فوقهم {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر 11 - 12]. (¬6) "تنوير المقباس" ص 303. و"تفسير مقاتل" ص 45 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2694، عن الربيع بن أنس. وفيه: عبرة ومتفكر.

38

قدرتنا (¬1). قال ابن عباس: وهذا كله تعزيه للنبى -صلى الله عليه وسلم- وتخويف للمشركين (¬2). قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} يعني: سوى ما حل بهم في الدنيا (¬3). 38 - وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قال الفراء: نصبت عادًا بالتدمير (¬4). وقال الزجاج: {وَعَادًا} عطفًا (¬5) على الهاء والميم، التي في قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قال: ويجوز أن يكون معطوفًا على معنى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} ويكون التأويل: وَعَدْنا الظالمين بالعذاب، ¬

_ (¬1) قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11 - 12]. (¬2) "الوسيط" 3/ 340، بنصه. (¬3) "تفسير الطبري" 19/ 13. بمعناه. قال القرطبي 13/ 31: أي: للمشركين من قوم نوح ... وقيل: أي: هذه سبيلي في كل ظالم. وعلى هذا يكون المراد بالظالمين قوم نوح -صلى الله عليه وسلم- وهذا محتمل، كما قال الرازي 24/ 81، واقتصر عليه البرسوي 6/ 211. إلا أن ظاهر الآية أعم من ذلك، فأعتدنا لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذاباً أليماً. ولم يذكر البقاعي 13/ 386، غير هذا، وكذا المراغي 19/ 17، ويشهد له قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قصة قوم لوط -صلى الله عليه وسلم-: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] وهذا أقرب لتحذير المشركين وتخويفهم. والله أعلم. وذكر ابن أبي حاتم 8/ 2694، من طريق الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن: الظالمين، الكافرين. وذكر ابن جزي 484 القولين دون ترجيح، وكذا البيضاوي 2/ 141. والشوكاني 4/ 73. والعذاب في الآية الأخروي؛ إن كان المراد بالظالمين قوم نوح؛ لأنه سبق الإخبار عن عذابهم في الدنيا. ويحتمل العذاب الدنيوي والأخروي؛ إن كان المراد بهم عموم الظالمين. "تفسير أبي السعود" 6/ 218. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268. (¬5) هكذا في (أ)، (ب)، وفي (ج): (عطف).

ووعدنا عادًا وثمودَ (¬1). قوله {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} الرس في اللغة: كل محفور مثل البئر، والمعدن، والقبر، ونحوها. وجمعه: رِساس، ومنه قول الجعدي: تَنابلةً يَحفِرون الرِّساسا (¬2) وقال أبو عبيدة: الرس: كل رَكيَّة لم تُطوَ (¬3)، بالحجارة والآجر والخشب (¬4). واختلفوا في أصحاب الرس؛ [فروى عكرمة عن ابن عباس، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج4/ 68. (¬2) عجز بيت للنابغة، ديوانه 82، وصدره: سَبَقْتُ إلى فَرَطٍ ناهل وأثده ونسبه أبو عبيدة 2/ 75، وقال: الرساس: المعادن. وأنشده ابن جرير 19/ 14، ولم ينبه، وفيه: بأهل، بالباء الموحدة تحت. وأنشده ابن قتيبة، في: غريب القرآن 313، منسوبًا للنابغة وأنشده، وذكر قول أبي عبيدة الثعلبي 8/ 99 أ. وفي "تهذيب اللغة" 12/ 290 (رسس): وكل بئر عند العرب: رَسٌّ، وأنشد البيت للدلالة على ذلك. ضبط: تنابلة، في التهذيب 12/ 290: بالرفع، وفي "الديوان" و"المجاز" لأبي عبيدة: بالنصب. وفي "تهذيب اللغة" 13/ 331 (فرط): الفرَط: المتقدم في طلب الماء. والناهل في كلام العرب: العطشان. "تهذيب اللغة" 6/ 305 (نهل). والتنبال: الرجل القصير. "تهذيب اللغة" 14/ 354 (تنبل). - النابغة الجعدي، الشاعر المشهور المعمَّر -رضي الله عنه-، اختلف في اسمه فقيل: عبد الله ابن قيس، وقيل: قيس ابن عبد الله، من جَعدة بن كعب بن ربيعة، أقام مدة لا يقول الشعر ثم قاله فقيل: نبغ. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 223، في سورة: ق. وفي "غريب القرآن"، لابن قتيبة ص 313، بالإثبات حيث قال: كل ركية تطوى فهي رس. وفي "اللسان" 6/ 99: والرس: البئر المطوية بالحجارة فكلمة: رَسَسْتُ، من الأضداد، تستعمل في الإصلاح، وتستعمل في الإفساد. "الأضداد" للأنباري ص 383. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 99 أ، بنصه.

قال: سألت كعبًا عن أصحاب الرس؟] (¬1) فقال: صاحب ياسين الذي قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] قتلوه (¬2)، قتله قومه ورسَّوه في بئر لهم يقال له: الرس، أي: دسوه فيها (¬3). وهذا قول مقاتل والسدي؛ قالا: الرس: بئر بأنطاكية (¬4) قتلوا فيها حبيبًا النجار فنسبوا إليها (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس في أصحاب الرس قال: بئر كانوا عليها نزولًا (¬6). وهذا قول مجاهد؛ قال: بئر كان عليها قوم يقال لهم: أصحاب الرس (¬7). ونحو هذا قال وهب، قال: وبعث الله إليهم شعيبًا، وكانوا أهل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من (ج). وقول كعب ذكره الثعلبي 8/ 96 أ، دون ذكر السؤال. (¬2) كلمة: (قتلوه) في (أ)، (ب). ويوجد بعد هذه الكلمة تكرار في (ب)، قدر سطرين. (¬3) أخرج ابن جرير 19/ 14، عن عكرمة أنه قال: أصحاب الرس بفلج هم أصحاب يس. ولم ينسبه لابن عباس. وذكره القرطبي 13/ 32 منسوبًا لابن عباس. (¬4) أنطاكية: قصبة العواصم من الثغور الشامية، وهي من أعيان البلاد، وأمهاتها، موصوفة بطيب الهواء وعذوبة الماء، وكثرة الفواكه وسعة الخير، حاصرها أبو عبيدة بن الجراح، وصالح أهلها، ثم نقض أهلها العهد فأرسل إليهم أبو عبيدة: عياض بن غنم، وحبيب بن مسلمة ففتحاها. "معجم البلدان" 1/ 316. و"مراصد الإطلاع" 1/ 124. وموقعها الآن: جنوب تركيا تبعد عن الساحل الشرقي للبحر المتوسط حوالي 50 كم. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 45 ب، لكنه لم يسمه. وذكره الثعلبي 8/ 96 أ، ونسبه لكعب ومقاتل. ونسبه ابن الجوزي 6/ 90، للسدي. (¬6) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2695، بسنده عن عكرمة عن ابن عباس: أنها بئر بأذربيجان. (¬7) أخرجه عن مجاهد، ابن جرير 19/ 14، وابن أبي حاتم 8/ 2695. وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس.

بئر نزولًا عليها، وأصحاب مواش، وكذبوا شعيبًا، وآذوه فانهارت البئر بهم، وبديارهم ومنازلهم، فهلكوا جميعاً (¬1). وقال قتادة: الرس: قرية بفَلَج اليمامة (¬2) قتل أهلها نبيهم فأهلكهم الله (¬3). ¬

_ (¬1) "الوسيط" 3/ 340 بنصه، منسوباً لوهب. وهو كذلك عند البغوي 6/ 84 والطبرسي 7/ 266. وابن الجوزي 6/ 90. والقرطبي 13/ 32. وكون أصحاب الرس قوم شعيب، -عليه السلام- مذكور في "تنوير المقباس" ص 303. وأخرج ابن جرير 19/ 13، بإسناده عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قال: قرية من ثمود. وذكره ابن كثير 6/ 111، واستبعد هذا أبو حيان 6/ 457، وقال: ويبعده عطفه على ثمود؛ لأن العطف يقضي التغاير. وتبعه الألوسي 19/ 19. (¬2) فلج اليمامة: بفتح أوله وثانيه، مدينة بأرض اليمامة، لبني جعدة، وقُشير، وكعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. "معجم البلدان" 4/ 307. وتسمى الآن: الخرج، المدينة المعروفة جنوب الرياض بحوالي 100كم. (¬3) أخرج هذا القول بإسناده عن قتادة، ابن جرير 19/ 14، وابن أبي حاتم 8/ 2695. وذكره القرطبي 13/ 32. وزاد البغوي 6/ 84، نسبته للكلب في. ولم يرجح الواحدي -رحمه الله- شيئاً من هذه الأقوال، ولعل أقربها أنهم قوم كانوا على بئر؛ لأن هذا هو الموافق للمعنى اللغوي. وقد اقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 779. وهو اختيار ابن جرير 19/ 14. وجزم به السمرقندي 2/ 461. وذكر ابن جرير 19/ 14، والثعلبي 8/ 96 أ، قولاً في أصحاب الرس أنهم أصحاب الأخدود، والرس، هو: الأخدود الذي بنوه. قال ابن جرير 19/ 14: ولا أعلم قوماً كانت لهم قصة بسبب حفرة ذكرهم الله في كتابه إلا أصحاب الأخدود. وذكرا أيضًا خبراً طويلاً مرفوعاً في شأن أهل الرس، وهو لا يصح؛ لأنه من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، يرفعه للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وذكره ابن كثير 6/ 111، من طريق ابن جرير، ثم قال: عن محمد بن كعب مرسلاً، وفيه غرابة، ونكارة، ولعل فيه إدراجاً. وقد أعرض عنه الواحدي -رحمه الله- فلم يذكره في تفاسيره الثلاثة، ولا في "أسباب النزول" وذكر الثعلبي 8/ 96 ب، خبراً طويلًا عن علي -رضي الله عنه- موقوفاً عليه في شأن أصحاب =

وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أي: وأهلكنا قرونًا ما بين عاد إلى أصحاب الرس (¬1). قاله مقاتل (¬2). ¬

_ = الرس. وهو من الإسرائيليات. وذكر أيضًا أخباراً أخر في شأنهم، وقد أحسن الواحدي -رحمه الله- صنعاً في ترك ذكرها؛ إذ العبرة حاصلة في إهلاكهم. قال الرازي 24/ 82: وأي شيء كان فقد أخبر الله تعالى عن أهل الرس بالهلاك. وقال في ص: 83، بعد ذكره للأقوال الواردة في أصحاب الرس: واعلم أن القول ما قاله أبو مسلم وهو أن شيئًا من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن، ولا بخبر قوي الإسناد، ولكنهم كيف كانوا فقد أخبر تعالى أنهم أهلكوا بسبب كفرهم. ما تحته خط هكذا وجدته في "تفسير الرازي". وقال القاسمي 12/ 262: وَيروي هنا بعضهم آثاراً لا تصح. كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله فلا تحل الجراءة على روايتها، ولا تنزيل الآية عليها؛ لأنه من قفو ما ليس للمرء به علم، ومثله يحظر الخوض فيه. (¬1) هكذا في (ج)، وفي (أ)، (ب): (قروناً بين عاد وأصحاب الرس). (¬2) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. واقتصر عليه ابن الجوزي 6/ 91. وظاهر الآية أعم من ذلك. قال ابن جرير 19/ 15: ودمرنا بين أضعاف هذه الأمم التي سميناها لكم أممًا كثيرة ويؤيده قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17]. ونحوه قال السمرقندي 2/ 461. أخرج الحاكم في "المستدرك" 2/ 437، بسنده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: معد بنس عدنان، بن أدد، بن زند، بن البراء، بن أعراق الثرى، قالت: ثم قرأ رسول الله {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} لا يعلمهم إلا الله، قالت أم سلمة: وأعراق الثرى: إسماعيل بن إبراهيم، وزند: هميسع، وبراء نبت. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه البيهقي، في "الدلائل" 1/ 178، قريباً من رواية الحاكم، وهذا الحديث يدل على بطلان الحديث الذى أورده بعض المفسرين، كابن عطية 11/ 41، عن ابن عباس موقوفاً، ومرفوعاً: (كذب النسابون من فوق عدنان)، وهو حديث لا يصح؛ لأنه من طريق: محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1/ 144، رقم: 111.

39

39 - وقوله تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} قال الزجاج: {وَكُلًّا} منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره؛ المعنى: وأنذرنا كلًا ضربنا له الأمثال (¬1). قال قتادة: وكلًّا قد أعذر الله إليه ثم انتقم منه (¬2). وقال مقاتل: وكلًا بيِّنا لهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا (¬3). {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أهلكنا بالعذاب إهلاكًا (¬4). قال الزجاج: وكل شيء كسَّرتَه وفتَّتَّه فقد تبَّرْته، ومنه تبر الذهب (¬5). وذكرنا معنى: التتبير، في سورة: سبحان (¬6). 40 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا} يعني: كفار مكة (¬7) {عَلَى الْقَرْيَةِ} يعني: قرية قوم لوط (¬8) {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} قال مقاتل، وغيره: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 68. بنصه. (¬2) أخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 70. وعنه ابن جرير 19/ 15. وابن أبي حاتم 8/ 2697. قال ابن كثير 6/ 112: أي بينا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة. (¬3) لم أجده في "تفسير مقاتل". وفي "تنوير المقباس" ص 303: بينا لكل قرن عذاب القرون الذين قبلهم فلم يؤمنوا. وذكر أبو حيان 6/ 458، وجهاً غريبا في ذلك، واستبعده، وهو حري بذلك، وهو أن الضمير في {لَهُ} لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 99أ. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 69. (¬6) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7]: يقال تَبِرَ الشيءُ يَتْبَرُ تَباراً إذا هلك، وتَبَّرَه أهلكه، قال أبو إسحاق: وكل شيء كَسَرْتَه وفَتَّتَّهُ فقد تَبَّرْتَهُ، ومن هذا تِبْرُ الزجاج وتِبْرُ الذهب لِمُكَسَّره. (¬7) "تنوير المقباس" ص 303. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 69. و"تفسير السمرقندي" 2/ 461. وتصدير قصة قوم لوط -صلى الله عليه وسلم- باللام، وقد، دليل على عظم إعراضهم عن الانتفاع بالمواعظ والزواجر. والله أعلم. (¬8) "تنوير المقباس" ص 303. والزجاج 4/ 69. والسمرقندي 2/ 461. وذكر الثعلبي 8/ 99 أ، والزمخشري 3/ 273، والرازي 24/ 84، وأبو حيان 6/ 458 ونسبه =

يعنى: الحجارة، كل حجر في العِظَم على قدر إنسان (¬1) {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} في أسفارهم إذا مروا بها فيخافوا ويعتبروا (¬2). قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط (¬3). وذلك قوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات: 137]. ثم أعلم الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن الذي جرأهم على التكذيب، وترك المبالاة بما شاهدوا من التعذيب في الدنيا أنهم كانوا لا يصدقون بالبعث، فقال: {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان: 40] قال ابن عباس ومقاتل: لا يخافون بعثًا، ولا ¬

_ = لابن عباس، وأبو السعود 6/ 219، والألوسي 19/ 21، أنها خمس قرى، فأهلك الله أربعاً، وبقيت الخامسة، وكان أهلها لا يعملون ذلك العمل الخبيث. وهذا مخالف لظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى لم يستثن منهم قرية، بل استُثني من العذاب أهلُ لوط -صلى الله عليه وسلم- فقط. قال الله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 170، 173]، قال ابن كثير 4/ 174: والغرض أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطاً -عليه السلام-. وذكر ابن عطية 11/ 42، وابن كثير 6/ 112، والبيضاوي 2/ 142، أن اسم القرية: سدوم، بالشام. قال أبو حاتم في كتاب: المُزال والمُفسَد: إنما هو سذوم، بالذال المعجمة، والدال خطأ. نقله الأزهري، في "تهذيب اللغة" 12/ 374، وصححه. وعنه ياقوت في معجم البلدان 3/ 226 - واقتصر المراغي 19/ 18، والألوسي 19/ 21، على ذكرها بالذال. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. وذكره البرسوي 6/ 214، ولم ينسبه. وهي حجارة السجيل، المذكورة في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]. ووصف مقاتل لها بأنها في العظم على قدر الإنسان يحتاج إلى إثبات؛ ووصفها بالإمطار يدل على أنها شبيهة بالمطر في الكثرة، والتتابع، ولا يلزم من ذلك كبرها وعظمها، والله أعلم. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 99 أ. و"تفسير الماوردي" 4/ 146. (¬3) ذكره البغوي 6/ 85، ولم يخسجه. ونسبه القرطبي 13/ 34، لابن عباس رضي الله عنهما.

41

يصدقون به (¬1). 41 - قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} أي: ما يتخذونك إلا مهزوؤًا به (¬2). ثم ذكر أي شيء يقولون من الاستهزاء فقال: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} أي: قالوا مستهزئيِن: أهذا الذي بعثه الله رسولَّاً إلينا (¬3)؟. وجواب {إذا} هو ما أضمر من القول على تقدير: وإذا رأوك قالوا: أهذا الذي بعث الله (¬4)؟. وقوله: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} جملة اعترضت بين: إذا، وجوابها، والمعنى: إذا رأوك مستهزئين قالوا هذا القول؛ وهو قولهم: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. أخرج ابن أبي حاتم 182 أ، عن قتادة، في قوله تعالى: {لَا يَرْجُونَ} أي: لا يخافون. وأخرج ابن جرير 19/ 17، عن ابن جريج: {وَلاَ نُشُورًا} بعثاً. قال ابن الجوزي: أي: لا يخافون بعثاً، هذا قول المفسرين. "زاد المسير" 6/ 91. وقال الزجاج: الذي عليه أهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف، وإنما المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير، فركبوا المعاصي. "معاني القرآن" للزجاج 4/ 69. وارتضى هذا القول الرازي 24/ 84. وجوَّز القرطبي 13/ 34، القولين. (¬2) "تفسير الطبري" 19/ 17. بنحوه قال أبو حيان 6/ 458 لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك الإيمان به، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء، والاحتقار، حتى يقول بعضهم لبعض {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}. (¬3) ذكر مقاتل في تفسيره 45 ب، أنها نزلت في أبي جهل. وكذا السمرقندي 2/ 461. والثعلبي 8/ 99 أ. والبغوي 6/ 85. والقرطبي 13/ 34. وأخبر بلفظ الجمع تعظيماً لقبح صنعه، أو لكون جماعة معه قالوا ذلك. تفسير أبي حيان 6/ 458. (¬4) ذكر النحاس 3/ 162، أن جواب (إِذَا) هو قوله تعالى: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} لأن معناه: يتخذونك. وأشار إلى القول الذي ذكره الواحدفي بقوله: وقيل: الجواب محذوف؛ لأن المعنى: قالوا: أهذا الذي بُعث هو {الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}.

42

42 - {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} قال ابن عباس: لقد كاد أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا (¬1). وقال مقاتل: استزلنا عن ديننا (¬2) قال الله سبحانه: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} أي: بما يعاينوه في الآخرة {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} من أخطأ طريقا عن الهدى أهم أم المؤمنون! قاله مقاتل (¬3). وقال غيره: المعنى: يعلمون أنه لا أحد أضل منهم (¬4). 43 - {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬5) قال عطاء عن ابن عباس: أرأيت يا محمد من عرف أني إلهه، وخالقه، ثم هوى حجرًا يعبده فما حاله عندي (¬6). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 303. و"تفسير السمرقندي" 2/ 462، ولم ينسبه. وهذا يدل على عظم حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية قومه، ومجاهدتهم بكل ما يستطيع. تفسير الزمخشري 3/ 274. قال المراغي: وهذا منهم مغالاة، حيث سمَّوا دعوته إضلالاً. "تفسير المراغي" 19/ 19 ويشبه هذا ما حكاه الله تعالى عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. وجمعهم بين الاستهزاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ووصفه بأنه كاد أن يضلهم عن دينهم، دليل على حيرتهم في أمره، تارة يستهزئون به، وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل. تفسير أبي حيان 6/ 459. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. (¬4) قال الثعلبي 8/ 99 أ: هذا وعيد لهم. (¬5) في تقديم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] إفادة الحصر فإن الكلام قبل دخول: أرأيت، مبتدأ وخبر، المبتدأ: هواه، والخبر: إلهه، وتقديم الخبر يفيد الحصر، فكأنه قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه. "الانتصاف بحاشية الكشاف" 3/ 274. (¬6) "تفسير الماوردي" 4/ 146. والبغوي 6/ 85، بنحوه منسوبًا لابن عباس.

وقال الكلبي: كانت العرب إذا هوى الرجل منهم شيئًا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه عبده حجرًا أو شجرًا أو أشباههما (¬1). وقال سعيد بن جبير: كان أهل الجاهلية يعبد أحدهم الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه وترك الأول (¬2). وقال مقاتل: وذلك أن الحارث بن قيس السهمي (¬3) هوى حجرًا فعبده (¬4). وعلى هذا القول، تقدير الآية: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه، فحذف الجار (¬5). أو: إلهه ما يهواه، فسمي المفعول باسم المصدر، قال: فلان هوًى لفلان، إذا كان يهواه ويميل إليه، ومنه قول الشاعر: هوًى بتهامة وهوًى بنجد ... فما أدري أُنِجِّدُ أم أغور (¬6) ومعنى الآية: تعجيب النبي -صلى الله عليه وسلم- من نهاية جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى، وما يدعو إليه الهوى باطل (¬7). وهذا القول اختيار الفراء (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268، بمعناه. ولم ينسبه، ونسبه القرطبي 13/ 35، للكلبي. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 99 أ، ولم ينسبه. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2699، نحوه منسوبًا لابن عباس. ومثل رواية ابن أبي حاتم، ذكر الماوردي 4/ 146، وابن كثير 6/ 113. (¬3) الحارث بن قيس بن عدي بن سعد القرشي السهمي، ذكره ابن جرير 14/ 70 في المستهزئين عند قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. ونسبه العز 2/ 426، للحسن. (¬5) "تفسير القرطبي" 13/ 35. (¬6) لم أقف على من أنشد البيت، ولا على قائله. وفي "لسان العرب" 5/ 34 (غور): غور تهامة: ما بين ذات عرق والبحر وهو الغور، وقيل: الغور تهامة وما يلي اليمن. (¬7) فالاستفهام في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} للتقرير، والتعجب. البيضاوي 2/ 142. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268.

وفي الآية قول آخر؛ وهو قول الحسن وابن عباس؛ قال ابن عباس: الهوى: إله يعبد من دون الله (¬1). وقال الحسن: لا يهوى شيئًا إلا اتبعه (¬2). وذكر الزجاج القولين؛ فقال في القول الثاني: أي: أطاع هواه، وركبه فلم يبال عاقبة ذلك (¬3). وهو اختيار ابن قتيبة؛ قال: يقول: يتَّبع هواه ويدع الحق فهو كالإله (¬4). قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} قال ابن عباس: يريد لست عليه بمسيطر (¬5). وقال مقاتل: يريد أن تكون بيدك المشيئة في الهوى والضلالة (¬6). والمعنى: أفأنت عليه حافظ، تحفظه من اتباع هواه، وعبادته ما يهوى من ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 99 أ. منسوبًا لابن عباس فقط. وعنه نقل ابن عطية 11/ 43. وذكره القرطبي 13/ 35. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2700. وأخرج بسنده عن قتادة: والله لكلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى. وزاد السيوطي 6/ 260، نسبته لعبد بن حميد. وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن، أنه قيل له: في أهل القبلة شرك؟ فقال: نعم؛ المنافق مشرك، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله، وإن المنافق يعبد هواه، ثم تلا هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}. "الدر المنثور" 6/ 261. قال الألوسي 19/ 24، بعد أن ساق هذا القول: والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 69. (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 313. قال القرطبي 13/ 35، بعد أن ذكر القولين: والمعنى واحد. (¬5) تفسير الماوردي 4/ 146، منسوبًا للسدي. ونحو هذا المعنى قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 45 ب.

44

دون الله (¬1). أي: لست كذلك. قال الكلبي: نسختها آية القتال (¬2). 44 - {أَمْ تَحْسَبُ} بل أتحسب يا محمد (¬3) {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} (¬4) ¬

_ (¬1) في غريب القرآن لابن قتية ص 313، {وَكِيلًا} أي: كفيلًا، وقيل: حافظًا. ونسب الماوردي 4/ 143، الأول للكلبي، والثاني ليحيى بن سلام. قال الثعلبي 8/ 99 أ: أي: حفيظًا من الخروج إلى هذا الفساد. (¬2) "تنوير المقباس" ص 353 و"الوسيط" 3/ 341. ولم ينسب هذا القول في "الوجيز" 2/ 780، وصدَّرَه بقوله: وقيل: إن هذا مما نسخته آية السيف. وجزم بالنسخ الثعلبي 8/ 99 أ، ولم ينسبه. وصدره ابن الجوزي 6/ 93، بقوله: وزعم الكلبي ... وصدَّره القرطبي 13/ 36، بـ: قيل. ثم قال: وقيل: لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وصدر الشوكاني 4/ 75، أقول بالنسخ بـ: قيل، ولم ينسبه، ولم يذكر غيره. والصحيح أن الآية لا نسخ فيها؛ إذ لا دليل عليه، وآيات العفو والصفح والإعراض يعمل بها في أوقاتها المناسبة. والله أعلم. قال الزركشي: وبهذا التحقيق تبين أن ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المُنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا. "البرهان في علوم القرآن" 3/ 49. وإذا عرفنا أن اصطلاح النسخ في عرف المتقدمين أوسع من اصطلاح المتأخرين زال الإشكال. قال شيخ الإسلام: والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف -العام-: كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام، وتقييد المطلق. "الفتاوى" 13/ 272. (¬3) "تنوير المقباس" ص 303. فـ {أَمْ} هنا للإضرابد والأقرب أنهاهنا عديلة لألف الاستفهام. انظر: "معاني الحروف" للرماني ص 70. وجعل البيضاوي 2/ 142، الاستفهام للإنكار. والله أعلم. قال أبو السعود 6/ 221: إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه -صلى الله عليه وسلم- لهم ممن يسمع أو يعقل؟. واقتصر على القول بالإنكار الشوكاني 4/ 75. وذكر ابن عاشور 19/ 37، قولًا قريبًا من كلام أبي السعود. قال الشنقيطي 6/ 331: {أَمْ} هو في هذه الآية هي المنقطعة، وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى: بل، الإضرابية، واستفهام الإنكار معًا. (¬4) قال النحاس: ولم يقل: أنهم؛ لأن منهم من قد عَلِمَ أنه يؤمن. "إعراب القرآن" =

قال ابن عباس: يريد أهل مكة في {يَسْمَعُونَ} ما يذكَرهم به سماع طالب للفهم (¬1) {أَوْ يَعْقِلُونَ} أي: يميزون الهدى من الضلالة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} قال مقاتل: في الأكل والشرب، لا يلتفتون إلى الآخرة (¬2). وقال الكلبي: شبههم بالأنعام في المأكل والمشرب لا تعقل غيره (¬3). وقال الزجاج: في قلة التمييز فيما جعل دليلًا لهم من الآيات، والبرهان (¬4) {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} قال ابن عباس: يريد أن البهائم ليس عليها عقاب ولا لها ثواب (¬5). وهذا معنى قول الكلبي؛ لأنها لا حجة عليها (¬6). قال مقاتل: يقول الله: بل هم أخطأ طريقًا من البهائم؛ لأنها تعرف ربَّها وتذكره، وأهل مكة لا يعرفون ربهم فيوحدونه (¬7). وهذا المعنى أراد الزجاج؛ فقال: لأن الأنعام تسبح بحمد الله، وتسجد له، وهم كما قال الله ¬

_ = 3/ 162. وقال الرازي 24/ 86: لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى، ويعقل الحق، إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. ويُحمل أيضًا على أن منهم من رضي باتباع الرؤساء والزعماء، ولم يكلف نفسه السماع. قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 99 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 45 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2700، بسنده عن ابن عباس قال: مثل الذين كفروا كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضهم: كل، لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، كذاك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك. (¬3) "تنوير المقباس" ص 353. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 69. بنصه. (¬5) "تنوير المقباس" ص 303. بنصه. (¬6) "تنوير المقباس" ص 303، بمعناه. (¬7) "تفسير مقاتل"ص 46 أ.

45

تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (¬1) [البقرة: 74] وقيل: لأن الأنعام تنقاد لأربابها الذين يُعلفونها ويتعهدونها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق، ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم (¬2). ونظير هذه الآية في سورة الأعراف (¬3). 45 - قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (¬4) ذُكِر فيه أوجه؛ قال مقاتل: ألم تر إلى فعل ربك (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 75. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 99 ب. ذكر الرازي 24/ 86 وجوهًا ستة، في كونهم أضل من الأنعام. (¬3) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] (¬4) قال الرازي 24/ 88: اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقتهم في ذلك ذكر بعده أنواعًا من الدلائل الدالة على وجود الصانع. ثم جعل هذه الآية النوع الأول. وذكر نحوه أبو حيان 6/ 460. وهذا غير مسلم؛ لأن القوم لم يكونوا منكرين لوجود الله حتى تساق لهم الآيات والبراهين الدالة عليه، فالأولى أن تكون هذه الآيات سيقت لإلزامهم بإفراد الله بالعبادة، من خلال مشاهدتهم لهذه الآيات المختلفة والمتضادة، التي لا ينكرونها، والتي لا تقدر الآلهة على شيء منها، فإقرارهم بوحدانية الله في خلقه لها وتصريفها مع عجز جميع المخلوقات عن التصرف فيها مستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية، ويدل لهذا توجيه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليعلمهم بذلك. وجعل ابن عاشور 19/ 39، هذه الآية مفيدة تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجمًا، بهيئة مد الظل مدرَّجًا، ولو شاء لجعله ساكنًا. وفيه بعد. والله أعلم. (¬5) لم أجده في "تفسير مقاتل". وفي "تنوير المقباس" ص 303: ألم تنظر إلى صنع ربك. وكذا عند الزمخشري 3/ 275، غير منسوب، ويشهد له قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وعلى هذا الآيهَ من باب حذف المضاف (¬1). وقال أبو إسحاق: {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم. وهذا من رؤية القلب. قال: ويجوز أن يكون من رؤية العين، ويكون المعنى: ألم تر كيف مد الظل ربك (¬2). وهذا قريب مما ذُكر في هذه الآية أنه مقلوب؛ على تقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك (¬3). قال: والأجود أن يكون بمعنى العلم (¬4). {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} قال أبو عبيدة: الظل ما تنسخه الشمس، وهو بالغداة (¬5). والكلام في معنى الظل قد تقدم (¬6). والمفسرون جميعًا قالوا في معنى الظل هاهنا: إنه الظل من وقت طلوع الفجر، إلى وقت طلوع الشمس (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير السمرقندي" 2/ 462، وفيه: ألم تر إلى صنع ربك. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 70. واقتصر ابن عطية 11/ 44، على أن المراد به: رؤية القلب. (¬3) "تفسير السمرقندي" 2/ 462، ولم ينسبه. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 70. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 75، بمعناه. وقال في ص 76: والفيء: ما نسخ الشمسَ من الظل، وهو بالعشي، إذا استدارت الشمس. والغدوة: من أول النهار. "المفردات" للراغب ص 358. وقال الراغب في ص 314: الظل أعم من الفيء، فإنه يقال: ظل الليل، وظل الجنة، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس. (¬6) قال الواحدي في تفسير قوله الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57]: الظل في اللغة، معناه: الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل فلان، أي: ستره، وظل الشجرة سترها، ويقال لظلمة الليل: ظل؛ لأنها تستر الأشياء، ومنه قوله تعالى. {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 70، عن الحسن، وقتادة. وذكره البخاري، تعليقًا عن ابن =

فالظل الذي يكون بعد طلوع الفجر، وانبساطه قبل طلوع الشمس، وظورها على الأرض هو الذي أراد الله بقوله: {مَدَّ الظِّلَّ} واستدلوا بقوله في صفة ظل الجنة: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] أي: لاشمس فيه (¬1). كذلك الظل فيما بين هذين الوقتين لا شمس معه، فهو ظل ¬

_ = عباس. "فتح الباري" 8/ 490. ووصله من طريق علي بن أبي طلحة، ابن جرير 19/ 18. وابن أبي حاتم 8/ 2701. وأخرجه ابن جرير 19/ 18، بإسناده عن سعيد ابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وكذا ابن أبي حاتم 8/ 2701، وزاد نسبته لأبي العالية، والنخعي، ومسروق، والحسن. وهو قول مقاتل 46 أ، والفراء، "معاني القرآن" 2/ 286. وابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص 314. والزجاج، "معاني القرآن" 4/ 70. ويرى ابن عطية 11/ 45، أن المراد بالظل في الآية: هو ما بين أول الإسفار، إلى بزوغ الشمس، ومن بعد مغيبها مدة يسيرة. ورد ما خالفه بقوله: وتظاهرت أقوال المفسرين على أن هذا الظل هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وذلك معتَرض بأن ذلك في غير نهار، بل في بقايا الليل، فلا يقال له: ظل. ونقل قوله ابن جزي ص 485، وأبو حيان 6/ 460 ولم يتعقباه. ورده ابن حجر بقوله: لأن الذي نقل أنه يُطلَق على ذلك ظلٌ ثقة مُثبِت، فهو مقدم على النافي، حتى ولو كان قول النافي محققًا لما امتنع إطلاق ذلك عليه مجازًا. "فتح الباري" 8/ 491. والأولى أن يقال: إن اعتراض ابن عطية لا وجه له؛ لأن النهار في لسان الشرع يبدأ من دخول وقت الفجر، فلا يقال للوقت بعد طلوع الفجر إلى الإسفار ليل، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] قوله: -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ بلالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ" أخرجه البخاري في الأذان. رقم 617 "الفتح" 2/ 99. ومسلم 2/ 768 الصيام، رقم 1092. والله أعلم. (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 314، حيث استدل بهذه الآية. وقريب منه في "تفسير السمرقندي" 2/ 462. و"تفسير الثعلبي" 8/ 99 ب. قال الرازي 24/ 88: وهذه الحالة أطيب الأحوال؛ لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع، وينفر عليها الحس، =

ممدود (¬1). وقوله: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} قال ابن عباس، ومقاتل: يقول لو شئت لجعلت الظل دائمًا لا يزول إلى يوم القيامة (¬2). وقال مجاهد: لا تصيبه الشمس ولا يزول (¬3). وقال الحسن: ساكنًا كما هو (¬4). قال الكلبي: دائمًا لا شمس معه (¬5). وقال الفراء، والزجاج: أي ثابتًا دائمًا لا يزول (¬6). وقال ابن قتيبة: أي مستقرًا دائمًا حتى يكون كظل الجنة الذي لا تنسخه الشمس (¬7). ¬

_ = وأما الضوء الخالص .. فهي لقوتها تبهر الحس البصري، وتفيد السخونة القوية، وهي مؤذية، فإذًا أطيب الأحوال هو الظل، ولذلك وصف الجنة به. وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. "تفسير القرطبي" 13/ 37. (¬1) قال القرطبي 13/ 37: ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة، والمسافر وكل ذي علة. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 46 أ. وذكر البخاري، كتاب التفسير، باب: سورة الفرقان، عن ابن عباس: {سَاكِنًا} دائمًا. الفتح 8/ 490. ووصله ابن جرير 19/ 19، وابن أبي حاتم 8/ 2702، من طريق علي بن أبي طلحة. (¬3) أخرج ابن جرير 19/ 19، وابن أبي حاتم 8/ 2702. وتفسير مجاهد 2/ 453. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2702. (¬5) "تنوير المقباس" ص 304. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 70. (¬7) "تأويل مشكل القرآن" ص 314، بنصه، ونحوه في "تفسير غريب القرآن" ص 313.

وقال صاحب النظم: ليس هذا من السكون الذي هو ضد الحركة؛ لأن الظل ساكن أبدًا، ولكنه من السكون الذي هو بمعنى الإقامة، يقال: سكن فلان بلد كذا، أي: أقام فيه. قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} ذُكِر فيه قولان، قال مقاتل: يعني على الظل دليلًا تعلوه الشمس فتدفعه حتى تأتي على الظل كله (¬1). وهذا معنى قول مجاهد: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} قال: تحويه (¬2)؛ أي: تأخذه. وقال الكلبي: حيثما يكون الظل تكون الشمس (¬3). وقال أبو إسحاق: الشمس دليل على الظل وهي تنسخ الظل (¬4). وهذه الأقوال معناها واحد. وبيانها ما ذكره صاحب النظم؛ فقال: دليل، هاهنا فعيل بمعنى: مفعول، نحو: العتيل، والدَّهين، والخصيب (¬5). والمعنى: دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به. أي: اتبعناها إياه. يدل على ذلك: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 46 أ. وفيه: يتلو، بدل: تعلوه وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2702، عن قتادة، والسدي. قال الهواري 3/ 212: تتبعه، وتقبضه. (¬2) أخرج ابن برير 19/ 19. وابن أبي حاتم 8/ 2702. وتفسير مجاهد 2/ 453. (¬3) "تنوير المقباس" ص 304. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 70. (¬5) هكذا في (أ)، (ب): (العتيل)، وأهمل وضع النقط في (ج). العتيل: الأجير. "تهذيب اللغة" 2/ 271، و"اللسان" 11/ 424 (عتل). الدَّهين: الناقة القليلة اللبن. ورجل دهين: ضعيف. "تهذيب اللغة" 6/ 206، "اللسان" 13/ 161 (دهن). الخصيب: الرجل إذا كان كثير خير المنزل، يقال: إنه خصيب الرحل. ويقال: مكان مخصب، وخصيب. "تهذيب اللغة" 7/ 150، و"اللسان" 1/ 356 (خصب).

46

قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي: شيئًا بعد شيء (¬1). القول الثاني: قال ابن عباس: يدل الشمس على الظل (¬2). واختار ابن قتيبة هذا القول، وشرحه؛ فقال: تقول لِمَا طلعت الشمس: دلت عليه، وعلى معناه، وكل الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل، وهكذا سائر ألألوان والطعوم، قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] يريد: ضدين ذكرًا وأنثى، وأسودَ وأبيض، وحلوًا وحامضًا، وأشباه ذلك (¬3). وعلى هذا القول: دليل، فعيل بمعنى فاعل (¬4). 46 - وقوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فيه قولان؛ قال مجاهد: يعني حوى الشمسُ إياه (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن جرير 19/ 19: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه أنه خلق من خلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد. (¬2) ذكر البخاري، عن ابن عباس {دَلِيلًا} طلوع الشمس. كتاب التفسير، باب: سورة الفرقان، "فتح الباري" 8/ 490. ووصله ابن أبي حاتم 8/ 2702، من طريق علي ابن أبي طلحة. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 314. (¬4) الظاهر أن لا فرق بين القولين، وقد ساق ابن جرير الآثار السابقة مجتمعة بعد تقريره أن الشمس دليل على الظل. والله أعلم. وفي جعل الشمس دليلًا على الظل، مصلحة ظاهرة للعباد فيبنون حاجتهم إلى الظل، واستغاءهم عنه على حسب ذلك. تفسير الزمخشري 3/ 275. وزاد عليه ابن عاشور 19/ 43، فوائد أخرى. ومعنى الآية واضح ظاهر، ومع ذلك قال ابن عاشور 19/ 41: ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحًا شافيًا. ثم قال ص 42: وتعدية {دَلِيلًا} بحرف على، يفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى. والله أعلم. (¬5) يعني: الظل. أخرجه ابن جرير 19/ 20. وابن أبي حاتم 8/ 2703.

وقال الكلبي: إذا طلعت الشمس قبض الله الظل قبضًا يسيرًا (¬1). وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: خفيًا (¬2). وقال عطاء: سهلًا (¬3). وقال الفراء: الظل إذا لحقته الشمس قبض قبضًا يسيرًا (¬4). ومعنى الآية على هذا القول: ثم جمعنا أجزاء الظل المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسخها شيئًا فشيئًا (¬5) فذلك قوله: {قَبْضًا يَسِيرًا} وذلك أن الظل بعد طلوع الشمس لا يذهب كله دفعة، وإنما يقبض الله جلَّ وعزَّ ذلك الظل قبضًا خفيًا، شيئًا بعد شيء، ويُعقِبُ كلَّ جزء منه يقبضه بجزء من ضياء الشمس حتى يذهب كله (¬6). القول الثاني: ذكره ابن قتيبة، واختاره؛ فقال: المراد بقبض الظل هاهنا: الظل الذي يعود بعد غروب الشمس إلى ظلمة الليل وسواده؛ وذلك ¬

_ (¬1) في "تنوير المقباس" ص 304 {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} عني: الظل. واستشهد عليه الهواري 3/ 212، بقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قال النحاس، "إعراب القرآن" 2/ 462: ويقال يسيرًا، يعني: خفيًا فلا يدري أحد أين يصير، وكيف يصير. ونسبه الواحدي في "الوسيط" 3/ 342، للكلبي. (¬2) أخرج ابن جرير 19/ 20، وابن أبي حاتم 8/ 2703، عن ابن عباس. رضي الله عنهما. من طريق علي ابن أبي طلحة: في {يَسِيرًا} سريعًا. وأخرجا عن مجاهد: خفيًا. وهو قول مقاتل 46 أ. وجمع بين القولين ابن جرير 19/ 20 فقال: فمعنى الكلام إذا كان ذلك كذلك، يتوجه لما روي عن ابن عباس، ومجاهد؛ لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفاء. (¬3) ذكره ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ص 315، ولم ينسبه. وكذا الزجاج، "معاني القرآن" 4/ 70. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 268. (¬5) ذكر نحوه الثعلبي 8/ 99 ب. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" 315، بنصه.

أن الشمس إذا غربت عاد الظل الممدود، ثم يقبض الله ذلك الظل بانتشار الظلمة وتزايدها، ولا يُقبِل الظلام كله جملة، وإنما يقبض الله ذلك الظل شيئًا بعد شيء بجزء من سواد الليل (¬1). وعلى هذا القول المراد: قبض الظل بسواد الليل. وعلى القول الأول: قبضه بضياء الشمس. وهذا القول أعم؛ لأن الظل إنما يقبض بضياء الشمس، حيث يكون شخص يقع له ظل، فأما البراري والصحاري فإن ظلها يقبض عند طلوع الشمس دفعة واحدة، فيخرج عن قوله: {قَبْضًا يَسِيرًا} ويقوي القول الأول قوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} والكناية تعود إلى الظل الذي سبق ذكره؛ وهو: ظل الغداة (¬2) بإجماع المفسرين (¬3). وفي القول الثاني: الكناية تعود إلى ظل من جنس الظل المذكور. وقال ابن قتيبة: دل الله -عز وجل- بهذا الوصف على قدرته، ولطفه، في معاقبته بين الظل، والشمس، والليل، لمصالح عباده وبلاده. قال: وهذا القول الثاني أجمع للمعاني وأشبه بما أراد الله (¬4). يعني: أنه يشتمل على ذكر الليل، وإدخاله بعد غروب الشمس. وأجاز أبو علي الفارسي، في قوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} قولًا ثالثًا؛ فقال: يجوز أن تعود الكناية من قوله: {قَبَضْنَاهُ} إلى ضياء ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 315، بمعناه. وذكر هذا القول ابن جرير الطبري 20/ 19، ولم ينسبه. (¬2) أي: ظل أول النهار. قال تعالى: قال تعالى: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام 52. الكهف 28] "المفردات"، للراغب ص 358. (¬3) سبق أن أشار الواحدي إلى هذا، بقوله: والمفسرون جميعًا قالوا في معنى الظل هاهنا: إنه الظل من وقت طلوع الفجر، إلى وقت طلوع الشمس. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 315.

47

الشمس؛ لأنه يقبض أيضًا قبضًا يسيرًا على التدرج. وعلى هذا معنى الآية: ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء قبضًا يسيرًا (¬1). 47 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} قال ابن عباس: يريد ألبسته الظلمة ليسكن فيه. وعلى هذا المعنى: ذا لباس من الظلمة؛ أي: أُلبس الظلمة ليُتركَ فيه العملُ والتصرف. قال مقاتل: يعني سكنًا (¬2). وهو معنى وليس بتفسير، واعتباره بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] (¬3). وقال أهل العربية، والمعاني: جعل الليل لباسًا؛ لأن ظلمته تلبس كل شخص وتغشاه حتى يمنع من إدراكه، وهو مشتمل عليكم وعلى كل شيء كاللباس الذي يشتمل على لابسه (¬4). ومن هذا قول ذي الرمة: ¬

_ (¬1) واختار هذا القول ابن جرير 19/ 20، حيث قال: ثم قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظل إلينا قبضًا خفيًا سريعًا بالفيء الذي نأتي به بالعشي. وفي الآية وجه آخر؛ وهو: أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [سورة: الفرقان: -الآية: 46] كأنه يشعر بذلك. مدارج السالكين 3/ 293. و"تفسير البيضاوي" 2/ 143. و"تفسير أبي السعود" 6/ 223. وهذا القول فيه بعد؛ إذ المراد جعل ذلك آية ظاهرة مشاهدة للناس يدركونها ويشاهدونها في حياتهم؛ والقول بأن المراد به عند قيام الساعة لا يؤدي هذا المعنى. والله أعلم. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. وهو قول الهوَّاري 3/ 212. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 144، وذكر فيه أيضًا قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189]. (¬4) "تهذيب اللغة" 12/ 444 (لبس)، بمعناه. وفي "تنوير المقابس" ص 304؛ ملبسا يلبس كل شيء فيه.

فلما لبسن الليل (¬1) .. البيت والله تعالى ألبسنا الليل وغشاناه لنسكن فيه (¬2). وقوله: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} قال الليث: السبات: السبات: النوم شِبه غشية. يقال: سبت المريض، فهو مسبوت (¬3) وقال الزجاج: السبات أن يقطع عن الحركة والروح في بدنه: أي: جعلنا نومكم راحة لكم (¬4). وقد أجاد وأحسن في تفسير السبات (¬5). وقال ابن الأنباري: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} ¬

_ (¬1) "ديوان ذي الرمة" ص 313، والبيت بتمامه: فلمَّا لَبِسنَ الليلَ أوحين نَصَّبتْ ... له مِنْ خَذا آذانها وهُوَ جانحُ لبسن الليل: دخلن فيه، يريد نصبت آذانها لبرد الليل، كانت قد خفضتها ثم رفعت رءوسها ونصبت آذانها في ذا الوقت حين جنح الليل، والخذا: الاسترخاء. "ديوان ذي الرمة" بشرح الخطيب التبريزي ص 313. (¬2) بنصه، في "تفسير الطوسي" 7/ 270. وذكر ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 144، قولين في معنى: {لِبَاسًا} سترًا وحجابًا لأبصاركم. القول الثاني: سكنًا. واقتصر في كتابه "الغريب" ص 313، على القول الأول. (¬3) كتاب "العين" 7/ 239 (سبت) ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 12/ 387. (¬4) في "معاني القرآن" للزجاج 5/ 272، في تفسير سورة النبأ. قال مقاتل 46 أ: يعني الإنسان مسبوتًا لا يعقل كأنه ميت. وذكر نحوه الهواري 3/ 212. (¬5) "تهذيب اللغة" 12/ 386 (سبت)، قاله الأزهري بعد نقل قول الزجاج. واقتصر ابن قتيبة، في الغريب ص 313. على تفسير السبات بالراحة ثم قال: وأصل السبات: التمدد. وذكر الأزهري 12/ 386، عن ابن الأنباري، أنه قال؛ لا يعلم في كلام العرب سبت بمعنى: استراح، وإنما معنى سبت: قطع. وجعل الزمخشري 3/ 276، مقابلة السبات بالنشور يمنع من "تفسيره" بالراحة، فقال: والمسبوت: الميت؛ لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ورد هذا أبو حيان 6/ 462، قال: ولا يأباه إلا لو تعين تفسير النشور بالحياة. وهو كلام جيد.

48

أي: قطعًا لأعمالكم (¬1). قال ابن عباس ومقاتل: ينتشرون فيه لابتغاء الرزق (¬2) والنشور معناه: التفرق: الانبساط في التصرف، ومنه: نشور الميت، وهو: حياته، وحركته، وتصرفه، بعد هموده. وحَسُن ذكر النشور هاهنا؛ لأن النائم بالليل يكون بانقطاعه عن العمل كالميت، فإذا استيقظ بالنهار وأخذ في أعماله كان النهار نشورًا له من وفاة النوم (¬3). وفي هذه الآية تذكير بالنعم من الله تعالى؛ وهي النوم، الذي فيه راحة الأبدان، والنهار، الذي يصلح للتصرف فيه. 48 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} سبق الكلام في تفسيره، ووجوه القراءات في سورة الأعراف (¬4). قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} المفسرون يقولون: من السحاب (¬5). وقال الحسن: المطرُ من السماء، والسحابُ عَلَم ينزل عليه ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 12/ 386 (سبت)، ينصه. منسوبًا لابن الأنباري. وفي "تفسير الثعلبي" 8/ 99 ب: راحة لأبدانكم وقطعًا لعملكم. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 64 أ، و"تفسير مجاهد" 2/ 454، وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2704، عن قتادة لمعايشهم ولحوايجهم ولتصرفهم. (¬3) "تفسير ابن جرير" 19/ 21، بمعناه. واستشهد على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح وقام من نومه: {الْحَمْدُ لله الّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ}. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، رقم: 6312 الفتح 11/ 113، والترمذي 5/ 449، كتاب الدعوات، رقم: 3417. (¬4) عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] حيث ذكر معنى بشرًا، وأصل اشتقاقها، ووجوه القراءات فيها، وباقية ألفاظ الآية تكلم عن ذلك في ست صفحات. (¬5) "تفسير ابن جرير" 19/ 21.

الماء من السماء (¬1). وأما الطهور، فقال أبو إسحاق: كل ما نزل من السماء، أو خرج من بحر، أو أذيب من ثلج، أو بَرَدٍ، فهو طهورة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه" (¬2) وقال الليث: الطَّهُور: اسم الماء كالوضوء، وكل ما لطف اسمه: طَهور. والتوبة التي تكون بإقامة الحدود نحو الرجم وغيره، طَهور للمذنب تطهره تطهيرًا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2704، عن السدي، وفيه قوله: ثم يفتح أبواب السماء ليسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك. ولم يذكر نسبته للحسن. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 71. بنصه. والحديث أخرجه مالك 1/ 22، الطهارة، رقم: 12. وأحمد 3/ 23، رقم: 7237. وأبو داود 1/ 64، الطهارة، رقم: 83. والترمذي 1/ 100، الطهارة، رقم: 69. والنسائي 1/ 53، الطهارة، رقم: 59. وابن ماجه 1/ 136، الطهارة، رقم: 386. من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ الله إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم: 480. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2705، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: إن الماء لا ينجسه شيء يُطهر، ولا يطهره شيء، فإن الله -عز وجل- قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]. قال ابن عاشور 19/ 47: وماء المطر بالغ منتهى الطهارة إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره، وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم، فهو الصافي حقًا. (¬3) "العين" 4/ 19 (طهر)، بنصه. وقد أضاف المحقق زيادات من التهذيب 6/ 171، وجعلها في الأصل، وعلق على ذلك في الحاشية بأنها نص ما نقله صاحب التهذيب، والذي يظهر خلاف ذلك، فالأزهري نقل جزءًا من الكلام، وزاد عليه فجعْلُ المحقق هذه الزيادة من "العين" غير مستقيم. ويؤكد هذا توافق ما نقل الواحدي مع ما في العين، إذا حذفت الزيادة التي أدخلها المحقق.

وقال الأزهري: الطَّهور في اللغة هو: الطاهر المطهر (¬1). والطَّهور: ما يتطهر به، كالوَضوء: ما يتوضأ به، والنَّشُوق: ما (¬2) يتنشق به، والفَطور: ما (¬3) يفطر عليه. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هو الطَّهور ماؤه" (¬4). وقال غيره (¬5): صيغة الفعول تأتي في الكلام على أنواع؛ تكون بمعنى (¬6) المفعول كالرَّكوب، والحَلوب، وبمعنى المتفعل به كالسَّحور، فإفه: متسحر به، والطَّهور، فإنه: متطهر به، وتكون بمعنى: الفاعل [وفيه معنى المبالغة كالأكول والشروب، وتكون بمعنى الفاعل والمفعول به] (¬7) من أفعل وذلك كقولهم: الإبل رَقُوء الدم، أي: مُرْقِية (¬8). والفَطور بمعنى المفطر به. والطَّهور، إذا جُعل بمعنى المطِّهر فهو فعول متعد من مصدر لازم كالمَشُوِ، وهو: الدواء الذي يمشي البطن (¬9). ومما ورد الطهور فيه بمعنى المطهر، قول جرير: ¬

_ (¬1) واقتصر على هذا التعريف في "الوجيز" 2/ 780. (¬2) (ما) في (ج). فقط. (¬3) (ما) في (ج). فقط. (¬4) "تهذيب اللغة" 6/ 172 (طهر). (¬5) ذكر نحوه الزمخشري 3/ 276، ونسبه لسيبويه. (¬6) هنا تكرار في (أ)، قدر ثلاثة أسطر. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬8) قال ابن السكيت: الرَّقُوء: الدواء الذي يُرقأ به. والعرب تقول: لا تسبوا الإبل فإن فيها رَقُوء الدماء؛ أي: تعطى في الديات فتحقن الدماء. "تهذيب اللغة" 9/ 292 (رقا). والشاهد فيه أن رقوء على وزن فعول، من أرقى. ومُرقية بالضم على اعتبار اسم الفاعل، وبالفتح باعتبار اسم المفعول. (¬9) "تهذيب اللغة" 11/ 438 (مشى). عن ابن السكيت، وفيه: يقال: شربت مَشُوا ومَشاء.

لقد كان إخراج الفرزدق عنكمُ ... طَهورًا لما بين المُصَلَّى وَوَاقِمِ (¬1) أي: كان إخراجه مطهرًا لهذا المكان. وقال أبو علي الفارسي: الطَّهور، على ضربين؛ اسم، وصفة، فإذا كان اسمًا كان على ضربين؛ أحدهما: أن يكون مصدرًا كما حكاه سيبويه (¬2)، تطهرت طهورًا حسنًا، وتوضأت وضوءًا حسنًا، فهذا مصدر على فعول، بفتح الفاء. ومثله: وقدت النار وقودًا في أحرف أخر. وأما الاسم الذي ليس بمصدر فكقوله -عليه السلام-: "طهور إناء أحدكم" الحديث (¬3). فالطَّهور اسم لما يطهر. وكذلك الفَطور، والوَجور، والسَّعوط، واللَّدود، والبَرود (¬4)، كلها أسماء وليست بمصادر. وأما كونه صفة فنحو قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] وقوله -عليه السلام-: "هو الطهور ماؤه" فالطهور ¬

_ (¬1) "ديوان جرير" ص 460، من قصيدة طويلة يجيب فيها الفرزدق. المصلى: موضع الصلاة؛ وهو موضع بعينه في المدينة. واقم: أُطُم من آطام المدينة كأنه سمي بذلك لحصانته، ومعناه أنه يرد عن أهله. "معجم البلدان" 5/ 408، والأطم: الحصين. "تهذيب اللغة" 14/ 44 (أطم). (¬2) أشار إلى ذلك الزمخشري 3/ 276. (¬3) أخرجه مسلم 1/ 234 الطهارة، رقم: 234. وأبو داود 1/ 57 الطهارة، رقم: 71. ولفظه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:"طهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ". ضبط حرف الطاء في كلمة: طهور، في صحيح مسلم: بالفتح والضم. (¬4) الوَجور: صب الماء أو الدواء في فم الصبي. "تهذيب اللغة" 11/ 185 (وجر). وفي "المعجم الوسيط" 2/ 1014: الوجور: الدواء يصب في الحلق. السَّعوط: الدواء يصب من الأنف. "تهذيب اللغة" 2/ 67 (سطع)، "المعجم الوسيط" 1/ 431. اللَّدود: ما يصب من الأدوية ونحوها في أحد شِقي الفم. "تهذيب اللغة" 14/ 67 (لدد)، "المعجم الوسيط" 2/ 821. البَرود: كل ما برد به من شيء، كالشَّراب، والكُحل تبرد به الحين. "تهذيب اللغة" 14/ 106 (برد)، "المعجم الوسيط" 1/ 48.

هاهنا صفة؛ ألا ترىَ أنه قد ارتفع به الماء كما يرتفع الاسم بالصفات المتقدمة. وأجاد أبو القاسم الزجاجي -رحمه الله- في تفسير الطهور، وكشف عن حقيقة المعنى؛ فقال: الطهور: اسم للماء الذي يتطهر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهرًا في نفسه، مطهرًا لغيره؛ لأن العرب إذا عدلت عن بناء: فاعل، إلى بناء: فعيل، أو فعول، لم تعدل إلا لزيادة معنى؛ لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما أنه لا يجوز التسوية بين صابر وصَبور، وشاكر وشَكور، كذلك في طاهر وطَهور، فإذا سويت بينهما فقد خالفت ما عليه موضوع الكلام. والشيء إذا كان طاهرًا في نفسه لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهر منه، حتى تصفه بقول: كل طهور لزيادة طهارته، وليس كذلك قادر وقدير، وعالم وعليم، وغافر وغفور؛ لأن هذه نعوت تحتمل (¬1) الزيادة، والطهارة ليست كذلك؛ لأنا إذا وصفنا الشيء بأنه طاهر فقد أدينا حقه، في (¬2) وصفه بالطهارة، فإذا نقلنا هذا اللفظ إلى بناء من أبنية المبالغة لم (¬3) يكن إلا لزيادة معنى فيه، وذلك المعنى ليس إلا التطهير، إذ لم يكن يحتمل زيادة الطهارة، كما يحتمل الغفور زيادة الغفران. فإن قيل: هذه اللفظة من: طَهُر، وهو لازم، فكيف يجوز أن يُعدَّى ما تبنيه من فعل لازم؟ قلنا: الاعتبار والنظر في هذه اللفظة أدانا إلى معنى التطهير؛ وذلك أنه لا سبيل إلى إطلاق هذا الوصف على الماء الذي ليس ¬

_ (¬1) في (أ)، (ب)، زيادة (العفو وزيادة الغفران)، والظاهر أنها تكرار لما سيأتي بعدها، فالكلام لا يستقيم بها. (¬2) في (أ)، (ب): واو، بدل: في. (¬3) في (أ)، (ب): (لم يكن)، وفي (ج): (لا يكون).

بمطهر؛ لأن العرب لا تُسمِّي الشيء الذي لا يقع به التطهر طَهورًا، فَمِن هذا الوجه يجب أن يُعلم، لا من جهة التعدي واللزوم. الدليل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وترابها لي طهورًا" (¬1) فجعل التراب طَهورًا؛ لأنه يقع به التطهير والتطهر، فهو اسم لما يتطهر به، ونظيره: الفَطور لما يفطر عليه، والسَّحور لما يتسحر به، والوَقود الذي توقد به النار، والوَضوء الذي يتوضأ به، ومثله كثير. وقد علمنا من مذهب العرب أنهم يقولون للشيء إذا وصفوه بالطهارة: طاهر، [ولا يقولون لما لا يقع به التطيهر: طَهور، كالمائعات الطاهرة] (¬2)، ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه مسلم 1/ 371، كتاب المساجد، رقم: 522، من حديث حُذَيْفَةَ، ولفظه: "وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ". وأما حديث "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" فهو متفق عليه من حديث جابر -رضي الله عنه-. البخاري، كتاب التيمم، رقم: 335. الفتح 1/ 435. ومسلم 1/ 371، كتاب المساجد، رقم: 523. (¬2) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، وفي (ج): ولا يقولون لما تقع به الطهارة طهورًا كالمائعات الطاهرة، والنباتات الطاهرة). وقوله: كالمائعات الطاهرة، إن كان المراد بالتطهير بها رفع الحدث فهذا صحيح فلا يرفع الحدث إلا الماء، دون غيره من المائعات الطاهرة؛ للنص على استعماله، وللأمر باستعمال التراب عند فقده. وأما إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة فهو محل خلاف بين أهل العلم، فمن فسر {طَهُورًا} بطاهرًا، جوَّز إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرة. ومن فسره بأنه: مطهر، لم يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء. "تفسير الماوردي" 4/ 148، و"تفسير البغوي" 6/ 87. و"المبسوط" 1/ 96. و"أحكام القرآن"، للجصاص 5/ 201، وابن العربي 3/ 435. والاستدلال بالآية على أنه لا يطهر النجاسة إلا الماء استدلال بعيد؛ لأن الآية فيها إخبار عن وصف الماء بهذا الوصف، الذي يبين أصله، ويى فيها منعٌ من تطهير النجاسات بغيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالراجح في هذه المسألة: أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت =

وإنما يقولونه للشيء الذي تقع به الطهارة (¬1). ولهذا قالوا للحد الذي يقام على مستحقيه: طَهور. فأما قول جرير: عِذَاب الثنايا رِيقهن طَهور (¬2) فإنه لما عُلم أن غاية وصف الماء أن يقال: طَهور، شَبَّه الريق بالماء، وأحبَّ أن يُزيلَ عن الريق سِمة النجاسة، فلم يمكنه أن يصفه إلا بما يوسف به الماء. ألا ترى أنه قال: عِذاب الثنايا، فوصفها بالعُذوبة، وهي من صفة الماء، فكما أن العذب حقيقة في الماء، مجازٌ في غيره، كذلك: الطَّهور، حقيقةٌ في الماء، مستعارٌ في الريق. وأما قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] فإن الله تعالى لما وصف الماء في الدنيا بالطهارة فجعله طَهورًا، وهذا غاية ما يوصف به الماء، وصَفَ ذلك الشراب أيضًا هذا الوصف لنعتقد فيه من الطهارة، ما اعتقدناه فيما وصفه من الماء. فإن قيل: لو كان المراد بالطَّهور ما ذكرتَه لَمَا سُمِّي طَهورًا إلا بعد أن يُطَّهِر فهذا ساقط، ومذهب العرب بخلاف هذا؛ ألا ترى أنهم يسمُّون الطعام الذي يُفطَر عليه: فَطورًا، وكذلك: السَّحور، ويُسمون الشعير: قَضيمًا قبل أن يُقضم، ويقولون: ما ¬

_ = بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة، والأشربة في إرالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من فساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها. "الفتاوى" 21/ 475. قال الزمخشري 3/ 277: لما كان سقي الأناسي من جملة ما أُنزل له الماء وصفه بالطهور إكرامًا لهم، وتتميمًا للمنة عليهم. (¬1) في نسخة (ج)، كلمتان غير واضحتين، والأقرب أنهما: والنباتات الطاهرة. (¬2) لم أجده في ديوان جرير. وأنشده ابن العربي في أحكامه 3/ 435، غير منسوب. وكذا القرطبي 13/ 38. وأبو حيان 6/ 463، وفي الحاشية: البيت لجميل، ديوانه 93؛ ولم أجده فيه. وفي حاشية "الدر المصون" 8/ 488: لم أهتد إلى قائله.

49

في دار فلان مأكولٌ، ولا مشروبٌ، أي: ما أعد له. وكل وصف يجري على الموصوف للمبالغة فإنه يكون لما مضى، والحال، والاستقبال، كما تقول: فلان شَكور للنعم، لا يُراد: إنه شكر فيما مضى، بل يراد به: شاكرٌ في الحال والاستقبال. وهذا واضح بيِّن -إن شاء الله- انتهى كلامه (¬1). فأما التفسير؛ فقال ابن عباس، في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} يريد: المطر (¬2). وقال مقاتل: بل طهورًا للمؤمنين (¬3). 49 - قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} قال ابن عباس: لنخرج فيها الثمار والنبات (¬4). وقال مقاتل: لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها نبت (¬5). قال ¬

_ (¬1) لم أجد قول الزجاجي. قال ابن كثير 6/ 114، في تفسير هذه الآية: أي: آلة يتطهر بها كالسحور، والوقود، وما جرى مجراهما، فهذا أصح ما يقال في ذلك، وأما من قال: إنه مبني للمبالغة والتعدي فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة، والحكم، ليس هذا موضع بسطها. والله أعلم. وقال أبو السعود 6/ 224: وما قيل إنه ما يكون طاهرًا في نفسه، ومطهرًا لغيره، فهو شرح لبلاغته في الطهارة، كما ينبئ عنه قوله تعالى: قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 64 أ، بدون: بل. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2706، بسنده عن عكرمة، قال: ما أنزل الله -عز وجل- من السماء قطرة إلا نبت بها في الأرض عشبة، أو في البحر لؤلؤة. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. وتنكير قال تعالى: {بَلْدَةً} يدل على أن لماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض؛ لأنه لخلوه من الجراثيم، ومن بعض الأجزاء المعدنية، والترابية، التي تشتمل عليها مياه العيون، ومياه الأنهار، والأودية، كان صالحًا بكل أرض، وبكل نبات، على اختلاف طباع الأرضين، والمنابت. تفسير ابن عاشور 19/ 48.

أبو إسحاق: قيل: ميتًا، ولفظ البلدة مؤنث؛ لأن معنى البلدة، والبلد، واحد (¬1). وقال غيره: أراد بالبلدة المكان (¬2)، كقول الشاعر: ولا أرضَ أبقلَ إبْقَالَها (¬3) ذهب بلفظ الأرض إلى المكان. قوله تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} (¬4) تقدم الكلام في السقي، والإسقاء، عند قوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] (¬5)، قال ابن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 71. واستدل عليه الزمخشري 3/ 277، بقوله تعالى: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9]. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 76. و"تفسير ابن جرير" 19/ 21. ولم يذكرا البيت المشار إليه. والثعلبي 8/ 99 ب، كذلك. واقتصر عليه في "الوسيط" 3/ 342. (¬3) أنشده سيبويه، "الكتاب" 2/ 46، ونسبه لعامر بن جُوين الطائي، وأنشده كذلك أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 67، وصدره عندهما: فلا مُزْنة ودَقتْ ودْقَها وفي حاشية الكتاب: يصف أرضًا مخصبة لكثرة الغيث. والمزنة: واحدة المزن؛ وهو السحاب يحمل الماء، والودق: المطر، وأبقلت: أخرجت البقل؛ وهو من النبات ما ليس بشجر. (¬4) قال الزمخشري 3/ 277، في بيان وجه تخصيص الأنعام بالذكر دون غيرها من المخلوقات: لأن الطير، والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22]، قال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسْقيْتُ، أي جعلته شُرْبًا له وجعلت له منها مسقى، فإذا كانت السقيا لشفته قالوا: سقاه، ولم يقولوا: أسقاه .. وقال أبو علي: تقول سقيته حتى روى، وأسقيته نهرًا جعلته شَىرْبًا له، وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] جعلناه سُقيا لكم، وربما قالوا في أسقى سقى.

عباس: ونسقي من ذلك الماء أنعامًا، ونسقي من ذلك الماء أيضًا بشرًا كثيرًا، وهو قوله: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} قال الفراء، والزجاج: واحد الأناسي إنسي، مثل: كرسي، وكراسي. ويجوز أن يكون الأناسي جمع إنسان، وتكون الياء الأخيرة بدلًا من النون؛ الأصل: أناسِين بالنون، مثل: سراحين (¬1). قال الفراء: وإذا قالوا: أناسين، فهو بَيِّن مثل: بستان وبساتين. قال: ويجوز: أناسيَ، مخففة الياء، أسقطوا الياء التي تكون فيما بين لام الفعل، وعينه، مثل: قراقير وقراقر (¬2). قال: وتقول العرب: أناسيةٌ كثيرة (¬3). وإنما قال: كثير، ولم يقل: كثيرون كما قال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] لأنه قد جاء فعيل مفردًا يراد به الكثرة، نحو قوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 269، بمعناه. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 71، بنصه. ونسبه في "الدر المصون" 8/ 488، لسيبويه. وفي حاشية الدر: ليس في الكتاب إشارة إلى ذلك. قوله: سراحين، جمع سِرْحان. إعراب القرآن للنحاس 3/ 163. وهو: الذئب، ويجمع على سَرَاحين، وسَرَاحِيّ. "تهذيب اللغة" 4/ 301 (سرح). وفي الحديث: "فأما الفجر الذي يكون كذنب السِّرحان فلا تحل الصلاة فيه، ولا يحرم الطعام". أخرجه الحاكم 1/ 304 وقال: إسناده صحيح، ووافقه الذهبي. وقد أنكر ابن جني أن يكون: أناسي، جمع إنسان أو جمع تكسير، ونقد في ذلك الفراء. وتعقب أيضًا أبو البركات ابن الأنباري، قول الفراء؛ فقال: وهو ضعيف في القياس؛ لأنه لو كان ذلك قياسًا لكان يقال في جمع سرحان: سراحيّ، وذلك لا يجوز. "البيان في إعراب القرآن" 2/ 206. ولم يذكر وجه المنع، وقد سبق قول الأزهري في جواز جمعه على هذا. والله أعلم. (¬2) جمع: قرقور، وهي: السفينة، أو العظيمة من السفن. "تهذيب اللغة" 8/ 282 (قر). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 269.

50

رَفِيقًا} [النساء: 69] وقد مرَّ (¬1). وقوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج 11،10] فدل عود الذكر مجموعًا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة. وذكرنا هذا عند قوله: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء 46، 155] (¬2). ومثل هذا في هذه السورة قوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38]. 50 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أكثر هذه الآية قد ذُكرت في سورة: سبحان، وفسرناها هناك (¬3). وفسرت هذه الآية هنا تفسيرًا آخر؛ أي: صرفنا الماء المنزل من السماء سقيًا لهم، وغيثًا، وهو: المطر، مرة لهذه البلدة، ومرة لبلدة أخرى (¬4). روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما عام بأكثر مطرًا من عام، ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء: وإنما وحد الرفيق وهو حقه الجمع؛ لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع، ولا يجوز أن تقول: حسن أولئك رجلًا ... البسيط 1/ 299 (تحقيق المحيميد). (¬2) تفسير الآية 46، من سورة النساء مفقود. وفي تفسير الآية 155، من سورة النساء أحال الواحدي على الآية 88، من سورة البقرة. قال الواحدي في تفسير آية سورة البقرة: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] يريد: فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا، والعرب قد تستعمل لفظ القلة في موضع النفي، فتقول: قل ما رأيت من الرجال مثله، وقلَّ ما تزورنا، يريدون النفي لا إثبات القليل. وحكى الكسائي عن العرب: مررت بأرض قل ما تنبت إلا الكُرَّاث والبصل؛ أي: ما تنبت إلا هذين. (¬3) عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50]. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 314. و"تفسير الهوّاري" 3/ 213. واستبعد هذا القول ابن جزي ص 486.

ولكن الله يصرفه في الأرض، ثم قرأ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} (¬1). وهذا كما روى ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 22. من طريقين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2706، من طريق واحد عنه. وأخرجه الحاكم 2/ 438، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قال ابن عاشور 19/ 51: فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته، وإنما يختلف توزيعه. وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر، فهو من معجزات القرآن العلمية. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 22، مختصرًا، موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه- وليس مرفوعًا، وقد ذكره السمرقندي 2/ 463، مرفوعًا، بنصه، دون إسناد. وأخرجه الثعلبي 100 أ، بإسناده من طريق إسحاق بن بشر، نا ابن إسحاق، وابن جريج، ومقاتل، كلهم قالوا وبلغوا به ابن مسعود. وهذا إسناد منقطع؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يلقوا ابن مسعود -رضي الله عنه- فابن إسحاق، من الطبقة الخامسة: صغار التابعين، الذين رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد منهم. وابن جريج، من الطبقة السادسة: عاصروا الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة. ومقاتل بن سليمان، من الطبقة السابعة: طبقة كبار أتباع التابعين كمالك والثوري. مقدمة "تقريب التهذيب" 82. والحديث المنقطع: هو ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه. "تدريب الراوي" 1/ 208. فالأقرب أن يكون موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه- كما هو عند ابن جرير. والله أعلم. قال ابن حجر، في "الكاف الشاف" 3/ 278: وفي الباب عن ابن مسعود، أخرجه العقيلي، من رواية علي بن حميد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عنه. وقال: لا يتابع على رفعه. ثم أخرجه موقوفًا من رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة، وقال: هذا أولى. وهو بنصه، في "الفتح السماوي" 2/ 885. وأصله عند الزيلعي، في تخريجه لأحاديث "الكشاف" 2/ 464.

وقوله: {لِيَذَّكَّرُوا} قال مقاتل: ليعتبروا، ويتفكروا في ذلك، فيستدلوا به على التوحيد (¬1). وقال أبو إسحاق: ليتفكروا في نعم الله علهم فيه، ويحمدونه على ذلك (¬2). وقال أبو علي: ليتفكروا في قدرة الله، وموضع نعمته عليهم بما أحيا بلادهم به من الغيث (¬3). ومن قرأ {لِيَذَّكَّرُوا} هو بالتخفيف (¬4) من الذكر، فمعناه: ليذكروا موضع النعمة به فيشكروه. قوله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} قال مقاتل والكلبي: إلا كفرًا بالله وبنعمته (¬5). قال أبو إسحاق: وهم الذين يقولون: مطرنا بنوء كذا (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 46 أ، بمعناه. وفي "تنوير المقباس" ص 304: لكي يتعظوا بذلك. ونحوه ذكر الهواري 3/ 213، عن الحسن. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 71. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 345. (¬4) بالتخفيف قراءة حمزة، والكسائي، والباقون بالتشديد. "السبعة في القراءات" ص465، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 345، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 334. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. و"تنوير المقباس" ص 304. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 71. و"تفسير الثعلبي" 8/ 100 أ. و"تفسير الهواري" 3/ 213. ولم ينسبوه. وأخرجه ابن جرير 19/ 22، وابن أبي حاتم 8/ 2706، عن عكرمة. ويشهد لهذا حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ "هلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكمْ" قَالُوا الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ "أَصْبَحَ من عِبَادي مُؤمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤمِنٌ بِي وَكَافرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأما مَن قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِن بِالْكَؤكَبِ". أخرجه البخاري، في الأذان، رقم 846، "فتح الباري" 2/ 333. ومسلم 1/ 83، كتاب =

51

هذا الذي ذكرنا هو قول أكثر المفسرين (¬1). وروى عطاء عن ابن عباس: ولقد صرفنا القرآن، يعني: أمثاله، ومواعظه بينهم ليتعظوا فأبى أكثر الناس إلا جحودًا بالقرآن (¬2). 51 - وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} قال مقاتل: لو شئنا لبعثنا في زمانك في كل قرية رسولًا ينذرهم، ولكن بعثتك إلى القرى ¬

_ = الإيمان رقم 71. وادعى النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 163، أن لا خلاف بين أهل التفسير أن الكفر هاهنا قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا. وهو محمول على أن المراد بالتصريف تصريف المطر، أو لعله لم يطلع على غير هذا القول. ويدخل في هذا المعنى كل من ينسب هذه الظاهرة أو غيرها من الزلازل والبراكين ونحو ذلك للطبيعة، منكرًا تقدير الله تعالى وتدبيره لها، وحدوثها بدون فعل فاعل. (¬1) أي أن الضمير في قوله تعالى: {صَرَّفْنَاهُ}. يرجع للمطر. وهذا وجه ظاهر؛ لأنه أقرب مذكور، وسياق الآية يدل عليه. والله أعلم. وقد اقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 781. ولم يذكر غيره ابن كثير 6/ 115. واختاره الشنقيطي 6/ 335. (¬2) تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2707، من قول عطاء الخراساني، واستدل على صحته بقوله تعالى فيه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}. وجعله الماوردي 4/ 149، راجعًا إلى الفرقان المذكور في أول السورة. واختاره ابن جزي 486. ولا يمنع أن يكون راجعًا إلى جميع ما سبق. تفسير أبي حيان 6/ 463. وذكر الزمخشري 3/ 277، وجهًا ثالثًا، واستظهره، ولم ينسبه؛ وهو أن المراد تصريف الحديث عن المطر والسحاب في القرآن وفي الكتب السماوية السابقة لما في هذه الآية من العبرة والعظة، فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم السلام -وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر- ليتفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا. وذكره أبو السعود 6/ 224، واستظهره، ولم ينسبه. وكذا البرسوي 6/ 225. واقتصر عليه القاسمي 12/ 266. والله أعلم.

52

كلها رسولًا، اختصصتك بها (¬1)، وحَمَّلتك أعباء النبوة، لتستوجب ما أعددنا لك من الكرامة (¬2). 52 - وقوله: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} يعني: كفار مكة وذلك حين دُعِي إلى دين آبائه (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 64 أ، وفيه: ولكن بعثناك ... اختصصناك. وقد دلت نصوص كثيرة على عموم بعثته -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الأعراف: 158] وفي الصحيحين من حديث جَابِر بْن عَبْدِ الله أَنَ النَبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكَتْهُ الصَلاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةَ". أخرجه البخاري، كتاب التيمم، رقم: 335 "الفتح" 1/ 435. ومسلم 1/ 370، كتاب المساجد، رقم: 521. (¬2) "تفسير ابن جرير" 19/ 23. و"تفسير الثعلبي" 100 أ، وفيه قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} رسولًا، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر. وفي "الوجيز" 2/ 781: لنخفف عنك أعباء النبوة، ولكن لم نفعل ذلك ليعظم أجرك. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. وفي "تنوير المقباس" ص 304: أبا جهل وأصحابه. وظاهر الآية أعم من أن يكون المراد النهي عن طاعتهم في اتباع دينهم، فيدخل فيه موادعتهم، ومداهنتهم، وترك دعوتهم. ويشهد لهذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 1 - 2]. فنهاه الله عن طاعتهم، وأمره باتباع الوحي. ومثل ما ذكر هنا الواحدي ذكر في "الوسيط" 3/ 343، أما في "الوجيز" فقد أوجز وأبلغ، فقال: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} في هواهم، ولا تداهنهم قال الرازي 24/ 100: ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلًا به.

53

{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قال ابن عباس: بالقرآن (¬1) {جِهَادًا كَبِيرًا} يعني: شديدًا (¬2). 53 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} قال أبو زيد: مرج البحرين خلاهما، ثم جعلهما لا يلتبس ذا بذا؛ قال: وهو كلام لا يقولهه إلا أهل تِهامة (¬3)، وأما النحويون، فيقولون: أَمْرَجْتَه وأمرجَ دابته (¬4). إذا خلاها وأرسلها ترعى (¬5). ونحو هذا قال الكسائي سواء. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 23، وهو قول مقاتل 64 أ. وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" 314. وأخرج ابن جرير 19/ 23، وابن أبي حاتم 8/ 2707، عن ابن زيد أنه قال: الإسلام، وقرأ قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] وجعله أبو حيان 6/ 464، راجعًا إلى: القرآن، والإسلام، والسيف، وترك طاعتهم. ولعل اقتصار من سبق على ذكر المجاهدة بالقرآن، دون السيف؛ لأن هذه السورة مكية أمر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بجهاد الكفار، بالحجة، والبيان، وتبليغ القرآن، ولم يؤمر بقتالهم. "تفسير الهواري" 3/ 214. وزاد المعاد 3/ 5. وتفسير الشوكاني 4/ 78. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 64 أ. وفي "تنوير المقباس" ص 304: بالسيف. والجهاد الكبير المذكور في الآية هو المصحوب بالغلظة عليهم، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] وقوله: (قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9]. "تفسير الشنقيطي" 6/ 337. والآية دالة على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة، وأوفرهم حظًا المجاهدون بالقرآن منهم. "تفسير البغوي" 6/ 33. (¬3) سميت تهامة بذلك: لشدة حرها وركود ريحها. وهو من التَّهم. وهو: شدة الحر وركود الريح، يقال: تهم الحر: إذا اشتد. "معجم البلدان" 2/ 74. وتهامة. سهول تقع بين جبال الحجاز وساحل البحر الأحمر، في المملكة العربية السعودية. (¬4) "تهذيب اللغة" 11/ 72 (مرج)، و"اللسان" 2/ 365. (¬5) واقتصر على أن معناه. خلاهما، ابن قتيبة، "غريب القرآن" 314.

وقال أبو عبيدة: إذا خليت الشيء فقد مَرجتَه، وإذا ألقى الدابة في المرعى فقد مَرجَها، وأَمْرَجها (¬1)، وأنشد العجاج: رعى بها مَرْج ربيع مُمْرَجًا (¬2) وقال الفراء: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أرسلهما (¬3). وقال الزجاج: خلا بينهما، تقول: مَرَجَت الدابة، وأمْرَجتُها إذا خليتها ترعى، والمَرْجُ من هذا سُمِّي، ومَرِجَت عهودُهم (¬4) إذا اختلطت (¬5). قال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلع أحدهما على ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 77. بمعناه. قال ابن الأنباري: مرجت الدابة: إذا خليتها. وأمرجتها: إذا رعيتها. "الزاهر" 1/ 425. (¬2) أنشده أبو عبيدة، في "المجاز" 2/ 77، منسوبًا للعجاج. وأنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" 11/ 71 (مرج)، ولم ينسبه. وكذا ابن جرير 19/ 23. وهو في "ديوان العجاج" 290، وفيه: يقول: رعى هاهنا في الربيع، والمرج: القطعة من الأرض الكثيرة الكلأ، والمُمْرَج: المخلَّى. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 3/ 115، في سورة الرحمن. (¬4) هذا جزء من حديث عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكانُوا هَكَذَا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ الله! قَالَ: "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ" قَالَ أَبُو دَاوُد: هَكَذَا رُوِيَ عَن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. سنن أبي داود 4/ 513 كتاب الملاحم، رقم: 4342. وابن ماجه 2/ 1307 كتاب الفتن، رقم: 3957. وذكره الألباني، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 367 رقم: 205. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. وفسر المرج بالاختلاط، ابن جرير 19/ 23، واستدل بقوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] أي: مختلط.

الآخر (¬1). وقال مجاهد: أفاض أحدهما في الآخر (¬2). وقال أهل المعاني: أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المَرْج. وهما يلتقيان (¬3) فلا يبغي الملح على العذب، ولا العذب على الملح بقدرة الله -عز وجل- (¬4). وذلك قوله: {وَهَذَا} يعني: أحد البحرين (¬5). {عَذْبٌ} طيب، عَذُبَ الماء يَعْذُبُ عُذوبَة فهو عَذْبٌ طيب بارد، وأَعْذَب القوم إذا عَذُبَ ماؤهم، واستعذَبوا إذا استقوا ماءً عَذْبًا، وأصله من: المنع، والماء العَذْبُ هو الذي يمنع العطش، يقال: عَذَبه عَذْبًا إذا ¬

_ (¬1) أخرجه بسنده، عن ابن عباس والضحاك، ابن جرير 19/ 24. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2707، عن الضحاك، فقط. وفي "تنوير المقباس" ص 304: أرسل البحرين. ولم أجد قول مقاتل في تفسيره. ونسبه للثلاثة جميعًا، الثعلبي 100 أ. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 454. و"تفسير الهواري" 3/ 214. وأخرجه ابن جرير 19/ 24. وابن أبي حاتم 8/ 2707. وقد وردت أقوال أخرى في معنى الآية فيها صرف للفظ المرج عن ظاهره، والحق ما اقتصر عليه الواحدي هنا. ومثل له ابن الجوزي بقوله: يُرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى العمرة الخفيفة، فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبًا، لا يخالطه شيء، وإلى جانبه ماء البحر في مكان واحد. وهذا أبلغ في إثبات قدرة الله -عز وجل-، وعطف خلق الإنسان عليه يشهد له. والله أعلم. (¬3) نسب هذا القول الرازي 24/ 100، لابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) معنى هذا أن: مرج، تطلق في اللغة بمعنى: أرسل وخلى. وتطلق بمعنى: خلط. تفسير الشنقيطي 6/ 338. ثم شرح معنى الآية على كلا الإطلاقين. وبين 6/ 339، أن معنى البرزخ، على القول الأول: هو اليبس من الأرض. وعلى القول الثاني: حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر. (¬5) "تفسير الطوسي" 7/ 273، ولم ينسبه. وكذا ابن الجوزي 6/ 96. وصدره بقوله: قال المفسرون.

منعه، وعَذَب عُذُوبًا إذا امتنع، والعاذب: الفرس الذي يمتنع من العلف، وسمي العذاب عذابًا؛ لأنه يعذب (¬1) المعاقب عن معاودة الفعل الذي عوقب عليه (¬2). قوله {فُرَاتٌ} الفرات: أعذَبُ المِياه (¬3)، وقد فَرُتَ الماءُ، يَفْرُتُ فُرُوتَة إذا عَذبَ، فهو: فُرَاتٌ (¬4). وقوله: {مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال الليث: المِلْح خلاف: العَذْب من الماء، يقال: ماءٌ مِلْح، ولا يقال: مالح (¬5). ونحو هذا قال ابن السكيت (¬6). وقال يونس: لم أسمع أحدًا من العرب يقول: ماء مالح. قال: وقال أبو الدُّقيش (¬7): ماء مالح، وماء ملح. قال الأزهري: هذا وإن وجد في ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ الثلاث: (يعذب)؛ ولعل الصواب: (يمنع). (¬2) "تهذيب اللغة" 2/ 321 (عذب). (¬3) في "المجاز" لأبي عبيدة 2/ 77: شديد العذوبة. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 314. وهو كذلك في "تفسير ابن جرير" 19/ 24؛ وقال: يعني بالعذب الفرات: مياه الأنهار، والأمطار، وبالملح الأجاج: مياه البحار. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. و"تفسير الثعلبي" 8/ 100 أ. (¬4) "تهذيب اللغة" 14/ 272 (فرت)، بنصه. (¬5) "العين" 3/ 243 (ملح). ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 98. (¬6) "إصلاح المنطق" ص 288. ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 98 (ملح) وقال به ابن قتيبة، غريب القرآن 314. وقال ابن جني في "المحتسب" 2/ 124: مالحًا، ليست فصيحة، صريحة؛ لأن الأقوى في ذلك: ماء ملح. (¬7) أبو الدقيش، هو القناني الغنوِيّ. هكذا ذكره القفطي، ولم يزد عليه. "إنباه الرواة" 4/ 121، ذكر الأزهري بإسناده إلى أبي زيد أنه قال: دخلت على أي الدقيش الأعرابي، وهو مريض، فقلت: كيف تجدك يا أبا الدقيش؟ فقال: أجد ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان سوء؛ من وجَد لم يجُد، ومن جاد لم يجَد. مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 13.

كلام العرب قليلًا فهي لغة لا تنكر (¬1). قوله تعالى: {أُجَاجٌ} الأجاج أشد الماء ملوحة (¬2). قال الزجاج: وهو الشديد الملوحة المحرق ملحوته (¬3)، من: أجَّتِ النارُ أجًّا (¬4). قال مقاتل: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} يعني: طيبًا حلوًا (¬5) {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يعني: مرًا من شدة الملوحة (¬6). والمعنى: أن الله تعالى خلط البحرين العذب، والملح، وحجز أحدهما عن الآخر فليس يفسد الملحُ العَذْبَ، ولا العَذْبُ الملحَ؛ وهو قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} حاجزًا من قدرة الله (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 5/ 99،98 (ملح)، قال الأزهري ذلك بعد سياقه لأقوال من سبق. وأما أبو السعود 6/ 225، فلم يذكر شيئًا من ذلك، بل جعل: ملح، تخفيف مالح، كبرد، تخفيف بارد. (¬2) في المجاز لأبي عبيدة 2/ 77: أملح الملوحة. و"تفسير الثعلبي" 8/ 100 أ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. (¬4) "تهذيب اللغة" 11/ 234 (أجج). (¬5) "تفسير مقاتل" ص 46 أ. وهو بنصه، في "تنوير المقباس" ص 304. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 314. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 46 أ. وفي "تنوير المقباس" ص 304: مر مالح زعاق. وأخرج عبد الرزاق 2/ 70، بإسناده عن قتادة: الأجاج: المر. قال ابن قتيبة في "الغريب" ص 314: وقيل: هو الذي يخالطه مرارف واقتصر الهوَّاري 3/ 214 على تفسيره بالمر. (¬7) في "معاني القرآن" للفراء 2/ 270: البرزخ: الحاجز. قال أبو عبيدة في "المجاز" 2/ 77: كل ما بين شيئين: برزخ، وما بين الدنيا والآخرة: برزخ. قال ابن جريج: فلم أجد بحرًا عذبًا إلا الأنهار العذاب، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر، والنيل يصب في البحر. "تفسير ابن جرير" 19/ 25. وذكر أبو حيان 6/ 464، مشاهدته ذلك وأن الناس في البحر يستقون الماء العذب منه. وذكرِ الحسن، أن =

قال ابن عباس: قضاء من قضائه لا يعذب هذا الملح، ولا يملح هذا العذب. وقال الزجاج: هما في مرآة العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان، لا يختلط أحدهما بالآخر (¬1). وقوله: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} قال ابن عباس: حرامًا محرمًا [أن يُعذَبَ هذا الملحُ بالعَذْب، أو يُملحَ هذا العذبُ بالملح (¬2). وقال الفراء: حرامًا ¬

_ = المراد بالحاجز: اليبس. "تفسير ابن جرير" 19/ 25، أي: حائلًا من الأرض. ونصر هذا القول الرازي 24/ 101. وقد رد هذا القول ابن جرير. والعجب من الحافظ ابن كثير 6/ 117، فقد ذكر قول ابن جريج المتقدم، واختيار ابن جرير له، ومع ذلك فقد رجح أن المراد بالحاجز: اليبس من الأرض. ولم يتعقب ابن جرير في اختياره. قال الشنقيطي 6/ 339: وهذا محقق الوجود في بعض البلاد، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي، بجنب مدينة "سانلويس"، وقد زرت مدينة "سانلويس" عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية، واغتسلت مرة في نهر السنغال، ومرة في المحيط، ولم آت محل اختلاطهما، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقات أنه جاء إلى محل اختلاطهما، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبًا فراتًا، وبالأخرى ملحًا أجاجًا، لا يختلط أحدهما بالآخر. فسبحانه جل وعلا ما أعظمه، وما أكمل قدرته. فالأولى أن تجعل الآية شاملة لكلا المعنين، حيث لا تعارض بينهما. والله أعلم. وفي مجلة الإعجاز العدد الثالث بحث حول الإعجاز العلمي في هذه الآية. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. وقد ورد في تفسير الحاجز أقوال أخرى، ذكرها ابن أبي حاتم 8/ 2708، وغيره، وفي بعضها صرف للفظ عن ظاهره، واقتصار الواحدي -رحمه الله- على هذا القول يدل على اختياره له. ونظير هذه الآية قوله تعالى: قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] وقوله {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61]. (¬2) في "تنوير المقباس" ص 304: حرامًا محرمًا من أن يغير أحدهما طعم صاحبه.

54

محرمًا] (¬1) أن يغلب أحدهما صاحبه (¬2). وفي الآية محذوف؛ وهو الذي حرم قوله: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} على تقدير: وحرامًا محرمًا أن يفسد أحدهما الآخر، فحذف لدلالة قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} عليه. وذكرنا الكلام في: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} في هذه السورة (¬3). وتفسير البرزخ، تقدم في سورة: المؤمنين (¬4). 54 - وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} قال مقاتل: خلق من النطفة إنسانًا (¬5) {فَجَعَلَهُ} يعني: الإنسان (¬6) {نَسَبًا} (¬7) النسب: نسب القرابات. والصهر: حرمة الختونة (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من (ج). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 270. وفي "تفسير مقاتل" ص 46 أ: يعني: حجابًا محجوبًا فلا يختلطان، ولا يفسد طعم الملح العذب. (¬3) عند قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] (¬4) عند قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] قال الواحدي في تفسيرها: معنى البرزخ في اللغة: الحاجز بين الشيئين كيفما كان من عين أو معنى نحو المسافة والجدار والأيام والعداوة وغير ذلك. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 46 أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 77. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 314. و"تفسير ابن جرير" 19/ 26. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 46 أ. (¬7) قال ابن كثير 6/ 117: فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهرًا، ثم يصير له أصهار، وأختان، وقرابات، وكل ذلك من ماء مهين. (¬8) قال ابن قتيبة ص 314: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} عني: قرابة النسب. {وَصِهْرًا} يعني: قرابة النكاح. قال الماوردي 4/ 151: النسب: من تناسب كل والد وولد، وكل شيء أضفته إلى شيء عرَّفته به فهو مناسبه. ثم قال: وأصل الصهر الاختلاط، فسميت المناكح صهرًا لاختلاط الناس بها، ومنه قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] وقيل: إن أصل الصهر: الملاصقة. وأما الختونة فهي المصاهرة. "تهذيب اللغة" 7/ 301 (ختن).

قال الأصمعي، وابن الأعرابي: الأسماء من قبل الزوج، والأختان من قبل المرأة، والصهر يجمعهما (¬1). قال أبو عبيد: يقال: فلان مصهر بنا، وهو من القرابة، وأنشد لزهير: قَوْدُ الجيادِ وإصهارُ الملوكِ وصبـ ... رٌ في مواطنَ لو كانوا بها سَئِمُوا (¬2) واختلفوا في المراد بالنسب، والصهرة فقال علي -رضي الله عنه-: النسب: ما لا يحل نكاحه، والصهر: ما يحل نكاحه (¬3). والآية من باب حذف المضاف، على تقدير: فجعله ذا نسب، وصهر، أي ذا قرابات لا يحل له التزوج بهن، وفيهن. كالأم، والأخت، والبنت، وبنات الأخ، وبنات الأخت. وذا نسب لا يحرم عليه ذلك النسب التزوج؛ كالأخوين يتزوجان بأختين، فصهر أحد الأخوين لم يحرِّم مصاهرة الأخ الثاني. وكذلك الرجل يتزوج بالمرأة، وابنه بابنتها، وما شاكل هذا من باب المصاهرة. هذا على قول علي -رضي الله عنه-. قال الكلبي، والضحاك، وقتادة، ومقاتل: النسب: سبعة أصناف من القرابة؛ وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (¬4) [النساء: 23] والصهر: مَنْ لا قرابة له، ويحرم بالنسب، وهي ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 7/ 300 (ختن). (¬2) "تهذيب اللغة" 6/ 108 (صهر)، ونسب البيت إلى زهير من إنشاد أبي عبيد. والبيت في "ديوان زهير" ص 94، من قصيدة يمدح فيها: هرم بن سنان، فيصفه بقيادة الخيل، ومصاهرة الملوك، والصبر في مواطن الحرب، وغيرها مما يسأم فيه غيره. حاشية الديوان. (¬3) ذكره الثعلبي 8/ 100 ب، منسوبًا لعلي -رضي الله عنه- بدون إسناد. (¬4) أمهات النساء، غير داخلة في المحرمات من القرابة، فقوله: إلى، لا يدخل فيه ما بعدها. وظاهر صنيع الواحدي -رحمه الله- أنه يدخل المحرمات من الرضاعة في =

خمسة: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬1) وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج (¬2). وعلى هذا: الصهر محرم، كالنسب. ونحو هذا روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وجعل من جهة الصهر سبعًا أيضًا؛ فقال: حرم الله من النسب سبعًا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ} وبنات الأخت، من النسب، ومن الصهر: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} إلى آخر الآية. والسابعة: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬3). ¬

_ = المحرمات من القرابة؛ لأن المحرمات من الرضاعة في الآية المشار إليها ذكر قبل ذكر المحرمات من الصهر. وهذا مخالف لكون المحرمات بالنسب خمسة، إذ لا يكمل العدد إلا بإدخال المحرمات من الرضاعة فيه. وهذا موافق لما في "تفسير مقاتل" ص 46 أ؛ قال: والصهر من القرابة خمس نسوة: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة ... وما ذكره الواحدي، عن الضحاك، مخالف لما أخرجه عنه ابن جرير 19/ 26، ومخالف أيضًا لما سينقله عن ابن عباس -رضي الله عنهما - حيث جعل الرضاعة من الصهر. ومخالف لما ذكر الثعلبي 100 ب، منسوبًا للضحاك، وقتادة، ومقاتل. فالظاهر أن الآية كتبت خطأ. ويشهد لهذا ما ذكره في "الوسيط" 3/ 343، حيث جعل المحرمات من الصهر سبعًا، ستة مذكورة في الآية، والسابعة في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]. (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 26، عن الضحاك. ونسبه السمرقندي 2/ 463، للكلبي. وهو في "تفسير الثعلبي" 100 ب، منسوبًا لمن ذكر الواحدي؛ عدا الكلبي. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 270. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. وليس فيهما التفصيل الذي ذكره الواحدي. (¬3) أخرج هذا القول ابن أبي حاتم 8/ 2710، عن قتادة. وليس في رواية قتادة تفصيل المحرمات، بل قال: سبع من النسب، وسبع من الصهر. وذكر قول قتادة، =

55

وهؤلاء جعلوا الصهر السبب المحرم، وهو الخلطة التي تشبه القرابة (¬1). 55 - قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} قال ابن عباس: يريد الأصنام، والحجارة التي كانوا يعبدونها (¬2). وقال مقاتل: {مَا لَا يَنْفَعُهُمْ} في الآخرة، إن عبدوهم في الدنيا {وَلَا يَضُرُّهُمْ} في الدنيا، إن لم يعبدوهم (¬3). ¬

_ = الشنقيطي 6/ 342، ثم قال: لم يظهر لي وجهه، ومما يزيده عدمَ ظهورٍ ضعف دلالة الاقتران عند أهل الأصول. وجعل الزمخشري 3/ 279، هذه الآية كقوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39] فقال: أي: قسمه قسمين، ذوي نسب، أي: ذكورًا ينتسب إليهم، وذوات صهر، أي: إناثًا يصاهر بهن. وتبعه أبو السعود 6/ 226، والبرسوي 6/ 130، والبغوي 19/ 26. وأيده الشنقيطي 6/ 340. وكذا الألوسي 19/ 36. (¬1) وصحح هذا القول البغوي 6/ 90؛ فقال: وقيل: -وهو الصحيح- النسب من القرابة، والصهر: الخلطة التي تشبه القرابة. (¬2) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2711، بسنده عن قتادة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا الوثن، وهذا الحجر. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 46ب. وفي هذه الآية قُدم النفع على التفسير، وفي صدر هذه السورة عكس ذلك، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}. وهكذا في مواضع أخر من كتاب الله، ونجد بعض أهل العلم يذكر حكمًا لتقديم النفع على التفسير في آيات، وعكسها في آيات أخرى، ومن ذلك الخطيب الإسكافي، في "درة التنزيل" 328. وكذا غيره. قال ابن عاشور 18/ 320: واعلم أن ضرًا ونفعًا، هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل: لا يملكون التصرف بحال من الأحوال، وهذا نظير أن يقال: شرقًا وغربًا، وليلًا ونهارًا .. وبذلك أيضًا لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع؛ لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك. وهذا كلام جيد. والله أعلم.

وقوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} الظهير: المعين، فعيل بمعنى مفاعل، كوزير وشريب، وأكيل. ونحو هذا قال ابن عباس، ومجاهد، والمفسرون، في تفسير الظهير، أنه: العون والمعين (¬1). قال مقاتل: يعني: معينًا للمشركين على أن لا يوحدوا الله (¬2). وقال الحسن: عونًا للشيطان على ربه بالمعاصي (¬3). واختاره أبو إسحاق؛ فقال: لأنه يتابع الشيطان، ويعلو به على معصية الله؛ لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان (¬4). قال ابن عباس، وعطية، ومقاتل، والكلبي: يعني أبا جهل (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 304. و"تفسير مجاهد" 2/ 455. وابن قتيبة في "الغريب" ص 314. و"تفسير الهواري" 3/ 215. وأخرجه بسنده عن مجاهد، والحسن، وابن زيد، ابن جرير 19/ 26، واستدل عليه ابن زيد، بقوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86] أي: لا تكونن لهم عوينًا. وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] ظاهروهم: أعانوهم. واستظهر هذا القول الشنقيطي 6/ 343. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 46 ب. قال ابن القيم عن هذه الآية: هذا من ألطف خطاب القرآن، وأشرف معانيه، وأن المؤمن دائمًا مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه، ثم ذكر عبارات السلف في تفسير الآية، ثم قال: وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديتهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته، ومساخطه، بخلاف وليه -سبحانه وتعالى- فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه. "الفوائد" ص 79 - 85. (¬3) أخرجه بسنده، عبد الرزاق، في تفسيره 2/ 70. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2711، عن سعيد بن جبير. وذكر السيوطي تخريج عبد بن حميد وابن المنذر نحوه عن قتادة. "الدر المنثور" 6/ 267. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 73. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 46 ب. و"تنوير المقباس" ص 304. و"تفسير الهواري" =

وقال قوم: معنى: {عَلَى رَبِّهِ} على أولياء ربه، ورسل ربه، وحُذف المضاف للعلم به، وذلك أن من عادى أولياءك فقد عاداك. ومن ظاهر على صاحبك فقد ظاهر عليك. وذكر أبو علي الفارسي هذا الوجه، فقال: أولًا: الكافر في هذه الآية، اسم الجنس، كقولهم: كثر الشاة، والبعير، في أنه يراد به الكثرة، وقد جاء ذلك في اسم الفاعل كما جاء في سائر الأجناس، أنشد أبو زيد: إنْ تبْخَلِي يا جُمْلُ أوْ تَعْتَلِىّ ... أو تُصبِحي في الظَّاعن المُولِّى (¬1) والآية تحتمل تأولين؛ أحدهما: على أولياء ربه معينًا، أو يعادونهم ولا يوالونهم، كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} الآية [الحج: 72] والآخر: أن يكون المعنى: كان هينًا عليه لا وزن له، ولا منزلة (¬2). وكأنه من قولهم: ¬

_ = 3/ 215، ولم ينسبه، وأخرجه بسنده، ابن جربر 19/ 27 عن ابن عباس. وذكره ابن أبي حاتم 8/ 2711، عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطية. وذكر السيوطي تخريج ابن المنذر، له عن عطية، "الدر المنثور" 6/ 267. وصدَّر الماوردي 4/ 152، هذا القول بـ: قيل. والآية أعم من ذلك، قال الزمخشري 3/ 280: ويجوز أن يريد بالظهير الجماعة؛ كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .. ولريد بالكافر الجنس، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء دين الله. قال ابن عطية 11/ 56: ويشبه أن أبا جهل سبب الآية، ولكن اللفظ عام للجنس كله. قال الرازي 24/ 102: والأولى حمله على العموم؛ لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، ولأنه أوفق بظاهر قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. (¬1) أنشده أبو زيد في "النوادر" ص 53، ونسبه لمنظور بن مرثد الأسدي، وأنشده أبو علي، "المسائل العسكرية" ص 222، وفي الحاشية: جمل: اسم امرأة، تعتلي: تتمارضين، الظا عن: المرتحل، المولي: الذاهب. (¬2) واقتصر على هذا القول أبو عبيدة 2/ 77. واقتصر الواحدي في "الوسيط" 3/ 344. و"الوجيز" 2/ 782، على القول الأول مما يدل على ترجيحه له. والله أعلم.

ظهرتَ بحاجتي، إذا لم تُعْنَ بها (¬1) قال الفرزدق: تمَيمَ بنَ زيد لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يَعْيَا عليَّ جوابها (¬2) قال (¬3): ويمكن أن يكون قوله: وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها (¬4) من هذا، أي: تلك شكاة هي عنك تظهر، فلا تعتن بها (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 8/ 100 ب؛ وفيه: من قول العرب: ظهرت به، إذا جعلته خلف ظهرك، فلم تلتفت إليه. وفي "تهذيب اللغة" 6/ 249: قال الأصمعي: ظهر فلان بحاجة فلان: إذا جعلها بظهر، ولم يخفَّ لها. قال الماوردي 4/ 152: مأخوذ من قولهم: ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها، قال تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] أي: هينًا. (¬2) ديوان الفرزدق 1/ 86، في سياق قصة، وقد ورد البيت في الديوان بلفظ: تميم بن زيد لا تهونن حاجتي ... لديك ولا يعيا علي جوابها وذكر البيت ابن الأنباري، في كتابه "الأضداد" 256، في سياق قصة، منسوبًا للفرزدق، وفيه: .. فلا يخفى علي جوابها ثم قال ابن الأنباري: وأراد الفرزدق بقوله: لا تكونن حاجتي بظهر، لا تطَّرحها. وذكره الأزهري 6/ 256، غير منسوب. ونسبه القرطبي 13/ 63، للفرزدق، وفيه: تميم بن قيس. (¬3) قال في (أ)، (ب)، ويعني به أبا علي الفارسي. (¬4) أنشده الأزهري 6/ 254، ونسبه لأبي ذؤيب الهذلي، وهو في "ديوانه" 115، وصدره: وعيرها الواشون أني أحبها وهو كذلك في "خزانة الأدب" 9/ 505. (¬5) رد ابن جرير 19/ 27 هذا القول، واعترض عليه، وصحح القول الأول. فقال لأن الله تعالى ذكره أخبر عن عبادة هؤلاء الكفار من دونه، فأولى الكلام أن يتبع ذلك =

56

56 - وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا} أي: بالجنة {وَنَذِيرًا} من النار (¬1). 57 - {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على القرآن وتبليغ الوحي (¬2) {مِنْ أَجْر} وفي هذا تأكيد لصدقه؛ لأنه لو طلب على دعائهم إلى الله شيئًا من أموالهم لقالوا: إنما يطلب أموالنا، فإذا لم يطلب شيئًا كان أقرب إلى الصدق (¬3). وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ} معناه: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا بإنفاق ماله فعل ذلك (¬4). فهو من الاستثناء المنقطع يعني: لا أسألكم لنفسي أجرًا، ولكن لا أمنع (¬5) من إنفاق المال في طلب مرضاة الله، واتخاذ السبيل إلى ثوابه وجنته (¬6). وهذا الذي ذكرنا معنى قول المفسرين في هذه ¬

_ = ذمه إياهم، وذم فعلهم دون الخبر عن هوانهم على ربهم، ولما يجر لاستكبارهم عليه ذكر، فيتبع بالخبر عن هوانهم عليه. وذكر الشوكاني 4/ 81، قولًا آخر، فقال وقيل إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويًا غالبًا، يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع. وعلى هذا فتكون الآية فيمن يعبد جمادًا دون غيره، ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية. والله أعلم. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 46 ب. و"تنوير المقباس" ص 304. و"تفسير الهواري" 3/ 215. (¬2) عند مقاتل 46 ب: {عَلَيْهِ} الإيمان. وفي "تنوير المقباس" ص 304: على التوحيد والقرآن. وفي "تفسير الهواري" 3/ 215: القرآن. وهو قول ابن زيد، أخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2712. وعند الثعلبي 8/ 100 ب: على تبليغ الرسالة. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 100 ب، بنحوه. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2712، عن ابن عباس: {مِنْ أَجْرٍ} عرضًا من عرض الدنيا. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 100ب، بنحوه. و"إعراب القرآن"، للنحاس 3/ 164. و"الوسيط" 3/ 344، و"الوجيز" 2/ 782. (¬5) كلمة: لا أمنع. في (ج) فقط. (¬6) قال أبو عبيدة 2/ 78: العرب قد تستثني الشيء من الشيء وليس منه على الاختصار، وفيه ضمير تقديره: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا أنه من شاء أن =

58

الآية (¬1). 58 - قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} ظاهر التفسير إلى آخر الآية. 59 - وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مفسر في سورة الأعراف (¬2). إلى قوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قال الكلبي: يقول: فأسأل الخبير بذلك (¬3). وعلى هذا الكناية في: {بِهِ} تعود إلى ما ذُكر من خلق السماوات، والأرض، والاستواء على العرش، والباء: من صلة الخبير قدم عليه، وذلك الخبير هو: الله -عز وجل-، وقيل: جبريل -عليه السلام- (¬4). وقيل: هذا الخطاب ظاهره للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به غيره (¬5). ¬

_ = يتخذ إلى ربه سبيلًا فليتخذه. ويحتمل أن يكون المعنى: أن تتخذوا إلى ربكم سبيلًا بالتقرب إليه، وعبادته، فالاستثناء على هذا متصل. تفسير ابن جزي 486. وذكر القولين أبو حيان 6/ 465، واستظهر القول بأن الاستثناء منقطع. (¬1) في "تفسير مقاتل" ص 46 ب: {سَبِيلًا} طاعته. وهو قول قتادة؛ أخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2712. ولم يجعله في "تنوير المقباس" ص 304، متعلقًا بالأجر، وإنما جعله راجعًا إلى الإيمان، والتوحيد. قال الهواري 3/ 215: أي: إنما جئتكم بالقرآن ليتخذ به من آمن إلى ربه سبيلًا بطاعته. أي: تقرب به إلى الله. وقريب من كلام الواحدي، في "تفسير ابن جرير" 19/ 27. (¬2) عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]، حيث تكلم عن كلمة: ستة، وبين أصل اشتقاقها، والمراد بها في الآية، والحكمة من ذلك، ثم تكلم عن بقية معاني الآية في خمس صفحات. (¬3) "الوسيط" 3/ 344، ونسبه البغوي 6/ 91، للكلبي. وهذا القول اختيار الهوارى 3/ 215: أي: خبيرًا بالعباد. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 101 أ، بنحوه. (¬5) وجزم به في "الوسيط" 3/ 344. وكذا البغوي، في "تفسيره" 6/ 91.

وقال مجاهد: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي: فأسأل الله تسل عالمًا بكل شيء لا يخفى عليه خافية (¬1). وعلى هذا القول، معنى الآية: فاسأله تسل بسؤالك إياه خبيرًا. كما تقول: سل؟ تريد عالمًا. والمسؤول هو زيد، أي: سل زيدًا تسأل بسؤالك إياه عالمًا. وكان علي بن سليمان، يذهب إلى أن الكناية في {بِهِ} تعود إلى السؤال. وقوله: {فَاسْأَلْ} يدل على السؤال. والمعنى: فأسأل عالمًا بسؤالك (¬2). وقال أبو إسحاق: المعنى: فاسأل عنه خبيرًا (¬3). وهو مذهب الأخفش، وجماعة، جعلوا الباء، بمعنى عن، كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]. وأنشدوا: وإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب (¬4) أي: عن النساء (¬5)، والمعنى: سل عن الله أهل العلم يخبروك، كما ¬

_ (¬1) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2715، بسنده عن مجاهد: قال: ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك. وأخرج أيضًا بسنده 8/ 2715، عن شمر بن عطية: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قال: هذا القرآن خبيرًا. (¬2) "القطع والائتناف" 2/ 486، ونسبه لعلي بن سليمان. وهو: علي بن سليمان بن الفضل النحوي، أبو الحسن الأخفش الأصغر، قرأ على ثعلب والمبرد، وغيرهما، من مصنفاته: "شرح سيبويه"، و"التثنية والجمع". ت 315 هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 14/ 480، و"بغية الوعاة" 2/ 167. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 73. (¬4) ذكره ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ص 568، ونسبه لعلقمة. وهو في "ديوانه" ص 23. وذكره الثعلبي 8/ 101أ، ولم ينسبه. وذكره الطبرسي 7/ 274، ونسبه لعلقمة بن عبدة، وفيه: بأغواء النساء. وذكره أبو البركات ابن الأنباري، في "البيان" 3/ 59، ولم ينسبه، ونسبه الشوكاني 4/ 81، لامرئ القيس. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 101 أ. وممن ذهب إلى هذا القول ابن قتيبة، "تأويل مشكل =

قال الشاعر: هلا سالت القوم يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي (¬1) فإن قيل: هل كان يحتاج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يسأل عن الله أحدًا؟ قيل: يحتمل أن يكون الخطاب له، والمراد به غيره. ويحتمل أن يكون كقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94] وقد ذكرنا ما قيل فيها مستقصى (¬2). وكان ابن جرير، يذهب إلى أن الباء صلة؛ ويقول: المعنى: فاسأله خبيرًا، ويذهب إلى: أن {خَبِيرًا} منصوب على الحال (¬3). قال أبو علي الفارسي: قوله {فَاسْأَلْ بِهِ} مثل سل عنه، فأما {خَبِيرًا} فلا يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال، أو مفعول به، فإن ¬

_ = القرآن" ص 568. وأنكر علي ابن سليمان هذا القول: لو لقيت فلانًا لقيك به الأسد؛ أي: للقيك بلقائك إياه الأسد. "تفسير القرطبي" 13/ 63. ورد ذلك أيضًا الألوسي 7/ 38؛ فقال: والسؤال كما يعدي بعن، لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء .. فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن، كما فعل الأخفش، والزجاج. (¬1) البيت لعنترة، من معلقته، "ديوانه" ص 25. وقد نسب البيت في "تفسير الشوكاني" 4/ 81، لامرئ القيس، ولعل ذلك خطأ؛ لأنه ذكر بعده مباشرة البيت السابق منسوبًا لامرئ القيس أيضًا. والله أعلم. (¬2) قال الواحدي: اختلفوا في هذا الخطاب لمن هو؛ فقال أكثر أهل العلم: هذا الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم-، والمراد غيره من الشكاك .. ثم نقل عن أبي إسحاق الزجاج قوله: هذا أحسن الأقوال .. ثم قال: وذكروا في هذه الآية أقوالًا متكلفة بعيدة فلم أحكها. سورة يونس: 94. (¬3) حكاه عن ابن جرير النحاس، "القطع والائتناف" 2/ 486، وهو في "تفسير ابن جرير" 28/ 19، وساقه بسنده عن ابن جريج.

كان حالًا لم يخل من أن يكون حالًا من الفاعل، أو المفعول، فإن جعلته حالًا من الفاعل السائل لم يسهل؛ لأن الخبير لا يكاد يَسأل إنما يُسأل. ولا يسهل الحال من المفعول أيضًا؛ لأن المسؤول عنه خبير أبدًا، وليس للحال كثير فائدة. فإن قلت: يكون حالًا مؤكدة، فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى، فيكون {خَبِيرًا} إذًا: مفعولًا به؛ كأنه قال: فأسأل عنه خبيرًا. أي. مسؤولًا خبيرًا. وكان المعنى: سل يتبين بسؤالك، وبحثك من تستخير ليتقرر عندك ما اقتص عليك من خلقه ما خلق، وقدرته على ذلك وتعلمه بالفحص عنه والتبين له، قال: ومما يقوي: أن السؤال إنما أريد به ما وصفنا، قول أمية: وسلْ ولا بأسَ إنْ كُنتَ امرءًا عَمِهَا ... إنَّ السؤالَ شِفا منْ كانَ حيرانَا (¬1) أراد: سل حتى تتبين بسؤالك؛ ألا ترى أنه قال: إن السؤال شفاء من كان حيرانًا. والسؤال إذا خلا من العلم لم يكن شفاء، إنما يكون شفاءً إذا اقترن به العلم والتبين. وكذلك المراد في قوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} اسأل سؤالًا تبحث به لتتبين. وأجاز أبو إسحاق، وغيره، في هذه الآية، أن يكون الوقف والتمام عند قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم يبتدئ {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} فيكون ابتداء، و {فَاسْأَلْ بِهِ} الخبر (¬2). ومن لم يقف على العرش، فارتفاع ¬

_ (¬1) العمه: الذي يتردد متحيرًا، لا يهتدي لطريقه ومذهبه، والعَمَه في الرأي، والعمى في البصر. "تهذيب اللغة" 1/ 149 (عمه). ولم أجد من ذكر هذا البيت. (¬2) الوقف التام هو الوقف على كلام تم معناه، ولم يتعلق بما بعده لفظًا، ولا معنى، وهو الذي يحسن الوقف عليه، والابتداء بما بعده. والوقف الكافي: هو الوقف =

60

الرحمن يكون من وجهين؛ أحدهما: على خبر {الَّذِي} على (¬1) تقدير: الذي خلق السماوات والأرض الرحمن، أي: (¬2) هو الذي فعل ذلك. وإن جعلت {الَّذِي} متصلًا بالآية المتقدمة ارتفع الرحمن على البدل مما في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} فبُيِّن بقوله: {الرَّحْمَنُ} (¬3). 60 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} قال عطاء، والكلبي، والمفسرون: قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعني: مسيلمة (¬4). ¬

_ = على كلام يؤدي معنى صحيحًا مع تعلقه بما بعده من جهة المعنى. والوقف الحسن: هو الوقف على كلام يؤدي معنى صحيحًا، مع تعلقه بما بعده لفظًا ومعنى. والوقف القبيح: هو الوقف على ما لا يؤدي معنى صحيحًا، وذلك لشدة تعلقه بما بعده لفظًا ومعنى. وبعضه أقبح من بعض. ولا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة من انقطاع نفس ونحوه. "النشر في القراءات العشر" 1/ 224، و"حق التلاوة" لحسيني شيخ عثمان ص 51ـ. (¬1) (على) في (أ)، (ب). (¬2) (أي) في (ج). فقط. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 73. وذكره النحاس، "القطع والائتناف" 2/ 485، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 46 ب، في قصة طويلة ليس لها إسناد. و"تنوير المقباس" ص 305، دون ذكر القصة. وذكره ابن جرير 19/ 29 فقال: وذكر بعضهم أن مسيلمة كان يُدعى: رحمن اليمامة. والثعلبي 8/ 101 أ، ولم ينسبه. وأخرجه بسنده، ابن أبي حاتم 8/ 2715، عن عطاء. وذكره ابن عطية 11/ 60، واقتصر عليه. مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، المتنبئ المشهور بالكذاب، وفي المثل: أكذب من مسيلمة. لدعواه النبوة، وقتل مسيلمة سنة: 12، في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، في حروب الردة التي قادها خالد بن الوليد -رضي الله عنه-. "سيرة ابن هشام" 4/ 247، و"الكامل" لابن الأثير 2/ 246.

قال أبو إسحاق: الرحمن: اسم من أسماء الله -عز وجل-، مذكور في الكتب الأُوَل، ولم يكونوا يعرفونه من أسماء الله (¬1). فلما سمعوه أنكروا، فقالوا {وَمَا الرَّحْمَنُ} (¬2). وقد ذكرنا هذا عند قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 73. وجزم الواحدي -رحمه الله- في "الوسيط" 3/ 344، و"الوجيز" 2/ 782، بأن المشركين ما كانوا يعرفون الرحمن في أهاء الله تعالى. وكذا البغوي، في تفسيره 6/ 92. وابن كثير 6/ 120. قال ابن عاشور 1/ 172: وقد ذكر جمهور الأئمة: أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام، وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى، فلذلك اختص به تعالى، حتى قيل: إنه اسم له وليس بصفة. (¬2) قولهم: {وَمَا الرَّحْمَنُ} يجوز أن يكون سؤالًا عن المسمى به؛ لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، والسؤال عن المجهول بما، ويجوز أن يكون سؤالًا عن معناه؛ لأنه لم يكن مستعملًا في كلامهم، كما استعمل: الرحيم، والرحوم، والراحم، أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى. "الكشاف" 3/ 282. والألوسي 7/ 39. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو ساجد ذات ليلة: (يا رحمن) فسمعه أبو جهل وهم لا يعرفون الرحمن، فقال: إن محمدًا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلهًا آخر مع الله يقال له: الرحمن، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} أي: قل يا محمد ادعوا الله يا معشر المؤمنين {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} أي إن شئتم قولوا: يا الله لان شئتم قولوا: يا رحمن {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أن دعاءهم الله أو دعاءهم الرحمن يرجعان إلى واحدٍ، فقال: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} المعنى أي أسماء الله تدعوا {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. والظاهر أن قولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} قول قوم كانوا يجحدون التوحيد، ويدل عليه ازديادهم نفورًا لما أمروا أن يسجدوا للرحمن؛ لأن العرب كانوا يعرفون الرحمن في أسماء الله تعالى، وأنه اسم مسمى من الرحمة. "تفسير الماوردي" 4/ 153. وفي "تفسير الرازي" 24/ 105 والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم؛ لأن =

قوله تعالى: {لِمَا تَأْمُرُنَا} خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنهم تلقوا أمره بالرد والإنكار عليه (¬1). ومن قرأ: بالياء (¬2)؛ فقال أبو عبيد: تراه أراد لما يأمرنا الرحمن. وليس بالوجه؛ لأنهم لو أقروا أن الرحمن تبارك وتعالى هو الآمر، ما كانوا كفارًا، إنما كانت مقالتهم تلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يقول أهل التفسير؛ وذلك أنهم قالوا: يعنون أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة (¬3). تكبرًا منهم واستهزاء. ونحو هذا ذكر الفراء، في قراءة من قرأ: بالياء (¬4). وقال أبو علي: من قرأ بالياء فالمعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالسجود له، على وجه الإنكار منهم لذلك. ولا يكون على: أنسجد لما يأمرنا الرحمن بالسجود له؛ لأنهم أنكروا الرحمن بقولهم: {وَمَا الرَّحْمَنُ} (¬5). ¬

_ = هذه اللفظة عربية، وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام. واستظهر هذا المعنى، ونصره أبو حيان 6/ 466. (¬1) "تفسير الهواري" 3/ 216. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 346. (¬2) قرأ بالياء: حمزة، والكسائي. "السبعة في القراءات" ص 466، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 346، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 334. (¬3) ذكر قول أبي عبيد، النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 165، و"القطع والائتناف" 2/ 487، مع شيء من الاختلاف. وما ذَكر عن أهل التفسير؛ في "تفسير مقاتل" ص 46 ب. و"تفسير ابن جرير" 19/ 29. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 270. ويمكن توجيه قراءة الياء على معنى: أنسجد لما يأمرنا الله تعالى حسب زعمك وقولك. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 346. ذكره الهواري 3/ 215؛ فقال: ومن قرأها بالياء، فيقول: يقوله بعضهم لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد. قال ابن جرير 19/ 28: إنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

61

وقوله: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} قال مقاتل: يقول (¬1): زادهم ذكر الرحمن تباعدًا من الإيمان (¬2). وقال غيره: زادهم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إياهم بالسجود نفورًا عما أمروا به من ذلك (¬3). روى مِسْعَر، عن عبد الأعلى (¬4)، أنه كان يقول في سجوده: زادنا لك خشوعًا ما زاد أعداءك عنك نفورًا (¬5)، فلا تُكبَّ وجوهنا في النار بعد سجودها لك. 61 - قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد بروج النجوم (¬6). يعني: منازلها الاثني عشر، كل برج منها: منزلان، ونصف منزل للقمر، وهو: ثلاثون درجة للشمس، ولكل برج اسم على حده، وأساميها معروفة (¬7). ¬

_ (¬1) (يقول) في (ج)، وهي غير موجودة في "تفسير مقاتل". (¬2) "تفسير مقاتل"ص 46 ب. و"تنوير المقباس" ص 305. وذكر قولاً آخر: القرآن. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 346، بنصه. وذكر نحوه الهوَّاري 3/ 216. وابن جرير 19/ 29. (¬4) عبد الأعلي بن مسهر بن عبد الأعلي بن مسهر، الغساني الدمشقي، الفقيه، شيخ الشام، ت: 218 هـ. من العاشرة. ثقة فاضل. "سير أعلام النبلاء" 10/ 288، و"تقريب التهذيب" ص 562. (¬5) ذكره الثعلبي 8/ 101 أ، عن سفيان الثوري، دون آخره، وكذلك القرطبي 13/ 64. والبرسوي 6/ 235. (¬6) "تنوير المقباس" ص 305. وذكره الهوَّاري 3/ 216، واقتصر عليه، ولم ينسبه. (¬7) وقد ذكرها مفصلة الثعلبي 8/ 101 أ، ولم ينسبه لأحد. والبغوي، في تفسيره 6/ 92، وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.

وقال أبو صالح: هي النجوم الكبار العظام. وهو قول مقاتل، ومجاهد، والحسن؛ قالوا في تفسير البروج: هي النجوم والكواكب (¬1). قال أبو إسحاق: وإنما قيل للكواكب بروج، لظهورها، وبيانها، وارتفاعها، والبَرَجُ: تباعد ما بين الحاجبين. وكل ظاهر مرتفع فقد بَرُج (¬2). وقال عطية العوفي: هي قصور فيها الحرس. وهو قول الأعمش، وأصحاب عبد الله (¬3). وذكر الكلبي القولين؛ النجوم، والقصور (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 46 ب. وأخرجه بسنده عن قتادة، عبد الرزاق في تفسيره 2/ 70. وأخرجه بسنده ابن جرير 19/ 29، عن أبي صالح، ومجاهد، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2716، عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، وذكره عن مجاهد، والحسن، وقتادة وأخرجه بسنده الثعلبي 8/ 101 أ، عن أبي صالح. وذكره عن مجاهد، وقتادة. (¬2) "معاني القرآن " للزجاج 4/ 73. وفيه: تباينها، بدل: بيانها. واقتصر على هذا القول. (¬3) ذكره بسنده ابن جرير 19/ 29، عن عطية، ويحيى بن رافع، وإبراهيم، وأبي صالح. وذكره بإسناده عن عطية، ابن أبي حاتم 8/ 2716، والثعلبي 8/ 101 أ. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي صالح في إحدى الروايات، وإبراهيم النخعي، والأعمش أنها: القصور. ويشهد للحرس فيها قول الله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] "تفسير السمرقندي" 2/ 464. (¬4) "تنوير المقباس" ص 305. وقال في "الوجيز" 2/ 783: {بُرُوجًا} أي: منازل الكواكب السبعة. ورجح ابن جرير 19/ 30، أن المراد بها القصور، وجعل هذه الآية دليلاً عليه. والذي يظهر أنهم لا يعنون قصوراً في الجنة، بل: قصوراً في السماء فيها الحرس، كما صرح به ابن كثير 6/ 120. وعلى هذا لا يرد الإشكال الذي اعترض به ابن عطية 11/ 62؛ فقال: والقول بأنها قصور في الجنة يحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به. وأما ابن كثير 6/ 120، فقد استظهر أن المراد بها الكواكب العظام، ثم قال: اللَّهم إلا أن تكون الواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان.

والبروج، بمعنى: القصور؛ ذكرنا تفسيرها عند قوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] (¬1). قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} قالوا: هو الشمس، نظيره قوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (¬2) [نوح: 16]. وقرأ حمزة والكسائي: (سُرُجًا) (¬3) قال الزجاج: أراد الشمس، والكواكب معها (¬4). ومن حجة هذه القراءة قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] فشبهت الكواكب بالمصابيح في قوله: (سُرُجًا) كما شبهت المصابيح بالكواكب؛ في قوله: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ} [النور: 35] والمعنى: مصباح الزجاجة، ويدلك قول امرئ القيس: سموت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقُفَّال (¬5) ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: والبروج في كلام العرب: القصور والحصون، وقال ابن المظفر: البروج بيوت تبنى على سور المدينة، وبروج الفلَك اثنا عشر، كل برج فيها ثلاثون درجة، وأصلها في اللغة: من الظهور، ومنه يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 46 ب. و"تنوير المقباس" ص 305. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 271، واستشهد عليه بالآية. و"مجاز القرآن" 2/ 78. وأخرجه عن قتادة، عبد الرزاق 2/ 70، وابن جرير 19/ 30، وابن أبي حاتم 8/ 2717. وهو قول الهوَّاري 3/ 216. والزجاج 4/ 74. والثعلبي 8/ 101 ب. (¬3) "السبعة في القراءات" ص 466، و"الحجة" 5/ 347. و"النشر" 2/ 334. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 74. (¬5) هذا بنصه، في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 347، من قوله: ومن حجة هذه القراءة. وعنه أنشد بيت امرئ القيس، ورواية الديوان هي: نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال سموت إليها بعدم نام أهلها ... سمو حَبَابِ الماء حالاً على حال "ديوان امرئ القيس" ص 182. وفي "حاشية الديوان: تشب لقفال: توقد =

62

واختار أبو عبيد (سُرُجًا) وقال: من قرأ (سُرُجًا) أراد النجوم، وهي قد ذكرت قبل هذا، في قوله: {جَعَلَ في السَّمَاءِ بُرُوجًا} وهذا الذي ذكره لا يقدح في قراءة حمزة؛ لأنه يحمل البروج على غير الكواكب (¬1). 62 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} ذكر أهل اللغة، والمفسرون، في الخلفة، قولين (¬2)؛ قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء (¬3). وقال الأصمعي: خلفة الثمر: الشيء يجيء بعد الشيء. والخلفة من نبات الصيف بعد ما يبس العشب، ومن الزروع، ما زرع بعد إدراك الذي زرع أولاً؛ لأنها تُستَخلف (¬4)، وأنشد: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا ¬

_ = لعائدين من الغزو أو غيره. الحباب: الفقاقيع التي تظهر على سطح الماء. (¬1) ذكر قول أبي عبيد النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 166، وذكر الإجابة عنه فقال: أبان بن تغلب قال: السرج: النجوم الدراري، فعلى هذا تصح القراءة، ويكون مثل قوله جل وعز: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأعيد ذكر النجوم النيرة. وذكر قول أبي عبيد، السمرقندي 2/ 465. وهو اختيار الثعلبي 8/ 101 ب. (¬2) أما ابن جرير 19/ 30، فقد ذكر فيها ثلاثة أقوال: 1 - يخلف أحدهما صاحبه. 2 - ما فات في أحدهما عمل في الآخر. وقد جعلهما الواحدي، قولاً واحداً. 3 - كل واحد منهما مخالف لصاحبه. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 78، بمعناه. وهو قول الأزهري، قال 7/ 398: كل شيء يجيء بعد شيء فهو خلفة. (¬4) "تهذيب اللغة" 7/ 399، 400 (خلف)، بنصه. وفيه: والخلفة ما أثبت الصيف من العشب، بعد ما يبس العشب. ولم ينشد البيت المذكور.

خِلْفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جِلَّق بِيَعَا (¬1) قال المبرد: يقول: يخلف هذا المكان في هذا الوقت المكان الآخر. قال: ومن هذا يقال للمبطون: أصابته خلفة لتردده بين أن يخلف المشي القعود، والقعود المشي. فعلى هذا القول: الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل؛ لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده. قال الفراء: يقول يذهب هذا ويجيء هذا (¬2). وهذا قول ابن عباس، في رواية عطاء، ومقاتل، وابن زيد، والضحاك، والحسن؛ قال ابن عباس: يريد من فاته شيء من الخير بالليل عمله بالنهار (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 79 ولم ينسبه. قال المبرد: قال أبو عبيدة: هذا الشعر يُختلف فيه؛ فبعضهم ينسبه إلى الأحوص، وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. "الكامل" 1/ 498. وذكره ابن جرير 19/ 31، ولم ينسبه. وذكره ابن عطية 11/ 63، وزاد عليه بيتاً، وقال فيه: ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء لمنزل في الصيف دأْباً. وأنشده أبو علي، "كتاب الشعر" 1/ 160، ولم ينسبه. وكذا ابن جني، "سر صناعة الإعراب" 2/ 626. والماطرون: بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم: الميطور، وخلفة: خلفة الشجر: وهو ما يخرج من الثمر بعد الثمر الطيب، أو من الاختلاف؛ وهو: التردد، وهو الشاهد من إيراد البيت، والنمل فاعل أكل، والذي مفعوله، والعائد محذوف؛ أي: جمعه، وارتبعت: دخلت في الربيع، وجِلِّق: مدينة بالشام، وبيعا: مفعول سكنت، وهو جمع بِيعة بالكسر؛ كنيسة النصارى، ومعنى البيتين: أن لهذه المرأة تردداً إلى الماطرون في الشتاء، فإن النمل يخزن الحب في الصيف ليأكله في الشتاء، ولا يخرج إلى وجه الأرض من قريته، وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيَع التي في جلق. "خزانة الأدب" 7/ 312. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 271. واختار هذا المعنى ابن كثير 6/ 114. (¬3) أخرجه بسنده ابن جرير 19/ 30، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي ابن أبي طلحة، وكذا ابن أبي حاتم 8/ 2718. وذكره البخاري تعليقاً، "الفتح" =

وقال مقاتل: جعل النهار (¬1) خلفًا من الليل، لمن نام بالليل، وجعل الليل خلفًا من النهار، لمن كانت له حاجة، وكان مشغولًا (¬2). وقال ابن زيد: يخلف أحدهما صاحبه؛ إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان (¬3). وقال الضحاك: من عجز عن عمل الليل فعمل بالنهار كان له خلفًا، ومن عجز عن عمل بالنهار فعمل بالليل كان له خلفًا. وقال الحسن: جعل أحدهما خلفًا للآخر فإن فات رجلًا من النهار شيء أدركه بالليل، وإن فاته شيء بالليل أدركه بالنهار (¬4). وهذا القول اختيار الليث؛ قال: أي: إذا فاته أمر بالنهار تداركه بالليل، وإذا فاته بالليل تداركه بالنهار (¬5) من العبادة، ¬

_ = 8/ 490. وذكره الثعلبي عن ابن عباس، والحسن، وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم، بسنده عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. ويشهد لهذا حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَن شَئْ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ". أخرجه مسلم 1/ 515، في صلاة المسافرين وقصرها، رقم 747. والنسائي 3/ 288، في قيام الليل، رقم 1790. (¬1) في (ج)، الليل، وهو خطأ. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. (¬3) أخرجه بسنده ابن جرير 19/ 32 مطولاً. وذكره الثعلبي 8/ 101 ب. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 71. وابن جرير 19/ 31، وابن أبي حاتم 8/ 2718. وساق بعده عبد الرزاق بسنده قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار". والحديث أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم: 73، "الفتح" 1/ 165. ومسلم 1/ 558، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم: 815. (¬5) "العين" 4/ 268 (خلف). ولم أجده في "التهذيب". أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2718، =

والذكر، وغير ذلك (¬1). القول الثاني، قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا: هما خِلْفَان، وخِلْفَتَان، يقال: له ابنان خِلْفان، وله عبدان خِلْفان، وله أَمَتَان خلفان، إذا كان أحدُهما طويلاً، والآخر قصيرًا، أو كان أحدُهما أبيضَ، والآخرُ أسودَ (¬2)، قال الراجز: دَلْوَاي خِلْفان وساقياهما (¬3) يقول: إحداهما مُصْعِدَةٌ، والأخرى مُنْحَدِرة (¬4)، واحد الساقين طويل، والآخر قصير (¬5)، أو أحدهما أسود، والآخر أحمر. وقال غيره: يقال: ولد فلان خلفة، أي: نصف صغار، ونصف كبار، ونصف ذكور، ونصف إناث (¬6). وعلى هذا (¬7) الخلفة من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق. وهذا قول مجاهد، قال: جعل كل واحد منهما مخالفًا لصاحبه، فجعل هذا أسود، وهذا أبيض (¬8). ¬

_ = عن الحسن أن عمر -رضي الله عنه-، أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه؛ فقال: إنه بقي علي من وردي شئٌ: فأحببت أن أتمه أو أقضيه، وتلا هذه الآية {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. (¬1) اقتصر الواحدي على هذا القول في "الوسيط" 3/ 345، و"الوجيز" 2/ 783. (¬2) "تهذيب اللغة" 7/ 398 (خلف)، بنصه. وهو قول أبي زيد، "النوادر في اللغة" ص 15. (¬3) هكذا ورد في "تهذيب اللغة" 7/ 398، غير منسوب، و"اللسان" 9/ 91 (خلف) كذلك، و"مقاييس اللغة" 2/ 213، و"نوادر أبي زيد" ص 15. (¬4) "تهذيب اللغة" 7/ 398 (خلف). (¬5) في نسخة: (أ)، (ب)، بالتنوين في: طويلاً، وقصيراً. (¬6) "تهذيب اللغة" 7/ 398 (خلف)، بنصه. ولم يسم القائل. (¬7) في (أ)، (ب): (وهذا على). (¬8) أخرجه بسنده، عنه ابن جرير 19/ 31، وابن أبي حاتم 8/ 2718. وتفسير مجاهد =

وذكر الفراء، والزجاج، القولين جميعًا (¬1)، وأنشدا قول زهير: بها العِينُ والآرام يَمشِين خِلْفةً (¬2) أي: مختلفات، في أنهما ضربان في ألوانها، وهيئتها، وتكون خلفة في مِشْيَتها، تذهب كذا، وتجيء كذا (¬3). وحكى الكلبي، القولين أيضًا؛ فقال: {خِلْفَةً} يخلف كل واحد منهما صاحبه. قال: ويقال الخلفة: اختلاف ألوانها (¬4). والخلفة: اسم من الاختلاف، أقيم مقام المصدر. والاختلاف يحتمل المعنيين جميعًا. وذكرنا ذلك عند قوله: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في سورة البقرة [آية: 164] (¬5) ¬

_ = 2/ 455. وذكره عنه الهوَّاري 3/ 216. وأخرجه بسنده ابن أبي حاتم 8/ 2718، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 271. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 74. (¬2) صدر بيتٍ وعجزه: وأطلاؤها ينهض من كل مجثم "ديوان زهير" 75، وذكره مقتصرًا على صدره: الفراء 2/ 271، وأبو عبيدة 2/ 80، وابن قتيبة في "الغريب" ص 314، وابن جرير 19/ 32، والأزهري 7/ 399. وذكره بتمامه: الثعلبي 8/ 101 ب، وابن عطية 11/ 61، قال ابن قتيبة: الآرام: الظباء البيض، والآرام: الأعلام، واحده: أرم، أي: إذا ذهب فوج الوحش، جاء فوج. (¬3) "تهذيب اللغة" 7/ 399 (خلف)، بنصه وذكر نحوه الفراء 2/ 271، وابن جرير 19/ 32. (¬4) في "تنوير المقباس" ص 305: مختلفة بعضها لبعض. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: فسر الاختلاف هاهنا تفسيرين؛ أحدهما: أنه افتعال من قولهم: خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني خلافه؛ أي: بعده .. وبهذا فسر قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} .. الثاني: قال ابن كيسان وعطاء في هذه الآية: أراد اختلافهما في الطول والقصر والنور والظلمة =

ولهذا لم يثنَّ، كما يقال: رجلان عدل. ويحتمل أن يكون الأمر من باب حذف المضاف، على تقدير: ذوي خلفة (¬1). قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي: يتذكر، فيتبين شكر الله، وموضع النعمة، وإتقان الصنعة، فيستدل به على التوحيد. والتشديد، على أنه: يتذكر، ويتفكر ليدرك العلم بقدرته، ويستدل على توحيده. وقرأ حمزة، مخففًا (¬2)، على معنى (¬3) أنه: يذكر ما نسيه في أحد هذين الوقتين، في الوقت الآخر. ويجوز أن يكون: على تذكر تنزيه الله تعالى، وتسبيحه فيهما؛ كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] هذا كلام أبي علي (¬4). وقال الفراء: (ويذكر، ويتذكر) يأتيان بمعنى واحد؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] في حرف عبد الله: (وتذكَّروا) ما فيه انتهى كلامه (¬5). وفي جعل الله تعالى الليل والنهار متعاقبين، يخلف أحدهما ¬

_ = والزيادة والنقصان .. وهذا القول يرجع إلى المعنى الأول؛ لأن معنى الاختلاف في اللغة: التفرق في الجهات جهة اليمين والشمال والخلف والقدام، ثم شُبه الاختلاف في المذاهب وفي كل شيء بالاختلاف في الطريق مواجهة أن كل واحد من المختلفين على نقيض ما ذهب إليه الآخر كالمختلفين في الطريق. (¬1) ذكره القرطبي 13/ 66، ولم ينسبه. (¬2) كتاب "السبعة في القراءات" ص 466، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 348، وقرأ بها من القراء العشرة خلف، "النشر في القراءات العشر" 2/ 334. (¬3) (معنى) (خ). (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 384، قال: المعنى في قراءة حمزة: {أن يذَّكَّرَ} يتذكر. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 271، بلفظ: وفي قراءتنا {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وفي حرف عبد الله (وتذكروا ما فيه) وذهب إلى أنهما بمعخى واحد: ابن جرير 19/ 32. لم أجده عند ابن خالويه، ولا ابن جني.

63

صاحبه اعتبارٌ واستدلال على قدرته، ومتسع لذكره، وطاعته أيضًا (¬1). وهذا قول المفسرين كما حكينا عنهم في القول الأول في الخلفة. وعلى قول جاهد، الظاهر أنه أراد بالتذكير: الاعتبار، والاستدلال على قدرته، لا الذكر الذي هو التسبيح، والتنزيه (¬2). وقوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} الشُكُور: مصدر شَكَر يَشْكُر، شُكْرًا وشُكُورًا، كما يقال: كَفَر يَكْفُر، كُفْرًا وكُفُورًا، قال الله تعالى: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] قال ابن عباس في هذه الآية: يريد لمن أراد أن يتعظ، ويطيعني (¬3). وقال مجاهد: يشكر نعمة ربه عليه فيهما (¬4). 63 - قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} قال الليث (¬5): الهون: مصدر الهَيِّن في معنى (¬6) السكينة والوقار. تقول: هو يمشي هَوْنًا، وجاء عن علي رضي الله عنه: (أحبب حبيبك هونًا ما) (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره في "الوسيط" 3/ 345، بنصه، ولم ينسبه. (¬2) أخرج بسنده ابن أبي حاتم 8/ 2719، عن مجاهد: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} يتعظ. (¬3) "تنوير المقباس" ص 305. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 455. وأخرجه عنه ابن جرير 19/ 32، وابن أبي حاتم 8/ 2719. (¬5) (الليث) في (ج). (¬6) (معنى) ساقطة من النسخ الثلاث، وهي في "تهذيب اللغة" 4/ 92 (هون). (¬7) كتاب "العين" 4/ 92 (هون)، بنصه. و"تهذيب اللغة" 6/ 440 (هان)، وفيهما: مصدر الهين، في معنى السكينة والوقار. والأثر ذكره الثعلبي 8/ 101 ب، مرفوعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- بدون إسناد، ولفظه: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما". وأخرجه الترمذي 6/ 314، مرفوعاً، كتاب البر والصلة رقم: 1997. وقال: حديث غريب. وصححه الألباني مرفوعاً، في "غاية المرام" 273، وذكر له طرقاً. وأما الموقوف =

قال شمِر في تفسيره: الهَوْنُ: الرِّفق، والدَّعَة، والهِينَة، يقول: لا تُفرط في حُبه ولا بغضه (¬1)، وأنشد: تَهادَى في رِداءِ المِرْط هَونًا (¬2) قال ابن عباس: يريد بالسكينة والوقار (¬3). وهو لفظ مجاهد (¬4). ¬

_ = فقد قال الترمذي: والصحيح عن علي موقوف. والموقوف أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن علي -رضي الله عنه-، "صحيح الأدب المفرد" ص 501. وقد جمع طرقه الزيلعي، في تخريجه لأحاديث الكشاف 2/ 464. (¬1) "تهذيب اللغة" 6/ 441 (هان)، وفيه: قاله في تفسير حديث علي. قال ابن القيم: الهَون، بالفتح في اللغة: الرفق واللين. والهُون، بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان. والمضموم: صفة أهل الكفران، وجزاؤهم من الله النيران. مدارج السالكين 2/ 327. قال ابن كثير 6/ 122: وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعًا ورياءً، فقد كان سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع ... وإنما المراد بالهَون هنا السكينة والوقار. (¬2) "تهذيب اللغة " 6/ 441 (هان)، ولم ينسبه، وصدره: مررت على الوَرِيقَةِ ذات يوم ولم يسم الأزهري من أنشد هذا البيت. وأورده في "لسان العرب" 13/ 439، وصدره: مررت على الوديعة ذات يوم فلعل: الوريقة تصحيف: الوديعة. والله أعلم. تهادى مأخوذ من التهويد، وهو: المشي الرُّوَيد، مثل الدبيب ونحوه. "تهذيب اللغة" 6/ 388 (هاد). المرط: جمعه: مروط، وهي أكسية من صوف أو خز، كان يؤتزر بها. "تهذيب اللغة" 13/ 345 (مرط). (¬3) أخرج بسنده ابن جرير 19/ 33، عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق علي بن أبي طلحة: بالطاعة والعفاف والتواضع، وكذا ابن أبي حاتم 8/ 2719. واختاره الزجاج 4/ 74، واقتصر عليه، ولم ينسبه. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 783. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 455. وبسنده ذكره الفراء 2/ 272، ونسبه لعكرمة أيضًا. =

وقال الحسن، وعطاء، والضحاك، ومقاتل: حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد (¬1) وقال قتادة: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} تواضعًا لله لعظمته (¬2). وروى أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: لا يشتدون (¬3). وقال ابن وهب: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون (¬4). وانتصب {هَوْنًا}؛ لأنه صفة مصدر محذوف، أي: يمشون مشيًا ¬

_ = وأخرجه بسنده، عبد الرزاق، في تفسيره 2/ 71. وكذا ابن جرير 19/ 32، وابن أبي حاتم 8/ 2719، وأخرجه عن الحسن أيضًا. وذكره الهوَّاري 3/ 216. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. وأخرجه بسنده عن الحسن، عبد الرزاق، في تفسيره 2/ 71، وعنه ابن جرير 19/ 34، ولفظه عندهما: حلماء علماء لا يجهلون. وأخرجه أيضًا الثعلبي 8/ 101 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2719، عن ابن عباس رضي الله عنهما: علماء حلماء. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2721. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 34. أسامة بن زيد بن أسلم العمري المدني، ضعيف، ليس له في الكتب الستة سوى حديث واحد عند ابن ماجه. "سير أعلام النبلاء" 6/ 343، و"تقريب التهذيب" ص 123، وأما أبوه زيد بن أسلم فهو مولى عمر رضي الله عنه، ثقة عالم، وكان يرسل. ت: 136. "سير أعلام النبلاء" 5/ 316، و"تقريب التهذيب" ص 350. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 34، فقال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} قال: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون، ولا يفسدون. وقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2721، دون ذكر الآية. قال الزمخشري 3/ 283: ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله: {وَيَمْشِي في الْأَسْوَاقِ}.

هونًا (¬1). قال المفسرون: هذا من صفة خواص عباد الله، أضافهم إليه لاصطفائه إياهم، كما يقال: بيت الله، وناقة الله (¬2). قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} قال مقاتل: يعني السفهاء (¬3) {قَالُوا سَلَامًا} يقول: إذا سمعوا الأذى من كفار مكة، ردوا معروفًا (¬4). قال الكلبي: نسختها آية القتال (¬5). وقال ابن عباس: ردوا سدادًا من القول (¬6)، لا يجهلون مع من يجهل. وهذا قول مجاهد؛ قال: قالوا سدادًا (¬7). وقال الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا (¬8). ¬

_ (¬1) قال ابن قتيبة: أي: مشياً رويداً. "غريب القرآن" ص 315. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 315. من قوله: أضافهم إليه .. قال البغوي 6/ 93: الإضافة هنا للتخصيص، والتفضيل، وإلا فالخلق كلهم عباد الله. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2722، عن سعيد بن جبير: يعني: السفهاء من الكبار. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. و"تنوير المقباس" ص 305. (¬5) ذكره الثعلبي 8/ 102 أعن أبي العالية، والكلبي، ولفظه: هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال. ولفظ الفراء يشعر بميله لهذا القول؛ قال 2/ 272: كان أهل مكة إذا سبوا المسلمين ردوا عليهم رداً جميلاً قبل أن يؤمروا بقتالهم. ونسبه للكلبي، السمرقندي 2/ 465. وذكره عنهما البغوي 6/ 93. (¬6) "تنوير المقباس" ص 305. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 71، وعنه ابن جرير 19/ 35. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2722. وذكره عنه الثعلبي 8/ 102 أ. (¬8) أخرجه ابن جرير 19/ 35. وذكر الثعلبي عن الحسن 8/ 102 أ، قولا آخر؛ ولفظه: سلموا عليهم، دليله قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [القصص: 55]. وأخرج عنه ابن أبي حاتم 8/ 2722، دون ذكر الآية. وذكر الماوردي 4/ 155، عن الضحاك، قالوا: وعليك السلام. ولم =

وقال قتادة. كانوا لا يجاهلون أهل الجاهلية (¬1) والجهل (¬2). ¬

_ = يعترض عليه، وكذلك العز، في تفسيره 2/ 431. وذكر البغوي 6/ 93، قول الحسن، بعد أن قال: وليس المراد منه السلام المعروف!. والذي يظهر أنه لا يمنع من إرادة السلام المعروف مانع، كما في الآية التي استدل بها الحسن، ويكون التسليم قطعاً للكلام وفراقاً بينهم. والله أعلم. وعلى هذا يفرق بين المشركين، وغيرهم من الجاهلين، وذلك للنهي عن ابتداء المشركين بالسلام، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَال: "لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ" وفي إحدى روايات مسلم: "إِذَاَ لَقِيتُمُوهُمْ" وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. أخرجهما مسلم 4/ 1707، كتاب السلام، رقم: 2167. والترمذي 5/ 57، كتاب الاستئذان، رقم: 2700. قال ابن العربي 3/ 452: وقد اتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له: سلام عليك. وحمل الأصم السلام في الآية على أن المراد به سلام توديع لا تحية، كقول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47]. "تفسير الرازي" 24/ 108. وأما ابن القيم، فإنه لم يرتض تفسير الآية بـ: سلام عليكم؛ فقال: ووَصَف نطقهم بأنه سلام فهو نطق حلم وسكينة ووقار لا نطق جهل، وفحش وخناء وغلظة، فلهذا جمع بين المشي والنطق في الآية، فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه: سلام عليكم، فتأمله. بدائع الفوائد 2/ 158. والتسليم لا ينافي ما ذكر ابن القيم؛ لأن التسليم فيه حلم وسكينة ووقار، ويشهد له حديث النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَهُ قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ عَلَيْكَ السَّلامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّ مَلَكًا بَيْنكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلامُ قَالَ لا بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ". أخرجه الإمام أحمد 9/ 191، رقم: 23806، قال ابن كثير 6/ 122: إسناده حسن ولم يخرجوه. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير أبي خالد الوالبي، وهو ثقة. وجمع بين القولين ابن عاشور 19/ 69. (¬1) (الجاهلية) في (ج). (¬2) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 272، ونسبه لابن أبي حاتم، ولكني لم أجده عنده.

وقال مقاتل بن حيان: {قَالُواْ سَلَمًا} أي: قولًا يسلمون فيه من الإثم (¬1). قال أبو إسحاق، وأبو علي: نتسلم منكم سلامًا لا نجاهلكم كأنهم قالوا: تسلمًا منكم لا نتلبس بشيء من أمركم (¬2). وقال أبو الهيثم: معناه: سدادًا من القول، وقصدًا لا لغو فيه (¬3). وهو معنى قول ابن حيان. وذكرنا معنى: السلام فيما تقدم (¬4). والأولى أن لا تكون هذه الآية منسوخة؛ لأنها صفة لخواص من عباد الله، لا يجهلون، ولا يرفثون، بل يحلمون (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 8/ 102 أ، وابن الجوزي 6/ 101، وجمع في "الوجيز" بين قولي مجاهد، وابن حيان، فقال: سدادًا من القول يسلمون فيه من الإثم. قال الثعالبي: إذا نازعك إنسان فلا تجبه؛ فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها فإن أمسكت عنها بترتها، وقطعت نسلها، وإن أجبتها ألقحتها فكم من نسل مذموم يتولد بينهما في ساعة واحدة. الجواهر الحسان 2/ 472. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 74. وذهب إلى هذا المبرد؛ فقال: تأويله المتاركة، أي: لا خير بيننا وبينكم ولا شر. المقتضب 3/ 219، وسبقه إلى هذا سيبويه، "الكتاب" 1/ 324. (¬3) "تهذيب اللغة" 12/ 448 (سلم). (¬4) قال الواحدي: قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} [النساء: 94] وقرئ: {السَّلَمَ} فمن قرأ بالألف واللام فله معنيان؛ أحدهما: أن يكون السلام الذي هو تحية المسلمين؛ أي: لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية: إنما قالها متعوذًا، فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا بماله، ولكن كفوا عنه، واقبلوا منه ما أظهره. والثاني: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، وكف يده عنكم فلم يقاتلكم: لست مؤمناً .. وأصل هذا من السلامة؛ لأن المعتزل طالب للسلامة. (¬5) قال السمرقندىِ 2/ 465، بعد أن ذكر قول الكلبي، في أن الآية منسوخة: وقال بعضهم: هذا خطأ؛ لأن هذا ليس بأمر، ولكنه خبر من حالهم، والنسخ يجرى =

64

قال أبو إسحاق: {وَعِبَادُ} مرفوع بالابتداء، والأحسن أن يكون الخبر: ما جاء في آخر السورة؛ من قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} ويجوز أن يكون خبره: {الَّذِينَ يَمْشُونَ} (¬1) ويكون قوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ} صفة للذين يمشون (¬2). قال الحسن: هذا صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس، وليلُهم (¬3) خير ليل إذا خلو فيما بينهم وبين ربهم يراوحون بين أطرافهم (¬4)؛ وهو: 64 - قوله تعالى: ميووَ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} قال الليث: البَيْتُوتَة: دخولُك في الليل، تقول: بِتُّ أصنع كذا. ومن قال: بات فلان إذا نام؛ فقد أخطأ (¬5). ¬

_ = في الأمر والنهي. ورد مكي بن أبي طالب القول بأن هذه الآية خبر لا يجوز نسخه؛ فقال: هذا ليس من الخبر الذي لا يجوز نسخه؛ لأنه ليس فيه خبر من الله لنا عن شيء يكون أو شيء كان فنسخ بأنه لا يكون، أو بأنه لم يكن -هذا الذي لا يجوز فيه النسخ- وإنما هذا خبر من الله لنا أن هذا الأمر كان من فعل هؤلاء الذين هم عباد الرحمن قبل أن يؤمروا بالقتال. "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 371، وهذا كلام جيد؛ لكن القول بأن الآية منسوخة ليس بصواب، فلا تعارض بين هذه الآية، وبين الأمر بالقتال، فلكل واحد منهما ما يناسبه من الزمان والمكان، قال الطوسي 7/ 505: الأمر بالقتال لا ينافي حسن المحاورة في الخطاب، وحسن العشرة. ونقض القول بالنسخ أيضًا الزمخشري 3/ 284. قال ابن عطية 11/ 67: وهذه الآية كانت قبل آية السيف، فنسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة. وذكر نحوه ابن جزي 487. وأحسن الحديث عن النسخ في هذه الآية النحاس، في كتابه "الناسخ والمنسوخ" 2/ 568. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 74. (¬2) ذكر هذا الزمخشري 3/ 284. (¬3) في (أ)، (ب): (وأجلهم). (¬4) أخرجه بنحوه ابن جرير 19/ 35، وابن أبي حاتم 8/ 2723. (¬5) "العين" 8/ 138 (بيت)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 14/ 333 (بات).

65

وقال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات يَبِيت، نام أو لم ينم. يقال: بات فلان قلقًا (¬1). قال الكلبي ومقاتل: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة سجدًا وقيامًا (¬2). وذكر الكلبي، عن ابن عباس، قال: من صلي ركعتين، أو أكثر بعد العشاء، فقد بات لله ساجدًا وقائمًا (¬3). 65 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} قال ابن عباس: إنهم يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 75. ومما يشهد على أن المراد بالبيات الليل قوله تعالى: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. و"تنوير المقباس" ص 305. (¬3) "الوسيط" 3/ 345، وذكر نحوه الفراء 2/ 272، ولم ينسبه. وكذا الهواري 3/ 217. وذكر الثعلبي 8/ 102 أ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: من صلى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات لله ساجدًا وقائمًا. ثم قال: قال الكلبي: ويقال الركعتان بعد المغرب، وأربع بعد العشاء الآخرة. وذكر ذلك السمرقندي 2/ 465، وصدره بقوله: رُوي. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2723، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: أصيبوا من هذا الليل ولو ركعتين، أو أربعاً. وقد ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 230، أثر ابن عباس مرفوعاً، ونحوه عن ابن عمر مرفوعاً، وضعفهما. لكن ثبت في الصحيح أن عَبْدَ الرحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ صَلاةِ الْمَغْرِب فَقَعَدَ وَحْدَهُ فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ". أخرجه مسلم 1/ 454، كتاب المساجد، رقم: 656. والترمذي 1/ 433، أبواب الصلاة، رقم: 221. (¬4) ذكره عنه القرطبي 13/ 72. قال الزمخشري 3/ 284: وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم، كقولى تعالى. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].

وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} قال الليث: الغرام: العذاب اللازم، أو الشر اللازم، والغُرْمُ: أداءُ شيء يَلزم (¬1). وقال الفراء: العرب تقول: إن فلانًا لَمُغرَمٌ بالنساء، إذا كان مُولَعًا بهن. وإني بك لَمُغرم إذا لم يَصبِر عنه. ونرى أن الغريم إنما سمي غريمًا؛ لأنه يطلب حقه، وُيلح حتى يقبضه، فمعنى: {غَرَامًا} مُلِحًا دائمًا (¬2). قال مقاتل: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} يعني: لازمًا له لا يفارقه (¬3) كلزوم الغريم للغريم. وقال الحسن: الغرام: اللازم الذي لا يفارق صاحبه أبدًا، وكل عذاب يفارق صاحبه فليس بغرام، وكل غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم (¬4). وقال سليمان التيمي: كل أسير لابد أن يفك أُساره يومًا، أو يموت، إلا أَسير جهنم، فهو الغرام لا يُفك أبدًا (¬5). وقال الكلبي: {كَانَ غَرَامًا} مُولَعًا، ويقال مُلِحًا (¬6). وقال القرظي: إن الله عز وجل سأل الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوها إليه، ¬

_ (¬1) كتاب "العين" 4/ 418 (غرم)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 8/ 131. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 782. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 272. وذكره في "تهذيب اللغة" 8/ 131 (غرم). و"تفسير الثعلبي" 8/ 102 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 36، وابن أبي حاتم 8/ 2723. وذكره بنحوه الهواري 3/ 217. والثعلبي 8/ 102 ب. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2724. سليمان بن طَرخان التيمي، أبو المعتمر البصري، نزل في التَّيم فنسب إليهم، ثقة عابد، ت: 143هـ. "سير أعلام النبلاء" 6/ 195. و"تقريب التهذيب" ص 409. (¬6) "تنوير المقباس" ص 305.

فأغرمهم، فأدخلهم النار (¬1). هذا الذي ذكرنا في تفسير الغرام هو الموافق لما قيل في أصل اللغة. وقريب من هذا ذكره الزجاج، في تفسير الغرام؛ فقال: هو أشد العذاب، وأنشد قول بشر بن أبي خازم: ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفَا ... رِ كانا عذابًا وكانا غرامًا (¬2) وقد ذُكر في تفسير الغرام أقوال، هي من معنى الغرام، وليس بتفسير له؛ قال ابن عباس، في رواية عطاء: إن عذابها كان قطعيًّا. وسأله نافع بن الأزرق، عن معنى الغرام؛ فقال: هو الموضع، وأنشد لعبد الله بن عجلان (¬3): ما أكلةٌ إن نلتها بغنيمةٍ ... ولا جوعةٌ إن جعتها بغرامٍ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 6/ 19، وابن أبي حاتم 8/ 2724. وذكره الثعلبي 8/ 102 ب. والسمرقندي 2/ 465. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 75، ولم ينسب البيت. وأنشده أبو عبيدة، في "المجاز" 2/ 80، ونسبه لبشر. وكذا ابن الأنباري، "الزاهر" 1/ 239. وابن جرير 19/ 36. وأورده السيوطي، في "الإتقان" 1/ 171 في سؤالات نافع بن الأزرق لابن عباس. و"غريب القرآن في شعر العرب" ص 196. وذكره الثعلبي 8/ 102 ب، منسوبًا لبشر. النسار: بكسر النون، موضع، قيل: هو ماء لبني عامر. ومنه يوم النسار. "لسان العرب" 5/ 205 (نسر). والجفار: موضع، قيل: هو ماء لبني تميم، ومنه يوم الجفار. "لسان العرب" 4/ 144 (جفر). (¬3) عبد الله بن عجلان، بن عامر النهدي، من قضاعة، شاعر جاهلي، من عشاق العرب المشهورين. "الشعر والشعراء" 482، "الأعلام" 4/ 103. (¬4) لم أجده في "الإتقان"، ولا في "غريب القرآن في شعر العرب"، الذي جمع سؤالات نافع بن الأزرت، من "الإتقان" وغيره. وإنما وجدت البيت الذي قبله. وذكر السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 274، روايتين؛ الأولى: أخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الآية، فقال: ملازماً شديداً، كلزوم =

67

وقال أبو عبيدة: {كَانَ غَرَامًا} أي: هلاكًا. وهو اختيار المبرد وابن قتيبة (¬1) 67 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} فيه ثلاثهَ أوجه من القراءة؛ ضم الياء، من {يَقْتُرُوا} وضم التاء، وكسر التاء مع فتح الياء (¬2)، يقال: قَتَر الرجل على عياله، يَقْتِرُ ويَقْتُرُ قَتْرًا، مثل: يَعْكُف ¬

_ = الغريم الغريم، وأنشد قول بشر بن أبي حازم. والرواية الثانية، قال: أخرج ابن الأنباري، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن نافع ابن الأزرق، قال له: أخبرني عن قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} ما الغرام، قال: المولع، وأنشد بيت ابن عجلان. وأنشد ابن الأنباري البيت، ونسبه لحاتم بن عبد الله الطائي، وليس فيه ذكر السؤال، أو أنه من إنشاد ابن عباس. كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 240. والبيت في "ديوان حاتم الطائي" ص 127، بيتاً مفرداً. (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 80. و"غريب القرآن" ص 315. وذكره البخاري، ولم ينسبه، "الفتح" 8/ 495. واقتصر عليه الغزنوي، في وضح البرهان 2/ 126، واستدل ببيت بشر عليه. ومن الأقوال الواردة في الغرام، ما ذكره الهواري 3/ 217 {غَرَامًا} أي: انتقاماً. وما ذكره الماوردي 4/ 155، عن قطرب: ثقيلاً، ومنه قوله {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم: 46]. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الياء، وكسر التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {يَقتُرُواْ} بفتح الياء، وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: {يُقتروا} بضم الياء، وكسر التاء. "كتاب السبعة في القراءات" 466، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 124، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 348، و"النشر" 2/ 334. قال النحاس، معلقاً على قراءة ضم الياء: وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، فإنما يقال: أقتر يُقتر، إذا افتقر، كما قال جل وعز: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعاً، وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل أن أبا عمرو الجرمي، حكى عن الأصمعي، أنه يقال للإنسان إذا ضَيَّق: قتر يقتُر ويقتِر، وقتَّر يُقتِّر، وأقتر يُقتر، فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح، وأقرب متناولاً، وأشهر وأعرف. "إعراب القرآن" 3/ 167.

ويعكِف، ويفسُق ويفسِق، ويحشُر ويحشِر، إذا ضَيَّق ولم يُنفق إلا قدر ما يُمسك الرَّمَق (¬1). ومثله: أقتر. قال أبو عبيد: وهي ثلاث لغات، معناها: لم يضيقوا في الإنفاق (¬2). وقال غيره: قَتَر إذا ضَتَّق، وأقتر إذا أَقلَّ وافتقر، والمقتر، ضدُ الموسر، قال الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الشاعر: لكم مسجد الله المزوران والحصا ... لكم قِبصُهُ من بين أثْرى وأقترا (¬3) تقديره من بين رجل أثرى، ورجل أقتر، فأقام الصفة مقام الموصوف، وعلى هذا معنى: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} لم يفتقروا في إنفاقهم؛ لأن المسرف مُشرف على الافتقار لسرفه في إنفاقه (¬4). واختلفوا في معنى هذا الإسراف والإقتار؛ فقال الكلبي، والنخعي: هذا في الإنفاق على العيال، إذا أنفقوا على أهلهم وعيالهم وعلى أنفسهم ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 349. والرَّمَق: بقية الحياة. "تهذيب اللغة" 9/ 145. (¬2) قال ابن جرير 19/ 40: كل هذه القراءات ... بمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب. وكذا الأزهري في "معاني القراءات" 2/ 218. (¬3) البيت للكميت بن زيد يمدح بني أمية، المسجدان: مسجد مكة والمدينة، أي: لكم العدد الكثير من جميع الناس، المثري منهم والمقتر. "لسان العرب" 3/ 205 (سجد). وأنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" 8/ 385 (قبص)، ولم ينسبه، ثم قال: أي من بين مُثرٍ ومُقلٍ، واستشهد به على أن القبص: العدد الكثير. وذكره أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 348، ولم ينسبه. وكذا الأنباري في "الإنصاف" 2/ 721، والطبرسي 7/ 277. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 348، من قولى: قتر إذا ضيق.

لم يسرفوا في النفقة (¬1). وقال إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم، ولا ينفق نفقة يقول الناس: إنك قد أسرفت فيها (¬2). وقال أبو علي الفارسي: معنى {لَمْ يُسْرِفُوا} لم يخرجوا في إنفاقهم من السِّطَةِ (¬3) والاقتصاد {وَلَمْ يَقْتُرُوا} لم يمسكوا ولم ينقصوا عن الاقتصاد فيقصروا عن التوسط فمن كان في هذا الطرَف فهو مذموم، كما أن من جاوز الاقتصاد كان كذلك، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية [الإسراء: 29] ويبين هذا قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي: كان إنفاقهم بين ذلك لا إسرافًا، يدخل به في حد التبذير، ولا تضييقًا ¬

_ (¬1) اختار هذا القول الهواري 3/ 217، ولم ينسبه. (¬2) إبراهيم هو النخعي، أخرج قوله ابن جرير 1/ 389. وابن أبي حاتم 8/ 2725، 2726. وهذا القول يدل على أن الإسراف: تجاوز الحد في الإنفاق، والإقتار: التقصير عما لا بد منه. "تفسير البغوي" 6/ 94. (¬3) هكذا في النسخ الثلاث، وأيضًا عند أبي علي في "الحجة" 5/ 349، ومعناه: التوسط. يقال: وسطت القوم أسطهم وسطًا وسِطة، أي: توسطتهم. كتاب "العين" 7/ 279 (وسط)، و"تهذيب اللغة" 13/ 28، و"اللسان" 7/ 429. ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم" فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير". قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلاقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن. أخرجه مسلم 2/ 603، كتاب صلاة العيدين، رقم 885، وابن خزيمة 2/ 357، رقم 1460.

يصير في حد المنع (¬1) لما يجب (¬2). وهذا هو المحمود من النفقة: أن تكون في غير إسراف ولا تقتير (¬3). وذُكر أن عبد الملك بن مروان، دخل على عمر بن عبد العزيز، بعد ما زوجه ابنته، فقال له: كيف نفقتك على عيالك؟ قال: الحسنة بين السيئتين، قال: كيف ذاك؟ قال: كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ ¬

_ (¬1) في (ج): (المانع). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 349. وظاهر هذا أن الإنفاق أريد به الإنفاق الواجب، ولم يرتض ابن عاشور 19/ 71، هذا فقال: أريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب، وذلك إنفاق المرء على أهله، وأصحابه؛ لأن الإنفاق الواجب لا يذم الإسراف فيه، والإنفاق الحرام لا يُحمد مطلقاً بَلْه أن يذم الإقتار فيه، على أن في قوله: {إِذَا أَنْفَقُوا} إشعاراً بأنهم اختاروا أن ينفقدا ولم يكن واجباً عليهم. (¬3) قال الهواري 3/ 218: ذكروا أن هذه أنزلت في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصفهم الله بهذه الصفة، كانوا لا يأكلون طعاماً يريدون به نعيماً، ولا يلبسون ثوباً يريدون به جمالاً، وكانت قلوبهم على قلب واحد. وأخرج نحوه ابن جرير 19/ 38، وابن أبي حاتم 8/ 2725، عن يزيد بن أبي حبيب. وليس معنى هذا أنه لا يجوز التوسع في الملبس، والمأكل، والمسكن، بل الضابط في ذلك: التوسط، فاتخاذ الرجل الثوب للجمال، يلبسه عند اجتماعه مع الناس، وحضوره المحافل والجمع والأعياد، دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قواه على عبادة ربه، مما ارتفع عما قد يسد الجوع فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القوام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر ببعض ذلك، وحض على بعضه، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِن وَجَدَ أَوْ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدْتُمْ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ" أخرجه أبو داود 1/ 650، كتاب الصلاة، رقم 1078. وابن ماجه 1/ 349، كتاب الصلاة، رقم: 1096. وصححه الألباني، "صحيح سنن أبي داود" 1/ 201. وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله يُحِبَّ أَنْ يَرَى أثَرَ نِغَمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ". قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. "سنن الترمذي" 5/ 114، كتاب الأدب، رقم: 2819. وقد بين ذلك ابن جرير 19/ 39.

{يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬1). وعد عمر -رضي الله عنه- من السرف: أن لا يشتهي الرجل شيئًا إلا أكله، وقال: كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما يشتهي (¬2). وهذا القول هو الاختيار في تفسير هذه الآية (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر هذه القصة الزمخشري 3/ 285، وابن عطية 11/ 71، والقرطبي 13/ 73. وأخرج نحو قول عمر ابن عبد العزيز، ابن جرير 19/ 38، عن قتادة، ويزيد بن مرة الجعفي. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2727، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير: العلم خير من العمل، وخير الأمور أوساطها، والحسنة بين السيئتين، ذلك بأن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} يقول: سيئة {وَلَمْ يَقْتُرُوا} يقول: سيئة {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} يقول: حسنة. (¬2) أخرجه ابن ماجه 2/ 1112، كتاب الأطعمة، رقم: 3352. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 229، والسيوطي في "اللآلئ" 2/ 246، والألباني، في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1/ 272. وقد ذكروه جميعاً من طريق الحسن، عن أنس مرفوعاً، وليس بموقوف. وأخرجه عبد الرزاق، في التفسير 2/ 71، عن عمر، وفي إسناده رجل لم يسم، ومن طريقه أخرجه الثعلبي 8/ 103 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2726، من طريق آخر، من كلام الحسن، وليس بموقوف على عمر، وفي إسناده رجل لم يسم. وذكره الزمخشري 3/ 285، عن عمر. وحكم عليه بالانقطاع ابنُ حجر، "الكاف الشاف"، بحاشية الكشاف 3/ 285. فتبين بهذا أنه لم يثبت هذا القول؛ وعليه فلا يدخل في السرف أكل الإنسان من الشيء يشتهيه إذا لم يترتب على ذلك ارتكاب مخالفة شرعية، أو التقصير في واجب. والله أعلم. (¬3) يعني الواحدي بالقول الذي اختاره: النفقة المتوسط فيها بين الإسراف والتقتير. واختار هذا القول قبله الثعلبي 8/ 102 ب، فقال: وقال قوم: السرف مجاوزة الحد في النفقة، والإقتار: التقصير عما ينبغي مما لابد منه. وهذا الاختيار. وقال ابن عطية 11/ 71: وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشارع فيها ألاَّ يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا، وألاَّ يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ... ولهذا ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق رضي الله عنه يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة =

وروى الضحاك عن ابن عباس، في هذه الآية، قال: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهمًا في غير حق فهو سرف، ومن منع من حق فقد قتر (¬1). وقال سفيان في هذه الآية: لم يضعوا في غير حقه، ولم يقصروا عن حقه. وقال الحسن: لم ينفقوا في معاصي الله، ولم يمسكوا عن فرائض ¬

_ = جَلَدِه وصبره، في الدين، ومنع غيره من ذلك. ونقله القرطبي 13/ 73، ولم يعترض عليه. واستظهر هذا القول الشنقيطي 6/ 351. (¬1) قال مجاهد: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سرفاً، ولو أنفقت في معصة الله كان سرفاً. "تفسير ابن جرير" 19/ 37. وأخرج ابن جرير 19/ 37، وابن أبي حاتم 8/ 2725، 2726، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقدن في معصية الله، ولا يُقترون فيمنعون حقوق الله تعالى. وأخرج نحوه ابن جرير 19/ 37، عن ابن جريج، وابن زيد. وعلى هذا الإسراف: النفقة في معصية الله؛ ولكن يشكل على هذا تجاوز الحد في المباح، أو الطاعة، كإكرام الضيف، ونحوه، فهل يسمى هذا سرفاً أم لا؟ ولعل الصواب في ذلك أن يقال: التبذير: الإنفاق في معصية الله، قليلاً كان أو كثيرًا، والإسراف: تجاوز الحد في المباح، والتقتير: المنع من الواجب. ويدل لهذا التفصيل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] وقَول النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا في غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. أخرج البخاري الحديث المرفوع والموقوف معلقاً بصيغة الجزم، في كتاب اللباس، "فتح الباري" 10/ 252. وأخرج المرفوع ابن ماجه 2/ 1192، كتاب اللباس، رقم 3605، والنسائي، "السنن الكبرى" 2/ 41، كتاب الزكاة، رقم 2340، وحسنه الألباني، "صحيح سنن ابن ماجه" 2/ 284، رقم 1904. وبهذا تجتمع أقوال السلف، وعباراتهم في التفريق بين ذلك. والله أعلم. وذكر أقوالهم: ابن جرير 15/ 72، وذكرها الواحدي في "الوسيط" 19/ 38، وابن كثير 6/ 124. وهو اختيار ابن جرير 38/ 19.

الله (¬1). وهذا أيضًا قول جيِّد. وما سوى هذين القولين مما ذكر في تفسير هذه الآية لا وجه له. قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي: بين الإسراف والإقتار (¬2) {قَوَامًا} القِوام من العيش: ما أقامك وأغناك. وقِوام الجسم: تمامه، وقِوام كلِّ شيء ما استقام به (¬3). قال سفيان: عدلاً (¬4). وقال مقاتل: مقتصدًا (¬5). وقال الفراء: القَوام قَوام الشيء بين الشيئين. قال: وفي نصب: القَوام وجهان؛ أحدهما: أن يضم الاسم، من الإنفاق، على تقدير: وكان إنفاقهم قوامًا بين ذلك، وإن شئت جعلت {بَيْنَ} في معنى رفع كما تقول: كان دون هذا كافيًا. تريد: أقلّ من هذا فيكون معنى قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} وكان الوسط قوامًا (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 47، بنحوه. وفي "تنوير المقباس" ص 305: لم ينفقوا في المعصية، ولم يمنعوا من الحق. وذكر نحوه، الهواري 3/ 217، ولم ينسبه. وأخرج نحوه ابن جرير 19/ 39، عن ابن زيد. (¬2) "تنوير المقباس" ص 305. (¬3) "تهذيب اللغة" 9/ 360 (قام). قال ابن جرير 19/ 39: القَوام، في كلام العرب، بفتح القاف، هو: الشيء بين الشيئين ... فأما إذا كسرت القاف، فقلت: إنه قوام أهله، فإنه يعني به: أنه به يقوم أمرهم وشأنهم. وقال ابن جني: القَوام، بفتح القاف: الاعتد الذي الأمر .. وأما القِوام، بكسر القاف، فإنه مِلاك الأمر، وعِصامه. "المحتسب" 2/ 125. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2727، عن سفيان، عن الأعمش. ونسبه الماوردي 4/ 156، للأعمش. قال ابن العربي، في تفسير العدل: وهو أن ينفق الواجب، ويتسع في الحل الذي غير دوام على استيفاء اللذات في كل وقت من كل طريق. "أحكام القرآن" 3/ 453. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 47. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 273. وذكره بنصه، ابن جرير 19/ 40، ولم ينسبه. =

68

68 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬1) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت هذه الآيات (¬2). ¬

_ = واعترض على هذا النحاس، فقال: ما أدري ما وجه هذا؛ لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت، كما يقال: بين عينيه أحمرُ، فترفع بين. إعراب القرآن 3/ 168. وقال الرازي 24/ 110: وهذا التأويل ضعيف؛ لأن القوام هو الوسط، فيصير التأويل: وكان الوسط وسطاً، وهذا لغو. وذكر نحوه البيضاوي 2/ 147. وفي "المحتسب" 2/ 125: فقوام إذاً: تأكيد وجارٍ مجرى الصفة. (¬1) أخرج البخاري، كتاب التفسير، رقم 4761، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سالت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني بحليلة جارك". قال: ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول الله {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} "فتح الباري" 8/ 492. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، رقم: 4810، فتح الباري 8/ 549. ومسلم 1/ 113، كتاب الإيمان، رقم 122. وابن جرير 19/ 41، وابن أبي حاتم 8/ 2728. وأخرجه الثعلبي 8/ 103 أ. وأخرجه الواحدي، بسنده في "أسباب النزول" 335، وذكر تخريج مسلم له فقط. وأخرج البخاري، كتاب التفسير، رقم 4764، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن أبزى: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وقوله: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ} فسألته فقال: لما نزلت قال أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأتينا الفواحش. فأنزل الله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} فتح الباري 8/ 494. قال ابن حجر: ابن أبزى. بموحدة وزاي مقصورة، واسمه: عبد الرحمن، وهو صحابي صغير. وذكر هذا الخبر الواحدى في "الوسيط" 3/ 346. ذكر الواحدي في "أسباب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = النزول" 334، ثلاثة أسباب لنزول هذه الآية؛ منها هذا، والثاني: حديث ابن مسعود، أي الذنب أعظم .. الخ. والثالث: أنها نزلت في وحشي، قاتل حمزة رضي الله عنهما، وذكر هذه الأقوال الثلاثة: ابن الجوزي 6/ 103، ثم قال: وهذا وحشي قاتل حمزة، وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحة، والمحفوظ في إسلامه غير هذا، وأنه قدم مع رسل الطائف فأسلم من غير اشتراط. فائدة في بيان ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حول توبة القاتل المتعمد. قال ابن حجر: وحاصل ما في هذه الروايات، أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد، فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارة يجعل محلهما مختلفاً، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرةُ المؤمن القتل متعمداً، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من القول: إنه قال بالنسخ ثم رجع عنه، وقول ابن عباس -رضي الله عنهما- بأن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً لا توبة له مشهور عنه. ومثل هذا أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2731، عن عمر بن عبد العزيز: كل شيء في القرآن خلود، فإنه لا توبة له. ثم ذكر ابن حجر قول جمهور السلف، وأهل السنة، في تصحيح توبة القاتل كغيره، وقالوا: معنى قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أي: إن شاء الله أن يجازيه، تمسكاً بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء 48، 116] ومن أدلتهم حديث الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، فقال له العالِم: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ وإذا ثبت ذلك لمن قبلُ من غير هذه الأمة فمثله لهم أولى؛ لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم. "فتح الباري" 8/ 496. وجعل ابن كثير 6/ 127، آية النساء مطلقة، محمولة على من لم يتب، وآية الفرقان مقيدة بالتوبة. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن تمسك ابن عباس رضي الله عنهما بظاهر الآية لما اشتهر في زمنه من الفتن، وما يحدث فيها من سفك الدماء، ويشهد لهذا قول سعيد بن جبير: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت فيه على ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء. أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4763، الفتح 8/ 493. قال ابن جرير 9/ 69، (تح: محمود شاكر): وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، =

وقوله: {وَمَن يَقعَل ذَلِكَ} قال مقاتل: هذه الخصال جميعًا (¬1). ¬

_ = قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه إن جازاه جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يحرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين، بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] قال النووي، في "شرح صحح مسلم" 17/ 82: هذا مذهب أهل العلم، وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمداً، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس -رضي الله عنهما- وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته. قال ابن عطية 11/ 73: وبالقتل والزنى يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين، ولهم من الوعيد بقدر ذلك. (¬1) "تفسير مقاتل" ص 47 أ. وبه قال ابن جزي 488، وأبو حيان 6/ 472، ثم قال: فيكون التضعيف مرتباً على مجموع هذه المعاصي، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها؛ ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم. وجعل ابن عاشور 19/ 74، ذلك هو المتبادر من الآية، واستدل على صحته بتضعيف العذاب الذي لا يكون إلا على مجموع هذه الأفعال. وفي "تنوير المقباس" ص 305: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} استحلالاً. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2730، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} من هذه الآيات الثلاث. فظاهر من كلام سعيد بن جبير تعليق الأثام على من فعل هذه المنكرات، أو بعضها، خلافاً لما ذكره الواحدي عن مقاتل، وذهب إلى قول ابن جبير الماوردي 4/ 157، والبغوي 6/ 96، ولم ينسباه، ويدل عليه ما ورد من الوعيد على من فعل بعض هذه المعاصي استقلالاً، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء 93]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. فالجمع بين هذه المعاصي الثلاث في الآية، وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- المتقدم يدل على عظم هذه المعاصي الثلاث وشناعتها، فتحريم القتل فيه حفظ للنفس، وتحريم الزنا فيه حفقاللآعراض والأنساب، وينشأ عن تساهل الناس في =

{يَلْقَ أَثَامًا} قال يونس وأبو عبيدة: يلق عقوبة (¬1). وأنشد أبو عبيدة؛ فقال: جزى الله ابنَ عروةَ حيثُ أمسى ... عَقُوقًا والعُقوق له أثام (¬2) أي: عقوبة مجازاة العقوق (¬3). وقال أبو عمرو الشيباني: يقال: لقي فلان آثام ذلك، أي: جزاء ذلك (¬4). ونحو هذا قال الفراء: أَثَمَه الله يأثِمُه إثمًا وأثامًا، أي: جازاه جزاء الإثم، والعبد مأثوم أي: مجزي جزاء إثمه، وأنشد: ¬

_ = القتل والزنا فساد كبير ظاهر. والله أعلم. وقد جعل الطوسي 7/ 508، عودَ الضمير إلى كل واحد من المعاصي المذكورة قولَ أهل الوعيد، وأما أهل الإرجاء فيجعلونه راجعاً إلى الجميع، ويجوز أن يكون راجعاً إلى الكفر وحده. ا. هـ ولا ينافي رجوع الضمير لكل واحدة من هذه المعاصي قبول التوبة. والله أعلم. (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 81، وذكر قول يونس، الأزهري "تهذيب اللغة" 15/ 160. وقال به ابن قتيبة "غريب القرآن" 315. والغزنوي "وضح البرهان" 2/ 162. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 81 ونسب البيت لبلعاء بن قيس الكناني. وأنشده ابن قتيبة، في الغريب 315، ولم ينسبه. وذكره ابن جرير 19/ 40، منسوبًا لبلعاء. وذكره الأزهري، في "تهذيب اللغة" 15/ 160 (أثم)، ولم ينسبه، ولم يذكر أبا عبيدة، ولا إنشاده البيت. وذكره أبو علي، في "الحجة" 5/ 351، من إنشاد أبي عبيدة، لكنه نسبه لمسافع العبسي، وفي نسخة أخرى: مسافع الليثي، وهي موافقة لما عند الثعلبي 8/ 103 ب. قال أبو علي: وابن عروة: رجل من بني ليث كان دل عليهم ملكاً من غسان فأغار عليهم. (¬3) "تهذيب اللغة" 15/ 161 (أثم)، بنصه. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 76. وفيه: إثام، بكسر الهمزة. وذكره الأزهري، في "تهذيب اللغة" 15/ 160 (أثم)، وأبو على، في "الحجة" 5/ 352، منسوبًا عندهم لأبي عمرو الشيباني.

وهل يَأثَمنِّي الله في أن ذكرتُها ... وعَلَّلْتُ أصحابي بها ليلةَ النَّفر (¬1) معناه: هل يجزيني الله جزاء إثمي بأن ذكرت هذه المرأة في غنائي (¬2). وقال أبو إسحاق: تأويل الأثام: المجازاة، قال: وسيبويه، والخليل، يذهبان إلى أن معناه: يلق جزاء الأثام (¬3). واختار أبو علي، هذا القول، وجعله من باب حذف المضاف؛ قال: ومثله مِن حذف الجزاء الذي هو مضاف، قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} [الشورى: 22] أي: من جزاء ما كسبوا (¬4) لقوله: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} هذا قول أهل اللغة، في معنى الأثام؛ وهو قول ابن عباس، لما سأله نافع بن الأزرق، عن الأثام، قال: الجزاء، وأنشد لعامر بن الطفيل: وروَّينَا الأسنَّة من صُداءٍ ... ولاقتْ حمير منا أثاما (¬5) ¬

_ (¬1) لم أجده في "معاني القرآن" للفراء، عند هذه الآية، وإنما ذكره الأزهري، في "تهذيب اللغة" 15/ 161 (أثم)، من إنشاد الفراء، ولم ينسبه. وقال المحقق: في نسبة البيت خلاف، والمرجح أنه لنصيب بن رياح الأسود الحكمي. يقال: يوم النفر وليلة النفر لليوم الذي ينفر الناس فيه من مني، وأنشد البيت للدلالة على ذلك ابن منظور، "لسان العرب" 5/ 225 (نفر)، ونسبه لنُصَيب بن الأسود. (¬2) لم أجده في معاني القرآن، عند كلامه عن هذه الآية. وقد ذكره بنصه، الأزهري، في "تهذيب اللغة" 15/ 160. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 76. وذكره في "تهذيب اللغة" 15/ 160 (أثم). قال سيبويه "الكتاب" 3/ 87: وسألته [يعني الخليل] عن قوله عز وجل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فقال: هذا كالأول؛ لأن مضاعفة العذاب هو لُقيُّ الأثام. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 351، بمعناه. (¬5) لم أجده في "غريب القرآن في شعر العرب"، الذي جمع سؤالات نافع بن الأزرق. وقد أنشده ابن الأنباري، "الدر المنثور" 6/ 278. الأسنة: جمع سنان، وهو: =

وقال السدي: يلق أثامًا: جزاء (¬1). وأما المفسرون، فإنهم يقولون: أثام: واد في جهنم من دم وقيح. وهو قول مجاهد، ومقاتل (¬2). وقال شفي بن ماتع (¬3)، في هذه الآية: إن في جهنم واديًا يُدعى: أثامًا، فيه حيات وعقارب، في فقار (¬4) أحدهن، سبعون قلة سم، والعقرب فيها (¬5) مثل البغلة الموكفة (¬6). ¬

_ = الرمح. "تهذيب اللغة" 12/ 302 (سنن). وصداء: حي من اليمن. "تهذيب اللغة" 12/ 219 (صدي). وحمير: اسم، وقيل هو أبو ملوك اليمن، وإليه تنتهي القبيلة، ومدينة ظفار كانت لحمير. "تهذيب اللغة" 12/ 60 (حمر). (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2730. وذكر ابن كثير 6/ 126، عنه بدون إسناد. ثم قال ابن كثير: وهذا أشبه بظاهر الآية، وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه، وهو قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 456. وأخرجه عنه ابن جرير 19/ 44. وتفسير مقاتل 47 أ. وأخرجه ابن جرير 19/ 44 عن عبد الله بن عمرو، وعكرمة، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2730، عن عبد الله بن عن مجاهد، وسعيد بن جبير، فبي إحدى الروايات، وعكرمة مثل ذلك. ثم أخرجه بسنده عن قتادة. وأما الهواري 3/ 218، فقال: كنا نحدث أنه راد في جهنم. وذكر فيه قولًا آخر، وهو: نكالًا. (¬3) شفي، بالتصغير، ابن ماتع الأصبحي، من التابعين، ثقة، أرسل حديثًا كثيرًا، مات في خلافة هشام بن عبد الملك، سنة 105 هـ."جامع التحصيل في أحكام المراسيل" ص 238، "تقريب التهذيب" ص 439. (¬4) الفقار: خرز الظهر. تهذيب اللغة 9/ 114 (فقر). (¬5) في (ج): (منه)، وفي "الدر المنثور" 6/ 276: منهن. (¬6) أخرجه ابن المبارك في "الزهد"، كما في "الدر المنثور" 6/ 276. وقد بحثت عنه في كتاب الزهد، لابن المبارك، فلم أجده. وقوله: الموكفة الوكف: الثقل والشدة. يقال: شاه وكوف، أي: غزيرة اللبن، وكذلك: متحة وكوف ونافة وكوف، أي: غزيرة. "تهذيب اللغة" 1/ 393، و"اللسان" 9/ 363 (وكف).

69

وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص (¬1) وروي أبو أمامة الباهلي حديثًا طويلًا فيه أن الغي والأثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار (¬2). 69 - وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أكثر القراء الجزم في {يُضَاعَفْ} {وَيَخْلُدْ} (¬3) على البدل، من الفعل الذي هو جزاء الشرط، وهو قوله: {يَلْقَ أَثَامًا} وذلك أن تضعيف العذاب لُقِيُّ جزاء الأثام في المعنى (¬4)، فلما كان إيَّاه أُبدل منه، كما قال: إن يَجْبُنُوا أو يَغدِروا ... أو يبخلوا لا يحفلوا يغدوا عليك مُرَجَّليـ ... ـن كأنهم لم يفعلوا (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 44، بلفظ: الأثام: واد في جهنم. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 44. مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرجه 19/ 45، موقوفًا على أبي أمامة، بنحو سياقه. وأخرجه مرفوعًا الطبراني، "المعجم الكبير" 8/ 175، رقم: 7731، وكذا الثعلبي 8/ 103 ب، كلهم من طريق محمد بن زياد الكلبي، عن شرقي بن القطامي، عن لقمان بن عامر. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه ضعفا، قد وثقهم ابن حبان، وقال: يخطئون. "مجمع الزوائد" 10/ 389. (¬3) قرأ ابن كثير: {يُضعَّف} بتشديد العين، بغير ألف، مع الجزم في الكلمتين. والجزم مع الألف قراءة حفص عن عاصم، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة والكسائي. وقرأ ابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الموضعين. "كتاب السبعة في القراءات" ص 467، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 350، و"النشر" 2/ 334. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 350. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 76. بمعناه. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 126. ونسبه النحاس "إعراب القرآن" 3/ 168، والأزهري، "معاني القراءات" 2/ 219، لسيبويه، وهو بنصه في "الكتاب" 3/ 87. (¬5) أنشدهما سيبويه، "الكتاب" 3/ 87، ونسبهما لبعض بني أسد، ولم يسمه. وذكر البيتين، أبو علي في "الحجة" 5/ 351، ولم ينسبهما. وذكرهما ابن جني، "المحتسب" 2/ 75، وعزاهما لشاعر جاهلي قديم. وابن الأنباري، في "البيان =

70

فغدوهم مُرَجَّلين في المعنى، تركٌ للاحتفال. وهذا مثل إبدال {يُضَعِفُ} وقد أبدل من الشرط كما أبدل من جزائه، وذلك في قوله: متى تأتنا تُلْممْ بِنا في ديارنا ... تَجدْ حَطبًا جَزْلًا ونارًا تأجَّجَا (¬1) فأبدل: تُلمم، من: تأتنا؛ لأن الإلمام إتيان في المعنى (¬2). وأما من رفع فإنه لم يُبدل ولكنه قطعه مما قبله واستأنف (¬3). 70 - وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بمكة؛ وكان المشركون قالوا: [ما يغني عنا اتباعك، وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأتينا الفواحش، فنزلت: {إِلَّا مَنْ تَابَ} الآية (¬4). وقال السدي: قال المشركون]: (¬5) كيف نتبعك يا محمد وأنت تقول: ¬

_ = في إعراب القرآن" 2/ 258، و"الإنصاف" 2/ 584، ولم ينسبهما. وفي حاشية الإنصاف: الشاهد قوله: لا يحفلوا يغدوا عليك، فإن الفعل الثاني: يغدوا مجزوم؛ لأنه بدل من الفعل الأول، وهو: لا يحفلوا، وتفسير له. ويحفلوا مأخوذ من قول العرب: ما أحفل بفلان، أي: ما أبالي به. "تهذيب اللغة" 5/ 76 (حفل). والمرجَّل: الشَعْر المسَرَّح. "تهذيب اللغة" 11/ 34 (رجل). (¬1) أنشده سيبويه، "الكتاب" 3/ 86، ولم ينسبه. وكذا الزجاج 4/ 76، وفيه: وناراً توقدا. وفي الحاشية: لم أقف على قائل البيت. وقال: الشاهد فيه: وقوع تلمم بدلاً من تأتنا. وأنشده كذلك أبو علي، في "الحجة" 5/ 351. وابن الأنباري، "الإنصاف" 2/ 583. والبغدادي، "الخزانة" 3/ 660، وعزاه لعبد الله بن الحر. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 350. وهو في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 76، بمعناه. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 352. و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 219. قرأ بالرفع في الموضعين: عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر. "كتاب السبعة في القراءات" ص 467. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 350. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 42. (¬5) ما بين المعقوفين، في (ج).

من أشرك أو زنا أو قتل فهو في النار؟ فأنزل الله: {إِلَّا مَنْ تَابَ}. وذكر ابن عباس: أن هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] وقال: التي في هذه السورة لمن كان مشركًا ثم تاب وآمن، فأما من دخل في الإسلام، وعقل ثم قتل فلا توبة له (¬1). وقال: هذه مكية، نسختها آية مدنية وهي التي في سورة النساء (¬2). ونحو هذا قال زيد بن ثابت: نزلت الغليظة، بعد اللينة بستة أشهر، فنسخت الغليظة اللينة (¬3). وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعم الذي الإسلام؛ بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانًا. قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وابن زيد، وسعيد بن جبير (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 9/ 65، تح: محمود شاكر. وأخرجه أيضًا في 19/ 42، وفيه: قال سعيد بن جبير: فذكرته لمجاهد، فقال: إلا من ندم. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4762، "الفتح" 8/ 492، ومسلم 4/ 2318، كتاب التفسير، رقم: 2023. وابن جرير 19/ 44. (¬3) أخرج ابن جرير 9/ 68، تح: محمود شاكر. قال ابن عطية 11/ 75: ولا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني، واختلفوا في القاتل من المسلمين. (¬4) أخرج ابن جرير 19/ 46، عن ابن عباس، من ثلاثة طرق، وأخرجه كذلك عن الضحاك، وسعيد بن جبير، وابن زيد، ومجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2733، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريقين، وعن سعيد، من طريقين، والحسن، وعطاء، وقتادة وذكره الثعلبي عن جميع من ذكر الواحدي. قال مقاتل 47 أ: والتبديل من العمل السيئ إلى العمل الصالح. واختار هذا القول ورجحه ابن جرير 19/ 46. قال الزجاج 4/ 76: ليس أن السيئة بعينها تصير حسنة، ولكن التأويل أن السيئة تمحى بالتوبة، وتكتب الحسنة مع التربة. فيكون التبديل على هذا القول في الدنيا. "تفسير البغوي" 6/ 97.

وذهب قوم إلى أن الله تعالى يمحو السئية عن العبد، ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية. ويحتجون بما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات! قيل: من هم؟ قال: الذين بدل الله سيئاتهم حسنات" (¬1). وهذا مذهب سعيد بن المسيب، ومكحول، وعمرو بن ميمون، قال سعيد: صيَّر سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 4/ 281، كتاب التوبة والإنابة، رقم: 7643. وقال: إسناده صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه الثعلبي 8/ 104 أ، مرفوعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2733، موقوفاً على أبي هريرة، كلهم من طريق أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- لكن متن ابن أبي حاتم مختلف، ولفظه: "ليأتين الله بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل: من هم يا أبا هريرة؟ قال: الذين يبدل الله بسيئاتهم حسنات". وأبو العنبس، هو: سعيد بن كثير. الحاكم 4/ 281. وحسن إسناده الألباني، في "السلسة الصحيحة" 5/ 209، رقم: 2177. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 47، وابن أبي حاتم 8/ 2733، بنحوه. وساقا بإسنادهما حديثاً مرفوعاً، من رواية أبي ذر -رضي الله عنه- وفيه "فيقول: يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هاهنا، قال: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، قال: فيقال له: لك مكان كل سيئة حسنة". وأخرجه مسلم 1/ 177، كتاب الإيمان، رقم: 190، من الطريق نفسه، وأخرجه الثعلبي 8/ 104 أ، والواحدي في "الوسيط" 3/ 347، وصححه. وذكر خبراً ثالثاً يدل على ذلك. ولم يرجح الواحدي -رحمه الله- أحد هذين القولين، وكذا السمرقندي، في تفسيره 2/ 467، مع ذكرهم لهذا الحديث، وهو ظاهر مع الذي قبله في أن التبديل حقيقي، ولا عبرة بقول من أنكره، وأما القول بأن المراد تغير أعمالهم في الدنيا من الفساد إلى الصلاح فلا ينافي هذا القول فإن هذا في الدنيا، والتبديل في الآخرة، كما هو ظاهر من سياق الحديث. والله أعلم. والعجب من الواحدي الذي أورد هذا الحديث، هنا، وفي "الوسيط" مع غيره مما يؤيد معناه، ومع ذلك فقد اقتصر في "الوجيز" ص 784، على القول الأول، ولم يذكر القول الثاني. ومثله =

71

وقال مكحول: يغفرها الله لهم فيجعلها حسنات (¬1). وقال عمرو بن ميمون: يتمنى العبد أن سيئاته أكثر مما هي (¬2). وقوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} قال ابن عباس ومقاتل: {غَفُورًا} لما صنعوا في الشرك {رَحِيمًا} بهم في الإسلام (¬3). 71 - [قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} قال ابن عباس في رواية عطاء: ومن آمن: يريد رجلاً قبل هؤلاء ممن كان ¬

_ = أبو السعود 6/ 230. وذكر القولين العز، في تفسيره 2/ 432. ومال القرطبي 13/ 78، إلى القول بان التبديل حقيقي. واقتصر عليه البرسوي 6/ 247. واختاره ابن عاشور 19/ 76. وقد تكلم ابن القيم، على هذه المسألة بتوسع، وذكر حجج الفريقين، ثم خلص إلى الجمع بينهما؛ فقال: وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة. "طريق الهجرتين" ص 450. (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2735. (¬2) والقول بأن التبديل حقيقي، ذكره ابن أبي حاتم، عن سلمان -رضي الله عنه- وعلي بن الحسين. وأما ما أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2733، عن أبي العالية، أنه قيل له: إن ناساً يقولون: ودوا أنهم استكثروا من الذنوب؟ فقال أبو العالية: ولمَ يقولون ذلك؟ قيل: يتأولون هذه الآية: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تلا هذه الآية: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30]. فهذا القول منه استنكار لقولهم هذا في الدنيا، فإنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى أن يكون قد أكثر من المعصية بهذه الحجة، بل الواجب أن يكون حاله الشفقة، والخوف، فأنكر عليهم أبو العالية ذلك، والآية التي ذكرها في من مات ولم يتب من سيئاته. والله أعلم. وذكر النحاس قولاً آخر في التبديل، وحسنه؛ فقال: ومن حسن ما قيل فيه: أنه يكتب موضح كافر: مؤمن، وموضع عاصٍ: مطيع. إعراب القرآن 3/ 169. وهو مخالف لظاهر الآية. والله أعلم. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 47 أ.

آمن من أهل مكة، وهاجر ولم يكن قتل، ولا زنا {وَعَمِلَ صَالِحًا} يريد الفرائض] (¬1) {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} يريد: أي فضلتهم وقدمتهم على من قاتل نبيي عليه السلام، واستحل محارمي (¬2). وعلى هذا معنى الآية: من آمن وأدى ما افتُرض عليه، ولم يكن ممن قتل وزنا، فإنه يصير إلى ما آتاه الله من التفضيل والتقديم على من قتل وزنا ثم تاب. وقال الكلبي: ومن تاب من الشرك وعمل صالحًا بعد التوحيد فإنه يتوب إلى الله متابًا، يقول: يجد عند الله متابًا (¬3). وقال مقاتل: {وَمَنْ تَابَ} من الشرك {وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} يعني: مناصحًا (¬4) لا يعود في شركه، ولا إلى ذلك الذنب (¬5). هذا ما ذكره أهل التفسير في هذه الآية؛ وهو غير مقنع، ولا شاف. وكشف أرباب المعاني عن معنى الآية؛ قال صاحب النظم: ليس في نظم العرب، أن يقولوا: من قام وصلى فإنه يصلي صلاة؛ لأنه ليس في ظاهره فائدة إلا بأن يكونا مختلفين في المعنى، فالتأويل -إن شاء الله-: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} فإنه يرجع يوم القيامة إلى الله عز وجل فيكافئه ويثيبه بعمله. وعلى هذا التوبة الأولى: رجوع عن الشرك والمعصية، والثانية: رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة، كقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من: (ج). (¬2) ذكره الواحدي، في "الوسيط" 3/ 347، بسياق قريب من هذا. (¬3) "تنوير المقباس" ص 305، بلفظ: يجد ثوابها عند الله. (¬4) الناصح: الخالص. "تهذيب اللغة" 4/ 250 (نصح)، و"لسان العرب" 2/ 615. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 47 ب، وعلى هذا فالتوبة في الآية عن جميع السيئات. ومعناه: ومن أراد التوبة، وعزم عليها فليتب لوجه الله. "تفسير البغوي" 6/ 98.

مَتَابِ} [الرعد: 30] أي: مرجعي في المعاد (¬1). وقال ابن الأنباري: يُسأل عن هذه الآية فيقال: ما الفائدة في قوله: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ} بعد قوله: {وَمَنْ تَابَ} وهل يجوز لقائل أن يقول: من قام فإنه يقوم، ومن ركب فإنه يركب؟ والجواب: أن التكرير وجب لزيادةٍ في المعنى؛ ومعنى الآية: من أراد التوبة وقصد حقيقتها ينبغي أن يريد الله بها، ولا يخلط بها أمرًا من أمور الدنيا. كما يقول الرجل: من تجر فإنه يتجر في البَزِّ (¬2)، ومن ناظر فإنه يناظر في النحو. أي: من أراد التجارة فينبغي له أن يتجر في البَزِّ، ومن أراد حسن المناظرة ودقة الاستخراج فينبغي له أن يناظر في النحو (¬3). وقال أبو علي الفارسي: وجه دخول الفاء في قوله: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ} كما ذكرنا في قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ} [البقرة: 158] ومعنى قوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ} فالقول في هذا: أن اللفظ على شيء، والمعنى على غيره، وذلك غير ضيق في كلامهم، ألا ترى أنهم قد قالوا: ما أنت وزيد، والمعنى لم تؤذيه، واللفظ إنما هو على المسألة من المخاطب، وزيد معطوف عليه، وكذلك قولهم: أمكنك الصيد، والمعنى: ارمه، وكذلك: هذا الهلال أي: انظر إليه، فكذلك قوله: {وَمَن تَابَ} كأنه: ومن عزم على التوبة فينبغي أن يبادر إليها ويتوجه بها إلى الله سبحانه، وهذا كما قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] أي: إذا عزمت على ذلك، وعلى هذا المعنى قوله: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} أي: ينبغي أن يتوب، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول البغوي 6/ 97، ولم ينسبه. (¬2) البَزُّ: ضرب من الثياب. "تهذيب اللغة" 13/ 173 (بز). (¬3) ذكره ابن الجوزي 6/ 108، عن ابن الأنباري.

72

يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] أي: ينبغي أن يتربصن. هذا كلامه (¬1). وأمثل هذه الأقوال ما ذكره صاحب النظم. 72 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (¬2) معنى {الزُّورَ} هاهنا: الشرك بالله في قول أكثر المفسرين؛ وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، ومقاتل، والضحاك (¬3). ونحو هذا قول من فسر: {الزُّورَ} بأعياد المشركين (¬4). وهو قول الضحاك، فيما روى عنه حسين بن عقيل (¬5)، وقول مجاهد، فيما روى عنه يحيى بن اليمان (¬6). ونحو هذا قال ابن سيرين؛ هو: ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) عقب الله تعالى تركهم الزنا بالإعراض أصلاً عن اللغو الذي هو أعظم مقدمات الزنا. "تفسير ابن عاشور" 13/ 432. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. وأخرجه ابن جرير 19/ 48، عن الضحاك، وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2737، عن الضحاك، من طريقين. قال الزجاج 4/ 77: والذي جاء في الزور أنه الشرك بالله. (¬4) ذكره السيوطي عن ابن عباس، ونسبه للخطيب، "الدر المنثور" 6/ 282. قال الفراء: لأنها زور وكذب؛ إذ كانت لغير الله. "معاني القرآن" للفراء 2/ 74. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 77، ولم ينسباه. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2737، من طريق الحسين بن عقيل. ثم قال ابن أبي حاتم: وروي أبي العالية، وطاوس، والربيع بن أنس، والمثنى بن الصباح نحو ذلك. الحسين بن عقيل، لم أجد ترجمته إلا عند ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل 3/ 61، حيث قال: الحسين بن عقيل العقيلي، روى عن الضحاك، وعائشة بنت بجدان، روى عنه ابن عيينة، وأبو نعيم، قال يحيى بن معين: ثقة. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 8/ 104 ب، والبغوي 6/ 98. يحيى بن اليمان العجلي الكوفي، صدوق عابد يخطئ كثيرًا، وقد تغير، من أتباع التابعين. ت: 189هـ. "سير أعلام النبلاء" 8/ 356، و"تقريب التهذيب" ص 1070.

الشعانين (¬1). قال أبو إسحاق: الذي جاء في الزور أنه الشرك جامع لأعياد النصارى، وغيرها (¬2). و {اَلزُّورَ} في اللغة: الكذب (¬3). ولا كذب فوق الشرك بالله عز وجل. وقال ابن الحنفية: معنى الزور هاهنا: الغناء (¬4). وهو رواية ليث عن مجاهد (¬5). وقال الكلبي: لا يحضرون مجالس الباطل والكذب (¬6). وهو قول قتادة (¬7). وقال عمرو بن قيس: مجالس الخنا (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2737. وهو عيد من أعياد المشركين. وفي حاشية الطبرسي 7/ 283: عيد معروف للنصارى قبل عيدهم الكبير بأسبوع، كما قاله ابن الأثير. ولم أجده في كتابه النهاية؛ حرف الشين مع العين. قال الطوسي 7/ 511: قال ابن سيرين: هو أعياد أهل الذمة كالشعانين وغيرها. (¬2) هذا كلام جيد؛ لكن لم أجده في كتاب المعاني، المطبوع، وإنما فيه (4/ 77) بلفظ: والذي جاء في الزور أنه الشرك بالله، فأما النهي عن شهادة الزور .. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 3/ 425. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2737. وذكره السيوطي 6/ 283، واقتصر على تخريج عبد بن حميد، والفريابي له، ولم يذكر ابن أبي حاتم. (¬5) أخرجه عن مجاهد، ابن جرير 19/ 48، من طريق الليث. وذكره الثعلبي 8/ 104 ب. وليث هو ابن أبي سليم، قال فيه ابن حجر: صدوق اختلط جداً، ولم في يتميز حديثه فترك. "تقريب التهذيب" ص 817. (¬6) "تنوير المقباس" ص 305. وذكر نحوه الفراء 2/ 273، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير 19/ 48، عن ابن جريج. (¬7) ذكره عنه الثعلبي 8/ 105 أ، والسيوطي، في "الدر" 6/ 283. (¬8) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2737، والثعلبي 8/ 104 ب. - عمرو بن قيس المُلائي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة عابد متقن، حدث عن =

وقال علي بن أبي طلبة: يعني شهادة الزور (¬1). وهو قول وائل بن ربيعة (¬2). قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} معنى اللغو، في اللغة: كل ما يُلغى وُيطرح (¬3). والمعنى: إذا مروا بجميع ما ينبغي أن يُلغى؛ وهو: المعاصي كلها؛ قاله الحسن، والكلبي (¬4). ¬

_ = عكرمة، وعطاء، ومصعب بن سعد، وغيرهم، وحدث عنه سفيان الثوري، وصحبه زماناً. مات سنة بضع وأربعين ومائة. "سير أعلام النبلاء" 6/ 250، و"تقريب التهذيب" ص 743. (¬1) ذكره عنه الثعلبي 8/ 104 ب. وعلى هذا فهو من الشهادة لا من المشاهدة. "تفسير ابن عطية" 11/ 78. (¬2) وائل بن ربيعة، لم أقف على نسبه؛ لكن ذكر ابن سعد في "الطبقات" 6/ 204، أن وائل بن ربيعة روى عن عبد الله بن مسعود، وروى عن وائل: المسيب بن رافع. وعده البخاري في الكوفيين. "التاريخ الكبير" 8/ 176. لم يرجح الواحدي -رحمه الله- شيئاً من هذه الأقوال، وقد أوصلها ابن أبي حاتم في "تفسيره" 8/ 2736، إلى تسعة أوجه، والذي يظهر أنها كلها مرادة؛ إذ لا تعارض بينها، فتأويل الآية كما قال ابن جرير 19/ 49: والذين لا يشهدون شيئاً من الباطل. قال الرازي 24/ 113: واعلم أن كل هذه الوجوه محتملة، ولكن استعماله في الكذب أكثر. قال ابن القيم: وتأمل كيف قال سبحانه: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: بالزور؛ لأن يشهدون، بمعنى يحضرون، فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به، وفعله. "إغاثة اللَّهفان" 1/ 260. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 77. وقال أبو عبيدة: اللغو: كل كلام ليس بحسن، وهو في اليمين: لا والله، وبلى والله. "مجاز القرآن" 2/ 82. (¬4) أخرج قول الحسن، عبد الرزاق 2/ 72. وعنه ابن جرير 19/ 50. وذكره الثعلبي 8/ 105 أ، عنهما. ونسبه في "الوسيط" 3/ 348، للحسن، والكلبي. وفي "تنوير المقباس" ص 305: بمجالس الباطل.

وقال ابن زيد: يعني ما يشتغل به المشركون من الباطل (¬1). وروى جويبر عن الضحاك: مروا بالشرك (¬2). {مَرُّوا كِرَامًا} قال الكلبي: يعني حلماء لا يشهدونه، ولا يحضرونه (¬3). وقال أبو إسحاق: لا يجالسون أهل المعاصي، ولا يمالئونهم عليها (¬4). والمعنى: مروا مر الكرماء، الذين لا يرضون باللغو؛ لأنهم يجلون عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله. وقيل: أصل هذا من قولهم: ناقة كريمة، وبقرة كريمة، إذا كانت تعرض عند الحلب تكرمًا؛ كأنها لا تبالي بما يحلب منها (¬5). وقال الليث: يقال: تكرم فلان عما يَشِينُه، إذا تنزه وأكرم نفسه عنها (¬6). ومعنى الآية: مروا منزهين أنفسهم، معرضين عنه (¬7). يدل على ¬

_ (¬1) في نسخة: (أ)، كتب قول ابن زيد هكذا: ما يشتغل به الإنسان المشركون من الباطل. فكلمة الإنسان زائدة. أخرج ابن جرير 19/ 50، عن ابن زيد: اللغو: ما كانوا فيه من الباطل، يعني المشركين، وقرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. (¬2) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2739، من طريق جويبر. قال الرازي 24/ 113: ومنهم من فسر اللغو بكل ما ليس بطاعة، وهو ضعيف؛ لأن المباحات لا تعد لغواً. (¬3) "تنوير المقباس" ص 305، بلفظ: أعرضوا حلماء. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 77. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 105أ. (¬6) كتاب "العين" 5/ 368 (كرم)، و"تهذيب اللغة" 10/ 236. (¬7) وهذا اختيار ابن جرير 19/ 50، حيث جعل الآية عامة، في كل باطل، وأنه لا وجه لتخصيص بعض دون بعض بدون دلالة من حبر أو عقل. وجعل من خبر ابن ميسرة، الذي ساقه الواحدي، دليلاً على ذلك.

صحة هذا المعنى ما روى ابن ميسرة (¬1): أن ابن مسعود مر بلهو معرضًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أصبح ابن مسعود لكريمًا" (¬2). وقال مقاتل في هذه الآية: إذا سمعوا من كفار مكة الشتم والأذى مروا معرضين، كقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] (¬3). وهذا رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إذا أُوذوا صَفحوا (¬4). ولهذا قال السدي: هي منسوخة بآية القتال (¬5) وقال في قوله: {كِرَامًا} لا ¬

_ (¬1) ابن ميسرة، إبراهيم بن ميسرة الطائفي، نزيل مكة، ثبت حافظ، من صغار التابعين، حدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وطاوس وعمرو بن الشريد، وغيرهم، وحدث عنه شعبة وابن جريج، وسفيان الثوري، وسفيان ابن عيينة. ت: 220 هـ. "سير أعلام النبلاء" 6/ 123، و"تقريب التهذيب" ص 117. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 50، بلفظ: مر بلهو مسرعاً. وابن أبي حاتم 8/ 2738، كلهم من طريق: محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة وذكره الثعلبي 105 أ، وابن عطية 11/ 79، وضعفه الألباني؛ لأن إبراهيم بن ميسرة تابعي ثقة، إلا أنه أرسل الحديث، ومحمد بن مسلم، وهو: الطائفي، صدوق يخطئ. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 3/ 310، رقم: 1167. (¬3) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 456، وأخرجه ابن جرير 19/ 49، وابن أبي حاتم 8/ 2739. (¬5) لعل هذا مأخوذ من قوله عن هذه الآية: هي مكية. "تفسير ابن جرير" 19/ 50. وقد ذكره عنه صريحاً الثعلبي 8/ 105 أ. قال ابن جرير: وإنما عني السدي بقوله هذا -إن شاء الله- أن الله نسخ ذلك بأمره المؤمنين بقتال المشركين بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وأمرهم إذا مروا باللغو الذي هو شرك، أن يقاتلوا أمراءه، إذا مروا باللغو الذي هو معصية لله أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك في مكة. والصحيح أن الآية لا نسخ فيها بل هي من الآيات التي يعمل بها في مواضعها المناسبة كما سبق ذكر ذلك عند قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43].

يكلمونهم ويعرضون عنهم، واللغو: الوقيعة من المشركين في المسلمين (¬1). وروى العوام بن حوشب، عن مجاهد قال: كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كَنَوا عنه (¬2). وهو اختيار الفراء؛ قال: ذُكِر أنهم كانوا إذا أَجروا ذكر النساء كَنَوا عن قبيح الكلام فيهن وذلك مرورهم به (¬3). وقال أبو علي الفارسي في هذه الآية: يجوز أن يكون المعنى: إذا مروا بأهل اللغو، [وذوي اللغو] (¬4) مروا كرامًا فلم يجاروهم فيه ولم يخوضوا معهم فيه (¬5)، قال: ويجوز أن يكون مِثل: فمرت بي آية كذا، ومرت بي سورة كذا؛ أي: تلوتها، وقرأتها، إذا أتوا على ذكر ما يُستفحَش ذكره كَنَوا عنه ولم يصرحوا. وليس هذا في كل حال ولكن في بعض دون بعض؛ فإذا كانت الحال تقتضي التبيين فالتصريح أولى، كما روي في الحديث: "فأعِضُّوه بِهِنِ أبيه، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2740. (¬2) أخرج ابن جرير 19/ 49، وابن أبي حاتم 8/ 2739، من طريق العوام بن حوشب. وذكره الثعلبي 8/ 105 (أ). كَنَى فلان عن الكلمة المستفَحشة يَكْنِي: إذا تكلم بغيرها. "تهذيب اللغة" 10/ 373 (كنى). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 274. وذكره الزجاج 4/ 77. (¬4) ما بين المعقوفين، في (ج). (¬5) قال ابن قتيبة: لم يخوضوا فيه، وأكرموا أنفسهم عنه. "غريب القرآن" 315. وليس معنى ذلك أهم يتركون الإنكار، قال ابن عطية 11/ 79: وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغيره. إما باليد أو باللسان أو ينكره بالقلب كما دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". أخرجه مسلم 1/ 69، كتاب الإيمان، حديث رقم: 49، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 90.

ولا تَكْنُوا" (¬1) وكما رُوي عن بعض الصحابة، أنه قال لبعض المشركين: اعضض (¬2) بظر اللات (¬3). {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} قال مقاتل: إذا وعظوا بالقرآن {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} يقول لم يقعوا عليها و {وصُمَّا} لم يسمعوه {وَعُمْيَانًا} لم يبصروه، ولكنهم سمعوا وأبصروا وانتفعوا به (¬4). ونحو هذا ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد 8/ 48، رقم: 21292. عَنْ عُتَيِّ عَنْ أُبَيِّ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلاً تَعَزَّى عِنْدَ أُبَيٍّ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ افْتَخَرَ بأَبِيهِ فَأَعَضَّهُ بِأَبِيهِ وَلَمْ يُكَنِّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا إِنِّي قَدْ أَرَى الَّذِي في أَنْفُسِكُمْ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِلا ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلا تَكْنُوا". وفي رواية: "قَالَ أُبَيِّ كُنَّا نُؤْمَرُ إِذَا الرَّجُلُ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلا تَكْنُوا". وأخرجه البخاري، في "الأدب المفرد" ص 193. وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 477، رقم: 269. قال ابن الأثير: أي: قولوا له: عُضَّ أيْرَ أبيك. "النهاية في غريب الحديث" 5/ 278. (¬2) (اعضض) في (ج). (¬3) هذا جزء من حديث طويل في قصة الحديبية، وقد وجه هذا الكلام أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لعروة بن مسعود، عندما قال: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَاصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ يكُنِ الأخْرَى فَإِنِّي والله لأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ: مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ. أخرجه البخاري، كتاب الشروط، رقم: 2734، "الفتح" 5/ 329. والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش: الأخلاط من السفلة. والبظر: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. قال ابن المنير: في قول أبي بكر تخسيس للعدو وتكذيبهم، وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنت الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بأنها لو كانت بنتاً لكان لها ما يكون للإناث. "فتح الباري" 5/ 340. (¬4) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. ولفظ الآيات هنا عام فيدخل تحته الآيات الشرعية، =

قال المفسرون كلهم (¬1)؛ قال ابن عباس: لم يكونوا عنها صمًا ولا عميًا بل كانوا خائفين، خاشعين. وقال الكلبي: يخرون عليها سمعاء، وبصراء (¬2). قال الفراء: يقول: إذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوه فذلك الخرور، وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني كقولك: قام يشتمني وأقبل يشتمني (¬3). ومعنى {لَمْ يَخِرُّوا} على ما ذكر: لم يقعدوا، ولم يصيروا عندها صمًا وعميًا. وقال الزجاج: تأويله: إذا تليت عليهم خروا سجدًا [وبكيًا، سامعين مبصرين، لما أمروا به ونهوا عنه، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]] (¬4) قال: ومثل هذا من الشعر ¬

_ = والآيات الكونية، من الشمس والقمر، ونحوها. وقد اقتصر على الآيات الكونية الطوسي 7/ 511. والآية كما سبق أعم، وإن كانت الآيات الشرعية أقرب. والله أعلم. وجمع بين القولين الطبرسي 7/ 284. وابن عاشور 13/ 433. (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 51، عن مجاهد. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2740، عن قتادة، ومجاهد، وأسباط، والحسن، وابن زيد. وأخرج ابن جرير 19/ 51، وابن أبي حاتم 8/ 2740، عن ابن عون، قال: قلت للشعبي: رأيت قوماً قد سجدوا، ولم أعلم ما سجدوا منه، أسجد؟ قال: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} قال ابن كثير 6/ 132: يعني أنه لا يسجد معهم؛ لأنه لم يتدبر آية السجدة، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة، بل يكون على بصيرة في أمره ويقين واضح بين. (¬2) "تنوير المقباس" ص 306. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 274. ونحوه عند ابن جرير 19/ 51، ولم ينسبه. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب).

74

قول الشاعر: بأيدي رجالٍ لَمْ يَشيمُوا سيوفَهم ... ولَمْ تَكثر القتلى بها حين سُلَّتِ (¬1) تأويله: بأيدي رجال شاموا سيوفهم، أي: أغمدوها وقد كثرت القتلى، فتأويل الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} خروا ساجدين سامعين مبصرين (¬2). وقال ابن قتيبة: أي: لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يروها (¬3). 74 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} (¬4) وتقرأ و {وذريتنا} (¬5) والذرية، تكون واحدًا وجمعًا. فكونها ¬

_ (¬1) أنشده المبرد، ونسبه للفرزدق، وقال عنه المبرد: هذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويله: لم يشيموا: أي: لم يُغمدوا، ولم تكثر القتلى، أي: لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى حين سلت. الكامل 1/ 401، وقال المحقق: لم أجده في ديوان الفرزدق، ط: دار صادر. وبحثت عنه في ط: دار بيروت، فلم أجده أيضًا. وأنشده الزجاج، "معاني القرآن" 4/ 77، ولم ينسبه. وفيه: ولم يكثروا. وأنشده ابن الأنباري، الإنصاف 2/ 667، ولم ينسبه، وفي الحاشية: وقد وجدته في ديوان الفرزدق بيتاً مفرداً. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 78. قال الزمخشري 3/ 287: {لَمْ يَخِرُّوا} ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، كما تقول: لا يلقاني زيد مسلِّماً، هو نفي للسلام لا للقاء. (¬3) "غريب القرآن" ص 315، و"تأويل مشكل القرآن" 22. وفي (ج): (لم يبصروها). (¬4) من، في قوله تعالى: {مِنْ أَزْوَاجِنَا} ابتدائية، على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا. "تفسير الرازي" 24/ 115. (¬5) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص: {وَذُرِّيَّاتِنَا} بالجمع. وقرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي: {وَذُرِّيَّتِنَا} واحدة. كتاب السبعة في القراءات 467، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 352، و"النشر في =

للواحد، قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] فهذا كقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم 5، 6] وكونها للجمع قوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] فمن أفرد في هذه الآية، فإنه أراد به الجمع، فاشغنى عن جمعه لما كان جمعًا، ومن جمع (¬1) فكما تجمع هذه الأسماء التي تدل على الجمع، نحو: قوم وأقوام، ورهط وأرهاط. وقد جمعوا بالألف والتاء، والواو والنون، الجموع المكسرة، كقولهم: الجُزُرات (¬2)، والطُّرقات. وجاء في الحديث: "صواحبات يوسف" (¬3). وقال العجاج: جَذْبُ الصَّرارِيِّين بالكُرُور (¬4) ¬

_ = القراءات العشر" 2/ 335، قال الأزهري: المعنى واحد في القراءتين؛ لأن الذرية تنوب عن الذريات، فاقرأ كيف شئت. (¬1) (ومن جمع) في (أ)، (ج). (¬2) جَزَر الناقة يجزَرُها جَزْرَاً: نحرها وقطعها، والجَزور: الناقة المجزورة، والجمع: جزائر وجُزُز وجُزُرَات جمع الجمع، كطرق وطرقات. "لسان العرب" 4/ 134 (جزر)، و"القاموس المحيط" ص 465. (¬3) جزء من حديث طويل في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه-، أن يصلي بالناس، ومراجعة عائشة، وحفصة -رضي الله عنهما- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقال لهن رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". أخرجه الترمذي 5/ 573، كتاب المناقب، رقم: 3672. والنسائي 2/ 434، كتاب الإمامة، رقم: 833، وأخرجه البخاري، في مواضع من صحيحه، بلفظ: صواحب يوسف. "الفتح" 2/ 164، 206، و6/ 417، و13/ 276. وقد وهم محقق كتاب "الحجة للقراء السبعة" 5/ 353، بعزو لفظ: صواحبات، للبخاري. (¬4) "ديوان العجاج" ص 191، وأنشده الأزهري 9/ 442، وقال: جعل العجاج الكَرَّ حبلاً تقاد به السفن على الماء، والصراري: الملاّح. وأنشده أبو علي في "الححة" =

وإنما الصراري جمع صُرَّاءٍ، وهو مفردٌ نحو: حُسَّانٍ (¬1)، فَكَسَّرَه ككُلَّابٍ، وكَلاَليب؛ لأن الصفة تُشَبَّه في التكسير بالأسماء. ويدل على أن الصُرَّاء واحدٌ قول الفرزدق: أَشاربُ قهوةٍ وخدينُ زِيرٍ ... وصُرَّاءٍ لفسوته بُخارُ (¬2) قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (¬3) قال الفراء: ولو قرئت: قُرَّاتِ أعين؛ لأنهم كثير، كان صوابًا. والوجه التقليل: {وقُرَّةَ}؛ لأنه فعل، والفعل لا يكادون يجمعونه، ألا ترى أنه قال: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] فلم يجمعه، وهو كثير. والقُرَّة: مصدر، تقول: قَرَّت عينُك قُرَّةً (¬4). ¬

_ = / 353، ونسبه للعجاج. وكذا في "لسان العرب" 4/ 454 (صرر)، وفيه: وصواب إنشاد بيت العجاج: جذبُ برفع الباء؛ لأنه فاعل لفعل في بيت قبله. (¬1) في "لسان العرب" 4/ 454 (صرر): وكان أبو علي يقول: صراءٌ واحد، مثل: حُسَّانٍ للحَسَن. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 353، بنصه، ونسب البيت للفرزدق، وعزاه المحقق لديوانه 1/ 388، وأنشده في "لسان العرب" 4/ 454 (صرر)، منسوبًا للفرزدق؛ وفيه: أشاربُ خمرة. وفيه: ولا حجة لأبي علي في هذا البيت؛ لأن الصراري الذي هو عنده جمع، بدليل قول المسيب بن عَلَس، يصف غائصًا أصاب درة: وترى الصراري يسجدون لها ... ويضمهما بيديه للنحر (¬3) {قُرَّة أَعْيُنٍ} كل ما تقر به عين الإنسان، ومعنى ذلك: أن الرجل إذا فرح بالشيء خرج من عينه ماء بارد، وهو القَرُّ، وإذا اغتم وبكى خرج من عينه ماء ساخن، فيقال: سخن الله عينه، إذا دعوا عليه، وإذا دعوا له: أقر الله عينه، ويقال: معنى أقر الله عينه، أي: غنم، وقيل: أقر الله عينه، أي: بلغه الله مراده حتى تقر عينه فلا تطمح إلى شيء وتستقر. "إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 128. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 274. بنصه. قال الألوسي 19/ 52: اختير الأعين جمعاً للعين الباصرة، والعيون جمعاً للعين الجارية، في جميع القرآن الكريم.

قال ابن عباس، في هذه الآية: يريد أبرارًا أتقياء (¬1). وقال مقاتل: يقولون: اجعلهم صالحين، فتقر أعيننا بذلك (¬2). وقال الكلبي: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} في الدنيا، صالحين مطيعين لك (¬3). وقال الضحاك: اجعلهم أبرارًا صالحين. وقال القرظي: ليس شيء أقرَّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله (¬4). قوله عز وجل: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال ابن عباس، ومقاتل: يُقتدى بنا في الخير (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ابن جرير 19/ 52، وابن أبي حاتم 8/ 2742، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي ابن أبي طلحة: من يعمل لك بالطاعة فتقر بهم أعيننا في الدنيا والآخرة. وذكر الهواري 3/ 219، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أعواناً على طاعة الله. (¬2) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. ونحوه في "تنوير المقباس" ص 305. (¬3) نحوه في "تفسير الماوردي" 4/ 160، منسوبًا للكلبي. (¬4) ذكره البخاري، تعليقاً عن الحسن، ولفظه: وما شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى حبيبه في طاعة الله. "الفتح" 8/ 490. وكذا ابن جرير 19/ 52. وذكره البغوي 6/ 99، عن القرظي، والحسن. وأخرج نحو هذه الأقوال، ابن أبي حاتم 8/ 2742، عن عكرمة، والحسن، قال المقداد بن الأسود -رضي الله عنه-: حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (¬5) أخرج ابن جرير 19/ 53, وابن أبي حاتم 8/ 2742، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. و"تفسير مقاتل" ص 47 ب. وفيه: قال أبو محمد: سألت أبا صالح عنها، فقال: قال مقاتل. اجعلنا نقتدي بصالح أسلافنا، حتى يُقتدى بنا بعدنا. وهذا القول اختيار الفراء في "المعاني" 2/ 274. والهواري 3/ 219.

وقال أبو صالح: يُقتدى بهدانا (¬1). وقال عكرمة: إمامًا مثالًا (¬2). وقال مكحول: أئمة في التقوى، يَقتدي بنا المتقون (¬3). قال الفراء: إنما قال: {إِمَامًا} ولم يقل: أئمة، كما قال: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، للاثنين، وعلى هذا هو من الواحد الذي أُريد به الجمع (¬4)، كقول الشاعر: يا عاذلاتي لا تُردْن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير (¬5) وحكى أبو علي الفارسي، عن الأخفش قال: الإمام هاهنا جمع: آمّ فاعل من: أمَّ، يُجمع على: فِعَال، نحو: صَاحب، وصِحَاب (¬6). ونحوه قول الحطيئة: ¬

_ (¬1) قال ابن أبي حاتم 8/ 2742، بعد ذكر قول ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق: وروي عن أبي صالح، وعبد الله بن شوذب نحو ذلك. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2743. (¬3) أخرجه الثعلبي 8/ 105 ب، وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2743، بسياق أطول من هذا. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2743، عن سعيد بن جبير، والسدي. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 274، بمعناه (¬5) أنشد البيت الأخفش 2/ 643، ولم ينسبه. وأنشد عجزه أبو عبيدة 2/ 45، ولم ينسبه، وقال: أراد: أمراء. وذكره ابن جرير 19/ 54، من إنشاد بعض نحوي البصرة. وأنشده ولم ينسبه: الثعلبي 8/ 105 ب، وابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص 285، وابن جني، "الخصائص" 3/ 174، وابن هشام، "مغني اللبيب" 1/ 211. (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 643. ولفظه: فالإمام هاهنا جماعة، كما قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]، ويكون على الحكاية كما يقول الرجل إذا قيل له: من أميركم؟ قال: هؤلاء أميرنا وذكره أبو علي في كتابه: "التكملة" 464، ولم ينسبه. قال ابن جزي ص 488: هو جمع آمّ، أي: متبع. وكذا الأنباري، "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 210.

.... الأَطِبَّةُ والإسَاءُ (¬1) جمع آسٍ. وقال غيره: الإمام، هاهنا: مصدر سمي به؛ يقال: أمَّ فلان فلانًا إمامًا، كقولك: قام قيامًا، وصام صيامًا (¬2). وروي عن مجاهد، في هذه الآية روايتان؛ إحداهما: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال: مؤتمين بهم مقتدين بهم (¬3). وعلى هذا يجب أن تكون الآية من باب القلب؛ على تقدير: واجعل المتقين لنا إمامًا (¬4). ¬

_ (¬1) أنشده كاملاً، ونسبه للحطيئة، المبرد، "الكامل" 2/ 722، وأنشده مع أبيات أخر ص: 724، وأنشده كذلك الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 140 (أسى)، والبيت بتمامه: همُ الآسُونَ أُمَّ الرأسِ لمَّا ... تواكلها الأطبة والإساء والبيت من قصيدة طويلة يمدح فيها الحطيئة بني أنف الناقة، وهم من بني عوف بن كعب. "ديوان الحطيئة" 82. الآسي: الطبيب. "الكامل" 2/ 722، والإساء: الدواء "تهذيب اللغة" 13/ 140 (أسى)، وأم الرأس: الجلدة الرقيقة التي أُلبست الدماغ، والمعنى: أنهم يصلحون الفاسد. "ديوان الحطيئة بشرح ابن السكيت" ص 82. (¬2) "تفسير ابن جرير" 19/ 54، بنصه، والثعلبي 8/ 105 ب، ولم ينسباه. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في تفسيره 2/ 72. وعنه ابن جرير 19/ 53. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 105 ب. وذكره ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 200 ورده، فقال: وهذا ما لا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله عز وجل، لو لم يجد له مذهباً؛ لأن الشعراء تقلب اللفظ، وتزيل الكلام على الغلط، أو على طريق الضرورة للقافية، أو لاستقامة وزن البيت. ثم ذكر شواهد كثيرة لفعل الشعراء. ثم قال: والله تعالى لا يغلط، ولا يضطر. وهذا قول حسن، وحمل ابن قتيبة، الآية على ظاهرها، فقال ص 205: يريد: اجعلنا أئمة في الخير يقتدي بنا المؤمنون، كما قال في موضع آخر: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]، أي: قادة، كذلك قال المفسرون. وروي عن بعض خيار السلف، أنه كان =

والثانية قال: اجعلنا نقتدي بمن قبلنا حتى يَقتدي بنا مَنْ بعدنا (¬1). وعلى هذا في الكلام محذوف يدل عليه الباقي؛ حُذف سؤالهم الاقتداء بمن قبلهم من المتقين، وذُكر سؤالهم أن يقتدي بهم المتقون؛ لأنهم لا يصيرون قادة متبعين حتى يقتدوا أولاً ويتبعوا. وحكى الفراء، والزجاج، هذا القول الأخير (¬2). قال مقاتل: أخبر الله ¬

_ = يدعو الله أن يُحمل عنه الحديث، فحُمل عنه. وقال بعض المفسرين، في قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: اجعلنا نقتدي من قبلنا، حتى يقتديَ بنا مَنْ بعدنا. فهم على هذا التأويل متَّبِعون، ومتَّبَعون. وجعل الماوردي 4/ 161، هذه الآية دليلاً على أن طلب الرياسة في الدين ندب. وذكر نحوه ابن عطية 11/ 81، عن إبراهيم النخعي. واستدل عليه الرازي 24/ 115، بقوله تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وذكر الطوسي 7/ 512، أن قراءة أهل البيت: واجعل لنا من المتقين إماماً. وتبعه الطبرسي 7/ 282. ولم أجد من ذكر هذه القراءة غيرهما، فلا يبعد أن تكون من تأويلات الشيعة لإثبات عقيدة الإمامة. والله أعلم. (¬1) أخرجه عنه، ابن جرير 19/ 53، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2742، ثم قال: وروي عن الحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 274. وذكر قبل قول مجاهد، أن المراد: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا. وأما الزجاج 4/ 78، فذكر قولاً واحداً واقتصر عليه، ولم ينسبه، وهو: واجعلنا ممن يهتدي بنا المتقون، ونهتدي بالمتقين. ولم يرجح الواحدي -رحمه الله- أحد القولين، مع أنه اقتصر في "الوسيط" 3/ 349، على القول الأول. ومال في "الوجيز" إلى الجمع بينهما فقال: اجعلنا ممن يهتدي به المتقون، ويهتدي بالمتقين. "الوجيز" 2/ 784. وأما ابن جرير، فقد رجح القول الأول: اجعلنا للمتقين إمامًا يأتمون بنا في الخيرات. لموافقته لظاهر الآية. وقال ابن عاشور 13/ 435: ولما كان المطلوب من المسلمين الاجتماع في الطاعة حتى تكون الكلمة في المتابعة واحدة، أشاروا إلى ذلك بتوحيد الإمام وإن كان المراد الجنس فقالوا: {إِمَامًا}.

75

تعالى عن أعمالهم ثم أخبر عن ثوابهم (¬1). 75 - فقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} (¬2) الغُرْفَة معناها في اللغة: العلِّيَّة، وكلُ بناء عالٍ مرتفع فهو: غُرْفة. ويقال للسماء السابعة غرفة، وهو في شعر لبيد (¬3). ويحتمل أن يكون أصلها من الغَرْف، بمعنى: القطع والفصل، يقال غَرَفْتُ ناصيتَه، أي: قطعتها. قال الأصمعي: ومنه قول قيس بن الخطيم: .......... تكاد تنغرف (¬4) أي: تنقطع (¬5). فُسمي البيت العالي: غُرْفة، بمعنى: المغروف، أي: المقطوع من غيره بعلوه وارتفاعه. قال مقاتل: يعني: غرف الجنة، نظيرها ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" ص 47 ب، بمعناه. (¬2) ذكر أبو حيان 6/ 474، أن هذه الآية نزلت في العشرة المبشرين بالجنة. ولم يذكر دليلاً عليه. (¬3) يعني به قول لبيد: سوَّى فأغلق دون غُرفة عرشهُ ... سبعاً شداداً فوق فرع المَنقلِ وهو في "ديوانه" ص 126، بلفظ: دون غرة عرشه، وفي الحاشية: ويروى: دون غرفة عرشه. والمنقل: ظهر الجبل. وأنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" 8/ 104 (غرف)، بلفظ: دون غرفة عرشه. (¬4) "ديوان قيس بن الخطيم" ص 106، والبيت بتمامه: تنام عن كبر شأنها فإذا قا ... مت رويدا تكاد تنغرف يصف امرأة نشأت في رفاهية ونعمة، فهي تنام عن أكثر شأنها لكونها مخدومة، فإذا قامت من نومها قامت في سكون وضعف تكاد تنقصف أو تسقط. "حاشية الديوان" ص 107. وأنشد الأزهري البيت عن الأصمعي 8/ 104 (غرف)، وأنشده قبل ذلك 8/ 103، كاملاً عن ابن الأعرابي. (¬5) "تهذيب اللغة" 8/ 104 (غرف).

في: الزمر (¬1). وقال ابن عباس: يريد غرف الزبرجد، والدر، والياقوت (¬2). وقال السدي والضحاك: {الْغُرْفَةَ} الجنة (¬3). قوله: {بِمَا صَبَرُوا} قال ابن عباس: على دينهم، وعلى أذى المشركين (¬4). وقال مقاتل: على أمر الله (¬5). وقوله: {وَيُلَقَّوْنَ} قرئ بالتشديد، والتخفيف (¬6). فمن شدد فحجته ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [20]، "تفسير مقاتل" ص 47 ب. وكذا قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]. "تفسير الهواري" 3/ 219. وحكى الماوردي 4/ 161، عن ابن شجرة، أن الغرفة أعلى منازل الجنة، وأفضلها. والله أعلم. وقد اقتصر على هذا القول الطوسي 7/ 512، ولم ينسبه. (¬2) ذكره البغوي 6/ 100، عن عطاء. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2743، عن الضحاك، وسعيد بن جبير، وأبي جعفر محمد بن علي، والسدي. وذكره ابن الجوزي 6/ 112، عن ابن عباس. (¬4) "الوسيط" 3/ 349، غير منسوب. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2744، عن سعيد بن جبير، وأخرج عن أبي جعفر: {بِمَا صَبَرُوا} على الفقر في الدنيا. قال الهواري 3/ 220: على طاعة الله، وعن معصية الله. والآية ظاهرة في إرادة العموم فيدخل فيها ما ذكر، وغيره أيضًا. والله أعلم. وقد نص على هذا الزمخشري 3/ 288، والرازي 24/ 116. (¬6) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص، بالتشديد. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، بالتخفيف. "السبعة في القراءات" 468، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 354، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 335. قال الأزهري: المعنى في {يُلَقَّوْنَ} أن الله يلقي أهل الجنة إذا دخلوها ملائكته بالتحية والسلام، ومن قرأ: (يلقَون) فالفعل لأهل الجنة، إنهم يلقون فيها التحية والسلام من الله عز وجل "معاني القراءات" 2/ 221.

قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، ومن خفف فحجته قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (¬1) [مريم: 59]. وقال الفراء: التخفيف أعجب إلي؛ لأن القراءة لو كانت على التشديد، كانت بالباء؛ لأنك تقول: فلان يُتَلقَّى بالسلام والخير (¬2). وهذا الذي قاله ينتقض بقوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}؛ لأنه بغير الباء على أن قال: وكل صواب: يُلَقَّونه، ويُلَقَّون به (¬3). وقوله: {فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} قال ابن عباس: التحية والسلام، من عند الرحمن (¬4). وقال الكلبي: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام، ويرسل إليهم الرب بالسلام (¬5). وقال مقاتل: {تَحِيَّةً} يعني: السلام {وَسَلَامًا} يقول: سلم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 354. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 275. وهو اختار ابن جرير 19/ 54، وأورد كلام الفراء، ولم ينسبه. قال أبو علي: لقي: فعل متعد إلى مفعول واحد، فإذا نقل بتضعيف "العين" تعدى إلى مفعولين، فقوله: {تَحِيَّةً} المفعول الثاني، من قولك: لقَّيت زيداً تحية، فلما بنيت الفعل للمفعول قام أحد المفعولين مقام الفاعل، فبقي الفعل متعديًا إلى مفعول واحد. "الحجة للقراء السبعة" 5/ 354. واختار ابن خالويه، قراءة التشديد؛ لما فيها من التكثير، "إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 128. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 275. وقد ذكر رأيه ورد عليه بأوسع مما ذكر الواحدي, النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 169. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2744، عن سعيد بن جبير: تتلقاهم الملائكة بالتحية، والسلام. وقال به أيضًا مجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2744. (¬5) "تنوير المقباس" ص 306، بمعناه. وهو في "الوسيط" 3/ 349، غير منسوب. (¬6) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. وحكى الماوردي 4/ 162، عن الكلبي: يحيي بعضهم بعضاً بالسلام.

76

76 - وقوله: {خَالِدِينَ} حال من قوله: {يُلَقَّوْنَ} قال ابن عباس: لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يسقمون {فِيهَا} في: الغرفة {حَسُنَتْ} أي الغرفة {مُسْتَقَرًّا} موضع قرارٍ {وَمُقَامًا} موضع إقامة. قال ابن عباس: طاب لهم المستقر والمقام مع الحور العين، والولدان المخلدين (¬1). 77 - قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}، قال الليث: تقول: ما أعبأ بهذا الأمر، أي: ما أصنع به، كأنك تستقلُّه وتستحقرُه. تقول: عَبَأَ يَعْبَأُ عَبْأً وعِبَاءً ممدود (¬2). وقال الكسائي: عبى مقصور. وقال أبو عبيدة: يقال ما عَبأتُ به شيئًا، أي: لم أعده شيئًا (¬3). [وقال شَمِر: قال أبو عبد الرحمن: ما عَبَأت به شيئًا، أي: لم أعده شيئًا] (¬4) وقال أبو عدنان، عن بعض أهله، يقال: ما يعبأ الله بفلان، إذا كان فاجرًا، أو مائقًا (¬5) وإذا قيل: قد عبأ الله به فهو رجل صدق. قال: وأقول: ما عبأت بفلان، أي: لم أقبل منه شيئًا؛ ولا من حديثه (¬6). وقال أبو إسحاق: تأويله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} أيُّ وزنٍ يكون لكم عنده، كما يقول: ¬

_ (¬1) أخرج نحو ما سبق ابن أبي حاتم 8/ 2744، عن سعيد بن جبير. وهذه الآية في مقابل قوله تعالى قبل ذلك عن النار: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} تفسير الرازي 24/ 116. (¬2) كتاب "العين" 2/ 263 (عبء)، وذكره ابن جرير 19/ 55، ولم ينسبه. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 82. وذكره البخاري، ولم ينسبه، "الفتح" 8/ 490. (¬4) ما بين المعقوفين، في (ج)، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 235 (عبا). (¬5) المائق: الهالك حمقاً وغباوة. "تهذيب اللغة" 9/ 363 (موق)، و"لسان العرب" 10/ 350. (¬6) "تهذيب اللغة" 3/ 234 (عبا)، وفيه: قال أبو عدنان عن رجل من باهلة.

ما عبأت بفلان، أي: ما كان له عندي وزن، ولا قدر. وأصل العِبْء في اللغة: الثِقل، ومن ذلك: عبأت المتاع، جعلت بعضه على بعض (¬1). وقال بعض أهل اللغة: أصل هذا الحرف، من: تهيئة الشيء، قال: عَبَأت الطيب، أَعْبَؤُه عَبْأ إذا هيأته، قال: كأنَّ بِنَحرِه وبِمنْكبيه ... عَبيرًا باتَ يعبؤه عَروس (¬2) قال أبو زيد: يقال: عَبَأت الأمر والطيب عَبْأ إذا ما صنعته وخلطته، وعَبَأت المتاع عَبْأ إذا هيأته. ويقال: عَبَّأته تعبئة، وكل من كلام العرب، وعبأت الخيل تعبئة وتعبيئًا. انتهى كلامه (¬3). والعِبء: الثقل؛ لأنه يُهيأ له ما يُحمل به، وما أَعْبَأ به: أي لا أهبأ به أمرًا (¬4). هذا كلام أهل اللغة في هذا الحرف. قال مجاهد، ومقاتل: يقول: ما يفعل بكم ربي (¬5). وهو اختيار الزجاج (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 78. ونقله عنه الأزهري 3/ 234 (عبا). وفي (ج): (النقل) بدل: (الثقل). (¬2) بنصه في "إصلاح المنطق" 149، دون إنشاد البيت. وذكره الثعلبي 8/ 105 ب، ولم ينسب القول ولا البيت. وأنشد البيت الطبرسي 7/ 283، ولم ينسبه، وإنما قال: قال الشاعر يصف أسدًا. وأنشده القرطبي 13/ 84، بلفظ: كان بصدره وبجانبيه. وأنشده في "لسان العرب" 1/ 118 (عبأ)، ونسبه لأبي زبيد. قال الشنقيطي 6/ 359: قوله: يعبؤه، أي: يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به، واكتراثه به. (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 235 (عبا). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 235 (عبا)، بلفظ: ما عبأت به شيئاً: لم أباله. (¬5) "تفسير مجاهد" 2/ 457، وأخرجه ابن جرير 19/ 55، وابن أبي حاتم 8/ 2745. و"تفسير مقاتل" ص 47 ب. واقتصر عليه الهواري 3/ 220. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 78.

وقال ابن عباس، والكلبي، وابن زيد: ما يصنع بكم ربي (¬1). وهذا اللفظ اختيار الفراء (¬2). وقوله: {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} قال مجاهد، والكلبي: لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه (¬3). واختاره القراء؛ فقال: لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام (¬4). ومعنى الآية على هذا: أي مقدار ووزن لكم عند الله لولا أنه خلقكم لتعبدوه، وتطيعوه. وهذا معنى قول ابن عباس، أي: إنما أريد منكم أن توحدني. والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول. قال: لولا عبادتكم (¬5). وهو قول الكلبي (¬6). وقال أبو إسحاق: أي: لولا توحيدكم إياه (¬7). وعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، وفيه تنبيه على أن من لا يعبد الله، ولا يوحده ولا يطيعه لا وزن له عند الله (¬8). وهذه الآية عند ابن عباس، خطاب لجميع ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 55، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2745، عن عمرو بن شعيب. وذكره الأزهري 3/ 234، عن الكلبي. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 275. (¬3) أخرجه عن مجاهد ابن جرير 19/ 55، وابن أبي حاتم 8/ 2745، و"تفسير مجاهد" 2/ 457. وفي "تنوير المقباس" ص 306: {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} أن الله أمركم بالتوحيد. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 275. قال الهواري 3/ 220: لولا عبادتكم وتوحيدكم وإخلاصكم، كقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]. (¬5) "تفسير مقاتل" ص 47 ب. (¬6) "تنوير المقباس" ص 306. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 78. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا إيمانكم ولعل المراد بهذا الإيمان والتوحيد، ما ذكره الماوردي 4/ 162، ولم ينسبه: لولا دعاؤكم له إذا مسكم الضر وأصابكم السوء، رغبة إليه وخضوعًا إليه. (¬8) رجح ابن القيم هذا القول؛ فقال: والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه =

الخلق؛ لأنه قال: ثم رجع إلى جميع الخلق (¬1). وعند الكلبي: أنه من خطاب أهل مكة (¬2). وقال ابن قتيبة، في هذه الآية: أي ما يعبأ بعذابكم ربي، لولا ما تدعونه من دونه من الشريك والولد (¬3). ¬

_ = وتعبدونه، أي: أي شيء يعبأه بكم لولا عبادتكم إياه فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل. "جلاء الأفهام" ص 254. وذكر هذا ابن العربي المالكي، في "أحكام القرآن" 3/ 430، عن بعض الأدباء، ولم يسمه، ثم قال: وليس هو كما زعم، وإنما هو مصدر أضيف إلى المفعول، والمعنى: قل يا محمد للكفار: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ببعثة الرسل إليكم، وتبيين الأدلة لكم، فقد كذبتم فسوف يكون عذابكم لزاماً. قال الثعالبي: والحق أن الآية محتملة لجميع ما تقدم، ومن ادعى التخصيص فعليه بالدليل، والله أعلم. "الجواهر الحسان" 2/ 476. قال ابن عاشور 13/ 438: والحاصل أنه ليس فيكم الآن ما يصلح أن يعتد بكم لأجله إلا الدعاء؛ لأنكم مكذبون، وإنما قلت: الآن؛ لأن: ما، لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، عكس: لا. (¬1) أخرج ابن جرير 19/ 55، وابن أبي حاتم 8/ 2745، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي بن أبي طلحة وأخبر الله تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم ... (¬2) "تنوير المقباس" ص 306. وعند مقاتل خلاف ذلك؛ قال في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد كفار مكة. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 438. والسبب في كون هذه الآية مشكلة؛ لأن فيها مضمر، فاختلف في تعيينه. أفاده ابن قتيبة، ولذا ذهب إلى ما ذهب إليه أخذاً بظاهر الآية، ثم قال: ويوضح ذلك قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي: يكون العذاب لمن كذب ودعا من دونه إلهاً لازماً. وذكر الطوسي 7/ 513، هذا القول عن البلخي؛ قال: معناه: لولا كفركم وشرككم ما يعبأ بعذابكم، وحذف العذاب وأقام المضاف إليه مقامه. وذكر ابن جرير الطبري 19/ 57، قول ابن قتيبة، ورد عليه فقال: وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم، يقول في تأويل ذلك: قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد. وهذا قول لا معنى للتشاغل =

قال ابن الأنباري: وهذا لم يقل به أحد من السلف، وهو عندي غير صحيح؛ لأن الدعاء يجوز أن يقع على شيئين متضادين، فيقال: لولا دعاؤكم الأصنام، ولولا دعاؤكم الله، وإذا احتمل الحرف الوقوع على معنيين متضادين، لم يجز حذف المنوي؛ لأنه يلتبس؛ ألا ترى أن من قال: أنا أكره كلامك، لم يحسن له أن يقول: أنا أكره. ويسكت؛ لأن المخاطب لا يدري أكراهته تقع على الكلام، أم على السكوت، فإضمار ابن قتيبة الشركاء، والآلهة، في الآية غير صحيح (¬1). وأيضًا فإنه لا خلاف بين النحوين أنهم إذا قالوا: ما عبأت بفلان، معناه: ما عددته شيئًا؛ ولم يقل منهم أحد: إن معناه: ما عبأت بكلامه، أو بغضه، أو رضاه؛ لأن المضمر مجهول المعنى، وما جهل معناه لم يخذف؛ ثم قال: وتأويل الآية: ما يعبأ بكم ربي، لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه، أي: لولا هذا ما عدكم الله شيئًا، ولا كانت له فيكم حاجة. قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} الخطاب لأهل مكة، أي: كذبتم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬2). واتصال هذا الكلام بما قبله على معنى: أنه دعاكم إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوا دعوته (¬3). ¬

_ = به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل. وقد ذكر الشنقيطي 6/ 359، هذه المسألة بالتفصيل واستدل على صحة الأقوال الواردة في الآية، واستبعد القول الذي ذكره ابن قتيبة؛ لأن فيه تقدير مالا دليل عليه، ولا حاجة إليه. (¬1) سبق ذكر رد ابن جرير عليه. (¬2) أخرج ذلك ابن أبي حاتم 8/ 2745، عن السدي. (¬3) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2745، عن الوليد بن أبي الوليد، قال: بلغني أن تفسير هذه الآية: ما خلقتكم لي بكم حاجة، إلا أن تسألوني فأغفر، وتسألوني فأعطكم.

قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} قال الليث: اللزام الذي يلزمك ولا يفارقك (¬1). وأنشد أبو عبيدة، لصخر الغي (¬2): فإما ينجوَا من حَتفِ أرضٍ ... فقد لَقيا حُتوفهما لزامًا (¬3) أي: أنه واقع لا محالة. قال الزجاج: وتأويل هذا: أن الحتف إذا كان مقدرًا فهو لازم، إن نجا من حتف مكان لقيه الحتف في مكان آخر لازمًا له لزامًا (¬4). والمفسرون ذكروا في تفسير اللزام: أنه يوم بدر، وهو قول ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومجاهد، ومقاتل، والسدي، ورواية عطاء عن ابن عباس؛ قال: يريد القتل يوم بدر، وعذاب الدنيا متصل بعذاب الآخرة (¬5). ¬

_ (¬1) "العين" 7/ 372 (لزم)، بمعناه، وكذا في "تهذيب اللغة" 13/ 220. (¬2) صخر الغَي، صخر بن عبد الله الخيثمي، من بني هذيل، شاعر جاهلي، لقب بصخر الغي، لخلاعته، وشدة بأسه، وكثرة شره "الشعر والشعراء" ص 448، و"الأعلام" 3/ 201. (¬3) ذكره أبو عبيدة، في "المجاز" 2/ 82، ونسبه للهذلي، ولفظه: فإما ينجوا من حتف يوم ... فقد لقيا حتوفهما لزامًا وأنشده أبو عبيدة استدلالًا على أن المراد باللزام: الفيصل. وذكره الزجاج 4/ 78، عن أبي عبيدة استدلالًا على ما ذكره، وكذا الأزهري 31/ 320 (لزم)، ورواية البيت موافقة لما في المعاني، والتهذيب، مما يدل على نقل الواحدي عنهما. والله أعلم. وذكره ابن عطية 11/ 84، من إنشاد أبي عبيدة. وذكره القرطبي 13/ 86، بلفظ: فإما ينجوا من خسف أرض (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 79. واختار هذا الماوردي 4/ 162؛ فقال: وأظهر الأوجه أن يكون اللزام الجزاء للزومه. وتبعه العز، في تفسيره 2/ 435. (¬5) "تفسير مجاهد" 2/ 457. و"تفسير مقاتل" ص 47 ب. وأخرج عبد الرزاق 2/ 72، عن قتادة، قال: قال أبي: هو القتل يوم بدر. وأخرجه ابن جرير 19/ 56، عن ابن =

قال أبو إسحاق: وتأويله: فسوف تلزمكم العقوبة بتكذيبكم، [فيدخل في هذا يوم بدر، وغيره مما يلزمهم من العذاب. وذكر وجهًا آخر، فقال: تأويله -والله أعلم-: فسوف يكون تكذيبكم] (¬1) لزامًا يلزمكم، فلا تعطون التوبة (¬2). وقال الكلبي: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أخذًا باليد، والقتل يوم بدر؛ وهو من عذاب الدنيا فأسروا يوم بدر وقتلوا (¬3). وقال الفراء: فسوف يكون تكذيبكم يوم بدر لزامًا، عذابًا لازمًا لكم (¬4). وحكى أبو إسحاق، عن أبي عبيدة: {لِزَامًا} فيصلًا (¬5). ونحو هذا روى ثعلب، عن ابن الأعرابي، وقال: اللَّزْمُ: فَصْل الشيء، من قوله تعالى: {يَكُونُ لِزَامًا} أي: فيصلًا (¬6). والمعنى على هذا: فسوف يكون ¬

_ = مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم، ومجاهد، والضحاك. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2746، عن أبي مالك، وأبي بن كعب، وابن مسعود، والقرظي، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. وبه قال الهوَّاري 3/ 220. وأخرج ابن جرير 19/ 57، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي بن أبي طلحة: اللزام: الموت. وأخرج عن ابن زيد: اللزام: القتال. قال في "الوسيط" 3/ 349: والمعنى أنهم قتلوا يوم بدر، واتصل به عذاب الآخرة، لازماً لهم فلحقهم الوعيد الذي ذكر الله ببدر. وأما في "الوجيز" 785، فلم يحدد بل جعل الآية مطلقة؛ فقال: {فَسَوْفَ يَكُونُ} العذاب لازماً لكم. (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من (ج). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 78. (¬3) "تنوير المقباس" ص 306، بمعناه. (¬4) "معانى القرآن" للفراء 2/ 275، بمعناه. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 78، ثم قال: وهو في قريب مما قلنا، ألا أن القول أشرح. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 82. (¬6) "تهذيب اللغة" 13/ 221 (لزم).

القتل والهلاك، أو العذاب أو تكذيبكم، على معنى: جزاء تكذيبكم فيصلًا بينكم وبين المؤمنين، ثم كان ذلك يوم بدر، والقول الأول، من: اللَّزام، وهذا من: اللِّزام، وهما ضدان (¬1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ¬

_ (¬1) قال الزجاج 4/ 79 ومن قرأ: لَزاماً، بفتح اللام، فهو على مصدر لزم لزاماً. ونحوه في "إعراب القرآن"، للنحاس 3/ 170. قال القرطبي 13/ 86: اللِّزام، بالكسر: مصدر لازم، لزاماً، مثل: خاصم خصامًا، واللَّزام، بالفتح، مصدر: لزِم، مثل: سلِم سلاماً، أي: سلامة، فالَلزام بالفتح: الُلزوم، والِلزام: الملازمة. وفي "لسان العرب" 12/ 542 (لزم): وهو في اللغة. الملازمة للشيء والدوام عليه، وهو أيضًا الفصل في القضية، فكأنه من الأضداد.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الشعراء إلى سورة العنكبوت تحقيق د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء السابع عشر

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الشعراء إلى سورة العنكبوت تحقيق د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء السابع عشر

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 874 - 04 - 9960 - 978 (ج 17) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 1 - 874 - 04 - 9960 - 978 (ج 17)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [17]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الشعراء

سورة الشعراء

تفسير سورة الشعراء (¬1) ¬

_ (¬1) قال مقاتل 48 أ: "سورة الشعراء مكية، غير آيتين فإنهما مدنيتان؛ أحدهما: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} الآية [197]، والأخرى قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [224]. وبعض أهل التفسير يقول: إن من قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ} إلى آخرها، وهن أربع آيات، مدنيات. والله أعلم بما أنزل". قال ابن قتيبة: "سورة الشعراء مكية كلها إلا خمس آيات من آخرها". "غريب القرآن" 316. فإن كان المراد بالخمس من: {وَالشُّعَرَاءُ} فإن هذا لا يستقيم؛ لأنهن أربع آيات، من [224 - 227]. قال الثعلبي 8/ 106 ب: "سورة الشعراء مكية إلا قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى آخر السورة فإنها مدنية. وتبعه الماوردي 4/ 163. ولم يذكر الواحدي في "الوسيط" 3/ 350، ولا الوجيز 2/ 786، خلافاً في مكية السورة كلها، دون استثناء. وحكاه ابن عطية 11/ 85، قول جمهور الناس. وأخرج ابن الضريس، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال. أنزلت سورة الشعراء بمكة. وأخرج ابن مردويه، مثله عن عبد الله بن الزبير. "الدر المنثور" 6/ 288. قال القاسمي 13/ 4: "قال الداني: رُوي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية، مع كل واحد منهما جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية". وقد ذكر الواحدي في "الوسيط" 3/ 350، حديث أبي بن كعب في فضل هذه السورة وكذا الطبرسي 7/ 386؛ وهو حديث موضوع، تخريج الزيلعي لـ"الكشاف" 2/ 483. و"الفتح السماوي" 2/ 890. وقد سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان. وعدد آياتها: مائتان وسبع وعشرون آية. "تفسير الطوسي" 8/ 3. و"مصاعد النظر" 2/ 325. و"تفسير الوسيط" 3/ 350. قال ابن كثير 6/ 135: "ووقع في تفسير مالك المروي عنه، تسميتها: سورة الجامعة". قال ابن عاشور 19/ 98: "اشتهرت عند السلف بسورة: الشعراء؛ لأنها تفردت من بين سور القرآن بذكر =

1

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {طسم} قال الوالبي عن ابن عباس: {طسم} قسم، وهو من أسماء الله عز وجل (¬1) وقال عكرمة عنه: عجزت العلماء عن علم تفسيرها (¬2). وقال مجاهد: {طسم} اسم السورة (¬3). وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن (¬4). وقال محمد بن كعب: أقسم الله سبحانه بطوله وسنائه وملكه (¬5) ¬

_ = كلمة الشعراء. ثم قال في تسميتها بالجامعة: ولم يظهر وصفها بهذا الوصف، ولعلها أول سورة جمعت ذكر أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية". (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 58، وابن أبي حاتم 8/ 2747، كلاهما من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره عنه الثعلبي 8/ 107 أ. قال البغوي 6/ 105: روى علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 107 أ. و"تفسير السمرقندي" 2/ 469، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 107 أ. ولم أجده في "تفسير مجاهد". (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 73. وعنه ابن جرير 19/ 58. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2747، من طريق آخر عنه وفيه زيادة: "اسم من أسماء القرآن، أقسم به ربك". وبهذه الزيادة ذكره الثعلبي 8/ 107 أ، عن قتادة وأبي روق. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 107 أ. و"تفسير البغوي" 6/ 105. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2747، عن محمد بن كعب: "الطاء من الطول، والسين من القدوس، والميم من الرحمن". وفي "تنوير المقباس" ص 306: في قول: الطاء طوله وقدرته، والسين سناؤه، والميم ملكه. ويقال: قسم أقسم به .. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2747، عن الحسن البصري، قال: "فواتح افتتح الله بها كتابه أو القرآن". =

2

واختلف القراء في إخفاء النون وتبيينه من: سم (¬1). والوجه التبيين؛ لأن حروف الهجاء في تقدير الانفصال والانقطاع مما بعدها، وإذا كان كذلك وجب التبيين؛ لأنها إنما تخفى إذا اتصلت بحرف من حروف الفم، فإذا لم تتصل بها لم يكن شيء يوجب إخفاءها (¬2). ووجه إخفائها: أن همزة الوصل قد وصلت، ولم تقطع مع هذه الحروف، وهمزة الوصل إنما تذهب في الدَّرْج، فكما سقطت همزة الوصل في {الم} وهي لا تسقط إلا مع الدَّرْج، كذلك لا تُبين النون ويقدر فيها الاتصال بما قبلها ولا يقدر فيها الانفصال (¬3). 2 - وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} تفسيره قد تقدم في قوله: ¬

_ = وقد ذكر الماوردي 4/ 164، عن من لم يسمه من أهل الخواطر آراءً غريبة في بيان معاني هذه الأحرف. ونحو ذلك ذكر الرازي 24/ 118. وقد أطال في ذكرها البرسوي، في تفسيره 6/ 258. قال أبو حيان 7/ 5: "وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز، والأحاجي فتركت نقله إذ لا دليل على شيء مما قالوه". وهذا موقف حسن؛ والأقرب أن هذه الحروف ابتدأ بها للدلالة على الإعجاز والتحدي، وأن هذا القرآن مكون من هذه الحروف التي تنطقونها وتتكلمون بها، فهي لا تدل على معنى في أصل وضعها. راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 156 - 162. (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (طَسم) بفتح الطاء، وإدغام النون، ولم يظهر النون في (طسم) غير حمزة، من السبعة، وشاركه في ذلك أبو جعفر. "السبعة في القراءات" 470، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 355، وابن خالويه، في "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 130. والأزهري، في معاني القراءات 2/ 223، ثم قال: "وإدغام النون في الميم حسن، لقرب مخرجيهما، ومن اختار التبيين حسن". و"النشر في القراءات العشر" 2/ 19. (¬2) في (أ)، (ب): إخفاء هذا. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 356، بنصه.

3

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1, 2] (1)، وقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} في ابتداء سورة يوسف. 3 - قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} قال أبو عبيدة: مهلك نفسك (2). وقال المبرد: الباخع: المهلك، يقال: بخع زيد نفسه إذا أهلكها، وبخعه الحب إذا أهلكه وأذابه (3). وأنشد أبو عبيدة: ألا أيُّهذا الباخعُ الوجْدُ نفسَه ... لشيءٍ نَحتْه عن يديه المقادرُ (4) ومضى الكلام في تفسير الباخع في نظير هذه الآية: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} الآية, [الكهف: 6]. قال المفسرون: لما كذبت قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شق ذلك عليه، واشتد حتى أثر فيه، وكان يشتد حرصه على إيمانهم فأنزل الله عز وجل هذه

_ (1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة البقرة: "قال أبو الهيثم: ذا، اسم كل مشار إليه يراه المتكلم والمخاطب كقولك: ذا الرجل، وذا الفرس، فإذا بعد المشار إليه زادوا كافاً فقالوا: ذاك الرجل، وهذه الكاف ليست في موضع نصب ولا خفض ولا رفع، وإنما أشبهت كاف أخاك وعصاك فتوهم السامع أنها في موضع خفض، فلما دخل فيها هذا اللبس زادوا: لاماً، فقالوا: ذلك أخوك". (2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 83. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 275. (3) قال الزمخشري 3/ 290: "البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع، وهو: عِرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حد الذابح". وذكره الرازي 24/ 118، ولم ينسبه. (4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 83، ونسبه لذي الرمة، وهو في ديوانه 361، وفيه: عن يديك، وفيه: الباخع: القاتل، ونحته: عدلته، وصرفته. والوجد: الحزن. وأنشده المبرد، في "المقتضب" 4/ 259، وابن جرير 19/ 58، والأزهري، "تهذيب اللغة" 1/ 168، ولم ينسبوه. وذكره الماوردي 4/ 164، منسوبًا لذي الرمة، بلفظ: بشيء نحته.

4

الآية (¬1)، وهي كالإنكار عليه شدة حرصه؛ وذلك أنه كان يعلم أن الله عز وجل إن لم يهدهم لم يهتدوا فما يغني عنه (¬2) حرصه على إيمانهم، واشتداد تكذيبهم عليه (¬3). قال ابن عباس في قوله: {بَاخِعٌ نَفْسَكَ}: قاتل نفسك (¬4). قوله تعالى: {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} قال أبو إسحاق: موضع (أن) نصب مفعول له، المعنى: لعلك (¬5) قاتل نفسك لتركهم الإيمان (¬6). ثم أعلم عز وجل أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك إلا أنه عز وجل تعبدهم بما يستوجبون به الثواب مع الإيمان, ولو نزل على كل من عَنَدَ عن الحق عذابٌ لخضع مضطرًّا، وآمن إيمان من لا يجد مذهبًا عن الإيمان (¬7)، وهو قوله: 4 - {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} قال ابن ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 107 أ. (¬2) هكذا في جميع النسخ: عنه. وفي "الوسيط" 3/ 350، عنهم، وهي أولى. (¬3) "تفسير مقاتل" 48 أ. بمعناه. و"تفسير السمرقندي" 2/ 470. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 58. وأخرجه عبد الرزاق، في تفسيره 2/ 73، عن قتادة، وعنه ابن جرير 19/ 58. وهو في "تفسير مقاتل" 48 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2748، عن مجاهد. ثم قال: "وروي عن الحسن، وعكرمة، وقتادة، وعطية، والضحاك مثل ذلك". وذكره الثعلبي 8/ 107 أ، ولم ينسبه. وذكر الماوردي 4/ 164، عن عطاء وابن زيد: مخرج نفسك. وذكره الطوسي 8/ 4، عن ابن زيد، بلفظ: مخرج نفسك من جسدك. (¬5) في نسخة (أ)، (ب): أهلك. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 82. ونحوه في "معاني القرآن" للفراء 2/ 275، وعنه ابن جرير 19/ 59. واختار النحاس قول أبي إسحاق، في "إعراب القرآن" 3/ 174. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 82، باختصار.

جريج: ولو شاء لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية (¬1). وقال قتادة: لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله (¬2). قال أبو إسحاق: قوله {فَظَلَّتْ} معناه: فتظل، والجزاء يقع فيه لفظ الماضي بمعنى المستقبل، تقول: إن أتيتني أكرمتك، معناه: أكرمك (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 59. وذكره الثعلبي 8/ 107 أ. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 73. وعنه ابن جرير 19/ 59. وابن أبي حاتم 8/ 2750. وأخرج ابن جرير 19/ 59 عن ابن عباس: (ملقين أعناقهم). ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. قال ابن كثير 6/ 135: "فنفذ قدره، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم". وذكر الثعلبي 8/ 107 أ، بإسناده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قولاً غريباً في المراد بهذه الآية، قال: نزلت هذه الآية فينا، وفي بني أمية، قال: سيكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، وهوان بعد عزة. وقد تبع الثعلبي في سياق هذه الرواية دون تعليق عليها عدد من المفسرين، كالزمخشري 3/ 291، والطبرسي 7/ 289، والقرطبي 13/ 90، وقال بعد سياقها: فالله أعلم. وأبو حيان 7/ 7، ولم يتعقبها. وقد أحسن الواحدي في إعراضه عن ذكر هذه الرواية في تفاسيره الثلاثة، وإن كان الأولى أن يرد هذه الرواية, وينقضها، وممن أعرض عن ذكرها ابن كثير، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم، ولم أر من تعقب هذه الرواية غير ابن عاشور 19/ 97، حيث قال: (ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس، أنه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة. وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه، ونحاشي ابن عباس -رضي الله عنه- أن يقوله، وهو الذي دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يعلمه التأويل والقرآن أجل من أن يتعرض لهذه السفاسف). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 82.

وهذا الذي ذكره (¬1) مختصر مما بسطه الفراء؛ وهو أنه قال: لك {إن} تعطف على مجزوم الجزاء بفَعَل؛ لأن الجزاء يصلح في موضع يفعَل فعل (¬2)، ألا ترى أنك تقول: إن زرتني زُرتك، وإن تزرني أزرك، والمعنى واحد، ولذلك صلح {فَظَلَّتْ} مردودة على يفعل، وأنشد: إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرَحًا (¬3) بمعنى: يطيروا. قال أبو علي فيما أصلح على أبي إسحاق: اعلم أن الجزاء يكون على ثلاثة أضرب: يكون بالفعل وبالفاء وبإذا، فإذا كان بالفعل جاز أن يقع الماضي موضع المستقبل في الجزاء كما جاز أن يقع موقعه في الشرط؛ لأن الحرف يقلب المعنى إلى الاستقبال كما تفعل ذلك لم، في النفي، ولا، في قولك: واللهِ لا فعلت، فتقول على هذا: إن أتيتني أتيتك، تريد إن تأتني آتك، فتوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، كما أوقعته في الشرط، وإن كان ذلك في الشرط أبين؛ لأن الحرف يخلص عمله في الفعل [الذي يلحق بشرط (¬4)، ولا يخلص عمله في الجزاء، ألا ترى أن الجزاء لا يخلو ¬

_ (¬1) في نسخة (أ)، (ب)، هنا تكرارة وهو: في معنى المستقبل، تقول: إن أتيتني أكرمتك، معناه: أكرمك. (¬2) في "معاني القرآن" للفراء 2/ 276، فعل يفعل. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 276، ولفظ البيت عنده: إن يسمعوا سُبَّة طاروا بها فرحاً ... مني وما يسمعوا من صالح دفنوا وأنشده أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 7، وابن جني، "المحتسب" 1/ 206، ولم ينسباه، ونسبه في "حاشية المحتسب" لقعنب بن أم صاحب، واسمه: ضمرة، أحد بني عبد الله بن غطفان. (¬4) في كتاب أبي علي: الذي هو الشرط. بدل: الذي يلحق بشرط.

من أن يكون معمولًا للحرف، والفعل أو] (¬1) للفعل (¬2) دون الحرف وليس في القسمة أن يكون معمولًا لأن، فينجزم كما انجزم به الشرط (¬3)، ولم نعلم أحدًا ذهب إلى ذلك إلا أن الجزاء قد جاز فيه من هذا ما جاز في الشرط من حيث صار كالجملة الواحدة، فأما ما بعد الفاء فمنقطع عن: إن، وعن أن يكون لها عمل (¬4)، ألا ترى أن الفاء إنما تجتلب في جواب الشرط إذا كانت الجملة الموقعة في موضع الجزاء من مبتدأ وخبر، والمبتدأ أو الخبر لا يتعلق بأن لأنها من عوامل الأفعال، وما أخلص لها من دون الأسماء، فإذا كان كذلك لم تدخل عليها ولم تتعلق بها فاجتلبت الفاء وإذا ليُتوصل بها إلى كون الجملة التي من المبتدأ والخبر في موضع الجزاء كما يتوصل بالذي إلى وصف المعارف بالجمل وبذو، التي بمعنى: صاحب إلى (¬5) [الوصف بالأجناس] (¬6) ومن ثم كانت هذه الآي (¬7) محمولة عند سيبويه على إرادة المبتدأ، وهو قوله: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا} [الجن: 13] وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [البقرة: 126] {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وكان موضع الفاء مع ما بعدها من الجملة جزمًا بدلالة قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬2) في نسخة (ب): (والفعل). (¬3) في كتاب أبي علي: فينجزم بها كما انجزم بها الشرط. (¬4) في كتاب أبي علي، زيادة: فيه. (¬5) في كتاب أبي علي زيادة وهي (وصف الجوهر، وبأن الموصولة بالفعل إلى مختص بالمصدر الآتي أو بالماضي). (¬6) ما بين المعقوفين، غير موجود في كتاب أبي علي. (¬7) في كتاب أبي علي: الجملة. بدل: الآي.

بالجزم (¬1)، ولهذا أيضًا حُمل: إنك إن يُصرعْ أخوك تصرعُ (¬2) ونحوه على التقديم (¬3)، فإذا كان حكم الفاء في الجزاء ما ذكرنا وكانت إذا بمنزلتها في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] وقوله: {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] بان أن عمل إن منقطع عما بعد الفاء من هذه الأفعال لخروج الفعل الذي بعدها [أن يكون جزاء] (¬4) ووقوعه في موضع خبر المبتدأ يوضح ما ذكرنا أنك لو جئت بمثال المستقبل بعد الفاء لم يجزمه، لا تقول: إن تأتني فأكرمك كما تقول: إن تأتني أكرمك، وفي امتناع هذا دلالة على أن الفعل بعد الفاء منقطع عن عامل الجزم، فإذا انقطع عنه لم يجز أن يقع الماضي موقع المستقبل على حد ما كان يقع قبل أن تقطع الفاء وتحجز عمل الجازم، وإذا كان كذلك ثبت أنه على خلاف ما ذهب إليه أبو إسحاق، ¬

_ (¬1) بالجزم قراءة حمزة والكسائي. "السبعة في القراءات" 299، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 216، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 273. (¬2) أنشده كاملاً سيبويه، "الكتاب" 3/ 67، ونسبه لجرير بن عبد الله البجلي، وصدره: يا أقرع بن حابس يا أقرع ثم قال سيبويه: أي: إنك تُصْرَعُ إن يُصْرَعْ أخوك. وفي الحاشية: كان جرير البجلي تنافر هو وخالد بن أرطأة الكلبي إلى الأقرع بن حابس التميمي المجاشعي، وكان عالم العرب في زمانه فقال جرير هذا عند المنافرة. وأنشده المبرد، "المقتضب" 2/ 72، ولم ينسبه، وفي الحاشية: استشهد به سيبويه على التقديم والتأخير، والتقدير عنده: إنك تُصرع إن يصرع أخوك. (¬3) وقد استشهد به المبرد على ذلك، وذكر غيره "المقتضب" 2/ 72. (¬4) ما بين المعقوفين، غير موجود في كتاب أبي علي.

وتبينت الخلل في قول أبي إسحاق: معنى {فَظَلَّتْ} فتظل؛ لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي موقع المستقبل (¬1)، وأن الماضي لم يقع موقع المستقبل هنا من حيث ذكره، ولكن كما يقع في غير هذا الماضي بمعنى الاستقبال (¬2). وقال أبو علي (¬3) في هذا الإصلاح: حيث جعل الفاء من {فَظَلَّتْ} جوابًا للشرط. والفاء في {فَظَلَّتْ} ليس جوابًا للشرط؛ بل هي للعطف على جواب الشرط؛ لأن جواب الشرط قد تقدم في قوله: {نُنَزِّلْ} ثم عطف عليه بالماضي، وعاد الكلام إلى ما قاله الزجاج والفراء. وقوله: {أَعْنَاقُهُمْ} كثير من المفسرين يجعلون الأعناق هاهنا جمع العنق التي هي العضو (¬4). وعلى هذا قال: {خَاضِعِينَ} ولم يقل: خاضعة، كما قال: {فَظَلَّتْ} لأجل رؤوس الآي، وجاز ذلك؛ لأن المؤنث إذا أضيف إلى المذكر وكان بعضًا منه جاز تذكيره، وذلك أن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون، فتُرك الخبر عن الأعناق وأُخبر عن أربابها. وهذا قول الأخفش، والفراء، والزجاج، والمبرد، وجميع النحويين؛ قالوا: يجوز أن يُترك المضاف وُيخبر عن المضاف إليه، فيكون كالخبر عن المضاف (¬5)، وأنشدوا: ¬

_ (¬1) يوجد هنا تكرار في نسخة (أ)، قدره: سطر ونصف. (¬2) الجزء الثاني من كتاب "الإغفال" 218 ب، 219 أ، ب. مع شيء يسير من الاختلاف. (¬3) لعل الصواب: وقول أبي علي؛ لأن هذا نقد لكلام أبي علي. (¬4) "تفسير ابن جرير" 19/ 59، وقد أخرجه عن مجاهد، وقتادة. (¬5) "المقتضب" 4/ 199، وفيه: وأما ما عليه جماعة أهل النحو، وأكثر أهل التفسير، =

مشين كما اهتزت رماحٌ تسفهتْ ... أعاليها مرُّ الرياحِ النواسمِ (¬1) كأنه قال: تسفيها الرياح (¬2)، وترك من الرياح النواسم. وقول آخر: لَمَا رأى مَتْنَ السماء انْقَدَّتِ (¬3) ¬

_ = فيما أعلم، فإنه أضاف الأعناق إليهم، يريد: الرقاب، ثم جعل الخبر عنهم؛ لأن خضوعهم بخضوع الأعناق. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 277، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 644. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 83. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 82. قال السمرقندي 2/ 470: "لأن الكلام انصرف إلى المعنى فكأنه قال: هم لها خاضعون. وليس فيها: لأجل رؤوس الآي"، وقد ذكره الثعلبي 8/ 107 ب. قال البغوي 6/ 106: وقيل: إنما قال: {خَاضِعِينَ} على وفاق رؤوس الآي، ليكون على نسق واحد. ولم ينسبه. وذكر هذا القول ابن عطية 11/ 90، فقال: الإضافة إلى من يعقل أفادت حكمه لمن لا يعقل، كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر. (¬1) البيت لذي الرمة، ديوانه 266، بلفظ: رويداً، بدل: مشين. وأنشده سيبويه، "الكتاب" 1/ 52، ونسبه لذي الرمة، وفي الحاشية: جعل النساء في اهتزازهن حين يمشين بمنزلة الرماح تستخفها الريح فتزعزعها. وأنشده المبرد، "المقتضب" 4/ 197، والزجاج، "معاني القرآن" 4/ 83، ولم ينسباه. ولم أجد هذا البيت عند الفراء، ولا الأخفش، ولم أجده عند ابن جرير، ولا الثعلبي. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 83، وفيه: تسفهتها الرياح. (¬3) أنشده الأخفش في "معاني القرآن" 2/ 644، ولم ينسبه. وفي الحاشية: لم تفد المراجع شيئاً في القول والقائل؟. ولم أجده عند الفراء. ونسبه ابن جرير 19/ 60، للعجاج، وفيه: أبعدت، بدل: انقدت. وفي الحاشية: لم أجد البيت في "ديوان العجاج"؟ والمتن الظهر، والشاهد في هذا الرجز أنه أنث الفعل: أبعدت، بالتاء، مع أن الضمير فيه راجع إلى المتن، وهو مذكر، لكن لما أضيف المتن إلى السماء وهي مؤنثة فكأن الشاعر أعاد الضمير على السماء وتناسى المتن، فأنث لذلك. وأنشده الثعلبي 8/ 107 ب، منسوبًا للعجاج. والبيت في ديوان العجاج ص 219، =

وقول الأعشى: كما شَرِقَتْ صدْرُ القَنَاةِ من الدَّم (¬1) وقال جرير: رأت مَرَّ السنينَ أخذْنَ مِنِّي (¬2) وأنشد أبو عبيدة: إذا بعضُ السنينَ تعرَّقتْنَا ... كفى الأيتامَ فقدَ أبي اليتيمِ (¬3) ¬

_ = بلفظ: إذا رأى متن السماء انقدت ... وحيَ الإله والبلادَ رُجَّتِ (¬1) أنشده كاملاً ونسبه للأعشى: سيبويه "الكتاب" 1/ 52، وأنشده المبرد، "المقتضب" 4/ 197، ولم ينسبه، وكذا الأخفش في "معاني القرآن" 2/ 644، وصدره: وتشرق بالقول الذي قد أذعتَه ولم أجده عند الفراء. وأنشده ابن جرير 19/ 60، والثعلبي 8/ 107 ب. ونسباه للأعشى. وهو في ديوانه 183، من قصيدة له في هجاء عمير بن عبد الله بن المنذر. وفي "حاشية ابن جرير": صدر القناة: أعلاها، والشاهد من البيت أنه أنث الفعل: شرق، بالتاء، مع أن فاعله وهو: صدر، مذكر ولكنه لما أضيف إلى القناة وهي مؤنثة فكأنه جعل الفعل للقناة لا لصدرها. (¬2) ديوان جرير 341، من قصيدة يهجو فيها الفرزدق، والبيت بتمامه: رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال والسرار: آخر الشهر. وذكر صدره المبرد في "المقتضب" 4/ 200، ولم ينسبه. وذكره كاملاً أبو عبيدة، في "مجاز القرآن" 2/ 83، وابن جرير 19/ 62، والثعلبي 8/ 107 ب، والطوسي 8/ 6، ونسبوه لجرير، وأنشده الزجاج، "معاني القرآن" 4/ 82، ولم ينسبه قال أبو عبيدة: (رجع إلى السنين، وترك: مرَّ). (¬3) أنشده سيبويه، "الكتاب" 1/ 52، ونسبه لجرير، وهو في ديوانه 412، من قصيدة له في مدح هشام بن عبد الملك، وفي حاشية "الكتاب": السنة: الجدب، =

تركوا المضاف وأخبروا عن المضاف إليه. قال الفراء: جعل الفعل أولاً للأعناق، ثم جعل خاضعين للرجال (¬1). وقال الأخفش: تجعل الخضوع مردودًا على المضمرة التي أضاف الأعناق إليها (¬2). وقال الزجاج: لما لم يكن الخضوع إلا بخضوع الأعناق جاز أن يخبر عن المضاف إليه (¬3). وذهب مجاهد في تفسير الأعناق إلى أنها الرؤساء والكبراء (¬4). فصار معنى الآية: فظلت رؤساء القوم لها خاضعين (¬5). ¬

_ = وتعرقتنا: ذهبت بأموالنا كما يتعرق الآكل العظم فيذهب ما عليه من اللحم. وأنشده المبرد في "المقتضب" 4/ 198, ولم ينسبه، وفي حاشيته: استشهد به سيبويه على اكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه. ولم أجده في "مجاز القرآن". ولا في "تفسير الثعلبي". (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 277. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 644، بمعناه. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 82. قال ابن جرير 19/ 62: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك: أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء، وأن يكون قوله: {خَاضِعِينَ} مذكراً؛ لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق). (¬4) ذكره عنه الفراء، في "معاني القرآن" 2/ 277، والثعلبي، في "تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ. ولم أجده في "تفسير مجاهد". وذكره ابن جرير 19/ 59، ولم ينسبه، وأخرج بسنده عن مجاهد: (فظلوا خاضعة أعناقهم لها من الذلة). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 277. واختار هذا القول، هود الهواري، في "تفسيره" 3/ 221.

ومن الناس من يفسر الأعناق بالجماعات وهو قول (¬1) كثير من المفسرين، يقال: جاء القوم عُنُقُا عُنُقُا إذا جاءوا فِرَقًا، كل جماعة منهم عنق (¬2)، ومنه قول الشاعر: أنَّ العراق وأهله عنق ... إليك فهيت هيتا (¬3) أراد أنهم مالوا إليك جميعاً. ويقال: هم عُنق واحد عليه، أي: جماعة (¬4). وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي: العُنق: الجمع الكثير من الناس (¬5). قال المبرد: وهذا قول أبي زيد في هذه الآية قال: أعناقهم: جماعاتهم (¬6). ¬

_ (¬1) قول. في نسخة (ج). (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 252 (عنق). وذكره الفراء، في "معاني القرآن" 2/ 277، والأخفش 2/ 645. والثعلبي 8/ 108 أ، وصدره بقوله: (وقيل: أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس). أخرج الطستي عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} قال: العنق الجماعة من الناس "الدر المنثور" 6/ 289، و"غريب القرآن" في شعر العرب 211. (¬3) قال أبو عبيدة: أنشدني أبو عمرو بن العلاء: أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا ... أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا يريد: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "مجاز القرآن" 1/ 305. وأنشده الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 252 (عنق)، ولم ينسبه، وكذا في "اللسان" 10/ 273. وذكره الثعلبي 8/ 108 أ، وابن عطية 11/ 89، وأبو حيان 7/ 6، ولم ينسبوه. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 252 (عنق). (¬5) "تهذيب اللغة" 1/ 253 (عنق)، بنصه. (¬6) "المقتضب" 4/ 199، ونسبه لأبي زيد الأنصاري.

5

وقال النضر: العنق: جماعة من الناس (¬1). وقال الأخطل: وإذا المئون تُؤوكِلتْ أعناقُها ... فاحملْ هُناك على فتًى حمَّالِ (¬2) قال ابن الأعرابي: أعناقها: جماعتها (¬3). وقال غيره: ساداتها (¬4). والقولان في تفسير الأعناق: أنها الجماعات، والرؤساء؛ حكاهما الفراء والزجاج وذكراهما (¬5). 5 - قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ} أي: وعظ وتذكير من الله، يعني: القرآن (¬6) {مُحْدَثٍ} في الوحي والتنزيل (¬7). قال الكلبي: كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 254 (عنق). (¬2) يمدح الأخطل في هذا البيت عكرمة الفياض، كاتب بشر بن مروان الذي كان قد أدى عنه حمالة حملها ليحقن دماء بني قومه، يقول: إذا ما قتل مئات القتلى، ولم تؤد دياتهم فعليك بعكرمة انقل إليه حاجتك يتكفل بها. "شرح ديوان الأخطل" 250. وأنشده الأزهري 1/ 254 (عنق)، منسوبًا للأخطل، وكذا في "اللسان" 10/ 273. (¬3) "تهذيب اللغة" 1/ 254 (عنق). (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 254 (عنق)، ولم يسمه. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 277. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 83. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ، بنصه. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2750، عن قتادة: ما يأتيهم من شيء من كتاب الله. (¬7) "تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ. (¬8) "الوسيط" 3/ 351، منسوبًا للكلبي. وكذلك البغوي 6/ 106. وهو في "تنوير المقباس" 306, بمعناه.

6

وذكرنا هذا في أوائل سورة الأنبياء (¬1). 6 - وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا} قال صاحب النظم: قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا} بعد قوله: {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} جعل إعراضهم تكذيبًا؛ لأن من أعرض عن شيء ترك قبوله، [وإذا ترك قبوله] (¬2) فقد دل على تكذيبه به. وهذا من باب الإيماء. وقوله: {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وعيد لهم (¬3). قال ابن عباس: سوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزؤا به (¬4). قال الكلبي: فوقع بهم العذاب يوم بدر (¬5). يعني: أن هذا الوعيد الذي أوعدوا به في هذه الآية لحقهم يوم بدر. قال أبو إسحاق: المعنى: فسيعلمون نبأ ذلك في القيامة، قال: وجائز أن يعجل لهم بعض ذلك في الدنيا نحو ما نالهم يوم بدر (¬6). وقال صاحب النظم: جعل تكذيبهم استهزاء فدل ذلك على أن كل من كذب بحق فكأنه (¬7) قد استهزأ به، ومن أعرض عنه ولم يقبله فقد كذبه. قال: وأنباؤه ظهوره على الأديان كلها، وإيمان الناس به كافة، قال: ويقال أمر له نبأ، أي: عاقبته محمودة. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}. (¬2) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ. (¬4) ذكره القرطبي 13/ 90، ولم ينسبه. (¬5) "تنوير المقباس" 306، بلفظ: من العذاب. دون تحديد. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 83. (¬7) في نسخة (ب): (فقد استهزأ به).

7

وتحقيق المعنى: فسيأتيهم أخبار ما كذبوا واستهزؤا به من اجتماع الناس عليه بالإيمان؛ على ما ذكره صاحب النظم. وعلى ما ذَكر المفسرون: أخبار عاقبة تكذيبهم بما كذبوا به واستهزائهم؛ وهي: العذاب والنِّقمة (¬1). ثم ذكر ما يدلهم على قدرته فقال: 7 - {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ} يعني هؤلاء المكذبين (¬2) {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا} بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} قال ابن عباس: من كل صنف من أصناف الفواكه وغير ذلك حسن طيب (¬3). وقال الكلبي: من كل ضرب حسن في المنظر (¬4). وقال مجاهد: من نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام (¬5). وهذا كقوله: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5, ق: 7]، قال الفراء: هو كما يقال للنخلة: كريمة إذا طاب حملها، أو كثر، وكما يقال للشاة والناقة: كريمة إذا غَزُرَتا (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 19/ 62، بمعناه. (¬2) في "تنوير المقباس" 306: {أَوَلَمْ يَرَوْا} كفار مكة. (¬3) "تفسير مقاتل" 48 أ، بمعناه. وأخرج عبد الرزاق في تفسيره 2/ 73، عن قتادة: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} قال: حسن. وقال به ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 495، و"غريب القرآن" 316. (¬4) في "تنوير المقباس" 306: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} من كل لون {كَرِيمٍ} حسن في المنظر. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2750. و"تفسير مجاهد" 2/ 459. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 278، وفيه: إذا طاب حملها أو أكثر.

8

وقال الزجاج: معنى {زَوْجٍ} نوع. ومعنى (¬1) {كَرِيمٍ} محمود فيما يحتاج إليه، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته وإنشائه إلا رب العالمين (¬2). 8 - وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} يعني: ما ذُكر من الإنبات في الأرض {لَآيَةً} لدلالة تدل على أن الله تعالى قادر لا يعجزه شيء. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {لَآيَةً} قال: علامة، كالعلامة تكون بين الرجل وأهله، يقول: هذا خاتمي (¬3). يعني: كما يُستدل بالخاتم على ما أُعلم به عليه؛ كذلك بالإنبات من الأرض يُستدل على النشر والإحياء. وقوله: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [قال الفراء {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}] (¬4) في علم الله. يقول: قد سبق في علمي أن أكثرهم لا يؤمنون (¬5). وقال أبو إسحاق: أي: قد علم الله عز وجل أن أكثرهم لا يؤمن أبدًا، وهذا إعلام من الله تعالى أن أكثرهم لا يؤمن (¬6). ¬

_ (¬1) ومعنى. في نسخة (أ)، (ب). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 83. قال الماوردي 4/ 165: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي: نوع معه قرينه من أبيض وأحمر، وحلو وحامض. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2751. (¬4) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 278، وفيه: يقول: لهم في القرآن وتنزيله آية، ولكن أكثرهم في علم الله لن يؤمنوا. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 84. وذهب مقاتل إلى أن الضمير يرجع إلى كفار مكة، فقال 48 أ: يعني أكثر أهل مكة. وذهب الهواري، في "تفسيره" 3/ 222، إلى العموم، فقال: يعني من مضى من الأمم.

9

9 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} قال ابن عباس: المنتقم (¬1) من أعدائه {الرَّحِيمُ} بأوليائه (¬2). وقال ابن جريج: عزيز بالانتقام من أعدائه، رحيم بإنجاء المؤمنين بما يُهلك به أعداءه (¬3). وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى ينتقم من أعداء النبي -صلى الله عليه وسلم- بإهلاكهم وتعذيبهم وينجي المؤمنين (¬4). 10 - قوله: {وَإِذْ نَادَى} قال الزجاج: موضع {إِذْ} نصب؛ على معنى: واتل هذه القصة فيما تتلو؛ ودليل ذلك قوله عطفا على هذه القصة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] (¬5). ومعنى النداء: الدعاء بـ: يا فلان، فنادى الله موسى حين رأى الشجرة والنار (¬6)، بأن قال له: يا {مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬7) قال ابن ¬

_ (¬1) في نسخة (أ)، (ب): (المسمى). (¬2) "الوسيط" 3/ 351، غير منسوب. وفي "تنوير المقباس" 306: {لَهُوَ الْعَزِيزُ} بالنقمة منهم {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 63. وأوله: كل شيء في الشعراء، من قوله: "عزيز رحيم"، فهو ما أهلك ممن مضى من الأمم. (¬4) جعل مقاتل الرحمة راجعة إلى الكفار، فقال 48 أ: {الرَّحِيمُ} حين لا يعجل عليهم بالعقوبة. (¬5) "معاني القرآن" 4/ 84. قال مقاتل 48 أ: يقول: وإذ أمر ربك يا محمد موسى. (¬6) ذكره البغوي 6/ 107، ولم ينسبه. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2751، عن السدي: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} قال: حين نودي من جانب الطور الأيمن. (¬7) الذي طهر من صنيع الواحدي أنه يثبت النداء في الآية على ظاهره، وهذا يدل على إثبات صفة الكلام لله عز وجل.

11

عباس: يريد: المشركين (¬1). قال أهل المعاني: يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا بني إسرائيل بسومهم سوء العذاب (¬2). قال ابن عباس: ثم أخبر عنهم فقال: 11 - {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} (¬3) قال الفراء: لو قرئ: {أَلَا تتقون} بالتاء (¬4) كان صوابًا؛ لأن موسى أُمر بأن يقول لهم: {أَلَا تَتَّقُونَ} فكانت التاء تجوز لخطاب موسى إياهم، وجازت الياء؛ لأن التنزيل قبل الخطاب، وهو بمنزلة قول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] بالتاء والياء (¬5). وقال أبو حاتم: قوله {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} وقف (¬6)؛ لأن المعنى تام، وما بعده استئناف (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 48 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2751، بلفظ: الكافرين. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ. وذكره في "الوسيط" 3/ 351، ولم ينسبه لأحد. وذكره البغوي 6/ 107، غير منسوب. (¬3) ذكره بنصه، في "الوسيط" 3/ 351، ولم ينسبه. وفي "تنوير المقباس" 306: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} بدل من القوم. (¬4) نسب هذه القراءة ابن جني، لعبد الله بن مسلم بن يسار، وحماد بن سلمة. المحتسب في شواذ القراءات 2/ 127. ونسبها الثعلبي لعبيد بن عمير. "تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 278. بنصه. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (ستُغلبون) بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي: (سيُغلبون). "السبعة في القراءات" 202. و"المبسوط في القراءات العشر" 140. و"النشر في القراءات العشر" 2/ 238. (¬6) وقف. في نسخة (ج). (¬7) وقف تام عند أبي حاتم، "القطع والائتناف" للنحاس 2/ 490. وعده الداني من =

12

ومعنى: {أَلَا يَتَّقُونَ} ألا يَصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته (¬1). 12 - قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} قال الكلبي: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} بالرسالة (¬2). 13 - قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي بتكذيبهم إياي (¬3) {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} أي: لا ينبعث بالكلام. يعني: للعلة التي كانت بلسانه (¬4). [قال الفراء: {وَيَضِيقُ} مرفوعة؛ لأنها مردودة على {أَخَافُ} ولو نصبت بالرد على {يُكَذِّبُونِ} كانت صوابًا، والوجه الرفع؛ لأنه أخبر أن صدره يضيق، وذَكر العلة التي كانت بلسانه] (¬5) فتلك مما لا تَخاف؛ لأنها ¬

_ = الوقف الكافي، المكتفى 421. يعرف بالوقف التام والكافي عند أول موضع ذكر فيه الوقف. (¬1) قال مقاتل 48 أ: ألا يعبدون الله عز وجل. (¬2) ذكره في "الوسيط" 3/ 351، ولم ينسبه. وهو في "تنوير المقباس" 307. (¬3) "تنوير المقباس" 307، ونسبه الماوردي 4/ 166، للكلبي، وذكر قولاً آخر، وهو: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} بالضعف عن إبلاغ الرسالة. (¬4) "تفسير ابن جرير" 19/ 64، و"تفسير الثعلبي" 8/ 108 أ. وهذه العلة مذكورة في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27, 28]. وأما ما ورد من أن السبب في ذلك هو وضع نبي الله موسى عليه السلام الجمرة في فمه بدلاً من التمرة، فإن هذا الخبر لا يعتد به؛ لأنه من الأخبار الإسرائيلية، وقد ذكره ابن جرير في "تاريخه" 1/ 390، وجزم به ابن عطية 11/ 94. وهو مخالف للواقع؛ إذ كيف يقدر على حمل الجمرة بيده ويرفعها إلى فيه، ومع ذلك لا تحرق يده ولا توْذه، ويكفي لإثبات أن نبي الله موسى عليه السلام، لا يعقل أخذه للجمرة دون الحاجة إلى رفعها إلى فيه. والله أعلم. وذكر السمرقندي 2/ 470، أن العلة في قوله تعالى: {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} لمهابته. وهو قول غريب، ونسبه الماوردي 4/ 166، للكلبي. (¬5) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج).

14

قد كانت (¬1). قوله: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} اجعله رسولاً لكَ معي بأن يُرسِل إليه جبريلَ بالوحي (¬2). قال الكلبي: لكي يكون معي معينًا لي (¬3). قال الفراء: ولم يذكر معونة ولا مؤازرة؛ لأن المعنى معلوم؛ كما تقول: لو أتاني مكروه لأرسلت إليك. ومعناه: لتعينني وتغيثني، وإذا كان المعنى (¬4) معلومًا طرح للإيجاز (¬5). 14 - قوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} قال مجاهد وقتادة والمفسرون وابن عباس: يريد قتلت منهم قتيلًا (¬6). يعني الرجل الذي وكزه فقضى عليه (¬7)، والتقدير: ولهم علي دعوى ذنب فأخاف أن يقتلوني به، أي: بقتلي إياه (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 278، بنصه. ونحوه في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 84. وذكره نحوه النحاس، عن الكسائي، "إعراب القرآن" 3/ 175. (¬2) قال مقاتل 48 أ: يقول: فأرسل معي هارون، كقوله في النساء: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [2]. (¬3) "تنوير المقباس" 307. (¬4) (المعنى) في نسخة (أ)، (ب). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 278. ونحوه في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 84. (¬6) "تنوير المقباس" 307. و"تفسير مجاهد" 2/ 459. وأخرجه عن قتادة، عبد الرزاق في تفسيره 2/ 73. وأخرجه ابن جرير 19/ 64، وابن أبي حاتم 8/ 2752، عن مجاهد، وقتادة. و"تفسير السمرقندي" 2/ 471. و"تفسير الثعلبي" 8/ 108ب. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 85. (¬8) "تفسير ابن جرير" 19/ 64. وجعل مقاتل 84 أ، (عَلَيَّ) بمعنى عندي؛ فقال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أي: عندي ذنب. وذهب إليه ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 578، و"غريب القرآن" 316. وظاهر الآية أن الذنب قد صدر من نبي الله موسى عليه =

15

15 - قال الله سبحانه: {كَلَّا} أي: لن يقتلوك، وهو ردع وزجر عن الإقامة علي هذا الظن (¬1)، كأنه قال: ارتدع عن هذا الظن وثق بالله (¬2). قال ابن عباس: [يريد لا يقدرون على قتلك. وقال الكلبي: يعني لا أسلطهم على ذلك (¬3). قوله {إِنَّا مَعَكُمْ} قال ابن عباس:] (¬4) يريد نفسه (¬5) {مُسْتَمِعُونَ} قال: يريد أسمع (¬6) وأرى، كما قال في: طه [46] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}. وقال أهل المعاني: قوله {مُسْتَمِعُونَ} مجاز من وجهين؛ أحدهما: الجمع، والآخر: مستمع؛ موضع: سامع؛ لأن الاستماع طلب السمع بالإصغاء، والله عز وجل سامع مما يغني عن الاستماع، والمعنى يسمع ما يقولانه وما يجيبونكما به (¬7)، وأراد بهذا تقوية قلبهما (¬8). ¬

_ = السلام، ويدل عليه قوله تعالى في سورة القصص [15، 16] في سياق قصة قتل القبطي: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وعليه فقول الرازي 24/ 123: "لقائل أن يقول: قول موسى عليه السلام: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} هل يدل على صدور الذنب منه؟ جوابه: لا، والمراد: لهم علي دعوى ذنب في زعمهم" هذا القول مخالفة لظاهر الآية، ولا دليل عليه. (¬1) ذكره ابن الجوزي 6/ 118، بنصه، ولم ينسبه. ونحوه القرطبي 13/ 92، ولم ينسبه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 85. (¬3) "تنوير المقباس" 307. وذكره ابن الجوزي 6/ 118، ولم ينسبه. (¬4) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬5) بنصه، في "الوسيط" 3/ 351، منسوبًا لابن عباس رضي الله عنهما. (¬6) "تنوير المقباس" 307. (¬7) به. في نسخة (أ)، (ب). (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 108 ب. بمعناه. وذكر هذا الرازي 24/ 124.

16

وقوله: {مَعَكُمْ} وفي سورة طه {مَعَكُمَا} لأنه أجراهما في هذه السورة مجرى الجماعة (¬1). ومضت لهذا نظائر. 16 - قوله: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مذهب أبي عبيدة، والأخفش، والمبرد، وجميع النحويين: أن الرسول هاهنا بمعنى الرسالة (¬2)، وأنشدوا قول كُثَيِّر: لقد كَذَبَ الواشون ما بُحت عندهم ... بسرٍ ولا أرسلتهم برسول (¬3) قالوا: يعني برسالة (¬4). وقول عباس بن مرداس: ألا مَنْ مُبلغٌ عني خُفافًا ... رَسولًا بيتُ أهلِك منتهاها (¬5) ¬

_ (¬1) ذكره البغوي 6/ 108، ولم ينسبه. وقد تكلم عن مخاطبة المثنى بلفظ الجمع، سيبويه، في "الكتاب" 3/ 621. واستدل بهذه الآية. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 84؛ قال مجازه: إنا رسالة رب العالمين. و"تفسير ابن جرير" 19/ 64. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 85. و"تفسير الثعلبي" 8/ 108 ب. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 84، منسوبًا لكثيِّر عزَّة وعنه ذكره ابن قتيبة، في "غريب القرآن" 316. وذكره ابن جرير 19/ 65، والزجاج 4/ 85، والطوسي 8/ 11، ولم ينسبوه وذكره الثعلبي 8/ 108 ب، منسوبًا لكثير. ولفظه عند الزجاج: ما فهت عندهم بسوء. وعنه ذكره الأزهري 12/ 391 (رسل)، وهو في "اللسان" 11/ 283. والبيت في ديوان كثير 178، بلفظ: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بليلى ولا أرسلتهم ... (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 84. و"تفسير الثعلبي" 8/ 108 ب. (¬5) أنشده أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 84، والثعلبي 8/ 108 ب، ونسباه لعباس بن مرداس. وهو كذلك في "لسان العرب" 11/ 283 (رسل). قال أبو عبيدة: ألا ترى أنه أنثها. وأنشده ابن جرير 19/ 65، والطوسي 8/ 11، ولم ينسباه. مع اختلاف =

أراد رسالة، ولذلك أنث (¬1). وعلى هذا تقدير الآية: إنا ذو رسالة رب العالمين فحذف المضاف. وفيه قول آخر؛ وهو: أن الرسول هاهنا في معنى جمع (¬2)؛ كقول الهذلي (¬3): ألكني إليهما وخير الرسول ... أعلمهم بنواحي الخبر (¬4) ومثلها العدو والصديق (¬5)، قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: ¬

_ = بينهم في صدر البيت. والخُفوف: سرعة السير من المنزل. "تهذيب اللغة" 7/ 9 (خفف). (¬1) "تفسير ابن جرير" 19/ 65. و"تفسير الثعلبي" 8/ 108 ب. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 108 ب. وذهب إلى هذا ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 284، وقال: العرب تقول: فلان كثير الدرهم والدينار، يريدون: الدراهم والدنانير، وفي "غريب القرآن" 316، قال: الرسول بمعنى الجميع كما يكون الضيف، قال: {هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر: 68]، وكذلك الطفل، قال: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]. (¬3) راجع ترجمته في "الشعر والشعراء" 2/ 653، و"الأغاني" 6/ 56، و"الخزانة" 1/ 274. (¬4) أنشده الفراء 2/ 180، ولم ينسبه. وعنه الأنباري، الزاهر في معاني كلمات الناس 1/ 35، ولم ينسبه، وأنشده كذلك ابن جني، الخصائص 3/ 274. وذكره الطوسي 8/ 11، ونسبه للهذلي. وهو في "اللسان" 11/ 283 (رسل)، منسوبًا لأبي ذؤيب. وذكره الزمخشري 3/ 295، ولم ينسبه. ونسبه ابن عطية 11/ 96، للهذلي. راجع "ديوان الهذليين" 1/ 146، وقال شارح "أشعار الهذليين" 1/ 113: ألكني: أبلغ عني ألوكي، والألوك: الرسالة وذكره القرطبي 13/ 93، منسوبًا للهذلي. قال ابن عاشور 19/ 109، بعد ذكره البيت: فهل من ريبة في أن ضمير الرسول في البيت مراد به المرسلون. (¬5) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 645.

17

77] وقال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وقد مَرَّ (¬1). وذكر أبو علي القولين جميعًا بعبارة وجيزة، فقال: الرسول يستعمل على ضربين؛ أحدهما: [بمعنى المرسل، والآخر بمعنى: الرسالة، فقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بمعنى: الرسالة،] (¬2) وهو من باب حذف المضاف؛ لأن المعنى: إنا ذو رسالة رب العالمين. قال: ويجوز أن يكون الواحد وضع موضع التثنية، كما وضع موضع الجمع في قوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]، {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ} [النساء: 92]، ونحو ذلك (¬3). 17 - قوله تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} معناه: بأن، فحذف الجار، ومعنى الإرسال هاهنا: الإطلاق والتخلية؛ كما تقول: أرسلت الصيد من يدي، أي: أطلقته بعد التخلية. وإنما أمر بأن يُخلي عنهم برفع منعه لهم. قال مقاتل: أرسلهم معنا إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم (¬4). 18 - قوله تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} في الكلام محذوف تقديره: فأتياه وأبلغا الرسالة، فقال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} (¬5) [قال مقاتل: عرف فرعون موسى؛ لأنه رباه في بيته فلما أتاه قال له: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}] (¬6) ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء: وإنما وحد الرفيق وهو حقه الجمع؛ لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع، ولا يجوز أن تقول: حسن أولئك رجلاً. (¬2) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬3) واقتصر على هذا القول في "الوسيط" 3/ 351. قال الهواري 3/ 223: وهي كلمة من كلام العرب؛ يقول الرجل للرجل: من كان رسولك إلى فلان؟ فيقول: فلان، وفلان، وفلان. (¬4) "تفسير مقاتل" 48 ب. (¬5) "تفسير ابن جرير" 19/ 66. (¬6) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

19

يعني: صبيًّا (¬1). وقال ابن عباس: صغيرًا (¬2). والوليد: هو المولود، وموسى وُلِد فيهم ثم كان فيما بينهم حتى صار رجلاً، وهو قوله تعالى: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قال ابن عباس: يريد ثمان عشرة سنة (¬3). وقال مقاتل: ثلاثين سنة (¬4). وقال الكلبي: أربعين سنة (¬5). 19 - وقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قال ابن عباس والمفسرون: يعني قتل القبطي الذي قتله موسى (¬6). {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فيه قولان؛ أحدهما: وأنت من الكافرين بإلهك، وكنت معنا على ديننا هذا الذي تعيب. وهذا قول الحسن والسدي (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 48 ب، بنصه. قال الزمخشري 3/ 296: الوليد: الصبي لقرب عهده من الولادة. (¬2) "تنوير المقباس" 307. و"تفسير الماوردي" 4/ 166، ولم ينسبه. (¬3) "الوسيط" 3/ 351، منسوبًا له. (¬4) "تفسير مقاتل" 48 ب، 51 أ. واقتصر عليه السمرقندي 2/ 471، والثعلبي 8/ 108 ب، ولم ينسباه. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 788، ولم ينسبه، وكذلك البغوي، في "تفسيره" 6/ 109. (¬5) في "تنوير المقباس" 307: ثلاثين سنة. قال الهواري 3/ 223: " {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} أي: لم تدع هذه النبوة التي تدعيها اليوم. (¬6) "تنوير المقباس" 307. و"تفسير مقاتل" 48 ب. وأخرج ابن جرير 19/ 66, عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2754، عن مجاهد وقتادة. و"تفسير الثعلبي" 8/ 108ب. وذكره في "الوسيط" 3/ 352، غير منسوب. (¬7) أخرجه ابن جرير 19/ 66، وابن أبي حاتم 8/ 2754، عن السدي. وذكره عنه الثعلبي 8/ 108 ب، والماوردي 4/ 167. وهو في "الوسيط" 3/ 352، منسوبًا للحسن، والسدي، وذكره البغوي 6/ 109، وابن الجوزي 6/ 119.

20

والثاني: وأنت من الكافرين للنعم التي ذكرها؛ يعني: من التربية والإحسان إليه، يقول: ربيناك وأحسنا إليك وأقمت فينا سنين ثم كافأتنا بأن قتلت منا نفسًا، وكفرت بنعمتنا. وهذا قول ابن زيد ومقاتل وعطاء (¬1)، والعوفي، عن ابن عباس قال: إن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية (¬2). واختاره الفراء فقال (¬3): وأنت الآن من الكافرين لنعمتي، أي: لتربيتي إياك (¬4). قال أهل المعاني: هذا الجواب من فرعون لموسى استصغار لحال الداعي إلى الله بطرًا وتكبرًا، وتوجيه أمره إلى غير جهته. 20 - {قَالَ} موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي: فعلت تلك الفعلة وأنا إذ ذاك من الضالين. أي: من الجاهلين. قاله مجاهد ومقاتل وقتادة، والسدي (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 48 ب. و"تنوير المقباس" 307. وأخرجه ابن جرير 19/ 66، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2754، عن سعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق، وزيد بن أسلم. واقتصر على هذا القول ابن كثير 6/ 137. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 109 أ، عن العوفي عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير 19/ 66، بلفظ: يقول: كافراً للنعمة، إن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر. (¬3) فقال. في نسخة (أ)، (ب). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 278. وذكره الهواري 3/ 224. واقتصر عليه ابن قتيبة، في "غريب القرآن" 316. وهو اختيار ابن جرير 19/ 66. واستظهره الشنقيطي 6/ 370. وذكر السمرقندي 2/ 472، وجهاً آخر، فقال ويقال: وأنت من الجاحدين للقتل، يعني: لم تقر بالقتل. (¬5) "تنوير المقباس" 307. و"تفسير مجاهد" 2/ 459. و"تفسير مقاتل" 48 ب. وأخرج عبد الرزاق، في تفسيره 2/ 73، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير 19/ 67، عن مجاهد، وقتادة، والضحاك. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2755، عن مجاهد، =

21

قال الفراء: وكذا هو في حرف ابن مسعود: وأنا من الجاهلين (¬1). قال: والضالين والجاهلين يكونان بمعنى واحد؛ لأنك تقول: جهلت الطريق وضللته (¬2). وهذا يحتمل تأولين، أحدهما: كنت جاهلاً لم يأتني عن الله شيء، وهذا قول أكثر المفسرين (¬3). والثاني: كنت من الجاهلين أنها تبلغ القتل؛ وهذا قول قتادة قال: جهل نبي الله ولم يتعمد (¬4). والأول معنى قول ابن عباس في رواية عطاء: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} عن نبوة ربي (¬5). 21 - قوله: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي ذهبت (¬6) من بينكم حذرًا ¬

_ = وقتادة، ثم قال: وروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والثوري مثل ذلك. (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 67. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2755، عن قتادة قال: "وفي بعض القراءات: (فعلتها إذًا وأنا من الجاهلين). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 279، بنصه. (¬3) "تفسير ابن جرير" 19/ 67. وهو في "تفسير الثعلبي" 8/ 109 أ، بنصه. واقتصر عليه في "الوسيط" 3/ 352، و"الوجيز" 2/ 788. وصدره ابن الجوزي 6/ 119، بقوله: وقال بعض المفسرين .. قال الشنقيطي 6/ 371: {مِنَ الضَّالِّينَ} أي: قبل أن يوحي الله إليّ، ويبعثني رسولاً، وهذا هو التحقيق -إن شاء الله- في معنى الآية. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 73، وابن أبي حاتم 8/ 2755. قال الهواري 3/ 224: من الجاهلين، أي: لم أتعمد قتله. ونحوه عند النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 176. قال الثعلبي 8/ 109 أ: ونظيره قوله تعالى: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] وقوله: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]. واختار ابن قتيبة، أن يكون المعنى: من الناسين. "تأويل مشكل القرآن" 457، ونسب هذا القول في "غريب القرآن" 316، لأبي عبيدة، ولم أجده في كتابه: "مجاز القرآن". (¬5) "تفسير السمرقندي" 2/ 472، ولم ينسبه، واستدل عليه بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}. (¬6) في "تنوير المقباس" 307: (فهربت).

22

على نفسىِ. قال مقاتل: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ} إلى مدين (¬1) لما خفتكم أن تقتلوني بمن قتلته (¬2). {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} يعني: نبوة. قاله ابن عباس، والسدي (¬3). وقال مقاتل: يعني العلم والفهم (¬4). وقال ابن زيد: عقلاً. وقال الفراء: التوراة (¬5). وهو بعيد؛ لأن التوراة أوتي (¬6) بعد غرق فرعون. 22 - قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال ابن السكيت: استعبده وعبَّده أي: أخذه عبدًا، وأنشد قول رؤبة: يَرضونَ بالتعبيدِ والتأمِّي (¬7) قال: ويقال: تَعَبَّدت فلانًا، أي: اتخذته عبدًا، مثل: عَبَّدته سواء. وتأمَّيت فلانة: اتخذتها أمة (¬8). وينشد على هذا (¬9) التعبد، بمعنى: التعبيد، ¬

_ (¬1) مدين. غير واضحة في نسخة (ج). (¬2) "تفسير مقاتل" 48 ب. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 67، وابن أبي حاتم 8/ 2755، عن السدي. واقتصر عليه الهواري 3/ 224. وفي "تنوير المقباس" 307: (فهماً وعلماً ونبوة). ونسبه السمرقندي 2/ 472، للكلبي. وذكره في "الوسيط" 3/ 352، ولم ينسبه. وكذا البغوي 6/ 115، وابن عطية 11/ 98. ونسبه ابن الجوزي 6/ 120، لابن السائب. (¬4) "تفسير مقاتل" 48 ب. واستظهره الشنقيطي 6/ 374. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 279. وبه قال الزجاج، في "معاني القرآن" 4/ 86. (¬6) هكذا في النسخ الثلاث؛ والأصوب: أوتيها. (¬7) ذكره الأزهري 2/ 233 (عبد)، من إنشاد ابن السكيت، منسوبًا لرؤبة. وفي الحاشية: قبله: مالناس إلا كاثمام الثم. انظر مجموع أشعار العرب 3/ 143 وهو في "اللسان" 3/ 271 (عبد) منسوبًا لرؤبة. (¬8) "تهذيب اللغة" 2/ 233 (عبد). (¬9) هذا في نسخة (أ)، (ب).

قول الشاعر: تعبدني نِمْر بن سعد .. البيت (¬1) وورمال أيضًا: أَعْبَدت الرجل بمعنى: عَبَّدته (¬2)، قال الشاعر: علام يُعبِدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعِرُ مَا شاءوا وعُبْدانُ (¬3) قال مجاهد، في قوله: {عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قهرتهم واستعملتهم (¬4). وقال قتادة في هذه الآية: يقول موسى لفرعون: أتمن علي أن اتخذت بني إسرائيل عبيدًا (¬5). وقال السدي: تَمُن علي أن ربيتني فيك وليدًا (¬6)، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل فأرسلهم معي ولا تعذبهم. ¬

_ (¬1) لم أجده في "تهذيب اللغة"، وقد أنشده كاملاً في "اللسان" 3/ 274 (عبد): تعبدني نمر بن سعد وقد أُرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطِع (¬2) ذكره الأزهري 2/ 233، ولم ينسبه. (¬3) أنشده الفراء، في "معاني القرآن" 2/ 279، وعنه الثعلبي 8/ 109 ب. وأنشده ابن جرير 19/ 68، والزجاج 4/ 87، والأزهري 2/ 233، والطوسي 8/ 12، والزمخشري 3/ 297، ولم ينسبوه. وأنشده في "اللسان" 3/ 275، ونسبه للفرزدق. وأنشده أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي، ولم ينسبه، واستشهد به على أنه يقال: عبدت الرجل، وأعبدته، إذا استعبدته، وأنزلته منزلة العبيد. "اشتقاق أسماء الله" 39. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 68، وابن أبي حاتم 8/ 2756. وهو في "تفسير مجاهد" 2/ 460. (¬5) تفسير عبد الرزاق 2/ 74. وعنه ابن جرير 19/ 69. وأخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2755، من طريق آخر. واقتصر عليه ابن قتيبة، في "غريب القرآن" 316، ولى ينسبه. وصحح هذا القول ابن عطية 11/ 101؛ فقال: قول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف، وهو صحيح، كما قال قتادة. (¬6) أخرجه ابن جرير 19/ 68.

وقال الكلبي: يقول: تمن بها علي وتستعبد بني إسرائيل (¬1). وقال مقاتل: قال موسى: تمن علي إحسانك إلى خاصة فيما (¬2) زعمت، وتركت (¬3) إساءتك أن عبدت يعني: استعبدت بني إسرائيل (¬4). هذا ما ذكره المفسرون في هذه الآية. وهو لا يفتح غُلقًا ولا يَحل مُشكلًا. وجملة القول في هذه الآية: أن أهل التأويل مختلفون فيها على قولين؛ أحدهما: أن موسى أنكر أن يكون ثَمَّ (¬5) لفرعون عليه نعمة (¬6). قال صاحب النظم: لا يحتمل قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} إلا أن يكون مستفهمًا به؛ بمعنى: أوَ تلك، على الإنكار بلفظ الاستفهام (¬7)، ولا يحتمل أن يكون خبرًا؛ لأن تعبيد فرعون بني إسرائيل كيف يجعله موسى مِنَّة منه على نفسه؟ فالمعنى: ما ذهبنا إليه، وقد تستفهم العرب بلا ألف، ثم ذكر (¬8) أبياتًا فيها (¬9): أفرحُ أن أُرْزَأ الكِرامَ (¬10) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 307، بمعناهـ و"تفسير السمرقندي" 2/ 472، منسوبًا للكلبي. (¬2) فيما، من "تفسير مقاتل" 48 ب. (¬3) في "تفسير مقاتل" 48 ب: وتنسى. (¬4) "تفسير مقاتل" 48 ب. (¬5) ثم. في نسخة (أ)، (ب). (¬6) قال الثعلبي 8/ 109 أ: "اختلف العلماء في تأويلها، ففسره بعضهم على الإقرار، وبعضهم على الإنكار". (¬7) ذكر هذا القول: أبو علي، كتاب الشعر 1/ 56، ولم ينسبه. (¬8) في نسخة (ب): وقد ذكرنا أبياتاً. (¬9) في نسخة (ج): منها. (¬10) أنشده الأزهري 15/ 359 (نبل) عن أبي عبيد أنه قال: وحدثني محمد بن إسحاق =

قال: أراد: أأفرح؛ لأنه ينكر ذلك ولا يقبله. ومنها: بسبعٍ رمين الجمر .. (¬1) وهذا الذي ذكره هو قول الأخفش؛ قال: هذا استفهام كأنه قال: أوَ تلك نعمة تمنها؛ ثم فسر فقال: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فجعله بدلاً من النعمة (¬2). قال أبو العباس: وهذا غلط لا يجوز أن يُلْقَى الاستفهام، وهو يُطلَب فيكون الاستفهام كالخبر، وقد استقبح ومعه (أمْ)، وهي دليل على الاستفهام، واستقبحوا قول امرئ القيس: تروحُ من الحيِّ أم تَبْتَكِرْ (¬3) ¬

_ = ابن عيسى، عن القاسم بن معن: أن رجلاً من العرب توفي فورثه أخوه، فعيَّره رجل بأنه فرح بموت أخيه لَمَّا ورثه؛ فقال: أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أُورثَ ذَوداً شصائصاً نَبَلاً قال: والنبل في هذا الموضع: الصغار الأجسام. وفي "اللسان" 11/ 641 (نبل): "يقول: أأفرح بصغار الإبل، وقد رزئت بكبار الكرام قال ابن بري: الشعر لحضرمي بني عامر". (¬1) أنشده منسوبًا لابن أبي ربيعة، سيبويه 3/ 175، وفي الحاشية: الشاهد فيه: حذف ألف الاستفهام ضرورة لدلالة أم عليها، وأنشده كذلك المبرد، في "المقتضب" 3/ 294، والبيت بتمامه عندهما: لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان عند سيبويه والمبرد بالنون: رمين. ورواية اليت في الديوان 399: فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميتُ الجمر أم بثمان ورميت أولى؛ لأن يصور ذهوله عند رؤية عائشة بنت طلحة، وقد رآها في الحج. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 646. (¬3) ديوان امرئ القيس 22، وعجزه: وماذا عليك بأن تنتظر

بمعنى: أتروح، فحذف الاستفهام واكتفى (¬1) بـ (أم)، فذهب الأكثرون إلى أن الأول خبر، والثاني استفهام، فأما وليس معه (أم) فلم يقله إنسان. انتهى كلامه (¬2). ولتحقيق الإنكار وجه غير تقدير الاستفهام؛ قال محمد بن إسحاق بن يسار في هذه الآية: أقبل موسى على فرعون ينكر عليه ما ذكر من يده عنده فقال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: اتخذتهم عبيدًا تنزع أبناءهم من أيديهم فتسترق من شئت، وتقتل من شئت، أي: إنما صيرني إليك (¬3) وإلى بيتك ذلك (¬4). واختار الزجاج والأزهري هذا القول وشرحاه؛ قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار أن تكون تلك نعمة، كأنه قال: ¬

_ = وذكره ابن جرير 19/ 69، كاملاً، ولم ينسبه، وذكره صدره فقط الأزهري 2/ 232، منسوبًا لامرئ القيس. وفي حاشية ابن جرير: تروح: أتروح، وتبتكر: تخرج مبكراً، يقول: أتروح إلى أهلك آخر النهار أم تخرج إليهم بكرة، وما الذي يعجلك عن الانتظار وهو خير لك. والبيت شاهد على أنه حذف همزة الاستفهام، اكتفاء بدلالة أم، عليه، وبعضهم يستقبح الحذف في هذا الموضع. (¬1) ساقطة من: (ب). (¬2) ذكره ابن جرير 19/ 69، بنصه، وصدره بقوله: وكان بعض أهل العربية ينكر هذا ولم يسمه. وذكر نحوه النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 176، ولم ينسبه، وقد صرح فيه بالرد على الأخفش. وذكره بنصه الأزهري 2/ 232، منسوبًا لأبي العباس. (¬3) إليك. في نسخة (أ)، (ب). (¬4) "تاريخ ابن جرير" 1/ 406، بسنده عن محمد بن إسحاق. وأخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2756، وقد وقع في المطبوع: "وإني إنما صيرني إليك لأبين لك ذلك". وهو مخالف للمخطوط 209 ب، ولما في "تاريخ ابن جرير".

وأيُّ نعمة لك عليٍّ في أن عبدت بني إسرائيل، واللفظ لفظ خبر، قال: ويخرج المعش على ما قالوا أن لفظه لفظ الخبر، وفيه تبكيت للمخاطب، على معنى أنك لو كنت لا تقتل (¬1) أبناء بني إسرائيل، لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليم فكأنك تمنن علي بما كان بلاؤك سببًا له. انتهى كلامه (¬2). وزاد الأزهري بيانًا لهذا القول؛ فقال: إن فرعون لما قال لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} فاعتد عليه بأن رباه وليدًا منذ ولد إلى أن كبر، وكان من جواب موسى له: تلك نعمة تعتد بها عليَّ لأنك عبدت بني إسرائيل، ولو لم تعبدهم لكفلني أهلي، ولم يلقوني في اليم، فإنما صارت نعمة لِما أقدمت عليه مما حظره الله عليك. انتهى كلامه (¬3). ونظير هذا من الكلام أن يَمنُن إنسانٌ على غيره تربيتَه فيقول له المخاطب: هذه النعمة حصلتْ لك علي بأن قتلت أبوي؛ ولو لم تقتلهما لربياني، فيكون في ذكر سبب تربيته إياه دفعًا لما ذَكر من النعمة عليه (¬4)، كذلك لَمَّا ذَكر موسى تعبيده بني إسرائيل كان في ذلك إبانةً لسبب حاجة موسى إلى تربية فرعون، ودفعًا لِما ذَكر من النعمة عليه. وإلى هذا القول أشار (¬5) المبرد؛ فقال: التربية كانت بالسبب الذي ذكره الله من التعبيد، ¬

_ (¬1) (لاتقتل) من (ج). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 86. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 232 (عبد). (¬4) عليه. في نسخة (أ)، (ب). وفي نسخة أ، زيادة: وإلى هذا القول. والكلام مستقيم بدونها. (¬5) في نسخة (ب): ذهب أشار.

فقال موسى: تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي، فقوله: {تِلْكَ} ابتداء، و: {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} خبره، و: {أَنْ عَبَّدْتَ} بدل من النعمة، مبين لها، وتقديره: تعبيدك بني إسرائيل. هذا الذي ذكرنا وجه قول من قال بالإنكار. القول الثاني: أن موسى أقر بنعمة التربية. وهو قول الفراء (¬1)، ومذهب أبي العباس (¬2)، ووجهه: أن فرعون لما قال لموسى: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: لنعمة تربيتي لك، أجاب موسى فقال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} الآية؛ يقول: هي لعمري نعمة إذ ربيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل، فـ {أَن} تدل على ذلك. ومثله في الكلام: أن تضرب أحد عبيدك وتترك الآخر، فيقول المتروك: هذه نعمة عليٍّ أنْ ضربت فلانًا وتركتني، ثم تحذف: وتركتني. والمعنى قائم معروف. هذا كله كلام الفراء؛ قال: وقد تكون {أَن} رفعًا ونصبًا، أما الرفع فعلى قولك: وتلك نعمة تمنها علي تعبيدك بني إسرائيل. والنصب: تَمَنَّها عليَّ لتعبيدك بني إسرائيل. انتهى كلامه (¬3). ووجه هذا القول يصح في النظم بتقدير محذوف؛ كأنه قال: وتلك التي (¬4) تذكر نعمة لك تمنها علي لأن عبدت بني إسرائيل. هذا وجه الإقرار بنعمة التربية. ومذهب المفسرين: الإنكار. وما حكينا من أقوالهم يدل على الإنكار. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 279. (¬2) "تهذيت اللغة" 2/ 232 (عبد). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 279. (¬4) التي. في نسخة (أ)، (ب).

23

23 - قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} قال محمد بن إسحاق: يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه. أي: ما إلهك هذا؟ (¬1) فأجابه موسى بما هو دليل على الله -عز وجل- مما خلق مما يُعجز المخلوقين عن أن يأتوا بمثله (¬2). 24 - فـ {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} قال ابن (¬3) الأنباري: يقال: كيف استجاز موسى حين سأله فرعون أن يجيبه بأن يقول: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} وهذا ليس بجواب لسؤاله؛ لأن من قيل له: ما زيد؟ لم يكن جوابه: زيد يملك خمسين دينارًا؛ لأن (ما) سبيلها أن تستفهم بها عن الأسماء من الأجناس، والأنساب، فإذا قال القائل: ما هذا؟ أُجيب بأحد جوابين؛ إما أن يُقال له: هاشمي، قرشي، إذا عَلم المخاطب أنه يعرف جنس الذي يستفهم عنه. وإما أن يُجاب بالجنس، فيقال: إنسان، بهيمة، حائط، فجواب موسى لم يقع على حسب سؤال فرعون؟. والجواب أن فرعون أحال في سؤاله، فسأل عن جنس من لا جنس له فاستجهله موسى، فأضرب عن سؤاله فلم يجبه عنه؛ بل أخبره من قدرة الله وعظيم ملكه وسلطانه بما يردعه عن جهله فيما كان سأل عنه. والدليل على أن موسى لم يجب عن سؤاله: أنه لما سمعه منه أقبل على جلسائه فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} إذ لم يجبني عن سؤالي! فلم يلتفت ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن جرير" 1/ 406، بسنده عن محمد بن إسحاق. وأخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2756. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 87، بنصه. (¬3) ابن في نسخة (ب).

موسى إلى ذلك من قوله، وأشاعَ تعظيم مُلْكَ ربه فقال: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية. والجواب الثاني: أن موسى علم أن قصده في السؤال معرفةُ من سأل عنه فأجاب بما يعلم من صفاته؛ لأن الذي يجب على المسؤول أن يُخبر بما يعلم، فكأن موسى أجاب عن معنى السؤال بما يَعرف، ولم يلتفتْ إلى ظاهره. وقيل: إن موسى عَلِم أن فرعون يعلم أن اللهَ ربُّه؛ وإن أظهر غير ما يعلم، فلما قال له: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} لم يقع في نفسه أنه يَسأل عن ربه ليُحدده، بل قَدَّر أنه يسأله عن مُلك ربه؛ فكأن التقدير: وما مُلك رب العالمين؟ فقال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} الآية. وغير ممتنع في اللغة أن يُجاب السائل في قوله (¬1) ما ملك ربك؟ بأن يقال: ربُّك مَلِك العراق وخراسان، ومالك أكثر الأرض. انتهى كلامه (¬2). قال الكلبي: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أنه خلق ذلك (¬3). وقال أهل المعاني: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أن ما تعاينونه كما تعاينونه (¬4). يعني: إن كنتم تثبتون المشاهدات والمعقولات؛ لأن من أثبت المعقول لا يكاد يخفى عليه الخالق إذا شاهد المخلوق. ¬

_ (¬1) (في قوله) من نسخة (أ). (¬2) قال ابن كثير 6/ 138: "ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط، فإنه لم يكن مقراً بالصانع حتى يسأل عن الماهية بل كان جاحداً له بالكلية فيما يظهر". (¬3) "تنوير المقباس" 307. و"تفسير الثعلبي" 8/ 109 ب، منسوبًا للكلبي. وذكره في "الوسيط" 3/ 352، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير ابن جرير" 19/ 69. وهو بنصه، في "تفسير الثعلبي" 8/ 109 ب.

25

25 - قوله: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} قال أبو إسحاق: لما قال موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} تحير فرعون ولم يَرُدَّ جوابًا ينقض به هذا القول، فـ {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} (¬1) قال ابن عباس: يريد ألا تستمعون مقالة موسى (¬2). فزاد موسى في البيان فقال (¬3): 26 - {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} قال الفراء: إنما لم يجبه الملأ، لأن موسى كان المراد بالجواب، فقال: الذي أدعوكم إلى عبادته {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (¬4). قال محمد بن إسحاق: الذي خلق آباءكم الأولين، وخلقكم من آبائكم (¬5). فلم يجبه فرعون أيضًا بما ينقض قوله، وقال: 27 - {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (¬6). قال محمد بن إسحاق أي: ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن له إلهًا غيري (¬7). وقال أهل المعاني: كِلَا المقالتين من فرعون مقالة العاجز عن الاعتراض على الحجة (¬8)؛ قوله: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} وقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ} الآية، فلم يشتغل موسى بالجواب عما نسبه إليه من الجنون، ولكن اشتغل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 87. وذكره في "الوسيط" 3/ 352، ولم ينسبه. (¬2) "الوسيط" 3/ 352، منسوبًا لابن عباس. وذكره ابن جرير 19/ 69، ولم ينسبه. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 87. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 279. (¬5) "تاريخ ابن جرير" 1/ 406، بسنده عن محمد بن إسحاق. وأخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2756. (¬6) "الوسيط" 3/ 352. (¬7) "تاريخ ابن جرير" 1/ 406، بسنده عن محمد بن إسحاق. وأخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2756. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 88، بمعناه.

28

بتأكيد الحجة فأتبع ما سبق من الدليل دليلًا آخر زيادة في الإبانة فقال (¬1): 28 - {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} قال مقاتل: إن كنتم تعقلون توحيد الله (¬2). وقال أهل المعاني: إن كنتم ذوي عقول لم يَخف عليكم ما أقول (¬3)؛ كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء24]. قال أبو إسحاق: فلم يجبه في هذه الأشياء بنقيضٍ لحجته (¬4)، وإنما قال: 29 - {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} أي: [لأسجننك، و] (¬5) لأحبسنك مع من حبسته في السجن (¬6). قال الكلبي (¬7): وكان سجنه أشد من القتل (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 109 ب، بمعناه. (¬2) "تفسير مقاتل" 49 أ. (¬3) "الوسيط" 3/ 352. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 88. وهو في "الوسيط" 3/ 352، غير منسوب. (¬5) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬6) "تفسير ابن جرير" 19/ 70. قال الزمخشري 3/ 300: "فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ومؤدياً مؤداه؟ قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤد مؤداه فلا؛ لأن معناه: لأجعلنك واحداً مما عرفت حالهم في سجوني. هكذا في الكشاف: مما عرفت. فاللام، في (المسجونين) للعهد. "تفسير أبي السعود" 6/ 240. ومع تجبر فرعون وطغيانه فإنه ذُهل عن تهديد نبي الله موسى عليه السلام بالقتل؛ وذلك تحقيقاً لوعد الله له بأن لا يقدروا على ذلك، فمنعوا حتى من تخويفه به، {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا}. (¬7) الكلبي. في نسخة (أ)، (ب). (¬8) "تنوير المقباس" 307، و"تفسير الثعلبي" 8/ 109 ب، وفيهما زيادة: وكان إذا =

30

فقال موسى حسن توعده بالسجن: 30 - {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} يعني: أتسجنني ولو جئتك بشيء مبين (¬1). قال محمد بن إسحاق: أي بأمر تعرف فيه صدقي وكذبك، وحقي وباطلك (¬2). وهذه الآيات من هنا [31 - 32] مفسرة في سورة الأعراف، إلى قوله: 38 - {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} قال مقاتل: يعني ¬

_ = سجن أحداً طرحه في مكان وحده فرداً، لا يسمع فيه شيئاً، ولا ينظر فيه شيئاً، يهوله به. وهو كذلك عند البغوي 6/ 111، منسوبًا للكلبي. ونسبه السمرقندي 2/ 472، لابن عباس. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 109 ب، بمعناه. (¬2) "تاريخ ابن جرير" 1/ 406، بسنده عن محمد بن إسحاق. وأخرجه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2757. والآية دليل ظاهر على اعتبار المعجزات من أدلة النبوة، لكن ليست هي الدليل الوحيد، بدليع قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] فلم يذكر لهم نبي الله هود عليه السلام معجزة وإنما تحداهم بقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54، 55]. وانظر: "شرح العقيدة الواسطية" 150. تخريج: الألباني. وقد أساء الزمخشري 3/ 300، في تعليقه على قوله تعالى: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} بتعريضه تفضيل فرعون على أهل السنة بسبب قولهم: إن المجزات دليل صحيح على النبوة، لكن الدليل غير محصور في المعجزات، وقد أجاد ابن المنير رحمه الله تعالى في الرد عليه، "الانتصاف بحاشية الكشاف" 3/ 300.

39

لميعاد (¬1) يوم معلوم، وهو يوم عيدهم، وهو يوم الزينة (¬2). 39 - {وَقِيلَ لِلنَّاسِ} يعني: لأهل مصر (¬3) {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} إلى السحرة. وقيل: لتنظروا ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة (¬4). 40 - {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} على أمرهم {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} لموسى ولأخيه. قاله مقاتل (¬5). وإنما قالوا: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ}؛ لأن السحرة لم يكونوا متبوعين، وإنما كانوا سحرة حشروا إليهم من مدائن صعيد مصر، فقالوا: إن غَلبوا موسى اتبعناهم (¬6). وما بعد هذا [41 - 43] مفسر إلى قوله: 44 - {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} أي: بقوته التي يمتنع بها من لَحاق الضيم (¬7). ¬

_ (¬1) في نسخة (ج): لميقات. (¬2) "تفسير مقاتل" 49 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 109 ب. قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59]. (¬3) "تفسير السمرقندي" 2/ 473. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 110 أ، بنصه. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2762، عن السدي: حشر الناس ينظرون. (¬5) "تفسير مقاتل" 49 ب. (¬6) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2762، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، ونتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، يعني بذلك موسى وهارون عليهما السلام استهزاءً بهما. قال ابن كثير 6/ 140: ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة، أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم. (¬7) ذكره الطبرسي 7/ 396، بنصه، ولم ينسبه. قال البيضاوي 2/ 155: أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن =

50

قال مقاتل: يعني: بعظمة فرعون، كقوله لشعيب: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود 91] يعني: بعظيم (¬1). وهذا قَسَم غير مبرور (¬2). والباقي [45 - 49] مفسر إلى قوله: 50 - {لَا ضَيْرَ} أي: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا مع أملنا للمغفرة. قاله الزجاج (¬3). وقال مقاتل: {لَا ضَيْرَ} هل هو إلا أن يقتلنا (¬4) {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} راجعون في الآخرة (¬5). 51 - قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} مفسر في سورة طه (¬6). {أَنْ كُنَّا} أي: لأن كنا (¬7) {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} قال الفراء: أول مؤمني ¬

_ = يؤتى به من السحر. يقال: ما ضمت أحداً، ولا ضُمت: أي ما نقصت، والمَضيم: المظلوم. "تهذيب اللغة" 12/ 92 (ضام). (¬1) "تفسير مقاتل" 49، بنصه. (¬2) ذكره الطبرسي 7/ 296، بنصه، ولم ينسبه. وفي الباء قول آخر، وهو: أنهم قالوا ذلك على جهة التعظيم لفرعون، والتبرك باسمه، فالباء في {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} كالباء في {بِسمِ اللهِ}. ذكر هذا القول ابن عطية 11/ 107، واستحسنه ابن عاشور 19/ 127. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 90. قال ابن قتيبة: هي من: ضاره يضوره، ويضيره، بمعنى: ضرَّه. "غريب القرآن" 317. (¬4) في "تفسير مقاتل" 49 أ: ما عشت أن تصنع، هل هو إلا بقتلنا. (¬5) "تفسير مقاتل" 49 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2767، عن سعيد بن جبير. (¬6) عند قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51]. (¬7) "تفسير ابن جرير" 19/ 74. قال الزجاج 4/ 90: بفتح (أَن)، أي: لأن كنا أول المؤمنين.

52

أهل (¬1) زماننا (¬2). وقال مقاتل: أول المصدقين بتوحيد الله من أهل مصر (¬3). وقال الزجاج: زعم الفراء أنهم كانوا أول مؤمني أهل دهرهم (¬4)! ولا أحسبه عرف الرواية في التفسير؛ لأنه جاء في التفسير: أن الذين كانوا مع موسى ستمائة ألف؛ وإنما المعنى: أن كنا أولَ من آمن في هذه الحال عند ظهور آية موسى (¬5). وقال غيره: {كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} بآيات موسى ممن كان يعمل بالسحر (¬6). 52 - قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} مفسر في سورة طه (¬7). {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرض مصر (¬8). ¬

_ (¬1) في نسخة (ب): دهرهم، ولا أحسبه عرف الرواية. وهذا مكرر مما بعده. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 280. واقتصر عليه الثعلبي 8/ 110 أ، ولم ينسبه. وكذا البغوي 6/ 113. (¬3) "تفسير مقاتل" 49 أ. (¬4) قال الفراء 2/ 280: أول مؤمني أهل زماننا. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 90. وقول الفراء أولى، موافق لظاهر الآية، واعتراض الزجاج ليس بقوي؛ لأنها روايات موقوفة ليست مرفوعة، فالأقرب أنها من أخبار بني إسرائيل. والله أعلم. (¬6) أخرج ابن جرير 19/ 74، وابن أبي حاتم 8/ 276، عن ابن زيد، في قوله: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها. (¬7) عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} الآية [77]. (¬8) "تفسير ابن جرير" 19/ 74. و"تفسير الثعلبي" 8/ 110 أ.

53

53 - {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} يحشرون الناس لطلب موسى وهارون (¬1). أي: أرسَل من جَمع له الجيش (¬2). 54 - [قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} قال مقاتل: ثم قال فرعون: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} يعنى: بني إسرائيل. وقال أبو إسحاق:] (¬3) معناه: فجمع جمعه فقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} والشرذمة في كلام العرب: القليل (¬4). وقال المبرد: الشرذمة: القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها: الشراذم (¬5). ويقال للحلفاء إذا قلوا (¬6): بنوا فلان شرذمة بني فلان. قال مقاتل في قوله: (شرذمة) عصابة (¬7). وقوله: {قَلِيلُونَ} قال الفراء: يقال: عصبة قليلة، وقليلون، وكثيرون، جائز عربي؛ وإنما جاز لأن القلة تلزم جميعهم في المعنى فظهرت أسماؤهم، ومثله: أنتم حي واحد، وحي واحدون؛ قال الكُمَيْت: فَرَدَّ قواصي الأحياء منهم ... فقد رجعوا كحيٍّ واحِدينا (¬8) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 49 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 90، بنصه. (¬3) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 90. و"تفسير ابن جرير" 19/ 74. (¬5) "تهذيب اللغة" 11/ 450 (شرذم) بلفظ: الجماعة القليل، واستدل بالآية، ولم يخسبه. وذكر قول المبرد ونسبه: الشوكاني 4/ 98. (¬6) في نسخة (ج): قاموا. (¬7) "تفسير مقاتل" 49 أ. وقال ابن قتيبة: طائفة. "غريب القرآن" 317. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 280، وأنشده ابن جرير 19/ 75، وفيه: صاروا، بدل: رجعوا. وذكره الزجاج 4/ 91، مقتصراً على عجزه، وقد نسبوه جميعاً للكميت. =

55

ومعنى واحدون: واحد. ونحو هذا قال الزجاج (¬1). وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، في قول مجاهد، ومقاتل، وابن الهاد، وابن مسعود (¬2). قال مجاهد: ولا يُحصى عدد أصحاب فرعون (¬3). 55 - وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} قال أبو إسحاق: يقال: غاظني فلان، وأغاظني، [والأول أفصح (¬4). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: غاظني فلان وأغاظني] (¬5) وغيظني بمعنى واحد (¬6). والغيظ: الغضب، ومنه قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك 8] والتغيظ والاغتياظ واقعان منه؛ قال الله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا ¬

_ = والبيت من نونية الكميت، شرح: أبي رياش اليمامي، تحقيق الأستاذ الشيخ/ حمد الجاسر، وقد طبعت القصيدة مع شرحها بالتحقيق المذكور مع كتاب "شرح هاشميات الكميت" 255، قال اليمامي: يعني بذلك ائتلاف ربيعة ومضر، واجتماعهم. قال الجاسر 241: لعل المقصود به: قصي بن كلاب. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 91. (¬2) "تفسير مقاتل" 49 أ. وأخرجه ابن جرير 19/ 75، 76، عن أبي عبيدة، وابن مسعود، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وقيس بن عباد، وابن جريج. قال الشوكاني 4/ 100، بعد سياقه الخلاف في عددهم: وأقول: هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب، والاختلاف، ولا يصح منها شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 461. وابن جرير 19/ 76. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 92؛ بلفظ: يقال: قد غاظني فلان، ومن قال: أغاظني فقد لحن. (¬5) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬6) "تهذيب اللغة" 8/ 174 (غاظ).

56

تَغَيُّظًا} [الفرقان 12] وقد مر. والمغايظة بين اثنين. قال مقاتل: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} بقتلهم أبكارنا ثم هربهم منا (¬1). وقال آخرون: أي مما أخذوه من العواري التي استعاروها من أوللي، وخروجهم من أرضنا على مخالفة لنا (¬2). 56 - وقوله: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} وقرئ: (حذرون) (¬3) قال الفراء: وكأن: الحاذر الذي يحذرك الآن. وكأن: الحَذِر المخلوق حَذِرًا لا تلقاه إلا حذرًا (¬4). وقال الزجاج: الحاذر: المستعد. والحذر: المتيقظ (¬5). وقال أبو عبيدة: رجل حَذِر وحَذُر (¬6) وحاذر. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 49 أ. وقد ذكر قبل ذلك أن جبريل -عليه السلام- أمر أن يجمع كل أهل أربعة أبيات من بني إسرائيل في بيت، ويعلم على تلك الأبواب بدم، فإن الله -عز وجل- يبعث الملائكة إلى أهل مصر؛ من لم يروا على بابه دماً دخلوا بيته فقتلوا أبكارهم، من أنفسهم وأنعامهم، فيشغلهم دفنهم إذا أصبحوا عن طلب موسى فذلك اتهامهم لهم بقتل أبكارهم. وأخرجه ابن جرير 19/ 76، عن ابن جريج. وكل هذا من أخبار بني إسرائيل مما لا دليل عليه؛ ومعنى الآية ظاهر فإن سبب الإغاظة الحقيقي مفارقتهم لدينهم، وإيمانهم بنبي الله موسى عليه السلام. والله أعلم. (¬2) "تفسير ابن جرير" 19/ 76. وذكره في "الوسيط" 3/ 354، ولم ينسبه. وهو كالقول السابق. (¬3) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (حذرون) بغير ألف. وقرأ الباقون بالألف. "السبعة في القراءات" 471، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 358، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 335. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 280. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 92. (¬6) في نسخة (ب)، حذر مرة واحدة.

قال ابن أحمر: هل أُنسأَنْ يومًا إلى غيره ... إنِّي حواليٌ وإنِّى حَذِر (¬1) قال: حوالي: ذو حيلة (¬2). وأنشد أيضًا للعباس بن مرداس: وإني حاذرٌ أنْمِى سلاحي ... إلى أوصال ذَيَّال منيع (¬3) قال أبو علي: يقال: حَذِر يَحذَر حَذَرًا، واسم الفاعل: حَذِر. فأما حاذر فإنه يراد به أنه يفعل الحذر فيما يَستقبل. وكذلك قوله: وإني حاذر، كأنه يريد: متحذر عند اللقاء (¬4). وقال شمر: الحاذر: المُؤدِي الشاكُّ في السلاح (¬5). وكذا جاء في ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 86، ونسب البيت لابن أحمر. وضبطت: إني، في الموضعين بالفتح. وذكره ابن جرير 19/ 77، من قول ابن أحمر. وذكره أبو علي، نقلاً عن أبي عبيدة، مقدماً العجز على الصدر ولفظه: إني حوالي وإني حذر ... هل ينسأن يومي إلى غيره. ونسبه لابن أحمر. "الحجة للقراء السبعة" 5/ 358. وفي "الحاشية": ليس في شعر ابن أحمر المطبوع. وفي "اللسان" 11/ 186 (حول): ويقال: رجل حوالي للجيد الرأي ذي الحيلة، قال ابن أحمر، ويقال: للمرار بن منقذ العدوي: أو تنسأن يومي إلى غيره إني حوالي وإني حذر. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 86. (¬3) أنشده أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 86، منسوبًا لعباس بن مرداس. وفيه: الذيال: الفرس الطويل الذنب. وذكره أبو علي نقلاً عن أبي عبيدة، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 359. وأنشده في "اللسان" 11/ 260 (ذيل) عن ابن بري. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 359. (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 462 (حذر). الشِّكة: ما يلبسه الرجل من السلاح، وقد خفف فقيل: شاكي السلاح، وشاكٌّ السلاح. "تهذيب اللغة" 9/ 425 (شك).

التفسير؛ روى أبو إسحاق عن الأسود في قوله: {حَاذِرُونَ} قال: مُؤدُون مقوون (¬1). أي: ذووا أداة وقوة. ويروى عنه: مؤدون مستعدون. وقال الضحاك: شاكُّون في السلاح (¬2). وقال مقاتل: مُؤدُون علينا السلاح (¬3). وسأل شافع بن الأزرق، ابنَ عباس (¬4)، عن قوله: {حَاذِرُونَ} ما هو؟ فقال: التامون (¬5) السلاح. وأنشد قول النجاشي (¬6): ¬

_ (¬1) أخرجه عنه، عبد الرزاق 2/ 76. وأخرجه ابن جرير 19/ 77، بسنده عن أبي إسحاق قال: سمعت الأسود بن يزيد يقرأ: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قال: مقوون مؤدون. وأخرجه أيضًا ابن جرير 19/ 78، عن ابن عباس. (¬2) أخرج ابن جرير 19/ 77، عن الضحاك، أنه كان يقرأ: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} يقول: مؤدون. وفي "تفسير السمرقندي" 2/ 474: (مؤدون شاكون في السلاح) ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 49 أ، بلفظ (علينا بالسلاح). وفي "تفسير مجاهد" 2/ 461: (وادون مستعدون). وفي الحاشية: كذا في المخطوطة واضحاً، غير أنا لم نتمكن من معرفة معنى هذه الكلمة الملائم هاهنا، ولعله: مادون في السلاح، كما في "الدر المنثور"، أو مؤدون أي: كاملو أداة الحرب، شاكوا السلاح، مشعدون للحرب، ويمكن أن يكون: آدون من أدا السبع للغزال، إذا ختله وخدعه واختفى له ليصيده فيأكله. والله أعلم. ذكر الفراء 2/ 280، أن ابن مسعود قرأ: (وإنا لجميع حاذرون) يقولون: مؤدون في السلاح. يقول: ذوو أداة من السلاح. قال الزجاج: مؤدون أي ذوو أداة، أي: ذوو سلاح، والسلاح أداة الحرب. "معاني القرآن" 4/ 92. (¬4) ابن عباس. في نسخة (أ)، (ب). (¬5) في نسخة (أ)، (ب): بحذف نون الإضافة. وفي "الدر المنثور" 6/ 297، بالنون. (¬6) راجع ترجمته في "الشعر والشعراء" 1/ 329، و"الخزانة" 1/ 231، والأعلام 5/ 207.

57

حنيفةُ في كتائبَ حاذراتٍ ... يقودهم أبو الشِّبل الهِزبرُ (¬1) وهذا الذي ذكره أهل التفسير معنى وليس بتفسير؛ وذلك أن من شأن من يحذر الشيء أن يستعد له، ويأخذ له الحذر، وإلا فكم من حذر لا سلاح معه. ومعنى الحَذَر في اللغة: اجتناب الشيء خوفًا منه؟ قال اليث في قوله: {حَاذِرُون} نَخاف شَرَّهم (¬2). وذكرنا مثل هذا في قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء71] (¬3). 57 - قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} يعني: فرعون وقومه (¬4). {مِنْ جَنَّاتٍ} قال مقاتل: يعني البساتين {وَعُيُونٍ} يعني: أنهارًا جارية (¬5). 58 - {وَكُنُوزٍ} يعني: الأموال الظاهرة من الذهب والفضة (¬6). وإنما سمي: كنزًا؛ لأنه لم يعط حق الله منها. وكل ما لا يعطى حقُّ الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرًا (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره عن ابن عباس، الأنباري، في "الزاهر" 1/ 303، وفيه: الحاذرون: الممتلئون من السلاح، وأنشد البيت، ولم ينسبه، وفي الحاشية: لم أقف عليه. وحنيفة: أبو حي من العرب، وهو: حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل. "لسان العرب" 9/ 58 (حنف). (¬2) "كتاب العين" 3/ 199 (حذر)، بلفظ: وتقرأ الآية بلفظ: (وإنا لجميع حاذرون) أي: مستعدون، ومن قرأ: (حذرون) فمعناه: إنا نخاف شرهم. ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 4/ 462 (حذر). (¬3) قال الماوردي 4/ 172: السلاح يسمى: حذراً، قال الله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي: سلاحكم. (¬4) تفسير الطوسي 8/ 25، بنصه. (¬5) "تفسير مقاتل" 49 أ. و"تنوير المقباس" 307. (¬6) "تفسير ابن جرير" 19/ 78. (¬7) "تفسير مقاتل" 49 أ. وذكره الثعلبي 8/ 110 ب، والبغوي 6/ 114، عن مجاهد. =

59

ثم قال: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [يعني: المساكن الحسان (¬1). قال المفسرون في قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}] (¬2): هو المجلس الحسن (¬3) من مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تَحفُّ بها الأتباع (¬4). 59 - وقوله: {كَذَلِكَ} أي: كما وصفنا (¬5). وقال مقاتل: هكذا فعلنا بهم في الخروج من مصر، ومما كانوا منه من الخير (¬6). وقوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال الحسن: رجع بنوا إسرائيل إلى مصر بعد إهلاك فرعون (¬7). وقال مقاتل: إن الله تعالى ردَّ بني إسرائيل بعد ما أغرق فرعون وقومه إلى مصر (¬8). 60 - {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)} قال عبد الله بن مسلم (¬9): لحِقوهم مصبحين حين شرقت الشمس، أي: طلعت، يقال: أشرقنا، أي: دخلنا ¬

_ = وهو في "الوسيط" 3/ 354، غير منسوب. قال عبد الله بن عمر في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة 34] مَنْ كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، رقم: 1404، فتح الباري 3/ 271. (¬1) "تفسير مقاتل" 49 أ. و"تنوير المقباس" 307. (¬2) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ب). (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 110 ب. واقتصر عليه في الوجيز 2/ 790. (¬4) بنصه، في "تفسير الطوسي" 8/ 25، و"البغوي" 6/ 114، ولم ينسباه. وهو في "الوسيط" 3/ 354، غير منسوب. وحكى "الماوردي" 4/ 172، عن ابن عيسى أنها: مجالس الأمراء. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 110 ب. و"البغوي" 6/ 114. (¬6) "تفسير مقاتل" 50 ب. (¬7) تفسير الطوسي 8/ 26، بنصه، منسوبًا للحسن. (¬8) "تفسير مقاتل" 50 ب. (¬9) عبد الله بن مسلم، هو ابن قتيبة.

61

في الشروق (¬1). وقد مر (¬2). والكلام في معنى: أتبع ذكرناه في قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] (¬3). 61 - وقوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه (¬4)، وهو مفاعل من: الرؤية، كما يقال: ترآءَا الحزبان. قال مقاتل: عاين بعضهم بعضًا. والجمعان: جمع موسى، وجمع فرعون (¬5). وجازت التثنية؛ لأنه يقع على صفة التوحيد فيقال: هذا جمع واحد، كقولك: جملة واحدة. {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} قال الزجاج: أي: سيدركنا جمع فرعون هذا الكثير، ولا طاقة لنا بهم (¬6). قال مقاتل: قالوا: هذا فرعون وجنوده قد لحقونا من ورائنا، وهذا البحر أمامنا قد غشيناه، ولا منقذٍ لنا منه (¬7)؟ فقال موسى ثقة بنصر الله (¬8): 62 - {كَلَّا} أي: ارتدعوا وازدجروا فليسوا يدركوننا (¬9) {إِنَّ مَعِيَ ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 317. و"معاني القرآن" للزجاح 4/ 92. (¬2) في سورة: الحجر عند قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [73]. (¬3) قال الواحدي: وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} قال عبد الله بن مسلم: أي: أدركه، يقال: اتبعت القوم إذا لحقتهم. قال أبو عبيد: يقال: اتبعَتُ القوم، مثال: أفعَلت، إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم فعلى هذا معنى: اتبعه الشيطان: أي: أسرع خلفه. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 110 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 50 ب. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 92. (¬7) "تفسير مقاتل" 50 ب. (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 110 ب. و"تفسير الطوسي" 8/ 26. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 92، بنصه.

63

رَبِى} بنصره إباي (¬1) {سَيَهْدِينِ} سيدلني على طريق النجاة (¬2). 63 - قوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} أي: فضرب فانفلق (¬3). قال مقاتل: فانشق الماء اثني عشر طريقًا يابسًا، كل طريق طوله: فرسخان (¬4)، وقام الماء على يمين الطريق، وعن يساره كالجبل العظيم، فذلك قوله: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (¬5) قال الزجاج: أي: كل جزء تفرق منه (¬6). وقال المفسرون: كل قطعة من الماء (¬7)، وكل طائفة من البحر {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} كالجبل العظيم (¬8). وجمعه: أطواد، ومنه قول الأسود: ماءُ الفُراتِ يجيءُ من أطوادِ (¬9) ¬

_ (¬1) "تفسير الطوسي" 8/ 28. (¬2) "تنوير المقباس" 307. بمعناه. و"تفسير الثعلبي" 8/ 110ب. و"الطوسي" 8/ 28. (¬3) تفسير الطوسي 8/ 28. (¬4) الفرسخ: يطلق على معانٍ متعددة؛ منها: الوقت الطويل، كقول: انتظرتك فرسخاً من النهارة يعني: طويلاً. ويقاس بالفرسخ الطول؛ وهو يقدر بثلائة أميال. "تهذيب اللغة" 7/ 665 (فرسخ)، المعجم "الوسيط" 2/ 681. (¬5) "تفسير مقاتل" 50 ب. وفيه: طوله فرسخان، وعرضه فرسخان. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 92. (¬7) "تفسير الثعلبي" 8/ 110 ب. (¬8) ذكره البخاري، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. الفتح 8/ 496. ووصله ابن جرير 19/ 80، وابن أبي حاتم 8/ 2737. من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" 317. (¬9) أنشده أبو عيدة، "مجاز القرآن" 2/ 86، ولم ينسبه، ونسبه الطوسي 8/ 28، للأسود بن يعفر النهثلي، وقد ذكراه كاملاً، وصدره: حَلُّوا بأنقرة بجيش عليهم وفي حاشية أبي عبيدة: للأسود بن يعفر، ديوانه في ملحق ديوان الأعشى 296، =

64

64 - قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} قال ابن عباس وقتادة: قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم (¬1). وقال مقاتل: قربنا فرعون وجنوده (¬2) في مسلك بني إسرائيل (¬3). وقال أبو إسحاق: أي قربنا الآخرين من الغرق وهم أصحاب فرعون (¬4). وقال أبو عبيدة: {وَأَزْلَفْنَا} جمعنا، قال: ومن ذلك سميت مزدلفة جمعًا (¬5). وكلا القولين حسن؛ لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض، وأصل الزلفى في كلام العرب: القربى (¬6). وقيل قربناهم إلى المنية يخطيء وقت هلاكهم (¬7). ¬

_ = ومعجم البلدان 1/ 391. وذكره ابن جرير 19/ 81، من قول الأسود بن يعفر، وصدره مخالف لما عند أبي عبيدة: حلوا بأنقرة يسيل عليهم وفي الحاشية: أنقرة، موضع بظهر الكوفة، وقيل: موضع بالحيرة، وأنقرة هذه غير أنقرة التي في بلاد الروم (الأناضول) وهي الآن قاعدة دولة الترك. (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 74، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير 19/ 81، عن ابن عباس، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2774، عن السدي، وقتادة. (¬2) في نسخة (ب): وقومه. (¬3) "تفسير مقاتل" 51 أ، بمعناه. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 93. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 87. ثم قال: وقال بعضهم: وأهلكنا. وصدر ابن جرير 19/ 82، قول أبي عبيدة بقوله: (وزعم بعضهم) ولم يسمه. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 93، من قوله: وكلا القولين. وكلمة: أزلفنا، مأخوذة من التقريب إما إلى نجاء، وإما إلى بلاء. الزاهر في معاني كلمات الناس 2/ 264. (¬7) "تفسير الطوسي" 8/ 29، بنصه.

67

قال الشراعر: وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيها النفوس إلى الآجال تزدلف (¬1) وقال ابن مسلم: يقال: أزلفك الله أي: قربك، وأزلفني كذا عند فلان، أي: قربني منه. والزُلَف: المنازل والمَراقي؛ لأنها تُدْني المسافر، والراقي إلى حيث يقصده، ومنه قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] أي: أدنيت (¬2). وقال الحسن في قوله: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} اهلكنا (¬3). وهو معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه أدنى من الهلاك فهو إهلاك في المعنى (وثّمَّ) إشارة إلى المكان. وذكرنا معناه عند قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. 67 - قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} قال مقاتل: إن في هلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم (¬4) {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} يقول: لم يكن أكثر أهل مصر مصدقين بتوحيد الله، ولم يكن آمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون، وحزقيل المؤمن، ومريم بنت ناموسا، التي دلت على عظام ¬

_ (¬1) أنشده الماوردي 4/ 175، والطوسي 8/ 29، ولم ينسباه. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة 317. (¬3) ذكره عنه ابن قتيبة، في "غريب القرآن" 317. فحاصل الأقوال في معنى: {وَأَزْلَفْنَا} ثلاثة؛ 1 - أهلكنا. 2 - جمعنا. 3 - قدمنا وقربنا. قال ابن قتيبة: وكل هذه التأوللات متقاربة، يرجع بعضها إلى بعض. "غريب القرآن" 318. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2776، عن محمد بن. إسحاق: وكان يقال: لو لم يخرجه الله تعالى ببدنه حين أغرقه لشك فيه بعض الناس.

68

يوسف (¬1). 68 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه من أعدائه حين انتقم منهم {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين حين أنجاهم من العذاب (¬2). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 51 أ. وفيه (وحزقيل المؤمن، ومنه الماشطة). وفي "الوسيط" 3/ 355: (خربيل المؤمن، ومريم بنت موشا). وعند البغوي 6/ 116 (حزبيل المؤمن، ومريم بنت ناقوسا). وزاد ابن الجوزي 6/ 127، وفنَّة الماشطة ونسبه لقتادة، ولم أرَ من ذكره غيره. وفي "تفسير مجاهد" 2/ 461، وابن جرير 19/ 78، عنه رواية مطولة عن أخذ نبي الله موسى، لعظام يوسف، وليس فيها تسمية المرأة، بل فيها وصفها بأنها: امرأة عجوز بيتها على قبر يوسف، وأن موسى جعل عظام يوسف في كسائه، ثم حمل العجوز على كسائه؛ لأن بني إسرائيل قالوا لموسى: إن يوسف أخبرنا أنا سنُنجى من فرعون، وأخذ عليا العهد لنخرجن بعظامه معنا. وقصة أخذ نبي الله موسى عليه السلام لعظام يوسف أخرجها الحاكم 2/ 404، وأبو يعلي الموصلي، في مسنده 13/ 236، رقم: 7254، عن أبي موسى -رضي الله عنه- مرفوعاً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 559، رقم: 313. وقد ذكر هذا الحديث ابن كثير 6/ 142، من طريق ابن أبي حاتم، فقط، ثم قال: وهذا حديث غريب جدًّا، والأقرب أنه موقوف، والله أعلم. وكون امرأة فرعون اسمها آسية ثابت من حديث ابن عباس قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في الأرض أربة خطوط، قال: تدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران). أخرجه الإمام أحمد 4/ 409، رقم 2668، م/ الرسالة، وحكم عليه محققو المسند بالصحة، وأخرج الحاكم 3/ 174، كتاب معرفة الصحابة، رقم: 4754، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/ 13، رقم: 1508. (¬2) "تفسير مقاتل" 51 أ، بنصه. و"تنوير المقباس" 307، بمعناه.

69

69 - قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)} قال ابن عباس: حدث قومك نجبر إبراهيم (¬1). وقال مقاتل: واتل على أهل مكة حديث إبراهيم (¬2). وقال الكلبي: يقول أخبرهم بخبر إبراهيم كيف قال لقومه (¬3)؛ يعني قوله: 70، 71 - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} قال مقاتل: وكانت أصنامًا من ذهب وفضة وحديد ونحاس وخشب (¬4) {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} فنقيم عليها عابدين مقيمين على عبادتها لا نعدل بها شيئًا. قاله ابن عباس ومقاتل (¬5). 72 - {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} قال أبو علي وغيره من النحويين: ¬

_ (¬1) "الوسيط" 3/ 355، غير منسوب. قال الرازي 24/ 141: (اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبب كفر قومه، ثم إنه ذكر قصة موسى -عليه السلام- ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى، ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم -عليه السلام- ليعرف محمد أيضًا أن حزن إبراهيم -عليه السلام- بهذا السبب كان أشد من حزنه؛ لأن من عظيم المحنة على إبراهيم -عليه السلام- أن يرى أباه وقومه في النار، وهو لا يتمكن من إنقاذهم. (¬2) "تفسير مقاتل" 51 أ. (¬3) "تنوير المقاس" 357، بمعناه. (¬4) "تفسير مقاتل" 51 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 51 أ. و"تنوير المقباس" 307. وهو في "الوسيط" 3/ 355، غير منسوب. ونحوه في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 93. أخرج ابن جرير 19/ 83، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} قال: الصلاة لأصنامهم. وذكر الثعلبي 8/ 111 أ، عن من لم يسمه من أهل العلم: إنما قالوا: {فَنَظَلُّ}؛ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.

73

هل يسمعون دعاءكم، فحذف المضاف (¬1)؛ لأن سمعت إذا عُدِّي إلى زيد لم يكن له من مفعول مما سمع زيد، كقولك: سمعت زيدًا يقول ذلك، أو يشتم عمرًا. ونحو ذلك من المفعولات التي تُسمع، وهذا كقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14] (¬2). قال ابن عباس: هل يجيبونكم أو يسمعون دعاءكم (¬3). وقال مقاتل: هل يجيبونكم إذ تدعوهم (¬4). وتفسير السمع بالإجابة معنى؛ لأن من سمع أجاب. ومن هذا قيل: سمع الله لمن حمده. أي: أجاب (¬5). وإذا فسرنا السمع بالإجابة لم يحتج إلى تقدير المضاف. 73 - قوله تعالى: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} قال ابن عباس: يريد هل يرزقونكم، أو يكشفون عنكم التفسير، أو يملكون لكم ضرَّا (¬6). وقال الكلبي: هل ينفعونكم إن أطعتموهم، أو يضرونكم إن ¬

_ (¬1) "المسائل الحلبيات" 83، و"الإيضاح العضدي"، كلاهما لأبي علي الفارسي 1/ 197. و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 646، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 87. و"تفسير الثعلبي" 8/ 111 أ. (¬2) قال ابن جرير 19/ 84: قال بعض من أنكر ذلك من قوله من أهل العربية: الفصيح من الكلام في ذلك هو ما جاء في القرآن؛ لأن العرب تقول: سمعت زيداً متكلماً، يريدون: سمعت كلام زيد، ثم تعلم أن السمع لا يقع على الأناسي، إنما يقع على كلامهم، ثم يقولون: سمعت زيداً، أي: سمعت كلامه. (¬3) "تنوير المقباس" 307. (¬4) "تفسير مقاتل" 51 أ. (¬5) قال ابن الأنباري: وقولهم: سمع الله لمن حمده، معناه: أجاب الله من حمده، والله سامع على كل حال، وكذلك: سمع الله دعاءك، معناه: أجاب الله دعاءك. "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 59. (¬6) "الوسيط" 3/ 355، منسوبًا لابن عباس -رضي الله عنهما-.

74

عصيتموهم (¬1). ونحو هذا قال مقاتل: هل ينفعونكم في شيء إذا عبدتموهم، أو يضرونكم بشيء إن لم تعبدوهم (¬2). 74 - {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي: كما نفعل يفعلون. وهذا إخبار أنهم قلدوا آباءهم في عبادة الأصنام، وتركوا الحجة والاستدلال فلما أقروا على أنفسهم وآبائهم بعبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تضر (¬3) ولا تنفع (¬4). قال لهم إبراهيم متبرئًا منهم: 75، 76 - {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} يعني الماضين الأولين. 77 - {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} قال الكلبي: يقول أبرأ منهم (¬5). وقال مقاتل: أنا بريء منهم (¬6). ومعنى عداوة الأصنام له هو ما ذكره الفراء، أي: لو عبدتهم كانوا إلى يوم القيامة ضدًا وعدوًا (¬7). وكأنه ذهب إلى معنى قوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} الآية (¬8)، [مريم: 82] وذكر ابن قتيبة هذه الآية في باب المقلوب؛ وقال: المعنى: فإني عدو لهم، فقلب؛ لأن كل من عاديته ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 307. (¬2) "تفسير مقاتل" 51 أ. (¬3) ولا تضر. مكررة في نسخة (ج). (¬4) لا تنفع، ولا تضر ولا تسمع. في نسخة (ب). (¬5) "تنوير المقباس" 307، وفيه: تبرأ منهم. (¬6) "تفسير مقاتل" 51 ب. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 281. (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 111 ب. والشاهد من الآية في آخرها، وهو قوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}.

عاداك (¬1). ونحو هذا حكى بعض المتأخرين عن الفراء، ولم أر له ذلك (¬2). والعدو: اسم يجوز إطلاقه على الجماعة، كما قال: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ} [الكهف 50] (¬3) وقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء 92] وقد مرَّ (¬4). وذلك أنه وضع موضع المصدر فلا يُثنى، ولا يُجمع، كما يوضع المصدر موضع الصفة؛ في نحو: رجل عدل، وتجوز تثنيته وجمعه؛ لأنه اسم (¬5). وقوله: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} قال أبو إسحاق: قال النحويون: إنه استثناء ليس من الأول. أي: لكن رب العالمين أعبده، ولا أتبرؤ منه. قال: ويجوز أن يكونوا عبدوا مع الله الأصنام، فقال: إن جميع من عبدتم عدو لي إلا رب العالمين؛ لأنهم سَووَّا آلهتهم بالله -عز وجل- فأعلمهم أنه قد تبرأ مما يعبدون إلا الله (¬6). وهذا الذي ذكره هو مذهب مقاتل في هذه الآية؛ قال: إنهم كانوا يعلمون أن الله ربهم، وهو الذي خلقهم فإقرارهم بالله أنه خلقهم وهو ربهم عبادة منهم له (¬7). وقال الكلبي: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} يقول: إلا أن يكون فيكم أحدٌ يعبد ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 193. (¬2) ذكره عن الفراء الثعلبي 111 ب، وتبعه البغوي 6/ 117، وأحال محقق "تفسير البغوي" في الحاشية إلى "معاني القرآن" للفراء 2/ 281، وليس فيه هذا القول، كما قال الواحدي. (¬3) ذكر هذا القول الأخفش، في "معاني القرآن" 2/ 643. (¬4) تفسير هذه الآية من سورة النساء من القسم المفقود من كتاب البسيط. (¬5) "تفسير ابن جرير" 19/ 84، بمعناه. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 93. (¬7) "تفسير مقاتل" 51 ب.

الله (¬1). واختار الحسين بن الفضل هذا القول، وقال: يعني إلا من عبد رب العالمين (¬2). وهذا يتوجه على حذف المضاف، كأنه قال: إلا عابد رب العالمين، ويكون الاستثناء أيضًا لا من الأول. واختار صاحب النظم في قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} القلب؛ وقال: لأن الأصنام لا تعادي أحدًا، والمعنى: فإني عدو لهم. ومعنى العداوة: البغض والبراءة، وترك الموافقة. وأصله: من عَدَوْتُ الشيء: إذا جاوزتُه وخلَّفته. وقال في قوله: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} إنه على التقديم والتأخي؛ على تقدير: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وءابآؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي وتكون (إلا) بمعنى: (دون) و (سوى). أي: ما كنتم تعبدون من دون الله، وسوى الله، فيكون: (دون) و (سوى)، نعتًا للاسم الأول (¬3). وهذا الذي ذكره فيه تعدٍّ واستكراه، ثم استبعد قول الذين قالوا: إنه استثناء ليس من الأول؛ بأن قال: يحتمل ذلك على بعدٍ فيه؛ لأنه يكون ادعى خبرًا على الله من غير علم، وهو تمدح وتفريط للنفس، وهما مكروهان، يعني: أن إبراهيم إذا قال: الأصنام أعدائي، لكن الله وليي يكون قد أخبر عن الله بأنه وليه، ومدح نفسه بولاية الله؛ لأنه إذا كان الله [هو أيضًا] (¬4) وليه، كان هو أيضًا ولي الله. وهذا لا يقدح في قول النحويين؛ لأنه لم يُخبر بذلك عن غير علم؛ فإن النبي يعلم منزلته من الله. والنبوة فوق الولاية، فإذا عَلِم أنه نبي، عَلِم أنه ولي، وأن الله وليه. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 307. (¬2) "تفسير الثعبي" 8/ 111ب. (¬3) ذكره عنه السمين الحلبي، "الدر المصون" 8/ 530. (¬4) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

78

وقوله: إنه تمدح، هذا إنما لا يحسن بعد الأنبياء، أما الأنبياء فلهم أن يتمدحوا بمنزلتهم، ومكانهم من الله تعالى، كما أن لهم التحدي بالمعجزة، وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "أنا سيد ولد آدم" (¬1). وقال: "آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة" (¬2). وقال: "لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي" (¬3)، في أشباهٍ لهذا كثيرة لا تُحمل على مذهب التمدح المكروه. قال مقاتل: ثم ذكر إبراهيم نعم رب العالمين؛ فقال (¬4): 78 - {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} قال ابن عباس: يرشدني. وقال ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم 4/ 1782، كتاب الفضائل، رقم: 2278، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مُشَّفع". وأخرجه باللفظ نفسه أبو داود 5/ 54، كتاب السنة، رقم: 4673. (¬2) أخرجه أبو داود الطيالسي 353، من حديث ابن عباس، بلفظ: "وبيدي لواء الحمد تحته آدم ومن دونه ولا فخر". وأخرجه من الطريق نفسه أبو يعلى الموصلي 4/ 214، وضعفه محقق مسند أبي يعلى؛ لضعف علي بن زيد بن جُدعان، وأخرجه ابن حبان، من طريق آخر عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-، "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 14/ 389، وقال محققه: حديث صحيح لغيره. وأخرجه الترمذي 5/ 548، كتاب المناقب، رقم: 3615، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهو في "صحيح سنن الترمذي" 3/ 195، رقم: 2859. (¬3) خرجه الإمام أحمد 23/ 349، رقم: 15156، وأخرجه أبو يعلى الموصلي 4/ 102، وأخرج ابن أبي عاصم، كتاب السنة 27، رقم: 50. وضعف الحديث محققو المسند، وكذا محقق "مسند أبي يعلى"؛ لضعف مُجالد بن سعيد، وحسن إسناده الألباني، "إراوء الغليل" 6/ 34، رقم: 1589؛ لورود الحديث من طرق أخرى ساقها هناك (¬4) "تفسير مقاتل" 51 ب.

79

الكلبي: فهو يهدين إلى الدين (¬1). والمعنى: فهو الذي يهدين إلى الدين، والرشد، لا ما تعبدون من الأصنام. أخبر أن الذي يهدي هو الله الذي خلق (¬2) لا غيره، وجاء هذا لأنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم هي التي تهديهم. قال صاحب النظم: وجاءت الفاء دون الواو في (فهو) لأن الفاء تجعل ما بعدها متصلًا بما قبلها على الجواب له. 79 - قوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} قال صاحب النظم: صحول {هُوَ} دليل على أنه أعلم أنه لا يُطعم ولا يَسقي غيرُه، كما تقول في الكلام: زيد هو الذي فعل، أي: لم يفعله غيره (¬3). 80 - {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال: دخلت الفاء هاهنا كما دخلت في الخلق والهداية، وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض منا، ومن الزمان، ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء، ومن الأدوية. فأعلم إبراهيم أن الذي أمرض هو الذي يَشفي؛ وهو الله -عز وجل-. هذا كلامه (¬4). وكان يجب على ما قال أن يكون: وإذا أمرضني، وقد قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} فلم يُخبر عن الله -عز وجل- بإمراض، إلا أن يقال: أراد: وإذا أمرضني، ولكن أخبر عن نفسه على العادة فإنه يقال: مرضت ولا يقال: أمرضني الله وإن كان المرض مخلوقًا لله بقضائه وقدره (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 309. (¬2) في نسخة (أ)، (ب): زيادة: هذا، بعد: خلق. والكلام مستقيم بدونها. (¬3) ذكره القرطبي 13/ 110، ولم ينسبه. (¬4) وقد ذكره في "الوسيط" 3/ 355، ولم ينسبه. (¬5) قال السمرقندي، في تفسيره 2/ 475: أضاف المرض إلى نفسه؛ لأن المرض كسب يده، كقوله -عز وجل-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} =

81

81 - وقوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} أي: في الدنيا {ثُمَّ يُحْيِينِ} للبعث. قاله ابن عباس، والمفسرون (¬1). قال صاحب النظم: كانوا لا يدفعون الموت، إلا أنهم يجعلون له سببًا سوى الله، ويكفرون بالبعث، فأعلم إبراهيم أنه هو الذي يميت، ثم يحي (¬2). ودخلت (ثم) للتراخي الذي بين الموت والحياة (¬3). 82 - وقوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} قال مقاتل: أرجو (¬4) {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} قال مجاهد، ومقاتل، والكلبي، والحسن (¬5)، هي قوله لسارة: أختي، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وهي الكذبات الثلاث (¬6). ¬

_ = [الشورى: 30] وفيه كفارة. وجعل البغوي 6/ 118، إضافة المرض إلى نفسه استعمالاً لحسن الأدب. وهذا أولى، والله أعلم. (¬1) "تفسير ابن جرير" 19/ 85. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 355، منسوبًا لصاحب النظم. (¬3) وقد أحسن الواحدي صنعاً في إعراضه عن ذكر الأقوال الغريبة، والشاذة التي ذكرها الثعلبي 8/ 111 ب، عن بعض أهل المعرفة، وإن كان الأحسن أن يشير إلى نقده لتلك الأقوال كما فعل القرطبي 13/ 111، وغيره من أهل العلم. (¬4) "تفسير مقاتل" 51 ب. و"تنوير المقباس" 309. (¬5) الحسن غير موجودة في نسخة (ب). (¬6) "تنوير المقباس" 309. و"تفسير مجاهد" 2/ 462. و"تفسير مقاتل" 51 ب. وأخرجه بسنده ابن جرير 19/ 85، عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2780، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً. ولفظه عند البخاري، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- إِلا ثَلَاثَ كَذَبَات ثِنْتَيْنِ مِنْهُن فِي ذَاتَ الله -عز وجل-؛ قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمِ وَسارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَه إِنَّ هَاهُنَا رجُلا مَعَهْ امْرَأَةٌ مِرْ أَحْسَنِ =

وزاد الكلبي والحسن قوله للكواكب: {هَذَا رَبِّي} (¬1). وقال أبو إسحاق: معنى {خَطِيئَتِي} أن الأنبياء بشر، وقد يجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا تكون منهم الكبيرة؛ لأنهم معصومون (¬2). وقال أهل المعاني في قوله: (أطمع) هذا تلطف من إبراهيم في حسن الاستدعاء، وخضوع لله -عز وجل- (¬3). قوله: {يَوْمَ الدِّينِ} يريد يوم الجزاء. قاله ابن عباس (¬4). ¬

_ = النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِن هَذَا سَألَني فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ اخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي الله لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ الله فَأُطْلِقَ ثُمّ تَنَاوَلَهَا الثانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ ادْعِي الله لِي وَلَا أَضُركِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ مَهْيَا قَالَتْ رَدَّ الله كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ في نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ). البخاري، كتاب الأنبياء، رقم: 3358، الفتح 6/ 388. ومسلم، 4/ 1840، كتاب الفضائل، رقم: 2371. (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 355. وذكره السمرقندي، في "تفسيره" 2/ 475، ولم ينسبه. ونسبه الثعلبي 8/ 112 ب، والبغوي 6/ 118، للحسن. قال ابن عطية 11/ 123: وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين. واستظهر ابن عطية هذا القول. وهذا مخالف لظاهر الآية حيث نسبة الخطأ إلى نفسه، ومخالف للحديث السابق، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فيما يتعلق بالوحي وتبليغ الرسالة، ولا ينافي إثبات ذلك عصمةَ الرسل؛ فالعصمة ثابتة لهم في تبليغ الوحي، وأما ما يفعلونه باجتهادهم فهم كغيرهم من البشر يصيبون، وقد يخطئون فيصحح خطؤهم. والله أعلم. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 94. (¬3) "تفسير الوسيط" 3/ 355، ولم ينسبه. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2780، عن الأعرج. قال ابن جرير 19/ 85: (يوم الحساب، يوم المجازاة).

83

وقال مقاتل: يعني يوم الحساب (¬1). ثم دعا إبراهيم ربه فقال: 83 - {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} قال ابن عباس: معرفة بالله وبحدوده وأحكامه (¬2). وقال مقاتل: يعني اللهم والعلم (¬3). {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن عباس: بأهل الجنة. وقال عطاء عنه: يريد النبيين قبله (¬4). 84 - {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قال ابن عباس، ومجاهد، وسفيان، والسدي، ومقاتل، والكلبي، والمفسرون يعني: ثناءً حسنًا (¬5). {فِي الْآخِرِينَ} يعني: في الذين يأتون بعدي (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 51 ب. ذكر الواحدي، في "الوسيط" 3/ 356، هاهنا حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ في الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وُيطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ لَا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أخرجه مسلم 1/ 196، كتاب الإيمان، رقم 214. والحاكم 2/ 439، كتاب التفسير، رقم: 3524، وقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث أخرجه مسلم كما سبق. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 356. و"تفسير البغوي" 6/ 118. و"تفسير القرطبي" 13/ 112. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2781، عن ابن عباس: الحكم: العلم. (¬3) "تفسير مقاتل" 51 ب. و"تنوير المقباس" 309. وجعل ابن جرير 19/ 86، الحكم هنا: النبوة. وهو قول السدي، أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2781. (¬4) "تفسير مقاتل" 51 ب. وفي "تنوير المقباس" 309: بآبائي المرسلين في الجنة. (¬5) خرجه بسنده عن مجاهد، الفراء، "معاني القرآن" 2/ 281. وذكره أبو عبيدة 2/ 87، ولم ينسبه. وذكره ابن جرير 19/ 86. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2781، عن مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد. (¬6) "تفسير مقاتل" 51 ب. و"تنوير المقباس" 310.

قال أبو إسحاق: معناه اجعل لي ثناء حسنًا باقيًا إلى آخر الدهر (¬1). قال المفسرون: وأعطاه الله ذلك، وكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه (¬2). وذكرنا أن اللسان قد يُذكر والمراد به القول (¬3)، ومنه: إني أتتني لسانٌ ...... البيت (¬4) والعرب إذا مدحت شيئًا أضافته إلى الصدق (¬5)؛ كقوله تعالى: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] وقد مر (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 94. قال السمرقندي، في؛ "تفسيره" 2/ 476: وإنما أراد بالثناء الحسن ليقتدوا به فيكون له مئل أجر من اقتدى به. (¬2) "تفسير مقاتل" 51 ب، بلفظ: "فكل أهل دين يتولون إبراهيم -عليه السلام-، ويثنون عليه". وذكر هذا هود الهواري 3/ 230. وأخرجه بسنده مطولاً ابن جرير 19/ 86، عن عكرمة. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2781، عن ابن عباس. قال الجصاص 5/ 214: فاليهود تقر بنبوته، وكذلك النصارى، وأكثر الأمم. وذكره الثعلبي 8/ 113 أ. (¬3) ذكر ذلك ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 146. ونقله عنه الثعلبي 8/ 113 أ. (¬4) أنشده كاملاً ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 146، ولم ينسبه، وتمامه: إني أتتني لسانٌ لا أُسرُّ بها ... من عَلوَ لا عجبٌ منها ولا سَخَرُ قال ابن قتيبة: أي: أتاني خبرٌ لا أسر به. والبيت مطلع قصيدة لأعشى باهلة، يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي، وقد ذكرها المبرد، الكامل 3/ 1431. وأنشده ونسبه الثعلبي 8/ 117 أ. (¬5) في "تهذيب اللغة" 8/ 355: يقال: هذا رجل صِدْق، معناه: نعم الرجل هو. (¬6) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية ما يتعلق بالقدم، ومعناه، والمراد به، ثم قال: هذا الذي ذكرنا معنى القدم في اللغة، فأما التفسير فقال ابن عباس: أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم. وعلى هذا المعنى: أن لهم أجر صدق أو ثوابه، على تقدير حذف المضاف، وقال مجاهد والحسن: يعني الأعمال الصالحة. وعلى هذا لا حذف. =

85

85 - {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} قال ابن عباس: اجعل مصيرِي إلى جنة النعيم (¬1). وقال الكلبي: من الذين ذكروا في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10، 11] والنعيم: نقيض البؤس (¬2). 86 - {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} قال مقاتل: من المشركين (¬3). وهذا الاستغفار منه لأبيه إنما كان قبل أن يتبرأ منه (¬4). وقد ذكرنا ذلك عند {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} الآية، [التوبة: 114] (¬5). 87 - {وَلَا تُخْزِنِي} قال مقاتل والكلبي: لا تعذبني (¬6) {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} يوم يبعث الخلق بعد الموت (¬7). ثم فسر ذلك اليوم وأبدل منه؛ فقال: ¬

_ = قال الإمام مالك: لا بأس أن يُحب أن يُثنى عليه صالحاً، وُيرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح. "أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 458. (¬1) "تنوير المقباس" 310، بمعناه. (¬2) وفي هذه الآية رد على من قال: لا أسأل جنة ولا ناراً. "تفسير القرطبي" 13/ 114. (¬3) "تفسير مقاتل" 51 ب. (¬4) "تفسير البغوي" 6/ 119. (¬5) قال الواحدي: (.. وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وأن ينقل الله أباه باستغفاره له من الكفر إلى الإسلام، فلما مات مشركاً ويئس من مراجعته الحق تبرأ منه، وقطع الاستغفار له ..). (¬6) "تفسير مقاتل" 51. و"تنوير المقباس" 310. (¬7) "تفسير مقاتل" 51 ب. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيم: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي فَيقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إنكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزيٍ أَخْزَلى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ فَيَقُولُ الله تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ =

88

88 - {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [ومفعول النفع محذوف للعلم به كأنه قيل: لا ينفع مال ولا بنون أحدًا] (¬1). 89 - {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وفي هذا الاستثناء قولان؛ أحدهما: إنه استثناء من الأول على معنى: أن الكافر لا ينفعه ماله وإن تصدق به، ولا ابنوه يغيثونه، [فيكون قوله {إِلَّا مَنْ} استثناء ممن لا ينفعه بماله، وبنوه؛ وهو الكافر. القول الثاني: إن قوله: {إِلَّا مَنْ} استثناء ليس من الأول على معنى:] (¬2) لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه ذلك، وهو سلامة قلبه (¬3). واختلفوا في معنى القلب السليم؛ فقال ابن عباس: سليم من الشرك والنفاق. وهو قول مجاهد، والكلبي، ومقاتل، وقتادة، والحسن، وأكثر المفسرين؛ قالوا: القلب السليم، الذي سلم من الشرك، والشك، والنفاق (¬4). وإذا كان سليمًا من هذه الأشياء كان موقنًا مخلصًا. وقال سعيد ¬

_ = عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى في النَّارِ) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، رقم: 3350، الفتح 6/ 387. والنسائي، في السنن الكبرى 6/ 422، كتاب التفسير، رقم: 11375. قال ابن حجر، في الفتح 8/ 499: الذيخ: ذكر الضباع. يعني أن الله تعالى قد مسخ آزر ضبعاً، فلما رآه إبراهيم كذلك تبرأ منه. (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬2) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (أ)، (ب). (¬3) لم أجده عند من تقدم الواحدي، وذكره من المتأخرين: الزمخشري 3/ 311. والقرطبي 13/ 114. وأبو حيان 7/ 24. (¬4) "تفسير مقاتل" 51 ب. وأخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 74، عن قتادة. و"تفسير هود الهواري" 3/ 231. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 318. و"تفسير ابن جرير" =

90

ابن المسيب: القلب السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن، وقلب الكافر والمنافق مريض، كما قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] (¬1) 90 - قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} قال ابن عباس: قربت الجنة لأوليائي (¬2). قال أبو إسحاق: تأويله أنه قرب دخولهم إياها ونظرهم إليها (¬3). 91 - {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أي: أظهرت (¬4). قال مقاتل: كشف الغطاء عيت الجحيم (¬5) (للغاوين) للكافرين (¬6)، وهم الضالون عن الهدى (¬7). ¬

_ = 19/ 87، وأخرجه عن قتادة، وابن زيد، والضحاك. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2783، عن مجاهد، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد. قال الثعلبي 8/ 113 أ، بعد ذكر هذا القول: (فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد). ومراده ما دون الشرك. قال ابن القيم: (وقد اختلفت عبارات الناس في معنى السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره ..) "إغاثة اللهفان" 1/ 13. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 117 أ. و"تفسير الوسيط" 3/ 356. و"تفسير البغوي" 6/ 119. وفي "تنوير المقباس" 310: (سليم من بغض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-). (¬2) "تنوير المقباس" 310. و"تفسير الوسيط" 3/ 356. أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2784، عن الضحاك: قُربت من أهلها. ثم قال: وروي عن السدي، وقتادة، والربيع بن خيثم نحو ذلك. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 94. (¬4) "تنوير المقباس" 310. و"تفسير هود الهواري" 3/ 231. و"تفسير ابن جرير" 19/ 87. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 94. و"تفسير الثعلبي" 8/ 113 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 51 ب. (¬6) "تنوير المقباس" 310. قال ابن عطية 11/ 127: هم المشركون بدلالة أنهم خوطبوا في أمر الأصنام، والقول لهم: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ}. (¬7) عن الهدى، في نسخة (ج).

92، 93

والغاوي: الضال (¬1). {وَقِيلَ لَهُمْ} في ذلك اليوم على وجه التوبيخ واللوم (¬2). 92، 93 - {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} هل يمنعوفكم من العذاب {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} يمتنعون منه (¬3). ثم يؤمر بهم فيُلقون في النار، فذلك قوله: 94 - {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} قال ابن عباس، والسدي، والكلبي: جمعوا (¬4). وقال مجاهد: دهوروا (¬5). وقال مقاتل: قذفوا (¬6). قال أبو إسحاق: معنى: (كبكبوا) طُرح بعضهم على بعض (¬7). وحقيقة ذلك في اللغة: تكرير الانكباب كأنه إذا أُلقي يَنْكَبُّ مرة بعد مرة حتى يستقرَّ فيها (¬8). وقال أبو عبيدة: نكسوا فيها، وهو من قولهم: كبَّه الله لوجهه (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 94. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 356، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 51. و"تنوير المقباس" 310. و"تفسير هود الهواري" 3/ 231. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2785، عن ابن عباس، والسدي. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2785، عن مجاهد، بلفظ: قد هووا فيها، وما في المطبوع مخالف لما في المخطوط 227 أ، ولفظه: فدمروا فدهوروا. وبلفظ: دهوروا، ذكره "الثعلبي" 8/ 113 أ، و"البغوي" 6/ 119. (¬6) "تفسير مقاتل" 52 أ. و"تفسير هود الهواري" 3/ 231. و"تفسير الثعلبي" 8/ 113 ب. (¬7) وقد اقتصر في الوجيز 2/ 792، على قول أبي إسحاق، ولم يشبه. وذكر هذه الأقوال بهذا الترتيب البغوي 6/ 119. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 94. وذكره الأزهري 9/ 461 (كبب) ولم ينسبه. (¬9) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 87، بلفظ: أي: طرح بعضهم على بعض جماعة جماعة.

قال ابن قتيبة: (كبكبوا) أُلقوا على رؤوسهم، وأصل الحرف: كُبِّبُوا، فأبدل من الباء الوسطى كافًا استثقالًا لاجتماع ثلاث باءات، [كما قالوا: كمكموا، من الكُمَّة، وهي: القَلَنْسوة، والأصل: كُمِّموا] (¬1). كما قالوا: ريح صرصر (¬2)، ورقرقت العين بمعنى: دمعت، وله نظائر (¬3). ومن قال في تفسير: (كبكبوا) جمعوا (¬4)، أراد: جمعوا بطرح بعضهم على بعض في النار. وهذا الفعل للمعبودين من دون الله، أخبر الله تعالى أنهم يُطرحون في النار مع عابديهم، فقال: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قال ابن عباس: يريد: هم وما يعبدون من دون الله (¬5). وقال الكلبي: العابد والمعبود (¬6). وقال السدي: جمعوا فيها الآلهة والمشركون (¬7). وعلى هذا: {الْغَاوُونَ} هم عبدة الأصنام. وقال قوم: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} يعني الكفار {وَالْغَاوُونَ} كفرة الجن. وهو قول الكلبي (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 318، وما بين المعقوفين، زيادة نقلتها من الغريب ليستقيم بها الكلام، وهي غير موجودة في النسخ الثلاث. (¬2) قال تعالى {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]. (¬3) لم يظهر لي الارتباط بين هذا ومعنى: كبكبوا، فلعلها زيادة تتابع عليها النساخ؛ إذ لم أجدها في غريب ابن قتيبة، ولا غيره، والله أعلم. (¬4) "تنوير المقباس" 310. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2785، بلفظ: {الْغَاوُونَ} المشركون. (¬6) في "تنوير المقباس" 310: كفار الجن وآلهتهم. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2785. (¬8) "تنوير المقباس" 310. و"تفسير الثعلبى" 8/ 113 ب.

95

وقال قتادة، ومقاتل: يعني الشياطين (¬1). والقول هو الأول؛ لأن الشياطين ذكروا فيما بعد؛ وهو قوله: 95 - {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} يعني: ذرية إبليس كلهم (¬2). 96 - {قَالُوا} يعني: الكفرة والغاوون {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} مع الشياطين والمعبودين (¬3). 97، 98 - {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} والله ما كنا إلا في ضلال] (¬4) حيث سويناكم بالله فأعظمناكم، وعبدناكم، وعدلناكم به (¬5). 99 - {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} قال مقاتل: وما أضلنا عن الهدى إلا الشياطين (¬6). وهو قول ابن عباس. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 52 أ. وأخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 74، وابن أبي حاتم 8/ 2786، عن قتادة. وذكره عنهما الثعلبي 8/ 113 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 52 أ. و"تنوير المقباس" 310. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2786 عن السدي. وفي رواية أخرى عنه، قال: هم الشياطين. قال النحاس: "الذين دعوهم إلى عبادة الأصنام، وساعدوا إبليس على ما يريد فهم جنوده". "إعراب القرآن" 3/ 184. وهذا قول حسن. والله أعلم. (¬3) قال الهواري 3/ 231: "وخصومتهم تبرؤ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً". (¬4) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). واستدل ابن قتيبة بهذه الآية على أن: إن، الخفيفة تكون بمعنى: لقد. "تأويل مشكل القرآن" 552. (¬5) به، في نسخة (أ)، (ب). "معاني القرآن" للزجاج 4/ 94، وفيه: كما يعبد الله، بدل: وعدلناكم به. قال ابن القيم: ومعلوم أنهم ما سووهم به -سبحانه- في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب، والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب "الجواب الكافي" 197. (¬6) "تفسير مقاتل" 52 أ.

100

وقال الكلبي: إلا أوَّلونا الذين اقتدينا بهم (¬1). 100 - {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} من يشفع لنا من الملائكة والنبيين (¬2). قال ابن عباس: يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3) والمؤمنين، حين يشفعون للموحدين. 101 - {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} قال ابن عباس: ولا قريب من المؤمنين. وقال مقاتل: يعني: القريب الشفيق (¬4). وقال الكلبي {وَلَا صَدِيقٍ} ذي قرابة يهمه أمرنا (¬5). والحميم: القريب الذي توده ويودك (¬6). قال ابن عباس: إن المؤمن يشفع يوم القيامة للمؤمنين المذنبين (¬7). وروى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليقول في الجنة: رب (¬8) ما فعل صديقي فلان، وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} " (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 357، و"تنوير المقباس" 310. و"تفسير الثعلبي" 8/ 113 ب. قال ابن جرير 19/ 89: "يعني بالمجرمين: إبليس، وابن آدم الذي سن القتل". وأخرجه بسنده عن عكرمة. (¬2) "تفسير مقاتل" 52 أ. وجعل ابن جريج الشافعين من الملائكة فقط. أخرجه عنه ابن جرير 19/ 89. (¬3) في نسخة (أ)، (ب): قال الكلبي. والظاهر أنها زائدة. (¬4) "تفسير مقاتل" 52 أ. (¬5) "تنوير المقباس" 310. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 14 (حم)، بنصه. (¬7) "تفسير الوسيط" 3/ 357. (¬8) رب، في نسخة (أ)، (ج). (¬9) أخرجه بسنده الثعلبي 8/ 113 ب، من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثنا من سمع أبا الزبير يقول: أشهد لسمعت جابر بن عبد الله. وعن الثعلبي أخرج الواحدي، =

102

ومعنى (¬1) الحميم في اللغة: القريب، من قولهم: أَحَمَّ الأمر، وأَحَمَّ إذا قَرُب، ودنا (¬2). وقال المبرد: حَميم الرجل من يخصه، وهو مأخوذ من: الحَامَّة، يقال: دُعِي فلانٌ في الحامَّة، لا في العامَّة (¬3). ثم قالوا: 102 - {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي: رجعة إلى الدنيا (¬4) {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} اصدقين بالتوحيد (¬5). أي: حتى تحل لنا الشفاعة كما حلت للمؤمنين (¬6). 103 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني فيما أخبر من قصة إبراهيم {لَآيَةً} لعبرة لمن بعدهم. والباقي [103 - 104] مفسر فيما مضى من السورة إلى قوله: ¬

_ = في تفسيره "الوسيط" 3/ 357، وكذا البغوي 6/ 120، وفي حاشية "الوسيط": في سنده انقطاع بين الوليد بن مسلم وأبي الزبير. وفي حاشية البغوي: لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وغيرها، وساقه المصنف بإسناده من طريق الثعلبي، وفيه جهالة من سمع أبا الزبير. في "تفسير مقاتل": استكثروا من صداقة المؤمنين، فإن المؤمنين يشفعون يوم القيامة. (¬1) ومعنى. في نسخة (أ)، (ج). (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 14 (حمم)، من قول الكسائي. وكذا في "لسان العرب" 12/ 152، وفيه: ويروى بالجيم. (¬3) في "تهذيب اللغة" 4/ 14 (حمم): الحامَّة: خاصة الرجل من أهله وولده وذي قرابته. ولم ينسبه للمبرد. ولم أجده في فهارس "المقتضب"، ولا فهارس الكامل. قال في الكشاف 3/ 119: "والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك، أو من الحامة، بمعنى الخاصة، وهو: الصديق الخاص". (¬4) "تفسير مقاتل" 52 أ. و"تنوير المقباس" 310. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2787، عن ابن عباس. (¬5) "تفسير مقاتل" 52 أ. (¬6) أخرج نحوه ابن أبي حاتم 8/ 2787، عن ابن عباس.

105

105 - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} قال أبو إسحاق: دخلت التاء و: {قوم} مذكرون؛ لأن المعنى: كذبت جماعة قوم نوح (¬1). وقوله: {الْمُرْسَلِينَ} قال ابن عباس، ومقاتل، والمفسرون: يعني نوحًا وحده (¬2). وعلى هذا إنما جاز الجمع؛ لأن من كذب رسولاً واحدًا من رسل الله فقد كذب الجماعة، وخالفها؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل (¬3). وهذا معنى قول الحسن؛ لما سئل عن هذا وأمثاله فقال: إن الآخِر جاء بما جاء به الأول، فإذا كَذبوا واحدًا فقد كذبوهم أجمعين (¬4). وقال الكلبي {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا، وما أخبرهم من مجيء المرسلين بعده (¬5). قال الزجاج: وجائز أن يكونوا كذبوا جميع الرسل (¬6). 106 - {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} قال ابن عباس: ابن أبيهم، يعني: أن الأخوة كانت من جهة النسب، لا من جهة الدين. وهو قول جميع المفسرين: أخوهم في النسب. يعني: أنه منهم، وليس بأخيهم في الدين (¬7). قال الزجاج: كل رسول يأتي بلسان قومه، ليوضح لهم الحجة، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95. وقال النحاس: "على تأنيث الجماعة". "إعراب القرآن" 3/ 185. وهذا الوجه أحسن مما قاله البقاعي: "إثبات التاء، اختياراً للتأنيث، وإن كان تذكير القوم أشهر، للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال". "نظم الدرر" 14/ 61. (¬2) "تفسير مقاتل" 52 أ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95، بنصه. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 8/ 113 أ، والبغوي 6/ 120. (¬5) "تنوير المقباس" 310. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95. (¬7) "تفسير مقاتل" 52 أ. و"تنوير المقباس" 310. وتفسير هود الهواري 3/ 232.

07 1

ويكون أبين لهم (¬1)، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية، [إبراهيم: 4] وقوله: {أَلَا تَتَّقُونَ} مفسر (¬2) في هذه السورة. 107 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [قال ابن عباس: ائتمني الله على رسالته، وبعثني إليكم (¬3). وهو قول مقاتل:] (¬4) أمين على الرسالة فيما ينكم وبين ربكم (¬5). وقال الكلبي: كان فيهم أمينًا قبل ذلك (¬6). 108 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بطاعته وعبادته {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد. 109 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} قال مقاتل: وذلك أنهم قالوا للأنبياء: إنكم تريدون أن تتملكوا علينا في أموالنا! فردت عليهم الأنبياء فقالوا: وما نسألكم عليه من أجرة يعني: على الإيمان جُعلا. {إِنْ أَجْرِيَ} ما جزائي وثوابي {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬7). 111 - وقوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} قال مقاتل: أنصدق بقولك (¬8) {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} الواو هاهنا للحال، ومعها: قد، مضمرة؛ لأن واو الحال قَلَّ ما تصحب الأفعال، ولهذا قرأ من قرأ: (وأتْباعُك) قال الفراء: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95. (¬2) في نسخة (أ): تفسر. وفي نسخة (ب): تفسر في هذه الآية السورة. (¬3) "تنوير المقباس" 310، بمعناه. (¬4) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬5) "تفسير مقاتل" 52 أ. (¬6) "تنوير المقباس" 310. (¬7) "تفسير مقاتل" 52 أ. (¬8) "تفسير مقاتل" 52 أ.

وهو وجه حسن (¬1). وقال الزجاج: هي في العربية جيدة؛ لأن واو الحال تصحب الأسماء أكثر في العربية؛ لأنك تقول: جئتك وأصحابك الزيدون، ويجوز: وصحبك، والأكثر: جئتك وقد صحبك الزيدون (¬2). ومعنى {الْأَرْذَلُونَ} هو كمعنى الأراذل وقد مر (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد المساكين بأنهم شرار الناس ليس لهم مال ولا عز (¬4). وقال مقاتل، والكلبي: يعنون السفلة (¬5). وكان آمن شرح بنوه، ونساؤه، وأُناس من ضعفاء قومه (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 281، ولفظه: "وذكر أن بعض القراء قرأ: وأتباعك الأرذلون. ولكني لم أجده عن القراء المعروفين، وهو وجه حسن". وهي قراءة يعقوب الحضرمي (وأتْباعُك) بقطع الهمزة، وإسكان التاء مخففة، وضم العين وألف قبلها على الجمع. المبسوط في القراءات العشر 275، و"الشر في القراءات العشر" 2/ 335. ونسب ابن جني هذه القراءة لابن مسعود والضحاك وطلحة وابن السميفع ويعقوب وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري. المحتسب 2/ 131. قال الأزهري: " (وأتباعك) جمع تابع، كما يقال: صاحب، وأصحاب، وشاهد وأشهاد، ومعناه: وأشياعك الأرذلون". معاني القراءات 227. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95. (¬3) في قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود 27]. (¬4) "تفسير الوسيط" 357/ 3، من قول عطاء. و"زاد المسير" 6/ 134. (¬5) "تفسير مقاتل" 52 أ. و"تنوير المقباس" 310. وأخرج ابن أبي حاتم 8/ 2788، عن قتادة. (¬6) ومراده ببنيه: الأكثر؛ لقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].

112

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: الحاكة (¬1). وهو قول عكرمة، وزاد: الأساكفة (¬2). قال أبو إسحاق: والصناعات لا تضر في باب الديانات (¬3). وروي عن ابن عباس، في تفسير الأرذلين: الغلفة (¬4). والصحيح: أنهم أرادوا بالأرذلين الذين مكاسبهم دنية؛ لقوله: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. لما نسبوا أتباع نوح إلى دناءة المكاسب، أجابهم نوح بأن قال: 112 - {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: ما كنت أعلم أعمالهم، وصنائعهم، ولم (¬5) أُكلف ذلك إنما كلفت أن أدعوهم (¬6). وقال مقاتل: يقول: لم أكن أعلم أن الله يهديهم للإيمان من بينكم ويدعكم (¬7). وهذا القول غير الأول، ومعناه: أن نوحًا قال لهم: لا أدري ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 114 أ. و"زاد المسير" 6/ 134. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2788، عن مجاهد. والمراد بهم: ناسجو الثياب؛ مأخوذ من الحَوك، وهو: النسج. "تهذيب اللغة" 5/ 128 (حاك). (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 114 أ. وذكر الواحدي في "الوسيط" 3/ 357، أن الضحاك، وعكرمة، قالا: يعنون الحاكة، والأساكفة. الإسكافي: الصانع، وقيل: كل صانع غيرِ من يعمل الخفاف. "تهذيب اللغة" 10/ 77 (سكف). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95. وذكره في "الوسيط" 3/ 357. ونفله عن الزجاج الأزهري 14/ 419. (¬4) هكذا كتبت في النسخ الثلاث: الغلفة، ومعناهاهنا غير مناسب؛ ولعل الصواب: الغفلة: جمع غافل وهو من لا فطنة له. "تهذيب اللغة" 8/ 136 (غفل). (¬5) في نسخة (ب): ولا. (¬6) "تفسير الوسيط" 3/ 357، ولم ينسبه. (¬7) "تفسير مقاتل" 52 أ.

113

إيش عملوا حتى استحقوا الهداية من بينكم دونكم، كأنه يقول: لا يضرهم دناءة مكاسبهم إذ هداهم الله. والقول هو الأول؛ لقوله: 113 - {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} أي: ما حسابهم فيما يعملون من صنائعهم {إِلَّا عَلَى رَبِّي} وليس عليَّ من حسابهم شيء {لَوْ تَشْعُرُونَ} لو تعلمون ذلك (¬1). وجواب {لَوْ} محذوف على معنى: {لَوْ تَشْعُرُونَ} أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم. ونظير قوله: إن حسابهم إلا على ربهم، قوله في سورة: هود في قصة نوح: {أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [هود: 29]. 114 - وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} قال مقاتل: يعني وما أنا بالذي لا أقبل الإيمان من الذين تزعمون أنهم الأرذلون عندكم (¬2). قال الكلبي (¬3) قال الأشراف لنوح: اطردهم يا نوح ونؤمن لك! فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}. 115 - {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِين} قال ابن عباس: أنذركم النار، وأبين لكم ما يقربكم من الله. قال مقاتل: ما أنا إلا رسول بين (¬4). 116 - {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} [عما تقول وتسكت] (¬5) {لَتَكُونَنَّ مِنَ ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 311. واستدل ابن قتيبة بهذه الآية على أن الحساب يكون بمعنى: الجزاء. "تأويل مشكل القرآن" 513. (¬2) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬3) قال الكلبي، في نسخة (ج). (¬4) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬5) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

117، 118

الْمَرْجُومِينَ} قال ابن عباس، ومقاتل، والكلبي: من المقتولين (¬1). وقال الضحاك: من المشتومين (¬2). وقال قتادة: المضروبين بالحجارة (¬3). وذكرنا معاني الرجم فيما تقدم (¬4). 117، 118 - {قَالَ} نوح {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} قال ابن عباس، والمفسرون: فاقض بيني وبينهم قضاء (¬5). قال مقاتل: يعني بالعذاب (¬6). {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من ذلك العذاب (¬7). 119 - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} مضى الكلام في تفسير الفلك، عند قوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]. قال أبو إسحاق في هذه السورة: {الْفُلْك} السفن، واحدها: فَلَك، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 52 ب. و"تنوير المقباس" 311. و"تفسير الثعلبي" 8/ 114 أ. ونسبه الماوردي 4/ 179، لمحمد بن الحسن. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 114 أ، و"تفسير الوسيط" 3/ 358. و"تفسير البغوي" 6/ 121. ونسبه الماوردي 4/ 179، للسدي. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 114 أ. و"تفسير الماوردي" 4/ 179. (¬4) في سورة هود 91. (¬5) "تنوير المقباس" 311. وأخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 74، عن قتادة. وأخرجه عنه كذلك ابن جرير 19/ 90، وأخرجه أيضًا عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2790، عن قتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد. وفي "مجاز القرآن" 2/ 87: "أي: احكم بيني وبينهم حُكماً". و"تفسير هود الهواري" 3/ 233، وفيه: وإذا قضى الله بين النبي وقومه هلكوا. قال ابن قتيبة: "ومنه قيل للقاضي: الفتاح". "غريب القرآن" 318. (¬6) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬7) "تنوير المقباس" 311.

وجمعها: فُلْك، وزعم سيبويه أنها بمنزلة أَسَد، وأُسْد، قياس فَعْل، ألا ترى أنك تقول: قُفْل وأقفال، وجَمَل وأجمال، وكذلك: أَسَد وأُسْد وآسَاد، وفَلَك، وأفلاك وفُلْك في الجمع (¬1). قال أبو علي الفارسي، فيما أصلح عليه: لم نعلم أحدًا قال في واحد الفُلْك: فَلَك، ولكن الواحد: فُلْك، وكُسِّر على فُلْك (¬2)، وقول سيبويه: إنه بمنزلة أَسَد وأُسْد، يريد: فُعَلا كسر على فُعْل، كما كسر فَعْل عليها (¬3)، واجتمعا في التكسير على فعل كما اجتمعا في التكسير على أفعال؛ لأنهما يتعاقبان كثيرًا على الشيء الواحد، نحو: البُخل والبخال (¬4)، والبَخل، والسُقم والسَقم، والعُجم والعَجم، والعُرب والعَرب، فلما كانا على هذا جاز اجتماعهما على هذا التكسير. ونظير هذا في أن لفظ التكسير جاء على لفظ الواحد قبل أن يُكَسَّر، قولهم: ناقة هَجَّانٌّ، وإبل هَجَّانٌ (¬5)، ودِرعٌ دِلاص، وأدرعٌ دِلاص، وهجان في الجمع (¬6)، على حد ظِرافٍ، وشِرَاقٍ، وليس على حد سنان ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 95. وتبعه النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 186، فقال: "زعم سيبويه". (¬2) قال أبو عبيدة 2/ 88: "والفلك يقع لفظه على الواحد، والجميع من السفن سواء". (¬3) في كتاب أبي علي: عليه، بدل: عليها. (¬4) البخال، غير موجودة في كتاب أبي علي. (¬5) في نسخة (أ)، الأولى هيجان، بالياء، والباقي بدونها كما في نسخة: ب، في المواضع الثلاثة. وفي نسخة (ج): بالياء، في الموضع الأول والثاني .. وفي كتاب أبي علي، بدون الياء في المواضع كلها. (¬6) هكذا في نسخة (ب)، وفي نسخة (أ)، (ج): الجميع. وفي كتاب أبي علي: "وإنما دلاص، وهجان، في الجمع".

وضناك (¬1). وأما {الْمَشْحُون} فقال الليث: الشحن مَلوُك السفينةَ وإتمامُك جَهازَها كلَّه (¬2). قال ابن عباس: يريد بالمشحون الذي قد شحن وملئ (¬3). وقال مجاهد: المشحون: المملوء (¬4). وقال قتادة: المُحَمَّل (¬5). وقال مقاتل: المُوقِر من الناس، والطير، والحيوان، كلها من كل صنف ذكر وأنثى (¬6). والفلك هاهنا واحد لا جمع، ¬

_ (¬1) هاتان الكلمتان غير واضحتين في كتاب أبي علي. الإغفال فيما أغفله الزجاج 2/ 220 أ. وقد ذكر هذه المسألة المبرد، في "المقتضب" 2/ 205. وفي الحاشية: درع دلاص: لينة براقة، والهجان: الإبل البيضاء. قال أبو حيان 7/ 31:"الفلك، واحد وجمع، غالب استعماله جمعاً". ويبين معنى: ظراف وشراق، وسنان وضناك. (¬2) "تهذيب اللغة" 4/ 184 (شحن)، بنصه، وفي كتاب "العين" 3/ 95: شحنت السفينة: ملأتها فهي مشحونة. وجَهازها بالفتح، وجِهاز بالكسر لغة ليست جيدة. "تهذيب اللغة" 6/ 36 (جهز). (¬3) أخرج ابن جرير 19/ 92، بسنده، من طريقين عن ابن عباس " {الْمَشْحُونِ} قال: يعني: المُوقَر". وأخرجه كذلك ابن أبي حاتم 8/ 2891. ولفظه عند الثعلبي 8/ 114 أ "الموقر، والمجهز". وفي سؤالات نافع بن الأزرق لابن عباس "السفينة الموقرة الممتلئة". "غريب القرآن في شعر العرب" 95، والإتقان 125. يراجع الإتقان. وأخرجه الطستي عن ابن عباس، "الدر المنثور" 6/ 311. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 463. ولفظه عند ابن جرير 19/ 92: "المفروغ منه المملوء". وهو كذلك عند ابن أبي حاتم 8/ 2792. وذكره أبو عبيدة 2/ 88، ولم ينسبه. واقتصر عليه ابن قتيبة، في "غريب القرآن" 318. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 74. وعنه ابن جرير 19/ 92. (¬6) "تفسير مقاتل" 52 ب. الوقِر: الثِقل يُحمل على ظهرٍ أو رأس. يقال: جاء يحمل وِقْره. ويقال: هذه نخلة موقِرة وموقَرة وموقر. "تهذيب اللغة" 9/ 280 (وقر).

120

لذلك قال: {الْمَشْحُونِ} وعلى ما قال الزجاج: الفُلْك جمع؛ وهو خطأ له هاهنا (¬1)؛ لأن سفينة نوح كانت واحدة (¬2). 120 - وقوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} قال مقاتل: بعد أهل السفينة (¬3). وقال غيره: بعد نجاة نوح ومن معه {الْبَاقِينَ} من بقي منهم ولم يركب السفينة (¬4). 121 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في هلاك قوم نوح بالغرق (¬5) {لَآيَةً} لعبرة لمن بعدهم (¬6) {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أكثر قوم نوح {مُؤْمِنِينَ} مصدقين بتوحيد الله، ولو كان أكثرهم مؤمنين لم يعذبوا في الدنيا (¬7). 122 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه منهم بالغرق (¬8) {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين إذ أنجاهم من الغرق (¬9). وفي ذكر (¬10) تكذيب الأمم الخالية وتعذيب الله إياهم تخويف لكفار مكة (¬11). ¬

_ (¬1) في نسخة (ج): وهو خطأ لا وجه له. (¬2) وفي وصف الفلك بأنه مشحون إظهار لعظيم النعمة؛ لأن سلامة المملوء جداً أغرب. "نظم الدرر" 14/ 67. (¬3) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 52 ب، وفيه زيادة:"من هذه الأمة ليحذروا مثل عقوبتهم". (¬7) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬8) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬9) "تفسير مقاتل" 52 ب. و"تنوير المقباس" 311. (¬10) ذكر، في نسخة (ج). (¬11) مختصر مما ذكره مقاتل 52 ب.

123

123 - وقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة. ومضى الكلام في معنى جمع المرسلين في قصة نوح. والباقي [124 - 127] مفسر فيما سبق إلى قوله: 128 - {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} قال ابن السكيت: الرِّيع: المكان المرتفع، وذَكَرَ الآية. قال: وقال عُمارة: الرِّيع: الجبل (¬1). وقال أبو عبيدة: الريع: الارتفاع، جمع: رِيعة (¬2). ونحو هذا قال المبرد، وابن قتيبة، وأنشدوا (¬3) لذي الرمة فقال: طِرَاقُ الخوافي واقعٌ فوقَ رِيعةٍ ... ندى لَيله في ريشه يترقرقُ (¬4) وقال الكسائي، والفراء: رِيع ورَيع بالكسر والفتح، لغتان؛ الواحدة: رِيعة ورَيعة، مثل: الرِّير والرَّيْر، وهو المكان المرتفع (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 179 (راع). (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 88، وفيه: والجميع أرياع، وريعة. (¬3) في نسخة (ب): وأنشدوا قول ذي الرمة فقال. (¬4) أنشده أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 88، وفيه: مشرف، بدل: واقع. وهو كذلك عند ابن جرير 19/ 92، ونسباه لذي الرمة. وأنشده ابن قتيبة، "غريب القرآن" 318، ونسبه لذي الرمة، وفيه: مشرفاً، بدل: واقع. يصف ذي الرمة نظره كنظر البازي -نوع من الطيور- ومعنى: طراق: بعضه على بعض، والخوافي: ما دون القوادم من جناح الطائر، والرَّيعة: المكان المرتفع، ويترقق: يجيء ويذهب. "ديوان ذي الرمة" 175. (¬5) "معاني القرآن" للفراء2/ 281، ولفظه: "رِيع ورَيع، لغتان مثل: الريرِ، والرار، وهو: المخ الرديء". الرار، هكذا وردت. وما نقله عنه الأزهري، في "التهذيب" 3/ 180، موافق لما عند الواحدي. ولم ينسب الأزهري هذا القول للكسائي.

وقال الزجاج: هي في اللغة: الموضع من الأرض المرتفع. ومن ذلك: كم رَيْعُ أرضك؟ أي: كم ارتفاع أرضك (¬1). وقال ابن الأعرابي: الريع: مسيل الوادي من كل مكان مشرف، وجمعه: أرياع وريوع (¬2). قال ابن قتيبة: والريع، أيضًا: الطريق (¬3)، وأنشد للمسَيَّب بن عَلَس (¬4)، وذكر ظُعُنًا، فقال: في الآلِ يخفضها ويرفعها ... رِيعٌ يلوحُ كأنه سَحْل (¬5) شبه الطريق بالثوب الأبيض (¬6). هذا كلام أهل اللغة في تفسير الرِّيع. وأما أهل التفسير فقال الوالبي عن ابن عباس: يعني: بكل شرف (¬7). وقال قتادة: بكل طريق (¬8). وهو لفظ مقاتل، والكلبي، والضحاك، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 96. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 180 (راع). (¬3) نسبه الماوردي 4/ 180، للسدي. (¬4) راجع ترجمته في "جمهرة أشعار العرب" 111، و"الخزانة" 3/ 240، والأعلام 7/ 225. (¬5) أنشده ابن قتيبة، "غريب القرآن" 318، وأنشده الماوردي 4/ 180، ثم قال: "السحل: الثوب الأبيض، شبه الطريق به". وأنشده الزمخشري 3/ 316، منسوبًا للمسيب. وهو كذلك في "لسان العرب" 11/ 328 (سحل). والألَلةُ: الهودج الصغير. "لسان العرب" 11/ 27 (ألل). (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 318. (¬7) أخرجه ابن جرير 19/ 94، وابن أبي حاتم 9/ 2793. من طريق علي بن أبي طلحة. وأخرجه ابن جرير أيضًا عن مجاهد. واقتصر عليه في الوجيز 2/ 793، ولم ينسبه. (¬8) أخرجه بسنده، عبد الرزاق 2/ 74، وابن جرير 19/ 94. وابن أبي حاتم 9/ 2793.

وابن عباس، في رواية عطية (¬1)، وقال في رواية عطاء: بكل موضع. وهؤلاء الذين فسروا الريع بالطريق، والموضع، أرادوا الطريق والموضع المرتفع. وروى ابن أبي نجيح، وابن جريج، عن مجاهد: {بِكُلِّ رِيعٍ} قال: بكل فَجٍّ (¬2). قال الزجاج: والفج: الطريق المنفرج في الجبل (¬3). وقال عكرمة: بكل واد (¬4). وهذا موافق لقول ابن الأعرابي (¬5). قوله: {آيَةً} قال مقاتل، والكلبي: عَلمًا (¬6). وعن ابن عباس: بنيانًا علمًا (¬7). {تَعْبَثُونَ} قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: تبنون ما لا تسكنون (¬8). فعلى هذا أنكر هودٌ عليهم بناءهم ما يستغنون عنه، ولا يسكنونه، وجعل ¬

_ (¬1) نسبه لهؤلاء الثعلبي 8/ 114 ب. وأخرجه ابن جرير 19/ 94، عن ابن عباس، والضحاك. وهو في "تفسير مقاتل" 52 ب. و"تنوير المقباس" 311. وذكر الماوردي 4/ 180، عن الكلبي، أنه فسر الريع بالسوق. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 463، من طريق ابن أبي نجيح. وهو كذلك عند ابن أبي حاتم 9/ 2793. وأخرجه ابن جرير 19/ 94، عنه من طريق ابن جريج، وابن أبي نجيح. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 96. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 114 ب. (¬5) الذي سبق ذكره، ولفطه: مسيل الوادي .. (¬6) "تفسير مقاتل" 52 ب. و"تنوير المقباس" 311، ولفظه: بكل طريق علامة. و"تفسير هود الهواري" 3/ 234، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 19/ 94، عن ابن عباس. (¬7) اقتصر عليه في "تفسير الوسيط" 3/ 358، ولم ينسبه. أخرج ابن جرير 19/ 95، وابن أبي حاتم 9/ 2794، عن مجاهد: {ءَايَةٍ} بنيان. (¬8) "تفسير الوسيط" 3/ 358. وزاد المسير 6/ 134. وذكره السمرقندي، في "تفسيره" 2/ 479، وصدَّره بقوله: وروي عن ابن عباس.

129

ذلك منهم عبثًا. وقال الكلبي: {تَعْبَثُونَ} بمن يمر بالطريق (¬1). وعلى هذا معنى الآية: تبنون بالمواضع المرتفعة كي تشرفوا على المارة والسائلة، فتسخروا منهم وتعبثوا بهم. وقال مقاتل: بل (¬2) كانوا إذا سافروا لا يهتدون إلا بالنجوم، فبنوا القصور الطوال على الطرق عبثًا (¬3). وروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد أنهما قالا: هذا (¬4) في بنيان الحَمَام (¬5). وعلى هذا أنكر عليهم اتخاذهم بروجًا للحَمَام عبثًا. وهذه أوجه أربعة في معنى العبث المذكور هاهنا. وذكر بعض أهل المعاني وجهًا له؛ فقال: كانوا يبنون بالمكان المرتفع البناء العالي ليدلوا بذلك على زيادة قوتهم، وذلك عبث. 129 - قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال الليث: المصنعة شبه صهريج عميق يُتخذ للماء، والجمع (¬6) المصانع، والمصانع التي يتخذها الناس من الأبنية والآبار. ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 311، مختصرًا. (¬2) بل، في نسخة (أ)، (ب). (¬3) "تفسير مقاتل" 52 ب. (¬4) هذا، في نسخة (ج). (¬5) واقتصر على هذا القول في "الوجيز" 2/ 793. وأخرج هذا القول عن مجاهد، ابن جرير 19/ 95، وابن أبي حاتم 9/ 2794. وذكره الماوردي 4/ 181، عن السدي. وذكره عنهما البغوي 6/ 122. وابن الجوزي، في زاد المسير 6/ 13. (¬6) في نسخة (أ)، الجميع. وفي كتاب "العين" 1/ 305 (صنع): وتجمع المصانع.

قال لبيد: وما تَبْلى النجومُ الطوالعُ ... وتبلى الديارُ بعدنا والمصانعُ (¬1) وقال أبو عبيدة: كل بناء مَصْنَعة (¬2). قال الأزهري: وقال بعضهم: هي أحباس تُتَّخذ للماء، كالزلَف، واحدها: مَصْنَعة، ومَصْنَع يحتفرها الناس فيملؤها ماءُ السماء فيشربونها. ويقال للقصور أيضًا: مصانع (¬3). قال ابن عباس: هي الأبنية (¬4). وقال مجاهد: قصورًا مشيدة، وبنيانًا مخلدًا (¬5). وقال الكلبي: مصانع: منازل (¬6). وقال مقاتل: يعني القصور (¬7). وذكر قتادة القولين؛ أحدهما: القصور، والحصون. والثاني: مآخذ ¬

_ (¬1) كتاب "العين" 1/ 305 (صنع)، ولم أجد قول الليث في "تهذيب اللغة" 2/ 37 (صنع)، وأما البيت فقد ذكره الأزهري منسوبًا للبيد. وهو مطلع قصيدة يرثي بها أخاه: أربد، وهي في الديوان 88، بلفظ: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 88. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 37 (صنع). (¬4) قال ابن قتيبة: "المصانع: الباء، واحدها مصنعة". "غريب القرآن" 319. (¬5) "تفسير مجاهد" 2/ 463. وأخرجه ابن جرير 19/ 95، وابن أبي حاتم 9/ 2794. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 75، بلفظ: قصور، وحصون. (¬6) "تنوير المقباس" 311. وذكر الهواري 3/ 234، عن الكلبي، أن المراد: القصور. وذكر البغوي 6/ 123، عنه: الحصون. (¬7) "تفسير مقاتل" 53 أ، وفيه: "يعني: القصور ليُذكروا بها، هذا منزل بني فلان، وبني فلان". واقتصر في الوجيز 2/ 793، على أن المراد بالمصانع: المباني والقصور.

للماء (¬1). وقال سفيان: المصانع التي يكون فيها الماء (¬2). وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال ابن عباس: يريد كي تخلدوا (¬3). وهي اختيار الفراء والزجاج، وابن قتيبة؛ [قال الفراء: كيما يخلدوا (¬4). وقال الزجاج: ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي: كي تخلدون، أي: وتتخذون مباني للخلود (¬5). وقال ابن قتيبة] (¬6): وكأنهم كانوا يستوثقون من البناء، والحصون، ويذهبون إلى أنها تحصنهم من قدر الله (¬7). وقال ابن عباس وقتادة ومقاتل: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} كأنكم تخلدون (¬8) ¬

_ (¬1) أخرج القول الثاني، عبد الرزاق 2/ 74. وابن جرير 19/ 95، وابن أبي حاتم 9/ 2794. (¬2) قال ابن جرير 19/ 95: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن المصانع جمع مصنعَةٍ، والعرب تسمي كل بناءٍ مصنعةً، وجائز أن يكون ذلك البناء كان قصوراً، وحصوناً مشيدة، وجائز أن يكون كان مآخذ للماء، ولا خبر يقطع العذر بأي ذلك كان، ولا هو مما يدرك من جهة العقل، فالصواب أن يقال فيه ما قال الله: إنهم كانوا يتخذون مصانع". (¬3) ذكره عنه الثعلبي 8/ 114 ب. وابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 136. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 281. وذكره ابن جرير 19/ 96، بقوله: "وكان بعض أهل العربية يزعم أن لعلكم في هذا الموضع بمعنى: كيما". ولم يسمه، ولم يعلق عليه. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 96، وفيه: ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي: لأن تخلدوا. (¬6) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (أ)، (ب). (¬7) "غريب القرآن" لابن قتيبة 319. (¬8) كأنكم تخلدون، في نسخة (ج). ذكر البخاري، عن ابن عباس: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} كأنكم. الفتح 8/ 496. وهو كذلك في "تنوير المقباس" 311. ووصله ابن جرير=

130

في الدنيا لا تموتون (¬1). وهو قول الكلبي، وأكثر المفسرين؛ قالوا: يقول: كأنهم يخلدون (¬2). و (لعل)، تأتي في الكلام بمعنى كأن؛ قال يونس في قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] معناه: كأنك فاعلٌ ذلك إن لم يؤمنوا (¬3). والمعنى على هذا: أنهم كانوا قد جاوزوا في اتخاذ المصانع إلى الإسراف كأنهم يخلدون فيها فلا يموتون. قال ابن الأنباري: وتكون: (لعل) بمعنى الاستفهام؛ كقولك: لعلك تشتمني، معناه: هل تشتمني (¬4). وهذا مذهب ابن زيد في هذه الآية؛ قال: (لعل) (¬5) استفهام يعني: فهل تخلدون حين تبنون هذه الأبنية (¬6). ويجوز أن يكون معنى (لعل) هاهنا: الترجي للخلود، وكأنهم كانوا يرجون خلودهم في الدنيا لطول أعمارهم فاتخذوا الأبنية الشديدة (¬7). 130 - قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} قال المفسرون: بطشتم بالسيف، والسوط (¬8). ¬

_ = 19/ 96، وابن أبي حاتم 9/ 2795، من طريق علي بن أبي طلبة. وأخرجه ابن جرير، عن قتادة أيضًا. (¬1) "تفسير مقاتل" 53 أ. (¬2) "تنوير المقباس" 311. (¬3) ذكره عن يونس، الأزهري، "تهذيب اللغة" 1/ 106 (لعل). (¬4) ذكره عن ابن الأنباري، الأزهري، "تهذيب اللغة" 1/ 106 (لعل). (¬5) في نسخة (أ): لعلك. (¬6) أخرجه ابن جرير 19/ 96، وابن أبي حاتم 9/ 2795. وذكره الثعلبي 8/ 114 ب. (¬7) كون لعل للترجي ذكره الأزهري عن ابن الأنباري؛ بلفظ: "لعل يكون ترجياً، ويكون بمعنى: كي". "تهذيب اللغة" 1/ 106 (لعل). (¬8) "تفسير ابن جرير" 19/ 96. قال الكلبي: تقتلون على الغضب، وقال غيره: =

132

قال ابن عباس: يريد الضرب بالسياط، والقتل بالسيف بغير حق (¬1). وقال مقاتل: يقولون: إذا أخذتم قتلتم بغير حق (¬2). وقال ابن مسلم، يقول: إذا ضربتم ضربتم بالسياط، ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم (¬3). قال أبو إسحاق: وإنما أنكر ذلك عليهم لأنه ظلم فأما في الحق فالبطش بالسوط (¬4) والسيف جائز (¬5). ومعنى الجبار هاهنا: القَتَّال بغير حق. وهو قول المفسرين (¬6). 132 - قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي: أعطاكم ما تعلمون من الخير (¬7). قال مقاتل: ثم أخبر بالذي أعطاهم فقال (¬8): 133 - 135 - {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} إلي قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم} قال ابن ¬

_ = {بَطَشْتُمْ جَبَّارِين} بالسوط. "معاني القرآن" للفراء 2/ 281، ولم يسم أحداً. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2795، عن مجاهد، قال: ضرب السياط. ونحوه عند السمرقندي 2/ 479، ولم ينسبه. قال الزجاج 4/ 96: "جاء في التفسير أن بطشهم كان بالسوط، والسيف". (¬1) أخرج ابن جرير 19/ 96، عن ابن جريج: "قال: القتل بالسيف والسياط". (¬2) "تفسير مقاتل" 53 أ. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 319. (¬4) في نسخة (ج): بالموت. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 96. و"زاد المسير" 6/ 136. (¬6) "تنوير المقباس" 311. وفي "تفسير مقاتل" 53 أ: "الجبار من يقتل بغير حق". وذكره السمرقندي 2/ 479، ولم ينسبه. وقسم ابن الأنباري الجبار إلى ستة أقسام، هذا أحدها. الزاهر في معاني كلمات الناس 1/ 81. (¬7) "تفسير مقاتل" 53 أ. (¬8) "تفسير مقاتل" 53 أ.

136

عباس: يريد إن عصيتموني {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} يريد الذي أهلكوا به (¬1). ونحو هذا قال مقاتل: يعني في الدنيا (¬2). وقال الكلبي: يعني عذاب النار (¬3). 136 - {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} قال مقاتل: وعظت بالعذاب أم تركت (¬4). وقال الكلبي: نهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا (¬5). 137، 138 - وقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} قال ابن عباس، في رواية عطاء: ما هذا الذي نحن عليه إلا دين الأولين (¬6). وهذا قول السدي: قال دين الأولين. وذكرنا الخَلْق بمعنى الدين عند قوله: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} [النساء: 119] (¬7). وفيه قول آخر؛ قال مقاتل: ما هذا العذاب الذي تقول يا هود إلا كذب الأولين (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 359. (¬2) "تفسير مقاتل" 53 أ. وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب. نظم الدرر 14/ 71. (¬3) "تنوير المقباس" 311. وفي نسخة (ب): قال مقاتل الكلبي، وهو خطأ. (¬4) "تفسير مقاتل" 53 أ. (¬5) "تفسير الوسيط" 3/ 359. و"تنوير المقباس" 311. و"تفسير البغوي" 6/ 123. (¬6) أخرجه ابن جرير 19/ 97، وابن أبي حاتم 9/ 2797، من طريق علي بن أبي طلحة. (¬7) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: "قال ابن عباس: يريد دين الله. وهو قول إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك وقتادة والسدي وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، ومعنى تغيير دين الله على ما ذكره أهل العلم هو أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم، وآمنوا، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها .. ". (¬8) "تفسير مقاتل" 53 أ، وفيه: أحاديث بدل: كذب.

وهو قول ابن مسعود: قال: شيء اختلقوه (¬1). وقال مجاهد: كذبهم (¬2). فالخَلْق على هذا معناه: الاختلاق والكذب (¬3)، كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7]، وقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] أي: تختلقونه (¬4). وفيه قول آخر وهو قول قتادة؛ قال: يقولون هكذا خِلْقَةُ الأولين، وهكذا يحيون، ويموتون (¬5). قال الزجاج على هذا القول أي: خُلِقنا كما خُلِق مَنْ قبلنا نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا نبعث (¬6). وقال أبو علي: فخَلْق على هذا مصدر، إن شئت قدرته تقدير الفعل المبني للمفعول، أي: خُلِقنا كما خلقوا. قال: ويجوز أن يكون المصدر مضافًا إلى المفعول به، ولا يقدَّر تقدير (¬7) الفعل المبني للمفعول (¬8). ¬

_ (¬1) في نسخة (ب): زيادة: فيه، بعد: اختلقوه. وأخرجه ابن جرير 19/ 98 إلى نهاية الآية: بلفظ: شيء اختلقوه وأخرج ابن جرير، أيضًا 19/ 97، عن ابن عباس: "أساطير الأولين". وفي "تنوير المقباس" 311: "اختلاق الأولين". (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 464. وأخرجه ابن جرير 19/ 97، وابن أبي حاتم 9/ 2797. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 281، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 97. واستدل ابن قتيبة بهذه الآية على أن الخلق يراد به: التخرص. "تأويل مشكل القرآن" 506. وقال في: "غريب القرآن" 319: "أراد: اختلاقهم وكذبهم". وكذا أبو القاسم الزجاجي، "اشتقاق أسماء الله" 286. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 365، بنصه. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 75. وعنه ابن جرير 19/ 97، وابن أبي حاتم 9/ 2797. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 97. (¬7) تقدير هكذا مكررة، في النسخ الثلاث. (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 365.

146

وقرئ {خُلُقُ الْأَوَّلِين} بضم الخاء واللام (¬1). قال الفراء، والزجاج، وابن قتيبة، وأبو علي: عادة الأولين (¬2). وله تأويلان؛ أحدهما: أنهم قالوا: ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين مِنْ قبلنا يعيشون ما عاشوا ثم (¬3) يموتون ولا بعث ولا حساب (¬4). والثاني: ما هذا الذي أنكرتَ علينا من الشأن والبطش إلا عادة مَنْ قبلنا فنحن على ما كانوا عليه نقتدي بهم. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نفعل. قال ابن عباس: يريدون أنهم أمنوا مكر الله، فكذبوه بالعذاب في الدنيا (¬5). {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بالريح (¬6). 146 - قوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} قال مقاتل: يعني فيما أعطاهم الله من الخير {آمِنِين} من الموت (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ بضم الخاء واللام: نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: (خَلْق) بفتح الخاء، وتسكين اللام. "السبعة في القراءات" 472، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 136، والمبسوط في القراءات العشر 275، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 365، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 335. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 281. و"غريب القرآن" لابن قتيبه 319. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 97. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 365. (¬3) في نسخة (ب): ويموتون. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 365، بمعناه. (¬5) "تفسير مقاتل" 53 أبلفظ: "فكذبوه بالعذاب في الدنيا". وهو كذلك في جميع النسخ. (¬6) "تفسير مقاتل" 53 أ. و"تنوير المقباس" 311. (¬7) "تفسير مقاتل" 53 أ. قال ابن جرير 19/ 99: "آمنين لا تخافون شيئاً". وفي "تفسير الوسيط" 3/ 360، والوجيز 2/ 794: "آمنين من الموت والعذاب".

147، 148

وقال الكلبي: آمنين من أن يعذبوا (¬1). قال مقاتل: ثم أخبر عن الخير فقال (¬2): 147، 148 - {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} طلعها: ما يطلع منها يعني: ثمرها (¬3). وأما الهضيم فروى سلمة عن الفراء قال: هضيم ما دام في كوافيره (¬4). قال: والهضيم: اللين (¬5)، والهضيم: اللطيف (¬6)، والهضيم: النضيج (¬7). وقال أبو العباس في قوله: {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: منهضم مدرِك. قال: وقال ابن الأعرابي: هضيم مريء، وهضيم ناعم (¬8). وقال الزجاج: الهضيم الداخل بعضه في بعض، وهو فيما قيل إن رُطَبَه بغير نوى، وقيل: هو الذي يتهشم تهشمًا (¬9). وقال الليث: هضيم مهضوم في جَوْف الجُفِّ، مُنهضمٌ فيه (¬10). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 312، بمعناه. (¬2) "تفسير مقاتل" 53 أ. (¬3) "تنوير المقباس" 312. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 282 الكافور: وعاء الطلع. "تهذيب اللغة" 10/ 202 (كفر). (¬5) نسبه الماوردي 4/ 182، لعكرمة. (¬6) نسبه الماوردي 4/ 183، للكلبي. (¬7) نسبه الماوردي 4/ 183، لابن عباس. (¬8) "تهذيب اللغة" 6/ 105 (هضم). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 96. قال أبو عبيدة: " {هَضِيمٌ} أي: قد ضم بعضه بعضاً". "مجاز القرآن" 2/ 88. (¬10) كتاب "العين" 3/ 410 (هضم) ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 6/ 105. والجف: الوعاء الذي تكون فيه ثمرة النخل. "تهذيب اللغة" 10/ 506 (جف). =

وقال المبرد: الهضيم: اللاصق بعضه ببعض، وهو من قولك: هضمني حقي أي: نقصنى (¬1). وقال ابن قتيبة: الهضيم: الطلع قبل أن تنشق عنه القشرة وتنفتح، يريد أنه منضم مُكتَنِزٌ، ومنه قيل: رجل أهضم الكَشْحَين إذا كان مُنْضَمَهما (¬2). قال ابن عباس: هضيم: لطيف مادام في كفراه (¬3). [وقال عطاء، عنه: رُخْص (¬4). وقال عطية عنه: يانع نضيج (¬5). وقال الكلبي: لين لطيف (¬6) ما دام في كفراه] (¬7) فإذا خرج فليس ¬

_ = وفي المعجم "الوسيط" 1/ 127: الجف: كل ما خلا جوفه، وهو أيضًا: غشاء الطلع. (¬1) في "غريب القرآن في شعر العرب" 103، عن ابن عباس: "متصل بعضه إلى بعض". قال السيوطي: "أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق، قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: منضم بعضه إلى بعض". "الدر المنثور" 6/ 314، ولم أجده عندهما. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة 319. الكَشْح: ما بين الخاصرة والضلوع. "تهذيب اللغة" 4/ 87 (كشح). والخاصرة من الإنسان: ما بين رأس الورك وأسفل الأضلاع، وهما خاصرتان. المعجم "الوسيط" 1/ 237 (خصر). (¬3) ذكره عنه الثعلبي 8/ 115 أ. والبغوي 6/ 124. (¬4) الرَّخْصُ: الناعم من كل شيء، والثوب الرخيص: الناعم. كتاب العين 4/ 184 (رخص)، و"تهذيب اللغة" 7/ 134. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 8/ 115 أ. والماوردي 4/ 183. والبغوي 6/ 124. وأخرجه عنه ابن جرير 19/ 99، بلفظ: "أينع وبلغ فهو هضيم". (¬6) "تنوير المقباس" 312. وأخرجه عنه، عبد الرزاق 2/ 75، بلفظ: الهضيم: اللطيف. (¬7) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

بهضيم (¬1). وقال مقاتل: متراكب بعضه على بعض في الكثرة (¬2). قال مجاهد: يتهشم تهشمًا (¬3). وقال عكرمة: الهضيم الرَّخْص، الذي إذا مسسته تهشم (¬4). وقال الحسن: هضيم ليس فيه نوى (¬5). وقال: يزيد بن زيد: هو المُذَنِّب (¬6). وهو قول زيد بن أرقم روي أن أكل رُطَبُا (¬7) مُذنبًا وقال: هذا الهضيم (¬8). ¬

_ (¬1) ذكر الهواري 3/ 235، عن الكلبي: "لطيف، وهو الطلع ما لم ينشق". (¬2) "تفسير مقاتل" 53 أ. أخرجه ابن جرير 19/ 100، عن الضحاك. (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 464. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2802. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2802، عن مجاهد. وأخرج ابن جرير 19/ 100، عن عكرمة: "الهضيم: الرطب اللين". ذكر النحاس عن الزهري: "الرخص اللطيف، أول ما يطلع، وهو الطلع النضيد؛ لأن بعضه فوق بعض". "إعراب القرآن" 3/ 187. وذكره ابن عطية 11/ 139. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2801. وزاد السيوطي نسبته لابن المنذر. "الدر المنثور" 6/ 315. (¬6) هكذا في جميع النسخ: يزيد بن زيد. أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2801، عن أبي العلاء، وأبي ميسرة، ويزيد ابن راشد، وسعيد بن جبير. وأخرجه بسنده الثعلبي 8/ 115 أ، عن أبي العلاء. وذكره الماوردي 4/ 182، وابن الجوزي 6/ 138، عن سعيد بن جبير. قال القرطبي 13/ 128: وروى أبو إسحاق عن يزيد -هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي-. وترجمته في "تهذيب التهذيب" 11/ 287، رقم: 531. فتراجع. يقال للبسرة إذا بدأت تُرَطب من قِبَل ذنبها: قد تذنبت، فهي مُذَنِّبَةٌ. "تهذيب اللغة" 14/ 440 (ذنب). (¬7) رطباً ساقطة من نسخة (ج). (¬8) في نسخة: ج، زيادة: وقال. والصواب حذفها.

149

هذا الذي ذكرنا هو قول أهل اللغة، والتفسير، في معنى الهضيم؛ وكله متقارب يرجع إلى معنى واحد؛ لأن الهضيم معناه في اللغة (¬1): كَسْرُ ما فيه رخاوة ولين. تقول: هضمته فانهضم كالقَصَبة المَهضُومة التي يُزْمَر بها (¬2)، والهضيم بمعنى المهضوم فيدخل في هذا اللين، واللطيف، والرَّخْص، واليانع، والنضيج، والمنضم، والمتراكب؛ لأنه إذا تراكب صار كأن كلَّ واحدٍ قد نقصَ منه شيء، وكذلك: المنهشم. ويكون الهضيم بمعنى النقصان وهو نوع من الكسر، يقال: هَضَم له من حقه إذا كَسَر له منه. واللطيف في وصف الثمر هو: الرقيق الجسم؛ سمي هضيمًا لنقصانه (¬3)، كما يقال: هضيم الحَشَا (¬4). 149 - وقوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} قال عطاء، عن ابن عباس: حاذقين بنحتها (¬5). وكذلك قال الكلبي، ومقاتل، وأبو ¬

_ (¬1) في اللغة، في نسخة (ج). (¬2) كتاب "العين" 3/ 409 (هضم) بنصه، ونقله عنه الأزهري 6/ 104، وتصحفت فيه إلى: يُرمى بها. وهي كذلك في النسخ الثلاث. والقصب: كل نبت ساقه أنابيب. "تهذيب اللغة" 8/ 381 (قصب). (¬3) في "تهذيب اللغة" 13/ 347 (لطف): لَطُف الشيء يَلْطف: إذا صَغُر. (¬4) وذهب إلى هذا الجمع ابن جرير 19/ 100؛ قال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: الهضيم هو المنكسر من لينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان فلانًا حقه: إذا انتقصه وتحيفه، فكذلك الهضم في الطلع إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه، إما بمس الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضاً، وأصله (مفعول) صرف إلى: (فعيل)، والحشا: ما في البطن من الكبد والطِّحال والكرش وما يتبع ذلك، كله حشاء، وقيل غير هذا. "تهذيب اللغة" 5/ 138 (حشا). (¬5) أخرجه ابن جرير 19/ 100، وابن أبي حاتم 9/ 2802 من طريق علي بن أبي طلحة.

صالح، والفراء: فارهين حاذقين (¬1). وهو من قولهم. فَرُه الرجلُ فَرَاهة فهو فارِهٌ بَيَّنُ الفرَاهة والفراهية. وقرئ: (فرهين) (¬2) قال ابن عباس: أشرين بطرين (¬3). ونحو هذا قال أهل اللغة في تفسير الفَرَه؛ قال أبو عبيدة: فرهين: فرحين (¬4). وقال الفراء: أشرين (¬5). قال أبو الهيثم: من قرأ: (فرهين) فسروها: أشرين بطرين، والفَرِح في كلام العرب بالحاء: الأَشِر البَطِر، يقال: لا تفرح، أي: لا تأشَر، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] فالهاء هاهنا قامت مقام الحاء (¬6). وقال ابن قتيبة: يقال الهاء مبدلة من حاء، فذكر نحو قول أبي الهيثم، واحتج بالآية. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 53 أ، و"تنوير المقباس" 312. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 282. و"مجاز القرآن" 2/ 88. وأخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 75، عن قتادة، والكلبي، بلفظ: معجبين بصنعكم. وذكره ابن قتيبة، ولم ينسبه. "غريب القرآن" 320. وأخرجه ابن جرير 19/ 100، وابن أبي حاتم 9/ 2802، عن أبي صالح. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: (فرهين) بغير ألف، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {فَرِهِينَ} بألف. "السبعة في القراءات" 472، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 137، والمبسوط في القراءات العشر 275، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 366، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 336. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 101، بلفظ: أشرين، وذكره عنه البغوي 6/ 124، بلفظ: أشرين بطرين. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 88، ولم ينسبه بل قال: وقال آخرون. ونسبه الماوردي 4/ 183، لابن شجرة. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 282. (¬6) "تهذيب اللغة" 6/ 279 (فره).

وقد يقال في الفَرِه بمعنى الفَرِح: الفاره. كما يقال: الفارح (¬1). قال أبو عبيدة: يقال فرهين وفارهين، بمعنى مرحين، وأنشد فقال: لا أستكينُ إذا ما أزمةٌ أزَمتْ ... ولن تراني بخيرٍ فارِهَ اللَّبَبِ (¬2) قال: أي لا تراني مرحًا. ونحو هذا ذكر المفسرون في تفسير الفرهين؛ فقال مجاهد: شرهين (¬3). وقال قتادة: معجبين (¬4). وقال السدي: متجبرين (¬5). والشره، والإعجاب، والمرح، والتجبر كله نتائج الفرح والأشر. وروي عن عكرمة: ناعمين (¬6). وهو وهم؛ لأن (¬7) الذي هو بمعنى النعيم الراء فيه مقدم على الفاء من الرفاهية، وروي في فارهين، عن عطية، وعبد الله بن شداد، أنهما قالا: يتخيرون مواضع نحتها (¬8). وهذا أيضًا يعود ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 491. و"غريب القرآن" 319، ويعني بقوله: واحتج بالآية: آية القصص: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} حيث ذكرها في "الكتابين". (¬2) أنشده أبو عبيدة 2/ 89، ونسبه لعدي بن وداع العُقوي. وعنه الأنباري، الزاهر 2/ 330، ولم ينسبه. وأبو علي، في كتابه الحجة 5/ 366، ولم ينسبه أيضًا. وأنشده ابن جرير 19/ 101، ونسبه لعدي بن وداع، وفيه: الطلب، بدل: اللبب. واللبب: البالُ. "لسان العرب" 1/ 733 (لبب). (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 101، وابن أبي حاتم 9/ 2802. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 75، وعنه ابن جرير 19/ 101. (¬5) أخرجه ابن جرير 19/ 100، عن السدي، عن عبد الله بن شداد. (¬6) نسبه القرطبي 19/ 129، للكلبي. (¬7) في نسخة (ب): لأنه، وهو خطأ. (¬8) أخرجه ابن جرير 19/ 100، عن عبد الله بن شداد، من طريقين: يتجبرون. ولم أجد فيه نسبته لعطية.

151

إلى الحذق، والعلم بالبحث. وقال ابن زيد: (فارهين) أقوياء (¬1). وشرط الحِذْق القوةُ على العمل. 151 - قوله تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} قال ابن عباس: المشركين (¬2). وقال الكلبي: المسرفين في الشرك (¬3). وقال مقاتل: ولا تتبعوا قول المشركين. يعني: التسعة الذين عقروا الناقة، ثم نعتهم (¬4) فقال (¬5): 152 - {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} يعصون الله {وَلَا يُصْلِحُونَ} ولا يطيعون الله (¬6) فيما أمرهم (¬7). 153 - {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} قال مجاهد: من المسحورين (¬8). وهو قول قتادة (¬9). قال الزجاج: مُسحَّرين: مفعلين من السَّحْر، أي: ممن سُحر مرة بعد مرة (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 101. (¬2) ذكره عنه البغوي 6/ 124. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2083، عن قتادة (¬3) "تنوير المقباس" 312. (¬4) في نسخة (ب): ثم نعت التسعة. وما في "تفسير مقاتل" موافق لنسخة (أ)، (ج). (¬5) "تفسير مقاتل" 53 أ. (¬6) في نسخة (أ)، (ج): يطيعونه. (¬7) "تفسير مقاتل" 53 ب. (¬8) "تفسير مجاهد" 2/ 464. وأخرج ابن جرير 19/ 102، وابن أبي حاتم 9/ 2084. (¬9) أخرجه بسنده، عبد الرزاق 2/ 75، بلفظ: الساحرين. وعنه ابن جرير 19/ 102، بلفظ: المسحورين. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 97. في نسخة (أ)، (ب): إنك تأكل الطعام والشراب. وليس فيه ممن سحر مرة بعد مرة، ولعل ذلك تكرار لما بعده.

وقال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: من المخلوقين (¬1)، المعللين بالطعام والشراب (¬2) قال الفراء: أي إنك تأكل الطعام والشراب، وتسحر به وتعلَّل، وأنشد للبيد: فإن تسألينا فيمَ نحنُ فإننا ... عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسَحَّرِ (¬3) والمُسَحَّر: المُعَلل بالطعام والشراب مرة مرة، يقال: سَحَره أي: عَلله. والمعنى: إنما أنت بشر. وذكر الفراء قولًا آخر؛ فقال: المُسَحَّر: المجوف، كأنه والله أعلم من قولك: انتفخ سَحْرُه (¬4). قالوا له: لست بمَلَك إنما أنت بشر مثلنا (¬5). وعلى هذا سُمِّى المجوف مسحرًا تشبيهًا بالسحرة إذا انتفخ فصار مجوفًا على ما زعم الفراء. وذكر أبو عبيدة، والزجاج قولًا آخر في {الْمُسَحَّرِينَ} قال أبو عبيدة: أي ممن له سَحَر، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 102. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 115 ب. و"تفسير البغوي" 6/ 124. واختار هذا القول ابن جرير 19/ 103، فقال: "والصواب من القول في ذلك عندي: القول الذي ذكرته عن ابنِ عباس، أن معناه: إنما أنت من المخلوقين الذين يُعلَّلون بالطعام والشراب مثلنا، ولستَ ربًّا، ولا ملَكاً فنطيعك، ونعلم أنك صادق فيما تقول". (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 282، ولم ينسب البيت. وأنشده أبو عبيدة 2/ 89، ونسبه للبيد بن ربيعة. وذكره السمرقندي، في تفسيره 2/ 481، من إنشاد ابن عباس. وذكره الثعلبي 8/ 115، من إنشاد الكلبي. وأنشده الأنباري، ونسبه للبيد، الزاهر في معاني كلمات الناس 1/ 206، والبيت من قصيدة للبيد يذكر فيها مَنْ فقد من قومه، ومن سادات العرب، ولتأمل في سطوة الموت، وضعف الإنسان إزاءه. "ديوان لبيد": 71. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 282. (¬5) هذا القول في "تنوير المقباس" 312.

154

وكل دابة مُسحَّرَة (¬1). وقال الزجاج: أي ممن له سَحْر، والسَّحْرُ: الرئة، أي: أنت بشر مثلنا (¬2). وعلى هذا: المُسَحَّر ذو السَّحْر، وهو الذي خُلِق له سَحْر. قال مقاتل: قالوا: أنت بشر مثلنا لا تفضلنا في شيء لست بملَك ولا رسول (¬3). 154 - {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنك رسول الله إلينا (¬4). وقال ابن عباس: إنهم سألوه فقالوا: إن كنت صادقًا فادع الله يخرجْ لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عُشَراء فتضع ونحن ننظر، وتَرِد هذا الماء فتشرب، وتغدو علينا بمثله لبنًا! قال أبو الطفيل: لما قيل له ذلك خرج بهم إلى هَضبة من الأرض فإذا هي تَمْخَضُ كما تَمْخَضُ الحامل فانشقت عن الناقة (¬5). 155 - فـ {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} الشِّرِب: الحظ والنصيب من الماء (¬6). والمعنى: لها شِرب يوم ولكم شِرب يوم معلوم. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 89. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 97. (¬3) "تفسير مقاتل" 53 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 53 ب. (¬5) ذكره في تفسيره "الوسيط" 3/ 360، من قول ابن عباس، فقط. وهذا القول في "تفسير مجاهد" 2/ 465. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2804، عن أبي الطفيل. المَخاض: وَجَعُ الولادة، وهو الطَّلْق أيضًا. "تهذيب اللغة" 7/ 121 (مخض). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 282 ولفظه: "لها حظ من الماء". و"غريب القرآن" لابن قتيبة 320. و"تفسير الثعلبي" 8/ 115 ب.

165

قال قتادة: إذا كان يومُ شربها شربت ماءهم كله أول النهار، وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم وأراضيهم، ليس لهم في يوم وِرْدِها أن يشربوا من شربها شيئًا، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئًا (¬1). وقال مقاتل: كان للناقة يوم ولهم يوم، فإذا كان يوم الشرب للناقة (¬2) كانوا (¬3) في لبن ما شاءوا، وليس لهم ماء، وإذا كان يومهم لم يكن للناقة ماء (¬4). والباقي [156 - 164] بعضه مفسر فيما مضى، وبعضه ظاهر، إلى قوله: 165 - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} (¬5) وهو جمع الذَّكَر، ضد الأنثى ويجمع على الذِّكارة والذُّكور والذُّكران والذُّكورة (¬6). قال مقاتل: يعني نكاح الرجال (¬7). وقوله: (من العالمين) يعني من بني آدم خاصة (¬8). 166 - {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يعني: فروج نسائهم (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 360. وذكر نحوه عن قتادة ابن الجوزي 6/ 139. (¬2) في نسخة (ج): يوم شرب الناقة. (¬3) في نسخة (أ)، (ب): كان. (¬4) "تفسير مقاتل" 53 ب. (¬5) الاستفهام هنا يراد به التوبيخ. "تأويل مشكل القرآن" 279. (¬6) "تهذيب اللغة" 10/ 164 (ذكر). (¬7) "تفسير مقاتل" 53 ب. (¬8) "تفسير ابن جرير" 19/ 105. و"تفسير البغوي" 6/ 126. (¬9) "تفسير مقاتل" 53 ب.

167

وقال مجاهد: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال (¬1). {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} ظالمون معتدون الحلال إلى الحرام، والطاعة إلى المعصية (¬2). 167 - {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} لئن لم تسكت (¬3) يا لوط {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} من بلدتنا وقريتنا كقولهم لشعيب: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88]. 168 - {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} قال مقاتل: يعني إتيان الرجال {مِنَ الْقَالِينَ} من الماقتين (¬4). وقال ابن عباس: من المبغضين (¬5). والقِلَى: البُغْض، قَلَيْته، أَقلِيه، قِلَى (¬6). ثم دعا فقال: 169 - {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي: من عذاب ما يعملون، يدل عليه أن الاستجابة من الله كانت في نجاته من عذاب ذنوبهم. قال المفسرون: أي من عقوبة صنيعهم (¬7). 170 - {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} قال مقاتل: من العذاب (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" 2/ 465. وأخرجه ابن جرير 19/ 105، بزيادة: وأدبار النساء. وهو كذلك عند ابن أبي حاتم 9/ 2808. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 361، ولم ينسبه. و"تنوير المقباس" 313. وأخرج ابن جرير 19/ 105، عن ابن جريج: " (عادون) معتدون". و"تفسير السمرقندي" 2/ 481. (¬3) "تفسير مقاتل" 54 أ. (¬4) "تفسير مقاتل" 54 أ. (¬5) "تنوير المقباس" 313. واقتصر عليه ابن قتيبة، في: "غريب القرآن" 320. (¬6) "تهذيب اللغة" 9/ 295 (قلا). قال الزجاج 4/ 99: "والقالي: التارك للشيء الكاره له غاية الكراهية". (¬7) "تفسير ابن جرير" 19/ 106، بمعناه. (¬8) لم أجده في "تفسير مقاتل".

171

وقال ابن عباس: إن الله نجى لوطًا وبناته (¬1). 171 - {إِلَّا عَجُوزًا} يعني: امرأته (¬2) {فِي الْغَابِرِين} يعني: في الباقين في العذاب (¬3). 172 - {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أهلكناهم بالخسف والحَصْب (¬4). قال ابن عباس: [إن الله دمر] (¬5) على جميع قومه؛ لأنه لم يصدقه أحد منهم ولم يؤمن بما جاء به. 173 - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} قال ابن عباس: أمطر الله عليهم حجارة من سماء الدنيا وأسماها: {سِجِّيلٍ} (¬6) وقال مقاتل: خسف الله بقرى لوط، وأرسل الحجارة على من كان خارجًا من القرية (¬7). وقوله: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} فبئس مطر الذين أنذروا بالعذاب (¬8). قال صاحب النظم: (ساء)، مثل بئس في المعنى وهو يقتضي اسمين؛ معرفة ونكرة، ويجوز إفراده بأحد الاسمين كقوله: [{فَسَاءَ مَطَر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2809، في سياق طويل. (¬2) "تفسير مقاتل"54 أ. و "تنوير المقباس" 313. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2809، عن قتادة. (¬3) "تفسير مقاتل" 54 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2809، عن قتادة. قال ابن الأنباري: "الغابر حرف من الأضداد. يقال: غابر للماضي، وغابر للباقي". الأضداد 129، والزاهر 2/ 324. (¬4) "تفسير مقاتل" 54 أ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬6) وردت هذه الكلمة في ثلاث آيات. هود 82، الحجر 74، الفيل 4. راجع ما ذكره الواحدي عن سجيل في سورة هود. (¬7) "تفسير مقاتل" 54 أ. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2810، نحوه عن ابن عباس. و"تفسير هود الهواري" 3/ 238. (¬8) "تفسر مقاتل" 54 أ.

176

الْمُنْذَرِينَ} لو ذُكرِ الاسمان لكان نظمه] (¬1) {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} مطرًا. 176 - قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} قال ابن عباس: يريد شعيبًا وحده. والأيك: شجر الدَّوْمُ التي بمدين (¬2). وقال مقاتل: كان أكثر شجرهم الدَّوْمُ، وهو: المُقْل (¬3). وقال أبو إسحاق: هؤلاء كانوا أصحاب شجر مُلْتَّف (¬4). وذكرنا تفسير {الْأَيْكَةِ} عند قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} [الحجر: 78]. قال (¬5) قرأ الحجازيون (أصحاب ليكة) هاهنا وفي: ص (¬6)، بغير همزة، والهاء مفتوحة (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 107، من طريق علي بن أبي طلحة بلفظ: الأيكة: مجمع الشجر. ومن طريق ابن جريج بلفظ: أهل مدين، والأيكة: الشجر الملتف. (¬3) "تفسير مقاتل" 54 أ. في "تهذيب اللغة" 14/ 212 (دام): الدَّوْمُ: شَجَر المُقْل، الواحدة: دَوْمَة وفي "تهذيب اللغة" 9/ 185 (مقل): المُقْل: حَملُ الدَّوْمُ، والدَّوْمُ شجرة تشبه النخلة. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 97، وصدره بقوله: "ويقال في التفسير" قال أبو عبيدة 2/ 90: "وجمعها: أيك، وهي جماع من الشجر". (¬5) قال، في نسخة (ب). ولعلها زائدة. (¬6) في قوله تعالى: {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} [ص: 13]. (¬7) قال ابن الجزري: "قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو جعفر: (أصحاب ليكة) هاهنا، وفي: ص، بلام مفتوحة، من غير ألف وصل قبلها، ولا همزة بعدها، وبفتح تاء التأنيث في الوصل، مثل: حيوة، وطلحة، وكذلك رسماً في جميع المصاحف، وقرأ الباقون بألف الوصل مع إسكان اللام، وهمزة مفتوحة بعدها، وخفض تاء التأنيث في الموضعين. "النشر في القراءات العشر" 2/ 336، و"السبعة في القراءات" 473، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 137، و"المبسوط في القراءات العشر" 275، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 367.

قال أبو علي الفارسي: {الْأَيْكَةِ} تعريف أيكة، فإذا خففت الهمزة حذفتها، وألقيت حركتها على اللام فقلت: ليكة، كما قالوا لَحْمَر. وقول من قال: أصحاب ليكةَ، بفتح التاء مشكل (¬1)؛ لأنه فتح التاء مع إلحاق الألف واللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: مررت بِلَحْمَرَ فَفَتَح الآخِر مع لحاق لام المعرفة (¬2). وإنما يُخرَّج قول من قال: أصحاب ليكةَ الموضع أن تكون هذه اللام فاءً، ولا تكون لام التعريف، ويكون (¬3) ذلك الموضع يعرف لهذا الاسم، فإن لم يثبت هذا كان مشكلًا ولم أسمع بها. قال أبو إسحاق: وكان أبو عبيد (¬4) يختار هذه القراءة لموافقتها الكتاب، وذلك أن في هذه السورة وفي: (ص)، كتبت في المصحف (ليكة) بغير همز ولا ألف وصل (¬5) مع ما جاء في التفسير أن اسم المدينة كان: ليكة (¬6). قال أبو علي: إن ما في المصحف من إسقاط [ألف الوصل التي مع اللام وإسقاط] (¬7) صورة همزة ليكة لا يدل على صحة ما اختاره؛ وذلك أنه ¬

_ (¬1) مشكل، في نسخة (أ)، (ب). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 367، بمعناه. (¬3) في نسخة (ج): فيكون. (¬4) في جميع النسخ: أبو عبيدة. قال الزجاج في هذا الموضع 4/ 98: "وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يختار قراءة أهل المدينة". (¬5) في نسخة (ب): بغير همز وصل. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 98. وذكر قول أبي عبيد النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 190، وكذا السمين الحلبي، الدر المصون 8/ 544. (¬7) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

يجوز أن يكون كُتب في المصحف على تخفيف الهمزة (¬1)، ونقل الحركة (¬2)، وقول من قال: لحمرَ كما كتبوا {الْخَبْء} [النمل: 25] على ذلك، فإذا جاز إسقاط ألف الوصل على هذه (¬3) اللغة مع تخفيف الهمزة ونقل الحركة (¬4) ثبت أن ما اختاره لا يدل عليه (¬5) خط المصحف، ويجوز أيضًا أن تكون الكتابة في هذين الموضعين وقعت على اللفظ (¬6) فكما أنه لا ألف ثانية في اللفظ مع تخفيف الهمزة في الأيكة كذلك [لم تكتب في الخط] (¬7) وهذان وجهان في حذف ألف الوصل من الخط؛ ومثله في أنه كُتب مرة على اللفظ، وأخرى على غيره، كتابتهم: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] بغير واو، لَمَّا لم تثبت في اللفظ، وكتبت (¬8) في: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ ¬

_ (¬1) في نسخة (أ)، (ب). زيادة: [ونقل الحركة، ثبت أن] وليست في كتاب أبي علي. (¬2) ونقل الحركة. في نسخة (ب). وفي "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 190: "والقول فيه أن أصله: الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام وسقطت واستَغنيت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إلا الخفض، كما تقول: مررت بالأحمر، على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول: مررت بلَحْمر، فإن شئت كتبته في الخط كما كتبته أولاً، وإن شئت كتبته بالحذف، ولم يجز إلا بالخفض فكذا لا يجوز في الأيكة إلا الخفض، قال سيبويه: واعلم أن كل ما لا ينصرف إذا دخلته الألف واللام أو أضيف انصرف إذا دخلته، ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا". (¬3) في كتاب "الحجة": لهذا، بدل: على هذه. (¬4) قوله: (ونقل الحركة) غير موجود في كتاب الحجة. (¬5) يوجد هنا تكرار في نسخة (أ). وحذفته ليستقيم المعنى. (¬6) في كتاب أبي علي: الوصل، بدل: اللفظ. (¬7) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬8) وكتبت، في نسخة (ج).

177

بِالشَّر} [الإسراء: 11] بالواو، فإذا جاز هذا فيه، علمت أن الاختيار مدخول؛ ويدل على ضعف الاختيار أن سائر القرآن غير هذين الموضعين عليه. ويدل على فساد ذلك أيضًا همز من همز فقال: (الأيكة) فإذا ثبت هذا علمت أن (ليكة) على تخفيف الهمز، وأن فتح (ليكَةَ) لا يصح في العربية، لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجر مع لام المعرفة. انتهى كلامه (¬1). وقوله: جاء في التفسير أن اسم المدينة: ليكة؛ لم أرَ هذا في تفسير، وكيف يجوز ذلك مع إجماع القراء على الهمز في قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} في سورة الحجر [78]. والأيكة التي ذكرت هناك هي التي ذكرت هاهنا، وقد روى ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ليكة) قال: الأيكة. فدل هذا أن ليكة على التخفيف ونقل الحركة؛ لا على أن اسم المدينة: ليكة، مع ما حكينا عن ابن عباس ومقاتل في هذه الآية؛ أنهما فسرا الأيكة بالشجرة الغَيْضَة (¬2) لا بالمدينة والبلد (¬3). 177 - قوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} وقال في موضع آخر: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ} [الأعراف: 85، وهود: 84] ولم يقل في هذه السورة: إذ قال لهم أخوهم شعيب كما قال في سائر الأنبياء؟ قال المفسرون: شعيب كان من مدين؛ لأنه شعيب بن بويب بن مدين ابن إبراهيم خليل الرحمن، ولم يكن من أصحاب الأيكة، وكان مبعوثًا ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 367. ونحوه في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 98. (¬2) الغيضة. في نسخة (أ). وفي ج: والغيضة. أخرجه ابن جرير 19/ 107، وابن أبي حاتم 9/ 2810 عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. و"تفسير مقاتل" 54 أ. (¬3) في نسخة (ب): البلدة. وقد أنكر هذا قبل الواحدي، النحاس، في "إعراب القرآن" 3/ 189.

إليهما فإذا ذكر مدين قيل: أخوهم، وإذا ذكر أصحاب الأيكة لا يقال أخوهم (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية: إن شعيبًا بعث إلى قومه، وإلى غير قومه، وهو من ولد مدين بن إبراهيم، وأصحاب الأيكة من جُذَام (¬2). قال المفسرون: الفائدة في أن الله تعالى ذكره أخبر عن كل شيء ذَكر في هذه السورة أنه قال لقومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأعاد هذا بلفظ واحد [هي: أنه أخبر أن هؤلاء الأنبياء دعوتهم كانت (¬3) على وجه ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 54 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 115 ب. و"تفسير الطوسي" 8/ 57. و"تفسير البغوي" 6/ 126. وذكر السمرقندي، في تفسيره 2/ 482، هذا القول، ثم قال: "وقال بعضهم: كان مدين والأيكة واحداً، وهو الغيضة بقرب مدين، فذكره في موضع أخوهم، ولم يذكره في الآخر". وقيل: أصحاب الأيكة مدين، ولكنه قال أخوهم حين ذكرهم باسم قبيلتهم، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها تنزيهاً لشعيب عن النسبة إليها. تفسير ابن جزي 496. قال ابن كثير 6/ 158: "أصحاب الأيكة هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هاهنا: أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسباً. ومن الناس من لم يتفطن لهذه النكتة فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيباً -عليه السلام-، بعثه الله إلى أمتين، ومنهم من قال: ثلاث أمم". ثم قال بعد أن سياق روايات ضعيفة في بعث نبي الله شعيب -عليه السلام- إلى أمتين: "والصحيح أنهم أمة واحدة، وصِفوا في كل مقام بشيء، ولهذا وعَظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة". (¬2) جُذَام بن عدي: قبيلة من كهلان من القحطانية ومساكنها بين مدين وتبوك. "معجم قبائل العرب" 1/ 174، عمر رضا كحالة. (¬3) في نسخة (ب): كانت دعوتهم. بتقديم: كانت.

181

واحد] (¬1) وأنهم كانوا متفقين على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على الدعوى وتبليغ الرسالة (¬2). 181 - قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} قال المفسرون: من الناقصين للكيل والوزن (¬3). قال أبو عبيد: يقال: خَسَرْتُ المِيزان، وأَخسرْتُه، نَقَصْتُه (¬4). وتقول: كِلْتُه وَوَزَنْتُه فأَخْسَرْتُه، أي: نَقَصْتُه، ومنه: قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] (¬5) أي: يَنْقُصُون في الكيل والوزن، ويجوز يَخْسِّرون في اللغة (¬6). 182 - قوله: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} إلى قوله: 184 - {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} مفسر فيما مضى. والجبلة: الخليقة (¬7). يقال: جُبل فلان على كذا وكذا، أي: خُلق (¬8)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ب). (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 116 أ. و"تفسير البغوي" 6/ 126. بنصه، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 54 أ. و"تنوير المقباس" 313. و"تفسير الثعلبي" 8/ 116 أ. (¬4) "تهذيب اللغة" 7/ 163 (خسر)، من قول أبي عبيد. (¬5) "تهذيب اللغة" 7/ 162 (خسر). (¬6) "تهذيب اللغة" 7/ 163 (خسر)، من قول الزجاج. وهو في "معاني القرآن" 5/ 297 (سورة المطففين) وقد ضُبطت هذه الكلمة في كتاب الزجاج: يَخسِرون، وضبطت في "تهذيب اللغة": يَخْسَرون، وفي الحاشية: في: ج: بتشديد السين، ثم قال بعد ذلك الزجاج: ولا أعلم أحداً قرأ في هذا الموضع: يَخسرون، ولم تضبط. وفي "تهذيب اللغة" 7/ 163، في الحاشية: في: ج: بكسر الخاء والسين المشددة. فلعل هذا أقرب ما يكون في ضبط هذه الكلمة والله أعلم. (¬7) "تفسير مجاهد" 2/ 465. و"تفسير مقاتل" 54 أ. وأخرجه ابن جرير 19/ 109، وابن أبي حاتم 9/ 2812، عن مجاهد. و"تفسير الثعلبي" 8/ 116 أ. (¬8) "غريب القرآن" لابن قتيبة 320. و"الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 219.

185

قال الشاعر: والموت أعظم حادث ... مما يمر على الجبلة (¬1) ونذكر اللغات فيها عند قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس: 62] 62]-إن شاء الله تعالى-. قال المفسرون: يعني: الأمم الخالية (¬2). 185 - قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِين} فسرناه في هذه السورة (¬3). 186 - قوله: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي في أنك رسول الله (¬4). 187 - قوله: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} مفسر في قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92]. قوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي: بأن العذاب نازل بنا. قاله مقاتل (¬5). 188 - {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)} يعني: من نقصان الكيل والوزن (¬6). والمعنى: أنه أعلم به؛ فهو مجازيكم ومعذبكم إن شاء، وليس عندي ¬

_ (¬1) أنشده ابن قتيبة، في: "غريب القرآن" 320، ولم ينسبه. وهو كذلك عند الثعلبي 8/ 116 أ. ونسبه الماوردي 4/ 186، لامرئ القيس، وفيه: فيما يمر، بدل: مما يمر. ولم أجده في ديوان امرئ القيس. وذكره الطبرسي 7/ 316، ولم ينسبه. وفي حاشية البحر 7/ 29: لم أهتد لقائله. (¬2) "تفسير مقاتل" 54 أ. (¬3) عند قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} آية 153 في قصة نبي الله صالح -عليه السلام -. (¬4) "تفسير مقاتل" 54 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 54 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 54 ب.

189

من العذاب، وما عليَّ إلا الدعوة (¬1)؛ وذلك أن هذا جواب لقولهم: " {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا}. 189 - قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّة} مضى تفسير الظلة في سورة البقرة (¬2). وهاهنا سحاب (¬3) أظلتهم فاجتمعوا تحتها مستجيرين (¬4) بها مما نالهم من حر ذلك اليوم، ثم أطبقت عليهم، وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابًا (¬5). قال ابن عباس: بعث الله عليهم وَقَدَة وحرًا شديدًا فأخذ بأنفاسهم؛ فدخلوا أجواف البيوت فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هربًا إلى البرية فبعث الله سحابة فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها بَرْدًا، فنادى بعضهم بعضًا حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقطها الله عليهم نارًا (¬6). وهذا قول ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 116 أ. (¬2) قال الواحدي في تفسير قوله الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] الظل في اللغة، معناه: الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل فلان؛ أي: ستره، وظل الشجرة سترها، ويقال لظلمة الليل: ظل؛ لأنها تستر الأشياء، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]. (¬3) هكذا في جميع النسخ: سحاب، وأيضًا عند الزجاج في المعاني 4/ 98،ولعل الصواب: سحابة. والله أعلم. راجع النسخ للتأكد. (¬4) في (أ) غير واضحة وفي "تفسير مجاهد" 2/ 466: يعني: ظل العذاب الذي أتاهم. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 98، بنصه. ثم قال في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ولو كان في غير القرآن لجاز عظيماً، والجر أجود كما جاء به القرآن". (¬6) أخرجه ابن جرير 19/ 110، وفيه: بعث الله عليهم ومدة وحراً شديداً. بدل: وقدة. أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2814، بلفظ: وهدة. في "تهذيب اللغة" 9/ 249 (وقد): يقال: وقدت النار تَقِد وُقُوداً وَوَقَداناً ووَقْداً وقِدَةً. وفي "لسان العرب" 3/ 465: الوَقَدُ: نفس النار.

192

أكثر المفسرين (¬1). وروي عن ابن عباس: أنهم لما صاروا تحت السحابة أسقطها الله عليهم. وقال زيد بن معاوية: لما اجتمعوا تحتها صيح بهم منها فهلكوا (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: بعث الله عليهم سَمُومًا (¬3) فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها، فأضرمها الله عليهم نارًا فاحترقوا (¬4). 192 - قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني: القرآن (¬5). قال ابن عباس: نَزَّل القرآنَ ربُ العالمين. 193 - {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} أي: نَزَّل الله بالقرآن جبريل (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 54 ب. وأخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 75، عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير 19/ 110، عن قتادة، ومجاهد، وابن جريج، والضحاك، وابن زيد. وذكره الثعلبي 8/ 116 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 109، بلفظ قريب منه. (¬3) السَّمُوم: الريح الحارة. "لسان العرب" 12/ 304 (سمم). قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) في سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة 41، 42] (¬4) قال أبو السعود 6/ 263: "هذا آخر القصص السبع التي أوحيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه عنه، ودفع تحسره على فواته تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} ". (¬5) "تفسير مقاتل" 54 ب. و"تنوير المقباس" 314. وتفسير هود الهواري 3/ 240. وأخرجه ابن جرير 19/ 111؛ وابن أبي حاتم 9/ 2817، عن قتادة. و"تفسير الثعلبي" 8/ 116 ب. (¬6) "تنوير المقباس" 314. و"تأويل مشكل القرآن" 486. قال ابن كثير 6/ 162: "وهذا مما لا نزاع فيه".

194

وتقرأ {نَزَلَ} مخففة، و (الروحُ الأمين) رفعًا (¬1). فمن شدد فحجته قوله: {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} [النحل: 2] وينزل مطاوع نَزَّل، ومن أسند الفعل إلى الروح وخفف؛ فلأنه ينزل بأمر الله -سبحانه وتعالى-، ومعناه معنى المثقلة (¬2). و (الروح الأمين) هو جبريل (¬3)؛ قال ابن عباس: أمين فيما بين الله وبين أنبيائه. وقال مقاتل: أمين فيما استودعه من الرسالة إلى أنبيائه (¬4). 194 - وقوله: {عَلَى قَلْبِكَ} قال مقاتل: يقول: لنثبت قلبك (¬5). والمعنى: نَزَل به الروحُ الأمين فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك (¬6). وقال أبو إسحاق: نزل فوعاه قلبك وثبت فيه فلا تنساه أبدًا (¬7). {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [ممن أنذر المكذبين بآيات الله] (¬8). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص: (نَزَل) خفيفة (الروحُ الأمين) رفعاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (نَزَّل) مشددة (الروحَ الأمين) نصباً. "السبعة في القراءات" 473، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 138، والمبسوط في القراءات العشر 276، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 368، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 336. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 369. (¬3) "تفسير ابن جرير" 19/ 112. وأخرجه أيضًا عن قتادة والضحاك. (¬4) "تفسير مقاتل" 54 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 54 ب. (¬6) "تفسير ابن جرير" 19/ 112، بنصه. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 100. (¬8) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

159

159 - {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} قال ابن عباس ومقاتل: يريد لسان قريش ليفقهوا ما فيه فلا يقولوا: لا نفهم ما يقول محمد (¬1). وقال ابن بريدة: بلسان جُرْهُم (¬2). قال [ابن عباس:] (¬3) كان في سفينة نوح ثمانون؛ وفيهم: جُرْهم، ولسان جرهم هو لسان العرب (¬4). 196 - قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وإنَّ ذكرَ القرآن وخبرَه لفي كتب الأولين (¬5). يعني: أن الله تعالى أخبر في كتبهم عن القرآن وإنزاله على النبي -صلى الله عليه وسلم- المبعوث في آخر الزمان (¬6). وقال مقاتل: وإنَّ أمرَ محمد، وذكرَه، ونعتَه (¬7) لفي كتب الأولين (¬8). وهذا كقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] (¬9). والزُّبُر: الكتب، زَبُور وزُبُر، مثل: رَسُولٌ ورُسُل (¬10). 197 - قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قرأه العامة: ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 362. و"تفسير البغوي" 6/ 127. و"تفسير مقاتل" 54 ب، وليس فيه: بلسان قريش. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2818. ويعرف بجرهم (¬3) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ب). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2790. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 116 ب. (¬6) "تفسير ابن جرير" 19/ 112، بمعناه. (¬7) ونعته، في نسخة (ج). (¬8) "تفسير مقاتل" 54 ب. (¬9) وقد استدل بالآية على ذلك الزجاج 4/ 100. (¬10) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 100. قال أبو عبيدة 2/ 90: "أي: كتب الأولين؛ واحدها: زبور".

{يَكُن} بالياء {آّيّةً} نصبًا (¬1). قال إسحاق: (أنْ) اسم كان، و (آيةً) خبره؛ والمعنى. أو لم يكن لهم (¬2) عِلْم علماء بني إسرائيل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حق وأن نبوته حق، (آية) أي: علامة (¬3)، موضحة؛ لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل (¬4). قال ابن عباس، في رواية الكلبي: بعث أهلُ مكة إلى اليهود وهم بالمدينة فسألوهم عن محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقالوا: إنَّ هذا لزمانُه، وإنَّا نجد في التوراة نعتَه وصفتَه. فكان ذلك آية لهم على صدقه (¬5). فعلى هذا: أراد بعلماء بني إسرائيل: يهود المدينة ومن كان منهم عالمًا بالكتاب. وقال مقاتل: يعني: ابن سلام وأصحابه (¬6). وقال مجاهد: علماء بني إسرائيل؛ عبد الله بن سلام، وغيره من علمائهم (¬7). ¬

_ (¬1) كلهم قرأ: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ} بالياء {آيَة} نصباً، غير ابن عامر فإنه قرأ: (أو لم تكن لهم) بالتاء (آيةٌ) رفعاً. "السبعة في القراءات" 473، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 138، و"المبسوط في القراءات العشر" 276، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 369، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 336. (¬2) لهم، في نسخة (ج). (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 320. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 101. وأخرج نحوه عبد الرزاق 2/ 76، عن قتادة. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 116 ب، وعنه ابن عطية 11/ 149. و"تفسير البغوي" 6/ 129. و"تفسير السمرقندي" 2/ 484، ولم ينسبه. وهو في "تنوير المقباس" 314، بمعناه. (¬6) "تفسير مقاتل" 54 ب. (¬7) "تفسير مجاهد" 2/ 466، وفيه زيادة: من أسلم منهم. و"تفسير ابن جرير" 19/ 112، وأخرجه أيضًا عن ابن عباس.

وقال عطية في هذه الآية: كانوا خمسة: عبد الله بن سلام، وابن يامينَ، وثعلبةُ، وأسد، وأَسِيد (¬1). قرأ ابن عامر: (تكن) بالتاء (آيةٌ) رفعًا، قال أبو إسحاق: جعل (آيةٌ) هي الاسم، و (أن يعلمه) خبر تكن (¬2). ونحو هذا قال الفراء (¬3). قال أبو علي: إذا اجتمع في باب: كان، معرفة ونكرة فالذي يُجعل اسم كان منهما: المعرفة، كما كان المبتدأ: المعرفة، والنكرة: الخبر، وهو يجيء في الشعر للاضطرار؛ الاسم: نكرة والخبر: معرفة، ولا يجوز هذا حيث لا يُضْطُّر إليه تصحيحُ وزنٍ، ولا إقامةُ قافيةٍ، فقوله: (أولم تكن لهم آية) لا يجوز أن يكون التأنيث في (تكن) لأنه حينئذ يصير اسمًا لكان، ولكن في (تكن) ضمير القصة، و (آيةٌ) خبر مبتدأ مقدم، والجملة في موضع نصب كما تقول: كان زيدٌ منطلقٌ، على معنى: كان الأمر هذا وكان الشأن هذا، قاسم كان ضمير مستتر، وارتفع زيد بالابتداء، ومنطلق: خبره، والجملة في موضع نصب بكونها خبرًا. قال: ومن ذلك قول الشاعر: ولا أُنْبَأَنَّ أن وجهكِ شأنَه ... خُمُوش وإنْ كان الحميمُ حميمُ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2820. و"تفسير البغوي" 6/ 129. وزاد السيوطي نسبته لابن سعد، وابن المنذر. "الدر المنثور" 6/ 323. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 101. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 283. (¬4) أنشده أبو علي، "الإيضاح العضدي" 1/ 143، ولم ينسبه. وأنشده أبو زيد، النوادر 126، ونسبه لعبد قيس بن خُفَاف البُرْجَمِي، وفي حاشية الإيضاح: الشاهد فيه: أنه جل اسم كان ضمير الشأن، والحميم مبتدأ، وحميم خبره، والجملة في موضع نصب خبر كان".

198، 199

ذكر هذا في كتاب "الإيضاح"؛ ونحو هذا ذَكر في كتاب "الحجة" (¬1)؛ وزاد في هذا الفصل بأن قال: (ءايةٌ) مرتفعة بأنها خبر الابتداء الذي هو: {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وقال: ولا يمتنع أن لا تضمر (¬2) القصة ولكن ترفع: {أَنْ يَعْلَمَه} بقوله: (تكن) وإن كان في تكن علامة تأنيث؛ لأن {أَنْ يَعْلَمَه} في المعنى هو الآية، فيحمل الكلام على المعنى؛ كما حُمل على المعنى في قوله: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فأنث لما كان المراد بالأمثال: الحسنات. وكذلك قرأ من قرأ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأنعام: 23] (¬3). 198، 199 - قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} قال الكلبي: على رجل عجمي (¬4). والمعنى: ولو نزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بغير لغة العرب ما آمنوا به، وقالوا: ما نفقه قولك؛ نظيره قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُه} [فصلت: 44] قال مقاتل: يقول: لو نزلنا هذا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان فقرأه على كفار مكة لقالوا: ما نفقه قولك (¬5). قوله: {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} يعني: بالقرآن مصدقين بأنه من الله (¬6). ¬

_ (¬1) ملخص من كتاب "الإيضاح العضدي" 1/ 136 - 143، و"الحجة" 5/ 369. (¬2) هكذا في كتاب الحجة: أن لا يضمر، فتراجع (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 370؛ قرأ حمزة والكسائي: (يكن) بالياء، وقرأ الباقون: (تكن) بالتاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص: (فتنتُهم) برفع التاء، وقرأ الباقون بالنصب. "السبعة في القراءات" 254، و"النشر" 2/ 257. (¬4) في "تنوير المقباس" 314: "على رجل لا يتكلم بالعربية". (¬5) "تفسير مقاتل" 55 أ. واقتصر على هذا القول في "الوسيط" 3/ 363. (¬6) "تفسير مقاتل" 55 أ.

وفيه قول آخر؛ روى داوود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، قال: كنت واقفًا مع عبد الله بن مطيع بن الأسود بعرفات؛ فقرأ هذه الآية: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} قال: لو نزل على جملي هذا فقرأ عليهم {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (¬1). وهذا القول أليق بما بعده. قال أبو إسحاق: (الأعجمين) جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم الذي لا يفصح، وكذلك الأعجمي، فأما العَجَمِي فالذي من جنس العجم أفصح أو لم يفصح (¬2). قال أبو علي الفارسي: أعجم صفة (¬3)، كأحمر؛ لأنه قد وُصف به في النكرة، وهو قوله: .. .. .. .. .. كما أَوتْ ... حِزقٌ يمانيةٌ لأعجمَ طِمْطِم (¬4) وقد دخلته الألف واللام على حد دخولها على أحمر، للتعريف في قولهم: زياد الأعجم، فقد علمت لجريه على النكرة، ودخول لام التعريف ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 114، من طريقين. وكذا ابن أبي حاتم 9/ 2820. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 102. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 283، بمعناه. والزاهر في معاني كلمات الناس 2/ 56. (¬3) كلمة: صفة، مكررة في نسخة (أ)، (ب). (¬4) هكذا أنشده أبو علي، "الإغفال لما أغفله الزجاج" 2/ 213 ب. والبيت لعنترة، من معلقته، وصدره كما في الديوان 20: تأوي له قُلُص النعام كما أوت ورواية البيت في "شرح التبريزي" ص 162: يأوي إلى حِزق النعام كما أوت وقال في شرحه: يأوي هذا الظليم إلى حزق النعام، وهي: جماعاتها، واحدتها: حزقة، وحزيقة، والطمطم: الذي لا يفصح شيئاً، شبه النعام حول هذا الظليم بقوم من اليمن حول رجل من العجم يسمعون كلامه، ولا يفهمونه، وخص أهل اليمن لقربهم من العجم، يعني: الحبش، وملابستهم لهم.

عليه أنه صفة في النكرة، مثل أحمر، وفي التعريف بمنزلة: الأحمر، وإذا كان كذلك ثبت أنه صفة، وإذا علمت أنه صفة علمت أن جمعه بالواو والنون، والياء والنون (¬1) خطأ، وإذا كان هذا القبيل من الصفة لا يُجمع بالواو والنون في قول النحويين أجمعين، علمتَ أن قول أبي إسحاق: الأعجمين جمع أعجم، [والأنثى] (¬2) عجماء، خطأ بيَّن؛ والقول فيه: أنه جمع أعجمي ليس جمع أعجم، وأعجم وأعجمي معناهما واحد، وكلاهما وَصْف الذي لا يُفصح من العجم كان أو من العرب، إلا أنَّ الذي تدخله ياء التشديد ينصرف، وإنْ كان المعني فيه الصفة (¬3)، [كما أن صياقلة (¬4) ونحوه لما دخله تاء التأنيث انصرف للتاء، والمعنى: معنى الجمع] (¬5) فأعجمي كقولهم: أحمري، وأنت تريد الأحمر، كما لا تريد بكرسي إضافتَه إلى شيء، وهذا مروي مأخوذ من رواة اللغة؛ يدلك على ذلك قول العجاج: والدهرُ بالإنسان دَوَّارِيُ (¬6) ¬

_ (¬1) غير واضحة بالنسخ ولعل الصواب ما ذكره أبو علي في كتاب "الشعر" 1/ 156: كما أن عجماء لا تجمع بالألف والتاء. (¬2) ما بين المعقوفين، من كتاب أبي علي. (¬3) الصفة، في نسخة (أ)، (ب). (¬4) الصَّقْل: الجِلاء، والمِصقلة التي يصقل الصَيْقَل بها سيفًا ونحوه، وجمع الصيقل: صياقل وصياقلة. "تهذيب اللغة" 8/ 372 (صقل). (¬5) ما بين المعقوفين، غير موجود في كتاب أبي علي. (¬6) أنشده ابن جرير 19/ 114، منسوبًا للعجاج، وقال بعده: "ومعناه: دوار، فنسبه إلى فعل نفسه". وأنشده أبو علي، في كتابه: "الأغفال" 114 ب، منسوبًا للعجاج. وصدر البيت كما في الديوان 247: أَطَرَبَاً وأنت قِنَّسْرِيُّ .. .. .. قال محقق الديوان: القنسري: المسن الكبير، ودواري: دائر؛ يقول: إن الدهر =

ألا ترى أن المراد بدَوَّارِي: دوارٌ واحد، كذلك أعجم وأعجمي (¬1). والذي قلنا من أن الأعجمين جمع أعجمي هو قول سيبويه؛ وقد نص عليه (¬2)؛ وذهب أبو إسحاق عنه (¬3)، قال سيبويه في الباب المترجم: هذا بابٌ من الجمع بالواو والنون، [وتكسير الاسم. سألت الخليل عن قولهم: الأَشْعَرُون؛ فقال: إنما أَلحقوا الواو والنون] (¬4) وحذفوا ياء الإضافة كما كَسَّروا فقالوا: الأشاعرُ، والأشاعث، والمَسَامِعة، فلما كَسَّروا مِسْمَعًا والأشعث حين أرادوا معنى بني مِسْمَع وبني الأشعث، أَلحقوا الواو والنون، فكذلك الأعجمون (¬5). فقد تبينت من نص سيبويه أن الأعجمين جمع أعجمي، وأن ياءي النسب والإضافة (¬6) محذوفان حُذفا في الجمع، وأنه جُمع على هذا ¬

_ = يتصرف بالإنسان ويدور به، يقول: كيف تطرب وأنت كبير يوبخه بذلك، وإنما يصبو فيعذر الصبي ومن لا سن له ولا تجربة عنده. (¬1) قال ابن جرير 19/ 114: "إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم، لا وصفه بأنه غير فصيح "اللسان"، فإنه يقال: هذا رجل عجمي، وهذان رجلان عجميان، وهؤلاء قوم عَجَم، كما يقال: عربي، وعربيان، وقوم عَرَب، وإذا قيل هذا: هذا رجل أعجمي، فإنما نسب إلى نفسه، كما يقال: للأحمر: هذا أحمريٌّ ضخم". (¬2) وذهب إلى ذلك الأخفش، في "معاني القرآن" 2/ 647. حيث قال: "واحدهم: الأعجم، وهو إضافة كالأشعرين". وذكر السمين الحلبي الأقوال المؤيدة لذلك. "الدر المصون" 8/ 554. (¬3) يعني غفل عنه أبو إسحاق فلم يذكره. والله أعلم. (¬4) ما بين المعقوفين، غير موجود في كتاب أبي علي. (¬5) "الكتاب" 3/ 410. (¬6) الإضافة. ساقطة من النسخ الثلاث، وهي في كتاب أبي علي.

200

[الحد] (¬1) كما كُسِّر على الأشاعث. ومثل قولهم: الأعجمون، قولهم: النُّمَيْرُون. ومما يدلك على صحة هذا: أن ما كان صفة من هذا القبيل لا يجمع بالواو والنون، ألا ترى أنه لا يقال في جمع أسود: أسودون، وإذا كان ذلك مرفوضًا علمت أنه جَمْع الاسم إذا أُلحق ياء النسب؛ لأنه بدخول ياء النسب يخرج من ذلك الحد في اللفظ، وإن كان موافقًا له في المعنى، كما خرج بذلك من الامتناع من الانصراف، وكما لم يُجمع مذكر هذا القبيل بالواو والنون، كذلك لم يُجمع مؤنثه، نحو: حمراء، وسوداء، بالألف والتاء. انتهت الحكاية عن أبي علي (¬2). وذكرنا تفسير الأعجمي في سورة النحل (¬3). 200 - قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} تفسيره كتفسير قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [في سورة: الحجر (¬4). قال ابن عباس: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاه} يريد الشرك سلكه في قلوب المجرمين (¬5). و] (¬6) قال الحسن: {سَلَكْنَاهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الشرك ¬

_ (¬1) في كتاب أبي علي. "وأنه جمع على هذا كما جمع وكسر على الأشاعث". (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج" 2/ 213، بشيء من التصرف، والاختصار، حيث أطال أبو علي، الحديث عن هذه المسألة. (¬3) عند قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِي} [103]. (¬4) عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [12]. (¬5) "تفسير مجاهد" 2/ 466. وذكره عن ابن عباس ابن الجوزي 4/ 385، في تفسير سورة الحجر. (¬6) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ب).

201

جعلناه في قلوب المجرمين (¬1). وهو قول ابن جريج وابن زيد (¬2). وقال مقاتل: يقول: هكذا جعلنا الكفر بالقرآن في قلوب المجرمين (¬3). 201 - {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن (¬4) {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فعلى هذا: أراد بالمجرمين: مشركي مكة. وعلى قول الحسن وابن عباس؛ أراد: المجرمين من الأمم الخالية؛ أخبر الله أنه أدخل الشرك، وجعله في قلوبهم فلم يؤمنوا إلا عند نزول العذاب حين لم ينفعهم. قال ابن عباس في قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية، قال: لا يصدقون بتوحيد الله {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} الذي أهلكهم الله به مما قص من لدن: نوح، إلى: شعيب. وعلى التأويلين جميعًا في الآية دلالة على أن الله تعالى خالق الشرك، سالكه في قلوب المجرمين. قال الفراء: يقول سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين كيلا يؤمنوا به (¬5). وقال أبو إسحاق: أي: سلكنا تكذيبهم في قلوبٍ جعل الله مجازاتِهم أن طبع على قلوبهم وسلك فيها الشرك (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 115، ولفظه: "الشرك سلكه في قلوبهم". (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 115، عن ابن جريج، وابن زيد. (¬3) "تفسير مقاتل" 55 أ. قال ابن قتيبة: " {سَلَكْنَاهُ} يعني: التكذيب، أدخلناه". "غريب القرآن" 321. راجع للحديث عن هذه الآية تفسير سورة الحجر 12 {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} راجع متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار 425، وكذا تفسير هذه السورة عند الهوساوي. (¬4) "تفسير مقاتل" 55 أ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 283. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 102.

202

وقوله تعالى: {لَا يُؤمِنُونَ بِه} قال: أخبر أنه لما سلك في قلوبهم الشرك منعهم من الإيمان به (¬1). وتفسير القدرية لقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أمررنا القرآن في قلوبهم بإخطاره ببالهم لتقوم الحجة عليهم (¬2). وهذا التفسير خَلْفٌ (¬3) فاسد؛ لم يقله أحد من المفسرين، ولا أصحاب المعاني إلا القدرية؛ وكيف يصح هذا والله تعالى يقول: {لَا يُؤمِنُونَ بِه} أفتراه سلك القرآن في قلوبهم حتى لا يؤمنوا؟ وكان من الواجب أن يؤمنوا إذا أدخل الله القرآن في قلوبهم، ثم السلك ليس بمعنى: الإمرار والإخطار؛ إنما هو بمعنى: الإدخال والإثبات، كسلك الخيط في الحريرة، يدل على هذا قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} [المدثر 42] لا يجوز أن يقال في معناه: ما أخطركم بها. والهاء في قوله: {سَلَكْنَاهُ} تعود إلى معنى قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِين} ومعناه: كذبوا، وكذبوا يدل على التكذيب فكنى عنه، وهو قول المفسرين وأهل المعاني: سلكنا الشرك وسلكنا التكذيب، فظاهر الآية يدل على صحة قول مقاتل، وأن هذا إخبار عن مشركي مكة ولو كان خبرًا عن مشركي الأمم المتقدمة لقيل: لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فأتاهم بغتة، وقد قال: 202 - {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} يعني العذاب (¬4) {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} به فيتمنوا الرجعة والنَّظِرَهَ (¬5)، وهو قوله: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 102. (¬2) بنصه، قول الطوسي، في تفسيره 8/ 63. بلفظ: "أقررناه في قلوبهم بإخطاره" وهذا تصحيف، والصواب: أمررناه. (¬3) يقال: هذا خَلْفٌ من القول؛ أي. رديء. "تهذيب اللغة" 7/ 394 (خلف). (¬4) "تنوير المقباس" 314. و"تفسير مقاتل" 55 أ. (¬5) "تفسير السمرقندي" 2/ 484، والماوردي 6/ 130، ولم ينسباه.

203

203 - {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي: لِنعتِب (¬1) ونراجع، قاله مقاتل (¬2). وقال ابن عباس: إنهم يسألون تأخير العذاب فلا يجابون ولا يصرف عنهم (¬3). قال مقاتل: فلما أوعدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعذاب قالوا: فمتى العذاب تكذيبًا به (¬4)، فقال الله تعالى: 204، 205 - {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [قال ابن عباس:] (¬5) {أَفَرَءَيْتَ} يا محمد إن متعنا كفار مكة {سِنِينَ} قال: يريد منذ خلق الله الدنيا إلى أن تنقضي في النعيم والسرور والنَّضارة (¬6). وقال الكلبي: يعني عَمَّرهم؛ وهو معنى قول مقاتل: {سِنِينَ} في الدنيا (¬7). قال صاحب النظم: قوله: {أَفَرَءَيْتَ} غير متعد إلى شيء؛ إنما هو سؤال واستخبار عن معنى بلفظ الاستفهام، كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا ¬

_ (¬1) الإعتاب والعتبى: رجوع المعتوب عليه إلى ما يُرضي العاتب. "تهذيب اللغة" 2/ 278 (عتب). (¬2) "تفسير مقاتل" 55 أ. بلفظ: "فنعتب، ونراجع". وفي "تفسير ابن جرير" 19/ 116: "لنثوب، وننيب". (¬3) "تنوير المقباس" 314، بلفظ: مؤجلون من العذاب. (¬4) "تفسير مقاتل" 55 أ. (¬5) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج). (¬6) النضارة: نعيم الوجه، ومنه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]. "تهذيب اللغة" 9/ 12 (نضر). (¬7) "تفسير مقاتل" 55 أ.

206

إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوت} [الكهف: 63] دخول الفاء في قوله: {فَإِنِّي} يدل على أنه مستأنف. 206 - قوله: {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} أي: من العذاب (¬1). 207 - {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} به في تلك السنين. والمعنى: إنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا (¬2) فإذا أتاهم العذاب لم يُغنِ طول التمتع عنهم (¬3) شيئًا ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط (¬4). 208 - قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} قال مقاتل: (¬5) أي: فيما خلا بالعذاب في الدنيا {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون} يعني: رسلًا ينذرونهم بالعذاب أنه نازل بهم (¬6). 209 - {ذِكْرَى} قال ابن عباس: موعظة مني. وقال مقاتل: تذكرة (¬7). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 314. و"تفسير مقاتل" 55 أ. (¬2) في نسخة (أ)، (ب): النساء. (¬3) عنهم. في نسخة (ج). (¬4) ويشهد لهذا المعنى حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَومَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَة ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَط هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَط فَيَقُولُ لاَ والله يَا رَب وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاس بُؤْسًا في الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الْجَنَّةِ فَيُقَال لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّة قطُّ فَيَقُولُ لاَ والله يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّة قَطُّ"، أخرجه مسلم 4/ 2162، كتاب صفة القيامة، رقم: 2807. وابن ماجه 2/ 1445، كتاب الزهد، رقم: 4321. (¬5) قال مقاتل. في نسخة (أ)، (ب). (¬6) "تفسير مقاتل" 55 أ. (¬7) "تفسير مقاتل" 55 أ، ولفظه: "العذاب يذكر، ويفكر".

210

قال أبو إسحاق: {ذِكْرَى} تكون (¬1) نصبًا ورفعًا، فمن نصب فعلى المصدر، ودل عليه الإنذار؛ لأن قوله: {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} معناه: إلا لها مذكرون ذكرى. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع على معنى: إنذارنا ذكرى على خبر الابتداء (¬2). وهذا معنى قول الفراء: فقد ذكر (¬3) القولين مجملًا (¬4). قوله: {ومَا كُنَّا ظَالِمِينَ} قال مقاتل: وما كنا ظالمين فنعذب على غير ذنب (¬5). وقال غيره: {ومَا كُنَّا ظَالِمِينَ} إذ أُهلكوا؛ لأنا قدمنا الإنذار والتذكير (¬6). 210 - قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} قال مقاتل: قالت قريش: إنما يجيء بالقرآن الشيطان فيلقيه على لسان محمد فأنزل الله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [يعني: القرآن (¬7). وهذه الآية منتظمة بقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} أي: نزل بالقرآن جبريل {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}] (¬8) كما يزعم المشركون. ¬

_ (¬1) تكون. في نسخة (ج). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 102. (¬3) في نسخة (أ)، (ب)، زيادة: إلا لها مذكرون ذكرى، قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع. وهي تكرار لما سبق من قول أبي إسحاق. (¬4) "معاني القرآن" للفراء2/ 284. وذكرهما أيضًا ابن جرير 19/ 117. (¬5) "تفسير مقاتل" 55 أ. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 117 أ، ولم ينسبه. (¬7) "تفسير مقاتل" 55 أ. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 77، عن قتادة. (¬8) ما بين المعقوفين، ساقط من نسخة (ج).

211

211 - {وَمَا يَنبَغِى} أن ينزلوا بالقرآن (¬1). قال ابن عباس: لأن الشياطين لا يقوون (¬2) على قراءة القرآن، ولا يحتملونه إلا احترقوا {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: لا يقوون على حمل القرآن. وقال الكلبي: يقول: وما هم أهلٌ للقرآن، وما يقدرون أن يأتوا بالقرآن من السماء فقد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب (¬3). وهو قوله: 212 - {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} قال ابن عباس: يريد عن استماع القرآن لمحجوبون. قال الكلبي: لأنهم يرجمون بالنجوم (¬4). وقال الزجاج: لما رموا بالنجم منعوا من السمع (¬5). 213 - قوله: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [قال ابن عباس: يُحَذِّر به غيره] (¬6) قال مقاتل: وذلك حين دُعِي إلى دين آبائه فأنزل الله: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: لا تعبد معه إلهًا آخر (¬7) {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [قال ابن عباس: يحذر به غيره] (¬8) يقول: أنت أكرم الخلق علىَّ ولو اتخذت من دوني إلهًا لعذبتك (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 55 أ، بنصه. (¬2) في نسخة (أ)، (ب): يقولون. (¬3) "تفسير مقاتل" 55 أ، بمعناه. قال ابن جرير 19/ 117: "لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء". (¬4) ذكره الهواري 3/ 242، ولم ينسبه. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 103. ونحوه في "معاني القرآن" للفراء 2/ 285. (¬6) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ب). وهو في "تفسير الوسيط" 3/ 364. (¬7) "تفسير مقاتل" 55 أ. و"تنوير المقباس" 314. "تفسير ابن جرير" 19/ 118. (¬8) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ج). (¬9) ذكره عن ابن عباس ابن الجوزي 6/ 147.

214

214 - قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أي: رهطك الأدنين وهم بنوا هاشم وبنوا المطلب خاصة (¬1)، وهم الأقربون، وهاشم والمطلب أخوان ابنا عبد مناف، قاله مقاتل (¬2). وقال ابن عباس: أنذِرهم أن لا يتخذوا من دوني ربًّا. وقال الكلبي: لما نزلت هذه الآية، صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفا ونادى الأقرب فالأقرب، فخذًا (¬3) "يا آل غالب، يا آل لؤي، يا آل كعب، يا آل مُرَّة، يا آل كلاب، يا آل قصي: لا أملك لكم من الله شيئًا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله، فأنذرهم" (¬4). وقال قتادة: قال لبني هاشم لما نزلت هذه الآية: "ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا فاتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬5). قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أرسلت إلى الناس كافة وأرسلت إليكم يا بني هاشم والمطلب خاصة" (¬6). وقالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئًا سلوني من مالي ما شئتم" (¬7). ¬

_ (¬1) "الوسيط" 3/ 364. (¬2) "تفسير مقاتل" 55 أ. (¬3) في النسخ الثلاث: فخذاً. مرة واحدة. وقد أخرجه مكرراً عبد بن حميد، عن قتادة. "الدر المنثور" 6/ 326. (¬4) "تفسير الهواري" 3/ 242، عن الكلبي. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 77. وعنه ابن جرير 19/ 122. (¬6) "تفسير مقاتل" 55 أ. (¬7) أخرجه ابن جرير 19/ 118، والترمذي 5/ 316، كتاب تفسير القرآن، رقم: 3184، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

215

وقال أبو هريرة: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جعل يدعو بطون قريش بطنًا بطنًا؛ يا بني فلان:"أنقذوا أنفسكم من النار" حتى انتهى إلى فاطمة؛ فقال: "يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببللاها" (¬1). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصفا فقال: "يا صباحاه (¬2) فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسكم أكنتم مصدقي؟ قالوا بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (¬3). 215 - قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال المفسرون وأهل المعاني: جانِبَك لمن اتبعك من المؤمنين (¬4). وذكرنا تفسير خفض ¬

_ (¬1) عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دَعَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْب أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَاَفٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي هَاشِيم أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنَي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا). أخرجه مسلم 1/ 192، كتاب الإيمان، رقم: 204. وأخرج نحوه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4771، الفتح 8/ 501. البِلال: الماء، ومعنى الحديث: سأصلها؛ شُبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة. "شرح النووي على صحيح مسلم" 3/ 80. (¬2) تقول العرب إذا نَذِرَت بغارة من الخيل تفجؤهم صباحاً: يا صباحاه، يُنذرون الحيَّ أجمع بالنداء العالي. "تهذيب اللغة" 4/ 266 (صبح). (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 120. وابن أبي حاتم 9/ 2825. (¬4) "تنوير المقباس" 314. و"مجاز القرآن" 2/ 91. و"تفسير السمرقندي" 2/ 486.

216

الجناح في سورة بني إسرائيل (¬1). قال ابن عباس: يريد أكرم من اتبعك من المصدقين بتوحيد الله وألِنْ لهم القول وأظهر لهم المحبة والكرامة. 216 - {فَإِنْ عَصَوْكَ} قال ابن عباس: يريد عشيرتك. وقال مقاتل: يعني بني هاشم وبني المطلب {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي: من الكفر وعبادة غير الله (¬2). والآية دليل على أن موالاة المشرك حرام بكل حال؛ ألا ترَى كيف أمر الله رسوله في عشيرته الأقربين. 217 - {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} قال الكلبي: فوض إليه جميع أمرك. وقال مقاتل: ثق باللهِ {الْعَزِيزِ} في نقمته (¬3) {الرَّحِيمِ} بهم حين لم يعجل عليهم بالعقوبة (¬4). 218، 219 - قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي: للصلاة وإلى الصلاة. قاله ابن عباس والكلبي (¬5). وقال مقاتل: حين تقوم وحدك إلى الصلاة (¬6). وقال مجاهد: الذي يراك أينما كنت، يعني: يراك حين تقوم أينما كنت (¬7). ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [24]. (¬2) "تفسيير مقاتل" 55 أ. (¬3) "تنوير المقباس" 314. (¬4) "تفسير مقاتل" 55 ب. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2827، عن ابن عباس. و"تنوير المقباس" 315. واقتصر في الوجيز 2/ 798، على قول: "إلى صلاتك". (¬6) "تفسير مقاتل" 55 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2828، عن الحسن. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2828، وأخرج نحوه عن: الضحاك، وعكرمة، وقتادة.

فعلى قول مجاهد: {تَقُومُ} عام في كل شيء قام إليه، وهو الظاهر؛ لأنه بمرأى من الله إلى أي شيء قام (¬1). وعلى قول الآخرين: هذا القيام يختص بالقيام إلى الصلاة، وفائدته: التنبيه على تعظيم الصلاة، كما يقول القائل لغيره: راقب مَنْ يراك إذا صليت، والله تعالى يراه إذا لم يكن مصليًا. قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال مقاتل: يعني: ويرى ركوعك وسجودك وقيامك. وهو التقلب في الساجدين يعني: مع المصلين في الجماعة (¬2). والمعنى: يراك إذا صليت وحدك ويراك إذا صليت في الجماعة راكعًا وساجدًا وقائمًا. وهو قول عكرمة، والكلبي، وقتادة، وابن زيد، ورواية عن عطية وعطاء الخراساني، عن ابن عباس (¬3)؛كل هؤلاء فسروا التقلب في الساجدين بالتصرف مع المصلين قائمًا وراكعًا وساجدًا، وهو اختيار الفراء؛ قال: تقلبه: قيامه وركوعه وسجوده وقعوده (¬4). وقال ابن عباس في رواية جويبر، عن الضحاك عنه: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} في أصلاب الآباء؛ آدم ونوح وإبراهيم. ونحو هذا روى عطاء وعكرمة عنه: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} يريد: في أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك. في هذه الآية قال عطاء عنه: ما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) وهذا المعنى أخرجه ابن جرير 19/ 124، عن ابن عباس، من طريق عطاء الخراساني: "يراك وأنت مع الساجدين تقلب وتقوم وتقعد معهم". (¬2) "تفسير مقاتل" 55 ب و"تنوير المقباس" 314. قال مجاهد: "في المصلين". "تفسير مجاهد" 2/ 466. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 77، عن قتادة، وعكرمة وأخرجه ابن حرير 19/ 123، عن ابن عباس، وعكرمة. وذكره الثعلبي 8/ 118 أ، عن عكرمة، وعطية، وعطاء عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل والكلبي. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 285. واقتصر عليه في الوجيز 2/ 798.

يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه (¬1). وقال الحسن: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} يعني: ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين (¬2). وقال مجاهد في هذه الآية: كان النبي-صلى الله عليه وسلم- إذا قام في الصلاة أبصر مَنْ خلفه من الصفوف كما يرى مَنْ بين يديه (¬3). وعلى هذا معنى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} إبصارك منهم (¬4) مَنْ هو خلفك كما تبصر مَن هو أمامك. يدل على هذا ما روى قتادة عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬

(¬1) "تنوير المقباس" 314. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2828، من طريق عكرمة، وعطاء. وذكره كذلك الثعلبي 8/ 119ب. قال الطوسي: "وقال قوم من أصحابنا: إنه أراد تقلبه من آدم إلى أبيه عبد الله في ظهور الموحدين، لم يكن فيهم من يسجد لغير الله". التبيان للطوسي 8/ 68. ولم يعترض ابن كثير على ذلك. وهذا يعارضه كون أبوي النبي -صلى الله عليه وسلم- كافرين، بدليل: حديث أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (في النَّارِ فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: إِنَّ أبِي وَأَبَاكَ في النَّارِ) أخرجه مسلم 1/ 191، كتاب الإيمان، رقم: 203. وأبو داود 5/ 90، كتاب السنة، رقم: 4718. وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَاذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي) أخرجه مسلم 2/ 671، كتاب الجنائز، رقم: 976. وأبو داود 3/ 557، كتاب الجنائز، رقم: 3234. وقد رد هذا القول الشنقيطي من وجه آخر فقال: "في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالى قبله مقترناً به: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} فإنه لم يقصد به أنه يقوم في أصلاب الآباء إجماعاً، وأول الآية مرتبط بآخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك ومجلسك، ويرى تقلبك في الساجدين، أي: المصلين، على أظهر الأقوال. أضواء البيان 6/ 388. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 124، بلفظ: " {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال: في الناس". (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 466. وأخرجه ابن جرير 19/ 124. وابن أبي حاتم 9/ 2829. وذكره الهواري 3/ 243، ولم ينسبه. (¬4) منهم. في نسخة (ج).

220

"أتموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم" (¬1). 220 - قوله تعالى {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال ابن عباس: {السَّمِيعُ} لقولك {الْعَلِيمُ} بما في قلبك من الإيمان واليقين (¬2). وقال مقاتل: {السَّمِيعُ} لما قالوا حين دعوه إلى دين آبائه {الْعَلِيمُ} بذلك. ثم قال لكفار مكة (¬3): 221 - {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ثم أنبأ فقال (¬4): 222 - {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} قال ابن عباس: كل كذاب فاجر (¬5). قال الكلبي: مثل مسيلمة وطليحة (¬6). وكان لكل كاهن منهم تابع من الجن يأتيه بما يستمع من السماء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، رقم: 419، "الفتح" 1/ 514. ومسلم 1/ 319، كتاب الصلاة، رقم: 425. وهذا الحديث يدل على صحة المعنى الذي ذكره مجاهد، لكنه لا يدل على أن المراد من الآية هو هذا التفسير، والنَه أعلم. قال ابن عطية 11/ 159، عن هذا القول:"وهذا معنى أجنبي هنا". ولم يرجح الواحدي شيئاً من هذه الأقوال، ولعل الأقرب ما رجحه ابن جرير 19/ 125، من أن المراد: يرى تقلبك مع الساجدين في صلاتك معهم. والله أعلم. (¬2) قال الثعلبي 8/ 118 ب: " {السَمِيعُ} لقراءتك {الْعَلِيمُ} بعملك". (¬3) "تفسير مقاتل" 55 ب. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 104. (¬5) "تفسير مجاهد" 2/ 467، ولفظه:"كذاباً من الناس". وقال مقاتل 55 ب: "يعني: كذاب". (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 118ب، بنصه، منسوبًا لمقاتل. وفي "تفسير مقاتل" 55 ب: "منهم مسيلمة الكذاب، وكعب ابن الأشرف". وهو في "تنوير المقباس" 315، بلفظ: فاجر كاهن وهو مسيلمة الكذاب وطلحة. فلعل: طلحة تصحيف: طليحة. يراجع للتعريف بهما.

223

وقال قتادة: هم الكهنة تسترق الجن السمع ثم يأتون (¬1) إلى أوليائهم من الإنس (¬2). وقال أبو إسحاق: قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم قال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ثم قال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} كالمتصل بهذا. ثم أعلم أن الشياطين على من تنزل فقال: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (¬3). 223 - قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: يلقون ما سمعوه إلى الكهنة (¬4). وقال الفراء: يلقون إلى كهنتهم السمع الذي سمعوا {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (¬5)؛ لأنهم يخلطون به كذبًا كثيرًا. وهذا كان قبل أن أوحي (¬6) إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد ذلك: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9]. قال الكلبي: يستمعون إلى السماء فيأتون بما استمعوا إلى كهنتهم (¬7). ¬

_ (¬1) في نسخة (ج): يلقون. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 78. وعنه ابن جرير 19/ 125. ويشهد له حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: (إنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَىْءٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله فَإِنَهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّىْءِ يَكُونُ حَقَّا قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا في أُذُنِ وَليِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كذْبَةٍ) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، رقم: 7561، الفتح 13/ 535. ومسلم 4/ 1750، كتاب السلام، رقم: 2228. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 104. (¬4) قال مجاهد: "الشيطان ما سمعه ألقاه {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ". "تفسير مجاهد" 2/ 467. وأخرج نحوه ابن جرير 19/ 126. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 285. (¬6) هكذا في جميع النسخ. (¬7) "تنوير المقباس" 315.

وقال مقاتل: إن الله تعالى إذا أراد أمرًا في الأرض عَلِم به أهل السموات من الملائكة، فتكلموا به، فتسمع الشياطين، وترميهم الملائكة بالشهب، فيخطفون الخطْفة، فذلك قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} قال: معناه: يلقون بآذانهم إلى كلام الملائكة (¬1). وهذا التفسير غير الأول في: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} (¬2) ويشهد لهذا قوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ومعناه: استمع. وقال في قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} يعني: الشياطين حين يخبرون الكهنة أنه يكون في الأرض كذا وكذا (¬3). وذكر صاحب النظم قولًا آخر في: {يُلْقُونَ السَّمْعَ}؛ وهو أنه قال: يعني (كل أفاك أثيم) وأخرج فعلهم مخرج الجماعة؛ لأن قوله: (كل أفاك) يتضمن الجمع، أي: يستمعون إلى الشياطين. وعلى هذا قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} من صفة: (كل أفاك أثيم). قال: وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: الشياطين يخبرونهم بالكذب وهم يسمعون منهم فيقصون به، فجاء قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} وقوله: (كاذبون) كالمتصل بعضها ببعض وهما مختلفان لاختلاف الأسماء فيهما؛ يعني: أن قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} من صفة الكهنة، وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} من صفة الشياطين (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 55 ب. (¬2) هكذا في نسخة (ج): في: يلقون السمع. وفي: (أ)، (ب): ويلقون السمع. (¬3) "تفسير مقاتل" 55 ب. (¬4) وذهب إلى هذا ابن قتيبة، فقال في "غريب القرآن" 321: " {يُلْقُونَ السَّمْعَ} يسترقونه".

224

224 - قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (¬1) الشعراء جمع الشاعر، يقال: شَعَر يشعُر شِعرًا، وشِعرة إذا علم (¬2)، والشعر: القَريض المحدود بعلامات لا يُجاوزها، وقائله شاعر؛ لأنه يَشعُر [ما لا يَشعُر] (¬3) غيره (¬4). وجمعه شعراء مثل: جاهل وجهلاء، وعالم وعلماء (¬5). ¬

_ (¬1) عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبعُهُمُ الْغَاوُونَ) فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}. أخرجه أبو داود 5/ 280، كتاب الأدب، رقم: 5016. وذكر ابن تيمية -رحمه الله- حكمة جيدة لذكر الحديث عن الشعراء في هذه السورة، بعد ذكر قصص من سبق من الأنبياء، فقال: "فذكر الفرق بينه وبين من قال: تنزل عليه الشياطين، من الكهان، والمتنبئين ونحوهم، وبين الشعراء؛ لأن الكاهن قد يخبر بغيب بكلام مسجوع، والشاعر أيضًا يأتي بكلام منظوم يحرك به النفوس، فإن قرين الشيطان مادته من الشيطان، ويعين الشيطان بكذبه وفجوره، والشاعر مادته من نفسه، وربما أعانه الشيطان، فأخبر أن الشياطين إنما تنزل على من يناسبها، وهو الكاذب في قوله، الفاجر في عمله، بخلاف الصادق البر، وأن الشعراء إنما يحركون النفوس إلى أهوائها فيتبعهم الغاوون، وهو الذين يتبعون الأهواء وشهوات الغي، فنفى كلاً منهما بانتفاء لازمه، وبين ما تجتمع فيه من شياطين الإنس والجن". تفسير آيات أشكلت 2/ 727. (¬2) هكذا في جميع النسخ: شعراً وشعرة. وفي "تهذيب اللغة" 1/ 420: شَعراً، وشِعرًا. (¬3) ما بين المعقوفين، في نسخة (أ)، (ب). (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 420 (شعر). (¬5) قال الشافعي: "الشعر: كلام منظوم بمنزلة المنثور من الكلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، فإذا قال الرجل شعرًا وفيه رفث، وفحش سقطت عدالته، وإذا قال شعرًا فيه الغزل الذي ليس بمكروه، أو مَدَح رجلاً قُبلت عدالته". "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 142.

قال ابن عباس: يريد: المشركين {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} من الشياطين (¬1). قولى: يريد المشركين، يعني: الشعراء المشركين. وقد ذكر مقاتل أسماءهم؛ فقال: منهم: عبد الله بن الزَّبَعرى السهمي، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومُسافع بن عبد مناف الجُمحي، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، كلهم من قريش، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل وقالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وقالوا: الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم (¬2) يسمعون أشعارهم، ويروون عنهم حين يهجون النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه (¬3). وقال عكرمة: تهاجا شاعران في الجاهلية مع كل واحد فئام (¬4) من الناس فقال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وهما ذانك الشاعران (¬5). وهذا قول الضحاك في سبب النزول، وقال: الغواة: السفهاء (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 127. (¬2) في نسخة (أ)، (ب): قولهم. (¬3) "تفسير مقاتل" 55 ب. (¬4) الفئام من الناس: الجماعة. "تهذيب اللغة" 15/ 572 (فأم). (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2832. (¬6) أخرج ابن جرير 19/ 127، بلفظ: "كان رجلان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين". وذكره كذلك الثعلبي 8/ 118 ب. وفي كون ذلك حدث بعد الهجرة إشكال من ناحية كون هذه السورة مكية. قال ابن كثير 6/ 175: "ولكن هذه السورة مكية، فكيف يكون سبب نزول هذه الآية في شعراء الأنصار؟ في ذلك نظر، ولم يتقدم إلا مُرسلاتٌ لا يعتمد عليها، والله أعلم، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم".

225

وهي رواية العوفي عن ابن عباس (¬1). وقال عكرمة، والشعبي: {الْغَاوُونَ} عصاة الجن (¬2). وهو معنى قول ابن عباس في رواية ابن بريدة؛ قال: هم الشياطين (¬3). وهو قول قتادة، ومجاهد: {الْغَاوُونَ} الشياطين (¬4). وروى عكرمة عنه: {الْغَاوُونَ} الرواة (¬5). وهو قول الكلبي، قال: الرواة الذين يروون هِجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانو ينحرون لهم الجُزُر (¬6). وقال الفراء: نزلت في ابن الزبعرى وأشباهه؛ لأنهم كانوا يهجون النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين (¬7) يتبعهم غواتهم الذين كانوا يرون سب النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬8). 225 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} قال أبو عبيد: رجل هائم وهيوم وهو الذاهب على وجهه (¬9). وأنشد: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 127، عن ابن عباس، وعكرمة. وابن أبي حاتم 9/ 2833. وذكره الثعلبي 8/ 118 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 127، وابن أبي حاتم 9/ 2831، عن عكرمة. (¬3) أخرجه الثعلبي 8/ 118 ب، بسنده عن ابن بريدة عن ابن عباس. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 467. وأخرجه ابن جرير 19/ 127. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 78، عن قتادة، وعنه ابن جرير 19/ 127. (¬5) أخرجه ابن جرير 19/ 126، وابن أبي حاتم 9/ 2831. وذكره الثعلبي 8/ 118ب. (¬6) "تنوير المقباس" 315، بلفظ: الراوون يروون عنهم. (¬7) والمسلمين، في نسخة (أ)، (ب). وهو موافق لما عند الفراء. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 285. قال ابن جرير 19/ 127: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين، وعصاة الجن، وذلك أن الله عَمَّ بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فلم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض". (¬9) "تهذيب اللغة" 6/ 467 (هام)، من كلام أبي عبيد، دون ذكر البيت. وفي "مجاز=

إلا طرقت مي هُيومًا بذكرها (¬1) يقال: هام يهيم هُيومًا وهَيَمامًا وهَيْمًا (¬2). قال ابن عباس: في كل فنٍّ من الكذب يتكلمون (¬3). وقال مجاهد: في كل فنٍّ يفتنون (¬4). وقال مقاتل: في كل فنٍّ يأخذون (¬5). وعن ابن عباس أيضًا في كل لغوٍ يخوضون (¬6). وقال قتادة: يمدحون بباطل ويشتمون بباطل (¬7). فالوادي مثلٌ لفنون الكلام وأساليبه، وهيمانهم فيه: خوضهم، وقولهم على الحيرة والجهل بما يقولون من لغو وباطل وغلو في مدح أو ذم (¬8). ¬

_ = القرآن" 2/ 91: "الهائم: هو المخالف للقصد الجائر عن كل حق، وخير". "لأن من أتبع الحق، وعلم أنه يكتب عليه قوله تثبت، ولم يكن هائماً يذهب على وجه لا يبالي ما قال". "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 196. وكتبت خطأ في النسخ الثلاث: أبو عبيدة. (¬1) شطر بيت نسب لذي الرمة، وعجزه: وأيدي الثريا جنح في المغارب (¬2) قال أبو عبيد: وقد هام يهيم هُياماً. "تهذيب اللغة" 6/ 467 (هاما). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2833، بلفظ: "في كل فن من الكلام يأخذون". (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 467. وأخرج ابن جرير 19/ 128 (¬5) "تفسير مقاتل" 55 ب. (¬6) ذكره البخاري تعليقاً، كتاب الأدب. الفتح 10/ 537. ووصله ابن جرير 19/ 128، وابن أبي حاتم 9/ 2833، من طريق علي بن أبي طلحة. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 78. وعنه ابن جرير 19/ 128. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2833. (¬8) "تفسير هود الهواري" 3/ 244، بمعناه. وقد ورد في السنة ذم الشعر، والتحذير من الإلتهاء به، في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي =

226

وقال ابن الأعرابي: قال بعضهم: هو وادي الصحراء يخلو فيه العاشق والشاعر [يتفرجان فيه]. قال: ويقال هو وادي الكلام (¬1). والله أعلم. وقال الزجاج: ليس يعني أودية الأرض إنما هو مثل لقولهم وشعرهم (¬2). 226 - قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} قال مقاتل: يقولون: فعلنا وفعلنا وهم كذبة (¬3). ¬

_ = الله عنهمَا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا". أخرجه البخاري، كتاب الأدب، رقم: 6154، الفتح 10/ 548. ومسلم 4/ 1769، كتاب الشعر، رقم: 2258. وهذا محمول على الشعر الباطل، ويدل لذلك حديث عَائِشَةَ أَن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ" فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ اهْجُهُمْ فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ثُمِّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنٍ ثَابِتٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ حَسَّانُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِب بِذنَبِهِ ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَق لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:"لاَ تَعْجَلْ فَإِنَ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنَسَابِهَا وإِن لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي" فَأَتَاهُ حَسِّانُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَسُلِّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لِحَسَّانَ: "إِنَ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ الله وَرَسُولِهِ" وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ "هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى". أخرجه مسلم 4/ 1935، كتاب: "فضائل الصحابة، رقم: 2490. وأصله في البخاري، كتاب الأدب، رقم: 6153، "الفتح" 10/ 564. (¬1) "تهذيب اللغة" 6/ 477 (هام)، دون قوله: يتفرجان فيه. واقتصر على هذا القول ابن قتيبة، "غريب القرآن" 321، ولم ينسبه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 104. (¬3) "تفسير مقاتل" 55 ب. 104.

227

وقال أبو إسحاق: هذا دليل على تكذيبهم في قولهم. يعني: أن الله كذبهم فيما يقولون ثم استثنى شعراء المسلمين فقال (¬1): 227 - {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال مقاتل والكلبي: هم عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وسائر شعراء المسلمين (¬2). وقال ابن عباس: استثنى شعراء المهاجرين والأنصار (¬3). وقال أبو إسحاق: هم الشعراء الذين مدحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وردوا هجاءه، وهجاء المسلمين (¬4). قوله: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله عز وجل، ولم يجعلوا الشعر همهم (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 105. و"تفسير مقاتل" 55 ب. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 285، كلاهما من قوله: "ثم استثنى". وأخرجه بإسناده النحاس عن ابن عباس، الناسخ والمنسوخ 2/ 572. (¬2) "تفسير مقاتل" 55 ب. وقال مجاهد: "ابن رواحة، وأصحابه". "تفسير مجاهد" 2/ 467 وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2834، عن ابن عباس، من طريق الضحاك. وأخرجه عنه أيضًا النحاس، الناسخ والمنسوخ 2/ 571. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 129، ولفظه: "ثم استثنى المؤمنين منهم، يعني: الشعراء". (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 105. (¬5) في نسخة (ج): همتهم. "معاني القرآن" للزجاج 4/ 105. بنصه. فعلى هذا إما أن يراد: ذكروا الله كثيرًا، في كلامهم، على وجه العموم، أو: ذكروا الله كثيرًا في شعرهم، وقد أخرج ابن جرير القول الأخير عن ابن زيد. وهذا القول يدل على ضرورة أن يتميز الشاعر المؤمن بكثرة ما يورد في شعره من ذكر الله تعالى، والدعوة إليه. والله أعلم.

{وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال مقاتل: وانتصروا من المشركين (¬1)؛ لأن المشركين بدؤوا بالهجاء (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد إخراج المشركين إياهم من مكة وبيعهم دورهم. وعلى هذا الظلم الذي نالهم ليس الهجاء، إنما هو: ما ذكره من الإخراج عن المنزل وبيع المساكن، وانتصارهم منهم: هجاؤهم إياهم (¬3). ومَنْ أحق بأن يُهجَى (¬4) ممن كذب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهجاه (¬5). قال مقاتل: ثم أوعد شعراء المشركين فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} يعني: أشركوا (¬6). وقال الكلبي: هجوا النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬7). وقال ابن عباس: {ظُلِمُوا} المهاجرين وأخرجوهم من ديارهم. وعلى هذا هو عام في مشركي مكة؛ وهو الأولى. {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قال ابن عباس: يريد إلى جهنم والسعير. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 56 أ. (¬2) "تفسير السمرقندي" 2/ 487. (¬3) "تفسير السمرقندي" 2/ 487، بمعناه، ولم ينسبه. أخرج ابن جرير 19/ 130، عن ابن عباس، من طريق علي بن أبي طلحة قال: (يردون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين). (¬4) في نسخة (أ)، زيادة: نالهم ليس الهجاء إنما هو ما ذكره من إلا. والكلام مستقيم بدونها. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 105، بنصه. (¬6) "تفسير مقاتل" 56 أ. (¬7) "تنوير المقباس" ص 315، وذكره عنه السمرقندي 2/ 487، بلفظ: (هجوا المشركين).

وقال أبو إسحاق: عني أنهم ينقلبون إلى نار جهنم مخلدون فيها، وأيَّ: منصوبة بقوله: {يَنْقَلِبُونَ} لا بقوله: {وَسَيَعْلَمُ} لأن أيًا، وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها (¬1). وهذا مما تقدم الكلام فيه في مواضع من هذا الكتاب (¬2). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 105. (¬2) راجع الإسراء: 110 {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والكهف: 12 {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ}.

سورة النمل

سورة النمل

1

تفسير سورة النمل (¬1) 1 - (طس) قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عز وجل، أقسم الله به (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية. "تفسير مقاتل" 56 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 119 ب. و"تفسير هود الهواري" 3/ 246، دون ذكر العدد. والوسيط 3/ 368. ولم يقع خلاف في مكيتها. "تفسير القرطبي" 13/ 154، وأبي حيان 7/ 51. وحكى ابن الجوزي 6/ 153، الإجماع على ذلك. وسماها أبو بكر بن مجاهد: سورة سليمان. "السبعة في القراءات" 478. وذكر ابن عاشور 19/ 215، عن ابن العربي، في أحكام القرآن، أنها تسمى سورة: الهدهد، ولكني لم أجده عنده. ثم قال: ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ: النمل، ولفظ: الهدهد، لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها: سليمان؛ فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلًا لم يذكر مثله في غيرها. وذكر الألوسي 19/ 154، الخلاف في مدنية بعض آياتها. قال المهايمي: سميت سورة النمل لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدًا. وهو مما يوجب الثقة بهم، وهو من أعظم مقاصد القرآن. "تفسير المهايمي" 2/ 99. وذكر الواحدي، في "الوسيط" 3/ 368، حديث أبي بن كعب في فضل هذه السورة، وهو حديث موضوع. تخريج الزيلعي للكشاف 3/ 23. و"الفتح السماوي" 2/ 892. وقد سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 131، وابن أبي حاتم 9/ 2838، من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره الثعلبي 8/ 120. وفي "تنوير المقباس" 315: ط، طوله، وسين، سناؤه، ويقال: قسم أقسم به.

2

وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن (¬1). قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} تفسيره قد تقدم في أوائل سور (¬2). 2 - وقوله: {هُدًى} قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون {هُدًى} في موضع نصب على الحال، المعنى: تلك آيات الكتاب هاديةً ومبشرةً، ويجوز أن يكون في موضع رفع من جهتين؛ أحدهما: على إضمار: هو هدى، وإن شئت على البدل من آيات؛ على معنى: تلك هدى وبشرى. قال: وفي الرفع وجه ثالث، وهو حسن؛ على أن يكون خبرًا بعد خبر، وهما جميعًا خبرٌ لتلك، كقولهم: هو حلو حامض، أي: قد جمع الطعمين، فيكون خبر (تِلْكَ): (آيَتُ) (¬3) و: (هُدًى) أيضًا فتجمع أنها آيات، وأنها هادية ومبشرة (¬4). قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: بيان من الضلالة لأولياء الله، ولمن عمل به، وبشرى (¬5) بما فيه من الثواب للمصدقين بالقرآن أنه من عند الله، وبالجنة لمن آمن بمحمد عليه السلام. ثم نعتهم فقال (¬6): {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 79. وذكر الواحدي، في "الوسيط" 3/ 368، عن مجاهد: هو من الحروف المقطعة، التي هي فواتح يفتح الله بها القرآن، وليست من أسماوئه. وذكر البرسوي 6/ 318، تأويلات باطلة لهذه الحروف. (¬2) سبق ذكر ما أحال عليه الواحدي في أول سورة الشعراء. (¬3) آيات. سقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 107. (¬5) (وبشرى) ساقطة من نسخة (أ)، (ب). (¬6) "تفسير مقاتل" 56 ب.

4

4 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} لا يصدقون بالبعث (¬1) {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني: ضلالتهم حتى رأوها حسنة (¬2). وفي هذا تكذيب للقدرية حيث أضاف الله تزيين القبيح لهم إلى نفسه (¬3). وقال أبو إسحاق: أي: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه (¬4) {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يترددون فيها متحيرين (¬5). 5 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} شدة العذاب (¬6). وقال ابن عباس: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 56 ب. و"تفسير السمرقندي" 2/ 489. (¬2) "تفسير مقاتل" 56 ب. (¬3) قال ابن كثير 6/ 178: أي: حسنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم. وذكر الزمخشري 3/ 337، أن إسناد التزيين إلى الله تعالى هنا مجاز، وإسناده إلى الشيطان في قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} حقيقة. قال أبو حيان 7/ 52: وهذا تأويل على طريق المجاز. قال البقاعي 14/ 127: والإسناد إليه سبحانه حقيقي، عند أهل السنة؛ لأنه الموجد الحقيقي، وإلى الشيطان مجاز سببي. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 108. قال البرسوي 6/ 319: حيث جعلناها مشهاة للطبع محبوبة للنفس، كما ينبئ عنه قوله عليه الصلاة والسلام:"حفت النار بالشهوات" أي: جعلت محفوفة ومحاطة بالأمور المحبوبة المشتهاة. واعلم أن كل مشيئة وتزيين وإضلال ونحو ذلك منسوبة إلى الله تعالى بالأصالة، وإلى غيره بالتبعية. والحديث، أخرجه مسلم 4/ 2174، كتاب الجنة وصفة نعيمها، رقم: 2823، والترمذي 4/ 598، كتاب صفة الجنة، رقم: 2559. (¬5) "تفسير مقاتل" 56 ب. قال مجاهد: فهم في ضلالهم يترددون، "تفسير مجاهد" 2/ 469. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2841، عن ابن عباس: في كفرهم يترددون. (¬6) "تنوير المقباس" 315. و"تفسير مقاتل" 56 ب. و"تفسير هود الهواري" 3/ 246. و"تفسير السمرقندي" 2/ 489.

6

أشد العذاب (¬1). قال مقاتل والكلبي: يعني في الآخرة (¬2). وقال غيرهما: يعني في الدنيا؛ وهو القتل والأسر ببدر (¬3). {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} قال ابن عباس: خسروا أنفسهم وأهليهم، وقرنوا بالشياطين. 6 - {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} قال مجاهد ومقاتل: لتؤتى بالقرآن (¬4). وقال السدي: يلقى عليك الوحي (¬5). وقال الكلبي: لتعطى القرآن (¬6). ومضى تفسير التلقية والتلقي عند قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ} [البقرة: 37] (¬7). قال أبو إسحاق: أي يُلقى إليك القرآن وحيًا من عند الله عز وجل أنزله بعلمه وحكمته (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 368، ولم ينسبه. (¬2) "تفسير مقاتل" 56 ب. و"تنوير المقباس" 315. (¬3) ذكره ابن جرير 19/ 132،ولم ينسبه. (¬4) "تفسير مقاتل" 56 ب. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2842. واقتصر على هذا القول في تفسيره الوسيط 3/ 368، و"الوجيز" 2/ 799. (¬6) "تنوير المقباس" 315، بلفظ: ينزل عليك جبريل بالقرآن. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2841، عن قتادة: لتأخذ القرآن. (¬7) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: التلقي في اللغة معناه: الاستقبال، ومنه الحديث: (أنه نهى عن تلقي الركبان) قالوا معناه. الاستقبال، الليث يقول: خرجنا نتلقى الحاج؛ أي: نستقبلهم، وفي حديث آخر: (لا تتلقوا الركبان والأجلاب) هذا معنى التلقي في اللغة. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 108.

7

7 - قوله: {إِذْ قَالَ مُوسَى} قال الزجاج: موضع (إِذْ) نصب، المعنى: اذكر {إِذْ قَالَ مُوسَى} أي: اذكر قصته (¬1). وقوله: (لأَهْلِهِ) قال مقاتل: لامرأته (¬2) {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} مفسر في سورة: طه (¬3). {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أين الطريق، أي: بخبر عن الطريق؛ وقد كان تَحيَّر، وترك الطريق. قاله ابن عباس ومقاتل (¬4) (أَوْءَاتِيكُم) أي: فإن لم أجد أحدًا يخبرني عن الطريق {آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} (¬5). قال ابن السكيت: الشهاب: العود الذي فيه نار (¬6). وقال أبو الهيثم: الشهاب: أصل خشبة فيها نار ساطعة (¬7). وقال الليث: الشهاب شُعلةٌ نارٍ ساطعة، والجمعُ: الشُّهب والشُّهبان (¬8). وقال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 108. (¬2) "تفسير مقاتل" 56 ب. (¬3) عند قوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} رقم: 10. (¬4) "تفسير مقاتل" 56 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2842، عن ابن عباس. وذكره عنه الماوردي 4/ 194. (¬5) "تفسير مقاتل" 56 ب. (¬6) "تهذيب اللغة" 6/ 88 (شهب). (¬7) "تهذيب اللغة" 6/ 88 (شهب). و"تفسير الوسيط" 3/ 369، ولم ينسبه. (¬8) "العين" 3/ 403 (شهب)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 6/ 87 (شهب). (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 108. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 143.

ويدخل في هذا النجم والنار والسنان (¬1)، وقد استعمل الشهاب في هذا كله. وقال أبو علي: الذي قاله أبو إسحاق لا أدري أقاله رواية أم استدلالًا (¬2). وتفسير القبس قد سبق في سورة طه (¬3). وقرئ قوله: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بالتنوين، وبالإضافة (¬4)، قال أبو إسحاق: فَمَنْ نَوَّن جعل قبس من صفة الشهاب (¬5). ومن أضاف؛ فقال الفراء: هو مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف الاسمان؛ كقوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109] (¬6). ¬

_ (¬1) السنان: سنان الرمح، وجمعه: أسنة؛ وسنان الرمح: حديدته لصقالتها ومَلاستها. "تهذيب اللغة" 12/ 298 (سنن) و"لسان العرب" 13/ 223. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 373. (¬3) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه: 10]: القبس شعلة من نار يقتبسها من معظم النار. قال أبو زيد: أقبست الرجل عِلمًا، بالألف واللام، وقبسته نارًا؛ إذا جئته بها، فإن كان طلبها قال: أقبسته بالألف. وقال الكسائي: أقبسته نارًا وعِلمًا سواء، وقد يجوز طرح الألف منهما. قال المبرد: والأصل واحد؛ لأن كلاهما مستضاء به. (¬4) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالإضافة."السبعة في القراءات" 478. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 372، و"النشر في القراءات العشري" 2/ 337. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 108. ويجوز أن يكون بدلًا منه."معاني القراءات"، للأزهري 2/ 233. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 286. وقد رد قول الفراء، النحاس، فقال: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين؛ لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم اليء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليبين به معنى الملك والنوع فمحال أن يبين أنه =

قال أبو علي: القبس يجوز أن يكون صفة، ويجوز أن يكون اسمًا غير صفة، فأما جواز كونه وصفًا فلأنهم يقولون: قَبَسْتُه أَقْبِسُه قَبْسًا، والقَبْسُ: اسم للشيء المقبوس، وكذلك الحَلْب قد يكون بمعنى: المحلوب، والقَبَس ما اقتبست، من قولهم: قَبَسْتُه نارًا إذا جئته بها. وإذا كان قوله: (قَبَسٍ) صفة فالأحسن التنوين؛ لأن الموصوف لا يضاف إلى صفة (¬1). وقال أبو الحسن: الإضافة أكثر وأجود في القراءة كما تقول: دار آجُرٍّ، وسوارُ ذهب، قال: ولو قلت: سوار ذهبٌ، ودارٌ آجرٌ كان عربيًا، والأكثر في كلام العرب الإضافة (¬2). قال أبو علي: فأبو الحسن: جعل القبس غير صفة، ألا ترى أنه جعله بمنزلة الآجرِّ والذهب، وليس واحد منهما صفة (¬3). وقال المفسرون: شعلة نار (¬4)، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} لكي تصطلوا، من البرد (¬5). قال الكلبي: وكان ذلك في شدة الشتاء (¬6). ¬

_ = مالك نفسه أو من نوعها، و {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إضافة النوع إلى الجسم، كما تقول: هذا ثوب خز ... "إعراب القرآن" 3/ 198. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 373، مختصرًا. (¬2) ذكر قول أبي الحسن، أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 377. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 377. (¬4) "تفسير مقاتل" 57 أ. و"مجاز القرآن" 2/ 92. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 322. و"تفسير ابن جرير" 19/ 133. (¬5) "تفسير هود الهواري" 3/ 247. و"تفسير ابن جرير" 19/ 133. و"تفسير الماوردي" 4/ 194. (¬6) "تنوير المقباس" 316. و"تفسير هود الهواري" 3/ 247، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2842، عن ابن عباس. وذكره الماوردي 4/ 194، عن قتادة.

8

ويقال: صَلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ. واستقصاء تفسير هذه الآية قد تقدم في سورة طه. 8 - وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ} قال الفراء (أَن) في موضع نصب إذا أضمرت اسم موسى في (نُودِيَ) وإن لم تضمر اسم موسى كانت (أَن) في موضع رفع. ونحو هذا قال الزجاج (¬1). وقوله: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال الفراء: العرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه (¬2)، قال الشاعر: فبوركت مولودًا وبوركت ناشئًا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أَشْيَبُ (¬3) والمعنى: بورك فيمن في النار، أو على من في النار. وقال آخر: بورك الميتُ الغريبُ كما بورِكَ ... نَظْمُ الرُّمان والزيتون (¬4) واختلفوا فيمن في النار؟ فالأحسن: أن الآية من باب حذف المضاف على تقدير: بورك من في طلب النار، وهو موسى عليه السلام، وكأنه تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، كما حيا إبراهيمَ بالبركة على ألسنة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 286. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 109. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 286. وذكره النحاس، عن الكسائي. "إعراب القرآن" 3/ 199. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 121 أ، ولم ينسبه. وعنه القرطبي 13/ 158. وذكره أبو حيان 7/ 54، ولم ينسبه. والبيت للكميت، يمدح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- "شرح هاشميات الكميت" 61. (¬4) أنشده الزجاج 4/ 45، ولم ينسبه. بلفظ: نظم، واستشهد به على أنه ليس شيء يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان. وذكره البغدادي، "خزانة الأدب" 10/ 467، بلفظ: نضح، وبلفظ: غصن الريحان، ونسبه لأبي طالب؛ عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من قصيدة له يرثي بها مسافر بن أبي عمرو. ديوان أبي طالب 93.

الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] (¬1). وقال أبو علي: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} مَنْ في قرب النار ليس يراد به: متوغلها. وقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة في قوله: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}: قُدِّس من في النار، وهو الله سبحانه؛ عني به نفسه (¬2). وعلى هذا إسناد البركة إلى الله كقوله: تبارك الله، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 120 ب. ولم ينسبه. واقتصر على هذا القول في "الوسيط" 3/ 369، و"الوجيز" 2/ 800. وجعله الرازي 24/ 182، أقرب الأقوال. واقتصر عليه ابن عاشور 19/ 226. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 133، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2845، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة. وأخرجه عن ابن عباس، عبد الله ابن الإمام أحمد، كتاب السنة 1/ 300، رقم: 582. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 79، عن قتادة بلفظ: نور الله بورك. وعن الحسن بلفظ: هو النور. وهو موافق لما عند ابن جرير. وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية مقررًا له. مجموع الفتاوى 5/ 461. ومن الروايات التي ذكرها شيخ الإسلام عن ابن أبي حاتم رواية سعيد بن أبي مريم ثنا مفضل ابن أبي فضالة حدثني ابن ضمرة: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: إن موسى كان على شاطئ الوادى -إلى أن قال- فلما قام أبصر النار فسار إليها، فلما أتاها {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: إنها لم تكن نارًا ولكن كان نور الله، وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله. وعلى هذا فلا وجه لرد هذه الأخبار أو تأويلها كما فعل بعض المفسرين؛ كالرازي 24/ 182، وابن جزي 502، وأبي حيان 7/ 54. وتوجيه الواحدي لهذا القول توجيه حسن. وذكر الألوسي عن الشيخ: إبراهيم الكوراني، تصحيحه لخبر ابن عباس، وأنه لا يحتاج إلى تأويل، وأن معناه ظاهر.

والمراد بالنار هاهنا: النور، وذلك أن موسى رأى نورًا عظيمًا فظنه نارًا لذلك ذكرها هنا بلفظ النار (¬1)، والمعنى: بورك الله الذي في النار، وحسن هذا؛ لأنه ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار (¬2). وهذا كما روي أنه مكتوب في التوراة: جاء الله من سيناء يعني: بعث الله موسى من سيناء حتى يدعو الخلق إليه، ويعرفهم توحيده ودينه ¬

_ (¬1) "الوسيط" 3/ 369، وصدره بقوله: ومذهب المفسرين. ونقله عنه الشوكاني 4/ 122، ولم يعترض عليه. وذكره الماوردي 4/ 195، ولم ينسبه. واقتصر عليه ابن كثير 6/ 179، وذكر عن ابن عباس، أنه قال: نور رب العالمين. وأخرجه ابن جرير 19/ 134، بلفظ: يعني نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة. ثم ذكر ابن كثير بعد ذلك حديثَ أَبِي مُوسَى؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ الله لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيرْفَعُهُ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. أخرجه ابن ماجه 1/ 71، المقدمة، رقم: 196. ومسلم 1/ 162، كتاب الإيمان، رقم: 179. دون ذكر الآية. وصححه الألباني، "صحيح سنن ابن ماجه" 1/ 39، رقم: 162. وجوَّد إسناده محقق مسند أبي يعلي الموصلي 13/ 245. قال السيوطي: أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب، قال: النار: نور الرحمن. "الدر المنثور" 6/ 341. قال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها. "تفسير البغوي" 6/ 145، ثم قال البغوي والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث (حجابه النار). وهي رواية للحديث السابق أخرجها الإمام أحمد، مسند الكوفيين، رقم: 19090. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- صحة هذا التأويل، ولا يلزم من القول به لوازم باطلة فإن الله تعالى قد أخبر بنفسه عن نفسه بذلك كما أخبرنا عن تجليه سبحانه وتعالى للجبل فقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] والله أعلم. (¬2) "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 77.

وشرائعه، فلما عرفوا بعثة موسى من سيناء قيل: جاء الله من سيناء، كذلك لما ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار، وصف بأنه في النار؛ على معنى: أنه عُرف منها (¬1). وقال بعضهم: على هذا القول تقدير الآية: {مَنْ فِي النَّارِ} سلطانه وقدرته، فحذف للإحاطة (¬2). وروي عن مجاهد في هذه الآية أنه قال: معناه: وبوركت النار (¬3). والتبرك عائد إلى النار. وهذا يكون على قراءة [أبيِّ، فإنه كان يقرأ: أن بوركت النار ومن حولها (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 120 أ. قال النيسابوري في وضح البرهان 2/ 138: وفي التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. أي: من هذه المواضع جاءت آياته، وظهرت رحمته حيث كلم موسى بسيناء، وبعث عيسى من ساعير، ومحمدًا من فاران جبال مكة. "وضح البرهان" 2/ 138. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 120ب. (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 469. وفيه: قال مجاهد: وكذلك قال ابن عباس. وهو كذلك عند ابن جرير 19/ 134، وابن أبي حاتم 9/ 2845. (¬4) أخرجها ابن أبي حاتم 9/ 2846. وذكرها الثعلبي 8/ 120 ب. قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير. "إعراب القرآن" 3/ 199. وذكر هذه القراءة ابن جني، بلفظ: تباركت الأرض. "المحتسب" 2/ 134. واختار هذا القول لهذه القراءة الزمخشري 3/ 338. وذكره أبو السعود 6/ 273، وصدر غيره بـ: قيل. واختاره البيضاوي 2/ 171. والبرسوي 6/ 321، قال: أي: من في مكان النار، وهو البقعة المباركة. ورجح هذا القول شيخنا: عبد الله الوهيبي، في تحقيقه لتفسير العز بن عبد السلام 2/ 457، مع أن العز لم يذكر هذا القول. وأما قول السعدي 5/ 562: أي: ناداه الله تعالى وأخبره أن هذا محل مقدس مبارك، ومن بركته أن جعله موضعًا لتكليم الله لموسى وإرساله. فإنه لا يلزم منه نفي ما عداه من الأقوال إذ لم يصرح بذلك. والله أعلم. وقد ذكر القاسمي =

ولا يتوجه قول مجاهد على قراءة] (¬1) العامة. وقال السدي: كان في النار ملائكة (¬2). فعلى هذا {مَنْ فِي النَّارِ} الملائكة (¬3). وروي أيضًا عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا: {مَنْ فِي النَّارِ} نور الله (¬4). وعلى هذا تكون: (مَن) بمعنى: ما، والله تعالى خلق نورًا في النار التي رآها موسى فكانت نارًا ونورًا (¬5). قوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} هم الملائكة وموسى، في قول الجميع (¬6). ¬

_ = 13/ 58، هذه الأقوال كلها ولم يرجح. لكنه قدم القول الذي اختاره الزمخشري، وقدمه أيضًا المراغي 19/ 123. (¬1) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2846، عن السدي. وذكره عنه الماوردي 4/ 195. (¬3) وذكر هذا القول النيسابوري، في "وضح البرهان" 2/ 138، ولم ينسبه. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 79. وابن جرير 19/ 134، عن قتادة بلفظ: نور الله بورك. وعن الحسن بلفظ: هو النور. وذكره الزجاج 4/ 109، ولم ينسبه. (¬5) حكى هذا القول الماوردي 4/ 195، والنيسابوري 2/ 138، ولم ينسباه. (¬6) هما قولان، الأول: الملائكة، "تفسير مقاتل" 57 أ، و"تفسير هود الهواري" 3/ 247، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 79، عن الحسن، وأخرجه ابن جرير 19/ 135، عن ابن عباس، والحسن، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2847، عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة. وأخرجه عن ابن عباس، عبد الله بن الإمام أحمد، كتاب السنة 1/ 300، رقم: 582. وذكره الفراء 2/ 286، ولم ينسبه. والثاني: موسى والملائكة، أخرجه ابن جرير 19/ 135، وابن أبي حاتم 9/ 2846، عن محمد بن كعب. وذكره الثعلبي، 8/ 121 أ، ولم ينسبه. والقولان في "تنوير المقباس" 316، و"تفسير الماوردي" 4/ 195. ونسبه ابن عطية 11/ 172، للحسن، وابن عباس. وذكر ابن الجوزي 6/ 155، قولًا ثالثًا، وهو: موسى فقط. والمعنى: بورك فيمن يطلبها وهو قريب منها. وذكر هذا القول العز في "تفسيره" 2/ 457.

9

وذلك أنه كان حول ذلك النور الذي رأى موسى ملائكةٌ، لهم زَجَل بالتسبيح والتقديس (¬1). وقال أبو علي: {وَمَنْ حَوْلَهَا} ومن لم يقرب منها قرب الآخذ فيها وهو موسى. يعني: أن موسى هو الآخذ منها، ألا ترى إلى قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} [التوبة: 101] لم يَقرب المنافقدن الذين حولهم قرب المخالِطين لهم؛ حيث يحضرونهم ويشهدونهم في مشاهدهم (¬2). {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: نزه نفسه (¬3). 9 - قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال مقاتل: إنَّ النور الذي رأيت {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬4). [وقال الكلبي: {يَا مُوسَى إِنَّهُ} إنَّ ذلك النور {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}] (¬5) فجعلا الكناية في (إِنَّهُ) عن النور. وهو فاسد من وجهين؛ أحدهما: أن النور لا يجوز أن يكون الله تعالى. والثاني: أن المذكور في القرآن النار، وكني عنها بالتأنيث كقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [لقصص: 30] وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} فلو كان الأمر على ما ذُكر لقيل: إنها؛ والصحيح: أن الكناية في قوله: ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 369. و"تفسير البغوي" 6/ 145، ولم ينسبه. والزَجَل: رفع الصوت الطَرِب. "تهذيب اللغة" 10/ 616 (زجل). (¬2) هكذا في نسخة (ج). وفي نسخة أ: لم يقرب المنافق الذي حولهم قرب بالمخاطبين لهم. وفي نسخة ب: لم يقرب المنافقون الذي حولهم قرب بالمخاطبين لهم. (¬3) "تنوير المقباس" 316، وذكره الواحدي في "الوسيط" 3/ 369، ولم ينسبه. وذكره الماوردي 4/ 195، عن السدي، من كلام موسى عليه الصلاة والسلام. (¬4) "تفسير مقاتل" 57 أ. (¬5) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج).

10

(إِنَّهُ) كناية عن الشأن والأمر، أراد: الشأن والأمر (أَنَا الله) وقد ذكرنا نظائر هذا عند قوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] وفي مواضع (¬1). وقال الفراء: هذه الهاء عماد، وهو اسم لا يظهر (¬2). وعلى هذا الهاء ليست بكناية (¬3)، ولكنها عماد تذكر تأكيدًا. 10 - قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} في الآية محذوف؛ تقديره: فألقاها فصارت حية تهتز {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} وحذف فألقاها؛ لأنه ذُكِر في سورتين؛ الأعراف، والشعراء (¬4). {كَأَنَّهَا جَانٌّ} قال الليث: الجانّ: حية بيضاء (¬5). وقال ابن شميل: الجانّ حية أبيض دقيق أملس لا يضر أحدًا، وجمع الجانّ: جنان (¬6). وفي الحديث: نهى عن قتل جنان البيوت؛ وهي حيات بيض تكون ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء: الهاء هاء عماد يوفى بها: إن، ويجوز مكانها: إنه، وكذلك هي في قراءة عبد الله. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 287، وفي الحاشية: هو المعروف عند البصريين بضمير الشأن. وذكر ذلك الطوسي، فقال: يسميها البصريون: إضمار الشأن والقصة. "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 77. واستظهر هذا القول أبو حيان 7/ 55. وهو قول البيضاوي 2/ 171. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 121 ب. قال ابن الجوزي 6/ 156: وعلى قول السدي: هى كناية عن المنادي؛ لأن موسى قال: من هذا الذي يناديني؟ فقيل: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ}. وصحح كونها كناية القرطبي 13/ 160. (¬4) في سورة الأعراف [107] والشعراء [32] {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} وفي سورة: طه [19، 20] {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}. (¬5) "العين" 6/ 21 (جن)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 10/ 496. (¬6) في "تنوير المقباس" 316: حية لا صغيرة، ولا كبيرة. وكذا في "معاني القرآن" للفراء 2/ 287. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 322. ولم أجده في "تهذيب اللغة".

في البيوت، لا تضر ولا تؤذي (¬1). قال أبو إسحاق: المعنى: أن العصا صارت تتحرك كما يتحرك الجانّ حركة خفيفة وكانت في صورة ثعبان (¬2). ونحو هذا قال ثعلب: شبهها في عظمها بالثعبان، وفي خفتها بالجانّ، فلذلك قال الله تعالى مرة: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ومرة: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107، والشعراء: 32] (¬3) وقيل: الاختلاف في التشبيه لاختلاف الحالين؛ فالجانّ عبارة عن أول حالها ثم لا تزال تزيد وتربو حتى تصير ثعبانًا عظيمًا (¬4). قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} قال مقاتل: من الخوف من الحية {وَلَمْ ¬

_ (¬1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ". قَالَ عَبْدُ الله: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ: لا تَقْتُلْهَ فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ قَالَ: إِنَهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَهِيَ الْعَوَامِرُ. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم: 3297، 3298، فتح الباري 6/ 347، وفيه: وذا الطفيتين جنس من الحيات يكون على ظهره خطان أبيضان، والأبتر: مقطوع الذنب. والعوامر: عمار البيوت؛ أي: سكانها من الجن. وأخرج مسلم 4/ 1756، عن أبي سعيد مرفوعًا: "إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئًا فحرجوا عليه ثلاًثا؛ فإن ذهب وإلا فاقتلوه". "صحيح مسلم" كتاب: السلام (2236). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 109. (¬3) "تهذيب اللغة" 10/ 496 (جن). و"تفسير الوسيط" 3/ 369، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 121 أ. ولم ينسبه. قال أبو الليث: الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور. "تفسير السمرقندي" 2/ 490. وذكره الطوسي، ولم ينسبه، "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 78. وهذا التفريق له وجه؛ لكنه يحتاج إلى دليل يشهد له. والله أعلم.

يُعَقِّبْ} يعني: ولم يرجع (¬1). يقال: عَقَّبَ فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولَّى (¬2). وهذا قول مجاهد (¬3)، وأهل اللغة (¬4). قال شمر: وكل راجع مُعَقِّب (¬5). وقال ابن عباس: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يقف (¬6). وقال قتادة: لم يلتفت (¬7). وهذان معنى، وليس بتفسير. وروى شمر عن عبد الصمد عن سفيان: لم يمكث، قال: وهو من كلام العرب (¬8). قوله تعالى: {لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قال ابن عباس: لا ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 57 أ. و"مجاز القرآن" 2/ 92. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 322. وأخرجه ابن جرير 19/ 136، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2848، عن مجاهد. وهو قول السمرقندي 2/ 490. والثعلبي 8/ 121 أ. (¬2) ذكر نحوه الأزهري، عن أبي الهيثم. "تهذيب اللغة" 1/ 272 (عقب). (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 469. وأخرجه ابن جرير 19/ 136. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 109، بلفظ: وأهل اللغة يقولون: لم يرجع، يقال: قد عقب فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولى. (¬5) "تهذيب اللغة"1/ 273 (عقب). (¬6) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2848، عن السدي: لم ينتظر. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 79. وابن جرير 19/ 136. وابن أبي حاتم 9/ 2848. و"تنوير المقباس" 316. واقتصر عليه الفراء 2/ 287. وذكره الهواري 3/ 247، ولم ينسبه. (¬8) "تهذيب اللغة" 1/ 273 (عقب)، دون قوله: وهو من كلام العرب، وإنما ذكر أبياتًا بعد ذلك تدل عليه. وعبد الصمد هو ابن حسان، أبو يحيى المروزي، قاضي هراة، حدث عن: زائدة، والثوري، وإسرائيل، والكوفيين، وحدث عنه: الذهلي، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، وأحمد بن يوسف السلمي. ت: 210 هـ. "سير أعلام النبلاء" 9/ 517.

11

يخاف عندي من أرسلته برسالتي (¬1). والمعنى: لا يُخيف الله الأنبياء، أي: إذا أمنهم فلا يخافونه، فيكف يخاف الحية، فنهى عن الخوف من الحية، ونبه على أمن المرسلين عند الله ليعلم أن من أمنه الله من عذابه بالنبوة ودرجة الرسالة لا يستحق أن يخاف الحية (¬2). 11 - ثم قال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} يعني: أذنب (¬3) {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} أي: توبة وندمًا {بَعْدَ سُوءٍ} عمله فإنه يخاف ويرجو {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعلى هذا الاستثناء صحيح من المرسلين؛ ويكون المعنى: إلا من ظلم نفسه [فيما فعل من صغيرة، فالاستثناء متصل. وفيه إشارة إلى أن موسى وإن ظلم نفسه] (¬4) بقتل القبطي، وخاف من ذلك فإن الله يغفر له؛ لأنه ندم على ذلك وتاب منه (¬5)؛ وهذا أحد قولي الفراء، واختيار ابن قتيبة (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 369، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2849، عن قتادة، بلفظ: أي: عندي المرسلون. وهو قول ابن جرير 19/ 136، والزجاج 4/ 110. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 369، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 57 أ، وذكر لذلك أمثلة فقال: فكان منهم آدم، ويونس، وسليمان، وإخوة يوسف، وموسى بقتله النفس، عليهم السلام. قال ابن عطية 11/ 176: أجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر، ومن الصغائر التي هي رذائل، واختلف فيما عدا هذا. (¬4) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج). (¬5) "الوسيط" 3/ 370. ويشهد له قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (16) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16 - 17]. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" 219. واختاره ورجحه ابن جرير 19/ 137.

القول الثاني: قال: هذا الاستثناء ليس من المرسلين، ولكنه من متروكٍ في الكلام على تقدير: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} إنما الخوف على غيرهم، ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} أي: أشرك، فهو يخاف عذابي (¬1) {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} يعني توحيدًا بعد شرك. أي: فتاب وعمل حسنًا فذلك مغفور له ليس بخائف (¬2). قال ابن قتيبة: وهذا يبعد؛ لأن العرب إنما تحذف من الكلام ما يدل عليه ما يظهر، وليس في ظاهر الكلام دليل على هذا التأويل (¬3). والقول الأول قول مقاتل (¬4)، والثاني قول الكلبي (¬5). قال ابن الأنباري: الذي استقبحه ابن قتيبة من قول الفراء عندي جيد غير قبيح؛ لأنه لما قال: {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} كان معناه: يأمن المرسلون عندي ويخاف غيرهم، فاكتفى بالشيء من ضده، كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ} [النحل: 81] (¬6). وذهب قوم إلى أن هذا من الاستثاء المنقطع؛ المعنى: لكن من ظلم من العباد ثم تاب {فَإِنِّي غَفُور ¬

_ (¬1) اختار هذا القول ابن جزي 503. ورد هذا القول النحاس، فقال: استثاء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر، ولو جاز هذا لجاز: إني أضرب القوم إلا زيدًا، بمعنى: لا أضرب القوم إنما أضرب غيرهم إلا زيدًا، وهذا ضد البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. "إعراب القرآن" 3/ 200. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 287. وذكره السمرقندي 2/ 490، عن الكلبي. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 219. (¬4) "تفسير مقاتل" 57 أ. (¬5) "تنوير المقباس" 316. (¬6) ذكر هذا الخطيب الإسكافي، درة التنزيل 336، ولم ينسبه، وفيه: فحذف البرد لعلم المخاطبين به.

رَحِيمٌ} أي: فإني أغفر له، والمعنى: لا يخاف الأنبياء والتائبون. وهذا اختيار أبي إسحاق (¬1). وذهب آخرون إلى أن معنى (إِلا) هاهنا: ولا؛ كأنه قال: لا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء، فيكون المعنى في هذا الوجه كالمعنى في الاستثناء المنقطع، ولم يُجز الفراء هذا الوجه (¬2). وذكرنا جواز كون (إِلا) بمعنى: ولا، عند قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 150] (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 110. وبه قال أبو حيان 7/ 55. والبيضاوي 2/ 172. وابن الأنباري، في البيان 2/ 218. والمراغي 19/ 124. والبرسوي 6/ 323، لكنه جعل المعنى راجعًا إلى الأنبياء، فقال: استثناء منقطع، أي: لكن من ظلم نفسه من المرسلين بذنب صدر منه كآدم ويونس وداود وموسى، وتعبير الظلم لقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف 23] وموسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 287، قال الفراء: لم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأني لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله، وهو قائم، إنما الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء قبل إلا. واعترض على هذا القول أيضًا النحاس، فقال: معنى: إلا، خلاف معنى: الواو، لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيدًا، أخرجت زيدًا مما دخل في الأخوة، وإذا قلت: جاءني إخوتك وزيدٌ، أدخلت زيدًا فيما دخل فيه الأخوة، فلا شبه بينهما ولا تقارب. "إعراب القرآن" 3/ 200. واعترض عليه أيضًا ابن الأنباري، في "البيان" 2/ 219. وذكر هذا القول ابن قتيبة، ولم يعترض عليه. "تأويل مشكل القرآن" 220. (¬3) ذكر الواحدي في تفسيره لهذه الآية الخلاف في الاستثناء، واستطرد بذكر أقوال أهل اللغة، ثم قال: وقال معمر بن المثنى: إلا هاهنا معناها: الواو فهو عطف عُطف به: الذين، على: الناس، والمعنى: لئلا يكون للناس والذين ظلموا عليكم حجة، واحتج على هذا المذهب بأبيات منها: =

12

12 - قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ} قال مجاهد: كفك في جيبك (¬1). قال المفسرون: كانت عليه مِدْرَعةٌ إلى بعض يده (¬2)، ولو كان لها كُمٌّ أمره أن يُدخل يده في كُمِّه (¬3). والجَيْب: حيث جِيبَ من القميص: أي قُطع (¬4). قوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} قال أبو إسحاق: المعنى وأخرجها تخرج بيضاء. قال مقاتل: لها شعاع مثل شعاع الشمس {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص (¬5). ¬

_ = وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان قال: أراد: والفرقدان أيضًا يفترقان .. ثم ذكر تخطئة الفراء لهذا الوجه، ثم قال: ومن الناس من صوب أبا عبيدة في مذهبه، وصحح قوله بما احتج من الشعر. (¬1) أخرجه ابن جرير 138/ 19. (¬2) "تفسير مقاتل" 57 أ. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 138، عن مجاهد. وكذا ابن أبي حاتم 9/ 2850، وأخرج نحوه عن ابن عباس. قال الزجاج 4/ 110: وجاء أيضًا أنه كانت عليه مدرعة صوف بغير كُمين. وذكره الثعلبي 8/ 121 ب. (¬4) "تهذيب اللغة" 11/ 218 (جاب)، وفيه: يقال: جِبتُ القميص وجُبته. وذكره الواحدي في: الوسيط 3/ 370. وكذا ابن الجوزي 6/ 158. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2850، عن السدي: الجيب جيب القميص. قال ابن عطية 11/ 178: الجيب: الفتح في الثوب لرأس الإنسان. (¬5) "تفسير مقاتل" 57 أ. وذكره الهواري 3/ 248. وابن جرير 19/ 139، والثعلبي 8/ 121 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2851، عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس. وذكر ابن الأنباري أن السوء يطلق ويراد به: الآفة والعلة، قال تعالى: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف 73] أي: بآفة وعقر، "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 365، وأما أبو عبيدة 2/ 18، فقد قيد السوء بالمرض والبرص، فقال: السوء: كل داء معضل من جذام أو برص، أو غير ذلك.

وهذا مما فسرناه في سورة طه [22] (¬1). قوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} قال أبو إسحاق: (في) من صلة قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ} والتأويل: وأظهر هاتين الآيتين {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} والمعنى من تسع آيات. كما تقول: خذ لي عشرة من الإبل فيها فحلان؛ والمعنى: منها فحلان (¬2). وفسر الآيات التسع في سورة بني إسرائيل (¬3). ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص في قول جميع المفسرين. قال الليث: ويكنى بالسوء عن اسم البرص. وقال أبو عمرو: {سُوءٍ} أي: برص. وقال المبرد: السوء إذا أطلق فهو البرص، وإذا وصلوه بشيء فهو كل ما يسوء، والأغلب عند العرب من الأدواء: البرص. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 110. وذكره السمرقندي 2/ 490، ولم ينسبه. و"تفسير الوجيز" 2/ 800. وهو قول ابن كثير 6/ 180. قال الهواري 3/ 248: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أي: مع تسع آيات. وذكر ذلك ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 217، و"غريب القرآن" 323، ولم ينسبه. وهو قول الثعلبي 8/ 122 أ. وأما ابن جرير، فقد جعل: في، على ظاهرها فقال 19/ 139: فهي آية في تسع آيات مرسل أنت بهن إلى فرعون. ولم يذكر غير هذا القول. واستحسنه النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 201. (¬3) ليس في سورة بني إسرائيل تفصيل الآيات التسع، وإنما فيها ذكر العدد جملة، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [101] قال الواحدي في تفسير هذه الآية: اختلفوا في الآيات التسع مع اتفاقهم أن منها: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فهذه خمس، وأما الأربعة الباقية، فروى قتادة عن ابن عباس قال: هي يده البيضاء عن غير سوء، وعصاه إذا ألقاها، وما ذكر في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الاعراف 130] قال: {السِّنِينَ} لأهل البوادي حتى هلكت مواشيهم {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأهل القرى، وهاتان آيتان، ونحو هذا روى أبو صالح وعكرمة، وهذا قول مجاهد، وقال محمد بن كعب القرظي بدل السنين ونقص من الثمرات فلق البحر والطمس =

13

وقوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء: (إِلَى) من صلة الإرسال والبعث، المعنى: مرسلًا إلى فرعون أو مبعوثًا، فترك ذكر الإرسال والبعث؛ لأن شأن موسى في أنه كان مبعوثًا إلى فرعون معروف (¬1). 13 - قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي. بينة (¬2) واضحة، كقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] وقد مَرَّ (¬3). قالوا هذا الذي تراه عيانًا {لَسِحْرٌ مُبِينٌ} كقوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] وقد مر (¬4). ¬

_ =وهي أن الله تعالى مسخ أموالهم حجارة من النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير، وهذا الذي ذكرنا أجود ما قيل في تفسير الآيات. "البسيط" 3/ 165 ب، النسخة الأزهرية. ويعني بالطمس قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. ومن جعل الآية التاسعة: الطمس، أو: نقص الثمرات، فلا تعارض بينهما، لما في ذلك من التلازم، والله أعلم. (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 288، بمعناه. وكذا ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 217. وذكره أبو علي، "الإيضاح العضدي" 1/ 265. وكذا الثعلبي 8/ 122 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 140، عن ابن جريج. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} قال ابن عباس: يريد كانت لهم عيانًا، وقال قتادة: بينة، وقال مجاهد: آية مبصرة، قال الأخفش: المُبْصِرةُ: البَيِّنَة؛ كما تقول المُوضِحَة والمُبَيِّنَة، فعلى هذا أبصر واقع بمعنى بصر، وقال الفراء: جعل الفعل لها، ومعنى {مُبْصِرَةً}: مضيئة، كما قال تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس 67] أي مضيئًا، قال الأزهري: والقول ما قال الفراء، أراد آتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي مضيئة، وقد ذكرنا هذا في سورة يونس، وفي هذه السورة عند قوله: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]. (¬4) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو بكر بن الأنباري: إنما قال: هذا، =

14

14 - قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا} أي: أنكروها، ولم يقروا بأنها من عند الله قال قتادة: الجحود لا يكون إلا من بعد المعرفة (¬1). وقال المبرد: لا يكون الجحود إلا لما قد علمه الجاحد، كما قال عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] (¬2). قال أبو عبيدة: {وَجَحَدُوا بِهَا} جحدوها، والباء: زائدة، وأنشد: نضرب بالسيف ونرجو بالفرَج (¬3) {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أنها من الله (¬4)، وأنها ليست بسحر (¬5) {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} قال السدي: هذا من التقديم والتأخير. ونحو هذا قال مقاتل (¬6). قال الزجاج: المعنى: وجحدوا بها ظلمًا، وعلوًا، ترفعًا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى، فجحدوا بها وهم يعلمون أنها من الله (¬7). ¬

_ = والشمس مؤنثة؛ لأن الشمس بمعنى: الضياء والنور، فحمل الكلام على تأويلها فذُكِّر، وأعان على التذكير أيضًا أن الشمس ليست فيها علامة التأنيث فلما أشبه لفظها المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين. (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2852. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" 322، ولم ينسبه. (¬3) أنشده كاملًا أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 56، ولم ينسبه، وقبله: نحن بنو جعدة أصحاب الفَلَجْ وأنشده ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" 249، ولم ينسبه، وكذا البغدادي، "الخزانة" 9/ 521، ثم نقل عن أبي عبيدة: الفلج: بفتح الفاء واللام، موضع لبني قيس. وهو في "ديوان النابغة الجعدي" 216. والشاهد الباء الثانية، أما الأولى فللاستعانة. "مغني اللبيب" 1/ 108. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 288. (¬5) "تفسير مقاتل" 57 أ. (¬6) "تفسير مقاتل" 57 أ. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 111.

15

وقال مقاتل: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} شركًا وتكبرًا (¬1). وهذا يدل على أن اليقين بالقلب مع الجحود والإنكار باللسان لا ينفع ولا يكون إيمانًا. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} في الأرض بالمعاصي (¬2). 15 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} قال ابن ىاس ومقاتل: علمًا بالقضاء، وبكلام الطير والدواب (¬3) وتسبيح الجبال (¬4). {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} أي: بالنبوة والكتاب، وإلانة الحديد، وتسخير الشياطين والجن، والإنس (¬5)، والمُلْك الذي أعطاهما الله وفضلهما به (¬6) {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬7). 16 - وقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} قال ابن عباس: ورث منه النبوة. وقال السدي: ورث نبوته. وقال مقاتل: ورث سليمان علم داود وملكه (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 57 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 57 ب. وذكره السمرقندي 2/ 491، ولم ينسبه. وفي "تنوير المقباس" 316: فهمًا بالنبوة والقضاء. (¬4) "تفسير الوسيط" 3/ 370، عن ابن عباس. (¬5) "تفسير الوسيط" 3/ 370، ولم ينسبه. وتفسير الطبرسى 7/ 334. وتفسير ابن الجوزي 6/ 159. (¬6) "تفسير السمرقندي" 2/ 491. (¬7) قال الشوكاني 4/ 125: وفي الآية دليل على شرف العلم، وارتفاع محله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلًا، على كثير من العباد، ومنح شرفًا جليلًا. (¬8) "تفسير مقاتل" 57 ب. وهو قول ابن جرير 19/ 141.

وقال قتادة: كان لداود تسعة عشر ذكرًا فورث سليمان مُلْكه من بينهم ونبوته (¬1). فمعنى تخصيص سليمان بالوراثة هو هذا (¬2). وذكر الفراء والزجاج معنى قول قتادة (¬3). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 316. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2854، عن قتادة، دون ذكر العدد. وذكره الزجاج 4/ 111، ولم ينسبه. وكذا الثعلبي، 8/ 122 أ. وذكره الماوردي 4/ 198، والقرطبي 13/ 164، عن الكلبي. (¬2) قال الماوردي 4/ 198: وإنما خص سليمان بوراثته؛ لأنها وراثة نبوة وملك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء. والرافضة يخالفون هذا فيجعلون الوراثة هنا وراثة مال أيضًا، قال الطوسي: قال أصحابنا: إنه ورث المال، والعلم، وقال مخالفونا: إنه ورث العلم، لقوله -صلى الله عليه وسلم -: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). ثم أجاب عن الحديث بقوله: والخبر المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم - خبر واحد لا يجوز أن يخص به عموم القرآن، ولا نسخه به."التبيان في تفسير القرآن" 8/ 82. قال ابن القيم: فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمان مختصًا به، وأيضًا فإن كلام الله يصان عن الإخبار بمثل هذا، فإنه بمنزلة أن يقال: مات فلان وورثه ابنه. ومن المعلوم أن كل أحد يرثه ابنه، وليس في الإخبار بمثل هذا فائدة، وأيضًا فإن ما قبل الآية وما بعدها يبين أن المراد بهذه الوراثة ورائة العلم والنبوة، لا وراثة المال، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان، وما خصه الله به من كرامته، وميراثه، وما كان لأبيه من أعلى المواهب، وهو العلم والنبوة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} وكذلك قول زكريا عليه الصلاة والسلام: {وإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6] فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله، وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله، فيسأل الله العظيم ولدًا يمنعهم ميراثه، ويكون أحق به منهم، وقد نزه الله أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله، فبعداً لمن حرف كلامه، ونسب الأنبياء إلى ما هم برآء منزهون عنه. "مفتاح دار السعادة" 67. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 288. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 111.

قوله: (وَقَال) أي: قال سليمان لبني إسرائيل (¬1) {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} (¬2) وهذا كالتحدث من سليمان بما أنعم الله به عليه. قال الليث: كلام كل شيء منطقه، وتلا الآية (¬3). وقال الأصمعي: صوت كل شيء منطقه، ونُطقُه، ومنه قولهم: مالَه صامت ولا ناطق؛ الناطق: الحيوان من الرقيق وغيره سمي ناطقًا لصوته (¬4). قال الفراء: منطق الطير، يعني: كلام الطير، فجعله كمنطق الرجل إذ فُهِم، وأنشد لحميد بن ثور: عجبتُ لها أنى يكون غِناؤها ... فصيحًا ولم تفغرْ بمنطقها فما فجعله كالكلام لَمَّا ذهب به إلى أنها تغني (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 57 ب. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2855، عن الأوزاعي: الناس عندنا: أهل العلم. (¬2) وقد استدل قتادة بهذه الآية على أن النملة من الطير. أخرجه عبد الرزاق 2/ 79، وعنه ابن أبي حاتم 9/ 2855. وهذا ليس بلازم، قال ابن العربي فجعل الله لسليمان معجزة فهم كلام الطير، والبهائم، والحشرات، وإنما خص الطير لأجل سوق قصة الهدهد بعدها، ألا تراه كيف ذكر قصة النمل معها، وليست من الطير. أحكام القرآن 3/ 472. وزاده بيانًا في 475. قال الشوكاني 4/ 125 إنه عُلم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندًا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. (¬3) "العين" 5/ 104 (نطق)، وليس فيه ذكر الآية، وإنما ذكرها الأزهري، "تهذيب اللغة" 16/ 275. (¬4) "تهذيب اللغة" 16/ 279 (نطق). وفيه الصامت: الذهب والفضة والجوهر. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 288، وفيه: تبكي، بدل: تغني. ولم ينسب البيت. وفيه: بليغًا، بدل: رفيعا. وتفتح، بدل تفغر. وأنشده الطوسي، "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 85. وأنشده في "الوسيط" 3/ 372، وكذا في "وضح البرهان" 2/ 139، منسوبًا، وذكره ابن الجوزي 6/ 160، ولم ينسبه. وهو في "ديوان حميد بن ثور" 42.

وقال أبو علي الفارسي: القول والكلام والمنطق يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر، ويعبر بكل واحد منها عما عبر بالآخر، قال رؤبة: لو أنني أعطيت علم الحُكْل ... علمَ سليمانَ كلامَ النملِ (¬1) وقال الله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18] وقال إخبارًا عن الهدهد: {فَقَالَ أَحَطْتُ} [النمل: 22] فذَكَر له القول. وأنشد الأخفش: صدَّها منطقُ الدجاجِ عن القصدِ ... وصوت الناقوس بالأسحار (¬2) وأنشد أيضًا: فَصبَّحتْ والطيرُ لم تكلَّم فوضع كل واحد من الكلام والنطق موضع الصوت. وقال الراعي يصف ثورًا يحفر كِناسًا (¬3) إلى الصباح: ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 100 (حكل)، ونسبه لرؤبة، وهو في ديوانه 133، وأنشده ابن فارس، ولم ينسبه، وفيه: أوتيت. وقال: الحاء والكاف واللام أصل صحيح منقاس، وهو الشيء الذي لا يبين، يقال: إن الحُكل الشيء الذي لا نطق له من الحيوان، كالنمل وغيره. "معجم مقاييس اللغة" 2/ 91. وأنشده ابن جني، ولم ينسبه، "الخصائص" 1/ 22. وذكر الواحدي كلمة الحكل في مقدمة تفسيره فقال: ويعلم قول الحُكل. تفسير الواحدي 1/ 201، تحقيق الفوزان. (¬2) أنشده الأخفش 2/ 588، كاملًا في سورة: يوسف، وعجزه: وضرب الناقوس فاجتُنبا وأنشده 2/ 648، في سورة النمل مقتصرًا على صدره، ولم ينسبه في الموضعين، وفي الحاشية: لم تفد المراجع شيئًا في القائل والقول. (¬3) المَكْنِس: مَوْلِجُ الوحش من البقر تسكن فيه من الحر، وهو الكِناس، والجمع: أكنسة، وكُنُس، واشتقاقه من الكَنْس، وهو: كَسْحُ القُمَام عن وجه الأرض، فهي تكْنِس الرمل حتى تصل إلى الثرى. "تهذيب اللغة" 10/ 63 (كنس)، و"لسان العرب" 6/ 197.

17

حتى إذا نطق العصفور وانكشفتْ ... عَمَايَة الليلِ عنه وهو مُعتمِدْ (¬1) ومعنى الآية: فهمنا ما يقول الطير. قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قال ابن عباس: يريد من أمر الدنيا والآخرة (¬2). وقال مقاتل: يعني أُعطينا المُلك والنبوة والكتاب، في تسخير الرياح، وسُخِرت الجن والشياطين، ومنطق الطير (¬3). وقال الزجاج: المعنى {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس. وكذلك قوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] يؤتى مثلها. وعلى هذا جرى كلام الناس؛ يقول القائل: قد قصد فلانًا كلُّ أحد، أي: قَصَدَه كثير من الناس (¬4). قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا} قال مقاتل: إن هذا الذي أعطينا (¬5) {لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} قال ابن عباس: مِن الله علينا (¬6). 17 - قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} وجُمع له {جُنُودُهُ} (¬7) ¬

_ (¬1) "ديوان الراعي" 92، نطق العصفور: كناية عن انبلاج الصبح، وعماية الليل: ظلمته، والمعتمِد: الذي يمشي طوال الليل. حاشية الديوان. وفي "لسان العرب" 3/ 305 (عمد): اعتمد فلان ليلته إذا ركبها يسير فيها. (¬2) "تفسير الوسيط" 3/ 372. (¬3) "تفسير مقاتل" 57 ب. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 111. (¬5) "تفسير مقاتل" 57 ب. (¬6) "تنوير المقاس" 316، بلفظ: المن العظيم من الله علىَّ. (¬7) "تفسير مقاتل" 57 ب. قال الراغب: الحشر: إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب، ونحوها. المفردات 119. وقد أحسن الواحدي صنعًا في تركه =

جموعه، وكل صنف من الخلق جند على حدة، يدل عليه قوله: {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} (¬1) قال المفسرون والكلبي: كان سليمان إذا أراد سفرًا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود على بساط له عظيم ثم يأمر الريح فتحملهم، فتجعلهم بين السماء والأرض (¬2). وكان سليمان يعرف ألسنتهم ويقضي بينهم، فمعنى قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} أي في مسير له. وقوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معنى الوزع في اللغة: الكف (¬3). وزَعْتُه، أَزَعُه، وَزْعًا، أي: كففته (¬4). والشيب وازع؛ أي: مانع (¬5). وتقول العرب: لأزعنكم عن الظلم (¬6). ¬

_ = الحديث عن عدد جند نبي الله سليمان عليه السلام، قال ابن عطية 11/ 183: واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام اختلافًا شديدًا لم أُرد ذكره لعدم صحته. وقال الشوكاني 4/ 125: وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده، وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول، ولا تصح من جهة القتل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك. (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 372، ولم ينسبه. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 470، عن عبد الله بن شداد. و"تفسير هود الهواري" 3/ 250، عن الحسن. و"تفسير الثعلبي" 8/ 123 ب. وذكره في "الوسيط" 3/ 372، وصدره بقوله: قال المفسرون. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 112. و"تفسير الثعلبي" 8/ 123 أ. و"تفسير البغوي" 6/ 150. والزاهر في معاني كلمات الناس 2/ 398. (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة 323. و"تهذيب اللغة" 3/ 99 (وزع). (¬5) قال النابغة الذبياني: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما تصحُ والشيب وازع "الكتاب" 2/ 330، و"الأضداد" لابن الأنباري 140. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 288.

قال الليث: والوازع في الحرب: الموكل بالصفوف يَزَع مَن تقدم بغير أمره، وقال الله -عز وجل-: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يُكفون (¬1). قال الكلبي وأكثر أهل التفسير: يُحبس أولهم على آخرهم (¬2). وقال قتادة: يُرَدُّ أولُهم على آخرهم (¬3): يعني ليجتمعوا ويتلاحقوا (¬4). وقال السدي: يُوقفون (¬5). وقال الوالبي عن ابن عباس: {يُوزَعُونَ} يدفعون (¬6). وقال ابن زيد ومقاتل: يساقون (¬7). والدفع والسوق ضد: الوقف والكف. وقد ذكر المبرد وجه هذا؛ فقال: تأويل ذلك أنه يُدفع آخرهم على أولهم، وقولهم: وزعته بمعنى: ¬

_ (¬1) "العين" 2/ 207، بلفظ: الوازع: الحابس للعسكر، قال الله -عز وجل-: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يكف أولهم على آخرهم. وما ذكره الواحدي عن الليث بنصه عند الأزهري، "تهذيب اللغة" 3/ 99 (وزع). (¬2) "تنوير المقباس" 316. وأخرجه ابن جرير 19/ 141، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2856، عن مجاهد. و"تفسير الثعلبي" 8/ 123 أ. و"تفسير الماوردي" 4/ 199. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 801. وذكره ابن الأنباري، في "الأضداد" 139. و"الزاهر في معاني كلمات الناس" 2/ 398. واقتصر عليه ابن كثير 6/ 183. و"البيضاوي" 2/ 173. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 79. وعنه ابن أبي حاتم 9/ 2857، وأخرجه ابن جرير 19/ 142، ورجح هذا القول على غيره. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 289. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 123 أ. و"تفسير البغوي" 6/ 150. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 123 أ. وأخرج ابن جرير 19/ 142، عن الحسن: يتقدمون. (¬7) "تفسير مقاتل" 57 ب. وأخرجه ابن جرير 19/ 142، عن ابن زيد. و"تفسير الثعلبي" 8/ 123 (أ).

18

كففته، كلمة عامة؛ تقول: وزعته أي: كففته عن الإبطاء، بمعنى: دفعته وسقته، وتكون بمعنى كففته عن الإسراع، أي: حبسته، ووقفته (¬1). فمن قال في تفسير: {يُوزَعُونَ} يدفعون ويساقون، أراد: أن الآخِرين يُمنعون عن الإبطاء والتوقف. وذكر أبو عبيدة الوجهين؛ فقال: يُدفع أخراهم، وُيحبس أولاهم (¬2). يعني: إذا تقدم الأولون وسرعانهم وزعوا، وإذا توقف المتأخرون دفعوا ووزعوا عن الإبطاء. وهكذا يفعل الشُّرَط والوزعة للعساكر (¬3). 18 - قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} أي: أشرفوا عليه (¬4). ولهذا المعنى أُدخل (عَلَى) ولم يكن: أتوا وادي النمل. قال كعب: هو بالطائف (¬5). وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام (¬6). ¬

_ (¬1) قال ابن الأنباري: الصحيح عندنا أن يكون: أوزعت، بمعنى: أمرت وأغريت، ووزعت، بمعنى: حبست. "الأضداد" 139. قال ابن العربي: وقد يكون بمعنى: يلهمون. "أحكام القرآن" 3/ 474. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 92. (¬3) أخرج نحوه ابن جرير 19/ 141، عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضًا ابن أبي حاتم 9/ 2857، عن مجاهد. قال الحسن لما ولي القضاء: لابد للناس من وزعة أي شرط يكفونهم عن القاضي. "الأضداد" 140. (¬4) "تفسير الوسيط" 3/ 373، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 124 أ. و"تفسير الماوردي" 4/ 199. و"تفسير البغوي" 6/ 150. قال البقاعي 14/ 142: وهو الذي تميل إليه النفس، فإنه معروف عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضًا: نخب، وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار. والطائف مدينة معروفة في غريب المملكة العربية السعودية، على بعد 100كم من مكة المكرمة. (¬6) "تفسير مقاتل" 57 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2857، عن قتادة. و"تفسير =

{قَالَتْ نَمْلَةٌ} ذكرنا أن القول والكلام والمنطق يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر، ويعبر به عن الصوت، كقوله: حتى إذا نطق العصفور. أي: صاح (¬1). كذلك قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} أي: صاحت بصوت خلق الله لها. ولما كان ذلك الصوت مفهومًا لسليمان -عليه السلام-، عبَّر عنه بالقول علي ما ذكر الفراء، في منطق الطير (¬2). وهذان وجهان في قول النملة. قال الكلبي: وكانت نملة صغيرة مثل النمل (¬3). وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كانت نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم (¬4). وعن بريدة الأسلمي: أنها كانت كهيئة النعاج (¬5). ولعل الأقرب قول ¬

_ = الثعلبي" 8/ 124 أ. و"تنوير المقباس" 316. واقتصر عليه الهواري 3/ 249، ولم ينسبه. وذكره الزجاج 4/ 112، ولم ينسبه. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 801، وذكر القولين في تفسيره الوسيط 3/ 373. وكذا البغوي 6/ 150. (¬1) تقدم ذكر البيت عند قول الله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16]. (¬2) وذهب إلى هذا سيبويه، الكتاب 2/ 46، وكذا المبرد، "المقتضب" 2/ 226. (¬3) نسبه للكلبي القرطبي 13/ 171، وفي "تنوير المقباس" 316: نملة عرجاء يقال لها: منذرة!. وما دليل ذلك؟. (¬4) "تفسير القرطبي" 13/ 171. وأخرجه ابن جرير 19/ 142، عن عوف، بلفظ: الذباب. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 801. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2858، عن نوف الحميري: كان نمل سليمان مثل أمثال الذئاب. وذكره كذلك الثعلبي 8/ 124 أ. وذكر السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 347، عن كعب: وكانت مثل الذئب في العظم. وذكره الزجاج 4/ 112، ولم ينسبه. وذكره ابن كثير 6/ 183، عن الحسن، ثم نقد ابن كثير هذه الأقوال بقوله: ومن قال من المفسرين: إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه التكملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل، فلا حاصل لها. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2857 عن الشعبي: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات في حين. (¬5) ذكره عنه القرطبي 13/ 171.

الكلبي؛ لقوله: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} ولو كانت كالذئاب والنعاج، ما حطمت بالوطء ولا خافت ذلك (¬1). والنملة، جمعها: نَمْل، ونِمَال (¬2)، ومنه قول الأخطل: دبيبُ نِمَالٍ في نَقًا يتهيّلُ (¬3) ويقال: رجل نَمِل الأصابع، إذا كان خفيف الأصابع في العمل. وفرسٌ نَمِل القوائم؛ لا يكاد يستقر (¬4). والنمل إذا خرجت من قريتها لا تُرى مُستقرة ثابتة، بل تتحرك وتعدُو يمنة ويسرة، وهي كثيرة الحركة. قال أهل المعاني: ومعرفة النملة سليمان معجزة له ألهمها الله تعالى معرفته حتى عرفت وحَذَّرت النملَ حَطْمَه، والنمل تعرف كثيرًا مما فيه نفعها وضرها؛ فمن ذلك: أنها تكسر الحبة بقطعتين لئلا تنبت، إلا الكُزْبَرَة (¬5) فإنها تكسرها بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا كُسرت بقطعتين. فمَنْ هداها إلى هذا هو الذي ألهمها معرفة سليمان (¬6). ¬

_ (¬1) ورجح ذلك القرطبي 13/ 171، ولم يذكر من سبقه له. قال البغوي 6/ 151، والبرسوي 6/ 333: والمشهور أنه النمل الصغير. (¬2) "تهذيب اللغة" 15/ 366 (نمل). (¬3) "تهذيب اللغة" 15/ 366 (نمل)، عن الليث، ونسبه للأخطل، وصدره: تدِب دبيبًا في العظام كأنه النقا: ما ارتفع من الرمل، يتهل: ينحدر. "شرح ديوان الأخطل" 262. (¬4) "تهذيب اللغة " 15/ 366 (نمل). (¬5) نوع من أنواع البقول. "لسان العرب" 5/ 138 (كزبر)، و"المعجم الوسيط" 2/ 786. (¬6) "تفسير الوسيط" 3/ 373، ولم ينسبه. و"تفسير الماوردي" 4/ 200، ولم يشبه. وذكره الطوسي للدلالة على أن معرفة النمل لسليمان، ليس على سبيل المعجزة الخارقة للعادة؛ لأنه لا يمتنع أن تعرف البهيمة كثيرًا مما فيه نفعها وضرها. =

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} قال أبو إسحاق: جاء لفظ: (ادْخُلُوا) كلفظ ما يعقل؛ لأن النمل هاهنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما نطق الآدميون (¬1). وذكرنا استقصاء هذا عند قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} الآية [يوسف: 4] (¬2). قوله تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} الحَطم: كسر الشيء، والحُطَام: ما يُحطم من ذلك (¬3). ومعنى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} لا يكسرنكم (¬4). قال مقاتل: لا يهلكنكم سليمان وجنوده (¬5). وذكرنا وجه جواب الأمر بنون التأكيد عند قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية، [الأنفال: 25] وهذه الآية وتلك سواء (¬6). ¬

_ = "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 84. وذكر ابن القيم عجائب صنع الله تعالى في المل، في كتابه "شفاء العليل" 69، 70. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 112. (¬2) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: وقوله: {رَأَيْتَهُمْ} وهي مما لا يَفهم، ولا يُفهم وحسن ذلك؛ لأنه لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 399 (حطم). (¬4) "تنوير المقباس" 317. و"تفسير ابن جرير" 19/ 141. (¬5) "تفسير مقاتل" 75 ب. (¬6) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة الأنفال: ووجه إعراب الآية على هذا القول ما ذكره أبو إسحاق، وهو أن قوله: {لَا تُصِيبَنَّ} نهي بعد أمر، والمعنى: اتقوا فتنة، ثم نهى بعدُ، ثم قال: {لَا تُصِيبَنَّ} الفتنة الذين ظلموا، أي: لا =

وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: بحطمكم ووطئكم. قال مقاتل: لقد علمت النملة أنه مَلِك لا بغي فيه، ولا فخر، وأنه إن علم بها قبل أن يغشاها لم يتوطاها (¬1)، لذلك قالت: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬2). ثم وقف سليمان بمَنْ معه ليدخل النمل مساكنها (¬3). وهذا يدل على ¬

_ = يتعرضن الذين ظلموا لما ينزل بهم من العذاب. ثم ذكر شرح ابن الأنباري لهذا القول، ثم ذكر قول أبي علي الفارسي: إنه نهي بعد أمر، واستغني عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما استغني عن ذلك في قوله: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] و {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39، وغيرها] ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي، ودخول النون هاهنا يمنع أن تكون: {لَا تُصِيبَنَّ} جوابًا للأمر. قال أبو حيان: دخول نون التوكيد على المنفي بـ: لا، مختلف فيه؛ فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة، أو الندور، والذي نختاره الجواز، وإليه ذهب بعض النحويين. "البحر المحيط" 4/ 477، وأطال الحديث عن هذه المسألة في سورة الأنفال، وفي سورة النمل، وتبعه السمين الحلبي، "الدر المصون" 5/ 589. قال ابن الأنباري: (لا) ناهية، ولهذا دخلت النون الشديدة في {يَحْطِمَنَّكُمْ} ولا يجوز أن يكون تقديره: إن دخلتم مساكنكم لم يحطمنكم، على ما ذهب إليه بعض الكوفيين؛ لأن نون التوكيد لا تدخل في الجزاء إلا في ضرورة الشعر. "البيان" 2/ 220. (¬1) "تفسير مقاتل" 75 ب. (¬2) أي: لا يعلمون أنهم يحطمونكم. "تفسير ابن جرير" 19/ 141. وذكر الهواري 3/ 249، قولاً آخر اقتصر عليه ولم ينسبه، فقال أي: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم كلامهم. وفي ذلك بعد، وقد نقد هذا القول محقق الكتاب. واستبعده الشوكاني 4/ 127. وذكر القولين السمرقندي 2/ 492. والماوردي 4/ 200. ورد هذا القول ابن العربي، في أحكام القرآن 3/ 475. وذكر ابن الجوزي 6/ 162، عن ابن عباس: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة. (¬3) "تفسير مقاتل" 75 ب. ونسبه "الماوردي" 4/ 200، لابن عباس.

19

أن سليمان وجنوده كانوا ركبانًا ومشاة على الأرض، ولم تحملهم الريح؛ لأن الريح لو حملتهم بين السماء والأرض ما خافت النمل أن تتوطَّأهم بأرجلهم (¬1). ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله تعالى الريح لسليمان. قال المفسرون: طارت الريح بكلام النملة فأدخلته أذن سليمان (¬2). قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى أعطى سليمان زيادة في ملكه، لا يذكره أحد من الخلق إلا حملت الريح ذلك الكلام إليه حتى يسمعه، فلما سمع كلام النملة تبسم (¬3). وفي هذه الآية ذكر أنواعٍ من المعجزة لسليمان؛ وهي: معرفة النمل لسليمان وجنوده، وكلامُ النملة للنمل، وفَهْمُ النمل عنها ما حذرتهم من الحطم؛ لأنها لما سمعت كلام النملة دخلت المساكن، وسماعُ سليمان كلام النملة. 19 - قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} يقال: بَسَم يَبْسِم وابتَسَم وتبَسَّم يتَبَسَّم، إذا أبدى عن أسنانه، وكَشَّر للضحك (¬4). قال أبو إسحاق: أكثر ضحك الأنبياء التبسم، و {ضَاحِكًا} حال مؤكدة؛ لأن تبسم بمعنى: ضحك، هذا كلامه (¬5). ومعناه: أن التبسم عبارة ¬

_ (¬1) أي: تتوطأهم الجنود. ونحو هذا ذكر الحافظ ابن كثير، في "البداية والنهاية" 2/ 19. وفي هذا رد على ما سبق من حمل الريح لجنود نبي الله سليمان -عليه السلام-. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 124 أ. و"الماوردي" 4/ 200. و"تفسير الوسيط" 3/ 373. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 123 أ. وظاهر الآية أنه سمع كلام النملة لقربه منها. والله أعلم. (¬4) "تهذيب اللغة" 13/ 23 (بسم). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 112. قال ابن الأنباري: منصوب على الحال المقدرة، وتقديره: فتبسم مقدرًا الضحك. ولا يجوز أن يحمل على الحال المطلقة؛ لأن =

عن ابتداء الضحك، والضحك عبارة جامعة للابتداء والانتهاء، فمعنى تبسم ضاحكًا: تبسم مبتسمًا، أو ضحك ضاحكًا، فَذِكرُ لفظ التبسم دلالة علي أن ضحكه كان تبسمًا. وذِكرُ الحال بلفظ الضحك؛ ليكون الكلام اْحسن، وليس المراد بلفظ الضحك هاهنا أكثر من التبسم (¬1)، ونحوهذا قيل في قول كُثَيِّر: غَمرُ الرِّداءِ إذا تبسَّمَ ضاحكًا (¬2) وقالوا: إن أكثر ضحك الملوك تبسم. وسبب ضحك سليمان من قول النملة: التعجب؛ وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك (¬3). قال مقاتل: ثم حمد ربه حين علمه منطق كل شيء، فسمع كلام النملة (¬4) {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي: ألهمني. ونحو هذا قال ابن عباس، والمفسرون، وأهل المعاني، في تفسير {أَوْزِعْنِي} (¬5). ¬

_ = التبسم غير الضحك. البيان 2/ 220. وقد ذكر ابن العربي، في "أحكام القرآن" 3/ 476، عددًا من الأحاديث في ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬1) قال القرطبي 13/ 170: أكد التبسم بقوله: {ضَاحِكًا} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون: تبسم تبسم الغفسبان، وتبسم تبسم المستهزئين. (¬2) "ديوان كثير" 187، من قصيدة له في مدح عبد العزيز بن مروان، وعجزه: علقت لضحتكه رقاب المال. وفي الحاشية: غمر الرداء: كناية سعة المعروف والكرم. وأنشده ابن جني، "الخصائص" 2/ 445، ولم ينسبه. (¬3) نسبه بنصه، "البغوي" 6/ 152، لمقاتل، وهو عند مقاتل 57 ب، بمعناه. (¬4) "تفسير مقاتل" 75 ب. (¬5) "تنوير المقباس" 317، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 289، و"تفسير مقاتل" 75 ب =

20

قال الزجاج: وتأويله في اللغة: كفني عن الأشياء، إلا عن شكر نعمتك (¬1). ولهذا يقال في تفسير المُوزَع: إنه المُولَع، ومنه الحديث: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موزعًا بالسواك" (¬2) أي: مولعًا به، كأنه كُفَّ ومُنِع إلا منه. قوله: {فِي عِبَادِكَ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد مع عبادك (¬3). وعلى هذا في الكلام محذوف تقديره: مع عبادك الصالحين الجنة، فحُذِف للعلم به. وقال آخرون: معناه: وأدخلني في جملتهم. يعني: أثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم (¬4). قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ومَنْ بعدهم من النبيين (¬5). 20 - قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} التفقد: تَطَلُّبُ ما غاب عنك من شيء (¬6). وأصله: تَتَبُّع الشيء المفقود وتَطَلُّبه هل هو ¬

_ = و"غريب القرآن" لابن قتيبة 323. و"تفسير ابن جرير" 19/ 143، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2858، عن قتادة، والسدي، وابن زيد. وذكره الأنباري في "الزاهر" 2/ 398، و"الأضداد" 145. وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 100 (وزع). وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس، بلفظ: اجعلني. وكذا عند ابن أبي حاتم 9/ 2858. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 112. (¬2) ذكره ابن الأثير، "النهاية في غريب الحديث" 5/ 181، ولم يعزه لأحد، وقد بحثت عن الحديث فلم أجده. (¬3) "تفسير مقاتل" 75. و"تنوير المقباس" 317. وأخرجه ابن جرير 19/ 143، وابن أبي حاتم 9/ 2859، عن ابن زيد. (¬4) "تفسير البغوي" 6/ 152، ولم ينسبه. (¬5) ذكره عنه البغوي 6/ 152. وفي "تنوير المقباس" 317: مع عبادك المرسلين الجنة. (¬6) "تهذيب اللغة" 9/ 42 (فقد).

مظفور به. وكل شيء غاب عنك ثم تَتَبَّعْته طالبًا له قلت: تَفَقَّدته، بُنِي على: تفعل؛ لأنه تكلف الطلب، كما تقول: تعرفتُ الشيء إذا تتبعتَه تطلب معرفته. والطير: اسم جامع، والواحد طائر (¬1). والمراد بالطير هاهنا: جنس الطير وجماعتها، وكانت تصحبه في سفره تظله بأجنحتها (¬2). فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُد} هذا استفهام عن حال نفسه. والمراد به الاستفهام عن حمال الهدهد. على تقدير: ما للَّهدهد لا أراه، ولكنه من القلب الذي يوضحه المعنى. تقول العرب: ما لي أراك كئيبًا؟ معناه: مالَك (¬3)؟ والهُدهُد: طير معروف، وهَدْهَدتُه صوتُه (¬4). قال مجاهد: سُئل ابن عباس كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلًا ولم يَدرِ ما بُعد الماء، وكان الهدهد مهتديًا، فأراد أن يسأله عنه. قال: قلت كيف يكون مهتديًا والصبي يضع له الحِبَالَة (¬5) فيصيده؟! قال: إذا جاء القدر حال دون البصر (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 14/ 11 (طار). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2860، عن سعيد بن جبير، وعبد الله بن شداد، والسدي. وأخرجه ابن جرير 19/ 144، عن ابن عباس. وأخرجه الحاكم 2/ 440، عن ابن عباس، كتاب التفسير، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬3) "تفسير الوسيط" 3/ 373، ولم ينسبه. وذكر نحوه أبو علي، "المسائل الحلبيات" 152. (¬4) "تهذيب اللغة" 5/ 353 (هد). وذكره القرطبي 13/ 178، ولم ينسبه. (¬5) الحِبَالَة: جمع الحَبْل، يقال: حَبَل وحِبال، وحِبالة، والحَبْل: مصدر حَبَلت الصسِد واحتبلته: إذا نَصبت له حِبالَة فنَشِب فيها وأخذته. انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 79. (¬6) ذكر نحوه الهواري 3/ 250، ولم ينسبه، وفيه تعيين السائل، وهو: نافع الأزرق. =

وروى مجالد عنه قال: بينما سليمان ذات يوم في مسيره إذ تفقد الطير، ففقد الهدهد فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُد} قال عطاء عنه: وكان الهدهد يدله على الماء إذا أراد أن ينزل، فلما فقده سأل عنه (¬1). قال الكلبي: ولم يكن معه في سيره ذلك إلا هدهد واحد. هذا قول أكثر المفسرين: إن السبب في تفقد الطير كان طلب الماء (¬2)، وكان الهدهد مهندسَ الماء، وإنما كان يعرف سليمان قُرب الماء وبُعده من جهته؛ وذلك أنه كان يرى الماء في الأرض كما يُرى الماءُ في الزجاجة (¬3). قال عبد الله بن شداد: الهدهد ينظر إلى الماء كما ينظر بعضنا إلى بعض (¬4). ¬

_ = وأخرجه ابن جرير 143/ 19، 144، وابن أبي حاتم 9/ 2859، عن ابن عباس، وفيه ذكر نافع الأزرق. وذكره الثعلبي 8/ 125 أ. وأخرجه الحاكم 2/ 440، كتاب التفسير، رقم: 3525، 3526، من طريق عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد، "كتاب السنة" 2/ 412، رقم: 900. (¬1) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2860، هذا المعنى عن عدد من المفسرين. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 470. و"تفسير هود الهواري" 3/ 250. و"ابن جرير" 19/ 143. (¬3) أخرج نحوه ابن أبي حاتم 2859/ 9، عن ابن عباس. وذكره بنصه، الزجاج 4/ 113، ولم ينسبه. وذكره السمرقندي 2/ 492، ولم ينسبه. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2860. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن تفقد نبي الله سليمان عليه السلام للَّهدهد من شمام متابعته لجنده وتفقده لهم، واستظهر هذا المعنى أبو حيان 7/ 61. ورد ابن سعدي 5/ 570، القول بأن سبب تفقد الهدهد، طلب الماء، بأنه لا يدل عليه دليل، بل الدليك العقلي، واللفظي دال على بطلانه، ثم شرع في بيان ذلك، ثم قال: فإن عنده من الشياطين، والعفاريت، ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ، وسخر له الريح غدوها شهر، ورواحها =

وروي عن ابن عباس، في سبب تفقد الطير: أنها كانت تظله، فوقعت نفحة من الشمس على رأسه، فنظر وتفقد الطير، فإذا موضح الهدهد خالٍ، فذلك قوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (¬1) قال أبو إسحاق: معناه: بل كان من الغائبين (¬2). قال مقاتل: والميم هاهنا صلة (¬3) كقوله: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41، القلم: 47] (¬4). ونحو هذا قال الكسائي. وقال المبرد: لما تفقد سليمان الطير ولم ير الهدهد قال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك، فشك (¬5) في غيبته عن ذلك الجمع حيث لم يره، فقال (¬6): {أَمْ كَانَ مِنَ ¬

_ = شهر، فكيف مع ذلك يحتاج إلى الهدهد .. والشاهد: أن تفقد سليمان -عليه السلام- للطير، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه، وتدبيره للملك بنفسه، وكمال فطنته، حتى تفقد هذا الطائر الصغير. (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 144، بنحوه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2861، عن سفيان. قال ابن جرير: والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل، ولا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيح. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 113. فأم، منقطعة بمعنى: بل. (¬3) أي: حرف زائد، فيكون المعنى على الاستفهام: أكان من الغانيين والظاهر في الآية أنها أم المنقطعة. وجزم بذلك الزمخشري 3/ 346. قال أبو حيان: والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة؛ لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما ففات شرط المتصلة، وقيل: يحتمل أن تكون من المقلوب، وتقديره: ما للهدهد لا أراه، ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. "البحر المحيط" 7/ 62، وتبعه في ذلك السمين الحلبي، "الدر المصون" 8/ 592. (¬4) "تفسير مقاتل" 58 أ. وذكره البغوي 6/ 153، ولم ينسبه. (¬5) في نسخة: (ج): فقال. (¬6) فقال، غير موجودة في (ج).

الْغَائِبِينَ} أي: بل أكان من الغائبين، كأنه ترك الكلام الأول، واستفهم عن حاله وغيبته. وقال صاحب النظم: (كَانَ) هاهنا بمنزلة: صار، كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] أي: أن يصير له أسرى، والتأويل: صار من الغائبين. أي: صار ممن يغيب عن مركزه. انتهى كلامه. وقال أبو علي: معنى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} أخبروني عن الهدهد، أحاضرٌ هو {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [فعرنت الجملة لقوله (أَمْ كَانَ)] (¬1) ومثله قوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] وسنذكره في موضعه (¬2). وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] (¬3) قال: وهذا قول أبي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين، في نسخة (ج). (¬2) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}: قال أبو علي: في إلحاق همزة الاستفهام بعض البعد؛ لأنهم قد علموا أنهم اتخذوهم سخريًا، فكيف يستقيم أن يستفهموا عن اتخاذهم سخرِيًا، وقد علموا ذلك، يدل على علمهم به أنه قد أخبر عنهم بذلك في قوله: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون: 110] فالجملة التي هي: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} صفة للنكرة وهي قوله: {رِجَالًا} ووجه قول من ألحق الهمزة الاستفهام أنه على التقرير لا على المعنى، وذلك ليعادل قوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بـ (أم) في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقدن: 2] وإن لم يكن استفهامًا في المعنى وكذلك قولهم: ما أبالي أزيد قائم أم عمرو، فإن قلت: ما الجملة المعادلة بقوله: {أَمْ زَاغَتْ} فالقول فيه: أنها محذوفة المعنى: أمفقودون أم زاغت عنهم الأبصار، وهذا كما ذكرنا في قوله تعالى: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 2]. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قرئ بالتخفيف والتشديد، واختلف أهل المعاني في توجيه القراءتين، واختار أبو عبيد التشديد، قال: ومعناها عند أهل العلم: هذا أفضل أمن هو فانت على تأويل: أم الذي هو قانت .. وهذا قول أبي علي في وجه هذه القراءة وشرحه فقال: الجملة التي قد عادلت أم قد حذفت، =

21

الحسن (¬1). وإنما قال: {مِنَ الْغَائِبِينَ} ولم يقل: من الغائبة؛ لوفاق رؤوس الآي (¬2). ووجه جوازه: أن الطير من سليمان بمنزلة من يعقل، حيث فهم عنها وفهمت عنه، فهي عنده كبني آدم وغيرهم ممن يعقل، فلما كان عنده سواء قال: {مِنَ الْغَائِبِينَ}. ثم أوعده على غيبته فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. 21 - {لَأُعَذِّبَنَّهُ} قال ابن عباس: فتألى ليعذبنه؛ قال: والله لأعذبنه عذاباً شديدًا، قال: يريد النتف، نتف ريشه، وهو أن ينتفه ثم يلقيه بالأرض، فلا يمتنع من نملة، ولا من شيء من هوام الأرض (¬3). هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو قول جماعة المفسرين؛ قالوا: تعذيبه إياه: نتفه وتشميسه (¬4). وقال مقاتل: يعني: لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطير حولًا (¬5). ¬

_ = والمعنى: الجاحد الكافر خير أم الذي هو قانت، ودل على الجملة المحذوفة المعادلة لـ (أم) ما جاء بعدُ من قوله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. (¬1) لم أجده في "معاني القرآن" للأخفش. (¬2) سبق الحديث عن هذه المسألة في تفسير الآية الرابعة من سورة: (الشعراء). (¬3) "تفسير هود الهواري" 3/ 250، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2862، عن قتادة. وذكره الثعلبي 8/ 124 ب. واستظهر هذا القول البغوي 6/ 153. (¬4) "تفسير مجاهد" 2/ 470، عن مجاهد، وعبد الله بن شداد. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 79، عن ابن عباس، وقتادة، وعبد الله بن شداد وأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد. وأخرجه ابن جرير 19/ 145، عن ابن عباس، من طرق، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2862، عن ابن عباس، وعبد الله بن شداد وقال به ابن قتيبة في "غريب القرآن" 323. (¬5) "تفسير مقاتل" 58 أ. قال ابن كثير: اختلف المفسرون فيه، والمقصود حاصل على كل تقدير. "البداية والنهاية" 2/ 21.

قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: بحجة بينة في غيبته (¬1). وقرأ ابن كثير: (ليأتينني) بنونين. وكذلك في مصاحفهم. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة، وحذفوا النون الثانية التي قبل ياء المتكلم؛ لاجتماع النونات، وكذلك في مصاحفهم (¬2). قال صاحب النظم: قوله: {لَيَأْتِيَنِّي} ليست بموضع قسم؛ لأنه عذر للهدهد في دفع الذبح والعذاب عنه، فلم يكن ليقسم على أن يأتي بعذر، ولكنه لما جاء بها في إثْر (¬3) ما يجوز فيه القَسَم أجراه مجراه، كما تقول في باب المحاذاة والمعارضة (¬4)، ولو لم يجيء باللام لم يجز فيه النون، فكان يكون: أو يأتيني، على أن يكون (أَوْ) بمنزلة حتى أو على نظم (¬5): أو أن يأتيني، وهذا شبيه بقوله -عز وجل-: {قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90] فاللام الأولى دخلت لـ: لو، والثانية على المحاذاة والمعارضة. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 58 أ. و"هود الهواري" 3/ 250، منسوبًا لابن عباس. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 113، ولم ينسبه. أخرج ابن جرير 19/ 146، وابن أبي حاتم 9/ 2863، عن ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة. (¬2) "السبعة في القراءات" 479، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 145. و"المبسوط في القراءات العشر". و"الحجة" 5/ 380، و"النشر" 2/ 3370 قال الأزهري: من قرأ: بنونين، ثقل النون للتأكيد، وجاء بنون أخرى للإضافة. "معاني القراءات" 2/ 235. قال الداني: في مصاحف أهل مكة {أَوْ لَيَأْتِيَنني} بنونين، وفي سائر المصاحف بنون واحدة. "المقنع" 106. (¬3) قال ابن السكيت: خرجت في أَثَره، وإثْره. وقال ابن الأعرابي: جاء في أَثَره، وإِثْره. "تهذيب اللغة" 15/ 121 (أثر). (¬4) يعني: أن اللام لما دخلت على: {لَأُعَذِّبَنَّهُ} و {لَأَذْبَحَنَّهُ}، لكونها في موضع قسم دخلت على: {لَيَأْتِيَنِّي} من باب: المحاذاة والمعارضة. والله تعالى أعلم. (¬5) في نسخة، (ج): (وزن).

22

22 - وقوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قرئ بفتح الكاف (¬1). قال المبرد: يقال: مكَث ومكِث ومكُث فمن قال: مكَث أو مكِث فالمضارع منه: يمكث، ومن قال: مكُث فالمضارع منه: يمكُث، واسم الفاعل من المفتوحة والمكسورة: ماكث، ومن المضمومة: مكيث، نحو: شَرُف فهو شريف، وظَرُف فهو ظريف. قال أبو علي: ومما يقوي الفتح قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وقوله: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 3] فماكثون تدلك على: مَكَث. ألا ترى أنك لا تكاد تجد فاعلًا من فعُل (¬2). قال ابن عباس: يريد: لم يلبث إلا يسيرًا (¬3). قال الفراء: ومعنى {غَيْرَ بَعِيدٍ} غير طويل من الإقامة، والبعيد والطويل متقاربان (¬4). وقال الزجاج: أي غير وقت بعيد (¬5). ¬

_ (¬1) قرأ عاصم وحده، بفتح الكاف، والباقون بضم الكاف. "السبعة في القراءات" 480، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 146، وفيه اختار ابن خالويه: الفتح. و"المبسوط في القراءات العشر" 278. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 381، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 337، قال ابن جرير 19/ 147: هما لغتان مشهورتان، وإن كان الضم فيها أعجب إلي؛ لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما. وقال الأزهري: ضم الكاف أكثر في كلام العرب. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 381. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يقول: الدليل على أن: مكَث أفصح قولهم ماكث، ولا يقولون: مَكِثٌ. "إعراب القرآن" 3/ 203. قال الأزهري: وكان أبو حاتم يختار النصب؛ لأنه قياس العربية، ألا ترى أنه يقال: فهو ماكث، ولا يقال: مكيث. "معاني القراءات" 2/ 235. (¬3) "تنوير المقباس" 317، بمعناه. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 289. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 113.

وقوله: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} (¬1) قال صاحب النظم: فيه محذوف على تقدير: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} حتى جاء (فَقَالَ) (¬2). وقال الزجاج: المعنى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} فجاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته، فقال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وحذف هذا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه. ومعنى: (أَحَطتُ) علمتُ شيئًا من جميع جهاته (¬3). قال ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة، فقال: اطلعتُ على ما لم تَطَّلِع عليه (¬4). وقال مقاتل: علمتُ ما لم تعلم؛ يقول: جئتك بأمر لم تخبرك به الجنُ، ولم تعلم به الإنس، وبلغتُ ما لم تبلغه أنت ولا جنودك (¬5). قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (¬6) قرئ {مِنْ سَبَإٍ} بالإجراء، والتنوين. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو غير مجري (¬7). ¬

_ (¬1) في هذه الآية رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 203. (¬2) "تفسير السمرقندي" 2/ 493، ولم ينسبه. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 114. و"تفسير الماوردي" 4/ 201، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير الماوردي" 4/ 201. (¬5) "تفسير مقاتل" 58 أ. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2864، عن قتادة. (¬6) سبأ: بفتح أوله وثانيه: أرض باليمن مدينتها مأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، وسميت بهذا لأنها كانت منزل ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. "معجم البلدان" 3/ 203. وهي تقع شمال شرق صنعاء. (¬7) "السبعة في القراءات" 480. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 147. و"المبسوط في القراءات العشر" 278. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 382، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 337. وقد صوب القراءتين ابن جرير 19/ 147. ومعنى: غير مجري؛ أي: غير مجرور، فهو ممنوع من الصرف.

قال الفراء: من أجرى فلأنه فيما ذكروا: رجل. قال: وسُئل أبو عمرو عن قراءته بغير إجراء، فقال: لست أدري ما هو، قال: وقد ذهب مذهبًا إذ لم يدر ما هو فلمَ يُجره (¬1)؛ لأن العرب إذا سمت بالاسم المجهول تركوا إجراءه كما قال الأعشى: وتُدفنَ منه الصالحاتُ وإن يُسئ ... يكن ما أساءَ النارَ في رأس كَبْكَبَا فكأنه جهل كبكب (¬2). وقال الكسائي: من جعله اسم ذكرٍ، رجلٍ أو غيره، أجراه، ومن جعله اسمًا مؤنثًا قبيلة أو مدينة، أو مكان لم يجره (¬3). وأنكر أبو إسحاق على الفراء قولَه: الاسم إذا لم يُدرَ ما هو لم يُصرف؛ فقال: الأسماء حقها الصرف فإذا لم يعلم الاسم لمذكرٍ هو أم ¬

_ (¬1) اعترض النحاس على كلام الفراء عن قول أبي عمرو؛ فقال: أبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكايته الرُّؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال: لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال: لا أعرفه، لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا، والواجب إذا لم تعرفه أن تصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف. "إعراب القرآن" 3/ 204. (¬2) أنشده مع بيت قبله ونسبه سيبويه، الكتاب 3/ 93، وأنشده كذلك الفراء، "معاني القرآن" 2/ 295. وعن الفراء ذكره النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 204. والبيت في "شرح ديواد الأعشى" 40، من قصيدة يهجو فيها عمرو بن المنذر بن عبدان. وفي حاشية الكتاب: كبكب: اسم جبل بمكة، والنار في رأس الجبل أظهر وأشهر؛ أي: من اغترب عن قومه جرى عليه الظلم فاحتمله لعدم ناصره، وأخفى الناس حسناته وأظهروا سيئاته. (¬3) ذكر هذا سيبويه، "الكتاب" 3/ 252، فقال: فأما ثمود وسبأ، فهما مرة للقبيتين، ومرة للحيين. قال ابن الأنباري: من قرأ بالصرف جعله اسمًا للحي، أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسمًا لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. "البيان" 2/ 221.

لمؤنثٍ فحقه الصرف حتى يُعلم أنه لا ينصرف؛ لأن أصل الأسماء الصرف، فكل ما لا ينصرف فهو يُصرف في الشعر. قال: ومن قال: إن سبأ اسم رجل فغلط؛ لأن سبأ هي: مدينة تعرف بمأرب من اليمن، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. فمَن لم يصرف فلأنه اسم مدينة، ومن صرف والصرف أكثرة فلأنه اسمٌ للبلد فيكون مُذَكّرًا سُمِّيَ به مُذكَّر (¬1). والذي قاله أبو إسحاق: من أنه اسم مدينة، قول بعض المفسرين (¬2)، وبه قال مقاتل؛ لأنه قال: يعني من أرض سبأ باليمن (¬3). وظاهر هذا القول: أنه أراد مدينة، مع احتمال أن سبأ اسم القبيلة أضاف الأرض إليهم. وكثير من الناس ذهبوا إلى أن سبأ اسم رجل. رُوي في الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن سبأ فقال: "كان رجلاً له عشرة من البنين" الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 114. (¬2) "تفسير هود الهواري" 3/ 250، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 58 أ. واقتصر عليه في "الوجيز" 2/ 852. (¬4) ذكره الهواري 3/ 255، ولفظه: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سبأ، أرجل هو أم امرأة، أم أرض. فقال: بل هو رجل، ولَدَ عشرة، فباليمن منهم ستة، وبالشام أربعة، ثم ذكر أسماءهم. وأخرجه بسنده ابن جرير، في تفسير سورة سبأ 22/ 76. وأخرج بسنده الأزهري في "معاني القراءات" 2/ 237، وقال: إسناد الحديث حسن، وهو يدل على أن إجراء سبأ أصوب القراءتين. والحديث أخرجه الترمدي 5/ 336، كتاب تفسير القرآن، رقم: 3222، وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الحاكم 2/ 460، كتاب التفسير، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وهو في "صحيح سنن الترمذي" 3/ 96، رقم: 2574.

وقال أبو الحسن (¬1) في سبأ: إن شئت صرفت فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحي، وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة. قال: والصرف أعجب إليَّ؛ لأني قد عرفت أنه اسم أبيهم، وإن كان اسم الأب يصير كالقبيلة، إلا أني أحمله على الأصل (¬2). وقال غيره: هو اسم رجل، واليمانية كلها تنسب إليه، يقولون: سبأ ابن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان (¬3). فبان بما ذكرنا أن إنكار أبي إسحاق على من قال: سبأ: اسم رجل، لا يتوجه. قال الأزهري: سبأ: اسم رجل ولَدَ عشرة بنين، فسميت القرية باسم أبيهم (¬4). وفي هذا بيان أن القرية إن سميت سبأ فهي مسماة باسم رجل، نحو: مدين سميت باسم مدين بن إبراهيم، والعرب قد تكلمت بالإجراء وغير الإجراء في: (سبأ)؛ قال جرير: الواردون وتيمٌ في ذُرَى سبإٍ (¬5) ¬

_ (¬1) نص ابن الجوزي 6/ 165، على أنه الأخفش. لكني لم أجد هذا القول في كتابه المعاني في هذه السورة، ولا في سورة سبأ. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 382، منسوبًا لأبي الحسن. قال الشوكاني 4/ 128: أقول: لا شك أن سبأ اسم مدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضًا اسم رجل من قحطان، وهو: سبأ بن يشجب، بن يعرب، بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا: أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 382. ولم يسم القائل. وهذا النسب ذكره النحاس في "إعراب القرآن" 3/ 205. (¬4) "تهذيب اللغة" 13/ 106 (سبأ)، وصدَّره بـ: قيل، ولم ينسبه. (¬5) أنشده كاملًا الفراء 2/ 290، ولم ينسبه، وعجزه: قد عض أعناقهم جِلد الجواميس

23

فأجرى، وقال آخر: من سبأَ الحاضرين مَأربَ إذ ... يَبْنون من دون سيله العَرِما (1) وقوله: {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قال ابن عباس: بخبر صادق (2). وقال مقاتل: بحديث حق لا شك فيه. فقال سليمان: وما ذاك؟ فقال الهدهد (3): 23 - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} قال مقاتل: يعني تملك أهل سبأ (4) {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد من زينة الدنيا من

_ = وهو في "ديوان جرير" 252، من قصيدة طويلة يهجو فيها التيم، ورواية البيت في الديوان: تدعوك تيم وتيم في ذرى سبإ ... قد عض أعناقَهم جِلدُ الجواميس وفي حاشية الديوان: أراد أنهم أسرى، وفي أعناقهم أطواق من جلد الجواميس. (1) أنشده ولم ينسبه: سيبويه 3/ 253، والزجاج 4/ 114، والأنباري في "الإنصاف" 2/ 502. والشاهد فيه: ترك صرف سبأ، على معنى القبيلة. حاشية الكتاب 3/ 253. وأنشده النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 204، ونسبه للنابغة الجعدي، وهو في ديوانه 134، من قصيدة طويلة مطلعها: الحمدُ لله لا شريك لهُ ... من لم يقُلها فنفسَه ظَلَمَا يذكر في هذه القصيدة ضروبًا من دلائل التوحيد، والإقرار بالبعث والجزاء، والجة والنار، وصفةِ بعض ذلك: على نحو شعر أمية بن أبي الصَّلت، وقد قيل: إن هذه القصيدة لأمية بن أبي الصلت، ولكنه قد صححه يونس بن حبيب، وحمادٌ الراوية، ومحمد بن سلام، وعلي بن سليمان الأخفش، للنابغة الجعدي. "خزانة الأدب" 3/ 172. والبيت في "ديوان أمية بن أبي الصلت" 190. (2) "تفسير هود الهواري" 3/ 250، بلفظ: بخبر يقين. وأخرجه ابن أي حاتم 9/ 2865، بلفظ: خبر حق. (3) و (4) "تفسير مقاتل" 58 أ.

المال والجنود والعلم (¬1). والمعنى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يؤتاه مثلها (¬2). قال أبو علي: أي: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} في زمانها فحذف المفعول لدلالة الإيتاء عليه (¬3). ويجوز في قياس أبي الحسن أن يكون المعنى: وأوتيت كلَّ شيء، ولا يجوز في قياس قول سيبويه (¬4). {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: يريد: سريرًا من ذهب تجلس عليه، طوله ثمانون ذراعًا، وعرضه أربعون ذراعًا، وارتفاعه في السماء ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 58 أ. وأخرج ابن جرير 19/ 148، عن الحسن: من كل أمر الدنيا، ونسبه في "الوسيط" 3/ 375، لعطاء. وذكر البغوي 6/ 149، عن ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة. وفي "تنوير المقباس" 317: أعطيت علم كل شيء في بلدها. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 111. (¬3) المفعول المحذوف تقديره: وأوتيت من كل شيء شيئًا يؤتاه مثلها. (¬4) يعني بذلك الواحدي الخلاف في: {مِّن} هل هي زائدة للتوكيد كما هو رأي أبي الحسن الأخفش؛ حيث يرى أن: (مِن)، تزاد في الإيجاب مطلقًا، كقوله تعالى: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] قال: {مِنْ كِتَابٍ} تريد: لما آتيتكم كتابٌ وحكمةٌ، وتكون: (من)، زائدة. "معاني القرآن" 1/ 413. كتبن بالرفع: كتاب وحكمة. وذكر رأي أبي الحسن الأخفش، أبو البركات الأنباري، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 320. وأما سيبويه فهو يرى أن: مِن، لا تزاد إلا إذا كان مجرورها نكرة في سياق نفي، أو نهي، أو استفهام. "الكتاب" 1/ 38. وذكر هذه المسألة بالتفصيل د. عبد الفتاح الحموز في رسالته للدكتوراه: "التأويل" النحوي في القرآن الكريم" 2/ 1292. كما ذكرها د. صالح بن إبراهيم الفراج، في رسالته للدكتوراه: "الواحدي النحوي من خلاق كتابه البسيط" 2/ 425.

24

ثلاثون ذراعًا، مضروب بالذهب، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر (¬1). وقال مقاتل: كان عرشها ثمانون ذراعًا، في ثمانين ذراعًا، وارتفاع السرير من الأرض ثمانون ذراعًا مكلل بالجوهر (¬2). 24 - وقوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، وتفسيرها ظاهر. 25 - وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} قرئ بالتشديد والتخفيف (¬3)؛ فمَنْ شدد فتقديرها: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا. وهذا قول الزجاج (¬4). ويجوز أن يُعلق: أنْ، بزين؛ كأنه زين لهم الشيطان لئلا يسجدوا. ¬

_ (¬1) "تفسير الوسيط" 3/ 375، عن عطاء. وذكر هذا التفصيل وزاد عليه الثعلبي 8/ 127 أ. والبغوي 6/ 156. وتفسير العرش بأنه: السرير ذكره البخاري، عن ابن عباس، ولفظه: {وَلَهَا عَرْشٌ} سرير {كَرِيم} حُسنُ الصنعة، وغلاء الثمن. "فتح الباري" 8/ 504. وأخرجه ابن جرير 19/ 148، بلفظ: عرشها: سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ. وكذا عند ابن أبي حاتم 9/ 2866. (¬2) "تفسير مقاتل" 58 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2867، عن زهير بن محمد: سرير من ذهب، وصفحتاه مرمول بالياقوت، والزبرجد، طوله ثمانون ذراعًا، في أربعين عرضًا. وهذا التفصيل مما لم يثبت، ولا فائدة في معرفته، فالأولى تركه. والله أعلم. قال ابن عطية 11/ 193، عن ملكة سبأ: وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية أنها مختصة بامرأة مُلكت على مدائن اليمن، وكانت ذات ملك عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار. (¬3) كلهم شدد اللام، غير الكسائي. "السبعة في القراءات" 480، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 148، و"المبسوط في القراءات العشر" 279، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 383، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 337. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 115. وذكره أبو علي، ولم ينسبه، "الحجة" 5/ 383.

وهذا قول الفراء (¬1). واللام في الوجهين داخلة على مفعول له ثم حذفت، وموضع أن نصب بقوله: {فَصَدَّهُمْ}، ويجوز أن يكون موضعها خفضًا ولو حذفت اللام. والوجه: قراءة من قرأ بالتشديد لتجري القصة على سَنَنِها، ولا يفصل بين بعضها وبعضٍ بما ليس منها، وإن كان الفصل بهذا النحو غير ممتنع؛ لأنه يجري مجرى الاعتراض، وما يسدد القصة، وكأنه لما قيل: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} فدل هذا الكلام علي أنهم لا يسجدون لله، ولا يتدينون بدين. قال الهدهد: ألا يا قوم، أو يا مسلمون اسجدوا لله الذي خلق السموات والأرض، خلافًا عليهم (¬2)، وحمدًا لله لمكان ما هداكم لتوحيده، فلم تكونوا مثلهم في الطغيان والكفر. ووجه دخول حرف التنبيه على الأمر، أنه: موضع يُحتاج فيه إلى استعطاف المأمور، لتأكيد ما يؤمر به عليه، كما أن النداء موضع يُحتاج فيه إلى استعطاف المنادى، لما ينادى له من إخبار أو أمر أو نهي، ونحو ذلك مما يخاطب به، وإذا كان كذلك فقد يجوز أن لا يريد منادى في نحو قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} ويجوز أن يراد بعد يا: مأمورون، فحذفوا كما حذف من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 290، ولفظه: زين لهم الشيطان ألا يسجدوا. وهو قول الأخفش 2/ 649. وذكره أبو علي، ولم ينسبه، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 383. قال ابن كثير 6/ 188: ولما كان الهدهد داعياً إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له نُهي عن قتله. ثم ساق حديث ابْنِ عَبَّاس قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوابِّ النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ). أخرجه أبو داود 5/ 418، كتاب الأدب، رقم: 5267، وابن ماجه 2/ 1074، كتاب الصيد، رقم: 3223، وصححه الألباني، "صحيح أبي داود" 3/ 988، رقم (4387). (¬2) المعنى -والله أعلم-: لمخالفتكم لهم في عبادتهم، فاحمدوا الله.

قوله: يا لعنةُ الله والأقوامِ كلِّهم ... والصالحينَ على سمعانَ مِنْ جَارِ (¬1) وكما أن (يا)، هنا لا تكون إلا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم أو يا هؤلاء، كذلك في الآية يجوز أن يكون المأمورون مرادِين، وحُذفوا من اللفظ، وقد جاء هذا في غير موضع من الشعر، فمِن ذلك ما أنشده أبو زيد: وقالت ألا يا اسمع نَعِظْكَ بِخُطَّةٍ ... فقلتُ سمعنا فانطقي وأصيبي (¬2) قال الفراء: من قرأ بالتخفيف فهو على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فيُضمر: هؤلاء، ويُكتفى منها بقوله: يا، وأنشد للأخطل: ألا يا اسلمي يا هندُ هندَ بني بدرِ ... وإن كان حيَّانا عِدًى آخرَ الدهرِ (¬3) ¬

_ (¬1) أنشده سيبويه 2/ 219، ولم ينسبه، وفي الحاشية: البيت من شواهد سيبويه التي لم يعرف قائلها. والشاهد فيه: حذف المدعو لدلالة حرف النداء عليه، والمعنى: يا قوم، أو يا هؤلاء، لعنة الله على سمعان، ولذا رفع: لعنة، بالابتداء، ولو أوقع النداء عليها لنصبها. وأنشده المبرد، "الكامل" 3/ 1199، وأبو علي، "الحجة" 5/ 384، وأبو القاسم الزجاجي، في كتابه: "اشتقاق أسماء الله" 166، والنحاس، "إعراب القرآن" 3/ 207، والأنباري، "الإنصاف" 1/ 118، ولم ينسبوه. وكذا البغدادي، "الخزانة" 11/ 197، وفي الحاشية: البيت مجهول القائل. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 383 - 385. من قوله: واللام في الوجهين. بتصرف يسير. وذكر البيت من إنشاد أبي زيد، وهو في كتاب النوادر في اللغة 22، منسوبًا للنمر بن تَوْلَب. وأنشده الأنباري، "الإنصاف" 1/ 102، وفي الحاشية: الخطة: شبه القصة. وأنشده أبو حيان 7/ 66، بلفظ: بخطبة. وكذا في "الدر المصون" 8/ 601. (¬3) أنشده الفراء، "معاني القرآن" 2/ 290، وأبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 94، والزجاج، "معاني القرآن" 4/ 115، ونسبوه للأخطل. العدى: التباعد، يخاطب صاحبته هندًا ويرجو لها السلامة، وينسبها إلى بني قومها، ويقول: إنه يأمل أن =

وقال أبو إسحاق: من قرأ بالتخفيف، فـ (أَلا) لابتداء الكلام والتنبيه، والوقف عليه: ألا يا، ثم يستأنف فيقول: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} (¬1)، ومثله: قول ذي الرمَّة: ألا يا اسلمي يا دارَ ميَّ على البِلى ... ولا زال مُنْهلًّا بجَرعائكِ القطرُ (¬2) وقال العجاج: يا دارَ سلمى يا اسلمي ثُمَّ اسلَمي ... عن سَمْسَمٍ وعن يمين سَمْسَم (¬3) قال: وإنما أكثرنا الشاهد في هذا الحرف كما فعل مَنْ قبلنا، وإنما فعلوا ذلك لقلة اعتياد العامَّة لدخول: ياء، إلا في النداء، لا تكاد تقول ¬

_ = يقيما على المودة بالرغم من الجفاء بين قوميهما. "شرح ديوان الأخطل" 150. وذكر ابن قتيبة هذا القول في "تأويل مشكل القرآن" 223، 306، دون ذكر البيت. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 115، وذكره أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 93. وهود الهواري 3/ 251. وأشار إلى هذا القول سيبويه، "الكتاب" 3/ 545؛ قال: وإنما حذفت الهمزة هاهنا؛ لأنك لم ترد أن تتم وأردت إخفاء الصوت، فلم يكن ليلتقي ساكن وحرفٌ هذه قصته كما لم يكن ليلتقي ساكنان. (¬2) أنشده أبو عبيدة، "المجاز" 2/ 94، والزجاج 4/ 115، ونسباه لذي الرمة. وهو في "ديوانه" ص 202، وفي شرحه: الانهلال: شدة الصب، والجرعاء من الرمل: رابية سهلة لينة. (¬3) أنشد أبو عبيدة، الشطر الأول منه، ونسبه للعجاج. "مجاز القرآن" 2/ 94. وكذا ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 223، ولم ينسبه. وأنشده الزجاج 4/ 115، ونسبه للعجاج. وأنشده ابن خالويه، "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 148 ولم ينسبه. وهو في "ديوان العجاج" 234، بلفظ: بسمسم أو عن يمين سمسم. وفي النسخ الثلاث: عن سمسم أو عن يمين سسم. وقال محقق الديوان: سمسم: بلد من شق بلاد تميم، أو كثبان رمل.

العامَّة: يا اذهب بسلام (¬1). وقال أبو علي: ومما يؤكد قول من قال: (أَلَّا) مثقلة أنها لو كانت مخففة ما كتبت في (يسجدوا)؛ لأنها: اسجدوا، ففي ثبات الياء في: يسجدوا في المصحف دلالة على التشديد، وأن المعنى: أن لا يسجدوا؛ فانتصب الفعل بأن وثبتت ياء المضارعة في أول الفعل (¬2). وذكر صاحب النظم وجهين آخرين للقراءتين؛ فقال في قراءة العامَّة بالتشديد: إنه متصل بما قبله؛ لأن قوله: {لَا يَهْتَدُونَ} واقع على قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} على تأويل: فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله. أي: لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم، و (لا): زيادة، كما قال: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي: ما منعك أن تسجد. قال: ومن قرأ بالتخفيف فما قبله تمام، وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} كلام معترض من غير القصة الماضية؛ إما من سليمان وإما من الهدهد (¬3)، وهو أمر على غير المواجهة كما تقول: لِيُضرب فلان، قال الله تعالى: {فبَذَلِكَ فَليَفرَحُواْ} [يونس: 58] ومنه قوله -عز وجل-: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] وقد قيل فيه: إنه أمر على تأويل: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} اغفروا أو ليغفروا. وعلى هذا التوجيه لا يتأتى الترجيح الذي ذكره أبو علي: القراءة التشديد، غير أن الظاهر ما قال هو. وقال الفراء والزجاج: من قرأ بالتخفيف فهو في موضع سجدة من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 115. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 385. (¬3) ذكر هذا القول القرطبي 13/ 187، ونسبه للجرجاني. ورجح ابن عطية أن يكون الكلام المعترض من قول الله تعالى؛ لأنه اعتراض بين كلامين، قال: وهو الثابت مع التأمل.

القرآن. ومن قرأ بالتشديد فليس بموضمع سجدة. هذا قولهما (¬1)! وأهل العلم على أن هاهنا سجدة على القراءتين بلا خلاف بينهم في ذلك؛ لأن التشديد يتضمن مذمتهم على ترك السجود لله (¬2). ويحسن السجود في مثل هذا الموضع، كقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]. وقال أبو عبيد: من قرأ بالتخفيف، جعله أمرًا من الله مستأنفًا بمعنى: ألا يا أيها الناس اسجدوا؛ وهذا وجه حسن إلا أن فيه انقطاعُ الخبر الذي كان من أمر سبأ وقومها، ثم رجع بَعدُ إلى ذكرهم، والقراءة الأولى خبرٌ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 290. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 115. ونقد هذا القول الزمخشري 3/ 351، حيث قال: لأن موضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم لتارك .. وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. (¬2) سجدة سورة النمل ثابتة لا خلاف فيها كما ذكر الواحدي، وحكى ابن حزم اتفاق أهل العلم على ذلك. مراتب الإجماع لابن حزم 31. وأخرج السجدة فيها بسنده عبد الرزاق عن ابن عباس، وابن عمر. "المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني 3/ 335، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: إسناد عبد الرزاق جيد. "التبيان في سجدات القرآن" 69. وموضع السجدة بعد قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} عند الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة؛ "بدائع الصنائع" 1/ 193، و"حاشية الدسوقي" 1/ 307، و"الحاوي الكبير" للماوردي 2/ 202، و"المغني" لابن قدامة 2/ 357، لكن أشار في "المجموع" 3/ 510، إلى الخلاف في موضع السجدة فقال: وشذَّ العبدري من أصحابنا فقال في كتابه: الكفاية: هي عند قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قال: هذا مذهبنا، ومذهب أكثر الفقهاء .. وهذا الذي أدعاه العبدري ونقله عن مذهبنا باطل مردود. والله أعلم. وبحثت عن هذه المسألة في كتاب "الأم" للشافعي فلم أجدها. والله أعلم.

يتبع بعضه بعضا، لا انقطاع في وسطه (¬1). ويدل على ما قال أبو عبيد، ما روى عطاء عن ابن عباس، في قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا}: قال الله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا}. فجعل هذا إخبارًا عن الله ومن قوله. وقوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يقال: خبأت الشيء أخبؤه، خبأً. والخبء: ما خبأتَ من ذخيرة ليوم مَّا، وكل ما خبأته فهو: خبء (¬2). قال مجاهد ومقاتل: يعني: الغيث في السماوات والأرض (¬3). وقال الزجاج: وجاء في التفسير أن الخبء هاهنا: القطر من السماء، والنبات من الأرض (¬4)، قال: ويجوز وهو الوجه أن الخبء: كل ما غاب، فيكون المعنى: يعلم الغيب في السماوات والأرض (¬5). وذكر الفراء القولين أيضًا، وقال: وهي في قراءة عبد الله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} قال: وصلحت: (في) مكان: (من)؛ لأنك تقول: ¬

_ (¬1) ذكره عن أبي عبيد، القرطبي 13/ 186. (¬2) "العين" 4/ 315 (خبأ)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 7/ 603. (¬3) "تفسير مجاهد" 2/ 471. و"تفسير مقاتل" 158. وأخرجه ابن جرير 19/ 150، عن مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2868، عن مجاهد، وسعيد بن المسيب. (¬4) وهو قول ابن زيد، أخرجه ابن جرير 19/ 150، وابن أبي حاتم 9/ 2868. وقال به ابن قتيبة، في غريب القرآن 323. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 116. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2868، عن ابن عباس: يعلم كل خفية في السموات والأرض. وأخرج عبد الرزاق 2/ 81، عن قتادة: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} قال: هو السر. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2868، عن عكرمة. وذكره الهواري 3/ 251، ولم ينسبه.

26

لأستخرجن العلم فيكم. تريد: لأستخرجن العلم الذي فيكم منكم، ثم تحذف أيهما شئت، أعني. (مِنْ)، و (في)، فيكون المعنى قائمًا على حاله (¬1). وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قراءة الناس بالياء؛ لأن الكلام على الغيبة، وهو قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} وهو يعلم الغيب، وما يخفون وما يعلنون. وقرأ الكسائي وحفص: بالتاء (¬2)؛ أما الكسائي فإن الكلام دخله خطاب على قراءته: {أَلَّا يَسْجُدُوا} بالتخفيف (¬3). والمعنى: اسجدوا لله الذي يعلم ما تخفون. ورواية أبي بكر عن عاصم بالياء أشبه بقراءته من رواية حفص؛ لأنه غيبةٌ مع غيبةٍ (¬4). قال مقاتل: {مَا تُخْفُونَ} في قلوبهم {وَمَا تُعْلِنُونَ} بألسنتهم (¬5). 26 - وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 291. (¬2) قرأ الكسائي، وحفص عن عاصم: بالتاء فيهما. وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم: بالياء فيهما. "السبعة في القراءات" 481، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 149. و"المبسوط في القراءات العشر" 279، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 385، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 337. (¬3) قال الكسائي: ما كنت أسمع المشيخة يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر. "معاني القرآن" للفراء 2/ 290. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 385، باختصار. (¬5) "تفسير مقاتل" 58 أ. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2869، عن ابن عباس: يعلم ما عملوا بالليل والنهار. وعن الحسن: في ظلمة الليل، وفي أجواف بيوتهم.

27

هو الذي يستحق العبادة لا غيره، و {هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} لا ملكة سبأ؛ لأن عرشها وإن كان عظيمًا لا يبلغ عرش الله في العِظَم (¬1). قال ابن إسحاق وابن زيد: من قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} إلى منتهى هذه الآية، من كلام الهدهد (¬2). والسجود على مذهب الشافعي رضي الله عنه يكون عقيب هذه الآية. 27 - قوله: {قَالَ سَنَنْظُر} قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا من هذه القصة {أَصَدَقْتَ} فيم قلت {أَمْ كُنْتَ} قال ابن عباس ومقاتل وصاحب النظم: يعني: أم أنت من الكاذبين (¬3). والكلام في الكاذبين في مخاطبة الطير كالكلام في قوله: {مِنَ الْغَائِبِينَ} وقد مر (¬4). 28 - قوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال مقاتل: كتب سليمان كتابًا وختمه بخاتمه، ودفعه إلى الهدهد، وقال له: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} يعني: أهل سبأ (¬5). وفي قوله: (أَلْقِهِ) أوجه من القراءة؛ أجودها: وصل الهاء بالياء: (فَأَلْقِهِي) (¬6)، وترك وصله بالياء إنما يكون في الشعر؛ كقوله: ¬

_ (¬1) بنصه في "تفسير الوسيط" للواحدي 3/ 376، ولم ينسبه. والأولى جعل الآية عامة، قال ابن كثير: أي: له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات. "البداية والنهاية" 2/ 22. (¬2) أخرجه عنهما ابن جرير 19/ 151. وذكره الثعلبي 8/ 127 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 58 ب. (¬4) عند قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] (¬5) "تفسير مقاتل" 58 ب. (¬6) في قوله تعالى {فَأَلْقِهْ} ثلاث قراءات: =

ما حجَّ ربُّهُ في الدنيا ولا اعتمرا (¬1) وأنشد الزجاج: سأجعلُ عينيه لنفْسِه مَقْنَعًا (¬2) ¬

_ = 1 - إسكان الهاء، قرأ بها حمزة، وعاصم وأبو عمرو. 2 - كسر الهاء من غير ياء، قرأ بها نافع في رواية قالون. 3 - كسر الهاء ووصلها بالياء، قرأ بها ابن كثير والكسائي وابن عامر، وورش عن نافع. "السبعة في القراءات" 481. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 150. وجود كسر الهاء مع الياء الزجاج، "معاني القرآن" 4/ 116. واختارها الأزهري، "معاني القراءات" 2/ 241. وقال السمرقندي، في تفسيره 2/ 494: والقراءة بالياء أوسع اللغتين، وأكثر استعمالًا. (¬1) عجز بيت ذكره أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 387، ولم ينسبه، وصدره: أو مُعْبَرُ الظهر يُنبي عن وَليَّته وهو من شواهد سيبويه، ونسبه لرجل من باهلة. وذكره المبرد، والأنباري، ولم ينسباه. والشاعر يصف لصًا يتمنى سرقة بعير لم يستعمله صاحبه في سفر لحج أو عمرة. ومعبر الظهر: كثير الشعر في امتلاء، والولية: البرذعة، ومعنى: ينبي عن وليته: يجعلها تنبو عنه لسمنه. "الكتاب" 1/ 30، و"الإنصاف" 2/ 516، و"المقتضب" 1/ 38، وحاشيته. والبرذعة والبردعة، بالذال والدال: الحِلس الذي يُلقى تحت الرحل. "تهذيب اللغة" 3/ 357 (برخ)، و"لسان العرب" 8/ 8 وفي "المعجم الوسيط" 1/ 48: ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسرج للفرس. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 117، ولم ينسبه، وصدره: فإن يك غثًّا أو سمينًا فإنني ونسبه سيبويه 1/ 28، لمالك بن خريم الهمداني، واستشهد به سيبويه على حذف الياء في الوصل من قوله: لنفسه، للضرورة. وذكره المبرد، في "المقتضب" 1/ 38، ولم ينسبه. وفي حاشيته: يقول الشاعر: إنه يقدم لضيفه ما عنده من القِرى، ويحكّمه فيه ليختار منه أفضل ما تقع عليه عيناه، فيقتنع بذلك.

قال: ولو قال: لنفسهي، لكسر الشعر ولكنه ترك الياء وأبقى الكسرة لإقامة الوزن، وأكثر ما يقع هذا في الشعر. ومن أسكن الهاء فغالط؛ لأن الهاء ليست مجزومة، وليس له وجه من القياس؛ لأنه يُجري الهاء في الوصل على حالها في الوقف (¬1)، وزعم الأخفش أن هذا لغة كقوله: .. مشتاقانِ لَهْ أَرِقان (¬2) ولم يحك ذلك سيبويه، وحمله على الضرورة (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 117. وسياق الكلام فيه يدل على الإثبات، قال: لأن الهاء ليست بمجزومة، ولها وجه من القياس، وهو أنه يجري الهاء في الوصل على حالها في الوقف، وأكثر ما يقع هذا في الشعر أن تحذف هذه الهاء وتُبقي كسرة. وتسكين الهاء قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، في رواية عنهم. "السبعة في القراءات" 481. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 150. (¬2) أنشده كاملاً، الأخفش 1/ 179، في تفسير سورة البقرة، وعنه ابن جني، "الخصائص" 1/ 128، ولم ينسباه. وكذا أبو علي في "الحجة" 5/ 387، وحمله المبرد على الضرورة، "المقتضب" 1/ 39. والبيت بتمامه: فَظِلتُ لدى البيت العتيق أُريغهُ ... ومِطواي مشتاقان لَهْ أرقان وفي الحاشية: الأصل: فظللت فحذفت العين، ويجوز فتح الظاء وكسرها، وأريغه: بمعنى: أطلبه، ومطواي: بمعنى صاحباى، مثنى: مطوى، وضمير الغائب للبرق. "المقتضب" 1/ 39. وعند الأخفش: أُخيله بدل: أريغه. والشاهد فيه تسكين الهاء من: له، وحذف حركتها. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 387. قال علي بن سليمان: لا تلتفت إلى هذه اللغة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن تحذف الإعراب من الأسماء. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 209. وتكلم عن هذا سيبويه 1/ 26.

قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} قال مقاتل: انصرف عنهم (¬1). وقيل: أعرض عنهم. [قال ابن زيد: هذا على التأخير والتقديم، المعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم قول عنهم (¬2). قال: لأن رجوعه من عندهم] (¬3) والتولي عنهم بعد أن ينظر ما الجواب. قال الزجاج: وهذا حسن، والتقديم والتأخير كثير في الكلام (¬4). ومن لم يحمل الآية على التقديم والتأخير قال: معناه: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} مستترًا من حيث لا يرونك فانظر ما يردون من الجواب (¬5). فيقال: إن الهدهد فعل ذلك: ألقى الكتاب وطار إلى كَوَّة (¬6) في مجلسها متواريًا ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 58 ب. و"تفسير هود الهواري" 3/ 252. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 151، وذكره الثعلبي 8/ 127 ب. وأبو علي، كتاب "الشعر" 1/ 102، ولم ينسبه. (¬3) ما بين المعقوفين غير موجود في نسخة (ج). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 117. واختار هذا الوجه الأخفش، "معاني القرآن" 2/ 651، وذكره الفراء، "معاني القرآن" 2/ 291. وذهب إلى القول بالتقديم والتأخير الأنباري، "الأضداد" 111. وهذا التقديم والتأخير لا يحتاج إليه؛ لأن الكلام صحيح على ما هو عليه من الترتيب، والمعنى: فألقه إليهم ثم قول عنهم قريبًا منهم فانظر ماذا يرجعون. "تفسير الطوسي" 8/ 91. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 117. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2871، عن ابن عباس: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: كن قريبًا منهم. وأخرجه ابن جرير 19/ 151، عن وهب بن منبه. واختاره الثعلبي 8/ 127 ب. (¬6) الكوة: الخرق في الجدار يدخل منه الهواء والضوء. "اللسان" 15/ 236 (كوي).

29

عنها (¬1). 29 - قوله: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} قال أبو إسحاق: تقدير الكلام: فمضى الهدهد فألقى الكتاب إليهم (¬2) فقالت: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها (¬3). وقال مقاتل: أتاها الهدهد حتى وقف على رأسها فرفرف ساعة، والناس ينظرون، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها، فقرأت الكتاب. وكانت عربية من قوم: تبع الحميري، فأخبرت قومها وقالت: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (¬4). قال عطاء عن ابن عباس: مطبوع (¬5). وهو: قول الضحاك قال: سمته كريمًا؛ لأنه كان مختومًا (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 291. فالفرق بين القولين هو في الاستتار عنهم، فالقول الأول يدل على أن الهدهد لم يتوارَ عنهم، والقول الثاني يدل على أنه فعل ذلك. والذي يظهر أن القول الثاني أقرب، ولا حاجة للتقديم والتأخير، فالمعنى بين. والله أعلم. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 117. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2870. وذكره الثعلبي 8/ 127 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 58 ب. وكل هذا التفصيل مما لا دليل عليه؛ والأولى الوقوف عند ظاهر الآية. (¬5) "تنوير المقباس" 317، بلفظ: مختوم. وذكره عنه بهذا اللفظ السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 353، من رواية ابن مردويه. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 291، ولم ينسبه. ونسبه مقاتل 58 ب، لأبي صالح. وذكره ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" 494، ولم ينسبه. وذكره ابن جرير 19/ 153، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2872، عن السدي.

ويدل عليه ما روى ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كرامة الكتاب ختمه" (¬1). وقال قتادة ومقاتل: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} حسن (¬2). وهو اختيار الزجاج، قال: حسن ما فيه (¬3). ويدل على هذا قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58، والدخان: 26] أي: مجلس حسن، ويقال: سمته كريمًا لكرم صاحبه؛ وذلك أنها رأت ¬

_ = ذكره في "الوسيط" 3/ 376، عن عطاء والضحاك، وقال: وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير. (¬1) ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 142، وعزاه للقضاعي، وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس؛ بسند فيه متروك. وذكره الهيثمي عن الطبراني في الأوسط، وقال: فيه محمد بن مروان السدي الصغير، وهو متروك. "مجمع الزوائد" 8/ 98، كتاب الأدب، باب: في كتابة الكتب وختمها. وأخرجه الواحدي في "الوسيط" 3/ 376، من الطريق نفسه، ولم ينبه على ضعفه، بل جعل الحديث شاهدًا على صحة تفسير عطاء والضحاك. وتكلم عنه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 3/ 16، وذكر رواية الواحدي له في "الوسيط". وحكم عليه الألباني بالوضع، وعلته: محمد بن مروان السدي. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 4/ 69، رقم: 1567. وذكره من المفسرين السمرقندي 2/ 494. وقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-، خاتمًا، لمكاتباته ومراسلاته يقول أنس: لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا أن يكون مختومًا، فاتخَذ خاتمًا من فضة. فكأني انظر إلى بياضه في يده ونقش فيه محمد رسول الله. أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم: 65، "فتح الباري" 1/ 155. ومسلم 3/ 1657، كتاب اللباس والزينة، رقم: 2092. (¬2) "تفسير مقاتل" 58 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2872، عن قتادة. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 117. واقتصر عليه الهواري 3/ 252.

30

كتاب مَلِك (¬1)، رسوله الطير! فوصفت كتابه بالكرم، لكرم صاحبه (¬2). وهذا معنى ما روي عن ابن عباس: شريف، بشرف صاحبه (¬3). ثم بينت ما في الكتاب فقالت: 30 - {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} قال الكلبي: لما أتاها الهدهد كانت في قصرها فدار حول القصر وطلب السبيل إليها حتى وصل من كوة كانت في القصر ثم قطع سبعة أبيات، حتى انتهى إليها نائمة مستلقية، فوضع الكتاب إلى جنبها، ونقرها نقرة، ثم رجع إلى مكانه من الكوة، فاستيقظت فزعة، فنظرت فإذا كتاب إلى جنبها مختوم؛ فأخذته ونظرت فإذا الأبواب مغلقة، والحرس قد أحاطوا بقصرها، فقالت: هل رأيتم أحدًا دخل إليَّ؟ قالوا: ما رأينا أحدًا دخل، ولا فتح بابًا، فوقع في قلبها أنه ألقي عليها من السماء، فعند ذلك قالت: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} السماء، ثم فتحت الكتاب، وكانت كاتبة قارئة، فإذا فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من سليمان بن داود، إلى بلقيس بنت ذي الشرح، فقالت عند ذلك لمن حولها وكرهت الكذب: إنه من سليمان؛ أي: أن الكتاب من سليمان (وَإِنَّهُ) وإن المكتوب فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬4). ونحو هذا قال السدي؛ قال: لما ألقاه الهدهد في حِجرها ظنت أنه من عند الله فقالت: {أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وذلك قبل أن تقرأه فلما قرأته ¬

_ (¬1) كلمة: كتاب، سقطت من نسخة (ج). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 291، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 19/ 153، عن ابن زيد. ونسبه الماوردي 4/ 206، لابن بحر. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 494، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 325، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير السمرقندي" 2/ 494، ولم ينسبه.

31

قالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} وفيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1). 31 - {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} قال أبو إسحاق: (أَن) يجوز أن تكون في موضع نصب على معنى: كتاب بأن لا تعلوا. أي: كتاب بترك العلو، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى: {أُلْقِيَ إِلَيَّ} أن لا تعلوا. وفيها وجه آخر حسن على معنى: قال: لا تعلوا عليَّ، وهو تأويل ما ذكره سيبويه، والخليل؛ قالا: (أَنْ) في هذا الموضع في تأويل: أي، على معنى: أي لا تعلوا علي، كقوله -عز وجل-: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [سورة ص: 6]. قال أبو إسحاق: وتأويل أي هاهنا تأويل القول والتفسير، كأنها قالت: قال: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} كما تقول: فعل فلان كذا وكذا، أي: إني جواد، كأنك قلت: يقول: إنى جواد (¬2). وقد بان بهذا أنَّ (أَنْ) لم تكن في كلام سليمان المكتوب في الكتاب؛ وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لا تعلو عليَّ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2872. وأخرج عبد الرزاق 2/ 81، بسنده عن قتادة: لم يكن الناس يكتبون إلا: باسمك اللهم، حتى نزلت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2873، عن ميمون بن مهران، والشعبي. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 119. وذكر الوجهين الفراء 2/ 291، وابن جرير 19/ 153. والله أعلم. ولم أجد قول سيبويه في "الكتاب". (¬3) هكذا في (ج)، وفي نسخة: (أ)، (ب): وقد بان بهذا أن لم يكن يكن من كلام سليمان. بتكرار: يكن، وإسقاط: أن، ومن بدل: في.

قال ابن عباس: يريد لا تتكبروا عليَّ (¬1). أي: لا تترفعوا عليَّ وإن كنتم ملوكًا {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} منقادين طائعين (¬2). قال قتادة: وكذلك كانت الأنبياء تكتب جَمْلًا لا تطيل (¬3). يعني: أن هذا القدر الذي ذكره الله كان كتاب سليمان (¬4). قال الكلبي: كان في الكتاب: فإن كنتم من الجن فقد عُبدتم لي، وإن تكونوا من الإنس فعليكم السمع والطاعة والإجابة، مع أشياء كتب بها إليها (¬5). فعلى هذا كان الكتاب طويلاً، وذكر الله تعالى منه ما هو القصد وهو أنه دعاها إلى الطاعة. قال الكلبي ومقاتل: أرسلت إلى قومها فاجتمعوا إليها فاستشارتهم فيما أتاها من سليمان فقالت: ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 324، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 19/ 153، وابن أبي حاتم 9/ 2874، عن ابن زيد. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2874، بلفظ: موحدين. وذكره هود الهواري 3/ 252، ونسبه للكلبي. وأخرجه ابن جرير 19/ 153، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2874، عن سفيان. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 152. وابن أبي حاتم 9/ 2874. وذكره هود الهواري 3/ 252، ولم ينسبه. وذكره الثعلبي 8/ 127 ب، عن قتادة. (¬4) أخرج ابن جرير 19/ 152، عن ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه: (إنه)، و (إنه). ونحوه عند ابن أبي حاتم 9/ 2873، عن مجاهد. و"تفسير مقاتل" 58 ب. وذكره الثعلبي 8/ 127 ب، عن ابن جريج. (¬5) "تفسير السمرقندي" 2/ 494، منسوبًا للكلبي. وفي "تنوير المقباس" 317: وأشياء كانت فيه مكتوبة. ولم يذكر شيئًا منها. وهذا لا دليل عليه، ولا سبيل للجزم به إلا من طريق معصوم.

32

32 - {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} يعني: الأشراف وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدًا، وهم أهل مشورتها (¬1). وهذا قول قتادة والثُّمالي والكلبي ومقاتل قالوا: وكان كل رجل منهم على عشرة آلاف (¬2). وقال مقاتل: كان مع كل قائد: مائة ألف (¬3). وقوله: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} قال ابن عباس: أشيروا عليَّ: أي: بينوا لي مما أعمل (¬4) {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} فاعلة أمرًا وقاضيته (¬5) {حَتَّى تَشْهَدُونِ} حتى تحضرون، أي: إلا بحضوركم ومشورتكم؛ قاله ابن عباس ومقاتل (¬6). قالوا مجيبين لها: 33 - {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} (¬7) قال عطاء عن ابن عباس: كانت من قوة أحدهم أنه يُرَكِّض الفرس حتى إذا امتلأ فُرُوجُه ضم فخذيه فحبسه بقوته (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 58 ب. و"الوسيط" 3/ 377، ولم ينسبه. (¬2) ذكره الهواري 3/ 253، وصدَّره بقوله: قال بعضهم. والثمالي: هو ثابت بن أبي صفية الثُّمالي. (¬3) "تفسير مقاتل" 58 ب. و"تنوير المقباس" ص 318، دون ذكر العدد. وفي نسخة: أ، ب: كررت مائة ألف، مرتين. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2875، عن زهير بن محمد: أشيروا برأيكم. قال الفراء: جعلت المشورة فتيا؛ وذلك جائز لسعة العربية. "معاني القرآن" 2/ 292. (¬5) فالمعنى واحد، فاعلة وقاضية. "معاني القرآن" للفراء 2/ 292. (¬6) "تفسير مقاتل" 58 ب. و"تنوير المقباس" 318، بمعناه. وأخرجه ابن جرير 19/ 153، عن ابن زيد. وهو في "الوسيط" 3/ 377، غير منسوب. (¬7) تكلم أبو علي الفارسي عن كلمة: {أُولُوا} وأنها جمع: ذو، من غير لفظه. "كتاب الشعر" 2/ 422، و"المسائل الحلبيات" 154. (¬8) ذكره عن ابن عباس: القرطبي 13/ 195. وفي "الوسيط" 3/ 377: أي: في =

34

وقال مقاتل: يعني عدة كثيرة من الرجال، كقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] يعني: بالرجال (¬1). فتحمل القوة هاهنا على العدة والكثرة (¬2). قوله تعالى: {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} يعني الشجاعة والقوة في الحرب (¬3). قال ابن زيد: عرَّضوا لها بالقتال؛ بأن ذكروا لها قوتهم وشجاعتهم، ثم قالوا: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} (¬4) أي: في القتال وفي تركه {فَانْظُرِي} من الرأي {مَاذَا تَأْمُرِينَ} ماذا تشيرين علينا (¬5). قالت مجيبة لهم عن التعريض بالقتال: 34 - {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} قال مقاتل: أهلكوها، كقوله -عز وجل-: {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71] يعني: لهلكت (¬6). وقال غيره: خربوها (¬7). ¬

_ = الأبدان في معنى قول ابن عباس. في "تهذيب اللغة" 10/ 416 (وكى): وإنما قيل للذي يشتد عدوه: مُوكٍ؛ لأنه كأنه ملأ هواء ما بين رِجليه عدوًا وأوكى عليه، والعرب تقول: ملأ الفرسُ فرُوج دَوَارِجه عَدْوُا: إذا اشتد حُضْرُه. (¬1) "تفسير مقاتل" 58 ب. (¬2) وهذا جمع حسن بين القولين. (¬3) "تفسير مقاتل" 58 ب. وكلمة: القوة، في نسخة (ج). (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 154. وابن أبي حاتم 9/ 2875. وذكره في "الوسيط" 3/ 377، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 58 ب، بنصه. (¬6) "تفسير مقاتل" 58 ب. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2876، عن ابن عباس. وذكره هود الهواري 3/ 253، ولم ينسبه.

وقال الزجاج: معناه: إذا دخلوها عَنْوة أي: جهارًا عن قتال وغلبة (¬1). {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} قال مقاتل: أهانوا أشرافها وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر (¬2). قال الفراء: قالت لهم: إنهم إن دخلوا بلادكم أذلوكم وأنتم ملوك (¬3). ومعنى الآية: أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وتناهى الخبر عنها، وصدَّقها الله تعالى فقال: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يعني: كما قالت هي. وهذا معنى قول ابن عباس والكلبي ومقاتل (¬4). قال الزجاج: هو من قول الله -عز وجل-؛ لأنها قد ذكرت أنهم يفسدون فليس لتكرير هذا منها فائدة (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 119. أخرج ابن جرير 19/ 154، عن ابن عباس: إذا دخلوها عنوة خربوها. (¬2) "تفسير مقاتل" 58 ب. وهو في "الوسيط" 3/ 377، غير منسوب. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 292. (¬4) أخرج ابن جرير 19/ 154، وابن أبي حاتم 9/ 2877، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 159. و"تنوير المقباس" 318. وذكره ابن قتيبة، ولم ينسبه. "تأويل مشكل القرآن" 294. ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، "إعراب القرآن" 3/ 210. وعلى هذا فالوقف على: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} وقف تام. "النشر" 1/ 227. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 119. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 292. وحكى الماوردي 4/ 209، عن ابن شجرة: أن هذا حكايته عن قول بلقيس: كذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا. واستظهره أبو حيان 7/ 70، وكذا السمين الحلبي 8/ 611. والأقرب ما اقتصر عليه الواحدي. والله أعلم.

35

35 - قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} قال مقاتل: أصانعهم على ملكي إن كانوا أهل دنيا (¬1). وقال السدي: تختبر بذلك سليمان وتعرفه أملِك هو أم نبي (¬2). قال ابن عباس: أرسلت إليهم بمائة وصيف ومائة وصيفة. وهو قول مقاتل (¬3). وقال مجاهد: مائتي غلام، ومائتي جارية (¬4). وهذا قول أكثر المفسرين؛ قالوا: الهدية كانت غلمانًا وجواري. وان اختلفوا في مبلغ عدد الفريقين (¬5). وقال ثابت البناني: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 59 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2877، عن قتادة. وأخرج عنه في 2879: رحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها، وشركها، قد علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس. (¬2) "تفسير هود الهواري" 3/ 253، بمعناه، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 19/ 156، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2879، عن ابن عباس. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 155. و"تفسير مقاتل" 59 أ. (¬4) ذكره في "الوسيط" 3/ 377، بنصه. وأخرجه ابن جرير 19/ 155، وليس فيه ذكر العدد، وكذا في "تفسير مجاهد" 2/ 471. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2877، عن سعيد بن جبير: أرسلت إليهم ثمانين من وصيف ووصيفة. (¬6) أخرجه عبد الرزاق 2/ 81. وابن جرير 19/ 155. ورواه ابن أبي حاتم 9/ 2877، 2879، عنه، وعن قتادة. وهناك زيادات على ما ذكر الواحدي في ماهية هذه الهدية، وقد ذكر ذلك بطوله الثعلبي 8/ 128، وكله مما لا دليل عليه، وقد أحسن الواحدي رحمه الله في ترك ذكرها، والأولى الوقوف عند ظاهر الآية، فهي هدية مالية كبيرة، لقوله تعالى: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} وأما تعيينها فلا دليل عليه. والله أعلم.

{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} من عنده بقبولٍ أم بِرَدٍ (¬1). قال الفراء: انقصت الألف من (بِمَ)؛ لأنها في معنى: بأي شيء، وإذا كانت (مَا) في موضع: أي، ثم وصلت بحرفٍ خافضٍ نُقصت الألف من (مَا) ليعرف الاستفهام من الخبر، ومن ذلك قوله: {فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء97] و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] وإن أتممتها فصواب (¬2)، وأنشدني المفضل (¬3): إنا قتلنا بقتلانا سَراتَكم ... أهلَ اللواء ففيما يكثرُ القِيلُ (¬4) قال: وأنشدنىِ أيضًا: على ما قام يشتمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ (¬5) وقال الزجاج: حروف الجر مع (ما) في الاستفهام تحذف معها الألف من (ما)؛ لأنهما كالشيء الواحد، وليُفصل بين الخبر والاستفهام، تقول: قد رغبت فيما عندك، فتثبت الألف، وتقول: فيم نظرت يا هذا؟ ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 19/ 156. (¬2) قال النحاس: وأجاز الفراء إثباتها في الاستفهام، وهذا من الشذوذ التي جاء القرآن بخلافها. "إعراب القرآن" 3/ 211. (¬3) هو أبو طالب المفضل بن سلمة. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 292، ولم ينسبه. بلفظ: القيل، وفي نسخة (أ)، (ب): الفتك، وأورده البغدادي في "الخزانة" 6/ 106، وقال: البيت من قصيدة لكعب ابن مالك، شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أجاب بها ابن الزبعرى، وعمرو بن العاص، عن كلمتين افتخرا بها يوم أحد. وسراة القوم: خيارهم. وهو في "ديوان كعب" ص 83. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 292. ولم ينسب البيت، وكذا ابن جرير 19/ 156، والشاهد فيه: دخول الألف على: ما. والبيت في "ديوان حسان" 79، من قصيدة يهجو فيه بني عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.

36

فتحذف الألف (¬1). قال المفسرون: دعت بلقيس رجلاً من أشراف قومها يقال له: المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالًا أصحاب رأي وعقل، وبعثتهم وفدًا إلى سليمان مع الهدية، وهم المرسلون في قوله: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (¬2). 36 - قوله -عز وجل-: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} أي: جاء الرسول سليمان؛ قاله الفراء والزجاج؛ زاد أي: الزجاج: ويجوز أن يكون فلما جاء بِرُّها سليمان إلا أن قوله: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} مخاطبة للرسول (¬3). {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} روى المسيبي (¬4) عن نافع: {أَتُمِدُّونَ} خفيفة النون بنون واحدة، وياء على حذف النون الثانية التي تصحب ضمير ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 120. (¬2) "تفسير مقاتل" 59 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 129 أ. واختار ابن قتببة أن يكون المراد به واحدًا، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}. "تأويل مشكل القرآن" 284. ولا تعارض بين اللفظين؛ فيحمل الجمع على مخاطبة رئيس الوفد، ومن معه، ويحمل الإفراد على مخاطبة رئيس الوفد وحده. والله أعلم. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 293، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 120، و"البداية والنهاية" 2/ 23. وبرها: هديتها، والمال الذي بعثت به. في "تهذيب اللغة" 15/ 188 (بر): البر فعل كل خير من أي ضرب كان .. والبر: الإكرام. (¬4) محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن، أبو عبد الله المسيبي، المدني، مقرئ عالم مشهور، ضابط ثقة، أخذ القراءة عن أبيه عن نافع، وحدث عن سفيان بن عيينة، ومحمد بن فليح، وغيرهم، روى عنه مسلم وأبو داود في كتابيهما، وأبو زرعة، وغيرهم. ت 236 هـ "معرفة القراء الكبار" 1/ 177، "غاية النهاية" 2/ 98.

المتكلم (¬1)، ولا يجوز حدف الأولى لأنه لحن (¬2)، والثانية قد حذفت في مواضع من الكلام نحو: قَدِي (¬3). وقرأ حمزة: {أَتُمِدُّونَي} بنون واحدة مشددة أدغم الأولى في الثانية، ومن قرأ بنونين وجمع بين المثلين ولم يدغم؛ فلأن الثانية ليست بلازمة؛، ألا ترى أنه يجزئ في الكلام من غير الثانية نحو: أتمدون زيدًا (¬4). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير: {أَتُمِدُّونَنِ} بنونين، وإثبات الياء في الوصل. وقرأ نافع في رواية المسيبي بنون واحدة خفيفة، وبحذف الياء في الوقف، وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: بنونين بغير ياء في الوصل والوقف، وقرأ حمزة بنون واحدة مشددة، وياء في الوصل والوقف. "السبعة في القراءات" 482. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 150، وذكر الفراء هذه الأوجه، وصوبها كلها، "معاني القرآن" 2/ 293. وكذا ابن جرير 19/ 157. والأزهري، "معاني القراءات" 2/ 241. (¬2) في نسخة: (ج): لأن حذف الأولى لحن. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 389. قال سيبويه 2/ 371: وقد جاء في الشعر: قدي، فأما الكلام فلا بد فيه من النون، وقد اضطر الشاعر فقال: قدي، شبهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد، قال الشاعر: قَدْني من نصر الخُبَيبيْن قَدِي. والشاعر قيل هو: أبو نخيلة، وقيل: حميد الأرقط، وقيل غير ذلك. والخُبيبان، بالتصغير هما: عبد الله بن الزبير، وكنيته: أبو خبيب، ومصعب أخوه، غلبه عليه لشهرته، وقدني: أي: حسبي وكفاني، وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمعنى: حسبي من نصرة هذين الرجلين، أي: لا أنصرهما بعد. وقدي الثانية توكيد. والشاهد فيه: حذف النون من قدي تشبيهًا بحسبي. "حاشية الكتاب" 2/ 371. وأنشده ولم ينسبه أبو زيد في "النوادر" 205، وأبو علي في "الحجة" 3/ 334. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 389. وفيه: ألا ترى أنها تجري في الكلام، ولا تلزق بها الثانية.

37

ومعنى قوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} إنكار عليهم إهداءهم إليه، وما أتوه به من المال. قوله: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أي: ما أعطانىِ من الإسلام والنبوة والملك خير مما أعطاكم {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} يعني: إذا أهدى بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بها إنما أريد منكم الإسلام. قاله مقاتل (¬1). ثم قال سليمان لأمير الوفد: 37 - {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أي: بالهدية. هذا قول أكثر المفسرين (¬2). وقال الكلبي: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} خطاب للَّهدهد كتب إليها كتابًا آخر (¬3). قوله تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} قال ابن عباس والمفسرون وأهل اللغة: لا طاقة لهم بها (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 159. وفيه: إذا أهدى بعضكم إليِّ، فأما أنا فلا أفرح ... وفي "تنوير المقباس" 318: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} إن ردت إليكم. وما اقنصر عليه الواحدي أقرب. والله أعلم. (¬2) "تفسير مقاتل" 159، و"تفسير الثعلبي" 8/ 129 أ. وأخرجه ابن جرير 19/ 157، عن وهب بن منبه. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2881، عن قتادة: ما نراه يعني إلا الرسل. وفي "معاني القرآن" للفراء 2/ 294، و"تفسير هود الهواري" 3/ 254، توجيه الخطاب للرسول، وليس فيه ذكر الهدية. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2881، عن زهير بن محمد. وفي "تنوير المقباس" 318: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بهديتهم. وليس فيه تعيين المخاطب. حيث يحتمل أن يكون الخطاب لرسول ملكة سبأ. "تفسير الماوردي" 4/ 211. (¬4) ذكره البخاري، عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم، كتاب التفسير، الفتح 8/ 504. ووصله ابن جرير 19/ 158. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2882، عن أبي صالح، وقتادة. و"تفسير مقاتل" 159. و"مجاز القرآن" 2/ 94. و"تفسير هود الهواري" 3/ 253. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 324.

38

{وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} قال الكلبي: من قرية سبأ (¬1) {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاء. قال المفسرون: فلما رجعت إليها الرسل قالت: قد عرفنا ما هذا بملِك وما لنا به من طاقة. ثم تجهزت للمسير إليه (¬2). 38 - قال ابن عباس: وأخبره جبريل أنها خرجت من اليمن مقبلة إليه (¬3). فقال سليمان: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} قال عبد الله بن شداد: كانت بلقيس على رأس فرسخ (¬4) من سليمان لما قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} وكان ما بينه وبينها كما بين الكوفة والحيرة (¬5) وذلك أنه لم يُخبر بمسيرها إليه حتى رأى يومًا رهجًا (¬6) قريبًا منه فسأل عنه فقيل: بلقيس يا رسول الله فحينئذ قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} هذا قول وهب بن ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 318. وهو في "الوسيط" 3/ 377، غير منسوب. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 129 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2882، عن يزيد بن رومان. (¬3) ذكره في "الوسيط" 3/ 377، ولم ينسبه. (¬4) الفرسخ: ثلاثة أميال أو ستة؛ سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك كأنه سكن، والفرسخ: السكون. "لسان العرب" 3/ 44 (فرسخ)، والميل مقياس للطول قُدِّر قديمًا بأربعة آلاف ذراع، وهو الميل الهاشمي، وهو بري وبحري؛ فالبري يقدر الآن بما يساوي: 1609 من الأمتار، والبحري بما يساوي: 1852 من الأمتار. "المعجم الوسيط" 2/ 894. (¬5) الكُوفة بالضم: العصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق، وسميت بذلك: لاستدارتها، وقيل: لاجتماع الناس بها. "معجم البلدان" 4/ 557. وهي جنوب بغداد بحوالي 150 كم. والحيرة: مدينة على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له: النجف. "معجم البلدان" 2/ 376. وهي جنوب الكوفة بحوالي 75 كم. (¬6) الرَّهَج: الغبار. "تهذيب اللغة" 6/ 52 (رهج).

منبه، وجميع المفسرين (¬1). واختلفوا في السبب الذي خص سليمان -عليه السلام- العرش بالطلب؛ وقال قتادة: لأنه قد وُصِف له عرشها بالعِظَم فأعجبه ذلك وأحب أن يراه (¬2). وقال مقاتل وأكثر المفسرين: أحب سليمان أن يأخذ عرشها قبل أن تُسلِم فلا يحل أخذ مالها (¬3). فذلك قوله: {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي: مخلصين بالتوحيد. قاله مقاتل (¬4). وقال ابن جريج: {مُسْلِمِينَ} بحرمة الإسلام فيمنعنا الإسلام أموالهم (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2882، 2897، عن ابن عباس. وذكره عنه الثعلبي 8/ 129 أ. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد، المصنف 6/ 336. وهذا يخالف ما ذكره الواحدي قبل ذلك، واقتصر عليه في تفسيره الوسيط 3/ 377، من أن نبي الله سليمان -عليه السلام- قد أعلمه جبريل بذلك. والله أعلم. (¬2) ذكره الثعلبي 8/ 129 ب، عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2883، عنه، وليس فيه دلالة على ما ذُكر، بل هو موافق للقول الذي ذكره الواحدي عن مقاتل، وأكثر المفسرين. (¬3) "تفسير مقاتل" 59 ب. و"تفسير هود الهواري" 3/ 254، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2884، عن زهير بن محمد، وعطاء والسدي. وذكره الثعلبي 8/ 129 ب، عن أكثر المفسرين، ولم يسمهم. واقتصر عليه الواحدي، في "الوسيط" 3/ 378، و"الوجيز" 2/ 804. ولا يخفى ما في هذا القول من البعد؛ لأن نبي الله سليمان عليه السلام لم يكن بحاجة لذلك، وكيف يظن به وهو نبي، وقد أعطاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأقرب ما يكون أن نبي الله سليمان عليه السلام أراد أن يُظهر لها عظم ملكه، وأنه من الله. والله أعلم. وقد ذكر هذا الوجه الثعلبي 8/ 129 ب، فقال: وقيل: ليريها قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه. وذكره الواحدى بعد ذلك بمعناه، لكنه لم ينتقد القول السابق. (¬4) "تفسير مقاتل" 159. (¬5) أخرجه ابن جرير 19/ 161.

39

وقال ابن عباس: {مُسْلِمِينَ}: طائعين منقادين (¬1). وعلى هذا يحل له أخذ مالها بعد إتيانها. قال مقاتل: وكان قد أوحي إلى سليمان أنها تأتي مسلمة، فلذلك قال: {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (¬2). فهذان قولان في سبب طلب العرش. وقال ابن زيد: أراد سليمان أن يعاتبها بالعرش ويختبر عقلها (¬3). ويدل على هذا قوله: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} ألَّا يتبين. وقال آخرون: أراد سليمان أن يريها آية معجزة في عرشها ليجعل ذلك حجة عليها، فقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي: طائعين منقادين (¬4). كما قال ابن عباس. 39 - قوله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ} العفريت: النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء. يقال: رجل عِفْرٌ وعِفْريتٌ، وعِفْرية وعُفارية، بمعنى واحد (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم، بلفظ: طائعين. كتاب التفسير، "الفتح" 8/ 504. وذكره الثعلبي 8/ 129 ب، كذلك. ونسبه الهواري 3/ 254، للكلبي. (¬2) "تفسير مقاتل" 59 ب. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 160، وفيه: وكانت الملوك يتعاتبون بالعلم. وذكره الثعلبي 8/ 129ب، عنه بلفظ: أراد أن يختبر عقلها. (¬4) ذكره الثعلبي 8/ 129 ب، ولم ينسبه. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 120، بنصه. و"مجاز القرآن" 2/ 94، بمعناه. وقد قرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي [عِفرية]. قال ابن جني: هو العفريت. "المحتسب" 2/ 141. قال أبو عبيد: رجك عِفرٌ نِفرٌ، وعِفْرِيةٌ نِفْرِية، وعِفْرِيت نِفْرِيت، وعُفَارية نُفَارية: إذا كات خبثًا ماردا. "تهذيب اللغة" 15/ 211 (نفر).

وقال الفراء: من قال عفرية، فجمعه: عَفَارٍ. ومن قال: عفريت، جمعه: عفاريت، وجائز أن يقول: عفارٍ، كقولهم في جمع الطاغوت: طواغيت وطواغ (¬1). قال المفسرون في تفسير العفريت: إنه المارد الداهية القوي الخبيث الغليظ القوي الشديد. كل هذا من ألفاظهم (¬2). وقال ابن قتيبة: أصله: عِفْر، زيدت التاء فيه، يقال: عِفْريت ونِفْرِيت وعُفَارِية، ولم يسمع بنُفَارِية (¬3). وقوله: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني: من مجلسك الذي تقضي فيه؛ وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غُدْوة إلى نصف النهار. قاله ابن عباس والمفسرون (¬4). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 294. وذكر الأزهري كلام الزجاج والفراء، ونسب الثاني دون الأول. "تهذيب اللغة" 2/ 352 (عفر). (¬2) قال الكلبي: داهية من الجن. تفسير عبد الرزاق 2/ 81. وقال مقاتل 59 ب: مارد. وقيده الهواري 3/ 254، بالكافر، فقال: العفريت لا يكون إلا الكافر. ويبعد أن يكون عند نبي الله سليمان عليه السلام وهو على الكفر. والله أعلم. وأخرج ابن جرير 19/ 161، عن مجاهد، وقتادة: مارد من الجن. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2884، عن مجاهد. وفي "تنوير المقباس" 318: شديد. وذكر الأنباري في كتابه: "الزاهر" 1/ 209، و"الأضداد" 383، معان أخرى لكلمة: عفريت. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 324. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2884، عن ابن عباس، ومجاهد. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 82 عن قتادة. وأخرجه ابن جرير 19/ 162، عن مجاهد، وقتادة، ووهب بن منبه. وهو في "تفسير مجاهد" 2/ 472. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 294. و"تفسير هود الهواري" 3/ 254. و"تفسير الثعلبي" 8/ 129 ب.

40

فمعنى المقام هاهنا: المقعد والمشهد، لا موضع القيام. وقال أبو الحسن: إنهم يقولون للمقعد والمشهد: مقام، كالذي في هذه الآية، وكقوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58، الدخان: 26] يعني ومجلس حسن. قال الكلبي: كانت قوة العفريت أنه يضع قدمه حيث ينال بصره. وقال مقاتل: قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري فليس شيء أسرع مني (¬1). {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ} أي: على حمله (أَمِينٌ) على ما فيه من الذهب والفضة والجواهر. قاله ابن عباس (¬2). فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك (¬3). 40 - {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} قال محمد بن إسحاق: هو آصف بن بَرْخيا، وكان صدِّيقًا، يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي به الله أجاب (¬4). وهو قول مقاتل والكلبي والأكثرين، ورواية الضحاك عن ابن عباس (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 59 ب. وذكره في "الوسيط" 3/ 378، ولم ينسبه. (¬2) أخرجه ابن جرير 19/ 162، وابن أبي حاتم 9/ 2885. وذكره الثعلبي 8/ 129 ب. وهو قول مقاتل 59 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 59 ب. وأخرجه ابن جرير 19/ 163، عن الضحاك. وهو في "تنوير المقباس" 318. و"تفسير الثعلبي" 8/ 129ب. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2886، عنه، وعن يزيد بن رومان. وهو في "البداية والنهاية" 2/ 23. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2885، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير. و"تفسير مقاتل" 59 ب. و"تفسير هود الهواري" 3/ 254، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 19/ 163، عن محمد بن إسحاق. وأخرجه من طريق الضحاك الثعلبي 8/ 129ب. واقتصر عليه الواحدي، في "الوسيط" 3/ 378، و"الوجيز" 2/ 804.

وقال قتادة: هو رجل من بني إسرائيل كان يعلم الاسم الذي إذا دعىِ به أجاب، اسمه كليخا (¬1). وقال أبو صالح وشعيب بن حرب (¬2): هو رجل من بني آدم (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: هو جبريل (¬4). وقال ابن زيد: هو رجل صالح كان في جزيرة من جزائر البحر، فخرج ذلك اليوم ينظر مَنْ ساكن الأرض، فوجد سليمان، فدعا باسم من أسماء الله فجيء بالعرش (¬5). ومعنى: {عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} علم اسم الله الأعظم، على ما ذكره ¬

_ (¬1) أخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 82، دون ذكر الاسم. وأخرجه ابن جرير 19/ 162، من طريقين؛ إحداهما: مثل رواية عبد الرزاق، والثانية: فيها ذكر الاسم فقط، ولفظه: بليخا. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2886، واسمه: آصف. وفي "تفسير الثعلبي" 8/ 130 أ، اسمه: مليخا. وهذا الاختلاف في تعيين اسمه مما لا طائل تحته، ولا يفيد التعيين في معنى الآية شيئًا؛ فالأولى تركه. (¬2) شعيب بن حرب المدائني، أبو صالح، نزيل مكة، ثقة عابد، روى عن إسماعيل بن مسلم العبدي، وشعبة، وسفيان، وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل، وعلي بن بحر، وغيرهم. مات سنة 197. "السير" 9/ 188، و"تقريب التهذيب" 437. (¬3) أخرجه بسنده عبد الرزاق 2/ 82، عن الكلبي. وأخرجه ابن جرير 19/ 162، 163، عن أبي صالح، وابن جريج. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2885، عن أبي صالح، وزهير بن محمد. وأخرج أيضًا عن أبي صالح أنه قال: هو الخضر. وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، والأولى الوقوف عند ظاهر الآية، والله أعلم. (¬4) "تفسير هود الهواري" 3/ 255، و"تفسير الثعلبي" 8/ 129 ب، ولم ينسباه. (¬5) أخرجه ابن جرير 19/ 163. والثعلبي 8/ 1130. وذكر ابن كثير قولاً غريبًا، وهو. أنه كان من الجن. "البداية والنهاية" 2/ 23. وكل هذه الأقوال مما لا فائدة من البحث فيها، والأولى الوقوف عند ظاهر الآية. والله أعلم.

المفسرون (¬1). وقال محمد بن المنكدر: {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} هو سليمان عليه السلام (¬2). وإلى هذا القول ذهب المعتزلة (¬3)، إنكارًا لكرامة الولي (¬4). وهذا القول لا يصح؛ لأنه خلاف ما عليه المفسرون، ولأن ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 59 ب. وسيذكر أقوالهم الواحدي بعد ذلك. (¬2) ذكره الثعلبي 8/ 130 أ. (¬3) المعتزلة من الفرق الكلامية التي نشأت في أواخر العصر الأموي، على يد واصل بن عطاء الذي اعتزل الجماعة بعد خلافه مع الحسن البصري، في القدر، في أوائل المائة الثانية، فكان مع أصحابه يجلسون معتزلين فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، عظم شأنهم في العصر العباسي، والمعتزلة يعتمدون على العقل المجرد في فهم العقيدة الإِسلامية لتأثرهم بالفلسفة اليونانية، ولا يقيمون للنصوص الشرعية إذا خالفت عقولهم وزنًا ولا قدرًا، ولهم أصول خمسة هدموا بها كثيرًا من الدين؛ وهي: 1 - التوحيد، وهو عندهم توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات؛ فقالوا: إن الله لا يرى، وأن القرآن مخلوق، وأنه ليس فوق العالم، وأنه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا حياة ولا سمع، ولا بصر ولا مشيئة، ولا صفة من الصفات. 2 - العدل، ومضمونه عندهم أن الله لم يشأ جميع الكائنات، ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شره. 3 - المنزلة بين المنزلتين، في مرتكب الكبيرة فإنه عندهم يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر. 4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومضمونه جواز الخروج على أئمة المسلمين بالقتال إذا جاروا؛ دون تقييد ذلك بالكفر البواح الصريح. 5 - إنفاذ الوعيد في الآخرة، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يُخرج أحدًا منهم من النار. "مجموع الفتاوى" 13/ 357، و"شرح العقيدة الطحاوية" 298، 520، و"الفرق بين الفرق" 21. (¬4) ذكره الطوسي، عن الجبائي. "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 96. وذكره الزمخشري 3/ 355، مع غيره من الأقوال، ولم يرجح بينها. قال ابن أبي العز: والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنباء بالمعجزات، لكن كثير منهم =

الخطاب في قوله: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} لسليمان. وكيف يصح أن يقال: {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} هو سليمان؟. وقوله: {أَنَا آتِيكَ} أمال حمزة (ءَاتِيكَ) أشم الهمزة شيئًا من الكسر (¬1) من أجل لزوم الكسرة في آتي، وإذا لزمت الكسرة جازت الإمالة فأمال الفتحة التي على همزة المضارعة ليميل الألف في آتي نحو الياء، وإمالة الكسائي فتحة الياء في (ءَاتَانِ الله) أحسن من إمالة حمزة؛ لأن (ءَاتَى) مثال الماضي، والهمزة في (ءَاتِيكَ) همزة المضارعة، فإمالتها لا تحسن، ألا ترى أنه لو كانت الياء التي للمضارعة في الفعل، لم تجز الإمالة، وإذا لم تجز الإمالة في حرف من حروف المضارعة، كان ما بقىِ من الحروف في حكمه، ألا ترى أنهم قالوا: يَعِدُ، فأتبعوا سائر الحروف الياء، وكذلك أُكرِمُ (¬2). وقوله: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال محمد بن إسحاق: قال له آصف: تمد عينيك، فلا ينتهي إليك طرفك إلى مداه حتى أُمثِّلَه بين يديك (¬3). ثم قال: امدد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه ينظر نحو اليمن، ودعا آصف فانخرق العرش مكانه الذي هو فيه، ثم نبع بين يدي سليمان (¬4). ¬

_ = لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم في منهم إنكار خوارق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر، ونحو ذلك. "شرح العقيدة الطحاوية" 150. (¬1) "السبعة في القراءات" 482، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 390. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 391، بشيء من التصرف. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 164. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 164. وابن أبي حاتم 9/ 2887.

ونحو هذا روى عكرمة عن ابن عباس، في كيفية حصول العرش عند سليمان؛ قال: لم يخر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض، ولكنه انشقت به الأرض، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان (¬1). وقال ابن سابط: دخل السرير فصار له نفق في الأرض حتى نبع بين يدي سليمان (¬2). وقال مجاهد: خرج العرش من نفق في الأرض (¬3). وقال الكلبي: خر آصف ساجدًا ودعا باسمه الأعظم، فعاد عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان (¬4). وقال مقاتل: احتمل السرير احتمالًا فوضع بين يدي سليمان (¬5). هذا قول المفسرين. وقال أهل المعاني: الله عز وجل قادر على ذلك بأن يُعدمه من حيث كان، ثم يوجده، حيث كان سليمان بلا فصلٍ، بدعاء {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} (¬6). وتفسير ذلك العلم: هو اسم الله الأعظم على ما ذكرنا عن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 294، ونسبه لابن عباس. وأخرج نحوه ابن جرير 19/ 165، وابن أبي حاتم 9/ 2887، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد، المصنف 6/ 336. وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 361، عن ابن سابط، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2887، عنه، وعن عبد الله بن شداد. و"تفسير مجاهد" 2/ 472. (¬4) "تفسير الوسيط" 3/ 378، ونسبه للكلبي. (¬5) "تفسير مقاتل" 59 ب. (¬6) ذكره الطوسي، ولم ينسبه. "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 97. وذكره في "الوسيط" 3/ 378، ولم ينسبه. وهذا أحسن مما سبق مما لا دليل عليه.

المفسرين. واختلفوا في ذلك الاسم، فقال مجاهد ومقاتل: يا ذا الجلال والإكرام (¬1). وقال شعيب بن حرب: قال الذي جاء بعرشها: إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحداً لا إله إلا أنت أئت به؛ فإذا هو مستقر عنده (¬2). ونحو هذا قال الزهري (¬3). وروت عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الاسم الذي دعا به آصف: يا حي يا قيوم. وهو قول الكلبي (¬4). وأما تفسير قوله: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فقد ذكرنا فيه قول محمد ابن إسحاق؛ وهو انتهاء طرفه إلى مداه، وهذا ضد الارتداد وإنما يصح تفسيره بتقدير محذوف في الآية؛ كأنه: قبل أن يرتد إليك طرفك بعد ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 19/ 163، وابن أبي حاتم 9/ 2886، عن مجاهد. و"تفسير مجاهد" 2/ 472. و"تفسير مقاتل" 59 ب. و"تفسير هود الهواري" 3/ 254، ولم ينسبه، وزاد: والمنن العظام، والعز الذي لا يرام. (¬2) ذكره الزجاج، "معاني القرآن" 4/ 121، ولم ينسبه. ونسبه في "الوسيط" 3/ 378، لبكر بن عبد الله. (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 163، وابن أبي حاتم 9/ 2886. وذكره الثعلبي 8/ 130 أ. (¬4) ذكره الثعلبي 8/ 130 أ. وهو في "تنوير المقباس" 318، غير مرفوع. وذكره مرفوعًا القرطبي 13/ 204. وذكره البغوي منسوبًا لعائشة، ولعله أقرب. والله أعلم. وكون يا حي يا قيوم هو الاسم الذي إذا دعي الله به أجاب ثابت؛ فعن أنس؟، قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعا رجل فقال: يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك، فقال: (أتدرون بما دعا؟ والذي نفسي بيده دعا الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب). أخرجه البخاري، الأدب المفرد 141، باب: الدعاء عند الاستخارة. وأخرج أبو داود 2/ 167، كتاب الصلاة، رقم: 1495. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى 1/ 386، رقم: 1223. وهو في صحيح الأدب المفرد 262، رقم: 543.

الانتهاء، فحذف ذكر الانتهاء؛ لأن الارتداد يدل عليه، وذلك أنه لا يرتد إليه طرفه إلا بعد مده إياه، حتى ينتهي طرفه ثم يعود إليه (¬1). وقال سعيد بن جبير: قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طَرُف (¬2) حتى جاء به فوضعه بين يديه (¬3). وعلى هذا حتى يرتد إليك طرفك من السماء. ومعنى: {يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} يعود إليك بصرك بعد مده إلى منتهاه. وفسر مجاهد ارتداد الطرف تفسيرًا صالحًا؛ فقال: هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئًا (¬4). وعلى هذا معنى الآية: أن سليمان يمد بصره إلى أقصاه وهو يديم النظر، فقبل أن ينقلب إليه بصره حسيرًا، يكون قد أتى بالعرش. وقال مقاتل: يقول قبل أن ينتهي إليك الذي هو على منتهى بصرك وهو جاءٍ إليك (¬5). وقال الكلبي: يقول قبل أن يأتيك الشخص من مد النظر (¬6). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء. وكذلك قال أبو صالح: قبل أن يأتيك ¬

_ (¬1) وجعله ابن كثير أقرب الأقوال. "البداية والنهاية" 2/ 24. (¬2) الطَّرْف: إطباق الجفن على الجفن. "تهذيب اللغة" 13/ 319 (طرف). (¬3) أخرجه ابن جرير 19/ 164. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2887، عنه، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذكره الثعلبي 8/ 1130. (¬4) أخرجه ابن جرير 19/ 164، وابن أبي حاتم 9/ 2889. وذكره الثعلبي 8/ 130 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 59 ب. (¬6) أخرجه عبد الرزاق 2/ 82. وهو في "تنوير المقباس" 318. بمعناه. وذكره الثعلبي 8/ 130 أ، عن قتادة.

الشيء من مد البصر (¬1). واختاره الفراء (¬2). وعلى هذا التفسير يجب أن يكون التقدير: قبل أن يرتد إليك مَنْ على منتهى طرفك؛ وهذا التقدير بعيد، ثم إتيان الشخص إليه من مد البصر لا يسمى ارتدادًا إلا أن يكون قد خرج من عنده، فالقول هو الأول؛ ولهذا قال قتادة: هو أن يبعث رسولاً إلى منتهى طرفه، فلا يرجع حتى يؤتى به (¬3). فعلى هذا يصح أن يقال للرسول إذا رجع إليه: ارتد إليه، ولو صح أن يحمل الطرف على من ينظر إليه ويبصره من بعيد، يصح هذا التفسير الثاني؛ ولكنه بعيد. وفي ارتداد الطرف قول ثالث؛ قال أبو إسحاق: قيل هو مقدار ما يفتح عينه ثم يَطْرُف؛ قال: وهذا أشبه بارتداد الطرف، ومثله من الكلام: فَعَل ذلك في لحظة عين؛ أي: في مقدار ما نظر نظرة واحدة (¬4). وعلى هذا معنى الآية: إذا نظرت إلى شيء فقبل أن تَطْرُف يكون العرش عندك. والإتيان بالعرش كان كرامة للولي، ومعجزة للنبي، فلا ينكر سرعة حصول ذلك، إذ كان الله تعالى قادرًا على تحصيله عنده في أسرع من لمحة ولحظة. فهذه ثلاثة أقوال في تفسير قوله: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}. قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ} في الآية محذوف تقديره: فدعا الله فأتى به {فَلَمَّا رَآهُ} أي: رأى العرش مستقرًا عنده ثابتًا بين يديه {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ ¬

_ (¬1) ذكره ابن قتيبة، غريب القرآن 324، ونسبه لأبي صالح. واقتصر عليه الهواري 3/ 254. وأخرج ابن جرير 19/ 164، عن سعيد بن جبير. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 294. (¬3) ذكره الثعلبي 8/ 130 أ، بمعناه. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 121، وذكر هذا القول ابن قتيبة، في غريب القرآن 324، ولم ينسبه.

41

رَبِّى} هذا النصر والتمكين في المُلك من فضل ربي وعطائه (¬1). قال قتادة: والله ما جعله فخرًا ولا بطرًا، ولكن جعله منة لله وفضلًا منه ونعمة (¬2) {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} على ما أعطاني {أَمْ أَكْفُرُ}. وقال مقاتل: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} هذا السرير {مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أعطانيه (¬3). يعني: جيء به في حال شركها قبل أن تسلم {لِيَبْلُوَنِي} قال: يقول: ليختبرني {أَأَشْكُرُ} الله في نعمه إذ أُتيت بالعرش {أَمْ أَكْفُرُ} إذ رأيت مَنْ هو دوني أعلم مني. ثم عزم الله له على الشكر فقال: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي: لأجل نفسه يفعل ذلك (¬4)؛ لأن ثواب شكره يعود إليه {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره {كَرِيمٌ} بالإفضال على من كفر نعمه (¬5). 41 - وقوله: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} قال وهب، ومحمد ابن كعب، والمفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمانُ بلقيسَ فتفشي عليه أسرار الجن، ولا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده، فأساءوا ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 19/ 165. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2889. (¬3) "تفسير مقاتل" 59 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 59 ب وتبعه على ذلك الهواري 3/ 255، فقال .. كأنه وقع في نفسه مثل الحسد له، ثم فكر، فقال: أليس هذا الذي قدر على ما لم أقدر عليه مسخرًا لي. ونسبه لابن عباس، بدون إسناد، وأخرجه ابن جرير 19/ 165، عنه من طريق عطاء الخرساني. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2889، عن السدي. وكيف يظن بنبي الله سليمان عليه السلام مثل ذلك. والله أعلم. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 130 ب. وهو بنصه، في "تفسير الوسيط" 3/ 378. ولم ينسبه. ويمكن أن يحمل: الكريم، هنا على الصفوح. "تأويل مشكل القرآن" 494.

الثناء على بلقيس ليزهدوه فيها؛ وقالوا: إن في عقلها شيئًا، وإن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختجر عقلها بتنكير عرشها، فذلك قوله. {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} (¬1). قال المفسرون: يقول: غيروا لها سريرها (¬2). يقال: نكرته فتنكر أي: غيرته فتغير (¬3). ومعنى التنكير في اللغة: التغيير إلى حال ينكرها صاحبها إذا رآها (¬4). قال قتادة ومقاتل: نكرته: أن يزاد فيه وينقص (¬5)، يقول: زيدوا في ¬

_ (¬1) بنصه، في "تفسير الوسيط" 3/ 378، ولم ينسبه. وذكره مطولاً الهواري 3/ 256، ونسب بعضه للكلبي. وأورده مطولًا ابن جرير، في التاريخ 1/ 493، والتفسير 19/ 169. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2897، عن ابن عباس. وذكره الثعلبي 8/ 130 ب، عن وهب، ومحمد بن كعب. وذكره الفراء في المعاني 2/ 294، بمعناه. قال ابن كثير: وهذا ضعيف. "البداية والنهاية" 2/ 24. ولم يبين سبب ضعفه، والظاهر أنه يعني متنه؛ لأنه لم يذكر إسناده. والله أعلم. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2893، عن مجاهد، وقتادة. (¬2) ذكره البخاري، عن مجاهد، بلفظ: غيروا. كتاب التفسير، "الفتح" 8/ 504. وكذا عند الهواري 3/ 255. وأخرجه ابن جرير 19/ 165، 166، عن قتادة، ومجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2890، عن مجاهد. وهو في "تفسير مجاهد" 2/ 472. (¬3) غريب القرآن لابن قتيبة 325، بنصه. (¬4) "تهذيب اللغة" 10/ 191 (نكر)، بمعناه. (¬5) "تفسير مقاتل" 59 ب. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 82، عن قتادة. وأخرج ابن جرير 19/ 166، 166، عن ابن عباس، والضحاك. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2890، عن قتادة، وعكرمة.

42

السرير وانقصوا منه، فننظر إذا جاءت {أَتَهْتَدِي} أتعرف السرير، أي: أتهتدي لمعرفته {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} لا يعرفون (¬1). والقوم تقع على الرجال والنساء، فلما جاءت المرأة قيل لها: 42 - {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} قال قتادة: شِبْهُه، وكانت تركته خلفها (¬2). وقال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر، وعجبت من سرعته؛ فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} (¬3). وقال مقاتل: عرفته، ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها؛ ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت نعم (¬4). وقال عكرمة: كانت حكيمة؛ قالت: إن قلت: هو هو، خشيت أن أكذب، وإن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} شبهه (¬5). وقال الفراء: كانت تعرف وتنكر فلم تقل: هو هو، ولا: ليس هو، فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} (¬6). قوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} مذهب مجاهد ومقاتل: أن هذا من قول سليمان (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 59 ب، بنصه. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 82. وابن جرير 19/ 167، وابن أبي حاتم 9/ 2892. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2891. (¬4) "تفسير مقاتل" 59 ب، بنصه. وذكره الثعلبي 8/ 130 ب، عن الحسين بن الفضل. (¬5) بنصه، في "تفسير الوسيط" 3/ 379. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2892، عن السدي. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 295. (¬7) "تفسير مقاتل" 160. وأخرجه ابن جرير 19/ 167، عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي =

43

وعلى هذا للآية تأويلان: أحدهما: وأوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرأة؛ أي: من قبل مجيئها {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}: مخلصين لله بالتوحيد {مِنْ قَبْلِهَا} (¬1). والثاني: وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} خاضعين لله. وقال آخرون: هذا من كلام المرأة وذلك أنها لما قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} قيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب (¬2). قالت: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} بصحة نبوة سليمان {مِنْ قَبْلِهَا} أي: من قبل الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} أي: طائعين منقادين لأمر سليمان من قبل أن جئنا. وهذا القول أليق بالمعنى، وأشبه بظاهر التنزيل (¬3). 43 - قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: منعها من الإيمان بالله والتوحيد {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهو الشمس (¬4). ¬

_ = حاتم 9/ 2892، عن مجاهد، وسعيد بن جبير. و"تفسير مجاهد" 2/ 473. واقتصر على هذا القول ابن جرير، وابن أبي حاتم، والسمرقندي 2/ 497، والماوردي 4/ 215. وغيرهم. (¬1) "تفسير مقاتل" 160. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2892، عن زهير بن محمد. واقتصر عليه الثعلبي 8/ 130 ب. (¬2) وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب لما خرجت. "تفسير الوسيط" 3/ 379. وقد أخرج ابن جرير 19/ 159، عن وهب بن منبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2883، عن يزيد بن رومان. وهو من الأخبار الإسرائيلية. (¬3) واقتصر الواحدي على هذا القول في تفسيريه الوسيط 3/ 379، و"الوجيز" 2/ 804، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير مقاتل" 160. و"تفسير الثعلبي" 8/ 130 ب، ولم ينسبه.

قال الفراء: معنى الكلام: صدها من أن تعبد الله ما كانت تعبد، أي: عبادتها الشمس والقمر. وقد قيل: {وَصَدَّهَا} منعها سليمان ما كانت تعب، و (مَا)] نصب، والفعل لسليمان. ويجوز أن يكون الفعل لله على معش: وصدها الله ما كانت تعبد (¬1). قوله تعالى: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} كسرت الألف من (إِنَّ) على الاستئناف (¬2). أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس فنشأت فيما بينهم، ولم تعرف إلا عبادة الشمس. وذُكر في التفسير أنها كانت عاقلة، ولم يصدها عن عبادة الله نقص العقل؛ إنما صدها: عبادة الشمس (¬3). وذكر الكسائي وجهًا آخر؛ فقال: هذه الآية متصلة بالتي قبلها؛ والمعنى: قال سليمان: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا} أن تؤتى العلم وأن تسلم عبادةُ غير الله وكفرها السابق (¬4). وإذا جعلنا (مَا) في محل النصب جعلنا الصد متعديًا إلى مفعولين، وليس يتعدى الصد إلى مفعولين إلا بواسطة حرف الجر، كما تقول: صددت زيدًا عن كذا (¬5)، قال الله تعالى: {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} [الرعد: 33] ولكن يجوز أن تجعل الصد بمعنى: النفع، فيتعدى إلى مفعولين. أو يقال: التقدير: صدها عما كانت تعبد، فحذف الجار، كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه} [الأعراف: 155]. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 295. ولم ينسب شيئًا من هذه الأقوال. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 295، بنصه. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 295، بمعناه. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2892، عن سعيد بن جبير: أي: بصدودها كانت من قوم كافرين، وإنما وصفها، وليس بمستأنف. (¬5) ذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 213.

44

44 - وقوله: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ} الآية، قد ذكرنا أن الشياطين قالت لسليمان: إن رجلها كحافر الحمار. قال ابن عباس: وكان لسليمان ناصح من الشياطين، فقال له: كيف لي أن أرى قدمها من غير أن أسألها كشفه؟ فقال: أنا أهريق لك في هذا الصرح، يعني: القصر ماء، وأبلط فوق الماء بالزجاج، حتى تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدمها. وقال المفسرون: أراد سليمان أن يعلم حقيقة ما قالت الجن، وينظر إلى قدمها وساقها، فهيئ له بيتٌ من قوارير فوق الماء، وأُرسل فيه السمك لتحسب أنه الماء، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت، و {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} (¬1). والصرح في اللغة معناه: القصر. قال ذلك أهل اللغة، والتفسير (¬2)، وهو قول ابن عباس ومقاتل (¬3). وقال أبو عبيد: كل بناء موثق من صخر أو غير ذلك فهو صرح (¬4)، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 60 أ، و"تفسير هود الهواري" 3/ 256. وأخرجه ابن جرير 19/ 168، عن وهب بن منبه. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2893، عن ابن عباس، ومحمد ابن إسحاق. وذكره الثعلبي 8/ 130 ب، عن وهب بن منبه. وذكره في "الوسيط" 3/ 379، و"الوجيز" 2/ 805، بمعناه، ولم ينسبه. وأما القول الذي ذكره عن ابن عباس، فلم أجده. ومثل هذا التفصيل مما لم يثبت في الكتاب والسنة؛ يتعين تركه خاصة ما يتعلق منه برغبة نبي الله سليمان عليه السلام رؤية قدمها وساقها. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 94. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 325. (¬3) "تفسير مقاتل" 160. و"تنوير المقباس" 319. (¬4) "تهذيب اللغة" 4/ 237 (صرح)، بلفظ: الصرح: كل بناء عال مرتفع، وجمعه: صروح.

وأنشد هو وغيره بيت أبي ذؤيب: بهن نَعَام بناها الرجال ... تشبه أعلامهن الصروحا (¬1) قال أبو عبيدة: كل بناء بنيته من حجارة فهو: نَعَامة، والجماع: نَعَام (¬2). وقال أبو إسحاق: الصرح في اللغة: القصر والصحن، يقال هذه ساحة الدار، وصحنة الدار، وباحة الدار، وقاعة الدار، كله في معنى الصحن (¬3). ونحو هذا ذكر ابن قتيبة؛ فقال: الصرح: بلاط اتُّخِذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك (¬4). وقال مجاهد: الصرح: بركة ماء، ضرب عليها سليمان قوارير؛ ألبسها (¬5). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 95، ونسبه لأبي ذؤيب، وعنه الأنباري، "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 155، وأنشده ابن قتيبة، غريب القرآن 325، واقتصر على الشطر الثاني منه، ولفظه: تحسب أعلامهن الصروحا. وأنشده الأزهري 4/ 237، عن أبي عبيد، بلفظ: تحسب آرامهن الصروحا. وأنشده ابن جرير 20/ 77، كإنشاد أبي عبيدة، ولم ينسبه. وأنشده الغزنوي، "وضح البرهان" 2/ 141، مع بيت آخر بتقديم وتأخير، ولفظه: على طرق كنحور الركا ... ب تحسب أعلامهن الصروحا وهو كذلك في ديوان أبي ذؤيب الهذلي 63. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 95. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 122. (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة 325، ولم ينسبه، وصدره بقول: ويقال. و"تفسير مقاتل" 60 أ، بمعناه. (¬5) ذكره البخاري عنه. كتاب التفسير، الفتح 8/ 504. ووصله ابن أبي حاتم 9/ 2893. و"تفسير مجاهد" 2/ 473.

{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} وهي معظم الماء (¬1). ولُجَّة البحر حيث لا ترى أرضًا ولا جبلًا (¬2). ومر الكلام في اللجة عند قوله: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] (¬3)، قال المفسرون: حسبته ماءً (¬4). {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} والساق: لكل دابة وشجرة وطائر وإنسان، والأَسْوَق: الطويل عَظْم الساق، والمصدر السَّوَق (¬5)، قال رؤبة: قُبُّ من التَّعداءِ حُقْبٌ في سَوَق (¬6) ونذكر باقي الكلام في هذا الحرف عند قوله: {بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] (¬7)، وقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] إن شاء الله (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 131 أ، والطوسي 8/ 99، ولم ينسباه. وهو كذلك في "الوسيط" 3/ 379، و"الوجيز" 2/ 805. وفي "تفسير مقاتل" 60 أ: يعني: غدير الماء. وفي "تنوير المقباس" 319: ماءً غمرًا، يعني: كثيرًا. (¬2) ومنه قول شمر: لُجُّ البحر: الماء الكثير الذي لا يُرى طرفاه. "تهذيب اللغة" 10/ 494 (لج). (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو عبيدة: لجي مضاف إلى اللجة، وهو معظم البحر، وقال الليث: بحر لجي واسع اللجة. وقال الفراء: بحر لُجي ولِجي، كما يقال: سُخري وسِخري. وقال المبرد: اللجي العظيم اللجة. ومعناه: كثرة الماء. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 122. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2893، عن عبد الله بن شداد. (¬5) "العين" 5/ 190 (سوق)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 9/ 232 (ساق). (¬6) "العين" 5/ 190 (سوق)، ولم ينسبه، وذكره الأزهري 9/ 232 (ساق)، من إنشاد الليث،. وكذا في اللسان 10/ 168. وهو في ديوانه: 106. والأقب: الضامر، وجمعه: قُب. "اللسان" 1/ 658، مادة: قبب. (¬7) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية القراءات في قوله تعالى: {بِالسُّوقِ} ولم أجد فيه ما يتعلق بالساق ومعناها في اللغة. والله أعلم. (¬8) تكلم الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة القلم عن المراد بالساق في الآية، وذكر أقوال المفسرين وأهل اللغة في ذلك. ولم أجد فيه الحديث عن معاني الساق.

قال ابن عباس: لما كشفت عن ساقها رأى سليمان قدمًا لطيفًا، وساقًا حسنًا خَدَلَّجًا، أَزَّبَّ (¬1)، فقال لناصحه من الشياطين. كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة للجسد؟ فدله على عمل النُّورَة (¬2)، والحمامات من يومئذ (¬3). وقال مقاتل: نظر إليها سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقين وقدمين، ورأى على ساقها شعرًا كثيرًا، فكره سليمان من ذلك، فقالت: إن الرمانة لا تدري ما هي حتى تذوقها، فقال سليمان: ما لا يحلو في العين لا يحلو في الفم (¬4). ¬

_ (¬1) الخَدَلَّجَة، بتشديد اللام: الممتلئ الذراعين، والساقين. "تهذب اللغة" 7/ 636 (خدج)، واللسان 2/ 248، والأزب: كثير الشعر. اللسان 1/ 213، مادة: أزب. (¬2) النُّورَة من الحجر: الذي يُحرق ويسوى منه الكِلْس، ويحلق به شعر العانة. "تهذيب اللغة" 15/ 234 (نور)، واللسان 5/ 244. (¬3) بنصه، في "تفسير الوسيط" 3/ 379. وذكر نحوه الثعلبي 8/ 131 ب، عن ابن عباس. وذكره هود الهواري 3/ 257، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير 19/ 169، اتخاذ النورة عن مجاهد، وعكرمة، وأبي صالح. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2894، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. ومثل هذا القول لا تحتمله الآية، ولا تدل عليه، وهل يليق بنبي أن يتحايل على امرأة لينظر إلى ساقيها، ولذ قال ابن كثير، بعد إيراده هذا القول: في هذا نظر. "البداية والنهاية" 2/ 24. وأولى ما تفسر به الآية: أن سليمان عليه السلام أراد إثبات عظمة ما أعطاه الله من الملك بذلك، ويؤيد هذا أن ما أراده نبي الله سليمان قد وقع وحصل، فعلمت ملكة سبأ أن ملكه أعظم من ملكها، وأنه من الله تعالى، ولذا قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. والله أعلم. (¬4) "تفسير مقاتل" 60 أ. وهذا كلام لا يليق إيراده صبي حق الأنبياء، وكان الأولى بالواحدي أن ينبه على ذلك. والله أعلم.

قوله: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} أي: قال سليمان لما رأى ساقها وقدمها، ناداها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} أي: مملس بالزجاج، وليس ببحر (¬1). وذكرنا الكلام في الممرد عند قوله: {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3] (¬2). قال مقاتل: لما رأت السرير والصرح، علمت أن ملكها ليس بشيء عند ملك سليمان، وأن ملكه من الله، فقالت حين دخلت الصرح: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} يعنيِ: بعبادة الشمس {وَأَسْلَمْتُ} وأخلصت {مَعَ سُلَيْمَانَ} بالتوحيد {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خرت لله ساجدة، وتابت إلى الله من شركها، فاتخذها سليمان لنفسه، وولدت له داود بن سليمان بن داود، وأمر لها بقرية من الشام لها خراجها، وكانت عذراء فاتخذت الجن الحمامات من أجلها (¬3). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كانت من أحسن نساء العالمين ساقين، وهي من أزواج سليمان في الجنة" فقالت عائشة -أم المؤمنين- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هي أحسن ساقًا مني؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنت أحسن ساقين منها في الجنة" (¬4). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 325. وذكره في "تفسير الوسيط" 3/ 379، ولم ينسبه. (¬2) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: المريد الذي يتمرد على الله عز وجل. وقال أهل اللغة في المريد قولين؛ أحدهما: أنه المتجرد للفساد، والثاني: أنه العاري من الخير، ومنه قوله تعالى: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل 44] وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101]. (¬3) "تفسير مقاتل" 160. وذكره بنحوه الثعلبي 8/ 131 ب، ولم ينسبه. وذكر زواجها من نبي الله سليمان، وابنُ كثير في "البداية والنهاية" 2/ 24، ووصف هذا القول بأنه، أشهر وأوضح. والله أعلم. (¬4) ذكره بنصه، مقاتل 60 أ؛ هكذا بدون إسناد. وذكره القرطبي 13/ 210، وصدره بقوله: وفي بعض الأخبار، وعزاه للقشيري.

45

فكان سليمان يسير بها معه إذا سار، هذا قول مقاتل (¬1). وقال محمد بن إسحاق: أدخلها سليمان الصرح ليريها ملكًا وسلطانًا هو أعظم من سلطانها، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله تعالى فأسلمت، وحسن إسلامها، فقال لها سليمان حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلاً أزوجكه، فقالت: ومثلي يا نبي الله ينكِح الرجال؟ وقد كان لي من الملك والسلطان ما كان! قال: نعم؛ إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، فقالت: زوجني إذا كان ذلك: ذا تُبَّع، ملك همدان، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن (¬2). وقال عون بن عبد الله: جاء رجل إلى عبد الله بن عتبة فسأله: هل كان سليمان تزوجها؟ قال: عهدي بها أن قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). يعني: أنه لا يعلم ذلك، وآخر ما سمع من حديثها أن قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}. 45 - وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} إلى قوله: {هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قال مجاهد ومقاتل: مؤمنون وكافرون (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير، في التاريخ 1/ 494، من طريق ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه. وذكره الثعلبي 8/ 131 ب، بطوله. وكل ما ذكر في هذا مما لا دليل عليه، والأحسن أن يقال ما ذكره الواحدي بعد ذلك عن عبد الله بن عتبة. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2898. واقتصر على هذا القول في "الوسيط" 3/ 379. وهذه إجابة حسنة توقف ما في النفوس من التطلع عما سكت عنه القرآن، مما لا فائدة من العلم به. (¬4) "تفسير مقاتل" 60 ب. وأخرج ابن جرير 19/ 170، وابن أبي حاتم 9/ 2898، عن مجاهد. وهو في "تفسير مجاهد" 2/ 474.

46

وقال الكلبي: مصدق ومكذب. وهو قول قتادة (¬1). {يَخْتَصِمُونَ} يقول كل فريق منهم: الحق معي (¬2). قال ابن عباس ومقاتل: وخصومتهم الآية التي في الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} إلى قوله: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75، 76] (¬3). 46 - وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} الآية، كان هذا القول من صالح -صلى الله عليه وسلم-، للفريق المكذب. قال أبو إسحاق: وطلبَ الفرقة الكاذبة على تصديق صالحٍ العذاب؛ فقال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} (¬4). وقال مقاتل: قالوا يا صالح {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فرد عليهم صالح: {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} (¬5) وحذف هاهنا ذكر طلبهم العذاب؛ لذكره في سورة الأعراف، وغيرها (¬6). وقوله: {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قال ابن عباس ومجاهد: بالعذاب ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2898. وذكره الهواري 3/ 257، والثعلبي 8/ 132 أ، ولم ينسباه. قال الفراء: مختلفون؛ مؤمن ومكذب. "معاني القرآن" 2/ 295. وليس بين القولين تعارض، ولذا قال ابن جرير 19/ 170: فريق مصدق صالحًا مؤمن به، وفريق مكذب به، كافر بما جاء به. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 123، بنصه. وذكره في تفسيريه "الوسيط" 3/ 380، و"الوجيز" 2/ 805، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 123. (¬5) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬6) قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف 77].

47

قبل الرحمة (¬1). أي: لِمَ قلتم: إن كان ما أتيت به حقًا فأتنا بالعذاب (¬2). والحسنة والسيئة جاءتا في التنزيل لا بمعنى الطاعة والمعصية، كقوله: {بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] (¬3)، وقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الآية [الأعراف: 131] وقيل مر (¬4). قوله تعالى: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} قال مقاتل: هلا تستغفرون الله من الشرك، لكي {تُرْحَمُونَ} فلا تعذبوا في الدنيا (¬5). 47 - قوله عز وجل: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬6) قال ابن عباس والمفسرون: تشاءمنا بك وبمن معك على دينك (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 60 ب. و"تفسير الهواري" 3/ 257، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير 19/ 171، وابن أبي حاتم 9/ 2898، عن مجاهد: السيئة: العذاب، والحسنة: الرحمة، وفي رواية: العافية. وهو في "تفسير مجاهد" 2/ 474، دون ذكر العافية. (¬2) ذكره في "الوسيط" 3/ 380، ولم ينسبه. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: معنى السيئة والحسنة هاهنا: الشدة والرخاء؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، قال عطاء عن ابن عباس: يريد: بدل البؤس والمرض الغنى والصحة. (¬4) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس والمفسرون: معنى الحسنة: يريد بها: الغيث، والخصب، والثمار، والمواشي، والألبان، والسعة في الرزق، والعافية والسلامة. (¬5) "تفسير مقاتل" 60 ب. وأخرج أوله ابن أبي حاتم 9/ 2899، عن السدي. (¬6) أصل: {اطَّيَّرْنَا} تطيرنا، فأدغمت التاء في الطاء؛ لأنها من مخرجها. "معاني القرآن" للأخفش 2/ 650. و"تأويل مشكل القرآن" 354، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 325. (¬7) "تفسير مقاتل" 60 ب، بنصه. و"تفسير ابن جرير" 19/ 171. و"تنوير المقباس" 319. و"تفسير الثعلبي" 8/ 132 أ.

قال مقاتل: وذلك أنه قحط المطر عنهم وجاعوا فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك، فقال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} (¬1) قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم (¬2). وقال أبو إسحاق: أي ما أصابكم من خير أو شر فمن الله (¬3). وقال الفراء: يقول هو في اللوح المحفوظ عند الله، قال: وهو بمنزلة قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}] يس: 19] أي: لازم لكم ما كان من خير أو شر، فهو في رقابكم لازم، وقد بينه الله في قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] (¬4). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} الآية، [الأعراف: 131] (¬5). وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشر (¬6). وقال عطاء عنه والقرظي: تعذبون بذنوبكم (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 60 ب. وذكره الثعلبي 8/ 132 أ، ولم ينسبه. (¬2) ذكره بنصه في "الوسيط" 3/ 380، ونسبه لابن عباس. وفي "تنوير المقباس" 319 شدتكم ورخاؤكم من عند الله. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 123. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 295. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: التطير: التشاؤم في قول جميع المفسرين. وقوله تعالى: {يَطَّيَّرُوا} هو في الأصل: يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد، من طرف اللسان وأصول الثنايا. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 8/ 1132. وهو في "الوسيط" 3/ 380، و"الوجيز" 2/ 806، غير منسوب. وفي "تنوير المقباس" 319: تختبرون بالشدة والرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2899، عن قتادة: تبتلون بطاعة الله ومعصيته. (¬7) "تفسير الثعلبي" 8/ 1132.

48

وقال الكلبي: تفتنون حتى تجهلون أنه من عند الله (¬1). يعني: أن تطيركم بي فتنة. وقيل: تختبرون بإرسالي إليكم (¬2). 48 - وقوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} قال ابن عباس والمفسرون: يريد المدينة التي كان فيها صالح وهي: الحِجْر (¬3) {تِسْعَةُ رَهْطٍ} ذكرنا الكلام في تفسير الرهط عند قوله: {أَرَهْطِي} [هود: 92] {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} [هود: 91] (¬4). ويُجمع الرهط: أَرْهُطًا، وأراهط، ومنه: يا بؤسَ للحرب التي ... وضعتْ أراهطَ فاستراحوا (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 1132. و"تفسير هود الهواري" 3/ 258، بمعناه، ولم ينسبه. (¬2) ذكره الثعلبي 8/ 132 أ، ولم ينسبه. وكذا الزجاج 4/ 123. (¬3) "تفسير مقاتل" 60 ب. وأخرجه ابن جرير 19/ 172، عن ابن عباس، ومجاهد. و"تفسير الثعلبي" 8/ 1132. الحجر: اسم ديار ثمود بوادي القرى، بين المدينة والشام، وهي بيوت منحوتة في الجبال، وفيها البئر التي كانت تردها الناقة. "معجم البلدان" 2/ 255، و"مراصد الإطلاع" 1/ 381. وفي "معجم المعالم الجغرافية" 93: الحجر: رأس وادي القرى، وأهاه اليوم: قبيلة عنزة، وبه زراعة حسنة، وأهم ما هنالك عجائب آثار ثمود، وتبعد عن مدينة العلا 22 كم، شمالاً، والعُلا على 322 كم، على سكة الحديد، شمال المدينة النبوية، وأصبح وادي القرى يسمى: وادي العلا. (¬4) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو عبيد عن أبي زيد: النفر والرهط: ما دون العشرة من الرجال. وقال أبو العباس: المعشر والنفر والقوم والرهط معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم، وهذا للرجال دون النساء. وقال الليث: الرهط عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة. (¬5) أنشده الأزهري، 6/ 176، ولم ينسبه. وأنشده سيبويه مستدلًا به على إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه، الكتاب 2/ 207، ولم ينسبه. وكذا ابن جني، "الخصائص" 3/ 106، وفي الحاشية: هو سعد بن مالك البكري، والبيت من قصيدة له فى الحرب التي نشبت بين بكر وتغلب لمقتل كليب بن تغلب، وهو فيها =

49

ولا واحد للرهط من لفظه (¬1). فلذلك قيل: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} والمراد به تسعة رجل، وليس المراد به: رهط تسعة، على أن يجمع الرهط فيبلغوا خمسين أو قدره. قال ابن عباس: كانوا تسعة من أشرافهم، وهم غواة قوم صالح (¬2) {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} يعملون فيها بالمعاصي {وَلَا يُصْلِحُونَ} لا يطيعون الله. قاله مقاتل (¬3). وقال الكلبي: لا يدعون إلى توحيد الله (¬4). 49 - قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} {تَقَاسَمُوا} لفظٌ يصلح أن يراد به مثال الماضي، ويصلح أن يراد به مثال الأمر (¬5). ¬

_ = يحضّض على الحرب، ويعرّض بالحارث بن عباد البكري الذي كان اعتزل الحرب، وقوله: وضعت، أي: حطت قومًا بالقعود عنها، وأسقطتهم عن مرتبة الشرف فاستراحوا وآثروا السلامة كالنساء، ولم يعانوا أخطار المجد والسيادة. وعن ابن جني، ذكره البغدادي، "الخزانة" 11/ 141، ولم ينسبه. (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 650. و"تهذيب اللغة" 6/ 174 (رهط)، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 214. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2900، وفيه ذكر أسمائهم، وذكر أسماءهم مقاتل 60 ب، والثعلبي 8/ 132 أ، وهو مما لا دليل عليه. وقال الزجاج 4/ 123: هؤلاء عتاة قوم صالح. (¬3) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬4) في "تنوير المقباس" 319: لا يأمرون بالصلاح ولا يعملون به. قال مالك بن دينار: فكم اليوم في كل قبيلة من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. تفسير ابن أبي حاتم 9/ 2900. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 394، وفيه: ألا ترى أنك تقول: تقاسموا أمسِ، إذا أردت الماضي، وتقاسموا غدًا، إذا أردت به الأمر. وذكر هذا القول الثعلبي 8/ 132 أ.

وفي قوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} و: {لَنَقُولَنَّ} وجهان من القراءة؛ أحدهما: التاء وضم اللام من الفعلين على مخاطبة الجماعة (¬1). والثاني: النون وفتح اللام على إخبار الجماعة عن أنفسهم (¬2)، فمن قرأ بالتاء كان قوله: {تَقَاسَمُوا} أمرًا؛ والمعنى: قال بعضهم لبعض: احلفوا لتهلكن صالحًا، وجعل: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} جوابًا لتقاسموا؛ لأن هذه الألفاظ التي تكون من ألفاظ القسم تُتَلقى بما تُتَلقى به الأيمان، كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] و: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى} [فاطر 42] ومن قرأ: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالنون جاز أن يكون: {تَقَاسَمُوا} أمرًا؛ كأنهم قالوا: أَقْسِموا لنفعلن كذا وكذا (¬3)، والذين أمروهم بالقسم داخلون معهم في الفعل، ألا ترى أنك تقول: قوموا نذهبْ إلى فلان، ويجوز على هذا الوجه من القراءة أن يكون قوله: {تَقَاسَمُوا} خبرًا، والمعنى: قالوا متقاسمين لنفعلن كذا. وهذا قول الفراء، والزجاج، وأبي علي (¬4). ومعنى: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} لنقتلنه {وَأَهْلَهُ} بياتًا. قاله ابن عباس (¬5). ومضى تفسير ¬

_ (¬1) أي: ضم التاء من: (لنبيتُنه) وضم اللام من: (لنقولُن). (¬2) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم، بالنون في الموضعين، وقرأ حمزة والكسائي، بالتاء في الموضعين. "السبعة في القراءات" 483، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 394، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 338، قال النحاس: وهذا أحسن ما قرئ به هذا الحرف؛ لأنه يدخل فيه المخاطبون في اللفظ والمعنى. "إعراب القرآن" 3/ 215. (¬3) وكذا. في نسخة: (ب). (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 296. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 123. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 394. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2902. و"تفسير مقاتل" 60 ب.

البيات عند قوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] (¬1). قوله: (وَأَهْلَهُ) قال ابن عباس: يريدون بني عبيد، وكانوا آمنوا معه (¬2). {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} قال مقاتل: يعني: ذا رحم صالح، إن سألونا عنه (¬3). وقال ابن عباس: يريدون قومه ولد عبيد، وهم: نفر من ثمود {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ما قتلناه وما ندري من قتل صالحًا وأهله (¬4). والمهلك يحتمل أمرين: يجوز أن يكون إهلاك أهله، ويجوز أن يكون الموضع (¬5). وروى أبو بكر عن عاصم: (مَهلَك) بفتح الميم واللام يريد: الهلاك، يقال: هلك يهلك مَهلَكًا، كما أن المصدر في: ضرب، يضرب مَضرَبًا بفتح الراء، ولكون المصدر مضافًا إلى الفاعل؛ كما تقول: هلاك أهله. وحكي أنه يقال: هلك بمعنى: أهلك، في لغة تميم، فيكون المهلَك على هذا مصدرًا مضافًا إلى المفعول به، وروى حفص بفتح الميم وكسر اللام {مَهْلِكَ} فيجوز أن يكون اسم المكان على: ما شهدنا موضع هلاكهم ومكانه فيكون المهلِك: كالمجلس في أنه يراد به موضع الجلوس، ويجوز ¬

_ (¬1) أحال الواحدي في تفسير البيات عند هذه الآية على الآية 81، من سورة النساء، وهي قوله تعالى: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} وفيها قال الوا حدي في تفسير البيات: قال الزجاج: كل أمر فكر فيه، وخيض فيه بليل، فقد بيت، يقال: هذا أمر قد بيت بليل، ودبر بليل، بمعنى واحد .. وهو قول أبي عبيدة وأبي العباس، وجميع أهل اللغة. (¬2) قال الحسن: أهله: أمته الذين على دينه. تفسير الهواري 3/ 258. (¬3) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬5) "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 215.

50

أن يريد به المصدر؛ لأنه قد جاء المصدر من فَعَل يفعِل على مَفْعِل؛ كقوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [آل عمران: 55] و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، والأول أكثر (¬1). قال أبو إسحاق: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحًا ويقتلوه وأهله في بياتهم، ثم ينكرون عند أولياء صالح أنهم شهدوا مهلكه، ومهلك أهله، ويحلفون إنهم لصادقون، وكان هذا مكرًا عزموا عليه (¬2). 50 - قال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْرًا} أي: حين أرادوا قتل صالح (¬3) {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} جازيناهم جزاءَ مكرهم بتعجيل عقوبتهم {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بمكر الله بهم. 51 - قوله تعالى {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} وقرئ: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} بالفتح (¬4). قال الفراء: مَنْ كَسَرَ استأنف، وهو ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 395. في قوله تعالى {مَهْلِكَ} ثلاث قراءات: 1 - قرأ عاصم في رواية أبي بكر: (مَهلَك) بفتح الميم واللام. 2 - وقرأ عاصم في رواية حفص: {مَهْلِكَ} بفتح الميم وكسر اللام. 3 - قرأ الباقون (مُهلَك) بضم الميم، وفتح اللام. "السبعة في القراءات" 438. قال ابن خالويه: فمن ضم جعله مصدرًا من أهلك مُهلَكًا، مثل: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء80] ومن كسر اللام أو فتحها جعله مصدر: هلك ثلاثيًا لا رباعيا. "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 154. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 124. (¬3) "تفسير مقاتل" 60 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2902، عن قتادة. (¬4) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمرة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، بكسر الهمزة. "السبعة في القراءات" 484، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 396. و"النشر فى القراءات العشر" 2/ 338.

51

يُفَسَّرُ به ما كان قبله؛ مثل قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 24، 25] (¬1). ومن فتح رده على إعراب ما قبله، فتكون (أَنَّا) في موضع رفع بجعلها متابعة للعاقبة (¬2)، وإن شئت جعلتها نصبًا من جهتين؛ إحداهما: أن تردها على موضع (كَيْفَ) (¬3)، والأخرى: أن تكون خبر (كَانَ) على معنى: كان عاقبة مكرهم تدميرَنا إياهم (¬4). قال أبو علي: من كسر (إِنَّا) فهو استئناف وتفسير للعاقبة، كما أن قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] تفسير للوعد (¬5)، وتكون: كان، التي بمعنى: وقع (¬6)، والمعنى: فانظر على أي حال وقع عاقبة مكرهم؛ أي: أحسنًا وقع عاقبة مكرهم (¬7) أم سيئًا، ومن فتح جاز أن يكون: (كَانَ) على ضربيها فإن حملته على: وقع، جاز في (أَنَّا) أمران؛ ¬

_ (¬1) الشاهد من الآية قراءة الكسر في: {أَنَّا صَبَبْنَا} قرأ بها ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر. "السبعة في القراءات" 672، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 398. (¬2) أي: بدل كل، كما سيأتي ذكره عن أبي علي. (¬3) على أن {كَيْفَ} مفعول به. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 396، وفيه: والأخرى أن تكُرَّ {كاَنَ} .. وفي الحاشية: أي تنوي تكرارها. قال النحاس عن هذا الوجه: وهذا متعسف. ثم ذكر خمسة أوجه في فتح الهمزة. وقال عن الوجه الأول: وهذا لا يحصَّل؛ لأن كيف للاستفهام، و {أَنَاْ} غير داخل في الاستفهام. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 215. (¬5) يعني به المذكور في صدر الآية؛ وهو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} فجملة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} جملة تفسيرية للوعد. (¬6) أي: كان التامة، التي لا اسم لها ولا خبر. (¬7) في نسخة: ب: أمرهم.

أحدهما: أن يكون بدلاً من قوله: {عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} والثاني: أن يكون محمولاً على مبتدأ مضمر؛ كأنه: هو أنا دمرناهم، أو ذاك أنا دمرناهم. وإن حصلت (كَانَ) على المقتضية الخبر جاز في: (أَنَّا) أمران؛ أحدهما: أن يكون بدلاً من اسم كان الذي هو العاقبة، وإذا حملته على ذلك كان (كَيْفَ) في موضع خبر كان، [والآخر: أن يكون خبرَ كان (¬1)، ويكون موضعه نصبًا بأنه خبر كان] (¬2) كأنه كان عاقبة مكرهم تدميرَهم، ويكون: (كَيْفَ) في موضع حال (¬3). قال أبو إسحاق: من قرأها بالكسر كان المعنى: (فَانْظُرْ) أي شيء {عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} ثم فسر فقال: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} فدل على أن العاقبة: الدمار، ومن قرأ: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} أضمر في الكلام شيئًا، على تقدير: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} العاقبة: أنا دمرناهم، فتكون (أَنَّا) في موضع رفع على هذا التفسير (¬4). واختلف قول المفسرين في كيفية هلاك هؤلاء النفر؛ فقال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين (¬5) سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة، ولا يرون الملائكة فقتلتهم (¬6). وهذا قول الكلبي. ¬

_ (¬1) أي: جملة {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} التي كانت في الوجه الأول بدلاً من العاقبة. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 396، بتصرف. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 124. (¬5) شاهرين. في نسخة (ج). (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 132 ب، ونسبه لابن عباس، وفيه: أرسل الله عز وجل الملائكة ليلاً فامتلأت بهم دار صالح. وذكره الهواري 3/ 258، ولم ينسبه. ونحوه عند ابن جرير 19/ 173، من كلام ابن إسحاق.

52

وقال قتادة: سلط الله عليهم صخرة فدمغتهم (¬1). وقال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضًا؛ ليأتوا دار صالح فجثم عليهم الجبل، فأهلكهم (¬2). وقال السدي: خرجوا ليأتوا صالحًا، فنزلوا جُرُفًا (¬3) من الأرض يكمنون فيه فانهار عليهم (¬4). وقوله: {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني: بصيحة جبريل (¬5). 52 - قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} قال الزجاج: نصب (خاويةً) على الحال، المعنى: فانظر إلى بيوتهم خاويةً (¬6)، وهذا كقوله: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52] (¬7) {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2902. واقتصر عليه الزجاج 4/ 124، ولم ينسبه. وذكره عنه الثعلبي 8/ 132 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 60 ب. وليس فيه ذكر سفح الجبل. وقد ذكره عنه بهذا اللفظ الثعلبي 8/ 132 ب. (¬3) الجُرُف: ما ينجرف بالسيول من الأودية غريب القرآن لابن قتيبة 192. وضم الراء وكسرها وجهان؛ وقد قرئ بهما في قوله تعالى: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} "السبعة في القراءات" 318. وكَمِن له، كنَصَر وسمِع، كُمونًا: استخفى. القاموس المحيط 1584 (كمن). (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 132 ب، وفيه: فنزلوا خرقا. أخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2903، عن عبد الرحمن بن زيد. (¬5) "تفسير مقاتل" 60 ب. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 125. و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 216. (¬7) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} الدين: الطاعة هاهنا، والواصب: الدائم، وهو قول ابن عباس وجميع المفسرين؛ يقال وصب الشيء يصب وصوبًا إذا دام، قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9]. =

53

72] وقد مر (¬1). قال ابن عباس: يريد ليس فيها داع ولا مجيب. وقال مقاتل: يعني خرابًا ليس لها ساكن (¬2). ومضى تفسير الخاوية في سورة: البقرة (¬3). قوله: {بِمَا ظَلَمُوا} قال ابن عباس ومقاتل: بما أشركوا (¬4). أي: بشركهم بالله أهلكناهم، حتى صارت منازلهم خاوية. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني: في هلاكهم {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لعبرة لمن علم توحيد الله (¬5)، وقدرته. 53 - {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} صدقوا صالحًا من العذاب {وَكَانُوا ¬

_ = البسيط 3/ 127أ، النسخة الأزهرية. ولم أجد فيه إعراب {وَاصِبًا}. (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو إسحاق: {شَيْخًا} منصوب على الحال، والحال هاهنا نصْبُه من لطيف النحو وغامضه؛ وذلك أنك إذا قلت: هذا زيد قائمًا، فإذا كنت تقصد أن تخبر من لم يعرف زيدًا أنه زيد لم يجز هذا؛ لأنه لا يكون زيدًا إلا ما دام قائمًا فإذا زال عن القيام فليس يزيد، وإنما تقول للذي يعرف زيدًا: هذا زيد قائمًا فيعمل في الحال التنبيه، المعنى: انتبه لِزيد في حال قيامه، أو: أشير لك إلى زيد في حال قيامه. (¬2) "تفسير مقاتل" 60 ب. بلفظ: خاوية ليس بها سكان. (¬3) عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [2591] قال الواحدي في تفسير الخاوية: قال أبو عبيد عن أبي زيد والكسائي: خوى الدار تخوي خُوِيًّا إذا خلت. قال الكسائي: ويجوز خَوِيت الدار. الأصمعي: خوى البيت فهو ينوي خَواءً ممدود إذا ما خلا من أهله. والخَوَى: خلو البطن من الطعام، وأصل معنى هذا الحرف الخلو .. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2903، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 61 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 61 أ.

54

يَتَّقُونَ} الشرك. قاله مقاتل (¬1). 54 - قوله: {وَلُوطًا} قال الزجاج: نصب لوط من جهتين؛ علي معنى: وأرسلنا لوطًا. وعلى معنى: واذكر لوطًا؛ لأنه قد جرت أقاصيص رسل فدخل معنى إضمار: اذكر هاهنا (¬2). قوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني: اللواط، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والجميع (¬3) {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أنهم كانوا يدَّعون البصر بالدين. والمعنى: وأنتم تدَّعون البصر بالدين فلمَ تأتون الفاحشة. وقال الكلبي: وأنتم تعلمون أنها فاحشة (¬4). وهو قول الفراء والزجاج (¬5). وإذا كانوا يعلمون أنها فاحشة فهو أعظم لذنوبهم، فهذا من البصر الذي هو بمعنى العلم. وقيل: يرى بعضكم بعضًا، وكانوا لا يستترون عتوًا وتمردًا (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 61 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 125. و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 216. (¬3) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2904، عن ابن عباس، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-، ومجاهد. و"تفسير مقاتل" 61 أ، و"تنوير المقباس" ص 319. (¬4) "تنوير المقباس" 319، وهو قول مقاتل 61 أوذكره الهواري 3/ 259، ولم ينسبه. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 296. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 125. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 133 أ، ولم ينسبه. قال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضًا في المجالس. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 216. ولم يرجح الواحدي شيئًا من هذه الأقوال؛ ولعل الأقرب -والله أعلم- أن المراد: وأنتم تعلمون أنها فاحشة، ويدل عليه قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف =

55

وهذه الآيات التي في هذه القصة مفسرة في سورة الأعراف (¬1). 55 - قوله عز وجل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} قال ابن عباس: تجهلون بالقيامة، وعاقبة العصيان (¬2). 57 - قوله: {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [قال مقاتل: تركناها (¬3). والمعنى: جعلناها بتقديرنا من الغابرين (¬4)] (¬5) أي: قدرناها بما كتبنا عليها، وقضينا أنها {مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب (¬6). 58 - وقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أي: على شذاذها مطرًا وهو الحجارة (¬7) {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} مر تفسيره في سورة الشعراء ¬

_ = 80] ففعلهم لهذه الفاحشة كان عن إصرار ومكابرة، ولم يكن لهم فيها شبهة، ولما قال لهم نبي الله لوط عليه السلام: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} كان جوابهم: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] فما ذكره الواحدي عن ابن عباس من طريق عطاء لا يعول عليه إسنادًا ولا متنًا، وأما القول الثالث فهو زيادة إيضاح للقول الأول، فهم لا يرون في هذه الفاحشة بأسًا فقد استباحوها وجاهروا بها، وعاين بعضهم بعضًا، ولم ينكر أحدهم على أحد. والله أعلم. (¬1) الآيات [80 - 84]. (¬2) ذكره عنه ابن الجوزي 6/ 183. (¬3) "تفسير مقاتل" 161. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 95. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬6) "تفسير ابن جرير" 20/ 2. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2905، عن ابن عباس. وذكره الثعلبي 8/ 133 أ، ولم ينسبه. (¬7) هكذا في جميع النسخ: شذاذها، وكذا عند الثعلبي 8/ 133 أ. وهذا مبين في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83]. وقال تعالى: =

59

[الآية 173]. 59 - قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} المفسرون على أن هذا خطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أُمِر أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} (¬1). قال مقاتل: على هلاك كفار الأمم الخالية (¬2). وقال الفراء: قيل للوط: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هلاك من هلك (¬3). والتقدير على هذا: وقلنا للوط: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} والمفسرون على ما ذكرنا. قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال مقاتل: هم الأنبياء الذين اختارهم الله لرسالته (¬4). وقال ابن عباس في رواية أبي مالك: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5). وهو قول السدي، وسفيان بن سعيد (¬6). ¬

_ = {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر 74]. (¬1) "تفسير ابن جرير" 20/ 2. والثعلبي 8/ 1133. قال النحاس: وهذا أولى؛ لأن القرآن منزل على النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) "تفسير مقاتل" 61 أ. وفي نسخة: ب: الماضية. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 297. (¬4) "تفسير مقاتل" 61 أ. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 2، وابن أبي حاتم 9/ 2906، والثعلبي 8/ 133 أ، كلهم من طريق السدي عن أبي مالك؛ وهو: عبيد الله بن الأخنس النخعي، أبو مالك الخزاز، صدوق يخطئ كثيرًا، روى عن نافع وابن أبي مليكة وغيرهم، وروى عنه: يحيى بن القطان، وغيره. الجرح والتعديل 5/ 307، و"تقريب التهذيب" 635. (¬6) أخرجه عنهما ابن جرير 20/ 2. وسفيان بن سعيد، هو: الثوري. وقال ابن أبي حاتم 9/ 2906: وروي عن السدي، وسفيان الثوري نحو ذلك. وأخرجه الثعلبي 8/ 133 أ، عن سفيان.

وقال عطاء عنه: يريد الذين وحدوني وآمنوا بي (¬1). وعلى هذا هم جميع المؤمنين (¬2). وقال الكلبي: هم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته (¬3). ومعني السلام عليهم: أنهم سَلِموا مما عاب به الكفار. ثم قال: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4) قال ابن عباس: ثم رجع إلى المشركين فقال: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} يا أهل مكة، يريد: الذين جعلتموهم لي أندادًا. وقال مقاتل: أراد يشركون به. يقول: الله أفضل أم الآلهة التي يعبدونها، يعني: كفار مكة، قال: وكان النبي إذا قرأ هذه الآية قال: "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم" (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره عنه من طريق عطاء ابن الجوزي 6/ 185. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2906، عن عبد الرحمن بن زيد. وهذا القول أحسن لعمومه، فيدخل فيه الأنبياء والرسل وأتباعهم. وذكر هذا القول الهواري 3/ 260. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 8/ 1133. وهو في "تنوير المقباس" 320. (¬4) قال الثعلبي 8/ 133 ب: بهمزة ممدودة، وكذا كل استفهام لقيته ألف وصل، مثل: {آلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام 143، 144] و {آلْآنَ} [يونس 51، 91] جعلت المدة علمًا بين الاستفهام والخبر. (¬5) "تفسير مقاتل" 161. وذكره الثعلبي 8/ 133ب، من غير سند ولا راو، كما قال الزيلعىِ في تخريج أحاديث الكشاف 3/ 18، وقال فيه: قال البيهقي في "شعب الإيمان" في الباب التاسع: وقد روي في ختم القرآن حديث منقطع بسند ضعيف، ثم ساقه بتمامه، وفيه هذا اللفظ. وقد أعرض عن ذكره الواحدي في كتابيه: الوسيط، والوجيز. والحديث ذكره البيهقي في شعب الإيمان في حديث طويل، في الباب التاسع عشر، ولم أجده في الباب التاسع. شعب الإيمان 2/ 372، رقم الحديث: 2082.

60

وهذا مذهب أهل التفسير (¬1). وجعل الفراء هذه الآية من باب حذف المضاف؛ فقال: يقول: أعبادة الله خير أم عبادة الأصنام (¬2). وأحسن من هذا أن يقال: الله خير لمن عبده أم الأصنام؛ يدل على صحة هذا أن هذا ذُكر بعد ذكر هلاك الكفار وسلامة المؤمنين، إلزامًا للحجة على المشركين، فقيل لهم بعد ما ذُكر هلاك الكفار: الله خير أم الأصنام. والمعنى: أن الله نجَّى مَنْ عبده من الهلاك، والأصنامُ لم تغن شيئاً عن عابديها عند نزول العذاب. وهذا معنى ما ذهب إليه المفسرون؛ وإن لم يبينوا هذا البيان. وقال أهل المعاني: يجوز في الخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لا خير فيه إذا كان يتوهم بعض الجهال الأمر على خلاف ما هو به أن يقال: هذا الخير خير من الشر، فلما كان المشركون يتوهمون في الأصنام وفي عبادتها خيرًا، قيل لهم احتجاجًا عليهم: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬3). 60 - قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬4) تقدير الكلام: أما تشركون خير أم من خلق السموات والأرض، فحذف ذكر الأول لقرب ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2906، عن السدي. وهو قول الهواري 3/ 260. وابن جرير 20/ 2. والثعلبي 8/ 133 ب. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 297. (¬3) ذكر معناه النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 217. وسبق الحديث عن هذه المسألة في سورة الفرقان عند قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [15]. (¬4) قال الأخفش: مَنْ، هاهنا ليست باستفهام على قوله: {خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} إنما هي بمنزلة: الذي. "معاني القرآن" 2/ 650.

ذكره في قوله: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} وهذا معنى قول أبي حاتم (¬1). وقوله: (حَدَائِقَ) قال الليث: الحديقة: أرض ذات شجر مثمر، والحديقة من الرياض: كل روضة قد أحدق بها حاجزٌ، أو أرضٌ مرتفعة، وأنشد لطرفة: تَرَبعت القُفَّين في الشَّول ترتعي ... حدائق مَولِيِّ الأسرةِ أَغْيدِ (¬2) وكل شيء استدار بشيء فقد أحدق به (¬3). وقال أبو عبيدة: الحديقة والجنة في الدنيا مثل الحائط (¬4). قال الفراء: إنما يقال حديقة لكل بستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لا يقال له: حديقة (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب. ونحوه في "القطع والائتناف" 2/ 503. (¬2) البيت من معلقة طرفة، ومعنى: تربعت: أقامت زمن الربيع، القُفَّين: مثنى القف؛ وهو حجارة مترادف بعضها إلى بعض، لا يخالطها من اللين والسهولة شيء. والمراد هنا: موضع في نجد إذا أخصب ربعت العرب فيه لسعته واتساعه. والشول عند الناقة: فترة تمتد من انتهاء إرضاعها إلى حملها التالي، وهو فترة تنشط فيها الناقة، المولي: المكان الذي يصيبه الولي؛ وهو المطر الثاني، الأسرة: جمع السر؛ وهو من الوادي أفضل مكان فيه. أغيد: النبات الأغيد؛ هو الناعم المتثني، ويكون كذلك لنضرته ووفرة الماء في منبته. أراد طرفة بهذا البيت أن يعلل قوة هذه الناقة بحسن تغذيتها. شرح ديوان طرفة 93. (¬3) "العين" 3/ 41 (حدق)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 4/ 34. وليس فيهما إنشاد هذا البيت. (¬4) لم أجده في كتاب المجاز، وإنما فيه: أي: جنانًا من جنان الدنيا، واحدتها: حديقة. "مجار القرآن" 2/ 95. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 297. وذكره ابن جرير 20/ 3، ولم ينسبه. وقال الزجاج 4/ 128: الحديقة: البستان، وكذلك الحائط، وقيل: القطعة من النخل.

وقال ابن قتيبة: إنما يقال حديقة؛ لأنها يُحدَق عليها، أي: يُحْظَر (¬1). قال ابن عباس: يريد الأجنة والشجر (¬2). وقال مقاتل: يعني حيطان النخل والشجر (¬3). وقال الكلبي: الحدائق من البساتين: ما أحيط عليه حائط (¬4). قوله: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} قال الكلبي: ذات منظر حسن (¬5). وقال ابن عباس ومقاتل: ذات حُسن (¬6). وقال قتادة: النخل الحسان (¬7). والبهجة: الحُسْن يبتهج به مَنْ رآه، أي: يُسر. قوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي: ما ينبغي لكم ذلك؛ لأنكم لا تقدرون عليها (¬8). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" 326، بلفظ: يحظر عليها حائط. وفي الحاشية: أي: يقام عليها حظيرة من قصب وخشب. (¬2) ذكره الزجاج 4/ 128، ولم ينسبه. (¬3) هكذا في نسخة (ج): حيطان، وكذا عند مقاتل 61 أ، وفي نسخة (أ)، (ب): حظار النخل والشجر. وقال عكرمة: الحدائق: النخل. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 217. (¬4) ذكره الهواري 3/ 260، عنه بلفظ قريب من قول مقاتل، حيث قال: الحديقة: الحائط من الشجر والنخل. وفي "تنوير المقباس" 320: بساتين؛ ما أحيط عليها من النخل والشجر. (¬5) "تنوير المقباس" 320. وذكره ابن جرير 20/ 3، ولم ينسبه. (¬6) "تفسير مقاتل" 161. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2907، عن الضحاك. وهو قول ابن قتيبة، "غريب القرآن" 326. والزجاج 4/ 128. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 85. وعه ابن أبي حاتم 9/ 2907. (¬8) قال الثعلبي8/ 133 ب: (ما): هي ما النفي، بمعنى: ما قدر عليه.

61

ثم قال مستفهمًا منكرًا عليهم: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه (¬1) {بَلْ} أي: ليس معه إله {هُمْ قَوْمٌ} يعني: كفار مكة {يَعْدِلُونَ} يشركون به غيره. هذا معنى قول المفسرين (¬2). وقال أبو إسحاق: يعدلون عن القصد والحق، أي: يكفرون (¬3). 61 - وقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا} قال مقاتل: مستقرًا لا تميد بأهلها (¬4) {وَجَعَلَ خِلَالَهَا} فيما بينها (¬5) {أَنْهَارًا} كقوله: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف 33]. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} قال ابن عباس: يريد الجبال الثوابت أَثْبَتَ بها الأرض (¬6). {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} قال: يريد قضاء من قضائه، وسلطانًا من قدرته، حجز بين العذب والمالح، فلا المالح يغير العذب، ولا العذب يغير المالح. وهذا قول أكثر المفسرين (¬7). ومعنى الحجز في اللغة: المنع. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 61 أ، و"تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب، ولم ينسبه. (¬2) "تفسير مقاتل" 61 أ، و"تفسير الهواري" 3/ 260. و"تفسير ابن جرير" 20/ 3. و"تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2908، عن مجاهد. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 128. (¬4) "تفسير مقاتل" 161. و"تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 3. وقال الثعلبي 8/ 133 ب: وسطها. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2809، عن قتادة وذكره الثعلبي 8/ 133 ب، ولم ينسبه. (¬7) "تفسير مقاتل" 61 ب. وتفسير الهواري 3/ 260. و"تفسير ابن جرير" 20/ 3. و"تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب. وظاهر الآية أنه حاجز بين البحرين؛ ولم يقيد أحدهما بالعذب فيبقى على أصله، ومثله في سورة الرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}. وهو يختلف عز الحاجز المذكور في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا =

قال أبو إسحاق: حجز بينهما بقدرته فلا يختلط العذب بالملح (¬1). وقال أهل المعاني: ويكون ذلك بكف كل واحد منهما عن صاحبه، وفيه دليل على أن الله تعالى قادر على كف النار عن الحطب حتى لا تحرقه، ولا تسحقه، كما كف الماء الملح عن العذب المجاور له أن يختلط به. وقال السدي: قول الله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} هي البرزخ، وهو الحجر المحجور، وهو بحر الشام وبحر العراق والناس فيما بينهما؛ وعلى هذا معنى الحاجز بين البحرين: الجزائر والأرض والبلاد كما بين بحر فارس وبحر الروم (¬2). والناس على القول الأول. قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} توحيدَ ربهم، وسلطانَه وقدرته. قاله ابن عباس ومقاتل (¬3). ¬

_ = وَحِجْرًا مَحْجُورًا}. انظر: "مجلة الإعجاز" 44، العدد الثالث، ربيع الثاني 1418هـ. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 127، بلفظ: العذب بالملح. وهو موافق لنسخة: (ب)، (ج) وفي نسخة (أ): (بالمالح). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2809، عن الحسن. وذكره الثعلبي 8/ 133 ب، ولم ينسبه، وصدره بـ: قيل. وهذا مخالف لظاهر الآية، فسياقها في بيان القدرة؛ وهي في الاختلاط وعدم التمازج أظهر. والله أعلم. وقد أثبتت الدراسات البحرية انتشار هذه الحواجز بين ملتقى الأبحر. انظر: "مجلة الإعجاز" 44، العدد الثالث، ربيع الثاني 1418 هـ. وبحر فارس هو الخليج العربي، وسمي بذلك لسيطرة الإمبراطورية الفارسية عليه. ويسمى بحر العراق. "أطلس تاريخ الإسلام" 44، 46. وبحر الروم هو البحر المتوسط، سمي بذلك لسيطرة الإمبراطورية الرومانية عليه قبل ظهور الإسلام. ويسمى بحر الشام. "أطلس تاريخ الإسلام" 44، 45. (¬3) "تفسير مقاتل" 61 ب.

62

وقال أهل المعاني: لا يعلمون ما لهم وما (¬1) عليهم في العبادة إن أخلصوها أو أشركوا فيها (¬2). 62 - قوله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (¬3) قال عطاء عن ابن عباس: المضطر: المكروب. وعنه أيضًا: هو المجهود (¬4). ومعنى المضطر في اللغة: المحوج الملجأ إلى الشيء. وقد مر (¬5). قال أهل المعاني: ومعنى إجابة المضطر هو فِعل ما دَعا إليه؛ وهذا لا يكون إلا من قادر على الإجابة مختار لها؛ لأنها وقعت على حسب ما دعا به الداعي (¬6). ¬

_ (¬1) (ما) ليست موجودة في النسخ الثلاث، وزدتها لتمام المعنى. (¬2) لم أجده في كتب المعاني الموجودة لدي. (¬3) عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من بلهجيم قال قلت: يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر دعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سَنَة فدعوته أثبت عليك". قال قلت فأوصني. قال: "لا تسبن أحدًا، ولا تزهدن في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وائتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله تبارك وتعالى لا يحب المخيلة". أخرجه الإمام أحمد 7/ 359، رقم:20661. وإسناده صحيح. مرويات الإمام أحمد في التفسير 3/ 325. وقد سقت الحديث بطوله لمناسبته لهذه الآية. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب، باللفظ الثاني فقط. وعن السدي بلفظ: المضطر. (¬5) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة 173]: قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: فمن أحوج وألجئ، وهو افتُعل من الضرورة. قال الأزهري: معناه: ضيق عليه الأمر بالجوع، وأصله من الضرر وهو: الضيق. (¬6) لم أجده في كتب المعاني الموجودة لدي.

63

{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الضر (¬1) {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} قال السدي: خلفاء مَنْ قبلكم من الأمم (¬2). وقال غيره: معناه: جعلكم خلفاء (¬3) يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، وأهلُ كل عصر أهل العصر الأول (¬4). والمعنى: يهلك قرنًا وينشئ آخرين (¬5). وهذا معنى (¬6) قول ابن عباس: يريد: أولادُكم خلفاءُ منكم. قوله عز وجل: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس: قليلاً ما تتعظون. ومن قرأ بالياء فالمعنى: قليلاً يذَّكر هؤلاء المشركون الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى (¬7). 63 - وقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} أي: يرشدكم (¬8) {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [قال ابن عباس: يريد إلى البلاد التي يتوجهون إليها في البر والبحر. وهذا كقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}] (¬9) [الأنعام: 97]. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 61 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 4، عن ابن جريج. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2810. (¬3) خلفاء. في نسخة (ج). (¬4) أخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2810، عن قتادة. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب. ولم ينسبه. (¬6) معنى. في نسخة (ج). (¬7) قرأ أبو عمرو، وهشام، وروح بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. "السبعة في القراءات" 484. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 399. و"النشر في القراءات العشر" 2/ 338. قال الأزهري: من قرأ بالياء فللغيبة، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، وكل جائز. "معاني القراءات" 2/ 243. (¬8) "تفسير مقاتل" 61 ب. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).

64

64 - قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال ابن عباس: يبدأُ الخلق في الأرحام من نطفة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموت (¬1). وقال مقاتل: بدأ الخلق فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم يعيدهم في الآخرة (¬2). {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} المطر. ومن {وَالْأَرْضِ} النبات (¬3). {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حجتكم (¬4) أن لي شريكًا، قاله ابن عباس (¬5). وقال مقاتل: هاتوا حجتكم بأنه صنع شيئًا من هذه الأشياء غيرُ الله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بأن مع الله آلهة كما زعمتم (¬6). 65 - وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يعني: الملائكة {وَالْأَرْضِ} يعني: الناس (¬7) {الْغَيْبَ} قال مقاتل: يعني الساعة {إِلَّا اللَّهُ} وحده {وَمَا يَشْعُرُونَ} يعني كفار مكة (¬8). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 320. (¬2) "تفسير مقاتل" 61 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 61 ب. و"تفسير ابن جرير" 20/ 5. و"تفسير الثعلبي" 8/ 133 ب. (¬4) حجتكم. في نسخة (ج). (¬5) "تنوير المقباس" 320. (¬6) "تفسير مقاتل" 61 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2812، عن أبي العالية، وقتادة، وقال: روي عن مجاهد والسدي نحو ذلك. (¬7) "تفسير مقاتل" 61 ب. قالت عائشة رضي الله عنها: ومن زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. أخرجه مسلم 1/ 159، رقم: 177. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2913. (¬8) "تفسير مقاتل" 61 ب. والساعة من الغيب. قال ابن جرير 20/ 5: {الْغَيْبَ} الذي =

66

قال ابن عباس: يريد: هم ولا من اتخذوه عن دوني أولياء {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى يكون البعث (¬1). وهذا احتجاج عليهم بأن الله هو الذي يعلم ما غاب عن العباد، وأنه هو الذي يعلم متى البعث، لا غيره. 66 - قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} {ادَّارَكَ} معناه: تدارك، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها، وكونها من حيزها، فلما سكنت للإدغام اجتلبت لها همزة الوصل، كما اجتلبت في قوله: {فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72]، و {اطَّيَّرْنَا} [النمل: 47]، ونحوه. ومنه قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف: 38]، أي: تلاحقوا (¬2). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {بَلْ أَدْرَكَ} (¬3). ¬

_ = استأثر الله بعلمه، وحجب عنه خلقه .. والساعة من ذلك. وجعل ابن جرير قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} عامًا فقال: وما يدري من في السموات والأرض مِن خلقه، متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة؟ (¬1) "تنوير المقباس" 320. وهو في "مجاز القرآن" 2/ 95. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 326. و"تفسير الهواري" 3/ 262. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 127، ولم ينسبوه. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 401. و"تأويل مشكل القرآن" 354. وذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 218. وابن جني في "المحتسب" 2/ 143. قال ابن الجزري: والطاءُ والدالُ وتا منه ومِن ... عُليا الثنايا والصفيرُ مستكنْ "متن الجزرية في معرفة تجويد الآيات القرآنية" 10. قوله: منه، أي: من طرف اللسان، ومن أصول عليا الثنايا، وهي الأسنان المتقدمة، اثنتان فوق، واثنتان تحت. وأما قوله: (والصفير مستكن) فهو وصف لما ذكره بعد ذلك من الحروف. "الدقائق المحكمة في شرح المقدمة"، لأبي زكريا الأنصاري 10. ويسمى إدغام متقاربين. "منحة ذي الجلال في شرح تحفة الأطفال" 83. (¬3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {بَلْ أَدْرَكَ} خفيفة لغير ألف، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {بَلِ ادَّارَكَ} بالألف ممدودة. وروى المفضل عن =

[ومعنى أدرك:] (¬1) بلغ ولحق، يقال: فلان أدرك الحسن، إذا لحق أيامه. وتقول على هذا: أدركه علمي، أي: بلغه ولحقه (¬2). وقال شمر: أدرك، وتدارك، وادَّارك، وادَّرَك، واحد؛ يقال: أَدْرَكته، وتدارَكته، وادَّارَكته، وادَّرَكته (¬3)، وأنشد لزهير: تداركتما عَبْسًا وذُبيانَ بعدما (¬4) وأنشد للطِرمَّاح: فلما أدركناهن أبدينَ للَّهوى (¬5) قال ابن عباس: يريد ما جهلوا في الدنيا، وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة (¬6). ¬

_ = عاصم. (بَلْ أَدرَكَ) مثل أبي عمرو، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم {بَلِ ادَّارَكَ} على وزن: افتعل. "السبعة في القراءات" 485، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 400. و"النشر في القراءات العشر" 2/ 339. (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب). (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 400. (¬3) في "تهذب اللغة" 10/ 113 (درك) عن شمر: أدرك الشيء وأدركته وتدارك القوم، واداركوا، وأدركوا، إذا أدرك بعضهم بعضًا. ويقال: تداركته، وادّاركته، وادّركته. (¬4) شطر بيت من معلقة زهير، يقول: تلافيتما أمر هاتين القبيلتين بعدما أفنى القتال رجالهما، ويعني بهما: هرم ابن سنان، والحارث بن عوف. "ديوان زهير" 79. وأنشد البيت الأزهري، "تهذيب اللغة" 10/ 113 (درك). (¬5) "تهذيب اللغة" 10/ 113 (درك). وعجز البيت: محاسن واستولين دون محاسن وهو في "ديوان الطرماح" 267. (¬6) أخرج ابن جرير 20/ 7، عن ابن عباس، من طريق عطاء الخراساني: بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر. ومن طريق علي بن أبي طلحة، بلفظ: غاب =

وقال مقاتل: يقول: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شَكُّوا وعموا عنه في الدنيا (¬1). وقال السدي: اجتمع عليهم يوم القيامة فلم يَشُكُّوا ولم يختلفوا (¬2). قال أبو معاذ النحوي: من قرأ: {بَلْ أدْرَكَ} أو قرأ: في {بَلِ ادَّارَكَ} فمعناهما واحد؛ يقول: هم علماءُ في الآخرة، [ومعناها عنده: علموا في الآخرة أن الذي] (¬3)، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] (¬4). وروى (¬5) أبو تراب عن أبي سعيد الضرير (¬6) أنه قال: أما أنا فأقرأ: (بَلْ أدرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الأَخِرَةِ) ومعناها عنده: علموا في الآخرة أن الذي ¬

_ = علمهم. وأخرج عن ابن زيد: ضل علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. واختار ابن جرير رواية عطاء. وذكر الثعلبي 8/ 134 أ، عن ابن عباس، أنه قال: أي: لم يدركه. (¬1) تفسير مقاتل" 61 ب. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2915. (¬3) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وهو ساقط من نسخة (ج). ولعل ما بعده هو: أن الذي كانوا يوعدون حق. (¬4) "تهذيب اللغة" 10/ 112 (درك)، و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 244. قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال قتادة: ذلك والله يوم القيامة، سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. وقال الحسن: لئن كانوا في الدنيا صُمًا عُميًا عن الحق، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة. "الوسيط" 3/ 184. (¬5) في نسخة: (ب): قال أبو تراب. (¬6) أحمد بن خالد، أبو سعيد البغدادي، الضرير، اللغوي، لقي ابن الأعرابي، وأبا عمرو الشيباني، قدم نيسابور، وأقام بها، وأملى بها كتبًا في معاني الشعر والنوادر، وأخذ عن ابن قتيبة. "إنباه الرواة على أنباه النحاة" 1/ 76، و"بغية الوعاة" 1/ 305.

كانوا يوعدون حق (¬1). وأنشد للأخطل: وأدْركَ علمي في سواءةَ أنها ... تُقيم على الأوتار والمشربِ الكَدْر (¬2) أي: أحاط علمي بها أنها كذلك (¬3). وأما الفراء وكثير من المفسرين وأهل المعاني فقد تخبطوا في هذه الآية [وذهبوا إلى ما لا وجه له (¬4)؛ قال الأزهري: والقول في أدرك، وادارك، في هذه الآية] (¬5) ما قال السدي وأبو معاذ (¬6). ولا معنى لما قال الفراء، ولم أحك قوله، ولا قول من حذا حذوه، لتشوشه واضطرابه. وروي عن مجاهد أنه قال: بل تواطأ علمهم في الآخرة (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 10/ 112 (درك)، وفيه: روى ابن الفرج. و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 244، وليس فيه: وروى أبو تراب. وهو قول الهواري 3/ 262، قال: أي: علموا في الآخرة أن الأمر كما قال الله، فآمنوا حين لم ينفعهم علمهم، ولا إيمانهم. (¬2) بيت من قصيدة له في هجاء قبائل قيس، وسواءة: من قيس عيلان، مراده أن بني سواءة يرضون بما قد يصيبهم من الذل، والهوان. "شرح ديوان الأخطل" 156. وذكر البيت الأزهري، "تهذيب اللغة" 10/ 112 (درك)، من إنشاد أبي سعيد الضرير. (¬3) "تهذيب اللغة" 10/ 112 (درك)، و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 244، من إنشاد أبي سعيد الضرير. (¬4) قال الفراء 2/ 299: معناه: لعلهم تدارك علمهم. يقول: تتابع علمهم في الآخرة. يريد: بعلم الآخرة أنها تكون أو لا تكون. وذكر نحوه ابن قتيبة غريب القرآن 326، وابن جرير 20/ 6. وذكر الهواري 3/ 262، عن الحسن: أي: لم يبلغ علمهم في الآخرة، أي: لو بلغ عحهم أن الآخرة كائنة لآمنوا بها في الدنيا كما آمن المؤمنون. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬6) "تهذيب اللغة" 10/ 112 (درك). و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 244. (¬7) أخرج ابن جرير 20/ 7: بلفظ: أم أدرك علمهم من أين يدرك علمهم. وأخرجه =

قال الأزهري: وهذا يوافق قول السدي؛ لأن معنى: تواطأ تحقق واتفق حين لا ينفعهم (¬1). وقال أبو إسحاق: من قرأ: (بَلِ ادَّارَكَ) وهو الجيد؛ فعلى معنى: بل تدارك، أي: بل تكامل علمهم يوم القيامة بالبعث، وبأن كلَّ ما وعدوا حق. قال: ومن قرأ: (بَلْ أدْرَكَ) فهو على معنى: التقرير والاستخبار؛ كأنه قيل: لم يُدرك علمهم بالآخرة، أي: ليس يقفون في الدنيا على حقيقتها، ثم بيَّن ذلك في قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} وقالوا في تفسير: (بَلْ أدرَكَ) أم أدرك. هذا كلامه (¬2). وقد فَصَل الزجاج بين القراءتين، فجعل القراءة الثانية استفهامًا بمعنى الإنكار، وحرف الاستفهام: (بل)، الذي هو بمعنى: (أم)، وبهذا قال جماعة، وأنشدوا أبياتًا؛ منها قوله: أمِ النومُ أمْ كلٌّ إليَّ حبيبُ (¬3) ¬

_ = ابن أبي حاتم 9/ 2914، بلفظ: لم يدرك علمهم في الآخرة. وفي "تفسير مجاهد" 2/ 475 في قول الله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} يقول الله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا}. (¬1) "تهذيب اللغة" 10/ 113 (درك). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 127. وذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 218. (¬3) أنشده الفراء، "معاني القرآن" 2/ 299، كاملًا, ولم ينسبه، وصدره: فواللَّه ما أدري أسلمى تغولت يقال: تغولت المرأة: إذا تلونت. "تهذيب اللغة" 8/ 193 (غال). وأنشده كذلك ابن جرير 20/ 8. وذكره الأزهري من إنشاد الفراء، "تهذيب اللغة" 10/ 112 (درك). ولم ينشده الزجاج عند هذه الآية. وأنشده الثعلبي 8/ 134 أ، ولم ينسبه. ونسب لعقبة المضرب برواية: فوالله ما أدري أسلمى تفولت ... أم الحلم أم كل إلى حبيب

بمعنى: بل، وقالوا: إن أحدهما يقوم مقام الآخر (¬1). وإلى هذا ذهب أبو علي؛ فقال: المعنى: إنهم لم يدركوا علم الآخرة، أي: لم يعلموا حدوثها وكونها، ومعنى قوله: {فِي الْآخِرَةِ} معنى الباء، أي: علمهم بالآخرة، قال: وهذا كما تقول: أجئتني بالأمس أي: لم تجئ، والمعنى: لم يدرك علمهم بحدوث الآخرة (¬2). وهذا الوجه غير ما حكينا عن مقاتل وابن عباس والسدي، ولم يَفصل أبو علي بين القراءتين -كما فصل أبو إسحاق- وأجراهما على الاستفهام الذي معناه الإنكارة ويؤكد هذا الوجه قراءة ابن عباس: {بَلى أدَّارَكَ} بالاستفهام (¬3). قال الأزهري: هو استفهام فيه رد وتهكم، ومعناه: لم يدرك علمهم في الآخرة (¬4). ¬

_ (¬1) وهذا قول الفراء. "معاني القرآن" 2/ 299. ورجحه ابن جرير 20/ 8، على قراءة: {بَلِ ادَّارَكَ}. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 400. (¬3) أخرج هذه القراءة ابن جرير 20/ 6، من طريق أبي حمزة، وقال ابن جرير في ضبطها: وكان ابن عباس فيما ذكر عنه يقرأ بإثبات ياء في: بل، ثم يبتدئ: أدَّارك، بفتح ألفها على وجه الاستفهام، وتشديد الدال. ثم قال بعد ذلك: فأما القراءة التي ذكرت عن ابن عباس، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب فخلاف ما عليه مصاحف المسلمين، وذلك أن في: بلى، زيادة ياء في قراءته ليست في المصاحف، وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قراء الأمصار. وقال عنها النحاس: إسناده صحيح. "إعراب القرآن" 3/ 218. وذكر هذه القراءة ابن خالويه، ونسبها لابن عباس، وأبي حيوة، وكتبت هكذا: [بَلْ أدْرَكَ] "شواذ القراءات" 111، كما ذكرها ابن جني، "المحتسب" 2/ 142، وكتبت هكذا: [بَلى ادْرَكَ] ممدودًا. (¬4) "تهذيب اللغة" 10/ 114 (درك). وقد كتبت القراءة عنده هكذا: بلى أأدرك. وأما =

وروى شعبة عن أبي حمزة (¬1) عن ابن عباس: {بَلى أدَّارَكَ} بقطع الألف؛ لأنه استفهام، فحذف ألف الوصل (¬2). قال الفراء: وهو وجه جيد؛ لأنه أشبه بالاستهزاء بأهل الجحد، كقولك للرجل تكذبه: بلى لعمري لقد أدركتَ السلف، فأنت تروي ما لا نروي، وأنت تُكذِّبُه (¬3). فهذا وجهٌ عليه أهل المعاني. والأول عليه أهل التفسير. قال شمر: ورُوي لنا حرفٌ عن الليث، ولم أسمعه لغيره، ذَكر أشبه يقال: أدركَ الشيءُ إذا فَنِيَ (¬4)، فإن صح فهو في التأويل: فني علمهم عن معرفة الآخرة. هذا كلامه (¬5). و {فِي الْآخِرَةِ} على هذا القول يكون أيضًا بمعنى: بالآخرة، كما ذكره أبو علي. وقرأ عاصم في بعض الروايات ¬

_ = عند الفراء 2/ 299، وابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 345، فقد كتبت كما عند ابن جرير. (¬1) أبو حمزة، عمران بن أبي عطاء الواسطي، سمع ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وهو قليل الحديث، صدوق له أوهام، وحدث عنه سفيان، وشعبة وأبو عوانة، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" 5/ 387، وتقريب التهذيب 751. (¬2) يعني أن أصل الفعل: ادارك، خماسي أوله همزة وصل، ثم دخلت همزة الاستفهام فسقطت همزة الوصل لفظًا ورسما. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 299، قال ابن قتيبة عن هذه القراءة: وهذه القراءة أشد إيضاحًا للمعنى؛ لأنه قال: وما يشعرون متى يبعثون، ثم قال: بل تداركت ظنونهم في علم الآخرة؛ فهم يحدسون ولا يدرون. "تأويل مشكل القرآن" 354. (¬4) "العين" 5/ 328 (درك). (¬5) "تهذيب اللغة" 10/ 114 (درك). وقال بعده الأزهري: وهذا غير صحيح، ولا محفوظ عن العرب، وما علمت أحدًا قال: أدرك الشيء إذا فني، ولا يعرج على هذا القول، ولكن يقال: أدركتِ الثمارُ، إذا انتهى نضجها.

(أدرَكَ) على افتعل، وهو بمعنى: أدرك وتدارك، كما حكينا عن شمر. قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [قال مقاتل: بل هم اليوم في الدنيا في شك منها] (¬1) يعني: من الساعة (¬2). وقال أبو علي: {مِنْهَا}: من علمها وحدوثها. يعني: علم الآخرة (¬3). {بَلْ هُمْ مِنْهَا} من علمها (¬4) {عَمُونَ} في الدنيا (¬5). والعمي عن علم الشيء أبعد منه من الشاك فيه؛ لأن الشك قد يَعرض عن ضرب من النظر، والعمي عن الشيء: الذي لم يدرك منه شيئًا (¬6). وقال الكلبي في قوله: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} يقول: هم جهلة بها (¬7). وقال المبرد: {عَمُونَ} جمع عمٍ، وأكثر ما يستعمل في القلب، وأنشد: ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ (¬8) قال ابن عباس في هذه الآية: أعمى قلوبهم عما أعد لأوليائه من النعيم، وعما أعد لأعدائه من العذاب. والكلام في العمي قد تقدم عند ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬2) "تفسير مقاتل" 61 ب. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 401. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" 354. (¬5) "تفسير مقاتل" 61 ب. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 401. (¬7) ذكر الهواري 3/ 262، عن الكلبي: أي: لا يدرون ما الحساب فيها وما العذاب. (¬8) البيت لزهير من معلقته، وصدره: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ديوان زهير 86. وأنشد البيت الأزهري، ونسبه لزهير، وليس فيه النقل عن المبرد. "تهذيب اللغة" 3/ 245 (عمى).

67

قوله: {عَمِينَ} في سورة الأعراف (¬1). 67 - وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مفسر في سورة: المؤمنون (¬2)، إلى قوله: {قُلْ سِيرُوا} [69]، والآية ظاهرة. 70 - قوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} قال مقاتل: يعني على كفار مكة إن تولوا عنك ولم يجيبوك (¬3) إلى الإيمان, والمعنى: على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك (¬4). {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} (ضِيْقٍ) (¬5) وهما لغتان (¬6)؛ قال ابن السكيت: يقال: في صدر فلان ضِيْق وضَيْق، ومكان ضَيِّق وضَيْق (¬7)، وقد ضاق الشيء ضِيْقًا (¬8)، والنعت ضَيِّق (¬9) والاسم ضَيْق. وروى أبو عبيد عن أبي عمرو: الضِّيْق: الشيء الضَّيَق، والضَّيْق ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [64] قال الواحدي: قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته، وشدة بطشه. وقال الزجاج: أي: قد عموا عن الحق والإيمان. قال الليث: يقال: رجل عمٍ إذا كان أعمى القلب. وقال أبو معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره، ورجل أعمى في البصر. (¬2) الآيات [81 - 83]. (¬3) "تفسير مقاتل" 62أ. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 134 ب، بنصه. (¬5) قرأ ابن كثير بكسر الضاد، وروى خلف عن المسيبي عن نافع مثله. وقرأ الباقون بالفتح. "السبعة في القراءات" 485، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 402، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 339. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 403. (¬7) "تهذيب اللغة" 9/ 217 (ضاق). (¬8) "إصلاح المنطق" 32. (¬9) في نسخة (ب): (الضيق).

المصدر (¬1). وقال الفراء: الضَّيْق: ما ضاق عنه صدرك، والضَّيِّق: ما يكون في الذي يتسع ويضيق؛ مثل: الدار والثوب. قال: وإذا رأيت الضَّيْق قد وقع في موضع الضِّيْق، كان على أمرين؛ أحدهما: أن يكون جمعًا للضَيْقة، كما قال الأعشى: كشفَ الضَيْقةَ عنا وفَسحَ (¬2) والوجه الآخر: أن يكون مخففًا من ضَيْق، مثل: هَيْن ولَيْن (¬3). وقد حصل من هذا: أن الضَّيِّق بالتشديد: نعت، ويجوز فيه التخفيف [فيما يتسع ويضيق، ويكون لغة في الضيق. قال أبو علي: والقراءة:] (¬4) (الضَيق) بالفتح والتخفيف اسم، وليس بنعت، وهو ما يضيق عنه الصدر، ويقال فيه بالكسر. والضيق بالكسر المصدر، والاسم فيما يتسع ويضيق، ويكون لغة في الضيق. قال أبو علي: والقراءة بالوجهين يحمل على أنهما لغتان، ولا يحمل الضيق بالفتح على التخفيف من ضيق؛ لأنك إن حملته على ذلك أقمت ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة" 9/ 217 (ضاق)، عن أبي عمرو: الضَّيَق محركة الياء: الشك، والضَّيْق بهذا المعنى أكثر وأفشى. (¬2) "معاني القرآن" الفراء 2/ 115، وأنشد البيت ولم ينسبه. ونقله عنه الأزهري 9/ 218. وهو في ديوان الأعشى 89، من قصيدة يمدح فيها إياس بن قبيصة الطائي، وصدره: فلئن ربك من رحمته (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 115، عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} من سورة النحل، آية: 127. ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 217 (ضاق). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).

71

الصفة مقام الموصوف، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد مندوحة عنه (¬1). قوله تعالى: {مِمَّا يَمْكُرُونَ} قال ابن عباس: يريد أن مكرهم يبور، ويرجع إلى الذل والقتل. وقال مقاتل: يقول: لا يضيق صدرك بما يقولون (¬2). وهذه الآية مذكورة في آخر سورة النحل، وقد مر تفسيرها (¬3). 71 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الذي تعدنا يا محمد به من العذاب (¬4) {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بأنه يكون، وأن العذاب نازل بنا. قاله مقاتل والكلبي (¬5). 72 - قال الله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} يقال: رَدِفَه يَرْدِفه (¬6) رِدْفًا؛ إذا تبعه. قال أبو زيد: يقال: رَدِفْتُ الرجلَ وأردفَته؛ إذا ركبت خلفه، وأنشد: إذا الجوزاء أردفت الثريا (¬7) ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 403. (¬2) "تفسير مقاتل" 62 أ. (¬3) وهي قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [127]. (¬4) "تفسير الهواري" 3/ 263، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 62 أ، و"تنوير المقباس" 321. (¬6) يردفه في نسخة (ج). (¬7) "تهذيب اللغة"14/ 96 (ردف)، من إنشاد أبي زيد، ونسب إلى خزيمة القضاعي، وعجزه: ظننت بآل فاطمة الظنونا وأنشده في "لسان العرب" 9/ 115، ونسبه لخزيمة بن مالك بن نَهْد.

وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (¬1). قال ابن عباس في معنى: {رَدِفَ لَكُمْ} قرب لكم (¬2). وهو قول مقاتل (¬3). وقال السدي: اقترب لكم (¬4). وقال قتادة: أزف لكم (¬5). وقال الكلبي: دنا لكم (¬6). وهذه ألفاظ معناها واحد. قال الفراء: فكأن اللام دخلت إذ كان المعنى: دنا، كما قال الشاعر: فقلتُ لها الحاجاتُ يطرحنَ بالفتى ... وهمٌّ تعنَّاني مُعَنّى ركائبُهُ (¬7) فأدخل الباء في الفتى؛ لأن معنى: يطرحن: يرمين، وأنت تقول: رميت بالشيء وطرحته. قال: وتكون اللام داخلة، والمعنى: ردفكم، كما ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: اختلف أهل اللغة في: ردف وأردف؛ والأكثرون على أنهما بمعنى واحد .. وفصل آخرون بينهما؛ فقال الزجاج: ردفت الرجل إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبته خلفي، وأردفت الرجل إذا جئت بعده. وقال شمر: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك بنفسك، فإذا فعلت بغيرك: فأردفت لا غير. (¬2) ذكره البخاري معلقًا بصيغة الجزم بلفظ: اقترب. "فتح الباري" 8/ 504. ووصله ابن جرير 20/ 9، من طريق علي بن أبي طلحة، بلفظ: اقترب لكم. (¬3) "تفسير مقاتل" 62 أ. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 9، عن الضحاك. وابن أبي حاتم 9/ 2917، عن مجاهد. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2917، عن مجاهد. (¬6) "تنوير المقباس" 321، وذكره الثعلبي 8/ 134 ب، ولم ينسبه. (¬7) أنشده الفراء، ولم ينسبه. "معاني القرآن" 2/ 299، وأنشده كذلك ابن جرير 20/ 10، وهو في "لسان العرب" 15/ 106، غير منسوب، وفيه: عانى الشيء: قاساه، والمعاناة: المقاساة، يقال: عاناه، وتعناه، وتعنى.

تقول العرب: نفذت له مائة، أي: نفذته (¬1). وهذا قول الأخفش والزجاج والمبرد؛ قالوا: المعنى: ردفكم، فزيدت اللام توكيدًا كما زادوها في: لا أبا لك، و: يا بؤس للحرب (¬2)، ومثله في كتاب الله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ} [الزمر: 12] أي: أمرت أن أكون، وبأن أكون (¬3). وقال أبو الهيثم يقال: رَدِفْت فلانًا، ورَدِفتُ لفلانٍ، أي: صرت له رِدْفًا. قال: وتزيد العرب اللام مع الفعل الواقع في الاسم المنصوب فتقول: سمع له، وشكر له، ونصح له، أي: سمعه وشكره ونصحه (¬4). وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] (¬5). ¬

_ (¬1) في نسخة: (ب)، (ج): نقدت، في الموضعين. وفي: ب: نفذت. وهو موافق لما عند الفراء 2/ 300، بلفظ: نفذت له مائة، وهو يريد: نفذتها مائة. ولا ينبني على هذا الفرق اختلاف في المعنى المقصود. ونقل هذا القول عن الفراء، ولم يسمه، ابن جرير 20/ 9، واختاره. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 651. و"المقتضب" 2/ 37. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 128. وليس فيها ذكر قول: لا أبا لك ويا بؤس للحرب. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 651. (¬4) "تهذيب اللغة" 14/ 96 (ردف). (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: واختلفوا في وجه دخول اللام في قوله: {لِرَبِّهِمْ} فقال الكسائي: لما تقدم المفعول على الفعل حسنت اللام، قال: وهذا مما مات من الغريب، وقد كان يقال: لك أكرمت، ولك حدثت، فمات، ولو قلت: أكرمت لك، تريد: أكرمتك كان قبيحًا، وهو جائز؛ كما تقول: هو مكرم لك، وهو ضارب لك، بمعنى: مكرمك، وضاربك، فحسن في موضع وقبح في آخر والأصل واحد. قال النحويين: لما تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فيه، فصار بمنزلة ما لا يتعدى فأدخل اللام .. فعلى هذا اللام في قوله: {لِرَبِّهِمْ} صلة =

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] (¬1). وقال مجاهد في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} عجل لكم (¬2). وعن ابن عباس: حضركم (¬3). وقال ابن قتيبة: تبعكم (¬4). وقال الزجاج: معناه في اللغة: ركبكم وجاء بعدكم (¬5). ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر نبيه -عليه السلام- أن يقول للذين يستعجلون العذاب: إن بعض ما تستعجلون من العذاب قد دنا لكم. قال المفسرون: فكان بعض الذي دنا لهم القتل ببدر، وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت (¬6). ثم ذكر فضله في تأخير العذاب؛ فقال: ¬

_ = وتأكيد، كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] .. وقال بعضهم: إنها لام أجل؛ والمعنى: هم لأجل ربهم {هُدًى} لا رياء ولا سمعة. (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: فأما اللام في قوله: [رُّؤْيَا] فقال أحمد بن يحيى: أراد: إن كنتم للرؤيا عابرين، وإن كنتم عابرين للرؤيا، تسمى هذه اللام لام التعقيب؛ لأنها عقبت الإضافة المعنى: إن كنتم عابري الرؤيا. وقال ابن الأنباري: دخلت اللام مؤكدة مفيدة معنى التأكيد. وقيل: إنها أفادت معنى: إلى، وكأن ملخصها: إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا. ثم أحال على سورة الأعراف [154] في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}. (¬2) "تفسير مجاهد" 2/ 475، وأخرجه ابن جرير 20/ 10، بلفظ: أعجل لكم، وبلفظ: أزف. وذكر الهواري 3/ 263، عن مجاهد: اقترب لكم. وأخرجه كذلك ابن أبي حاتم 9/ 2917. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 134 ب. (¬4) "غريب القرآن" لابن قتيبة 326. (¬5) في "مجاز القرآن" 2/ 96: جاء بعدكم. (¬6) "تفسير مقاتل" 62 أ، بنصه. و"تفسير الثعلبي" 8/ 134 ب، ولم ينسبه. وذكر الهواري 3/ 263، عن الحسن: بعض الذي تستعجلون من عذاب الله، يعني: قيام الساعة التي يهلك الله بها آخر كفار هذه الأمة.

73

73 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قال مقاتل: يعني على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} يعني: أكثر أهل مكة {لَا يَشْكُرُونَ} الرب في تأخير العذاب عنهم (¬1). 74 - وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} تسر وتخفي صدورهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بألسنتهم (¬2). قال ابن عباس: يعني: من عداوتك والخلاف عليك فيما جئت به (¬3). والمعنى: إنه يعلم كل ذلك فيجازيهم به (¬4). 75 - قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال المفسرون: ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} إلا هو بين في اللوح المحفوظ (¬5). قال مقاتل في هذه الآية: يريد علم ما تستعجلون من العذاب؛ متى يكون؟ هو مبين في اللوح المحفوظ عند الله (¬6)، وإن غاب عن الخلق فلم يعلموه. وقيل في دخول الهاء في الغائبة: إنها إشارة إلى الجماعة الغائبة، فهى تتضمن الإحاطة بجميع الغائبات، لا ببعضها دون بعض، ولا يبعد أن ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 62 أ. وظاهر الآية أعم، وإن كان أهل مكة يدخلون فيه دخولًا أوليا. والله أعلم. (¬2) "تفسير مقاتل" 62 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 134 ب. (¬3) تفسير الهواري 3/ 264، ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2918، عنه بلفظ: يعلم ما عملوا بالليل والنهار. (¬4) "تفسير ابن جرير" 20/ 11. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 11. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2919، عن ابن عباس، ومجاهد. و"تفسير الثعلبي" 8/ 134 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 62 أ.

76

يقال: الغائبة هاهنا مصدر، كالخائنة والعاقبة، فتكون الغائبة بمنزلة: الغيب، كأنه قيل: وما من غيب في السماء والأرض؛ أي: غائب (¬1). 76 - قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [قال ابن عباس: يريد: ما سقط عنهم من علم التوراة، وما حرفوا. وعلى هذا المعنى: يبين لهم القرآن ما سقط من الأحكام من كتابهم واختلفوا فيه، وما حرفوه مما هم فيه مختلفون، وهذا معنى قول مقاتل: هذا القرآن يبين لأهل الكتاب اختلافهم (¬2). وقال آخرون: {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: يبين لليهود والنصارى أكثر الذي هم فيه مختلفون؛] (¬3) وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك من الأمور التي هم فيها مختلفون (¬4). وقال الكلبي عن ابن عباس: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا وشيعًا، يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من دين بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أخذوا به لسلموا (¬5). 77 - {وَإِنَّهُ} وإن القرآن {لَهُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةٌ} من العذاب لمن آمن به (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجده في "تهذيب اللغة"، في مادة: غاب. (¬2) "تفسير مقاتل" 62 أ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب). (¬4) "تفسير ابن جرير" 20/ 11. (¬5) بنصه في تفسير ابن الجوزي 6/ 189، ولم ينسبه. وذكر نحوه الفراء 2/ 300، ولم ينسبه. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2919، عن قتادة. (¬6) "تفسير مقاتل" 62 أ. و"تفسير ابن جرير" 20/ 12

78

78 - {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} قال مقاتل: يعني بين بني إسرائيل (¬1). وقال الكلبي: بين أهل الكتاب. وقيل: بين المختلفين (¬2)؛ وهذه أقوال متقاربة. قال ابن عباس: يريد يوم القيامة يقضي بينهم بحكمه {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب، فلا يمكن رد قضائه بما يحكم، فهو يقضي بين المختلفين، وبما لا يمكن أن يُرَد، ولا يلتبس بغير الحق. وقيل: {الْعَزِيزُ} في انتقامه من المبطلين {الْعَلِيمُ} بالمحق من المختلفين (¬3). 79 - {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} قال مقاتل: يقول: فثق بالله، وذلك حين دُعي إلى دين آبائه (¬4) {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} على الدين البين، وهو: الإسلام. ثم ضرب لكفار مكة مثلًا فقال (¬5): 80 - {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} قال قتادة: أي كما لا تسمع الميت كذلك لا تسمع الكافر (¬6). [وقال مقاتل: شبه كفار مكة بالأموات، يقول: كما لا يسمع الميت النداء كذلك لا يسمع الكافر] (¬7) النداء (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 62 أ. و"تفسير ابن جرير" 20/ 12. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 134 ب، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير ابن جرير" 20/ 12. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 أ، ولفظه: وذلك حين دُعي إلى ملة آبائه، فأمره أن يثق بالله -عز وجل-. (¬5) "تفسير مقاتل" 62 أ. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2821. وذكره الثعلبي 8/ 134 ب، ولم ينسبه. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب). (¬8) "تفسير مقاتل" 62 أ.

وقال عطاء عن ابن عباس: يريد بالموتى: الأحياء الذين طبع الله على قلوبهم. يعني: ضرب لهم المثل بالموتى وشبه حالهم في أنهم لا ينتفعون بما يسمعون بحال الموتى الذين لا يسمعون بتةً (¬1). ¬

_ (¬1) فهذا قولان في المراد بالموتى؛ الأول: الميت الذي فارقته الروح، والثاني: ميت القلب الذي لا ينتفع بما يسمع من الخير، أي: لا تُسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم. وظاهر كلام الواحدي ميله للقول بأن الميت في الآية: الذي فارقته الروح، واقتصر على هذا القول في تفسيره؛ "الوسيط" 3/ 384، وأما في "الوجيز" 2/ 809، فقال: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الكفار. ولم يزد على ذلك. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن القول الثاني أقرب للصواب؛ وذلك لثبوت سماع الميت في قبره؛ كما في قصة غزوة بدر، وسماع الميت قرع نعال أصحابه إذا تولوا عنه، وغير ذلك من الأحاديث. واقتصر ابن جرير 20/ 12، على هذا القول؛ فقال: يقول: إنك يا محمد لا تقدر أن تُفهِم الحق من طبع الله على قلبه فأماته؛ لأن الله قد ختم عليه ألا يفهمه وأحسن الشنقيطي، تقرير هذا بأدلته وشواهده. أضواء البيان 6/ 416 إلى 439. وممن ذهب إلى أن النفي في الآية نفي سماع الميت جميع الكلام المعتاد: أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وقد ردت فيه على من روى تكليم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لصناديد قريش بعد أن قذف بهم في القليب، وقد أخرج ذلك البخاري في صحيحه من طريق قتادة؛ قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليه رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شَفةِ الرَّكي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم؛ "يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ " قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده ما =

{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} قال قتادة: يقول: لو أن أصمَّ ولى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع؛ كذلك الكافر لا يسمع ما يُدعى إليه من الإيمان ونحو هذا قال مقاتل (¬1). ومعنى الآية: أنهم لفرط إعراضهم عما يُدعون إليه من التوحيد والدين، كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه وإعلامه شيئًا، وكالصم الذين لا يسمعون. ¬

_ = أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندما. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 3976، "فتح الباري" 7/ 300. ثم أخرج البخاري بعده إنكار عائشة -رضي الله عنها- لهذا؛ حيث قالت: إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق، ثم قرأتْ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية. قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه؛ لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه، أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنهم الآن يسمعون) لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المُسمِع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه -صلى الله عليه وسلم-، بذلك. "فتح الباري" 7/ 304. والصحيح أن الميت يسمع في قبره السماع المعتاد؛ والمنفي عنه السماع الذي ينفعه، وقد قرر هذا بشواهده وأدلته شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث رد على من نفى سماع الميت في قبره؛ وحمل ابن تيمية النفي في الآية على السماع المعتاد الذي ينتفعون به، أما سماع آخر فلا ينفى عنهم. "مجموع الفتاوى" 4/ 298. وهذا اختيار ابن كثيرة حيث قال: أي: لا تسمعهم شيئاً ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقرة وهو الكفر. "تفسير ابن كثير" 6/ 210. والقول بأن الموتى في الآية: الكفار، نفى الله عنهم سماع التدبر، تفسير ظاهر لا يرد عليه هذا الإشكال. والله تعالى أعلم. (¬1) أخرجه عن قتادة ابن أبي حاتم 9/ 2921. وهو في "تفسير مقاتل" 62 أ.

81

وقرأ ابن كثير: {لَا يَسْمِعُ} بالياء {الصُّمَّ} رفعًا (¬1)، وقراءة العامة أشبه بما قبله من قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ} ومعنى قراءة ابن كثير: إنهم لا ينقادون للحق لعنادهم، وفرط ذهابهم عنه، كما لا يسمع الأصم ما يُقال له (¬2). ثم ضَرب العُمي أيضًا مثلًا لهم فقال: 81 - {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} فالعمي: هم، و {ضَلَالَتِهِمْ} كفرهم وجهالتهم. فالمعنى: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان. وقراءة العامة {بِهَادِي الْعُمْيِ} على اسم الفاعل مضافًا، واسم الفاعل للحال، أو للآتي، وإذا كان كذلك كانت الإضافة في نية الانفصال (¬3)، وقراءة حمزة: {تَهْدِي الْعُمْيَ} (¬4) على الفعل، وحجته قوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} ومعنى الآية: إنك لا تهديهم لشدة عنادهم، وفَرْط إعراضهم، فإذا كان كذلك كان وجه القراءة: وما أنت تهدي العمي (¬5). قال أحمد بن موسى: وكتب {بِهَادِي الْعُمْيِ} في هذه السورة بياء، وكتب الذي في الروم بغير ياء (¬6). ¬

_ (¬1) "السبعة في القراءات" 486، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 403، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 339. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 403. (¬3) هكذا: الانفصال. في نسخة: (أ)، (ب)، وهو موافق لما في "الحجة". وفي نسخة: (ج): الاتصال. (¬4) "السبعة في القراءات" 486، و"الحجة" 5/ 404، و"النشر" 2/ 339. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 404. (¬6) في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} [الروم: 53]. أحمد بن موسى، =

قال أبو علي: الوقف على: {هَادِ} و {وَالٍ} و {وَاقٍ} (¬1) ونحوه، فيه لغتان: الأكثر أن تقف بغير ياء، وذلك أنه كان في الوصل متحركًا بالكسر، فإذا وقفت حَذفت الحركة، كما تحذفها من سائر المتحركات، وقوم يقفون بالياء؛ لأن حذفها إنما كان لأجل التنوين؛ لأنهما ساكنان، فلما حذف التنوين في الوقف عادت الياء، وحكى سيبويه اللغتين جميعًا، فعلى هذا حَذْفُ الياء في موضع، وإثباتها في آخر، على أن تكون كتبت [على اللغتين جميعًا، أو يكون أريد] (¬2) {بِهَادِي} الإضافة فلم ينون، فإذا لم ينون لم يلزم أن تحذف الياء. أو يكون أريد بـ: تهدي تفعل ولم يُرَد به اسم الفاعل، فإذا أريد: تَفعَلُ ثبتت الياء في الوصل والوقف، ولعل حمزة في قراءته {تَهْدِي} اعتبر ذلك إذ كان في الخط مكتوبًا بغير ألف (¬3). وقوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ} أي: ما تسمع (¬4)، [وتأويل ما تُسْمِع: ما ¬

_ = هو أبو بكر بن مجاهد. "السبعة في القراءات" 486. وذكره عنه أبو علي، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 404. وذكر ذلك الداني، "المقنع" 96. (¬1) كلمة هاد، بالكسر وردت في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} سورة الحج: 54، {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} سورة الروم: 53. وكلمة وال، وردت في قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] وكلمة: واق، وردت في قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد: 34] {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37] {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر: 21]. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 405. قال الداني: في بعض المصاحف: {تَهْدِي الْعُمْيَ} بالتاء بغير ألف، وفي بعضها (بهادي) بألف وياء بعد الدال. "المقنع" 96. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 أ.

82

يَسمَع منك] (¬1) فيَعِي ويعمل {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} (¬2) قال ابن عباس: إلا من خلقته للسعادة، وكان في سابق علمي من المهتدين (¬3). وقال مقاتل: إلا من صدق بالقرآن أنه من الله {فَهُمْ مُسْلِمُونَ}: أي مخلصون بتوحيد الله (¬4). 82 - قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (¬5). قال ابن عباس: حق العذاب عليهم (¬6). وقال مقاتل: وإذا نزل العذاب بهم (¬7). ونحو هذا قال جماعة المفسرين (¬8). قال الفراء معناه: وجب السَّخَط عليهم. وذكرنا وقع بمعنى: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ج). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 129. (¬3) ذكره عنه القرطبي 13/ 233. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2921، عن زهير بن محمد، وعن ابن عباس بلفظ: موحدون. وهو قول مقاتل 62 أ. (¬5) خروج الدابة علامة من علامات الساعة الكبرى التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، عندما اطلع على أصحابه وهم يتذاكرون، فقال: "ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليهما السلام، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم". أخرجه مسلم 4/ 2225، كتاب الفتن، رقم 2901، والترمذي 4/ 414، كتاب الفتن، رقم 2183. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 13، وابن أبي حاتم 9/ 2922، كلاهما عن مجاهد. (¬7) "تفسير مقاتل" 62 أ. (¬8) "تفسير مجاهد" 2/ 475، و"تفسير الهواري" 3/ 265. وأخرج ابن جرير 20/ 13، عن قتادة: وجب القول عليهم.

وجب (¬1)، وهذا كقوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} (¬2) [القصص 63، الأحقاف 18]. والمعنى: حق ووجب أن ينزل بهم ما قال الله، وحكم به من عذابه وسخطه عليهم. والكناية في: {عَلَيْهِمُ} للكفار الذين تخرج عليهم الدابة، وجازت الكناية عنهم؛ لأن ذكر الكفار قد سبق، وهؤلاء من جنس أولئك. وقوله: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عمر وعطية: وذلك حين لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر (¬3). وروي عن حفصة بنت سيرين (¬4) أنها سألت أبا العالية عن هذه الآية، فقال لها مجيبًا: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: 71]: يقال: وقع القول والحكم إذا وجب، ومنه قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82] معناه: إذا وجب، ومثله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] أي: أصابهم ونزل بهم، وأصله من الوقوع بالأرض؛ يقال: وقع بالأرض مطر، ووقعت الإبل إذا بركت. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 300، دون قوله: وذكرنا وقع بمعنى. وذكره الثعلبي 8/ 135 أ، ولم ينسبه وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2922، عن مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} قال: السخط. وقال ابن قتيبة: وجبت الحجة. "غريب القرآن" 327. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 85، وابن أبي حاتم 9/ 2921، كلاهما عن عطية بن سعد عن ابن عمر. وأخرجه ابن جرير 20/ 14، عن ابن عمر، وعطية. وكذا الثعلبي 8/ 135 أ. (¬4) حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الفقهية، الأنصارية، البصرية، ثقة، روت عن أم عطية، وأم الرائح، وعن مولاها أنس بن مالك، وعن أبي العالية، وروى عنها أخوها محمد، وقتادة، وأيوب، وابن عون، وغيرهم. ماتت بعد المائة. "سير أعلام النبلاء" 4/ 507، و"تقريب التهذيب" 1349.

[هود: 36] (¬1). قال مخلد بن الحسين (¬2) -راوي (¬3) هذا الحديث- يعني: أنه لا تخرج الدابة حتى لا يبقى أحد يريد أن يؤمن (¬4). قال ابن عمر: وتخرج الدابة من صَدْع في الصفا (¬5). وهو قول أكثر المفسرين؛ قالوا: تخرج الدابة من أرض مكة (¬6). قوله تعالى: {تُكَلِّمُهُمْ} [قال مقاتل: تكلمهم] (¬7) بالعربية (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 83 وابن جرير 20/ 13. وابن أبي حاتم 9/ 2922. وليس في أسانيد الثلاثة مخلد بن الحسين. (¬2) مَخْلَد بن الحُسين، الأزدي، أبو محمد البصري، ثقة فاضل، حدث عن موسى بن عقبة، وهشام بن حسان، ويونس بن زيد، والأوزاعي، وغيرهم، وحدث عنه: الحسن بن الربيع، وموسى بن أيوب، وغيرهم. ت: 191هـ "سير أعلام النبلاء" 9/ 236، وتقريب التهذيب 927. (¬3) هكذا في نسخة: ج، وفي: أ، ب: رأي. (¬4) ذكر نحو هذا النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 221. ولم يذكر قول مخلد بن الحسين. وهذا مثال على نقل الواحدي عن النحاس. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 14. وابن أبي حاتم 9/ 2925. والثعلبي 8/ 136 أ. قال مقاتل 62 أ: تخرج من الصفا الذي بمكة. (¬6) أخرج ذلك عبد الرزاق 2/ 84، عن حذيفة بن اليمان، وإبراهيم النخعي. وابن جرير 20/ 14، عن حذيفة، وعبد الله بن عمرو. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2925، عن عبد الله بن عمرو، ولا تعارض بين القولين، فإن الصفا من أرض مكة، والله أعلم. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬8) "تفسير مقاتل" 62 أ. واقتصر عليه الواحدي في "الوسيط" 3/ 385، و"الوجيز" 809. وتخصيص مقاتل كلامها باللغة العربية؛ لأنه قيد الناس بأهل مكة. وظاهر الآية أعم من ذلك. وممن ذهب إلى أن المراد في الآية تحدثهم، ولم يقيده بلغة: السمرقندي 2/ 505. أخرج ابن جرير. 20/ 16 وابن أبي حاتم 93/ 2926، عن ابن عباس، من طريق =

فتقول: {أَنَّ النَّاسَ} يعني: أهل مكة (¬1) {كَانُوا بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس: بالبعث (¬2) والثواب والعقاب {لَا يُوقِنُونَ} وقيل: تُخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن. واختلف في قوله: {أَنَّ النَّاسَ} فقرئ بالفتح والكسر (¬3)؛ فمن فتح ¬

_ = علي بن أبي طلحة: تحدثهم. وكذا عن قتادة. وذكر ابن جرير قراءة: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ونسبها لأبي زرعة بن عمرو، ثم قال: والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه عامة قراء الأمصار. ولعل من هذا جَزَمَ ابن كثير 6/ 210، أن القول بأن الدابة تكلمهم فتقول لهم: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}؛ اختيار ابن جرير، ثم قال ابن كثير بعد ذلك: وفي هذا القول نظر لا يخفى. والله أعلم. وقال ابن عباس في رواية: تجرحهم. وعنه رواية: قال: كلا؛ تفعل يعني: هذا وهذا، وهو قول حسن، ولا منافاة، والله أعلم. ونسب قراءة: {تُكَلِّمُهُمْ} ابنُ خالويه وابنُ جني لابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجحدري وأبي زرعة. "الشواذ" لابن خالويه 112، و"المحتسب" 2/ 144. ويشهد لهذا القراءة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقال: ممن اشتريته، فيقول: من أحد المخرطمين". أخرجه الإمام أحمد 8/ 307، رقم: 22371. والبغوي في "مسند ابن الجعد" 427، رقم: 2919. وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 576، رقم: 322. فتلخص من هذا أن الدابة تفعل هذا وهذا, ولا معارضة. والله أعلم. (¬1) جعل الهواري 3/ 266، لفظ الناس عامًا في المشركين كلهم، وهو أولى. (¬2) بالبعث. في نسخة (ج). (¬3) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، بالكسر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالفتح. "السبعة في القراءات" 487، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 406 , و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 164.

83

أراد: تكلمهم الدابة بأن الناس (¬1). ومن كسر فلأن معنى: {تُكَلِّمُهُمْ} تقول لهم: {إِنَّ النَّاسَ} والكلام قول، فكأن القول قد ظهر (¬2). وقال مقاتل والكلبي في قوله: {بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} يعني: بخروج الدابة؛ لأن خروجها من آيات الله (¬3). قال مقاتل: هذا قول الدابة {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا} بخروجي لا يوقنون (¬4). 83 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال أبو علي الفارسي: الظرف هاهنا بمنزلة: إذا، ومن ثم أجيب بالفاء في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} كما يجاب إذا بها؛ لأنه ليس قبله عامل يعمل فيه، وليس العامل أيضًا {نَحْشُرُ} لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف، تعلق بما دل عليه قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} كما أن قوله {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16و 82, الواقعة: 47]، الظرف فيه متعلق بما دل عليه {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} كأنه قيل: أنبعث إذا متنا، وذَكر مثل هذا في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ} [الإسراء ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 300، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 651. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 406. وفيه وجه آخر ذكره أبو عبيد: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها، أي: تخبرهم أن الناس. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 222. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 300. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 406. قال أبو حاتم: من قرأ بفتح {أَن} فالوقف على {لَا يُوقِنُونَ} ومن كسر {إِنَّ} فالوقف على {تُكَلِّمُهُمْ} وهو من الكلام. "معاني القراءات" للأزهري 2/ 247. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 135 أ، ولم ينسبه. و"تنوير المقباس" 322. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 ب. وقد أطال الثعلبي 8/ 135 أ، في ذكر الأخبار الواردة في شأن الدابة مما لا دليل عليه، وقد أحسن الواحدي في إعراضه عنها.

84

71] (¬1) فكأن التقدير في هذه الآية: إذا حشرناهم وزعوا. والفوج: الجماعة من الناس كالزمرة (¬2). وأما تخصيص الفوج من الأمة المكذبة، فيحتمل أنه أريد بهم الرؤساء حشروا وجمعوا لإقامة الحجة عليهم، وهي ما ذكر في الآية الثانية. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال ابن عباس: يدفعون (¬3). وقال مقاتل: يساقون (¬4). وذكرنا الكلام مستقصى في هذا الحرف في هذه السورة (¬5). 84 - قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا} أي موقف الحساب وعَرْصة القيامة (¬6)، قال الله لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} قال ابن عباس: كذبتم أنبيائي، وجحدتم فرائضي وحدودي (¬7). وهذا استفهام يتضمن الإنكار عليهم، والتهكم بهم. ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال أبو إسحاق: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى: اذكر يوم ندعو، قال: ويجوز أن يكون منصوبًا بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو، قال أبو علي الفارسي: الظرف هاهنا بمنزلة إذا؛ لأنه لا يجوز أن يكون العامل فيه ما قبله من قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ} لأنه فعل ماض، وليس العامل أيضًا يدعو؛ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف تعلق بما دلّ عليه قوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}؛ كما أن قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] على تقدير: أإذا متنا بعثنا، كذلك هاهنا يجعل الظرف بمنزلة إذا، فيصير التقدير: إذا دُعي كل أناس لم يُظْلموا. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 96. وأخرجه ابن جرير 20/ 17، عن مجاهد. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 136 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬5) عند قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} 17. (¬6) العَرْصة: الأرض الواسعة ليس فيها بناء. "تهذيب اللغة" 2/ 20 (عرص)، و"اللسان" 7/ 52. (¬7) "تنوير المقباس" 322، بلفظ: بكتابي ورسولي.

وقوله تعالى: {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [قال ابن عباس: ولم تختبروا حتى تفهموا وتسمعوا. وقال مقاتل: {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}] (¬1) أنها باطل (¬2). ومعنى هذا: كذبتم بآياتي غير عالمين بها. يعني: ولم تتفكروا في صحتها بل كذبتم بها جاهلين غير مستدلين لا عن خبرة ولا عن معرفة ببطلانها {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا فيها. هذا مذهب أهل التفسير في هذه الآية (¬3). وذكر صاحب النظم وجهًا آخر؛ فقال: قوله: {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} منسوق (¬4) على قوله: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} والاستفهام واقع عليه، إلا أن معنى الفصلين والاستفهامين مختلفان؛ لأن قوله: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} تبكيت وإنكار؛ بمعنى: لمَ كذبتم بآياتي، وقوله: {وَلَمْ تُحِيطُوا} [بمنزلة: أوَ لَمْ تحيطوا بها علمًا] (¬5)، أي: بالآيات، وتأويله: وقد أحطتم بها علمًا، كما قال -عز وجل-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي: قد شرحنا، فيكون التأويل: لِمَ كذبتم بآياتي وقد أحطتم بها علمًا، فلما كان {لَمْ} استفهامًا احتمل أن يوضع موضعه ألف الاستفهام؛ ثم بين -عز وجل- كيف أحاطوا بالآيات علمًا فصار ذلك تأييدًا لمذهبنا هذا؛ وهو قوله من بعده: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} الآية، وقد تضع العرب الاستفهام في غير موضعه إذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬2) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 136 ب. (¬4) أي: معطوف. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). وفي نسخة (ب): بمنزلة: أو لم تحيطوا، وفي نسخة (أ) بمنزلة: ثم تحيطوا. ويوجد طمس في الحرف الذي قبل: لم.

85

كان متصلًا بلفظ يتصل به في المعنى، مثل قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] قد وقع الاستفهام هاهنا على قوله: إن من في الظاهر، وهو في الباطن واقع على قوله: {فَهُمُ الْخَالِدُونَ}؛ لأن تأويله: {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} إن مت (¬1). ومثله قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] والاستفهام في الظاهر واقع على الموت والقتل (¬2)، وهو في الحقيقة واقع على الانقلاب (¬3). 85 - قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} ووجب العذاب عليهم. قاله ابن عباس والمفسرون (¬4). قال الحكم (¬5) عن السدي: كل شيء في القرآن: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ} [معناه: العذاب (¬6). ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] موضع الاستفهام قوله: {فَهُمُ} ولكنه قدم إلى أول الكلام. (¬2) والقتل. في نسخة (ج). (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ألف الاستفهام دخلت على حرف الشرط؛ ومعناه: الدخول على الجزاء، المعنى: أتنقلبون على أعقباكم إن مات محمد أو قتل، إلا أن شرط الجزاء معلق أحدهما بالآخر، فانعقدا جملة واحدة، وخبرًا واحداً، فدخلت ألف الاستفهام على الشرط، وأَنبأت عن معنى الدخول على الجزاء. (¬4) "تفسير ابن جرير" 20/ 18. والثعلبي 8/ 136 ب، و"مجاز القرآن" 2/ 96. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2927، عن قتادة. (¬5) الحكم بن عُتَيْبَة، أبو محمد الكندي، مولاهم الكوفي، من كبار علماء الكوفة من أقران النخعي، ثقة ثبت، فقيه، وربما دلس، روى عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وحدث عنه: الأعمش وشعبة، والأوزاعي، وغيرهم. ت: 115 هـ، وقيل غير ذلك. "سير أعلام النبلاء" 5/ 208، و"تقريب التهذيب" 262. (¬6) وردت جملة: {وَقَعَ الْقَوْلُ} في موضعين في القرآن الكريم من سورة النمل، =

86

وقال مقاتل: نزل العذاب (¬1). وقال الكلبي: ووقع القول] (¬2) عليهم بالسَّخْطة (¬3). {بِمَا ظَلَمُوا} قال ابن عباس والمفسرون: بما أشركوا (¬4) {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} قال ابن عباس: يريد أنه لم يكن عند القوم جواب. وقال الكلبي: {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} بحجة عن أنفسهم (¬5). وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل: {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} , لأن أفواههم مختومة (¬6). ثم احتج عليهم بقوله: 86 - {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: يبصر فيه، كما يقال: ليل فلان نائم إذا نام، ونهار فلان صائم إذا صام بالنهار (¬7). وذلك أن الفعل لما كان يحصل في الظرف جاز أن يسند إليه، كما قال: فنامَ ليلي وتجلَّى همي ومعنى {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} ليبتغى فيه الرزق {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: فيما جعلنا {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. ¬

_ = {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} [82]، و {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" 757. وذكر ابن جرير أن معنى {وَقَعَ الْقَوْلُ}: حق العذاب، عن مجاهد، وقتادة، وابن جريج. (¬1) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬3) "تنوير المقباس" 322. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 136 ب، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 18، ولفظه: بحجة يدفعون بها عن أنفسهم. وذكره الثعلبي 8/ 136ب، ولم ينسبه. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 136 ب، ولم ينسبه. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 96.

87

87 - وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (¬1) قال بعض النحويين: تقديره: واذكر يوم ينفخ في الصور فيفزع (¬2). والماضي هاهنا يراد به الاستقبال. وقال الفراء: جعل: فَعَل، مردودًا على: يَفْعَل؛ لأن المعنى: إذا نفخ في الصور ففزع، ألا ترى أن قولك: أقوم يوم تقوم، كقولك: أقوم إذا تقوم، فأجبْتَ بفَعَل؛ لأن فَعَل ويَفْعَل تصلحان مع: إذا، فإن قلت: إذا قدرت هذا التقدير، فأين جواب إذا؟ قلت: قد يكون في فَعَل مضمر مع الواو، كأنه قيل: وذلك يقع يوم ينفخ في الصور، وإذا نفخ في الصور يعني وقوع القول عليهم، وإن شئت قلت: جوابه متروك كقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 165]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} [سبأ: 51] (¬3). وهذا كما ذكرنا في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} الآية [النمل: 83]، قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى (¬4). ¬

_ (¬1) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: "قَرْن يُنفخ فيه". أخرجه الترمذي 4/ 536، كتاب صفة القيامة، رقم: 2430، وقال: حديث حسن. وأبو داود 5/ 107، كتاب السنة، رقم: 4742. وهو في "صحيح سنن أبي داود" 3/ 898. (¬2) "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 222. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 301. وذكره ابن جرير 20/ 20، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 136 ب، ولم ينسبه، ثم قال: وعلى هذا أكثر المفسرين. ونفخة الفزع هي النفخة الأولى، ثم بعد ذلك نفخة الصعق؛ وهو الموت، ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين؛ فعل هذا هي ثلاث نفخات، ذهب إلى هذا البغوي 6/ 181، وتبعه على ذلك ابن كثير 6/ 216، والصواب -والله تعالى أعلم-. أنهما نفختان؛ الأولى: نفخة الفزع والصعق، والثانية: نفخة القيام لله تعالى، ويشهد =

قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس ومقاتل: فمات {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} من شدة الخوف والفزع (¬1). وفزع لا تكون في اللغة بمعنى مات، ولكن قد يبلغ الفزع من الإنسان غايته حتى يموت فزعًا، والدليل على أن المراد بالفزع هاهنا، الموت بالفزع، قوله -عز وجل-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] أي: مات. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قال ابن عباس: يريد: الشهداء لا يموتون فهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوعًا في حديث أبي هريرة (¬2). ¬

_ = لذلك قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] ورجح هذا القول القرطبي 13/ 240؛ قال: الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفحة الصعق؛ لأن الأمرين لازمان لهما؛ أي: فزعوا فزعًا ماتوا منه .. والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو تدل على أنهما نفختان لا ثلاث. ويعني به حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "ما بين النفختين أربعون". قالوا: يا رسول الله: أربعون يومًا؟ قال: "أَبيتُ". قال: أربعون سنة؟ قال: "أَبيتُ"، قال: أربعون شهرًا؟ قال: "أَبيتُ، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْب ذَنَبه". أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4814، "فتح الباري" 8/ 551، وأخرجه مسلم 4/ 2270، كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم: 2955. (¬1) "تفسير مقاتل" 62 ب. و"تنوير المقباس" 322. (¬2) يعني به حديث أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سأل جبريل -عليه السلام- عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: "هم الشهداء متقلدون سيوفهم حول العرش" أخرجه =

وقال الكلبي ومقاتل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (¬1). {وَكُلٌّ} أي من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا {أَتَوْهُ} يأتون الله يوم القيامة. وقرأ حمزة: {أَتَوْهُ} (¬2) على الفعل وهم فعلوه من الإتيان، وحجته: قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ} [الزخرف: 38] فذكر بلفظ الفعل. وحجة قراءة العامة قوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] فكما أن {آتِيهِ} فاعله حمل على لفظ: كل، كذلك: {آتَوْهُ} فاعلوه محمول على معنى كل (¬3). ¬

_ = الواحدي في "الوسيط" 3/ 593، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه. وأخرجه ابن جرير 20/ 18، بسياق آخر مطولًا من طريق إسماعيل بن رافع عن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة يرفعه، ومن الطريق نفسه رواه الطبراني، "الأحاديث الطوال" 266، رقم 36، وأخرجه أيضًا ابن جرير 20/ 19، من طريق إسماعيل بن رافع موقوفًا على أبي هريرة. وأخرجه مطولاً من الطريق نفسه الثعلبي 8/ 137 أ، وصححه، وقال عنه: حديث صحيح جامع. فمدار الحديث على إسماعيل بن رافع بن عويمر الأنصاري، القاص، وهو ضعيف الحفظ. "تقريب التهذيب" 139، رقم: 446. وقال الذهبي: ضعفوه جدًّا، وقال الدارقطني: متروك. المغني في "الضعفاء" للذهبي 1/ 132. فلعل الصواب وقف هذا الحديث على أبي هريرة كما أخرجه من طريق إسماعيل بن رافع موقوفًا على أبي هريرة، ابنُ جرير 20/ 19، وابن أبي حاتم 9/ 2930. والله أعلم. (¬1) "تفسير مقاتل" 62 ب. و"تنوير المقباس" 322. (¬2) قرأ حمزة وحفص عن عاصم: [أَتَوْهُ]، مقصورة مفتوحة التاء، وقرأ الباقون: [آتوهُ] ممدودة مضمومة التاء على معنى: جاءوه، وفي رواية أبي بكر عن عاصم كذلك مثل الباقين. "السبعة في القراءات" 487، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 406، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 339. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 407. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 130.

88

وقوله: {دَاخِرِينَ} قال ابن عباس والمفسرون: صاغرين (¬1). وذكرنا تفسيره عند قوله: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48] (¬2)، وقال مقاتل: يعني بكلٍ: البَرُّ، والفاجر {أَتَوْهُ} في الآخرة صاغرين (¬3). 88 - وقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (¬4) قال مقاتل: تحسبها مكانها (¬5) {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} حتى تقع على الأرض فتستوي بها (¬6). وقال ابن عباس: حتى تكون لا شيء، مِثلُ قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20] (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 86، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير 20/ 20، عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2932، عن ابن عباس، وابن زيد، وقال: روي عن الحسن، وقتادة والثوري مثل ذلك. و"مجاز القرآن" 2/ 96. (¬2) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي: صاغرون؛ وهذا لفظ المفسرين. يقال: دَخَرَ يَدْخَر دُخُورًا، أي صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَارَا، وهو الذي يَفعلُ ما تأمره شاء أو أبى، قال الزجاج: هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. (¬3) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬4) قال النحاس: من رؤية العين، ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين. "إعراب القرآن" 3/ 223. (¬5) "تفسير مقاتل" 62 ب، وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2933، عن ابن عباس: قائمة. وعن قتادة: تحسبها ثابتة في أصولها لا تحرك. وقال الهواري 3/ 268: ساكنة. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 138 أ. (¬7) ذكر البخاري عن ابن عباس معلقًا بصيغة الجزم: {جَامِدَةً} قائمة. ووصله ابن جرير 20/ 21، من طريق علي بن أبي طلحة. قال ابن كثير 6/ 217: أىِ: تزول عن أماكنها، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [9، 10] وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [105 - 107]. وجمع القرطبي 13/ 242، الآيات الواردة في شأن الجبال وزوالها؛ وجعلها تمر بستة أحوال، وصدر ذكرها بقوله: =

قال عبد الله بن مسلم في هذه الآية: يريد: أنها تُجمع وتُسَيِّر، فهىِ لكثرتها كأنها {جَامِدَةً} واقفة في رأي العين، وهي تسير سير السحاب، وكذلك كل جمع كثير يقصر عنه البصر، كأنه في حسبان الناظر واقف، وهو يسير، وإلى هذا المعنى ذهب الجعدي في وصف جيش فقال:

_ = ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه. قال الشنقيطي: بعض الناس زعم أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة: أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب. ثم نقض هذا القول من وجهين؛ الأول: وجود القرينة الدالة على عدم صحته؛ وهو قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ} معطوف على قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية، أي: ويوم ينفخ في الصور فيفزع من في السموات، وترى الجبال. فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن. الثاني: .. أن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة "أضواء البيان" 6/ 442. وذكر الألوسي عن بعض علماء الفلك، ولم يسمه أن هذا صفة للجبال في الدنيا، وذكر عدة وجوه يمتنع بها حمل الآية على أن ذلك في يوم القيامة. ثم ذكر كلام المرجاني في مقدمه كتابه: (وفية الأسلاف، وتحية الأخلاف) ذكر أن هذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها، وأنه لا يمكن حمل الآية على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، وذكر أدلة لفظية وسياقية في الآية تدل على ذلك، ولم يعترض عليه الألوسي. روح المعاني 13/ 89 - 92. وممن ذهب إلى هذا القول واختاره ابن عاشور 20/ 48؛ حيث قال: وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها يسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق .. ثم ذكر معنى الآية على هذا القول وفصله تفصيلًا حسناً. ولا مانع من حمل الآية على المعنيين، إذ لا تعارض بينهما. والله أعلم.

بِأَرْعَنَ مثلِ الطَّود تحسِبُ أنهم ... وقوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلجُ (¬1) وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ} قال الزجاج: هو نصب على المصدر؛ لأن قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} دليل على الصنعة؛ كأنه قيل: صنَع الله ذلك صُنْعًا (¬2). وقال غيره: هو نصب على الإغراء، على معنى: وأبصروا وانظروا {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬3). قال ابن عباس: أتقن ما خلق (¬4). وقال مجاهد: أترص (¬5) وأبرم وأحكم وأحسن. كل هذه الألفاظ ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 6. وذكر قول ابن قتيبة الثعلبي 8/ 138 ب، وصدره بقوله: قال القتبي، ويظهر أن الواحدي نقل قول ابن قتيبة من الثعلبي لتطابق الكلام، ومن مواضع الاختلاف بين ما في كتاب ابن قتيبة، وما نقله عنه الثعلبي، قوله: وكل جيش غص الفضاء به لكثرته، وبُعدِ ما بين أطرافه، فقصُر عنه البصر فكأنه في حُسبان الناظر واقف وهو يسير. وأنشد البيت ابن جرير 20/ 21، وفي الحاشية: الأرعن يريد به الجيش العظيم، شبهه بالجبل الضخم ذي الرعان، والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدمًا، وقيل: الأرعن: المضطرب لكثرته، والطود: الجبل العظيم، والحاج: جمع حاجة، وتهملج: تمشي الهملجة، والهملجة: سير حسن في سرعة، والبيت شاهد على أن الشيء الضخم تراه وهو يتحرك فتحسبه ساكنًا، مع أنه مسرع في سيره جداً. والبيت في "ديوان الجعدي" 187. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 130. وهو قول المبرد. "المقتضب" 3/ 203. وأبي علي، "المسائل الحلبيات" 303. ونسبه النحاس للخليل وسيبويه. "إعراب القرآن" 3/ 224. (¬3) "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 224. و"تفسير الثعلبي" 8/ 138 ب، ولم ينسباه. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 21، من طريقين، بلفظ: أحكم كل شيء. و: أحسن كل شيء خلقه وأوثقه. وباللفظين رواه ابن أبي حاتم 9/ 2933، 2934. وقال: روي عن الحسن وعطاء والثوري مثل ذلك. ورواه عن الحسن: عبد الرزاق 2/ 86. (¬5) هكذا في نسخة: (أ)، (ب). وفي نسخة: (ج): فرض. ومعنى: أترص: أحكم وقوَّم. "مجمل اللغة" 1/ 146، و"اللسان" 7/ 10، مادة: ترص.

مروية عنه (¬1). وقال الكلبي والسدي ومقاتل: أحسن (¬2). ومعنى الإتقان في اللغة: الأحكام للأشياء؛ قال الفراء: يقال رجل تقن: حاذق بالأشياء. ويقال: الفصاحة من تِقْنه، أي من سُوسِه (¬3). قال الأزهري: الأصل في هذا: ابن تِقْن؛ وهو رجل من عاد، لم يكن يسقط له سهم (¬4)، وفيه قيل: لأكلةٌ من أَقِطٍ وسمنِ ... ألينُ مسًّا في حوايا البطن من يثربيات قِذاذٍ خشن ... يرمي بها أرمى من ابن تِقن (¬5) [ثم قيل لكل حاذق بالأشياء: تقن، ومنه يقال: أتقن فلان عمله، إذا أحكمه.] (¬6) قوله تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} قال ابن عباس: يريد بما يفعل ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 21، بلفظ: أوثق كل شيء وسوى. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2934، بلفظ: أبرم كل شيء. وفي "تفسير مجاهد" 2/ 476: أترص كل شيء، أي: أحسن وأبرم. (¬2) "تفسير الهواري" 3/ 269. ولم ينسبه. ولفظ مقاتل 62 ب: أحكم. وكذا في "تنوير المقباس" 322. (¬3) ذكره عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 9/ 60 (تقن)، ولم أجده عند الفراء في تفسير هذه الآية. (¬4) "تهذيب اللغة" 9/ 60 (تقن)، ونسبه لابن السكيت، ثم قال الأزهري بعد ذلك: الأصل في التِّقن: ابن تقن هذا، ثم قيل لكل حاذق في عمل يعمله عالم بأمره: تّقن، ومنه يقال: أتقن فلان أمره، إذا أحكمه. (¬5) أنشده الأزهري عن ابن السكيت، ولم ينسبه. "تهذيب اللغة" 9/ 60 (تقن). وهو في "اللسان" 13/ 73. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (أ)، (ب). وهو في "تهذيب اللغة" 9/ 60 (تقن).

89

أولياؤه وبما يفعل أعداؤه. وقرئ: {يَفْعَلُونَ} بالياء والتاء (¬1)، [فمن قرأ بالتاء] (¬2) فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للكافة، وقد يدخل الغيب في الخطاب، ولا يدخل الخطاب في الغيب (¬3). 89 - قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} قال ابن عباس: يريد: شهادة أن لا إله إلا الله. وهو قول ابن مسعود وسفيان ومجاهد وأبي مجلز وأبي صالح والحسن والسدي ومقاتل وإبراهيم وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء؛ كلهم قالوا: الحسنة: كلمة الإخلاص؛ شهادة أن لا إله إلا الله (¬4). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالياء، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي، بالتاء. "السبعة في القراءات" 487، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 407. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 408. و"معاني القراءات" للأزهري 2/ 248. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 ب. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 86، عن الحسن. وأخرجه ابن جرير 20/ 22، عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وعكرمة. وأخرجه عنهم كذلك ابن أبي حاتم 9/ 2934. و"تفسير مجاهد" 2/ 476. و"تفسير الثعلبي" 8/ 138 ب. وأخرجه الحاكم، عن عبد الله بن مسعود. المستدرك 2/ 441، رقم: 3528. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأما الهواري فقد زاد على ذلك: وعمل صالحًا وعمل جميع الفرائض. "تفسير الهواري" 3/ 269. وهذا بناءً على مذهبه الإباضي، ولذا لما ذكر حديث جابر بن عبد الله؟ في "صحيح مسلم" 1/ 94، كتاب الإيمان، رقم: 94، (من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة) ورد عنده بهذا اللفظ: "من مات لا يشرك بالله شيئًا وعمل بفرائض الله دخل الجنة". ويشهد لدخول الجنة لمن حقق التوحيد حتى لو كان متلبسًا ببعض المعاصي حديث أبي ذَرَّ؟ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَانِي جبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرك باللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وإنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ وَإِنْ سَرَقَ وإنْ زَنَى". أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، رقم: 7487، "فتح الباري" =

والمعنى: من وافى يوم القيامة بالإيمان (¬1)، وكلمة الإخلاص {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} والخير يحتمل الاسم من غير تفضيل، ويحتمل التفضيل إذا قلت: خير من كذا. والمذهبان في الآية رُويا عن المفسرين؛ والأكثرون على أنه اسم من غير تفضيل. قال ابن عباس: يريد: فله منها خير (¬2)، وهو: الجنة (¬3). وقال مقاتل: فيها تقديم؛ يقول: له منها خير (¬4). قال ابن عباس: أي فمنها يصل إليه الخير (¬5). وقال الحسن مثلَ قول مقاتل (¬6). وقال عكرمة وابن جريج: ليس شيء خيرًا من: لا إله إلا الله، ولكن له منها خير (¬7). والمعنى على هذا القول: له من تلك الحسنة خيرٌ يوم القيامة، وهو: الثواب والأمن من العذاب والجنة (¬8). فهذا أحد المذهبين. ¬

_ = 13/ 461. ومسلم 1/ 94، كتاب الإيمان, رقم: 94. وانظر تعليق محقق "تفسير الهواري" 1/ 388. فصاحب الكبيرة أمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وعفا عنه، وإن شاء عذبه على قدر ذنوبه، لكنه لا يخلد في النار. والله أعلم. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 138 ب. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2935. (¬3) ويشهد لهذا حديث جابر رضي الله عنه، قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار". أخرجه مسلم 1/ 94، كتاب الإيمان، رقم: 93. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 ب. وهو مذهب الهواري 3/ 269. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 23. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 23. وذكره الثعلبي 8/ 139 أ. (¬7) أخرجه عنهما ابن جرير 20/ 23. (¬8) والجنة. في نسخة (ج).

والمذهب الآخر: أن خيرًا يراد به التفضيل، روي عن ابن عباس: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يعني: الثواب؛ لأن الطاعة: فعل العبد، والثواب: فعل الله سبحانه وتعالى. وقيل: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يعني: رضوان الله، قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]. وقال القرظي وابن زيد: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يعني: الأضعاف يعطيه الله بالواحدة عشرًا فصاعدًا، وهذا خير منها. وعلى هذا الذي قالا، يجب أن يكون تفسير الحسنة: الفِعَلة الحسنة من صلاة وصدقة وتسبيحة، فيضعفها الله تعالى حتى تكتب أضعاف ما عمل، فيكون الإضعاف خيرًا مما عمل. قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} قرئ بالإضافة، وبالتنوين في {فَزَعٍ} (¬1). واختار أبو عبيد: الإضافة؛ قال: لأنه أعم التأويلين؛ وهو أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم. وإذا قال: {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} صار كأنه فزع دون فزع. واختار الفراء الإضافة أيضًا؛ قال: لأنه فزع معلوم، ألا ترى أنه قال: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] فصيَّره معرفة، وإذا أضفته كان معرفةً، فهو أعجب إلى (¬2). قال أبو علي: إذا نون {فَزَعٍ} يجوز أن يُعنى به: فزعًا واحداً، ويجوز أن يُعنى به كثرة؛ لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة، وإن كانت منفردة الألفاظ، كقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالإضافة، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالتنوين. "السبعة في القراءات" 487، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 408، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 340. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 301. وهو اختيار ابن جرير 20/ 23

19] وكذلك إذا أضاف يجوز أن يُعنى: به مفرد (¬1)، ويجوز أن يعني به: كثرة (¬2)؛ وعلى هذا: القراءتان سواءٌ لا فضل بينهما. قال: ومن نَوَّن قوله: {مِنْ فَزَعٍ} كان في انتصاب: يوم، ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون منتصبًا بالمصدر، كأنه: وهم من أن يفزعوا يومئذ. والآخر: أن يكون صفة لفزع؛ لأن أسماء الأحداث توصف بأسماء الأزمان، كما يخبر عنها بها، وفيه ذكر للموصوف، وتقديره في هذا الوجه أن يتعلق بمحذوف؛ كأنه: من فزعٍ يحدث يومئذ. والثالث: أن يتعلق باسم الفاعل كأنه: آمنون يومئذٍ من فزعٍ. وأما القول في إعراب: يوم، وبنائه إذا أضيف إلى: إذ، فقد ذكرناه فيما تقدم (¬3). فأما تفسير الفزع في هذه الآية؛ فإن أريد به: الكثرة فهو شامل لكل فزع؛ وهو الأولى، وإن أريد به واحد، فتفسيره ما ذكرنا في قوله: {الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103]. وقال الكلبي عن ابن عباس في هذه الآية: إذا أطبقت النار على أهلها فزع أهل النار فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنة آمنون من فزعهم (¬4). ¬

_ (¬1) في نسخة (أ)، (ب): منفرد. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 409. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 409. رجعت إلى كلام الواحدي في "البسيط"، في أكثر المواضع المتقدمة التي وردت فيها كلمة: {يَوْمَئِذٍ} فلم أجده فيحتمل أن يكون ذكر ذلك في سورة النساء الآية 42 {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهو من القسم المفقود كما أفاد محقق سورة النساء. د المحيميد. وأما إعرابها فيوم: ظرف زمان منصوب، وإذا اسم ظرفي في محل جر مضاف إليه، والتنوين تنوين العوض عن جملة محذوفة. "الجدول في إعراب القرآن" 2/ 366. (¬4) "تنوير المقباس" 322، بنحوه.

90

90 - وقوله: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} كلهم قالوا: يعني الشرك (¬1) {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} قال الكلبي: أُلقيت (¬2). وقال الضحاك: طرحت. وقال أبو العالية: قلبت (¬3). يقال: كَببَتُ الإناء إذا قلبته على وجهه، وكَبَبْتُ الرجل إذا ألقيته لوجهه فانكب، وأكبَّ إذا انتكس (¬4). [قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ} أي: وقيل لهم: هل تجزون. قال مقاتل: تقول لهم خزنة جهنم:] (¬5) {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ} أي: إلا جزاء ما كنتم {تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الشرك. قاله ابن عباس والكلبي (¬6). 91 - وقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} كأنه قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: قل للمشركين {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ}. قال ابن عباس والمفسرون: يريد مكة (¬7) {الَّذِي حَرَّمَهَا} جعلها حرمًا آمنًا من القتل فيها والسبي والظلم، فلا يصاد صيدها, ولا يختلى خلاها (¬8)، وحَدُّ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 62 ب. والثعلبي 8/ 139 أ. وسبق ذكر من قال به عند تفسير الحسنة، بقول: لا إله إلا الله. (¬2) ذكره الثعلبي 8/ 139 أ، عن ابن عباس. وفي "تنوير المقباس" 322، بلفظ: قلبت. (¬3) ذكره عنه الثعلبي 8/ 139 أ. (¬4) قال الأصمعي: كبَّ الرجل إناءه يكبه كبًا، وأكب الرجل يُكبُّ إكبابًا، إذا ما نكس. "تهذيب اللغة" 9/ 462 (تقن). (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬6) "تفسير مقاتل" 62 ب. وذكره ابن جرير 20/ 24، ولم ينسبه. وهو في "تنوير المقباس" 322، بلفظ: تعملون في الدنيا يا محمد. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2936، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير 20/ 24، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" 62 ب، وذكره الهواري 3/ 269، ولم ينسبه. و"تفسير الثعبي" 8/ 139 أ. (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب.

ما حَرُم من أرض مكة معلوم بالأميال حوله والعلامات، وذلك القدر يحرم صيده وكسر أشجاره وقلعها وخبطها, ولكن تحش حشًا رقيقًا، وكذلك حرم المدينة كحرم مكة (¬1)، وكذلك وَجّ الطائف في تحريم الصيد، وتحريم كسر الأشجار (¬2)؛ إلا ¬

_ (¬1) الدليل على هذا التحريم حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوم افتتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينظر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها" قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال: قال: "إلا الإذخر" أخرجه البخاري، كتاب: جزاء الصيد، رقم: 1834، فتح الباري 4/ 46. ومسلم 2/ 986، كتاب الحج، رقم: 1353. وتحريم المدينة دليله حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة". أخرجه البخاري، كتاب البيوع، رقم: 2129، فتح الباري 4/ 346، ومسلم 2/ 991، كتاب الحج، رقم: 1361. (¬2) وَجّ: قيل: هي بلد بالطائف، وقيل: هي الطائف. "تهذيب اللغة" 11/ 237 (وجج)، و"لسان العرب" 2/ 397. و"معجم البلدان" 4/ 10. هكذا ضُبط بض الواو، وأما أهل الطائف فينطقونه بالكسر، وهو وادي الطائف الرئيس، وقد عُمر اليوم جانباه بأحياء من مدينة الطائف، فإذا تجاوز الطائف كانت عليه قرى ومزارع كثيرة، وأما سكانه ففي أعلاه هذيل، وعند الطائف الأشراف ذوو غالب. "معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية" 331. ما ذكره الواحدي واقتصر عليه من تحريم الصيد، وكسر الأشجار في وادي وج، هو مشهور مذهب الشافعية؛ قال الشيرازي: يحرم صيد وج؛ وهو واد بالطائف لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل صيد وج، فإن قتل فيه صيدًا لم يضمنه بالجزاء؛ لأن الجزاء وجب بالشرع، والشرع لم يرد إلا في الإحرام والحرم. "المهذب" مع =

أن الصيد في حرم مكة مضمون بالجزاء، وفي الحرمين الآخرين غير (¬1) مضمون بالجزاء (¬2). ¬

_ = "المجموع" النووي 7/ 404. قال النووي: وقال الشافعي في الإملاء: أكره صيد وج، وللأصحاب فيه طريقان؛ أصحهما عندهم القطع بتحريمه .. والثاني: يكره. المجموع 7/ 408. قال شيخ الإسلام: وج: واد بالطائف؛ فإن هذا روي فيه حديث، رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي؛ لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرما عند أكثر العلماء، وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به "مجموع الفتاوى" 27/ 15. والحديث الوارد فيه هو حديث الزبير بن العوام؟، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن صيد وَجٍّ، وعِضاهَه حَرَم مُحَرَّم لله، وذلك قبل نزوله وحصاره الطائف". أخرجه الإمام أحمد 3/ 10، رقم: 1416، تح/ أحمد شاكر. وأخرجه من الطريق نفسه أبو داود 2/ 528، كتاب المناسك، رقم: 2032، والبيهقي، "السنن الكبرى" 5/ 200. وضعف إسناده محققو المسند، ط/ الرسالة 3/ 32؛ لضعف محمد بن عبد الله بن إنسان. كما ضعفه الألباني، "ضعيف سنن أبي داود" 198، رقم: 441. قال ابن القطان عن هذا الحديث: هو حديث لا يصح؛ فإنه من رواية محمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة، ومحمد بن عبد الله بن إنسان قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، في حديثه نظر، وذكر له البخاري هذا الحديث وقال: لا يُتابع عليه. وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين قال: ليس به بأس، فأما أبوه عبد الله ابن إنسان فلا يعرف روى عنه غير ابنه محمد، قال البخاري: لا يصح حديثه. وممن ضعف الحديث النووي، "المجموع" 7/ 405، وابن حجر، "التلخيص الحبير" 2/ 280. ومع ذلك فقد صحح الحديث الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للمسند؛ لذكر ابن حبان لمحمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي، في الثقات. وهذا لا يكفي فإن ابن حبان من المتساهلين في التوثيق، كما هو معروف عند أهل العلم، إضافة إلى أن محمد قد تكلم فيه الحفاظ، ولم يوجد للحديث متابعات تشهد له. والله أعلم. (¬1) غير. في نسخة (ج). (¬2) بالجزاء. في نسخة. (أ)، (ب).

92

وقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} لأنه خالقه ومالكه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال ابن عباس: من الموحدين (¬1). وقال مقاتل: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} من المخلصين لله بالتوحيد (¬2). 92 - وقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} يعني: تلاوة الدعوة إلى الإيمان قال ابن عباس: يريد قراءته عليهم (¬3). وقال مقاتل: وأمرت {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} عليكم يا أهل مكة (¬4). {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} له ثواب اهتدائه {وَمَنْ ضَلَّ} عن الإيمان بالقرآن (¬5)، [وأخطأ طريق الهدى (¬6) {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: من المخوفين بالقرآن] (¬7) فليس علي إلا البلاغ. قال المفسرون: كان هذا قبل أن أمر بالقتال (¬8). 93 - قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: احمده على نعمه. {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} قال الكلبي: وقد أراهم إياها، وكان منها: الدخان وانشقاق القمر (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2936. (¬2) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬3) "تنوير المقباس" 322. (¬4) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬6) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2936، عن مقاتل بن حيان: {وَمَنْ ضَلَّ} يقول: أخطأ. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب. وفيه: نسختها آية القتال. وهذا ليس بصواب؛ بل الآية محكمة يعمل بها في أوقاتها المناسبة، وقد سبق بيان نظير هذه الآية في سورة الفرقان: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} آية رقم: 63. (¬9) "تنوير المقباس" 322، بلفظ: علامات وحدانيته وقدرته بالعذاب يوم بدر. ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، إلى أن الدخان قد مضى ووقع لأهل مكة؛ عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة فقال يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم يأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا فأتيت بن مسعود =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وكان متكئا فغضب فجلس فقال: من علم فليقل ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم، فإن الله قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وإن قريشا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: فقال اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله فقرأ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلي قوله: {عَائِدُونَ} [الدخان: 10، 15] أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16]، يوم بدر، و: {لِزَامًا} [الفرقان: 77] يوم بدر {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى {سَيَغْلِبُونَ} والروم قد مضى. أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4774، فتح الباري 8/ 511، ومسلم 4/ 2155، كتاب: صفات المنافقين، رقم: 2798. قال ابن كثير 6/ 247: وقد وافق ابن مسعود على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف؛ كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النخعي، والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير .. وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد؛ بل هو من أمارات الساعة، ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك، ورجح ابن كثير هذا القول؛ وقال: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن. وأما انشقاق القمر فإنه أمر قد وقع قال ابن كثير 6/ 472: قوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، قد كان هذا في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة .. وهو أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. ثم ساق الأحاديث في ذلك ومنها حديث أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حِراءَ بينهما. أخرجه البخاري، كتاب: مناقب الأنصار، رقم: 3868، فتح الباري 7/ 182. وعن أنس أيضًا أن ذلك وقع مرتين. أخرجه مسلم 4/ 2159، كخاب صفات المنافقين، رقم: 2802.

وقال مجاهد: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق (¬1). وقال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا، والقتل ببدر (¬2). كقوله في سورة الأنبياء [37]: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} (¬3) وهذا القول يجب أن يكون الصحيح؛ لأنه قال: {فَتَعْرِفُونَهَا} [وقد أراهم تلك الآيات التي ذكرها الكلبي ومجاهد، فلم يعرفوها] (¬4) ولم يقروا بها (¬5). وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد لهم. قال مقاتل: فعذبهم الله بالقتل ببدر، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجلهم الله إلى النار (¬6). وقرئ: {تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء (¬7)؛ فالتاء للخطاب؛ لأن قبله {سَيُرِيكُمْ} والياء لأنه وعيد للمشركين (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 26. وابن أبي حاتم 9/ 2937. و"تفسير مجاهد" 2/ 476. وذكره الثعلبي 8/ 139 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 62 ب. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬5) جعل الهواري 3/ 260، ذلك في يوم القيامة؛ أي: الوعد والوعيد، ولا مانع من حمل الآية على العموم، والله أعلم. (¬6) "تفسير مقاتل" 63 أ. (¬7) قرأ عاصم في رواية حفص، ونافع وابن عامر بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. "السبعة في القراءات" 488، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 410، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 263. (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 410.

سورة القصص

سورة القصص

1، 2

تفسير سورة القصص (1) 1، 2 - {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} قد تقدم ما ذكر في هذا (2)، و {الْمُبِينِ} يجوز أن يكون من: أبان إذا أظهر، ومن بان: إذا ظهر. قال قتادة في هذه الآية: (مُبِينِ) والله بركته وهداه ورشده (3). وقال مقاتل: بين ما فيه (4). وهذا من أبان المطاوع. وقال أبو إسحاق: (مُبِين) الحق من الباطل، والحلال من الحرام، ومبين قصص الأنبياء (5). وهذا من أبان الواقع. 3 - {نَتْلُو عَلَيْكَ} قال ابن عباس: يريد: نوحي إليك {مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} أي: من خبرهما وحديثهما {بِالْحَقِّ} الذي لا ريب فيه {لِقَوْمٍ

_ (1) سورة القصص مكية، وعدد آياتها: ثمان وثمانون آية "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب. وقد أورد الواحدي في كتابه "الوسيط" 3/ 389، في صدر هذه السورة حديث أبي ابن كعب، في فضائل السور، وهو حديث موضوع، سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان. وقد تبع الواحديُّ في ذلك الثعلبي 8/ 139 ب. (2) في أول سورة الشعراء. (3) أخرجه ابن جرير 20/ 26. (4) "تفسير مقاتل" 63 أ. (5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 131.

4

يُؤْمِنُونَ} يصدقون بالقرآن (¬1). يعني: أن (¬2) صدق هذا الكتاب لمن آمن به وصدقه، فأما من لم يؤمن به (¬3) فليس عنده بحق. 4 - قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} قال الليث: العلو: العظمة والتجبر، يقال: علا الملك علوًا إذا تجبر (¬4)، ومنه قوله تعالى: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} (¬5) [القصص: 83] قال المفسرون: استكبر وتجبر وبغى وتعظم وطغى. كل هذا من ألفاظهم (¬6). وقوله: {فِي الْأَرْضِ} يعني: أرض مصر (¬7) {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} يعني: أحزابًا وفرقًا (¬8)، كقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] وقد مر (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 63 أ. (¬2) "حرف: أن، ساقط من نسخة (ج). (¬3) به، في نسخة (ج). (¬4) في نسخة (ب): إذا تكبر وتجبر. (¬5) كتاب "العين" 2/ 245 (علو)، بنحوه. (¬6) "تفسير مقاتل" 63 أ، بلفظ: تعظم. وابن جرير بلفظ: تجبر. "تاريخ الطبري" 1/ 388. وأخرجه في التفسير 20/ 27، عن السدي بلفظ: تجبر في الأرض. وعن قتادة بلفظ: بغى في الأرض. وذكره الثعلبي 8/ 139 ب، عن ابن عباس، بلفظ: استكبر، وعن السدي، بلفظ: تجبر. (¬7) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب، ولم ينسبه. (¬8) "تفسير مقاتل" 63 أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 97. أي: فرق بني إسرائيل فجعلهم خَوَلًا للقبط. "وضح البرهان" 2/ 145. وأخرج ابن جرير 20/ 27، نحوه عن قتادة خولاً: عبيدا. "تهذيب اللغة" 7/ 564 (خال). (¬9) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: الشيع جمع: شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شيع وأشياع، قال الله -عز وجل-: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54] وأصله من التشيع وهو التتبع، ومعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضًا.

والمعني: جعلهم فرقًا وأصنافًا في الخدمة (¬1)، والتسخير (¬2) {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} قال ابن عباس: وهم أسباط النبوة، يعني: بني إسرائيل (¬3). ثم فسر ذلك الاستضعاف فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} قال المفسرون: يقتل أبناءهم، ويترك بناتهم فلا يقتلهن (¬4)؛ وذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن مولودًا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكك (¬5). قال أبو إسحاق: والعجب من حمق فرعون؛ إن كان هذا الكاهن عنده صادقًا فلا ينفع القتل، وإن كان كاذبًا فما معنى القتل (¬6). وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي بالعمل في الأرض بالمعاصي. قاله ابن عباس ومقاتل (¬7). وقال الكلبي: من المفسدين بالقتل (¬8). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 328. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير 20/ 27، عن قتادة في قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي: فرقًا، يذبح طائفة منهم، ويستحيي طائفة منهم، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 328، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 20/ 27، وابن أبي حاتم 9/ 2939، عن السدي في خبر طويل. (¬4) "تفسير مقاتل" 63 أ. وأخرجه ابن جرير 20/ 27, وابن أبي حاتم 9/ 2938, عن السدي. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 87 عن قتادة. و"تفسير مقاتل" 63 أ. و"تاريخ الطبري" 1/ 387، عن ابن إسحاق. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 132. (¬7) "تفسير مقاتل" 63 أ. و"تفسير الطبري" 20/ 28، ولم ينسبه. (¬8) "تنوير المقباس" 323. وما ذكره الواحدي هنا أمثلة لإفساد فرعون؛ قال ابن جرير 20/ 28: إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره في الأرض على أهلها، وتكبره على عبادة ربه.

5

5 - قوله تعالى: {وَنُرِيدُ} لفظ استقبال أريد به حكاية حال قد مضت. وقد ذكرنا هذا عند قوله: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} (¬1) [يوسف: 110] وهو أيضًا حكاية حال. قوله: {أَنْ نَمُنَّ} قال مقاتل: نُنعم {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} مصر، وهم بنو إسرائيل (¬2). {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قال ابن عباس: يريد في الهدى، ونحوه (¬3). قال مقاتل: يُقتدَى بِهم في الخير (¬4). وقال قتادة: ولاة ملوكًا (¬5). وهو اختيار أبي إسحاق؛ قال: نجعلهم ولاة يؤتم بِهم (¬6). وقال مجاهد: دعاة إلى الخير (¬7). {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} لملك فرعون، يرثون ملكه، ويسكنون مساكنهم، ويرثون ما يترك فرعون ويخلف بعده (¬8). ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو علي: هو حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت كما أن قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] أشار إلى الحاضر والقصة ماضية لأنه حكى الحال. (¬2) "تفسير مقاتل" 63 أ. وأخرجه ابن جرير 20/ 28، عن قتادة. و"تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب. (¬3) ذكره الثعلبي 8/ 139 ب، عن ابن عباس، بلفظ: قادة في الخير يقتدى بهم. (¬4) "تفسير مقاتل" 63 أ. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 28، وابن أبي حاتم 9/ 2941. وذكره الثعلبي 8/ 139 ب. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 132. (¬7) ذكره الثعلبي 8/ 139 ب، عن مجاهد. (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 139 ب، بنحوه. وأخرج ابن جرير 20/ 28، عن قتادة: يرثون الأرض بعد فرعون وقومه.

6

6 - وقوله: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} قال ابن عباس: نملكهم ما كان يملك فرعون. يقال: مكنته ومكنت له، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 10] (¬1)، وقال: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] وقد مر (¬2). {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} الآية، أي مولود بني إسرائيل الذي يذهب ملكهم على يده، ويهلك القبط بسببه. وقرأ حمزة والكسائي: {وَيرَى} بالياء {فِرْعَوْنَ} وما بعده رفعًا، على معنى: أنَّهم يرونه إذا أُروه؛ والاختيار قراءة العامة؛ ليكون الكلام من وجه واحد (¬3). 7 - قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} قال قتادة: أي قذفنا في قلبها, وليس بوحي إرسال (¬4). ¬

_ (¬1) لم يتكلم الواحدي في تفسير هذه الآية عن دخول اللام في مكن، بل اقتصر على قوله: قال الزجاج: معنى التمكين في الأرض: التمليك والقدرة وهو قول ابن عباس قال: يريد: ملكناكم في الأرض؛ يريد: ما بين مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام. (¬2) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى {مَكَّنَّاكُمْ} ثم قال: {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} ولم يقل: نمكنكم، وهما لغتان؛ تقول العرب: مكنته، ومكنت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له. قال صاحب النظم: العرب تتسع في الأفعال التي تتعدى بحروف الصفات، فربما عدوها بغيرها كقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] المعنى: فإلى أين تذهبون .. أ. هـ. حروف الصفات هي: حروف المعاني. (¬3) "السبعة في القراءات" 492. و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 411، ولم يذكر هذا الاختيار. وإعراب القراءات السبع 2/ 168، و"النشر" 2/ 341. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 87، وابن جرير 20/ 29، وابن أبي حاتم 9/ 2941، =

وقال مقاتل: أتاها جبريل بذلك (¬1). قال أبو إسحاق: قيل: إن الوحي هاهنا إلهام؛ والآية تدل على أنه وحي إعلام؛ وهو قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وجائز أو يُلقي الله في قلبها أنه مردود إليها، وأنه يكون مرسلًا, ولكن أن يكون الوحي هاهنا إعلامًا أبين (¬2). قال الكلبي ومقاتل (¬3): لما ولدته أرضعته ثلاثة أشهر، فلما خافت أن يسمع الجيران بكاء الصبي اتخذت لها تابوتًا من بَردي وقَيَّرته (¬4)، ووضعت فيه موسى ثم ألقته في نيل مصر، وذلك قوله: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (¬5) ونحو هذا قال ابن جريج؛ إنَّها ألقته في اليم بعد أن أرضعته أشهرًا (¬6). ¬

_ = واقتصر عليه ابن قتيبة، في "غريب القرآن" 328، وقال: ومثله {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111]. (¬1) "تفسير مقاتل" 63 ب. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 132. وقيل: إنه كان رؤيا منام. "وضح البرهان" 2/ 145. (¬3) ومقاتل. في نسخة (ج). (¬4) البردي، بفتح الباء: نبات معروف، واحدته: بردية، ترتفع ساقه إلى نحو متر، أو أكثر، ينمو بكثرة في منطقة المستنقعات بأعالى النيل. "لسان العرب" 3/ 87، و"المعجم الوسيط" 1/ 48، مادة: برد. قيرته: مأخوذ من القار، أو القِير: كل شيء يطلى به، وهو مادة سوداء تطلى بها السفن لمنع الماء أن يدخل. "تهذيب اللغة" 9/ 277. مادة: قرى. (¬5) "تفسير مقاتل" 63 ب. و"تاريخ الطبري" 1/ 389. واليم: النيل، في قول السدي أيضًا؛ أخرجه ابن جرير 20/ 30. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 30. وفيه تحديد الأشهر بأربعة.

وقال السدي: أُمرت أن ترضعه بعد ولادها، وتلقيه في اليم (¬1). والقول الأول أليق بمنظم الآية؛ للفصل بين الإلقاء والإرضاع بالخوف (¬2)، وخوفها ما ذكروا أنها خافت أن يسمع الجيران بكاء الصبي (¬3). قوله: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} قال مقاتل: قالت المرأة: رب إني قد علمت أنك قادر على ما تشاء (¬4)، ولكن كيف لي أن ينجو صبي صغير من عمق البحر، وبطون الحيتان؟ فأوحى الله إليها: {وَلَا تَخَافِي} عليه الضيعة فإني أوكل به ملكًا يحفظه في اليم (¬5) {وَلَا تَحْزَنِي} لفراقه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} لتمام رضاعه لتكوني أنت ترضعيه {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى أهل مصر (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 30. (¬2) قال ابن جرير 20/ 30: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم، وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه، وأي ذلك كان فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه، ولا خبر قامت به حجة، ولا فطرة في العقل لبيان أي ذلك كان. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2942، عن ابن عباس. (¬4) قدرة الله تعالى إذا ذكرت على أنها صفة فلا تقيد بالمشيئة حتى لا يوهم التقييد اختصاصها بما يشاؤه الله تعالى فقط، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] وإذا ذكرت المشيئة لتقرير أمر واقع فلا مانع من تقييدها بالمشيئة؛ لأن الواقع لا يقع إلا بالمشيئة. المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/ 118، باختصار. (¬5) "تفسير مقاتل" 63 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 63 ب. في هذه الآية خبران، وأمران، ونهيان، وبشارتان. "وضح البرهان" 2/ 146.

8

8 - قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} أي: من البحر، والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب (¬1). والمراد بآل فرعون هاهنا: جواري امرأته اللاتي أخذن تابوت موسى من البحر على ما ذكره المفسرون (¬2). {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وقرئ: (وَحُزْنًا) (¬3) وهما لغتان، [مثل السَقَم والسُقْم، والعَرَب والعُرْب، وبابه (¬4). قال أبو إسحاق:] (¬5) {لِيَكُونَ لَهُمْ} أي: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم طلبوه وأخذوه لهذا، كما تقول للذي كسب مالاً فأداه ذلك إلى الهلاك: إنما كسب فلان لحتفه، وهو لم يطلب المال طلبًا للحتف. ومثله: فللموت ما تلد الوالدة (¬6) ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 16/ 249، مادة: لقط. ويطلق الالتقاط على الأخذ فجأة. "وضح البرهان" 2/ 146. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 31، عن السدي. وذكر قولين آخرين: ابنة فرعون، أعوان فرعون. قال ابن جرير: ولا قول في ذلك عندنا أولى بالصواب مما قال الله -عز وجل- {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2943، عن أبي عبد الرحمن الحبلي. وذكره في خبر مطول الثعلبي 8/ 140 أ. (¬3) قرأ حمزة والكسائي: (وَحُزْنًا) بضم الحاء، وتسكين الزاي، وقرأ الباقون بفتح الحاء، والزاي. "السبعة في القراءات" 492، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 412، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 341. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 412. قال الفراء: وكأن الحُزْن الاسم، وكأن الحزَن مصدر، وهما بمنزلة: العُدْم، والعَدَم. "معاني القرآن" 2/ 302. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من نسخة (ج). (¬6) عجز بيت لشتيم بن خويلد، يرثي أولاده الثلاثة، وصدره: فإن يكن الموت أمتاهم

9

وهي لم تلد طلبًا أن يموت ولدها, ولكن المصير إلى ذلك (¬1). قال مقاتل: ليكون لهم عدوًا في الهلاك، وغيظًا في قلوبهم (¬2). ثم أخبر عنهم فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {خَاطِئِينَ} أي: عاصين آثمين (¬3). 9 - وقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} قال ابن عباس: أتت جواري امرأة فرعون يستقين فوجدن التابوت، فذهبن بالتابوت إليها، فلما فتحت امرأة فرعون التابوت فإذا موسى فيه، فألقى الله له المحبة من جميعهم، فحملته حتى أدخلته على فرعون، فهو قوله: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} (¬4). قال الفراء والمبرد والزجاج: رفعت {قُرَّتُ عَيْنٍ} بإضمار: هو، أو: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 133. و"تفسير ابن جرير" 20/ 32، وذكره الثعلبي 8/ 141 أ، بمعناه. وفي "الدر المصون" 8/ 651: في اللام الوجهان المشهوران: العِلِّيَّة المجازية بمعنى: أن ذلك لما كان نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله، أو الصيرورة. (¬2) "تفسير مقاتل" 63 ب. قال ابن جرير 20/ 33: عدوًا في دينهم، وحزنًا على ما ينالهم منه من المكروه. (¬3) "تفسير ابن جرير" 20/ 33. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 35، وابن أبي حاتم 9/ 2944. والثعلبي 8/ 140 أ. وهو جزء من حديث الفتون؛ الذي أخرجه النسائي، في "السنن الكبرى" 6/ 396، رقم: 11326، وقال عنه ابن كثير بعد أن ساقه بطوله في تفسير سورة: طه: هكذا رواه النسائي في سننه الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم، في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس منه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار، أو غيره. والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي، يقول ذلك أيضًا. "تفسير ابن كثير" 5/ 293

هذا الصبي قرةُ عين لي ولك يا فرعون (¬1). قال أبو إسحاق: ويقبح رفعه على الابتداء، وأن يكون الخبر {لَا تَقْتُلُوهُ} فيكون كأنها عرفت أنه قرة عين لها. ويجوز ذلك على بُعدٍ على معنى: إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتله (¬2). قال مقاتل: قالت لفرعون: لا تقتله فإن الله أتانا به من أرض أخرى، وليس من بني إسرائيل {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فنصيب منه خيرًا (¬3). {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} قال المفسرون: وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها (¬4). قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أكثر المفسرين على أن هذا ابتداء من كلام الله تعالى، أخبر أنهم لا يشعرون أن هلاكهم في سببه، وهذا قول قتادة ومجاهد ومقاتل (¬5). وقال آخرون: هذا من تمام كلام المرأة، ومعنى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يعني: بني إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه؛ هذا قول محمد بن قيس (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 302. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 133. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 133، وا لإشارة في قوله: ويجوز ذلك، أي: رفعه على الابتداء. (¬3) "تفسير مقاتل" 63 ب. (¬4) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" 6/ 397. وهو جزء من حديث الفتون، الذي سبق الحديث عنه قريبا. وأخرجه ابن جرير 20/ 31، عن السدي. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 87، عن قتادة وابن جرير 20/ 34، وابن أبي حاتم 9/ 2945، عن قتادة، ومجاهد. و"تفسير مقاتل" 63 ب ورجحه ابن جرير 20/ 35. (¬6) أخرج ابن جرير 20/ 35. والثعلبي 8/ 141 ب، عن محمد بن قيس. وهو الأسدي، الوالبي، الكوفي، روى عن الشعبي، وأبي الضحى، وروى عنه: شعبة، وأبو نعيم، وثقه ابن حجر، وقال عنه الذهبي: صدوق. "الكاشف" 3/ 81، و"تقريب التهذيب" 890.

10

وقال الكلبي: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} لا أنه ولدنا (¬1). 10 - وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} قال أكثر المفسرين: {فَارِغًا} من كل شيء من هم الدنيا والآخرة إلا هم موسى وذكره؛ وهذا قول ابن عباس في جميع الروايات، ومجاهد ومقاتل وعكرمة وقتادة والحسن وسعيد بن جبير والكلبي (¬2)، واختيار الفراء وأبي إسحاق؛ قال الفراء: {فَارِغًا} لهمِّ موسى، فليس يخلط همّ موسى شيء (¬3). وقال محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد: {فَارِغًا} من الوحي الذي أوحى الله إليها، والعهد الذي عهده إليها أن يرده عليها؛ وذلك أنها لما رأت موسى يرفعه موج، ويخفضه آخر جزعت، وأتاها الشيطان فوسوس لها، وقال: لو قتله فرعون كان للآخرة، وقد توليت قتله بالإلقاء في اليم. ثم لما أتاها الخبر بأن موسى وقع في يد آل فرعون (¬4)، قالت: قد ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 8/ 141 ب. وذكر الوجهين الفراء. "معاني القرآن" 2/ 303. وفي "تنوير المقباس" 324: بنو إسرائيل لا يعلمون أنه ليس منا، ويقال: وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه. والقول الأول الذي عليه أكثر المفسرين هو الأقرب. والله أعلم. (¬2) نسب الثعلبي 8/ 141 ب هذا القول لأكثر المفسرين. وذكره البخاري عن ابن عباس معلقًا بصيغة الجزم 8/ 506. وأخرجه عنه الحاكم 2/ 441، رقم 3529. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 88، عن قتادة، وأبي عمران الجوني. وهو في "تفسير مقاتل" 63 ب. و"تنوير المقباس" 323. وأخرجه أبو يعلى 5/ 12، من طريق سعيد بن جبير. وهو جزء من الحديث الطويل حديث الفتون، الذي سبق الحديث عنه قريبا. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 303. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 134. واختاره ابن الأنباري، في كتابه "الأضداد" 299. (¬4) أخرجه عنهما وعن الحسن ابن جرير 20/ 36، وأخرجه ابن أبيِ حاتم 9/ 2946 عن ابن إسحاق فقط. وذكره عن الحسن وأبو إسحاق وابن زيد الثعلبي 8/ 141 ب.

وقع في يد عدوه الذي فررت به منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وهذا أيضًا قول مرضيّ. وقال أبو عبيدة: {فَارِغًا} من الحزن، لعلمها أنه لم يقتل، ولم يغرق (¬1). قال ابن قتيبة: وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون فؤادها فارغًا من الحزن في وقتها ذاك، والله تعالى يقول: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ قال: والعرب تقول للجبان، والخائف: فؤاده هواء. لأنه لا يعي عزمًا, ولا صبرًا، وقد خالفه المفسرون إلى الصواب؛ فقالوا: {فَارِغًا} من كل شيء إلا من أمر موسى؛ كأنها لم تهتم بشيء مما يهتم به الحيُّ إلا أمرَ ولدها. انتهى كلامه (¬2). ووجه قول المفسرين ما ذكر؛ وهو: أن قلبها صار فارغًا من الصبر والعزم، وإنما قال المفسرون: إلا (¬3) من ذكر موسى، لدلالة باقي الآية عليه؛ وهو قوله -عز وجل-: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} قال ابن عباس في رواية عطاء: كادت تخبر أن هذا (¬4) الذي وجدتموه في التابوت هو ابني. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 98. وذكر هذا القول ابن الأنباري، "الأضداد" 298، عن بعض أهل اللغة، ولم يسمه، وجعل هذا الاختلاف مما يفسر من القرآن تفسيرين متضادين، وذكر القولين النيسابوري، "وضح البرهان" 2/ 146، وصدر القول الثاني بـ: قيل. (¬2) "غريب القرآن" 328. ويشهد له ما ذكره الفراء بإسناده عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- أنه قرأ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} من الفزع. "معاني القرآن" 2/ 303، وذكر هذه القراءة ابن جرير 20/ 37، ورد قول أبي عبيدة بقوله: وهذا لا معنى له؛ لخلافه قول جميع أهل التأويل. (¬3) كلمة: إلا، ساقطة من نسخة: (ب). (¬4) هذا، ساقطة من نسخة: (ب).

وقال في رواية عكرمة، وسعيد بن جبير: كادت تقول (¬1): وابناه، من شدة وجْدِها به (¬2). وقال مقاتل: خشيت عليه الغرق، وكادت تصيح شفقة عليه، فذلك قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} تقول: إن همت لتشعر أهل مصر بموسى أنه ولدها (¬3). وعن مُغِيثِ بن سُمَيّ: كادت تقول: أنا أمه (¬4). وقال أبو إسحاق: إن كادت لتظهر أنه ابنها (¬5). وقال الفراء: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} يعني: باسم موسى أنه ابنها؛ وذلك أن صدرها ضاق بقول آل فرعون: هو ابن فرعون، فكادت تبدي به؛ أي: تظهره (¬6). وهذا معنى قول الكلبي (¬7)؛ فالكناية من {بِهِ} تعود على اسم موسى على قول هؤلاء؛ وهو الصحيح. وسبب الإبداء مختلَف فيه، فعند بعضهم: ¬

_ (¬1) تقول، ساقطة من نسخة: (ب). (¬2) رواية عكرمة أخرجها ابن أبي حاتم 9/ 2947، والثعلبي 8/ 141ب ورواية سعيد ابن جبير أخرجها ابن جرير 20/ 37، وابن أبي حاتم 9/ 2947، والحاكم 2/ 441، رقم: 3529. ولم أجد رواية عطاء. (¬3) "تفسير مقاتل" 63 ب. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2947. مغيث بن سُمي، الأوزاعي، أبو أيوب الشامي، ثقة، روى عن عمر -رضي الله عنه- مرسلاً، وروى عن ابن عمر وطائفة، وروى عنه: زيد بن واقد، وعبد الرحمن بن يزيد، وغيرهم. "الكاشف" 3/ 147، و"تقريب التهذيب" 964. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 134. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 303. و"تفسير ابن جرير" 20/ 38. (¬7) ذكره عنه الثعلبي 8/ 141 ب. وهو في "تنوير المقباس" 323.

وَجْدًا به. وعند مقاتل: شفقةً عليه من الغرق. وعند الكلبي ضيق صدرها (¬1) بما تسمع من قولهم: موسى بن فرعون (¬2). ويقال أبدى الشيء، ودخلت الباء هاهنا؛ لأنه أريد بالإبداء: الإخبار والإشعار، يدل على هذا ما روي في حرف عبد الله: إن كادت لتشعر به (¬3). {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالصبر واليقين والإيمان؛ قاله ابن عباس ومقاتل وقتادة (¬4). قال الزجاج: ومعنى الربط على القلب: إلهام الصبر وتشديده وتقويته (¬5). وذكرنا هذا عند قوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] (¬6). وقوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: من المصدقين بوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} قاله مقاتل والمفسرون (¬7). ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: ضيق صدر. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 8/ 141 ب. (¬3) ذكر هذه القراءة الفراء 2/ 303. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 88، عن قتادة. وكذا ابن جرير 20/ 38، وابن أبي حاتم 9/ 2947. و"تفسير مقاتل" 63 ب. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 134. وذكره القاضي عبد الجبار في "متشابه القرآن" 543. (¬6) قال الواحدي: معنى الربط في اللغة: الشد، ذكرنا ذلك في قوله: {وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] ويقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه، كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب، ويقال: رجل رابط الجأش؛ قال الأصمعي: هو الذي يربط نفسه يكفها بجرأته وشجاعته. (¬7) "تفسير مقاتل" 63 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 38، وابن أبي حاتم 9/ 2947 , عن سعيد بن جبير والسدي. و"تفسير الثعلبي" 8/ 142 أ.

11

11 - قوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ} لأخت موسى {قُصِّيهِ}: اتبعي أثره (¬1). يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئًا بعد شيء قصًا وقصصًا. قال المبرد: فلان يقص أثر الجيش أي: يتبعه متعرفًا (¬2). وقد ذكرنا هذا الحرف في القصاص والقصص (¬3). قال ابن عباس: تريد: اطلبي أثره، وانظري أين وقع، وإلى من صار (¬4). وقال مجاهد: اتبعي أثره كيف يصنع به (¬5). وقال مقاتل: قصي أثره حتى تعلمي علمه من يأخذه (¬6). وقال ابن إسحاق: انظري ماذا يفعلون به (¬7). هذا قول المفسرين. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 2/ 441، رقم: 3529، عن ابن عباس. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 98. و"تفسير الثعلبي" 8/ 142 أ. و"وضح البرهان" 2/ 147. (¬2) لم أجده في "التهذيب"، مادة: قص، وفي "الكامل" 2/ 1018: تقصه: تتبعه، قال الله -عز وجل-: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره. (¬3) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]: القصاص في اللغة: المماثلة، وأصله من قولهم: قصصت أثره إذا تتبعته، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]. (¬4) ذكره البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم 8/ 506، بلفظ: اتبعي أثره. وباللفظ الذي ذكره الواحدي هنا أخرجه ابن جرير 20/ 38، وابن أبي حاتم 9/ 2948، وفي رواية عندهما عن ابن عباس: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا؟ أحي ابني أم أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها به. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 38. (¬6) "تفسير مقاتل" 63 ب. واقتصر الأخفش على قول: قُصي أثره. "معاني القرآن" 2/ 652. وكذا قتادة، تفسير عبد الرزاق 2/ 88. وهو كذلك في "تاريخ الطبري" 1/ 389. (¬7) في نسخة: (أ)، (ب): أبو إسحاق. وخبر ابن إسحاق أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2948، وأخرجه ابن جرير 20/ 39، عن قتادة.

ودل كلامهم على أن القص: تتبع الأثر مع التعرف؛ كما قال المبرد. قوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ} قال ابن عباس: أبصرته (¬1). قال المبرد: بصرت بالشيء، وأبصرته واحد في المعنى (¬2). والفصل بينهما مع اجتماعهما في المعنى أن: بصرت به، معناه: صرت بصيرًا بموضعه. وهكذا فعلت، معناه: انتقلت إلى تلك الحال. قوله تعالى: {عَنْ جُنُبٍ} أي: عن بعد (¬3). وهو مصدر، ثم وصف به. وكذلك قالوا: رجل جنب، ورجال جنب، ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وقد مر (¬4). وقال المبرد: وقد يجمع أجنابًا، كما تقول (¬5) في شُغل، وهو مصدر مثله: أشغال. قالت الخنساء ترثي (¬6): فابْكي أخاكِ لأيتامٍ وأرملةٍ ... وابكي أخاكِ إذا جاورتِ أجنابا (¬7) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 39، وابن أبي حاتم 9/ 2948، كلاهما بمعناه. (¬2) في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 98: هما لغتان. ولم أجد قول المبرد في "التهذيب". وذكر قول المبرد، الشوكاني "فتح القدير" 4/ 156. (¬3) ذكره البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم 8/ 506. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 98. وحكاه عنه ابن الأنباري، في كتابه "الزاهر" 1/ 430. و"تفسير الثعلبي" 8/ 142 أ. (¬4) قال الواحدي في تفسير الجنب في سورة النساء: الجُنُب نعت على: فُعُل، مثل: أُحُد .. وأصله من الجنابة ضد القرابة، وهو البعد .. ورجل جنب إذا كان غريبًا متباعدًا عن أهله. (¬5) كما تقول: ساقط من نسخة (ج). (¬6) ترثي، في نسخة (ج). (¬7) "ديوان الخنساء" 7. تخاطب في هذا البيت عينها. واستشهد به المبرد "الكامل" 2/ 904، على أنه يجمع: جُنُب: أجناب.

قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير {عَنْ جُنُبٍ} قال: عن جانب (¬1). [وقال مجاهد: عن بُعد (¬2). وقال عكرمة وقتادة: بصرت به وهي مجانبة لم تأته (¬3)] (¬4). وقال مقاتل: {عَنْ جُنُبٍ} كأنها مجانبة له ترقبه، وعينها إلى التابوت وهي معرضة عنه بوجهها (¬5). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء: أبصرته من شق عينها اليمنى. وقال أبو إسحاق: {عَنْ جُنُبٍ} أي: عن بُعد، تُبصره، ولا تُوهم أنها تراه (¬6). وقال ابن قتيبة: {فَبَصُرَتْ بِهِ} من بُعد منها عنه، وإعراض لئلا يفطنوا (¬7)، والمجانبة من هذا (¬8). وقال الفراء: يقول: كانت على شاطئ البحر حين رأت آل فرعون قد التقطوه (¬9). ولم يذكر الفراء ما ذكره غيره من أنها تجتنب أن يفطنوا بها؛ واقتصر من تفسير قوله: {عَنْ جُنُبٍ} على البعد فقط. وليس المعنى في قوله: {عَنْ جُنُبٍ} بُعد المسافة كما توهمه؛ وإنما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2948. وذكره الثعلبي 142 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 39، وابن أبي حاتم 9/ 2948. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 88، عن قتادة. وكذا ابن جرير 20/ 39، وابن أبي حاتم 9/ 2948. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬5) "تفسير مقاتل" 63 ب. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 134. ونحوه في "وضح البرهان" 2/ 147. (¬7) لها. غير موجودة في النسخ الثلاث. (¬8) "غريب القرآن" 329. (¬9) "معاني القرآن" للفراء 2/ 303.

12

هو: التباعد والمجانبة أن يعلموا بحالها، وأنها ترقبه، كما ذكره المفسرون، وأهل المعاني، ولا تستعمل الجنب والجنابة في بعد المسافة، ألا ترى إلى قول علقمة بن عبدة: فلا تَحْرِمَنّي نائلًا عن جَنَابةٍ ... فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ (¬1) أراد بعد النسب لا بعد المسافة. فمعنى قوله: {عَنْ جُنُبٍ} أي: عن تجنب منها وتباعد أبصرته. قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} قال ابن عباس: وهم لا يعلمون أنها أخته (¬2). وقال مقاتل: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أنها ترقبه (¬3). وقال ابن إسحاق: لا يعرفون أنها منه بسبيل (¬4). 12 - قوله -عز وجل-: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} الآية، {الْمَرَاضِعَ} يجوز أن يكون جمع امرأة مُرْضِعة (¬5)، أو مُرْضِع: ذات ولد رضيع. ويجوز أن يكون ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 98، ونسبه لعلقمة بن عبدة وكذا المبرد، "الكامل" 2/ 903، وقال: جنابة: غربة وبعد. وأنشده الزجاج 4/ 134، ولم ينسبه. ونسبه لعلقمة: الأزهري 11/ 123، وهو في "ديوان علقمة" 30، آخر بيت من قصيدة له يمدح فيها الحارث بن جبلة الغساني، وكان قد أسر أخاه فرحل إليه يطلبه فيه. يقول: لا تحرمني العطاء بعد غربة وبعد عن دياري، فإنني امرؤ غريب. "حاشية الديوان". (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 40، وابن أبي حاتم 9/ 2949، عن السدي. وأخرجه ابن جرير في التاريخ 1/ 389، عن السدي، عن ابن عباس، وابن مسعود. وذكره الفراء 2/ 303، ولم ينسبه. (¬3) "تفسير مقاتل" 64 أ. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 40، وابن أبي حاتم 9/ 2949. (¬5) في نسخة (ج): راضعة.

جمع مَرْضِع منى: الإرضاع، ويجوز أن يكون جمع: مَرْضَع من قولهم: رَضَع يَرْضَع بمعنى: المصدر. ذكر ذلك المفضل والمبرد (¬1). وكلام المفسرين أيضًا يدل على نحو ما ذكرنا؛ قال ابن عباس في رواية عطاء: إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة تأخذه منها ترضعه، فكلما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها. وقال في رواية سعيد بن جبير: لا يؤتى بمرضع فيقبلها (¬2). وقال محمد بن إسحاق: جمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة فيقبل ثديها (¬3). فهذا يدل على أن المراضع ذوات الإرضاع. وقال مجاهد ومقاتل: لم يقبل موسى ثدي امرأة (¬4). وقال قتادة: كان لا يقبل ثديًا (¬5). وقال الفراء: يقول معناه: من قبول ثدي إلا ثدي أمه (¬6). وهذا يدل على أن المراد بالمراضع [المرضعات، أو يراد: رضاعات. وأما ابن قتيبة فقال: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}] (¬7) معناه: أن يَرْضَع، والمراضع: جمع مُرْضِع (¬8). يعني: الإرضاع. والمراد بالتحريم هاهنا ¬

_ (¬1) لم أجد قول المبرد والمفضل في "التهذيب" مادة: رضع. ولا في "لسان العرب". (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 40، وابن أبي حاتم 9/ 2949. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 41. وأخرجه الحاكم 2/ 441، رقم 3529، عن ابن عباس. (¬4) "تفسير مقاتل" 64 أ. وأخرجه ابن جرير 20/ 40، عن مجاهد. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 88. وأخرجه بمعناه ابن جرير 20/ 41. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 303. (¬7) ما بين المعقوفين زيادة من نسخة (ج). (¬8) "غريب القرآن" 329.

تحريم المنع، وليس هناك نهي، ولكنه منع بالتبغيض، كالمنع بالنهي، وهذا كما يقال: حَرَّم فلانٌ على نفسه كذا بالامتناع بالأكل منه كالامتناع بالنهي (¬1). قوله: {مِنْ قَبْلُ} قال المفسرون: من قبل أمه، ومن قبل أن تأته أمه، ومن قبل أن نرده على أمه (¬2). وذلك أن الله تعالى أراد أن يرده إلى أمه فبغض المراضع إليه حتى يُؤتى بأمه. وقال صاحب النظم: قوله: {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل أن يولد في القضاء والقدر السابق، حرمنا عليه المراضع، وكان تحريم إرضاعهن عليه أن لا يقبل ثدي امرأة. والقول ما قال المفسرون؛ لأن المراضع لو حرمت عليه في القضاء السابق لحرم عليه رضاع أمه أيضًا؛ لعموم اللفظ، ولكن المعنى: حرمنا عليه المراضع قبل إرضاع أمه؛ وذلك أنه إذا رُدَّ إلى أمه فأرضعته يجوز أن يقبل ثدي مرضعة غير الأم. وقوله: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} قال المفسرون: لما تعذر عليهم رضاعه، ورأت حرصهم على ذلك، قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي: يكفلون لكم رضاعه، ويضمنون لكم القيام به (¬3). قال ابن عباس: قالوا لها: مَنْ؟ قالت: أمي، قالوا: ولأمك لبن؟ ¬

_ (¬1) قال النيسابوري: تحريم منع لا شرع. "وضح البرهان" 2/ 147. (¬2) "تفسير ابن جرير" 20/ 40. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 135، بمعناه. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 41، وابن أبي حاتم 9/ 2949، عن ابن إسحاق. و"غريب القرآن"، لابن قتيبة 329، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 135. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 99. و"تفسير الثعلبي" 8/ 142 أ.

13

قالت: نعم، لبن هارون. وكان هارون ولد في سنةٍ لا يقتل فيها صبي، فقالوا لها (¬1): صدقتِ والله. وقوله: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} قال مقاتل: هم أشفق عليه، وأنصح له من غيره (¬2). وقال السدي وابن جريج: لما سمعوا قولها: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} قالوا: قد عرفتِ أهلَ هذا الغلام فدلينا على أهله، فقالت: لا أعرف، ولكني عَنيتُ: وهم للملِك ناصحون (¬3)، فدلتهم على أم موسى، فدُفع إليها تربيه لهم (¬4)، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها (¬5)، وأتم الله لها ما وعدها. 13 - قوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} قال ابن إسحاق: بلغ لطف الله له ولها أن ردَّ عليها ابنها، وعَطَفَ عليه بقلب فرعون وأهل بيته، مع أمانها عليه (¬6) من القتل الذي يُتخوَف على غيره، وكأنهم كانوا من بيت آل فرعون في الأمان والسعة (¬7)؛ فذلك قوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي: بولدها {وَلَا تَحْزَنَ} على فراقه (¬8) {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} برد ولدها إليها {حَقٌّ}. قال صاحب النظم: هي كانت عالمة بأن وعد الله حق قبل أن ردَّ إليها ¬

_ (¬1) لها. زيادة من نسخة: (ب). (¬2) "تفسير مقاتل" 64 أ. (¬3) رواه ابن جرير 20/ 41، وابن أبي حاتم 9/ 2949. وذكره عنهما الثعلبي 8/ 142 أ. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 135. (¬5) "تفسير مقاتل" 64 أ، من قوله: فلما وجد الصبي. و"تفسير الثعلبي" 8/ 142 أ. (¬6) عليه. ساقطة من نسخة (ج). (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2950. (¬8) في النسخ الثلاث: فراقها.

14

ولدها, لقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أيَ: المصدقين بوعد الله، فهي مصدقة بوعد الله بربط الله على قلبها؛ ومعنى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} لتعلم كون ذلك ووقوعه مع علمها بأن الله منجزها ما وعدها. وهذا الفرق بين العيان والخبر، وهو مثل قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] لأن للمعاينة من ثَلَج اليقين ما ليس لغير المعاينة، وإن كان يقينًا (¬1). قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يعني: أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها رده إليها (¬2). 14 - قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} قال مقاتل: يعني لثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة (¬3)، واستوى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وهذا قول الكلبي (¬4). وقال مجاهد: ولما بلغ أشده: ثلاثًا وثلاثين سنة، واستواؤه: أربعين سنة (¬5). ¬

_ (¬1) ثَلَجَتْ نفسي بالأمر: إذا اطمأنت إليه وسكنت وثبت فيها ووثقت به. "تهذيب اللغة" 11/ 21 (ثلج)، و"لسان العرب" 2/ 222. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 142 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 64 أ، بلفظ: ولما بلغ موسى أشده، يعني: لثمان عشرة سنة، واستوى يعني: أربعين سنة. (¬4) "تنوير المقباس" 324. وذكره عنه الثعلبي 8/ 142 أ، بلفظ: الأشد: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. (¬5) في نسخة: (ج): واستوى وهو ابن أربعين سنة. وخبر مجاهد أخرجه ابن جرير 20/ 42، وابن أبي حاتم 9/ 2951. ونسب الثعلبي 8/ 142 أ، هذا القول لسائر المفسرين بعد أن ذكر قول الكلبي.

وهو قول ابن عباس وقتادة (¬1). وقوله: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} قال مجاهد: الفقه والعقل والعلم قبل النبوة (¬2). قال محمد بن إسحاق: آتاه الله علما وفقهًا في دينه، ودين آبائه، وعلمًا بما في دينه من شرائعه، وحدوده (¬3)، وكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه. وقال أبو إسحاق: فَعَلِم موسى -عليه السلام- وحكم (¬4) قبل أن يُبعث (¬5). والعالم الحكيم من استعمل علمه، ومن لم يعمل بعلمه فهو جاهل. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قال مقاتل: يقول: هكذا نجزي من أحسن، أي: من آمن بالله (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج عبد الرزاق 2/ 88، عن قتادة، روايتين؛ أربعون سنة، وأخرجها كذلك عن مجاهد، والثانية: ثلاث وثلاثون. وأخرج الرواية عن ابن عباس ابن أبي حاتم 9/ 2951، والثعلبي 8/ 142 ب. قال أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي في هذه الآية: هو منتهى شبابه وكماله واستقراره، فلا يكون فيه زيادة قبل أن يأخذ في النقصان. "اشتقاق أسماء الله الحسنى" 334. ويشهد لتمام الأشد أربعين سنة قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 42، وابن أبي حاتم 9/ 2952. وذكره الثعلبي 8/ 142 ب. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 43، في موضعين، وابن أبي حاتم 9/ 2952، وأصل الكلام في النسخ الثلاث: وعلمًا في دينه من شرائعه. وأثبت الزيادة من المصدرين السابقين. (¬4) وحكم، في نسخة (ج). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 136. (¬6) هكذا في "تفسير مقاتل" 64 أ. وفي نسخة (ج): أي: آمن باللهِ.

15

وقال الكلبي: {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يقول: الموحدين (¬1). قال الزجاج: جعل الله إيتاء العلم والحكمة إياه مجازاة على الإحسان؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين (¬2)، وهذه الآية مفسرة في سورة يوسف (¬3). 15 - قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} اختلفوا في هذه المدينة، وفي سبب دخول موسى المدينة؛ فقال السدي: دخلها متبعًا أثر فرعون؛ لأن فرعون ركب وموسى غير شاهد، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها: مَنْف (¬4)، فهو قوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} (¬5). وقال ابن إسحاق: بل دخلها مستخفيًا من فرعون وقومه؛ وذلك أنه كان قد خالفهم في دينهم، وعاب عليهم ما كانوا عليه، وأنكر عليهم ذلك، ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 324، بلفظ: المحسنين: النبيين بالفهم والنبوة، ويقال: الصالحين بالعلم والحكمة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 136. (¬3) عند قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [22]، قال الواحدي في تفسيرها: {وَكَذَلِكَ} أي: مثل ما وصفنا من تعليم يوسف {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس: يريد: نفعل بالموحدين. وقال أبو روق عن الضحاك: يعني الصابرين على النوائب، كما صبر يوسف. (¬4) أخرجه ابن جرير في "التاريخ" 1/ 390، عن السدي. و (مَنْف)، بالفتح ثم سكون: اسم مدينة فرعون بمصر، قال القضاعي: أصلها بلغة القبط: مافه، فعربت، فقيل: منف. "معجم البلدان" 5/ 247. وهي الآن جنوب الجيزة، والجيزة تقابل القاهرة من جهة الغرب. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 43، وابن أبي حاتم 9/ 2952. وذكره الثعلبي 8/ 142 ب.

حتى أخافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفًا مستخفيًا فدخلها يومًا على حين غفلة من أهلها (¬1). وعلى هذا القول المدينة: مدينة فرعون التي كان يسكنها. وقال مقاتل: هي قرية على رأس فرسخين من مصر تدعى: خانين (¬2). وقوله: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قال ابن عباس. في الظهيرة، عند المقيل (¬3). وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل والسدي؛ قالوا: دخلها نصف النهار، وليس في طرقها أحد (¬4). وروى عطاء عن ابن عباس: بين (¬5) المغرب والعشاء (¬6). وهو قول القرظي (¬7). وعلى قول ابن إسحاق: تعمد موسى الدخول على غفلتهم عنه؛ لأنه كان خائفًا مستخفيًا. وقال ابن زيد: لما كبر موسى وأنكر على فرعون وقومه دينهم، أمرَ فرعونُ بإخراجه من مدينته، فخرج منها, ولم يدخل عليهم إلا بعد الكبر، فدخلها عليهم وقد نسوا خبره وأمره؛ لبعد عهدهم به (¬8). وعلى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 43. وذكره الثعلبي 8/ 142 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 64 أ. لم أجد معلومات عن هذه المدينة. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 44. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 43، وابن أبي حاتم 9/ 2952، عن السدي، وابن عباس، وقتادة. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 89، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" 64 أ. و"وضح البرهان" 2/ 148، ولم ينسبه. (¬5) بين، ساقطة من نسخة (ج). (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 44، وابن أبي حاتم 9/ 2953. والمراد به عطاء الخراساني كما صرح به ابن جرير. (¬7) ذكره عنه الثعلبي 8/ 142 ب. (¬8) أخرجه بنحوه ابن جرير 20/ 44، وابن أبي حاتم 9/ 2953. وذكره الثعلبي 8/ 142 ب.

هذا المدينة: مصر (¬1)، وغفلتهم عنه: نسيانهم إياه لطول العهد؛ وهذا القول لا يليق بسياق القصة؛ لأن عَود موسى إليهم بعد طول العهد إنما كان بعد الوحي والنبوة، ونبوته كانت بعد ما ذكر الله تعالى من قصته مع شعيب في هذه السورة. قال الفراء: أراد على غفلة من أهلها، فأدخل: {حِينِ} فضلة في الكلام، ولو لم يكن {حِينِ} فضلة، لقيل: ودخل المدينة حين غفلة من أهلها (¬2). قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} قال ابن عباس: يريد: بأن أحدهما من بني إسرائيل، والآخر قبطي. وهو قول الجماعة (¬3). ¬

_ (¬1) مصر، ساقطة من نسخة: (أ)، (ب). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 303. لم أجد هذه المسألة عند الزمخشري، ولا ابن عطية، ولا أبي حيان، ولا أبي السعود. وأما النحاس فقال: يقال في الكلام: دخلتُ المدينة حين غَفل أهلها, ولا يقال: على حين غفل أهلها، ودخلتْ على في هذه الآية؛ لأن الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئتُ على غفلة، وإن شئت قلت: جئتُ على حين غفلة، فكذا الآية. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 231. وكلامه تقرير لكلام الفراء؛ والأولى أن يقال: دخلت {حِينِ} لتأكيد معنى الدخول على غفلة؛ فإن وقت القائلة وما بين العشائين قد لا يُغفل فيه، و {مِنْ أَهْلِهَا} في موضع الصفة لغفلة، وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها، بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم. "روح المعاني" 20/ 53. قال ابن عاشور 20/ 88: ويتعلق {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} بـ {دَخَلَ} وعلى للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]. فإعراب {عَلَى حِينِ} حال من المدينة، أو حال من الفاعل. "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري 2/ 177، و"الدر المصون" 8/ 656، و"الجدول في إعراب القرآن الكريم" 10/ 233. (¬3) أخرجه أبو يعلى 5/ 16، عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير 20/ 45، عن ابن =

قال ابن إسحاق: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} مسلم، وهذا من دين آل فرعون كافر (1). قال أبو إسحاق: المعنى فوجد فيها رجلين؛ أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه، وقيل فيهما: (هَذَا) (وَهَذَا) وهما غائبان على جهة الحكاية للحضرة، أي: فوجد فيها رجلين إذا نظر إليهما الناظر قال: هذا من شيعته، وهذا من عدوه (2). وقال أبو علي: (هَذَا) يشار به إلى الحاضر، والقصة ماضية ولكنها حكاية حال (3). وقد ذكرنا مثلها في قوله: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110] (4). وقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} أي: استنصر موسى الإسرائيلي على القبطي (5) {فَوَكَزَهُ مُوسَى} الوكز: الضرب بجُمعِ الكف في الصدر (6).

_ = عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، وابن أبي حاتم 9/ 2954، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. و"تفسير مقاتل" 64 أ. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 329. (1) أخرج ابن جرير 20/ 45، وابن أبي حاتم 9/ 2954، وقد خالف في ذلك مقاتل؛ فقال: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ} كافرين. "تفسير مقاتل" 64 أ، وهو أقرب؛ لأن نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم-، لم يبعث بعد. وقد ذكر هذا القول الواحدي بعد ذلك، ورجح قول مقاتل. والله أعلم. (2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 136. (3) كتاب "الشعر" لأبي علي 1/ 236. (4) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو علي: هو حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت كما أن قوله {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] أشار إلى الحاضر والقصة ماضية لأنه حكى الحال. (5) و (6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 136، 137. و"تفسير الثعلبي" 8/ 143 أ.

قال الفراء: يريد: فلكزه، وفي قراءة عبد الله: (فَنكَزهُ). وكلٌ سواء (¬1). قال المفسرون: وكزه موسى وكزة بجمع كله فقتله، وهو قوله: {فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: قتله. قاله ابن عباس والمفسرون (¬2). قال أبو عبيدة: كل شيء فرغت منه، فقد قضيت عليه وقضيته (¬3). قال المبرد: قضى عليه كقولك: أتى عليه، أي: صادف أجله، ومنه قول جرير: أيُفايشُون وقد رأوا حُفَّاثهم ... قد عَضَّه فَقَضَى عليه الأشجعُ (¬4) أي: قتله. قال المفسرون: كان موسى شديد البطش، قد أوتي بسطة في الخَلْق، وشدة في البطش، ضَبَثَ (¬5) بعدوه فوكزه وكزة قتله منها، وهو لا يريد قتله، فـ {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬6) أي: هذا القتل من تسبب ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 302. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 330. وذكر قراءة عبد الله الثعلبي 8/ 143 أ. وفي "الدر المصون" 8/ 657: والفرق بين الوكز واللكز: أن الأول بجميع الكف، والثاني بأطراف الأصابع، وقيل: بالعكس. والنكز كاللكز. (¬2) أخرجه أبو يعلى 5/ 16، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 64 أ. و"معاني القرآن" للفراء 3/ 302. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 330. و"تفسير الثعلبي" 8/ 143 أ. و"وضح البرهان" 2/ 148. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 143 أ. بنصه، ولم ينسبه. وكذا عند ابن قتيبة، "غريب القرآن". وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 99، أي: فقتله وأتى على نفسه. (¬4) "ديوان جرير" 270، من قصيدة يهجو فيها الفرزدق، ومعنى الفياش: المفاخرة. "لسان العرب" 6/ 333، واستشهد ببيت جرير على ذلك. والحفاث: حية عظيمة. "لسان العرب" 2/ 138 (حفث). (¬5) الضَّبْث: قبضك بكفك على الشيء. "تهذيب اللغة" 12/ 7 (ضبث). (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 45، وابن أبي حاتم 9/ 2955، عن ابن إسحاق. وأخرجا نحوه عن قتادة، وأخرج نحوه عن ابن عباس ابن أبي حاتم 9/ 2954. و"تفسير الثعلبي" 8/ 143 أ.

16

الشيطان؛ هيج غضبي حتى ضربت هذا {إِنَّهُ عَدُوٌّ} لابن آدم {مُضِلٌّ} له {مُبِينٌ} عداوته. قال المفسرون: لما قتله موسى ندم على القتل، وقال: لم أومر بذلك، فـ: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬1). قال أبو إسحاق: هذا يدل على أن قتله كان خطأً، وأنه لم يكن أُمِر موسى بقتل ولا قتال (¬2). ثم استغفر الله فقال: 16 - {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتلي نفسًا لم أومر بقتلها {فَاغْفِرْ لِي} أي: استر علي هذا الذنب {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). 17 - {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي: مننت عليّ إذ غفرت لي قتل هذه النفس (¬4). قال مقاتل: أنعمت علي بالمغفرة (¬5)؛ ولا أدري كيف علم موسى أن الله قد غفر له، وكان هذا قبل الوحي (¬6)؟. وقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: عونًا للكافرين (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2955، عن ابن عباس. و"الثعلبي" 8/ 143 أ، ولم ينسبه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 137. (¬3) "تفسير ابن جرير" 20/ 47، وأخرج عن قتادة قال: عرف المخرج فقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}. (¬4) في "تفسير الثعلبي" 8/ 143 أ: أنعمت علي بالمغفرة فلم تعاقبني. (¬5) "تفسير مقاتل" 64 أ. (¬6) قال ابن عطية 11/ 276: ثم قال -عليه السلام- معاهدًا لربه -عز وجل-: رب بنعمتك علي وبسبب إحسانك فأنا ملتزم ألا أكون معينًا للمجرمين. هذا أحسن ما تُؤول. وقال ابن كثير 6/ 225: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي: بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة. وعلى هذا لا يرد الاعتراض الذي أورده الواحدي. (¬7) ذكره عن ابن عباس ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 209، ثم قال بعده: وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرًا. وذكره ابن الأنباري، الأضداد، 225، ولم ينسبه.

18

قال الأخفش: قوله: {فَلَنْ أَكُونَ} معناه: فلا أكونن (¬1). وهذا خبر في معنى الدعاء، كأنه قال: فلا تجعلني ظهيرًا. ونحو هذا ذكر الفراء؛ واحتج (¬2) بأن في حرف عبد الله: (فلا تجعلني ظهيرًا)؛ على الدعاء (¬3). ومذهب المفسرين أن هذا خبر وليس بدعاء؛ أخبر عن نفسه أنه لا يكون ظهيرًا للمجرمين بعد ذلك (¬4). قال ابن عباس: لم يستثن فابتُلي (¬5). يعني: ما وقع له من غدِ ذلك اليوم؛ وهو قوله: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ}. وقال قتادة: لم يستثن -عليه السلام- حين قال: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} فابتلي كما تسمعون (¬6). قال مقاتل: إنما قال ذلك؛ لأن الذي نصره موسى كان كافرًا (¬7). وقد حكينا عن ابن إسحاق: أنه كان مسلمًا (¬8). وسياق اللفظ يدل على صحة قول مقاتل. ومعنى الظهير في اللغة: المعين (¬9). وقد مر تفسيره (¬10). 18 - قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} قال مقاتل: أصبح ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 652. (¬2) واحتج، ساقطة من نسخة: (ب). (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 304. (¬4) "تفسير مقاتل" 64 أ. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 89، عن قتادة. (¬5) ذكره عنه الفراء، "معاني القرآن" 2/ 304. والثعلبي 8/ 143 أ. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 47. (¬7) "تفسير مقاتل" 64 أ. (¬8) سبق ذكره في تفسير قول الله تعالى: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [15]. (¬9) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 99. (¬10) عند قول الله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 55].

موسى من الغد في المدينة خائفًا أن يُقتل {يَتَرَقَّبُ} ينتظر الطلب (¬1). وقال ابن عباس: يتوقع (¬2). وقال قتادة: ينتظر ما الذي يحدث به (¬3). وقال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به (¬4). قال سعيد بن جبير: يتلفت (¬5). وقال ابن قتيبة: ينتظر سوءًا يناله منهم (¬6). والترقب: انتظار المكروه (¬7). {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} قال المفسرون: فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استنقذه بالأمس يقاتل فرعونيًا يريد أن يسخره، وهو يستغيث بموسى (¬8). والاستصراخ: الاستغاثة والاستنصار (¬9). وأمسِ: اسم لليوم الماضي الذي هو قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين. وقال الكسائي: بُني على الكسر؛ لأنه فعل سمي به، وهو عنده مأخوذ من قولهم: أمسِ، فتركت السين على كسرتها، وهو اسم مبني ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 64 أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 99. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 47، بلفظ: يترقب أن يؤخذ. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 89. (¬4) "تنوير المقباس" 324. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2957. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 330. (¬7) الترقُب: تَنَظُّرُ الشيءِ وتَوَقُّعُه. كتاب "العين" 5/ 154 (رقب)، و"تهذيب اللغة" 9/ 128. (¬8) "تفسير مقاتل" 64 أ، بمعناه. و"تفسير ابن جرير" 20/ 48، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 330. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 137.

ومعرفة بغير: (ألف)، ولا: (لام)، نحو هُنَيْدَة، وشَعُوب (¬1)، ونحو ذلك من المبنيات المعرَّفة بغير اللام. ومن العرب من يبنيه على الفتح، كقول الشاعر: لقدْ رأيتُ عَجَبًا مُذْ أمْسَا ... عجائزًا مثلَ الأفاعي خمسا (¬2) فإذا أضفته أو نكرته أو أدخلت عليه الألف واللام أجريته بالإعراب، تقول: كان أمسُنا طيبًا، ورأيت أَمْسَنا المبارك، وسرت بأَمْسِنا، وتقول: مضى الأمسُ بما فيه (¬3). قال الفراء: ومن العرب من يخفض الأمسِ وإن أدخل عليه الألف واللام، وأنشد: وإني قعدت اليومَ والأمسِ قبله ... وأقعد غدًا إن تأخروا في الأجل (¬4) ¬

_ (¬1) قال الأصمعي: هُنَيْدَة: مائة من الإبل معرِفة لا تنصرف، ولا يدخلها الألف واللام، ولا تجمع، ولا واحد لها من جنسها. "تهذيب اللغة" 6/ 204 (هند). وشَعُوب: المنية؛ يقال: شَعبته شَعوبُ فأشعبَ؛ أي: مات. "تهذيب اللغة" 1/ 443 (شعب). و"القاموس المحيط" 130. (¬2) أنشده سيبويه، "الكتاب" 3/ 285، وأبو زيد، "النوادر" 57، وفي حاشية الكتاب: هو للعجاج، والشاهد فيه: إعراب أمس مع منعها من الصرف للعلمية والعدل عن الأمس. ومذ يرفع ما بعدها ويخفض أيضًا كما هنا. وهو في "ديوان العجاج" 400. وأنشده في "اللسان" 6/ 10 (أمس) مقتصرًا على صدره، ولم ينسبه. (¬3) "تهذيب اللغة" 13/ 118 (أمس)، من قوله: فإذا أضفته .. ونسبه للكسائي، ولم أجد فيه ما قبله من الكلام، ولا بيت الشعر. (¬4) لم أجده في "معاني القرآن" عند تفسير هذه الآية. وقد نقله الزهري في "تهذيب اللغة" 13/ 118 (أمس)، ولم ينسبه. وأنشده في "اللسان"، في موضعين 6/ 8، 10 (أمس) ونسبه لنُصيب، والبيت بتمامه كما في "اللسان" في الموضع الثاني: وإني حُبست اليومَ والأمسِ قبلَه ... ببابِك حتى كادت الشمسُ تغرب

قال موسى للذي نصره بالأمس: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} (¬1) قال ابن عباس: يريد: لمضل بين الضلالة. قال مقاتل: يقول: إنك لمضل بين؛ قتلتُ أمس في سببك (¬2) رجلاً، وتدعوني اليومَ إلى آخر (¬3). والغوي هاهنا: فَعيل، من: أغوى يغوي، بمعنى مغوي، كالوجيع والأليم، ويجوز أن يكون الغوي بمعنى: الغاوي فيكون المعنى: إنك لغوي في قتالك من لا يطيق دفع شرِّه عنك (¬4). وقال الحسن: إنما قال للفرعوني: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} يعني بالتسخير والظلم (¬5). ثم أقبل موسى إليهما وهمَّ أن يبطش الثانية بالقبطي، وهو قوله: ¬

_ = وفي الموضع الأول: وقفت، بدل: حبست. وفي "الدر المصون" 8/ 659: {بِالْأَمْسِ} معرب؛ لأنه متى دخلت عليه أل أو أضيف أُعرب، ومتى عري منهما فحاله معروف؛ الحجاز تبنيه، والتميميون يمنعونه الصرف كقوله: لقدْ رأيتُ عَجَبًا مُذْ أمْسَا. على أنه قد يبنى مع أن ندورًا، كقوله: وإني حُبست اليومَ والأمسِ قبلَه ... إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 137. (¬2) في نسخة: (ج): سبيلك (¬3) ذكر نحوه الفراء، "معاني القرآن" 2/ 304. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 330. ولم أجده في "تفسير مقاتل". (¬4) لم أجده في "تهذيب اللغة"، مادة: غوى. ونقله بنصه ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 209، ولم ينسبه. (¬5) ذكره الثعلبي 8/ 143 ب، ولم ينسبه، وصوب القول الأول، وجعله أليق بنظم الآية، وهو أن هذا موجه للإسرائيلي، وليس للقبطي. وهو كذلك. والله أعلم.

19

19 - {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} أي: بالقبطي، الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي، [ظن الإسرائيلي] (¬1) أن موسى يريد أن يبطش به لقوله له (¬2): {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} فقال: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} وهذا قول جميع المفسرين (¬3). قال ابن عباس والكلبي: ولم يكن أحد اطلع ولا علم أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، حتى أفشى عليه الإسرائيلي أنه هو القاتل بالأمس، وسمع القبطي ذلك فعَلِم به، وأتى فرعون فأخبره (¬4). والذي قاله المفسرون: إنه لم يستثن فابتلي، هو هذا، وهو أنه وقع من الغد في مثل ما وقع بالأمس، وهمَّ بالبطش حتى فشت عليه قصته الواقعة بالأمس، حتى احتاج إلى الهرب. قوله تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} أي: ما تريد إلا أن تكون جبارًا. قال المفسرون: قتالًا بالظلم (¬5). قال أبو إسحاق: الجبار في اللغة: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬2) له، من نسخة: (أ)، (ب). (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 89، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير 20/ 48، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 64 أ. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 137. و"تفسير الثعلبي" 8/ 143 ب. و"وضح البرهان" 2/ 148. (¬4) أخرجه أبو يعلى 5/ 17، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير 20/ 49، عن محمد بن إسحاق. (¬5) "تفسير مقاتل" 64 أ. وأخرجه ابن جرير 20/ 49، عن قتادة، وابن جريج. وابن أبي حاتم 9/ 2959، عن أبي عمران الجوني، وقتادة. وانظر: "تفسير الثعلبي" 8/ 143 ب.

الله، والقاتل بغير حق: جبار (¬1). وقوله: {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} قال أبو إسحاق: أي ما هكذا يكون الإصلاح (¬2). قالوا: فلما سمع القبطي هذا من قول الإسرائيلي خلاه في يد موسى، وجاء القبطَ (¬3) فأخبرهم بأن موسى هو (¬4) القاتل، فأمر فرعون بقتله، وعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه، وأخبره بذلك (¬5)، وهو قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ} قال ابن عباس: اسمه حزقيل، وهو الرجل المؤمن من آل فرعون. هذا قول أكثر المفسرين (¬6). وقال ابن إسحاق: يقال له: سَمْعان، ولم يذكر أنه المؤمن من آل فرعون (¬7) {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} أي: من آخرها وأبعدها {يَسْعَى} قال مقاتل: على رجليه (¬8). وقال ابن عباس: يشتد. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 137. والجبار، له معانٍ متعددة، أوصلها ابن الأنباري إلى ستة، منها: القتَّال، واستدل عليه بهذه الآية "الزاهر" 1/ 80 (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 50. (¬3) في نسخة: (ج): القبطي. (¬4) هو، ساقطة من: (أ)، (ج). (¬5) أخرجه أبو يعلى 5/ 18، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير 20/ 50، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. وذكر نحوه مقاتل 64 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 144 أ. (¬6) "تفسير مقاتل" 64 أ. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 89، عن قتادة، دون ذكر الاسم. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2959، عن ابن عباس، بلفظ: من شيعة موسى، ولم يذكر الاسم، ولا الصفة. قال الثعلبي 8/ 144 أ: قال أكثر أهل التأويل: هو حزبيل بن صبورا. (¬7) أخرجه ابن جرب 20/ 51، وابن أبي حاتم 9/ 2959. وذكره الثعلبي 8/ 144 أ، ولم ينسبه. وهذا خلاف لا فائدة فيه، ولا ثمرة ترجى من ورائه، والإعراض عنه أولى. (¬8) "تفسير مقاتل" 64 أ.

{قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ} يريد: الأشراف، يعني: أشراف قوم فرعون (¬1) {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} قال أبو عبيدة: يتشاورون فيك ليقتلوك. واحتج بقول ربيعة بن جُعشم النَّمْرِيُّ (¬2): أَحارُ بنَ عمرٍو كأني خَمِر ... ويعدو على المرء ما يأتمر (¬3) قال ابن قتيبة: وهذا غلط بَيَّنٌ لمن تدبر، ومضادَّةٌ للمعنى، كيف يعدو على المرء ما شاور فيه، والمشاورة بركة وخير؟ وإنما أراد: يعدو عليه بما يهم به من الشر. قال: وقوله تعالى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي: يَهِمُّون بك. يدلك على ذلك قول النَّمر بن تَوْلب (¬4): اعْلَمن أن كل مُؤْتَمِر ... مُخطئٌ في الرأي أحيانًا (¬5) ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 330، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 138. (¬2) في النسخ الثلاث: النميري. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 100. ونسب البيت لربيعة بن جُعشَم النمري. وعنه ابن قتيبة، "غريب القرآن" 330، والأزهري، "تهذيب اللغة" 15/ 294 (أمر). وأنشده البغدادي 1/ 374، ونسبه لامرئ القيس، وهو في ديوانه 111، قال البغدادي: وأثبت هذه القصيدة له أبو عمرو الشيباني، والمفضل وغيرهما، وزعم الأصمعي في روايته عن أبي عمرو بن العلاء أنها لرجل من أولاد النمر بن قاسط يقال له: ربيعة بن جُعشم. وفيه: أحارُ: مرخم: يا حارث، كأني خمر: الخمار بقية السكر. وهو قول ابن جرير 20/ 52، قال: يتآمرون بقتلك، ويتشاورون، ويرتئون فيك. وذكر هذا القول دون البيت النيسابوري، في "وضح البرهان" 2/ 149. (¬4) النمر بن تولب بن زهير، شاعر جواد، كان يسمى: الكيِّس لحُسن شعره، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسلم. "الإصابة في معرفة الصحابة" 253، و"الشعر والشعراء" 195 (¬5) أنشده ونسبه ابن قتيبة، "غريب القرآن" 330، وذكر بعده بيتًا آخر، هو: فإذا لم يصب رشدًا ... كان بعضُ اللوم ثُنيانًا وعن ابن قتيبة ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" 15/ 294، ولم ينسبه.

يقول: كلُّ من ركب هواه، وفعل ما يفعل بغير مشاورة أخطأ أحيانًا. وكذلك قوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] لم يُرِد: تَشاوروا، إنما أراد: هُمُّوا به، واعتزموا عليه. ولو كان كما قال أبو عبيدة لقال: يتآمرون فيك (¬1). وقال الزجاج في قوله: {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يأمر بعضهم بعضًا بقتلك (¬2). قال الأزهري: يقال: ائتمر القوم، وتآمروا: إذا أمر بعضهم بعضًا (¬3)، كما يقال: اقتتل القوم وتقاتلوا، واختصموا وتخاصموا. ومعنى: {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يؤامر بعضهم بعضًا بقتلك؛ وهذا أحسن من قول القتيبي: إنه بمعنى: يَهِمُّون بك، وقول الله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} ليأمر بعضكم بعضًا بمعروف. وجائز أن يقال: ائتمر فلان رأيه، إذا شاور عقله في الأمر الذي يأتيه. وقد يصيب الذي يأتمر رأيه مرة، ويخطئ أخرى، وهذا معنى قوله: اعلمن أن كل مؤتمر. أي: من ائتمر رأيه فيما ينوبه يخطئ أحيانًا. انتهى كلامه (¬4). ومعنى الائتمار في كلام العرب: المشاورة، وهو يعود إلى أن يأمر بعضهم بعضًا (¬5)، كما ذكره الزجاج. قال شمر: يقال: ائتمرت فلانًا في ذلك الأمر، إذا شاورته، وائتمر ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 330، مختصرًا، ونقل قول ابن قتيبة: الأزهري، "تهذيب اللغة" 15/ 294 (أمر). (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 138. و"وضح البرهان" 2/ 149. (¬3) في نسخة: (ب)، زيادة: بقتلك. وهي غير موجودة في "التهذيب". (¬4) "تهذيب اللغة" 15/ 295 (أمر). (¬5) في نسخة: (أ)، (ب): بعضكم بعضًا.

21

القوم، إذا تشاوروا. ثم الائتمار يكون مرة مع ذوي العقل والرأي من الناس، وهو المحمود المسنون، [ومرة يكون مع النفس والهوى، وهو المذموم، الذي ذم في قوله: ويعدو على المرء ما يأتمر] (¬1)، ومرة يكون مع العقل والرأي، وهو الذي يخطئ مرة ويصيب مرة. وقد ذكره النمر في قوله. ومنه المثل: (لا يدري المكذوب كيف يأتمر). أي: كيف يرى رأيًا ويشاور نفسه (¬2). وقول أبي عبيدة والزجاج في تفسير: {يَأْتَمِرُونَ} هو الصحيح، وقولهما قريب من السواء، وقول ابن قتيبة لا أصل له في اللغة؛ ولا يقال: ائتمر بالشيء إذا هم به، ولم أر للمفسرين لفظًا في تفسير الائتمار. قوله: {لِيَقْتُلُوكَ} أي: بالقبطي الذي قتلته بالأمس. قاله ابن عباس ومقاتل (¬3) {فَاخْرُجْ} من القرية {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} أي: في أمري إياك بالخروج (¬4). 21 - {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} قد مر تفسيره. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني المشركين، أهل مصر (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬2) "تهذيب اللغة" 15/ 295 (أمر)، بتصرف. وقد ذكر المثل ولم يتكلم عليه. وهو في مجمع الأمثال 2/ 277، بلفظ: إلا يدري الكذوب كيف يأتمر). أي: كيف يمتثل الأمر ويتْبعه. (¬3) أخرج ابن جرير 20/ 50، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 64 أ. (¬4) "تفسير ابن جرير" 20/ 52. (¬5) "تفسير مقاتل" 64 أ.

22

22 - قال ابن إسحاق: ذُكر أنه خرج على وجهه {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ما يدري أي وجه يسلك، فهيأ الله له الطريق إلى مدين (¬1)، وهو قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: قصدَها (¬2). ونحو هذا قال ابن قتيبة: أي تجاه مدين ونحوها، وأصله: اللِّقاء، زيدت فيه التاء، وأنشد: فاليوم قَصَّر عن تلقائكِ الأملُ أي: عن لقائك (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى: {تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: سلك في الطريق التي يلقى مدين فيها (¬4). قال محمد بن إسحاق، وغيره: خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد، ولا حذاء ولا ظَهر، وبينهما مسيرة ثمانية أيام (¬5). [قال ابن عباس:] (¬6) وليس له بالطريق عِلْمٌ إلا حسن ظنه بربه، فإنه {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 53، وابن أبي حاتم 9/ 2960. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 90، عن قتادة. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 332، ولم ينسب البيت. وأنشده كاملًا سيبويه 4/ 84، ونسبه للراعي، وهو في "ديوانه" 112، وصدره: أملت خيرك هل تأتي مواعده. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 53، وابن أبي حاتم 9/ 2960، بنحوه. (¬5) أخرجه ابن جرير، في التاريخ 1/ 397، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. وأخرجه عن محمد بن إسحاق: ابن جرير 20/ 53، وذكر العدد في خبر سعيد بن جبير الذي أخرجه ابن جرير أيضًا. وقال مقاتل 64 ب: عشرة أيام. وذكره الثعلبي 8/ 144 أ، ونسبه للمفسرين. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 53.

23

قال مقاتل: توجه نحو مدين بغير دليل، وخشي أن يضل الطريق فقال: عسى ربي يرشدني قصد الطريق إلى مدين (¬1). ومعنى {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: قصد السبيل في الاستواء (¬2). 23 - قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} جماعة من الناس (¬3)، وهم: الرعاة يسقون مواشيهم وأنعامهم (¬4). {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} أي: من سوى الأمة {امْرَأَتَيْنِ} وهما: ابنتا شعيب، في قول أكثر المفسرين (¬5). {تَذُودَانِ} تحبسان غنمهما. هذا قول أكثر المفسرين؛ الكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير والسدي، وغيرهم (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 64 ب. و"تأويل مشكل القرآن" 443. و"تفسير الثعلبي" 8/ 144 أ. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 101. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 332، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 138، وأخرجه ابن جرير 20/ 54، عن قتادة، والحسن. (¬3) "تفسير مقاتل" 64 ب. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 332، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 139. وابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 149، وقد أوصل معاني الأمة إلى ثمانية. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 54، عن ابن إسحاق. وذكره الثعلبي 8/ 144 أ، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 64 ب. وجزم الواحدي هنا باسم أبيهما، تابع فيه ما اشتهر عند أكثر المفسرين، وقد وقع الخلاف في اسمه، وهل هو النبي شعيب -عليه السلام- أم غيره؟ وحكى أنه شعيب: الثعلبي 8/ 153 ب، عن: مجاهد والضحاك والسدي والحسن. قال ابن جرير: وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر في ذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه. وساق ابن كثير 6/ 228، الخلاف في هذا الرجل؛ واستبعد كونه نبي الله شعيب عليه السلام، ثم قال: وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده، كما سنذكره قريبًا إن شاء الله. ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه: ثبرون، والله أعلم. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 305. ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير 20/ 55، وابن أبي=

قال مقاتل: حابستين الغنم، لتسقيا الغنمَ فضلَ الرِّعاء (¬1). وقال السدي: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا، ويخلوا لهم البئر (¬2). وقال عبد الله بن مسلم: أي تكفان غنمهما، وحذف الغنم اختصارًا (¬3). ومعنى الذود في اللغة: الكف والطرد (¬4)، ومعنى: {تَذُودَانِ}: تدفعان وتكفان. ولم يُذكر في الآية عن أي شيء تدفعان الغنم، فذهب أكثر أهل التفسير إلى أنهما كانتا تدفعانها عن الماء؛ وهو قول من قال: تحبسان؛ لأن دفعها عن الماء حبس لها عنه. واختاره أبو إسحاق؛ قال: {تَذُودَانِ} غنمهما عن أن تقرب موضع الماء؛ لأنها تطردها عن الماء مَنْ هو على السقي أقوى منهما (¬5). وقال الحسن: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس (¬6). وقال قتادة: {تَذُودَانِ} الناس عن شائهما (¬7). ¬

_ = حاتم 9/ 2962، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي مالك. و"تفسير الثعلبي" 8/ 144 أ، وذكره في 153 ب، عن قتادة، وابن إسحاق. ورجح هذا القول الثعلبي. (¬1) أخرجه أبو يعلى 5/ 18، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 64 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 55، وابن أبيِ حاتم 9/ 2962، عن أبي مالك، باللفظ نفسه، وأما لفظ السدي عندهما فهو: تحبسان غنمهما. وهذا بدل على أن قوله: قال السدي خطأ؛ لذكره قبل ذلك، فلعله يعني به أبا مالك. والله أعلم. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 332. (¬4) "تهذيب اللغة" 14/ 150 (ذاد)، و"لسان العرب" 3/ 167. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج4/ 139. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 8/ 153 ب (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 90. وابن جرير 20/ 56.

وقال الفراء: تحبسانها عن أن تشذ وتذهب، قال: ولا يجوز أن يقال: ذدت الرجل، إذا حبسته، وإنما كان الذياد حبسًا للغنم؛ لأن الغنم إذا أراد شيء منها أن يشذ ويذهب فرددته فذلك: ذود، وهو: الحبس (¬1). والقول هو الأول؛ لقوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} (¬2) قال محمد بن إسحاق: ما شأنكما لا تسقيان (¬3). وقال أبو إسحاق: أي ما أمركما (¬4). ومعناه: ما تخطبان، أي: ما تريدان بذودكما غنمكما عن الماء (¬5). فلولا أنهما كانتا تحبسان غنمهما عن الماء في وقت السقي ما سألهما موسى عن شأنهما، ألا ترى أن في جوابهما دليلًا على أنه سألهما عن السبب في ترك السقي مع الناس، وهو قوله: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} وقرئ (يَصْدُرَ) (¬6) من: صَدَر، وهو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 305. وقد تعقبه ابن جرير 20/ 55، بأنه قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا عند عُقْر حوضي أذود عنه الناس لأضربهم بعصاي حتى يرفَضَّ" فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذود في الناس. والحديث أخرجه ابن حبان، كتاب التاريخ، رقم: 6455، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 14/ 367، وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط مسلم، ومعنى يرفض: يسيل. وعُقْر الحوض: موضع الشاربة منه "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 3/ 271. (¬2) وقد سبقه إلى هذا الترجيح ابن جرير 20/ 56، قال: لدلالة قوله: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 153 ب. ولم ينسبه. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 139، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 332. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 139. (¬6) قرأ أبو عمرو وابن عامر (يَصْدُرَ) بفتح الياء، وضم الدال. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وحمزة والكسائي (يَصْدُرَ) بضم الياء، وكسر الدال. "السبعة في القراءات" 492، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 412، و"النشر" 2/ 341.

ضد: وَرَدَ. قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: 6] ومعنى {يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} يرجعوا من سقيهم. ومن قرأ: {يُصْدِرَ} أراد حين يصدروا مواشيهم من وردهم (¬1). قال ابن عباس: فيخلوا لنا الموضع (¬2)، ولكنه حذف المفعول، ومثله كثير، و {الرِّعَاءُ}: جمع راع، كما يقال: تاجر وتجار، وصاحب وصحاب، ويجمع أيضًا على: الرعاة، كالبكاة، والغزاة، والدعاة (¬3). قال مقاتل: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} بالغنم راجعة من الماء إلى الرعي فنسقي فضلهم (¬4). وقال ابن إسحاق: {قَالَتَا} نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر على أن يغني ذلك من نفسه، وأن يسقي ماشيته، فنحن ننتظر الناس حتى (¬5) إذا فرغوا سقينا ثم انصرفنا (¬6). وهذا معنى قوله: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [قال مقاتل: لا يستطيع أن يسقي الغنم من الكبر (¬7). وقال أبو إسحاق: الفائدة في قولهما: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}] (¬8) ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 412. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 332، و"وضح البرهان" 2/ 149. (¬2) أخرجه بنحوه ابن جرير 20/ 57، وابن أبي حاتم 9/ 2964. (¬3) كتاب "العين" 2/ 240 (رعو). وفي "تهذيب اللغة" 3/ 162 (رعى): ويجع الرعي: رعاة ورعيانًا، وأكثر ما يقال: رعاة للولاة، والرعيان لجمع راعي الغنم. (¬4) "تفسير مقاتل" 64 ب. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 90، عن قتادة. (¬5) حتى، من نسخة (ج). (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 57، وابن أبي حاتم 9/ 2964. (¬7) "تفسير مقاتل" 64 ب. (¬8) ما بين المعقوفين من (ج).

24

أي: لا يمكنه أن يَرد ويسقي، فلذلك احتجنا ونحن نساء أن نستقي (¬1). وقال الكلبي: قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وليس له عون يعينه غيرنا (¬2). فأتى موسى أهل الماء فسألهم دلوًا من ماء، فقالوا له: إن شئت ائت الدلو فاستق بها؛ قال: نعم، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر، فأخذ موسى الدلو فاستقى به وحده، وصب في الحوض، ودعا بالبركة، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت (¬3). وقال ابن إسحاق (¬4): أخذ موسى دلوهما ثم تقدم إلى السقاة بفضل قوته، فزاحم القوم عن الماء حتى أخرهم عنه، ثم سقى لهما (¬5). وقال مقاتل: قال لهما موسى: أين الماء؟ فانطلقتا به إلى الماء، فإذا هو بحجر على رأس البئر لا يزيله إلا عصابة من الناس، فرفعه موسى بيده وحده، ثم أخذ الدلو فأدلى دلوًا واحداً، فأفرغه في الحوض، ثم دعا بالبركة فسقى الغنم، فرويت (¬6). 24 - فذلك قوله: {فَسَقَى لَهُمَا} أي: فسقى أغنامهما لهما، يعني: لأجلهما. فحذف مفعول السقي. قال أبو إسحاق: أي فسقى لهما من قَبل الوقت الذي كانتا تسقيان فيه (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 139. (¬2) "تنوير المقباس" 325. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 305، بمعناه. وأخرجه نحوه عبد الرزاق 2/ 90، عن قتادة. وكذا عند مقاتل 64 ب. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم 9/ 2964، عن السدي. (¬4) في نسخة: (أ)، (ب): أبو إسحاق. وهو خطأ. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 58، وابن أبي حاتم 9/ 2964. (¬6) "تفسير مقاتل" 64 ب. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 60، وابن أبي حاتم 9/ 2965.

وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} قال السدي: ظل شجرة (¬1). وقال مقاتل: ثم انصرف إلى ظل شجرة فجلس تحتها من شدة الحر وهو جائع (¬2) {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال ابن عباس: يريد طعامًا يأكله، يقول: إني إليه لمحتاج (¬3). وقال مجاهد: ما سأل إلا طعامًا يأكله (¬4). وقال إبراهيم: ما كان مع موسى رغيف ولا درهم (¬5). وروى سعيد بن جبير [عن ابن عباس] (¬6) قال: لقد قال موسى هذا وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة (¬7). وعن سعيد بن جبير قال: ما سأل إلا شُبْعَه (¬8). واللام في قوله: {لِمَا أَنْزَلْتَ} معناها: إلى ما أنزلت؛ قال الأخفش: يقال: هو فقير له وإليه، ومحتاج له وإليه، وأوحي إليه وأوحي له (¬9)، كل يقال بما يقوم بعض مقام بعض. ونحو هذا قال قطرب (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 58. وذكره الثعلبي 8/ 153 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 64 ب. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 58. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 59. في نسخة: ج: سأل طعامًا يأكله. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 59. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 140، ولم ينسبه. ولم أجده بهذا اللفظ عند ابن جرير ولا ابن أبي حاتم. والله أعلم. (¬8) أخرجه ابن جرير 20/ 59، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير. (¬9) لم أجده عند الأخفش في كتابه "المعاني". وذكر هذا القول ابن الجوزى، "زاد المسير" 6/ 123، ولم ينسبه. ونسبه للزجاج الشوكاني 4/ 160. (¬10) ذكره عنه الثعلبي 8/ 154 أ.

25

قال محمد بن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما وسألهما، فأخبرتاه الخبر (¬1)، فقال لإحديهما (¬2). اعجلي عليَّ به، فأتته {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} فقالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} (¬3). 25 - وقال مقاتل: فرجعت المرأتان إلى أبيهما؛ فقال: ما أعجلكما اليوم؟ فأخبرتاه، فقال: بئس ما صنعتما لجئتماني به، فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه، فذلك قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} يعني: الكبرى {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (¬4) قال عمر رضي الله عنه: مستترة بكم درعها, لم تكن بسَلْفَع من النساء، خَرَّاجةٍ ولَّاجةٍ، قائلة بيدها على وجهها، يعني: واضعة (¬5). قال أبو إسحاق: أي: تمشي مشي من لم تعتد الدخول والخروج، متحفزة مستحيية (¬6). قوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي: ¬

_ (¬1) الخبر، ساقطة من نسخة (ج). (¬2) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وعند الثعلبي 8/ 154 أ. وفي نسخة: (ج): لإحداهما. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 61. و"تفسير الثعلبي" 8/ 154 أ. (¬4) "تفسير مقاتل" 64 ب. (¬5) أخرجه الحاكم 2/ 441، رقم: 3530، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن جرير 20/ 60، وابن أبي حاتم 9/ 2965، وصحح إسناده ابن كثير 6/ 228. السَّلْفَع من النساء: البذيئة الفحَّاشة القليلة الحياء، ورجل سلفع: قليل الحياء. والذكر والأنثى فيه سواء؛ يقال: رجل سلفع، وامرأة سلفع. "تهذيب اللغة" 3/ 299، 339 (سلفع). (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 140، ومتحفزة: مأخوذ من قول: إذا صلت المرأة فلتحتفز، أي: تتضام وتجتمع. "تهذيب اللغة" 4/ 372 (حفز).

26

ليقضيك؛ من: جزى يجزي، إذا قضى، قاله المبرد. قال مقاتل: فقام يمشي معها, ولولا الجوع الذي أصابه ما تبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، ثم أمرها أن تمشي خلفه وتدله بصوتها على الطريق كراهية أن ينظر إليها (¬1). وقال عمر: قال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فإنا (¬2) لا ننظر إلى أدبار النساء (¬3). قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ} قال مقاتل: فلما أتى موسى شعيبًا {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} يعني: أمرَه أجمع؛ مِنْ أمر القوابل اللاتي قتلن أولاد بني إسرائيل، وحين وُلد، وحين قُذف في التابوت، وفي اليم، وقتل الرجل القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه (¬4)، قال له شعيب: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا سلطان له بأرضنا, ولسنا في مملكته (¬5). 26 - {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} قال مقاتل: وهي الكبرى التي تزوجها موسى (¬6) {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي اتخذه أجيرًا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 65 أ. وأخرج نحوه أبو يعلى 5/ 19، عن ابن عباس. (¬2) في نسخة: (ب): فإننا. (¬3) أخرجه الحاكم 2/ 441 (3530). وأخرجه ابن جرير 20/ 61، عن ابن إسحاق. (¬4) "تفسير مقاتل" 65 أ. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2965، عن ابن عباس، و"تفسير ابن جرير" 20/ 61، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 140. و"تفسير الثعلبي" 8/ 154 أ. (¬6) "تفسير مقاتل" 65 أ. أخرج ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود الشاذكوني، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى فقل: أوفاهما. وإن سألوك: أيهما تزوج فقل: الصغرى منهما". "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي 3/ 30، قال ابن =

27

الْأَمِينُ} أي: خير من استعملت مَنْ قوي على عملك، وأدى الأمانة فيه (¬1). قال عمر رضي الله عنه، وجميع المفسرين: قال شعيب: من أين علمتِ قوته؟ قالت: كان الحجر لا يطيقه إلا عشرة فرفعه، فقال: من أين عرفتِ أمانته؟ قالت: قال لي: لا تمشي أمامي فيصفك الريح لي، ولكن امشي خلفي فدليني (¬2). قال مجاهد: رفع صخرة لا يرفعها إلا فئام من الناس، وغض طرفه عنهما حين سقى لهما (¬3). 27 - فصدرتا وقد عرفتا قوته وأمانته، فلما ذكرت المرأة من حاله بما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه فقال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أي: أزوجكها {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي: تكون أجيرًا لي ثماني سنين (¬4). وقال الفراء: يقول أن تجعل ثوابي أن ترعى عليَّ غنمي {ثَمَانِيَ ¬

_ = حجر: سليمان الشاذكوني: متروك، من التاسعة. "تقريب التهذيب" 1315، رقم: 8583 فهو لم يلق أبا هريرة فالطبقة التاسعة: الطبقة الصغرى من أتباع التابعين. "تقريب التهذيب" 82 وقد ذكر ابن جرير 20/ 62، اختلاف الروايات في أسماء المرأتين، وهو مما لا دليل عليه، وقد أحسن الواحدي في إعراضه عنه. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 140، بنصه. (¬2) "تفسير مقاتل" 65 أ. وأخرج نحوه عبد الرزاق 2/ 90، عن قتادة. وأخرج نحوه أبو يعلى 5/ 19، عن ابن عباس. وأخرج هذا القول بألفاظ متقاربة ابن جرير 20/ 63، عن ابن عباس، ومجاهد، وعمرو بن ميمون، وقتادة، وغيرهم، وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2967، عن هؤلاء، وعن عمر -رضي الله عنه-، من طريق عمرو بن ميمون. "تفسير الثعلبي" 8/ 154 أ. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 63، وابن أبي حاتم 9/ 2976. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 141.

حِجَجٍ} (1) وقال ابن قتيبة: أي تجازيني من التزويج، والأجر من الله: الجزاء على العمل (2). وقال مقاتل: على أن تأجرني نفسك {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (3). قال الأخفش: وهي لغة للعرب؛ منهم من يقول: أجَّرت (4) غلامي أجرًا فهو مأجور، وأَجَرْتُه إيجارًا فهو مُؤجَر، وآجرتُه، على: فاعلته، فهو: مُؤَاجَر (5). وقال المبرد: ويقال: أجرت داري ومملوكي، غير ممدود، وآجرت ممدود (6)، والأول أكثر: إيجارًا وإجارة. والإجارة: اسم لما فعلت، والمصدر: الإيجار (7). {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي ذلك تفضل منك ليس بواجب عليك (8) {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} في العشر (9) {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال مقاتل: من الرافقين بك (10). وعن عمر، أي: في حسن الصحبة، والوفاء بما قلت (11).

_ (1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 305. (2) "غريب القرآن" لابن قتيبة 332. (3) "تفسير مقاتل" 65 أ. (4) هكذا في النسخ الثلاث: أجرت. وعند الأخفش: أجر. (5) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 652. (6) قوله: وآجرت ممدود. ساقط من نسخة (ج). وذكر قول المبردِ الشوكانيُّ 4/ 163. (7) ذكر نحوه الأزهري 11/ 180، عن أبي زيد، ولم يذكر قود المبرد. (8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 141. (9) و (10) "تفسير مقاتل" 165أ. (11) أخرجه الحاكم 2/ 442، رقم: 3530. وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه، =

28

28 - قال موسى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} قال أبو إسحاق: {ذَلِكَ} رفع بالابتداء وخبره: {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} ومعناه: ذلك (¬1) الذي وصفت {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي: ما شرطت عليَّ فلك، وما شرطت لي من تزويج إحداهما (¬2) فلي، كذلك الأمر بيننا (¬3). وتم الكلام هاهنا. ثم قال: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} أي من الثمان والعشر (¬4) {قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: لا ظلم علي، أكون منصفًا في أيهما قضيت. وأيَّ، في معنى الجزاء، منصوبة بـ {قَضَيْتُ} وما زائدة مؤكدة، وجواب الجزاء: {فَلَا عُدْوَانَ} (¬5). ومعنى {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} على ما ذكر أبو إسحاق: لا أوصف بظلم في قضاء أيهما كان من الأجلين (¬6). فإن قيل: العدوان غير موهوم في قضاء العشر، فما معنى قوله: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} قال: المعنى راجع إلى أقصى الأجلين، وإن كان اللفظ شاملًا لهما جميعًا، على أن ابن عباس قال: {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} فيما بقي، أي: لا سبيل علي بأن تعتدي بإلزامي أكثر من الأجلين، ¬

_ = ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن جرير 20/ 65، وابن أبي حاتم 9/ 2969، عن ابن إسحاق. (¬1) ذلك. ساقط من نسخة (ج). (¬2) في (أ): إحديهما. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 141، وليس فيه ذكر الإعراب. (¬4) "تفسير مقاتل" 65 أ. (¬5) قوله: زائدة، يراد به: من ناحية الإعراب فقط. قال الفراء: فجعل: ما، وهي صلة, من صلات الجزاء مع: أي. "معاني القرآن" 2/ 305. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 142، بمعناه.

وتطالبني بالزيادة على الأجل الذي قضيت (¬1). وهذا القول أشبه باللفظ؛ لأن معنى: {لَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} لا أُظلم ولا يُعتدى علي. ويبعد أن يقال: معناه: لا ظلم مني (¬2). قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قال ابن عباس ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك (¬3). فإن قيل: المهر يكون للمرأة، فكيف جعل مهر هذه المرأة إجارة موسى نفسه من أبيها يعمل له؟ قيل: يجوز أن تكون الغنم للمرأة، فيكون العمل لها, ولكن الأب عقد الإجارة عنها لها (¬4)، ويجوز: أن يكون الأب يعطيها عوضًا من ذلك، على أن هذا إخبار عن شرع مَنْ قبلنا، فلا يلزمنا العمل به (¬5). ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 332، بمعناه، ولم ينسبه. ولم أجده عند ابن جرير، ولا ابن أبي حاتم. (¬2) هذا القول اختيار مقاتل 65 أ، قال: فلا سيل علي. (¬3) "تفسير مقاتل" 65 أ. وأخرجه ابن جرير 20/ 66، عن مجاهد. و"تنوير المقباس" 325. (¬4) وهو قول النيسابوري، "وضح البرهان" 2/ 149. (¬5) اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا إذا لم يصرح شرعنا بنسخه على قولين؛ الأول: أنه شرع لنا، والثانية: ليس بشرع لنا. قال ابن قدامة بعد أن ذكر أدلة الفريقين: الواجب الرجوع إلى ما ثبت منها بشرعنا؛ كآية القصاص، والرجم، ونحوهما، وهو مما تضمنه الكتاب والسنة فيكون منهما؛ فلا يجوز العدول عنه. والله أعلم. "روضة الناظر" 2/ 524. و"الإحكام" للآمدي 4/ 137. قال عبد القاهر البغدادي: في قصة شعيب وموسى عليهما الصلاة والسلام، دلالة لمن أجاز كون منافع الحر مهرًا، وبه قال الشافعي، ولذلك أجاز أن يكون تعليم القرآن مهرًا، وأجاز الإجارة على الأذان، وأبو حنيفة منع من ذلك. "الناسخ والمنسوخ" 88.

29

29 - وقوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قال أبو عمران الجَوْني: بلغني أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن سألوك أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: "أكثرهما وأفضلهما". وأيَّ الجاريتين تزوج؟ فقال: "الصغرى منهما" (¬1). وقال القرظي: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أوفاهما وأتمهما" (¬2). وقال سعيد بن جبير: قال لي يهودي وأنا أتجهز للحج: يا سعيد إني أراك رجلاً تَتَبَّعُ العلم (¬3)، أخبرني: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: قلت: لا علم لي، وأنا قادم على حبر العرب (¬4)؛ يعني: ابن عباس، فسائله عن ذلك، فلمَّا قدمتُ مكةَ سألت ابن عباس عن ذلك، وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما: عشرًا؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، قال سعيد: فقدمتُ العراقَ فلقيت اليهودي، فأخبرته بقول ابن ¬

_ (¬1) هذا حديث مرسل، ولم ينبه الواحدي على ذلك، وذكره الثعلبي 8/ 146 ب، وصدره بقوله: روي، ثم قال: فإن صح هذا الخبر فلا نعدل عنه. ذكر مقاتل في "تفسيره" 65 أ، أن موسى -عليه السلام-، قد تزوج الكبرى منهما، وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا يترتب على العلم به فائدة. (¬2) وهذا أيضًا حديث مرسل، انظر ترجمة القرظي في "جامع التحصيل" للعلائي 329، رقم: 707. قال الزيلعي عن هذا الحديث: هذا حديث لا يصح. "تخريج أحاديث الكشاف" 3/ 30. (¬3) التَتَبُّع: أن يَتَتَبَّع في مهلة شيئاً بعد شيء، وفلان يَتَتَبَّعُ مَدَاقَّ الأمور. "تهذيب اللغة" 2/ 282 (تبع). (¬4) حبر، بفتح الحاء، وكسرها, لغتان، أي: الرجل العالم. "تهذيب اللغة" 5/ 33 (حبر).

عباس، فقال: صدق، وما أنزل على موسى، هذا والله العالم (¬1). وقال مجاهد ومقاتل: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} عشر سنين (¬2) {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} وذلك أنه استأذن صهره (¬3) في العود إلى مصر، لزيارة والدته وأخيه، فأذن له، فسار بأهله. وهذه الآية مفسرة في سورتي: طه، والنمل (¬4). قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ} فيها ثلاث قراءات: فتح الجيم، وضمها، وكسرها. وهي كلها لغات (¬5). قال أبو عبيدة: الجذوة، مثل: الجِذمة؛ وهي القطعة الغليظة من الخشب، ليس فيها لهب. وأنشد قول ابن مُقْبلٍ: باتت حواطبُ ليلى يلتمسن لها ... جَزْلَ الجذَا غيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرٍ (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، رقم: 2684، "فتح الباري" 5/ 290. وأخرجه ابن جرير 20/ 68، والثعلبي 8/ 144 أ، وفيه: والله العالم. (¬2) "تفسير مقاتل" 65 أ. وأما خبر مجاهد فهو يدل على أنه مكث عشرًا أخرى زيادة، أخرج ذلك عنه ابن جرير 20/ 68، والثعلبي 8/ 146 ب. ولفظه: مكث بعد ذلك عند صهره عشرًا أخرى، يعني: عشرين سنة. وظاهر الآية لا يؤيد هذا المعنى. (¬3) يقال: ختن الرجل: صهره، والمتزوج فيهم: أصهار الختن، والصهر: زوج بنت الرجل، وزوج أخته، والختن: أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته. ومن العرب من يجعلهم أصهارًا كلهم. "تهذيب اللغة" 6/ 107، و"اللسان" 4/ 471 (صهر). (¬4) عند قوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} طه، الآيات: 10 - 12. وسورة النمل، الآيات: 7 - 10. (¬5) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: {جَذْوَةٍ} بكسر الجيم، وقرأ عاصم: {جَذْوَةٍ} بفتح الجيم، وقرأ حمزة: {جُذْوَةٍ} بالضم. "السبعة في القراءات" 493، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 413، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 341. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 102، ونسب البيت لابن مقبل. وأنشده عن أبي عبيدة الأزهري 11/ 167، ولم ينسبه. وأنشده ونسبه المبرد، "الكامل" 2/ 682، وعنه أبو علي =

30

وقال المبرد والزجاج: الجذوة: القطعة الغليظة من الحطب (¬1). وقال ابن قتيبة: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أي: قطعة منها، قال: وفي التفسير: الجذوة: عود قد احترق (¬2)؛ قاله مقاتل (¬3). وقال ابن عباس: قطعة حطب فيها نار (¬4). وقال مجاهد في قوله: {جَذْوَةٍ} قال: أصل (¬5). وقال قتادة: أصل الشجرة في طرفها النار (¬6). وقال الكلبي: شعلة من النار (¬7). 30 - قوله تعالى: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} قال أبو عبيدة: شاطئ الوادي، وشطُّ الوادي: عِدْوتاه (¬8). وقال الليث: شاطئ الوادي: جانبه، هكذا من غير فعل، وإن ثني ¬

_ = "الحجة" 5/ 5414، وأنشده ونسبه ابن جرير 20/ 69، والثعلبي 8/ 146 ب. وهو في "ديوان ابن مقبل" 80. وفي حاشية "الدر المصون" 8/ 668: الجزل: الحطب اليابس وما عظم منه، والخوار الضعيف، والدعر: الكثير الدخان. (¬1) "الكامل" للمبرد 2/ 682، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 142. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة 332، ولم ينسبه. (¬3) قال مقاتل 65 أ: يعني: شعلة، وهو عود قد احترق بعضه. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 70، وابن أبي حاتم 9/ 2972، عنه بلفظ: يقول: شهاب. وعن ابن زيد بلفظ: العود من الحطب الذي فيه النار. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 70، وابن أبي حاتم 9/ 2972. بلفظ: أجل شجرة. (¬6) أخرجه عبد الرزاق 2/ 91، وابن جرير 20/ 70، عن قتادة. وفيه: الشجرة والنار، معرفتان بالألف واللام، واتفقت النسخ الثلاث على تعريف: الشجرة، وانفردت نسخة: (ج)، بتنكير النار. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 90، عن الكلبي. (¬8) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 103. عِدوة الوادي وعُدوته: جانبه. "تهذيب اللغة" 3/ 110 (عدا).

وجمع قيل: شاطئان وشواطئ (¬1). وقال أبو خيرة (¬2): شاطئ الوادي: شَفَتُه، وجمعه: شُطآن وشواطئ (¬3). وقال مجاهد: {الْوَادِ الْأَيْمَنِ} عن يمين موسى (¬4). وقال مقاتل: عن يمين الجبل (¬5). وقوله: {الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}: البُقعة: القطعة من الأرض (¬6). ويقال أيضًا: بَقعة، بالفتح. قال أبو إسحاق: فمن قال بَقعة: فجمعها: بِقاع، مثل: (¬7) قَصْعة وقِصَاع، ومن قال: بُقعة فأجود الجمع: بُقَع، مثل: غُرْفة وغُرَف، ويجوز في جمع بُقعة: بِقاع، مثل: حُفْرة وحِفَار (¬8). {الْمُبَارَكَةِ} سميت مباركة؛ لأن الله كلم موسى فيها، وبعثه نبيًّا. قاله ¬

_ (¬1) كتاب "العين" 6/ 276 (شطأ)، بلفظ: شاطئ الوادي: شَفَتُه، اسم من غير فعل. وليس فيه ذكر التثنية، ولا الجمع، ولم أجد قول الليث في "التهذيب". (¬2) أبو خيرة، نهشل بن زيد، أعرابي بدوي من بني عدي، دخل الحاضرة، وأفاد وأخذ عنه الناس، وصنف في الغريب كتبا. "إنباه الرواة على أنباه النحاة" 4/ 117، و"بغية الوعاة" 2/ 317. (¬3) "تهذيب اللغة" 11/ 392 (شطأ). قال الأخفش: جماعة الشاطئ: الشواطئ، وقال بعضهم: شَطّ، والجماعة: شُطُوط "معاني القرآن" 2/ 653. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 71، وابن أبي حاتم 9/ 293. (¬5) "تفسير مقاتل" 65 ب. (¬6) "تهذيب اللغة" 1/ 285 (بقع). (¬7) في نسخة: (أ): زيادة: حفرة، وحفار. وهي تكرار لما ذكره الزجاج في آخر كلامه, حيث لا يستقيم إيراد حُفرة، مثالًا على الفتح. والله أعلم. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 143.

31

مقاتل والزجاج (¬1). وقال ابن عباس: يريد: المقدسة. وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} قال المفسرون: من ناحية الشجرة (¬2). وقال قتادة: من عند الشجرة (¬3). قال ابن عباس: وهىِ العُنَّاب (¬4). وقال مقاتل: وهي: عَوْسَجَة، وهو قول قتادة (¬5). وقال ابن مسعود: كانت سَمُرة (¬6). وقال الكلبي: شجرة العوسج (¬7). 31 - وقوله: {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} أي: من أن ينالك منها مكروه (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 65 ب، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 143. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 146 ب. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 71. (¬4) نسبه لابن عباس ابنُ الجوزي، "زاد المسير" 6/ 218. والعُنَّاب: شجر شائك، يبلغ ارتفاعه ستة أمتار، ويطلق العناب على ثمره أيضًا، وهو: أحمر حلو لذيذ الطعم. "المعجم الوسيط" 2/ 630 (عنب). لم يذكر في "التهذيب" 3/ 6، و"اللسان" 1/ 630: إلا أنه من الثمر، وأنه معروف. والعَّنَاب بالفتح: بائع العِنَب. "اللسان" 1/ 630، و"القاموس المحيط" 152. (¬5) "تفسير مقاتل" 65 ب، أخرجه ابن جرير 20/ 71، عن قتادة، وذكره عنه الثعلبى 8/ 147 أ. والعوسج: شجر كثير الشوك، وهو أنواع منها ما يثمر، ومنها ما لا يثمر. "تهذيب اللغة" 1/ 338، و"اللسان" 2/ 324، و"المعجم الوسيط" 2/ 600 (عسج). (¬6) أخرج ابن جرير 20/ 71. وذكره عنه الثعلبي 8/ 147 أ. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 91، عن الكلبي. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 143.

32

32 - وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قال مجاهد: اضمم إليك يدك من الفَرَق (¬1). وهذا قول جميع المفسرين؛ قالوا: لما ألقى موسى عصاه فصارت جانًا رَهِبَ وفَزعَ، فأمره الله أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفَزَع (¬2). قال مجاهد: كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع؛ وقرأ هذه الآية (¬3). قال الزجاج: والمعنى في جناحك هاهنا: العضد. ويقال: اليد كلها جَناح (¬4). وقال الفراء: الجَناح ما بين أسفل العَضُد إلى الرُّفْغ، وهو: الإبْط (¬5). وقرئ (الرُّهْبِ) و (الرَّهَبِ) (¬6) ومعناهما جميعًا واحد، مثل: الرُّشْد والرَّشَد (¬7). قال أبو علي: قال أبو عبيدة: جناحا الرجل: يداه (¬8). وقال غيره في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 73، وابن أبي حاتم 9/ 2975، وأخرجاه أيضًا عن قتادة، وابن زيد. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 89، عن قتادة "تفسير الثعلبي" 8/ 147 أ. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 147 أ. ولم ينسبه. ونسبه لمجاهد ابنُ الجوزي 6/ 220. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 143. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 306. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 333. الرَّفْغُ، والرُّفْغُ: لغتان، وهي: الآباط، والمغابن من الجسد. "تهذيب اللغة" 8/ 108 (رفغ). (¬6) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {مِنَ الرَّهْبِ} بفتح الراء والهاء، وقرا عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي: {مِنَ الرَّهْبِ} بضم الراء وسكون الهاء. "السبعة في القراءات" 493، و"الحجة" 5/ 414، و"النشر" 2/ 341. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 143. (¬8) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 414. بنصه، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 104: {جَنَاحَكَ} أي: يدك.

الآية: إنه العضد (¬1). وقول أبي عبيدة أبين عندنا. قال: وقد جاء الاسم المفرد يراد به التثنية، وأنشد أبو الحسن: يداكَ يدٌ إحداهما الجودُ كُلُّه ... وراحتُك الأخرى طِعَانٌ تغامره (¬2) المعنى: يداك يدان؛ بدلالة قوله: إحداهما؛ ولأنك إن جعلت قوله: (يدٌ) مفردًا، بقي لا يتعلق به شيء، ويجوز أن يراد بالإفراد: التثنية، كقوله: وعَينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... شُقَّتْ مَآقيهما من أُخُر (¬3) فيجوز على هذا القياس في قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أن يراد بالإفراد: التثنية، كما أريد بالتثنية: الإفراد، في قوله: ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 418، ولم ينسبه. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 143، ولم ينسبه، ثم قال: ويقال: اليد كلها جناح. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 418، من إنشاد أبي الحسن، والبيت للفرزدق 1/ 276، من قصيدة يمدح فيها أسد ابن عبد الله القسري، ورواية الديوان مختلفة: يداك يد إحداهما النبل والندى ... وراحتها الأخرى طعان تعاوره قوله: وراحتك الأخرى: جعل الراحة موضع اليد، والطعان مصدر: طاعن، وليس بجمع طعنة، وتغامره فاعله: الراحة، أي: تغامر الراحةُ الطعانَ، وتكون أنت أيها المخاطب تغامر الطعان. والشاهد فيه: يد، فإنه وإن أفردها لكن المراد بها: التثنية، كأنه قال: يداك يدان إحداهما. "شرح الأبيات المشكلة" لأبي علي 1/ 209. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 418، من إنشاد أبي الحسن، ونسبه أبو علي لامرئ القيس، "شرح الأبيات المشكلة" 1/ 211، وحدرة بدرة، أي: مكتنزة صلبة ضخمة، بدرة: يبدو بالنظر، وشقت مآقيهما: تفتحت فكأنها انشقت، وقوله: من أخر، أي: من مآخير العين. "شرح الأبيات المشكلة"، وحاشيته. والبيت في "ديوان امرئ القيس" 116، يصف فرسا. وأنشده البغدادي، "الخزانة" 5/ 197, ولم ينسبه.

فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ انزجرْ (¬1) ومن الناس من يحمل قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] على ذلك. انتهى كلامه (¬2). وقد جاء من هذا أن قوله: {جَنَاحَكَ} معناه: يداك، و {الرَّهْبِ}: الخوف (¬3). والمعنى ما ذكره مجاهد. ونحو ذلك قال ابن عباس فيما روى عنه عطاء؛ قال: يريد: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف، ولا خوف عليك. والمعنى على هذا: أن الله أمره أن يضم يده إلى صدره، فيذهب الله عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية (¬4). وتقدير الآية على هذا المعنى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} معالجًا من الرَّهْبِ، أو ما أشبه هذا من التقدير؛ لأنه أُمر بضم الجَناح إليه ليذهب عنه الفزع، ويعالج بذلك ما ناله من الفزع. وقال الفراء في تفسير الجناح في هذه الآية: إنه العصا (¬5). وقال مقاتل: يعني عصاك مع يدك (¬6). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 419. وفي الحاشية: صدر بيت لسويد بن كراع، وعجزه: وإن تدعاني أَحمِ عِرضًا ممنعًا وأنشده البغدادي "الخزانة" 11/ 17، ولم ينسبه. وأنشده ابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" 291، ولم ينسبه. وفي حاشيته: كان سويد قد هجا بني عبد الله بن دارم فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان بن عفان، فقال سويد قصيدته. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 419، من قوله: وقول أبي عبيدة أبين عندنا. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 147 أ، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 147 أ. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 306. (¬6) "تفسير مقاتل" 65 ب.

هذا الذي ذكرنا قول المفسرين. وقال أبو علي الفارسي في هذه الآية: ذُكر لموسى الخوفُ في مواضع من التنزيل؛ كقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] و {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] وقال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء: 12] وقال: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه: 45] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] وقال {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]. فلما أضاف -عليه السلام- الخوفَ في هذه المواضع إلى نفسه، أو نُزِّلَ منزلة من أضافه إلى نفسه، قيل له: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} فأُمر بالعزم على ما أُريد له مما أُمر به، وحُضَّ على الجدِّ فيه؛ لئلا يمنعه من ذلك الخوفُ والرهبةُ التي قد تغشاه في بعض الأحوال (¬1)، وأن لا يستشعر ذلك فيكون مانعًا له مما أمر بالمضي فيه. وليس يراد بضم الجناح هاهنا: الضم المُزيل للفُرْجة والخصاصة (¬2) بين الشيئين، كقول الشاعر: اُشْدُدْ حيازيمَكَ للموت ... فإن الموتَ لاقيكَ (¬3) ¬

_ (¬1) في نسخة: (أ)، (ب): والرهب والذي قد يغشاه في بعض الأحوال. (¬2) الخصاصة: الخَلَل، خصاص المنخل، والباب، والبرقع: خللَّه، واحدته: خصاصة. "تهذيب اللغة" 6/ 551 (خص). (¬3) "الحجة" 5/ 416، ولم ينسب البيت. وأنشده المبرد مع بيت آخر، وهو: ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا ونسبهما لعلي -رضي الله عنه-، قالهما بعد أن أُتي بابن ملجم وقيل له: إنا سمعنا من هذا كلامًا ولا نأمن قتله لك، فقال: ما أصنع به، ثم قال هذين البيتين. "الكامل" 3/ 1121. وأنشد البيت الأول في "اللسان" 12/ 132 (حزم)، وقال: حيازيمك: جمع: الحيزوم: وهو الصدر، وقيل: وسطه. وهو في ديوان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، 140، مع عدد من الأبيات.

ليس يريد به الشد الذي هو الربط والضم، وإنما يريد: تأهب له واستعد للقائه حتى لا تهاب لقاءه، ولا تجزع من وقوعه. هذا كلامه (¬1). والمعنى على هذا: فشمر واستعد. والتقدير: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} خارجًا من الرهب. وذكر الأزهري قال: قال (¬2) مقاتل في قوله: {مِنَ الرَّهْبِ} أرادكُمَّ مِدْرَعَته (¬3). وروى ثعلب عن عمرو (¬4) عن أبيه قال: يقال لِكُمِّ القميص: القُنُّ والرُّدْن والخِلاف. وحكى عن ابن الأعرابي: أَرْهَبَ الرجلُ: إذا أطال رَهَبَه؛ وهو: كُمَّه. قال الأزهري: وأكثر المفسرين ذهبوا في قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} أنه بمعنى الرهبة (¬5)، ولو وجدت إمامًا من أهل التفسير يجعل الرهب كُمًا لذهبت إليه؛ لأنه أشبه بالتفسير، وأليق بمعنى الكلام، والله أعلم بما أراد. هذا كلامه (¬6). وهو متناقض؛ لأنه حكى عن ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 415. (¬2) هكذا في جميع النسخ: وذكر الأزهري قال: قال مقاتل. يعني: أن الأزهري قد ذكر قول مقاتل. (¬3) "تهذيب اللغة" 6/ 292 (رهب)، ولم أجده في "تفسير مقاتل". ولم ترد كلمة: {الرَّهْبِ} في كتاب الله -عز وجل- إلا في هذا الموضع. "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" 325. وذكره الثعلبي 8/ 146 أ، ونسبه لأهل المعاني. والمدرعة: نوع من الثياب التي تلبس، ولا يكون إلا من صوف. "تهذيب اللغة" 2/ 201 (درع). (¬4) عمرو بن أبي عمرو الشيباني. (¬5) ذكر ذلك أبو عبيدة "مجاز القرآن" 2/ 104، ولم ينسبه. (¬6) "تهذيب اللغة" 6/ 292 (رهب). وفيه قال الأزهري: ولو وجدت إمامًا من السلف ..

مقاتل أنه قال في الرهب: إنه كُم مِدْرَعَتِه. ثم قال: لو وجدت إمامًا من أهل التفسير يجعل الرهب كُمًّا لذهبت إليه (¬1). ثم قال: لأنه أشبه بالتفسير، وليس الأمر على ما ذكر؛ كيف يكون أشبه ولا معنى لقولك: واضمم إليك جناحك من الكم وكيف يكون ما ذكر أشبه بالتفسير؛ وقد قال مِقْسم في قوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} إنما قيل: في جيبك؛ لأنه لم يكن له كم، كانت زُرْمَانقة (¬2). وذكر المفسرون: أن موسى كانت عليه تلك الليلة مِدْرَعة من صوف مُضَرَّبة، لا كُمَّ لها (¬3). وإذا صح هذا فكيف يجوز أن (¬4) يحمل الرهب على الكم؟ مع أنا لو ارتكبنا هذا لم يخرج للكلام معنى صحيح. وروى حفص عن عاصم {مِنَ الرَّهْبِ} بفتح الراء وجزم الهاء (¬5)، وهو لغة في: الرَّهَب الذي هو بمعنى: الكُم (¬6). ¬

_ (¬1) وصف الواحدي للأزهري بالتناقض بإيراده قول مقاتل لعله غير وجيه؛ لأن الأزهري قال: إمامًا من السلف، ولم يقل: إمامًا في التفسير كما نقل الواحدي، فلعله يعني بذلك: إمامًا من الصحابة والتابعين؛ ومقاتل من أتباع التابعين، ت 150 هـ، ويبعد أن يكون الأزهري يجهل قول مقاتل؛ إذ إن ذكرَه لقوله قريبٌ جدا. والله أعلم. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2850، في تفسير سورة النمل، عن ابن عباس، من طريق مقسم، وليس فيها: زرمانقة، بل: جبة من صوف. والزرمانقة: جبة صوف. "تهذيب اللغة" 9/ 402 (زرمانق). (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 138، عن مجاهد وابن مسعود. والضريبة: الصوف يضرب بالمطرَق، ويطلق على: الصوف أو الشعر ينفش ثم يدرج ليغزل. "تهذيب اللغة" 12، 19/ 20 (ضرب). (¬4) يجوز أن. زيادة من نسخة (ج). (¬5) "السبعة في القراءات" 493، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 414. (¬6) "تهذيب اللغة" 6/ 292 (رهب).

وقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} يعني اليد والعصا، حجتان من الله تعالى لموسى على صدقه (¬1). وقُرئ {فَذَانِكَ} بتخفيف النون وتشديده (¬2). قال أبو عبيد: كان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد [من بين إخوانه. ويحكى أن التشديد لغة قريش (¬3)، قال أبو إسحاق: التشديد] (¬4) يشبه ذلك، والتخفيف يشبه ذاك، جعل بدل اللام في ذلك تشديد النون في: {ذَانَّكَ} (¬5). وهذا قول الأخفش؛ قال: أدخلوا التثقيل للتأكيد، كما أدخلوا اللام في ذلك (¬6). وهذا مما قد تقدم القول فيه في سورة النساء (¬7). وروى شِبل عن ابن كثير: {فَذَانِيكَ} خفيفة النون بياء (¬8)؛ كأنه أبدل من الثانية الياء كراهية التضعيف، كما أنشد أبو زيد: فآليت لا أَشْرِيه حتى يَمَلَّنِي ... بشيء ولا أمْلاهُ حتى يُفارقا (¬9) ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 333، و"الطبري" 20/ 73. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 أ. (¬2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {فَذَانِكَ} مشددة النون، وقرأ الباقون: {فَذَانِكَ} بالتخفيف. "السبعة" 493، و"الحجة" 5/ 419، و"النشر" 2/ 341. (¬3) "تفسير ابن جرير" 20/ 74، ولم يذكر أبا عبيد. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 143. (¬6) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 653. قال المبرد: تبدل من اللام نونًا، وتدغم إحدى النونين في الأخرى. "المقتضب" 3/ 275. وذكر ذلك أيضًا ابن جني، "سر صناعة الإعراب" 2/ 487. (¬7) ذكره في تفسير الآية: 16 {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}. (¬8) "السبعة" 493، و"الحجة" 5/ 419، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 174. (¬9) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 420، ونسبه لأبي زيد. وهو في "النوادر" 44، مع بيتين قبله منسوبًا للأسود بن يعفر النهشلي، بلفظ: =

34

يريد: لا أَمَلُّه حتى، فأبدل من التضعيف: الألف، كما أبدل من الأول: الياء (¬1). والإبدال من التضعيف كثير، ومنه قوله: {يَتَمَطَّى} [القيامة: 33] إنما هو: يتمطط، ومثله: التقصي، والتظني (¬2). وقوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} قال أبو إسحاق: أي: أرسلناك إلى فرعون وملأه بهاتين الآيتين (¬3). {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} عاصين. قاله ابن عباس ومقاتل (¬4). 34 - قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} قال المفسرون: أي: أحسن بيانًا (¬5). قال ابن عباس: وكان في لسان موسى عُقدة، من قِبَل النار (¬6)، فذلك قول فرعون: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، وذكرنا هذا عند قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] (¬7). ¬

_ = فأقسمت لا أشريه حتى أمله ... بشيء ولا أملاه حتى يفارقا وفيه: أشريه: أبيعه، ولا أملاه: أي: لا أَمَلُّهُ. (¬1) يعني من قوله تعالى: {فَذَانَّيكَ} على قراءة الياء. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 420، باختصار. والتظنَّي: إعمال الظن، وأصله: التظنُّن، أُبدل من إحدى النونات ياء. "اللسان" 13/ 257. و"القاموس" 1566. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 144. (¬4) "تفسير مقاتل" 65 ب، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2976، عن سعيد بن جبير. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 74. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب. (¬7) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية أن العقدة: الربطة في الحبل والخيط، وأراد بالعقدة هاهنا رثة كانت في لسانه تمنعه من الانطلاق في الكلام. قال سعيد بن جبير -وهو قول العامة-: عجمة من جمرة أدخلها في فيه. والقصة في ذلك معروفة. وفي الحاشية نقد لهذه القصة. وسبق بيان أن القول بأن العلة كانت بسبب الجمرة ليس بصحيح، في تفسير سورة الشعراء الآية 13.

قال أهل اللغة: الفصيح من الكلام: ما لا لحن فيه ولا خطأ. وأصل الكلمة: ظهور الشيء وصفاؤه. يقال: أفصح الصبح إذا بدا وظهر، وأفصح اللبن إذا زالت الرُّغوة عنه، وبدا صريحه (¬1). وإذا كان الكلام صافيًا من اللحن، خالصًا عما يوجب اللبس من لَجْلَجة أو مَجْمَجة (¬2) شُبَّه باللبن الخالص من الرُّغوة فسمي: فصيحًا (¬3). وقوله: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} قال المفسرون: عونًا ومعينًا (¬4). قال النضر: يقال فلان رِدْءٌ لفلان أي: يَنْصُره ويَشُد ظهره، وأصله من قولهم: ردأت الحائط أردأه، إذا دعمته بخشب أو لَبِن يدفعه أن يسقط. وقال يونس: أردأت الحائط بهذا المعنى. وقال الليث: رَدَأْت فلانًا بكذا أي: جعلتُه قوةً له وعمادًا. وأردأتُ فلانًا أي: ردأته (¬5). ¬

_ (¬1) الصريح: المحض الخالص من كل شيء، ويقال لِلَبَن: صريح، إذا لم تكن له رغوة. "تهذيب اللغة" 4/ 237 (صرح). (¬2) اللجلجة: أن يتكلم الرجل بلسانٍ غير بين. "تهذيب اللغة" 10/ 495 (لج). والمجمجة، يقال: مجمج بي: إذا ذهب بك في الكلام مذهبًا على غير الاستقامة، وردك من حال إلى حال. "تهذيب اللغة" 10/ 523 (مجمج)، وفي "اللسان" 2/ 363: مجمج الرجل في خبره: إذا لم يبينه. (¬3) "تهذيب اللغة" 4/ 253 (فصح)، بنحوه. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 91، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير 20/ 74، وابن أبي حاتم 9/ 2977، عن مجاهد وقتادة و"تفسير مقاتل" 65 ب و"الأضداد" لابن الأنباري 208. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 333. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 2977، عن مسلم بن جندب، أنه قال: {رِدْءًا} أي: زيادة. (¬5) كتاب "العين" 8/ 67 (ردء).

ابن السكيت: أردأتُ الرجلَ إذا أعنتُه (¬1). أبو عبيدة: أردأته على عدوه، وعلى ضيعته أي: أعنته (¬2). وقرأ نافع: (ردًا) بغير همز (¬3)، خفف الهمزة وألقى حركتها على الساكن الذي قبلها، نحو: {الْخَبْءَ} [النمل: 25] فيمن خفف (¬4). وقد جاء (¬5) في بعض القوافي: في (¬6) الردء الرد (¬7)، وذلك على أنه وقف بعد التخفيف على الحرف فشدده، كما ثُقِّل: هذا فَرَجٌّ، وهذا خَالِدٌّ، فضُعَّف الحرف للوقف، ثم يُطلق كما أطلق نحو: سبسبَّا والقَصَبَّا (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 14/ 167 (ردأ)، من بداية قول النضر بن شميل. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 104. ونقله عنه أبو علي في الحجة 5/ 420. (¬3) قرأ نافع وحده: (ردًا) مفتوحة الدال، منونة غير مهموزة. وقرأ الباقون: {رِدْءًا} ساكنة الدال مهموزة "السبعة في القراءات" 494، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 420، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 175، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 341. وقراءة نافع يعبر عنها بالنقل؛ قال السمين الحلبي: وقرأ نافع: (ردا) بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينونه كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ونافع ليس من قاعدته النقل في كلمة إلا هنا، وقيل: ليس فيه نقل وإنما هو من أردى على كذا. "الدر المصون" 8/ 677، وفي الحاشية: النقل: نقل حركة الهمزة إلى الدال ثم حذف الهمزة. (¬4) سبق ذكر هذه القراءة في تفسير قوله تعالى {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [النمل: 25]. (¬5) وقد جاء. ساقطة من نسخة (ج). (¬6) في. ساقطة من نسخة: (ب). (¬7) لم يذكر الواحدي مثالاً على ما جاء في بعض القوافي، وبحثت عن ذلك فلم أجد. (¬8) هاتان الكلمتان من قول رؤبة بن العجاج 169، من قصيدة له يصف فيها الجراد في انتشاره، وسرعة مره كالسيل إذا امتد، وكالحريق، أي: النار في القصب أو التبن, حاشية "المسائل العسكرية" 224، وفيه ذكرِ أبيات رؤبة، وأما أبو علي في "المسائل العسكرية" فقد ذكر الشطر الآتي ولم ينسبه: مثلُ الحريق وافق القصبَّا. =

35

وقال أبو الحسن: هو فعل من رَددتُ، أي: يَرُدَّ عني (¬1). قوله: {يُصَدِّقُنِي} قرئ بالرفع، والجزم (¬2). فمن رفع فهو صفة للنكرة، وتقديره: ردءًا مصدقًا، وسأل ربه إرساله بهذا الوصف. ومن جزم كان على معنى الجزاء، أي: إن أرسلته صدقني، وهو جيد في المعنى؛ لأنه إذا أرسله معه صدقه (¬3). والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل: لكي يصدقني فرعون (¬4)؛ والقول هو الأول. 35 - وقوله: {قَالَ} أي: قال الله لموسى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: سنعينك ونقويك به (¬5). ¬

_ = وذكر الكلمة الأولى: سبسبَّا سيبويه، "الكتاب" 4/ 169، وفي الحاشية: إشارة إلى قول العجاج: تترك ما أبقى الدُّبى سَبْسَبًّا وفي حاشية "الحجة" 1/ 65: ذكر البيت كاملاً، وصدره: وهبت الريح بمور هبَّا ثم قال: المور بضم الميم: الغبار، والسبسب: القفر، والدَّبا بتشديد الدال المفتوحة: الجراد. والشاهد في هذا كله: تفعيف الباء للضرورة؛ قال أبو علي: ويضطر الشاعر فيجري الوصل بهذه الإطلاقات في القوافي مجرى الوقف، وقد جاء ذلك في النصب أيضًا، ثم ذكر بيت رؤبة، ثم قال: وهذا لا ينبغي أن يكون في السعة. "المسائل العسكرية" 224. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 420. (¬2) قرأ عاصم وحمزة: {يُصَدِّقُنِي} بضم القاف، وقرأ الباقون: {يصْدقني} بجزم القاف. "السبعة في القراءات" 494، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 421، وإعراب القراءات السبع وعللها 2/ 175، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 341. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 421، وهو قول الأخفش، "معاني القرآن" 2/ 653. (¬4) "تفسير مقاتل" 65 ب. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 104. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 144. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب.

وشَدُّ العضد مَثَلٌ في التقوية والإعانة. وذلك أن من قَوّيت عضدَه فقد أعنته. قوله تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: أي: حجة تدل على النبوة (¬1). قال أبو إسحاق: أي حجة نَيَّرة، والسلطان أبين الحجج، ولذلك قيل للزيت: السَّليط؛ لأنه يستضاء به (¬2). وقوله: {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي: بقتل ولا بسوء ولا أذى؛ وذلك أنهما خافا من فرعون أن يقتلهما، وهو قوله: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] (¬3). وقوله: {بِآيَاتِنَا} قال المبرد: فيه تقديم وتأخير، المعنى: سلطانًا بآياتنا {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} (¬4). وذكر أبو إسحاق وجهين آخرين؛ أحدهما: أن يكون {بِآيَاتِنَا} من صلة: {يَصِلُونَ} كأنه قال: {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} تمتنعان منهم بآياتنا. والثاني: أن يكون {بِآيَاتِنَا} مُبِينًا عن قوله: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} أي: تغلبون بآياتنا (¬5). وهذا معنى قول ابن عباس؛ يريد: قد أعطيتك آياتٍ تقوى بها على جميع الخلق، فلا يَصِل إلى أذاك أحدٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 76، عن مجاهد، والسدي، و"تفسير مقاتل" 65 ب، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 333، ولم ينسبه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 144. (¬3) استدل بهذه الآية على هذا المعنى مقاتل 65 ب. (¬4) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 22، ولم ينسبه. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 144، ولم ينسبه.

36

36 - قوله تعالى: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قِبل نفسك. أي: لم يأتوا بحجة يدفعون بها ما أظهر من الآيات إلا أن قالوا: إنها سحر. والإشارة في قوله: {مَا هَذَا} تعود إلى ما ذكرنا؛ كأنهم قالوا: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر (¬1). 37 - {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} أي: هو أعلم بالمحق منا، ومن الذي جاء بالبيان من عنده (¬2). قال مقاتل: أي فأنا الذي جئت بالهدى من عند الله (¬3). وقوله: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: وهو أعلم بمن تكون له الجنة (¬4) {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لا يسعد من أشرك بالله. قاله ابن عباس (¬5). وهذه القطعة مفسرة في سورة: الأنعام (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 20/ 76، بمعناه. (¬2) "تفسير ابن جرير" 20/ 76، بمعناه. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬4) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2978، من طريق الضحاك، ولفظه: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} يقول: الكافرون. (¬6) عند قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [135] قال الواحدي: موضع {مِن} نصب بوقوع العلم عليه، ويجوز أن يكون رفعًا على معنى: تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12] والوجهان ذكرهما الفراء، قال ابن عباس: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} يعنىِ: الجنة .. إلى آخر كلامه، فانظره هناك.

38

38 - وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} قال مقاتل: يقول: أوقد النار على الطين، حتى يصير اللبِن آجرًا. وكان فرعون أول من طبخ الآجر (¬1). [ونحو هذا قال قتادة: إنه أول من طبخ الآجر (¬2). وقال أبو إسحاق: أي اعمل لي الآجر] (¬3) (¬4). {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} يعني: قصرًا طويلًا عاليًا مرتفعًا. قاله ابن عباس والمفسرون (¬5). وتفسير الصرح مذكور في سورة: النمل (¬6). {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} قال ابن عباس: أصعد إليه (¬7). وهذا إيهام من فرعون للناس أن الذي يدعوه إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة، (¬8) حيث قال: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 66 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب، ولم ينسبه. (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 91، وابن جرير 20/ 77، وابن أبي حاتم 9/ 2979. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 145، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 333، والآجُرُّ، والأجُرُّ، والآجِرُ، والآجُرُ: طبيخ الطين، وهو الذي يبنى به. "لسان العرب" 4/ 11 (أجر). (¬5) "تفسير مقاتل" 66 أ، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 333، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 145. و"تفسير الثعلبي" 8/ 147 ب. (¬6) عند قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [44]. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 78, وابن أبي حاتم 9/ 2979، عن السدي. و"تنوير المقباس" 327. (¬8) لفظ الجهة والمكان لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولم يتكلم به سلف الأمة, وإنما الذي ورد وصف الله تعالى بالعلو على خلقه واستوائه على عرشه، وأنه تعرج إليه الملائكة والروح، ويصعد إليه الكلم الطيب، قال شيخ الإسلام:. فيقال لمن =

مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي في ادعائه إلها غيري، وأنه رسوله (¬1). قال أبو إسحاق: قد اعترف بأنه شاكٌ لم يتيقن أن موسى كاذب. وفي هذا بيانُ أنه كَفَرَ بموسى على غير تيقن أنه ليس بنبي (¬2). وقال مقاتل: يقول: إني لأحسب موسى من الكاذبين فيما يقول: إن في السماء إلهًا (¬3). قال الكلبي: يقول: إني لأظن موسى كاذبًا، ما في السماء من شيء (¬4). وهذان القولان يوهمان التشبيه والقولَ بالجهة (¬5). ¬

_ = نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق فالله تعالى ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالَم فلا ريب أن الله فوق العالَم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة؛ أتريد بذلك أن الله فوق العالَم، أو تريد: أن الله تعالى داخل في شيء من المخلوقات فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل. وكذلك يقال في المكان. "التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية" 168، و"مختصر العلو للعلي الغفار" للذهبي 68. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 148 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 145. (¬3) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬4) "تنوير المقباس" 327. (¬5) هذا الكلام من الواحدي -عفا الله عنه- تلميح لنفي صفة العلو. قال شيخ الإسلام: والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. لكن لفظ التشبيه في كلام الناس لفظ مجمل؛ فإن أراد بلفظ التشبيه ما نفاه القرآن ودل عليه العقل فهذا حق؛ فإن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته وإن أراد بالتشبيه أنه لا يُثبَت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له علم ولا قدرة ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات، فلزمه أن لا يقال له: حي عليم قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك. "منهاج السنة" 2/ 110.

39

39 - قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} أي: تعظموا عن الإيمان, ولم ينقادوا للحق، ولِمَا دعاهم إليه موسى {فِي الْأَرْضِ} في أرض مصر {بِغَيْرِ الْحَقِّ} (¬1) قال ابن عباس: بالباطل والظلم والعدوان. وقال مقاتل: بالمعصية (¬2). 40 - قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} قال ابن عباس: يريد: في البحر المالح؛ بحر القُلْزُم (¬3). وقال قتادة: هو بحر من وراء مصر غرقهم الله فيه (¬4). وقال مقاتل: يعني: بحر النيل الذي بمصر (¬5). والمعروف أنه غرق في بحرٍ غير النيل (¬6). ¬

_ (¬1) ولا يفهم من هذا الآية أن الاستكبار قد يكون بحق، فإن هذا غير مراد، وهو كقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وأفضل ما يحمل عليه المعنى: دفع أدنى شبهة لهم في الاستكبار فهم تكبروا بدون أدنى شبهة، أو اشتباه في الأمور، وكذا في قتل الأنبياء فإن أولئك قد قتلوا الأنبياء بدون أدنى شبهة يتعلقون بها. والله أعلم. "القواعد الحسان لتفسير القرآن" للسعدي، القاعدة 25، ص: 82. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬3) القُلْزُم: مأخوذ من القلزمة؛ وهي ابتلاع الشيء، وسمي بحر القلزم بهذا لالتهامه من ركبه. "معجم البلدان" 4/ 439، قال ياقوت: وهو البحر الذي غرق فيه فرعون. وفي "المعجم الوسيط" 2/ 754: القلزم: بلد قديم بني في موضعه: السويس، وبحر القلزم: البحر الأحمر. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 78، وابن أبي حاتم 9/ 2980. وذكره عنه الثعلبي 8/ 148 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬6) الذي يظهر أن لا دليل على شيء بما ذكر، ولا ينافي حصول هذه الآية الاختلاف في تحديد مكانه، وظاهر الآيات المصرحة بالبحر كقوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] تدل على أنه البحر المالح. والله أعلم.

41

41 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قال ابن عباس: يريد أئمة ضلالة (¬1). وقال الكلبي ومقاتل: قادة في الكفر والشرك (¬2). جعل فرعون وملأه قادة في الشرك، فأتبعهم أهل مصر. ومعنى الإمام في اللغة: المقدم للإتَّباع (¬3). ورؤساءُ الضلالة قُدِّموا في المنزلة؛ لأنهم يُتبعون فيما يَدْعون إليه. وقوله: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} قال ابن عباس ومقاتل: يدعون إلى الشرك بالله (¬4)، فمن أطاعهم ضل ودخل النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} لا يمنعون من العذاب (¬5). 42 - وقوله: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} مفسر في موضعين من سورة: هود (¬6). قال مقاتل في هذه الآية: يعني: الغرق (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2980. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 أ. و"تنوير المقباس" 327. (¬3) الإمام: كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم، أو كانوا ضالين. "تهذيب اللغة" 15/ 638 (أم). (¬4) "تفسير مقاتل" 66 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2980، عن مجاهد بلفظ: يدعون إلى المعاصي. (¬5) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬6) عند قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [60] وقوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} قال الواحدي في تفسير هذه الآية: أي: أردفوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم؛ هذا معنى الإتباع، وهو أن يتبع الثاني الأول ليتصرف معه بتصرف. ومعنى اللعنة: الإبعاد من رحمة الله ومن كل خير. (¬7) "تفسير مقاتل" 66 أ.

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: من المبعدين الملعونين (¬1)؛ من القُبْح، وهو: الإبعاد. قال الليث: يقال: قَبَحَه الله، أي: نحَّاه من كل خير (¬2). وقال أبو زيد: قَبَحَ الله فلانًا قُبْحًا وقُبُوْحًا، أي: أقصاه وباعده من كل خير، كقبوح الكلب والخنزير، قال الجعدي: ولَيْسَتْ بْشوهَاءَ مَقْبُوحَةٍ ... تُوافِي الديارَ بوجهٍ غَبِر قال أبو عبيدة: {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} المهلكين (¬3). وقال ابن عباس: يريد: تسود وجوههم، وتزرق أعينهم، ويشوه خلقهم (¬4). وقال الكلبي: يعني: سَواد الوجه، وزرقة العين (¬5). وهذا يوجب أن يكون {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} بمعنى: المقبَّحين. وقد روى أبو عبيد عن أبي عمرو: قَبَحْتُ له وجهَه، مخففة؛ بمعنى: قَبَّحت (¬6). وأهل اللغة في: {الْمَقْبُوحِينَ} على القول الأول (¬7). قال أبو علي الفارسي في إعراب هذه الآية: يحتمل أن يكون: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ولعنةً يوم القيامة، فحذف المصدر، ¬

_ (¬1) أخرج ابن جرير 20/ 79، عن قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة. (¬2) كتاب "العين" 3/ 53 (قبح). ونقله عنه الأزهري 4/ 75. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 106. وقال الثعلبي 8/ 148 أ: الممقوتين. وكذا في "وضح البرهان" 2/ 152. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 8/ 148 أ. (¬5) "تنوير المقباس" 327. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 75 (قبح). (¬7) المراد به: {الْمَقْبُوحِينَ} المبعدين.

43

وأقيم {يَوْمَ} مقامه، فانتصب انتصاب المفعول به، ويكون {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} جملة استغني عن حرف العطف فيها بما تضمنت من ذكرهم، كما استغني عنه بذلك في قوله: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ولو كانت الواو لكان ذلك حسنًا كما قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} [الكهف: 22] قال: ويجوز أن يكون: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} محمولَّا عَلى موضع: في هذه الحياة الدنيا، كما قال الشاعر: إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا (¬1) ويشهد لهذين الوجهين قوله: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] وقوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60] ويكون قوله: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} على ما ذكرنا في الوجه الأول. قال: ويجوز أن يكون العامل فيه: {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} لأن فيه معنى فعل، وإن كان الظرف متقدمًا، كأنه قيل: ويوم القيامة يقبحون. كما أجاز سيبويه: كل يوم لك ثوب. 43 - وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} قال مقاتل: يعني قوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم، كانوا قبل موسى (¬2). ¬

_ (¬1) أنشده كاملًا سيبويه 1/ 68، ونسبه لكعب بن جعيل، وصدره: ألا حيَّ ندماني عمير بن عامر الندمان، ومثله: النديم: الذي يجالسك ويشاربك، وفي الحاشية: شاهده عطف: غدًا، على محل: اليوم،؛ لأنه مسبوق بمن الزائدة. وأنشده المبرد "المقتضب" 4/ 112، وابن جني "المحتسب" 2/ 362، ولم ينسباه. وهو في "الإنصاف" 1/ 335، غير منسوب، قال: فنصب: غدًا، حملًا على موضع: من اليوم، وموضعها نصب. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 أ.

44

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أهلك الله -عز وجل- قومًا بعذاب من السماء منذ أنزل الله سبحانه التوراة؛ غير القرية التي مسخوا قردة، ألم تر أن الله -عز وجل- قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} " (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد من بعد ما غرق فرعون وقومه، وخسف بقارون (¬2). والقول هو الأول. وقوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} قال أبو إسحاق: المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر، أي: هذه حال ايتائنا إياه الكتاب مبينًا للناس (¬3). وقال مقاتل: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} في هلاك الأمم الخالية، بصيرة لبني إسرائيل، وغيرهم (¬4). وعلى هذا التقديرُ: أهلكناهم بصائر للناس؛ ليتبصروا ويعتبروا بهلاكهم. والقول ما قاله أبو إسحاق؛ لأن المعنى: آتينا موسى الكتاب بصائر للناس؛ ليتبصروا به، فدل على صحة هذا قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} وهو من صفة الكتاب، يعني: التوراة هدى من الضلالة، لمن عمل به، ورحمة لمن آمن به من العذاب (¬5). 44 - وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} قال قتادة والسدي ومقاتل: ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 2/ 442، رقم: 3534، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه من هذا الطريق الثعلبي 8/ 148 أ، وأخرجه ابن جرير 20/ 80، وابن أبي حاتم 9/ 2981، موقوفًا على أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬2) ذكره القرطبي 13/ 290، ولم ينسبه، وصدره بـ: قيل. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 146. (¬4) "تفسير مقاتل" 66 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 66 أ، بنصه.

يعني جبلًا غربيًّا (¬1). وهو اختيار أبي إسحاق (¬2). أي: وما كنت بجانب الجبل الغربي. وقال أبو علي الفارسي: هذا على جانب المكان الغربي، لا يكون على غير ذلك، يعني: أنه لا يكون الجانب مضافًا إلى الغربي؛ لأنه هو الغربي (¬3). وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي (¬4). قال ابن عباس: يريد: حيث ناجى موسى ربَّه. وقوله: {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} قال مقاتل: إذ عهدنا إلى موسى الرسالة إلى فرعون وقومه. وهو قول المفسرين (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: إذ أخبرناه أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأمم (¬6). قوله: {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} لذلك الأمر (¬7). وقال ابن عباس: لم ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 91، وابن أبي حاتم 9/ 2982، عن قتادة، وقد تصحفت فيه كلمة: غربيًّا، إلى: قريبًا، وهذه الطبعة للكتاب مليئة بأخطاء كثيرة جدًا، في الآيات، والأحاديث، والأقوال، فلم تحظ بأدنى قسط من التحقيق. وقول مقاتل في "تفسيره" 66 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 146. (¬3) قال السمين الحلبي: قوله: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} يجوز أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه؛ أي: بجانب المكان الغربي، وأن يكون من إضافة الموصوف لصفته، وهو مذهب الكوفيين. "الدر المصون" 8/ 680. (¬4) ذكره عنه الشوكاني 4/ 169، وفي "تنوير المقباس" 327: الجبل. (¬5) "تفسير مقاتل" 66 ب، و"تفسير ابن جرير" 20/ 80، بمعناه. (¬6) نسبه لابن عباس، القرطبي 13/ 291 (¬7) "تفسير مقاتل" 66 ب.

45

تحضر ذلك (¬1). وقال الكلبي: لم تشاهد ما هنالك (¬2). قال صاحب النظم: ليس للحضور هاهنا معنى؛ لأن قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} قد أغنى عنه، وهو من الشهادة على الشيء، يعني: لم نُشهدك على ما جرى هنالك. 45 - قوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} أي: خلقنا أممًا من بعد موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي: طالت عليهم المهلة، فنسوا عهد الله، وتركوا أمره (¬3). قال ابن عباس: مِثْلُ قوله في الحديد: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [16] (¬4). قال صاحب النظم: قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} لا يقال إلا لرجل قد كان جرى له ذكر في موضع بخير أو شر، فهو إعلام من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه أجرى ذكرَه في هذا الموضع لمعنى؛ إلا أنه غير موقوف على حقيقته، فلما قال: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} دل ذلك على أنه قد عهد إلى قوم موسى عهودًا، فلما طال عليهم العمر نسوها، وتركوا الوفاء بها، وطول العهد والعمر ينسي العهودَ والوفاءَ بها، ألا ترى أن موسى لما عاتب قومه في اتخاذ العجل قال لهم: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: 86]، وذكرَ الله -عز وجل- في مواضع ما عهدَه إلى قوم موسى في التوراة من الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يحتمل أن يكون هذا الذي أُومِئَ إليه في هذا ¬

_ (¬1) قال الثعلبي 8/ 148 أ: الحاضرين. ولم ينسبه. (¬2) "تنوير المقباس" 327، بلفظ: من الحاضرين هناك. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 148 أ. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 148 أ، ولم ينسبه لابن عباس.

46

الموضع إلا العهد الذي ذكره في مواضع، فالذي خلص من تأويل هذا الفصل على ما درجنا: أنه -عز وجل- ذكر امتنانه على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه لما بعث موسى نبيًا ورسولًا إلى فرعون، أعلمه في ذلك الوقت أنه يبعث من ولد إسماعيل نبيًا، وأنه أخذ بعد ذلك على أمته عهدًا أن يؤمنوا به، وأن العلة في كفرهم به بعد أخذ العهد إنشاؤه منهم قرنًا بعد قرن، فتطاول العمر عليهم حتى نسوا ذلك، وتهاونوا به فلم يؤمنوا. وقوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} أي: مقيمًا في أهل مدين (¬1)، كمقام موسى وشعيب فيهم {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تذكرهم بالوعد والوعيد. قال مقاتل: يقول لم تشهد أهلَ مدين فتقرأ على أهل مكة خبرَهم {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أرسلناك إلى أهل مكة (¬2)، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها. قال أبو إسحاق: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تُليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك (¬3). 46 - قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} قال مقاتل: يعني: بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليمًا (¬4) {إِذْ نَادَيْنَا} قال ابن عباس: إن الله تعالى وتبارك نادى: يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 107. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 333، و"تفسير ابن جرير" 20/ 81، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 146. و"تفسير الثعلبي" 8/ 148 أ. وقال مقاتل 66 ب: شاهدا. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 147. (¬4) "تفسير مقاتل" 66 ب.

قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني. ونحو هذا روي عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير موقوفًا عليه (¬1). وروي عنه عن أبي هريرة مثل ما ذكرنا عن ابن عباس (¬2). قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكرَ الله له فضل محمد وأمته، قال: يا رب أرينيهم، قال الله: إنك لن تدركهم، وإن شئت ناديتُ أمته فأسمعتُك صوتَهم، قال: بلى يا رب، فقال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، ثم قال الله تعالى: قد أجبتكم قبل أن تدعوني (¬3)، كما ذكر ابن عباس. وقال مقاتل بن حيان: {إِذْ نَادَيْنَا} أمتك وهم في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بُعثتَ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 91، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي مدرك، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، رفع الحديث هكذا في تفسير عبد الرزاق. وأخرج ابن جرير 20/ 81، والثعلبي 8/ 148 ب، من كلام أبي زرعة. وأبو زُرعة، قيل اسمه: هرم، وقيل: عمرو، وقيل غير ذلك، ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البَجلي، الكوفي، من الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين، ثقة. "سير أعلام النبلاء" 5/ 8، و"تقريب التهذيب" 1148. ولا يصح رفع هذا الحديث كما هي رواية عبد الرزاق لأنه برفعه يكون الحديث مرسلاً. والصواب: وقفه، كما قال الواحدي. والله أعلم. (¬2) أخرجه النسائي في "تفسيره" 2/ 143، رقم: 401، موقوفًا على أبي هريرة من طريق أبي زرعة، وكذا الحاكم 2/ 443، رقم: 3535، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. ومن طريق أبي زرعة أخرجه ابن جرير 20/ 81، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 148 ب، من كلام وهب بن منه. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2983.

47

وقال السدي: {إِذْ نَادَيْنَا} موسى (¬1). ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان (¬2)، فعلى هذا المنادى: موسى. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ولكن رحمناك رحمة بإرسالك، والوحي إليك (¬3). قال الزجاج: المعنى: فعلنا ذلك للرحمة، كما تقول: فعلت ذلك ابتغاء الخير، فهو مفعول له (¬4). وقال مقاتل: يقول: ولكن كان (¬5) القرآن رحمة من ربك، يعني: نعمة، يعني: النبوة حين اختصصت بها، وأوحينا إليك أمرهم ليعرف كفار مكة نبوتك، فذلك قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} (¬6) يعني: أهل مكة (¬7) {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس: يتعظون (¬8). 47 - قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} قال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من المعاصي، يعني: كفار مكة (¬9) {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ} هلا أرسلت إلينا رسولاً (¬10) {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2984، عن قتادة. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬3) قال الأخفش: فنصب {رَحْمَتَ} على: ولكن رحمك ربك رحمة. "معاني القرآن" 2/ 653. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 147. (¬5) كان. ساقطة من نسخة (ج). (¬6) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬7) "تفسير الثعلبي" 8/ 148 ب. (¬8) "تنوير المقباس" 327. (¬9) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬10) "مجار القرآن" لأبي عبيدة 2/ 107.

48

يعني القرآن {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين بتوحيد الله (¬1). والمعنى: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة لكفرهم. وجواب {لَوْلَا} محذوف؛ تقديره ما ذكرنا (¬2). وقال مقاتل في تقدير الجواب: لأصابتهم مصيبة (¬3). قال الزجاج: أي: لولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسول، ومواترة الاحتجاج (¬4). 48 - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} قال ابن عباس: جاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5). قال مقاتل: يعني القرآن (¬6). قال أبو إسحاق: أي: فلما جاءت الحجة القاطعة التي كان يجوز أن يعتلوا بتأخرها عنهم {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي: هلا أوتي محمد من الآيات مثلَ ما أوتي موسى من العصا واليد، وغير ذلك. قاله ابن عباس (¬7). وقال مقاتل: هلا أعطي محمد القرآن جملة واحدة {مِثْلَ مَا أُوتِيَ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬2) قال الثعلبي 8/ 148 ب: جواب {لَوْلَا} محذوف، أي: لعاجلناهم بالعقوبة. (¬3) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬4) هكذا في النسخ الثلاث، وكذا في "معاني القرآن" للزجاج 4/ 147؛ أي: متابعة الاحتجاج. والله أعلم. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 83، والثعلبي 8/ 148 ب، ولم ينسباه. (¬6) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 147، ولم ينسبه. أخرج ابن جرير 20/ 83، وابن أبي حاتم 9/ 2984، عن مجاهد: يهود تأمر قريشًا أن تسأل محمدًا مثل ما أوتي موسى.

مُوسَى} التوراة جملة واحدة (¬1). قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من التوراة (¬2) قبل القرآن. يعني: كفار مكة احتج الله عليهم لما قالوا: هلا أوتى محمد مثل ما أوتى موسى؟ بكفرهم بما أوتي موسى. أي: فقد كفروا بآيات موسى، كما كفروا بآيات محمد، و {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قال الكلبي: وذلك أنهم بعثوا رهطًا إلى يهود المدينة يسألونهم عن بعث محمد وشأنه! فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فرجع الرهط إليهم، وأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} (¬3). وقرئ (سَاحِرَانِ) (¬4) وهو اختيار أبي عبيدة؛ لقوله: {تَظَاهَرَا} أي: تعاونا، والمعاونة إنما تكون في الحقيقة للساحرين، لا للسحرين (¬5)، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 66 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 148 ب، ولم ينسبه. والتأويل الأول أقرب؛ لأنهم سألوا معجزات مادية محسوسة كما ذكر الله عنهم في آخر سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الآيات [90 - 93]. (¬2) في نسخة: (أ)، (ب): أي: أولم يكفروا بتوراة موسى. (¬3) ذكره الثعلبي 8/ 149 أ، عن الكلبي. وظاهر هذا أن الآية خطاب لكفار قريش، وفيها التشنيع عليهم بكفرهم بموسى عليه الصلاة والسلام، وهذا بعيد، والأقرب ما أخرجه ابن جرير 20/ 83، عن مجاهد في تفسير هذه الآية: يقول الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: قل لقريش يقولوا لهم، أي: لليهود: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل. (¬4) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {سِحْرَانِ} ليس قبل الحاء ألف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (سَاحِرَانِ) بألف قبل الحاء. "السبعة في القراءات" 495، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 423، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 341. (¬5) ذكر هذا التوجيه أبو علي في "الحجة" 5/ 423، ولم ينسبه لأبي عبيد؛ وإنما نسبه له الثعلبي 8/ 149 أ.

والتظاهر بالناس وأفعالهم أشبه. قال ابن عباس: يريدون: موسى وهارون. وهو قول سعيد بن جبير (¬1). وروى مسلم بن يسار عن ابن عباس قال: يعنون: موسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم، وهو قول الحسن (¬2). ومن قرأ: {سِحْرَانِ} أراد: الكتابين (¬3). قال مقاتل: يعنون التوراة والقرآن (¬4). وهو قول عكرمة والكلبي (¬5). وعلى هذا معنى: {تَظَاهَرَا} تعاونا على الضلالة (¬6)؛ كأن المعنى: كل سِحرٍ منهما يقوي الآخر، ويتفقان، فنسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 84، وابن أبي حاتم 9/ 2985، عن مجاهد، وسعيد بن جبير. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 83، وابن أبي حاتم 9/ 2985، عن ابن عباس، من طريق: مسلم بن يسار. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 92، عن الكلبي. وذكره الفراء، ولم ينسبه، وصدره بـ: يقال. "معاني القرآن" 2/ 306. واقتصر عليه النيسابوري، في "وضح البرهان" 2/ 153. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 423. (¬4) "تفسير مقاتل" 66 ب. وذكره الثعلبي 8/ 149 أ، ولم ينسبه. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 92، عن الكلبي، وهو في "تنوير المقباس" 328. وأخرج عبد الرزاق 2/ 92، رواية تخالف ما ذكر عن عكرمة؛ فعن مجاهد قال: سألت ابن عباس وهو بين الركن والباب، في الملتزم، وهو متكئ على يد عكرمة مولاه، فقلت: أسحران، أم ساحران قال: فقلت ذلك مرارًا، فقال عكرمة: ساحران, اذهب أيها الرجل، أكثرت عليه. وأخرج القول بأن المراد بهما: القرآن والتوراة, ابن جرير 20/ 84، عن ابن عباس، وابن زيد. (¬6) "تفسير مقاتل" 66 ب. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 107. (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 423.

49

وقوله تعالى. {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} قال ابن عباس: يريدون: الذي جئتَ به، والذي جاء به موسى (¬1). وقال مقاتل: بالتوراة والقرآن كافرون لا نؤمن بهما (¬2). قال الله لنبيه -عليه السلام-: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 49 - {قُلْ} لكفار مكة (¬3): {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} قال ابن عباس: يريد: من القرآن والتوراة (¬4). يقول: أنا أتبعه إن جئتم بأفضل مما جئتُ به إليكم، والذي جاء به موسى. وهذا دليل لقراءة من قرأ: {سِحْرَانِ} وذلك أنهم لَمَّا قالوا: القرآن والتوراة {سِحْرَانِ} قيل لهم: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ} {أَهْدَى مِنْهُمَا} ومن قال: (سَاحِرَانِ) قال: المعنى: هو أهدى من كتابيهما، فحذف المضاف. ذكر ذلك أبو إسحاق، وأبو علي (¬5). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال مقاتل: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بأنهما {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} (¬6). 50 - {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} قال مقاتل: فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن (¬7). وقال عطاء عن ابن عباس: فإن لم يؤمنوا بما جئت به. والأول ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن جرير 20/ 85، وابن أبي حاتم 9/ 2986، عن مجاهد، وابن زيد. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 86، عن ابن عباس. (¬3) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 86، وابن أبي حاتم 9/ 2986، عن ابن زيد. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 148، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 423. (¬6) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬7) "تفسير مقاتل" 66 ب.

50

أظهر. {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} قال أبو إسحاق: أي: فاعلم أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا فيه الهوى، وقد علموا أن الذي أتيتَ به الحق (¬1). ثم ذمهم فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} أي: لا أحد أضل (¬2) ممن يتبع هواه بغير رشاد، ولا بيان جاءه من الله. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} لا يجعل جزاء المشركين الجاحدين آياته أن يهديهم إلى دينه. 51 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قال الفراء: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضًا (¬3). وقال أبو عبيدة: أتممنا (¬4)، كوصل الشيء بالشيء. وقال المبرد: تأويله: بَينَّا، وإنما هو من وصْلِ بعضه ببعض، والتثقيل يدل على المبالغة. وقال الزجاج: أي: فصلناه بأن وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص مَنْ مضى بعضها ببعض (¬5). وقال ابن قتيبة: أي أتبعنا بعضه بعضًا فاتصل عندهم؛ يعني: القرآن (¬6). هذا قول أهل المعاني وألفاظهم؛ وهي مأخوذة من ألفاظ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 148. (¬2) "تفسير مقاتل" 66 ب. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 307. (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 108. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 148. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 333.

51

المفسرين؛ قال مجاهد: فصلنا القول لقريش (¬1). وقال الكلبي: بينا لهم القول في القرآن (¬2). وهو قول السدي ومقاتل وسفيان بن عيينة (¬3). ومن فسر التوصيل بالتفصيل؛ أراد به: البيان؛ فإن القول يفصَّل للبيان، وُيوصَل بعضه ببعض للبيان. قال قتادة: وصلَ لهم القول في هذا القرآن يُخبرهم كيف صَنع بمن مضى (¬4). وقال الكلبي: فصل لهم القرآن بما يدعوهم إليه مرة بعد مرة. وقال ابن زيد: {وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} في الخبر عن أمر الدنيا والآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا (¬5). وقال مقاتل: يقول لقد بينا لكفار مكة بما في القرآن من خبر الأمم الخالية (¬6) كيف عذبوا بتكذيبهم (¬7). {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكي يتعظوا ويخافوا فيؤمنوا (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 87، وابن أبي حاتم 9/ 2987. (¬2) "تنوير المقباس" 328. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2978، عن السدي، و"تفسير مقاتل" 66 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 87، وابن أبي حاتم 9/ 2988. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 88. وذكره الثعلبي 8/ 149 أ. (¬6) في نسخة: (ج): الماضية. (¬7) "تفسير مقاتل" 66 ب. وفي مرجع الضمير في قوله تعالى: {وَصَّلْنَا لَهُمُ} قولان ذكر الواحدي أحدهما، وهو: رجوعه لقريش، والثاني: يرجع لليهود، أخرجه ابن جرير 20/ 88، عن رفاعة القرظي -رضي الله عنه-، قال: نزلت هذه الآية في عشرة، أنا أحدهم. ولا تعارض بين القولين. والله أعلم. (¬8) "تفسير مقاتل" 66 ب.

52

52 - قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل القرآن (¬1). قال ابن عباس والسدي: نزلت في عبد الله بن سلام وابن يامين، ومن أسلم من اليهود (¬2). وقال قتادة: كنا نُحَدَّث أنها نزلت في أناس من أهل الكتاب؛ كانوا على شريعة من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا وصدقوا (¬3). وقال ابن عباس: نزلت في أهل الإنجيل (¬4). وهو قول مقاتل؛ قال: نزلت في مسلمي أهل الإنجيل، كانوا مسلمين قبل أن يبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أربعين رجلًا؛ اثنان وثلاثون من الحَبَش قدموا مع جعفر بن أبي طالب، المدينة، وثمانية نفر قدموا من الشام، فنعتهم الله في كتابه (¬5). 53 - قوله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن (¬6) {قَالُوا آمَنَّا بِهِ} صدقنا بالقرآن {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} (¬7) وذلك أن ذكرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مكتوبًا ¬

_ (¬1) قال الثعلبي 8/ 149 أ: {مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-. وبين القولين تلازم. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 89، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم 9/ 2988، عن ابن عباس، والسدي، وفي خبر السدي ذكر قصة عبد الله بن سلام لما أسلم، وأخرج ابن جرير 20/ 89، عن مجاهد: هم مسلمة أهل الكتاب. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 89، وابن أبي حاتم 9/ 2990، عن قتادة، وفيه: منهم: سلمان، وعبد الله بن سلام. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 89, وابن أبي حاتم 9/ 2988، عن ابن عباس، بلفظ: من آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب. (¬5) "تفسير مقاتل" 67 أ. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2988، عن سعيد بن جبير، أن المراد بهذه الآية: النصارى الذين قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، من الحبشة فآمنوا. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 149 أ. (¬7) "تفسير مقاتل" 67 أ. و"تفسير ابن جرير" 20/ 89

54

عندهم في التوراة والإنجيل، فلم يعاند هؤلاء وآمنوا وصدقوا، وقالوا للقرآن: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (¬1) قال مقاتل: إنا كنا من قبل هذا القرآن مخلصين لله بالتوحيد (¬2). وقال الكلبي: يقولون: إنا كنا من قبل أن يأتينا محمد مؤمنين به أنه سيكون (¬3). وقال السدي: يقولون: كنا من قبله على دين إبراهيم وإسماعيل، وتلك الأمم كانوا على دين محمد (¬4). 54 - ثم أثنى الله عليهم خيرًا فقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} أجرًا بتمسكهم بدينهم حتى أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا به، وأجرًا بإيمانهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. قاله مقاتل (¬5). وهو معنى قول ابن عباس: {بِمَا صَبَرُوا} ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" 20/ 89. (¬2) "تفسير مقاتل" 67 أ. (¬3) "تنوير المقباس" 328. وهو قول الفراء، قال: وذلك أنهم يجدون صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابهم فصدقوا به، فذلك إسلامهم، وقال أيضًا: {مِنْ قَبْلِهِ} هذه الهاء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كانت الهاء كناية عن القرآن كان صوابًا؛ لأنهم قد قالوا: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} فالهاء هاهنا أيضًا تكون للقرآن، ولمحمد -صلى الله عليه وسلم-. "معاني القرآن" 2/ 307. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2989. (¬5) "تفسير مقاتل" 67 أ. أخرجه ابن جرير 20/ 90، عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2991، عن الضحاك. وكان الأولى بالواحدي رحمه الله تعالى أن يورد هنا حديث أبي هريرة المتفق عليه؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها ويؤدبها فيحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران، ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمنًا ثم آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فله أجران، والعبد الذي يؤدي حق الله وينصح لسيده". أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد، رقم: 3011، "فتح الباري" 6/ 145، ومسلم 1/ 134، كتاب الإيمان, رقم: 241. وقد أهمل الواحدي إيراده في كتابيه: "الوسيط" و"الوجيز".

55

على دين عيسى، وآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (¬1) وقال قتادة: {بِمَا صَبَرُوا} على الكتاب الأول، والكتاب الثاني (¬2) قال مقاتل: فلما تبعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- شتمهم المشركون فصفحوا عنهم, وردوا معروفًا، فأنزل الله فيهم: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (¬3) أي: يدفعون ما يسمعون من الأذى بالصفح والعفو (¬4). وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك (¬5). قال أبو إسحاقِ: يدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات (¬6). {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأموال {يُنْفِقُونَ} في طاعة الله (¬7). قال ابن عباس: يتصدقون على أهل دينهم (¬8). 55 - {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} قال الكلبي: يعني الباطل (¬9). وهو ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم. ونحو هذا قال مقاتل (¬10). ¬

_ (¬1) هذا على أن المراد بأهل الكتاب: النصارى، كما سبق أن سعيد بن جبير، جعل الآية في النصارى الذين قدموا من الحبشة فآمنوا. أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2988. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 89، وابن أبي حاتم 9/ 2990. (¬3) "تفسير مقاتل" 67 أ. (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 108، بمعناه. (¬5) "تنوير المقباس" 328، بلفظ: يدفعون بالكلام الحسن؛ بلا إله إلا الله الكلامَ القبيح؛ الشرك من غيرهم. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 149. (¬7) "تفسير مقاتل" 67 أ. (¬8) أخرج نحوه ابن جرير 20/ 90، عن قتادة، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 149, بلفظ: يتصدقون، ولم ينسبه. (¬9) "تنوير المقباس" 328، وأخرجه ابن جرير 20/ 90، عن قتادة (¬10) "تفسيره" 67 أ. وأخرجه الطبري 20/ 91، وابن أبي حاتم 9/ 2992، عن مجاهد.

وقوله تعالى: {أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي: عن اللغو، فلم يردوا عليهم مثل ما قيل لهم (¬1). وقال أبو إسحاق: إذا سمعوا ما لا يجوز، وينبغي أن يُلغى لم يلتفتوا إليه (¬2). {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} قال مقاتل: لنا ديننا ولكم دينكم، وذلك حين عيروهم بترك دينهم (¬3). وقال (¬4) غيره: لنا ما رضينا به لأنفسنا، ولكم ما رضيتم به لأنفسكم (¬5). {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} قال السدي: لما أسلم عبد الله بن سلام، جعل اليهود يشتمونه، وهو يقول: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (¬6) ومعناه: أمنة لكم من أن تسمعوا منا ما لا تحبون. قال أبو إسحاق: ولم يريدوا بقولهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} التحية؛ والمعنى: أنهم قالوا: بيننا وبينكم المتاركة والتسليم. وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 67 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 149. (¬3) "تفسير مقاتل" 67 أ. (¬4) في نسخة: (أ)، (ب): وقالوا. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 91، بنصه. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2993. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 149، يعني أن هذه الآية منسوخة بآية الجهاد والقتال، وقد سبق الحديث عن نسخ هذه الآية وما شابهها في سورة الفرقان، عند قوله تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} قال مكي بن أبي طالب: والذي عليه أهل النظر -وهو الصواب- أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن معنى السلام فيها: =

56

وقوله تعالى: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} قال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه (¬1). وقال الكلبي: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه (¬2). وعلى هذا يكون التقدير: لا نبتغي دين الجاهلين (¬3). وقيل: لا نبتغي محاورة الجاهلين (¬4). وقال أبو علي: لا نبتغي مجاراتهم ولا الخوض معهم فيما يخوضون فيه؛ فالمضاف محذوف. 56 - قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قال ابن عباس: يريد أبا طالب (¬5). وقال الكلبي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يسلم عمه أبو طالب، فنزل: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬6). وقال مجاهد في هذه الآية: قال محمد -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب: "قل كلمة الإخلاص أجادلْ بها عنك يوم القيامة"، قال: يا ابن أخي: ملة الأشياخ! (¬7). وقال السدي: نزلت في أبي طالب حين قال له: "قل: لا إله إلا الله، ¬

_ = المتاركة والمداراة من الكفار، وليس من السلام الذي هو التحية؛ لأن السلام عليهم محظور بقوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]. "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" 375. (¬1) "تفسير مقاتل" 67 أ. (¬2) "تنوير المقباس" 328. بلفظ: لا نطلب دين المشركين بالله. (¬3) هذا بنصه كلام الكلبي؛ لا نبتغي دين الجاهلين. "تفسير الثعلبي" 8/ 149 أ. (¬4) "تفسير ابن جرير" 20/ 91. و"تفسير الثعلبي" 8/ 149 أ. ولم ينسباه. (¬5) "تفسير ابن جرير" 20/ 91، و"تفسير الثعلبي" 8/ 149 أ. (¬6) "تنوير المقباس" 328. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 92، وابن أبي حاتم 9/ 2994.

أشهدُ لك بها يوم القيامة"، قال: لولا أن يقولوا: جَزع عمك عند الموت لقلتها! (¬1). وقال مقاتل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا؛ أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي: قد علمتُ أنك صادق، ولكن أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أخيك غضاضة (¬2) ومَسبَّة بعدي لقلتُها, ولأقررت بها عينك عند الفراق، لِمَا أرى من شدة حرصك ونصيحتك، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف!. فأنزل الله هذه الآية (¬3). ونحو هذا قال قتادة والحسن والشعبي وابن عمر (¬4). قال أبو إسحاق: أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب (¬5). وقد حدثنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم -رحمه الله- قال: حدثنا الحسن بن أحمد الشيباني (¬6)، أخبرنا أحمد بن محمد بن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 92، عن أبي هريرة. (¬2) يقال: ما أردت بذا غضيضة فلان، ولا مغضته، كقولك: ما أردت نقيصته، ومنقصته. "تهذيب اللغة" 16/ 36 (غض). (¬3) "تفسير مقاتل" 67 أ. وأخرجها النسائي في كتاب "التفسير" 2/ 144، رقم: 403، عن سعيد بن المسيب عن أبيه. وكذا الثعلبي 8/ 149 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 92، عن أبي هريرة، وسعيد بن المسيب عن أبيه، وابن عمر، ومجاهد وقتادة وأخرجه النسائي في التفسير 2/ 145، عن ابن عمر. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 149. (¬6) الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن مخلد بن شيبان المخلدي، النيسابوري، مع أبا العباس السراج، ومؤمل بن الحسن، وابن الشرقي, =

الحسن الحافظ (¬1)، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة؟ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمه: "قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة"، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش؛ يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله -عز وجل-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬2). ¬

_ = وحدث عنه الحاكم، ويعقوب الصيرفي، وغيرهم. قال الحاكم: هو صحيح السماع والكتب، ومتقن في الرواية, محدث عصره، ت: 389 هـ. "سير أعلام النبلاء" 16/ 539، و"شذرات الذهب" 4/ 477. (¬1) أحمد بن محمد بن الحسن النيسابوري، أبو حامد، ابن الشرقي، حافظ خراسان، سمع محمد بن يحيى الذهلي، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وغيرهم، حدث عنه: أبو علي النيسابوري، وأبو عبد الله الهروي، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" 15/ 37. و"طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 41. (¬2) هذا الحديث ساقه الواحدي بسنده عن شيخه الثعلبي أحمد بن محمد بن إبراهيم. "تفسير الثعلبي" 8/ 149 ب. وأخرجه بهذا اللفظ من طريق يحيى بن سعيد، عن يزيد ابن كيسان، مسلم في صحيحه 1/ 55، كتاب الإيمان, رقم: 25. وأصل الحديث في الصحيحين، من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنده أبو جهل، فقال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب!، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك", فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، رقم 3884، "فتح الباري" 7/ 193، ومسلم 1/ 54 في الإيمان, رقم 24. وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" 338، وذكر تخريج مسلم له. وأخرجه ابن حرير 20/ 92، وابن أبي حاتم 9/ 2994.

57

قال الزجاج: ابتداء نزولها بسبب أبي طالب، وهي عامة؛ لأنه لا يهدي إلا الله -عز وجل-، ولا يرشد ولا يوفق إلا هو، وكذلك هو {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} (¬1). وقال الفراء: {مَنْ أَحْبَبْتَ} يكون على جهتين؛ إحداهما: من أحببته للقرابة، والثانية: من أحببت أن يهتدي، كقولك: إنك لا تهدي من تريد (¬2). قال مقاتل: إنك لا تهدي للإسلام {مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬3) ولكن الله يهدي ويرشد (¬4) من يشاء لدينه. قاله ابن عباس. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} يقول: هو أعلم بمن قدر له الهدى. قاله مجاهد ومقاتل (¬5). 57 - قوله: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قال الكلبي ومقاتل والمفسرون: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف (¬6)، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكن يمنعنا من ذلك أن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 149. وذكر الواحدي قول الزجاج في "أسباب النزول" 338، بإسناده. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 307. (¬3) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬4) ويرشد. ساقطة من نسخة (أ)، (ب). (¬5) أخرج ابن جرير 20/ 93، وابن أبي حاتم 9/ 2995، عن مجاهد. و"تفسير مقاتل" 67 ب. (¬6) الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، من زعماء قريش في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، وقد قتل يوم بدر كافرًا، قتله خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، ثم أسر خبيب يوم الرجيع فابتاعه بنو الحارث بن عامر ليقتلوه بأبيهم، وقصته في ذلك مشهورة. "السيرة النبوية" لابن هشام 3/ 180.

العرب تخطفنا من أرضنا، يعني: من مكة، فإنما نحن أكلة رأس (¬1) , والعرب على ديننا, ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله هذه الآية (¬2). وقوله: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قال المبرد: التخطف: الانتزاع بسرعة، كما يتخطف البازي، ولا يكون الخطف إلا بسرعة (¬3). وقد مر في في له: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] (¬4). قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} يعني: ذا أمن يأمن فيه الناس. قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون بحرمة الحرم (¬5). وقال قتادة: كان أهل الحرم آمنين، يذهبون حيث شاءوا، فإذا خرج أحدهم قال: أنا من أهل الحرم، لم يَعْرِض له أحد، وكان غيرهم يقتل ويسلب (¬6)، كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}. قال مقاتل: يقول: هم آمنون في الحرم من القتل والسبي، ¬

_ (¬1) أكلة رأس، مثل يضرب لقلة العدد، فكأنهم لو اجتمعوا على أكل رأس لكان كافيًا لهم. "الزاهر في معاني كلمات الناس" 2/ 14، و"مجمع الأمثال" 1/ 84. (¬2) "تفسير مقاتل" 67 ب، وفيه: الحارث بن نوفل بن عبد مناف، وذكر نحوه الزجاج 4/ 150، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 20/ 94، وابن أبي حاتم 9/ 2995، والنسائي، كتاب التفسير 2/ 146 رقم 405. وذكره الثعلبي 8/ 149 ب. والواحدي "أسباب النزول" 338، وفيه: الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف. (¬3) يقال: خَطِفت الشيء، واختطفته: إذا اجتذبته بسرعة. "تهذيب اللغة" 7/ 241 (خطف)، ولم يذكر قول المبرد. (¬4) لم أجد في هذا الموضع إلا قوله: ومعنى الآية: يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمر دينهم. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 149 ب. (¬6) أخرجه عبد الرزاق 2/ 92، وابن جرير 20/ 94، وابن أبي حاتم 9/ 2996.

فكيف يخافون إذا أسلموا (¬1). وقال أبو إسحاق: أعلمهم الله بأنه قد تفضل عليهم بأن أمنهم بحرمة البيت، ومنع منهم العدو. أي: فلو آمنوا لكانوا أولى بالتمكين والسلامة (¬2). وقال الفراء: أو لم نسكنهم حرمًا لا يخاف مَنْ دخله، فكيف يخافون أن تَستَحِل العرب قتالَهم فيه (¬3). وقال ابن قتيبة: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} أي: أو لم نسكنهم، ونجعله مكانًا لهم (¬4). قوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: يجمع إليه (¬5)، وهو من قولك: جِبْتُ الماءَ في الحوض؛ إذا جمعته (¬6). وقال الفراء في "مصادر القرآن": جببت المال والماء جباية، إذا جمعته وجبوته جباوة. والجباية: الحوض العظيم. والجبا مقصور: الماء المجموع (¬7). وقرئ {يُجْبَى} بالياء والتاء (¬8)، وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 150. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 308. (¬4) "غريب القرآن" 333، بلفظ: نسكنهم إياه. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 149 ب. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 108. و"تفسير ابن جرير" 20/ 94، ولم ينسبه. (¬7) "تهذيب اللغة" 11/ 214 (جبا)، من قول الكسائي: الجبا مقصور. ولم أجد فيه ما قبله. (¬8) قرأ نافع وحده: {تُجْبَى} بالتاء، وقرأ الباقون: {يُجْبَى} بالياء. "السبعة في القراءات" 495، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 424، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 178.

جمع، وليس بتأنيث حقيقي، وإذا كان كذلك كان بمنزلة الوعظ, والموعظة، والصوت، والصيحة، فإذا ذُكِّرَت كان حسنًا، وكذلك إذا أنثت. ذكر ذلك صاحب الحجة (¬1). وقال الفراء: ذُكَّرَت {تُجْبَى} وإن كانت الثمرات مؤنثة؛ لأنك فرقت بينهما بإليه، كما قال الشاعر: إنَّ امْرَأً غَرَّه منكن واحدةٌ ... بعدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ (¬2) وبهذه العلة اختار أبو عبيد التذكير؛ فقال: قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل (¬3). قال ابن عباس ومقاتل: يعني: يُحمل إلى الحرم ثمرات كل شيء (¬4)؛ من مصرَ والشام واليمن والعراق. وقوله: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} أي: رزقناهم رزقًا من عندنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} يعني: أهل مكة (¬5) {لَا يَعْلَمُونَ} أنا فعلنا ذلك. قال مقاتل: أي: إنهم يأكلون رزقي آمنون في حرمي، وهم يعبدون ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 424. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 308، ولم ينسب البيت. واستشهد به ابن جني "الخصائص" 2/ 414، على تذكير المؤنث. واستشهد به كذلك الأنباري، "الإنصاف" 1/ 174، وفي حاشيته: الشاهد فيه: غره منكن واحدة، حيث أسند الفعل إلى اسم ظاهر حقيقي التأنيث، ولم يؤنث الفعل لوجود فاصل بين الفعل وفاعله وهو: منكن. ولم أقف على قائل البيت. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ. (¬4) "تفسير مقاتل" 67 ب. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2996، عن ابن عباس بلفظ: ثمرات الأرض. (¬5) "تفسير مقاتل" 67 ب. و"تفسير ابن جرير" 20/ 94.

58

غيري (¬1). وقال ابن عباس. {لَا يَعْلَمُونَ} قدر ربوبيتي وعظمتي (¬2). 58 - ثم خوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} معنى البَطَر في اللغة: الحيرة، والبطر في النعمة هو: أن تكثر عليه النعمة فيدْهشَ فيها, ولا يهتدي للشكر عليها (¬3). قال الليث: البطر: الحَيرة، يقال: لا يُبْطِرن جَهلُ فلانٍ حِلمكَ. أي: لا يُدْهشكَ عنه (¬4). ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الكِبْر بطر الحق" (¬5)، وهو أن يتحير في الحق فلا يراه حقًا (¬6). هذا هو أصل معنى البطر. وقال أبو إسحاق: البطر: الطغيان عند النعمة (¬7). وبطر الحق على قوله: أن تطغى عند الحق؛ أي: تتكبر فلا تقبله. وقال أبو علي الفارسي: البطر فيما قال بعض الناس: كراهة الشيء من غير أن يستحق أن يكره. وانتصاب المعيشة عند الفراء بنقل الفعل ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬2) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2996، عن ابن عباس، في هذه الآية: {لَا يَعْلَمُونَ} لا يعقلون. (¬3) "تهذيب اللغة" 13/ 336 (بطر). والدَّهَش: ذهاب العقل من الذَّهْل والوَلَه. "تهذيب اللغة" 6/ 77 (دهش). (¬4) كتاب "العين" 7/ 422 (بطر). ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 336. (¬5) جزء من حديث عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر" قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَة قَالَ: "إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَق وَغَمْطُ النَّاسِ". أخرجه مسلم 1/ 93 في الإيمان" رقم 91. والترمذي 4/ 317، كتاب البر، رقم 1998. (¬6) "تهذيب اللغة" 13/ 336 (بطر). (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 150.

وتحويله عنها، فإنه قال: نَصبُكَ المعيشةَ، كقوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] وكنَصْب قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [هود: 77] وقد مر (¬1). وقال الزجاج: نُصب {مَعِيشَتَهَا} بإسقاط في، وأُعملَ الفعلُ، وتأويله: بطرت في معيشتها (¬2). وهذا هو الوجه؛ لأن المعيشة لا تبطر، حتى يقال: كان الفعل لها، فنقل عنها: إنما يُبطر فيها (¬3). قال ابن عباس: حملهم البطر والأشر. وقال مقاتل: بطروا وأشروا، وتقلبوا في رزق الله، فلم يشكروا نعمه (¬4). وقال عطاء: عاشوا في البطر، فأكلوا رزق الله، وعبدوا الأصنام (¬5). قوله تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} قال مقاتل: لم تسكن بعد هلاك أهلها إلا قليلاً من المساكن، فقد سكن في ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 308. قال الواحدي في تفسير الآية 4، من سورة النساء: قال الفراء والزجاج: المعنى فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق فنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا: أنت حسن وجهًا، والفعل في الأصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسَّرًا لموقع الفعل، ومثله: قررت به عينًا، وضقت به ذرعًا. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 150. (¬3) وهذا قول الثعلبي 8/ 150 أ: أي: أشرف وطغت وكفرت بربها، وجعل الفعل للقرية، وهو في الأصل للأهل. (¬4) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ، عن عطاء بن أبي رباح.

59

بعضها (¬1). وعلى هذا الاستثناء من المساكن، يعني: أن بعضها مسكون فيه. وهذا القول هو اختيار الفراء؛ قال: يقول: قليل منها سُكن، وأكثرها لم يسكن، وهي خَرِبَة (¬2). ورُدَّ عليه هذا بأن قيل: لو كان الاستثناء من المساكن، كان الوجه فيه الرفع، كقولك: القوم لم يُضرب إلا قليلٌ، ترفع إذا كان المضروب قليلاً، فإذا نصبت: كان القليل صفة للضرب أي: لم يُضرب إلا ضربًا قليلاً. وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية؛ قال: لم يسكنها إلا المسافر، ومارُّ الطريق يومًا أو ساعة (¬3). وعلى هذا التقدير: لم تسكن من بعدهم إلا سكونًا قليلاً. وهذا هو الصحيح معنًى ولفظًا؛ لأن منازل المهلَكين لم يعمر منها شيء، ولم تسكن بتة. وقوله: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي: لِما خَلَّفوا بعد هلاكهم (¬4)، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} (¬5) [مريم: 40] وقد مر (¬6). 59 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} يعني القرى الكفرة أهلها {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} أكثر المفسرين على أن المراد بأمَّها: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 309. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ. ونقل الرد على الفراء وقول ابن عباس: القرطبي 13/ 301. (¬4) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ. (¬6) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة مريم. أي: نميت سكانها فنرثها ومن عليها؛ لأني أميتهم، وهذا كقوله: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] وذكرنا الكلام فيه.

مكة (¬1). وهو اختيار الفراء والزجاج (¬2). وعلى هذا القول المراد: القرى التي حول مكة، لا البعيدة عنها؛ لأن التي بعدت عنها لا تنتفع ببعث الرسول في مكة. ويكون المعنى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} يا محمد {مُهْلِكَ الْقُرَى} التي حول مكة بكفرها في زمانك {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} وهي مكة {رَسُولًا} أي: يبعثك رسولاً فتنذرهم، ثم بعثه الله إليهم رسولاً. وهذا قول قتادة في تخصيص القرى (¬3). وأظهر من هذا القول وأصح: أن القرى على عمومها، والمراد بأمها: أعظمها (¬4). يقول: ما كان الله ليهلك القرى الكافرة حتى يبعث في أعظمها رسولاً ينذرهم. وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها؛ لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف، وأشراف القوم وملوكهم يسكنون المدائن الكبيرة، والمواضع التي هي أمُّ ما حولها. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وقول الكلبي (¬5). قال (¬6) ابن عباس: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [يريد: في أهلها، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 67 ب. و"تفسير ابن جرير" 20/ 95. و"تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 309. قال: وإنما سميت أم القرى؛ لأن الأرض فيما ذكروا دحيت من تحتها. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 150. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 108. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 95، وابن أبي حاتم 9/ 2997. (¬4) وهو قول ابن قتيبة "غريب القرآن" 334. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 2997، عن الحسن: {فِي أُمِّهَا} قال: في أوائلها. (¬5) "تنوير المقباس" 329. (¬6) في نسخة (ج)، جاءت الجملة هكذا: وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وقول الكلبي، وقال الكلبي قول ابن عباس. ففيها زيادة: الكلبي قول.

60

يعني: يسكن معظم أهلها. وقال الكلبي: {فِي أُمِّهَا}] (¬1) يقول: في عظيمها (¬2). وهو ما ذكرنا. قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا (¬3). وقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} قال ابن عباس: يريد بظلمهم أهلكتهم (¬4). قال الكلبي: وظلمهم هاهنا: شركهم (¬5). وقال مقاتل: يقول: إلا وهم مذنبون. أي: لم نعذب على غير ذنب (¬6). ونظير هذه الآية قوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131]. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. 60 - قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} قال الكلبي ومقاتل: يعني كفار مكة، يقول: ما أُعطيتم من خير ومال {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} تتمتعون بها أيام حياتكم، ثم هي إلى فناء وانقضاء (¬7). {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب والنعيم للمؤمنين {خَيْرٌ وَأَبْقَى} أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أن الباقي أفضل من الفاني ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬2) "تنوير المقباس" 329. (¬3) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 96، وابن أبي حاتم 9/ 2998، مطولاً. (¬5) "تنوير المقباس" 329، وذكره الثعلبي 8/ 150 أ، ولم ينسبه. (¬6) "تفسير مقاتل" 67 ب. (¬7) "تفسير مقاتل" 67 ب و"تنوير المقباس" 329.

61

الذاهب. قال ذلك ابن عباس ومقاتل (¬1). وروي عن أبي عمرو: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} بالياء (¬2). والمعنى: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} يا محمد ذلك (¬3). 61 - وقوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} قال مقاتل: يعني الجنة (¬4). والمعنى: أفمن وعدناه على إيمانه وطاعته الجنة والثواب الجزيل {فَهُوَ لَاقِيهِ} أي: مصيبه ومدركه (¬5). والمعنى: فهو لاقيه ما وعد، وصائر إليه. {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كمن هو متمتع بشيء يفنى ويزول عن قريب (¬6). ومتاع في موضع المصدر أي: متعناه تمتيع الحياة الدنيا، أي: تمتيعًا فيها بالمال والولد. والحياةُ الدنيا تنقطع عن قريب فينقطع تمتعه. وقوله: {ثُمَّ هُوَ} أي: هذا المتمتع {يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} النار (¬7)، كقوله: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (¬8) [الصافات: 57] وقوله: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 16] يدل على هذا أن ابن عباس قال: يريد: من المعذبين. وقال: نزلت في حمزة، وأبي جهل. ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن جرير 20/ 96، عن ابن عباس، و"تفسير مقاتل" 67 ب. (¬2) قرأ أبو عمرو وحده: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} بالياء والتاء، وقرأ الباقون بالتاء. "السبعة في القراءات" 495، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 424. قال ابن الجزري: والأشهر عن أبي عمرو بالغيب. "النشر في القراءات العشر" 2/ 342. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 424. (¬4) "تفسير مقاتل" 68 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ. (¬6) "تفسير ابن جرير" 20/ 96، بمعناه. (¬7) "تفسير مقاتل" 68 أ. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 334. (¬8) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ.

62

وقال مقاتل: نزلت في محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأبي جهل (¬1). وقال مجاهد: نزلت في حمزة، وعلي، وأبي جهل (¬2). وهو قول القرظي (¬3). وقال الكلبي: نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل (¬4). وقال السدي: في عمار، والوليد بن المغيرة (¬5). وقال قتادة: نزلت في المؤمن والكافر (¬6). وهو اختيار أبي إسحاق؛ قال: فالمؤمن آمن بالله ورسوله، وأطاعه ووقف عند أمره، فلقي جزاء ذلك الجنة، والذي متع متاع الحياة الدنيا الكافر؛ لم يؤمن بالله، ثم أُحضر يوم القيامة العذاب (¬7). 62 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} الكلام فيما يتعلق الظرف به هاهنا ذكرناه عند قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] (¬8) وسنذكر ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 68 أ. وذكره الزجاج 4/ 150، ولم ينسبه، وكذا الثعلبي 8/ 150 أ، وصدره الواحدي في "أسباب النزول" 339، بـ: قيل. (¬2) أخرجه عنه الواحدي "أسباب النزول" 339. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 97، وذكره عنه الثعلبي 8/ 150 أ. (¬4) في "تنوير المقباس" 329، هو محمد عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، ويقال: هو عثمان بن عفان {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني: أبا جهل بن هشام. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2998. وذكره عنه الثعلبي 8/ 150 أ. وكذا الواحدي في "أسباب النزول" 339. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 97، وابن أبي حاتم 9/ 2998. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 150. وهذا الاختيار حسن، ويدخل تحته جميع ما ذكره فإنها أمثلة للمؤمن والكافر. (¬8) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال أبو إسحاق: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى: اذكر يوم ندعو، =

63

ذلك أيضًا عند قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت: 19] إن شاء الله (¬1). والمعنى: ويوم ينادي الله المشركين. قال مقاتل: يعني كفار مكة {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا أنهم شركائي (¬2). قال أبو إسحاق: هذا على حكاية قولهم، المعنى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} في قولكم، والله -عز وجل- واحد لا شريك له (¬3). 63 - وقوله: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي: حقت عليهم كلمة العذاب، وهم: الشياطين. في قول مقاتل (¬4). ¬

_ = قال: ويجوز أن يكون منصوبًا بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو، قال أبو علي الفارسي: الظرف هاهنا بمنزلة إذا؛ لأنه لا يجوز أن يكون العامل فيه ما قبله من قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ} لأنه فعل ماض، وليس العامل أيضًا يدعو؛ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف تعلق بما دلّ عليه قوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}؛ كما أن قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] على تقدير: أإذا متنا بعثنا، كذلك هاهنا يجعل الظرف بمنزلة إذا، فيصير التقدير: إذا دُعي كل أناس لم يُظْلموا. (¬1) لم أجد في تفسير الواحدي لهذه الآية شيئًا عن هذه المسألة التي أحال عليها. (¬2) "تفسير مقاتل" 68 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ، ولم ينسبه. والآية عامة في جميع المشركين. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 151، وتابعه على ذلك أبو قاسم الزجاجي، فقال. نسبهم إلى نفسه حكاية لقولهم، كأنه قال: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي. "اشتقاق أسماء الله" 303. (¬4) "تفسير مقاتل" 68 أ. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 92، وابن جرير 20/ 98، وابن أبي حاتم 9/ 3000، عن قتادة، و"قال الزجاج 4/ 151: الجن والشياطين.

64

وقال ابن عباس في رواية الكلبي: هم رؤوس الضلالة (¬1). {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} يعنون: كفار بني آدم. في قول مقاتل (¬2). وفي قول الكلبي: يعنون: الأتباع (¬3). ومعنى {أَغْوَيْنَا}: سوَّلنا لهم الغي والضلال (¬4)؛ لأن التزيين إليهم، والله تعالى يهدي ويضل. قوله تعالى: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} قال ابن عباس ومقاتل: أضللناهم كما ضللنا {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم (¬5). تتبرأ الشياطين ممن كان يطيعهم ويعبدهم، والرؤساء ممن كان يقبل منهم ويتبعهم في الدنيا. قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض، وصاروا أعداءً كما قال الله -عز وجل-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية (¬6) [الزخرف: 67] 64 - قوله تعالى: {وَقِيلَ} أي: لكفار بني آدم (¬7) {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي: استعينوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونها. أي: لينصروكم ويخلصوكم من العذاب. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فلم يجيبوهم (¬8). ونظير هذه الآية في: الكهف [52]؛ قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ} الآية (¬9). {وَرَأَوُا الْعَذَابَ ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ، من قول الكلبي. و"تنوير المقباس" 329. (¬2) "تفسير مقاتل" 68 أ. (¬3) "تنوير المقباس" 329. (¬4) "معانى القرآن" للزجاج 4/ 151، بنصه. (¬5) "تفسير مقاتل" 68 أ. (¬6) "معانى القرآن" للزجاج 4/ 151. (¬7) "تفسير مقاتل" 68 أ. و"تفسير ابن جرير" 20/ 98. (¬8) "معانى القرآن" للزجاج 4/ 151. (¬9) "تفسير مقاتل" 68 أ.

65

لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}. قال المفسرون وأهل المعاني: جواب {لَوْ} محذوف، على تقدير: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة، ولما اتبعوهم (¬1). 65 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} يعني: يسأل الله الكفار {فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ما كان جوابكم لمن أُرسل إليكم من النبيين؟. 66 - {فَعَمِيَتْ} أي: فخفيت واشتبهت (¬2) {عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} قال مجاهد ومقاتل: الحجج (¬3). و {الْأَنْبَاءُ} معناها: الأخبار (¬4)، جمع نبأ. وسميت حججهم: أنباءً؛ لأنها أخبار (¬5) يُخبر بها. قال ابن عباس: يريد: الأخبار والجواب، وجوابهم لو أجابوا كان خبرًا. {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} لا يسأل بعضهم بعضًا عن الحجج؛ لأن الله أدحض حجتهم، وكلل ألسنتهم. قاله مقاتل (¬6). وهو معنى قول قتادة: لا يحتجون (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 151، بنصه. و"تفسير مقاتل" 68 أ، بنحوه. (¬2) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 109. و"تفسير ابن جرير" 20/ 98. و"تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 68 أ. وذكره البخاري عن مجاهد. "فتح الباري" 8/ 505. وأخرج عنه ابن جرير 20/ 99، وابن أبي حاتم 9/ 3000. وهو قول ابن قتيبة، "غريب القرآن" 334. (¬4) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 109. و"تفسير الثعلبي" 8/ 150 أ، بلفظ: الأخبار والأعذار والحجج. (¬5) في نسخة: (ج). أنباء. (¬6) "تفسير مقاتل" 68 أ. وفيه وأكلَّ ألسنتهم. (¬7) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 ب.

67

وقال ابن عباس: لا ينطقون؛ يعني: بحجة (¬1). وذلك أن الله تعالى قد أعذر إليهم في الدنيا ببعث الرسول، ونصب الأدلة، فلا يكون لهم حجة، ولا عذر يوم القيامة (¬2). قال الفراء: جاء في التفسير: عميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا، فذلك قوله: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} أي: في تلك الساعة (¬3). وهو معنى قول الكلبي: لم يدروا ما يجيبون به من ذلك الهول حين سئلوا (¬4)، ثم أجابوه بعد ذلك، يعني: ما ذكر عنهم مما يجيبون به في القيامة، كقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ونحو ذلك. 67 - {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} قال ابن عباس والمفسرون: من الشرك {وَآمَنَ} صدق بتوحيد الله (¬5) {وَعَمِلَ صَالِحًا} أدى الفرائض {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} من الناجين الفائزين الذين سعدوا. قالوا جميعًا: و: (عسى)، من الله واجب (¬6). 68 - قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال المفسرون: ¬

_ (¬1) نسبه لابن عباس القرطبي 13/ 304. (¬2) ذكر نحوه ابن جرير 20/ 99، ولم ينسبه. قال ابن جرير: وقيل: معنى ذلك: فعميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا فهم لا يتساءلون في حال سكوتهم. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 309. (¬4) "تنوير المقباس" 329، بلفظ: لا يجيبون. (¬5) "تفسير مقاتل" 68 أ. و"تفسير ابن جرير" 20/ 99، ولم ينسبه. وأخرج ابن أبي حاتم 9/ 3001، نحوه عن ابن عباس. (¬6) "تفسير مقاتل" 68 أ. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 309. ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3001، عن ابن عباس. و"تفسير ابن جرير" 20/ 99، ولم ينسبه.

نزلت هذه الآية جوابًا للمشركين حين قالوا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ} الآية، [الزخرف: 31] ومعناه: ويختار ما يشاء لنبوته ورسالته (¬1). أي: فكما أن الخلق إليه، فهو يخلق ما يشاء، فكذلك الاختيار إليه في جميع الأشياء، فيختار مما خلق ما يشاء، ومن يشاء. ثم نفى الاختيار عن المشركين؛ وذلك أنهم اختاروا الوليد بن المغيرة من مكة، أو عروة بن مسعود من الطائف، اختاروا إما هذا أو ذاك للرسالة، فقال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: الاختيار. أي: ليس لهم أن يختاروا على الله -عز وجل- (¬2). قال ابني قتيبة: أي: لا يرسل الله الرسل على اختيارهم (¬3). و {الْخِيَرَةُ} اسم من [الاختيار، يقام مقام المصدر، والخيرة: اسم للمختار] (¬4). يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ويجوز التخفيف فيهما، ذكر ذلك الليث والفراء، وغيرهما (¬5). وعلى هذا (مَا) تكون نفيًا، وهو الصحيح الذي عليه عامة المفسرين، وأصحاب القراءة؛ وذلك أن جميع أصحاب ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 150 ب، قال: هذا جواب لقول الوليد بن المغيرة: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 334، وأخرج ابن جرير 20/ 100 وابن أبي حاتم 9/ 3001، في هذه الآية عن ابن عباس: كانوا يجعلون خير أموالهم لآلهتهم في الجاهلية. (¬2) "تفسير مقاتل" 68 أ. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة 334. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 309. ولم أجد قول الليث في كتاب "العين"، وإنما ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" 7/ 548 (خار)، وقول: يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ذكره الأزهري عن ابن السكيت.

الوقوف، ذكروا أن تمام الوقف على قوله: {وَيَخْتَارُ} ذكر ذلك نافع، ويعقوب، وأحمد بن موسى، وأبو حاتم، وعلي بن سليمان، ونصير، وغيرهم (¬1). وذكر أبو إسحاق وجهًا آخر؛ فقال: ويجوز أن تكون: (مَا) في معنى: [الذي، فيكون المعنى:] (¬2) ويختار الذي لهم فيه الخيرة، ويكون معنى الاختيار هاهنا: ما يتعبدهم به. أي: ويختار فيما يدعوهم إليه من عبادته ما لهم فيه الخيرة، قال: والقول الأول وهو: أن تكون (مَا) نفيًا أجود. انتهى كلامه (¬3). والقدرية ربما تتعلق بالوجه الثاني الذي ذكره أبو إسحاق؛ فيقولون: ¬

_ (¬1) "القطع والائتناف" للنحاس 2/ 514، بنصه. وذكره في "إعراب القرآن" 3/ 241، عن علي بن سليمان. وذكر الداني أن كلا الوقفين تام، "المكتفى في الوقف والابتداء" 439. واختار ذلك الثعلبي 8/ 150 ب. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: أ، (ب). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 151، نقل النحاس عن علي بن سليمان: ولا يجوز أن تكون {مَا} في موضع نصب بـ {وَيَخْتَارُ}؛ لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 241، و"القطع والائتناف" 2/ 515. وأما ابن جرير 20/ 100، فقد جعل {مَا} في موضع نصب، بمعنى: الذي، وصحح هذا القول ونصره، ورد على من قال بالقول الأول؛ وهو أن {مَا} نافية. وخالفه في ذلك ابن كثير 3/ 397، وقال عن القول الذي اختاره ابن جرير: وقد احتج بهذا المسلك طائفة من المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح، ثم قال: والصحيح أنها نافية، كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وغيره أيضًا، فإن المقام في بيان انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير، والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً.

إن الله تعالى يريد بنا، ويختار لنا ما فيه الخيرة لنا، ويحتجون بالآية، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن حمل الآية على هذا الوجه إبطال لقول جميع المفسرين والقراء (¬1)؛ أما المفسرون فإنهم ذكروا سبب نزولها (¬2)، وحَمْلُ الآية على الوجه الثاني يُبطل ما قالوا. وأما القراء فكلهم وقفوا على قوله: {وَيَخْتَارُ} ولو كان الأمر على ما يذهبون إليه لم يصح الوقف على: {وَيَخْتَارُ} وأيضًا فإن الكناية في قوله: {لَهُمُ} عن المشركين، يقول: ما كان للمشركين أن يختاروا على الله، فكيف يصح ما ذهبوا إليه. وقال أبو جعفر النحوي: لو صح ما قالوه لكان وجه الكلام نصب {الْخِيَرَةُ} على خبر كان (¬3)، ثم وإن صح على البُعد فتأويله ما ذكره الزجاج؛ وهو: أن هذا الاختيار يعود إلى ما اختار الله لعباده مما أمرهم به. قال مقاتل: ثم نزه نفسه عن شركهم فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4) وهذا يدل على أن الكناية في {لَهُمُ} عن المشركين خاصة. ¬

_ (¬1) وقد ذكر أن في هذا ردًا على القدرية، علي بن سليمان. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 241. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 3002، عن أبي عون الحمصي، أنه إذا ذكر له شيء من قول أهل القدر، قال: أما يقرءون كتاب الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. (¬2) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" 339، بقوله: قال أهل التفسير: نزلت جوابًا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله تعالى عنه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم. (¬3) "القطع والائتناف" 2/ 515. (¬4) "تفسير مقاتل" 68 أ.

69

ثم أخبر -عز وجل- بنفوذ علمه فيما خفي وظهر، فقال: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} 69 - {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} ما تستر قلوبهم من الكفر، والعداوة لله ورسوله {وَمَا يُعْلِنُونَ} من ذلك (¬1) بألسنتهم من الكفر والمعاصي. قال ذلك ابن عباس والكلبي ومقاتل (¬2). 70 - ثم وحد نفسه فقال: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} قال مقاتل: يحمده أولياؤه في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة يعني: أهل الجنة (¬3) {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي: الفصل بين الخلائق (¬4). وقال ابن عباس: يريد ما حكم لأهل طاعته من المغفرة والرحمة، وما حكم لأهل معصيته من الشقاء والويل (¬5). 71 - قوله: {قُلْ} أي: لأهل مكة (¬6) {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} السرمد: الدائم. في قول جميع أهل اللغة والمفسرين (¬7). ¬

_ (¬1) من ذلك. ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬2) "تفسير مقاتل" 68 ب. و"تنوير المقباس" 329. أخرج ابن أبي حاتم 9/ 3002، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} قال: يقول: ما عملوا بالليل والنهار. (¬3) "تفسير مقاتل" 68 ب. و"تفسير ابن جرير" 20/ 103. (¬4) "تفسير ابن جرير" 20/ 102. (¬5) أخرج نحوه مطولًا ابن أبي حاتم 20/ 3003، عن وهب بن منبه. (¬6) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 103، عن ابن عباس، ومجاهد، وكذا ابن أبي حاتم 9/ 3003، وعن قتادة أيضًا. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 334، و"معانى القرآن" للزجاج 4/ 152، و"تهذيب اللغة" للأزهري 13/ 152 (سرمد). و"تفسير الثعلبي" 8/ 151 أ.

72

قال أبو عبيدة. وكل شيء لا ينقطع من عيش، أو غمٍّ أو بلاء دائم، فهو سرمد (¬1). وقال المبرد: يقال: هو يسهر سهرًا (¬2) سرمدًا، إذا لم يكتحل فيه بغمض، ولا يكون السرمد ما يقع فيه فصل. قال المفسرون: دائمًا، لا نهار معه (¬3). {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} قال ابن عباس: بنور تطلبون فيه المعيشة (¬4). وقال أبو إسحاق: أي بنهار تبصرون فيه، وتتصرفون في معايشكم، وتصلح فيه ثماركم ومنابتكم؛ لأن الله -عز وجل- جعل الصلاح للخلق بالليل مع النهار، فلو كان واحد منهما دون الآخر هلك الخلق (¬5). وقوله تعالى: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} أي: سماع فهم وقبول. يعني: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} هذه الحجة فتتدبرونها وتعملون بموجبها إذا كانت بمنطقة (¬6) بأن ما أنتم عليه خطأ وضلال. وقال الكلبي: يقول: أفلا تطيعون من يفعل ذلك بكم (¬7). 72 - وقوله: {تَسْكُنُونَ فِيهِ} قال ابن عباس: يريد: تأوون فيه إلى ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 109. (¬2) سهرا. ساقطة، نسخة (ج). (¬3) "تفسير مقاتل" 68 ب. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 309. (¬4) ذكره القرطبي 13/ 308، ولم ينسبه. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 152. (¬6) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وفي نسخة: (ج): بموجبها وكانت هذه الناطقة بأن .. (¬7) "تنوير المقباس" 330.

73

مساكنكم، كما تأوي الطير إلى وكورها (¬1). وقال مقاتل: تستقرون فيه من النَّصَب (¬2). وقال أهل المعاني: امتن الله على عباده بالليل للسكون والراحة، ولا ليل في الجنة؛ لأن دار التكليف لابد فيها من التعب الذي يحتاج معه إلى الراحة والحمَّام (¬3)، وليس كذلك دار النعيم؛ لأنه إنما يتصرف فيها بالملاذ. قوله تعالى: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} قال ابن عباس: يريد ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة والظلم. وقال الكلبي: أفلا تعقلون أنه ليس معه إله غيره يفعل ذلك بكم. قال أصحابنا: الإتيان من دلائل إثبات صانع واحد، وذلك أنه كان يجوز في العقل دوام كون الظلمة، وكذلك الضياء، فلما تعاقبا دلا على صانع يكور أحدهما على الآخر، ولما كان تعاقبهما على حسابٍ معلوم في الزيادة والنقصان، لا يختلفان في عام منذ خلقا، دل ذلك على توحيد الصانع؛ إذ لو كان معه إله لأشبه أن يريدَ أحدُهما بقاءَ الليل حين يريد الآخر انقضاءه، وكذلك ضياء النهار، فيختلفان حينئذ في حسابهما. 73 - ثم أخبر أن الليل والنهار رحمة فقال (¬4): {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} قال الكلبي: ومن نعمته أن جعل لكم الليل والنهار (¬5) ¬

_ (¬1) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 3003، عن السدي {تَسْكُنُونَ} تقرون فيه. وفي "تنوير المقباس" 330: تستقرون فيه. (¬2) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬3) الحميم: الماء الحار، والحمَّام: مشتق منه، تذكَّره العرب. "تهذيب اللغة" 4/ 15 (حمم). (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 152، بنصه. (¬5) "تنوير المقباس" 330

{لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: جعل لكم الليل لتأووا فيه مع أزواجكم، والنهار لتلتمسوا فيه من فضل الله. وقال الكلبي: السكون بالليل، والتماس المعيشة بالنهار (¬1). وعلي هذا قال الفراء: تجعل الهاء في قوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} راجعة على الليل خاصة، وأَضمرتْ للابتغاء هاءً أخرى تكون للنهار، قال: وإن شئت جعلت الليل والنهار كالفعلين؛ لأنهما ظلمة وضوء، فرَجتْ الهاء في {فِيهِ} عليهما جميعًا، كما تقول: إقبالك وإدبارك يؤذيني؛ لأنهما فعل، والفعل يُرَدُّ كثيره وتثنيته إلى التوحيد، فيكون ذلك صوابًا (¬2). وذكر أبو إسحاق الوجهين أيضًا؛ فقال في الوجه الأول: المعنى: {لِتَسْكُنُوا} بالليل، وتبتغوا من فضله بالنهار، قال: وجائز: أن تسكنوا فيهما، وأن تبتغوا من فضل الله فيهما، فيكون المعنى: جعل الله لكم الزمان ليلاً ونهارًا {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (¬3). وقال المبرد: السكون إنما هو في الليل، والابتغاء من فضله يكون بالنهار، ولكن لما عطف أحدهما على الآخر، أُخرجا مخرج الواحد الجامع للشيئين. ونظير هذا من الكلام: لئن لقيت زيدًا وعمرًا، لتلقين منهما شجاعة وفصاحة؛ على أن الفصاحة لأحدهما، والشجاعة لأحدهما. وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي الذي أنعم عليكم بهما فتوحدونه. قاله مقاتل (¬4). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 330. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 310. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 153. (¬4) "تفسير مقاتل" 68 ب.

74

وقال ابن عباس. يريد: لكي تطيعوا (¬1). 74 - وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أي: تكذِبون في دار الدنيا بأنهم شركائي. قال ابن عباس: وكل: زَعَم، في كتاب الله فهو كَذَب. وتفسير هذه الآية قد مر آنفًا (¬2). قال أهل المعاني: وإنما كرر النداء بـ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} تقريعًا بالإشراك بعد تقريع. وقيل: إن الأول تعزير بإقرارهم على أنفسهم بالغي الذي كانوا عليه، وهو قولهم: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} الآية، والثاني: تعجيز عن إقامة البرهان لَمَّا طولبوا به بحضرة الأشهاد، وهو: 75 - قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} قال مقاتل: يعني: وأخرجنا، وشهيدها: رسولها الذي يشهد عليها بالبلاغ (¬3)، وبما كان منها؛ في قول ابن عباس والمفسرين (¬4). قال ابن قتيبة: أي: أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم (¬5). والإحضار معنى، وليس بتفسير. وهو لفظ أبي عبيدة (¬6). وهذا كقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [النحل: 84] (¬7). ¬

_ (¬1) في نسخة: (أ): تطيعوه. (¬2) الآية: 62، من السورة نفسها. (¬3) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 104، وابن أبي حاتم 9/ 3004، عن مجاهد وقتادة. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 153. و"تفسير الثعلبي" 8/ 151 أ. (¬5) "غريب القرآن" لابن قتيبة 334. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 110. (¬7) ذكر الآيتين، الثعلبي 8/ 151 أ.

76

وقوله: {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون وتقولون (¬1). وقال مقاتل: حجتكم بأن معي شريكًا (¬2). وقال أبو إسحاق: أي هاتوا فيما اعتقدتم برهانًا، أي: بيانًا، إن كنتم على حق (¬3). قوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} قال ابن عباس: فلم يجيبوا، وعلموا أن الذي جاءهم به رسلهم هو الحق. وقال مقاتل: فعلموا أن التوحيد لله {وَضَلَّ عَنْهُمْ} في الآخرة {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} في الدنيا أن مع الله شريكًا (¬4). وافتراؤهم: ادعاؤهم الآلهة مع الله. 76 - وقوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} قال ابن عباس: يريد: من بني إسرائيل، ثم في سبط (¬5) موسى، وهو ابن خالته. وقال قتادة ومقاتل وإبراهيم: كان ابن عمه لخالته (¬6)، كان قارون بن يصهر ابن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث (¬7). وقال ابن إسحاق: كان موسى ابن أخي قارون، وقارون كان عم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 105، وابن أبي حاتم 9/ 3005. (¬2) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 153. (¬4) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬5) السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، والسبط في الشجرة, فالسبط الذين هم من شجرة واحدة. "معاني القرآن" للزجاج 4/ 217. (¬6) في نسخة: (أ): لخالاته. (¬7) "تفسير مقاتل" 68 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 106، عن النخعي، وقتادة. ونسبه الثعلبي 8/ 151 أ، لأكثر المفسرين.

موسى لأبيه وأمه؛ لأن عمران وقارون كانا ابني: يصهر بن قاهث (¬1). وقوله: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي: بكثرة ماله، كأنه جاوز الحد بالتكبر والتجبر عليهم. وهذا قول قتادة؛ قال: بغى عليهم بكثرة ماله وولده بالكِبْر والبذخ (¬2). ونحوه قال مقاتل (¬3). وقال المسيب (¬4): كان قارون عاملًا لفرعون على بني إسرائيل، فكان يبغي عليهم ويظلمهم (¬5). وقال الفراء: بغيه عليهم: أنه قال: إذا كانت النبوة لموسى، وكان المَذبح والقربان في يد هارون، فمالي (¬6)؟ وهذا قول الكلبي؛ قال: إن قارون قال لموسى: يا موسى ألك النبوة، ولهارون الحُبورَة (¬7)؟ ولستُ في شيء من ذلك، لا أصبر على هذا أبدًا (¬8). وعلى هذا بغيه: طلبه ما ليس له ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 105، وذكره عنه الثعلبي 8/ 151 أ. وهذا الاختلاف مما لا طائل تحته، ولا ترجى من ورائه فائدة، فقارون من قوم موسى كما أخبر الله تعالى عنه، فكونه من قرابته أم لا، لا يغير في المسألة شيئاً. والله أعلم. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 106، وابن أبي حاتم 9/ 3006، عن قتادة. وذكره عنه الثعلبي 8/ 151 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬4) المسيب هو: عيسى بن المسيَّب كما صرح به الثعلبي 8/ 151 أ، البجلي، قاضي الكوفة، روى عن قيس ابن أبي حازم، والشعبي والنخعي، ضعفه يحيى بن معين وغيره. "الكامل في ضعفاء الرجال" 5/ 1892، و"الجرح والتعديل" 6/ 288. (¬5) ذكره عنه الثعلبي 8/ 151 أ. (¬6) "معاني القرآن" للفراء2/ 310. (¬7) ذكر الواحدي معنى الحبرة في سورة الروم، آية: 15 {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} وسيأتى -إن شاء الله تعالى-. (¬8) "تنوير المقباس" 330، وذكره الثعلبي 8/ 153 أ. في خبر طويل نسبه للعلماء بأخبار القدماء، ولم يسمهم.

أن يطلبه من مساواة الأنبياء في درجتهم. وقال شهر بن حوشب في تفسير قوله: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}: زاد عليهم في الثياب شبرًا (¬1). وهذا معنى القول الأول, لأنه يريد: تكبر عليهم وتجبر، وطولُ الثوب من علامات الكبر، ولذلك نُهي عنه (¬2). قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} قال الأخفش: يريد: الذي إن مفاتحه، وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه بـ: إن (¬3). يعني: أنَّ (إِنَّ) هاهنا من صلة ما لا يبتدأ به هاهنا، فالوقف على (مَا) وإن كان (إِنَّ) من حروف الابتداء؛ لأن ما (¬4) مع ما بعده من صلة الموصول (¬5). والمراد بالمفاتيح هاهنا: الخزائن في قول الأكثرين. وهو قول مقاتل ¬

_ (¬1) أخرجه: "ابن جرير" 20/ 106، و"ابن أبي حاتم" 9/ 3006. وذكره عنه "الثعلبي" 8/ 151 ب. (¬2) في أحاديث كثيرة؛ منها حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". أخرجه مسلم 1/ 102، كتاب الإيمان, رقم: 106. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 654، بلفظ: إن الذي مفاتحه. وفي نسخة: (ب)، (ج): الذي إن مفاتحه، وفي نسخة: (أ): إن مفاتحه. بإسقاط: الذي. وذكر هذا المعنى ابن قتيبة، عن أبي صالح، "غريب القرآن" 335. (¬4) ما: ساقطة من نسخة (أ)، (ج). (¬5) قال سيبويه: (إِنَّ) صلة لـ (مَا) كأنك قلت: ما والله. الكتاب 3/ 146، وذكر أبو علي هذه الآية مثالاً لكسر: إن، إذا وقعت بعد الاسم الموصول. "الإيضاح العضدي" 163.

والضحاك وأبي صالح وأبي رزين؛ قالوا: {مَفَاتِحَهُ} خزائنه (¬1). وهذا كقِوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] يعني: خزائن الغيب (¬2)، وقد مرَّ (¬3). وقال آخرون: المفاتح هاهنا جمع: مفتاح، وهو ما يفتح به الباب. وهو قول قتادة ومجاهد وخيثمة؛ قالوا: كانت مفاتيحه من جلود الإبل (¬4). والأول اختيار الفراء والزجاج؛ قال: الأشبه في التفسير: {إِنَّ مَفَاتِحَهُ}: خزائن ماله (¬5). وقال الفراء: {مَفَاتِحَهُ} خزائنه (¬6). وأيضًا فإن المفاتح لو كان جمع مفتاح لكان وجه الكلام أن يقال: مفاتيح، وإن كان المفاتح جائزًا. قال الليث: وجمع المفتاح (¬7) الذي يفتح به المِغلاقُ: مفاتيح، وجمع المَفْتَح الخزانة: مفاتح (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 107، عن أبي صالح، والضحاك، وأخرجه عن أبي رزين ابن أبي حاتم 9/ 3007. و"تفسير مقاتل" 68 ب. والزاهر في معاني كلمات الناس 1/ 464، ولم ينسبه. وذكره الثعلبي 8/ 151 ب، عن أبي صالح، وأبي رزين. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة 335. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام: قال السدي والحسن: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} خزائن الغيب. ونحو ذلك قال ابن عباس، والضحاك ومقاتل في المفاتح أنها: الخزائن. (¬4) وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" 2/ 110. وذكره الزجاج 4/ 154، ولم ينسبه. وذكره الثعلبي 8/ 151 أ، عن مجاهد. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 155. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 310. (¬7) من هنا بدأ السقط في نسخة: (ج)، إلى الآية: 79. (¬8) كتاب "العين" 3/ 194 (فتح)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 4/ 447.

وقوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} معنى النَّوء في اللغة: النهوض بجهد ومشقة (¬1). قال ذو الرُّمة يصف الفراخ: يَنُوءنَ ولم يُكْسَيْنَ إلا منازعًا ... من الريش تَنْواءَ الفِصالِ الهَزائلِ (¬2) ويقال: ناء بحمله، إذا نهض به مثقلًا. قال ذو الرمة: تَنوءُ بأُخراها فَلأيًا قيامُها ... وتمشي الهُوينى عن قريبٍ فَتُبْهرُ (¬3) يريد: أنها تنهض بجهد لما في آخرها، وهي عجيزتها من اللحم. قال الأزهري: وأصل النَّوء: الميل في شِقٍ، أنشد الفراء: حتى إذا ما التأمَتْ مَوَاصِلُه ... وناء في شِقِّ الشمالِ كاهلُه يعني: الرامي لَمَّا نزع القوس مال في جانب الشمال (¬4). وقيل لمن نهض بحمله: ناء به؛ لأنه إذا نهض به وهو ثقيل أناء الناهض، أي: أماله. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 15/ 536 (ناء). (¬2) معنى: ينوءن: ينهضن، يعني: الفراخ، ولم يكسين إلا منازعًا، أي: بقايا ريش، والهزائل: جمع هزيل، أي: مهزول. "ديوان ذي الرمة" شرح الخطيب التبريزي 464. (¬3) "تهذيب اللغة" 15/ 537 (ناء)، ونسبه لذي الرمة. وأنشده الثعلبي 8/ 151 ب، ولم ينسبه. ومعنى: تنوء: أي: تنهض بعجيزتها، وتنوء بها عجيزتها، فلأيا: أي: بعد بطء قيامها، وتبهر: تعيا، ومعناه: أن أخراها وهي عجيزتها تثنيها إلى الأرض لضخمها وكثرة لحمها. "ديوان ذي الرمة" شرح الخطيب التبريزي 221، ورواية الديوان: وتمشي الهوينى من قريب. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 310، ولم ينسب البيت، وفيه: الثمال، بدل: الشمال وهو تصحيف. وعنه ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" 15/ 540 (ناء). بلفظ: الشمال. ومعنى البيت: أن الرامي لما نزع القوس مال على شقه.

وكذلك النجم إذا سقط مائلًا عن مغيبه الذي يغيب فيه (¬1). وذكرنا تفسير العصبة عند قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8، 14] (¬2). قال ابن عباس في رواية عطاء: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً، أقوى ما يكون من الرجال (¬3). وقال مجاهد: العصبة ما بين العشرة إلى خمسة عشر (¬4). وقال مقاتل: العصبة: عشرة نفر إلى أربعين (¬5). وقال الكلبي: ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين (¬6). وقال أبو صالح: العصبة أربعون (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 15/ 540 (ناء). (¬2) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء: العصبة من العشرة إلى الأربعين. وقال المبرد: العصبة الجماعة، وتعصب القوم إذا اجتمعوا على هيئة يشد بعضهم بعضًا، ومنه العصبة في النسب؛ وهم الذين يجمعهم التعصب، فمعنى: العصبة: جماعة متعاونة. (¬3) أخرج ابن جرير 20/ 107، عن الضحاك: يزعمون أن العصبة: أربعون رجلاً ينقلون مفاتحه من كثرة عددها. وهو قول أبي صالح، ذكره عنه الثعلبي 8/ 151 ب، وذكر عن الضحاك عن ابن عباس، أنه ما بين الثلاثة إلى العشرة. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 108، وابن أبي حاتم 9/ 3008. وذكره الثعلبي 8/ 151 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 68 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 106، وابن أبي حاتم 9/ 3007، عن خيثمة، ومجاهد. واقتصر عليه ابن قتيبة، "غريب القرآن" 335، ولم ينسبه. وهو قول أبي زيد، "تهذيب اللغة" 2/ 46 (عصب). (¬6) "تنوير المقباس" 330، بلفظ: ذوي القوة وهو أربعون رجلاً يحملون مفاتيح خزائنه. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 107، وذكره عنه الثعلبي 8/ 151 ب. واختار هذا القول واقتصر عليه الأنباري "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 464. ولم يذكر دليله على ذلك.

قال أبو إسحاق: والعصبة في اللغة: الجماعة الذين أمرهم واحد, يتابع بعضهم بعضًا في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض (¬1). روى الأعمش عن خيثمة قال: كان إذا ركب قارون حملت المفاتيح على ستين بغلًا أغرَّ محجلًا (¬2). وقال أبو صالح: كانت تُحمل على أربعين بغلاً، وقيل: سبعون بغلًا (¬3). ولست أدري كيف فسروا العصبة بالبغال، وهي في الرجال (¬4)! قال مقاتل في تفسير: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} عن حمل خزائنه (¬5). وقال ابن عباس: ليثقلهم حمل المفاتيح (¬6). واختلفوا في وجه: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}؛ فقال أبو زيد: يقال نؤت بالحمل أنوء به، إذا نهضت به. وناءني الحمل إذا أثقلني (¬7). وهذا معنى قول ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 155. وهذا أحسن ما يقال في تعريف العصبة. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 106، عن خيثمة من طريق الأعمش. وذكره عنه الثعلبي 8/ 151 ب. الغرة: البياض في وجه الفرس. "تهذيب اللغة" 16/ 70 (غرر). والتحجيل: بياض في قوائم الفرس، تقول العرب: فرس مُحجَّل. "تهذيب اللغة" 4/ 145 (حجل). (¬3) أخرج رواية الأربعين، ابن جرير 20/ 107، وابن أبي حاتم 9/ 3008، وأخرج رواية السبعين، ابن أبي حاتم 9/ 3008، بلفظ: سبعون رجلاً. فلعل بغلًا حرفت إلى: رجلاً. (¬4) وهذا نقد حسن، وكان الأولى الإعراض عن هذه الأقوال كلها. والله أعلم. (¬5) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬6) ذكر البخاري عن ابن عباس، في قوله تعالى {أُولِي الْقُوَّةِ} قال: لا يرفعها العصبة من الرجال. "فتح الباري" 8/ 506. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 155، و"تهذيب اللغة" 15/ 536 (ناء).

ابن عباس: ليثقلهم (¬1). وعلى هذا الباء في: {بِالْعُصْبَةِ} للتعدية. وشرح ذلك الفراء والمبرد؛ قال الفراء: نوؤها بالعصبة أن تثقلهم. والمعنى: {إِنَّ مَفَاتِحَهُ} تَنيءُ العصبةَ، أي: تميلهم من ثقلها، فإذا أدخلت الباء قلت: تنوء بهم، كما قال الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] والمعنى: ائتوني بقِطْر، فإذا حذفت الباء زدت على الفعل ألفا من أوله (¬2). وقال المبرد: مجازه في الحقيقة: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي: تجعل العصبة تنوء؛ وهذا كقولك: قم بنا، أي: اجعلنا نقوم، واعدل بنا إلى فلان، وهذا محض كلام العرب. وأنشد لقيس بن الخطيم: ديارَ التي كادت ونحن على مِنًى ... تَحُلُّ بنا لولا نَجاءُ الرَّكائبِ (¬3) أي: تجعلنا نحلها (¬4). ونحو هذا قال أبو إسحاق: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} لتثقل العصبة (¬5). وقال أبو عبيدة ومن وافقه: هذا مقلوب، إنما العصبة تنوء بالمفاتيح (¬6)، وهذا قول الأخفش، وأنشد: ¬

_ (¬1) ذكره البخاري عنه، معلقًا بصيغة الجزم 8/ 506. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 310. (¬3) أنشده ونسبه المبرد، "الكامل" 2/ 813. وهو في ديوان قيس بن الخطيم 77، وفي الحاشية: يقول: أنا نظرنا إليها ونحن سائرون، فلولا أن الإبل -لَمَّا شُغلنا بالنظر إليها- سارت ونحن لا نعلم لكنا قد نزلنا. (¬4) "الكامل" للمبرد 1/ 475، ولفظه: العصبة تنوء بالمفاتيح، أي: تستقل بها في ثقل. وليس فيه إنشاد البيت. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 155. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 110. وذكره عنه الأنباري، في "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 463، ولم يعلق عليه.

ما كنتَ في الحربِ العَوانِ مُغَمَّرًا ... إذْ شَبَّ حَرُّ وَقودِها أجزَالها (¬1) والأجزال: هي شَبَّت الحرَّ، فجعل هذا مثل قولهم: أوْ بلغتْ سؤاتُهم هَجَرُ (¬2) يريد: بلغت سؤاتهم هجر. قال الفراء: فإن كان سمع بهذا أثرًا فهو وجه، وإلا فإن الرجل جهل المعنى (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 654، ولم ينسب البيت. وأنشده ابن جرير 20/ 109، ونسبه للأعشى. المغمر: الذي لم يجرب الأمور بعد، والأجزال، مفردها: جزل: الحطب اليابس، والبيت من قصيدة له يمدح فيها قيس ابن معد يكرب. "شرح ديوان الأعشى" 259. (¬2) أنشده كاملاً الأخفش، "معاني القرآن" 1/ 318، ولم ينسبه، والبيت بتمامه: مثل القنافذ هدَّاجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سؤاتهم هجر قال الأخفش: هو يريد أن السؤات بلغت هجرًا، وهجرُ رفع لأن القصيدة مرفوعة. وأنشده كذلك أبو عبيدة "مجاز القرآن" 2/ 39، ونسبه للأخطل، وقال: إنما السوءة البالغة هجرَ، وهذا البيت مقلوب. وعنه أنشده المبرد "الكامل" 1/ 475، وقال: فجعل الفعل للبلدتين على السعة. ورواية الديوان: على العِيارات هدَّاجون قد بلغت ... نجران أو حُدثت سواءتهم هجرُ العيارات: جمع: عير، أي: الحمار، هدَّاجون: من هدج، أي: سار سيرًا ضعيفاً. والبيت في هجاء بني كُليب. "شرح ديوان الأخطل" 178. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 310، وذكر هذا القول بعد أن قال: وقد قال رجل من أهل العربية: إن المعنى: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه فحول الفعل إلى المفاتح. وقد رد على أن الآية من باب المقلوب ابن قتيبة، ولم يرتض أن يستشهد على ذلك بما وقع لبعض الشعراء؛ فقال: وهذا ما لا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله -عز وجل-، لو لم يجد له مذهبًا؛ لأن الشعراء تقلب اللفظ، وتزيل الكلام على الغلط, أو على طريق الضرورة للقافية، أو لاستقامة وزن البيت، ثم ذكر شواهد من الشعر على وقوع القلب فيها، ثم قال بعد ذلك: وأراد بقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي: تُميلها من ثقلها. "تأويل مشكل القرآن" 200.

وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} قال مقاتل: بنو إسرائيل (¬1). وقال الفراء: يعني موسى، وهو من الجمع الذي أريد به الواحد، كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] وإنما كان رجلاً من أشجع؛ يقال له نعيم بن مسعود (¬2). قوله تعالى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} قال المفسرون: لا تأشر ولا تمرح ولا تبطر ولا تفخر (¬3). وأنشد أبو عبيدة في الفرح بمعنى البطر قول هُدبة (¬4): ولستُ بِمفْراحٍ إذا الدهرُ سَرَّني ... ولا جازعٍ من صَرْفِه المُتَقَلِب (¬5) وأنشد لابن أحمر: ولا يُنسِيني الحَدَثانُ عِرْضي ... ولا أُلقِي من الفرحِ إلإزارا (¬6) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 68 ب. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 311، ولم يذكر الاسم. وقد ذكر الواحدي في تفسير الآية من سورة آل عمران ثلاثة أقوال؛ هذا أحدها، والثاني: ركب من عبد القيس، والثالث: المنافقون. (¬3) "تفسير مقاتل" 68 ب. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 111. و"تأويل مشكل القرآن " 491، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 155. و"تفسير الثعلبي" 8/ 151 ب. (¬4) هُدْبة بن خَشرم بن كُرز، من بني عامر بن ثعلبة، من قضاعة، شاعر فصيح، راوية من أهل بادية الحجاز، قتل في المدينة قصاصًا نحو سنة 50 هـ "الشعر والشعراء" 464، و"الأعلام" 8/ 78. (¬5) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 111، ونسبه لهدبة. وأنشد البيت المبرد، في "الكامل" 3/ 1455، في قصة قتل هدبة قصاصًا، وبعد هذا البيت: ولا أبتغىِ الشرَّ والشرُّ تاركي ... ولكنِّي متى أحملْ على الشرِّ أركبُ وأنشده ولم ينسبه ابن قتيبة، "غريب القرآن" 335، وكذا الثعلبي 8/ 151 ب. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 111، ونسبه لابن أحمر، وأنشده المبرد في "الكامل" 1/ 59، ولم ينسبه، وفيه: ولا أرخي من المرح.

77

يعني من البطر والأشر. وقال ابن قتيبة وغيره: أراد: لا تأشر؛ لأن السرور غير مكروه (¬1). وهذا نحو قوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} (¬2) [هود: 10] وقد مر (¬3). {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} يعني: الأشرين البطرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. قاله مجاهد ومقاتل (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد: المستهزئين (¬5). وهو معنى وليس بتفسيرة وذلك أن الاستهزاء من علامات البطر. 77 - وقال أبو إسحاق: أراد لا تفرح بكثرة المال في الدنيا, لأن الذي يفرح بالمال يصرفه في غير أمر الآخرة. والدليل على أنهم أرادوا لا تفرح بالمال في الدنيا، قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} (¬6) واطلب فيما أعطاك الله من المال (¬7) والخير والنعمة والسعة: ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 335. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 151 ب. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: يفاخر أوليائي بما وسعت عليه. وهذا بيان عما يوجبه بطر النعمة من تناسي حالة الشدة، وترك الاعتراف بنعمة الله وحمده على ما صرف عنه من الضر مع المرح والتكبر على عباد الله. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 111، وابن أبي حاتم 9/ 3009، عن مجاهد، و"تفسير مقاتل" 68 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 152 أ، ولم ينسبه. (¬5) ذكر البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصغية الجزم: {الْفَرِحِينَ} المرحين. "فتح الباري" 8/ 506. وكذا أخرجه ابن جرير 20/ 111، وابن أبي حاتم 9/ 3010، ولم أجد فيهما الرواية التي ذكرها الواحدي. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 155. (¬7) في نسخة (أ): الأموال. والمناسب الإفراد؛ لإفراد ما بعده.

الجنة. قاله ابن عباس ومقاتل (¬1). والمعنى: اطلب فيما أنعم الله به عليك الجنة، وهو: أن يشكر الله، وينفق مما أوتي في رضا الله، يدل عليه قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: العمل لله فيها بما يحب ويرضى. وقال في رواية الأعمش: أي: تعمل فيها لآخرتك (¬2). وهو قول مقاتل ومجاهد وابن زيد؛ قالوا: لا تترك أن تعمل لآخرتك (¬3)؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته (¬4). ونحو هذا روى الوالبي عن ابن عباس (¬5). وهو معنى ما روي عن علي: لا تنس صحتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة (¬6). وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: العمل بطاعة الله نصيبه من الدنيا، الذي يثاب عليه في الآخرة (¬7). وقال قتادة: لا تنس الحلال من الدنيا؛ ابتغ الحلال (¬8). والمعنى على ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 112، وابن أبي حاتم 9/ 3010، من طريق الأعمش. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 112، وابن أبي حاتم 9/ 3010، عن مجاهد وابن زيد. وذكره عنهما الثعلبي 8/ 152 أ. و"تفسير مقاتل" 69 أ. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 155. (¬5) ذكره الثعلبي 8/ 152 أ، من طريق الوالبي، علي بن أبي طلحة. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 8/ 152 أ. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 112، وابن أبي حاتم 9/ 3010، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. (¬8) أخرجه ابن جرير 20/ 113، وابن أبي حاتم 9/ 3011.

78

هذا: لا تترك أن تطلب فيها حظك من الرزق الحلال (¬1). وقال الحسن: أُمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه، وُيقدَّم ما سوى ذلك لآخرته (¬2). وعنه أيضًا في هذا المعنى: قَدِّم الفضل، وأمسك ما يُبلغك (¬3) وعلى هذا المراد بالنصيب: قدر ما يكفيه، يقول: اترك ذلك، وقدِّم ما سواه. ونحو هذا روي عن ابن زاذان (¬4). قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد أطع الله واعبده كما أنعم عليك. وقال مقاتل: وأحسن العطية في الصدقة والخير {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} يقول: لا تبغ بإحسان الله إليك أن تعمل في الأرض بالمعاصي (¬5). وقال الكلبي: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} فتدعو إلى عبادة غير الله (¬6). فلما أمروه أن يطيع الله في ماله، قال لهم (¬7): 78 - {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قال أبو إسحاق: ادعى أنه أعطي المال لعلمه بالتوراة (¬8). ¬

_ (¬1) اقتصر عليه أبو عبيدة "مجاز القرآن" 2/ 111. وابن قتيبة، "غريب القرآن" 335. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 8/ 152 أ. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 113، وابن أبي حاتم 9/ 3011. (¬4) أخرجه الثعلبي 8/ 152 أ، بسنده عن منصور بن زاذان، قال: قوتك وقوت أهلكْ. (¬5) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬6) "تنوير المقباس" 330. (¬7) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬8) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 156.

وقال الفراء: على فضلٍ عندي، أي: كنت أهله ومستحقًا له (¬1) إذ أعطيته لفضل علمي (¬2). ويروى أنه كان أقرأَ رجلٍ في بني إسرائيل للتوراة؛ فقال: إنما فضلني الله بهذا المال عليكم كما فضلني عليكم بالعلم (¬3). وهذا معنى قول مقاتل: على خيرٍ عَلِمه الله عندي (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} فكفر؛ يعني: كفر لَمَّا رأى أن المال حصل له بعلمه، ولم يَرَ ذلك من عطاء الله إياه، فكأنه أراد: بعلمه في التصرف، وأنواع المكاسب؛ ويدل على هذا المعنى ما روى علي بن زيد بن جُدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل (¬5) أنه ذَكَر سليمان بن داود فيما أوتي من الملك، ثم قرأ قوله: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] ولم يقل: هذا من كرامتي، ثم ذكر قارون فقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني أن سليمان -عليه السلام- رأى ما أُعطي فضلاً من الله عليه، وقارون رأى ذلك من نفسه (¬6). ¬

_ (¬1) في نسخة: (ج): ومستحقه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 311. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 335، ولم ينسبه. وأخرج نحوه ابن جرير 20/ 113، عن ابن زيد، وكذا ابن أبي حاتم 9/ 3012، وأخرج نحوه أيضًا عن السدي. (¬3) ذكره نحوه الثعلبي 152 أ، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬5) عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث الهاشمي، أبو محمد المدني، أمير البصرة، ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وجده صحبة، مجمع على ثقته، حدث عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وغيرهم -رضي الله عنهم- حدث عنه ابنه إسحاق، وعبد الله، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وآخرون. ت: 79 هـ، وقيل غير ذلك. "سير أعلام النبلاء" 1/ 200، و"تقريب التهذيب" 498. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 118.

وقال الكلبي: قال ابن عباس: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} بصنعة الذهب (¬1). قال الزجاج: والذي روي أنه كان يعمل الكيمياء لا يصح؛ لأن الكيمياء باطل لاحقيقة له (¬2). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 330. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 156. وذكر الثعلبي 8/ 152 أ، عن سعيد بن المسيب، أن قارون كان يعلم الكيمياء. والكيمياء: الحيلة والحذق، ويراد بها عند القدماء: تحويل بعض المعادن إلى بعض؛ فهو علم يُعرف به طرق سلب الخواص من الجواهر المعدنية، وجلب خاصة جديدة إليها؛ ولا سيما تحويلها إلى ذهب. وأما عند المحدثين فهو علم يبحث فيه عن خواص العناصر المادية والقوانين التي تخضع لها الظروف المختلفة، وبخاصة عند اتحاد بعضها ببعض. "المعجم الوسيط" 2/ 808. ولذلك تكلم عنها أهل العلم وذموا متعاطيها لما فيها من الغش والتدليس والخداع؛ إذ فيها يُشبه المصنوع بالمخلوق، وقصد أهلها أن يُجعل هذا كهذا فينفِّقونه، ويعاملون به الناس، وهذا من أعظم الغش .. ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم فالمصنوع من الكيمياء يستحيل ويفسد ولو بعد حين، بخلاف الذهب المعدني. "مجموع الفتاوى" 29/ 370. وذكر شيخ الإسلام أنه ناظر أحد رؤوس هؤلاء المتعاملين بالكيمياء فكان بما اعترض به على شيخ الإسلام أن قال: إن قارون كان يعمل الكيمياء، فرد عليه الشيخ بقوله: وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لم يقله عالم معروف، وإنما يذكره مثل الثعلبي في تفسيره عمن لا يُسمي، وفي "تفسير الثعلبي" الغث والسمين، فإنه حاطب ليل، ولو كان مال قارون من الكيمياء لم يكن له بذلك اختصاص؛ فإن الذين عملوا الكيمياء خلق كثير لا يحصون، والله سبحانه قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} فإخبر أنه آتاه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، والكنوز إما أن يكون هو كنزها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآيه، وإما أن تكون اطلع على كنائز مدفونه، وهو الركاز، وهذا لا ريب أنه موجود. "مجموع الفتاوى" 29/ 377. ذكر الداوودي في "طبقات المفسرين" 2/ 96، أن لابن القيم كتابًا في بطلان =

قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} قارون {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ} بالعذاب {مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} في الدنيا حين كذبوا رسلهم {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للأموال (¬1). قال ابن عباس ومقاتل: يريد نمروذ بن كنعان، الجبار، وغيره (¬2). قوله تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} قال مجاهد: الملائكة لا تَسأل عنهم (¬3) قد عرفتهم زرقًا، سود الوجوه (¬4). وقال الكلبي: لا يُسأل الكافر عن ذنبه، كل معروف بسيماه (¬5). واختار الفراء هذا القول (¬6)؛ فقال: يقول: يعرفون بسيماهم، كما قال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} الآية، [الرحمن: 39] ثم قال: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] (¬7). وهذا القول لا يصح؛ لأن سؤالهم عن ذنوبهم ليس لمعرفتهم وليعرفوا, ولو قيل: ولا يَسأل عن المجرمين، لصح المعنى الذي ذهبوا إليه. والصحيح ما قال قتادة؛ قال: إنهم يدخلون النار بغير ¬

_ = الكيمياء من أربعين وجهًا. وذكر هذا الكتاب الشيخ بكر أبو زيد في كتابه: "ابن قيم الجوزية حياته وآثاره" 136، وأفاد أنه لم يقف على نسخة خطية لهذا الكتاب. (¬1) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬3) من هنا بدأت النسخة: (ج)، بعد السقط الذي كان فيها. (¬4) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 20/ 114، وابن أبي حاتم 9/ 2013. وذكره عنه الثعلبي 8/ 152 ب. (¬5) "تنوير المقباس" 330. (¬6) القول، من نسخة (ج). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 311. وذكره ابن قتيبة، في "معاني القرآن" 335، ولم ينتقده.

79

حساب (¬1). فأما قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحجر: 92] فإنهم يُسألون سؤال تقريع وتوبيخ؛ كما قال الحسن في هذه الآية: لا يُسألون ليُعلم ذلك مِنْ قِبَلِهم، وإن سئلوا فسؤال تقريع وتوبيخ (¬2). وقال أهل المعاني: {يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} سؤال من لعل له عذرًا يسقط لائمته (¬3). وقال مقاتل: يقول لا يُسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا، فإن الله قد أحصى أعمالهم الخبيثة وعلمها (¬4). وعلى هذا القول الكناية في: {ذُنُوبِهِمُ} لا تعود [إلى المجرمين] (¬5)، إنما تعود إلى مَنْ أهلك الله من القرون؛ وهو أيضًا ليس بالقوي. 79 - قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} يعني بني إسرائيل {فِي زِينَتِهِ} قال مقاتل: يعني بالزينة: الشارة (¬6). قال عطاء عن ابن عباس: قالوا: البغال الشُّهْب (¬7) حَمَل عليها ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 94، وابن جرير 20/ 114، وابن أبي حاتم 9/ 3013. (¬2) ذكره عنه الثعلبي 8/ 152 ب. (¬3) في نسخة: (أ)، (ب): عذرًا سقط عنه. (¬4) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬6) "تفسير مقاتل" 69 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3014، عن الضحاك. يقال: ما أحسن شَوَار الرجل، وشارَته، يعني: لباسه وهيئته. "تهذيب اللغة" 11/ 404 (شار). (¬7) الشهب في ألوان الخيل: أن تشق معظم لونه شعرة، أو شعرات بيض. "تهذيب اللغة" 6/ 88 (شهب).

الكواعب من الجواري (¬1)، وألبسهن ثياب الحمرة (¬2). وقال مجاهد: خرج بجوارٍ عليهن ثياب حمر، على بَراذينَ بيضٍ، عليها سرج حمر من أُرجوان (¬3). وقال قتادة: خرج على أربعة آلاف دابة، عليهم ثياب حمر، منها ألف بغلة بيضاء عليها قطائف الأُرجوان (¬4). وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سَرج من ذهب، عليه الأُرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل، عليهم وعلى دوابهم الأُرجوان، ومعهم ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحلي، والثياب الحمر، على البغال الشُّهب (¬5). قال أبو إسحاق: والأرجوان في اللغة: صبغ أحمر، وهو: ما روي ¬

_ (¬1) الكواعب: هي التي نهد ثديها، إذا ارتفع عن الصدر، وصار له حجم. "اللسان" 1/ 719 (كعب) و (نهد) 3/ 429. (¬2) أخرجه نحوه ابن جرير 20/ 117، عن ابن عباس، من طريق عبد الله بن الحارث. (¬3) أخرجه نحوه ابن جرير 20/ 115، وابن أبي حاتم 9/ 3013، عن مجاهد. وذكره الثعلبي 8/ 152 ب. والبراذين: جمع: بِرذُون، الدابة، والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العِراب. "اللسان" 13/ 51، وفي "المعجم الوسيط" 1/ 48: البرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، من الفصيلة الخيلية، عظيم الخِلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحوافر. والسَّرج: رَحْل الدابة. "تهذيب اللغة" 10/ 582 (سرج)، و"اللسان" 2/ 297. والأرجوان: شجر له زهر شديد العمرة، حسن المنظر، وليست له رائحة. "المعجم الوسيط" 1/ 31. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 94، وابن جرير 20/ 115، وابن أبي حاتم 9/ 3014. (¬5) "تفسير مقاتل" 69 أ. وذكره عنه الثعلبي 8/ 152 ب.

80

أنه كان عليهم وعلى خيلهم الديباج الأحمر (¬1). ونحو هذا قال إبراهيم والكلبي (¬2)؛ وزاد الكلبي: خرج بثوب أخضر، كان الله أنزله على موسى من الجنة، فسرقه منه قارون. وروى مبارك عن الحسن في قوله: {فِي زِينَتِهِ} قال ثياب صفر (¬3). ونحو هذا روى عثمان بن الأسود عن مجاهد، قال: عليهم ثياب معصفرة (¬4). وهو قول ابن زيد قال: خرج في سبعين ألفًا عليهم المعصفرات (¬5). قال مقاتل: فلما نظر مؤمنو أهل (¬6) ذلك الزمان في تلك الزينة والجمال، تمنوا مثل ذلك، وهو قوله: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} لذو نصيب وافر من الدنيا (¬7). 80 - {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال ابن عباس: يريد الأحبار من بني إسرائيل (¬8). وقال مقاتل: {أُوتُوا الْعِلْمَ} بما وعد الله في الآخرة؛ قالوا للذين ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 156. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 115، عن إبراهيم النخعي. وذكره عنه الثعلبي 8/ 152 ب. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 115، وابن أبي حاتم 9/ 3014. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 115، وابن أبي حاتم 9/ 3013. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 115، وابن أبي حاتم 9/ 3014. وهذا كله مما لا دليل عليه؛ والأولى الإعراض عنه؛ إذ المقصود في الآية: أنه خرج على قومه في زينة بهرتهم. (¬6) أهل. ساقطة من نسخة: (ب). (¬7) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬8) ذكره عنه ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 243.

81

تمنوا مثل ما أوتي قارون: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ} ما عند الله من الثواب والجزاء {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} صدَّق بتوحيد الله {وَعَمِلَ صَالِحًا} وقام بالفرائض. أي: إن ذلك خير مما أعطي قارون في الدنيا (¬1). {وَلَا يُلَقَّاهَا} [قال مقاتل: لا يؤتاها يعني: الأعمال الصالحة (¬2). وعلى هذا الكناية تعود إلى ما دل عليه قوله: {وَعَمِلَ صَالِحًا} وقال الكلبي:] (¬3) ولا يعطاها في الآخرة {إِلَّا الصَّابِرُونَ} على أمر الله، يعني: الجنة (¬4). ودل عليها قوله: {ثَوَابُ اللَّهِ} وقال الزجاج: ولا يُلقى هذه الكلمة، يعني قولهم: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} (¬5) {إِلَّا الصَّابِرُونَ} على طاعة الله، وعن زينة الدنيا (¬6). وقال ابن قتيبة: ولا يوفق لها ولا يُرزقَها (¬7). وهو قول الفراء؛ يقول: ولا يُلقَّى أن يقول: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} {إِلَّا الصَّابِرُونَ} (¬8). 81 - قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} ذكرنا معنى الخسف في سورة: سبحان (¬9). قال مقاتل وقتادة: فهو يتجلجل في الأرض كلَّ يوم قامةَ رجلٍ إلى يوم ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 69 أ. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬4) "تنوير المقباس" 331. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 156. (¬6) ذكره بنصه الثعلبي 8/ 153 أ. (¬7) "غريب القرآن" لابن قتيبة 336، وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" 2/ 111. (¬8) "معاني القرآن" للفراء 2/ 311. (¬9) عند قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [68].

82

القيامة (¬1). وقال ابن عباس: خُسف به إلى الأرض السفلى (¬2). وقال مقاتل: لما خَسف الله بقارون، قالت بنو إسرائيل: إن موسى إنما أهلك قارون ليأخذ ماله وداره، فخسف الله بعد قارون بثلاثة أيام بدار قارون، وماله الصامت وانقطع الكلام (¬3). قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يقول: لم يكن له جند يمنعونه من الله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} من الممتنعين مما نزل به من الخسف (¬4). والمنتصر: الذي قد بلغ حالة النُّصرَة (¬5). 82 - وقوله: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ}: صار أولئك الذين تمنوا ما رُزق من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني؛ وهو قوله: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} الآية (¬6). قال سيبويه في هذه الكلمة: سألت عنها الخليل فزعم أنها: (وَيْ)، مفصولة من: (كأن)، وأن القوم تنبهوا، فقالوا: (وَيْ)، متندمين على ما ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 69 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 119، وابن أبي حاتم 9/ 3020 عن قتادة. ومعنى: يتجلجل في الأرض: أي: ساخ فيها ودخل. "اللسان" 11/ 121 (جلل). (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 119, وابن أبي حاتم 9/ 3020، بلفظ: الأرض السابعة. (¬3) "تفسير مقاتل" 69 ب. والصامت: الذهب والفضة. "تهذيب اللغة" 12/ 156, و"اللسان" 2/ 55 (صمت). وظاهر الآية أن الخسف به وبداره حصل في وقت واحد. والله أعلم. (¬4) "تفسير مقاتل" 69 ب. و"تفسير ابن جرير" 20/ 119. و"تفسير الثعلبي" 8/ 145 أ (¬5) النُّصرة: حسن المعونة. "تهذيب اللغة" 12/ 160 (نصر)، و"اللسان" 5/ 210 (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 156، بنحوه.

سلف منهم، وكل من يندم أو نُدِّم فإظهار ندامته أن يقول: (وَيْ) (¬1). وذكر الفراء في هذه الكلمة قولين؛ أحدهما قال: يذهب بعض النحويين إلى أنهما كلمتان؛ يريد: ويك أنه، أراد: ويلك، فحذف اللام وجعل أنَّ مفتوحة بفعل مضمر، كأنه قال: ويلك أعلم، فأضمر: أعلم. قال الفراء: ولم نجد العرب تُعمل الظن والعلم بالإضمار، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: يا هذا أنك قائم، تريد: علمت أو أعلم (¬2). وهو (¬3) الذي ذكره قول قطرب (¬4). قال الفراء: وأما حذف اللام من: ويلك، حتى تصير: ويك، فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام، قال عنترة: ولقد شَفَى نفسي وأبرأَ سُقمها ... قولُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقدِمِ (¬5) ¬

_ (¬1) "الكتاب" 2/ 154. بمعناه. وذكره بنصه الزجاج 4/ 156، والأزهري، "تهذيب اللغة" 15/ 653 (وي). والثعلبي 8/ 154 ب. قال ابن قتيبة: وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هي كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، كأنه لا يفلح الكافرون، وقال: وي: صلة في الكلام. وهذا شاهد لقول الخليل. "تأويل مشكل القرآن" ص 526. (¬2) نقل كلام الفراء ابن جرير 20/ 121، بلفظ: ولم نجد العرب تُعمل الظن مضمرًا، ولا العلم وأشباهه في: أنَّ، وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين، أو في آخر الكلمة، فلما أضمر جرى مجرى المتأخر؛ ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول: يا هذا، أنك قائم، ويا هذا أن قمت، تريد: علمت، أو أعلم، أو ظننت، أو أظن. (¬3) في النسخ كلها: وهو. ولعل المناسب: وهذا. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 8/ 154 ب. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 312، ونسبه لعنترة، وهو في "ديوانه" 30. وأنشده أبو علي في المسائل الحلبيات 44، ولم ينسبه. وأنشده ونسبه الثعلبي 8/ 154 ب. =

قال: وقد قال آخرون: إن معنى: {وَيْكَأَنَّ} وي، منفصلة من: (كأن)، تقول للرجل: (وي)، أما ترى ما بين يديك؟ فقال الله تعالى: وي، ثم استأنف: كأن الله يبسط الرزق، وهي تعجب، (وكأن)، في مذهب الظن والعلم؛ وهذا وجه مستقيم، غير أن العرب لم تكتبها منفصلة، ولو كان على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن يكون كَثُر بها الكلام فوُصِلت بما ليست منه؛ كما اجتمعت العرب على كتابة: {يَبْنَؤُمَّ} [طه: 94] فوصلوها لكثرتها (¬1). فعلى هذا {وَيْكَأَنَّ}: تقرير، كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله، وأنشد النحويون جميعًا: سَأَلَتاني الطلاقَ إذْ رَأتانِي ... قَلَّ مالي قد جِئتُماني بِنُكرِ ويْكأنَّ مَنْ يكن له نَشَبٌ يُحـ ... ـبَبْ ومَنْ يفتقِرْ يعشْ عيشَ ضُرَّ (¬2) قال الفراء: وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول ¬

_ = وأنشده ولم ينسبه، ابن جني، "الخصائص" 3/ 40. والشاهد فيه: حذف اللام من: ويلك، حتى تصير: ويك. (¬1) حكى الداني كتابة {وَيْكَأَنَّ} في الموضعين من سورة القصص، بوصل الياء بالكاف. "المقنع" 76. وأما (ابنَ أم) فكتبت في كل المصاحف في الأعراف [150] {قَالَ ابْنَ أُمَّ} بالقطع، وفي طه [94] كتبت متصلة {يَبْنَؤُمَّ}. المقنع 76. (¬2) أنشده سيبويه، ونسبه لزيد بن عمرو بن نفيل. "الكتاب" 2/ 155، وفي الحاشية: سألتاني، يعني: زوجتيه اللتين ذكرهما في بيت قبله. وأنشده الأخفش 2/ 655 , ولم ينسبه. والنَّشَب: المال والعقار. وأنشد البيت الثاني: أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 112، وابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" 527، وابن جني, "الخصائص" 3/ 41، ولم ينسبوه. وأنشد البيتين، ولم ينسبهما، الزجاج 4/ 57. والشاهد فيه: ويكأن، فهي عند سيبويه والخليل مركبة من: (وي): للتنبيه، و: كأن، للتشبيه، ومعناها: ألم تر.

لزوجها: أين ابنكَ ويلكَ؟ فقال. ويكأنه وراء البيت، معناه: أما ترينه وراء البيت (¬1)، وقال الكسائي: {وَيْكَأَنَّ} في التأويل: ذلك أن الله (¬2). وهو مأخوذ من قول ابن عباس؛ فإنه قال في هذه الآية: قالوا: ذلك أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وعلى هذا هي كلمة تحقيق وابتداء. وهو قول الحسن. وقال أبو عبيدة: سبيلها سبيل: ألم تر (¬3). وقال مجاهد وقتادة: معناها: ألم تعلم (¬4). وقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} قال ابن عباس: بالعافية والرحمة (¬5). وقال مقاتل: بالإيمان (¬6) {لَخَسَفَ بِنَا} أي: الله تعالى (¬7). ومن قرأ (لَخُسِفَ بِنَا) (¬8) فإنه يؤول إلى الخسف في المعنى، غير أنه بني الفعل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 312. وهذا النقل الطويل من أول قوله: وذكر الفراء في هذه الكلمة قولين إلى هنا، كله عن الفراء. (¬2) ذكر ابن قتيبة، أن الكسائي قال في معنى هذه الكلمة: ألم تر. "تأويل مشكل القرآن" 526. (¬3) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 112. بلفظ: مجازه: ألم تر. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 94، وابن جرير 20/ 120، وابن أبي حاتم 9/ 2021، عن قتادة. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب، عن مجاهد، بلفظ: ألم تعلم. واختاره ابن جرير. قال ابن قتيبة: وهذا شاهد لقول الكسائي، يعني به: ألم تر. تأويل مشكل القرآن 527. وأما مقاتل فقال: يعني: لكن الله. "تفسير مقاتل" 69 ب. (¬5) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 247، ولم ينسبه. (¬6) "تفسير مقاتل" 69 ب. (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 424. (¬8) قرأ عاصم في رواية حفص: {لَخَسَفَ} بالفتح، وقرأ الباقون: {لخُسِفَ} بضم =

83

للمفعول (¬1) {وَيْكَأَنَّهُ} أكثر المفسرين يقولون معناه: ألم تر أنه، و: أما ترى أنه (¬2). قال الزجاج: وهذا مشاكل لتفسير الخليل؛ لأن قول المفسرين: أما ترى، تنبيه (¬3). {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس: لا يسعد من كفر بالله (¬4). 83 - وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد الجنة (¬5). {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} قال مقاتل: تعظمًا في الأرض عن الإيمان (¬6). ونحوه قال الكلبي: هو الاستكبار عن الإيمان بالله (¬7). وقال ابن عباس: علوًا على خلقي في الأرض (¬8). وهو: معنى قول سعيد ابن جبير: {عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} بغيًا (¬9). ¬

_ = الخاء. "السبعة في القراءات" 495، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 424، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 179، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 342. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 425. (¬2) "تفسير ابن جرير" 20/ 120. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 157، بلفظ: فهذا تفسير الخليل، وهو مشاكل لما جاء في التفسير, لأن قول المفسرين هو تنبيه. (¬4) "تفسير مقاتل" 69 ب. (¬5) أخرج ابن أبي حاتم 9/ 3022، عن عكرمة، و"تفسير ابن جرير" 20/ 122، ولم ينسبه. و"تفسير مقاتل" 69 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 69 ب. (¬7) "تنوير المقباس" 331. (¬8) أخرج ابن جرير 20/ 122، عن عكرمة: العلو: التجبر. (¬9) أخرجه ابن جرير 20/ 122.

قال علي رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه شرَاك نعله فيدخل في هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} (¬1). يعني أن من تكبر على غيره بلباس يعجبه، فهو ممن يريد علوًا في الأرض. وهو قول مسلم البَطِينِ: التكبر في الأرض بغير الحق (¬2). وقال الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانهم (¬3). قوله: {وَلَا فَسَادًا} قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله (¬4). وقال مقاتل: عملًا بالمعاصي (¬5). وهو قول ابن جريح (¬6). وقال عكرمة والبطين: هو أخذ المال بغير الحق (¬7). قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} قال ابن عباس: يريد عاقبة المتقين الجنة (¬8). وقال الكلبي: وهم الذين اتقوا الكبائر والفواحش (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 122، وابن أبي حاتم 9/ 3023، قال ابن حجر: إسناده ضعيف. "الكافي الشاف" بحاشية الكشاف 3/ 421. والشَّرَاك: سير النعل. "تهذيب اللغة" 10/ 17 (شرك). (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 122، وابن أبي حاتم 9/ 3022. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب، عنه، وعن ابن جريج ومقاتل وعكرمة. (¬3) هكذا في النسخ الثلاث: عند ذي سلطانهم. ورواية ابن أبي حاتم 9/ 3023: عند ذوي سلطانهم. (¬4) ذكره عنه الثعلبي 8/ 154 ب، وفي "تنوير المقباس" 331: بالنقش والتصاوير والمعاصي. (¬5) "تفسير مقاتل" 69 ب. و"تأويل مشكل القرآن" 476. (¬6) ذكره عنه الثعلبي 8/ 154 ب. (¬7) أخرجه ابن جرير 20/ 122، عن ابن جريج، وعكرمة، ومسلم البطين. (¬8) "تنوير المقباس" 331. (¬9) "تنوير المقباس" 331.

84

وقال قتادة: أي الجنة للمتقين (¬1). وهم الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. 84 - قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} مفسر في سورة: النمل (¬2)، إلى قوله: {فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} والمفسرون كلهم على أن المراد بالحسنة: شهادة أن لا إله إلا الله. وأن السيئة: الشرك. وهو قول ابن عباس وعبد الله وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبي صالح وعطاء ومقاتل والجميع (¬3). قال أبو ذر: قلت يا رسول الله: لا إله إلا الله، من الحسنات؟ قال: "هي أحسن الحسنات" (¬4). وقوله تعالى: {فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا (¬5). وقال مقاتل: يعني الذين عملوا الشرك {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 123، وابن أبي حاتم 9/ 3023. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب. (¬2) سورة النمل [89، 90]. (¬3) "تفسير مقاتل" 69 ب. وانظر أقوالهم في تفسير ابن أبي حاتم 9/ 3024. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3024، من طريق الأعمش، عن شِمْر بن عطية، عن رجل من التيم، عن أبي ذر. وأخرجه الإمام أحمد من طريق الأعمش عن شِمْر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله أوصني قال: "إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمسحها قال: قلت يا رسول الله: أمن الحسنات لا إله إلا الله قال: هي أفضل الحسنات". "المسند" 8/ 113، رقم: 21543. وهذا إسناد لا يصح؛ لأن الأعمش، وهو سليمان بن مهران، مع كونه ثقة فإنه يدلس، "تقريب التهذيب" 414، رقم: 2630، ولم يصرح هنا بالسماع، وأما شِمْر بن عطية فهو صدوق، والواسطة بينه وبين أبي ذر -رضي الله عنه-، مجهول. والله أعلم. (¬5) تفسير ابن الجوزي 6/ 249، ولم ينسبه.

85

الشرك، فإن جزاء الشرك النار (¬1). وقال ابن عباس: يريد ليس لعقابهم صفة ينتهي إليها عذابهم أعظم مما يوصف. والتقدير: إلا جزاء ما كانوا يعملون، وجزاء ما عملوا النار، على ما ذكره المفسرون. 85 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} قال ابن عباس: أنزل عليك القرآن (¬2). ونحو ذلك قال مقاتل والمفسرون (¬3). قال أبو إسحاق: معنى {فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}: أنزله عليك، وألزمك، وفرض عليك العمل بما يوجبه القرآن (¬4). وتقدير الآية ما ذكره أبو علي؛ فقال: المعنى: فرض عليك أحكام القرآن، وفرائض القرآن. وعلى هذا: الآية من باب حذف المضاف، وقول المفسرين معنى وليس بتفسير؛ وذلك أن الذي فَرض عليه فرائض القرآن هو الذي أنزله، وفرض فرائضه بإنزاله، فقيل فيه: أنزل القرآن. {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: مكة (¬5). ونحو ذلك روى العوفي عنه (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 69 ب. (¬2) بنصه عند الفراء، وأبي عبيدة، ولم ينسباه. "معاني القرآن" 2/ 313. و"مجاز القرآن" 2/ 112 (¬3) لم أجده عند مقاتل، وأخرجه ابن جرير 20/ 132، وابن أبي حاتم 9/ 3025، عن مجاهد. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب، عن أكثر المفسرين، ولم يسمهم. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 157، قال ابن قتيبة: أي: أوجب عليك العمل به. "غريب القرآن" 336. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 154 ب، من قول عطاء بن أبي رباح. (¬6) أخرجه البخاري، من طريق عكرمة، في التفسير، رقم 4773، "فتح الباري" =

وهو قول الكلبىِ ومقاتل؛ قالا: لما نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- الجُحفة (¬1) في مسيره إلى المدينة من مكة لما هاجر اشتاق إليها، وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، فقال جبريل: فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يعني إلى مكة ظاهرًا عليهم، فنزلت هذه الآية بالجُحفة، وليست مكية ولا مدنية (¬2). ونحو هذا روى الضحاك عن (¬3) ابن عباس في نزول الآية بالجحفة (¬4). وروى عكرمة عن ابن عباس، ويونس عن مجاهد: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ¬

_ = 8/ 509، وأخرجه النسائي، في كتاب التفسير 2/ 147، رقم: 406، عن عكرمة عن ابن عباس، وابن جرير 20/ 125، من طريق عكرمة، وسعيد بن جبير. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب، عن العوفي عن ابن عباس. (¬1) الجُحفة: قرية كبيرة على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا على المدينة فميقاتهم ذو الحليفة. "معجم البلدان" 2/ 129. وتوجد اليوم آثارها شرق مدينة رابغ بحوالي 22 كم. "معجم المعالم الجغرافية" 80. (¬2) "تفسير مقاتل" 69 ب. و"تأويل مشكل القرآن" 425، ونسبه لأبي صالح، و"غريب القرآن" لابن قتيبة 336. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب، عن مقاتل. ويعني بقوله: ليست مكية ولا مدنية: المكان، أما من ناحية التعريف الاصطلاحي فالراجح أن ما كان قبل الهجرة فهو مكي، وإن نزل خارج مكة، وما كان بعد الهجرة فهو مدني، وإن نزل خارج المدينة، والله أعلم. "البرهان في علوم القرآن" 1/ 239، و"الإتقان في علوم القرآن" 1/ 11. (¬3) في نسخة: (ب): عن مجاهد وابن عباس. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3026، من قول الضحاك. وذكره الثعلبي 8/ 154 ب، عن الضحاك عن ابن عباس.

إلى مولدك: مكة (¬1). وهو قول الضحاك، واختيار الفراء (¬2). وعلى هذا قيل لمكة: معاد؛ لأن معاد الرجل: بلده، وذلك أنه يتصرف في أسفاره، ثم يعود إلى بلده (¬3). وذكر الفراء وجهين آخرين؛ فقال: المعاد هاهنا، إنما أراد به حيثُ وُلدتَ، وليس من: العَود. قال: وقد يكون أن يجعل قوله {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} لَمصيرك إلى أن تعود إلى مكة مفتوحة لك (¬4). فالوجه الأول: معنى المعاد: المولد. وهو قول أحمد بن يحيى. والوجه الثاني: المعاد: مصدر بمعنى: العود. القول الثاني في المعاد، أنه: الجنة. وهو قول [أبي سعيد الخدري؛ قال: معاده: آخرته الجنة. ورواية السدي عن أبي صالح، و] (¬5) سعيد بن جبير عن ابن عباس، ورواية ليث عن مجاهد (¬6). وعلى هذا معنى المعاد: الموضع الذي يصير إليه. [فكل شيء إليه] (¬7) المصير فهو: المعاد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 125، عن ابن عباس من طريق عكرمة وسعيد بن جبير، ومجاهد من طريق يونس بن عمر، وهو ابن أبي إسحاق. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 336، ونسبه لمجاهد. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 313. واقتصر عليه أبو القاسم الزجاجي، في كتابه: "اشتقاف أسماء الله تعالى" 438. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 425. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 313. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 124، وابن أبي حاتم 9/ 3026، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأخرجه عن السدي من طريق أبي صالح، وأخرجه عن مجاهد أيضًا. وأخرجه عن ابن عباس، أبو يعلى الموصلي 2/ 370، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" 7/ 88 (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).

ومصيره -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة إلى الجنة، فهي معاده. القول الثالث في المعاد: أنه القيامة. وهو رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: يحييك يوم القيامة. وهو قول الحسن والزهري؛ قالا: معاده: الآخرة (¬1). واختاره الزجاج؛ فقال: أكثر التفسير: لباعثك، وعلى هذا كلام الناس: اذكر المَعَاد، أي: اذكر مبعثك في الآخرة (¬2). وذُكر فيه قولٌ رابع: {إِلَى مَعَادٍ} إلى الموت؛ رواه الأعمش عن بعض أصحابه، عن سعيد بن جبير [عن ابن عباس، وروي ذلك أيضًا عن أبي سعيد الخدري] (¬3). وأهل المعاني اختاروا القول الثاني؛ وقالوا: المعنى: إنه يعود في النشأة الثانية إلى الجنة. وتم الكلام عند قوله: {إِلَى مَعَادٍ} ثم ابتدأ كلامًا آخر فقال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} قال مقاتل: هذا جواب لكفار مكة لما كذبوا محمدًا، وقالوا له: إنك في ضلال، فأنزل الله: {قُلْ} لهم {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} [وأنا الذي جئت بالهدى، وهو أعلم بـ {مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} نحن ¬

_ (¬1) أخرجه عنهما عبد الرزاق 2/ 94، وأخرجه ابن جرير 20/ 124، عن عكرمة وعطاء ومجاهد والحسن والزهري، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3026، عن ابن عباس، من طريق عكرمة، وعن مجاهد، وقتادة. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 158. (¬3) ما ببن المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). وأخرج هذا القول ابن جرير 20/ 125، عن ابن عباس، وسعيد ابن جبير، وأخرجه أيضًا عن ابن عباس، من طريق الأعمش عن سعيد بن جبير، وكذا ابن أبي حاتم 9/ 3025، عن ابن عباس، من طريق الأعمش عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة ومجاهد مثله. وذكره الثعلبي 8/ 155 أ، عن سعيد بن جبير، وابن عباس.

86

أم أنتم (¬1)، وهذا كقوله: {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى}] (¬2) [{مِنْ عِندِهِ}] (¬3) وقد تقدم في هذه السورة (¬4). و (مَنْ) هاهنا في موضع نصب، بإسقاط الخافض منه. 86 - وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال ابن عباس: أن يوحى إليك القرآن (¬5). وقال الكلبي: ما كنت ترجو أن تكون نبيًا (¬6). وقال مقاتل: أن ينزل عليك القرآن، يذكره النعم (¬7). وقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال ابن عباس: يريد: رحمةً مني سبقت لك، وأنت في صلب آدم. وقال مقاتل: يقول: كان الكتاب رحمة، يعني: نعمة من ربك، حين اختُصِصت بها يا محمد (¬8). قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع؛ ومعناه: وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم، تتلوها على أهل مكة، ولم تحضرها ولم تشهدها إلا أن ربك رحمك (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 70 أ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب). (¬4) عند الآية: {وَقَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} [37]. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3027، عن ابن عباس، والحسن. (¬6) "تنوير المقباس" 331. (¬7) "تفسير مقاتل" 70 أ. (¬8) "تفسير مقاتل" 70 أ. (¬9) "معانى القرآن" للفراء 2/ 313.

87

{فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} معينًا للكافرين على دينهم (¬1). قال مقاتل: وذلك حين دُعي أن يرجع إلى دين آبائه، فذكَّره الله النعمة، ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه، وأمره بالتحذر منهم بقوله: 87 - {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} يعني: القرآن {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى معرفته وتوحيده (¬2). {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال ابن عباس: هو مخاطبة لأهل دينه (¬3). يعني أن هذا الخطاب وإن كان ظاهره له فالمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم (¬4)، وكذلك قوله: 88 - {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: لا تعبد معه غيره (¬5). قال ابن عباس: هذا تخويف للمشركين، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد عصمه الله من أن يتخذ معه إلهًا [آخر. أي: لا تعبد معه غيره. قال ابن عباس:] (¬6) يريد: أنه إذا نُهي عن عبادة غير الله، كان ذلك تخويفًا لمن عبد معه غيره. وهذا فائدة النهي عن عبادة غيره بعد أن عُصم عن ذاك، وحكم له بالنبوة في سابق الحكم. ثم وحَّد نفسه فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬7) قال ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 158. (¬2) "تفسير مقاتل" 70 أ. (¬3) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 251، ولم ينسبه. (¬4) وليس في توجيه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعن فيه، بل في ذلك غاية التحذير من الوقوع فيما نُهي عنه, لأنه إذا وجه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عن الشرك، وعبادة غير الله تعالى، فغيره من باب أولى، وأنه لا عذر لأحد في ذلك. والله أعلم. (¬5) "تفسير مقاتل" 70 أ. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج). (¬7) "تفسير مقاتل" 70 أ.

ابن عباس: يريد: إلا ما أريد به وجهه (¬1). وهو قول الكلبي؛ قال: كل عمل لغيره فهو هالك، إلا ما كان له (¬2). وقال سفيان: إلا ما أريد به وجه الله من الأعمال (¬3). وهو اختيار الفراء، وأنشد قول الشاعر: استغفر الله ذنبًا لستُ مُحصِيه ... ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ أي: إليه أوجه العمل (¬4). فعلى هذا وجهُ الله ما وُجِّه إليه من الأعمال. والمعنى ما ذكره الكلبي. وقال مقاتل: يقول كل شيء من الحيوان ميت، ثم استثنى نفسه بأنه حي لا يموت؛ فقال: {إِلَّا وَجْهَهُ} يعني: إلا هو (¬5). ونحو هذا روي عن مجاهد (¬6)، واختاره الزجاج؛ فقال: ومعنى: ¬

_ (¬1) ذكره البخاري، ولم ينسبه، وصدره بقوله: ويقال. "فتح الباري" 8/ 505. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3028، عن مجاهد. واقتصر على هذا القول النيسابوري، في "وضح البرهان" 2/ 158، ولم ينسبه. (¬2) "تنوير المقباس" 331. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3028. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 314. ولم ينسب البيت. وأنشده سيبويه 1/ 37، ولم ينسبه، وفي الحاشية: البيت من الأبيات الخمسين التي استشهد بها سيبويه، ولا يعرف قائلها. وذكره ابن جرير 9/ 127، بعد أن قال: وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما أريد به وجهه، واستشهدوا لتأويلهم ذلك بقول الشاعر، فذكر البيت، ولم ينسبه. وفي الحاشية: وهو شاهد عند النحاة على أن أصله: أستغفر الله من ذنب، ثم أسقط الجار فاتصل المجرور بالفعل فنصب مفعولًا به. وأنشده ابن جني، "الخصائص" 3/ 247، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 70 أ. وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" 2/ 112. وهذا أقرب إلى ظاهر الآية، والله أعلم. (¬6) الذي روي عن مجاهد كما سبق: إلا ما أريد به وجهه.

{إِلَّا وَجْهَهُ} إلا إياه (¬1). وعلى هذا: الوجه، صلةٌ في الكلام. وقال ابن كيسان: إلا ملكه (¬2). والوجه يجوز أن يكون عبارة عن: المُلك؛ لأن الوجه من الوجاهة, والمَلِك مِنْ أوجه الناس، فسمي المَلِك وجهًا. وهذا معنى قول الضحاك في هذه الآية: كل شيء هالك إلا الله، والجنة، والنار، والعرش. والاختيار: القول الأول، وهو الذي يليق بمعنى الآية (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 158، واقتصر عليه ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 254، 480. (¬2) ذكره البخاري، ولم ينسبه. "الفتح" 8/ 505. (¬3) إن كان المقصود من هذا إنكار صفة الوجه لله -عز وجل- فهذا قول باطل؛ فالوجه من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق. "أضواء البيان" للشنقيطي 6/ 457. والقول بأن المراد بالوجه في الآية ما أريد به وجه الله من الأعمال قول صحيح، لا ينافي القول الأول فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله -عز وجل- من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية، وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. "تفسير ابن كثير" 6/ 262. لكن لا يجوز أن يُفهم من القول الثاني إنكار صفة الوجه؛ وكلام الواحدي يُشعر بذلك، حيث قال الواحدي بعد ذكره مؤيدًا له: وهو الذي يليق بمعنى الآية. وصرح الواحدي بنفي صفة الوجه في تفسير: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي: ربك الظاهر بأدلته ظهور الإنسان بوجهه. "الوسيط" 4/ 221. وفي "البسيط" ذكر القول الذي اقتصر عليه في "الوسيط"، وزاد قولاً آخر؛ وهو: ويبقى ربك، وهو السيد المعظم, والوجه يذكر بمعنى الشيء المعظم، كقولهم: هذا وجه القوم، ووجه التدبير, أي: التدبير المعظم. ولا يجوز أن يكون الوجه هاهنا صلة لقوله: {ذُو} بالرفع وهو من صفة الوجه، ولو كان الوجه صلة لقيل: ذيَ، ليكون صفة لقوله ربك. أهـ وهذا التعليل الذي ذكره الواحدي وصرف به الآية عن ظاهرها ليس بوجيه فإن =

وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} قال الكلبي: له الحكم في الآخرة (¬1)، يعني: له الفصل بين الخلائق دون غيره {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم (¬2)، ويقضي بينكم (¬3). ¬

_ = {ذُو} صفة للوجه الذي أضيف إلى الله -عز وجل-، فعبر بالوجه عن الذات. قال ابن كثير 6/ 261، في تفسير آية القصص: إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله هاهنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلا إياه. (¬1) "تنوير المقباس" 331. (¬2) "تفسير مقاتل" 70 أ. (¬3) في نهاية النسخة: (ج)، كتب: تم الجزء السابع من كتاب "البسيط" في التفسير، تصنيف: الإمام: الواحدي، ويتلوه الجزء الثامن، سورة العنكبوت، على يد الفقير إلى رحمة ربه: محمد علي محمد الأنصاري، في رابع ربيع الآخر، سنة سبع وستمائة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد رسوله وصحبه وسلم تسليما. ا. هـ.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت

1، 2

تفسير سورة العنكبوت (1) 1، 2 - {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} قال الشعبي: لما نزلت آية الهجرة كتب بها المسلمون إلى إخوانهم بمكة، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق أدركهم المشركون، فردوهم، فأنزل الله: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} عشر آيات من أول السورة (2). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء؛ وقال: يريد بالناس الذين آمنوا بمكة: سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد ابن الوليد، وعمار بن ياسر، وياسر بن عامر، وسمية أم عمار (3)،

_ (1) سورة العنكبوت مكية، يقال: نزلت بين مكة والمدينة في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين هاجر إلى المدينة، وهي تسع وستون آية. "تفسير مقاتل" 70 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 155 أ. وقد ذكر الثعلبي في أولها بإسناده حديث أبي ابن كعب -رضي الله عنه-، في فضل هذه السورة، وكذا فعل الواحدي في "الوسيط" 3/ 412، وهو حديث موضوع سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان. (2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 95. وابن جرير 20/ 129، وابن أبي حاتم 9/ 3031. وذكره الثعلبي 8/ 155 ب، والواحدي "أسباب النزول" 340. (3) سلمة بن هشام، هو أخو أبي جهل، من السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة، فحبسه أخوه وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو له ولعياش بن أبي ربيعة في القنوت، ثم هرب مهاجرًا بعد الخندق، -رضي الله عنه-. "سير أعلام النبلاء" 1/ 316، "الإصابة في معرفة الصحابة" 3/ 120. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = - عياش بن أبي ربيعة، اسم أبيه: عمرو بن المغيرة، وكان عياش من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل فرجع إلى مكه، ثم فرَّ مع رفيقيه، الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعاش إلى خلافة عمر -رضي الله عنه-، فمات سنة: خمس عشرة، وقيل: قبل ذلك. وقيل: استشهد في اليمامة، وقيل: اليرموك. "فتح الباري" 8/ 227، و"الإصابة" 5/ 47. و"سير أعلام النبلاء" 1/ 316. - الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، أخو خالد بن الوليد، أُسر مع من أسر من المشركين في بدر، ثم أسلم بعد ذلك، فلما أسلم حبسه أخواله فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو له في القنوت مع غيره من المستضعفين، ثم أفلت من أسرهم ولحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضية. "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" 11/ 34، و"الإصابة في معرفة الصحابة" 6/ 323. - ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين، حليف لبني مخزوم، يكنى: أبا عمار بابنه عمار بن ياسر، كان قد قدم من اليمن، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي، وزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها: سمية فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة، وجاء الله بالإِسلام فأسلم ياسر وابنه عمار وسمية، وعبد الله أخو عمار بن ياسر، وكان إسلامهم قديمًا في أول الإسلام، وكانوا ممن يعذب في الله، وقتل ياسر وسمية وعبد الله وهم يعذبون -رضي الله عنه-. "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" 11/ 99، و"الإصابة في معرفة الصحابة" 6/ 332. وقد ثبت في الصحيح دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لعياش بن أبي ربيعة، ومن كان معه من المستضعفين في مكة، في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: "اللَّهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللَّهم أنج سلمة بن هشام، اللَّهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهم اشدد وطأتك على مُضر، اللَّهم اجعلها سنين كسني يوسف". قال ابن أبي الزناد عن أبيه: هذا كله في الصبح. أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، رقم الحديث (1006) , "فتح الباري" 2/ 492. وأخرجه مسلم 1/ 467، في المساجد، رقم (675)، وفي آخره قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الدعاء بعدُ فقلت: أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ترك الدعاء لهم قال: فقيل: وما تراهم قد قدموا. وفي حاشية صحيح مسلم: وما تراهم قد قدموا، معناه: ماتوا!. ولم أجد هذا المعنى في =

وعدة من بني مخزوم، وغيرهم من قريش (¬1). روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {الم} قال: أنَّ الله أعلم (¬2). وقال عكرمة: {الم} أَن قسم (¬3). واختار الزجاج قول ابن عباس (¬4). ¬

_ = "شرح النووي على صحيح مسلم"؛ وهو تعليق غريب، لا يتضح به المعنى المراد، والمعنى الصحيح ما ذكره أبو حاتم؛ محمد بن حبان البستي: الصواب أن اللعن علي الكفار والمنافقين في الصلاة غير منسوخ، ولا الدعاء للمسلمين، والدليل على صحة هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في خبر أبي هريرة: "أما تراهم وقد قدموا" تُبين لك هذه اللفظة أنهم لولا أنهم قدموا ونجاهم الله من أيدي الكفار لأثبت القنوت -صلى الله عليه وسلم-، وداوم عليه .. "ابن حبان - إحسان" 5/ 327. رواية ابن حبان: أما تراهم وقد قدموا. ورواية مسلم: وما تراهم قد قدموا. فكأن المعلق فهم من هذه الرواية النفي. والله أعلم. (¬1) لم أجد هذا القول، وهناك قول آخر في سبب النزول؛ ذكره مقاتل 70 ب؛ قال: نزلت في مِهْجَع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، وهو أول من يدعى إلى الجنة من شهداء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فجزع عليه أبواه. وذكره عنه الثعلبي 8/ 155 ب. والواحدي في "أسباب النزول" 340. وقال عنه الزيلعي: غريب. "تخريج أحاديث الكشاف" 3/ 39، وساق ما روي في شأن مهجع -رضي الله عنه-. ولا تعارض بين هذه الأسباب فكلها أمثلة لمن حصل لهم البلاء بسبب إيمانهم. وحكمها باقٍ؛ قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نازلة بهذا السبب، وفي هذه الجماعة، فهي بمعناها باقية في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونِكاية العدو، وغير ذلك. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3029، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير، وأبي الضحى. وسبق ذكر رأي الواحدي في الحروف المقطعة والتعليق عليه في أول سورة الشعراء. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3030. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 159.

وقال في قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} اللفظ لفظ استخبار، والمعنى معني تقرير وتوبيخ، ومعناه: أحسبوا بمعنى الذين جزعوا من أذى المشركين أن نقنع منهم بأن يقولوا: إنا مؤمنون فقط، ولا يمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم (¬1). وقوله: {أَنْ يُتْرَكُوا} (أن) في موضع نصب بحَسِب. وقوله: {أَنْ يَقُولُوا} (أن) في موضع نصب من جهتين؛ ذكرهما الفراء والزجاج؛ إحداهما أن التقدير: {أَنْ يُتْرَكُوا} لأن يقولوا أو بأن يقولوا، فلما حذف حرف الخفض وصل {يُتْرَكُوا} إلى أن فنصب. والثانية: أن تجعل {أَحَسِبَ} مكررة عليها، المعنى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} أحسبوا (¬2) {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (¬3) قال أبو إسحاق: الأولى أجود (¬4). قال أبو علي: إن تَرَك، يتعدَى إلى مفعول واحد، فإنْ بُنِيَ للمفعول لم يتعدَّ إلى آخَر، فـ {أَنْ يَقُولُوا} لا يتعلق به ولا يتعدى إليه، حتى يقدر محذوفٌ (¬5) حرفٌ، ثم يُقدَّرُ الحرفُ فيصل الفعل (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 159. (¬2) أحسبوا. زيادة من الفراء. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 314. التقدير على هذا القول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} أحسب الناس {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} وجملة {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} متعلقة بالحالين: الترك، والقول. والله أعلم. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 159. (¬5) محذوف، من نسخة: (ب). (¬6) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" 2/ 221 أ. والحرف المقدر هو ما سبق ذكره في قول الفراء والزجاج: لأن يقولوا، أو: بأن يقولوا.

3

قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} قال ابن عباس والسدي ومجاهد وقتادة: لا يفتنون في إيمانهم وأموالهم وأنفسهم (¬1). قال مقاتل وقتادة: يقول: أحسبوا أن يتركوا على التصديق بتوحيد الله وهم لا يبتلون بالقتل وبالتعذيب في الدنيا بقولهم: آمنا (¬2)، وهم لا يعاملون معاملة المختَبَر لتظهر الأفعال التي يُستحق عليها الجزاء، ثم أخبر عن فتنة مَنْ قبل هذه الأمة من المؤمنين (¬3) بقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. 3 - {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قالوا جميعًا: ابتلينا (¬4). قال ابن عباس: منهم إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام-، وقوم كانوا معه ومِنْ بعده نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 128، عن مجاهد. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 96، وابن جرير 20/ 128، عن قتادة بلفظ: لا يبتلون. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3032، عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس. (¬2) "تفسير مقاتل" 70 ب، بمعناه. قال ابن قتيبة: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} أي: لا يقتلون ولا يعذبون. "غريب القرآن" 337. (¬3) "تفسير مقاتل" 70 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 129، عن مجاهد، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3032، عن الضحاك، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، وعطاء. و"تفسير مقاتل" 70 ب. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 113. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 337، وقال في "تأويل مشكل القرآن" 472: اختبرنا. (¬5) ورد هذا المعنى في حديث مرفوع أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم الحديث (3852)، "فتح الباري" 7/ 165. من حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه-، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد وهو محمرٌ وجهُه فقال: "لقد =

وقال غيره: يعني بني إسرائيل ابتلوا بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب (¬1). قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} قال مقال: يقول: فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم من هذه الأمة عند البلاء، فيصبروا لقضاء الله {وَلَيَعْلَمَنَّ} يقول: وليرين {الْكَاذِبِينَ} (¬2)، فتنوا عند البلاء والتمحيص؛ يعني: المنافقين. قال أبو إسحاق: {فَلَيَعْلَمَنَّ} صِدْق الصادق بوقوع صدقه منه، ووقوع كذب الكاذب منه، وهو الذي يجازَى عليه، والله -عز وجل- قد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما؛ ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازَى عليه (¬3). يعني أن قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ} جاء بلفظ الاستقبال لحدوث المعلوم وهو الصدق والكذب، وإنما يعلم صدق الصادق كائنًا عند حدوثه، وكذلك كذب الكاذب، وقد بينا هذا بيانًا شافيًا عند قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في سورة البقرة [143] (¬4). ¬

_ = كان مَن قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه فيُشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه. ولَيُتمن الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله". زاد بيانٌ: "والذئبَ على غنمه". وقول ابن عباس ذكره الطبرسي "مجمع البيان" 7/ 428. (¬1) ذكره الطبرسي "مجمع البيان" 7/ 428، ولم ينسبه. (¬2) "تفسير مقاتل" 70 ب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 160. (¬4) قال الواحدي في تفسيرِ هذه الآية: قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} والله تعالى عالم لم يزل، ولا يجوز أن يَحدث له علم، واختلف أهل المعاني في وجه تأويله، فذهب =

واختار صاحب النظم في قوله: {الم} أن يكون قسمًا، وجعله واقعًا على قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} وجعل قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} كلامًا معترضًا بين القَسَم وبين ما هو واقع عليه؛ قال: ودل على هذا دخول النون الثقيلة في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} كما تقول: والله لأضربنَّ عمرًا. فإن قيل: لِمَ دخلت الفاء في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} قيل: إنه لما يجيء بالجواب لقوله: {الم} حتى قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} صار كأن قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} معطوفًا عليه وجوابًا له فقد اشترك قوله: {الم} وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} للعطف على معنى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا} وذلك أن الله تعالى لما قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ} الآية، كان إنكارًا لحسبانهم أنهم لا يفتنون، وإذا كان إنكارًا ففيه دليل على أنه -عز وجل- أوجب أن يفتنهم؛ لأنه لا ينكر شيئًا إلا ويوجب ضده، ثم لما قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} دل بهذا القول على هذا المعنى من إيجاب الفتنة، فيكون تأويله: لنفتنهم كما فتنا الذين من قبلهم، ثم صار قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ} معطوفًا على هذا التأويل. وقال في قوله: {الَّذِينَ صَدَقُوا} ليس هذا من الصدق اللازم الذي تأويله: صَدَق في قوله، وهو من الصدق المتعدي الذي يقال عنه: صَدَقَنِي فلانٌ، أي: قال لي الصدق، وكَذَبَنِي؛ أي: قال لي الكذب. والمعنى

_ = جماعة إلى أن العلم له منزلتان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحُكم للعلم بعد الوجود؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب، والمتعبَّد بالشيء إذا لم يُطع وعصى علمه الله تعالى عاصيًا، وإذا أطاع علمه مطيعًا، وكان قبل أن أطاع لم يعلمه علمًا يستحق به الثواب؛ وإن كان في معلوم الباري أنه يطمِع فمعنى قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب.

4

{الَّذِينَ صَدَقُوا} الله ما وعدوه، أي: تَمّوا عليه ووفوا به {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} الذين كذبوا الله ما وعدوه. وقال في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: لا يعني بذكر الفتنة إلا من أضمر الإيمان والإسلام دون الكافر؛ لأن الفتنة تجريب، كما يفتن الذهب والفضة بالنار إذا أحميا ليظهر صفاؤهما وخبثهما، والكافر ظاهر خبثه، فلا حاجة إلى تجريبه بالفتنة. انتهى كلامه. 4 - قال مقاتل: ثم أوعد كفار العرب فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يعني الشرك (¬1). قال ابن عباس: يعني الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاص بن هشام، وغيرهم من قبائل شتى (¬2). وقال مقاتل: نزلت في بني عبد شمس؛ منهم شيبة وعتبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل (¬3). وقال الكلبي: نزلت في الذين بارزوا عليًّا وحمزة وعبيدة بن الحارث ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 70 ب. وأخرجه ابن جرير 20/ 130، وابن أبي حاتم 9/ 3033, عن قتادة. وهو قول الثعلبي 8/ 156 أ. (¬2) "تنوير المقباس" 332، بنحوه. - الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قتله يوم بدر حمزة ابن عبد المطلب -رضي الله عنه-. "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 370. - العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، أخو أبي جهل، قتله يوم بدر عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-. "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 368, و"الأعلام" 3/ 247. (¬3) "تفسير مقاتل" 70 ب.

5

يوم بدر وهم. عتبة وشيبة والوليد بن عتبة (¬1). قوله تعالى: {أَنْ يَسْبِقُونَا} قال ابن عباس والمفسرون: [أن يفوتونا] (¬2). وقال مجاهد: أن يعجزونا (¬3). والمعنى: أن يفوتونا فوت السابق لغيره (¬4). قال مقاتل: أن يفوتونا بأعمالهم السيئة، كلا بل نخزيهم بها في الدنيا؛ فقتلهم الله ببدر (¬5). قوله تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} قال ابن عباس: بئس ما حكموا لأنفسهم (¬6). وقال أبو إسحاق: موضع {مَا} نصب على: ساء حكمًا يحكمون، كما تقول: نعم رجلاً زيدٌ، ويجوز أن يكون رفعًا على معنى: ساء الحكم حكمهم (¬7). 5 - قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} أي: يخاف البعث والحساب. قاله المفسرون (¬8). قال مقاتل: يعني من كان يخشى البعث في ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 332. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، ولا يستقيم الكلام بدونه. وهو في "تفسير مقاتل" 70 ب. و"تنوير المقباس" 332، وتفسير ابن جرير 20/ 130. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 130، وابن أبي حاتم 9/ 3033، عن مجاهد. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 160. و"تفسير الثعلبي" 8/ 156 أ، بمعناه. (¬5) "تفسير مقاتل" 70 ب. (¬6) "تنوير المقباس" 332. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 160. (¬8) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3034، عن سعيد بن جبير، والسدي، بلفظ: يخشى. وهو قول أبي عبيدة، مجاز القرآن 2/ 113. وقال ابن قتيبة: يخافه، "غريب القرآن" 337. وهو قول ابن جرير 20/ 130. والثعلبي 8/ 156 أ.

6

الآخرة فليعمل لذلك اليوم (¬1)، كقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]. وقال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله (¬2). واختار أبو إسحاق هذا القول؛ وقال: معناه: من كان يرجو ثواب لقاء الله (¬3). أي: ثواب المصير إلى الله. والرجاء على هذا القول معناه: الأمل، وعلى القول الأول معناه: الخوف. {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} قال ابن عباس: يريد يوم القيامة (¬4). وقال صاحب النظم: هذا مقتص من قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] والأجل المسمى (¬5) عنده: البعث والقيامة، ولذلك أضاف الأجل إلى نفسه -عز وجل-. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال ابن عباس: لقولكم {الْعَلِيمُ} بما في الدنيا العلم به. 6 - قوله: {وَمَنْ جَاهَدَ} قال ابن عباس: يريد لمرضاة الله {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} وقال مقاتل: يقول: من يعمل الخير فإنما يعمل لنفسه (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 70 ب. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 156 أ، بنصه، وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3034، بلفظ: من كان يخشى، وبلفظ: البعث في الآخرة، وبلفظ: ثواب ربه. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 160، وقد رد على من قال بأن معنى الرجاء هنا الخوف فقال: فأما من قال: إن معناه الخوف، فالخوف ضد الرجاء، وليس في الكلام ضد. (¬4) "تفسير مقاتل" 70 ب. (¬5) المسمى، من نسخة: (أ). (¬6) "تفسير مقاتل" 70 ب.

7

{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} عن أعمالهم وعبادتهم. 7 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} قال ابن عباس: يريد ما عملوا في الشرك. يريد: لَيُبْطِلها حتى تصير بمنزلة من لم يعمل {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا} قال مقاتل: نجزيهم بإحسانهم ولا نجزيهم بمساوئهم (¬1). والمعنى: لنجزيهم بأحسن أعمالهم؛ وهو ما أمرناهم به من الطاعة (¬2). 8 - وقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} قال الأخفش: هو على: ووصيناه بحسن، وقد تقول العرب: وصيته خيرًا، أي: وصيته بخير (¬3). وقال غيره: هو بمعنى: ألزمناه حسنًا، أو وصيناه أن يفعل حسنًا (¬4). قال أبو إسحاق: معناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن (¬5). قال المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك، لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني ظل بيت حمَى ترجع إلى ما كنت عليه، فحثَّ الله سعدًا على البر بأمه، ونهاه أن يطيعها في الشرك؛ وهو قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬6) أي: لتشرك بي شريكًا ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 71 أ. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 156 أ. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 655. (¬4) قال ابن جرير 20/ 131: وقال بعض نحوي الكوفة: معنى ذلك: ووصينا الإنسان أن يفعل حسنًا، ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فيما بقي دلالة على ما سقط. وذكر هذا القول الثعلبي 8/ 156 أ، ونسبه لأهل الكوفة. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 161. (¬6) أخرج سبب نزول هذه الآية مسلم في "صحيحه" 4/ 1877، كتاب: فضائل الصحابة، رقم (1748) بعد حديث رقم (2412). وأخرجه كذلك أبو يعلى =

لا تعلمه لي {فَلَا تُطِعْهُمَا} وقال عطاء عن ابن عباس: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أخي أبي جهل لأمه، والقصة في ذلك مشهورة (¬1). ¬

_ = الموصلي، في مسنده 2/ 116، رقم (782). وروى بعضه البخاري، في "الأدب المفرد"، باب: بر الوالد المشرك، رقم (24)، "صحيح الأدب المفرد" (40). وأخرجه ابن جرير 20/ 131، عن قتادة. وابن أبي حاتم 9/ 3036، عن قتادة، ومصعب بن سعيد. وذكره مقاتل 71 أ. والثعلبي 8/ 156 أ. وأخرجه الواحدي بإسناده في "الوسيط" 3/ 414، وكذا في أسباب النزول 340، لكن صدَّره في "أسباب النزول" بقوله: قال المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص .. فلعله يريد بذلك: الاتفاق على نزولها في سعد -رضي الله عنه-، والله أعلم. (¬1) ذكر الواحدي هذه القصة في كتابه "أسباب النزول" 169، عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] ولم أجدها في تفسيره البسيط؛ حيث أفاد محقق سورة النساء أن تفسير هذه الآية من القسم المفقود من الكتاب، "البسيط". وذكر هذه القصة الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"، في سورة النساء 1/ 339، وفي سورة العنكبوت 3/ 41، وملخص هذه القصة: أن عياش هاجر مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، مترافقين، حتى نزلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه .. فنزلا بعياش فقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام، وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم، ولا تأوي بيتًا حتى تراك وهي أشد حبًا لك منا، فاخرج معنا فاستشار عمر، فقال: هما يخدعانك ولك عليَّ أن أقسم مالي بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر، فقال عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهما ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد خلأت فاحملني معك، قال: نعم، فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدا وثاقه، ونزلا فجلداه كل واحد منهما مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه، قالت له: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد ففتناه فافتتن. قال الزيلعي: رواه البزار في مسنده، ثم ساق سنده، ثم قال: وكذلك رواه ابن هشام في السيرة، عن ابن إسحاق بسنده المذكور ومتنه سواء، ونقله الثعلبي بلفظ المصنف عن مقاتل. وقد ألمح ابن حجر إلى نقد هذه =

9

ثم أوعد بالمصير إليه فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها لأجازيكم عليها؛ لأن فائدة الإخبار هنا: المجازاة عليها. والمعنى: أن طاعة الله في البر بالأم عمل صالح، [وطاعة الأم بالشرك بالله عن شيء يجازي الله عليها من عمل بأجرها] (¬1). 9 - وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} قال مقاتل: لندخلنهم مع الصالحين الجنة (¬2). وقال ابن جرير: أي في مُدخل الصالحين؛ وهو: الجنة (¬3). وقال صاحب النظم: تأويله: لندخلنهم الجنة في زمرة الصالحين. وهو من باب الاختصار. والمراد بالصالحين: الأنبياء والأولياء (¬4). 10 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في قصة عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، فلما ضرب على الإسلام وعوقب ارتد ورجع إلى الكفر (¬5). ¬

_ = الرواية فقال: أخرجه الثعلبي بغير سند، والواحدي عن ابن الكلبي، ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدي بتغيير يسير. الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 1/ 538. ومعنى: خلأت: بركت فلم تقم. "تهذيب اللغة" 7/ 577 (خلأ). (¬1) ما بين المعقوفين هكذا كتب في النسختين؛ ولعل الصواب -والله أعلم-: وطاعة الأم بالشرك بالله عمل سيئ يجازي الله عليها من عمل بها. (¬2) "تفسير مقاتل" 70 ب. (¬3) تفسير ابن جرير 20/ 132. وقد ذكره عنه بنصه الثعلبي 8/ 156 ب. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3037، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وذكره بنصه الثعلبي 156 ب، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 71 أ، في خبر طويل. و"تنوير المقباس" 332، مختصرًا. وذكره =

وهو معنى قوله. {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} يعني: ضرب إخوته وأمه إياه ليفتنوه عن دينه، وهو قوله تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}. وقال مقاتل: يقول: جعل عذاب الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة (¬1). وقال أبو إسحاق: جزع من عذاب الناس، كما يجزع من عذاب الله (¬2). وقال صاحب النظم: أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس، كما يطيع الله من خاف عذابَه، وفي نزول هذه الآية قول آخر؛ قال مجاهد: نزلت في أناس يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم أو أموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة (¬3). ونحو هذا قال السدي ومقاتل؛ قال: هو المنافق إذا أوذي في ¬

_ = الثعلبي 8/ 156 ب، بطوله، ونسبه لمقاتل والكلبي. وأخرج ابن جرير 20/ 133، وابن أبي حاتم 9/ 3037، عن ابن عباس، أنها نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فاصيب بعضهم، وقتل بعض، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمون وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [النساء: 97] قال: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم، خرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن شريك، وهو ثقة. "مجمع الزوائد" 7/ 10. وهذا هو الصواب جعل الآية عامة، أما ما ذكره الواحدي عن ابن عباس ومقاتل من ارتداد عياش، وجعل نزول الآية فيه؛ فهذا ليس بصواب؛ لما سبق في ترجمة عياش من أنه لم يرتد، بل صبر على فتنة قومه. (¬1) "تفسير مقاتل" 71 أ. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 161. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 132، وابن أبي حاتم 9/ 3037، وذكره الثعلبي 156 ب.

الله رجع عن الدين وكفر (¬1). قال أبو إسحاق: وينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله -عز وجل- (¬2). قوله تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ابتداء كلام آخر على القول الأول (¬3)، وهو: إخبار عن المنافقين. قال مقاتل: ثم استأنف: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} يعني: دولة للمؤمنين (¬4). وقال ابن عباس: نصر لأولياء الله وأهل طاعته (¬5). {لَيَقُولُنَّ} يعني: المنافقين للمؤمنين {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} على عدوكم (¬6). وعلى القول الثاني يتصل قوله: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} بما سبقه. وهو اختيار صاحب النظم؛ أخرج {مِنْ} موحدًا في أول الآية، وأخرجه مخرج الجمع في قوله: {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} موحد مرةً على اللفظ، وجُمع مرةً على المعنى. وكذلك القراء يختلفون في الوقف عند قوله: {كَعَذَابِ اللَّهِ} فهو عند نافع تمام، وعند غيره ليس بتمام؛ لاتصاله بما قبله (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3037، عن السدي، بمعناه. و"تفسير مقاتل" 71 ب، بمعناه. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 161. (¬3) أي: على القول بأنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة. (¬4) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬5) في "تنوير المقباس" 332: فتح مكة. (¬6) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬7) هكذا في النسختين: لاتصاله بما قبله؛ وهو خطأ؛ والصواب: لاتصاله بما بعده. قال النحاس: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} عن نافع تم، قال غيره: والتمام {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}. "القطع والائتناف" 2/ 519

11

قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} بضمائر العالمين وأسرارهم من الإيمان والنفاق، وغير ذلك، أي: لا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا: {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ننصركم على عدوكم. قال صاحب النظم: دَلَّ بقوله: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} على أنهم كاذبون في قولهم: {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}. 11 - وقوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} قال مقاتل: وليرين الله الذين صدقوا عند البلاء فثبتوا على الإسلام {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} بالشك عند البلاء (¬1) وترك الإيمان ورجوعهم إلى دينهم الأول. وذكرنا معنى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} آنفًا. وقال صاحب النظم: دل بهذه الآية أن انقيادهم لمن آذاهم، وميلهم إليهم، وترك الصبر على الأذى في الله خروج من الإيمان, ودخول في الشرك في جملة المنافقين الذين لا يصبرون عند البلاء. 12 - وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} قال مجاهد: هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم؛ قالوا لهم: لا نُبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم شيء فهو علينا (¬2). ونحو هذا قال الكلبي (¬3). وقال مقاتل: قال أبو سفيان بن حرب، لعمر بن الخطاب، وعمار، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 134، وابن أبي حاتم 9/ 3039، عن مجاهد، وأخرجا نحوه عن الضحاك. (¬3) "تنوير المقباس" 333.

وخباب، ومن آمن من قريش: اتبعوا ديننا ملة آبائنا، ونحن الكفلاء (¬1) بكل تبعة من الله تصيبكما فذلك قوله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (¬2). قال الأخفش: جزم على الأمر؛ كأنهم أمروا أنفسهم (¬3). وقال الفراء: هو أمر فيه تأويل جزاء، كما أن قوله: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] نهي فيه تأويل الجزاء، وهو كثير في كلام العرب؛ قال الشاعر: فقلتُ ادعِي وأَدْعُ فإنَّ أندى ... لِصَوتٍ أن يُناديَ داعيانِ أراد: ادعِي ولأَدْعُ، كأنه قال: إن دعوتِ دعوتُ (¬4). وقال صاحب النظم: قال لهم ارجعوا إلى ديننا لنضمن عنكم كلَّ ما يجئكم من ذلك. وذكر أبو إسحاق نحو ما قال الفراء؛ فقال: هو أمرٌ في تأويل الشرط والجزاء؛ المعنى: إن تتبعوا طريقنا الذي نسلكه في ديننا حملنا خطاياكم، إن كان فيه إثم فنحن نحتمله (¬5). ¬

_ (¬1) في نسخة: (ب): الكفلة. (¬2) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 655. (¬4) أنشده سيبويه 3/ 45، ونسبه للأعشى، وفي الحاشية: لم يرد في ديوانه، وروي أيضًا للحطيئة، أو ربيعة بن جشم، أو دثار بن شيبان النمري. وقبله: تقول خليلتي لما اشتكينا ... سيدركنا بنو القرم الهجان وأنشده الفراء، "معاني القرآن" 2/ 314، ولم ينسبه. وأنشده الثعلبي 8/ 157 أ، عن الفراء. واستشهد به في الإنصاف 2/ 531، على إعمال حرف الجزم مع الحذف، ولم ينسبه. وفي الحاشية: محل الاستشهاد من البيت قوله: وأدع، فإن المؤلف أنشده على لسان الكوفيين على أن الشاعر أراد: ولأدع، بلام الأمر، وبجزم الفعل المضارع بحذف الواو، والضمة قبلها دليل عليها. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 161.

13

وقال المبرد: {اتَّبِعُوا} أمر {وَلْنَحْمِلْ} معطوف عليه، وإنما أمروهم ثم عادوا فأمروا أنفسهم، ولا تحذف اللام إلا من الأمر المواجهة وما سوى ذلك فلابد من اللام، تقول: قم وليقم زيد (¬1). وهذا وجه غير ما ذكره الفراء والزجاج؛ وهو أحسن. قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} معناه: من شيء يخفف عن المحمول عنه العذاب (¬2) {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} قال ابن عباس: يريد: إنهم ليعدونهم الباطل. 13 - {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} قال مقاتل: أوزارهم التي عملوها {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وأوزارهم لقولهم للمؤمنين: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} (¬3)، وهذا كقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] قاله مقاتل وابن عباس ومجاهد (¬4). قال قتادة في هذه الآية: من دعا قومًا إلى ضلالة فعليه مثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا (¬5)؛ وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم ¬

_ (¬1) أراد المبرد بقوله: الأمر المواجهة: صيغة الأمر الصريحة الأصلية التي يلزم منها حضور المأمور الموجه إليه الخطاب، كقولك: قم يا زيد، فإن كان الأمر بغيرها كالأمر بالمضارع لزم دخول اللام الدالة على الأمر كقولك: ليقم زيد. والله أعلم. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 162، بنصه. (¬3) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 135، عن ابن زيد، وفيه ذكر آية النحل. وذكره مقاتل 71 ب، دون ذكر آية النحل. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 96، وابن أبي حاتم 9/ 3040. وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" (337).

شيء" (¬1) وقوله: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال أبو إسحاق: ذلك سؤال توبيخ لا سؤال إعلام (¬2). وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قال ابن عباس: يقولون على الله الكذب (¬3). وقال مقاتل: يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله (¬4). ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه مسلم 2/ 704، كتاب: الزكاة، رقم الحديث (1017)، وله قصة ذكرها جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلي قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كله تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مُذهَبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". وأخرجه مختصرًا الترمذي 5/ 42، كتاب: العلم، رقم (2675)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه بسنده الثعلبي 8/ 157 ب، من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 162. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3040. (¬4) "تفسير مقاتل" 71 ب.

14

14 - قال ابن عباس: ثم عزَّى نبيه فأخبره بما ابتلي به النبيون من قبله من قومهم؛ فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} يريد: أقام فيهم يدعوهم إلى الله {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} روى يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: بُعث نوح لأربعين سنة، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الغرق ستين عامًا، حتى كثر الناس وفشوا (¬1). {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} قال مقاتل: يعني الماء طغى فوق كل شيء فغرقوا (¬2) {وَهُمْ ظَالِمُونَ} قال ابن عباس: مشركون (¬3). وذكرنا الطوفان فيما تقدم (¬4). 15 - {فَأَنْجَيْنَاهُ} يعني نوحًا من الغرق (¬5) {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} يعني الذين ركبوها معه {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: يريد تركت السفينة آية لمن بعد نوح (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3041، من طريق يوسف بن مهران. وذكره الثعلبي 157 ب. وأخرجه من هذا الطريق الحاكم 2/ 595، كتاب تواريخ المتقدمين، رقم (4005)، ولم يتكلم عنه الحاكم، وسكت عنه الذهبي. (¬2) "تفسير مقاتل" 71 ب. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 100، وابن جرير 20/ 136، عن قتادة. وقال ابن قتيبة: المطر الشديد. "غريب القرآن" 337. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3043. (¬4) عند قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133]، حيث تكلم الواحدي عن معنى الطوفان والمراد به في الآية في أربع صفحات، ومما ذكره قول الزجاج: الطوفان من كل شيء ما كان كثيرًا محيطًا مطيفًا بالجماعة كلها كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة يقال له: طوفان. (¬5) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 136، وابن أبي حاتم 9/ 3043، عن قتادة، بنحوه.

16

وقال مقاتل والكلبي: يعني عبرة لمن بعدهم من الناس (¬1)، إن عصوا رسلهم فعلنا بهم مثل ذلك (¬2). 16 - {وَإِبْرَاهِيمَ} قال الزجاج: المعنى: وأرسلنا إبراهيم، عطفًا على نوح (¬3). {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} قال ابن عباس: أطيعوا الله وخافوه. وقال مقاتل: وحدوا الله واخشوه {ذَلِكُمْ} يعني: عبادة الله خير لكم من عبادة الأوثان {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ولكنكم لا تعلمون (¬4). وقال الكلبي: إن كنتم تعلمون أن الله ربكم (¬5). 17 - وقوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} قال أبو عبيدة: الأوثان: كل ما كان منحوتًا من خشب أو حجر، والصنم: ما كان من ذهب أو فضة أو نحاس (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 71 ب. "تنوير المقباس" 333. (¬2) قال ابن جرير 20/ 136: ولو قيل: معنى: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وجعلنا عقوبتنا إياهم آية للعالمين، وجعل الهاء والألف في قوله: {وَجَعَلْنَاهَا} كناية عن العقوبة أو السخط ونحو ذلك، إذ كان تقدم ذلك في قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} كان وجهًا من التأويل. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 164. (¬4) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬5) "تنوير المقباس" 333. (¬6) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 114، بلفظ: الوثن: ما كان من حجارة أو جص. وليس فيه ما يتعلق بالصنم، وما ذكره أبو عبيدة في المجاز ذكره ابن قتيبة بنصه في "غريب القرآن" 337، ولم ينسبه. وقد تتبعت الآيات التي وردت فيها كلمة: أصنام، فلم أجد أبا عبيدة تكلم عن هذه المسألة في كتابه "المجاز". وقريب مما ذكر الواحدي عند الأزهري؛ قال: وقال شمر فيما قرأت بخطه: أصل الأمثال =

وهذا كما قال ابن عباس: يريد الأصنام التىِ تتخذ من الحجارة (¬1). قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} قال أبو عبيدة: خلق واختلق، وخرق واخترق وافترى؛ واحد كله (¬2). وفي هذا قولان للمفسرين؛ أحدهما: أن هذا محمول على الكذب في القول. وهو قول السدي؛ قال: تقولون إفكًا (¬3). يعني: زعمهم أنها آلهة. وروي عن ابن عباس: تقولون كذبًا (¬4). القول الثاني: أن هذا محمول على الصنع باليد؛ قال مجاهد: وتصنعون أصنامًا بأيديكم فتسمونها آلهة (¬5). ويكون التقدير على هذا: وتخلقون ما تأفكون عنه بزعمكم أنه إله، والخلق يكون بمعنى: التقدير (¬6)، وقد ذكرناه (¬7). ¬

_ = عند العرب: كل تمثال من خشب، أو حجارة، أو ذهب، أو فضة، أو نحاس، ونحوها. "تهذيب اللغة" 15/ 144 (وثن). (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 137، وابن أبي حاتم 9/ 3043، عن قتادة، بلفظ: أصناما. (¬2) في مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 114: مجازه: تختلقون وتفترون. ولم أجده عند الأزهري، مادة. خلق. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3044. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 137. وهو قول ابن قتيبة، قال: تخرصون كذبا. "تأويل مشكل القرآن" 506. وفي "غريب القرآن" 337، قال: تختلقون كذبا. (¬5) ذكره الثعلبي 8/ 157 ب، بنصه عن مجاهد. وأخرج نحوه ابن جرير 20/ 137، عن ابن عباس، من طريق عطاء. ولم أجد فيه القول الذي نسبه لمجاهد، لكن أخرج ابن جرير 20/ 137، وابن أبي حاتم 9/ 3044، عنه: تقولون كذبا. (¬6) وبهذا المعنى فسر الآية ابن الأنباري، فقال: والخلق: التقدير، قال الله جل اسمه: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أي: تقدرون كذبا. "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 88, و"الأضداد" (159). (¬7) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: =

19

وقال الكلبي: جعلتم بأيديكم من العيدان والحجارة إفكًا (¬1). وقال قتادة: تصنعون أصنامًا وتنحتونها (¬2). وقال الحسن: وتنحتون إفكًا (¬3). وقال مقاتل: تعملونها بأيديكم، ثم تزعمون أنها آلهة كذبًا (¬4). قال أبو إسحاق: ويكون التأويل على هذا القول: إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وأنتم تصنعونها (¬5). 19 - وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} يعني الكفار. قال مقاتل: ألم تعلم كفار مكة (¬6). ومن قرأ بالتاء فهو خطاب لهم، ويدل عليه ما تقدم من الخطاب (¬7). وقوله: {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} قال ابن عباس: عند الميلاد. قال مقاتل: خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فذكر اختلاف أحوال الخلق (¬8). ¬

_ = 14]: أي: المصورين المقدرين، والخلق في اللغة: التقدير، والعرب تقول: قدرت الأديم وخلقته؛ إذا قِسته لتقطع منه مزادة أو قربة أو خفًا. (¬1) "تنوير المقباس" 333، بمعناه. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 137، وابن أبي حاتم 9/ 3044، عن ابن عباس، وقتادة. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 96. (¬4) "تفسير مقاتل" 71 ب. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 165. (¬6) "تفسير مقاتل" 72 أ. (¬7) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء. "السبعة في القراءات" 498، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 426، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 182، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 343. (¬8) "تفسير مقاتل" 72 أ، ويعني بقوله: فذكر اختلاف الخلق، أن مقاتل ذكر بقية =

20

وقوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} قالا. يعني في الآخرة عند البعث (¬1). {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قال ابن عباس: يريد الخلق الأول، والخلق الآخر (¬2). 20 - قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} قال ابن عباس: يريد: هل تجدون فيما تبحثون من البلاد وتسيرون خالقًا غيري، والمعنى على هذا: سيروا لتعلموا أن الذي بدأ الخلق هو الله لا خالق غيره، فإذ أقروا بابتداء الخلق وعلموا أن ذلك من الله، لزمتهم الحجة في الإعادة. وقال مقاتل: {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} يعني خلق السموات والأرض وما فيهما من الخلق (¬3). والمعنى على هذا: أنهم إذا ساروا رأوا من مخلوقات الله ومصنوعاته ما يدلهم على قدرته، فيستدلون بذلك على أن مَنْ بدأ خلقها قادر على الإعادة بعد الإهلاك. قال مقاتل: وذلك لأنهم يعلمون أن الله خلق الأشياء كلها (¬4). قوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} أي: ثم الله الذي خلقها ¬

_ = الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته؛ قال .. ثم من مضغة، ثم عظامًا، ثم لحمًا, ولم يكونوا شيئًا، ثم هلكوا، ثم يعيدهم الله في الآخرة. (¬1) يعني بـ: قالا: ابن عباس، ومقاتل، لتقدم ذكرهما. وقول مقاتل في "تفسيره" 72 أ. وأخرجه ابن جرير 20/ 139، وابن أبي حاتم 9/ 3045، عن قتادة. ولم أجده لابن عباس إلا في "تنوير المقباس" 333. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3045، بلفظ: يعني: هينا. (¬3) "تفسير مقاتل" 72 أ. (¬4) "تفسير مقاتل" 72 أ.

22

وبدأ خلقها يُنشؤها نشأة ثانية (¬1). وأكثر القراء. {النَّشْأَةَ} بالقصر. وقرأ أبو عمرو بالمد (¬2)، والأحسن القصر؛ يقال: نَشَأَ ينشأ نَشئًا ونشأة، ولم يذكر أبو زبد وأبو عبيدة المد (¬3)، وذكره الفراء؛ فقال: هو كما تقول العرب: الرأفة والرآفة، والكأْبة والكآبة، كلٌ صواب (¬4). 22 - وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} اختلفوا في تقدير الآية على وجهين، فقال الفراء: يقول القائل: كيف وَصَفهم بأنهم لا يُعجزون في الأرض ولا في السماء، وليسوا من أهل السماء فالمعنى والله أعلم: ما أنتم (¬5) بمعجزين في الأرض، ولا مَنْ في السماء بمعجز، وهو من غامض العربية؛ للضمير الذي لم يظهر في الثاني، ومنه قول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحُهُ وينصرُه سواءُ (¬6) أراد: ومن يمدحه ومن ينصرهُ فأضمر. ومثله في الكلام: أكرم من أتاك، وأتى أباك؛ يعني: وأكرم مَنْ أتى ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 72 أ، بمعناه. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: [النَّشَاءَةَ] ممدودة في كل القرآن، وقرأ الباقون بالقصر. "السبعة في القراءات" 498، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 427، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 183، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 343. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 427، بتصرف. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 315. (¬5) أنتم، غير موجودة في نسخة: (أ)، (ب). (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 315. ونسب البيت لحسان، وعن الفراء أنشده ابن جرير 20/ 140. وهو في "ديوانه" 9، من قصيدة له في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-، قبل فتح مكة. بلفظ: فمن يهجو.

أباك (¬1). وهذا موافق لتفسير ابن عباس والكلبي، قال ابن عباس: يريد: لا يُعجزني أحدٌ من أهل الأرض، ولا من أهل السماء (¬2). وقال الكلبي: يقول: وما أنتم بسابقي في الأرض هربًا, ولا أحدٌ من أهل السماء سابقي (¬3). وهذا وجه. والوجه الثاني: قال قطرب: معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها، كقوله: ما يفوتني فلان بالبصرة، ولا هاهنا في بلدي. يعني: ولا بالبصرة لو صار إليها (¬4). وهذا الوجه موافق لتفسير مقاتل؛ فإنه يقول في معنى الآية: وما أنتم يا كفارُ سابقي الله فتفوتونه؛ في الأرض كنتم، أو في السماء كنتم، أينما تكونوا حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة (¬5). وذكر أبو إسحاق القولين موجزًا؛ فقال: معناه: ما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا أهل السماء بمعجزين. ويجوز: وما أنتم بمعجزين في الأرض، لا ولو كنتم في السماء. أي: لا ملجأ من الله إلا إليه (¬6). {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} يمنعكم منِّي {وَلَا نَصِيرٍ} ينصركم من عذابي. قاله ابن عباس (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 315. ونحوه عند ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" 217، و"غريب القرآن" 338. (¬2) أخرج نحوه ابن جرير 20/ 139، وابن أبي حاتم 9/ 3047، عن ابن زيد. (¬3) "تنوير المقباس" 333، مثل قول ابن عباس. (¬4) ذكره عن قطرب ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 266. وهو قول الأخفش؛ قال: أي: لا تعجزوننا هربًا في الأرض ولا في السماء. "معاني القرآن" 2/ 656. (¬5) "تفسير مقاتل" 72 أ. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 165. (¬7) "تنوير المقباس" 334، بنحوه.

23

23 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} بالقرآن والبعث بعد الموت {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} يعني من جنتي. قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل (¬1). وهذه الآيات معترضة في قصة إبراهيم؛ تذكيرًا لأهل مكة وتحذيرًا، ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم (¬2)، وهو قوله: 24 - {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يعني حين دعاهم إلى الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام (¬3) {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} وهذا تسفيه لرأيهم، وتجهيل لأحلامهم حين أجابوا مَنْ احتج عليهم بأن يُقتل أو يُحرق (¬4). قوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} قال ابن عباس: يريد: ففعلوا فأنجاه الله (¬5). {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في إنجاء الله إبراهيم من النار حتى لا تحرقه بعد ما ألقي فيها {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بتوحيد الله وقدرته (¬6). 25 - {وَقَالَ} إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} اختلف القراء في هذه الآية؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: (مَّوَدَّةُ) بالرفع {بَيْنِكُمْ} (¬7) ولهذه القراءة ثلاثة أوجه: أحدها: أن يجعل: ما اسم: إن، ويضمر ذكرٌ مَّا يعود إلى: ما، فيكون التقدير: إن الذين اتخذتموهم من دون الله {أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 72 أ. و"تنوير المقباس" 334. (¬2) تفسير ابن جرير 20/ 140، بمعناه. (¬3) "تفسير مقاتل" 72 أ. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 166، بمعناه. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3048، بمعناه. (¬6) "تفسير مقاتل" 72 أ. (¬7) "السبعة في القراءات" (498)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 428، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 343.

فتصير (مَّوَدَّةُ): خبر إن، وتجعل المودة: ما اتخذوا على الاتساع؛ لأنها كانت سبب مودتهم، أو يقدر المضاف على تقدير: إن الذين اتخذتموهم أوثانًا ذوو مودةِ بينكم. الوجه الثاني: أن يضمر: هو، ويجعل: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} خبرًا عنه، والجملة في خبر إن. هذا قول أبي علي (¬1)، وذكر الزجاج هذين الوجهين؛ فقال: من رفع (مَّوَدَّةُ) فمن وجهين؛ أحدهما: أن تكون: (مَا) في معنى: الذي، ويكون المعنى: إن ما اتخذتموه من دون الله أوثانًا مودةُ بينكم، فتكون (مَّوَدَّةُ): خبر إن، قال: ويجوز أن ترفع (مَّوَدَّةُ) على إضمار: هي، كأنه قال: تلك مودةُ بينكم في الحياة الدنيا، أي: أُلْفَتُكم واجتماعكم على الأصنام مودةُ بينكم في الحياة الدنيا (¬2). الوجه الثالث: ذكره الفراء؛ فقال: من رفع فإنما يرفع بالصفة بقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وينقطع الكلام عند قوله: (أَوْثَانًا) (¬3). وعلى هذا: (مَّوَدَّةُ) رُفع بالابتداء، وخبره: (في) الظرف، والمعنى: إنما مودةُ ما بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع (¬4). قال أبو علي: وإضافة المودة إلى بينكم اتساع في الظرف؛ لأنه جعل اسمًا بالإضافة إليه، ومثل ذلك: قراءة من قرأ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] (¬5) قال الشاعر: ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 428. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 167. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 316. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 316، من قوله: إنما مودة بينكم. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 429. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر =

صلاءة وَرْسٍ وسطُها قد تفلَّقا (¬1) وقرأ عاصم في بعض الروايات: (مَّوَدَّةٌ) بالرفع والتنوين (بَيْنَكُمْ) نصبًا (¬2). ووجه هذه القراءة: الوجهان (¬3) ذكرهما الزجاج وأبو علي في القراءة الأولى، و (بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرف، والعامل فيه المودة (¬4). وقرأ حمزة (مَّوَدَّةَ) نصبًا من غير تنوين (بَيْنِكُمْ) خفضًا (¬5)، جعل (مَا) مع (إِن) كافة، ولم يجعلها بمعنى: الذي، ونصب (مَّوَدَّةَ) على أنه مفعول له، أي: اتخذتم الأوثان للمودة، ثم أضافها إلى (بَيْنِكُمْ) كما أضاف مَنْ ¬

_ = وابن عامر وحمزة: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} رفعًا، وقرأ نافع والكسائي: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} نصبا. "السبعة في القراءات" 263. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 164، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 260. (¬1) أنشده أبو علي، ولم ينسبه، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 429. وأنشده كاملاً، ونسبه للفرزدق أبو زيد، في النوادر 163، وابن جني، "الخصائص" 2/ 369، وصدره: أتته بمجلوم كأن جبينه وفي حاشية "الخصائص": المجلوم: المحلوق، أراد به من المرأة، والصلاءة: مدق الطبيب، والورس: نبت أصفر. وعند أبي زيد: بمحلوم، وصلاية. والشاهد فيه: إخراج: وسط، عن الظرفية. قال البغدادي، الخزانة 3/ 92: فوسطها مرفوع على أنه مبتدأ، وجملة: قد تفلق خبره. لم أجده في ديوان الفرزدق. (¬2) قرأ عاصم في رواية أبي بكر: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}، ورواية الأعشى عن أبي بكر: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}. "السبعة في القراءات" 499، و"الحجة للمَراء السبعة" 5/ 428، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 184. (¬3) لعل بعد هذه الكلمة سقطت كلمة: اللذان؛ ليستقيم الكلام بها. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 167، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 428. (¬5) قرأ بها حمزة وعاصم في رواية حفص. "السبعة في القراءات" 499، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 429، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 184.

26

رفع (¬1). وقرأ نافع وابن عامر: (مَّوَدَّةً) بالنصب والتنوين (بَيْنَكُمْ) بالنصب (¬2)، وهذه القراءة كقراءة حمزة في المعنى؛ إلا إنه لم يُضف المودة إلى (بَيْنَكُمْ) فلمَّا لم يضف نوَّن، وانتصب (بَيْنَكُمْ) على الظرف (¬3). قال المفسرون: يقول إنكم جعلتم الأوثان تتحابون على عبادتها، وتتواصلون عليها في الحياة الدنيا {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} (¬4). وقال مقاتل: بين الأتباع والقادة مودةٌ على عبادة الأصنام، ثم إذا كان {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يتبرأ القادة من الأتباع {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ويلعن الأتباع القادة؛ لأنهم زينوا لهم الكفر {وَمَأْوَاكُمُ} ومصيركم جميعًا {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} من مانعين من النار (¬5). 26 - قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قال ابن عباس ومقاتل: فصدق بإبراهيم لوطٌ، وهو ابن أخيه، وهو أول من آمن به، رأى أن النار لم تضرّه (¬6). ومعنى {فَآمَنَ لَهُ}: أي: لأجله، ولأجل ما أتى به من البرهان والحجة. ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 429. (¬2) "السبعة في القراءات" 499، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 428، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 184. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 429. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 158 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 72 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 72 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 158 ب، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 20/ 142، وابن أبي حاتم 9/ 3050، عن ابن عباس، بلفظ: صدق لوطٌ.

27

{وَقَالَ} إبراهيم (¬1) {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قال قتادة وابن عباس ومقاتل: هاجر من كُوْثَى إلى الشام (¬2). وقال الكلبي: هاجر من أرض حرَّان إلى فلسطين، هجر قومه المشركين، وخرج من بينهم، وهو أول من هاجر الكفر وأهله وأرضه (¬3). قال مقاتل: قوله: {إِلَى رَبِّي} يعني: إلى رضي ربي (¬4)، والمعنى: إلى حيث أمرني ربي. 27 - {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} قال ابن عباس: من بعد إسماعيل {وَيَعْقُوبَ} من بعد إسحاق (¬5) {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} وذلك أن الله -عز وجل- لم يبعث نبيًا من بعدِ إبراهيم إلا من صُلبه. {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قال: يريد أن أهل الأديان كلهم ينتحلون ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3050، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير 20/ 143، عن الضحاك. و"تفسير مقاتل" 72 ب. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 316. و"تفسير الثعلبي" 8/ 158 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 142، وابن أبي حاتم 9/ 3050، عن قتادة، زاد ابن أبي حاتم: من كوثى، وهي من سواء الكوفة. و"تفسير مقاتل" 72 ب. وكوثى: قرية في العراق، في أرض بابل. وتطلق ويراد بها مكة، وذلك أن منزل بني عبد الدار يقال له: كوثى. "تهذيب اللغة" 10/ 340 (كوث). و"معجم البلدان" 4/ 553. وهي معروفة الآن بالاسم نفسه شمال بغداد بحوالي 100 كم. (¬3) "تنوير المقباس" 334، وأخرجه ابن جرير 20/ 143، عن ابن جريج. وذكره الثعلبي 8/ 158 ب، ولم ينسبه. وهو قول الفراء، من حران إلى فلسطين. "معاني القرآن" 2/ 316. وحرَّان: مدينة عظيمة مشهورة، وهي على طريق الموصل والشام. "معجم البلدان" 2/ 271. وهي في أقصى شمال شرق سوريا حاليا. (¬4) "تفسير مقاتل" 72 ب. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 143.

حُبه (¬1)، ويتولونه. وهذا قول قتادة ومقاتل؛ قال قتادة: وليس من أهل دين إلا وهم يتولونه (¬2). وقال مقاتل: يعني الثناء الحسن، والقالة الحسنة من أهل الأديان كلها (¬3). وقال الكلبي: هو ما أُعطي من الولد الطيب، والثناء الحسن (¬4). وقال السدي: أُري مكانَه في الجنة (¬5). وقال الحسن: أجرُه في الدنيا: نيته الصالحة التي اكتسب بها الأجر في الآخرة (¬6). وعلى هذا يكون التقدير: وآتيناه سبب أجره. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} هذه الآية كالآية في آخر (سورة النحل)، في ذكر إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} (¬7). قال ابن عباس: يريد: مِثلَ: آدم ونوح (¬8). يعني: أنه في درجتهما؛ لأن الله تعالى استخرج (¬9) الذرية الطيبة كما استخرج منهما. ¬

_ (¬1) أي: يدعون حبه. "تهذيب اللغة" 5/ 65 (نحل). (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 96، وابن جرير 20/ 144، وابن أبي حاتم 9/ 3052. (¬3) "تفسير مقاتل" 72 ب. وذكر نحوه الفراء، "معاني القرآن" 2/ 316. (¬4) "تنوير المقباس" 334. وأخرجه ابن جرير 20/ 144، عن ابن عباس. وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" 338، ولم ينسبه. (¬5) ذكره عن السدي، ابن الجوزي "زاد المسير" 6/ 268. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3053. (¬7) قال مقاتل عند هذه الآية: نظيرها في النحل. "تفسير مقاتل" 72 ب. (¬8) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3053، عنه بلفظ: الصالحين: الأنبياء والمؤمنين. (¬9) هكذا في نسخة: (أ)، و: (ب). ولو زيدت: منه، لكان أوضح، فيكون الكلام لأن الله تعالى استخرج منه الذرية الطيبة.

28

قال صاحب النظم: لما قال: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} لم يُؤمَن أن يقال: إنه قد أخذ أجره في الدنيا, ولا خلاق له في الآخرة فأعلم -عز وجل- أن له مع ما أُعطي في الدنيا الدرجاتِ العلى بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} اقتصاصًا من قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. 28 - قوله تعالى: {وَلُوطًا} قال مقاتل: وأرسلنا لوطًا (¬1). والآية مفسرة في سورة: الأعراف (¬2). 29 - وقوله: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} قال ابن عباس: يريد: الطريق على المارَّ (¬3). وقال مقاتل: وذلك أنهم يرمون ابن السبيل الحجارةَ بالخذف (¬4) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 72 ب. (¬2) الآية 80 {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} قال الواحدي: قوله تعالى: {وَلُوطًا} ذكر الفراء في كتاب المصادر اشتقاق هذا الاسم، وأنكر عليه أبو إسحاق؛ وقال: الاسم الأعجمي لا يقال: إنه مشتق كإسحاق، لا يقال: إنه مشتق من السحق، وكتاب الله تعالى لا ينبغي أن يُقدَم على تأويله إلا برواية صحيحة، أو حجة واضحقى وقال النحويون: إنما صرف لوط فالحقيقة أنه على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني: إتيان الذكران في قول جميع المفسرين. {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قالوا: ما نزل ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. قال الزجاج: وفي هذه الآية دليل على أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط. (¬3) ذكره عنه ابن الجوزي "زاد المسير" 6/ 268. (¬4) الخذف، بالخاء المعجمة: الرمي بالحصى الصغار بأواف الأصابع، يقال. خذفه بالحصى خذفا. والحذف، بالحاء المهملة: الرمي عن جانب، تقول العرب: حذفه بالعصا، إذا رماه بها. "تهذيب اللغة" 4/ 468 (حذف) بالحاء المهملة.

فيقطعون سبيل المسافرين (¬1). قال ابن زيد في ذلك: إنهم كانوا يفعلون ذلك لمن مرَّ بهم من المسافرين، ومن ورد عليهم من الغرباء (¬2). قال ابن عباس: فلما فعلوا المنكر ترك الناس المرَّ بهم، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير هذه الآية: "أن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة (¬3) فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل خذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به" (¬4). وقال الفراء في قوله: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} قطعه أنهم كانوا يعترضون الناس من الطرق لعملهم الخبيث (¬5). وحكى الزجاج قولًا آخر؛ فقال: جاء في التفسير: وتقطعون سبيل الولد (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 72 ب. وأخرج أن المراد به الخذف، ابن جرير 20/ 145، عن عكرمة، والسدي. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 145، وابن أبي حاتم 9/ 3054. (¬3) القَصْعَة: وعاء يؤكل فيه ويثرد، وكان يتخذ من الخشب غالبًا، يشبع العشرة، والجمع: قِصاع، وقِصَعٌ. "لسان العرب" 8/ 274 (قصع)، و"المعجم الوسيط" 2/ 740. (¬4) أخرجه الثعلبي 8/ 158 ب، من طريق زياد بن أبي زياد يحدث عن معاوية يرفعه. وزياد بن أبي زياد الجصاص أبو محمد الواسطي، من الطبقة الصغرى من التابعين الذين رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة، "تقريب التهذيب" المقدمة 82، وترجمة زياد في ص 345، ثم قال عنه ابن حجر: ضعيف، وترجم له ابن عدي في "الكامل" 3/ 1045، وصدر ترجمته بقوله: متروك الحديث. ولذا صدره البغوي في تفسيره 6/ 240، بـ: يُروى. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 316. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 168، وذكره الفراء 2/ 316. ولم ينسباه.

قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} النادي: المجلس (¬1)؛ ذكرنا تفسيره عند قوله: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] (¬2) قال ابن عباس: استمكنت الفاحشة فيهم حتى فعل بعضهم ببعض في المجالس (¬3). وقال مجاهد: المنكر: إتيانهم الرجال (¬4). وقال القاسم بن محمد: هو الضراط؛ كانوا يتضارطون في مجالسهم (¬5). وروي أن أم هانئ سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنكر الذي كانوا يأتونه في ناديهم، فقال: "كانوا يخذفون أهل الطرق، ويسخرون بهم، فذلك المنكر" (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 316. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 338. ولم ينسباه. (¬2) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: الندي: فعيل بمعنى الفاعل، وهو المجلس، وكذلك النادي، يقال: ندوت القوم اندوهم نَدْوًا إذا جمعتهم، ويقال للموضع الذي يجتمعون فيه: النادي، والنادي لا يسمى ناديًا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لا يكون ناديًا، ومن هذا قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] ولذلك سميت دار الندوة بمكة؛ كانوا إذا حزبهم أمر نَدَوا إليها فاجتمعوا للتشاور. (¬3) أخرجه ابن جرير 20/ 146، وابن أبي حاتم 9/ 3054، بلفظ: {فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} يقول: في مجالسكم. (¬4) أخرجه ابن جرير 20/ 146، وابن أبي حاتم 9/ 3055. وذكره الثعلبي 8/ 159 أ. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3055، والثعلبي 8/ 159 أ، عن القاسم بن محمد. وأخرجه ابن جرير 20/ 145، وابن أبي حاتم 9/ 3054، عن عائشة -رضي الله عنها- من طريق عروة بن الزبير. (¬6) أخرجه ابن جرير20/ 145، من ثلاثة طرق عن سماك بن حرب، عن أبي صالح، عن أم هانئ، أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن هذه الآية، فقال: "كانوا يخذفون =

30

وهو قول مقاتل في تفسير المنكر؛ يعني: الخذف بالحجارة (¬1). قال ابن قتيبة: المنكر: مَجَمعُ الفواحش من القول والفعل (¬2). وقال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكر، ولا يجتمعوا إلا فيما قرَّب إلى الله -عز وجل-، وباعد من سخطه، وأن لا يجتمعوا على الهزء والتلهي (¬3). فلما أنكر لوط على قومه بما كانوا يأتونه من القبائح قالوا له استهزاء: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أن العذاب نازل بنا (¬4)، وذلك أنه توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فعند ذلك: 30 - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي} قال مقاتل: أي بتحقيق قولي في العذاب فعذبهم (¬5). ¬

_ = أهل الطريق ويسخرون منهم". وابن أبي حاتم 9/ 3054، من الطريق نفسه، وأخرجه من الطريق نفسه الثعلبي 8/ 158 ب. وأخرجه الحاكم 2/ 444، كتاب التفسير، رقم (3537)، من طريق سماك بن حرب، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه من هذا الطريق الترمذي 5/ 319، في التفسير رقم (3190)، وقال: حديث حسن، إنما نعرفه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وقال الألباني: ضعيف الإسناد جداً. "ضعيف سنن الترمذي" 401، ولم يُحل على شيء من كتبه. ولعل علته سماك بن حرب، فقد قال عنه ابن حجر: صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير في آخر حياته، فكان ربما تلقن. "تقريب التهذيب" (415) رقم (2639). وأبو صالح الراوي عن أم هانئ، اسمه: باذام، ضعيف يرسل. "تقريب التهذيب" 163، رقم (638). (¬1) "تفسير مقاتل" 72 ب. (¬2) "غريب القرآن" لابن قتيبة (338). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 168. (¬4) "تفسير مقاتل" 72 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 159 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 72 ب.

31

قوله تعالى: {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} يعني: العاصين بإتيان الرجال في أدبارهم. قاله الكلبي ومقاتل (¬1). قال الكلبي: فاستجاب الله دعاءه فبعث جبريل في اثني عشر ملَكًا فذلك قوله: 31 - {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} قال ابن عباس: بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب (¬2) {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يعنون قرية لوط (¬3) {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} يعني: مشركين. وما بعد هذه الآية مفسر في سورة: هود (¬4)، إلى قوله: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} 33 - {إِنَّا مُنَجُّوكَ} يعني: بناتك. قال المبرد: الكاف في {مُنَجُّوكَ} مخفوضة، فلم يجز أن يعطف الظاهر على المضمر المخفوض لعلة ذكرناها في قوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] (¬5) فحمل الثاني على المعنى فصار في التقدير: وننجي أهلك ومنجون أهلك، وهذا جائز مستحسن (¬6) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 72 ب. وفي "تنوير المقباس" 334: المشركين. (¬2) تفسير ابن جرير 20/ 147، والثعلبي 8/ 159 أ، ولم ينسباه. (¬3) "تفسير مقاتل" 73 أ. و"تفسير الثعلبي" 8/ 159 أ. (¬4) الآيات 69 - 80. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: (قرأ حمزة: {وَالْأَرْحَامَ} بالعطف على المكنَّى في {بِهِ} كما يقال: سألتك بالله والرحمِ، ونشدتك بالله والرحمِ، وإنما حمله على هذه القراءة ما ورد في التفسير أن المشركين كانوا يقولون: نناشدك بالله والرحم .. ثم قال: وضعف النحويون كلهم هذه القراءة، واستقبحوها ..) وراجع باقي كلامه في الموضع المذكور. (¬6) مستحسن، غير موجودة في نسخة: (ب).

مستعمل كثيرًا في كلامهم (¬1)، وأنشد سيبويه أبياتًا كثيرة، منها قول لبيد: فإن لم تجدْ مِنْ دونِ عدنان والدًا ... ودونَ مَعدٍ فَلْتَزَعكَ العواذلُ (¬2) وأنشد أيضًا لجرير: جئني بمثلِ بَني بدرٍ لقومهمِ ... أوْ مِثلَ أُسرةِ منْظورِ بنِ سيَّارِ (¬3) ولو خفض: مثلَ، لكان جيدًا بالغًا؛ وهو الباب. والنصب على الموضع فكأنه قال: أو هاتِ مثلَ: أُسرةِ منظور. ¬

_ (¬1) قال أبو حيان: والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر {وَأَهْلَكَ} منصوب على إضمار فعل: أي: وننجي أهلك. البحر المحيط 7/ 146. قال المبرد: لما لم يجز أن تعطف الظاهر على المضمر المجرور حملته على الفعل، كقوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} كأنه قال: ومنجون أهلك، ولم تعطف على الكاف المجرورة. "المقتضب" 4/ 152. (¬2) أنشده سيبويه، "الكتاب" 1/ 68، ونسبه للبيد، وقد استشهد به على العطف على الموضع، فعطف: دون، المنصوب، على محل: دون، المجرور بمن. "حاشية المقتضب" 4/ 152. واستشهد به المبرد، وصدره بقوله: ومما تنشده العرب نصبًا، وجرًا، لاشتمال المعنى عليهما جميعًا قول لبيد. "المقتضب" 4/ 152. والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي -رضي الله عنه-، يرثي بها النعمان بن المنذر، ملك الحِيرة. "ديوانه" (131)، و"الخزانة" 2/ 252، و"الشعر والشعراء" 175. (¬3) أنشده سيبويه 1/ 94، و"المبرد"، في "المقتضب" 4/ 153، ونسباه لجرير. ولفظه عند المبرد: جيئوا. وهو في ديوان جرير 242. والشاهد فيه العطف على المحل، تقديره: أو هات مثل أسرة منظور. والبيت لجرير يخاطب فيه الفرزدق، مفتخرًا عليه بسادات قيس؛ لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة، ومنظور ابن سيار بن عمرو، من فزارة أيضًا. "حاشية الكتاب" 1/ 94. وأورده ابن جني في "المحتسب" 2/ 78، ممثلًا به على ما نصب بإضمار فعل يدل عليه ما قبله.

34

34 - وقوله: {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} قال ابن عباس: عذابًا (¬1). قال مقاتل: يعني الخسف، والحَصْب (¬2). 35 - وقوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} يعني: آثار منازلهم الخَرِبة. وهو معنى قول ابن عباس (¬3). يريد الأنهار التي كانت في قراهم، والنخيل التي قَلَت (¬4) فهي إلى اليوم لا ينتفع بشيء منها. وقال قتادة: هي الأحجار التي أبقاها الله (¬5)، فأدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض (¬6). 36 - وقوله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} قال مقاتل: واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال (¬7). 38 - وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ} قيل: هو عطف على الكناية في {فَأَخَذَتْهُمُ} (¬8). وقيل: هو عطف، معناه: وفتنا عادًا، رجوعًا إلى قوله: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3058، عن ابن عباس، وأخرجه ابن جرير 20/ 148، وابن أبي حاتم 9/ 3058، عن قتادة. (¬2) "تفسير مقاتل" 73 أ. الحَصْبُ: رميك بالحصباء، يقال: حَصَبْته أحْصِبُه حَصْبًا: إذا رميته بالحصباء، والحجر المرمي به: حَصَب. "تهذيب اللغة" 4/ 260 (حصب). (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 159 أ، منسوبًا لابن عباس. (¬4) القَلَت: الهلاك. "تهذيب اللغة" 9/ 58 (قلت). (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 98، وابن جرير 20/ 149، وابن أبي حاتم 9/ 3058. وذكره الثعلبي 8/ 159 أ، عن قتادة، وأبي العالية. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 159 أ. ولعله يعني ما قيل من إن الأرض التي أهلكوا فيها، مكانها الآن البحر الميت، المسمى بأسماء متعددة، نظرًا لتميزه عن غيره من البحار بخواص لا توجد في غيره. انظر: مجلة القافلة رمضان 1419. (¬7) "تفسير مقاتل" 73 أ. (¬8) وهو اختيار النحاس، "إعراب القرآن" 3/ 256.

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬1) وقال الزجاج: وأهلكنا عادًا وثمودًا (¬2). وهو قول مقاتل (¬3). وذلك أن الذين ذُكروا قبل هذا ذُكر إهلاكهم. وقوله: {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} يقول: ظهرَ لكم يا أهلَ مكة مِنْ منازلهم بالحِجْر واليمن، آيةٌ في إهلاكهم. قاله ابن عباس ومقاتل (¬4). والمعنى: وقد تبين لكم من مساكنهم ما يُخبركم به عن إهلاكهم، فحُذف فاعل التبيين استغناءً بظهوره في المعنى. قوله تعالى: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} قال ابن عباس: يريد أنهم كانوا ينتسبون إلى العقل والبصائر، فلم ينتفعوا بذلك (¬5). واختاره الفراء؛ فقال: عقلاء ذوي بصائر (¬6). وقال مقاتل: كانوا مستبصرين في دينهم يحسبون أنهم على هدى (¬7). وهذا قول الكلبي؛ قال: كانوا يرون أن أمرهم حق (¬8). ونحوه قال الضحاك (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره النحاس عن الكسائي قال: قال بعضهم، ولم يسمهم. "إعراب القرآن" 3/ 256. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 186. (¬3) "تفسير مقاتل" 73 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 73 ب. و"تنوير المقباس" 335. (¬5) أخرجه ابن جرير 20/ 150، وابن أبي حاتم 9/ 3060، بلفظ: كانوا مستبصرين في دينهم. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317. دون قوله: عقلاء. (¬7) "تفسير مقاتل" 73 ب. (¬8) "تنوير المقباس" 335. (¬9) "تفسير الثعلبي" 8/ 159 أ. منسوبًا للكلبي، والضحاك. وأخرجه ابن جرير 20/ 150، عن الضحاك.

40

وقال قتادة. كانوا مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها (¬1). وهو معنى قول مجاهد (¬2). وقال أبو إسحاق: أَتوا ما أتوه وقد بين لهم أن عاقبته العذاب (¬3). ومعنى المستبصر في اللغة: ذوي البصيرة، يقال: استبصر في أمره ودينه، إذا كان ذا بصيرة (¬4). 40 - {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أي: عاقبنا (¬5) بتكذيبه الرسل، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} قال ابن عباس: يريد قوم لوط (¬6)، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ}، يريد: عادًا وثمود ومدين (¬7)، {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} يعني: قارون وأصحابه، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} يريد قوم نوح ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 97، وابن جرير 20/ 150. و"تفسير الثعلبي" 8/ 159 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 150. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 169. (¬4) "تهذيب اللغة" 12/ 174 (بصر). (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 159 ب. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 151. و"تفسير مقاتل" 73 ب، و"تفسير الثعلبي" 8/ 159 ب، ولم ينسبه. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 338، وفيه: يعني: الحجارة، وهي الحصباء أيضًا. (¬7) "تفسير مقاتل" 73 ب. وهذا من الواحدي جمع بين الأقوال الواردة في المراد بمن أخذته الصيحة؛ فقد أخرج ابن جرير 20/ 151، عن ابن عباس: ثمود، وأخرج عن قتادة: قوم شعيب. ثم جمع بين هذا بقوله: إن الله قد أخبر عن ثمود وقوم شعيب، من أهل مدين أنه أهلكهم بالصيحة في كتابه في غير هذا الموضع، ثم قال جل ثناؤه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: فمن الأمم التي أهلكناهم من أرسلنا عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصيحة، فلم يخصص الخبر بذلك عن بعض من أخذته الصيحة من الأمم دون بعض، وكلا الأمتين أعني ثمود ومدين قد أخذتهم الصيحة.

41

وفرعون (¬1). {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} قال: يريد: أمهلهم وأنذرهم فكذبوا النذر. وقال مقاتل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} فيعذبهم على غير ذنب (¬2). 41 - ثم ضرب لهم مثلًا فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: الأصنام يتخذونها أولياء يرجون نصرها ونفعها (¬3) {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} قال الليث: هي دويبة تنسج نسجًا رقيقًا مهلهلاً، بين الهواء، وعلى رأس البئر (¬4). ويجمع: العناكب، قال ذو الرمة: هي اصطنعته وحدها أو تعاونت ... على نسجها بين الصفيح عناكبه (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 152، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 73 ب. و"تفسير الثعلبي" 8/ 159 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 73 ب. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 159 ب. (¬4) كتاب "العين" 2/ 309 (عنكب)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 3/ 309. وتعيش العناكب في أي مكان يتوفر فيه أغذاؤاها، ويمكن مشاهدتها في الحقول، والغابات، والمستنقعات، والكهوف، والصحاري، وهناك نوع من العناكب يمضي معظم حياته تحت الماء، ويعيش نوع آخر بالقرب من قمة جبل: إيفرست، أعلى جبل على الكرة الأرضية، وتعيش بعض العناكب داخل المنازل، ومخازن الحبوب، والحظائر وغيرها، ويوجد ما يقرب من ثلاثين ألف نوع من العناكب, وقد تصل إلى مائة ألف نوع، وحجم بعض العناكب أصغر من رأس الدبوس, وبعضها كبير بحيث يصل إلى حجم كف يد الإنسان، أو أكبر قليلاً، فسبحان الله العظيم. انظر مجلة: "القافلة" صفر 1419 هـ بقلم د/ أحمد محمد الصغير. (¬5) كتاب "العين" 2/ 309 (عنكب) ونسب البيت لذي الرمة، ولفظه: هي اصطنعته نحوها وتعاونت ... على نسجها بين المثاب عناكبه.

وقال أيضًا يصف دلوًا عتيقة العهد بالاستقاء: فجاءتْ بنَسْج العنكبوت كأنه ... على عَصَوَيْها سَابريٌّ مُشَبْرَقُ (¬1) ويجوز في جمع العنكبوت: عناكيب وعنكبوتات، ويصغر: عُنَيْكبا، وعُنَيْكيبا (¬2)، وأهل اليمن يقولون: عَنْكبوه بالهاء (¬3). قال اللحياني: ويقال للعنكبوت: عَكَنْبَاة، وأنشد: كأنما يسقطُ من لُغامها ... بيتُ عَكَنْبَاةٍ على زِمامِها (¬4) قال الفراء: العنكبوت أنثى، وقد يذكرها بعض العرب، وأنشد: على هَطَّالهم منها بيوتٌ ... كأن العنكبوت هو ابتَنَاها (¬5) ¬

_ = ورواية الديوان 299: هي انتسجته وحدها أو تعاونت ... على نسجه بين المثاب عناكبه وفي شرح الديوان: المثاب: مقام الساقي حيث يضع رجليه. ولم أجد البيت في "تهذيب اللغة". (¬1) ديوان ذي الرمة 178، وقال الخطيب التبريزي في شرحه: فجاءت: يعني الدلو، كأنه: كأن النسيج، على عصويها: يعني: العَرَاقي، مشبرق: مقطع مشقق. أ. هـ. يقال للخشبتين اللتين تعرضان على الدلو كالصليب: العَرْقُوتان؛ وهي العَراقي. "تهذيب اللغة" 1/ 227 (عرق). والسابري من الثياب: الرقاق، والبيت في "لسان العرب" 4/ 341، للدلالة على ذلك، ونسبه لذي الرمة. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 309 (عنكب). (¬3) "تهذيب اللغة" 3/ 309 (عنكب)، من كلام الليث. وفي كتاب "العين" 2/ 309: العنكبوت بلغة أهل اليمن: العنكبوه، والعنكباه، والجمع: العناكب. (¬4) "لسان العرب" 1/ 632 (عنكب)، عن اللحياني، وفيه إنشاد البيت، دون نسبة. لُغام البعير: زَبَده، واللُّغام: زَبَد أفواه الإبل. "لسان العرب" 12/ 545 (لغم). والزِّمام: الحبل الذي تشد به الإبل؛ يقال: زممت البعير، أي: خطمته. "لسان العرب" 12/ 272 (زمم). (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317، ولم ينسب البيت، وفي الحاشية: هطال: جبل، =

42

قال الكلبي: بيت العنكبوت لا يغني عنها في حر ولا قُرَّ (¬1) ولا مطر، كما أن آلهتهم لا ترزقهم شيئًا, ولا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا (¬2). وقال أبو إسحاق: إن بيت العنكبوت لا بيتَ أضعفُ منه فيما يتخذه الهوام، ولا أقل وقاية من حر أو برد؛ والمعنى: أن أولياءهم لا ينفعونهم، ولا يرزقونهم، ولا يدفعون عنهم ضررًا، كما أن بيت العنكبوت غير موقٍ لها (¬3). قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتًا؛ ليس أنهم لا يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف (¬4). 42 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} قرئ: (يَدْعُونَ) بالياء والتاء (¬5)؛ فمن قرأ بالياء فلتقدم الغيبة في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} والتاء على: قل لهم: إن الله يعلم ما تدعون، لا يكون إلا على هذا؛ لأن المسلمين لا يخاطبون بذلك (¬6). ¬

_ = ورواية البيت عند الفراء، والأزهري 3/ 309، و"لسان العرب" 1/ 632: منهم. وفي النسختين: منها. وعن الفراء ذكره الثعلبي 8/ 159 ب. ولم ينسبوه. (¬1) القُرُّ: البرد. "تهذيب اللغة" 8/ 276 (قرر). وفي "تنوير المقباس" 335: برد. (¬2) "تنوير المقباس" 335. وأخرج نحوه عبد الرزاق 2/ 97، عن قتادة. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 169. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 169، بمعناه. (¬5) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: {تَدْعُونَ} بالتاء، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: {يَدْعُونَ} بالياء. "السبعة" 501، و"الحجة" 5/ 433, و"النشر" 2/ 343. (¬6) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 434، بنصه.

43

قال أبو علي: و (مَا) استفهام، وموضعها نصب بـ (تَدْعُونَ) ولا يجوز أن يكون نصبًا بـ (يَعْلَمُ) ولكن الجملة التي هي منها في موضع نصب بـ (يَعْلَمُ) والتقدير: إن الله يعلم أَوَثَنًا تدعون من دونه أو غيره، أي: لا يخفى ذلك عليه فيؤاخذكم بكفركم ويعاقبكم عليه، ولدل على أن (مَا) استفهام: دخول (مِنْ) في الكلام، وإنما هي تدخل في نحو قولك: هل من طعام؟ وهل من رجل؟ ولا تدخل في الإيجاب، وهذا قول الخليل (1)، وكذلك قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [الأنعام: 135] والمعنى: فستعلمون المسلم تكون له عاقبة الدار أم الكافر، وكل ما كان من هذا، فهكذا القول فيه، وهو (2) قياس قول الخليل (3). قوله: {مِنْ شَيْءٍ} قال مقاتل: يعني من الأصنام (4) {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع القادر {الْحَكِيمُ} في خلقه. 43 - قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} يعني أمثال القرآن، وهي التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمم المتقدمة يبينها للناس {نَضْرِبُهَا} لكفار مكة. قاله مقاتل (5). وقال الكلبي: للناس عامة (6). {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} قال مقاتل: يقول: وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله الأمثال (7).

_ (1) "الكتاب" 3/ 148، قال: فما هاهنا بمنزلة: أيهم. (2) وهو غير موجودة في نسخة: (أ)، (ب). (3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 434. (4) و (5) "تفسير مقاتل" 73 ب. (6) هذا القول أعم ويدخل فيه أهل مكة دخولًا أوليا. (7) "تفسير مقاتل" 73 ب.

44

وقال الكلبي: إلا عالم أراد الله له ذلك، فيعلم ما ضرب له المثل في القرآن. وروى أبو الزبير، عن جابر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية، فقال: "العالم من عَقَل عن الله" (¬1). 44 - قوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} مضى تفسيره في سورة: الأنعام (¬2)، وأوائل سورة: يونس (¬3). ¬

_ (¬1) قال الزيلعي: رواه داود بن المحبر في كتاب العقل، حدثنا عباد بن كثير، عن ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، وعن داود بن المُحبَّر رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده, ومن طريق الحارث رواه الثعلبي، والواحدي في "تفسيره". تخريج الزيلعي للكشاف 3/ 43، وأخرجه الثعلبي 8/ 159 ب، والواحدي في "الوسيط" 3/ 420. كلاهما من طريق الحارث، عن داود المحبر به، ولفظه: (العاقل من عقل عن الله فعمل بطاعته، واجتنب سخطه). قال ابن حجر: داود بن المُحَبَّر، أبو سليمان البصري، نزيل بغداد، متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه: موضوعات. "تقريب التهذيب" 308، رقم (1820). قال الدارقطني: كتاب العقل، وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه داود ابن المحبر منه، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء، فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر. "الموضوعات" لابن الجوزي 1/ 277. قال المناوي: كتاب العقل لداود كله موضوع. "الفتح السماوي" 2/ 897. (¬2) عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ..} [73] قال الواحدي: أي: بكمال قدرته، وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق، ثم أحال على تفسير سورة يونس. (¬3) في تفسير الآية 3، من سورة يونس {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أحال الواحدي في تفسيرها على سورة الأعراف. وفي تفسير قوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، قال: قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد بالعدل لأنه هو الحق، وكل ما جاء من عنده هو الحق ..

45

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في خلقها {لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} لدلالة على قدرة الله تعالى وتوحيده. 45 - قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} قال ابن عباس: يعني القرآن (¬1) {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} يريد: وأتم الصلاة (¬2). ونحو ذلك قال مقاتل (¬3). {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} كان ابن مسعود يقول: إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، ومن انتهى عن الفحشاء والمنكر فقد أطاع الصلاة" (¬4). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا, ولم يزدد من الله إلا مقتًا" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3065، عن الحسن. (¬2) في نسخة (أ)، (ب): الصوم. وهو خطأ. وقول ابن عباس في "تنوير المقباس" 336. (¬3) "تفسير مقاتل" 73 ب. (¬4) أخرجه الثعلبي 8/ 160 ب، من طريق جويبر، عن الضحاك، عن عبد الله بن مسعود، يرفعه. وهذا إسناد ضعيف منقطع؛ فالضحاك لم يسمع من ابن مسعود، وجويبر ضعيف جدًا. وأخرجه ابن جرير 20/ 155، من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود يرفعه، بلفظ: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر". (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 98، بإسناده عن معمر عمن سمع الحسن يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو بهذا حديث مرسل، وفيه جهالة من روى عن الحسن. ولفظه: بعدا. وأخرجه أيضًا بإسناده عن الثوري عن إسماعيل عن الحسن يرفعه. باللفظين: بعدًا، ومقتا. وأخرجه ابن جرير 20/ 155، موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3066، من طريق الحسن، عن عمران بن حصين يرفعه بلفظ: "من لم تنه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" وأخرج أيضًا من طريق أبي معاوية، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس, يرفعه. =

وقال ابن عباس: يقول في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد إلا بعدًا (¬1). وهذا قول الحسن وقتادة؛ قالا: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، هي وبال عليه (¬2). ومعنى هذا التأويل: أن الله تعالى أخبر أن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فمن أقامها ثم لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله تعالى، وإذا لم تكن بتلك الصفة لم تكن صلاة، فإن تاب هذا المقيمُ الصلاةَ يومًا وترك معاصيه، تبين أن ذلك من نهي الصلاة، وأن صلاته كانت نافعة له ناهية، وإن لم ينته إلا بعد زمان؛ كما روي أن رجلاً ¬

_ - قال ابن كثير 3/ 415: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس والحسن، وقتادة، والأعمش، وغيرهم، والله أعلم. وذهب إلى هذا الألباني؛ فقد قال بعد أن ساق روايات الحديث وطرقه: وجملة القول أن الحديث لا يصح إسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما صح من قول ابن مسعود، والحسن البصري، وروي عن ابن عباس، ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الإيمان, إلا موقوفاً على ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما. وقد نقد متن الحديث شيخ الإسلام رحمه الله لمخالفته لظاهر الآية؛ قال: هذا الحديث ليس بثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدًا، بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي وأقرب إلى الله منه وإن كان فاسقًا. ذكر هذا عن الشيخ الألباني، ونسبه لمخطوطة اطلع عليها في المكتبة الظاهرية، تحت عنوان: فقه حنبلي 3/ 12/ 1 - 3. وقد تكلم عن نقد متن هذا الحديث باستفاضة الألباني، "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1/ 15، رقم الحديث (2). (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 155، وابن أبي حاتم 9/ 3066. وذكره الثعلبي 8/ 160 أ، عن ابن عباس، وابن مسعود. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 169. وأخرجه عنهما ابن جرير 20/ 155، بنحوه.

من الأنصار على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الخمس، ثم لا يدع شيئًا من الفواحش إلا رَكِبَه فوُصِف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حالُه؛ فقال: "إن صلاته تنهاه يومًا ما" فلم يلبث أن تاب وحسن حاله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألم أقل لكم: إن صلاته تنهاه" (¬1). وروى السدي عن أصحابه في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: الرجل يصلي الصلاة فيحسنها ثم يهم أن يعمل الخطيئة فيذكر صلاته، فيقول: لا أفسد صلاتي. وفي الآية قول ثانٍ؛ قال مقاتل: إن الإنسان ما دام يصلي لله فقد انتهى عن الفحشاء والمنكر، لا يعمل بهما ما دام يصلي حتى ينصرف (¬2). وهو قول الكلبي وابن عون (¬3)؛ قالا: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما كان فيها (¬4)؛ لأنه إن فعل شيئًا من هذين بطلت صلاته. واختار ابن قتيبة ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 8/ 160 أ، بنصه، عن أنس بن مالك، يرفعه. قال عنه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف 3/ 46: غريب. وأما ابن حجر فقال: لم أجده. "الكافي الشاف" 3/ 443، بحاشية الكشاف. لكن يشهد لمعنى هذا الحديث حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قيل له: إن فلانًا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق! قال: "سينهاه ما تقول، أو قال: ستمنعه صلاته". أخرجه الإمام أحمد 15/ 483، رقم (9778)، ط: الرسالة، وقال محققو المسند: إسناده صحيح. وأخرجه أيضًا ابن الجعد في "مسنده" (306)، رقم (2069)، بلفظ: ستنهاه قراءته. وأخرجه ابن حبان، "الإحسان" 6/ 300، رقم الحديث (2560). وصحح إسناده الألباني، "سلسله الأحاديث الضعيفة" 1/ 16، عند كلامه على الحديث رقم (2). (¬2) "تفسير مقاتل" 73 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 73 ب. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 97، عن الكلبي. و"تنوير المقباس" 336. وأخرجه ابن =

هذا القول؛ وقال: المصلي لا يكون في منكر ولا فاحشة ما دام فيها (¬1). قال الكلبي: {الْفَحْشَاءِ} المعصية (¬2). وهو: ما قبح من العمل {وَالْمُنْكَرِ} ما لا يعرف في شريعة ولا سنة (¬3). والقول هو الأول (¬4). وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} اختلفوا فيه على وجهين؛ روى عبد الله ابن ربيعة عن ابن عباس قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه (¬5). وروى عطية عنه قال: هو قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] قال: فذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه (¬6). وهو: قول عبد الله، وسلمان، ومجاهد، ومقاتل؛ قال: يقول: إذا صليت لله فقد ذكرته، فيذكرك الله ¬

_ = جرير 20/ 155، عن ابن عون، وكذا ابن أبي حاتم 9/ 3066، وقد كتب اسمه تصحيفًا: أبو غوث!. وذكره الثعلبي 8/ 160 أ، عن ابن عون. (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة 338. (¬2) "تنوير المقباس" 336. وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3067، عن ابن عباس، وعكرمة والحسن. (¬3) "تنوير المقباس" 336. الفحشاء من المنكر، فتكون الآية من باب عطف العام على الخاص، كقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136]. (¬4) أي: أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ولو بعد حين. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 98، وابن جرير 20/ 156، وابن أبي حاتم 9/ 3067، كلهم من طريق عبد الله بن ربيعة. وأخرجه كذلك الحاكم 2/ 444، كتاب التفسير، رقم (3538)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. - عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي، أخرج له الترمذي، ولم أجد له ترجمة قال عنه ابن حجر: مجهول. "تهذيب الكمال" 14/ 489، و"تقريب التهذيب" 505. (¬6) أخرجه ابن جرير 20/ 156. وأخرجه الثعلبي 8/ 160 أ، مرفوعًا من طريق نافع، عن ابن عمر.

بخير، وذكرُ الله إياك أفضل من ذكرك إياه في الصلاة (¬1). ونحو هذا قال السدي وسعيد بن جبير (¬2). وعلى هذا الوجه معنى قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بعد قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} هو: أن الله لما أمر بإقام الصلاة، والصلاة لا تخلو من ذكر الله فكأنه أمر بذكره، فلما أمر بذكره أخبر أن ذكر الله العبد ما كان في صلاته أكبر من ذكر العبد؛ لأن العبد إذا ذكر الله، ذكره الله بالثواب؛ كقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وهذا معنى قول الفراء والزجاج وابن قتيبة، في هذا الوجه الأول (¬3). الوجه الثاثي في تفسير الآية: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} مما سواه، وهو أفضل من كل شيء. وهذا قول أبي الدرداء وقتادة (¬4). وروي معنى هذا الوجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما روى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: "ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 20/ 157، عن عبد الله بن مسعود، وسلمان، ومجاهد. "تفسير مقاتل" 74 أ. وذكره الثعلبي 8/ 160 أ، عن عبد الله وسلمان، ومجاهد، وعطية، وعكرمة، وسعيد بن جبير. (¬2) أخرجه ابن جرير 20/ 156، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأخرجه 20/ 158، عن السدي. وأخرجه الثعلبي 8/ 161 ب، عن السدي. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 338. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 170. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 97، عن قتادة، وأخرجه عنهما ابن جرير 20/ 157، وذكره عنهما الثعلبي 8/ 160 أ. (¬5) أخرجه الثعلبي 8/ 160 ب، من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن مسعود، =

والذكر: أن يذكره عندما حَرَّم، ويذكره عندما أحلَّ، فيأخذ ما أحل (¬1). والمعنى على هذا الوجه أن الله تعالى أخبر أن ذكره على كل الأحوال أكبر وأفضل؛ وذلك أن العبد إذا كان ذاكرًا الله في كل حال، لم يجر عليه القلم بمعصية؛ لأنه إذا ذكر ارتدع عما يهم به من السوء. فأما من يذكره بلسانه وهو مع ذلك يرتكب محظورًا، وما لا يحل، فليس هو ذاكرًا الله على الحقيقة. وعلى هذا لا تعلق لقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ} بما قبله. وقال الفراء وابن قتيبة في هذا الوجه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ} هو: التسبيح والتهليل، يقول: هو أكبر وأحرى وأحق بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر (¬2). فعلى الوجه الأول: المصدر الذي هو الذكر مضاف إلى الفاعل، وفي الوجه الثاني: مضاف إلى المفعول، وإن قال قائل في معنى الآية على الوجه الثاني: إن الله تعالى أمر نبيه -عليه السلام- بتلاوة القرآن وإقام الصلاة، ثم قال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعني: تلاوة القرآن، أخبر أنه أكبر وأفضل من كل شيء، فالمراد بذكر الله في الآية: تلاوة القرآن (¬3). ويجوز أن يكون المعنى: وذكر الله الذي هو تلاوة القرآن، أكبر من الصلاة، فهو أحرى أن ¬

_ = يرفعه. وهذا إسناد لا يصح؛ فيه ضعف وانقطاع، فجويبر ضعيف جدًا، "تقريب التهذيب" 205، رقم (994). والضحاك لم يلق ابن مسعود. "تهذيب التهذيب" 4/ 397. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 160 ب. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 338. (¬3) ذكر هذا القول ابن جرير 20/ 154، فقال: قال بعضهم: عني بها القرآن الذي يقرأ في موضع الصلاة، أو في الصلاة. ثم أخرج بسنده عن ابن عمر، قال: القرآن الذي يقرأ في المساجد. ولم يحكه عن غيره. وذكره عن ابن عمر، الثعلبي 8/ 160 أ، ولفظه: القرآن ينهى عن الفحشاء والمنكر.

46

ينهى عن الفحشاء والمنكر. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} قال ابن عباس: يريد لا يخفى عليه شيء. 46 - قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حُجَجه (¬1) {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} إلا من أبى أن يقرَّ بالجزية، ونَصَب العرب، فأولئك فجادلوهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية، وهذا معنى قول (¬2) وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد؛ قالوا في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أهل العرب، ومن لا عهد له فجادلوا هؤلاء بالسيف (¬3). قال ابن زيد: ظلموا بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم (¬4). وقال آخرون: كان هذا قبل أن أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقتال، قيل له: {وَلَا تُجَادِلُوا} من أتاكم من أهل الكتاب {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني: تعظونهم بالقرآن، وتدعوهم إلى الإسلام {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} وهم الذين قالوا: مع الله إله، أو له ولد، أو شريك، أو يد الله مغلولة، وأن الله فقير، أو آذوا محمدًا فهؤلاء انتصروا منهم (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 21/ 1، بنصه. و "تفسير الثعلبي" 8/ 161 أ. (¬2) هنا بياض. ولعله: مجاهد؛ لإخراج ابن جرير ذلك عند والله أعلم. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 161 أ. (¬4) أخرجه ابن جرير 21/ 2. عن ابن زيد، ومجاهد، وسعيد بن جبير. و"تفسير الثعلبي" 8/ 161 أ، عن ابن زيد. (¬5) أخرج ابن جرير 21/ 2، عن قتادة بنحوه، وآخره من قوله: قالوا: مع الله إله أخرجه ابن جرير 21/ 1، وابن أبي حاتم 9/ 3070، عن مجاهد.

قوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا} يعني: لأهل الكتاب سوى هؤلاء الظلمة. ثم نُسخ هذا بالقتال. وهذا معنى قول الكلبي وقتادة ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬1). وقال آخرون: المراد بأهل الكتاب هاهنا: عبد الله بن سلام، ومن آمن منهم يقول: لا تجادلوهم وأخبروهم عما في القرآن {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني: مشركيهم يقول: جادلوا الذين كفروا حتى تردوهم عن كفرهم. وهذا معنى قول مقاتل وابن عباس في رواية عطاء (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 98، وابن أبي حاتم 9/ 3068، والنحاس، في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 577، عن قتادة. ورواية ابن أبي نجيح عن مجاهد أخرجها ابن جرير 21/ 1، وليس فيها ذكر النسخ، بل يدل كلامه على أنها محكمة يراد بها ذوو العهد لا يجادلوا، وإنما يجادل من لا عهد له ويقاتل حتى يعطي الجزية. "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"، لمكي بن أبي طالب (387). لكن ذَكَر النسخ عن مجاهد الثعلبي 8/ 161 ب، وممن ذهب إلى أن الآية منسوخة بآية السيف مقاتل، "تفسير مقاتل" 74 أ. وهذا يقال فيه مثل ما قيل فيما سبق عند قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]. وقد رجح ابن جرير 21/ 2، أن أولى الأقوال: إلا الذين امتنعوا من أداء الجزية، ونصبوا دونها الحرب. ورد ردًا حسنًا على من ذهب إلى أن الآية منسوخة. وحاصل الأقوال في هذه الآية ثلاثة: 1 - الآية منسوخة. 2 - الآية محكمة يراد بها من آمن منهم. 3 - الآية محكمة يراد بها ذوو العهد منهم. قال النحاس بعد ذكره هذه الأقوال: وقول مجاهد حسن؛ لأن أحكام الله -عز وجل- لا ينغي أن يقال فيها: إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر "الناسخ والمنسوخ" 2/ 577. (¬2) "تفسير مقاتل" 74 أ. وذكره النحاس عن ابن زيد، ولفظه: لا يجادل المؤمنون منهم إذا أسلموا، لعلهم يحدثون بالشيء، فيكون كما قالوا {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} من أقام على الكفر يجادل، ويقال له الشر. "الناسخ والمنسوخ" 2/ 577. وعلى هذا تكون الآية محكمة.

47

47 - وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي: وكما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك الكتاب {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني مؤمني أهل الكتاب (¬1) {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يعني مسلمي أهل مكة (¬2). وقال ابن جرير: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: كانوا قبل عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى كانوا مؤمنين بمحمد -صلى الله عليه وسلم- {وَمِنْ هَؤُلَاءِ} يعني: الذين محمد بين أظهرهم، من أهل الكتاب {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} وهم مؤمنو أهل الكتاب (¬3). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬4). ثم قال: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} أي: بعد المعرفة (¬5) {إِلَّا الْكَافِرُونَ} من اليهود، وذلك أنهم عرفوا أن محمدًا نبي، والقرآنَ حق (¬6)، فجحدوا وأنكروا ولم يقروا، وكفروا بذلك الجحود. 48 - قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} أي: ما كنت تقرأ قبل القرآن كتابًا، أي: ما كنت قارئًا قبل الوحي ولا كاتبًا، وهو قوله: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: ولا تخط الآن بيمينك كتابًا. وكذلك صفة النبي -عليه السلام- في التوراة والإنجيل: أنه أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 161 ب، وزاد: عبد الله بن سلام، وأصحابه. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317. و"تفسير الثعلبي" 8/ 161 ب. (¬3) تفسير ابن جرير 21/ 4، بمعناه. (¬4) وهو قول مقاتل، "تفسير مقاتل" 74 أ. (¬5) أخرج ابن جرير 21/ 4، وابن أبي حاتم 9/ 3070، عن قتادة. وذكره عنه الثعلبي 8/ 161 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 74 أ. (¬7) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 171، بمعناه.

قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخط بيمينه، ولا يقرأ كتابًا، فنزلت هذه الآية (¬1). وقوله: {إِذًا} قال الفراء: ولو كنت تتلو {لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (¬2) قال ابن عباس: لشك الكافرون (¬3). قال مجاهد يعني: قريشًا (¬4). وهو قول قتادة (¬5). ومعنى الآية: لو كنت تكتب وتقرأ الكتب قبل الوحي إذًا لشكوا؛ وقالوا هذا شيء تعلَّمه محمد وكتبه (¬6). وقال مقاتل: يعني: كفار اليهود يقول: إذًا لشكوا فيكَ، وقالوا: إن الذي نجدُ في التوراة نعتَه هو: أمي لا يقرأ الكتاب، ولا يكتب، ولا يخطه بيمينه (¬7). وهذا هو القول؛ لأن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- بنعته وصفته حقًا يقينًا، وإنما يجحدون نبوتَه بعد اليقين، ويكفرون بالجحد، فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كاتبًا قارئًا لكان بغير النعت الذي يعرفوه، وكانوا يشكون. وأما الكفار فإنهم ما عرفوه بالنبوة، وكانوا شاكين مع كونه أميًّا، وإذا كان كذلك ¬

_ (¬1) أخرج ابن جرير 21/ 5، وابن أبي حاتم 9/ 3071. كلاهما بالإثبات: كان أهل الكتاب يجدون، وفي النسختين بالنفي: كان أهل الكتاب لا يجدون. والأقرب الإثبات؛ لما فيه من إقامة الحجة عليهم بما في كتبهم. والله أعلم. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317. (¬3) "تنوير المقباس" 336. (¬4) أخرج ابن جرير 21/ 5، وابن أبي حاتم 9/ 3071. واقتصر على هذا القول الزجاج 4/ 171، ولم ينسبه. (¬5) ذكره عنه الماوردي، بلفظ: مشركو العرب. "النكت والعيون" 4/ 287. (¬6) "غريب القرآن" لابن قتيبة 338. و"تفسير الثعلبي" 8/ 161 ب. (¬7) "تفسير مقاتل" 74 أ.

49

فلا معنى لقوله: {إِذًا لَارْتَابَ} مع كونهم مرتابين؛ ووجهه ما قال الفراء: أي: لَكان أشدَّ لِريبة من كذَّب مِن أهل الكتاب (¬1). فحُمل قوله: {لَارْتَابَ} على زيادة الريبة، على قول مجاهد. والمعنى: أن المشركين كانوا شاكين في نبوته، مع أنه يخبرهم بقصص الماضين، من غير أن يقدر على كتابة وقراءة، فلو كان قارئًا كاتبًا لاشتد ارتيابهم، وقالوا: إنما تعلمه وقرأه من كتاب. وتفسير الآية: أي: الذي يأتي بالباطل، يقال: أبطل فلان: إذا كذب وادعى غير الحق (¬2). وكلُّ من ادعى دينًا غيرَ الإسلام فهو مبطل. 49 - قوله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قال الحسن: القرآن آيات بينات. {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يعني: المؤمنين (¬3). وهو قول عبد الله بن عباس في رواية عطاء؛ يريد: الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، وحملوه من بعد النبي -عليه السلام-. وعلى هذا الكناية عن القرآن والكتاب بقوله: {هُوَ}. وقال قتادة {بَلْ هُوَ} يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- و {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ} أهل العلم من أهل الكتاب؛ لأنهم يجدون في كتابهم نعته وصفته (¬4). وعلى هذا التقدير: بل هو ذو آيات بينات، فحذف المضاف، وذلك أن كونه بالنعت ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 317. (¬2) كتاب "العين" 7/ 430 (بطل)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 355. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 99، وابن جرير 21/ 6. وهو قول الفراء، "معاني القرآن" 2/ 317. وذكره الثعلبي 8/ 162 أ، ولم ينسبه. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 99، وابن جرير 21/ 5. وأخرجه ابن جرير 21/ 5، عن ابن جريج. وذكره الثعلبي 8/ 162 أ، عن ابن عباس.

50

الذي ذُكر في كتابهم آيات واضحات له في صدور أهل الكتاب، والعلم به، وهم مؤمنو أهل الكتاب، بل هو وأموره آيات. وفي الآية قول ثالث، ذكره الزجاج؛ فقال: بل كونُه غيرَ قارئٍ ولا كاتب {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} لأنه إذا لم يقرأ ولم يكتب، وأخبر بأقاصيص الأولين والأنبياء فهو {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬1). وهو معنى قول الكلبي (¬2). والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة ومقاتل (¬3) لقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} يعني: كفار اليهود (¬4) , لأنهم جحدوا نبوته وكتموا أمره بعد المعرفة. 50 - قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم (¬5). وقرئ: {آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} على الجمع (¬6). وحجة الإفراد قوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] وقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 171، ولم ينسبه. (¬2) "تنوير المقباس" 336. (¬3) لم يسبق ذكر قول مقاتل، وهو قريب من قول قتادة، "تفسير مقاتل" 74 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 74 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 74 ب. و "تفسير الثعلبي" 8/ 162 أ. (¬6) قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: {آيَاتٍ} جمعًا، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، وأبي عمرو في رواية علي بن نصر: {آيَةٌ} على الإفراد. "السبعة في القراءات" 501، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 435، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 188، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 343.

51

[الأنعام: 37] وقد تقع آية على لفظ الواحد ويراد به كثرة؛ كما جاء: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] واختار أبو عبيد الجمع؛ لقوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬1) قال أبو علي: وهذا لا يكون دلالة على ترجيح القراءة بالجمع؛ لأنهم إنما اقترحوا آية فقيل: الآيات عند الله، أي: الآية التي اقترحتموها وآيات أُخر لم تقترحوها عند الله، وهو القادر على إرسالها، إذا شاء أرسلها، مع ما ذكرنا أن لفظ الواحد قد يراد به كثرة (¬2). {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} يريد: أُنذر أهلَ المعصية بالنار، وليست إنزال الآية بيدي. قال مقاتل: فلما سألوا الآية قال الله تعالى: 51 - {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أي: أو لم يكفهم من الآيات القرآن {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} فيه خبر ما قبلهم وما بعدهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في إنزال الكتاب عليك {لَرَحْمَةً} لمن آمن به وعمل به (¬3) {وَذِكْرَى} وتذكيرًا وموعظةً، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال مقاتل: وكذبوا بالقرآن فنزل: 52 - {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} (¬4) أي: الله شاهدًا بيننا أني رسوله (¬5)، وكفى هو شاهدًا {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وشهادة الله له إثباتُ المعجزة له بإنزال الكتاب عليه. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} قال ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 435، ولم يصرح باسم أبي عبيد، بل قال: وحجة الإفراد أن في حرف أُبي زعموا، وصرح بذكر أبي عبيد الثعلبي 8/ 162 أ. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 435. (¬3) "تفسير مقاتل" 74 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 74 ب. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 أ.

53

ابن عباس: بغير الله. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان (¬1). 53 - قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أي: استهزاءً وتكذيبًا (¬2) منهم (¬3) بذلك يستعجلونك به. نزلت في الذين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية [الأنفال: 32] (¬4). وقد مر (¬5). قال الله تعالى: {وَلَوْلَا أَجَلٌ} يعني: إن لعذابهم أجلاً، وهو يوم القيامة (¬6). قال الله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] هذا قول ابن عباس ومقاتل (¬7). وقال الضحاك: الأجلُ المسمى لعذابهم: مدةُ أعمارهم، فإذا ماتوا صاروا في العذاب (¬8). وقيل: الأجل المسمى: بدر (¬9)؛ وهو قوله: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} يعني: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 74 ب. وأخرجه ابن جرير 21/ 7، وابن أبي حاتم 9/ 3073، عن قتادة بلفظ: الشرك. (¬2) "تفسير مقاتل" 74 ب. (¬3) منهم. في نسخة: (ب). (¬4) أخرجه ابن جرير 21/ 8، وابن أبي حاتم 9/ 3074، عن قتادة و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 171، ولم ينسبه. وقال الثعلبي 8/ 162 أ: نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال المفسرون: قال النضر بن الحارث: اللَّهم إن كان هذا الذي يقوله محمد حقًا من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: ببعض ما عذبت به الأمم. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3074، عن سعيد بن جبير. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 318. (¬7) "تفسير مقاتل" 74 ب. وليس فيه ذكر الآية. وذكر الآية الزجاج 4/ 172، ولم ينسب القول. (¬8) ذكره الثعلبي 8/ 162 أ. (¬9) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 أ، ولم ينسبه.

54

العذاب ببدر على هذا القول، وهو قول عطاء عن ابن عباس. ودليل القول الأول قوله: 54 - {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أخبر أن ميعاد عذابهم جهنم، وأنها تحيط بجماعتهم، فلا تبقي منهم أحدًا إلا دخلها (¬1). ثم أخبر أن تلك الإحاطة متى تكون، فقال: 55 - {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قال ابن عباس: هذا مثل قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] وقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} الآية [الزمر: 16] (¬2). وقوله: {وَيَقُولُ} الموكل بعذابهم، يقول لهم (¬3): {ذُوقُوا} ومن قرأ بالنون (¬4) فلأن ذلك لما كان بأمره سبحانه جاز أن يُنسب إليه. وجوازه على هذا المعنى؛ لأن القديم سبحانه لا يكلمهما (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 أ. وتفسير ابن جرير 21/ 8، بمعناه. (¬2) "تفسير مقاتل" 74 ب، حيث ذكر الآية الثانية. (¬3) يقول لهم مكررة في نسخة: (ب). وفي "تفسير مقاتل" 74 ب: يقول الخزنة لهم. (¬4) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {وَنَقُولُ} بالنون، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: {وَيَقُولُ} بالياء. "السبعة في القراءات" 501، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 436، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 343. (¬5) في إطلاق لفظ القديم على الله -عز وجل- خلاف؛ لكون لفظ القديم لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولم يتكلم به السلف من الصحابة والتابعين، وإنما سمى الله نفسه بالأول والآخر، وهو أبلغ لدلالته على القدم، وأنه لم يسبقه شيء، بل ولم يماثله شيء، وعلى ذلك فلا يصح إطلاق القديم على الله تعالى باعتبار أنه من أسمائه، وإن كان يصح الإخبار عنه بذلك؛ لأن باب الإخبار أوسع من باب الإنشاء. "مجموع الفتاوى" 1/ 245، و"حاشية لوامع الأنوار البهية" 1/ 38، من كلام =

وقيل: {ذُوقُوا} لوصول الألم إلى المعذب، كوصول الذوق إلى الذائق. ومعنى: {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: جزاء، كما قال: دونك ما جنيتَه فاحسُ وذُق (¬1) ¬

_ = الشيخ عبد الله بابطين. تنبيه: تكليم الله تعالى لعباده في الآخرة ثابت بنصوص كثيرة في الكتاب والسنة، يكلمهم الله تعالى للحساب والجزاء، ويستوي في هذا الخلق كلهم إلا أقوامًا شاء الله تعالى أن يحرمهم ذلك، تنكيلًا وزيادة في العذاب؛ فمن الأدلة على عموم التكليم وشموله قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت: 47] ومن السنة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان" الحديث أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، رقم (7443)، "فتح الباري" 13/ 423، ومسلم 2/ 703، رقم (1016). ومن الأدلة على حرمان أقوام من تكليم الله لهم، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] ومن السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب اليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر". أخرجه مسلم 1/ 102، كتاب: الإيمان, رقم (107)، والنسائي 5/ 86، كتاب الزكاة، رقم (2562). وتكليم الله تعالى لأهل النار في هذه الآية {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} توبيخ وتقريع لأهل النار؛ كقوله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} الآيات [المؤمنون: 108 - 111]. والله أعلم. ملخص من: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية 13/ 131، وما بعدها. "ودرء تعارض العقل والنقل" 2/ 141، وما بعدها. و"العقيدة السلفية في كلام رب البرية" تأليف: يوسف الجديع. ص: 90، وما بعدها. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 436، بنصه. ولم ينسب البيت، وفي الحاشية: لم نعثر عليه.

56

قال ابن عباس ومقاتل: {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والتكذيب والافتراء على الله (¬1). 56 - قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} وذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بالهجرة فاشتد ذلك عليهم، وقالوا: كيف نخرج من ديارنا وأموالنا، ونذهب إلى بلاد لا دار لنا فيها, ولا مال؟ فأنزل الله فيهم: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} في معاشكم (¬2). وقال الكلبي: نزلت في أهل مكة؛ أي: لا تجاوروا الظلمة في أرضهم (¬3). وقال مقاتل: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة؛ يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان بها، فإن أرض المدينة واسعة من الضيق {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} يعني: توحدوني في المدينة علانية (¬4). وقال أبو إسحاق: تفسيرها أنهم أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم فيه عبادة الله وأداء فرائضه، وكذلك يجب على من كان في بلدٍ يُعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر وينتقل إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته (¬5). وهذا معنى قول مجاهد: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فهاجروا وجاهدوا (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 318، لكنه قال: فأنزل الله {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ}. وكذا عند الثعلبي 8/ 162 ب. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 ب، بمعناه. (¬4) "تفسير مقاتل" 75 أ. وهو قول الفراء، "معاني القرآن" للفراء 2/ 318. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 172. (¬6) أخرجه ابن جرير 21/ 9.

57

وقال سعيد بن جبير: من أُمر بمعصية فليهربْ، وتلا هذه الآية (¬1). وروى إسماعيل بن أبي خالد عنه في هذه الآية قال: إذا عُمل في أرضٍ بالمعاصي، فأخرجوا منها (¬2). وقوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال الزجاج: (إياي) منصوب بفعل مضمر، الذي ظهر يُفسره؛ المعنى: فاعبدوا إياي فاعبدون، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني، ولو قلت: إياي فاعبدوا، كان إياي منصوبًا بما بعد الفاء، ولا يحتاج إلى إضمار فعل، ودخول الفاء لمعنى الشرط، بتقدير: إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوا، فإن أرضي واسعة (¬3). قال مقاتل: ثم خوفهم بالموت ليهاجروا، فقال: 57 - {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬4) والمعنى لابد من الموت، وكل أحد ميت أينما كان، فلا تقيموا بدار الشرك خوفًا من الموت (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 9، وابن أبي حاتم 9/ 3075، وفيه: ثم قرأ: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]. وذكره الثعلبي 8/ 162 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 9، من طريق إسماعيل بن أبي خالد. وأخرجه عبد الرزاق 2/ 99، عن مالك بن مغول، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير، بلفظ: هو الرجل يكون بين ظهراني قوم يعملون بالمعاصي. - إسماعيل بن أبي خالد، الأحمسي مولاهم، البَجَلي، اسم أبيه: هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير. محدث الكوفة في زمانه مع الأعمش. روى عن عبد الله بن أوفى، وأبي جحيفة، وغيرهم، وروى عنه شعبة، وسفيان، وشريك، وغيرهم. ثقة ثبت، "سير أعلام النبلاء" 6/ 176، و"تقريب التهذيب" 138. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 172، بتصرف. (¬4) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 ب.

58

{ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم (¬1). وهذا حث على الطاعة فيما أَمر به من الهجرة. ثم ذكر ثواب من هاجر فقال: 58 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} قال ابن عباس: لنسكننهم غرف الدر والياقوت والزبرجد (¬2). قال مقاتل: يعني لننزلنهم (¬3). وهذا يدل على صحة قراءة العامة: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} يقال: بوأت فلانًا منزلًا تبويئًا وتبوئة (¬4)، وذكرنا ذلك قديمًا (¬5). وقرأ حمزة والكسائي: (لَنُثْوِيَنَّهُم) وهي قراءة عبد الله والأعمش (¬6)، يقال: ثوى بالمكان إذا أقام به (¬7)، ومنه قوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] أي: مقيمًا نازلًا فيهم، والثويَّ: الضيف لإقامته ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬2) ذكره عنه الطبرسي "مجمع البيان" 7/ 455. (¬3) "تفسير مقاتل" 75 أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 117. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 338. (¬4) "تهذيب اللغة" 15/ 595 (باء). (¬5) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس: 87]: قال أبو علي: التبؤ: فعل يتعدى إلى مفعولين فعلى ما ذكر أبو علي يجوز أن تقول: تبوأت زيدًا مكانًا، أي: اتخذت له، ولم أو هذا لغيره؛ لأنه يقال: تبوأ المكان دارًا، فيعدونه إلى مفعولين كما ذكر، ويقال: تبوأ لزيد منزلًا، أي: اتخذه له، فلا يعدون لزيد إلا باللام. (¬6) قرأ حمزة والكسائي: [لَنُثْوِيَنَّهُم] بالثاء، وقرأ الباقون: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بالباء. "السبعة في القراءات" 502، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 438، وفيه ذكر قراءة الأعمش نقلها عن أبي الحسن. و"النشر في القراءات العشر" 2/ 344. وأخرج قراءة ابن مسعود: الفراء، "معاني القرآن" 2/ 318. (¬7) قال ابن قتيبة: هو من: ثويت بالمكان، أي: أقمت به. "غريب القرآن" 338.

عند المضيف (¬1). قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته إذا أنزلته منزلًا يقيم فيه (¬2). وقال حسان: ثوى في قريش بضع عشرة حِجةً (¬3) أي: أقام ونزل فيهم. وإذا تعدى: ثوى، فزيدت عليه الهمزة، وجب أن يتعدى إلى المفعول الثاني (¬4). قال الأخفش: قرأ الأعمش: {لَنُثْوِيَنَّهُم مِنَ الجنَّةِ غُرَفًا} قال: ولا يعجبني ذلك؛ لأنك لا تقول: أثويته الدار (¬5). قال أبو علي: ووجه هذه القراءة كان في الأصل: لنثوينهم من الجنة في غرف، وحذف الجار، كما حذف من نحو قوله: أمرتك الخيرَ (¬6) .... ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 438. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 173. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 439، ونسبه لحسان. وهو في "ديوانه" 261، أخرج الحاكم عن يحيى بن سعيد قال: سمعت عجوزًا من الأنصار تقول: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يتعلم منه هذه الأبيات: ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يُذكِّر لو ألفي صديقًا مواتيًا وساق بعده ستة أبيات، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬4) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 439. (¬5) لم أجده عند الأخفش في "المعاني"، لكن ذكر أبو علي أن أبا الحسن قال: قرأ الأعمش. "الحجة للقراء السبعة" 5/ 440. (¬6) جزء من بيت لعمرو بن معد يكرب، والبيت بتمامه: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نَشَب

ويقوي ذلك أن الغرف وإن كانت مختصة، فقد أجريت المختصة من هذه الظروف مجرى غير المختص، نحو قوله: كما عسل الطريقَ الثعلبُ (¬1) ونحو: ذهبتُ الشامَ، عند سيبويه. ويدل على صحة قول سيبويه ما روي في الحديث: "إنما أنا لكم كالوالد، فإذا ذهب أحدكم الغائط" من غير حرف جر، وروي: "إلى الغائط" (¬2). ويدل على صحة القراءة الأولى، ¬

_ = وقد أورده أبو علي في "الحجة" 5/ 440، مقتصرًا على: أمرتك الخير، ولم ينسبه. وقد استشهد به سيبويه على حذف حرف الجر، ونصب الخير. "الكتاب" 1/ 37، ونسبه لعمرو بن معد يكرِب الزُّبيديّ. واستشهد به كذلك المبرد، في "المقتضب" 2/ 36، والبغدادي، "خزانة الأدب" 1/ 339، ولم ينسباه. (¬1) أنشده كاملًا سيبويه، "الكتاب" 1/ 36، ونسبه لساعدة بن جُؤَيَّة، والبيت تمامه: لدنٌ بِهزِالكفِ يعسلُ متنُه ... فيه كما عسلَ الطريقَ الثعلبُ وأنشده كاملًا المبرد، "الكامل" 1/ 474، ولم ينسبه. وأنشد عجزه أبو علي، في "الحجة" 5/ 440، ولم ينسبه، وعنه أخذ الواحدي، وأنشده ابن جني، "الخصائص" 3/ 319، ولم ينسبه. وفي الحاشية: هذا البيت في وصف الرمح، واللدن: اللين الناعم، وقوله: يعسل متنه: يشتد اهتزازه، ويقال: عسل الثعلب والذئب في سيره: اشتد اضطرابه. (¬2) أخرج هذا الحديث بحرف الجر: (إلى الغائط) الإمام أحمد 12/ 372، ط/ الرسالة، وابن ماجه 1/ 114، كتاب: الطهارة، رقم الحديث (313)، وابن حبان في "صحيحه"، كتاب: الطهارة، رقم (1431)، "الإحسان" 4/ 279، والبيهقي، "السنن الكبرى" 1/ 102، كتاب: الطهارة. كلهم من طريق: يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. والحديث في "صحيح سنن ابن ماجه" 1/ 57، رقم (252). وقال محققو المسند: إسناده قوي. ولم أجده بهذا اللفظ بدون حرف الجر، إلا عند النسائي في "السنن الكبرى" من طريق عبد العزير بن أبي حازم عن أبيه عن مسلم بن قُرط عن =

قوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] (¬1). وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قال ابن عباس: يريد تحت الغرف الأنهار، كما وصف تبارك وتعالى: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية [محمد: 15] (¬2). {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فيها لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يسقمون. وقوله: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} قال: يريد المهاجرين والأنصار. قال ¬

_ = عروة عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ذهب أحدكم الغائطَ فليذهب معه بثلاثة أحجار". "السنن الكبرى" 1/ 72، كتاب: الطهارة، رقم الحديث (42). والحديث في السنن الصغرى بهذا الإسناد بإثبات حرف الجر. "سنن النسائي" 1/ 44، كتاب الطهارة، رقم الحديث (44)، وهو في "صحيح سنن النسائي" 1/ 11، رقم الحديث (43). وأخرجه الطبراني من طريق سلامة بن روح، عن عُقَيل، عن ابن شهاب الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذهب منكم الغائطَ فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا". "المعجم الكبير" 4/ 143، رقم الحديث: 3942. وسلامة بن روح مختلف فيه، "الكامل في ضعفاء الرجال" 3/ 1162، "تهذيب التهذيب" 4/ 253، "ميزان الاعتدال" 2/ 183، قال عنه ابن حجر: صدوق له أوهام. "تقريب التهذيب" 426. وعُقيل هو ابن خالد بن عقيل، قال عنه الذهبي: الحافظ الإمام، حدث عن ابن شهاب فأكثر وجوَّد، وحدث عنه ابن أخيه: سلامة بن روح. "سير أعلام النبلاء" 6/ 301. قال عنه ابن حجر: ثقة ثبت "تقريب التهذيب" 687. وعطاء بن يزيد الليثي: ثقف "تقريب التهذيب" 679. (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 440، وليس فيه ذكر الحديث. وقول سيبويه في "الكتاب" 1/ 35. (¬2) لعل الشاهد من إيراد هذه الآية: بيان أن الأنهار التي تجري من تحت الغرف أنهار متنوعة، كما ذكر في آية سورة: محمد {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}. والله أعلم.

59

مقاتل: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} لله (¬1). وفي الآية حذف يتم به الكلام، كأنه قيل: نعم أجر العاملين الغرف أو الجنة (¬2). 59 - ثم نعت هؤلاء فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا} قال ابن عباس: على دينهم، وعلى المخمصة، وعلى الجزع، وترك الأموال والأولاد والدور (¬3). قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قال: وباللَّه يثقون في هجرتهم (¬4). قال ابن عباس: ذلك أن المهاجرين توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم. قال مقاتل: إن أحدهم كان يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها دار ولا معيشة؟ فوعظهم الله ليعتبروا، فقال: 60 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} وكم من دابة (¬5) {فيِ الْأَرْضَ} قال أبو إسحاق: كل حيوان على وجه الأرض بما يعقل ولا يعقل فهو دابة، وإنما هو: مَنْ دبت على الأرض، والمعنى: من نفس دابة (¬6). وقوله: {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} قال ابن عباس: لا تقدر على رزقها. قال مقاتل: لا ترفع رزقها معها (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3078، عن مقاتل. (¬3) وقال مقاتل 75 أ: على الهجرة. وكل ذلك داخل مراد. (¬4) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬5) "تفسير مقاتل" 75 أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 117. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 339. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 173. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 173. قال أبو عبيدة: ومجاز الدابة: أن كل شيء يحتاج إلى الأكل والشرب فهو دابة من إنس أو غيرهم. (¬7) "تفسير مقاتل" 75 أ. وقال ابن قتيبة: لا ترفع شيئًا لغد. "غريب القرآن" 339.

61

وقال سفيان وعلي بن الأقمر: لا تدخر شيئًا لغد (¬1). وقال أبو إسحاق: أي لا تدخر رزقها، إنما تصبح فيرزقها الله، وعلى هذا أكثر الحيوان (¬2). قال سفيان: وليس شىء مما خلق الله يَخْبَأُ إلا الإنسان والفأرة والنملة (¬3). قوله تعالى: {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} يرزقكم إن هاجرتم إلى المدينة {وَهُوَ السَّمِيعُ} لقولكم: إنا لا نجد ما ننفق بالمدينة (¬4) {الْعَلِيمُ} بما في قلوبكم (¬5). 61 - قال ابن عباس: ثم رجع إلى المشركين فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ} إلى قوله: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} يقرون بأن الله خالق هذه الأشياء. قال الله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} قال ابن عباس ومقاتل: فكيف يكذبون بتوحيدي (¬6). أي: إذا كان الله هو الخالق وحده، وجب أن يكون هو المعبود وحده من غير شريك. والمعنى: فكيف يُصرفون عن التوحيد بعد قيام الدليل. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 11، والثعلبي 8/ 162 ب، كلاهما عن علي بن الأقمر، من طريق سفيان. - علي بن الأقمر بن عمرو الهمْداني، الوادعي، أبو الوازع، كوفي ثقة، حدث عن أسامة بن شريك، وأبي الأحوص، وغيرهم، روى عنه الأعمش، وشعبة، وسفيان الثوري، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" 5/ 313. و"تقريب التهذيب" 690. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 173. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 ب. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 339، ونسبه لابن عيينة. وعند الفراء: إلا النملة فإنها تدخر رزقها لسنتها. "معاني القرآن" 2/ 318، ولم ينسبه. (¬4) "تفسير مقاتل" 75 أ. (¬5) "تفسير الثعلبي" 8/ 162 ب. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3079، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" 75 أ.

62

قال مقاتل: ثم رجع إلى الذين رغبهم في الهجرة؛ الذين قالوا: لا نجد ما ننفق فقال: 62 - {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (1) قال ابن عباس: يريد البر والفاجر، فكيف لا أبسط عليكم. وقوله: {وَيَقْدِرُ لَهُ} قال مقاتل: ويقتر على من يشاء (2) {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ} مما أنتم فيه من الشدة، وما أريد من إدخال الرفق عليكم {عَلِيمٌ}. 63 - وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني: كفار مكة، إلى قوله: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي: الله الذي فعل هذه الأشياء (3). {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} بإقرارهم بذلك. قاله مقاتل وابن عباس (4). {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} توحيد ربهم مع إقرارهم بأن الله خلق الأشياء كلها وحده (5)، وأنزل المطر. والمراد بالأكثر: الجميع. وقد مر (6). 64 - قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} يعني: الحياة في هذه الدار {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد باطل وغرور وعبث تنقضي عن قريب (7).

_ (1) و (2) و (3) و (4) و (5) "تفسير مقاتل" 75 أ. (6) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]: إنما دخلت بل هاهنا؛ لأنه لما قال: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} دل على أنه كفر ذلك الفريق بالنقض فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} كفار بالنقض، وحسن هذا التفصيل؛ لأن منهم من نقض عنادًا، ومنهم من نقض جهلاً. وقيل: معناه: كفر فريق بالنقض، وكفر أكثرهم بالجحد للحق؛ وهو أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-. (7) "تفسير مقاتل" 75 أ، بلفظ: باطلا. فقط.

{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} لهي دار الحياة لا موت فيها (¬1). وقال الكلبي: هي حياة لا يموت فيها أهلها (¬2). وقال قتادة والسدي: لهىِ الحياة (¬3). وقال الفراء: لهي الحياة حياة لا موت فيها (¬4). وقال الزجاج: معناه: هي دار الحياة الدائمة (¬5). وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: {الْحَيَوَانُ} الحياة (¬6). فالمفسرون وأصحاب المعاني على أن الحيوان هاهنا بمعنى: الحياة. قال أبو علي: قال أبو عبيدة: الحياة والحيوان والحي واحد، فهذه على ما حكاه أبو عبيدة مصادر (¬7). والحياة كالحَلْية والحَدَمَة؛ وهي شدة التهاب النار (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 75 ب. و"تفسير ابن جرير" 21/ 12، و"تفسير الثعلبي" 8/ 163 أ. وأخرجه ابن جرير 21/ 12، عن مجاهد، وأخرجه عن ابن عباس، بلفظ: باقية. قال الأزهري: معناه: أن من صار إلى الآخرة لم يمت، ودام حيًا فيها لا يموت، فمن أدخل الجنة حيي فيها حياة طيبة، ومن دخل النار فإنه لا يموت فيها ولا يحيا. "تهذيب اللغة" 5/ 287 (حي). (¬2) "تنوير المقباس" 338. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 99، عن قتادة. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 318. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 173. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 117. و"غريب القرآن" 339. (¬7) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 117. بمعناه. وهو في "كتاب الشعر" لأبي علي 1/ 321، غير منسوب. (¬8) "تهذيب اللغة" 4/ 433 (حدم). يعني أن أصلها: حَيْوَة على وزن: حَلْيَة، أو: حَيَوَة على وزن: حَدَمَة. والله أعلم.

والحيوان: كالفوران (¬1) والغليان. والحِيّ كالعِيِّ (¬2)؛ قالوا: حَيِي يحيى حياءً (¬3)، كما قالوا: عَييِ يَعْيا عياء (¬4)، ومن ذلك قول العجاج: كنا بها إذِ الحَياة حِيُّ (¬5) فهذا (¬6) إذا الحياةُ حياةٌ. وقال أبو زيد: الحيوان ما فيه روح (¬7). والمَوَتَان: ما لا روح فيه (¬8). والحيوان في روايتي أبي زيد وأبي عبيدة على ضربين؛ أحدهما: أن يكون مصدرًا كما حكاه أبو عبيدة. والآخر: أن يكون وصفًا كما حكاه أبو زيد. والحيوان على قول أبي زيد مثل الحَيّ الذي يراد به خلاف الميت، وقد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين؛ يقال: فارت القدر تفور فَوْرًا، وفَورانًا، إذا غَلت. "تهذيب اللغة" 15/ 247 (فار). (¬2) العِيَّ: مصدر العَي، يقال: عيى فلان بالأمر إذا عجز عند "تهذيب اللغة" 3/ 258 (عيى). (¬3) "تهذيب اللغة" 5/ 283 (حيى). (¬4) "تهذيب اللغة" 3/ 257 (عيى). (¬5) هكذا أنشده أبو علي، "كتاب الشعر" 1/ 321، وصدره بقوله: قال رؤبة أو العجاج. وأنشده أبو عبيدة 2/ 117، بلفظ: وقد نَرَى إذ الحياةُ حِيٌ ونسبه للعجاج. وهو كذلك في "ديوانه" 249. وأنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 285 (حي) غير منسوب، واستشهد به على أن الحِي بكسر الحاء جمع الحياة. (¬6) في كتاب أبي علي: كأنه قال: إذِ الحياة حياةٌ، أي: الحياة غيرُ متكدرة ولا منغَّصة. "كتاب الشعر" 1/ 321. (¬7) ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 287، ولم ينسبه. (¬8) لم أجده في "النوادر"؛ وفي "تهذيب اللغة" 14/ 343 (موت): الموتان: كل شيء غير ذي روح، وما كان ذا روح فهو الحيوان. ولم ينسبه لأبي زيد.

جاء الصفة على هذا المثال نحو قولهم: رجلٌ صَمَيَانٌ للسريع الخفيف (¬1)، والزَّفَيَان (¬2)، قال: وتحتَ رَحلي زَفَيَانٌ مَيْلَعُ (¬3) فهذا أظهر من أن يقال له وصف بالمصدر، فأما قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} فيحتمل أن يكون المعنى: وإن حياة الدار الآخرة هي الحياة؛ لأنه لا نقص فيها ولا نفاد لها، أي: فتلك الحياة هي الحياة لا التي يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون الحيوان مصدر على هذا. ويجوز أن يكون الحيوان الذي هو خلاف المَوَتان، وقيل للدار الآخرة: الحيوان؛ لأنها لا تزول ولا تبيد كما تبيد هذه الدار وتزول، فتكون الدار وصفت بالحياة لهذا المعنى، والمراد أهلها. ويجوز أن يكون التقدير في قوله: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} هي ذات الحيوان، أي: دار الآخرة هي دار الحياة، كأنه لم يعتد بحياة هذه الدار حياة. فأما القول في حروف الحيوان: أن العين واللام مِثْلان في أصل الكلمة، وأبدلت من الثانية الواو لَمَّا لم يسع الإدغام في هذا المثال، ألا ترى أن مثل: شَلَل وطَلَل (¬4) يصح ولا يدغم؛ فكذلك الحيوان لَمَّا لم يجز الإدغام ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 12/ 260 (صمى). (¬2) لزَّفَيَان: الخفة. "لسان العرب" 14/ 357 (زفى). (¬3) أنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 265 (زفى) ولم ينسبه. والملْع: سرعة سير الناقة، وناقة مَيْلَع: سريعة. "تهذيب اللغة" 2/ 426 (ملع). وهو في "لسان العرب" 14/ 357، مع بيتين قبله غير منسوب، وفيه: ناقة زَفيان: سريعة. (¬4) الشلل: ذهاب اليد، يقال: شَلَّت يده تَشلَّ، فهو أشلُّ. "تهذيب اللغة" 11/ 276 (شلل). الطَلَل: ما شخص من الديار، يقال: حيَّا الله طَلَلك وأطلالك: أي: ما =

تُوصل فيه إلى إزالة المثلين بالبدل، ووجب ذلك في الثاني منهما، وهو الكثير العام في كلامهم؛ لأن التكرير وقع بها، هذا مذهب الخليل وسيبويه وأصحابهما (¬1)؛ إلا أبا عثمان فإنه ذهب في أن الحيوان غير مُبْدَل الواو؛ وأن الواو فيه أصل وإن لم يكن منه فِعْل، وشَبَّه هذا بقولهم: فَاظَ الميتُ يَفِيظُ فَيْظًا وفَوْظًا (¬2)، ولا يستعملون من فَوْظٍ فِعْلاً، فكذلك الحيوان عنده مصدر لم يُشتقَّ منه فِعل، بمنزلة فَوْظٍ؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: فاظ يفوظ كما قالوا: فاظ يفيظ. قال أبو علي: الذي أجازه أبو عثمان فاسد من قِبَل أنه لا يمتنع أن يكون في الكلام مصدر عينه: واو، وفاؤه: لام صحيحان؛ مثل: فَوْظٍ، وصَوْغٍ (¬3)، وقَوْلٍ، ومَوْتٍ، وأشباه ذلك، فأما أن يوجد في الكلام كلمة عينها: ياء، ولامها: واو فلا، فحمله الحيوان على فَوْظٍ خطأٌ؛ لأنه شَبَّه ما لا يوجدُ في الكلام بما هو موجود مطرد؛ وبهذا علمنا أن حَيْوةَ في مثل: رَجاء بن حَيْوة؛ أصله: حَيَّة وأن اللام إنما قلبت واوًا لضربٍ من التَوسُّع، وكراهةً لتضعيف الياء، ولأن الكلمة أيضًا عَلَم؛ والأعلام يَعْرِضُ فيها ما لا يعرض في غيرها؛ نحو: مَوْهَب ومَوْرَق، ومَوْظَب (¬4). ¬

_ = شخص من جسدك. "تهذيب اللغة" 13/ 295 (طلل). (¬1) أصل الحيوان: حَييَان، فقلبت الياء التي هي لام الفعل واوًا استكراهًا لتوالي الحركات؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه. "لسان العرب" 14/ 214 (حيا). وقول سيبويه في "الكتاب" 4/ 399. (¬2) فاظ الميت، وفاظت نفسه: إذا خرجت. "تهذيب اللغة" 14/ 396 (فاظ). (¬3) الصَّوغُ: مصدر صاغ يصوغ، والصَّياغة: الحرفة. "تهذيب اللغة" 8/ 158 (صاغ). (¬4) "سر صناعة الإعراب" 1/ 153، بتصرف، وهو في "لسان العرب" 14/ 214 (حيا). وضبطت كلمة: مَوْرَق، هكذا في سر صناعة الإعراب، وهو اسم علم؛ منه: =

65

قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يعني لو علموا لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزائل، ولكنهم لا يعلمون. 65 - قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال ابن عباس: يريد المشركين كفار مكة. وذكرنا معنى {فِي} عند قوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] (¬1). و {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أفردوا الله بالطاعة، وتركوا شركاءهم فلا يدعونهم لإنجائهم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} الله من أهوال البحر، وأفضوا إلى البر {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} به في البر فلا يوحدونه كما وحدوه في البحر (¬2). وهذا إخبار عن عنادهم، وأنهم عند الشدائد يعلمون أن القادر على كشفها الله وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم (¬3). 66 - قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} في هذه اللام وجهان؛ ¬

_ = مُورق بتشديد الراء، ابن مُشَمْرِج، بضم أوله، ابن عبد الله العجلي، ترجم له الحافظ ابن حجر. "تقريب التهذيب" 977، رقم (6989). ومَوْرَق بفتح الميم وضمها اسم موضع بفارس. "معجم البلدان" 5/ 256، ثم قال ياقوت الحموي: ومَوْهَب ومَوْظَب اسمان لرجلين. (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: وقوله تعالى: {فِيهَا} لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنه يقال: ركبت السفينة، ولا يقال: ركبت في السفينة، والوجه هاهنا أن يقال: مفعول {ارْكَبُوا} محذوف على تقدير: اركبوا الماء في السفينة فيكون قوله: {فِيهَا} حالًا من الضمير في: {ارْكَبُوا} ويجوز أن يقال: المعنى: اركبوها؛ أي: الفلك، وزاد: في للتأكيد كقوله: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وفائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها، فلو قال: (اركبوها) لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة. (¬2) "تفسير مقاتل" 75 ب. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 318، بمعناه.

67

أحدهما: أنها لام كي، وهي متعلقة بالإشراك، كأن المعنى: يشركون ليكفروا؛ أي: ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم، أي: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر، فليس يردُّ عليهم الشرك نفعًا إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة. ومن جعل هذه لام كي كسر لام قوله: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} ومن جزم اللام أراد الأمر (¬1)، وهو على معنى: التهديد والوعيد كقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] و {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ونحو ذلك من الأوامر التي معناها الوعيد (¬2). ويدل على جواز الأمر هاهنا قوله في الأخرى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (¬3). 67 - وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} ذكرنا تفسيره ونزوله في سورة: القصص (¬4). قال ابن عباس: يعني مكة يأمن أهلها، ومن يلجأُ إليهم (¬5). {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} يريد: العرب يسبي بعضهم بعضًا، وأهلُ مكة آمنون (¬6). قال مقاتل: أدفع عنهم، وهم يأكلون رزقي، ويعبدون ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} بجزم اللام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} بكسر اللام. "السبعة في القراءات" 502، و "الحجة للقراء السبعة" 5/ 440. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 319، وابن جرير 21/ 13، بمعناه. قال الزجاج 4/ 174: قرئ بكسر اللام وتسكينها، والكسر أجود على معنى: لكي يكفروا وكي يتمتعوا. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 441، من قوله: في هذه اللام وجهان (¬4) أشار إلى هذه الإحالة: مقاتل 75 ب. سورة القصص الآية 57. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3082، عن الضحاك. (¬6) أخرجه ابن جرير 21/ 14، عن قتادة، بنحوه.

68

غيري (1). {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} يعني: الشيطان (2). وقال الكلبي: يعني الآلهة (3) {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ} قال مقاتل: {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ} {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 4] {يَكْفُرُونَ} (4) وقال الكلبي: بمحمد والإِسلام (5). 68 - ثم ذكر أنهم أظلمُ الخلق فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم ممن زعم أن لله شريكًا، وأنه أمر بالفواحش (6). {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} بمحمد والقرآن (7) {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} أمَا لهذا المكذب مأوى في جهنم (8) وهو استفهام معناه: التقرير (9). 69 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال ابن زيد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} هؤلاء المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لنعصمنهم ولنرشدنهم إلى ديننا (10). والأولى أن يكون معنى الهداية

_ (1) "تفسير مقاتل" 75 ب. (2) "تفسير مقاتل" 75 ب. (3) "تنوير المقباس" 338. (4) "تفسير مقاتل" 75 ب. (5) "تنوير المقباس" 338، بنحوه. (6) "تفسير الثعلبي" 8/ 163 أ. (7) "تفسير الثعلبي" 8/ 163 أ. و"تنوير المقباس" 338. (8) "تفسير مقاتل" 75 ب. (9) تفسير ابن جرير 21/ 14. (10) أخرجه ابن جرير 21/ 15، عن ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فقلت له: قاتلوا فينا قال: نعم. وأخرجه كذلك ابن أبي حاتم 9/ 3084.

هاهنا: الزيادة منها والتثبيت عليها. قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أنه يزيد المجاهدين هداية، كما أنه يزيد الكافرين بكفرهم ضلالة، كذلك يزيد المجاهدين هداية كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] (¬1). وقال أبو سَوْرَة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة (¬2). قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال مقاتل: في العون لهم (¬3). وقال الزجاج: تأويله: إن الله ناصرهم (¬4). وقال ابن عباس: يريد بالمحسنين الموحدين. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 174. ومن أدلة ذلك قول الله -عز وجل- {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]. (¬2) "تفسير الثعلبي" 8/ 163 ب. - أبو سَوْرَة الأنصاري، ابن أخي أبي أيوب. قال الذهبي: أبو سورة، عن ابن عمر، وعنه مطعم بن المقدام، مجهول. "المغني في الضعفاء" 2/ 473، وقال ابن حجر: ضعيف. "تقريب التهذيب" 1158. (¬3) لم أجده عند مقاتل في تفسيره. وقال الثعلبي 8/ 163 ب: بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 174.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الروم تحقيق د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين من أول سورة لقمان إلى آخر سورة يس تحقيق د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الثامن عشر

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الروم تحقيق د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين من أول سورة لقمان إلى آخر سورة يس تحقيق د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الثامن عشر

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين، محمد بن عبد الله بن سابح الطيار الرياض 1430 هـ 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمكـ: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 8 - 875 - 04 - 9960 - 978 (ج 18) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي علي بن أحمد أ - العنوان ... ب - السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمكـ: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 8 - 875 - 04 - 9960 - 978 (ج 18)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [18]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) سورة الروم تحقيق د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين

تفسير سورة الروم

تفسير سورة الروم (1) 1 - {الم} ذكرنا تفسيره في سورة العنكبوت. 2، 3 - قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قال المفسرون: إن أهل فارس غلبوا أهل الروم {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: إن فارس ليست لهم كتب ونحن مثلهم، وقد غلبوا أهلَ الروم وهم أهل كتاب مثلكم، فنحن أيضًا نغلبكم كما غلبت فارس الروم (2). وقال السدي: اقتتلت فارس والروم فغلبتهم فارس، ففخر أبو سفيان ابن حرب على المسلمين، وقال: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم الكتاب. فذلك قوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ} (3) وهم جيل من ولد الروم بن عيص بن إسحاق (4)، غلب اسم أبيهم عليهم، فصار كالاسم للقبيلة. وإن شئت قلت:

_ (1) مكية كلها. "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 340. "تفسير الثعلبي" 8/ 163 ب. وحكى الإجماع على ذلك ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 286. وعدد آياتها: ستون آية. "تفسير الثعلبي" 8/ 164 أ. (2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 101، عن مجاهد، وقتادة، والشعبي. وأخرجه ابن جرير 21/ 17، عن ابن عباس، وعكرمة، وعطاء، والشعبي. وأخرجه مقاتل عن عكرمة، "تفسير مقاتل" 75 ب. وذكره الثعلبي 8/ 164 أ، وصدره بقوله: قال المفسرون. ولم يسمهم. (3) أخرجه ابن جرير 21/ 16، عن ابن عباس، من طرق، وعن عكرمة، وقتادة. ولم أجد فيه رواية السدي. ولم أجده في تفسير السدي، جمع محمد عطا يوسف. (4) قال ابن دريد: الروم: جيل معروف. "جمهرة اللغة" 2/ 803. وفي "اللسان" 12/ 258 (روم): جيل معروف، واحدهم: رُومي، ينتمون إلى: عِيصو بن إسحاق النبي -عليه السلام-.

جمع رومي منسوب إلى روم بن عيص، كما يقال: زِنجي وزنج، ونحو ذلك. قال صاحب النظم: لا يحتمل قوله: {الم} هاهنا إلا أن يكون في معنى القسم، ويكون خبره في قوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ} على معنى: لقد غلبت، فلما أضمرت: قد، أضمرت معها: اللام، وقد مما يضمر، كقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] وقول النابغة: أَضْحَتْ خَلاءً وأضحى أهلُها احتمَلُوا (¬1) يعني: قد احتملوا. ولما أضمر: قد، في الآية وهو موضع اللام أيضًا كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] فيقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ} أضمر الفاء معه؛ لأنه موضعه، وذلك أن جواب (أما) لا يكون إلا بالفاء، كما قال -عز وجل-: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ} [آل عمران: 107]. وقوله: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد الجزيرة (¬2). قال ابن أبي نجيح: هي الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى ¬

_ (¬1) "ديوان النابغة" الذبياني ص 31، وعجزه: أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ وفي الحاشية: أخنى عليها: غيرها وأفسدها, لبد: زعموا أنه نسر كان للقمان بن عاد عمر طويلًا. قال البغدادي: هذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر، واعتذر إليه مما بلغه عنه. "خزانة الأدب" 4/ 5. (¬2) لعل المراد بها: جزيرة أَقُور فإنها تسمى: الجزيرة؛ لأنها بين دجلة والفرات، مجاورة الشام. وقد أطال الحديث عنها ياقوت في "معجمه" 2/ 156. شمال غرب العراق، في المنطقة الفاصلة بين العراق وسوريا.

فارس (¬1). وعن ابن عباس أيضًا: طَرف الشام (¬2). وقال مقاتل: هي الأردن وفلسطين. وعكرمة: أذرعات وكَسْكَر (¬3). وقوله: {وَهُمْ} يعني: الروم {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} قال الفراء: كلام العرب: غَلَبتُه غَلَبَةً، فإذا أضافوا أسقطوا الهاء، كما أسقطوها من قوله: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] والكلام: إقامة الصلاة (¬4). وأنكر الزجاج ذلك؛ وقال: هذا خطأ، والغَلَب والغَلَبة مصدر: غَلَبْتُ، مثل: الجَلَبُ والجَلَبَة (¬5). وقال المبرد: أضاف الغلبة إلى الروم وهم مفعولون؛ لأن الفعل يضاف إلى مفعوله كما يضاف إلى فاعله؛ لأنه صاحبه، تقول: أعجبني ¬

_ (¬1) ذكره عنه الثعلبي 8/ 165 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 21، عن ابن عباس، وأخرج نحوه 21/ 16، عن ابن عمر. وذكره عن ابن عمر الفراء، "معاني القرآن" 2/ 319. قال الزجاج 4/ 175: وتأويله: أدنى الأرض من أرض العرب. (¬3) في "تفسير مقاتل" 75 ب: أذرعات، عن عكرمة. وفي: 77 أ: الأردن وفلسطين. وليس فيه ذكر: كسكر. لكن ذكره عن عكرمة الثعلبي 8/ 165 أ. وأخرج ابن جرير 21/ 18، عن عطاء وعكرمة، أنها: أذرعات. وأَذْرعات: بلد في أطراف الشام، يجاور أرض البلقاء وعَمَّان. "معجم البلدان" 1/ 158. و: كَسْكَر: تعريف ياقوت لها يدل على أنها مدينة بين: البصرة والكوفة. "معجم البلدان" 4/ 523، وهي جنوب شرق بغداد على نهر دجلة بالقرب من الحدود الإيرانية وفي "تهذيب اللغة" 2/ 315: أذرعات: بلد تنسب إليها الخمر. وفي "اللسان" 8/ 97: موضع بالشام تنسب إليه الخمر. (ذرع). وهي تبعد إلى الشرق من مدينة عكا بحوالي 120 كم. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 319. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 177 الجَلَب: ما جلب القوم من غنم أو سبي، والجلب الجلبة في جماعة الناس، والفعل: أجلبوا وجَلَّبوا من الصياح. "تهذيب اللغة" 11/ 90 (جلب).

3، 4

خياطة الخياط، وبناء الباني، ونجر النجار، ويضاف إلى المفعول, لأنه فيه حَلَّ، يقولون: ما أحسن بناءَ هذه الدار، وخياطةَ هذا الثوب، ونجرَ هذا الباب، ومثل هذا في القرآن كثير؛ كقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] أي: حب المال {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]: أي حب الطعام، ومثله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24] وهذا مما ذكرنا قديمًا (¬1). 3، 4 - قوله تعالى: {سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} ذكرنا تفسير البضع عند قوله: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] (¬2). أخبر الله تعالى: أن الروم بعد ما غُلبوا سيغلبون، ويصيرون غالبين لفارس؛ روى عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ناحب أبو بكر قريشًا ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إني ناحبتهم، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فهلا احتطت فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع" (¬3). ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء والزجاج: والمعنى: بسؤاله نعجتك فأضيف المصدر إلى المفعول لما ألقيت الهاء من السؤال، ومثله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] أي: من دعائه بالخير، فلما ألقى الهاء أضيف الفعل إلى الخبر وألقي من الخبر الباء، كقول الشاعر: ولست مُسلِمًا ما دمت حيًا ... على زيد بتسليم الأمير أي: بتسليمي على الأمير. (¬2) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية الخلاف في البضع، والأقوال التي ذكرها: 1 - البضع ما لم يبلغ العقد ولا نصفه؛ أي: من واحد إلى أربعة. قاله أبو عبيدة. 2 - قال الأصمعي: ما بين الثلاث إلى التسع، وصححه الزجاج. 3 - البضع ما بين العقدين، وهو قول الأخفش. ثم قال الواحدي: وعامة المفسرين على أن المراد بالبضع هاهنا: سبع. (¬3) أخرجه ابن جرير 21/ 17، من طريق ابن شهاب الزهري عن عبيد الله، عن عبد الله بن عباس. ومن الطريق نفسه أخرجه الترمذي 5/ 320، كتاب التفسير، =

والمناحبة: المراهنة، وذلك قبل تحريمه (¬1). وقال في رواية عطاء: لما نزلت هذه الآية جرى بين أبي بكر رضي الله عنه وبين أمية بن خلف في ذلك كلام حين وقع بينهما رهان على ثلاث قلائص (¬2) إلى أجل ثلاث سنين، فأتى أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ارجع فاستزده في القلائص، وفي السنين"؛ فصيروا الرهبان سبع قلائص إلى سبع سنين (¬3). وقال الشعبي: بلغنا أن المسلمين والمشركين تخاطروا (¬4) بينهم لما نزلت هذه، وذلك قبل تحريم القمار، وضربوا بينهم أجلاً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو ضربتم أجلاً آخر فإن البضع يكون ما بين الثلاث إلى تسع" فزايده إلى ¬

_ = رقم (3191). وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس". وهو حديث مرسل؛ فعبيد الله بن عبد الله قد أرسل عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس. "تهذيب التهذيب" 7/ 22. والحديث في "ضعيف سنن الترمذي" 402، رقم (624). وقد ورد في النسختين هكذا: عبد الله بن عبد الله، والصواب: عبيد الله بن عبد الله، كما هي رواية الترمذي، وابن جرير. (¬1) "تفسير الثعلبي" 8/ 164 ب والنَّحب، تطلق على معانٍ، منها: النذر، والقمار، وغيره. "تهذيب اللغة" 5/ 117 (نحب). (¬2) القَلُوص: الفتية من النوق، بمنزلة الفتاة من النساء. وتطلق أيضًا على: كل أنثى من الإبل من حين تركب، وإن كانت بنت لبون أو حِقة. "تهذيب اللغة" 8/ 368 (قلص). (¬3) أخرج نحوه ابن جرير 21/ 16، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير. وأخرجه أيضًا عن عكرمة، وقتادة، مع اختلاف في عدد السنين، وعدد القلائص، وكذا في "تفسير الثعلبي" 8/ 164 ب، ولم ينسبه. (¬4) الخَطَر، والسَّبَق، والنَّدَب، واحد، وهو كله: الذي يوضع في النَّضال، والبرهان، فمن سبق أخذه. "تهذيب اللغة" 7/ 224 (خطر).

سبع سنين على سبعة أبكار، قال: فالتقى الروم وفارس، فغلبهم الروم، فجاء جبريل بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر (¬1). وقال: سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما غلبت فارس الروم وفرح المشركون بذلك، ذكروا ذلك لأبي بكر؟ فذكره أبو بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنهم سيغلبون فارس" فذكر أبو بكر لهم: إن الروم سيغلبون ثم عقدوا عقد الرهان على ما ذكرنا (¬2). قال أبو إسحاق: وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله -عز وجل-؛ لأنه أنبأ بما سيكون وهذا لا يعلمه إلا الله (¬3). وقال جماعة من المفسرين: صاحب القمار من جهة المشركين كان أبيِّ بن خلف، وكان الخَطَر بينهم: مائة من الإبل (¬4). وقوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} أجمع المفسرون: أن الروم غلبت فارس بعد ما أخبر الله بهذه الآية أنهم سيغلبون في السنة السابعة (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عنه ابن جرير 21/ 19، مختصرًا. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 16، من طريق سعيد بن جبير. وأخرجه الحاكم 2/ 445، كتاب التفسير، رقم (3540)، من طريق سعيد أيضًا، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه من طريق سعيد أيضًا الترمذي 5/ 320، كتاب: التفسير، رقم (3193)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وهو في "صحيح سنن الترمذي" 3/ 87، رقم (2551). (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 175. (¬4) أخرجه ابن جرير 21/ 19، عن عكرمة، وقتادة "تفسير الثعلبي" 8/ 164 ب، ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 77 أ. وليس فيه ذكر السنة، بل ذكر فيه أن ذلك وقع في سنة الحديبية، وقد وقع صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة. "السيرة النبوية" لابن هشام 3/ 321، والفصول في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، 184. وذكر سبع =

قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} حين غلبت الروم فارس. وهذا قول الجميع؛ قالوا: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ} أن تغلب {وَمِنْ بَعْدُ} ما غلبت (¬1). والمعنى: أن غلبة أحدهما الآخر، أيهما كان الغالب والمغلوب فإن ذلك بأمر الله وإرادته وقضائه وقدره، فحين غلبت فارس الروم كان الأمر لله، وحين تغلب الروم فارس يكون الأمر لله. وذكرنا الكلام في وجه ارتفاع {قَبْلُ} و {بَعْدُ} في أوائل سورة البقرة (¬2). وذكر الفراء والزجاج هاهنا كلامًا طويلاً -صلى الله عليه وسلم- في إعراب {قَبْلُ} ¬

_ = سنين نيار بن مُكرَّم، أخرجه عنه الترمذي 5/ 321، بسند حسن، قاله الألباني، صحيح سنن الترمذي 3/ 88. وذكره السيوطي عن ابن شهاب، وقتادة، "الدر المنثور" 6/ 481، وأخرج ابن جرير 21/ 20، عن ابن مسعود، أنها تسع. فحكاية الإجماع هنا غريبة؛ إذ قد اختلفت أقوال المفسرين في زمن وقوع ظهور الروم على فارس؛ فقيل: يوم بدر، وقيل في صلح الحديبية، وقيل بعد سبع سنين من الأجل، وقيل بعد تسع سنين، والثعلبي لما ذكر القول بأن المدة: سبع سنين، قال بعده: هكذا قول أكثر المفسرين. "تفسير الثعلبي" 8/ 164 ب. فحكاية الإجماع هنا غير مستقيمة. والله أعلم. (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 21، بنحوه عن ابن جريج. و"تفسير مقاتل" 77 أ. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 176. (¬2) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] {قَبْلُ} يبنى على الضم في هذا الموضع؛ لأنها تضمنت معنيين؛ أحدهما معناها في ذاتها وهو السبق، والآخر معنى ما بعدها؛ لأن التأويل: هذا الذي رزقنا من قبله، فهو وإن لم يضف ففيه معنى الإضافة، فلما أدت عن معنيين قويت فحملت أثقل الحركات وكذلك قوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} تأويله من قبل كل شيء وبعده، وهذا مذهب الفراء والمبرد، واختيار ابن الأنباري. وقد ذكر إعرابهما سيبويه، "الكتاب" 3/ 286، والمبرد، "المقتضب" 3/ 174، 175، والأخفش، "معاني القرآن" 2/ 658.

4، 5

و {بَعْدُ} ووجوه استعمالهما مركبة (1). 4، 5 - قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد: حينئذ؛ حين تغلب الروم فارس {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}: أبو بكر وأصحابه {بِنَصْرِ اللَّهِ} الروم على فارس (2). وقال مقاتل: لما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة، وأتى الخبرُ المسلمين أن الروم قد غلبوا أهل فارس ففرح المؤمنون بذلك. قوله: {وَيَوْمَئِذٍ} يعني: يوم بدر (3) {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} ونحو هذا قال السدي: فرح النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم: بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. قال أبو سعيد الخدري: ظهر الروم على فارس يوم أحد (4). وقال آخرون: ظهر الروم على فارس يوم الحديبية؛ وهو قول عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود (5).

_ (1) "معاني القرآن" للفراء 2/ 319 - 322. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 176، 177. (2) أخرجه ابن جرير 21/ 17. (3) "تفسير مقاتل" 77 أ. ولا يفهم من نقل الواحدي عن مقاتل أن غلبة الروم على فارس كانت مقاربة لغزوة بدر، كلا، بل قال مقاتل: وأتى المسلمين الخبرُ بعد ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمؤمنون بالحديبية أن الروم قد غلبوا أهل فارس. (4) أخرجه ابن جرير 21/ 21، وفيه يوم بدر؛ وهكذا ذكره السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 481، وعزاه لابن أبي حاتم، وأخرجه كذلك الترمذي 5/ 320، كتاب تفسير القرآن، رقم (3192). فكتابة: أحد؛ بدل: بدر، في "البسيط" تحريف. والله أعلم. (5) أخرجه ابن جرير 21/ 19، عن عطاء، وقتادة قال ابن كثير 6/ 303: وقد كانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كبيرة من العلماء؛ كابن عباس، والثوري، والسدي، وغيرهم .. وقال آخرون: بل كان نصرة الروم على فارس عام الحديبية؛ قاله عكرمة، والزهري، وقتادة وغيرهم .. ووجه بعضهم هذا =

6

وقوله: {بِنَصْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد: الرومَ على فارس. وقال مجاهد: بإدالة الروم من أهل الكتاب على فارس أهل الأوثان (¬1). قوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} أي: كما نصر الرومَ على فارس. {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: المنيع في ملكه {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين خاصة (¬2). {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. 6 - قوله: {وَعْدَ اللَّهِ} قال أبو إسحاق: مصدر مؤكد؛ لأن قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} هو وعد من الله للمؤمنين، فقوله: {وَعْدَ اللَّهِ} بمنزلة: وعد الله وعدًا (¬3). قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قال مقاتل: يعني كفار مكة (¬4) {لَا يَعْلَمُونَ} أن الله لا يخلف وعده في إظهار الروم على فارس. ثم قال لكفار مكة: 7 - {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال عكرمة وإبراهيم: معايشهم وما يصلحهم (¬5). ¬

_ = القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيلياء -وهو بيت المقدس- شكرًا لله -عز وجل- .. ولم يف بنذره إلا بعد الحديبية، ثم قال: والأمر في هذا سهل قريب. (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 17، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. (¬2) "تفسير مقاتل" 77 أ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 177. وذكره سيبويه، "الكتاب" 1/ 381. وذكره أيضًا المبرد؛ فقال: ومثل ذلك: {وَعْدَ اللَّهِ} لأنه لما قال: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} عُلم أن ذلك وعد منه، فصار بمنزلة: وعدهم وعدًا، ثم أضافه. "المقتضب" 3/ 232. ونحوه في "المسائل الحلبيات" 303. (¬4) "تفسير مقاتل" 77 أ. (¬5) أخرجه عنهما ابن جرير 21/ 23.

وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم (¬1). وروي عنه في هذه الآية قال: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بيده فيخبرك بوزنه، ولا يحسن يصلي (¬2). وقال قتادة: يعلمون تجارتها وحرفتها وبيعها (¬3). قال ابن عباس: يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال (¬4). وقال الضحاك: يعلمون بنيان قصورها، وتشقيق أنهارها، وغرس أشجارها (¬5). وقال مقاتل: يعني حرفتهم، ومتى يُدرك زرعهم، وما يصلحهم في معايشهم (¬6). وقال أبو إسحاق: المعنى: يعلمون من معايش الحياة؛ لأنهم كانوا يعالجون التجارات (¬7)، فأعلم الله -عز وجل- مقدار ما يعلمون، وقوله (¬8): {وَهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 23. (¬2) "الدر المنثور" 6/ 484، ونسبه لابن المنذر وابن أبي حاتم 9/ 3088. ولفظه في الدر: يقلب الدرهم على ظفره. وذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" 6/ 289، ولفظه: ينقر الدرهم بظفره. وفي النسختين: ينقر الدرهم بيده. ولعل الصواب -والله أعلم-: يقلب الدرهم بيده؛ لأن تقليب الدرهم باليد يستفيد منه الحاذق معرفة الوزن دون النقرة الذي يمكن أن يستفاد منه معرفة النوع الرديء من الجيد. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 2/ 102، وابن جرير 21/ 23، عن قتادة. (¬4) أخرجه ابن جرير 21/ 32، من طريق علي بن أبي طلحة. (¬5) "الدر المنثور" 6/ 485، ونسبه لابن أبي حاتم 9/ 3088. (¬6) "تفسير مقاتل" 77 أ. (¬7) ذكر نحوه الفراء، "معاني القرآن" 2/ 322. (¬8) هكذا: وقوله، في النسختين. ولعل الصواب: بقوله، كما يدل عليه السياق، والله أعلم. وأما عند الزجاج فقد جاءت بزيادة أوضحت المعنى؛ قال ... فأعلم الله -عز وجل- =

8

عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬1). قال مقاتل: ثم وعظهم ليعتبروا فقال: 8 - {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} (¬2) أي: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} المكذبون بالبعث والقيامة في خلقي إياهم فيعلموا {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} الآية (¬3). قال أبو إسحاق: وحذف فيعلموا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه (¬4). وقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} قال الفراء: {إِلَّا بِالْحَقِّ} يعني: للثواب والعقاب (¬5). وقال الزجاج: إلا للحق أي: لإقامة الحق (¬6). وهو معنى قول مقاتل: لم يخلقهما عبثًا لغير شيء؛ خلقهما لأمر هو كائن (¬7). قوله تعالى: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} قال: للسموات والأرض أجل ينتهيان إليه؛ وهو يوم القيامة (¬8). قال الزجاج: وهو الوقت الذي توفَّى فيه كل نفس ما كسبت (¬9). والمعنى: أولم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئًا فيعلموا أنَّ خلق السموات لأمرٍ، وأن لهما أجلاً، وهو: القيامة. ¬

_ = لما نفى أنهم لا يعلمون ما الذي يجهلون، ومقدار ما يعلمون فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} "معاني القرآن" 4/ 178. (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 178. (¬2) "تفسير مقاتل" 77 أ. (¬3) تفسير ابن جرير 21/ 24، باختصار. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 178. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 322. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 178. (¬7) "تفسير مقاتل" 77 أ. (¬8) "تفسير مقاتل" 77 أ، بنصه. (¬9) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 178، وفيه. توفي فيه. وسقطت كلمة: فيه، من النسختين.

9

ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} قال مقاتل والكلبي: يعني كفار مكة (¬1) {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} قال ابن عباس والمفسرون: بالبعث بعد الموت {لَكَافِرُونَ} لا يؤمنون أنه كائن (¬2). قال أبو إسحاق: معناه: لكافرون بلقاء ربهم، تقدمت الباء؛ لأنها متصلة بكافرون، وما اتصل بخبر إنَّ جاز أن يُقدم قَبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر، كقولك: زيد كافر لباللَّه؛ لأنها تدخل على الابتداء والخبر فتؤكد الجملة، ولا تأتي توكيدًا وقد مضت الجملة (¬3). 9 - قال مقاتل: ثم خوفهم فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: الأمم الخالية كان عاقبتهم العذاب في الدنيا (¬4). والمعنى: أو لم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصفهم فقال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي: أعطاهم من القوة ما لم يعطِ هؤلاء {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} ذكرنا تفسير: الآثار، عند قوله: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} [البقرة: 71] (¬5) قال الفراء: حرثوها (¬6). وهو قول مجاهد (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 77 أ، و"تنوير المقباس" ص 339. (¬2) "تفسير مقاتل" 77 أ، بنصه. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 179. (¬4) "تفسير مقاتل" 77 أ. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} أي: تقلبها للزراعة. ومعنى الإثارة: تفريق الشيء في كل جهة، يقال: أثرت الشيء واستثرته إذا هيجته ... (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 322. وقال أبو عبيدة: أي: استخرجوها، ومنه قولهم: أثار ما عندي: أي: استخرجه، وأثار القوم: أيَ: استخرجهم. "مجاز القرآن" 2/ 119. (¬7) أخرجه ابن جرير 21/ 25.

وقال ابن قتيبة: قلبوها للزراعة (¬1). وقال ابن عباس: يريد الأجنة (¬2) والأنهار وما غرسوا من الأشجار (¬3). يريد أن أثارهم كان لأجل هذه الأشياء. وقال مقاتل: يعني: وملكوا الأرض (¬4)؛ وهذا معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه يثير الأرض مالكها. وقوله: {وَعَمَرُوهَا} يعني: الأمم {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} يعني: كفار مكة (¬5). واختلفوا لِمَ كانت الأمم أكثر عمارة من أهل مكة؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا أكثر عمارة لأنهم كانوا أطول عمرًا؛ وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل؛ قال الكلبي: وبقوا فيها أكثر مما بقي فيها قومك (¬6). وقال مقاتل: يقول: وعاشوا في الأرض أكثر مما عاش فيها كفار مكة (¬7). وإذا كانوا أطولَ بقاءً، وأكثرَ عيشًا كانوا أكثر عمارة. وقال آخرون: لأنهم كانوا أكثر عددًا؛ فقد روي أنه لم يبق نَشَزٌ (¬8) من الأرض يحتمل عمارة إلا كان لها عامر على عهد عاد، والأمم السالفة. وذكر أبو إسحاق معنًى آخر؛ فقال: يعني: أن الذين أهلكوا من الأمم كانوا أكثر حرثًا ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" ص 340. (¬2) هكذا في (أ)، (ب): (الأجنة)، وهي جمع جنة. قال الأزهري: الجنة: الحديقة، جمع جنانه "تهذيب اللغة" 10/ 503 (جنن). (¬3) أخرجه ابن جرير 21/ 24، بلفظ: ملكوا الأرض وعمروها. (¬4) لم أجده في تفسير مقاتل، ولم أجده كذلك عند الثعلبي. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 322. (¬6) "تنوير المقباس" ص 339. (¬7) "تفسير مقاتل" 77 ب. (¬8) النَّشَزُ، والنَّشْزُ، والوَشَز: ما ارتفع من الأرض. "تهذيب اللغة" 11/ 305 (نشز).

وعمارة من أهل مكة؛ لأن أهلَ مكة لم يكونوا أصحاب حرث (¬1). قوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} قال ابن عباس: يريد: الحلال والحرام، والأحكام والحدود. وقال مقاتل: فيعذبهم على غير ذنب (¬2) {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والتكذيب. ودلَّ هذا الكلام على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا؛ لأن الله أعلم أنه عذبهم غيرَ ظالم لهم. قال صاحب النظم: يأتي [الظلم] (¬3) في الكلام لثلاثة معانٍ؛ أحدها: وضع الشيء في غير موضعه، كقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وذلك أنه وضع الربوبية غير موضعها. والثاني: المنع والحبس، كقوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] والثالث: أخذ الشيء قبل وقت أخذه، كقول الشاعر: وقائلة ظلمتُ لكم سقائي ... وهل يخفى على العَكِد الظليم (¬4) والظليم هاهنا: اللبن يُشرب قبل أن يُدْرِك وَيروب؛ والمعاني الثلاثة ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 179. (¬2) "تفسير مقاتل" 77 ب، في تفسير قول الله تعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} فلعل ذكر الآية سقط من النسختين. والله أعلم. (¬3) كلمة (الظلم) غير موجودة في النسختين، وزدتها لاستقامة الكلام. (¬4) "تهذيب اللغة" 14/ 383 (ظلم)، ولم ينسبه. وكذا في "مقاييس اللغة" 3/ 469. وكذا في "لسان العرب" 12/ 375. سبق أن استشهد الواحدي بهذا البيت في تفسير سورة البقرة. والبيت غير منسوب في "جمهرة الأمثال" 1/ 131، واستشهد بهذا البيت في ذكر المثل: أهون مظلوم سِقاء مروَّب. وكذا في "مجمع الأمثال" 2/ 482، و"المستقصى" للزمخشري 1/ 444. والعَكِد: أجل اللسان. "تهذيب اللغة" 1/ 300 (عكد). معنى البيت: أن اللسان يدرك بالشرب أن اللبن قد ظُلِم بأخذه قبل وقته.

10

محتملة في هذه الآية؛ فيكون معنى قوله: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بوضع عذابهم في غير موضعه؛ بأخذهم قبل وقته، وبحبس شيء من أرزاقهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بوضعها في غير موضعها من التغرير بها، وتعريضها للهلاك بالكفر، وترك النظر لها. ويظلمون أنفسهم أيضًا بمنعها الخير من الإيمان. 10 - ثم أخبر عن عاقبتهم فقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} قال ابن عباس ومقاتل: يعني أشركوا (¬1). وقوله: {السُّوأَى} أكثر التفسير في {السُّوأَى} أنها: النار، ضد الحُسنى؛ وهي: الجنة (¬2). وهو قول الأخفش والفراء والزجاج وابن قتيبة (¬3)، قال الزجاج وغيره: إساءتهم هاهنا: كفرهم، وجزاء الكفر: النار (¬4). كما جُعل للعمل الحسنى؛ وهو: الإيمان: الثواب الحسن؛ وهو: الجنة، في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]. قال ابن قتيبة: {السُّوأَى} جهنم، والحسنى: الجنة (¬5). وقال غيره: سميت جهنم {السُّوأَى} لأنها تسوء صاحبها، من قولهم: ساءه يسوؤه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 25، من طريق علي بن أبي طلحة. و"تفسير مقاتل" 77 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 25، عن ابن عباس، وقتادة. "تفسير الثعلبي" 8/ 165 ب، ولم ينسبه. والحسنى وردت في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وقد ذكر الآية الواحدي بعد ذلك. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 322. و"غريب القرآن" لابن قتيبة 340. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 179. قال الأخفش: {السُّوأَى} مصدر هاهنا مثل: التقوى. "معاني القرآن" 2/ 656، ولم أجد فيه ما ذكر الواحدي. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 179. (¬5) "غريب القرآن" ص 340.

وقيل: لأنها قبيحة المنظر، يقال ساء الشيء إذا قَبُح، يسوء، والسَّوء: المرأة القبيحة، ومنه: السيئ والسيئة، وقد ذُكرتا (¬1)، وقيل في تفسير {السُّوأَى} هاهنا أنها: العذاب في الدنيا. وهو قول مقاتل (¬2). وفي قوله: {عَاقِبَةَ الَّذِينَ} قراءتان؛ الرفع والنصب (¬3)، فمن نصب جعلها خبر كان، ونصبَها متقدمةً، كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] واسم كان على هذه القراءة يجوز أن يكون أحد شيئين؛ أحدهما: {السُّوأَى} على تقدير: ثم كان عاقبة الذين أساؤا (¬4)، ويكون أن في قوله: {أَنْ كَذَّبُوا} مفعولًا له؛ أي: لأن كذبوا (¬5). وهذا معنى قول الفراء والزجاج؛ قال الفراء: {أَنْ كَذَّبُوا} لتكذيبهم، ولِأن كذبوا، فإذا ألقيتَ اللام كان نصبًا (¬6). وقال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الكافرين النارَ لتكذيبهم بآيات ¬

_ (¬1) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]: يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيء، والأنثى سيئة؛ أي: قبُح، ومنه قوله: {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] وسوَّأت على الرجل فعله؛ أي: قبحته عليه وعبته به، والسُّوأى ضد: الحسنى، والسَّوءاء: المرأة القبيحة. (¬2) "تفسير مقاتل" 77 ب. (¬3) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: {عَاقِبَةَ} بالرفع، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {عَاقِبَةَ} بالنصب. "السبعة في القراءات" ص 506، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 442، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 193، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 344. (¬4) اسم كان هنا غير واضح؛ لأن في العبارة نقصًا، وصوابها كما عند أبي علي في "الحجة للقراء السبعة" 5/ 442: التقدير: ثم كان السوأى عاقبةَ الذين أساؤوا. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 443. (¬6) "معاني القرآن" للفر اء 2/ 322.

الله واستهزائهم (¬1). الوجه الثاني في اسم كان على هذه القراءة هو: {أَنْ كَذَّبُوا} التقدير: ثم كان التكذيبُ {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} ويكون: {السُّوأَى} على هذا مصدرًا، وفُعْلَى من أبنية المصادر، كالرُّجعى، والشُّورى، والبُّشرى (¬2)، ومعنى الآية: ثم كان التكذيب آخرَ أمرهم أي: ماتوا على ذلك، كأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب والشرك عقابًا لهم بذنوبهم. وهذا الوجه ذكره أبو علي، وصاحب النظم. ومن رفع العاقبة جاز أن يكون الخبر: {السُّوأَى} و {أَنْ كَذَّبُوا} كما جاز فيمن نصب العاقبة أن يكون كلُّ واحد منهما: الاسم، والتقدير: ثم كان عاقبةُ المسيء التكذيبَ بآيات الله، يعني أنه مات على التكذيب كما ذكرنا، أو يكون المعنى: أنه لم يظفر في شركه وكفره بشيء إلا بالتكذيب بآيات الله، و {السُّوأَى} على هذا في موضع نصب بأنه مصدر. وقد يجوز أن يكون: صفة لموصوف محذوف، كأنه الخَّلَة {السُّوأَى} أو الخِلال {السُّوأَى} (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 179. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 443. والرُّجعى وردت في قوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] والبشرى في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..} [يونس: 64] و {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ..} [هود: 74] و {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17]، وأما الشورى فلم ترد في القرآن معرفة بالألف واللام، وإنما جاءت منكرة، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ..} [الشورى: 38] والله أعلم. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 444، بنصه. وقد ضبطت: الخلة، بضم الخاء، والخلال بكسرها, ولم يبين في الحاشية المعنى، ولعل الصواب -والله أعلم- =

11

11 - قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال مقاتل: الله بدأ خلق الناس فخلقهم أولاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياءً كما كانوا {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم في الآخرة (¬1). وقرئ (تُرْجَعُونَ) بالياء والتاء (¬2)؛ فمن قرأ بالياء فلأن المتقدم ذكرُه غيبة؛ وهو قوله: (يَبْدَؤُا الخَلْقَ) والخلق هم: المخلوقون في المعنى، وجاء قوله: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) على لفظ الخلق، وقوله: (تُرْجَعُونَ) على المعنى، ولم يرجع على لفظ الواحد كما كان {يُعِيدُهُ} كذلك. ووجه التاء أنه صار من الغيبة إلى الخطاب، ونظيره: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] (¬3). 12 - قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قال مقاتل: ييأس. وهو قول الكلبي وقتادة (¬4). ¬

_ = أن المراد: الخَلَّة، بفتح الخاء، جمع: خِلال، بكسرها، والمراد بها: الخَصلة. "تهذيب اللغة" 6/ 569 (خلّ)، فيكون المعنى: الخصلة السوأى، أو الخصال السوأى. والله أعلم. (¬1) "تفسير مقاتل" 77 ب. (¬2) قرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر {يُرْجَعُونَ} بالياء، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: {تُرْجَعُونَ} بالتاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {تُرْجَعُونَ} بالتاء. "السبعة في القراءات" ص 506، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 444، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 194، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 344. (¬3) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 444، بنصه. (¬4) "تفسير مقاتل" 77 ب وذكره السيوطي عن ابن عباس، وعزاه لابن أبي حاتم. "الدر المنثور" 6/ 485. وهو قول الفراء، قال: ييأسون من كل خير. "معاني القرآن" 2/ 322. وكذا أبو عبيدة، في "المجاز" 2/ 120. وابن جرير 21/ 26.

13

وقال مجاهد: يكتئب، وعنه أيضًا: يفتضح (¬1). وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحجتهم (¬2). وقال أبو إسحاق: المُبْلِس: الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدي إليها، تقول: ناظرت فلانًا فأبلسَ؛ أي: انقطع وأمسك، ويئس من أن يحتج (¬3). وذُكر تفسير الإبلاس عند قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] (¬4). قال الكلبي: يأس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب (¬5). 13 - {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} أوثانهم التي عبدوها من دون الله ليشفعوا لهم (¬6) {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} قال الكلبي: تتبرأ منهم الآلهة، ويتبرءوا منها (¬7). 14 - {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} قال ابن عباس: يُفرق بين أولياء الله وبين ¬

_ (¬1) ذكرهما الثعلبي 8/ 166 أ. والسيوطي في "الدر المنثور" 6/ 485، وعزاهما لابن أبي حاتم 9/ 3088. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 322. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 179. (¬4) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: آيسون من كل خير، وهو قول مقاتل، وقال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته أو لا يكون عنده جواب: قد أبلس .. وقال الزجاج: المبلس: الشديد الحسرة اليائس الحزين. فالإبلاس في اللغة يكون بمعنى: اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى: انقطاع الحجة، ويكون بمعنى: الحيرة بما يرد على النفس من البلية، وهذه المعاني متقاربة. (¬5) "تنوير المقباس" ص 339. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 166 أ، بنصه. (¬7) "تنوير المقباس" ص 339، بنحوه.

15

أعدائه. وقال مقاتل: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار، فلا يجتمعون أبدًا (¬1). وقال الحسن: لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقُن يوم القيامة؛ هؤلاء في أعلى عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين (¬2). وكان قتادة يقول: فُرْقَةٌ والله لا اجتماع بعدها (¬3). وقال أبو علي: يصيرون فرقة بعد فرقة من قوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] وهذا إخبار عن الخلق المذكور في قوله: {يَبْدَأُ الْخَلْقَ} لأنه أراد المسلمين والكافرين جميعًا؛ يدل على ذلك أنه أخبر بمنزلة الفريقين فقال: 15 - {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} (¬4) قال الأخفش: يقال حَبَّره الله يُحَبِّره حَبْرًا، وهو محبور: مُكَرَّمٌ مُنَعَّمٌ (¬5). قال ابن السكيت: يُسَرُّون (¬6). والحَبْرَة والحَبُور: السُّرور، وأنشد: الحمد لله الذي أعطى الحَبْرَ (¬7) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 77 ب. (¬2) "الدر المنثور" 6/ 486، ونسبه لابن أبي حاتم 9/ 3089. (¬3) أخرجه ابن جرير 21/ 27. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 180، حيث قال: وفيما بعده دليل على أن التفرق للمسلمين والكافرين، فقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} ثم بين على أي حال يتفرقون فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}. (¬5) لم أجد قول الأخفش في كتابه المعاني عند هذه الآية، ولا عند قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70]. ولم أجده في "تهذيب اللغة". (¬6) ذكره عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 34 (حبر). وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" 340، ولم ينسبه. (¬7) قول ابن السكيت مع إنشاد البيت ونسبته للعجاج في "إصلاح المنطق" 252. =

وقال الليث: يُنَعَّمُون، والحَبْرَة: النعمة، وقد حُبِرَ الرجلُ حَبْرَة فهو: مَحْبُور، وأنشد للمرار (¬1)، فقال: قَد لَبِسْتُ الدهر من أفنانه ... كلَّ فان ناعمٍ منه حَبِر (¬2) وقال المبرد: الحبرة والحبور والحبر: التنعم والفرح، ومنه المثل السائر: ما دار ملئت حَبْرة إلا وستملأُ عَبْرة (¬3). وقال أبو عبيدة: {يُحْبَرُونَ} يُسَرُّون ويُفرَحون (¬4). قال ابن عباس: يريد في رياض الجنة ينعمون (¬5). وهو قول مجاهد وقتادة (¬6). وقال مقاتل: يُكرمون بالتحف ونحوه (¬7). ¬

_ = ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 34 (حبر)، مقتصرًا على صدره، ولم ينسبه. وأنشده كاملًا أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 120، ونسبه للعجاج، وهو في ديوانه 34، وعجزه: موالي الحق إنِ المولى شكر (¬1) المَرَّار العدوي، زياد بن منقذ بن عمرو، وسماه ابن قتيبة: المرَّار بن منقذ من صدي ابن مالك بن حنظلة، وأم صدي من جَلّ بن عدي فيقال له ولولده: بنو العدوية. والمرار من شعراء الدولة الأموية، كان معاصرًا للفرزدق وجرير. ت: 100 هـ. "الشعر والشعراء" ص 469، و"خزانة الأدب" 5/ 253، و"الأعلام" 3/ 55. (¬2) كتاب "العين" 3/ 218 (حبر)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 34، وفيهما نسبة البيت للمرار العدوي. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 340، بلفظ: كل حَبرة تتبعها عَبرة. لم أجده في كتب الأمثال التي اطلعت عليها. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 120. (¬5) أخرجه ابن جرير 21/ 27، بلفظ: يكرمون. وذكره عنه الثعلبي 8/ 166 أ. (¬6) أخرجه عنهما ابن جرير 21/ 28، بلفظ: ينعمون. وذكره عنهما الثعلبي 8/ 166 أ. (¬7) "تفسير مقاتل" 77 ب، ولفظه: في البساتين يكرمون وينعمون فيها وهي: الجنة.

16

وقال السدي: يَفرحون ويُكرمون (¬1). وقال أبو إسحاق: الحَبْرة في اللغة: كلُّ نِعمَةٍ حَسَنةٍ، والتحبير: التحسين، والحَبْر العالم؛ لأنه متخلق بأحسن الأخلاق (¬2)، وُيحبرون: يُكرمون إكرامًا يبالغ فيه. وعن الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير أنهما قالا هو: السماع في الجنة (¬3). وعلى هذا المعنى: يُنَعَّمون بالسماع. 16 - {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال أبو إسحاق: أخبر أن حال المؤمنين: السماعُ في الجنة، والشغلُ بغاية النعمة. وأن حال الكافرين: العذاب الأليم، هم حاضروه أبدًا، غير مخفف عنهم. 17 - ثم ذكر ما تُدرك به الجنة فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} (¬4) قال الكلبي ومقاتل والفراء: فصلوا لله (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره عنه الماوردي، "النكت والعيون" 4/ 302. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 180، وفيه: والحِبر: المداد؛ إنما سمي لأنه يُحَسَّنُ به. (¬3) أخرجه عنهما ابن جرير 21/ 28. والثعلبي 8/ 166 أ. واقتصر عليه الزجاج 4/ 180، ولم ينسبه. - الأوزاعي، عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو الفقيه، تقدم. - يحيى بن أبي كثير، الطائي مولاهم، أبو نصر اليماني، اسم أبيه: صالح، وقيل: غيره، أحد الأعلام الحفاظ، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، روى عن أبي أمامة الباهلي في "صحيح مسلم"، ولكنه مرسل، وروى عنه الأوزاعي، ومعمر، ومحمد بن جابر، وغيرهم. ت: 132 هـ "سير أعلام النبلاء" 6/ 27، و"تقريب التهذيب" ص 1065. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 180. (¬5) "تنوير المقباس" ص 339. و"تفسير مقاتل" 77 ب. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 323.

18

روى مِقْسَمُ وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كلُّ تسبيح في القرآن فهو: صلاة. وقال مجاهد: كل سُبْحَةٍ في القرآن: صلاة (¬1). قال المبرد: والعرب تقول: حتى أفرغ من سُبحتي؛ أي: من صلاتي. والتسبيح: اسم الصلاة، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أي: من المصلين. قال صاحب النظم: فتكون سبحان الله على تأويل: سبحوا لله، فلما صُرف قوله: سبحوا إلى مصدره، نُصبَ ليُعلم أن معناه: الإغراء والأمر، كما قال -عز وجل-: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أي: فاضربوا الرقاب. هذا كلامه. وروي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس؛ فقال: أرأيتَ الصلواتِ الخمس تجدها في القرآن؟ قال: نعم؛ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} المغرب {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الغداة {وَعَشِيًّا} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] (¬2). وروى أبو عياض عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة؛ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الفجر {وَعَشِيًّا} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر (¬3). 18 - قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهو ابتداء الآية الثانية ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 29، وفيه: سجدة، بدل تسبيحة، فلعل الصواب: تسبيحة للآية. وضبط السبحة من "التهذيب" 4/ 339 (سبح). (¬2) أخرجه عبد الرزاق 2/ 103، وابن جرير 21/ 29، وفيه: ثم قرأ {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}. وأخرجه الحاكم 2/ 445، كتاب التفسير، رقم (3541)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه ابن جرير 21/ 29، من طريق الحكم بن أبي عياض. وأخرجه من طريق آخر الثعلبي 8/ 167 أ.

19

في ذكر بيان المواقيت. قال ابن عباس: يريد: يحمده أهل السموات وأهل الأرض، ويصلون له ويسجدون. وقال مقاتل: يحمده أهل السموات: الملائكة، ويحمده المؤمنون في الأرض (¬1). قوله: {تُظْهِرُونَ} أي: تدخلون في وقت الظهيرة (¬2)؛ وهو: نصف النهار، وقد مر (¬3). يقال: أظهر مثل: أصبح وأضحى وأمسى. 19 - قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال عبد الله: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة، وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًا، وهي ميتة (¬4). ونحو هذا قال مقاتل (¬5). وهذه الآية مما قد تقدم القول فيها (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 77 ب. (¬2) في (ب): (الظهر). (¬3) عند قوله تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58]، ولم أجد في تفسير الواحدي لها إلا قوله: {مِنَ الظَّهِيرَةِ} يريد: المقيل. (¬4) أخرجه ابن جرير 21/ 30، وأخرج نحوه أيضًا عن ابن عباس. وأخرج عن الحسن قال: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. ومثل ذلك: الطير من البيضة، والنخل من النواة. والآية عامة تشمل جميع ما ذكر؛ وإن كان الأقرب لسياق الآية أن المراد بها ضرب الأمثلة الحسية من المخلوقات على وحدانية الله -عز وجل-، وعلى البعث بعد الموت، ويدل لذلك قول الله تعالى بعد ذلك: {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. والله أعلم. (¬5) "تفسير مقاتل" 77 ب. واقتصر عليه الزجاج 4/ 181، ولم ينسبه. (¬6) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: 27]: أكثر المفسرين على أن معناه: تخرج الحيوان من النطفة، وتخرج النطفة من الحيوان. وقال الكلبي: تخرج الفرخ من البيضة، =

قوله تعالى: {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: يجعلها تنبت وذلك حياتها (¬1). {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} قال مقاتل: وهكذا تخرجون يا بني آدم من الأرض يوم القيامة بالماء كما يخرج العُشب من الأرض بالماء؛ وذلك أن الله تعالى يرسل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة على الأرض بين النفختين كمني الرجال فتنبت عظام الخلق ولحومهم وجلودهم في قبورهم نبات العُشب (¬2)، كما ينبتون في بطون أمهاتهم (¬3). ¬

_ = وتخرج البيضة من الطير؛ وهذا كالأول؛ لأن البيضة للطير بمنزلة النطفة لسائر الحيوانات. وقال ابن عباس في رواية عطاء والحسن: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والمؤمن حي الفؤاد، والكافر ميت الفؤاد، دليله قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. "البسيط" 1/ 313، (تح/ الحمادي). (¬1) "تفسير مقاتل" 77 ب. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 181. (¬2) "تفسير مقاتل" 77 ب. (¬3) هذا جزء من حديث طويل موقوف على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، أخرجه الحاكم من طريق سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء قال: كنا عند عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فذُكر عنده الدجال، فقال عبد الله بن مسعود: تفترقون أيها الناس لخروجه على ثلاث فرق فرقة تتبعه وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح وفرقة تأخذ شط الفرات يقاتلهم ويقاتلونه .. إلى أن قال: ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون .. قال: فيرسل الله ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت لحمانهم وجثمانهم من ذلك الماء كما ينبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9] قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الذهبي: ما احتجا بأبي الزعراء. "المستدرك على الصحيحين" 4/ 641، كتاب: الأهوال، رقم (8772). وهذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث الشفاعة الذي يرويه أبو الزعراء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رابع شفيع يقوم يوم القيامة، واسم أبي =

وهذا قول الكلبي والسدي (¬1). وقال أبو إسحاق: كذلك يخرجون من قبورهم مبعوثين، ومعنى الكاف نصب لقوله: {تَخْرُجُونَ} والمعنى: أن بعثكم عليه -عز وجل- كخلقكم، أي: هما في قدرته متساويان (¬2). يعني: أن ذكر ابتداء الخلق بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} يعني: الإنسان من النطفة، ثم قال: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. ¬

_ = الزعراء: عبد الله بن هانئ؛ قال عنه البخاري: عبد الله بن هانئ، أبو الزعراء الكوفي .. روى عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، في الشفاعة: ثم يقوم نبيكم رابعهم، والمعروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا أول شافع، ولا يتابَع على حديثه. "التاريخ الكبير" 5/ 221، رقم (720). وقال ابن عدي: يروي سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعود إنْ كان قد سمع من عبد الله بن مسعود. "الكامل في ضعفاء الرجال" 4/ 1549. وقد وقعت تسمية أبي الزعراء في تحقيق الألباني لأحاديث "شرح العقيدة الطحاوية" ص 410، بـ: الوليد بن يحيى، ولا أدري كيف وقع ذلك، فلعله لم يقف على كلام البخاري، ولا ابن عدي، حيث أحال على الهيثمي وحده في "مجمع الزوائد" 10/ 330، والهيثمي ذكره هناك بكنيته، ونقد الهيثمي هذه الرواية لمخالفتها للحديث الصحيح: أنا أول شافع، ونسب هذا النقد الألباني للَّهيثمي، مما يدل على أنه لم يطلع على كلام البخاري في هذا الموضع. والله تعالى أعلم. وكون السماء تمطر مطرًا ينبت منه أجساد العباد ثابت من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- في حديثٍ مرفوع؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" 4/ 2259، كتاب. الفتن وأشراط الساعة، رقم (2940)، والشاهد فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطَّلُ أو الظَّلُ [نعمانُ الشاكُّ] فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون". (¬1) "تنوير المقباس" ص 339. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 181.

20

وقرأ حمزة والكسائي (تَخْرُجُونَ) بفتح التاء (¬1)؛ وحجة هذه القراءة قوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا} [المعارج: 43] (¬2) أضاف الخروج إليهم. 20 - قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} ومن دلالاته على توحيده وقدرته {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} قال ابن عباس والمفسرون: يعني: آدم أبا البشر (¬3) {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} قال ابن عباس: من لحم ودم. يعني: ذرية آدم ينتشرون: ينبسطون في الأرض. قاله مقاتل (¬4). وقال ابن عباس: تذهبون وتجيئون. ومعنى الآية: تعجيبهم من خلقه إياهم من تراب، ثم صيرورتهم بشرًا ينتشرون في الأرض. 21 - قوله تعالى: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قال الكلبي: يقول: جعل لكم مِنْ خلقكم آدميًا مثلكم، ولم يجعله من الجن ولا من غيره (¬5). وقال غيره: يعني خَلْق حواء من ضِلَع من أضلاع آدم. حكاه الزجاج، وهو قول قتادة (¬6). وذكر غيره أن معنى {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}: أنه خلق ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي: {تَخْرُجُونَ} بفتح التاء. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {تُخْرَجُونَ} بضم التاء. "السبعة في القراءات" ص 506، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 445، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 195. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 445. (¬3) "تفسير مقاتل" 78 أ. وتفسير ابن جرير 21/ 31، وأخرجه عن قتادة. "تفسير الثعلبي" 8/ 167 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 78 أ. (¬5) "تنوير المقباس" ص 340، وذكره الثعلبي 8/ 167 ب، ولم ينسبه. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 182، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير 21/ 31، عن قتادة. وكون حواء عليها السلام خلقت من ضلع من أضلاع آدم -عليه السلام-، مروي عن جمع من المفسرين، تفسير ابن جرير 7/ 515، تح: محمود شاكر، وابن أبي حاتم 3/ 852، وهي آثار موقوفة، ليس فيها شيء مرفوع للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد صرح ابن =

النساء من نطف الرجال (¬1). قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} جعل بين الزوج والمرأة المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان، وما شيء أحبَّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما. وهذا معنى قول مقاتل والمفسرين (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {مَوَدَّةً} يعني: الجماع {وَرَحْمَةً} يعني: الولد. وهو قول الحسن (¬3). ¬

_ = إسحاق بأخذ هذه الأخبار عن أهل الكتاب، فقال: "أُلقي على آدم -عليه السلام- السِنة، فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم .. ". أخرجه ابن جرير 7/ 516. وأما كون المرأة خلقت من ضِلَع فهذا ثابت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة؛ ولفظه: استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا. البخاري، كتاب: النكاح، رقم (5185)، "فتح الباري" 9/ 252، ومسلم 2/ 1090، كتاب: الرضاع، رقم (1468)، وزاد: (وكسرها طلاقها). قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: قوله: (فإنهن خلقن من ضلع) كأن فيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ، عن ابن عباس، أن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم. "فتح الباري" 9/ 253. (¬1) لعله يعني مقاتل؛ حيث قال: {أَنْفُسِكُمْ} يعني: بعضكم من بعض. "تفسير مقاتل" 78 أ. وذكره الثعلبي 8/ 167 ب، ولم ينسبه. وذكر نحوه الماوردي عن علي بن عيسى. "النكت والعيون" 6/ 305. والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن لا تعارض بين هذه الأقوال، فالقول الأول يدل على أن الزوج من جنس الآدمي، وهو بهذا يتفق مع القولين بعده، وأفاد القول الثاني أن أجل خلق الأنثى زوج الذكر من ضلع -على ما سبق بيانه- وأفاد القول الثالث التكاثر والتناسل عن طريق النطف. والله تعالى أعلم. (¬2) "تفسِير مقاتل" 78 أ. وتفسير ابن جرير 21/ 31. (¬3) ذكره السيوطي، عن الحسن، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. "الدر" 6/ 490.

22

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكر من صُنعه {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة الله وقدرته. 22 - {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على توحيده وقدرته: {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال مقاتل: بأن الله خالقهما، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25, الزمر: 38] (¬1). قوله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} يعني: اختلاف اللغات كالعربية والعجمية والتركية وغيرها. وقوله: {وَأَلْوَانِكُمْ} مختلفة؛ لأن الخلق من بين أبيض وأسود وأحمر (¬2). قال الكلبي: وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة (¬3)، وألسنتهم وألوانهم مختلفة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} قال ابن عباس: يريد البر والفاجر. وعنه أيضًا: الإنس والجن (¬4). وقرأ حفص: بكسر اللام (¬5)؛ قال الفراء: وهو وجه جيد؛ لأنه قد قال: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24] {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] (¬6). 23 - قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 78 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 78 أ، بمعناه. من قوله: {وَاخْتِلَفُ ...}. (¬3) "تفسير الثعلبي" 8/ 167 ب، ولم ينسبه. (¬4) "تنوير المقباس" ص 340. (¬5) قرأ حفص عن عاصم: {لِلْعَالِمِينَ} بكسر اللام، جمع: عالِم، وقرأ الباقون: {لِلْعَالِمِينَ} بنصب اللام. "السبعة في القراءات" (506)، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 444، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 344. (¬6) "معاني القرآن" للفراء 2/ 323.

24

فَضْلِهِ} قال ابن عباس: يريد طلب المعيشة (¬1). قال صاحب النظم: تأويله: ومن آياته منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار، اعتبارًا بقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص: 73]. قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يعني: سماع اعتبار وتدبر. قال ابن عباس: يريد: لقوم يجيبون داعي الله، وجعل السماع بمعنى: الإجابة. وقال الكلبي ومقاتل: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} مواعظ الله فيوحدون ربهم (¬2). 24 - قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} قال الأخفش: أراد أن يريكم، فحذف أن؛ لأن المعنى يدل عليه، وفي حرف عبد الله: {أَن يُرِيكُمُ} (¬3) وأنشد قول طرفة: ألا أيُّهذا الزَّاجِري أَحضُرَ الوغى ... ............. البيت (¬4) ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 340. (¬2) "تفسير مقاتل" 78 أ. (¬3) لم أجد هذه القراءة عند ابن خالويه ولا ابن جني. (¬4) البيت لطرفة من معلقته في "الديوان" ص 105، وفيه: اللائمي، بدل: الزاجري، وعجزه: وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخلدي وأنشده كاملاً منسوبًا سيبويه 3/ 99، والثعلبي 8/ 167 ب. وأنشده ولم ينسبه، الأخفش 2/ 657، وابن جرير 21/ 32، وفي حاشية ابن جرير: رواية البيت عند البصريين: أحضرُ، بالرفع؛ لأنه لما أضمر "أن" قبله ذهب عملها، وعند الكوفيين: أحضرَ، بالنصب؛ لأنها وإن أضمرت فكأنها موجودة لقوة الدلالة عليها. والوغى: الحرب، أراد: أيها الإنسان الذي يلومني على شهودي الحرب، وتحصيل اللذات، هل تخلدني في الدنيا إذا كففتُ عن الحرب. وأنشد صدره ولم ينسبه أبو علي، "المسائل العسكرية" ص 202، وأنشد صدره ونسبه: ابن جني "سر صناعة الإعراب" 1/ 285

أراد: أن احضُرَ (¬1). وقال أبو إسحاق: المعنى: ومن آياته آيةٌ يريكم بها البرق، هذا أجود في العطف؛ لأن قبله خلق السموات، ومنامكم، فيكون اسمًا منسوقًا (¬2) علي اسم، ثم حُذف، ودلَّ عليه قوله: {وَمِنَ} كما قال الشاعر: وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (¬3) والمعنى: فمنهما تارة أموتها، أي: أموت فيها (¬4). وقال الفراء: أراد: فمنهما ساعة أموتها، وساعة أعيشها (¬5). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى: ويريكم البرق خوفًا وطمعًا من آياته، فيكون عطفًا بجملة على جملة (¬6). وهذان القولان ذكرهما الفراء (¬7). قوله تعالى: {خَوْفًا وَطَمَعًا} قال ابن عباس: خوفًا من الصواعق، وطمعًا [من آياته فيكون] (¬8) بالرحمة. وقال مقاتل وقتادة: خوفًا من الصواعق للمسافر، ولمن كان بأرض، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 657. وليس فيه ذكر قراءة عبد الله. ولم أجدها عند ابن خالويه. (¬2) أي: معطوفًا. (¬3) البيت لتميم بن مقبل، "ديوانه" ص 24، أنشده ونسبه سيبويه 2/ 346. وأنشده ولم ينسبه، الفراء 2/ 323، وابن جرير 21/ 33، والزجاج 4/ 182. وفي حاشية سيبويه: الشاهد فيه: حذف الاسم لدلالة الصفة عليه، والتقدير: فمنهما تارة أموت فيها. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 182. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 323. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 182. (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 323. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ).

25

وطمعًا للمقيم (¬1)، وهذا مما تقدم تفسيره في سورة: الرعد (¬2). قال أبو إسحاق: وهما منصوبان على المفعول له؛ المعنى: يريكم للخوف والطمع، وهو خوفٌ للمسافر، وطمعٌ للحاضر (¬3). 25 - قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قال ابن مسعود: قامتا على غير عمد بأمره (¬4). وقال الفراء: يقول: تدوما قائمتين بأمره بغير عَمَدٍ (¬5). قال ابن عباس: يريد: بقوته وقدرته. قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} قال الكلبي: يعني النفخة الأخيرة (¬6). وقال مقاتل: يدعو إسرافيلَ من صخرة بيت المقدس حتى ينفخ في الصور عن أمر الله (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 32، عن قتادة، بلفظ: خوفًا للمسافر، وطمعًا للمقيم. و"تفسير مقاتل" 78 أ، وقد ورد فيه: وخوفًا من الصواعق لمن كان بأرض. (¬2) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12]: قال ابن عباس: يريد: خوفًا من الصواعق وطمعًا في المطر. وهو قول الحسن. وقال قتادة: خوفًا للمسافر، وطمعًا للمقيم. وهذا قول أكثر أهل التأويل. قال أبو إسحاق وأبو بكر: الخوف للمسافر لما تأذى به من المطر، كما قال الله تعالى: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] والطمع للحاضر المقيم؛ لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 182. (¬4) ذكره عن ابن مسعود: مقاتل 78 أ. وأخرجه ابن جرير 21/ 34، عن قتادة. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 323. وهو قول الزجاج 4/ 182. (¬6) "تنوير المقباس" ص 340. (¬7) "تفسير مقاتل" 78 أ. =

وقوله: {مِنَ الْأَرْضِ} معناه التأخير وإن قدم؛ لأن التقدير: إذا أنتم تخرجون من الأرض. كذا قال مقاتل وأكثر العلماء (¬1). ¬

_ = وقد ورد في الصور أحاديث كثيرة، بعضها في الصحيح، وبعضها في غيره، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحًا باردة من قِبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه" قال سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون فيقولون فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال فيصعق ويصعق الناس". أخرجه مسلم 4/ 2258، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، رقم (2940). اللَّيت: صفحة العنق، وهما ليتان، وأصغى: أمال. "النهاية في غريب الحديث" 4/ 284. وأما الأحاديث الضعيفة فكثيرة؛ منها حديث الصور الطويل الذي أخرجه الطبراني، في كتابه: "الأحاديث الطوال" ص: 36، المطبوع مع "المعجم الكبير" للطبراني 25/ 266، وقد ساقه بطوله ابن كثير في "تفسيره" 2/ 146، عند قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73] ثم قال: "هذا حديث مشهور، وهو غريب جدًّا, ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة". أما ما ذكره الواحدي عن مقاتل في تحديد المكان؛ من صخرة بيت المقدس، فلم أجده بهذا اللفظ في الأحاديث، وهذا التحديد يحتاج إلى دليل. والله أعلم. (¬1) "تفسير مقاتل" 78 ب. وتفسير ابن جرير 21/ 34، وأخرجه عن الضحاك. "تفسير الثعلبي" 8/ 168 أ، ونسبه لأكثر العلماء، ولم يسمهم. وذكره النحاس عن أبي حاتم، "القطع والائتناف" 2/ 532.

26

قال أبو إسحاق: أي إذا دعاكم للبعث حييتم بعد الموت (¬1). ولهذا جعل بعضهم تمام الوقف عند قوله: {دَعْوَةً}؛ لأن قوله: {مِنَ الْأَرْضِ} ليس من صلة الدعوة، وهو من صلة {تَخْرُجُونَ} وهو مذهب نافع؛ قال يعقوب: هذا من الوقف الذي يحق على العالم علمه. وخالفه أبو حاتم؛ وقال: أظن الوقف: {دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} أي: وأنتم في الأرض، كما تقول: دعاكم من القبور، ودعوت فلانًا من بيته، أي: هو في بيته (¬2). وقال النحاس: {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً} ليس بوقف؛ لأنه لم يأت بجواب {إِذَا} وجواب {إِذَا} على قول الخليل وسيبويه: {أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: خرجتم. وكذا قال سيبويه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] تقديره عنده: قنطوا (¬3). والقول ما قال النحاس. 26 - قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال مقاتل: كلهم عبيده، وفي ملكه (¬4) {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال: يعني: مقرون له بالعبودية، يعلمون أن الله ربهم وهو خلقهم. وهذا قول قتادة واختيار ابن قتيبة (¬5). والقنوت على هذا القول معناه: طاعة الإقرار (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 182، وليس فيه كلمة: حييتم. (¬2) "القطع والائتناف" 2/ 532. (¬3) "القطع والائتناف" 2/ 532. وقد سئل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية، "الكتاب" 3/ 63، وذكره المبرد في "المقتضب" 2/ 58. وإنما قدمت كتاب النحاس لنقل الواحدي عنه مذهب الخليل وسيبويه. (¬4) "تفسير مقاتل" 78 ب. (¬5) أخرجه ابن جرير 21/ 35، عن قتادة. و"تأويل مشكل القرآن" ص 452، و"غريب القرآن" ص 340. وهو قول مقاتل 78 ب. (¬6) ذكر ابن الأنباري أن القنوت ينقسم في كلام العرب على أربعة أقسام: الطاعة، =

27

وقال الكلبي: وهذا خاص لمن كان منهم مطيعًا (¬1). وعلى هذا لفظ الآية عام، ومعناها الخصوص (¬2). وقال أبو إسحاق: معنى {قَانِتُونَ} مطيعون طاعة لا يجوز أن يقع معها معصية؛ لأن القنوت: القيام بالطاعة، ومعنى الطاعة هاهنا: أن من في السموات والأرض مخلوقون كما أراد الله -عز وجل-، لا يقدر أحد على تغيير الخِلقة، ولا مَلَك مقرب، فآثار الصَنعة والخِلقة تدل على الطاعة؛ ليس يعني بها طاعة العباد، إنما هو: طاعة الإرادة والمشيئة (¬3). وهذا معنى قول ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث، وإن عصوا في العبادة (¬4). وهذا مفسر في سورة البقرة (¬5). 27 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال مقاتل: ¬

_ = الصلاة، طول القيام، السكوت. الزاهر في "معاني كلمات الناس" 1/ 68. (¬1) "تنوير المقباس" ص 340. (¬2) قال ابن جرير 21/ 35: "وقال آخرون: هو على الخصوص، والمعنى: وله من في السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم". ثم ذكر معناه بإسناده عن ابن زيد. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 183. (¬4) أخرجه ابن جرير 21/ 35. (¬5) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]: قال مجاهد وعطاء والسدي: مطيعون. قال أبو عبيد: أجل القنوت في أشياء؛ منها: القيام، وبه جاءت الأحاديث في قنوت الصلاة؛ لأنه إنما يدعو قائمًا .. والقنوت أيضًا: الطاعة .. قال الزجاج: المشهور في اللغة أن القنوت الدعاء، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر الله .. قال ابن عباس في هذه الآية: قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} راجع إلى أهل طاعته، دون الناس أجمعين. وهو من العموم الذي أريد به الخصوص، وهو اختيار الفراء.

يعني خلق بني آدم بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئًا {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يعني: يبعثهم في الآخرة أحياء بعد موتهم كما كانوا، قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬1). واختلفوا في هذا؛ فذهب كثير من أهل التفسير والمعاني أن {أَهْوَنُ} هاهنا بمعنى: هين، يقول: وهو هين عليه. وهذا قول الحسن، والربيع، وقتادة، والكلبي؛ قالوا: هو هين عليه، أول خلقه وآخره، وما شيء عليه بعزيز (¬2). وهذا مذهب أبي عبيدة، وذكره المبرد والزجاج (¬3)؛ وقالوا: يجيء أفعل بمعنى الفاعل، وأنشد (¬4) لمعن بن أوس (¬5): لعمرك ما أدري وإني لأَوجلُ يعني لوجل (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 78 ب. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 36، عن ابن عباس، وقتادة، والربيع بن خُثيم. وذكره الثعلبي 8/ 168 أ، عن الربيع بن خثيم، والحسن، وقال: وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وذكره السيوطي عن الحسن، وعزاه لابن المنذر، "الدر المنثور" 6/ 491. و"تنوير المقباس" ص 340. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 121، و"الكامل" 2/ 876. و"المقتضب" 3/ 246، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 183. (¬4) هكذا في النسختين؛ ولعل الصواب: وأنشدوا. (¬5) معن بن أوس بن نصر بن زياد المزنين شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام، له مدائح في جماعة من الصحابة، رحل إلى الشام والبصرة، وكف بصره في أواخر أيامه. مات في المدينة. "خزانة الأدب" 7/ 261، "الأعلام" 7/ 273. وذكره ابن حجر في القسم الثالث؛ المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. "الإصابة في معرفة الصحابة" 6/ 179. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 121، وأنشد البيت كاملًا, ولم ينسبه، وعجزه: =

وقال الفرزدق: بيتًا دعائمُه أعزُّ وأطولُ (¬1) وأنشد المبرد: قُبَّحتُم يا آل زيدٍ نفرًا ... إلام قومٍ أصغرَا وأكبرَا (¬2) ومثله قولهم: الله أكبر؛ أي: الكبير، ورجل أوحد الناس؛ أي: أحد الناس (¬3). قال قتادة: وفي حرف ابن مسعود: {وهو عليه هَيِّن} (¬4). وهذا معنى رواية عطاء عن ابن عباس؛ قال: يريد: هان الأول والآخر عليه (¬5). ¬

_ = على أيِّنا تعدو المنية أول وهو في "ديوان معن بن أوس" ص 36، وأنشده المبرد، "الكامل" 2/ 876، و"المقتضب" 3/ 246، وابن جرير 21/ 37، ونسباه لمعن بن أوس. وأنشده ولم ينسبه الزجاج 4/ 183. (¬1) "ديوان الفرزدق" 2/ 155، وصدره: إن الذي سمك السماء بنى لنا وأنشده ونسبه أبو عبيدة 2/ 121، والمبرد، في "الكامل" 2/ 877، وابن جرير 21/ 37. (¬2) "الكامل" 2/ 877، و"المقتضب" 3/ 247، ولم ينسبه، وقال بعده: يريد: صغارًا وكبارًا. وفي "حاشية المقتضب": لم يعرف قائل البيت. وهو في "خزانة الأدب" 8/ 246، غير منسوب. (¬3) "مجاز القرآن"، لأبي عبيدة 2/ 121. ولم ينشد البيت. والزاهر في "معاني كلمات الناس" 1/ 29. (¬4) أخرجه عبد الرزاق 2/ 102. لم أجدها عند ابن خالويه. (¬5) أخرجه ابن جرير 21/ 36، من طريق محمد بن سعد بسنده عن ابن عباس، ولفظه: كل شيء عليه هين.

القول الثاني في هذه الآية ما ذهب إليه عكرمة ومجاهد: الإنشاء أهون عليه من الابتداء، والإعادة أهون عليه من البدأ. وهو معنى رواية الوالبي عن ابن عباس (¬1). وهذا ليس على ظاهره؛ لأنه لا يجوز أن يكون شيء على الله أهون من شيء (¬2)؟ ووجهه ما ذكره مقاتل، والمبرد، والفراء، والزجاج؛ قال مقاتل: يقول: البعث أيسر عليه عندكم يا معشر الكفار من الخلق الأول (¬3). وقال المبرد: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} عندكم؛ لأنكم قد أقررتم بأنه بدأ الخلق، وإعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه (¬4). ونحو هذا قال الفراء (¬5). واختار أبو إسحاق هذا الوجه؛ وقال: إن الله خاطب العباد بما يعقلون فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء والإنشاء (¬6). وفي الآية قول ثالث؛ وهو: أن الكناية في {عَلَيْهِ} تعود إلى الخلق، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 36، عن ابن عباس، من طريق علي بن أبي طلحة، وأخرجه عن مجاهد، وعكرمة. وذكره الثعلبي 8/ 168 أ، عن مجاهد وعكرمة، وقال: وهي رواية الوالبي عن ابن عباس. (¬2) أخرجه بسنده الفراء، عن مجاهد، ثم قال: ولا أشتهي ذلك، والقول فيه: أنه مثل ضربه الله فقال: أتكفرون بالبعث، فابتداء خلقكم من لا شيء أشد. "معاني القرآن" 2/ 324. (¬3) "تفسير مقاتل" 78 ب. (¬4) "المقتضب" 3/ 245، بلفظ: "تأويله: وهو عليه هين؛ لأنه لا يقال: شيء أهون عليه من شيء". (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 324. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 183.

والمعنى: أن الإعادة أهون على الخَلْقِ من الابتداء (¬1). وهذا قول ابن عباس في رواية أبي صالح والسدي؛ قال ابن عباس: وهو أهون على المخلوق؛ لأنه يقول له يوم القيامة: {كُنْ فَيَكُونُ} [الأنعام: 73، النحل: 40، مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]، وأول خلقه نطفة ثم علقة ثم مضغة (¬2). وقال السدي: ليس يشتد على الله شيء، ولكن يعني به: المخلوق، يصاح به فيقوم سويًا؛ أهون عليه من أن يكون كما خلقه أولًا؛ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم يعود رضيعًا ثم فطيمًا. وقال عطاء: هو أهون على المخلوق أن يُبعث سميعًا بصيرًا، يَفهم ويفقه ويعقل، ليس مثل المولود لا يعقل حتى يكبر. قال أبو إسحاق: ومعنى هذا القول أن البعث أهون على الإنسان من إنشائه؛ لأنه يقاسي في النشأة ما لا يقاسيه في الإعادة والبعث (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول ابن جرير 21/ 36، والزجاج 4/ 183، ولم ينسباه. (¬2) أخرجه بسنده الفراء من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. "معاني القرآن" 2/ 324. وذكره ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 382، عن ابن عباس، من طريق أبي صالح. وذكره كذلك الثعلبي 8/ 168 أ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 183. وقد اعترض على هذا القول أبو عبيدة، فقال بعد أن ذكر أن المراد في الآية: وهو هين عليه، قال: فإن احتج محتج فقال: إن الله لا يوصف بهذا، وإنما يوصف به المخلوق، فالحجة عليه قول الله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 19] وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]. "مجاز القرآن" 2/ 121. ولم يرجح الواحدي شيئًا من هذه الأقوال، والذي يظهر من سياق الآيات أن المراد إثبات البعث والرد على المنكرين له، المستبعدين وقوعه، بعد موتهم وفنائهم، فأعلمهم الله -عز وجل- أن إقرارهم بالخلق الأول يستلزم الإيمان بإعادتهم، إذ هي أهون وأيسر، ويدل على ذلك تقدم الآيات في إثبات الربوبية، والتي منها =

قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: أي ليس كمثله شيء (¬1). وقال قتادة: مثله الأعلى أنه: لا إله إلا هو في السموات والأرض (¬2). وعلى هذا يكون المثل بمعنى الصفة؛ يعني: وله الصفة العليا وهي أنه: لا إله غيره. وذكرنا قول من أجاز أن يكون المثَل بمعنى: الصفة، عند قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} في سورة الرعد [: 35] (¬3) وقال قوم: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يعني: ما ضرب من المثل في الإعادة أهون على المخلوق من الابتداء؛ لأن من قدر على ابتداء شيء كان أحرى أن يقدر على إعادته. وهذا اختيار الفراء والزجاج؛ قال الزجاج: أعلمهم أن يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء، وجعله مثلًا لهم، ثم قال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قد ضربه لكم مثلًا ¬

_ = قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}. والله أعلم. (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 38، من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره عنه الثعلبي 8/ 168 أ. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 38، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" 78 ب. بمعناه. واقتصر على هذا القول ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص 382، ولم ينسبه. (¬3) أطال الواحدي الكلام في تفسير هذه الآية عن وجه ارتفاع: {مَثَلُ} فذكر قول سيبويه والمبرد أنه مرفوع على الابتداء بتقدير: فيما نقص عليكم مثل الجنة، واختار هذا القول الأنباري وأبو علي، ثم قال: وقال قوم: المثل هاهنا: بمعنى الصفة؛ قالوا: ومعناها: صفة الجنة التي وعد المتقون، ونسبه لعمرو بن العلاء، ثم ذكر نقد المبرد وأبي علي لهذا القول، ولم يرجح الواحدي في هذه المسألة. وممن يمنع تفسيره بالصفة سيبويه، "الكتاب" 1/ 143.

28

فيما يصعب ويسهل (¬1). وقال غيره من أهل المعاني مصححًا لهذه الطريقة: معنى قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي: ما يمثل به في دليلاً صفته الذي هو طريق إلى معرفته من أن إنسانًا إذا نسخ كتابًا فإعادة نسخه عليه أهون، وكذلك إذا صاغ حُليًا، هذا في مقدور العباد مع نقصانهم، فمقدور من لا يلحقه النقص من وجهٍ أولى أن يسع الإعادة. وعلى هذا المثل الأعلى هو: المثل الذي ضربه الله لتحقيق بيان قدرته على الإعادة، ووصف هذا المثل بأنه: {الْأَعْلَى}؛ لأنه مؤدٍّ إلى معرفةِ قدرة الله وصفتِه. قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال ابن عباس: {الْعَزِيزُ} في ملكه {الْحَكِيمُ} في خلقه. 28 - قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا} قال مقاتل: نزلت في كفار قريش؛ وذلك أنهم كانوا يقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، فقال الله: {ضَرَبَ لَكُمْ} يقول: وَصَف لكم شَبهًا من أنفسكم (¬2). قال الكلبي: مِنْ مِثل خلقكم {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: من عبيدكم {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من أموالكم وعبيدكم وأهليكم {فَأَنْتُمْ} وشركاؤكم من مماليككم فيما رزقناكم شرع {سَوَاءٌ} (¬3). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 183. و"معاني القرآن" للفراء 2/ 324، بنحوه. (¬2) "تفسير مقاتل" 78 ب. ولم يذكره الواحدي في "أسباب النزول". (¬3) "تنوير المقباس" ص 340، وذكره عنه الثعلبي 8/ 168 أ. هكذا وردت عنده: شرع سواء. وفي "تنوير المقباس": شرك. أي: من الشراكة؛ وهو أقرب. والله أعلم. قال ابن عباس: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في الآلهة، وفيه، تخافونهم أن =

وقوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} قال ابن عباس: تخافون أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضًا (¬1). وهو قول مقاتل، والسدي؛ قال: يقول: مِنْ مملوككم شركاؤكم في الميراث الذي ترثونه من آبائكم، فأنتم تخافون أن يدخل معكم مملوككم في ذلك الميراث، كما تدخلون أنتم فيه (¬2). قال الكلبي: تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أخيه وأبيه وأقاربه (¬3). وقال أبو مجلز: تخافون أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضًا (¬4). فهذه ثلاثة أقوال في معنى قوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} مرجعها إلى معنى واحد؛ وهو: أن عَبْدَ الرجل لا يكون مثله حتى يكون بينهما توارث، وخوف لائمةٍ ومقاسمةٍ. ومعنى الآية: أن الله تعالى يقول: كيف تعدلون بي عبيدي، وأنتم لا تعدلون عبيدكم بأنفسكم. قال قتادة: يقول: ليس مِن أحدٍ يرضى لنفسه أن يشاركه عبده في ماله وزوجه، حتى ¬

_ = يرثوكم كما يرث بعضكم بعضًا. ذكره البخاري تعليقًا بصيغة الجزم، في التفسير، سورة: الروم، قال ابن حجر: الضمير في قوله: فيه، لله تعالى، أي: أن المثل لله وللأصنام. "فتح الباري" 8/ 510. وأخرجه ابن جرير 21/ 39، من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 39، من طريق عطاء الخرساني. وذكره عنه الثعلبي 8/ 168 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 78 ب، بنحوه. وذكر نحوه الماوردي عن السدي. "النكت والعيون" 4/ 311. (¬3) "تنوير المقباس" ص 340. (¬4) أخرجه ابن جرير 2/ 391. وذكره عنه الثعلبي 8/ 168أ.

يكون مثله؛ يقول: قد رضي بذلك ناسٌ لله فجعلوا معه إلهًا شريكًا (¬1). هذا قول المفسرين في هذه الآية. وقد شرح أصحاب المعاني هذه الآية أبين شرح؛ قال صاحب النظم: هذا مثل ضربه الله -عز وجل- للذين جعلوا له شريكًا، فقال: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه في سواء يخافه كما يخافه غيره من شريكٍ له لو كان معه، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فِلمَ تجعلون لي عبيدي شركاء؟ والفاء في قوله: {فَأَنْتُمْ} بمنزلة حتى، تأويله: حتى أنتم وعبيدكم فيه سواء. انتهى كلامه. وقال ابن قتيبة: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وذلك أقرب عليكم {هَلْ لَكُمْ مِنْ} شركاء من عبيدكم الذين تملكون {فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ} وعبيدكم {سَوَاءٌ} يأمرون فيه كأمركم، ويحكمون كحكمكم، وأنتم {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: كما يخاف الرجلُ الحرُّ شريكه الحرَّ في المال يكون بينهما، فلا يأمر فيه بشيء دون أمره، ولا يُمضي فيه عطيةً بغير أمره، وهو مِثلُ قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي: لا تغيبوا إخوانكم من المسلمين. وقوله {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] أي بأمثالهم من المؤمنين خيرًا، يقول: فإذا كنتم أنتم بهذه المنزلة فيما بينكم وبين أقاربكم وأرقائكم، فكيف تجعلون لله مِنْ عبيده شركاء في ملكه؟ ومثلُه قوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71] فجعل منكم المالك والمملوك {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} يعني السَّادة {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مِنْ عبيدهم حتى يكونوا فيه شركاء. يريد: ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 102، وفيه: ونفسه، بدل: وزوجه. وأخرجه بنحوه، ابن جرير 21/ 38.

29

فإذا كان هذا لا يجوز بينكم فكيف تجعلونه لله (¬1). وقال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن مملوك الإنسان ليس بشريكه في ماله وزوجته، وأنه لا يخاف أن يرثه مملوكه، يقول: فقد جعلتم ما هو مُلكٌ لله مِنْ خلقه مثلَ الله وأنتم كلكم بشر ليس مماليككم بمنزلتكم في أموالكم، فالله -عز وجل- أجدرُ أن لا يُعدل به خلقُه. انتهى كلامه (¬2). انتصب قوله: {أَنْفُسِكُمْ} وهو مضاف إلى الفاعل، كما تقول: عجبت من اشترائك عبدًا لا تحتاج إليه، فإذا أضيف المصدر إلى المفعول ارتفع ما بعده، تقول: عجبت من موافقتك كثرة شربِ الماء؛ لأن المعنى: من أن وافقك، والعرب تقول: عجبت من قيامكم أجمعون وأجمعين، فمن خفض أتبعه اللفظ؛ لأنه في الظاهر خفض، ومن رفع ذهب إلى التأويل، وذلك أنه في تأويل رفع؛ لأنهم الفاعلون. هذا قول الفراء (¬3). قوله تعالى: {كَذَلِكَ} أي: كما بينا في ضرب المثل من أنفسكم. قال مقاتل: هكذا نبين الآيات {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} عن الله الأمثال فيوحدونه. 29 - ثم ذكر الله الذين ضرب لهم المثل فقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬4) يعني: الذين أشركوا {أَهْوَاءَهُمْ} في الشرك {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعلمونه بأن مع الله شريكًا. قاله مقاتل (¬5). وقال ابن عباس: يريد: بغير علم جاءهم من الله. ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 382. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 184. (¬3) "معاني القرآن" للفراء 2/ 324. (¬4) "تفسير مقاتل" 78 ب. (¬5) "تفسير مقاتل" 78 ب.

30

قوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} قال صاحب النظم: هذا استفهام، ومعناه: النفي والإنكار على معنى: فلا هادي لمن أضل الله، يدل على ذلك قوله في النَّسَق عليه: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. 30 - قال مقاتل: ثم قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن لم يوحدْ كفارُ مكة ربَّهم فوحدْ أنت ربَّك، وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} فالمعنى: فأخلص دينك (¬1). ونحوه قال سعيد بن جبير. وقال غيره: سدد عملك (¬2). والوجه في اللغة: ما يُتوجه إليه، وعملُ الإنسان ودينُه مما يَتوجه إليه الإنسانُ لتسديده وإقامته. وذكرنا ذلك عند قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] (¬3). قوله: {لِلدِّينِ حَنِيفًا} معناه على التقديم والتأخير، أي: حنيفًا للدين، أي: مائلاً إلى الطاعة، مستقيمًا عليها لا ترجع عنها. قال أبو إسحاق: والحنيف الذي يميل إلى الشيء فلا يرجع عنه (¬4). قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال عكرمة ومجاهد: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 79 أ. (¬2) ذكره الماوردي عن الكلبي. "النكت والعيون" 4/ 311. (¬3) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: معنى قوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي: بذل وجهه له في السجود، وعلى هذا أسلم بمعنى: سلم .. قال ابن الأنباري: والمسلم على هذا هو المخلص لله العبادة .. وقال قوم من أهل المعاني: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي: أسلم نفسه وجميع بدنه لأمر الله، والعرب تستعمل الوجه وهم يريدون نفس الشيء إلا أنهم يذكرونه باللفظ الأشرف كما قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وقال جماعة: الوجه قد يقع صلة في الكلام؛ فقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي: انقاد هو لله. ومثله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 184، وفيه: كالحَنَف في الرِجل، وهو ميلها إلى خارجها خِلقة، لا يملك الأحنف أن يَرد حَنفه.

الإسلام. وهو قول الحسن (¬1). وقال مقاتل: {فِطْرَتَ اللَّهِ} الملة، وهي: الإسلام والتوحيد الذي خلقهم عليه يوم أخذ الميثاق حين قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] فأقروا له بالربوبية والمعرفة (¬2). ونحو هذا قال ابن زيد (¬3). واختاره الزجاج. فذكره (¬4). هذا قول المفسرين في هذه الآية، ويشكل هذا بأن يقال: الفطرة ابتداء الخلق، ولو كان الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم على ملة الإسلام والتوحيد ما أشرك أحد ولا كفر أحد مع قيام الدليل بأن الله خلق أقوامًا للنار (¬5)، وهم لم يخلقوا على الإسلام والتوحيد وهو قوله: {وَلَقَدْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 40، عن مجاهد من طريق الحسن، وأخرجه كذلك عن عكرمة 21/ 41. (¬2) "تفسير مقاتل" 79 أ. ونحوه قال ابن قتيبة، ولفظه: أي: خلقة الله التي خلق الناس عليها؛ وهي أن فطرهم جميعًا على أن يعلموا أن لهم خالقًا ومدبرًا. "غريب القرآن" ص 341. (¬3) أخرجه ابن جرير 21/ 40. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 184. قال ابن كثير 6/ 314: "فإن الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره .. وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية". (¬5) لعل الواحدي يشير بذلك إلى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة؛ لم يعمل السوء، ولم يدركه، قال: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". أخرجه مسلم 4/ 2050 في القدر (2662).

ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} الآية [الأعراف: 179] والخبر قد ورد بتفصيل الفريقين يوم أخذ الميثاق حين أخرج الله تعالى من صلب آدم ذريته، بعضها سودًا وبعضها بيضًا، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار (¬1). ¬

_ (¬1) أخذ الميثاق على ذرية آدم -عليه السلام-، ثابت في حديث أنس -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يقول لأِهون أهل النار عذابا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك). متفق عليه، البخاري، كتاب الأنبياء، رقم (3334)، "فتح الباري" 6/ 363، ومسلم 4/ 2160، كتاب صفات المنافقين، رقم (2805). ومن ذلك أيضًا حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم فأخرج من صلبه ذرية ذراها فنثرهم نثرًا بين يديه كالذر، ثم كلمهم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. أخرجه الحاكم 1/ 80، كتاب: الإيمان, رقم (75)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي. وأخرجه من الطريق نفسه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (89). ورجح ابن كثير 3/ 502، وقف هذا الحديث على ابن عباس. وحسن رفعه الألباني، "السلسلة الصحيحة" 4/ 158، رقم (1623)، لكونه واردًا في تفسير القرآن فيأخذ حكم الرفع، ولوروده من طرق أخرى مرفوعًا، وإن كان فيها ضعفٌ. والأول غير مسلم؛ إذ إن الروايات الإسرائيلية في التفسير قد تصح إسنادًا إلى بعض الصحابة، ومصدرها الأخذ عن بني إسرائيل؛ فهل يُجزم بأخذها حكم المرفوع. والله أعلم. هذا ما يتعلق بأصل أخذ الميثاق وثبوته، أما ما ذكره الواحدي من تفصيلهم إلى فريقين، سود وبيض، فقد ورد ذكر ذلك في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي ثنا هيثم وسمعته أنا منه قال ثنا أبو الربيع عن يونس عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذَّر وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحَمَم، فقال للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي، وقال =

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغلام الذي قتله الخضر: "طبعه والله يوم طبعه كافرًا" (¬1). وبيان هذا الإشكال أن يقال: المراد بالناس هاهنا: المؤمنون الذين فطرهم الله على الإسلام يوم أخذ الميثاق؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، فلفظ الناس عام والمراد منه الخصوص. هذا وجه قول المفسرين في هذه الآية، وهو اختيار أبي الهيثم؛ قال في هذه الآية: هذه فطرة فُطر عليها المؤمن (¬2). ¬

_ = للذي في كفه اليسرى إلى النار ولا أبالي". "المسند" 10/ 417، رقم (27558). وصححه الألباني؛ السلسلة الصحيحة رقم (49). (¬1) أخرجه مسلم 4/ 2050، كتاب: القدر، رقم (2661)، ولفظه: "إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا, ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا". وأخرجه الترمذي 5/ 292، كتاب "تفسير القرآن"، رقم (3150). (¬2) ذكره عن أبي الهيثم الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 326. وما ذهب إليه الواحدي واختاره أبو الهيثم في دفع الإشكال في الجمع بين الآية والحديث غير وجيه؛ والصواب أن لفظ الناس في قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} باقٍ على عمومه لم يدخله التخصيص، يشهد لذلك آية سورة الأعراف: 172 {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ..} فلم يُستثن من الذرية أحد، وعليه فحديث: كل مولود يولد على الفطرة، يدل على أن المولود ولد على الفطرة سليمًا، وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدَّر الله تعالى ذلك وكتبه، كما مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله في آخر الحديث: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يُجدعها الناس؛ وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليمًا ثم يفسده أبواه؛ وذلك أيضًا بقضاء الله وقدره "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 361. وأما حديث الغلام الذي قتله الخضر فقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: "طبع يوم طبع كافرًا" معناه: طُبع في الكتاب أيَ قُدَّر وقُضي لا أنه كان كفره موجودًا قبل أن يولد فهو =

وذهب إسحاق (¬1) في هذه الآية، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ¬

_ = مولود على الفطرة السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر، كما طُبع كتابه يوم طُبع. ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه، وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار، فهو غالط؛ فإن ذلك لا يُقال فحِه: طُبع يوم طُبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا". وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك. وكذلك في حديث الأسود بن سَرِيع الذي رواه أحمد وغيره قال بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملكم على قتل الذرية؟ " قالوا: يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين؟ قال: "أو ليس خياركم أولاد المشركين"، ثم قام النبي -صلى الله عليه وسلم-، خطيبًا فقال: "ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعرب عنه لسانه". فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم: أو ليس خياركم أولاد المشركين، يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك، ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرًا وإما مسلمًا على ما سبق له القدر لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده -صلى الله عليه وسلم- من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين. "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 362. وحديث الأسود بن سَرِيع أخرجه الإمام أحمد 24/ 354، رقم (15588)، ط/ الرسالة، وقال محققو المسند: رجاله ثقات رجال الشيخين، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من الأسود بن سَرِيع. وأخرج الحديث الحاكم 2/ 133، رقم (2566)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الذهبي: تابعه يونس عن الحسن حدثنا الأسود بن سريع بهذا على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه البيهقي، السنن الكبرى 9/ 130، قال البيهقي: قال الشافعي في رواية أبي عبد الرحمن عنه: "هي الفطرة التي فطر الله عليها الخلق فجعلهم ما لم يفصحوا بالقول لا حكم لهم في أنفسهم إنما الحكم لهم بآبائهم". (¬1) هو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي؛ صرح بذلك الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 328 (فطر).

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل مولود يولد على الفطرة" الحديث (¬1)، مذهبًا حسنًا؛ وهو أنه قال: الفطرة: الخلقة التي خلقهم عليها، إما الجنة أو النار، حين أخرج من صلب آدم كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء للنار، فيقول: كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه، يقول: بالأبوين يتبين لكم ما تحتاجون إليه في أحكامكم من المواريث وغيرها. يقول: إذا كان الأبوان مؤمنين فاحكموا لولدهما بحكم الإيمان, وإن كانا كافرين فاحكموا لولدهما بحكم الكفر، وأما خلقته التي خُلق عليها فلا علم لكم بذلك، وهو قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي: من الشقاوة والسعادة. والدليل على هذا قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لا تبديل لما خلقهم له من جنة أو نار (¬2). وقال الأزهري: والقول قول أبي إسحاق (¬3) في تفسير الآية، ومعنى الحديث (¬4). وعلى هذا القول انتصب: {فِطْرَتَ اللَّهِ} على المصدر. وهو ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، البخاري، كتاب: الجنائز، رقم (1359)، "فتح الباري" 3/ 219، ومسلم 4/ 2047، كتاب: القدر، رقم (2658). (¬2) ذكر قول إسحاق: الأزهري، "تهذيب اللغة" 13/ 329 (فطر). (¬3) هكذا في النسختين: أبي إسحاق؛ والصواب: إسحاق، كما في "تهذيب اللغة" 13/ 329. (¬4) الصواب القول الأول الذي عليه المفسرون من الصحابة والتابعين؛ وهو أن الفطرة المراد بها: الإسلام، وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لدين الله؛ قال ابن عبد البر: "وقال آخرون: الفطرة هاهنا: الإسلام؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل، وقد أجمعوا في تأويل قوله -عز وجل-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} على أن قالوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ} دين الله الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرأوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وذكروا =

قول الأخفش قال: كأنه قال: فَطَرَ الله تلك فِطرَةً (¬1). ونحو ذلك قال الفراء (¬2). معنى الآية: أن الكلام قد تم عند قوله: {حَنِيفًا} ثم أخبر -عز وجل- أنه خلق الخلق على ما أراد من شقاوة وسعادة، ولا تبديل لذلك. وفيه إشارة إلى أن الكفار الذين سبق ذكرهم خُلقوا للنار، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين خلقوا للجنة؛ لأن قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} خطاب له وللمؤمنين، يدل عليه قوله بعد هذا: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} بلفظ الجمع، وإن قلنا: إن {فِطْرَتَ اللَّهِ} يعني: دين الله التوحيد، على ما ذكر المفسرون فانتصابها يكون بالإغراء، وهو قول الزجاج، وقال: {فِطْرَتَ اللَّهِ} منصوب، بمعنى: اتبع فطرة الله؛ ¬

_ = عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قول الله -عز وجل-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ} دين الله الإسلام {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قالوا لدين الله". نقله عنه شيخ الإسلام، "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 367. ويدل لذلك ما أخرجه ابن جرير 21/ 41، عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه؛ وقال: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وعن عكرمة ومجاهد كذلك. قال شيخ الإسلام: "لا منافاة بينهما كما قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه، والخِصاءُ وقطع الأُذن أيضًا تغيير لخلقه، ولهذا شبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أحدهما بالآخر في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمةً جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" فأولئك يغيرون الدين، وهؤلاء يغيرون الصورة بالجَدْع والخِصاء، هذا تغيير لما خُلقت عليه نفسه، وهذا تغيير ما خُلق عليه بدنه". (¬1) "معاني القرآن" 2/ 657. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 324، ولفظه: يريد: دينَ الله، منصوب على الفعل.

31

لأن معنى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} اتبع الدين القيم، اتبع فطرة الله. قوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قد ذكرنا معناه: لا تبديل لما خلقهم له. وقال مجاهد وإبراهيم: الدين: الإسلام، و {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله (¬1). وعلى هذا المراد بلفظ النفي: النهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشرك والكفر. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قال مقاتل: يعني التوحيد هو الدين المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني: كفار مكة {لَا يَعْلَمُونَ} بتوحيد الله (¬2). 31 - قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال الأخفش: نصبه على الحال؛ لأنه حين قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} قد أمرَه، وأمرَ قومه حتى كأنه قال: فأقيموا وجوهكم منيبين (¬3). وقال المبرد: لما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} كانت له ولأمته قاطبة؛ وهذا أجودُ كلامٍ إذا كان واحداً حاضرًا أن تأمره بما يخصه، وتعم من وراءه من يأمره (¬4) كقولهم: يا زيد اتق عمرًا، واحذروا أن تظلموه، إذا كان زيد رئيس القوم؛ هم مأمورون بما أُمر به زيدٌ. ونحو هذا قال الفراء، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 103، عن قتادة وقال عبد الرزاق: وقال معمر: كان الحسن يقول: فطرة الله الإسلام. وأخرجه ابن جرير 21/ 41، عن مجاهد، وعكرمة، وقتادة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وابن زيد، وإبراهيم النخعي. وصحح إسناد ابن جرير إلى مجاهد شيخ الإسلام ابن تيمية. "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 374. وبوَّب البخاري في "صحيحه" فقال: باب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: لدين الله. "فتح الباري" 8/ 512. (¬2) "تفسير مقاتل" 79 أ. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 657 (¬4) هكذا في النسختين؛ ولعل الصواب: وتعم من وراءه ممن يأتمر بأمره. ويوضح هذا المثال الذي ذكره بعد ذلك.

32

وصاحب النظم (¬1). وقال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين؛ لأن مخاطبة النبي عليه السلام تدخل معه فيها: الأمة؛ والدليل على ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] قال: ومعناه: راجعين إلى كل ما أمر الله به، مع التقوى وأداء الفرائض (¬2)، وهو قوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. ثم أخبر أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد؛ فقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. 32 - {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬3) ذكرنا تفسيره في آخر سورة: الأنعام (¬4). وهذه الآية متصلة بالأُولى؛ لأنها من نعت المشركين. قال الفراء: وإن شئت استأنفت قولَه تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) قال الفراء في إعراب {مُنِيبِينَ}: منصوبة على الفعل، وإن شئت على القطع، فأقم وجهك ومن معك منيبين مقبلين إليه. "معاني القرآن" 2/ 325. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 185. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 185. (¬4) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [159]: "قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: المشركين بعضهم يعبدون الملائكة يزعمون أنهم بنات الله، وبعضهم يعبد الأصنام {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فهذا معنى: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي: فرقًا وأحزابًا في الضلالة؛ فتفريقهم دينهم أنهم لم يجتمعوا في دينهم الذي هو شرك على شيء واحد .. ". (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 325، وتمامه: كأنك قلت: الذين تفرقوا وتشايعوا كل حزب بما في يده فرح.

33

قال مقاتل: كل أهل ملة (¬1) بما عندهم من الدَّين راضون به (¬2). وقال الزجاج: كل حزب من هذه الجماعة الذين فرقوا دينهم فرح؛ يظن أنه هو المهتدي (¬3). وهذا مذكور في سورة: المؤمنين (¬4). 33 - قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ} قال مقاتل: يعني كفار مكة، الضر يعني: القحط والسَّنة {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه (¬5). قال أبو إسحاق: أي لا يلتجئون في شدائدهم إلى مَنْ عبدوه مع الله -عز وجل-، إنما يرجعون في دعائهم إليه وحده (¬6). قوله: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} قال مقاتل: إذا أعطاهم من عنده، يعني: المطر {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} يقول: تركوا توحيد ربهم في ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 79 أ. وفي النسختين: (مكة). بدل: (ملة)؛ وهو تصحيف. (¬2) "تفسير مقاتل" 79 أ. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 186. (¬4) عند قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقد أحال الواحدي في تفسيرها على سورة الأنبياء؛ حيث قال: "والكلام في هذا قد سبق في نظيرتها في سورة الأنبياء". "البسيط" 2/ 619. تح/ المديميغ. قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93]: "قال ابن عباس: يريد المشركين اتخذوا من دونه آلهة. هذا كلامه في رواية عطاء. والصحيح أن هذا إخبار عن جميع مخالفي شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: اختلفوا في الدين فصاروا فيه فرقا وأحزابًا. ويجوز أن يكون هذا الاختلاف راجعًا إلى اختلاف أهل كل ملة كاختلاف اليهود فيما بينهم، واختلاف النصارى؛ وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يرجع إلى مخالفتهم دين الحق". "البسيط" 1/ 187 (تح/ المديميغ). (¬5) "تفسير مقاتل" 79 أ. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 186.

34

الرخاء، وقد وحدوه في الضراء (¬1). 34 - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} هذه الآية مفسرة في آخر سورة: العنكبوت (¬2). وقوله: {فَتَمَتَّعُوا} قال أبو إسحاق: هذا خطاب بعد الإخبار؛ لما قال: {لِيَكْفُرُوا} كان خبرًا عن غائب، وكأن المعنى: فتمتعوا أيها الفاعلون لهذا, وليس هذا بأمر لازم، بل هو أمر على جهة الوعيد، يدل عليه قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني حالكم في الآخرة (¬3). 35 - وقوله: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} قال ابن عباس: حجة (¬4). قال قتادة ومقاتل: كتابًا من السماء {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا} يقولون؛ يعني: من الشرك (¬5)؛ يعني: يأمرهم به، ونعذرهم على ذلك (¬6). وهذا استفهام معناه: الإنكار، أي: ليس الأمر على هذا. 36 - ثم ذكر بطرهم عند النعمة، وبأسهم عند (¬7) الشدة بقوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} الآية، وهذا خلاف وصف المؤمن؛ فإنه يشكر عند ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 79 أ. (¬2) عند قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت]. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 186. قال الأخفش: كأنه قال: فقد تمتعوا فسوف يعلمون. (¬4) ذكره الثعلبي 8/ 169 أ، عن ابن عباس، والضحاك. (¬5) أخرج ابن جرير 21/ 44، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" 79 أ. وذكره الثعلبي 8/ 169 أ، عن قتادة والربيع. (¬6) "تفسير الثعلبي" 8/ 169 أ. واقتصر عليه الفراء، ولم ينسبه. "معاني القرآن" 2/ 325. (¬7) (عند) ساقطة من النسختين؛ وزدتها لاستقامة الكلام.

37

النعمة، ويرجو ربه عند الشدة، ويرغب إليه في كشفها. قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني: شدة وبلاء {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بما عملوا من السيئات {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} {إِذَا} جواب الشرط، وهو مما يجاب به الشرط، قوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} في موضع: قنطوا (¬1). 37 - قال مقاتل: ثم وعظهم فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ} الآية (¬2) 38 - وقوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي: من الصلة والبر (¬3). قال مقاتل: حقُّ القرابة: الصلة (¬4). وقال قتادة: إذا كان لك ذو قرابة فلم تصله بمالك، ولم تمش إليه برجلك فهو قطيعة (¬5). وقال أبو إسحاق: وفرائض المواريث كأنها قد نَسختْ هذا؛ أعني: ¬

_ (¬1) ذكر الإعراب، والمعنى: سيبويه، "الكتاب" 3/ 63، وذكره المبرد في "المقتضب" 2/ 58، وقال في 3/ 178: فأما (إذا) التي تقع للمفاجأة فهي التي تسد مسد الخبر، والاسم بعدها مبتدأ، كقولك: جئتك فإذا زيد، وكلمتك فإذا أخوك، وتأويل هذا: جئت ففاجأني زيد، وكلمتك ففاجأني أخوك، وهذه تغني عن الفاء، وتكون جوابًا للجزاء؛ نحو: إن تأتني إذا أنا أفرح، على حد قولك: فأنا أفرح، قال الله -عز وجل-: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فقوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} في موضع: يقنطوا. وذكره أيضًا الأخفش، "معاني القرآن" 2/ 657. وأبو علي، "الإيضاح العضدي" 1/ 330. وابن جني، "سر صناعة الإعراب" 1/ 254، 261. (¬2) "تفسير مقاتل" 79 ب. (¬3) تفسير ابن جرير 21/ 45. (¬4) "تفسير مقاتل" 79 ب. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 103.

حق القرابة، وجائز أن تكون القرابة حق لازم في البر (¬1). وقوله: {وَالْمِسْكِينَ} قال ابن عباس: أطعم الطواف (¬2) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 187. والصحيح أن الآية لا نسخ فيها، فحق ذوي القربى ثابت بالإحسان إليهم بالكلام الحسن، والقول المعروف، ووصلهم بالنفقة إذا كانوا محتاجين، ووقع الخلاف بين أهل التفسير هل الأمر في الآية للوجوب أم للندب على قولين؛ قال القرطبي 14/ 35: "واختلف في هذه الآية؛ فقيل: إنها منسوخة بآية المواريث، وقيل: لا نسخ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال، وهو الصحيح، قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله -عز وجل-، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة. وقيل: المراد بالقربى أقرباء النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ والأول أصح؛ فإن حقهم مبين في كتاب الله -عز وجل- في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وقيل: إن الأمر بإيتاء ذي القربى على جهة الندب. قال الحسن: {حَقَّهُ} المواساة في اليسر، وقول ميسور في العسر". وحكى الشوكاني قول القرطبي مقررًا له. "فتح القدير" 4/ 219. قال أبو المظفر السمعاني 4/ 215: "أكثر المفسرين على أن المراد من إيتاء ذي القربى هاهنا صلة الرحم بالعطية والهدية، ثم ذكر قول قتادة. وقال القاسمي: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي: من البر والصلة. واستدل به أبو حنيفة على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب؛ لأن {ءاتِ} أمر للوجوب. والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه: مالي، وهو استدلال متين. "تفسير القاسمي" 13/ 181. قال ابن كثير: "يقول تعالى آمرًا بإعطاء ذي القربى حقه أي: من البر والصلة". "تفسير ابن كثير" 6/ 318. وهو قول البغوي 6/ 272. قال أبو حيان 7/ 169، بعد ذكر رأي الحنفية: "الظاهر أن الحق ليس الزكاة وإنما يصير حقاً بجهة الإحسان والمساواة". قال ابن عطية 11/ 459: "هذا على جهة الندب". وهذا محمول على إذا لم تكن قرابته محتاجة، إذا كانت قرابته محتاجة فقيرة وهو غني مقتدر فيجب عليه أن يصل قرابته بماله. والله أعلم. (¬2) ذكره عنه القرطبي 14/ 35 , بلفظ: أطعم السائل الطواف.

39

وقال مقاتل: حقه أن يُتصدق عليه (¬1). وقوله: {وَابْنَ السَّبِيلِ} يعني: حق الضيف عليك أن تحسن إليه (¬2). {ذَلِكَ خَيْرٌ} يقول: إعطاء الحق أفضل من الإمساك {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} (¬3) يطيعون بما يعلمون ثوابه. ثم نعتهم فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4). 39 - قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} الآية، روى قتادة عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي هدية الرجل يهدي الشيء يريد أن يثاب أفضل منه، فذلك الذي لا يربو عند الله، لا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه فيه (¬5). وعن مجاهد قال: هي الهدايا (¬6). وروى ابن أبي روَّاد عنه قال: هو الربا الحلال؛ يهدي الرجل الشيء ليُهدَى له أفضل منه، فهو حلال ليس فيه إثم ولا أجر (¬7). وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 79 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 79 ب. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 187. (¬3) "تفسير مقاتل" 79 ب. (¬4) "تفسير مقاتل" 79 ب، من قوله: ثم نعتهم. (¬5) أخرجه عبد الرزاق 2/ 103، وأخرجه ابن جرير 21/ 84، عن ابن عباس من طريق قتادة. وأخرجه ابن جرير 21/ 46، من طريق محمد بن سعد بإسناده عن ابن عباس. وهو قول مقاتل 79 ب. (¬6) أخرجه ابن جرير 21/ 46. (¬7) أخرجه عبد الرزاق 2/ 104، عن الضحاك بن مزاحم، من طريق عبد العزيز بن أبي رواد. - عبد العزيز بن أبي رواد، شيخ الحرم، واسم أبيه: ميمون، حدث عن سالم بن عبد الله، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة، ونافع، وغيرهم، وحدث عنه: يحيى القطان، وعبد الرزاق، وابن المبارك، وغيرهم، صدوق عابد، وربما وهم، ورمي بالإرجاء، ت: 159 هـ. "سير أعلام النبلاء" 7/ 184، و"تقريب التهذيب" ص 612.

تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] نزلت في النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، نُهي أن يُهدِي هدية فيُهدَى له أفضل منها، وحَرُم ذلك عليه خاصة (¬1). وقال السدي: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه، طلبَ المكافأة، فإن ذلك لا يربو عند الله، ولا يؤجر عليه صاحبه. وقال سعيد بن جبير: هذا في الرجل يُعطِي ليثابَ عليه (¬2). هذا قول المفسرين في هذه الآية. وشرحها أهل المعاني؛ فقال أبو إسحاق: يعني به: دفعُ الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، فذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه (¬3). وقال أبو علي الفارسي: {مَا} في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ} يحتمل تقديرين؛ يجوز أن تكون للجزاء (¬4)، ويجوز أن تكون موصولة؛ فإن قدرتها جزاء كانت في موضع نصب بـ: {آتَيْتُمْ} وقوله تعالى: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} في موضع جزم بأنه جواب للجزاء، ويقوي هذا الوجه: قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ألا ترى أنه لو كان مبتدأً لعاد عليه ذكرٌ، وإن جعلتها موصولة كان موضع {مَا} رفعًا بالابتداء، و {آتَيْتُمْ} صلة، والعائد ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 21/ 46، ولم ينسبه. وقد كُتب في "تفسير ابن جرير" بعد قول الضحاك مفصولًا عنه، فلعله من قول الضحاك، وفصْله عنه خطأٌ، وقد أورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 495، من كلام الضحاك، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. وذكره عن الضحاك الثعلبي 8/ 169 أ. ذكر ابن كثير 8/ 264، في آية المدثر أربعة أقوال، استظهر منها القول الذي اقتصر عليه الواحدي. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 46. (¬3) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 187، بمعناه. (¬4) أي: اسم شرط جازم.

إلى الموصول: الذكر المحذوف من {آتَيْتُمْ} (¬1) وقوله: {فَلَا يَرْبُو} في موضع رفع بأنه خبر الابتداء، والفاء دخلت في الخبر على حد بما دخلت في قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. وقوله: {آتَيْتُمْ} أكثر القراء قرأ: {آتَيْتُمْ} بالمد (¬2)، (¬3) إلى قول: من مد كأنه قيل: ما جئتم من ربًا، ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء له كما قال (¬4): أتيت الخطأَ، وأتيت الصوابَ، وأتيت قبيحًا، قال الشاعر: أتيتُ الذي يأتي السفيه لِغرتي ... إلى أن علا وَخْطٌ من الشيبِ مَفْرِقي فإتيانه الذي يأتي السفيه إنما هو فعل منه له (¬5). وقوله: {مِنْ رِبًا} على ضربين؛ أحدهما: متوعد عليه محرم بقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] والآخرُ غير محرم: وهو أن يُهدِي ¬

_ (¬1) يعني بالذكر المحذوف هنا: الضمير الواقع مفعولًا في قوله تعالى: {آتَيْتُمْ} والتقدير: الذي آتيتموه، وسر تسميته بالذكر المحذوف -فيما يظهر- أن المقدر هنا كالمذكور سواء بسواء. (¬2) قرأ ابن كثير: {أَتَيْتُمْ} مقصورة، والباقون: {آتَيْتُمْ} بالمد، في قوله تعالي: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} وأما قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} فلم يختلفوا في مدها. "السبعة في القراءات" ص 507، "والحجة للقراء السبعة" 5/ 446، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" 2/ 196، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 344. (¬3) يوجد هنا سقط في النسختين؛ ولا يتم المعنى بدونه، وتمام الكلام كما هو عند أبي علي في "الحجة" 5/ 446: "وأما قصر ابن كثير فإنه يؤول في المعنى إلى قول من مد .. ". (¬4) في "الحجة" 5/ 446: كما تقول. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 446، وأنشد البيت كاملًا, ولم ينسبه. الغِزُّ: الصغير الذي لم يجرب الأمور، يقال: كان ذلك في غرارتي وحداثتي. "تهذيب اللغة" 16/ 71 (غرر). والمفرق: وسط الرأس. "لسان العرب" 10/ 301 (فرق).

شيئًا، أو يهبه فيستثيب أكثر منه. وسمي بهذا المدفوع على وجه اجتلاب الزيادة: ربًا، لَمَّا كان الغرض فيه الاستزادة على ما أَعطى، فسمي باسم الزيادة، لمكان الزيادة المقصودة في المكافأة، والربا هو: الزيادة، فبذلك سُمِّي المحرم ربًا، لزيادة ما يأخذ على ما دَفع (¬1). وقوله: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} فاعل (يَرْبُوَا) الربا المذكور في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} وقُدِّر المضاف فحذفه، كأنه: في اجتلاب أموال الناس، أو اجتذابه، ونحو ذلك (¬2). وقرأ نافع: (لِتُربوا) بالتاء وضمها (¬3)، أي: لتصيروا ذوي زيادة من ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 447، بتصرف. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 187، بمعناه، وهذا من الاستطراد لبيان معنى الآية, لأن الربا المحرم لا يدخل في هذه الآية، وليس هو المراد منها، بدليل ما نقله الواحدي عن السلف في ذلك، فلم يُنقل عنهم -والله أعلم- أن الربا المحرم معني بهذه الآية، إذ لو أريد ذلك لكان في القطع بتحريمه من خلال هذه الآية نظرة فالآية ليس فيها تحريمٌ، بل فيها إخبار عن فقد الأجر والثواب لمن فعل هذا الفعل، وهذا كما سبق في قول ابن عباس: ليس فيه أجر ولا وزر. والله أعلم. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 447، ولفظه: "وقدر المضاف وحذف كأنه: اجتلاب أموال الناس، واجتذابها، ونحو ذلك". (¬3) قرأ نافع: {لِتُربوْا} بضم التاء، ساكنة الواو، وقرأ الباقون: {لِيَربوَا} بالياء، مفتوحة الواو. "السبعة في القراءات" ص 507، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 447. و"إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 196، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 344. وقد ضبط محقق كتاب "الحجة" قراءة نافع هكذا. {لِترْبُوَ} وقال بعدها: بالتاء ساكنة الواو. وهذا خطأ من وجهين؛ الأول: قراءة نافع بالتاء مضمومة، وليست مفتوحة كما ضبطها المحقق في ص 448، الثاني: الواو في قراءة نافع: ساكنة، وليست مفتوحة، مع أن المحقق قد أحال في الحاشية على كتاب "السبعة".

أموال الناس بما آتيتم، أي: تستدعونها وتجلبونها، وكأنه من: أربى إذا صار ذا زيادة، مثل: أقطف وأجدب (¬1). وقوله: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} أي: لأنكم إنما قصدتم إلى زيادة العِوض، ولم تقصدوا وجه البر والقربة، ولو قصدتم به وجه الله لكان كقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} وفي (مَا) هذه الوجهان ذكرناهما في (مَا) في أول الآية؛ فإن جعلتها: الموصولة فهي في موضع رفع، و (ءَاتَيْتُم) صلة، والراجع إلى الموصول محذوف، على تقدير: آتيتموه. قال: (وَمَاءَاتَيْتُم) ثم قال: (فَأُولَئِكَ) فانتقل من الخطاب إلى الغيبة (¬2)، كما جاء في {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] (¬3). والفاء دخلت على: (فَأُولَئِكَ) لذكر الفعل في الصلة، والجملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ} ويقدر راجعًا محذوفًا، التقدير: فأنتم المضعفون به. أي: ذوو الضعف بما آتيتم من زكاة، فحذفت العائد على حد ما حذفته من قولك: السمن منوان بدرهم (¬4). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 448، وفيه: أقطف وأجرب، بدل: أجدب. وكلاهما صحيح؛ يعني: صار ذا جدب، أو صار ذا جرب. في "تهذيب اللغة" 16/ 282 (قطف): أقطف الرجل؛ إذا كانت دابته قَطُوفًا، والقِطاف مصدر القَطوف من الدواب؛ وهو المقارب الخَطو، البطيء. (¬2) "المسائل الحلبيات" ص 85. (¬3) ذكر هذا ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص 289. (¬4) ساق هذا المثال للتدليل على حذف العائد المجرور، وتقديره: السمن منوان منه بدرهم، فحذف منه لدلالة السياق عيه، كما قدر في الآية: فأنتم المضعفون به. والله أعلم. والمَنَّ: معيار قديم يكال به أو يوزن. "لسان العرب" 13/ 418 (منن)، و"المعجم الوسيط" 2/ 888.

41

هذا كله كلام أبي علي ذكره في مواضع متفرقة، فرددت كلًا إلى موضعه. قال أبو إسحاق: وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة وإنما تقصدون بها ما عند الله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي: فأهلها يضاعف لهم الثواب؛ يُعطون بالحسنة عشر أمثالها. وقيل {الْمُضْعِفُونَ} كما يقال رجل مقوٍ؛ أي: صاحب قوة، وموسر، أي: صاحب يسار، وكذلك: مُضعف، ذو أضعاف من الحسنات (¬1). قال مقاتل: ثم ذكر ما أصاب الناس من ترك التوحيد في قوله تعالى: 41 - {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني: قحط المطر وقلة النبات (¬2). قال أبو علي: الفساد جاء في القرآن على ضربين؛ فساد معاقب عليه، وهو كثير (¬3). وفساد على غير ذلك؛ بمعنى: الجدْب (¬4)، وهو المراد في هذه الآية، وهذا كما قلنا في: الحسنة والسيئة؛ وقد ذكرنا ذلك في قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 188. (¬2) "تفسير مقاتل" 79 ب. (¬3) مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12]. وقد ورد الفساد بهذا المعنى في أكثر من خمسة وأربعين موضعًا في القرآن الكريم. انظر الآيات في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم 518 (فسد). (¬4) من أمثلته قول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، وهو بهذا المعنى قليل لم أجده إلا في أربعة مواضع؛ البقرة: 251، الأنبياء: 22، المؤمنون: 71، وآية الروم هذه. والله أعلم. (¬5) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: "قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة ما يحسن عليه أثره. ثم ذكر قول أبي علي الذي ذكره هنا، ثم قال: والمعنى: أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة، وبالرخاء تارة".

وقوله: {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال: يعني: حيث لا يجري نهر، وهو لأهل العمود والبحر، ونقصُ الثمار في الريف؛ يعني: القرى تجري (¬1) فيها الأنهار (¬2). قال ابن عباس في رواية عكرمة: أما البحر فما كان من المدائن والقرى على شاطئ نهر، وأما البر: فالبرية التي ليس عندها نهر (¬3). وقال السدي: الفساد: القحط. والبر: كلُّ قرية من قرى العرب نائيةٍ عن البحر، مثل: المدينة ومكة. [قال: والعرب تسمي الأمصار: بحرًا] (¬4) وأما البحر: فكلُّ قريةٍ مثلُ: البصرة والكوفة والشام (¬5). وقال عكرمة: أما إني لا أقول: بحركم هذا, ولكن كل قرية على ماء، قال: والعرب تسمي الأمصار: بحرًا (¬6). وقال فضيل بن مرزوق: قلت لعطية في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ ¬

_ (¬1) (تجري): مكررة مرتين في (ب). (¬2) كتاب "الشعر" لأبي علي 2/ 457، بتصرف. قال مقاتل 79 ب: ثم أخبرهم أن قحط المطر في البر ونقص الثمار في الريف حيث تجري فيها الأنهار إنما أصابهم بترك التوحيد، فقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني: قحط المطر، وقلة النبات حيث لا تجري فيها الأنهار لأهل العمود، ثم ظهر الفساد يعني: قحط المطر، ونقص الثمار في البحر، يعني: الريف، يعني: القرى التي تجري فيها الأنهار. قال الليث: يقال لأهل الأخبية الذين لا ينزلون غيرها: هم أهل عَمُود، وأهل عماد. كتاب "العين" 2/ 57 (عمد) ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" 2/ 251. (¬3) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 496، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ). (¬5) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 497، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬6) أخرجه ابن جرير 21/ 49.

وَالْبَحْرِ} هذا البر، فالبحر أي فساد فيه؟ قال: يقال إذا قلَّ المطر قلَّ الغوص (¬1). يعني: أن البحر إذا أمطر تفتح الأصداف أفواهها، فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ (¬2). وعلى هذا المراد بالبحر: بحر الماء لا القرى. والقول هو الأول (¬3). قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أي: من المعاصي (¬4). يعني: كفار مكة {لِيُذِيقَهُمْ} الله بالجوع في السنين السبع (¬5) {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} أي: جزاء {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكي يرجعوا من الكفر إلى الإيمان (¬6). هذا الذي ذكرنا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. وذُكر في تفسيرها أقوالٌ لا تليق ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 21/ 49. فضيل بن مرزوق الأغر، الرَّقاشي، الكوفي، أبو عبد الرحمن، صدوق يهم، ورمي بالتشيع، حدث عن عدي بن ثابت، وعطية العوفي، وشقيق بن عقبة، وغيرهم، وحدث عنه وكيع، وأبو نُعيم، وعلي بن الجعد، وغيرهم. روى له مسلم في المتابعات، ت: 160 هـ. "سير أعلام النبلاء" 7/ 342، و"تقريب التهذيب" 786. (¬2) ذكره الثعلبي 8/ 169 ب، عن ابن عباس. (¬3) يعني أن المراد بالبحر: القرى التي على شاطىء البحر، وهذا القول وإن كان له وجه، لكن إجراء الآية على ظاهرها حيث لا يمنع من ذلك شيء أولى. ولعل الذي حمل الواحدي على ترجيح هذا القول تفسيره الفساد في الآية بالجدب والقحط، وهو غير مُتصور في البحر. وسيأتي توضيح القول الصحيح إن شاء الله تعالى. (¬4) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" 6/ 497، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬5) المراد بذلك ما ورد في الحديث الصحيح في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة بسنين كسني يوسف، -عليه السلام-، وقد سبق ذكره وتخريجه في تفسير الآية: 93، من سورة النمل. (¬6) "تفسير مقاتل" 79 ب، بنصه.

بالآية؛ منها قول قتادة: {ظَهَرَ الْفَسَادُ} فقال: هو الشرك امتلأت الأرض ظلمًا وضلالة، قبل أن يبعث الله نبيه (¬1). قال مجاهد: قَتْلُ ابنِ آدم أخاه في البر، وأخذُ الملِك السفنَ غصبًا في البحر (¬2). قال الحسن: أفسدهما الله بذنوبهم في بر الأرض وبحرها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يرجع مَنْ بعدهم (¬3). وهذه الأقوال مرذولة فاسدة ليست تحسن في تفسير هذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 104، وابن جرير 21/ 49. (¬2) أخرجه ابن جرير 21/ 49. (¬3) أخرجه ابن جرير 21/ 49، 50. وأخرج عن ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال: الذنوب. (¬4) كان الأولى بالواحدي أن يبين ضعف هذه الأقوال دون الحاجة لوصفها بهذا الوصف. فعلى القول الذي صححه الواحدي يكون المراد بالفساد: ما أصاب الناس من القحط والجدب. وعلى القول الثاني الذي رده الواحدي، المراد بالفساد: ظهور الشرك والمعاصي في كل مكان، من البر والبحر، وانتشار الظلم، وحصول النقص في الخيرات، والحروب، والكوارث، ونحو ذلك كلُه {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أي: بذنوب الناس انتشر الشر والظلم والفسق والفجور في البر والبحر. وقد اقتصر على هذا القول ابن جرير 21/ 50، قال: "فتأويل الكلام إذًا إذ كان الأمر كما وصفت: ظهرت معاصي الله في كل مكان، من بر وبحر {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أي: بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما". وقد تأول ابن جرير هذا القول من أقوال قتادة، ومجاهد، والحسن، التي وصفها الواحدي بأنها: أقوال مرذولة!؛ والصواب أنها أقوال مناسبة لسياق الآية، ولظاهرها كما يدل عليه تمثيل مجاهد للفساد في البحر: بأخذ السفن غصبا، وهذا هو مقتضى الحكمة، والقول الذي =

42

42 - قال مقاتل: ثم خوفهم فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} الآية (¬1)، وقوله: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} فأهلكوا بكفرهم. وإخباره عنهم بالشرك إخبار عن إهلاكهم؛ ودل عليه قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} ومعلوم أن عاقبتهم كان إلى الهلاك. ¬

_ = اختاره الواحدي محمول على التمثيل للفساد بالجدب والقحط، لا على أنه هو المقصود وحده حتى يتأول البحر بالقرى المحيطة به، وينبني على القول الذي اختاره الواحدي أن الذنوب والمعاصي كلما زادت قل المطر وانتشر الجدب والقحط، وهذا غير مسلم؛ لأن الله تعالى أخبرنا في كتابه الكريم أنه لا يمنع الناسَ الرزقَ بسبب كفرهم، بل قد يمدهم بالرزق والنعم استدراجًا، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56] وأخبر تعالى أنه لو يؤاخذ الناس بذنوبهم لهلكوا ولم يبق منهم أحد، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45] حتى الدواب تهلك تبعًا لهلاك بني آدم، بسبب ذنوب بني آدم، ولا يُعترض على هذا بمثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] فالآية في زيادة الخير والرزق لمن حقق الإيمان والتقوى، بل إن من حكمة الله تضييق الرزق على الأنبياء وأتباعهم، تعظيمًا لأجرهم في الآخرة كما لا يخفى، وخلاصة ذلك أن اعتراض الواحدي ورده لهذه الأقوال لم يبين دليله عليه، مع أن القول الذي رده ظاهر جدًا من سياق الآية، وعليه فيحمل الفساد على ما يظهر في البر والبحر من الكفر والظلم والطغيان، وما يلحق الناس بسبب ذلك من نقص المطر وحصول القحط والجدب، والعذاب بالزلازل والخسف والغرق، والحروب، والسلب والنهب، والخوف وغيره من أنواع الفساد الذي ينتشر بسبب ذنوب الناس؛ من الشرك وغيره، ومما يدل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. والله تعالى أعلم. (¬1) "تفسير مقاتل" 80 أ.

43

43 - قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} قال أبو إسحاق: أقم قَصدك، واجعل جهتَك اتباع الدين القيم (¬1). قال مقاتل: وهو الإسلام المستقيم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} يعني: يوم القيامة لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم (¬2)؛ لأن الله قد قضى بمجيئه، فإذا جاءكم لا مردَّ له. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي: يتفرقون بعد الحساب، إلى الجنة والنار. قاله مقاتل (¬3). وهذا كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} وقد مر (¬4). قال الفراء: {يَصَّدَّعُونَ}: يتصدعون، أي: يتفرقون، تقول العرب: صدَعتُ غنمي صِدْعَتين، أي: فَرَقْتُها فِرقتين (¬5). 44 - قوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} قال ابن عباس: يجازى بكفره. قال مقاتل: عليه إثم كفره (¬6) {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي: يوطئون لأنفسهم منازلهم (¬7). وقال الكلبي: يفرشون (¬8). وقال مجاهد: يسوون المضاجع في القبر (¬9). يقال: مهدت لنفسي ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 188. (¬2) "تفسير مقاتل" 80 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 80 أ. والزجاج، "معاني القرآن" 4/ 188. (¬4) الآية 14، من هذه السورة. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 325، وليس فيه: يتصدعون. (¬6) "تفسير مقاتل" 80 أ. (¬7) قال الزجاج 4/ 188: أىِ: لأنفسهم يوطئون. (¬8) "تنوير المقباس" ص 342. (¬9) أخرجه ابن جرير 21/ 52.

45

خيرًا؛ أي: هيأته ووطأته. 45 - قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} اللام متعلقة بقوله: {يَمْهَدُونَ} أي: يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله {مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم. 46 - قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} قال ابن عباس: بالمطر (¬1) {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال: يريد الغيث والخَصْب. قال صاحب النظم: هو معطوف على تأويل: {مُبَشِّرَاتٍ} على نظم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} ليبشركم وليذيقكم من رحمته، ولتجري الفلك في البحر بتلك الرياح بأمره، ولتبتغوا في البحر من فضله، يعني: الرزق بالتجارة. قال مقاتل: كل هذا بالرياح {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمة فتوحدونه. 47 - ثم خوف كفار مكة، وعزَّى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} (¬2) أي: بالدلالات الواضحات على صدقهم. وقال ابن عباس: بالفرائض والحلال والحرام. وقال مقاتل: أخبروهم بالعذاب أنه نازل بهم إن لم يؤمنوا (¬3). قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} كفروا بآياتهم (¬4). وقال الكلبي: جرمهم هاهنا: الكفر (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 342، وأخرجه ابن جرير 21/ 53، عن مجاهد. (¬2) "تفسير مقاتل" 80 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 80 أ. (¬4) الضمير يعود على البينات التي جاء بها الرسل، كما يدل عليه سياق الآية. (¬5) "تنوير المقباس" (342)، وهو قول مقاتل 80 أ.

48

{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} قال الحسن: نصر المؤمنين: إنجاؤهم مع الرسل من عذاب الأمم. وهو قول الكلبي ومقاتل (¬1). ومعنى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا} واجبًا، يعني: وجوبًا هو أوجبه على نفسه من حيث أخبر به، وإذا أخبر بشيء حق ذلك الشيء ووُجِد على ما أخبر به. وقد أخبر أنه ينجي المؤمنين من عذاب المكذبين. ولا يجب على الله شيء ابتداءً بخلاف ما قالت القدرية. وفي هذا تبشير النبي -صلى الله عليه وسلم- بالظَفَر في العاقبة، والنصر على مَنْ كذبه. 48 - قال مقاتل: ثم أخبر عن صُنعه ليعرفوا توحيده فقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} (¬2) يزعجه من حيث هو {فَيَبْسُطُهُ} الله {فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} قال مقاتل: إن شاء بسطه مسيرة يوم، أو بعض يوم، أو مسيرة أيام (¬3) {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} أي: قطعًا (¬4)، بعد أن بسطه الله يجعله قطعًا متفرقًا يسير بها الريح. وتفسير الكِسْف، قد ذكرناه في أواخر سورة بني إسرائيل (¬5). ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" ص 342، و"تفسير مقاتل" 80 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 80 أ. (¬3) "تفسير مقاتل". 80 أ، والمراد بذلك المطر النازل من السحاب تختلف كثرته وقلته، من مسيرة يوم، أو أيام، وهذا مقصود مقاتل، حيث قال: أو مسيرة أيام يمطرون. والظاهر من الآية بسطه في السماء قبل نزوله، بدليل ما ذكر في الآية بعد ذلك من تقطيع السحاب، ثم نزول المطر. والله أعلم. (¬4) أخرج ابن جرير 21/ 54، عن قتادة. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 189، ولم ينسبه. (¬5) عند قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [92] قال الواحدي: =

49

وقوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} مفسر في سورة: النور (¬1) {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} بالمطر {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بنزول المطر عليهم (¬2). 49 - {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ} اختلفوا في تفسير {قَبْلِ} فذكر أبو إسحاق وابن الأنباري فيه قولين؛ أحدهما: أن الأُولى: داخلة في الإنزال، والثانية: على المطر، والمعنى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ} إنزال المطر، من قبل المطر، فلما دخلت الثانية على غير ما دخلت عليه الأولى صلح الجمع بينهما، كما تقول: أجيئك من قبل أن تجلس، مِنْ قبل أن تبلغ إلى المجلس، فلا تُنكر الإعادة إذا اختلف الشيئان. هذا كلام أبي بكر (¬3)، وهو قول قطرب (¬4). القول الثاني: أن تكرير {قَبْلِ} إطناب بمعنى: التوكيد (¬5). والمعنى: وإن كانوا من قبل إنزال المطر {لَمُبْلِسِينَ} قال أبو إسحاق: والقول ما ¬

_ = "قوله تعالى: {كِسَفًا} فيه وجهان من القراءة؛ جزم السين وفتحها، قال أبو زيد: يقال كسفت الثوب أكْسِفُه كَسْفُا، إذا قطعته قِطَعًا .. قال الفراء: وسمعت أعرابيًا يقول لبزاز: أعطني كِسْفة، يريد: قطعة كقولك: خِرْقَه، روى عمرو عن أبيه: يقال لِخِرَق القميص قبل أن يُؤَلَّفَ: الكِسَف، واحدها كِسْفَة". (¬1) عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ..} [43]. (¬2) "تفسير مقاتل" 80 ب. (¬3) المراد به: ابن الأنباري؛ ولم أقف على قوله. (¬4) نسبه لقطرب الزجاج 4/ 189، والثعلبي 8/ 170 أ. وحكاه ابن جرير 21/ 54، ولم ينسبه. أي: لما اختلف المضاف إلى الضمير لفظًا صح تكراره، والمعنى واحد، فالأول من قبل إنزال المطر، والثاني من قبل المطر، والمطر لا يكون إلا تنزيلًا. (¬5) هذا قول الأخفش. "معاني القرآن" 2/ 658، واختاره ابن جرير 21/ 54.

50

قال (¬1)؛ لأن تنزيل المطر بمعنى: المطر؛ لأن المطر لا يكون إلا تنزيلاً، كما أن الرياح لا تُعرف إلا بمرورها (¬2)؛ يعني أن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ} بمعنى: من قبل المطر عن الإنزال حتى يقال: إن قبل الأولى للإنزال، والثانية للمطر، كما قال قطرب (¬3). وقوله: {لَمُبْلِسِينَ} أي: آيسين قانطين من المطر. قاله ابن عباس ومقاتل (¬4). والتقدير: وما كانوا إلا مبلسين. وقد تقدم لهذا نظائر. 50 - قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} أي: بعد إنزال المطر، فانظر إلى حُسنِ تأثيره في الأرض. وتقرأ (آثَارِ) على الجمع (¬5)؛ فمن أفرد فلأنه مضاف إلى مفرد. ومن جمع جاز؛ لأن رحمة الله يجوز أن يراد بها: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: (قال). والصواب: ما قالوا، كما هو واضح من سياق الكلام عند الزجاج، حيث قال: "وقال الأخفش وغيره من البصريين: تكرير قبل، على جهة التوكيد، والمعنى: وإن كانوا من قبل تنزيل المطر لمبلسين، والقول كما قالوا؛ لأن تنزيل المطر .. ". (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 189. (¬3) ويمكن حمل الضمير في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} على لفظ الاستبشار المفهوم من قوله: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أو على الحال الموصوف في الآية السابقة إجمالًا المتضمن وصف السحاب وكيفية تكونه وسوقه وبسطه في السماء قبل خروج الودق منه وأثنائه، وهذا -كما يظهر- أحسن وأولى بالسياق من القول بالإطناب. والله أعلم. (¬4) "تفسير مقاتل" 80 ب. وأخرجه ابن جرير 21/ 54، عن قتادة. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 342، ولم ينسبه. (¬5) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: {إِلَى أَثَرِ} واحدة بغير ألف، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {ءَاثَرِ} جماعة. "السبعة في القراءات" ص 508، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 448، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 345

الكثرة، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: 34، النحل: 18] (¬1). قال مقاتل: {آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} يعني: النبت، وهو أثر المطر (¬2). والمطر: رحمة الله ونعمته على خلقه. وقوله: {كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم يكن فيها نبت. (إِنَّ ذَلِكَ) الذي فعل ما ترون؛ وهو الله تعالى: {لَمُحْيِ الْمَوْتَى} في الآخرة، فلا تكذبوا بالبعث (¬3) {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من البعث والموت. ثم عاب كافر النعمة، والجاهل بأن الله تعالى يفعل ما يشاء فقال: 51 - {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} قال ابن عباس: يريد عذابًا، يعني: ريحًا هي العذاب كما قال مقاتل: ريحًا باردة مضرة (¬4). والريح إذا أتت على لفظ الواحد أريد بها: العذاب، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند هبوب الرياح: "اللَّهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا" (¬5). ¬

_ (¬1) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 448، بنصه. (¬2) "تفسير مقاتل" 80 ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 80 ب. (¬4) "تفسير الثعلبي" 8/ 170 ب. ولم ينسبه. و"تفسير مقاتل" 80 ب. بنحوه. (¬5) أخرجه أبو يعلي، في "مسنده" 4/ 341، رقم (2456)، من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس، يرفعه، ومن الطريق نفسه أخرجه الطبراني، في "المعجم الكبير" 11/ 170، رقم (11533)، قال الهيثمي: فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير. "مجمع الزوائد" 10/ 135. وهذا الحديث له طريق آخرة قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم، أنبأنا العلاء بن راشد، عن عكرمة عن ابن عباس .. الحديث. قال الأصم: سمعت الربيع ابن سليمان يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرني من لا أتهم؛ يريد به: إبراهيم بن أبي يحيى السلمي. "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" 3/ 59، قال ابن حجر: =

51

قوله تعالى: (فَرَأَوْهُ) يعني: النبت والزرع الذي كان من أثر الريح رحمةِ الله {مُصْفَرًّا} قال ابن عباس ومقاتل: متغيرًا من البرد بعد الخضرة (¬1). وقوله: {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} قال: معناه: لَيَظَلُنَّ، معنى الكلام: الشرط والجزاء (¬2)، قال الخليل: معناه: لَيَظَلُنَّ، فأوقع الماضي موقع المستقبل (¬3)، كقول الحطيئة: شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه أي: يشهد (¬4). وقوله: {بَعْدِهِ} أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة. وهذا بيان عن حال الجاهل عند المحنة من كفره ما سلف من النعمة. قال أبو إسحاق: يعني فهم يستبشرون بالغيث، ويكفرون إذا انقطع ¬

_ = إبراهيم بن يحيى هذا ضعيف. "الشافي الكاف بحاشية الكشاف" 3/ 468. وقال الألباني عن إسناد الشافعي: فيه العلاء بن راشد مجهول، يروي عنه إبراهيم بن أبي يحيى، وهو الأسلمي: متهم. "مشكاة المصابيح" 1/ 483، رقم (1519). (¬1) "تفسير مقاتل" 80 ب. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 189. (¬3) "الكتاب" 3/ 108؛ قال سيبويه: "وسألته عن قوله -عز وجل-: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} فقال: هي في معنى: ليفعلُنَّ، كأنه قال: ليظلُنَّ، كما تقول: والله لا فعلت ذلك أبدًا تريد معنى: لا أفعل". وما ذكره الواحدي بنصه في "سر صناعة الإعراب" 1/ 398. (¬4) أنشده كاملًا ونسبه ابن جني، "سر صناعة الإعراب" 1/ 398، وعجزه: أن الوليد أحقُّ بالعذر والوليد، هو: الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وهو في "ديوان الحطيئة" 199.

52، 53

عنهم الغيث، وجف النبت (¬1). قال الكلبي: يقول الله تعالى: لو فعلت ذلك بهم لفعلوا (¬2)؛ يعني: أنهم يفرحون عند الخصب، فلو أرسلت عذابًا على زرعهم كفروا سالف نعمتي، وكفروا ما كانوا يستبشرون به، وليس كذا حال المؤمن؛ لأنه لا يستشعر الخيبة والكفران عند الشدة والمحنة. 52، 53 - قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} هذه الآية، والآية التي بعدها مفسرتان في سورة: النمل (¬3). 54 - قال مقاتل: ثم أخبر عن خلق أنفسهم ليتفكر المكذب بالبعث في خلق نفسه فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} (¬4) قال قتادة والكلبي: يعني من نطفة (¬5). قال الزجاج: تأويله أنه خلقكم من النُّطفِ في حال ضعف (¬6). قال أبو علي: المعنى: خلقكم من ذي ضعف، أي: من ماء ذي ضعف، كما قال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] (¬7). ومعنى ضَعفِ ذلك الماء: أنه قليل. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 189. (¬2) "تنوير المقباس" 343. (¬3) عند قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ..} [80، 81]. (¬4) "تفسير مقاتل" 80 ب. (¬5) أخرجه ابن جرير 21/ 56، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" 80 ب. و"تنوير المقباس" ص 343، وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" ص 343، ولم ينسبه. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 190. (¬7) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 450.

وقرئ {ضَعْفٍ} بفتح الضاد (¬1)، وهما لغتان (¬2)؛ قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم. والاختيار: الضم؛ لما روي أن ابن عمر قرأ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، فردَّ عليه بالضم (¬3). ¬

_ (¬1) قرأ عاصم وحمزة: {مِنْ ضَعْفٍ} و {مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} و {ضَعْفًا} بفتح الضاد فيهن كلهن، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي بضم الضاد فيهن كلهن، وقرأ حفص عن نفسه، لا عن عاصم: بضم الضاد. "السبعة في القراءات" ص 508، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 450. قال ابن الجزري: وقد صح عن حفص الفتح والضم جميعًا. "النشر في القراءات العشر" 2/ 345. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 450. (¬3) لم أجده عند الفراء، لكن نسبه له الثعلبي 8/ 170 ب. واختار هذه القراءة للرواية الزجاج 4/ 191. والحديث أخرجه الإمام أحمد 7/ 153، تح: أحمد شاكر، والترمذي 5/ 174، كتاب "القراءات" رقم (2936)، وأبو داود 4/ 283، كتاب "الحروف والقراءات"، رقم (3978)، والحاكم 2/ 270، كتاب التفسير، رقم (2974)، وأخرجه الثعلبي 8/ 170 ب، كلهم من طريق فُضيل بن مرزوق عن عطية بن سعد العوفي، قال: قرأت على ابن عمر {مِنْ ضَعْفٍ} فقال {مِنْ ضَعْفٍ} قرأتهُا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قرأتَها عليَّ، فأَخذ علي كما أخذت عليك. وضَعَّف وضعف الحديث الشيخ: أحمد شاكر، لضعف عطية العوفي، راويه عن ابن عمر، "مسند الإمام أحمد" 7/ 153، (تح: أحمد شاكر)، والحديث لا يُعرف بهذا اللفظ إلا من طريقه كما قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق عن عطية العوفي. وقال الحاكم: تفرد به عطية العوفي، ولم يحتجا به، وقد احتج مسلم بالفضيل بن مرزوق. وعطية هذا قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا. "تقريب التهذيب" ص 680، رقم (4649). وحَسَّن الحديث الألباني، "صحيح سنن الترمذي" 3/ 14، رقم (2339)، وأحال على كتابه: "الروض النضير". وكتاب "الروض النضير" غير مطبوع فلعل تحسين الألباني له لورود هذا الحديث من طريق آخر؛ قال الطبراني: حدثنا هارون بن موسى =

وقوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} يعني: قواكم في حال الشبيبة، وقوله: {مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} يعني: ضعف الطفولة {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} قال ابن عباس: يريد: عند الكبر أدركه الضعف والهرم. والشيبة: مصدر كالشَّيب، قال المبرد: يعني: من حملة الشيب، فخرج من حملة الشيب مخرج الواحد، ويعني به: الجمع (¬1)، وكذلك القوة ¬

_ = الأخفش المقري الدمشقي، حدثنا سلام بن سليمان المدائني، حدثنا أبو عمرو بن العلاء، عن نافع عن ابن عمر، قال: قرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. الحديث. "المعجم الصغير" للطبراني 2/ 397، رقم (1100). وسلام بن سليمان: ضعيف. "تقريب التهذيب" (425)، رقم (2719). ولذا قال ابن حجر بعد أن ساق هذا الطريق من رواية ابن مردويه، قال: في إسناده سلام بن سليمان. "الكافي الشاف" بحاشية الزمخشري 3/ 470. وقد ذكر محققو مسند الإمام أحمد رواية الطبراني؛ ولم يقووا بها هذا الحديث بل قالوا: قلنا: سلام متروك. "مسند الإمام أحمد" 9/ 186، رقم (5227). ط/ مؤسسة الرسالة. وذكر ابن عدي سلام بن سليمان هذا؛ وقال: هو عندي منكر الحديث، ثم ساق له أحاديث استنكرها عليه منها هذا الحديث؛ ثم قال: وهذه الأحاديث عن أبي عمرو عن نافع عن ابن عمر لا يرويها عن أبي عمرو إلا سلام هذا. "الكامل في ضعفاء الرجال" 3/ 1156. والصواب -والله أعلم- ضعف هذا الحديث، وأنه لا يرتقي لدرجة الحسن. وأقصى ما يفيده الحديث على فرض صحته أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنكر على ابن عمر قراءته {ضَعْفٍ} بغير القراءة التي أقرأه إياها؛ كما ذكر الواحدي عن الفراء أن الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم؛ وعلى ذلك لا يؤخذ من هذا الحديث تفضيل قراءة الضم على قراءة الفتح. والله تعالى أعلم. (¬1) قول المبرد: من حملة الشيب، الظاهر منه أنه جعل لفظ: الشيبة أحد أفراد الشيب على اعتبار أن لفظ الشيب مصدر فيه عموم وشمول وإحاطة على حد قوله: فهي تحيط بالشيء، وعليه فلفظ: شيبة مفرد كما هو ظاهر من لفظه أريد به الجمع. والله أعلم.

55

والضعف، وجاز هذا؛ لأنها مصادر فهي تحيط بالشيء، تقول: قوي قوة، وشاب شيبة، وضعف ضعفًا؛ لأنها هيآت تقع على النوع. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي: من ضعف وقوة وشيبة وشباب {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبير خلقه {الْقَدِيرُ} على ما يشاء. 55 - وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} قال ابن عباس والمفسرون: يريد يوم القيامة {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} يحلف المشركون {مَا لَبِثُوا} في القبور {غَيْرَ سَاعَةٍ} إلا ساعة واحدة (¬1) وقال قتادة: ما لبثوا في الدنيا غير ساعة (¬2). والقول هو الأول؛ لأن الآية الثانية دلت عليه (¬3). قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} قال الزجاج: مثل هذا الكذب كذبهم؛ لأنهم أقسموا على غير تحقيق (¬4). وقال الكلبي: كذبوا في قولهم: {غَيْرَ سَاعَةٍ} كما كذبوا في الدنيا (¬5). وقال مقاتل: يقول: هكذا كانوا يكذبون بالبعث في الدنيا، كما كذبوا أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 81 أ. وتفسير ابن جرير 21/ 57. وهو قول الزجاج 4/ 191. والثعلبي 8/ 170 ب. (¬2) ذكره عنه السيوطي، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن المنذر، وعبد بن حميد. "الدر المنثور" 6/ 502. (¬3) وهي قوله تعالى بعد ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 192. (¬5) "تنوير المقباس" ص 343. (¬6) "تفسير مقاتل" 81 أ.

56

وقال ابن قتيبة: أي: كَذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل، ويقال: أُفِك فلانٌ؛ إذا عُدِل به عن الصدق وعن الخير (¬1). وهذا إخبار عن حال المجرم من إقدامه على الإفك، عاقبة أمره كإقدامه في ابتدائه. وذكر مقاتل وغيره في سبب كذبهم: أنهم استقلوا قدر لبثهم في الدنيا في القبور لَمَّا عاينوا الآخرة (¬2). والصحيح في معنى الآية: أنهم كذبوا من غير عذر، بل حلفوا كاذبين كذبًا صريحًا؛ لأنهم لو استقصروا مدة لبثهم وخُيل إليهم أنهم لم يلبثوا إلا ساعة كانوا معذورين في كذبهم، وليس الأمر على ذلك، ولكن الله تعالى أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء يتبين لأهل الجمع من المؤمنين أنهم كاذبون في ذلك، ويستدلون بكذبهم هناك على كذبهم في الدنيا بالشرك والكفر، وكان ذلك من قضاء الله وقدره بدليل قوله: {يُؤْفَكُونَ} أي: يُصرفون، يعني: كما صُرفوا عن الصدق في حلفهم حتى حلفوا كاذبين، صرفوا في الدنيا عن الإيمان, ولو أراد: كذلك كانوا يكذبون؛ لقال: يَأفكون، فلما قال: {يُؤْفَكُونَ} دلَّ على إثبات القَدَر. ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم كذبهم بقوله: 56 - {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أي: لبثتم في القبور في خبر الكتاب إلى يوم القيامة (¬3)، وهو قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] وقيل: المعنى فيما كتب الله لكم من اللُبث. ¬

_ (¬1) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 343. (¬2) "تفسير مقاتل" 81 أ. (¬3) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 343، بنصه.

57

وقال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ (¬1). وقال صاحب النظم: في حكم الله الذي حكم به في قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. وأما المفسرون فإنهم يقولون: هذا على التقديم؛ على تقدير: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} {فِي كِتَابِ اللَّهِ} وهو قول الكلبي وقتادة (¬2). وهذا يحتمل تأويلين؛ أحدهما: الذين يعلمون كتاب الله فلهم فيه علم. والثاني: الذين حكم لهم في كتاب الله بالعلم، وأخبر في الكتاب عن علمهم. قوله تعالى: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} أي: اليوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا، وتكذبون به. {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن؛ يدل على هذا المعنى قوله تعالى: 57 - {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} قال ابن عباس: يريد: لا يُقبل من الذين أشركوا عذر، ولا عتاب، ولا توبة ذلك اليوم. وقرئ {لَا يَنْفَعُ} بالياء (¬3)؛ لأن التأنيث ليس بحقيقي، وقد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 192. (¬2) ذكره السيوطي عن قتادة، وعزاه لابن أبي حاتم، وعبد بن حميد. "الدر المنثور" 6/ 502. وقد وقع خطأ في كتابة قول قتادة في تفسير ابن جرير 21/ 57، حيث كتب: هذا من مقاديم الكلام، وتأويلها: وقال الذين أوتوا الإيمان والعلم: لقد لبثتم في كتاب الله. والصواب ما ذكره السيوطي في الدر، ونسبه أيضًا لابن جرير. وقال بقول قتادة: مقاتل 81 أ. ونسبه لقتادة ومقاتل الثعلبي 8/ 171 أ. (¬3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: {لَا تَنفَعُ} بالتاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {لَا يَنْفَعُ} بالياء. "السبعة في القراءات" ص 509، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 450، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 346.

58

فصل القول بين الفاعل وفعله (¬1). وإذا انضم إلى أن التأنيث ليس بحقيقي، قوي التذكير (¬2). {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة. 58 - وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} بينا ووصفنا (¬3) للمشركين {فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} احتجاجًا عليهم، وتنبيهًا لهم {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ} يا محمد {تَنفَعُ} قال ابن عباس: يريد كما أرسل الأولون قبلك، يعني بآية؛ كالعصا واليد، وغير ذلك من آيات الأنبياء {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ} ما أنتم يا محمد وأصحابك {إِلَّا مُبْطِلُونَ} أصحاب أباطيل. وهذا إخبار عن عنادهم وتكذيبهم، وأنهم لا يعقلون عن شركهم وكفرهم بالآيات الواضحة إن أُتوا بها. ثم ذكر سبب ذلك فقال: 59 - {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} بتوحيد الله، وكل من لم يؤمن بالله ويعلم توحيده فذلك لأجل طبع الله على قلبه. 60 - ولما أخبر عن الطبع على قلوبهم أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر إلى وقت النصر فقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} بنصر دينك، وإظهارك على عدوك حقٌ (¬4) {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} قال أبو إسحاق: أي: لا يستفزونك عن دينك {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} أي: هم ضالون شاكون (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: وقد فصل الفعل بين الفاعل وفعله، وفي كتاب أبي علي، "الحجة" 5/ 450: وقد وقع الفصل بين الفاعل وفعله. وهذا هو الصواب فالمفعول {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فصل بين الفاعل {مَعْذِرَتُهُمْ} والفعل {يَنْفَعُ}. (¬2) "الحجة للقراء السبعة" 5/ 450. (¬3) "تفسير مقاتل" 81 أ. (¬4) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 192. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 192، وفيه: يسَتفزَّنَّك.

وقال الأزهري: استخف فلانٌ فلانًا إذا استجهله فحمله على اتباعه في غيه، ومنه قوله: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (1) ولا يستخفن رأيك وحلمك. وهذا هو المعنى. وهو الذي يليق بالصبر؛ أمره الله تعالى بالصبر وأن يثبت إلى أن يأتي وقت نصره، وإهلاك من ناوأه. وقال ابن عباس: {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ما جئت به. وقال مقاتل: لا يوقنون بنزول العذاب عليهم في الدنيا؛ وهم الذين عذبهم الله ببدر (2). وقيل: {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} بالبعث والحساب.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة لقمان إلى آخر سورة يس تحقيق د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار

سورة لقمان

سورة لقمان بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - {الم} تقدم تفسيره في سورة البقرة (¬1) {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} تقدم تفسيره هناك (¬2)، وفي سورة يونس (¬3). 3 - [قوله] (¬4): {هُدًى وَرَحْمَةً} القراءة بالنصب على الحال، المعنى: تلك آيات الكتاب في حال الهداية (¬5) والرحمة قاله الزجاج (¬6). وهو معنى قول الكسائي والفراء. ¬

_ (¬1) آية (1)، وما بعدها. وقد ذكر المؤلف رحمه الله هناك أقوالًا كثيرة في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور، ولعل الراجح منها -والله أعلم- هو ما ذهب إليه المحققون من أن هذه الحروف إنما ذكرت بيانًا لإعجاز القرآن. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 1/ 38: وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكر فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حكى هذا المذهب الرازي في "تفسيره" عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في "كشافه" ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية. (¬2) آية (2) سورة البقرة. (¬3) آية (1). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في "أ": البداية وهو خطأ. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 193.

4

وقرأ حمزة: هدى ورحمةٌ، بالرفع على إضمار هو، وعلى معنى: تلك هدى ورحمة هذا قول أبي إسحاق، وهو معنى قول الفراء (1): رفعها حمزة على الاستئناف؛ لأنها مستأنفة في آية منفصلة من الآية التي قبلها (2). وقال أبو علي: وجه النصب أنه انتصب على الاسم المبهم، وهو من كلام واحد، والرفع على إضمار المبتدأ، أي هو هدى ورحمة (3). قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: بيان من الضلالة والرحمة من العذاب (4). {للمحسنين} (5) للموحدين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. 4 - وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} قال صاحب النظم: يحتمل أن يكون هذا متصلًا بما قبله على أن يكون نعتًا للمحسنين، ويحتمل أن يكون منقطعًا مبتدئًا، ويكون: 5 - قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} خبر له، وعلي القول الأول: {أُولَئِكَ} مبتدأ مما قبله وخبره في قوله: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}. {وَأُولَئِكَ} مبتدأ ثان معطوف على ما قبله وخبره في قوله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وتفسير هذه الآيات [ماض] (6) فيما تقدم (7). 6 - وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث الداري وكان يشتري كتبًا فيها أخبار

_ (1) و (2) "معاني القرآن" 2/ 236. (3) "الحجة" 5/ 452. (4) انظر: "تفسير مقاتل" 81/ أ، ولم أقف على من نسبه للكلبي. (5) ساقط من (أ)، وفي (ب): (للمؤمنين)، وهو خطأ. (6) ما بين المعقوفين مطموس في (ب). (7) عند الآية رقم (5) من سورة البقرة.

الأعاجم ويحدث بها أهل مكة، ويقول: محمد يحدثكم أحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث (¬1) فارس والروم وملوك الحيرة (¬2). قال مقاتل: لهو الحديث: باطل الحديث، يعني باع القرآن بالحديث الباطل حديث رستم وأسفنديار، فزعم أن القرآن مثل حديث الأولين (¬3). وهذا القول هو [قول] (¬4) الفراء وابن قتيبة (¬5)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء قال: ومن يشتري (¬6) هو النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة فاشتري أحاديث الأولين، وجاء بها إلى مكة، واجتمع إليه المشركون يقرأها عليهم، ويقول: أنا اقرأ عليكم كما يقرأ عليكم محمد أساطير الأولين. هذا قول معمر (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب): (أحاديث). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 81/ أ، "معاني القرآن" للفراء 2/ 326، "تفسير الماوردي" 4/ 29، "زاد المسير" 6/ 316. والحيرة: بالكسر ثم السكون مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة، على موضع يقال له: النجف، زعموا أن بحر فارس كان يتصل بها. انظر: "معجم البلدان" لياقوت 2/ 328. (¬3) "تفسير مقاتل" 2/ 81 أ. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 326 ونسبه لابن عباس، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 344. (¬6) في (أ): زيادة (قال)، وهو خطأ. (¬7) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 14/ 52، وذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 326 غير منسوب لأحد. (¬8) هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو عروة بن أبي عمرو الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن، صاحب الزهري كهلًا، وأقدم شيوخه موتًا قتادة. ولد سنة خمس أو ست وتسعين، ارتحل في طلب الحديث إلى اليمن، فلقي بها همام بن منبه =

وأكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، وهو رواية سعيد بن جبير ومقسم عن ابن عباس (¬1)، وأبي الصهباء (¬2) عن ابن مسعود (¬3)، وهو قول مجاهد وعكرمة (¬4). وروى ابن أبي [...] (¬5) عن أبيه عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: اشتراء الجارية تغنيه ليلاً ونهارًا (¬6). ¬

_ = صاحب أبي هريرة. حدث عن قتادة والزهري وعمرو بن دينار وهمام بن منبه وغيرهم كثير. وعنه أيوب وأبو إسحاق وعمرو بن دينار وغيرهم، مات سنة 153هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" 7/ 5، "شذرات الذهب" 1/ 235، "طبقات ابن سعد" 5/ 546. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 61، "تفسير الماوردي" 4/ 328، "مجمع البيان" 8/ 490، "زاد المسير" 6/ 316، البيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 223. (¬2) هو: صهيب أبو الصهباء البكري البصري، ويقال: المدني، مولى ابن عباس، روى عن مولاه ابن عباس وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن مسعود. وعنه سعيد بن جبير وطاوس بن كيسان وجماعة. قال عنه أبو زرعة: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. روى له مسلم وأبو داود والنسائي، وقد ضعفه النسائي. انظر: "تهذيب الكمال" 13/ 241، "الكاشف" 1/ 505، "التاريخ الكبير" 4/ 316. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 61، "تفسير الماوردي" 4/ 328، "مجمع البيان" 8/ 490، زاد المسير 6/ 316. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير: تفسير سورة لقمان 2/ 411، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 223. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 105، "تفسير الطبري" 21/ 61 وما بعدها، "تفسير الثعلبي" 3/ 181 ب، "تفسير الماوردي" 4/ 328، "زاد المسير" 6/ 316. (¬5) ما بين المعقوفين بقدر كلمة غير واضحة. (¬6) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 223 عن ابن عباس قال: هو الغناء وأشباهه. وكذا في "معرفة السنن والآثار" 14/ 327 رقم 20157.

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية، قال: اشترى المغني والمغنية بالمال الكثير والاستماع إليه وإلي مثله من الباطل (¬1). وهو قول مكحول (¬2). وروي ذلك مرفوعًا، روى القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام"، وفي مثل هذا نزلت الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} (¬3) وهذا القول اختيار أبي إسحاق قال: أكثر ما جاء في التفسير أن لهو الحديث هاهنا الغناء؛ لأنه يلهي عن ذكر الله (¬4). قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن (¬5). وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء ولفظ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" ص 503، "تفسير الطبري" 21/ 62. وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 570، وعزاه لآدم وابن جرير والبيهقي في "سننه". (¬2) ذكر قول مكحول البغوي في "تفسيره" بهامش "تفسير الخازن" 5/ 214، والخازن في "تفسيره" 5/ 214، قال مكحول: من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيمُا عليه حتى يموت لم أصل عليه، وإن الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية. (¬3) رواه أحمد 5/ 264، والترمذي 5/ 26 وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجه في في التجارات، باب ما لا يحل بيعه، رقم (2168)، والطبري في "تفسيره" 21/ 60، والطبراني في "المعجم الكبير" 8/ 212، 253. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 194. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 327، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 194، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 277 وما بعدها. ويقصد بأهل المعاني: من كتبوا في معاني القرآن من جهة اللغة والنحو، كالفراء والزجاج وابن الأنباري والأخفش. قال في "البرهان" 1/ 192: قال ابن الصلاح: =

الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن، ويدل على هذا ما قال قتادة في هذه الآية: أما والله لعله ألا يكون (¬1) أنفق مالاً، وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق (¬2). وهذه الآية -على هذا التفسير- تدل على تحريم الغناء، وفيه تفصيل يحتاج إلى ذكره هاهنا. قال الشافعي رحمه الله: وإن كان يديم الغناء، ويغشاه المغنون معلنًا فهذا سفه يرد به معنى الشهادة، وإن كان ذلك بقل لم يرد، فأما استماع الحداء ونشيد الأعراب والرجز فلا بأس به (¬3)، هذا كلامه. قال أصحابنا: نشيد الأعراب يجوز استماعه، وإن أنشد في الألحان في الحداء وغيره، وأما الغناء المحض فالقليل منه لا يعد سفهًا، والمداومة عليه من جملة السفه لا سيما مع الإعلان، وأما الأوتار والمزامير والمعازف كلها حرام، وكذلك طبل اللهو، أما الراع فمكروه استماعه مع تخفيف فيه؛ لما روي عن نافع عن (¬4) ابن عمر سمع صوت زمارة راع، فجعل أصبعيه في أذنيه، وعدا عن الطريق، وجعل يقول: يا نافع: أتسمع؟ فأقول: نعم، فلما قلت: لا، راجع الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله (¬5). ¬

_ = وحيث رأيت في كتب التفسير قال أهل المعاني، فالمراد به مصنفو الكتب في "معاني القرآن" كالزجاج ومن قبله. (¬1) في (ب): (إلا أن يكون). (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 105، "تفسير الطبري" 21/ 61، "المحرر الوجيز" 11/ 484. (¬3) "الأم" 6/ 214. (¬4) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: أن. (¬5) ذكره صاحب "كنز العمال" 15/ 227، رقم الحديث (40692) وقال: أخرجه ابن =

فلما اقتصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على وضع الأصبع في الأذن ولم يصرح بالنهي عنه، دل على ما ذكرنا. وأما غناء الفساق فذلك أشد ما في الباب. وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو: ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة" (¬1). وأما الدف فمباح، ضرب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم دخل المدينة فهم أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح" فكن يضربن ويقلن: نحن بنات النجار ... حبذا محمد من جار (¬2) وأما الحركة التي تعتري الإنسان عند السماع، فما حصل منه والإنسان فيه كالمغلوب فذلك لا يعد سفهًا. فقد روي أن زيد بن حارثة لما نزل اسمه في القرآن حجل (¬3) (¬4). وأما حالة الاختيار فذلك غير حميد. فمعناه: ¬

_ = عساكر. وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 507، وعزاه لابن أبي الدنيا، والبيهقي عن نافع. (¬1) ذكره صاحب "كنز العمال" 3/ 662، وقال: أخرجه ابن عساكر عن أنس. (¬2) ذكر هذا الأثر الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/ 219، وفي "السيرة النبوية" 2/ 274، وقال عنه: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم في "مستدركه" كما يروى. وذكره الحلبي في "السيرة الحلبية" 2/ 246، وأورده كذلك الشامي في "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" 3/ 274. (¬3) حجل، قال الأزهري: الإنسان إذا رفع رجلاً وتريث في مشيه على رجل فقد حجل. قلت: ومثل هذه الحالة تكون من الإنسان حينما يفرح. انظر: "اللسان" 11/ 144. (¬4) هذا الأثر ذكره ابن منظور في "اللسان" 11/ 144.

10

قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فقال مقاتل: يعني لكي يشترك بحديث الباطل عن دين الله (¬1) {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعلمه. وقال أبو إسحاق: من قرأ: {لِيُضِلَّ}، بضم الياء، ليضل غيره إذا أضل غيره فقد ضل هو أيضًا ومن قرأ {لِيُضِلَّ} فمعناه: ليصير أمره إلى الضلال، وهو إن لم يقدر أن يضل فإنه يصير أمره إلى أن يضل (¬2). ومعنى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي جاهل فيما يفعله عن علم. وقوله: {وَيَتَّخِذَهَا} بالرفع عطف على يشتري، وبالنصب على ليضل (¬3). واختلفوا في الكناية، فقال مجاهد: الكناية للسبيل (¬4) [ويتخذ سبيل الله هزوًا. قال مقاتل: آيات القرآن هزوًا (¬5). وذكر الفراء والزجاج وأبو علي القولين فقالوا: قد جرى ذكر الآيات في قوله: {آيَاتُ الْكِتَابِ} فيجوز الضمير للآيات، ويجوز أن يكون للسبيل] (¬6)، والسبيل يؤنث قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] (¬7) وما بعد هذا من الآيات مفسر في مواضع مما تقدم. 10 - وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} مفسر في ابتداء سورة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 81 ب قال: يعني لكي يستزل بحديث الباطل عن سبيل الله الإسلام. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 194. (¬3) انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 523، "الحجة" 5/ 453. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 64. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 81 ب، قال: ويتخذ آيات القرآن استهزاء به. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 327، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 194، "الحجة" لأبي علي 5/ 453.

12

الرعد (¬1). وقوله: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} مفسر في سورة النحل (¬2). 12 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من أهل مصر، خياطًا (¬3). وقال مجاهد: كان لقمان الحديث (¬4) رجلاً أسود عظيم المشافر (¬5) (¬6). وأكثر العلماء على أنه لم يكن نبيًّا (¬7). وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لم يكن لقمان نبيًّا, ولكن كان عبدًا كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله فأحبه" (¬8). وقال عكرمة والسدى: كان نبيًّا (¬9). وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬10). وهؤلاء فسروا الحكمة في هذه الآية بالنبوة. وقال مجاهد في تفسير الحكمة هاهنا: الفقه والعقل وإصابة في القول ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الآية: 2]. (¬2) عند قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [الآية: 15]. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 331. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: (الحكيم). (¬5) المشافر: جمع مشفر وهي الشفاه الغليظة. (¬6) ذكر قول مجاهد: "الثعلبي في تفسيره" 3/ 172 أ، قال: كان لقمان عبدًا أسود عظيم الشفتين متشقق القدمين. وذكره القرطبي في "تفسيره" 14/ 59. (¬7) حكى الثعلبي في "تفسيره" 3/ 172 أالإجماع على أن لقمان كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا. إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيًا، تفرد بهذا القول. (¬8) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 172 ب، عن ابن عمر، وذكره القرطبي في "تفسيره" 14/ 59، عن ابن عمر أيضًا. (¬9) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 68، "بحر العلوم" 3/ 20. (¬10) لم أجد فيما عندي من مراجع من نسب القول بنبوة لقمان إلى ابن عباس رضي الله عنهما.

في غير نبوة (¬1). وقال قتادة: الفقه في الإسلام ولم يكن يوحى إليه (¬2). وقال مقاتل: أعطيناه العلم في غير نبوة (¬3). وقال الكلبي: العلم والفهم (¬4). قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} قال المبرد: أي اشكر لله، وكان هذا تأويل الحكمة، كقولك: قد تقدمت إلى أن رأيت عمرًا، أي أنت عمرًا (¬5)، ومثله قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 117]، وكذلك ما كان مثله. قال سيبويه: معناه أي: اعبد الله، وكذلك ما كان مثله، قال: ويجوز أن يكون أن التي هي والفعل مصدر، تقول: كتبت إليك أن قم، فتصل أن بلا كما تصل، بفعل وهذا جائز وليس بالوجه عند سيبويه (¬6). وذكر أبو إسحاق القول الأول فقال: يجوز أن يكون أن مفسرة فيكون المعنى أي: اشكر لله (¬7). وقال صاحب النظم: هذا على تأويل أن من أوتي الحكمة شكر لله، فكأنه لما قال: {آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، أعلم أنه قد أمره بالشكر له، ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 3/ 21. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 67. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 511، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 81 ب. (¬4) لم أعثر عليه. (¬5) لم أقف على قول المبرد. (¬6) "الكتاب" 3/ 153، وانظر: "تفسير القرطبى" 14/ 61. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 195.

13

بقوله (¬1): {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6] قال ابن عباس: أن اشكر لله يريد على ما أعطاك الله من الحكمة (¬2). وقال مقاتل: فقلنا له أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة (¬3). قوله تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} يريد من يطع الله، فإنما يعمل لنفسه. قاله ابن عباس (¬4). وقال مقاتل: ومن يشكر لله في نعمه فيوحد الله، فإنما يعمل الخير لنفسه (¬5). ومن كفر النعم، فلم يوحد ربه، فإن الله لغني (¬6) عن عباده وخلقه. قال عطاء عن ابن عباس: حميد إلى خلقه (¬7). 13 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} قال أبو إسحاق: موضع إذ نصب بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي: ولقد آتيناه الحكمة إذ قال لابنه؛ لأن هذه الموعظة حكمة (¬8). {وَهُوَ يَعِظُهُ} قال ابن عباس: في الله (¬9). قال مقاتل: كان ابنه وامرأته كفارًا فما زال بهم حتى أسلموا (¬10). قوله: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} ذكرنا القراءات ووجوهها في {يَا بُنَيَّ} عند: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42]. وقرأ ابن كثير: يا بني، مخففة ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: كقوله. (¬2) لم أقف عليه فيما بين يدي من مراجع. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 81 ب. (¬4) ذكره القرطبي في "تفسيره" 14/ 62 ولم ينسبه لأحد. (¬5) "تفسير مقاتل" 82 ب. (¬6) في (ب): (لغنى). (¬7) لم أقف عليه فيما بين يدي من مراجع. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 196. (¬9) لم أعثر عليه. (¬10) "تفسير مقاتل" 82 ب.

ساكنة الياء، وكذلك: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} في رواية الحواس. ووجه ذلك أن الأصل: يا بنيي بثلاث ياءات، ثم تحذف ياء الإضافة كما يقال: يا غلام أقبل، وذكرنا ذلك في سورة هود (¬1) فلما حذف ياء الإضافة بقيت ياء مشددة، فخففها في الوقف كما تخفف سر وضر، وكقولك عمران (¬2): قد كنت جارك حولاً لا يروعني ... فيه روائع من إنس ولا جان (¬3) فخفف النون للوقف وأطلقها [كما شددها للوقف وأطلقها في] (¬4) نحو سببا ويمهل، فلما حذفت الياء المدغم فيها للوقف بقيت الياء الساكنة، وهي ياء التصغير [هذا إذ وقفها، وإن وصلها هذا] (¬5) إذا وقف، فإن وصلها ساكنة فقد أجرى الوصل مجرى الوقف، وهو قياس "من إنس ولا جان" فإنه خفف وأدرجه بحرف الإطلاق وهذا يعلمه جاء في الكلام، وغير هذا الوجه في القراءة أولى، ولو كان هذا في فاصلة كان أحسن؛ لأن الفاصلة في حكم القافية. فإن قيل: ياء التصغير لا يوقف عليها ولا تلحق آخر الكلمة، قيل: إنها ليست في حكم الآخرة وإن كان اللفظ على ذلك من حيث كان الحرف المحذوف للتخفيف في الوقف في حكم المثبت؛ لأن ¬

_ (¬1) عند تفسير قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [آية 42]. (¬2) هكذا في النسخ، والصواب: كقول عمران. (¬3) البيت من الكامل، وهو لعمران بن حطان الحروري يمدح به عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كما قاله المبرد في "الكامل" 3/ 898، وهو في "الحجة" 4/ 336، 5/ 454، وفي "اللسان" 13/ 96 (جنن)، "المحتسب" 2/ 76. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط في (ب). (¬5) هكذا جاءت العبارة في جميع النسخ! والذي يظهر أن ما بين المعقوفين خطأ، إذ وجوده في النص يجعل الأسلوب ركيكًا ومضطربًا.

14

الحذف ليس بلازم له ويدل على ذلك قول الشاعر: ارهن بنيك عندهم أرهن بني (¬1) فالياء (¬2) من بني مخففة للوقف، والتقدير بني يا هذا، فلما وقف عليه أسكن وخفف، والياء المحذوفة في نية (¬3) الثبات، وحكمه يدلك على ذلك أنه كان على خلاف هذا الرد (¬4) النون في بنين، فلما لم يرد النون في بنين علمت أنها في حكم الثبات (¬5). وقد ذكرنا مثل هذا في أول الكتاب عند قوله في اسم الله. وقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: يريد ليس من الذنوب شيء أعظم من الشرك بالله (¬6). قال أبو إسحاق: يعني أن الله هو المحي المميت الرازق المنعم وحده لا شريك له، فإذا أشرك به أحدًا غيره فذلك أعظم الظلم؛ لأنه جعل النعمة لغير ربها، وأصل الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه (¬7). 14 - قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} نزلت في سعد بن أبي ¬

_ (¬1) شطر بيت من الرجز، لم أقف على تمامه وقائله. وقد ذكر ابن جني في "المحتسب" 1/ 108 أنه جاهلي، "الخصائص" 3/ 327، "اللسان" 13/ 188 غير منسوب لأحد. (¬2) في (أ): (فالهاء)، وهو خطأ. (¬3) في (ب): (بنية)، وهو خطأ. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: لرد، بدون ألف قبلها. انظر: "الحجة" 4/ 338. (¬5) إلى هنا من قوله عمران قد كنت جارك .. منقول من "الحجة" 4/ 336 وما بعدها، بتصرف يسير جدًّا. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 196.

وقاص لما أسلم، وذكرنا القصة في أول سورة العنكبوت. وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} ذكرنا تفسير الوهن عند قوله: {فَمَا وَهَنُوا} (¬1) قال ابن عباس والكلبي والسدي: ضعفا على ضعف (¬2). قال أبو إسحاق: أي لزمها لحملها إياه أن (¬3) تضعف مرة بعد مرة (¬4) وانتصب هاهنا وهنا على المصدر، ودل قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} على أن المعنى وهنت بحملها إياه وهنا على وهن. وهذا غير متصل بالكلام الأول في الآية. قال صاحب النظم: قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} مبتدأ يقتضي جوابًا فلم [يأت به] (¬5) وابتدأ في وصف الإنسان فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} ونظم [به وصفًا] (¬6) آخر فقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فإنما عدد الله -عز وجل- ذلك ليبين وجوب حق الوالدة بما لزمها من التعب والنصب في الولادة، فلما فرغ من ذلك رجع إلى خبر الابتداء فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} على تأويل ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك. قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} الفصال: الفطام، وهو أن يفصل الولد عن الأم كي لا يرضع. والتقدير: وفصاله في انقضاء عامين. قاله ¬

_ (¬1) قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. (¬2) لم أقف على من نسبه إلى ابن عباس أو الكلبي أو السدي، وإن كان أكثر المفسرين ذكروا هذا القول إلا أن الطبري نسبه للضحاك 21/ 67، ونسبه الماوردي للحسن وعطاء 4/ 334. (¬3) (أن) ساقطة من (ب). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 196. (¬5) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬6) ما بين المعقوفين طمس في (ب).

الأخفش (¬1). وجعله من باب حذف المضاف، والمعنى لانقضاء عامين. وهو أنه إذا تم للولد حولان فطم، وذكرنا ذلك عند قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] الآية. فقوله: {وَفِصَالُهُ} مبتدأ، وخبره في الظرف على تقدير: وفصاله يقع في انقضاء عامين. والمعنى ذكر مشقة الوالدة بإرضاع الولد بعد الوضع عامين. قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} قال ابن عباس: يريد أطعني وأطع والديك (¬2). قال مقاتل: أن اشكر لي إذ (¬3) هديتك للإسلام، ولوالديك بما أولياك من النعم (¬4). وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي} تفسير لمعنى الوصية، وجاز ذلك؛ لأن الوصية قوله، فكأنه قال: قلنا للإنسان أن اشكر لي ولوالديك. قال صاحب النظم [وقال صاحب] (¬5) المعني: ووصينا الإنسان أن اشكر لي ولوالديك، أي: وصيناه شكرنا وشكر والديه. وقوله: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} قال ابن عباس ومقاتل: إلى المرجع والمنقلب فأجزيك بعملك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 478. (¬2) لم أعثر عليه فيما لدي من مراجع. (¬3) في (ب): (أن). (¬4) "تفسير مقاتل" 82 أ. (¬5) ما بين المعقوفين زيادة، ولعلها وهم من النساخ. (¬6) لم أعثر فيما لدي من مراجع على من نسب هذا التفسير لابن عباس، وفي "تفسير مقاتل" 2/ 266 قال: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} فأجزيك بعملك.

15

15 - {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} مفسر في سورة العنكبوت (¬1) إلى قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قال ابن عباس: يريد اصحبهما في الدنيا بالمعروف (¬2). وقال مقاتل: يعني بإحسان (¬3). وقال أبو إسحاق: أي مصاحبًا معروفًا، يقول: صاحبته مصاحبًا ومصاحبة، ومعنى المعروف: ما يستحسن من الأفعال (¬4). قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} قال السدي: يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬5). ونحوه قال مقاتل: يعني دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬6). قال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا بكر -رضي الله عنه-، وذلك أنه حين أسلم أتاه (¬7) عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعثمان، وطلحة بن [...] (¬8) والزبير فقالوا لأبي بكر -رضي الله عنه-: آمنت وصدقت محمدًا؟ فقال أبو بكر: نعم، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا وصدقوا، فأنزل الله تعالى لسعد: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يعني: أبا بكر -رضي الله عنه- (¬9). ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]. (¬2) لم أقف عليه فيما عندي من مراجع. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 82 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 197. (¬5) لم أقف فيما بين يدي من مراجع على من نسبه للسدي، وذكر مقاتل 82 أ. (¬6) "تفسير مقاتل" 82 أ. (¬7) في (ب): "أباه"، وهو خطأ. (¬8) في جميع النسخ ترك بياض بمقدار كلمة، وعند المفسرين: وطلحة، بدون ابن. (¬9) انظر: "أسباب النزول" ص 363، والقرطبي 14/ 66، والبغوي 3/ 492.

وهذه تدل على وجوب مصاحبة الوالدين بالمعروف وإن كانا كافرين مع ملازمة الإيمان, ومن مصاحبتهما بالمعروف نفقتهما عند فقرهما، وهي واجبة على الابن المسلم وإن (¬1) كانا كافرين كما تجب إذا كانا مسلمين. قال عطاء عن ابن عباس: نزلت الآيتان في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه أسلم في أول ما ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، وأسلم أخواه عامر وعويمر، فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة، فمشت بنو زهرة إلى أم سعد، فقالوا لها: إن بنيك سفهوا ديننا وغمصوا على آبائنا -ولم يكن أحد بمكة [فذلك] (¬2) أبر بأمه من سعد- فقالت لهم: إن سعدًا ما عصاني قط، فسأرده إلى ما تحبون، وأما عامر فلم يزل (¬3) لي عاصيًا، وأما عويمر فهو صبي صغير السن، فلما أتاها سعد قالت له أمه: يا سعد، إن الأشراف من قومك مشوا إلى يذكرون أنك سفهت أخلاقهم وطغيت على آلهتهم، فوعدتهم أن أردك إلى ما يحبون. فقال لها سعد: قد علمت بري بك وأني لم أعصك، وأنا لا أعصيك إلا أن تأمريني بمعصية الله، فإن أمرتيني بمعصية الله فلم أطعك، فأنزل الله {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} الآيتين (¬4). ¬

_ (¬1) في (ب): (ولو). (¬2) هكذا في جميع النسخ، وهو خطأ. (¬3) في (أ): (زال)، وهو خطأ. (¬4) لم أقف على هذه القصة بطولها، وإن كان أكثر المفسرين ذكروا أنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص وأمه. انظر: "تفسير الطبري" 21/ 70، "تفسير ابن كثير" 5/ 309، "زاد المسير" 6/ 257. وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 521 وعزاه لأبي يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر. والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص 4/ 1877، والترمذي في "سننه" كتاب التفسير: سورة العنكبوت 5/ 22، حديث رقم (3242) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

16

16 - قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} الآية. قال السدي: ابن (¬1) لقمان لأبيه: يا أبتاه، لو كانت حبة من خردل الآية في البحر أكان الله يعلمها؟ فقال له يا بني: إنها إن تك (¬2). وقال مقاتل: قال ابن لقمان لأبيه: يا أبت، إن عملت (¬3) بالخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلمه الله؟ فرد عليه لقمان: يا بني، إنها إن تك مثقال حبة من خردل (¬4). [قال أبو إسحاق: المعنى إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل] (¬5). قال: ويجوز أن يكون المعنى إن فعلة الإنسان وإن صغرت يأت بها الله. قال: ويجوز أن يكون الكناية للقصة على أن القصة كذا كما تقول: إنها هند قائمة، وإنها زيد قائمة (¬6). وهذا من الضمير على شريطة التفسير، وذكرنا ذلك عند قوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] وفي مواضع. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ! والذي يظهر أن هناك كلمة ساقطة وهي: قال. (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 66 ولم ينسبه لأحد، وذكر نحوه الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 197. (¬3) في (ب): (علمت). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 82 أ. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 197 - 198، إلا أن نقل المؤلف رحمه الله لم يكن دقيقًا، فأبو إسحاق يقول: فعلى معنى إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة، وعلى معنى أن فعلة الإنسان وإن صغرت يأت الله بها، ويجوز إنها إن تك بالتاء مثقال حبة من خردل، على معنى أن القصة كما تقول: إنها هند قائمة، ولو قلت: إنها زائد قائم لجاز. قلت: أما قول المؤلف: إنها زيد قائمة فهذا وجه لا يجوز في اللغة العربِية بحال.

وقوله: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} (¬1) قرئ: مثقال بالرفع والنصب، فمن نصب باسم كان لينبغي أن يكون مضمرًا على تقدير: إن تكن الخطيئة أو المظلمة أو السيئة مثقال حبة من خردل راجع إلى معنى خردلة، فهو بمنزلة إن تك حبة من خردل، أو يقال: المراد بمثقال حبة من خردل هو السيئة والحسنة، [فأنث] (¬2) تك على المعنى كما قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فأنث وإن كان المثل مذكرًا، فإنه يراد به الحسنات، فحمل (¬3) على المعنى، وكذلك المثقال (¬4) (¬5). و {تَكُ} هاهنا بمعنى تقع، ولا خبر له. قوله تعالى: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس في رواية: يعني: الصخرة التي تحت الأرضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار (¬6). ونحو هذا قال مقاتل، قال: وهي صخرة خضراء مجوفة (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ) زيادة واو (وإن تك)، وهو خطأ. (¬2) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬3) في (ب): (تحمل). (¬4) في (ب): (للثقال). (¬5) انظر: "الحجة" 5/ 456. (¬6) ذكره ابن كثير في "تفسيره" 3/ 446، وقال: ذكره السدي بإسناده ذلك المطروح عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة. ذكر الماوردي في "تفسيره" 4/ 337 وعزاه للربيع بن أنس والسدي. وذكره القرطبي 16/ 68 ولكنه والماوردي لم يذكرا آخر القول، وهو أنها التي يكتب فيها أعمال الفجار. وذكر القول بأكمله منسوبًا لابن عباس: الثعلبي في "تفسيره" 173/ 3 أ. (¬7) "تفسير مقاتل" 3/ 266.

وقال عبد الله بن الحارث: هي صخرة خضراء على ظهر الحوت (¬1). قال الكلبي: هي الصخر التي الأرض عليها (¬2). ونحو هذا قال السدي: هذه ليست في السموات ولا في الأرض، إنما هي تحت سبعة أرضين عليها ملك قائم (¬3) (¬4). وقال قتادة: فتكن في صخرة، أي: جبل (¬5) {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} إن قيل: هذه الصخرة لا يخلو من أن تكون في الأرض، وإذا حصل بكونه في الأرض أغنى {أَوْ فِي الْأَرْضِ} عن قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ}. قيل: قد صرح السدي بأن هذه الصخرة ليست في الأرض، على أن هذا النحو من التأكيد والتكرير لا ينكر، وعلى هذا قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ثم قال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] قوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} قال ابن عباس: يقول يعلمها الله (¬6). وهذا قول السدي (¬7). وهو معنى وليس بتفسير. قال أبو إسحاق: وهذا مثل لأعمال ¬

_ (¬1) ذكره "تفسير القرطبي" 14/ 68 ولم ينسبه لأحد، وذكره الثعلبي منسوبًا للسدي 5/ 173 أ، وذكره الماوردي 6/ 337 ونسبه لعبد الله بن الحارث. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 105 - 106. (¬3) ذكره القرطبي 14./ 68، والثعلبي 5/ 173 أ، ونسبه للسدي. (¬4) كل هذه الأقوال التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في معنى الصخرة -والله أعلم- من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب. قال ابن عطية في "تفسيره" 4/ 350 بعد أن ذكر بعض تلك الأقوال: وهذا كله ضعيف لا يثبته سند، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم، أي أن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وفي الأرض. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 338، "مجمع البيان" 8/ 499. (¬6) لم أعثر عليه فيما لدي من مراجع. (¬7) "تفسير الطبري" 21/ 73.

17

البلاد (¬1) إن الله -عز وجل- يأت بأعمالهم يوم القيامة، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال شرًّا يره (¬2). قال أبو علي: هذا يثبت أن المظالم لا تخفى عليه، وأن الله تعالى يأت بها، ولن يدع أن يثيب أو يعاقب عليها إن لم تكن قد كفر عنها أو أحبط (¬3). قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس ومقاتل والزجاج: لطيف باستخراجها، خبير بمكانها (¬4). 17 - قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد الإيمان بالله والتوحيد (¬5). وقال غيرهما: وأمر بطاعة الله واتباع أمره. {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال ابن عباس: يريد عن الشرك لنفسه (¬6). قال مقاتل: يعني الشرك الذي لا يعرف (¬7). ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ! والصحيح: العباد، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 198. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه " 4/ 198. (¬3) انظر: "الحجة" 4/ 456، وهذا من المواضع التي نقل فيها المؤلف -رحمه الله- عن أبي علي ولكنه لم ينقل نقلاً صحيحًا، بل نقل واختصر وقدم وأخر، ولم يبين ذلك رحمه الله، فعبارة أبي علي بعيدة عن عبارة المؤلف، وعبارة أبي علي الأخيرة: إن لم يكن كفر أو أحبط. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 197، "تفسير مقاتل" 82 ب. ولم أقف على من نسبه لابن عباس. (¬5) لم أقف على من نسب هذا القول لابن عباس. وفي "تفسير مقاتل" 82 ب قال: التوحيد. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير مقاتل" 82 ب.

وقال الكلبي: يقول أنكر الظلم وأظهر العدل (¬1). وقال غيره: المنكر معاصي الله ومخالفة أمره (¬2). {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} فيهما من الأذى، يريد واصبر على ما أصابك من الأذى في طاعة الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا قول ابن عباس ومقاتل (¬3). {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} قال ابن عباس: يريد من حقيقة الإيمان (¬4). وقال مقاتل: إن ذلك الصبر على الأذى فيهما من حق الأمور التي أمر الله بها (¬5). وقال الكلبي: إن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور (¬6). فعلى قول ابن عباس ومقاتل: ذلك، إشارة إلى الصبر. وعلى القول [قول] (¬7) الكلبي إشارة إلى الأمر والنهي. والصحيح أن ذلك إشارة إلى جميع ما ذكره قبله من الأمر والنهي والصبر. وذكرنا بيان هذه المسألة عند قوله {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]. وهذه الآية دليل على وجوب ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أعثر على من نسبه لابن عباس. وانظر: "تفسير مقاتل" 2/ 266، وذكره "الماوردي" 4/ 338 ولم ينسبه لأحد، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 523، وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 550 عن علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه-. (¬4) انظر: "تفسرِ القرطبي" 14/ 69. (¬5) "تفسير مقاتل" 266/ 2. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).

18

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على المكروه وإن أصابه فيهما وفي هذا دليل أن خوف المكروه لا ينبغي أن يمنع من الأمر بالمعروف، إلا أن يخاف مكروهًا لا يطيقه ولا يحتمله. 18 - وقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} وقرئ: تصاعر (¬1). قال أبو الحسن: [لا تصاعر لغة أهل الحجاز، ولا تصعر لغة بني تميم، والمعنى فيه لا تتكبر على الناس، ولا تعرض عنهم تكبرًا عليهم. قال أبو عبيدة: (أجل هذا من الصعر الذي يأخذ الإبل في رءوسها وأعناقها). فكأنه يقول: لا تعرض عنهم ولا تزور كازورار الذي به هذا الداء، الذي يلوي منه عنقه ويعرض بوجهه، ومثل ذلك قوله: يهدي إلى حياة ثاني الجيد] (¬2) (¬3). وقال أبو علي: (يشبه أن يكون لا تصعر ولا تصاعر بمعنى، كما قال سيبويه في ضعف وضاعف) (¬4). قال أبو إسحاق: أما تصعر فعلى وجه المبالغة، وتصاعر على تفاعل كأنك تعارضه بوجهك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر" 2/ 188. (¬2) انظر الكلام بنصه في: "الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 455 من قوله: قال أبو الحسن. وانظر قول أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" 2/ 127. ولعل المؤلف -رحمه الله- وهم عندما قال: قال أبو الحسن .. ، فالقول لأبي علي بنصه. (¬3) جزء من ليت لم أعثر له على تتمته ولا على قائله، وقد ذكره أبو علي في "الحجة" غير منسوب لأحد. (¬4) انظر "الحجة": 5/ 455. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 198، ونص كلام أبي إسحاق: فأما تصعر فعلى وجه المبالغة، ويصاعر جاء على معنى يفاعل، كأنك تعارضهم بوجهك.

وقال المفضل (¬1): يقال للذي يفعل ذلك ومن صعر خده وصاعر (¬2). وأنشد للمتلمس: وكنا إذا الجبار صاعر خده ... أقمنا له من درأه فيقوما قال ابن عباس: يريد ولا تتعظم على خلق الله (¬3). وقال مقاتل: لا تعرض بوجهك تكبرًا عن فقراء المسلمين إذا كلموك (¬4). وروى ابن أبي نجيح ومنصور عن مجاهد قال: هو الصدود والإعراض بالوجه عن الناس، كالرجل بينه وبين أخيه إحنة فيراه فيعرض عنه (¬5). وقال أبو الجوزاء في هذه الآية: إذا ذكر الرجل عندك تلوي شدقك كأنك تحقره (¬6). وهذا معنى ما روي عن إبراهيم أنه قال: هو التشديق (¬7). ¬

_ (¬1) هو: أبو محمد المفضل بن محمد بن يعلي بن عامر الكوفي، إمام مقرئ نحوي، أخذ القراءة عرضًا عن عاصم والأعمش والعطاردي وسماك بن حرب، أخذها عنه الكسائي وجبلة بن مالك وأبو زيد الأنصاري، وغيرهم، توفي سنة 168 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 121، "معرفة القراء الكبار" 1/ 108، "غاية النهاية" 2/ 307. (¬2) لم أقف على قول المفضل، إلا أن الماوردي في "النكت" 4/ 339، قال: الصعر هو الميل. عن المفضل. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 173 ب، "تفسير الطبري" 21/ 74. (¬4) انظر: " تفسير مقاتل" 82 ب. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 173 / ب، "تفسير الطبري" 21/ 75. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 3/ 339، "تفسير ابن كثير" 5/ 385. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 173 ب، الطبري 21/ 75، ابن كثير 5/ 385.

19

وقال يزيد [بن الأصم] (¬1): هو الرجل يكلم الرجل، فيلوي وجهه عنه محقرة له (¬2). وقال قتادة: هو الإعراض عن الناس، يكلمك أخوك وأنت معرض عنه تتكبر (¬3). وقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} مفسر في سورة سبحان (¬4). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فسر في سورة النساء (¬5). 19 - قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} قال الليث: يقال قصد فلان في مشيه، إذا مشي مستويًا (¬6). وقال المفضل: القصد: ما بين الإسراف والتقصير (¬7). قال مقاتل: لا تختل في مشيك (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 75، "تفسير ابن كثير" 5/ 385. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 105. (¬4) عند قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] (¬5) عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]. قال المؤلف -رحمه الله- هناك: المختال ذو الخيلاء والكبر، قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه، الذي لا يقوم بحقوق الله ومعنى الفخر في اللغة: هو البذخ والتطاول، والفخور الذي يعدد مناقبه كبرًا وتطاولًا. (¬6) لم أقف عليه. وانظر: "تهذيب اللغة" 8/ 355، "اللسان" 3/ 353. (¬7) لم أقف عليه للمفضل. وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 8/ 352 عن الليث، وانظر: "اللسان" 3/ 354 (قصد). (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 82 ب. وذكره الماوردي 4/ 340، وعزاه لسعيد بن جبير.

وقال الكلبي: تواضع لله فلا تختل (¬1). وعلى هذا أمر بالقصد في المشي، والمراد به النهي عن الخيلاء. وقال آخرون: المراد به النهي عن الإسراع في المشي (¬2). فدل عليه بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" (¬3). وقوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} قال أبو إسحاق: معنى اغضض: انقص، ومن ذلك: غضضت، وفلان يغض من فلان، أي يقصر به (¬4). وذكرنا تفسير الغض فيما تقدم (¬5). والصوت: مصدر صات يصوت [صوتًا] (¬6) فهو صائت، وصوت تصويتًا فهو مصوت، وهو عام غير مختص، يقال: سمعت صوت الرجل، وصوت الحمار، وصوت كل شيء (¬7). قال ذو الرمة -وهو من أبيات الكتاب-: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي. وذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 500، ونسبه لسعيد بن جبير. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 76 ونسبه لقتادة وابن زيد، و"تفسير الماوردي" 4/ 340 وقال: حكاه النقاش. (¬3) الحديث منكر جدًّا قاله العلامة الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1/ 70 رقم (55)، وقال الحافظ في "تخريج أحاديث الكشاف" ص 130 وإسناده ضعيف. (¬4) هكذا في النسخ! وهو في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 199: .. وفلان يغض بصره من فلان أي ينتقصه. (¬5) عند قوله تعالى في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] قال هناك: يقال غض بصره يغضه غضًا، ومثله أغضًا قال ابن عباس: أي لا ينظروا إلى ما لا يحل لهم. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 223 (صوت)، "اللسان" 2/ 57 (صوت)، "تاج العروس" 4/ 597 (صوت).

كان أصوات من إيغالهن (¬1) بنا أواخر الميس أصوات الفراريج (¬2) ويقال: رجل صات، أي (¬3): شديد الصوت بمعنى صائت، كما يقال: رجل مال كثير المال، ونال كثير النوال (¬4). قال الكلبي: يقول أكفف من صوتك لا تكن سليطًا على الناس (¬5). وقال مقاتل: اخفض من صوتك، يعني: من كلامك، يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والمنطق (¬6). وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد إذا ناجيت ربك فخفض [صوتك] (¬7) (¬8). وخفض الصوت المأمور به هاهنا بالدعاء، وذكر قوله (¬9): {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] والقول هو الأول العام. قال المبرد: (والمحمود ¬

_ (¬1) في (ب): (لمن)، وهو خطأ. (¬2) البيت من البسيط، وهو لذي الرمة في "ديوانه" ص 996، "الإنصاف" ص 433، "خزانة الأدب" 4/ 108، 413، 419، "الخصائص" 2/ 404، "الكتاب" 1/ 179، 2/ 166، 280. وإيغالهن: أي إبعادهن، يقال: أوغل في الأرض، إذا أبعد فيها. والأواخر: جمع آخرة الرحل، وهي العود في آخره يستيند إليه الراكب. والميس: شجر يتخذ منه الرحال والأقتاب. والفراريج: جمع فروج، وهي صغار الدجاج. (¬3) (أي) ساقط من (أ). (¬4) انظر: "تاج العروس" 54/ 597) (صوت). (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 82 ب. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬8) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 444. (¬9) هكذا هي في النسخ! ولعل الصواب: وذكرنا ذلك عند قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}، فهذا هو منهج المؤلف -رحمه الله- في الإحالة.

20

من المشي والصوت ومن جملة الأشياء ما كان قصدا) (¬1). قال مقاتل: ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا، فقال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬2). قال: وأنت تقول: له وجه منكر، إذا كان قبيحًا. وقال ابن قتيبة: أنكر الأصوات أقبحها (¬3). واختلفوا لم جعل أقبح الأصوات؟ صوت الحمير أوله زفير وآخره شهيق (¬4). وقال قتادة: لشدة صوتها (¬5). وهو المختار. قال المبرد: تأويله الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكر (¬6). وقال ابن قتيبة: عرفه أن قبح رفع الصوت في المخاطب وفي الملاحاة كقبح أصوات الحمير؛ لأنها عالية (¬7). ووحد الصوت وهو مضاف إلى الجماعة؛ لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة، وإذا كانت منفردة الألفاظ. وذكرنا ذلك عند قوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] وفي مواضع. 20 - قوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 82 ب. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 344. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 184 ب ونسبه لمجاهد والضحاك، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 505، والمؤلف في "الوسيط" (3444) ونسباه لقتادة. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة 9/ 3100، قال: أوله زفير وآخره شهيق. (¬6) انظر قول المبرد في: "الوسيط" 3/ 444، "زاد المسير" 6/ 323. (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 344.

يريد المطر، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} يريد: الأنعام لتركبوها (¬1). وقال مقاتل: (يعني: الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح، وما في الأرض: يعني: الجبال والأنهار والبحار والأشجار والنبت عام) (¬2) بعام. قال أبو إسحاق: ومعنى تسخيرها للآدميين: الانتفاع بها (¬3). وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} أي: أوسع وأكمل من قولهم: سبغت النعمة إذا تمت، ويقال: شعر سابغ، ودرع سابغة. وقوله: {نِعَمَهُ} وقرئ: نعمه جمعًا، ومعنى القراءتين واحد؛ لأن المفرد أيضًا يدل على الكثرة كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وهذا يدل على أنه يراد به الكثرة. وقوله: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} لا يدل على ترجيح إحدى القراءتين، ألا ترى أن النعم توصف بالباطنة والظاهرة كما توصف النعمة بذلك (¬4). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد شهادة ألا إله إلا الله ظاهرة باللسان باطنة في القلب (¬5). وروى عكرمة عنه قال: الظاهرة: القرآن والإسلام، والباطنة: ما ستر عليكم من الذنوب ولم يعجل عليكم بالنقمة (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 82 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 199. (¬4) انظر: "الحجة" ص 457. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 78. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 526 عن مجاهد، وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان". (¬6) انظر: "مجمع البيان" 8/ 501، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 525 وعزاه للبيهقي في "الشعب"، وأورده الماوردي 4/ 342 ونسبه لمقاتل.

21

وقال مقاتل: الظاهرة: تسوية الخلق والرزق والإسلام، والباطنة: ما ستر من الذنوب فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب فيها (¬1). وهذا معنى ما روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية (¬2). قال الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة: المعرفة (¬3). وقال محمد بن كعب: الظاهرة: محمد -صلى الله عليه وسلم-، والباطنة: المعرفة (¬4). وقال المحاسبي (¬5): الظاهرة: نعيم الدنيا، والباطنة: نعيم العقبى. قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} مفسر إلى آخر الآية في سورة الحج (¬6). 21 - قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا} مفسرة في سورة البقرة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 82 ب. (¬2) أورده السيوطي في "الدر" 6/ 525، وقال: أخرجه ابن مردويه والبيهقي والديلمي وابن النجار عن ابن عباس. (¬3) انظر: "مجمع البيان" للطبرسي 8/ 501. "زاد المسير" 6/ 324. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) هو: أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي الزاهد. يروي عن يزيد بن هارون قليلًا وعن طبقته، روى عنه ابن مسروق الطوسي وإسماعيل بن إسحاق السراج وغيرهما، له كتب في الزهد وأصول الديانة، مات سنة 243 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 8/ 211، "سير أعلام النبلاء" 12/ 110، "طبقات الشافعية" لابن السبكي 2/ 278. وكلامه في "تفسير القرطبي" 14/ 73. وذكره بدون عزو: "الماوردي" 4/ 342، "الطبرسي" 8/ 501. (¬6) عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} آية 3. (¬7) عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، وذكر هناك سبب نزولها، وأنها نزلت في اليهود.

22

22 - {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} مفسر في تلك السورة أيضًا (¬1). 24 - قوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} يعني أيام حياتهم إلى انقضاء آجالهم. قال ابن عباس ومقاتل (¬2). 27 - وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ} قرئ رفعًا ونصبًا، فمن نصبه عطفه على ما، ومن رفع استأنف كأنه قال: والبحر هذه حاله (¬3). {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي: ينصب فيه ويزيده سبعة أبحر. {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ولا نفد علمه. قال السدي: لو كان ما في الأرض من شجر فبريت أقلامًا، وكان البحر مدادًّا ومعه سبعة أبحر مدادًا مثله، فكتب بتلك الأقلام، نفد ذلك المداد قبل أن ينفد علم الله (¬4). وقال الحسن: لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، لأملى الله من ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] قال: استمسك بالشيء إذا تمسك به، والعروة: جمع عرى، وهي نحو عروة الدلو، وإنما سميت؛ لأنه يتعلق بها، والعروة: شجر يبقى على الجدب؛ لأن الإبل تتعلق به إلى وقت الخصب، والعروة الوثقى قال عطاء عن ابن عباس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن ما جاء به محمد حق وصدق. وقال مجاهد: هي الإيمان. (¬2) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وانظر: "تفسير مقاتل" 82 ب. (¬3) انظر: "الحجة" 5/ 457 - 459، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 527. (¬4) لم أقف عليه منسوبًا للسدي، وقد ذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 504، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 326، غير منسوب لأحد، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 528 وعزاه لعبد الرزاق وأبي نصر السجزي في "الإبانة" عن أبي الجوزاء.

كلامه حتى ينفد المجر وتتكسر الأقلام (¬1). وقال مقاتل: يقول لو أن كل شجرة على وجه الأرض بريت أقلامًا، وكانت البحور مدادًا وكتبت تلك من البحور، لنفدت تلك الأقلام وتلك البحور ولم ينفد علم الله (¬2). فالمفسرون قالوا في كلمات الله: إنها علم الله، والمعنى: الكلمات التي هي عبارات عن معلوم الله، ولما كان معلومه لا يتناهى له، فكذلك الكلمات التي تقع عبارة عن معلومه لا تتناهى (¬3). قال أبو علي: والمراد بذلك -والله أعلم- ما في المقدور دون بما خرج منه إلى الوجود (¬4). قال قتادة: إن المشركين قالوا في القرآن: يوشك أن ينفد، يوشك أن ينقطع، فنزلت هذه الآية. يقول: لو كان شجر الأرض أقلامًا، ومع البحر سبعة أبحر، إذا لانكسرت الأقلام ونفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات الله وحكمه وخلقه وعلمه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 5/ 458. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 83 أ. (¬3) هذا تفسير الأشاعرة، وفيه خلط بين صفتي العلم والكلام، وأهل السنة والجماعة يقررون صفة العلم ويثبتونها، وكذلك صفة الكلام، حيث أن علم الله متعلق بالأشياء قبل كونها، وأنه غير متجدد. أما الكلام فصفة غير صفة العلم، فالله جل وعلا متكلم بمشيئته وقدرته كيف شاء متى شاء بما شاء، وهي صفة قديمة النوع حادثة الآحاد. انظر: "رد الإمام الدارمي على بشر المريسي" ص 106، ورده على الجهمية ص 68، "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 175. (¬4) انظر: "الحجة" 5/ 458. (¬5) انظر: عبد الرزاق 2/ 106، "تفسير الطبري" 21/ 81، "تفسير الماوردي" 4/ 344. وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 528،. عزاه لعبد الرزاق وابن جرير =

28

قال أبو عبيدة: هذا مختصر، تقديره: فكتب هذه الأقلام والبحور ما نفد كلام الله (¬1). والمعنى (¬2): فكتب ما في مقدور الله لمنفد ذلك قبل أن ينفد المقدور، ونحو هذا من الجمل قد تحذف لدلالة الكلام عليه كقوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28]، ثم قالت: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل: 32]، والمعنى: فذهب، فألقى الكتاب، فقرأته، وقالت: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ}. ونظير هذه الآية قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف 109] الآية. 28 - قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال مقاتل: (نزلت في كفار قريش، قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله خلقنا أطوارًا، نطفة علقة مضغة عظامًا لحمًا، ثم يزعم أنا نبعث خلقًا جديدًا جميعًا في ساعة واحدة، فقال الله: {مَا خَلْقُكُمْ} أيها الناس جميعًا في القدرة إلا كخلق نفس واحدة، ما بعثكم جميعًا إلا كبعث نفس واحدة) (¬3). قال أبو إسحاق: أي قدرة الله على بعث الخلق أجمعين، وعلى خلق الخلق أجمعين، كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة (¬4). ¬

_ = وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" وأبي نصر السجزي في "الإنابة" عن قتادة. (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 128، وعبارة أبي عبيدة جاءت هكذا: ومجازه مجاز المختصر الذي فيه ضمير، سبيله: فكتب كتاب الله بهذه الأقلام وبهذه البحور، ما نفد كتاب الله. (¬2) في (ب): زيادة (ما نفد)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 83 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 200.

31

والآية من باب حذف المضاف في قول جميع المفسرين، وأهل المعاني كلهم ذكروا ذلك (¬1). قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬2). قال ابن عباس: سميع لقولكم، بصير بكم (¬3). قال مقاتل: سميع لما قالوا من الخلق والبعث، بصير به (¬4). 31 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ}، قال ابن عباس: يريد أن ذلك من نعمة الله عليكم (¬5). قال الكلبي: منة الله (¬6). وقال مقاتل: برحمة الله (¬7). {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِه} من صنعه وعجائبه في البحر، وابتغاؤكم الرزق. وقال الكلبي: ليريكم من عجائبه بتيسيرها (¬8). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال مقاتل: يعني المؤمن، يقول: لكل صبار على أمر الله عند البلاء في البحر، شكور لله في نعمه حين أنجاه من أهوال البحر (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 176 ب، "معاني القرآن" للفراء 2/ 329، "معانى القرآن" للنحاس 5/ 291، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 200. (¬2) في (أ): (عليم)، وهو خطأ. (¬3) ذكره الماوردي 4/ 345، ولم ينسبه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 83 أ. (¬5) انظر: "زاد المسير" 6/ 337. وذكره الماوردي 4/ 347، ولم ينسبه لأحد. (¬6) ذكره "الماوردي" 4/ 347، غير منسوب لأحد. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 83 ب. (¬8) ذكره الماوردي 4/ 347 ونسه ليحيى بن سلام، وكذا "القرطبي" 14/ 79. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 83 ب.

32

وقال عطاء عن ابن عباس: يريد صبر عن معاصي الله (¬1). 32 - وقوله. {وَإِذَا غَشِيَهُمْ} يعني الكفار، يقول: إذا علاهم {مَوْجٌ} وهو ما ارتفع من الأرض. {كَالظُّلَلِ} قال مقاتل: كالجبال (¬2). وقال الكلبي: كالسحاب، يزيد في عظمها وارتفاعها يكون كالجبال والسحاب التي تظل من تحتها (¬3). وقال ابن عباس: يريد مثل السعائف (¬4) (¬5). قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} أي من هول ما هم فيه، نجاهم حين أفضوا وانتهوا إلى البر. قال صاحب النظم: المراد من قوله: فلما نجاهم: الاستقبال، وإن كان لفظه لفظ الماضي، بدليل قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}. ولما لا يقتضي جوابًا بالفاء، وأراد فمنهم مقتصد ومنهم جاثر، ودل على هذا المضمر قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} فأومأ بهذا إلى هذا، نقيض قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِد}. ونقيض الاقتصاد: الجور، والجور هاهنا: الجحد بآيات الله، وإذا كان معنى الجور هاهنا الجحد، وجب أن يكون الاقتصاد الذي هو عند الإقرار بآيات الله، وهذا كله معنى قول مقاتل، فإنه يقول في قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} عدل في الوفاء ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 267، وبه قال يحيى بن سلام. انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 347. (¬3) ذكره "الماوردي" 4/ 347 ونسبه لقتادة، وكذا الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 506. (¬4) في (ب): (السقايل)، وهو خطأ. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس، ولم أقف على معنى السعائف بهذه الصيغة، وقد ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 110 (سعف) قال: .. السعف: ورق جريد النخل الذي يسف منه الزبلان والجلاد والمراوح وما أشبهها، ويجوز السعف.

في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له يعني المؤمن، ثم ذكر المشرك الذي ترك التوحيد في البر بعد أن دعاه مخلصًا في البحر (¬1)، بقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} غدار {كَفُورٍ} لله نعمه حين ترك التوحيد في البر. وقال الكلبي في قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} هم المؤمنون (¬2). وقال ابن عباس: مقتصد موف بما عاهد عليه الله في البحر (¬3). وقال مجاهد: مقتصد في القول، وهو كافر مضمر للكفر (¬4). والوجه هو الأول، وقوله: {كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} قالوا: كلهم: كل غدار بعهد الله (¬5). وقال أهل اللغة: الختر أسوأ الغدر وأقبحه (¬6)، وأنشدوا (¬7) للأعشي (¬8): بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختار يقال: [ختر] (¬9) ويختِر ويخترُ بالكسر والضم [لغتان] (¬10) خترًا وختورًا. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 83 ب. (¬2) ذكره "الماوردي" 4/ 348، وأبو حيان في "البحر" 8/ 423، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 506 عن الحسن. (¬3) انظر: "مجمع البيان" 8/ 557. وذكره "تفسير الماوردي" 4/ 348، ونسبه للنقاش. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 85، "الماوردي" 4/ 348، "مجمع البيان" 8/ 507. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 85 "تفسير الماوردي" 4/ 348، ونسبه للجمهور. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 294 مادة (ختر)، "الصحاح" 2/ 642 (ختر)، "مقايس اللغة" 2/ 244، باب الخاء والتاء وما يثلثهما. (¬7) في (ب): (وأنشد). (¬8) البيت من البسيط، انظره في "ديوانه" ص 229، "لسان العرب" 10/ 26، "جمهرة اللغة" ص 371. (¬9) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬10) ما بين المعقوفين طمس في (ب).

33

ثم خاطب كفار مكة فقال: 33 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} قال ابن عباس: كل امرئ تهمه نفسه (¬1). وقال مقاتل: يعني لا تغني والدة عن ولدها شيئًا من المنفعة يعني الكفار (¬2). وهذه الآية كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وقد مر تفسيره، والكلام في الراجع إلى اليوم في سورة البقرة. قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي بالبعث. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} هو عن الإسلام. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} أي حلم (¬3) الله وإمهاله. {الْغَرُورُ} يعني الشيطان. قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما (¬4). قال مقاتل: هو إبليس (¬5). والغرور: الذي من شأنه أن يغر ويخدع. 34 - وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}. قال مجاهد ومقاتل: نزلت في رجل من أهل البادية اسمه: الوارث بن عمرو المجازي (¬6) أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أرضنا أجدبت فمتى ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 447. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 83 ب. (¬3) في (ب): (يحلم). (¬4) قال به غيرهما قتادة والضحاك. انظر: "الطبري" 21/ 87، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 293، "تفسير الماوردي" 4/ 349، "مجمع البيان" 8/ 507. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 83 ب. (¬6) اختلتف في اسم السائل؛ ففي "أسباب النزول" ط 1. ص 199قال: نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن حفص من أهل البادية وفي "الدر =

الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت؟ وقد علمت ماذا عملت اليوم فما أعمل غدًا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل الله في مسألة المجازي: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬1). وروي عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل، ولكن خمس لا يعلمهن إلا الله"، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬2). روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم ذكر ما في الآية" (¬3). وقال ابن عباس في هذه الآية: الخمس لا يعلمها ملك مقرب ولا ¬

_ = المنثور" 6/ 530: الوارث، من بني مازن بن حفص بن قيس بن عيلان. وفي "البحر المحيط" 7/ 194: الحارث بن عمارة المحاربي، وفي "تفسير الطبري" 21/ 55 عن مجاهد: "رجل" غير مسمى. (¬1) انظر: "تفسيرالطبري" 21/ 87، "ابن كثير" 5/ 401، "زاد المسير" 6/ 330. وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 530، وعزاه للفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد، ولابن المنذر عن عكرمة. و"تفسير مقاتل" 83 ب، وذكره المؤلف في " أسباب النزول" ص 402، تحقيق السيد أحمد صقر. (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، "تفسير سورة لقمان": باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 4/ 1793، حديث رقم (4499). ومسلم في "صحيحه" كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله -سبحانه وتعالى- 1/ 37 حديث رقم (1). وهو جزء من حديث طويل مشهور، حيما جاء جبريل -عليه السلام- بصورة رجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان إلى آخر الحديث. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" وهو رواية أخرى للحديث السابق، وكذلك الإمام مسلم في "صحيحه"، وهو رواية أخرى حديث السابق.

نبي مصطفى، فمن ادعى أنه يعلم شيئًا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه (¬1). قال مقاتل: فلما نزلت هذه الآية قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أين السائل عن الساعة؟ " فقال المجازي ها أنا، فقرأ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية (¬2). قوله تعالى: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. قال الفراء: (اجتزأ بتأنيث أرض من أن يظهر في أي تأنيثا آخر) (¬3). قال الأخفش: (وتقول: مررت بجارية أي جارية، وأية جارية) (¬4) وجئتك بملاة أي ملاة وأية ملاة، كل جائز. ¬

_ (¬1) قول ابن عباس هذا، جزء من حديث طويل يرويه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 318 عن ابن عباس. وقال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا له، فأتاه جريل فجلس بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعًا كفيه على ركبتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، حدثني ما الإسلام .. إلى آخر الحديث. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 330. (¬4) انظر: "القرطبي" 14/ 83، وذكر الأخفش في "معاني القرآن" 478/ 2، كلامًا نحوه. أما آخر كلام الأخفش فلم أقف عليه.

(32) سورة السجدة

سورة السجدة

سورة السجدة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - 3 - (الم) مضى تفسيره في مواضع. وقال ابن عباس: ألف الله، واللام [لام] (¬1) جبريل، والميم محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} ذكر أبو إسحاق فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه خبر ابتداء، على إضمار الذي نتلوا (¬3) تنزيل الكتاب. قال: ويجوز أن يكون خبر عن آلم أي آلم من تنزيل الكتاب قال: ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء، ويكون خبره الابتداء. {لَا رَيْبَ فِيهِ} (¬4) قال مقاتل: يعني لا شك فيه أنه تنزيل (¬5). {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ} قال الزجاج: معناه بل أيقولون (¬6). وذكرنا تفسير (بل) إذا لم يتقدمه استفهام، عند قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا} [البقرة: 108] وفي مواضع. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬2) لم أقف على قوله، وقد سبق معنا في أول سورة لقمان ذكر القول الراجح في تفسير مثل هذه الحروف. (¬3) في (ب): (نتلوه). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 203. (¬5) "تفسير مقاتل" 84 أ. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 203.

4

وقوله: {افْتَرَاهُ} قال ابن عباس: تقوله (¬1). وقال مقاتل: افتراه محمد من تلقاء نفسه فكذبهم الله (¬2). فقال: {بَلْ هُوَ} أي القرآن. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} قال الكلبي: يعني العرب (¬3). قال قتادة: كانوا أمة أمية (¬4)، لم يأتهم نذير قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5). قال أبو إسحاق: (هذا كقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} أي لم يشاهدوا هم ولا آباؤهم نبيا، قال: والحجة ثابتة عليهم بإنذار من تقدم من الرسل وإن لم يأتهم نذير (¬6). وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} قال مقاتل وابن عباس: لكي يرشدوا من الضلالة (¬7). 4 - قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬8) مفسر في سورة الأعراف (¬9) ويونس (¬10). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 84 أ. (¬3) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 449، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 333، غير منسوب لأحد. (¬4) في (أ): (آمنة)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 90، "تفسير الماوردي" 4/ 353، "مجمع البيان" 8/ 509. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 204. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 84 أ. وقد أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 449، غير منسوب لأحد. (¬8) قوله: (وما بينهما) ساقط من (أ)، وهو خطأ. (¬9) عند قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} آية: 54. (¬10) عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} آية: 3.

5

وقوله: {مَا لَكُمْ} يعني كفار مكة {مِنْ دُونِهِ} قال ابن عباس: يريد غيره (¬1). {مِنْ وَلِيٍّ} قريب ينفعكم في الآخرة، ويرد سخطه عنكم. قاله ابن عباس ومقاتل (¬2). {وَلَا شَفِيعٍ} من الملائكة وغيرهم يشفع لكم. {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أفلا تتعظون. 5 - قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} فيه قولان للمفسرين وأصحاب المعاني: أحدهما: قول ابن عباس في رواية عطاء قال: ينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض] (¬3) {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} يريد يرجع إليه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} من أيام الدنيا. وهذا القول اختيار صاحب النظم، وقد شرحه وبينه، فقال: قوله {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يعني به (¬4) أمر الدنيا إلى آخره، يدبره الله -عز وجل- مدة أيام الدنيا، ثم يعرج إليه ذلك الأمر والتدبير بعد إنقضاء الدنيا وفنائها، ومعنى يعرج يرتفع، ومعنى يرتفع يصير، كقولك: ارتفع أمرنا إلى الأمير، أي صار إليه (¬5). قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو يوم القيامة، مقداره ألف سنة، هذا كلامه. وأما قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فسنذكر الكلام فيه إذا انتهينا إليه إن شاء الله. القول الثاني: أن معنى ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 347 بهامش المصحف، "تفسير مقاتل" 84 أ. (¬3) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬4) في (ب): زيادة (إلا)، وهو خطأ. (¬5) في كلام المؤلف -رحمه الله- هنا نظر، فإنه يؤول صفة العلو والفوقية التي يؤولها الأشاعرة، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفة ويقولون: إن الله سبحانه عال بذاته فوق خلوقاته بائن منهم، وهو معهم بعلمه. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 381، "شرح حديث النزول" ص 388.

الآية تنزل الوحي والقضاء مع جبريل من السماء إلى الأرض، ثم يصعد جبريل إلى السماء في يوم واحد من أيام الدنيا -وقدره مسيرة ألف سنة- خمسمائة نزول وخمسمائة صعودة لأنه ينزل مسيرة خمسمائة عام ويصعد مثله، فذلك ألف سنة، كل ذلك في يوم واحد من أيام الدنيا. وهذا قول مقاتل والسدى وقتادة (¬1). وذكره مقاتل فقال: يقضي الأمر في السماء وينزله مع الملائكة إلى الأرض، فيوقفه ثم يصعد إلى السماء، فيكون نزولها به ورجوعها في يوم واحد مقداره ألف سنة مما تعدون، يريد مقدار المسير فيه على قدر مسيرنا وعددنا ألف سنة؛ لأن بعد ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم، إذا (¬2) قطعته الملائكة بادية وعائدة في يوم واحد فقد قطعت مسيرة ألف سنة في يوم. فعلى القول الأول (يعرج) خبر (الأمر)، والهاء في إليه كناية عن الله، والمراد باليوم يوم القيامة. وعلى القول الثاني (يعرج) خبر عن الملك ولم يجر له ذكر، والهاء في (إليه) كناية عن السماء على لغة من يذكِّرُه. وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} أي مقدار المسير فيه، يعني مسير الملك، والأول أليق بظاهر اللفظ، وهذه الآية مما ترك ابن عباس الكلام فيه، فقد روي أن عبد الله بن فيروز سأله عن هذه الآية وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال ابن عباس: أيامًا سماها الله، وما أدر ما هي، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب، "تفسير الطبري" 21/ 91، "تفسير الماوردي" 4/ 353، "مجمع البيان" 8/ 510. (¬2) في (ب): (إذ)، وهو خطأ.

6

وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم، ثم سأل سعيد (¬1) بن المسيب عن هذه الآية فلم يدر ما يقول فيها حتى أخبر بما قال ابن عباس، فقال للسائل: هذا ابن عباس فقد اتقى أن يقول فيها، وهو أعلم مني (¬2). 6 - وقوله: {ذَلِكَ} قال مقاتل: يعني الذي صنع ما ذكر من هذه إلاَّشياء (¬3). {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وقال ابن عباس: عالم ما غاب عن خلقي، وعالم ما حصره خلقي (¬4). {الْعَزِيزُ}: المنيع في ملكه {الرَّحِيمُ}: باوليائه وأهل طاعته. 7 - قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وقرئ (خَلَقه) بفتح اللام على الفعل، فمن قرأ (خَلْقه) بسكون اللام، ففيه وجهان: أحدهما (¬5): أن التقدير الذي أحسن خلق كل شيء. وهو قول قتادة (¬6)، ¬

_ (¬1) في (أ): (ابن سعيد)، وهو خطأ. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 108، "المستدرك" للحاكم 4/ 610، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، إلا أن الحاكم لم يذكر آخر الحديث وهو سؤال ابن المسيب. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 537، وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 84 أ. (¬4) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 450، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 512، وأبو حيان في "البحر" 8/ 432، غير منسوب لأحد، ولم أقف على من نسبه لابن عباس. (¬5) في (أ): (أحدها). (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 109، "زاد المسير" 6/ 334. وذكره الماوردي 4/ 355، الطبرسى 8/ 512 عن ابن عباس.

واختيار الأخفش (¬1) وصاحب "النظم". وذكره أبو إسحاق وأبو علي (¬2). قال الأخفش في قوله: (خَلْقَه) على البدل، يعني أنه أبدل خلقه من كل شيء (¬3). وقال صاحب النظم: من سكن اللام فيه تقديم وتأخير على تأويل: أحسن خلق كل شيء، إلا أنه -عز وجل- لما قدم كل شيء، والمراد خلق كل شيء، أبدل منه دلالة عليه بالكناية عنه. وقال أبو علي: فجعل (خلقه) بدلاً من (كل)، فيصير التقدير الذي أحسن خلق كل شيء (¬4). وأما معنى {أَحْسَنَ} فقال (¬5) ابن عباس في رواية عطاء: أتقن ما خلق. وهو لفظ مجاهد (¬6). ومعنى الإحسان هاهنا الإتقان والإحكام. وروي عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: أما أن است القرد ليست بحسنة ولكن أحكم خلقه (¬7). وقال مقاتل: علم كيف يخلق الأشياء من غير أن يعلمه أحد (¬8). قال السدي: أحسنه لم يتعلمه من أحد (¬9). ومعنى الإحسان على هذا القول ¬

_ (¬1) لم أقف على اختيار الأخفش له. (¬2) انظر: "معاني القرآن واعرابه" 4/ 204، "الحجة" 5/ 460 - 461. (¬3) لم أقف على قول الأخفش. (¬4) انظر: "الحجة" 5/ 461. (¬5) في (ب): (وقال). (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" ص 35، "تفسير الطبري" 21/ 93، "تفسير الماوردي" 4/ 355، "مجمع البيان" 8/ 512. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 93، "القرطبي" 14/ 90، "البحر المحيط" 8/ 433. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬9) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 355، "مجمع البيان" 8/ 512، "زاد المسير" 6/ 334.

العلم، قال: فلان يحسن كذا، إذا كان يعلمه. وقال صاحب "النظم": معنى الخلق التقدير، ومعنى ذلك أنه -عز وجل- لما طول رجل البهيمة، والطائر طول عنقه؛ لئلا يتعذر عليه ما لا بد به من قوته، [ولو] (¬1) تفاوت ذلك لم يكن له معاش، وكذلك كل شيء من أعضاء الحيوان مقدر لما يصلح له معاشه. وقال أبو إسحاق: تأويل الإحسان في هذا أنه خلقه على إرادته، فخلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق القرد على ما أحب، وخلقه إياه على ذلك من أبلغ الحكمة (¬2). الوجه الثاني في هذه القراءة: أن قوله: {خَلَقَهُ} وإنتصب على المصدر الذي دل عليه أحسن، والمعنى الذي خلق كل خلقه. قاله الزجاج (¬3). وشرحه أبو علي فقال: خلقه ينتصب على أنه مصدر دل عليه ما تقدم من قوله: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ}؛ لأن قوله أحسن كل شيء [يدل على خلقه كل شيء] (¬4) (¬5). والضمير في خلقه كناية عن اسم الله تعالى، والذي يدل على ذلك أنه مصدر لم يسند الفعل المنتصب عنه إلى فاعل ظاهر، وما كان من هذا النحو أضيف المصدر فيه إلى الفاعل نحو: صنع الله. ووعد الله، وكتاب الله، فكما أضيف هذه المصادر إلى الفاعل كذلك يكون خلقه ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (وهو)، وهذا خطأ. والتصويب من "الوسيط" للمؤلف 3/ 450. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 204. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 204. قال الزجاج: (الذي خلق كل شيء خلقه)، فكلمة شيء ساقطة. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) "الحجة" 5/ 461.

8

مضافًا إلى ضمير الفاعل، وهذا الذي ذكرنا مذهب سيبويه (¬1). وعلى هذا التقدير معنى الآية الذي خلق كل شيء. ومن قرأ خلق بفتح اللام، كان صفة للنكرة المتقدمة، وموضع الجملة يحتمل وجهين: أحدهما: إن جعلتها صفة لكل كانت في موضع نصب، وإن جعلتهما وصفًا لشيء كانت في موضع جر، ومثل وصف النكرة بالجملة قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، فقوله: {أَنْزَلْنَاهُ} وصف لكتاب، وموضع الجمل رفع، والدليل على ذلك رفع مبارك بعده فتعلم بارتفاع المفرد أن الجملة قبله في موضع رفع (¬2). ومعنى الإحسان على هذه القراءة يحتمل العلم ويحتمل الأحكام. قال الكلبي: أحكم كل شيء عمله، فلم يعنه عليه أحد (¬3). قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} قال مقاتل: يعني آدم، كان أوله طينًا فلما نفخ فيه الروح صار لحمًا (¬4). 8 - وقوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} قال ابن عباس والمفسرون: ولده وذريته (¬5). {مِنْ سُلَالَةٍ} تقدم تفسيرها (¬6). {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} قال ابن عباس ¬

_ (¬1) "الكتاب" 1/ 380 - 381، وانظر: "مجمع البيان" 8/ 511. (¬2) انظر: الكلام بنصه في: "الحجة" 5/ 462. (¬3) ذكر نحوه "الماوردي" 4/ 355، ولم ينسبه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 95، "تفسير الماوردي" 4/ 356، "البحر المحيط" 8/ 433، "مجمع البيان" 8/ 512. (¬6) عند قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، قال: السلالة: فعالة من السل، وهو استخراج الشيء من الشيء، يقال: سللت الشعر من العجين فانسل، وسللت السيف من غمده فانسل، ومن هذا يقال للنطفة: سلالة، وللولد: سليل وسلالة.

9

والكلبي ومجاهد ومقاتل: من ماء ضعيف، وهو النطفة، كل هؤلاء قالوا: المهين: الضعيف (¬1). قال الزجاج: هو فعيل من المهانة، وهي القلة (¬2). وذكر ذلك في قوله: {كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. وقال الليث: رجل مهين حقير، وقد مهن مهانة (¬3). قال أبو زيد: رجل مهين للضعيف من قوم مهناء (¬4). 9 - قال مقاتل: ثم رجع إلى آدم فقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ} يعني: سوى خلقه {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}، ثم رجع إلى ذرية آدم فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ} يعني بعد أن كنتم [نطفًا] (¬5) السمع والأبصار والأفئدة (¬6). وهذه نعم فلم يشكروا ربهم، فذلك قوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} يعني بالقليل أنهم لا يشكرون رب هذه النعمة في حسن خلقه فتوحدونه (¬7) هذا كلامه (¬8). وبعض المفسرين يجعل (¬9) قوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ} من صفة قوله: {جَعَلَ نَسْلَهُ} (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 95، "تفسير الماوردي" 4/ 356، "مجمع البيان" 8/ 512، "تفسير مجاهد" ص 509، "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬2) انظر: قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 205. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 330 (مهن). وانظر: "اللسان" 3/ 324، "الصحاح" 6/ 2209. (¬4) "تهذيب اللغة" 6/ 335، (مهن). وانظر: "اللسان" 13/ 324، "الصحاح" 6/ 2209. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬7) في (ب): (فيوحدونه). (¬8) "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬9) في (ب): (يجعل هذا)، وهو خطأ. (¬10) انظر:"مشكل إعراب القرآن" للقيسي 2/ 186، "البيان في غريب إعراب القرآن" =

10

ثم نزل في منكري البعث. 10 - قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد أئذا صرنا (¬1) ترابًا ورفاتًا (¬2). وقال مجاهد ومقاتل: (هلكنا في الأرض وصرنا ترابًا) (¬3). وقال السدي: بليت أجسادنا في التراب (¬4). وقال أبو عبيدة: (همدنا) (¬5) في الأرض (¬6). وقال أبو إسحاق: صرنا ترابًا (¬7) فلم يبين شيئًا من خلقنا (¬8). وقال ابن قتيبة: (بطلنا) (¬9) [الأرض] (¬10). وأصل هذا من الضلال بمعنى الغيبوبة، يقال: ضل اللبن في الماء إذا غاب، وأضل الميت في القبر إذا غيبته في التراب (¬11). ¬

_ = 2/ 258 "تفسير الفخر الرازي" 25/ 174. (¬1) في (أ): (وصرنا). (¬2) لم أقف على من نسبه لابن عباس. وقد ذكره الطبري 97/ 21، النحاس في "معاني القرآن" 5/ 302، "الماوردي" 4/ 356 عن مجاهد وقتادة. (¬3) انظر: المصادر السابقة، "تفسير مجاهد" 510، "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬4) لم أقف على من نسبه للسدي، وقد ذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 331. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 131. (¬6) في (ب): (همدنا في التراب الأرض)، وهو خطأ. (¬7) في (ب): (التراب). (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 205. (¬9) انظر: " تفسير غريب القرآن" ص 346،"تأويل مشكل القرآن" ص 457. (¬10) هذه الكلمة في جميع النسخ، والذي يظهر أنها خطأ، إذ لا معنى لها هنا حسب فهمي، والله أعلم. (¬11) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 462 وما بعدها: (ضل)، "اللسان" 11/ 390 (ضلل)، "الاعتماد في نظائر الظاء والضاد" ص 25.

قال المخبِّل (¬1): أضلت بنو قيس (¬2) بن سعد عميدها ... وفارسها في الدهر قيس بن عاصم (¬3) يعني: دفنته. وقال النابغة: فتاه مضلوه بعين جليةٍ (¬4) يريد مضليه: دافنيه. وقوله تعالى: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} استفهام بمعنى الإنكار، أنكروا أن يعاد خلقهم جديدًا بعد الموت. قال ابن عباس: أنكروا قدرة سيدهم جل جلاله (¬5). ¬

_ (¬1) هو: أبو يزيد بن مالك بن ربيعة بن عوف السعدي، من بني أنف الناقة من تميم. ذكره ابن سلام في الطبقة الخامسة من فحول شعراء الجاهلية، وهو من مخضرمي الجاهلية والإسلام، مات في خلافة عمر أو عثمان رضي الله عنهما. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 143، "شرح اختيار المفضل" 1/ 533، "معجم الشعراء" ص 177. (¬2) في (ب): (بنو). (¬3) البيت من الطويل للمخبل في "ديوانه" ص 318، "تهذيب اللغة" 11/ 465، "اللسان" 11/ 395. (¬4) صدر بيت من الطويل، وعجزه: وغودر بالجولان حزم ونائل وهو في الديوان وفي المصادر التي ورد فيها: فآب، وفي نسخ المخطوط: فتاه. انظر: "ديوانه" ص 121، "تهذيب اللغة" 11/ 465، "اللسان" 11/ 395، "الدر المصون" 5/ 396. يريد بقوله: بعين جلية، أي بخبر صادق أنه مات، انظر: "اللسان" 11/ 395. (¬5) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. وقد ذكر نحوه الطبري 21/ 97 عن قتادة، =

11

قال أبو علي: موضع إذا نصب بما دل عليه قوله: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وذلك أن هذا الكلام يدل على: تعاد، والتقدير: أتعاد [أئذا ضللنا] (¬1) في الأرض، وقد تقدم ذكر ذلك (¬2). قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} يعني بالبعث [كافرون] (¬3) لا يؤمنون به. قاله ابن عباس ومقاتل (¬4). 11 - وقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} قال أبو إسحاق: تأويله أنه يقبض أرواحكم أجمعين، فلا ينقص واحد منكم، كما تقول: قد استوفى فلان، وتوفيت مالي عنده، تأويله أنه لم يبق لي عليه شيء (¬5). قوله: {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ} قال ابن عباس: يريد وكل بقبض أرواحكم (¬6). {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}. قال مقاتل: يريد بعد الموت تصيرون إليه أحياء، فيجزيكم بأعمالكم (¬7). 12 - قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} إذ تكون للماضي، وهذا إخبار عما هو آت بعد، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى ¬

_ =والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 513، والثعالبي في "جواهر الحسان في تفسير القرآن" 3/ 213 غير منسوب لأحد. (¬1) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬2) انظر: "الحجة" 5/ 462، والكلام فيها: موضع إذا نصب بما دل عليه قوله:؟ أئنا لفي خلق جديد؟ وكأن هذا الكلام يدل على: تعاد، والتقدير: تعاد إذا ضللنا .. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬4) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. وانظر: "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 205. (¬6) انظر: "الوسيط" 3/ 450، "مجمع البيان" 8/ 514. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب.

13

النَّارِ} [الأنعام: 27]. قال مقاتل: يعني كفار مكة (¬1). قوله: {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} أي مطأطئوها. وقال [ابن عباس] (¬2): من الندامة (¬3). وذلك أن النادم من شأنه أن يطأطئ رأسه متفكرًا متحيرًا، فالإضافة في قوله: {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} في تقدير الانفصال؛ لأنه لم يأت بعد لا (¬4) للماضي، وقد مضى مثل هذا كثير كقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج: 9] {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وذكرنا استقصاء هذه الآية عند قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} في سورة النساء [: 97]. وقوله: {رَبَّنَا} أي: يقولون {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} ما كنا نجهل، وسمعنا ما كنا ننكر {فَارْجِعْنَا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَالِحًا} نقول: لا إله إلا الله. {إِنَّا مُوقِنُونَ} يريد: أيقنوا ذلك اليوم ما كانوا ينكروا (¬5). قاله ابن عباس (¬6). قال أبو إسحاق: وهذا متروك الجواب، والجواب: لرأيت ما يعتبر به غاية الاعتبار (¬7). 13 - قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (¬8) قال ابن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬2) مكرر في (أ). (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الطبري 21/ 98 عن ابن زيد، والماوردي 4/ 359 عن يحيى بن سلام، والقرطبي 14/ 95 بدون نسبة. (¬4) الكلام هنا غير واضح، ويظهر -والله أعلم- أن قوله: (بعد لا) زيادة لا معنى لها. (¬5) هكذا في النسخ! والصواب: ينكرون. (¬6) انظر: "الوسيط" 3/ 451. وذكره الماوردي 4/ 359 عن يحيى بن سلام، وأبو حيان في "البحر" 8/ 435 عن النقاش. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 206. (¬8) في النسخ: (ولقد آتينا)، وهو خطأ.

14

عباس ومقاتل: رشدها وبيانها (¬1). وهذا كقوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]. {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قال ابن عباس: يريد هذا قضائي وقدري في ملكي وربوبيتي (¬2). وقال مقاتل: يعني من كفار الإنس والجن جميعًا (¬3). والقول الذي وجب من الله، قوله لإبليس يوم عصاه: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] والآية صريح (¬4) في تكذيب القدرية (¬5)؛ لأن الله تعالى قد أخبر بهذه الآية أن من لم يؤمن فإنما ذلك لأنه لم يشأ أن يؤتيه هداه. 14 - وقوله: {فَذُوقُوا} قال مقاتل: إذا دخلوا النار، قالت لهم الخزنة: فذوقوا العذاب (¬6). ويجوز أن يكون المعنى: ويقال لهم: فذوقوا، فيكون القائل هو الله تعالى. قال أبو علي: المعنى فذوقوا العذاب بما نسيتم، فحذف واستغني ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 451، "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬2) "الوسيط" 3/ 451. (¬3) "تفسير مقاتل" 84 ب. (¬4) هكذا في النسخ، وهو خطأ. والصواب: صريحة. (¬5) القدرية: فرقة سموا بذلك لقولهم في القدر، فهم يزعمون أن العبد يخلق أفعال نفسه استقلالاً، فأثبتوا -بسبب قولهم- خالقًا مع الله، ولذا فهم مجوس هذه الأمة كما سماهم بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لأن لمجوس يثبتون خالقين: خالقًا للنور وخالقًا للظلمة، وهم ينفون العلم السابق والمشيئة السابقة. انظر "الملل والنحل" للشهرستاني بهامش "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 1/ 65. (¬6) "تفسير مقاتل" 84 ب.

عن ذكره للعلم به وكثرة تردده، في نحو: [ذوقوا العذاب] (¬1) و {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [السجدة: 14]، و {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} [السجدة: 20، سبأ: 42]. ومثل ذلك في الشعر [قوله] (¬2): كأنَّ لها في الأرض نسيًا تقصه ... على أمها وإن تحدثك تبلت (¬3) أي: تقطع الحديث (¬4). قوله تعالى: {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} قال ابن عباس: يريد تركتم لقاء يومكم، يريد حيث لم تعملوا لله بما يحب [ويرضى] (¬5) (¬6). وقال مقاتل: بما تركتم الإيمان بيومكم هذا (¬7). وقال السدي: بما تركتم أن تعملوا للقاء يومكم هذا (¬8). {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} تركناكم في العذاب ومن الرحمة. قاله مقاتل والسدي (¬9). وتأويل النسيان هاهنا الترك في قول المفسرين وأهل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ليس من كلام أبي علي. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬3) البيت من الطويل، وهو للشنفرى في "ديوانه" ص 33، "تهذيب اللغة" 13/ 81، 14/ 293 - 294، "الخصائص" 1/ 28، "اللسان" 2/ 11، 15/ 324، وفي "شرح المفضليات" ص201، يقول: كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئًا ضاع منها، فالنسي: هو الفقد، وأمها: قصدها، تبلت: تنقطع في كلامها لا تطيله. (¬4) "الحجة" 1/ 35 - 36. (¬5) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير مقاتل" 85 أ. (¬8) "الوسيط" 3/ 452، "تفسير الماوردي" 4/ 360. (¬9) "تفسير مقاتل" 85 أ. وذكره الماوردي 4/ 360، ونسبه لمجاهد، ولم أقف عليه عن السدي.

15

المعاني (¬1). {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} قال مقاتل: الذي لا ينقطع (¬2). {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والتكذيب. ثم ذكر المؤمنين فقال: 15 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} قال ابن عباس ومقاتل: وعظوا بآيات القرآن (¬3) {خَرُّوا سُجَّدًا} سقطوا على وجوههم ساجدين. {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} قالوا: سبحان الله وبحمده، وسبحان ربي الأعلى. وذكرنا هذا عند قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن السجود كفعل كفار مكة. 16 - قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} قال الليث: يقال: جفا الشيء يجفو جفاء ممدودًا، إذا سأل السرج (¬4)، يجفو عن الظهر إذا لم يلزمه وكالجنب يجفوا عن الفراش وأنشد: إن جنبي عن الفراش لنائي (¬5) ... كتجافي الأسر فوق الظراب (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 99، "تفسير كتاب الله العزيز" لهود بن محكم 3/ 346، "تفسير الماوردي" 4/ 360، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 206. (¬2) "تفسير مقاتل" 85 أ. (¬3) "تفسير مقاتل" 85 أ، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬4) هكذا في النسخ! وهو خطأ والصواب كما في "تهذيب اللغة": كالسراج. (¬5) هكذا في نسخة (أ)، وفي (ب): (نائي)، وهو في "تهذيب اللغة": لناب. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 206، (جفا). (¬7) البيت من الخفيف، وهو لمعد يكرب في "اللسان" 1/ 569، 4/ 360، "التنبه والإيضاح" 1/ 112، 2/ 132، "كتاب العين" 6/ 190، 7/ 188. ولعمرو بن الحارث أخي معد يكرب في: "معجم الشعراء" ص 467. والسرر: داء يأخذ البعير =

ومن هذا يقال: جفت عيني فلان عن الغمض، إذا نبت عنه لم ينم، ومنه قوله: جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار (¬1) قال أبو عبيدة والزجاج وابن قتيبة: تتجافي ترتفع (¬2). وقال الفراء: تقلق (¬3). وقوله: {عَنِ الْمَضَاجِعِ} المضجع: الموضع الذي يضطجع عليه، وجمعه المضاجع، وقيل ما يستعمل ضجع يضجع من باب الثلاثي، إنما يشعمل مضجع واضطجع. قال ابن عباس في تفسير المضاجع: هي الأوطية (¬4). واختلفوا في الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع من هم؟ فقال الحسن ومجاهد وأبو العالية: هم المجتهدون بالليل (¬5). وهو بمعنى قول ابن عباس في رواية عطاء. ¬

_ = في كركرته، والكركرة هي رحى زور البعير- فتسيل ماء، فإذا برك على موضع خشن تجافى عنه لشدة الوجع. والضارب: الجبال الصغار. انظر: "معجم الشعراء" ص 467. (¬1) البيت من الوافر، وهو لبشار بن برد في "ديوانه" 3/ 249، "الكامل للمبرد" 2/ 760، "لسان العرب" 15/ 320. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 132، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 207، "تفسير غريب القرآن" ص 346. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 331. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "الطبري" 21/ 101، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 304، "تفسير الماوردي" 4/ 363.

وروي ذلك مرفوعًا في حديث معاذ بن جبل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} هو: "هو قيام العبد بالليل" (¬1). وقال آخرون: هم الذين كانوا لا ينامون حتى يصلون العشاء الآخرة، وهو قول أنس بن مالك ومجاهد وعطاء (¬2). قال أنس: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال مجاهد: نزلت في ناس من الأنصار، كانوا لا ينامون حتى يصلون العشاء الآخرة. وقال عطاء: هي العتمة، يعني يصلونها ولا ينامون عنها (¬3). وقال آخرون: هم الذين يصلون بين صلاة المغرب إلى صلاة العشاء (¬4) الآخرة، فأنزل الله هذه الآية (¬5). روى قتادة عنه قال: نزلت فينا معاشر الأنصار، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬6). قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} قال ابن عباس: خوفًا من ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 232. وذكره "السيوطي في الدر" 6/ 547، وعزاه لأحمد وابن جرير وابن مردويه وابن أبي حاتم. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 101، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 304، "تفسير الماوردي" 4/ 363. (¬3) انظر أقوال الثلاثة في: المصادر السابقة. (¬4) في (أ): (عشاء). (¬5) قال بهذا القول أنس وقتادة وعكرمة. انظر: "تفسير الطبري" 21/ 101، "تفسير الماوردي" 4/ 363. (¬6) أورده "السيوطي في الدر" 6/ 546 وعزاه لابن مردويه عن أنس، وأورده الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 518.

17

النار، وطمعًا في الجنة (¬1). وقال مقاتل: خوفًا من عذابه، ورجاء في جنته (¬2). قال أبو إسحاق: (وانتصاب (¬3) خوفًا وطمعًا؛ لأنه مفعول له، وحقيقته أنه في موضع مصدر؛ لأن {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} في هذا الموضع يدل على أنهم يخافون ويرجون، فهو في تأويل: يخافون خوفًا ويطمعون طمعًا (¬4). قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال الكلبي: في الواجب عليهم والتطوع (¬5). 17 - وقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [أو] (¬6) لا يعلم أحد ما خبئ لهؤلاء الذين ذكرهم مما تقر به أعينهم، وتفسير هذه الآية ما رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرأوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬7) ". ¬

_ (¬1) أورده "تفسير الطبري" 21/ 103 ونسبه لقتادة، وذكره غير منسوب: "الماوردي" 4/ 363. "تفسير الطبرسي" 8/ 518، ولم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 85 أ. (¬3) في (ب): (وانتصب). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 207. (¬5) انظر: "الوسيط" 3/ 453. وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 339، ولم ينسبه لأحد. (¬6) (أو) يظهر أنها زائدة، وقد تكون خطأ من النساخ؛ لأنها لا تفيد شيئًا. (¬7) أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} =

قال ابن عباس في هذه الآية: هذا مما لا تفسير له، الأمر أعظم وأجل مما يعرف تفسيره (¬1). وقال أبو إسحاق: هذه الآية دليل على أنه يجازي عليه أخفي لهم (¬2). وهذا الذي ذكره أبو إسحاق جيد موافق لما ذكره القرطبي (¬3) في هذه، قالوا: إنهم [أخفي] (¬4) أخفوا لله عملًا فأخفى لهم ثوابًا، فقدموا على الله فقرت تلك الأعين. وقال الحسن: أخفوا أعمالاً في الدنيا فأثابهم الله بعملهم (¬5). وروى ابن عباس في هذه الآية أنه دخل على بعضهم وذكر له هذه الآية فقال: العبد يعمل سرًا أسره إلى الله لم يعلم به الناس، فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين (¬6). وقرأ العامة: أخفى، على الفعل الماضي فعل ذلك، اختاره أبو عبيدة قال: لأن الله تعالى قد فرغ منه هو كائن. وقرأ حمزة: أخفى بإسكان الياء، أي ما أخفى لهم أنار حجته، قراءة عبد الله: نخفي بالنون (¬7). قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال أبو إسحاق: انتصب جزاء، ¬

_ = رقم (4501)، ومسلم واللفظ له، كتاب الجنة وصفة نعيمها، رقم (2824). (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 453، "مجمع البيان" 8/ 518، "تفسير القرطبي" 14/ 104. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 207، وكلام أبي إسحاق هكذا: نجعل لفظ ما يجازي به (أخفي). (¬3) لم أقف على قول القرظي. (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من (ب)، ولا معنى لها. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 364، "زاد المسير" 6/ 339، "القرطبي" 14/ 104. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 530، "الحجة" 5/ 463.

18

لأنه مفعول له (¬1). 18 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} قال السدي: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة (¬2) بن أبي معيط، وذلك أنه جرى بينهما تنازع وسباب، فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي، وأنا والله أبسط منك لسانًا (¬3). فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق تقول الكذب فأنزل الله هذه الآية تصديقًا لما قاله علي (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: الفاسق عقبة بن أبي معيط. واختار الزجاج هذا (¬5). والباقون قالوا: هو الوليد بن عقبة (¬6). قوله تعالى: {لَا يَسْتَوُونَ} قال الفراء: (ولم يقل: يستويان؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 258. (¬2) هو: الوليد بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، أمه أروى بنت كريز أم عثمان ابن عفان -رضي الله عنه-، فهو أخو عثمان لأمه كنيتة أبو وهب، أسلم يوم الفتح، ولاه عثمان الكوفة ثم عزله، وكان شاعرًا كريمًا -رضي الله عنه-، توفي في خلافة معاوية. انظر: "الإصابة" 6/ 321، أسد الغابة 5/ 90، "سير أعلام النبلاء" 3/ 412. (¬3) في (ب): (لسانك)، وهو خطأ. (¬4) أورده المؤلف في "أسباب النزول" له ص 200 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، والسيوطي في "لباب النقول في أسباب النزول" ص 170، وعزاه للواحدي وابن عساكر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه "الطبري " 21/ 107 عن عطاء بن يسار. قال السيوطي في "لباب النقول": وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله، وأخرج بن عدي والخطيب في "تاريخه" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 208. (¬6) وبه قال: عطاء أيضًا وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومقاتل. انظر: "تفسير الطبري" 21/ 107، "زاد المسير" 6/ 340.

19

الاثنين إذا كان (¬1) غير مصمود (¬2) لهما، ذهبا مذهب الجمع. تقول في الكلام: ما جعل الله المسلم كالكافر، فلا تسوين بينهما وبينهم، وكل صواب) (¬3). وقال أبو إسحاق: من لفظها لفظ الواحد، وهي تدل على الجماعة فجاء لا يستوون على معنى: لا يستوي المؤمنون والكافرون. قال: ويجوز أن يكون لا يستوون للاثنين؛ لأن معنى الاثنين جماعة (¬4). 19 - ثم أخبر عن منازل الفريقين فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا} أي: الموضع الذي يأوي إليه المؤمنون، وأضاف الجنات إليه؛ لأن ذلك الموضع الذي يأوي إليه المؤمنون يتضمن جنات وبساتين. قال أبو إسحاق: فشهد الله -عز وجل- لعلي بالإيمان، وأنه في الجنة بهذه الآية (¬5). وقوله: {نُزُلًا} النزاع: ما تهيأ ويقام للنازل والضيف (¬6). وقد مر تفسيره (¬7). وانتصب نزلًا على الحال من الجنات كأنه قيل: لهم الجنات معدة، ويجوز أن يكون مفعولًا له. 20 - {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} الآية، مفسرة في سورة الحج. ¬

_ (¬1) في (أ): (كانا). (¬2) أي: غير مقصودين، تقول: صمده وصمد إليه أي: قصده. انظر: "اللسان" 3/ 258. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 332. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 208. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 208. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 211، (نزل). (¬7) عند قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 198]

21

21 - وقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} الآية. العذاب الأكبر: هو عذاب يوم القيامة، والعذاب الأدنى هو ما يعذبون به قبل يوم القيامة. واختلفوا فيه: قال (1): هو الجوع الذي ابتلوا به بمكة سبع سنين حتى أكلوا الجيف. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، وابن مسعود في رواية أبي عبيد، ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (2). وقال أبي بن كعب: هو مصائب الدنيا. وهو قول إبراهيم، قال: أشياء يصابون بها في الدنيا ويبتلون في أموالهم لعلهم يقبلون إلى الله. وهو قول الحسن، ورواية الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس (3). القول [الثالث] (4) في العذاب الأدنى: أن القتل يوم بدر. وهو قول عبد الله في رواية مسروق عنه، وقول قتادة والسدي، قال: العذاب الأدنى: يوم بدر [بالسيف] (5)، لم يبق بيت من بيوت قريش إلا دخله غرم أو قتل (6). وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل: كل شيء وعد الله هذه الأمة من العذاب الأدنى إنما هو السيف (7).

_ (1) هكذا في النسخ لم يبين من القائل، وفي "الوسيط" قال: قال مقاتل. (2) انظر: "تفسير مقاتل" 85/ ب، "تفسير الطبري" 21/ 110، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 309، "تفسير مجاهد" ص 511، "زاد المسير" 6/ 341. (3) انظر: "المصادر السابقة" والماوردي 4/ 365. (4) و (5) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (6) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 109، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 308، "مجمع البيان" 8/ 520، "زاد المسير" 6/ 341. (7) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وقد ذكره الماوردي 4/ 365 عن ابن مسعود.

22

القول الرابع: أن العذاب الأدنى عذاب القبر. وهو قول البراء، ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح عنه (¬1). وأما العذاب الأكبر فلا خلاف أنه في الآخرة، إلا ما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد القتل يوم بدر (¬2). وقوله: {لَ1 (¬3). 22 - قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: 57] مفسر في سورة الكهف. وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} قال مقاتل: نزلت في المطعنين (¬4) والمستهزئين من قريش، انتقم الله منهم بالقتل ببدر، وتعجيل أرواحهم إلى النار (¬5). 23 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني: التوراة. {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} قال مجاهد: من أن تلقى موسى (¬6). وقال الكلبي: من لقاء موسى، فلقيه حين أسري به من بيت المقدس. ونحو هذا قال ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 110، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 309، "تفسير الماوردي" 4/ 365، "زاد المسير" 6/ 341. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) وبه قال أيضًا أبو العالية وقتادة وإبراهيم. انظر: "تفسير الطبري" 21/ 111، "تفسير الماوردي" 4/ 365. (¬4) هكذا في النسخ! وفي "تفسير مقاتل" 85 ب: المطعمين. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 85 ب. (¬6) "تفسير مجاهد" ص 511، "زاد المسير" 6/ 343.

السدي، قال: من لقاء موسى ثم لقيه في السماء (¬1). وعلى هذا الكناية عن موسى، وقد أضيف المصدر إلى المفعول وكأنه -صلى الله عليه وسلم- وعد أنه سيلقى موسى قبل أن يموت فلقيه وروى (¬2) أسباط عن السدي (¬3). {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} (¬4) من لقاء ربك. وعلى هذا القول قال صاحب النظم: هو كلام اعترض من بين قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} (¬5) وقوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى}. والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به غيره ممن ينكر البعث، وهم الذين ذكروا في قوله: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}. والمعنى: فلا تكن في مرية من البعث. في الآية قولان آخران أشبه بالنفس وأليق بظاهر الآية. قال ابن عباس في رواية عطاء: فلا تكن في مرية في شك من لقائه، يريد الكتاب، يريد تصديق التوراة (¬6). وقال مقاتل: فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب، فإن الله ألقى الكتاب إليه. وذكر أبو إسحاق أيضًا هذا القول (¬7). وشرحه أبو علي فقال: هو على إضافة المصدر إلى المفعول، مثل: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24]، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 112، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 158، "زاد المسير" 6/ 343. (¬2) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: ورواه. (¬3) انظر: "مجمع البيان" 8/ 520، ونسبه للسدي مباشرة. (¬4) قوله. (من لقائه) ساقط من (أ). (¬5) قوله: (ولقد) ساقط من (أ). (¬6) أورد الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 520 عن الزجاج، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 343 عن السدي والزجاج. ولم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 85 ب، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 209.

{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 3] كأنه لما قيل لموسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] أعلمنا أنه أخذ ما أمر به وتلقاه بالقبول، فالمعنى من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح لموسى على امتثال ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله. {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] (¬1). القول الثاني: قال أبو إسحاق: ويجوز أن تكون الهاء لموسى والكاف محذوف؛ لأن ذكر الكتاب قد جرى (¬2) كما جرى ذكر موسى (¬3). قال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير لموسى والمفعول به محذوف، كقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14] فالدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعولون محذوفون، ومثل ذلك في إضافة المصدر إلى الفاعل وحذف المفعول به، قوله: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 10] فلم يذكر مفعول مقت الله (¬4). وقوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} الضمير للكتاب في قول الجميع، قالوا: جعلنا التوراة هدى لبني إسرائيل من الضلالة. قال قتادة: وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، أي هاديًا، وجعلنا من بني إسرائيل أئمة قادة في الخير (¬5). {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يدعون الناس إلى طاعة الله بأمر الله، ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 2/ 28. (¬2) في (ب): (جر). (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 209. (¬4) انظر: "الحجة" 2/ 29. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 112 - 113، "تفسير الماوردي" 4/ 366، "زاد المسير" 4/ 344.

24

وهؤلاء يجوز أن يكونوا أنبياء. وقال قتادة: هم سوى الأنبياء (¬1). 24 - {لَمَّا صَبَرُوا}، وتقرأ: (لِمَا صبروا) أي لصبرهم. ومن قرأ: لما صبروا، فالمعنى معنى حكايته المجازاة، أي لما صبروا جعلناهم أئمة. قال أبو علي: من قرأ لِما، جعله كالمجازاة، إلا أن الفعل المتقدم أغنى عن الجواب، كما أنك إذا قلت: أجيك إن جئت، تقديره: إن جئت أجئك، فاستغنيت عن الجواب بالفعل المتقدم. ومن قال: لِما، علق الجار جعلنا، التقدير: جعلنا منهم أئمة لصبرهم (¬2). قال ابن عباس: لما صبروا على دينهم (¬3). قال مقاتل: لما صبروا على البلاء حين كانوا بمصر ما لا يطيقون (¬4). وقال ابن المبارك: لما صبروا على الدنيا (¬5). قوله تعالى: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} قال ابن عباس: يريد ماتوا على يقين من أمرنا (¬6). وقال مقاتل: يعني الآيات التسع أنها من الله (¬7). 25 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} أي يقضي ويحكم. {بَيْنَهُمْ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 366، "الوسيط" 3/ 455. (¬2) في "الحجة" 5/ 464، وانظر: "علل القراءات" 2/ 531. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير مقاتل" 85 ب. (¬5) أورده الطبري 21/ 113 عن أبي، والماوردي 4/ 366 عن سفيان. ولم أقف عليه عن ابن المبارك. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير مقاتل" 85 ب.

26

قال ابن عباس: يريد الذين كذبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من بني إسرائيل (¬1). {فِيمَا كَانُوا فِيهِ} من الدين. {يَخْتَلِفُونَ} وذلك أنهم اختلفوا، فآمن بعضهم وكفر بعضهم. ثم خوف كفار مكة فقال: 26 - {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} قال ابن عباس والمفسرون: أو لم نبين لهم (¬2). {كَمْ أَهْلَكْنَا} وقال الفراء: (كم) في موضع رفع بـ {يَهْدِ}، كأنك قلت: أو لم تهدهم القرون الهالكة (¬3). قال أبو إسحاق: (وهذا لا يجوز عند البصريين (¬4)؛ لأن لم لا تعمل ما قبل كم في كم لا يجزئ في قولك: كم رجل جاءني أن تقول: جائني كم رجل؛ لأن كم لا تزال عن الابتداء، وحقيقة هذا أن كم في موضع نصب بأهلكنا (¬5). وفيه تأويل الرفع كما تقول: قد تبين لي أقام زيد أم عمرو فتكون (¬6) الجملة مرفوعة في المعنى، كأنك قلت: تبين لي ذلك (¬7). وهذا القول قال في مثل هذه الآية في آخر سورة طه [آية: 128]. وقد ذكرنا تفسير الآية هناك. ¬

_ (¬1) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 455 غير منسوب، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 113، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 312، "تفسير كتاب الله" لهود بن محكم 3/ 349، "مجمع البيان" 8/ 522. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 333. (¬4) في (أ): (المصريين)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 210. (¬6) في (أ): (فيكون). (¬7) "معاني القرآن" للفراء 2/ 333.

27

قال أبوعلي: (قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} يجوز أن يكون الجملة في موضع نصب بما دل عليه قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ}؛ لأنه بمنزلة أو لم يعلموا فحمله على ذلك (¬1). 27 - قال مقاتل: ثم وعظهم ليحذروا (¬2). فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} قال ابن عباس: يريد السيل (¬3). {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قال الفراء والزجاج: هي التي لا تنبت، وفيه أربع لغات: جرز وجرز وجرز وجُرُز، ومثله الشغل والبخل، يأتي فيه اللغات الأربع (¬4). وذكرنا تفسير الجرز واشتقاقه في سورة الكهف (¬5). قال ابن عباس: يريد أرضًا باليمن ليس فيها بحار ولا أنهار، يأتيها السيل من حيث لا يعلمون، فيزرعون عليه كلما أحبوا من الحبوب (¬6). وقال مجاهد: هي أرض (¬7) التي لا تنبت بالمطر إلا بما يأتيها من السيل (¬8). ¬

_ (¬1) "المسائل الحلبيات" ص 239. (¬2) "تفسير مقاتل" 85 ب. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 333، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 211. (¬5) عند قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} آية: 8 قال هناك: وأما المجرز فقال الفراء: الأرض لا نبات فيها، يقال: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد ما عليها. (¬6) ذكره نحوه: الطبري 21/ 115، الماوردي 4/ 367، "مجمع البيان" 8/ 523. (¬7) هكذا في النسخ! والصواب: الأرض. (¬8) "تفسير مجاهد" ص 511.

وهذا قول أبي عبيدة قال: إنها بناحية عدن (¬1). وعلى هذا القول هي أرض بعينها. قال المبرد (¬2): على هذا القول إنها أرض بعينها، يساق إليها الماء من غير مطر يصيبها، فيأتيها السيل من نواحي فسمى جرزًا بأن المطر لا يقع فيها. قال: وهذا القول بعيد في العربية؛ لأن حق مثل هذا لا يدخل عليه الألف واللام؛ لأنه معرفة كمكة ودمشق، وجوازه إن سميت باسم مشترك كقولك: المدينة والبصرة والكوفة فمجازها مجاز نظيرها من الأسماء، كالفعل والعباس والحارث، وسبب دخول اللام على هذه الأسماء مع كونها معارف أنها أوصاف نقلت فصارت أعلامًا، وأضمرت فيها لام التعريف على ضرب من توهم روائح الصفة فيها. وقال السدي في هذه الآية: هي الأرض الميتة التي لا نبات لها، حتى إذا جاء الماء أنبتت ما يأكل الناس والدواب. ونحو هذا قال مقاتل (¬3). وهذا القول كان أجود؛ لأنه أشبه بنظائر هذه الآية من الاحتجاج على منكري البعث بإحياء الأرض الميتة، ولم يأت شيء منها في أرض بعينها. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن أبي عبيدة، وقد ذكره الطبري 21/ 115 أنها أرض باليمن عن ابن عباس. وأخرج أيضًا عن مجاهد أنها أبين. وهي من بلاد اليمن. وذكر الألوسي في "روح المعاني" 21/ 140، قال: أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنها قرى بين اليمن والشام، قال: وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس أنها أرض باليمن. (¬2) انظر: قول المبرد في: "القرطبي" 14/ 110. (¬3) أورده الطبري 21/ 115 عن ابن زيد، ولم أقف عليه عن السدي، وانظر: "تفسير مقاتل" 85 ب.

28

وعلى هذا القول قوله: {الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} يجوز أن يكون المطر ويجوز أن يكون يريد السيل. 28 - قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني القضي، وهو يوم البعث، يقضي الله فيه بين المؤمنين والكافرين. وقول قول قتادة ومجاهد ومقاتل، قالوا: إن المؤمنين قالوا للكافرين: إن لنا يومًا ننعم فيه ونستريح، فقالوا: متي هذا (¬1)؟ وقال السدي: هو يوم بدر، وذلك أن المسلمين قالوا لهم: لنا يوم يفتح فيه بيننا وبينكم، ينصرنا الله ويظهرنا عليكم، فقالوا: متى هذا (¬2)؟ وقال الكلبي: يعني فتح مكة (¬3). 29 - قال الله لنبيه -عليه السلام-: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} أي الإيمان لا ينفع يوم القضاء بين الخلق. ومن قال: إنه يوم بدر، أراد لا ينفعهم الإيمان إذا جاءهم العذاب وقتلوا. ومن قال: إنه فتح مكة، قال: هذا لمن قبله (¬4) خالد بن الوليد من بني كنانة، وهو قول الكلبي. وأضعف الأقوال هذا القول. قوله: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يؤخر العذاب عنهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 116، "تفسير الماوردي" 4/ 368، "زاد المسير" 6/ 344، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 313،، تفسير مقاتل" 85 ب. (¬2) انظر: "مجمع البيان" 8/ 523. وذكره ابن الجوزي 6/ 345 عن السدي، قال: إنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا. (¬3) انظر: "زاد المسير" 6/ 345. وذكره الماوردي 4/ 368 عن الفراء. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: من قابله.

قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}، قال ابن عباس: نسخه السيف (¬1). {وَانْتَظِرْ} قال: يريوإنتظر موعدي لك. قال مقاتل: يعني القتل ببدر (¬2). {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} قال ابن عباس: ينتظرون بك حوادث الأزمان (¬3)، والله أعلم بالصواب. تم بحمد الله [وعونه] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع البيان" 8/ 523. "تفسير القرطبي" 14/ 112، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 314، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص381، "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله العزيز" ص 143. (¬2) "تفسير مقاتل" 86 أ. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).

(33) سورة الأحزاب

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} الآية. قال مقاتل (¬1): إن أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعوار الأسلمي (¬2) قدموا (¬3) على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة بعد قتال أحد، ونزلوا على عبد الله بن أبي وقد اعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمان على أن يكلموه ومعهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي -عليه السلام-: ارفض ذكر آلهتنا، وقيل: إن لها شفاعة لمن عبدها، فشق ذلك عليه وأمر عمر رحمه الله بإخراجهم من المدينة، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}. وهذا قول ابن عباس في رواية أبي صالح (¬4). قال الفراء: اتق الله في نقض العهد؛ لأنه كانت بينهم موادعة فأمر بأن لا ينقض العهد، وذلك أنهم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء فكرهها، فهم بهم المسلمون (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 86 أ. وقد ذكر القصة بطولها. (¬2) هو: عمرو بن سفيان بن عبد شمس، أبو الأعور الأسلمي مشهور بكنيته. قال مسلم وأبو أحمد والحاكم في "الكنى" له صحبه، وبه قال جماعة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: أدرك الجاهلية ولا صحبة له وحديثه مرسل. وذكره البخاري في من اسمه عمرو، ولم يذكر له صحبة، كان أميرًا لجيش الشام في عمورية سنة 23، ولم يذكر العلماء تاريخ وفاته -رضي الله عنه-. انظر: "أسد الغابة" 4/ 109، "الإصابة" 4/ 302. (¬3) في (ب): (مرا). (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 350. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 334.

2

وقال أبو إسحاق: معناه أثبت على تقوى الله ودم عليه (1). {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} يعني: أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور والمنافقين عبد الله بن أبي وابن سعد وطعمة. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} بما يكون قبل كونه. {حَكِيمًا} فيما يخلقه. 2 - قال الزجاج: قوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يعني: القرآن (2). {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} بالياء للكافرين والمنافقين، وبالتاء على المخاطبة ويدخل فيه الغيب. 4 - قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قال (3) الأخفش: إنما هو ما جعل الله لرجل قلبين في جوفه، وجاءت (من) توكيدًا، [كما تقول: رأيت زيدًا نفسه فأدخل (من) توكيدًا] (4) (5). واختلفوا في سبب نزول هذا، فقال السدي وقتادة ومجاهد: نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب بن عبد الله الفهري (6) وكان ظريفًا لبيبًا حافظًا لما يسمع، وكان يقول: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، وكانت قريش تقول: إن لجميل قلبين في جوفه، وكان يسمى ذا القلبين.

_ (1) و (2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 213. (3) في (أ): (قاله). (4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (5) "معاني القرآن" 2/ 4780. (6) هو: أبو معمر جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، شهد حرب الفجار مع والده، أسلم عام الفتح مسنا وكان يلقب ذا القلبين؛ لأنهم كانوا يقولون: له قلبان في جوفه من شدة حفظه، وفيه نزل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وشهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حنيناً. انظر: "الاستيعاب" 1/ 237، "الإصابة" 1/ 245، "أسد الغابة" 1/ 295

هذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬1). وقال في رواية أبي طيبان: إن المنافقين قالوا: [إن] (¬2) لمحمد قلبين قلبًا معكم وقلبا مع أصحابه (¬3). وقال الزهري: هذا مثل ضربه الله في شأن زيد بن حارثة تبناه النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: فكما لا يكون لرجل قلبان، فكذلك لا يكون رجل واحد ابن رجلين (¬4). وقال مقاتل بن حيان: هذا مثل ضربه الله للمظاهر أي: فكما لا يكون لواحد قلبان كذلك لا يكون المرأة المظاهرة أمه (¬5) حتى يكون له أمان (¬6). والقول الأول عليه أهل التفسير (¬7)، والآية تكذيب للمشركين الذين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 182 ب، "تفسير الطبري"، وأورده السيوطي في، "الدر" وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة، ولابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس، ولابن أبي حاتم عن السدي. وانظر: "تفسير ابن عباس" ص 350. (¬2) زيادة لا يستقيم المعى بدونها وهي موافقة لما في "سنن الترمذي". (¬3) رواه الترمذي في "سننه" كتاب: التفسير، سورة الأحزاب 5/ 27، وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير، تفسير سورة الأحزاب 2/ 415، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 182 ب، "تفسير السمرقندي" 3/ 36. (¬5) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: لا تكون امرأة المظاهر أمه. (¬6) ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 506، وعزاه للزهري ومقاتل. وذكره الماوردي في "تفسيره" 4/ 377. وعزاه لمقاتل بن حيان. وذكره "الثعلبي" 3/ 182 ب، وعزاه للزهري ومقاتل. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 11/ 119، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 318، "تفسير الماوردي" 4/ 370.

قالوا: إن له قلبين، ثم قرن الله تعالى هذا الكلام بما يقوله المشركون وغيرهم مما لا حقيقة له، فقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ} قال أبو علي الفارسي: وزنه فاعل مثل شائي ونائي، والقياس إثبات الياء [فيه] (¬1) بعد الهمزة كما ثبتت في الشائي والنائي ونحوه، ويجوز حذف الياء منه، وحكى ذلك سيبويه فقال: من قال: اللاء بغير ياء، قال: إذا سمي به لاء؛ لأنه يصير بمنزلة باب، وصار حرف الإعراب غير الفعل التي هي الهمز (¬2). ويجوز أيضًا تخفيف الهمزة عند حذف الياء فيجعلها بين بين، وعلى هذا أنشد (¬3) (¬4): من اللائي لم يحججن يبغين حسنة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا وقد قرأ الفراء بالأوجه الثلاثة (¬5). قوله تعالى: {تُظَاهِرُونَ} أي: تتظهرون على وزن تتفعلون فأدغم التاء في الظاء. وقرأ عاصم: تظاهرون من المظاهرة، وقرأ حمزة: تظاهرون أراد تتظاهرون فحذف تاء تتفاعلون، وأدغم ابن عامر هذه التاء التي حذفها حمزة، فقرأ بفتح التاء وتشديد الظاء كل هذا لغات (¬6). يقال: ظاهر من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط في (ب). (¬2) "الحجة" 5/ 466. (¬3) في (ب): (ينشد). (¬4) البيت من الطويل، وهو لعائشة بنت طلحة في: "العقد الفريد" 7/ 102، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" 14/ 346، 15/ 38، "الأغاني" 17/ 121، "الأزهية" ص 306. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 334. (¬6) انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 534، "الحجة" 5/ 467، "الحجة في القراءات السبع" ص 288.

امرأته وتظاهر وتظهر، وهو أن يقول لها: أنت علي كظهر أمي، وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة، فلما جاء الإسلام نهوا عنها، أوجبت الكفارة على من ظاهر امرأته في سورة المجادلة. واشتقاق هذا اللفظ والقصة والحكم يذكر هناك. ومعنى الآية: ما جعل الله نساءكم التي تقولون هن علينا كظهور أمهاتنا في الحرام كما تقولون. وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن الزوجة لا تكون أما (¬1). قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} الأدعياء جمع الدعي، وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه، ويدعيه غير أبيه، ومصدره: الدعوة يقال: دعِيٌّ بيَّنُ الدعوة أي: ما جعل من تدعونه ابنا وليس بولد في الحقيقة ابنا (¬2). قال المفسرون: نزلت في زيد بن حارثة تبناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كالعادة التي كانت في العرب في الجاهلية، فلما تزوج زينب بنت جحش -وكانت امرأة زيد- قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، فأنزل الله هذه الآية إبطالًا لما قالوا وتكذيبًا لهم أنه ابنه. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهم (¬3). وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} المفسرون على أن هذا خطاب للذين ينسبون الدعي إلى من تبناه كقولهم: زيد بن محمد، يقول الله: هذا قول تقولونه بألسنتكم ولا حقيقة وراءه، فهو قول بالفم من غير إسناد إلى أصل (¬4) كما قال: {ذَلِكُمْ قَوْلُهُمْ ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 214. (¬2) انظر: "الصحاح" 6/ 2336، "تهذيب اللغة" 3/ 19، "اللسان" 14/ 257. (¬3) انظر: "الثعلبي" 3/ 183 ب، "الطبري" 21/ 119، "زاد المسير" 6/ 351، "الدر المنثور" 6/ 562 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 183 ب، "بحر العلوم" 3/ 37.

5

بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30]. وقال أبو إسحاق: ادعاؤكم نسب من لا حقيقة لنسبه، قول بالفم لا حقيقة له (¬1). وعلى هذا الخطاب للمتبنين. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} يعني: قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} أي: لا يجعل غير الابن ابنا. {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} قال ابن عباس: يرشده إلى سبيله (¬2). وقال مقاتل: وهو يدل على طريق الحق (¬3). 5 - قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} قال ابن عباس: انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم (¬4). {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}. قوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي: فهم إخوانكم في الدين. قال ابن عباس: يريد من أسلم [منكم] (¬5) (¬6) {وَمَوَالِيكُمْ} أي: بنو عمكم. وهو قول ابن عباس (¬7)، واختيار المبرد (¬8) والزجاج (¬9). وأنشد المبرد: مهلا بنو عمنا (¬10) مهلا موالينا (¬11) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 214. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير مقاتل" 87 ب. (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 350، "الوسيط" 3/ 458. (¬5) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬6) لم أقف على من نسب هذا القول لابن عباس. (¬7) لم أقف على هذا القول منسوبًا لابن عباس. (¬8) "الكامل" 3/ 1212. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 215. (¬10) في (أ): (عما). (¬11) هكذا ورد في النسخ بنو! وهو خطأ، والصواب: بني؛ لأنه منادى مضاف. وهذا صدر بيت وعجزه: لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونًا. =

قال الزجاج: يجوز أن يكون ومواليكم أولياؤكم في الدين (¬1). وقال آخرون: يعني بالموالي المعتقين أي: إن كان عبدًا وأعتقه فهو مولاك، كما كان زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا دل كلام مقاتل (¬2). وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قال مجاهد ومقاتل: يعني فيما قلتموه قبل النهي (¬3). وقال قتادة: لو دعوت رجلاً لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس (¬4). فعلى هذا الخطاب أن يخطئ في نسبه من غير تعمد. وذكر أبو إسحاق قولًا ثالثًا فقال: ويجوز أن يكون: (ولا جناح عليكم في أن تقولوا بما هي (¬5) على غير أن يتعمد أن يجريه مجرى الولد في الإرث) (¬6). وقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} لما كان من قولكم (¬7) قبل النهي رحيما بكم. ¬

_ = وهو من البسيط، للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في: "الكامل" 3/ 1212، "الأضداد" ص 48، "الحماسة" 1/ 129، "الزاهر في معاني كلمات الناس" 1/ 125. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 215. (¬2) "تفسير مقاتل" 87 ب، وذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 528، ولم ينسبه لأحد. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 121، "زاد المسير" 6/ 706، " تفسير مقاتل" 87 ب. (¬4) المصدرين السابقين. (¬5) هكذا في جميع النسخ! والظاهر أنه خطأ، وعبارة الزجاج: في أن تقولوا له: يا بني على غير أن تتعمد أنه تجريه مجرى الولد. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 215. (¬7) في (ب): (لما كان لقومن قولكم)، وهو خطأ.

قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال المفسرون: أي إذا حكم بشيء نفذ (¬1) حكمه، ووجبت طاعته عليهم (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس وعطاء: إذا دعاهم النبي -عليه السلام- إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي أولى بهم من طاعة (¬3) أنفسهم (¬4). ونحو هذا قال ابن زيد: أي ما قضى فيهم من أمر جاز كما أن كل ما قضيت على عبدك جاز (¬5). وعلى هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بكل مؤمن ومؤمنة من نفسهما، وله أن يتصرف في كل حق من حقوق المؤمنين وينفذ ذلك التصرف شاءوا أو أبوا، حتى لو زوج امرأة استغنى عن رضاها ورضا أوليائها؛ لأنه أحق بها منها بنفسها؛ لقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، وروى ابن جريج عن مجاهد في تفسير قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: هو أبو المؤمن (¬6). وهذا راجع إلى ما ذكرنا، يعني أنه كالأب للمؤمنين في وجوب طاعته وترك المخالفة عليه. ويؤكد هذا التفسير أن في مصحف أبي: "النبي عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم" (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (فقد) (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 183 ب، "تفسير الطبري" 21/ 122، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 324. (¬3) في (ب): (طاعتهم أنفسهم). (¬4) المراجع السابقة. (¬5) "تفسير الطبري" 21/ 122، "تفسير الثعلبي" 3/ 183 ب. (¬6) "تفسير الطبري" 21/ 122. وذكره الماوردي 4/ 373، وقال: حكاه النقاش، "تفسير مجاهد" ص 415. (¬7) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 38، "تفسير البغوي" 7/ 208.

ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرؤه (¬1). وعلى هذا يجوز أن يكون يقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أب المؤمنين أي: في الحرمة ووجوب الطاعة كما أن أزواجه أمهات المؤمنين. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يقال: هو ابن (¬2) المؤمنين؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] ولكن يقال: هو مثل الأب للمؤمنين؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} يقال: هو مثل الأب للمؤمنين كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا لكم مثل الوالد" (¬3). ونص الشافعي رحمه الله على أنه يجوز أن يقال: هو أب المؤمنين أي في الحرمة (¬4). والذي في قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي في النسب، يعني ليس أحد من رجالكم ولد صلبه. وقال السدي: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم في دينهم (¬5). وعلى هذا هو أولى بهم من أنفسهم فيما يأمرهم به من أمور ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر" 6/ 567، وعزاه للفريابي وابن مردويه والحاكم والبيهقي في "سننه". (¬2) هكذا في جميع النسخ! وهو خطأ، والصواب: أبو. (¬3) هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-، ونص الحديث: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه" الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب. الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء 1/ 3 رقم الحديث (8)، والنسائي في "سننه" كتاب الطهارة، باب النهى عن الاستطابة بالروث 1/ 38، وابن ماجه في "سننه" كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة 1/ 114 رقم الحديث (313)، والإمام أحمد في "مسنده" 2/ 247، 250 (¬4) انظر: "الأم" 5/ 126. (¬5) لم أقف عليه.

دينهم. وهذه الولاية تختص بأمر الدين كما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أعلم بأمور آخرتكم، وأنتم أعلم بأمور دنياكم" (¬1) على أن جميع ما يأمر به -صلى الله عليه وسلم- في المصلحة وامتثاله من الدين، غير أن أكثر أوامره في أمور الدين. وقال المقاتل: إن طاعة النبي أولى من طاعة بعضكم لبعض (¬2). وعلى هذا قوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (¬3) يريد من غيرهم من المؤمنين كما قال تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] يعني: على إخوانكم من المؤمنين، وكقوله {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقد مر. {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬4) قال جميع المفسرين: أي في حرمة نكاحهن، فلا يحل لأحد التزوج (¬5) بواحدة منهن كما لا يحل التزوج بالأم (¬6). وهذه الأمومة تعود إلى حرمة نكاحهن لا غير؛ لأنه لم يثبت شيء من أحكام الأمومة بين المؤمنين وبينهن سوى هذه الواحدة، ألا ترى أنه لا يحل رؤيتهن ولا يرثن المؤمنين ولا يرثونهن، ولهذا قال الشافعي: وأزواجه أمهاتهم في معنى دون معنى، وهو أنهن محرمات على التأبيد، وما كن محرمات في الخلوة والمسافرة وغير ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"، كتاب الفضائل، باب وجوب ما قاله شرعًا دون ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- من معايش الدنيا على سبيل الرأي 4/ 1836 رقم الحديث (6263) عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) "تفسير مقاتل" 87 ب. (¬3) في (أ): (أنفسكم)، وهو خطأ. (¬4) في (أ): (أمهاته)، وهو خطأ. (¬5) في (أ): (المزوج)، وهو خطأ. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 122، "السمرقندي" 3/ 38، "الثعلبي" 3/ 184 أ. (¬7) انظر: "الأم" 5/ 125.

وهذا ما روى مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها: يا أمه. فقالت: لست لك بأم، وإنما أنا أم رجالكم (¬1). فبان بهذا أن معنى الأمومة تحريم نكاحهن فقط. وعلى هذا لا يجوز أن يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا لأخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين. قال أصحابنا: أزواجه اللاتي توفي عنهن رسول الله في حياته، فمنهم من قال: كانت محرمة بهذه الآية (¬2)، ومنهم من قال: لم تكن محرمة؛ لقوله تعالى في آية التخيير: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية، فدلت هذه الآية على أنهن لو اخترن الطلاق وطلقهن حل؛ لأنهن إنما ينلن زينة الحياة الدنيا بأن يتزوجن الأغنياء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومن أصحابنا من فضَّل وقال: كل مطلقة كانت ممسوسة لم يحل نكاحها، وإن كانت غير ممسوسة حل نكاحها، يدل عليه ما روي أن الأشعث بن قيس تزوج بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المستعيذة (¬3)، وهي التي قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أعوذ بالله منك، لما دخل عليها، فقال: "الحقي بأهلك". ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 375، "تفسير القرطبي" 14/ 123. وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 675 ونسبه لابن سعد وابن المنذر والبيهقي في "سننه". (¬2) في (أ) زيادة: (على أنهم لو اخترن)، وهو خطأ. (¬3) لم أستطع الوقوف على اسم المستعيذة بعد طول بحث، وذلك لكثرة ما ورد من روايات وأقوال، حصل في أكثر الروايات التي وردت فيها هذه القصة اضطراب، فقيل: هي الكلبية، وقيل: الجونية، ثم الاختلاف في اسمها واسم أبيها جاء على أكثر من سبعة أقوال. أيضًا قيل: إنها ماتت كمدًا بعد فراق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها، وقيل: بل عاشت وتزوجت، ثم هناك خلاف في من تزوجها وهل تزوجها أو هم ثم لم يفعل، أقوال كثيرة ذكرها ابن حجر في "فتح الباري" 9/ 445 إلى 452، وكذا ذكرها القسطلاني في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" 12/ 10 - 14.

ولما بلغ عمر -رضي الله عنه- أن الأشعث نكحها همَّ برجمه، فأخبر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمسها فتركه. قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قال قتادة: وكان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئًا فأنزل الله هذه الآية فصارت المواريث بالملك والقرابات (¬1) وقال الكلبي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله حتى نزلت هذه الآية، فصارت المواريث للأدني فالأدنى من القرابات (¬2). وذكرنا الكلام في هذا في آخر سورة الأنفال {فِي كِتَابِ اللَّه} مذكور هناك (¬3). قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}. قال أبو إسحاق: أي ذو الرحم أولى بذي رحمه منه بالمؤمنين (¬4) والمهاجرين إذا لم يكن من ذوي رحمه (¬5). والمعنى أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالهجرة والإيمان دون رحم. و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} صلة أولى كما تقول: أنا أولى منك بهذا الأمر، والمعنى: أولى الأرحام أولى بالميراث من المهاجرين. وقد ذكر الفراء وجهًا آخر، فقال: وإن شئت ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 3/ 184 ب، "تفسير الطبري" 21/ 1231. (¬2) "تفسير الثعلبي" 3/ 184 ب، "السمرقندي" 3/ 38. (¬3) في آخر آية من سورة الأنفال، وهي قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. (¬4) في (ب): (منه من المؤمنين). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 216.

جعلت من يراد بها أولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض (¬1). قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} قال أبو إسحاق: (هذا استثناء ليس من الأول، المعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفًا جائز (¬2). واختلفوا في معنى الأولياء هاهنا، فقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: إلا أن توصوا إلى أوليائكم الذين عاقدتموهم وصية (¬3). وقال مجاهد: خلفاؤكم الذين والى بينهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار (¬4). قال الكلبي: إلا أن يوصي الرجل لأخيه الذي آخى بينهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوصية فيجعل ذلك من ثلث الميت (¬5). وعلى هذا معنى الآية: هو أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة والمعاقدة أباح (¬6) الوصية للحليف والمعاقد والولي والمهاجر. وهذا قول ابن زيد، وابن حيان (¬7). قال أبو إسحاق: هو أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 336. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 216. (¬3) ذكر هذا القول الطبري 21/ 124 ونسبه لابن زيد ثم رجحه. ولم أعثر على من نسبه لابن عباس. (¬4) "تفسير الطبري" 21/ 124، "الماوردي" 4/ 376، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 567 عن مجاهد، وقال: أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 113. (¬6) في (ب): (أبلغ)، وهو خطأ. (¬7) "تفسير الطبري" 21/ 124، "الثعلبي" 3/ 184 ب.

إذا لم يكن وارثًا (¬1). وذهب قوم إلى أن المراد بالأولياء هاهنا القرابات من المشركين. قال الحسن: إلا أن يكون ذا قرابة ليس على دينك فتوصي له بالشيء، هو وليك في النسب وليس وليك في الدين (¬2). قال عطاء: هو إعطاء المسلم الكافر بينهما قرابة وصية له (¬3). وقال قتادة: أولياؤكم من أهل الشرك وصية ولا ميراث لهم (¬4). وهذا قول ابن الحنفية: لذي الرحم الكافر (¬5). وهذا معنى الآية: إن الله تعالى لما رد التوارث إلى الرحم والملك (¬6) أباح الوصية لذي الرحم الكافر. واختار بعضهم القول الأول، وقال: لا يجوز أن يكون المراد بالأولياء القرابة من أهل الشرك؛ لأن الله تعالى نهى عن ذلك بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وعدو الله والمؤمنين لا يكونون أولياء المؤمنين (¬7). وعلى ما ذكره الحسن لا يبعد أن يكونوا أولياء في النسب. قوله تعالى: {مَعْرُوفًا} كلهم قالوا: وصية، وفيه دليل على أن الوصية من باب المعروف لا من باب الواجبات، ولو كان واجبًا لكان أولى ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 216. (¬2) "الدر المنثور" 6/ 568، وقال: أخرجه عبد الرزاق عن قتادة والحسن، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 112. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 113، "معاني القرآن الكريم" للنحاس 5/ 325. (¬4) "تفسير الطبري" 21/ 124، "تفسير الماوردي" 4/ 376، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 567، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 124، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 567، وعزاه لابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الحنفية. (¬6) في (أ): (الملة)، وهو خطأ. (¬7) اختار هذا القول الطبري 21/ 124 ورجحه.

[الناس] (¬1) بها من كان يرث ثم نزع عنه الميراث، فلما كان الوصية له في هذه الآية من المعروف دل أنه لا يجب لأحد. قوله: {كَانَ ذَلِكَ} يعني: التوارث بالهجرة والإيمان الذي كان في ابتداء الإسلام في قول مقاتل (¬2). وقال ابن زيد: (كان ذلك) يعني الذي ذكر من أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض (¬3). وقال قتادة: (كان ذلك) يعني أن المشرك لا يرث المسلم (¬4) (¬5). وقال الكلبي: كان ذلك يعني الوصية، وأن يعود الفقير على الغني، وهو فعل معروف (¬6). قوله: {فِي الْكِتَابِ} قال ابن عباس: يريد في اللوح المحفوظ (¬7). قال القرظي: في التوراة، وهو قول الكلبي قال: كان في التوراة مكتوبًا: عليهم أن يصنع بنوا إسرائيل بعضهم على بعض معروفًا (¬8). وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في آخر سورة الأنفال. قوله: {مَسْطُورًا} قال ابن عباس: مكتوبًا (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬2) "تفسير مقاتل" 88 أ. (¬3) "تفسير الطبري" 21/ 125. (¬4) في (ب): (أن المسلم لا يرث المشرك). (¬5) "معاني القرآن الكريم" للنحاس 5/ 326، "تفسير القرطبي" 14/ 126. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير ابن عباس" ص350، ولم أجد من نسبه لابن عباس من المفسرين حسب علمي. (¬8) ذكر هذا القول وعزاه للقرظي: الطبري 14/ 126، البغوي 3/ 508، ولم أجد من نسبه للكلبي. (¬9) "تفسير ابن عباس" ص 350.

7

7 - قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا} قال أبو إسحاق: موضع إذ نصب، المعنى: واذكر إذ أخذنا (¬1). وهذا يجوز أن يكون تذكيرًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الميثاق، ويجوز أن يكون المعنى: واذكر لقومك ذلك. قوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} قال مجاهد: في ظهر آدم (¬2). قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر) (¬3). قال ابن عباس: أخذ الميثاق على النبيين خصوصًا، يصدق بعضهم بعضًا ويتبع بعضهم بعضًا (¬4). قال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله أن يصدق بعضهم بعضًا وأن ينصحوا لقومهم (¬5). وقال الكلبي: أن [....] (¬6) بعضهم بعضًا. وقوله: {وَمِنْكَ} أخرجه والأربعة الذين ذكرهم من جملة النبيين؛ تخصيصًا بالذكر، وتفضيلاً على غيرهم؛ لأنهم أصحاب الكتب والشرائع، كقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، وقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. وقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذكر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 216. (¬2) "تفسير الطبري" 21/ 126، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 327، "تفسير مجاهد" ص 514. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 216. (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 351، مع اختلاف في العبارة، وذكر هذا القول بعبارته الطبري 21/ 125، ونسبه لقتادة. (¬5) " تفسير مقاتل" 88 أ. (¬6) مقدار كلمة مطموسة في جميع النسخ ولعلها [يصدق]. ولم أعثر على من نسب هذا القول للكلبي، وذكره الطبري منسوبًا لقتادة 21/ 125.

8

لما روى قتادة عن الحسين (¬1) عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "كنت أول المؤمنين في الخلق وآخرهم في البعث". قال أبو إسحاق: فعلى هذا لا تقديم في هذا الكلام ولا تأخير. هو على ما نسقه قال: ومذهب أهل اللغة أن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن المذكور أولًا لا يستقيم أن يكون معناه التأخير (¬2). قوله تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}. قال المفسرون: أي عهدًا شديدًا على الوفاء بما حملوا، وذلك العهد الشديد هو اليمين (¬3) بالله -عز وجل- (¬4). 8 - قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}. قال مقاتل: (يقول أخذ ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين، يعني به: النبيين هل بلغوا الرسالة؟ (¬5). وقال مجاهد: المبلغين [المؤدين] (¬6) من الرسل (¬7). وقال الكلبي: يعني النبيين عن صدقهم بالبلاغ (¬8). وقال أبو إسحاق: معناه ليسأل المبلغين من الرسل عن صدقهم في ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ! والصحيح أنه الحسن كما جاء في كتب السنة، فقد ذكره السيوطي في "الدر" 6/ 570، وعزاه للحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في "الدلائل" والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وبهذا أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 460. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 216 مع اختلاف يسير في العبارة. (¬3) في (ب): (الإيمان). (¬4) انظر: "الوسيط" 3/ 460، "زاد المسير" 6/ 355. (¬5) "تفسير مقاتل" 88 أ. (¬6) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬7) "تفسير الطبري" 21/ 126، "التبيان في تفسير القرآن" 8/ 319. (¬8) ذكره الواحدي في "الوسيط" 3/ 460 غير منسوب لأحد، وذكره "الماوردي" 4/ 378، وقال: حكاه النقاش مع اختلاف في العبارة.

9

تبليغهم، وتأويل مسألة الرسل -والله يعلم أنهم صادقين- التبكيت للذين كفروا بهم، كما قال -عز وجل-: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] الآية (¬1). واللام من قوله: {لِيَسْأَلَ} متعلقة بالأخذ المذكور قبلها، والتقدير: وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا لنسألهم عن تبليغ ما حملناهم من أداء الرسالة، وإنما قال: ليسأل بالياء؛ لكون الخطاب كما يرجع من المخاطبة إلى الكناية، وتم الكلام عند قوله: {صِدْقِهِمْ}، ثم أخبر عما أعد للكفار فقال: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ}. قال الزجاج: أي للكافرين بالرسل (¬2). {عَذَابًا أَلِيمًا}. 9 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. قال مقاتل وغيره من المفسرين: إن أبا سفيان بن حرب ومن معه من المشركين واليهود من قريظة والنضير تحزبوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام (¬3) الخندق، فبعث الله عليهم بالليل ريحًا باردة وبعث الملائكة، فقلعت الريح الأوتاد وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكبرت الملائكة في جانب عسكرهم، فانهزم المشركون من غير قتال، فأنزل الله يذكرهم إنعامه عليهم في الرفع عنهم، وهو قوله: {ذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} (¬4). قال مجاهد والمفسرون: هم الأحزاب عيينة بن بدر وأبو سفيان وقريظة (¬5). قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا}. قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 217. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 217. (¬3) في (ب): (يوم). (¬4) "تفسير مقاتل" 88 أ، "تفسير الطبري" 21/ 127، "الدر المنثور" 6/ 571. (¬5) "تفسير الطبري" 21/ 128، "تفسير الماوردي" 4/ 378، "الدر المنثور" 6/ 573 كلهم عن مجاهد، وزاد السيوطي حيث عزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي.

10

علي الأحزاب يوم الخندق حتى أكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم (¬1). قوله تعالى: {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}. قال: الملائكة، ولم يقاتل يومئذ (¬2). قال مقاتل: ألف ملك عليهم جبريل (¬3). وقال ابن عباس: {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} يريد الملائكة تهلل وتكبر وتدعو للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين بالنصر (¬4). ثم أخبر عن حالهم من أين جاءوا. 10 - وقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ} إذ بدل من قوله: {إِذ جَاَءَتكُمْ جُنُودُ}، وإذ ظرف لإنعام الله عليهم، كأنه قيل: اذكروا إنعام الله عليكم بالكفاية حين جاءتكم جنود، حين جاءوكم {مِنْ فَوْقِكُمْ}. قال المفسرون: يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، قريظة وعليهم حيي بن أخطب، والنضير وعليهم مالك بن عوف (¬5)، وغطفان وعليهم عيينة بن حصن ومعهم طليحة بن خويلد (¬6) في بني أسد. وقوله: {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} يعني: من بطن الوادي ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" للنحاس 5/ 328، وذكره الطبري 21/ 1291 غير منسوب لأحد، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 573، وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي عن مجاهد. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 515 هـ. (¬3) "تفسير مقاتل" 88 ب. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم تذكر كتب المغازي والسير هذا الاسم ضمن قواد هذه الغزوة. لكن ذكر في غزوة حنين (مالك بن عوف النصْري) كان رئيس المشركين، ثم أسلم، وكان من المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامه، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على من أسلم من قومه. (¬6) هو: طليحة بن خويلد الأسدي، يقال: طليحة الكذاب؛ لأنه ارتد بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى النبوة، كان من فصحاء العرب وشجعانهم، أسلم بعد ردته في زمن =

من قبل المغرب من ناحية مكي، أبو سفيان في قريش ومن اتبعه (¬1). وقال الكلبي على الضد مما ذكرنا فقال: من فوقكم يريد من مكة، ومن أسفل منكم يريد أسد وغطفان (¬2). ونحو ذلك قال الفراء: من فوقكم مما يلي مكة، ومن أسفل منكم مما يلي المدينة (¬3). قوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} ومعنى زاغت في اللغة: عدلت ومالت، يقال: زاغت الشمس تزيغ زيوغًا وزيغانًا (¬4)، قال قتادة ومقاتل: شخصت فرقًا (¬5)، والشخوص غير الزيغ؛ لأن الشخوص هو أن يفتح [عينه] (¬6) ينظر إلى الشيء فلا يطرف؛ يقال: شخص بصر الميت (¬7). وإنما فسروا الزيغ بالشخوص هاهنا. لأن المعنى أن الأبصار مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا من كل جانب، كأنها اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب. ¬

_ عمر -رضي الله عنه-، وخرج إلى العراق فحسن بلاؤه في الفتوح، واستثهد بنهاوند. انظر: "الاستيعاب بحاشية الإصابة" 1/ 229، "الإصابة" 1/ 226، "الأعلام" 3/ 230. (¬1) "الثعلبي" 3/ 186 وما بعدها، "تفسير الطبري" 21/ 129 وما بعدها، "القرطبي" 14/ 144. (¬2) ذكره ابن كثير 3/ 474، ولم ينسبه للكلبي وإنما هو من رواية حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- في حديثه الطويل المشهور بشأن تلك الغزوة. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 336 (¬4) انظر: "اللسان" 8/ 432 (زيغ)، "الصحاح" 4/ 1320 (زيغ). (¬5) "تفسير مقاتل" 2/ 232، وذكره الطبري 21/ 131، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 113 منسوبًا لقتادة. (¬6) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 71 (شخص)، "اللسان" 7/ 45 (شخص).

قال الكلبي: مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم (¬1). وقال الفراء: زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها (¬2). متحيرة تنظر إلى عدوها، وهذا الذي ذكره شرح شاف. قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} االحنجرة: جوف الحلقوم، وكذلك الحنجور. قال قتادة: شخصت من مكأنها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت (¬3). قال عكرمة: لو أن القلوب تحركت أر زالت لخرجت نفسه، ولكن إنما هو الفزع (¬4). قال ابن قتيبة: معناه وكادت القلوب تبلغ الحناجر (¬5). و (كاد) مضمر في الآية. قال ابن الأنباري: وهو غلط؛ لأن كاد لا يضمر ولا يعرف معناه إذا لم يوجد مظهر (¬6). فإنه ولو جاز هذا لجاز: قام عبد الله بمعنى كاد عبد الله يقوم، فيكون تأويل قام عبد الله لم يقم عبد الله، والمعنى ما ذهب إليه الفراء، وهو أنهم جبنوا وجزع أكثرهم. وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن ¬

_ (¬1) لم أجد من نسب هذا القول للكلبي، وذكر نحوه الطرسي في "مجمع البيان" 8/ 532، ولم ينسبه لأحد، كما ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 358، ولم ينسبه لأحد. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 336. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 113، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 576 عنه وقال: أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) "تفسير الطبري" 21/ 131، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 576 عنه، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر. (¬5) "تفسير غريب القرآن" ص 348. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 358 عن ابن الأنباري.

تنتفخ رئته، فإذا انتفخت دفعت القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره (¬1)، وهذا الذي ذكره الفراء وهو قول الكلبي، قال: رفعت الرئة القلب وانتفخت حتى صارت عند الحنجرة فلم ترجع (¬2) ولم تخرج. قال أبو سعيد: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله: فقد بلغت القلوب الحناجر. قال: فقولوا: "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال: فقلناها فضرب وجوه أعداء الله بالريح فهزموا (¬3). وقوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} قال ابن عباس: يريد خفتم كثرتهم حتى قنطتم، وكان الله لكم ناصرًا (¬4). وقال مقاتل: يعني الإياس من النصر واختلاف الأمر والنهي (¬5) أن ظنونكم اختلفت، فظن بعضكم بالله النصر ورجاء الظفر والكفاية، وبعض يئس وقنط. وقال الكلبي: ظن به يومئذ ناس من المنافقين ظنونًا مختلفة، يقولون: هلك محمد وأصحابه (¬6). فعلى القول الأول (تظنون) خطاب للمؤمنين، وعلى قول الكلبي خطاب للمنافقين، والمؤمنون كانوا واثقين بنصر الله ووعده بالنصر لدينه ورسوله. ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 517. ونسبه للفراء، وذكره الواحدي في "الوسيط" 3/ 461. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 2/ 336 مع اختلاف في العبارة. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 3، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 573، وعزاه لأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تفسير مقاتل" 88 ب. (¬6) ذكر هذا القول البغوي في "تفسيره" 3/ 516 غير منسوب لأحد، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 532 غير منسوب لأحد.

وقال الحسن: ظنونًا مختلفة، ظن المنافقون أنه يستأصل، وظن المؤمنون أنه ينصر (¬1). الظونا والرسولا والسبيلا: ثلاثة أوجه من القراءة؛ إثبات ألفاتها وقفا ووصلا، وحذفها في الحالين، وإثباتها في حال الوقف وحذفها في الوصل. قال أبو الحسن الأخفش: العرب تلحق الواو والياء والألف في أواخر القوافي، فشبهت أواخر الآي بالقوافي (¬2). وقال أبو علي: أواخر الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، كما كانت القوافي مقاطع فكما ثبتت قوله: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] في حذف الياء بنحو: من حذف (¬3) الموت أن يأتين و: إذا ما انتسبت له أنكرن (¬4) كذلك تشبه في إثبات الألف بالقوافي) (¬5). نحو قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 132)، "الماوردي" 4/ 380، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 577، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن. (¬2) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 480، وانظر: "علل القراءات" 2/ 535، "الحجة في القراءات السبع" ص 289. (¬3) هكذا في النسخ، وهو خطأ والصواب حذر. (¬4) عجزا بيتين من المتقارب للأعشى، والبيتان هما: فهل يمنعني ارتيادي البلاد ... من حذر الموت أن ياتين ومن شأني كاسفٍ وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن وهما من قصيدة طويلة يمدح بها قيس بن معد يكرب الكندي في: "ديوانه" ص 15، "الحجة" لأبي علي 3/ 219، "الكتاب" 2/ 151 - 290. (¬5) "الحجة" 5/ 469.

أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا (¬1) قال أبو الفتح الموصلي: هذه الألف لإشباع الفتحة للقافية، وكذلك الواو لإشباع الضمة في القافية، والياء لإشباع الكسرة (¬2). فمن أثبت في الوقف دون الوصل، وهو اختيار أبي عبيد (¬3) قال: العرب تثبت هذه الألفات في قوافي أشعارهم ومصاريفها؛ لأنها مواضع قطع وسكت، فتعمد الوقوف على هذه الألفات موافقة للخط، وإذا وصلت حذفت كما تحذف (¬4) غيرها مما يثبت في الوقف، نحو التشديد الذي يلحق الحرف الموقوف عليه، قال أبو عبيد: وأكره أن يثبتها مع إدماج القراءة؛ لأنه خروج من العربية (¬5) لما يعد هذا عندهم جائزًا في اضطرار ولا غيره، وأما من أثبت في الوصل فوجهه أنها في المصحف ثابتة، وإذا أثبتت (¬6) في الخط فينبغي (¬7) ألا تحذف كما لا تحذف هاء الوقف من (حسابيه) (وكتابيه) ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، مطلع قصيدة لجرير في "ديوانه" 2/ 813، "خزانة الأدب" 1/ 69، "الخصائص" 2/ 106، "الكتاب" 4/ 205. والشاهد فيه: إجراء المنصوب المقرون بالألف واللام مجرى غير المقرون بها في ثبات الألف لوصل القافية؛ لأن المنون وغير المنون في القوافي سواء. (¬2) انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 471، 677، 726. (¬3) انظر: "البحر المحيط" 8/ 459، "تفسير القرطبي" 14/ 145. تقدم في سورة الأنفال. (¬4) في (أ) جاء الكلام هكذا: كما تحذف [الكسر، فمن أثبت في الوقف دون الوصل دون الوصل] غيرها مما يثبت وهي زيادة خطأ. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 145. (¬6) في (ب): (أثبت). (¬7) في (ب): (ينبغي).

11

وأن يجري مجرى الموقوف عليها كما يثبت ذلك في القوافي في الوصل، وهي لغة أهل الحجاز فيما حكاه أبو الحسن) (¬1). قال (¬2): إنهم يثبتون الألف والواو والياء التي تلحق القوافي في الوصل، ولا ينونون كما ينونون من وصل: أقلي اللوم عاذلي والعتابن. وإذا كان كذلك فثباتها في الفواصل كما ثبتت في القوافي حسن، وأما من طرحها في الحالين فإنه لم يعتد بها ولم يشبه [المنثور بالمنظوم] (¬3) وفيه مخالفة لخط المصحف (¬4). 11 - قوله تعالى: {هُنَالِكَ} يقال: هنا للقريب من المكان، وهنالك للبعيد، وهناك للوسيط بين القريب والبعيد، وسبيله سبيل ذا وذلك وذاك، وذكرنا فيما تقدم (¬5) أن هنالك يجوز أن يشار به إلى المكان وإلى الوقت، والمراد بقوله (هنالك) في هذا الموضع الإشارة إلى الوقت الذي تقدم ذكره، وهو قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ} {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}. قال مقاتل: يعني عند ذلك (¬6). وقال أبو إسحاق: أي في ذلك المكان (¬7). وقوله: {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} قال الفراء والزجاج: اختبروا (¬8). وقال ¬

_ (¬1) إلى هنا من "الحجة" 5/ 470. (¬2) انظر قول الأخفش في: "الخصائص" 2/ 97، ولم أقف عليه في "معانيه". (¬3) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 132، "الحجة" 5/ 468، "الحجة في القراءات السبع" ص 289، "البحر المحيط" 8/ 458، "الدر المصون" 9/ 98. (¬5) عند قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)}. آية 38. (¬6) "تفسير مقاتل" 88 ب. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 219 مع اختلاف في العبارة. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 336، "معاني القرآن وإعرابه للزجاج" 4/ 219.

مجاهد: محصوا (¬1). أي: ليتبين المخلص من المنافق؛ لقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] وقد مر، قال مقاتل: ابتلي المؤمنون بالقتال والحصر (¬2). وقال عطاء: بالجزع (¬3). قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} أي: أزعجوا وحركوا، يقال: زل فلان عن مكانه وزلزله غيره. {زِلْزَالًا شَدِيدًا}، قال أبو إسحاق: ويجوز فتح الزاي والمصدر من المضاعف يجيء على فعلال وفعلال نحو: قلقلته قلقالًا وقلقالًا والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف من هذا البناء مكسور الأول نحو: دحرجته دحراجًا، لا يجوز فيه غير الكسر (¬4). وقال الفراء: الزلزال بالكسر المصدر وبالفتح الاسم، وكذلك الوِسواس والوَسواس (¬5). قال الكلبي ومقاتل: جهدوا جهدًا شديدًا (¬6). وقال عبد الله بن مسلم: أي شدد عليهم وهول (¬7). والزلزال: الشدة والزلزال: الشدائد، وأصلها من التحريك. وقال أبو إسحاق: (أزعجوا إزعاجًا شديدًا) (¬8). والمعنى أن من كان ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 132، "معاني القرآن الكريم" للنحاس 5/ 330. (¬2) "تفسير مقاتل" 88 ب. (¬3) لم أعثر على من ذكر هذا القول من المفسرين. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 218 مع اختلاف في العبارة. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 283. (¬6) "تفسير مقاتل" 88 ب، ولم أجد من نسب القول للكلبي. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 348. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 219.

12

بصدد ما يخاف ويحذر لم يستقر على مكانة، بل يكون منزعجًا مضطربًا متحركًا، وهذه الآية إخبار عن ابتلائهم بالشدة والخوف ليظهر الصابر من الجازع والمؤمن من الشاك، ألا ترى كيف ظهر نفاق المنافقين، حيث أخبر عنهم بقوله: 12 - {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}. قال الزجاج: موضع (إذ) نصب، المعنى: واذكر إذ يقول المنافقون (¬1). قال ابن عباس: يعني أوس بن قبطي (¬2) ومعتب بن بشير (¬3) وطعمه بن أبيرق وسهل بن الحارث (¬4) ووداعة (¬5) وعبد الله بن أبي، وعدة نحوًا من سبعين رجلاً، قالوا يوم الخندق: إن محمدًا يعدنا أن يفتح مدائن كسرى وقيصر واليمن، ونحن لا نأمن أن نذهب (¬6) إلى الخلاء (¬7). وقوله تعالى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}. قال قتادة: قال أناس ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) هو: أوس بن قبطي بن عمرو بن زيد بن جشم الأنصاري الأوسي، شهد أحدًا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقال: إنه كان منافقًا، وفيه نزل قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" 1/ 55، و"الإصابة" 1/ 98، "أسد الغابة" 1/ 148. (¬3) هو: معثب بن بشير، ويقال بن قشير الأوسي الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا. وقال ابن هشام بأنه ليس من المنافقين. وقيل: إنه تاب مما قاله يوم أحد. انظر: "الاستيعاب" 3/ 442، "الإصابة" 3/ 422، "أسد الغابة" 4/ 394. (¬4) لم أقف له على ترجمة (¬5) لم أقف له على ترجمة. (¬6) في (ب): (يذهب)، وهو خطأ. (¬7) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 462 دون تسمية المنافقين.

13

من المنافقين: يعدنا محمدًا (¬1) أن يفتح (¬2) قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله (¬3). وقال مقاتل: قال معتب: يعدنا محمد قصور اليمن وفارس والروم، ولا يستطيع أحدنا أن يبرز إلى الخلاء، هذا والله هو الغرور (¬4). وقال محمد بن إسحاق عن أشياخه: قال معتب أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن يأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لايقدر يذهب إلى الغائط (¬5). 13 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} يعني: من المنافقين، قال بعضهم لبعض: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ} في عسكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لكم به موضع إقامة. قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين (¬6). وقال السدي: يعني عبد الله بن أبي وأصحابه (¬7). وقال ابن عباس: قالت اليهود للمنافقين: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} (¬8). قال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض المدينة، ومدينة الرسول -عليه السلام- ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ! والصواب: محمدث لأنها فاعل. (¬2) في (أ): زيادة: (يعدنا محمدًا قصور اليمن وفارس والروم ولا يستطيع أحدنا أن يبرز إلى [ثم وضع نقط هكذا] أن يفتح قصور الشام وفارس)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "تفسير ابن جرير" 21/ 133، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 577 وقال: أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬4) "تفسير مقاتل" 88 ب. (¬5) انظر "تفسير الطبري" 21/ 133 ونسب القول لقتادة ولمجاهد، وذكر السيوطي في "الدر" 6/ 577، وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة والسدي. (¬6) "تفسير مقاتل" 89 أ. (¬7) انظر: "الكشاف" 3/ 230، "زاد المسير" 6/ 359، "تفسير الماوردي" 4/ 381. (¬8) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 148.

في ناصية منها، وأنشد لحسان مما قاله في الجاهلية (¬1): سأهدي لها في كل عام قصيدة ... وأقعد مكفيا بيثرب مكرما وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقال للمدينة: يثرب، وسماها طيبة (¬2) كأنه كره ذكر الثرب؛ لأنه فساد في كلام العرب، يقال: شرب وأثرب وثرب إذا وسخ وأفسد (¬3). ذكرنا ذلك في قوله {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]. قوله: {لَا مُقَامَ لَكُمْ}. قال أبو إسحاق: لا مكان لكم تقيمون فيه (¬4). والمقام اسم الموضع، يقال: مقام إبراهيم، ومنه قيل للمجلس والمشهد: مقام ومقامة. قال الله تعالى: {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء 58، الدخان:26]. قال الشاعر: فأيي ما وأيك (¬5) كان شرًّا ... فقيد إلى المقامة لا يراها (¬6) ودخلت التاء كما دخلت على المنزلة والمقامة، والمقامة موضع ثواء ولبث. ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لحسان في "ديوانه" ص 369. "مجاز القرآن" 2/ 134. (¬2) أخرج الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 285 عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة هي طابة" وذكره ابن كثير في "التفسير" 5/ 343، وقال: تفرد به الإمام أحمد، وهو ضعيف. (¬3) نظر: "اللسان" 1/ 234 (ثرب). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 219. (¬5) في (ب): (ما واك). (¬6) البيت من الوافر، وهو للعباس بن مرداس في "ديوانه" ص 148، "خزانة الأدب" 4/ 367، "الكتاب" 2/ 402، "لسان العرب" 12/ 506، "الحجة" 5/ 471. المقامة: بالضمة المجلس وجماعة الناس، والمراد: أعماه الله حتى صار يقاد إلى مجلسه.

وقرأ عاصم: لا مقام لكم بضم الميم (¬1). قال الفراء (¬2) والزجاج (¬3): من ضم الميم كان المعنى: لا إقامة لكم، يقال: أقمت إقامة ومقامًا. وقال أبو علي: يجوز في قول من ضم الميم أن يكون المعنى: لا موضع إقامة لكم، وهذا أشبه؛ لأنه في معنى من فتح، يقال: لا مقام لكم (¬4). والمقام بضم الميم يكون (¬5) مصدرًا ويكون اسمًا لموضع الإقامة. وقوله: {فَارْجِعُوا} قال المفسرون: أي إلى المدينة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع والخندق بينه وبين القوم، فقال هؤلاء الذين يثبطون الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس لكم هاهنا موضع إقامة؛ لكثرة العدد وغلبة الأحزاب، فارجعوا إلى المدينة (¬6). قوله -عز وجل-: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} أي: في الرجوع إلى المدينة. قال مقاتل: وهم بنو حارثة وبنو سلمة قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- إن بيوتنا عورة (¬7). قال الليث: العورة سوأة الإنسان وكل أمر يستحي (¬8) منه فهو عورة، ¬

_ (¬1) "الحجة" 5/ 471، "الكشف عن وجوه السبع وعللها وحججها" 2/ 195. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 337. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 219. (¬4) "الحجة" 5/ 471. (¬5) في (ب): زيادة: (يكون المعنى لا موضع)، وهو خطأ. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 135، "تفسير الماوردي" 4/ 382، "مجمع البيان" 8/ 545، "زاد المسير" 6/ 360. (¬7) "تفسير مقاتل" 89 أ. (¬8) في (أ): (يستحق)، وعلق في الهامش: يستحي.

والنساء عورة، والعورة في التفود وفي الحروب: خلل تخوف منه القتل. قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}: أي ليست بحريزة. ويقال في التذكير (¬1) والتأنيث والجمع عورة لمصدر (¬2). قال الزجاج: يقال: عور المكان يور عورا وعورة فهو عور، وبيوت عورة، وعورة على ضربين فمن سكن كان المعنى: ذات عورة) (¬3). قال الفراء: يقال: أعور منزلك إذا بدت منه عورة، وأعور الفارس اذا كان فيه موضع خلل للضرب، وأنشد: له الشدة الأولى إذا القرن (¬4) أعورا (¬5) .. وقال ابن قتيبة: أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ، وكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت، فإذا ذهبوا عنها أعورت البيوت، تقول العرب: أعور منزلك إذا ذهب سترها وسقط جدارها، وأعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب والطعن (¬6). قال مجاهد والحسن ومقاتل: قالوا: بيوتنا ضائعة (¬7) نخشى عليها ¬

_ (¬1) في (ب): (بالتذكير). (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 173 (عار). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 220 مع اختلاف يسير. (¬4) في (ب): (القرآن)، وهو خطأ. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 337. وهذا شطر بيت لم أهتد إلى تمامه وقائله. قال الفراء: أنشدني أبو ثروان، وفي "تهذيب اللغة" 3/ 172، و"اللسان" 4/ 617 (عور) وقال: إنه في وصف أسد. (¬6) "تفسير غريب القرآن" ص 348. (¬7) طمس في (ب).

14

السرق (¬1). وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهالينا (¬2). وقال الكلبي: بيوتنا عورة أي خلاء (¬3) يعني من الرجال (¬4). وقال أبو إسحاق: فكذبهم الله وأعلم أن قصدهم الهرب والفرار (¬5) فقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} قال مقاتل: ما يريدون إلا فرارًا من القتال ونصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬6). 14 - قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا}. قال مقاتل والفراء: لو دخلت عليهم المدينة (¬7). وقال الزجاج: لو دخلت البيوت (¬8). يعني: لو دخلها عليهم هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب من أقطارها من نواحيها، واحدها قطر، والقطر والفتر الجانب الواحد والناحية. قوله: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} يعني: الشرك في قول جميع المفسرين (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 11/ 1361، "تفسير مقاتل" 2/ 272، "مجمع البيان" للطبرسي 8/ 545. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 11/ 136، "مجمع البيان للطبرسي" 8/ 545. (¬3) في (أ): (خال)، وهو خطأ. (¬4) "تفسير الماوردي" 4/ 383. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 219. (¬6) "تفسير مقاتل" 89 أ. (¬7) "تفسير مقاتل" 89 أ، "معاني القرآن" للفراء 2/ 337. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 220. (¬9) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 136، "معاني القرآن" للفراء 2/ 337، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 333، "زاد المسير" 6/ 361.

وقال الزجاج: أي قيل لهم: كونوا على المسلمين مظهرين الفتنة لفعلوا ذلك (¬1). قال ابن عباس ومقاتل: يقول الله لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشرك لأشركوا (¬2). وقال الكلبي (¬3): يقول لو دخل عليهم من أطراف المدينة الخيل والرجال، ثم دعوهم إلى الشرك بالله لأعطوا ذلك وهو قوله: {لَآتَوْهَا} أي: لما امتنعوا منها. وقرأ الحجازيون: لأتوها قصرًا أي: لفعلوها (¬4). قال الفراء: من قولك: أتيت الشيء إذا فعلته، تقول: أتيت الخير أي فعلت الخير، والمعنى: ثم سئلوا فعل الفتنة لفعلوها (¬5). وقال الزجاج: من قرأ بالقصر كان المعنى لقصدوها (¬6). والاختيار المد؛ لقوله: سئلوا، فالإعطاء مع السؤال حسن. قاله الفراء وأبو علي (¬7). وقال أبو عبيد (¬8) قد جاءت الآثار في الذين كانوا يفتنون بالتعذيب في الله أنهم أعطوا ما سألهم المشركون غير بلال، وليس في شيء من الحديث أنهم جاءوا ما سألوهم، ففي هذا اعتبار للمد. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 220. (¬2) انظر: "مجمع البيان" للطبرسي 8/ 545. "تفسير ابن عباس" ص 351، "تفسير مقاتل" 89 أ. (¬3) لم أقف على قول الكلبي. (¬4) انظر: كتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" 2/ 196. (¬5) لم أقف على قول الفراء في معاني القرآن له، ولا فيما لدي من مراجع. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 220. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 337، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 472. (¬8) لم أقف على قول أبي عبيد.

قال أهل المعاني: هذا إخبار عن ظهور فضيحتهم وعدم نصرتهم عند وقوع الشدة بإبداء المكتوم وإعطاء الفتنة وإظهار الردة (¬1). قوله: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} قال ابن عباس: لم يلبثوا باعطاء الشرك إلا يسيرًا (¬2). وقال مقاتل: وما أحسوا من الشرك إلا قليلاً حتى يعطوها طائعين (¬3). وقال قتادة: وما أحبسوا من الإجابة إلى الكفر إلا قليلاً، وهذا قول أكثر المفسرين (¬4). وقال السدي: وما تلبثوا بها أي: بالمدينة إلا يسيرًا بعد إعطاء الكفر حتى يهلكوا (¬5). وقال الحسن: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلاً حتى يعذبوا. وهذا القول اختيار الفراء (¬6) وابن قتيبة (¬7). والكناية في (بها) على القول الأول تعود إلى الفتنة، يقال: تلبث بالشيء تربص به إذا آخره ومنعه. وعلى القول الثاني يعود إلى المدينة، وهي مذكورة في قوله: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}. وروى عطاء عن ابن عباس قولًا ثالثًا فقال: يريد لم يقيموا مع النبي ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 334، للفراء 2/ 337، للزجاج 4/ 220. (¬2) انظر: "مجمع البيان" 8/ 545، "تفسير ابن عباس" ص 351. (¬3) "تفسير مقاتل" 89أ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 11/ 136، "مجمع البيان" 8/ 545، "زاد المسير" 6/ 361. (¬5) انظر: "زاد المسير" 6/ 362، "تفسير القرطبي" 14/ 150. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 337. (¬7) "غريب القرآن" ص 349. وانظر: "مجمع البيان" 8/ 545، "القرطبي" 14/ 150.

-صلى الله عليه وسلم- في حرب ولا دين (¬1). وعلى هذا قوله: {وَمَا تَلَبَّثُوا} ابتداء إخبار عنهم أنهم لم يقيموا هناك، ورجعوا إلى بيوتهم وليس عطفًا على ما قبله، والكناية في (بها) تعود إلى غير مذكور على تقدير: وما تلبثوا بالمعركة، وبالمقامة (¬2)، وهذا أضعف الأقوال. وذكر أبو علي هذه الآية في "المسائل الحلبية" فقال: (من قرأ: لآتوها بالمد فلمكان المسألة، كأنه لو سئلوا لأعطوها ولأتوها من الإتيان حسن؛ لأن قوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} دليل على أنهم يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الإتيان والوقوف معه، فكان المعنى: ويستأذن فريق منهم النبي في أن لا يأتوه لاشتغالهم بحفظ بيوتهم المعورة في زعمهم. {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} أي: لو بلغت البيوت في أعوارها أن دخل عليهم من جوانبها كلها لفرط عوارها، ثم سئلوا معونة العدو على المسلمين، لأتوها وأسرعوا إليها ولم يعتلوا عليهم بأن بيوتهم معورة كما اعتلوا به في تأخرهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ونصرهم، فالمعنى: يستأذنون النبي في أن يقعدوا عنه ولم يأتوه، وهم يأتون العدو لينصروهم ويعينوهم على المسلمين لو سألوهم، فالقراءة بالقصر أشكل بما قبله وما بعده (¬3). ألا ترى أن بعدها: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}. ومن قرأ بالمد فهو راجع إلى هذا؛ لأن إعطاء الفتنة هو راجع إلى هذا؛ لأن إعطاءهم الفتنة ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ب): (ولا بالمقامة). (¬3) (ما) ساقطة من (أ).

معونتهم على المسلمين وإتيانهم العدو ناصرين (¬1). فأتوها بالقصر أشد إبانة للمعنى المراد بهذه الآية، فالمعنى قريب من قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في نصرتهم وهذا مثل قوله: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} لأن في الموضعين دلالة على المعونة على المسلمين وعلى أنهم غير مسافلين (¬2). وقوله: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} يقرب من قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} لآية، إلا أنهم في هذه الآية كأنهم أشد يأسًا من (¬3) النصرة لقطعهم على أن ما وعد الله والرسول به غرور، ويجتمعان في الإخبار عنهم بأن قلوبهم لم تثلج بالإيمان ولم تسكن إلى قول الرسول والإيمان والقرآن وما اجترءوا (¬4) به من الظفر ووعدوا به من الفتح والنصر في قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9]) (¬5)، وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، وقوله: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} أي: تلبثوا بدورهم إلا زمانًا قليلًا حتى يأتوا العدو ناصرين لهم عليكم، ويجوز أن يكون المعنى: لو أتوا العدو ناصرين لهم ومظهرين ما هم مبطنون لاستؤصلوا بالسيوف ويغلبوا كما غلب العدو، ونزل بهم من العذاب ما يهلكهم إذا باينوكم في الدار. ثم ذكرهم الله تعالى عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالثبات في المواطن فقال: ¬

_ (¬1) في (ب): (قاصدين). (¬2) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: متثاقلين. (¬3) هكذا هي في جميع النسخ! وفي "المسائل الحلبيات" في. (¬4) هكذا في جميع النسخ! وفي "المسائل الحلبيات": (ما أخبروا به)، وهو الصواب. (¬5) "المسائل الحلبيات" ص 360 - 362 مع اختلاف يسير في العبارة.

15

15 - {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل الخندق أن لا ينهزموا ولا يولون العدو ظهورهم. وقوله: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} أراد عاهدوا أن لا يولون فلما حذف (أن) عاد الفعل إلى الرفع كقول طرفة: ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغا (¬1) البيت. وقوله تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} أي عنه، فحذف للعلم به، كقوله في سورة بني إسرائيل: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقد مر. وقال صاحب "النظم": معنى مسئولًا هاهنا مطلوبًا بمعنى مطالبًا به ممن صنعه، كما تقول: أسألك حقي أي: أطالبك حقي، أخبر الله تعالى أنهم يسألون في الآخرة عن عهدهم. 16 - ثم أخبر أنهم إن جبنوا عن العرب وخذلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حرصًا على الحياة، وخوفًا من الموت لم ينفعهم ذلك، فقال قوله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} قال ابن عباس: لأن المراد إذا حضر أجله مات أو قتل (¬2). قوله تعالى: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي: لا يمتعون في الدنيا بعد ¬

_ (¬1) صدر بيت من الطويل، وعجزه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي. وهو لطرفة في "ديوانه" ص 32، "خزانة الأدب" 1/ 119، "الإنصاف" 2/ 560، "سر صناعة الإعراب" 1/ 285. والشاهد فيه: قوله: أحضر، حيث روي بالرفع على حذف أن الناصبة وارتفاع الفعل بعدها، وروي بالنصب بإضمار أن. (¬2) انظر: "الوسيط" 3/ 463، ولم أجد من نسب هذا القول لابن عباس غير الواحدي.

17

الفرار إن فررتم إلا مدة آجالكم. قال الربع بن خيثم (¬1): القليل ما بينهم وبين الأجل (¬2). وقال الكلبي: تمتعون إلى آجالكم، وهو القليل؛ لأن كل ما هو آت قريب (¬3). 17 - ثم أخبر أن ما قدر عليهم وأراده بهم لم يدفع عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: يجيركم ويمنعكم منه. {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} قال الكلبي: هلاكًا (¬4). وقال مقاتل: يعني الهزيمة (¬5). {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} قال: يعني: خير، وهو النصر (¬6). وقال الكلبي: هي العافية (¬7). هذا كله أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبهم بهذه الأشياء، ثم يخبر عنهم مؤكدًا لما سبق بقوله: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} قال ابن عباس ومقاتل: يعني قريبًا ينفعهم ولا ناصرًا ينصرهم (¬8). ¬

_ (¬1) هو: الإمام العابد أبو يزيد الربيع بن خيثم الثوري الكوفي، أدرك زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأرسل عنه، وكان يعد من عقلاء الرجال، روى عن عبد الله بن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهما، وعنه روى الشعبي والنخعي ومنذر الثوري وغيرهم، توفي رحمه الله قبل سنة 65 هـ انظر: "الطبقات الكبرى" 6/ 182، "حلية الأولياء" 2/ 105، "السير" 4/ 258. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 138، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3121، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 560، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي، وأورده القرطبي 14/ 151، ولم ينسبه. (¬4) لم أقف على هذا القول. (¬5) "تفسير مقاتل" 89 ب. (¬6) المرجع السابق. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 420. (¬8) "تفسير مقاتل" 89 ب، ولم أقف على من نسبه لابن عباس.

18

18 - قوله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} العوق والاعتياق والتعويق بمعنى، يقال: عاقه واعتاقه وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده، والتعويق: ترغيب الناس عن الخير، ورجل عوقة: يعوق الناس عن الخير. قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنهم قالوا: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحماً لألهتهم (¬1) أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا. وهذا قول ابن عباس وقتادة (¬2). [والقائلين في هذا القول هم المعوقون. وقال مقاتل: (المعوقين) هم المنافقون، عبد الله بن أبي وأصحابه] (¬3) و (القائلين) هم اليهود، وذلك أن اليهود أرسلوا إلى المنافقين أيام الخندق فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بأيدي أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة ما استبقوا منكم أحدًا، وإنا نشفق عليكم؛ فإنكم إخواننا ونحن جيرانكم هلم إلينا، فأقبل المنافقون على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، فذلك قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} يعني: المنافقين، ويعلم (القائلين لإخوانهم) يعني اليهود حين دعوا إخوانهم المنافقين: (هلم إلينا) (¬4). وذكرنا الكلام في (هلم) في سورة الأنعام (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ! والصحيح: لالتقمهم. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 89 ب، "تفسير البغوي" 3/ 517، "الجامع لأحكام القرآن" 14/ 151، وقد نسبه لمقاتل وقتادة وغيرهما، ولم أجد من نسبه لابن عباس. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، وكتب بالهامش. (¬4) "تفسير مقاتل" 89 ب. (¬5) عند قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} الآية: 150.

19

قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} أي: لا يحضرون القتال في سبيل الله، قاله ابن عباس وغيره (¬1). (إلا قليلاً). قال الكلبي ومقاتل: إلا رياء وسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرًا (¬2)، وهذا كقوله في صفتهم أيضًا: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. وقال أبو إسحاق: (لا يأتون العرب مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تعذيرًا يوهمونهم أنهم معهم). 19 - قوله: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} منصوب على الحال، المعنى: يأتون العرب بخلا عليكم، قاله الزجاج (¬3). وأشحة: جمع شحيح، مثل دليل وأدلة، وعزيز وأعزة. قال الفراء: (ويجوز أن يكون حالًا من {الْمُعَوِّقِينَ} المعنى: يعوقون أشحة، وإن شئت من {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} أي: وهم هكذا. قال: ويجوز أن يكون نصبًا على الذم كما ينصب على المدح، مثل قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61]) (¬4). قال مجاهد وقتادة والكلبي: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بالغنيمة والخير والمنفعة في سبيل الله (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 351، وبه قال قتادة. انظر: "تفسير الطبري" 21/ 139، "تفسير الماوردي" 4/ 385. (¬2) "تفسير مقاتل" 90 أ، ولم أجد من نسبه للكلبي، ونسبه الماوردي للسدي 4/ 385. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 220. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 2/ 338 مع اختلاف في العبارة. (¬5) انظر: "الدر المنثور" 6/ 581، وقال: أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، وابن أبي حاتم عن السدي، وابن أبي حاتم عن قتادة. وانظر: "تفسير مقاتل" 90 أ، "مجمع البيان" 8/ 546، "ابن أبي حاتم" 9/ 3121.

قال ابن عباس: يريد بالنصر (¬1) والمعنى: لا ينصرونكم، ثم أخبر عن حالهم (¬2) عند الخوف، فقال: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} قال مقاتل: يعني القتال (¬3). {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}. قال ابن عباس: يريد نظر المغشي عليه من الموت، يريد كما تدور عين الذي في السياق (¬4) هذا كلامه. ولقوله: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} (¬5) تأويلان: أحدهما: أنهم يلوذون بك من الخوف فلا يرفعون بصرهم عنك، والثاني: أن معناه: بيان حالتهم عد الخوف، يقال: ينظرون إليك بالصفة التي ذكر تدور أعينهم، ليس معنى الدوران هاهنا الاضطراب والحركة؛ لأن عين الخائف لا توصف بذلك، وإنما توصف بالشخوص والحيرة، يؤكد هذا أنه شبه أعينهم بعين الذي يغشى عليه من الموت، وعينه تشخص فلا تطرف، ويقال للميت: دارت عينه ودارت حماليق عينه إذا شخص بصره فلم يطرف، وكذلك فعل الفزع الواجد ينظر إلى الشيء شاخص البصر لذهوله بالخوف. قوله تعالى: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} يعني: كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي قرب من حالة الخوف وغشيته أسباب الموت، يقال: غشي عليه فهو مغشي عليه، وهو الغشية، وكذلك غشية الموت، والذي يغشي عليه من الموت هو الذي يذهل ويذهب عقله (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجد من نسبه لابن عباس فيما لدى من مراجع. (¬2) في (أ): (حكيم)، وهو خطأ. (¬3) "تفسير مقاتل" 90 أ. (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 352. (¬5) في (أ) زيادة: (إليك بالصفة التي ذكر تدور أعينهم)، وهو خطأ. (¬6) انظر: "اللسان" 7/ 45 (شخص)، "الصحاح" 3/ 1042 (شخص).

وقوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} أي: زال وجاء الأمن والغنيمة. {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} قال الليث: (يقال: سلقته باللسان، أي: أسمعته فأكثرت، ولسان مسلق: حديد ذلق) (¬1). قال أبو عبيدة: (ويقال: سلق، أي: رفع صوته، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منَّا مَنْ حلق أو سلق" (¬2) أي: رفع صوته عند المصيبة، ومنه قيل: خطيب مسلق ومسلاق وسلاق. قال الأعشى: فيهم الحزم والسماحة والنجدة ... فيهم والخاطب السلاق (¬3) (¬4) ويروى: المسلاق. وقال الفراء: معناه: عصوكم وآذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذرية (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 8/ 403، (سلق). (¬2) الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية 1/ 100 عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا برئ ممن حلق وسلق وخرق" والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 396، وأبو داود في "سننه" كتاب: الجنائز، باب: في النوح 3/ 194 كلهم عن أبي موسى. قال في "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" 8/ 285: ومعنى قوله: "ليس منا" أي: ليس من أهل سنتنا وطريقتا الكاملة، وقوله: "من حلق" أي حلق شعره عند المصيبة، "وسلق" بالسين المهملة، ويروى بالصاد المهملة، أي: رفع صوته بالبكاء، "وخرق" أي: شق ثوبه، وكان ذلك من صنيع أهل الجاهلية. أهـ. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 135 مع اختلاف في العبارة. وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 97/ 1. (¬4) البيت من الخفيف، وهو للأعشي في "ديوانه" ص 265، "تهذيب اللغة" 8/ 402، "اللسان" 10/ 160 (سلق). (¬5) "معاني القرآن" 2/ 339. وانظر: "تهذيب اللغة" 8/ 403.

وقال المبرد (¬1): يقال: سلق فلان بلسانه، إذا غلظ في القول مجاهرًا، وخطيب سلاق إذا كان ماضيًا في خطبته معلنًا، ويقال للمرأة البدنة: قد سلقت، إذ رفعت صوتها، وأنشد قول الأعشى. قال أبو إسحاق: (معنى سلقوكم: خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها) (¬2). وقال ابن قتيبة مثل قول الفراء، ثم قال: وأصل السلق الضرب (¬3). قال ابن عباس: أي: استقبلوكم بالأذى (¬4). وقال ابن زيد: كلموكم بألسنة ذرية، أي: آذوكم بالكلام (¬5). وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق فيها منا، فأما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأ قوم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وهذا قول المفسرين (¬6). وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد يتناولونكم بألسنة حداد، يريد بنعون فيكم وينتقصونكم ويغتابونكم (¬7). فعلى القول الأول سلقهم (¬8) ¬

_ (¬1) لم أقف على قول المبرد. وانظر:"تفسير القرطبي" 14/ 153، "زاد المسير" 6/ 366. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 221. (¬3) "تفسير غريب القرآن" ص 349. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 141، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3122، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 581، وزاد نسبته لابن المنذر. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 141. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 141، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3122 عن قتادة، "مجمع البيان" 8/ 546. (¬7) "تفسير ابن عباس" 352، "تفسير البغوي" 3/ 518. (¬8) في (أ): (سلقتم)، وهو خطأ.

20

خصومتهم ورفعهم الصوت في طلب الغنيمة. وعلى القول الثاني: سلقهم تنقصهم وبسطهم (¬1) اللسان بالغيبة. وقوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر} أي: بخلاء بالغنيمة يشاحون المؤمنين عند القسمة، هذا قول المفسرين. وقال ابن عباس في رواية عطاء: {عَلَى الْخَيْرِ} يريد على المال، لا ينفقون في سبيل الله (¬2). وانتصب (أشحة) على الحال من قوله: سلقوكم، أي: خاطبوكم، وهم أشحة على المال والغنيمة. ثم أخبر أنهم غير مؤمنين وإن أظهروا كلمة الإيمان. قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا}. قال أبو إسحاق: (أي: هم وإن أظهروا كلمة الإيمان ونافقدا فليسوا بمؤمنين) (¬3). وقال مقاتل: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} أي: لم يصدقوا بتوحيد الله (¬4). {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}. قال مقاتل: أبطل الله جهادهم؛ لأن أعمالهم الحسنة وجهادهم لم يكن في إيمان (¬5). {وَكَانَ ذَلِكَ} يعني: إحباط أعمالهم. {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} قال ابن عباس: يريد سهلًا أن يحبط أعمالهم ويعذبهم على النفاق (¬6). 20 - ثم أخبر بما دل عليه جبنهم بقوله: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} ¬

_ (¬1) في (اْ): (بسطتهم). (¬2) ذكر هذا القول الماوردي 4/ 386 ونسبه للسدي، والقرطبي 14/ 154 ونسبه للسدي كذلك، وانظر: "تفسير ابن عباس" ص 352. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 221. (¬4) "تفسير مقاتل" 90 أ. (¬5) المرجع السابق. (¬6) "تفسير ابن عباس" ص 352.

الأحزاب: الجماعات، واحدها حزب، وهم كل طائفة هواهم واحد، فالمؤمنون حزب الله، والكافرون حزب الشيطان، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضًا بمنزلة عاد وثمود وفرعون أولئك الأحزاب، وتحزب القوم: إذا تجمعوا فصاروا أحزابًا، وحزب فلان أحزابًا، أي: جمعهم. قال ابن عباس: يقول بحسب هؤلاء المنافقين أن الأحزاب (¬1) معسكرون مقيمون (¬2). وقال مقاتل: من الخوف والرعب الذي نزل بهم يحسبون الأحزاب لم يذهبوا إلى مكة (¬3). قال أبو إسحاق: (أي: يحسبون الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، لجبنهم وخوفهم منهم) (¬4). وقوله {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} يقول: وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال. {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} قال ابن عباس: يريد: يتمنى المنافقون لو كانوا في البادية (¬5). وقال الكلبي: يقول: خارجون في الأعراب من الرهبة (¬6). والبادون خلاف الحاضرين، ويقال: بدا يبدو إذا خرج إلى البادية، وهي البَداوة ¬

_ (¬1) في (ب): (الآخرة)، وهو خطأ. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 9/ 3122 نحوه عن مجاهد قال: يحسبونهم قريبًا لم يبعدوا. (¬3) " تفسير مقاتل" 2/ 273. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 221. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير هود بن محكم" 3/ 361، "تفسير القرطبي" 14/ 154. (¬6) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: المصدرين السابقين.

والبداوة، ويقال للقوم البادين: بادية، وللموضع الذي بدوا إليه: بادية، وأصل هذا من البدو الذي هو الظهور والبروز، ومعنى الآية: ودوا أنهم خارجون إلى البدو في جملة الأعراب خوفًا من الأحزاب. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}. الأظهر أن قوله: (يسألون) صفة للنكرة التي هي بادون بتقدير: بادون سائلون عن أنبائكم أي: ودوا أنهم بالبعد منكم وهم يسألون عن أخباركم يقولون: ما فعل محمد وأصحابه فيعرفون حالهم (¬1) وما أنتم فيه بالاستخبار لا بالمشاهدة، وهذا معنى قول المفسرين (¬2). وقال الكلبي: يسألون عن خبر المؤمنين ساعة بعد ساعة، فزعًا وفرقًا من القتال (¬3). وعلى هذا القول (يسألون) ابتداء كلام وخبر عنهم، والمعنى: أنهم لجبنهم أبدًا يسألون عن أخبار المؤمنين هل قصدهم عدو وأضلتهم حرب، وذلك أنهم يحتاجون أن يشاهدوا معهم القتال، وإن كرهوا ذلك فلذلك يكثر سؤالهم عن حالهم حتى إن لم يقصدهم عدو ولم يعرض لهم حرب فرحوا، هذا معنى ما ذكره الكلبي. ويجوز أن يكون سؤالهم عن أنبائهم؛ لأنهم يتربصون بهم الدوائر فيهم (¬4) أبدًا يفحصون عن حالهم شماتة بهم إذا أصابتهم نكاية أو عرض لهم عارض شر، والصحيح ما ذكرنا أولاً، وهو أن قوله: {يَسْأَلُونَ} متصل بما قبله؛ لقوله: {وَلَوْ ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: حالكم. حتى يستقيم السياق. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 142، "مجمع البيان" 8/ 547، "القرطبي" 14/ 155 (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "القرطبي" 14/ 155. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: فهم.

21

كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}، وهذا يدل على أن الكلام متصل. قال الكلبي: {إِلَّا قَلِيلًا} رميًا بالحجارة (¬1). ولو كان ذلك القليل لله كان كثيرًا. وقال مقاتل: يعني ما قاتلوا إلا رياء وسمعة من غير خشية (¬2). 21 - ثم عاتب من تخلف بالمدينة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال المفسرون (¬3): قدوة صالحة. يقال: فلان أسوتك في هذا الأمر أي: مثلك (¬4)، وفلان يأتسي فلان (¬5) أي: يرضى لنفسه ما رضي، ويقتدي به وكان في مثل حاله، والقوم أسوة في هذا الأمر أي: حالتهم (¬6) فيه واحدة. قال الليث: والتأسي في (¬7) الأمور من الأسوة (¬8). وفيها لغتان: أسوة وإسوة، ويقال: لي في فلان أسوة أي: لي به اقتداء، والأسوة من الاتساء كالقدوة من الاقتداء، اسم يوضع موضع المصدر. قال ابن عباس: يريد يقتدون به حيث خرج بنفسه (¬9). ومعنى الآية على ما ذكره أهل التفسير: أن الله يقول: كان لكم رسول ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 367، ونسبه لابن السائب. (¬2) "تفسير مقاتل" 90 أ. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 191 أ، "تفسير الطبري" 21/ 143. (¬4) في (أ) زيادة: (أي [حللتم فيه] مثلك)، وهو خطأ. (¬5) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: يأتسي بفلان. (¬6) في (ب): (حاللتم). (¬7) في (ب): (من). (¬8) "تهذيب اللغة" 13/ 140 (أسى). (¬9) لم أجد من نسب هذا القول لابن عباس.

22

الله اقتداء لو اقتديتم به في نصرته ومؤازرته، والشد على يده بالصبر معه في مواطن القتال، كما فعل هو بيوم أحد، إذ كسرت رباعيته وشج فوق حاجبه، وقتل عمه، وأوذي بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل ما فعل واستنيتم بسنته (¬1). قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. قال الفراء: خص الله بها المؤمنين (¬2). يعني قوله بمن (¬3) بدل من قوله لكم، وهو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين بالأسوة. قال ابن عباس: يرجو ما عند الله من الثواب والنعيم (¬4). {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} أي: ذكراً كثيرًا باللسان (¬5)، وذلك أن ذاكر الله هو الذي يأتمر لأوامره بخلاف الغافل عن ذكر الله. 22 - ثم ذكر المؤمنين ووصف حالهم بقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} يعني: أبا سفيان وأصحابه. {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قال قتادة ومقاتل: كان الله وعدهم في {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} إلى قوله {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فأخبرهم بما سيكون من الشدة التي تلحقهم من عدوهم، فلما رأوا يوم الأحزاب ما ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 3/ 191 أ، وذكر السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 44 قريبًا من هذا المعنى. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 339. (¬3) في (ب): (ممن)، وكلاهما لا يتضح به الكلام، وإنما هي كما جاءت في القرآن: لمن. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 519، "زاد المسير" 6/ 368، "مجمع البيان" 8/ 548. (¬5) في (أ): (ذكر)، أسقط الألف، وهو خطأ.

أصابهم من الشدة والبلاء قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} وتصديقًا بوعد الله وتسليمًا لأمره (¬1). ومعنى التسليم هاهنا أن يسلم الأمر لمالكه من غير إعراض فيه، وهو أن يدعه له سالمًا لا يدعي لنفسه فيه شيئاً، ولعل هذا فيما سبق البيان فيه. قال أبو إسحاق في هذه الآية: وصف الله تعالى حال المنافقين في حرب الكافرين وحال المؤمنين، وصف المنافقين بالفشل والجبن والروغان والمسارعة إلى الفتنة، ووصف المؤمنين بالثبوت عند الخوف (¬2). والتصديق بما وعد الله ورسوله من النصر عند شدة الأمر، وذلك أنهم لما (¬3) زلزلوا زلزالًا شديدًا أعلموا أن النصر وجب له (¬4)؛ لأن الله كان قد أنزل عليهم في الآية التي وصف بها ما أصاب أصحاب الأنبياء قبلهم من الشدة قوله: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. هذا معنى ما ذكره وبعض لفظه. قال الفراء: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أصحابه بمسير الأحزاب إليهم فذلك قوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا} أي ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا، قال: ولو كان ما زادوهم إلا إيمانًا يريد الأحزاب كان جائزًا كما قال في سورة أخرى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] ولو كانت ما زادكم إلا خبالا كان (¬5) صوابًا، يريد ما آذاكم خروجهم، وهذا من ¬

_ (¬1) في" تفسير مقاتل" 90 ب، وذكره الماوردي 4/ 388، والطبري 21/ 144 عن قتادة، وزاد الطبري نسبة هذا القول لابن عباس. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 222. (¬3) في (ب): (كما). (¬4) هكذا في جميع النسخ! ولعل الصواب: لهم. (¬5) في (ب): (لكان)، وهو خطأ.

23

سعة العربية (¬1). وهذا الذي ذكره الفراء هو قول الكلبي، قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: إن الأحزاب قد خرجوا إليكم وهم سائرون إليكم تسعًا تسعًا أو عشرًا، فلما رأوهم قد قدموا للميعاد قال المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} للميعاد وذلك لعدة الأيام التي قال لهم (¬2). وقال المبرد (¬3): وفي قوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا} أي ما زادهم رؤيتهم إلا إيمانًا لدلالة الفعل عليه، وهو قول أي المؤمنين ومثله كثير: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ} [آل عمران: 180] أي البخل، يكنى عن المصدر لدلالة الفعل عليه. 23 - قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} قال مقاتل: المعنى ليلة العقبة (¬4). قال أبو إسحاق: موضع (ما) نصب بصدقوا كما تقول صدقتك الحديث، والمعنى: عاهدوا على الإسلام فأقاموا على عهدهم (¬5) بخلاف من كذب في عهده، وخان الرسول بقلبه وهم المنافقون. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} النَّحْب في اللغة هو: النذر (¬6)، والنحب: الموت، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 340 مع اختلاف في العبارة. (¬2) لم أجد من نسب هذا القول للكلبي، وقد ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 7/ 216، ونسبه لابن عباس، وكذلك هو في "تفسير ابن عباس" ص 352. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 990 ب. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 222. (¬6) في النسخ: (البدر)، وهو خطأ، إذ الصحيح النذر، فليس من معاني نَحْب بدر كما ذكر أهل اللغة.

والنخب: الخطر العظيم، قال جرير (¬1): بطفخة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشية بسطام جرين على نحب أي: على خطر عظيم، ويقال: سافر فلان على نحب أي: سار واجتهد في السير، ومنه يقال (¬2): نحب القوم إذا جدوا في عملهم، وسار سيرًا منحباً قاصدًا لا يريد غيره، كأنه جعل ذلك نذرًا على نفسه لا يريد غيره، قال الكميت: يحدن لها عرض الفلاة وطولها ... كما سار عن يمنى يديه المنحب (¬3) أي يقول: إن لم أبلغ مكان كذا ذلك يميني، وقال لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل (¬4) يقول: عليه نذر في طول سيره، هذا كلام الأزهري في تفسير النحب (¬5). وقال الفراء: قضى نحبه أي أجله (¬6). ونحو ذلك قال الزجاج (¬7). ¬

_ (¬1) في النسخ: (حرب) وهو خطأ، والصواب جرير، كما في "ديوانه" ص 632، "تهذيب اللغة" 5/ 115، "اللسان" 1/ 750 (نحب)، "مجاز القرآن" 2/ 135. (¬2) في (ب): (قول). (¬3) البيت من الطويل، وهو للكميت بن زيد في "ديوانه" 1/ 96، "تهذيب اللغة" 5/ 116، "اللسان" 1/ 751، "تاج العروس" 4/ 245. ومعنى البيت كما فسره ثعلب كما في "تاج العروس" 4/ 245: هذا الرجل حلف إن لم أغلب قطعت يدي، كأنه ذهب به إلى معنى النذر- يعني النحب. (¬4) البيت من الطويل، وهو للبيد بن ربيعة في "ديوانه" ص 254، "خزانة الأدب" 2/ 252 - 253، 6/ 145، "الكتاب" 2/ 417، "اللسان" 1/ 751 (نحب). (¬5) "تهذيب اللغة" 5/ 115 (نحب) مع اختلاف يسير في العبارة. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 240. (¬7) "معانىِ القرآن وإعرابه" 4/ 222.

وقال أبو عبيدة: قضى نحبه أي مات، والنحب النفس، وأنشد قول ذي الرمة: عشية فر الحارثيون بعد ما ... قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر (¬1) (¬2) قال المفسرون: هذا في حمزة وأصحابه الذين قتلوا بأحد (¬3). قال ابن عباس: ممن قضى نحبه حمزة بن عبد المطلب ومن قتل معه، وأنس بن النضر (¬4) وأصحابه. روى حميد عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، وشق عليه لما قدم، وقال [غبت] (¬5) عن أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله لئن أشهدني قتالا ليرين ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء ومشى بسيفه فقاتل حتى قتل. قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة، فما عرفناه ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 135. (¬2) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في "ديوانه" 2/ 647، "خزانة الأدب" 4/ 371، "لسان العرب" 5/ 248 (هبر)، وأراد بهوبر ابن هوبر، وهو رجل. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 90 ب، البغوي 3/ 519، "مجمع البيان" 8/ 549. (¬4) هو: أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن النجار الخزرجي الأنصاري، عم أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، غاب عن قتال بدر فأقسم إن شهد قتالًا لا يفر منه فحضر أحدًا، فلما انهزم المسلمون قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، فقاتل حتى قتل شهيدًا -رضي الله عنه-. انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" 1/ 43، "الإصابة" 1/ 86، "أسد الغابة" 1/ 131. (¬5) طمس في كل النسخ، والتصحيح من "تفسير الثعلبي" 3/ 191 ب.

حتى عرفته أخته بثناياه، ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا}. قال: وكنا نقول: أنزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه (¬1). وقال مقاتل: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني: أجله مات أو قتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه (¬2). وقال الليث: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قتلوا في سبيل الله فأدركوا ما تمنوا فذلك قضاء النحب (¬3). وقال محمد بن إسحاق: فرغ من عمله ورجع إلى ربه يعني: من استشهد يوم أحد (¬4). وقال الحسن: قضى أجله على الوفاء والصدق (¬5). وقال مجاهد: قضى عهده بقتل أو بصدق في لقائه (¬6). وروى عكرمة عن ابن عباس: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قال: الموت (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير الثعلبي" 3/ 191 ب، "تفسير الطبري" 21/ 147. وأخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، باب {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} 4/ 1795 رقم 4505، والترمذي في التفسير، سورة الأحزاب 5/ 28، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) "تفسير مقاتل" 90 ب. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 115 (نحب)، وذكره صاحب "تاج العروس" 4/ 243 غير منسوب لأحد. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 145، "تهذيب اللغة" 5/ 116 (نحب)، و"اللسان" 1/ 750 (نحب). (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 114، "مجمع البيان" 8/ 549. (¬6) انظر: "الطبري" 21/ 146، "البحر المحيط" 7/ 217، "تفسير مجاهد" ص 517. (¬7) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 389، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 338.

24

وقال المبرد: النحب في كلامهم الخطر الذي يخطر به، فيقال على ذلك للذي عزم عزمًا فمضى عليه حتى مات قضى نحبه أي: أخطر به (¬1). وقال ابن قتيبة: قضى نحبه أي قتل، وأصل النحب النذر، كان قومًا نذروا أن يلقوا (¬2) العدو وأن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله، فقتلوا فقيل: فلان قضى نحبه إذا قتل (¬3). {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أجله على الوفاء. قال مجاهد: ينتظر يومًا في جهاد فيقضى عهده فيقتل (¬4). وقال مقاتل: من المؤمنين من ينتظر أجله بالوفاء بالعهد (¬5). {وَمَا بَدَّلُوا} العهد {تَبْدِيلًا} كما بدل المنافقون، والمعنى: ما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم كما غير المنافقون. 24 - قوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} فهذه اللام تتعلق بما فيها قبل من فعل المنافقين والمؤمنين عند رؤية الأحزاب، كأنه قيل: صدق المؤمنون في عهودهم ليجزيهم الله بصدقهم ويعذب المنافقين بنقض العهد إن شاء. قال السدي: يمتهم على نفاقهم إن شاء فيوجب لهم العذاب أو يتوب عليهم، أي: وأن ينقلهم من النفاق إلى الإيمان (¬6). ¬

_ (¬1) لم أفف عليه. وانظر: "الدر المصون" 5/ 411. (¬2) هكذا في النسخ، وفي "تفسير غريب القرآن": إن لقوا، وهو المناسب للسياق. (¬3) "تفسير غريب للقرآن" ص 349. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 390، "تفسير الطبري" 21/ 145. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 90 ب. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 390، "الوسيط" 3/ 466.

25

وقال قتادة: يعذبهم إن شاء لا يخرجهم من النفاق إلى الإيمان (¬1). فمعني شرط المشيئة في عذاب المنافقين إماتتهم على النفاق إن شاء ثم يعذبهم أو يتوب عليهم [ليس أنه] (¬2) فيغفر لهم، ليس أنه يجوز أن لا شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق. وقال بعضهم: الله تعالى إذا عذب عذب بمشيثته (¬3)، وإذا عما عفا بمشيئته، ليس لأحد عليه حكم ولا يجب عليه أن يعاقب الكفار ولا أن يرحم المؤمنين بخلاف ما زعمت القدرية، لكنه إذا وعد لم يخلف الميعاد، فعلى قوله: (إن شاء) بيان أنه يعذب بمشيئته لا بأن ذلك واجب عليه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} قال ابن عباس: غفورًا لمن تاب رحيمًا به (¬4). 25 - وقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} أي: صدهم ومنعهم عن المسلمين وعن الظفر بهم، يعني الاْحزاب بغيظهم، أي لم يشف صدورهم بنيل المراد وردهم فيهم غيظهم على المسلمين، والباء في (بغيظهم) بمعنى مع كما يقال: خرج بثيابه وركب الأمير بسلاحه. قوله تعالى: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} قال ابن عباس: يريد ما كانوا يؤمنون (¬5) من الظفر والمال (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 148، "الدر المنثور" 6/ 589. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ب). (¬3) في (ب): (لمشيئته). (¬4) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 352. (¬5) هكذا في النسخ! ولعل الأصوب: يؤملون. (¬6) لم أقف عليه.

26

قال أبو إسحاق: أي لم يظفروا بالمسلمين، وذلك عندهم خير فخوطبوا على استعمالهم (¬1). {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالريح والملائكة التي أرسلت إليهم (¬2) عليهم. {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} في ملكه. {عَزِيزًا} في قدرته. قاله ابن عباس (¬3). ثم ذكر ما ليهود (¬4) بني قريظة بقوله: 26 - {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي: وازروا الأحزاب وأعانوهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعني قريظة، وذلك أنهم نقضوا العهد، وصاروا يدًا واحدة مع المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فلما هزم الله المشركين بالريح والملائكة أمر رسول الله بالمسير إلى قريظة فسار إليهم وحاصرهم عشرين ليلة ثم نزلوا (¬5) على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم سعد أن يقتل مقاتليهم ويسبى ذراريهم (¬6)، فذلك قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ}. قال ابن عباس وعكرمة ومقاتل: من حصونهم (¬7). وقال مجاهد: من قصورهم (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن أبي إسحاق، وقد ذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 550، ولم ينسبه لأحد. (¬2) هكذا في النسخ! والظاهر أن "إليهم" زائدة. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (ب): (باليهود). (¬5) في (ب): (ثم حاصروهم)، وهو خطأ. (¬6) ذكره الطبري 21/ 151، والماوردي 4/ 392. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 151، "زاد المسير" 6/ 374، "معاني القرآن الكريم" للنحاس 5/ 340، "تفسير مقاتل" 90 ب. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 150، "الدر المنثور" 6/ 591، وقال: أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

قال أبو إسحاق: معنى (الصياصي) كل ما يمتنع به، و (الصياصي) هاهنا الحصون وقيل: القصور؛ لأنه يتحصن فيها والصياصي قرون البقر والظباء، وكل قرن صيصة؛ لأن ذوات القرون تتحصن بقرونها وتمتنع بها، وصيصة الديك شوكته؛ لأنه يتحصن بها أيضًا (¬1). وقال أبو عبيدة: الصيصة القرون (¬2)، وأنشد: وسادة قومي حتى بقيت فريدًا كصيصة الأعصب (¬3). ثم تسمى شوكة الديك وشوكة الحائك: صيصة، تشبيهًا بالقرن، ومنه قول دريد (¬4): كوقع الصياصي في النسيج الممد (¬5) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 223. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 136. (¬3) لم أقف على تمام البيت وقائله، وهكذا ورد في النسخ، والذي يظهر لي والله أعلم أنه خطأ، فقد بحثت وكررت البحث حسب طاقتي وجهدي فلم أقف على هذا الشعر، والله أعلم. (¬4) هو: دريد بن الصمة بن الحارث بن معاوية بن جداعة، فارس مشهور، شاعر جاهلي، كان سيد قومه وفارسهم وقائدهم، أدرك الإسلام ولم يسلم، قتل في حنين سنة 8 هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 506، "تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 185، "معجم الشعراء" ص 114. (¬5) عجز بيت وصدره: فجئت إليه والرماح تنوشه وهو من الطويل لدريد بن الصمة في "ديوانه" ص 63، "تهذيب اللغة" 12/ 266، (صيص)، "لسان العرب" 6/ 361 (نوش)، 7/ 52 (صيص)، 10/ 193 (شيق)، 14/ 473 (صيا)، كتاب "العين" 7/ 176.

27

ثم يسمى كل ما يمنع به حصن وقصر صيصة لامتناع ذوات القرون بقرونها (¬1). قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}. قال ابن عباس: ألقى في قلوبهم الخوف (¬2). {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يعني: المقاتلة. قال مقاتل: منهم أربعمائة وخمسون رجلاً. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} وتسبون طائفة يعني الذراري. قال مقاتل: سبعمائة وخمسين (¬3). 27 - قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. قال المفسرون: عقارهم ونخلهم ومنازلهم وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء. قال: فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أرضهم وديارهم للمهاجرين؛ لأنهم لم يكونوا ذوي عقار (¬4). قوله تعالى: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}. قال الكلبي: لم تملوكها، والمعنى لم تطئوها بعد بأقدامكم، وهي مما سيفتحها الله عليكم (¬5). قال مقاتل والكلبي وابن زيد: يعني خيبر فتحها الله عليهم بعد (¬6) بني قريظة (¬7). واختار الفراء هذا القول وقال: عني خيبر، ولم يكونوا نالوها ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 266، "اللسان" 7/ 52. "التاج" 18/ 27. (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 352، مع اختلاف في العبارة. (¬3) "تفسير مقاتل" 91 أ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 150، "الدر المنثور" 6/ 591، وقال: أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬5) ذكر هذا القول أكثر المفسرين، ولم أجد من نسبه للكلبي. انظر: "الطبري" 21/ 150 وما بعدها، "زاد المسير" 6/ 375. (¬6) في (ب): (يعني). (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 91 أ، "الطبري" 21/ 155، "الماوردي" 4/ 393.

28

فوعدهم الله إياها (¬1). وقال قتادة: مكة (¬2). وقال الحسن: هي الروم وفارس (¬3). وقال عكرمة: كل أرض لم يظهر عليها المسلمون إلى يوم القيامة (¬4). {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} من العفو والانتقام (قديرًا). وقال مقاتل: من القرى يفتحها (¬5) على المسلمين (¬6). 28 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} (¬7). قال المفسرون: إن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سألنه شيئاً من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهم على بعض، فآلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهن شهرًا. وأنزل الله آية التخيير، وهو قوله: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} وكن يومئذ تسعًا: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة (¬8)، وأم سلمة (¬9)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 341. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 393، "زاد المسير" 6/ 375. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 393، "تفسير الطبري" 21/ 155. (¬4) انظر: "الماوردي" 4/ 393، "زاد المسير" 6/ 375. (¬5) في (ب): (وفتحها). (¬6) "تفسير مقاتل" 91 أ. (¬7) قوله: (وزينتها قعالين أمتعكن) ساقط من (أ). (¬8) هي: أم المؤمنين سودة بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية، وهي أول من تزوج بها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة، وكان ذلك في رمضان سنة 10 من البعثة، وهبت يومها لعائشة بعدما كبرت، توفيت رضي الله عنها في آخر خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة. انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" 4/ 317، "الإصابة" 4/ 330، "أسد الغابة" 5/ 484. (¬9) هي: أم المؤمنين هند بنت أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، أم سلمة زوج =

وهؤلاء من قريش، وصفية الخيبرية (¬1)، وميمونة الهلالية (¬2)، وزينب بنت جحش الأسدية (¬3)، وجويرية بنت الحارث (¬4) ¬

_ = النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي ممن أسلمت قديمًا وهاجرت إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وهي آخر أمهات المؤمنين موتًا رضي الله عنهن جميعًا، ماتت سنة 61 هـ، وقيل 62 هـ. انظر: "الاستيعاب" 4/ 405، "الإصابة" 4/ 407، "أسد الغابة" 5/ 560. (¬1) هي: أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب، تزوجها قبل إسلامها سلام بن أبي الحقيق، ثم أخوه كنانة، فقتل عنها يوم خيبر وسبيت وصارت في سهم دحية الكلبي، ثم أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعوضه عنها، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وجعل عتقها صداقها وكانت شريفة عاقلة ذات حسب وجمال ودين رضي الله عنها، توفيت سنة 36 هـ، ـ وقيل 50 هـ بالمدينة. انظر: "الاستيعاب" 4/ 391، "الإصابة" 4/ 397، "أسد الغابة" 5/ 550. (¬2) هي: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن صعصعة الهلالي، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وخالة خالد بن الوليد وابن عباس، تزوجها أولًا مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإسلام ففارقها وتزوجها أبو رهم بن عبد العزى فمات، فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما فرغ من عمرة القضاء سنة 7 هـ وهي من سادات النساء، ماتت رضي الله عنها سنة 61 هـ في خلافة يزيد ولها 80 سنة، وقيل ماتت سنة 51 هـ. انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" 4/ 306، "الإصابة" 4/ 307، "أسد الغابة" 5/ 463. (¬3) هي: أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رياب، ابنة عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أمها أميمة بنت عبد المطلب ابن هاشم، كانت عند زيد مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- فطلقها ثم تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، زوجها إياه ربه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين، وكانت من سادة النساء دينًا وورعًا وجودًا ومعروفًا، ماتت رضي الله عنها سنة 20 هـ وصلى عليها عمر. انظر: "الاستيعاب" 4/ 251، "الإصابة" 4/ 257، "أسد الغابة" 5/ 419. (¬4) هي: أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقبة سبيت يوم غزوة المريسيع سنة 5 هجرية وكانت من أجمل النساء وأسلمت وتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأطلق الأسارى من قومها، وكان أبوها سيدًا مطاعًا في قومه، وقد قدم على =

29

المصطلقية (¬1). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} يعنى متعة الطلاق، وقد ذمنا أحكامها في سورة البقرة (¬2). {وَأُسَرِّحْكُنَّ} قال ابن عباس: يريد الطلاق (¬3). {سَرَاحًا جَمِيلًا} قال مقاتل: يعني حسنًا في غير ضرار (¬4)، وهذا كقول: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقد مر. التسريح صريح في الطلاق، وصريح الطلاق عند الشافعي ثلاثة: الطلاق والفراق والسراح، وسائر الألفاظ كنايات، وهي غير محصورة (¬5). والسراح اسم من التسريح يقام مقام المصدر كما يقال: أدى أداء. 29 - قال الحسن وقتادة: أمر الله رسوله أن يخير الرسول (¬6) أزواجه بين الدنيا والآخرة والجنة والنار، فأنزل قوله (¬7): {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ}، ¬

_ = النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، توفيت رضي الله عنها سنة 50 هجرية انظري: "الاستيعاب" 4/ 201، "الإصابة" 4/ 257، "أسد الغابة" 5/ 419. (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 195 أ، "تفسير الطبري" 21/ 156،"تفسير الماوردي" 4/ 395. (¬2) عند تفسير قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [آية: 236] (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 353. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 91 أ. (¬5) انظر: "الأم" للشافعي 5/ 240، "المغنى" 10/ 355. (¬6) في جميع النسخ: (أن يخير الله)، وهو خطأ. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 21/ 157، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3128، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 596، وزاد نسبته لابن المنذر.

30

وقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} يعني الجنة {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1) أي اللائي آثرن منكن الآخرة أجرًا عظيمًا. قال مقاتل: يعني الجنة (¬2). قال المفسرون: فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعائشة وخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعلت سائر أزواجه مثل ما فعلت عائشة وقلن: ما لنا وللدنيا، إنما خلقت الدنيا دار فناء والآخرة هي الباقية، والباقية أحب إلينا من الفانية (¬3). فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فأنزل: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآية، فقصره الله عليهن ورفع منزلتهن على سائر النساء بالتميز عنهن في العقوبة على المعصية والأجر على الطاعة، وهو قوله (¬4): 30 - {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. قال مقاتل: يعني العصيان البين (¬5). وقال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق (¬6). {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال مقاتل: يضاعف لها العذاب في الآخرة (¬7). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: (المحصنات)، وهو خطأ. (¬2) "تفسير مقاتل" 91 أ. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، باب {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} 4/ 1796 رقم 4507، ومسلم في "صحيحه" كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بنية 2/ 1103 رقم (1475)، والطبري 21/ 157، وابن كثير 3/ 480. (¬4) في (ب) زيادة: (وهو قوله: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء). (¬5) "تفسير مقاتل" 91 أ. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 397، "زاد المسير" 6/ 379، "البغوي" 3/ 527. (¬7) "تفسير مقاتل" 91 أ.

وقال أبو عبيدة في "تفسيره" تضعيف العذاب: يجعل الواحد ثلاثة أي: يعذب ثلاثة أعذبة. قال: وكان عليها أن تعذب مرة فإذا ضوعف ضعفين صار العذاب ثلاثة أعذبة؛ لأن ضعف الشيء مثله وضعفيه مثلًا واحده (¬1). قال الزجاج: وليس هذا بشيء؛ لأن معنى يضاعف يجعل عذاب جرمها كعذاب جرمين. الدليل عليه قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}، فلا يكون أن تعطى على الطاعة أجرين وعلى المعصية ثلاث أعذبة (¬2). وقال الأزهري: الذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وما يتعارفونه في خطابهم، وقد قال الشافعي ما يقارب قوله في رجل أوصى فقال: أعطوا فلانًا ضعف ما يصيب ولدي. قال: يعطى مثله مرتين، ولو قال ضعفي ما يصيب ولدي نظرت فإن أصابه مائة أعطيته ثلاثمائة. قال: وقد قال الفراء (¬3) شبيها بقولهما في قول الله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] قال الأزهري: والوصايا يستعمل العرف (¬4) الذي يتعارفه المخاطب والمخاطب، وما يسبق إلى الأفهام فيما يذهب الوهم إليه، فأما كلام الله -عز وجل- فهو عربي مبين، ويرد تفسيره إلى موضع كلام العرب، ولا يستعمل فيه العرف إذا خالف اللغة، والضعف في ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 136 مع اختلاف في العبارة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 226. (¬3) في جميع النسخ: (القراة)، والصحيح: الفراء، كما في "تهذيب اللغة" 1/ 480. (¬4) في النسخ: (العرب) والصواب: العرف، كما في "تهذيب اللغة"، وهنا سقط حرف ولذلك فالكلام موهم، وهو في "تهذيب اللغة": يستعمل فيها العرف.

كلام العرب: المثل ما زاد (¬1) وليس مقصورًا على مثلين فيكون ما قاله (¬2) صوابًا، يقال: هذا ضعف هذا أي مثله، وهذا ضعفاه أي مثلاه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل ثلاثة (¬3) غير محصورة، ألا ترى إلى قوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [سبأ: 37] ولم يرد به مثلا ولا مثلين، ولكنه أراد بالضعف الأضعاف، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فأقل الضعف محصور، وهو المثل وأكثره غير محصور وأما قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} فإذا سياق الآية التي بعدها دل على أن المراد من قوله ضعفين مثلين ألا تراه يقول بعد ذكر العذاب: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} فإذا جعل الله لأمهات المؤمنين من الأجر مثلي ما لغيرهن تفضيلًا لهن على سائر نساء الأمة، فكذلك إذا أتت إحداهن بفاحشة عذبت مثلي ما يعذب غيرها، ولا يجوز أن تعطى على الطاعة أجرين، وتعذب على المعصية ثلاثة أعذبة، وإذا قال الرجل لصاحبه: إن أعطيتني درهما كافأتك بضعفين فمعناه بدرهمين (¬4)، ونحو هذا قال ابن قتيبة في الإنكار على أبي عبيدة (¬5). وقال أبو علي الفارسي: (معنى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} زيد في عذابها ضعف كما زيد في ثوابها ضعف في قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} ¬

_ (¬1) في "تهذيب اللغة": المثل إلى ما زاد، سقطت كلمة (إلى)، "تهذيب اللغة" 1/ 480. (¬2) المقصود به أبو عبيدة، كذا قال الأزهري. (¬3) في "تهذيب اللغة" (زيادة) بدل ثلاثة. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 480 (ضعف)، مع اختلاف في العبارة واختصار. (¬5) "تفسير غريب القرآن" ص 350.

31

فكما ضوعف الأجر، كذلك ضوعف العقوبة والعذاب. ووجه تضعيف العذاب لهن على الفاحشة هو أنهن لما شاهدن من الزواجر وما يروع الذنوب ينبغي أن يمتنعن منها أكثر مما يمتنع مما لا يشاهد ذلك ولا يحضره، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، والضمير في قوله: {لَهَا} يعود على معنى من دون لفظه ولو عاد على لفظ من الذكر (¬1)) (¬2). قوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} يقول: كان عذابها على الله هينا. وقال الربيع بن أنس: في هذه الآية أن الحجة على الأنبياء أشد منها على الأتباع في الخطيئة، وأن الحجة على العلماء أشد منها على غيرهم، وأن الحجة على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد منها على غيرهن (¬3). 31 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} قال ابن عباس: يعني الذين كانوا فيه من طاعة الله (¬4). {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} قال ابن عباس: [ولم] (¬5) يختلف القراء في يأت ويقنت أنهما بالياء، واختلفوا في (تعمل صالحًا) فقرأ حمزة والكسائي بالياء وكذلك نؤتها، وقرأ الباقون بالتاء، نؤتها بالنون، فمن قرأ بالياء فلأن الفعل مسند إلى (من) ولفظ مذكر، ومن قرأ بالتاء حمل على المعنى وترك اللفظ فأنث، ومما يقوي الحمل على المعنى تأنيث الضمير في قوله: (نؤتها) وكان ينبغي على هذا القياس أن يحمل هذه الأفعال على التأنيث ويجعل الكلام على المعنى (¬6). ¬

_ (¬1) الألف زائدة فالكلام في "الحجة": على لفظ من الذكر، وهو الصواب. (¬2) "الحجة" 5/ 473. (¬3) "تفسير ابن أبي حاتم" 29/ 3129. (¬4) لم أعثر عليه. (¬5) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬6) انظر: "الحجة" 5/ 474، "الكشف عن وجوه القراءات السبع .. " 2/ 196.

32

وقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} قال ابن عباس والكلبي: ضعفين في الآخرة (¬1). قال مقاتل: مكان كل حسنة يثيب عشرين حسنة (¬2). {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} قالوا: حسنًا وهو في الجنة، ثم رفع منزلتهن وأظهر فضيلتهن على سائر النسوان. 32 - وقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} قال أبو عبيدة: (أحد) يقع على الأنثى والذكر وعلى ما ليس من الآدميين، يقال: ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير (¬3). وقال أبو إسحاق: لم يقل كواحدة من النساء؛ لأن أحدًا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة (¬4). قال الله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]. قال قتادة: لستن كأحد من نساء هذه الأمة (¬5) قال عطاء عن ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر الصالحات من النساء، أنتن أكرم علي وأنا (¬6) بكم أرحم، وثوابكن أعظم من ثواب جميع الخلائق (¬7) لأنكن أزواج حبيبي -صلى الله عليه وسلم- {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} يريد إن خفتن الله، وشرط عليهن التقوى في كونهن أفضل النساء بيانًا أن فضلهن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 353. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 91 ب. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 137. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 224. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 116، "الطبري" 22/ 2، "الماوردي" 4/ 398. (¬6) في (ب): (فأنا). (¬7) انظر: "الوسيط" 3/ 469، "البغوي" 3/ 527، "زاد المسير" 6/ 78.

عند الله إنما يكون بالتقوى لا باتصال أنسابهن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كي لا يعتمدن على ذلك. قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} قال ابن عباس: يريد لا تلن الكلام لغير رسول الله (¬1). وقال السدي: لا ترققن القول (¬2). {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} قال ابن عباس والسدى: يريد زنا (¬3). وقال مقاتل: يعني: (¬4) الفجور في أمر الزنا (¬5). وقال قتادة: نفاق (¬6). والمعنى: لا تقلن قولًا يجد منافق أو فاجر به سبيلا إلى أن يطمع في موافقتكن له، ولهذا قال أصحابنا: المرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة. لأن ذلك أبعد من الطمع في الزينة، وكذلك إذا خاطبت محرمًا عليها بالمصاهرة. ألا ترى أن الله تعالى أوصى أمهات المؤمنين وهن محرمات على التأبيد بهذه الوصية. قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} قال ابن عباس: يكلمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬7). وقال الكلبي: صحيحًا جميلًا لا يطمع فاجر (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 353، "البحر المحيط" 7/ 222، وذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 222، ولم ينسبه لأحد. (¬2) انظر: "ابن أبي حاتم" 9/ 3130، "ابن كثير" 3/ 482، "زاد المسير" 6/ 599. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 399، "تفسير ابن عباس" ص 353. (¬4) في (ب): (يريد). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 91 ب. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 3، "القرطبي" 14/ 177، "مجمع البيان" 8/ 558. (¬7) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 178، ولم أجد من ذكر هذا القول غيره. (¬8) انظر: "الماوردي" 4/ 399، وذكر القول ابن الجوزي 6/ 379، ولم ينسبه لأحد.

33

وقال أبو إسحاق: أي قلن ما يوجبه [الدين] (¬1) والإسلام بغير خضوع فيه، بل بتصريح وبيان (¬2). 33 - قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قال: يقِر يقَر وقارًا إذا سكن، والأمر منه: قر، وللنساء: قرن، مثل عدن وزن، ونحو ذلك بما حذف منه الفاء وهي واو، فتبقى من الكلمة علن ومعناه: الأمر لهن بالتوقير والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن، ويجوز أن يكون أمرًا لهن من قر في مكانه يقر، فإذا أمرتهن قال: أقررن، فتبدل من العين الياء كراهية التضعيف كما أبدل في قيراط ودينار، ويصير لها حركة الحرف المبدل فيكون في التقدير: أقرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهية لتحرك ما بعدها فتصير الياء بالكسر [فتسقط التاء] (¬3) لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فتصير قرن. وقرأ أهل المدينة وعاصم: و (قرن) بفتح القاف (¬4). وقال أبو إسحاق: هو من قررت بالمكان أقر والمعنى واقررن، فإذا خففت صار: وقرن، حذف العين لثقل التضعيف وألقيت حركتها على القاف (¬5). قال الفراء: وهو كما قال: هل أحسست (¬6) صاحبك. يريد وإن ¬

_ (¬1) (الدين) غير واضح في النسخ، والتصحيح من "معاني القرآن" للزجاج 4/ 224. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 224. (¬3) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬4) انظر: "الحجة" 5/ 475، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 197 (¬5) "الحجة" 5/ 475. (¬6) هكذا هي في (أ)، وفي (ج) عباس هكذا: هل أحسم أحسب صاحبك، وهو خطأ، والصواب هل أحست، كما في "معاني القرآن" للفراء 2/ 342.

أحسست، وكما قال: {فَظَلْتُمْ} [الواقعة: 65]، وقد قال أعرابي من بني نمير: ينحطن من الجبل يريد ينحططن (¬1). وقال أبو علي: الوجه في القراءة الكسر؛ لأنه يجوز من وجهين لا إشكال في جوازه وهما من القرار والوقار، وفتح القاف فيه خلاف؛ لأن قررن ثبت في المكان أقر، لا يجوزه كثير من أهل اللغة، وأبو عثمان يزعم أن قررت في المكان لا يجوز إنما يكون الكسر في قولهم: قررت به عينا (¬2). وقال أبو عبيد: كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح (¬3). وأجاز الفراء والزجاج وأبو عبيدة وأبو الهيثم: قررت في المكان أقر، وجعلوا وجه هذه القراءة من قررت بالكسر على تخفيف المضاعف (¬4) كما بينا (¬5). وقال ابن قتيبة: لم تسمع يقر بفتح القاف إلا في قرة العين، فأما (¬6) في الاستقرار فإنما يتوقر بالمكان يقر مكسورة القاف، ولعل الفتح لغة (¬7). قال ابن عباس في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يريد الحجاب، يعني ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 342 باختصار شديد. (¬2) "الحجة" 5/ 475 مع اختلاف شديد في العبارة (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 313. (¬4) في (ب): (المضعف). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 342، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 225، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 137، "تهذيب اللغة" 8/ 278 (قر). (¬6) في (ب): (وأما). (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 351. وانظر: "علل القراءات" 2/ 540 "الحجة" 5/ 475، "الدر المصون" 9/ 120.

الستر بلزوم البيت (¬1). وقال مقاتل بن سليمان: ولا يخرجن (¬2). وقال مقاتل بن حيان: أن يستقررن في بيوتهن (¬3) (¬4). قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ} قال أبو عبيدة: التبرج أن تخرج محاسنها (¬5). وقال أبو إسحاق: التبرج إظهار الزينة مما يستدير به شهوة الرجل (¬6). وقال المبرد: التبرج أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، وأصله من البرج يقال: في عينه برج أي: سعة، وكذلك في أسنانه برج إذا تفرق ما بينهما، وجملته إظهار ما ينبغي أن يخفى (¬7). وقال الليث: تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها، وترى مع ذلك من عينيها حسن نظر (¬8). ومعنى {وَلَا تَبَرَّجْنَ} الأمر بالعفة ولزوم البيت قاله مقاتل (¬9). وقال مجاهد: التبرج التبختر (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" ص 353 مع اختلاف في العبارة، وذكره ابن كثير 3/ 482 ولم ينسبه، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 379 ولم ينسبه. (¬2) "تفسير مقاتل" 91 ب. (¬3) في (ب): (بيوتكن). (¬4) لم أعثر عليه. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 138. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 225. (¬7) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 179. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 55 (برج). (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 91 ب. (¬10) "تفسير الثعلبي" 3/ 197 أ.

وقال قتادة: كانت لنساء الجاهلية الأولى تكسر وتغنج فنهين هؤلاء عن ذلك (¬1). وهذا الذي ذكره معنى التبرج لا تفسيره. وتفسيره: إظهار الزينة، وكن يظهرن محاسنهن عند التبختر في مشيهن، ذلك فسر التبرج بالتبختر. قوله: {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} معناه تبرج (¬2) أهل الجاهلية فحذف المضاف، واختلفوا في الجاهلية الأولى، متى كانت؟ فقال الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة كانت نساؤهم قباحًا ورجالهم حسانًا، وكانت المرأة تتكلف في إظهار محاسنها للرجل (¬3). وروى عكرمة عن ابن عباس: الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة، وكان في ذلك الزمان بطنان من ولد آدم، أحدهما يسكن الجبل وكانت نساؤهم قباحًا ورجالهم صباحًا، والآخر كان يسكن السهل ونساؤهم صباحًا وكان في رجالهم ذمامة، فاتخذ إبليس شيئًا مثل الذي يزمر فيه الرعاء وجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فانتابوه واجتمعوا عليه، فرأى رجال الجبال نساء السهل وصباحتهن فتحولوا إليهن ونزلوا مع أهل السهل وتبرجت النساء للرجال الصباح من أهل الجبل وظهرت فيهم الفاحشة (¬4). وقال الكلبي: الجاهلية الأولى هي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم -عليه السلام-، كانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 4، "تفسير الماوردي" 4/ 339. (¬2) في (أ): (التبرج). (¬3) انظر: "الثعلبي" 3/ 197/ أ، "تفسير الطبري" 22/ 4، "القرطبي" 14/ 179. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب، "الطبري" 22/ 4، "السمرقندي" 3/ 49.

تمشي بين يدي الرجال ليس عليها شيء غيره، وكان ذلك في زممان نمرود الجبار والناس كلهم كفار (¬1). وهذا قول مقاتل بن حيان، قال: الجاهلية الأولى زمان إبراهيم، والثانية زمان محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث (¬2). قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد (¬3). وهو قول مقاتل بن سليمان، قال: هو قبل أن يبعث محمد رسولاً (¬4). ونحوه قال ابن عباس (¬5). وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام (¬6). وقال أبو إسحاق: والأشبه أن تكون زمان عيسى إلى زمان محمد -عليه السلام-. لأنهم هم الجاهلية المعروفون، وكانوا يتخذون البغايا يغللن لهم، قال: ومعنى الأولى هاهنا التقدم، يقال لكل شيء متقدم ومتقدمة: أولى وأول، وتأويله أنهم تقدموا أمة محمد -عليه السلام- (¬7). وقال المبرد: معنى الأولى القديمة، وكانوا يبدلون أمورًا بحسب الظن بها، من ذلك أن المرأة تجتمع مع زوجها وخلمها (¬8) فيكون للزوج نصفها الأسفل والأعلى للخلم لا يمنع من ترشفها وتقبيلها، ولهذا يقول أحد الخلوم لزوج صاحبته: ¬

_ (¬1) انظر:"تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب، "السمرقندي" 3/ 49، "زاد المسير" 6/ 380. (¬2) انظر:"البحر المحيط" 7/ 223. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 4، "الماوردي" 4/ 400، "زاد المسير" 6/ 380. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 275. (¬5) انظر: "الدر المنثور" 6/ 602، وقال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب، "البغوي" 3/ 528، "مجمع البيان" 8/ 558. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 225. (¬8) الخلم هو: الصديق، يسمى خلمًا لألفته. انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 432 (خلم).

33

فهل لك في البدال أبا خبيب ... فأرضى بالأكارع والعجوز (1) قوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ} قال ابن عباس: يريد عند مواقيتها (2). {وَآتِينَ الزَّكَاةَ} يريد عند محلها. {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال عطاء: طاعتهما اتباع الكتاب والسنة (3). 33 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} يقال: أردت لأفعل كذا وأن أفعل كذا، قال الله تعالى بما أوصاكن من الطاعة ولزوم البيت. {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}. قال ابن عباس: يريد عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا (4). وقال مقاتل: يعني الإثم الذي يحصل مما نهاهن عنه وأمرهن بتركه (5). وقال قتادة: يعني السوء (6). وقال أبو عمرو بن العلاء: القذر الرجس (7). وهذا مما سبق الكلام في تفسيره (8). واختلفوا في المراد بأهل البيت هاهنا، من هم؟ فقال ابن عباس في

_ (1) انظر: "البحر المحيط" 8/ 477، فقد ذكر قول المبرد ونسبه له، ولم يذكر البيت الذي استشهد به، وكذا القرطبي 14/ 180 وذكر الماوردي القول مع استشهد به غير منسوب لأحد 4/ 400. وهذا البيت من الوافر، ولم أقف على قائله. (2) و (3) لم أقف عليه. (4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 528. "مجمع البيان" 8/ 558. (5) "تفسير مقاتل" 91 ب. (6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب،"تفسير الطبري" 22/ 5، "البغوي" 3/ 275. (7) لم أقف عليه. (8) لعله عند قوله تعالى في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: من الآية: 90]

رواية سعيد بن جبير: هذا في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقال عكرمة: إنما هو في أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة (¬2). وقال مقاتل: يعني بها نساء النبي كلهن؛ لأنهن في بيته (¬3). وقال الكلبي: يعني بذلك نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4). وهؤلاء احتجوا بما تقدم من الخطاب وما تأخر، وهو قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى} الآية. وكل ذلك خطاب لأزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة. قالوا: وإنما ذكر الخطاب في قوله: عنكم ويطهركم، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر (¬5). وقال آخرون: هذا خاص في النبي -عليه السلام- وفاطمة وعلي والحسن والحسين. وهو قول أبي سعيد الخدري (¬6)، ورووا في هذا روايات عن أم سلمة وعائشة وواثلة بن الأسقع (¬7)، وأنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- غشا هؤلاء ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب، "القرطبي" 14/ 182، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3132، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 602، وزاد نسبته لابن عساكر. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 8،"القرطبي" 14/ 182، "الدر المنثور" 6/ 603، وقال: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3132. (¬3) "تفسير مقاتل" 91 ب. (¬4) ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 7/ 224. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 197 ب، "تفسير الطبري" 6/ 22، "الدر المنثور" 6/ 604، وقال: أخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري. (¬7) هو: واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر الليثي من أصحاب الصفة، أسلم سنة 9 هـ، وشهد غزوة تبوك، وكان من فقراء المسلمين -رضي الله عنه-، وقد اعتمده البخاري وغيره، توفي -رضي الله عنه- سنة 83 هـ، وقيل: 85 هـ وكان آخر من مات من الصحابة بدمشق. انظر: "الاستيعاب" 4/ 606، "الإصابة" 4/ 589، "سير أعلام النبلاء" 3/ 383.

34

بكساء، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا" (¬1). وهذا لا يدل على أن هذه الآية خاصة فيهم؛ لأن هذه الرواية تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لهم بهذا الدعاء، وسأل الله أن يطهرهم، لا جرم أنه استجيب له فيهم بالتطهير، ولقد أحسن أبو إسحاق في تفسير هذه الآية، فقال: اللغة تدل على أنه للنساء والرجال جميعًا؛ لقوله: {عَنْكُمُ} و {وَيُطَهِّرَكُمْ} بالميم، ولو كان للنساء لم يجز إلا عنكن ويطهركن، ودليله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} حين أفرد النساء بالخطاب (¬2). وعلى هذا هو خطاب لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجال بيته، قال: وانتصب (أهل البيت) على معنى: أعني أهل البيت، وهو منصوب على المدح قال: ويكون على النداء على معنى: يا أهل البيت) (¬3). قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. قال مقاتل: من أثم ما ذكر في هذه الآيات (¬4). والمعنى من نجاسات الجاهلية؛ لأن ما أمرن به كله مضاد لأهل معان الجاهلية، ثم وعظهن ليتفكرن وامتن عليهن [بقوله] (¬5). 34 - قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} يعني: القرآن. {وَالْحِكْمَةِ}. قال مقاتل: يعني أمره ونهيه في القرآن (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الثعلبي" 3/ 197 ب، "تفسير الطبري" 22/ 6، "تفسير ابن كثير" 3/ 484 وما بعدها، وذكر هذه الروايات السيوطي في "الدر" 6/ 602 وما بعدها، "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3133. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 226. (¬3) المرجع السابق. (¬4) لعل الكلام هنا خطأ، والصواب كما في "تفسير مقاتل" 92 أ: من الإثم الذي ذكر في هذه الآيات. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) "تفسير مقاتل" 92 أ.

35

وقال عطاء عن ابن عباس: آيات الله، ما ذكر من الثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه، والحكمة حدود الله ومفترضاته (¬1). وقال غيره: آيات الله القرآن، والحكمة النبوة، وهي في بيوتهن. ونحو هذا قال قتادة في قوله: {آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} قال: القرآن والسنة (¬2). وهذا حث لهن على حفظ القرآن ومذاكرتهما (¬3)؛ للإحاطة بحدود الشريعة. والخطاب وإن اختص نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فغيرهن داخل فيه، فإن كثيرًا من الخطاب يختص لفظه ويعم معناه. قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} أي بأوليائه. {خَبِيرًا} بجميع خلقه، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: لطف علمه إن خضعن بالقول خبيرًا به (¬4). 35 - قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} اختلفوا في سبب نزول هذه الآية؛ فروى قابوس عن ابن عباس قال: قالت النساء للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ماله ليس يذكر النساء، [فأنزل الله إلا المؤمنين وليس يذكر المؤمنات (¬5) بشيء] (¬6) فأنزل الله هذه الآية (¬7). وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله يذكر الرجال ولا يذكر ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 9،"تفسير البغوي" 3/ 529، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 349. (¬3) لعل مراد المؤلف أن الضمير يعود إلى القرآن والسنة. (¬4) "تفسير مقاتل" 91 أ. (¬5) في (ب): (المؤمنين منات)، وهو خطأ. (¬6) ما بين المعقوفين يظهر أنه زيادة. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 10، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 608، وزاد نسبته للطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.

النساء، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقال الكلبي ومقاتل: إن أم سلمة وأنيسة بنت كعب (¬2) أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالتا: يا رسول الله ما نرى ربنا يذكر النساء في شيء من كتابه، إنما يذكر الرجال بالفضيلة والجزاء نخشى أن لا يكون فيهن خير ولا لله فيهن حاجة، فنزلت هذه الآية (¬3). وقال عكرمة: أتت أم عمارة الأنصارية للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى للنساء (¬4) يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية (¬5). وقال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء (¬6) بنت جحش من الحبشة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 10، ورواه الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب 2/ 416، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 658، وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد الرزاق والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني. (¬2) هي: أنيسة، ويقال نسيبة بنت كعب، أم عمارة، هي التي قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما لنا لا نذكر بخير فأنزل الله هذه الآية. انظر: "الإصابة" 4/ 241، "أسد الغابة" 5/ 407. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 92 أ، وذكره الثعلبي 3/ 99 أ، عن مقاتل أيضًا ولم أقف على من نسبه للكلبي. (¬4) هكذا في النسخ! والصواب: النساء. (¬5) انظر: "القرطبي" 14/ 185 ونسبه للترمذي عن أم عمارة. (¬6) هكذا في المخطوط! والصحيح أنها بنت عميس، وهي: أسماء بنت عميس بن معد بن الحارث الخثعمبة من خثعم، وكانت رضي الله عنها من المهاجرات إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب، وقد ولدت منهم جميعًا. انظر: "الاستيعاب" 4/ 230، "الإصابة" 4/ 225، "أسد الغابة" 5/ 395.

35

مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت عى نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن النساء لفى خسة وخسار. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومما ذاك؟ " قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقال قتادة: لما ذكر الله نساء النبي دخل نساء من المسلمات عليهن فقلن: ذكرتم ولم نذكر، فأنزل الله هذه الآية (¬2). وقال الفراء: الخطاب إذا ورد بلفظ التذكير اشتمل على الذكور والإناث جميعًا، فإذا قيل المسلمون والمؤمنون كانت الإناث في جملتهم، غير أنهن أردن أن يخصصن بالذكر ويذكرون باللفظ الخاص لهن فذكرهن لذلك، هذا معنى كلام الفراء (¬3). 35 - وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} قال ابن عباس: يريد الذين أسلموا في الظاهر والباطن ولم يعدلوا به شيئاً، وسلم جميع الخلق من غشهم، وأحبوا للناس ما أحبوا لأنفسهم، وكانوا لليتيم مثل الأب، وللأرملة مثل الزوج، ونصحوا لله في أنفسهم وفي خلقه (¬4). وقال مقاتل: يعني المخلصين بالتوحيد (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 أ، إلا أنه قال: أسماء بنت عمير، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" له ص 375 بدون سند، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 529، ولم ينسبه لأحد. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 50، "تفسير الطبري" 22/ 10، "زاد المسير" 6/ 384. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 343. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 92 أ.

وقال عطاء [من] (¬1) فوض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). قال ابن عباس: يريد الذين صدقوا بتوحيد الله وبما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقوا بالبعث والثواب والعقاب (¬3). وقال مقاتل: يعني المصدقين بالتوحيد والمصدقات (¬4). وقال عطاء: من أقر بأن الله ربه ومحمدًا رسوله ولم يخالف قلبه لسانه، فهو من هذه الجملة (¬5). وقوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} قال ابن عباس ومقاتل: المطيعين لله فيما افترض وأمر ونهى والمطيعات (¬6). وقال عطاء: من أطاع الله في الفرض والرسول في السنة فهو من هذه الجملة (¬7). {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} قال ابن عباس: في المواطن وفيما نذروا لله وفيما ساءهم وسرهم (¬8). وقال مقاتل: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} في إيمانهم (¬9). وقال عطاء: من صان قوله عن الكذب فهو من هذه الجملة (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 أ، "تفسير البغوي" 3/ 530. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 92أ. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 أ، "تفسير البغوي" 3/ 530. (¬6) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 422، "تفسير مقاتل" 92 أ. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير البغوى" 3/ 530. (¬8) لم أقف عليه عن ابن عباس وانظر: "تفسير هود بن محكم" 3/ 369. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 92 أ. (¬10) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530.

{وَالصَّابِرِينَ} على ما أصابهم من الضر والبؤس والفقر وجيمع المصائب {وَالصَّائِمَاتِ} قاله ابن عباس (¬1). وقال مقاتل: والصابرين علي ما أمر الله والصابرات (¬2). وقال عطاء: من صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو من هؤلاء (¬3). قوله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} قال ابن عباس: يريد والذين خشعت قلوبهم من خوف الله (¬4). {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} من خشية الله وازدادوا لله يقينًا وللدنيا بغضًا. وقال مقاتل: يعني المتواضعين والمتواضعات (¬5). قال عطاء: من صلى فلم يعرف من عن يمينه ويساره فهو منهم (¬6). وقوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} قال ابن عباس: يتصدقون بالأموال ومما رزقهم الله من الثمار والمواشي وكل ما ملكوا يطلبون ما عند الله موقنين بالخلف والثواب (¬7). قال عطاء: من صدق (¬8) في كل أسبوع بدرهم فهو من هذه الجملة (¬9). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 92 أ. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530. (¬4) لم أقف عليه (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 92 أ. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 199/ 3 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: تصدق، وهكذا ذكره الثعلبي 3/ 199. (¬9) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530.

[قوله] (¬1): {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} قال ابن عباس: الصائمين لله بنية صادقة، لا يغتابون أحدًا، ولا يتحدثون بكذب ولا يتأملون خلق امرأة، ولا يحدون النظر إليها، فإن هذه الخصال تفطر الصائم، وبكون فطرهم من حلال (¬2). وقال عطاء: من صام من كل شهر الأيام البيض فهو من هذه الجملة (¬3). قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} واستغنى عن ذكر الهاء بما تقدم، ومثله: (ونخلع ونترك من يفجرك) المعنى: ونخلع من يفجرك ونتركه، وأنشد: وكمتا مدماة كأن متونها ... جرى فوقها واستشعرت لون مذهب (¬4) على رفع لون. المعنى: جرى فوقها لون مذهب واستشعرته (¬5). وقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} قال ابن عباس: يريد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين بياض في (أ). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530. (¬4) البيت من الطويل، لكميت الغنوي في "ديوانه" ص 23، "تهذيب اللغة" 14/ 217 (كمت)، "اللسان" 2/ 81 (كمت)، "الكتاب" 1/ 77. وكمتا جمع أكمت، والكمتة: لون بين السواد والحمرة يكون في الخيل والإبل وغيرهما. ومدماة: أي مشوبة بلون الدم. انظر: "اللسان" 2/ 81 (كمت)، 14/ 270 (دمى). (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 227، و"معاني القرآن" للنحاس 5/ 350.

في أدبار الصلوات وغدوًا وعشيًا وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله -عز وجل- (¬1). وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا (¬2) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا (¬3) جميعًا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى والذاكراته وحذف الهاء. على ما ذكرناه (¬5) في الحافظات (¬6). وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (¬7). وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً}. قال ابن عباس ومقاتل: مغفرة لذنوبهم (¬8). {وَأَجْرًا عَظِيمًا} ثوابًا جزيلًا وهو الجنة. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن عباس، انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3134. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 117. (¬3) في (ب): (وصليا). (¬4) أخرجه أبو داود في "سقط كتاب الصلاة، باب قيام الليل 2/ 33، رقم الحديث 1309 عن أبي هريرة، وابن ماجه في "سننه" أبواب إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل 1/ 242، رقم الحديث 1329 عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، والحاكم في "المستدرك"، كتاب صلاة التطوع، باب: توديع المنزل بركعتين 1/ 316 عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (¬5) الضمير (الهاء) ساقط من (ب). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 227/ 4. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530. (¬8) انظر: "تفسير ابن عباس" (354)، "تفسير مقاتل" 92 ب.

36

36 - وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. قال المفسرون (¬1): نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب، وكانا ابني عمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- زينب لزيد بن حارثة مولاه، وهي تظن أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد كرهت ذلك وكذلك أخوها، فلما نزلت الآية رضيا وسلما، فزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زيد. وقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} يعني: عبد الله بن جحش. {وَلَا مُؤْمِنَةٍ} يعني: أخته زينب، {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} حكماً بذلك، {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ} جمعت الكناية لأن المراد بقوله: {لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} كل مؤمن ومؤمنة في الدنيا. والخيرة: الاختيار، وذكرنا تفسيرهما [فيما تقدم] (¬2) في سورة القصص (¬3). قال أبو إسحاق: أعلم الله أنه لا اختيار على ما قضى الله ورسوله (¬4). وهذه الآية دليل على أن كل امرأة أراد رسول الله أن يزوجها من رجل، لم يكن لها أن تمتنع ولا لوليها، وأن رسول الله أولى بتزويجها من وليها كما ذلك في قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6] الآية. ولأنه أيضًا دليل على أن كل حكم ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كما ثبت عن الله، فليس لأحد ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 200 أ، "تفسير الطبري" 22/ 11، "تفسير الماوردي" 4/ 404، "السمرقندي" 3/ 51. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) عند الآية 68، قال هناك: والخيرة اسم من الاختيار يقام مقام المصدر، والخيرة اسم للمختار، يقال: محمد خيرة الله من خلقه. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 228.

اختيار ولا استحسان مع قضاء الله ورسوله، وليس إلا الاقتداء والتسليم. قال أبو علي: وهذه الآية تدل على أن (ما) في قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] (ما) فيها نفي، وليست بموصولة، ألا ترى أنه نفى الاختيار على العباد في هذه الآية، كذلك في تلك (¬1). قال مقاتل: فلما زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدًا مكثت عنده حينًا، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى زيدًا فأبصر زينب قائمة، وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش، فهواها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "سبحان الله مقلب القلوب". ففطن زيد فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرًا يعظم علي، وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمسك عليك زوجك واتق الله" (¬2). وقال ابن عباس: إن زيدًا حين تزوج زينب أقامت عنده ما شاء الله أن تقيم، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزل زيد يطلبه، فبعث الله ريحًا حتى رفعت الستر وزينب منفصلة على منزلها، فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينب فوقعت في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتى زيد فأخبرته، فوقع في نفس زيد أن يطلقها، وأقام زيد لا ينشر عليها من يومئذ، وكان زيد يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: إني أريد أن أطلق زينب. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أمسك عليك زوجك واتق الله". (¬3) وقال مقاتل بن حيان: قالت زينب لما نزل قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} الآية: أمري بيدك يا رسول الله، فأنكحها رسول الله زيدًا ودخل بها، فلم تمكث إلا يسيرًا حتى شكى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلقى منها، وكانت امرأة لسنة، ¬

_ (¬1) "الحجة" 5/ 476. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 92 ب. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 200 ب، "تفسير السمرقندي" 3/ 51، "تفسير البغوي" 3/ 530.

37

فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمرها بتقوى الله والسمع والطاعة لزيد فلما كلمها أعجبه حسنها وجمالها وظرفها لأمر أراده الله -عز وجل- وخرج من عندها وفي نفسه ما شاء الله منها، وجاء زيد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكوها فقال له: "اتق الله وأمسك عليك زوجك". ويقول زيد: إني أريد أن أطلقها وأستريح منها، وأكره أن تكون معي في بيت مما ألقى منها من البلاء والشدة. ويقول النبي: "اتق الله لا تطلقها" وفي قلبه غير ذلك (¬1)، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: 37 - {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: الهداية للإسلام. {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بأن أعتقته من الرق قاله جميع المفسرين، قالوا: وكان زيد من سبي الجاهلية، فاشتراه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعكاظ في الجاهلية وأعتقه وتبناه (¬2)، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} في أمرها فلا تطلقها. قال أبو إسحاق: (أمره بالتمسك بزينب وكان يحب أن يتزوجها، إلا أنه أمره بما يجب من الأمر بالمعروف، فقال: "أمسك عليك زوجك واتق الله" (¬3). {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ}، وتستر وتضمر في قلبك من إرادة تزوجها، قاله الكلبي (¬4): وقال قتادة: ود أنه طلقها (¬5)، {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}، قال ابن عباس: مظهره لاْصحابك وغيرهم (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على قول مقاتل بن حيان. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 250 ب، "تفسير السمرقندي" 3/ 52، "الدر المنثور" 6/ 616 وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 229. (¬4) انظر: "تفسير هود بن محكم" 3/ 370. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 351، "زاد المسير" 6/ 388. (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس، وذكره هود بن محكم في "تفسيره" 3/ 370 ولم ينسبه.

وقال مقاتل: مظهره عليك حين ينزل به قرآنًا (¬1)، والمعنى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتم حبها، وأراد تزوجها، وأمر زيدًا بإمساكها وفي قلبه خلاف ذلك، فأظهر الله عليه ما أخفاه بأن قضى طلاقها وزوجها منه، وأنزل في ذلك القرآن، ولهذا قال عمر وابن مسعود وعائشة والحسن: ما نزلت علي رسول الله آية هي أشد عليه من هذه الآية. قالت عائشة: لو كتم النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية (¬2): {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}. وقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} قال مقاتل: تكره قالة الناس في أمر زينب (¬3). يعني: تخاف لائمتهم أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يصوب رأي زيد في طلاقها من حيث ميل النفس وهوى القلب، ولكنه خاف قالة الناس فذلك قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ}، وقيل: الخشية هاهنا بمعنى الاستحياء، يعني تستحي من الناس أن تأمر رجلاً بطلاق زوجته ثم تتزوجها. والاستحياء قول ابن عباس والحسن والفراء (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: والمراد بالناس هاهنا اليهود، وكانوا يعيبون المؤمنين فخشي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تزوجها أن يقولوا تزوج محمد امرأة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 92 ب. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء 6/ 2699، رقم الحديث 6985، عن أنس، ومسلم في كتاب: الإيمان، باب في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 1/ 160، رقم الحديث 288 عن عائشة. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 92/ ب. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 531، "معاني القرآن" للفراء 2/ 343.

ابنه (¬1). وقوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}. وقال ابن عباس: يريد [..] (¬2) وتخافه (¬3). وروي عن علي بن الحسين أنه قال في هذه الآية: كان الله -عز وجل- قد أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، وأن زيدًا سيطلقها (¬4). وعلى هذا جوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- معاتبًا (¬5) على قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} مع علمه بأنها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله به، ويكون قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} في كتمان ما أخبرك به وإنما كتم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لأنه استحيا واستبشع أن يقول: إن زوجتك ستكون امرأتي (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 6/ 387. (¬2) في جميع النسخ قدر كلمة غير واضحة، ولعلها: تخشاه. (¬3) لم أقف عليه (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 201 أ، "تفسير البغوي" 3/ 532. "مجمع البيان" 8/ 564. (¬5) في (أ): (بناها). (¬6) هذه الروايات التي أوردها المؤلف رحمه الله من أن زينب رضي الله عنها وقعت في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أحبها وتمنى تطليق زيد لها، أو أنه قال حين رآها: "سبحان مصرف القلوب". أقول: كل ذلك مما ينبغي أن ينزه عنه المصطف -صلى الله عليه وسلم-، فزينب ابنة عمته وكان يعرفها قبل أن يزوجها من زيد. يقول: القشيري فيما نقله عنه القاضي عياض في "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" 2/ 880: وهذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي -صلى الله عليه وسلم- وبفضله. ثم قال القاضي عياض: وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت؟ ولا كان النساء يحتجبن منه -صلى الله عليه وسلم- وهو زوجها لزيد، وإنما جعل الله =

قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} قال الليث: الوطر: كل حاجة كان لصاحبها فيها همة، ولم أسمع لها فعلا، وجمعه أوطار (¬1). ¬

_ = طلاق زيد لها وتزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أهـ. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 99 ب، "تفسير البغوي" 3/ 530، 672. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذكر هذه الأقوال: وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقًا واضحًا حسنًا ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزوجها إياه، ثم أعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا: تزوج امرأة ابنه وكان قد تبني زيدًا قال: بعد أن ذكر بعض الروايات التي استحسنها بعض العلماء، قال عن هذه الرواية وسندها: وهو أوضح سياقًا وأصح إسنادًا. ثم قال: وقد وردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد، والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابنا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم، وإنما وقع الخبط في تأويل معلق الخشية والله أعلم. أ. هـ. وللوقوف على كلام أهل العلم أكثر مما أثبته حول هذه القصة انظر: "الشفا" لعياض 2/ 880 وما بعدها، "فتح الباري" 8/ 671 وما بعدها، "محاسن التأويل" للقاسمي 8/ 266 وما بعدها، "أضواء البيان" 6/ 580 وما بعدها. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 10 (وطر).

وقال أبو عبيدة: الوطر كالأرب، وأنشد للربيع بن ضبع: (¬1) ودعني قبل أن أودعه ... لما قضى من شبابها الوطرا (¬2) وقال المبرد (¬3): الوطر الشهوة والمحبة، يقال: ما قضيت من لقائك وطرًا، أي ما استمتعت بك حتى تنتهى، وأنشد: وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما ... قضى وطرا منها جميل من معمر (¬4) قال ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} أي لذته ونهمته (¬5). وقال مقاتل: يعني الجماع (¬6). وقال مقاتل: يعني حاجة وطلقها (¬7). وقال قتادة: طلقها (¬8). ومعنى قضى الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، فمعنى قضى وطرًا منها بلغ ما أراد من حاجته فيها. ويجوز أن يكون عبارة ¬

_ (¬1) هو: الربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض الفزاري الذبياني، شاعر جاهلي معمر من الفرسان، أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يلقه كان أحكم العرب في زمانه ومن أشعرهم وأخطبهم، قيل: إنه عاش أكثر من مائتي عام. انظر: "سمط اللآلي" ص 802، "الخزانة"، "تفسير ابن عباس" ص 383، "الأعلام" 3/ 15. (¬2) البيت من المنسرح وهو للربيع بن ضبع في "الكتاب" 1/ 89، "لسان العرب" 13/ 259 ضمن، "أمالي المرتضى" 1/ 255. (¬3) انظر: "الدر المصون" 9/ 126، "روح المعاني" 22/ 25. (¬4) البيت من الطويل، ولم أهتد إلى قائله، وهو في "الكامل" 1/ 397، "الدر المصون"، "البحر المحيط" 3/ 211، غير منسوب. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 93 أ. (¬7) لم أقف عليه عن مقاتل، وانظر: "تفسير هود بن محكم" 3/ 371. (¬8) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 406، "تفسير القرطبي" 14/ 194.

عن الطلاق، فإن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة، فيقول: قضيت وطري منها، أي خليتها حيث لم يبق له فيها مراد، فيجوز أن يكون المراد بهذا اللفظ الطلاق مع بلوغ المراد منها، ويجوز أن يكون عبارة عن بلوغ المراد من نكاحها ثم يضمر الطلاق، ودل عليه (¬1) قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا}؛ لأن تزويجها من النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجب طلاق زيد إياها، وقد قال المفسرون (¬2): طلقها زيد فلما انقضت عدتها تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اذهب فاذكرها علي". قال: فانطلقت فقلت يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرك، ونزل القرآن، وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى دخل عليها بغير إذن (¬3). قال أصحابنا: وهذه الآية دليل على أن كل امرأة أراد رسول الله نكاحها فهو مستغن عن الولي والشهود، وذلك أنه لما نزل قوله {زَوَّجْنَاكَهَا} دخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا كانت زينب تفاخر نساء ¬

_ (¬1) في (أ): (وقوله)، زيادة واو وهو خطأ. (¬2) "تفسير ابن أبي حاتم" 9/ 3135، "تفسير البغوي" 3/ 532، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 612، وزاد نسبته لابن سعد وأحمد وأبي يعلى والطبراني وابن مردويه عن أنس. (¬3) أخرجه الإمام مسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب 2/ 1048 رقم (1428)، وأخرجه الإمام أحمد 3/ 195 عن ثابت عن أنس، والنسائي في "سننه" كتاب: النكاح، باب: صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها 6/ 79 عن ثابت عن أنس. وأورد السيوطي في "الدر" 6/ 612 وعزاه لابن سعد وأحمد والنسائي وأبي يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أنس.

النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: زوجكن أقاربكن وزوجني الله -عز وجل- (¬1). وذكر قضاء الوطر هنا بيانًا أن امرأة المتبنى تحل وإن وطئها المتبنى وهو قوله (¬2): {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، أي: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته لكي (¬3) تظن أنه من تُبُنِّيَ لم تحل امرأته للمتبني. قاله الزجاج (¬4)، وهو قول جميع المفسرين (¬5). قوله تعالى: {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أي: جامعوهن وطلقوهن، قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبين الله تعالى أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبنين وإن أصابوهن، بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم بنفس العقد، وامرأة المتبني لا تحرم وإن وطئها (¬6). قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} قال مقاتل: يقول تزوج النبي زينب كائنًا لابد (¬7). وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ماضيًا مفعولًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء 6/ 2699 رقم الحديث (6984، 6985)، وأخرج الترمذي في "سننه" كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب 5/ 33 رقم الحديث (3265)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) (يقوله) مكررة في (أ). (¬3) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: لكيلا. (¬4) انظر: "معاني القرآن واعرابه" 4/ 229. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 201 أ، "تفسير الطبري" 22/ 14، "تفسير الماوردي" 4/ 407، "تفسير البغوي" 3/ 533. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 93 أ.

38

38 - قال مقاتل: ثم بين أنه لم يكن عليه حرج في هذا النكاح (¬1) في قوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}. قال ابن عباس والمفسرون: أحل الله له، أي: لا حرج عليه فيما أحل الله له (¬2). قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سن الله لمحمد -عليه السلام- في التوسعة عليه في إباحة النكاح كسننه في الأنبياء الماضين، وهذا قول ابن عباس (¬3). واختار الفراء والزجاج قالوا: عني كثرة أزواج داود وسليمان (¬4). وقال مقاتل: يعني داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها، فجمع الله بينه وبينها، يقول: كذلك أجمع بين محمد وزينب إذ هويها كما فعلت بداود. ونحو هذا مقاتل بن حيان سواء (¬5). وقال عبد الله بن مسلم: أي لا حرج على أحد فيما لم يحرم عليه (¬6). وعلى هذا {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} (¬7)، كان من تقدمه ممن قد مضى ولا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 93 أ. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 201 أ، "الطبري" 22/ 14، "الماوردي" 4/ 407. (¬3) ذكره القرطبي 14/ 195 بمعناه غير منسوب لأحد، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 392، وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 474 عن ابن عباس والكلبي والمقاتلين. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 344، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 230. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 93 أ، انظر: "الثعلبي" 3/ 201 أ، "البغوي" 3/ 533. ولعل هذه الأقوال التي أوردها المؤلف لا تصح، بل هي فاسدة؛ لأنه مناف لمقام النبوة. (¬6) انظر: "غريب القرآن" ص 351. (¬7) كذا في المخطوط! ولعل الصواب: كل.

39

يختص بالنبيين وهو الأليق بظاهر الآية لولا الآية الثانية، فإنها دلت على أن المراد بالذين خلوا: الأنبياء، قال أبو إسحاق: سنة الله منصوب على المصدر؛ لأن معنى ما كان على النبي من حرج سنة (¬1) الله له سنة واسعة لا حرج فيها (¬2). قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}. قال الكلبي: قضاء مقضيا، وكان من قدره أن يولد سليمان من تلك المرأة التي هويها داود ويملك من بعده (¬3). وقال مقاتل: قدر الله لداود ولمحمد تزويجها (¬4) (¬5). وقال ابن حيان: أخبر الله أن امرأة (¬6) زينب كان من حكم الله وقدره وفرضه (¬7). 39 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون (الذين) في موضع خفض نعت، لقوله: {فِي الَّذِينَ خَلَوْا}. ويجوز أن يكون نعتًا على المدح، المعنى: هم الذين. ويجوز أن يكون نصبًا على معنى أعني الذين (¬8). ¬

_ (¬1) كذا في المخطوط! والذي في "معاني القرآن" للزجاج: سن الله له. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 230. (¬3) ذكر هذا القول الثعلبي 3/ 201 ب ونسبه لابن عباس. ولم أقف على من نسبه للكلبي. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 93 أ. (¬5) هكذا في النسخ! والذي في تفسير مقاتل: تزويجهما. (¬6) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: أن نكاح زينب. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 230.

40

{وَيَخْشَوْنَهُ} قال سعيد بن جبير: الخشية من الله أن تخشاه حتى تكون خشيتك (¬1) وبينه وبين معصيته (¬2). والمعنى على هذا: ولا تعصونه. {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} أي: لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل لهم. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: مجازيًا لمن يخشاه. قاله ابن عباس (¬3). 40 - قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} قالت عائشة رضي الله عنها: لما تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينب قال الناس: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله هذه الآية (¬4). يعني أنه ليس بأب لزيد فتحرم (¬5) عليه زوجته. قال ابن عباس: يريد لم يكن في قضائي وقدري أن له ابنا يعيش حتى يصير رجلاً (¬6). وقال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له ذكور: إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر (¬7). وقال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لزيد: لست لك بأب، فقال زيد: يا رسول الله أنا زيد بن حارثة بن مروة بن شراحيل الكلبي معروف نسبي (¬8). ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط! لعل الصواب: حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيته. (¬2) لم أقف على قول سعيد بن جبير. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) رواه الترمذي حديث رقم (3260) عن عائشة، وابن أبي حاتم، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 613 وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة. (¬5) في (أ): (فيحرم). (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 534. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 201 ب، "تفسير الطبري" 22/ 16، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 229. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب.

قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} هو يعني: آخر النبيين فلا نبي بعده، قال: يريد لو لم أختم به لجعلت له ولدًا يكون بعده نبيًا. قال مقاتل: لو كان لمحمد ولد لكان نبيًا رسولاً، فمن ثم قال: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [لم يسمع أحدًا] (¬1) والمعنى أنه لما ختم النبيين دل على أنه لم يبق ولدًا بعده. وقراءة العامة بكسر التاء، وقرأ عاصم بفتح التاء (¬2) (¬3). قال أبو عبيد: الوجه الكسر؛ لأن التأويل أنه ختمهم، فهو خاتمهم (¬4). وكذلك روي عنه في صفة نفسه أنه قال: "أنا حاتم النبيين" (¬5). لم يسمع أحد من فقهائنا يرويه إلا بكسر التاء، قال الفراء: ويدل عليه قراءة عبد الله: ختم النبيين، ومن قرأ بفتح التاء فمعناه: آخر النبيين، وخاتم النبيين (¬6) آخره، ومنه قوله {خِتَامُهُ مِسْكٌ} (¬7). وقال الحسن: الخاتم الذي ختم به (¬8). وقال أهل اللغة: الخاتم بالكسر الفاعل، والخاتم بالفتح ما يوضع ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ! ولعله زيادة من الناسخ خطأ. (¬2) في (أ): (الهاء). (¬3) انظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 199، "النشر" 2/ 348. (¬4) لم أقف على اختيار أبي عبيد. (¬5) الحديث متفق عليه عن أبي هريرة، وهو جزء من حديث أخرجه البخاري في المناقب، باب: خاتم النيين -صلى الله عليه وسلم-" 3/ 1300 رقم (3342)، ومسلم في الفضائل، باب: كونه -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين 4/ 1790 رقم (2286). (¬6) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: آخرهم. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 344. (¬8) انظر: "الوسيط" 3/ 474، "الحجة" 5/ 477.

41

على الطينة، وهو اسم مثل العالم، يدل على هذا قولهم عند زيادة الحرف خاتام، فدلت زيادة الألف على أن التاء مفتوح في الخاتم (¬1). قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} قال ابن عباس: يريد علم ما يكون قبل أن يكون (¬2). 41 - وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} قال الكلبي ومقاتل: ذكرًا كثيرًا باللسان (¬3). وقال مجاهد: هو ألا ينساه أبدًا (¬4). وقال الكلبي: ويعني ذكرًا كثيرًا بالصلوات الخمس (¬5). وقال ابن حيان: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال وهو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (¬6). وبلغنا أن هؤلاء الكلمات يتكلم بهن صاحب الجنابة والغائط والحدث (¬7). 42 - وقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي: صلوا لله صلاة الفجر والعصر. قاله مقاتل وقتادة (¬8). وقال ابن حيان: صلوا لله بالغداة ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (ختم)، "اللسان" 12/ 163 (ختم). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب، ولم أقف على من نسبه للكلبي. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 534، "مجمع البيان" 8/ 568. (¬5) انظر: "الوسيط" 3/ 475، "زاد المسير" 6/ 396. (¬6) انظر: "مجمع البيان" 8/ 568، "زاد المسير" 6/ 396. (¬7) ذكر ابن قدامة في "المغنى" 1/ 134 بأنه لا خلاف في أن للحائض والجنب ومن في حكمهما ذكر الله -سبحانه وتعالى-، وهذه الألفاظ من الذكر. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب، "تفسير الماوردي" 4/ 409، "الطبري" 22/ 17.

43

والعشي (¬1). قال الكلبي: فصلاة الفجر، وأما أصيلاً: فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء (¬2). ومضى الكلام في تفسير الأصيل عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬3). 43 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ} قال ابن عباس: لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} جاء المهاجرون والأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهنئونه، فقال أبو بكر: يا رسول الله أهذا لك خاصة ليس لنا فيه شيء، فأنزل الله هذه الآية (¬4). قال المفسرون وأهل المعاني كلهم: {يُصَلِّي} (¬5): يرحمكم ويغفر لكم (¬6)، ومضى الكلام في تفسير الصلاة من الله عند قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 157]. قوله: {وَمَلَائِكَتُهُ} قال ابن عباس: وملائكته تدعوا الله لكم (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن حيان، وانظر: "القرطبي" 014/ 198، " تفسير هود" 3/ 372. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 9/ 409، "مجمع البيان" 8/ 397، "زاد المسير" 6/ 568. (¬3) عند قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205] (¬4) ذكر هذا الأثر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 622، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، وذكره البغوي في "تفسيره" 3/ 534 عن أنس، وذكره القرطبي 14/ 198 عن ابن عباس. (¬5) في (أ): زيادة واو (ويصلي عليكم). (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 202/ أ، "تفسير الطبري" 22/ 17، "معاني القرآن" للفراء 2/ 345، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 231، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 357. (¬7) انظر: "مجمع البيان" 8/ 568.

44

وقال المقاتلان: ويأمر الملائكة بالاستغفار لكم (¬1). قال الكلبي: صلاة الله على العباد مغفرته، فإذا رضي على العبد قال للملائكة: إني قد غفرت لعبدي فلان فاستغفروا له، وصلاة الملائكة: الاستغفار (¬2). قوله -عز وجل-: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} قالوا: من الشرك إلى الإيمان، يعني: أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجوكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بسبب توحيدكلم وتصديقكم رحمته ودعاء ملائكته (¬3). 44 - قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} قال مقاتل: يعني تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب (¬4). وقال الكلبي: تحييهم الملائكة على أبواب (¬5) الجنة بالسلام، فإذا دخلوها حيا بعضهم بعضا بالسلام، وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام (¬6). والكناية في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ} يجوز أن تكون عن الملائكة، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل. ويجوز أن تكون عن المؤمنين، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعلين؛ لأن المؤمنين يحيون بالسلام ويحيى بعضهم بعضًا. قال ابن عباس في قوله: {يَوْمَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب، "تفسير الماوردي" 4/ 398، "زاد المسير" 6/ 410. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 17، "بحر العلوم" 3/ 54، "تفسير البغوي" 3/ 537. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 93/ ب. (¬5) في (ب): (باب). (¬6) انظر: "بحر العلوم" 3/ 54.

45

يَلْقَوْنَهُ}: يريد عندما يدخلهم الجنة (¬1). ومعنى الكلام في معنى لقاء الله في مواضع. وروي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية قال: "يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه" (¬2). والكناية على هذا في قوله {تَحِيَّتُهُمْ} للمؤمنين، أي: تحيتهم من ملك الموت يوم يلقونه. والكناية في يلقونه لملك الموت وقد سبق ذكره في قوله: {وَمَلَائِكَتُهُ}. وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} أي: ثوابًا عظيمًا ورزقًا حسنًا في الجنة. 45 - قوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال ابن عباس: يريد على أمتك وجميع الأمم (¬3). وقال مقاتل: شاهدًا على هذه الأمة بتبليغ الرسالة، ومبشرًا بالجنة والنصر في الدنيا لمن صدقك وآمن بك (¬4). {وَنَذِيرًا}: ومنذرًا بالنار لمن كفر بك وكذبك. 46 - {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}: إلى توحيد الله وطاعته وما يقرب منه ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التفسير، "تفسير سورة إبراهيم -عليه السلام-" 2/ 351، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" واْورده السيوطي في "الدرر" 6/ 623 وزاد نسبته لابن أبي شيبة في "المصنف" وابن أبي الدنيا في "ذكر الموت" وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الشعب". (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 410، "الدر المنثور" 6/ 624، وقال: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب.

47

{بِإِذْنِهِ} قال مقاتل: يعني بأمره (¬1). يريد أنه أمرك بهذا لا أنك تفعله من قبل. قوله تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} يجوز أن يكون هذا من صة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يكون المعنى من اتبعه اهتدى به كالسراج في الظلمة يستضاء به، وهذا معنى قول ابن عباس (¬2). وقال المبرد: هذا تمثيل، والمعنى أن ضياء الهدى منه قد شمل القلوب كما شمل ضياء السراج الأبصار (¬3). ويجوز أن يكون المراد بالسراج المنير: القرآن وهو قول ابن عباس قال: وكتابًا مبينًا (¬4). واختاره الزجاج فقال: (والمعنى وذا سراج منير أي: ذا كتاب نير قال: وإن شئت كان المعنى وداعيًا إلى الله وتاليًا كتابًا بينًا) (¬5). 47 - {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}، قال مقاتل: يعني الجنة (¬6). 48 - وقوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي إن دعوك إلى تقصر (¬7) في بلاغ ما أرسلت به. قال ابن عباس: يريد الكافرين من أهل مكة ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) انظر: قول ابن عباس في "تنوير المقباس" ص 355. (¬3) لم أقف على قول المبرد. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 411، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 624، وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 211. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب. (¬7) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: إلى أن تقصر.

49

والمنافقين من أهل المدينة (¬1). وذكرنا تفسير هذا في أول السورة. {وَدَعْ أَذَاهُمْ} قال ابن عباس وقتادة: يريد اصبر على أذاهم (¬2). قال ابن عباس: هذا منسوخ نسخه السيف (¬3). قال أبو إسحاق: (تأويل {وَدَعْ أَذَاهُمْ} لا تجازيهم عليه إلا أن تؤمر فيهم بأمر) (¬4) وعلى هذا التقدير دع مكافأة أذاهم، ولهذا صار المعنى: اصبر على أذاهم. وقال مجاهد: دع أذاهم: أعرض عنهم (¬5). {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فإني أكفيك (¬6) إذا توكلت علي. 49 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: تجامعوهن. وقرئ: تماسوهن (¬7). ومعنى الكلام في القراءتين في البقرة [: 246]. قوله -عز وجل-: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} قال أبو إسحاق: (أسقط ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 350. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 19، "تفسير البغوي" 3/ 535، "الدر المنثور" 6/ 625، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 202، "زاد المسير" 6/ 402، "قبضة البيان في ناسخ ومنسوخ القرآن" ص 20، "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله" ص 144، "ناسخ القرآن ومنسوخه" ص 45. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 231. (¬5) "تفسير مجاهد" ص 518، وانظر: "تفسير الطبري" 22/ 19، "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3141. (¬6) في (أ): (أكفيكم). (¬7) انظر: "الحجة" 5/ 477 "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 203.

الله العدة عن التي (¬1) لم يدخل بها؛ لأن العدة في الأصل استبراء (¬2) الولد، فإن لم يدخل بها فهي بمنزلة الأمة التي لم يقربها مالكها فليس عليها استبراء. قال مقاتل: إن شاءت تزوجت من يومها (¬3). وقوله: {تَعْتَدُّونَهَا} أي: تحصون العدة عليهن (¬4) بالأقراء والأشهر وقال صاحب النظم: معنى الاعتداد هاهنا استبقاء العدة منهن؛ لأنها حق للأزواج على النساء استبراء من أن يلحق بهن (¬5) من ليس منهم، ولانقطاع الأمر في النفقة والسكنى، يقال: عددته ألف درهم فاعتدها أي: استوفاها، وكذلك وزنته حقه فاتزنه، وكلته فاكتاله، أي: استوفاه وزنا وكيلا. كذلك هاهنا: استوفاها عددا. وروى ابن أبي بزة (¬6) عن ابن كثير: تعتدونها مخففة، قال قنبل والقواس (¬7): ¬

_ (¬1) في (أ): (النبي)، وهو خطأ. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 232. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب. (¬4) في (ب): (عليها). (¬5) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: بهم؛ لأن الضمير يعود للأزواج. (¬6) هو: مقرئ مكة ومؤذن المسجد الحرام أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة المخزومي مولاهم الفارسي الأصل، كان مولده سنة 170 وهو أستاذ محقق ضابط متقن، قرأ على أبيه وعلى عبد الله بن زياد وعكرمة بن سليمان، وعليه قرأ إسحاق بن محمد الخزاعي والحسن بن الحباب وغيرهم، روى عنه القراءة قنبل، توفي -رحمه الله- 250 وعمره ثمانون سنة. انظر: "غاية النهاية" 1/ 119، "السير" 12/ 50، "معرفة القراء الكبار" 1/ 54. (¬7) هو: أبو الحسن أحمد بن محمد بن علقمة بن نافع بن عمر بن صح بن عون المكى النبال المعروف بالقواس، قرأ على ابن كثير وأبي الإخريط وهب بن واضح =

وهذا مما وهم فيه ثم رجع عنه، وكذلك وهم في تخفيف قوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ} [إبراهيم: 17]، وقوله: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير: 4]. قال أبو علي: ولا وجه للتخفيف في مثل هذا، نحو: تشتدونها وترتدونها، وليس كل المضاعف يبدل من حروف التضعيف فيه، إنما يبدل فيما سمع (¬1). قال قتادة: فإن شئت قلت: قد جاء في التنزيل في هذا النحو الأمران كقوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]، وقال: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً} [الفرقان: 5]، قال: وإن شئت جعلته من عدوت الشيء إذا جاوزته، أي: مالكم عليهن من وقت عدة يلزمكم أن تجاوزوا عدده فلا تنكحوا أختها ولا أربعًا سواها حتى تنقضي العدة (¬2). قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} اختلفوا في هذه المتعة قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقًا، فإذا فرض لها صداقًا فلها نصفه (¬3)، هذا هو الأصح من مذهب الشافعي، وهو أن المطلقة قبل المسيس لا تستحق المتعة مع نصف المهر؛ لأن الله لم يذكر المتعة مع نصف المهر في سورة البقرة، وهو قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] (¬4). ¬

_ = وغيرهما، وقرأ عليه البزى. وقنبل. انظر: "النشر" 1/ 120. (¬1) انظر:: "الحجة" 5/ 477 - 478. (¬2) ذكر قول قتادة أبو علي في "الحجة" 5/ 478 ولم ينسبه لقتادة، "البحر المحيط" 8/ 490. (¬3) انظر "الطبري" 22/ 19، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 625 وعزاه لابن جرير المنذر وإبن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬4) انظر: "الأم" 5/ 54، "المغني" 10/ 142.

50

وروى نافع عن ابن عمر قال: لكل مطلقة متاع إلا التي تطلق قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، فإن لها نصف الصداق فلا متعة (¬1). قال قتادة: نسخت هذه الآية التي قبلها في البقرة وهو قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 37] (¬2). فدلت هذه الأقوال على أنها لا تستحق المتعة إذا طلقت قبل المسيس وبعد القرض، وإن طلقت قبلهما استحقت المتعة. روي أن شريحًا أخبر رجلاً طلق امرأته ولم يكن لها فرض ولم يدخل بها (¬3)، وهو مذهب الزهري. وقال مقاتل: فمتعوهن بنصف (¬4)، فجعل هذه المتعة بما تستحق من نصف المهر، وهذا إنما يكون إذا كان قد فرض لها، فأما إذا لم يفرض لها فإنها تستحق المتعة واجبة لها على قول أكثر الناس، وبعضهم يقول نسخت ذلك ولا تجب في قوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (¬5) قال مقاتل: يعني: حسنًا في غير ضرر (¬6). 50 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، ذكر الله تعالى في هذه الآية أنواع النسوة والأنكحة التي ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 20، "تفسير زاد المسير" 6/ 402، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 348. (¬3) الكلام هنا ناقص لم يتم، والأسلوب غير مستقيم يبدو أن فيه سقطًا ولم أستطع الوقوف عليه. (¬4) لم أقف على قول مقاتل. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 19، "الماوردي" 4/ 412، "زاد المسير" 6/ 402. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 93 ب.

أحلها (¬1) للنبي -عليه السلام- مما يختص به ومما سواه الأمة (¬2) في ذلك. وقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} قال المفسرون: يعني: مهورهن، والمعنى: أحللنا لك أزواجك اللاتي تزوجتهن بصداق (¬3)، {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} يعني: الولائد: وهي مارية (¬4) القبطية أم إبراهيم، وريحانة (¬5) وصفية وجويرية. وقوله: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي: رجعه ورده إليك من الكفار بأن سبيته وملكته. {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} يعني: القرشيات (¬6) من بني تميم وعدي ومخزوم وأمية. {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} يعني نساء بني زهرة. وهذا مما تساويه الأمة فيه إلا العدد في الحرائر دون الإماء. ¬

_ (¬1) في (ب): (أحلتها). (¬2) الأسلوب هنا فيه اضطراب، ولعل الصواب: دون ما سواه من الأمة. (¬3) انظر: "الطبري" 22/ 20 - 21، "الماوردي" 4/ 413، "زاد المسير" 6/ 403. (¬4) هي: مارية القطية مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم ولده إبراهيم، أهداها للنبي -صلى الله عليه وسلم- المقوقس القبطي صاحب مصر، توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب سنة 16 هـ وصلى عليها عمر ودفنت بالبقيع. انظر: "الاستيعاب" 4/ 396، "الإصابة" 4/ 391، "أسد الغابة" 5/ 5439. (¬5) هي: سرية رسول الله -صلى الله عليه وسلم - واسمها: ريحانة بنت شمعون بن زيد بن قساعة من بني قريظة قتل زوجها في بني قريظة وكانت مع السبي، نفر لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما عرض عليه النبي وأرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قبس ثم دخل عليها وخيرها فاختارت الله ورسوله فأعتقها وتزوجها، ماتت رضي الله عنها سنة 10 هـ حينما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع. انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" 4/ 302، "أسد الغابة" 5/ 460. (¬6) في (ب): (القريشيات).

قوله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قال مقاتل: إلى المدينة فإن كانت (¬1) تهاجر إلى المدينة لم يحل له تزوجها (¬2). وروى السدي عن أبيِ صالح أن أم هانئ (¬3) قالت: خطبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله عليه: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}. إلى قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [قال مقاتل] (¬4): قالت: لم أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء (¬5)، وهذا يوجب أن الهجرة كانت شرطًا في التحليل، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك ثم نسخ كما كانت الوراثة بالهجرة ثم نسخ (¬6). قال صاحب النظم: نزلت هذه الآية قبل تحليل غير المهاجرات. ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ! ولعل الصواب كما في "تفسير مقاتل" 94 أ: فإن كانت لم تهاجر. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 94 أ. (¬3) هي: أم هانئ فاختة وقيل فاطمة وقيل هند والأول أشهر، بنت أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم، ابنة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت علي بن أبي طالب، أسلمت عام الفتح وهرب زوجها واسمه هبيرة بن أبي وهب إلى نجران، فلما انقضت عدتها خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله؛ لأنت أحب إلى من سمعي ومن بصري وحق الزوج عظيم وأنا أضيع حق الزوج. انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" 4/ 479، "الإصابة" 4/ 479، "أسد الغابة" 5/ 624. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 22/ 20 - 21 ورواه الترمذي في "جامعه" كتاب: التفسير، تفسير سورة الأحزاب 5/ 33 رقم الحديث (3266) وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي، والحاكم في "المستدرك" 2/ 420 وصححه ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 628 وزاد نسبته لابن سعد وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 414، "تفسير زاد المسير" 6/ 404، "مجمع البيان" 8/ 571.

وقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} عطف على ما سبق من المحللات قال ابن عباس: يريد مصدقة بتوحيد الله (¬1). قال مقاتل: اليهودية أو النصرانية أو الحربية إن وهبت نفسها للنبي لم تحل له، قال: وإنما قيل هاهنا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لو قيل: إن وهبت نفسها لك، كان يجوز أن يتوهم في الكلام دليل أنه يجوز ذلك لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاز في قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ}؛ لأن بنات العم وبنات الخال يحللن للناس (¬2). وقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} أي آثر نكاحها وأراد ذلك. {خَالِصَةً لَكَ} قال الفراء: (نصب على القطع يعني: هذه الخصلة يعني: النية في النكاح خالصة لك ورخصة) (¬3). وقال الزجاج: (خالصة منصوب على الحال، المعنى: إنا جعلنا لك هؤلاء وأحللنا لك من وهبت نفسها خالصة لك) (¬4). وقال صاحب النظم: خالصة مصدر كالخاطئة والكاذبة والملاعنة، والمعنى في قوله: {خَالِصَةً لَكَ} أي: خاصة لك وخاصة أيضًا مصدر مثل خالصة أي خصوصًا لك ذلك من بين أمتك وهو قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وقال أبو عبيدة: (رجع عن الغائبة إلى المخاطبة والعرب تفعل ذلك كقول عنترة: سقت مزارها سفين .. .. البيت) (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 571 غير منسوب لأحد. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 94 أ. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 2/ 345 مع اختلاف في العبارة. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 233. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 139. وهكذا ورد في النسخ! وفي "مجاز القرآن" وكذا في بقية المراجع جاء البيت هكذا: =

قال الأزهري: الهبة كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، ولا يحل لأحد أن تهب نفسها بغير شهود ولا ولي إلا للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن عباس: لا يحل هذا لغيرك وهو لك حلال (¬1). قال المفسرون: هذا من خصائصه في النكاح وكان ينعقد النكاح له بلفظ الهبة من غير ولي ولا شهود، ولا ينعقد لأحد نكاح بلفظ الهبة (¬2)، وهو مذهب الشافعي -رحمة الله- وأكثر الفقهاء (¬3). وأجاز أهل الكوفة النكاح بلفظ الهبة إذا حضر الولي والشهود (¬4). واختلفوا في الموهوبة، هل كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- موهوبة أم لا؟ فمذهب ابن عباس في رواية عكرمة ومجاهد أنه لم يكن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة إلا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وهذا شيء أباحه الله له، فإذا استباحه حل له (¬5). ¬

_ = شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا على طلابها ابنة مخرم وهو من الكامل، وهو لعنترة في "ديوانه" ص 19، "شعراء النصرانية" 6/ 809، "الكامل" 1/ 399، 2/ 729، "لسان العرب" 4/ 314 (زأر)، 336 (زور)، انظر: "تفسير ابن عباس" ص 334 (شطط). ومعى البيت: يقول: نزلت الحبيبة أرض أعدائي فأصبح طلبها عسيرًا علي. وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب انظر: "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" 2/ 484. (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 424، وذكر الطبري نحوه 22/ 21 ونسبه لمجاهد. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 23 - 24، "تفسير الماوردي" 4/ 415، "تفسير زاد المسير" 6/ 405. (¬3) انظر: "الأم" 5/ 33، "المغني" 9/ 345. (¬4) يروى هذا كما في "المغني" 9/ 345 عن ابن سيرين والقاسم بن والحسن محمد بن صالح وأبي يوسف. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 23، "تفسير الماوردي" 4/ 414، "مجمع البيان" 8/ 571.

وقال آخرون: بل كانت عنده موهوبة، ثم اختلفوا، فقال عطاء عن ابن عباس: هي أم شريك العامرية (¬1)، وهو قول مقاتل (¬2). وقال عروة: هي: خولة بنت حكيم (¬3). وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث (¬4) وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) هي: أم شريك، واختلف في اسمها فقيل: غزيلة بالتصغير، ويقال عزية بتشديد الياء بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر، اختلف في نسبتها، فقيل: قرشية وقيل: عامرية وقيل: أنصارية. يقول ابن حجر في "الإصابة": ويمكن الجمع بين الأقوال بأن يقال: هي قرشية تزوجت في دوس فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار فنسبت إلهم. يقال: إنها التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "الاستيعاب" 4/ 445، "الإصابة" 4/ 446، "أسد الغابة" 5/ 594. (¬2) انظر: "مجمع البيان" 8/ 571، ونسب القول لعلي بن الحسين والضحاك ومقاتل، وانظر أيضًا: "تفسير زاد المسير" 6/ 405 ولم ينسبه لأحد. وذكره "الماوردي" أيضًا 4/ 414 ونسبه لعروة بن الزبير، وانظر: "تفسير مقاتل" 94 ب. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 23، "مجمع البيان" 8/ 571، وذكره "الماوردي" 4/ 414، و"ابن الجوزي" 6/ 405 غير منسوب لأحد. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 23، "تفسير الماوردي" 4/ 414، "تفسير زاد المسير" 6/ 406 ونسبه لابن عباس. (¬5) هي: زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقال لها: أم المساكين لكثرة إطعامها الطعام لهم، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدخل بها بعدما دخل بحفصة رضي الله عنها ثم لم تلبث فلنب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوى شهرين أو ثلاثة حتى ماتت رضي الله عنها، ولم أجد عند من ترجموا لها من ذكر أنها وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم. انظر: "الاستيعاب" 4/ 305، "الإصابة" 4/ 309 "أسد الغابة" 5/ 466. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 414، "تفسير زاد المسير" 6/ 406.

51

وقال مقاتل: ثم أخبر الله عن المؤمنين فقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وهذا قول جميع المفسرين (¬1)، قالوا: فرضنا على أمتك ألا يتجاوز الأربع ولا ينعقد نكاحهم إلا بالأولياء والشهود (¬2). قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال أبو إسحاق: (ذلك اليمين لا يكون إلا ما يجوز سبيه) (¬3) ممن يجوز حربه، فأما من كان له عهد فلا. وقال صاحب النظم: انتظمت هذه الآية مجاوزة الأربع للنبي -صلى الله عليه وسلم- والهبة، وكان له أن يصطفي من النبي من شاء نبه الله بهذا على من خصه به (¬4) دون غيره من أمته؛ لأنه لم يبح لهم من هذه الأصناف التي عددها في التحليل له شيئًا. قوله -عز وجل-: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}. فيه تقديم، والمعنى: خالصة لك من دون المؤمنين كي لا يكون عليك، [أي: أحللنا لك ما ذكرنا لكي لا يكون عليك] (¬5) ضيق في أمر النكاح ومنع من شيء تريده. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} في التزويج بغير مهر للنبي -عليه السلام- {رَحِيمًا} به في تحليل ذلك. قاله مقاتل (¬6). 51 - قوله -عز وجل-: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} ذكرنا الكلام ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 94 أ. (¬2) انظر: "الطبري" 22/ 23 - 24، "الماوردي" 4/ 415، "زاد المسير" 6/ 406. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 233. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: على ما خصه به. (¬5) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 94 أ.

في [معنى] (¬1) الإرجاء عند قوله تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] وقوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106]، وأكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في إباحة النبي -صلى الله عليه وسلم- مصاحبة نسائه ومعاشرتهن كيف شاء من غير حرج عليه في ذلك تخصيصًا له وتفضيلًا، فأبيح له لمن أحب منهن يومًا أو أكثر، ويعظل من شاء منهن فلا يأتيها. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد واختيار الفراء والزجاج. فمعنى قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قال ابن عباس ترجيها من غير طلاق، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} وتضم من تشاء تردها إليك (¬2). قال مجاهد: تعزل بغير طلاق وتؤوي إليك من تشاء: تردها إليك (¬3). وقال الكلبي: تترك من تشاء منهن فلا تأتيها {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} فتأتيها (¬4) (¬5). قال أبو إسحاق: (خيَّر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- فكان له أن يؤخِّر من أراد من نِسائه وله أن يردَّ من أحب إلى فراشه، وليس ذلك لغيره من أمته) (¬6) وكان القسم والتسوية بينهن واجبًا عليه فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار فيهن، قال أبو زيد: وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن وكان ممن أرجى: سودة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 25، "الماوردي" 4/ 415، "زاد المسير" 6/ 407. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" ص 519، "تفسير الطبري" 22/ 25، "الماوردي" 4/ 415. (¬4) في (ب): (فتؤتيها). (¬5) لم أقف على من نسبه للكلبي، وقد ذكر الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 574 نحو هذا القول وعزاه لقتادة. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 233.

وجويرية وأم حبيبة وميمونة (¬1) وصفية وكان يقسم لهن ما شاء، وكان أراد أن يفارقهن فقلن له: اقسم لنا من نفسك ما شئت ودعنا على حالنا (¬2). قوله تعالى: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي: إن أردت أن نؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن وأخرتهن من القسمة وتضمها إليك فلا جناح عليك (¬3). لا ميل (¬4) يلوم ولا عتب، والمعنى: أنك إذا أرجأت بعضًا وآويت ثم آويت من أرجأت فلا جناح عليك (¬5)، وفي الكلام إيجاز بتقدير وأرجأت من آويت فلا جناح عليك، فدل أحد الظرفين على الثاني؛ لأنه إذا كان له إيواء من عزل وأرجأ كان له إرجاء من آوى. قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي: ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذا كان من عندنا، قال الفراء: (إذا علمن أن الله قد أباح ذلك رضين إذا كان من عند الله) (¬6). قال أبو إسحاق: ¬

_ (¬1) في (ب): (وصفية وميمونة) تقديم وتأخير. (¬2) انظر: " تفسير الطبري" 26/ 22، وقد ذكر قول ابن زيد لكنه لم يذكر أسماء من آوى ومن عزل. "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3145 عن ابن زيد، "مجمع البيان" 8/ 574، ونسب القول لابن رزين، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 407 وعزاه لابن رزين أيضًا، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 635، ونسبه لابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي زيد. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 233. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: لا لوم. (¬5) الكلام هنا موهم والأسلوب فيه اضطراب، والذي يظهر لي والله أعلم أن الكلام من قوله: (ميل) إلى قوله: (ثم إيواء من أرجأت فلا جناح عليك) كلام زائد وقع خطأ من النساخ. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 2/ 346.

52

إذا كان هذا منزلًا من الله عليك (¬1) كان أقرب إلى أن يرضين بما آتيتهن كلهن أي ويرضين كلهن بما آتيتهن من تقريب وإرجاء (¬2). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: من أمر النساء والميل إلى بعضهن، قال صاحب النظم: هذا يدل على أن الله قصد بها التخيير والتيسير (¬3) والتسهيل محنة في كل ما أراد منهن، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بخلقه {حَلِيمًا} عن عقابهم. قاله ابن عباس (¬4) وذكرت في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} قوال سوى ما ذكرنا، وسياق الآية [بعضها و] (¬5) لا يوافقها فتركتها. 52 - قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ويقرأ بالتاء وقال أبو إسحاق: من قرأ بالياء فلأن النساء في معنى جميع النساء تدل على التأنيث فيستغنى عن تأنيث (يحل)، ومن قرأ بالتاء فعلى أن المعنى لا يحل (¬6) لك جماعة (¬7) النساء (¬8). وقال الفراء: (التاء للنساء والياء بمعنى لا يحل لك شيء من النساء) (¬9)، وقال أبو علي: (الياء والتاء جميعًا حسنان؛ لأن تأنيث النساء ¬

_ (¬1) في (ب): (إليك). (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 233. (¬3) في (ب): (التسير). (¬4) لم أقف عليه (¬5) هكذا في النسخ! ولعلها زيادة من النساخ؛ لأنه يخل بنظم الكلام. (¬6) في (ب): (لا تحل). (¬7) في (ب): (جميع). (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 234 (¬9) انظر: "معاني القرآن" 2/ 346.

ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع نحو الجمال والجدوع، والتذكير حسن والتأنيث كذلك) (¬1). قال ابن عباس: لما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه اخترنه شكر الله تعالى ذلك لهن حيث اخترنه فأنزل الله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (¬2). قال مقاتل: حرم عليه تزويج غير التسعة اللاتي اخترنه، فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد أزواجك التسعة اللاتي عندك (¬3)، يقول: لا يحل لك أن تزداد عليهن ولا أن تبدل بهن، يعني: بنسائه التسعة من أزواج. قال ابن عباس: يريد أن تبدل بهذه [العدة] (¬4) غيرهن، فلا يحل لك إلا هؤلاء اللاتي خيرتهن واخترتهن (¬5). وقال الضحاك: يعني: ولا أن تبدل بهن بأزواجك اللاتي من في حبالك أزواجًا غيرهن بأن تطلقهن وتنكح غيرهن (¬6). فحرم عليه طلاق نسائه اللاتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين، وحرمهن على غيره حين اخترنه، قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي: وإن أعجبك لجمالهن (¬7)، فليس لك أن تطلق من نسائك وتنكح بدلها امرأة بجمالها. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 5/ 479. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 28، "الماوردي" 4/ 416، "زاد المسير" 6/ 409. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 94 ب. (¬4) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 29، "الماوردي" 4/ 416، "زاد المسير" 6/ 409. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 31، "مجمع البيان" 8/ 575، "زاد المسير" 6/ 410. (¬7) هكذا في النسخ! ولعل الباء زيادة من النساخ.

قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} قال مقاتل: يعني: الولائد (¬1). وقال ابن عباس: ملك بعد هؤلاء مارية (¬2). قال الزجاج: موضع رفع المعنى لا يحل لك إلا ما ملكت يمينك، قال: ويجوز أن يكون نصبًا على معنى: لا يحل لك النساء، ثم استثني ما ملكت يمينك (¬3). قال أبو عبيدة: في هذه الآية حرم عليه النساء غيرهن (¬4). فإن روي فيه غير ذلك فهذه الآية منسوخة، يعني: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أحل له النساء (¬5). قال الشافعي: كأنها تعني اللاتي حظرن عليه (¬6). وهذه الآية منسوخة على ما قالت عائشة (¬7)، وهذا الذي ذكرنا في هذه الآية قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والحسن، قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن (¬8). وفيها أقوال تركناها لضعفها لم نذكرها. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 94 ب. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 425. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 234. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 352. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 32، "تفسير زاد المسير" 6/ 411، وأخرجه الترمذي في "سننه" كتاب التفسير، تفسير الأحزاب 5/ 35 رقم (3269)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه ابن أبي حاتم 10/ 3145 عن أم سلمة. (¬6) "الأم" 5/ 125. (¬7) انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 385. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 29 - 30، "تفسير المادردي" 4/ 417، "مجمع البيان" 8/ 575، "تفسير زاد المسير" 6/ 410، "تفسير مقاتل" 94 ب.

53

قال مقاتل: ثم حذر النبي -صلى الله عليه وسلم-[إن ركب] (¬1) في أمرهن ما لا ينبغي، وذلك قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من العمل {رَقِيبًا} (¬2) حفيظًا. 53 - قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بهذه الآية، إنه الحجاب، أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عروسًا بزينب بنت جحش، ودعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا وبقي وهي منهم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأطالوا المكث، وجعلوا يتحدثون، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج ثم يرجع وهم قعود، فنزلت هذه الآية. قال: فقام القوم وضرب الحجاب (¬3). {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} قال الزجاج: (موضع أن نصب المعنى إلا بأن يؤذن أو لا يؤذن لكم) (¬4) {إِلَى طَعَامٍ} أي: إلا أن تدعوا إلى طعام، ومعنى {يُؤْذَنَ لَكُمْ}: يدعوا، ويجوز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير، فتقدير لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم. وقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ} قال أبو إسحاق: (غير منصوبة على الحال، المعنى: إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين) (¬5) {إِنَاهُ} أي: نضجه وإدراكه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير واضح في جميع النسخ، والتصحيح من "تفسير مقاتل". (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 94 ب. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} 4/ 1499 رقم (4513)، ومسلم في النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب 2/ 1048 رقم (1428) كلاهما عن أنس. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 234. (¬5) المصدر السابق.

وبلوغه. قال المفسرون (¬1). قال مجاهد: غير [متحينين] (¬2) نضجه (¬3). المعنى: أنهم كانوا يدخلون بيته فيجلسون منتظرين إدراك الطعام فنهوا عن ذلك، والتقدير: إلا أن يؤذن، لكن وأنتم لا تنتظرون بلوغ الطعام. قال أبو عبيدة: {إِنَاهُ} أي: إدراكه، يقال أنى يأني إدراك أنا كما ترى (¬4)، وأنشد: تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام (¬5) قال الأزهري ومن هذا قوله: {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]، وهو الذي قد بلغ غاية الحرارة. وكذلك قوله: {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] وقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد: 16]، وهو أن يأني (¬6). وقوله: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} قال مجاهد: أي بعد أن تأكلوا (¬7). قال مقاتل: كانوا يجلسون عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الطعام وبعد الطعام ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 34، "تفسير الماوردي" 4/ 418، "تفسير زاد المسير" 6/ 414 - 415. (¬2) غير واضحة في جميع النسخ، والتصحيح من "تفسير مجاهد" ص 520. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" ص 520. (¬4) هكذا في النسخ! والذي في"مجاز القرآن لأبي عبيدة" 2/ 140: أي: إدراكه وبلوغه، ويقال: أني لك أن تفعل يأني أنيًا، والاسم إني وأني: أبلغ أدرك. (¬5) البيت من الوافر، وهو للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص 101 ضمن أبيات قالها حين عاد إلى النعمان فألفاه عليلا، "جمهرة أشعار العرب" 1/ 199. والشاهد فيه قوله "حاملة" حيث جاء بهذا الوصف متصلاً بتاء التأنيث مع أنه خاص بالإناث لا يوسف به غيرهن، وذلك أنه جعل وصفًا جاريًا على الفعل. (¬6) "تهذيب اللغة" 15/ 553 (أنى). (¬7) انظر: "تفسير مجاهد" ص 520.

يتحدثون عنده طويلًا (¬1)، وكان يؤذيه ذلك ويستحي أن يقول لهم قوموا، فذلك قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} يعني: دخول بيته بغير إذن والقعود؛ لانتظار الطعام يؤدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيستحي منكم أن يخرجكم منها، ومعنى مستأنسين لحديث: مستأنسين له، والاستئناس هو التأنس، ويقال: إذا جاء الليل استأنس كل وحشي (¬2). قال أبو إسحاق: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتمل إطالتهم كرمًا منه ويصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب فصار أدبًا لهم ولمن بعدهم) (¬3). قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}، معناه: لا يستحيي أن يبين لكم ما هو الحق وذكرنا معنى استحياء الله -عز وجل- عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة: 26] قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، فنزل الأمر بالاستتار. قال ابن عباس: وذلك (¬4) أن عمر -رضي الله عنه- كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلمة البيت فوافقت يده يد امرأة من أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال والله لو أطاعني رسول الله لضرب عليكن الحجاب فأنزل الله هذه الآية (¬5). وقال أنس: قال عمر: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 94 ب. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 87 (أنس)، "اللسان" 6/ 15 (أنس). (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 235. (¬4) في (ب): وذلك أن الله تعالى عمر -رضي الله عنه-، وهو خطأ. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 419، "مجمع البيان" 8/ 576.

فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت آية الحجاب (¬1). قوله تعالى: {ذَلِكُمْ} أي: سؤالكم إياهن المتاع من وراء الحجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ومن الريبة {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} قال أبو إسحاق: أي ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء (¬2). قال أبو عبيدة: العرب (¬3) يدخلون كان يؤكدون بها الكلام وهو مستغنى عنه وأنشد الفرزدق: فكيف إذا رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام (¬4) فجعلوا كان لغوًا (¬5). قال مقاتل بن حيان: بلغنا أن رجلاً من قريش هوى أن يتزوج عائشة من بعد النبي فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فشق ذلك عليه، فأنرل الله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (¬6) وقال عطاء عن ابن عباس: كان رجل من سادة قريش من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 39، ورواه البخاري في الصلاة 1/ 111، وفي التفسير سورة البقرة 6/ 34، وسورة الأحزاب 6/ 148، ورواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر بن الخطاب 7/ 115. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 235. (¬3) في (أ): (تدخل)، وهو خطأ. (¬4) البيت من الوافر وهو للفرزدق في "ديوانه" 2/ 290، "خزانة الأدب" 9/ 217، 221، 222، "الكتاب" 2/ 153، "لسان العرب" 13/ 370 (كنن). والشاهد فيه قوله: "وجيران لنا كانوا كرام" حيث فصل بين الموصوف وهو قوله "وجيران" والصفة وهي قوله "كرام" بـ"كانوا" الزائدة. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 140. (¬6) لم أقف على هذا القول عن مقاتل بن حيان وقد ذكره أكثر المفسرين فقد ذكره الطبري 22/ 40 عن ابن زيد، ومقاتل في "تفسيره" 94 ب، والنحاس في "معاني القرآن" 5/ 373 عن قتادة، والطبرسي 8/ 574 عن أبي حمزة الثمالى.

54

أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من العشرة الذين (¬1) كانوا معه على حراء) قال في نفسه [لو] (¬2) توفي رسول الله لتزوجت عائشة وهي بنت عمي فأنزل الله -عز وجل- ما أنزل (¬3). قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله قال لما نزلت آية الحجاب: نهانا محمد أن ندخل على بنات عمنا -يعني: عائشة- وهما من بني تميم بن مرة ثم قال: والله لئن مات محمد وأنا حي لأتزوجن عائشة، فأنزل الله في طلحة {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} إلى آخرها (¬4). قال أبو إسحاق: أعلم الله أن ذلك محرم بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} أي: ذبنًا عظيمًا (¬5). 54 - قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} قال مقاتل: أعلم الله أنه يعلم سرهم (¬6) ونجواهم وعلانيتهم (¬7) فقال: {إِنْ تُبْدُوا} أي: تظهروا {شَيْئًا} من أمرهن يعني: طلحة (¬8)؛ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين كلام زإئد يظهر أنه وهم من النساخ إذ لا معنى له. (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬3) انظر: "تفسير زاد المسير" 6/ 416، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 643، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه وذكره الطبري 22/ 40 عن ابن زيد. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 94 ب، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 643، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي ولعبد الرزاق عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ولابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 235. (¬6) في (أ): (سرهن وعلانيتهن). (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 94 ب. (¬8) لا يصح مثل هذا عن صحابي كطلحة -رضي الله عنه- وقد سبق ذكر بعض أقوال العلم ممن أنكر هذه المقولة.

55

لقوله: يمنعنا محمد من الدخول على بنات عمنا وأضمر هذا القول، ثم قال: {أَوْ تُخْفُوهُ} يعني: أو تسروه في قلوبكم يعني: قوله: ليتزوجها من بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا الذي أخفاه، فذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} من السر والعلانية (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: وقدم هذا الرجل على ما حدث به نفسه فمشى إلى مكة على رجليه وحمل عشرة أفراس في سبيل الله وأعتق رقيقًا، فكفر الله -عز وجل- عنه ورحمه (¬2). قال المفسرون (¬3): لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ونحن أيضًا نكلمهن من وراء حجاب، فأنزل الله تعالى قوله: 55 - {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} الآية أي: لا جناح عليهن في هؤلاء أن يروهن ويتركن الحجاب منهن. قال أبو إسحاق: هذه الآية نزلت فيمن يحل للمرأة البروز له ولم يذكر العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين في الرؤية وقد جاء في القرآن تسمية العم أبا في قوله: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] (¬4). وقال غيره: هذه الآية تتضمن بيان بعض المحارم (¬5)، وقد سبق ذكر الحرم في سورة النور (¬6) وهذه بعض تلك الآية. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 95 أ. (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 228. (¬3) وانظر: "مجمع البيان" 8/ 577، "تفسير القرطبي" 14/ 231، "تفسير زاد المسير" 6/ 417. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 236. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 231. (¬6) هكذا جاءت العبارة وهو خطأ ولعل الصواب: وقد سبق ذكر المحارم في سورة النور، وقد سبق ذكره في تلك السورة عند تفسير الآية رقم 31.

56

قوله تعالى: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} قال ابن عباس: يريد نساء المؤمنين ولم يرد نساء اليهود والنصارى؛ لأنهن يضفن لأزواجهن نساء النبي -عليه السلام- (¬1) ونحو هذا قال مقاتل: يعني: كل حرة مسلمة (¬2). وقوله: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أكثر المفسرين على أن المراد بهذا: العبيد والإماء من الرجال والنساء (¬3)، وقال سعيد بن المسيب: إنما يعني الإماء ولم (¬4) يعن الرجال (¬5). {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أن يراكن غير هؤلاء. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} (¬6) من أعمال بني آدم {شَهِيدًا} قال مقاتل: يقول لم يغب عن الله شيء. 56 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} قال ابن عباس: يريد إن الله يرحم النبي والملائكة يدعون له بالرحمة (¬7). قال مقاتل: أما صلاة الرب فالمغفرة (¬8) للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأما صلاة الملائكة (¬9) فالاستغفار له (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع البيان" 8/ 577، "تفسير زاد المسير" 6/ 417، وذكر السيوطي في "الدر" 6/ 645 وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 95 أ. (¬3) نظر: "تفسير الطبري" 22/ 42، "الماوردي" 4/ 420، "زاد المسير" 6/ 418. (¬4) في (ب): (ولا). (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 420، "زاد المسير" 6/ 418، "القرطبي" 12/ 234. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 95 أ. (¬7) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس وقد ذكره الطبري غير منسوب لأحد 22/ 3، وذكره الماوردي 4/ 421 عن الحسن وعطاء بن أبي رباح. (¬8) في (ب): (فللمغفرة)، وهو خطأ. (¬9) في (أ): (الاستغفار). (¬10) انظر: "تفسير مقاتل" 95 أ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} قال ابن عباس: ادعوا له بالرحمة (¬1). وقال مقاتل: استغفروا {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} يعني: التسليم (¬2) فيجوز أن (¬3) يقول سلمك الله وسلام عليك والسلام عليك فمن قال: السلام على رسول الله أو سلام عليه (¬4) أو سلمك الله يا رسول الله فقد سلم وإذا قال العبد اللهم صل على محمد وسلم، فقد أتى بالصلاة والتسليم (¬5). وروي عن كعب بن عجرة أنه قال لما نزلت هذه الآية: قلنا يا رسول الله، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: "فقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركلت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬6). ومعنى قوله: علمنا السلام عليك: ما نقول في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وهذه الآية بيان عما في نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحق الذي يقتضي الصلاة عليه كما صلى الله عليه وملائكته ولهذا قال الشافعي -رضي الله عنه-: لا تصح صلاة في الشريعة إلا بالصلاة على رسول الله والسلام عليه (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ب): (للتسليم). (¬3) في (ب): أن (تقول). (¬4) في (ب): (عليك). (¬5) لم أقف عليه وليس في "تفسير مقاتل". (¬6) رواه البخاري كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} 4/ 1802 رقم الحديث (4519)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد 1/ 305 رقم الحديث (406). (¬7) "الأم" 1/ 103.

57

57 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال الكلبي: هم اليهود والنصارى والمشركين (¬1) أما اليهود فإنهم قالوا: يد الله مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء وقالت النصارى المسيح ابن الله وإن الله ثالث ثلاثة وقال المشركون: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه [وسبوا] (¬2) رسول الله وكسروا رباعيته وقالوا: مجنون شاعر كذاب (¬3). ونحو هذا قال قتادة (¬4) يدل على صحة هذا التفسير ما روى عبد الله بن قيس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله أن يجعل له يدًا ويجعل له ولدًا وهو على ذلك معافيهم ومعطيهم ويرزقهم" (¬5) وحقيقة معنى يؤذون الله يخالفون أمر الله ويعصونه ويقولون في وصفه ما هو منزه عنه والله تعالى لا يلحقه أذى ولكن لما كانت المخالفة فيما بيننا والخروج عن أمر الله يسمى إيذاء له خاطبنا الله بما نعرفه في تخاطبنا. وقوله: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال مقاتل: يعني باللعنة في الدنيا: القتل والجلا وأما في الآخرة فإن الله يعذبهم بالنار فذلك قوله (¬6) ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ وهو خطأ والصواب: المشركون. (¬2) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "تفسير زاد المسير" 6/ 420 غير منسوب لأحد، الواحدي في "الوسيط" 3/ 482 وعزاه للمفسرين. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) رواه مسلم في "صحيحه" كتاب صفات المنافقين، باب: لا أحد أصبر على أذى من الله -عز وجل- 4/ 2160 رقم (2804) عن عبد الله بن قيس: قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًا ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم". (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 95 أ.

58

{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}. 58 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} قال مجاهد: يقضون فيهم بعد ما علموا، يعني: يرمونهم بما ليس فيهم (¬1). وروي أن رجلَّا شتم علقمة فقرأ هذه الآية (¬2). وقال قتادة والحسن: إياكم وأذى المؤمن فإن الله يغضب له (¬3). واختلفوا في سبب نزوله، فقال عطاء عن ابن عباس: رأى عمر -رضي الله عنه- جارية من الأنصار متبرجة فضربها وكره ما رأى من زينتها، فذهبت إلى أهلها تشكو عمر، فخرجوا إليه فآذوه، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} يريد عمر بن الخطاب (¬4). وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أن نفرًا من المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه (¬5). وقال السدي والكلبي: نزلت في أهل الفسق والفجور كانوا يتبعون الإماء بالمدينة يفجرون بهن فكانت المرأة من نساء المؤمنين تبرز للحاجة، فيتعرض لها بعض الفجار يرى أنها أمة وكان الزي واحداً فتصيح به، ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 520 ومعنى يقضون: يقذفونهم ويتهمونهم بالفجور. (¬2) انظر: "الوسيط" 3/ 482. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 45، وابن أبي حاتم 10/ 3152 كلاهما عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 657 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر، عن قتادة والواحدي في "الوسيط" 3/ 482 ونسبه لقتادة والحسن والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 580 عن قتادة والحسن. (¬4) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 207، و"تفسير زاد المسير" 6/ 421. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 95 أ، "تفسير الماوردي" 4/ 423.

59

فيذهب، فشكا المسلمون ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله هذه الآية (¬1). 59 - ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء في الزي بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} جمع الجلباب يعني ملاءة المرأة التي تشتمل بها (¬2). وذكرنا تفسير الجلباب في سورة النور [النور: 30 - 31]، قال المفسرون في قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} يغطين رءوسهن ووجوههن إلا عينًا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى من قول وهو قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (¬3) هذا قول ابن عباس وابن سيرين (¬4). قال أصحابنا: الحكم في الحرة إذا برزت لحاجة أن تلتحف حتى لا يرى منها سوى الصحيحين، وأما الأمة فإنها أيضًا يأمرها بالستر والتقنع وإن كانت لا تؤمر في ذلك الزمان. كما روى أن عمر -رضي الله عنه- أنكر على أمة رآها متقنعه (¬5). ويجوز تغير الحكم في الأزمنة بتغير أهلها ألا ترى أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ¬

_ (¬1) انظر: "الماوردي" (4/ 423) عن الكلبي، "مجمع البيان" 8/ 580، "تفسير زاد المسير" 6/ 4219. (¬2) انظر: "اللسان" 1/ 272 (جلب)، "مقاييس اللغة" (470) (حلب). (¬3) (أدنى) مكررة في (ب) وهو خطأ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 46، "ابن أبي حاتم" 10/ 3154، عن ابن عباس، "مجمع البيان" 8/ 580، ذكره السيوطي في "الدر" 6/ 659، وزاد نسبته لابن مردويه عن ابن عباس، وذكره الفراء في "معاني القرآن" 2/ 349. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 244، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 660 وعزاه لابن أبي شيبة عن أبي قلابة ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أنس.

قوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬1) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 16 - 36 - 438 - 475، 6/ 69، والدارمي في "سننه" كتاب الصلاة، باب النهي عن منع النساء من المساجد 2/ 293. (¬2) قول المؤلف -رحمه الله- إن الفتوى تتغير الزمان هذا فيما يكون من الأحكام مبنيًّا على عادة النساء وعرفهم ومن المعلوم أن الشرع المطهر أوجب ملاحظة العرف والعادة عند تطبيق الأحكام ولذلك فمما يجب على المجتهد المفتي أن يكون مطلعًا على أحوال الناس عارفًا لمجاري كلامهم في عقودهم ومعاملاتهم فتكون فتواه على حسب ذلك. ومن هنا تتغير الفتوى حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال. يقول القرافي رحمه الله فيما نقله عنه د/ عبد الله التركي في "أصول مذهب الإمام أحمد" ص 664: " إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة. اهـ وليس معنى هذا أن أحكام الشريعة ونصوصها تتغير بل أن تغير الفتوى بتغير الزمان أو المكان أو حالة الناس هو تطبيق صحيح لأحكام الشريعة ونصوصها ذلك أن الشارع الحكيم جعل تطبيق هذه الأحكام مبنيًا على العرف والعادة. يقول د/ عبد الله التركي في المصدر السابق ص 665: ولذلك أوجب العلماء على المفتين إذا جاءهم مستفت من غير بلادهم ألا يفتوه بما يفتون به أهل البلد، بل عليهم أن يسألوه عن العرف في بلده وهو يخالف عرف المفتي أو يتفق معه وهل تجدد لهم عرف إذا كان المفتي يعرف عرفهم السابق قال القرافي رحمه الله في هذا: "وهذا أمر متعين وواجب لا يختلف فيه العلماء وإن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء أن حكمهما ليس سواء". اهـ. وقد عقد ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "أعلام الموقعين" فصلا عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأعراف وقد ضرب على ذلك أمثلة كثيرة بين فيها اختلاف الحكم من زمان إلى زمان ومن حال إلى حال وما ذاك إلا لاختلاف الزمان والحال "أعلام الموقعين" 1/ 14 ولمزيد من العلم في هذه المسألة راجع الكتب التالية "إعلام الموقعين" 1/ 70، "الفروق" 1/ 44 - 47، "أصول مذهب الإمام أحمد". عبد الله التركي ص 664 - 670.

60

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: لمن اتبع [أمره رحيمًا به] (¬1) قاله ابن عباس (¬2). وقال مقاتل: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} وفي تأخير العذاب {رَحِيمًا} حين لم يعجل بالعقوبة. 60 - قال: ثم أوعدهم فقال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} عن نفاقهم. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني: الفجور (¬3)، وهم الزناة وهو قول جميع المفسرين (¬4) {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} قالوا: هم قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من أمر عدوهم ويقولون: قد أتاكم العدو ويقولون [لسرايا] (¬5) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنهم قتلوا وهزموا (¬6) وذكر الفراء أن قومًا من المؤلفة قلوبهم كانوا يرجفون بأهل الصفة ويشنعون عليهم أنهم هم الذين يتناولون النساء لأنهم عزاب (¬7)، ومعنى الإرجاف إشاعة الباطل للاغتمام به (¬8). وهذا مما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 95 ب. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 27، "تفسير الماوردي" 4/ 424، "تفسير هود بن محكم" 3/ 382، "تفسير زاد المسير" 6/ 422. (¬5) لعلها: (عن سرايا). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 48، "تفسير الماوردي" 4/ 424، "تفسير راد المسير" 6/ 422، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 662، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 2/ 349. (¬8) قال في "اللسان" (رجف) قال الليث: أرجف القوم إذا خاضوا في الأخبار السيئة وذكر الفتن، قال الله تعالى: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} وهم الذين يولدون الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب في الناس.

61

سبق تفسيره. قوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال ابن عباس: لنسلطنك عليهم (¬1)، وهو قول المفسرين وأهل المعاني (¬2). وقال مقاتل: لنحملنك على قتلهم (¬3) ومعنى الإغراءت الدعاء إلى تناول الشيء بالتحريض عليه، وقد مر (¬4). ومعنى الآية [إن لم] (¬5) ينته هؤلاء أمرناك بقتلهم حتى تقتلهم وتخلي المدينة منهم وهو قوله: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} أي: لا يساكنوك في المدينة، قال ابن عباس: لا يقيمون معك بالمدينة {إِلَّا قَلِيلًا} إلا يسيرًا حتى يهلكوا (¬6). قال الفراء: (ويجوز أن تجعل (¬7) القِلَّة من صفة الملعونين كأنك قلت إلا قليلاً ملعونين؛ لأن قوله {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} يدل على أنهم ملعونون فيعرفون) (¬8). 61 - {مَلْعُونِينَ} مطرودين مبعدين عن الرحمة وعنكم قاله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 48، "الماوردي" 4/ 424، "مجمع البيان" 8/ 51. (¬2) انظر: المصادر السابقة و"معاني القرآن وإعرابه" 4/ 236، "معاني القرآن" للفراء 2/ 349، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 379. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 95 ب. (¬4) عند تفسير قوله تعالى في سورة المائدة: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} آية: 14. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬6) ذكره الطبري 22/ 48، الواحدي في "الوسيط" 3/ 483، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 581 ولم ينسبوه لأحد ولم أقف على من نسبه لابن عباس. (¬7) في (أ): (يجعل) بالياء. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 350 وعبارة الفراء هكذا وقد يجوز أن تجعل القلة من صفتهم صفة الملعونين كأنك قلت: إلا أقلاء ملعونين؛ لأن قوله: "أينما ثقفوا أخذوا" يدك على أنهم يقلون ويتفرقون. اهـ.

62

المبرد (¬1). قال أبو إسحاق: (ملعونين منصوب على الحال لا يجاورونك إلا وهم ملعونين) (¬2) وذكر الفراء: هذا القول وقولا آخر، فقال: (ملعونين على الشتم وعلى الفعل أي لا يجاورونك فيها إلا ملعونين والشتم على الاستئناف كما قال {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] فيمن نصب تم استئناف جزاء فقال: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (¬3) أي: مبعدين حيث ثقفوا مبعدين حيث ثقفوا فجعل قوله ملعونين متصلاً بما بعده. قال أبو إسحاق: (ولا يجوز أن يكون [قوله] (¬4) ملعونين منصوبًا بما بعد أيضًا لا يجوز أن يقال ملعونًا أينما أخذ زيد يضرب؛ لأن ما بعد حروف الشرط لا تعمل فيما قبلها) (¬5) وقوله: {أُخِذُوا} قال مقاتل: (وجدوا وأدركوا): {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} قال يعني خذوهم واقتلوهم) (¬6). وقال المبرد: (أي الحكم فيهم هذا على جهة الأمر كما قال "العقرب يقتل" أي: هذا الحكم فيها) (¬7). 62 - قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ} الآية قال أبو إسحاق: (المعنى سن ¬

_ (¬1) لم أقف على قول المبرد. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 236. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 349 - 350. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 236. (¬6) لم أقف عليه وليس في "تفسير مقاتل". (¬7) انظر: قول المبرد وفي "تفسير القرطبي" 14/ 47، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 423، ولم ينسبه لأحد.

63

الله في الذين بنافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيث ما ثقفوا) (¬1). وهذا معنى قول المفسرين في هذه الآية (¬2). 63 - قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} قال الكلبي: إن أهل مكة سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة وعن قيامها فنزلت هذه الآية (¬3). وقال مقاتل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب فسأله رجل عن الساعة فأوحى الله إليه [فقال] (¬4) (¬5): {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} (¬6). ونظير هذه الآية في الأعراف [آية: 187]. قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} يقال: دريت الشيء عرفته وأدريته غيري إذا أعلمته ولا معنى أي شيء يعلمك علم الساعة حتى يكون قيامها أي [أنت] (¬7) لا تعرفه. ثم قال: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} والباقي ظاهر إلى قوله: 67 - {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} (وساده جمع سيد وهو فعله مثل كتبة وفجرة ووجه الجمع بالألف والتاء أنهم قالوا الجُرُزات (¬8) والطرقات ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 236. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 49، "تفسير الماوردي" 4/ 425، "مجمع البيان" 8/ 581، "تفسير زاد المسير" 6/ 423 "تفسير هود بن محكم" 3/ 383. (¬3) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي وقد ذكر السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 61 قريبًا منه غير منسوب لأحد، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 493. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط في (ب). (¬5) في (أ): (فقل)، وهو خطأ. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 96 أ. (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬8) في (ب): (الجردات).

68

والمعنات في [جمع معن] (¬1) جمع معين فكذلك يجوز في هذا الجمع سادات، قال أبو الحسن: ولا يكادون يقولون سادات قال وهي عربية) (¬2). قال الكلبي: قالوا ربنا أطعنا أشرافنا وعظماءنا فأزالونا عن طريق الهدى (¬3). وقال مقاتل: أطعنا سادتنا في الشرف وكبراءنا وذوي الأسنان منا قال وهم المطعمون (¬4) في غزوة بدر (¬5). {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} الهدى وهو التوحيد، والتقدير: أضلونا عن السبيل فلما حذف الجار وصار الفعل والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر كقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان: 29] قال أبو عبيدة: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} أضلونا عن السبيل (¬6). وذكرنا الكلام في نحو قوله: السبيلا والرسولا في أول السورة (¬7). 68 - ثم قالت الأتباع: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} يعنون: القادة والرؤساء أي: عذبهم مثل عذابنا (¬8) قوله تعالى: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ وهو في "الحجة": معين فيما بين المعقوفين زيادة من النساخ. (¬2) "الحجة" 6/ 480. (¬3) لم أقف على من نسبه للكلبي وقد ذكره "الماوردي" 4/ 4235، والواحدي في "الوسيط" 3/ 483، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 424. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: المطعمون كما في "تفسير مقاتل". (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 96 أ. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 141 وعبارة أبي عبيدة: أضلني عن السبيل، ومجازه عن الحق والدين. (¬7) عند الآية 10. (¬8) هكذا في النسخ والظاهر أنه خطأ؛ لأنه عذاب القادة إذا كان مثل عذاب الأتباع فليس ضعفين وإنما هو مثله وليس كذلك معنى الآية فلعل الكلام مثلي عذابنا.

69

قال مقاتل: يعني: اللعن علي أثر اللعن (¬1). وقرأ عاصم كبيرًا بالياء على وصف اللعن بالكبر وهو العظم والثاء أشبه بالمعنى؛ لأنهم يلعنون مرة بعد مرة وقد جاء {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] فالكثرة أشبه بالمرار المتكررة من الكبر (¬2). [مع ما ذكرنا من تفسير (¬3) مقاتل] ويشهد لصحة قراءة عاصم قول الكلبي في تفسير: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} يقول عذبهم عذابًا كبيرًا (¬4). 69 - وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قال مقاتل: وعظ الله المؤمنين ألا يؤذوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقولهم زيد بن محمد فإن ذلك أذى له كما آذت بنو إسرائيل موسى فزعموا أنه آدر وذلك أن موسى كان فيه حياء شديد وكان لا يغتسل إلا وعليه إزار وكانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، فقالوا ما يمنع موسى أن يتجرد كما نتجرد إلا أنه آدر فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام واستتر بصخرة فوضع ثيابه عليها [ففرت] (¬5) الصخرة بثيابه فاتبعها موسى متجردًا حتى انتهى إلى [ملأ من] (¬6) بني إسرائيل فنظرت إليه [بنو إسرائيل فإذا هو من أحسن (¬7) خلقًا وأعدله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 96 أ. (¬2) "الحجة" 5/ 481. (¬3) هكذا في النسخ والذي يظهر أن ما بين المعقوفين زيادة من النساخ إذ لا معنى لها فهي خطأ والله أعلم. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬6) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬7) هكذا في النسخ وقد سقطت كلمة الرجال ففي بعض روايات الحديث من أحسن الرجال خلقًا.

70

صورة وليس به] (¬1) الذي قالوا فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [وهذا قول ابن عباس] (¬2) والحسن والمفسرين وروي ذلك مرفوعًا عن أبي هريرة بطرق كثيرة (¬3). قوله تعالى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} الوجيه ذو الوجاهة [يقال] (¬4) وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذا جاء (¬5)، وقد قال ابن عباس: [كان (¬6) عند الله] حظيًا لا يسأله شيئاً إلا أعطاه (¬7). وقال الحسن: كان مستجاب الدعوة (¬8). وقال مقاتل: يعني مكينا (¬9). 70 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} قال الليث: يقال: قل قولًا سددًا أو سديدًا أي صوابًا [والسدد مقصور] (¬10) من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬2) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 96 أ، "تفسير الطبري" 22/ 51، "تفسير الماوردي" 4/ 427، "تفسير كتاب الله لهود من محكم" 3/ 384، "مجمع البيان" 8/ 583، "تفسير زاد المسير" 6/ 425. والحديث رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الاغتسال، باب: من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة 1/ 789 ومسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى -عليه السلام- 4/ 1841. (¬4) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬5) انظر: "لسان العرب" 13/ 558 (وجه). (¬6) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬7) انظر: "الماوردي" 4/ 427، "مجمع البيان" 8/ 583، "زاد المسير" 6/ 425. (¬8) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 427، وذكره الواحدي في "الوسيط" 3/ 484. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 96 ب. (¬10) ما بين المعقوفين طمس في (ب).

السداد (¬1) وأنشد لكعب: ماذا عليها وماذا كان ينقصها ... يوم الترحل لو قالت لنا سددا (¬2) وقال شمر: السداد الإصابة في المنطق، يقال: إنه لذو سداد في منطقه وتدبيره ورميه إذا كان مصيبًا. ويقال سديد إذا أتى السداد (¬3). قال ابن عباس: قوله: {سَدِيدًا} صوابًا (¬4). وقال الحسن: صادقًا (¬5). وقال مقاتل: عدلًا وهو التوحيد (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد شهادة ألا إله إلا الله (¬7). وقال عكرمة والكلبي: هو ألا إله إلا الله (¬8). ومعنى الآية: هو أن الله أمر المؤمنين بالتوحيد والتقوى ووعد عليهما ¬

_ (¬1) لم أقف على قول الليث. (¬2) البيت من البسيط وهو مختلف في نسبته فهو لكعب كما قال المؤلف وكذا هو منسوب في كتاب: "العين" 7/ 184، و"الأفعال" 3/ 550، و"أساس البلاغة" ص 206 (سدد). وللأعشى في "لسان العرب" 3/ 210 (سدد). وليس في "ديوان الأعشى" ولا في "ديوان كعب بن زهير" ولا "كعب بن مالك". (¬3) "تهذيب اللغة" 12/ 276 (سدد). (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 428، "تفسير القرطبي" 14/ 353، "تفسير زاد المسير" 6/ 427. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 53، وعزاه الكلبي، و"تفسير الماوردي" 4/ 428، "تفسير زاد المسير" 6/ 427 عن الحسن. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 96 ب. (¬7) انظر: "تفسير راد المسير" 6/ 427، "تفسير القرطبي" 14/ 353. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 53، "تفسير الماوردي" 4/ 428، "مجمع البيان" 8/ 584.

71

أن يصلح أعمالهم فقال: 71 - {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم (¬1). قال مقاتل: يزكي أعمالكم (¬2). 72 - قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} (¬3) قال ابن عباس: الأمانة الفرائض التي افترضها الله على العباد (¬4). وقال الحسن: هو الدين، فالدين كله أمانة (¬5). وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به وما نهوا عنه (¬6). وقال مقاتل: الأمانة هي الطاعة (¬7). والأمانة في هذه الآية في قول جميعهم: الطاعة والفرائض التي (¬8) يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب (¬9). وروى زيد بن أسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الأمانة ثلاثة: الصلاة ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 484، "مجمع البيان" 8/ 584، "تفسير زاد المسير" 6/ 427. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 96 ب. (¬3) قوله: (والجبال) ساقط من (ب) وهو خطأ. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 54. "تفسير الماوردي" 4/ 428، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 384، "مجمع البيان" 8/ 584. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 428. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 428، "مجمع البيان" 8/ 584، وذكره السيوطي في "الدر" 6/ 668، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 96 ب. (¬8) في (ب): (الذي). (¬9) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 57، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 384، "تفسير زاد المسير" 6/ 428، "تفسير القرطبي" 14/ 254.

والصيام والغسل من الجنابة" (¬1). وروي عن الحسن في هذه الآية قال: عرضت الأمانة على السموات السبع الطباق التي زينت بالنجوم وحملت العرش العظيم، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قلن (¬2) لها: إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتم. قلن: لا، ثم عرضت على الأرضين السبع اللاتي شددن بالأوتاد وذللت للمهاد وأسكنت العباد، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قلن لها (¬3): إن أحسنتن جزيتنن وإن أسأتن عوقبتن (¬4). قلن: لا، ثم عرضت على الجبال الصم الشم الشوامخ البوادخ الصلاب الصعاب، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن اْحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا. فذلك قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}. وقال ابن جريج: قالت السموات: يا رب خلقتني وجعلتني سقفا محفوظًا، وأجريت في الشمس والقمر، لا أتحمل فريضة ولا أبتغي ثوابًا ولا عقابًا (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 102، وفي "تفسير البغوي" 6/ 380 عنه الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع. وقد رجح الطبري رحمه الله في "تفسيره" 22/ 57 أن المراد بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص بقوله {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} بعض معاني الأمانات. (¬2) كذا في النسخ وهي في "الوسيط" قبل لهن. (¬3) في (ب): (وإن أسأتن جوزيتن عقوبتين)، وهو خطأ. (¬4) لم أقف عليه وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3160 نحو هذا القول عن مجاهد. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" 10/ 3159 عن ابن جريح.

وقال مقاتل بن حيان: بدأ الله بالسموات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة، فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة ولكن علي الفضل والكرامة والثواب في الجنة؟ قلن: يا رب إنا لا نستطيع هذا الأمر وليست بنا قوة ولكنا لك مطيعون. وقال للأرض مثل ذلك، فقالت: لا صبر لنا على هذه يا رب ولا نطيقه، ولكنا لك سامعون مطيعون ولا نعصيك في شيء تأمرنا به. ثم قربت الجبال كلها فقلن مثل ذلك وهذا قول جميع المفسرين (¬1). وعلى هذا يكون العرض على أعيان هذه الأشياء بأن ركب الله تعالى فيهن العقول ويفهمن (¬2) خطابهن حتى فهمن ونطقن بالجواب، ومعنى قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} أي: مخافة وخشية، لا معصية ومخالفة، والعرض كان تخييرًا لا لزامًا. قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} قال ابن عباس: قال الله لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها أفتحملها أنت [بما فيها] (¬3)؟ قال: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت (¬4). قال: فأنا أتحملها بما فيها، فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين الأولى والعصر حتى أخرجه الشيطان منها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 53، وما بعدها، "تفسير الماوردي" 4/ 429، "تفسير القرطبي" 14/ 253، "مجمع البيان" 8/ 586، "تفسير زاد المسير" 6/ 428. (¬2) هكذا في النسخ، والذي يظهر أنه خطأ، والصواب هو كما في "الوسيط" 3/ 484 أفهمهن خطابه. (¬3) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬4) في (ب): (عوقبتم). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 54، "تفسير القرطبي" 14/ 253، "تفسير زاد المسير" 6/ 427.

وقال في رو اية عطاء: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} يريد آدم -عليه السلام-، عرض عليه أداء الفرائض والصلوات الخمس في مواقيتها، وأداء الزكاة عند محلها، وصام رمضان وحج البيت، على أن له الثواب وعليه العقاب، فقال: بين أذني وعاتقي (¬1). وقال ابن حيان: قال الله تعالى لآدم: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: وما لي عندك؟ قال: إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فذلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت وأسأت فإني معذبك ومعاقبك. قال: قد رضيت ربي وتحملها، فقال الله قد حملتها فذلك قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (¬2). وقال ابن عثمان: عرضت على آدم الطاعة والمعصية وعرف ثواب الطاعة وعقاب المعصية (¬3) قوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، قال الكلبي: ظلمه حين عصى ربه فأخرج من الجنة وجهله حين احتملها (¬4). وقال المقاتلان: ظلومًا لنفسه جهولًا بعاقبة ما تحمل (¬5). وهذا معنى قول المفسرين. ¬

_ (¬1) ذكره الطبري نحوه عن ابن زيد الطبري 22/ 55، ولم أقف على رواية عطاء عن ابن عباس. (¬2) ذكره ابن أبي حاتم 10/ 3160 عن مجاهد، وابن كثير 5/ 524 وعزاه لابن أبي حاتم. (¬3) لم أقف عليه. وقد ذكر القرطبي في "تفسيره" 14/ 253 نحو هذا القول عن ابن عباس. (¬4) لم أقف عليه وانظر: المصدر السابق. (¬5) لم أقف على قول ابن حبان، وانظر: قول ابن سليمان في "تفسيره" 96 ب.

وقال قتادة: ظلومًا للأمانة جهولًا بحقها (¬1). هذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآية مذهب الجمهور أهل التفسير، وقال السدي: الأمانة هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده وخيانته إياه في قتل أخيه، وذلك أن الله تعالى قال لآدم إن لي بيتًا بمكة فأته. قال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، فقال لقابيل، قال: نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك، فانطلق آدم ثم رجع وقد قتل قابيل هابيل (¬2). وقال أبو إسحاق: حقيقة تفسير هذه الآية -والله أعلم- أن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترض عليهم من طاعته، وائتمن السموات والأرض والجبال بقول: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فعرفنا الله أن السموات والأرض لم تحمل الأمانة أي: [أدتها] (¬3) فكل من خان الأمانة فقد حملها وكذلك من أثم فقد حمل الإثم ويسمى حاملًا للإثم والسموات والأرض أبين أن يحملن الأمانة وأديتها وأداؤهما طاعتهما فيما أمر الله به وترك المعصية، وحملها الإنسان، قال الحسن: أراد الكافر والمنافق حملا الأمانة أي: خانا ولم يطيعا، قال: فهذا المعنى والله أعلم صحيح، ومن أطاع الأنبياء والصديقين والمؤمنين لا يقال ظلومًا جهولًا وتصديق ذلك ما يتلو هذا من قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ} (¬4). قال الأزهري: [وما علمت أحد شرح في هذه الآية ما شرحه أبو ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 430. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 56 - 57، "تفسير زاد المسير" 6/ 428. (¬3) ما بين المعقوفين طمس في جميع النسخ والتصويب من "معاني القرآن وإعرابه". (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 238 باختصار واختلاف في العبارة.

73

إسحاق قال: ومما يؤيد قوله (¬1) في حمل الأمانة أنه خيانتها وترك أدائها قول الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع) (¬2) (¬3) أراد بقوله: وتحمل أخرى أي: تخونها فلا تؤدها يدلك على ذلك قوله أفرحتك الودائع أي: أثقل ظهرك الأمانات التي تخونها ولا تؤديها، قال أبو علي: وحملها الإنسان أي: لم يؤدها؛ لأن حمل الحامل الشيء إمساك له وخلاف لأدائه وكأنه لم يؤد الأمانة (¬4). 73 - قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} قال المقاتلان: ليعذبهم الله بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل ونقضوا الميثاق الذي أقروا به حين أخرجهم من ظهر آدم {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بأدائهم الأمانة ووفائهم بالعهد والميثاق (¬5). وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ} إلى قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ} فقالا: هؤلاء الذين خانوهما وهم الذين ظلموها (¬6). {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هؤلاء أدوها. وقال ابن قتيبة: ¬

_ (¬1) في (أ): قلبه. وهو خطأ. (¬2) "تهذيب اللغة" 5/ 93. (¬3) البيت من الطويل وهو لبيهس العذري في "لسان العرب" 2/ 541 (فرح)، و"التنبيه والإيضاح" 1/ 258، "تاج العروس" 17/ 13 (فرح). وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 5/ 93، "المخصص" 12/ 314. (¬4) "الحجة" 5/ 246. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 96/ ب، "تفسير الماوردي" 4/ 430. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 58، "مجمع البيان" 8/ 587، "تفسير هود" 3/ 386.

أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشارك (¬1) فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه) (¬2) أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في نقص الطاعات، ولذلك ذكرنا بلفظ التوبة وخص بالعذاب والمشرك فدل أن المؤمن العاص في خارج من العذاب وداخل في قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} غفورًا للمؤمنين رحيمًا بهم قاله ابن عباس ومقاتل (¬3). والله تعالى أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ وهو عند ابن قتيبة: المشرك. (¬2) انظر: "مشكل القرآن" ص 82. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 427 بهامش المصحف، "تفسير مقاتل" 96/ ب.

سورة سبأ

سورة سبأ

سورة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: له كل ذلك خلقًا وملكًا. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}، قال ابن عباس: يريد حيث لا يحمد أحد (¬1) غيره. وقال مقاتل: يعني يحمده أولياؤه في الآخرة، إذا دخلوا الجنة، فقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، والحمد لله الذي هدانا لهذا (¬2). {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} قال ابن عباس: حكيم في خلقه أن يميتهم ثم يحييهم، الخبير لمن أطاعه ومن عصاه (¬3). وقال قتادة: حكيم في أمره خبير بخلقه (¬4). 2 - {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} يدخل. {فِي الْأَرْضِ} من (¬5) مطر أو كنزاً (¬6). قاله ¬

_ (¬1) في (أ): (أحدًا)، وهو خطأ؛ لأنه نائب فاعل. ولم أقف على القول منسوبًا لابن عباس. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 96 ب. (¬3) لم أقف عليه. وهكذا جاء في النسخ! ولعل الصواب: الخبير لمن أطاعه؛ لأنه يتعدى بالباء. (¬4) ذكره الماوردي 4/ 432 غيرمنسوب لأحد، والمؤلف في "الوسيط" 3/ 486. (¬5) (من) ساقطة من (ب). (¬6) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: أو كنز.

3

الكلبي وغيره (¬1). {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من زرع ونبات. {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من مطر أو مصيبة أو رزق. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الملائكة وأشباه ذلك من أعمال العباد. {وَهُوَ الرَّحِيمُ} بأوليائه. {الْغَفُورُ} لذنوبهم ومساوئهم. قاله ابن عباس (¬2). 3 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} قال مقاتل: (قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا، أي: لا نبعث، فلما حلف على ذلك بالأصنام قال الله لنبيه: قل يا محمد: بلى وربي لتأتينكم الساعة) (¬3) ثم عاد إلى تمجيد نفسه فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ} قال أبو إسحاق: (الرفع على وجهين: أحدهما: الابتداء، ويكون {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} الخبر، والثاني: على جهة المدح لله -عز وجل-، المعنى هو عالم الغيب. ومن قرأ بالكسر فهو صفة لله -عز وجل-، على تقدير: الحمد لله عالم) (¬4). وقرأ حمزة والكسائي: "علام الغيب" على المبالغة لقوله: علام الغيوب (¬5). وباقي الآية مفسر في سورة يونس (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 432. وذكره غير منسوب: السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 64، الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 590، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 432. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وذكره غير منسوب: الماوردي 4/ 432، الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 590، "زاد المسير" 6/ 432. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 240. (¬5) انظر: "الحجة" 6/ 5، "علل القراءات" 2/ 547، "الحجة في القراءات السبع" ص 291. (¬6) عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} آية: 61.

4

4 - قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال مقاتل: لكي يجزي في الساعة الذين آمنوا (¬1). قال أبو إسحاق: (دخلت اللام جوابًا لقوله: {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}. {لِيَجْزِيَ} أي: للمجازاة، يعني: من أجل المجازاة) (¬2). 5 - ثم بين جزاء الفريقين فقال: {أُولَئِكَ} يعني الذين آمنوا إلى قوله: {رِجْزٍ أَلِيمٌ}. وقرئ: أليم، رفعا وخفضًا. قال أبو إسحاق: (الخفض نعت للرجز، والرفع نعت للعذاب) (¬3). قال أبو علي: (الرجز: العذاب؛ بدلالة قوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134]، وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59]. وإذا كان العذاب، جاز أن يوصف بأليم كما أن نفس العذاب قد جاز أن يوصف به، ومن رفع فهو على نعت قوله: {عَذَابٌ}، ومثل هذا في أن الصفة تجري في المضاف، وعلى المضاف إليه أُجري قوله: {ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} و (خُضر) فالرفع على أن يتبع الثياب، والجر على أن يتبع السندس، وإذا كان الثياب سندسًا، والسندس خضر، فالثياب كذلك، وتقدير قوله: {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ} عذاب رجز، كما أن قوله: {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} معناه: ثياب من سندس. والجر في الأليم أبين؛ لأنه إذا كان عذاب من عذاب أليم كان العذاب الأول أليمًا، وإذا أجريت الأليم على العذاب كان المعنى عذاب، فالأول أكثر فائدة) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 240 (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 241 (¬4) "الحجة" 6/ 6.

6

6 - قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال الفراء: يرى في موضع نصب معناه: ليجزي الذين وليرى الذين (¬1). ونحو هذا قال أبو إسحاق (¬2). وليس المعنى ما ذكر؛ لأن اللام في قوله: {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} على ما بيناه، ولا يجوز أن يكون المعنى: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم (¬3) وإن لم تأتهم الساعة يرون القرآن حق (¬4). قال الفراء: وإن شئت استأنفت ويرى (¬5) فرفعتها (¬6). وهذا هو الوجه لا ما قاله أولاً. ومعنى الرؤية هاهنا العلم، قال مقاتل: (يعني: ويعلم الذين أوتوا العلم بالله، يعني: مؤمني أهل الكتاب) (¬7). وقال ابن عباس: يريد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬8). وقوله: {هُوَ الْحَقَّ} هو فعل عند البصريين، وشمميه الكوفيون عمادًا، وقد بينا الكلام فيه عند قوله: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]. قال الفراء: ¬

_ (¬1) "معانى القرآن" 2/ 352 (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 240. (¬3) في (ب): كرر قوله: (فإنهم)، وفي (أ): كرر الجملة: (فإنهم وإن لم تأتهم الساعة يرون القرآن حق). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 656، "البحر المحيط" 8/ 521، "الدر المصون" 5/ 430. (¬5) في (أ): (ترى)، وهو خطأ. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 352. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ. (¬8) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وقد ذكره أكثر المفسرين عن قتادة. انظر: "الوسيط" 3/ 487، "تفسير الماوردي" 4/ 433، "تفسير الطبرسي" 8/ 593، "زاد المسير" 6/ 433.

7

(ولو رفعت الحق على أن تجعل هو اسما كان صوابًا، أنشد الكسائي: ليت الشباب هو الرجيع (¬1) على الفتى ... والشيب كان هو البديء الأول (¬2) فرفع ونصب في بيت واحد) (¬3). قوله: {وَيَهْدِي} معناه: الهادي، ولفظ المستقبل كثيرًا ما يراد به لفظ الحال، يقول: تعلمون الحق القرآن الحق الهادي. {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قال مقاتل: ويدعو إلى دين العزيز في ملكه، الحميد عند خلقه في سلطانه (¬4). وقال الكلبي: يعني المنيع بالنعمة ممن لم يجب الرسل، المحمود في أفعاله (¬5). 7 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: منكري البعث. قال أبو إسحاق: (هذا قول المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، قال بعضهم لبعض: هل ندلكم على محمد الذي يزعم أنكم تبعثون بعد أن تكونوا عظامًا ورفاتًا وترابًا) (¬6). وهذا الذي ذكره موافق لما قاله المفسرون (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (الرجع). (¬2) البيت من الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في: "معاني القرآن" للفراء 2/ 352، "الزاهر" 2/ 224، "الدر المصون" 6/ 43، "الجنى الداني" ص 493 بلا نسبة. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 352، وقوله: فرفع ونصب، يعني رفع في كان، ونصب في ليت، فالمرفوع هو البديء، والمنصوب الشباب. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 241. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 60، "تفسير الماوردي" 4/ 434، "مجمع البيان" 8/ 593، "بحر العلوم" 3/ 66

ومعنى: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (¬1) إذا صار (¬2) قطعًا باليًا، قال: فرقتم كل تفريق وقطعتم كل تقطيع، والمزف خرف الأشياء، والتمزيق تفعيل منه، يقال: ثوب مزيق ممزوق متمزق ممزق إذا صار قطعًا باليًا (¬3). قال ابن عباس: يريد إذا متم وبليتم (¬4). وقال مقاتل: إذا تفرقتم في الأرض وذهبت الجلود والعظام وكنتم ترابًا، وهذا من قول أبي سفيان يقوله لكفار مكة (¬5). قال أبو إسحاق: وفي هذه الآية نظير في العربية لطيف، ونحن نشرحه إن شاء الله. {إِذَا} في موضع نصب بمزقتم، ولا يجوز أن يعمل فيها جديد؛ لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها، والتأويل: هل ندلكم على رجل يقول لكم إذا مزقتم تبعثون، ويكون إذا بمنزلة إن الجزاء يعمل فيها الذي يليها. قال قيس بن الخطيم: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب المعنى: يكون وصلها، الدليل على ذلك جزم فنضارب، قال: ويجوز أن يكون العامل في إذا مضمر، يدل عليه أنكم لفي خلق جديد، ويكون المعنى: هل ندلكم على رجل يقول إنكم إذا مزقتم كل ممزق ¬

_ (¬1) (إذا) ساقط من (أ). (¬2) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: إذا صرتم. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (مزق)، "اللسان" 10/ 342 (مزق). (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس. انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 434، "مجمع البيان" 8/ 593، "زاد المسير" 6/ 434. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ.

بعثتم، كما قال: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82، الصافات: 16] كأنهم قالوا: أئذا متنا وكنا ترابًا نحاسب ونعذب! قال: ويجوز إنكم لفي خلق جديد؛ لأن اللام إذا جاءت لم يجز [كسر] (¬1) إن، انتهى كلامه (¬2). قال أبو علي الفارسي: (يسأل في هذه الآية عن موضع إذا، وبأي الأفعال يحكم على موضعه، وفي الآية مما يمكن أن ينتصب به الظروف ثلاثة أشياء: قوله: {يُنَبِّئُكُمْ}، وقوله: {مُزِّقْتُمْ}، وقوله: {خَلْقٍ جَدِيد}، فلا يجوز أن يكون موضع إذا نصبًا بقوله: {يُنَبِّئُكُمْ}؛ لأن إذا لا يجوز أن تكون ظرفًا لهذا الفعل؛ لأن التنبؤ إنما تقع مثل (¬3) الموت وأن يمزقوا بعد الموت، فامتنع أن ينتصب إذا به، وحمل ينبئكم على أنه بمعنى القول؛ لأنه ضرب منه. فأما قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ} فإن جعل موضع إذا نصبا به لزم أن يحكم على موضعه بالجزم (¬4)؛ لأن إذا هذه لا يجوز أن تنتصب به حتى يقدر جزم الفعل الذي هو الشرط [بها] (¬5) بما لا يسوغ أن يحمل عليه الكتاب؛ لأنه إنما يجزم بها في ضرورة الشعر، وإذا لم يجر (¬6) بها أضيف إلى الفعل، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 241 - 242. (¬3) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: "قبل". (¬4) في (ب): (لزم أن يحكم عليه بالجزم). (¬5) "بها" ساقطة من (ب)، "وبما" ساقطة من (أ). (¬6) هنا سقط في النقل عن أبي علي، فكلام أبي على كما في "المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات" ص 214، جاء هكذا: "إنما يجزم بها في ضرورة الشعر، =

والمضاف إليه لا يعمل في الضاف ولا فيما قبله، وموضع الفعل الواقع بعد إذا خفض، وكما لا يعمل (¬1) المضاف إليه فيما قبله كذلك لا يجوز أن يكون موضع إذا نصبا بمزقتم إذا كانت قبلها وحتى مضافة إليها. ولو قلت: زيدًا غلام ضارب عندك لم يجز، وكذلك سائر ما يتعلق بالمضاف إليه لا يجوز أن يتقدمه. ومما يدل على أن موضع الفعل بعد إذا خفض الإضافة ارتفاع الفعل المضارع بعدها، نحو: إذا يجيء زيد أكرمه، والفعل المضارع ليس يرتفع حتى يقع موقع اسم مرفوع أو مجرور أو منصوب، وهذا علة ارتفاعه، وإنما ارتفع بعد إذا لوقوعه موقع اسم مجرور، ولا يجوز أن يكون موضع إذا نصب بقوله جديد على تقدير: إنكم لفي خلق جديد إذا مزقتم؛ لأن إذا قبل إن، وما قبل أن لا يجوز أن يعمل فيه ما بعدها، لا يجوز: طعامك إن زيدًا أكل؛ لأن إن للابتداء فهو منقطع عما قبله، وإذا امتنع هذه الوجوه فالناصب لـ (إذا) مضمر يدل عليه قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} كأنه في التقدير: ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق بعثتم أو نشرتم أو ما أشبه هذا من الأفعال التي يكون قوله: إنكم لفي خلق جديد دالًا عليه ومفسرًا له. وإن قدر هذا الفعل قبل إذا كان سابقًا، فيكون ينبئكم يقول لكم تبعثون إذا مزقتم كل ممزق. قال: وقد أجاز شيخ لنا -يعني: السراج- (¬2) أن يكون ¬

_ = وإن حمل موضع (إذا) على أنه نصب والفعل غير مقدر في موضعه الجزم لم يجز؛ لأنه إذا لم يجاز بها أضيفت إلى الفعل والمضاف إليه لا يعمل .. ". (¬1) في (أ): (يفعل). (¬2) هو: أبو محمد جعفر بن محمد بن الحسين بن أحمد البغدادي السراج القارئ، أديب عالم بالقراءات والنحو واللغة، ولد سنة 417 هـ. وقيل: 419 له مؤلفات منها: "مصارع العشاق،" و"مناقب الحبش"، ونظم كتاب الخرقي في فقه الحنابلة جعله نظما، توفي رحمه الله سنة 500 هـ. =

8

موضح إذا نصبًا بمزقتم) (¬1) وهو عندي ممتنع لما ذكرت لك. ومثل هذا عندي قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} (¬2) الآية، وقد تقدم الكلام فيها. 8 - قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} هذا أيضًا من قول الكفار بعضهم لبعض، قالوا: افترى محمد على الله كذبًا حين زعم أنا نبعث بعد الموت، والألف في {أَفْتَرَى} ألف الاستفهاء، وهو استفهام تعجب وإنكار {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} يقولون: أزعم كذبًا أم به جنون، فرد الله عليهم فقال: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: ليس الأمر على ما قالوا من الافتراء والجنون، هم لأجل ما قالوا {فِي الْعَذَابِ} في الآخرة، {وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} من الحق في الدنيا. وهذا الذي ذكرنا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي (¬3). 9 - وفي هذه الآية وعظهم وخوفهم ليعتبروا فقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} قال مقاتل: وذلك أن الإنسان حيث ما نظر رأى السماء والأرض، إن نظر قدامه وإن نظر خلفه (¬4). ¬

_ = انظر: "إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين" ص 75، "سير أعلام النبلاء" 19/ 228، "الأعلام" 2/ 121. (¬1) "المسائل البغداديات" ص 213/ 218. (¬2) سورة المؤمنون: 101. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 429، انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ. والقول غير منسوب لأحد عند: "تفسير الماوردي" 4/ 434، "بحر العلوم" 3/ 67، "مجمع البيان" 8/ 593. (¬4) لم أقف عليه عن مقاتل. وقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 435، ولم ينسبه.

وقال قتادة: إنك إذا نظرت عن يمينك وعن (¬1) شمالك أو من بين يديك أو من خلفك كانت السماء والأرض (¬2). ثم هددهم فقال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} فتبتلعهم. {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا} يعني: جانبًا. {مِنَ السَّمَاءِ} فيهلكهم. والمعنى أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، أنا القادر عليهم لا يعجزونني، إن شئت خسفت بهم أرضي، وإن شئت أسقطت عليهم قطعة من السماء، أفلا يعتبرون ولا يخافون. وأدغم الكسائي (¬3) وحده الفاء من قوله: {نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ}. قال أبو علي: (إدغام الفاء في الباء لا يجوز، فإن جاز إدغام الباء في الفاء نحو: أذهب في ذلك، وذلك أن الفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الشفايا العليا، فانحدرت الصوت إلى الفم حتى اتصلت بمخرج الباء صارت بمنزلة حرف من موضع التاء، فلم يجز إدغامها في الباء كما لا يجوز إدغام التاء فيه؛ لزيادة صوت الفاء على صوت التاء. وكذلك الباء (¬4) أدغمت في الميم نحو: اصحب مطرًا، وإن لم تدغم هي في الباء نحو: اضمم بكرا، لما فيها من زيادة الغنة التي ليست في التاء. وكذلك الراء لم تدغم في اللام نحو: احتر ليلة، وإن كانت اللام أدغمت في الراء نحو: اغسل راحتك، فما كان من الحروف فيه زيادة وصوت لم يجز إدغامه في مقاربه العادي من تلك، كذلك الفاء مع الباء. ¬

_ (¬1) في (ب): (أو عن)، زيادة همزة. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 434، "الطبري" 22/ 64، "بحر العلوم" 3/ 67. (¬3) انظر: "الحجة في القراءات السبع" ص 292. (¬4) في (ب): (التاء).

10

اختلفوا في النون من قوله: (نشأ نخسف) أو (نسقط)؛ فقرأ حمزة والكسائي: بالياء، في الأحرف الثلاثة؛ لقوله: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، والباقون؛ بالنون لقوله فيما بعد: {آتَيْنَا دَاوُودَ}، والنون أشبه بآتينا) (¬1). قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: فيما يرون من السماء والأرض، لآية تدل على قدرة الله على البعث، وعلى ما يشاء من الخسف بهم وإهلاكهم. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} قال ابن عباس: راجع إلى مرضات الله (¬2). وقال قتادة: تائب (¬3). وقال السدي: مقبل إلى طاعة الله (¬4). وقال أبو إسحاق: (إن في ذلك علامة تدل على من أناب إلى الله وتأمل ما خلق على أنه قادر على أن يحي الموتى) (¬5). 10 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} أي: أعطيناه من عندنا فضلاً. قال ابن عباس: يريد تفضلت عليه وأعطيته ما لم أعط أحدًا قبله ولا بعده (¬6). وقال مقاتل: يعني بالفضل: النبوة والكتاب (¬7). قال الكلبي: يعني: النبوة وما أعطي من الدنيا (¬8). قوله: {يَا جِبَالُ}، ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 7 - 8. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 429، قال: مقبل إلى الله وإلى طاعته. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 64، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 394. (¬4) لم أقف عليه عن السدي. وقد ذكر "تفسير الماوردي" 4/ 435 نحوه عن قتادة، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 435، ولم ينسبه. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 242. (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس. وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 435 نحوه، ولم ينسبه. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب. (¬8) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي، وقد ذكره أكثر المفسرين غير منسوب. انظر: "تفسير =

قال أبو عبيدة والزجاج: هو مختصر، المعنى: وقلنا يا جبال {أَوِّبِي مَعَهُ} ورجعي التسبيح (¬1). قال المفسرون كلهم: سبحي معه. قال أبو إسحاق: أوبي معه معناه: رجعى، يقال: آب يؤوب إذا رجع ومعنى رجعي معه أي: سبحي معه ورجعي التسبيح (¬2). وقال غيره: التأويب في كلام العرب. سير النهار كله إلى الليل، يقال: أوب تأويبًا، والمعنى: يا جبال أوبي النهار كله إلى الليل بالتسبيح (¬3). قال سلامة بن جندل: يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب وروى أبو عبيد عن أبي عمرو: التأويب أن يسير النهار وينزل الليل (¬4). وهذا اختيار ابن قتيبة، (وأنشد للراعي فقال: لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح (¬5) ¬

_ = الماوردي" 4/ 435، "مجمع البيان" 8/ 597، "تفسير القرطبي" 14/ 264، "زاد المسير" 6/ 435. (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 142، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 243. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 243. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 608 (آب)، "اللسان" 1/ 220 (أوب)،"مجاز القرآن" 2/ 142. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 608 (آب). (¬5) البيت من الطويل، وهو للراعي النميري في "ديوانه" ص 39، ونسبه ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص 353، لابن مقبل. وكذا أبو حيان في "البحر" 7/ 63، والقرطبي في "تفسيره" 14/ 265، والثعلبي في "الكشف والبيان" 30/ 211 ب.

قال: كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل) (¬1). قال المفسرون: وكانت إذا سبح داود سبحت الجبال معه (¬2). وقال وهب (¬3): كان داود إذا نادى أجابته الجبال بصداها، فصدى الجبل الذي يستمعه الناس من ذاك (¬4). قوله -عز وجل-: {وَالطَّيْرَ} قال أبو إسحاق: (في نصب والطير ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عطفًا على قوله فضلا (¬5)، كأنه آتينا داود فضلا والطير، أي: وسخرنا له الطير) (¬6). وروى هذا يونس عن أبي عمرو (¬7). وقال الفراء في هذا الوجه هو كقولك: أطعمته طعامًا وسقيته ماء (¬8). الوجه الثاني: أن يكون نصبًا على النداء، كأنه قيل: ادعوا الجبال والطير، فالطير معطوف على موضع [الجبال] (¬9) في الأصل، وكل منادى في موضع نصب (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 353. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 65، "بحر العلوم" 3/ 66، "الماوردي" 4/ 435. (¬3) هو: أبو عبد الله وهب بن منبه بن كامل الصنعاني الذماري، تقدمت ترجمته. (¬4) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 265. (¬5) في (أ): (فضلنا). (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 243. (¬7) انظر: "علل القراءات" 2/ 549، "البحر المحيط" 8/ 525، "الكتاب" لسيبويه 2/ 186 - 187. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 355. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬10) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 243.

وقال أبو عبيدة: زعم النحويون أن سبيل نصبها كقولك: يا زيد والصلت أقبلا (¬1). قال الفراء: نصبت الصلة؛ لأنه إنما يدعى بياء أها (¬2)، فإذا فقدها (¬3) كان كالمعدول عن جهته فنصب (¬4). هذا كلامه. وقول أبي إسحاق: [أوجه] (¬5). الوجه الثالث: أن يكون الطير منصوبًا على موضع مع، كما تقول: قمت وزيدًا، المعنى: مع زيد. والمعنى في الآية: أوبي معه ومع الطير (¬6). قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إذا سبح (¬7). وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قال ابن عباس: حتى صار عنده مثل السمع (¬8). وقال الحسن: كان يأخذ الحديد بيده، فيصير كأنه عجين (¬9). وقال قتادة: ألان (¬10) الله له الحديد، فكان يعمله بغير نار (¬11). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 143. (¬2) في (ب): (بيائها). (¬3) في (ب): (بعدها). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 355. (¬5) هكذا في النسخ! والذي يظهر لي أن ما بين المعفوفين زيادة. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 243. (¬7) انظر: "الوسيط" 3/ 488، "تفسير الماوردي" 4/ 435، "زاد المسير" 6/ 436. (¬8) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 267، "البحر المحيط" 8/ 525. (¬9) نفسه. (¬10) في (أ): (ألانه)، وهو خطأ. (¬11) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 66، "تفسير الماوردي" 4/ 436، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 396.

11

وقال الأعمش: ألين له حتى كان مثل الخيوط (¬1). وقال مقاتل: كان داود يسرد الدرع لا يفرغها بحديد ولا يدخلها النار، ويفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليلة ثمنها ألف درهم (¬2). 11 - قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قال أبو إسحاق: (أن اعمل هاهنا في تأويل التفسير، كأنه قيل: وألنا له الحديد؛ لأن يعمل سابغات، ويكون بمعنى: وألنا له الحديد؛ لأن يعمل سابغات، وتصل إن بلفظ الأمر، ومثل هذا من الكلام قولك: أرسل إليه أن قم إلى فلان) (¬3). فأما معنى سابغات، فقال الليث: سبغت الدرع، وكل شيء طال إلى الأرض فهو سابغ، يقال: مطر سابغ، ونعمة سابغة، وقد أسبغها الله، والدرع السابغة التي تجرها في الأرض أو على كعبيك طولًا وسعة، ويقال: دروع سابغات وسوابغ (¬4)، ومنه قول الهذلي (¬5): ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 244. (¬4) انظر: قول الليث في: "تاج العروس" 22/ 498 (سبغ). انظر أيضًا: "تهذيب اللغة" 8/ 40 (سبع)، "اللسان " 8/ 432، (سبغ). (¬5) هو: أبو ذؤيب خالد بن محرث الهذلي، مشهور بكنيته، شاعر فحل من أشعر شعراء هذيل، عده ابن سلام في الطبقة الثالثة من طبقات فحول شعراء أهل الجاهلية، شاعر مخضرم قدم المدينة عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم وحسن إسلامه، خرج مع عبد الله بن الزبير في مغزى نحو المغرب، فمات سنة 27 هـ تقريبًا رحمه الله. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 123، "الشعر والشعراء" ص 440، "الأعلام" 2/ 325.

أو صنع السوابغ تبع (¬1) وقال عبد الله بن الزبير: وسابغة تغشى البنان كأنها ... أضاة بضحضاح من الماء ظاهر. قال أبو إسحاق: (ومعنى سابغات: أي: دروع سابغات، فذكر الصفة؛ لأنها تدل على الموصوف، ومعنى السابغ الذي يغطي بما تحته حتى يفضل) (¬2). قال ابن عباس: في قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} يريد: دروع الحديد (¬3). وقال مقاتل: يعني: الدروع الطوال، وكانت الدروع قبل داود إنما هي صفائح الحديد مضروبة (¬4). {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قال أبو عبيدة: (في سردها، يقال: درع مسرودة. وقال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما) (¬5) وقال الليث: (السرد: اسم جامع للدروع وما أشبهها من عمل الخلق، ويسمى سردًا؛ لأنه يسرد فيثقب طرفا كل حلقة بالمسمار) (¬6). ¬

_ (¬1) هذا جزء من بيت وهو: وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع. وهو من الكامل، لأبي ذؤيب الهذلي في: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 39، "تهذيب اللغة" 2/ 38 "اللسان" 8/ 31 (تبع)، 8/ 209 (صنع)، "المعاني الكبير" ص 1039، "سر صناعة الإعراب" 2/ 760، قال هذا البيت يصف متبارزين. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 244. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 359. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 143. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 356 (سرد)، "تاج العروس" 8/ 187 (سرد).

وقال ابن، قتيبة: [والسرد: سجع المدرع] (¬1). (ومنه قيل، لصانع الدروع: سَرَّاد وزَرَّاد، تبدل من السين زايًا) (¬2). وقال المبرد: السرد نقب المسامير، يقال: درع مسرودة (¬3) إذا أحكمت مساميرها (¬4). قال الأعشى: ومن نسج داود [مصردة] (¬5) مسرودة ... تساق مع الحي عيرا فعيرا (¬6) قال الزجاج: (السرد في اللغة: مقدمة شيء إلى شيء حتى ينسق أثره في أثر بعض سابغًا، يقال: سرد فلان الحديث سردا) (¬7) إذا تابعه، وسرد فلان الصوم إذا والاه، والمتتابع (¬8) يسمى سردًا. وقيل لأعرابي: ما أشهر الحرم؟ فقال: ثلاثة سرد وواحد فرد. ويسمى الحرز سردا؛ لأنه متتابعة من المحرز (¬9)، والمحرز يقال له: السراد والمسرد، فجاء من هذا أن اعمل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوين ليس في "غريب القرآن" لابن قتيبة، ويظهر أنه زيادة من النساخ؛ إذ لا معنى له والله أعلم. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 354. (¬3) في (ب): (مسرود). (¬4) لم أقف عليه (¬5) ما بين المعقوفين زيادة في (ب)، وهو خطأ. (¬6) البيت من المتقارب، هو للأعشى في: "ديوانه" ص 149، "مجاز القرآن" 2/ 248، "اللسان" 13/ 450 (وضن)، فقد جاءت الرواية في اللسان: موضونة بدل مسرودة، والموضونة: هي المنسوجة. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 244 (¬8) في (ب): (التابع) (¬9) في (ب): (الحروف)، وهو خطأ.

الدرع وكل شيء منه يسمى سردًا (¬1). وقال ابن عباس في رواية مجاهد: لا تدق المسامير وتوسع الحلق فيسلس، ولا يغلظ المسامير ويضيق الحلق فينقصم (¬2)، اجعله قدرًا (¬3). وقال ابن قتيبة: السرد: المسامير التي في حلق الدرع (¬4). وهذا هو الأشبه بالمعنى؛ لأن الكل من أهل التأويل قالوا في معنى الآية: لا تجعل المسامير دقاقًا فتقلق، ولا غلاظًا فتكسر الحلق (¬5). وقال مقاتل: يقول قدر المسامير في الحلق، ولا تعظمه فينفصم، ولا تصغره فيسلس (¬6). وقال أبو إسحاق: (وهو أن لا يجعل المسمار غليظًا والثقب دقيقًا، ولا يجعل المسمار دقيقًا والثقب واسعًا فيتقلقل، قدر في ذلك أي: اجعله على القصد وقدر الحاجة) (¬7). وقال مقاتل (¬8): ثم قال الله لآل داود: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قال ابن عباس: يريدوا اشكروا الله بما هو أهله مثل قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 356، "اللسان" 3/ 211، "تاج العروس" 8/ 186. (¬2) في (ب): (فينقهم)، وهو خطأ. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 68، "تفسير الماوردي" 4/ 436، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 398. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 398، "معاني القرآن" للفراء 2/ 356، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 244. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 244. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب.

12

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (¬1). 12 - ثم ذكر ابنه سليمان وما أعطاه من الخير والكرامة، فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} قال الفراء: (نصب الريح على: وسخرنا لسليمان الريح، وهي منصوبة في الأنبياء {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] أضمر وسخرنا، ورفع عاصم: ولسليمان الريح، لما لم يظهر التسخير، وأنشد: ورأيتما لمجاشع نعما .... وبني أبية جاملا (¬2) رغب (¬3) يريد رأيتم لبني أبية، فلما لم يظهر (¬4) الفعل رفع باللام) (¬5). فقال أبو إسحاق: (النصب في الريح على الوجه، على معنى: وسخرنا لسليمان الريح، ويجوز الرفع على معنى: [ثبتت] (¬6) له الريح، وهو يؤول إلى معنى: سخرنا كما أنك إذا قلت: لله الحمد، فتأويله: استقر لله الحمد (¬7)، وهو يرجع إلى معنى: أحمد الله الحمد) (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: جامل. (¬3) البيت من الكامل، ولم أهتد إلى قائله، وهو بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 2/ 356 - 401، "ديوان الأدب" 1/ 358. والجامل: جماعة الجمال والنوق، اللسان (جمل) 11/ 124، والرغب: كل ما اتسع فقد رغب رغبًا، "اللسان" (رغب) 1/ 424. (¬4) في النسخ: (يضمر)، والتصحيح من "معاني القرآن" للفراء. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 356. (¬6) ما بين المعقوفين غير واضح في جميع النسخ، والتصحيح من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج. (¬7) في (أ): (الوحد). (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 245.

وقال أبو علي: (وجه النصب أن الريح حملت على التسخير في قوله {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [ص: 36] كذلك ينبغي أن تحمل هنا عليه، ووجه الرفع أن الريح إذا سخرت لسليمان، جاز أن يقال: له الريح على معنى: له تسخير (¬1) الريح، فالرفع على هذا يؤول إلى معنى النصب؛ لأنه المصدر المقدر في تقدير الإضافة إلى المفعول به) (¬2). قوله تعالى: {غُدُوُّهَا} أي: سير غدو تلك الريح المسخرة له شهر، أي: مسيرة شهر، وعلى هذا التقدير قوله: {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي: سير رواحها سير شهر. قال الحسن: (كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر (¬3)، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من اصطخر فمِبيت بكابل (¬4)، وما بينهما مسيرة شهر للمسرع) (¬5). وقال السدي: كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب. ¬

_ (¬1) في (ب): (التسخير). (¬2) "الحجة" 6/ 10. (¬3) اصطخر: بالكسر وسكون الخاء المعجمة، والنسبة إليها اصطخري، بلدة بفارس، وهي من أعيان حصون فارس، وبها كانت قبل الإسلام خزائن الملوك، ومن أشهر مدنها: البيضاء، ومائتين، ويزد وغير ذلك، ينسب إليها جماعة وافرة من أهل العلم. انظر: "معجم البلدان" 1/ 211. (¬4) (كابل) بضم الباء الموحدة ولام، من ثغور طخارستان، ولها من المدن: واذان وخواش وخشك وجزه، غزاها المسلمون في أيام بني مروان وافتتحوها، قلت: هي عاصمة جمهورية أفغانستان اليوم. انظر: "معجم البلدان" 4/ 426. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 437، "المحرر الوجيز" 4/ 408، "مجمع البيان" 8/ 598، "البحر المحيط" 8/ 526، "تفسير القرطبي" 14/ 269.

وهذا قول جماعة المفسرين (¬1). قالوا: والمعنى إلى غدوها، إلى انتصاف النهار، إلى الليل مسيرة شهر. قوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي: أذبنا له عين النحاس. وقال ابن عباس والسدي وشهر بن حوشب ومجاهد ومقاتل: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كمجرى الماء في صنعاء، يعمل بها ما أحب كما يعمل بالطين، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان (¬2). وقوله: {وَمِنَ الْجِنِّ} أي: سخرنا له من الجن. {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: بأمر ربه. قال مقاتل: يعني رب سليمان (¬3). قال ابن عباس: سخرهم وأمرهم بطاعته في جميع ما يأمرهم به (¬4). {وَمَنْ يَزِغْ} أي: ومن يعدل. {مِنْهُمْ} من الجن. {عَنْ أَمْرِنَا} لهم بطاعة سليمان. {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} قال مقاتل: يعني الوقود في الآخرة. وهو قول أكثر المفسرين. وقال عطاء عن ابن عباس: {مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} الوقود. وهذا القول على هذا الإطلاق يحتمل ما قال بعضهم: إن هذا العذاب لمن زاغ عن أمر سليمان كان في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكَّلَ ملكًا بيده سوط من نار، ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 437/ 4، "مجمع البيان" 8/ 598، "تفسير القرطبي" 14/ 270، "زاد المسير" 6/ 438. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب. (¬4) انظر: "مجمع البيان" 8/ 598، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 429.

13

فمن زاغ من الجن عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته (¬1). 13 - قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} قال مجاهد: بنياناً دون القصور (¬2). وقال قتادة: قصور ومساجد (¬3). وقال الضحاك ومقاتل: يعني المساجد (¬4). وقال ابن زيد: هي المساكن (¬5) وقال أبو عبيدة: المحراب سيد البيوت (¬6). وقال أبو إسحاق: أشرف موضع في الدار وفي البيت يقال له: محراب (¬7). وقال المبرد: أطبقوا على أنها لا تكون إلا أن يرتقى إليها بدرج (¬8)، ومن ذلك قوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]. وذكرنا تفسير المحراب في سورة آل عمران (¬9). قوله تعالى: {وَتَمَاثِيلَ} قال المبرد: جمع تمثال، وهو كل شيء ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 97 ب، "تفسير الماوردي" 4/ 438، "مجمع البيان" 8/ 598، "زاد المسير" 6/ 439. (¬2) "تفسيرمجاهد" ص 524. (¬3) انظر: "الماوردي" 4/ 438، "مجمع البيان" 8/ 598، "زاد المسير" 6/ 439. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 98 أ، "الطبري" 22/ 70. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 438، "المحرر الوجيز" 4/ 409. (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 438، "تفسير القرطبي" 14/ 271. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 246. (¬8) لم أقف على قول المبرد. (¬9) عند الآية 37.

مثلته بشيء (¬1). وقال الأزهري: (التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله، وأصله من: مثلت الشيء بالشيء إذا قدرته على قدره، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهًا، واسم ذلك الممثل تمثال) (¬2). قال المفسرون: هي صورة من نحاس وزجاج ورخام كانت الجن تعلمها، قالوا: وهي سورة الأنبياء والملائكة، كانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، هذا يدل على أن التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان (¬3). قوله تعالى: {وَجِفَانٍ} جمع جفنة، وهي (¬4) القصعة الكبيرة، والعدد الجفنات (¬5) كالجوابي جمع الجابية، وهي الحوض الكبير يجبي الماء أي: يجمعه. قال الأعشى: نفى الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق (¬6) قال المفسرون: يعني قصاعًا في العظم كحياض، الإبل يجلس على ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا القول منسوبًا للمبرد، وانظر: "تهذيب اللغة" 98/ 15 (مثل)، "اللسان" 11/ 614 (مثل). (¬2) "تهذيب اللغة" 15/ 98 (مثل). (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 438، "بحر العلوم" 3/ 68، "تفسير هود بن محكم" 3/ 391، "القرطبي" 14/ 272، "مجمع البيان" 8/ 600. (¬4) في (أ): (وهو). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 112، "اللسان" 13/ 89 (جفن). (¬6) البيت من الطويل، وهو للأعشى في "ديوانه" ص 225، وانظر: منسوبًا إليه في: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 246، "الدر المصون" 5/ 435، "مجمع البيان" 8/ 596، "تفسير القرطبي" 14/ 2754 والمعنى هنا يقول: صان آل المحلق أعراضهم بالجود، ونفى عنهم الذم جفنة ضخمة تقدم للضيفان كأنها حوض الماء يمده نهر العراق. انظر: "الديوان" ص 225.

القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها (¬1). والقراء يختلفون في إثبات الياء في الجوابي؛ فقرأ ابن كثير بالياء فيها وصلا (¬2) ووقفًا، وهو الأصل والقياس؛ لأن هذه الياء تثبت مع الألف واللام، ووقف أبو عمرو بغير ياء؛ لأنه شبهها بالفاصلة والوقف) (¬3). قال أبو إسحاق: لأن الكسر ينوب عنها. قوله تعالى: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} قال المفسرون: قدور عظام، لها قوائم لا يحركن عن أماكنها ولا يحركن لعظمها، ثوابت على أثافيها، تنحت من الجبال وكانت بأرض اليمن، وكان ملك سليمان ما بين كابل ومصر (¬4). ثم قال: قوله تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} لما أعطيتكم من الفضل والخير (¬5) أي: وقلنا اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرًا له على ما آتاكم. قال أبو إسحاق: (شكرًا ينتصب على وجهين: أحدهما: اعملوا للشكر، أي: اشكروا الله على ما آتاكم. والثاني: ينتصب على المصدر، كأنه قيل: اشكروا شكرًا) (¬6)؛ لأنه معنى اعملوا آل داود شكرًا. قال مجاهد: لما نزلت {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} قال داود لسليمان: ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 3/ 68، "مجمع البيان" 8/ 600، "تفسير القرطبي" 14/ 275، "زاد المسير" 6/ 445. (¬2) في (ب): تقديم وتأخير (وقفًا ووصلا). (¬3) "الحجة" 6/ 10 "الحجة في القراءات السبع" ص 293، "البحر المحيط" 8/ 528. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 3/ 68، "مجمع البيان" 8/ 600، "القرطبي" 14/ 276، "زاد المسير" 440/ 6. (¬5) في (ب): (من الخير والفضل). (¬6) انظر: "معانى القرآن وإعرابه" 4/ 246.

14

إن الله قد ذكر الشكر، فاكفني قيام النهار أكفك قيام الليل، قال: لا أستطيع. قال: فاكفني إلى صلاة الظهر فكفاه (¬1). 14 - قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} قال المفسرون: كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب الذي يكون في غد، فابتلوا بموت سليمان، فمات سليمان متكئًا على عصاه وبقي كذلك ميتًا سنة، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان، لا يشعرون في موته حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ميتًا، فحينئذ علموا بموته، وعلموا الإنس أن الجن لا تعلم الغيب، فذلك قوله: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} قال المفسرون: يعني الأرضة (¬2). وقوله: {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} قالوا: عصاه. قال السدي: هي بلسان الحبشة (¬3). وقال ميسرة: هي بلغة اليمن (¬4). وقال أبو عبيدة: المنسأة التي ينساء بها الغنم (¬5). وقال الفراء: هي العصاة العظيمة التي تكون مع الراعي، أخذت من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3163، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 401، "روح المعاني" 22/ 120 وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 380، وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم عن مجاهد. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 74، "تفسير الماوردي" 4/ 441، "بحر العلوم" 3/ 68، "تفسير الثعلبي" 3/ 242، "غرائب القرآن" 22/ 45. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 441، "تفسير القرطبي" 14/ 278، "تفسير الطبري" 22/ 73. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 145.

نسأت البعير: إذا زجرته ليزداد سيره (¬1). وقال أبو إسحاق: المنسأة التي ينسأ بها، أي: يطرد ويزجر (¬2). وقال أبو عبيدة: هي التي يضرب بها (¬3). وقال أبو علي الفارسي: هي من نسأت الغنم، إذ سقيتها (¬4) وأنشدوا قول طرفة: أمون كألواح الأران نسأتها ... على لا حب كأنه ظهر يوجد (¬5) (¬6) وقال المبرد: المنسأة: العصاة لأنها ينسأ (¬7) بها الطريق، أي يقصد، يقال: نسات الناقة، إذا حملتها على الطريق، وأنشد قول طرفة) (¬8). وأكثر القراء على همزة المنسأة. وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز. قال أبو عبيدة: (تركوا همزها كما ترك بعضهم همز البرنة والذرية والنبئ. قال المبرد: بعض العرب يبدل من همزتها ألف فيقول: منساة وينشدون: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 356. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 247. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: سقتها. انظر: "الحجة" 6/ 11. (¬5) في (ب): (حدد)، وهو خطأ. (¬6) البيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد في: "ديوانه" ص22، "شعراء النصرانية في الجاهلية" 3/ 300 "لسان العرب" 1/ 173 (نسأ)، 13/ 15 (أرن)، كتاب "العين" 8/ 278. ومعنى البيت: الأمون: هي الناقة الموثقة الخلق التي يؤمن عثارها وزللها، والإران: هو النشاط ونساتها: أي حملتها على السير في هذا الطريق اللاحب هو البين، والبرجد، كساء فيه خطوط وطرائق، فشبه الطرائق بطرائق البرجد. "شرح القصائد السبع الجاهليات" ص 151. (¬7) في (أ): (تنسئ). (¬8) لم أقف على القول منسوبًا للمبرد. وانظر: "تهذيب اللغة" 13/ 84، مادة: (نسأ)، "اللسان" 1/ 169 (نسأ).

إذا دببت على المنساة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل) (¬1) (¬2) وقال أبو علي: (قياس تخفيف الهمزة أن يجعلها بين بين، إلا أنهم خففوا همزتها على غير قياس) (¬3). قوله: {فَلَمَّا خَرَّ} أي: سقط ميتًا. {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} الآية. قال المفسرون: تبينت الإنس أن الجن {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}، قالوا: وكذا (¬4) كان ابن عباس يقرأها، بتبينت الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب (¬5). وأما معنى قراءة العامة، فقد ذكر [فيه] (¬6) الفراء وأبو إسحاق وجوهًا بعيدة (¬7). والصحيح ما ذكر أبو عبيدة فقال: (تبينت الجن للناس، أي: تبين للناس أن الجن لا يعلمون الغيب، ما غيب عنهم لما كانوا في نصبهم وهو ميت) (¬8). ويدل على صحة هذا المعنى قراءة يعقوب: تُبِينت، بضم التاء ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، ولم أقف على قائله، وهو في "اللسان" 169/ 1 (نسأ)، "الصحاح" 1/ 67 (نسأ)، وكذا هو في "الدر المصون" 5/ 346، "مجمع البيان" 8/ 595، بلا نسبة. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 145. (¬3) "الحجة" 12/ 6. (¬4) في (ب): (وكذلك). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 74، "تفسير الماوردي" 4/ 442، "علل القراءات" 2/ 549، "تفسير القرطبي" 14/ 281. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط في (ب). (¬7) انظر: هذه الوجوه في: "معاني القرآن" للفراء 2/ 357، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 247. (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 146.

15

وكسر الباء، أي: علم من حال الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وأن على (¬1) قراءة العامة في محل الرفع على البدل من الجن، هذا وجه قراءة العامة. ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن الجن كانت تتوهم أنها تعلم الغيب، فلما ابتلوا بموت سليمان ولم يقفوا عليه حتى دلتهم الأرضة، علمت أنها لا تعلم الغيب. وعلى هذا الوجه أن في موضع نصب وتبينت بمعنى علمت. وعلى الوجه الأول معناه: ظهرت وانكشفت (¬2). وذكر ابن قتيبة الوجهين معًا (¬3). قال أبو إسحاق: (المعنى أنهم لو كانوا يعلمون ما غاب عنهم، ما عملوا مسخرين لسليمان وهو ميت، وهم يظنون أنه حي يقف على عملهم) (¬4). قال مقاتل: العذاب المهين: الشقاء والنصب في العمل (¬5). 15 - قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} ذكر الكلام والقراءة في سبأ في سورة النمل (¬6). وذكر المفسرون هاهنا ما روي عن فروة بن مسيك (¬7) أن رجلاً ¬

_ (¬1) في (ب): (وأن في). (¬2) "مشكل إعراب القرآن" 2/ 206، "البحر المحيط" 8/ 532، "التبيان" 2/ 277. (¬3) "تفسير غريب القرآن" ص 355. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 247. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 97 أ. (¬6) عند قوله تعالى: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} آية: 22. قال: قرئ من سبأ بالإجراء والتنوين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو غير مجرى. قال الفراء: من أجراه فلأنه فيما ذكروا رجل. (¬7) هو: فروة بن مسيك، وقيل: مسيكة بن الحرث بن سلمة المرادي القطيعي، أبو عمر، له صحبة، وقد على النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة عشر من الهجرة، فأسلم، فبعثه على =

قال: يا رسول الله، أخبرنا عن سبأ ما هو، رجل أم امرأة أم أرض؟ فقال: "ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب، فتيامن ستة وتشام أربعة، فأما الذين تساموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومدلج وحمير وأنمار". فقال رجل: ما أنمار يا رسول الله؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة" (¬1). وقال مقاتل: هو رجل من يشجب بن يعرب بن قحطان، يقال: سبأ بن يشجب، والمراد بسبأ هاهنا: القبيلة (¬2). قوله: (في مساكنهم) وقرئ: مسكنهم، على الواحد، بفتح الكاف وبكسرة (¬3). قال أبو علي: (الوجه الجمع؛ ليكون اللفظ موافقًا للمعنى؛ لأن لكل (¬4) ساكن مسكنًا (¬5)، ومن قال: مسكنهم، أي: يكون جعل المسكن ¬

_ = مراد وزبيد ومذحج، وقد روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه الشعبي وأبو سبرة النخعي وغيرهم. انظر: "الاستيعاب" 3/ 194، "الإصابة" 3/ 200. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 76، "تفسير الماوردي" 4/ 203، "مجمع البيان" 8/ 604. وأخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 316، من حديث ابن عباس إلا أنه قال: سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والترمذي في "سننه" كتاب التفسير: تفسير سورة سبأ 5/ 39، وقال: هذا حديث غريب حسن، رقم الحديث (3275)، والحاكم في "المستدرك" في تفسير سورة سبأ 2/ 424، وصححه ووافقه عليه الذهبي. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 98 أ. (¬3) انظر: "النشر" 2/ 350، "حجة القراءات" ص 585. (¬4) في (ب): (كل)، وهو خطأ. (¬5) في (ب): (مسكن).

مصدرًا وحذف المضاف، والتقدير: في مواضع سكناهم (¬1)، فلما جعل المسكن كالسكنى أفرد كما يفرد المصادر، وهذا أشبه من أن يحمله على نحو: كلوا في بعض بطنكم، وجلد الجواميس، وعلى هذا قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] أي: مواضع قعود، ألا ترى أن لكل واحد من المتقين موضع قعود، وهذا التأويل أشبه من أن يحمله على الآخر الذي لا يكاد يجيء إلا في شعر، وأما كسر الكاف؛ فاسم المكان والمصدر من هذا الجنس الذي هو فعل يفعل مفتوحًا، مثل: المحشر ونحوه، وقد يشذ عن القياس المطرد، هكذا وكالمسجد، وسيبويه يحملها على أنه اسم البيت وليس المكان، من فعل يفعل، وكذلك المطلع، والقياس: الفتح) (¬2). وقال أبو الحسن: المسكن بكسر الكاف لغة فاشية، وهي لغة الناس اليوم، والفتح لغة أهل الحجاز، وهي اليوم قليلة (¬3). وقال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة (¬4). قال المفسرون: وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن (¬5). يدل عليه قول النابغة: من سبأَ الحاضرينَ مأربَ إذْ ... يبنونَ من دونِ سيلهِ العَرِما (¬6) ¬

_ (¬1) في (ب): (مسكنهم). (¬2) "الحجة" 6/ 12 - 14. (¬3) انظر: "مجمع البيان" 8/ 603، "البحر المحيط" 8/ 533. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 357. (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 238. (¬6) البيت من المنسرح، وهو للنابغة الجعدي في "ديوانه" ص 134، "الكتاب" 3/ 253، "جمهرة اللغة" ص 773، "سمط الآلئ" ص 18، "اللسان" 1/ 396 مادة: (عرم).

قوله: {آيَةٌ} أي: علامة تدلهم على قدرة الله، وأن المنعم عليهم هو الله، ثم ذكر تلك الآية فقال: {جَنَّتَانِ}. قال الفراء: جنتان مرفوعتان؛ لأنهما تفسير للآية (¬1). وذكر الزجاج وجهًا آخر فقال: كأنه لما قيل: آية، قيل: الآية جنتان) (¬2)، وعلى هذا ارتفع بخبر الابتداء المحذوف. قوله تعالى: {عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي: يمنة وسرة. قال مقاتل: عن يمين الوادي وعن شماله (¬3). وقال الآخرون: عن يمين من أتاهما وشماله (¬4). وقال الفراء: أراد عن أيمانهم وشمائلهم (¬5). والمعنى أن الجنتين أحاطت بهم وبمساكنهم يمنة ويسرة. قوله: {كُلُوا} قال أبو إسحاق: المعنى: قيل لهم ذلك (¬6). وقوله: {مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} يعني: ثمار الجنتين. قال السدي وأهل التفسير: كانت المرأة تخرج، فتحمل مكتلًا على رأسها وتمر في البستان فتملأ مكتلها من ألوان الفاكهة، من غير أن تمس شيئًا بيدها (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 358. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 248. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 98 أ. (¬4) انظر: "بحر العلوم" 3/ 70، "مجمع العلوم" 8/ 604، "تفسير القرطبي" 14/ 248. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 358. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 248 (¬7) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 490 عن السدي، وابن أبي حاتم 10/ 3165 عنه كذلك، و"تفسير الطبري" 22/ 77 عن قتادة، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 604، ولم ينسبه.

16

قوله: {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: على ما رزقكم من النعمة، والمعنى: اعملوا بطاعته إذ أنعم عليكم بما أنعم، وهاهنا تم الكلام. ثم ابتدأ فقال: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ}. قال أبو إسحاق: المعنى: هذه بلدة طيبة (¬1). قال مقاتل: أرض سبأ بلدة طيبة؛ لأنها أخرجت ثمارها (¬2). فعلى هذا طيبها: كثرة ثمارها. وقال الفراء: ليست بسبخة (¬3). وقال ابن زيد: ليس فيها شيء مؤذ، من بعوضة أو ذباب. قال: ولم يكن يرى في بلدهم بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب، ويمر الغريب في بلدهم وفي ثيابه القمل فتموت كلها. وعلى هذا طيبها: طيب هوائها (¬4). قوله: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي: والله رب غفور. قال مقاتل: وربكم إن شكرتم فإما رزقكم رب غفور للذنوب (¬5). 16 - قوله: {فَأَعْرَضُوا} قال مقاتل: عن الحق (¬6). وقال ابن عباس: يريد فكفروا وكذبوا أنبيائهم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 248. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 98 أ. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 358. (¬4) أخرجه ابن أبى حاتم في "تفسيره" 10/ 3165 عن ابن زيد، وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 490 عنه كذلك. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬6) المصدر السابق. (¬7) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 360.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} قال المفسرون: كان الماء يأتي أرض سبأ من الشجر وأودية اليمن، فردموا ردمًا بين جبلين وحبسوا الماء، وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكان يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث، فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذًا نقب ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم ففرقها، ودفن السيل بيوتهم (¬1)، فذلك قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}. واختلفوا في العرم ما هو؟ فأكثر المفسرين على أن العرم: السكر (¬2) والمسناة، وهي التي تحبس الماء (¬3). قال السدي وأبو ميسرة: أهل اليمن يسمون المسناة العرم (¬4). وهو اختيار الفراء (¬5)، وابن قتيبة (¬6)، والمبرد، قال: العرم جمع عرمة، وهي الحاجز بين الشيئين، يسمى السكر (¬7)، واحتجوا بقول الجعدي (¬8): إذ يبنون دون سيله العرما ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 79، "القرطبي" 14/ 285، "مجمع البيان" 8/ 605. (¬2) قال في "اللسان" 4/ 375: سكر النهر يسكره سكرًا، سد فاه، وكل شق سد فقد سكر، والسكر ما سد به، والسكر: أيضًا المسناة. اهـ والمسناة بلغة أهل اليمن. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 79، "تفسير القرطبي" 14/ 285، "زاد المسير" 6/ 445، "معاني القرآن" النحاس 5/ 407. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 79، "المحرر الوجيز" 4/ 414، "البحر المحيط" 8/ 533، ولم أقف على من نسبه للسدي. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 358. (¬6) "تفسير غريب القرآن" ص 355. (¬7) "الكامل" 3/ 1033. (¬8) هو النابغة الجعدي، وقد سبق التعريف به، وتخريج البيت كذلك.

وقال مقاتل: العرم اسم الوادي (¬1). وقال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق (¬2). وعلى هذا دل كلام ابن عباس، قال: [يريد] (¬3) لا يمر بشيء إلا غرقه (¬4). وقال مقاتل: العرم اسم الوادي (¬5). وحكى أبو إسحاق في العرم قولين آخرين: أحدهما: أن العرم اسم الجرذ الذي بنوا (¬6) للسكر عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد، وذكر ابن الأعرابي أن العرم من أسماء الفأر (¬7) الثاني: أن العرم هو المطر الشديد (¬8). وأصل هذا كله من العرامة، وهي الشدة، ومثله: العرام، ورجل عارم: شديد لا يطاق (¬9). قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قال ابن عباس: يريد اللتين كان فيهما الفواكه والثمار. {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قال ابن عباس: يريد الأراك. وهو قول مجاهد وقتادة ومقاتل والسدي، قالوا: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 390 مادة: (عرم). (¬3) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬4) ذكر المفسرون تفسير ابن عباس للعرم بأنه الشديد. انظر: "تفسير الطبري" 22/ 80، "المحرر الوجيز" 4/ 414، "زاد المسير" 6/ 445. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬6) هكذا في النسخ! وهو خطأ، إذ الصواب: الجرذ الذي ثقب السكر عليهم. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 248. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 391. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 248. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 390، "اللسان" 2/ 395.

الخمط: الأراك (¬1). قال قتادة: وأكله البرير (¬2). وقال أبو عبيدة: الأكل الجني، والخمط: كل شجرة [ثمرة] (¬3) ذات شوك (¬4). ونحو هذا قال ابن قتيبة، فإن الأكثرين على أن الخمط اسم شجرة (¬5). وإذا كان كذلك، فالأحسن قراءة من لم ينون الأكل وأضافه، وذلك أن الأكل إذا كان الجناء، فإن جنا (¬6) كل شجرة منه، والتنوين في هذا ليس في حسن الإضافة، وذلك؛ لأن (¬7) الخمط إنما هو اسم شجرة وليس بوصف للأكل، وإذا (¬8) لم يكن وصفًا، لم يجر على ما قبله كما يجري على الموصوف، والتبدل ليس بالسهل أيضًا؛ لأنه ليس هو ولا بعضه؛ لأن الجنا من الشجرة وليس الشجرة من الجنا (¬9). قال أبو الحسن: (في كلام العرب أن يضيفوا ما كان من نحو هذا، مثل: دار آجر، وثوب خز. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 81، "القرطبي" 14/ 286، "زاد المسير" 6/ 446. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 81، "تفسير هود بن محكم" 3/ 394، "زاد المسير" 6/ 446 والبرير: هو ثمر الأراك. انظر: "اللسان". (¬3) ما بين المعقوفين لعلها زيادة من النساخ، إذ ليست من كلام أبي عبيدة. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 147. (¬5) " تفسير غريب القرآن" ص 356. (¬6) في (ب): (الجنا). (¬7) في (ب): (أن). (¬8) في (ب): (وإذا كان) زيادة كان، وهو خطأ. (¬9) انظر: "علل القراءات" 2/ 551 "مجمع البيان" 8/ 603، "البحر المحيط" 8/ 536.

قال: و {أُكُلٍ خَمْطٍ} بالتنوين، ليس بالجيد في العربية) (¬1). واختار أبو عبيد التنوين، قال: لأن الأكل هو الخمط في التفسير، فالنعت أولى به من الإضافة، هذا قول أبي عبيد (¬2). والمفسرون على خلاف ما قال، فإنهم جعلوا الخمط الشجر لا الأكل (¬3). وقد قال ابن الأعرابي: الخمط ثمر شجر يقال له: فوه الضبع، على سورة الخشخاش، ينفرك ولا ينتفع به (¬4). قال أبو إسحاق: (يقال لكل نبت قد أخذ طعمًا من المرارة حتى لا يمكن أكله: خمط) (¬5). ونحو هذا قال المبرد. ومنه قيل للبن إذا أحمض: خمط (¬6). فهؤلاء جعلوا الخمط اسمًا للمأكول، فيصح على هذا التنوين في الأكل. قوله: {وَأَثْلٍ} قال مقاتل: يعني شجرة تشبه الطرف، يتخذ منه الأقداح (¬7). وقال الفراء: الأثل شبه بالطرف، إلا أنه أعظم منه طولا (¬8). قال الأزهري: (هو يشبه الطرف إلا أنه أكرم منه، تسوى منه الأقداح الصفر الجياد، ومنه اتخذ منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وللأثل أصول غليظة يسوى منها ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع البيان" 8/ 603، "تفسير القرطبي" 14/ 287. (¬2) لم أقف عليه. وقد ذكره النحاس في "إعراب القرآن" ص 664، وأنه اختيار المبرد. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 81، "تفسير هود بن محكم" 3/ 394، "بحر العلوم" 3/ 70، "زاد المسير" 6/ 446. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 260، "اللسان" 7/ 296، "روح المعاني" 22/ 127. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 249. (¬6) انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 286، "إعراب القرآن" للنحاس ص 464. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 359.

17

الأبواب وغيرها، وورقه عبل كورق الطرف) (¬1). قال ابن الأعرابي: والأثيل منبت الأراك (¬2). قوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} قال الأزهري: (السدر من الشجر سدران: أحدهما: سدر بري لا ينتفع بثمره، ولا يصلح ورقه للغسول، وربما خمط للراعية، وله ثمر عفص لا يؤكل، والعرب تسميه الضال. والجنس الثاني من السدر ينبت على الماء، وثمره النبق، وورقه غسول، يشبه شجر العناب إلا أن ثمره أصفر مر يتفكه به) (¬3). وقال الفراء: ذكروا أنه الثمر (¬4). وقال مقاتل: ثمرة السدر النبق (¬5). وقال السدي: هذا السدر قليل، يعني: أن الخمط والأثل كانا أكثر في جنتيهم من السدر (¬6). قال قتادة في الآية: بينما شجر القوم من خير الشجر، إذ صيره الله من شر الشجرة (¬7). 17 - قوله: {ذَلِكَ}] (¬8) إشارة إلى ما ذكر من التبديل. قال أبو إسحاق: (وموضع ذلك نصب، المعنى {جَزَيْنَاهُمْ} ذلك {بِمَا كَفَرُوا} (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 132. (¬2) انظر: قول ابن الأعرابي في "تهذيب اللغة" 15/ 131. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 353. (¬4) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: السمر، واحدته سمرة. "معاني القرآن" 2/ 359. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬6) لم أقف عليه منسوبًا للسدي. وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 491، و"الطبرسي في مجمع البيان" 8/ 605، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 446، بدون نسبة. (¬7) انظر: المصادر السابقة، و"تفسير القرطبي" 14/ 287. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬9) انظر: "معاني القران وإعرابه" 4/ 249.

{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} بالنون قرأ حمزة والكسائي؛ لقوله: {جَزَيْنَاهُم} ولم يقولوا جوزوا، من قرأ يجازي بالضم بني الفعل للمفعول به، والمجازي هو الله، فمعنى القراءتين سواء. وفي تخصيص الكفور بالمجازاة أقوال: أحدها (¬1): أن المؤمن يكفر عنه ذنوبه بطاعاته، فلا يجازى بذنوبه التي تكفر، قال الله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد: 2] وقال: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، والكافر يجازى بكل سوء يعمله، وهذا قول أبي إسحاق وأبي علي (¬2). وقال الفراء: (معنى جزيناه كافيناه (¬3)، والسيئة للكافر بمثلها سيئة، وأما المؤمن فيجزى ولا يجازى؛ لأنه يزاد ويتفضل عليه، وقد يقال: جازيت بمعنى جزيت وأبين الكلام على ما وصفت) (¬4). هذا كلام أهل المعاني (¬5). وأما المفسرون؛ فقال مقاتل: وهل نكافئ بعمله السيئ إلا الكفور لله في نعمه (¬6). وهذا كقول الفراء. وقال طاوس: يجازى الكفور ولا يغفر له، والمؤمن لا يناقش الحساب (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (أحدهما). (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 249، "الحجة" 6/ 17 - 18. (¬3) في (ب): (جزيناهم افيناهم). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 359. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 409، "معاني القرآن" للفراء 2/ 359، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 249. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 409، "تفسير القرطبي" 14/ 288، تفسير ابن كثير" 5/ 543.

18

وقال مجاهد: وهل يجازى: يعاقب (¬1). وهذا معنى وليس بتفسير. وبيانه ما ذكر ابن عباس في رواية عطاء قال: يريد لا أجازي بالعقاب إلا من كفر ربوبيتي وجحد نعمتي. فأضمر العقاب والمجازاة (¬2). (وأدغم الكسائي لام هل في نون نجازي، وهو جائز، حكاه سيبويه، قال سيبويه: البيان أحسن؛ لأنه قد امتنع أن يدغم في النون شيء سوى اللام، فكأنهم يستوحشون من الإدغام فيها) (¬3). 18 - قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} قال أبو إسحاق: هذا عطف على قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} (¬4) الآية. يعني: وكان من قصتهم أنا {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} أي: بين سبأ {وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. قال المفسرون: قرى الشام والأرض المقدسة: الأردن وفلسطين (¬5). قال مقاتل: باركنا فيها بالشجر والماء (¬6). قوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} قال أبو إسحاق: (كان بين سبأ والشام قرى متصلة بعضها ببعض، يبيتون بقرية ويقيلون بقرية، لا يحلون عقدة حتى يرجعوا إلى أهليهم (¬7) [ساعون من حيث نزلوا ما يأكلون] (¬8) لا ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 525. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "الحجة" 6/ 18. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 250. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 83، "تفسير هود بن محكم" 3/ 395، "تفسير الماوردي" 4/ 444، "تفسير القرطبي" 14/ 289. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 98 / ب. (¬7) في (ب): "أهلهم". (¬8) ما بين المعقوفين يظهر -والله أعلم- أنه كلام زائد من النساخ؛ إذ لا معنى له.

يحتاجون من وادي شيئًا إلى زاد (¬1). وحقيقة معنى قوله ظاهرة، أن الثانيهَ تظهر من الأولى لقربها منها، كما قال الحسن: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية فيروح فيأوي إلى قرية، فإذا خرج من إحداها رأى الأخرى فظهرت (¬2). [أي] (¬3). وقال صاحب النظم: ليس من قرية إلا وهي ظاهرة، والمعنى أنها قرى متقاربة تتوالى، فإذا كان الرجل في قرية منها كانت التي تليها ظاهرة لعينه ينظر إليها. قوله تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} قال مقاتل: للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية (¬4). قال الفراء: (جعل ما بين القرية إلى القرية نصف (¬5) يوم، فذلك تقدير السير) (¬6). قال أبو إسحاق: (جعلنا سيرهم بمقدار، حيث أرادوا أن يقيموا حلوا بقرية) (¬7). وقال ابن قتيبة: (جعلنا السير بين القرية إلى القرية مقدارًا واحدًا) (¬8). وقوله: {سِيرُوا} أي: وقلنا لهم سيروا. {فِيهَا} في تلك القرى. {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} متى شئتم السير ليلاً أو نهارًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب كما هو في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 444: لا يحتاجون من وادي سبأ إلى الشام إلى زاد. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 444، "القرطبي" 14/ 289، "زاد المسير" 6/ 448. (¬3) هكذا في النسخ! ويظهر أنها زائدة من النساخ. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬5) في (ب): (لضعف)، وهو خطأ. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 359. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 250. (¬8) "تفسير غريب القرآن" ص 356.

19

{آمِنِينَ} من الجوع والعطش والسباع والتعب، ومن كل خوف. قال ابن عباس ومقاتل (¬1). 19 - قال المفسرون: ثم إنهم سئموا الراحة وبطروا النعمة، وكرهوا ما كانوا فيه من الخصب (¬2) والسعة في كفاية القدح في المعيشة كقوم موسى حين قالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} إلى قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] وهؤلاء من جملة من دخل في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] فلم يشكروا ربهم، وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز؛ لنركب إليها الرواحل ونتزود الأزواد. وقرئ: {بَعَّد}، وهو مما فيه وفعل بمعنى واحد كقولك: ضاعِف وضعِّف، وكذلك خلافه (¬3) قارب وقرب. ومعنى قراءة من قرأ على الخبر: {رَبَّنَا بَاعِدْ}، أنهم استبعدوا سفرهم على قرية بطرا وأشرا، وقراءة العامة معناها الدعاء وسؤال الله أن يبعد بين أسفارهم (¬4). وقوله {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن عباس: بكفرهم وتكذيبهم أنبيائهم (¬5). {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} يريد لعن بعدهم، يتحدثون بأمرهم وشأنهم. {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} مزقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 360، "تفسير مقاتل" 98 ب. (¬2) في (ب): (الحطب)، وهو خطأ. (¬3) في (ب): (خلاف). (¬4) "الحجة" 6/ 19. (¬5) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 360.

20

وذلك أن الله تعالى لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد فصارت العرب تتمثل بهم في الفرقة، فيقولوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ (¬1). قال الشاعر: من صادر أو وارد أيدي سبأ (¬2) وقال كثير: أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم ... فلم يحل بالعينين بعدك منظر (¬3) {إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني فيما فعل بسبأ. {لَآيَاتٍ} عبرًا ودلالات. {لِكُلِّ صَبَّارٍ} قال ابن عباس: عن معاصي الله، (شكور) لأنعم الله (¬4). وقال مقاتل: يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء، إذا ابتلي شاكر لله على نعمه (¬5). 20 - قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} وقرئ: صَدَقً، بالتشديد والتخفيف. قال أبو إسحاق: صدقه في ظنه أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، فمن شدد نصب الظن؛ لأنه مفعول به، ومن خفف نصب ¬

_ (¬1) هذا مثل للعرب، يضرب للقوم إذا تفرقوا. انظر: "مجمع الأمثال" 2/ 4. (¬2) شطر بيت لم أقف على تمامه ولا قائله، وهو في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 251، "اللسان" 1/ 94 بلا نسبة. (¬3) البيت من الطويل، هو لكثير عزة في "ديوانه" ص 328، "شرح شواهد المغني" 2/ 687، "اللسان" 1/ 94. (¬4) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وقد أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 493، "تفسير الماوردي" 4/ 446، "تفسير القرطبي" 14/ 291 بدون نسبة. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 98 ب.

الظن، على معنى صدق ظنا ظنه، وصدق في ظنه (¬1) هذا كلامه. وشرحه أبو علي فقال: معنى التخفيف أنه صدق ظنه، أي الذي ظن بهم من متابعتهم إياه إذا أغواهم، وذلك نحو قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] و {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] وهذا ظنه؛ ذلك عن يقين؛ لأنه لم يقل بظنه (¬2) على هذا ينتصب انتصاب المفعول به، ويجوز تعديته إلى المفعول به كما قال: فإن تك ظني صادقي فهو صادقي (¬3) ويجوز أن ينتصب انتصاب الظرف، على تقدير: صدق عليهم الظن، على أنه مفعول به وعدي صدق إليه كما قال: فإنْ لم أصدَّق ظنكَ بتيقنٍ ... فلا سقتِ الأوصالَ منِّي الرواعدُ (¬4). واختلف المفسرون في هذه الآية؛ فمذهب ابن عباس في رواية عطاء أزال كناية في قوله: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ} عن أهل سبأ (¬5). وقال في قوله: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: يريد قليلاً من الذين صدقوا الأنبياء ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعربه" 4/ 251. (¬2) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: فظنه، كما في "الحجة" 6/ 21. (¬3) شطر بيت من الطويل، لم أقف على قائله، وقد ورد في "إملاء ما من به الرحمن" 2/ 197، وكذا في "الدر المصون" 5/ 442. وجاء البيت بتمامه في "مجمع البيان" 8/ 607 برواية: إن يك ظني صادقًا وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبسا وعرا ونسبه محققه إلى مكبرة بنت بردام شملة، تقول: إن يك ظني بشملة صادقًا يحبسهم، أقي القوم الذين قتلوا أباه بتلك المعركة محبسا صعبا يدركه فيه ثأر أبيه (¬4) بيت من الطويل ولم أقف على قائله. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 87، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 430.

21

وآمنوا بالله. وعلى هذا الاستثناء من سبأ، وهم من آمن منهم. ومذهب مجاهد (¬1) أن الكناية عن الناس كلهم، قال: صدق ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله. وهو ظاهر مذهب المفسرين. قال مقاتل: يعني عباده المخلصين لم يتبعوهم في الشرك (¬2)، وهم الذين قال الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] 21 - وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} قال أبو إسحاق: المعنى ما امتحنا بإبليس إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة إلا لنعلم ذلك علم وقوعه منهم، وهو الذي يجازون عليه (¬3). وشرح ابن قتيبة الآيتين شرحًا شافيًا فقال: إن إبليس لما سأل الله النظرة فأنظره قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} الآية. وقال: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (¬4) وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنًا أن ما قرره فيهم يتم، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم، ثم قال: وما كان تسليطنا إياه (¬5) إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين، يعني: نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء، فأراد جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمن ظاهرًا، وكفر الكافر ظاهرًا موجودًا كقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع البيان" 8/ 608، "تفسير القرطبي" 14/ 292. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 252. (¬4) قال تعالى في سورة النساء: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}. وقال في سورة الحجر: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الآية: 39. (¬5) في (ب): (إلا إياه) وهو خطأ.

22

{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] (¬1)، وقد مر الكلام فيه (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وجميع المفسرين في هاتين الآيتين (¬3). قوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} قال مقاتل: كل شيء من الإيمان والشك رقيب (¬4). 22 - قوله: {قُلِ} أي: لكفار مكة. {ادْعُوا} استنصروا، واستعينوا كقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة: 23]. وقوله: {تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197]. وقوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أي: الذين زعمتم أنهم آلهة وأنهم ينصرونكم، فأضمر مفعول الزعم، قال المفسرون (¬5): يعني الشركاء والملائكة وجميع من عبدوهم من دون الله. قال مقاتل: يقول: ادعوهم فليكشفوا عنكم التفسير الذي نزل بكم في سني الجوع (¬6). ثم وصفهم وأخبر عنهم فقال: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} أي: من خير وشر ونفع وضر. {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} يريد: ما شاركونا في شيء من خلقهما. {وَمَا لَهُ} وما لله. {مِنْهُمْ} من الشركاء والمعبودين. {مِنْ ظَهِيرٍ} من معين على شيء. قال مقاتل: ثم ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن": ص 311 - 312. (¬2) عند تفسير الآية 142 من آل عمران. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 87، "تفسير الماوردي" 4/ 447، "مجمع البيان" 8/ 608، "زاد المسير" 6/ 449، "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 88، "بحر العلوم" 3/ 72، "تفسير القرطبي" 14/ 295، "زاد المسير" 6/ 451. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ.

23

ذكر الملائكة الذين يرجون شفاعتهم. 23 - وقوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} يعني: شفاعة الملائكة. {عِنْدَهُ} عند الله (¬1). {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} قرئ: بضم الهمزة وفتحها، فمن فتح بني الفعل للفاعل، وأسنده إلى ضمير اسم الله؛ لقوله تعالى: {لَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}، ومن ضم الهمزة بني الفعل للمفعول وهو يريد هذا المعنى (¬2). والآذن في القراءتين هو الله تعالى، كقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} والمجازي في الوجهين هو الله تعالى. قال الفراء: أي لا تنفع شفاعة ملك مقرب ولا نبي حتى يؤذن له في الشفاعة، ويقال: حتى يؤذن له فيمن يشفع، فيكون (من) للمشفوع له (¬3). وذكر أبو إسحاق أيضًا الوحهين جميعًا فقال: ويجوز أن يكون [من] (¬4) في قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} للشافعين؛ لأنه كنى عنهم بقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} والذين فزع عن قلوبهم هاهنا الملائكة، هذا كلامه. وتقدير الوجهين: إلا لمن أذن له في أن يشفع إذا كان (من) للشافع، وإن جعلت (من) للمشفوع فالتقدير: إلا لمن أذن له في أن يشفع له (¬5). وكلام المفسرين في هذه الآية يدل على أن (من) للمشفوع له؛ قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن وحد الله (¬6) كقوله في الأنبياء ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬2) انظر: "علل القراءات" 2/ 553، "حجة القراءات" ص 589. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 361. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 252. (¬6) انظر: "الوسيط" 3/ 294، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 431.

{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. وقال مقاتل: لا تنفع شفاعة الملائكة عنده لأحد إلا لمن أذن له أن يشفعوا له من أهل التوحيد. قال: ثم أخبر عن خوف الملائكة (¬1) فقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وقُرِئ: فَزَع، بفتح الفاء والزاي. قال أبو عبيدة: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}: نفس عنها (¬2). وقال الفراء وأبو إسحاق: فزع: كشف الفزع عن قلوبهم، وفزع: كشف الله الفزع عن قلوبهم (¬3). ومعنى القراءتين سواء كما ذكرنا في أذن وأذن (¬4). والتفزيع يريد المعنيين: أحدهما: إزالة التفزيع بالتمريض (¬5)، وقد جاء مثل هذا في أفعل، قالوا: أشكاه (¬6) إذا أزال عنه ما يشكوه، ويقال: فزعه وأفزعه، إذا روعه. قال ابن عباس: يريد سوى عن قلوبهم (¬7). وقال قتادة والكلبي: جلي عن قلوبهم (¬8). وقال مقاتل: انجلى الفزع ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 147. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 361، "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 253. (¬4) سورة الحج: الآية 27. قال: معنى التأذين: النداء والتصويت للإعلام، ثم أحال على قوله {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ}، وقوله: {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ}. (¬5) في "الوسيط": والتفزيع إزالة الفزع كالتمريض. فلعل ما أثبت هنا خطأ، والصواب ما بينته من الوسيط. (¬6) في (ب): (مشكاه). (¬7) ذكر بعض المفسرين قول ابن عباس: جلي عن قلوبهم. انظر: "الماوردي" 4/ 484، "القرطبي" 14/ 295. (¬8) لم قف عليه منسوبًا لهما،، وقد نسبه الطبري 22/ 90 لابن عباس.

من قلوبهم (¬1). وهو معنى وليس بتفسير. وأما معنى الآية روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} الآية" (¬2). وروي عن أنس بن سمعان (¬3) أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رعدة شديدة خوفًا من الله، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا (¬4) وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله بما أراد من وحيه، فيمضي به جبريل على الملائكة سماء سماء، كلما مر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬2) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير: تفسير سورة سبأ 4/ 1804 رقم الحديث (4522) وتمامه: "فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع" الحديث، وأخرجه الترمذي في "سننه" كتاب التفسير: تفسير سورة سبأ 5/ 40، رقم الحديث (3276)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) هكذا ورد في (أ)، وفي (ب): (أنس سمعان)، وهو خطأ، والصواب هو: النواس بن سمعان، فهو راوي هذا الأثر، ولم أجد فيما عندي من مراجع راويا لهذا الحديث بهذا الاسم. والنواس بن سمعان هو: النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط العامري الكلابي، ويقال: الأنصاري، له صحبة، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه جبير بن نفير الخضرمي وأبو إدريس الخولاني. يقال: إن أباه سمعان وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهدى إليه نعليه فقبلهما وزوج أخته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: إنه لما دخل بها تعوذت منه فتركها، وهي الكلابية، والله أعلم. انظر: "الاستيعاب" 3/ 539، "الإصابة" 3/ 549، "أسد الغابة" 5/ 45 (¬4) في (ب): (ضعفوا).

بأهل سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل. فيقول: الحق (¬1). وروى الزهري عن أبي إدريس (¬2) قال: إذا تكلم الله جل ثناؤه وجدت السموات ومن فيهن رجفة، حتى إذا ذهب ذلك عنها نادى بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، فذلك قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (¬3). وقال ابن عباس: إذا تكلم الله بالوحي، يسمع أهل السموات صوتا كصوت الحديد على الصفا، فيخرون سجدًا لذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا ... (¬4) الآية. ونحو هذا قال ابن مسعود (¬5). وقال قتادة والكلبي: لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام وبعث الله محمدًا، أنزل الله جبريل بالوحي، فلما نزل، ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من الساعة فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع يرفعوا رؤوسهم (¬6)، وقال بعضهم لبعض: ماذا ¬

_ (¬1) أورده الثعلبي في "تفسيره" 3/ 219. (¬2) هو: أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله، ويقال فيه: عيذ الله بن إدريس بن عائذ الخولاني، تقدمت ترجمته. (¬3) لم أقف عليه عن أبي إدريس من طريق الزهري. وقد أورد الثعلبي في "تفسيره" 3/ 219 أ، هذا الأثر من طريق الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله. (¬4) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 697، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬5) الأثر المروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه بو داود في "سننه" كتاب: السنة، باب: في القرآن 4/ 235، رقم الحديث (4738)، و"الطبري" 22/ 90. وأورده السيوطي في "الدر" (6/ 699) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي. (¬6) هكذا جاء الكلام في النسخ! وفيه اضطراب، والصواب: فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض. انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 197.

قال ربكم؟ قالوا: الحق، يعني الوحي (¬1). ونحو هذا قال مقاتل (¬2) سواء. وعلى هذا إنما يكون فزعهم من هول قيام الساعة. وهو اختيار الفراء، والزجاج (¬3). وعلى ما ذكرنا أولاً إنما فزعوا للوحي. هذا مذهب المفسرين في هذه الآية. ويبقى إشكال في النظم، وهو أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} كيف يليق بما تقدم من الكلام، وأين الخبر عن فزعهم حتى يذكر زوال الفزع؟ قال صاحب النظم: لا يكاد يكون حتى إلا متصلة بخبر قبلها، ولم يتقدم هاهنا في الظاهر شيء تكون هي معطوفة عليه فهي في الظاهر منقطعة مما قبلها ومبتدأة، وهي في الباطن متصلة بمعنى متقدم مضمر، ومعنى فزع عن قلوبهم قد جاء في التفسير أخرج منها الفزع، فهذا دليل على أنه يصيبهم فزع شديد من شيء يحدث عليهم من أقدار الله -عز وجل-، ولم يقل الله حتى إذا فزع عن قلوبهم إلا وهم يفزعون. هذا كلامه. وشرح هذا أن حتى هاهنا منقطع في اللفظ عما قبله، وقد ذكرنا جواز هذا عند قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} (¬4)، وهو في المعنى متصل بمضمر دل عليه الظاهر، وذلك أن فزع معناه: أخرج الفزع، وإخراج الفزع يدل على حصوله وحدوثه، فكأنه قد ذكر فزعهم من الوحي أو من هول قيام الساعة على ما ذكر المفسرون حتى إذا أزيل ذلك الفزع قالوا: ماذا قال ربكم. ومعنى الآية: أن ¬

_ (¬1) ذكره النحاس في "معاني القرآن" 5/ 417، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 453، و"القرطبي" 14/ 297. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 361، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 253. (¬4) سورة يونس: الآية 110.

24

الله أعلمهم أن الملائكة الذين يعبدونهم بهذه الحال من الخوف والفزع، كيف يعبدون من هو بهذه الصفة. أفلا يعبدون من تخافه الملائكة؟! ومذهب مجاهد والحسن وابن زيد في هذه الآية: أن الكناية في قوله: {عَنْ قُلُوبِهِمْ} للمشركين، يقول: حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم في الآخرة إقامة الحجة عليهم، قالت الملائكة لهم: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} في الدنيا {قَالُوا الْحَقَّ} فأقروا حين لا ينفعهم (¬1). وعلى هذا القول أيضًا وجه النظم ما ذكر. وقوله: {الْحَقَّ} قال الزجاج وأبو علي: التقدير: قالوا: قال الحق (¬2). {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، قال مقاتل: يعني الرفيع الذي فوق خلقه، الكبير العظيم فلا شيء أعظم منه (¬3). 24 - قوله: {قُلْ} أي: لكفار مكة. {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تقدم تفسيره في سورة يونس (¬4). وهذا احتجاج عليهم بأن الله الذي يرزق هو المستحق للعبادة لا غيره مما لا يرزق، وأخبر عنهم في سورة يونس أنهم يعتقدون بأن الرزاق هو الله، وهو قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}. وهاهنا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول: الرزاق هو الله، هو قوله: {قُلِ اللَّهُ} والمعنى: استفهم عن الرزاق، ثم أخبر أني أنا الرزاق، وذلك أنه إذا استفهم لم يمكنهم أن يثبتوا رازقًا غير الله، فثبت الحجة عليهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" ص 527، "الطبري" 22/ 92، "الماوردي" 4/ 438، "القرطبي" 14/ 297. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 253 (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 99 أ. (¬4) آية 31.

أي: هو الله. وقال صاحب النظم: هذا محمول على أنه لما أمر بقوله: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ} بعد الأمر قل لهم ذلك، فقالوا له: فمن يرزقنا، فأجابهم الله بقوله: {قُلِ اللَّهُ} وتم الكلام، ثم أمره بأن يخبرهم أنهم على الضلال بعبادة غير الله بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} الآية، على تقدير: ثم قل: وإنا أو إياكم. روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: الألف صلة للكلام يريد ألف أو (¬1). وشرح صاحب النظم هذا فقال: أو هاهنا بمنزلة واو النسق، وتأويلهما مبتدآن مجموعان لها جوابان مجموعان، فيرد إلى كل واحد منهما ما يقتضي، وهو أن يكون الهدى لقوله: {وَإِنَّا}، والضلال لقوله: {إِيَّاكُمْ}، قلنا في أشباهه مثل قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] فابتغاء الفضل بالنهار والسكون بالليل، ومنه قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسًا لدي ... [ذكراها] (¬2) العناب والحشف البالي (¬3) وهذا الذي ذكره صاحب النظم، هو معنى قول أبي عبيدة قال: معناه ¬

_ (¬1) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 494، ولم ينسبه لأحد. (¬2) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: وكرها. (¬3) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس في "ديوانه" ص 38، "الكامل" 2/ 740، "شرح شواهد المغني" 1/ 342، 2/ 595، 819. يقول: كأن قلوب الطير رطبا: العناب، ويابسًا: الحثشف البالي. انظر: "شرح ديوان امرئ القيس" 166.

إنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين (¬1). وهو معنى قول مقاتل: نحن وأنتم أمر واحد أن أحد الفريقين لعلى هدى، يعني: النبي نفسه وأصحابه، وإنكم لفي ضلال مبين، يعني: كفار مكة (¬2). وعلى هذا القول يجب أن يكون أو في، قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} وقوله: {أَوْ فِي ضَلَالٍ} يعني واو النسق، وهو مذهب المفسرين. قال الفراء: (معنى " أو" معنى الواو عند المفسرين، والعربية على غير ذلك، لا تكون "أو" بمنزلة الواو كما تقول: خذ درهمًا أو اثنين، فله (¬3) أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذ الثلاثة، وفي قول من لا يبصر العربية ويجعل "أو" بمنزلة الواو يجوز له أن يأخذ الثلاثة؛ لأنه في قولهم بمنزلة: خذ درهمًا واثنين. والمعنى في {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ}: إنا لضالون أو مهتدون، وهو تعالى يعلم أن رسوله المهتدي وأن غيره الضال، وأنت تقول في الكلام للرجل: والله إن أحدنا لكاذب، نكذبته كذبًا غير مكشوف، وهو في القرآن وكلام العرب كثير أن يوجه الكلام إلى أحسن مذاهبه إذا عرف، كقولك لمن قال فلان وهو كاذب في ذلك قل: إن شاء الله، أو قل: فيما أظن، فتكذبه بأحسن من صريح التكذيب) (¬4). ونحو هذا قال الكسائي والأخفش والمبرد، قالوا: ليس معنى أو هاهنا الشك، وقد يتكلم بمثل هذا من لا يشك، كقول القائل: أنا اختار كذا ويختار ابن (¬5) كذا وأحدنا مخطئ، ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 148. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 99 ب. (¬3) في (ب): (قيله). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 362. (¬5) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: فلان.

25

وليس يشك في خطأ صاحبه، وأنشدوا لأبي الأسود. يقول الأرذلون بني (¬1) قشير ... طوال الدهر ما ننسى عليا بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا فإن يك حبهم رشدًا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا (¬2) فقاله عن غير شك، وقد أيقن أنه ليس بغي، ولكنه استظهار في الحجاج (¬3). وقال أبو إسحاق: في التفسير وأنا على هدى وإنكم إلى ضلال، وهذا في اللغة غير جائز لكنه يؤول إلى هذا المعنى، والمعنى: إنا لعلى هدى أو في ضلال، وهذا كما يقول القائل: إذا كانت الحال تدل على أن أحدنا صادق أو كاذب ويؤول معنى الآية إلى: إنا لما أقمنا من البرهان لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين هذا كلامه (¬4). وهو موافق لقول الفراء (¬5). وتلخيص الآية: أن أو ظاهرة للشك وليس المعنى على ذلك، والمفسرون راعوا حقيقة المعنى، ولذلك جعلوا أو بمنزلة الواو. 25 - قوله تعالى: {قُلْ} أي: لقومك. {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} قال ابن عباس: لا تؤاخذون بجرمنا، ولا نسأل عن كفركم وتكذيبكم، وهذا ¬

_ (¬1) هكذا في (أ)، وفي (ب): (بين)، وهو خطأ، والصواب: بنو؛ لأنه بدل. (¬2) الأبيات من الوافر، لأبي الأسود الدؤلي، وهي من ديوانه ص 176 - 177، وانظرها منسوبة إليه في: "مجاز القرآن" 2/ 148، "الكامل" 3/ 936، "مجمع البيان" 8/ 610، "روح المعاني" 22/ 140. (¬3) "معاني القرآن" للأخفش 2/ 445، وذكر القول ونسبه للمبرد: "تفسير القرطبي" 14/ 299، ولم أقف على قول الكسائي. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 253. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 362.

26

على التبري منهم ومن أعمالهم (¬1) كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]. وهذا مما نزل قبل السيف (¬2). 26 - {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يعني بعد البعث في الآخرة يوم القيامة. {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} ثم يقضى ويحكم بيننا بالعدل. {وَهُوَ الْفَتَّاحُ} القاضي. {الْعَلِيمُ} بما يقضى. 27 - قوله: {قُلْ} للكفار {أَرُونِيَ} أعلموني. {الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أي: ألحقتموهم بالله في العبادة معه شركاء، وهو نصب على الحال، وفي الآية محذوف به يتم المعاني (¬3) بتقدير: هل يرزقون ويخلقون وينفعون ويضرون، ثم قال: {كَلَّا} [قال أبو إسحاق: معنى كلا] (¬4) قالوا لما قال لهم: {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} هم (¬5) هذه الأصنام أو ما أشبه ذلك من الكلام، فرد الله عليهم بقوله: {كَلَّا}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 431، وذكر هذا المعنى أكثر المفسرين، ولم ينسبوه لابن عباس. (¬2) وبهذا القول -وهو أن هذه الآية منسوخة بآية السيف- قال بعض العلماء، ومنهم: ابن القاسم البذوري في "قبضة البيان في ناسخ ومنسوخ القرآن" ص 20، هبة الله بن سلامة المقري في "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله -عز وجل-" ص 145، وابن البارزي في "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" ص 45. ومن العلماء من لا يرى النسخ في هذا الموضع، وإنما فيه بيان أن كل أحد مؤاخذ بعمله، فلا تظلم نفس شيئًا. وممن قال بعدم النسخ: مكي بن أبي طالب في "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 388، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 455. ولعل هذا هو الراجح؛ لإمكانية الجمع بين الآيتين دون الحاجة إلى القول بالنسخ، إذ لا تعارض بينهما. (¬3) هكذا في (ب)، وفي (أ): (المعالي)، وهو تصحيف، إذ الصواب: المعنى. (¬4) ما بين المعقوفين يظهر أنه زائد؛ لأن كلام أبي إسحاق ذكر بعد سطر. (¬5) (هم) ساقط في (ب).

28

قال أبو إسحاق: (معنى كلا ردع وتنبيه، المعنى: ارتدعوا عن هذا القول وانتهوا عن ضلالكم) (¬1). وهذا يدل على أنهم أجابوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يوجب زجرهم وردعهم. قوله: {بَلْ} أي: ليس الأمر على ما ذكرتم إلحاق الشركاء (¬2) به الذي يضر وينفع ويخلق ويرزق. {هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} في ملكه {الْحَكِيمُ} في أمره. 28 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} قال ابن عباس: يريد لجميع الخلق (¬3). وقال مقاتل: يعني عامة (¬4). وهو قول أبي عبيدة وابن قتيبة (¬5). وعلى هذا يجب أن يكون التقدير: إلا للناس كافة، كقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، فيكون المعنى: وما أرسلناك إلا للناس كلها عامة أحمرهم وأسودهم (¬6). وذكرنا معنى الكافة (¬7) فيما تقدم. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 254. (¬2) هكذا جاءت العبارهَ، والذي يظهر أنه خطأ، فقد جاءت العبارة في الوسيط: أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من إلحاق الشركاء الوسيط 3/ 495. (¬3) انظر: "الماوردي" 4/ 450، وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 495. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 99 ب. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 149، "تفسير غريب القرآن" ص 357. (¬6) ويزيد هذا القول ويدل عليه الحديث الذي يرويه جابر بن عبد الله، أخرج مسلم في "صحيحه" 1/ 370 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم الحديث (521)، قال جابر -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود" الحديث. (¬7) لعله عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] قال: وقوله (كافة) يجوز أن يكون معناه: ادخلوا جميعًا، ويجوز أن يكون معناه: في السلم كافة، أي في جميع شرائعه.

29

وقال أبو إسحاق: (المعنى: أرسلناك جامعًا للناس بالإنذار والإبلاغ) (¬1). والكافة على هذا معناه: الجامع الذي يمنع أن يشذوا (¬2)، النبي -صلى الله عليه وسلم- جامع للناس كلهم في الإنذار والتبشير [جامع] (¬3) مانع من أن يشذ واحد عن حكم رسالته. والهاء في الكافة تكون للمبالغة، ويجوز أن يكون الكافة مصدرًا على فاعلة، كالخاينة والكاذبة واللاعنة، ويكون (¬4) التقدير على حذف المضاف بمعنى: إلا ذا كافة للناس، أي: ذا منع لهم من أن يشذوا عن تبليغك. وهذا الوجه يقوي قول من ذهب في معنى الآية إلى أنه بعث ليكف الناس عما هم عليه من الكفر. ولا يحتاج في هذا القول إلى تقدير التقديم والتأخير، وقوله: {أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قال مقاتل: يعني كفار مكة (¬5). 29 - وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} يعنون بالوعد (¬6) للعذاب الذي ينزل بهم بعد الموت في قول ابن عباس (¬7). وإنما قالوا هذا؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث. وقيل: يعنون العذاب النازل بهم في الدنيا. وهو قول ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 254. (¬2) هكذا جاءت العبارة، ولعل المراد يمنع الناس أن يشذوا، كما تفسره العبارة التالية. (¬3) هذه الكلمة زيادة من (ب)، وليست مثبتة في (أ). (¬4) (يكون) ساقطة من (ب). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 99 ب (¬6) في (ب): (بالولد)، وهو تصحيف. (¬7) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص431، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 456، ولم ينسب لابن عباس.

30

الربيع (¬1). 30 - فقال الله: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} الآية. قال ابن عباس: يريد يوم القيامة (¬2). وقال الضحاك: يوم النزع والسياق. وعلى قول الربيع هو يوم بدر؛ لأن ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في الدنيا (¬3). 31 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: مشركي مكة. {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال ابن عباس والمفسرون: يعني التوراة والإنجيل (¬4). قال الفراء: لما قال أهل الكتاب صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- في كتابنا، كفر أهل مكة بكتابهم (¬5). ثم أخبر الله عن حالهم في الآخرة بقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} قال مقاتل: يعني: مشركي مكة (¬6). {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال ابن عباس: يريد يوم القيامة. {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} قال: يجادل بعضهم بعضًا (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن الربيع. وقد ذكره القرطبي 14/ 301 نحو هذا القول، ولم ينسبه. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 431، ولم أقف عليه منسوبًا لابن عباس عند أحد من المفسرين. (¬3) انظر: "الوسيط" 3/ 495، "زاد المسير" 6/ 456. (¬4) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 341، وذكره "تفسير الطبري" 22/ 97 وعزاه لقتادة، و"تفسير الماوردي" 4/ 451 وعزاه للسدي. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 362. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 99 ب. (¬7) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 431.

33

وقال مقاتل: يرد بعضهم على بعض القول (¬1). ثم أخبر عن جدالهم وما يجري بينهم فقال: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الأتباع. {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} يعني: الذين تكبروا عن الإيمان، وهم الأشراف القادة. {لَوْلَا أَنْتُمْ} معشر الكبراء. {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} مصدقين بتوحيد الله. 33 - وقوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، قال قتادة: بل مكركم بالليل والنهار (¬2). وقال الكلبي ومقاتل: بل قولكم لنا بالليل والنهار (¬3). قال الأخفش: الليل والنهار لا يمكران لأحد، ولكن يمكر فيهما، كقوله (¬4): {مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] وهذا من سعة العربية (¬5). وقال المبرد: (أي بل مكركم بالليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم، أي: هو قائم في ليله صائم في نهاره. وقال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم) (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 99 ب. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 419 "تفسير القرطبي" 14/ 302. (¬3) انظر: "تفسير هود بن محكم" 3/ 401، فقد نسب القول للكلبي، ولم أقف عليه منسوبًا لمقاتل وليس في تفسيره. (¬4) في (أ): (كقولك)، وهو تصحيف. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 363. (¬6) البيت من الطويل، وهو لجرير في "ديوانه" ص 993، "الكتاب" 1/ 165، "لسان العرب" 2/ 442 (ربح)، "خزانة الأدب" 1/ 465، 8/ 202. والشاهد فيه: وصف الليل بالنوم اتساعًا ومجازًا. (¬7) "الكامل" 1/ 188، 3/ 1170.

34

وأنشد سيبويه: قيام لي ويحل هي .. (¬1) أي: نمت فيه، ونحو هذا قال الفراء (¬2) والزجاج (¬3). وذكر في مكر الليل والنهار قولان آخران، كلاهما غير سائغ في اللغة والتأويل فتركتهما، وذكرنا معنى قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} [يونس: 54] (¬4). قوله: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس: غلو بها في النيران والشركاء، وهم من الشياطين (¬5). وقوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استفهام معناه التوبيخ، والتقدير: إلا جزاء ما كانوا يعملون. قال مقاتل: من الشرك في الدنيا (¬6). 34 - وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي: نبي ينذر أهل تلك القرية {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} قال ابن عباس: الملوك وأهل الغنى (¬7). وقال ¬

_ (¬1) هكذا جاء في النسخ! وهو تصحيف، والصواب: فنام ليلي وتقضى همي. وهو رجز لرؤبة في "ديوانه" ص 142، "المحتسب" 2/ 184. والشاهد فيه قوله: فنام ليلي، يريد نمت في ليلي، فنسب الفعل إلى الليل للملابسة التي بين الشاعر وبيته. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 363. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 254. (¬4) آية 54. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "القرطبي" 14/ 355. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس، وذكره أكثر المفسرين. انظر: "الطبري" 22/ 99، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 419، "الماوردي" 4/ 452.

35

مقاتل: أغنياؤها وجبابرتها (¬1). وقال أبو إسحاق: أو (¬2) الترفه وهم رؤساؤها (¬3). {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} وهو التوحيد {كَافِرُونَ}. 35 - قوله تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} قال ابن عباس: يعني مشركي [مكة] (¬4)، افتخروا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين بأموالهم وأولادهم، وظنوا أن الله تعالى إنما خولهم بالمال والولد الكرامة لهم عنده فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي: أن الله قد أحسن إلينا بالمال والولد فلا يعذبنا، فقال ابن عباس (¬5): أنكروا البعث والقيامة، فقال الله تعالى لنبيه: 36 - {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يعني: أن بسط الرزق وتضييقه من الله تعالى يفعله ابتلاء وامتحانًا، وليس شيء منه يدل على ما في العواقب، فلا البسط يدل على رضا الله، ولا التضييق يدل على سخطه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يعني: أهل مكة. {لَا يَعْلَمُونَ} ذلك حيث ظنوا أن أموالهم وأولادهم دليل على كرامة لهم عند الله. 37 - ثم صرح بهذا المعنى فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} قال الفراء: (جعل التي جامعة للأموال والأولاد؛ لأن الأولاد يقع عليها التي وكذلك الأموال، فصلح أن يقع عليهما جميعًا التي، ولو قيل بالتي أو بالذين جاز، كما تقول: أما العسكر والإبل فقد أقبلا، ولو قيل: بالذين، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬2) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: أولوا، كما في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 255 (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير القرطبي" 14/ 305، "تفسير الماوردي" 4/ 452.

يذهب إلى تذكير الأولاد وتغليب بني آدم لجاز، ولو قال: لو وجهت التي إلى الأموال واكتفيت بها من ذكر الأولاد لصلح، كما قال الأسدي (¬1): نحن بما عندك وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف (¬2) (¬3) واختار أبو (¬4) إسحاق هذا القول فقال: (المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم، ولكنه حذف اختصارًا وإيجازًا) (¬5). قوله تعالى: {تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} قال ابن عباس: يريد قربي (¬6). ¬

_ (¬1) هو: أبو حسان المراد بن سعيد بن حبيب الفقعسي، نسبته إلى فقعس من بني أسد ابن خزيمة، شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كثير الشعر، وكان مفرط القصر ضئيلا. انظر: "الشعر والشعراء" ص 440، "معجم الشعراء" ص 408. والبيت من المنسرح، وهو من الأبيات المختلف في نسبتها، فقد نسبها المؤلف -رحمه الله- للأسدي، ينما نسبه سيبويه في "الكتاب" 1/ 75 لقيس بن الخطيم، وأورده ابن هشام في "مغني اللبيب" 2/ 622 غير منسوب لأحد، وكذا في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص 677، وفي "المقتضب" 3/ 112، 4/ 73. وقال الاْستاذ: محمد عبد الخالق عظيمة محقق كتاب "المعتصب" 4/ 73: والبيت نسبه إلى قيس بن الخطيم سيبويه، وكذلك فعل الأعلم وصاحب "معاهد التصيص" 1/ 189. و"صحح البغدادي في الخزانة" 2/ 189 نسبة الشعر إلى عمرو بن امرئ القيس. والقصيدة التي فيها هذا الشاهد في ديوان قيس بن الخطيم، طبع بغداد، ص 81. أهـ. (¬2) في (ب): (يختلف). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 2/ 363. (¬4) في (ب): (ابن)، وهو تصحيف. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 255 (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس. وقد نسبه إلى مجاهد: "الطبري" 22/ 100، "الماودي"، 4/ 453، الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 615.

وقال مقاتل: يعني قربة (¬1). قال الأخفش: زلفى هاهنا اسم المصدر، كأنه أراد بالتي تقربكم عند تقربنا (¬2). وذكرنا معنى الإزلاف عند قوله: {وَأَزْلَفْنَا} (¬3) {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]، وقوله {إِلَّا مَنْ آمَنَ} (¬4) قال الفراء: إن شئت أوقعت التقريب على من، أي: لا تقرب الأموال إلا من كان مطيعًا (¬5). ونحو هذا قال الزجاج، قال: موضع من نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم، على معنى: ما تقرب الأموال إلا من آمن وعمل بها في طاعة (¬6). وعلى هذا يجب أن يكون الخطاب في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} للمؤمنين والكافرين. والوجه أن يكون قوله: إلا من، استثناء منقطعًا، على تقدير: لكن من آمن وعمل صالحًا. وعلى هذا يدل تفسير ابن عباس، [فإنه] (¬7) قال في قوله: إلا من آمن وعمل صالحًا [يريد] أن عمله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 2/ 445، وعبارة الأخفش: بالتي تقربكم عندنا إزلافًا. (¬3) سورة الشعراء: الآية 64. وموضعها بياض في (ب). وقال في هذا الموضع من "البسيط": وقال أبو عبيدة: أزلفنا جمعنا، قال: ومن ذلك سميت مزدلفة جمعا. ثم قال: والزلف الفازل والمراقي؛ لأنها تدني المسافر والراقي إلى حيث يقصده، ومنه قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}. (¬4) موضع (إلا) بياض في (ب). (¬5) "معاني القرآن" 2/ 363. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 255. (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (ب).

وإيمانه يقر [بأنه] مني (¬1). ولم يفسر بان أمواله وأولاده تقربه حتى يكون مستثنى من الخطاب الأول. وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} قال ابن عباس: يريد يضعف الله لهم حسناتهم (¬2). وقال مقاتل: يجزي بالحسنة الواحدة عشرًا فصاعدًا (¬3) وقال أبو إسحاق: (جزاء الضعف هاهنا عشر حسنات، تأويله: فأولئك لهم جزاء الضعف الذي قد أعلمناكم مقداره، وهو من قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]) (¬4). وقال ابن قتيبة: لم يرد أنهم يجازون على الواحدة بواحدة مثله ولا [اثنين] (¬5)، كيف هذا والله يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ولكنه أراد لهم جزاء الضعف، أي: التضعيف، وجزاء التضعيف الزيادة، أي: لهم جزاء الزيادة. قال: ويجوز أن يجعل الضعف في معنى الجميع (¬6)، أي: جزاء الأضعاف، ونحوه {عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61]) (¬7). وقد مر تفسير الضعف عند قوله: {عَذَابًا ضِعْفًا} (¬8)، وتأويل ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 432. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 100/ أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 255. (¬5) ما بين المعقوفين غير واضح في جميع النسخ، والتصحيح من تفسير غريب القرآن لابن قتيبة. (¬6) في (ب): (الجمع). (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 357 - 358. (¬8) سورة الأعراف: الآية 38.

قوله: {جَزَاءُ الضِّعْفِ} وهو أن يجازي بالواحد (¬1) عشر إلى ما زاد، فمعنى إضافة الجزاء إلى الضعف وهو الجزاء، كإضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظ، ويضمر المضاف إليه زيادة معنى نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى. {بِمَا عَمِلُوا} أي: من الخير في الدنيا. {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} يعني: غرف الجنة آمنون من الموت. قاله مقاتل (¬2). وقال ابن عباس: يريد غرفا من ياقوت ودر وزبرجد آمنون من الموت والعذاب (¬3). (وقرأ حمزة: في الغرفة، على واحدة؛ لقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]. فكما أن الغرفة، يراد بها الكثرة والجمع، كذلك قوله {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} يراد بها الكثرة واسم الجنس، وحجة الجمع قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر: 20]، وقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت: 58]. وكما أن غرفا جمع كذلك الغرفات ينبغي أن تجمع، والجمع بالألف والتاء قد تكون للكثرة كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، وقول آخر: لنا الجفنات الغر (¬4) ¬

_ (¬1) في (ب): (بالواحدة). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬3) انظر: "القرطبي" 14/ 306. (¬4) جزء من بيت، وتمامه: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما والبيت من الطويل، وهو لحسان بن ثابت في "ديوانه" ص 131، "الكتاب" =

39

فهذا لا يريد إلا الكثرة؛ لأن ما عداها لا يكون موضع افتخار (¬1). 39 - قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، وروى أبو عبد عن اليزيدي: أخلف الله لك (¬2). وروى سلمة عن الفراء قال: سمعت: أخلف الله عليك، ويقال: أخلف الله لك، أي: أبدل الله لك ما ذهب (¬3). ويقال: قد أخلف الشجر إخلافًا، وذلك إذا أخرج ورقًا بعد ورق قد تناثر، والآية مختصرة، لأن المعنى فهو يخلفه لكم أو عليكم. قال سعيد بن جبير: وما أنفقتم من شيء في غير الإسراف ولا تقتير فهو يخلفه (¬4). وقال الكلبي: ما تصدقتم وانفقتم في الخير والبر من نفقة فهو يخلفه، إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخره له في الآخرة. وروى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل معروف صدقه وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفه ضامنًا إلا ما كان من نفقة في [بنيان] (¬5) أو معصية" (¬6). وقد ¬

_ = 3/ 578، "لسان العرب" 14/ 136 (جداً)، "المحتسب" 1/ 187، "خزانة الأدب" 8/ 106، 107، 110، 116. والغر: الأبيض، جمع غراء، يريد بياض الشحم، يقول: جفاننا معدة للضيفان ومساكين الحي بالغداة، وسيوفنا تقطر بالدم لنجدتنا وكثرة حروبنا. والشاهد فيه: جمع جفنة على جفنات مع أنها للقلة مرادًا بها جمع الكثرة. "الكتاب" 3/ 578. (¬1) إلى هنا انتهى النقل من الحجة من قوله: وقرأ حمزة. "الحجة" 6/ 22. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 403 (خلف). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 396 مادة: (خلف). (¬4) انظر: "الطبري" 22/ 101، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 706 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد ابن حميد، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 461. (¬5) انظر: "زاد المسير" 6/ 461. (¬6) ما بين المعقوفين غير واضح في جميع النسخ، والتصحيح من الدر ومجمع البيان.

40

بان بقول هؤلاء أن الآية ليست على ظاهرها من حيث أن كل منفق يستحق خلفًا عاجلاً، بل هو للمقتصدين والمتصدقين، ثم قد يكون عاجلًا في الدنيا ويكون مدخرًا في الآخرة، وقد قال مجاهد في هذه الآية: فإن الرزق مقسوم، فلعل رزقه قليل وهو ينفقه نفقة الموسع عليه (¬1)، وربما أنفق الإنسان ما له في الخير ثم لم يزل عائلا حتى يموت. وهذا يؤكد ما قدمنا. 40 - وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} قال ابن عباس: يريد المشركين (¬2). وقال مقاتل: يعني الملائكة ومن عبدها (¬3). {يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} معنى هذا الاستفهام كالذي في قوله لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} (¬4) الآية، وهو استفهام توبيخ للعابدين، فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وتبرأوا منهم، وهو قوله: 41 - {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تنزيها لك ما أضافوه إليك من الشركاء والمعبودين. {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} قال ابن عباس: ما اتخذناهم عابدين ولا توليناهم، ولسنا نريد غيرك وليا (¬5). {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} قال قتادة: ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع البيان" 8/ 616، وأورده السيوطي في "الدر" وعزاه لابن عدي والبيهقي. (¬2) أورده السيوطي في "الدر" 6/ 706، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬5) انظر: "الوسيط" 3/ 497، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 463، ولم ينسبه لأحد.

42

يعني الشياطين (¬1). وقال مقاتل: بل أطاعوا الشيطان (¬2) في عبادتهم إيانا (¬3). {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} يعني: المصدقين بالشياطين. 42 - ثم يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ} يعني: الآخرة. {لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} يعني: العابدين والمعبودين. {وَلَا ضَرًّا} أي: نفعا بالشفاعة، ولا ضرًا بالتعذيب، يريد أنهم عاجزين (¬4) لا نفع عندهم ولا ضر، وإنما يملكهم الله تعالى. وقال مقاتل: لا تملك الملائكة ولا تقدر أن تدفع عند سوءًا إذا عبدوهم (¬5). وعلى هذا يكون التقدير: ولا دفع ضر، فحذف المضاف. ثم أخبر عنهم أنهم يكذبون بمحمد والقرآن، ويسمون القرآن إفكًا وسحرًا، وهو قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. 44 - ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة، ولم يكذبوا محمدًا عن ثبت عندهم، وهو قوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} قال قتادة: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} قال قتادة:] (¬6) ما أنزل على العرب كتابًا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيًا قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬7). ونحو هذا قال ابن عباس والكلبي (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (ب): (الشياطين). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬4) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: عاجزون. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 10 ب. (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) انظر: "الطبري" 22/ 103، "زاد المسير" 6/ 463، "الوسيط" 3/ 498. (¬8) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 433.

45

قال الفراء: أي من أين كذبوا بك ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه (¬1). وقال مقاتل: يقول ما أعطيناهم كتابًا بأن مع الله شريكًا، ولا أرسلنا إليهم رسولًا بذلك (¬2). 45 - ثم خوفهم وأخبر عن عاقبة من كان قبلهم من المكذبين فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: الأمم الكافرة. {وَمَا بَلَغُوا} يعني: أهل مكة في قوله الجميع. {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ}] (¬3) المعشار والعشير والعشر جزء من العشرة. [قال المفضل] (¬4): لم يرد في العدد مفعال إلا هذا، والمرباع الربع (¬5) (¬6)، وأنشد: لك المرباع منها والصفايا (¬7) والمعشار والعشر في قول الجميع. قال ابن عباس: يقول: وما بلغوا قومك معشار ما آتينا (¬8) من قبلهم، من القوة وكثرة المال وطول العمر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 364. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 100 ب. (¬3) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬4) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬5) في (ب): (الرفع). (¬6) لم أقف على هذا القول عن المفضل، وقد ذكره ابن منظور في "اللسان" 8/ 101 (ربع) عن قطرب، وكذا الزبيدي في "تاج العروس" 21/ 31 (ربع). (¬7) صدر بيت، وعجزه: وحكمك والنشيطة والفضول وهو من الوافر، لعبد الله بن عنمة الضبي في: "الأصمعيات" ص 37، "تهذيب اللغة" 2/ 369، 11/ 314، 12/ 41، 249، "لسان العرب" 11/ 526 (فضل)، 14/ 462 (صفا)، "تاج العروس" 21/ 20 (نشط). (¬8) في (أ): (آتيناهم).

46

وعمران الأرض (¬1). وقال قتادة: ما بلغوا هؤلاء معشار ما أتوا (¬2) أولئك من القوة والجلد، فأهلكهم الله وهم أقوى وأجلد (¬3). وهو قوله تعالى: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} قال ابن عباس: يقول كيف رأيت ما صنعت بالمكذبين (¬4). وقال مقاتل: فكيف كان نكير يعني: تغييري أليس وجدوه حقًّا، يعني: العذاب، يحذر أهل مكة مثل عذاب الذين كانوا أشد منهم قوة (¬5). والنكير اسم بمعنى الإنكار. قال أبو عبيدة: نكيري: عقوبتي (¬6) [وعناي] (¬7). قال الزجاج: وحذفت الياء لأنه آخر آية (¬8). 46 - وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي: آمركم وأوصيكم، أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- قال الزجاج: [أمره] (¬9) أن يقول لقومه: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} (¬10) ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 22/ 103 - 104، "مجمع البيان" 8/ 618، "زاد المسير" 6/ 464، وعزاه للجمهور. (¬2) هكذا في (أ)، وهي بياض في (ب)، والصواب: ما أوتي. (¬3) انظر: "المصادر السابقة، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 422. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 100 أ. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 150. (¬7) ما بين المعقوفين يظهر أنها زيادة من النساخ. إذ لا معنى لها. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 256. (¬9) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬10) المصدر السابق.

قال مجاهد: لا إله إلا الله (¬1). وروي ذلك عن ابن عباس (¬2). وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: بطاعة الله (¬3). وقال مقاتل: بكلمة واحدة الإخلاص (¬4). وقال أبو إسحاق: والطاعة تتضمن التوحيد والإخلاص، أي: فأنا أعظكم بهذه الخصلة الواحدة (¬5). وقوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا} يصلح أن يكون محل (أن) خفضًا على البدل من واحدة، ويصلح أن يكون نصبًا، على تقدير: لأن تقوموا، فحذفت اللام، وهو قول الزجاج (¬6). ويصلح أن يكون رفعا بتقدير: هي أن تقوموا لله مثنى وفرادى، تقوموا منفردين ومجتمعين ثم تتفكروا، أي: الواحدة التي أعظكم بها قيامكم وتشمركم لطلب الحق بالفكرة مجتمعين ومنفردين (¬7). وتم الكلام عند قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} لتعلموا صحة ما أمرتكم به. قال مقاتل: يقول: ألا يتفكر الرجل منكم وحده ومع صاحبه، فينظر أن في خلق السموات والأرض دليلًا على أن خالقها واحد لا شريك له (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 6/ 464، "القرطبي" 14/ 311. وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 710 وعزاه للفريابي وعبد بن حميد. (¬2) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 433. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" ص 528، "الطبري" 22/ 104، "الماوردي" 4/ 455، "زاد المسير" 6/ 465. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 100 ب. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 256. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 257. (¬7) "إملاء ما من به الرحمن" 2/ 198، "البحر المحيط" 8/ 560. (¬8) "تفسير مقاتل" 100/ ب.

ثم ابتدأ فقال: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} هذا معنى قول المفسرين في هذه الآية. وأما أصحاب المعاني فإنهم جعلوا الآية متصلة. قال الفراء: أي يكفيني أن يقوم الرجل منكم وحده أو هو وغيره، ثم تتفكروا هل جربتم على محمد كذبًا أو رأيتم به جنونًا، ففي ذلك ما يتيقنون به أنه بني (¬1). وقال أبو إسحاق: المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هو بمجنون كما يقولون (¬2) (¬3). وعلى هذا الآية نظمها منفصل، ومعنى قوله. بواحدة، أي: بخصلة واحدة، وهو معنى قول الفراء: يكفيني أن يقوم الرجل منكم وحده أو هو وغيره. وشرح ابن قتيبة الآية على هذا المعنى شرحًا شافيًا فقال: (تأويله أن المشركين قالوا: إن محمدًا مجنون وساحر وأشباه هذا، فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى عن الحق، فتقوموا لله وفي ذاته مقامًا يخلو فيه الرجل بصاحبه فيقول له: هلم فلنتصادق هل بهذا الرجل جنة قط أو جربنا عليه كذبًا؟ وهذا موضع قيامهم مثنى، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر ويعتبر (فهذا موضع فرادى، [فإن] (¬4) في ذلك ما دلهم على أنه نذير، وكل من يخبر في أمر قد) (¬5) اشتبه عليه [واستبهم] (¬6) أخرجه من الحيرة فيه: أن ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 263 (¬2) في (أ): (يقولون)، وهو تصحيف. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 257. (¬4) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬5) ما بين القوسين مكرر في (أ). (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ب).

47

يسأل ويناظر، ثم يتفكر ويعتبر انتهى كلامه) (¬1). ومعنى القيام [هاهنا] (¬2) التجرد والانكماش لطلب الحق، كما يقال: قام فلان بهذا الأمر، إذا تجرد [لكفايته] (¬3). ونظير هذه الآية في اللفظ والمعنى قوله في سورة الأعراف: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (¬4) وقد مر الكلام فيه. والقراء أيضًا مختلفون في الوقف على قوله: {وَاحِدَةٍ}، وكان نافع يرى الوقف عندها، وغيره لا يرى ذلك. وكذلك قوله ثم تتفكروا، كان أبو حاتم يقول: هو تمام، وهو على المذهب (¬5) الأول في تفسير الآية (¬6). قوله: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: يريد بين يدي القيامة (¬7). وقال مقاتل: بين يدي عذاب شديد في الآخرة (¬8). 47 - وقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}، قال أبو إسحاق: (معناه ما سألتكم من أجر على الرسالة التي أؤديها إليكم {فَهُوَ لَكُمْ} وتأويله أي: لست أجر إلى نفسي عرضًا من أعراض الدنيا {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي: أني إنما أطلب ثواب الله بتأدية الرسالة) (¬9). ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" ص 312 - 313. (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬3) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬4) آية 184. (¬5) في (أ): (مذهب)، وهو تصحيف. (¬6) انظر: "القطع والإئتناف" ص 345، "منار الهدى في الوقف والابتداء" ص 227. (¬7) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 433. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 100 ب. (¬9) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 257.

48

[أجرًا فتتهموني بذلك] (¬1). ومعنى {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: لم أسألكم شيئًا، كما يقول القائل: مالي في هذا فقد وهبت لك، يريد ليس فيه شيء. وذكر الكلبي ومقاتل ما دل على أنه كان قد سألهم شيئاً ثم تركه لهم كما يقتضي ظاهر اللفظ، وهو أنهما قالا: إنه سألهم أن لا يؤذوا قرابته فانتهوا عن ذلك، ثم سمعوه يعيب آلهتهم فقالوا: نهانا أن لا نؤذي (¬2) قرابته ففعلنا، وهو يذكر آلهتنا ويعيبها، فأكثروا في ذلك فنزل (¬3) {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: إن شئتم فآذوهم وإن شئتم فلا توْذوهم. وعلى هذا الأجر الذي سألهم هو الكف عن أقاربه، ثم تركه لهم؛ لقوله: {فَهُوَ لَكُمْ}. والقول الأول أصح؛ لأنه وإن سألهم الكف عن أقاربه، فليس ذلك بأجر على تبليغ الرسالة. وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قال ابن عباس: يريد لم يغب عنه شيء (¬4). وقال مقاتل: شهيد باني نذير وما بي جنون (¬5). 48 - وقوله تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} قال الليث: القذف: الرمي بالسهم (¬6) والحصى والكلام وكل شيء، حتى يقال: قذفت ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين يظهر أنه كلام زائد. (¬2) في (أ): (يؤدي)، وهو تصحيف. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 100 ب، ولم أقف عليه عن الكلبي، وقد ذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 77، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 620 بدون نسبة. (¬4) انظر: "الوسيط" 3/ 499. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 101 أ. (¬6) في (أ): (بألسنتهم).

الناقة باللحم، أي: رميت به فأكثرت منه (¬1). وقول النابعة: مقذوفة بدخص النحض بازلها (¬2) ومن القذف الذي هو الرمي بالكلام قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} (¬3) وقد مر. قال ابن عباس: يقذف بالحق يريد: يدفع الباطل بالحق (¬4). وعلى هذا التقدير: يقذف الباطل بالحق. وقال مقاتل: نتكلم بالوحي (¬5). وقال الكلبي: يرمي (¬6) بالحق ننزل الوحي من السماء (¬7). وهو اختيار ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 74 (قذف)، وفيه: فاكتنزت منه. (¬2) صدر بيت، هكذا أثبت في النسخ، وهو تصحيف، والبيت هو: مقذوفة بدخيس النحض بأزلها ... له حريف صريف القعو بالمسد وهو من البسيط، للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص 16، "تهذيب اللغة" 9/ 74، "للسان" 9/ 277 (قذف)، 11/ 52 (بزل)، 15/ 191 (قعا)، "الكامل" 3/ 844، "الكتاب" 1/ 355. ومعنى البيت: يصف ناقة بالقوة والنشاط، فيقول: كأنما قذفت باللحم لتراكمه عليها، والنحض هو اللحم، ودخيسة ما تداخل منه وتراكب، والبازل: السن تخرج عند بزول الناقة وذلك في التاسع من عمرها، والصريف: صوت أنيابها إذا حكت بعضها ببعض نشاطا، والقعو: ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب. "الكتاب" 1/ 355. (¬3) سورة الأنبياء: الآية 18. (¬4) انظر: القرطبي 14/ 312. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 101 أ. (¬6) في (ب): (نرمي)، وهو تصحيف. (¬7) انظر: "الوسيط" 3/ 499، وبعض المفسرين ذكروا هذا القول عن قتادة. انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 457، "مجمع البيان" 8/ 620، "القرطبي" 14/ 312.

49

ابن قتيبة قال: يلقيه إلى أنبيائه (¬1). وقوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، قال الفراء: (الوجه الرفع؛ لأن النعت إذا جاء بعد الخبر رفعته العرب في أن يقول (¬2): إن أخاك قائم الظريف، ومثله قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64]) (¬3). وقال أبو إسحاق: (ورفعه على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة على موضع: إن ربي يقذف هو بالحق علام الغيوب) (¬4). قال ابن عباس: علم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض (¬5). 49 - وقوله: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} قال ابن عباس: يريد الدين والإيمان (¬6). وقال مقاتل: يعني الإسلام (¬7). وقيل: القرآن (¬8). وقال أبو إسحاق: جاء أمر الله الذي هو الحق (¬9). {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي: ذهب ذهابًا كليًا وزهق فلم يبق له بقية، ويقال: لكل ذاهب ما يبدي وما يعيد، ومنه قول عبيد: ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص 358. (¬2) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: كما هو عند الفراء: يقولون. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 364. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 257. (¬5) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 433. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 101 أ. (¬8) ونسب هذا القول لقتادة. انظر: "تفسير الطبري" 22/ 106، "تفسير الماوردي" 4/ 457. (¬9) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 258.

50

فاليوم لا يبدئ ولا يعيد (¬1) وهذا معنى قول ابن عباس: يريد إقبال الباطل وإدباره (¬2). وقال قتادة: الباطل: السلطان (¬3)، ما يبدئ (¬4) وما يعيد، أي (¬5): ما خلق ابتداء ويبعث (¬6). وهو قول مقاتل والكلبي (¬7). وقال الحسن: الباطل كل معبود من دون الله، بقول ما يبدي لأهله خيرًا في الدنيا وما يعيده في الآخرة (¬8). 50 - وقوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد ضللت حين تركت دين آبائك، فقال الله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} كما تزعمون فإنما أضل على نفسي، أي: إثم ضلالتي على نفسي (¬9). {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من الحكمة والبيان. {إِنَّهُ سَمِيعٌ} الدعاء {قَرِيبٌ} مني. قاله ابن عباس (¬10). ¬

_ (¬1) عجز بيت، وصدره: أقفر من أهله عبيد وهو من البسيط لعبيد بن الأبرص في "ديوانه" ص 45 "الشعر والشعراء" ص 144، "شعراء النصرانية" 4/ 601، "اللسان" 5/ 110، كتاب "العين" 5/ 151. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هكذا في النسخ! وهو تصحيف، والصواب: الشيطان. (¬4) (يبدي) مكررة في (ب). (¬5) (أي) ساقطة من (ب). (¬6) انظر: "الوسيط" (3/ 499)، "القرطبي" 14/ 313، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 425. (¬7) انظر "تفسير مقاتل" 101/ أ، "الوسيط" 3/ 499. (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 222 ب (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 101 أ. (¬10) لم أقف عليه عن ابن عباس. انظر: "القرطبي" 14/ 314.

51

51 - وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} قال ابن عباس: يريد حتى بهتوا (¬1). {فَلَا فَوْتَ} يقول: لا يفوتني أحد ولا ينجو مني ظالم. ومذهب أكثر أهل التفسير أن هذا الفزع لهم عند البعث، وهو اختيار أبي إسحاق قال: هذا في وقت بعثهم (¬2). وهو قوله: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} يعني: القبور. وذهب آخرون إلى أن هذا الفزع لهم في القيامة. وهو مذهب الحسن وابن معقل (¬3) وبلال بن سعد (¬4)، قال بلال: إن الناس يوم القيامة حوله، وهو قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} قال ابن معقل (¬5): أفزعهم يوم القيامة فلم يفرقوا. ¬

_ (¬1) انظر: "القرطبي" 14/ 314، "زاد المسير" 6/ 467. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 258. (¬3) انظر: قول ابن معقل والحسن في كل من: "الطبري" 22/ 108، "الدر المنثور" 6/ 712. وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 467، ونسبه للأكثرين. (¬4) هو: أبو عمرو، وقيل: أبو زرعة بلال بن سعد بن تميم الأشعري، وقيل: الكندي الدمشقي، شيخ أهل دمشق في زمانه، تابعي جليل، وكانت لأبيه سعد صحبة، روى عن أبيه سعد وعن جابر بن عبد الله وأبي الدرداء وغيرهم. وروى عنه خلق كثير، وكان واعظًا بليغًا عابدًا مجتهدًا، توفي رحمه الله سنة نيف وعشرة ومائة. انظر: "تهذيب تاريخ دمشق" 3/ 318، "تهذيب الكمال" 4/ 290، "سير أعلام النبلاء" 90/ 5. (¬5) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن محمد بن محفوظ بن معقل النيسابوري، شيخ محتشم، وكان أحد المجتهدين في العبادة، سمع أبا بكر بن خزيمة وأبا العباس بن السراج، وروى عنه الحاكم، توفي رحمه الله في ربيع الأول سنة 381 هـ. انظر: "تهذيب تاريخ دمشق" 3/ 318، "تهذيب الكمال" 4/ 290، "سير أعلام النبلاء" 5/ 90.

52

وقوله تعالى: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} قال ابن عباس وأكتر المفسرين: يريد من تحت أقدامهم (¬1). وقال آخرون: من حيث كانوا؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب، لا يبعدون عنه ولا يفوتونه (¬2). وقال أبو إسحاق: وجواب لو محذوف، المعنى: لو ترى ذلك لرأيت ما تعتبر به عبرة عظيمة (¬3). وقال صاحب النظم: قوله: {فَلَا فَوْتَ} منظوم بما بعده، وهو قوله: {وَأُخِذُوا} والتقدير: ولو ترى إذ فزعوا وأخذوا من مكان قريب فلا فوت، أي: فلا يفوتون. وقال الزجاج: أي فلا فوت لهم، لا يمكنهم أن يفوتوا (¬4). 52 - وقوله: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} قال مقاتل: بالقرآن (¬5). وقال غيره: بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (¬6). {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قال أبو إسحاق: (التناوش: التناول، أي: وكيف لهم أن يتناولوا ما كان مبذولًا لهم، وهو الإيمان والتوبة، وكان قريبًا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 458 ونسبه لمجاهد، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 469 ونسبه لمقاتل. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 109، "تفسير الماوردي" 4/ 458، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 426. (¬3) لم أقف على قول الزجاج، وليس هو في "معاني القرآن" له. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 258 (¬5) لم أقف عليه عن مقاتل، وليس في "تفسيره". (¬6) وبه قال قتادة. انظر: "تفسير القرطبي" 14/ 315، "زاد المسير" 6/ 469.

منهم، وكيف يتناولونه حين بعد عنهم، ومن همز فلأن واو التناوش مضمومة وكل واو مضمومة ضمتها لازمة جاز إبدال الهمزة منها، نحو: أدور وتقاوم، قال: يجوز أن يكون التناوش من النئيش، وهو الحركة في الإبطاء والمعنى: من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه) (¬1). وقال الفراء: (هما متقاربان، مثل: ذمت الرجل وذأمته، إذا عبته) (¬2). وقال أبو علي: المعنى كيف (¬3) يتناولونه من بعد، وهم لم يتناولونه من قرب في حين الاختيار والانتفاع بالإيمان، والتناوش: التناول من: نشت تنوش، قال: تنوش البرير حين نال اهتصارها (¬4) وقال: وهي تنوش الحوض نوشًا من علا فمن علا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 259. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 365. (¬3) في (ب): (وكيف). (¬4) عجز بيت هكذا جاء في النسخ، وهو تصحيف، والبيت هو: فما أم خسف بالعلاية شادن ... تنوش البرير حيث طاب اهتصارها وهو من الطويل، لأبي ذؤيب الهذلي في "شرح أشعر الهذلين" 1/ 71، "لسان العرب" 6/ 362 (نوش)، 15/ 92 (علا)، "تاج العروس" 17/ 431 (نوش). ومعنى البيت: العلاية: موضع، وفارد: تروى شادن ومشدن، والمعنى توي وتحرك، وتنوش: أي تتنا ول، والبرير: ثمر الأراك، واهتصارها: جذبها غصن الأراك وكسرها إياه. "شرح أشعار الهذليين" 1/ 71. (¬5) صدر بيت من الرجز لغيلان بن حريث، وعجزه: نوشأ به تقطع أجواز الفلا وصدره جاء في جميع النسخ كما أثبته، والصحيح: وهي تنوش الحوض نوشًا من علا. انظره منسوبًا إليه في: "مجاز القرآن" 2/ 150، "اللسان" 6/ 362، "تاج العروس" =

فمن لم يهمز جعله تفاعلًا من النوش الذي هو التناول، ومن همز احتمل أمرين: أحدهما: أنه أبدل من الواو الهمزة لانضمامها مثل: أقتت وأدؤر، والآخر: أن يكون من النأش، وهو التطلب (¬1)، والهمزة منه عين، قال رؤبة: أقحمني جار أبي الخاموش ... إليك نأش القدر النئوش وهذا القول الثاني هو قول أبي عبيدة (¬2). وذكر بيت رؤبة وفسره: وتطلب القدر. قال ابن عباس: يريد تناول التوبة يومئذ لا يقبل (¬3). وقال قتادة: أني لهم أن يتناولوا التوبة (¬4). روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: يسألون الرد وليس بحين رد (¬5). وهذا معنى وليس بتفسير. ¬

_ = 17/ 431، "الكتاب" 3/ 453، "الطبري" 22/ 110، "القرطبي" 14/ 316. ولم أقف لقائل البيت غيلان بن حريث الربعي على ترجمة. ومعنى البيت: يصف إبلًا وردت حوضًا وتناولت ما فيه تناولًا من فوق، والأجواز: جمع جوز، وهو الوسيط. (¬1) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: الطلب، كما في "الحجة" 6/ 24. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 151. (¬3) لم أقف عليه (¬4) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 428، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 715، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. (¬5) انظر: "الطبري" 22/ 110، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 424، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 715، وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

53

ونحو هذا قول الكلبي {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} يقول: الرجعة إلى الدنيا، {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} بعد الموت (¬1). وقال عطية: وأني لهم الرد حين لا رد، والتوبة حين لا توبة (¬2). وقال مقاتل: من أين لهم التوبة حين لا توبة [وقال مقاتل: من أين لهم التوبة] (¬3) عند نزول العذاب (¬4). {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} من الدنيا، وهذا كله معنى. وتفسير التناوش ما ذكره أصحاب المعاني. 53 - وقوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} واو الحال، أي: كيف يبلغون إلى التوبة وقد كانوا كافرين بمحمد والقرآن في الدنيا قبل نزول العذاب وقبل ما عاينوا من الأهوال. وقوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال مجاهد: يرمون محمدً بالظن [لا باليقين] (¬5)، وهو قولهم: إنه ساحر وكاهن وشاعر (¬6). واختار الفراء هذا القول فقال: يقولون ليس بنبي، وقد باعدهم الله أن يعلموا ذلك؛ لأنه لا علم لهم إنما يقولون بالظن (¬7). فعلى هذا الغيب الظن، وهو ما غاب علمه عنهم، والمكان البعيد: بعدهم عن علم ما يقولون. ¬

_ (¬1) أورده بعض المفسرين منسوبًا لابن عباس ومجاهد. انظر: "الطبري" 22/ 110، "الماوردي" 4/ 459، ولم أقف عليه عن الكلبي. (¬2) لم أقف عليه (¬3) ما بين المعقوفين زيادة في (أ)، وليس هو في (ب). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 101 ب. (¬5) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 529، وانظر: "الطبري" 22/ 112. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 2/ 365.

52

وقال قتادة: يقذفون بالغيب يرجمون بالظن، يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار (¬1). وعلى هذا المعنى: وقد كانوا يتكلمون بما غاب عنهم ويحكمون عليه بالكذب في الدنيا، وهو قوله: {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. قال مجاهد: في الدنيا، وقد بعدت الدنيا من الآخرة جدًا عند إنقضائها وقيام الساعة (¬2). وعلى هذين القولين، قوله: {وَيَقْذِفُونَ} معطوف على ما قبله. وقال مقاتل: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} أي: ويتكلمون بالإيمان وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه (¬3)، وهو قوله: {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. وعلى هذا، ويقذفون مستأنف؛ لأنه خبر عنهم أنهم آمنوا حين لا ينفعهم الإيمان بعد أن كفروا في الدنيا. وشرح ابن قتيبة هذه الآيات فقال: (يقول: ولو ترى يا محمد فزعهم حين لا فوت ولا مهرب لهم ولا ملجأ يفوتون به ويلجأون إليه، وهذا نحو قوله: {فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: نادوا حين لات مهرب. {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}: يعني: القبور. 52 - {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} أي: بمحمد. {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} أي: التناول، أي: كيف لهم بنيل ما طلبوا من الإيمان في هذا الوقت الذي يقال فيه كافر ولا يقبل فيه توبة. وقوله: {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} زيد بعد ما بين مكانهم يوم القيامة، وبين ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 22/ 112، "مجمع البيان" 8/ 622، "القرطبي" 14/ 317. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" ص 529، "الماوردي" 4/ 459، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 429 (¬3) في تفسير مقاتل سقطت هذه الآية من الأصل، وعلقت بالهامش، ولكنها غير واضحة، ولم أقف عليه.

53

المكان الذي تقبل فيه الأعمال. 53 - {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي: بمحمد، يقول: كيف ينفعهم الإيمان (¬1) وقد كفروا به في الدنيا. {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} أي: بالظن أن التوبة تنفعهم {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي: بعيد من موضع يقبل فيه التوبة. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} الأمم الخالية) (¬2). وهذا الذي ذكره ابن قتيبة في قوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} غير ما قدمناه، قال: (وكان بعض المفسرين يحمل الفزع عند نزول بأس الله من الموت أو غيره، وتعبيره بقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: 84] إلى آخر السورة) (¬3). وهذا مذهب مقاتل، قال: هذا عند نزول العذاب بهم في الدنيا (¬4). وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هذا الفزع وما ذكر كله هو يوم بدر، إذ نزل بهم العذاب وشدة الموت قالوا: آمنا به، ولم ينفعهم ذلك (¬5). 54 - وقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} قال ابن عباس: يعني الرجعة إلى الدنيا (¬6). وقال الحسن: يعني الإيمان. وهو قول سفيان (¬7). ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل ولعل الصواب في الآخرة. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 330 - 331. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 331. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 101/ ب (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 107، "القرطبي" 14/ 314، "زاد المسير" 6/ 467. (¬6) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 434، "الوسيط" 3/ 499، "زاد المسير" 6/ 470. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 112، "تفسير الماوردي" 4/ 460، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 431.

وقال مجاهد: {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من مال وولد (¬1). وقال مقاتل: يعني من أن تقبل التوبة منهم (¬2). وقوله: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}، قال ابن عباس: بنظرائهم (¬3). قال مجاهد: الكفار من قبلهم (¬4). وقال الزجاج: أي بمن كان مذهبه مذهبهم (¬5) قال أبو عبيدة: شيعة وشيع وأشياع (¬6). وهذا مما تقدم القول فيه (¬7). وقوله: {مِنْ قَبْلُ} قال مقاتل: من قبل هؤلاء (¬8). {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} قال: من العذاب أنه نازل بهم. قال الكلبي: في شك مما نزل بهم (¬9). والكناية في {إِنَّهُمْ} تعود إلى الكفار الذين أخبر عنهم في قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ} لا إلى الأشياع. {مُرِيبٍ} موقع لهم الريبة والتهمة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 112، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 431، "زاد المسير" 6/ 470. (¬2) ليس هو في تفسيره، ولم أقف على هذا القول منسوبًا إليه. (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 471 نحو هذا القول عن الزجاج. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" ص 529. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 259. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 151. (¬7) عند تفسير قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: الآية 65]. (¬8) ليس في تفسيره، ولم أقف على هذا القول منسوبًا له، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 471، ونسبه للمفسرين. (¬9) لم أقف عليه عد الكلبي. وانظر: "تفسير هود" 3/ 407 "زاد المسير" 6/ 471.

سورة فاطر

سورة فاطر

1

تفسير سورة الملائكة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس ومقاتل وغيرهما: خالق السموات والأرض (¬1). [قال المبرد: فاطر] (¬2) خالق مبتدي، يقول: فطر الله الخلق، أي: ابتدأهم، [وأنا فاطر هذه البئر] (¬3)، أي: ابتدأت حفرها (¬4). ونحو هذا قال الزجاج (¬5). وهذا مما سبق فيه الكلام. قوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} قال مقاتل: منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين (¬6). وقوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} يقول: من الملائكة من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة أجنحة. وذكرنا الكلام في مثنى وثلاث ورباع في أول سورة النساء (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش من المصحف ص 364، "بحر العلوم" 3/ 79، "تفسير مقاتل" 101 ب (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬3) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬4) لم أقف عليه (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 461. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 101 ب. (¬7) عند قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} الآية. وقال هناك: بدل مما طاب، ومعناه: اثنتين وثلاثًا وأربعًا، =

2

وقوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} قال مقاتل: يزيد في خلق الأجنحة على أربعة أجنحة (¬1). ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح، وقال له جبريل: إن لإسرافيل اثني عشر [جناحًا] (¬2) جناح منها بالمشرق، وجناح منها بالمغرب (¬3). وهذا الذي ذكرنا في زيادة الخلق هو قول الفراء والزجاج (¬4). وروى قتادة في قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} قال: الملاحة في العينين (¬5). وروي عن الزهري قال: حسن الصوت (¬6). وعن أبي هريرة مرفوعًا: الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن (¬7). {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مما يريد أن يخلق {قَدِيرٌ} قاله ابن عباس (¬8). 2 - قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} قال أبو إسحاق: أي ما ياتيهم به من مطر أو رزق فلا يقدر أن يمسكه، وما يمسك ¬

_ = والواو دالة على تفرق الأنواع وتجنيس المباح من الزوجات، فمن تزوج مثنى لم يضم إليهما ثلاثًا، وكذلك من تزوج ثلاثًا لم يضم إليهن أربعًا. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 102 أ. (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 223 ب، "بحر العلوم" 3/ 79. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 366، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 261. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 223 ب، "تفسير البغوي" 3/ 564، "زاد المسير" 6/ 473. (¬6) انظر: المصادر السابقة، "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3170. (¬7) لم أقف عليه مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وانظر: "تفسير القرطبي" 14/ 320، "الثعلبي" 3/ 223 ب، "زاد المسير" 6/ 473. (¬8) انظر: "مجمع البيان" 8/ 626.

3

من ذلك فلا يقدر قادر أن يرسله (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس والمفسرين في هذه الآية (¬2). 3 - وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬3). {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} قال: يريد حيث أسكنكم الحرم ومنعكم من جميع الغارات (¬4). وقد ذكرنا معنى النعمة فيما تقدم. وقال الفراء: (وما كان من هذا في القرآن فمعناه: احفظوا، كما تقول: اذكر أيادي عندك أي: احفظها) (¬5). وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} قال أبو إسحاق: (هذا ذكر بعد قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} فأكد ذلك بان جعل السؤال لهم: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} قال: ورفع غير على معنى هل من خالق غير الله؛ لأن من مؤكدة) (¬6). وقال أبو علي: (من جر {غَيْرُ} جعله صفة على اللفظ، وذلك حسن لاتباعه الجر الجر. وقوله: {مِنْ خَالِقٍ} في موضع رفع بالابتداء، وخبره قوله: {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، وزيادة من في غير الإيجاب كثير، نحو: هل من رجل، و {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62]. ومن رفع ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 262. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 364، "الطبري" 22/ 115، "الماوردي" 4/ 462، "بحر العلوم" 3/ 80. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 364، وذكره الطبري 22/ 115، بدون نسبة وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 474 ونسبه للمفسرين. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 2/ 366. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 262

4

احتمل غير وجه، يجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ، ويجوز أن يكون صفة على الموضع بتقدير: هل خالق غير الله يرزقكم، ويجوز أن يكون غير استثناء، تقديره: هل من خالق إلا الله) (¬1). فلما كانت ترتفع ما بعد إلا حملت رفع ما بعد إلا في غير، كما تقول: ما قام من أحد غير أبيك، ويدل على جواز هذا الوجه قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62]، وذكرنا مثل هذا في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} في سورة الأعراف [59]. قال المفسرون وابن عباس: {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} المطر ومن {الْأَرْضِ} النبات (¬2). ثم وحد نفسه فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} قال مقاتل: من أين تكذبون بأن الله لا شريك له، وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم (¬3). قال أبو إسحاق: (من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث) (¬4). 4 - ثم عزى نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: الأمر راجع إلى الله في مجازاة من كذب، ونصرة من كذب من رسله. 5 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني: كفار مكة. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} قال ابن ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 26 - 27. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 364، "السمرقندي" 3/ 80، "زاد المسير" 6/ 474، "البغوي" 3/ 565. (¬3) لم أقف على قول مقاتل. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 263.

6

عباس: يريد بالثواب والعقاب (¬1). وقال مقاتل: في البعث (¬2). وباقي الآية مفسر في سورة لقمان: 33]. 6 - وقوله: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} قال مقاتل: فعادوه بطاعة الله، ثم بين عداوته فقال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} أي: يدعو شيعته إلى الكفر (¬3). {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. 8 - وقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة (¬4). وقال سعيد بن جبير: يحسب الناس أن هذا في تزيين الخطايا لمن ركب منها شيئًا وليس كذلك، ولكنها الزينة في الملل والأهواء التي خالفت الهدى، فإن أهلها يحسبون أنهم يحسنون (¬5). ألا ترى النصارى يدعون لله ولدًا ويحسبون أنهم يحسنون، وتتقرب بذلك إلى الله ولا يحب أن يزني ويسرق، وله الدنيا وما فيها، واحتج على هذا بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} قال: ألا ترى ذلك صار في الضلالة والهدى وليس فيما يذهب الناس إليه من العمل. وأما نظم الآية وجواب قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ} فقال أبو إسحاق: (هو على ضربين: أحدهما: أن يكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة، ودل على هذا الجواب قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 102 أ. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 102 أ. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 102 أ، "البغوي" 3/ 565، "زاد المسير" 6/ 475. (¬5) انظر: "الوسيط" 3/ 501، "البغوي" 3/ 565

9

عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وهذا قول الفراء والكسائي (¬1) قال: ويجوز أن يكون محذوفاً والمعنى: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، ويكون دليله {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2). وهذا قول أبي عبيدة، لأنه قال في هذه الآية: هو مختصر مكفوف عن خبره لتمامه عند المستمع (¬3). ثم استأنف فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، قال ابن عباس: يقول لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرات على تركهم الإسلام (¬4)، كقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] الآية: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} يعني: عالم بصنيعهم فيجازيهم على ذلك. ثم أخبر عن صنعه جل وعز ليعتبروا. 9 - قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}، قال الكلبي: فتنشئ سحابًا (¬5). والمعنى: فنزعجه من حيث هو {فَسُقْنَاهُ} قال أبو عبيد: (فنسوقه، وأنشد قول قعنب: إن يسمعوا زينة (¬6) طاروا بها فرحًا (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 366. انظر: "الدر المصون" 5/ 459، "المحرر الوجيز" 4/ 430. وانظر: قول الكسائي في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 686. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 264. (¬3) لم أقف على أبي عبيدة. (¬4) انظر: "الوسيط" 3/ 501، "زاد المسير" 6/ 476. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: ريبة. (¬7) هذا صدر بيت وعجزه: مني وما سمعوا من صالح دفنوا وهو من البسيط، لقعنب بن أم صاحب في: "الحماسة" 2/ 170، "مجاز القرآن" 1/ 177، 2/ 152، "سمط اللآلئ" ص 362، "عيون الأخبار" 3/ 84.

10

أي إن سمعوا يطيروا) (¬1). وقوله: {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} قال ابن عباس: يريد الأرض الجرز (¬2). وقال الكلبي: إلى مكان ليس عليه نبات (¬3). وقوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} قال ابن عباس: أنبتنا فيها الزرع والأشجار بعد ما لم يكن (¬4). {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي: البعث والإحياء. 10 - وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} قال الفراء: (معناه من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعًا، أي: كل وجه من العزة لله) (¬5). والآية على ما ذكرنا من باب حذف المضاف، وقال قتادة: من كان يريد العزة فليعتزز بطاعة الله (¬6) يعني: أن قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} معناه: الدعاء إلى طاعة من له العزة ليعتز بطاعته، كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان، أي: فليطلب من عنده من حيث يجب أن يطلب، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء؛ لأنه قال: يؤمن بالله فيعتز بعزه (¬7). وقال مجاهد ومقاتل: من كان يريد العزة بعبادته غير الله فليعتزز ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 152. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي. وقد ذكره هو بن محكم في "تفسيره" 3/ 411 ولم ينسبه. (¬4) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص365. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 2/ 367. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 120، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 440، "زاد المسير" 6/ 477. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير الطبري" 22/ 120، "تفسير القرطبي" 14/ 328، "زاد المسير" 6/ 477.

بطاعة الله، فإن العزة لله جميعًا (¬1). وعلى هذا في الآية محذوف دل عليه الكلام، والمعنى: أن عبدة الأصنام طلبوا التعزز بها، يدل على هذا هذا قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81] فأخبر الله تعالى أن العزة لله جميعًا لا غيره، فلا يعتز أحد بعبادة غيره وإنما التعزز بطاعة الله. ثم بين كيف يتعزز بطاعته فقال: قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} قال مقاتل والمفسرون: إلى الله يصعد كلمة التوحيد، وهو: قول لا إله إلا الله (¬2). وقال أبو إسحاق: (أي إليه يصل الكلام الذي هو توحيده، والله تعالى يرتفع إليه كل شيء) (¬3). وعلى ما ذكر، معنى الصعود إليه: الارتفاع، وهو بمعنى العلم كما يقال: ارتفع هذا الأمر إلى القاضي وإلى السلطان، أي: علمه، وفي تخصيص الكلم الطيب بعلمه إثبات للثواب عليه (¬4) {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] فنثيبك (¬5) عليه. وقال بعض أهل المعاني: يعني إليه يصعد إلى سمائه، والمحل الذي لا جري لأحد سواه فيه ملك ولا حكم (¬6). {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قال ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" ص 531، "تفسير مقاتل" 102 ب، "تفسير الطبري" 22/ 120، "زاد المسير" 6/ 477. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 102 أ. وانظر: "تفسير البغوي" 3/ 566، "تفسير القرطبي" 14/ 329، "زاد المسير" 6/ 478. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 265. (¬4) يبدو أن هناك سقط في الكلام يمكن تقديره بنحو: يدل عليه قوله تعالى. (¬5) في (ب): (فثبك). (¬6) المؤلف رحمه الله في هذا الموضع فيه تأويل لصفة الحلو والفوقية، وهذا =

ابن عباس: يريد العمل بما افترضه الله -عز وجل-، يقول الله تعالى: "إذا قال العبد: لا إله إلا الله بنية صادقة، نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان عمله موافقًا لقوله صعدا جميعًا، وإن كان عمله مخالفًا وقف قوله حتى يتوب من عمله (¬1) ". وقال الحسن: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله، يعرض القول على الفعل فإن وافق القول الفعل قبل وإن خالفه رد، ونحو هذا (¬2) قال سعيد بن جبير (¬3). وعلى هذا الكناية في {يَرْفَعُهُ} تعود إلى الكلم الطيب. وقال قتادة: يرفع الله العمل الصالح لصاحبه (¬4). وعلى هذا تم الكلام عند قوله: {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، ثم قال: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الله إليه، أي: يقبله، والكناية للعمل الصالح. وقال مقاتل: التوحيد يرفع العمل الصالح إلى السماء (¬5). والمعنى على هذا: لا يقبل الله عمل صالح (¬6) إلا من موحد، والرافع على هذا القول الكلم الطيب، وعلى القول الثاني ¬

_ = خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 381. (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 22/ 121 من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. (¬2) (هذا) ساقط في (ب). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 440، "تفسير الماوردي" 4/ 464، "زاد المسير" 6/ 478. (¬4) انظر: المصادر السابقة. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 102 ب. (¬6) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: عملاً صالحًا.

الرافع هو الله تعالى، وعلى القول الأول الرافع العمل الصالح، وهذا الأوجه، وقد ذكره الفراء والزجاج والمبرد (¬1). قال مقاتل: ثم ذكر من لا يوحد الله فقال: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: والذين يقولون الشرك (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس: والذين يشركون بالله لهم عذاب شديد (¬3). وقال الكلبي: يعني يعملون السيئات (¬4). وقال سعيد بن جبير: والذين يعملون بالرياء، وهو قول مجاهد وشهر ابن حوشب (¬5). وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله في دار الندوة (¬6)، وهو اختيار أبي إسحاق (¬7). ثم أخبر أن مكرهم يبطل فقال: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 367، انظر: "معاني القرآن وإعربه" 4/ 265. ولم أقف على قول المبرد، وترجيح المؤلف -رحمه الله- للقول الأول القائل بأن الرافع هو العمل الصالح؛ لأنه قول صحيح ثابت عن حبر الأمة وترجمان القرآن -رضي الله عنه- (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 102 ب. (¬3) أورده الطبري 22/ 17 ونسبه لقتادة، وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 479، ونسبه لمقاتل، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬4) انظر: "مجمع البيان" 8/ 629، "تفسير القرطبي" 14/ 332، "تفسير البغوي" 3/ 567. (¬5) انظر: "الطبري" 22/ 171، "البغوي" 3/ 567، "الدر المنثور" 7/ 10 وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن مجاهد ولسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن شهر بن حوشب. (¬6) انظر: "مجمع البيان" 8/ 629، "زاد المسير" 6/ 479. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 265.

11

هُوَ يَبُورُ} قال قتادة: يفسد (¬1). وقال مقاتل: يهلك ولا يكون شيئًا (¬2). وقال السدي: يهلك وليس له ثواب في الآخرة (¬3). ثم دل على نفسه بصفة ليوحد فقال: 11 - قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني آدم (¬4). {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: نسله. {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} قال السدي ومقاتل: ذكرانًا وإناثًا (¬5). {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} قال مقاتل: يقول: من قل عمره أو كثر عمره، فهو يعمر إلى أجله الذي كتب له (¬6). فالمعمر على هذا الذي قدر له شئ من العمر وإن قل، وليس المعمر بمعنى الطويل العمر، وهو قول المفسرين (¬7). {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} كل يوم حتى ينتهي إلى أجله. قال سعيد بن جبير: يكتب في أول الصحيفة عمره، ثم يكتب في أسفل من ذلك: ذهب ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 171، "تفسير الماوردي" 4/ 465، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 443. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 102 ب. (¬3) أورده السيوطي في "الدر" 7/ 10 وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي، "تفسير السدي الكبير" ص 393. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 102 ب، ولم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وبعض المفسرين ذكر القول منسوبًا لقتادة انظر: "تفسير الطبري" 22/ 122، "تفسير القرطبي" 14/ 332. (¬5) لم أقف عليه عن مقاتل، وقد أورده د/ محمد عطا في "تفسير السدي الكبير" ص 3993 وعزاه للسيوطي في "الدر"، ولم أقف عليه عند السيوطي. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 152 ب (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 122، "الماوردي" 4/ 465، "البغوي" 3/ 567.

يوم، ذهب يومان، حتى لا يبقى شيء (¬1). قال السدي (¬2): يعمر الإنسان الستين والسبعين وينقص ما مضى من أيامه وذلك نقصان من عمره، وذلك كله {كِتَابٍ مُبِينٍ} هذا الذي ذكرنا قول الجمهور. وقال ابن عباس في رواية عطاء: ما يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره (¬3). وعلى هذا المعمر: الطويل العمر، والذي ينقص من عمره غيره. وعلى القول الأول الذي ينقص من عمره هو المعمر الأول. واختار الفراء هذا القول الثاني فقال: (ولا ينقص من عمره، يريد [أخبر] (¬4) غير الأول، وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه، المعنى نصف آخر، وجاز أن يكنى عنه بالهاء؛ لأن اللفظ الثاني قد يظهر واللفظ الأول يكنى عنه كالكناية عن الأول، قال: وهذا أشبه بالصواب) (¬5). وإنما اختار هذا؛ لأن القراءة المشهورة (ولا يَنقُص مِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 225 ب، "تفسير الماوردي" 4/ 465. وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 11 وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة عن سعيد بن جبير. (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3175، وأورده الطبري 22/ 123 عن ابن مالك. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 122، "زاد المسير" 6/ 481. (¬4) هكذا في (أ)، وهي ساقطة في (ب)، وهو خطأ، والصواب: آخر، كما في "معاني القرآن" للفراء 2/ 368. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 2/ 368.

12

عُمرِهِ) بفتح الياء كما قراه الحسن وابن سيرين (¬1)، ولأن المعمر في ظاهر اللغة الطويل العمر، وقيل ما يقال لمن قصر عمره: معمر. قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد اللوح المحفوظ [مكتوب] (¬2) قبل أن يخلق (¬3). {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي كتابة الآجال والأعمال على الله هين. 12 - قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} يعني العذب والمالح. ثم ذكر ذلك فقال {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} أي: جائز في الخلق. وهذه القطعة مر تفسيرها في سورة الفرقان (¬4). وقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ} إلى آخر الآية تفسيره قد سبق في سورة النحل (¬5). وقوله هنا: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يعني: من المالح دون العذب. 13 - وقوله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} قال أبو عبيدة: هو الفوقة التي النواة فيها (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: المصدر السابق، "النشر" 2/ 352. (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 102 ب، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 365. (¬4) عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} آية 53. وقال هناك: عذب طيب. وأصله من المنع، والماء العذب هو الذي يمنع العطش، فرات الفراة أعذب المياه. (¬5) آية 14. انظر: "البسيط"، وذكر فيه: قال ابن عباس: يريد السمك والحيتان. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 153، والفوقة: هي الغشاء الرقيق المحيط بالنواف يقول السمين الحلبي في عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الأنفاظ: وقال: إنه اجتمع في النواة أربعة أشياء، يضرب بها المثل في القلة والحقارة، وقد ذكرت منها ثلاثة في =

14

وقال ابن السكيت: هو القشرة الرقيقة التي على النواة (¬1). قال الزجاج: هو لفافة النواة (¬2). وقال مقاتل: يعني قشرة النواة الأبيض (¬3). وهو السحاة التي تكون على النوى. وقال الحسن: قشر النوى (¬4). وقال مجاهد: لفافة النواة، وهذا قول الجميع (¬5). وروي عن ابن عباس أنه شق النواة، وهو اختيار المبرد (¬6). 14 - وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} قال مقاتل: يتبرأون من عبادتكم إياها (¬7). وقال الزجاج: يقولون ما كنتم إيانا تعبدون، والمعنى: بإشراككم إياها مع الله في العبادة، يقولون: ما أمرناكم بعبادتنا (¬8). {وَلَا يُنَبِّئُكَ} يا محمد، {مِثْلُ خَبِيرٍ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني ¬

_ = القرآن العزيز: الفتيل وهو ما في شق النواة مما يشبه الخط الرقيق، والنقير: وهو النقرة في ظهرها، والقطمير: وهو اللفافة على ظهرها. اهـ 3/ 236 - 237. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 409. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 266. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 103 أ. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" ص 531، "الطبري" 22/ 125. وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 15 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. (¬6) انظر: "القرطبي" 14/ 336. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 103 أ. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 267.

15

نفسه عز وجل، يقول: فلا أحد أخبر منه بخلقه، وبأن هذا الذي ذكر من أمر الأصنام هو كائن يوم القيامة (¬1). وقال أبو إسحاق: لأن ما أنبأ الله -عز وجل- يكون فهو وحده يخبره ولا يشركه فيه أحد (¬2). هذا كلامه، والمعنى: لا ينبئك مثل خبير يعلم الأشياء ويخبرها، لأنه لا مثل له، فلا ينبئك مثله في علمه. 15 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، قال ابن عباس: يريد أهل مكة (¬3). {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} المحتاجون إلى رزقه ومغفرته. (وهو الغني) عن عبادتكم {الْحَمِيدُ} إلى خلقه وغير خلقه (¬4). 16 - وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} مفسر فيما مضى (¬5) إلى قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}، قال الفراء والزجاج: أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 103 أولم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره بعض المفسرين منسوبًا إلى المفسرين. انظر: "الوسيط" 3/ 503، "بحر العلوم" 3/ 83، "المحرر الوجيز" 4/ 434. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 267. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) هذه العبارة خطأ، ولعلها وهم من المؤلف رحمه الله أو خطأ من الناسخ؛ لأنه لا شيء في الكون غير مخلوق لله جل وعلا. (¬5) الآيتان: 19 - 20 من سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}. وقال هناك: قال ابن عباس والكلبي: يريد أمتكم يا معشر الكفار، وأخلق قومًا غيركم خيرًا منكم وأطوع. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 2/ 368، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 267.

18

قال الفراء: (والنفس تعبر عن الذكر والأنثى، كقوله (¬1): {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185، الأنبياء 35، العنكبوت 57]) (¬2). 18 - وقوله: {إِلَى حِمْلِهَا} أي: ما حمل من الخطايا والذنوب. {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ} أي: من حملها. [وقوله] (¬3) {شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قال مقاتل: ولو كان بينهما ما حملت عنها شيء من وزرها (¬4) (¬5). قال ابن عباس: يقول: يا بني احمل عني، فيقول: حسبي ما علي (¬6). قال أبو إسحاق: أي ولو كان الذي يدعوه ذا قربى، مثل الأب والابن ومن أشبه هؤلاء (¬7). قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس: يريد أولياؤه، يقول: خافوني وخافوا ما غاب عنهم من عذابي (¬8). وقال أبو إسحاق: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم (¬9)، فكأنك تنذرهم دون غيرهم مما لا ينفعهم إنذارك، كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ ¬

_ (¬1) في (أ): (كقولك)، وما في الصلب هو الصواب. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 2/ 368 (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من (ب) (¬4) في (ب): (أوزارها). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 103/ أ. (¬6) يدل على ذلك قوله تعالى في سورة عبس آية 34: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 267. (¬8) لم أقف عليه. (¬9) المصدر السابق.

19

مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]. وقوله: {وَمَنْ تَزَكَّى} قال ابن عباس: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه (¬1). وقال مقاتل: من صلح فصلاحه لنفسه (¬2). {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فيجزي بالأعمال في الآخرة. 19 - وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} قال ابن عباس: لا يستوي المشرك والمؤمن (¬3). وقال مقاتل: وما يستوي في الفضل الأعمى عن الهدى [يعني] (¬4) الكافر، والبصير بالهدى يعني المؤمن يبصر رشده (¬5). 20 - {وَلَا الظُّلُمَاتُ} يعني: الشرك والضلالات. {وَلَا النُّورُ} يعني: الهدى والإيمان بالله. 21 - {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} قال الكلبي: أما الظل فالجنة، وأما الحرور فالنار (¬6). وقال ابن عباس: يريد ظل الليل، والحرور هو الذي يكون مثل السموم بالنهار (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "زاد المسير" 6/ 483، "تفسير هود" 3/ 415. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 103 أ. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 366. (¬4) ما بين المعقوفين مكرر في (ب) (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 103 أ. (¬6) انظر: "الوسيط" 3/ 504، "مجمع البيان" 8/ 633 (¬7) انظر: "القرطبي" 14/ 340، "البغوي" 3/ 569.

22

وقال قتادة: هذه أمتال ضربها الله للكافر والمؤمن، يقول: لاتستوى هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن (¬1). قال أبو عبيدة: الحرور ريح حارة تكون بالنهار مع الشمس، وأنشد لحميد الأرقط (¬2): إنا وإن تباعد المسير ... وسفعت ألواننا الحرور وأوقدت نيرانها القبور (¬3) قال أبو إسحاق: الحرور استيقاد الحر ولفحه بالليل والنهار، والسموم لا يكون إلا بالنهار (¬4). 22 - قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} يعني: المؤمنين والكافرين. قال ابن عباس: الكافر وإن كان يأكل ويشرب ويجيء ويذهب (¬5)، فهو مثل الميت، ودليل هذا في صفتهم قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21]. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 450، "تفسير القرطبي" 14/ 340، "زاد المسير" 6/ 484. (¬2) هو: حميد بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وقيل: هو أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، عاصر الحجاج، سمي الأرقط لآثار كانت بوجهه، وهو بخيل لئيم، يقال له: هجاء الأضياف. انظر: "خزانة الأدب" 5/ 395، "العقد الفريد" 7/ 208. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 154. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 268. (¬5) في (ب): (ويذهب ويجيئ)، ترتيب.

23

ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} قال ابن عباس: يسمع أولياءه (¬1) الذين خلقهم لجنته وعصمهم من الكفر (¬2). والمعنى: يسمع كلامه من يشاء حتى يتعظ يهتدي. وقال السدي: يهدي من يشاء (¬3). {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يعني: الكفار، شبههم حين صموا ولم يجيبوا إذا دعوا إلى الإيمان بأهل القبور. ثم قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين لم يجيبوه إلى الإيمان: 23 - {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} يقول: ما أنت إلا نذير، وليس عليك إلا البلاغ. 24 - وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} قال ابن عباس: وما من أمة من خلقي إلا وقد بعثت فيها نبيًّا (¬4). وقال مقاتل: يقول: ما مر أمة فيما مضى إلا جاءهم رسول (¬5). وقال ابن قتيبة: خلا فيها نذير سلف فيها نبي (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): (أوليائهمن)، وهو خطأ. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكر الطبري في "تفسيره" 22/ 130، نحو عن قتادة، والقرطبي في "تفسيره" 10/ 3179 ولم ينسبه لأحد. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3179 عن السدي. (¬4) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 452، "المحرر الوجيز" 4/ 436، "مجمع البيان" 8/ 634. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 103 ب. (¬6) "تفسير غريب القرآن" ص 361.

26

26 - وقوله: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: عاقبتهم فكيف كان عقوبتي. قاله أبو عبيد (¬1). قال مقاتل: يخوف كفار مكة مثل عذاب الأمم الخالية (¬2). 27 - ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال: {لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (¬3) إلى قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} قال الفراء. (الجدد: الطرق تكون في الجبال مثل العروق، بيض وسود وحمر (¬4)، واحدها جدة (¬5)، وأنشد لامرئ القيس: كأن سراتيه (¬6) وجدة ظهره ... كنائن يجري فوقهن دليص (¬7). يعني: الخطة السوداء في متن الحمار، والدليص: الذي يبرق) (¬8). وقال أبو عبيدة: (جدد: طرائق، وأنشد لذي الرمة يصف الليل: ¬

_ (¬1) لم أقف على قول أبي عبيد. (¬2) لم أقف على قول مقاتل. (¬3) قوله: (من السماء ماء) ساقط من (أ). (¬4) في (ب): (بيض وحمر وسود). (¬5) في (أ) بعد قوله: (واحدها جده)، قال: فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ} إلى قوله {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ} وسودهم من الناسخ. (¬6) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: سراته. (¬7) البيت من الطويل، لامرئ القيس في: "شرح ديوانه" ص 124، "تهذيب اللغة" 10/ 458، "اللسان" 3/ 108 (جدد)، 7/ 37 (دلص)، "معاني القرآن" للفراء 2/ 369، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 269. وسراته: هو أعلى ظهره، وجدة ظهره: العلامة يخالف لونها لون جلده، والكنائن: هي الخطوط البيض بظهره. (¬8) انظر: "معاني القرآن" 2/ 369.

حتى إذا حان من حضر قوادمه ... ذي جدتين يكف الطرف تعميم (¬1) (¬2). وقال أبو إسحاق: (جدد جمع جدة، وهي الطريقة، وكل طرقه جدة وجادة) (¬3). وقال ابن قتيبة والمبرد: جدد: طرائق وخطوط (¬4). ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد: أنها الطرائق (¬5). وقال مقاتل: يعني بالجدد الطرائق التي تكون في الجبال، منها بيض ومنها حمر ومنها غرابيب سود (¬6). وهو جمع غربيب، وهو الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب، يقال: أسود غربيب وغرابي (¬7). وذكر عن الفراء أن هذا التقديم والتأخير، بتقدير: وسود غرابيب؛ لأنه يقال: أسود غربيب، وقل ما يقال: غربيب أسود (¬8). ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو لذي الرمة في "ديوانه" 1/ 444، وانظرها منسوبة إليه "مجاز القرآن" 2/ 155، ومعنى البيت: يريد من ليس سود اوائله. ذي جدتين أي ناجيتين من الليل، ويكف الطرف يرده حتى لا يجوزه، وتغييم إلباس يقول: جاء الليل مثل الغيم. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 155. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 269. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 361، وانظر: "فتح القدير" 3/ 374. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 626 أ، "تفسير الطبري" 22/ 131، "تفسير الماوردي" 4/ 470. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 103 ب. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 117 (غريب)، "اللسان" 1/ 638 (غريب). (¬8) لم أقف على قول الفراء في معاني القرآن له. ونقل كلام الفراء: الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 635، والمؤلف في "الوسيط" (3504)، والشوكاني في "فتح القدير" 4/ 347.

وقال الأخفش في هذه الآية: قوله: {ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} نصب مختلفًا؛ لأن كل صفة متقدمة فهي التي تجري على الذي قبلها إذا كانت من سببه، والثمرات في موضع نصب، هذا كلامه (¬1). و (مختلفًا) ينتصب بكونه نعتًا لقوله ثمرات، وجاز تذكيره على الفعل فجاز أن يجري مجرى الفعل، ولو كان فعلًا جاز تذكيره كقوله: {ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}، والاختلاف الألوان، وجرى صفة للثمرات، كقوله: {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] فالظالم للأهل، وقد جرى صفة للقرية (¬2). وشرحنا الكلام فيه هاهنا وتم الكلام عند قوله: {أَلْوَانُهَا}، ثم ابتدأ فقال: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} أي: ومما خلقنا من الجبال جدد بيض، يعني: طرائق، وليس يريد الطرائق التي تسلك وإنما أراد الطرائق (¬3) التي تكون مستقيمة على ضرب واحد كطرائق النحل، وكذلك يكون الجبال ممتد منها طريقة (¬4) بيض ومنها طريقة حمرة وطريقة سود وهي الغرابيب. قال أبو إسحاق: وهي الحرار من الجبال التي تكون ذات صخور سود (¬5). هذا الذي ذكرنا هو الوجه في تفسير الجدد والطرائق؛ لأن الطرائق في اللغة كل مستطيل، ويجوز أن يكون المعنى ما ذكره الفراء من قوله: هي طريق تكون في الجبال كالعروق. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 486. (¬2) انظر: "مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب" 2/ 216، "الدر المصون" 5/ 466، "البحر المحيط" 7/ 296. (¬3) في (ب): (الطريق). (¬4) في (أ): (منها طريقة منها بيض)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 269.

28

28 - وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} قال الزجاج: المعنى: وفيما خلقنا مختلفًا ألوانه من الناس والدواب والأنعام، خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات والجبال (¬1). وتم الكلام ثم ابتدأ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال الكلبي ومقاتل: في هذه الآية تقديم وتأخير (¬2). يعنيان تقديم المفعول على الفاعل. قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني (¬3). وقال مقاتل: أشد الناس لله خشية أعلمهم به (¬4). وقال الكلبي: العلماء بالله هم الذين يخشونه (¬5). وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا (¬6). وقال مجاهد والشعبي: العالم من خاف الله (¬7). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} قال ابن عباس ومقاتل: عزيز في ملكه، غفور لذنوب المؤمنين (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 269. (¬2) لم أقف على قول الكلبي. انظر: "تفسير مقاتل" 103 ب. (¬3) انظر: "القرطبي" 14/ 343، "زاد المسير" 6/ 486، انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 199 ب. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 103 ب. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "القرطبي" 14/ 343، "المحرر الوجيز" 4/ 437. وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 20 وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والطبراني عن ابن مسعود. (¬7) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 437، "زاد المسير" 6/ 486. وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 21 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد. (¬8) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 367، "تفسير مقاتل" 103 ب.

29

29 - قوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} قال مقاتل وأبو عبيدة: لن تهلك (¬1). وقال أبو إسحاق: لن تفسد ولن تكسد (¬2). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] في مواضع. قال ابن عباس في قوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}: يعني الجنة (¬3). وقول. {يَرْجُونَ} قال الفراء: (هو جواب لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ * يَرْجُونَ} (¬4) فيرجون جواب لأول الكلام) (¬5). وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلق بما ذكر من قوله: {يَتْلُونَ} {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} {وَأَنْفَقُوا} ليوفيهم، أي: فعلوا ما فعلوا ليوفيهم الله جزاء أعمالهم بالثواب. 30 - {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: سوى الثواب، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬6). {إِنَّهُ غَفُورٌ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 10 ب، "مجاز القرآن" 2/ 155. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 269. (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس. وقد ذكره هود في "تفسيره" 3/ 417 ولم ينسبه. (¬4) في (أ): (ويقيمون)، بدلًا من (وأقاموا). (¬5) انظر: "معاني القرآن" 2/ 269. (¬6) لم أقف على هذا الأثر عن ابن عباس، ولكن ورد عن أبي هريرة في الصحيحين، في البخاري كتاب: التفسير، تفسير سورة تنزيل السجدة 4/ 1794 رقم الحديث (4501 - 4502) عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وبرقم (4503) عن أبي هريرة أيضًا. وأخرجه مسلم في "صحيحه" كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها 4/ 2174 رقم الحديث (2824)، وعن سهل بن سعد الساعدي رقم (2825).

31

للذنوب. (شكور) لحسناتهم. قاله مقاتل (¬1). وقال ابن عباس: غفر العظيم من ذنوبهم، وشكر اليسير من أعمالهم (¬2). 31 - {اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} قال ابن عباس: حيث جعلت نعمتى كرامتي فيمن خافني وعظم حقي (¬3). 32 - وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} هذه الآية منتظمة بقوله: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. لما ذكر أن الأمم الماضية كذبوا الرسل الذين أتتهم بالبينات وبالزبور وبالكتاب المنير وأنه عاقبهم على ذلك، ذكر هذه الآية المصدقة بالكتاب فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ} قال مقاتل: يعني القرآن (¬4) والمعنى: ثم جعلنا الكتاب ينتهي إليهم؛ لأن من ورث شيئًا كان ذلك الشيء منتهيًا له. وقوله: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} عباس: يريد المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5). ثم قسمهم ورتبهم فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال ابن عباس: بدأ بشرهم فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهو الذي مات على كبيرة ولم يتب منها (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 103 ب. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 367، وانظر: "الوسيط" 3/ 505، "تفسير البغوي" 3/ 570. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 153 ب. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 133، "تفسير البغوي" 3/ 570، "المحرر الوجيز" 4/ 439. (¬6) انظر: "الوسيط" 3/ 505، "زاد المسير" 6/ 489.

32

وقال مقاتل: يعني أصحاب الكبائر من أهل التوحيد (¬1). {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال ابن عباس: وهو والذي لم يصب كبيرة (¬2). وقال مقاتل: هو صاحب اليمين (¬3). {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} يعني: المقربين الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة. وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت [حسناته على سيئاته] (¬4) (¬5). وقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في هذه الآية: "السابق والمقتصد يدخلان (¬6) الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة" (¬7). وقال عقبة قال (¬8) لعائشة: أرأيت قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 228/ أ، عن بكر ابن سهل الدمياطي. (¬3) لم أقف عليه عن مقاتل، وقد ذكره القرطبي 14/ 346 عن مجاهد. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ). (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 228 أ، "البغوي" 3/ 571، "المحرر الوجيز" 4/ 439. (¬6) في (ب): (يدخلون)، وهو خطأ. (¬7) هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده 5/ 198، 6/ 444، والحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير، تفسير سورة الملائكة 2/ 426 وصححه ووافقه الذهبي، وابن أبي حاتم في "التفسير" 10/ 3182. (¬8) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: قلت. وعقبة هو: ابن صهبان الأزدي الحداني، وقيل: الراسبي، وقيل: الهنائي البصري، وحدان وراسب وهناءة من الأزد، روى عن عبد الله بن مغفل المزني =

الآية، فقالت: أما السابق فمن مضى في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما المقتصد فمن اتبع آثارهم فيعمل بأعمالهم حى لحق بهم فمثلي (¬1) ومثلك ومن اتبعتك (¬2)، وكل في الجنة (¬3). وقال ابن الحنفية: الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات، والسابق في الدرجات العلى (¬4). وروي عن ابن عباس أنه سأل كعبًا (¬5) عن هؤلاء الأصناف الثلاثة فقال: تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم (¬6). ¬

_ = وعثمان بن عفان وعائشة أم المؤمنين وغيرهم، وروى عنه جماعة منهم: صبيح أبو الوسيم وعلي بن زيد بن جدعان وقتادة بن دعامة، وهو ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه، توفي في أول ولاية الحجاج على العراق. انظر: "تهذيب الكمال" 17/ 200 الترجمة (3977)، "الطبقات الكبرى" 7/ 146، "الجرح والتعديل" 6/ 312، الترجمة 1736. (¬1) هكذا في النسخ! وفيه سقط من الأثر نصه: وأما الظالم لنفسه فمثلي. (¬2) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: اتبعنا. (¬3) هذا الحديث رواه الحاكم في"المستدرك"، كتاب: التفسير، تفسير سورة الملائكة 4/ 426 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وابن حجر في "المطالب العالية" 5/ 360 وقال: لأبي داود، والثعلبي في "تفسيره". (¬4) انظر: "الطبري" 22/ 135، وأورده السيوطي في "الد" 7/ 28 وزاد نسبته لابن أبي حاتم. (¬5) هو: إسحاق بن كعب بن نافع بن ذي هجن الحميري التابعي، اشتهر بكعب الأحبار، من علماء اليهود في اليمن، أسلم في خلافة أبي بكر وقدم المدينة فأخذ عنه الصحابة كثيرًا من أخبار الأمم الغابرة، وأخذ الكتاب والسنة من كبار الصحابة بالمدينة، ثم رحل إلى الشام وتوفي بها. انظر: "حلية الأولياء" 5/ 164، "تذكرة الحفاظ" 1/ 52، "تهذيب التهذيب" 8/ 438. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 134، "المحرر الوجيز" 4/ 439، أورده السيوطي في " الدر" 7/ 27 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حمبد وابن المنذر.

وقال كعب أيضًا: وقرأ هذه الآية إلى قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} فقال: دخلوها ورب الكعبة (¬1). وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: فيعذب الله من اصطفاه وجعلهم يدخلون الجنة (¬2). هذا الذي ذكرنا مذهب جمهور أهل التأويل. وذهب قوم إلى أن الظالم لنفسه ليس من أهل الجنة. فقال الكلبي: فمنهم ظالم لنفسه في الكفر وذلك في النار (¬3). وروي عن عمرو بن دينار أن ابن عباس كان يقول: الظالم لنفسه هو المنافق (¬4). وروي عوف عن الحسن: نجا السابق والمقتصد، وهلك الظالم لنفسه (¬5). وقال مجاهد: صنفيان (¬6) نانجيان وصنف هالك قال: وهذه الآية كالتي في الواقعة: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" 7/ 27 وعزاه لعبد بن حميد. قلت: ولعل هذا القول وسابقه لا فرق بينهما، فكلاهما يدل على أن الأصناف الثلاثة داخلة الجنة. (¬2) هكذا وردت هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنها في جميع النسخ، ويظهر أن في الكلام خطأ، ولم أقف على رواية عن ابن عباس قريبة منها بعد طول بحث، فيظهر -والله أعلم- أنها خطأ من النساخ والله أعلم. (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي، وانظر: "القرطبي" 14/ 346، "زاد المسير" 6/ 489 ونسبه لعمرو بن دينار عن ابن عباس. (¬4) انظر: "مجمع البيان" 8/ 639، وبعض المفسرين ذكر هذا القول منسوبًا للحسن. انظر: "الطبري" 22/ 135، "زاد المسير" 7/ 489. (¬5) انظر: "الطبري" 22/ 135، "زاد المسير" 7/ 489، "مجمع البيان" 8/ 639. وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 27 وعزاه لعبد بن حميد والبيهقي عن الحسن. (¬6) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: صنفان.

أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 8، 9] (¬1). وعلى هذا القول الكناية في منهم ومنهم تعود إلى قوله: {مِنْ عِبَادِنَا}. والقول هو الأول؛ لأن الله تعالى ذكر الأصناف بعد الاصطفاء؛ ولأنه ختم ذكرهم بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}. ولقد أحسن أبو بكر الوراق كل الإحسان حيث قال: رتب الله هذه الأمة على ثلاث طبقات؛ لأن أحوالهم على ثلاث: معصية ثم توبة ثم قربة، فإذا عصى العبد كان ظالمًا لنفسه، ثم إذا تاب صار مقتصدًا فإذا ثبت على التوبة دخل (¬2) في السابقين (¬3). ولهذا المعنى بدأ في ذكرهم بالظالمين (¬4). على أن الواو عند أهل التحقيق لا توجب ترتيبًا. وذكرنا معنى المقتصد في اللغة عند قوله: {أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] وقوله: {سَابِقٌ} أي: سابق إلى الجنة أو إلى ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 135، "بحر العلوم" 3/ 86، "القرطبي" 14/ 346. (¬2) في (ب): (صار من السابقين). (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 227 أ، "البغوي" 3/ 572. (¬4) وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" 14/ 349 أوجهًا أخرى في سبب تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقال: وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق، فقيل: التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفًا، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل ذكره الزمخشري ولم يذكر غيره. وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه؛ إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه، وأتكل المقتصد على حسن ظنه والسابق على طاعته.-قلت: وفي هذا القول نظر إذ لن يدخل أحد الجنة بعمله كما جاء عن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. قلت: وقيل غير ذلك، ولا مانع من إرادة الكل والله أعلم.

33

رحمة الله. {بِالْخَيْرَاتِ} أي: بأعماله الصالحة بإذن الله بأمر الله وإراداته. قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} يعني: إيراثهم الكتاب. 33 - ثم أخبر بثوابهم وجمعهم في دخول الجنة فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} فقال ابن عباس: أدخلهم الجنة أفضل الجنان وأشرفها (¬1). وقال مقاتل: يعني: هؤلاء (¬2) الأصناف الثلاثة يدخلون الجنان (¬3). قال أبو علي: (جنات عدن نكرة ويدخلونها أو يدخلونها -على ما قرأ أبو عمرو- صفة لها؛ لأنها جملة والنكرات توصف بالجمل، وأما ارتفاع جنات، فيجوز أن يكون تفسيرا للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: الفضل جنات عدن، أي: دخول جنات. قال: ويجوز أن تجعل الجنات بدلاً من الفضل، كأن ذلك الفضل جنات عدن، أي: دخول جنات عدن) (¬4). هذا كلامه، والمعنى: إيراثنا إياهم الكتاب الفضل الكبير، وذلك الفضل جنات عدن أي: دخولها؛ لأن إيراث الكتاب هو (¬5) سبب دخول الجنات. وباقي الآية مفسرة في سورة الحج (¬6). قال مقاتل: فلما دخلوها واستقرت بهم الدار، حمدوا ربهم على ما صنع بهم (¬7). وهو: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 367. (¬2) في (ب): (هذه). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 154 أ. (¬4) "الحجة" 6/ 28. (¬5) "هو" ساقطة من (ب). (¬6) آية: 23، وأحال على سورة الكهف. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ.

34

34 - قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. قال أبو عبيدة والزجاج: الحزن والحزن واحد كالبخل والبخل والرشد والرشد (¬1). قال ابن عباس: يعنون ما يعاينون (¬2) في الموقف من الأهوال والزلازل والشدائد (¬3). قال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم (¬4). وقال الكلبي: يعني الذي كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة (¬5). وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: حزن النار (¬6). وقال سعيد بن جبير: همُّ الخبز في الدنيا (¬7). وقال الحسن: أحزان أهل الدنيا يقطعها الموت، ولكن أحزان الآخرة (¬8). وقال عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات (¬9). وقال أبو إسحاق: اذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 155، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 270. (¬2) في (أ): (عاينون). (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 229 أ، "الماوردي" 4/ 475، "البغوي" 3/ 572. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 229 أ، "البغوي" 3/ 572، "فتح القدير" 4/ 350. (¬6) انظر: المصادر السابقة، ولعله لا فرق بين القولين. (¬7) انظر: "البغوي" 3/ 572، "زاد المسير" 6/ 492، "فتح القدير" 4/ 350. ولعل المقصود بهذا القول هو هم طلب الرزق. (¬8) لم أقف عليه. (¬9) انظر: المصادر السابقة.

35

لمعاش أو لمعاد (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} قال ابن عباس: يعنون بذلك أنهم غفر لنا العظائم من ذنوبنا، وشكر لنا من محاسن أعمالنا (¬2). 35 - وقوله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدًا، لا يموتون ولا يتحولون عنها أبدًا (¬3) قال الفراء والزجاج: المقامة مثل الإقامة، يقال: أقمت بالمكان إقامة ومقامة ومقامًا (¬4). وقوله: {مِنْ فَضْلِهِ} قال أبو إسحاق: أي ذلك بتفضله لا بأعمالنا (¬5). {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} قال ابن عباس ومقاتل: لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة في أجسامنا (¬6). {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} اللغوب: الإعياء من التعب. قال الفراء في المصادر: لغب بالفتح يلغب الضم لغوبا، ولغب بفتح الغين قليلة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 270. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 367، وذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 506. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 104/ أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 370، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 271. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 271. (¬6) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 367، "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬7) لم أقف على قول الفراء وانظر: "اللسان" 1/ 742 (لغب)، إلا أن ابن منظور قال: ولغب بالكسر لغة ضعيفة. وما ذكر هنا خطأ فالمراد: ولعب بكسر العين، فلعله وهم من النساخ والله أعلم.

36

الأزهري: ولغب فلان دابته، إذا تحامل عليها حتى أعيا (¬1) (¬2). والمفسرون يقولون في اللغوب: إنه الإعياء (¬3). قال مقاتل: يقول: فلا يصيبنا في الجنة من إعياء (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: مثل ما يلغب الرجل حين يلاعب أهله ويجامعها (¬5). 36 - فلما بلغ هذا الموضع انقطعت صفة أهل التوحيد، وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال في صفة الكفار (¬6): {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} قال أبو إسحاق: فيموتوا جواب النفي، المعنى: لا يقضي عليهم الموت فيموتوا (¬7). هذا كلامه. ويجوز أن يكون معنى لا يقضى عليهم لا يهلكون، من قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (¬8) وقد مر، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير محذوف. قال ابن عباس: فيموتوا فيستريحوا مما (¬9) هم فيه من العذاب. {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} طرفة عين كذلك يعن ما ذكر (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب): (عيا) بدون همزة. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 139 (لغب). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 140، "بحر العلوم" 30/ 88، "المحرر الوجيز" 4/ 440. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) في (ب): (الكافرين). (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 271 (¬8) سورة القصص: آية 15. (¬9) في (أ): (بما)، وهو خطأ. (¬10) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 367، وقد ذكره بعض المفسرين غير منسوب.

37

وقال ابن عباس ومقاتل: هكذا نجزي كل كفور كل كافر (¬1). 37 - {يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي: يستغيثون. قاله ابن عباس (¬2). والجميع، وهو [قول] (¬3) من الافتعال من الصراخ، يقال اصطرخ (¬4) القوم وتصارخوا (¬5). قال مقاتل: والاستغاثة أنهم ينادون (¬6) {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}، قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} يعني: الشرك (¬7). فوبخهم الله تعالى فقال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ثماني عشرة سنة، وهو قول قتادة (¬8). وقال الحسن: أربعين سنة (¬9). وهو قول الكلبي، قال: تعمير العبد بعد أربعين سنة (¬10). ¬

_ = انظر: "بحر العلوم" 3/ 88، "المحرر الوجيز" 4/ 440، "البغوي" 3/ 573. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. وانظر: المصادر السابقة. (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 438 بهامش المصحف. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (ب) (¬4) في (ب): (أصرخ). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 135 (صرخ)، "اللسان" 3/ 33 (صرخ). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬7) انظر: "الوسيط" 3/ 506. "تفسير القرطبي" 14/ 352. (¬8) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 441، "تفسير البغوي" 3/ 573، "زاد المسير" 6/ 494. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 461، "تفسير البغوي" 3/ 573، "تفسير القرطبى" 14/ 353. (¬10) لم أقف عليه عن الكلبي. وقد ذكره الماوردي في "تفسيره" 4/ 476 عن ابن عباس ومسروق. وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 3185 عن الحسن.

38

روى منصور، عن هلال، قال: كان أهل المدينة إذا أتى على أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة (¬1). وقال ابن عباس في رواية مجاهد: يعني ستين سنة (¬2). وهذا أولى الأقاويل؛ لما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا بلغ الرجل ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر" (¬3)، وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} قال ابن عباس (¬4): يريد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قول مقاتل والجمهور (¬5). وقال آخرون: يعني به الشيب. روى ذلك عكرمة وسفيان بن عيينة (¬6). وذكر الفراء والزجاج القولين في النذير (¬7). وقال أبو علي: من قال: إن النذير محمد -صلى الله عليه وسلم-، كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب، كان الأولى أن يكون مصدرًا كالإنذار (¬8). والقول هو الأول. لقوله تعالى في صفة محمد -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45، الفتح.: 8] ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن منصور بن هلال، وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" 14/ 353 ونسبه لمالك (¬2) انظر: "الطبري" 22/ 141، "بحر العلوم" 3/ 89، "زاد المسير" 6/ 494. (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير، تفسير سورة الملائكة 4/ 427 وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وابن أبي حاتم في "التفسير" 10/ 3185. (¬4) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 437. (¬5) وهو قول جمهور المفسرين كما حكاه "البغوي" 3/ 573، والنحاس في "معاني القرآن" 5/ 462، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 4/ 441. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 230 أ، البغوي 3/ 573، "زاد المسير" 6/ 494. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 2/ 370، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 272. (¬8) "الحجة" 1/ 255.

39

وقوله تعالى: {فَذُوقُوا} قال مقاتل: فذوقوا العذاب. {فَمَا لِلظَّالِمِينَ} من مانع يمنعهم العذاب (¬1). 38 - وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تفسير هذه الآية قد تقدم فيما مضى (¬2). قال الكلبي ومقاتل: في هذه الآية يعني أنهم لو ردوا (¬3) لما نهو عنه (¬4). 39 - {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد خلفًا من بعد قوم كانوا من قبلكم (¬5). قال أبو إسحاق: أي جعلكم أمة خلفت من قبلها ورأت وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن يعتبر به (¬6). {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: جزاء كفره. ثم أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاحتجاج عليهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} هو الآية. قال أبو إسحاق: معناه: قل أخبروني عن شركائكم (¬7). {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} قال أبو علي: (قوله: {مَاذَا خَلَقُوا} في موضع النصب؛ لأنه المفعول الثاني لأرأيتم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬2) عند قوله تعالى في سورة آل عمران آية 119، 154. (¬3) هكذا في النسخ! وهو خطأ، إذا الصواب هو: لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام: آية 28 {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬4) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي. وانظر: "تفسير مقاتل" 104 أ، "بحر العلوم" 3/ 89، "القرطبي" 14/ 355. (¬5) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. ونسبه بعض المفسرين لقتادة. انظر: "تفسير الطبري" 22/ 43، "مجمع البيان" 8/ 642. (¬6) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 272. (¬7) المصدر السابق.

40

وقوله تعالى: {أَرُونِي} تأكيدًا لما دل عليه أرأيتم. ألا ترى أن أرأيتم بمنزلة أخبروني، ومثله قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] 40 - وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] في الاستفهام في الآيتين، في (¬1) المفعول الثاني لـ (أرأيتم) (¬2). وقال مقاتل: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} كما خلق الله آدم إن كانوا آلهة (¬3). قال الفراء: أي أنهم لم يخلقوا شيئًا (¬4). فعلى هذا من بمعنى في. وقال الزجاج: (أي بأس شيء أوجبتم لهم شركة الله -عز وجل-) (¬5) أي شيء خلقوه من الأرض. {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي: أم لهم شركة في خلق الموات. ثم ترك هذا النظم فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ} يقول: بل آتيناهم، يعني: أهل مكة. {كِتَابًا} قال ابن عباس: يريد بعثت إليهم قبلك يا محمد نبينا، وأنزلت عليهم كتابًا (¬6). ¬

_ (¬1) حرف الجر (في) طمس من (ب). (¬2) لم أقف على قول أبي علي، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 701. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 104 ب. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 2/ 370. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 273. (¬6) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 439، وذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" 4/ 478 ونسبه للكلبي.

41

وقال مقاتل: يقول هل أعطينا كفار مكة كتابًا (¬1). {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} يعني: ما في الكتابين (¬2) من ضروب البينات. وقرأ أبو عمرو: بينة، جعل ما في الكتاب بينة على لفظ الإفراد وإن كانت عدة أشياء، كما قال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28] (¬3). ثم استأنف: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ} أي: ما يعد الظالمون. {بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} يعني: أباطيل تغر. قال ابن عباس: يريد ما يعدهم به إبليس وجنوده (¬4). وقال مقاتل: يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة إلا باطلاً ليس بشيء (¬5). 41 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} قال مقاتل: يعني لئلا تزولا عن مواضعهما (¬6). وعلى هذا، تكون هذه الآية كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (¬7) وقد مر. وقال أبو إسحاق: يمسك بمعنى: يمنع (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬2) هكذا في النسخ بالتثنية! وهو خطأ؛ لأن الإشارة لم تسبق إلا إلى كتاب واحد، وهكذا وردت بالإفراد في "الوسيط" 3/ 557. (¬3) انظر: "الحجة" 6/ 29 - 30، "حجة القراءات" ص 594. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 104 أ. (¬6) المصدر السابق. (¬7) سورة النساء: آية 176. (¬8) في (أ): (يمنعني)، وهو تصحيف. (¬9) النظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 273.

وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار؛ لأن المعنى يمنعهما الزوال. وقال أبو عبيدة: في هذه الآية سبيلهما سبيل قوله: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] (¬1). يعني: أنه ذكر السموات والأرض، ثم أعاد الكناية إليهما كما تعاد إلى الاثنين. قال الأخفش: جعل السموات صنفا كالواحد (¬2). وقوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا} قال الفراء: (يعني ولو زالتا، كقوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا}، وقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ولئن ولو، وهما متآخيتان يجابان بجواب واحد) (¬3). وقال أبو إسحاق: هذا على وجهين: أحدهما: أنه أراد زولانهما في القيامة قال الله -عز وجل-: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] والثاني: أن يقال: إن زالتا وهما لا يزولان. هذا كلامه (¬4). والمعنى في الوجه الأول أن زوالهما جائز ولان (¬5) في القيامة، وفي الوجه الثاني قيل: ولئن زالتا، على التقدير: لا أنهما تزولان ما دامت الدنيا. وقال مقاتل: يعني: ولئن أرسلتهما فزالتا (¬6)، وأضمر الإرسال. وقوله تعالى: {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} قال أبو عبيدة: أي لا يمسكهما (¬7). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 156. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 2/ 487. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 2/ 370. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 274. (¬5) هكذا في النسخ! ولعله تصحيف، والصواب: وكائن. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 104 ب. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 156.

وقال الفراء: يعني: ما أمسكهما (¬1). قال مقاتل: يقول لم يمسكهما أحد من بعد الله (¬2). وقال الكلبي في سبب النزول (¬3): إن اليهود لما قالوا: عزير ابن الله [وقالت] (¬4) النصارى: المسيح ابن الله، كادت السموات والأرضون أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعها الله -عز وجل- ونزل هذه الآية. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} قال: حليمًا عما يقال له، غفورًا لمن تاب من مقالته. واختار الزجاج قول الكلبي، وذكر في النزول مثل قوله. {حَلِيمًا} حلم عمن قال: اتخذ الرحمن ولدًا فلم يعجل عليهم العقوبة (¬5). وسائر المفسرين لم يذكروا هذا السبب، والآية على قولهم احتجاجًا على المشركين بقدرة الله تعالى على حفظ السموات والأرض وإمساكهما عن الزوال، وإخبار (¬6) عن عظم قدرته، وعلى هذا يقال: لم قال إنه كان حليمًا غفورًا؟ وأين هذا المكان عن ذكر الحلم والمغفرة وهذا موضع يدل على القدرة؟ والجواب عن هذا ما ذكر مقاتل، قال: هذا على التقديم، إنه كان حليمًا عن قولهم (¬7) الملائكة بنات الله، غفورًا إذا أخر ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 375. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 104 ب. (¬3) انظر: "القرطبي" 14/ 357، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 496 عن الزجاج. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط في (ب) (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 273. (¬6) في (ب): (وإجار). (¬7) في (ب): (للملائكة).

42

العذاب عنهم ولم يعجل عليهم بالعقوبة (¬1). يعني أن هذا يعود إلى ما قبله من ذكر كفار مكهَ والمشركين. 42 - قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني: كفار مكة. وهذه ألفاظ قد سبق تفسيرها في سورتين (¬2). قال ابن عباس: حلفوا بالله قبل أن يأتيهم محمد بأيمان غليظة {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} رسول. {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى} أصوب دينا. {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} يريد: اليهود والنصارى والصابئين. {جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-: {مَا زَادَهُمْ} مجيئه {إِلَّا نُفُورًا} تباعدًا عن الهدى (¬3). 43 - {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: عتوا (¬4). وقال مقاتل: تكبرا في الأرض عن الإيمان (¬5). وانتصب استكبارا -عند الأخفش- على البدل من قوله: {نُفُورًا} (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 104 ب. (¬2) سورة الأنعام: آية 109، قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} والآية 53 من سورة النور، قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 368، وأرده المؤلف في "الوسيط" 3/ 508، وذكره أكثر المفسرين غير منسوب لابن عباس. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 230 ب، "بحر العلوم" 3/ 90، " المحرر الوجيز" 4/ 443. (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 90، "الوسيط" 3/ 508، "القرطبي" 14/ 358. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 104 ب. (¬6) انظر: "الدر المصون" 5/ 473، "البحر المحيط" 8/ 305.

وقال الفراء: فعلوا ذلك استكبارا (¬1). وهذا محتمل المصدر، ويحتمل أن يكون معناه للاستكبار، وهو قول الزجاج قال: هو منصوب؛ لأنه مفعول له، المعنى: ما زادهم إلا نفورًا للاستكبار (¬2). {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} قرأ حمزة بإسكان الهمزة. قال أبو إسحاق: (وهذا عند النحويين لحن لا يجوز، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار، كقوله: إذا أعوججن قلت صاحب قوم (¬3) يريد: يا صاحب، فحذف مضطرا، كأنه استثقل الضم بعد الكسر والكسر بعد الكسر، ولو قال صاحب، ومثله: اليوم اشرب غير مستحقب (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 378. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 274. (¬3) صدر بين من الرجز، وعجزه: بالدو أمثال السفين العوم وينسب لابن نحيلة، انظر: "شرح أبيات سيبوبه" 2/ 398، "شرح شواهد الشافية" ص 225. وبلا نسبة في: "الكتاب" 4/ 203، "الخصائص" 1/ 75، "معاني القرآن" للفراء 2/ 371. ويعني بقوله: اعوججن، الإبل، والدو: الصحراء، شبه الإبل في الصحراء بالسفن التي تمخر عباب اليم. والشاهد فيه: تسكين ياء صاحب، تشبيهاً للوصل بمجرى الوقف. (¬4) صدر بيت، وعجزه: إثمًا من الله ولا واغل وهو لامرئ القيس كما في: "ديوانه" ص 122، "الكتاب" 4/ 204، "لسان العرب" 1/ 325 (حقب)، "الأصمعيات" ص 130. واستحقب: اكتسب، وأصل الاستحقاب حمل الشيء في الحقيبة، والواغل: الداخل على القوم في شرابهم ولم يدع. والشاهد فيه قوله: اشرب، حيث سكن الباء ضرورة.

والبيتان أنشدهما جميع النحويين المذكورين، قد أعلنوا كلهم أن هذا من الاضطرار في الشعر، ولا يجوز مثله في كتاب الله) (¬1). قال أبو علي: (التقدير في قوله: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}: استكبروا في الأرض، {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي: مكروا والمكر السيئ، فأضيف المصدر، إلى صفة المصدر ألا ترى أنه قد جاء بعد ولا يحيق المكر السيئ، وكما أن السيئ صفة للمصدر كذلك الذي قبله، ومثله قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} تقديره: مكروا المنكرات السيئات، إلا أنك إذا أضفت إلى السيئ قدرت الصفة وصفًا لشيء غير المكر، كما أن من قال: دار الآخرة، وجانب الغربي، قدره كذلك، يريد أن الأصل: الدار الآخرة، والجانب الغربي، فلما أضيف إلى صفته صار التقدير: دار الأحكام الآخرة، وجانب البلد الغربي، كذلك مكر السيئ يكون معناه: مكر الشرك السيء. قال: فأما قراءة حمزة واستكانة (¬2) الهمزة في الاستدراج، فإن ذلك يكون على إجرائها في الوصل مجراها في الوقف، فهو مثل سببا (¬3) ويمهل، وهو في الشعر كثير. ومما يقوي ذلك أن قومًا قالوا في الوقف: أقعى وأقعوا، فأبدلوا من الألف الواو والياء، ثم أجروها في الوصل مجراها في الوقف فقالوا: هذه أفعوا يا فتى، فكذلك عمل حمزة بالهمزة في هذا الموضع. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 275. (¬2) في (أ): (واستكانة)، وهو خطأ. (¬3) في (ب): (سببا)، وهو تصحيف.

قال: ويحتمل وجهًا آخر، وهو أنه خفف لاجتماع الكسرتين واليائين، كما خففوا الباء من إبل لتوالي الكسرتين، ونزل حركة الإعراب بمنزلة غير حركة الإعراب كما فعلوا في قولهم: فاليوم فاشرب غير مستحقب (¬1) ... .......... ................ ... وقد بدا هنك من المئزر (¬2) فإذا شاع ما ذكرنا في هذه القراءة من التأويل، لم يسغ لقائل أن يقول إنه لحن، للزمه أن يقول: إن قول من قال: افعوا في الوصل لحن، فإذا كان من قرأ به على قياس ما استعملوه في كلامهم المنثور لم يكن لحنا، ولم يكن لقادح في ذلك قدح. وهذه القرآة وإن كان لها مخلص من الطعن، فالوجه قراءة الحرف على ما عليه الجمهور في الدرج) (¬3). وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على ومكر السيئ، فيترك الحركة، وهو وقف حسن؛ لأنه تمام الكلام، ثم غلط الراوي فروى أنه كان يحذف الإعراب في الإدراج (¬4)، فيحتمل أن يكون حمزة قد ذهب إلى قراءته ولم يعلم أنه إنما كانت يترك الحركة في همز الوقف؛ لأنه في ¬

_ (¬1) صدر بيت لامرئ القيس سبق معنا. (¬2) عجز بيت من السريع، وصدره: رحت وفي رجليك ما فيهما. وهو مختلف في نسبته، فهو في ديوان الأقيشة الأسدي ومنسوب إليه في "شرح أبيات سبويه" 2/ 391، و"حزانة الأدب" 4/ 484، ونسبه ابن قتيبة كما في "الشعر والشعراء" للفرزدق. والشاهد فيه: إسكان النون في هناك ضرورة، وهو مرفوع لأنه فاعل بدا. (¬3) "الحجة" 6/ 31 - 33. (¬4) "القطع والائتناف" ص 593.

الإدراج، فتابع المغالط في الرواية (¬1). والمفسرون فسروا المكر السيئ هاهنا بالشرك (¬2). والتقدير: ومكروا مكرًا سيئًا، والمكر السيئ وهو عملهم القبيح من الشرك، والمكر هو العمل القبيح. وقد مر هذا المعنى في مواضع من التنزيل. {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قال ابن عباس: يريد عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك (¬3). وقال الكلبي: هو أنهم قتلوا يوم بدر (¬4). ثم خوفهم فقال: قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أي: هل ينظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بالأمم المكذبة قولهم (¬5) أي: يجب أن لا ينتظروا إلا العذاب بعد تكذيبك، وهذا كقوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬6) وقد مر. قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} في العذاب. {تَبْدِيلًا} وإن تأخر ذلك؛ لأن قوله الحق في نزول العذاب بهم في الدنيا. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم. قاله مقاتل وابن عباس (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 5/ 473. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 22/ 145، "بحر العلوم" 3/ 90، "تفسير البغوي" 3/ 574، "تفسير القرطبي" 14/ 358. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 3/ 575، "المحرر الوجيز" 4/ 443، " زاد المسير" 6/ 359. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 479، "البغوي" 3/ 575، "القرطبي" 14/ 359. (¬5) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: قبلهم. (¬6) سورة يونس: آية 102. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 104 ب، انظر: "تفسير ابن عباس" ص 368.

45

45 - وقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} قال ابن عباس ومقاتل: يريد المشركين كفار مكة (¬1). {بِمَا كَسَبُوا} من الذنوب لعجل لهم العقوبة، وهو قوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا}. قال الأخفش: أضمر الأرض من غير أن يكون ذكرها؛ لأن هذا الكلام قد كثر حتى قد عرف معناه، ويقولون: ما على ظهرها أحب إلى منك، وما بها من أحد آثر عندي منك (¬2). وقال الزجاج: قد جرى ذكر الأرض في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (¬3). وقوله: {مِنْ دَابَّةٍ} قال ابن عباس: يريد المشركين (¬4). وقال الكلبي: يعني الجن والإنس خاصة (¬5) قال أبو عبيدة: الدابة هاهنا الناس خاصة (¬6). واختار الزجاج قول الكلبي (¬7). وسائر أهل التفسير يجعلون الدابة هاهنا عامًا في من دب على وجه الأرض، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في نظير هذه الآية في سورة النحل [: 61]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 105 أ، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 2/ 487. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 276. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 479، "تفسير القرطبي" 14/ 391. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 156. (¬7) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 276.

قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} قال ابن عباس: يريد أهل طاعته وأهل معصية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 508، "تفسير البغوي" 3/ 575.

سورة يس

سورة يس

1

تفسير سورة يس بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يس}، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد يا إنسان، قال: وهي بلغة طي، وهو قول الكلبي وعكرمة والضحاك ومقاتل والحسن (¬1). وقال ابن الحنفية: يا محمد، وهو قول سعيد بن جبير (¬2). وقال أبو العالية: يا رجل (¬3). وهذان القولان كالأول، تفسير لذلك الإنسان المنادى. وقال عطاء: هي بالسريانية. وقيل: بالحبشة. روي ذلك أيضًا عن ابن عباس (¬4). فمن قال بهذا، قال: إنهم يقولون: يس، ويريدون به يا إنسان، ثم تكلمت العرب به فصار من لغتهم، كما ذكر أنها من لغة طي، ووجهه من العربية أنه اكتفى بالسين من إنسان كما يكتفي بالحرف الواحد من الكلمة. وقال مجاهد: {يس} فواتح من كلام الله يفتح بها كلامه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "اللغات في القرآن" ص 53، "الطبري" 22/ 148، "الماوردي" 5/ 5، "زاد المسير" 3/ 7، "تفسير مقاتل" 105 أ. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 232 أ، "الماوردي" 5/ 5، "المحرر الوجيز" 4/ 545، "زاد المسير" 7/ 3. (¬3) انظر: "البغوي" 4/ 5، "مجمع البيان" 8/ 605. (¬4) انظر: "المارودي" 5/ 5، "القرطبي" 15/ 4، "المحرر الوجيز" 4/ 545، "زاد المسير" 7/ 3، "البحر المحيط" 7/ 310. (¬5) انظر: "الطبري" 22/ 148، "بحر العلوم" 3/ 93، "الماوردي" 5/ 5.

2، 3

واختلف القراء في إظهار النون من {يس} وإخفائه، فقرأوا بالوجهين، وكلامه جائز صحيح، فمن أظهر فلأن هذه الحروف مبنيَّة علي الوقف يدل على ذلك استجازتهم فيها الجمع (1) بين ساكنين كما يجتمعان في الكلم التي يوقف عليها، فلما جاز فيها الجمع بين ساكنين من حيث كان التقدير فيها الوقف استجيز معها تبيين النون في الإدراج وإن كانت النون الساكنة تجيء مع حروف الفم؛ لأن التقدير بها الوقف. ومن أخفى فلأنه وإن كان في التقدير الوقف لم يقطع فيه همزة الوصل، وذلك قولهم: ألم الله، ألا ترى أنهم حذفوا همزة الوصل كما تحذف في الكلم التي توصل، فلا يكون التقدير فيها الوقوف عليها، وكذلك قالوا: واحد اثنان، فحذفوا همزة الوصل، وإذا صار في تقدير الوصل أوجب أن لا تبين معها النون (2). 2، 3 - قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قال ابن عباس ومقاتل: أقسم الله بالقرآن المحكم أنك لمن المرسلين، وذلك أن كفار مكة قالوا له: لست مرسلاً، وما أرسل الله إلينا رسولاً، فأقسم الله بالقرآن أن محمدًا من المرسلين (3). 4 - {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال ابن عباس ومقاتل: على [دين] (4)

_ (1) في (أ): (الجميع)، وهو خطأ. (2) انظر هذا الكلام بنصه مع اختلاف يسير في "الحجة" 6/ 35، وانظر: "حجة القراءات" ص 595، "الحجة في القراءات السبع" 297. (3) انظر: "القرطبي" 15/ 5، "تفسير مقاتل" 105 أ، وذكره غير منسوب: البغوي 5/ 5، الطبري في "مجمع البيان" 8/ 650. (4) ما بين المعقوفين طمس في (ب).

5

مستقيم، يعني دين الإسلام؛ لأن الأديان كلها غير الإسلام [ليس] (¬1) بمستقيم (¬2). قال أبو إسحاق: (أي على طريق الأنبياء الذين تقدموك، قال: وأحسن ما في العربية أن يكون {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خبر إن، ويكون {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبرًا ثانيًا والمعنى: إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم. قال: ويجوز أن يكون على صراط من ملة المرسلين، فيكون المعنى: إنك من المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة (¬3). وذكر الفراء أيضًا الوجهين في قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كما ذكر الزجاج (¬4). 5 - وقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} تنزيل يقرأ بالرفع والنصب، فمن قرأ بالنصب فعلى المصدر، على معنى: نزل الله ذلك تنزيلًا من العزيز الرحيم، ثم أضيف المصدر فصار معرفة، كما قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] على معنى: فضربًا للرقاب. وهذا قول الزجاج وأبي علي وصاحب النظم (¬5). ومن قرأ بالرفع فعلى معنى: الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم، وهو تنزيل، أو على: تنزيل العزيز. هذا قول مقاتل (¬6): هذا القرآن هو تنزيل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط في (ب). (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير مقاتل" 105 أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 277. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 272. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 278، "الحجة" 6/ 36. (¬6) "تفسير مقاتل" 105 أ.

6

العزيز في ملكه الرحيم بخلقه. وقال الكلبي: العزيز بالنقمة من (1) لم يجب الرسل الرحيم بالمؤمنين (2). 6 - وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} قال صاحب النظم: هذا متصل بقوله: {نَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) لِتُنْذِرَ قَوْمًا} قوله تعالى: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} فيه قولان: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد كما أنذر آباؤهم من لدن إبراهيم وإسماعيل (3). وقال مقاتل: كما أنذر آباؤهم الأولون (4). وقال عكرمة: مثل ما أنذر آباؤهم (5). القول الثاني: قال قتادة: لتنذر قومًا لم يأتهم نذير قبلك (6). ونحو هذا قال الكلبي (7) وهو قول عامة المفسرين (8). و {مَا} على هذا القول تكون [جحدًا] (9). وذكر الفراء والأخفش والزجاج القولين، قال الفراء: (لتنذر [قومًا] (10) لم ينفع (11) آباؤهم ولا أتاهم رسول قبلك، ويقال: لتنذرهم بما

_ (1) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: لمن. (2) لم أقف عليه. (3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف 369، "القرطبي" 15/ 6. (4) "تفسير مقاتل" 105 أ. (5) انظر: "الطبري" 22/ 150، "القرطبي" 15/ 6، "مجمع البيان" 8/ 650. (6) انظر: "الطبري" 22/ 150، "الماوردي" 5/ 6، "مجمع البيان" 8/ 650. (7) لم أقف عليه. (8) انظر: "الثعلبي" 3/ 232 ب، "الطبري" 22/ 150، "الماوردي" 5/ 6، "بحر العلوم" 3/ 93. (9) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (10) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (11) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: لم يُنذر آباؤهم.

7

أنذر آباؤهم فتلقي الباء، فيكون {مَا} في موضع نصب كما قال: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13]) (¬1). وقال الأخفش: (أي لم تنذر آباءهم؛ لأنهم كانوا في الفترة، قال: وقال بعضهم: لتنذر الذي أنذر آباؤهم، ثم اختار القول الأول؛ لقوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ}، ودخول الفاء على المعنى الثاني كأنه لا يجوز، وهو على الأول أحسن) (¬2) هذا كلامه. ومعناه: أنك إذا جعلت {مَا} إثباتًا بمعنى الذي، لم يحسن دخول الفاء في {فَهُمْ غَافِلُونَ} فإذا جعلته نفيًا حسن. قال أبو إسحاق: (الاختيار أن {مَا} جحدٌ؛ لأن قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} دليل على معنى لم ينذر آباؤهم، وإذا كان قد أنذر آباءهم كان في قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} بُعدٌ. قال: ودليل النفي قوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] (¬3). 7 - وقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال مقاتل: (وجب العذاب على أكثر أهل مكة، قال: ويعني بالقول قوله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} [ص: 85]) (¬4). قال أبو إسحاق: (القول هاهنا -والله أعلم- مثل قوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]) (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 372. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 488. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 278 (¬4) "تفسير مقاتل" 105 أ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 278.

8

وقال صاحب النظم: القول هاهنا: إيماء (¬1) إلى القدر مقتصًا من قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] هذا كلامه. والمعنى أن قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} إشارة إلى الإرادة الأزلية السابقة بكفرهم، وإذا سبقت الإرادة بكفرهم فمتى يؤمنون؟ وهو قوله {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. قال الزجاج: بكفرهم وعنادهم أضلهم ومنعهم الهدى فهم لا يؤمنون (¬2). [قال الزجاج: بكفرهم وعنادهم فهم لا يؤمنون] (¬3). 8 - قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} في هذه الآية والتي بعدها مذهبان: أحدهما: مذهب المفسرين، وهو أن الآية نزلت في أبي جهل، قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- بحجر ليدمغه وهو يصلي، فيبست يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه، فذلك قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا}. وهذا قول مقاتل والكلبي (¬4). والثاني: مذهب أهل المعاني: وهو أن هذا على طريق المثل ولم يكن هناك غل (¬5)، أراد: ¬

_ (¬1) في (ب): (أبا). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 278. (¬3) ما بين المعقوفين تكرار، وهو في جميع النسخ. (¬4) انظر: "الطبري" 22/ 152، "بحر العلوم" 3/ 94، "الماوردي" 5/ 7، "البغوي" 4/ 6، "زاد المسير" 7/ 6، وأصل الحديث في البخاري "كتاب التفسير"، تفسير سورة إقرأ عند قوله تعالى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} 4/ 1896 رقم الحديث (4675) من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" 3/ 161: رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" قال: وهو في أوائل سيرة ابن هشام من قول ابن إسحاق في كلام طويل. (¬5) "معاني القرآن" للفراء 2/ 272، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 475، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 280.

منعناهم عن الإيمان بموانع، وهذا قول أبي عبيدة (¬1). وقال الفراء: معناه إنا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله (¬2). وكان هذا الوجه أوضح؛ لقوله فيما بعد: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية. {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} قال الفراء: (هي كناية عن الإيمان ولم يذكر، وذلك أن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق، جامعًا لليمين والعنق فكفى ذكر أحدهما عن صاحبه كما قال: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 182] فضم الورثة إلى الوصي ولم يذكروا؛ لأن الصلح بما بقى من الوصي والورثة، ومثله قول الشاعر: وما أدري إذا يممت وجهًا ... أريد الخير أيهما يليني (¬3) وإنما ذكر الخبر وحده، ثم قال: [أيهما] (¬4) وذلك أن الشر يذكر مع الخير، وهي في قراءة عبد الله (إنا جعلنا في أيمانهم) فكفت الأيمان عن ذكر الأعناق في حرف عبد الله، وكفت الأعناق في قراءة العامة) (¬5) عن ذكر الأيمان ونحو هذا قال الزجاج سواء، قال: (ومثل هذا قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ولم يذكر البرد؛ لأن ما يقي الحر يقي البرد) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "القرطبي" 15/ 8، "فتح القدير" 4/ 361. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 273. (¬3) البيت من الوافر، وهو للمثقب العبدي في نونيته، في "ديوانه" ص 212، "الخزانة" 11/ 80، وبلا نسبة في: "معاني القرآن" للفراء 2/ 372، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 279. (¬4) هكذا جاء في النسخ، وما بين المعقوفين يظهر أنه زائد؛ لأنه ليس في "معاني القرآن" للفراء، ولا معنى له كذلك. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 372 - 373. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 280.

وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ}. قال الفراء: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه. (¬1) (¬2) هذا قول. ونحو ذلك قال أبو إسحاق (¬3). ومعنى الإقماح في اللغة: رفع الرأس وغض البصر، يقا ل: أقمح البعير رأسه وقمح. قال أبو عبيد: يقمح البعير قمح قموحًا إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء (¬4). وقال الأصمعي: بعير قامح، إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، وجمعه قماح (¬5). وأنشد الفراء وجميع أهل اللغة قول بشر (¬6) يصف سفينة: ونحن على جوانبها قعود ... نغض (¬7) الطرف كالإبل القماح ¬

_ (¬1) في (ب): (صوته)، وهو خطأ. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 373. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 279. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 81 (قمح)، "اللسان" 2/ 566 (قمح). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 81 (قمح)، "اللسان" 2/ 566 (قمح). (¬6) هو: بشر بن أبي خازم عمرو بن عوف الأسدي، أبو نوفل، شاعر جاهلي فحل، عدَّه ابن سلام في الطبقة الثانية من طبقات فحول أهل الجاهلية، وهو من شجعان أهل نجد، مات سنة 22 قبل الهجرة. انظر: "الشعر والشعراء" 1/ 190، "طبقات فحول الشعراء" 1/ 97، "الخزانة" 2/ 262. والبيت من الوافر، وهو في: "ديوان بشر" ص 48، "لسان العرب" 2/ 566. (قمح)، "تاج العروس" 7/ 63 (قمح)، "تهذيب اللغة" 4/ 81 (قمح)، "أساس البلاغة" ص 377 (قمح). (¬7) في (أ): (يفض)، وهو خطأ.

9

قال أبو إسحاق: (وقيل للكانونين: (¬1) شهرا قماح لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رأسها لشدة برده (¬2)) (¬3). وأنشد أبو زيد للهذلي: فتًى ما الابن الأعر إذا استويا ... وحب الراد سميا في شهري قماح (¬4) (¬5) لكراهة كل ذي كبد شرب الماء، والقمح نحو من قمح. قال الأزهري: وأراد جل وعز أن أيديهم إنما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل رافعة رأسها (¬6). هذا كلامه وتأويله: فهم مقمحون أي: مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها، يدل عليه قول قتادة في تفسير {مُقْمَحُونَ} قال: مغلولون (¬7). 9 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} ومضى ¬

_ (¬1) يقصد: شهري كانون أول وكانون ثاني. (¬2) في (ب): (برد)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 279. (¬4) هكذا ورد البيت في النسخ، وهو خطأ، والصواب: فتًى ما ابن الأغر إذا شتونا ... وحُبَّ الزاد في شهري قُماح والبيت لخالد بن مالك الهذلي، وهو من الوافر، في "ديوان الهذليين" 3/ 5، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص 532، "تهذيب اللغة" 4/ 81، "اللسان" 2/ 566 (قمح)، "البحر المحيط" 7/ 312. (¬5) انظر: "الدر المصون" 5/ 476، "البحر المحيط" 7/ 312. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 81. (¬7) انظر: "الطبري" 22/ 151، "بحر العلوم" 3/ 94، "مجمع البيان" 8/ 651.

الكلام في تفسير السد والقراءة فيه (¬1). قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه ولم يصل إلى ما قصد من النبي -صلى الله عليه وسلم-. وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أنا أقتله بهذا الحجر، فلما دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- طمس الله على بصره فلم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فذلك وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} حين لم ير أصحابه (¬2). ونحو هذا قال الكلبي (¬3). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد يمنعهم [من الهدى] (¬4) لما سبق في علمه (¬5) عليهم (¬6). وهذا موافق لمذهب أهل المعاني. وقوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}، قال الفراء: ألبسنا أبصارهم غشاوة (¬7). قال ابن قتيبة: أي عيونهم وأعميناهم عن الهدى (¬8). والتأويل: أغشينا أعينهم بالعمى، فحذف المضاف والمفعول الثاني للعلم بأن ما يلبس العين إنما هو العمى. ¬

_ (¬1) عند الآية: 94: الكهف، وهي قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}. قال المؤلف هناك رحمه الله: قرئ بالفتح والضم. قال أبو عبيدة: السد بالضم، إذا كان مخلوقًا من فعل الله تعالى، فإن كان من فعل الآدميين فهو سَد بالفتح، وهذا قول عكرمة والأخفش. وقال الكسائي: ضم السين وفتحها سواء. (¬2) "تفسير مقاتل" 105 ب. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 3/ 94. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬5) في (أ): (علمهم)، وهو خطأ. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 373. (¬8) "تفسير غريب القرآن" ص 363.

10

وقوله {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}، قال ابن عباس: يريد سبيل الهدى (¬1). وذكر أبو إسحاق المذهبين فقال: (هذا فيه وجهان: أحدهما: قد جاء في التفسير وهو أن جماعة أرادوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- سوءًا فحال الله بينهم وبين ذلك، فجعلوا بمنزلة من هذه حالة ممن غلت يده وسط (¬2) طريقه من بين يديه ومن خلفه وجعل على بصره غشاوة، قال: ويجوز أن يكون وَصَفَ إضلالهم أي: أضللناهم فأسكنا أيديهم عن النفقة في سبيل الله والسعي فيما يقرب إلى الله كما قال -عز وجل-: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] قال: ودليل هذا القول قوله في أثر هذا. 10 - {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية أي: من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار) (¬3)، إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: إنما ينفع إنذارك هذا إلا (¬4) من منعه الله عن الهدى، فخصه الله بإنذار هؤلاء لما لم ينفع الإنذار من غيرهم موقعه، فصار كأنه لم ينذرهم حيث لم ينفعهم، لذلك قال: 11 - {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: من استمع القرآن واتبعه. {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} خاف الله -عز وجل- من حيث لا يراه أحد. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} لذنوبهم. {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} حسن، وهو الجنة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف 369، وأورد هذا القول ونسبه لقتادة القرطبي 14/ 10، وأورده غير منسوب: البغوي 4/ 6. (¬2) هذا في جميع النسخ، والصواب: وسُدَّ، كما في "معاني القرآن وإعرابه" (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 280. (¬4) يظهر أن (إلا) هنا زائدة؛ لأنها تفسد المعنى، وأن هناك حرف ساقط، وتكون الجملة حسب ما يظهر لي هكذا: أي لا ينفع إنذارك هذا من منعه الله عن الهدى.

12

12 - وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} قال ابن عباس: يريد البعث (¬1). {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال مقاتل: من خيرٍ أو شر فاقتدى بها (¬2) من بعدهم. وهذا اختيار الفراء والزجاج (¬3). وهو قول سعيد بن جبير، قال: {وَآثَارَهُمْ}: ما سنوا (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء: ما آثروا من أثر خير أو شر (¬5). كقوله: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]. وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: نزلت هذه الآية في بني سلمة، أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت منازلهم بعيدة، فلما نزلت قالوا: بل نمكث مكاننا (¬6). فعلى هذا معنى آثارهم: خطاهم. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) هنا نلحظ أن المؤلف اختصر في نقله عن مقاتل، وهذا الاختصار قد يكون موهمًا، ففي "تفسير مقاتل". {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} من خير وشر {وَآثَارَهُمْ} ما استنوه من سنة خيرًا وشرًّا، فاقُتدي به من بحد موتهم ا. هـ. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 373، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 281. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 481، "الماوردي" 5/ 9، وأورده السيوطي في "الدر" 6/ 48، ونسبه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 369. (¬6) هذا الحديث ورد بعدة طرق، منها: ما ورد عن أنس وقد أخرج ابن ماجه في "سننه" أبواب المساجد، باب الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا 1/ 141 رقم (768)، وأخرجه ابن شيبة في "المصنف" 2/ 207، ومنها ما ورد عن ابن عباس، وقد أخرجه ابن ماجه أيضًا في "سننه" أبواب المساجد، باب: الأبعد فالأبعد عن المسجد أعظم أجرًا 1/ 141 رقم (769). وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 46، وقال: أخرج الفرياني وأحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وإبن ماجه، وابن =

وهو قول الحسن (¬1)، ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬2)، وقتادة (¬3). وقال عمر بن عبد العزيز: لو كان الله تاركًا لابن آدم شيئًا لترك ما عبث (¬4) عليه الرياح من أثر (¬5). وقال مسروق: ما خطأ رجل خطوة إلا كتب حسنة أو سيئة (¬6). وروي عن مجاهد قال: ما قدموا من خير، وآثارهم: وما أورثوا من الضلالة (¬7). فعلى هذا ما قدموا بالخير وخص الآثار ما يبقى بعدهم من آثار الضلالة وسنتها. وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ} قال الفراء: القراء يجمعون على نصب كل ¬

_ = جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس. وهناك رواية أخرى للحديث، أخرجها الإمام مسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة"، باب فضل كثرة الخطأ إلى المساجد 1/ 462 رقم (665) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- (¬1) انظر: "الطبري" 22/ 154، "القرطبي" 15/ 12، "ابن كثير" 3/ 565. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 533، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 481، "الماوردي" 5/ 9. (¬3) انظر: "الطبري" 22/ 155، "القرطبي" 15/ 21، "ابن كثير" 3/ 565. (¬4) هكذا في النسخ، والصواب: عفت. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 140، "زاد المسير" 7/ 8 وأخرج هذا الأثر الطبري 22/ 155 عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 47 ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬6) انظر: "الدر المنثور" 7/ 47، وقد نسبه لعبد بن حميد. (¬7) انظر "فتح القدير" 4/ 462، وقد أورد هذا القول بعض المفسرين لكنه منسوب لغير مجاهد فأورده الماوردي 5/ 9 ونسبه لسعيد بن جبير، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 9 ونسبه لابن عباس وسعيد بن جبير، قال: وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج.

لما وقع من الفعل على راجع (¬1). يعني الكناية في قوله: {أَحْصَيْنَاهُ} والاختيار أن يقول: (¬2) ضربت زيدًا وعمرًا كلمته، ينتصب عمرًا لسبق الفعل قبله، وهاهنا أيضًا سبق الفعل، وهو قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}. ويجوز الرفع على الاستئناف (¬3). وقال مقاتل: {وَكُلَّ شَيْءٍ} من الأعمال ما (¬4) {أَحْصَيْنَاهُ} بيناه. قال ابن عباس: حفظناه (¬5). ومعنى الإحصاء في اللغة: العد، والعد يكون للبيان ويكون للحفظ (¬6). وقوله تعالى: {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال ابن عباس ومقاتل: في اللوح المحفوظ (¬7). وقال مجاهد: يعني أم الكتاب (¬8). قال أهل المعاني (¬9): وفي ذلك اعتبار الملائكة إذ قابلوا به ما يحدث ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 273. (¬2) في (ب): (تقول). (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 386، "الدر المصون" 5/ 477. (¬4) (ما) زائدة هنا وليست هي في "تفسير مقاتل". وانظر: "تفسير مقاتل" 105 ب. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس. وقد أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 7 ولم ينسبه. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 164 (حصا)، "اللسان" 14/ 184 (حصى). (¬7) "تفسير ابن عباس" هامش المصحف ص 369، "تفسير مقاتل" 105 ب، وأورده الماوردي 5/ 9 ونسبه للسدي، والقرطبي 15/ 13، ونسبه لمجاهد وقتادة وابن زيد. (¬8) انظر: "الطبري" 22/ 155، "الماوردي" 5/ 9. (¬9) لم أقف على هذا القول عند أحد من أهل المعاني، قوله وهم من المؤلف.

13

من الأمور، وكان فيه دليل على معلومات الله -عز وجل- التفصيل. 13 - وقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} قال ابن عباس: يريد لقومك (¬1). وقال مقاتل: صف لهم يا محمد شبها يعني -لأهل مكة- أصحاب القرية (¬2). قال أبو إسحاق: أصحاب القرية بدل من مثل، كأنه قال: اذكر لهم أصحاب القرية (¬3). أي خبر أصحاب القرية، هي أنطاكية (¬4) في قول الجميع (¬5). وقوله: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} يعني: رسل عيسى -عليه السلام-، وذلك أنه بعث رسولين من الحواريين إلى أنطاكية يدعوا الناس إلى عبادة الله -عز وجل- 14 - وقوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا}، {إِذْ أَرْسَلْنَا} بدل من قوله: {إِذْ جَاءَهَا} والمعنى: إذ جاؤها (¬6) بإرسالنا إليهم اثنين وكانا رسولي عيسى، وأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" هامش المصحف ص 369. (¬2) "تفسير مقاتل" 105 أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 281 بمعناه. (¬4) أنطاكية: بلد من بلدان الجمهورية العربية السورية. قال ياقوت في "معجم البلدان" 1/ 266: أول من بني أنطاكية انطيخس، وهو الملك الثالث بعد الإسكندر، فتحها أبو عبيدة عامر بن الجراح وكانت العرب إذا أعجبها شيء نسبته إلى أنطاكية؛ لأنها من أعيان البلاد وأمهاتها، موصوفة بالنزاهة، والحسن، وطيب الهواء، وعذوبة الماء، وكثرة الفواكة، وسعة الخير. (¬5) انظر: "الطبري" 22/ 155، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 482، "الماوردي" 5/ 10، "القرطبي" 15/ 14، وقد استشكل الحافظ ابن كثير هذا القول ورده من وجوه. انظر: "تفسيره" 3/ 569. (¬6) في (أ): (جائها).

بأمر الله تعالى. قال الكلبي: وكان ذلك حين رفع إلى السماء (¬1). وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا} قال ابن عباس: فضربوهما وحبسوهما (¬2). {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قال أبو إسحاق: (فقوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث) (¬3). وهو قول جميع المفسرين (¬4). قال المبرد وأبو علي: من قرأ فعززنا بالتشديد، فالمعنى: شددنا وقوينا. ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: قهرنا (¬5) وعلينا من قوله -عز وجل-: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، وأنشد أبو علي لجرير: أُعُزُّك بالحجاز وإن تَسَهَّل ... يعزز (¬6) الأرض يُنَتهب انتهابًا (¬7) (¬8) قال أبو عبيد: وقراءتنا بالتشديد. لأن تأويل عززنا: غلبنا (¬9). والتفسير الأول أشبه بالمعنى. [وقال الفراء: عززنا] (¬10). وعززنا كقولك: شددنا وشددنا بالتخفيف والتثقيل (¬11). ونحو ذلك قال الزجاج. {فَقَالُوا}: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "الوسيط" 3/ 511. "مجمع البيان" 8/ 654. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 282. (¬4) انظر: "الطبري" 22/ 156، "الماوردي" 5/ 10، "زاد المسير" 7/ 11، "القرطبي" 15/ 14. (¬5) في (ب): (قهرنا). (¬6) هكذا في النسخ، والصواب كما في "الديوان والحجة": بغور. (¬7) البيت من الوافر، لجرير في "ديوانه" ص65، وهو من قصيدة طويلة يهجو بها الراعي النميري، "الحجة" 6/ 38. (¬8) لم أقف على قول المبرد. وانظر: "الحجة" 6/ 38. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 83 (عز). (¬10) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬11) "معاني القرآن" 2/ 374.

15

يعني الرسل لأهل أنطاكية. {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}. قالوا لهم: 15 - {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} قال مقاتل: يعني ما نرى لكم علينا من فضل في شيء. {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} يعني: لم يرسل رسولاً. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} بأنكم رسول الله (¬1). 16 - {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وإن كذبتمونا. 17 - {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: وما علينا إلا أن نبلغ ونبين لكم بان الله الواحد [لا شريك] (¬2) له. 18 - فقال القوم للرسل: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} يعني: تشاءمنا بكم، وذلك أن المطر حبس عليهم فقالوا: أصابنا هذا الشر من قبلكم. {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} لئن لم تسكنوا. {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} لنقتلنكم. قال الفراء: (كقوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] يريد القتل، وعامة الرجم في القرآن القتل) (¬3). 19 - {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} قال ابن عباس: يريد شؤمكم معكم (¬4). وهو لفظ الزجاج (¬5). وقال الضحاك عن ابن عباس: طائركم حظكم من الخير والشر (¬6). واختاره الفراء، فقال: (أي ما كان من خير وشر فهو في رقابكم لازم لكم) (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 106 أ (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 374. (¬4) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف 370، أورده السيوطي في "الدر" 7/ 51 وعزاه لابن المنذر. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 282. (¬6) انظر: "الطبري" 15/ 16، "البغوي" 4/ 9. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 374.

20

وهذا معنى قول مقاتل، يعني الذي أصابكم كان مكتوبًا في أعناقكم (¬1). وهذان القولان في الطائر ذكرنا استقصاهما عند قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131]. وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. وتم الكلام هاهنا، ثم قال لهم: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} قال مقاتل: أين وعظتم بالله وتطيرتم (¬2) بنا، وجواب الاستفهام محذوف، وهو ما ذكره مقاتل (¬3). قال أبو علي: (كأنهم قالوا أين ذكرتم تشائمتم (¬4)، فحذف الجواب لتقدم ما يدل عليه وهو قوله: {تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}؛ لأن معنى تطيرنا تشائمنا) (¬5). ثم بينوا أن الأمر ليس على ما قالوا وشؤمهم إياهم من قبلهم، وهو قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}. قال ابن عباس ومقاتل: مشركون باللهِ (¬6). يعني: أنهم جاوزوا الحد حين أشركوا بالله. 20 - وقوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قال المفسرون (¬7): هو حبيب النجار، وكان قد آمن بالرسل عند (¬8) ورودهم القرية. قال وهب: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 156 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 106 أ. والواو في قوله: وتطيرنا، زائدة من النساخ. (¬3) وهو قوله: تطيرتم بنا. (¬4) في (ب): (شائمتم). (¬5) "الحجة" 6/ 39. (¬6) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف 370، "تفسير مقاتل" 106 أ. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 106 أ، "الطبري" 22/ 158، "بحر العلوم" 3/ 97، "الماوردي" 5/ 13. (¬8) في (ب): (حين)

21

وكان منزله عند أقصى باب من أبواب القرية، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم جاءهم وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (¬1). وقال قتادة ومقاتل: إنه كان رجلاً يعبد الله في غارٍ فلما سمع بالرسل جاءهم فقال: أتسألون أجرًا على ما جئتم به؟ قالوا: لا. فقال لقومه: 21 - {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} يعني: الرسل (¬2). قال محمد بن إسحاق: أي ما يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} فاتبعوهم تهتدوا بهداهم (¬3). قال مقاتل: فلما قال، هذا أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له: برئت منا وتبعت عدونا (¬4). وقال ابن عباس: قال لهم (¬5) الملك: أفأنت تتبعهم؟ 22 - 25 - فقال {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} إلى قوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (¬6). قال محمد بن إسحاق: إني آمنت بربكم الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 22/ 158، "المحرر الوجيز" 4/ 450، "القرطبي" 15/ 18. (¬2) انظر: "الطبري" 22/ 159، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 487، "تفسير مقاتل" 106 ب. (¬3) انظر: "الطبري" 22/ 159، "ابن كثير" 3/ 568. (¬4) "تفسير مقاتل" 106 ب. (¬5) هكذا جاءت في النسخ، ومقتضى السياق: له. (¬6) انظر: "الطبري" 22/ 160. (¬7) انظر: "الطبري" 22/ 160، "ابن كثير" 3/ 568.

وقال كعب: إنه قال لقومه: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. ثم أقبل على الرسل فقال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} ليشهدهم على إيمانه (¬1). فعلى هذا الخطاب للرسل، وعلى ما قال محمد بن إسحاق الخطاب لقومه. وقال الكلبي: {فَاسْمَعُونِ} يريد: فاشهدوا لي (¬2). ومعنى فاسمعوا: اسمعوني، أي: اسمعوا مني. قال ذلك أبوعبيد (¬3). وقال المبرد: فاسمعون أي: اسمعوا مني (¬4). وهذا مثل قولك: سمعت فلانًا يقول، وإنما المسموع قوله، ولكنه من المختصر المحذوف، وهو أكثر الكلام يجري على الألسنة، وحق الكلام أن تقول: سمعت من فلان ما قال. قال ابن عباس: فوثب عليه أهل مملكته حتى قتلوه (¬5). وقال مقاتل: وطئ حبيب حتى خرج أمعاؤه من دبره، ثم ألقي في البئر وهو الرس، فهم أصحاب الرس، وقتلوا الرسل الثلاثة (¬6). وقال محمد بن إسحاق: وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه واستضعفوه لضعفه وسقمه، وكان رجلاً قد أسرع فيه الجذام ولم (¬7) له أحد ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 451، "القرطبي" 15/ 19، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 51، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬2) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "زاد المسير" 7/ 13. (¬3) انظر: "زاد المسير" 7/ 13. (¬4) لم أقف عليه (¬5) انظر: "الطبري" 22/ 161، "ابن كثير" 3/ 568. (¬6) "تفسير مقاتل" 106 ب. (¬7) هكذا في النسخ، ويبدو أن هناك كلمة ساقطة وهي: يكن.

26

يدفع عنه (¬1). وقال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره (¬2). قال كعب: أخذ فقذف في النار (¬3). وقال قتادة: هذا رجل دعا قومه إلى الله -عز وجل- ومحضهم النصيحة فقتلوه على ذلك وأقبلوه يرجمونه، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق (¬4). وهو قوله: 26 - {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}. قال أبو إسحاق: المعنى فلما عذبوه (¬5) قومه، قيل: ادخل الجنة، فلما شاهدها قال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} (¬6). وقال مقاتل: لما ذهب بروح حبيب إلى الجنة ودخلها وعاين ما فيها من النعيم، تمنى فقال (¬7): 27 - {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} اختلفوا فيها؛ فقال الكسائي: بالذي غفر لي ربى أي: بمعرفته، فعلى هذا هو ما المصدر؛ لأنه مع الفعل بمنزلة المصدر (¬8). قال الفراء: ولو جعلت {وَمَا} ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 22/ 161، "ابن كثير" 3/ 568. (¬2) انظر: "الطبري" 22/ 161، "المحرر الوجيز" 4/ 451، "زاد المسير" 7/ 13. (¬3) أورده السيوطي في "الدر" 7/ 51، ونسبه لابن أبي شيبة وابن المنذر. (¬4) انظر: "الطبري" 22/ 160، وقد ذكر القول إلى قوله: اللهم اهد قومي. وأورد هذا القول بتمامه: القرطبي 15/ 19 ونسبه للحسن. الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 283 عن قتادة. (¬5) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: عذبه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 283. (¬7) "تفسير مقاتل" 106 ب. (¬8) انظر "الدر المصون" 5/ 479، "القرطبي" 15/ 19، "البحر المحيط" 7/ 316.

في موضع أي كان صوابا، ويكون المعنى: ليتهم يعلمون بأي شيء غفر لي ربي (¬1). فقال الكسائي: لو كانت كذلك لكانت {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} بنقصان الألف كما تقول: سل عم شئت (¬2)، وكقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}. قال الفراء: (يجوز أن يكون تمامًا وهو استفهام، وأنشد: إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيم يكثر القتل) (¬3) وذكر أبو إسحاق الوجهين فقال: (أي بمغفرة ربي قال: وقيل: أي ليتهم يعلمون بالعمل والإيمان الذي غفر لي به ربي. قال: وحذف الاَّلف في هذا المعنى أجود) (¬4). وهذا قول مقاتل قال: يعني بأي شيء غفر لي ربي، أي: إنما غفر لي باتباعي المرسلين، فلو علموا لآمنوا بالرسل، فنصح لهم في حياته وبعد موته (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: قال محمد -صلى الله عليه وسلم-: "نصح لقومه حيًّا وميتًا" (¬6). وقال قتادة: تمنى الرجل -والله أعلم- أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله، وذلك قوله: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 374، وانظر: "المصادر السابقة". (¬2) انظر: "المصادر السابقة". (¬3) البيت من البسيط، وهو لكعب بن مالك في "ديوانه" ص 255، "خزانة الأدب" 6/ 106. والشاهد فيه: قوله: ففيما، حيث أثبت ألف ما الاستفهامية المتصلة بحرف الجر، وسراة القوم: خيارهم. والقول والقيل واحد. "الخزانة" 6/ 107. وكلام الفراء في "معاني القرآن" 2/ 275. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 283. (¬5) "تفسير مقاتل" 106/ ب. (¬6) انظر: "ابن كثير" 3/ 568، وقد أورد السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 98، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 4/ 451 غير منسوب لأحد.

{وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي: من المدخلين الجنة (¬1). قاله الزجاج (¬2). وحبيب هذا الذي يقال له: صاحب يس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سباق الأمم ثلاثة: صاحب يس حبيب النجار [مؤمن] (¬3) آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم" (¬4). وروي عن علي بن زيد بن جدعان أن عروة بن مسعود الثقفي صعد سور الطائف، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فرماه رجل من قومه بسهم فقتله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صاحب يس" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 22/ 161، "القرطبي" 15/ 20. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 283. (¬3) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬4) هذا الأثر أخرجه الثعلبي في "تفسيره" 3/ 235 أ، بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه. وأورده الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 659، ونسبه للثعلبي، وأورده الزمخشري في "الكشاف" 3/ 283. وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 3/ 162: رواه الطبراني بنقص في "معجمه" من حديث حسين بن حسن الأشقر، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، ورواه كذلك ابن مردويه في "تفسيره"، والعقيلي في "الضعفاء" وأعله بحسين الأشقر وقال: إنه شيعي متروك، ولا يعرف هذا إلا من جهته، وهو حديث منكر، ورواه بلفظ المصنف الثعلبي من حديث عمرو بن جميع، عن محمد بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه. قال: وفيه عمرو بن جميع، وهو متروك ا. هـ. (¬5) هذا الأثر أورده ابن كثير 3/ 568، ونسبه لابن أبي حاتم، وذكره ابن حجر في "الإصابة" 2/ 47 عن ابن إسحاق، وكذا ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 112، وابن الأثير في "أسد الغابة" 3/ 406

28

قال ابن مسعود: فلما قتلوا حبيبًا، غضب الله لاستضعافهم إياه غضبًا لم يبق من القوم شيئًا، وعجل الله لهم (¬1) النقمة بما استحلوا منه فقال قومه: 28 - {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} يعني: الملائكة (¬2). قاله مقاتل (¬3). وقال ابن مسعود: أي ما كابدناهم بالجوع، أي: الأمر أيسر علينا من ذلك (¬4). وقال الكلبي: لم يبعث إليهم الملائكة (¬5). وقال الضحاك: ما استغثنا بأهل السماء عليهم (¬6). وقال أبو إسحاق: لم ننتصر للذين (¬7) قتلوه بجند (¬8). هذا الذي ذكرنا قول جميع أهل العلم والتفسير. وقال مجاهد: أي لم نبعث إليهم رسالة بعده من السماء ولا أتاهم نبي (¬9). والقول ما عليه الناس. وقوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} على قوله: {وَمَا ¬

_ (¬1) في (ب): (عليهم). (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 1. (¬3) "تفسير مقاتل" 106/ ب. (¬4) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3192، "القرطبي" 15/ 30. (¬5) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "البغوي" 4/ 11، "زاد المسير" 7/ 14، "القرطبي" 15/ 20. (¬6) لم أقف عليه عن الضحاك، وقد ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3193 عن ابن مسعود. (¬7) هكذا في النسخ، والصواب: للذي. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 283. (¬9) انظر: "تفسير مجاهد" ص 534.

29

أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ}، والباقون: جعلوا هذا توكيدًا لأول الكلام (¬1). وأنكر صاحب النظم القولين جميعًا فقال: لا يجوز أن يكون المعنى لم ينزل على أحد جندا؛ لأنه أنزل الجند على أهل بدر وحنين، ولا يجوز أن يكون مكررًا على ما قبله؛ لأنه لا يكون نظمًا حسيا، وفيه أيضًا حمل الكلام على التكرير ولكن (ما) هاهنا اسم، والمعنى: لم ينزل عليهم حتى أهلكناهم جندًا من السماء {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} ولا ما كنا ننزله على من قبلهم من الأمم، إذ أهلكناهم بمثل الماء للغرق والصاعقة والريح، وهذا في النظم كقوله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} ولا (¬2) على الذي فطرنا. وعلى ما ذكر صاحب النظم ما يكون معطوفًا على قوله: من جندٍ، أي: لم ينزل عليهم [جندًا] (¬3) ولا ريحًا ولا صاعقة ولا ماء، ثم بين أيش (¬4) كانت عقوبتهم فقال: 29 - {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: كانت صيحة من جبريل، أخذ بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم صوت، مثل النار إذا أطفأت (¬5). قال ابن مسعود: أهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن ¬

_ (¬1) في (ب): (للكلام)، وهو خطأ. (¬2) (لا) ساقطة من (ب). (¬3) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬4) يعني: أي شيء. (¬5) ذكر هذا القول البغوي 4/ 11، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 14، وابن كثير في "تفسيره" 3/ 569، والشوكاني في "فتح القدير" 4/ 367، ونسبوه لأكثر المفسرين.

30

وجه الأرض ولم يبق منهم باقية (¬1). وقال قتادة: ما نوظروا بعد قتلهم إياه حتى أخذتهم الصيحة (¬2). قال الزجاج: (ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة فإذا خامدون: أي ساكتون، قد ماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد) (¬3). 30 - وقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} معنى الحسرة في اللغة: أشد الندامة، وذكرنا اشتقاقها فيما تقدم (¬4)، وهذه نكرة موصوفة، قال الفراء: (والعرب إذا نادت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب، يقولون: يا رجلاً كريمًا أقبل، ويا راكبًا على البعير أقبل) (¬5). وقال المبرد: نصبه كنصب نداء النكرة، كقولك: يا رجلاً أقبل، ومثله قول الصلتان: فيا شاعرًا لا شاعرَ اليومَ مثلُه (¬6) ... جريرٌ (¬7) ولكن في كليبٍ تواضعُ (¬8) ¬

_ (¬1) انظر: "ابن كثير" 3/ 569. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 452، "ابن كثير" 3/ 569. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 283. (¬4) عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [سورة مريم: 39]. قال المؤلف رحمه الله هناك: والحسرة هي الندامة، يتحسر المسيء هلَّا أحسن العمل، ولم يذكر اشقاق الحسرة فعله وهم رحم الله حينما أحال على ذلك الموضع. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 375. (¬6) هكذا في النسخ، والصواب: (أيا شاعرًا لا شاعر اليوم مثله). (¬7) في (ب) زيادة في أول الشطر الثاني: (ومعنى)، وهو خطأ. (¬8) البيت الطويل. وهو للصلتان العبدي في "الكامل" 3/ 1111، "المقتضب" =

31

ومعنى نداء الحسرة تنبيه لأن يتمكن علم المخاطب بالحسرة، كما يقال: يا عجبًا أتفعل كذا، والمعنى: يا عجيب أقبل، فإنه من أمامك، ونداء العجب أبلغ في الفائدة كذلك نداء الحسرة، وهو معنى قول أبي إسحاق (¬1). قال ابن عباس: يا حسرة على العباد في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الرسل (¬2) (¬3). ثم بين سبب الحسرة فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} أي: في الدنيا، {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. ثم خوف كفار مكة مثل عذاب الأمم الخالية في الدنيا ليعتبروا [فقال] (¬4). 31 - وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} قال أبو إسحاق: (موضع كم نصب بأهلكنا؛ لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها، خبرًا كانت أو استخبارًا. وقوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} أنهم بدل من معنى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكنا أنهم لا يرجعون) (¬5). ¬

_ = 4/ 215، "الشعر والشعراء" ص 314، "الكتاب" 2/ 237، "معاهد التنصيص" 1/ 75. والشاهد فيه قوله: أيا شاعرًا، حيث نصب المنادى من قبيل الشبيه بالمضاف؛ لأنه موصوف بجملة. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 284. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 391، "الفريد في إعراب القرآن" 4/ 106، "الكشاف" 3/ 285. (¬2) هكذا في جميع النسخ، وهو تصحيف، ولعل الصواب: الدنيا. (¬3) لم أقف على من نسب القول لابن عباس. وقد أورد المؤلف في "الوسيط" 3/ 513، ونسبه لمجاهد ومقاتل، وهو في "تفسير مقاتل" 106 ب، "تفسير مجاهد" ص 534. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، وهذه الكلمة لا يحتاجها السياق. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 285.

32

والتفسير: لم يعتبروا بمن أهلكنا من قبلهم من القرون فيخافوا أن يعجل لهم في الدنيا مثل الذي عجل لغيرهم ممن أهلك، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبدًا. 32 - وقوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} قرئ: لما بالتخفيف والتشديد، فمن خفف فما زائدة (¬1) مؤكدة، والمعنى: وإن كل لجميع لدينا محضرون، ومن شدد جعل لما بمعنى إلا تقول: سألتك لما ¬

_ (¬1) ما نقله المؤلف رحمه الله هنا عن الزجاج من القول بأن (ما) زائدة، قال به أيضًا الزمخشري في "الكشاف" 2/ 295، وذكره أيضًا السمين في "الدر" 6/ 401، ولكن هذا القول لا ينبغي أن يقال؛ لأنه ينافي الأدب مع القرآن، فالقول بأن هذا الحرف زائد يوحي بأنه لا فائدة له، وهذا ليس صحيحًا في حق كلام الله جل وعلا. يقول ابن هشام في كتابه "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص 108 - 109: وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف من كتاب الله: إنه زائدة لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزه عن ذلك. والزائد عند النحويين معناه الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد لا المهمل، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة، وبعضهم يسميه لغوًا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب ا. هـ. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 16/ 537 بعد أن تكلم عن التكرار والزيادة في كلام العرب: (فليس في القرآن من هذا شيء ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء به من زيادة اللفظ في مثل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [سورة آل عمران: 159] وقوله: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] وقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {الأعراف: 3} فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى) ا. هـ. وانظر: "التأويل النحوي في القرآن الكريم" 2/ 1277 وما بعدها. "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن" ص 302، "البرهان" للزركشي 2/ 177.

فعلته، وإلا فعلت، هذا قول الزجاج (¬1). وقال الفراء: (الوجه التخفيف؛ لأنها ما أدخلت عليها لام يكون جوابًا لأن كأنك قلت: وإن كل لجميع. وأما من ثقل فإنه يجعل لما بمنزلة إلا مع أن خاصة، كأنها ضمت إليها ما (¬2) فصار جميعًا استثناء وخرجتا من حد الجحد إذا جمعتا فصارتا حرفًا واحدًا) (¬3) هذا كلامه. ومعنى قوله: بمنزلة إلا مع أن خاصة، يعني أن إلا كلمتان أولاهما التي هي جحد بمنزلة ما ولا أيضًا جحد جمع بينهما فصارتا استثناء، وكذلك لما جحد إن اجتمعتا لم وما فتشابهتا في هذا المعنى، وهذا كلام صاحب النظم في شرح ما ذكره الفراء قال: وكان الكسائي ينفي هذا القول، ويقول: لا أعرف جهة لما بالتشديد في القراءة (¬4). وقد ذكرنا استقصاء هذه المسألة في سورة هود عند قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] وتفسير مقاتل موافق لمذهب من شدد لما؛ لأنه يقول: وما إلا جميع لدينا محضرون (¬5). ومن خفف لما كان أن في قوله: {وَإِنَّ كُلًّا} بمنزلة المشددة، ولكنها إذا خففت لم تنصب، وهذه الجملة قد أشبعنا الكلام فيها في سورة هود. قال أبو إسحاق: (تفسير الآية: أنهم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا) (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 286. (¬2) (ما) ساقطة من (ب). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 377. (¬4) انظر: "الدر المصون" 4/ 140، "البحر المحيط" 7/ 319، "القرطبي" 15/ 24. (¬5) لم أقف على هذا التفسير عن مقاتل. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 286.

33

33 - ثم وعظ كفار مكة أن يتفكروا في صنعه ليعرفوا توحيده، فقال: (¬1) {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} إلى قوله: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}. واختلفوا في الكناية في قوله: {ثَمَرِهِ}. فقال أبو عبيدة: (العرب تذكر الإثنين ثم تقتصر على الخبر عن أحدهما، كقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا}. وقال الأزرق بن طرفة بن العَمرَّد (¬2): رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بري ومن أجل الطوي رماني فاقتصر على خبر واحد، وقد أدخل الآخر معه) (¬3). فعلى قول الكناية تعود إلى مضمر مراد في اللفظ وهو الماء؛ لأن قوله: 34 - {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} تقديره: وفجرنا فيها ماء من العيون. 35 - {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} لأن الثمار لا تكون إلا من الماء وبالماء. وقوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يجوز أن تكون (¬4) ما موصولة ¬

_ (¬1) في (ب) زيادة: (وقوله تعالى)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق. (¬2) لم أقف له على ترجمة. والبيت من الطويل، مختلف في نسبته، فالأكثر ينسبه لعمر بن أحمر وهو في "ديوانه" ص 187، "الدرر" 2/ 62، "الكتاب" 1/ 75، ونسبه أبو عبيدة لطرفة بن العمرَّد كما في "مجاز القرآن" 2/ 161، وله أو لابن أحمر كما في "اللسان" 11/ 132 (حول). وهو غير منسوب في "المصون من الأدب" ص 84. والشاهد فيه: حذف خبر كان، والتقدير: كنت منه بريئًا، وعليه فبريئًا الموجود خبر لكان المحذوفة مع اسمها. ومعنى رماني: أي قذفني بأمر أكرهه، والطوي: هي البئر المطوية بالحجارة. "الكتاب" 1/ 75. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 161. (¬4) في (أ): (يكون).

بمعنى الذي، ويكون في موضع خفض (¬1) عطفًا على التمر: ليأكلوا من ثمره ومما عملت أيديهم. وهذا معنى قول ابن عباس؛ لأنه قال: يريد من الغروس، يعني أن الغروس من عمل أيدينا (¬2). قال صاحب النظم: المعنى ويأكلوا بما عملت أيديهم بالمقاساة بالحراثة كما قال -عز وجل-: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] فأضاف الحراثة إليهم. وعلى هذا العائد من الصلة إلى الموصول محذوف على قول (¬3) من قرأ: عملت بغير هاء، وأكثر ما جاء في التنزيل من هذا على حذف كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} و {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} و {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} و {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}. وكل هذا على إرادة الهاء وحذفها، وقد جاء الإثبات في قوله: {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ويكون هذا كقول (¬4) من قرأ: عملته بالهاء، في أنه ردَّ الكناية من الصلة إلى الموصول. ويجوز أن يكون في قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} نفيًا على معنى: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم ولكن من فعلنا. وقال الضحاك: أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها (¬5). قال الفراء: (إذا جعلت (ما) جحدًا لم تجعل لها موضعًا، ويكون ¬

_ (¬1) في (أ): (خفين)، وهو تصحيف. (¬2) انظر:: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 492، "القرطبى" 15/ 25، "ابن كثير" 3/ 570. (¬3) في (أ): (قوله)، وهو خطأ. (¬4) في (أ): (كقوله)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "الماوردي" 5/ 16، "البغوي" 4/ 12،"مجمع البيان" 8/ 661.

36

المعنى: إنا جعلنا لهم الجنات والنخيل والأعناب، ولم تعملها أيديهم) (¬1) ويقوي هذا الوجه قوله: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}. ومن قدر هذا التقدير لم يكن {عَمِلَتْهُ} صلة، وإذا لم يكن صلة لم يقتض الهاء الراجعة إلى الموصول، ويجوز أيضًا أن تكون (ما) نافية على قراءة من أثبت الهاء في عملته، وتكون الهاء كناية عن لفظ الثمر والتمر لم تعمله أيدي الناس، إنما ظهر بقدرة الله وإيجاده. وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء (¬2)، والزجاج (¬3)، وأبي علي (¬4) رحمهم الله. وقوله: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} قال ابن عباس: أفلا يطيعون (¬5). قال مقاتل: أفلا يشكرون رب هذه النعم ويوحدونه (¬6). 36 - ثم نزه نفسه وعجب خلقه فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} قال ابن عباس: والحبوب. {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال قتادة ومقاتل: يعني الذكر والأنثى، والأزواج من النبات أجناسه، ومن الأنفس الذكر والأنثى (¬7). وقوله: {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} قال الكلبي: من سائر الخلق (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 377. (¬2) المصدر السابق. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 286. (¬4) "الحجة" 45/ 6. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس. (¬6) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬7) "تفسير مقاتل" 107 أ، ولم أقف عليه عن قتادف (¬8) لم أقف عليه عن الكلبي، وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 17 نحوه ولم ينسبه.

37

وقال مقاتل: [ومما لا يعلمون من الخلق] (¬1) (¬2). وقال الزجاج: (ومما لا يعلمون مما خلق الله من جميع الأنواع والأشباه) (¬3)، والمعنى: أن الله خالق الأنواع مما يعلمون، وهو ما ذكر من النبات والأنفس، ومما لا يعلمون بما لا يقف عليها من دواب البر والبحر وغيرها من الأشياء التي لا نعلمها (¬4). 37 - وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ} أي: علامة تدل على قدرتنا. {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} قال الكلبي ومقاتل: [..] (¬5) ويذهب به (¬6). قال أبو عبيدة: (نخرج ونميز منه فيجيء الظلمة، يقال للرجل: سلخه الله من دينه) (¬7). وقال الفراء: (معناه نسلخ عنه النهار فرمي بالنهار عنه فيأتي بالظلمة) (¬8). وقال الزجاج: (نخرج منه النهار إخراجًا لا يبقى معه شيء في ضوء النهار (¬9). هذا كلامه. ومعنى السلخ في اللغة: كشطك الإهاب، ثم تستعمل فيه أشياء كثيرة تكون بمعنى الإخراج، والإنسلاخ: الخروج، كقوله: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] وانسلخت الشمس أي استكملت أيامه (¬10). وقد مر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مكرر في (أ) منسوبًا للزجاج، وهو خطأ. (¬2) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه"" 4/ 287. (¬4) في (أ): (يعلمها)، وهو تصحيف. (¬5) قدر كلمة في جميع النسخ غير واضحة، والظاهر والله أعلم أنها: ينزعه. (¬6) انظر: "تفسير التعلبي" 3/ 235 ب (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 161. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 378. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 287. (¬10) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 170، "اللسان": 3/ 54 (سلخ)، "عمدة الحفاظ" 2/ 241.

38

الكلام في هذا (¬1). وتحقيق معنى نسلخ (¬2) من النهار: أن الظلمة هي الأصل والنهار داخل عليها يسترها بضوئه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي كشط وأزيل كما يكشط (¬3) الشيء الطارئ على الشيء، فجعل ذهاب الضوء ظهور الظلمة كالسلخ من الشيء فيظهر المسلوخ بعد سلخ إهابه (¬4). قال أبو علي: (وآية ترتفع بالإبتداء، ولهم صفة للنكرة، والخير مضمر تقديره: وآية لهم في المشاهدة أو في الوجود) (¬5). وقوله تعالى: {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} وقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} الآية كما أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} تفسير للوصية) [النساء: 11] قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي: داخلون في الظلمة. يقال: أظلمنا، أي: دخلنا في ظلام الليل، وجاء فلان مظلمًا أي بليل. 38 - قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} قال أبو إسحاق: المعنى وآية لهم الشمس تجري لمستقر لها (¬6). ¬

_ (¬1) عند تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: 5]. (¬2) في (ب): (لنسلخ)، وهو خطأ. (¬3) في (أ): (يكشف)، وهو تصحيف. (¬4) في (ب): (منه). (¬5) "الحجة" 6/ 40. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 287.

قال المبرد وابن قتيبة: أي إلى مستقر لها، كما تقول: هو (¬1) يجري لغايته وإلى غايته (¬2). واختلفوا في مستقر الشمس، فروى أبو ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "مستقرها تحت العرش" (¬3) وهو قول ابن عباس قال: يريد تحت عرش الرحمن (¬4). وعلى هذا هي إذا غربت كل نهار استقرت تحت عرش الرحمن إلى أن تطلع، يدل عليه ما روى أبو ذر أنه قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد عند غروب الشمس فقال: "أتدري أين تغرب؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يذهب بها حتى ينتهي تحت العرش ثم تستأذن فيؤذن بها، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها" (¬5). وقال قتادة: إلى وقت وأجل لها لا تعدوه (¬6). ونحو هذا قال مقاتل (¬7) ¬

_ (¬1) في (أ): (هم)، وهو تصحيف. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 365، "تأويل المشكل" ص 316، ولم أقف على قول المبرد. (¬3) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب التوحيد" باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وقوله جل ذكره: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 6/ 2703 رقم 6996، والإمام مسلم في "صحيحه" كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان 1/ 139 رقم 251. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 125 - 177، والترمذي في "سننه" "كتات التفسير"، تفسير سورة يس 5/ 42 رقم 3280. وقال هذا حديث حسن صحيح. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 235 ب، "الطبري" 23/ 6، "الماوردي" 5/ 11. (¬7) "تفسير مقاتل" 107 أ.

39

وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند إنقضاء الدنيا، وهو اختيار أبي إسحاق فقال: (لمستقرها أي: لأجل قد أجل لها) (¬1). وقال الكلبي: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى آخر مستقرها الذي لا تجاوزه، ثم ترجع إلى منازلها حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها؛ لأنها لا تجاوزه (¬2). وعلى هذا (لمستقرها) أي: لمستقر لسيرها لا يزيد إذا انتهى إليه انصرف ورجع. وقوله: {ذَلِكَ} قال مقاتل: ذلك الذي ذكره من أمر الليل والنهار والشمس. {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} في ملكه {الْعَلِيمِ} بما قدر من أمرها. 39 - قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} قرئ: والقمر بالرفع والنصب، فالرفع بتقدير: وآية لهم القمر، كما ذكرنا في قوله: {اللَّيْلُ نَسْلَخُ} و {وَالشَّمْسُ تَجْرِي}. ويجوز أن يكون ابتداء وقدرناه الخبر، والنصب على: وقدرنا القمر قدرناه، وقد حمله سيبويه على: زيدًا أضربته، قال: وهو عربي. هذا كلام أبي إسحاق وأبي علي (¬3). وقال الفراء: في القمر (¬4) أعجب إلى؛ لأنه قال: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} ثم جعل الشمس والقمر متبعين الليل، وهما آيتان مثله (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 287. (¬2) انظر: "الماوردي" 5/ 17، "زاد المسير" 7/ 19، وأورد هذا القول ولم ينسبه: ابن عطية في "المحرر الوجيز" 4/ 454، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 663. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 287، "الحجة" 6/ 39 - 40. (¬4) هكذا في جميع النسخ، وهو خطأ، والصواب كما في "معاني القرآن" للفراء: الرفع في القمر .. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 378.

وقال أبو عبيدة: النصب أحب إلي؛ للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده، فالمتقدم قوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}، والمتأخر قوله: {قَدَّرْنَاهُ} والتقدير في الآية: قدرناه ذا منازل، كما ذكرنا في قوله: {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} (¬1) ثم حذف المضاف (¬2). ومنازل القمر معروفة، وهي: ثمانية وعشرون منزلة، من أول الشهر إلى ثمان وعشرين ليلة منه تم فإذا صار في آخر منازله دق وذلك (¬3) قوله: (¬4) {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}. قال أبو إسحاق: (العرجون عود العذق الذي تركبه الشماريخ من العذق، وهو فعلول من الانعراج، وإذا جف وقدم دق وصغر، يشبه (¬5) به الهلال في آخر الشهر وفي أول مطلعه) (¬6). واستقوس (¬7) فشبه القمر ليلة ثماني وعشرين، والآية مختصرة؛ لأن التقدير: فسار في منازله حتى عاد كالعرجون، ودل قوله: {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} (¬8) على هذا المحذوف وهو السير؛ لأن كونه ذا منازل يقتضي سيره ¬

_ (¬1) في (أ): (وقدرناه) بزيادة الواو، وهو خطأ. (¬2) لم أقف على قول أبي عبيد. وانظر في توجيه هذه القراءة: القراءات وعلل النحويين فيها 2/ 564، "الحجة في القراءات السبع" ص 298، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها"، "حججها" ص 216. (¬3) في (ب): (فذلك). (¬4) في (أ) زيادة بعد قوله: (وقوله)، وهو خطأ. (¬5) في (أ): (يشبهه). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 288. (¬7) هكذا جاء الكلام في جميع النسخ، والذي يظهر أن هناك عدم ترابط بين كلام أبي إسحاق وكلام المؤلف بسبب سقط كلمة أو نحوها. (¬8) في (ب): (وقدرناه) زيادة الواو، وهو خطأ.

40

فيها. وقال الكلبي: كالعرجون اليابس قد حال عليه الحول فتوش (¬1) (¬2). ونحو هذا قال مقاتل (¬3). والعرجون على ما ذكر أبو إسحاق من الثلاثي؛ لأنه (¬4) جعل النون زائدة، وذكره الليث في باب الرباعي فقال: العرجون أصل العذق، وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انمحق. قال: والعرجنة تصوير عراجين النخل (¬5). وقال رؤبة: في خدر مياس الدجى معرجن (¬6) أي: مصور فيه صورة النخل (¬7) والدمى. 40 - قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قال الكلبي: لا تجري الشمس في سلطان القمر فيذهب بصره. {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فيجئ قبل وقته (¬8). وقال مقاتل: يقول: فلا يدرك سواد الليل ضوء النهار فيغلبه على ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: (فتقوس). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬4) في (ب): (لا أنه)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 320 (عرجن). (¬6) عجز بيت من الرجز، وصدره: أوذكر ذات الرَّبد المعهن. وهو لرؤبة في "ديوانه" ص 161، "تهذيب اللغة" 3/ 320، "اللسان" 13/ 284 (عوجن). (¬7) في (ب): (القتل)، وهو خطأ. (¬8) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي. وانظر: "البغوي" 4/ 13، "زاد المسير" 7/ 20.

ضوئه (¬1). وحقيقة المعنى ما ذكره أبو إسحاق فقال: أي لا يذهب أحدهما بمعنى الآخر (¬2). وشرح ابن قتيبة معنى ما ذكره المفسرون فقال: (في هذه الآية يقول الله تعالى إنهما يسيران الدهر دائبين لا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوئه، وبطل سلطانه، ودخل النهار على الليل، وقد قال الله تعالى حين ذكر يوم القيامة: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وذلك عند إبطال هذا التدبير ونقض هذا التأليف، وكما لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، وهو قوله: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي: هما يتعاقبان، فلا يذهب الليل قبل مجيء النهار (¬3) وهذا معنى آخر سوى الأول. وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي: يجرون، يعني الشمس والقمر والنجوم. وقال أبو إسحاق: (أي يسيرون فيه بانبساط، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه، ومن ذلك: السباحة في الماء) (¬4). وسبق في سورة الأنبياء تفسير قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 288. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 317 - 318. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 288. (¬5) آية 33. وانظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 242 أ، قال: والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك. هذا معنى الفلك في قول أهل اللغة، وأما المفسرون فقال السدي في قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ} أي كل في مجرى واستدراجه. وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء، وكل شء استدار فهو فلك وعلى هذا، المراد بالفلك السماء، والسماء مستديرة والنجوم تدور فيها، وهذا معنى قول مجاهد.

41

41 - وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ}. قال مقاتل: وعلامة لكفار مكة. {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} يعني: ذرية أهل مكة في أصلاب آبائهم وعلى هذا المراد بالذرية: الأولاد وأولادهم كانوا في أصلاب من حمل مع نوح في سفينة (¬1). وقال آخرون: المراد بالذرية هاهنا الآباء والأجداد، والمعنى: حملنا آبائهم الذين هؤلاء من نسلهم في الفلك المشحون. قال ثعلب: الذرية تقع على الآباء، واحتج بهذه الآية (¬2). وقال (¬3) الفراء: جعل ذرية التي كانت مع نوح لأهل مكة؛ لأنها أجل لهم (¬4). وقال الزجاج: قيل لأهل مكة حملنا ذريتهم؛ لأن من حمل مع نوح فهم آباؤهم وذرياتهم (¬5). فهذه الأقوال تدل على أن الآباء يجوز أن تسمى ذرية الأبناء. وقد كشف صاحب النظم على هذا فقال: جعل الله تعالى الآباء ذرية للأبناء، وجاز ذلك. لأن الذرية مأخوذة من: ذرأ (¬6) الله الخلق، فسمى الولد ذرية؛ لأنه ذرى من الأب، فكما جاز أن يقال للولد: ذرية لأبيه، لأنه ذري منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن؛ لأن ابنه ذري ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬2) لم أقف عليه عن ثعلب، والقول في "تهذيب اللغة" 15/ 4 (ذرأ) عن الليث (¬3) (الواو) ساقطة في (ب). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 379. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 288. (¬6) في (ب): (ذر الله).

42

منه، فالفعل يتصل به من أحد الوجهين، وهذا كما تقول في المصدر فإنه سمي (¬1) به الفاعل مرة والمفعول أخرى، نحو: درهم ضرب الأمير، ونسج اليمن، وكقول {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] أي: غائرًا وهو كثير، وكذلك يضاف المصدر (¬2) إلى الفاعل مرة ومرة إلى المفعول، لاشتماله عليهما واشتراكهما في التسمية به. والمشحون: المملوء. قال أبو عبيدة: يقال: شحنت المدينة وأشحنتها، إذا ملأتها (¬3). قال مقاتل: يعني الموقر من الناس والدواب (¬4). 42 - وقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد السفن مثل مركب نوح. وهذا قول مقاتل والحسن وأبي صالح والسدي عن أبي مالك. كل هؤلاء قالوا: يعني السفن الصغار، فإنها عملت بعد سفينة نوح على صنعتها (¬5). وقال آخرون: يعني الإبل. وهو قول عكرمة وعبد الله بن شداد (¬6). وذكر الكلبي القولين جميعًا، وقال: في البحر السفن، وفي البر الإبل (¬7). والظاهر القول الأول؛ لأنه قال: {مِنْ مِثْلِهِ}، والسفن هي التي ¬

_ (¬1) في (ب): (سعى)، وهو تصحيف. (¬2) جاءت العبارة في (أ) هكذا: وكذلك يضاف المصدر إلى المصدر مرة إلى الفاعل ومرة إلى المفعول، وهو خطأ. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 163. (¬4) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 107 أ، "الطبري" 23/ 10، "الماوردي" 5/ 19، "بحر العلوم" 3/ 101. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 11، "الماوردي" 5/ 20، "زاد المسير" 7/ 22. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "القرطبي" 15/ 35، "المحرر الوجيز" 4/ 455.

43

تشبه ما عمله نوح، وهي أيضًا من الخشب الذي هو من خشب سفينة نوح. ومن ذهب إلى الإبل احتاج أن يجعل (مِنْ) زائدة، ويجعل الإبل من (¬1) السفينة في أنها تحمل الإنسان في البر كما تحمله السفينة في البحر، فهو مثلها في العمل والحمل لا في الصورة والخلقة، ويدل على صحة القول الأول: 43 - قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} والإغراق يكون بالماء في البحر، والمراد بهذا أن الله تعالى ذكر منته على أنه خلق لهم الخشب حتى عملوا مثل سفينة نوح وركبوه للتجارات، ثم ذكر أنه بفضله يحفظهم ولو شاء أغرقهم فلم (¬2) يغثهم أحد ولم ينقذهم، وهو قوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} الآية. قال ابن عباس: لا مغيث لهم. وهو قول الجميع (¬3). والصريخ هاهنا بمعنى المصرخ. {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} هو أي: من الغرق. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلصه، وتقدير قوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ}: فليس لهم صريخ، كما تقول: إن شاء ضربك فلا ناصر لك. {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} قال ابن عباس: ولا أحد ينقذهم من عذابي (¬4). 44 - وقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي: إلا أن يرحمهم (¬5) ويمنعهم إلى آجالهم. قال ابن عباس: وذلك أن الكافر متعه الله في الدنيا ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في النسخ، والذي يظهر أنها: (مثل) وليست (من). (¬2) في (ب): (ولم). (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 11، "الماوردي" 5/ 20، "البغوي" 4/ 14، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 499. (¬4) انظر: "الوسيط" 3/ 514، "البغوي" 4/ 14. (¬5) في (ب): (نرحمهم).

45

ورزقه فيها وجعلها جنته، فإذا ركب السفينة سلمه الله ورزقه حتى يموت (¬1). وكل نبي إذا كذبه قومه عجل لهم العذاب، إلا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فإنه أخر العذاب عمن كذبه إلى الموت وإلى القيامة، وهو معنى قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. قال أبو إسحاق: (رحمة منصوب مفعول لها المعنى: لا ينقذون إلا لرحمة منا ولمتاع إلى حين) (¬2). وهذا ليس بالظاهر القوي. قال أبو عبيدة: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً} مجازها مجاز المصدر الذي فعله بغير لفظه، وأنشد قول رؤبة: إن نزارًا أصبحت نزارا ... دعوةَ أبرارٍ دعوا أبرارًا (¬3) " (¬4) يعني: دعوا دعوة أبرار، كذلك المعنى في الآية: إلا أن يرحمهم رحمة، والمتاع هاهنا اسم أقيم مقام المصدر كالأداء والسراج. 45 - وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} اختلفوا في هذا، فقال مقاتل وقتادة: ما بين أيديكم عذاب الأمم الخالية، وما خلفكم عذاب الآخرة (¬5). وعكس الكلبي فقال: ما بين أيديكم من أمر ¬

_ (¬1) أورده المؤلف في "الوسيط" 3/ 515، ولم أقف عليه عند غيره. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 289. (¬3) البيت من الرجز، لرؤبة في "الكتاب" 1/ 382، "مجاز القرآن" 2/ 162، وبلا نسبة في: "شرح المفصل" 1/ 177، "المخصص" 15/ 137. ومعنى البيت: أن ربيعة ومضر ابني نزار كانت بينهما حرب وتقاطع، فلما اصطلحوا انتموا كلهم إلى أبيهم نزار وجعلوه شعارهم، فجعل دعوتهم برَّة بذلك. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 162. (¬5) "تفسير مقاتل" 107 ب. وانظر: "الطبري" 23/ 12، "الماوردي" 5/ 21، "البغوي" 4/ 14.

46

الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بما فيها من زهرتها (¬1). وقال مجاهد: ما بين أيديكم ما يأتي من الذنوب، وما خلفكم ما مضى منها (¬2). وذكر أبو إسحاق على القلب من هذا فقال: ما بين أيديكم ومما أسلفتم من ذنوبكم، وما خلفكم وما تعملونه فيما تستقبلون (¬3). وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال ابن عباس ومقاتل: لكي ترحموا (¬4). وقال أهل المعاني: لتكونوا على رجاء رحمته، وهو قول أبي إسحاق (¬5). وذكرنا هذا فيما تقدم أولاً (¬6)، وجواب إذا محذوف على التقدير: إذا قيل لهم هذا أعرضوا، يدل على هذا المحذوف قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} أي: عبرة ودلالة تدل على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- كاشتقاق (¬7) القمر وغيره من الآيات. 46 - وقوله: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} قال الفراء: (هذا جواب لقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ}. وفيه جواب لقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم}؛ لأن المعنى: إذا قيل ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 3/ 101. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 535. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 289. (¬4) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 381، "تفسير مقاتل" 107 ب. وانظر: "مجمع البيان" 8/ 667. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 306. (¬6) ذكر المؤلف رحمه الله ذلك عند تفسير للآية: 155 من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. (¬7) هكذا جاء في النسخ، وهو تصحيف، والصواب: كانشقاق القمر.

47

لهم اتقوا أعرضوا، وإذا أتتهم آية أعرضوا) (¬1). ونحو هذا قال الكسائي: إن هذا جواب لقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ} وفيه معنى جواب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} (¬2) (¬3). 47 - وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} قال الكلبي: كان [من] (¬4) أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتمعون إليه بمكة وهم يومئذ فقراء، فيخرجون فيسألون، فيقول أهل مكة: لا والله لا نتصدق عليكم بشيء وأنتم على غير ديننا حتى ترجعوا إليه، فأنزل الله هذه الآية (¬5). وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: انفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم أنه لله، وذلك أنهم كانوا يقولون هذا على حد الاستهزاء (¬6). وذكر غيره أنهم ذهبوا في قولهم أن الله تعالى لما كان قادرًا على إطعامهم وليس يشاء إطعامهم فنحن أحق بذلك، على أي وجه قالوه فقد أخطأوا؛ لأنهم إن قالوه استهزاء فلا إيمان لهم بمشيئة الله. ويقوي هذا الوجه ما روى معمر عن الكلبي: أنها نزلت في الزنادقة (¬7). وإن قالوه على ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 379. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (ب): زيادة قوله: (ولا لزوم لها). (¬4) هكذا في النسخ، والذي يظهر أن ما بين المعقوفين زائد. (¬5) لم أقف على هذا القول منسوبًا للكلبي. وذكر نحوه الماوردي 5/ 21، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 4/ 456، والبغوي في "تفسيره" 4/ 14، وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 24 قولاً نسبه للكلبي، وهو أن الآية نزلت في العاص بن وائل، كان إذا سأله مسكين قال: اذهب إلى ربك فهو أولى بك مني، ويقول: قد منعه الله أطعمه أنا؟. (¬6) "تفسير مقاتل" 107 أ. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 144، وقد أورده الماوردي 5/ 21 عن قتادة، وكذا =

48

أنهم يوافقون مشيئة الله، فلا يطعمون من لم يطعمها الله، فقد أخطأوا؛ لأن الله تعالى لو شاء لأغنى الخلق كلهم ولكنه قسم المعيشة بينهم، فأغنى بعضًا وأفقر بعضا؛ ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من ماله من الزكاة وندبه إليه من التطوع بالمساواة؛ ليصح التكليف والابتلاء وأن يعترض (¬1) على المشيئة. قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قال ابن عباس: يريدون المؤمنين (¬2). وقال مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان: ثم قالوا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قالوا في اتباعكم محمدًا وترك ديننا (¬3). وقال الكلبي: يقول الله: {إِنْ أَنْتُمْ} يا أهل مكة {إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي خطأ بين (¬4) (¬5). 48 - وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال ¬

_ = ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 24، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 667، وأورده القرطبي 15/ 37 ونسبه لابن عباس. (¬1) هكذا في النسخ، هو خطأ، ولعل الصواب: وأن لا يعترض. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره أكثر المفسرين ولم ينسبه أحد حسب علمي لابن عباس، بل نسبه بعضهم لقتادة انظر مثلاً: الماوردي 5/ 22، "مجمع البيان" 8/ 667. ومنهم من ذكره ولم ينسبه لأحد. انظر: "الطبري" 23/ 12، "القرطبي" 27/ 15، "بحر العلوم" 3/ 102. (¬3) "تفسير مقاتل" 107 ب. انظر: "القرطبي" 15/ 37. (¬4) في (ب): زيادة (أي خاط خطأ بين)، وهو خطأ. (¬5) لم أقف على من نسبه للكلبي. وانظر: "الطبري" 23/ 12، "بحر العلوم" 30/ 102، "القرطبي" 15/ 37.

49

مقاتل: يعني العذاب. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن العذاب نازل (¬1). وقال الكلبي: متى هذا الوعد الذي تعدنا به من القيامة إن كنتم صادقين في ذلك (¬2). قال أبو إسحاق: أي: متى إنجاز هذا الوعد، إن كنتم صادقين فأرونا ذلك (¬3). 49 - قال الله تعالى: [..] (¬4) {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى (¬5). والمعنى أن القيامة تأتيهم بغتة، تأخذهم الصيحة وهم يخصمون، أىِ: يختصمون. قال ابن عباس: يريد البيع والشراء (¬6). قال الكلبي: يتكلمون ويتبايعون في أسواقهم (¬7). وقال مقاتل: وهم أعز ما كانوا يتكلمون في الأسواق والمجالس (¬8). وقال قتادة: تهيج الساعة بالناس والرجل يسقي ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يقيم سلعته، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 107 ب. (¬2) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد أورده الماوردي 5/ 22 عن يحيى بن سلام. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 289. (¬4) في (أ): زيادة قوله تعالى، وهو تكرار لا لزوم له بل إثباته خطأ؛ لأنه يجعل (قوله تعالى) مقولًا لـ (قال الله تعالى)، فيكون قرآنًا وهو ليس كذلك. وقد تكررت في بعض المواضع في باقي السورة. (¬5) انظر: "البغوي" 4/ 14، "مجمع البيان" 8/ 668. (¬6) ورد بنحوه في "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 372. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس، وأورده الماوردي 5/ 22 عن السدي. (¬8) "تفسير مقاتل" 107 ب.

فيصيح (¬1) بهم وهم كذلك (¬2). وقال أبو إسحاق: تقوم الساعة وهم متشاغلون في تصرفاتهم (¬3). وفي قوله: {يَخِصِّمُونَ} وجوه من القراءة، أجودها فتح الخاء مع تشديد الصاد، والأصل: يختصمون، فألقيت حركة الحرف المدغم -وهو التاء- على الساكن الذي قبله -وهو الخاء- وهذا أحسن الوجوه بدلالة قولهم: ردَّ وفرَّ وغضَّ، [فألقوا حركة العين على الساكن، وذلك أن الأصل: ردد وافرر واغضض] (¬4). ويلي الوجه الأول في الجودة قراءة من قرأ بكسر الخاء، ووجهه أنه حرك الخاء بالكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنه لم يلق حركة التاء على الفاء. وقرأ أهل المدينة بالجمع بين ساكنين والخاء والحرف المدغم. قال الزجاج: وهو أشد الوجود وأردؤها (¬5). وقال أبو علي: من زعم أن ذلك ليس في طاقة اللسان إدغامًا يعلم فساده بغير استدلال (¬6). وقرأ حمزة: يخصمون، ساكنة الخاء مخففة الصاد، وهي قراءة يحيى ابن وثاب. قال الفراء: (من قرأ على قراءة يحيى فيكون تفعلون من الخصومة، ¬

_ (¬1) في (ب): (فيهيج). (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 13، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 61 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 290. (¬4) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 290. (¬6) "الحجة" 6/ 42.

كأنه قال: وهم يتكلمون. قال: ووجه آخر: وهم في أنفسهم يخصمون من وعدهم الساعة، وهم يغلبون عند أنفسهم من قال لهم أن الساعة آتية) (¬1). وذكر (¬2) أبو إسحاق هذين الوجهين فقال: (في هذه القراءة أنها جيدة أيضًا، ومعناها أنها تأخذهم وبعضهم يخصم بعضًا. قال: ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون، فتقديره: يخصم بعضهم بعضًا، فحذف المضاف، وحذف المفعول به كثير في التنزيل وغيره. قال: ويجوز أن يكون المعنى: يخصمون مجادلهم عند أنفسهم، فحذف المفعول به، ومعنى يخصمون يعلنون خصومهم في الخصام (¬3) انتهى كلامه. والوجه الأول في معنى هذه القراءة كمعنى سائر الوجوه من القراءة؛ لأنه بمعنى يخصم بعضهم بعضًا في تخاصمهم ومكالمتهم في متصرفاتهم (¬4) يغلب بعضهم بعضًا متشاغلين بكلامهم، وليس بمعنى الغلبة في الخصومة في الساعة كما ذكر في الوجه الثاني (¬5). فإن قيل: إن هؤلاء الذين أخبر عنهم ما هم قالوا متى هذا الوعد انقرضوا صاروا رمادًا، فكيف يخبر عنهم بأن الساعة تقوم عليهم وهم يختصمون؟ قيل: يراد بهذا من هو على مثل حالهم من المكذبين بالساعة، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 379. (¬2) في (ب): (وقال)، وهو خطأ. (¬3) لم أقف على هذا الكلام عن أبي إسحاق، ويظهر أنه كلام أبي علي وإنما وهم المؤلف رحمه الله فنسبه لأبي إسحاق. انظر: "الحجة" 6/ 42. (¬4) في (ب): (متصرتهم)، وهو خطأ. (¬5) انظر: "الحجة" 6/ 41 - 43، "معاني القرآن" للفراء 2/ 379، "علل القراءات" 2/ 566، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ص 217.

50

والقوم إذا كان أمرهم واحداً كان الخبر عن بعضهم في ذلك الأمر كالخبر عن جميعهم. 50 - ثم ذكر أن الساعة إذا (¬1) أخذتهم بغتة لم يقدروا على الإيصاء بشيء، فقال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} قال مقاتل: يقول عجلوا عن الوصية فماتوا (¬2). وقال أبو إسحاق: لا يستطيع أحد أن يوصي وصية في شيء من أمره (¬3). {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} لا يلبث أن يصير إلى أهله ومنزله، يموت في مكانه. وقال مقاتل: يقول ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق (¬4). وهذا قول المفسرين (¬5). وقال الكلبي: ولا إلى أهلهم يرجعون الكلام (¬6). وذكر الفراء هذا القول أيضًا فقال: أي لا يرجعون إلى أهليهم قولًا (¬7). 51 - قال مقاتل: أخبرهم الله بما يقولون في النفخة الأولى، ثم ¬

_ (¬1) في (ب): (أوذا)، وهو خطأ. (¬2) "تفسير مقاتل" 107 أ. ب. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 295. (¬4) "تفسير مقاتل" 107 ب. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 15، "بحر العلوم" 3/ 102، "الماوردي" 5/ 22. (¬6) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 305، "القرطبي" 15/ 39. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 380.

أخبرهم بما يقولون في النفخة الثانية إذا بعثوا بعد الموت، وذلك قوله (¬1): {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قال ابن عباس: يريد النفخة الثانية (¬2). {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} يعني: القبور، واحدها جدث. قال أبو عبيدة: وهي لغة أهل العالية، وهي أهل نجد يقولون: جدث (¬3). {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} قال مقاتل: يخرجون إلى الله من قبورهم أحياء (¬4). وقال الزجاج: ينسلون يخرجون بسرعة (¬5). قال المبرد (¬6): يقال للإنسان إذا غدا عجلا: نسل، والريب ينسل وينسل، وأنشد الجعدي: عَسَلاَن الذئبِ أمسى قاربًا ... برد الليل عليه فَنَسلْ (¬7) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 107 ب. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وأكثر المفسرين قالوا: إنها النفخة الثانية. انظر: "الطبري" 23/ 15، "الماوردي" 5/ 23، "بحر العلوم" 3/ 102، "القرطبي" 15/ 39. (¬3) كلام أبي عبيدة كما في "المجاز" 2/ 163: وهي لغة أهل العالية، وأهل نجد يقولون: جدف. (¬4) "تفسير مقاتل" 107 ب. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 290. (¬6) "الكامل" 1/ 321 - 322. (¬7) البيت من الرمل، وهو للنابغة الجعدي في "ديوانه" 90، "تهذيب اللغة" 2/ 96، وينسب للبيد، وهو في "ديوانه" ص 200، "لسان العرب" 11/ 446 (عسل)، "الكامل" 1/ 321. وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" ص 305، 842، "المخصص" 7/ 126، "الخصائص" 2/ 48. يقال: عسل الذئب والثعلبي يعسِل عسلًا وعسلانًا، مضى مسرعًا واضطرب في عدوه وهزَّ رأسه. وقاربًا نقرب: أي نطلب والأصل في هذا طلب الماء ثم توسع فيه. والنسل: هو الإسراع في المشي.

52

ابن السكيت: يقال: نسل في العدو ينسل نسلانًا (¬1). وقد يقال في مصدره: النسل، ومنه الحديث: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الضعف فقال: "عليكم بالنسل" (¬2). وقال ابن الأعرابي: النسل ينشط، وهو الإسراع في المشي (¬3). 52 - قال مقاتل: فلما رأوا البعث ذكروا قول الرسل في الدنيا أن البعث حق (¬4). فقالوا: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا}. قال المفسرون: إنما يقولون هذا؛ لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون. قال مقاتل: إن أرواح الكفار كانت تعرض على منازلها من النار طرفي النهار (¬5) وكل يوم، فلما كان بين النفختين رفع فرقد تلك الأرواح، فلما بعثوا في النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل (¬6) فقالوا: {وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}. قال أبي بن كعب: ينامون قبل البعث نومة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 428 (نسل). (¬2) أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" 2/ 371، وابن الأثير في "غريب الحديث" 5/ 49 (نسل)، والزمخشري في "الفائق في غريب الحديث" 3/ 421 (نسل)، وابن الجوزي في "غريب الحديث" 2/ 405 باب النون مع السين. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 428 (نسل)، "اللسان" 11/ 661 (نسل). (¬4) "تفسير مقاتل" 107 ب. (¬5) (الواو) هنا زائدة، وليست في "تفسير مقاتل". (¬6) "تفسير مقاتل" 107 ب. (¬7) انظر: "الطبري" 23/ 16، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 505، "زاد المسير" 7/ 25. وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 63 وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

قال أبو هريرة: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر عليهم ماء من تحت العرش، فينبتون منه كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا تكاملت أجسادهم نفخ فيها الروح، ثم تلقى عليهم نومة، فبينما هم في قبورهم إذ نفخ في الصور، فجلسوا وهم يجدون طعم النوم في رؤسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: (¬1) {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}. وأكثر القراء وأهل المعاني على أن الوقف تام عند قوله (¬2): {مَرْقَدِنَا}، ثم يبتدئ فيقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. قال ابن عباس: تقول الملائكة: هذا ما وعد الرحمن على ألسنة الرسل أن يبعث بعد الموت، {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} بأن البعث حق (¬3). وذهب آخرون إلى أن هذا من قول المؤمنين. روي عن أبي بن كعب أنه قال: فيقول المؤمن: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (¬4). وقال قتادة: أولها للكافرين وآخرها للمؤمنين قال الكافر: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وقال المسلم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 380، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 280،"القطع والائتناف" ص 91،"منار الهدى" ص 320، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص 473. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 372. وأكثر المفسرين ذكروا هذا القول، ولمن لم أقف على من نسبه لابن عباس. انظر: "الماوردي" 5/ 24، "المحرر الوجيز" 4/ 458، "زاد المسير" 7/ 26، "ابن كثير" 3/ 574. (¬4) لم أقف على هذا القول عن أبي، وقد ذكر المفسرون هذا القول عن قتادة ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 145، "الطبري" 23/ 16 - 17، "الماوردي" 5/ 24، "معانى القرآن" للنحاس 5/ 505.

53

ونحو هذا قال مجاهد (¬1)، واختاره الزجاج (¬2). والقول الأول اختيار الفراء (¬3). وهذا في موضع رفع، كأنك قلت: هذا وعد الرحمن. وذهب قوم إلى أن الوقف على قوله هذا، على أن يكون هذا من نعت مرقدنا، ثم تبتدئ: ما وعد الرحمن، حكى ذلك النحاس (¬4)، وذكره الفراء (¬5)، والزجاج. قال الزجاج: (إذا وقفت على قوله هذا، كان ما وعد الرحمن على ضربين أحدهما على إضمار هذا. والثاني على إضمار حق، فيكون المعنى: حق ما وعد الرحمن. قال: والقول الأول -أعني ابتداء هذا- عليه التفسير، وهو قول أهل اللغة) (¬6). 53 - ثم ذكر النفخة الثانية فقال: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} الآية، وهي ظاهرة، وكذلك ما بعدها، ثم ذكر جل وعز أوليائه فقال: 54 - {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ} قال ابن عباس: يريد في الآخرة (¬7). {فِي شُغُلٍ} وقرئ: شُغْل، وهما لغتان (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "المصادر السابقة". (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 291. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 380. (¬4) "القطع والائتناف" ص 91. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 380. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 291. (¬7) في "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 444 قال: يوم القيامة. ولم أقف على من نسب هذا القول لابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 103، "زاد المسير" 7/ 27، "ابن كثير" 3/ 575. (¬8) انظر: "علل القراءات" 2/ 566، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ص291.

قال ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة: يريد افتضاض العذارى والأبكار (¬1). وقال مقاتل: شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النار، فلا يذكرونهم ولا يهتمون لهم (¬2). وروى مجاهد عن ابن عباس: شغلوا بفضة العذارى (¬3). وقال أبو الأحوص (¬4): شغلوا بافتضاض (¬5) الأبكار على السرر في الحجال. وقوله: {فَاكِهُونَ} قال ابن عباس: ناعمون (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 18،"بحر العلوم" 3/ 103، "المحرر الوجيز" 4/ 458. (¬2) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬3) انظر: "زاد المسير" 7/ 27، وأورده الطبري 23/ 18 برواية عكرمة عن ابن عباس. (¬4) لم أستطع تحديده، فهناك أبو الأحوص: قاضي عُكبر، أبو عبد الله محمد بن الهيثم بن حماد الثقفي مولاهم البغدادي المشهور بأبي الأحوص. حدَّث عن أبي نُعيم، وعبد بن رجاء وخلق غيرهما وروى عنه ابن ماجه حديثًا واحداً وأبو عوانة وعثمان بن السَّمَّاك وغيرهم. قال الدارقطني عنه: إنه من الحفَّاظ الثقات. توفي بعكبرى سنة 279 هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 3/ 362، "تهذيب الكمال" 26/ 571، "سير أعلام النبلاء" 13/ 156، أو لعله: الإمام الثقة سلاَّم بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي، وقد تقدمت ترجمته. (¬5) في (ب): (بافتضاض). (¬6) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 372، ولم أقف على من نسبه لابن عباس، وقد ذكره أكثر المفسرين عن مقاتل وقتادة والسدي. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 237 أ، "الماوردي" 5/ 25، "بحر العلوم" 3/ 103، "زاد المسير" 7/ 28، "القرطبي" 15/ 44.

وقال مقاتل وقتادة: أي معجبون بما هم فيه. وهو قول الحسن والكلبي (¬1). وهذان القولان عليهما أهل التفسير، ولكل منهما أصل في اللغة، فمن قال: فاكهون ناعمون (¬2). فأصله من الفكيهة والفاكهة، وهي المزاح والكلام الطيب، يقال: فاكهت القوم بملح الكلام مفاكهة. روى أبو عبيد عن أبي زيد: الفكه الطيب النفس الضحوك. روى شمر عنه: رجل فكه وفاكهة (¬3)، وهو الطيب النفس المزاح (¬4)، وأنشد أبو عبيدة: فكه العشي إذا تأدب رحله ... رَكْبُ الشتاءِ مسامح في الميسر (¬5) [وأنشد أيضًا]: (¬6) فكِهٌ لدى جنبِ الخِوانِ إذا أتت ... نكباءَ تقلعُ ثابت الأطنابِ (¬7) قال الفراء والزجاج والكسائي: الفاكه والفكه كالحاذر والحذر ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 108 أ. وانظر المصادر السابقة. (¬2) في (أ): فاكين ناعمين، وهو خطأ. (¬3) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: فاكه. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 26 (فكه)، "اللسان" 13/ 523 (فكه). (¬5) البيت من الكامل وهو لصخر بن عمرو بن الشريد، اْخو الخنساء، في "مجاز القرآن" 2/ 163، "أساس البلاغة" ص 346 (فكه). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬7) لعل نسبه هذا البيت لأبي عبيدة خطأ من المؤلف تابع فيه الأزهري، فقد نسبه لأبي عبيدة كما في "تهذيب اللغة" 6/ 26، أما ابن منظور في "اللسان" فقال أنشده أبو عبيد. والبيت من "الكامل"، وهو بلا نسبة في: "تهذيب اللغة" 6/ 26، "اللسان" 13/ 524 (فكه)، "أساس البلاغة" ص 346 (فكه). والخوان: هو الذي يؤكل عليه معرَّب، والجمع أخون، "اللسان" 13/ 14 (خون)، والنكباء: كل ريح من الرياح الأربع انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تلك المال وتحبس القطر. "اللسان" 1/ 771 (نكب).

56

والفاره والفره ولم يسمع في الثلاثي فعل (¬1). قال الأخفش: ولم أسمع فكه يفكه (¬2). ويجوز أن تكون الفاكه كاللابن والتامر، وهو قول أبي عبيدة والأخفش. قال أبو عبيدة: (من قرأها فاكهون، معناه صاحب فاكهة، أي: كثير الفاكهة، وأنشد للحطيئة فقال: وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تأمر (¬3)) (¬4). وقال أبو الحسن: فاكهون به وفاكهة وذو الفاكهة ناعم (¬5). فلذلك قال المفسرون في تفسير الفاكه: أنه الناعم، ومن قال: الفاكه المعجب، فإن العرب تقول: فكهنا من كذا، أي: تعجبنا، ومنه: قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] أي: تعجبون (¬6). 56 - وقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} يعني حلائلهم من الحور العين [..] (¬7). ومنه قوله: {ظِلَالٍ}، قال مقاتل: يعني أكنان القصور (¬8). وذكرنا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 380، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 291، ولم أقف على قول الكسائي. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) البيت من مجزوء "الكامل"، وهو للحطيئة في "ديوانه" ص 33، "مجاز القرآن" 2/ 164، "الكتاب" 2/ 88، "المقتضب" 3/ 58، "الخصائص" 3/ 282، وهذا البيت من قصيدة يهجو بها الزبرقان بن بدر. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 164. (¬5) لم أقف على قول أبي الحسن. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 26 (فكه)، "اللسان" 13/ 523 (فكه). (¬7) ما بين المعقوفين -قدر كلمة أو كلمتين- لم أستطع قراءتها أو فهمها في جميع النسخ. (¬8) "تفسير مقاتل" 108 أ.

معنى الظلال عند قوله: (يتفيأ ظلاله) [النحل: 48]. وقرئ: ظلل، وذكرنا معناها عند قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] (¬1). وتفسير الأرائك مذكور في سورة الكهف (¬2). قال أبو علي الفارسي: (الظلل جمع ظلة، مثل غرفة وغرف، والظلال يجوز أن يكون جمع ظلة أيضًا كعبلة وعلاب، [وجفرة] (¬3) وجفار، وبرمة وبرام. ويجوز أن يكون جمع ظلل) (¬4). قال أبو عبيدة في هذه الآية: (في ظلال واحدها ظلة والجمع الظلل، وهو الكن لا يصحوا، وقال: الأرائك واحدها أريكة، وهي الفرش في الحجال، وأنشد قول ذي الرمة: حدود جفت في السير حتى كأنما ... يباشرن بالمعزاء مس الأرائك (¬5)) (¬6) ¬

_ (¬1) قال هناك: الظُلل: جمع ظلة مثل: هلة وهُللَ والظُلة: ما يستظل به من الشمس ويسمى السحاب ظلة؛ لأنه يستظل بها، منه قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} أرد غيمًا تحت سموم. (¬2) عند الآية (31)، وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}. (¬3) ما بين المعقوفين طمس في (أ)، والجفرة تأنيث جَفْر، وهو من أولاد الشاء إذا عظم وفصل عن أمه "اللسان"4/ 142. (¬4) "الحجة" 6/ 43 - 44 (¬5) البيت من الطويل, وهو لذي الرمة في "شرح ديوانه" 3/ 1729، "مجاز القرآن" 1/ 401، 2/ 164. ومعنى البيت: جفت في السير: أي لم تطمئن فيه، والأرائك: جح أريكة وهي الأسرة، والمعزاء: أرض غليظة ذات حصى. يقول: كأنهن إذا وقعّن على المعزاء وجدن بها مس الأرائك من التعب والإعياء. "ديوان ذي الرمة" شرح أبي نصر الباهلي ص 1729. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 164.

57

ونحو هذا قال أبو إسحاق (¬1). وأما المفسرون فإنهم قالوا في تفسير الأرائك: إنها السرر عليها الحجال، وهو قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل (¬2). وقال أحمد بن يحيى: الأريكة لا تكون إلا سريرًا في قبة علية شواره ومخدة (¬3). وقال الكلبي: الأرائك السرر في الحجال، لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا، فإذا تفرقتا فليس بأريكة (¬4). 57 - وقوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} قال أبو عبيدة: ما يتمنون، تقول العرب: ادع على ما شئت، أي: تمن (¬5)، ونحو هذا قال ابن قتيبة (¬6). والزجاج قال: هو مأخوذ من الدعا، المعنى: كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم (¬7). قال ابن عباس: يريد ما يتمنون وما يشتهون (¬8). وهو قول مقاتل (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 292. (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 20، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 508, "المحرر الوجيز" 4/ 459، "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬3) انظر: "زاد المسير" 5/ 138،"فتح القدير" 4/ 365. ومعنى شواره: أي زينته. انظر. "اللسان" 4/ 434 (شور). (¬4) انظر: "بحر العلوم" 3/ 103. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 164. (¬6) "تفسير غريب القرآن" ص 367. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 292. (¬8) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف 372. (¬9) "تفسير مقاتل" 108 أ.

58

وقال الكلبي: يسألون، من التحف والتمني (¬1). والسؤال معنى وليس بتفسير. وحقيقة تفسيره ما ذكره الزجاج: أي ما يدعونه أهل الجنة فهو لهم؛ لأن الادعا افتعال من الدعا، فيدعون بمعنى يدعون (¬2). 58 - وقوله: {سَلَامٌ قَوْلًا}. قال أبو إسحاق: سلام بدل من ما، المعنى: لهم سلام بقوله عز وجل {قَوْلًا} (¬3). وهذا الذي ذكره الزجاج معنى قول أبي عبيدة: سلام رفع على لهم عملت فيه، وقولًا خرجت مخرج المصدر الذي يخرج من غير لفظ فعله (¬4). أي: يقولون ذلك قولًا. ونحو هذا قال الفراء والكسائي (¬5). قال ابن عباس: يرسل الرحيم إليهم بالسلام (¬6). وقال الكلبي: يرسل إليهم ربهم الملائكة في جناتهم بالتحف من عنده وبالسلام (¬7). وقال مقاتل: إن الملائكة يدخلون على أهل الجنة من كل باب، يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم (¬8). فهؤلاء قالوا: إن الله يرسل إليهم بالسلام. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد ذكر الماوردي 5/ 26 نحوه عن أبي عبيدة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 292. (¬3) المصدر السابق. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 164. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 380، ولم أقف على قول الكسائي. (¬6) ذكر نحوه أبو حيان في "البحر المحيط" 7/ 327 عن ابن عباس. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "تفسير هود بن محكم" 3/ 438، "مجمع البيان" 8/ 671 فقد ذُكر نحو هذا القول غير منسوب. (¬8) "تفسير مقاتل" 108 أ.

59

وروى جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يشرف على أهل الجنة فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة". فذلك قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (¬1). وهو قول كعب القرظي (¬2). 59 - وقوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} أي: انقطعوا وتميزوا منهم، يقال: أمزت الشيء من الشيء أميزه، إذا عزلته عنه، فانماز وامتاز، وميزته فتميز (¬3). وقال ابن عباس: يقول تنحوا أيها المشركون (¬4). وقال مقاتل: اعتزلوا اليوم -يعني: في الآخرة- من الصالحين (¬5). وقال السدي: كونوا على حده (¬6). وهذا قول أكثر المفسرين (¬7)، واختيار أبي إسحاق قال: معناه: انفردوا عن المؤمنين (¬8). وقال الضحاك: هم يفرد كل واحد من أهل النار بيتاً ويرد بابه، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه في "سننه" باب: ما أنكرت الجهمية 1/ 36 رقم 172. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 98: رواه البزار، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو ضعيف. (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 21، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 66، وزاد نسبته لأبي نصر السجزي في "الإبانة". (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 272 (ماز)، "اللسان" 5/ 412 (ميز). (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكر الماوردي نحوه 5/ 26 عن الكلبي، وذكره هود بن محكم 3/ 438 ولم ينسبه. (¬5) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬6) ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 517. وانظر: "البغوي" 4/ 16، "مجمع البيان" 8/ 671. (¬7) المصادر السابقة. وانظر كذلك: "بحر العلوم" 3/ 104، "زاد المسير" 7/ 30. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 292.

60

فيكون فيه أبدًا، لا يَرى ولا يُرى. وعلى هذا امتيازهم: أن يمتازوا بعضهم من بعض (¬1). 60 - وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي: ألم آمر ولم أوص، كقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} [طه: 115] وقد مر. قال ابن عباس: ألم أقدم إليكم (¬2). وقال الزجاج: ألم أتقدم إليكم، يعني على لسان الرسل (¬3). {يَا بَنِي آدَمَ} قال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال (¬4). {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي: لا يطيعوا إبليس في الشرك. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} من العداوة إخراج أبويكم من الجنة. قاله ابن عباس (¬5). قال سعيد بن جبير والكلبي: من أطاع الشيطان فقد عبده (¬6). 61 - {وَأَنِ اعْبُدُونِي} يعني: ألم أعهد إليكم أن اعبدوني. قال ابن عباس: أطيعوني (¬7). وقال مقاتل: وحدوني (¬8). {هَذَا} يريد الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-. {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (¬9) يعني: دين الإسلام. ثم ذكر عداوته لبني ¬

_ (¬1) انظر: "الماوردي" 5/ 26، "البغوي" 4/ 16، "القرطبي" 15/ 46. (¬2) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 372. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 292. (¬4) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) لم أقف عليه عنهما. وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 104 ونسبه لابن عباس. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 104، "زاد المسير" 7/ 30, "البغوي" 4/ 17. (¬8) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬9) قوله: (مستقيم) غير مثبت في (ب).

62

آدم فقال: [..] (¬1) 62 - {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} أي: عن الهدى. {جِبِلًّا كَثِيرًا} فيه وجوه من القراءة: جُبُلًا وجُبْلَّا بالضم وتشديد اللام قال: وجبل وجِبِلَّة لغات كلها (¬2). ونحو هذا قال أبو عبيدة، قال: ومعناها: الخلق والجماعة (¬3). وقال الليث: الجبلة الخلق خلقهم الله فهم مجبولون، وأنشد: بحيث شد الجبابل المجابلا (¬4). أي: حيث شد أسر خلقه (¬5). وجبل الإنسان على هذا الأمر، أي: طبع، فهو مجبول عليه. قال ابن عباس ومجاهد والمفسرون: خلقًا كثيرًا (¬6). قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}. قال ابن عباس: يريد ما رأيتم من الأمم قبلكم ألم تعقلوا فتعتبروا بما رأيتم من الأمم قبلكم (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): زيادة (قوله تعالى) وهو هنا زائد لا يحتاج السياق. (¬2) "الحجة" 6/ 44 - 45، "الحجة في القراءات السبع" ص 299، "علل القراءات" 2/ 567. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 164. (¬4) شطر بيت لم أقف على تمامه ولا قائله، وهو في "تهذيب اللغة" 11/ 96، "اللسان" 11/ 98. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 96 (جبل)، "اللسان" 11/ 98 (جبل). (¬6) "تفسير ابن عباس" بهاش المصحف ص 372، "تفسير مجاهد" ص 536. وانظر: "البغوي" 23/ 23، "الماوردي" 5/ 27، "بحر العلوم" 3/ 104. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الوسيط" 3/ 517، "بحر العلوم" 3/ 104، "البغوى" 4/ 17، "زاد المسير" 7/ 31.

63

63 - قال مقاتل: فلما دنوا من النار، قال لهم خزنتها: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا فتكذبون (¬1). 64 - {اصْلَوْهَا}: قاسوا حرها وشدتها. {الْيَوْمَ} يعني: في الآخرة. {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بكفرهم بما كان في الدنيا. 65 - وقوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ}. قال مقاتل والكلبي: وذلك أنهم أنكروا الشرك والتكذيب، فيختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم بإذن لها في الكلام، فشهدت عليهم بما عملوا (¬2). 66 - وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} ذكرنا معنى الطمس في سورة النساء ويونس (¬3). قال أبو عبيدة (¬4) والمبرد (¬5) والزجاج (¬6) في هذه الآية: يقال: عين طمس ومطموس، وهو الذي لا يرى شق عينه ولا يتبين جفنه. وذكرنا في تفسير هذه الآية قولين. قال مقاتل: يقول: لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا طريق الهدى، ثم ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬2) المصدر السابق، ولم أقف عليه عن الكلبي. (¬3) في سورة النساء: الآية 47، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الآية، وهذه الآية مع آية أخرى ناقصة من المخطوط. وفي سورة يونس: آية 88 قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وقال المؤلف هناك بعد أن أحال على آية النساء. قال الزجاج: تأويل طمس الشيء: إذهابه عن صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كانت عليها. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 165. (¬5) لم أقف على هذا القول عن المبرد. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 293.

قال: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} يقول: فمن أين يبصرون طريق الهدى، ولم أعم عليهم طريق الكفر؟ (¬1). ونحو هذا قال الكلبي (¬2). القول الثاني: أن معنى الآية لو نشاء لأعميناهم وتركناهم عميًا يترددون، وكيف يبصرون الطريق حينئذ؟ وهذا قول الحسن وقتادة والسدي (¬3). وهو الاختيار لأن الله تعالى يهددهم بهذه الآية كالتي بعدها كما قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 25] يقول: كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة. وهذا القول اختيار المبرد والزجاج. قال المبرد: تأويل الآية قال: راموا الاستباق إلى المنهاج، فمن أين لهم أبصار؟ (¬4). وقال الزجاج: أي لو (¬5) نشاء لأعميناهم فعدلوا عن الطريق، فمن أين (¬6) يبصرون؟. وذكرنا معنى الاستباق عند قوله: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف: 25]. والاستباق هاهنا معناه غير معنى ما تقدم. قال الأزهري: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} فجازوا الصراط وخلفوه، وهذا الاستباق من واحد والذي في سورة يوسف ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 3/ 104، ونسبه بعض المفسرين لقتادة القائل. انظر: "البغوي" 4/ 36، "زاد المسير" 7/ 32، "القرطبي" 15/ 49. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 25، "الماوردي" 5/ 29، "البغوي" 4/ 36. (¬4) لم أقف على قول المبرد. (¬5) في (ب): (ولو نشاء). (¬6) في (أ) كرر قول الزجاج ولكنه قال في آخر مرة: فمن أين لهم أبصار، وقال في الأخرى: فمن أين يبصرون. كما أثبته وكما هو في "معاني الزجاج" 4/ 193.

67

من اثنين؛ لأن هذا بمعنى سبقوا، والأول بمعنى المسابقة (¬1) هذا كلامه ويدل على صحته قول أبي إسحاق (¬2): عدلوا عن الطريق [في هذه الآية] (¬3) ومعنى عدلوا عن الطريق ما ذكره الأزهري: جازوا الصراط وخلفوه. ويدل على صحة القول الثاني ما ذكره عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: إن الأسود بن عبد الأسود أخذ حجرًا وجماعة من بني مخزوم معه ليطرحوه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فطمس الله بصره وألصق الحجر بيده، فما أبصر ولا اهتدى (¬4). ومعنى الاستباق في هذا القول ما ذكروا في القول الأول معناه: فاهتدوا الطريق. قال الكلبي: فاستبقوا إلى الصراط المستقيم (¬5). وفي هذا القول عدول عن الظاهر؛ لأن قوله: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} يقتضي طمس الأعين الظاهرة مع أنه ليس يليق بما بعده، وهو قوله (¬6): 67 - {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا}. قال ابن عباس: يريد لمسخت أبا جهل وكل من معه، على مكانتهم: يريد بالموضع الذي كانوا فيه قعودًا (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 8/ 418 (شق). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 193. (¬3) ما بين المعقوفين زيادة من (أ). (¬4) انظر: "القرطبي" 15/ 50. (¬5) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد ذكر القرطبي نحوه عن ابن عباس 15/ 49، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 32 وقال: روى عن جماعة منهم مقاتل. (¬6) في (ب): (واو) زائدة، (وقوله)، وهو خطأ. (¬7) انظر: "الطبري" 23/ 29، "الماوردي" 5/ 26، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 514.

68

قال أبو عبيدة (¬1) والزجاج (¬2): المكانة والمكان واحد. وهذا مما تقدم القول فيه. وقال مقاتل: لو شئت لمسختهم حجارة في منازلهم ليس فيها أرواح. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} قال: يقول لا يتقدمون ولا يتأخرون (¬3). وقال ابن عباس: لم يتقدموا ولم يتأخروا (¬4). وقال أبو إسحاق: أي لم يقدروا على ذهاب ولا مجيء (¬5). هذا الذي ذكرنا هو الصحيح في تفسير الآية، وقال قتادة: يقول لو نشاء لجعلناهم كسحا لا يقومون (¬6). والكسح جمع الأكسح، وهو المقعد. والقول هو الأول؛ لأن معنى المسخ تحويل الصورة إلى صورة ذي روح كالقرد والخنزير، ولم يصح عنده هذا المسخ في الآية مع قوله: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} فعدل إلى المسخ بالإقعاد، وليس كما ظن فإنه؛ يقال: مسخه الله حجرًا، وقد أوضح ذلك مقاتل. 68 - قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} وقرئ: نُنَكَّسه، بالتشديد، يقال: نَكسته (¬7) أنكسه وأنكسه، ونكسته ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 165. (¬2) "مجاز القرآن وإعرابه" 4/ 293. (¬3) "تفسير مقاتل" 108 أ. (¬4) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 373، "زاد المسير" 7/ 33. وانظر: "الطبري" 23/ 26، "الماوردي" 5/ 29. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 293. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 461، "المحرر الوجيز" 4/ 145، "زاد المسير" 7/ 33. (¬7) في (ب): (نكسه).

أنكسه (¬1). وقد ذكرنا معنى النكس عند قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء. 65] (¬2). قال الأخفش: ننكسه هو كلام العرب، ولا يكادون يقولون: نكسته، إلا لما يقلب فيجعل (¬3) رأسه أسفله (¬4). قال مقاتل: يعني أدرك العمر (¬5). وقال أبو إسحاق: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوة ضعفًا وبدل الشباب هرمًا (¬6). وهذا معنى قول قتادة: هو الهرم يتغير بصره وقوته، كما رأيت قوله في رواية معمر (¬7). وهذا عام في كل من يهرم، تتراجع قوته ويتغير عما كان عليه في شبابه. وقال الكلبي (¬8): من نعمره حتى يدركه الهرم يرده في الخلق الأول الذي كان لا يعقل فيه شيئًا. وروي ذلك عن قتادة (¬9) قال: ننكسه في الخلق لكي لا يعلم بعد علم شيئًا، يعني: الهرم. وهذا لا يعم؛ لأنه ليس كل من عمر صار إلى الفند، على أن ابن عباس خص الآية بالكافر فقال في رواية ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 27، "الحجة" 6/ 45. (¬2) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 246 أ. (¬3) في (ب): (فنجعل). (¬4) انظر: "الحجة" 6/ 45، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" 2/ 220. (¬5) لم أقف على قول مقاتل، وليس هو في "تفسيره". (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 293. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 145،"الطبري" 23/ 26، "معاني القرآن" للنحاس 5/ 514. (¬8) لم أقف على قول الكلبي. وذكر ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3200 نحوه عن قتادة. (¬9) انظر: "مجمع البيان" 8/ 674، "القرطبي" 15/ 51.

69

عطاء: ومن نعمره يريد المشركين، نرده إلى ذهاب العقل، كما قال {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] يريد الكافرين من ولد آدم (¬1). فالنكس على هذا القول ردّه من حالة العلم إلى حالة الجهل، وعلى القول الأول من القوة إلى الضعف ومن الشباب إلى الشيب، ومن الزيادة إلى النقصان. وقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} أي: فليس لهم عقل فيعتبروا فيعلموا أن الذي قدر على هذا من تصريف أحوال الإنسان، قدر على البعث بعد الموت، ومن قرأ بالتاء، فلقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ}. 69 - قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قال الكلبي (¬2) ومقاتل (¬3): نزلت في مشركي مكة، حين قالوا: إن القرآن شعر، وإن محمدًا شاعر ساحر كذاب، فقال الله تكذيبًا لهم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. قال ابن عباس: يريد ما (¬4) ينبغي له الشعر، ما كان يروي بيت شعر ولا يقومه مستقيماً (¬5). قال أبو إسحاق: وما يتسهل ذلك (¬6). وأصل (ينبغي) من قولهم: بغيت الشيء أبغيه، أي: طلبته، فابتغى لي ذلك الشيء أن تسهل وحصل، كما تقول: كسرته فانكسر (¬7). وكان ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير مقاتل" 108 ب، "البغوي" 4/ 18، "زاد المسير" 7/ 34. (¬4) في (ب): (وما). (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الطبري" 27/ 23، "بحر العلوم" 3/ 105. البغوي 4/ 18، "مجمع البيان" 8/ 674. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 293. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 212 (بغي)، "اللسان" 14/ 76 (بغا).

النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصفة التي وصفه الله بها ما كان يقرن له بيت شعر، حتى إنه إذا تمثل بيت شعر جرى على لسانه منكسراً، فقد روي أنه كان يتمثل بقول العباس بن مرداس فيقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة (¬1) وكان يتمثل بقول عبد بني الحسحاس (¬2) يقول: كلي (¬3) الإسلام والشيب للمرء ناهيًا (¬4) وكان يتكلم ببيت طرفة فيقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار (¬5) ¬

_ (¬1) البيت من المتقارب وصحته: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وهو في "ديوان العباس" 84، "لسان العرب" 1/ 774 (نهب)، "تاج العروس" 4/ 319 (نهب)، "خزانة الأدب" 1/ 153. وذكر هذا الأثر القرطبي في "تفسيره" 15/ 52. (¬2) عبد بني الحسحاس، اسمه سحيم، وكان عبداً أسود نوبياً أعجميًا، وهو من المخضرمين، أدرك الجاهلية والإسلام ولا يعرف له صحبة قُتل في خلافة عثمان -رضي الله عنه-، قتله بنو الحسحاس لأنه أحبَّ امرأة منهم وطفق يتغزل فيها، فقتلوه خشية العار. انظر: "الخزانة" 2/ 102، "الأغاني" 22/ 305، "الشعر والشعراء" ص 241. (¬3) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: كفى. (¬4) البيت من الطويل، وصحته: عميرة ودع إن تجهزت غازيًا ... كفى الشيبُ والإسلام للمرء ناهياً وهو لسحيم في: "البيان والتبيين" 1/ 71، "الكامل" 1/ 285، "الخزانة" 1/ 267، 2/ 102، "الأغاني" 22/ 307، "سر صناعة الإعراب" 1/ 141. وذكر هذا الأثر الإمام محمد بن يوسف الصالحين الشامي في "سبل الهدى والرشاد في سيرة خبر العباد" 9/ 352، وقال: أخرجه ابن سعد عن الحسن البصري، والقرطبي في "تفسيره" 15/ 52. (¬5) البيت من الطويل، وصحته: =

فيعاد عليه مستويًا فيقول: إني "لست بشاعر ولا ينبغي لي" (¬1). والمفسرون ذهبوا إلى أنه ما كان يتسهل له أن يأتي ببيت موزون؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. وما روي عنه من الأراجز كقوله: "هل أنت إلا أصبع دميت" (¬2). وقوله: "لبيك إن العيش عيش الآخرة" (¬3). ¬

_ = ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وهو لطرفة بن العبد في معلقته المشهورة في: "ديوانه" ص 41، "أشعار الشعراء الستة الجاهلين" 2/ 57،"لسان العرب" 2/ 8 (تبت)، "تاج العروس" 15/ 150. (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 31، 146، والنسائي في "عمل اليوم واليلة" ص 549، والترمذي في "سننه" أبواب الآداب، ما جاء في إنشاد الشعر 4/ 218 رقم 3006. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 128: رواه الترمذي عن عائشة، ورواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار، والطبراني، عن ابن عباس، ورجالهما رجال الصحيح. (¬2) هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد"، باب من ينكب في سبيل الله 3/ 1031 رقم 2648، وفي "كتاب الأدب"، باب ما يجوز من الشعر 5/ 2276 رقم 5794 من حديث جندب بن سفيان. والإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين 3/ 1421 رقم 1796 من حديث جندب بن سفيان. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد"، باب التحريض على القتال 3/ 1043 رقم 2679، وفي باب البيعة في الحرب ألا يفروا 3/ 1081 رقم 2801 عن أنس، وفي "كتاب الرقاق"، باب ما جاء في الصحة والفراغ وأن لا عيش إلا عيش الآخرة 5/ 2357 رقم 6050 عن أنس، ورقم 6051 عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد" باب غزوة الأحزاب 3/ 1431 رقم 1804 من حديث أنس.

70

فالرجز جنس من الكلام ليس بشعر (¬1). وقال أبو إسحاق: (ليس يوجب هذا أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتمثل ببيت شعر قط، وإنما يوجب هذا أنه ليس بشاعر، وأن يكون القرآن أتى به مباينًا لكلام المخلوقين وأوزان أشعار العرب) (¬2). وعلى ما ذكر قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} معناه: وما يسهل له إنشاء الشعر من قبل نفسه. قوله: {إِنْ هُوَ} قال مقاتل: القرآن (¬3). {إِلَّا ذِكْرٌ} قال ابن عباس: موعظة. {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} قال: يريد فيه الفرائض والحدود والأحكام (¬4). 70 - {لِيُنْذِرَ} أي: القرآن، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" 8/ 38 في شرحه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". قال: وقد أجيب عن مقالته -صلى الله عليه وسلم- هذا الرجز بأجوبة: أحدها: أنه نظمه غيره وأنه كان فيه: أنت النبي لا كذب أنت عبد المطلب، فذكره بلفظ أنا في الموضعين. ثانيها: أن هذا رجز وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود. ثالتها: أنه لا يكون شعراً حتى يتم قِطْعَة. وهذه كلمات يسيرة لا تسمى شعرًا. رابعها: أنه خرج موزونًا ولم يقصد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة. وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" 15/ 52: وإصابته -صلى الله عليه وسلم- الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن ... فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن وفي كل كلام وليس ذلك شعراً ولا في معناه. وانظر للاستزادة في الموضوع: "فتح الباري" 8/ 38 , 10/ 660، "الجامع لأحكام القرآن" 15/ 51، "الشعر الإسلامي في صدر الإسلام" ص 24 وما بعدها. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 294. (¬3) "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬4) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 373. وانظر: "البغوي" 4/ 19، "زاد المسير" 7/ 33.

71

أي: لتنذر يا محمد بما في القرآن من الوعيد (¬1). {مَنْ كَانَ حَيًّا} قال ابن عباس: يريد مؤمنًا (¬2). وقال مقاتل: من كان مهتديًا في علم الله (¬3). وقال أبو إسحاق: أي من يعقل ما يخاطب به، فإن الكافر كالميت، وإنه لا يتدبر (¬4). وقال أبو علي الفارسي: (يعني المؤمنين؛ لأن الكفار أموات كما قال {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} {النحل: 26}. وقال: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا لِيُنْذِرَ} [الأنعام: 122]) (¬5). وقوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} أي: ويجب الحجة بالقرآن على الكافرين، ثم وعظهم ليعتبروا فقال: [..] (¬6) 71 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} أي: مما تولينا خلقه. {أَيْدِينَا} بإبداعنا وإنشائنا واختراعنا، لم نشارك في خلقه ولا خلقناه بإعانة معين ولا إرشاد دليل. وذكر الأيدي هاهنا يدل هذه المعاني التي (¬7) ذكرنا وإنما خاطبنا بما نعقل، والألفاظ التي تستعمل نستعملها في مخاطبتنا، والواحد منا إذا قال: عملت هذا بيدي، دل ذلك على توليته ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 47، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" 2/ 220. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الماوردي" 5/ 30، "زاد المسير" 7/ 37. (¬3) "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 294. (¬5) "الحجة" 6/ 47. (¬6) في (أ): زيادة (قوله)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق. (¬7) في (ب): (الذي).

72

بعمله وانفراده به (¬1). وأراد بالأنعام: الإبل والبقر والغنم. وقال المفسرون في قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا}: عملناه. قوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قال مقاتل: يعني لضابطين (¬2). وقال الزجاج: (مالكون ضابطون؛ لأن القصد إلى أنها ذليلة لهم، ألا ترى إلى قوله: 72 - {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}، ومثله قول الشاعر: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير ان نفرا (¬3) أي: لا أضبط رأس البعير) (¬4). وقوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}. قال الليث: الركوب بفتح الراء كل دابة نركب، والركوبة اسم يجمع ما يركب، كالحمولة والركوبة والحلوبة (¬5). وقال أبو عبيدة: ركوبهم ما ركبوا، والحلوبة ما حلبوا (¬6). قال الأزهري (¬7): فعول أكثر ما يجيء الفاعل كالمغفور والشكور، ¬

_ (¬1) سبق أن يينا خطأ المؤلف رحمه الله في تفسير مثل هذه الآية، حيث إنه يؤول بعض الصفات وأهل السنة والجماعة يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم-، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل. (¬2) "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬3) البيت من المنسوخ وهو للربيع بن ضبع الفزاري في: "الخزانة" 7/ 384، "الكتاب" 1/ 89، "لسان العرب" 13/ 259 (ضمن). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 294. (¬5) انظر:"تهذيب اللغة" 8/ 218 (ركب). (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 165. (¬7) "تهذيب اللغة" 8/ 216.

73

ويجيء بمعنى مفعول كالركوب والحلوب، وربما أدخلوا الهاء في هذا الباب، وقد يجيء اسمًا لا صفة كالذنوب، وهو النصيب أو الدلو، وقد يجيء مصدرًا كالقبول والولوغ والزروع [والوزوع] (¬1). قال مقاتل: (فمنها ركوبهم، يعني: حلوبتهم الإبل والبقر، ومنها يأكلون: الغنم) (¬2). 73 - {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} قال ابن عباس والكلبي: يعني بالركوب والحمل والأصواف والأوبار والأشعار والسحال (¬3) والفصلان ومنافع كسبها وظهورها (¬4). {وَمَشَارِبُ} من ألبانها. {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} رب هذه النعم فيوحدونه. 74 - ثم ذكر جهلهم وغرتهم (¬5) فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} (¬6) أي: لعلهم يمنعون من العذاب باتخاذ الآلهة. 75 - ثم بين أن الأمر ليس على ما يقدرون فقال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ}. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). (¬2) "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬3) السحال: جمع سحليل، وهو الناقة العظيمة الضرع التي ليس في الإبل مثلها، فتلك ناقة سحليل. وأما الفصلان: جمع فصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، وأكثر ما يطلق في الإبل، وقد يقال في البقر (فصل) "اللسان" 11/ 522. (¬4) لم أقف عليه عنهما، وقد أورده بعض المفسرين غير منسوب. انظر: "القرطبي" 15/ 56، "زاد المسير" 7/ 39. (¬5) لعله من التَّغرير، وهو حمل النفس على الغَرَرِ، والغُرور: بالضم الأباطيل. "اللسان" / 12 (غرر). (¬6) قوله: (آلهة) غير مثبت في النسخ، وهو خطأ.

قال ابن عباس: يريد أن الأصنام لا تقدر على نصرهم (¬1). وقال مقاتل: لا تقدر الآلهة أن تمنعهم من العذاب (¬2). {وَهُمْ} يعني: الكفار. {لَهُمْ} الآلهة. {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}. وقال ابن عباس ومقاتل: وهم لهم جند يغضبون لهم ويحضرونهم في الدنيا (¬3). وهذا قول قتادة والحسن، واختيار أبي إسحاق. قال قتادة: يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم (¬4) خيرًا ولا تدفع عنهم شرًّا إنما هي أصنام (¬5). وقال الحسن: محضرون لآلهتهم يدفعون عنهم ويمنعونهم (¬6). وقال أبو إسحاق: أي هم للأصنام ينتصرون، والأصنام لا تستطيع نصرهم (¬7). وهذا القول هو الاختيار (¬8). وفيه قول آخر، وهو أن المعنى: والآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار، يريد أن العابدين والمعبودين كلهم مجتمعون في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض ولا ينتفع الكفار بعبادتهم ورجائهم نصرتهم. وهذا معنى قول الكلبي، (¬9) ورواية معمر ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 373، وانظر: "الوسيط" 9/ 513، "البغوي" 4/ 20. (¬2) "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬3) انظر لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وهو في "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬4) في (ب): (لهم). (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 29، "بحر العلوم" 3/ 106، "زاد المسير" 7/ 39. (¬6) انظر: "القرطبي" 15/ 290. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 295. (¬8) وهو ما رجحه الإمام الطبري 23/ 30. (¬9) انظر: "زاد المسير" 7/ 39.

76

عن الحسن (¬1). وعلى هذا القول {هُمْ} كناية عن الآلهة، والكناية في هم الكفار والخلق لفظ للجند على الآلهة بزعمهم، وعلى ما كانوا يقدرون من أنها لهم جند تمنعهم، فقيل: إنهم لهم جند محضرون معهم النار. ثم عزى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: [..] (¬2) 76 - {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} في ضمائرهم من الشرك والتكذيب. {وَمَا يُعْلِنُونَ} بألسنتهم. ومعنى أنا نعلم ذلك، ثم إذا علم أثاب نبيه على صبره على أذاهم وجازاهم بسوء صنيعهم، وكأنه قال: لا يحزنك ما يقولون، فإنا نثيبك ونجازيهم. 77 - وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬3): يريد أبي ابن خلف. وهو قول مقاتل (¬4)، والأكثرين (¬5). وقال سعيد بن جبير (¬6): هو العاص بن وائل. وقال الحسن (¬7): هو أمية بن خلف، خاصم النبي -صلى الله عليه وسلم- في إنكار البعث، وأتاه بعظم حائل ففته بين يديه، وقال (¬8): أيحي هذه الله بعدما ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 146، "زاد المسير" 7/ 39. (¬2) في (أ): زيادة (وقوله تعالى) وهي زيادة لا يحتاجها السياق. (¬3) انظر: "بحر العلوم" 3/ 107، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 39 وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. (¬4) "تفسير مقاتل" 108 ب. (¬5) فقد قال به مجاهد وقتادة والسدي وعكرمة والكلبي. انظر: "الطبري" 23/ 30، "الماوردي" 5/ 33، "بحر العلوم" 3/ 107. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 41: وبه قال الجمهور. وعليه المفسرون. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 30، "زاد المسير" 7/ 40، "القرطبي" 15/ 70. (¬7) انظر: "مجمع البيان" 8/ 678، "زاد المسير" 7/ 41، "فتح القدير" 4/ 383. (¬8) في (ب): (فقال).

78

رم (¬1) وبلي فأنزل الله [وقوله] (¬2): {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} يعني: ألا يرى أنه مخلوق من نطفة ثم هو يخاصم، وهذا تعجب من جهله وإنكار عليه خصومته، أي: كيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع خصومته (¬3). وهذا كقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل: 4]. وقد مر تفسيره. 78 - ثم أكد الإنكار عليه بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا}. قال مقاتل (¬4): وصف لنا شبها، يعني: أنه ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم الحائل، ففته وبذره وينكر إحيائه بعد بلائه ويتعجب ممن يقول: إن الله يحييه. فهذا معنى ضرب المثل هاهنا، وهو أنه بين بما فعله إنكار البعث واعتقداه في استحالة الإعادة، وكان ذلك ضرب مثل الله. أي: فإن قدر على الإحياء والإعادة فليحي هذا العظم. قوله تعالى: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ}. قال مقاتل: يقول: وترك النظر في خلق نفسه ءأذا خلق من نطفة ولم يك قبل ذلك شيئاً (¬5). ثم بين أيش (¬6) كان ذلك ¬

_ (¬1) في (ب): (ورمى). (¬2) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ). (¬3) هذه الأقوال التي ذكرها المؤلف رحمه الله فيمن نزلت هذه الآية هي بعض مقاله المفسرون. وقد قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" 3/ 581 بعد أن ذكر الأقوال: وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أبي بن خلف أو العاص بن وائل أو فيهما، فهي عامه في كل من أنكر البعث، والألف واللام في قولى تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} للجنس، فيعم كل منكر للبعث. اهـ. (¬4) "تفسير مقاتل" 109 أ. (¬5) المصدر السابق. (¬6) أصل الكلمة: أي شيء.

79

المثل بقوله [..] (¬1): {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}. قال أبو عبيد: الرميم مثل الرمة، يقال منه: رم العظم، وهو يرم رما، وهو رميم (¬2). وقال ابن الأعرابي: رمت عظامه وأرمت إذا بليت (¬3). وقال أبو عبيدة: الرميم الرفات (¬4). وإنما قال رميم بغير هاء، وهو صفة العظام؛ لأنه منقول عن فاعل، فهو غير مبني على الفعل، وإذا لم يبن على الفعل لم يدخله عليه علامة التأنيث. 79 - ثم ذكر جواب المنكر بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}. قال ابن عباس: يريد ابتدأها أول مرة (¬5). قال أبو إسحاق: والقدرة في الإبتداء أبين من الإعادة (¬6). وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: يريد حين ابتدأه وحين يعيده (¬7). وقال مقاتل: عليهم بخلقهم في الدنيا وعليم بخلقهم بعد الموت (¬8). 80 - ثم زاد في البيان وأخبر عن عجيب صنعه مما يشاهدون؛ ليعتبروا ويستدلوا فقال: {جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا}. قال ¬

_ (¬1) في (أ): زياد: {قَوْلُهُ} وهي زيادة لا يحتاجها السياق. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 191 (رمم). (¬3) انظر: "اللسان" 12/ 253 (رمم). (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 165. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" 3/ 520 ولم ينسبه، وكذا الماوردي 5/ 32. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 295. (¬7) لما أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الماوردي في "تفسيره" 5/ 32 ولم ينسبه. (¬8) "تفسير مقاتل" 109 أ.

81

الكسائي والفراء (¬1): ذكر الشجر هاهنا، وفي قوله: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)} [الواقعة: 52] ذكرها بالتأنيث، ثم ذكر أيضًا في قوله: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]، والشجر يؤنث ويذكر كالنخل و [(¬2)] قد تقدم الكلام فيه (¬3). وقوله: {نَارًا} يعني: ما جعل من النار في المرخ والعفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب وقودها منهما. وقال ابن عباس: ليس من شجر إلا وفيها نار إلا الشجرة (¬4) التي كلم الله موسى منها، وهي العناب (¬5). وقوله: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي: تقدحون النار وتوقدونها من ذلك الشجر. قال مقاتل: والذي يخرج من الشجر نارًا وأنتم تبصرونه، والنار تأكل الحطب، فهو قادر على البعث (¬6). ومعنى الآية أنه يدلهم على قدرته على البعث بخلقه النار في الشجر الأخضر، ثم إيقادهم النار من الشجر الأخضر. قال مقاتل: ثم ذكر ما هو أعظم خلقا من الإنسان (¬7)، فقال: [..] (¬8) 81 - {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى} ¬

_ (¬1) لم أقف على قول الكسائي. وانظر قول الفراء في: "معاني القرآن له" 2/ 382. (¬2) قدر كلمة في جميع النسخة غير واضحة. (¬3) لم أقف على الموضع الذي أحال المؤلف رحمه الله إليه. (¬4) في (أ): (شجرة). (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الماوردي 5/ 34 عن الكلبي، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 679 عن الكلبي أيضًا، والبغوي 4/ 21 عن الحكماء. (¬6) "تفسير مقاتل" 109 أ. (¬7) المصدر السابق. (¬8) في (أ): زيادة (قوله تعالى)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق.

82

هذا استفهام معناه التقرير، يقول: أو لا يقدر من خلق السموات والأرض على أن يخلق مثلهم. قال مقاتل: أن يخلق في الآخرة مثل خلقهم في الدنيا (¬1). وعلى هذا المضاف مقدر، وهذا كقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]. ثم أجاب هذا الاستفهام بقوله: {بَلَى} أي: هو قادر على ذلك. {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} خلقهم في الدنيا ويخلقهم في الآخرة خلقًا جديدًا. {الْعَلِيمُ} قال ابن عباس: بجميع ما خلق (¬2). ثم ذكر قدرته على إيجاد الشيء فقال: [..] (¬3) 82 - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وهذا كقوله في سورة النحل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل 40] (¬4) الآية وقد تقدم الكلام فيها. 83 - ثم نزه فيها نفسه عن قولهم أنه لا يقدر، فقال: {فَسُبْحَانَ}. قال أبو إسحاق: أي تنزيه من السوء، ومن أن يوصف بغير القدرة (¬5). {الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}. قال مقاتل: يعني خلق كل شيء (¬6). قال عطاء: ملك كل شيء (¬7). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (أ): زيادة (قوله تعالى)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق. (¬4) في جميع النسخ: (أمرنا)، وهو خطأ. (¬5) انضر: "البسيط" النسخة الأزهرية 3/ 124 ب. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 296. (¬7) "تفسير مقاتل" 109 أ.

وقال الزجاج: أي القدرة على كل شيء (¬1). {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: هو يبعثكم بعد موتكم. وقال عطاء: يريد مصير عبادي إلى (¬2). والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. [والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا] (¬3). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 296. (¬3) ما بين المعقوفين غير مثبت في (ب).

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الصافات إلى آخر سورة ص تحقيق د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار من أول سورة الزمر إلى آخر سورة الشورى تحقيق د. على بن عمر السجيباني أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهول العتيبي الجزء التاسع عشر

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الصافات إلى آخر سورة ص تحقيق د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار من أول سورة الزمر إلى آخر سورة الشورى تحقيق د. على بن عمر السجيباني أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهول العتيبي الجزء التاسع عشر

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي , علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ محمد بن عبد الله بن سابح الطيار؛ علي بن عمر السحيباني، الرياض 1430 هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمكـ: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 5 - 876 - 04 - 9960 - 978 (ج 19) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمكـ: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 5 - 876 - 04 - 9960 - 978 (ج 19)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [19]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَّسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الصافات إلى آخر سورة ص تحقيق د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار من أول سورة الزمر إلى آخر سورة الشورى

تفسير سورة الصافات

تفسير سورة الصافات بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} قالوا جميعًا: يعني الملائكة. وهو قول عبد الله ومسروق ومجاهد وقتادة ومقاتل (¬1). قال ابن عباس: يريد الملائكة صفوفًا، لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه، لم يلتفت منذ خلقه الله (¬2). وقال الكلبي: الملائكة صفوف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة (¬3). وذكرنا معنى الصف عند قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]. وهذا قَسَمٌ أقسم الله تعالى بالملائكة التي تصف (¬4) نفسها صفًّا. قال أبو إسحاق: أي هم مصطفون (¬5) في السماء (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 33, الثعلبي 3/ 239 ب، "الماوردي" 5/ 36، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 7. (¬2) انظر: "الوسيط" 3/ 521, "زاد المسير" 7/ 44. (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "البغوي" 4/ 22، "القرطبي" 15/ 361، "مجمع البيان" 8/ 683. (¬4) في (ب): (تصفا)، وهو خطأ. (¬5) هكذا في النسخ، والذي في "معاني القرآن" للزجاج مطيعون. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 297.

2

وذكر أهل المعاني في القسم (¬1) وجهين، أحدهما: أن القسم بالله -عَزَّ وَجَلَّ- على تقدير ورب الصافات كقوله: {وَالْعَصْرِ} {وَالشَّمْسِ} {وَاللَّيْلِ} إلا أنه حُذِفَ لما في العلم من أن التعظيم بالقسم لله. والثاني: أن هذا على ظاهر ما أقسم به؛ لأنه ينبئ عن تعظيمه بما فيه من العبرة الدالة على ربه. وذكر أيضًا في التفسير أن المراد بهذا الصف أن الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة لأمر الله حتى يأمرها بما يريد (¬2). والصافات: جمع الصف، يقال: جماعة صافة ثم يجمع صافات. 2 - قوله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} قال الليث: زجرت البعير فأنا أزجره زجرًا، إذا حبسته ليمضي، وزجرت فلانًا عن سوء فانزجر، أي نهيته فانتهى (¬3). قال الشاعر: وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتنزجرُ (¬4) فالزجر للإنسان كالنهي وللبعير كالحث. ويقال: زجرته وازدجرته، ومنه قوله تعالى: {وَازْدُجِرَ} [القمر: 9]. قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ومقاتل: يعني الملائكة (¬5). قال ابن عباس: يريد ملائكة وكلوا بالسحاب يزجرونها. ونحو هذا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في "معاني القرآن" للأخفش والفراء والزجاج. (¬2) انظر: "الماوردي" 5/ 36، "القرطبي" 15/ 61، "زاد المسير" 7/ 44. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 602 (زجر). (¬4) البيت من البسيط، وهو لسابق البربري. (¬5) "تفسير مقاتل" 109 ب، "تفسير مجاهد" ص 539. وانظر: "الطبري" 33/ 23، "الماوردي" 5/ 37، "زاد المسير" 7/ 45.

3

قال الكلبي ومقاتل والسدي (¬1): إن هذا الزجر للسحاب في سوقه وتأليفه. وقال أهل المعاني: الملائكة تزجر عن المعاصي زجرًا، يوصل الله مفهومه إلى قلوب العباد كما يوصل مفهوم إغواء الشيطان إلى قلوبهم ليصح التكليف (¬2). وقال قتادة: الزاجرات زواجر القرآن، وهي كل ما ينهى وبزجر عن القبيح المحظور (¬3). 3 - قوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} قال ابن مسعود ومسروق ومجاهد ومقاتل: هم الملائكة (¬4). قال ابن عباس: يريد ملائكة يتلون ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬5). وقال مقاتل: هو جبريل يتلو القرآن على الأنبياء من ربهم، وهو الملقيات ذكرًا يلقي الذكر على الأنبياء (¬6). وعلى هذا المراد جبريل، وذكر بلفظ الجمع إشارة إلى أنه كبير الملائكة، فهو لا يخلو من أعوان وجنود له من الملائكة يعرجون بعروجه وينزلون بنزوله (¬7). وقال السدي: هم الملائكة يتلون الذكر على الأنبياء (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) لم أقف عليه في كتب "معاني القرآن". (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 147، "الطبري" 53/ 34، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 8. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 34، "الماوردي" 5/ 37، "زاد المسير" 7/ 45. (¬5) انظر: المصادر السابقة. (¬6) "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬7) انظر: "القرطبي" 15/ 92، "فتح القدير" 4/ 386. (¬8) انظر: "الطبري" 23/ 34، "بحر العلوم" 3/ 110، "مجمع البيان" 8/ 684.

وقال الكلبي: هو قراءة الكتاب (¬1). قال أبو إسحاق: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} جائز أن يكون الملائكة وغيرهم ممن يتلون ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬2). قال قتادة: (التاليات ذكرًا) ما يتلى من أي القرآن (¬3). وهذا يحمل على تفسير الذكر؛ لأن التاليات لا يكون ما يتلى. وأما هذه الفاءات هاهنا وفي سورة الذاريات والمرسلات. فالفاء في العطف تؤذن أن الثاني بعد الأول بخلاف الواو، فإنه لا يدل على المبدوء به والفاء يدل كقولك: دخلت الكوفة فالبصرة، فالفاء هاهنا تؤذن أن دخول الكوفة كان قبل دخول البصرة (¬4)، وفي هذه الآية يدل على أن الله تعالى ذكر القسم أولاً بالصافات ثم بالزاجرات ثم بالتاليات. وذكر صاحب النظم أن الفاء هاهنا جواب وما قبله سبب له، كما تقول قام فمر، واضطجع فنام، فالقيام سبب للمرور والاضطجاع سبب للنوم. وتأويل الآية: والتي تصف صفًّا فتزجر زجرًا، فالصف سبب الزجر والزجر سبب التلاوة. قال: ويدل على هذا قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات: 1 - 2]، ثم استأنف قسمًا آخر منقطعًا مما قبله غير منسوق عليه بالواو فقال: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} وهذه الواو واو قسم، وعلى ما ذكره يجب أن يكون الصافات والزاجرات والتاليات جنسًا واحدًا وعصبة من الملائكة ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 3/ 521. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 297. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 34، "الماوردي" 5/ 37، "زاد المسير" 7/ 45. (¬4) انظر: "الكشاف" 3/ 295.

اجتمعت فيهم هذه الصفات (¬1). ولا يجوز أن يكون الزاجرات غير الصافات (¬2)، وعلى ما ذكر أولاً يجوز أن يكون كل من الصافات والزاجرات والتاليات عصبة سوى الأخرى، وهو ظاهر قول المفسرين. وأما التاءات التي في الصافات والزاجرات والتاليات فإنها تقرأ بالإظهار، وأدغمها حمزة فيما بعدها، وهو قراءة عبد الله. وإدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنها من طرف اللسان وأصول الثنايا، ويجتمعان في الهمس، والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصفير، وحسن أن يدغم الأنقص في الأزيد، ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص. وإدغام التاء في الزاي حسن أيضًا, لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة. وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد. وكذلك حسن إدغام التاء في الذال في قوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا. وأما من قرأ بالإظهار وترك الإدغام فذلك لاختلاف المخارج، وأن المدغم فيه ليس بلازم، فلم يدغموا لتباين المخارج وانتفاء اللزوم، ألا ترى أنهم يثبتون نحو [أفعلَ] (¬3) وإن كان من كلمة واحدة لما لم يلزم التاء هذا البناء، فما كان من كلمتين منفصلتين أجدر بالبيان (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ): (الصافات). (¬2) في (ب) تقديم وتأخير هكذا: (الصافات غير الزاجرات ...). (¬3) ما بين المعقوفتين مطموس في جميع النسخ، وما أثبت من الحجة لأبي علي لأن الكلام قد يكون بنصه منقولًا عنها من قوله: وأما التاءات التي في الصافات. "الحجة" 6/ 49 - 50. (¬4) انظر: "الحجة" 6/ 49، "علل القراءات" 2/ 573، "الحجة في القراءات السبع" ص 300.

4

4 - قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جواب القسم. قال ابن عباس: يريد نفسه لا شريك (¬1) له. وقال مقاتل: إن كفار مكة قالوا لمحمد: اجعل الآلهة إلهًا واحداً، فأقسم الله بهؤلاء الملائكة أنه واحد ليس له شريك (¬2). 5 - ثم (¬3) نفسه عن شركهم فقال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من شيء من الآلهة وغيرها. {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أي مطالع الشمس. قال السدي: المشارق ثلاثمائة وستون مشرقًا وكذلك المغارب عدد السنة، تطلع الشمس كل يوم في مشرق وتغرب كل يوم في مغرب (¬4). ونحو هذا قال قتادة في المشارق والمغارب (¬5). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ثمانين ومائة مشرق في الشتاء وثمانين ومائة مشرق في الصيف؛ لأن الشمس في كل يوم تشرق من موضع غير الذي طلعت منه بالأمس (¬6). وقال في رواية عكرمة: إن الشمس تطلع كل سنة في ثلاث مائة وستين (¬7) كوة تطلع في (¬8) كل يوم في كوة لا ترجع إلى تلك الكوة إلى ذلك ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬3) هكذا في النسخ، ويظهر والله أعلم أن هناك كلمة ساقطة: ثم نزه نفسه. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 35، "الماوردي" 5/ 37، "زاد المسير" 7/ 45. (¬5) انظر: المصادر السابقة (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس وقد ذكره الماوردي في "تفسيره" 5/ 37، عن يحيى بن سلام، وذكره هود بن محكم في "تفسيره" 3/ 444، ولم ينسبه. (¬7) في (ب): (وستون)، وهو خطأ. (¬8) (في) ساقطة من (ب).

6

اليوم من العام المقبل (¬1) (¬2). وأراد المشارق والمغارب فاكتفى بذكر المشارق كقوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. 6 - وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} قال ابن عباس: يريد التي تلي الأرض (¬3). وقال مقاتل: إنما سميت الدنيا لأنها أدنى السماء من الأرض (¬4). وقوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أن يحسنها. وقال ابن عباس: بضوئها (¬5). وعلى هذه القراءة المصدر يضاف إلى المفعول به كقوله: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24]. وقرأ حمزة بزينةٍ منونة وخفض الكواكب، وهي قراءة مسروق والأعمش (¬6). قال الفراء: وهو رد معرفة على نكرة (¬7). وقال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة (¬8). وقال أبو علي: جعل الكواكب بدلاً من الزينة لأنها هي كما تقول مررت بأبىِ عبد الله زيد. ¬

_ (¬1) في (ب): (القابلي). (¬2) انظر: "القرطبي" 15/ 63. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬5) انظر: "بحر العلوم" 3/ 111، "البغوي" 4/ 23. (¬6) انظر: "الحجة" 6/ 50 - 51، "الطبري" 23/ 345. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 382. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 298.

7

وقرأ عاصم بالتنوين في الزينة ونصب الكواكب (¬1). قال الفراء: بتزييننا الكواكب (¬2). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون الكواكب في النصب بدلاً من قوله: {بِزِينَةٍ} في موضع نصب. (¬3) وقال أبو علي: [أعمل] (¬4) عاصم الزينة في الكواكب والمعنى إنا (¬5) زينا الكواكب فيها، ومثله قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14 - 15] (¬6). وهذا شرح ما ذكره الفراء. وقال [أبو علي] (¬7) صاحب النظم: التأويل إنا زينا السماء الدنيا أي بتزييننا الكواكب وتزيين الكواكب ضوئها ونورها وتأليفها في منازلها (¬8). 7 - قوله تعالى: {وَحِفْظًا} قال أبو إسحاق وغيره: وحفظناها حفظًا (¬9). قال المبرد: إذا ذكرت فعلًا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر؛ لأنه قد دل على فعله وذلك قوله: افعل وكرامة, لأنه لما قال افعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال، فالمعنى افعل ذلك وأكرم ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 50 - 51. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 382. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 298. (¬4) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬5) في (ب): (إن). (¬6) "الحجة" 6/ 50 - 51. (¬7) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ). (¬8) انظر القول في "الحجة" 6/ 51، غير منسوب لصاحب النظم. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 298.

8

كرامة، وكذلك لا أفعل ذلك ولا كيدًا ولا هما أي ولا أكيد ولا أهم (¬1) (¬2). قال ابن عباس: يريد وحفظًا للسماء {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} يريد الذي تمرد على الله (¬3). وقال مقاتل: وحفظًا للسماء بالكواكب (¬4). قال الكلبي: حفظًا للسموات من كل شيطان شديد متمرد، يُرمون بها ولا تُخطيهم (¬5)، وذكرنا تفسير المارد عند قوله: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101]. وقوله: {كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الحج: 3] (¬6). 8 - قوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ} المعنى لئلا يسمعون، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع. قال الفراء: ولو كان في موضع (لا) (أن) لصلح ذلك كما قال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. وكما قال: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (¬7). ويصلح في لا (¬8) على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت الفرس لا تفلت بالجزم، وأوثقت عبدي لا يفرق (¬9)، وأنشد: ¬

_ (¬1) في (ب): (ولاهم). (¬2) لم أقف على قول المبرد. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) قال في هذا الموضع من "البسيط": المريد الذي يتمرد على الله -عز وجل-. وقال أهل اللغة في المريد قولين: أحدهما: إنه المتجرد للفساد، والثاني: إنه العاري من الخير. (¬7) جزء من آية في سورة النحل: الآية 15. ومن سورة لقمان: الآية 10. (¬8) في (أ): (ألا)، وهو خطأ. (¬9) هكذا في النسخ، والصواب كما في "معاني الفراء" (يفرر).

وحين رأينا أحسن الود بيننا ... مساكنةً لا يقرِفُ الشر قَارِفُ (¬1) وبعضهم (¬2) يقول لا يفرق والرفع لغة أهل الحجاز وبذلك جاء القرآن) (¬3). هذا كلامه، ونحو هذا قال صاحب النظم. ويجوز أن يكون هذا ابتداء إخبار (¬4) عن الشياطين بأنهم لا يسمعون، ولا يحتاج إلى إضمار شيء، وذلك أنهم إذا منعوا عن السماء بالحراسة لم يسمعوا، وهذا الوجه أبين على قراءة من قرأ بالتخفيف، ومن قرأ بالتشديد لم يظهر هذا الوجه لأنهم يتسمعون ثم يمنعون بالرمي (¬5). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء: 200 - 201]. واختار أبو عبيد (¬6) التشديد في يسمعون قال: لأن العرب (¬7) تسمعت إلى فلان. وقال صاحب النظم: قد يعدى السمع بإلى واحتج بقول الشاعر: اسمع إلى من يسومني العللا (¬8) وقال أبو علي الفارسي: (يقال: سمعت الشيء واستمعته، كما يقال ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لبعض بني عقيل في "معاني القرآن" للفراء 2/ 283، "الكافية الشافية" ص 1556، "الطبري" 23/ 39. (¬2) في (ب): زيادة (لا)، وهو خطأ. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 383. (¬4) في (ب): (إخباراً). (¬5) انظر: "الحجة" 6/ 52، "الحجة في القراءات السبع" ص 307، "حجة القراءات" ص 605. (¬6) انظر: "الدر المصون" 5/ 495، "القرطبي" 15/ 65، "فتح القدير" 3/ 387. (¬7) الكلام هنا فيه اضطراب ويظهر أن كلمة ساقطة لابد منها تُقدَّر تقول. (¬8) لم أهتد إلى تمامه ولا قائله.

حقرته واحتقرته، وشويته واشتويته، ثم يعدى باللام وإلى [كما] (¬1) قال الله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25]. وهذا كما تقول في الإيحاء والهداية، قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]، {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] , {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، ولا فصل بين فعلت وافتعلت في ذلك لاتفاقهما في التعدي) (¬2)، فإذا حسن استمع إليه حسن أيضًا سمع (¬3) إليه. وأما وجه القراءتين، فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين وهو أبلغ، إلا أنه إذا نفى التسمع عنهم فقد نفى سمعهم، وحجة من خفف قوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]. والسمع مصدر سمع، وهذا الوجه هو اختيار ابن عباس، روى ذلك عن مجاهد، قال: إنهم كانوا يتسمعون ولا يسمعون، يريد الشياطين، يتسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون فنفى السماع أولاً (¬4) من نفي التسمع (¬5). قال الكلبي: لا يسمعون إلى الملأ الأعلى لكي لا يسمعوا إلى الكتبة من الملائكة (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ). (¬2) "الحجة" 6/ 52 - 53. (¬3) في (ب): (استمع)، وهو خطأ. (¬4) هكذا في النسخ، والصواب: (أولى). (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 36، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" 2/ 221، "حجة القراءات" ص 605، "المحرر الوجيز" 4/ 466. (¬6) انظر: "الوسيط" 3/ 522، "مجمع البيان" 8/ 685.

8

وقال السدي: الملأ الأعلى الملائكة الذين هم في السماء الدنيا (¬1). وقال عطاء: الملائكة الأشراف (¬2). 8 - قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا} قال ابن عباس ومقاتل (¬3) والمفسرون: ويرمون من كل ناحية. وذكرنا معنى القذف فيما تقدم (¬4). والمفعول الثاني مقدر على تقدير ويقذفون من كل جانب بالشهب، يدل عليه قراءة أبي عبد الرحمن السلمي دحورًا بفتح الدال. قال الفراء: (كأنه قال يقذفون بداحِر وبما يدحر. قال: ولست أشتهي الفتح؛ لأنه لو وجه ذلك على صحته لكان فيها التاء كما تقول: يقذفون بالحجارة، ولا تقول يقذفون الحجارة وهو جائز كما قال: نغالي اللحم للأضياف نيئا (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "الماوردي" 5/ 39، وأورده غير منسوب الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 685. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف على هذا القول عن ابن عباس أو مقاتل أو لغيرهم ويكادون يجمعون حسب علمي على أن معنى الدحور هو: الطرد وليس الرمي كما فسره المؤلف رحمه الله فلعله وهم منه، والله أعلم. (¬4) ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه: 39]. قال: ومعنى القذف في اللغة الرمي بالسهم والحصى والكلام وكل شيء، ويقال للسب القذف لأنه رمي بالقبيح من القول. (¬5) صدر بيت وعجزه: ونرخصه إذا نضج القدير ولم أهتد لقائله. انظره في "معاني القرآن" للفراء 2/ 383، "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 191، "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات" 2/ 219، "الدر المصون" 3/ 444، "تهذيب اللغة" 6/ 132، 7/ 135، 8/ 191، "اللسان" 15/ 131.

9

أي: يغالي باللحم (¬1). 9 - قوله: {دُحُورًا} قال الكلبي (¬2): يدحرونهم فيباعدونهم عن تلك المجالس التي يسترقون فيها السمع. وقال مقاتل: يعني طردًا بالشهب من الكواكب (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: دحورًا بشهب النار (¬4). وذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف (¬5) عند قوله: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}. قال المبرد: الدحور هو أشد الصغار وأبين الذل (¬6). قال ابن قتيبة: ذكرته دحرًا ودحورًا دفعته وطردته (¬7). وانتصب دحورًا بالمصدر على معنى يدحرون دحورًا. ودل على المصدر الفعل قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}، وإن شئت قلت الدحور ثم حذف اللام. وقال مجاهد: دحورًا مطرودين (¬8). فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر (¬9) كالركوع والسجود والحصور. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 383. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 47، نحوه عن قتادة. (¬5) الآية 18. قال المؤلف هناك: الدحر في اللغة: الطرد والإقصاء والتبعيد. يقال: دحره دحرًا ودحورًا إذا طرده وبعَّده. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 369. (¬8) "تفسير مجاهد" ص 539. (¬9) في (ب): (سميت به المصدر).

10

قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} قالوا كلهم: دائم. وقد مر في سورة النحل (¬1). ومن فسر الواصب بالشديد والوجع، فهو معنى وليس بتفسير. قال مقاتل: يعني دائمًا إلى النفخة الأولى فهي تجرح ولا تقتل (¬2). فقد بين مقاتل أن المراد بهذا العذاب عذاب الدنيا. 10 - قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} قال صاحب النظم: يجوز أن يكون هذا استثناء من قوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ} فيكون في موضع الرفع لأنه استثناء من النفي. قال: ويجوز أن يكون قوله: {وَيُقْذَفُونَ} فصلاً مستأنفاً، ويكون {إِلَّا مَنْ خَطِفَ} في موضع نصب على الاستثناء منه. هذا كلامه، والمعنى إذا جعلت من استثناء من يقذفون أنهم يرمون بالشهب ولا يمكنون (¬3) من السمع {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} قال ابن عباس: اختلس الكلمة (¬4). وقال الكلبي: خطف الخطفة مسارقة (¬5). وقال مقاتل: يعني يخطف من كلام الملائكة (¬6). وذكرنا معنى ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} آية 52. قال: والواصب الدائم يقال وصب وصوباً إذا دام، ويقال واصَبَ على الشيء وواظب عليه إذا دام عليه. (¬2) "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬3) في (ب): (يتمكنون). (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس بهذا اللفظ. وانظر: "تنوير المقباس" ص 374 بهامش المصحف. (¬5) لم أقف عليه عن الكلبي، وانظر: "القرطبي" 15/ 66، "زاد المسير" 7/ 48. (¬6) "تفسير مقاتل" 109 ب.

الخطف في سورة الحج (¬1). قال الزجاج: وهو أخذ الشيء بسرعة (¬2). قوله: {فَأَتْبَعَهُ} أي: لحقه وأصابه. قال المفسرون: لا يخطيه، يقتل أو يحرق أو يخبل (¬3)، يقال تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره، وأتبعه إذا لحقه، ومنه قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175]، وقد مر. قوله تعالى: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قال ابن عباس ومقاتل: نار مضيئًا يحرقه (¬4). قال الحسن وقتادة: ثاقب مضيء (¬5). قال الليث (¬6): الثقوب مصدر. النار الثاقبة والكوكب الثاقب، يقال ثقب يثقب ثقوبًا وهو شدة ضوئه وتلألئه، والخشب الثاقب الصريح النقي (¬7). وقال أبو عبيدة: الثاقب النير المضيء، ويقال أثقب نارًا أي أضاءها، والثقوب ما يذكى به النار، ومنه قول أبي الأسود: ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} الآية 31. قال: خطف يخطف إذا أخذ بسرعة. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 299. (¬3) انظر: "الثعلبي" 3/ 240/ ب، "الطبري" 23/ 40، "البغوي" 4/ 23، "القرطبي" 15/ 67. (¬4) "تنوير المقباس" ص 446 بهامش المصحف، "تفسير مقاتل" 109 ب. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 40، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 13، "القرطبي" 15/ 67. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 83 (ثقب)، "اللسان" 1/ 239 (ثقب). (¬7) انظر: المصادر السابقة، "القاموس المحيط" ص 81.

11

أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نارٍ أُوقدت بثقوبِ (¬1) (¬2) ونظير هذه الآية قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} (¬3) [الحجر: 18]، وذكرنا الكلام هناك مستقصى في (¬4) معنى الشهاب، ومعنى الآية. 11 - قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} قال ابن عباس: قل يا محمد لقومك (¬5). وقال أبو إسحاق: فسألهم (¬6) سؤال تقرير. {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} أي: أحكم صنعة {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} من غيرهم، يعني من الأمم السالفة، يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقًا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمنهم من العذاب، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬7). وقال مقاتل: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} بعد الموت، وذلك أنهم كفروا بالبعث (¬8). {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} يعني السموات والأرض والجبال، وهذا قول ¬

_ (¬1) البيت من الطويل لأبي الأسود في "ديوانه" ص 45، "مجاز القرآن" 1/ 133، 2/ 167، "الدر المصون" 2/ 402. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 167. (¬3) في (ب): (ثاقب مبين)، وهو خطأ. (¬4) قال رحمه الله هناك: والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكوكب شهابًا والسنان شهابا لبريقهما يشبهان النار. فقال المفسرون: إن الشهاب لا يخطئه أبدًا وإنهم ليرمون فإذا توارى عنكم فقد أخطأه. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 374 بهامش المصحف. (¬6) هكذا في النسخ ولعل الصواب: فاسألهم؛ لأن عبارة أبي إسحاق: أي سلهم. "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 299. (¬7) لم أقف عليه. وانظر: "القرطبي" 68/ 15، "زاد المسير" 7/ 49. (¬8) "تفسير مقاتل" 11 أ.

مجاهد وسفيان (¬1)، والمعنى: ليس خلقهم بعد الموت بأشد من خلق السموات والأرض والجبال، وقد علموا أن الله خلق هذه الأشياء، فهو أيضًا يقدر على خلقهم بعد الموت. وقال الكلبي: {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} يقول: أم من عندنا من الملائكة (¬2). ومَنْ على قول مقاتل ومجاهد بمعنى: ما. ثم ذكر خلق الإنسان فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} قال عطاء: يريد الذي يلصق (¬3). وقال مجاهد عن ابن عباس: من طين لازب قال جيد (¬4). وقال السدي: الذي يلزق بعضه ببعض (¬5). وقال عكرمة: اللزوج (¬6). وقال الكلبي: الطين الجيد اللاصق (¬7). وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم، يقال: لازم ولازب، وهو قول أبي عبيد (¬8) والفراء. ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" ص 540، ولم أقف عليه عن سفيان. (¬2) لم أقف عليه. وانظر: "القرطبي" 15/ 68، "زاد المسير" 7/ 49، فقد ذكرا القول بدون نسبه. (¬3) لم أقف عليه عن عطاء وقد روى عن ابن عباس. وانظر: "الطبري" 23/ 43، "مجمع البيان" 8/ 686. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 43، "المحرر الوجيز" 4/ 467، "زاد المسير" 7/ 49. (¬5) لم أقف عليه عن السدي وينسب للضحاك وقتادة وابن زيد. وانظر: "الطبري" 23/ 42، "القرطبي" 15/ 69. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 43، "الماوردي" 5/ 40، "القرطبي" 15/ 69. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي، وانظر: المصادر السابقة. (¬8) انظر: "معاني القرآن" 2/ 384، "تهذيب اللغة" 13/ 215، عن الفراء. "تاج العروس" 4/ 205.

12

وقال الكسائي: لزِب يلزِب بالكسر ولزُب بالضم لغتان لزوبًا (¬1). وعلى هذا يجوز أن يكون اللازب لغة بنفسه من غير أن تكون الباء مبدلة من الميم. والمعنى: قال مقاتل: فالذي خلق من الطين أهون خلقًا عند هذا المكذب بالبعث من خلق السموات والأرض (¬2). وعلى القول الأول في معنى الآية: أراد الإخبار عن التسوية بينهم وبين غيرهم من الأمم، يعني أن هؤلاء خلقوا مما خلق منهم الأولون، فليسوا بأشد خلقًا منهم. 12 - قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ} الكلام في معنى بل قد تقدم عند قوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ} [الكهف: 48] (¬3)، وأما عجبت ففيه قراءتان: ضم التاء وفتحها، والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود والأعمش، وقراءة قراء الكوفة واختيار أبي عبيد، وكان شريح يقول: بل عجبتَ، ويقول إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: كان شريح يعجب بعلمه وكان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ: (بل عجبتُ) (¬4) (¬5). قال أبو عبيد: والشاهد مع هذا قول الله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ¬

_ (¬1) لم أقف عليه وانظر: "القرطبي" 15/ 69. (¬2) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬3) انظر: "البسيط" قال: بل هنا لتؤذن بتحقيق ما سبق وتوكيد ما يأتي بعده. وقد تجيء بل في الكلام لترك ما سبق من غير إبطال له. (¬4) أورده عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 148 بسنده عن الثوري عن الأعمش عن أبي وائل، والفراء في "معاني القرآن" 2/ 384. (¬5) انظر حول هذه القراءة. "الحجة" 6/ 53، "علل القراءات" 2/ 574، "الطبري" 23/ 42.

[الرعد: 5] أخبر جل جلاله أنه عجيب، ومما يزيده تصديقًا الحديث المرفوع: "لقد عجيب الله البارحة من فلان وفلادة" (¬1). وقال الفراء: (العجب وإن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد، ألا ترى أنه قال: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]. وليس السُخْرِيّ من الله كمعناه من العباد) (¬2). وقال أبو إسحاق: (العجب من الله خلاف العجب من الآدميين هذا كما قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، وقال: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]، وقال: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] , والمكر من الله والخداع خلافه من الآدميين. وأصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال عجبت من كذا وكذا، وكذلك إذا فعل الآدميون ما ينكره الله -عز وجل- جاز أن يقول: عجبت. والله -عز وجل- قد علم الشيء قبل كونه، ولكن الإنكار والعجب الذي به تلزم الحجة عند وقوع الشيء انتهى كلامه) (¬3). ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، باب ويؤثرون على أنفسهم 4/ 1845 رقم 4607، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتى رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا رجل يُضَيَّفه هذه الليلة". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تدَّخريه شيئًا. قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنَومِّيهم وتعالى فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت. ثم غدا الرجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لقد عجب الله -عز وجل-، أو ضحك من فلانٍ وفلانةٍ" فأنزل الله -عز وجل -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 384. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 300.

وقد ثبت جواز إضافة العجب إلى الله، وهو على وجهين: عجيب مما يرضى وعجب مما يكره، فالعجب مما يرضى معناه في صفة الله الاستحسان وأخبر عن تمام الرضى. والعجب بما يكره الإنكار والذم له. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز العجب في وصف الله، وقالوا في قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] أي: فعجب عندكم، وقالوا في هذه القراءة: معناها أن هذه الحالة وهي إنكارهم البعث مع وضوح الدلالة عليه وهو الإبتداء والإنشاء حلت محل الشيء الذي إذا ورد عليكم عجبتم منه، ويقول سامعها عجبت كما أن قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] معناه أن هؤلاء مما [يقولون أنتم فيه هذا النحو من الكلام، وكذلك قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]. عند من لم يجعل اللفظ على الاستفهام، وعلى هذا النحو قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (¬1). قالوا: ولا يجوز العجب في وصف القديم (¬2) كما يكون في وصف الإنسان؛ لأن العجب منا إنما يكون إذا شاهدنا ما لم نشاهد مثله ولم نعرف سببه، وهذا منتف عن القديم سبحانه وتعالى، وهذا مذهب المعتزلة. ومذهب أهل السنة أن العجب قد ورد مضافًا إلى الله في كثير من الأخبار كما روى: "عجب ربكم من إلِّكُم وقنوطكم، وعجب ربكم من شاب ليست له ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين يبدو أنه كلام لا علاقة له بالسياق فلعله وهمٌ من النساخ. (¬2) وصف الله جل وعلا بالقديم مما أدخله المتكلمون في أسماء الله تعالى وليس من أسمائه الحسنى, لأن القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره، وقد جاء الشرع المطهر باسمه الأول، وهو أحسن من القديم, لأنه يشعر أن ما بعده آيل إليه. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 77.

صبوة" (¬1) ومعناه ما ذكرنا. والعجب الذي ذكروا أنه لا يجوز في وصف الله لا نجوزه نحن، ولكن من حيث اللفظ قد ورد العجب في وصفه، وتأويله ما ذكرنا (¬2). وأما معنى الآية والمفسرون على فتح التاء وذكروا فيه قولين، أحدهما: عجبت يا محمد من القرآن حين أوحي إليك {وَيَسْخَرُونَ}، يعني كفار مكة سخروا من النبي حين سمعوا منه القرآن، هذا قول مقاتل (¬3). وقال قتادة (¬4): عجب نبي الله من هذا القرآن حين أنزل عليه وضلال بني آدم، والمعنى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يظن أن كل من يسمع منه القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه وتركوا الإيمان به عجب ¬

_ (¬1) أخرج ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" 1/ 61 أول الحديث وفي 3/ 11 آخر الحديث "وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة". والزمخشري في "الفائق" 1/ 52، أول الحديث: "عجب ربكم من إلكم وقنوطكم". وابن الجوزي في "غريب الحديث" 1/ 36 أول الحديث، وإلّكم من الإِلّ، قال ابن الأثير في "النهاية" 1/ 61: الإِلُّ: شدة القنوط، ويجوز أن يكون رفع الصوت بالبكاء. وقال الزمخثمري في "الفائق" 1/ 52: الإِل والألل والأليِّل رفع الصوت بالبكاء. والمعنى أن إفراطكم في الجؤار والنحيب فعل القانطين من رحمة الله مستغرب مع ما ترون من آثار الرأفة عليكم. (¬2) تأويل المؤلف لصفة العجب الذي يشير إليه بقوله ما ذكرنا لم أقف عليه. والذي يظهر لي والله أعلم أن المؤلف رحمه الله قد اضطرب في فهم هذه الصفة أو في إثباتها، فمذهب الأشاعرة هو تأويل هذه الصفة. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 60. (¬3) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 148، "الطبري" 23/ 44، "معاني النحاس" 6/ 15.

محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فقال الله تعالى عجبت يا محمد من نزول الوحي وتركهم الإيمان وهو معنى قوله: {وَيَسْخَرُونَ}، لأن سخرتهم من ترك الإيمان به. والقول الثاني: عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون منك ويستهزئون من تعجبك، وهذا قول الكلبي (¬1) ومعنى قول ابن عباس (¬2) في رواية عطاء، وذكر أبو إسحاق (¬3) القولين جميعاً. وعلى القول الأول: العجب من نزول الوحي وسخرتهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن. والواو في: {وَيَسْخَرُونَ} واو الحال، والتقدير: بل عجبت وهم يسخرون أن وقع العجب منك في هذه الحال منهم. وعلى القول الثاني: العجب من إنكارهم البعث والواو في: {وَيَسْخَرُونَ} واو الاستئناف. وأما معنى الآية على قراءة من قرأ بالضم فقد ذكرنا فيه قولين، فمن أجاز إضافة العجب إلى الله على معنى الإنكار، كان تأويل الآية أن الله تعالى ذكر إنكاره عليهم ما هم فيه من الكفر والتكذيب، وسخطه عليهم وهم يسخرون ويستهزئون ولا يتفكرون. وعلى قول من لم يضف العجب إلى الله معنى الآية كمعناها في قراءة من قرأ بالفتح (¬4). قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي: إذا ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 7/ 49. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "القرطبي" 15/ 69، "زاد المسير" 7/ 49. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 300. (¬4) انظر: "الحجة" 6/ 53، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 574.

16

وعظوا بالقرآن لا يتعظون به، {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} قال ابن عباس ومقاتل: يعني انشقاق القمر بمكة (¬1) {يَسْتَسْخِرُونَ}، قال أبو عبيدة (¬2): يستسخرون ويسخرون سواء، وهو قول المفسرين، قالوا كلهم: يسخرون ويستهزئون ويقولون: هذا عمل السحرة وهو قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وقال ابن قتيبة: (يقال سخر واستسخر كما يقال قرَّ واستقر، وعجب واستعجب، وأنشد قول أوس: ومستعجبٍ مما يرى من أناتنا (¬3) قال: ويجوز أن يكون يسألون غيرهم من المشركين أن يسخروا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما تقول استعتبته أي سألته العتبى واستوهبته) (¬4) ونحو ذلك. وقال أبو إسحاق في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي جعلوا ما يدل على التوحيد مما يعجزون عنه سحرًا) (¬5). 16 - قوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} (¬6) الآية. الكلام في نظير هذه الآية قد تقدم في سورة الرعد (¬7)، ثم في سورة النمل (¬8)، ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 3/ 112، "البغوي" 4/ 24، "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 167. (¬3) عجز بيت وصدره: ولو زبنته العرب لم يترمرم وهو من الطويل لأوس بن حجر في "ديوانه" ص 121، "تفسير غريب القرآن" ص 370، "اللسان" 2/ 69 - 15/ 147، "الكامل" 2/ 1143. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص370. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 300. (¬6) قوله: (وكنا ترابا) غير مثبت في (أ). (¬7) عند قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآية 5. (¬8) عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} الآية: 67.

17

والعنكبوت (¬1). قال أبو إسحاق المعنى: أنبعث إذا كنا ترابًا وعظامًا (¬2)، وهذا استفهام إنكار وتعجب. 17 - قوله تعالى: {أَوَآبَاؤُنَا} قال مقاتل (¬3): أو يبعث آباؤنا. وهذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف. وقرأ نافع هاهنا وفي سورة الواقعة (¬4) ساكنة الواو. وذكرنا الكلام في هذا في سورة الأعراف عند قوله: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} (¬5). 18 - قال مقاتل: فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- {قُلْ} لكفار مكة {نَعَمْ} تبعثون {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أي صاغرون (¬6)، وقال أبو عبيدة والمفضل (¬7): الدخور أشد الصغار، يقال داخر صاغر، وأنشد أبو عبيدة قول ذي الرمة فقال: فلم يبق إلا داخر في مخيّشٍ ... ومنحجِرٌ في غير أرضك في حُجْرِ (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) عند قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآيتان 19 - 20. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 300. (¬3) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬4) آية 48 قوله تعالى: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}. (¬5) آية 98. وقد ذكر المؤلف رحمه الله هناك كلاماً طويلاً منقولاً بنصه من الحجة كما قال د/ محمد الفايز، وانظر: "الحجة" 4/ 54. (¬6) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬7) لم أقف على قول المفضل. (¬8) البيت من الطويل وهو لذي الرمة في "ديوانه" ص 275، وانظره منسوبًا إليه في "مجاز القرآن" 2/ 168. والدخور هو التواضع، والمخيش: السجن، والمنحجر الداخل في الحجر. انظر: "الدر" بتحقيق الخراط 7/ 233. (¬9) "مجاز القرآن" 2/ 168.

19

وذكرنا تفسير هذا عند قوله: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48] (¬1). 19 - ثم ذكر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة، وذلك قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} [وهي ضمير على أن شريطة التفسير] (¬2) وقد مضت هذه المسألة، والمعنى وإنها قصة البعث زجرة واحدة. قال مقاتل: يعني صيحة واحدة من إسرافيل (¬3). وقال ابن عباس: يريد نفخة البعث (¬4). ومعنى الزجر في اللغة الصيحة التي يزجر بها، كالزجرة بالغنم وبالإبل (¬5) عند الحث، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة وإن لم يكن فيها معنى الزجر عن الشيء كالتي في هذه الآية (¬6). قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} قال مقاتل: ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به (¬7). وقال الكلبي: إذا سمعوا بالصيحة الآخرة زجروا من قبورهم فاستووا على ظهر الأرض قيامًا ينظرون (¬8) ما يؤمرون به. قال أبو إسحاق: (أي يبعثون بصراء ينظرون)، فلما عاينوا البعث ¬

_ (¬1) قال هناك: داخرون أي صاغرون هذا لفظ المفسرين، يقال دخر يدخر دخورًا أي صغر يصغر صغاراً، وهو الذي يفعل ما يؤمر به شاء أم أبى. (¬2) هذه الجملة يظهر لي والله أعلم أنها مدرجة وأنها خطأ ووهم من النساخ. (¬3) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 374 بهامش المصحف. (¬5) في (ب): (والإبل). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 602، "اللسان" 4/ 318 (زجر). (¬7) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬8) لم أقف عليه عند الكلبي، وانظر: "القرطبي" 15/ 72.

20

ذكروا قول الرسل في الدنيا أن البعث حق فدعوا بالويل. 20 - {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا} قال (¬1): من العذاب {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} يعني يوم الحساب والجزاء، قاله الكلبي ومقاتل وعطاء (¬2). وقال أبو إسحاق: يوم نجازى فيه بأعمالنا (¬3). 21 - قال مقاتل: (فردت عليهم الملائكة فقالوا: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} يعني يوم القضاء. {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} بأنه غير كائن) (¬4)، ونحو هذا قال الكلبي (¬5). فيقال لهم: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ}. وقال ابن عباس: يريد اليوم الذي يفصل بين العباد (¬6). وقال أبو إسحاق: هذا يوم الفصل فيه بين المحسن والمسيء ويجازى كل بعمله (¬7). 22 - قوله تعالى: {احْشُرُوا} أي: يقال في ذلك اليوم {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال ابن عباس: الذين أشركوا من بني آدم (¬8). وقوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ} أكثر المفسرين على أن المراد بالأزواج هاهنا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 301. (¬2) "تفسير مقاتل" 110 أ، ولم أقف عليه عند الكلبي وعطاء، وانظر: "الماوردي" 5/ 42، "زاد المسير" 7/ 52. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 301. (¬4) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬5) لم أقف على قول الكلبي، وقد ذكره القرطبي 15/ 72 ولم ينسبه، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 52. (¬6) "تفسير ابن عباس" ص 374 بهامش المصحف. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 301. (¬8) انظر: "تفسير ابن عباس" ص 374 بهامش المصحف، وذكر القول ولم ينسبه البغوي 4/ 25، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 52.

الأمثال والأشباه والضرباء وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس وابن زيد وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والشعبي، قالوا هؤلاء كلهم: أمثالهم وأشباههم وأشياعهم وأتباعهم وضرباؤهم (¬1). ونحو ذلك قال الكلبي (¬2). كل من عمل مثل عملهم وهو من قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} أي أشكالاً وأشباهًا، وهذا القول اختيار أبي إسحاق قال: (المعنى ونظراؤهم وضرباؤهم، تقول عندي من هذا أزواج أي أمثال، وكذلك زوجان من الجفاف، أي كل واحد نظير صاحبه، وكذلك الزوج المرأة والزوج الرجل، قد تناسبا بعقد النكاح وكذلك قوله: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58] انتهى كلامه) (¬3)، وعلى هذا يجب أن يكون المراد بالذين ظلموا الرؤساء والقادة, لأنك إذا جعلت الذين ظلموا عامًا في كل من أشرك لم يكن للأزواج معنى. وقال ابن عباس (¬4) في رواية عطاء: {وَأَزْوَاجَهُمْ} قرناؤهم من الشياطين، وهو قول مقاتل (¬5). قال: يعني الشياطين الذين أضلوهم، وكل كافر مع شيطان في سلسلة واحدة، وقال الحسن (¬6): {وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: يعني ضرباؤهم من الجن. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 148، "الطبري" 23/ 46، الثعلبي 3/ 240/ ب، "الماوردي" 5/ 43، "زاد المسير" 7/ 52. (¬2) لم أقف عليه عن الكلبي، وانظر: المصادر السابقة. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 301. (¬4) "تفسير ابن عباس" ص 375 بهامش المصحف. وانظر: "الماوردي" 5/ 43. (¬5) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬6) لم أقف عليه عن الحسن، ونسبه أكثر المفسرين للضحاك ومقاتل. وانظر: "البغوي" 4/ 25، "القرطبي" 15/ 73، "زاد المسير" 7/ 52.

23

قوله - عز وجل -: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل: يعني إبليس وجنده (¬1) واحتج بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]. 23 - قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} قال ابن عباس: دلوهم (¬2). وهو اختيار المفضل (¬3) قال: المعنى اذهبوا بهم. قال أهل المعاني: وإنما استعملت الهداية هاهنا لأنه جعل الهداية إلى الجنة كما قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، التوبة: 31، الانشقاق: 24]. فوقعت البشارة بالعذاب لهؤلاء بدل البشارة بالنعيم لأولئك (¬4). وروي عن ابن عباس في قوله: {فَاهْدُوهُمْ} فسوقوهم (¬5). وقال مقاتل والكلبي والضحاك (¬6): فادعوهم، وهو معنى وليس بتفسير. وقال ابن كيسان: قدموهم (¬7) وهودوهم؛ لأنه يقال هذا إذا تقدم، ومنه الهادية والهوادي وهاديات الوحش، ولا يقال هدى بمعنى قدم. 24 - قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ} يقال: وقفت الدابة أقفها وقفاً فوقفت ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 110 أ. (¬2) "تفسير ابن عباس" ص 374 بهامش المصحف. وانظر: "البغوي" 4/ 25. (¬3) لم أقف على اختيار المفضل. (¬4) لم أقف عليه عند أهل المعانى، وقد ذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 688. (¬5) أورده السيوطي في "الدر" 7/ 84، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. قلت: ولم أقف عليه عند ابن جرير. (¬6) "تفسير مقاتل" 110 أ، ولم أقف عليه عن الكلبي والضحاك، وأورده الماوردي 5/ 43، ونسبه للسدي. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 240 ب، "البغوي" 4/ 25.

هي وقوفًا (¬1). قال الزجاج (¬2): احبسوهم. وقال الكلبي: وقفوا قبل ذلك وحوسبوا حين قدموا على الله (¬3). يعني أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، والأمر بوقفهم يكون قبل الأمر بسوقهم إلى صراط الجحيم، روي عن ابن عباس أنه قال: وقفوا قبل ذلك. قال المفضل (¬4): يجوز أن يكون التقديم والتأخير: قفوهم واهدوهم. وقال مقاتل: فلما سيقوا إلى النار حبسوا (¬5). وعلى هذا الحبس كان (¬6) بعد السوق والكلام على وجهه ونظمه، كأنه قيل: واهدوهم إلى صراط الجحيم، فإذا انتهوا إلى الصراط قبل وقفوهم (¬7) للسؤال على الصراط. {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} قال ابن عباس: عن أعمالهم في الدنيا وأقاويلهم (¬8). وقال مقاتل (¬9): سألتهم خزنة جهنم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬10) [الزمر: 71]، ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد وهو ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 333 (وقف)، "مقاييس اللغة" ص 1101 (وقف). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 302. (¬3) انظر: "القرطبي" 15/ 74. (¬4) لم أقف على قول المفضل. (¬5) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬6) في (أ): (كانوا)، وهو خطأ. (¬7) في (أ): (وقفوهم السؤال)، وهو خطأ. (¬8) انظر: "البغوي" 4/ 25، "القرطبي" 15/ 74، "زاد المسير" 7/ 53. (¬9) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬10) قوله: (ألم يأتكم رسل منكم) غير مثبت في (أ)، وعدم إثباته خطأ.

26

قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} أي: أنهم مسؤولون توبيخًا لهم فيقال: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} (¬1) أي: لا تتناصرون. قال ابن عباس: لا ينصر بعضكم بعضًا كما كنتم في الدنيا، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم ذلك اليوم: ما لكم غير متناصرين (¬2). وقال مقاتل (¬3): يقول للكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب. 26 - قال الله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع. قال أبو عبيدة: والمستسلم الذي يعطى بيده (¬4). وقال الكسائي (¬5): ملقون بأيديهم. وقال المفضل (¬6): أذلاء منقادون لا حيلة لهم في أنفسهم، لا العابد ولا المعبود. وقال ابن عباس: ألقوا بأيديهم وضلت حجتهم (¬7). وقال أبو صالح: استسلم العابد والمعبود عند ذلك وعرفوا أنه الحق (¬8). ومعنى استسلم: طلب السلامة بترك المنازعة. ¬

_ (¬1) سقط من (أ) قوله: (لا). (¬2) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 3/ 240 ب، "البغوي" 4/ 25، "القرطبي" 15/ 74. (¬3) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬4) "مجاز القرآن" 12/ 68. (¬5) لم أقف على قول الكسائي. وأورده الشوكاني في "فتح القدير" 4/ 379 ونسبه للأخفش. (¬6) لم أقف على قول المفضل. وأورده الشوكاني في "فتح القدير" 4/ 379 ولم ينسبه. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس. وأورده الطبرسي 8/ 689، ولم ينسبه. (¬8) لم أقف عليه عن أبي صالح.

27

27 - قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس: يريدهم والشياطين (¬1)، وقيل الرؤساء والأتباع (¬2). وقوله: {يَتَسَاءَلُونَ} أي يسأل بعضهم بعضًا، قال مقاتل (¬3) والكلبي (¬4): يتكلمون فيما بينهم أي يختصمون، وهذا التساؤل عبارة عن التخاصم والتكلم، وهو سؤال التأنيب. يقولون: غررتمونا. وتقول أولئك لهم: قبلتم منا. وقال في موضع آخر: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} [القلم: 30]، وهذا التساؤل متضمن لمعنى التلاوم وليس ذلك تساؤل المستفهمين، بل هو تساؤل التوبيخ فهو نفس التلاوم. 28 - ثم ذكر ذلك التخاصم والتلاوم وهو قوله: {قَالُوا} أي الكفار للشياطين أو الأتباع للرؤساء: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}، قال ابن عباس (¬5): يريد من قبل الحق، وهو لفظ مقاتل (¬6). وقال الكلبي (¬7): يقول تأتوننا من قبل الدين فتزينون لنا ضلالتنا التي كنا عليها، ونحو ذلك قال الضحاك (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" ص 375 بهامش المصحف. (¬2) ذكره الماوردي 5/ 45، ولم ينسبه، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 54. (¬3) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬4) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد ذكره الماوردي 5/ 45 عن ابن عباس، وذكره البغوي 4/ 26 غير منسوب لأحد. (¬5) انظر: "القرطبي" 15/ 75، وذكره الماوردي 5/ 46، ونسبه لمجاهد. (¬6) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬7) انظر: "الماوردي" 5/ 45. (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 241 أ، "البغوي" 4/ 26، "زاد المسير" 7/ 54.

وقال قتادة: كنتم تفتنوننا عن طاعة الله (¬1). قال الفراء: (يقول: كنتم تأتوننا من قبل الدين، أي تخدعوننا بأقوى الوجوه، واليمين القدرة والقوة، قال الشماخ: تلقاها عرابة باليمين (¬2) قال: يريد القدرة (¬3) والقوة) (¬4). وقال أبو إسحاق: (أي كنتم تأتوننا من قبل الدين فتروننا أن الدين والحق ما تعلنوننا به) (¬5). فاليمين على ما ذكروا عبارة عن الحق والدين، غير أن قول أبي إسحاق غير قول الآخرين؛ لأن معنى قوله: كنتم تزينون لنا الدين الذي كنتم عليه وهو الكفر. ومعنى قول الآخرين: كنتم تمنعوننا بإضلالكم عن الدين الذي هو الحق. وشرح ابن قتيبة قول المفسرين في هذه الآية فقال: (يقول المشركون لقرنائهم من الشياطين: إنكم كنتم تأتوننا عن أيماننا لأن إبليس قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 148، "الطبري" 23/ 49، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 86، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬2) هذا عجز بيت من الوافر وصدره: إذا ما راية رفعت لمجد للشماخ في "ديوانه" ص 336، "معاني القرآن" للفراء 2/ 385، "تهذيب اللغة" 8/ 221 - 15/ 523، "اللسان" 13/ 461. (¬3) في (أ): (القوة والقدرة). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 384. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 302.

فشياطينه (¬1) تأتيهم من كل جهة من هذه الجهات، يعني التأكيد والإضلال، قال المفسرون: فمن أتاه الشيطان من قبل الشمال أتاه من قبل الشهوات، ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب، ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف من بعده، فلم يصل رحمًا ولم يؤد زكاة. فقال (¬2) المشركون لقرنائهم: إنكم كنتم تأتوننا في الدنيا من جهة الدين فتشبِّهون علينا فيه حتى أضللتمونا) (¬3). وقال أبو القاسم (¬4) الزجاجي: أجود ما قيل في هذا أنه من قول العرب: فلان عندي باليمين، أي بالمنزلة الحسنة، وفلان عندي بالشمال أي بالمنزلة الخسيسة الدنية (¬5). فقال هؤلاء الكفار [لأئمتهم] (¬6) الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر: إنكم كنتم تخدعوننا وترونا (¬7) أننا عندكم بمنزلة اليمين، أي بالمنزلة الحسنة، فوثقنا بكم وقبلنا عنكم، أي أتيتمونا من ذلك الجانب. قال: وقال بعض أصحابنا وهو قول قوي: إن أئمة المشركين كانوا قد أخافوا (¬8) لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق، فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم التي عهدوها. فمعنى قوله: {كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ وفي "تأويل المشكل" لابن قتيبة (فشياطينهم)، وهو الصواب. (¬2) في (ب): (قال) سقطت الفاء. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 348. (¬4) في (ب): (أبو الغنيم)، وهو خطأ. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬7) في (ب): (وتروننا). (¬8) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: (قالوا).

30

الْيَمِينِ} أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا، فقال لهم قرباؤهم: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي: لم تكونوا على حق فنشبهه عليكم ونزيلكم عنه إلى باطل، أي ما كنتم مؤمنين فرددناكم عن الإيمان, أي إنما الكفر من قبلكم. 30 - {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي من قدرة فنقهركم ونجبركم. وقال مقاتل: يعني من ملك فنكرهكم على مبايعتنا (¬1). {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} قال ابن عباس: ضالين (¬2). 31 - وقال الكلبي: فوجب علينا جميعًا قول ربنا بالسخط (¬3). وقال مقاتل (¬4): يعني قول الله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقال أبو إسحاق: أي حقت علينا كلمة العذاب (¬5). قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو} أي العذاب الأليم، قاله ابن عباس (¬6) ومقاتل والكلبي. وقال أبو إسحاق: أي أن الجماعة المضل والضال (¬7) في النار (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "القرطبي" 15/ 75، "زاد المسير" 7/ 55، "مجمع البيان" 8/ 689. (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر المصادر السابقة. (¬4) "تفسير مقاتل" 110ب. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 302. (¬6) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 375، ولم أقف على هذا القول منسوبًا لمقاتل والكلبي. انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 241 ب، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 23. (¬7) في (ب): (الضال والمضل). (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 302.

32

32 - قوله تعالى: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} قال ابن عباس ومقاتل: فأضللناكم عن الهدى (¬1). وقال الكلبي: دعوناكم (¬2) إلى ما كنا عليه فأضللناكم (¬3). وقال عبد الله بن مسلم: أي بالدعاء والوسوسة. ومثله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] الآية) (¬4). 33 - يقول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ} قال ابن عباس ومقاتل (¬5): يريد الشياطين والإنس. وقال الكلبي: هم والذين أطاعوهم في الضلالة شركاء (¬6) في النار. 34 - 37 - {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: يريد المشركين الذين جعلوا لله أنداداً وشركاء (¬7)، وهو قول الكلبي (¬8) وعامة المفسرين، أن المراد بالمجرمين هاهنا المشركين (¬9) خاصة، يدل عليه قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}، قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 110 ب، "تفسير ابن عباس" ص 375، وانظر القول غير منسوب في: "بحر العلوم" 3/ 114،"البغوي" 4/ 26، "زاد المسير" 7/ 55. (¬2) في (ب): (دعويناكم). (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "زاد المسير" 7/ 55. "مجمع البيان" 8/ 690. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 349. (¬5) "تفسير مقاتل" 110 ب، ولم أقف عليه عن ابن عباس وذكره أكثر المفسرين. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 114، "البغوي" 4/ 26، "القرطبي" 15/ 75. (¬6) أورده الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 690 غير منسوب لأحد. (¬7) انظر: "البغوي" 4/ 26، "مجمع البيان" 8/ 690. (¬8) لم أقف عليه عن الكلبي. (¬9) في (أ): (المشركون)، وهو خطأ.

يريد لا يقولونها (¬1). وقال مقاتل: يعني يتكبرون عن الهدى (¬2). وقال أبو إسحاق: يستكبرون عن توحيد الله -عز وجل- (¬3). وفي الآية إضمار على تقدير: إذا قال لهم قولوا لا إله إلا الله. قال مقاتل: وذلك أن الملأ من قريش اجتمعوا عند أبي طالب فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: "قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم"، فأبوا وقالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا}، أي: نترك (¬4) عبادتها لهذا الشاعر المجنون، يعنون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فكذبهم الله ورد عليهم بقوله: {بَلْ} أي ليس الأمر كما قالوا {جَاءَ} محمد -صلى الله عليه وسلم- {بِالْحَقِّ} قال الكلبي: بالقرآن (¬5). وقال مقاتل: بالتوحيد (¬6). {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} قال ابن عباس: يريد الذين كانوا قبله (¬7). والمعنى أنه أتى بما أتوا به من التوحيد فهو موافق لهم. {إِنَّكُمْ} قال الكلبي يعني العابد والمعبود (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 114، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 23. (¬2) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 302. (¬4) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬5) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 114، "القرطبي" 15/ 76، "زاد المسير" 7/ 55. (¬6) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬7) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 375. وانظر: المصادر السابقة. (¬8) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 114.

40

{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا} أي إلا بما {كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: بما تجزون في الآخرة إلا بما كنتم تعملون في الدنيا من الشرك. 40 - قال مقاتل: ثم (¬1) استثنى فقال: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، قال عطاء والكلبي عن ابن عباس: هم الموحدون (¬2)، أهل لا إله إلا الله، وهم الذين استخلصهم الله لنفسه. 41 - {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} قال الكلبي: مقدار غدوة وعشية (¬3)، وليس ثم بكرة وعشية يدل على هذا قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]، وقال مقاتل: يعني بالمعلوم حين يشتهونه (¬4). وقال قتادة: الرزق المعلوم الجنة (¬5). وقال غيره: رزق معلوم أي بعلم الله. 42 - ثم بين الرزق فقال {فَوَاكِهُ} وهذا يوجب أن يكون الرزق المعلوم الفواكه؛ لأنه فسره بها، والفواكه جمع الفاكهة، وهي الثمار كلها رطبها ويابسها، وتفكه إذا أكل الفاكهة، وفكهت أي أطعمتهم الفاكهة (¬6). وقال بعض أهل المعاني: الفاكهة طعام يؤكل للذة لا للقوت (¬7)، والفاكه الذي كثرت فاكهه. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 110/ ب. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس. انظر: "بحر العلوم" 3/ 114، "البغوي" 4/ 27، "زاد المسير" 7/ 55. (¬3) انظر: "القرطبي" 15/ 77، "زاد المسير" 7/ 56. (¬4) "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 52، "القرطبي" 15/ 77، "زاد المسير" 7/ 55. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 25 (فكه)، "اللسان" 13/ 523 (فكه). (¬7) في (ب): (لا لقوت)، وهو خطأ.

45

45 - قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} قال أبو عبيدة: الكأس الإناء بما فيه (¬1). وقال أبو إسحاق: (الكأس الإناء إذا كان فيه خمر، ويقع الكأس لكل إناء مع شرابه) (¬2). والمفسرون فسروا الكأس بالخمر، وهو قول عطاء والكلبي ومقاتل (¬3). وقال الضحاك: كل كأس في القرآن إنما عني به الخمر (¬4). وهذا منهم توسع، وذلك أنهم لما كان المراد بإدارة الكأس إدارة ما فيه لا الإناء فسروه بما هو المراد. وقوله: {مِنْ مَعِينٍ} مضى الكلام مستقصى في تفسير المعين عند قوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] (¬5). قال الكلبي (¬6): يطوف عليهم خدمهم بخمر بيضاء من معين، والمعين الظاهر. وقال مقاتل: من معين يعني الجاري (¬7). وفي المعين قولان: أحدهما (¬8): أنه الظاهر الذي تراه العيون. والثاني: أنه الجاري السايح وقد ذكرناهما. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 169. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 303. (¬3) لم أقف عليه عن عطاء والكلبي، وانظر: "تفسير مقاتل" 110 ب. (¬4) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 471، "القرطبي" 15/ 77، "زاد المسير" 7/ 56. (¬5) قال: قال ابن عباس في رواية عكرمة يعني أنهار دمشق، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: المعين الماء، وروى جابر عنه أنه الماء الجاري وهو قول مقاتل. (¬6) لم أقف على قول الكلبي. (¬7) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬8) في (أ): (أحدها).

46

46 - وقوله: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن (¬1). وقوله: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} يجوز أن يكون اللذة مصدراً سمي به. قال الليث: (اللذ واللذيذ يجريان مجرىً واحداً في النعت، يقال شراب لذ ولذيذ) (¬2). قال الله تعالى: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، وقال تعالى: {مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15]، وبذلك سمي النوم (¬3) الاستلذاذة، وعلى هذا لذة بمعنى اللذيذة. وقال أبو إسحاق: أي ذات لذة (¬4). فعلى هذا حذف المضاف. 47 - قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول (¬5) سواء. وقال أبو عبيدة: (الغول أن تغتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس (¬6): وما زالت الكأس تغتالهم ... وتذهب بالأول الأول (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 6/ 24، "البغوي" 4/ 27، "مجمع البيان" 8/ 692. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 409 (لذَّ). (¬3) في (أ): زيادة (إلى)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 303 (¬5) "معاني القرآن" 2/ 385. (¬6) هو: مطيع بن إياس الكناني من بني ليث بن بكر وقيل من بني الديل بن بكر، يكنى أبا مسلم، شاعر ظريف حلو العشرة، مليح النادرة، وكان متهمًا بالزندقة، أدرك الدولتين الأموية والعباسية، ولاه المهدي العباسي الصدقات بالبصرة ومات فيها. انظر: "معجم الشعراء" ص 480، "خزانة الأدب" 10/ 223، "سمط اللآلئ" ص 600، "الأعلام" 11/ 509 (غول)، "الدر المصون" 5/ 552، "البحر المحيط" 7/ 350. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 169.

وقال ابن قتيبة: أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، يقال الخمر غول للعلم، والحرب غول للنفوس (¬1)، وغالني هؤلاء أي أذهبني. وقال الليث: الغول الصداع يقال ليس فيها صداع (¬2)، هذا كلام أهل اللغة في الغول، وحقيقة الإغلال (¬3). يقال غاله غولاً أي أهلكه، والغول والغائلة المهلكة، ثم يسمى الوجع غولًا لأنه يؤدي إلى الهلاك (¬4). وأكثر المفسرين قالوا في الغول: إنه الوجع في البطن والرأس، وهو قول مجاهد وقتادة قالوا: لا يوجع (¬5). وقال مقاتل: لا يوجع الرأس كفعل خمر (¬6) الدنيا (¬7). وهو قول الحسن قال: غول صداع (¬8). وقال الشعبي: لا يغتال عقولهم فيذهب بها (¬9). وذكر أبو إسحاق القولين جميعاً في الغول فقال: لا تغتال عقولهم ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" ص370. (¬2) لم أقف على القول منسوبًا لليث. وانظر: "تهذيب اللغة" 8/ 192،"اللسان" 11/ 509 (غول). (¬3) في (أ): (الإهلاك)، وهو تصحيف، وهكذا أثبت في (ب)، ولعله تصحيف أيضًا والصواب (الغول). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 192 (غول). (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" ص 541، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 148، "تفسير الطبري" 23/ 54. (¬6) في (ب): (كفعل الخمر في الدنيا). (¬7) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 241 ب، "البغوي" 4/ 27، "القرطبي" 15/ 79. (¬9) انظر: المصادر السابقة.

ولا يصيبهم منها وجع (¬1). قوله: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} وقرئ بكسر الزاي. قال الفراء: (من كسر الزاي فله معنيان، يقال أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر. ومن فتح الزاي فمعناه: لا تذهب عقولهم أي لا يسكرون، يقال نزف الرجل فهو منزوف (¬2) ونزيف). ونحو هذا قال أبو إسحاق في من فتح، وقال في قراءة من كسر الزاي لا يُنفِدون شرابهم وهو دائم أبدًا لهم قال: ويجوز أن يكون يُنزفون يسكرون، وأنشد هو وأبو عبيدة وغيرهما فقال: لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا (¬3) (¬4) وحقق أبو علي الكلام في هذه الآية فقال: (أنزف الرجل على معنيين: أحدهما: أنه يراد به السكر، وأنشد البيت وقال: ومقابلته له بصحوتم يدل على أنه يراد به سكرتم، والآخر: أنزف إذا نفد شرابه والمعنى: صار ذا نفادٍ لشرابه، كما أن الأول معناه النفاد في عقله، فقول من كسر الزاي يجوز أن يراد به لا يسكرون عن شربها، ويجوز أن يراد به لا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 303. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 385. (¬3) في (ب): (آل بجرا). (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 303، "مجاز القرآن" 2/ 169. والبيت من الطويل مختلف في نسبته فهو للأبيرد والرياحي في "مجاز القرآن" 2/ 269، "الصحاح" 4/ 1431 (نزف)، "اللسان" 9/ 327 (نزف)، "المحرر الوجيز" 4/ 472. وللحطيئة في "تفسير الثعلبي" 3/ 241 أ، والقرطبي 15/ 79. وللأسود في "الدر المصون" 5/ 501. وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 13/ 226، "علل القراءات" 2/ 318، "المحتسب" 2/ 308.

ينفد ذلك عنهم كما ينفد شراب أهل الدنيا، فإذا كان معنى لا ينفد شرابهم لأنك إن حملته على أنهم لا يسكرون صرت كأنك كررت لا يسكرون مرتين؛ وإن جعلت لا فيها غول على لا (¬1) تغتال صحتهم ولا يصيبهم عنها العلل التي تحدث عن شربها حملت ينزفون على أنهم لا يسكرون، وعلى أنهم لا ينفد شرابهم، ومن فتح الزاي أراد لا يسكرون من نزف فهو منزوف إذا سكر، وليس من أفعل، ألا ترى أن أنزف بالمعنيين جميعًا لا يتعدى إلى المفعول به، فإذا لم يتعد إلى المفعول به لم يجز أن يبنى له) (¬2) انتهى كلامه. وأصل النزف في اللغة الاستخراج، يقال نزفتُ البئر إذا استقيتُ ماءها، ونزف فلان دمه إذا استخرجه بحجامة أو فصد وهذا هو الأصل، ونزف الرجل إذا سكر معناه استخرج عقله، وأنزف إذا سكر أي صار إلى حالة نزف العقل عنه، وأنزف إذا نفد شرابه معناه أنه صار إلى حالة نفاد الشراب بنزفه وإنفاده (¬3). واختار أبو عبيد كسر الزاي لاحتمال المعنيين (¬4). وأما المفسرون فإنهم فسروا لا ينزفون لا يسكرون ولا تذهب عقولهم، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي ومقاتل (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (ألا)، وهو خطأ. (¬2) "الحجة" 6/ 54 - 55. (¬3) انظر: "مقاليس اللغة" ص 1022 (نزف)، "تهذيب اللغة" 13/ 225 (نزف)، "اللسان" 9/ 325 (نزف). (¬4) لم أقف على اختيار أبي عبيد. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" ص 540، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 148، "الطبري" 23/ 55، "تفسير مقاتل" 111 أ، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 24، ولم أقف عليه عن الكلبي.

48

48 - قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} معني القصر في اللغة الحبس. قال الزجاج والمبرد وابن قتيبة: أي قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يرون غيرهم ولا يطمحن إلى غيرهم (¬1). وهذا كقوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص: 52] وأنشد لامرئ القيس (¬2): من القاصرات الطرف لو دب مُحوِلٌ. ومنه قوله تعالى: {مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] أي محبوسات. والطرف إطباق الجفن على الجفن. وقال الليث: (الطرف تحريك الجفون في النظر يقال شخص بصره فيما يطرف) (¬3). والمعنى أنهن يحبسن نظرهن فلا ينظرن إلى غير أزواجهن. وقال أبو عبيدة: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} راضيات (¬4). وهذا معنى وليس بتفسير، يعني أنهن رضين بأزواجهن حيث لم يطمحن إلى غيرهم. والمفسرون قالوا في قاصرات الطرف نحو ما ذكرنا من قول أهل المعاني. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 304، "تفسير غريب القرآن" ص 371، ولم أقف على قول المبرد. (¬2) هذا صدر بيت من الطويل، وعجزه: من الذر فوق الإتب منها لأثرا لامرئ القيس في "ديوانه" ص 68، وانظره منسوبًا له في القرطبي 15/ 80، "الدر المصون" 5/ 502، 6/ 556. "الماوردي" 5/ 48، "مقاييس اللغة" 1/ 53، "لسان العرب" 5/ 99 (قصر)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 8/ 359: ومعنى البيت أنه يصف امرأة بأنها ممن قصَّرت أعينهن عن النظر إلى من ليس لها من الرجال، والمحول من الذر هو الصغير جدًا منه، والإِتب هو القميص غير المخيط الجانبين الذي كانت تلبسه لأثر في جسمها وهذا نهاية الرقة واللطف. "شرح ديوان امرئ القيس" ص 91. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 320 (طرف). (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 169.

49

وقوله: {عِينٌ} قال أبو إسحاق: كبار الأعين حسانها. واحدها عيناء (¬1). وقال الكلبي ومقاتل: حسان (¬2) الأعين. 49 - قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} المكنون معناه في اللغة: المستور، يقال كننت الشيء وأكننته وقد سبق (¬3) الكلام فيه. وقال أبو عبيدة: (المكنون المصون وكل لؤلؤ أو بيض أو متاع صنته فهو مكنون) (¬4). قال أبو إسحاق: (يقال كننت الشيء إذا سترته وصنته فهو مكنون) (¬5). قال الحسن وابن زيد: شبههن ببيض النعام يكنها بالريش من الريح والغبار (¬6). وقال الكلبي: كأنهن بيض قد خبئ من الحر والقر (¬7). وذكر قوم من المفسرين في هذا التشبيه ما لا يصح ولا يكون له وجه من حيث اللفظ ما ذكره الحسن وابن زيد. قال أبو إسحاق: أي كأن ألوانهن ألوان بيض النعام يكنه ريش النعام (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 304. (¬2) "تفسير مقاتل" 111 أ، ولم أقف عليه عن الكلبي. (¬3) عند قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 170. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 304. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 75، "الماوردي" 5/ 48، "القرطبي" 15/ 80، "زاد المسير" 7/ 58. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي، وهو في "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 375. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 304.

وقال المبرد: العرب تشبه المرأة الناعمة في ضيائها وحسنها وصفوة النعمة عليها ببيضة. قال الراعي: كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليلةٌ ومِدُ (¬1) وقال ابن الرقيات: واوضح لونها كبيضة ادحى ... لها في النساء خلق عميم وقال أبو داود (¬2): ممكورة تجلوا الظلام ركلةٍ ... ريا العظام كبيضة النغص (¬3) وقال آخر (¬4): وهتكت بني الليل عن ... بيض السوالف والصفاح فكأنما ضحكت سجو ... ف الربط عن بيض الأداحي ¬

_ (¬1) البيت من "البسيط"، وهو للراعي في "ديوانه" ص 55، "تهذيب اللغة" 14/ 218، "اللسان" 3/ 470، "الكامل" 2/ 767. والملاحف هي الأغطية. والوقدُ هو ندًى يجيء في صميم الحر من قبل البحر مع سكون الريح. وقيل هو الحر أيًّا كان مع سكون الريح. انظر: "الكامل" 2/ 767. (¬2) أبو داود لم أستطع تحديده وهناك أكثر من شاعر يكنى أبا داود: أ- أبو داود الإيادي، وهو جويرية بن الحجاج وقيل جارية- تقدمت ترجمته. ب - أبو داود الرواس زيد بن معاوية بن عمرو بن قيس بن رواس بن كلاب شاعر فارس. انظر: "المؤتلف والمختلف" ص 116. أما البيت فلم أقف عليه. (¬3) علق في هامش كلا النسختين: (والنفص: النعام). (¬4) نسب البيتين لعبد الصمد بن المعذل، ورواية الصدر في الأول: وهتكن بني الليل عني والسوالف أعلى العنق. والشجف هو السِّتر ولا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط. "اللسان" 9/ 144 (سجف)، "اللسان" 9/ 159 (سلف).

وقال امرؤ القيس (¬1): صادت فؤادك بالدلال جريرة ... صفراء رادعة عليها اللؤلؤ كعقيلة الأدحى بات يحفها ... ريش النعام وزال عنها الجؤجؤ أراد بعقيلة الأدحى: بيض النعام. وعلى هذا المعنى حمل [قول] (¬2) الكندي (¬3): وبيضة خدر لا يرام خباؤها وقال ابن زيد في هذه الآية: البيض بيض النعام أكنة الريش، فلونه أبيض في صفرة (¬4). قالوا: وهذه أحسن ألوان النساء أن تكون بيضاء مشربة صفرة. وقال سعيد بن جبير والسدي: إن الله تعالى شبههن ببطن البيض قبل أن تمسه الأيدي (¬5)، وليس بالوجه. قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني أهل الجنة. {يَتَسَاءَلُونَ} قال مقاتل: يعني يتكلمون يكلم بعضهم (¬6) بعضًا. وقال الكلبي: يتحدثون في الجنة عن أهل الدنيا (¬7). والمعنى يسأل هذا ذاك وذاك هذا عن أحوال كانت في الدنيا. يدل عليه ما ذكر الله -عز وجل- عن ¬

_ (¬1) البيتان من الكامل وهما لامرئ القيس ولم أقف عليهما في "ديوانه". (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في (ب). (¬3) لم أهتدِ إليه ولم أقف على بيته. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 57، "مجمع البيان" 8/ 692، "زاد المسير" 7/ 58. (¬5) انظر: " الماوردي" 5/ 48، "القرطبي" 15/ 80، "زاد المسير" 7/ 58. (¬6) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي وذكر هذا القول غير منسوب القرطبي في "تفسيره" 15/ 83، ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 59.

بعضهم أنه أخبر عن حال قرينه [معه] (¬1) كيف كانت في الدنيا وهو قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} يعني أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} (¬2) يعني أخًا كان له في الدنيا ينكر البعث وهو قوله: {يَقُولُ} أي يقول لي: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بالبعث. والمفسرون مختلفون في هذين فمنهم من قال: كانا أخوين وهو قول مقاتل والكلبي (¬3). ومنهم من قال: كانا شريكين، وهو قول عطاء والسدي (¬4)، وقد قص الله قصتهما في سورة الكهف وهو قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} (¬5) الآيات. قال صاحب النظم: قوله: {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} يقتضي مفعولًا للتصديق فلم [..] (¬6) حتى قال: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} وهذا أيضًا يقتضى جواباً فلما قال: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} كان هذا جواباً لهما على تأويل أئنك لمن المصدقين، إنا لمدينون، فيكون موضع (إنا) نصبًا وكسرت ألفها لدخول اللام في خبر إن، وهذا الذي ذكره يصح على قراءة من قرأ إنا لمدينون بغير [ألف] (¬7) استفهام، فأما من قرأ بالاستفهام فمفعول التصديق ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير مثبت في (ب). (¬2) في (ب): (إنه) بدلاً من (إني)، وهو خطأ. (¬3) "تفسير مقاتل" 111 أ. انظر: "القرطبي" 10/ 399، "الماوردي" 3/ 305. (¬4) انظر: "القرطبي" 10/ 400، وأورده السيوطي في، "الدر" 7/ 90، عزاه لعبد الرزاق وابن المنذر عن عطاء، ولابن أبي حاتم عن السدي. (¬5) آية 32، وما بعدها. (¬6) في جميع النسخ مقدار كلمة غير واضحة، ويمكن تقدير المحذوف بنحو (يذكره). (¬7) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ).

54

مضمر على تقدير أئنك لمن المصدقين بالبعث (¬1)، ودل عليه ما ذكر بعده من إنكاره البعث. قال أبو إسحاق: المعنى: كان لي قرين يقول أئنك ممن يصدق بالبعث بعد أن نصير ترابًا وعظامًا (¬2)، وهو قوله: {أَإِذَا مِتْنَا} الآية. قوله: {لَمَدِينُونَ} أي مجزيون ومحاسبون قاله المفسرون (¬3). ومضى الكلام في الدين (¬4). 54 - قال مقاتل: ثم قال المؤمن لإخوانه في الجنة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} إلى النار لينظر كيف (¬5) منزلة أخيه، ونحو هذا قال الكلبي (¬6). وروى عطاء عن ابن عباس قال: تقول الملائكة (¬7): {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}. والظاهر هو القول الأول، وهو أن قوله: {قَالَ} إخبار عن المؤمن الذي قص خبره مع القرين. واطَّلع افتعل من الطلوع، يقال أطلعته على الأمر فاطَّلع عليه أي أشرف. ¬

_ (¬1) انظر: "المبسوط في القراءات العشر" ص 316، "إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي" ص 385. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 304. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 60، "بحر العلوم" 3/ 115، "الماوردي" 5/ 49، "البغوي" 3/ 28. (¬4) مضى عند تفسير المؤلف رحمه الله للفاتحة قال المؤلف رحمه الله هناك: قوله تعالى: {الدِّينِ} قال الضحاك وقتادة: الدين الجزاء، يعني يوم يدين الله العباد بأعمالهم، تقول العرب: دنته بما فعل أي جازيته ومنه قوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}. (¬5) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬6) انظر: "مجمع البيان" 8/ 694. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره القرطبي ولم ينسبه 15/ 82.

55

قال كعب (¬1): إن بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا اطَّلع من بعض تلك الكوى. ونحو هذا قال مقاتل (¬2). وقال قتادة (¬3): بلغنا أنه سأل ربه أن يطلعه. 55 - قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ} قال مقاتل: أنه لما قال لأهل الجنة هل أنتم مطلعون، قالوا له إنك أعرف به منا، فاطَّلع أنت فاطَّلع فرأى أخاه في سواء الجحيم (¬4). قال ابن عباس والجماعة: في وسط الجحيم (¬5). قال أبو عبيدة: (سمعت عيسى بن عمر يقول: كنت أكتب بالليل حتى بنقطع سوائي أي وسطي) (¬6). وقال أبو إسحاق: سواء كل شيء: وسطه (¬7). وقال أهل المعاني: إنما قيل للوسط سواء لاستوائه في مكانه بأن صار بدلاً منه (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "القرطبي" 15/ 83، وذكره البغوي 4/ 28، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 60 عن ابن عباس، وذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 694 عن الكلبي. (¬2) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 60، وأورده السيوطي في "الدر" وعزاه لعبد الرزاق -ولم أجده في تفسيره- وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬4) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 60، "الماوردي" 5/ 50، "القرطبي" 15/ 83. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 170. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 304. (¬8) لم أقف عليه عندهم بهذا اللفظ. وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 304، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 30.

57

وروى قتادة عن خليد (¬1) قال: لولا أن الله عرفه إياه ما عرفه، لقد تغير خيره وسبره فعند ذلك قال: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} (¬2) أي ما أردت إلا أن تهلكني. قال مقاتل: والله لقد كدت أن تغويني فأنزل منزلتك (¬3). وقال الكلبي: لتغوين، تقول: اترك دينك واتبعني (¬4). وقال ابن عباس: تضلني (¬5). وقال أبو عبيدة والزجاج: ترديني وتهلكني (¬6). والإرداء الإهلاك ردى إذا هلك، وأرديته أهلكته، والإغواء والإضلال معنى وليس بتفسير، وذلك أن من أغوى إنسانًا فقد أهلكه. 57 - قوله: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} قال ابن عباس: يريد حيث هداني (¬7). ¬

_ (¬1) هو خليد بن عبد الله العصريُّ أبو سليمان البصري، روى عن الأحنف بن قيس وعلي ابن أبي طالب، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء وأبي ذر الغفاري، وروى عنه أبان بن أبي عياش وعوف الأعرابي وقتادة وغيرهم، روى له مسلم حديثاً وأبو داود حديث آخر، وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر: "تهذيب الكمال" 8/ 309، "التاريخ الكبير" 3/ 198، "حلية الأولياء" 2/ 232. "تاريخ بغداد" 8/ 340. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 149، "زاد المسير" 7/ 60، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 94، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (¬3) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 376. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 171، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 306. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الماوردي" 6/ 50، "القرطبي" 15/ 784، "زاد المسير" 7/ 60.

وقال مقاتل: يعني لولا ما أنعم الله علي بالإسلام (¬1). وقال الكلبي: لولا النعمة بالإسلام (¬2). {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قالوا جميعًا: أي معك في النار، وهو قول مقاتل (¬3) وقتادة. وقال ابن عباس: من المعذبين (¬4). ومعناه من المحضرين العذاب. وقال أبو إسحاق: أي أُحضَرَ العذاب كما أُحضرتَ (¬5). وقال الفراء: لكنت معك في النار محضرًا (¬6). وقال صاحب النظم: لما قال ولولا نعمة ربي، دلَّ هذا الإحضار ليس هو لخير إنما هو لشر، وهذا مقتضى من قوله: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 16]، ومن قوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]، ومما جاء في مثله قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127]، وهذا أيضًا مُستَدلٌ عليه بقوله: {فَكَذَّبُوهُ} لأن جزاء التكذيب لا يكون إلا شرًا. وقوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98]، والحضور قد يكون للخير والشر إلا أن قوله: {أَعُوذُ بِكَ} يدل على أنه للشر، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه الحشوش محتضرة" (¬7)، أي الشياطين تحضر من ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬2) لم أقف عليه عن الكلبي، وانظر: المصادر السابقة. (¬3) "تفسير مقاتل" 111 أ، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 149. (¬4) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 377. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 306. (¬6) لم أقف عليه في "معاني القرآن". وانظر القول منسوبًا له في "القرطبي" 15/ 84. (¬7) الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 369 - 373، وأبو داود في "سننه"، كتاب: الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء 1/ 2 رقم 6, وابن ماجه =

58 - 60

يدخلها. وكذلك قوله: "اللبن محتضر" (¬1)، وكذلك قول الناس: حضر فلان أي دنا موته (¬2). 58 - 60 - قوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} قال مقاتل: عرف المؤمن أن كل نعيم معه الموت فليس بتام، فأقبل على أصحابه فقال: أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى التي كانت في الدنيا وما نحن بمعذبين، فقيل له: لا موت فيها. فقال عند ذلك: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3). وعلى هذا كان هذا المؤمن لا يعلم أن أهل الجنة لا يموتون، فاستفهم عن ذلك فقال: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا} سوى موتتنا التي حلت بنا في الدنيا، وإلا هاهنا بمعنى سوى. ونحو هذا قال الحسن (¬4)، إلا أنه جعل هذا عن قول جميع أهل الجنة لا عن قول المؤمن الواحد، فقال: قالوا أفما نحن بميتين: قيل لا. قالوا: إن هذا لهو الفوز العظيم. ¬

_ = في "سننه"، أبواب الطهارة، باب: ما يقول إذا دخل الخلاء 1/ 9 رقم 294، والحاكم في "المستدرك" كتاب: الطهارة، باب: إذا دخل أحدكم الخلاء الغائط فليقل: أعوذ بالله من الرجس النجس الشيطان الرجيم 1/ 187، وقال: صحيح على شرط الصحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬1) ذكر هذا القول الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 201 (حضر)، وابن منظور في "اللسان" 4/ 199 (حضر)، عن الأصمعي قال: العرب تقول: اللبن محتضر فغطَّه يعني تحضره الدواب وغيرها من أهل الأرض. (¬2) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 200 (حضر). (¬3) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬4) أورده السيوطي في "الدر" 7/ 95، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن.

61

وقال الكلبي (¬1): يؤتى بالموت فيذبح، فإذا أَمِنَ أهل الجنة أن يموتوا وفرحوا بذلك قالوا: أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى التي كانت في الدنيا وما نحن بمعذبين. فقيل لهم: لا. فعند ذلك قالوا: إن هذا لهو النجاة. 61 - قال مقاتل (¬2): ثم انقطع كلام المؤمن بقول الله: {لِمِثْلِ هَذَا} النعيم الذي ذكر من قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} إلى قوله: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ}، {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}. وبعضهم (¬3) يجعل هذا من كلام المؤمن للقرين، ويجعل قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا}، ابتداء من كلام الله تعالى. قال أبو عبيدة: (النزول والنزل واحد، وهو الفضل، يقال هذا طعام له نُزُل (¬4) ونَزَل، أي: ريع) (¬5). قال المفضل: ليس هذا موضع الفضل (¬6). وكأنه رأى هذا غلطًا منه. قال أبو إسحاق: (أي أذلك خير في باب الإنزال التي يتقرب بها ويمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار. قال: ومعنى أقمت لهم نزلهم: أقمت لهم ما يصلحهم ويصلح أن ينزلوا عليه) (¬7). والنزل مما تقدم تفسيره (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 7/ 61. (¬2) "تفسير مقاتل" 111 أ. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 242 أ، "زاد المسير" 7/ 61. (¬4) في (ب): (نزول ونزل)، وهو خطأ. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 170. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 306. (¬8) عند قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]. =

قوله تعالى: {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} لم يذكر المفسرون للزقوم تفسيرًا إلا ما ذكر الكلبي: أن ابن الزبعرى قال: أكثر الله في بيوتكم الزقوم (¬1). فإن أهل اليمن يدعون التمر والزبد الزقوم. فقال أبو جهل لجاريته: ويحك زقِّمينا، فأتته بزبد وتمر. فقالت: تزقموا (¬2). وقال الليث: لما نزلت آية الزقوم لم يعرفه قريش، فقدم رجل من أفريقية فسئل عنه فقال: الزقوم بلغة أفريقية التمر والزبد (¬3). فهذا الذي ذكروا معلوم أن الله تعالى لم يرد الزقوم هاهنا الزبد والتمر. قال أهل المعاني: الزقوم: ثمر شجرة مرة الطعم جدًا، من قولهم: تزقم هذا الطعام إذا تناوله على تكرُّه ومشقَّة شديدة (¬4). وقال ابن زيد: إن يكن للزقوم اشتقاق (¬5) فمن التزقم، وهو الإفراط من أكل الشيء، حتى يُكره ذلك. يقال: بات فلان (¬6) يتزقم. الكسائي وأبو عمرو: الزقم واللقم واحد هذا كلامهم (¬7). وإذا كان الزقم بمعنى اللقم، ¬

_ = قال المؤلف هناك: النزل: ما يهيأ لضيفٍ أو لقومٍ إذا نزلوا موضعًا. (¬1) أكثر المفسرين ذكروا قول ابن الزبعري، ولم أقف على من نسبه للكلبي. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 116، الثعلبي 3/ 242 أ، "البغوي" 4/ 29، "القرطبي" 15/ 85، "مجمع الييان" 8/ 696. (¬2) انظر: المصادر السابقة، "القرطبي" 23/ 63. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 441 (زقم)، وأورده ابن منظور في "اللسان" 12/ 268 (زقم) عن ابن سيده. (¬4) لم أقف على قول أهل المعاني. (¬5) في (ب): (اشتقاقاً). (¬6) "جمهرة اللغة" 3/ 14. وانظر: "تهذيب اللغة" 8/ 440 (زقم). (¬7) لم أقف على كلام الكسائي وأبو عمرو عنهما. وانظره في "تهذيب اللغة" 8/ 440 (زقم)، "جمهرة اللغة" 3/ 14.

63

كان معنى التزقم تناول الشيء بِكُرهٍ، والزقوم ما يكره تناوله، والذي أراد الله هو شيء مرٌ كريه يكره تناوله. وأهل النار يُكرَهونَ على تناولِهِ، فهم يتزقمونه على أشد كراهيته. 63 - قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} ذكر المفسرون وجهين للفتنة في شجرة الزقوم: أحدها: أنهم أنكروا أن يكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر (¬1). والآخر: أنهم قالوا إن الزقوم الثمر والزبد، وهذا قول قتادة ومجاهد ومقاتل (¬2). قال أبو إسحاق: فتنة أي: خبرة للظالمين، افتتنوا بها وكذبوا بكونها (¬3)، فصارت فتنة لهم. 64 - وقال قتادة: لما ذكر الله -عز وجل- هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا: أيكون في النار شجرة، والنار تأكل الشجرة. فأنزل الله -عز وجل-: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} (¬4). قال مقاتل: تخرج تنبت (¬5). قوله: {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} قال قتادة: أخبرهم أن عذابها من النار إن عذبت بالنار (¬6). وقال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها (¬7). وعلى ما قال قتادة الآية جواب لإنكارهم بل هي إخبار عن ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 63، "بحر العلوم" 3/ 116، "زاد المسير" 7/ 63. (¬2) لم أقف عليه عن قتادة. وانظر: "تفسير مجاهد" ص 542، "تفسير مقاتل" 111 ب، وانظر: المصادر السابقة. (¬3) هكذا وردت في النسخ، وفي "معاني القرآن" 4/ 306 قال: وكذبوا بها فصارت. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 149، "الطبري" 23/ 63، "زاد المسير" 7/ 63. (¬5) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬6) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3216 عن قتادة نحوه. (¬7) انظر: "البغوي" 4/ 29، "زاد المسير" 7/ 63، "مجمع البيان" 8/ 696.

65

منبت الشجرة، وأما جواب إنكارهم فقال ابن قتيبة: (قد تكون شجرهَ الزقوم بيتًا من النار أو من جوهر لا يأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحياتها, ولو كانت على ما يعلم لم يبق على النار، وإنما دلنا الله على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة، وما في الجنة من شجرها (¬1) وثمرها وفرشها وجميع آلاتها على مثل ذلك) (¬2). 65 - قوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} قال مقاتل والكلبي: ثمرها (¬3). وقال ابن قتيبة: (سمي طلعها لطلوعه كل سنة، ولذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره) (¬4). قوله: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} ذكر الفراء والزجاج في هذا التشبية ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وبها يضرب المثل في القبح، كما قال الشاعر يذم امرأة: عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف (¬5) ¬

_ (¬1) في (ب): (أشجرها)، وهو خطأ. (¬2) "تأويل مشكل القرآن" ص 70. (¬3) "تفسير مقاتل" 111 ب، ولم أقف عليه عن الكلبي. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" ص 388. (¬5) البيت من الرجز، ولم أقف على قائله، وقد ذكره غير منسوب الفراء في "معاني القرآن" 2/ 387، الطبري في "تفسيره" 23/ 64، ابن عطية في "المحرر الوجيز" 4/ 476، السمين الحلبي في "الدر" 5/ 505، والأزهري في "التهذيب" 3/ 370 - 4/ 402 - 11/ 313، وابن منظور في "اللسان" 3/ 311.

66

عنجرد: سليطة وثَّابة، والحماط: شجر، وأعرف: ذو عرف. والعرب تقول إذا رأت منظرًا قبيحًا كأنه شيطان الحماطة. القول الثاني: وهو القول المعروف: أنه أراد الشياطين بأعيانها موصوفة بالقبح وإن كانت لا تُرى، والشيء إذا استقبح (¬1) شبه بالشياطين، فيقال: كأنه شيطان، والشيطان لا يُرى ولكنه يُستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء لو رُئي لرُئِي في أقبح صوره، قال امرؤ القيس: أيقتلني والمشرفي مُضَاجِعي ... ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوالِ (¬2) ولم ير الغول ولا نابها ولكن التمثيل بما يستقبح. والقول الثالث: أن رؤوس الشياطين نبت معروف قبيح الرؤوس. قال الفراء: والأوجه الثلاثة تقرب إلى معنى واحد في القبح (¬3). 66 - قوله: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} قال مقاتل: يعني من ثمرها (¬4). 67 - قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} قال أبو إسحاق: على أكلها لشوبًا (¬5). الشوب: الخلط العام في كل شيء وكل شيء خلطته بشيء فقد شِبْتَهُ به. قال مقاتل وقتادة: يعني لخلطًا ومزاجاً (¬6). وزاد مقاتل: يعني لشراباً، ¬

_ (¬1) في (ب): (إذا ستقبح)، سقطت الهمزة. (¬2) البيت من الطويل لامرئ القيس في "ديوانه" ص 33، "تهذيب اللغة" 8/ 193، "اللسان" 11/ 508 (غول). 13/ 338 (شطن)، "جمهرة اللغة" ص 961. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 387، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 306. (¬4) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 307. (¬6) "تفسير مقاتل" 111 ب. وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 150، "الطبري" 23/ 65.

68

يريد أنهم إذا أكلوا الزقوم شربوا عليه الحميم، وهو الماء الحار الذي قد انتهى خيره، فيشرب الحميم في بطونهم الزقوم فيصير شوبًا لهم. 68 - قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} قال مقاتل: أي بعد الزقوم وشرب الحميم (¬1). وهذا يدل على أنهم على شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، وهو يحتمل أن يكون الحميم، في موضع خارج عن الجحيم لشربه، كما تورد الإِبل إلى الماء ثم يردُون إلى الجحيم وهذا القول اعتمده مقاتل واحتج بقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43]. وهذه الآية تدل على المعنى الذي ذكرنا. وذُكِرَ في هذه الآية أوجه فاسدة تَركتُ ذكرها. 69 - قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} قال مقاتل: وجدوا آباءهم ضالين عن الهدى. 70 - قوله: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال: يسعون في مثل أعمال آبائهم (¬2). وقال الكلبي: يعملون بمثل عملهم (¬3). وقال ابن عباس وقتادة: يسرعون (¬4). وقال مجاهد: كهيئة الهرولة (¬5). قال الفراء: الإهراع: الإسراع فيه شبيه بالرِّعدة (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬3) انظر: "الوسيط" 3/ 527، "البغوي" 4/ 29. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 66، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 36، "مجمع البيان" 8/ 698. (¬5) "تفسير مجاهد" ص 542. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 387.

وقال الزجاج: يتبعون آبائهم اتباعًا في سرعة، كأنهم يزعجون إلى إتباعهم، يقال: هرع وأهرع إذا استحث وأسرع (¬1). وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78]. قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} قال ابن عباس: قبل قومك (¬2). (أكثر الأولين) يريد: الأمم الخالية. قال الكلبي: من لدن آدم فهلم جرا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬3). قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ} قال ابن عباس: فيمن مضى من الأمم (¬4). {مُنْذِرِينَ} يريد: مرسلين (¬5). قال الكلبي: معنى أرسلنا فيهم كما أرسلنا إلى قومك. قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أي الذين أنذروا العذاب. قال مقاتل: يقول كان عاقبتهم العذاب يحذر كفار مكة تكذيبًا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فنزل بهم العذاب في الدنيا كما نزل بالأمم الخالية (¬6). ثم استثنى، فقال: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} يعني الأمم الموحدين، نجوا من العذاب في الدنيا بالتوحيد. قال ابن عباس: يريد الذين استخلصهم الله من الكفر (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 307. (¬2) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 376، وانظر: "الوسيط" 3/ 527، "مجمع البيان" 8/ 698، "زاد المسير" 7/ 64. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) لم أقف عليه. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 117، "الوسيط" 3/ 527، "مجمع البيان" 8/ 699، فقد ذكروا نحوه دون نسبة لأحد. (¬5) لم أقف عليه، وانظر: المصادر السابقة. (¬6) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬7) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 376.

76

قال أبو عبيدة: إلا عباد الله، نصبها الاستثناء من المنذرين (¬1). هذا قوله وهو كما ذكره مقاتل. ويجوز أن يكون قوله: {إِلَّا عِبَادَ} استثناء من قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} (¬2) قال الكلبي: يقول دعا ربه على قومه (¬3). قال مقاتل: يعني قوله (¬4): {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} قال ابن عباس: يريد فأجبته وعظم نفسه (¬5). وقال أبو إسحاق: المعنى ونعم المجيبون نحن (¬6). 76 - وقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال الكلبي ومقاتل وعطاء: يريد من الغم العظيم وهو الغرق (¬7). وهذا مفسر في سورة الأنبياء (¬8). 77 - قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أخرجت جميع الخلق من ذريته (¬9). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 171. (¬2) قوله (نادانا) غير مثبت في (ب)، وهو خطأ. (¬3) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "البغوي" 4/ 29، "مجمع البيان" 8/ 698، "زاد المسير" 7/ 65. (¬4) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬5) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "البغوي" 4/ 30، "مجمع البيان" 8/ 699، "زاد المسير" 7/ 65. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 307. (¬7) "تفسير مقاتل" 111ب، ولم أقف عليه عن الكلبي وعطاء. (¬8) الآية 76، قوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}. (¬9) انظر: "الماوردي" 5/ 53، "القرطبي" 15/ 89، "مجمع البيان" 8/ 699.

78

وروى الضحاك عنه قال: لما خرج نوح -عليه السلام- مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساؤهم، كذلك قوله (¬1): {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ونحو هذا قال مقاتل (¬2). قال الكلبي: إن أهل سفينة نوح ماتوا ولم يكن لهم نسل غير ولد نوح، فكان الناس من ولد نوح، يدل على صحة هذا ما روى الحسن عن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية قال: "سام وحام ويافث" (¬3)، فسر الذرية الباقية بهؤلاء الثلاثة ثم قال: "سام أب العرب، وحام الحبش، ويافث أب الروم" (¬4). 78 - قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} قال الكلبي ومقاتل وابن عباس: تركنا عليه ثناءً حسنًا لا يذكره أحد إلا بخير إلى يوم القيامة (¬5). وعني بالآخرين الذين يجيئون من بعده. وذلك قوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} يعني بالسلام: الثناء الحسن. ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) "تفسير مقاتل" 111 ب. (¬3) الحديث أخرجه الترمذي في "سننه" "كتاب التفسير" -سورة الصافات- 5/ 43 رقم 3283 عن سمرة، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن جرير الطبري 23/ 67 عن سمرة. (¬4) أخرجه الترمذي في "سننه" "كتاب التفسير" -سورة الصافات- 5/ 43 رقم 3284، والإمام أحمد في "مسنده" 5/ 9 - 10 - 11 عن سمرة، والحاكم في "المستدرك" "كتاب التاريخ" باب ذكر نوح النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/ 546 عن سمرة، إلا أنه لم يذكر عن سام أنه أبو العرب، ولا حام أنه أبو الحبش. وقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬5) "تفسير مقاتل" 111 ب. وانظر: "البغوي" 23/ 68، "مجمع البيان" 8/ 699.

80

قال الفراء: (أي تركنا عليه هذه الكلمة كما تقول: قرأت الحمد لله رب العالمين، فتكون الجملة في معنى نصب، وإنما يرفعها بالكلام كذلك: سلام على نوح ترفعه بعلى في تأويل نصب، فلو كان سلامًا بالنصب كان صوابًا) (¬1). وكذا هو في قراءة عبد الله (¬2). وقال أبو إسحاق: أي تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر قوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} أي: تركنا عليه في الآخرين أن (¬3) يصلى عليه إلى يوم القيامة (¬4). 80 - قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين (¬5). قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} أي: من شيعة نوح، أي: من أهل ملته ودينه ومنهاجه وسنته {لَإِبْرَاهِيمَ}، وهذا من قول قتادة ومجاهد والمفسرين (¬6). وقال الكلبي: يقول من شيعة (¬7) محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬8)، وهذا اختيار الفراء، قال: يقول: إن من شيعة محمد -صلى الله عليه وسلم- لإبراهيم، يقول على دينه ومنهاجه، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 387. (¬2) انظر: "الدر المصون" 5/ 507، "البحر المحيط" 7/ 349. (¬3) في (أ): (أي نصلى)، وهو خطأ. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 308. (¬5) "تفسير مقاتل" 112 أ. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 69، الثعلبي 3/ 242 ب، "بحر العلوم" 3/ 117، "تفسير مجاهد" ص 542. (¬7) في (أ): (شيعته). (¬8) انظر: "بحر العلوم" 3/ 117، "زاد المسير" 7/ 66.

84

فهو من شعته وإن كان سابقًا له (¬1). وتفسير الشيعة قد سبق عند قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] (¬2) 84 - وقوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قال الكلبي ومقاتل: خالص من الشرك وهو قول المفسرين (¬3)، والمعنى أنه سلم من الشرك فلم يشرك بالله. وقال أبو إسحاق: سليم من كل دنس (¬4). وروى عطاء عن ابن عباس قال: كان يحب للناس ما يحب لنفسه، وسلم كل الناس من غشمه وظلمه، وأسلم الله بقلبه ولسانه ولم يعدل به [أحدًا] (¬5) (¬6). ويدل على أن المراد سلامته من الشرك أنه ذكر بعد إنكاره على قومه الشرك بالله. 85 - قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} وهذا استفهام توبيخ كأنه وبخهم على عبادة غير الله. 86 - فقال: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} قال المبرد: الإِفك أسوأ الكذب (¬7)، وهذا مما سبق تفسيره. وقوله: {تُرِيدُونَ} قال ابن عباس: تعبدون، وتقدير الآلهة (¬8): ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 388. (¬2) شيعة الرجل هم جماعته وأنصاره. "اللسان" 8/ 188 (شيع). (¬3) "تفسير مقاتل" 112 أ، ولم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "الطبري" 23/ 70، "بحر العلوم" 22/ 476، "البغوي" 3/ 390، "زاد المسير" 6/ 130. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 308. (¬5) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "القرطبي" 15/ 92، "فتح القدير" 4/ 401. (¬8) هكذا جاءت في النسخ، وهو خطأ لأن السياق يقتضي أن يكون وتقدير الآية.

87

أتأفكون إفكًا وتعبدون آلهة سوى الله (¬1). 87 - وقوله: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال مقاتل والكلبي: ما ظنكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره (¬2). كأنه قال: ما ظنكم أنه يصنع بكم، هذا قول المفسرين (¬3). وذكر أهل المعاني وجهًا آخر: وهو أن المعنى أي شيء ظنكم بالله حيث عبدتم معه آلهة دونه (¬4). كأنه قال أتظنون به أن عبادة غيره تجوز وأنه لا ينقم عليكم ذلك. قال أبو إسحاق: أي شيء ظنكم برب العالمين وأنتم تعبدون غيره (¬5). قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه (¬6). وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وأنها لا تصلح أن تعبد وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، فأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم وهو قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقد ¬

_ (¬1) في (ب): (دون الله). (¬2) "تفسير مقاتل" 112 أ، ولم أقف عليه عن الكلبي. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 75، "بحر العلوم" 3/ 117، "البغوي" 4/ 30، "القرطبي" 15/ 92. (¬4) "معاني القرآن" للنحاس 6/ 39، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 308. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 308. (¬6) انظر: "البغوي" 4/ 30، وأورد قول ابن عباس ولم ينسبه له ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 67، والطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 702.

ذكرنا هذه القصة عند قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] الآيات. فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدل بها على حاله فلما نظر إليها قال: إني سقيم، أي سأسقم، قال مقاتل: أي وجع غدا من نظره إلى الكواكب (¬1). فاعتل بذلك ليخلفوا (¬2) من بعدهم، وأكثر المفسرين على أن تفسير السقم هاهنا يريد مطعون. وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق (¬3). ومطعون من الطاعون لا من الطعن. قال ابن إسحاق: كانوا يهربون من إذا سمعوا به. وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا ليبلغ من أصنامهم الذي يريد (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: كان في ذلك الزمان نجم يطلع بالطاعون، وكان إذا طعن رجل منهم هربوا منه (¬5). وعلى هذا معنى قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} ليريهم ذلك النجم وطلع وأنه مصاب (¬6) بالطاعون. قال الأزهري: (وأُثْبِتَ لنا عن أحمد بن يحيى أنه قال: هو جمع نجم، وهو ما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيده فنظر نظرة، ونظر هاهنا تفكر ليدبر حجة فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}، أي: سقيم من كفرهم. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 112 أ. (¬2) هكذا جاءت في النسخ، ولعل الصواب: ليتخلف. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 71، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 42، "بحر العلوم" 3/ 118، "القرطبي" 15/ 93. (¬4) انظر: "الطبري" 123/ 71. (¬5) انظر: "البغوي" 4/ 31، "المحرر الوجيز" 4/ 478. (¬6) في (أ): (مصيبت)، وهو خطأ.

91

وقال الليث: يقال للإنسان إذا تفكر ليدبر حجة وينظر في أمرٍ كيف يدبره نظر في النجوم. قال: وهكذا ما جاء (¬1) عن الحسن في تفسيره، أي: فكر ما الذي يصرفهم عنه إذا كلفوه الخروج معهم) (¬2) وعلى هذا معنى {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} أي تفكر وتدبر ولم يكن هناك نجم ولا ينظر فيه. وعلى قول الضحاك (¬3) واختيار الزجاج (¬4). وهذا كما أنك تقول لمريض إذا استدللت على صحته بشيء: إنك صحيح، أي: ستصح، وتقول لمن رأيته على أوقات السفر: إنك مسافر (¬5)، وتأول في السقم أن كل واحد وإن كان معافاً لابد وأن يسقم ويموت قال الله [تعالى] (¬6): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] أي إنك ستموت فيما يستقبل. وذكرنا الكلام في هذا مستقصى عند قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] قال أبو إسحاق: (أوهمهم أن به الطاعون {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} فراراً من أن يعدى إليهم الطاعون) (¬7). قال ابن عباس: مدبرين هاربين (¬8). وقال الكلبي ومقاتل: ذاهبين إلى عيدهم (¬9). 91 - قوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} قال المفسرون: مال إليها وهو ميل في ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ، والصواب كما في "تهذيب اللغة" بدون ما. (¬2) "تهذيب اللغة" 11/ 128 (نجم). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 6/ 42، "القرطبي" 15/ 93. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 308. (¬5) انظر: "تفسير الفخر الرازي" 26/ 148. (¬6) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 308. (¬8) لم أقف عليه عن ابن عباس، وانظر: "الطبري" 23/ 72، "القرطبي" 15/ 93. (¬9) "تفسير مقاتل" 112 أ، وانظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 377.

خفية، يقال راغ إليه أي مال إليه سرًا (¬1). قوله: {أَلَا تَأْكُلُونَ} قال مقاتل: يعني الطعام الذي كان بين أيديهم (¬2). وقال أبو إسحاق والكلبي: وإنما يقول هذا استهزاء بها وتحقيرًا في شأنها (¬3). وكذلك قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}. ثم أقبل عليهم ضربًا كما قال الله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد فأقبل عليهم (¬4). وهذا معنى وليس بتفسير. وتفسيره: مال عليهم بالضرب، قال الزجاج والمبرد وابن قتيبة. وقال الزجاج: المعنى فمال إلى الأصنام يضربهم ضرباً (¬5). وقال المبرد: مال عليهم بالضرب (¬6). وقال ابن قتيبة: مال عليهم يضربهم (¬7). قوله: (باليمين) قال الكلبي: يضربهم بيمينه بالفأس (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 72، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 42، "القرطبي" 15/ 94، "الدر المصون" 5/ 508. (¬2) "تفسير مقاتل" 112 أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 309، ولم أقف على من نسبه للكلبي، وقد ذكر هذا القول أكثر المفسرين. انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 479، "تفسير البغوي" 4/ 31، "القرطبي" 15/ 94، "زاد المسير" 7/ 68، "البحر المحيط" 7/ 351. (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الماوردي 5/ 57، "القرطبي" 15/ 94 عن الكلبي. وانظر: "تفسير مقاتل" 112 أ. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 309. (¬6) لم أقف على قول المبرد. (¬7) "تفسير غريب القرآن" ص 372. (¬8) لم أقف على هذا القول عن الكلبي.

قال مقاتل: يعني اليمنى (¬1) نحو ما قال الكلبي. وهو قول أبي إسحاق والضحاك والربيع والأكثرين (¬2). وقال السدي بالقوة والقدرة (¬3). وذكر أبو إسحاق (¬4) القولين. وذكر في تفسير اليمين هاهنا أنه الحلف الذي ذكره حين قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فجعل يضربها بتلك اليمين التي سبقت منه (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس: باليمين يريد بالحق (¬6). قوله: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قال الزجاج: (يسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو ابتداء غدوه) (¬7). والنعامة يقال له زفوف. قال ابن حِلِّزة (¬8): بزفوف كأنها هقلة أم ... مُ رئالٍ دويَّة سقفاء ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 112 أ. (¬2) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 309، "الطبري" 23/ 72، "الماوردي" 45/ 57، "القرطبي" 15/ 94، "المحرر الوجيز" 4/ 479، "زاد المسير" 7/ 68، "البحر المحيط" 7/ 351. (¬3) انظر: "زاد المسير" 7/ 69، "مجمع البيان" 8/ 307. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 309. (¬5) انظر: "بحر العلوم" 13/ 118 "الماوردي" 5/ 57. "زاد المسير" 7/ 69، "القرطبي" 15/ 94. (¬6) لم أقف عليه. وانظر: "القرطبي" 15/ 94، "مجمع البيان" 8/ 307. (¬7) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: عدوها كما في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 309. (¬8) البيت من الخفيف وهو للحارث بن حلزة في "ديوانه" ص 21، "تهذيب اللغة" 13/ 170، "خزانة الأدب" 3/ 415، "المغني الكبير" 1/ 343. =

وقرأ حمزة: يزفون بضم الياء، وهو قراءة الأعمش (¬1). قال الفراء: ولم يُسمع إلا زَفَّ، يقال للرجل: جاء يزف، ولعل قراءة الأعمش من قول العرب: أَطَرَدتَ الرجل [أي صيرته طريدًا، فيكون يزفون] (¬2) أي جاءوا على هذه الهيئة وأنشد: تمنى حصين أن يسود حذاعة ... فأمسى حُصينٌ قد أذل وأقهرا (¬3) أراد صار إلى [حال] (¬4) قهره) (¬5). ونحو هذا قال أبو إسحاق (¬6) في قراءة حمزة. وقال أبو عبيد: (تقول للنعامة: تَزُفُّ وهو من أول عدوها وآخر مشيها، وجاء الرجل يَزُفُّ زفيف النعامة أي من سرعته [وأنشد] (¬7) للفرزدق: وجاء قريع الشول قبل إفالها ... زفيفًا وجاءت خلفه وهي زُفَفُّ) (¬8) ¬

_ = والزفوف بفتح الزاي: الناقة السريعة من الزفيف وهو السرعة، والهقلة أنثى النعام، والرئال بكسر الراء جمع رأل وهو ولد النعام، والدوَّية بتشديد الواو منسوبة إلى الدو، وهي الأرض البعيدة الواسعة. يقول: أستعين على قضاء همي بناقة مسرعة، كأنها في إسراعها نعامة لها أولاد. "الخزانة" 3/ 418. (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 56 , "علل القراءات" 2/ 578. (¬2) ما بين المعقوفين مكرر في (أ). (¬3) البيت من الطويل وهو للمخبَّل السعدي يهجو الزبرقان وقومه في "ديوانه" ص 294، "تهذيب اللغة" 5/ 395 (قهر)، "اللسان" 5/ 120 (قهر). (¬4) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬5) "معاني القرآن" 2/ 389. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 309. (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬8) البيت من الطويل وهو للفرزدق في "ديوانه" 2/ 27، "مقاييس اللغة" 1/ 119، =

وقال أبو علي: (يقال زفت الإبل تزف إذا أسرعت. قال الهذلي: وزفت الشول من برد العشيّ كما ... زف النعام إلى حَفَّانهِ الرُّوحُ (¬1) وقرأ حمزة: يُزِفُّون، يحملون غيرهم على الزفيف. قال الأصمعي: أزففت الإِبل إذا حملتها على أن تزف. قال: وهو سرعة الخطو ومقاربة المشيء والمفعول محذوف على قراءته، كأنهم حملوا ظهورهم على الجد والإسراع في المشيء) (¬2). هذا كلامه. ومعنى يزفون في قول أهل اللغة: يسرعون، وهو لفظ ابن زيد (¬3) من المفسرين. قال ابن عباس: يمشون إليه متعمدين (¬4). ¬

_ = "لسان العرب" 8/ 267 (قرع) والبيت في "المصادر" هكذا: وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زُفّفُ والقريع من الإبل الذي يأخذ بذراع الناقة فينيخها، "اللسان" 8/ 267 (قرع). والشول جمع شائلة وهي من الإبل ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخفَّ لبنها، "اللسان" 11/ 374 (شول). ولم أقف على قول أبي عبيد. (¬1) البيت من البسيط، وهو لأبي ذؤيب الهذلي. انظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 121، وانظره منسوبًا له في "الحجة" 6/ 56, "المحتسب" 2/ 221، "اللسان" 2/ 466 (روح)، "المحرر الوجيز" 4/ 479، "مجمع البيان" 8/ 700. الحفَّان صغار النعام والإبل، "اللسان" 8/ 52 (حفف). والرَّوح اتساع ما بين الفخذين أوسعة في الرجلين. "اللسان" 2/ 466 (روح). (¬2) "الحجة" 6/ 56 - 57. (¬3) انظر: "القرطبي" 15/ 95، "مجمع البيان" 8/ 307. (¬4) لم أقف عليه بهذا المعنى عن ابن عباس. وانظر: "القرطبي" 15/ 95، "مجمع البيان" 8/ 307.

95

وقال مقاتل: يمشون إلى إبراهيم ليأخذوه بأيديهم (¬1). وقال الكلبي: يمشون إليه جميعًا يريدونه (¬2). ونحو هذا قال السدي (¬3). والإِسراع تفسير أهل اللغة، والمشي تفسير المفسرين. وقال الضحاك: يسعون (¬4). 95 - فقال إبراهيم لهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} بأيديكم من الأصنام {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، قال ابن عباس: يريد خلق ما تعملون فاعبدوا الذي خلقكم (¬5). وقال الكلبي: وما تعملون بأيديكم (¬6) وأنتم تعبدون هذه الآلهة التي جعلتم بأيديكم. وقال مقاتل: يعني وما تنحتون بأيديكم من الأصنام (¬7)، فهذا يدل على أن أصنامهم كانت معمولة لهم، اتخذوها من النحاس والحديد والخشب [فأخبر الله] (¬8) عنهم. وتلك الأصنام مخلوقة لله فلما لزمتهم الحجة [قالوا] (¬9) قوله: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 112 أ. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 150. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 74، "القرطبي" 15/ 95. (¬4) انظر: "الماوردي" 5/ 57، "القرطبي" 15/ 95. (¬5) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 377. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬8) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬9) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ).

98

بنوا حائطًا من حجارة وطين طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملوه نارًا وطرحوه فيها (¬1). وذلك قوله: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} وهي النار العظيمة. قال أبو إسحاق: كل نار بعضها فوق (¬2) جهنم. والألف واللام في الجحيم بدل عن الكناية، والمعنى: في جحمه، أي: في جحيم ذلك البنيان، وهو النار التي توقد فيه. 98 - قوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} قال مقاتل: شرًّا أن يحرقوه بالنار (¬3). {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} قال الكلبي: المدحوض حجتهم يعني أنه علاهم (¬4) بالحجة، حيث رد الله كيدهم وجعل النار عليه بردًا وسلامًا، وهذا معنى قول المفسرين. قال مقاتل: علاهم إبراهيم فسلمه الله وحجزهم عنه فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى أهلكهم الله (¬5). 99 - قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} قال ابن عباس: مهاجر إلى ربي، والمعنى أهجر ديار الكفر وأذهب إلى حيث أمرني كما ¬

_ (¬1) انظر: "القرطبي" 15/ 97، "مجمع البيان" 8/ 408. (¬2) هكذا وردت العبارة في النسخ، وهو وهم من النساخ، ففي العبارة سننه، وهي في "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310 هكذا: كل نار بعضها فوق بعض. وهي حَجمٌ. (¬3) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬4) لم أقف عيه عن الكلبي. وانظر: "الطبري" 23/ 75، "القرطبي" 15/ 97، "زاد المسير" 7/ 70. (¬5) "تفسير مقاتل" 112 ب.

قال الله (¬1): {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قال مقاتل: يعني إلى رضاء ربي بأرض المقدس (¬2). وهو أول من هاجر من الخلق (¬3). وقال الكلبي: ذاهب بعبادتي إلى ربي (¬4). وهذا معنى قول قتادة: ذاهب بعمله وقلبه وهمته (¬5)، وعلى هذا ذهابه إليه بالعمل، وعلى القول الأول بالهجرة، وهو الصحيح إن شاء الله, لأن المراد الإخبار عن هجرته أرض قومه وذهابه إلى حيث أُمِرَ من الشام. قوله: {سَيَهْدِينِ} قال ابن عباس: سيرشدني (¬6). وقال الكلبي: سينجيني منهم (¬7). وقال مقاتل: سيهدين لدينه (¬8). وقول الكلبي أقرب إلى المعنى, لأن المراد سيهدين إلى حيث أمرني بالمصير إليه، وفي ذلك إنجاء له منهم. وقول مقاتل سيهدين لدينه فيه بعد, لأنه كان على الدين في ذلك الوقت، إلا أن يحمل على التثبيت على الدين والهداية. وقول ابن عباس يحتمل المعنيين: الإرشاد إلى الدين، والإرشاد إلى الطريق، والأولى أن يحمل على الإرشاد إلى طريق مُهَاجَرِهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "مجمع البيان" 8/ 704، وذكر القول ولم ينسبه لأحد الطبري 23/ 75، "الماوردي" 5/ 59. (¬2) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬3) وبهذا قال مقاتل. انظر: "تفسيره" 112 ب، "القرطبي" 15/ 97. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 76، "مجمع البيان" 8/ 704. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 76، "زاد المسير" 7/ 71. (¬6) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 377. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "الماوردي" 5/ 59، "زاد المسير" 7/ 71. (¬8) "تفسير مقاتل" 112 ب.

101

قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه (¬1) الولد فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} قال المفسرون وأصحاب المعاني: الآية مختصرة والتقدير هب لي ولدًا صالحًا من الصالحين (¬2). قال الفراء: (وهذا بمنزلة قولك أدن فأصب من الطعام يجتزأ بمنْ عن المضمر) (¬3). 101 - فاستجاب الله له بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} قال الكلبي: يقول بغلام في صغره حليم في كبره (¬4). قال أبو إسحاق: (هذه البشارة تدل على أنه غلام وأنه يبقى حتى يوصف بالحلم) (¬5)، والمعنى أنه لما بشر بغلام دل على أنه مفسر بابن ذكر، ولما وصف بالحلم دل على أنه ينتهي في السن حتى يبلغ الحلم، هذا معنى ما ذكره الكلبي وأبو إسحاق ونحو هذا قال (¬6): يريد في كبره. وقال مقاتل: يعني حليمًا والحلم من موجبات العلم فهو يدل على العلم (¬7). وقال أهل المعاني: الحليم المتأني في الأمر وضده السفيه، فيجوز ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 76، الثعلبي 3/ 243 ب، "بحر العلوم" 3/ 119، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310، "معاني القرآن" للفراء 2/ 389. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 389. (¬4) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 377، "بحر العلوم" 3/ 119، "البغوي" 4/ 32. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310. (¬6) هكذا في النسخ، والذي يظهر أنه سننه القائل، وهذا القول ذكره الفراء في "معاني القرآن له" 2/ 389. (¬7) "تفسير مقاتل" 112 ب.

102

أن يكون غلامًا حليمًا في حالة واحدة (¬1) 102 - قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} قال مجاهد: لما شب وأدرك سعيه سعى إبراهيم (¬2). وهذا قول أهل المعاني. قال الفراء: يقول طاق أن يعينه على عمله وسعيه وكان يومئذٍ ابن ثلاثة عشر سنة (¬3). وقال الزجاج: أدرك معه العمل (¬4). وقال أبو عبيدة: أدرك أن يسعى على أهله معه وأعانه (¬5). وقال ابن قتيبة: أي بلغ أن يتصرف معه ويعينه (¬6). وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني المشي مع أبيه إلى الجبل (¬7). وهو قول مقاتل (¬8). وكان أبوه قد ذهب به معه إلى الجبل. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد العمل لله تعالى وهو الاحتلام (¬9). وهذا قول الكلبي، قال في معنى السعي: إنه العمل لله (¬10). ونحو هذا قال ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند أهل المعاني. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 544. (¬3) هكذا هي في النسخ، والصواب ثلاث عشرة سنة. وانظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 389. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 171. (¬6) "تفسير غريب القرآن" ص 373. (¬7) انظر: "البغوي" 4/ 32، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 119، ولم ينسبه لأحد. (¬8) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬9) انظر: "القرطبي" 15/ 99، وأورده الشوكاني في "فتح القدير" 4/ 403 ولم ينسبه لأحد. (¬10) انظر: "البغوي" 4/ 32، "مجمع البيان" 8/ 706.

الحسن ومقاتل وابن زيد، قالوا: هو العبادة والعمل الذي تقوم به الحجة، وهو ما بعد البلوغ (¬1). قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات (¬2). وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله أيقاظًا ورقوداً (¬3)، وذلك أن الأنبياء لا تنام قلوبها. وقال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي. وقال السدي: كان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له قال: هو إذًا لله ذبيح (¬4). فقيل لإبراهيم في منامه: قد نذرت نذرًا فَفِ بنذرك، فلما أصبح قال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وقال أبو إسحاق: رؤيا الأنبياء وحي بمنزلة الوحي إليهم في اليقظة (¬5). هذا كلام أهل التفسير في ظاهر [الرؤيا]، (¬6). وظاهر اللفظ دل على أنه رأى في المنام أنه يذبح ابنه، والتفسير يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أنه يذبح ابنه في اليقظة، فيكون تقدير اللفظ: إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك، فموجب الذبح رُئِيَ في المنام لا الذبح، وذكر في ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 77، "البغوي" 4/ 32، "القرطبي" 15/ 99. (¬2) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬3) انظر: "القرطبي" 15/ 101، وقد ذكر القول مقاتل في "تفسيره" 112 ب، وذكره البغوي 4/ 33 عن مقاتل. (¬4) انظر: "البغوي" 4/ 33، "القرطبي" 15/ 102. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310. (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ب).

الظاهر أنه رأي الذبح لأن موجب الذبح كأنه رأى الذبح حيث لا يجوز له أن يخالف ذلك، ألا ترى أن ابنه قال له: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فدل أنه أمر في المنام بذبح ابنه. وقد صرح مقاتل بما ذكر فقال: يقول إني أمرت في المنام أني أذبحك (¬1). وقال ابن قتيبة: (لم يرد أنه ذبحه في المنام، ولكنه أمر في المنام بذبحه، فقال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: أني سأذبحك، ومثل هذا رجل رأى في المنام أنه يؤذن، والأذن دليل الحج، فقال: إني رأيت في المنام أني أحج أي سأحج) (¬2). واختلفوا في الذبيح من هو من ابني إبراهيم. فالأكثرون على أنه إسحاق، وهو قول علي وابن مسعود وكعب وقتادة ومجاهد في بعض الروايات وعكرمة وابن عباس، وهؤلاء قالوا: كانت هذه القصة بالشام (¬3). وقال سعيد بن جبير لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق، سار به مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى المنحر، فلما صرف الله عنه الذبح وذبح الكبش، سار به مسيرة شهر في غداة واحدة طويت له الأودية والجبال (¬4). وقال آخرون: الذي أمر بذبحه إسماعيل، وهو قول سعيد بن المسيب ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 112ب. (¬2) "تفسير غريب القرآن" ص 373. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 81 - 82، "بحر العلوم" 9/ 113، "تفسير الثعلبي" 3/ 243 ب، "القرطبي" 15/ 99 - 101، "البغوي" 4/ 32. (¬4) انظر: "البغوي" 4/ 32، "القرطبي" 15/ 100، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 109، وعزاه لعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" عن سعيد بن جبير.

والشعبي والحسن ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح، وابن عباس في رواية عطاء، وعامر ومجاهد بن كعب ومحمد بن إسحاق (¬1). وسياق هذه الآيات تدل على أنه إسحاق لأنه قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، ولا خلاف (¬2) أن هذا إسحاق. قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فعطف بقصة الذبح على ذكر إسحاق، وقوله بعد ذكر هذه القصة: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} قال عكرمة: بشر بنبوته (¬3). وقال قتادة: بعد الذي كان من أمره (¬4)، غير أن محمد بن كعب احتج على أنه إسماعيل بقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قال: يقول بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق ولد من الله من الموعود ما وعده (¬5). وقد قال أبو إسحاق: (الله أعلم أيهما الذبيح (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 82، "بحر العلوم" 3/ 119، "تفسير الثعلبي" 3/ 243 ب، "القرطبي" 15/ 99 - 101، "البغوي" 4/ 32. (¬2) قول المؤلف رحمه الله هنا ولا خلاف أن هذا إسحاق. فيه نظر إذ الخلاف مشهور جدًّا في تحديد الذبيح، وإن كان الراجح والله أعلم أنه إسماعيل كما سيأتي معنا. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 89، "القرطبي" 15/ 101، "زاد المسير" 7/ 78. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 154، "زاد المسير" 7/ 87. (¬5) أخرجه: الطبري في "تفسيره" 23/ 84، والحاكم في "المستدرك" "كتاب التاريخ" ذكر إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما 2/ 555، ووافقه الذهبي. وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 106، وزاد نسبته لعبد بن حميد عن محمد بن كعب. (¬6) اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في تعيين الذبيح من هو من ولدي إبراهيم، هل هو إسماعيل أم إسحاق إلى ثلاثة أقوال: فمنهم من يرى أنه إسماعيل، وقد ذكر المؤلف بعضًا ممن قال بهذا القول. ومنهم من يرى أنه إسحاق، وقد ذكر المؤلف كذلك بعضًا ممن قال بهذا القول. وذهب بعضهم إلى التوقف في المسألة نظرًا لطول الخلاف فيها وقدِمه، ولعدم وجود دليل صريح وواضح من الكتاب أو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = السنة حسب فهمهم يفيد تعيين الذبيح من هو، ومن هؤلاء الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله، يقول في آخر كتابه القول الفصيح في تعيين الذبيح ص 86 بعد أن ذكر القولين: وأنا الآن متوقف في ذلك، والله أعلم. وكذا الشوكاني، فقد قال في "فتح القدير": 4/ 392 بعد أن ذكر القولين وأدلة كل فريق. قال: وكل ذلك يحتمل المناقشة. ولعل الراجح والله أعلم هو القول القائل بان الذبيح هو إسماعيل -عليه السلام-، والقائلون بهذا القول يستدلون بالشواهد التاريخية، وبما عند أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، وكذلك بالقرآن. ونحن هنا نذكر أدلة هؤلاء من وجهة النظر الإسلامية بعيدًا عن الشواهد التاريخية وما يستنبط من التوراة والإنجيل، وذلك من أجل الاختصار والإيجاز وبُعدًا عن الإطالة، ومن أراد الاستزادة من الأدلة فليرجع إلى المراجع التي سوف أشير إليها بعد ذكر أدلة القول الراجح. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد في هدي خير العباد" 1/ 71: وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: هذا القول -أن الذبيح إسحاق- إنما هو متلقى من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم. فإن فيه أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره وفي لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرَّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ... ثم قال: وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق والله تعالى قد بشَّر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 40 - 71] فمحال أن يبشرها بأنه يولد له ولد ثم يأمر بذبحه. ويدل عليه أيضًا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي =

قوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} وقرأ حمزة والكسائي: تُري بضم التاء

_ = الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 103 - 111]، ثم قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 113]، فهذه بشارة من الله تعالى له شكرًا على صبره على ما أُمِرَ به. وهذا ظاهر جدًا في أن المُبَشَّر به غيرُ الأولِ بل هو كالنص فيه ... وأيضًا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيرًا بشأن إسماعيل وأمِّه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه ... وأيضًا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليمًا, لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليماً في قوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]. هذه بعض أدلة القائلين بأن الذبيح هو إسماعيل -عليه السلام-. وأما القائلون بأنه إسحاق فاستدلوا بآثار عن بعض الصحابة والتابعين، وهي كلها ضعيفة لا ترقى لقوة أدلة مخالفيهم. يقول الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 4/ 17 بعد أن ذكر أقوال بعض الصحابة والتابعين في أن الذبيح إسحاق يقول: وهذه الأقوال -والله أعلم- كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر -رضي الله عنه- عن كتب قديمة، فربما استمع له عمر -رضي الله عنه- فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها, وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده ا. هـ. انظر في هذه المسألة بتوسع: "تفسير ابن جرير الطبري" 23/ 81 وما بعدها، "مجموع فتاوى ابن تيمية" 4/ 331 وما بعدها، "روح المعاني" 23/ 134، "زاد المعاد في هدي خير العباد" 1/ 71 وما بعدها، "تفسير ابن كثير" 4/ 17، "الكامل في التاريخ" لابن الأثير 1/ 108،"تفسير القاسمي محاسن التأويل" 8/ 120، "القول الفصيح في تعيين الذبيح" للسيوطي، ومعه كتاب "القول الصحيح في تعيين الذبيح" لإبراهيم الحازمي، كُتيب من القطع الصغير بحدود 90 صفحة، ذكر فيه مؤلفه رحمه الله ومحققه وفقه الله الأقوال وأدلتها بشيء من التوسع.

وكسر الراء. قال إبراهيم: ماذا تُرى تأمر وماذا تَرى تشير) (¬1). قال أبو علي الفارسي: (من فتح التاء كان مفعول ترى أحد شيئين أحدهما: أن يكون ما مع ذا بمنزلة اسم واحد، فيكونان في موضع نصب بأنه مفعول ترى، والآخر أن يكون ذا بمنزلة الذي، والهاء محذوفة من الصلة، ويكون ترى على هذه القراءة الذي معناه الرأي وليس إدراك المرى (¬2) كما تقول فلان يرى ما رأى أبو حنيفة (¬3). والتقدير ما الذي تراه، فتصير ما في موضع ابتداء، والذي في موضع خبره، ويكون المعنى: ما الذي تذهب إليه فيما ألقيت إليك، هل تستسلم وتتلقاه بالقبول أو تأتي غير ذلك. وأما قول حمزة: ماذا تُري فإنه يجوز أن يكون ماذا بمنزلة اسم واحد، ويكون في موضع نصب، والمعنى: أجَلَدًا ترى على ما تُحملُ عليه أم خَوَاراً (¬4). ويجوز أن يجعل ما مبتدأ وذا بمنزلة الذي ويعود إليه الذكر المحذوف من الصلة، والفعل منقول من رأى زيد الشيء وأريته الشيء إلا أنه من باب أعطيت، فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين دون الآخر كما أن أعطيت كذلك) (¬5). وقال الفراء: ماذا ترى معناه ماذا ترى من خبرك أو جزعك (¬6). وقال أبو إسحاق: ولا أعلم أحدًا قال هذا، وفي كل التفسير ماذا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310. (¬2) في "الحجة": (إدراك الحاجة). (¬3) في (أ): (أبي)، وهو خطأ. (¬4) في (ب): (خورًا)، وهو خطأ. (¬5) "الحجة" 6/ 57 - 58. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 390.

103

ترى ماذا تشير (¬1). واختار أبو عبيدة القراءة الأولى. وقال: لا يعلم أحدًا قال في موضع المشورة والرأي ما ترى في كذا وكذا، وإنما يقولون هذا في رؤية العين، ولا موضع لرؤية العين هاهنا (¬2). وأما وجه مشاورته الابن فيما أمر به، فيجوز أن يكون أمر بأن طلع ابنه على ذلك ويشاوره ليعلم صبره لأمر الله، فيكون في ذلك قرة عين لإبراهيم حيث يرى من ابنه طاعته في أمر الله وصبره على أعظم المكروه، وهو القتل في رضا الله ورضا أبيه. ويكون فيه أيضًا ثواب للابن وثناء حسن يبقى له، حيث قال في جوابه لأبيه (¬3): {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} قال ابن عباس: يريد ما أوحي إليك من ربك (¬4). قال أبو علي: (التقدير ما تؤمر به، فحذف الجار فوصل الفعل إلى الضمير، فصار تؤمره، ثم حذفت الهاء من الصلة كما حذفت من قوله (¬5): {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] أي اصطفاهم) (¬6). {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} على بلاء الله. 103 - قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} قال المبرد: استسلما لأمر الله وأذعنا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 310. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 433، "القرطبي" 15/ 103، "فتح القدير" 4/ 404. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 79، "الماوردي" 5/ 60، "القرطبي" 15/ 103. (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الماوردي" 5/ 61، "البغوي" 4/ 33، "القرطبي" 15/ 103. (¬5) زيدت من هنا في (ب). (¬6) "الحجة" 6/ 99.

له (¬1) (¬2). قال ابن قتيبة نحوه، قال: ومثله سلما (¬3). وقال الفراء: فوَّضا وأطاعا. وفي قراءة عبد الله: فلما سلما) (¬4) وقال أبو إسحاق: استسلم للذبح واستسلم إبراهيم لذبحه (¬5). قال مقاتل: يقول سلما لأمر الله (¬6). وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: فلما سلما وأسلم الأمر لله، بمعنى سلم (¬7)، كما تقول إذا أصابك مصيبة: فسلم لأمر الله، أي: فارضى به، ويكون أسلم بمعنى استسلم أي دخل في السلم، كأنه انقاد ورضي. وقال ابن عباس في رواية عطاء: أسلم إسماعيل صحبته ونفسه لله -عز وجل- وأسلم إبراهيم ابنه وبكره واحده (¬8) لله، وعلى هذا الإسلام بمعنى الترك. وقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قال أبو عبيدة: (أي صرعه، وللوجه جبينان ¬

_ (¬1) في (أ): (وأذعناه)، وهو خطأ. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "تفسير غريب القرآن" ص 373. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 390. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 311. (¬6) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬7) تروى هذه القراءة كذلك عن ابن مسعود. انظر: "القرطبي" 15/ 104، "المحتسب" 2/ 222، "معاني القرآن" للفراء 2/ 390. (¬8) لم أقف عليه عن ابن عباس، وهذا القول نسبه أكثر المفسرين لقتادة، وزاد الطبري نسبته لعكرمة. انظر: "الطبري" 23/ 79، "تفسير الثعلبي" 247/ 3 أ، "الماوردي" 5/ 61، "بحر العلوم" 3/ 121، "البغوي" 4/ 33، "القرطبي" 15/ 104.

104، 105

والجبهة بينهما، ونحو هذا قال المبرد، وأنشد: شككت له بالرمح جنبي قميصه ... فخر تليلًا لليدين وللفم) (¬1) (¬2) وقال ابن قتيبة: صرعه على الأرض على أحد جنبيه (¬3). وقال ابن الأعرابي: التليل والمتلول المصروع، والمتلى الذي يتلى به أي يصرع (¬4). قال ابن عباس: أضجعه على جنبيه على الأرض (¬5). وهو قول قتادة (¬6). وقال مقاتل: كبه لجبهته (¬7). وقال مجاهد وابن جريج: وضع وجهه للأرض (¬8). والصحيح أنه أضجعه على أحد شقيه؛ لأن الجبين غير الجبهة كما ذكرنا. 104، 105 - {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} هذا جواب فلما عند الفراء والكوفيين، والواو مقمحة زائدة. وعند البصريين لا يجوز ذلك. والجواب مقدر على تقدير: فلما فعل ذلك سَعُدَ وأتاه الله نبوة ولده، ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 171. (¬2) البيت من الطويل، وهو لجابر بن جني في "شرح المفضل" ص 434، ولربيعة بن مكدم في "الأغاني" 16/ 75، ولعصام بن المقشعر في "معجم الشعراء" ص 270، وللأشعث الكندي في "الأزهية" ص 288. (¬3) "تفسير غريب القرآن" ص 373. (¬4) "تهذيب اللغة" 14/ 152 (تل). وانظر: "اللسان" 11/ 78 (تلل). (¬5) انظر: "الماوردي" 5/ 61، "البغوي" 4/ 33، "القرطبي" 15/ 104. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 151، "الطبري" 23/ 80، "القرطبي" 15/ 104. (¬7) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬8) انظر: "تفسير مجاهد" ص 544. "الطبري" 23/ 80، ولم أقف عليه عن ابن جريج.

وأجزل له الثواب في الآخرة. وذكر (¬1) ذلك أبو إسحاق (¬2). وهذه المسألة ذكرناها في مواضع. قال المفسرون: لما أضجعه للذبح نودي من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. قال مقاتل: عرف الله منهما الصدق (¬3). يعني أن إبراهيم قصد الذبح بما أمكنه، وابنه طاوعه ومكن من الذبح، وعرف الله منهما الصدق فلذلك قال: {صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وإن لم يتحقق الذبح (¬4). وقال قوم إنه [رأى في] (¬5) المنام معالجة الذبح من شد اليدين والرجلين وإمرار السكين على الحلق، وفعل في اليقظة ما رأى في النوم (¬6) فلذلك قيل له: {صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} فهذان وجهان في قوله: {صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. وذكر أهل المعاني أوجهًا منها: أنه أمر في المنام أن يقعد منه مقعد الذابح، وينتظر الأمر بإمضاء الذبح، ففعل ما رأى في منامه، وهو أنه أمر بذلك على شرط التحلية والتمكين وقصد ذلك ولكن لم يمكن منه (¬7). قال السدي: ضرب الله على قفاه صفحة نحاس فجعل يحز ولا يقطع ¬

_ (¬1) في (ب): (وذلك)، وهو خطأ. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 311. (¬3) "تفسير مقاتل" 112 ب. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 80، "بحر العلوم" 3/ 121، "زاد المسير" 7/ 86. (¬5) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬6) انظر: "الماوردي" 5/ 61، "زاد المسير" 7/ 76. (¬7) لم أقف عليه عند أحد من أهل المعاني. وانظر: "الماوردي" 5/ 61، "زاد المسير" 7/ 76.

106

شيئًا ونودي من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا (¬1). وقال محمد بن إسحاق: لم يحك السكين وانقلبت من حدة (¬2) إلى مثنة (¬3). ومنها أنه ذبح ووصل الله ما قرى بلا فصل (¬4). وهذا أضعف الوجوه: لأنه لم يثبت بهذا رواية (¬5). قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ} ابتداء إخبار من الله، وليس يتصل بما قبله من الكلام الذي نودي به إبراهيم. والمعنى: أنا كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه وطاعته في أمر الذبح ومضيه على أمر الله العفو عن ابنه إسحاق (¬6). 106 - قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} أي: الاختيار ¬

_ (¬1) انظر: "البغوي" 4/ 34، ولم أقف عليه عن السدي عند غيره. وذكر بعض المفسرين غير منسوب لأحد. انظر: "الماوردي" 5/ 61، "بحر العلوم" 3/ 121، "القرطبي" 15/ 104. (¬2) في (ب): (فنجده)، وهو خطأ. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ذكره الماوردي 5/ 61. (¬5) هذه الآثار التي ذكرها المؤلف رحمه الله في قصة الذبح وكيف تمت وكيف امتنع الذبح، هل قطع ثم عاد ما قُطع، أو لم تتمكن السكين من القطع إلى غير ذلك، كلها روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها، كما قال جمال الدين القاسمي -رحمه الله- في "تفسيره" 8/ 120 قال: يروي المفسرون في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها. بل ولم تحسن، فهي معضلة تنتهي إلى السدي وكعب. والسدي حاله معلوم في ضعف مروياته وكذلك كعب ا. هـ ولعل أكثر ما يروى في هذه القصة هو مما كان يحدِّث به كعب الأحبار حينما أسلم. (¬6) "تفسير مقاتل" 113 أ.

107

الظاهر، حيث أخبره بذبح بكره وواحده، وهذا معنى قول ابن عباس وغيره، جعلوا النبلاء هاهنا بمعنى الاختبار (¬1). وقال مقاتل: النبلاء النعمة، وهو أن كف عن ولده وفدي بالكبش (¬2). ولقد ذكرنا معنى البلاء عند قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] (¬3). 107 - قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: جعلنا الذبح فداء له وخلصناه من الذبح، والذبح مصدر ذبحت، والذبح ما يذبح. واختلفوا في هذا الذبح، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الكبش الذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل (¬4). وقال آخرون: أرسل إليه كبشًا من الجنة قد رعى أربعين خريفًا، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفًا وهو قول معمر وقتاد (¬5). وروى جعفر بن إياس (¬6) عن ابن عباس قال: خرج عليه كبش من ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 377، وينسب هذه القول أيضًا لابن زيد وابن قتيبة، انظر: "الطبري" 23/ 80، "الماوردي" 5/ 62، "زاد المسير" 7/ 77. (¬2) "تفسير مقاتل" 113أ. (¬3) انظر: "البسيط" رسالة دكتوراه إعداد: د/ محمد الفوزان 3/ 866. (¬4) انظر: "الماوردي" 5/ 62، "البغوي" 4/ 35، "القرطبي" 15/ 107. (¬5) انظر: المصادر السابقة، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 152. (¬6) هو: جعفر بن إياس اليشكري البصري الواسطي، أحد الأئمة الحفاظ، حدَّث عن بشر بن ثابت والشعبي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وطاووس وعن خلق غيرهم. وعنه الأعمش وشعبة وأبو عوانة وشعبة الحجاج وغيرهم. وثَّقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن معين وغيرهم. مات سنة 124 هـ وقيل 123، وقيل 125 هـ =

108

الجنة وقد رعاها قبل ذلك بأربعين خريفًا (¬1). وقال السدي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عند ذلك إبراهيم فأخذه وذبحه وخلى عن ابنه، وأعتق ابنه وقال: يا بني اليوم وُهِبتَ لي. قال: وبلغنا أن الكبش رعى في الجنة أربعين خريفاً (¬2). وقال مقاتل: وكان رعى في الجنة أربعين سنة قبل أن يذبح وكان من غير نسل (¬3) وقال آخرون: كان ذلك الذبح، وعلا انحط عليه من الجبل. قال الحسن: ما فدى إسماعيل إلا بتيس من الأروى، انحط عليه من جبل ثبير (¬4)، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه (¬5)، فضحوا عباد الله وأعلموا أن الذبح يدفع منية السوء. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في قوله: (بذبح) قال: كبشٌ أعين أقرن أملح مربوط بسمرة في بثير (¬6). وهذا قول الكلبي في رواية أبي صالح عن ¬

_ = انظر: "تهذيب الكمال" 5/ 5، "سير أعلام النبلاء" 5/ 465، "الطبقات الكبرى" 7/ 253. (¬1) انظر: "الماوردي" 5/ 62، "البغوي" 4/ 35، "القرطبي" 15/ 107، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 152 كلهم عن ابن عباس. (¬2) لم أقف عليه عن السدي. (¬3) "تفسير مقاتل" 113 أ. (¬4) ثبير: جبل بمكة يشرف على مني. انظر: "معجم البلدان" 2/ 73. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 247 ب، "البغوي" 4/ 35، "القرطبي" 15/ 107، "زاد المسير" 7/ 77، "ابن كثير" 4/ 16، "مجمع البيان" 8/ 708. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 86، "تفسير ابن كثير" 6/ 14.

112

ابن عباس (¬1). وقوله: {عَظِيمٍ} قال مجاهد: متقبل (¬2). وعلى هذا سمي عظيمًا لعظم قدره، حيث قبل فداء عن إبراهيم. وعند غيره سمي عظيمًا لعظمه وسمنه. قال سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيمًا وقد رعى في الجنة أربعين خريفًا (¬3). 108 - قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} مفسر في قصة نوح (¬4) إلى قوله: {كَذَلِكَ} وقد ذكرنا في هذه القصة {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، والمراد بذلك جزاء إبراهيم وابنه حين أطاعا فيما ابتليا به، فجوزيا بالعفو والفداء. والمراد بقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} جزاء إبراهيم وحده. قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في الناس (¬5). 112 - قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}، من جعل الذبيح إسماعيل جعل معنى قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} أن الله تعالى بشره بولد نبي بعد هذه القصة جزاءً لطاعته. ومن جعل الذبيح إسحاق قال: بشر بنبوته. وهذا قول عكرمة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة، "تفسير الثعلبي" 3/ 247 ب. وقد أورد هذا الأثر السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 105، وعزاه لأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعبه عن ابن عباس. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 545. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 87، "تفسير الثعلبي" 3/ 247 ب، "زاد المسير" 7/ 77. (¬4) عند الآية 78 من هذه السورة. (¬5) "تفسير مقاتل" 113 أ. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 81، "البغوي" 4/ 34، "زاد المسير" 7/ 72.

123

ونحو ذلك قال مقاتل (¬1): بشر إبراهيم بنبوة إسحاق بعد العفو عنه. قوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} يعني كثرة ولدهما وذريتهما، وهم الأسباط كلها. قوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي: أنعمنا عليهما بالنبوة، قاله مقاتل (¬2) وغيره (¬3). وقوله: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أكثر المفسرين على أنه الغرق، أغرق الله فرعون وقومه ونجى بني إسرائيل. ويذهب بعضهم إلى أنه نجاهم من استعباد فرعون إياهم، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء (¬4)، وهو قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]. 123 - قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أكثر أهل التفسير على أن إلياس نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقصته مشهورة مع قومه. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: (وإن إدريس) وقال: إلياس هو إدريس (¬5) نحو إسرائيل ويعقوب. وهذا قول عكرمة (¬6). وقرأ ابن عامر: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} بغير همز، وله وجهان، أحدهما: أنه حذف الهمزة من إلياس حذفًا كما حذفها ابن ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 113 أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 113 أ. (¬3) ذكر هذا القول كثير من المفسرين دون نسبة لأحد. انظر: "الطبري" 23/ 95، "بحر العلوم" 3/ 122، "تفسير الثعلبي" 3/ 247 ب. (¬4) انظر: المصادر السابقة، وكذلك: البغوي 4/ 35، "زاد المسير" 7/ 79، "مجمع البيان" 8/ 711. (¬5) انظر: "الماوردي" 5/ 64، "البغوي" 4/ 36، "زاد المسير" 7/ 79. (¬6) انظر: "البغوي" 4/ 36، "القرطبي" 15/ 115.

124

كثير من قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 35] وكقول الشاعر: ويلُمِّها في هواء الجو طالبةً (¬1) وسنذكر الكلام هناك إن شاء الله تعالى (¬2). والآخر: أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله: (وليسع). والوجه قراءة العامة؛ لأن إلياس ليس بموضع تحذف فيه الهمزة، إنما هو موضع تجعل فيه بين بين في التخفيف كما يخفف سئم وبئس، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 258]. ويقوي ثبات الهمزة قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}، فهذا يدل على أن الهمزة ثابتة في إلياس بثبوتها في آل ياسين (¬3). 124 - قوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ}، إذ يتعلق بمحذوف، كأنه قيل لمحمد -عليه السلام-: اذكر لقومك إذ قال لقومه ونحو هذا كثير، وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 30]، الآية. قال ابن عباس: ألا تخافون الله (¬4). وقال مقاتل: ألا تعبدون الله (¬5). ¬

_ (¬1) هذا صدر بيت لامرئ القيس وعجزه: ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب والبيت من البسيط وهو لامرئ القيس في "ديوانه" ص 227، "خزانة الأدب" 4/ 91، "سر صناعة الإعراب" ص 235، "الكتاب" 2/ 294. والشاهد فيه قوله: ويلمها والأصل ويل أمها فحذف الهمزة استخفافًا ثم أتبع حركة اللام حركة الميم. (¬2) ذكر المؤلف هناك كلامًا نقله عن أبي علي الفارسي. وانظر: "الحجة" 6/ 339. (¬3) انظر: "علل القراءات" 2/ 579، "الحجة" 5/ 59 - 60، "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات" 3/ 223. (¬4) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الوسيط" 3/ 531، "زاد المسير" 7/ 80. (¬5) "تفسير مقاتل" 113 أ.

125

وقال الكلبي: ألا تتقون عبادة غير الله (¬1). 125 - {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد كان لهم صنم يعبدونه (¬2). وقال مقاتل: وكان من ذهبٍ ببعل بك (¬3) من أرض الشام، كسره إلياس ثم هرب منهم (¬4). والأكثرون من المفسرين قالوا: البعل: الرب، {أَتَدْعُونَ بَعْلًا}: ربّا، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة (¬5). وروى قيس (¬6) عن ابن عباس أنه سمع رجلاً وضلت له جارية وهو يقول: أنا بعلها. قال ابن عباس: هذا من قول الله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} (¬7)، فالبعل الذي ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 378. (¬2) انظر: "بحر العلوم" 3/ 123، "القرطبي" 15/ 117. (¬3) بعلبك: قال ياقوت: بالفتح ثم السكون وفتح اللام والباء الموحدة والكاف مشددة: مدينة قديمة فيها أبنية عجيبة وآثار عظيمة وقصور على أساطين الرخام لا نظير لها في الدنيا، بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وقيل اثنا عشر فرسخاً. انظر: "معجم البلدان" 1/ 453. (¬4) "تفسير مقاتل" 113 أ. (¬5) انظر: "الطبري" 13/ 91، "بحر العلوم" 3/ 123، "الماوردي" 5/ 64، "زاد المسير" 7/ 80، "القرطبي" 15/ 117. (¬6) هو: قيس بن هبَّار وقيل ابن همَّام وقيل ابن هنَّام، وقيل غير ذلك، روى عن ابن عباس، وروى عنه سليمان التيمي. ذكره ابن حبان في الثقات وروى له النسائي. انظر: "تهذيب الكمال" 24/ 85، "الجرح والتعديل" 7/ 105، "تهذيب التهذيب" 8/ 405. (¬7) هذه القصة ذكرها النحاس في "معاني القرآن له" 6/ 54، سمع ابن عباس رجلاً =

126

ذكره أهل اللغة بمعنى المالك والسيد والرب، ومنه سمي الزوج بعلًا (¬1). ويقال أنا بعل هذه الدابة. قال مقاتل: وهي بلغة اليمن (¬2).ويمكن أنهم سموا صنمهم بعلًا لهذا المعنى، فيكون في هذا جمع بين القولين في البعل. قوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} قال مقاتل: وتذرون عبادة أحسن الخالقين فلا تعبدونه (¬3). 126 - {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، قرئ بالرفع على الاستئناف لتمام الكلام الأول، والمعنى: أنه خالقكم ورازقكم، فهو الذي تحق له العبادة دون من لا يبصر ولا يسمع ولا يغني عن أحد شيئًا. وقرئ بالنصب على صفة أحسن الخالقين، ليكون الكلام فيه وجه واحد (¬4). 127 - {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}، قال ابن عباس والمفسرون: لمحضرون النار غدًا (¬5). وقد ذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {لَكُنْتُ مِنَ ¬

_ = ينشد ضالة فقال آخر أنا بعلها أي ربها. أما ما أُثبِتَ في النسخ فيظهر أن فيه تصحيفًا إذ الكلام فيه اضطراب، وذكرها كذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 80. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 412 (بعل)، "اللسان" 11/ 59 (بعل). (¬2) "تفسير مقاتل" 113 أ، وفي كتاب "غريب القرآن" لابن عباس ص 62. قال: هي بلغة حمير. (¬3) "تفسير مقاتل" 113 أ. (¬4) انظر: "علل القراءات" 2/ 578، "الحجة" 6/ 63، "المبسوط في القراءات العشر" ص 317. (¬5) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 37. وانظر: "الطبري" 23/ 94، "البغوي" 4/ 41، "زاد المسير" 7/ 81.

128

الْمُحْضَرِينَ} (¬1). 128 - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} يعني المصدقين الذين لم يكذبوا، فإنهم لا يحضرون النار. 130 - قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} قال ابن عباس: يريد إليالس ومن معه (¬2). قال الفراء: (إن شئت ذهبت بإلياسين إلى أن تجعله جمعًا، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه، كما تقول للقوم رئيسهم المهلب: قد جاءكم المهالبة والمهلبون، فيكون بمنزلة قوله الأشعرين بالتخفيف والسعدين. قال: أنا ابن سعد سيد السعدينا (¬3) قال: ويجوز أن تجعله واحدًا بمنزلة إلياس، والعجمي من الأسماء قد تفعل العرب به هذا، تقول: ميكال وميكائيل وميكاين، وهي في بني أسد، يقولون: هذا إسماعين قد جاء، بالنون، وأنشدني بعض بني نمير: (¬4) ¬

_ (¬1) آية (57) من هذه السورة. (¬2) انظر: "الوسيط" 3/ 532، وقد ذكر هذا القول أكثر المفسرين لكنهم لم ينسبوه لابن عباس. انظر: "الطبري" 23/ 94، "الماوردي" 5/ 65، "القرطبي" 15/ 118. (¬3) الرجز لرؤبة في "ملحق ديوانه" ص 191، "شرح المفضل" 1/ 47، "الكتاب" 2/ 153. (¬4) شطر بيت عن الرجز وصدره: يقول أهل الحي لما جينا ولم أقف على قائله. ففي "المقاصد النحوية" قال: هو الأعرابي 2/ 425، وكذا في "المعاني الكبير" 2/ 646، "سمط اللآلئ" ص681. يريد: إسماعيلاً فأبدل من اللام نونًا.

هذا ورب البيت إسماعينا (¬1) ونحو هذا ذكر أبو إسحاق (¬2) سواء، واختار أبو علي القول الأول وشرحه فقال: (إلياسين جمع معنى واحده الإضافة بالياء، نحن تميمي وبكري، والقول فيه أن لا يخلوا لا من أن يراد به الجمع الذي على حد مسلم ومسلمون، وزيد وزيدون، أو الذي واحده يراد به النسب، فمن البيِّن أنه لا يجوز أن يكون على حد مسلم ومسلمون, لأنه ليس كل واحد منهم اسمه إلياس، وإنما إلياس اسم نبيهم، فإذا لم يكن على هذا علم أنه على إرادة النسب بالياء، إلا أن الياءين حذفتا في جميع هذه الأسماء على التصحيح كما حذفت ياء النسب في التكسير، وذلك نحو: المسامعة والمهالبة والمناذِرة، وإنما هذا على أن كل واحد منهم مسمعي ومهلبي، فحذف في التكسير الياءات كما حُذفت في التصحيح، ومما يدل على ذلك قولهم: فارسي وفرس، فليس الفرس جمع فارس وإنما هو جمع فارسي، حذف منه ياء النسب ثم جمع الاسم بعد على حد باذلٍ وبدلٍ، ونحو هذا قولهم: الأعجمون، ألا ترى [أنه] (¬3) لا يخلو من أن يكون جمع أعجم أو عجمي، فلا يجوز أن يكون جمع أعجم لأن هذا الضرب من الآحاد التي هي صفات لا تجمع بالواو والنون، كما أن مؤنثه لا يجمع بالألف والتاء، لا يقال في الأحمر: الأحمرون، فإذا لم يجز ذلك علم أنه جمع أعجمي، وعلى هذا قالوا: النميرون والهبيرات (¬4)، وكذلك الياسين تقديره: الياسيين ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 391 - 392. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 312. (¬3) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ). (¬4) في (ب): (الهبرات).

فحذف كما حذف من سائر هذه الكلم. قال: ولا يجوز أن يكون الياسين بمعنى إلياس، نحو: ميكال وميكائيل؛ لأن ميكال وميكائيل لغتان في اسم واحد، وليس أحدهما مفردًا والآخر جمعًا كإدريس وإدراسين (¬1)، وإلياس وإلياسين، وفي حرف عبد الله بن سلام على إدراسين، أراد إدريس ومن كان من شيعته وأهل دينه، ولم يقل إدريسين لأن إدريس وإدراس كإبراهيم وإبراهام (¬2). وقرأ نافع: سلام (¬3) على آل ياسين، وحجته أنها في المصحف مفصولة من يس، ولو كانت الألف والنون واللام التي للتعريف أوصلت في الخط ولم تفصل، فمن فصل ذلك في الكتاب دلالة على أن الذي تصغيره أهيل) (¬4). واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، وقال: الياسين اسم إلياس، مثل إبراهام في إبراهيم، ألا تراه أنه لم يقل في شيء من السورة على آل فلان وآل فلان، إنما جاء بالاسم وكذلك الياسين (¬5). وقال الفراء: القراءة الأولى أشبه بالصواب؛ لأن في قراءة عبد الله: (وإن إدريس لمن المرسلين سلام على إدراسين) (¬6). والسدي يقول في إلياس والياسين: إنه إدريس (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): (إدريسين). (¬2) في (ب): (وإبرهام). (¬3) في (ب): (سليم). (¬4) "الحجة" 6/ 61 وما بعدها. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 172 - 173. وانظر:"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 436. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 292. (¬7) لم أقف على هذا القول عن السدي، وهو منسوب لابن عباس. انظر: "تفسير ابن =

133

قال الفراء: (ويشهد على صواب القراءة الأولى قوله: {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] ثم قال في موضع آخر: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] وهو في معنى واحد وموضع واحد) (¬1). فقد ظهر أن الصحيح قراءة العامة؛ لأن إلياسين إنما هو بمعنى إلياس أو بمعنى إلياس وأتابعه، وأريد به إدريس على ما ذكره عكرمة والسدي: فأما أن يكون الذي هو أل (¬2) تصغير أهيل فهو مستبعد. وقد ذكر الكلبي في تفسيره {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} يقول: سلام على آل محمد. وهذا بعيد؛ لأن ما قبله من الكلام وما بعده لا يدل عليه (¬3). 133 - قوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ} إذ لا يتعلق بما قبله؛ لأنه لم يرسل وإن نجى، ولكنه يتعلق بمحذوف كأنه قيل: واذكر يا محمد إذ نجيناه. وعند أبي عبيدة: إذ زائدة (¬4). وقد ذكر هذا في سورة البقرة. وهذه الآيات مفسرة في سورة الشعراء (¬5) إلى قوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ}، أي: تمرون في ذهابكم ومجيئكم إلى الشام للتجارة على قراهم وآثارهم ومنازلهم {مُصْبِحِينَ} أي: نهاراً (¬6). ¬

_ = عباس" بهامش المصحف ص 378، "الماوردي" 5/ 64. (¬1) "معاني القرآن" 2/ 392. (¬2) في (أ): (الذي آل هو) وما أثبته هو الأنسب بالسياق. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 293، "الوسيط" 3/ 532، "بحر العلوم" 3/ 123، "البغوي" 4/ 41، "القرطبي" 15/ 119. (¬4) "مجاز القرآن" 1/ 36، وسبق أن لدينا خطأ القول أن في القرآن شيئًا زائدًا. (¬5) الآيات 170 - 171 - 172. انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية 4/ 84 ب. (¬6) في (أ): (أي نهارًا أي)، وهو خطأ.

138

138 - {وَبِاللَّيْلِ}، أي: غدوة وعشيًا، تارة تمرون على ديارهم نهارًا وتارة ليلاً. وهي ما بين مكة والشام، هذا قول ابن عباس ومقاتل (¬1). وتم الكلام هاهنا ثم قال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتعتبرون. قوله تعالى: {إِذْ أَبَقَ} الكلام في إذ كما ذكرنا في القصتين قبل هذه. وأبق من إباق العبد، وهو هربه من سيده. قال مقاتل: يعني إذ فر (¬2). وقال عبد الله: عبد أبق من ربه. ونحو هذا قال ابن عباس (¬3). قال المفسرون: كان يونس قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمنشوز عنهم، فقصد البحر وركب سفينة (¬4)، فذلك قوله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ونحو هذا قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87] وقد مر الكلام فيه مستقصى. وقال أهل المعاني: يَفِرُ من ربه كما يَفِرُ العبد من سيده لأنه يعلم أن ربه يقدر عليه أين ما كان من بر وبحر، ولكنه بذهابه إلى الفلك كالفار من مولاه فقال: {أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} فزع إليه (¬5). قال المبرد: تأويل ابن تباعد أي ذهب (¬6) إليه، ومن ذلك قولهم: عبد آبق. قوله تعالى: {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} مفسر في سورة يس (¬7). قال ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير مقاتل" 113 ب. (¬2) "تفسير مقاتل" 113ب. (¬3) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 378. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 252 ب، "البغوي" 4/ 42. (¬5) لم أقف عيه. (¬6) انظر: "القرطبى" 15/ 122، "زاد المسير" 7/ 86. (¬7) آية 41.

مقاتل: يعني الموقر من الناس والدواب (¬1). وقال سعيد بن جير: ركب يونس السفينة في البحر حتى إذا توسطت بهم ركدت فتوقفت، لا ترجع وراءها ولا تتقدم أمامها، فقال أهل السفينة: إن لسفينتنا لشأنًا. قال: قد والله (¬2) عرفتُ شأنها. قالوا: وما شأنها. قال: ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة. قالوا: ومن هو. قال: أنا فاقذفوني في البحر من سفينتكم وانطلقوا لشأنكم، قالوا: ما كنا لنطرحك من بيننا [حتى] (¬3) نعذر في شأنك. قال: فاستهموا حتى تروا على من يقع السهم، فاقترعوا بسهامهم فأدحض سهمه. قال: قد أخبرتكم، فقذفوه منها (¬4)، فذلك قوله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وقال وهب: لما احتبست السفينة قال: هاهنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها لا تجري، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال: أنا الآبق وزج نفسه في الماء (¬5). قال المفسرون: {فَسَاهَمَ}: فقارع (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 113 ب. (¬2) في (ب): (قد عرفت والله شأنها). (¬3) ما بين المعقوفين غير مثبت في (ب). (¬4) لم أقف عليه عن سعيد بن جير. وقد ورد بغير هذه الصيغة عن ابن عباس وطاووس. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 254، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 121، وعزاه لعبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاووس، ولابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 252 ب، "البغوي" 4/ 42. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 98، "الماوردي" 5/ 67، "بحر العلوم" 3/ 124.

قال المبرد: وإنما أخذ من السهام التي تحال للقرعة (¬1). {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي المغلوبين (¬2) المقروعين المسهومين، ققال ابن عباس (¬3) والمفسرون. قال ابن قتيبة. (يقال: أدحض الله حجته فدحضت، أي: أزالها فزالت) (¬4). وأصل الحرف من الدحض الذي هو الزلق يقال: دحضت رجل البعير إذا زلقت (¬5). قال سعيد بن جبير: لما استهموا في السفينة جاء حوت إلى السفينة فاغرًا فاه ينتظر أمر ربه، حتى إذا قذفوه منها أخذه الحوت، فذلك (¬6) قوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ}. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحمًا ولا تكسر له عظمًا" (¬7). وقال المفسرون في قوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ}: التهمه وابتلعه (¬8). يقال لقمت اللقمة وألقمتها غيري. قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ}، يقال: ألام إذا أتى ما يلام عليه (¬9). ¬

_ (¬1) القرطبي 15/ 123. وانظر: "تهذيب اللغة" 36/ 138 (سهم). (¬2) في (ب): (المقروعين المغلوبين). (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 98، "تفسير الثعلبي" 3/ 252 ب، "بحر العلوم" 3/ 124، "الماوردي" 5/ 67. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 374. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 198 (دحض)، "اللسان" 7/ 148 (دحض). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) أخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" 10/ 3227، والطبري 17/ 80 عن عبد الله بن الحارث. (¬8) انظر: "الطبري" 23/ 99، "بحر العلوم" 3/ 124، "تفسير الثعلبي" 3/ 252 ب. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 399 (لأم)، "اللسان" 12/ 530 (لأم).

143

قال مقاتل: يعني استلام إلى ربه (¬1). وقال الكلبي: يقول مذموم (¬2). وقال قتادة عن ابن عباس: مسيء (¬3). وقال إسماعيل بن أبي خالد: مذنب (¬4). قال أهل المعاني: كان يونس قد خرج قبل أن يأمره الله، وكان أذنب ذنبًا استحق به التأديب ليستمر على طريقة التهذيب (¬5). 143 - قوله: {فَلَوْلَا} قال مقاتل: فلولا أنه كان في الرخاء قبل أن يلتقمه الحوت، {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} يعني المصلين، وكان في زمانه كثير الصلاة والذكر لله، لولا ذلك {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} عقوبة [له] (¬6) (¬7). وكان قبره إلى يوم يبعث (¬8) الناس من قبورهم. ونحو ذلك قال الكلبي (¬9) سواء. وروى أبو زيد عن ابن عباس في قوله: {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} من المصلين (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬2) انظر: "الماوردي" 5/ 67. قال عن الكلبي: يلام على ما صنع. (¬3) انظر: "الماوردي" 5/ 67، وأورده النحاس في "معاني القرآن" 6/ 57، ونسبه لقتادة. (¬4) لم أقف عليه عن إسماعيل، وقد ذكره الماوردي في "تفسيره" 5/ 67 عن ابن عباس، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 78 عن ابن قتيبة. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬7) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬8) في (ب): (يبعثون). (¬9) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 379. (¬10) انظر: "الطبري" 23/ 100، "الماوردي" 5/ 67، "البغوي" 4/ 43.

وقال قتادة: كان يكثر الصلاة في الرخاء (¬1). وقال الربيع بن أنس: كان خلاله عمل صالح للبث في بطنه (¬2). وقال الضحاك بن قيس (¬3) (¬4): اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فإن يونس كان عبدًا صالحًا ذاكرًا لله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الآية. وإن فرعون كان عبداً طاغيًا ناسيًا ذكر الله فلما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] الآية) (¬5). وقال قتادة في الحكمة: إن العمل الصالح يرفع صاحبه كلما عثر وجد متكئًا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 100، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 155، "القرطبي" 15/ 126. (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 100،"القرطبي" 15/ 126، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 125، وعزاه لأحمد في "الزهد". (¬3) الضحاك بن قيس بن خالد الفهري القرشي. أبو أمية وقيل أبو أُنيس وقيل أبو عبد الرحمن وقيل أبو سعيد. من صغار الصحابة، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن عمر بن الخطاب، وحبيب بن مسلمة الفهري وغيرهم. وعنه حدَّث معاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن جبير، والشعبي وغيرهم. خرَّج له النسائي، شهد فتح دمشق وسكنها ومات مقتولًا في مرج راهط سنة أربع وستين. انظر: "الإصابة" 2/ 199، "الاستيعاب" 2/ 197، "تهذيب التهذيب" 13/ 279، "سير أعلام النبلاء" 3/ 241. (¬4) الهمزة ساقطة في (ب). (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 100، "المحرر الوجيز" 4/ 486، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 126، وعزاه لابن أبي شيبة. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 99، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 125، وعزاه لأحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن قتادة.

وقال ابن جريج والسدي عن أبي مالك: لبث يونس في بطن الحوت أربعين يومًا (¬1). وهو قول الكلبي (¬2). وقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام (¬3). وقال عطاء: سبعة أيام (¬4). وقال الضحاك: عشرين يومًا (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} قال: يريد في بطن الحوت (¬6). وقال سعيد بن جبير: يعني قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. (¬7). فعلى هذا تسبيحه كان في بطن الحوت. وعلى القول الأول تسبيحه كان قبل ذلك. قال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً (¬8). وقال: ولم يلبث إلا قليلاً وأخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقمه فيه (¬9). وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبح يونس في بطن الحوت ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 101، "المحرر الوجيز" 4/ 486، "الماوردي" 5/ 68. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ، "مجمع البيان" 8/ 716. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ، "المحرر الو جيز" 4/ 486، "البغوي" 4/ 43. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ، "البغوي" 4/ 43، "مجمع البيان" 8/ 716. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ، "البغوي" 4/ 43، "زاد المسير" 7/ 88. (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "البغوي" 4/ 43. (¬7) انظر: "الطبري" 23/ 151، "تفسير الثعلبي" 3/ 252/ ب، "مجمع البيان" 8/ 716. (¬8) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 252/ ب، "القرطبي" 15/ 126، "البغوي" 4/ 43. (¬9) لم أقف عليه عن الحسن. وقد ذكر نحو هذا القول الماوردي 5/ 68، قال: بعض يوم، قال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية.

فسمعت الملائكة تسبيحه. فقالوا: ربنا إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة. قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفته في الساحل" فذلك قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} (¬1). يعني العراء: المكان الخالي. قال أبو عبيدة: (وإنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه، وأنشد فقال: فرفعت رجلاً لا أخاف عِثارها ... ونبذت بالبلد العراءِ ثيابي (¬2) (¬3) وقال الليث: (العراء: الأرض الفضا التي لا تستر بشيء وثلاثة أعرية وأعراء الأرض ما ظهر من متونها وأنشد: وبلدة عارية اعراؤه (¬4) يعني بارزه طهوره) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3227، عن أنس بن مالك. وقد أورده السيوطي في "الدر" 7/ 122، وعزاه لابن إسحاق والبزار وابن جرير عن أبي هريرة. (¬2) البيت من الكامل، وهو لرجل من خزاعة يقال له قيس بن جعدة في "مجاز القرآن" 2/ 266، "القرطبي" 15/ 129، "البحر المحيط" 7/ 368. وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 3/ 158، "الطبري" 23/ 101. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 175. (¬4) شطر بيت لم أقف على تمامه ولا قائله، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 159، "اللسان" 15/ 49 (عرا). (¬5) لم أقف على قول الليث. وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 159، "اللسان" 15/ 49 (عرا).

وقال مقاتل: يقول البراري من الأرض التي ليس فيها نبت (¬1). وقال الكلبي: يعني وجه الأرض (¬2). وقال ابن حيان: يعني ظهر الأرض (¬3). وقال ابن عباس: يريد على ساحل قرية من الموصل (¬4). قوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ}، قال: قد بلى لحمه وكل شيء منه مثل الصبي المولود (¬5). وقال ابن مسعود: [كهيئة الفرخ الممعط] (¬6) ليس عليه ريش (¬7). وقال مجاهد: {وَهُوَ سَقِيمٌ}: مكتئب (¬8). وروى أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمر الله الحوت فلفظه كهيئة الصبي في أصل يقطينة، وهي الدبا يستظل بظلها، وهيأ الله له أروبة من الوحش تروح [عليه] (¬9) بكرة وعشية، فتفشخ عليه فيشرب من لبنها حتى نبت اللحم" فذلك (¬10) قوله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬2) انظر: "الوسيط" 3/ 533، "تفسير الثعلبي" 3/ 252 ب، وذكره الطبرسي في "مجمع البيان" 8/ 716، ولم ينسبه لأحد. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 252 ب. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 151، إلا أنه قال بالساحل دون ذكر المكان، وكذا الماوردي 5/ 68. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 102، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 379. (¬6) ما بين المعقوفين بياض في (ب). ومعنى ممعط: قال في "اللسان" 7/ 405 (معط): تمعط وامعط: تمرط وسقط من داء يعرض له. (¬7) انظر: "الماوردي" 5/ 68، "زاد المسير" 7/ 88. (¬8) لم أقف عليه. (¬9) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬10) لم أقف عليه عن أنس، وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" 23/ 103 عن أبي هريرة. وأورده الثعلبي في "تفسيره" 5/ 253 أعن مقاتل بن حيان.

قال أبو عبيدة (¬1) والمبرد (¬2) والزجاج (¬3) وابن قتيبة (¬4): كل شجرة لا تقوم على ساق وإنما تمتد على وجه الأرض، فهو يقطين، نحو الدباء والحنظل والبطيخ. قال أبو إسحاق: وأحسب اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به. وهذا الشجر ورقه كله على وجه الأرض فلذلك قيل يقطين (¬5). وقال ابن قتيبة: وزنه تفعيل (¬6). قال الفراء: (قيل عند ابن عباس: هو ورق القرع. فقال: ومن جعل القرع من بين الشجر يقطينًا كل ورقة اتسعت وسترت [فهي] (¬7) يقطين) (¬8). قال مقاتل: يعني القرع يأكل منها ويستظل بها (¬9). وهو قول ابن مسعود (¬10) ومجاهد (¬11). وكل شيء ذهب بسطًا في الأرض يقطين. قال الكلبي: ومنه القرع والبطيخ والقثاء والشرى (¬12). ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 175. (¬2) انظر: "القرطبي" 15/ 129،"فتح القدير" 4/ 411. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 314. (¬4) "تفسير غريب القرآن" ص 375. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 314. (¬6) "تفسير غريب القرآن" ص 375. (¬7) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬8) "معاني القرآن" 2/ 393. (¬9) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬10) انظر: "الطبري" 23/ 102، "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 59. (¬11) "تفسير مجاهد" ص 545، وانظر: "الطبري" 23/ 103. (¬12) لم أقف على هذا القول عن الكلبي. وانظر: "الطبري" 23/ 152، "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ.

147

وقال سعيد بن جبير: كل شيء ينبت ثم يموت من عامه فهو يقطين (¬1). والآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن قبل فأنبته الله لأجله. والآخر: أن اليقطين كان [معروشًا ليحصل] (¬2) له ظل؛ لأنه لو كان منبسطًا على الأرض لم يكن أن يستظل به. وقد قال أمية بن أبي الصلت في هذه القصة: وأنبتت يقطينًا عليه برحمة من الله لولا الله أُلقي ضاحيا (¬3) 147 - قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال مقاتل: وأرسلناه قبل أن يلتقمه الحوت (¬4). وعلى هذا الإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم، والواو معناها الجمع، وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين أو الأشياء قبل الآخر. وروي عن ابن عباس أنه قال: كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت (¬5). وعلى هذا يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأُوَلْ، ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين ثانيًا بشريعة فآمنوا بها. وقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} قال أبو عبيدة: (أو هاهنا ليس بشك، وقالوا هي في موضع الواو وأنشد لجرير: ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 102، "الثعلبي" 3/ 253 أ، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 59. (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬3) البيت من الطويل، وهو لأمية بن أبي الصلت في الطبري 23/ 103، "المحرر الوجيز" 4/ 487، "البحر المحيط" 7/ 360، "زاد المسير" 7/ 88، "مجمع البيان" 8/ 715، ولم أجده في "ديوانه"، ومعنى ضاحيًا. قال في "اللسان" / 477 (ضحا): ضحا الرجل ضحْوًا وضُحُوًا وضُحِيّا برز الشمس. (¬4) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 105، "الماوردي" 5/ 69، "القرطبي" 15/ 130.

أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طُهيَّة والخشابا (¬1) [وأيضًا] (¬2): [إن] بها أكتل أو رزاما ... خُوَيرِبين ينفقان الهاما (¬3) قال: ولو كان شكًا ما قال خويربين وإنما هو أكتل ورزام) (¬4). وقال ابن الأحمر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى داكما ما غيبتني غيابيا (¬5) ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لجرير في "ديوانه" ص 814، "الكتاب" 1/ 102 - 3/ 183، "لسان العرب" 1/ 355 (خشب)، "مجاز القرآن" 2/ 148 - 175، "المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية" 3/ 1138. قوله: أثعلبة أراد بها قبيلة، ورياحاً أراد بها أيضًا قبيلة، وهي رياح بن يربوع. وطُهيَّة حي من تميم، والخشابا أيضًا قبيلة. (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ب). (¬3) الرجز لرجل من بني أسد في "الكتاب" 2/ 149، "الأزهية" ص 116، وبلا نسبة في "الكامل" 2/ 754، "لسان العرب" 11/ 8582 (كتل)، "مغني اللبيب" 1/ 63. وأكتل ورزام لصان كان يقطعان الطريق، والخويرب تصغير خارب، وهو اللص أو سارق الإبل خاصة، وإلهام جمع هامة وهي الرأس. وينفقان الهاما أي يستخرجان الدماغ والمخ. وهذا مثل ضربة لحذقهما بالسرقة. "شرح الكتاب" لعبد السلام هارون 2/ 149. والشاهد فيه أن خويربين انتصبا على الشتم ولو كان على إنَّ لقال خويربًا لكنه انتصب على الشتم. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 175. (¬5) البيت من الطويل وهو لابن أحمر في "ديوانه" ص 171، "الأزهية" ص 115، "خزانة الأدب" 11/ 71. والشاهد فيه قوله: فالبثا شهرين أو نصف ثالث، يريد إلبثا شهرين ونصف ثالث فجاءت أو بمعنى الواو.

وهذا قول قطرب واختيار أبي قتيبة فقال: (أو ربما كانت بمعنى واو النسق كقوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]. قال: وهذا كله عند المفسرين بمعنى واو النسق. قال: ونحو هذا قال: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]، وقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (¬1) [النجم: 9]. وقال: وبعضهم يذهب إلى أنها بمعنى بل في هاتين الآيتين وفي قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} على مذهب التدارك، وليس كما تأولوا، وإنما هي في جميع هذه المواضع بمعنى واحد: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}، {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، وأنشد بيت ابن الأحمر الذي أنشده أبو عبيدة، وقال: هذا البيت يوضح لك معنى الواو؛ لأنه أراد شهرين ونصف شهر ثالث) (¬2). وقال الفراء: أو هاهنا بمعنى بل كذلك جاء في التفسير مع صحته في العربية (¬3). وهذا الذي قاله الفراء قول مقاتل (¬4) والكلبي (¬5). وأنكر البصريون القولين (¬6) جميعًا. ¬

_ (¬1) في (أ): (وكان)، وهو خطأ. (¬2) "تأويل المشكل" ص 443 - 444 - 445. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 393. (¬4) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬5) لم أقف على هذا القول عن الكلبي وهو قول يروى عن ابن عباس. انظر: "الماوردي" 5/ 69، "القرطبي" 15/ 132. (¬6) في (أ): (القول).

قال الأخفش في قوله: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} يقول: كانوا كذلك عندكم (¬1). وشرحه الزجاج فقال: (معناه: أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة. وهذا هو القول لأنه على أصل أو. وقال: ولا يجوز أن تكون بمعنى الواو؛ لأن الواو للاجتماع وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر، وأو معناها إفراد أحد الشيئين أو أشياء) (¬2). وزاد أبو الفتح الموصلي بيانًا لمذهب البصريين فقال: (ومعناه: وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموه قلتم أنتم فيهم هؤلاء مائة ألف أو يزيدون، فهذا الشك إنما دخل في الكلام على حكايته قول المخلوقين؛ لأن الخالق جل جلاله لا يعترضه الشك في شيء من خبره، ومثل هذا في المعنى كثير في التنزيل كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، وقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49]، وقالوا هذا بعد إيمانهم وتقديره: يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرًا) (¬3)، وقد ذكرنا قبل هذا في مواضع من هذا الكتاب. قال أبو الفتح: (ألطف وأوضح من قول قطرب أن أو بمعنى الواو) (¬4). قال الفراء (¬5): إن أو بمعنى بل. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 491. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 314. (¬3) "سر صناعة الإعراب" 1/ 456 (¬4) "المصدر السابق". (¬5) "معاني القرآن" 2/ 394.

148

وقال المبرد: (معناه أرسلناه إلى مائة ألف، فهم فرضه الذي عليه أن يؤديه، فإن زاد بالأولاد فعليه أيضًا دعاؤهم نافلة غير فرض) (¬1). واختلف المفسرون في الزيادة على المائة ألف. فقال الكلبي ومقاتل: يزيدون عشرين ألفًا، وهو قول السدي (¬2). وروى مولى لابن عباس عنه قال: مائة ألف وبضعة (¬3) وثلاثون ألفاً (¬4). وهو قول الحسن والربيع (¬5). وقال سعيد بن جبير: يزيدون سبعين ألفًا (¬6). 148 - (فآمنوا) بمعنى: المائة ألف والزيادة الذين أرسل إليهم يونس، آمنوا أي: صدقوا بتوحيد الله {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، متعناهم في الدنيا إلى منتهى آجالهم. قاله ابن عباس (¬7)، وقتادة (¬8)، ومقاتل (¬9). 149 - قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} قال ابن عباس (¬10) ومقاتل (¬11): فاسئل ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ عن المبرد. وقد ذكر النحاس في "معاني القرآن" 6/ 61، قول المبرد: وقال محمد بن يزيد (أو) على بابها، والمعنى أرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم مائة ألف أو أكثر. (¬2) "تفسير مقاتل" 114 أ، ولم أقف عليه عن الكلبي والسدي. وقد ذكره أكثر المفسرين منسوبًا لابن عباس ولأبي -رضي الله عنهم- جميعًا. انظر: "الطبري" 23/ 104، "الماوردي" 5/ 70، "ابن كثير" 4/ 22. (¬3) في (ب): (تسعة). (¬4) انظر: "زاد المسير" 7/ 90، "ابن كثير" 4/ 22. (¬5) انظر: "القرطبي" 15/ 132، "مجمع البيان" 8/ 717، "البغوي" 4/ 44. (¬6) انظر: "الماوردي" 5/ 75، "المحرر الوجيز" 4/ 487، "البغوي" 4/ 44. (¬7) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 379. (¬8) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 157، "الطبري" 23/ 105. (¬9) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬10) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف س 379. (¬11) "تفسير مقاتل" 114 أ.

150

أهل مكة. قال أبو إسحاق: فسألهم مسألة توبيخ وتقرير (¬1). قال مقاتل: فسألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في والنجم وهو قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} [النجم: 21] الآية (¬2). قوله: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} قال المفسرون: وذلك أن قريشًا وأحياء من العرب: جهينة (¬3) وبني سلمة (¬4) وخزاعة (¬5) وبني مليح (¬6)، قالوا: الملائكة بنات الله (¬7). قال الكلبي: لا يرضى أحدكم أن يكون له بنت، فكيف يرضى لله ما لا يرضى لنفسه (¬8). 150 - قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} معناه: بل أخلقنا الملائكة إناثًا وهم شاهدون حاضرون خلقنا إياهم، كقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]، ثم وهذا إنكار عليهم يقول: كيف ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 314. (¬2) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬3) جهينة: من قبائل الحجاز العظيمة، تمتد منازلها على الساحل من جنوبي دير بلى حتى ينبع، وجهينة بن زيد: حي عظيم من قضاعة من القحطانية، ومساكنهم ما بين ينبع ويثرب في متسع من برية الحجاز."معجم قبائل العرب" 1/ 214. (¬4) بنو سَلِمة: بفتح السين وكسر اللام، بطن من الخزج من القحطانية، وهم بنو سَلِمة ابن سعد بن علي بن راشد. انظر: "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص370. (¬5) خزاعة: قبيلة من الأزد من القحطانية وهم بنو عمر بن ربيعة، ومنازلهم بأنحاء مكة في مرِّ الظهران وما يليه. "معجم قبائل العرب" 1/ 338. (¬6) بنو مليح: كزبير حيٌّ من خزاعة، وخزاعة قبيلة من الأزد من القحطانية. انظر: "معجم البلدان" 1/ 338. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 114 أ، "تفسير الثعلبي" 23/ 53 أ، "القرطبي" 15/ 133. (¬8) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 379.

151

جعلوهم إناثًا ولم يشهدوا خلقهم. 151 - ثَمَّ أخبر عن كذبهم فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ} يعني حين زعموا أن الملائكة بنات الله، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم. 153 - قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من أصطفي على معنى أأصطفي ثم يحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع، كقوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16]، وقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39]، وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21]. فكما أن هذه المواضع كلها استفهام كذلك [في] (¬1) هذه الآية. وقرأ نافع في بعض الروايات: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}، {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} موصولة بغير استفهام. وإذا ابتدأَ كَسَر الهمزَة على وجه الخبر كأنه اصطفى البنات فيما يقولون، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، أي: فيما كنت تقوله وتذهب إليه، وكقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، أي: فيما يقول هو ومن يتبعه. ويجوز أن يكون اصطفى تفسيرًا لكذبهم الذي نسب إليهم في قولهم: {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، كما أن {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} (¬2) تفسير للوعد (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط في (ب). (¬2) [سورة المائدة: الآية 9]. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. (¬3) في (أ): (للوعيد).

154

ويجوز أن يكون قوله: {أَصْطَفَى} متعلقًا بقوله: {لَيَقُولُونَ} على أنه أريد حرف العطف فلم يذكر، واستغنى بها في الجملة الثانية من الاتصال بالأولى عن حرف العطف كقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ونحو ذلك مما حذف حرف العطف منه لالتباس (¬1) الثانية بالأولى. ذكر هذه الوجوه أبو علي ثم قال: وغير الاستفهام ليس باتجاه الاستفهام) (¬2). وذكر الفراء وجهًا آخر وهو: أنه أراد الاستفهام، وحذف حرف الاستفهام كقوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20]، قرئ بالاستفهام {أَذْهَبْتُمْ} وقرئ بغير حرف الاستفهام ومعناهما جميعًا [واحد] (¬3) (¬4). 154 - قوله تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} توبيخ لهم على قولهم الكذب. قال مقاتل: كيف تقصون الجور حين تزعمون أن لله البنات ولكم البنون، (أفلا تذكرون) أنه لا يختار البنات على البنين (¬5). وقال ابن عباس: أفلا تتعظون، يعني فتنتهون عن هذا القول (¬6). 156 - {أَمْ لَكُمْ} [قال مقاتل] (¬7): يعني ألكم (¬8) {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. ¬

_ (¬1) في (أ): (للا لتباس). (¬2) "الحجة" 6/ 64 - 65. (¬3) ما بين المعقوفين طمس في (ب). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 394. (¬5) "تفسير مقاتل" 114 أ. (¬6) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الطبري" 23/ 107. (¬7) ما بين المعقوفين غير مثبت في (ب). (¬8) لم أقف عليه.

157

قال ابن ساس: حجة بينة (¬1) أنما قلتم كما قلتم (¬2). 157 - {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} يريد الذي لكم فيه الحجة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم الملائكة بنات الله. 158 - قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}، اختلفوا في الجنة وفي هذا النسب الذي جعلوه. فروى السدي عن أبي صالح قال: الجنة: الملائكة (¬3). وروى عن أبي مالك قال: إنما سموا الجنة لأنهم كانوا على الجنان (¬4). وقال مقاتل: جعلوا نسبًا بين الرب والملائكة حين زعموا أنهم بنات الله (¬5). وعلى هذا القول الجنة هم الملائكة. سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار، أو لأنهم خُزَّان الجنة كما ذكر السدي. وقال الكلبي: قالوا لعنهم الله تزوج من الجن فخرج منها الملائكة. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً (¬6). وقال قتادة: قالوا صاهر الجن، والملائكة من الجن (¬7). فذلك قوله: ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ. ويظهر أن هناك سقطًا ولعل تقديره حتى يكون المعنى واضحًا: حجة بينة على أنما قلتم كما قلتم. (¬2) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الماوردي 8/ 70 عن ابن قتيبة، وأورده بعض المفسرين غير منسوب. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 125، "مجمع البيان" 8/ 718، "القرطبي" 15/ 134. (¬3) انظر: "تفسير السدي" ص 406، "القرطبي" 15/ 134. (¬4) انظر: "القرطبي" 15/ 134، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 134، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي مالك، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3231. (¬5) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ، "البغوي" 4/ 44، "زاد المسير" 7/ 91. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 157 , "الطبري" 23/ 108، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 65.

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}. وقال مجاهد: قالت كفار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات (¬1) الجن (¬2). وعلى هذا القول: الجنة أولاد الجن، والنسب هو المصاهرة وروي قول آخر عن الحسن، قالوا: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه (¬3). يعني أنهم عبدوه مع الله وأطاعوه وكأنهم جعلوه نسبًا لله، حيث اعتقدوا طاعته. وفيه بعد. والاختيار القول الأول، وهو قول الفراء (¬4) وأبي إسحاق (¬5)، يدل عليه ما بعده من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}، أي: قد علمت الملائكة أن الذي قالوا هذا القول محضرون النار ويعذبون. قاله مقاتل (¬6)، وعطاء (¬7)، والفراء، وأبو إسحاق، والكناية في قوله: إنهم تعود على الكفار الذين قالوا هذا القول وجعلوا هذا النسب، وعلى القول الأول الكناية تعود على الجِنَّة، والمعنى: ولقد علمت الجِنة أنهم سيحضرون الحساب. قال مجاهد: والتأويل أنه لو كان كما قال الكفار من أن بين الله وبينهم نسبًا ما أحضروا الحساب، وإحضارهم للحساب دليل على أنه لا ¬

_ (¬1) يعنون أشرافهم. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 546. وانظر: "الطبري" 23/ 108، "تفسير الثعلبي" 3/ 253 أ. (¬3) انظر: "الماوردي" 5/ 70، "البغوي" 4/ 45، "القرطبي" 15/ 135. (¬4) "معاني القرآن" 2/ 394. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 315. (¬6) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬7) لم أقف عليه عن عطاء. وأورده الطبري في "تفسيره" 23/ 8، عن السدي.

159

نسب بينه وبينهم (¬1)، كما قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، يعني: أن تعذيبه إياكم يدل على أنكم لستم كما تقولون. 159 - ثم نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} يعني الموحدين، الذين استخلصهم الله لتوحيده وعبادته، وهذا من المؤخر الذي يراد به التقديم؛ لأنه استثناء من المحضرين بقول: أُعلِموا أنهم محضرون النار إلا من أخلص ووحد. وفي هذه الآية دليل على صحة القول الأول في قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}. وروي عن ابن عباس: إلا عباد الله المخلصين فإنهم لا يجعلون لله صاحبة ولا ولدًا (¬2). وعلى هذا الاستثناء منقطع وفي الكلام محذوف يدل على ما قبله. 161، 162 - ثم خاطب كفار مكة بقوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} معنى الفتنة هاهنا الإضلال في قول جميعهم. قال الفراء: وأهل الحجاز يقولون: فتنت الرجل، وأهل نجد أفتنته (¬3). ويدل طى أن المراد بالفتنة الإضلال قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} قال الزجاج: ما أنتم عليه بمضلين إلا من أضله الله (¬4)، ويقال: أضله على الشيء كما يقال أضله به. وبعضهم يجعل على هاهنا بمعنى الباء، قال ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وقد ذكر ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3231 قريبًا من هذا القول عن مجاهد. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 394. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 315.

164

مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحدًا بآلهتكم إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم وكتب عليه الضلالة (¬1)، وهذا قول ابن عباس (¬2)، وجميع المفسرين، وكان عمر بن عبد العزيز يحتج في إثبات القدر بهذه الآيات، ويقول: لو أراد الله أن لا يُعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، ثم يقرأ (¬3) هذه الآيات (¬4)، يعني أن الله تعالى قد بين أن قضاءه سبق في الدنيا ويعبدون الأصنام. 164 - قوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، هذا إخبار عن قول جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-. قال مقاتل: ثم قال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه (¬5)، ونحو هذا قال الكلبي (¬6). وروى عطاء عن ابن عباس: وقالت الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم (¬7)، وقد حذف على النظم قائل هذا القول. وقال أبو إسحاق: (هذا قول الملائكة وفيه مضمر، المعنى: ما منا ملك إلا له مقام معلوم (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 114ب. (¬2) انظر: "الطبري" 23/ 159، "الماوردي" 5/ 72، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 67. (¬3) في (ب): (تلا). (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 110، "تفسير الثعلبي" 3/ 253 ب، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 134، وعزاه لعبد بن حميد، والبيهقي في "الأسماء والصفات". (¬5) "تفسير مقاتل" 114ب. (¬6) انظر: "زاد المسير" 7/ 93. (¬7) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" 15/ 137، ولم ينسبه. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 316.

وروى مسروق عن عائشة قالت: قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما في سماء الدنيا موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم فذلك قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (¬1) "). ونحو هذا قال ابن عباس (¬2)، وابن مسعود (¬3). وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض (¬4). وقال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم (¬5). قال ابن عباس: وإنا لنحن الصافون في التهليل والتسبيح والتكبير (¬6). وكان عمر -رضي الله عنه- إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم واستووا، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة، ثم يقرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3232 عن عائشة، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 135، وقال: أخرج محمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة"، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عائشة. وللحديث طريق آخر عن أبي ذر، أخرجه الترمذي في "سننه" أبواب الزهد، باب ما جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً" 3/ 380 رقم 2414، وقال: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وأنس، ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه ابن ماجه في "سننه" أبواب الزهد، باب الحزن والبكاء2/ 424 رقم 4243، وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 173. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 253 ب، "البغوي" 4/ 45، "القرطبي" 15/ 137. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 72، "القرطبي" 15/ 137. (¬4) انظر: "البغوي" 4/ 45، "القرطبي" 15/ 137، "زاد المسير" 7/ 93. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 113، "البغوي" 4/ 45، "القرطبي" 15/ 137. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 112.

167

الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (¬1). قال الكلبي (¬2) ومقاتل (¬3): المصلون. وقال أبو إسحاق: الممجدون الله الذين ينزهونه عن السوء (¬4). وقال مقاتل: يخبر جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعبادتهم لربهم فكيف عندهم كفار مكة (¬5). يعني أن جبريل أخبر أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح، وأنهم عباد الله ليسوا بمعبودين، ولا بنات الله كما زعمت الكفار. 167 - ثم عاد إلى الإخبار عن المشركين فقال: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} يعني وأنهم كانوا ليقولون: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ}. قال السدي: قالوا لو أن عندنا كتابًا من كتب الأنبياء (¬6) {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. وقال الكلبي: يقولون لو أتانا نبي كما أتى اليهود والنصارى لكنا عباد الله (¬7). قال عطاء عن ابن عباس: يريد قرآنا من لدن إبراهيم وإسماعيل (¬8). وقال أبو إسحاق: كان كفار قريش يقولون لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 112، وابن كثير 4/ 24، "زاد المسير" 7/ 93. (¬2) لم أقف عليه عن الكلبي وبعض المفسرين ينسبه لقتادة. انظر: "الماوردي" 5/ 73، "القرطبي" 15/ 140. (¬3) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 316. (¬5) "تفسير مقاتل" 114ب. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 113، "تفسير السدي" ص 407، "المحرر الوجيز" 4/ 489. (¬7) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد أورد الطبري في "تفسيره" 23/ 113 نحوه عن قتادة، والقرطبي في "تفسيره" 15/ 138، ولم ينسبه. (¬8) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد أورد الطبري في "تفسيره" 23/ 113 نحوه عن السدي والضحاك، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 93، ولم ينسبه.

الأولين {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ} (¬1)، وعلى هذا في الآية مضاف مقدر على تقدير ذكر من الكتب الأولين. وقال مقاتل: يعني خبر الأمم الخالية كيف أهلكوا وما كان أمرهم {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ} (¬2)، ولا يحتاج على هذا إلى تقدير المضاف. والقول هو الأول؛ لقوله -عز وجل-: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157]، قال الله تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ} المعنى: فجاءهم ما طلبوا فكفروا به. قال الزجاج: فلما جاءهم كفروا به (¬3). وقال الفراء: (المعنى: وقد أرسل إليهم محمدًا بالقرآن فكفروا به، وهو مضمر لم يذكر؛ لأن معناه معروف مثل قوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 110]، وهذا من قول الملأ ثم قال: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، فوصل قول فرعون بقولهم؛ لأن المعنى بيِّن) (¬4). قال قتادة (¬5): وهذا كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]. وقال مقاتل: يقص الله في القرآن خبر الأولين فكفروا بالقرآن، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيد القتل ببدر (¬6). وقال ابن عباس: يريد تهديدًا (¬7). وقال أبو إسحاق: فسوف يعلمون مغبة كفرهم وما نُنْزِل بهم من ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 316. (¬2) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 316. (¬4) "معانى القرآن" 2/ 395. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 159، "الطبري" 23/ 113. (¬6) "تفسير مقاتل" 114 ب (¬7) لم أقف عليه.

171

العذاب في الدنيا والآخرة (¬1). 171 - ثم ذكر أن العاقبة للأنبياء بالنصر وإن كذبهم قومهم، فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، أي: تقدم الوعد بأن الله ينصرهم بالحجة وبالظفر بعدوهم. قال مقاتل: يعني بالكلمة: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، فهذه الكلمة التى سبقت للمرسلين (¬2). 173 - {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي: ضرب الله لهم الغلبة. فإن قيل: كيف سبقت الكلمة بالنصر لهم مع أن الأنبياء من قبل (¬3) أو هزم أحزابهم، قيل: بعض المفسرين يذهب إلى أن الغلبة بالحجة، وهو مذهب السدي (¬4)، وبعضهم يذهب إلى أن العاقبة لهم بالنصر على من ناوأهم، ولم يقتل نبي في معركة حرب (¬5). وقيل هذه النصرة هو أن الأنبياء وأتباعهم ينجون من عذاب الدنيا والآخرة، وهذا مذهب مقاتل بن سليمان (¬6). 174 - قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} قال ابن عباس (¬7)، ومقاتل (¬8): يعني القتل ببدر. وهو قول مجاهد (¬9)، والسدي (¬10). وقال الكلبي: يعني ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 316. (¬2) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬3) يظهر أن هنا كلمة ساقطة تُقَدَّر: هزموا أو هزم أحزابهم. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 114، "الماوردي" 5/ 73، "مجمع البيان" 8/ 721. (¬5) وهذا القول ينسب للحسن. انظر: "القرطبي" 15/ 139، "مجمع البيان" 8/ 721. (¬6) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬7) انظر: "القرطبي" 15/ 139، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 380. (¬8) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬9) انظر: "تفسير الثعلبي" 23/ 253 ب، "مجمع البيان" 8/ 721. (¬10) انظر: "الطبري" 23/ 115، "الماوردي" 5/ 73، "مجمع البيان" 8/ 721.

175 - 177

فتح مكة (¬1). وقال قتادة: إلى الموت (¬2). قال عطاء عن ابن عباس ومقاتل: هذ منسوخة بآية السيف (¬3). 175 - 177 - {وَأَبْصِرْهُمْ} قال ابن عباس: انتظر بهم (¬4). وقال مقاتل: أبصرهم إذا نزل بهم (¬5). ويقال: أبصره إذا نصرناك عليهم. {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ذلك. قال مقاتل: فقالوا متى هذا العذاب تكذيبًا به (¬6)، فأنزل الله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ}، الساحة متسع الدار، وجمعها سوح، كالبوح في جمع الباحة، ومنه قول الشاعر: .. .. .. .. واغبرت البوح (¬7) يصف قحطًا وأوله: وكان سّيان أن لا يسرحوا نعما أو يسرحوا بهما. قال ابن عباس: نزل بديارهم (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "بحر العلوم" 3/ 126، وأورده القرطبي 15/ 139، ولم ينسبه لأحد. (¬2) انظر: "الماوردي" 5/ 73، "المحرر الوجيز" 4/ 490، "القرطبي" 15/ 139. (¬3) انظر: "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله"، لـ: هبة الله بن سلامة المقري ص 147، "ناسخ القرآن ومنسوخه" لابن البارزي ص 46. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬6) "تفسير مقاتل" 114 ب. (¬7) جزء من بيت وتمامه: فكان سيان ألا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت البوحُ وهو لأبي ذؤيب الهذلي في "ديوان الهذليين" 1/ 157، "خزانة الأدب" 5/ 137، "شرح أشعار الهذليين" ص 122، "لسان العرب" 14/ 412 (سوا)، وبلا نسبة في "الخصائص" 1/ 348 - 2/ 465، "مغني اللبيب" 1/ 63. (¬8) لم أقف عليه عن ابن عباس، ونسبه الطبري 23/ 116 للسدي. وأورده النحاس في "معانى القرآن" 6/ 69، والقرطبي 15/ 140، ولم ينسباه لأحد.

179

وقال مقاتل: يعني بحضرتهم (¬1). وقال الفراء (¬2)، والزجاج (¬3): (نزل بهم، والعرب تجتزئ بالساحة والعقوة (¬4) من القوم، يقال: نزل بك العذاب وبساحتك سواء). قوله: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}، أي: بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، وفيه مضمر، كأنه قيل: فساء الصبح صباحهم، وذلك أنهم يصبحون في العذاب معذبين. وخص الصباح هاهنا بالذكر من بين الأوقات لأن العرب كانت تصبحهم الغارة فيقول قائلهم: واصباحاه وا سوء صباحاه، ويسمون الغارة: الصباح لأنها توافق الصباح، وذلك أنهم يعتقدون (¬5) من يقصدون بالغارة في ذلك الوقت، فجرى اسم الصباح على الغارة، والذي ينزل به الغارة ينادي واسوء صباحاه، وإن لم يكن في وقت الصباح كذلك هؤلاء إذا نزل بهم العذاب؛ قيل في وصفهم ساء صباحهم. ثم ذكر ما سبق تأكيدًا لوعيد العذاب فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ}، يقول: أعرض عنهم إلى تلك المدة. 179 - {وَأَبْصِرْ} العذاب إذا نزل بهم. {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}. 180 - ثم نزه نفسه عن شبههم (¬6) ووصفهم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 396، والكلام بنصه هنا منقول عن الفراء. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 317. (¬4) عقوة الدار: ساحتها وما حولها. انظر: "اللسان" 3/ 29 (عاق). (¬5) هكذا جاءت في النسخ، ولعله تصحيف، والصواب (يتعمدون). (¬6) حرف الشين ساقط في (ي).

181

الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}، أي: الغلبة والقوة (¬1). قال عطاء (¬2): يريد سيُعِزُك وأصحابَكَ عما يصفون الله به من اتخاذ البنات والنساء (¬3) يقولون من الكذب. 181 - {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} قال ابن عباس (¬4)، ومقاتل (¬5): يريد الذين بلغوا عن الله التوحيد ورسالاته وقاموا بدينه. 182 - قوله تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: الحمد لي وأنا إله الأولين والآخرين (¬6). وقال الكلبي (¬7): الشكر لله على هلاك المشركين، وهو قول مقاتل (¬8). وقال أهل المعاني (¬9). الحمد لله بإحسانه بكل أفاعيله. ¬

_ (¬1) هكذا جاء في الكلام في النسخ، وفيه اضطراب، ولابد من تقدير كلمة، وهي: العزة، وهكذا جاءت في "الوسيط" 3/ 535. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: (وما يقولون). (¬4) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 380، وأورد القول غير منسوب: البغوي في "تفسيره" 45/ 46، "القرطبي" 15/ 142. (¬5) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم قف عليه عن الكلبي. وانظر: "البغوي" 4/ 46، "القرطبي" 15/ 142، "زاد المسير" 7/ 95. (¬8) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬9) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 1/ 45، ولم أقف عليه عند غيره من أهل المعاني.

سورة ص

سورة ص

1

تفسير سورة ص بسم الله الرحمن الرحيم 1 - روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر أنهما سئلا عن {ص} فقالا: لا ندري (¬1). وقال سعيد بن جبير: بحر يحيى الله به الموتى (¬2). وقال الضحاك: صدق الله وعده (¬3). وقال مجاهد: فاتحة السورة (¬4). وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن (¬5). وروى الوالبي عن ابن عباس قال: هو اسم من أسماء الله -عز وجل- (¬6). وقال في رواية عطاء: يريد صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬7). وقال محمد القُرظي: هو مفتاح أسماء الله: صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الثعلبي" 3/ 254 ب، "القرطبي" 15/ 143، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 143، وعزاه لعبد بن حميد عن أبي صالح. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب، "القرطبي" 15/ 143. (¬3) انظر: "الماوردي" 5/ 75. "البغوي" 4/ 47، "القرطبي" 15/ 143. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب، "القرطبي" 15/ 143. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 117، "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب، "الماوردي" 5/ 75. (¬6) انظر: "الطبري" 23/ 117، "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب، "زاد المسير" 7/ 97. (¬7) انظر: "البغوي" 4/ 47، "زاد المسير" 7/ 97. (¬8) انظر: "المحرر الوجيز" 4/ 491، "البغوي" 4/ 47، "القرطبي" 15/ 143.

وقال السدي: هو قسم أقسم الله به (¬1). وذكر أبو إسحاق (¬2) فيه قولين قال: معناه الصادق الله. وقيل: إنه قسم (¬3). قوله: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} عطف عليها، المعنى: أقسم بـ {ص} وبالقرآن ذي الذكر. وأنكر أبو علي أن تكون {ص} قسمًا قال: (لأنه إذا كان قسمًا لا يخلو قوله: {وَالْقُرْآنِ} من أن يكون استئناف قسم أو عطفا على قسم، وهو قوله: {ص}، فلا يجوز أن يكون استئناف قسم إن جعلت {ص} قسماً؛ لأن جواب الأول لم يمض، فإذا لم يمض جواب الأول لم يجز أن يستأنف قسم آخر، ولا يجوز أن يكون عطفاً على القسم الأول، فيكون جوابان تشرك الأول؛ لأنه لا حرف جر في الأول، فإذا لم يكن في الأول حرف جر لم يجز ذلك، ولا يجوز إضمار حرف الجر في القسم إلا في أسماء الله كما تقول: الله لأفعلن، ولا يجوز: الكعبة لأفعلن، يريد بالكعبة كما جاز في اسم الله, لأنه كثر في كلامهم فجاز فيه للكثرة مالا يجوز في غيره، ألا ترى أنهم قد استجازوا في هذا الاسم بدل الباء من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب، "القرطبي" 15/ 143. (¬2) "معاني القرآن واعرابه" 4/ 319. (¬3) هذه الأقوال التي ذكرها المؤلف رحمه الله في معنى {ص} أقوال لا دليل عليها، والأولى أن يقال في جميع الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض سور القرآن: أنها بيان لإعجاز القرآن. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله عنها: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. "تفسير ابن كثير" 1/ 38. وهذا القول اختيار جماعة من المحققين. انظر. "الكشاف" 1/ 76، "فتح القدير" 1/ 37، "أضواء البيان" 3/ 3 - 7.

الواو ولم يجبزوه في غيره، وقالوا: بالله اغفر لي، ولا ينادون اسمًا فيه الأف واللام سوى هذا، لقولك (¬1) أجازوا الحذف في هذا ولم يجيزوه في غيره، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون {ص} قسمًا، ويكون {وَالْقُرْآنِ} قسماً لم يسبق قبله قسم) (¬2). وقوله: {ذِي الذِّكْرِ} أكثر المفسرين قالوا: معناه ذي الشرف. وهو قول سعيد بن جبير وأبي حصين وإسماعيل بن أبي خالد وابن عباس في رواية سعيد (¬3). والذكر يكون بمعنى الشرف كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، وكقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]. قال مقاتل: ذي البيان (¬4). ويكون المعنى على هذا: وأنه ذكر فيه أقاصيص الأولين والآخرين، وما يحتاج إليه في الحلال والحرام. وروي عن الضحاك وقتادة: ذي الموعظة والتذكير (¬5). واختلفوا في جواب القسم: فحكى النسائي والفراء والزجاج (¬6): أن جواب القسم قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} (¬7). قال الكسائي: ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في النسخ، ولعل الصواب: (لذلك) حتى يستقيم الكلام. (¬2) لم أقف على قول أبي علي. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 118، "الماوردي" 5/ 75، "المحرر الوجيز" 4/ 491، "زاد المسير" 7/ 98. (¬4) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 119، "الماوردي" 5/ 75، "زاد المسير" 7/ 98. (¬6) انظر: "مجمع البيان" 8/ 725، "التبيان في غريب القرآن" 2/ 1096، "الدر المصون" 5/ 525، "البحر المحيط" 7/ 367، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 319. (¬7) وهذه الآية في آخر السورة رقمها (64). ولطول الفاصل بين القسم وبين جوابه على هذا القول. نجد أن الكسائي رده ولا يراه شيئًا. وكذا الفراء، وكذلك استبعده النحاس في "معاني القرآن" 6/ 76.

ولا أراه شيئًا، فاستبعده. وقال الفراء: (هذا قد تأخر عن قوله: {وَالْقُرْآنِ} تأخرًا كثيرًا وجرت بينهما قصص مختلفة، فلا يعد ذلك مستقيمًا في العربية) (¬1). وحكى هؤلاء أيضًا قولاً آخر في جواب القسم، وهو أن يكون قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} واعترض بين القسم وجوابه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومعناه: لكم أهلكنا، فلما طال الكلام المعترض بينهما حذفت اللام (¬2). وحكى الأخفش (¬3) فقال: يزعمون أن موضع القسم في قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ}. وقال النحاس (¬4): وهذا كالأول في الاستبعاد. وذكر صاحب النظم هذا القول فقال: لما قال: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} اعترض خبر آخر سواه، وهو قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فمرَّ فيه إلى قوله: {أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} ثم قال: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} فكان هذا جوابًا للقسم، ومعنى {إِنْ كُلٌّ}: ما كل، كما يقال في الكلام: والله ما هذا إلا كافر. وما اعترض بين قوله: {ص وَالْقُرْآنِ} إلى قوله: {إِنْ كُلٌّ} قصة واحدة، وهذا الجواب قد يتصل بها وينتظم معها، فيكون جوابًا للقصة المعترضة للقسم انتهى كلامه. وروي عن قتادة أن موضع القسم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬5) كما قال: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 397. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 397، "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 319، "مجمع البيان" 8/ 725. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 492. (¬4) "معاني القرآن الكريم" 6/ 76. (¬5) انظر: "الطبري" 23/ 119، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 77، "زاد المسير" 7/ 99.

{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا}. وقال صاحب النظم في هذا القول: معنى بل توكيد للخبر الذي بعده [...] (1) في سبب ما بعدها قبل هاهنا بمنزلة أن؛ لأنه توكيد ما بعده من الخبر وإن كان له معنى سواه في نفي خبر متقدم، فكأنه -عز وجل- قال: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}، كما تقول: والله إن زيدًا قائم. ثم قال: واحتج قائل هذا القول بأن هذا النظم وإن لم يكن للعرب فيه أصل ولا لها فيه رسم، فيحتمل أن يكون نظمًا أحدثه الله -عز وجل- لما بينا من احتمال بل معنى أن. انتهى كلامه (2). وقال أبو القاسم الزجاج: (قال النحويون: إن بل يقع في جواب القسم كما تقع لن؛ لأن المراد بهما توكيد الخبر، وذلك في قوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وكذلك قوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا} وهذا من طريق الاعتبار يصلح أن يكون بمعنى أن لا أنه شائع في عبارة العرب أن يكون بل جوابًا للقسم، لكن بل لما كان متضمنًا خبر وإثبات خبرًا آخر بعد، فكأنه وكد من سائر التوكيدات، فحسن وضعه في موضع إن وقد، فكأنه قال: ص والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا. وقال:

_ (1) في جميع النسخ قدر ثلاث كلمات غير واضحة، ولم أستطع الوقوف عليها في مضانها بعد طول بحث. (2) القول بأن الجواب هو قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهو قول قتادة، لعله أرجح الأقوال، وقد رجحه الإمام الطبري في "تفسيره" 23/ 119. فقال: والصواب عندي ما قاله قتادة؛ لأنَّ بل دلت على التكذيب، فمعنى الكلام: ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار، بل هم في عزة وشقاق ا. هـ. أما قول صاحب النظم بأن قائل هذا القول يحتج بأن النظم وإن لم يكن للعرب فيه أصل ولا لها فيه رسم .. إلى آخر كلامه، فهذا تكلف لا مسوغ له.

والقرآن المجيد لقد عجبوا) (¬1). وذهب أبو حاتم إلى هذا القول الذي يروى عن قتادة (¬2). وحكاه الأخفش أيضًا فقال: المعنى بل الذين كفروا في عزة وشقاق والقرآن ذي الذكر (¬3). قال الأخفش: (وهذا يقوله الكوفيون وليس بالجيد في العربية لو قلت: والله قام، وأنت تريد: قام والله لا يحسن أنها لليمين مواضع خاصة يقع فيها إذا أزلتها عنها لم يحسن) (¬4). قال النحاس: (هذا خطأ على مذهب النحويين؛ لأنه إذا ابتدأ بالقسم وكان الكلام معتمدًا عليه لم يكن بد من الجواب، وأجمعوا على أنه لا يجوز: والله قام عمرو بمعنى قام عمرو والله؛ لأن الكلام معتمد على القسم) (¬5). قال الأخفش وذكر وجها آخر: يجوز أن يكون لـ {ص} معنى يقع على القسم، لا ندري نحو ما هو كأنه كقوله: الحق والله (¬6). وهذا الذي قاله الأخفش صحيح المعنى على قول من يقول {ص} الصادق الله أو صدق محمد، وهذا الوجه ذكره الفراء أيضًا فجعل {ص} جواب القسم، ¬

_ (¬1) لم أقف على قوله. (¬2) انظر القول منسوبًا لأبي حاتم وقتادة في: "القطع والائتناف" ص 615. (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" 15/ 144، "المحرر الوجيز" 4/ 491، "البحر المحيط" 7/ 367، "زاد المسير" 7/ 99. (¬4) لم أقف عليه عن الأخفش. وانظر: "القطع والائتناف" ص 615. (¬5) "القطع والائتناف" ص 615. (¬6) لم أقف عله عن الأخفش. انظر: "المصدر السابق" ص: 615 فقد ذكر هذا القول.

قال: هو كذلك وجب والله، ونزل والله، فهي جواب لقوله: {وَالْقُرْآنِ} كما تقول: نزل والله) (¬1). وذكر النحاس وغيره من المعاني (¬2) وجهًا (¬3) آخر في جواب القسم، وهو أنه محذوف بتقدير: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار، ودل على المحذوف قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا}. قال: وهذا القول مذهب محمد بن جرير (¬4) وهو مستخرج من قول قتادة، وهو قول حسن. وشرح صاحب النظم هذا القول فقال: بل دافع لخبر قبله ومثبت لخبر بعده، فقد ظهر ما بعده. وأضمر ما قبله. وما بعده دليل على ما قبله فالظاهر يدل على الباطن، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} مخالفًا لهذا المضمر، فكأنه قيل: والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا يزعمون أنهم على الحق وكلامًا في هذا المعنى. فهذه ستة أوجه ذكرناها في جواب القسم (¬5). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 396. (¬2) لعل صحة الكلام: وغيره من أهل المعاني. (¬3) "معاني القرآن" للنحاس 6/ 76، "معاني القرآن" للفراء 2/ 397، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 319. (¬4) "تفسير الطبري" 23/ 119. (¬5) ولعل الأرجح منها -وهو ما سبق ترجيحه- قول قتادة، وهو أن الجواب قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. وإن كان القول السادس -وهو ما قال به النحاس وأهل المعاني- مستخرجاً من قول قتادة كما يقول المؤلف، فهو قول قوي ومقبول أما الأقوال الأخرى ففيها بعد. أما القول الأول: وهو أن الجواب قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} فبعده لطول الفاصل بين القسم والجواب كما أسلفنا. وأما الثاني: وهو أن الجواب قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} فبعيد للفاصل أيضًا، وإن كان الفاصل قليلاً، إلا =

2

2 - قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} قال ابن عباس (¬1): جحدوا وكذبوا وأشركوا. وقال مقاتل: كفروا بالتوحيد من أهل مكة. (في عزة) قال: يعني حمية، كقوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} [البقرة: 206] (¬2). وقال الكلبي: يكفروا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬3). قال المبرد: العزة التعزز عن الحق، نحو قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] وتحقيقه الأنفة عن الانقياد للحق (¬4). وقوله: {وَشِقَاقٍ} قال ابن عباس: يريد الاختلاف (¬5). والكلام في هذا تقدم (¬6). 3 - ثم خوَّفهم فقال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} قال مقاتل: يعني الأمم الخالية حين كذبوا الرسل. {فَنَادَوْا} عند نزول العذاب في الدنيا (¬7). ¬

_ = أن هذا لا يجعلنا نقول: إن هذا هو الجواب؛ لوجود ما يصلح جواباً قبله. وأما الثالث: وهو أن الجواب قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} فبعيد أيضًا لطول الفصل. وأما الرابع: وهو قول الأخفش: يجوز أن يكون لـ {ص} معنى يقع عليه القسم لا ندري نحن ما هو، كانه قولك الحق والله، فبعيد؛ لأن الجواب ظاهر ومفهوم ولا يحتاج إلى تقدير شيء. (¬1) لم أقف عليه (¬2) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬3) هكذا جاءت في العبارة في النسخ، وهو خطأ، فإن يكفروا تعدّى بالباء وليس بعن، فالصحيح: يكفروا بمحمد. ولم أقف على قول الكلبي. (¬4) انظر: "اللسان" 5/ 378 (عزز). (¬5) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 380. (¬6) عند الآية (256) من سورة البقرة في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. (¬7) "تفسير مقاتل" 115 أ.

ولم يذكر بأيش نادوا، والظاهر أنه أراد نادوا بالاستغاثة؛ لأن نداء من نزل به العذاب الاستغاثة، وعلى هذا دل كلام ابن عباس وغيره من المفسرين (¬1). وقال آخرون (¬2): نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب، وهو معنى قول قتادة (¬3). وقال الكلبي (¬4): كانوا إذا قاتلوا فاضطروا، قال بعضهم لبعض: مناص (¬5) فلما أتاهم العذاب، قالوا: مناص فقال الله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}. وعلى هذا المعنى والتقدير: فنادوا مناص، إلا أنه حذف المنادى، ودل عليه قوله: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: ليس الوقت وقت ما ينادون به، إلا أن هذا القول ضعيف؛ لأن هذا إخبار عن القرون الماضية المهلكة، ويبعد أن يقال: كل القرون كانت عادتهم عند الأضطرار في القتال أن ينادوا مناص. قال صاحب النظم: فنادوا أي: رفعوا أصواتهم، يقال منه: فلان أندى صوتًا من فلان أي: أرفع، ومنه قال الشاعر (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 121، "الماوردي" 5/ 77، "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب، "البغوي" 4/ 47. (¬2) ينسب هذا القول للسدي. انظر: "الطبري" 23/ 121، وذكر النحاس في "معانيه" 6/ 77 ولم ينسبه. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 121، "ابن كثير" 4/ 26. (¬4) انظر: "الماوردي" 5/ 78، "بحر العلوم" 3/ 129، "القرطبي" 15/ 145، وأورده البغوي 4/ 48 عن ابن عباس. (¬5) والمناص هنا المراد به: الفرار، فكأنه ينادي بعضهم بعضًا بالفرار والبحث عن ملجأ. (¬6) هذا البيت من الوافر للأعشى في: "الكتاب" 3/ 45، "الدر" 4/ 85 وليس في =

فقلتُ ادْعى وأدعُوْ فإن أندى ... لصوتٍ أن ينادي داعيان قال: وقوله: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ظرف لقوله: {فَنَادَوْا} لأنه وقت (¬1) له. والمعنى: فنادوا حين لا مناص أي: ساعة لا منجا ولا فوت، إلا أنه لما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو، وكما يقتضي الحال إذا جعل ابتداءً وخبرًا مثل قولك: جاءني زيد راكبًا فإذا جعلته مبتدأ وخبرًا اقتضى الواو مثل: جاءني زيد وهو راكب) (¬2). ومما يشبه هذا النظم قولك: أتيت زيدًا حين لم يطلع الفجر، ثم تقول: أتيت زيدًا والفجر لم يطلع، فارتفع الفجر بدخول الواو؛ لأنه جعل مبتدأ وموضعه نصب على الحال. وهذا الذي ذكره شرح قول قتادة: نادوا القوم على غير حين النداء، وتدل هذه الجملة على أنهم نادوا بالاستغاثة. قال ابن عباس (¬3) والمفسرون في قوله: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}: ليس بحين بروز ولا فرار ضبط القوم (¬4). قال أبو عبيد: المناص مصدر وناص ينوص، وهو المتجاوز الفوت (¬5). ¬

_ = "ديوانه". وللفرزدق في "أمالي القالي" 2/ 90 وليس في "ديوانه". ولد ثار بن شيبان النمري في "سمط اللآلئ" ص 726، "اللسان" 15/ 316 (ندى). وقيل: للأعشى أو للحطئية أو لربيعة بن جشم أو لدثار بن شيبان في: "شرح التصريح" 2/ 239، "شرح شواهد المغني" 2/ 827. وبلا نسبة في "أوضح المسالك" 4/ 182، "سر صناعة الإعراب" 1/ 392 (¬1) في (ب): زيادة (لا)، وهو خطأ. (¬2) انظر قول أبي علي الجرجاني في القرطبي 15/ 146. (¬3) انظر: "الطبري" 23/ 121، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 389. (¬4) انظر: "الطبري" 23/ 121، "تفسير الثعلبي" 3/ 254 ب. (¬5) لم أقف عليه عن أبي عبيد. وانظر: "اللسان" 7/ 102 (نوص).

وقال الفراء: (النوص التأخر في كلام العرب، وأنشد لامرئ القيس: أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص (¬1) (¬2) وقال أبو إسحاق: (يقال: ناصه ينوصه، إذا فاته، وفي التفسير: لات حين نداء. قال: ومعناه لات حين نداءٍ ينجي) (¬3). وأما لات والكلام في هذه التاء فقال وهب والكلبي: لات بلغة اليمن ليس (¬4)، هذا ما ذكر عن أهل التفسير. وأما النحويون فإنهم مختلفون في هذه التاء. قال أبو عبيدة: (ولات إنما هي ولا، وبعض العرب يزيد فيها هاء الوقف، فإذا اتصلت صارت تاء) (¬5). فعلى قوله، التاء لحقت لا. وقال أبو زيد: (لات التاء فيها صلة، والعرب تقول: لات بالتاء، ¬

_ (¬1) صدر بيت، وعجزه: وتقصر عنها خطوة وتبوص وهو من الطويل، لامرئ القيس في "ديوانه" ص 177، "تهذيب اللغة" 12/ 246 (ناص)، "اللسان" 5/ 97 (قعد)، 7/ 9 (بوص). وبلا نسبة في: "رصف المباني" ص 496. والشاهد فيه قوله: تبوصو، حيث جاءت الواو لإطلاق القافية. ومعنى نأتك: أي بُعدت عنك وهجرتك. وتنوص: تذهب متباعدًا، وتبوص تَعْجَل، يعني أنك تتردد بين الريث والعجلة. "شرح ديوان امرئ القيس" ص 122. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 397. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 320. (¬4) لم أقف على هذا القول عن الكلبي ولا عن وهب. وقد ذكر الثعلبي في "تفسيره" 3/ 254 ب، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 100 عن وهب أنها بالسريانية وليست بلغة أهل اليمن. وذكر البوي في "تفسيره" 4/ 48 أنها بلغة أهل اليمن ولم ينسب هذا القول لأحد، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 100 عن عطاء. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 176.

وأنشد: طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء (¬1) قال: والأصل فيها لا، والمعنى فيها ليس. قال: والعرب تقول: ما اسطيع وما أستطيع، ويقولون: ثمت في موضع ثم، وربت في موضع رب، ويا ويلتنا ويا ويلتا) (¬2). وذكر أبو الهيثم عن الرازي في قولهم: (لات هنا أي: ليس حين ذلك وإنما هو لاهَنَّا فأنت لا فقيل لاه، ثم أُضيِف فتحولت الهاء تاء، كما أنثوا رب ربة وثم ثمة) (¬3). وقال شمر: (أصل هذه التاء هاء وصلت بلا، فقالوا: لاه لغير معنى حادث كما زادوها في ثمة، فلما وصلوها جعلوها تاء. قال: وهذا إجماع من علماء البصرة والكوفة) (¬4). وقال أبو علي: من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث نحو: ثم وثمه ولات ولات (¬5). وخالف أبو عبيد (¬6) فقال: وجدنا هذه التاء تلحق مع حين ومع لات ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف، وهو لأبي زبيد الطائي في "ديوانه" ص 30، "الإنصاف" ص 109، "خزانة الأدب" 4/ 190، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 320، "القرطبي" 15/ 147. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 420 (لات). (¬3) انظر: "المصدر السابق". (¬4) انظر: "المصدر السابق". (¬5) لم أقف عليه. (¬6) ذكر قول أبي عبيد: ابن الأنباري في "التبيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 312، والقرطبي في "تفسيره" 15/ 146.

ومع أوان، فيقال: كان هذا تحين كان ذلك، وكذلك تاوان، ويقال اذهب ثلاث إن شئت فاهمز تلأن وإن شئت فلا تهمز، قال: وقد وجدنا ذلك في أشعارهم وفي كلامهم، فمن ذلك قول وجزة: العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم (¬1) قال: وقد كان بعض النحويين يجعلون الهاء موصولة بالنون فتقول العاطفونه، وهذا غلط بين؛ لأن الهاء إنما تقحم مع النون في مواضح القطع والسكوت، فأما مع الاتصال فإنه غير موجود، ومن إدخالهم التاء في أوان قول أبي زبيد (¬2): طلبوا صلحنا ولات أوان) (¬3). ومن إدخالهم التاء في الآن حديث أبي (¬4) عمر وسأله رجل عن عثمان فذكر [يبين لك أن التاء لم تكن زيادة مع لا] (¬5). مع أني تعمدت النظر في ¬

_ (¬1) البيت من الكامل، وهو لأبي وجزة السعدي في: "الأزهية" ص 264، "خزانة الأدب" 4/ 176، "اللسان" 9/ 251 (عطف). والشاهد فيه قوله: (العاطفون تحين) حين زاد التاء على حين، وخرِّج على أن هذه التاء في الأصل هاء السكت، وقيل: الشاهد حذف لا وإبقاء التاء لأن الحين مضافة في التقدير، والتقدير: العاطفون حين لات حين ما من عاطف، فحذف حين مع لا. (¬2) في النسخ كتب: أبو عبيد، ثم علق في الهامش: زبيد. ولعله وهم من الناسخ ثم صححه من اطلع على الكتاب. البيت لأبي زبيد كما سبق تخريجه. (¬3) انظر قول أبي عبيد في: "اللسان" 2/ 87 (ليت). (¬4) هكذا في النسخ، والصواب: (ابن). (¬5) هكذا جاءت في النسخ، والذي ورد عند القرطبي 15/ 147 حينما نقل كلام أبي عبيد قال: قال أبو عبيد: ومن إدخالهم التاء في الآن حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تَلاَن فعك.

المصحف الذي يقال له الإمام مصحف عثمان، فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين، قال: والوقف عندي على هذا الحرف ولا من غير تاء، ثم يبتدئ فيقول: تحين مناص) (¬1). وقال أبو إسحاق: (الوقف على لات بالتاء، فالكسائي يقف بالها لاه، فجعلها هاء التأنيث. قال: وحقيقة الوقف عليها بالتاء؛ لأن هذه التاء نظيرة التاء في الفعل في قولك: ذهبت، جلست، وفي قولك: زيدًا تمت عمرًا عند الوقف على تمت فخطأ فهاء الحروف بمنزلة تاء الأفعال؛ لأن التاء في الموضعين دخلت على ما لا يعرب وليس هو في طريق الأسماء نحو: قاعد وقاعدة) (¬2). قال أبو علي الفارسي فيما أصلح على أبي إسحاق (¬3): (ليس للعرفان والجهالة في قلب هذه التاء هاء في الوقف ولا لتركها مذهب، ولكن يدل على أن الوقف على هذا ينبغي أن يكون بالتاء؛ لأنه لا خلاف أن الوقف على الفعل بالتاء، وإذا كان الوقف على التي في الفعل بالتاء وقعت المنازعة في الحروف وجب أن ينظر فيلحق بالقبيل الذي هو أشبه، والحروف بالفعل أشبه منه بالاسم من حيث كان الفعل ثانيًا والاسم أولاً، فالحرف لهذا الثاني أشبه بالأصل، وأيضًا فإذا كانت هذه الهاء في بعض اللغات تترك تاء في الأسماء كما حكاه سيبويه، وأنشد أبو الحسن من قوله: ¬

_ (¬1) انظر قول أبي عبيد بتمامه في: القرطبي 15/ 146 - 147. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 321. (¬3) أصلح أبو علي على أبي إسحاق كتابه: "معاني القرآن وإعرابه"، وكتاب أبي علي اسمه: "الإغفال فيما أغفله الزجاج في معاني القرآن".

بل جوزتيها كظهر الحجفتْ (¬1) وإن تترك في الحرف ولا تقلب أجدر، فبهذا ترجح هذا القول على قول الكسائي في القياس) (¬2) انتهى كلامه. وقياس قول الكسائي أن هذه التاء هاء في الأصل، ثم تصير تاء في الوصل، فإذا ترك الوصل عاد إلى ما كان نحو: قاعدة وضاربة (¬3). وعند أبي إسحاق وأبي علي لم تكن هاء قط هو تاء في الأصل والوقف كالتاء التي في: ذهبت، وقعدت. وهذا هو الأشبه لما ذكره أبو علي من الحرف بالفعل أشبه منه بالاسم، وقال الفراء: (الوقف على لات بالتاء) (¬4). فهذه ثلاثة أوجه في الوقف: أحدهما: لات بالتاء، والثاني: لاه بالهاء، والثالث: لا، وهو مذهب أبي عبيد. قال الفراء: (والكلام أن ننصب تاء لات؛ لأنها في معنى ليس، أنشدني المفضل: ¬

_ (¬1) جزء من بيت، وتمامه: قد تبلت فؤاده وشغفت ... بل جَوْزِتيهاء كظهر الحجفتْ وهو من الرجز لسؤر الذنب. انظره مع أبيات أخرى في: "اللسان" 9/ 39 (حجف).11/ 70 (بلن). "تاج العروس" 23/ 119 (حجف). وبلا نسبة في "رصف المباني" ص 232، 238، 269، "المحتسب" 2/ 92. (¬2) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني"، رسالة ماجستير أعدها: محمد حسن إسماعيل، كلية الآداب، جامعة عين شمس- مصر. ص 1193 - 1194. (¬3) "معاني القرآن" 2/ 398. (¬4) انظر قول الكسائي في "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 781، "القرطبي" 15/ 146.

تذكر حب ليلى لات عينا ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا (¬1) (¬2) قال أبو إسحاق: النصب على أنها عملت عمل ليس، المعنى: وليس الوقت حين مناص، قال: والرفع جيد، ومن رفع بها جعل حين اسم ليس وأضمر الخبر على معنى: ليس حين منجى لنا) (¬3). قال (¬4) العرب من يضيف لات فتخفض بها، وأنشد: علمت أنني قد قتلته ... ندمت عليه حين لات ساعة مندم (¬5) وأنشد أيضًا قول أبي زيد: (ولات أوان) (¬6) ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لعمر بن شأس في "ديوانه" ص 73، "تذكرة النحاة" ص 734. وبلا نسبة في "خزانة الأدب" 4/ 169، 178، "معاني القرآن" للفراء 2/ 397، "الدر المصون" 5/ 522، والقرين: هو المصاحب. انظر: "اللسان" 13/ 337 (قرن). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 397. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 325. (¬4) هكذا جاء الكلام في جميع النسخ وهو موهم، والكلام بنصه عند الطبري 23/ 122 ونصُّه: وقال بعض نحوي الكوفة: من العرب من يضيف لات. (¬5) الذي عند الطبري إثبات الشاهد فقط وهو: لات ساعة مندم. والبيت الذي ذكره المؤلف سقطت منه كلمة (فلما) في أوله. وهو من الطويل، للقتال الكلابي في "الحماسة" 1/ 63 إلا أن روايته فيه هكذا: ولما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم وفي تحقيق د/ أحمد الخراط لـ"رصف الماني" ص 334 نسبه للقتال. وبلا نسبة في "تذكرة النحاة" ص 734، "خزانة الأدب" 4/ 168 , 169 , 174 , 187 , "تأويل مشكل القرآن" ص 529. (¬6) "تفسير الطبري" 23/ 122.

قال ابن قنيبة: (وجر العرب بها يفسد مذهب أبي عبيد؛ لأنهم إذا جروا ما بعدها جعلوها كالمضاف للزيادة واحتجاجه بقوله: القاطعون تحين. فإن ابن الأعرابي قال: إنما هو القاطعونه بالهاء، فإذا وصلت صارت الهاء تاء، قال: وسمعتُ الكِلَّابي (¬1) ينهى رجلاً عن عمل، فقال له: حسبكلآن (¬2) أراد حَسْبُكهُ الآن، فلما وصل صارت الهاء تاء) (¬3). قال أبو إسحاق: (الكسر بها شاذ، شبيه بالخطأ عند البصريين، ولم يرو سيبويه والخليل الكسر، والذي عليه العمل النصب والرفع. قال الأخفش: إن لات حين نصب حين بلا، كما تقول: لا رجل في الدار، ودخلت التاء للتأنيث) (¬4). قوله: {وَعَجِبُوا}] (¬5) قال صاحب النظم: هذا منظوم بقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}؛ لأنه منسوق عليه بالواو. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} معترض وليس من النصب في شيء. ¬

_ (¬1) هو: أبو الحسين عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد بن موسى الكِلابيُّ الدمشقي، يعرف بأخي تبوك، محدَّث صادق معمّر، ولد سنة 306. روى عن محمد بن خُزيم وطاهر بن محمد وأبي عبيدة بن ذكران وخلق غيرهم، وعنه روى تمام الرازي وعبد الوهاب الميداني وأبو القاسم السُميساطي وغيرهم. مات رحمه الله سنة 396 هـ. قال الكتَّاني: كان ثقة نبيلاً مأموناً. انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 557، "شذرات الذهب" 3/ 147، "العبر" 3/ 61. (¬2) في "تأويل المشكل" ص 531: (حسبَك تلان). (¬3) "تأويل المشكل" ص 530 - 531. (¬4) "معاني القرآن وإعرإبه" 4/ 321. (¬5) ما بين المعقوفين بياض في (ب).

5

قوله: {مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} قال ابن عباس (¬1) ومقاتل (¬2): يعني رسولاً من أنفسهم. {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} من أهل مكة. {هَذَا سَاحِرٌ} يفرق بين الإثنين بسحره، يعني: بين الولد ووالده والرجل وزوجته يُميل أحدهما فيَميل إليه ويهجر صاحبه. {كَذَّابٌ} حين يزعم أنه رسول. 5 - قوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ} قال ابن عباس والمفسرون: كان لهم ثلاثمائة وستون صنفًا فلما دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة إله واحد أنكروا وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} (¬3). والمعنى: أنهم كانوا يعبدونها مع الله، فلما أبطلها النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، تعجبوا وقالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحداً! أي: كيف جعل لنا إلهًا واحدًا بعد ما كنا نعبد آلهة، وليس المعنى أنه جعل جميعها واحداً، وإنما المعنى أنه أبطل آلهتنا وأثبت الإِلهية لواحد وهو الله ¬

_ (¬1) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص 380. (¬2) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬3) لم أقف عليه عن ابن عباس. وما ذكره المفسرون هو جزء من حديث طويل، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن قريشًا شكوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ابن طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: "يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذَل لهم بها العرب، وتؤدِّي إليهم بها الجزية العجم". قال: كلمه. قال: "كلمة واحدة". قال: ما هي؟. قال: "لا إله إلا الله". فقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحدًا، فأنزل الله هذه الآية. وهذا الحديث وردّ بعدة روايات وبطرق مختلفة، رواه الإمام أحمد في "مسنده"1/ 362، والترمذي في "سننه" 2/ 155، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير، تفسير سورة ص 2/ 432 وصححه ووافقه الذهبي. وذكره من المفسرين "الطبري" 23/ 125، "البغوي" 4/ 48، "القرطبي" 15/ 150.

تعالى، فقالوا: كيف جعلها واحدًا أي: كيف جعل الآلهة من الآلهة التي كنا نعبدها واحدًا وهو الله تعالى: {إِنَّ هَذَا} الذي يقول محمد من أن الآلهة واحد. {لَشَيْءٌ عُجَابٌ} قال مقاتل (¬1): لأمر عجب بلغة أزد شنوءة (¬2). وقال أبو عبيدة: (العرب قد تحول فعيلا إلى أفعال، وأنشد لعباس بن مرداس: أين دريد وهو ذو براعة ... تغدوا به سلهبة سراعة (¬3) أي: سريعة) (¬4). ونحو هذا قال الفراء (¬5) والزجاج (¬6) وغيرهما، قالوا: تقول العرب: رجل كريم وكُرَّام وكُرَام، وشيء كبير وكُبَّار وكُبَار، وطويل وطوّال، وطَوال وشيء عجب وعُجّاب وعُجَاب بالتشديد، وهي قراءة عيسى بن عمر (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 255 أ، "القرطبي" 15/ 150، "الدر المصون" 5/ 525. (¬2) أزد شنؤة من الأزد، وهي من أعظم قبائل العرب وأشهرها، وأزد شنوءة قسم من الأزد، نسبتهم إلى كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، كانت منازلهم السَّراة بتثليث وتُربة وبيشة. قلت: وهذه مدن ثلاث معروفة من مدن المملكة العربية السعودية. انظر: "معجم قبائل العرب" 1/ 15. (¬3) هذا البيت من الرجز لعباس بن مرداس في "مجاز القرآن" 2/ 177. والسلهبة: هي وصف يقال للفرس، إذ عظم وطال وطالت عظامه. انظر: "اللسان" 1/ 474 (سلهب). (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 177. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 398 س. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 321. (¬7) لم أستطع تحديد من هو؛ لوجود أكثر من قارئ بنفس الاسم، فهناك: أ- عيسى بن عمر الثقفي. ب- عيسى بن عمر الأسدي.

6

6 - قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ} قال المفسرون: لما أسلم عمر -رضي الله عنه- شق على قريش ذلك وفرح به المؤمنون، فانطلق الملأ منهم من قريش وهم سبعة وعشرون رجلاً من أشرافهم إلى أبي طالب وشكوا إليه ابن أخيه، فأرسل إليه أبو طالب فدعاه وعاتبه. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أدعوكم إلى كلمة واحدة. قالوا: وما هي؟. قال: لا إله إلا الله، فنفروا من ذلك، قالوا: أجعل إلآلهة إلهًا واحداً، وهو معنى قول ابن عباس (¬1) ومقاتل (¬2) وسعيد بن جبير (¬3). قال محمد بن إسحاق: نزلت {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} في مجلسهم ذلك (¬4). يعني: مجلس أبي طالب حين نازعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذلك قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ}. قال ابن عباس: يريد الأشراف منهم إلى أبي طالب. {أَنِ امْشُوا} قال: معناه: أي امشوا. وتأويله: يقولون امشوا. قال أهل المعاني (¬5): أن هاهنا بمعنى أي التي للتفسير، وذلك أنه صار انطلاقهم بدلالته على المشي بمنزلة الناطق به، كقولهم: قام فلان يصلي، أي أنه رجل صالح، فهذان وجهان: أحدهما وهو ما ذكره أبو إسحاق أن التأويل يقولون امشوا، والثاني: فسر انطلاقهم بقول بعضهم لبعض: امشوا. ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 23/ 125، "القرطبي" 15/ 150، وأورده السيوطي في "الدر" 7/ 146، وزاد نسبته لابن مردويه عن ابن عباس. (¬2) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬3) انظر: "المصادر السابقة". (¬4) انظر: "القرطبي" 15/ 151. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 299، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج 4/ 321، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 80.

وقال مقاتل (¬1): أن امشوا إلى أبي طالب. وذكر الفراء (¬2) وأبو إسحاق وجهًا آخر في {أَنِ امْشُوا} وهو أن في موضع النصب لفقد الخافض، والتقدير: انطلق الملأ منهم بأن امشوا، أي بهذا القول. وهذا يتوجه إذا حملت الانطلاق والمشي على الخروج من عند أبي طالب والذهاب من عنده لا إليه. وقد ذكر أبو إسحاق (¬3) هذا فقال: وقص هذه القصة التي ذكرناها في سبب النزول ثم نهضوا وانطلقوا من مجلسهم يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على آلهتكم. وعلى هذا القول المعنى: اخرجوا من عند أبي طالب وتفرقوا على هذا القول، وهو أن يمشوا فيصبروا على دينهم الذي هم عليه ويتمسكوا به. وقال مقاتل (¬4): يعني واثبتوا على عبادة آلهتكم، كقوله في الفرقان: {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي: لأمر يراد بنا , يعنون بإسلام عمر وزيادة أصحاب أصحاب -صلى الله عليه وسلم- قاله ابن عباس (¬5) ومقاتل (¬6). وقال الكلبي (¬7):إن هذا لشيء يراد بأهل الأرض. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 115 أ (¬2) "معاني القرآن" 2/ 399 (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 321. (¬4) "تفسير مقاتل" 115 أ. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "الماوردي" 5/ 79, "القرطبي" 15/ 152. (¬7) الطبري 23/ 125, "الماوردي" 5/ 78.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الزخرف إلى آخر سورة الحجرات تحقيق د. على بن عمر السحيباني من أول سورة ق إلى آخر سورة الطور تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء العشرون

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الزخرف إلى آخر سورة الحجرات تحقيق د. على بن عمر السحيباني من أول سورة ق إلى آخر سورة الطور تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء العشرون

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ على بن عمر السحيباني؛ فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري الرياض 1430 هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمكـ: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 2 - 877 - 04 - 9960 - 978 (ج 20) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمكـ: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 2 - 877 - 04 - 9960 - 978 (ج 20)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [20]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة الزخرف إلى آخر سورة الحجرات تحقيق د. على بن عمر السحيباني

تفسير سورة الزخرف

تفسير سورة الزخرف بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} قال ابن عباس: قَسَمٌ من الله بالقرآن المبين (1)، يريد الذي بَيَّنَ فيه الفرائض والسنن والشرائع، قال أبو إسحاق: {الْمُبِينِ} الذي أبانَ طريقَ الهدى من طرق الضلالة، وأبان كلَّ ما تحتاج إليه الأمة (2). 3 - قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي: صَيَّرناه. والجَعْل يكون بمعنى (3) التصيير، ذكرنا ذلك في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] والمعنى: صَيَّرْنا قرآنَ هذا الكتاب عربيًّا, لأن من القرآن العبراني (4)

_ (1) ذكر ذلك الطبري 13/ 47، والبغوي 7/ 205، وابن الجوزي 7/ 302 ولم ينسبوه. (2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 405. (3) انظر: "تهذيب اللغة" (جعل) 1/ 373، "اللسان" (جعل) 11/ 111، "مفردات الراغب" (جعل) ص 94، "تفسير البغوي" 7/ 205، "تفسير ابن عطية" 14/ 239. (4) قال السيوطي: اختلف الأئمة في وقوع المعرَّب في القرآن، فالأكثرون ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير، وأبو عبيدة، والقاضي أبو بكر، وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك، وقال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذاباً بالنبطية فقد أكبر القول. وقال ابن أوس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها. وقال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير =

4

والسرياني، فما نقل منه إلى العربية صار عربيًا بالتصيير والنقل. 4 - قوله تعالى: {وَإِنَّهُ} يعني: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} قال ابن عباس: في اللوخ المحفوظ (¬1). {لَدَيْنَا} يريد: الذي عندنا، قال مقاتل: يقول فإن نُسْخته في أم الكتاب، يعني: اللوح المحفوظ (¬2). وقال أبو إسحاق: {أُمِّ الْكِتَابِ} أصل الكتاب، وأصلُ كلِّ شيء أمُّه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، والدليل على ذلك: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (¬3) [البروج: 21 - 22]. وقال عبد الرحمن بن سابط: كلُّ شيء كائن إلى يوم القيامة مكتوب في أم الكتاب (¬4). ¬

_ = ألفاظ من القرآن إنها بالفارسية والحبشية والنبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد، وذهب آخرون إلى وقوعه فيه وأجابوا عن قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربياً والقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية. وعن قوله تعالى: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فصادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي، وابن الجوزي، وآخرون. انظر: "الإتقان" للسيوطي 1/ 366 - 369. (¬1) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 78 ب، والبغوي 7/ 205، والقرطبي 16/ 62 ولم ينسبوه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 789. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 405. (¬4) انظر: "الدر المنثور" 7/ 366.

5

قوله: {لَدَيْنَا} يجوز أن يكون من صفة أم الكتاب، كما ذكره ابن عباس (¬1)، ويجوز أن يكون المعنى: وإنه لدينا في أم الكتاب. {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال قتادة: أخبر عن منزلته وفضله وشرفه (¬2)، أي: إن كَذَّبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا رفيع، شريف، محكم من الباطل، قاله المفسرون (¬3). وقال أهل المعاني: العلي في البلاغة المظهر ما بالخلق إليه حاجة (¬4) في أحسن البيان، جهله من جهله، وعلمه من علمه. 5 - قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} قال الفراء (¬5) والزجاج (¬6): يقال: ضربت عنه وأضربت عنه، أي: تركته وأمسكت عنه. وقوله: (صفحًا). قال ابن قتيبة: أي: إعراضًا، يقال: صَفَحْت عن فلان، إذا أعرضت عنه، والأصل في ذلك أنك موليه صَفْحةَ عنقك. قال كُثيِّر يذكر امرأةً صفوحًا: صفُوحًا فَما تَلْقَاكَ إلا بَخِيلَةً ... فَمنْ مَلَّ مِنْها ذَلِك الوَصْلَ مَلَّتِ أي: معرضة بوجهها (¬7). وقال أبو علي: وانتصاب (صفحًا) من باب: (صُنْعَ الله) لأن قوله: (أفنضرب عنكم الذكر) يدل على أصفح عنكم صفحًا (¬8)، واختلفوا في ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 48، "تفسير ابن كثير" 6/ 216. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، انظر: "تفسيره" 13/ 49، "تفسير الوسيط" 4/ 63. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 205، "تفسير الوسيط" 4/ 64. (¬4) انظر: "غرائب التفسير" للكرماني 2/ 1060. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 28. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج 4/ 405. (¬7) إلى هنا انتهى ما نقله عن ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 395. (¬8) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 138.

معنى الذكر هاهنا، فقال أبو صالح ومجاهد: يعني: ذكر العذاب، والمعنى: يكذبون بالقرآن ولا يعاقبون (¬1). قال أبو إسحاق: المعنى: أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم، قال: والدليل على أن المعني هذا قوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} (¬2) وعلى هذا ضَرْب الذكر: رده وكفه، واختيار الفراء على هذا القول، وقال: المعنى: أفنضرب عنكم ذكر الانتقام منكم والعقوبة لكم, لأن كنتم قومًا مسرفين (¬3). وقال آخرون: معنى: الذكر هاهنا القرآن والتذكير به، قال ابن عباس: يريد: الضرب عنكم الموعظة (¬4)، وقال الكلبي: يقول الله لأهل مكة: أفنترك عنكم الوحي صفحًا فلا نأمركم بشيء ولا ننهاكم (¬5) ولا نرسل إليكم رسولاً أن كنتم قومًا مشركين، المعنى على هذا: أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنكم لا تؤمنون به (¬6)، وهذا معنى قول قتادة: والله لو كان هذا القرآن رُفع حين ردَّه أوائل هذه الأمة لهلكوا, ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 49، وانظر: "تفسير الماوردي" 5/ 216، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 62. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 206. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 27 ونص عبارته: والعرب تقول: قد أضربت عنك وضربت عنك، إذا أردت به: تركتك وأعرضت عنك. (¬4) لم أقف عليه، وكذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب: نضرب أو أضرب. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 79 أ، والبغوي 7/ 256، وأبو حيان 8/ 6 عن الكلبي. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 49، "البغوي" 7/ 206، "الجامع" للقرطبي 16/ 62. (¬7) أخرج ذلك الطبري 13/ 49 عن قتادة، ونسبه البغوي 7/ 206 لقتادة.

قال الأزهري: أفنعرض عن تذكيركم إعراضًا من أجل إسرافكم في كفركم (¬1). وقال أبو إسحاق مثل هذا القول أي: أنهملكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم (¬2)، والاختيار هذا القول، وهو قول ابن زيد واختيار الجبائي (¬3) لأنه أليق بما بعده من قوله: (أن كنتم قومًا مسرفين) (¬4)، وقرئ {إِنْ كُنْتُمْ} بكسر الهمزة وفتحها، فمن فتح فالمعنى: لأن، والكسر على أنه جزاء استغني عن جوابه بما تقدمه، مثل: أنت ظالم إن فعلت، كأنه قال: إن كنتم قومًا مسرفين نضرب (¬5). وقال أبو إسحاق: من كسر فعلى معنى الاستقبال، على معنى: إن تكونوا مسرفين، وقرئ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ} (¬6)، وقال الفراء: ومثله {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2] و (أن صدوكم) بالكسر والفتح وأنشد: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (صفح) 4/ 257. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 406. (¬3) هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة (الجبائية) مات سنة ثلاث وثلاثمائة، انظر: "وفيات الأعيان" 1/ 480، "البداية والنهاية" 11/ 125، "الأعلام" 6/ 256. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 50، "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 98، "الحجة" لأبي علي 6/ 138. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 405.

6 - 8

أَتَجْزعُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتا ... جِهَارًا وَلَم تَجْزَعْ لِقَتْلِ ابن خَازِمِ (¬1) قال: وفي قوله: {أَنْ صَدُّوكُمْ} {أَنْ} الفتح والكسر (¬2) واختار أبو عبيد النصب، وقال: لأن الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم (¬3). ثم عزى نبيه بقوله: 6 - 8 - {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 6 - 8]. قال ابن عباس: يريد أشد من قومك بطشًا (¬4)، ويعني: بالأشد بطشًا الأولين الذين ذكر أنه أرسل فيهم الرسول فاستهزؤا به فأهلكهم الله، وهم كانوا أشد بطشًا من قريش. قال ابن عباس: يعني: أكبر عددًا وأظهر جَلدًا (¬5)، ونظم الكلام ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق انظر: "ديوانه" 855، "الخزانة" 3/ 655، "شرح شواهد المغني" 1/ 86، وهو من قصيدة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك ويهجو جريرًا وقتيبة هو: قتيبة بن مسلم الباهلي القائد المشهور، وأما ابن خازم فهو: عبد الله بن خازم السلمي أمير خراسان من قبل ابن الزبير، والشاهد فيه كسر (إن) وحملها على معنى الشرط، وقد ورد البيت في "تفسير الطبري" 13/ 50، "الدر المصون" 6/ 92. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 27. (¬3) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 79 ب، والشوكاني في "فتح القدير" 4/ 548 عن أبي عبيد، وذكره بهذا اللفظ القرطبي 13/ 63 ولكن نسبه لأبي عبيدة فلعله تصحيف (عبيد). (¬4) ذكر ابن الجوزي أن المراد: قريش، ولم ينسبه، انظر: "زاد المسير" 7/ 303، وقال البغوي 7/ 206: أي: أقوى من قومك، وقال القرطبي: الكناية في {مِنْهُمْ} ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} فكنى عنهم بعد أن خاطبهم 16/ 63. (¬5) قال القرطبي 16/ 64: أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. ولم ينسبه.

يوجب أن يكون التقدير: فأهلكناهم، يعني الأولين، فحذف مفعول الإهلاك لدلالة الكلام عليه: {أَشَدَّ مِنْهُمْ} منتصب على الحال، وفيه تخويف لكفار مكة، والكناية في (منهم) تعود إلى المشركين الذين خاطبهم بقوله: (أفنضرب عنكم الذكر صفحًا)، كنى عنهم بعد أن خاطبهم (¬1). قوله تعالى: {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قال الكلبي: سنة الأولين ممن أهلك، وهو قول مجاهد (¬2). قال مقاتل: يعني: سنة الأولين في العقوبة حين كذبوا رسلهم (¬3). وقال قتادة: عقوبة الأولين (¬4). وقال ابن عباس: يريد: وسبق ما أنزل الله في القرون الأولين قوم نوح وعاد وثمود (¬5)، وعلى هذا معنى الآية: وسبق ما أنزلنا في إهلاكهم، وهو مَثَلٌ ضربناه لهم، وتقدير الكلام: مثل الأولين لهم. قال أهل المعاني (¬6): ومضى مثل الأولين لهؤلاء الباقين، أي: أنهم قد سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي ما نزل بهم، فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} [الفرقان: 39]، وكقوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 63. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 51، "تنوير المقباس" ص 489. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 789. (¬4) "تفسير الطبري" 13/ 51 فقد أخرجه عن قتادة، ونسبه القرطبي لقتادة، انظر: "الجامع" 16/ 64. (¬5) لم أقف عليه، وكذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب: (الأولى). (¬6) لم أقف عليه.

9

أَنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45] والمعنى: سبق فيما أنزلنا إليك بشبه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب، ولما أهلكوا هؤلاء بتكذيبهم، فعاقبة هؤلاء أيضًا الإهلاك لأنهم أشباه بعضهم لبعض، وأما قول المفسرين في تفسير قوله: (مثل الأولين) عقوبتهم وسنتهم (¬1)، فهو معنى وليس تفسير؛ لأن المعنى ذِكْر بيان ما حل بهم ليعتبر هؤلاء. ثم ذكر أن هؤلاء مع شركهم وكفرهم يقرون بما هو الحجة عليهم فقال: 9 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} قال ابن عباس: ولئن سألت قومك يا محمد (¬2) {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} قال: يريد إقرارًا منهم بعدلي وعلمي بخَلْقي، قال الكلبي: وهذا إيمان منهم وهم يخالفون فيشركون به الأصنام (¬3). وقال أهل المعاني: هذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ أقروا بالله خالق السموات والأرض، ثم عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث (¬4)، وقد تم الإخبار عنهم (¬5) ثم ابتدأ جل وعز دالًّا على نفسه فقال: 10 - قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} (¬6) قال صاحب ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 51، "تفسير الثعلبي" 10/ 79 أ، "تفسير البغوي" 7/ 206، "تفسير الماوردي" 5/ 216. (¬2) ذكر ذلك البغوي 7/ 206 ولم ينسبه، وابن عطية 14/ 242 ولم ينسبه. (¬3) ذكر نحو ذلك في "تفسير الوسيط" 4/ 65 ولم ينسبه، وكذلك "البغوي" 7/ 207. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 207، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 64. (¬5) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 646. (¬6) نص الآية: {مَهْدًا} قال أبو علي الفارسي: اختلفوا فى قوله: {مَهْدًا} (طه: 53) =

11

النظم: أخبر الله عما يقول الكفار إذا سئلوا عمن خلق السموات والأرض (¬1)، ابتدأ -عز وجل- وصف نفسه غير حاكٍ ذلك عن الكفار فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}، ولو كان منتظمًا بما قبله من كلام الكفار لوجب أن يكون نظمه: الذي جعل لنا الأرض، والمعنى العزيز العليم الذي أوموا إليه أنه خلقهن هو الذي جعل لكم الأرض مهادًا، قال: ونظيره من كلام الناس: أن يسمع الرجل رجلاً يقول: الذي بني هذا المسجد فلان العالم، فيقول السامع لهذا الكلام: الزاهد الكريم، كأنه عرفه فزاد في وصفه، فيكون النعتان جميعًا لرجل واحد من رجلين مختلفين، وكذلك قوله -عز وجل-: {الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} صفة من صفات الله محكية عن الكفار. قوله: {الَّذِي جَعَلَ} صفة من صفاته أضافها -عز وجل- إلى الصفة التي حكاها عن الكفار؛ لأنها حق، وإن كان من كلام الكفار، وتفسير هذه الآية قد سبق في سورة طه [آية 53]. وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فيه قولان: أحدهما: تهتدون في أسفاركم إلى مقاصدكم، وهذا قول الحسن ومقاتل، والثاني: لتهتدوا إلى الحق [في بالاعتبار] (¬2) الذي جعل لكم، وهذا معنى قول ابن عباس (¬3). 11 - قوله: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} قال ابن عباس: يريد ¬

_ = في زيادة الألف ونقصانها هاهنا في [الزخرف: 10]، ولم يختلفوا في غيرها. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر {مِهْادًا} بالألف في كل القرآن، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {مَهْدًا} بغير ألف فيها. انظر: "الحجة" 5/ 223. (¬1) كذا رسمها في الأصل، ولعله سننه لفظ: (ثم). (¬2) كذا رسمها في الأصل ولعل المراد: (فيه بالاعتبار). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 790، "تفسير الماوردي" 5/ 23، "تفسير ابن عطية" 14/ 243، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 64

12

ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم وأهلكهم، بل هو بقدر حتى يكون معاشًا لكم ولأنعامكم (¬1). 12 - {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي الأصناف والضروب والألوان والذكر والأنثى. 13 - قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} قال أبو عبيدة: التذكير لـ: ما (¬2)، وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند، فلذلك ذكَّر وجمع الظهور (¬3). {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} يعني النعمة بتسخير ذلك لكم، مراكب في البر والبحر، وقال الكلبي: هو أن تقول: الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه (¬4)، وهذا معنى قول ابن عباس: تذكروا كرامة ربكم إذا استويتم عليه، يعني: إكرامه إياكم بتلك المراكب (¬5)، ويدل على هذا قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70]. وقوله: {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} قال مقاتل: ذلل لنا هذا المركب (¬6)، وقال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم الفلك بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] ويعلمكم إذا ركبتم الإبل أن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 52، "تفسير البغوي" 207/ 7، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 64، وقد نسبه القرطبي، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 65 لابن عباس. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 202. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 28. (¬4) ذكر ذلك في "الوسيط" 4/ 65 ونسبه لمقاتل والكلبي. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 790.

تقولوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (¬1). قال ابن عباس: يريد: ولا طاقة لنا بالإبل ولا بالفلك ولا بالبحر لولا أن الله سخره لنا (¬2) ومعنى المقرن: المطيق في قول المفسرين (¬3)، قال أبو عبيدة: فلان مقرن لفلان، أي: ضابط له وأنشد: ولَسْتُم للصِّعَابِ بمُقرنِينَا (¬4) وقال الليث: أقرنت لهذا البرذون والبعير، أي قد أطقته، وكان اشتقاقه من قولك: صوت له قرنًا مطيقًا (¬5)، ونحو هذا قال الزجاج وابن قتيبة قال: ومعنى: أنا قرن لفلان، أي: مثله في الشدة (¬6). وقال صاحب النظم: هذا كله خبر عن ظاهره، ومعناه في الباطن أمر؛ لأنه لو كان خبرًا لوجب أن يكون ذلك عامًا في الإتيان والعمل به، فلما لم يكن ذلك عامًا، وكان خاصًّا في بعض، دل ذلك عليه أنه أمر أخرج مخرج الخبر، قال: وقد قيل إن معناه: ليأمركم إذا استويتم عليه أن تذكروا نعمة ربكم كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 13/ 54 عن قتادة، ونسبه في "الوسيط" لقتادة. (¬2) نسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 65. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 55، "الماوردي" 5/ 218، "القرطبي" 16/ 66. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 202، والبيت للكميت وصدره قوله: ركبتم صعبتي أنشرًا وحيفًا والشاهد قوله: مقرنينا: أي ضابطين. وقد استشهد به النحاس في "معاني القرآن" 6/ 341، والقرطبي في "الجامع" 16/ 66. (¬5) انظر: كتاب: العين 5/ 143 (قرن) بلفظ: صرت له قرينا أي مطيقًا (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 406، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 395.

15

إلا لآمركم أن تعبدونِ، ولو كان على ظاهر النظم لوجب أن يعبدوه كلهم. والله أعلم. 15 - قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}. قال صاحب النظم: رجع إلى ذكر الكفار الذين قدم ذكرهم في أول السورة، فابتدأ خبرًا عنهم من غير أن يصله في المعنى بما قبله؛ لأنه لا يتصل بشيء مما تقدمه، وإن كان منسوقًا عليه بواو العطف، ومعنى الجزء في اللغة: القطعة والنصيب، وجمعه أجزاء، ويقال: جزأت الشيء بينهم وجزأته، إذا قسمته، تخفف وتثقل (¬1). وذكر المفسرون في هذا قولين: أحدهما: قال ابن عباس: يريد حيث جعلوا الملائكة بنات الله (¬2)، وعلى هذا معنى الآية حكموا بأن بعض العباد وهم الملائكة له أولاد. فمعنى الجعل هنا الحكم بالشيء، وحُذِفَ من الكلام مفعولٌ هو مراد على تقدير: وجعلوا له من عباده جزءًا ولدًا أو بنات. القول الثاني: أن معنى الجزء هاهنا العدل والشبيه، وذلك أنهم عبدوا الملائكة والجن، فجعلوهم لله عدلًا وشبيهًا، وهذا معنى قول مقاتل وقتادة (¬3)، وتقدير هذا القول كتقدير القول الأول؛ لأن المعنى: وجعلوا له ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (جزى) 11/ 146، "اللسان" (جزأ) 1/ 47، "كتاب الجيم" ص 93. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 55 عن مجاهد والسدي. ونسبه في "الوسيط" 4/ 66 لابن عباس ومجاهد والحسن. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 790، "تفسير الطبري" وقد ذكر القولين 13/ 55 - 56، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 396، "تفسير الماوردي" 5/ 219.

16

من عباده جزءًا عدلاً، فحذف أحد المفعولين، وذكر أبو إسحاق في الجزء قولاً آخر فقال: أنشدني بعض أهل العلم بيتًا يدل على [أن] (¬1) معنى الجزء الإناث، ولا أدري البيت قديمٌ أم مصنوع وهو: إنْ أَجْزأَتْ حُرَّةٌ يومًا فلاَ عَجَبٌ ... قَدْ تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَانَا (¬2) أي: إن ولدت أنثى، قال الأزهري: واستدل قائل هذا القول بقوله -عز وجل-: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] قال: وهذا القول ليس بشيء، والجزء بمعنى الإناث غير موجود في كلام العرب، والشعر القديم الصحيح لا يعبأ بالبيت الذي ذكره لأنه مصنوع (¬3)، ومعنى الآية: أنهم جعلوا لله من عباده نصيبًا، على معنى أنهم جعلوه نصيب الله من الولد، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، أي: وصفوهم بالأنوثة، وكذبوا في المعنيين جميعًا: في قولهم إنهم بنات الله، وفي أنهم إناث. قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ} يعني: إن الكافر (لكفور) لجحود لنعم الله (مبين) بيِّن الكفران، والاختيار: القول الأول لقوله: ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) البيت استشهد به ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 396، والماوردي في "تفسيره" 5/ 219، وأبو حيان في "البحر" 8/ 8، "اللسان" (جزأ) 1/ 47. وقال الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ما هو إلا كذب على العرب ووضح محدث متحول ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا بيتاً وبيتاً: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئة انظر: "الكشاف" 3/ 413. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" بتصرف يسير (جزى) 11/ 145.

17

16 - {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} وهذا استفهام توبيخ (¬1)، يقول: اتَّخذ ربكم لنفسه البنات {وَأَصْفَاكُمْ} واختصكم وأخلصكم {بِالْبَنِينَ} ويقال: أصفيت فلانًا بكذا، أي: آثرته به، وهذه الآية كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] قال أهل المعاني: والحجة عليهم في هذه الآية أنه ليس يحكم من اختار لنفسه أدون المبدلين ولغيره أعلاها، ولو كان على ما يقوله المشركون من اتخاذ الولد، لم يتخذ لنفسه البنات ويصفهم بالبنين، فغلطوا في الأصل وهو: جواز [لاتخاذ] (¬2) الولد، وفي البناء على الأصل وهو اتخاذ البنات، فنعوذ بالله من الخطأ في الدين، ثم [رادا] (¬3) احتجاجًا في القول عليهم بقوله. 17 - قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} قال مقاتل: بالذي وصف للرحمن شبهًا (¬4)، وقال [مقاتل] (¬5): بما جعل لله شبهًا (¬6)، وذلك أنهم إذا أجازوا أن تكون الملائكة بنات الله، فقد جعلوا الملائكة شبهًا لله، وذلك أن ولد كل شيء شبهه وجنسه، وهذه الآية مفسرة في سورة النحل [آية 58]. ووجه الاحتجاج عليهم من هذه الآية أن من اسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، فهو أحق أن يسود وجهه بإضافته مثل ذلك إلى من هو ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 56، "تفسير البغوي" 7/ 208، "زاد المسير" 7/ 305. (¬2) كذا رسمها بالأصل، ولعل الصواب (اتخاذ). (¬3) كذا رسمها بالأصل، ولعل الصواب (رد) أو (أراد). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 791. (¬5) كذا في الأصل ولعله تصحيف، ولعل الصواب (قتادة). (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 56، فقد أخرج عن قتادة بلفظ: (بما جعل لله).

18

أجل منه، فكيف إلى ربه -عز وجل-. 18 - قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قال مقاتل: ينبت في الزينة، يعني: الابنة (¬1) قال المبرد: تقدير الآية: أو يجعلون له من ينشأ في الحلية يعني البنات، ونحو هذا قال الزجاج والفراء (¬2)، وعلى هذا موضع (من) نصب، وهو اختيار أبي علي قال: موضع (من) نصب على تقدير: اتخذوا له من ينشأ في الحلية على وجه التقريع لهم بما افتروه (¬3)، وذكر الفراء قولين قال: وإن شئت جعلت (من) في موضع رفع على الاستئناف، وعلى هذا يضمر الخبر، قال: وإن رددتها على أول الكلام على قوله: {بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ} خفضتها (¬4). وقرأ حمزة والكسائي: (ينشؤ) بالتشديد على غير تسمية الفاعل، وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود (¬5). قال أبو علي الفارسي: يقال: نشأت السحاب، ونشأ الغلام، فإذا نقل بالهمز تعدَّى إلى مفعول كقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] والأكثر في الأفعال التي لا تتعدى إذا أريد تعديتها أن ينقل بالهمزة، أو بتضعيف العين نحو: فرَّحته وأفرحته، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 791. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 457، "معاني القرآن" للفراء 3/ 29، ولم أقف على قول المبرد. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 140. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 29. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 58، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 646، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 71، "الإتحاف" ص 472.

وغرَّمته وأغرمته، وقد جاء منه شيء عدي بتضعيف العين دون الهمز وهو قولهم: لقيت خيرًا, ولقانيه زيد، ولا تقول: ألقانيه. ومن هذا قوله: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75]. {فَوَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} [الإنسان: 11] فيجوز أن يكون نشأ من ذلك، عدي بالهمزة دون التضعيف؛ لأنا لم نعلم نشأ، كما جاء بلغ وأبلغ، ونجَّى وأنجى، وإذا كان كذلك كان الأوجلى: أو من ينشأ من الإنشاء، ومن قال (ينشأ) فهو في القياس مثل: فرَّح وأفرح، وغرَّم وأغرم، وإن عزَّ وجود ذلك في الاستعمال. هذا كرمه (¬1)، وهو كما قال، فإن أحدًا من أهل اللغة لم يحكِ نشأ، ولا حكاه الأزهري عن أحد في كتابه، غير أن الكسائي قال: نشى فهو منشأ ينشأ وينشيه، واختار أبو عبيد هذه القراءة، قال: ومعناه أن الله تعالى فعل ذلك بهن (¬2). قال المبرد: الفرق الذي ذكر أبو عبيد بين (ينشأ وينشا) ليس بشيء، لأنه إذا أنشئ نشأ، ولا ينشَّأ إلا أن ينشأ، وكذلك: إنك ميت، إنما هو ممات؛ لأنه لا يموت حتى يمات، وكذلك كل ما ينسب إلى العبد في خلقه (¬3). قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} يعني المخاصمة {غَيْرُ مُبِينٍ} للحجة قاله الكلبي، وقال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها (¬4)، وقال أبو إسحاق: إن الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تبين (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 140. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 102، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 71. (¬3) قولا الكسائي والمبرد لم أقف عليهما، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 646. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرازق" 2/ 195، "الطبري" 13/ 57، "البغوي" 7/ 209. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 407.

19

والمعنى: أنهم نسبوا إلى الله ما يكرهونه، ومن لا يكاد يقوم بحجته أو يستوفيها، وهذا في ظاهره استفهام وهو إنكار وردٌّ، وهو الذي ذكرنا من أن المراد بالآية البنات، وهو قول جماعة أهل التفسير (¬1) وقد قال ابن زيد: هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب وينشؤنها في الحلية ثم يعبدونها (¬2)، والقول هو الأول، قال أبو إسحاق: والأجود أن يكون يعني به المؤنث (¬3). 19 - قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ} قال أبو إسحاق: الجعل هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء، يقول: قد جعلت زيدًا أعلم الناس، أي قد وصفته بذلك وحكمت به. قوله: {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} (¬4)، وكلٌّ صواب، قد جاء التنزيل بالأمرين جميعًا في وصف الملائكة، وذلك قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأنبياء: 19]، وفي قوله: (عند الرحمن) دلالة على رفع المنزلة، والتقريب كما قال: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرازق" 2/ 195، "الطبري" 13/ 57، "الماوردي" 5/ 219. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 57 عن ابن زيد، ونسبه الثعلبي 10/ 80 ب لابن زيد، وانظر: "تفسير الماوردي" 5/ 220. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 407. (¬4) لعل في الكلام سقطًا هاهنا، فكأن المؤلف يشير إلى القراءة الأخرى، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر: {عِندَ الرَّحْمَنِ} بالنون، وقرأ الباقون: {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} بالباء، ومما يقوى ذلك أنه غالباً ما ينقل عن "الحجة" لأبي علي الفارسي وهي هكذا في "الحجة" بنفس الشواهد انظر: "الحجة" 6/ 140. وقال في "الوسيط" 4/ 67 بعد هذا المقطع: وقرئ {عِندَ الرَّحْمَنِ} وكل صواب.

الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]. وهذا من القرب في المنزلة والرفعة في الدرجة، وليس من قرب المسافة (¬1)، واختار أبو عبيد: (عباد الرحمن) قال: وفي ذلك تكذيب لقولهم بنات الله، أخبر أنهم عبيده وليسوا بناته (¬2)، واختار أبو حاتم: (عند الرحمن)، وقال: إن فيه مدحًا لهم. وقال المبرد: هذه القراءة أنبأ عن صحة كذبهم مما اختاره القسم (¬3)، لأن المعنى أن الملائكة عنده وليسوا عندهم [رواهم] (¬4)، فكيف حكموا بأنوثتهم، يدل على هذا قوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، (فعند) على ما ذكره المبرد ينبئ عن العلم لا عن الدنية (¬5). واختلفوا في قوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فقرأه العامة من الشهود، ويدل عليه قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150]، وقرأ نافع: (أَأشْهِدُوا) على أفعلوا بضم الهمزة وسكون الشين وقبلها همزة الاستفهام مفتوحة، ثم خففت الهمزة الثانية من غير أن يدخل بينهما الفاء. وروى المسيبي عنه بإدخال الألف بين الهمزتين، و (شهد) الذي يراد به حضر يتعدَّى إلى مفعول به من غير حرف جر كقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 140، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 256. (¬2) انظر: "اختيار" أبي عبيد في "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 102، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 72. (¬3) كذا رسمها, ولعله سقط لفظ (الأول). (¬4) كذا رسمها, ولعل الصواب (يرونهم). (¬5) قال الطبري: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده. "تفسير الطبري" 13/ 58، ولم أقف على قول المبرد.

شَهدنا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيْبَةٍ ... يَدَ الدَّهرِ إلَّا جبْرئيلٌ أمَامُها (¬1) وهذا محذوف المفعول التقدير فيه: شهدنا المعركة أو من اجتمع لقتالها، وهذا الضرب يتعدَّى إلى مفعول واحد، فإذا نقل بالهمز تعدَّى إلى مفعولين تقول: شهد زيد المعركة، وأشهدته إياها، ومن ذلك قوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) [الكهف: 51]، فقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} من الشهادة التي هي الحضور، كأنهم وبِّخوا على أن قالوا ما لم يحضروا له، مما حُكْمُه أن يُعْلم بالمشاهدة، ومن قرأ: (أَأشْهِدوا) فالمعنى: أو أحضروا ذلك (¬3)، ويقوي هذه القراءة قوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، وقال المبرد: القراءتان تؤولان إلى معنى؛ لأنه لا يشهد هذا الموضع أحد إلا أن يشهده الله (¬4). [فإذا شهدوا وأشهدوا، وإذا شهد فقد شهدوا] (¬5). قال ابن عباس: يريد أحضروا أو عاينوا خلقهم. قال الكلبي ومقاتل: لما جعلوا الملائكة بنات الله سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما يدريكم أنهم إناث؟ " قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم ¬

_ (¬1) البيت لحسان بن ثابت في ملحقات "ديوانه" 1/ 522، وينسب البيت لكعب بن مالك. انظر: "الخزانة" 1/ 199، "اللسان" (جبر) 4/ 114، "الحجة" 6/ 142. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 142، وفيها: أو من اجتمع لقتالنا، بدل قتالها، وكتاب: التذكرة في القراءات 2/ 666، "الكشف" لمكي 2/ 257. (¬3) كذا رسمها في الأصل وفي "الحجة" (أأشهدوا)، فالمعنى: أأحضروا ذلك، انظر: 6/ 146. (¬4) لم أقف على قول المبرد، وقد ذكر نحو ذلك النحاس في "إعراب القرآن" 4/ 104. (¬5) كذا رسمها في الأصل، وفي "إعراب القرآن" للنحاس (لأنهم إذا شهدوا فقد أشهدوا).

20

يكذبوا أنهم إناث، فقال الله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أي: ستحفظ شهادتهم ويسألون عنها في الآخرة (¬1). 20 - قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} قال الكلبي: بنو مليح (¬2) من خزاعة كانوا يعبدون الملائكة، قالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، ونحو هذا قال قتادة ومقاتل (¬3). قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} قال أبو إسحاق: ما لهم بقولهم إن الملائكة بنات الله من علم (¬4)، يدل على هذا قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وقال أصحابنا إنهم عنوا بقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أنه قدرنا على عبادتها فَلَمْ يعاقبنا؛ لأنه رضي بذلك منا (¬5). وذلك كذب منهم، لأن الله تعالى وإن أراد كفر الكافر لا يرضاه، وليس تقديره الكافر على الكفر رضا منه (¬6)، فذلك يدل على ذلك. {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي: لا علم ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 490، "تفسير مقاتل" 3/ 791، "تفسير البغوي" 7/ 209، "تفسير الوسيط" 4/ 68. (¬2) بنو مليح بن عمرو بن عامر بن لحي بن قَمَعَة بن إلياس، ويقال إن بني مليح هؤلاء من ولد الصلت بن مالك بن النضر بن كنانة انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 238. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 490، "تفسير مقاتل" 3/ 791، "القرطبي" 16/ 74. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 408. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 81 أ. (¬6) قال ابن كثير رحمه الله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ: الأول: جعلهم لله تعالى ولدًا. الثاني: دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين. =

21

لهم بما يدَّعون، ولكنهم يخرصون في ذلك، وهذا إنكار ورد ولا يحتمل أن يكون ردًا لظاهر قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} , لأن هذا القول حق وإن كان من الكافر؛ لأن الحق حق حيث ما كان، فلا يحتمل أن يكون هذا الإنكار واقعًا إلا على ما أولناه من أن قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا؛ لأن هذا القول حق أمرنا أن نعبدهم؛ لأن هذا افتراء وكذب منهم على الله، فهذان قولان صحيحان في معنى الآية: أحدهما: وهو أن قول أبي إسحاق أن قوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} إنكارٌ لما ذكر عنهم من قوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}. والثاني: أنهم [أروا] (¬1) بقولهم: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، أنه أمرنا بذلك، وأنه رضي بذلك فقدرنا عليه، فأنكر عليهم، وهذه الآية كقوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة النحل [35]. 21 - قوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} قالوا كلهم: من قبل القرآن، قال مقاتل: يقول هل أعطيناهم كتابًا من قبل ¬

_ = الثالث: عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله -عز وجل-. الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيرًا فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار. انظر: "تفسير ابن كثير" 6/ 222. وقال شارح الطحاوية: أما أهل السنة فيقولون إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. انظر: "شرح الطحاوية" 1/ 79. (¬1) كذا رسمها, ولعل المراد (أرادوا).

22

القرآن بأن يعبدوا غير الله (¬1) فهم به مستمسكون. قال ابن عباس: فهم به يعملون (¬2)، وقال الكلبي: يأخذون بما فيه (¬3). وقال أبو إسحاق: أم هل قالوه عن كتاب، والمعنى آتيناهم كتابًا بما قالوه من عبادة غيره (¬4). [ذكر أنه لم] (¬5) يعبدوا غيره بكتاب [إذا] (¬6) العلم بالحق لا يدرك إلا بالسمع أو بالعقل، وليس يوجب ما يفعلون عقل ولا سمع. 22 - ثم ذكر أنهم لم يأتهم كتاب، فقال: {بَلْ} أي ما أتيناهم كتابًا ولكنهم {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}. وقال الزجاج: أعلم الله أن فعلهم اتباع ضلالة آبائهم بقوله: {بَلْ قَالُوا} (¬7). وقال صاحب النظم: أي ليس لهم حجة إلا تقليد آبائهم، وقولهم: إنا وجدناهم على دين فنحن نتبعهم، ومعنى الأمة في هذه الآية: السنة والملة والدين، في قول جميعهم (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 792. (¬2) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" ولم ينسبه. انظر: 16/ 74. (¬3) انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" 3/ 205، "تنوير المقباس" ص 495. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 408. (¬5) كذا في الأصل، ولعل الصواب (ذكر أنهم لم). (¬6) كذا في الأصل، ولعل الصواب (إذ). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 408. (¬8) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 205، "الماوردي" 5/ 221، "البغوي" 5/ 210.

23

{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} وقال ابن عباس: يعنون الضلالة التي هم عليها، جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين (¬1). 23 - ثم أخبر تعالى أن غيرهم قالوا هذا القول فقال: {وَكَذَلِكَ} أي وكما قالوا {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} الآية. قوله: {مُتْرَفُوهَا} قال ابن عباس ومقاتل: ملوكها وأشرافها وجابرتها (¬2)، وقال أبو إسحاق قوله: {مُهْتَدُونَ} و {مُقْتَدُونَ}، يصلح أن يكون جوابًا لـ: {إِنَّا}، و {عَلَى} من صلته والتقدير: إنا مهتدون على آثارهم، وكذلك مقتدرون، ويصلح أن يكون خبرًا بعد خبر، فيكون (على آثارهم) خبر (إنا) ومهتدون [خبرًا ثان] (¬3)، وكذلك مقتدون (¬4)، فقال الله تعالى لنبيه: 24 - {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} قال الكلبي: بأعرف دينا وأبين صلاحًا (¬5). وقال أبو إسحاق: المعنى فيه قل: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه (¬6)؟ فأبوا أن يقبلوا ذلك {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك البغوي 7/ 210، وذكر نحوه ابن الجوزي 7/ 308 ولم ينسباه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 792، "تفسير أبي الليث" 3/ 205، "تنوير المقباس" ص 491. (¬3) كذا في الأصل، وفي معاني الزجاج (ثانيًا) 4/ 408. (¬4) نص العبارة عند الزجاج: ويصلح أن يكون خبرًا لإنا مهتدون، و {عَلَى} من صلة مهتدين، وكذلك {مُقْتَدُونَ}، فيكون المعنى وإنهم مهتدون على آثارهم، وكذلك يكون المعنى مقتدون على آثارهم، ويصلح أن يكون خبراً بعد خبر، فيكون: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} الخبر ويكون {مُهْتَدُونَ} خبراً ثانياً، وكذلك {مُقْتَدُونَ} 4/ 408. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 81 ب، "السمرقندي" 3/ 205، "البغوي" 7/ 210. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 408.

25

ثم ذكر ما فعل بالأمم المكذبة تخويفًا لهم فقال: 25 - {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} الآية. قال ابن عباس: يريد ما صنع بقوم نوح وعاد وثمود (¬1)، ونحو هذا قال مقاتل (¬2). 26 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} قال الكلبي: لما خرج إبراهيم من السرب وهو ابن سبع عشرة سنة، أبصر قومه وأباه يعبدون الأصنام فقال لهم هذا القول (¬3). وقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} قال الكساني والفراء والمبرد: براء: مصدر لا يثنى ولا يجمع مثل: عدل ورمي، تقول العرب: أنا البرآء منك والخلا، ولا يقولون: البراءان والبراءون؛ لأن المعنى: ذو البراء، وذو البراء، فإن قلت: بريء وخلى، ثنيت وجمعت (¬4)، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال: 27 - {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} المعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله -عز وجل-، ويجوز أن يكون (إلا) بمعنى لكن، فيكون المعنى لكن الذي فطرني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته، قاله ابن عباس (¬5). والوجهان في الاستثناء ذكرهما الزجاج (¬6). 28 - قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني لا إله إلا الله، وقال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الشوكاني في "فتح القدير" 4/ 553 ولم ينسبه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 793. (¬3) ذكر ذلك في "تفسير الوسيط" انظر: 4/ 69. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 30، "اشتقاق أسماء الله" لأبي القاسم الزجاجي ص 242. (¬5) ذكر ذلك البغوي 4/ 210، والشوكاني 4/ 553 ولم ينسبه. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 409.

الله ويوحده (¬1)، والكناية على هذا في قوله (وجعلها) تعود إلى كلمة التوحيد لا إل إلا الله والمعنى: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، ولم يسبق ذكر كلمة التوحيد حتى يكنى عنها. قال صاحب النظم: قد رضيت العامة بقول المفسرين من غير وقوف على حقيقة مخرج هذه الكلمة، وإذا تأملت الآية رددتها بالاعتبار إلى تأويلها، دلت على قيام لا إله إلا الله فيها مصورة، وذلك أن النفي والتنزيه عند العرب واحد في المعنى. وقوله -عز وجل- {إِنَّنِي بَرَاءٌ} مثل قولك: لا, لأنه يتبرأ بها من الشيء. قوله: {مِمَّا تَعْبُدُونَ} كل معبود عند العرب كان يسمى إلهًا، فقد رجع تأويل هذه الآية بهذا الاعتبار أنها كناية عن الإله، ثم قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ولا يهدي ولا يفطر إلا الله -عز وجل-، وكأنه قال: إلا الله، وقد انتظمت الكلمتان بهذا التأويل لا إله إلا الله. وقوله: {فِي عَقِبِهِ} قال مقاتل: في ذرية إبراهيم، وقال الكلبي: في نسله (¬2)، وقال الحسن: عقب الرجل: نسله إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس: يريد في ولده وولد ولده إلى يوم القيامة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 206 فقد ذكر القول ولم ينسبه، ونسبه الماوردي 5/ 222، والبغوي 7/ 210، والقرطبي 16/ 77 لمجاهد وقتادة، ونسب القرطبي لابن عباس قوله: في عقبه أي في خلفه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 793، "تنوير المقباس" ص 491، وفص العبارة عند مقاتل: يعني في ذريته، يعني ذرية إبراهيم. (¬3) انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 206، "تفسير الماوردي" 5/ 222، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 77.

29

قال الأزهري: وكل شيء خلف بعد شيء فقد عقبه يعقب عقبًا وعقوبًا, ولهذا قيل لولد الرجل عقبه، ومنه حديث عمر رحمه الله أنه سافر في عقب رمضان، أي في آخره (¬1). قول: {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال الفراء: أي لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين إذ كانوا من ولد إبراهيم، فذلك قوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إلى دينك دين إبراهيم (¬2)، وقال قتادة: لعلهم يتوبون ويرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله (¬3). 29 - ثم ذكر نعمته على قريش فقال: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ} قال ابن عباس: يريد المشركين (¬4)، يعني أنه متعهم بأنفسهم وأموالهم وأنواع إنعامه عليهم، ولم يعاجلهم بعقوبة كفرهم {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ}، وقال مقاتل: يعني القرآن. وقال الضحاك: الإسلام (¬5). {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} مبين لهم الإعلام والأحكام، وقال مقاتل: بين أمره (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (عقب) 1/ 271، وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (عقب) / 243، "غريب الحديث" لابن الجوزي (عقب) 2/ 111، "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (عقب) 3/ 268. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 31. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 223، فقد أورد عدة أقوال عن قتادة بلفظ: (يذكرون)، وعن ابن عباس بلفظ (يتوبون)، وعن الفراء: (يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم)، وذكره البغوي 7/ 211 ونسبه للسدي. (¬4) ذكر ذلك البغوي 7/ 211 ولم ينسبه، وذكره أبو الليث السمرقندي بلفظ: يعني قومك، ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" 3/ 206. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 793، "تفسير البغوي" 7/ 211 عن الضحاك. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 793.

30، 31

وقال أهل المعاني: كان من حق ما أنعم الله عليه من الانتفاع ونعته الرسول أن يطيعوه بإجابة رسوله، فلم يجيبوه وعصوا رسوله فلم يقضوا حق إنعامه وهو قوله تعالى: 30، 31 - {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يعني: القرآن {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا} هلا {نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} الآية. قال الكلبي ومقاتل: قال الوليد بن المغيرة، لو كان هذا القرآن حقًا لنزل عليَّ أو على [ابن] (¬1) مسعود: عمرو بن عمير بن عوف الثقفي جد المختار الكذاب (¬2)، وكان بالطائف والوليد كان بمكة، وهما القريتان، وقال عطاء عن ابن عباس وقتادة: في عظيم الطائف إنه عروة بن مسعود (¬3)، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد الثقفي من الطائف (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى على رجل من رجلي القريتين (¬5). وقال أبو علي: من إحدى القريتين (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي "تفسير مقاتل" (أبي). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 793، "تفسير البغوي" 7/ 211. (¬3) ذكر ذلك البغوي، ونسبه لقتادة انظر: "تفسيره" 7/ 211، وذكره ابن الجوزي ونسبه لمجاهد وقتادة. انظر: "زاد المسير" 7/ 311، ونسبه القرطبي لقتادة. انظر: "الجامع" 16/ 83. وهو عروة بن مسعود بن معتب بن مالك. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 65، "تفسير البغوي" 7/ 211، "التعريف الإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام" ص 287، ورجح النحاس أن المراد بالرجلين: الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي. انظر: "معاني القرآن" للنحاس 6/ 351. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 409. (¬6) لم أقف عليه.

32

32 - فقال الله -عز وجل- إنكارًا وردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} قال ابن عباس: نبوة ربك، وهو قول جميع المفسرين (¬1)، والمعنى: أنهم [أعرضوا] (¬2) على الله بقولهم لِمَ لَمْ ينزل هذا القرآن على غير محمد؟ فبين الله -عز وجل- أنه هو الذي يقسم بفضله ورحمته لا غير، وقال مقاتل في هذه الآية: أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا، أي: أنها ليست بأيديهم، ولكنا نختار لها من نشاء من عبادنا (¬3). ثم قال قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال ابن عباس: يريد أرزاقهم (¬4)، واختلفوا في معنى ذكر سبب قسمة المعيشة هاهنا، فقال مقاتل في هذه الآية: يقول لم أعط الوليد وأبا مسعود الذي أعطيناهما من الغنى لكرامتهما على الله، ولكنه قسمة من الله بين الخلق (¬5)، فعلى هذا المعنى: نحن أعطيناهما ذلك فلا يغر بهما الغنى ولا يبطر بهما النعمة، فإن من قسمها لهما قادر على نزعها عنهما، ثم ذكر الحكمة في تفضيل بعض على بعض في الرزق في باقي الآية. وقال أهل المعاني: إن الله قسم النبوة كما قسم الرزق في المعيشة، فليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، وكما فضلنا بعضهم فوق بعض في الرزق والمنزلة، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء، وعلى هذا معنى الآية: إنا تولينا قسم معيشتهم، كذلك تولينا قسم النبوة بالرحمة، فلا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 65، "الثعلبي" 10/ 82 أ، "الماوردي" 5/ 223. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب (اعترضوا). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794.

اعتراض لأحد في قسمتنا (¬1) وقال آخرون: نبه الله -عز وجل- بالأدنى على الأعلى، فذكر أنه قسم المعيشة بين عباده بتفضيله من يشاء في الرزق على غيره، وإذا كان هو المتولي لهذه القسمة، فأن يكون هو المتولي لقسمة النبوة، إذ شأن النبوة أعظم ومحلها أرفع، وكما لا يعترض عليه في قسمة الرزق، كذلك لا يعترض عليه في قسمة النبوة (¬2). قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني الفضل في الغنى في الحياة الدنيا (¬3). {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أي يستخدم بعضهم بعضًا فيسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء، هذا قول السدي وابن زيد (¬4)، قال الضحاك وقتادة: ليملك بعضهم بما لهم بعضًا فيتخذونهم عبيدًا ومماليك، وهذا معنى قول مقاتل والكلبي (¬5). وقال ابن عباس: يُسخِّر هذا لهذا وهذا لهذا (¬6). وهذا القول يحتمل القولين؛ لأن التسخير يكون بالأجر ويكون بالملك (¬7)، وذكرنا معنى السخرى في سورة المؤمنين [110]، وقال أبو الحسن الأخفش: اتفق ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 410، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 352. (¬2) انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" 3/ 206، "تفسير ابن عطية" 14/ 254. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794، ولم أقف على نسبته لابن عباس. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 82 أ، "تفسير الماوردي" 5/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 83. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794، "تفسير أبي الليث" 3/ 206، "الماوردي" 5/ 224. (¬6) قال ابن كثير: قيل معناه: ليسخر بعضهم بعضًا في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا. قاله السدي وغيره. انظر: "تفسير ابن كثير" 6/ 225. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 67.

33

القراء هاهنا على الضم لأنه من السُّخرة وانقياد بعضهم لبعض في الأمور، التي لو لم يَنْقَدْ فيها بعضهم لبعض لم يلتئم قوام العالم (¬1). قوله تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال مقاتل: يعني الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الأموال (¬2)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق فقال: أعلم الله أن الآخرة أحظ من الدنيا (¬3)، وقال ابن عباس: والنبوة من ربك خير مما يجمعون من الدنيا، والرحمة على هذا القول: النبوة (¬4) وهو أولى لقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ولم يختلفوا أنها بمعنى النبوة، كذلك التي في آخر الآية، والمعنى على هذا: أن النبوة لك يا محمد من ربك خير من أموالهم التي يجمعونها. 33 - ثم أعلم قلة الدنيا عنده -عز وجل- فقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال قتادة: لولا أن يكون الناس كفارًا (¬5). وقال مقاتل: يقول لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند الأخفش وقد ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 86، وذكر هذه القراءة أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 13، وقال ابن الجوزي: وقرأ ابن السميفع وابن محيصن {سِخْرِيًّا} بكسر السين، انظر: "زاد المسير" 7/ 312، وقال القرطبي: وكل الناس ضموا {سُخْرِيًّا} إلا ابن محيصن ومجاهد قرأ {سِخْرِيًّا} 16/ 83. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 410. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 67، فقد أخرج ذلك عن قتادة والسدي، وذكر ذلك الماوردي 5/ 224 ولم ينسبه، والقرطبي 16/ 84 ولم ينسبه. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 68، "تفسير الماوردي" 5/ 224. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794.

وقال الكلبي: لولا أن يجتمعوا على الكفر (¬1). {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} لهوان الدنيا عليه {سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} قال الشعبي: يعني: الجذوع (¬2)، وقال مقاتل: يعني سماء البيت (¬3)، وقرئ: {سُقُفًا}. فمن قال (سَقْفًا) فهو واحد يدل على الجمع، ألا ترى أنه قد علم بقوله: {لِبُيُوتِهِمْ} أن لكل بيت سقفًا، ومن قرأ: (سُقُفًا). فهو جمع سَقْف، مثل: رَهْنَ ورُهُنُ، ويُخَفَّفُ فيقال: رُهْنُ، ومثله في الصفة فَرَسٌ وَرْدٌّ، [والجميع] (¬4) وُرْدٌ [وكذلك] (¬5) كَثٌ وكُثٌّ، وسَهْمٌ حَشْرٌ وسِهَام حُشْرٌ، وَفُعُلٌ في الجمع يُخَفَّف نحو: أَسَدٍ و [أُسْدٍ] (¬6)، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 68، "تفسير الثعلبي" 10/ 82 ب، "تفسير أبي الليث" 3/ 207. (¬2) أخرج ذلك النحاس عن الشعبي لكنها بلفظ: (الجزوع) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 6/ 354، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" لعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي بلفظ: (الجزوع) انظر: "الدر" 7/ 376، والذي يظهر لي أن الصحيح أنها: (الجذوع) بالذال قال ابن فارس: في "معجم مقاييس اللغة" (سقف)، السين والقاف والفاء أصل يدل على ارتفاع في إطلال وانحناء، ومن ذلك السقف سقف البيت لأنه عال مطل، والسقيفة الصفة، والسقيفة كل لوح عريض في بناء إذا ظهر من حائط. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (سقف) 3/ 87. وقال الأزهري: قال الليث: السقف غماء البيت .. قال: والسقيفة كل بناء سُقِف به صفة أو شبه صفة مما يكون بارزاً .. والسقيفة كل خشبة عريضة كاللوح أو حجر عريض يستطاع أن يُسقَفَ به قُترةٌ أو غيرها. انظر: "تهذيب اللغة" (سقف) 8/ 413. وذكر ذلك النحاس في "إعراب القرآن" بلفظ: (جذوعاً) ونسبه لسعيد بن جبير والشعبي. انظر: 4/ 109. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794. (¬4) كذا في الأصل وهو تصحيف، والصحيح (وخَيْلُ). (¬5) سقط من الأصل لفظ (وكذلك). (¬6) سقط من الأصل لفظ (أُسْدٍ).

كأنَّ مُحَرَّباً من أُسْدِ تَرْجٍ ... ينازِلُهُ لِنَابَيْهِ قَبِيبُ (¬1) وهذا الذي ذكرنا هو كلام أبي إسحاق وأبي علي (¬2)، ويدل على صحة قراءة من قرأ بالجمع ما روي عن مجاهد أنه قال: كل شيء من السماء فهو سَقْف، وكل شيء من البيوت فهو سُقُف بضمتين، ويشبه أن يكون اعتبر في هذا قوله (¬3): {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]. قوله: {وَمَعَارِجَ} يعني: الدرج في قول جميعهم (¬4)، وهو من عرج يعرج، وقد سبق تفسيره [السجدة: 5] {عَليهَا} أي على المعارج {يَظْهَرُونَ} قال ابن عباس: يرتفعون (¬5)، وقال مقاتل: يرتقون (¬6). وقال ابن قتيبة: يعلون، يقال: ظهرت على البيت، إذا علوت سطحه (¬7)، ومنه قول الجعدي: وإنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذلك مَظْهَرا (¬8) ¬

_ (¬1) البيت لأبي ذؤيب في "شرح ديوان الهذليين" 1/ 110 وفيه: ينازلهم بدل ينازله، "اللسان" كذلك ينازلهم. وقب القوم يقبون قبا: صخبوا في خصومة أو تمار. وقب الأسد، والفحل يقب قباً وقَبِيباً إذا سمعت قعقعة أنيابه .. انظر: "اللسان" (قبب) 1/ 657، "الحجة" 6/ 148. (¬2) نظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 410، "الحجة" لأبي علي 6/ 148. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 148. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 70، "تفسير الماوردي" 5/ 224، "تفسير الوسيط" 4/ 71، "تغليق التعليق" لابن حجر 4/ 305. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 70. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794. (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 397. (¬8) البيت للنابغة الجعدي وصدره قوله: =

34

يعني مرقى ومصعدًا. قال أبو إسحاق: المعنى: وجعلنا معارج من فضة (¬1) (و) كذلك: 34 - {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} أي أبوابًا من فضة (و) كذلك {وَسُرُرًا} من فضة، والمعنى لولا (¬2) تميل بهم الدنيا فيصير الخلق كفارًا لأعطى الله الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها لقلتها عنده، ولكنه -عز وجل- لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلق حب العاجلة. قال الأخفش: واحد المعارج معراج، ولو شئت قلت في جمعه المعاريج (¬3) وإن شئت جعلت الواحد معراجًا بفتح وكسر، كما تقول: مَرقاة ومِرْقاة. قال: وقوله: {يَظْهَرُونَ}، يقول: قد ظهر على البيت يظهر، ويظهر ظهورًا وظهورًا، إذا علاه، وظهرت على السطح، إذا صرت عليه، ومنه قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28] معناه: ليُعْليه، وأظهر الله المسلمين على الكافرين أي: أعلاهم [عليه] (¬4)، وأظهر على الشيء المسروق، إذا أطلع عليه (¬5). {وَسُرُرًا} هو السرير، والعدد أسرة، والجميع السرر. ¬

_ = بلغنا السماء مجدنا وجدودنا انظر: "ديوانه" 68، 73. وقد ذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" 1/ 127، "اللسان" (ظهر) 4/ 529. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 411. (¬2) كذا في الأصل، ولعله سقط لفظ: (أن). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 688. (¬4) كذا في الأصل، ولعل الصواب (عليهم). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (ظهر) 6/ 248، "الصحاح" (ظهر) 2/ 732.

35

قوله تعالى: {يَتَّكِئُونَ} أصله من الواو، وكان أصل اتَّكى أوتكى، ففعل به مثل ما فُعل باتّزن واتّعد، وقد مضى، ومثل الاتكاء التوكؤ، وهو التحامل على الشيء (¬1)، ومنه قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18]. 35 - قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} تفسير الزخرف في اللغة: الزينة، وكمال الشيء فيها، ودليل ذلك قوله (¬2): {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس: 24]، ونحو هذا قال ابن عباس: يريد جمع الزينة (¬3). وقال مقاتل: يقول ولجعلنا لهم كلَّ شيء من ذهب (¬4). وقال الفراء: جاء في التفسير إنما نجعلها لهم من فضة ومن زخرف، فإذا ألقيت من أوقعتَ الفعلَ عليه فتنصبه، أي وزخرفها تجعل ذلك منه. قال: وقال آخرون: ونجعل لهم مع ذلك ذهبًا وغنى، وهو أشبه الوجهين بالصواب (¬5). قوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} القراء على تخفيف {لما} و {مَا} لغو، المعنى: لمتاع الحياة الدنيا، (وإن) مخففة من الثقيلة، واللام في {لَما} التي تدخل لتفصل بين النفي والإيجاب في نحو قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (تكأ) 10/ 333، (وكأ) 10/ 417، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 17، "اللسان" (وكأ) 1/ 200. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (زخرف) 7/ 672، "الصحاح" (زخرف) 4/ 1369. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 71، "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 109. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 795. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء بتصرف يسير 3/ 32.

هَبَلَتْكَ أمُّكَ إنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا (¬1) ولم تعمل (إن) عمل الفعل لما خففتها لزوال شبهها بالفعل من أجل التخفيف، وحكى سيبويه النصب بها مخففة، والقياس أن لا تعمل إذا خففت بذلك على دخولها على الفعل في نحو: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]، وقرأ حمزة (لمَّا) بالتشديد، جعل (لما) في معنى: إلا، وحكى سيبويه: نشدتك باللهِ لَمَّا فَعَلْتَ يعني: إلا، ويقوي هذه [القراءتان في حرف] (¬2) (وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا) وهذا يدل على أن (لما) بمعنى (إلا) وأنَّ (إنْ) بمعنى (ما) (¬3). وقال أبو الحسن: الوجه التخفيف, لأن (لما) في المعنى (إلا) لا يكاد يعرف ولا يكاد يُتكلم بها (¬4)، وحُكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل (¬5). ¬

_ (¬1) البيت لعاتكة بنت زيد العدوية ابنة عم عمر بن الخطاب من قصيدة تخاطب بها عمرو ابن جرموز قاتل زوجها الزبير بن العوام في معركة الجمل وعجزه: حلت عليك عقوبة المتعمد انظر: "المحتسب" لابن جني 2/ 255، "الأضداد" لابن الأنباري ص190، "شرح ابن عقيل" لألفية ابن مالك 1/ 335، لكن صدره: شلت يمينك. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب (القراءة أن في حرف أبي) انظر: "الحجة" 6/ 149. (¬3) من بداية ذكر القراءة نقله المؤلف عن "الحجة" لأبي علي مع اختصار لبعض المواضع. انظر: "الحجة" 6/ 149، وانظر: "الجنى الداني في حروف المعاني" ص 594. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 688. (¬5) انظر: "الحجة" 6/ 149، "تفسير ابن عطية" 14/ 256.

36

قال ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يريد يزول ويذهب ويتغير (¬1)، وقال مقاتل: يتمتعون فيها قليلاً (¬2)، {وَالْآخِرَةُ} يعني الجنة {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خاصة لهم. 36 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} قال أبو زيد وابن الأعرابي: عشى يعشو عَشْوًا وعُشُوًّا، إذا أتى نارًا للضيافة، وعشا يعشو، إذا ضعف بصره (¬3)، ونحو هذا قال الليث، قال: والعاشية كل شيء يعشو بالليل إلى ضوء نار من أصناف الحيوان كالفراش (¬4) وغيره وأنشدوا: مَتَى تَأتِه تَعْشُو إلى ضوْءِ نارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ (¬5) وذكر المفسرون وأهل التأويل في هذه الآية قولين: أحدهما: أن المراد بقوله (يعش): يعم ويضعف بصره. والآخر: أن المعنى: ومن يعرض عن ذكر الرحمن، والأول قول مقاتل وابن زيد وابن عباس في رواية عطاء وأبي عبيدة وابن قتيبة. قال مقاتل: يقول: ومن يعم بصره عن ذكر الرحمن، يعني القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 72 فقد ذكر المعنى ولم ينسبه، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 72. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 795. (¬3) انظر: "الصحاح" (عشى) 6/ 2426، "اللسان" (عشا) 15/ 56. (¬4) انظر: "العين" (عشى) 2/ 187. (¬5) البيت للحطيئة من قصيدة مدح بها بغيض بن عامر بن شماس. انظر: "ديوانه" ص 249، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 204، "الصحاح" (عشا) 6/ 2426، "اللسان" (عشا) 15/ 56، "العين" (عشى) 2/ 178، "الكتاب" 3/ 86.

وقال ابن عباس: ومن يعم عن ذكر الله تعالى. وقال أبو عبيدة: ومن تظلم عينه، واختاره ابن قتيبة (¬1). والقول الثاني: هو قول قتادة، وروي ذلك عن ابن عباس وهو اختيار الفراء وأبي إسحاق (¬2). وشرح الأزهري القولين وبيَّن الأصوب فقال: قال القتيبي معنى قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} أي ومن يظلم بصره، قال: وهذا قول أبي عبيدة، ثم ذهب يرد قول الفراء ويقول: لم أر أحدًا يجيز عشوت عن الشيء، أي: تغافلت عنه كأني لم أره وكذلك تعاميت. قال الأزهري: أغفل القتيبي موضع الصواب، واعترض مع غفلته على الفراء يرد عليه، فذكرت قوله لأبين عواره، فلا يغتر به الناظر في كتابه، العرب تقول: عَشَوت إلى النار أعشو عَشْوًا، أي قصدتها مهتديًا بها، وعشوت عنها، أي: أعرضت فيفرقون بين (إلى) و (عن) موصولين بالفعل. قال أبو الهيثم: عشا عن كذا يعشو عنه، إذا مضى، وعشا إلى كذا يعشو إليه عَشْوًا وعُشُوًّا، إذا قصد إليه مهتديًا بضوء ناره، وإنما أتى القتيبي في وهمه الخطأ من جهة أنه لم يفرق بين عشا إلى النار، وعشا عنها, ولم يعلم أن كل واحد منهما ضد الآخر في باب الميل إلى الشيء والميل عنه كقولك: عدلت إلى بني فلان، وعدلت عنهم، وكذلك ملت إليهم، وملت ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 795/ 3، "تفسير الطبري" 13/ 73، "تنوير المقباس" ص 492، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 204، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 398. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 73، "معاني القرآن" للفراء 3/ 32، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 411.

عنهم، ومضيت إليهم، ومضيت عنهم. وهكذا قال أبو إسحاق الزجاج في هذه الآية كما قال الفراء (¬1) قال: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين، يعاقبه بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينًا له، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين (¬2). قال الأزهري: وأبو عبيدة صاحب معرفة الغريب، وأيام العرب، وهو بليد النظر في باب النحو ومقاييسه، انتهت الحكاية عن الأزهري (¬3)، والقول ما اختاره؛ لأن الإعراض عن القرآن صح يعني من العمى عنه، ولهذا الوجه أدلة من التنزيل كقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] وقوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} [الجن: 17] والأول ليس ببعيد، ويحمل على أنه يعمى عن الاستدلال بحججه والتأويل في تبيانه، ونظيره من التنزيل قوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101] قوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} تفسير التقييض قد تقدَّم في سورة السجدة [آية: 25]، قال مقاتل: يعني يضم إليه (¬4). (فهو له) في الدنيا (قرين) يعني صاحبًا يزين له العمى، وقال ابن عباس: فهو له قرين: يريد في الدنيا والآخرة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 411، "معاني القرآن" للفراء 3/ 32. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 412، لكنه بأخصر مما هنا، وهذا القول بنصه في "تهذيب اللغة" 3/ 56 (عشا) وفي "الوسيط" 4/ 72. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" وقد اختصر المؤلف في بعض المواضع من كلام الأزهري (عشا) 3/ 55 - 57. (¬4) ذكر ذلك المعنى البغوي 7/ 213 ولم ينسبه، ولم أقف عليه عند مقاتل. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 226، "تنوير المقباس" ص 492، وقال القرطبي: =

37

قوله: {فَهُوَ} يجوز أن يكون كناية عن الشيطان، ويجوز أن يكون كناية عن المعرض, لأن كل واحد منهما قرين لصاحبه، وفي هذا تكذيب للقدرية لأنه تعالى ذكر أنه يسلط الشيطان على الكافر حتى يضله، ويخيل إليه أنه على الهدى وهو على الضلالة، وذلك قوله: 37 - {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الهدى، وذكر الكناية عن الشيطان وابن آدم بلفظ الجمع في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} لأن قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} في مذهب جمع (¬1) وإن كان اللفظ على الواحد. قاله الفراء (¬2). قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} قال مقاتل: يحسب كفار مكة أنهم على هدى (¬3)، وقال أبو إسحاق: الشيطان يصدهم عن السبيل، ويحسب الكفار أنهم مهتدون (¬4). 38 - ثم عاد إلى لفظ الواحد فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} يعني الكافر، وقرئ (جاءانا) يعني الكافر وشيطانه، قال مقاتل: يعني ابن آدم وقرينه في الآخرة جعلا في سلسلة واحدة (¬5). وروى معمر عن الجريري في هذه الآية قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، ¬

_ = قيل في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية، وهو معنى قول ابن عباس، انظر: "الجامع" 16/ 89 (¬1) انظر: "تفسير ابن عطية" 14/ 258، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 90. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 32. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 795. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 412. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 795.

39

فذلك حيث يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} (¬1). قال مقاتل: يعني يقول يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرقين، وأطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة (¬2). ويقال: إنه أراد المشرق والمغرب فقال: المشرقين، وهذا أشبه الوجهين بالصواب؛ لأن العرب قد تجمع الاسمين على تسمية أشهرهما كما قال الفرزدق: لنا قَمَرَاها والنّجومُ والطَّوَالِعُ (¬3) يريد: الشمس والقمر، ويقولون للكوفة والبصرة: البصرتان، وللجزيرة والموصل: الموصلان، الغداة (¬4) والعصر، ومثله كثير، واختاره أبو إسحاق فقال: غلب لفظ المشرق كما قالوا سُنَّة العمرين يراد: سنة أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما (¬5). قوله تعالى: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أي: أنت، قال مقاتل والكلبي: فبئس المصاحب معه في النار في سلسلة واحدة (¬6)، ويقول الله للكافر في ذلك اليوم. 39 - {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} أي: أشركتم في الدنيا، قاله ابن عباس ومقاتل. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك عبد الرازق في "تفسيره" 2/ 196، والطبري 13/ 74، وانظر: "تفسير ابن كثير" 6/ 227. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 795 بلفظ (يعني ما بين مشرق الصيف إلى مشرق الشتاء أطول يوم في السنة، وأقصر يوم في السنة). (¬3) انظر: "ديوان الفرزدق" ص 519، "معاني القرآن" للفراء 3/ 33، "تفسير الطبري" 13/ 74، "تهذيب اللغة" (عني) 3/ 214، "تفسير ابن عطية" 14/ 259. (¬4) في "تفسير الثعلبي" (ويقال الغداة والعشي العصران) 10/ 84 أ. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 412. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 795، "تنوير المقباس" ص 492.

قال عطاء: لن ينفعكم اليوم هذا الكلام، يعني قوله: يا ليت بيني وبينك، وقال مقاتل: لم ينفعكم اليوم في الآخرة الندم والاعتذار (¬1)، وهذا إنما يصح أن لو قرئ: (إِنكم في العذاب) بكسر الهمزة على الابتداء، وإذا فتحت الهمزة تفسير للذي لا ينفعهم، وهو اشتراكهم مع شياطينهم في العذاب. وذكر ابن مجاهد أن ابن عامر قرأ {إِنَّكُمْ} بكسر الألف (¬2)، وهو صحيح على ما ذكرنا من قول ابن عباس ومقاتل، وهو على إضمار فاعل ينفعكم، والفاعل ما ذكراهما، والمعنى: ولن ينفعكم اليوم التبرؤ إذ ظلمتم أمس، ودل على التبرؤ قوله: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} والفاعل قد يضمر إذا دلت عليه الحال كقولهم: إذا كان غدًا فأتني، وعلى هذه القراءة {إِنَّكُمْ} ابتداء كلام، ومن إضمار الفاعل في التنزيل قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] أي زادهم قولُ الناس إيمانًا، وقرأه العامة: {أَنَّكُمْ} بفتح الهمزة. قال المفسرون: لا يخفف الاشتراك عنهم؛ لأن لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب (¬3). قال المبرد فيما حكى عنه الزجاج: أنهم مُنِعوا روح التأسي، [لأن التأسي] (¬4) يسهل المصيبة، فأعْلموا أنه لن ينفعهم الاشتراك في العذاب، فإن الله لا يجعل لهم فيه أسوة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 75، "تفسير مقاتل" 3/ 795. (¬2) انظر: كتاب: السبعة لابن مجاهد ص 586، "الحجة" 6/ 155. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 75، "الثعلبي" 10/ 84 أ، "البغوي" 7/ 214. (¬4) (لأن التآسي) ساقط من الأصل وهي هكذا عند الزجاج. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 412.

40

ومما يدل على أن التأسي يخفف قول الخنساء: ولولا كَثْرةُ البَاكِينَ حَوْلي ... على إخْوَانهم لَقَتَلْتُ نَفْسِي وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخِي ولكِن ... أعَزّي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي (¬1) وقال آخر: وهَوّنَ وَجْدِي عن خَلِيلِي أنني ... إذا شِئْتُ لاقيت امرأ ما صاحبه (¬2) وذكر أبو علي نحو هذا فقال: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم، وفي هذا حرمان التأسي، وهي نعمة يسلبها الله أهل النار، ليكون أشد لعذابهم، ألا ترى أن التأسي قد يخفف كثيرًا من الحزن عن المتأسي كما جاء: ولكن أُسَلَّي النفْسَ عنه بالتَّأسَّي (¬3) 40 - ثم ذكر الله تعالى أنه لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعقلون ما جئت به ولا يبصرونه, لأن من أعميت قلبه فلا هادي له (¬4) {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يريد بانت ضلالته بتكذيب الصادق الأمين. 41 - قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} قال ابن عباس: يريد: الموت (¬5)، قال مقاتل: يعني: فيميتك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" ص 62، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 362، "وشواهد الكشاف" 4/ 64، "الدر المصون" 6/ 99، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 91. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 155، 156، "عجز البيت" للخنساء. (¬4) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس. انظر: 4/ 73. (¬5) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" 3/ 208، وذكره الشوكاني 4/ 557 ولم ينسبه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 796.

42

وقال الكلبي: يعني: قبل أن يريك النقمة في كفار مكة (¬1)، فإنا منهم منتقمون بالقتل بعدك، يعني: ينتقم منهم بأن كذبوك بعدك (¬2). 42 - {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} قال ابن عباس: أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل. {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} قالوا: وقد أري ذلك يوم بدر (¬3) والمعنى: أن الله تعالى يقول لنبيه مطيبًا قلبه: إن ذهبنا بك انتقمنا لك منهم بعدك، أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من العذاب على تكذيبك {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} متى شئنا عذبناهم، ثم عذبوا يوم بدر، وهذا قول ابن عباس ومقاتل (¬4). وذهب قوم من المفسرين إلى أن هذا في المسلمين وهو مذهب قتادة والحسن، قال قتادة: أكرم الله نبيه وذهب به ولم ير في أمته ما كان من النقمة بعده (¬5)، والقول هو الأول لأنه في ذكر المشركين قوله: {وَإِنَّهُ} الهاء كناية عن الذي أوحي إليه، وهو القرآن في قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 492، "تفسير الوسيط" 4/ 74. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 796. (¬3) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 84 ب، والبغوي 7/ 214 ولم ينسباه، ونسبه القرطبي 16/ 92 لابن عباس. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" قال: وهو قول أكثر المفسرين، وكذلك البغوي نسبه لأكثر المفسرين، ونسبه القرطبي لابن عباس وأكثر المفسرين، انظر المواضع السابقة، و"تفسير مقاتل" 3/ 79. (¬5) أخرج ذلك الطبري 13/ 75 عن الحسن وقتادة، وأورده بدون سند الثعلبي 10/ 84 ب، ونسبه البغوي 7/ 214 للحسن وقتادة، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 274، وانظر: "الجامع" 16/ 92 فقد نسبه للحسن وقتادة.

43، 44

43، 44 - {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} (¬1) {لَذِكْرٌ لَكَ} قالوا لشرف لك كقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]. قوله تعالى: {وَلِقَوْمِكَ} قال ابن عباس ومقاتل: لمن آمن منهم، والقوم يحتمل كل من بعث إليه من الناس، ويحتمل أن يراد به قريش و [(¬2)] ابن عباس ومقاتل: المؤمنين (¬3)، ويكون المعنى على هذا: القرآن شرف لك بما أعطاك الله من الحكمة ولقومك المؤمنين بما عوضهم من إدراك الحق به، وإن قلنا: المراد بالقوم: قريش فشرفهم بالقرآن أنه أنزل على رجل منهم. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} فكان بعد ذلك إذا سئل قال: لقريش (¬4)، وهذا يدل على أن -صلى الله عليه وسلم- فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم، وقال مجاهد: هو أن يقول الرجل لأخيه: ممن الرجل؟ فيقول: من العرب، فيقول: من أي العرب؟، فيقول: من قريش، فيقول: من أي قريش؟ فيقول: من بني هاشم (¬5)، هذا والله هو الذِّكر والشرف، وعلى هذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 76، "تفسير الوسيط" 4/ 74. (¬2) كذا في الأصل وقد سقط لفظ: (قال). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 796، "تفسير أبي الليث" 3/ 208، وقد ذكر الأقوال الثلاثة ابن الجوزي ولم ينسبها، قال: أحدها: العرب قاطبة، والثاني: قريش، والثالث: جميع من آمن به، انظر: "زاد المسير" 7/ 318. (¬4) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 84 ب عن علي وابن عباس، وعزاه السيوطي في "الدر" لابن عدي وابن مردويه عن علي وابن عباس، انظر: "الدر" 7/ 380، ونسبه البغوي لابن عباس 7/ 215. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد دون ذكر بني هاشم، انظر: "تفسيره" 13/ 76، =

45

القول: القرآن شرف لمحمد وهو شرف للعرب، ثم للأخص فالأخص من قومه، ولما كان شرف قومه به وشرفه بالقرآن، كان القرآن شرفًا للجميع. وقوله: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} قال الكلبي: أي عن هذا الشرف هل أديتم شكره (¬1). وقال مقاتل: يعني من كذب به، كأن يسأل: لم كذب به؟ (¬2) فيسأل سؤال توبيخ. وقال أبو إسحاق: سوف تسألون عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف (¬3)، وقال غيره: تسألون عن القرآن وعملكم بما أمرتم به فيه، وعما يلزمكم من القيام بحقه (¬4). 45 - قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} اختلف المفسرون وأهل التأويل في هذه الآية، فذهب طائفة إلى أن المعنى: واسأل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء، هل جاءتكم الرسل إلا بالتوحيد؟ وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والمقاتلين، واختيار الزجاج والفراء وابن قتيبة (¬5). ¬

_ = "تفسير الماوردي" 5/ 227، ونسبه القرطبي لمجاهد، انظر: "الجامع" 16/ 94. (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 492، "تفسير الوسيط" عن الكلبي 4/ 74. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 796، "تفسير أبي الليث" 3/ 802. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 413. (¬4) انظر: "زاد المسير" 7/ 318، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 94، "تفسير الوسيط" 4/ 74. (¬5) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" 13/ 77 عن قتادة ورجحه، وأوردد البغوي في "تفسيره" 7/ 216، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 2634، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 319، والقرطبي في "الجامع" 16/ 96، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 34، و"تفسير غريب القرآن" لابن قيبة ص 399.

قال الزجاج: المعنى: سل أمم من أرسلنا (¬1)، وعلى هذا فقد حذف المضاف، وقال الفراء: هو أن تسأل التوراة والإنجيل، [فيخبروه أنه كتب] (¬2) الرسل، فإذا سأل الكتاب فكأنه سأل الرسل (¬3). وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: واسأل من أرسلنا، يعني: أهل الكتاب (¬4). قال ابن الأنباري (¬5): وهذا خطأ في النحو؛ لأنه لا يصلح إضمار (إِلَيْهِ) اتفق النحويون أنه لا يجوز: الذي جلست عبد الله، على معنى: الذي جلست إليه؛ لأن (إليه) حرف منفصل، والمنفصل لا يضمر في صلة الموصول لانفصاله من الفعل؛ لأنه يجري مجرى المظهر. كما أنك إذا قلت: الذي أكرمك أبا عبد الله، لم يجز أن يضمر أباه، وإنما يحسن الإضمار في الهاء المتصلة نحو: الذي أكلت طعامك إذا أكلته، فحذف الهاء تخفيفًا لطول الاسم؛ لأن (الذي) و (أكلت) حرف واحد، ومعنى الآية: تِبَاع من أرسلنا (¬6) فيكون هذا من باب حذف المضاف، ومعنى هذا الأمر بالسؤال التقدير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 414. (¬2) كذا في الأصل وفي "معاني الفراء": (فإنهم إنما يخبرونه عن كتب .. ..). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 34. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتية ص 399. (¬5) لم أقف على قول ابن الأنباري، وقد ذكر نحوه النحاس في "إعراب القرآن" 4/ 111، 112. (¬6) انظر: "تفسير ابن عطية" 14/ 265 بهذا اللفظ، وذكره في "الوسيط" 4/ 75 عن ابن الأنباري بلفظ: (سل أتباع من أرسلنا).

وقال عطاء عن ابن عباس: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى بعث الله تعالى، آدم ومن ولد من المرسلين، فأذن جبريل ثم أقام وقال: يا محمد تقدم فصلِّ بهم، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة، قال له جبريل: سل يا محمد [...] (¬1) قبلك من رسلنا، الآية فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أسأل قد اكتفيت" (¬2). وهذا قول سعيد بن جبير والزهري، قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به فلقيهم وأمر أن يسألهم، فلم يشكك ولم يسأل (¬3). وذكر أبو إسحاق قولاً ثالثًا وهو: أن يكون الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد: الذين بعث إليهم، كأنه قيل لهم: سلوا الذين أرسلنا إليهم الرسل قبل محمد، هل أتوا بدين غير التوحيد؟ ولكن الكلام خرج على مخاطبته -صلى الله عليه وسلم- كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] (¬4). وذكر صاحب النظم وجهًا آخر [حلفًا فاسدًا] (¬5) فقال: المعنى سل الأنبياء الذين أرسلناهم من هم لتعرفهم، كما تقول: سل من هذا، أي: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد سقط لفظ: (من). (¬2) أخرج نحو ذلك الطبري 13/ 78 عن ابن زيد، ونسبه البغوي 7/ 216 لعطاء عن ابن عباس، ونسبه القرطبي 16/ 95 لابن عباس وابن زيد، ونسبه في "الوسيط" 4/ 75 لعطاء عن ابن عباس. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 78، "تفسير الماوردي" 5/ 228، "البغوي" 7/ 216، "زاد المسير" 7/ 319، "الوسيط" 4/ 75، وقد زاد بعضهم نسبته لابن زيد. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج بتصرف في العبارة 4/ 414. (¬5) كذا رسمها في الأصل ولم أتبينها.

46

سل الناس من هذا الرجل، فكأنه قال: سلنا من أرسلنا (1)، وتم الكلام (2)، ثم قال مبتدئًا قوله تعالى: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} على معنى الإنكار أي: ما جعلنا ذلك، فيكونان خبرين لا خبرًا واحداً، وهذا مما لا يُعرَّج عليه لأن النظم ومعنى الخطاب لا يحتمله. 46 - قوله تعالى: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} قال الكلبي: ألقى عصاه لهم فإذا هي ثعبان مبين فضحك القوم وهزئوا به وقالوا: هل يأته غير هذه؟ قال: نعم، فأراهم يده لها شعاع كشعاع الشمس يضيء لها الوادي فضحكوا منه وهزئوا (3). 48 - قوله تعالى: {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قال الكلبي: من التي كانت قبلها (4). قال مقاتل: كانت اليد أكبر من العصا، وكان موسى بدأ بالعصا فألقاها ثم أخرج يده فلم يؤمنوا {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} يعني: بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس (5). وذهب قوم إلى أن المعنى في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا}: هي العصا واليد والطوفان والجراد إلى الدم، فكانوا يكذبون ويهزؤن وهي تترادف عليهم التالية أكبر من السابقة، وهي العذاب المذكور في قوله: (وأخذناهم

_ (1) ذكر نحو ذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 18، والألوسي في "تفسيره" 25/ 86. (2) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 648. (3) و (4) انظر: "تنوير المقباس" ص 492، ص493 فقد ذكر نحوه. (5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 796.

49

بالعذاب) لأنهم عذبوا بهذه الآيات فكانت عذابًا لهم ومعجزات ودلالات لموسى، فغلب عليهم الشقاق [لم] (¬1) يؤمنوا. 49 - {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} قال ابن عباس: يقولون أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيمًا يعظمونه ويعزونه ولم يكن صفة ذم (¬2)، وقيل: إنهم قالوا ذلك جهلاً منهم بصفته. وقال أبو إسحاق: إنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، ولم يناقشهم موسى في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا، قوله تعالى: {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} فيمن آمن به من كشف العذاب عنهم (¬3). قوله: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: مؤمنون بك، قاله ابن عباس (¬4) ومقاتل قال: وكان الله عهد إلى موسى لئن آمنوا كشفت عنهم العذاب، فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله: 50 - {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أي: العهد الذي عاهدوا عليه موسى (¬5) وهو مذكور في قوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} الآية من سورة الأعراف [آية: 134]. ومعنى ذكر هذه القصة هاهنا: أن حال موسى مع قومه كحال محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن أمره يؤول إلى الاستعلاء كما آل أمر موسى. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ولعل الصواب (فلم أو ولم)، وهي كذلك في "الوسيط" 4/ 76. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 80، "تفسير الثعلبي" 10/ 86 أ، "تفسير الماوردي" 5/ 229، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 97، "تفسير الوسيط" 4/ 76. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 414. (¬4) ذكر ذلك البغوي 7/ 217، والمصنف في "الوسيط" ولم ينسباه 4/ 76. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 797، "تفسير البغوي" من غير نسبه 7/ 217.

51

51 - قوله تعالى: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} يعني: أنهار النيل، في قول المفسرين تجري من تحتي، قال مقاتل: يعني: أسفل مني (¬1)، كأنه أراد من تحت قصوره، وهو معنى قول الكلبي: حولي (¬2)، وقال قتادة: بين يدي في جناتي (¬3). وقال الحسن: بأمر (¬4)، وعلى هذا معناه: تجري تحت أمري، وهو معنى قول عطاء: في قبضتي وملكي (¬5). قوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} قال ابن عباس: أفلا تبصرون ما أنا فيه من النعم والخير، وما فيه موسى من الفقر، افتخر عدو الله بملكه (¬6). 52 - قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} اختلف المفسرون وأهل التأويل في معنى (أم) هاهنا فقال أبو عبيدة: مجازها: بل أنا خير (¬7)، وعلى هذا تمام الفصل عند قوله: أفلا تبصرون (¬8) ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: (أم أنا خير) على تأويل: أنا خير، وهذا قول مقاتل، قال: ليس باستفهام يعني: بل أنا خير، ونحو هذا قال السدي (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 797. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 493. (¬3) ذكر ذلك البغوي 7/ 217، والقرطبي 16/ 98، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 76 ونسبوه لقتادة. (¬4) نُسب للحسن في "تفسير البغوي" 7/ 217، و"الوسيط" 4/ 76. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 86 ب. (¬6) ذكر هذا المعنى "الطبري" 13/ 81 ولم ينسبه، ونسبه في "الوسيط" لقتادة 4/ 77. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 204. (¬8) انظر: "القطع والاثتناف" للنحاس ص 649، "المكتفى" للداني ص 509. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 797، "تفسير الطبري" 13/ 81 فقد أخرج عن السدي.

وقال أبو إسحاق: قال سيبويه والخليل: عطف {أَنَا} بأم على {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} كأنه قال: أفلا تبصرون أم تبصرون، قال: لأنهم إذا قالوا له: أنت خير منه، فقد صاروا عنده بصراء، فكأنه قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء (¬1)، وهذا فيه بعض الغموض، ولا يقف عليه إلا من تأمل وتفكر. وذكر صاحب النظم وجهًا حسنًا وهو: أن يكون تمام الكلام عند قولى: أم، وقوله: (أنا خير) فصل آخر مبتدأ، على تأويل: أفلا تبصرون أم تبصرون، فكيف ذكر (تبصرون) اكتفاء بذكره في قوله: (أفلا تبصرون) كما يقال في الكلام: أتاكل أم لا، فسكت على الاكتفاء بما قبله من ذكر الأكل، وكذلك يكون إذا قدمت النفي فتقول: ألا تأكل أم تأكل، ثم يكف، ذكر تأكل بعد (أم) اكتفاء بذكره في أول الكلام، فكذلك قوله: أفلا تبصرون أم تبصرون، فكف ذكر (تبصرون) عند (أم) لجري ذكره، وهذا معنى قول مجاهد: أم تام يقف، ثم أنا خير أفلا تبصرون أم قد أبصرتم (¬2). وقوله: {أَنَا خَيْرٌ} قال مقاتل: أفضل {مِنْ هَذَا} يعني: موسى {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} يعني: ضعيف ذليل (¬3)، وقال الكلبي: ضعيف في بدنه (¬4)، وقال الليث: رجل مهين صغير ضعيف (¬5). وقال الزجاج: معنى مهين قليل، يقال: شيء مهين أي: قليل، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 415، "الكتاب" 3/ 173، "الجمل في النحو" للخليل ص 320، "معاني الحروف" للرماني ص 173، 174. (¬2) انظر: "المكتفى في الوقف والابتدا" للداني ص 508، "تفسير الطبري" 13/ 81. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 797. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 493. (¬5) انظر: "العين" للخليل (مهن) 4/ 61، "تهذيب اللغة" (مهن) 6/ 329.

فعيل من المهانة (¬1). قوله تعالى: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} قال ابن عباس: لا يبين الكلام (¬2)، وقال الكلبي: لا يكاد يبين حجته (¬3)، وقال قتادة والسدي: آفة بلسانه (¬4)، وقال الزجاج: يعني اللثغة (¬5) التي كانت بلسان موسى (¬6). فإن قيل: أليس موسى سأل الله أن يذهب الرُّتَّةَ (¬7) من لسانه بقوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27 - 28] أعطاه ذلك بقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] فكيف عابه فرعون باللثغة؟ والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن فرعون أراد: لا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي، ولم يرد أنه لا يوضح ما يتكلم به، وهذا كذب من فرعون وعناد بعد ما رأى من الآية، هذا معنى قول مقاتل (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 415. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 493. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 82، "تفسير مقاتل" 3/ 797، "الماوردي" 5/ 230. (¬5) قال الأزهري: أخبرني المنذري عن المبرد أنه قال: (اللثغة أن يُعدل بحرف إلى حرف) وقال الليث: الألثغ: الذي يتحول لسانه من السين إلى الثاء والمصدر: اللثغُ واللُّثْغَةُ، وقال أبو زيد: الألثغ: الذي لا يُتم رفع لسانه في الكلام وفيه ثقل. انظر: "تهذيب اللغة" (لثغ) 8/ 92. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 415. (¬7) قال الليث: (الرُّتَّة: عجلة في الكلام. ورجل أرت). وقال ابن الأعرابي: رترت الرجل إذا تعتع في التاء وغيرها. انظر: "تهذيب اللغة" (رت) 14/ 250، وقال ابن قتيبة عند قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} أي: رَتَّةً كانت في لسانه. انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 278. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 797.

والجواب الثاني: عابه مما كان عليه أولاً، وذلك أن موسى كان عند فرعون دهرًا وهو ألثغ لا يكاد يبين، فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرُّتَّةَ. ويقوي الجواب الأول قوله تعالى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} ألا ترى أنه اقترح الآيات، ولم يكتف بما ظهر من معجزته، وليس للأمم أن يقترحوا من الآيات، ما يريدون، بل إذا أتى الرسول بما فيه دلالة على صدقه وجب الإيمان به. واختلف القراء في {أَسْوِرَةٌ} فقرءوا بوجهين: أسورة وأساورة، فأسورة جمع سوار لأدنى العدد، كقولك: خِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ، وغُرَابٍ وأَغْرِبَة، ومن قال في سوار: أسوار، جمعه أساوير وأساورة، تكون الهاء عوضًا من الياء نحو: بطاريق وبطارقة، وزناديق وزنادقة، وقدادين وقدادنة، فيكون أساورة: جمع أسوار، وإن شئت فجمع أسورة، كما تقول: أساقٍ في جمع أسقية، وأساقي في جمع أسقية، هذا كلام المبرد (¬1). وقال أبو زيد: هو سوار المرأة وأسوار المرأة، وهما قُلْبان يكونان في يديها (¬2)، وأسورة جمع سوار مثل: سقاءٍ وأَسْقِيَةٍ، وإزارٍ وآزِرَة، وخوانٍ وأَخوِنَةٍ، وأساورة جمع أسوار، وألحق الهاء في الجمع عوضًا من الياء التي ينبغي أن تلحق في جمع أسوار، على حد إعصار وأعاصير، كذلك أسوار وأساور، ثم يقال: أساورة، ويجوز أن يكون جمع أسورة مثل أسقية وأساق، وهذا كلام أبي علي (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 35 بنحوه، "الدر المصون" 6/ 103 ولم أقف على قول المبرد (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (سور) 13/ 51. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 151، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 259.

53

وقال مقاتل: يقول فهلا ألقى على موسى إلهه الذي أرسله أسورةً من ذهب إن كان صادقًا أنه رسول (¬1)، وقال الكلبي: كان الرجل إذا ارتفع سوّروه (¬2). وقال مجاهد: كانوا إذا سودُوا رجلاً سوّروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب، يكون ذلك دلالة على سيادته (¬3). قال أبو إسحاق: كأنه لما وصف نفسه بالملك والرياسة فقال: هلا جاء موسى يلقى عليه أسورة من ذهب، يدل على أنها من عند إلهه الذي يدعوكم إلى توحيده (¬4). 53 - قوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} قال قتادة: متتابعين (¬5)، وقال ابن عباس: يعاونونه على من خالفه (¬6)، وقال مقاتل: يعينونه على أمره الذي بعث له (¬7)، وقال الكلبي: مصدقين له بالرسالة (¬8). وقال أبو إسحاق: أي يمشون معه فيدلون على صحة نبوته (¬9)، وقد جمع بين هذه الأقوال كلها لأنه فسر الاقتران وموجبه. 54 - قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} يقال: استخفه الفرح، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 798. (¬2) انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 209، "زاد المسير" 7/ 322 من غير نسبة. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 217، "الجامع" للقرطبي 16/ 100 ونسباه لمجاهد. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 415. (¬5) أخرج ذلك الطبري 13/ 83 عن قتادة، ونسبه القرطبي 16/ 105 لقتادة. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 83، "تفسير الثعلبي" 10/ 87 أ، "البغوي" 7/ 217. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 798. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" ص 493. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 415.

إذا أزعجه وأقلقه، واستخفه إذا حمله على الجهل (¬1)، ومنه قوله: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] أي [لا يحميك] (¬2) على الجهل والميل إليهم، قال مقاتل: فاستفز قومه القبط (¬3)، وهو قول الفراء: استفزهم (¬4)، والمعنى أزعجهم وحملهم على صفة الجهل بكيده وغروره، وقوله لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29]. ومن قال هاهنا في تفسير (استخفهم): وجدهم جهالاً خفاف الأحلام (¬5)، فليس بالوجه لقوله: {فَأَطَاعُوهُ} وهذا يوجب أنه أمرهم بشيء فيه إزعاجهم فأطاعوه، ولا يقال وجده خفيفًا فأطاعه, لأنك قد تجد إنساناً خفيف العقل فلا يطيعك, لأنك لم تأمره أو لم يرد هو طاعتك، ويحتاج في هذا التفسير إلى إِضْمارٍ لا يجوز، هو أن يكون التقدير: وجده خفيفًا فدعاه إلى الغواية فأطاعه، وإذا قلت: أزعجه فأطاعه، لم يحتج إلى إضمار. ومعنى {فَأَطَاعُوهُ}: قال ابن عباس ومقاتل: على تكذيب موسى (¬6)، والمعنى أنه حملهم على الجهل فقبلوا قوله وكذبوا موسى. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} قالا: عاصين لله (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 101. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب (لا يحملنك). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 35. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 35. (¬5) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" 5/ 231 وقال: هو معنى قول الكلبي، وذكره البغوي 17/ 27، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 322 بغير نسبة. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 798، "تفسير الماوردي" 5/ 231 وقد نسبه لابن زياد. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 798، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 101.

55

55 - قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} قال ابن عباس في رواية عطاء: غاظونا، وقال في رواية الكلبي: أغضبونا، وهو قول مقاتل وقتادة ومجاهد وغيرهم (¬1)، وذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله: {غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150]، قال عبد الرزاق: غضب ابن جريج في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد؟ فقال: قد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله تعالى يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا} أي أغضبونا. ونحو هذا روي أن وهب بن منبه كان عند عروة بن الزبير وشكا إليه عامل له فأكثروا عليه (¬2) فقالوا: فعل وفعل وثبتت البينة عليه، فلم يملك وهب نفسه، فضربه على يديه بعصا، فإذا دماء يشخب، فضحك عروة واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبيد الله الغضب في حكمته وهو يغضب. فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب خالق الأحلام. إن الله يقول (¬3): {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}. 56 - قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} يقال: سلف يسلف، إذا تقدم ومضى، وسلف له عمل صالح، أي: تقدم، والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو ولد، قرضا وقرض فهو سلف. وهذا وجه واحد، ويقال في جمعه الأسلاف، والسلف أيضًا من تقدم من آبائك وذوي قرابتك، واحدهم سالف، ومنه قول طفيل يرثي قومه: ¬

_ (¬1) انظر: المرجعين السابقين، و"تفسير الطبري" 13/ 84، "الماوردي" 5/ 231، "البغوي" 7/ 218، "زاد المسير" 7/ 322. (¬2) أي: بالغوا في الشكوى. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 203، "تفسير أبي الليث" 3/ 210.

مَضَوْا سلَفًا قَصْدُ السبيلِ عَلَيْهم ... وصَرْفُ المنايا بالرَّجَالِ [سلف] (¬1) وذكر الليث: سلُف بضم اللام يسلُفُ سُلُوفًا فهو سليف، أي تقدم (¬2)، قال الفراء والزجاج: يقول جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون (¬3). وقال ابن عباس: يريد مضوا إلى النار (¬4). وقال مجاهد وقتادة: جعلناهم سلفًا لكفار أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى النار (¬5)، وأكثر القراء قرؤوا {سَلَفًا} بالفتح، وهو جمع سالف كما ذكرنا. قال أبو علي: وفَعَل قد جاء بحروف يراد به الكثرة، وكأنه اسم من أسماء الجمع كقولهم: خادِم وخَدَم، وطالب وطَلَب، وحارِس وحرَس، وحكى أحمد بن يحيى: رائِح وَرَوح. وقرأ حمزة والكسائي (سُلُفًا) بالضم، وهو جمع سليف من سلُف بضم اللام (¬6). ذكره الفراء والزجاج (¬7)، وقال المبرد: سُلُف يمكن أن يكون جمع سَلَفٍ كقولك: أَسَد وأُسُد، ووثَن ووُثن، وزاد أبو علي: ومما لحقته هاء التأنيث، من هذا: خشبة وخشب، وبدنة وبدن (¬8). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ورواية البيت (تقلب). انظر: "ديوانه" ص 40، "تهذيب اللغة" (سلف) 12/ 431، "الدر المصون" 6/ 104، "اللسان" (سلف) 9/ 159، "البحر المحيط" 8/ 23. (¬2) انظر: "كتاب العين" (سلف) 7/ 258. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 36، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 416. (¬4) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" 3/ 210 ونسبه لقتادة. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 85، "الماوردي" 5/ 232، "الثعلبي" 10/ 87 ب. (¬6) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 115. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 36، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 416. (¬8) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 152، "الدر المصون" 6/ 104.

57

وقوله: {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}. قال ابن عباس ومقاتل: يريد عظة لمن بقي بعدهم (¬1) وآية وعبرة، والمعنى: أن حال غيرهم من المشركين يقاس بحالهم ويجروا مجراهم إذا ماتوا على الطغيان. قال أبو علي: والمثل واحد يراد به الجمع، ومن ثم عطف على سلف، ويدلك على وقوعه أكثر من واحد. قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ} [النحل: 75]، فأوقع لفظ الإفراد على التثنية، وكذلك أفرد في موضع التثنية فيما أنشد سيبويه: وَسَاقِيَيْنِ مِثْلِ زَيْدٍ وجُعَلْ (¬2) وقد جمع المثل في قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} [الحشر: 21] وقوله: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وأفرد في قوله (¬3): {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. 57 - قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لما ذكر عيسى، وقدرة الله تعالى فيه وخلقه إياه من غير ذكر، وما كان يفعل من إحياء الموتى وغير ذلك إذا قومك منه يصدون يريد: يضجون كضجيج الإبل بالأثقال (¬4). وقال مجاهد في هذه الآية: قالوا إنما يريد محمدٌ أن نعبده كما عبدَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 85، "تفسير مقاتل" 3/ 798. (¬2) هذا صدر البيت وعجزه: سقبان ممشوقان مكنوزا العضل انظر: "الكتاب" 2/ 17، "شرح أبيات" سيبويه ص 95، "الحجة" 6/ 153. (¬3) انظر: "الحجة" 6/ 153. (¬4) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 103.

قومُ عيسى عيسى (¬1). وقال قتادة: لما ذكر عيسى بن مريم جزعت قريش من ذلك وقالوا: ما يريد محمد إلا أن يصنع به كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم (¬2). هذا قول هؤلاء، وأريد بهذا المثل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59]، وهي مذكورة في آل عمران بعد ما ذكرت أحوال عيسى، وما أظهر الله على يده من المعجزات ومعنى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} لما شبه عيسى في إحداث الله إياه من غير فحل بآدم أو خلق من غير أب ولا [آدم] (¬3) إذا قومك منه يصدون، أي يضجون ويقولون: ما يريد محمد إلا أن نعبده (¬4)، والمعنى على أنهم لما سمعوا ذكر عيسى ظنوا أن محمدًا إنما يذكره بأوصافه ليصنع به قومه ما صنع قوم عيسى بعيسى فلذلك ضجوا. وفي: {يَصِدُّونَ} قراءتان: ضم الصاد وكسرها. قال الأخفش والكسائي: هما لغتان قريبتان لا تختلفان في المعنى، ونحو ذلك ذكر الفراء، قال الزجاج: ومعناهما جميعًا يضجون (¬5). قال: ويجوز أن يكون معنى المضمومة يعرضون (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: 13/ 85، ونسبه الماوردي لمجاهد 5/ 233، ونسبه القرطبي لمجاهد 16/ 102. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" فقد أخرجه عن قتادة 13/ 85، ونسبه الماوردي لقتادة 5/ 133، وكذلك نسبه القرطبي لقتادة 16/ 102. (¬3) كذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب (ولا أم). (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 85 (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 690، "معاني القرآن" للفراء 3/ 36، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 416، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 376. (¬6) هذا تابع لقول الزجاج في "معاني القرآن" 4/ 416.

قال الأزهري: وإذا كان بمعنى يضجون (¬1)، فالوجه الكسر في يصدون، وبه قرأ ابن عباس وفسره يضجون (¬2). واختاره أبو عبيدة قال: ونرى مَنْ ضمها أراد الصدود عن الحق ولو كان من هذا القبيل [..] (¬3) {عَنْهُ} يصدون ولم يكن {مِنْهُ} ولكنه عندنا على ما فسره ابن عباس يضجون. وقال أبو عبيدة: يصدون يضجون، ومن ضمها أراد يعدلون (¬4) ويريغون (¬5) وأما تعلق أبي عبيدة بقوله: (منه) ولم يقل عنه، فذلك لا يدل على ترجيح الكسر؛ لأن من ذهب في (يصدون) إلى الضم بمعنى: يعدلون، كان المعنى إذا قومك منه، أي: من أجل المثل يصدون، ولم يصل يصد بـ (من) ومن قرأ بالكسر جعل (من) متصلة به كما تقول: ضج من كذا، وذكر ذلك أبو علي (¬6). وذكر أكثر المفسرين (¬7) أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعرى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98] وقد ¬

_ (¬1) يقال: أضَجَّ القوم اضجاجًا إذا صاحو وجَلَّبُوا، فإذا جزعوا من شيء وغُلِبُوا قيل: ضجُّوا يَضِجُّون. انظر: "تهذيب اللغة" (ضج) 10/ 447. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (صد) 12/ 104، "حجة القراءات" ص 652. (¬3) كذا في الأصل وقد سقط لفظ: (لكان). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 205. (¬5) قال الليث: الرَّوّاغ: الثعلب، وهو أروَغُ من ثعلب، وطريق رائغ مائل، وراغَ فلانُ إلى فلانٍ إذا مال إليه سرًّا. انظر: كتاب: العين (روغ) 4/ 445، "تهذيب اللغة" (راغ) 8/ 186. (¬6) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 155. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 86، "الثعلبي" 10/ 87 ب، "تفسير مقاتل" 3/ 799.

58

ذكرنا تلك القصة، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي ومقاتل (¬1)، وعلى هذا القول: معنى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} قال مقاتل: ولما وصف ابن مريم شبهًا في العذاب في الآلهة أي: فيما قالوه وعلى زعمهم لأن الله لم يذكر في تلك الآية عيسى ولم يرده بقوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أو إنما أراد أوثانهم ولكنهم ألزموه عيسى جدلاً وعتبًا، ومعنى: (يضجون) على هذا القول صحيح الجدال والمخاصمة أو صحيح السرور، حيث ظنوا أنهم خصموه بتسويتهم بينه وبين آلهتهم، فقد قال بعض المفسرين: يضجون، ولا يتوجه الاعتراض على هذا القول، ويدل على صحة هذا القول الثاني في الآية. 58 - قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} وذلك أنهم قالوا ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الواحدي في "أسباب النزول" عن ابن عباس، انظر: "أسباب النزول" ص 397، وأورده مقاتل في "تفسيره" بدون سند، انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 798، وأورده السيوطي في "لباب النقول وعزاه" لأحمد والطبراني، انظر: "لباب النقول" ص 189، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد وعزاه" لأحمد والطبراني قال: وفيه عاصم بن بهدلة وثقه أحمد وغيره وهو سيء الحفظ وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 104. وملخص القصة: قال ابن عباس: أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعرى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن عيسى وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمداً يتلوا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول له، قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرًا أفهما من حصب جهنم؟، فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ولو تأمل ابن الزبعرى الآية، ما أعترض عليها؛ لأنه قال: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل ومن تعبدون. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 103.

59

رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فكذلك آلهتنا، هذا معنى قول مقاتل، فقال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} قال مقاتل: ما وصفوا لك ذكر عيسى إلا ليجادلوك به (¬1). وقال أبو إسحاق: طلب المجادلة لأنهم قد علموا أن المعني في حصب جهنم أصنامهم (¬2). وقال أبو علي: ما ضربوه إلا إرادة للمجادلة؛ لأنهم قد علموا أن المراد لحصب جهنم ما اتخذوه من الموات (¬3)، وعلى القول الأول في الآية الأولى قوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، قاله قتادة (¬4). والمعنى: أنهم يقولون: آلهتنا خير أم (¬5) فنحن لا ندع عبادتها لعبادة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو سؤال تقرير أن آلهتهم خير. قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي ما قالوا لك هذا القول إلا طلبًا للخصومة منه، ثم ذكر أنهم أصحاب خصومة، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} الخَصِم الشديد الخصومة، وكذلك الجَدِل (¬6)، والقول الثاني أظهر وسياق الآيات عليه أدل وهو قوله: 59 - {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} قال ابن عباس: يريد ليس بولد ولا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 799. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 416. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 154. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" 13/ 88، "تفسير الماوردي" 5/ 234، ونسبه القرطبي لقتادة. انظر: "الجامع" 16/ 104. (¬5) كذا في الأصل، ولعله قد سقط لفظ (محمد). (¬6) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 104.

60

إله، إنما هو عبد أنعمنا عليه، خلقته من روحي وكلمتي، وقال مقاتل: أنعمنا عليه بالنبوة (¬1). {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}، قال الكلبي: معتبرًا (¬2). وقال مقاتل: يعني أنه وغيره ليعتبروا حين [ولده] (¬3) من غير أب. وقال قتادة: آية لبني إسرائيل (¬4). والمعنى: أنهم يعرفون به قدرة الله فيعلمون أن من قدر على خلق ولد من غير أب قادر على ما يشاء، فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله تعالى، ثم [خاطبهم] (¬5) كفار مكة فقال: 60 - {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} أي لو نشاء لأهلكناكم ولجعلنا بدلكم ملائكة {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} يكونون خلفًا منكم، قاله الكلبي (¬6)، وقال قتادة: يخلف بعضهم بعضًا مكان ابن آدم، وقال محمد: يعمرون الأرض بدلاً منكم، وقول قتادة معنى قول ابن عباس في رواية عطاء قال: كما جعلت في ولد آدم أمة بعد أمة، وقومًا بعد قوم خلفًا من قوم (¬7). قال الأزهري: و (من) قد يكون للبدل كقوله: لجعلنا منكم، يريد بدلاً ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 799، ولم أقف على قول ابن عباس. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 793. (¬3) كذا رسمها في الأصل ولعل الصواب (ولد)، انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 799، 800. (¬4) انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 211، "تفسير مقاتل" 3/ 800، "الطبري" 13/ 89. (¬5) كذا في الأصل، ولعل الصواب (خاطب). (¬6) انظر: "تنوير المقباس" ص 493. (¬7) أخرج الطبري قول قتادة، وأخرج القول الثالث عن مجاهد. انظر: "تفسيره" 13/ 89، وأورد الماوردي قول الكلبي ونسبه للسدي. انظر: "تفسيره" 5/ 235، وأورد القرطبي قول قتادة، ونسبه لابن عباس. انظر: "الجامع" 16/ 105.

61

منهم (¬1)، ونحو هذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل (¬2). 61 - ثم رجع إلى ذكر عيسى فقال قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} قال ابن عباس والمفسرون: يعني نزول عيسى من السماء من أشراط الساعة وأهوالها، ويكون التقدير على هذا ظهوره أو نزوله. وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: الكناية في (وإنه) تعود إلى القرآن، يدل على مجيء الساعة، أو به يعلم أحوال الساعة وأهوالها (¬3)، وقوله: {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قال ابن قتيبة: يُعلم به قرب الساعة (¬4). {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} قال ابن عباس: لا تكذبوا بها (¬5)، وقال مقاتل: لا تشكوا في الساعة (¬6)، وقول ابن عباس جيد؛ لأن الامتراء يوصل بفي، يقال: امترى فيه، كقوله: {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34]، وهاهنا وصل بالباء لأنه بمعنى التكذيب، ومن شك في شيء فقد كذب به {وَاتَّبِعُونِ}، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (خلف) 7/ 400. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 89، "تفسير مقا تل" 3/ 800، "الماوردي" 5/ 235. (¬3) أخرج الطبري 13/ 90، 91 القولين، والأول عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وأخرج القول الأول الثعلبي 10/ 88 ب، وذكر القولين الماوردي 5/ 235، وأورد القولين القرطبي 16/ 105، ونسب الأول لابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي، ونسب الثاني للحسن وقتادة وسعيد بن جبير. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 400. (¬5) ذكر ذلك البغوي 7/ 220 عن ابن عباس. انظر: "تفسيره" 7/ 220، ونسبه في "الوسيط" 4/ 79 لابن عباس. انظر: 4/ 79. (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 107 وقد نسب قول ابن عباس للسدي، "تفسير متقاتل" 3/ 800.

63

قال مقاتل: على التوحيد (¬1)، {هَذَا} قال ابن عباس: يريد الذي أنا عليه (¬2) {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} من دين إبراهيم. 63 - قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} قال قتادة ومقاتل: يعني الإنجيل (¬3). {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} مذهب أبي عبيدة أن بعض هاهنا بمعنى الكل (¬4)، وذكرنا ذلك عند قوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] وعلى هذا المعنى، ولأبين لكم ما تختلفون فيه، قال ابن عباس: يعني ما تختلفون فيه، يعني أحكام التوراة (¬5)، وقال السدي: يعني اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى، وقيل: لأبين لكم أمر دينكم دون أمر دنياكم (¬6)، وعلى هذه الأقوال ليس المراد بالبعض الكل. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 220، "زاد المسير" 7/ 326، فقد ذكرا قول مقاتل من غير نسبة ولم أجد هذا القول له في "تفسيره" 3/ 800. (¬2) ذكر ذلك البغوي ولم ينسبه، وكذلك ذكره في "الوسيط" 4/ 79 ولم ينسبه. (¬3) أخرج الطبري 13/ 92 قول قتادة، "تفسير الماوردي" 5/ 236، وانظر: "تفسير مقاتل" 3/ 800. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 205، وأورد الطبري 13/ 92 هذا القول قال: وقيل إن معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكل، واستشهد ببيت من الشعر للبيد وهو قوله: ترَّاك أمكنةٍ إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها (¬5) ذكر ذلك في "الوسيط" ونسبه لمجاهد، وذكر عن ابن عباس: ما تختلفون فيه من أمري وأمر دينكم انظر: "الوسيط" 4/ 81. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 92، "تفسير البغوي"، وقد نسب قول السدي لقتادة 7/ 220 وقال الطبري: (كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم)، فقال لهم: أبين لكم بعض ذلك، وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم، فلذلك خص ما أخبرهم أنه يبينه لهم.

66، 67

وقال مقاتل: هذا كقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] [قد مر] (¬1) فذكر في تفسير هذه الآية ما أحل لهم في الإنجيل مما كان محرمًا عليهم في التوراة كاللحوم من الإبل، والشحوم من كل حيوان، وصيد السمك في يوم السبت (¬2). وقال أبو إسحاق: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه (¬3)، وما بعد هذا مفسر فيما مضى (¬4)، إلى قوله: 66، 67 - {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} قال ابن عباس: هل يرتقبون إلا القيامة (¬5). يعني أنها تأتيهم لا محالة بغتة، فكأنهم يرتقبونها وإن كانوا أمواتًا، فهم يرقبونها لأنه من يكفر بالبعث والقيامة إذا مات، علم أنه حق فهو يرتقبها, ولكن لا يدري متى تفجأه فهو قوله: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ} في الدنيا، {يَوْمَئِذٍ} يعني في الآخرة {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} يعني الموحدين المؤمنين الذين يخال بعضهم بعضًا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة، وهذا معنى قول المفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله قد سقط حرف الواو. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 800. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 418. (¬4) لعله في سورة مريم عند قوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} آية: 37، وفي سورة الأحزاب عند قوله: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} آية: 20. (¬5) ذكر ذلك في "تفسير الوسيط" 4/ 80 ولم ينسبه. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 94، "الثعلبي" 10/ 89 أ، "الوسيط" 4/ 80.

68

68 - {يَا عِبَادِ} قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد: يا عبادي {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} يعني من العذاب. {الْيَوْمَ} فإذا سمع النداء رفع الخلائق رؤسهم فيقال: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فينكس أهل الأديان رؤسهم غير المسلمين (¬1)، قال أبو إسحاق: {الَّذِينَ}، في موضع نصب على النعت لـ {عِبَادى} لأن [..] (¬2) منادى مضاف (¬3). 69، 70 - قال النحاس وصاحب النظم وأبو حاتم (¬4): {الَّذِينَ آمَنُوا} ابتداء، وخبره مضمر على تقدير يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}، أو يكون الخبر {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} ويجوز أن يكون التقدير: هم الذين آمنوا بآياتنا. وقال صاحب النظم: وعلى كلا الوجهين دليل في الفصل، فقوله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دليل لمن جعل (الذين) منتظمًا بالآية الأولى؛ لأن آخر الكلام وأوله خطاب. 71 - قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} دليل على القول الآخر على تأويل الذين آمنوا يقال لهم: ادخلوا الجنة، ويطاف عليهم. وقوله: {تُحْبَرُونَ} قال: تكرمون وتنعمون. قال الكلبي: تكرمون إكرامًا يبالغ فيه (¬5). والحبرة المبالغة فيما وصف ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 802. (¬2) كذا في الأصل، وقد سقط لفظ {عِبَادِى} وهي كذلك مثبتة عند الزجاج. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 419. (¬4) لم أقف على أقوال هؤلاء وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 119، "الدر المصون" 6/ 106. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 494.

بجميل (¬1)، وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم [آية: 15] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ}، قال مقاتل: بأيدي غلمان (¬2). {بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} قال الكلبي: بقصاع (¬3)، قال الليث: الصحيفة شبه قصعة مُسْلَنْطِحَة عريضة، والجمع الصحاف (¬4). قال الأعشى: والمَكَاكِيكُ والصحَافُ من الفضـ ... ـضةِ والضامِراتُ تحت الرِّحالِ (¬5) قوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ}، قال الفراء: الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له، وأنشد لعدي (¬6): مُتَّكِئًا تُصْفَقُ أبوابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْه العَبْدُ بالكُوبِ وقال أبو عبيدة: الأكواب الأباريق التي لا خراطم لها (¬7). ¬

_ (¬1) قال في "تهذيب اللغة" (حبر) 5/ 32 روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يخرج رجل من النار قد ذهب حِبْرُه وسِبْرُه". قال أبو عبيد قال الأصمعي: حِبْرُه وسِبْرُه: هو الجمالُ والبهاءُ. يقال فلان حَسَن الحبرِ والسِّبْرِ. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 802. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 494. (¬4) قال ابن سيده: (الصحفة: شبه قصعة مُسْلَنْطِحَةَ عريضة وهي تشبع الخمسة ونحوهم). انظر: "اللسان" (صحف) 9/ 187، وانظر: قول الليث في "كتاب العين" (صحف) 3/ 120، "تهذيب اللغة" (صحف) 4/ 254. (¬5) انظر: "ديوان" الأعشى ص 41، "تهذيب اللغة" (صحف) 4/ 254، "اللسان" (صحف) 9/ 187. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 37، والبيت لعدي بن زيد بن حماد بن أيوب من زيد مناة بن تميم. انظر: "معاني الفراء" 3/ 37، "تهذيب اللغة" (كوب) 10/ 400، "الدر المصون" 6/ 106، "اللسان" (صفق) 10/ 203، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 114. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 206.

وقال أبو إسحاق: واحدها كوب وهو إناء مستدير لا عروة له (¬1). قال ابن عباس: هي الأباريق التي ليس لها آذان (¬2)، وقال مقاتل: يعني الأكواب التي ليست لها عرا مدورة الرأس (¬3). وقوله تعالى: {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} وقرئت: {تَشْتَهِيهِ} بإثبات الهاء، قال المبرد: الأصل إثبات الهاء والحذف استخفاف، وهو حسن كثير، كما تقول: الذي ضربت زيد، والأصل ضربته، وإنما استخفوا في هذا الموضع حذف المفعول لأن (الذي) اسم، وضربت اسم الفاعل، والهاء المفعول، فلما اجتمع ذلك استخفوا الحذف، وكان المجيء بالهاء مع (ما) أحسن منه مع (الذي)؛ لأن (الذي) أطول من (ما)، ولأن (ما) مبهمة تقع للمؤنث والمذكر، والمجيء بالهاء يفصل بينهما، والذي والتي تنبيان عن أنفسهما فيستغنى عن الهاء، وفي هذا دليل على حسن قراءة من قرأ (تشتهيه) (¬4). وقال أبو علي الفارسي: حذف هذه الهاء من الصلة في الحسن كإثباتها، إلا أن الحذف يرجح على الإثبات بأن ما كان من هذا النحو في التنزيل جاء على الحذف، من ذلك قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 419. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 238، "تفسير مقاتل" 3/ 802. (¬4) انظر: "الحجة" لابن خالويه ص 323، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 262، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 654، وهي قراءة: نافع وابن عامر وحفص عن عاصم. "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 120، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: {تَشْتَهِي} بغير هاء.

72

مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] و {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69]. ويقوي الحذف من جهة القياس أنه اسم قد طال، والأسماء إذا طالت فقد يحذف منها كما حذفوا من اشهيباب، واحميرار، الياء لطول الاسم، وقد جاءت مثبتة في قوله: {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] (¬1). قوله تعالى: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} قال الكسائي: يقال للشيء: يلذ بالكسر لَذَاذًا ولذاذة بفتح اللام فيهما، فإذا كنت أنت الفاعل كان فعلت منه مكسورًا، ويفعل مفتوحًا، تقول: لَذِذْتُ الشيء أَلَذُّه، مثل استلْذَذته (¬2). قال مقاتل (¬3): وفيها ما تشتهي الأنفس من شيء وتلذ الأعين، أنه ما من شيء تشتهيه نفس أو استلذته عين إلا وهو في الجنة، وقد عبر الله بهذين اللفظين عن جميع نعيم أهل الجنة، فإنه ما من نعمة إلا وهي تصيب النفس أو العين يستحسن بالعين أو يستطاب بالنفس، ثم تمم هذه النعم بقوله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأنها لو انقطعت لم تطب، فإن الشيء إذا طاب بعضه [بناه] (¬4)، فإذا دام كان أطيب له. 72 - وقوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} يعني الجنة التي ذكرها في قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} (¬5) وقد ذكرنا في رواية الجنة قولين في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} وابن عباس قال في هذه الآية: خلق الله لكل نفس جنة ونارًا، ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 158. (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (لذذ) 2/ 575، "اللسان" (لذذ) 3/ 506. (¬3) قول مقاتل هذا غير موجود في "تفسيره" لهذه الآية 3/ 802. (¬4) كذا رسمها وهي غير منقوطة. (¬5) كذا في الأصل وهو تصحيف ونص الآية {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} [الأعراف: 43].

76

والكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنة الكافر. 76 - قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}، وقال الكلبي ومقاتل: وما ظلمناهم بتعذيبهم، وما عذبناهم على غير ذنب (¬1). {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم لما جنوا عليها من الشرك والكفر، قال أصحابنا: ولا يتصور الظلم من الله تعالى لأنه متصرف في ملكه على الإطلاق، كيف ما تصرف، وإنما الظلم أن يفعل الفاعل ما ليس له فعله و {هُمُ} في قوله: {هُمُ الظَّالِمِينَ} عماد وفصل (¬2). 77 - {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} قال ابن عباس: يريد خازن جهنم (¬3). {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قال الكلبي: ليقض علينا الموت. وقال مقاتل: لينزل علينا ربك الموت، والمعنى أنهم توسلوا بمالك إلى الله تعالى ليسأل الله تعالى ليميتهم حتى يستريحوا من شدة العذاب، فيسكت عنهم مالك ولا يجيبهم أربعين سنة في قول الكلبي (¬4)، وألف سنة فيما روي عن ابن عباس (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 495، "تفسير مقاتل" 3/ 802. (¬2) {هُمْ} هاهنا فصل كذا يسميها البصريون، وهي تأتي دليلاً على أن ما بعدها ليس بصفة لما قبلها، وأن المتكلم يأتي بخبر الأول، ويسميها الكوفيون العِماد، وهي عند البصريين لا موضع لها في رفع ولا نصب ولا جر. انظر: "معاني الزجاج" 4/ 419. (¬3) أخرج ذلك الطبري عن السدي. انظر: "تفسيره" 13/ 99، ونسبه ابن الجوزي 7/ 329 للمفسرين، وذكره السمرقندي في "تفسيره" 3/ 213 ولم ينسبه، وذكره القرطبي 16/ 116 ولم ينسبه. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 495، "تفسير مقاتل" 3/ 802. (¬5) أخرج ذلك الطبري 13/ 99 عن ابن عباس , وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 448، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح، وذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 222، والقرطبي في "الجامع" 16/ 117.

78

قال القرظي: لا يجيبهم ثمانين سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون، ثم يلحظ إليهم بعد الثمانين فيقول (¬1): {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، قال مقاتل: يقول مقيمون في العذاب (¬2). 78 - قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} وهو من قول مالك لهم فيها فيما ذكر مقاتل، و (¬3) غيره من المفسرين هو من كلام الله تعالى في مخاطبة الكفار يقول (¬4): إليكم يا معشر قريش محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬5). {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} قال ابن عباس: يريد كلكم كارهون لما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬6). 79 - قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} الإبرام معناه في اللغة الأحكام. يقال: أبرمت الأمر، أي أحكمته (¬7)، قال مجاهد ومقاتل: أم أجمعوا أمرًا فإنا مجمعون (¬8)، والمعنى بل أحكموا أمرًا في كيد محمد والمكر به، فإنا محكمون أمرًا في مجازاتهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 117. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 803. (¬3) كأن في الكلام سقطًا هاهنا ولفظه (قال). (¬4) كأن في الكلام سقطًا هاهنا ولفظه (لقد أرسلنا) هذا لفظها عند الطبري. انظر: "تفسيره" 13/ 99. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 99، "تفسير البغوي" 7/ 223. (¬6) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 330، والقرطبي في "الجامع" 16/ 118، وذكره المؤلف في "الوسيط" 4/ 82 عن ابن عباس. (¬7) انظر: اللسان (برم) 12/ 43. (¬8) أخرج ذلك الطبري عن قتادة بهذا اللفض، وأخرجه عن مجاهد بلفظ: (مجمعون) إن كادوا شرًّا كدنا مثله. انظر: 13/ 100، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 595.

80

قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة (¬1) (¬2). وهو ما ذكر الله في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30]. وقد ذكرنا القصة (¬3). قال أبو إسحاق: أم أحكموا عند أنفسهم أمرًا من كيد أو شر فإنا محكمون مجازاتهم (¬4). 80 - {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} ما [يسرونهم] (¬5) من غيرهم مما يتناجون به بينهم. {بَلَى} نسمع ذلك، {وَرُسُلُنَا} من الملائكة، يعني الحفظة، {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}. 81 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} كثرت الوجوه في هذا التفسير، فالأصح منها، والذي عليه أكثر أهل العلم قول مجاهد، قال: يقول إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحده (¬6)، واختاره الزجاج فقال: إن كان للرحمن ولد في قولكم كما قال: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] أي في ¬

_ (¬1) هي دار بمكة أحدثها قصي بن كلاب بن مرة لما تملك مكة وهي دار كانوا يجتمعون فيها للمشاورة، وجعلها بعد وفاته لابنه عبد الدار بن قصي، ولفظه: مأخوذ من الندى والنادي والمنتدى، وهو مجلس القوم الذين يندون حوله، أي: يذهبون قريبًا منه ثم يرجعون، وقد أصبحت دار الإمارة في زمن معاوية بن أبي سفيان. انظر: "معجم البلدان" 2/ 423. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 803. (¬3) في سورة الأنفال: آية 30. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 420. (¬5) كذا لفظها في الأصل، ولعل الصواب (يسرونه). (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" ص 595، "تفسير الطبري" 13/ 101، "الماوردي" 5/ 240 "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 119.

قولكم، والله -عز وجل- لا شريك له (¬1). والمعنى إن كنتم تزعمون أن للرحمن ولدًا جل وعز فأنا أول الموحدين؛ لأن من عبد الله واعترف أنه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد، واختاره ابن قتيبة فقال: لما قال المشركون لله ولد ولم يرجعوا عن مقالتهم بما أنزل الله على رسوله من التبرؤ من ذلك، قال الله لرسوله: قل لهم إن كان للرحمن ولد أي عندكم وفي ادعائكم فأنا أول العابدين؛ أي: أول الموحدين، ومن وحد الله فقد عبده، ومن جعل له ولدًا وندًا فليس من العابدين، وإن اجتهد، ومنه قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي ليوحدون (¬2)، واختاره الأزهري أيضًا فقال: المعنى إن كان للرحمن ولد في دعواكم، فالله -عز وجل- واحد لا شريك له، وهو معبودي الذي لا ولد له ولا والد (¬3). الوجه الثاني: أن يكون {الْعَابِدِينَ} من عبد بمعنى غضب، قال ابن عباس: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون فأنا أول من غضب للرحمن أن يقال: له ولد (¬4) وأنشد: متى ما يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَه ... وَيعْبَدْ عليه لا محالَة ظَالِما (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 420. (¬2) انظر: "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة 2/ 124. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (عبد) 2/ 231. (¬4) ذكر ذلك البغوي 7/ 223 ولم يشبه، وانظر: "تفسير الماوردي" 5/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 120. (¬5) لم أقف على قائل هذا البيت، والشاهد فيه قوله: ويعبد عليه: أي يغضب عليه. وقد استشهد ابن جرير في "تفسيره" 13/ 102 بالبيت نفسه. وكذلك استشهد به ابن عطية 14/ 278، وكذلك استشهد به السمين الحلبي في "الدر المصون" 6/ 108 ونسبه محققو "الدر" للمرقش الأصغر. انظر: "المفضليات" ص 502.

قال: يريد وغضب، وهذا صحيح في اللغة، قال النضر: العبد: طول الغضب (¬1). وروى أبو عبيد عن الفراء: عَبَدَ عليه وأحِنَ، أي: غضب (¬2)، والعَبَد يكون بمعنى الأنف، ومنه قول الفرزدق: وأَعْبَدُ أَنْ أهْجُو كُلَيْبًا بِدَارِم (¬3) أي: آنف (¬4)، ابن الأعرابي في قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي الغضاب، وهذا قول أبي عبيدة والمبرد في (العابدين) هاهنا: أنه معنى الآنفين ولكن (إن) عندهم قوله: {إِنْ كَانَ} بمعنى: (ما) قالوا: ومعنى الآية: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين أي: الآنفين مما قلتم والمنكرين له. قال أبو عبيدة: ومجاز الفاء في أنا مجاز الواو (¬5). وقال الكسائي: يقال: رجل عابِد وعَبِدُ، وآنِف وأنِفُ. (¬6) وقال ابن قتيبة: يقال عَبِدتُ من كذا أعبدُ عَبَدًا (¬7)، وأكثر ما يأتي ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 238. (¬2) انظر: "اللسان" (عبد) 2/ 275. (¬3) هذا عجز بيت، وصدره: أولئك قوم إن هجوني هجوتهم والشاهد قوله: أعبد. أي آنف، وقد ورد البيت في "اللسان" (عبد) 3/ 275، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 206، "المحتسب" لابن جني 2/ 258، "الدر المصون" 6/ 108، "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 238. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 238 وهي كذا في الأصل ولعله سقط لفظ (قال). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 206. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 230، فقد نقل قول الكسائي. (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 401.

الأسماء من فَعِلَ يفعل على فَعَل كالوجل والفزع، وربما يأتي عليها نحو: صدٍ صاد، وكذلك عبد وعابد. وذهب قوم إلى أن (إن) بمعنى: (ما)، و (العابدين) من العبادة وهو قول الكلبي (¬1) ومقاتل، والمعنى: ما كان للرحمن ولد (¬2) فأنا أول العابدين، يعني: أول الموحدين من أهل مكة، واختاره ابن الأنباري فقال: معناه: ما كان للرحمن ولد، والوقف على الولد، ثم تبدأ فتقول: فأنا أول العابدين له، على أنه لا ولد له (¬3)، والوقف على العابدين تام. وهذا قول الحسن وقتادة (¬4). وفي الآية قول آخر ذكره السدي فقال: قال الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: قل لهم إن كان للرحمن ولد كما تقولون، لكنت أول من يعبده ويطيعه (¬5)، أي: إن كان له ولد فأنا أول من عبده بأن له ولدا, ولكن لا ولد له، ومعنى هذا القول: لو كان له ولد لعبدته، كما تقول: لو دعت الحكمة إلى عبادة غير الله لعبدته ولكنها لا تدعو إلى عبادة غيره، كما تقول: لو دل الدليل لقبلت به، ولكنه لا يدل، فهذا تحقيق لنفي الولد. وقول آخر في الآية يروى عن ابن عيينة أنه سئل عن هذه الآية فقال: يقول فكما أني لست أول من عبد الله، فكذلك ليس لله ولد (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 230 فقد نقل قول الكلبي. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 805. (¬3) انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري 2/ 886. (¬4) انظر: قول ابن الأنباري بنصه في "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 231، وكذلك قولي الحسن وقتادة. وانظر: "المكتفى" للداني ص 511. (¬5) انظر: قول السدي في "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 230، "المكتفي" للداني ص 511. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) 2/ 230، "تفسير الوسيط" 4/ 83.

82

وهذا كما تقول إن كنت [كاذبًا]، (¬1) فأنا حاسب، تريد لست أنت كذا ولا أنا، وتأويل الآية ليس للرحمن ولد كما لست أنا أول من عبد الرحمن، فقد عبده قبلي ناس، هذا وجه ما ذكره ابن عيينة، وهو حسن صحيح في معنى الآية. 82 - ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} قال مقاتل: عما يقولون من الكذب. 83 - {فَذَرْهُمْ} يعني كفار مكة حين كذبوا بالعذاب في الآخرة عصوا في باطلهم ولهوا في دنياهم (¬2). {حَتَّى يُلَاقُوا} يوم القيامة. 84 - قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} قال قتادة: يعبد في السماء ويعبد في الأرض (¬3)، قال مقاتل: يوحد في السماء ويوحد في الأرض (¬4). وقال المبرد: تأويله والله أعلم: رَبّ من هناك، ورَبّ من هاهنا كقوله: سبحان الله (¬5)، ونحو هذا قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وقد مر الكلام فيه مستقصى. قال أبو علي: نظرت فيما يرتفع به (إله) فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف من الصلة راجع إلى الموصول كأنه: وهو الذي ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي "الوسيط" 4/ 83 بلفظ (كاتباً) وهو الصواب. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 805. (¬3) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" 13/ 104، ونسبه ابن الجوزي لمجاهد وقتادة. انظر: "زاد المسير" 7/ 233. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 806. (¬5) لم أقف على قول المبرد.

86

في السماء هو إله، وتقدير هذا الحذف من الصلة هنا حسن لطولها، وقد استحسن الخليل ذلك، فإذا كان التقدير على هذا ارتفع هذا المحذوف بالابتداء و {إِلَهٌ} خبره والظرف الذي هو قوله: {فِي السَّمَاءِ} متعلق بقوله: {إِلَهٌ} وموضعه نصب وإن كان مقدمًا عليه، ألا ترى أنهم قد أجازوا كل يوم ثوب فاعمل فيه، والمعنى مقدم. والمعنى: إنما هو عن الإخبار بالآلهة لا عن الكون في السماء، أي: أنه تعالى اسمه يقصد بالعبادة في السماء والأرض. انتهى (¬1). قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} لأن خَلْق السموات والأرض يدل على الحكمة والعلم. 86 - قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ذكر المفسرون في هذه الآية قولين: أحدهما: إن الذين يدعون من دونه هم عزير وعيسى والملائكة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والكلبي، وقول مجاهد ومقاتل (¬2)، وقال ابن عباس: يريد أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد بالحق (¬3)، وقال مجاهد: لا يشفع عيسى ولا عزير ولا الملائكة إلا من شهد بالحق (¬4). وقال مقاتل: قال النضر بن الحرث ونفرٌ معه: إن كان ما يقول محمد حق، فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد، فأنزل الله هذه ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في "الوسيط" عن أبي علي الفارسي 4/ 83، ولم أقف عليه عند أبي علي. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 596. وأخرجه الطبري 13/ 105 عن مجاهد، وانظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 92 أ، "تفسير مقاتل" 3/ 806، "زاد المسير" 7/ 334. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 596، وأخرجه الطبري 13/ 105 عن مجاهد.

الآية، يقول: لا تقدر الملائكة الذين تعبدونهم لأن يشفعوا لأحد، ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} (¬1) والمعنى على هذا القول: لا يشفع هؤلاء إلا لمن شهد بالحق، فأضمر اللام (¬2) أو يقال التقدير: إلا شفاعة من شهد بالحق فحذف المضاف، وهذا على لغة من يعدي الشفاعة بغير لام فيقول: شفعت فلانًا، بمعنى شفعت له، كما تقول: كلمته وكلمت له، ونصحته ونصحت له. القول الثاني: أن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله، وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} عزير وعيسى والملائكة، وهذا قول قتادة قال: إنهم عبدوه من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة (¬3)، ومعنى {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: من شهد أنه لا إله إلا الله وحده وأن محمدًا عبده ورسوله (¬4)، وقال مقاتل: إلا من شهد بالتوحيد من بني آدم (¬5). {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله واحد لا شريك له فيشفعون لهؤلاء، وفي هذا دليل على أنه لا تتحقق الشهادة بالعلم، وأجمع أصحابنا أن شرط الإيمان طمأنينة القلب على ما أعهده بحيث لا يتشكك إذا شكك، ولا يضطرب إذا حرك لقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يعني شهدوا على علم وبصيرة (¬6)، قال إبراهيم: يشهد وهو يعلم أنك كذلك، قال مجاهد: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 806، "تفسير الماوردي" 5/ 242، "زاد المسير" 7/ 233. (¬2) انظر: "الدر المصون" 6/ 108، "تفسير ابن عطية" 14/ 281. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 105 عن قتادة، وانظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 92 ب، "زاد المسير" 7/ 334. (¬4) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" عن ابن عباس. انظر: 16/ 122. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 806 (¬6) ذكر ذلك في تفسير "الوسيط" 4/ 84.

87

يعلمون أن الله ربهم (¬1). 87 - قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية مفسرة في أواخر سورة العنكبوت [آية: 61] وفي غيرها. 88 - {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ}، قال ابن عباس: شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان (¬2)، واختلفوا في انتصاب {وَقِيلِهِ} فذكر الأخفش والفراء فيه قولين: أحدهما: أنه نصب على المصدر بتقدير، وقال {وَقِيلِهِ} وشكا شكواه إلى ربه، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- فانتصب {وَقِيلِهِ} بإضمار قال. والثاني: أنه عطف على ما تقدم من قوله: إنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله (¬3). وقال أبو إسحاق: والذي أختاره أنا أن يكون نصبًا على معنى: وعنده علم الساعة، ويعلم قيله (¬4)، وشرح أبو علي هذا القول فقال: نصب قيله على الحمل على موضع [...] (¬5) الساعة مفعول بها وليست بظرف والمصدر مضاف إلى المفعول به ومثل ذلك قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" ص 596، "تفسير الطبري" 13/ 105. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 106 عن قتادة. وانظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 92 ب من غير نسبة، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 334 لابن عباس. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 38، ولم أجده في "معاني الأخفش"، وانظر: "الدر المصون" 6/ 109. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 421. (¬5) كذا في الأصل وقد سقط لفظ [{وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} لأن]، انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 160.

قد كُنْتُ دَايَنْت به حَسَّانَا ... مَخَافَةَ الإفْلاسِ واللّيَانَا (¬1) وكما أن الليان محمول على ما أضيف إليه المصدر من المفعول به، كذلك وقوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} لما كان معناه يعلم الساعة حملت {وَقِيلِهِ} على ذلك، قال: ويجوز أن يكون حمله على: يقول قيله، فيدل انتصاب المصدر على فعله، وكذلك قول كعب: يَسْعَى الوشَاةُ حَواليها وقِيلِهم ... إنَّك يا ابْن أبي سَلْمَى لَمَقْتُولُ (¬2) وقرأ عاصم وحمزة: وقيله بالجر، قال الأخفش والفراء والزجاج: الجر على قوله: وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب (¬3)، والاختيار القراءة الأولى (¬4)، وهو الموافق لما ذكره المفسرون. قال ابن عباس في تقدير الآية: أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب، ونحو هذا قال مقاتل (¬5). ¬

_ (¬1) الرجز لرؤية بن العجاج، انظر: "ديوانه" ص 187، "الكتاب" 1/ 191، "الحجة" لأبي علي 6/ 160، وداينت: من المداينة وهي البيع بالدين، بها أي بالإبل، وحسان: اسم رجل، والليان: مصدر لويته بالدين لياً ولياناً إذا مطلته، يقول: داين بالإبل حسان لأنه رجل مليء لا يماطل مخافة أن يداين غير حسان ممن ليس بمليء فيماطل لإفلاسه، انظر: "الكتاب" 1/ 191. (¬2) البيت لكعب بن زهير في "ديوانه" ص 19 من قصيدته المشهورة بالبردة، وانظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 160، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 124. (¬3) "الحجة" 6/ 160، "معاني القرآن" للفراء 3/ 38، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 421، "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 123. (¬4) انظر: "كتاب السبعة" لابن مجاهد ص 589، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 262، "الحجة في القرءات السبع" لابن خالويه ص 323. (¬5) "تفسير مقاتل" 3/ 807، وذكر هذا المعنى بغير نسبة: البغوي 7/ 224، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 334.

وقال المبرد: العطف على المنصوب حَسَن (¬1)، وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه؛ لأنه لا يجوز أن يفصل بين المنصوب وعامله والمجرور، يجوز ذلك فيه على قبح؛ لأنه لا يفصل بينه وبين عامله إلا في ضرورة، ومعنى النصب: أنا لا نسمع قيله، وهو معطوف على منصوب قد تباعد منه، وكان حسنًا في المنصوب، ولما كان معنى الجر: وعنده علم الساعة وعلم قيله، فتح لما وصفنا، وقرأ ناس من غير السبعة: وقيله يا رب، بالرفع. وقال أبو إسحاق: الرفع على معنى: وقيله هذا القول قول يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (¬2). قال أبو علي: الرفع يحتمل ضربين: أحدهما: أن يجعل الخبر، وقيله يا رب مسموع ومتقبل، فيا رب منصوب الموضع بقيله المذكورة، وعلى القول الآخر بقيل المضمر وهو من صلته، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع أن يحذف بعض الموصول، ويبقى بعضه, لأن حذف القول [قد كثر] (¬3) حتى صار بمنزلة المذكور، وقد يحتمل بيت كعب الرفع على هذين الوجهين (¬4)، والقيل مصدر كالقول، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن قيل وقال" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 123، "الدر المصون" 6/ 109. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 421، "الحجة" 6/ 160. (¬3) كذا في الأصل وفي "الحجة" (قد أضمر). (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 161. (¬5) أخرجه الجاري عن المغيرة: "إن الله كره لكم ثلاثاً .. " الحديث، كتاب الزكاة باب قول الله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 2/ 131، وفي الأدب باب عقوق =

قال أبو عبيد: يقال قلت قولاً، قال وسمعت الكسائي يقول في قراءة عبد الله {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34] قال الفراء: القال في معني القول، مثل العيب والعاب (¬1). وقال الليث: تقول العرب كثير فيه: القيل والقال (¬2)، أبو زيد: يقال: ما أحسن قيلك وقولك ومقالتك ومقالك وقالك، خمسة أوجه (¬3). قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} قال ابن عباس: أمسك عنهم، وقال مقاتل: أعرض عنهم وقيل سلام، اردد عليهم معروفًا (¬4). وقال ابن عباس: يريد مداراة حتى ينزل حكمي (¬5). قال المبرد: قال سيبويه: إنما معناه المتاركة كما تقول: سلام بسلام أي تركًا بترك (¬6)، وهذا كقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] وقد مر. وقال الفراء: رفع (سلام) بضمير (عليكم) وما أشبهه، ولو ¬

_ = الوالدين 7/ 70، وفي الرقاق باب ما يكره من قيل وقال 7/ 183، وفي الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال 8/ 142، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل 2/ 1430، وأخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة 2/ 327، 360، 367، وعن المغيرة 4/ 246، 249، 250. (¬1) انظر: هذه الأقوال في "تهذيب اللغة" للأزهري من قوله: ومنه قول النبي .. (لقى) 9/ 304، "اللسان" (قول) 11/ 573. (¬2) انظر: "كتاب العين" (قول) 5/ 213. (¬3) انظر: قولي الليث وأبي زيد في "تهذيب اللغة" (لقى) 9/ 305. (¬4) أورد ذلك القرطبي 16/ 124 عن ابن عباس لكن بلفظ: أعرض عنهم، وانظر: "تفسير مقاتل" 3/ 807. (¬5) انظر: "تفسير الوسيط" ذكر ذلك عن عطاء 4/ 84. (¬6) انظر: "الكتاب" 1/ 326.

كان: وقيل سلامًا، كان صوابًا (¬1). قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قرئ: بالتاء والياء، فمعنى التاء أن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للمشركين: سلام عليكم ويقول لهم سلام فسوف تعلمون، ومن قرأ بالياء حمل على الغيبة التي هي (فاصفح عنهم .. فسوف يعلمون) (¬2) قال ابن عباس: وهذا وعيد وتهدد من الله تعالى. قال ابن عباس: وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} منسوخ بالسيف (¬3). وقال مقاتل: نسخ السيف الإعراض والسلام (¬4). وقال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمر بقتالهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 38. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 161، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 263. (¬3) ذكر ذلك ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" عن ابن عباس ص 455، وذكره ابن حزم في "الناسخ والمنسوخ" ولم ينسبه ص 55، وذكره من غير نسبة هبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" ص 158. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 807. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، انظر. "تفسيره" 13/ 107، ونسبه القرطبي لقتادة 16/ 124.

سورة الدخان

سورة الدخان

1، 2

تفسير سورة الدخان بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} قال ابن عباس: يريد القرآن وما أنزل فيه من البيان والحلال والحرام (1)، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} قال الكلبي: أقسم بـ حم والقرآن (2) ذلك لقد أنزلناه، فجواب القسم على ما ذكر: 3 - {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، وكذلك هو عند أهل التفسير. وقال النحاس: يجوز أن يجعل جواب القسم: (إنا أنزلناه حم) فيكون تمام الكلام عند قوله: {الْمُبِينِ} وإن جعلت جواب القسم (إنا أنزلناه)، اتصل بالكلام الأول (3). قال صاحب النظم: لولا أن قوله (إنا أنزلناه) صفة القرآن والذي أقسم به وأخبر عنه، لاحتمل أن يكون جوابًا للقسم، ولكن ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه.

_ (1) قال في "تنوير المقباس": (وأقسم بالكتاب المبين لقد قضى ما هو كائن أي بين، ويقال أقسم بالحاء والميم والقرآن المبين بالحلال والحرام والأمر والنهي) انظر: "تنوير المقباس" ص 496، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 85. (2) انظر: "تنوير المقباس" ص 496. (3) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 654، لكن بلفظ: إن جعلت جواب القسم {حم} كان هذا وقفًا، وإن جعلت الجواب: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} فالوقف: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.

قوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي كثيرة الخير، والليلة التي أنزل فيها كتاب الله مباركة، بأن الخير ينمو فيها على ما دبره الله من علو مرتبتها بالخير الذي قسمه الله فيها، واختلفوا في الليلة المباركة فقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: إنها ليلة القدر (¬1). نزل القرآن جملة من عند ذي العرش إلى السماء الدنيا، وقد ذكرنا كيفية ذلك عند قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وهذا قول قتادة ومقاتل وابن زيد ومجاهد (¬2)، وبه قال الأكثرون: واختاره الزجاج (¬3) لقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، قال مقاتل: كان ينزل من اللوح المحفوظ كل ليلة قدرٌ من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السَّنَة كلها إلى مثلها من العام المقبل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر (¬4). وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان (¬5). قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}. قال ابن عباس: منذرين بالقرآن من عصى الله (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الماوردي ولم ينسبه. انظر: 5/ 244، ونسبه ابن الجوزي للأكثرين. انظر: "زاد المسير" / 336، وذكره السمرقندي ولم ينسبه. انظر: تفسيره 3/ 115. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 107 عن قتادة وابن زيد. وانظر: "تفسير مقاتل" 3/ 817. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 423. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 817. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن عكرمة. انظر: تفسيره 13/ 109، وذكره البغوي عن عكرمة. انظر: تفسيره 7/ 22، ونسبه ابن الجوزي لعكرمة. انظر: "زاد المسير" 7/ 338، ونسبه القرطبي لعكرمة. انظر: "الجامع" 16/ 126. (¬6) لم أقف عليه.

4

4 - قوله تعالى: {فِيهَا} أي في تلك الليلة المباركة. {يُفْرَقُ} أي يفصل ويبين ويضبط، من قولهم: فرقت الشيء أفرقه فرقاً وفرقاناً (¬1) , والأمر الحكيم المحكم، يعني أمر السنة إلى مثلها من العام المقبل يقضي الله في تلك الليلة ما هو كائن في السنة من الخير والشدة والرخاء والأرزاق والآجال ومحو وتثبيت ما يشاء، وهذا قول عامة المفسرين، روى مهران (¬2) عن ابن عباس في هذه الآية قال: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، حتى الحُجّاج يقال: يحج فلان (¬3). وروى عنه [سعيد بن يحيى] (¬4). في هذه الآية قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (فرق) 9/ 105، و"مفردات" الراغب (فرق) ص 377. (¬2) لعله: مهران أبو صفوان حديثه في الكوفيين روى عن ابن عباس، وعنه الحسن بن عمرو النُقيمي، قال أبو زرعة لا أعرفه إلا في الحديث وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 196، و"تهذيب التهذيب" 10/ 328. (¬3) انظر: "تفسير البغوي"، وقد نسبه لابن عباس 7/ 227، ونسبة في "الوسيط" لابن عباس انظر: 4/ 85، وانظر: "زاد المسير" 7/ 338، وقد نسبه لابن عباس، ونسبه القرطبي لابن عباس. انظر: 16/ 127. (¬4) كذا في الأصل وهو تصحيف والصحيح (سعيد بن جبير) لأن سعيد بن يحيى متأخر، فلم يلق ابن عباس، فقد توفي سنة 249 هـ. وانظر: تفسير الطبري، وقد نسبه لسعيد ابن جبير عن ابن عباس 13/ 109، وكذلك نسبه المؤلف لسعيد بن جبير عن ابن عباس. انظر: تفسيره "الوسيط" 4/ 85. (¬5) أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي على شرط مسلم. انظر: "المستدرك مع التلخيص" 2/ 448.

5

5 - قوله تعالى: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} قال أبو إسحاق: {أَمْرًا} نصب بيفرق، بمنزلة يفرق فرقًا, لأن أمرًا بمعنى فرقا، وهذا قول الفراء (¬1) ونحو هذا قال المبرد في وجه الانتصاب، إلا أنه لم يجعل في موضع مصدر {يُفْرَقُ} وجعله بمنزلة مصدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} فقال: انتصابه انتصاب المصادر وهو في موضع قولك [..] (¬2). إنزالاً، والأمر اسم مشتمل على جميع الأخبار، والتقدير: إنا أنزلناه أمرًا من عندنا، ونحو هذا قال الأخفش: إنا أنزلناه أمراً (¬3). وحكى أبو علي الفارسي عن أبي الحسن أنه حمل قوله: {أَمْرًا} على الحال و (ذو الحال) (¬4) قوله: {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وهو نكرة (¬5). قوله تعالى {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} قال المفسرون: يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬6)، وقال صاحب النظم: يعني به الأنبياء. 6 - قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ذكر الفراء وأبو إسحاق في انتصاب الرحمة ما ذكرنا في قوله: {أَمْرًا} وزاد وجهًا آخر وهو: أن يكون مفعولًا ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 424، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 39. (¬2) سننه من الأصل لفظ {أَنْزَلْنَاهُ}. وانظر: قول المبرد في "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 126، و"فتح القدير" 4/ 570. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 691. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 691، و"إعراب القرآن" للنحاس 4/ 126، ومشكل "إعراب القرآن" لمكي 2/ 287. (¬5) كذا في الأصل وهي غير واضحة، وقد نقل مكي عن الجرمي: هو حال من نكرة، وهو: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} فحسن ذلك لما وصف النكرة بـ {حَكِيمٍ}. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 110، و"الثعلبي" 10/ 93 ب، و"البغوي" 7/ 228.

7

له على تقدير: إنا أنزلناه رحمة، أي: للرحمة (¬1)، وهذا معنى قول صاحب النظم: {رَحْمَةً} نصب على السبب؛ لأنه سبب لما ذكر أنه فعله. قال ابن عباس: يريد رأفة مني بخلقي (¬2). وقال الكلبي: نعمة من ربك بما بعثنا إليهم من الرسل (¬3). وقال مقاتل: رحمة من ربك لمن آمن به من المؤمنين. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لمن دعاه. {الْعَلِيمُ} بخلقه. قاله مقاتل (¬4). 7 - قوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بالرفع والخفض، فالرفع على قوله: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ}، وإن شئت على الاستئناف على معنى: هو رب السموات هذا قول الفراء والزجاج (¬5)، وزاد أبو علي وجهًا آخر فقال: ويكون {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} مبتدأ وخبره الجملة التي [عادت] (¬6) الذكر منها إليه، وهو قوله: لا إله إلا هو، ومن خفضه جعله بدلاً من {رَبِّكَ} المتقدم ذكره (¬7). قوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} قال عطاء والكلبي عن ابن عباس: يريد من الهواء وغير ذلك من خَلْق (¬8). {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} بذلك، وهو أنه لا إله ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 39، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 424. (¬2) ذكره البغوي عن ابن عباس. انظر: تفسيره 7/ 228، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 86. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 496. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 228، و"تفسير مقاتل" 3/ 818. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 39، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 424. (¬6) كذا في الأصل، ولعل الصواب (عاد). (¬7) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 165. (¬8) ذكر ذلك في "الوسيط" ولم ينسبه. انظر: 4/ 86.

9

غيره، وهذه الآية مفسَّرة في سورة الشعراء [آية: 24]. 9 - قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} قال ابن عباس: في ضلال يتمادون (¬1)، وقال مقاتل: في شك من هذا القرآن يهزؤن به لاهين عنه (¬2). 10 - قوله: {فَارْتَقِبْ} أي فانتظر، ويقال ذلك في المكروه، والمعنى: انتظر يا محمد عذابهم، فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكره بعده عليه وهو قوله: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ويجوز أن يكون {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ} مفعول الارتقاب (¬3). قوله تعالى: {بِدُخَانٍ مُبِينٍ} اختلفوا في معنى الدخان هاهنا، فالأكثرون على أن هذا الدخان كان حين دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على قومه بمكة لما كذبوه فقال: "اللهم سبعًا كسني يوسف" (¬4) فارتفع القطر، وأجدبت الأرض فأصابت قريشًا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء دخان، وهذا قول عطاء عن ابن عباس (¬5) ومقاتل ومجاهد (¬6) واختيار الفراء والزجاج وابن منبه، وهو قول ابن مسعود، وكان ينكر أن الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 818. (¬2) انظر: "إملاء ما منَّ به الرحمن" 2/ 230. (¬3) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس. انظر: 4/ 86. (¬4) أخرج هذا الحديث الجاري في صحيحه -كتاب التفسير - تفسير سورة الدخان - باب [2]: يغشى الناس هذا عذاب أليم 6/ 39، ومسلم -كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- باب (7) الدخان 3/ 2157، والإمام أحمد 1/ 280، 421، 441. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 111، و"تفسير البغوي" 7/ 229، ولم أقف على نسبته لابن عباس. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 8/ 813، و"تفسير مجاهد" ص 597.

الجوع، كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا يرون دخانًا، فعلي هذا: الدخان هو الظلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع (¬1). وذكر ابن قتيبة معنيين آخرين أحدهما: أن الجوع يقال له: دخان، ليُبْس الأرض في سنة الجدب، وانقطاع المطر وارتفاع الغبار فيه، فيشبه ما يرتفع منه بالدخان، ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء، ومنه جوع أغبر، وهذا معنى قول مجاهد في قوله: {بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قال: الجدب وإمساك القطر عن كفار قريش (¬2). قال: وربما وضعت العرب الدخان موضع الشر إذا علا فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان (¬3). القول الثاني في الدخان: أنه آية من آيات الله مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة، فيدخل في أسماع أهل الغي ويعتري أهل الإيمان منه كهيئة الزكام، وهذا قول ابن عباس [والحسين] (¬4) وابن عمر وعلي (¬5). روى الحارث (¬6) عنه أنه قال: الدخان لم يمض بعد يأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 39، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 424، و"تفسير الطبري" 13/ 112، و"الدر المنثور" 7/ 406. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" ص 597. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 402، و"مشكل القرآن وغريبه" 2/ 125. (¬4) كذا في الأصل وهو تصحيف، والصحيح (الحسن). (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 113، وتفسير الثعلبي 10/ 94 ب، و"تفسير البغوي" 7/ 229، و"زاد المسير" 7/ 339. (¬6) هو الحارث بن قيس الجعفي الكوفي. روى عن ابن مسعود وعلى وعنه خيثمة ويحيى ابن هانئ قال ابن المديني: قتل مع علي، وقال ابن حبان في الثقات: مات الحارث في ولاية معاوية، وصلى أبو موسى على قبره بعد ما دفن. انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 154، و"الإصابة" 1/ 370.

11

وينفخ الكافر حتى يَنْقذَ (¬1). 11 - قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} من صفة قوله: (بِدُخَانٍ) والناس على القول الأول في الدخان: أهل مكة. وعلى القول الثاني: عام (¬2). قوله تعالى: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الفراء: يراد به ذلك العذاب. قال: ويقال: إن الناس كانوا يقولون لهذا الدخان: عذاب (¬3)، وعلى هذا تقدير الكلام يقولون: هذا عذاب أليم، وقال صاحب النظم: (هذا) إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه، كما يقال في الكلام: هذا الشتاء فاعدد له، وهذا العدو فاستقبله، على التقريب. 12 - قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} هذا على ما ذكرنا من التقدير: يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف، وإن لم يضمروا القول هناك أضمرت هنا، والعذاب قال الكلبي: الجوع والدخان (¬4) {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أي: بمحمد والقرآن. 13 - قال الله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى}، قال ابن عباس: كيف يتعظون، والمعنى أن الله أبعد عنهم الاتعاظ والتذكير بعد توليهم عن محمد وتكذيبهم إياه (¬5). وهو قوله: {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} بين الرسالة لم يكن عندهم بكذاب. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك عبد الرزاق عن علي. انظر: تفسيره 2/ 206، وأورده السيوطي في الدر عن علي، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 7/ 407. (¬2) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 131. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 40. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 496. (¬5) ذكر ذلك القرطبي عن ابن عباس. انظر "الجامع" 16/ 132.

14

14 - {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} الكلام كله في موضع الحال على تقدير: كيف يتذكرون متوليين عن رسول مبين قد جاءهم. {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} أي: هو معلم يعلمه بشر. 15 - قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} التقدير: [كاشفو] (¬1) العذاب لأنه إخبار عما لم يمض، ولكنه خفف بحذف النون كقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وقد مر. قال المفسرون: يعني عذاب الجوع. {قَلِيلًا}. قال مقاتل: يعني: يوم بدر. {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} أي: في كفركم وتكذيبكم (¬2)، أعلمهم الله أنهم لا يتعظون، وإذا زال عنهم المكروه عادوا في طغيانهم، وهذه الآيات تدل على صحة القول الأول في الدخان (¬3). 16 - قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} تفسير البطش قد تقدم [الأعراف: 195]، قال صاحب النظم: التأويل (إِنَّا مُنتَقِمُونَ) (يَوْمَ نَبْطِشُ)، فقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ} ظرف لقوله: {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قال أبو إسحاق: {يَوْمَ} لا يجوز أن يكون منصوبًا بقوله: {مُنْتَقِمُونَ} لأن ما بعد {إِنَّا} لا يجوز أن يعمل فيما قبلها, ولكنه منصوب بتقدير: واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى (¬4)، واختلفوا في ذلك اليوم، فالأكثرون على أنه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وهو تصحيف والصحيح (كاشفون). قال النحاس: ({كَاشِفُو الْعَذَابِ} الأصل كاشفون حذفت النون تخفيفًا. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 127. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 819. (¬3) وهو الذي رجحه الطبري في تفسيره 13/ 114، وهو ما أصاب قريش من الجهد بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 425.

17

يوم بدر، وهو قول ابن مسعود وابن عباس في رواية عطاء والكلبي ومجاهد ومقاتل وابن سيرين وأبي العالية، قالوا: إن كفار مكة لما كشف عنهم الجوع عادوا إلى التكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر (¬1)، وأنا أقول هو يوم القيامة (¬2). وقال أهل المعاني: معنى البطش الأخذ بيده (¬3)، وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتتابع، وأجري إيقاع الألم المتتابع مجراه. 17 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} قال ابن عباس: ابتلينا (¬4)، وقال أبو إسحاق: بلونا (¬5)، والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم، ودعاهم إلى الحق. قوله: {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} قال ابن عباس وقتادة: يريد موسى (¬6)، واختلفوا في معنى الكريم هاهنا، فقال الكلبي: كريم على ربه (¬7) يعني: بما ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عنهم. انظر: "تفسيره" 13/ 116، 117، و"تفسير مقاتل" 3/ 19، و"تفسير مجاهد" ص 597، و"تفسير الوسيط" 4/ 87. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس والحسن انظر: تفسيره 13/ 117، و"زاد المسير" 7/ 342، ومعانى القرآن للنحاس 6/ 400، و"تفسير الوسيط" ونسبه لابن عباس والحسن. انظر: 4/ 87 (¬3) البطش: تناول الشيء بصولة. انظر: "مفردات الراغب" كتاب الياء ص 50. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أجده في "معاني القرآن" للزجاج وقد ذكره البغوي في تفسيره 7/ 230، والسيوطي في "الدر المنثور" ونسبه لابن عباس 7/ 409، وذكره الشوكاني في تفسيره ونسبه للزجاج، انظر: "فتح القدير" 4/ 574. (¬6) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: تفسيره 13/ 118، وذكره الماوردي ولم ينسبه 5/ 249. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" ص 496.

18

استحق من الإكرام والإجلال بطاعة ربه. وقال مقاتل: حسن الخلق (¬1). وقال الفراء: يقال: كريم من قومه؛ لأنه قل ما بعث نبي إلا من سر (¬2) قومه (¬3). وقال صاحب النظم: معنى هذه الآية على التقديم والتأخير والتقدير، ولقد جاء قوم فرعون رسول كريم وفتناهم؛ لأن الفتنة كانت بعد مجيء الرسول. 18 - قوله تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} قال صاحب النظم: المعنى يقول لهم: أدوا إليَّ، أي: يأمرهم به. وقال غيره: المعنى وجاءهم رسول بأن أدوا (¬4)، فحذف الجار، ويستقيم الكلام من غير تقدير الجار؛ لأنك تقول: أرسلت إليه أن يفعل كذا، وهذا من قول موسى لفرعون وذويه، يقول: ادفع إليَّ بني إسرائيل ولا تعذبهم أي: أطلقهم من عذابك كما قال: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105]. وهذا قول ابن عباس والمفسرين (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 825. (¬2) كذا في الأصل، وفي بعض نسخ معاني الفراء [سرا] والمثبت في معاني الفراء [في شرف قومه] وقال الأزهري في تهذيب اللغة: [سرى] قال ابن السكيت وغيره: يقال: سَرُؤ الرجلُ يَسْرُؤ وسرا يَسرؤ وسَرِى يَسْرَى: إذا شرُف، انظر: 13/ 52. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 40. (¬4) انظر: مشكل "إعراب القرآن" لمكي 2/ 289. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 118، و"تفسير الماوردي" 5/ 249، و"تفسير البغوي" 7/ 230.

19

قال مقاتل: يقول خل سبيلهم فإنهم أحرار فلا تستعبدهم (¬1). وذكر الفراء والزجاج وجهًا آخر وهو: أن يكون {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} نصبًا على النداء، ويكون المعنى: أن أدوا إلى ما أمركم الله به يا عباد الله (¬2) وذكر الأزهري وجهًا آخر وهو: أن يكون: {أَدُّوا إِلَيَّ} بمعنى استمعوا إلى، كأنه يقول: أدوا إلى سمعكم أبلغكم رسالة ربكم (¬3). قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} قال ابن عباس: ائتمنني الله على وحيه (¬4). 19 - {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} قال: لا تتجبروا على الله. وقال قتادة: لا تعتدوا على الله، وقال مقاتل: يريد وحِّدوه (¬5). {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} بحجة بينة يخضع لها كل جبار، وقال الحسن: لا تستكبروا على الله بترك طاعته، وعن ابن عباس: لا تطغوا بافتراء الكذب على الله (¬6). 20 - قال المفسرون: فلما قال لهم هذا، توعدوه بالقتل (¬7)، فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 820. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 40، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 425. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (أدى) 14/ 230. (¬4) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. وانظر: "تفسير البغوي" 7/ 230، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 134. (¬5) أخرج الطبري عن قتادة بلفظ: (لا تبغوا على الله). انظر: تفسيره 13/ 119 , و"تفسير مقاتل" 3/ 820. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 119، و"تفسير الماوردي" 5/ 249. (¬7) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 95 ب، و"تفسير الماوردي" 7/ 231، و"تفسير البغوي" 231، و"تفسير الوسيط" 4/ 88.

21

{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} قالوا: أن تقتلون، قال أبو صالح: ترجمون [بالقتل] (¬1) وتقولوا ساحر كذاب (¬2). 21 - {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} أي: لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، ولما آتيتكم به من الحجة، فاللام في (لي) لام الأجل (¬3). {فَاعْتَزِلُونِ} قال الكلبي: فاتركوني لا معي ولا علي (¬4)، وقال قتادة: خلوا سبيلي (¬5)، قال ابن عباس: فا عتزلوا أذاي (¬6). وعلى هذا حذف المضاف. 22 - قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} قال صاحب النظم: الفاء في: {فَدَعَا} دليل على أنه متصل بخبر قبله لم يذكر، على تأويل أنهم كفروا ولم يؤمنوا، فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون، قال الكلبي ومقاتل: مشركون لا يؤمنون. 23 - فأجاب الله دعاءه وأمره أن يسري (¬7) وهو قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} قال مقاتل: فاستجاب الله له فأوحى إليه أن أسر بعبادي (¬8) يعني من آمن به من بني إسرائيل. {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه، أعلمه الله ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وهو تصحيف والصحيح (بالقول). (¬2) أخرج ذلك الطبري عن أبي صالح. انظر: "تفسيره" 13/ 119، وذكره الماوردي في "تفسيره" 5/ 250. (¬3) كذا ذكر القرطبي في "الجامع" 16/ 135. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 497. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن قتادة 13/ 120. (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 231، فقد نسبه لابن عباس، وكذلك في "الوسيط" نسبه لابن عباس. انظر: 4/ 88. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" ص 497، و"تفسير مقاتل" 3/ 821. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 821.

24

تعالى أنهم سيتبعونهم، والمعنى في ذلك أن الله تعالى إنما أمرهم بالسُّرَى ليلاً ليكون سببًا لاتباع فرعون وقومه إياهم، فيكون ذلك الاتباع سببًا للغرق. قاله صاحب النظم. 24 - قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} وقال أبو عبيدة: أي ساكناً وأنشد قول بشر بن أبي خازم: فإن أَهْلِكْ عُمَيْرُ فَرُبَّ زَحْفٍ ... يُشبهُ نَقْعُهُ رَهْوًا ضَبَابًا (¬1) أي: يشبه نقعه ساكنًا بالضباب، ونحو هذا قال الفراء (¬2) والمبرد (¬3) وابن قتيبة (¬4). قال الليث: الرَّهْو مشي في سكون (¬5). يقال رَهَا يَرْهُو رهوًا فهو رَاهٍ، ومن هذا يقال: عيش راهٍ إذا كان حافظًا وادعًا، وأفعلُ ذلك سهوًا رهوًا، أي ساكنًا بغير تشدد، أبو عبيد عن الأصمعي، يقال لكل ساكن لا يتحرك ساجٍ ورَاه، والإرْها الإسكان، ومعنى الآية على هذا القول قال الليث: بلغنا أن موسى لما دخل البحر عَجلَ وأَعْجَل أصحابه، فأوحى الله إليه: واترك البحر رهوًا، أي: ساكنًا على [هِينَتِكَ (¬6)، والرهو من نعت موسى] (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيد 2/ 208 , و"اللسان" (رها) 14/ 341. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 41. (¬3) انظر: قول المبرد في "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 129. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 402. (¬5) انظر: "كتاب العين" (رهو) 4/ 83. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (رها) 6/ 403, 404 (رها) 6/ 370, و"اللسان" (رها) 14/ 360 فقد ورد فيهما بنصه. (¬7) كذا في الأصل، وفي "كتاب العين" (والرهو من نعت سير موسى) وأهل التفسير يقولون في قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا}: أي: ساكناً على هِينةٍ.

وقومه، وليس من نعت البحر، إنما هو كما تقول للرجل: رفقًا، هذا كلامه، وليس بالسائغ في معنى الآية لأنه لم يقل أحد من المفسرين ولا من أهل المعاني أن الرهو من نعت موسى، وأيضًا فإن (اترك البحر) لا يدل على معنى اعبره وجاوزه واقطعه، ومعنى الآية ما ذكره مجاهد وقتادة ومقاتل (¬1). وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {رَهْوًا} قال: ساكنًا هو أي كهيئته بعد أن ضربه، يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يدخله آخرهم (¬2). وقال قتادة: لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبع فرعون وجنوده فقيل له: (واترك البحر رهوًا) يقول: كما هو طريقاً يابساً (¬3). وقال مقاتل: لما قطعوا البحر قالوا لموسى: اجعل لنا البحر كما كان، فإنا نخشى أن يقطعه فرعون في آثارنا، فأراد موسى أن يفعل ذلك، فقال الله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} قال: يعني: صفوفًا (¬4)، فعلى قول مجاهد معناه: اتركه ذا وهو أي: ساكنًا كما هو، وعلى قول قتادة ومقاتل: الرهو بمعنى السكون، إنما الرهو الفرجة بين الشيئين. قال الأصمعي: [مَرَّ فالج (¬5) بأعرابي] (¬6) فقال: سبحان الله رهو بين ¬

_ (¬1) وهو أنهم قالوا يبساً، أخرج ذلك الطبري عن مجاهد وقتادة 13/ 122، وانظر: "تفسير مقاتل" 3/ 821. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" ص 598، و"تفسير الوسيط" عن مجاهد 4/ 88. (¬3) أخرج ذلك الطبري عن قتادة 13/ 121. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 821 بلفظ: (يعني صفوفًا ويقال ساكناً) ولم أتوصل إلى معنى صفوفًا. (¬5) الفلج: الفحج في الساقين، والفلج في الثنيتين. "تهذيب اللغة" (فلج) 11/ 87. (¬6) كذا لفظها في الأصل وهو تصحيف، والصحيح (ومر بأعرابي فالج). انظر: "تهذيب اللغة" (رها) 6/ 405، وفي اللسان: نظر أعرابي إلى بعير فالج.

سنامين أي: فجوة. فقال: رهى ما بين رجليه أي: فتح (¬1)، ونحو هذا قال مجاهد فيما روى عنه إسحاق بن عبد الله بن الحارث (¬2) قالا: (رهوًا) طريقًا (¬3)، يعنون الطريق بين الماء، ونحو هذا قال في رواية الوالبي: سمتًا (¬4)، وهو بمعنى: الطريق. وعبارات المفسرين في تفسير الرهو مختلفة، وذكرنا ما وافق اللغة، قال الربيع: سهلاً (¬5)، وقال الضحاك: دمثًا (¬6)، وقال عكرمة: يبسًا (¬7)، وكل هذا من نعت الطريق الذي أظهره الله في البحر، وكأن ذلك الطريق يجمع هذه الأوصاف، وقال أبو سعيد: الرهو ما اطمأن وارتفع ما حوله (¬8). وقوله: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} يريد دعه كما فلقته لك؛ لأن الطريق في البحر كان رهوًا بين ملقى البحر، وهذا القول أيضًا من نعت الطريق غير أنه ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (رها) 6/ 405. (¬2) هو إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة العامري مولاهم، ويقال: الثقفي، وقد ينسب إلى جده، أرسل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عن أبي هريرة وابن عباس مرسلاً، وذكره ابن حبان في الثقات في التابعين، وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه. انظر: "تهذيب التهذيب" 1/ 238. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 250، و"الدر المنثور" 7/ 410. (¬4) أخرج ذلك الطبري من رواية علي بن أبي طلحة 13/ 121، ونسبه الماوردي لابن عباس 5/ 250. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن الربيع 13/ 121، وذكره الماوردي 58/ 250، ونسبه القرطبي للربيع. انظر: "الجامع" 16/ 137. (¬6) أخرج ذلك الطبري عن الضحاك 13/ 122. (¬7) أخرج ذلك الطبري عن عكرمة 13/ 122، ونسبه القرطبي لعكرمة. انظر: "الجامع" 16/ 137. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" (رها) 6/ 406.

25

يقول: الرهو اسم لطريق مطمئن بين ربوتين وشبه الطريق بين فلقي الماء به. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} أخبر الله تعالى موسى أنه يغرقهم ليطمئن قلبه في ترك البحر كما جاوزه. 25 - قوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} قال صاحب النظم: كم هاهنا دلالة على الكثرة، ودلت الآية على أنه أغرقهم وأخرجهم من هذه الجنات وما اتصل بها، وهذه الآية وما بعدها مفسرة في سورة الشعراء [آية: 57]. 26 - قوله تعالى: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني به المنابر هاهنا (¬1)، وقال عطاء: هي منابر كانت بمصر يعظم فرعون عليها (¬2)، وقال آخرون: هي المجالس الحسنات من مجالس الملوك (¬3). 27 - {وَنَعْمَةٍ} قال علماء اللغة: نعمة العيش بفتح النون: حسنه وغَضَارته ونعمة الله مَنُّهُ وعطاؤه (¬4)، وقال المفسرون: وعيش لين رغد كانوا متنعمين (¬5)، وتفسير الفاكهة قد تقدم في سورة يس [آية: 55]. 28 - {كَذَلِكَ} قال أبو إسحاق: موضع {كَذَلِكَ} رفع على خبر الابتداء المضمر، المعنى: الأمر كذلك (¬6). قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عنهما 13/ 123، وذكره الثعلبي في "تفسيره"، ونسبه لمجاهد وسعيد بن جبير 10/ 96 أ. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 123، و"تفسير الماوردي" 5/ 251. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (نعم) 3/ 10، و"اللسان" (نعم) 12/ 582. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 123، و"الثعلبي" 10/ 96 أ، و"الماوردي" 5/ 252. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 426. (¬7) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 232، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 139.

29

قال مقاتل: هكذا فعلنا بهم (¬1). 29 - قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} روى أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه ويرزق، وباب يدخل فيه عمله فإذا مات فقداه وبكيا عليه" (¬2) وتلا هذه الآية، قال: وذلك أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فيبكي عليهم، وهذا قول جميع المفسرين ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة، قالوا: لم تبك عليهم مصاعد أعمالهم على السماء، ولا مواضع سجودهم (¬3) من الأرض. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا (¬4)، فقلت له: أتبكي؟ فقال: أو تعجب!! وما للأرض لا تبكي ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 822. (¬2) أخرج ذلك الترمذي في سننه كتاب التفسير باب (46) ومن سورة الدخان، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وموسى بن عبيدة ويزيد بن إبان الرقاشي يضعفان في الحديث 5/ 380، وأخرجه الثعلبي في تفسيره عن أنس 10/ 96 ب، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 327، والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 212، وأخرجه أبو يعلى في مسنده عن أنس. انظر: 7/ 160، وأشار محقق المسند إلى ضعفه، وذكره أيضًا ابن حجر في "المطالب العالية" 3/ 369. وعزاه إلى أبي يعلى وقال إسناده: ضعيف، انظر: "المطالب العالية" 3/ 369. (¬3) أخرج ذلك الطبري عنهم، انظر: تفسيره 13/ 125، و"تفسير مقاتل" 3/ 822، وكذا رسمها في الأصل ولعل المراد (إلى السماء). (¬4) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد، انظر: تفسيره 13/ 125، ونسبه ابن كثير لمجاهد، انظر: "تفسيره" 6/ 254، ونسبه في "الوسيط" لمجاهد، انظر: 4/ 90.

على عبد كان يعمرها بالركع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه فيها دوي كدوي النحل (¬1)، وهذا قول ثان لأنه لم يخص موضعًا منهما بالبكاء كما خص الأولون. وذكر أهل المعاني في هذا قولين آخرين أحدهما: أن التقدير: أهل السماء والأرض، فحذف المضاف والمعنى: ما بكت عليهم الملائكة ولا المؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين، والثاني: أن العرب تقول في هذا كالرجل العظيم الشأن، أظلمت له الشمس، وكسف القمر لفقده، وبكته الريح والبرق والسماء والأرض، يريدون المبالغة في وصف المصيبة وأنها قد شملت وعمت، وليس ذلك بكذب لأنهم جميعًا متواطئون عليه، والسامع له يعرف مذهب القائل فيه ونيتهم في قولهم: أظلمت الشمس، كادت تظلم، وكذلك في سائر الألفاظ التي يقصدون بها التعظيم والاستقصاء في الصفة. ومعنى الآية: أن الله تعالى حين أهلك فرعون وقومه وأورث منازلهم وجناتهم غيرهم لم يبك عليهم باك ولم يجزع جازع ولم يوجد لهم فَقْد، ولو كانت السماء والأرض ممن تبكي لم تبك على هؤلاء لاستحقاقهم العقوبة والهلاك، والقولان: ذكرهما ابن قتيبة (¬2) وغيره. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره 6/ 254، والسيوطي في "الدر المنثور"، وعزاه لعبد ابن حميد وأبو الشيخ، انظر: "الدر" 7/ 412. (¬2) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 126، و"معاني القرآن" للزجاج 6/ 405، و"تفسير الماوردي" 5/ 252، و"زاد المسير" 7/ 345، و"الزاهر" لابن الأنباري 1/ 284.

30

قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} لم يُنْظَروا حين أخْذِهم لتوبة ولا لغيرها قاله: ابن عباس وغيره (¬1). 30 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في العمل. 31 - {مِنْ فِرْعَوْنَ} هذا مُكَررَةٌ على قوله: {مِنَ الْعَذَابِ} أي: نجيناهم من العذاب ونجيناهم من فرعون (¬2) ويجوز أن يكون {مِنْ فِرْعَوْنَ} من صلة العذاب (¬3) والمعنى: من العذاب الذي كان يلحقهم من جهة فرعون. قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} قال عطاء عن ابن عباس: كان عاليًا على عباد الله من المشركين والمعنى: كان جبارًا عاصيًا من المشركين ونحو هذا رواه الكلبي عنه (¬4) والعالي: إذا أطلق كان صفة مدح، وهاهنا مقيد بأنه عال في الإسراف، والعالي في الإحسان صفة مدح، والعالي الإساءة صفة ذم (¬5). 32 - قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} يعني: بني إسرائيل على علم علمه الله فيهم (عَلَى الْعَالَمِينَ) على عالمي زمانهم، قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل (¬6) وقتادة والجميع، قال مجاهد: فضلناهم على ¬

_ (¬1) ذكر ذلك البغوي في تفسيره 7/ 232 ولم ينسبه، وذكره في "الوسيط" ولم ينسبه، انظر: 4/ 90. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 126، و"الثعلبي" 10/ 96 ب، و"البغوي" 7/ 232. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 131. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 126، و"تنوير المقباس" ص 497. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 142. (¬6) انظر: قول مقاتل في تفسيره 3/ 822، وانظر: "تنوير المقباس" ص 497، =

33

من هم بين ظهرانيه (¬1). قال أهل المعاني: ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية [آل عمران: 110] هذا مقتضى أنه ما اختارهم على من هو خير منهم، وإنما أختارهم على من في وقتهم من العالمين (¬2). 33 - قوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} أكثر المفسرين على أن البلاء المبين معناه النعمة البينة الظاهرة، وعنى بالآيات فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والتوراة، وغير ذلك من النعم التي أنعمها الله عليهم، وهذا قول مجاهد ومقاتل والكلبي (¬3) وغيرهم، [وهذا ذهب] (¬4) آخرون إلى أن معنى البلاء هاهنا الاختبار والتجربة (¬5) فذكر ابن عباس (¬6) في رواية عطاء في هذه الآية أنه أراد بالبلاء المبين: السلسلة التي كانت في زمان داود وقصتها مشهورة. قال: ويريد الساريتين اللتين من دنا ¬

_ = و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 142. (¬1) أخرج الطبري قولي قتادة ومجاهد في "تفسيره" 13/ 127، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 6/ 255. (¬2) هذا قول ابن جرير الطبري، انظر: "تفسيره" 13/ 127، وابن كثير في "تفسيره" 6/ 255 والزجاج في "معاني القرآن" 4/ 427، والنحاس في "إعراب القرآن" 4/ 132. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 127، و"تفسير مقاتل" 3/ 823، و"تفسير الماوردي" 5/ 254 و"تفسير البغوي" 7/ 233. (¬4) كذا في الأصل ولعل الصواب (هذا وذهب). (¬5) انظر: "الكشاف" للزمخشري 3/ 433، و"فتح القدير" للشوكاني 4/ 576، و"روح المعاني" للألوسي 25/ 126. (¬6) لم أقف عليه.

34، 35

يدخل بينهما فإن اعترف أخرج فرجم، وإن لم يعترف [النصاعليه فتعلناه] (¬1) ويعمل الرجل الذنب فيصبح يجده مكتوبًا على بابهن وأمور كثيرة. 34، 35 - ثم رجع إلى ذكر كفار مكة فقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} يعني: كفار مكة {لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ} إضمار على شريطة التفسير، وقد تقدمت نظائره (¬2) {إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} أي: ما الموتة إلا موتة نموتها في الدنيا ثم لا نبعث، وهو قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} أي: بمبعوثين. 36 - {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} الذين ماتوا (¬3) أي: ابعثوهم لنا {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنا نُبْعث بعد الموت، قال الفراء: يخاطبون النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده وهو كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ومنه قوله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (¬4) [المؤمنون: 99]. 37 - ثم خوفهم الله مثل عذاب الأمم الخالية، فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} وهذا استفهام إنكار أي: ليسوا خيرًا منهم، بمعنى أقوى وأعتى وأشد منهم، قال ابن عباس: (أهم خير) يريد أشد (¬5)، قال أبو عبيدة: ¬

_ (¬1) كذا رسمها في الأصل، ولعل المعنى: (التصقتا عليه فقتلتاه). (¬2) كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155]، وقوله: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29]. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 233، و"زاد المسير" 7/ 347، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 144. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 42. (¬5) انظر: "تفسير الماوردي" ولم ينسبه 5/ 255، وذكره الزمخشري ونسبه لابن عباس، انظر: "الكشاف" 3/ 434.

ملوك اليمن كان كل واحد منهم يسمى تبعاً، لأنه يتبع صاحبه, والظل يسمى تبعاً؛ لأنه يتبع الشمس، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام، وهم ملوك العرب الأعاظم (¬1) وأنشد فقال: أو لا يقولُ اللهُ في آياتِه ... والله يوحي ما يشاء وينزل أنتم كتُبَّع أو كسَائِرِ قَوْمِهِ ... بل قومُ تبَّعٍ في الفضائل أفْضَلُ (¬2) وأنشد قول متمم: وعِشْنَا بخيرٍ في الحَيَاةِ وقَبْلَنَا ... أَصَابَ المَنَايَا رَهْط كِسْرًا وتُبَّعا وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان تبع رجلاً صالحًا" (¬3). وقال كعب: ذَمَّ الله قومه ولم يذمَّه (¬4)، قال وهب: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سب أسعد وهو تبع، وكان على دين إبراهيم (¬5). وقال الكلبي: وهو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب (¬6)، وتبع اسم الملك منهم كفرعون وكـ هامان. ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 209. (¬2) لم أقف على قائل هذين البيتين. (¬3) أخرجه الحاكم عن عائشة، وقال: حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، انظر: المستدرك كتاب التفسير 2/ 450، وأخرجه الطبري عن عائشة 13/ 128، ونسبه البغوي لعائشة، انظر: "تفسيره" 7/ 234، ونسبه في "الوسيط" لعائشة، انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 91. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 129، و"تفسير البغوي" 7/ 234، و"زاد المسير" 7/ 348، و"الجامع لأحكام القرآن" عن كعب 16/ 146. (¬5) ذكر ذلك السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 415، وعزاه لابن المنذر وابن عساكر. (¬6) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 233، و"تنوير المقباس" ص 497، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 146.

38

38 - قوله تعالى: {لَاعِبِينَ} قال مقاتل: لم يخلقهما عابثين لغير شيء (¬1). 39 - قوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} قال الكلبي والفراء: أي: للحق (¬2). وقال أبو إسحاق: أي: لإقامة الحق (¬3). قال ابن عباس: يريد: للثواب والعقاب (¬4) {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} قال: يريد المشركين. 40 - {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} قال ابن عباس: يريد: يوم يفصل الرحمن بين العباد وهو يوم القضاء (¬5)، {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} يريد: البر والفاجر، قال مقاتل: ميعادهم أجمعين، يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون. 41 - ثم نعت ذلك اليوم فقال (¬6): {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، قال ابن عباس: يريد قريباً من قريب (¬7)، {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 824. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 497، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 42. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 427. (¬4) ذكر هذا المعنى البغوي في تفسيره ولم ينسبه. انظر: 7/ 235. (¬5) ذكر البغوي في تفسيره هذا المعنى ولم ينسبه. انظر: 4/ 235، وكذلك ورد من غير نسبة في "تفسير الوسيط" 4/ 91. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 824. (¬7) ذكر ذلك البغوي ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" 7/ 235، ونسبه ابن الجوزي لمقاتل، انظر: /348، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ولم ينسبه. انظر: 3/ 220, والقرطبي ولم ينسبه 16/ 148.

42

لا ينصر المؤمن الكافر لقرابته، ولا يغني عنهم شيئًا، والمراد بقوله: {مَوْلًى عَنْ مَوْلًى} الكفار، ألا ترى أنه ذكر المؤمن فإنه يشفع له، وقال الكلبي: استثنى الله المؤمنين، فإنه يشفع بعضهم في بعض (¬1)، وعلى هذا موضع {مَنْ} نصب لأنه استثناء منقطع عن أول الكلام، يريد اللهم إلا {مَنْ رَحِمَ} ويجوز أن يكون قوله: {مَوْلًى عَنْ مَوْلًى} على العموم، ثم استثنى المؤمنين فقال: 42 - {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} فيكون: {مَنْ} في موضع رفع كما تقول: لا يقوم أحدٌ إلا فلان، والمعنى: لا يغني قريب إلا المؤمن، والوجهان في الاستثناء ذكرهما الفراء (¬2)، وهو قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} قال مقاتل: العزيز في نقمته من أعدائه الذين لا شفاعة لهم، الرحيم بالمؤمنين الذين استثنى في هذه الآية (¬3). 43 - قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} قد تقدَّم تفسيره في سورة الصافات [آية: 62]. 44 - قوله تعالى: {طَعَامُ الْأَثِيمِ} قال ابن عباس: يريد طعام أبي جهل، وهو قول مجاهد ومقاتل (¬4)، وقال الكلبي: الأثيم: الفاجر، وهو هاهنا الوليد بن المغيرة المخزومي (¬5)، والأثيم: معناه: ذو الإثم، يقال: ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 498. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 42، و"تفسير الطبري" 13/ 130. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 24/ 824. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 97 ب، و"تفسير مقاتل" 3/ 824، وذكره البغوي ولم ينسبه, انظر: 7/ 236. (¬5) انظر: تفسير أبي الليث السمرقندي 3/ 220، و"تنوير المقباس" ص 498.

45

أثم يأثم إثمًا، فهو أثِمٌ وأثيم (¬1). 45 - قوله: {كَالْمُهْلِ} سبق تفسيره في سورة الكهف [آية: 29]، وقد شَبَّه الله تعالى هذا الطعام بالمهل وهو: دردي الزيت وعكر القطران على ما ذكره المفسرون (¬2) كما سبق بيانه [الكهف: 29]، وتم الكلام هاهنا ثم أخبر عن غليانه في بطون الكفار فقال (¬3): {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} وقرئ: (يغلي) بالياء فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء حَمَلَه على الطعام في قوله: {طَعَامُ الْأَثِيمِ} لأن الطعام هو الشجرة في المعنى، ألا ترى أنه خبرُ الشجرة، والخبر في المعنى إذا كان مفردًا هو المبتدأ، واختيار أبي عبيد الياء قال: لأن الاسم المذكر يعني: المهل هو الذي يلي الفعل، فصار أَوْلى به للتذكير وللقرب وكذلك في قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى} [آل عمران: 154] و {صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ} [الأنبياء: 80] و {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] يختار الياء في هذه الآيات (¬4). قال أبو علي: لا يجوزُ أن يحمل الغلي على المهل؛ لأن المهل لا يغلي في البطون إنما يغلي ما شبه به (¬5)، وأما سائر الآيات التي ذكرها فالياء والتاء فيها سواء لأن كل واحد مما فيها هو الآخر، فالنطفة والمني سواء. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (أثم) 15/ 160، و"المفردات" للراغب (أثم) ص 10. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 9/ 240، و"تفسير الماوردي" 3/ 303، و"تفسير البغوي" 7/ 236. (¬3) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 656. (¬4) أورد النحاس اختيار أبي عبيد في "إعراب القرآن" ولم يؤيده بل رده كما رده وضعفه أبو علي الفارسي، انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 134. (¬5) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 166، و"المسائل العضديات" ص 116.

46

46 - قوله تعالى: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} قال ابن عباس: الماء إذا اشتد غليانه فهو حميم (¬1). 47 - قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} أي: يقال للزبانية: خذوه يعني: الأثيم فاعتلوه، قُرِئ بكسر التاء، قال الليث: العتل أن تأخذ بتَلْبيب الرجل فتعتله أي: تجرّه إليك وتذهب به إلى حَبْس أو بلية (¬2)، وأخذ فلان بزمام الناقة فعتلها، وذلك إذا قبض على أجل الزمام عند الرأس وقادها قودًا عنيفاً. وقال ابن السكيت: عَتَلْته إلى السجن، وعَتَنْتهُ فأنا أَعْتُلُهُ وأعْتِنه (¬3) إذا دَفَعْته دفعًا عنيفًا (¬4)، وهذا معنى قول جميع أهل اللغة في معنى العتل (¬5) وذكروا اللغتين ضم التاء وكسرها وهما صحيحان (¬6) مثل: {يَعْكُفُونَ} و {يَعْكِفُونَ} و {يَعْرِشُونَ} و {يَعْرُشُونَ}. وأنشدوا للفرزدق فقال: لَيْسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أَبَاهَمُ ... حتى تُرَدَّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 133، وقد ذكر المعنى ولم ينسبه، كما ذكره من غير نسبة كل من البغوي في تفسيره 7/ 236، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 349. (¬2) انظر: "كتاب العين" (عتل) 2/ 69. (¬3) في "تهذيب اللغة" زيادة لفظ: (وأَعْتنُه) 2/ 270. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (عتل) 2/ 270. (¬5) انظر: "جمهرة اللغة" (تلع) 2/ 21، و"مقاييس اللغة" (عتل) 4/ 223، والصحاح (عتل) 5/ 1758، و"اللسان" (عتل) 11/ 423، و"المفردات" للراغب (عتل) ص 321. (¬6) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} بضم التاء، عبيد عن أبي عمرو: {فَاعْتِلُوهُ} و {فَاعْتِلُوهُ} بالكسر والضمِّ جميعًا، وقرأ الباقون: {فَاعْتِلُوهُ} بالكسر، انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 592، 593، و"الحجة" لأبي علي 6/ 165. (¬7) انظر: "ديوانه" ص 722، و"تفسير الطبري" 13/ 133.

48

وقال أبو إسحاق: المعنى: يا أيها الملائكة خذوه فاعتلوه (¬1). قال مجاهد ومقاتل: ادفعوه على وجهه (¬2)، وقال الكلبي: سوقوه إلى سواء الجحيم قال: وسط الجحيم (¬3)، كقوله: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55]. 48 - {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ} قال مقاتل: يعني: أبا جهل، وذلك أن مالكًا خازن جهنم يضربه ضربة على رأسه بمَقْمع من حديد فيثقب رأسه عن دماغه فيجري دماغه على جسده ثم يصب الملك فيه ماء حميمًا قد انتهى حَرُّه فيقع في بطنه، فيقول الملك: ذق العذاب (¬4) فذلك قوله: {ذُقْ} ونحو هذه الآية قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال عكرمة والكلبي: التقى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو جهل فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أمرني أن أقول لك {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} " [القيامة: 34] "فقال: يا محمد بأي شيء تهددني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل هذه الآية (¬5)، وهذا قول أهل التفسير قالوا: إنه كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم، فيقول له الملك: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم، يوبخه ويصغره (¬6). قال أبو إسحاق: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 428. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد 13/ 133، وانظر: "تفسير مقاتل" 3/ 825. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 498. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 825. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 498، و"الدر المنثور" 7/ 418، وأخرج الطبري نحوه عن قتادة 13/ 134، ونسبه القرطبي لعكرمة، انظر: "الجامع" 16/ 151. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 98 أ، و"تفسير الماوردي" 5/ 258، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 151، و"تفسير الوسيط" 4/ 92.

المعنى: ذق هذا العذاب، إنك أنت القائل: أنا العزيز الكريم (¬1). وقال أبو علي الفارسي: المعنى: إنك أنت العزيز الكريم في زعمك وفيما تقوله، فأجري ذلك على حسب ما كان يذكره أو يُذْكَر به ومثله قوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] أين شركائي فيما تفترون وتدعون، وهذا كما روي أن زهرة اليمن (¬2) قال في جرير: أَبْلِغْ كُلَيْبُا وأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرهَا ... أَنَّي الأَعَزُّ وأَنِي زَهْرةُ الْيَمَنِ (¬3) فأجابه جرير: أَلَمْ تَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بها ... مَنْ حَانَ مَوْعِظَةً يا زَهْرةَ اليَمَنِ (¬4) أي: زهرة اليمن فيما تقول، وكذلك أبو جهل كان يقول إنه أعز الوادي وأمنعهم. فعلى ما كان يقول جاء في التنزيل حكايته، ونحو هذا قال صاحب النظم قال: هذا على وجه المعارضة والتبكيت، ودلالة على أنه أخبر أنه قال في الخطاب أنا العزيز الكريم، وهو شبيه بقول الكفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] كأنه لما قال لهم أنزل عليَّ الذكرُ من الله عارضوه بهذا كالمستهزئين به، كذلك يستهزأ بأبي جهل ويوبخ بما زعم وادَّعى به، وليس كذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 428. (¬2) لم أقف على ترجمته. (¬3) ورد هذا البيت في "الحجة" لأبي علي 6/ 467، و"المسائل الحلبيات" ص 82، و"الخصائص" لابن جني 2/ 463، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 405، و"الدر المصون" 6/ 118، و"تفسير ابن عطية" 14/ 300. (¬4) انظر: "ديوان جرير" ص 430، حان: هلك، الوسوم: جمع وسم وهو أثر الكي ويريد به هنا أذى هجائه، والشاهد قوله: (يا زهرة اليمن) أي: يا من قال إني زهرة اليمن، ولست عندي كذلك، والذي في الديوان: يا حارث اليمن.

51، 52

وقال بعض أهل المعاني: هذا على معنى النقيض، كأنه قيل إنك أنت الذليل المهان (¬1)، وهذا كما خاطب قوم شعيبًا: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] يعنون السفيه الجاهل، وقد مر، وقرأه العامة (إنك) بكسر الألف على الابتداء، وقرأ الكسائي بالفتح على معنى: ذق بأنك، أي: هذا القول الذي قلته في الدنيا، قاله الفراء وأبو علي (¬2)، وعلى هذا الواقع عليه يضمر على تأويل: ذق العذاب، وكذلك هو في قراءة العامة (¬3). وقال صاحب النظم: من فتح الهمزة كان قوله: {ذُقْ} واقعًا على تأويل: ذق، وقال هذا القول وجزاؤه (¬4)، وقال مقاتل: فلما ذاق العذاب قال الملك الخازن: إن هذا العذاب ما كنتم به تمترون يعني: تشكون في الدنيا أنه غير كائن والمعنى تكذبون به (¬5)، كقوله: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] وقد مر قبل. 51، 52 - ثم ذكر مستقر المتقين فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 51] قال ابن عباس: يريد: أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلود دائم (¬6)، وعلى هذا المعنى: أنهم قد أمنوا الشخوص، وقال مقاتل: أمينٍ ¬

_ (¬1) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 291. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 43، و"الحجة" لأبي علي 6/ 167. (¬3) انظر: كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد ص 593، والكشف عن وجوه القراءات لمكي 2/ 2658، و"تحبير التيسير" لابن الجزري ص 179، و"الدر المصون" 6/ 118. (¬4) يظهر أن فيه سقطاً ولكن كتاب "نظم القرآن" مفقودًا, ولم أتوصل إلى النص فيما لدي من مراجع. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 825. (¬6) لم أقف عليه.

53

من الموت (¬1). وقال الضحاك: أمنوا أن يموتوا وأن يعروا وأن يجوعوا (¬2). وقد جمع أبو إسحاق هذه الأشياء فقال: قد أمنوا فيه الغِيَر (¬3)، وقرأه العامة (مقام) بفتح الميم يراد به المجلس والمشهد، ووصفه بالأمن يقوي أنه يراد به المكان، ووصف بالأمن كما يوصف بالخوف، [وقرأ عامر] (¬4) ونافع بضم الميم، فيحتمل أن يراد به المكان من أقام، فيكون على هذا معنى القراءتين واحداً، وقد يجوز أن يجعله مصدراً ويقدر المضاف محذوفاً على تقدير في موضع إقامة (¬5). 53 - قوله: {مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} مر تفسيره في سورة الكهف [آية: 31]. قوله: {مُتَقَابِلِينَ} أي: لا يرى بعضهم قفا بعض {كَذَلِكَ} أي: كما وصفنا يكون حالهم والمعنى: الأمر كذلك الذي ذكرنا ووصفنا. 54 - قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} قال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجاً كلما يزوج النعل بالنعل، جعلناهم اثنين اثنين (¬6)، وقال يونس: أي: قرناهم بهن (¬7)، وليس من عقد التزويج، والعرب لا تقول: تزوجت بها، إنما يقولون: تزوجتها، والتنزيل يدل على ما قال يونس، وذلك قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ولو كان على تزوجت بها، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 825. (¬2) ذكر ذلك السيوطي فى "الدر المنثور" 7/ 420، وعزاه لابن أبي شيبة عن الضحاك. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 428. (¬4) كذا في الأصل ولعل الصواب: (وقرأ ابن عامر). انظر: "الحجة" 6/ 167، و"الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 265. (¬5) انظر: "الحجة" لأبي عبيد 16/ 167،168، و"الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 265. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 209. (¬7) انظر: "الصحاح" (زوج) 1/ 320.

لكان زوجناك بها، قال ابن سلام وقال أبو البيداء تميم (¬1): تقول تزوجت امرأة وتزوجت بامرأة، وحكى الكسائي أيضًا: زوجنا بامرأة، وزوجناه امرأة، ولا يبعد أن يكون قوله (زوجناكها) على أنه حذف الحرف فوصل الفعل، وذكره الأزهري تقول العرب: زوجت امرأة، وتزوجت امرأة، وليس من كلامهم: تزوجت بامرأة (¬2). وقال الفراء: هي لغة في أزد شنوءة (¬3) هذا كلامه، وقول أبي عبيدة حسن لأنه جعل قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ} من التزويج الذي هو بمعنى: جعل الشيء زوجًا، لا بمعنى عقد النكاح، ومن هذا يجوز أن يقال: كان فردًا وزوجته بآخر، كما يقال شفعته بآخر، فإنما يمتنع الباء عند من يمتنع إذا كان بمعنى التزويج، ونحو هذا قال الأخفش في هذه الآية: جعلناهم أزواجًا بالحور (¬4). وقال مجاهد: أنكحناهم الحور العين التي يحار فيها الطرف، باديًا مخ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمِرْآة، من رقة الجلد وصفاء اللون (¬5)، وقال قتادة: بجَوَارٍ بيض (¬6). ¬

_ (¬1) لم أهتد إلى ترجمته. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (زاج)) 1/ 152 بلفظ: تقول العرب زوجته، و"اللسان" (زوج) 2/ 293. (¬3) انظر: قول الفراء في "تهذيب اللغة" (زاج) 11/ 152، ولم أقف عليه في معاني الفراء. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 691. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد 13/ 136، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 598، ونسبه ابن حجر في "تغليق التعليق" لمجاهد، انظر: 4/ 310. (¬6) ذكره الطبري بلفظ: (بيض عين)، ونسبه لقتادة، انظر. "تفسير الطبري" 13/ 136، وقال القرطبي: الحور: البيض في قول قتادة والعامة، انظر: "الجامع" 16/ 152.

وقال ابن عباس: الحور في لغة العرب: البيض (¬1). وقال مقاتل: الحور: البيض الوجوه، العين: الحسان الأعين (¬2). وأصل الحور البياض والتحوير التبييض، وذكرنا ذلك في تفسير الحوريين، وعين حوراء، إذا اشتد بياضُها، واشتد سوادُ سوادها, ولا تسمى المرأة [حمراء] (¬3) حتى تكون مع حور عينيها بيضاء لون الجسد (¬4). وقال أبو عبيد: الحوراء: الشديدة بياض العين الشديدة سوادها (¬5)، و (العين) جمع عَيْناء، وهي: العظيمة العينين من النساء، قال اللحياني: إنه لأعين، إذا كان ضخم العين واسعها، والأنثى عيناء، [والجمع عين عينًا]، (¬6)، ويدل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض، قراءة ابن مسعود: بعيس عين (¬7)، والعيس: البيض. قال الحسن: الحور العين، عجائزكم ينشئهن الله خلقًا آخر (¬8)، وقال ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الألوسي ونسبه لابن عباس والضحاك وغيرهما، انظر: "روح المعاني" 25/ 135، ونسبه القرطبي لقتادة والعامة، انظر: "الجامع" 16/ 152. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 826. (¬3) كذا في الأصل وهو تصحيف والصحيح (حوراء). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (حار) 5/ 229. (¬5) انظر: اللسان (حور) 4/ 218، وغريب الحديث لأبي عبيد (حور) 1/ 217. (¬6) كذا في الأصل وفي "تهذيب اللغة": (والجميع منها عين). انظر: قول اللحياني في "تهذيب اللغة" (عان) 3/ 206. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 136، و"معاني القرآن" للزجاج 6/ 416، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 44، و"المحتسب" لابن جني 2/ 261، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 152. (¬8) لم أقف عليه.

55

أبو هريرة: لسن من نساء الدنيا (¬1). 55 - قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} قال ابن عباس: قد أمنوا الموت والأسقام والأوجاع والتخم (¬2). 56 - قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} قال أهل المعاني: جعل الموت في مقاساة الآلام والأسباب التي يحدث عندها الموت، كالطعام الذي يكره ذوقه، فلذلك استعير له الذوق وهو في الحقيقة عَرَض لا يذاق (¬3). فإن قيل: أليس أهل النار لا يموتون، فلم بشر أهل الجنة بهذا مع مشاركة غيرهم في هذا المعنى؟ قيل: إن أهل الجنة في حياة هنيئة بشارتهم بالخلود تزيدهم سرورًا وقرة عين، وأهل النار يموتون موتات كثيرة بما يقاسون من الشدة، وانتفاء الموت عنهم يزيدهم حسرةً وشدة وَجْد (¬4). وقوله: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} قال ابن عباس: يريد: التي كانت في الدنيا (¬5)، وقال مقاتل: يعني: المرة الأولى التي كانت في الدنيا (¬6). قال أبو إسحاق: المعنى: لا يذوقون فيها الموت البتة سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا، وهذا كما قال (¬7) {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) لم أقف عليه وذكر الثعلبي 10/ 98 ب، عن قتادة: آمنين من الموت والأوصاب والشيطان، ونسبه البغوي 7/ 237، لقتادة، ونسبه القرطبي 16/ 154 لقتادة. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" ص 417، 418. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 826. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 428.

57

آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: سوى ما قد سلف، ونحو هذا قال الفراء قال: ومثله في الكلام: لك عندي ألف إلا مالك عندي من قِبَلِ فلان، ومعناه: سوى مالك علي من قِبَلِه، قال: (وإلا) قد تكون حطًّا مما قبلها وقد تكون زيادة عليه، فالحط كقولك: لك علي ألف إلا مائة، والزيادة كالتي في هذه الآية فهو زيادة على ما قبل، إلا كما ذكرنا في المثال من الكلام (¬1). وقال بعض أهل المعاني: (إلا) بمعنى: بعد، أي: بعد الموتة الأولى، وقيل (إلا) بمعنى: لكن، كأنه قيل: لكن الموتة الأولى (¬2)، وقد ذاقوها، وذكر ابن قتيبة وجهًا حسنًا فقال: إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، من موت في الجنة؛ لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من أسباب الجنة، فيلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، وتفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لا تصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها، فجاز أن يستثني الموتة الأولى من مكانهم في الجنة (¬3). 57 - قوله: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} قال الفراء والزجاج: المعنى: فعل ذلك ربهم فضلاً وتفضلاً منه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر:"معاني القرآن" للفراء 3/ 44. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 13، فقد ذكر أنها تأتي بمعني بعد، وذكر القرطبي المعنين. انظر: "الجامع" 16/ 154، وانظر: "غرائب التفسير وعجائب التأويل" للكرماني 2/ 1080. (¬3) انظر: مشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة 1/ 215 (بتصرف). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 44، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 429.

58

58 - قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} قال مقاتل: يعني القرآن يقول هوناه على لسانك (¬1)، قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكي يتعظوا فيؤمنوا به فلم يؤمنوا به، يقول الله لنبيه: {فَارْتَقِبْ} يعني: فانتظرهم (¬2) العذاب فإنهم {مُرْتَقِبُونَ} منتظرون هلاكك ويقال: فانتظر الفتح والنصر عليهم، إنهم ينتظرون غلبتك وقهرك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 826. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب (فانتظر لهم). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 139، و"تفسير البغوي" 7/ 237.

سورة الجاثية

سورة الجاثية

1، 2

تفسير سورة الجاثية بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - قوله: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} قال صاحب النظم: هذا فصل يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبرًا، فيكون قوله {حم} مبتدأ، وقوله: {تنزيل الكتاب} خبرًا له، ويكون قوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ} مبتدأ آخر، والثاني: أن يكون قوله: {حم} قَسَمًا، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} نعتًا له على إضمار (1) (هو) كما تقول في الكلام: والله هو الرحمن الرحيم إنك لظالم، فيكون جواب القسم قوله تعالى: 3 - {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال مقاتل: إن في خلق السموات والأرض -وهما خلقان عظيمان (2) - {لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} وعلى هذا يقدر المضاف، واختاره الزجاج قال: ويدل عليه قوله: وفي خلقكم (3)، ويجوز أن يقدر المضاف وتكون الآيات: الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب. 4 - قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ} قال ابن عباس ومقاتل: يريد وفي خلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانًا، و (بث) تفرق على الأرض من جميع ما خلق، واختلاف ذلك من المشي على رجلين وعلى أربع وعلى

_ (1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 139. (2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 835 (3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 431.

البطن، آيات ودلالات على توحيد مَنْ خلقها (لقوم يوقنون) أنه لا إله غيره (¬1). وجاز الرفع في قوله: (آيات) من وجهين ذكرهما الزجاج والمبرد وأبو علي (¬2): أحدهما: العطف على موضع (أن) وما عمل فيه؛ لأن موضعها رفع بالابتداء، فيحمل الرفع فيه على الموضع كما تقول: إن زيدًا منطلق وعمرو، وإن زيدًا أخوك وخالد و {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] لأن معنى قوله: {أن الله بريء} هو الله بريء، وهذا نظير قولك: لست بقائم ولا قاعد، أو لست بجبان ولا بخيلاً، عطف الثاني على موضع الباء. والوجه الآخر: أن يكون قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} مستأنف، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة كما تقول: إن زيدًا منطلق وعمرو خارج، جعلت قولك: عمرو خارج، كلامًا آخر، كما تقول: زيد في الدار وأخرج غدًا إلى بلد كذا، فإنما حدث بحديثين اثنين، ووصلت أحدهما بالآخر بالواو. وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن، قال: لأنه قد صار على كلام آخر نحو: إن في الدار زيدًا، وفي البيت عمرو؛ لأنك إنما تعطف الكلام كله على الكلام كله (¬3). وهذا الوجه أيضًا قول الفراء قال: الرفع على الاستئناف بعد (أن)؛ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 835، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس ومقاتل. انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 94. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 431، و"المقتضب" للمبرد 4/ 371، و"الحجة" لأبي علي 6/ 169. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 169، و"إعراب القرآن" للنحاس 4/ 140، ولم أقف عليه في "معاني القرآن" للأخفش.

5

يقول العرب: إن لي عليك مالا وعلى أخيك، ما ينصبون الثاني ويرفعونه (¬1)، فيكون قوله "آيات" على هذا الوجه مرتفعًا بالظرف على قول من رأى الرفع بالظرف، أو بالابتداء في قول من لم ير الرفع بالظرف، وقرأ حمزة والكسائي (آيات) وكذلك {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} كسرا فيها وهو في موضع نصب على النسق على أن قوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ} على معنى وإن في خلقكم آيات، ويقوي هذه القراءة أنها في قراءة عبد الله وأُبي "لآيات" ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على (أن)، وإذا كان محمولاً عليها حَسُن النصب على ما قرأ حمزة، وصار كل موضع من ذلك كأن (أن) مذكورة فيه بدخول اللام؛ لأن هذه اللام إنما تدخل على خبر (أن) أو على اسمها, ولا اختلاف في جواز هذه القراءة وحسنها في قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ}، {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ}: فإن فيه عطفًا على عاملين مختلفين، وذلك أنه عطف بحرف واحد وهو الواو في قوله (واختلاف الليل) على عاملين أحدهما: الجار الذي هو في قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} والآخر: "إن" في قوله: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بعطف آيات على (إن) بهذه الواو وحدها، وسيبويه وكثير من النحويين لا يجيزونه، ووجه جواز ذلك هاهنا أن يقدر (في وأن) في قوله: 5 - {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ} كأنه قيل: وأن في اختلاف الليل، و (إن) فإن كانت محذوفة من اللفظ فهو في حكم المثبت فيه، وذلك أن ذكره قد تقدَّم في قوله: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بعطف آيات فأما الجار فقد تقدَّم ذكرُه في قوله (في السموات .. وفي خلقكم) فلما تقدم ذكره في هذين، قدر فيه ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 45. بلفظ (الرفع على الاستئناف فيما بعد أن).

6

الإثبات في اللفظ وإن كان محذوفًا منه كما قدر سيبويه في قوله: أكلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امرأً ... ونارًا (¬1) تَوَقّدُ باللَّيْلِ نَارَا (¬2) أن كُلا في حكم الملفوظ به، واستغني عن إظهاره بتقدم ذكره، ويجوز أن تقدر آيات متكررة كررتها لما تراخى الكلام وطال، كماقال بعض المشايخ في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ} [التوبة: 63] قال (أن) هي الأولى كررت، وهذا النحو في كلامهم غير ضيق، هذا كله كلام المبرد وأبي علي ومعنى (¬3) كلام أبي إسحاق قوله تعالى: 6 - {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد هذا الذي قصصنا عليك من آيات الله بها (¬4) {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} قال أبو إسحاق: بعد كتاب [(¬5)]، {وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} قرئ بالياء والتاء، واختار أبو عبيد: الياء لأن قبله غيبة، وهو قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهذا خبر عنهم. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وهو تصحيف، والصحيح (ونارٍ) حيث ذكره الجميع بجر نارٍ وهو الشاهد من البيت حيث عطفه على ما عملت فيه كل. (¬2) البيت لأبي دؤاد الإيادي. انظر: الكتاب لسيبويه 1/ 66، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص 141، و"الحجة" لأبي علي 6/ 171، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 432، و"الدر المصون" 6/ 123، وفي "الكامل" للمبرد منسوب لعدي بن زيد العبادي. انظر: الكامل 1/ 287. (¬3) انظر: "الكامل" للمبرد 1/ 287، و"الحجة" لأبي علي 6/ 171، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 442. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 835. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 432، وهي كذا في الأصل وفي "معاني الزجاج" بلفظ (بعد كتاب الله).

7

فإن قيل: إن في أول الكلام خطابًا وهو قوله: (وفي خلقكم) قيل: الغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه، والأقرب إليه أولى أن يحمل عليه، واحتج أيضًا بأن قال في أول الآية خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يكون في خطابه قوله تعالى: {بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، ووجه قول من قرأ بالتاء: أن "قل" فيه مقدر على تأويل: قل لهم فبأي حديث بعد ذلك يؤمنون (¬2). قال المبرد: والتأويل في جميع هذا إنما هو الإبلاغ، فيجوز أن يستغنى عن أن يقال (قل) مع أن القول كثيرًا ما يضمر كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ} (¬3) [الرعد: 23]. 7 - قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ} هذه الآية وما بعدها نزلت في النضر ابن الحارث، قاله الكلبي ومقاتل (¬4). 9 - قوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا} قال مقاتل: يعني وإذا سمع من آيات القرآن شيئًا اتخذها هزوا (¬5) {أُولَئِكَ} قال الأخفش: رد الكلام إلى معنى الكل في قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ} فلذلك جمع (¬6). 10 - قوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} قال ابن عباس: يريد أمامهم ¬

_ (¬1) انظر: اختيار أبي عبيد في "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 141. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 173، و"السبعة" لابن مجاهد ص 594، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 659. (¬3) انظر: "الكامل" للمبرد 1/ 378. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 499، و"تفسير مقاتل" 3/ 836، وذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" 3/ 223، والبغوي في "تفسيره" 7/ 241. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 836. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 692.

11

جهنم (¬1)، وقال مقاتل: يريد هو في الدنيا، ومن بعده له في الآخرة جهنم (¬2)، وذكرنا الكلام في هذا في سورة إبراهيم عند قوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [آية: 10]. {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} من الأموال التي جمعوها {شَيْئًا} ولا ما عبدوا من دون الله من الآلهة. 11 - قوله: {هَذَا هُدًى} قال مقاتل: هذا القرآن بيان من الضلالة (¬3)، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد كل ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- بيان للمؤمنين (¬4). قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} وقرئ (أليم) رفعًا (¬5)، والرجز العذاب بدلالة قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ)} [البقرة: 59]. وقوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134] فمعنى قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}: لهم عذابٌ من عذاب أليم، وإذا كان عذابهم من عذاب أليم، كان عذابهم أليمًا، قوله: {مِنْ رِجْز} على هذا صفة للعذاب؛ لأنه نكرة، من رفع أليماً كان المعنى: لهم عذاب أليم من عذاب، وليس فائدته كالفائدة في القراءة الأولى، وإذا كان كذلك فيحمل على أمرين: أحدهما: أن قوله {من عذاب} يكون صفة مؤكدة، والصفة قد تجيء على وجه التأكيد كما روي في بعض الحروف (وَلِيَ نَعْجَةٌ أنثى) وقوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] وقولهم: أمس الدابر، ¬

_ (¬1) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" عن ابن عباس. انظر: 16/ 159، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 95. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 836. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 836. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 159 فقد نسبه لابن عباس. (¬5) وهي قراءة ابن كثير وعاصم في رواية حفص. انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 174.

12، 13

والآخر: أن يحمل الرجز على الذي بمعنى الرجس الذي هو النجاسة على الإبدال للمقاربة، يخب النجاسة فيه قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وكان المعنى: لهم عذاب من تجرع رجس أو شرب رجس، فيكون من تَبْيينًا للعذاب مِمَّ هو (¬1). 12، 13 - قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} يعني من شمس وقمر ونجم ومطر وثلج وبرد {وَمَا فِي الْأَرْضِ} من دابة وشجر ونبات وأنهار، قاله ابن عباس (¬2)، معنى تسخيره لنا: هو أنه هيأها لانتفاعنا بها، فهو مسخر لنا من حيث إننا ننتفع به على الوجه الذي نريد. قوله تعالى: {جَمِيعًا مِنْهُ} قال: كل ذلك رحمة منه لكم، وقال أبو إسحاق: (جميعًا) منصوب على الحال (¬3)، والمعنى: كل ذلك منه تفضل وإحسان، والوقف يحسن على قوله (جميعًا) (¬4). قوله تعالى: {مِنْهُ} أي ذلك التسخير منه لا من غيره، فهو فضله وإحسانه قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في صنع الله فيوحدونه. 14 - قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قال الفراء: هذا خبر في منزلة الأمر، كأنه قيل: قل للذين آمنوا اغفروا, ولكنه جزم بالتشبيه بالجزاء والشرط، كقوله: قم تصب خيرًا, وليس كذلك، ولكن العرب إذا أخرج الكلام في مثال غيره وهو مقارب له، أعربوه ¬

_ (¬1) هذا كله منقول عن "الحجة" لأبي علي 6/ 174, 175. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 142، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج". (¬4) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 659.

بإعرابه، فهذا من ذلك (¬1) وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة عند قول: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]. واختلفوا في سبب نزول الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء، وهو قول مقاتل (¬2): نزلت في عمر رضي الله عنه، قال ابن عباس: يريد عمر بن الخطاب خاصة {يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} يريد: عبد الله بن أبي، وذلك أنهم تولوا في غزاة (¬3) بني المصطلق (¬4) على بئر يقال له المريسيع (¬5) فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر: تَعدّ على فضل البير، فما ترك أحدًا يستقي حتى ملأ قرب ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 45، 46. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 500، و"تفسير مقاتل" 3/ 837، و"زاد المسير" 7/ 357، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 161. (¬3) كانت هذه الغزوة في شعبان من السنة السادسة من الهجرة وكان قائد بني المصطلق الحارث ابن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث التي تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك. انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 333، و"البداية والنهاية" 4/ 156. (¬4) هم: بطن من خزاعة من القحطانية وهم بنو المصطلق واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة غزاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- واشتهرت بغزوة بني المصطلق وذلك سنة ست من الهجرة على ماء لهم يقال له: المريسيع. انظر: "معجم قبائل العرب" 3/ 1104. (¬5) المُرَيسِيعُ: بالضم ثم الفتح وياء ساكنة ثم سين مهملة مكسورة وياء أخرى وآخره عين مهملة في الأشهر، ورواه بعضهم بالغين معجمة. كأنه تصغير المرسوع وهو الذي انسلقت عينه من السهر، وهو اسم ماء في ناحية قُديد إلى الساحل، لار النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنة خمس وقال أبو إسحاق في سنة ست إلى بني المصطلق من خزاعة لما بلغه أن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قد جمع له جمعا فوجدهم على ماء يقال له المريسيع فقاتلهم وسباهم. انظر: "معجم البلدان" 5/ 118.

النبي -صلى الله عليه وسلم- وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: شتم رجل من كفار قريش بمكة عمر، فهَمَّ عمر أن يبطش به، فأمره الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية (¬1). وروى ميمون بن مهران [(¬2)] فنحاص اليهودي، قال لما نزل قوله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} قال: احتاج رب محمد، فلما سمع بذلك عمر اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فأنزل الله هذه الآية، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في طلبه حتى رَدَّه (¬3). قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قال ابن عباس: لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه (¬4). وقال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية (¬5). وقال مجاهد: لا ينالون نعم الله أو نقم الله (¬6)، وذلك أنهم لا يؤمنون به فلا يرجون ثوابه ولا يخافون عقابه، كما قال ابن عباس، وذكرنا أيام الله عند تفسير قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] وأجمعوا أن هذه الآية ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 837، و"تفسير السمرقندي" 3/ 224، و"تفسير البغوي" 7/ 242. (¬2) كذا في الأصل وقد سننه لفظ (أن). (¬3) أخرج ذلك الثعلبي. انظر: تفسيره 10/ 100 أ، والواحدي في "أسباب النزول" ص 399 وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 358. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر. "تفسير مقاتل" 3/ 837. (¬6) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد 3/ 144.

نزلت قبل أن يؤمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتال أهل مكة وأنها منسوخة بآية القتال (¬1)، إلا على ما رواه عطاء عن ابن عباس، فإن على روايته نزلت الآية بعد الأمر بالقتال؛ لأنه ذكر أن الآية نزلت بعد غزوة بني المصطلق (¬2) والصحيح أنها نزلت قبل الأمر بالقتال والله أعلم، قال قتادة (¬3): نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال أبو صالح (¬4): نسختها {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الآية. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال ابن عباس: يريد يجازي الذين أحسنوا الجنة، والذين أساؤوا بالعذاب (¬5)، وقال مقاتل: لكن نجزي بالمغفرة قومًا يعملون الخير (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الطبري في تفسيره 13/ 144، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 625، ومكي في "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 355، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 459، وابن حزم في "الناسخ والمنسوخ" ص 55، وابن البارزي في "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" ص 49، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص 191. (¬2) وقد رجح الدكتور سليمان اللاحم أن الآية محكمة في تحققه لكتاب "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 626، وقال ابن الجوزي أيضًا: ويمكن أن يقال أنها محكمة وذكر رواية عطاء عن ابن عباس. انظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 460، كما ذكر المؤلف رواية عطاء في "أسباب النزول" ص 399، وذكرهما أيضًا القرطبي في "الجامع" 16/ 161. (¬3) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" 13/ 144، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 626. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن أبي صالح. انظر: تفسيره 13/ 145، وذكره ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 460. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 837.

15

وقال آخرون: معنى الآية: قل للمؤمنين يتجاوزوا عن الكفار ليجزي الله الكفار بما كسبوا من الإثم ليوفيهم عقاب سيئاتهم بما عملوا من ذلك، قيل لا قكافؤنهم أنتم لنكافيهم نحن (¬1)، ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم بقوله: 15 - {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} الآية. 16 - قوله تعالى: {الْكِتَابَ} يعني التوراة {وَالْحُكْمَ} يعني الفهم في الكتاب، وقوله: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} يعني المنَّ والسلوى، قاله الكلبي ومقاتل (¬2). {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} تقدم تفسيره في سورة الدخان، [آية: 32] قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمان بني إسرائيل أكرم على الله ولا أحب إليه منهم (¬3). 17 - قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} قال ابن عباس: يعني ما بين لهم من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه مهاجر من تهامة إلى يثرب يكون أنصاره أهل يثرب (¬4). قوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} مفسر في سورة: حم عسق [آية: 14] وغيرها من السور [آل عمران: 19]. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 7/ 359. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 500، و"تفسير مقاتل" 3/ 837. (¬3) ذكر ذلك البغوي في تفسيره 7/ 243، عن ابن عباس، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 97. (¬4) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره"، ولم ينسبه. انظر: 7/ 243، ونسبه القرطبي لابن عباس 16/ 163.

18

18 - قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} قال الفراء: يقال دين وملة ومنهاج، كل ذلك يقال (¬1). وقال أبو عبيدة: على طريقة وسنة (¬2). وقال المبرد: على منهاج وقصد، وبذلك سميت شريعة النهي (¬3)؛ لأنها يوصل منها إلى الانتفاع، والشرائع في الدين المذاهب التي شرعها الله لخلقه، وهذا الحرف مما قد تقدم تفسيره [الشوري: 13، 21]. قال ابن عباس: يريد على دين ظاهر رضيته لك (¬4) {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قال يريدت قريظة والنضير (¬5). وقال مقاتل: الذين لا يعملون توحيد الله يعني كفار قريش (¬6)، وقال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك (¬7) وأسن، فأنزل الله هذه الآية. 19 - ثم ذكر أن اتباعهم لا ينفعه، وأنهم لا يدفعون عنه ولا ينفعونه فقال: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئًا: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 46. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 210. (¬3) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 4/ 1694، ولم أقف عليه عند المبرد. (¬4) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" ونسبه لابن زيد. انظر: 5/ 264، ونسبه القرطبي لابن عباس لكن بلفظ (على هدى من الأمر) انظر: 16/ 163. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 164. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 838. (¬7) ذكر ذلك مقاتل 3/ 838، والبغوي في "تفسيره" 7/ 243.

20

يريد المنافقين أولياء اليهود (¬1)، وقال الكلبي، ومقاتل: يعني مشركي مكة بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين الشرك (¬2)، وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقال عطاء: يريد المهاجرين والأنصار (¬3). 20 - قوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني القرآن (¬4)، كأنه قال هذا القرآن، (هذا) إشارة إلى القرآن، قاله الزجاج (¬5)، وقال أبو عبيدة: مجازها مجاز القرآن بصائر للناس (¬6)، وذكرنا تفسير هذه الآية في آخر سورة الأعراف [آية: 203]. 21 - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} قال الكلبي: نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، وفي ثلاثة رهط من المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم علي شيء وإن كان ما تقولون حقًا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا (¬7). قال مقاتل: قال كفار مكة للمؤمنين: إنا نُعْطَى في الآخرة من الخير مثل ما تعطون. فقال الله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ} وهو استفهام إنكار {اجْتَرَحُوا ¬

_ (¬1) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 164 عن ابن عباس. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 500، و"تفسير مقاتل" 3/ 838. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 147 لكن نسبه لابن زيد، وانظر: "تفسير مقاتل" 3/ 838. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 432. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 210. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" ص 500، و"تفسير السمرقندي" 3/ 225، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 165.

السَّيِّئَاتِ} عملوا الشرك (¬1)، واجترح معناه في اللغة: اكتسب (¬2)، قال أبو عبيدة: اجترحوا: اكتسبوا (¬3)، وأنشد للأعشى: وهو الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ ... أيْدِي القَوْم إذا الجَاني اجْتَرَحْ (¬4) وذكرنا الكلام في تفسير هذا الحرف عند قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] قال ابن عباس: افتعلوا السيئات، يريد الشرك والنفاق (¬5). قوله تعالى: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} قرئ (سواء) رفعًا ونصبًا، واختار أبو عبيد النصب (¬6) [موقع (نجعلهم) عليهم (¬7)] قال: وهو عندنا وجه التأويل إن أحسنوا أن نجعلهم وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء. وقال الفراء: إذا نصبت (سواء) كانت بمنزلة قولك: رأيت القوم سواء صغارهم وكبارهم، ومررت بقوم سواء صغارهم وكبارهم (¬8). وقال أبو إسحاق: من قرأ بالنصب جعله في موضع مستويًا (¬9)، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 839 (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (جرح) 4/ 141، و"اللسان" (جرح) 2/ 423. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 210. (¬4) انظر: "ديوان الأعشى" ص 161، و"الزاهر" لابن الأنباري 1/ 268. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 175، و"الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 268، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 165، وقد أشار إلى اختيار أبي عبيد. (¬7) كذا رسمها في الأصل، وذكر النحاس في "إعراب القرآن" اختيار أبي عبيد بلفظ (بوقوع "نجعلهم" عليها). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 145. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 47. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 433.

قول الأخفش (¬1). قال أبو علي: من نصب (سواء) جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في "نجعلهم" فيصير التقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، على أنه مفعول ثانٍ لنجعل، فيكون انتصاب (سواء) على القول حسنًا، قال: ويجوز أن نجعله حالاً، ويكون المفعول الثاني قوله: {كَالَّذِينَ آمَنُوا} وإذا كان كذلك أمكن أن يكون سواء منتصبًا على الحال، وعلى هذه القراءة الضمير في محياهم ومماتهم للقبيلتين المؤمنين والكافرين (¬2). ومعنى الآية: ما ذكره مجاهد عن ابن عباس قال: المؤمن مؤمن محياه مؤمن مماته، والكافر كافر محياه كافر مماته (¬3). يعني أَحسِبوا أن حياتهم وموتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين، والمؤمنون يعيشون مؤمنين ثم يموتون مؤمنين، وقد مَيَّز الله بين الفريقين في مواضع من كتابه، فجعل حزب الإيمان في الجنة وحزب الكفر في السعير، هذا كله على القراءة بالنصب (¬4)، وأما بالرفع فقال أبو إسحاق: الاختيار عند سيبويه والخليل وجميع البصريين الرفع لأن (سواء) في مذهب المصدر، تقول: ظننت زيدًا سواءً أبوه وأمه (¬5)، قال أبو ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 692. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي علي بتصرف 6/ 177. (¬3) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "تفسيره" 14/ 13، و"تفسير مجاهد" ص 600، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 166. (¬4) قرأ الكسائي وحمزة وحفص عن عاصم (سواءً) نصبًا، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم (سواءٌ محياهم) رفع. انظر: "الحجة" 6/ 175، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 661. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 433، والكتاب لسيبويه 2/ 34، ولم أقف على اختيار الخليل، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 146.

علي: ليس الوجه في الآية نصب سواء. وأجراه على ما قبله على حد قولك: مررت برجل ضارب أبوه؛ لأنه ليس باسم فاعل ولا ما شبه به من حسن وشديد ونحو ذلك، إنما هو مصدر فلا ينبغي أن يجرى على ما قبله كما يجرى اسم الفاعل وما شبه به، لتَعرِّيه من المعاني التي أعمل لها فاعلُ، وما شُبِّه به عَمَلُ الفعل (¬1). وقال المبرد: وجه الكلام الرفع؛ لأن (سواء) في معنى المصدر وليس باسم الفاعل، فلا يكون اسمًا لما قبله كما تقول: جعلت زيدًا مستويًا أمره، قال ووجه جواز النصب فيه أن المصدر يدل على الفعل وإن لم يكن اسم الفاعل، ومن قال هذا: مررت برجل تمام درهمه (¬2). وقال أبو علي: ومن قال مررت برجل خير منه أبوه، وبسرجٍ خزٍّ صُفَّتُهُ، وبرجل مائةٍ إبلُهُ، استجاز أيضًا أن يجري (سواء) على ما قبله، ووجه القراءة بالرفع أن الكلام قد تم عنده قوله {آمنوا} والضمير في {نجعلهم} المفعول الأول، والمفعول الثاني: {كالذين آمنوا} وارتفع سواء بأنه خبر ابتداء مقدم تقديره: محياهم ومماتهم سواء، والضمير على هذه القراءة في المحيا والممات تعود على الكفار دون الذين آمنوا، والمعنى: محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك، أي: أن محياهم ومماتهم يستويان في الذم والبعد من رحمة الله، ويجوز أن يكون الضيم للقبيلتين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 175. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 177.

والمعنى: ما رواه قيس (¬1) بن سعد عن مجاهد قال: يموت المؤمن على إيمانه ويبعث عليه ويموت الكافر على كفره ويبعث عليه (¬2)، وتأويل هذا أن محيا القبيلتين ومماتهم سواء، الكفار يعيشون كافرين ويموتون كافرين، والمؤمنون على الضد من ذلك، كما قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: المؤمن مؤمن في الدنيا والآخرة، والكافر كافر في الدنيا والآخرة (¬3). قوله تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} قال ابن عباس: بئس ما حكموا (¬4)، وقال مقاتل: بئس ما يقضون من الجور حين يرون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين (¬5)، ثم ذكر أنه خلق السموات للحق ولجزاء كل نفس بما كسبت، كي لا يظن الكافر أنه لا يُجْزَى بكفره، وأنه يستوي مع المؤمن وهو قوله: ¬

_ (¬1) هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج ابن ساعدة الأنصاري الخزرجي الساعدي يكني أبا الفضل، وقيل: أبو عبد الله. وقيل: أبو عبد الملك، وكان من فضلاء الصحابة وأحد دهاة العرب وكرمائهم، قال ابن عيينة: كان ضخمًا حسنًا طويلاً، مات في خلافة عبد الملك. وقيل: في آخر خلافة معاوية سنة 85 هـ. انظر: "أسد الغابة" لابن الأثير 5/ 214، و"تهذيب التهذيب" 8/ 395، و"الإصابة" 3/ 249 (7177). (¬2) لم أقف على هذه الرواية وقد أخرج ابن جرير عن ابن أبي أبي نجيح عن مجاهد نحو هذه الرواية. انظر: "تفسير ابن جرير" 13/ 148، و"تفسير مجاهد" ص 600، و"الدر المنثور" 7/ 426. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 148، و"تفسير مجاهد" ص 600، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 166. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 839.

22

22 - {وَخَلَقَ اللَّهُ}. 23 - قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ذكر المفسرون في هذا قولين: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر، ونحو هذا قال الكلبي (¬1) عنه، وقال مقاتل: نزلت في الحارث (¬2) بن قيس، وذلك أنه هوي الأوثان فعبدها (¬3)، القول الثاني: قال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئاً إلا ركبه لا يخاف الله (¬4)، وهو قول الحسن ورواية عطاء عن ابن عباس قال: إذا هوي شيئًا هو لله سُخْطٌ اتبعه وترك ما لله فيه رضًا (¬5) قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قال ابن عباس: يريد علم ما يكون قبل أن يخلقه (¬6)، وقال سعيد بن جبير ومقاتل: على علمه فيه (¬7)، قال أبو ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 10 ب، و"تفسير الماوردي" 5/ 265، و"تفسير البغوي" 7/ 245، و"تفسير الوسيط" 4/ 99، و"تنوير المقباس" ص 501. (¬2) هو: الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم السهمي كان أحد المستهزئين الذين يؤذون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ابن العيطلة رهط أمه، وكان يأخذ حجرًا يعبده فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، أكل حوتًا مملوحًا فلم يزل يشرب الماء حتى مات. انظر: "الكامل" لابن الأثير 2/ 48. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 839، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 167. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: تفسيره 13/ 150، و"تفسير البغوي" 7/ 245. (¬5) انظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 281، و"تفسير البغوي" 7/ 245، و"تفسير الوسيط" 4/ 99، و"تفسير الشوكاني" 5/ 8. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 151، و"تفسير الماوردي" 5/ 265، و"تفسير البغوي" 7/ 245 ولم ينسبه. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 840، و"تفسير الوسيط" 4/ 99 عن سعيد بن جبير.

24

إسحاق: أي: على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه (¬1). قولى تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وقال ابن عباس: يريد بالأمر الذي سبق في أم (¬2) الكتاب، وقال مقاتل: طبع على سمعه فلم يسمع الهدى، وعلى قلبه فلم يعقل الهدى (¬3). قوله تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} قالا: يعني: ظلمة فلا يبصر الهدى (¬4)، ونظير هذه الآية {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] الآية، وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة؛ لأن الله تعالى صرح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على قلب هذا الكافر وسمعه (¬5) ثم أكد ذلك بقوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} قال مقاتل: بعد إذ أضله الله، والتقدير: بعد إضلال الله {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أيها المنكرون قدرة الله وتوحيده فتعرفون أنه قادر على ما يشاء (¬6). 24 - {وَقَالُوا} يعني: منكري البعث {مَا هِيَ} ما الحياة {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يعني: ما هم فيه من الحيرة {نَمُوتُ وَنَحْيَا} قال مقاتل: نموت نحن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 433. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 840. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 551، و"تفسير مقاتل" 3/ 840. (¬5) قال ابن جرير: في قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية. {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} يقول تعالى ذكره: فمن يوقفه لإصابة الحق وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أيها الناس فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا فلن يهتدي أبدًا, ولن يجد لنفسه وليًّا مرشدًا، 13/ 150، 151. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 840.

ويحيا آخرون يخرجون من أصلابنا، فنحن كذلك أبدًا (¬1)، وهذا قول المفسرين. والمعنى: نموت نحن وتحيا أولادنا، فيموت قوم ويحيا قوم (¬2)، قال الفراء: وفعل أبنائهم الذين يجيئون بعدهم كفعلهم، وهو في العربية كثير (¬3). وذكر أبو إسحاق وجهين آخرين؛ أحدهما: أن المعنى: نحيا ونموت، والواو للاجتماع، وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر. والثاني: يقولون: ابتدأنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا (¬4). قوله تعالى: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قال الكلبي والمفسرون: وما يهلكنا إلا طول العمر واختلاف الليل والنهار (¬5)، قال قتادة: إلا العمر (¬6)، قال ابن عيينة: كان أهل الجاهلية يقولون: الدهر هو الذي يهلكنا هو الذي يميتنا ويحيينا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 840. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 151، و"الثعلبي" 10/ 103 أ، و"الماوردي" 5/ 266، و"البغوي" 7/ 245، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 170، و"تفسير ابن كثير" 6/ 269. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 48. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 434. (¬5) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 226، و"تفسير البغوي" 7/ 245، و"تفسير الوسيط" 4/ 100. (¬6) أخرج ذلك الطبري عن قتادة انظر: "تفسيره" 13/ 152، و"تفسير الماوردي" 5/ 266، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 170. (¬7) انظر: "تفسير سفيان بن عيينة" ص 319، وأخرجه الثعلبي في تفسيره 10/ 103 أ، ونسبه القرطبي لابن عيينة 16/ 170، وهذا معنى حديث متفق عليه ولفظه: "قال =

27

قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} الذي قالوه {مِنْ عِلْمٍ} أي لم يقولوا ذلك من علم علموه، بل قالوه ضلالًا شاكين، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} قال مقاتل: يعني: ما يستيقنون إنما يتكلمون بالظن (¬1). 27 - قوله تعالى: {يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} قال مقاتل والكلبي: يعني: المكذبين الكافرين، والمبطلون أصحاب الأباطيل (¬2). 28 - قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} قال الليث: الجُثُو الجلوس على الركب (¬3) كما يُجْثَى بين يدي الحاكم، وقال أبو عبيدة: جاثية على الركب (¬4)، يراد: أنها غير مطمئنة. قال أبو إسحاق: معناه جاثية جالسة على ركب، يقال: جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبته، ومثله جذا يجذو، والجذو أشد استيفازاً؛ لأنه على أطراف الأصابع (¬5)، قال ابن عباس: يريد نجثوا على ركبنا ننتظر القضاء (¬6)، وقال مقاتل: جاثية على الركب عند ¬

_ = الله -عز وجل- يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار". أخرجه البخاري في عدة مواضع منها في كتاب التفسير سورة الجاثية، باب 1 وما يهلكنا إلا الدهر 6/ 41، ومسلم كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها باب النهي عن سب الدهر 2/ 1762. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 840. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 841، و"تفسير البغوي" 7/ 246، و"زاد المسير" 7/ 363. (¬3) انظر: "كتاب العين" (جذو) 6/ 171، وتهذيب اللغة (جثا) 11/ 172 من غير نسبة، ومفردات الراغب (جثا) ص 88. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 210. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 435. (¬6) ذكر الماوردي في تفسيره أنه بمعنى: مجتمعة، ونسبه لابن عباس 5/ 267، وذكره أبو حيان في تفسيره 8/ 50.

29

الحساب (¬1)، وقال مجاهد: مستوفزين على الركب (¬2) وينشد هاهنا: أخَاصِمُهُم مَرةً قائمًا ... وأحْدُو إذا ما جَثَوا للرُّكَب (¬3) 29 - قوله: {هَذَا كِتَابُنَا} المفسرون على أن الكتاب هاهنا اللوح المحفوظ (¬4)، وقد ذكر أنه ديوان الحفظة (¬5). قوله: {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} أي يشهد عليكم بالحق، ويستعار النطق للكتاب على معنى التبيين، يقال: نطق الكتاب بكذا، ونطق به التنزيل، على معنى بينه بيانًا شافيًا حتى كأنه ناطق (¬6)، وقال ابن قتيبة: يراد أنهم يقرأونه فيذكرهم ويدلهم، فكأنه ينطق عليهم (¬7). قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} قال أبو عبيدة: نثبت وهو قول الضحاك وقال ابن قتيبة: نكتب (¬8). ومعنى نستنسخ: نأمر بالنسخ، وفيه قولان من المعنى. أحدهما: نأمر الملائكة بنسخ ما تعملون، أي كَتْبه وإثباته عليكم، والآخر: نأمر بانتساخ ما يعملون من أم الكتاب، وكلا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 841. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "تفسيره" 13/ 154، و"تفسير مجاهد" ص 600، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 174. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 841، و"زاد المسير" 7/ 364. (¬5) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 105 أ، و"تفسير البغوي" 7/ 247، و"تفسير الوسيط" 4/ 100 و"تنوير المقباس" ص 501، و"زاد المسير" 7/ 364. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 175، والبحر المحيط 8/ 51. (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 405. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 211، و"تفسير البغوي" 7/ 247، فقد ذكر قول الضحاك، و"تفسير غريب القرآن " لابن قتيبة ص 406.

القولين مروي عن ابن عباس (¬1)، القول الأول رواه الكلبي واختاره الفراء، والاستنساخ أن الملكين يرفعان عمل الرجل صغيره وكبيره، فيثبت الله من عمله ما كان له ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو الذي لا ثواب فيه ولا عقاب، كقولك: هلم واذهب، فذلك الاستنساخ (¬2). القول الثاني: رواه مقسم عن ابن عباس: أن الله وكَّل ملائكةً مطهرين يستنسخون من أم الكتاب كل عام في رمضان ما يكون من بني آدم، فيعارضون حفظة الله على العباد عشية كل خميس فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقًا لما في كتابهم الذي استنسخوه من ذلك الكتاب، ليس فيه زيادة ولا نقصان (¬3)، وقال مقاتل: يستنسخ من اللوح المحفوظ يعني: نسخه أعمالكم قبل أن تعملوا (¬4). قال مقسم: قال ابن عباس: ألستم قومًا عربًا، هل تكون النسخة إلا من كتاب (¬5)؟ وعلى هذا القول الاستنساخ أن يأمر الله الملائكة باتخاذ النسخة من أم الكتاب، وعلى القول الأول تكتب النَّسَخةُ عليهم من أعمالهم التي يعملونها، واختار الزجاج القول الثاني، وقال: الاستنساخ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 156، و"معاني القرآن" للنحاس 6/ 433، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 175، و"تفسير ابن كثير" 6/ 271. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 48 - 49، و"تنوير المقباس" ص 501. (¬3) ذكر ذلك السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 431، والقرطبي في "الجامع" 16/ 175. كلاهما عن ابن عباس، ونسبه ابن كثير لابن عباس، انظر: "تفسيره" 6/ 271. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 841. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 156، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 175، و"الدر المنثور" 7/ 430، وقد نسبوه لابن عباس.

31

لا يكون إلا من أصل، وهو أن يستنسخ كتابًا من كتاب (¬1)، وروى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية معنى القول الثاني مثل ما ذكرنا (¬2). 31 - قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} قال الزجاج: جواب (أما) محذوف لأن في الكلام دليلاً عليه، المعنى: وأما الذين كفروا فيقال لهم: ألم تكن، فدلت الفاء في قوله: (أفلم) على قولك: فيقال لهم (¬3). قوله: {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} قال مقاتل: تكبرتم على الإيمان بالقرآن (¬4). {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} منكرين كافرين قاله ابن عباس (¬5). 32 - قوله: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} قال مقاتل: يعني البعث كائن (¬6) {وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} يعني: القيامة لا شك فيها أنها كائنة، وقرئ (والساعة) رفعًا ونصبًا. قال أبو إسحاق: من نصب فعطف على الوعد، ومن رفع فعلى معنى: وقيل الساعة لا ريب فيها (¬7). قال أبو علي: الرفع في (الساعة) من وجهين أحدهما: أن يقطعه من الأول فيعطف جملة على جملة، والآخر: أن يكون المعطوف محمولاً ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 435. (¬2) ذكر ذلك السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 430. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 435. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 841. (¬5) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 365، عن ابن عباس. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 842. (¬7) انظر: "معاني القرآن" الزجاج 4/ 435.

33

على معنى "إن" وما عملت فيه وموضعها رفع (¬1)، ومن نصب حمله على لفظ "إن" مثل: إن زيدًا منطلق وعمرًا قائم، وموضع قوله: "لا ريب فيها" رفع بأنه في موضع خبر (إن) وقد عاد الذكر إلى الاسم؛ لأن قوله: (لا ريب فيها) في معنى: حق، وكأنه قال: والساعة حق (¬2). وقال الأخفش (¬3): الرفع أجود في المعنى في كلام العرب، أكثر إذا جاء بعد إن اسمٌ معطوف أو صفة أن يرفع، قال: والنصب عربي ويقوي ما قال قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] فالعاقبة لم تقرأ إلا رفعًا (¬4). قوله تعالى: {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} قال الكلبي: هم أهل مكة قالوا: ما ندري ما يقول، ولكنا نظنه ظنًا في غير يقين أنه كما قلت (¬5)، وقال ابن قتيبة: أي ما نعلم ذلك إلا حديثًا وظنًا وما نستيقنه (¬6). 33 - قوله: {وَبَدَا لَهُمْ} يعني في الآخرة {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} وهي الشرك والكفر. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 179. (¬2) انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 269، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 662. (¬3) هذا ليس في "معاني القرآن" للأخفش، وقد نقله المؤلف عن "الحجة" لأبي علي ونص العبارة في "الحجة": "الرفع أجود في المعنى، وفي كلام العرب، وأكثر إذا جاء بعد خبر إن اسم معطوف أو صفة أن يرفع ... " 6/ 181. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 181. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 406.

34

34 - {وَقِيلَ} يعني: الكفار {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} نترككم في النار، قاله ابن عباس ومقاتل (¬1) {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} قال الفراء: كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا (¬2). وقال الزجاج: كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم (¬3) هذا، وقد فسرنا هذا القول في سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 2]. 35 - قوله: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} قال ابن عباس: لا يقبل الله منهم توبة ولا عذرًا، وروي عنه: لا يعاتبون بعد ذلك، انقطعت المعاتبة (¬4) قال الفراء: لا يراجَعون الكلامَ بعد دخولهم النار (¬5). وقال أبو إسحاق: لا يُلتمسُ منهم عملٌ ولا طاعة (¬6). وذكرنا معنى الاستعتاب فيما تقدم [فصلت: 24]. تمت. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس. انظر: تفسيره 13/ 158، و"تفسير مقاتل" 3/ 842. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 49. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 436. (¬4) ذكر ذلك البغوي في تفسيره، ولم ينسبه 7/ 248، وكذلك ذكره ابن الجوزي ولم ينسبه 7/ 366. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 49. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 436.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف

1

تفسير سورة الأحقاف بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {حم} الآيات نظم ابتداء هذه السورة كنظم ابتداء سورة الجاثية وقد ذكرنا ما فيه. 3 - قوله: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} قال ابن عباس ومقاتل: لم نخلقهما باطلا عبثًا لغير شيء، ما خلقناهما إلا للثواب والعقاب (¬1)، وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع [الحجر: 85]. قوله تعالى: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} قال المفسرون: يعني يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهذا إشارة إلى فنائها وانقضاء أمرها (¬2)، ثم ذكر أن الكفار أعرضوا بعد أن قام لهم الدليل بخلق السموات والأرض، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} خوفوا به في القرآن معرضون أي: لم يتعظوا بالقرآن (¬3) ثم دعاهم إلى الدليل لهم على بطلان ما يعبدون من الأوثان بقوله: 4 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} وهي مفسَّرة في سورة فاطر [آية: 40] إلى قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 15، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 102. (¬2) انظر: "تفسير الماودي" 5/ 271، و"البغوي" 7/ 251، و"القرطبي" 16/ 178. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 1، و"تفسير البغوي" 7/ 251.

{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي: ائتوني بكتاب من قبل القرآن فيه برهان ما تدعون من عبادة الأصنام {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}، قال أبو عبيدة: أي بقية، ويقال: ناقة ذات أثارة، أي بقية من شحم (¬1)، ونحو هذا ذكر الفراء (¬2)، والزجاج (¬3) في معنى الأثارة أنها البقية. قال ابن قتيبة: أي بقية علم عن الأولين (¬4)، وزاد الفراء فقال: ويقال أو شيء مأثور من كتب الأولين، قال: وأثارة على المصدر مثل: السماحة والشجاعة (¬5)، وزاد الزجاج فقال: (أثارة) معناها علامة من علم (¬6). وقال المبرد: أثارة ما يؤثر من علم، كقولك: هذا حديث يؤثرُ عن فلان، ومن ثَمَّ سميت الأخبار الآثار, يقال: في الأثر كذا وكذا، قال: وقالوا في الأثارة: الشيء الحسن البهي في العين، يقال للناقة: ذات أثارة، إذا كانت ممتلئة تروق العين، يقال: أثرة وأثارة على فَعَلة وفَعَالة، فهذا ما ذكره علماء اللغة في تفسير هذا الحرف (¬7)، وهو ينقسم إلى أقوال ثلاثة: الأول: البقية، واشتقاقه من: أَثَرْثُ الشيء أُثِيره إِثَارَة، كأنها بقية تستخرج فتثار، وهو قول الحسن (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 212. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 50. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 438. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 407. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 50. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 438. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) 15/ 119، و"الصحاح" (أثر) 2/ 574، و"اللسان" (أثر) 4/ 5. (¬8) أخرج ذلك الطبري عن الحسن. انظر: "تفسيره" 13/ 3/2، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 281، و"زاد المسير" 7/ 369.

الثاني: من الأثر الذي هو الرواية (¬1)، ومنه قول الأعشى: إنَّ الذي فيه تَمَارَيْتُمَا ... بُيِّنَ للسَّامِع والأَثِرِ (¬2) الثالث: من الأثر بمعنى العلامة (¬3)، وعلى [هذا المعاني] (¬4) يدور كلام المفسرين، روى عطاء عن ابن عباس؛ قال: يريد أو شيء ترويه عن نبي كان قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء أن لله شريكًا (¬5)، وقال: هذا قول مجاهد وعكرمة والقرظي (¬6)، وعلى هذا الأثارة مصدر يقال: أثر ياثر أثراً وأثارة بمعنى روى، وقال في رواية الكلبي: بقية من علم (¬7)، وعلى هذا معنى قول قتادة: خاصة من العلم؛ لأن الخاصة من العلم بقية منه بقيت عند خواص العلماء (¬8)، ويحتمل قول قتادة وجهًا آخر، وهو أن تكون الأثارة من إيثار والاستيثار يقال: أثرت فلانًا بكذا، إذا خصصته به ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: تفسيره 13/ 3/2، و"تفسير مجاهد" ص 602، و"تفسير الماوردي" 5/ 271. (¬2) انظر: "ديوانه" ص 92، و"اللسان" (أثر) 4/ 6، و"تفسير الثعلبي" 10/ 106 ب، و"الدر المصون" 6/ 135. (¬3) وهذا قول الزجاج، انظر: "معاني القرآن" 4/ 438، و"زاد المسير" 7/ 369. (¬4) كذا رسمها في الأصل ولعل الصواب (هذه المعاني). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 15، ونسبه في "الوسيط" لعطاء. انظر: 4/ 103. (¬6) أخرج الطبري عن مجاهد بلفظ: (أحد يأثر علمًا) 13/ 2/ 3، وذكر الماوردي عن عكرمة ميراث من علم 5/ 271، وذكر الثعلبي قول القرظي بلفظ: الإسناد 10/ 106 ب، وذكره أيضًا القرطبي 16/ 182. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" ص 502. (¬8) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 3/ 2، و"الماوردي" 5/ 271، و"القرطبي" 16/ 182.

واستأثر فلان بكذا، إذا اختص به دون غيره (¬1)، ومنه قول الأعشى: استأثَرَ اللهُ بالوَفَاءِ وبـ ... الحَمْدِ وولَّى الملامَةَ الرَّجُلا (¬2) ويقال لفلان: أثرة بكذا أو أثارة، أي اختصاص، ويؤكد ما قلناه قراءة السلمي والحسن (أو أَثَرةٍ من علم) (¬3)، والمعنى على هذا: ائتوني بعلم تنفردون به دوننا، فإنا لا نعلم أن لله شريكًا، وهذا وجه حسن، وروى أبو سلمة (¬4) عن ابن عباس والشعبي أيضًا عنه في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: هو علم الخط (¬5)، وهو خط كان تخطه العرب في الأرض. وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قد كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه، عَلِمَ عِلْمَه" (¬6). والمعنى على هذا: ائتوني بعلم من قبل الخط الذي ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) 15/ 122، و"اللسان" (أثر) 4/ 8، و"معاني القرآن" للنحاس 6/ 440. (¬2) انظر: "شرح المعلقات العشر" ص 137، و"اللسان" (أثر) 4/ 8. (¬3) ذكره هذه القراءة الكلبي في "تفسير" 10/ 106 ب، والماوردي في "تفسيره" 5/ 271، والقرطبي في "الجامع" 16/ 182، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 55، وهي بفتح الهمزة والثاء. (¬4) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. (¬5) أخرج ذلك الحاكم عن أبي سلمة عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" التفسير 2/ 454. كما أخرج رواية الشعبي عن ابن عباس وقال: هذه زيادة عن ابن عباس في قوله -عز وجل- غريبة في هذا الحديث، وسكت عنه الذهبي 2/ 454. (¬6) أخرج مسلم في "صحيحه" عن معاوية بن الحكم السلمي في حديث طويل، وفيه قال: قلت: ومنا رجال يخطون قال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك"، انظر: "صحيح مسلم" كتاب المساجد، باب 7، تحريم الكلام في الصلاة .. 1/ 381، وفي كتاب السلام، باب 35، تحريم الكهانة وإتيان الكهان =

5

تخطونه في الأرض , وكأنه قيل لهم ذلك لأنهم كانوا يعدونه علمًا لهم وبياناً في الأمور فقيل لهم: ائتوني بعلم من هذه الجهة على ما تدعونه حقًّا إن كنتم صادقين أن لله شريكًا. واشتقاق هذا القول من الأثر بمعنى العلامة، والخط أثر. 5 - ثم ذكر ضلالة هؤلاء. فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ} إلى قوله: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ} قال ابن عباس: لا يثيبه ولا يرزقه إلى يوم القيامة (¬1). قال مقاتل: أبدًا، يعني: لا يستجيب له أبدًا ما دامت الدنيا، فإذا قامت القيامة كانت الآلهة أعداء لمن عبدها في الدنيا (¬2)، وهو قوله: 6 - {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وهذا كقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وقد مر. قال ابن عباس: يريد الملائكة وعيسى وعزير وكل ما عبد من دون الله أعداء لمن عبدهم (¬3) {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}؛ لأنهم يقولون: ما دعوناهم إلى عبادتنا وتبرؤوا من عبادتهم كما قال: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]. 8 - قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} وذلك أن كفار مكة قالوا: ما هذا القرآن إلا شيء ابتدعته من تلقاء نفسك فقال الله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. ¬

_ = 2/ 1749، كما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 447، والنسائي في "السنن" كتاب السهو، باب 20، الكلام في الصلاة 3/ 14، وأبو داود في "السنن" كتاب الطب، باب 23، في الخط وزجر الطير 4/ 229. (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 16. (¬3) لم أقف عليه.

قال مقاتل: لا تقدروا لحى أن تردوا عني عذابه (¬1)، وهذا كقوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الفتح: 11] ومثله في التنزيل كثير. وقال ابن عباس: لا تمنعونني من الله (¬2) والمعنى: أنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني عقاب الله، فكيف أفتري على الله لأجلكم وأنا أعلم هذا، وفيه تبعيد لقولهم افتريته، {هُوَ} أي: الله {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب به، والقول فيه أنه سحر وكهانة، قاله المفسرون (¬3)، وكل خوض في الحديث إفاضة كقوله (¬4): {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] وقد مر. {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قال مقاتل: يعني فلا شاهد أفضل من الله بيني وبينكم أن القرآن جاء من الله {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في تأخير العذاب عنكم حين لا يعجل عليكم بالعقوبة (¬5). وقال ابن عباس: يريد لأوليائه وأهل طاعته (¬6). وقال أبو إسحاق: معنى الغفور الرحيم هاهنا دعاهم إلى التوبة، معناه: أن من أتى من الكبائر العظام بمثل ما أتيتم به من الافتراء على الله (¬7)، وعليَّ ثم تاب فالله غفور رحيم له. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 16. (¬2) لم أقف عليه (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 5، و"زاد المسير" 7/ 371، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 184، و"تفسير الوسيط" 4/ 104. (¬4) انظر: اللسان (خوض) 7/ 147. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 16، 17. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) نص العبارة عند الزجاج: (من افتراء على الله جل وعلا ثم تاب فإن الله غفور رحيم) 4/ 439.

9

9 - قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} قال أبو عبيدة: أي ما كنت أولهم (¬1)، ونحو هذا قال الفراء (¬2)، والزجاج (¬3) وقال المبرد: البدع والبديع من كل شيء المبتدأ، والبدعة ما اخترع مما لم تجر به سنة، ورجل درع من قوم أبداع (¬4) قال عدي بن زيد: فَلاَ أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي ... رِجالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَى وأسْعُدِ (¬5) وقال الكسائي: رجل بدع وامرأة بدعة، وامرأتان بدعتان، ونساء بدع، بكسر الباء وفتح الدال، وأبداع (¬6). قال المفسرون: ما أنا بأول رسول بعث، قد أرسل قبلي رسل كثيرون (¬7). قال مقاتل: وهذا جواب لقولهم أما وجد الله نبيًّا غيرك (¬8). قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} روي عن ابن عباس في ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 212. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 50. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 439. (¬4) انظر: الصحاح (بدع) 3/ 1183، و"اللسان" (بدع) 8/ 6، و"إعراب القرآن" للنحاس 4/ 160. (¬5) استشهد بهذا البيت الطبري 13/ 2/ 6، وابن عطية 15/ 13، والقرطبي 16/ 185، وأبو حيان 8/ 56، وفي "شعراء النصرانية" ص 465، و"المفضليات" 829. (¬6) انظر: قول الكسائي في اللسان (بدع) 8/ 7. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 6، و"تفسير الماوردي" 5/ 272، و"تفسير البغوي" 7/ 252، و"تغليق التعليق" 4/ 311. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 17.

هذا قولان قال في رواية عطاء: لما نزلت هذه الآية فرح المشركون واليهود والمنافقون فقالوا كيف نتبع نبيًا لا يدري ما يُفعلُ به ولا بنا، فأنزل الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1 - 2] الآيات إلى قوله (1) {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5] فبين الله ما يفعل به وبمن اتبعه من المؤمنين، ونسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف المنافقين والمشركين واليهود، ورحم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وقال قتادة في هذه الآية: نسختها {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} وهذا قول أنس وعكرمة (2). وقال في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصَّها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا فيها فرجًا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى نهاجر (3) إلى الأرض التي رأيت، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} يعني: لا أدري أخرج إلى الموضع الذي أُرِيتهُ في منامي أم لا، ثم قال لهم: إنما هو شيء أريته في منامي، ما أتبع إلا ما يوحى إلى، يقول: لم يوح إلى ما أخبرتكم، وعلى هذا لا نسخ في الآية، وهذا القول اختيار الفراء (4) والزجاج (5).

_ (1) ذكر الطبري رواية عن ابن عباس نحو هذا المعنى وأخصر منه. انظر: 13/ 7/2. (2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 7، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 356, و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 185. (3) انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" 3/ 230. (4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 50 - 51. (5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 439، وقال مكي: فأما من قال معناه: وما =

10

وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن: في هذه الآية قال: أما في الآخرة فمعاذ الله أن لا يدري ما يفعل به، قد علم أنه في الجنة، ولكنه يخاطب بهذا المشركين, يقول: لا أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أم أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي (¬1) {وَلَا بِكُمْ} أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السما أم يخسف بكم أم أيش يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة. قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}، قال ابن عباس: يريد ما أبلغكم إلا ما بعثني الله به إليكم (¬2)، وقال مقاتل: ما أتبع إلا ما يوحى إلى من القرآن، إذا أمرت بأمر فعلته، ولا أبتدع ما لم أومر به (¬3). {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} قال ابن عباس: أنذركم عذاب الله وأبين لكم ما يبعدكم من الله ويقربكم إلى الله (¬4). 10 - قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} قال صاحب النظم: يقال: إن قوله (أرأيتم) نظم وضع للسؤال والاستفتاء وقيل للتنبيه، فلذلك لا يقتضي مفعولاً كما قال: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [العلق: 13] وقد تقدَّم الكلام في هذا. وقال أبو علي: الاستفهام الذي يقع موقعَ المفعول الثاني محذوف ¬

_ = أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من تقلب الأحوال فيها، فالآية عنده محكمة، انظر: "الإيضاح" لمكي ص 356. (¬1) أخرج ذلك الطبري عن الحسن ورجحه. انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 7، وأخرجه أيضًا النحاس عن الحسن، ورجحه. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 628، ورجحه أيضًا ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 464، ورجحه أيضًا ابن كثير في "تفسيره" 6/ 277. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 17. (¬4) لم أقف عليه.

الكلام بالمفعول الأول، وكان التقدير: أتأمنون عقوبة الله أو ألا تخشون انتقامه (¬1)، ومثله من غير حذف المفعول الثاني قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52]، وقوله. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ} [القصص: 71] فالاستفهام في الآيتين هو المفعول الثاني لأرأيتم؛ لأنه بمعنى أخبروني، هذا هو الكلام وليس ما ذكره صاحب النظم بشيء. قوله: {إِنْ كَانَ} يعني القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد عبد الله بن سلام، ونحو هذا روى الكلبي عنه أنه الشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام، وهو قول مجاهد وقتادة ومقاتل والضحاك وابن زيد والحسن (¬2)، وبه قال من الصحابة عوف بن مالك الأشجعي وسعد بن أبي وقاص. ويؤكد ذلك ما روي في حديث مقتل عثمان أن عبد الله أتاه لينصره فخرج إلى الناس وقال: إنه قد نزل في آيات من كتاب الله نزلت فيَّ، وشهد من بني إسرائيل على مثله (¬3)، وذكر كلامًا طويلاً. قوله: {عَلَى مِثْلِهِ} قال ابن عباس: يريد على ما جئتكم به (¬4)، قال ¬

_ (¬1) انظر: "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص 77. (¬2) انظر: أقوال هؤلاء في "تفسير الطبري" 13/ 2/ 10، 11، و"تفسير الماوردي" 5/ 273، و"تفسير مقاتل" 4/ 17، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 188، و"تنوير المقباس" ص 503، و"البحر المحيط" 8/ 57. (¬3) أخرج ذلك الترمذي في كتاب التفسير باب 47، ومن سورة الأحقاف 5/ 381. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. (¬4) لم أقف عليه.

صاحب النظم: ليس لمثل هاهنا معنًى مقصود إليه، هو فصل وصلة (¬1) كقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وتأويله: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، أي على أنه من عند الله، وقال أبو إسحاق: الأجود أن يكون (على مثله) على مثل شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قوله: (فَآمَنَ) يعني الشاهد وهو ابن سلام {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان فلم تؤمنوا، واختلفوا في تقدير جواب قوله: (إن كان من عند الله) فقال صاحب النظم: جوابه محذوف على تقدير: أليس قد ظلمتم (¬3) فكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} دليلاً على هذا الجواب. وقال الزجاج: تقديره: فآمن واستكبرتم أتؤمنون (¬4)، وقال غيره فآمن واستكبرتم أفما تهلكون (¬5)، وقال الحسن: جوابه من أضل منكم (¬6)، ووجه تأويل الآية: أخبروني ماذا تقولون إن كان القرآن حقًا من عند الله، وشهد على ذلك عالم بني إسرائيل وآمن به وكفرتم واستكبرتم ألستم تستحقون العقاب، وأنكر قوم منهم الشعبي ومسروق أن يكون الشاهد عبد الله بن سلام، وقالوا: إن إسلامه كان بالمدينة قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعامين، وآل ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 189، و"تفسير الوسيط" 4/ 104. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 440. (¬3) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري 2/ 1155، و"زاد المسير" 7/ 374، و"تفسير الوسيط" 4/ 105. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 440. (¬5) ذكر ذلك الماوردي في تفسيره ونسبه لمذكور 5/ 274، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 374، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 8/ 57. (¬6) ذكر ذلك الماوردي في تفسيره 5/ 274، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 374، وأبو حيان 8/ 57، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 105.

11

{حم} نزل بمكة (¬1)،ثم لم يأت للآية بوجه من التأويل صحيح غير الإنكار، على أن ابن سيرين قد قال في هذه الآية: كانت تنزل الآية فيؤمر أن توضع في سورة كذا، يعني: أن هذه الآية يجوز أن تكون نازلة بالمدينة وأمر أن توضع في سورة مكية (¬2). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يريد قريظة والنضير (¬3)، وقال مقاتل: يعني اليهود (¬4)، قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن هؤلاء المعاندين خاصة لا يؤمنون بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: قد جعل جزاءهم على كفرهم بعد ما تبين لهم الهدى، مَدَّهم في الضلالة (¬5). 11 - قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يعني من كفر من اليهود للذين آمنوا، يعني ابن سلام وأصحابه، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عن الشعبي ومسروق. انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 9، وذكره الماوردي في "تفسيره" 5/ 273، والبغوي في "تفسيره" 7/ 255. وهذا هو الوجه الذي رجحه ابن جرير الطبري قال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل لأن قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش واحتجاجًا عليهم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها, ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر فتوجه هذه الآية أنها نزلت فيهم .. 13/ 2/ 12. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 6/ 444، وتفسير الفخر الرازي 28/ 10، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 188. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 440.

وهذا قول السدي وقال في رواية الكلبي (¬1) الذين كفروا أسد (¬2) وغطفان (¬3) لما أسلم جهينة (¬4) ومزينة (¬5) قالوا: لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا إليه رعاء البهم؛ يعنون جهينة ومزينة وأسلم وغِفَارًا (¬6). وقال مقاتل: الذين كفروا قريش، والذين آمنوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره 10/ 109 ب، والبغوي في تفسيره 7/ 256، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 375، والقرطبي في "الجامع" 16/ 190. (¬2) هو: بنو أسد بن خزيمة: قبيلة عظيمة من العدنانية تنتسب إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وهي ذات بطون كثيرة منازلهم كانت بلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد وفي مجاورة طي. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 47، و"معجم قبائل العرب" لكحالة 1/ 21. (¬3) هم: بنو غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بطن عظيم متسع كثير الشعوب والأفخاد وقد حاربهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق وهي الأحزاب. انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 248، و"معجم قبائل العرب" 3/ 888. (¬4) هم: بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سويد بن أسلم حي عظيم من قضاعة من القحطانية كانت مساكنهم ما بين الينبع ويثرب قاتلوا مع خالد بن الوليد في فتح مكة وقاتلوا في غزوة حنين. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 444، و"معجم قبائل العرب" 1/ 216. (¬5) هم: بنو عمرو بن أد عثمان وأوس، وأمهما مزينة بنت كلب بن وبرة، فنسب ولدها إليها، كانت مساكن مزينة بين المدينة ووادي القرى. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 201، و"معجم قبائل العرب" 3/ 1083. (¬6) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 109 ب، والماوردي في "تفسيره" 5/ 274، وانظر: "تنوير المقباس" ص 503. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19.

وقال الحسن: كانت غفار وأسلم أهل سلة في الجاهلية، أي سرقة، فلما أسلموا قالت قريش: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه (¬1). وذكر صاحب النظم في اللام في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} وجهين: أحدهما أن تكون اللام بمنزلة الإيماء إليهم، كأنه يقول: وقال الذين كفروا لو كان هذا الذي جاء به محمد خيرًا لما سبقنا هؤلاء إليه، فقام قوله: (للذين آمنوا) مقام هؤلاء بالتفسير لهم مَن هم، والوجه الآخر: أن يكون المعنى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا على المخاطبة كما تقول: قال زيد لعمرو، ثم ترك المخاطبة (¬2) ولون الكلام كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} أي: ولما لم يصيبوا الهداية بالقرآن فسينسبونه إلى الكذب وهو قوله: {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي: أساطير الأولين. ويدل على أن المراد بقوله: (الذين كفروا) اليهود قوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ} يعني قبل: القرآن {كِتَابُ مُوسَى} يريد التوراة {إِمَامًا} يقتدى به {وَرَحْمَةً} من الله عز وجل للناظر فيه بما يجد من نور الهدى، وفي الكلام محذوف به يتم المعنى على تقدير: فلم يهتدوا به، ودل على هذا المحذوف قوله في الآية الأولى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} (¬3)، وذلك أن في التوراة بيان بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به فتركوا ذلك، وهذا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ذكر السمين الحلبي في "الدر المصون" أن اللام يجوز أن تكون لام العلة أي لأجلهم، وأن تكون للتبليغ. انظر: "الدر المصون" 6/ 137. (¬3) ذكر ذلك البغوي في تفسيره / 256، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 376، والقرطبي في "الجامع" 16/ 191، والمؤلف في "تفسير الوسيط" 4/ 105.

12

معنى قول مقاتل؛ لأنه قال: ومن قبل هذا القرآن قد كذبوا بالتوراة لقولهم (¬1) {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48]. قال أبو إسحاق: (إمامًا) منصوب على الحال ورحمةً عطف عليه (¬2)، وتقدير الكلام: وتقدمه كتاب موسى إماماً؛ لأن معنى (ومن قبله) تقدمه وتم الكلام (¬3)، ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} قال المفسرون: للكتب التي قبله (¬4). قال أبو إسحاق: مصدق لما بين يديه، كما قال: {كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30] وحذف هاهنا التقدم (¬5). 12 - قوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} والمعنى: وهذا كتاب مصدق له أي لكتاب موسى، فحذف للعلم به، و {لِسَانًا عَرَبِيًّا} منصوب على الحال، المعنى: مصدق لما بين يديه عربيًّا، وذكر (لسانًا) توكيد كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحًا، فتذكر رجلاً توكيدًا، قال وفيه وجه آخر وهو: وهذا كتاب مصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون التقدير مصدق ذا لسان عربي (¬6)، وذكر الأخفش هذين القولين أيضًا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 440. (¬3) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 661، و"المكتفى" للداني ص 521. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 256، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 191. (¬5) الذي في "معاني القرآن" للزجاج: (وحذف له هاهنا أعني من قوله: "وهذا كتاب مصدق" لأن قبله ومن قبله كتاب موسى، فالمعنى وهذا كتاب مصدق له، أي مصدق التوراة) 4/ 441. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 441. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 693.

قوله: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس: أشركوا (¬1)، وقال مقاتل: يعني مشركي مكة (¬2). وفي قوله (لينذر) قراءتان (¬3): التاء: لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] و {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2] والياء لتقدم ذكر الكتاب، فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}، {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 1 - 2]. وقوله: {وَبُشْرَى}، قال إسحاق: الأجود أن يكون (وبشرى) في موضع رفع، المعنى: وهو بشرى للمحسنين. قال: ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: لتنذر الذين ظلموا وتبشر المحسنين بشرى (¬4)، وزاد الفراء هذا الوجه بيانًا فقال: النصب على (لتنذر الذين ظلموا) وتبشر، فإذا وضعت في موضعه بشرى أو بشارة، نصبت، ومثله في الكلام: أعوذ بالله منك. وسَقْيًا لفلان، كأنه قال: وسقى الله فلانًا، وجئت لأكرمك وزيارة لك وقضاء لحقك، معناه لأزورك وأقضي حقك، فتنصب الزيارةَ والقضاءَ بفعل مضمر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 503. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19. (¬3) قرأ ابن نافع وابن عامر والبزي بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 271، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 662. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 441. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 52، والكشف والبيان للثعلبي 10/ 110 أ.

13

قوله تعالى: {لِلْمُحْسِنِينَ} قال عطاء والكلبي (¬1) ومقاتل (¬2): وبشرى بالجنة للموحدين المؤمنين. 13 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} روى الأسود بن هلال (¬3) عن أبي بكر الصديق، في هذه الآية، قال: استقاموا على ما افترض عليهم (¬4)، وقال مقاتل: استقاموا على المعرفة فلم يرتدوا عنها (¬5). وهذه الآية مفسَّرة في سورة حم السجدة [آية: 30]. 15 - قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} قد تقدَّم الكلامُ في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت [آية: 30] ولقمان [آية: 14]. قوله: {إِحْسَانًا} قال مقاتل: برًّا (¬6) وقرئ (إحسانًا) والإحسان خلاف الإساءة، والحسن خلاف القبح، فمن قال (إحسانًا) فحجته قوله في سورة بني إسرائيل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] لم يختلفوا فيه، وانتصابه على المصدر، وذلك أن معنى قوله (ووصينا الإنسان): أمرناه بالإحسان أي ليأت الإحسان إليهما دون الإساءة، ولا يجوز أن يكون انتصابه بوصينا؛ لأن وصينا قد استوفى مفعوليه أحدهما: الإنسان، والآخر: المتعلق بالباء، ومن قال (حُسْنًا) كان المعنى ليأت في أمرهما أمرًا ذا حسن ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 503. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19. (¬3) هو: الأسود بن هلال المحاربي كوفي قتل في الجماجم سنة نيف وثمانين، وقيل: أدرك الجاهلية وحديثه عن الصحابة في الصحيحين وغيرهما عن معاذ بن جبل. انظر: "أسد الغابة" 1/ 88، و"الإصابة" 1/ 105. (¬4) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" 12/ 2/ 15، وذكره القرطبي في "الجامع" 15/ 358. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19، 20. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 19، 20.

أي: ليأت الحسن في شأنهما دون القبح، وحجته ما في العنكبوت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [آية: 8] لم يختلف فيه، فأما الباء في قوله: {بِوَالِدَيْهِ} فإنها تتعلق بوصينا بدلالة قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151 - 153] ويجوز أن تتعلق بالإحسان, يدل على ذلك قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} [يوسف: 100] وعلى هذا تعلقها بمضمر يفسره الإحسان؛ لأنه يجوز تقدمها على الموصول، ولكن يضمر ما يتعلق به، ويجعل الإحسان مفسرًا لذلك المضمر، كأنه قيل: ووصينا الإنسان أن يحسن بوالديه، ومثل هذا قول الراجز: كان جَزَائِي بالعَصا أَنْ أُجْلَدَا (¬1) في قول من علق الباء بالجلد، ولم يعلقه بالجزاء (¬2) قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} وقرئ (كَرْهًا) (¬3) والكَرْه المصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ، والكُرْه الاسم، كأنه الشيء المكروه، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] فهذا (¬4) وقال: {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] فهذا في موضع حال، ولم تقرأ بغير الفتح، فما كان مصدرًا أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن، وما كان اسمًا نحو: ذهب به على كُرهٍ، كان الضم فيه أحسن، وقد قيل إنهما لغتان، فمن ذهب إلى ذلك جعلهما مثل الشَّرْبِ والشُّرْب، والضَّعف والضُّعف، والفَقْر والفُقْر، ¬

_ (¬1) الرجز للعجاج. انظر: "المحتسب" 2/ 310، و"شرح الأبيات المشكلة الإعراب" لأبي علي ص 119، و"الحجة" 6/ 182. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 182. (¬3) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبو عمرو. انظر: "الحجة" 6/ 184. (¬4) فيه زيادة لفظ (بالضم). انظر: "الحجة" 6/ 184.

ومن غير المصادر الدَّفُّ والدُّف، والشَّهْد والشُّهْد (¬1). قال المفسرون: حملته أمه في مشقة ووضعته في مشقة (¬2)، وليس يريد ابتداء الحمل؛ لأن ذلك لا يكون مشقة، وقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف: 189] يريد ابتداء الحمل، فإنها تحمل علقة ومضغة، فإذا ثقلت حينئذ حملته كرهًا، يدل على ما ذكرنا قول ابن عباس في هذه الآية: يريد ثقل عليها يعني الولد في حملها إياه، ووضعته كرها، يريد شدة الطلق (¬3). قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} يريد أن مدة حمله إلى أن فصل من الرضاع كانت هذا القدر، والمعنى: أنهما يقعان في ثلاثين شهرًا من ابتداء الحمل إلى أن يفصل. روى مسلم بن صبيح عن ابن عباس قال: حملته ستة أشهر والفصال حولين، وروى عكرمة عنه قال: إذا حملت تسعة أشهر أرضعته إحدى وعشرين شهرًا، وإذا حملته ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهرًا (¬4). وهذه الآية نازلة في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (¬5)، روى ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 184. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 15، و"تفسير الماوردي" 5/ 276، و"تفسير ابن كثير" 6/ 280. (¬3) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر: 4/ 107. (¬4) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 257، وأخرجه ابن كثير في "تفسيره" عن عكرمة عن ابن عباس 6/ 281. (¬5) أورد ذلك المؤلف في "أسباب النزول" بدون سند ص 401، وذكره الثعلبي في تفسيره 10/ 110 ب، وكذلك ذكره البغوي في "تفسيره" 7/ 257، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 378.

الكلبي وعطاء عن ابن عباس. وهو قول مقاتل (¬1) واختيار صاحب النظم قال: لأن الله تعالى قد وَقَّتَ الحمل والفصال هاهنا بتوقيت يعلم أنه قد ينقص ويزيد لاختلاف الناس في الولادة، فدل هذا على أنه مقصود به إنسان بعينه كان حمله وفصاله ثلاثين شهرًا، فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر، ويدل على ما ذكرنا قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ}، إلى آخر الآية، وقد علمنا أن كثيرًا ممن بلغ هذا المبلغ من المؤمنين وغيرهم لم يكن منه هذا القول، فثبت بذلك أن هذا في إنسان بعينه وهو الصديق رضي الله عنه (¬2)، والآية من باب حذف المضاف لأن التقدير: ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرًا. قال الأزهري المعنى: ومَدَى الحَمْل للمرأة منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد عن رضاعه ثلاثون شهرًا (¬3)، والكلام في معنى الفصال قد تقدم في سورة البقرة [آية: 123]. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} اختلفوا في معنى بلوغ الأشد هاهنا فروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ثمان عشرة سنة، وذلك أن أبا بكر صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في التجارة فنزلوا منزلا فيه سدرة فقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله من الدين فقال له: مَنْ الرجل ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 20. (¬2) وهو الذي ورد في سبب نزول الآية كما سبقت الإشارة إليه، وقد ذكر السيوطي في "الدر" أنه أخرجه ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "الدر المنثور" 7/ 441. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (فصل) 12/ 193.

الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبي، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره وحضوره فلما نبىء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة فأسلم وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ أربعين سنة قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} (¬1) الآية. وروى مجالد عن الشعبي قال: الأشد بلوغ الحلم، إذا كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات (¬2)، وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين (¬3) والأكثرون من أهل التفسير على أنه ثلاث وثلاثون سنة وهو قول مجاهد (¬4) ورواه عن ابن عباس، وقول مقاتل وقتادة، واختيار الفراء (¬5) والزجاج، قال الزجاج: الأكثر أن يكون ثلاثًا وثلاثين سنة؛ لأن الوقت الذي يكمل فيه الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شبابه أن يبلغ بضعًا وثلاثين سنة (¬6)، ¬

_ (¬1) ذكر ذلك المؤلف في "أسباب النزول" ص 401، وأورده البغوي في "تفسيره" 7/ 257، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 378، وقال رواه عطاء عن ابن عباس، وذكره القرطبي في "الجامع" 16/ 194. (¬2) أخرج ذلك الطبري في تفسيره 13/ 2/ 16، وذكره الماوردي ونسبه للشعبي 5/ 276. (¬3) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" 5/ 277، والقرطبي في "الجامع" 16/ 194 عن الحسن. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد وقتادة، انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 16، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 20، ونص العبارة عنده: فهو في القوة والشدة من ثماني عثرة إلى الأربعين سنة. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 52. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 442.

وقال الفراء: الأشبه بالصواب ثلاث وثلاثون؛ لأن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمان عشرة، ألا ترى أنك تقول: أخذت عامة المال أو كله، فيكون أحسن من قولك: أخذت أقل المال أو كله، ومثله قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] فبعض ذا قريب من بعض، فهذا سبيل كلام العرب (¬1). قوله: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} قال ابن عباس: دعا ربه فقال: اللهم ألهمني (¬2) {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يريد: هديتني وجعلتني مؤمنًا صديقًا، لا أشرك بك شيئًا. قوله تعالى: {وَعَلَى وَالِدَيَّ} عن علي أنه قال: هذه الآية في أبي بكر أسلم أبواه جميعًا, ولم يجتمع لأحد من الصحابة المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده (¬3). قال المفسرون: ووالداه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأم الخير بنت صخر بن عمرو (¬4). وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} قال ابن عباس: فأجابه الله تعالى فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يَدَع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 52. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 25، و"ابن كثير" 6/ 282 فقد ذكرا المعني من غير نسبة. (¬3) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" عن علي 10/ 110 ب، وذكره البغوي في "تفسيره" 7/ 257، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 378، من غير نسبة، ونسبه القرطبي لعلي. انظر: 16/ 194، وكذلك نسبه في "الوسيط" لعلي. انظر: 4/ 107. (¬4) ذكر ذلك البغوي في تفسيره 7/ 257، والقرطبي في "الجامع" 16/ 194.

16

وقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} قال أبو إسحاق: معناه: اجعل ذريتي صالحين (¬1). قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده (¬2). وقال مقاتل: يعني واجعل أولادي مؤمنين، فأسلموا أجمعون (¬3). قال المفسرون: ولم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالده وبنوه وبناته إلا أبو بكر (¬4). قال مقاتل: ثم قال أبو بكر: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} من الشرك {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يعني المخلصين بالتوحيد (¬5). وقال عطاء: إني رجعت إلى كل ما تحب (¬6) وأسلمت لك بقلبي ولساني. 16 - وقوله تعالى: {أُولَئِكَ} أي أهل هذا القول: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} قرئ بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرئ بالنون المفتوحة، وكذلك {وَنَتَجَاوَزُ} وكلاهما في المعني واحد؛ لأن الفعل وإن كان مبنيًّا ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 442. (¬2) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 258، والقرطبي في "الجامع" 16/ 195، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 108. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 20. (¬4) ذكر ذلك البغوي في تفسيره 7/ 258، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 378، والقرطبي في "الجامع" 16/ 195. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 20. (¬6) ذكر ذلك الماوردي في هذه الجملة عن ابن عباس بلفظ: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه 5/ 278، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" بنص عبارة المؤلف ولم ينسبه 7/ 378، وكذلك ذكره في "الوسيط" عن عطاء عن ابن عباس. انظر: 4/ 108.

للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه، فبناؤه للمفعول في العلم بالفاعل كبنائه للفاعل كقوله: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] والفعل معلوم أنه لله وإن بني للمفعول كقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] ووجه قول من قرأ بالنون أنه قدم تقدم قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} فكذلك يُتَقَبَّلُ (¬1). وقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يعني: الأعمال الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن، فالأحسن بمعنى التحسن كقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ} [الزمر: 55] وقد مر، وقال بعض أهل المعاني: الحسن من الأعمال المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، والأحسن ما يوجب الثواب من خير وطاعة (¬2). وقوله تعالى: {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} قال الحسن: هذا لمن أراد الله كرامته (¬3)، وقال عطاء: يريد ما كان في الشرك. قوله: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} قال مقاتل: (في) بمعنى: مع (¬4)، وعلى هذا المعنى أنه يفعل بهم ما يفعل بأصحاب الجنة كما تقول: يعطى زيد مع القوم، ويجوز أن يكون المعنى: ونتجاوز عن سيئاتهم في جملة ما نتجاوز عنهم وهم أصحاب الجنة؛ لأنهم أهل التجاوز عنهم، وكأنه قال: ونتجاوز ¬

_ (¬1) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون، وقرأ الباقون بالياء. انظر: كتاب "الحجة" لأبي علي 6/ 184، و"السبعة" لابن مجاهد ص 597، و"الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 272، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص 664. (¬2) انظر: "الجامع الأحكام القرآن" 16/ 196. (¬3) انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 233. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 21.

في جملة من نتجاوز عنهم (¬1). وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} قال أبو إسحاق: هو مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن قوله (نتقبل) و (نتجاوز) بمعنى الوعد لأن الله قد وعدهم القبول، فوعد الصدق توكيد لذلك (¬2). قال المفسرون: ومعنى (وعد الصدق): هو ما وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (¬3)، ومعنى التجاوز في اللغة: ترك الوقوف على الشيء، يقال: جاز عنه وتجاوز، ثم استعمل بمعنى العفو؛ لأنه بمعنى الترك للذنب والمحاسبة عليه (¬4)، ووعد الصدق من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله فهو كقوله (¬5): {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] هذا على مذهب الكوفيين، وعند البصريين يكون التقدير: وعد الكلام الصدق، والكتاب الصدق فحذف الموصوف (¬6). وقوله: {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}، قال الكلبي: كانوا يوعدون في ¬

_ (¬1) قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا التائبون إلى الله المنيبون إليه المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، فيغفر لهم الكثير من الزلل ونتقبل عنهم اليسير من العمل. انظر: "تفسير ابن كثير" 6/ 282. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 443. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 18، و"تفسير البغوي" 7/ 258، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 196، و"تفسير الوسيط" 4/ 108. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (جوز) 11/ 149، و"الصحاح" (جوز) 3/ 870. (¬5) انظر: "وضح البرهان في مشكلات القرآن" 2/ 296. (¬6) انظر: "فتح القدير" للشوكاني 5/ 19.

17

الدنيا على لسان الرسل (¬1)، وهو قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [التوبة: 72]. 17 - قوله: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} ذكر المفسرون في هذه الآية قولين، الأكثرون على أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر (¬2)، وهو قول ابن عباس (¬3) وأبي العالية والسدي ومقاتل (¬4) ومجاهد قالوا: نزلت فيه قبل إسلامه (¬5) كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى وهو قول "أف لكما". قال مقاتل: يعني الرديء من القول (¬6)، وذكرنا تفسير أُف، والقراءة فيه في سورة بني إسرائيل [آية: 23]، قال المفسرون: دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت فقال: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي: من القبر يعني: أبعث بعد الموت {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} يعني الأمم الخالية، فلم أر أحدًا منهم، فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 504، وذكر هذا المعنى الماوردي، ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" 5/ 29، وأيضًا ذكره ابن الجوزي، ولم ينسبه. انظر: "زاد المسير" 7/ 379. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه. انظر: كتاب التفسير سورة الأحقاف باب "والذي قال لوالديه أف لكما. .) 2/ 6 / 41. (¬3) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس. انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 19، وانظر: "تفسير الماوردي" 5/ 279، و"تفسير البغوي" 7/ 258، و"الجامع" للقرطبي 16/ 197. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 258، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 197، و"تفسير ابن كثير" 6/ 284، و"تفسير مقاتل" 4/ 21. (¬5) وقد ضعف هذا القول ابن كثير في تفسيره 6/ 284، وكذلك ضعفه ابن حجر في الفتح، فقال: قلت: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسناداً وأولى بالقبول. انظر: "فتح الباري" تفسير 8/ 576. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 21.

18

عمرو (¬1) وفلان وفلان (¬2). قوله تعالى: {وَهُمَا} يعني والديه {يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} يدعوان الله بالهدى وأن يقبل بقلبه إلى الإسلام والمعنى: يستغيثان بالله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل الفعل، ويجوز أن يكون الباء حذف لأنه أريد بالاستغاثة الدعاء على ما قال المفسرون يدعوان الله، والاستغاثة بالله دعاء ليغيثك فيما نابك، فلما أريد به الدعاء حذف الجار (¬3)؛ لأن الدعاء لا يقتضيه ومثله كثير. قوله: {وَيْلَكَ} أي: ويقولون له: ويلك {آمِنْ} صدق بالبعث {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث {حَقٌّ فَيَقُولُ} لهما {مَا هَذَا} الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقال الحسن وقتادة: هذه الآية مرسلة عامة، وهي نعت عبد كافر عاق لوالديه (¬4)، وكانت عائشة رضي الله عنها تنكر أن تكون الآية في عبد الرحمن، وقالت: إنها في فلان بن فلان وسَمَّت رجلاً (¬5). وقال أبو إسحاق: من قال إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه يبطله. 18 - قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، فأعلم الله أن ¬

_ (¬1) هو: عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة من عدنان جد جاهلي بنوه بطن من مزينة منهم زهير بن أبي سلمى وآخرون صحابة وشعراء محدثون. انظر: "جمهرة الأنساب" ص 190، و"الأعلام" 4/ 212. (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 111 أ، و"تفسير البغوي" 7/ 259، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 198، و"تفسير الوسيط" 4/ 109. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 198، و"تفسير الوسيط" 4/ 109. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 259، و"الجامع" 16/ 197 , فقد نسباه للحسن وقتادة. (¬5) انظر: "فتح الباري" 8/ 576، و"تفسير البغوي" 7/ 259، و"زاد المسير" 7/ 380، و"الجامع" للقرطبي 16/ 197.

19

هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وإذا أعلم بذلك فقد أعلم أنهم لا يؤمنون وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين وسرواتهم، أجاب الله فيه دعاء أبيه فأسلم، والتفسير الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق (¬1)، وقال صاحب النظم: ذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر بوالديه وعمل بوصية الله، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية فقال لوالديه: أف لكما بصفة العقوق، حيث لم يطع الله في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وعلى هذا القول نزلت في كافر عاق مات على عقوقه وكفره، ثم دخل فيها من كان بهذه الصفة لقوله بعد هذا {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} والذين قالوا الآية في عبد الرحمن قبل إسلامه قالوا: في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}. نزل في الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله هم الذين حق عليهم القول، وليس عبد الرحمن من جملتهم؛ لأنه آمن وحسن إيمانه، ذكر ذلك الكلبي (¬2) ومقاتل (¬3)، وهذه الآية مفسَّرة في سورة {حم} السجدة [آية: 25]. 19 - قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ذكر ابن عباس ومقاتل: أن هذه الآية خاصة في المؤمنين. قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 443. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 504. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 22. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 259، فقد ذكر هذا القول ونسبه لابن عباس، وكذلك نسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: 4/ 110.

20

وقال مقاتل: يعني ولكل فضائل بأعمالهم (¬1)، وذهب بعضهم إلى الإشارة في هذه الآية إلى إسلام عبد الرحمن، فإنه كان مسبوقًا بالإسلام، فبين الله للسابق درجة وللمسبوق درجة، ومذهب ابن زيد أن الآية في الفريقين من المؤمنين والكافرين، فقال: (ولكل) يعني من الفريقين درجات، قال: درج أهل الجنة تذهب علوًّا، ودرج أهل النار تذهب سفالاً (¬2). وقوله: {مِمَّا عَمِلُوا} يعني: أن الدرجات المتفاوتة كانت لهم من أعمالهم {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} يريد مجازاة أعمالهم وثواب أعمالهم قاله ابن عباس، ومقاتل (¬3). 20 - قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} قال مقاتل: يعني يكشف الغطاء عنها لهم فينظرون إليها، يعني كفار مكة (¬4). قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} قرئ بالاستفهام والخبر، قال الفراء (¬5) والزجاج (¬6): العرب توبخ بالألف، وبحذف الألف فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا، وذهبت ففعلت كذا وكذا، والمعنى في القراءتين: يقال لهم هذا فحذف القول، قال أبو علي: وجه الاستفهام أن هذا النحو قد جاء بالاستفهام نحو: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف: 34]، {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 22. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن ابن زيد. انظر: "تفسيره" 13/ 2 / 20، وانظر تفسير البغوي" 7/ 259، و"تفسير ابن كثير" 6/ 285، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 199. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 22. ولم أقف على نسبته لابن عباس. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 22. ولم أقف على نسبته لابن عباس. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 54. (¬6) انظر: "معانى القرآن" للزجاج 4/ 444.

21

إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] ووجه الخبر أن المراد هاهنا التقرير، فالاستفهام مثل الخبر، ألا ترى أن هذا الاستفهام الذي يراد به التقرير لا يجاب بالفاء كما يجاب بها إذا لم يكن تقريرًا، فكأنهم يوبَّخُون بهذا الذي يخبرون به وُيبَكَّتُون (¬1)، قال الكلبي: يعني اللذات وما كانوا فيه من المعايش وتمتعهم بها في الحياة الدنيا (¬2). وذكر المفسرون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة أخبارًا في هذه الآية، أنهم كانوا يجتنبون نعيم العيش ولذته بالطيبات في الدنيا (¬3)؛ لأن الله تعالى وبخ الكافرين بذلك، وذلك مذهب الصالحين يؤثرون في الدنيا التقشف والزهد رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، ولا عتب على المؤمن في التمتع بما أحل الله له وأباحه من نعيم العيش والتمتع بالطيبات في الدنيا، وإنما وبخ الكافر بذلك؛ لأنه تمتع بها ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به، والمؤمن يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبَّخ بتمتعه، وهذا معنى قول مقاتل (¬4)، وهو حسن، قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: تتكبرون عن عبادة الله والإيمان به {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} تعصون. 21 - قوله تعالى {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} قال ابن عباس ومقاتل: واذكر يا محمد لقومك أهل مكة [وهودًا] (¬5) -عليه السلام- (إذ أنذر ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 189. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 504، و"تفسير الوسيط" 4/ 110. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 21، و"زاد المسير" 7/ 382، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 200، و"تفسير الوسيط" 4/ 110. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 22. (¬5) كذا في الأصل ولعل الصواب (هودًا). وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 22، ولم أقف على نسبته لابن عباس.

قومه) حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا، وقوله (بالأحقاف) قال أبوعبيد عن الأصمعي (¬1): الحقف الرمل المعوج، ومنه قيل للمعوج محقوقف، وقال الفراء: الأحقاف واحدها حقف، وهو المستطيل المشرف (¬2). وقال أبو عبيدة: الأحقاف الرمال، وأنشد: باتَ إلى أرْطَاةِ حِقْفٍ أحْقَفا (¬3) قال المبرد: الأحقاف واحدها حقف، وهو الكثيب المكتبر غير العظيم وفيه اعوجاج، يقال للشيء: احقوقف، إذا هم بأن تلاقى طرفاه، كما قال العجاج: سَمَاوَةُ الهِلالِ حتَّى احقَوْقَفَا (¬4) ويقال أيضًا في جميع الحقف حقاف وحقوف، قال امرؤ القيس: ذِي حِقَافٍ عَقنْقَلِ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: قول أبي عبيد في "تهذيب اللغة" (حقف) 4/ 68، وانظر: "العين" للخليل (حقف) 3/ 51. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 54. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 213، وقد نسب هذا الرجز للعجاج، ونسبه إليه أيضًا الطبري في "تفسيره" 13/ 2/ 23، والقرطبي في "الجامع" 16/ 203. (¬4) انظر: "الكامل" للمرد 1/ 150، 153، و"الكتاب" لسيبويه 1/ 359، وانظر: ملحقات "ديوان العجاج" ص 84، و"تهذيب اللغة" (حقف) 4/ 68، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 203. (¬5) البيت بتمامه: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل الحقاف: ما ارتفع من الأرض وغلظ. والعقنقل: الرمل المتعقد الداخل بعضه في بعض. انظر: "ديوانه" ص 115، و"شرح المعلقات العشر" ص 28، و"الدر المصون" 6/ 141.

وقال رؤبة: مثل الأقاحِ اهْتَزَّ بالحُقُوف (¬1). وذكر الكلبي سبب هذه الرمال واعوجاجها، فقال: هي رمال نضب الماء عنها زمان الغرق، كما ينضب الماء عن المكان من الجبل ويبقى أثره (¬2) وينضب أيضًا عن مكان أسفل من ذلك، ويبقى أثره دون ذلك، فذلك الأحقاف. قال ابن عباس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة (¬3)، وإليها تنسب الجمال المهرية (¬4)، وقال عطاء عنه: هي رمال بلاد الشَّحر، وهو قول قتادة (¬5)، وقال مقاتل: هي دكاك الرمل باليمن في حضرموت (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي عن الكلبي 10/ 114 أ، والقرطبي عن الكلبي 16/ 204. (¬3) مَهَرة: قال العمراني: مهرة بلاد تنتسب إليها الإبل، قلت: هذا خطأ إنما مهرة قبيلة وهي مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة تنسب إليهم الإبل المهرية وباليمن لهم مخلاف يقال بإسقاط المضاف إليه، وبينه وبين عُمان نحو شهر وكذلك بينه وبين حضرموت فيما زعم أبو زيد وطول مخلاف مهرة أربع وستون درجة وعرضه سبع عشرة درجة وثلاثون دقيقة. انظر: "معجم البلدان" 5/ 234. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره 10/ 114 أ، والماوردي في تفسيره 5/ 282، والبغوي في "تفسيره" 7/ 262، والقرطبي في "الجامع" 16/ 204. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 114 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 262. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 23. (¬7) حضرموت: ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود -عليه السلام-، ولها مدينتان يقال لإحداهما تريم وللأخرى شبام. وعندها قلاع وقرى. =

22

وقال مجاهد: هي أرض حِسْمَى (¬1) (¬2). قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قال مقاتل: وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده إلى قومهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} يعني: لم يبعث رسولاً من قبل هود ولا من بعد هود إلا أمر بعبادة الله وحده (¬3). وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} كلامٌ اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه (¬4) , لأن التقدير: إذ أنذر قومه بالأحقاف فقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فذكر فصلاً مؤكدًا لهذا الكلام، ثم عاد إلى كلام هود لقومه بقوله (¬5): 22 - {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا معنى قول مقاتل، فقالوا لهود: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} قال ابن عباس ومقاتل: لتصدنا عن ¬

_ = وقال ابن الفقيه: حضرموت مخلاف من اليمن بينه وبين البحر رمال، وبينه وبين مخلاف صُداء ثلاثون فرسخًا. وقيل: مسيرة أحد عشر يومًا. وقال الإصطخري: بين حضرموت وعدن مسيرة شهر. انظر: "معجم البلدان" 2/ 270. (¬1) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 23، وأورده الثعلبي في تفسيره 10/ 114 أ. (¬2) حسمى: بالكسر ثم السكون مقصور، يجوز أن يكون أصله من الحسم وهو المنع. وهو أرض ببادية الشام، بينها وبين وادي القرى ليلتان، وأهل تبوك يرون جبل وحسمى في غربيهم وفي شرقيهم شَرَورَى، وبين وادي القرى والمدينة ست ليال. وحِسمى أرض غليظة وماؤها كذلك لا خير فيها ويقال آخر ماء نضب من ماء الطوفان حسمى فبقيت منه هذه البقية إلى اليوم فلذلك هو أخبث ماء. انظر: "معجم البلدان" 2/ 258. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 23. (¬4) انظر: "راد المسير" 7/ 384. (¬5) انظر: "زاد المسير" 7/ 384.

23

عبادة آلهتنا (¬1). وقال أبو إسحاق: لتصرفنا عنها بالإفك (¬2) (¬3)، ثم استعجلوا العذاب فقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إن العذاب نازل بنا، قال هود: 23 - {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي هو يعلم متى يأتيكم العذاب، وهذا معنى قول المفسرين (¬4)، يعني: يعلم نزول العذاب بكم، {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} أي: من الوحي والإنذار، يعني: أنا مبلغ والعلم بوقت العذاب عند الله و {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} قال عطاء: تجهلون عظمة الله وما يراد بكم من العذاب، وقال الكلبي: تجهلون الأمر أنه من الله (¬5)، وقال أبو إسحاق: أي أدلكم على الرشاد وأنتم تصدون وتعبدون آلهة لا تنفع ولا تضر (¬6). 24 - قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} ذكر المبرد في الضمير في (رأوه) قولين أحدهما: أنه عاد إلى غير مذكور وبَيَّنه قولُه تعالى: {عَارِضًا} (¬7)، كما قال: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ولم يذكر الأرض، ولكن يدل عليها العلم بها وما دل عليه الكلام، وعلى هذا الضمير يعود إلى السحاب كأنه قيل: فلما رأوا السحاب عارضًا، وهذا قول المفسرين ¬

_ (¬1) انظر: "الطبري" 13/ 2/ 24، و"القرطبي" 16/ 205، و"تفسير مقاتل" 4/ 23. (¬2) أفَكَ يأفِكُ وأفِكَ يَأفَكْ إذا كذب، والإفْكُ: الإثم، والإفك: الكذب. انظر: "تهذيب اللغة" (أفك) 10/ 396. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 445. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 25، و"تفسير البغوي" 7/ 263. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 505 ولم أقف على قول عطاء. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 445. (¬7) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 169، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 205.

واختيار الزجاج (¬1)، ويكون هذا من باب الإضمار على شريطة التفسير، القول الثاني: أن الضمير عاد إلى: (ما) في قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، فلما رأوا ما يوعدون (¬2) عارضًا. قال أبو زيد: العارض السحاب يراها في ناحية السماء (¬3). وقال أبو عبيدة: العارض من السحاب الذي يرى في قطر من أقطار السماء بالعشي، ثم يصبح وقد حبا حتى استوى (¬4)، وهذا قول مقاتل: العارض بعض السحابة ثم تطبق السماء (¬5). قوله: {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} قال المفسرون: كان عاد قد حبس عنهم المطر أيامًا فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث (¬6)، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا (¬7) {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} والمعنى: ممطر إيانا، وهذا كقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقد مر. قال عمرو بن ميمون: كان هو قاعدًا في قومه فجاء سحاب ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 25، و"تفسير الثعلبي" 10/ 114 ب، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 445. (¬2) ذكر القولين السمين الحلبي في "الدر المصون" 6/ 141. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 169. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 213. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 23. (¬6) المُغِيث: بالضم ثم الكسر وآخره ثاء مثلثة: اسم الوادي الذي هلك فيه قوم عاد، وقال أبو منصور: بين معدن النَّقْرة والرَّبذة ماء يعرف ماوان ماء وشروب. انظر: "معجم البلدان" 5/ 162. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 25، "تفسير الثعلبي" 10/ 114 ب.

25

مكفهر (¬1)، فقالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال هود: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} (¬2) قال مقاتل: وكان استعجالهم حين قالوا لهود: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} (¬3) ثم بين ما هو فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، قال ابن عباس: كانت الريح تطير بهم بين السماء والأرض حتى أهلكتهم (¬4). 25 - ثم وصف الريح فقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} قال مقاتل: تهلك كل شيء من الناس والدواب والأموال (¬5). وقال ابن عباس: يريد كل شيء بعثت إليه (¬6). {بِأَمْرِ رَبِّهَا} بإذن ربها {فَأَصْبَحُوا} يعني: عادًا {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} قرأه عاصم وحمزة: {يُرَى} بالياء مضمومة {مَسَاكِنُهُمْ} بالرفع، قال أبو إسحاق: تأويله لا يرى شيئًا إلا مساكنهم؛ لأنهم قد هلكوا (¬7). قال أبو علي: تذكير الفعل في هذه القراءة أحسن من لحاق علامة التأنيث، من أجل جمع المساكن، وذلك أنهم حملوا الكلام في هذا الباب على المعنى، فقالوا: ما قام إلا هند، ولم يقولوا: ما قامت، لما كان ¬

_ (¬1) قال الأصمعي: (المكفهِرَ من السحاب: الذي يَغلَظ ويركَبْ بعضهُ بعضًا)، انظر: "تهذيب اللغة" (المكفهر) 6/ 508. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن عمرو بن ميمون انظر "تفسيره" 13/ 2/ 26. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 23. (¬4) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" عن ابن عباس 16/ 206، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر: 4/ 113. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 25. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 206. (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 4/ 446.

26

المعنى: ما قام أحد، حملوه على هذا، وإن كان المؤنث يرتفع بهذا الفعل والتأنيث فيه لم يجيء إلا في شذوذ وضرورة (¬1)، كقوله: فما بَقِيتْ إلا الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ (¬2) وقرأ الباقون: (لا تَرى) بفتح التاء (إلا مساكنَهم) بالنصب على معنى: لا ترى أيها المخاطب، والمساكن مفعول بها، و (ترى) في القراءتين جميعًا من رؤية العين، المعنى: لا تشاهد شيئًا إلا مساكنهم، كأنها قد زالت عما كانت عليه من كثرة الناس بها وما يتبعهم مما يقتنونه (¬3). 26 - قال ابن عباس: فلم يبق إلا هود ومن آمن معه. ثم خوف كفار مكة وذكر فضل عاد بالقوة والأجسام عليهم فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} قال مقاتل: أي: من الخير والتمكين في الأرض (¬4). وقال الكلبي: يعني: ملكنا عالاً وأمهلناهم من العمر فيما لم نمكن لكم من العمر والمهلة (¬5)، والمعنى: مكناهم في الشيء الذي لم نمكنكم فيه يا أهل مكة من الدنيا وكثرة الأموال وشدة الأبدان. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي 6/ 186. (¬2) هذا عجز بيت لذي الرمة وصدره قوله: بَرَى النَّحْزُ والأجْرَازُ ما في غُرُوضِها انظر: "ديوانه" ص 341، و"المحتسب" 2/ 207، و"الحجة" 6/ 186، و"الدر المصون" 6/ 142. (¬3) انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 274، و"إعراب القرآن" للنحاس 4/ 170. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 26. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 505.

قال المبرد: (مَا) في قوله: {فِيمَا} بمنزلة (الذي)، و (إِن) بمنزلة (ما) وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه (¬1)، ونحو هذا قال الكسائي والفراء (¬2)، والزجاج وزاد بيانًا فقال: (إن) في النفي مع (ما) التي في معنى (الذي) أحسن اللفظ من (ما) لاختلاف اللفظين (¬3). وقال ابن قتيبة: معنى الآية: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} فزيدت (أن) (¬4)، فقال ابن الأنباري (¬5): وهذا غلط لأن كتاب الله -عز وجل- ليس فيه حرف لا معنى له، بل كل حرف يفيد فائدة ويزيد معنى، والعرب لا تزيد (إن) على (ما) إذا كانت بمعنى (الذي) والاستفهام والتعجب، بل يزيدونها عليها إذا كانت جحدًا على جهة التوكيد بها، فيقولون: ما إن قمت، وما إن لقيت عبد الله، يؤكدون الجَحْد "بإن" قال دريد ابن الصمة: ما إنْ رأيتُ ولا سُمِعتُ به ... كاليَوْمِ طالي أَيْنُقٍ صُهْب (¬6) أراد: ما رأيت، وقال لبيد: غُودِرت بعدَهم وكنتُ بطُولِ صُحْبتِهِم ضَنِينَا ... ما إنْ رِأيْتُ ولا سَمِعْتُ بمِثْلِهِم في العَالَمِينا (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 6/ 142، و"تفسير الفخر الرازي" 28/ 29. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 6/ 56، و"إعراب القرآن" للنحاس 4/ 170. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 446. (¬4) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 130، و"تفسير غريب القرآن" ص 408. (¬5) ذكر في "كتاب الاضداد" حول هذه الآية {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} معناه: في الذي قد مكناكم فيه. انظر: "كتاب الأضداد" ص 189. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) لم أقف عليه.

27

والعرب تجمع بين الحرفين إذا اتفق معناهما إذا كان لفظهما مختلف كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. و (ما) في هذه الآية بمعنى (الذي) فلا يزاد معها (إن) لا يقال: ما إن قبضت ديناراك، بمعنى الذي قبضت ديناراك، ثم ذكر الله تعالى أنهم أعرضوا عن قبول الحجج والتفكر فيما يدلهم على التوحيد مع ما أعطاهم الله تعالى من الحواس التي بها تدرك الأدلة قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} الآية، وفي هذا تخويف لأهل مكة، وضرب المثل لهم بحالة من قبلهم، فإنهم لما لم يستدلوا على توحيد الله ولم يقبلوا ممن دعاهم إليه لزمتهم الحجة ولم تغن عنهم مدارك الأدلة شيئاً، فأهل مكة إن صنعوا كصنعهم استحقوا مثل عذابهم، ثم زاد في التخويف فقال: 27 - {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} قال ابن قتيبة: يريد: باليمن والشام (¬1) {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} بيناها {لَعَلَّهُمْ} لعل أهل القرى {يَرْجِعُونَ}، والمراد بالتصريف التقديم؛ لأنه كان قبل الإهلاك، وقال قوم: تقدير الكلام: وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلم يرجعوا {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}. 28 - فلم ينصرهم منا ناصر وهو قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) قول قتيبة هذا غير موجود في تأويل المشكل، وتفسير غريب القرآن، والذي ذكر الطبري، قال كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها، انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 29. وقال الثعلبي: كحجر ثمود وأرض سدوم ونحوها. انظر "تفسيره" 10/ 116 أ. وقال في "الوسيط": وأراد بالقرى المهلكة باليمن والشام، انظر: 4/ 114، وقال القرطبي: يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. انظر: "الجامع" 16/ 209.

29

اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} وهذا يدل على أنه لم ينصرهم من الله ناصر حين حلَّ بهم العذاب، وقولهم: {مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا} القربان: ما يتقَرَّبُ به إلى الله (¬1) وهو في الأصل مصدر، وقد مر (¬2)، قال ابن قتيبة: اتخذوهم آلهة يتقرب بها إلى الله (¬3). قوله تعالى: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي: اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم وافتراؤهم، و (اتخذوا) يدل على الاتخاذ. 29 - قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} قال المفسرون: لما أيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قومه أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة فكان ببطن نخلة (¬4) قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر مَرَّ به نفر من أشراف حسن نصيبين كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فدفعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي فاستمعوا لقراءته، وهذا قول ابن عباس في رواية مجاهد والكلبي وقول عبد الله وسعيد بن جبير ومقاتل (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (قرب) 9/ 124. (¬2) {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27]. (¬3) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 130. (¬4) هي: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، ينهما الطرف على الطريق وهو بعد أبرق العزّاف للقاصد إلى مكة، انظر: "معجم البلدان" 1/ 449 - 450، وقال ابن حجر: هي موضع بين مكة وطائف. قال البكري: على ليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة ووقع في رواية مسلم بنخل بلا هاء والصواب إثباتها، انظر: "فتح الباري" / 674. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 30، و"تفسير مجاهد" ص 603، و"تنوير المقباس" ص 506 و"تفسير مقاتل" 4/ 27، و"الدر المنثور" 7/ 452، و"تفسير الوسيط" 4/ 115.

وقال آخرون: بل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر الجِنَّة ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفر من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، وهذا معنى قول قتادة (¬1)، واختلفوا في عدد النفر، فقال ابن عباس: كانوا سبعة (¬2)، وقال الكلبي ومقاتل (¬3): كانوا تسعة، وهو قول زر بن حبيش (¬4)، وقوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} من صفة النكرة، وهذا يدل على أنهم أتوا لاستماع القرآن؛ لأن المعنى: نفرًا مستمعين القرآن، أي طالبين سماعه، فهذا يدل على صحة القول الثاني. قوله تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} إن عاد الضمير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو من تلوين الخطاب، وإن عاد إلى القرآن وهو الظاهر، فالمعنى: فلما حضروا استماعه (¬5) قالوا: انصتوا، قال زر بن حبيش: قالوا صَهٍ (¬6)، وهو كلمة الإسكات. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 7/ 388، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 212. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس، انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 30، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر: 4/ 115. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 506، و"تفسير مقاتل" 4/ 27، ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد لابن عباس، انظر: 7/ 106، ونسبه في "الوسيط" للكلبي ومقاتل، انظر: 4/ 115. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن زر بن حبيش، انظر: تفسيره 13/ 2/ 31، ونسبه الهيثمي في "مجمع الزوائد" لزر بن حبيش وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 106، وهو في "كشف الأستار" 3/ 68 عن زر. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 215، و"الدر المصون" 6/ 144. (¬6) أخرج ذلك الطبري عن زر. انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 33، وأخرجه الهيثمي في "كشف الأستار" عن زر. انظر: "كشف الأستار" 3/ 68.

30

قال ابن عباس والمفسرون: قال بعضهم لبعض اسكتوا (¬1)، وذلك أنهم ازدحموا وركب بعضهم بعضًا حبًا للقرآن وحرصاً عليه، قال ابن مسعود: لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن ليلة الجن غشيته أسودة كثيرة (¬2). قوله تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ} قال أبو إسحاق: أي فلما تلى عليهم القرآن حتى فرغ منه (¬3). {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} قال ابن عباس: يريد بما أمرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من توحيده وفرائضه وأحكامه (¬4). والمعنى: أن هؤلاء الذين استمعوا القرآن انصرفوا إلى قومهم بعد الاستماع محذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا، وهذا يدل على أن هؤلاء آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يؤمنوا لم يخبر عنهم بإنذار قومهم، ولهذا قال مقاتل في تفسير (منذرين): مؤمنين (¬5). 30 - ثم أخبر عنهم بما قالوا لقومهم وهو قوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} يعنون القرآن، قال مقاتل: وكانوا مؤمنين بموسى (¬6). 31 - قوله تعالى: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} قال ابن عباس والمفسرون: ¬

_ (¬1) ذكر المعنى من غير نسبة البغوي في "تفسيره" 75/ 269، والقرطبي في "الجامع" 16/ 215. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 212. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 447. (¬4) أخرج الطبري عن ابن عباس يقول: انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 33. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 27. (¬6) المرجع السابق.

32

يعنون محمداً -صلى الله عليه وسلم- قالوا: وهذه القصة تدل على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم-كان مبعوثًا إلى الجن كما كان مبعوثًا إلى الإنس (¬1) (¬2). قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيًا إلى الإنس والجن قبله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). 32 - وقوله: {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس ومقاتل يقول: لا يعجز الله فيسبقه ويفوته، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أنصار يمنعونه من الله {أُولَئِكَ} يعني: الذين لا يجيبون إلى الإيمان {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قال مقاتل: فأقبل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجن الذين أنذروا سبعون رجلاً فقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم (¬4). واختلفوا في حكم مؤمني الجن؛ فروى سفيان عن ليث قال: الجن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم (¬5)، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم قالوا: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، وتأولوا قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 270، و"زاد المسير" 7/ 390، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 217، و"تفسير ابن كثير" 6/ 304، و"تفسير الوسيط" 4/ 115. (¬2) ومما يدل على ذلك بما ورد في "صحيح مسلم" كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 370، من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيت خمساً لم يطهن أحد قبلي .. ". وذكر منها: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود". قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 217. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 30، و"تفسير الوسيط" 4/ 115. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 28 (¬5) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 120 أ، وأورده البغوي في تفسيره 7/ 270. (¬6) ذكر ذلك البغوي في تفسيره 7/ 270، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 217.

33

وذهب قوم إلى أنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون بالإحسان، وهو مذهب مالك وابن أبي ليلى (¬1) قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون (¬2). 33 - قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} قال مقاتل (¬3): نزلت في أبي بن خلف الجمحي حين أنكر البعث، وقد مضت القصة في آخر سورة يس [آية: 77] (¬4). واختلفوا في وجه دخول الباء في قوله: {بقادر} وهو خبر (أن) والباء لا تدخل في خبرها، فقال أبو عبيدة: مجازها قادر، والعرب تؤكد الكلام بالباء وهي مُسْتغنًى عنها (¬5). وقال الأخفش: هذه الباء كالباء في قوله: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [يونس: 29] وقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬6) [المؤمنون: 20] فعلى قولهما الباء زائدة مؤكدة. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره. انظر: 10/ 120 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 270، والقرطبي في "الجامع" 16/ 218. (¬2) أخرج ذلك الثعلبي عن الضحاك. انظر المراجع السابقة. وقال ابن كثير في تفسيره: والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل لهذا بقوله -عز وجل-: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}، وفي هذا الاستدلال نظر. وأحسن منه قوله جل وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .. 6/ 305. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 30. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "تفسيره" 12/ 30، وأورده الواحدي في "أسباب النزول" ص 385، والبغوي في "تفسيره" 7/ 28. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 213. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 694.

وقال الفراء: دخلت الباء لِلَم، والعرب تدخلها مع الجحد مثل قولك: ما أظنك بقائم، وما أظن أنك بقائم، وأنشد: فَما رَجَعَتْ بخاَئِبةٍ رِكَابُ ... حَكِيمُ بنُ المسَيَّبِ مُنْتهَاها (¬1) وهذا مذهب الكسائي (¬2)، ونحو هذا قال الزجاج، وزاد بيانًا فقال: لو قلت: ظننت أن زيدًا بقائم، لم يجز ولو قلت: ما ظننت أن زيدًا بقائم، جاز بدخول (ما) قال ودخول (إن) إنما هو توكيد الكلام فكأنه في تقدير: أليس الله بقادر على أن يحيى الموتى (¬3). وزاد أبو علي شرحًا فقال: هذا من الحمل على المعنى، وأدخل الباء لما كان الكلام في معنى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} [يس: 81]. قال: ومثل ذلك من الحمل على المعنى: بَادَتْ وغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ البِلَى ... إلاَّ رَوَاكدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاءُ (¬4) ومُشَجَّجٌ أمَّا سَواءُ قَذَاله ... فبدا وغيب سَارَه المَعْزَاءُ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 56، 57، وانظر: "مغني اللبيب" 1/ 94، و"تفسير الطبري" 13/ 2/ 35، وانظر: "الجنى الداني في حروف المعاني" للمرادي ص 55، وقد نسبه: للقحيف العقيلي. وانظر: "بصائر ذوي التمييز" للفيروزابادي 2/ 195. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 174. (¬3) انظر:"معاني القرآن" للزجاج 4/ 447. (¬4) معنى بادت: تغيرت وبليت، أي: غير البيود آيهن، والآي: جمع آية، وهي آثار الديار وعلاماتها، والبلى: تقادم العهد، والرواكد: الأثافي لركودها وثبوتها، والهباء: الغبار جعل الجمر كالهباء لقدمه وانسحاقه. (¬5) هذا موضع الشاهد والمشجج: الوتد من أوتاد الخباء وتشجيجه: ضرب رأسه لتثبيته، والقذال: عني به أعلى الوتد وهو من الدابة معقد العذار بير الأذنين وسواؤه: وسطه، وساره: سائره أي جميعه، وهي لغة في سائره. والمعزاء: =

35

لما كان معنى الكلام: بها رواكد، حمل مشجج على ذلك (¬1). 35 - قوله: {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} تفسير العزم قد تقدَّم ذكره [البقرة:227، وآل عمران: 159] قال ابن عباس في رواية عطاء وأبي صالح: يريد نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، ونحو هذا روى معمر عن قتادة (¬2). وقال أبو العالية: هم ثلاثة: نوح وإبراهيم وهود، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رابعهم (¬3). وقال الحسن: هم أربعة إبراهيم وموسى ودواد وعيسى، أما إبراهيم فإنه ابتلي في نفسه وولده ووطنه فوجد صادقًا، وأما موسى فإنه عزم ولم يشك حين قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61]. وأما داود فإنه لما نُبِّهَ على زلته بكى أربعين سنة، وأما عشى فإنه لم يضع في الدنيا لبنة على لبنة (¬4). ¬

_ = الأرض الحزنة الغليظة ذات الحجارة جمعها الأماعز، وكانوا ينحرون النزول في الصلابة ليكونوا بمعزل عن السيل، والشاهد فيه رفع مشجج على المعنى. والبيتان لذي الرمة وقيل للشماخ. انظر: ملحقات "ديوان ذي الرمة" 3/ 184، و"ديوان الشماخ" ص 428، و"الكتاب" لسيبويه 1/ 173، و"اللسان" (شجج) 2/ 304. (¬1) انظر: "الحجة" لأبي علي 5/ 313، 6/ 187. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن عطاء 13/ 2/ 37، وانظر: "تفسير الماوردي" 5/ 288 , و"البغوي" 7/ 272، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 219، و"تفسير الوسيط" 4/ 116. (¬3) نظر: "تفسير الماوردي" 5/ 288، و"زاد المسير" 7/ 392، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 220، و"تفسير أبي الليث السمرقندي" 3/ 237. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 121 ب. و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 221، عن الحسن، وانظر: تفسير الحسن 2/ 286.

وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح (¬1)، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر على البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر (¬2). وقال الكلبي: هم أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين (¬3)، فهذا قول المفسرين في تفسير أولي العزم من الرسل. وأما أهل المعاني والمحققون من العلماء فإنهم قالوا: كل الرسل أولو العزم، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. و (من) في قوله: (من الرسل) تبيين لا تبعيض (¬4) كما يقال: أكسية من الخز، وكأنه قيل له: اصبر كما صبر الرسل قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم لصبرهم ورزانتهم. وهذا قول ابن زيد (¬5) وذكره الكلبي فقال: ويقال كل الرسل قد كان ذا عزم (¬6). ¬

_ (¬1) هذا على القول بأن الذبيح إسحاق لا إسماعيل، وهو قول ضعيف. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 31، 32، و"الثعلبي" 10/ 121 ب، و"البغوي" 7/ 272. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 121 أ، و"تفسير البغوي" 7/ 271، عن الكلبي، و"تفسير الوسيط" 4/ 116. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 121 أ، و"وضح البرهان في مشكلات القرآن" 2/ 298، و"تفسير البغوي" 7/ 271 (¬5) أخرج ذلك الطبري عن ابن زيد. انظر: تفسيره 13/ 2/ 37، و"تفسير الثعلبي" 10/ 121 أ، و"تفسير البغوي" 7/ 271. (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 121 أ، و"تنوير المقباس" ص 506.

وقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} قال ابن عباس: يريد العذاب، ومفعول الاستعجال محذوف من الكلام، وهو ما ذكره ابن عباس (¬1)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ضجر بعض الضمير وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر أن ذلك منهم قريب (¬2) بقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} أي: من العذاب في الآخرة: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وقال الكلبي: لم يمكثوا في القبور إلا ساعة (¬3)، وقال مقاتل: لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار (¬4)، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من النهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا؛ ولأن الشيء إذا مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً ألا تسمع قول القائل: كأنَّ شيئًا لم يَكُنْ إذا مَضَى ... كأنَّ شيئًا لم يَزَل إذا أَتَى (¬5) وتم الكلام (¬6) ثم قال: {بَلَاغٌ} أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم كما قال: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52] الآية، والبلاغ بمعنى التبليغ، وهذا مذهب المفسرين والقراء، من أن قوله (بلاغ) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 37، و"تفسير الثعلبي" 122/ 10 ب، و"تفسير البغوي" 7/ 272، فقد ذكروا المعنى ولم ينسبوه لابن عباس. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 22، و"زاد المسير" 7/ 393، و"تفسير الوسيط" 4/ 117. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 289، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 222، وقد نسبا القول للنقاش. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 32، و"تفسير الطبري" 13/ 2 / 37. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "القطع والائتناف" ص 664.

ابتداء كلام آخر (¬1) , وقال مقاتل في قوله (بلاغ) يقول: كأنهم تبلغوا فيها، والبلاغ على هذا القول بمعنى التبليغ (¬2)، والمعنى: أن طول لبثهم في الدنيا كأنه تبلغ. والقول هو الأول. قوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: العاصون الخارجون عن أمر الله. يعني: أن العذاب لا يقع إلا بهم فيما بلغهم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الله، ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية (¬3). قال أبو إسحاق تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وتفضله إلا القوم الفاسقون (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 12 ب، و"تفسير البغوي" 7/ 273، و"زاد المسير" 7/ 393، و"القطع والائتناف" للنحاس ص 664، و"النشر في القراءات العشر" ص 482. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 32. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 448، و"تفسير البغوي" 7/ 273، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 222، و"تفسير الوسيط" 4/ 117. (¬4) انظر:"معاني القرآن" للزجاج 4/ 448.

سورة محمد

سورة محمد

1

تفسير سورة محمد بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الَّذِينَ كَفَرُوا} قال مقاتل: بتوحيد الله (¬1) {وَصَدُّوا} الناس {عَنْ سَبِيلِ اللهِ}، قال ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد: يريد مشركي قريش أهل مكة، وما فعلوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه (¬2)، وقال في رواية الكلبي: يعني المطعمين ببدر وهم اثنا عشر رجلاً (¬3). وذكر مقاتل أسماءهم، أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبي وأمية ابنا خلف ومنبه (¬4) ونبيه (¬5) ابنا الحجاج، وأبو البختري بن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 48. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 39 عن مجاهد، وانظر: "الجامع" للقرطبي 16/ 223. (¬3) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 239، "تنوير المقباس" ص 506. (¬4) هو: منبه بن الحجاج السهمي نديم جاهلي من أشراف قريش في الجاهلية وزنادقتها, قتله أبو قيس الأنصاري في وقعة بدر. "المحبر" ص 161، "طبقات ابن سعد" 2/ 18، "الأعلام" 7/ 289. (¬5) نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة السعدي السهمي القرشي أبو الرزام شاعر من ذوي الوجاهة في قريش قبل الإسلام، قتل في وقعة بدر. "خزانة البغدادي" 3/ 101، "المحبر" 160، "الأعلام" 8/ 8.

2

هشام (¬1) وزمعة بن الأسود (¬2) وحكيم بن حزام والحارث (¬3) بن عامر بن نوفل. قوله تعالى: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} قال الكلبي (¬4) ومقاتل (¬5): أبطلها لأنها كانت في غير إيمان، يعني إطعامهم الطعام وصلتهم الأرحام. قال أبو إسحاق: أحبطها فلا يرون في الآخرة لها ثواباً (¬6) والمعنى: أنها تفسير كأن لم تكن، من قول العرب: ضل اللبن في الماء. وقال عطاء: يريد أضل كيدهم الذي كادوا به النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬7). 2 - قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال مجاهد عن ابن عباس: يعني: الأنصار (¬8). وقال الكلبي: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬9). ¬

_ (¬1) هو: العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى قتل يوم بدر، قيل قتله عمر وقيل غيره، وهو من المستهزئين وممن عمل على شق الصحيفة. انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 375، "تاريخ الطبري" 2/ 336، "طبقات ابن سعد" 2/ 18. (¬2) هو: زمعة بن الأسود بن عبد يغوث بن عبد الملك بن أسد أحد زعماء قريش في الجاهلية. انظر: "الكامل" لابن الأثير 2/ 61، "سيرة ابن هشام" 1/ 315، "طبقات ابن سعد" 2/ 18. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 43، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 223. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 507. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 43. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 5. (¬7) أورد الثعلبي هذا القول ونسبه للضحاك. انظرت "تفسيره" 10/ 123 أ، وكذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 277، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 223. (¬8) أخرج ذلك الطبري 13/ 2/ 39، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 224. (¬9) انظر: "تنوير المقباس" ص 507.

وقال مقاتل: نزلت في بني هاشم وبني المطلب (¬1). قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قال المبرد: البال الحال في هذا الموضع، وقد يكون في غير هذا القلب، يقول القائل: ما يخطر هذا على بالي، أي: على قلبي (¬2)، قال مجاهد عن ابن عباس: أي: حالهم في الدنيا (¬3)، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: شأنهم (¬4)، وذكرهما الكلبي فقال: حالهم وشأنهم (¬5)، وقال مقاتل: زين أمرهم في الإسلام (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد عصمهم أيام حياتهم (¬7)، وهذا تفسير حسن مبينٌ لما أجمله المفسرون من إصلاح الأمر والشأن والحال، وقد علم أن الله لم يرد بذلك إعطاء المال والثروة؛ لأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا مياسير ذوي [ذروه (¬8)] وإنما المراد بهذا الإصلاح، إصلاح الأعمال ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 43. (¬2) ذكر قول المبرد هذا النحاس في "إعراب القرآن" 4/ 178، والقرطبي في "الجامع" 16/ 224، المؤلف في "الوسيط" 4/ 118. (¬3) أخرج الطبري عن قتادة وابن زيد قال: حالهم في الدنيا، انظر: 13/ 2/ 39. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس ومجاهد 13/ 2/ 39، ونسبه الماوردي في "تفسيره" لمجاهد 5/ 291، ونسبه القرطبي 16/ 224 لمجاهد وغيره. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 507. (¬6) الذي عند مقاتل: أصلح بالتوحيد حالهم في سعة الرزق 4/ 43. (¬7) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" عن ابن عباس قال: عصمهم أيام حياتهم يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا. انظر: "تفسير البغوي" 7/ 277. كما أورده بهذا النص أيضًا عن ابن عباس المؤلف في "الوسيط" 4/ 118. (¬8) كذا رسمها في الأصل، وهي إما أن تكون تصحيف: ثروة، أو يكون معناه: مأخوذ من ذروة الشيء، وهو آعلاه: أي لم يكونوا من ذوي الذروة وهي المنزلة العالية في الغنى والسعة في المال.

3

حتى لم يعصوا. 3 - ثم ذكر السبب في ذلك قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أي: ذلك الإضلال والإصلاح لاتباع الذين كفروا الباطل، قال ابن عباس: يعني الشرك (¬1)، وقال مقاتل: يعني عبادة الشيطان (¬2). قوله تعالى: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} قال ابن عباس: يعني التوحيد وتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3)، وقال مقاتل: يعني القرآن (¬4). {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} قال عطاء: يريد: فمصير الذين كفروا إلى النار، ومصير الذين آمنوا إلى الجنة (¬5). وقال مقاتل: يعني حين ذكر إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات المؤمنين (¬6). قال أبو إسحاق: أي كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين، أي كالبيان الذي ذكر، انتهى كلامه (¬7)، والضمير في (أمثالهم) يعود إلى الذين كفروا والذين آمنوا (¬8). ومعنى (أمثالهم): ما ذكر من إضلال أعمال أولئك الكفرة، فصار ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أبي الليث" السمرقندي 3/ 240، و"الجامع" للقرطبي 16/ 225. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 44. (¬3) قال القرطبي: الحق: التوحيد والإيمان ولم ينسبه انظر: "الجامع" 16/ 225. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 44. (¬5) لم أقف عليه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 44. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 6. (¬8) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 225، "الدر المصون" 6/ 146.

4

ذلك مثلاً لمن كان على مثل شأنهم وما ذكر من تكفير سيئات أولئك المؤمنين، فصار ذلك مثلاً لمن كان على مثل شأنهم، فمن كان كافراً أضل الله عمله، ومن كان مؤمناً كفَّر (سيئه)، هذا معنى قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}، وجائز أن يعود الضمير إلى الناس وهم الكفار والمؤمنون (¬1). ولما ذكر ما يعمل بالكفار علم المؤمنين كيف يصنعون بهم إذا لقوهم فقال: 4 - قوله تعالى (¬2): {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} قال أبو عبيدة: هذا كقول العرب: يانفس صبراً (¬3)، وقال الفراء: نصب على الأمر، والذي نصب به مضمر (¬4). قال أبو إسحاق: معناه: فاضربوا الرقاب ضرباً، منصوب على الأمر وتأويله: فاقتلوهم، ولكن أكثر مواضع القتل ضرب العنق، فأعلمهم الله كيف القصد، وليس يتوهم بهذا أن الضرب محصور على الرقبة فقط (¬5). قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} قال ابن عباس: أكثرتم القتل ومضى تفسير الإثخان (¬6) عند قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ} [الأنعام: 67] ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 6/ 146. (¬2) كذا نصها في الأصل. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 214. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 57. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 6. (¬6) قال الأزهري: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، قال أبو العباس: معناه: حتى إذا عليتموهم وقهرتموهم وكثر فيهم الجراح فأعطو بأيديهم. قال: وقال ابن الأعرابي: أثخن: إذا غلب وقهر وقال أبو زيد: يقال: أثخنت فلانًا معرفة: أي: قتلته معرفة، ورصنته معرفة: نحو الإثخان. انظر: "تهذيب اللغة" (ثخن) 7/ 334.

وقوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} قال ابن عباس والمفسرون: يريد الأسر يعني إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم، فالأمر بعد المبالغة في القتل (¬1) كما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] وأما الوثاق: فهو اسم من الإيثاق، وقد يوضع موضع المصدر يقال: أوثقه إيثاقًا ووثاقاً، ومنه قوله: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 26] والوِثاق بالكسر اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط (¬2). قال المفسرون: أمر الله تعالى بشد وثاق الأسارى كيلا يقتلوا ويهربوا (¬3)، فأمر أولاً بالقتل ثم بالأسر، ثم ذكر الحكم في الأسر بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قال أبو إسحاق: أي بعد أن تأسروهم إما مننتم عليهم منًّا، فأطلقوهم بغير عوض، وإما أن تفدوا فداء (¬4)، واختلف المفسرون في هذه الآية، فذهب كثير منهم إلى هذا الحكم، وهو المن والفداء منسوخ بالقتل، وهو قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهو قول مجاهد وقتادة والحسن ومقاتل والضحاك والسدي وابن جريج ورواية عطاء عن ابن عباس قالوا: إما السيف وإما الإسلام (¬5). ¬

_ (¬1) قال الزجاج: {أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل. فالأسر بعد المبالغة في القتل. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 6، وذكر هذا المعنى البغوي في "تفسيره" ولم ينسبه 7/ 278، وابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه 7/ 397، وقال السمرقندي: يعني: حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم فشدوا الوثاق يعني: فاستوثقوا أيديهم من خلفهم. انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 240. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (وثق) 9/ 266، "اللسان" (وثق) 10/ 371. (¬3) ذكر ذلك الطبري في "تفسيره" 13/ 2/ 40. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 6. (¬5) أخرج الطبري قول ابن جريج والسدي وقتادة وابن عباس والضحاك. انظر: =

وقال سعيد بن جبير: إذا أثخن بالقتل فادى ومنّ (¬1) وقال الشعبي: الأسير يمن عليه، أو يفادى، وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (¬2) قال في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] الآية قال: ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فجعل الله النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بالخيار في الأسارى إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادوهم (¬3) ونحو هذا روى المبارك بن فضالة عن الحسن. قال أبو عبيد (¬4): والقول عندنا هذا, ولم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان (¬5) عاملاً بهذه الأحكام التي أباحها له في الأسارى حتى توفاه الله على ذلك، ولا نعلمه نسخ شيء منها، بل كان يعمل بها على ما أراه الله من الأحكام التي أباحها له في الأسارى، وجعل الخيار والنظر فيها إليه حتى قبضه الله ¬

_ = "تفسيره" 13/ 2/ 41، وذكر القرطبي قول قتادة ومجاهد. انظر: "الجامع" 16/ 227، "تفسير البغوي" 7/ 278، وانظر: "النا سخ والمنسوخ" للنحاس 3/ 5، "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 466. (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 228. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 2/ 41، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 228، "تفسير البغوي" 7/ 278. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 41، "تفسير البغوي" 7/ 287. (¬4) انظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص 211. (¬5) كذا رسمها في الأصل ووردت كذلك في إحدى نسخ كتاب "الوسيط" للمؤلف وعند أبي عبيد بلفظ: (وذلك أنه كان عاملًا بالآبات كلها من القتل والفداء والمن حتى توفاه الله). ص 211.

على ذلك، لم ينسخ من أحكامهم شيء، والإمام مخير في الذكور والمذكورين منهم بين أربع خلال وهي: القتل والاسترقاق والفداء والمن، إذا لم يدخل ذلك ميل بهوى في العفو ولا طلب الذّحل (¬1) في العقوبة، ولكن على النظر للإسلام وأهله، هذا كلامه (¬2). ومذهب الشافعي رحمه الله مثل ما ذكر (¬3) في أحكام الأسارى من تخير الإمام في هذه الأربع الخلال في الأسارى الوثنية وفي أهل الكتاب (¬4)، يزيد حكم خامس؛ وهو: أخذ الجزية عنهم إذا قبلوها وإن كان بعد الأسر. قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} تفسير الأوزار ومأخذها من اللغة قد تقدم (¬5). ¬

_ (¬1) طلب الذحل: أي طلب الثأر. وقيل: وطلب مكافأة بجناية جنيت عليك أو عداوة أتيت إليك. انظر: "تهذيب اللغة" (ذحل) 4/ 465، "اللسان" (ذلل) 11/ 256. (¬2) الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 211 - 216. (¬3) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 158. (¬4) قال ابن قدامة: من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب: أحدها النساء والصبيان. فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقًا للمسلمين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل النساء والولدان، وكان عليه الصلاة والسلام يسترقهم إذا سباهم. الثاني: الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء: القتل، والمن بغير عوض، والمفاداة بهم، واسترقاقهم. الثالث: الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء: القتل أو المن والمفاداة ولا يجوز استرقاقهم، وعن أحمد جواز استرقاقهم وهو مذهب الشافعي. وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور. انظر: "المغني" لابن قدامة 13/ 44. (¬5) قال الفراء في قول الله جل وعز: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال: يريد آثامها وشركها حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم. انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 243، =

قال أبو إسحاق: (حتى) موصولة بالقتل والأسر، المعنى: فاقتلوهم وأسروهم حتى تفسع العرب أوزارها (¬1). قال ابن عباس في رواية عطاء: حتى لا يبقى أحد من المشركين (¬2)، يريد عبدة الأوثان. وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا الإسلام (¬3). وقال الحسن: حتى يعبد الله ولا يشرك به (¬4). وقال سعيد بن جبير: يعني خروج عيسى بن مريم (¬5)، ونحو هذا قال مقاتل: وقال: أراد بالأوزار الشوك (¬6)، وقال قتادة: حتى لا يكون شرك (¬7). وقال ابن حيان (¬8): حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وهذه الأقوال معناها واحد وهو ما ذكره الفراء فقال: (أوزارها) آثامها وشركها، والمعنى: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، قال: والهاء التي في (أوزارها) للحرب، وإنما يراد أوزار أهلها، وهم أهل الشرك خاصة كقولك: حتى تنفي الحرب ¬

_ = "اللسان" (وزر) 4/ 282. وقال ابن قتيبة: أجل الوزر: ما حملته فسمي السلاح. أوزارًا لأنه يحمل. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 409. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 6. (¬2) أورد هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه 7/ 397، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس انظر: 4/ 120. (¬3) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 397، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 228، و"تفسير الوسيط" 4/ 120. (¬4) انظر: "تفسير الحسن البصري" ص 288، "الدر المنثور" 7/ 459. (¬5) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 397، والقرطبي في "الجامع" 16/ 228، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 120. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 44. (¬7) أخرج ذلك الطبري عن قتادة انظر: "تفسيره" 13/ 42. (¬8) أي مقاتل بن حيان، ولم أقف عليه.

أوزارها، يريد أوزار المشركين (¬1) هذا كلامه. وتأويله: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين بأن يسلموا فلا يبقى دين غير الإسلام ولا يعبد وثن. والأوزار في هذا التفسير بمعنى الإجرام والآثام، وهذا المعنى موافق لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال" (¬2). قال أبو إسحاق: أي: اقتلوهم وأسروهم حتى يؤمنوا، فما دام الكفر فالجهاد والحرب قائمة أبداً (¬3). وذُكر في هذا المعنى وجهان آخران. أحدهما: أن معنى الأوزار هاهنا الأسلحة وآلات الحرب، وهو اختيار أبي عبيد (¬4) وابن قتيبة (¬5) واحتجَّا بقول الأعشى: وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوالاً وَخَيْلاً ذُكُورا (¬6) ففسر الأوزار بالرماح، قال ابن قتيبة: وأصل الوزر ما حملته، فسمي السلاح أوزاراً؛ لأنه يحمل، قال: والمعنى: حتى تضع أهل الحرب ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 57. (¬2) قطعة من حديث أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب 35، في الغزو مع أئمة الجور 3/ 40، كما أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" برقم 2367، عن أنس -رضي الله عنه- 2/ 143، وأورده الزيلعي في "نصب الراية" وقال: قال المنذري في مختصره: يزيد بن أبي نُشْبَة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: يزيد بن أبي نُشْبَة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان. انظر: "نصب الراية" 3/ 377. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 6. (¬4) انظر: قول أبي عبيد في "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 244. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 409. (¬6) انظر: "ديوان الأعشى" ص 71، "تهذيب اللغة" 13/ 244، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 409، "الدر المصون" 6/ 147، و"الجامع" 16/ 229.

السلاح، ثم يعود هذا إلى ما ذكره الفراء: حتى يسلموا أو يسالموا (¬1). الوجه الثاني: أن معنى الحرب هاهنا: القوم المحاربون، يقال: هؤلاء حرب لفلان، إذا كانوا يعادونه ويحاربونه. والتأويل: حتى يضع المحاربون لملة الإسلام السلاح والشرك والآثام بالسلم والإسلام (¬2)، وللحرب تأويلان وللأوزار تأويلان على [ذكرنا (¬3)]. قوله تعالى: {ذَلِكَ} قال أبو إسحاق: الأمر ذلك، قال: ويجوز أن يكون منصوباً على معنى: افعلوا ذلك (¬4). قوله تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد بغيركم (¬5). وقال مقاتل: لانتصر منهم بملك واحد (¬6)، والمعنى: إن الله تعالى قادر على الانتصار منهم بغيركم من الملائكة، أو يهلكهم ويعذبهم بما يشاء، {وَلَكِنْ} يأمركم بالحرب {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} قال ابن عباس: يريد مَنْ قُتِلَ من المؤمنين فمصيره إلى النعيم والثواب، ومن قُتِل من ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 57. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 279، و"زاد المسير" لابن الجوزي 7/ 397، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 229. (¬3) كذا في الأصل ولعل الصواب (على ما ذكرنا). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 7. (¬5) ذكر القرطبي قول ابن عباس لكن بلفظ: (لأهلكم بجند من الملائكة) 16/ 230. (¬6) هذا القول غير موجود في "تفسير مقاتل" عند هذه الآية انظر 4/ 44، وقد أورده السيوطي بلفظ: (لأرسل عليهم ملكًا فدمر عليهم) وعزاه لابن المنذر وابن جريج. انظر: "الدر المنثور" 7/ 461، ونسبه القرطبي لابن عباس بلفظ: "لأهلكهم بجند من الملائكة" انظر: "الجامع" 16/ 230.

المشركين فمصيره إلى العذاب، [وهو (¬1)] الذي ذكر ابن عباس هو معنى الابتلاء، وذلك أن الله تعالى ابتلى الفريقين أحدهما بالآخر ليثبت المؤمن ويكرمه بالشهادة، ويخزي الكافر ويذله بالقتل. وقال أبو إسحاق: أي ليمحص المؤمنين وليمحق الكافرين (¬2). قوله تعالى {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي جاهدوا المشركين. {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} يعني: كما يضل أعمال الذين كفروا في قوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، وقرأ أبو عمرو: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والوجه قراءة العامة؛ لأنها أعم من حيث إنها تشمل مَنْ قاتل ولم يقتل، ومن قاتل وقُتل وقد حصل للمقاتل الثواب كما حصل للمقتول، فكان أولى لعمومه. وعلى قراءة أبي عمرو يختص المقتول (¬3) بقوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} وحجة أبي عمرو (¬4) ما قال قتادة (¬5) ومقاتل (¬6): أن المراد بقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله) قتلى أحد من المؤمنين، غير أن قوله: ¬

_ (¬1) كذا رسمها, ولعل الصواب (وهذا) وانظر هذا القول في "الوسيط" 4/ 120. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 7. (¬3) هذا المحظور لا يرد على هذه القراءة. فالتعبير بـ (قتلوا) لبيان أن القتال مظنة القتل ولو لم يُقتل المقاتل فإنه كان معرضًا نفسه لذلك. وعليه فحتى على هذه القراءة لا يختص ما ورد فيها من مثوبة بمن قتل فحسب. وبذلك لا يعكر على "تفسيره" ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما-. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 6/ 190، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 276، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 666. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن قتادة انظر: "تفسيره" 23/ 44، وذكره عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 221، والبغوي في "تفسيره" 7/ 280. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" إلا أنه قال قتلى بدر 4/ 45، وقال أبو الليث السمرقندي قتلى يوم أحد وبدر. انظر: "تفسيره" 3/ 241.

5

5 - {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ينقض هذا القول، فإن ابن عباس قال: سيهديهم إلى أرشد الأمور ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا (¬1)، وهذا لا يحسن وصف المقتولين، وحمل أبو إسحاق إصلاح البال في الموضعين من هذه السورة على إصلاح أمر المعاش وحال الدنيا، وقال: أراد أنه يجمع له خير الدنيا والآخرة، واحتج بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 66] إلى قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وبقوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] إلى قوله: {أَنْهَارًا} (¬2) ويمكن أن يقال على قول قتادة ومقاتل [يعني (¬3)] الآية: سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح بالهم، وحالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم وما شاكل ذلك. 6 - وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: إذا دخلوا الجنة حياهم الله بما يحيون به، وأعطاهم ما أعطاهم، ثم يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم فيتفرقون إليها، فلهُم أعرفُ بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم (¬4). وقال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون، كأنهم ¬

_ (¬1) ذكر ذلك ابن الجوزي ونسبه لابن عباس ولم يذكر قوله: (ويعصمهم ...). انظر: زاد المسير" 7/ 398، وذكره المؤلف في "الوسيط" عن ابن عباس. انظر: 4/ 121. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 7. (¬3) في الأصل كتبت (يعني) ولعل الصواب (معنى). (¬4) أخرج الطبري عن مجاهد وابن زيد نحو هذه الرواية. انظر: "تفسيره" 13/ 2/ 44، وكذلك ذكر نحوه البغوي ونسبه لأكثر المفسرين. انظر: "تفسيره" 7/ 280، وكذلك ذكره القرطبي في "الجامع" 16/ 321 ولم ينسبه، وذكره في "الوسيط " ولم ينسبه انظر: 4/ 121.

ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً (¬1). هذا قول عامة المفسرين وأهل المعاني (¬2) وتلخيصه ما قال أبو عبيدة: (عرفها لهم): بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال (¬3)، على أن مقاتل بن حيان جعل هذا تعريفًا باستدلال، فإنه يقول: بلغنا أن الملك الذي وكل بحفظ عمل ابن آدم يمشي في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله في الجنة، فإذا دخل إلى منزله وأزواجه انصرف الملك عنه، فهذا تعريف بوساطة الملك (¬4)، والأول تعريف من قبل الله تعالى، وروي عن سلمة بن كهيل أنه قال: (عرفها لهم) طرقها (¬5) وعلى هذا التعريف واقع على الطرق إلى الجنة، على معنى: إن الله يعرفهم طرقها حتى يهتدوا إليها، ويكون التقدير: عرف طرقها لهم، فحذف المضاف (¬6). وقال الحسن: وصف الله الجنة في الدنيا لهم فإذا دخلوها عرفوها بصفتها (¬7). وعلى هذا القول هذا التعريف وقع في الدنيا. ويكون المعنى: ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "تفسيره" 13/ 44، وأورده الثعلبي في "تفسيره" 10/ 125 أ، وأورده البغوي في "تفسيره" 7/ 280. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 58، "تفسير غريب القرآن" لابن قتية ص 409، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 465. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 214. (¬4) ذكر ذلك أبو حيان في البحر المحيط ونسبه لمقاتل. انظر: البحر 8/ 75. وذكره الشوكاني مختصرًا ونسبه لمقاتل انظر: "فتح القدير" 5/ 31. (¬5) ذكر ذلك النحاس في "معاني القرآن" ونسبه لسلمة بن كهيل 6/ 466، وذكر معنى هذا القول الشوكاني في "فتح القدير" ولم ينسبه 5/ 31. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 231. (¬7) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" ونسبه للحسن 5/ 294، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 288، ونسبه القرطبي للحسن. انظر: "الجامع" 16/ 231.

يدخلهم الجنة التي عرفها لهم، واللام في (لهم) لام الأجل، وهذه الأقوال كلها من التعريف الذي هو واقع المعرفة. وروي عن ابن عباس قول آخر، قال عطاء: يريد طيبها لهم (¬1)، وهذا القول اختيار المؤرج (¬2) وأصحاب اللغة (¬3) وأصله من العَرْف وهو الرائحة الطيبة، وطعام مُعرّف، أي: مطيب، وأنشدوا قول الأسود بن يعفر: فَتُدخِلُ أيدٍ في خناجرَ أُقْنِعت ... لِعَادتِها من الخَزِيرِ المُعَرَّفِ (¬4) وعلى هذا معنى الآية: طيبها لهم بما خلق فيها من الروائح الطيبة، وقال بعض أهل المعاني: طيبها لهم بضروب الملاذ التي تتقبلها النفس تقبل ما تعرفه ولا تنكره (¬5)، وروى أبو العباس عن بعضهم في قوله: (عرفها لهم). قال: هو وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، وخزير معرَّف بعضه على بعض (¬6)، وعلى هذا القول هو من العُرْف المتتابع كعُرْف الفرس. ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره", ولم ينسبه 5/ 294، ونسبه في "الوسيط" لعطاء عن ابن عباس 4/ 121، وذكره البغوي ونسبه لعطاء 7/ 280. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 125 أ. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (عرف) 2/ 345. (¬4) البيت استشهد به ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ولم ينسبه ص 410، وهو في "تهذيب اللغة" منسوب للأسود بن يعفر 2/ 345، ومعنى أقنعت: مدت ورفعت للفم والخزير: الحساء من الدسم. وقد استشهد بالبيت الثعلبي في "تفسيره" ولم ينسبه 10/ 125 أ. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للنحاس 6/ 466، و"زاد المسير" 7/ 398، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 231. (¬6) أنظر: قول أبي العباس في "تهذيب اللغة" (عرف) 2/ 345، وفي "الجامع لأحكام القرآن" من غير نسبة 16/ 231.

7

7 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} قال أهل المعاني: إن تنصروا دين الله (¬1) ورسوله بالجهاد، إلا أنه أضيف النصر إلى الله تفخيماً لشأنه وتعظيماً وتلطفاً في الاستدعاء إليه كالتلطف في {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245] وقوله: {يَنْصُرْكُمْ} أي بالغلبة على عدوكم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} قال الكلبي ومقاتل: يعني عند القتال (¬2)، وقيل: علي الإسلام (¬3)، وروي عن ابن عباس على الصراط (¬4). 8 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} قال الكلبي: يعني: كفار قريش (¬5)، وقال قتادة: هي للكفار خاصة (¬6)، وهذا أشبه لأن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} يعم المؤمنين كلهم، كذلك ما بعده من حكم الكفار، ومعنى التَّعْس في اللغة: قال النضر: التعس: الهلاك. وتعس: هلك (¬7). وقال أبو الهيثم: تعس يتعس معناه: انكب وعثر فسقط على يديه، وأتعسه الله (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 180، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 232. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 507، "تفسير مقاتل" 4/ 45. (¬3) ذكر هذا القول والذي قبله الثعلبي في "تفسيره" ولم ينسبهما 10/ 125 أ، وكذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 232. (¬4) ذكر هذا القول القرطبي في "الجامع" ولم ينسبه 16/ 232، وكذلك ذكره الشوكاني مع القولين السابقين ولم ينسبها. انظر: "فتح القدير" 5/ 31. (¬5) قال في "تنوير المقباس": (أبطل حسناتهم ونفقاتهم يوم بدر) ص 507. (¬6) أخرج الطبري عن قتادة قال: هي عامة للكفار 13/ 46. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (تعس) 2/ 78. (¬8) انظر: "اللسان" (تعس) 6/ 32.

وقال أبو إسحاق: التعس في اللغة: الانحطاط والعثور (¬1). وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة: تعسه الله وأتعسه في باب فعَلت وأفعلت بمعنى واحد، قال شمر: لا أعرف: تعسه الله، ولكن يقال: تعس بنفسه وأتعسه الله، وذكر عن الفراء قال: يقال تَعَسْتَ، إذا خاطبت الرجل. فإذا صرت إلى أن تقول فَعَل قلت: تعِس بكسرالعين، قال شمر: وهكذا سمعته في حديث عائشة: تعس مسطح (¬2)، وأنكر شميل، وأبو الهيثم: تعس بكسر العين. قال ابن شميل: تقول العرب: تَعِسَ فما انتعش وشيكَ فلا انْتَقَشْ إذا دعيت (¬3) على إنسان، وأنشد (¬4) أبو الهيثم بيت الأعشى: فالتَّعْسُ أَدْنَى لهَا من أنْ أَقول لَعَا (¬5) قال: ولا يجوز تعس، ولو جاز لقال: فالتعس أدنى لها، هذا قول ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 8. (¬2) أخرج ذلك البخاري عن عائشة رضي الله عنها. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب التفسير باب 25، ومن سورة النور 5/ 332. (¬3) نص الحديث عند البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ..). انظر: "صحيح البخاري" كتاب الجهاد والسير، باب 70، الحراسة في الغزو في سبيل الله 3/ 222. (¬4) انظر: هذا النص من قوله: روى أبو عبيد عن أبي عبيدة في "تهذيب اللغة" (تعس) 2/ 78 وانظر: "اللسان" (تعس) 6/ 32. (¬5) انظر: "ديوان الأعشى" ص 105، و"تهذيب اللغة" (تعس) 2/ 79، "اللسان" (تعس) 6/ 32، والكشاف 3/ 454، وقال في مشاهد الإنصاف: يقال للعاثر لعا لك، دعاء له بالانتعاش وتعسًا لك دعاء عليه بالسقوط، يريد أنها لا تعثر ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها. انظر: "مثساهد الإنصاف على شواهد الكشاف" ص 76.

أهل اللغة في تفسير التعس وتعريفه. وأما المفسرون، فقال ابن عباس: يريد في الدنيا العثرة وفي الآخرة التردي في النار (¬1). وقال مقاتل: فنكسًا لهم. قال: ويقال: فخيبة لهم (¬2)، وهو قول الضحاك (¬3)، وقال أبو العالية: سقوطًا لهم (¬4)، وقال ابن زيد: شقاء (¬5). وقال ابن جرير: فخزياً وبلاء (¬6). وقال المبرد: فمكروهًا لهم وسوءًا قال: وإنما يقال هذا لمن دُعي عليه بالشر والهلكة (¬7). وأما إعراب الآية ونظمها فقال أبو إسحاق: (الذين) في موضع رفع على الابتداء ويكون: (فتعسًا لهم) الخبر (¬8)، قال صاحب النظم: موضع الفاء جزم على الجزاء؛ لأنه منسوق على قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وإنما جاء بالفاء في الجواب؛ لأن ذلك لم يوجبه عليهم إلا بشريطة الكفر، ¬

_ (¬1) ذكر ذلك أبو حيان في البحر منسوبًا لابن عباس لكن بلفظ: (في الدنيا القتل ..). انظر: البحر المحيط 8/ 76، وذكره البغوي في "تفسيره" ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" 7/ 281، ونسبه الزمخشري لابن عباس لكن بلفظ: (في الدنيا القتل وفي الآخرة التردد في النار). انظر: "الكشاف" 3/ 454. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 45. (¬3) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 281، والقرطبي في "الجامع" 16/ 232. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 125 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 281. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 125 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 281، والقرطبي في "الجامع" 16/ 232. (¬6) انظر: "جامع البيان" للطبري 13/ 45. (¬7) لم أقف على هذا القول. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 8.

9

وهذا الذي قال صاحب النظم قد تقدم شرحُه في مواضع، منها قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 274] إلى قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ} [البقرة: 184] {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ} [المائدة: 95] وانتصب (تعسًا) على الدعاء كما تقول: سقياً له ورعياً، على معنى: سقاه الله سقياً، ورعاه رعياً، كذلك هاهنا تعسهم الله تعساً على قول أبي عبيدة وعلى قول غيره: أتعسهم الله فتعسوا تعساً (¬1)، ولهذا التقدير عطف بقوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} على {فَتَعْسًا} لأن التقدير: فأتعسهم الله وأضل أعمالهم، قاله الفراء (¬2). 9 - قوله تعالى: {ذَلِكَ} أي: ذلك الإتعاس والإضلال {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال الفراء والزجاج: كرهوا القرآن ونبوة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسخطوا ما أنزل الله عليه (¬3)، وهذا معنى قول المفسرين (¬4). وقال سفيان وعمرو بن ميمون: كرهوا الفرائض (¬5) التي أنزل الله من الصلاة والزكاة. {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني: ما عملوا من شيء يريدون به الله؛ لأنها لم تكن في إيمان، ولا يقبل الله إلا من المتقين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (تعس) 2/ 79، "الدر المصون" 6/ 148. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 58. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 59، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 8. (¬4) انظر: "جامع البيان" للطبري 13/ 46، "تفسير السمرقندي" 3/ 242. (¬5) أورد ذلك السيوطي في "الدر المنثور" عن عمرو بن ميمون وعزاه لابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 7/ 462، ولم أقف على نسبته لسفيان. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 45، و"القرطبي" 16/ 233 فقد ذكر معنى هذا القول ولم ينسبه.

10

ثم خوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية فقال: 10 - قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} قال مجاهد: أمثال ما دمربه القرون الأولى، وعيد من الله لهم (¬1)، وقال مقاتل: وللكافرين من هذه الأمة أمثالها من العذاب (¬2). وقال عطاء: يريد لمن كذَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ما أصاب الأمم قبلهم، قال أبو إسحاق: أي: أمثال تلك العاقبة من الهلاك، فأهلك الله -عز وجل- بالسيف من أهلكه من كفار هذه الأمة (¬3)، هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية، وهو أن هذا الوعيد قد لحقهم. وقال مقاتل بن حيان في قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}: يعني: عذاباً ينزل من السماء يصيب قرناً ولم يكن بعد، وإنما حمله على هذا القول أن عذاب الذين كانوا من قبلهم نزل من السماء كالصيحة والرجفة والغرق، ولم يكن بيد المؤمنين، ولما قال الله تعالى: (أمثالها) حملها على ما ينزل من السماء كشأن ما قبلها من عذاب الأمم (¬4)، والصحيح هو الأول؛ لأن الله تعالى أراد أمثالها في الإهلاك والتدمير. 11 - قوله تعالى: {ذَلِكَ} قال مقاتل: ذلك النصر، يعني قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ثم ذكر سبب ذلك النصر فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "جامع البيان" 13/ 46، وأورد ذلك السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 463 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل": 4/ 45. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 8. (¬4) لم أقف على هذا القول.

12

آمَنُوا} (¬1)، قال ابن عباس: ناصر الذين صدقوا (¬2)، وقال مجاهد ومقاتل ابن حيان والكلبي: يعني: ولي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينصرهم على عدوهم (¬3). {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ} كفار قريش {لَا مَوْلَى لَهُمْ} لا ولي لهم ولا ناصر لهم. قال أبو إسحاق: المعنى ذلك بأن الله يتولى الذين آمنوا في هدايتهم والنصر على عدوهم، وبأن الكافرين لا ولي لهم ينصرهم من الله في هداية ولا في علو على المؤمنين (¬4). وقال غيره من أهل المعاني (¬5): المولى هو الجاعل نصرته على من أرادها له، وكل مؤمن فالله مولاه بنصره إياه، وكل كافر فلا مولى له ينصره من عقاب ربه فهو يُسَلَّمُ لهلاكه، ولهذا المعنى لا يقال: الله مولى الكافرين؛ لأنه لا يتولاهم. وقد روينا عن علي -رضي الله عنه- بإسناد أذكره في مسند التفسير إن شاء الله، قال الأبهري لابن الكوا: مَنْ رَبُّ الناس؟ قال: الله، قال: فمن مولى الناس؟ قال: الله، قال: كذبت، الله مولى الذين آمنوا والكافرين لا مولى لهم (¬6). ثم ذكر حال الكفار ومآلهم فقال: 12 - قوله تعالى: {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} قال ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 45. (¬2) ذكر هذا القول القرطبي في "الجامع" 16/ 234. (¬3) لم أقف على قول هؤلاء. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 8. (¬5) لم أقف على هذا القول. (¬6) ذكر ذلك المؤلف في "تفسيره الوسيط" 4/ 122.

13

ابن عباس: يريد في الدنيا، ويأكلون كما تأكل الأنعام (¬1)، قال الكلبي: الأنعام تأكل وتشرب ولا تدري ما في غد، وهكذا الكفار (¬2)، وقال مقاتل: يأكلون ولا يلتفتون إلى الآخرة، كما تأكل الأنعام ليس لها هَمّ إلا الأكل والشرب في الدنيا (¬3) {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} منزل ومقام ومصير ومأوى، كل هذا من ألفاظ المفسرين (¬4). ثم خوفهم ليحذروا فقال: 13 - قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} يعني: مكة {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} خرج الكلام على القرية والمراد أهلها، وهكذا ذكر المفسرون، قال ابن عباس: وكأين من رجال هم أشد من أهل مكة (¬5)، وقال أبو إسحاق: المعنى: وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك التي أخرجك أهلها (¬6)، يدل على هذا قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ} قال مقاتل: أي بالعذاب حين كذبوا رسلهم (¬7). {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} قال ابن عباس: فلم يكن لهم ناصر (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أورد هذا القول: الثعلبي في "تفسيره"، ولم ينسبه. انظر: 10/ 125 ب، وكذلك ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير", ولم ينسبه. انظر: 7/ 400. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 45 - 46. (¬4) انظر: "جامع البيان" للطبري 13/ 47، "تفسير السمرقندي" 3/ 242، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235. (¬5) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 282. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 9. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 46. (¬8) ذكر ذلك المؤلف في "الوسيط" عن ابن عباس. انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 122.

14

قال الفراء: ويجوز إضمار (كان) وإن كنت قد نصبت الناصر بالتبرية، قال: ويكون: (أهلكناهم فلا ناصر لهم) الآن، هذان وجهان ذكرهما الفراء في نظم الآية. أحدهما: إضمار كان. والآخر: أن يكون المعنى: فلا ناصر لهم الآن (¬1)، وأصح مما ذكر أن يقال: هذا على طريق الحكايه للحال الماضية عند الإهلاك، أي: كأن يقال فيهم عند إهلاكهم: لا ناصر لهم، كما ذكرنا في قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] وفي آيات سواها، ويدل على صحة هذا الوجه قوله: {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً}. ولا يقال فيها وهي مهلكة: هي أشد قوة، ولا يصح في هذا شيء من الوجهين الذين ذكرهما، وإنما يصح فيه الحكاية؛ أي: التي كان يقال فيها هي أشد قوة من مكة، ثم ذكر بُعْد ما بين المؤمن والكافر. 14 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} قال أبو إسحاق: هذه ألِفُ توقيف وتقرير؛ لأن الجواب معلوم (¬2). قال ابن عباس (¬3) ومقاتل (¬4) والكلبي (¬5): يريد على بيان من ربه ويقين من دينه وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- على شهادة أن لا إله إلا الله {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} يعني: عبادة الأوثان، وهو أبو جهل والكفار {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في عبادة الحجارة. 15 - ثم وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 59. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 9. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 235. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 46. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 508.

وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الآية، والكلام في معنى (مثل الجنة) وإعرابه قد مر في سورة الرعد [آية: 35] بأبلغ استقصاء. قوله تعالى: {الْمُتَّقُونَ} قال الكلبي ومقاتل: هم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتقون الشرك (¬1). قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} وتقرأ: أسن. بالقصر، روى أبو عبيد عن أبي زيد: أسَنَ الماءُ يأسِنُ أَسْنا وأُسُوناً، إذا تغير، وهو الذي لا يشربه أحدٌ من نتنه (¬2)، وكذلك: أسن الرجل يأسن، إذا غشي عليه من ريح خبيثة، وربما مات منها (¬3) وأنشد لزهير: يُغادِرُ القِرْنَ مُصْفَرَّاً أنامِلُه ... يَمِيْدُ في الرُّمْحِ مَيْدَ المائِحِ الأسِنِ (¬4) وهو الرجل الذي دخل بئراً فاشتد عليه ريحها حتى يصيبه دوار فيسقط، وقال المبرد: يقال أسن يأسِن أسَناً فهو آسِن وأسِن، وهو المتغير الرائحة وقياسه: حذر يحذر حذرًا فهو حاذر وحَذِر (¬5)، قال المفسرون في الآسن: هو المتغير المنتن (¬6) {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} قالوا: لا يحمض كما تتغير ألبان أهل الدنيا، وذلك أنها لم تخرج من ضروع الإبل ولا الغنم (¬7) {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} كقوله: {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 46، "تنوير المقباس" ص 508. (¬2) انظر هذا القول بنصه في "تهذيب اللغة" (أسن) 13/ 84، وانظر: "اللسان" (أسن) 13/ 16. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (أسن) 13/ 85، "اللسان" (أسن) 13/ 17. (¬4) انظر: "ديوان زهير" ص 121، و: تهذيب اللغة" (أسن) 13/ 84، "اللسان" (أسن) 13/ 17، "الحجة" 6/ 191، "الدر المصون" 6/ 150، "البحر المحيط" 8/ 70. (¬5) انظر: "الكامل" للمبرد 3/ 68. (¬6) انظر: "جامع البيان" 13/ 49، "تفسير الثعلبي" 10/ 126 أ، "البغوي" 7/ 282. (¬7) قال ابن جرير: لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع، ولكنه=

[الصافات: 46] وقد مر. قال ابن عباس: يريد لم تعصره الرجال (¬1). قوله: {مِنْ عَسَلٍ} العسل هو المستحلى من لعاب النحل، والعرب تسمي ما يستحلى عسلاً كصمغ العُرْفُط (¬2). وصقر الرطب (¬3). وأقرأني العروضي رحمه الله قال: أقرأني الأزهري قال: أخبرني عبد الملك (¬4) عن الربيع عن الشافعي، أنه قال: عسل النحل هو المنفرد بالاسم دون ما سواه، والعرب تؤنث العسل وتذكره، وتأنيثه في شعر الشماخ، والعاسل الذي يشتار العسل ومنه قول لبيد: وأرْي دُبُورٍ شارَه النحلَ عاسلُ (¬5) ¬

_ = خلقه الله ابتداء في الأنهار فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه. انظر: "تفسير الطبري" 13/ 49. (¬1) قال الثعلبي في "تفسيره": أي لم تدسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي. انظر: "تفسيره" 10/ 126 أ، ولم أقف على قول ابن عباس. (¬2) قال شمر: العُرْفُط: شجرة قصيرة متدانية الأغصان ذات شوك كثير، طولها في السماء كطول البعير باركًا, ولها وريقة صغيرة، تنبت بالجبال تَعْلقُها الإبل أي تأكل بفيها أعراض غِصَنَتِها. أبو عبيد عن الأصمعي: العُرْفُط: شجرة من العضاة. انظر: "تهذيب اللغة" (باب العين والطاء) 3/ 346. (¬3) قال الليث: والصَّقر: ما تَحلَّبَ من العنبِ والتمر من غير عصر. انظر: "تهذيب اللغة" (قصر) 8/ 364. (¬4) هو: عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الجرجاني الأستراباذي سمع من الربيع ابن سليمان وغيره، وقال الخطيب: كان أحد الأئمة ومن الحفاظ لشرائع الدين مع صدق وتيقظ وورع. توفي سنة 323 هـ انظر: "تاريخ بغداد" 10/ 428، "طبقات الشافعية الكبرى" 2/ 242، "تذكرة الحفاظ" 3/ 816. (¬5) عجز البيت في "تهذيب اللغة". (عسل) 2/ 94، "اللسان" (عسل) 11/ 445.

ويقال: عسلت الطعام أعسله، إذا جعلت فيه عسلاً (¬1)، قال ابن عباس: يريد لم يخرج من بطون النحل (¬2)، وذلك قوله: {مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} قال مقاتل: ليس فيها عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا (¬3). قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} قال أبو علي الفارسي: (من) زائدة للتوكيد (¬4) وأنشد قول ذي الرمة: تبَسَّمْنَ عن نَوْر الأقاحِي في الثَّرَى ... وفَتَّرنَ من أَبْصار مَضرُوجَةٍ كحْلِ (¬5) أراد وفترن أبصار مضروجة. قوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} قال أبو إسحاق: يغفر ذنوبهم ولا يجازون بالسيئات ولا يوبخون في الجنة فَيُهَنَّونَ الفوز العظيم والعطاء الجزيل (¬6). قوله {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} قال الفراء: لم يقل: أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار، ولكن هذا المعنى في ضمن هذا الكلام فبني عليه (¬7). وقال أبو إسحاق: المعنى: أفمن كان على بينة من ربه، وأعطي هذه ¬

_ (¬1) من بداية الحديث عن العسل. انظره بنصه في "تهذيب اللغة" (عسل) 2/ 93 - 94. (¬2) ذكر ذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 79. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 46. (¬4) انظر: "الدر المصون" 6/ 151، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 237، ولم أقف عليه عند أبي علي. (¬5) انظر: "ديوانه" ص 487. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 10. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 60.

الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار (¬1)، وعلى ما قال أبو إسحاق {كمَن} في هذه الآية: بدل من قوله: {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} واختار صاحب النظم قول الفراء، وقال: الكاف في قوله: {كَمَن} تدل على مبتدأ قبله، ولم يجر له ذكر، وإنما جرى ذكر الجنة وصفتها، فكأنه -عز وجل- قال: أفمن هو في الجنة كمن هو خالد في النار، فدل الجواب على الابتداء (¬2). قوله تعالى {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} قال مقاتل: ماء شديد الحر تستعر عليهم جهنم، فهي تغلي منذ خلقت السموات والأرض، فقطع أمعاءهم في الجوف من شدة الحر (¬3). وروى أبو أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره" (¬4). قال ابن عباس: وهذه الآية كقوله (¬5): {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 19] ونحو هذه الآية قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17] الآية، وقوله: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] الآية، وواحد الأمعاء: مِعَى، ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 10. (¬2) انظر: "تفسير ابن عطية" 15/ 60، "الدر المصون" 6/ 151. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 47. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن أبي أمامة. انظر: "تفسيره" 13/ 50، "تفسير الوسيط" 4/ 123، وأخرجه الحاكم عن أبي أمامة. انظر: "المستدرك"، كتاب التفسير، تفسير سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- 2/ 457، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬5) لم أقف عليه.

16

مثل ضِلَع. وتثنيته: معيان، وهو جميع ما في البطن من الحوايا (¬1). 16 - قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} قال ابن عباس والمفسرون: يعني المنافقين يستمعون خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، وكان يعرض بالمنافقين ويعيبهم، فإذا خرجوا من المسجد قالوا لأولي العلم من الصحابة: ماذا قال آنفاً، وذلك قوله: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬2). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنت فيمن سئل، يعني أنه من الذين ذكرهم الله في قوله: (قالوا للذين أوتوا العلم) (¬3). وروى عطاء عن ابن عباس: يريد عبد الله بن مسعود، وهو قول ابن بريدة (¬4) ومقاتل (¬5). قوله: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي: ماذا قال الساعة، ويعني الآنف من الائتناف، وهو الابتداء يقال: ائتنفت الكلام ائتنافاً، أي: ابتدأته. قال: ذلك أبو زيد، والاستئناف أيضًا بهذا المعنى، وهما من الأنف وهو أول كل شيء يقال هذا ثم أنف العدو، وأنف البرد، وأنف المطر، أي: أوله (¬6)، قال امرؤ القيس: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 283، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 237. (¬2) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 243، "تنوير المقباس" ص 508. (¬3) خرج ذلك الطبري. انظر: "تفسيره" 13/ 51، والحاكم في "المستدرك" 2/ 457 وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" كتاب التفسير تفسير سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 298، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 238. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 47. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (أنف) 15/ 482، "اللسان" (أنف) 9/ 14.

قد غَدَا يَحْمِلُنِي أَنْفِهِ ... لاحِقُ الأيْطَلِ مَحْبُوكٌ مُمَرْ (¬1) أي: في أول جريه، ومن هذا أنف الجبل، وأنف الإنسان، وأنف خف البعير، وقال أبو علي الفارسي: و (آنفا) من أنف، أي ابتدأ وهو غير مستعمل، وإن كان القياس يوجبه، وقد يجيء اسم الفاعل على ما لم يستعمل من الفعل نحو: فقير، جاء على فَقره، والمستعمل افتقر، وكذلك شديد، والمستعمل اشتد، فكذلك قوله: آنفاً، والمستعمل ائتنف (¬2). وروى أحمد بن موسى بإسناده عن ابن كثير من طريق البزي: (أنِفاً) بالقمر (¬3)، وهذا يحمل على أنه توهمه، مثل: خادر وخدر، وفاكه وفكه، والوجه قراءة العامة، ويدل عليه قول الشاعر: ويحرُمُ سِرُّ جَارَتِهم عليهم ... ويَأْكُلُ جَارُهُم أُنُفَ القِصَاعِ (¬4) يريد: أنهم يؤثرونه بأفضل الطعام وأوله لا البقايا، وأُنُف جمع أَنْف بالمد، مثل: قَاتِل وقُتُلٍ، وبازلٍ وبُزُلٍ (¬5). وذكر المفسرون في وجه سؤال المنافقين قولين: أحدهما: أنهم سألوا استهزاء منهم وإعلاماً أنهم لم يستمعوا إلى كلامه ولم يلتفتوا إلى ما قال، وهذا اختيار الزجاج (¬6)، القول الثاني: أنهم سمعوا كلامه ولم ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (أنف) 15/ 482، "اللسان" 9/ 14. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 193. (¬3) انظر: "الحجة" 6/ 192، "التذكرة في القراءات" لابن غلبون 2/ 683. (¬4) البيت للحطيئة. انظر: "ديوانه" ص 62، "لسان العرب" (أنف) 9/ 13، و"الزاهر" 2/ 312. (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 194. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 10، "تفسير الماوردي" 5/ 298، و"زاد المسير" 7/ 402.

17

يفقهوه، فلذلك سألوا (¬1). قال مقاتل: وقد سمعوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يفقهوه (¬2)، وعلى هذا دل كلام ابن عباس في رواية عكرمة قال: كان المنافقون إذا جلسوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرجون فيقولون: ماذا قال آنفاً (¬3) ليس معهم قلوب، وعلى هذا دل سياق الآية، وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال مقاتل: ختم على قلوبهم بالكفر فلا يعقلون الإيمان {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في الكفر (¬4) والنفاق. 17 - ثم ذكر المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} قال الكلبي: يعني أهل الإسلام (¬5). {زَادَهُمْ} أي: زادهم الله هدى. قاله عطاء عن ابن عباس (¬6)، وقال أبو صالح عنه: والذين اهتدوا بالمنسوخ زادهم الله هدى بالناسخ (¬7)، ويجوز أن يكون المعنى: زادهم الناسخ هدى. وقال مقاتل بن سليمان: والذين اهتدوا من الضلالة زادهم الله هدى ¬

_ (¬1) "تفسير الماوردي" 5/ 298، و"زاد المسير" 7/ 402. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 47. (¬3) ذكر أبو حيان في البحر المحيط قريبًا من ذلك ولم ينسبه. انظر: "البحر المحيط" 8/ 79، وكذلك ذكر نحوه ابن كثير في "تفسيره" 6/ 316. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 47. (¬5) قال الثعلبي في "تفسيره" 10/ 127 أ: يعني المؤمنين. وقال في "تنوير المقباس" ص 508: والذين اهتدوا بالإيمان. (¬6) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" من غير نسبة. انظر 7/ 403، وكذلك ذكره من غير نسبة القرطبي في "الجامع" 16/ 239. (¬7) ذكر نحوه القرطبي في "الجامع" 16/ 239.

بالحكم الذي نسخ الأمر الأول (¬1). وقال مقاتل بن حيان: والذين اهتدوا هم المؤمنون الذين كانوا يؤمرون بالأمر من طاعة ربهم فيعملون به، ثم ينسخه الله فيحولهم إلى غيره فيتحولون إلى ما يؤمرون به، فيأجرهم الله لما مضى ويزيدهم بتحويلهم عما كانوا أمروا به إلى الذي تحولوا إليه هُدًى مع هديهم (¬2). وذكر الفراء وأبو إسحاق في (زادهم هدى) وجهين آخرين؛ أحدهما: زادهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هدى. والثاني: زادهم ما قال الرسول آنفاً هدى (¬3). وقال الضحاك: كلما أتاهم من الله تنزيل فرحوا به، فزادهم الله به هدى (¬4). قوله تعالى: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} قال الكلبي: وألهمهم تقواهم (¬5). وقال سعيد بن جبير: وألهمهم ثواب تقواهم (¬6)، وذكر ابن حيان معنى القولين، فقال في معنى القول الأول: وفقهم للعمل بما أمروا به مما فرض عليهم، قال: ومنهم من يقول: آتاهم ثواب أعمالهم في الآخرة (¬7). ثم خوف كفار مكة بقرب الساعة، وأنها إذا أتت لم يقبل منهم شيء فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 47. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 61، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 11. (¬4) ذكر ذلك المؤلف في "تفسيره الوسيط" عن الضحاك. انظر 4/ 124. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 508، وأورده القرطبي 16/ 239 من غير نسبة. (¬6) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 127 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 283. (¬7) لم أقف عليه.

18

18 - قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} وتفسير هذا قد تقدَّم في آي كثيرة [الحج: 55, الزخرف: 66]، قال أبو إسحاق: موضع أن نصب على البدل من الساعة، المعنى: فهل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة، وهذا من البدل المشتمل على الأول في المعنى (¬1). ونحو هذا ذكر الفراء (¬2) والكسائي (¬3) وزاد المبرد بياناً فقال: (أن تأتيهم) بدل من الساعة والتقدير: فهل ينظرون إلا الساعة إتيانها بغتة، فإذا نحيت الساعة صار المعنى: فهل ينظرون إلا إتيان الساعة بغتة، وهذا كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] أي عن قتال في الشهر الحرام ومثله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25] إنما هو لولا أن تطؤوهم. قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} قال أبو عبيد: قال الأصمعي: هي علاماتها، قال: ومنه الاشتراط الذي يشترط الناس بعضهم على بعض، إنما هي علامات يجعلونها بينهم قال: ولهذا سميت الشُّرط لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. قال أبو عبيد: وقال غيره في بيت (¬4) أوس بن حجر: فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ ... وأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وتَوكَّلا (¬5) هو من هذا أيضًا، يريد أنه جعل نفسه علماً لهذا الأمر. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 11. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 61. (¬3) لم أقف على قولي الكسائي والمبرد. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (شرط) 11/ 309، "اللسان" (يشترط) 7/ 330. (¬5) انظر: المرجعين السابقين، "الدر المصون" 6/ 152.

وقال أبو سعيد: أشراط الساعة أسبابها التي هي دون معظمها وقيامها، قال: وأشراط كل شيء ابتداء أوله، ومنه يقال للدون من الناس: الشَّرَط لأنهم دون الذين هم أعظمهم وأنشد للكميت: وجدتُ الناسَ غيرَ ابْنَي نِزارٍ ... ولم أَذْمُمْهُم شَرَطاً وَدُونَا (¬1) قال الليث: والشرطان كوكبان، يقال إنهما قرنا الحمل، وهو أول نجم من نجوم الربيع، ومن ذلك صار أوائل كل أمر يقع أشراطُه (¬2)، وأكثر أهل اللغة على القول الأول: أبو عبيدة (¬3) والمبرد والزجاج (¬4) كلهم قالوا في الأشراط أنها الأعلام، ونحو ذلك قال المفسرون (¬5). وأنشد أبو عبيدة لابن المفرغ (¬6): وَشَريتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... من بعد بُرْدٍ كنتُ هَامَهْ وتَبِعْثُ عبد بَنِي عِلاَجٍ ... تِلكَ أَشْرَاطُ القِيامَهْ (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: ديوانه 2/ 111، "تهذيب اللغة" (شرط) 11/ 309، "المحتسب" لابن جني 1/ 89، "اللسان" (شرط) 11/ 331. (¬2) من قوله: قال أبو عبيد: قال الأصمعي .. إلخ. انظره بنصه في "تهذيب اللغة" (شرط) 11/ 209 - 210. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 215، وقول المبرد في "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 185. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 11. (¬5) انظر: "جامع البيان" للطبري 13/ 52، "تفسير الثعلبي" 10/ 127 أ "تفسير البغوي" 7/ 284. (¬6) هو: يزيد بن زياد بن ربيعة الملقب بمفرغ الحميري أبو عثمان شاعر غزل هو الذي وضع سيرة تبع وأشعاره وكان هجاء مقذعا وله مديح ونظمه سائر كانت وفاته حوالي 69 هـ. انظر: "خزانة البغدادي" 2/ 112، "الوفيات" 2/ 289، "الأعلام" 8/ 183. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" الأبي عبيدة 1/ 48، 304، وقد أورد البيت الأول فقط، =

وواحد الأشراط: شَرط بفتح العين، قال ابن عباس: أشراطها: معالمها (¬1)، يريد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشراطها، وقد قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" (¬2) "كفرسي رهان" (¬3). وقال الحسن: محمد من أشراطها (¬4)، وقال مقاتل: يعني أعلامها من انشقاق القمر والدخان، وخروج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد عاينوا هذا كله (¬5). قوله تعالى {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} قال أبو إسحاق: المعنى: فمن أين لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة، (ذكراهم) في موضع رفع بقوله: (فأنى) (¬6) قال ابن عباس: من أين لهم بالتوبة إذا جاءتهم الساعة (¬7). وقال مقاتل: في الآية تقديم، تقول: من أين لهم التذكرة والتوبة عند ¬

_ = وأورده أيضًا صاحب "اللسان" في مادة (شرى) 14/ 428. (¬1) ذكر ذلك الماوردي في تفسيره لكن بلفظ: (أوائلها) وعلق عليها المحقق، فقال: هكذا في الأصول ولعلها: أدلتها أي: أماراتها 5/ 299. (¬2) أخرج ذلك البخاري عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-. انظر: "صحيح البخاري" كتاب التفسير 6/ 79 تفسير سورة النازعات، وأخرجه مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الفتن، وأشراط الساعة، باب 27 قرب الساعة 3/ 2268 رقم 2951. وأخرجه البغوي في شرح السنة 15/ 98، ورقم 4294. (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في "المسند" عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-، انظر: "المسند" 5/ 331. (¬4) انظر: "تفسير الحسن" 2/ 289، و"تفسير ابن كثير" 6/ 317، و"الدر المنثور" 7/ 467. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 48. (¬6) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 11. (¬7) ذكر نحوه الثعلبي في "تفسيره" 10/ 127 أمن غير نسبة، وكذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 404، ونسبه لقتادة، ونسبه في "الوسيط" 4/ 124 لعطاء.

19

الساعة إذا جاءتهم وقد فرطوا فيها (¬1). وقال قتادة: يقول: أنى لهم أن يتذكروا ويتوبوا إذا جاءتهم الساعة (¬2). وقال الحسن: إذا جاءت الساعة لا تقبل منهم (¬3). قال الفراء: ومثله قوله (¬4): {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23]. 19 - قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} لم أر في هذا شيئاً أمثل مما قال أبو إسحاق، وهو أنه قال: المعنى: قد بينا ما يدل على أن الله -عز وجل- واحد فاعلم أنه لا إله إلا الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد علم ذلك ولكنه خطاب يدخل الناس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] والمعنى: من علم فليقم على ذلك العلم، كما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5] أي ثبتنا على الهداية (¬5)، هذا كلامه على أنه قد ذكر عن عبد العزيز بن يحيي أنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-: يضجر ويضيق صدره من طعن الكافرين والمنافقين فيه، فأنزل الله هذه الآية يعني: فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك على أحد سواه (¬6). ويجوز أن يكون قوله: (فاعلم) جواباً لقوله (إذا جاءتهم) له جوابان ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 48. (¬2) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 299، "زاد المسير" 7/ 404، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 241. (¬3) ذكر ذلك الهواري في "تفسيره" من غير نسبة. انظر 4/ 165، وكذلك ذكره الفخر الرازي 28/ 60. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 61. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 12. (¬6) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 127 أ.

أحدهما: سابق؛ وهو قوله: {فَأَنَّى لَهُمْ}، والآخر: (فاعلم)، ويكون المعنى على هذا: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا إله إلا الله، أي: في ذلك الوقت تبطل الممالك والدعاوى، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله ولا ملجأ إلى أحد إلا الله كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وهذا المعنى يروى عن سفيان بن عيينة وأبي العالية (¬1). قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الكلام في ذنبه -صلى الله عليه وسلم- يأتي في أول سورة الفتح إن شاء الله، قال أهل المعاني: وإنما أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستن ول أمته في الاستغفار (¬2)، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأستغفر في اليوم سبعين مرة" (¬3). قوله تعالى: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: ولذنوبهم، وهذا إكرام من الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة حين أمر نبيهم -صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لهم، وهو الشفيع المجاب، ثم أخبر عن علمه بأحوال الخلق ومآلهم بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} قال ابن عباس: متصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ومصيركم في الآخرة إلى الجنة أو النار (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير سفيان بن عيينة" ص 320، "تفسير الثعلبي" 10/ 127 ب، "تفسير البغوي" 7/ 285. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 127/ ب، والبغوي في "تفسيره" 7/ 285، والقرطبي في "الجامع" 16/ 242. (¬3) أخرج ذلك الترمذي عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن صحيح. انظر: "سنن الترمذي" كتاب: التفسير باب 48، ومن سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- 5/ 383، رقم 3259. وانظر: "الدر المنثور" 7/ 495 وقد، عزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان"، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 223. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 128 أوالبغوي في "تفسيره" 7/ 285، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 405، والقرطبي في "الجامع" 16/ 243.

20

وقال مقاتل: منتشركم بالنهار ومأواكم بالليل (¬1). وقال عكرمة: متقلبكم من الأصلاب إلى الأرحام ومقامكم في الأرض (¬2). وقال ابن كيسان: متقلبكم حيث تتقلبون فيه من ظهر إلى بطن ومقامكم في القبور (¬3)، والمعنى: أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. 20 - قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أن المؤمنين يسألون ربهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله يحرض فيها المؤمنين (¬4)، وقال في رواية الكلبي: كان المؤمنين إذا أبطأ عليهم الوحي اشتاقوا إلى نزوله فقالوا: هلا أنزلت سورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5)، والقول هو الأول: أنهم أحبوا أن ينزل سورة فيها ذكر القتال، ألا ترى أن الله تعالى قال: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} قال قتادة: كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة (¬6)، وهذا معنى ما روى عطاء عن ابن عباس في المحكمة أنها ما ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 48، "تفسير البغوي" 7/ 285، "زاد المسير" 7/ 405. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 127 ب، 128 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 7/ 286، "زاد المسير" 7/ 405، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 243. (¬3) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 280 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 286، والقرطبي في "الجامع" 16/ 243. (¬4) ذكر معنى هذا القول من غير نسبة الثعلبي في "تفسيره" 10/ 128 أ، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر: 4/ 126. (¬5) ذكر معنى هذا القول من غير نسبة الماوردي في "تفسيره" 5/ 300، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 405، والقرطبي 16/ 243، وانظر: "تنوير المقباس" ص 509. (¬6) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" 13/ 54، وأورده الماوردي في "تفسيره" 5/ 301، والثعلبي في "تفسيره" 10/ 128 أ، والبغوي 7/ 286.

أمر فيها بنصر نبي الله -صلى الله عليه وسلم-. وروي عن ابن عباس في المحكمة أنها التي لا ينسخ ما نزل فيها (¬1)، وهو اختيار الزجاج، قال معنى محكمة: غير منسوخة (¬2)، ونحو هذا قال الكلبي ومقاتل: إنها البينة بالحلال (¬3)، والأمر والنهي لا ينسخ. وقال عبد الله بن مسلم: سورة محكمة أي: محدثة، وسميت المحكمة محدثة؛ لأنها حين تنزل تكون كذلك حتى ينسخ منها شيء، يدل على صحة هذا أن في حرف عبد الله (فإذا أنزلت سورة محدثة وذكر فيها القتال) (¬4) قال المفسرون أي: فرض فيها الجهاد (¬5)، والمعنى: ذكر فيها فرض القتال، قاله الزجاج (¬6). قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] وقد مر، قال ابن قتيبة: يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون نظراً شديداً ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الماوردي 5/ 301 من غير نسبة. وكذلك ذكر هذا المعنى في "الوسيط" 4/ 126 ولم ينسبه. (¬2) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 12. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 509، وتفسير مقاتل 4/ 48. (¬4) انظر: "تأويل مشكل القرآن" 2/ 132، و"تفسير الطبري" 26/ 54. وذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 128 أ، والماوردي 5/ 300، وصرح أنه ابن مسعود، وذكره أيضًا ابن عطية في "تفسيره" 15/ 67، والقرطبي 16/ 243. (¬5) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 132، "زاد المسير" 7/ 405، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 243. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 12.

بتحديد وتحديق، كما ينظر الشاخص بصره عند الموت من شدَّة العداوة (¬1). وقال أبو إسحاق: إنما ذكر ذلك لأنهم منافقون يكرهون القتال؛ لأنهم إذا قعدوا عنه ظهر نفاقهم فخافوا على أنفسهم القتل (¬2). قوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ} فيه مذاهب ثلاثة: قال قتادة: هذا وعيد لهم وانقطع الكلام (¬3)، ونحو هذا قال مقاتل والكلبي (¬4)، واختاره الزجاج وابن قتيبة (¬5)، وهو قول أكثر أهل اللغة (¬6)، واختلفوا لم صارت هذه الكلمة للتهديد؟ فقال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: أولى لك، وليك وقاربك ما تكره وأنشد: فَعَادى بَينَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وأَوْلَى أَن يَزيدَ عَلَى الثَّلاثِ (¬7) أي: قاربك أن يزيد على الثلاث. قال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى لك) أحسن مما قال الأصمعي (¬8)، وأبو إسحاق يختار هذا القول، ويقول: المعنى: وليهم المكروه (¬9). قال أبو العباس: وقال غير الأصمعي: (أولى) يقولها الرجل لآخر ¬

_ (¬1) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 132. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 12. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 55 عن قتادف وذكره الماوردي في "تفسيره" 5/ 301. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 48، "تنوير المقباس" ص 509. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 12، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 411. (¬6) قال ذلك الطبري. انظر: "تفسيره" 13/ 55، وانظر: "تهذيب اللغة" (ولى) 15/ 448، "اللسان" (ولى) 15/ 411، "مقاييس اللغة" (ولى) 6/ 141. (¬7) انظر: المراجع السابقة، "الدر المصون" 6/ 153. (¬8) ذكر ذلك الأزهري في "تهذيب اللغة" (ولي) 15/ 448، وانظر: المراجح السابقة. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 12.

21

يحسِّره على ما فاته، ويقول له: يا محروم أي شيء فاتك (¬1). وقال صاحب النظم: (أولى) مأخوذ من الويل (¬2)، وللويل تصريف قد درج ولم يبق منه إلا الويل فقط وقد قال جرير: يَعْلَمْن بالأكْبارِ ويلاً وائلاً (¬3) فقوله: أولى أفعل من الويل، إلا أن فيه قلباً، وهو أن عين الفعل وضع موضع اللام. 21 - قوله: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} يرتفع بمحذوف، ورافعه إما قبله وإما بعده، فمذهب سيبويه (¬4) والخليل أن المعنى: طاعة وقول معروف أمثل، والمعنى على هذا: أن الله تعالى قال: لو أطاعوا وقالوا معروفاً كان أمثل وأحسن، وهذا اختيار الزجاج (¬5). وهو على حذف الخبر، ويجوز أن يقدر الحذف ابتداء على تقدير: أمر بالطاعة وقول معروف، وهذا قول المبرد (¬6)، واختيار ابن قتيبة وقال: هذا مختصر يريد قولهم قبل نزول القرض: سمع لك وطاعة (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الأزهري في "تهذيب اللغة" (ولى) 15/ 448، والقرطبي في "الجامع" من غير نسبة 16/ 244. (¬2) ذكر ذلك القرطبي 16/ 244، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 6/ 153. (¬3) الويل: قال الليث هو حلول الشر، والويلة: البلية والفضيحة، وأصل الويل في اللغة: الهلاك والعذاب، انظر: "تهذيب اللغة" (ويل) 15/ 455، "اللسان" (ويل) 11/ 737. ولم أعثر على هذا الشطر من البيت. (¬4) انظر: "الكتاب" 2/ 136. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 13، وقد نقل قولي سيبويه والخليل، كما ذكرهما أيضًا النحاس في "إعراب القرآن" 4/ 186، 187. (¬6) انظر: "الكامل" للمبرد 2/ 57. (¬7) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 132.

المذهب الثاني: أن الكلام تم سط قوله: (فأولى)، وهو تهديد على ما ذكرنا، ثم ابتدأ فقال لهم: (طاعة وقول معروف) (¬1)، وهو القول الحسن الذي يعرف حسنه وصحته، ويجوز على هذا القول أن يكون المعنى: للمنافقين طاعة وقول معروف باللسان، فإذا جد الأمر تبين كذبهم فيما قالوا بقعودهم عن نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يدل على صحة هذا سياق الآية فيما بعد. المذهب الثالث: أن الآية الثانية التي هي قوله: طاعة متصلة بالآية الأولى في المعنى، والتقدير: فأولى لهم طاعة وقول معروف، وهذا معنى ما روي عن عطاء عن ابن عباس (¬2): يريد كانت الطاعة أولى لهم، والمعنى على هذا: طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة أولى لهم، وهذا القول اختيار الكسائي (¬3). قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْر} قال ابن عباس ومجاهد (¬4) ومقاتل: جد القتال عن حقائق الأمور (¬5). وقال أبو إسحاق: جد الأمر ولزم فرض القتال (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 308، "الدر المصون" 6/ 154. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 286، وقد نسبه لابن عباس في رواية عطاء، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 244. (¬3) ذكر ذلك في "الوسيط" 4/ 126. (¬4) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" عن مجاهد 13/ 55، وذكره الماوردي في "تفسيره" من غير نسبة 5/ 301، والبغوي ولم ينسبه 7/ 286، وكذلك القرطبي في "الجامع" ولم ينسبه 16/ 244. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" لكنه قال: عند دقائق الأمور 4/ 48. (¬6) انظر: "معانى القرآن للزجاج" 5/ 13.

قال أبو الهيثم: (عزم الأمر) هو فاعل بمعنى مفعول، وإنما يُعْزَم الأمر ولا يَعْزِم والعزم لإنسان لا للأمر، قال: وهذا كقولهم: هلك الرجل، وإنما أهلك (¬1). وقال غيره: معنى عزم الأمر: انعقد الأمر بالإرادة أنه يفعله، فإذا عقد الأمر على أنه يفعل قيل: عزم الأمر (¬2) على طريق البلاغة. قال الفراء: معنى الآية: فإذا عزم الأمر نكلوا ولم يفعلوا (¬3)، ونحو هذا قال ابن قتيبة (فإذا عزم الأمر) أي: جاء الجد كرهوا ذلك، فحذف الجواب (¬4). وقال صاحب النظم قوله: (عزم الأمر) يقتضى جواباً ولم يذكر ذلك الجواب، فلما قال: (فلو صدقوا الله) كان هذا دليلاً على المضمر وهو أن يكون كذبوا (¬5) ومثله قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} وقد مر [الشعراء: 63]. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الأزهري في "تهذيب اللغة" (عز) 2/ 152، و"اللسان" (عزم) 12/ 400. (¬2) ذكر نحوًا من هذا ابن فارس في "مقاييس اللغة" (عزم) 4/ 358. (¬3) هذا القول لم أجده في معاني الفراء عند هذه الآية 3/ 62. قال السمرقندي في تفسيره: فإذا عزم الأمر يعني: وجب الأمر وجد الأمر، كرهوا ذلك. انظر: 3/ 244، وقال الشوكاني: عزم الأمر: جد الأمر أي جد القتال ووجب وفرض. قال المفسرون: معناه إذا جد الأمر ولزم وفرض القتال خالفوا وتخلفوا. انظر: "فتح القدير" 5/ 38. (¬4) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 133. (¬5) ذكر قريبًا من هذا المعنى البغوي 7/ 286، وابن الجوزي "زاد المسير" 7/ 406.

22

قوله: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} أي: في إيمانهم وجهادهم سمحوا بالطاعة والإجابة {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} من المعصية والكراهية، قاله ابن عباس (¬1). والمعنى: لكان الصدق خيراً لهم، فأضمر لدلالة صدقوا عليه. 22 - ثم قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} وقوله: {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد عن الإسلام (¬2)، وعلى هذا معنى الآية. قال أبو إسحاق: لعلكم إن توليتم عما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعودوا إلى أمر الجاهلية فتفسدوا ويقتل بعضكم بعضًا وتقطعوا أرحامكم أي: تئدوا البنات وتدفنوهن أحياء (¬3). وقال ابن قتيبة: أي إذا انصرفتم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تفسدوا يريد فهل تريدون إذا أنتم تركتم محمداً وما يأمركم به أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر والإفساد في الأرض وقطع الأرحام (¬4)، وعلى هذا القول كأن الله تعالى يذكر منته عليهم بالإسلام ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حين جمعهم به وأكرمهم بالإلفة بعد ما كانوا عليه في جاهليتهم من القتل والبغي وقطيعة الرحم، فيقول: لعلكم إذا كرهتم الإسلام والقرآن، تريدون أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه، والمراد بقطع الأرحام قتل بعضكم بعضاً، ويحتمل ما ذكره أبو إسحاق من الوأد. وفي الآية قول آخر قال الكلبي: إن توليتم إمرة هذه الأمة (¬5)، ويدل ¬

_ (¬1) ذكر نحوه الشوكاني في "فتح القدير" 5/ 38. (¬2) ذكر البغوي 7/ 287، وابن الجوزي 7/ 407 قريبًا من هذا المعنى، ولم ينسباه. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 13. (¬4) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 123. (¬5) ذكر ذلك القرطبى 16/ 245، وانظر: "تنوير المقباس" ص 509.

على صحة هذا التأويل ما روي في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن وُلِّيتُم (¬1)، ومن قال بهذا القول قال: المراد بهذا الخطاب بنو أمية (¬2) يقول لهم: إن توليتم أمر الناس أفسدتم وقطعتم رحم بني هاشم (¬3) بقتلهم، وعلى هذا القول: قتادة والمسيب (¬4) بن شريك (¬5)، وذكر الفراء والزجاج (¬6) القولين جميعاً، وما ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني 2/ 172، و "البحر المحيط" 8/ 82، و"التذكرة في القراءات" لابن غلبون ص 684، قال: وقرأ رويس: توليتم: بضم التاء والواو وكسر اللام. وانظر: "النشر في القراءات العشر" 2/ 374، وقال القرطبي: قرأ علي بن أبي طالب: تُوُلِّيتُم. بضم التاء والواو وكسر اللام. وهي قراءة ابن أبي إسحاق ورواها رويس عن يعقوب 16/ 243. (¬2) هم: بطن من قريش من العدنانية وهم بو أمية الأكبر بن عبد شمس بن مناف. وبنو أمية هؤلاء هم المراد ببني أمية عند الإطلاق وكان له عشرة أولاد أربعة منهم يسمون أعياص، وهم: العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص، وستة يسمون العنابس، وهم: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو. وسموا بذلك بابن من أبناء حرب أحد أسماء عنبسة غلب عليهم اسمه ومن عقبه عثمان بن عفان ومنهم أيضًا معاوية بن أبي سفيان. انظر: "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص 85. (¬3) هم: بنو هاشم من قريب من العدنانية. وهم بنو هاشم بن عبد مناف، كان له خمسة أولاد منهم: عبد المطلب، وحنظلة وأسد وصيفي وأبو صيفي واسم هاشم عمرو وسمي هاشمًا لهشمه الثريد لقومه في شدة المحل، وذلك أنه كان إليه الرفادة والسقاية بمكة، وانتهت إليه سيادة قريش. انظر: "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص 386. (¬4) هو: المسيب بن شريك أبو سعيد التميمي الشقري الكوفي روي عن الأعمش، قال يبيح: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال البخاري: سكتوا عنه. انظر: "ميزان الاعتدال" 4/ 114. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 128 ب، وأبو حيان في "البحر" 8/ 82، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 245. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 63، "معاني القرآن للزجاج" 5/ 13.

23

قبل هذه الآية يدل (¬1) في المنافقين، فلعل منافقي بني أمية خوطبوا بهذا والله أعلم، ثم وصف هؤلاء المنافقين بقوله: 23 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} الآية. 24 - قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي: ليعرفوا ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام ولم يقطعوا أرحام، قال ابن عباس: ومعنى تدبر القرآن ذكرناه في سورة النساء [آية: 82]. (أَم على قلوب أقفالها). قال الليث: القفل معروف، وفعله الإقفال، وقد أقفلته فاقتفل (¬2)، وأصله من اليبس والصلابة، ويقال لما يبس من الشجر القفل، وأقفله الصوم، إذا أيبسه (¬3). قال ابن عباس: يريد على قلوب هؤلاء أقفال (¬4). وقال مقاتل: يعني الطبع على القلب (¬5)، وفي هذا تنبيه على القدر والقضاء السابق بالختم على القلب، والأقفال استعارة لارتياح القلب، من الباب الذي ما لم يرفع الختم عن القلب لم يدخله الإيمان والقرآن، وفي تنكير القلوب وإضافة الأقفال إليها مع ما في ظاهر اللفظ، تأكيدٌ للمعنى الذي ذكرنا، ومعنى تنكير القلوب: إرادة لقلوب هؤلاء وقلوب من بهذه الصفة من غيرهم، ولو قال: أم على قلوبهم، لم يدخل قلب غيرهم في ¬

_ (¬1) كذا رسمها في الأصل، ولم يتضح لي معناها. (¬2) انظر: "كتاب العين" (قفل) 5/ 161، و"تهذيب اللغة" 9/ 160. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (قفل) 9/ 161. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49.

25

هذه الجملة، وفي قوله: (أقفالها) دليل على ما ذكرنا من أن المراد بالأقفال الختم وانغلاق القلب، ولو قال: (أقفال) لذهب الوهم إلى ما نعرف بهذا الاسم، فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب. ومعنى الاستفهام في قوله (أم على قلوب أقفالها) الإخبار أنها كذلك، ويصدق هذه الجملة التي ذكرناها ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ هذه السورة شاباً (¬1) من أهل اليمن فلما قرأ: أم على قلوب أقفالها. قال: بل عليها أقفالها حتى يفرجها الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدقت" (¬2). ثم ذكر اليهود وسوء عاقبتهم حين ارتدوا بعد المعرفة: 25 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} رجعوا كفاراً {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} يعني: اليهود، ظهر لهم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بنعته وصفته في كتابه، وكانوا يعرفونه لما دعاهم إلى دينه كفروا به. هذا قول الكلبي (¬3) ومقاتل (¬4) وقتادة (¬5). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ولعل الصواب (وعنده شاب). (¬2) أخرجه الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه ولم يذكر لفظ صدقت انظر: "تفسير الطبري" 13/ 58، وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" 10/ 129 أ، والبغوي في "تفسيره" 7/ 287، بمثل لفظ الطبري وعزاه السيوطي في "الدر" لإسحاق بن راهويه، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه بلفظ صدقت. انظر: "الدر" 7/ 501، وانظر: "الوسيط" 4/ 126. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 509. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" 13/ 58، وأورده الثعلبي في "تفسيره" ونسبه لقتادة 10/ 129/ ب، وكذلك البغوي نسبة لقتادة 7/ 287.

وقال السدي والضحاك: يعني المنافقين (¬1). ثم قال: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} قال ابن عباس: زين لهم القبيح (¬2)، وتفسير التسويل قد سبق في سورة (¬3) يوسف [آية: 18: 83]. قوله: {وَأَمْلَى لَهُمْ} يعني الإملاء في اللغة: الترفيه في العمر، والمد فيه (¬4) وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] قال مقاتل: يعني: وأمهل الله لهم (¬5). وهذا قول أكثر المفسرين (¬6)، وقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178] وقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} [الحج: 44]، وقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد: 32]. والمعنى: لم يعجل عليهم العقوبة وأمهلهم موسعاً عليهم ليتمادوا في طغيانهم، جزاء لهم على ما فعلوا، وقرأ أبو عمرو: (وأملِيَ لهم) بضم الهمزة وفتح الياء على ما لم يسم فاعله. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 58 عن الضحاك، ونسبة الثعلبي لابن عباس والضحاك والسدي. انظر: "تفسيره"10/ 129 ب، وكذلك نسبه إليهم البغوي في "تفسيره" 7/ 288، والقرطبي في الجامع 16/ 249. (¬2) ذكر ذلك البغوي ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" 7/ 288، وقال القرطبي في "الجامع": زين لهم خطاياهم، ونسبه للحسن. انظر: "الجامع" 16/ 249. (¬3) قال الأزهري: قال الله جل وعز: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أي زينت لكم أنفسكم أمرًا غير ما تصفون وكأن التسويل تفعيل من سول الإنسان، وهو أمنيته التي يتمناها فتزين لطالبها الباطل والغرور. انظر: "تهذيب اللغة" (سول) 13/ 66. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 288، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 249. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49. (¬6) انظر: "تفسير أبي الليث" 3/ 245، و"تنوير المقباس" ص 509، و"الجامع الأحكام القرآن" 16/ 249.

26

قال أبو الحسن الأخفش: هي خشنة في المعنى، يريد أن هذه القراءة فصل بين فعل الشيطان وفعل الله تعالى، حيث بني الفعل للمفعول ويعلم يقيناً أنه لا يؤخر أحد مدة أحد، ولا يوسع له فيها إلا الله سبحانه (¬1) ففصل من حيث الرفع اللفظ، وعلى القراءتين يحسن الوقف على قوله (سول لهم) (¬2)، لا على قول الحسن، فإنه قال في قوله: (وأملى لهم) على قراءة العامة: مد لهم الشيطان في الأمل (¬3). 26 - قوله: (ذلك) أي: ذلك الإملاء {بِأَنَّهُمْ قَالُوا} يعني: اليهود {لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} يعني المشركين {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} قال مقاتل: في تكذيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو بعض الأمر (¬4). وقال أبو إسحاق: جاء في التفسير أنهم قالوا: سنطيعكم في الظاهر على عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬5). قال مقاتل: إنهم قالوا ذلك سرًّا فيما بينهم (¬6). فأخبر الله تعالى نبيه بذلك، وأعلم أنه يعلم ذلك فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} قرئ بكسر الألف على المصدر، وبفتحها على جمع سر (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 194، 196، "الكشف" لمكي 2/ 278، ولم أقف عليه عند الأخفش. (¬2) انظر: "القطع والائتناف" ص 667، "المكتفى" ص 525. (¬3) انظر قول الحسن في "القطع والائتناف" ص 667، "تفسير الماوردي" 5/ 303. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 14. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49. (¬7) قرأ بالكسر حمزة والكسائي وحفص، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بفتح الألف. انظر: "الحجة" 6/ 196، و"الكشف عن وجوه القراءت" لمكي 2/ 278.

27

27 - ثم خوفهم فقال: (فكيف) قال أبو إسحاق: المعنى: فكيف كون حالهم (¬1) {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ} الآية، وقد مرَّ تفسيرها في سورة الأنفال عند قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى} الآية [آية: 50]. 28 - ثم ذكر سبب ذلك الضرب فقال: (ذلك) يعني: ذلك الضرب {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} قال ابن عباس: يريد ما كتموا من التوراة (¬2). وقال مقاتل: يعني الكفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (¬3)، وقال الزجاج: اتبعوا من خالف النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4). قوله تعالى: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} يعني: كرهوا ما فيه رضوان الله تعالى وما هو سبب الرضوان من طاعة الله وطاعة رسوله والإيمان به، وإذا كرهوا سبب الرضوان فقد كرهوا الرضوان، وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل وأهل التفسير (¬5) {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} التي كانوا يعملونها من صلاة وصدقة وصلة رحم لأنها في غير إيمان. ثم رجع إلى ذكر المنافقين فقال: 29 - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قال الليث (¬6): الضِّغن الحِقْدُ ويجمع الأضغان، ومثله الضَّغِينةُ، وجمعها ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 14. (¬2) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 288، والقرطبي في "الجامع" 16/ 251. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 14. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 49، "تفسير أبي الليث" 3/ 246، "البغوي" 7/ 288. (¬6) انظر كتاب: العين (ضغن) 4/ 366. وانظر: "تهذيب اللغة" (ضغن) 8/ 11، "اللسان" (ضغن) 13/ 255.

30

ضَغَائِن، وضَغِنَ فلان يَضْغُنُ ضِغْنَاً فهو ضَغِن، والمرأة ضَغِنَة، وأضْغَنَ عليَّ ضُغَناء، أي أضْمَرهُ وأصله من الضِّغْنِ، والضِّغْنُ هو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء، ومنه قول بشر: كذاتِ الضِّغْنِ تَمْشِي في الرِّفاقِ (¬1) وأنشد الليث: إنَّ قَناتِي مِن صلِيباتِ القَنَا ... مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إلاَّ ضَغَنا (¬2) والحقد في القلب مشبه به؛ لأنه لا يستقيم الحقود عليه، قال ابن عباس في قوله: {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}: أن لا يطلع الله على ما في قلوبهم (¬3)، وقال مقاتل: أن لا يظهر الله الغشّ الذي في قلوبهم (¬4). وقال أبو إسحاق: لا يبدي الله عداوتهم لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين ويظهره على نفاقهم (¬5). 30 - قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} قال مقاتل والمفسرون: لأعلمناكهم (¬6). كقوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي: بما علمك ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (فرق) 9/ 113، "اللسان" (ضغن) 13/ 255، "الدر المصون" 6/ 157. (¬2) انظر كتاب: العين (ضغن) 4/ 366، "تهذيب اللغة" (ضغن) 8/ 11، "اللسان" (ضغن) 13/ 256. والثقاف: حديدة تكون مع القوَّاس والرمَّاح يقوّم بها الشيء المعوج. أي كأن الشاعر يقول: ما زادها التقويم إلا اعوجاجًا، "اللسان" (ثقف) 9/ 20. (¬3) ذكر هذا المعنى في "الوسيط" ولم ينسبه. انظر 4/ 128. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 50. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 15. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 50، "تفسير البغوي" 7/ 288، "زاد المسير" 7/ 411، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 252.

الله، وقد مر, وقال الفراء والزجاج: يريد لعرفناكهم، وأنت تقول للرجل أريتك كذا وكذا، تريد عَرَّفتكه وعَلَّمتكه (¬1). قوله: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي: فعرفتهم، ودخلت اللام لتأكيد المعرفة، والكلام في تفسير السيما قد سبق في سورة البقرة [آية: 273]. قال أبو إسحاق: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة (¬2). قوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} قال أبو عبيدة والفراء والزجاج: في نحو القول معنى القول (¬3): في فحوى القول وقصد القول، وهو الذي يدل على ما عنده وفي قلبه من غير تصريح به، وقريب منه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في سعد (¬4) بن معاذ وسعد بن عبادة (¬5) حين وجههما لاستعلام خبر قريظة "فإن رأيتماهم على العهد فأعلنا ذلك وإلا فالحنا لي لحناً أعرفه ولا تفتان أعضاد المسلمين" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 63، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 15. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 15. (¬3) انظر: "جاز القرآن لأبي عبيدة" 2/ 215 بلفظ: (في فحوى القول)، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 63، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 15. (¬4) سعد بن معاذ بن النعمان الأوسى، سيد قومه، وهو الذي حكم على بني قريظة بأن تقتل وتسبى النساء والذرية، انظر: "الاستيعاب" 2/ 27، "أسد الغابة" 2/ 296. (¬5) هو: سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري سيد الخزرج، انظر: "الاستيعاب" 2/ 35، و"الإصابة" 2/ 300. (¬6) لم أقف على هذا الحديث إلا أن ابن الأثير في "النهاية" ذكر نحوه وهو (أنه بعث رجلين إلى بعض الثغور عينًا. فقال لهما: إذا انصرفتما فالحنا) أي: أشيرا إلىَّ ولا تفصحا، وعرضا بما رأيتما. أمرهما بذلك لأنهما ربما أخبرا عن العدو ببأس وقوة فأحب ألا يقف عليه المسلمون. انظر: "النهاية في غريب الحديث" (لحن) 4/ 241.

وقال الليث: ما تلحن إليه بلسانك: تميل إليه (¬1). وقال أبو زيد: لحنت له ألحن، إذا قلت له قولاً يفقه عنك ويخفي على غيره (¬2). وقال ابن دريد (¬3) معنى اللحن: أن تريد الشيء فتوري عنه بقول آخر (¬4). وقيل لمعاوية: إن عبد الله يلحن، فقال: أوليس بظريف لابن أخي (¬5) أن يتكلم بالفارسية، ظن معاوية أنهم عنوا بقولهم عبد الله يلحن أي يتكلم بالفارسية إذ كان المتكلم بها معدولا عن جهة العربية. وقال الفزاري (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "العين" (لحن) 3/ 229. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (لحن) 5/ 60. (¬3) هو: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حنتم بن حسن بن حمامي بن جرو بن واسع بن وهب بن سلمة، من أئمة اللغة والأدب، كانوا يقولون ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء ولد في البصرة سنة 223 هـ، ومن كتبه: "الاشتقاق"، و"المقصور والممدود"، و"الجمهرة"، و"المجتبى" وغيرها، مات سنة 321 هـ. انظر: مقدمة "جمهرة اللغة" 1/ 3، 4، و"فيات الأعيان" 1/ 497، و"تاريخ بغداد" 2/ 195. (¬4) انظر: "جمهرة اللغة" (لحن) 2/ 192، بلفظ: (اللحن صرفك الكلام عن جهته، لحن يلحن لَحْنا ولَحَنا، وعرفت ذلك في لحن كلامه أي فيما دل عليه كلامه). (¬5) انظر: "اللسان" (لحن) 13/ 380. (¬6) هو: مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر القزاري أبو الحسن شاعر غزل ظريف من الولاة كان هو وأبوه من أشراف الكوفة وتزوج الحجاج أخته هند بنت أسماء، واختار له أبو تمام أبياتًا في الحماسة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 527، و"لسان الميزان" 5/ 2، و"الأعلام" 5/ 257.

مَنطِقٌ صائِبٌ وَتَلَحَنُ أَحْيَاناً ... وَخَيرُ الحَدِيْثِ مَا كَانَ لَحْنَا (¬1) يريد أنها تتكلم بالشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من ذكائها وفطنتها كما قال الله -عز وجل- {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وكما قال القَتَّال الكلابي (¬2): وَلَقدْ وَحَيْتُ لَكُم لِكَيْمَا تَفْهَمُوا ... وَلَحنْتَ لَحناً لَيْسَ بِالمرْتَابِ (¬3) واللحن في العربية راجع إلى هذا, لأنه العدول عن الصواب، هذا كلامه فيما حكاه حمزة (¬4) صاحب الأمثال، وهو سديد، وذكر أبو القاسم الزجاجي رحمه الله معنى اللحن في كلام العرب بأبلغ شرح فقال (¬5): أصل (ل ح ن) على هذا الترتيب موضوع للميل عن الشيء والعدول عنه، يقال: لحن فلان في منطقه، إذا أخذ في شيء ترك الظاهر له وعدل عنه إلى غيره، ¬

_ (¬1) انظر: "الشعر والشعراء" ص 527، "تهذيب اللغة" (لحن) 5/ 61، "اللسان" (لحن) 13/ 380، "الدر المصون" 6/ 157. (¬2) ورد خلاف في اسمه والمشهور: عبد الله بن مجيب بن مضرحى الكلابي أبو المسيب شاعر إسلامي غلب عليه لقب القتال لشجاعته. له ديوان مطبوع وهو من بني أبي بكر بن كلاب بن ربيعة. انظر: "الأغاني" 2/ 159، "المحبر" ص 288، "الخزانة" 3/ 688، "الشعر والشعراء" ص 471. (¬3) انظر: "ديوانه" ص 36، "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 306، واستشهد القرطبي بهذا البيت بهذا اللفظ. انظر 16/ 253، وهو في "اللسان" بلفظ (لحنت لكم (بدل) وحيت لكم). انظر: "اللسان" (لحن) 13/ 380، وانظر: "الدر المصون" 6/ 157. (¬4) لعله: حمزة بن الحسن الأصبهاني أبو عبد الله إمام لغوي له مؤلفات حسان توفي حوالي 360 هـ له كتاب "الأمثال السائرة، والأمثال الصادرة في بيوت الشعر". انظر ترجمته في: "أخبار أصبهان" 1/ 300، "الأعلام" للزركلي 2/ 309، "معجم المؤلفين" 4/ 78. (¬5) لم أقف عليه عند الزجاجي وانظر: "مقاييس اللغة" (لحن) 5/ 239.

يعميه على السامع وذلك كالتعريض في الكلام، ويقال لمثل ذلك القول: ملاحن القول، وهذا كقولهم: والله ما رأيت زيداً برائب، أصبت ريبة لا روبة البصر، ويقال: لاحنت فلاناً، أي راطنته، وذلك أن تضع بينك وبينه كلاماً يفهمه عنك وتفهمه عنه، ولا يفهم غيركما, لأنكما قد عدلتما عن المعتاد من الكلام ومنه قول الطرماح: وأَدَّتْ إليَّ القَولَ عَنْهنَّ زَوْلةٌ ... تُلاحِنُ أوْ تَرْنُو لقَوْلِ المُلاحِنِ (¬1) أي: تتكلم بمعنى كلام لا يفطن له غيري، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي في فحواه ومعناه، يعني: المنافقين، وذلك أنهم كانوا يخاطبون النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلام تواضعوه بينهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى على ذلك، فكان بعد نزول هذه الآية يعرف المنافقين إذا سمع [كلام (¬2)]، فلحن القول ميلهم عن الظاهر. وحكى سلمة (¬3) عن الفراء: يقال للرجل يعرض ولا يصرح: قد جعل كذا وكذا لحنا لحاجته، ويقال من هذا: لَحَنَ يلحن، فأما لَحِنَ يلحن فالمراد به (¬4) فَطِن وفهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (لحن) 5/ 63، "اللسان" (لحن) 13/ 379. (¬2) كذا في الأصل ولعل الصواب (كلامهم). (¬3) هو: سلمة بن عاصم أبو محمد البغدادي النحوي صاحب الفراء، روى القراءة عن أبي الحارث الليث بن خالد وروي القراءة عنه أحمد بن يحيى ثعلب، قال ابن الأنباري: كتاب سلمة في "معاني القرآن للفراء" أجود الكتب لأن سلمة كان عالمًا وكان يراجع الفراء فيما عليه ويرجع عنه، توفي بعد 270 هـ. انظر: "طبقات النحويين واللغويين" 137، و"إنباه الرواة" 2/ 56، و"غاية النهاية" 1/ 311. (¬4) انظر: "كتاب العين" (لحن) 3/ 230، و"معاني القرآن للفراء" 3/ 63.

ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" (¬1)، أي أفطن لها وأقدر على لحن القول وفحواه ومعناه. قال أبو عبيد (¬2): اللّحَن بفتح الحاء الفطنة، واللّحِن بالكسر الحاذق بالكلام الفطن، وإنما قالوا: لحِن، إذا فطن وفهم؛ لأنه سمع ما لُحِنَ له من القول فعلم فحوى ما قيل له، فقيل: لَحِنَ كما يقال: فطن، وأما قول الكلابية قال (¬3): وقومٌ لهم لَحْنٌ سِوى لَحْنِ قَوْمِنا ... وشَكْلٌ وبيتِ اللهِ لَسْنا نُشاكِلُهْ (¬4) أي: لغة ومذهب في الكلام يذهبون إليه سوى كلام الناس المعتاد، لأنهم عدلوا به إلى ما أرادوا وتركوا ما يتعارفه الناس، والألحان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب 37 من أقام البينة بعد اليمين 3/ 162، وفي كتاب الحيل، باب 10، 8/ 62، وفي كتاب الأحكام، باب 20 موعظة الإمام للخصوم 8/ 112، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب 3 الحكم بالظاهر واللحن وبالحجة 2/ 112، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب 11 ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له أن يأخذه 3/ 233، وفي باب 33 ما يقطع القضاء 8/ 247، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب 5 قضية الحاكم لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً 2/ 719، وأخرجه مالك في الموطأ كتاب الأقضية، باب 1، الترغيب في القضاء بالحق 2/ 719، وأخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة 2/ 332، وأخرجه أيضًا عن أم سلمة 6/ 203، 6/ 290، 6/ 307، 6/ 308، 6/ 320. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (لحن) 5/ 62 بتصرف. (¬3) كذا في الأصل بمد اللام وفي "تهذيب اللغة" الكلبية. انظر: "تهذيب اللغة" (لحن) 5/ 62، "اللسان" (لحن) 13/ 380، ولم أقف لها على ترجمة. (¬4) انظر هذا الشاهد وكلام أبي عبيد الذي قبله في "تهذيب اللغة" (لحن) 5/ 62، "اللسان" (لحن) 13/ 380.

الضروب من الأصوات في الأغاني كقولهم: لحن معبد ولحن سريج، سمي بذلك لأن كل صوت له طريق ومذهب غير مذهب الصوت الآخر، فكأن المعنى عدل بالصوت إلى طريق آخر، والملحِّن الذي يسوي طريق الأغاني. وقال النضر: سألت الخليل عن قولهم: لحن القارئ فيما قرأ، فقال: ترك إعراب الصواب وعدل عنه (¬1). وأما المفسرون؛ فقال ابن عباس: في معنى القول (¬2). وقال الحسن: في فحواه (¬3)، وقال القرظي: في مقصده ومغزاه (¬4)، وقال أبو إسحاق: دل بهذا والله أعلم أن قول القائل قد يدل على نيته (¬5) هذا كلامه، ومعنى الآية: ولتعرفنهم في معاريض كلامهم وما يلحنون به، من غير تصريح في تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، قال الكلبي: كان بعد ذلك لا يتكلم منافق عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عرفه بكلامه (¬6). وقال مقاتل: لم يَخْفَ منافقٌ بعد هذه الآية على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- (¬7). ونحو هذا روي عن أنس أنه قال: خفي بعد نزول هذه الآية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء من المنافقين (¬8)، وهذا يحمل على أنه -صلى الله عليه وسلم- تأمل كلامهم ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 289 ولم ينسبه، والقرطبي ولم ينسبه 16/ 252. (¬3) ذكر ابن الجوزي هذا المعنى 7/ 411، والقرطبي 16/ 252 ولم ينسباه. (¬4) ذكر ذلك في "الوسيط"، ولم ينسبه، انظر: 4/ 129. (¬5) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 15. (¬6) ذكر هذا القول أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" 3/ 246 ولم ينسبه، ونسبه القرطبي في "الجامع" 16/ 253 للكلبي، وذكره في "الوسيط" 4/ 129 ولم ينسبه. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 50. (¬8) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 166/ 253.

31

وتفكر في أنحاء مخاطباتهم لما نبهه الله على ذلك بقوله: (ولتعرفنهم في من القول). فاستدل بفحوى كلامهم على فساد دخيلتهم وسوء اعتقادهم. قال مقاتل: ثم رجع إلى المؤمنين أهل التوحيد فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} من الخير والشر (¬1)، فلا يخفى عليه منها شيء. 31 - قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي: لنعاملنكم المختبر نأمركم بالقتال والجهاد حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره، وهو قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}. قال ابن عباس: حتى نميز (¬2). وقال مقاتل: حتى نرى (¬3) وذكرنا الكلام في مثل هذا في مواضع، والمعنى حتى نعلم علم شهادة ووجود، وهو العلم الذي يقع به الجزاء والذي علمه غيباً لا يقع به الجزاء والقراء قرؤوا: (ولنبلونكم) وما بعده بالنون لما تقدمه من قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} جعلوا قوله: (والله يعلم أعمالكم) كالاعتراض، ويجوز أن يكون ذلك عوداً إلى لفظ الجمع بعد لفظ الإفراد فيكون كقوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء: 2] بعد قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وروي عن عاصم الياء فيها حملاً على قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]. وقوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} عطف على قوله: (حتى نعلم) (¬4)، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لنظهر ما تسرون. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 50. (¬2) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 253. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 50. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 197، "تفسير الطبري" 13/ 62، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 278, "المحرر الوجيز" لابن عطية 15/ 76.

32

وقال في رواية الكلبي يقول: تظهر نفاقكم للمؤمنين (¬1). ومعنى الآية: حتى نعلم المجاهدين وحتى نكشف أخباركم ونظهرها يعني يأبى من يأبى القتال ولا يصبر على الجهاد فيفضح ويظهر سر نفاقه، فمعنى (نبلوا) هاهنا ليس من الاختبار في شيء, لأنه لا يقال: ولنبلونكم حتى نبلوا أخباركم، ولأن بلو الأخبار بمعنى التجربة لا يصح، فمعناه ما ذكره ابن عباس من الكشف والإظهار، ويجوز أن يوضع البلو موضع الكشف؛ لأن القصد بالبلو الكشف والإظهار، فجاز أن يفسر بما يؤول إليه، ومن هذا قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أي تظهر، ونذكر الكلام فيه إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: 32 - قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} الآية قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد قريظة والنضير (¬2). وقال مقاتل: يعني اليهود (¬3). وقال الكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر (¬4)، والقول أنها نزلت في اليهود لقوله: (بعد ما تبين لهم الهدى). بعد ما بين لهم في التوراة، وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" ص 510. (¬2) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 412، وذكره في "الوسيط" 4/ 129 ولم ينسبه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 50. (¬4) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 290، والسمرقندي في "تفسيره" 3/ 246، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 412، والقرطبي في "الجامع" ونسبه لابن عباس 16/ 254، وانظر: "تنوير المقباس" ص 510.

33

لا يصح في وصف المشركين من أهل مكة. 33 - {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} قال عطاء عن ابن عباس: أي: بالشك والنفاق (¬1) وقال الكلبي عنه: بالرياء والسمعة (¬2). والمعنى: أخلصوها لله، وقال مقاتل: أي بالمن (¬3)، نزلت في قوم كانوا يمنون بإسلامهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال الحسن: أي بالمعاصي والكبائر (¬4). وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية، قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرون أنه لا يضر مع الإخلاص لله ذنبٌ، كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح (¬5). فأنزل الله هذه الآية، فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل بن حيان: يقول: إذا عصيتم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أبطلتم أعمالكم (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 290، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 412، ونسبه في "الوسيط" 4/ 129 لعطاء. (¬2) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" 5/ 306، والبغوي في "تفسيره" 7/ 290، وابن الجوزي في "زاد المسير" ونسبه لابن السائب 7/ 412، والقرطبي في "الجامع"، ونسبه لابن جريج 16/ 254، ونسبه في "الوسيط" للكلبي. انظر 4/ 129. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 51. (¬4) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" دون ذكر الكبائر 5/ 306، والبغوي في "تفسيره" 7/ 290، والقرطبي في "الجامع" 16/ 254 دون ذكر الكبائر ونسبه في "الوسيط" للحسن بهذا اللفظ. انظر: 4/ 129. (¬5) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" 3/ 247، والبغوي 7/ 290 والسيوطي في "الدر" 8/ 504 وعزاه لعبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي وابن أبي حاتم، ونسبه القرطبي في "الجامع" 16/ 255 لأبي العالية، ونسبه في "الوسيط" 4/ 129 لأبي العالية. (¬6) ذكر ذلك القرطبي "الجامع" 16/ 255 , وأبو حيان في "البحر المحيط" 7/ 85.

35

35 - ثم قال للمسلمين: {فَلَا تَهِنُوا} فلا تضعفوا، قاله الجميع (¬1)، وقوله: {وَتَدْعُوا} في محل الجزم بالعطف على ما قبله (¬2). قوله: {إِلَى السَّلْمِ} وقرئ بفتح السين (¬3) وقد تقدَّم الكلامُ فيه في سورة البقرة [آية: 208] قال قتادة: لا يكونوا أولى الطائفتين ترغب إلى صاحبها (¬4). قال ابن حيان: ولا تبدؤا فتدعوا إلى الصلح (¬5). قال أبو إسحاق: منع الله المسلمين أن يدعوا الكافرين إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا (¬6). وقال أبو علي: المعنى: لا توادعوهم ولا تتركوا قتالهم؛ لأنكم الأعلون فلا ضعف بكم فتدعوا إلى الموادعة (¬7)، فقال ابن عباس في قوله: (وأنتم الأعلون): وأنتم الغالبون، وهو قول مجاهد والمقاتلَيْن وقتادة (¬8): وأنتم أولى بالله منهم. وقال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير السمرقندي" 3/ 247، و"تفسير البغوي" 7/ 290، و"زاد المسير" 7/ 413، و"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 255. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 192، و"الدر المصون" 6/ 158. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 198. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره 10/ 13 أ، والقرطبي في "الجامع" 16/ 156. (¬5) ذكر معنى ذلك مقاتل في "تفسيره" 4/ 53. (¬6) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 16. (¬7) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 199. (¬8) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "تفسيره" 13/ 63، و"تفسير مجاهد" ص 605، و"تفسير مقاتل" 4/ 53، و"تفسير البغوي" ولم ينسبه 7/ 290. (¬9) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 290، وانظر: "تنوير المقباس" ص 510.

وقال الزجاج: وأنتم الأعلون في الحجة (¬1). ومضى الكلام في نظير هذه الآية في سورة آل عمران [آية: 139]. قوله: {وَاللهُ مَعَكُمْ} قال ابن عباس: يريد على عدوكم، وقال مقاتل وغيره: والله معكم بالنصر (¬2) {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} قال الكسائي: لن ينقصكم، يقال: وتره يتره وِتْرًا ووَتْرًا ووترة، ونحو هذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج (¬3) وجميع أهل اللغة، واحتجوا بما روي في الحديث: "من فاته العصر فكأنما وتر أهله وماله" (¬4)، أي نقص أهله وماله فبقي فرداً. قال الزجاج: أي لن ينقصكم شيئاً من ثوابكم (¬5). وقال الفراء: هو من وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلاً، وأخذت ماله فقد وترته (¬6)، وحمل الحديث على هذا المعنى وهو من الوتر، وهو أن يجني الرجل على الرجل جناية ويقتل له قتيلاً أو يذهب بماله وأهله فيقال: وتر فلان أهله وماله، قال أبو عبيد والمبرد: وأحد القولين قريب من ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 16. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 53، و"البغوي" 7/ 290، و"زاد المسير" 7/ 514. (¬3) انظر: "مجاز القرآن لأبي عبيدة" 2/ 216، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 16، و"معاني القرآن" للنحاس 6/ 486، و"تفسير الطبري" 13/ 64، و"تفسير غريب القرآن لابن قتيبة" ص 411. (¬4) أخرجه البخاري عن ابن عمر بلفظ: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله" كتاب المواقيت، باب أثم من فاتته العصر 1/ 138، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر 1/ 435، وأخرجه مالك في "الموطأ"، كتاب وقوت الصلاة، باب 5، 1/ 11، 12 (¬5) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 16. (¬6) انظر: "معاني القرآن للفراء" 3/ 64.

36

الآخر (¬1)؛ لأن الموتر إنما هو مطالبة بما نقص من عدده، والمفسرون قالوا: لن ينقصكم ولن يظلمكم (¬2)، قال ابن حيان: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة، أي: يؤتيكم أجورها في الآخرة (¬3). 36 - ثم حض على طلب الآخرة قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} قال ابن عباس: باطل وغرور (¬4) {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} تصدقوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (وتتقوا) قال الكلبي ومقاتل: الفواحش والكبائر ومعاصي الله (¬5). {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} يعني جزاء أعمالكم في الآخرة. {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} قال الكلبي: لا يسألكم أموالكم كلها في الصدقة (¬6)، ويدل على هذا. 37 - قوله: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} أي: يجهدكم بمسألة جميع أموالكم، يقال أحفى فلان فلانًا إذا برح به في الإلحاح عليه وسأله فأكثر عليه الطلب وهو مثل الإلحاف سواء. قال الكلبي: إن يسألكموها كلها في الصدقة فيجهدكم، تبخلوا بها ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الأزهري في "تهذيب اللغة" (وتر) 14/ 314، وانظر: "اللسان" (وتر) 5/ 247. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة 13/ 64، وذكره الماوردي في "تفسيره" ونسبه لمجاهد وقتادة 5/ 306، ونسبه البغوي لابن عباس وقتادة ومقاتل والضحاك 7/ 290. (¬3) ذكر ذلك البغوي 7/ 290، ولم ينسبه، ونسبه في "الوسيط" 4/ 130 لابن حيان. (¬4) ذكر ذلك البغوي ولم ينسبه 7/ 290. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 53، و"تنوير المقابس" ص 510. (¬6) ذكر ذلك الماوردي ولم ينسبه 5/ 306، والبغوي ونسبه لابن عيينة 7/ 291، وكذلك نسبه القرطبي لابن عيينة 16/ 257.

38

فلا تعطوها (¬1) "وقال أبو إسحاق: أي إن يجهدكم بالمسألة (¬2). {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قال الكلبي: يظهر بغضكم وعداوتكم لله ورسوله، ولكنه فرض عليكم يسيراً ربع العشر، وهذا قول مقاتل والجميع (¬3). وقال السدي: إن سألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا (¬4)، ولكن يسألكم أن تنفقوا في سبيل الله وهو يسير فيما أعطاكم. وقال قتادة: علم الله أن في مسألة المال خروج الأضغان (¬5). وقال الفراء، يخرج ذلك البخل عداوتكم (¬6)، يعني أن قوله (تبخلوا) يدل على البخل. قوله تعالى: {يُخْرِجْ} مسند إليه، أي ذلك البخل يظهر عداوتكم لله ورسوله لو سألكم أموالكم كلها، قال: ويجوز أن يكون يخرج الله أضغانكم. 38 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} قال ابن عباس: يريد أن لا ينفق أحد في سبيل الله إلا أعطاه الله في الدنيا أضعافه، وفي الآخرة ما لا يقدر الواصفون يصفونه (¬7). وقال مقاتل بن سليمان: فإنما يبخل بالخير والفضل في الآخرة عن ¬

_ (¬1) ذكر هذا المعنى البغوي ولم ينسبه 7/ 291، وانظر: "تنوير المقباس" ص 510، و"تفسير الوسيط" 4/ 130. (¬2) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 5/ 16. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 291، و"تفسير مقاتل" 4/ 54، و"زاد المسير" 414. (¬4) ذكر ذلك المؤلف في تفسيره "الوسيط" عن السدي. انظر: 4/ 130. (¬5) ذكر نحو هذا المعنى الطبري 13/ 65، والبغوي 7/ 291، وأورد الثعلبي قول قتادة في "تفسيره" 10/ 131 أ، وى لك ذكر قول قتادة في "الوسيط" 4/ 130. (¬6) انظر: "معاني القرآن للفراء" 3/ 64. (¬7) لم أقف عليه.

نفسه (¬1)، وقال ابن حيان: فإنما يبخل بالكرامة والفضل من الله على نفسه (¬2). {وَاللهُ الْغَنِيُّ} عما عندكم من الأموال وقال عطاء: عن خلقه (¬3) {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} قال ابن عباس: عن الإسلام (¬4)، وقال مقاتل: وإن تعرضوا عما افترضت عليكم من حقي {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} قال مقاتل: يعني قوماً أمثل وأطوع لله منكم (¬5). قوله: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قال: يكونوا خيراً منكم، وقال عطاء عن ابن عباس: لا يكونوا أمثالكم في النفاق والبخل (¬6)، وعلى هذا يجب أن يكون الخطاب للمنافقين. وقال الكلبي: لم يتولوا ولم يستبدل بهم (¬7). وروى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الذين يستبدل بهم إن تولوا، فضرب على منكب سلمان، وقال: "هذا وقومه" (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 54. (¬2) ذكر ذلك في "الوسيط" عن مقاتل، انظر: 4/ 130. (¬3) قال ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 415: (عنكم وعن أموالكم) ولم ينسبه. (¬4) أخرج الطبري عن قتادة قال: (عن كتابي وطاعتي) 13/ 66، وذكره في "الوسيط" بهذا اللفظ، ولم ينسبه. انظر: 4/ 130. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 54. (¬6) قال الطبري 13/ 66: (لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله ولا يضيعون شيئًا من حدود دينهم ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به). (¬7) ذكر المؤلف ذلك في تفسيره "الوسيط" 4/ 130 عن الكلبي. (¬8) أخرجه الطبري عن أبي هريرة. انظر: "تفسيره" 13/ 66، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة، انظر: كتاب التفسير، باب 48، ومن سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- 5/ 384، وأخرجه المؤلف في "الوسيط" عن أبي هريرة. انظر: 4/ 131.

وهذا كما قال الحسن: هم العجم (¬1)، ونحو هذا قال عكرمة: فارس (¬2) وأحسن مجاهد في قوله: من شاء (¬3)، يعني يستبدل الله بهم من شاء من عباده، فيجعلهم خيراً من هؤلاء. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 291، "تفسير البغوي" فقد نسب القول للحسن 7/ 291، وكذلك ابن الجوزي نسبه للحسن 7/ 415، والقرطبي 16/ 258. (¬2) ذكر ذلك البغوي 7/ 291، وابن الجوزي 7/ 415، والقرطبي 16/ 258 عن عكرمة. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" ص 606، "زاد المسير" 7/ 416، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 258، "الدر المنثور" 7/ 506.

سورة الفتح

سورة الفتح

1

تفسير سورة الفتح بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، ومعنى هذا الفتح، فذهب الأكثرون إلى أن الآية نزلت في صلح الحديبية، والمراد بالفتح ذلك الصلح، وهو قول جابر والبراء وأنس (¬1) في رواية قتادة. وروي ذلك مرفوعًا وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الحديبية وأنزلت عليه هذه السورة قرأها على أصحابه فقال عمر: أوَفتحٌ هو يا رسول الله؟ فقال: "نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح" (¬2). وروي عن مسور بن مخرمة أنه قال: نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها (¬3)، وهو قول الشعبي، ومجاهد، وابن عباس (¬4) في رواية الكلبي: قال كان فتحاً بغير قتال، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري عن أنس، انظر: "صحيح البخاري" كتاب: التفسير باب [1] {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 6/ 43، وأخرجه الثعلبي عن جابر وعن البراء، انظر: "تفسيره" 10/ 132 ب، وانظر: "تفسير ابن عطية" 15/ 86، "تفسير البغوي" 7/ 296، "البحر المحيط" 8/ 89. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 70 عن أبي وائل، وانظر: "تفسير الوسيط" 4/ 133. (¬3) أخرج ذلك الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، انظر: "المستدرك" 2/ 459، و"لباب النقول" للسيوطي ص 193. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 71، الماوردي 5/ 309، البغوي 7/ 296، "زاد المسير" 7/ 419، "تنوير المقباس" ص 511، "المغازي" للواقدي 2/ 617.

والصلح من الفتح، واختاره الفراء، وقال: الفتح قد يكون صلحاً (¬1) فعلى قول هؤلاء معنى هذا الفتح هو صلح الحديبية، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق (¬2). والصلح الذي حصل بينه وبين المشركين في ذلك اليوم كان مسدوداً عليه متعذراً حتى فتحه الله ذلك اليوم ويسره، ودخل بعد ذلك ناس كثير في الإسلام حتى قال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية (¬3)، وقال الشعبي: أصاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوجه ما لم يصب في وجه، بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس (¬4). وقال الزهري: ما كان في الإسلام فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام (¬5). وقال الضحاك: فتحنا لك فتحاً بغير قتال، وكان الصلح من الفتح (¬6). وقال ابن عباس في رواية عطاء: اليهود شمتوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 64. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (فتح) 4/ 455، "اللسان" (فتح) 2/ 539. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 70 عن جابر، ونسبه القرطبي 16/ 260 لجابر، ونسبه في "الوسيط" 4/ 133 لجابر. (¬4) ذكر ذلك الطبري في "تفسيره" 13/ 71، الماوردي 5/ 309، البغوي 7/ 296, وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 418، والقرطبي في "الجامع" 16/ 260. (¬5) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 296، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 419 , والقرطبي في "الجامع" 16/ 261، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 133. (¬6) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 296 عن الضحاك، وكذلك ذكره القرطبي عن الضحاك 16/ 260.

2

لما نزل قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] وقالوا: كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به ولا بمن آمن به وصدَّقه، واشتد ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قال: يريد: قضينا لك قضاء واجباً (¬1)، ونحو هذا قال مقاتل في سبب النزول سواء (¬2). وقال أهل التفسير: قضينا لك قضاء مبيناً، يعني: الإسلام، وهو قول قتادة، واختاره الزجاج، وقال معناه: حكمنا لك بإظهار دين الإسلام والنصرة على عدوك (¬3)، فهذا الفتح في الدين وهو الهداية إلى الإسلام ودليل ذلك قوله تعالى: 2 - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، واختلفوا في الجالب لهذه اللام في (ليغفر) فالذين قالوا: هذا الفتح في الدين ومعناه الحكم له بالإسلام والهداية، تتعلق اللام بالفتح, لأن سبب مغفرة الذنب هو الدين والإسلام، فكأنه قال: هديناك للدين ليغفر لك، وهذا معنى قول الحسن (¬4): فتح الله عليك الإسلام ليغفر لك الله، وأبي إسحاق. ومن ذهب إلى أن المراد بالفتح صلح الحديبية، ذكر في اللام وجوهاً أحدها: ما قال أبو حاتم: وهو أنه قال هذه اللام لام اليمين، كأنه قال ليغفرن الله لك، ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الثعلبي ونسبه لمقاتل بن سليمان، انظر: "تفسيره" 10/ 133 أ، ونسبه القرطبي 16/ 259 للضحاك عن ابن عباس، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 65، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص 403 عن عطاء عن ابن عباس. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 65. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 19. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 133 أ، "الدر المصون" 6/ 159، "تفسير الوسيط" 4/ 133.

فحذفت النون وكسرت اللام، فأشبهت في اللفظ لام كي (¬1) فنصبوا كما نصبوا بلام كي، واحتج بأن العرب تقول في التعجب: أطرف بزيد, فيجزمونه لشبهه بلفظ الأمر، قال ابن الأنباري: هذا الذي قاله أبو حاتم غلط, لأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها, ولو جاز أن يكون معنى (ليغفر): ليغفرن، لقلنا: ليقوم زيد بتأويل: والله ليقومن، وهذا معدوم في كلام العرب، وليس هذا بمنزلة: أطرف بزيد؛ لأن التعجب عدل به إلى لفظ الأمر، ولام القسم لم توجد مكسورة قط (¬2). ثم قال: سألت أبا العباس عن اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} فقال هي لام كي معناها: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة [كا] (¬3) تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي (¬4)، وقال ابن جرير وصاحب النظم: هذا مقتص من قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] أعلمه أنه إذا جاءه الفتح واستغفر غفر له (¬5)، والقول ما قال أبو العباس. وقوله: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} قال مقاتل: يعني ما كان في الجاهلية وما تأخر بعد النبوة (¬6). ¬

_ (¬1) أورد ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 133 ب، وانظر: "تفسير الوسيط" 4/ 134, "الدر المصون" 6/ 159. (¬2) أورد ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 262، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 44. (¬3) كذا في الأصل زيادة (كما) وليس لها معنى. (¬4) ذكره بنصه ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 423، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 134. (¬5) انظر: "تفسير ابن جرير" 13/ 68، "تفسير الثعلبي" 10/ 333 أ. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 66.

وروي عن ابن عباس: أي ط كان عليك من إثم الجاهلية وما تأخر مما يكون، وهذا على طريقة من جوز الصغائر على الأنبياء (¬1). وقال عطاء الخراساني: (ما تقدم من ذنبك) يعني: ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، (وما تأخر) يعني: من ذنوب أمتك بدعوتك (¬2)، وهذا القول يمكن توجيهه على بُعْد، وهو أن يحمل قوله (من ذنبك) على حذف المضاف بتقدير: من ذنب أبويك، ويحمل قوله (ما تأخر) على ذنوب أمته، ويبين هذا القول أنه لا ذنب له بعد النبوة، فإذا حكمنا ببراءته من الذنب، حمل الذنب المضاف إليه على الوجه الذي يصح وجوده وهو ما ذكرنا (¬3). وقال سفيان الثوري: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما عملت في الجاهلية وما تأخر، يعني: ما لم تعمله (¬4)، هذا كلامه، يقال على هذا ما لم يعمله كيف يوصف بأنه يغفره ولم يعمله بعد؟ والجواب: أن هذا يذكر على طريق التأكيد والإمكان، كما تقول: أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه (¬5)، وليس يمكن أن يضرب من لم يلقه ولا أن يعطيه، ولكنه يذكر تأكيداً للكلام على معنى: أنه كان يضربه إن أمكنه، كذلك في الآية غفر المتقدم والمتأخر لو وجد. قوله تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قال ابن عباس: في الجنة وروي ¬

_ (¬1) هذا بنصه في "تفسير الثعلبي" 10/ 133 أ، "تفسير البغوي" 7/ 297، "زاد المسير" 7/ 423، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 262. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 133 أ، البغوي 7/ 298، والقرطبي 16/ 263. (¬3) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 133 أ. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي، والبغوي، والقرطبي، والمؤلف في "الوسيط"؛ المواضع السابقة. (¬5) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 298.

3

عنه أي: بالنبوة والمغفرة، والمعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام (¬1). 3 - قوله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} قال ابن عباس ومقاتل: وينصرك الله على عدوك نصراً منيعاً فلا تستذل (¬2)، وقال أبو إسحاق: معنى {نَصْرًا عَزِيزًا}: نصراً ذا عز لا يقع معه ذل (¬3) وحقيقة معناه: الغالب الممتنع فلا يغلب. 4 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس والمفسرون: هي الرحمة والطمأنينة والوقار (¬4). وقال أهل المعاني: هي البصيرة التي تسكن إليها النفس وتجد الثقة بها وهي للمؤمنين خاصة، وأما غيرهم فتنزعج نفوسهم لأول عارض يرد عليهم؛ لأنهم لا يجدون برد اليقين في قلوبهم (¬5)، وهذا مما تقدَّم تفسيرُه [التوبة: 26، 40]. قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عباس والمفسرون: تصديقًا مع تصديقهم ويقيناً مع يقينهم، يعني: بالشرائع وبما يأمرهم من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 298 من غير نسبه، وذكر ابن الجوزي القولين ونسبهما لابن عباس 7/ 423، ونسبهما القرطبي لابن عباس 16/ 263، ونسبهما في "الوسيط" لابن عباس، انظر 4/ 134. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 66، "الجامع لأحكام القرآن" ذكره ولم ينسبه 16/ 263 , "تنوير المقباس" ص 511. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 20. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 71، "تفسير البغوي" 7/ 298، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 264، "تفسير الوسيط" 4/ 135. (¬5) انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 135، "تفسير البغوي" 7/ 298, "فتح القدير" 5/ 45.

5

الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج، كلما صدقوا بشيء من ذلك ازدادوا تصديقاً، وذلك بالسكينه التي أنزلها الله في قلوبهم (¬1). وقال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم (¬2). قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: يعني: الملائكة والجن والإنس والشياطين (¬3)، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بما في قلوب عباده {حَكِيمًا} في حكمه وتدبيره. 5 - قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية ذكر المفسرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ على أصحابه قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} الآية، قالوا: هنيئاً لك يا رسول الله، فماذا لنا، فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، واللام في (ليدخل) ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 72 عن ابن عباس، ونسبه البغوي 7/ 298، والثعلبي 10/ 134 ألابن عباس، وذكره في "الوسيط" 4/ 135 ولم ينسبه. (¬2) ذكر الثعلبي عن الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، انظر: "تفسيره" 10/ 134 أ، "تفسير البغوي" بهذا اللفظ أيضًا 7/ 298، ونسبه في "الوسيط" 4/ 135 للكلبي بنص ما هنا. (¬3) أورد ذلك القرطبي 16/ 264 عن ابن عباس، وذكره الشوكاني في "فتح القدير" من غير نسبة 5/ 46، ونسبه في "الوسيط" 4/ 135 لابن عباس. (¬4) أخرج ذلك البخاري عن أنس، انظر: "صحيح البخاري"، كتاب المغازي باب (35) غزوة الحديبية 5/ 66، وأخرجه البغوي في "شرح السنة" 14/ 222، والترمذي عن أنس، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: التفسير باب (49) ومن سورة الفتح 5/ 385، وأخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي: أخرج مسلم أوله، انظر: "المستدرك" كتاب: التفسير سورة الفتح 2/ 459، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص 404.

6

متعلق بما يتعلق به اللام في قوله: (ليغفر) على البدل منه، وتكرر إنا فتحنا (¬1). قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ} أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة {عِنْدَ اللَّهِ} أي: في حكمه {فَوْزًا عَظِيمًا} لهم أي: الوعد من الله بإدخال المؤمنين الجنة فوز عظيم لهم في حكم الله، كأن الله تعالى حكم لهم بالفوز العظيم, فلذلك وعدهم إدخالها. 6 - قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} قال ابن عباس ومقاتل: أي: من أهل المدينة والمشركين والمشركات من أهل مكة (¬2)، وظاهر الكلام يدل على أن المراد بهذا العذاب: عذاب الدنيا بأيدي المؤمنين؛ لأن نصرة الرسول والفتح عليه يقتضي ذلك (¬3) وإن حملنا الفتح على الهداية والبيان له في الدين، فذلك سبب عذاب المنافقين والمشركين, لأنه كما سعد بتصديقه المؤمنون فاستوجبوا المغفرة والجنة، شقي بتكذيبه المنافقون والمشركون فاستوجبوا العذاب والنار. قوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} هو أنهم ظنوا أن محمداً لا ينصر، هذا قول أكثر المفسرين (¬4)، وقال مقاتل: كان ظنهم: أنهم قالوا: واللات والعزى ما نحن وهو عند الله إلا بمنزلة واحدة (¬5) حين نزل قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 19]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 73، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 264. (¬2) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" 7/ 299، ومقاشل في "تفسيره" 4/ 69، وأبو الليث في "تفسيره" 3/ 253، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 136. (¬3) انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 136. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 73، "تفسير البغوي" 7/ 299، "زاد المسير" 7/ 426، "تفسير الوسيط" 4/ 136. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 69.

وقال أبو إسحاق: زعم الخليل وسيبويه أن معنى (السوء) هاهنا: الفساد، فالمعنى: الظانين باللهِ ظن الفساد، وهو ما ظنوا أن الرسول ومن معه لا يرجعون (¬1)، وذلك في قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} الآية [آية: 12]. قوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} قال ابن عباس: عليهم يدور العذاب (¬2). وقال أبو إسحاق: أي: الفساد والهلاك يقع بهم (¬3). وقال أبو علي: عليهم دائرة السوء، أي: الذي أرادوه بالمسلمين وتمنوه لهم يقع بهم لا بالمسلمين (¬4)، والكلام في تفسير (دائرة السوء) والقراءة فيه قد تقدم في سورة (¬5) براءة [آية: 98]. قال مقاتل: فلما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أُبي والمنافقون: يزعم محمد أن الله ينصره على عدوه هيهات هيهات، لقد بقي له من العدو أكثر وأكثر، فإن أهل فارس والروم وهم أكثر عدداً وأشد بأساً، ولن يظهر ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 20. (¬2) ورد هذا المعنى من غير نسبة عند الطبري في "تفسيره" 13/ 73، الثعلبي 10/ 134 ب، البغوي 7/ 299، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 136. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 21. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 6/ 201. (¬5) اختلفوا في ضم السين وفتحها من قوله تعالى: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بضم السين، وكذلك في سورة الفتح [آية: 6] وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {السَّوْءِ}: بفتح السين فيهما ولم يختلف في غيرهما، انظر: "الحجة" 4/ 206.

7

محمد عليهم (¬1)، فأنزل الله في ذلك قوله: 7 - {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ} يعني: الملائكة (والأرض) يعني: المؤمنون وهم أكثر من أهل فارس والروم، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} في ملكه {حَكِيمًا} في أمره. 8 - قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال ابن عباس: يريد على جميع الخلق (¬2)، وقال المقاتلان: شاهداً على أمتك بالرسالة (¬3)، وقال الكلبي: شاهداً بالبلاغ إلى أمتك (¬4) وهذه الشهادة تكون في الآخرة يشهد يوم القيامة على الأمم بتبليغ الرسل إليهم، على قول ابن عباس (¬5)، وعلى قول الآخرين فانتصاب قوله: (شاهداً) يكون على تقديم الحال، كأنه قيل: مقدر الشهادة كما تقول: معه صقر صائداً به غداً (¬6) وقد مرت نظائره فقوله (شاهداً) حال مقدرة، أي: يكون يوم القيامة، وقوله (مبشرًا ونذيراً) حال يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- ملابساً لها في الدنيا (¬7). قال عطاء: ومبشراً لأوليائي وأهل طاعتي، ونذيراً لأعدائي وأهل معصيتي. وقال الكلبي: مبشراً بالقرآن للمؤمنين بالجنة، ونذيراً للكافرين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 69. (¬2) لم أقف على هذا القول. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 69، "تفسير الشوكاني" 5/ 47. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" ص 511، وقد نسب القرطبي 16/ 266 هذا القول لقتادة. (¬5) لم أقف على هذا القول. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 266. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 21، وانظر: "تفسير ابن عطية" 14/ 94، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 266.

9

بالسخط (¬1). وقال المقاتلان: مبشراً بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة للمؤمنين ونذيراً من النار (¬2). 9 - قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرئ: بالتاء والياء، وكذلك ما بعده من الأفعال، فمن قرأ بالتاء فعلى معنى: قل لهم: إنا أرسلناك لتؤمنوا، ومن قرأ بالياء: وهو اختيار أبي عبيد، قال ذكر المؤمنين قبله وهو قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ولقوله بعده: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} ولأنه لا يقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لتؤمنوا بالله ورسوله وهو الرسول، وهذا معنى قول أبي إسحاق في وجه هذه القراءة, لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد آمن بالله وبأنبيائه وكتبه (¬3). وقوله: {وتعزروه} ذكرنا تفسيره عند قوله: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12]، قال مقاتل: تعينوه وتنصروه على أمره (¬4). وقال قتادة: تنصروه وتعزروه بالسيف واللسان (¬5). وقال ابن حيان: تنصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على قولي عطاء والكلبي. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 70، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 266. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 21، "التذكرة في القراءات" 2/ 687، "الحجة" لأبي علي 6/ 200، وأشار القرطبي 16/ 266 إلى اختيار أبي عبيد. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 70. (¬5) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" 13/ 74 عن قتادة، ونسبه القرطبي لقتادة، وذكره في "الوسيط" 4/ 136 من غير نسبه. (¬6) لم أقف على هذا القول.

10

وقال عكرمة: تقاتلوا معه بالسيف (¬1). وروى الحجاج بن أرطأة عنه قال: قلت لابن عباس: ما قوله: (وتعزروه)؟ قال: الضرب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف (¬2). قوله: {وَتُوَقِّرُوهُ} قال قتادة: تكرموه وتعظموه وتسودوه (¬3). وقال ابن حيان: تشرفوه وتبجلوه وتجلوه (¬4)، كل هذا من ألفاظ المفسرين. قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ} هذه الكناية راجعة إلى اسم الله (¬5) في قوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} وكثير من القراء اختاروا الوقف على قوله: وتوقروه (¬6) لمخالفة الكناية في: (وتسبحوه) الكناية التي قبلها، والمعنى: وتصَلّوا لله بالغداة والعشي. قاله المقاتلان (¬7). 10 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} قال المفسرون: يعني بيعة ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" عن عكرمة 13/ 75، ونسبه النحاس في "معاني القرآن" لعكرمة 6/ 499، ونسبه القرطبي 16/ 266 لابن عباس وعكرمة. (¬2) أخرج الطبري 13/ 75 عن عكرمة قال: يقاتلون معه بالسيف، ونسبه القرطبي في "الجامع" 16/ 267 لابن عباس وعكرمة. (¬3) أخرج الطبري 13/ 74 عن قتادة في {وَتُوَقِّرُوهُ} أمر الله بتسويده وتفخيمه. (¬4) لم أقف على هذا القول. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 75، "الماوردي" 5/ 313، "البغوي" 7/ 299. (¬6) انظر: "المكتفى" للداني ص 528، "تفسير البغوي" 7/ 299، القرطبي 16/ 267, ونقل النحاس عن أبي حاتم وأحمد بن موسى أن التمام عند قوله: ويوقروه. لأنهما قالا المعنى: ويوقروا النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسبحوا الله بكرة وأصيلًا. وخولفا في هذا لأن (ويسبحوه) معطوف على ما قبله قد حذفت منه النون للنصب فكيف يتم الكلام على ما قبله. انظر: "القطع والائتاف" لأبي جعفر النحاس ص670. (¬7) "تفسير مقاتل" 4/ 70.

الرضوان، وكانت بالحديبية تحت الشجرة، وكان المسلمون يومئذ ألفاً وأربعمائة رجل بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يقاتلوا ولا يفروا (¬1). قوله تعالى: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأن تلك البيعة طاعة لله وتقرباً إليه، باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة كما ذكر في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية [التوبة: 111] والعقد كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال أكثر المفسرين: يد الله بالوفاء لهم بما وعدهم من الخير فوق أيديهم بالوفاء والعهد حين بايعوك، وهذا قول ابن عباس ومقاتل (¬2) واختيار الفراء (¬3) ومعناه: الله أوفى منهم كما قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} [التوبة: 111]. وقال الكلبي: نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا (¬4)، واختاره الزجاج فقال: يد الله في المنة بالهداية فوق أيديهم في الطاعة (¬5)، أي: إحسان الله تعالى إليهم بأن هداهم للإيمان أبلغ وأتم من إحسانهم إليك بالنصرة والبيعة. ¬

_ (¬1) وهذا ثابت في الحديث الصحيح عند مسلم من حديث جابر، انظر: "صحيح مسلم" كتاب: الإمارة باب (18) استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة 2/ 1483، وانظر: "الطبري" 13/ 76، "البغوي" 7/ 299، "تفسير الوسيط" 4/ 136، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 266. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 70، "تفسير البغوي" وقد نسبه لابن عباس 7/ 300، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 22. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 65. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 135 ب، البغوي 7/ 300، والقرطبي 16/ 267. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 22.

وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم (¬1)، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬2)، والمعنى على هذا: ثق بنصرة الله لك، لا بنصرتهم وإن بايعوك (¬3). قوله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ} أي: نقض ما عقد من البيعة {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: يرجع ضرر ذلك النقض عليه، قال ابن عباس: وليس له الجنة (¬4)، {وَمَنْ أَوْفَى} أي: ثبت على الوفاء، {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} من البيعة {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} يعني: الجنة، قال ابن عباس: والعِظَم لا يوصف (¬5). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 135 ب، والقرطبي 16/ 268، و"الفخر الرازي" 28/ 78، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 136. (¬2) ذكر الثعلبي رواية ابن عباس بلفظ: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم بالوفاء، انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 135 ب. (¬3) ذكر الإمام ابن جرير في "تفسيره" أقوال المؤولين في صفة اليد ورجح مذهب السلف وهو: أنها صفة من صفاته هي يد غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم، انظر: "تفسير الطبري" 4/ 301، وقال البغوي عند تفسير آية المائدة: ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته، على العبد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف انظر: "تفسير البغوي" 3/ 76. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر وجوب الإيمان بصفة اليد وعدم تأويلها ونقل كلام المتقدمين من سلف الأمة قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها فلو كان التأويل سائغًا لكانوا أسبق إليه لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة انظر: "مجموع الفتاوى" 5/ 90. (¬4) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر 4/ 136. (¬5) لم أقف عليه.

11

11 - قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ}. قال المفسرون: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية استنفر مَنْ حول المدينة من أعراب غفار (¬1) ومزينة (¬2) وجهينة وأسلم (¬3)، فقعدوا عنه وقالوا: فيما بينهم: نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه نخرج إليهم فنقاتلهم في دارهم، فأخبر الله تعالى نبيه بما يقول له هؤلاء، إذا عاد إليهم بقوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ} وهم الذين خلفهم الله عن صحبة نبيه (¬4) -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل: المتخلفون، تحقيقاً أن تخلفهم [كان بغضاً الله، وأنا الذي خلفهم] (¬5). وقوله: {مِنَ الْأَعْرَابِ} يعني: القبائل الذي ذكرنا (شغلتنا) عن الخروج معك {أَمْوَالُنَا} أي: لم يكن لنا من يقوم بها ويكفينا أمرها. ¬

_ (¬1) هم: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، كانوا حول مكة، ومن مياههم: بدر، ومن أوديتهم: ودان، انظر: "معجم قبائل العرب" لكحالة 3/ 890. (¬2) هم: بنو مر بن أن بن طابخة بن إلياس بن مضر، واسم ولده: عثمان وأوس، وأمهما: مزينة فسمي جميع ولديهما بها. كانت مساكن مزينة بين المدينة ووادي القرى، ومن ديارهم وقراهم: فيحة الرَّوحاء، العمق، الفُرع، انظر:"معجم قبائل العرب" لعمر رضا كحالة 3/ 1082. (¬3) هم: بطن من خزاعة من القحطانية وهم بنو أسلم بن قصي بن حارثة بن عمرو بن مزيقيا منهم الحجاج بن مالك بن عويمر الأسلمي الصحابي من قراهم وَبْرة وهي: قرية ذات نخيل من أعراض المدينة. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 48، "معجم قبائل العرب" 1/ 26. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 135 ب، "تفسير أبي الليث" 3/ 254، "البغوي" 7/ 300، "القرطبي" 16/ 268، "تفسير الوسيط" 4/ 137. (¬5) كذا رسمها بالأصل, ولعل الصواب: (كان بغضًا من الله لهم وأنه الذي خلّفهم).

قوله: {وَأَهْلُونَا} يعنون: النساء والذراري، أي لم يكن من يخلفنا فيهم وهو جمع أهل، وأهل الرجل أخص الناس به (¬1)، ويقال: أهل وأهلون وأهال وأهلة وأهلات (¬2)، قال الله سبحانه وتعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم: 6]. وأنشد المفضل: وأَهْلَةِ وُدِّ قد تَبَرّضْتُ وُدَّهُم ... وأَبْلَيْتُهُم في الحَمْدِ جُهْدِي ونَائِلِي (¬3) وأنشد في الأهلات: فَهُم أَهَلاتٌ حَوْلَ قَيْسِ بن عَاصم ... إذا أَدْلَجُوا باللَّيلِ يَدْعُونَ كَوْثَرا (¬4) قال الفراء: والأهل يجوز أن يكون واحداً وجمعاً (¬5). قوله: {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} أي: تخلفنا عنك، أي: سل ربك أن يغفر ذلك لنا فإنا كنا معذورين، قال ابن عباس: ولم يكن شغلهم إلا الشك في الله، يعني: أنهم شكوا في نصرة الله رسوله، فكذبهم الله في قولهم (فاستغفر لنا) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (أهل) 6/ 417. (¬2) انظر: "لسان العرب" (أهل) 11/ 28. (¬3) الأهل: أهل الرجل وأهل الدار وكذلك الأَهْلة، قال ابن سيده: أهل الرجل: عشيرته وذوو قرباه، والجمع أهلون وآهال وأهال وأهْلات وأهَلات، والشاهد من البيت: وأهْلةِ وُدٍّ، وقد ورد هذا البيت في "اللسان" منسوبًا لأبي الطمحان، وفيه: تبريت ودهم، انظر: "اللسان" (أهل) 11/ 28. (¬4) الشاهد قوله: أهَلاتٌ، والإدلاج: السير في الليل، والبيت للمخبل السعدي، انظر: "اللسان" (أهل) 11/ 28. واسمه: ربيعة بن مالك، وهو من بني شماس بن لأي بن أنف الناقة، هاجر هو وابنه إلى البصرة، وولده كثير بالأحساء وهشام شعراء، انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص 269. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 65. (¬6) لم أقف عليه.

وقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} قال مقاتل: أي: من أمر الاشغفار لا يبالون استغفر لهم النبي أم لا (¬1) {قُلْ} لهم يا محمد {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} قال ابن عباس: يريد: من يمنعكم من الله (¬2)، وهذا مفسَّر في سورة المائدة (¬3) وغيرها. قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} وقرئ: ضُرّاً، والضَّر بالفتح: خلاف النفع، وبالضم سوء الحال، كقوله: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] قال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكونا لغتين، كالفَقْر والفُقْر، والضَّعْفَ والضُّعْف (¬4). قال ابن عباس: هو العذاب (¬5). وقال مقاتل: يعني: سوءاً، وهو الهزيمة (¬6). قوله تعالى: {أو نفعًا} قال ابن عباس: يريد الغنيمة (¬7)، ومعنى هذا الكلام الرد عليهم حين ظنوا أن تخلفهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدفع عنهم الضر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 71. (¬2) ذكر السمرقندي قريبًا من هذا المعنى ولم ينسبه، انظر: "تفسيره" 3/ 254، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر 4/ 137. (¬3) هو قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76]. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 202، والضم قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بالنصب. (¬5) نسب القرطبي لابن عباس بلفظ: الهزيمة، انظر: "الجامع" 16/ 268، وقال في "تنوير المقباس"، قتلًا أو هزيمة، انظر ص 512. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 71. (¬7) قال القرطبي في "الجامع" نصرًا أو غنيمة. ولم ينسبه 16/ 269، وذكر ذلك في "الوسيط"، ولم ينسبه، انظر 4/ 137.

12

ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، ثم قال: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي: عالماً بما كنتم تعملون في تخلفكم ثم أَعَلَمَ أنهم إنما تخلفوا عن الخروج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بظنهم ظن السوء. 12 - قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} أي: ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد، لأن العدو يستأصلهم، قوله: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} قال ابن عباس: زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم (¬1). قال المفسرون: وذلك أنهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس، لا يرجع هو ولا أصحابه أبداً، فأنَّى تذهبون؟ أتقتلون أنفسكم، انتظروا ما يكون من أمره (¬2)، فذلك قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} قال الكلبي عن ابن عباس: البور بكلام أهل (¬3) عُمان (¬4): الفاسد، يقول: ¬

_ (¬1) ذكر ذلك بغير نسبة: البغوي 7/ 301، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 430، والقرطبي 16/ 269، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 137. (¬2) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 136 أ، البغوي 7/ 301، والقرطبي 16/ 269. (¬3) كذا في الأصل، وفي "تفسير مقاتل" بلغة عمان 4/ 71، وفي تفسير السمرقندي: في لغة أزد وعمان 3/ 254، وفي "زاد المسير" في لغة أزد عُمان 6/ 78، وانظر: "تنوير المقباس" بلفظ: هلكى فاسدة القلوب قاسية القلوب ص 512. (¬4) عُمان: بضم أوله وتخفيف ثانيه، وآخره نون: اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند، وعمان في الإقليم الأول طولها: أربع وثلاثون درجة وثلاثون دقيقهَ، وعرضها: تسع عثمرة درجة وخمس وأربعون دقيقة في شرقي هَجَر، تشتمل على بلدان كثيرة ذات نخل وزروع، إلا أن حرها يضرب به المثل، وأكثر أهلها في أيامنا خوارج إباضية ليس بها من غير هذا المذهب إلا طاريء أو غريب. انظر: "معجم البلدان" 4/ 150.

13

فاسدة قلوبكم، وقال مقاتل: يعني: هلكى بلغة عمان (¬1). وقال مجاهد: هلكى (¬2) لا يصلحون لشيء من الخير. وقال أبو إسحاق: أي: هالكين عند الله جل وعز (¬3). وقال الفراء: البور في كلام العرب لا شيء، يقول: أصبحت أقوالهم وأعمالهم بوراً، أي: لا شيء (¬4)، وهذا الحرف مفسر في سورة الفرقان [آية: 18] ثم أوعد تارك الإيمان بقوله: 13 - {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، ثم عظم نفسه وأخبر بنفسه أنه غني عن عباده، فقال: 14 - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} الآية. 15 - قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني: هؤلاء القبائل الذين ذكرناهم إذا انطلقتم أيها المؤمنون، أي: سرتم وذهبتم إلى مغانم لتأخذوها، يعني: مغانم خيبر (¬5). قال المفسرون: وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية بالصلح وعدهم الله فتح خيبر، وخصَّ بغنائمها من شهد الحديبية دون غيرهم، فلما انطلقوا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 71. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 79 عن مجاهد لكن بلفظ: هالكين فقط، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 608، "الجامع لأحكام القرآن" بلفظ: هلكى 16/ 269. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج بلفظ: هالكين عند الله -عز وجل- فاسدين في علمه 5/ 23. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 66 بلفظ: يقال أصبحت أعمالهم بورًا ومساكنهم قبورًا. (¬5) خيبر: الموضع المذكور في غزاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي: ناحية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، يطلق هذا الاسم على الولاية، وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، وقد فتحها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع من الهجرة، وقيل. سنة ثمان، انظر: "معجم البلدان" 2/ 409.

إليها قال هؤلاء المخلفون (¬1) {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}. قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وقرئ: (كَلِمَ الله) (¬2)، والكلام مصدر، والكَلِمْ: جمع كلمة، وكلاهما ورد به التنزيل، وهو قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] قال ابن عباس: يريد مواعبد الله لأن الله تعالى جعل خيبر لأهل الحديبية خاصة (¬3) لم يجعل لأحد من الناس فيها شيئاً إلا لمن تخلف عنها لعذر. وقال مقاتل: يعني: يغيروا كلام الله الذي أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يسير معه منهم أحد (¬4)، قال أبو إسحاق: يعني بقوله: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) قول -عز وجل-: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] فأرادوا أن يأتوا بما ينقض هذا، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يفعلون ولا يقدرون على ذلك (¬5) فقال الله تعالى: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} قال ابن عباس: يريد: في الحديبية (¬6)، وقال مقاتل: يعني: هكذا قال الله بالحديبية من قبل خيبر أن لا تتبعونا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 80، "تفسير البغوي" 7/ 302، "زاد المسير" 7/ 430، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 270. (¬2) قرأ حمزة والكسائي: (كَلِمَ)، وقرأ الباقون: (كلام)، انظر: "الحجة" 6/ 202، و"التذكرة في القراءات" 2/ 687. (¬3) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 430. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 72. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 24، لكن بلفظ: (لا يعقلون) بدل: (لا يفعلون). (¬6) معنى هذا القول عند الطبري منسوبًا لقتادة، انظر: "تفسيره" 13/ 81، وعند البغوي غير منسوب 7/ 302. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 72.

وقال غيره: من قبل مرجعنا إليكم، أخبرنا الله أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية (¬1)، فعلي هذا القول الذي ذكرنا يعني: قال الله تعالى من قبل ما سبق من وعده بالغنيمة لأهل الحديبية. وقال الكلبي: لما قالوا لهم: لن تتبعونا، قالوا: والله ما أمركم الله بذلك وما بكم إلا الحسد (¬2)، فقال لهم المؤمنون: كذلكم قال الله لنا حين انصرفنا من الحديبية، إنهم سيقولون لكم إذا لم تأذنوا لهم إلى خيبر: إن بكم إلا الحسد كما قلتم لنا فهو بمعنى قوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} واختار الفراء هذا القول، فقال: إنهم قالوا لرسول الله: ذرنا نتبعك، قال: نعم على أن لا نسهم لكم، فإن خرجتم على ذا فاخرجوا، فقالوا للمسلمين: كذلكم (¬3) قال الله من قبل تقولون قد أخبرنا بما تقولون قبل أن تقولوه، وعلى هذا معنى قوله: (كذلكم قال الله من قبل). قوله: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} والأول أظهر لأن ذكر الحسد لم يتقدم طى قوله: (كذلكم قال الله)، وإنما ذكر بعد، قال مقاتل: يقولون: يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم (¬4) فقال الله: {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ} أي: لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين {إِلَّا قَلِيلًا} قال الكلبي: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 81، "تفسير الثعلبي" 10/ 136 ب، "تفسير البغوي" 7/ 302. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" ص 512. (¬3) العبارة فيها تصحيف، ونصها عند الفراء في "المعاني" 3/ 66: (فقالوا للمسلمين: ما هذا لكم ما فعلتموه بنا إلا حسدًا؟ قال المسلمون: كذلكم قال الله لنا من قبل أن تقولوا). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 72.

16

إلا يسيراً، منهم وهو من ترك النفاق وصدق بالله وبالرسول (¬1). قيل لهم: إن كنتم إنما ترغبون في الغزو والجهاد لا في الغنائم , فستدعون غداً إلى أهل اليمامة، وهو قوله تعالى: 16 - {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء وأبي صالح: هم بنو حنيفة (¬2) أتباع مسيلمة (¬3)، وهو قول المقاتلين والزهري والكلبي (¬4)، واختيار الفراء والزجاج (¬5)، ويؤكده ما روي عن رافع بن خديج (¬6) أنه قال: لقد كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم، حتى دعا أبو بكر -رضي الله عنه- إلى قتال بني ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في "الوسيط" 4/ 138 ولم ينسبه. (¬2) بنو حنيفة: حي من بكر بن وائل من العدنانية، وهم بنو حنيفة بن لحيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وبكر كان له من الولد: الرول، وعدي، وعامر، وكانت منازل لي حنيفة اليمامة، وكان يسكنها منهم: هودة بن علي بن ثمامة بن عمرو بن عبد العزى بن لحيم بن مرة بن الدوك بن حنيفة وهو الذي كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 223. (¬3) أخرج الطبري 13/ 83 هذا القول منسوبًا لسعيد بن جبير وعكرمة، ونسبه الثعلبي 10/ 136 ب للزهري ومقاتل، وكذلك البغوي والقرطبي نسباه للزهري ومقاتل، انظر: "تفسير البغوي" 7/ 353، "الجامع" 16/ 272. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 72، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 226، "تنوير المقباس" ص 513. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 66، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 24. (¬6) هو: رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، الحارثي أبو عبد الله أو أبو خديج، شهد أحدًا وما بعدها، وتوفي في خلافة معاوية على الصحيح. انظر: "الإصابة" 1/ 495، "تهذيب التهذيب" 3/ 229، "الأعلام" 3/ 12.

حنيفة فعلمنا أنهم هم (¬1). وعلى هذا التفسير، الآية تدل على خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، وذلك أن الله تعالى ذكر أنهم يدعون إلى قتال بني حنيفة، وعلم أن ذلك الداعي أبو بكر، ووعدهم على طاعته وإجابته الأجر الحسن وهو الجنة، فقال: {فَإِنْ تُطِيعُوا} يعني الداعي إلى قتال من ذكرهم وهو أبو بكر {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} قال مقاتل: يعني: الجنة (¬2)، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} يعني: تعرضوا عن قتال أهل اليمامة {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن المسير إلى الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ} في الآخرة {عَذَابًا أَلِيمًا} فأوعد على مخالفة أبي بكر -رضي الله عنه- كما أوعد على مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنار، وهذا ظاهر بحمد الله. وقال أبو إسحاق: {فَإِنْ تُطِيعُوا} أي تبتم وتركتم النفاق وجاهدتم {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} أي إن أقمتم على نفاقكم {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ} على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬3). وذكر المفسرون في تفسير قوله: {قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أنهم فارس، وقيل: الروم (¬4)، وقيل: هوزان (¬5) ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 136 ب، والألوسي في "روح المعاني" 26/ 102، والبغوي 7/ 303، والقرطبي 16/ 272، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 138. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 73. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 25. (¬4) أخرج الطبري 13/ 83 عن ابن عباس وابن أبي ليلى والحسن ومجاهد وابن زيد أنهم فارس، وأخرج عن الحسن وابن أبي ليلى وابن زيد أنهم فارس والروم. وذكر الثعلبي عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد (أنهم فارس) وذكر عن كعب أنهم الروم وعن الحسن أنهم فارس والروم. انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 136 ب. (¬5) هوزان: هم بطن من قيس عيلان من العدنانية وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة =

17

وثقيف (¬1) (¬2)، وغطفان، كل هذا من أقوالهم (¬3). قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قال الفراء: تقاتلونهم أو يكون منهم الإسلام (¬4). وقال الزجاج: المعنى: أو هم يسلمون (¬5). قال أبو صالح عن ابن عباس: لما أنزل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} إلى قوله: {عَذَابًا أَلِيمًا} أتى أهل الزمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: كيف لنا إذا دعينا ولا نستطيع الخروج، فأنزل الله قوله تعالى: 17 - {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} وبين عذرهم (¬6). ¬

_ = بن خصفة بن قيس بن عيلان وهم الذين أغار عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وغزاهم. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 264، "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 391. (¬1) ثقيف: هم بطن من هوزان من العدنانية، اشتهروا باسم أبيهم فيقال: لهم ثقيف واسمه قيس بن منبه بن بكر بن هوزان، قال أبو عبيد: وكان لثقيف من الولد جشم وناصرة، قال في "العبر": وهم بطن متسع. قال: وكانت منازلهم بالطائف، وهي مدينة من أرض نجد على مرحلتين من مكة. انظر: "نهاية الأرب" ص 186. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 83 عن عكرمة وسعيد بن جبير، ونسبه الثعلبي 10/ 136 ب، والبغوي 7/ 303 لسعيد بن جبير. (¬3) أخرج الطبري عن قتادة أنهم هوازن وغطفان يوم حنين، وكذلك ذكر الثعلبي عن قتادة أنهم هوزان وغطفان يوم حنين، وكذلك ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنهم هوازن وغطفان وثقيف يوم حنين. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 226. وذكر الماوردي 5/ 316 عن سعيد بن جبير وقتادة أنهم هوازن وغطفان. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 66. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 24 بلفظ: (تقاتلونهم حتى يسلموا وإلا أن يسلموا). (¬6) ذكر ذلك الثعلبي عن ابن عباس. انظر: "تفسيره" 10/ 137 أ، وأخرجه الطبراني =

18

وقال مقاتل: عَذَرَ أهل الزمانة الذين يتخلفون عن المسير إلى الحديبية، يقول، لا حرج عليهم، فمن شاء منهم أن يسير معكم إلى خيبر فليسر (¬1). ونحو هذا قال ابن حيان: يقول من تخلف من هؤلاء عن الحديبية فهم معذورون. (¬2) ثم أعلم -عز وجل- بخبر من أخلص نيته فقال: 18 - قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. قال المفسرون: يعني بيعة الحديبية، وهي تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية، وكانت الشجرة سَمُرة بايع تحتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا (¬3). وذكر ابن عباس سبب هذه البيعة، فقال فيما روى عنه عطاء: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية وقفت ناقته وزجرها فلم تنزجر، وبركت فقال أصحابه: خلأت (¬4) الناقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ¬

_ = في "المعجم الكبير" 5/ 155 رقم 4926 عن زيد بن ثابت وقال حمدي السلفي في تحقيقه: في إسناده محمد بن جابر اليمامي صدوق، ومحمد بن جابر السحيمي ضعيف ويكتب حديثه وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 73. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) وردت قصة هذه البيعة بروايات مختلفة في بعض الألفاظ انظر: "صحيح البخاري" كتاب: المغازي باب (35) غزوة الحديبية، وقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 5/ 61، "تفسير الطبري" 13/ 85، "تفسير الثعلبي" 10/ 137 أ - ب، "تفسير البغوي" 7/ 305، "زاد المسير" 7/ 420، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 274، "البداية والنهاية" 4/ 164. (¬4) قال الليث: الخِلأُ في الإبل كالحِرَان في الدواب. يقال: خلأت الناقة تخلأ خِلاءً إذا لم تبرح مكانها. =

هذا لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل" ودعا عمر -رضي الله عنه- ليرسله إلى أهل مكة ليأذنوا له بأن يدخل مكة ويحل من عمرته وينحر هديه فقال: يا رسول الله والله ما لي بها من حميم، وإني أخاف قريشاً على نفسي ولقد علمت قريش بشدة عداوتي إياها, ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان قال: صدقت. فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان وأرسله، فجال الشيطان وصاح في عسكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن أهل مكة قتلوا عثمان، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على قتال أهل مكة. قال عبد الله بن أبي أوفى: كنا يومئذ ألفاً وثلاثمائة (¬1). وقال ابن عباس في رواية عطية: كانوا خمسمائة وخمسة وعشرين رجلاً (¬2). وقال قتادة: كانوا خمس عشرة مائة (¬3). ¬

_ = قال الأزهري: قلت والخِلاء لا يكون إلا للناقة، وأكثر ما يكون الخِلاء منها إذا ضَبِعَتْ فتبرك ولا تثور. انظر: "تهذيب اللغة" (خلأ) 7/ 576. (¬1) أخرج ذلك البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى. انظر: "صحيح البخاري" كتاب: المغازي- باب (35) 5/ 63، وأخرج ذلك الطبري عن عبد الله بن أبي أوفى. انظر: "تفسيره" 13/ 88، "تفسير البغوي" 7/ 305، "زاد المسير" 7/ 422، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 276. (¬2) أخرج الطبري عن ابن عباس أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين 13/ 87, وكذلك ذكر الثعلبي عن العوفي أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين، انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 138/ أ، وأورد نفس هذه الرواية ابن الجوزي في "زاد المسير" عن العوفي عن ابن عباس 7/ 422، وذكر الألوسي عن ابن سعد أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين، انظر: "تفسيره" 26/ 107، فلعل هذا خطأ من الناسخ. (¬3) ذكر ذلك البخاري عن قتادة وجابر، انظر: "صحح البخاري" كتاب: المغازي، =

وقال جابر بن عبد الله: كانوا ألفاً وأربعمائة (¬1). قوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} قال ابن عباس: من الصدق والوفاء وهذا قول أكثرهم (¬2)، وقال مقاتل: فعلم ما في قلوبهم من الكراهة للبيعة علي أن يقاتلوا ولا يفروا (¬3). {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني: الطمأنينة والرضا حتى أقروا على أن يقاتلوا ولا يفروا، وذكر الفراء قولاً آخر قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أري في منامه أن يدخل مكة فلم يتهيأ لذلك، وصالح أهل مكة على أن يخلوها له ثلاث من العام المقبل، ودخل المسلمين من ذلك أمر عظيم، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما كانت رؤيا أريتها, ولم يكن وحياً من السماء" فعلم الله ما في قلوب المسلمين من ذلك، فأنزل السكينة عليهم، أي: الطمأنينة (¬4) في هذه السورة وفي غيرها، وقال الكلبي في تفسير السكينة هاهنا: الطمأنينة (¬5) حين صدهم المشركون فأذهب تلك الحمية من قلوبهم {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا ¬

_ = باب (35) 5/ 63، وأخرجه الطبري 13/ 87 عن قتادة، ونسبه البغوي 7/ 304 لجابر، ونسبه ابن الجوزي 7/ 422 لجابر وقتادة. (¬1) أخرج ذلك البخاري عن جابر، انظر كتاب: المغازي باب (35) 5/ 63، وأخرجه الطبري 13/ 87، والبغوي 7/ 403 عن جابر. (¬2) ذكره من غير نسبة: "الطبري" 13/ 88، "الثعلبي" 10/ 138 أ، "البغوي" 7/ 306، "زاد المسير" 7/ 434. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 73. (¬4) انظر: "معاني الفراء" 3/ 67. (¬5) هكذا فسرها الطبري 13/ 88، وقال البغوي: الطمأنينة والرضاء 7/ 306، وكذلك ابن الجوزي في 7/ 434، وانظر: "تنوير المقباس" ص 513.

19

قَرِيبًا} يعني: خيبر في قول الجميع (¬1). 19 - {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} من أموال يهود خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، هذا قول الأكثرين (¬2)، وقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: يريد مغانم فارس والروم مما هم آخذوها ولم يأخذوها بعد (¬3)، والقول هو الأول, لأن سائر المغانم قد وعدوها وذكرت بعد هذه الآية قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} غالباً (حكيماً) في أمره حكم لكم بالغنيمة، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة. 20 - ثم ذكر سائر المغانم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} قال مقاتل: أي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده إلى يوم القيامة (¬4) وهذا قول الجميع (¬5) {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني: غنيمة خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} قال المفسرون: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية إلى المدينة أقام بها بقية ذي الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر، وحاصر أهلها فهمت حلفاء يهود خيبر من أسد وغطفان ويهود المدينة أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 88 عن قتادة، وابن أبي ليلى، وانظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 138 ب، "تفسير البغوي" 6/ 357. (¬2) انظر:"تفسير الثعلبي" 10/ 380 ب، "تفسير البغوي" 7/ 306، "زاد المسير" 7/ 435، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 278. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" ص 513. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 73، 74. (¬5) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 95، "تفسير الثعلبي" 10/ 138 ب، "تفسير البغوي" 7/ 306، "زاد المسير" 7/ 435، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 278.

بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وهذا قول قتادة (¬1) ومقاتل (¬2)، وقال عطاء عن ابن عباس: أراد بالناس أهل مكة (¬3). قوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ولتكون هزيمة هؤلاء الذين هموا بذراري المسلمين وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك ونبوتك، وهذا معنى قول مقاتل (¬4). وقال مقاتل بن حيان وقتادة: وليكون كف أيديهم عن عيالكم عبرة للمؤمنين (¬5)، وأجود القولين أن يكون المعنى: ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها (¬6). وذلك أنا إن قلنا: ولتكون الهزيمة، كان إخباراً عما لم يجر له ذكر، إذ الهزيمة لم تذكر، وإن قلنا: وليكون كف أيدي الناس آية، وجب أن يقال: وليكون بالياء، لأن الكف مصدر مذكر، والواو في (ولتكون) مقحمة على مذهب الكوفيين، وعلى مذهب البصريين الواو عاطفة على مضمر بتقدير: وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين (¬7). {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: يزيدكم هدى بالتصديق لمحمد ولما ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 90 عن قتادة، ونسبه الثعلبي 10/ 138 ب، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 277 لقتادة. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 74. (¬3) ذكر ذلك بغير نسبة: الطبري 13/ 90، والثعلبي 10/ 138 أ، والماوردي 5/ 317، والبغوي 7/ 306. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 74. (¬5) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، وانظر: "تفسير الماوردي" 5/ 317، "زاد المسير" 7/ 436، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 279. (¬6) ذكر ذلك السمرقندى في "تفسيره" 3/ 256، (8) الماوردي، وابن الجوزي، والقرطبي. (¬7) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 279، وأبو حيان في "البحر" 8/ 97.

21

جاء به مما ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة، وهذا قول مقاتل (¬1). وقال غيره: ويهديكم صراطاً مستقيماً يعني: طريق التوكل والتفويض (¬2)، وذلك أنه لما جاءهم أمر من هم بهم من عدوهم، وكان بذلك هادياً لهم إلى طريق التوكل حتى يتوكلوا على الله فيما نابهم فيكفيهم كما كفاهم هذا من غير سعي منهم. 21 - ثم ذكر ما وعدهم سوى خيبر مما يفتحه عليهم فقال: (وأخرى) وهي في محل النصب بالعطف على قوله: {مَغَانِمَ كَثِيرَةً} على تقدير: ووعدكم مغانم أخرى على ما قال الزجاج (¬3)، وبلاداً أو قرى أخرى على ما ذكر المفسرون. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد فارس والروم، وهو قول أكثرهم (¬4). قوله: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} خطاب للعرب وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم وفتح مدائنها، بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليها بالإسلام، وعز أهله. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 74. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 91، "الثعلبي" 10/ 138 ب، "زاد المسير" 7/ 436. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 26، "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 201، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 311. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" 10/ 142 ب، لابن عباس، وابن أبي ليلى والحسن ومقاتل، ونسبه الماوردي لابن عباس 5/ 318، ونسبه البغوي 7/ 313 لابن عباس والحسن ومقاتل، ونسبه الشرطبي 16/ 279 لابن عباس، والحسن، ومقاتل، وابن أبي ليلى.

22

قوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قال الكلبي: أحاط الله لكم بها وجعلها لكم وحواها لكم (¬1). قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم (¬2)، ومعنى الإحاطة على هذا القول: الحفظ، كأنه قال: حفظها لكم ومنعها عن غيركم حتى تفتحوها (¬3) فتأخذوها. وقال ابن عباس: علم أنها ستكون لكم (¬4)، وهو قول مقاتل (¬5)، واختيار الزجاج قال: أحاط الله بها قد علمها الله، وقال: وهو ما يغنم المسلمون إلى أن لا يقاتلهم أحد (¬6)، وهذا معنى قول مجاهد في تفسير (وأخرى لم تقدروا عليها) لأنه قال: هي ما فتحوا حتى اليوم (¬7)، ومعنى الإحاطة في هذا القول: العلم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} من فتح القُرَى وغير ذلك {قَدِيرًا}. 22 - قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس في رواية ¬

_ (¬1) قال في "تنوير المقباس" ص 513 (قد علم الله أنها ستكون وهي غنيمة فارس). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 67. (¬3) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 318، "تفسير البغوي" 7/ 312، "زاد المسير" 7/ 437، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 279. (¬4) ذكر ذلك البغوي 7/ 312، وابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه 7/ 437، والقرطبي في "الجامع" ولم ينسبه 16/ 279. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 74. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 26. (¬7) أخرج ذلك الطبري 13/ 91 عن مجاهد، انظر: "تفسير مجاهد" ص 608، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 436 لمجاهد.

23

الكلبي: يعني: أسد وغطفان والذين أرادوا نصرة يهود خيبر (¬1)، وقد ذكرناهم، وقال في رواية عطاء: يريد أهل مكة، وهو قول قتادة (¬2)، والضحاك ومقاتل (¬3). وقال أبو إسحاق: لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت عليهم (¬4)، وهذا عام في كل من يخالفه في دينه. قوله: {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} قال ابن عباس: يريد: من تولَّى غير الله خذله الله ولم ينصره (¬5)، ثم ذكر أن سنة الله النصرة لأوليائه، قوله: 23 - {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} قال الزجاج: (سنة الله) منصوبة على المصدر لأن قوله: {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} معناه: سَنّ الله خذلانهم سنة (¬6)، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد: هذه سنتي في أهل طاعتي وأوليائي، وهذه سنتي في أعدائي وأهل معصيتي، يريد: أنصرُ أوليائي وأخذل أهل معصيتي (¬7). 24 - ثم ذكر سنته بالمحاجزة بين الفريقين، فقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ ¬

_ (¬1) ذكر ذلك من غير نسبة كل من الثعلبي 10/ 142 ب، والسمرقندي 3/ 257، والبغوي 7/ 312، والقرطبي 16/ 280، وانظر: "تنوير المقباس" ص 513. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، انظر: "تفسيره" 13/ 93، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لقتادة 10/ 142 ب، وكذلك نسبه ابن الجوزي لقتادة 7/ 437، وأيضًا نسبه لقتادة القرطبي في "الجامع" 16/ 280. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 74، ولم أقف على نسبته للضحاك. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 26. (¬5) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر 4/ 141. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 26. (¬7) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر 4/ 141.

أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد: أيدي أهل مكة، وذلك أن المشركين جاءوا يصدون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البيت وعليهم عكرمة ابن أبي جهل، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إليه ومعه خيل المسلمين فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، وكان يومئذ بينهم قتال بالحجارة، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة وعطاء والكلبي (¬1)، ونحو هذا قال مقاتل قال: كانوا قد خرجوا يقاتلون النبي -صلى الله عليه وسلم- فهزمهم بالطعن والنبل، حتى أدخلهم بيوت مكة (¬2)، فمعنى قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}: يعني: حتى لم تقتلوا منهم ببطن مكة، قال عطاء: يريد: الحديبية (¬3). وقال مقاتل: يعني: ببطن أرض مكة كلها، والحرم كله مكة (¬4). وقال الكلبي: يعني: جوف مكة، وبكة الأرض التي فيها البيت، ومكة التي فيها الحديبية اسم الأرض، هذا كلامه (¬5)، والحديبية: من الحل (¬6)، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 94 عن عكرمة، وكذلك نسبه الثعلبي 10/ 143 أ، وانظر: "تنوير المقباس" ص 514. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75. (¬3) أخرج الطبري 13/ 94 عن قتادة، قال: بطن مكة الحديبية، ونسب ابن الجوزي 7/ 438 هذا القول لأنس، وأورده القرطبي 16/ 282 ولم ينسبه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75 (¬5) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" أن بكة المسجد والبيت، ومكة: اسم للحرم كله، قاله الزهري وضمرة بن حبيب، انظر: "زاد المسير" 1/ 425. وذكره القرطبي في "الجامع" أن بكة: موضع البيت، ومكة سائر البلد، عن مالك ابن أنس، وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد، ومكة الحرم كله تدخل فيه البيوت، قال مجاهد: بكة هي مكة فالميم على هذا مبدلة من الباء، كما قالوا: طين لازِبٌ ولازم، وقال الضحاك والمؤرج، انظر: "الجامع" 4/ 138. (¬6) قال الشافعي في "الأم" 2/ 218: ونحر -صلى الله عليه وسلم- في الحل، وقد قيل في الحرم، وإنما =

وعلى ما ذكروا اسم مكة يجب أن يكون واقعاً على الحل والحرم. قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} يريد: أن الظفر كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة، والمعنى: أن الله تعالى يذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلا، وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح، وسلم للرجل من بينه وبينه قرابة، ومن هو مؤمن من أهل مكة أن يصاب، وهذا قول عامة المفسرين. وقال عبد الله بن المغفل: بينا نحن بالحديبية، وكتاب الصلح يكتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانة"، قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقال أنس: إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم فأخذهم ¬

_ = ذهبنا إلى أنه نحو في الحل، وبعضها في الحرم, لأن الله -عز وجل- يقول: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} والحرم كله محله عند أهل العلم، وانظر: "أحكام القرآن" للشافعي 2/ 131، ونقل ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 303 عن الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل، وبعضها في الحرم 3/ 303. (¬1) أخرج ذلك النسائي في "السنن الكبرى"، كتاب: التفسير 6/ 464، وأخرج الطبري في "تفسيره" 13/ 94، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير 2/ 460، وقال حديث صحيح، على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الهيثني في "مجمع الزوائد" رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، انظر: "مجمع الزوائد" 6/ 145، وأخرجه البغوي في "تفسيره" 7/ 313.

25

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أعتقهم فأنزل الله هذه الآية (¬1)، ثم ذكر سبب منعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك العام عن دخول مكة في قوله: 25 - {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: كفار مكة {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال ابن عباس ومقاتل: أن تحلوا من عمرتكم وتطوفوا به (¬2) {وَالْهَدْيَ} منصوب ... ... ... (¬3) المعنى وصدوا الهدي. وقال ابن عباس: يعني البدن التي ساقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان قد ساق معه سبعين بدنة (¬4)، بدنة بين عشرة، وبقرة بين سبعة، وقال مقاتل: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى عام الحديبية مائة بدنة (¬5). قوله تعالى: (معكوفاً) قال المفسرون: محبوساً، والعكف: الحبس، يقال: عكفه يعكفه عكفاً، إذا حبسه، وعكفت القوم عن كذا، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير باب (46) قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} 2/ 1442 رقم 1808. وأخرجه الطبري 13/ 94، البغوي 7/ 313. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 320، "زاد المسير" 7/ 440، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 283، "تفسير مقاتل" 4/ 75. (¬3) غير واضحة في الأصل عليها آثار مسح، لكن في "معاني القرآن" للزجاج عبارة مطابقة للصورة الموجودة وهي: الهدي منصوب سبق على الكاف والميم المعنى وصدوا الهدي، انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 27، وقال في "الدر المصون" 6/ 163، {وَالْهَدْيَ} العامة على نصبه والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في {صَدُّوكُمْ} وقيل: نصب على المعية، وفيه ضعف لإمكان العطف. (¬4) أخرج الطبري 13/ 95 - 96 عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة أن هديه كان سبعين بدنة، وأخرجه عنهما أيضًا البغوي 7/ 313. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75 وقد أشار إلى القول: بأنها سبعين بدنة، كما أشار السمرقندي 3/ 257 إلى القولين جميعًا.

أي: حبستهم، ويقال: إنك لتعكفني عن حاجتي، أي: تصرفني (¬1)، قال الأزهري: يقال: عكفته عكفاً فعكف عكوفاً (¬2)، وهو لازم وواقع، كما يقال: رجعته فرجع، إلا أن المصدر اللازم العكوف، ومصدر الواقع العكف. قوله: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قال الزجاج: موضع (أن) منصوب على معنى وصدوا الهدي محبوساً عن أن يبلغ محله (¬3). قال مقاتل: يعني منحره (¬4)، وهو الحرم كله. {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} يعني: المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار وهم كالوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل (¬5) بن سهيل وأشباههم (تعلموهم) أي: لم تعرفوهم كقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 95، وتفسير السمرقندي 3/ 257، "تفسير البغوي" 7/ 320، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 283. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" عكف 1/ 321. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 27. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75. (¬5) أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن عامر بيب لؤي، وأبوه سهيل بن عمرو الذي بعثته قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، ولما اتفق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلح جاء ابنه أبو جندل يوسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: "صدقت"، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني في دينى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا" توفي رحمه ألله سنة 23 هـ، انظر: "الكامل" لابن الأثير 2/ 138، 3/ 41.

60]، قال مقاتل: لم تعلموهم أنهم مؤمنون (¬1). قوله: {أَنْ تَطَئُوهُم} أي: بالقتل وتوقعوا بهم، يقال: منه وطِئت القوم أي: أوقعت بهم، ومنه قول الشاعر: ووطِئَتْنَا وَطْأً على حَنَقٍ ... وطْأَ المُقَيَّدِ يابِسَ الهَرْمِ (¬2) قال أبو إسحاق: موضع (أن) رفع بدل من رجال، المعنى: لولا أن تطأوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات (¬3). قوله: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} قال مقاتل وابن زيد: إثم (¬4)، قال أبو عبيدة وابن هانئ: المعرفة: الجناية، أي: جناية كجناية العَرِّ وهو الجَرَب (¬5). وقال النضر: يقال عَرَّه بشر، أي: ظلمه وشتمه وأخذ ماله. وقال شمر: المعرفة التي كانت تصيب المؤمنين أنهم لو كبسوا (¬6) أهل مكة وبين ظهرانيهم قوم مؤمنون لم يتميزوا من الكفار، لم يأمنوا أن يطؤوا المؤمنين بغير علم فيقتلوهم، فتلزمهم دياتهم وتلحقهم سُبَّةُ بأنهم قتلوا من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75. (¬2) البيت: لزهير، انظر: "تهذيب اللغة" (هرم) 6/ 296، "اللسان" (هرم) 12/ 607، "الدر المصون" 6/ 164. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 27. (¬4) انظر: "تفسير الماوردي" 5/ 320، "تفسير البغوي" 7/ 320، "زاد المسير" 7/ 440، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 286، وقد نسب كل منهم هذا القول لابن زيد، ولم أجده في "تفسير مقاتل". (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 217، "تهذيب اللغة" (عر) 1/ 99 , "فتح القدير" للشوكاني 5/ 54. (¬6) قال في "تهذيب اللغة" (كبس) التكْبِيسُ: الاقتحام على الشيء تقول كبَّسُوا عليهم 10/ 80.

هو على دينهم إذ كانوا مختلطين بهم، فهذه المعرة التي صان الله المؤمنين عنها هي غُرم الديات ومسبة الكفار إياهم، انتهى كلامه (¬1)، أما غرم الدية فهو قول محمد بن إسحاق بن يسار (¬2)، وهو غلط لأن الله تعالى لم يوجب على قاتل المؤمن خطأ في دار الحرب الدية، وإنما أوجب الكفارة في قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92]، فالصحيح أن يقال: غرم الكفارة (¬3)، وأما المَسَبّة فهو اختيار أبي إسحاق (¬4). قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقدم في المعنى، كأن التقدير: لولا أن تطؤوهم بغير علم (¬5)، وهذه الآية دليل على أن القرية من قرى المشركين إذا كان فيها طائفة من المسلمين لا يجوز البيات عليهم ولا تعميمهم بالحرق والغرق والمجانيق، وفي هذه الآية ضروب من النظم. قال صاحب النظم: التأويل: ولولا تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لا تعرفون إيمانهم فتوقعون، فلما قدم ذكر الرجال والنساء، والمراد في التقديم، الوطأة بَنَى عليه الوطاة (¬6) كالتكرير في ذكره، وهذا معنى ما ذكره أبو إسحاق أن قوله: أن {تَطَئُوهُمْ} بدل من قوله: (رجال) (¬7). واختلفوا في جواب قوله: (ولولا رجال) فذهب قوم إلى أنه محذوف ¬

_ (¬1) انظر قولي النضر وشمر في "تهذيب اللغة" (عر) 1/ 99 - 100. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 102 عن ابن إسحاق، وذكره الثعلبي 10/ 151 أ، والماوردي 5/ 320، والبغوي 7/ 320، وابن الجوزي 7/ 440، والقرطبي 16/ 286. (¬3) وهذا اختيار الطبري 13/ 102، وأورده الثعلبي 10/ 151أ، والبغوي 7/ 320. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 27. (¬5) انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 143. (¬6) كذا رسمها في الأصل ولم أقف عليه. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 27.

علي تقدير: لسلطناكم عليهم ولأذنا لكم في دخولها، وحذف الجواب كثير في التنزيل، وقال آخرون: جوابه قوله: (لعذبنا الذين كفروا) وهو جواب لكلامين أحدهما: لولا رجال، والثاني: لو تزيلوا (¬1). قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} اللام متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام على تقدير: حال بينكم وبينهم ليدخل الله في رحمته من يشاء، يعني من أسلم من الكفار بعد الصلح، ودل على الحيلولة قوله: (ولولا رجال مؤمنون) (¬2). وقال أبو جعفر النحاس: أجاز أبو حاتم الوقف على قوله: (بغير علم)، وجعل اللام في قوله: (ليدخل الله) لام قسم كما جعل في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ما تقدم الآية [لما لم (¬3) ير قبل اللام فعلاً متعلقاً به]، وفي هذا المعنى لطف، فلذلك أشكل عليه، والتقدير: لم يأذن لكم في القتال ودخول مكة على سبيل العرب، ليدخل الله في رحمته من يشاء ممن يسلمون وتم الكلام (¬4)، ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} قال أبو عبيدة: لو انمازوا (¬5)، وقال الفراء والزجاج: لو تميزوا (¬6)، وذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28]. قال الكلبي: لو تفرق بعضهم من ¬

_ (¬1) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري 2/ 1167، "الدر المصون" 6/ 164. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 320، "البحر المحيط" 8/ 99. (¬3) نص العبارة عند النحاس (فجلها لام قسم لما لم ير الفعل قبلها يتعلق به). انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص 671. (¬4) انظر: "القطع والائتناف" ص 671. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 217 (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 68، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 27.

26

بعض حتى يخلص الكفار وحدهم (¬1). قوله تعالى: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقال مقاتل: لو اعتزل المؤمنون الذين بمكة من كفارهم لعذبنا الذين كفروا (¬2). قال الفراء: أي: لو خلص الكفار من المؤمنين لأنزل الله بهم القتل والعذاب (¬3). وقال ابن قتيبة: لو تميزوا من المشركين لعذبنا المشركين بالسيف عذاباً أليماً (¬4). قال مجاهد: يعني القتل والسبي (¬5). 26 - قوله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} (إذ) متعلق بقوله: (لعذبنا) لأن المعنى: لعذبنا الذين كفروا إذ جعلوا في قلوبهم الحمية، وهي مصدر قولك: حمى فلانٌ أنفه يحميه حَمِيَّة أو مَحْمِيَّة، وفلان ذو حمية منكرة، إذا كان ذا غضب وأنفة (¬6)، ومعناها الحفاظ من قولهم: حمي فلان الشيء يحميه، إذا منعه من أن يُقْرَب ويجوز أن يكون من الحمى بمعنى الحرارة، قال الليث: حميت من هذا الشيء أحمي منه ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" 5/ 325، والقرطبي في "الجامع" 16/ 286، وانظر: "تنوير المقباس" ص 514. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 68. (¬4) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 2/ 134. (¬5) لم أقف على هذا القول، وقال الطبري 13/ 103: لقتلنا من بقي فيها بالسيف أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل، وذكره في "الوسيط" 4/ 143 بلفظ المؤلف ولم ينسبه. (¬6) انظر. "تهذيب اللغة" (حمى) 5/ 274.

حمية، أي أنفاً وغضباً، منه لرجل حمي لا يحتمل الضيم، وحمي الأنف (¬1). قال المبرد: الحمية الأنفة والإنكار، فإذا كانت مما لا يوقف من مثله فهو ضلالة وعلو، كما قال تعالى: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وإذا كانت لما يجب أن يوقف منه فصاحبها محمود. قال الفراء: حموا أنفاً أن يدخلها عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قال المقاتلان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا ونسائنا، وتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا -يعنون محمداً وأصحابه- فهذه الحمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم (¬3). وقال الزهري: كانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم (¬4). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وذلك أن سهيل بن عمرو كان عند النبي صلى -صلى الله عليه وسلم- وهو يملي كتاب الصلح، وسهيل مشرك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل: لا ندري ما الرحمن، ولكن اكتب: بسمك اللهم. ثم قال: ¬

_ (¬1) انظر: "العين" (حمى) 3/ 312، "تهذيب اللغة" (حمى) 5/ 274 لكن بلفظ (أنفًا وغيظًا) بدل غضبًا. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 68. ولم أقف على قول المبرد. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 75، 76، وأورد السمرقندي 3/ 285 هذا القول ولم ينسبه، وذكره البغوي 7/ 321 ونسبه لمقاتل، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه 7/ 441، ونسبه في "الوسيط" 4/ 13 للمقاتلان. (¬4) أخرج ذلك الطبري13/ 103 عن الزهري. وأورده الثعلبي ولم ينسبه 10/ 151 ب، ونسبه للزهري: الماوردي 5/ 320، والقرطبي 16/ 288، 289.

"اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك (¬1). قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} تفسير السكينة في هذه السورة قد مر مراراً، ومعناها هاهنا ما ذكره الفراء: أذهب الله عن المؤمنين أن يدخلهم ما دخل أؤلئك من الحمية فيعصوا الله (¬2). قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال مقاتل: ألزم المؤمنين كلمة الإخلاص وهي: لا إله إلا الله (¬3)، وهذا قول جماعة المفسرين (¬4)، ورواية أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في تفسيرها هي: لا إله إلا الله (¬5)، وزاد علي وابن عمر: والله أكبر (¬6). قال عمرو بن ميمون: ما تكلم الناس بشيء أعظم عند الله من لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي ألزمها الله أصحاب محمد (¬7). ¬

_ (¬1) أورد ذلك الطبري 13/ 99، الثعلبي 10/ 147 ب، "البغوي" 7/ 316. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 68. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 76. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 104، 105، "الثعلبي" 10/ 152 أ، "السمرقندي" 3/ 258، "الماوردي" 5/ 321، "البغوي" 7/ 321. (¬5) أخرج ذلك الترمذي في التفسير باب (49) ومن سورة الفتح 5/ 386، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة, قال: وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث فلم يعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه, والثعلبي 10/ 152 أعن أبي بن كعب. ونسبه البغوي 7/ 321، والقرطبي 16/ 289. (¬6) أخرج ذلك الطبري 13/ 104 عن علي -رضي الله عنه-، والثعلبي 10/ 152 أ، ونسبه ابن الجوزي 7/ 442، والقرطبي 16/ 289، والبغوي 7/ 321 لعلي وابن عمر. (¬7) أخرجه الطبري 13/ 105 عن عمرو بن ميمون قال: لا إله إلا الله فقط دون ما ذكره المؤلف.

27

وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم (¬1)، يعني أن المشركين لما أبوا أن يقروا بهذا خص الله بهذه الكلمة المؤمنين (¬2)، والقول هو الأول لأن معنى كلمة التقوى هي التي يتقى بها من الشرك وهي: لا إله إلا الله. قوله: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} قال مقاتل: كانوا أحق بها من كفار مكة، وكانوا أهلها في علم الله (¬3). وقال أبو إسحاق: أي كانوا أحق بها من غيرهم؛ لأن الله جل وعز اختار لنبيه ولدينه أهل الخير ومستحقيه، ومن هو أولى بالهداية من غيرهم (¬4). قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} قال مقاتل: عليماً بأنهم كانوا أهلاً للتوحيد في علم الله (¬5). والمعنى: أنه عليم بأمر الكفار وما يستحقونه، وأمر المؤمنين وما يستحقونه. 27 - وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} قال مقاتل: إن الله تعالى أرى نبيه -عليه السلام- في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوه عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، فلما انصرفوا ولم ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 106 عن الزهري، وأخرجه الثعلبي عن الزهري 10/ 152 أ، وعبد الرزاق في "تفسيره" عن الزهري 2/ 229، ونسبه الماوردي 5/ 321، والبغوي 7/ 322، وابن الجوزي للزهري 7/ 442. (¬2) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 289. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 76. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 28، بلفظ: (ومن هو أولى بالهداية من غيره). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 76.

يدخلوه قال المنافقون: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقال مجاهد: أري هذه الرؤيا بالحديبية، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية أين رؤيا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فنزلت الآية (¬2)، والمعنى: أن الله تعالى يخبر عن صدق ما أرى رسوله بقوله: صدقه الله رؤياه، أي: أراه الصدق في منامه لا الباطل. قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} المفسرون يجعلون هذا تفسير رؤياه وشرح ما رأى، ومقاتل يجعل هذا ابتداء إخبار عن الله تعالى أخبر المؤمنين أنهم يدخلونه فقال: (لتدخلن)، يعني: العام المقبل (¬3)، وابن كيسان يجعل هذا الكلام خبراً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك لأصحابه (¬4) والتقدير: فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}، والاستثناء بالمشيئة على هذا القول حسن, لأنه من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم معنى الاستثناء بالمشيئة يجوز أن يعود إلى الدخول، ويجوز أن يعود إلى الأمن, أي: لتدخلنه إن شاء الله الدخول، أو لتدخلنه آمنين إن شاء الله الأمن (¬5)، وإذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 76، "تفسير الطبري" 13/ 107، وقد أخرجه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأورده البغوي 7/ 322 بغير سند 7/ 322، ونسبه القرطبي 16/ 289 لقتادة. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 107 عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 609, "تفسير البغوي" 7/ 322. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 76، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 290. (¬4) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 152 ب، البغوي 7/ 323، والقرطبي 16/ 290. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 152 ب، البغوي 7/ 323، وابن الجوزي 7/ 443.

من هذا من كلام الله واختاره للمؤمنين بذلك، فوجه الاستثناء مختلف فيه. قال أبو عبيدة: (إن) بمعنى إذ يعني: إذ شاء الله، حيث أرى رسوله ذلك (¬1)، وذكر أبو إسحاق فيه وجهين أحدهما: أن معناه: لتدخلن إن أمركم الله، فالمشيئة هاهنا بمعنى الأمر؛ لأنه إذا شاء أمر، والثاني: أن يكون (إن شاء الله) على ما أمر الله به في كلِّ ما يُتوقع فقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬2) [الكهف: 23]، وهذا معنى ما روي عن أبي العباس أنه سئل عن هذا فقال: استثنى الله فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون (¬3). قوله تعالى: {آمِنِينَ} أي من العدو، و {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} يقال: حَلَقَ رأسَه، وحَلّق رأسه، والمحلق موضع حلق الرأس بمنى، ومنه قول الراجر: ¬

_ (¬1) لم أجد قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن"، ولكن قد نسبه إليه الثعلبي 10/ 152 ب، البغوي 7/ 323، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 443 والقرطبي 16/ 290، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 101، والمؤلف في "الوسيط" 4/ 145، وقال النحاس في "إعراب القرآن" 4/ 204: (وقد زعم بعض أهل اللغة أن المعنى لتدخلن المسجد الحرام إذ شاء الله وزعم أنه مثل قوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وأن مثله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وهذا قول لا يعرج عليه ولا يَعرِفُ أحد من النحويين (إن) بمعنى (إذ) وإنما تلك (أن) فَغَلِطَ وبينهما فصل في اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين). وقال ابن عطية: وقال قوم: إن بمعنى إذ فكأنه قال: إذ شاء الله، وهذا حسن في معناه، ولكن كون إن بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب. انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 15/ 120. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 28. (¬3) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 443، والقرطبي 16/ 290 عن ثعلب.

كلا وربِّ البيْتِ والمُحَلّقِ (¬1) قوله: {وَمُقَصِّرِينَ} أي من الشعر، يقال: قصر شعره، إذا جز من طوله، وهذا يدل على أن المُحْرم بالخيار عند التحلل من الإحرام إن شاء حلق وإن شاء قصر (¬2). قوله: {لَا تَخَافُونَ} حال من المحلقين والمقصرين، على تقدير غير خائفين (¬3). قوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أي: علم الله ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح، ولم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بينهم والصلح المبارك موقعه العظيم أثره. قال مقاتل: فعلم الله أنه يفتح عليهم خيبر قبل ذلك، ولم يعلموا (¬4). وقال غيره: علم الله أن ذلك كائن إلى سنة، ولم تعلموا أنتم (¬5). ¬

_ (¬1) ورد الرجز في "اللسان" غير منسوب. انظر: "اللسان" (حلق) 10/ 64. (¬2) أخرج البخاري عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم ارحم المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: "اللهم ارحم المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: و"المقصرين". انظر: "صحيح البخاري" كتاب الحج- باب الحلق والتقصير عند الإحلال 2/ 188. وقال القرطبي 2/ 381: قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير، وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان. (¬3) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 312. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 77. (¬5) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" 3/ 258 ونسبه للكلبي، ونسبه الماوردي في "تفسيره" 5/ 322، والقرطبي 16/ 291 للكلبي.

28

قوله: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} أي: من قبل الدخول فتحاً قريباً، يعني فتح خيبر في قول ابن عباس في رواية عطاء ومقاتل وابن زيد (¬1)، وفي قول الآخرين هو صلح الحديبية (¬2). 28 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} مفسَّر في سورة براءة [آية: 33] إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي: على ما أرسل، قال مقاتل: وهذا رد على المشركين لمَّا أملى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا ما صالح عليه محمد رسوله، أنكروا ذلك على ما بينا، فأنزل الله هذه الآية (¬3). 29 - قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} قال ابن عباس: شهد له بالرسالة (¬4) وهو جملة مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون محمد ابتداء، ورسول الله نعته، والذين معه عطف على الابتداء، وخبره فيما بعده (¬5). قال ابن عباس: (والذين معه) أهل الحديبية (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 108 عن ابن زيد، "تفسير مقاتل" 4/ 77، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لابن زيد 10/ 153 أ، ونسبه ابن الجوزي 7/ 444 لابن عباس وعطاء وابن زيد ومقاتل، ونسبه القرطبي لابن زيد والضحاك 16/ 291. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 108 عن مجاهد والزهري وابن إسحاق، ونسبه الثعلبي لأكثر المفسرين 10/ 153 أ، ونسبه الماوردي لمجاهد 5/ 322، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 609، ونسبه ابن الجوزي لمجاهد والزهري وابن إسحاق 7/ 444، ونسبه القرطبي لمجاهد 16/ 291. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 77، "زاد المسير" 7/ 445، "القرطبي" 16/ 292. (¬4) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 445، وفي "الوسيط" 4/ 146 عن ابن عباس. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 4/ 205، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 313. (¬6) ذكر ذلك القرطبي "الجامع" 16/ 292، ونسبه لابن عباس، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر 4/ 146.

وقال مقاتل: والذين آمنوا معه من المؤمنين (¬1). {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} غلاظ عليهم كالأسد على فريسته {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} يرحم أحدهم الآخر، قال ابن عباس: الرجل للرجل منهم كالولد لوالده، والعبد لسيده (¬2). وقال مقاتل: متوادون بعضهم لبعض (¬3)، وهذا كقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها، قال ابن عباس: إن عروة بن مسعود الثقفي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحديبية فأقام بلال فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم خلفه وعروة يعجب من حسن ما يرى من ركوعهم وسجودهم (¬4). قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} قال مقاتل: يعني الجنة ورضا الله (¬5). {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال ابن عباس في رواية عطاء: أي: مما حملت من الأرض جباههم، وهذا قول عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية، قال سعيد: هو ندى الطهور وندى الأرض (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78. (¬2) ذكره بغير نسبة: البغوي 7/ 323 - 324 دون قوله: والعبد لسيده، والمصنف في "الوسيط" 4/ 146 بنصه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78، ونص العبارة: (فضلاً، يعني: رزقًا من الله ورضوانًا، يعنىِ يطلبون رضي ربهم). (¬6) أخرج ذلك الطبري 13/ 111 - 112 عن سعيد بن جبير وعكرمة، ونسبه الثعلبي =

وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب (¬1). وقال شمر بن عطية: هو التهيج والصفرة في الوجه وأثر السهر (¬2). وهو قول الحسن والضحاك، قال الحسن: تحسبهم مرضى وما هم بمرضى، يعني من كثرة السهر للصلاة. وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفراً. وقال عطية: (مواضع السجود (¬3) أشد وجوههم بياضاً يوم القيامة) (¬4)، وعلى هذا القول هذه السيما تعرف في وجوههم يوم القيامة، وهذا قول الزهري وشهر بن حوشب، قال: يكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، والقولان جميعاً ذكرهما الكلبي عن ابن عباس فقال: سيماهم من السهر بالليل والصفرة في وجوههم يعرفون بها يوم القيامة غرًّا (¬5). وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع وأنكر أن يكون [السحادة] (¬6) ¬

_ = لعكرمة وسعيد بن جبير، انظر: "تفسيره" 10/ 153 ب، ونسبه الماوردي 5/ 323 لسعيد بن جبير، ونسبه البغوي 7/ 324 لعكرمة وسعيد بن جبير. (¬1) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 153، 154، والبغوي 7/ 324، وابن الجوزي 7/ 446. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 111 عن شمر، وذكر ذلك الثعلبي 10/ 153 ب، وابن الجوزي 7/ 447، والقرطبي 16/ 294 ونسبوه لشمر. (¬3) نص العبارة عند ابن الجوزي: (مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة) انظر: "زاد المسير" 7/ 447. ونصها عند الطبري 13/ 110: (مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضًا). (¬4) ذكر هذه الأقوال الثعلبي 10/ 153 ب، والماوردي 5/ 323، البغوي 7/ 324، وابن الجوزي 7/ 446 - 447، والقرطبي 16/ 294. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 153 - 154، وابن الجوزي 7/ 447، والقرطبي 16/ 294. (¬6) كذا في الأصل، ولعل المراد (السحنة).

بين العينين، وقال إنه ليكون في وجه الرجل مثل ركبة العنز، وإنه لأخبث من كذا (¬1)، وهذا قول طاوس ومقاتل، ورواية الوالبي عن ابن عباس، قالوا: هو الهدي والسمت الحسن وسيما الإسلام وسحنته (¬2)، وعلى هذا معنى قوله (من أثر السجود) أي: من أثر الصلاة، والمعنى: أن السجود أورثهم ذلك الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وحكى أبو إسحاق: أن هذه السيما هو أنهم يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الطهور، يجعله الله لهم يوم القيامة علامة يبين بها فضلهم على غيرهم (¬3). قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} يعني: ما ذكر من وصفهم وهو ما وصفوا في التوراة أيضًا، والمعنى أنهم وصفوا في التوراة بما وصفوا في القرآن، وتم الكلام هاهنا في قول ابن عباس فيما روى عنه ابن جريج، وهو قول الضحاك وقتادة ومقاتل وابن زيد (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبري 13/ 111 عن مجاهد، وذكره الثعلبي 10/ 153 ب، والقرطبي 16/ 294، ونسباه لمجاهد مع اختلاف في بعض الألفاظ، ونسبه في "الوسيط" 4/ 146 لمجاهد. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 111 عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي 10/ 153 ب، والبغوي 7/ 324 لابن عباس، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس في رواية الوالبي. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 29، وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فيلفعل"، انظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الطهارة باب (12) اسححباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء 1/ 216. (¬4) أخرج ذلك الطبرى عن قتادة والضحاك وابن زيد ورجح هذا القول، انظر: =

قال مقاتل: يقول ذلك الذي ذكر نعت أمة محمد عليه السلام في التوراة، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل (¬1) فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ} وقال مجاهد: المثلان في التوراة والإنجيل واحد، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي قال: يقول صفتهم في التوراة والإنجيل كصفتهم في القرآن (¬2)، وذكر الفراء القولين أيضًا (¬3)، وتمام الكلام على قول مجاهد: عند قوله في الإنجيل، ثم ابتدأ، فقال: كزرع، أي: هم كزرع، أو هو يعني: رسول الله كزرع، والكاف في محل الرفع, لأنه خبر المبتدأ المحذوف (¬4). قوله تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} يقرأ: بسكون الطاء وفتحها (¬5)، قال أبو زيد: أشطأت الشجرة بغصونها، إذا أخرجت غصونها (¬6)، وقال ابن الأعرابي: أخرج شطأه، أي: فراخه، وجمعه أشطاء، وقد أشطأ الزرع، إذا فرخ (¬7)، ونحو هذا قال أبو عبيدة (¬8). ¬

_ = "تفسيره" 13/ 112 - 113، وكذلك الثعلبي فسره بذلك، انظر: "تفسيره" 10/ 154 أ، وكذلك فسره به البغوي 7/ 324، وأشار ابن الجوزي 5/ 323 إلى القولين ونسب هذا القول للضحاك وابن زيد ونسب القول بأنه مثل واحد لمجاهد، وأورد القولين من غير نسبة ولا ترجيح الماوردي في "تفسيره" 5/ 323. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 113 عن مجاهد، ونسبه القرطبي 16/ 294 لمجاهد. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 69. (¬4) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 314، "الدر المصون" 6/ 166. (¬5) قرأ ابن كثير وابن عامر: بالفتح، وقرأ الباقون: بالسكون، انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 203. (¬6) انظر: "الحجة" 6/ 204 "تهذيب اللغة" (شطأ) 11/ 392. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" (شطأ) 11/ 392، "اللسان" (شطأ) 1/ 100. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 218.

وقال الزجاج: أخرج نباته (¬1). وقال المبرد: أشطأ فراخ الزرع يقال قد أشطأ الزرع، ومن هذا يقال للواحد من الأولاد: إنك لشطأةٌ صالحة (¬2). وقال أبو علي الفارسي: والشَّطْأ والشَطَأ يشبه أن يكونا لغتين، كالشَّمْع والشَّمَع والنَّهْر والنَّهَر (¬3). أما التفسير فقال أنس بن مالك: نباته وفروخه (¬4). وقال مجاهد: جوانبه (¬5)، وقال [أبو زيد] (¬6): أولاده (¬7). وقال الضحاك: هو ما يخرج بجنب الحلقة فينمو (¬8). قوله تعالى: {فآزره} القراءة بالمد، وقرأ ابن عامر: (فأزره) مقصوراً على فعله (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 29. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 204. (¬4) أخرج ذلك الطبري 13/ 113 عن أنس بدون لفظ (فروخه)، ونسبه له الثعلبي 10/ 154 أ. (¬5) أخرج الطبري 13/ 114 عن مجاهد بلفظ: (ما يخرج بجنب الحلقة فيتم وينمو) , وكذلك الثعلبي نسب هذا المعنى لمجاهد، انظر: "تفسيره" 10/ 154 أ. (¬6) كذا في الأصل، وهو تصحيف والصحيح [ابن زيد]. (¬7) أخرج الطبري هذا القول عن ابن زيد انظر: "تفسيره" 13/ 114، وكذلك نسبه الثعلبي لابن زيد 10/ 154 أ، وكذلك نسبه القرطبي 16/ 294 لابن زيد وغيره. (¬8) أخرج الطبري 13/ 114 هذا عن مجاهد، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لمجاهد والضحاك 10/ 154 أ. (¬9) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 604 - 605, "الحجة" لأبي علي 6/ 204

قال أبو عبيدة: ساواه وصار مثل الأم، وأنشد لحميد الأرقط (¬1): يَسْقِي بغَيْثٍ غَدِقٍ السَّاحَاتِ ... زَرْعَاً وقَضْباً مُؤْزَر النباتِ (¬2) وقال المبرد: معناه: أن هذه الأفرخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها (¬3)، والمعنى: آزر الشطأ الزرع فصار في طوله. وقال الأصمعي: فساوى الفراخ الطوال فاستوى طولها، وأنشد قول امرئ القيس: بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالَ نَبْتُها ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِمِيْنَ وخُيَّبِ (¬4) قال: أراد: أن نبت هذه المحنية طال حتى ساوى السدر, لأن الناس هابوه فلم يرعوه، وعلى قول هؤلاء فاعل (آزر) الشطأ، وآزر وزنه أفعل، ويدل عليه قول حميد. وقال بُزُرْج: يقال: وأزرني فلان على الأمر وآزرني، والألف أعرب (¬5) وهو من المؤازرة، وفعلت منها آزرت أزراً (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على ترجمته. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 218، والبيت بلفظ: (السَّحات). (¬3) ذكر ذلك في "الوسيط" ونسبه للمبرد، انظر 4/ 146. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 247، "اللسان" (أزر) 4/ 18، "الحجة" لأبي علي 6/ 204، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" ص 332 - 333، والمحنية: واحدة المحاني، وهي معاطف الأودية، والمحنية أخصب موضع في الوادي، والضال: شجر السدر، وآزر: ساوى، يريد: لحق النبت بالشجر، وهي مجمع للجيوش فلا ينزلها أحد ليرعاها خوفًا من الجيوش، وانظر: "ديوان امرئ القيس" ص 51. (¬5) في "تهذيب اللغة" (والألف أفصح) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 246. (¬6) انظر. "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 246 - 247.

وقال الفراء: آزرت فلاناً آزره أزراً، قويته على وزن عَزَّرته، وآزرته عاونته (¬1). وقال الزجاج: آزرت الرجل على فلان، إذا أعنته عليه وقويته (¬2)، وعلى هذا القول آزر وزنه فاعل. قال المبرد: يقال: آزرني على أمري، أي: قواني (¬3) ومنه قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]، وفلان موازر، لفلان على أمره وليس هذا من الوزير لأن هذا فاؤه مهموز، والوزير فاؤه وواوه، فا عل (آزر) على هذا القول الزرعُ، والمعنى: آزر الزرعُ الشطأ (¬4). قال أبو الحسن الأخفش: الأشبه في آزر أفعل (¬5) لا فاعل ليكون قول أبي عامر أزره فعله، فيكون فيه لغتان فَعَل وأفْعَل, لأنهما كثيرًا ما يتعاقبان على الكلمة كما قالوا: ألَتَهُ وآلَتَهُ يُولِتُهُ، وكذلك آزره وأزره (¬6). قال ابن عباس ومقاتل ومجاهد: فآزره فشده وأعانه (¬7)، وقال الزهري وقتادة: فتلاحق (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 247، "معاني القرآن" للفراء 3/ 69. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) 13/ 247، ونسبه للزجاج والذي في "معاني القرآن" 5/ 29 للزجاج: (فآزره أي: فآزر الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض). (¬3) لم أقف على قول المبرد، وفي "تهذيب اللغة" الأزر: القوة (وزر) 13/ 247، وفي "اللسان" الأزر: القوة والشدة (أزر) 4/ 17. (¬4) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 205، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 295. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 695، وهذا النقل بنصه في "الحجة" 6/ 205. (¬6) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 205. (¬7) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 114، "الثعلبي" 10/ 154 ب، "تفسير مقاتل" 4/ 78. (¬8) أخرج ذلك الطبري عن قتادة والزهري، انظر: "تفسيره" 13/ 115.

قوله: {فَاسْتَغْلَظَ} يقال: استغلظ الشيء، إذا صار غليظاً، وهذا لازم، واستغلظت الثوب، إذا خيّل إليك أنه غليظ (¬1) واقع، واستغلظ النبات والشجر إذا غلظ، قوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} ذكرنا تفسير السوق عند قوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] وهي جمع ساق، قال الكلبي: فقام على قصبه وأصوله فأعجب ذلك زارعه (¬2) وهو قوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}، وقال مقاتل: يعجب الزارع حُسْنُ زرعه حين استوى قائماً على ساقه (¬3). قال المفسرون: وهذا كله مثل ضربه الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فالزرع محمد، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة (¬4)، كان أول الزرع دقيقاً ثم غلظ وقوي وتلاحق، كذلك المؤمنون يقوي بعضهم بعضاً حتى يستغلظوا ويستووا على أمرهم، كما استغلظ هذا الزرع واستوى على سوقه، وهذا قول مقاتل (¬5). وقال الكلبي: محمد -صلى الله عليه وسلم- بدأ حين بدأ وحْدَه، فجعل الناس يأتونه وجعلوا يزدادون ويكثرون حتى امتنعوا وهابهم العدو وقهروا من حولهم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (غلظ) 8/ 84. (¬2) لم أقف عليه بهذا النص، وقد ذكر الثعلبي أنه بمعنى أصوله ولم ينسبه 10/ 154 ب، وكذا البغوي 7/ 325، وذكره في "الوسيط" 4/ 147 بنص ما هنا ولم ينسبه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 115، "تفسير الثعلبي" 10/ 154 ب، "تفسير الماوردي" 5/ 324، "تفسير البغوي" 7/ 325، "زاد المسير" 7/ 448، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 295. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78. (¬6) ذكر نحو ذلك في "تنوير المقباس" ص 515، وفي "تفسير الوسيط" 4/ 147 ولم ينسبه.

قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} من صفة كمال ذلك الزرع وحسنه. وقال أبو إسحاق: (الزُّراع) الدعاة إلى الإسلام (¬1)، وعلى هذا معنى الكلام: أن قوة صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكثرتهم تعجب الدعاة إلى دينه، كما يعجب حسن هذا الزرع الذين زرعوه، وتم الكلام ثم قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} واللام متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق والتقدير: فعل الله بهم ذلك ليغيظ بهم الكفار (¬2)، أي: إنما كثرهم وقواهم لكونوا غيظاً للكافرين، وروي لنا عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال في قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ما آمن أن يكونوا قد صارعوا الكفار، يعني: الرافضة، لأن الله تعالى يقول: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فمن غاظه واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- خفت عليه أن يكون ممن دخل في قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (¬3). وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، قال أبو إسحاق: فيها قولان: يكون منهم تخليصاً للجنس من غيره، كما تقول: أنفق نفقتك من الدراهم، أي: اجعل نفقتك هذا الجنس، والمعنى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين أجراً عظيماً، فضلهم على غيرهم لسابقتهم وعظم أجرهم، هذا كلامه في أحد القولين، وبياف أنه ليس يمكن حمل قوله: (منهم) على التبعيض لأنهم كلهم مؤمنون ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 29. (¬2) انظر: "الدر المصون" 6/ 167، "البحر المحيط" 8/ 103. (¬3) ذكر القرطبي 16/ 297 نحو هذه المقالة، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 103، وابن كثير 6/ 365 ونسبوها جميعًا لمالك.

فحمله على الجنس ليدخل فيه كلهم، وتخصيصهم بوعد المغفرة والأجر تفصيل لهم، وإن وعد المؤمنون كلهم ذلك، ولكنهم إذا ذكروا على التخصيص كان ذلك فضيلة لهم، قال: والقول الثاني: أن يكون المعنى وعد الله الذين آمنوا، أي: أقاموا على الإيمان والعمل الصالح (¬1). قوله تعالى: {مِنْهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: ثواباً لا ينقطع (¬2)، وقال مقاتل: يعني الجنة (¬3) والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 29 - 30، "الدر المصون" 6/ 167، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 295 - 296. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 78.

سورة الحجرات

سورة الحجرات

1

تفسير سورة الحجرات بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، قَدَّم هاهنا: بمعنى: تقدم وهو لازم لا يقتضي مفعولاً، يدل عليه قراءة الضحاك ويعقوب: (لا تَقَدَّموا) بفتح التاء والدال من المتقدم ومعناهما واحد (¬1). قال الفراء: يقال قَدَمت في أمر كذا، وكذا وتقدَّمت (¬2). وقال الأزهري: يقال قَدَّم يُقدِّم، وتَقدّم يَتقدّم، وأقدم يُقْدِمُ، واستَقدم يستقدم بمعنى واحد (¬3). وقال أبو [عبيد] (¬4): تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي: لا تعجل بالأمر دونه والنهي (¬5)، يجيء فعل بمعنى يفعل، يقال: حول بمعنى تحول، ومنه قول ذي الرمة: قوله: إذا حَوّل الظِّل العَشِي رأيتَه ... حَنِيفاً وفي قَرْنِ الضُّحَى يَتَنصَّرُ (¬6) ¬

_ (¬1) انظر كتاب: "التذكرة في القراءات" 2/ 689، "الدر المصون" 6/ 168. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 69. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (قدم) 9/ 49. (¬4) كذا في الأصل والصواب (عبيدة). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 219 (¬6) انظر: "ديوان ذي الرمة" ص 229, وانظر: "تهذيب اللغة" (ولى) 15/ 452، قال الأزهري: أراد تحول الظل بالعشي.

ومعنى بين اليدين هاهنا: المقدام والأمام، وذلك راجع إلى قدام الأمر والنهي, لأن المعنى: لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما، وبين اليدين عبارة عن الأمام, لأن ما بين يدي الإنسان أمامه، وهذا اللفظ بهذا المعنى كثير في التنزيل. واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال الكلبي والسدي والمقاتلان وعطاء الخراساني: نزلت [..] (¬1) قصة بئر معونة (¬2) وقيل: للثلاثة الذين قتلوا الرجلين المسلمين اللذين اعتزيا إلى بني عامر، وكان بنو عامر قتلوا أصحاب بئر معونة، فلما اعتزى الرجلان إليهم قتلوهما وأخذوا ما كان معهما، فلامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "بئسما صنعتما هما رجلان من بني سليم (¬3) من أهل ميثاقي" ونزلت هذه الآية (¬4) يقول: لا تقطعوا أمراً دون الله ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وقد سقط حرف (في). (¬2) بئر معونة: قال ابن إسحاق: (بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وقال: كلا البلدين منها قريب إلا أنها إلى حرة بني سليم أقرب، وقيل: بثر معونة بين جبال يقال لها: أبْلَى في طريق المصعد من المدينة إلى مكة وهي لبني سليم)، وقال الواقدي: (بئر معونة في اْرض بني سليم وأرض بني كلاب، وعندها كانت قصة الرجيع) والله أعلم، انظر: "معجم البلدان" 1/ 302. (¬3) بنو سليم: بضم السين- قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى، وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس، قال الحمداني: وهم أكثر قبائل قيس، وكان لسليم من الولد بهتة ومنه جميع أولاده، قال في العبر: وكانت منازلهم في عالية نجد بالقرب من خيبر، قال: وليس لهم الآن عدد ولا بقية في بلادهم. انظر: "نهاية الأرب" ص 271. (¬4) أورد ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 157 أونسبه للسدي وعطاء الخراساني, وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 87، "تفسير الماوردي" 5/ 326 ونسبه للضحاك عن ابن عباس، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 301، "تفسير الألوسي" 26/ 133.

ورسوله، ولا تعجلوا به، وهذه رواية باذان عن ابن عباس (¬1). وقال ابن الزبير: قدم المدينة ركب من بني تميم (¬2) على النبي -صلى الله عليه وسلم-[..]، (¬3)، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله هذه الآية (¬4) وهذه رواية عطاء عن ابن عباس (¬5). وقال جابر بن عبد الله: نزلت في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة، وذلك أن ناساً من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم أن ييدوا الذبح. وهو قول الحسن (¬6)، واختيار الزجاج، قال: أعلم الله أن ذلك غير جائز، قال: وفي هذا دليل أنه لا يجوز أن يؤدِّى فرضٌ قبل وقته، ولا تطوع قبل وقته مما جاءت به السنة (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 157 ب. (¬2) بنو تميم: بطن من طابخة وطابخة من العدنانية وهم بنو تميم بن مر بن أد بن طابخة، والتميم في اللغة الشديد، وكان لتميم من الولد زيد مناة وعمرو بن الحارث، قال في العبر: وكانت منازلهم بأرض نجد من هنالك على البصرة واليمامة وامتدت إلى الغري من أرض الكوفة. انظر: "نهاية الأرب" ص 177. (¬3) سقط من الأصل قوله: (فقال: أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع ابن حابس). (¬4) أخرجه عن عبد الله بن الزبير البخاري في التفسير، باب إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون 6/ 47، والطبري 13/ 119، وأخرجه الثعلبي 10/ 157 أ، والمؤلف في "أسباب النزول" ص 406، والبغوي 7/ 334. (¬5) وهي التي سبقت الإشارة إليها في قصة بئر معونة وقتل الرجلين. (¬6) أخرج ذلك الثعلبي 10/ 156 ب عن جابر بن عبد الله، وأشار أيضًا أنه اختيار الحسن البصري، ونسبه في "الوسيط" 4/ 150 لجابر، ونسبه الطبري 13/ 117، والماوردي 5/ 325, وابن الجوزي 7/ 454، والقرطبي 16/ 301 للحسن. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 31.

2

وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك، قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم (¬1). وأما التفسير: فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة (¬2)، وقال العوفي عنه: لا تتكلموا بين يدي كلامه (¬3). وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه (¬4)، وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله (¬5). وقال الكلبي: لا تسبقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم (¬6). وهذه عبارات المفسرين ومعناها واحد. 2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قال ابن عباس: في رواية عطاء والكلبي والمقاتلان: نزلت في ثابت بن ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الثعلبي 10/ 156 ب عن عائشة، ونسبه إليها البغوي 7/ 334، وابن الجوزي 7/ 455، وعزاه السيوطي في "الدر" 7/ 547 إلى الطبراني في الأوسط وابن مردويه، ونسبه في "الوسيط" 4/ 150 لمسروق عن عائشة. (¬2) أخرج ذلك الطبري 13/ 116 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" 10/ 156 ب لابن عباس عن علي بن أبي طلحة. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 116 عن ابن عباس، ونسبه الماوردي 5/ 352 لابن عباس، ونسبه ابن الجوزي 7/ 455 للعوفي، وذكره السيوطي في "الدر" 7/ 546. ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" ص 610، وأخرجه الطبري 13/ 116، ونسبه الثعلبي 10/ 157 أ، ونسبه البغوي 7/ 334، والقرطبي 16/ 301 لمجاهد. (¬5) نسب هذا القول للضحاك، الثعلبي 10/ 157/ أ, والبغوي 7/ 334. (¬6) نسب الثعلبي 10/ 157 أهذا القول للكلبي، "تنوير المقباس" ص 515.

قيس بن شماس، كان إذا تكلم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع صوته فربما كان ينادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصوته (¬1) قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} قال مقاتل: يقول: لا تدعوه باسمه يا محمد بن عبد الله، كما يدعو الرجل منكم غيره باسمه: يا فلان ويا فلان، ولكن عظّموه وقولوا: يا رسول الله، يؤدبهم (¬2). وقال مجاهد: لا تنادوه ولا تقولوا: يا محمد، ولكن قولوا: قولاً ليناً: يا رسول الله (¬3). وقال أبو إسحاق: أمرهم الله عز وجل بتبجيل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار، وأن يفضلوه في المخاطبة قال: ومعنى (كجهر بعضكم لبعض) أي: لا تنزلوه بمنزلة بعضكم من بعض فتقولوا: يا محمد، خاطبوه بالنبوة والسكينة والإعظام (¬4). قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} قال ابن قتيبة: لئلا تحبط (¬5)، وهذا ¬

_ (¬1) أخرج البخاري عن أنس بن مالك قصة فقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس وسؤاله عنه وذكر قيس سبب تخلفه وهي هذه الآية، انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير 46/ 6، وأخرجه مسلم في الإيمان باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله 1/ 110، والطبري 13/ 118 عن أنس، وذكر الثعلبي أنها نزلت في قيس بن شماس ولم ينسبه 10/ 158 أ، وأخرجه البغوي 7/ 335 عن أنس، ونسبه في "الوسيط" 4/ 150 لأنس، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 89. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 90. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 118 عن مجاهد، وذكر الماوردي هذا المعنى ولم ينسبه، انظر: "تفسيره" 5/ 326 - 327، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 610. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 32. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 415.

3

مذهب الكوفيين، قال الأخفش: مخافة أن تحبط، كما تقول: أدعم الحائط أن يميل أي مخافة أن يميل (¬1)، وهذا قول البصريين، وقد بينا هذا في مواضع. قال مقاتل: يعني أن تبطل حسناتكم وأنتم لا تشعرون (¬2). قال أبو إسحاق: هذا إعلام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب أن يجل ويعظم غاية الإجلال والإعظام، وأنه قد يفعل الشيء مما لا يشعر به في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون ذلك مهلكاً لفاعله أو قائله، ولذلك قال بعض الفقهاء: من قال: إن زِرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسخ، يريد به النقص وجب قتله، هذا مذهب مالك وأصحابه، انتهى كلامه (¬3). قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية انطلق ثابت مهموماً حزيناً فمكث في بيته أياماً مخافة أن يكون قد حبط عمله، وكان سعد بن عبادة جاره فانطلق سعد حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بقول ثابت أنه قد حبط عمله وأنه في النار فقال: "اذهبْ فأخبره أنه ليس مِنْ أهل النار وأنه من أهلِ الجنة" (¬4) ففرح ثابت وخرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان بعد ذلك إذا كان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- خفض صوته فلا يسمع من يليه فنزلت فيه. 3 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} وقال عطاء ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 695، ونص عبارته (أي مخافة أن تحبط أعمالكم، وقد يقال: (اسْمُك الحائط أن يميل). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 90. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 32. (¬4) أخرج ذلك البخاري عن أنس بن مالك. انظر: "صحح البخاري" -كتاب التفسير- سورة الحجرات 6/ 46. وأخرجه الطبري 13/ 119 عن عكرمة، وأورده الثعلي في "تفسيره" 10/ 158 أ - ب، وذكره القرطبي في "الجامع" 16/ 305.

عن ابن عباس: لما نزل قوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} تألَّى أبو بكر ألا يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كأخي السرار، فأنزل الله تعالى في أبي بكر: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} (¬1) ونحو هذا روي لنا عن أبي هريرة (¬2). وقال ابن الزبير: ما حدث عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه حتى يستفهمه بما يخفض صوته فأنزل الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} (¬3). والغض: النقص من كل شيء، ومنه غض البصر وغض الصوت (¬4). قال الله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، قال مقاتل: يخفضون كلامهم عند رسول الله (¬5)، قال ابن عباس: يريد أبا بكر (¬6). قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} قال مقاتل ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" وقال رواه البزار وفيه حصين بن عمر الأحمسي وهو متروك، وقد وثقه العجلي، وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 108، وذكره الماوردي 5/ 326، البغوي 4/ 336، والقرطبي 16/ 308، وذكره في "الوسيط" 4/ 151. (¬2) أخرج ذلك الثعلبي 10/ 159 أعن أبي هريرة وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" -كتاب التفسير- سورة الحجرات 2/ 462، وذكره البغوي في "تفسيره" 7/ 336. (¬3) أخرج ذلك البخاري في "تفسيره". انظر: "صحيح البخاري" كتاب: التفسير 6/ 46، وذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" عن ابن الزبير 10/ 159 أ، البغوي في "تفسيره" 7/ 337، وذكره القرطبي في "الجامع" 16/ 308، ولا مانع من نزول الآية في جميع من ذكر لما اتحد فعلهم. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (غض) 16/ 36، "اللسان" (غضض) 7/ 197. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 90. (¬6) انظر: "تفسير الوسيط" 4/ 151.

ومجاهد وقتادة: أخلص الله قلوبهم (¬1)، وهذا معني وليس بتفسير، وذلك أن الامتحان معناه في اللغة: الاختبار (¬2)، والاختبار إنما يكون الإخلاص كما يمتحن الذهب بالنار ليخلص، والتقدير: امتحن الله قلوب فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه، وذلك أن الامتحان إنما كان للإخلاص. قال عطاء عن ابن عباس: يريد طهَّر قلوبهم من كل قبيح، وجعل التقوى في قلوبهم والخوف من الله (¬3)، قال الفراء: أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبثه (¬4)، وقال أبو عبيدة: امتحنه: اصطفاه (¬5)، وهذا كقول المفسرين. وقال أبو سعيد الضرير: محنت الأديم محنًا إذا مددته حتى توسعه، قال: ومعنى قوله: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} شرح الله قلوبهم، كان معناه وسَّع الله قلوبهم للتقوى (¬6)، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى تقدير محذوف، وقال المقاتلان: قال ثابت لما نزلت هذه الآية: ما يسرني أني لم أجهر بصوتي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ امتحن الله قلبي للتقوى، وجعل لي مغفرة وأجراً عظيمًا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 90، "تفسير الطبري" 13/ 120، و"الوسيط" 4/ 151. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" (محن) 5/ 121، "اللسان" (عن) 13/ 401. (¬3) انظر: ذلك القرطبي في "الجامع" 16/ 308 عن ابن عباس. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 70. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 219. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (عن) 5/ 121 - 122، "اللسان" (عن) 13/ 401. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 90 - 91.

4

4 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في قوم حفاة أجلاف من بني تميم قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- لفداء ذرارٍ لهم سبيت، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نام للقائلة، فجحلوا ينادونه: يا محمد اخرج إلينا, ولم يعلموا في أي حجرة هو من حجر نسائه، فكانوا يطوفون على الحجر وينادونه: يا محمد اخرج إلينا، وهذا قول جابر (¬1) وابن عباس (¬2) والمقاتلين (¬3) ومجاهد (¬4) والكلبي (¬5). وروي لنا مرفوعاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية قال: "هم الجفاة من بني تميم" (¬6)، والحجرات جمع حجرة، وفُعْلة تجمع فعلات، نحو: عرفات وظلمات، ومنهم من يستثقل الضمتين فيفتح الجيم. وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]. قال الفراء: وأصل الحجر المنع، وكل ما منعت من أن توصل إليه فقد حجرت عليه، وكذلك الحجرة التي ينزلها الناس هو ما حوطوا عليه (¬7)، وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق: ¬

_ (¬1) أخرجه الثعلبي عن جابر. انظر 10/ 159 ب، وذكره البغوي 7/ 338، كما أخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص 409، وذكره ابن حجر في "الكافي الشاف" ص 156، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 458. (¬2) أورد ذلك البغوي 7/ 337 ونسبه لابن عباس، وكذلك ابن حجر في "الكاف الشاف" ص 156، وابن الجوزي 7/ 459. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 91. (¬4) "تفسير مجاهد" ص 610، وأخرجه الطبري 13/ 122، وذكره القرطبي 16/ 309. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 515. (¬6) أخرج ذلك الطبري 13/ 122 عن مجاهد ونسه القرطبي 16/ 309 لمجاهد. (¬7) هذا النص لم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء وهو في "تهذيب اللغة" منسوبًا =

5

أَما كان عبادة (¬1) كفياً لِدارِم ... بلى ولأبياتٍ بها الحجراتُ وقوله: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وصفهم الله بالجهل، وقلة العقل ونَعَى عليهم قلة صبرهم فقال: 5 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاداهم نصف ذراريهم، وأعتق نصفهم، يقول الله: ولو صبروا كنت تعتق كلهم. قال مقاتل: يعني بالخير أنهم لو صبروا لخلى سبيلهم بغير فداء (¬2)، هذا قول المفسرين (¬3). قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال ابن عباس: يريد لمن تاب منهم (¬4). 6 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} قال ابن عباس وقتادة ومجاهد (¬5) والمقاتلان (¬6): نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه ¬

_ = لأبي إسحاق. انظر: "تهذيب اللغة" (حجر) 4/ 132. (¬1) كذا في الأصل، وعند أبي عبيدة (عبَّا كفيا لدارهم). انظر: "مجاز القرآن" 2/ 219، وعند الطبري 13/ 121 (عباد كفيئا لدارم). وكذا أيضًا عند المبرد في "الكامل" 1/ 64 ولم أقف عليه عند الفرزدق. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 92. (¬3) ذكر ذلك الثعلبي 10/ 162 أ، وذكره السمرقندي 3/ 262، الماوردي 5/ 328، والقرطبي 16/ 311. (¬4) ذكر هذا المعنى في "الوسيط" 4/ 152 ولم ينسبه. (¬5) أخرج ذلك الطبري 13/ 124 عن ابن عباس وقتادة ومجاهد. وأخرجه الإمام أحمد عن الحرث بن ضرار الخزاعي. انظر: "مسند أحمد" 4/ 279، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" وعزاه للإمام أحمد. وقال: رجال أحمد ثقات 7/ 109، وأخرجه عبد الرزاق عن قتادة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 231، وقال الحافظ ابن حجر في "الكاف الشاف" ص 156: رواه ابن إسحاق والطبراني من حديث أم سلمة وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 92.

7

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدقاً إلى بني المصطلق (¬1) فلما سمعوا به فرحوا واجتمعوا ليتلقوه، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، ففرق الوليد ورجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إنهم قد منعوا الصدقة وارتدوا، فبعث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد، فلما دنا خالد منهم بعث عيوناً ليلاً فإذا هم ينادون ويصلون، فأتاهم خالد فلم ير منهم إلا طاعة وخيراً، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره ونزلت الآية. وذكرنا القراءة في قوله: {فَتَبَيَّنُوا} في سورة النساء (¬2). قوله: {أَنْ تُصِيبُوا} يعني: لئلا تصيبوا، وكراهة أن تصيبوا (¬3) على ما ذكرنا في مواضع. وقوله: {بِجَهَالَةٍ} أي: بجهالة بحالهم، وما هم عليه من الإسلام والطاعة. {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} قال مقاتل: يعني الذين انتدبوا لقتال بني المصطلق (¬4). 7 - ثم وعظهم فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} ومعناه: اتقوا أن تكذبوه أو تقولوا باطلاً، فإن الله يخبره فتفتضحوا، يعني: أنهم إذا لم ¬

_ (¬1) بنو المصطلق: حي من خزاعة، حاربهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة المريسيع في شعبان سنة ست من الهجرة. انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 333، "البداية والنهاية" 4/ 156. (¬2) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {فَتَبَيَّنُوا} بالنون، وكذلك في الحجرات: 6، وقرأ حمزة والكسائي: (فتثبتوا) بالتاء وكذلك في الحجرات، انظر: "الحجة" لأبي علي 3/ 173، "تفسير الطبري" 13/ 123. (¬3) انظر: "البحر المحيط" 8/ 109. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 93.

يراعوا هذا كانوا كأنهم لم يعلموا أن رسول الله بين أظهرهم؛ لأنهم لم يعملوا على موجب ما علموا، فقال لهم: اعلموا ذلك علماً تعملون به فتتقوا الكذب. ثم قال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} أي: رسول الله {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي: مما تخبرونه فيه بالباطل (لعنتم) لوقعتم في عنت، وهو الإثم والهلاك. قال مقاتل: لأنهم (¬1) في دينكم، ثم خاطب المؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يخبرونه بالباطل فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} جعله أحبَّ الأديان إليكم حتى أحببتموه {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} حتى اخترتموه {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} جعل الكفر تكرهونه وتجتنبونه (والفسوق) قال ابن عباس: يريد الكذب (¬2) (والعصيان) جميع معاصي الله. ثم عاد إلى الخبر فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني المهتدين في محاسن أمورهم (¬3)، ومثل هذا في النظم قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} الآية [الروم: 39]. ثم بين أن جميع ذلك بفضل من الله فقال: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} قال أبو إسحاق: (فضلاً) منصوب مفعول له، المعنى: فعل الله بكم ذلك فضلاً أي ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 93، ونصها: (لأثمتم في دينكم). (¬2) ذكر ذلك البغوي 7/ 339 ونسبه لابن عباس 7/ 339، ونسبه الماوردي 5/ 329 لابن زيد 5/ 329، ونسبه القرطبي 16/ 314 لابن عباس وابن زيد، ونسبه في "الوسيط" 4/ 153 لابن عباس. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 93، وذكر هذا المعنى في "الوسيط" 4/ 153 ولم

9

للفضل والنعمة (¬1). قال ابن عباس: يريد تفضلاً مني عليهم، ورحمة مني لهم (¬2) {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} بما في قلوبهم (حكيم) فيهم بعلمه. وقال مقاتل: عليم بخلقه حكيم في أمره (¬3). 9 - قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} قال المفسرون: نزلت في حَيَّيْن من الأنصار كان بينهما قتال بالنعال والأيدي. قال أبو مالك: اقتتل رجلان فاقتتل حياهما، فاقتتلوا بالنعال والعصي، فأنزل الله ما قد سمعتم (¬4)، ونحو هذا قال الحسن (¬5) وقتادة (¬6) والسدي (¬7). {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} أي: بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضاء بما فيه لهما وعليهما. وقوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} أي: طلبت ما ليس لها, ولم ترجع إلى الصلح والرضا بحكم الله الذي حكم في كتابه. قال أبو إسحاق: والباغية: التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 35. (¬2) ذكر ذلك في "الوسيط" منسوبًا لابن عباس، انظر 4/ 153. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 93. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 128 عن أبي مالك، وعزاه السيوطي في "الدر" 7/ 560 لسعيد ابن منصور وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك. (¬5) أخرجه الطبري عن الحسن، انظر: "تفسير الحسن" 2/ 296. (¬6) أخرجه الطبري 13/ 129 عن قتادة، ونسبه الماوردي 5/ 330، والبغوي 7/ 340، وابن الجوزي 7/ 463 لقتادة. (¬7) أخرجه الطبري 13/ 128 عن السدي، ونسبه الثعلبى 10/ 164 أ، والماوردي 5/ 330، والبغوي 7/ 340 للسدي.

المسلمين وجماعتهم (¬1). قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس: ترجع إلى طاعة الله (¬2). وقال مقاتل: ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به (¬3). قال أصحابنا: ودلت عليه هذه الآية، على أنه يجحب أن يقاتل المارق الباغي المشاقّ لما عليه الأمة (¬4)؛ لأن ظاهر الأمر الوجوب، والبغاة الذين يجب قتالهم هم الذين يجتمع لهم أوصاف ثلاثة: الغلبة بالشوكة والقوة، والتأويل المحتمل (¬5)، والإمام الذين يجتمعون عليه، فهؤلاء يدعون أولاً إلى طاعة الله بالإنذار، والعود إلى طاعة الإمام العادل، فإن أبوا قوتلوا من غير أن يبدأ بالقتال، ولكن إن قصدوا أهل العدل قاتلوهم للدفع، ثم لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جرحتهم، ونحو ما ذكرنا سار أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- في أهل البغي (¬6)، وما أتلف أهل البغي من مال أهل العدل وما ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 35. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 94. (¬4) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 128، "تفسير البغوي" 7/ 342، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 317. (¬5) انظر: "تفسير البغوي" 7/ 342. (¬6) أخرجه الحاكم عن أبي أمامة وقال: هذا صحيح الإسناد في هذا الباب، ووافقه الذهبي، انظر: "المستدرك" كتاب: قتال أهل البغي 2/ 155، وأخرجه البيهقي موقوفًا على علي، انظر: "سنن البيهقي" كتاب: قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا لم يتبع مدبرهم ولم يقتل أسيرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يستمتع بشيء من أموالهم 8/ 181. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر 4/ 43.

أراقوا من دمائهم يجب عليهم الغرامة على الصحيح من مذهب الشافعي، والقود يسقط بالشبهة (¬1). قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ} أي: رجعت الباغية إلى طاعة الله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} قال ابن عباس: بالديات التي فرضها الله، يعني: أنهم يدون الجرحى والقتلى، وذلك هو الإصلاح بين الفريقين، يؤخذ للعادل من الباغي دية الجراحة والقتل وغرم ما أتلف من المال (¬2)، {وَأَقْسِطُوا} واعدلوا في الإصلاح بينهما وفي كل حكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وذكرنا معنى الإقساط في أول سورة النساء [آية: 5]. ونزل في هذا أيضًا قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن الدين يجمعهم وأنهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أجل النسب لأنهم لآدم وحواء، فإن اختلفت أديانهم افترقوا في النسب وإن كانوا لأب ولأم، ألا ترى أنه لا يرث الولد المؤمن الأب الكافر، ولا الحميم المؤمن نسيبه الكافر (¬3). وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يعني: بين كل مسلمين تخاصما وتقاتلا. ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 292، "إرواء الغليل" للألباني 8/ 116، والقود: قتل القاتل بالقتيل، تقول: أقدْتُه واستقدتُ الحاكِم، وإذا أتى الإنسان إلى آخر أمرًا فالقم منه مثلها، قيل: استقادها منه. انظر: "تهذيب اللغة" (قاد) 9/ 248. (¬2) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 293، وكتاب: الأم، حكم أهل البغي في الأموال وغيرها 4/ 220. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 36.

وقال الكلبي ومقاتل (¬1): نزلت هذه الآية وما قبلها في الأوس والخزرج (¬2). وقال أبو علي الفارسي: اقتتلا بسبب عبد الله بن أبي، وعبد الله بن رواحة (¬3) (¬4)، وعلى هذا قال مقاتل: بين أخويكم: يعني: الأوس والخزرج (¬5). وقال أبو علي الفارسي: يراد بالأخرين الطائفتان ونحوهما مما يكون كثرة، وإن كان اللفظ لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة والعموم (¬6)، وذكرنا شواهد ذلك في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 94، وذكر ذلك الماوردي 5/ 330، ونسبه لمقاتل والكلبي والفراء، انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 71. (¬2) الأوس: بطن من مزيقيا من القحطانية وهم بنو الأوس بن حارثة بن تغلب بن مزيقيا وهم أحد قبيلتي الأنصار، وكان لهم ملك يثرب نزلوها عند خروجهم من اليمن وجاء الإسلام وهم بها، فكانوا أنصارًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 65. الخزرج: بطن من مزيقيا من الأزد غلب عليهم اسم أبيهم فقيل لهم الخزرج، وهم المراد عند الإطلاق لهذا الاسم وهم إحدى قبيلتي الأنصار أخوة الأوس ويقال لكليهما بنو قيلة. انظر: "نهاية الأرب" ص 60، "جمهرة أنساب العرب" ص 362، "معجم قبائل العرب" 1/ 342. (¬3) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري من الخزرج أبو محمد يعد من الأمراء والشعراء الراجزين، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عر واستخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى غزواته على المدينة، وكان أحد الأمراء في وقعة مؤتة فاستشهد فيها. انظر: "حلية الأولياء" 1/ 118، "الاستيعاب" 2/ 293 , "الإصابة" 2/ 306. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 94. (¬6) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 209.

وقال أبو عبيدة في قوله: (بين أخويكم): معنى الآيتين يأتي على الجميع إنما تأويله: على كل أخوين (¬1). وفي قوله: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} دليل على أن صفة البغي لا تزيل اسم الإيمان؛ لأن الله تعالى أثبت الأخوة بين المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ثم سَمَّى الباغي والعادل أخوين فقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وجعلهما أخوين للمؤمنين، فالباغي أخو المؤمنين كما أن العادل أخوهم، ونحو هذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيهم لما سأله الحارث (¬2) الأعور عن أهل الجمل وصفين (¬3) فقال: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فروا (¬4). فقال: أهم منافقون؟. قال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قال: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند أبي عبيدة، وقد نسبه القرطبي 16/ 323 لأبي عبيدة. (¬2) هو: الحارث بن عبد الله الأعور الهَمْداني الخارِفِي أبو زهير الكوفي، ويقال: الحارث بن عبيد، ويقال: الحوتي، وحوت بطن من همدان، روى عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وروى عنه الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وأبو البختري الطائي وغيرهم، وهو ضعيف في الحديث، توفي عام 65 هـ انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 435، "تهذيب التهذيب" 2/ 145. (¬3) صفين: بكسرتين وتشديد الفاء: هو موضع بقرب الرقة على شاطىء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس وكانت وقعة صفين بين علي -رضي الله عنه- ومعاوية -رضي الله عنه- في سنة 37 هـ, في غرة صفر. انظر: "معجم البلدان" 3/ 414. (¬4) قال الفراء: فَرّ فلان يَفِر فِرارًا إذا هَرَب، انظر "تهذيب اللغة" (فر) 15/ 172، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال لِعديّ بن حاتم: "ما يُفِرُّك إلا أن يقال لا إله إلا الله" أفْرَرْتُه أفِرَّه: فَعَلْتُ به ما يَفِر منه ويَهْرُب: أي: ما يحملك على الفرار إلا التوحيد. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 3/ 427. (¬5) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" عن الحارث عن علي، انظر 10/ 164 أ، ب. وأيضًا ذكره البغوي في "تفسيره" 7/ 341، والقرطبي في "الجامع" 16/ 323.

11

11 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية، قال مقاتل: يقول: لا يستهزئ الرجل من أخيه فيقول: إنك رديء المعيشة، لئيم الحسب، وأشباه ذلك بما يتنقصه به، ولعله خير منه عند الله (¬1)، وهو قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} ونحو هذا قال مجاهد (¬2)، والقوم: الرجال دون النساء، قاله الليث (¬3) وأبو العباس (¬4)، وأنشد الليث قول زهير: وما أَدْرِي وسَوْفَ إِخالُ أدْرِي ... أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ (¬5) وعلى هذا تدل الآية لأن الله تعالى فصل بينهما فذكر الرجال بلفظ القوم، ثم ذكر النساء فقال: {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}. قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني اللمز في اللغة: العيب (¬6)، ذكرنا ذلك عند قوله: {يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: لا يطعن بعضكم على بعض (¬7) والمعنى: لا تلمزوا إخوانكم الذين هم كأنفسكم كما قال: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقد مر. قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} التنابز: تفاعل من النبز، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 94. (¬2) أخرجه الطبري 13/ 131 عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 611. (¬3) انظر كتاب: العين (قوم) 5/ 231، "تهذيب اللغة" (قوم) 9/ 356. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (قوم) 9/ 356، "اللسان" (قوم) 12/ 505. (¬5) انظر: "ديوان زهير" ص 73، و"العين" (قوم) 5/ 231، "تهذيب اللغة" (قام) 9/ 356، "اللسان" (قوم) 12/ 505. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" (لمز) 13/ 220. (¬7) أخرج ذلك الطبري 13/ 132 عن ابن عباس، ونسبه الماوردي 5/ 332 لابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير، وأيضًا نسبه إلى هؤلاء القرطبي 16/ 327.

المصدر والنبز الاسم، وهو كاللقب. قال المبرد: ويقال: لبني فلان نبز يعرفون به إذا كان لقباً متابعاً (¬1)، والألقاب جمع اللقب وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان، قاله الليث، يقال: لقبت فلاناً تلقيباً (¬2). قال عكرمة والحسن ومجاهد وقتادة: وهو أن يقول المسلم لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق (¬3). وقال المقاتلان: لا تدعوا مسلماً بغير اسم أهل دينه، وهو أن تقول: يا يهودي يا نصراني، تدعوه بالدين الذي كان عليه في الشرك، نهاهم الله أن يتنابزوا بذلك (¬4). وروي عن طلحة بن عمرو أنه قال: قلت لعطاء: يا أبا محمد {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} ما هذا الذي نهى عنه؟ قال: كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام، يا كلب يا حمار يا خنزير ونحو هذا (¬5)، فهذا الذي نهي عنه. وقال إبراهيم: كانوا يقولون: إذا قال الرجل للرجل: يا حمار يا كلب يا خنزير، قال الله له يوم القيامة: أتراني خلقته كلباً أو حماراً أو خنزيراً (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: كتاب "العين" (لقلب) 5/ 172، "تهذيب اللغة" (لقلب) 9/ 177. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 131 - 132 عن عكرمة ومجاهد وقتادة، ونسبه الثعلبي لقتادة وعكرمة 10/ 166 أ، ونسبه القرطبي 16/ 328 لقتادة ومجاهد والحسن. (¬4) أخرج ذلك الطبري 13/ 132 عن الحسن، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 95، ونسب القرطبي 16/ 328 هذا القول للحسن ومجاهد. (¬5) ذكر ذلك البغوي 7/ 344 ونسبه لعطاء، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 564 لعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء، ونسبه في "الوسيط" 4/ 155 لعطاء. (¬6) لم أقف عليه.

وقال الشعبي: قال أبو جبيرة (¬1) بن الضحاك: قدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة [وليس له رجل (¬2) إلا وله اسمان] أو ثلاثة وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الرجل فيقول: يا فلان، فيقال: يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم، قال: ففينا أنزل الله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (¬3)، وهذا كما قال أبو إسحاق في هذه الآية: يحتمل أن يكون في كل لقب يكرهه الإنسان؛ لأنه إنما يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء إليه (¬4)، والقول في هذا النهي هو أن يسميه باسم يضاد الإسلام والإيمان؛ لقوله: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} قال أبو إسحاق: أي: بئس الاسم أن يقول له: يا يهودي يا نصراني، وقد آمن (¬5). وقال غيره: معنى هذا: أن من دعا أخاه بلقب يكرهه لزمه اسم الفسق لمخالفة النهي، والله تعالى يقول {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} من فعل ¬

_ (¬1) هو: زيد بن جبيرة بن محمد بن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري أبو جبيرة المدني، روى عن: أبيه ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبي الطوالة، وعنه: سويد بن عبد العزيز ويحيى بن أيوب والليث ونافع بن يزيد، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. انظر: "ميزان الاعتدال" 2/ 99، "تهذيب التهذيب" 3/ 400. (¬2) نص العبارة في تفسير الثعلبي: (وما منا رجل إلا له اسمان ...) وهو الأصوب. انظر: 10/ 166 أ. (¬3) أخرجه الترمذي عن أبي جبيرة، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: تفسير القرآن باب (50) ومن سورة الحجرات 5/ 388, وأخرجه أبو يعلى في مسنده 12/ 253، وقال حسين سليم أسد محقق "المسند": إسناده صحيح. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 36. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 36.

12

ما نهى الله عنه من السخرية واللمز والنبز فسق بذلك (¬1)، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أي: من هذه الأشياء {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: يريد: من لم يتب فهو ظالم (¬2). 12 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} وهو أن يظن بأخيه المسلم سوءاً [كأنه] (¬3) سمع منه كلاماً لا يريد به سوءاً، أو رآه يدخل مدخلاً لا يقصد به سوءًا، فظن به سوءاً، فذلك الظن هو المأمور باجتنابه، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه [ثم] وهو قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يعني: ما أعلن وأبدى مما ظن بأخيه، هذا قول المقاتلين (¬4). وقال أبو إسحاق: أمر الله باجتناب كثير من الظن وهو أن يظن بأهل الخير سوءاً، فأما أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم (¬5). قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} قال الليث: الجَسُّ: جَسُّ الخَبَر، والجَاسُوسُ: العينُ يَتَجَسَّسُ الأخبار، والتجسس: البحث (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر نحو ذلك الطبري في "تفسيره" 13/ 133 - 134، والبغوي في "تفسيره" 7/ 344، والقرطبي في "الجامع" 16/ 328. (¬2) انظر: "زاد المسير" 7/ 469 عن ابن عباس: بلفظ: (الضارون لأنفسهم بمعصيتهم). (¬3) كذا في الأصل، ولعلها: (لأنه). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 96، "تفسير الماوردي" 5/ 334، وقد نسبه لمقاتل بن حيان، ونسبه في "الوسيط" للمقاتلين، انظر 4/ 155. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 36 - 37. (¬6) انظر كتاب: العين (جسس) 6/ 5، "تهذيت اللغة" (جسس) 10/ 448.

وقال يحيى بن أبي كثير: التجسس البحث عن باطن أمور الناس، وأكثر ما يقال ذلك في الشر (¬1)، قال المقاتلان: يقول لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه إذ ستره الله عليه (¬2)، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد: لا تجسسوا من عيوب الناس (¬3)، وقال مجاهد: يقول: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله (¬4). قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يقال: اغتاب فلان فلاناً اغتياباً وغيبة يغتابه، قال الأزهري: وروي عن بعضهم أنه سمع: غابه يغيبه، إذا عابه وذكر منه ما يسوؤه مما هو فيه (¬5)، وإذا تناوله بما ليس فيه فهو بهت وبهتان، وهذا قول جميع المفسرين (¬6). وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من ذكر رجلاً بما فيه فقد اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته" (¬7). ¬

_ (¬1) ورد هذا القول في "اللسان" غير منسوب، انظر: "اللسان" (جسس) 6/ 38، وأورد نحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" منسوبًا ليحيى بن أبي كثير 7/ 471. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 96، وذكر هذا المعنى في "الوسيط" 4/ 156 ولم ينسبه. (¬3) أخرج ذلك الطبري 13/ 135 عن ابن عباس. (¬4) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (غيب) 8/ 215. (¬6) انظر: "تفسير الطبري" 13/ 135، "الثعلبي" 10/ 168 أ، "الماوردي" 5/ 334، "زاد المسير" 7/ 471، "القرطبى" 16/ 334، "تفسير الوسيط" 4/ 156. (¬7) أخرج ذلك مسلم عن أبي هريرة بلفظ: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته". انظر: صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب (20) تحريم الغيبة 3/ 2001، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: البر والصلة باب (23) ما =

قال مقاتل: ثم ضرب للغيبة مثلاً فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} بقوله، فكما كرهتم أكل لحم الميت، فكذلك فاكرهوا الغيبة لإخوانكم (¬1). وقال أبو إسحاق: تأويله: إن ذِكْرَكَ بسوء من لم يحضرك بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحيى بذلك، ويقال للمغتاب: فلان يأكل لحوم الناس (¬2). وهذا استفهام معناه: التقرير، كأنه قيل لهم: لم تحبون أكل لحم أخيكم ميتاً؟ وعطف قوله (فكرهتموه) على معنى لفظ الاستفهام (¬3)، كما قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 1، 2] فقوله: {وَوَضَعْنَا}: عطف على معنى: {أَلَمْ نَشْرَحْ} لا على لفظه، ألا ترى أنه لا يقال: ألم وضعنا, ولكن معنى (ألم نشرح) لا على لفظه ولكن معنى (ألم نشرح) قد شرحنا، فعطف على معناه، كذلك هذه الآية، قاله المبرد (¬4) وقال الفراء: قوله: فكرهتموه أي: فقد كرهتموه فلا تفعلوه (¬5). قال صاحب "النظم": التأويل: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ¬

_ = جاء في "الغيبة" 4/ 329، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود في سننه في كتاب: الأدب باب (40) في الغيبة 5/ 191، عن أبي هريرة، وأخرجه الطبري 13/ 137 عن أبي هريرة. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 96. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 37. (¬3) انظر: "روح المعاني" للألوسي 26/ 158. (¬4) لم أقف عليه، وقد ذكر قريبًا من هذا النحاس في "إعراب القرآن" 4/ 215. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 73.

13

وقد كرهتم ذلك، أي: فاكرهوا الغيبة أيضًا، فإنها مثل أكلكم لحوم أخوانكم (¬1). وقال مجاهد: لما قيل لهم (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟)، قالوا: لا، فقيل: فكرهتموه أي: فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً (¬2)، وشرح أبو علي الفارسي هذا الوجه فقال: الفاء في قول: {فَكَرِهْتُمُوهُ} عطف على المعنى، كأنه لما قيل لهم: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً، قالوا: لا، فقيل لهم لما قالوا لا: فكرهتموه، أي: كرهتم أكل لحمه ميتاً، فكذلك فاكرهوا غيبته (¬3). قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} معطوف على هذا الفعل المقدر، ولا يكون قوله (فكرهتموه) بمعنى فاكرهوه واتقوا الله؛ لأن لفظ الخبر لا يوضع للأمر في كل موضع، ولأن قوله فكرهتموه محمول على المعنى الذي ذكرنا، فمعنى الخبر فيه صحيح (¬4). قال مقاتل: واتقوا الله في الغيبة {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} علي من تاب {رَحِيمٌ} به (¬5). 13 - قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} نزلت هذه الآية في الزجر عن التفاخر بالإنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء، وسبب ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أخرج نحوه الطبري 13/ 373 عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص 612 , وأورده البغوي 7/ 346 بهذا النص. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 212. (¬4) المصدر السابق. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 96.

نزولها على ما ذكره الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، وكان إذا أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول، فأتى ذات يوم وقد أخذ الناس في مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس، فقال لرجل: تفسح، فقال: قد أصبت مجلساً فاجلس، فجلس مغضباً، ثم قال للرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال له ثابت: ابن فلانة، وذكر أماً له كان يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه واستحيا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من الذاكر فلانة" فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله، فقال: "انظر في وجوه الناس" فنظر إليهم، فقال: "ما رأيتَ" قال: رأيتُ أبيض وأسود وأحمر، قال: "فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى" وأنزل الله في ثابت هذه الآية (¬1). وقال مقاتل: نزلت في بلال المؤذن وفي أربعة نفر من قريش عابوه بسواده يوم فتح مكة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يؤذن على ظهر الكعبة ليذل المشركين بذلك، فلما أذن قالوا: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً (¬2)، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يعني: آدم وحواء، والمعنى: أنكم متساوون في النسب، ليس يفضل أحد غيره بنسبه؛ لأن كلكم مخلوق من آدم وحواء، ترجعون بالنسب إليهما، ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي 10/ 165 أعن ابن عباس 10/ 165 أ، وأورده الماوردي في "تفسيره" 5/ 333 مختصرًا ونسبه للكلبي والفراء، ونسبه البغوي 7/ 342، وابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 465 لابن عباس، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" بدون سند ص 415. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 96، "الدر المنثور" 7/ 563 وزاد نسبتة لابن أبي حاتم، وذكره البغوي 7/ 343، والقرطبي 16/ 341.

كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم بنو آدم وكلكم بنو رجل واحد كطف الصاع" (¬1). ثم ذكر الله تعالى أنه إنما فرق أنساب الناس ليتعارفوا لا ليتفاخروا فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} وهي: جمع الشعب وهو الحي العظيم، والقبائل دون ذلك، وهذا قول أبي عبيدة (¬2) والفراء (¬3) وجميع أهل اللغة (¬4) قالوا: الشعب أعظم من القبيلة، وهي مثل مضر (¬5) وربيعة (¬6)، والقبائل: واحدتها قبيلة وهم كـ (بكر) (¬7) من ربيعة وتميم من مضر، وأصل الشعب مأخوذ من: ¬

_ (¬1) نص الحديث: "إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وحواء، كطف الصالح بالصاع، وإن كرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم، ترضون دينه وأمانته فزوجوه" انظر: "الدر المنثور" 7/ 579، وأخرج نحوه الطبري 13/ 140 عن عقبة بن عامر، قال أبو عبيد: الطف هو أن يقرب الإناء من الامتلاء من غير أن يمتلئ، يقال: هو طف المكيال وطفافه، إذا كرب أن يملأه، ومنه التطفيف في الكيل إنما هو نقصانه أي لم يملأ إلى شفته إنما هو إلى دون ذلك. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد الهروي 1/ 425، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 3/ 129. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 220. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 72. (¬4) انظر (شعب) في: "تهذيب اللغة" 1/ 442، و"الصحاح" 1/ 155، "اللسان" 1/ 497. (¬5) مضر: قبيلة من العدنانية، وهم بنو مضر بن معد بن عدنان، قال في "العبر": وكانت مضر أهل الكثرة والغلب بالحجاز من سائر بني عدنان، وكانت لهم الرياسة بمكة والحرم، انظر: "نهاية الأرب" ص 377. (¬6) ربيعة: حي من مضر من العدنانية، وهم بنو ربيعة بن نزار بن مضر، وتعرف بربيعة الحمرا، قال في العبر: وديارهم ما بين اليمامة والبحرين والعراق، انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 292، "نهاية الأرب" ص 242. (¬7) بنو بكر: بطن من ربيعة من العدنانية، وهم بنو بكر القحطاية، وهم بنو بكر بن عامر ابن عوف بن عذرة بن زيد اللات. انظر: "نهاية الأرب" ص 170.

شعبت الشيء إذا ضممته وأصلحته (¬1)، والقبائل مأخوذ من قبائل الرأس، وهي كل فلقة قد قوبلت بالأخرى، وكذلك قبائل العرب بعضها متصل ببعض، والشعوب يجمعها ويضمها، هذا قول الليث وأبي العباس في معنى الشعب والقبيلة (¬2). ونحو هذا ذكر أبو الهيثم فقال: الشعب شعب الرأس، يعني: شأنه الذي يضم قبائله، وفي الرأس أربع قبائل (¬3)، والشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه ويجمعهم ويضمهم، ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الشعوب والقبائل. قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: الشعوب الجمهور مثل: ربيعة ومضر والقبائل والأفخاذ (¬4)، ونحو هذا روى الكلبي (¬5) عنه. وقال مقاتل: الشعوب رؤوس القبائل مضر وربيعة والأزد، وقبائل يعني: الأفخاذ سعد وبنو عامر (¬6). قال الزبير بن بكار (¬7): العرب على ست طبقات وهي: شعب، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (شعب) 1/ 443. (¬2) انظر (شعب) في: "العين" 1/ 262، "تهذيب اللغة" 1/ 442، "اللسان" 1/ 500. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" (شعب) 1/ 442، "اللسان" (شعب) 16/ 344. (¬4) أخرجه الطبري 13/ 139 عن سعيد بن جبير، ونسبه القرطبي 16/ 344 لابن عباس. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" ص 517. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 97. (¬7) هو: الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام ابن خولجد أبو عبد الله الأسدي المديني العلامة، عالم بالأنساب وأخبار العرب، ولد بالمدينة، وولي قضاء مكة، فتوفي فيها, له تصانيف منها "أخبار العرب وأيامها", و"نسب قريش وأخبارها"، و"الأوس والخزرج"، وغيرها، مات سنة =

وقبيلة، وعمارة وبطن وفخذ وفصيلة (¬1)، فالثعب جمع القبائل، والقبائل تجمع العمائر، والعمائر تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ، والأفخاذ تجمع الفصائل (¬2)، فمضر شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة (¬3). وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب: الموالي، وبالقبائل: العرب (¬4)، وإلي هذا ذهب قوم فقالوا: الشعوب من العجم وهم من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجيل والترك (¬5)، والقبائل من العرب. قوله تعالى: (لتعارفوا) أي: ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب وبعده، ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال مقاتل: يعني: بلالاً (¬6) أخبر أن أتقاهم بلال، وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة إني جعلت نسباً فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع ¬

_ = 256 هـ, وعمره 84 سنة. انظر: "تاريخ بغداد" 8/ 467، "ميزان الاعتدال" 2/ 66، "تهذيب التهذيب" 3/ 312. (¬1) انظر: "اللسان" (شعب) نسب ذلك للزبير بن بكار 1/ 500. (¬2) انظر: "اللسان" (شعب) 1/ 500 - 501. (¬3) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 170، 171، "تفسير البغوي" 7/ 348، "البحر المحيط" 8/ 104. (¬4) انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 171 أ، ولم ينسبه، والبغوي 7/ 348 من غير نسبة، ونسبه ابن الجوزي 7/ 474 لعطاء عن ابن عباس، وذكره القرطبي 16/ 344 من غير نسبة، ونسبه في "الوسيط" 4/ 158 لعطاء عن ابن عباس. (¬5) ذكر ذلك القرطبي 16/ 344 ونسبه للقشيري، وذكره المؤلف في "الوسيط" 4/ 158 ولم ينسبه. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 97.

14

نسبي وأضع أنسابكم، أين المتقون أين المتقون؟ " (¬1). وقال أهل العلم: هذا في الزجر عن الازدراء بالناس والتحقير لهم لأجل النسب والاستطالة على من يكون حاصل (¬2) النسب والتفاخر بالآباء والأجداد، فأما اعتبار النسب في الكفاءة فإن ذلك متفق عليه، والأصل فيه شيئان: نسب يتصل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو سبب ثان وهو العلم الموروث عنه -صلى الله عليه وسلم-، وقد نبه على هذا بقوله: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (¬3)، فأما نسب الأمراء والوزراء والرؤساء والظلمة، فذلك مما لا يشترط في الكفاءة، والتقوى تشترط كما يشترط أصل الدين. 14 - قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} نزلت في بني أسد بن خزيمة (¬4)، أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنة جدبة وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر، إنما أتوا يطلبون الصدقة، هذا قول ابن عباس ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 171 ب عن أبي هريرة، وأورده السمرقندي في "تفسيره" 3/ 266 ولم ينسبه، وأورده القرطبي في "الجامع" 16/ 345 ونسبه لأبي هريرة، وأخرجه الحاكم عن أبي هريرة وقال: هذا حديث عال غريب الإسناد والمتن ولم يخرجاه، وقال الذهبي: غريب، قلت: المخزومي ابن زبالة ساقط. انظر: "المستدرك" كتاب التفسير، سورة الحجرات 2/ 463 - 464. (¬2) كذا رسمها في الأصل. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 323 من حديث المسور بن مخرمة. (¬4) هم: بنو أسد حي من بني خزيمة من العدنانية وهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة وكان لأسد هذا من الولد: دودان، وكاهل، وعمرو، وصعب، وحلمة، قال في العبر: وهم بطن كبير متسع وذو بطون قال وبلادهم مما يلي الكرخ من أرض نجد في مجاورة طي، قال: ويقال: إن بلاد طي كانت لبني أسد فلما خرج بنو طي من اليمن غلبوا على سلمى وأجا، وقد تفرقوا بعد ذلك في الأقطار ولم يبق لهم حي. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 47.

ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير (¬1)، وقالوا: المراد بالأعراب هاهنا بنو أسد. وقال السدي ومقاتل: يعني: الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية (¬2)، وقد ذكرناهم في سورة الفتح، وهؤلاء كانوا قد أظهروا كلمة الإسلام ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم من سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كانت تمر بهم، والمعنى: أنهم يقولون: قد صدقنا بما جئت به، {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} لم تصدقوا {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، قال ابن عباس: أقررنا بالإيمان (¬3). وقال مقاتل ومجاهد وقتادة: انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي (¬4)، ثم بين أن الإيمان محله القلب لا اللسان بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. قال أبو إسحاق: والإسلام: إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان، وصاحبه المؤمن المسلم حقاً، وأما من أظهر قبول الشريعة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 13/ 141 عن مجاهد، وذكره الثعلبي 10/ 172 أولم ينسبه، وأخرجه النسائي عن سعيد بن جير، انظر: "السنن الكبرى" كتاب التفسير، قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} 6/ 467، وذكره البغوي 7/ 349 ولم ينسبه، ونسبه ابن الجوزي 7/ 475 لمجا هد، وذكره القرطبي 16/ 348 ولم ينسبه، ونسبه أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 116 لمجاهد، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص 419، و"الوسيط" 4/ 159 - 160 من غير إسناد. (¬2) ذكره الثعلبي 10/ 172 أ، والبغوي 7/ 350، وابن الجوزي 7/ 476، والقرطبي 16/ 348 ونسبوه للسدي، وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 97. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) "تفسير مقاتل" 4/ 98، وأخرجه الطبري 13/ 142 عن مجاهد وسعيد بن جبير.

واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم، والإيمان لا بد أن يكون صاحبه صديقاً؛ لأن قولك: آمنت بكذا، معناه: صدقت به، وقد أخرج الله هؤلاء من الإيمان فقال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: لم تصدقوا إني أسلمتم تعوذاً من القتل، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوذاً غير مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين. انتهى كلامه (¬1). ومعنى الإيمان والإِسلام وحقيقتهما في اللغة قد سبق ذكره في سورة البقرة. قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال ابن عباس: تخلصوا الإيمان (¬2)، {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} وقرأ أبو عمرو: (لا يألتكم) من ألت، وهما لغتان (¬3)، قال أبو زيد: قالوا: الله السلطان حَقّه يألته ألتًا، مثل: ضربه يضربه ضرباً إذا نقصه، قال: وقوم يقولون: لات يلت، وحكى التوزي (¬4): في ألت آلت يولت إيلاتاً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 38. (¬2) ذكر ذلك البغوي 7/ 355 عن ابن عباس، وابن الجوزي 7/ 477 عن ابن عباس، والقرطبي 16/ 348 من غير نسبة. (¬3) قراءة أبي عمرو: من ألتَ يألِتُ ألتا، مثل: ضرب يضرب ضربًا، وقرأ الباقون: يَلِتكم، من لات يَلِيتُ، إذا نقص، انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 284، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 676. (¬4) هو: عبد الله بن محمد بن هارون التوزي أبو محمد مولى قريش من أكابر أئمة اللغة، قال السيرافي: قرأ على الجرمي "كتاب" سيبويه، وكان أعلم من الرياشي والمازني وأكثرهم رواية، عن أبي عبيدة، وقد قرأ أيضًا على الأصمعي وغيره، صنف كتاب: الخيل والأمثال والأضداد، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. انظر: "بغية الوعاة" للسيوطي 2/ 61، "أخبار النحويين والبصريين" ص 85. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" (لات وولت) 14/ 321، "المحتسب" لابن جني 2/ 290, "البحر المحيط" 8/ 104 - 149، "زاد المسير" 7/ 477.

15

وحكى الزجاج في لات: ألات يُلِيْتُ، فاجتمع أربع لغات: أَلَت وآلَتَ ولاَتَ وأَلاَتَ، كلها معناها النقصان، وحجة أبي عمرو قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} [الطور: 21] فالبناء مضارعه يألتكم، وحجة الباقين خط المصحف، قال أبو إسحاق: والمعنى فيهما واحد (¬1). قال ابن عباس ومقاتل: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً (¬2)، ثم نعت المؤمنين الصادقين في إيمانهم فقال: 15 - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} قال مقاتل: لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان (¬3)، أي: لم يشكوا في وحدانية الله ونبوة محمد -عليه السلام-. {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) قال أبو إسحاق: هو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه (¬5)، والجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كان فرضاً في ذلك الوقت (¬6). {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم، قال المفسرون: فلما نزلت الآيتان أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، وعرف الله غير ذلك منهم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 39. (¬2) ذكر هذا الثعلبي 10/ 173 أ، والبغوي 7/ 350، والقرطبي 16/ 348 ولم ينسبوه, وانظر: "تفسير مقاتل" 4/ 98، ونسبه في "الوسيط" 4/ 160 لابن عباس ومقاتل. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 4/ 99. (¬4) كذا في الأصل وقد سقط (بأموالهم وأنفسهم). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 38. (¬6) انظر: "زاد المسير" 7/ 477. (¬7) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 10/ 173 ب، البغوي في "تفسيره" 7/ 351, السمرقندي في "تفسيره" 3/ 267.

16

16 - قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي: الذي أنتم عليه، وهذا يحمل على أحد وجهين: إما أن تكون الباء زائدة ويكون المعنى: أتعلمون الله دينكم؛ لأنه يقال: علمته الشيء، أو يحمل على أن علم هاهنا بمعنى أعلم، ذكر ذلك أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: يكون علم بمعنى علم (¬1) قال: ومنه قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102]، وقد مر. قال المفسرون: وكان هؤلاء النفر يقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئناك بالعإل والأثقال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يمنون عليك بذلك، فأنزل الله: 17 - {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} (¬2) الآية، والمن الذي معناه: اعتداد الصنيعة يُعدَّى بالجار يقال: مَنَّ عليه بكذا، وحذف الجار في هذه الآية من المواضع الثلاثة. قال الفراء في قوله: {أَنْ أَسْلَمُوا} و {أَنْ هَدَاكُمْ}: موضعها نصب لا بوقوع الفعل، ولكن بسقوط الصفة (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في "تفسير الوسيط" 4/ 161. (¬2) أخرج ذلك الطبري عن سعيد بن جبير وقتادة، انظر: "تفسيره" 13/ 145، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 112: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه الحجاج ابن أرطأة، وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح، وأورده السيوطي في "أساب النزول" وعزاه للطبراني والبزار، انظر: "أسباب النزول" ص 199. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 74.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من أول سورة ق إلى آخر سورة الطور تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري

تفسير سورة ق

تفسير سورة ق بسم الله الرحمن الرحيم 1 - (ق) اختلفوا في تأويله. فأكثر المفسرين قالوا: إنه جبل محيط بالدنيا من زَبَرْجَد، والسماء مقببةٌ عليه، وهو من وراء الحجاب التي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة، وما بينهما ظلمة. وهذا قول مقاتل، وابن بريدة، وعكرمة، والضحاك، ومجاهد، ورواية عطاء، وأبي الجوزاء عن ابن عباس. قال الفراء: على هذا القول: كان يجب أن يظهر الإعراب في قاف؛ لأنه اسم وليس هجاء. ثم قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كما قال: قلتُ لها قِفِي فَقَالَتْ قَافْ (¬1) قال: ذكرت قاف أرادت الوقف، أي أنا واقفة (¬2). وقال قتادة: قاف ¬

_ (¬1) بيت للوليد بن عقبة بن أبي معيط، وبعده: (لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف) والإيجات: هو العدو. والشاهد فيه قوله (فقالت قاف) والمراد: فقالت إني واقفة أو أقف. انظر: "الأغاني" للأصفهاني 4/ 181، "الخصائص" لابن جني 1/ 30، "شرح شواهد الشافية" ص 271، "الكتاب" لسيبويه 2/ 62، "المحتسب" لابن جني 2/ 204. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 75.

اسم من أسماء القرآن (¬1). وروى خصيف عن مجاهد قال: قاف فاتحة السورة (¬2). وهذا مذهب أهل اللغة. قال أبو عبيدة: مجازها مجاز أوائل السور (¬3). يعني: مجاز الحروف التي في أوائل السور نحو {ن} [القلم: 1] و {الر} [الحجر: 1]، و {الم} [لقمان: 1]، واختاره الزجاج وقال: هو ابتداء للسورة، يعني أن السورة افتتحت بهذا الحرف، كما افتتحت سائر السور التي ابتدئ فيها بحروف الهجاء (¬4). وحكى الفراء، وأبو إسحاق أن قومًا من أهل اللغة قالوا معنى (ق) قضي الأمر، أو قضي ما هو كائن كما قيل في (حم) حمَّ الأمر. واحتجوا بقول الشاعر (¬5): قلنا لها قِفِي فَقَالَتْ قَافْ معناه: قالت: أقف (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 234، "جامع البيان" للطبري 26/ 93، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 17/ 3. (¬2) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 221، حيث قال: "والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى: (ص)، (ن)، (حم)، (طسم)، (الم) ونحو ذلك، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا القول هو المرجح عند ابن كثير وغيره. وانظر: "تفسير القاسمي" 15/ 5482. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 222. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 41. (¬5) تقدم في الصفحة السابقة. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 75، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 41. وقد رد ابن كثير رحمه الله هذا القول, لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليها, ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 221. =

قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} قال المفسرون: الكريم على الله الكثير الخير. وذكرنا معنى المجيد (¬1) في سورة هود (¬2). واختلفوا في جواب القسم، فقال الأخفش: جوابه {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ} [ق: 4] (¬3). قال الزجاج: ويكون المعنى: ق والقرآن المجيد لقد علمنا ما تنقص الأرض منهم. وحذفت اللام؛ لأن ما قبلها عوض منها كما قال -عز وجل-: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} [الشمس: 9] (¬4). وقال الفراء: جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: {أَإِذَا مِتْنَا} [ق: 3] والمعنى: ق والقرآن المجيد لتبعثن بعد الموت، فقالوا: أإذا كنا ترابًا بعثنا، فجحدوا البعث. واختار الزجاج هذا القول أيضًا (¬5). وذهب كثير من الناس إلى أن الجواب قوله: {بَلْ عَجِبُوا} (¬6). وقد ¬

_ = قلت: وما ذكره ابن كثير هو المرجح، وسيأتي زيادة بيان في أول سورة القلم. والله تعالى أعلم. (¬1) (ك): (المجيد. والمجيد). (¬2) عند تفسيره لآية (73) من سورة هود، حيث قال: المجيد الماجد وهو ذو الشرف والكرم. يقال: مسجد الرجل يمجد مجدًا ومجدادةً، ومجد يمجد. لغة قال الحسن والكلبي: المجيد الكريم، وهو قول أبي إسحاق. وقال ابن الأعرابي: المجيد الرفيع. قال أهل المعاني: المجيد الكامل الشرف والرفعة والكرم والصفات المحمودة. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 696. (¬4) وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 42. (¬5) انظر: "معانى القرآن" للفراء 3/ 75، "معانى القرآن" للزجاج 5/ 41، "مشكل إعراب القرآن" 2/ 682. (¬6) قاله نحاة الكوفة. انظر: "الجامع" للقرطبي 17/ 3، "البحر المحيط" 8/ 120.

2

ذكرنا الكلام في هذا مستقصى عند قول: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1). ونظم ابتداء هذه السورة شبيه بنظم ابتداء سورة ص. 2 - قوله: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} مفسَّر في سورة ص (2) قوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} قال مقاتل: يعنون هذا الأمر عجب أن يكون محمد رسولاً (3). والعجيب يعني المُعْجِب، وهو الذي يحملك علي العجب. وقال الليث: يقال إنه عجيب وعجاب، ويقال: هذا شيء عجب وعجاب (4)، على معنى أنه ذو عجيب أي: يعجب منه. وقوله: {فَقَالَ

_ (1) عند تفسيره للآيتين (1، 2) من سورة ص وقد ذكر ستة أقوال في جواب القسم في قوله تعالى: {ص (1) وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} وهي: 1 - حكى الكسائي والفراء والَزجاج أن جواب القسم: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ثم نقل استبعاد الكسائي والفراء له. 2 - أن يكون قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} اعترض بين القسم وجوابه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومعناه: لكم أهلكنا. فلما طال الكلام المعترض بينهما حذفت اللام. 3 - أن يكون قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ}. 4 - أن موضع القسم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كما قال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا}. 5 - أن يكون لـ (ص) معنى يقع عليه القسم لا نعرفه كقولك: الحق والله. 6 - الجواب محذوف تقديره: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار. قال الواحدي: وهو قول حسن. انظر: "البسيط" 3/ 204 أ. (2) عند تفسيره لآية (4) من سورة: ص ومما قال: قال "صاحب النظم": هذا منظوم بقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} لأنه مسوق عليه بالواو. (3) انظر: "تفسير مقاتل" 123 ب. (4) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 1/ 386، "اللسان" 2/ 688 (عجيب). وفي (ك): (عجيب وعجيب).

3

الْكَافِرُونَ} وقال في سورة ص: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} [ص: 4] بالواو وهاهنا بالفاء. ذكر صاحب النظم أن في سورة (ص) قراءة: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ} [ص: 4] خبران: أحدهما قوله: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} فهذا خبر تام. ثم نسق عليه خبر آخر فقال: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أخبر عنهم بالعجب وبقولهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. وفي هذه السورة عطف بالفاء؛ لأن الآية كلها خبر واحد، والعجب سبب لقولهم: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} لأنهم عجبوا فقالوا: هذا شيء عجيب، كما تقول: قام فمرَّ. جعلت القيام سببًا للمرور. ولو قلت: قام ومر. كنت قد أخبرت عنه بشيئين ولم تجعل الأول سببًا للثاني، يدل على أن الآية في هذه السورة خبر واحد. قوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} فهذا من جنس قوله: {وَعَجِبُوا} وقال في سورة ص: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وهذا ليس من جنس عجبوا (¬1). 3 - قوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا} قال أبو إسحاق: أي أنُبْعث إذا متنا وكنا ترابًا. ولو لم يكن (¬2) لإذا متعلق، لم يكن في الكلام فائدة (¬3). قوله تعالى: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} الرجع معناه الرد. قال الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83] وقد مر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 151. (¬2) (ك): (ولم لم يكن) والصواب ما أثبته. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 42. (¬4) قال: معنى الرجع تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه. يقأل رجعته رجعًا كقولك: ر ددته. ردًّا.

4

قال مقاتل: ذلك رجع إلى الحياة بعيد، فإن البعث غير كائن (¬1). أي: يبعد عندنا أن نبعث بعد الموت. قال الفراء: جحدوا البعث أصلاً كما تقول للرجل يخطئ في المسألة: لقد ذهبت مذهبًا بعيدًا من الصواب. أي أخطأت (¬2). قال مقاتل: أنكروا البعث وقالوا: إن الله لا يحيينا، وكيف يقدر علينا وقد كنا ترابًا وضللنا في الأرض (¬3). فقال الله تعالى: 4 - {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي: ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم وأبدانهم. وهذا قول الحسن، ومجاهد، ومقاتل، والكلبي (¬4). وقال السدي: قد علمنا من يموت منهم (¬5). جعل نقص الأرض، من الناس الموت، وذلك أن من مات دفن في الأرض، فهي تأخذ من مات، وتنقص من الناس بالأخذ منهم. وهذا قول قتادة، والضحاك (¬6). ثم ذكر أن عنده بذلك كتابًا فقال: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال ابن عباس: يريد اللوح المحفوظ (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 123 ب، "معالم التنزيل" 4/ 220. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 75 - 76. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 124 أ. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 124 أ، "جامع البيان" 26/ 94، "معالم التنزيل" 4/ 220. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 4. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 236، "جامع البيان" 26/ 94. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 10/ 175 ب، "غرائب القرآن" 26/ 107 ولم ينسبه لقائل.

5

وقال الضحاك: وعندنا كتاب محفوظ بعدتهم وأسمائهم (¬1). وقال مقاتل: محفوظ من الشياطين، يعني اللوح المحفوظ (¬2). 5 - ثم استأنف فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 5] أي: بالقرآن ومحمد -صلى الله عليه وسلم-. قاله المفسرون (¬3). {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قال أبو عبيدة والمبرد: مختلط (¬4). يقال للشيء المُخلّى، قد اختلط بعضه ببعض: مريج، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "قد مرجت عهودهم وأماناتهم، وصاروا هكذا وشبك بين أصابعه، (¬5). ذكره المبرد (¬6). وأصله على هذا من قوله: مرج الشيء، إذا أرسله وخلاه، ومرج دابتَه، خلاها، ومنه قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: 19]، والمريج المهمل والمهمل يختلط، فسمي المختلط مريجًا. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 221، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 4، "الدر" 6/ 102. (¬2) انظر:"تفسير مقاتل" 124 أ. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 153، "روح المعاني" 26/ 174، وقال القرطبي في "جامعه" 17/ 4 أي بالقرآن في قول الجميع. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 222. (¬5) انظر: جزء من حديث صحيح رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 162، 212، وابن ماجه في "سننه" كتاب: الفتن، باب: التثبت في الفتنة 2/ 1307، وأبو داود في كتاب: الملاحم 4/ 513، وانظر: "المسند" بتحقيق أحمد شاكر 11/ 7047، 7062، "صحيح سنن ماجه" للألباني 2/ 354. (¬6) لم أجده في مؤلفات المبرد المطبوعة، ولعله نُقل من كتاب "إعراب القرآن" للمبرد، وهو من الكتب التي لم يصل إلينا سوى اسمها. انظر: "منهج ابن حيان النحوي الأندلسي" في كتابه: "ارتشاف الضرب من لسان العرب" تحقيق مزيد إسماعيل نعيم. رسالة في مكتبة الرسائل الجامعية بجامعة الإمام بالرياض.

وأنشد أبو عبيدة قول الهذلي (¬1) فقال: فجالَتْ والتَمَسَتْ به حَشَاها ... فَخَرَّ كأنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ (¬2) أي غصنٌ قد أرسل من الشجر بأن قطع منه فسقط. وعلى هذا المعنى يدور كلام المفسرين، فإنهم قالوا في تفسير المريج: المختلف والملتبس والمختلط. والاختلاط يؤدي إلى الالتباس. وهذا الذي ذكرنا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، والضحاك، وقد قال عطاء عن ابن عباس: يريد مختلط مثل البهائم الممرجة (¬3). وقيل في قول الهذلي: (خوط مريج) إنه الذي اختلط شعبه والتبس بعضه ببعض (¬4). وقال قوم: أصل هذا من المرج وهو القلق والاضطراب. ¬

_ (¬1) عمرو بن الداخل الهذلي، أصله من بني سهم بن معاوية، له قصيدة جيمية ومنها هذا البيت. انظر: "ديوان الأدب" 3/ 89، "تاريخ التراث العربي" 2/ 261، "الأمالي" 1/ 264. (¬2) البيت ورد منسوبًا في "ديوان الهذليين" 3/ 103، "تهذيب اللغة" التحقيق 11/ 72، "اللسان" 3/ 461 (مرج). وعند أبي عبيدة نسبه لأبي ذؤيب الهذلي، ولم أجده في "ديوانه". انظر: "مجاز القرآن" 2/ 222، ومعناه أن البقرة راغت عن السهم فأصاب حشوة الجوف وكأن السهم غصن طرح وترك عندما سقط. (¬3) وممن قال به أيضًا: قتادة، وابن زيد، وابن جبير. وقال ابن جرير: "وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها، وإن كانت متقاربات المعاني". "جامع البيان" 26/ 94. وانظر: "تفسير مقاتل" 124 أ، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 236، "الجاح لأحكام القرآن" 17/ 4 - 5. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 72 (مرج).

6

يقال: مرج الخاتمُ في يدي، ومرج العهود اضطرابها، ومنه قول الشاعر: مَرجَ الدِّينُ فأعددتُ له ... مُشْرِفَ الحَارِكِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ (¬1) أي: اضطرب والتبس. وعلى هذا: المريج المضطرب غير المستقر (¬2). وعلى هذا الأصل قول من قال من المفسرين في المريج: الفاسد والمتغير. قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم (¬3). قال أبو إسحاق: هو أنهم كانوا يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم- مرة شاعر، ومرة ساحر، ومرة معلَّم. وللقرآن إنه سحر، ومرة يقولون مفترى. وهذا دليل أن أمرهم ملتبس مختلط عليهم. ثم دلهم -عز وجل- على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه الذي يدل على (¬4) قدرته على البعث (¬5) فقال قوله تعالى: 6 - {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] قال المفسرون: يعني بغير عمد (¬6) {وَزَيَّنَّاهَا} أي بالكواكب {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}، أي فتوق ¬

_ (¬1) البيت لأبي دؤاد كما في "ديوانه" ص 304، "اللسان" 3/ 461 (مرج)، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 5 والحارِكُ: أعلى الكاهل. وقيل: الحارك من الفرس فروع الكتفين. والكتد: مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس. "اللسان" 3/ 218 (كتد) 1/ 615 (حرك). (¬2) انظر: "اللسان" 3/ 461، "المفردات" 465 (مرج). (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 163، "معالم التنزيل" 4/ 221. (¬4) (ك): (عليه على). (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 42. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 221 , "روح المعاني" 26/ 175، "تفسير القاسمي" 15/ 5485.

8

وشقوق وصدوع وفصول. كل هذا من ألفاظهم. وقال مقاتل: من خلل (¬1). ومعنى الفَرْجِ في اللغة: الخلل، والفُرجة بين الشيئين. ويقال لما بين دوارج (¬2) الدابة: الفروج. ومنه قول امرئ القيس: تسدُّ به فَرْجَها من دُبُر (¬3) أراد لما بين فخذيها ورجليها. 8 - قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} قال أبو إسحاق: فعلنا لنبصر ونذكر به، ويدلُّ على القدرة: {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} يرجع إلى الله ويفكر في قدرته (¬4). 9 - قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} يعني كثير الخير، وفيه حياة كل شيء وهو المطر. قوله {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} الحصيد المَحصود، وقد مَرَّ تفسيرُه عند قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] (¬5). قال ابن عباس: يريد القمح (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 124 أ. (¬2) دوارج الدابة: قوائمها. "اللسان" 1/ 963 (درج). (¬3) وصدره: لها ذنب مثل ذيل العروس انظر: "ديوانه" ص 112، "تهذيب اللغة" 11/ 45 (فَرَجَ)، "الخزانة" 7/ 210. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 43. (¬5) عند تفسيره لآية (100) من سورة هود. ومما قال: الحصيد غير القائم وهو من الديار الخرب والمخسوف به، ومن الزرع ما أهلك ومحي أثره. (¬6) والذي ورد عنه رضي الله عنه قوله: (الحبوب كلها التي تحصد). انظر: "تنوير المقباس" 5/ 253، وهو ما قال به الزجاج أيضًا.

10

وقال قتادة: هو البر والشعير (¬1). وقال أبو إسحاق: جَمع بذلك جميع ما يقتات ويحصد من حب (¬2). قال الفراء: الحب الحصيد، وهو مما أضيف إلى نفسه (¬3). والبصريون يقولون: أراد حب النبت الحصيد (¬4). 10 - قوله: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} يعني طوالاً، وبسوقها طولها. يقال: جبل باسق، وبناء باسق، وحَسَب باسق، وبسقت المرأة إذا طالت، وكذلك النخلة (¬5). وأنشد أبو عبيدة (¬6): يا ابْنَ الذين بُضُلُهم ... بَسَقْتَ على قَيسٍ فَزَارَة (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 237، "جامع البيان" 26/ 96. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 43. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 76، قال الأزهري: وقول الزجاج: أصح لأنه أعم. "تهذيب اللغة" 4/ 226 (حصد). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 413، "البحر المحيط" 8/ 121. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 418، "المفردات" ص 46 (بسق). (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 223، "اللسان" 1/ 214 (بسق). والبيت لأبي نوفل يمدح ابن هبيرة. "اللسان" 1/ 214 (بسق)، "الدر المصون" 10/ 20 - 21. (¬7) قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. قبيلة عظيمة تشعبت إلى ثلاثة بطون من كعب وعمرو وسعد. وغلب اسم قيس على سائر العدنانية. انظر: "معجم قبائل العرب" 3/ 972. وفزارة بطن عص من غطفان وهم بنو فزارة بن ذبيان ومنهم جماعة من العلماء والأئمة من بطن بني غراب. كانت منازلهم بنجد ووادي القرى، ثم تفرقوا. لهم أيام في الإسلام وقبله. انظر: "معجم قبائل العرب" 3/ 918.

والمفسرون كلهم قالوا في الباسقات: إنها الطوال (¬1). قوله: {لَهَا طَلْعٌ} وهو أول ما يظهر من ثمر النخل. يقال: طَلَعَ الطَّلعُ أي يطلعُ طلوعًا، وأطلعت النخلة، إذا أخرجت طلعها. وطلعها كفرَّاها (¬2) قبل أن ينشق. وقال المفضل: الطلع أول ما يرى من عذق النخلة الواحدة طَلْعَة (¬3). قوله: {نَضِيدٌ} يقال: نضدت الشيء أنضده نضدًا، إذا وضعت بعضه فوق بعض، وهو منضود ونضيد ونضد. قال المفسرون (¬4): (نضيد) منضود بعضه على بعض. قال الفراء: طلع الكُفُرَّى نضيد ما كان في أكمامه، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد (¬5). وهذا قول الكلبي، واختاره ابن قتيبة فقال: وذلك قبل أن ينفتح، فإذا انشق جفت الطلعة وتفرقت فليس بنضيد (¬6). ومجاهد ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، وغيرهم. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 610، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 237، "جامع البيان" 26/ 96، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 222. (¬2) الكَفَرُ، الكُفُرِّي، والكِفِرَّي، والكَفَرَّي، والكُفَّري، وعاء طلع النخل. وكفُرَّاهُ: بالضم وتشديد الراء وفتح الفاء وضمها هو وعاء الطلع وقشره الأعلى. "اللسان" 3/ 275 (كفر). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 173، "اللسان" 2/ 605 (طلع). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 124 أ، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 237، "جامع البيان" 26/ 96 - 97. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 76، ولم أجده منسوبًا للكلبي. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 418، والجُفُّ: الوعاء، وجُفُّ الطلعة: وعاؤها الذي تكون فيه.

11

جعله نصيدًا بعد الانشقاق، فقال: (طلع نضيد): حيث ينشق عنه كمامه (¬1). والقولان تحتملهما المشاهدة، وذلك أنه قبل الانشقاق أشد تنضدًا بعد الاششقاق، فقال: (طلع نضيد) حيث ينشق عنه كمامه، لا يتفرق حب الثمر حتى ينفصل بعضه عن بعض كالعنب فإن حباته منتضدة على الشِّمراخ (¬2). 11 - قوله تعالى: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} قال أبو إسحاق: ينتصب على وجهين: أحدهما: على معنى رزقناهم رزقًا, لأن إنباته هذه الأشياء رزق، ويجوز أن يكون مفعولاً له، المعنى: فأنبتنا هذه الأشياء للرزق (¬3). قوله تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي من القبور. والمعنى: كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم كقوله: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: 57]. وقال ابن عباس: ينزل من السماء مطر كنطف الرجال تنبت عليهم اللحوم والعظام (¬4). وهذا معنى قول مقاتل: يخرجون من القبور بالماء، كما أخرجنا النبت من الأرض بالماء (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجده عن مجاهد، أو عن غيره، ولعل ما ذكره صاحب "اللسان" 3/ 656 في قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} هو الذي نُضَّد بالحمل من أوله إلى آخره. أو بالورق ليس دونه سوق بارزة. يفسر هذا ويدل عليه. (¬2) الشمراخ والشُّمروخ: العثكال الذي عليه الشر، وأصله في العذق وقد يكون في العنب. والعثكال، والعثكول، والعثكولة: العذق. "اللسان" 2/ 357 (شمرخ) 2/ 685 (عثكل). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 43. (¬4) لم أجده عن ابن عباس وسيأتي نحوه عن علي رضي الله عنه عند تفسير قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} من سورة الطور. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 124 أ.

12 - 14

ثم ذكر الأمم المكذبة تخويقًا لكفار مكة. فقال: 12 - 14 - قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وأخبار هؤلاء قد سبق ذكرُها، وتُبّع هذا هو الذي ذكر في قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} وهو تبع الحميري (¬1)، أسلم ودعا قومه إلى الإسلام. وكانوا يعبدون النار فأحرقهم الله بالنار. قوله: {فَحَقَّ وَعِيدِ} قال ابن عباس: يعني ما أوجب الله لمن كذب أنبياءه من العذاب (¬2). وقال مقاتل: فوجب عليهم عذابي (¬3). وقال أبو إسحاق: فحقت عليهم كلمةُ العذاب والوعيد لمكذبي الرسل (¬4). ثم أنزل جوابًا لقولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} قوله تعالى: 15 - {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يقال لكل من عجز عن شيء: عَيِيَ به، وعَيِيّ به، وعَيِيَ فلان بهذا الأمر. قال الشاعر: عَيُّوا بأمْرِهِمُ كَمَا ... عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمَامَةْ ¬

_ (¬1) أسعد أبو كرب بن ملك يكرب بن تبع، قدم مكة، وكسا الكعبة. ثم عاد إلى اليمن وآمن بالتوراة ودخل معه عامة أهل اليمن بعد التحاكم إلى نار تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم. وهو تبع الأوسط. وتوفي قبل مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنحو من سبعمائة سنة. وبعد موته عاد قومه إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى. انظر: "المعارف" 631، "تاريخ الأمم والملوك" 1/ 371، "البداية والنهاية" 2/ 163، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 222. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 256، "معالم التنزيل" 4/ 222. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 124 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 43.

16

ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33]. قال ابن عباس: يريد عجزنا (¬1). وقال مقاتل: يقول الله: أعجزنا عن الخلق الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئًا، فكيف نعيا عن بعثهم (¬2)؟ وهذا تقرير لهم؛ لأنهم اعترفوا بأن الله الخالق وأنكروا البعث. ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت فقال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} قال مجاهد، وقتادة: يمترون بالبعث بعد الموت (¬3). وقال الفراء: أي هم في ضلال وشك (¬4). وقال المبرد: التبس عليهم إعادة الخلق (¬5). وذكرنا معنى اللبس عند قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 9] (¬6). 16 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} يعني ابن آدم، وهو اسم ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 164، "معالم التنزيل" 4/ 222، "تفسير القاسمي" 15/ 5488، ولم ينسبوه لقائل. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 610، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 237، "جامع البيان" 26/ 98. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 77. (¬5) لم أجده عنه وهو معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، وأصحاب اللغة. (¬6) مما قال عند تفسيره لهذه الآية: لبست الأمر على القوم ألبسه لبسًا، إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً. قال ابن السكب: يقال: لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته. قال أهل اللغة: معنى اللبس منع النفس من إدراك المعنى بما هو كالستر له، وأصله من الستر بالثوب. ومنه لبس الثوب؛ لأنه ستر النفس به. وانظر: "تهذيب اللغة" 12/ 442 "اللسان" 3/ 335 (لبس).

الجنس {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} يعني يُحدث به قلبه. والمعنى: يعلم ما يخفي ويكن في نفسه. وذكرنا معنى الوسوسة عند قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] (¬1). قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} قال أهل اللغة: الوريد: عرق تحت اللسان يتفرق في البدن، وهو في العضد فَلِيقٌ (¬2)، وفي الذراع الأكحل، وفيما تفرق من ظهر الكفِّ الأشاجعُ (¬3)، وفي بطن الذراع الرَّواهش (¬4). وقال أبو الهيثم (¬5): الوريدان عرقان بجنب الودجين عن يمين ثغرة النحر ويسارها. قال: والوريدان ينبضان أبدًا من الإنسان. فكل عرق ينبض فهو من الأوردة التي فيها مجرى الحياة، والوريد من العروق ما جرى فيه ¬

_ (¬1) الآية (20) من سورة الأعراف موضع سقط من المخطوطة. والوسوسة هي الصوت الخفي من ريح، والوسوسة والوسواس: حديث النفس، والوسواس بالفتح هو الشيطان. انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 136 (وسس)، "اللسان" 3/ 922 (وسس). (¬2) الفليق: عرق في العضد يجري على العظم إلى نغضِ الكتف. "تهذيب اللغة" 156/ 9، "اللسان" 2/ 1128 (فلق). ونغض الكتف هو أعلى منقطع غضروف الكتف. (¬3) الأشاجع: العصب الممدود فوق السّلامى من بين الرسغ إلى أصول الأصابع. وقيل: رؤوس الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، وقيل عروق ظاهر الكف, وهو مغرز الأصابع. "تهذيب اللغة" 1/ 331، "اللسان" 2/ 273 (شجع). (¬4) الرواهش: واحدها راهشة، أو راهش، وهي عروق باطن الذراع. "تهذيب اللغة" 6/ 81، "اللسان" 1/ 1239 (رهش). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 163، "اللسان" 3/ 908 (ورد).

17

النَّفس ولم يجر فيه الدم. وقال الليث: هما وريدان مكتنفان صفحتي العنق، يقال للغضبان: قد انتفخ وريداه، والجميع الأوردة، والورد (¬1). وذكر الفراء وأبو عبيدة والزجاج أن الوريد في الحلق وباطن العنق (¬2). قال مقاتل: هو عرق يخالط القلب، فعِلْمُ الربِّ تبارك وتعالى أقرب إلى القلب من ذلك العرق (¬3). وقال أهل المعاني (¬4): المعنى: ونحن أقرب إليه في العلم وما تحدث به نفسه من هذا العرق المخالط للإنسان، وذلك أن أبعاض الإنسان وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا, ولا يحجب علم الله عنه شيء (¬5). ثم ذكر أنه مع علمه به وكَّل به ملكين يحفظان ويكتبان عليه عمله إلزامًا للحجة فقال: قوله: 17 - {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} (إذ) يتعلق بمحذوف دل عليه ما قبله وهو العلم، كأنه قيل: يعلم، ما يعمل، ويقول إذ يتلقى الملكان. أخبر أنه عالم ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 223، "معاني القرآن" للفراء 3/ 76، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 44. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 9. (¬4) قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير (قال أهل المعاني) فالمراد به مصنفو الكتب في "معاني القرآن" كالزجاج ومن قبله. وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني: الفراء والزجاج، وابن الأنباري. قالوا كذا انظر: "البرهان في علوم القرآن" 1/ 291 (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 178 ب، "معالم التنزيل" 4/ 222، "الجامع لأحكام القرآن" 9/ 17.

بأحواله وما يثبت عليه الملكان فلا يحتاج إلى الملكين ليخبراه، ولكنهما وكِّلا به إلزامًا للحجة وتوكيدًا للأمر عليه. والتلقِّي معناه: التلقن (¬1) والأخذ. ذكرنا ذلك عند قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 37] (¬2) ومفعول التلقي محذوف وتقديره: يتلقى المتلقيان ألفاظه وأفعاله. ودل علي هذا قوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} الآية. قال مقاتل في هذه الآية: يعني الملكين يتلقيان عمل ابن آدم ومنطقه (¬3). قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} قعيدا كلِّ إنسان حافظاه، وهما الملكان الموكَّلان به، قال ابن قتيبة: قعيد بمنزلة قاعد. مثل: قدير وقادر، وقد يكون بمنزلة: أكيل وشريب (¬4). فيكون القعيد بمعنى القاعد، وأصل هذا من القعود، ثم صار اسمًا للملازم للإنسان في كل حال من القيام والقعود والمشي والاضطجاع. ولهذا كانت العرب تطلق هذا الاسم تريد به الله تعالى، على معنى أن الله مع العبد بالعلم أينما كان فيقول: قَعْدَكَ الله وقعيدَك الله، بمنزلة نشدتك الله. وأنشد أبو الهيثم فقال: ¬

_ (¬1) التَلَقِّي: هو الاستقبال ومنه: فلان يتلقى فلانًا، أي يستقبله، ويأتي بمعنى التلقين، ومنه: الرجل يلقي الكلام، أي يُلقنه. "اللسان" 3/ 388 (لقا). (¬2) عند تفسيره لآية (37) من سورة البقرة، ومما قال: والتلقي في اللغة معناه الاستقبال .. ومنه الحديث: أنه نهى عن تلقي الركبان. قالوا معناه الاستقبال. وتفسير التلقي بالتلقن جائز صحيح وليس من لفظه. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 418.

قَعِيدكُمَا الله الذي أنْتُما له ... ألم تَسْمَعَا بالبيضَتَيْن المُنَادِيَا (¬1) قال: ومعنى قعيدك الله: أي أينما قعدت فأنت مقاعد لله، أي: هو معك، ومن هذا قول المتمم: قَعِيدَكِ ألَّا تُسْمِعِيني مَلامَةً ... ولا تَنْكِئي قَرْحَ الفُؤادِ قبيحا (¬2) قال أبو إسحاق: المعنى عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد. فدل أحدهما على الآخر، فحذف المدلول عليه، وأنشد (¬3): نَحْن بما عِنْدَنا وأنْتَ بما ... عِنْدَك رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ أي: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ. ومثله أيضًا: رَمَاني بأَمْرٍ كنتُ منه ووالِدِي ... بريئًا ومن أجْلِ الطّوى رَمَانِي (¬4) ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق، والبيضتان ماء لبني يربوع وماء لبني دارم. انظر: "ديوان الفرزدق" 2/ 360، "اللسان" 1/ 298 (بيض) 3/ 129 (قعد)، "همع الهوامع" 4/ 262. (¬2) ورد البيت منسوبًا في "المفضليات" ص 269، "الإيضاح في شرح المفصل" 1/ 237، "تهذيب اللغة" 1/ 199، "اللسان" 3/ 129، (قعد)، "الخزانة" 2/ 20، وكل المصادر روته (فييجعا) بدل (قبيحًا). (¬3) البيت لقيس بن الخطيم والد ثابت بن قيس الصحابي الجليل، وينسب إلى عمرو بن امرئ القيس الخزرجي. انظر: "ديوان قيس" ص 239، "الكتاب" 1/ 75، "المقتضب" 3/ 112، 4/ 73، "الأمالي" ابن الشجري 2/ 20، "الإنصاف" ص 95. (¬4) البيت لعمرو بن أحمر أو لطرفة الفراصي. انظر: "الكتاب" 1/ 75، "همع الهوامع" 2/ 84، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص 678، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 258، ونسبه أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 161 للأَزرق الباهلي. والمراد بالطوي البئر التي كان بينة وبين خصمه خلاف عليها.

قال: المعنى كنت بريئًا وكان والدي منه بريئًا (¬1). ونحو هذا قال الفراء، وأنشد للفرزدق (¬2): إني ضَمِنْت لمن أتانِي ما جَنَى ... وأبي فكان وكُنْتُ غَيْرَ غَدُورِ (¬3) وقال المبرد: فعيل يكون للواحد والجميع، وأنشد هو وأبو عبيدة: يا عاذلاتي لا تطلن ملامتي ... إن العواذل لسن (¬4) لي بأمير (¬5) وقال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. وقد ذكرنا هذا عند قوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (¬6). والمراد بالقعيد هاهنا: الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم، قال مجاهد: عن اليمين كاتب الحسنات، وعن الشمال كاتب السيئات (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 44. (¬2) في (أ): (الفرزدق) والصواب ما أثبته. سبق ترجمته في سورة النساء. (¬3) ورد البيت في "الكتاب" 1/ 38، "الإنصاف" ص 95، "معاني القرآن" للفراء 3/ 77، "المذكر والمؤنث" ص 677، "الإيضاح في شرح المفصل"1/ 168، وليس في "ديوان الفرزدق". والشاهد فيه: "غدور" ولم يقل: "غدورين". (¬4) أي: (ليس). (¬5) قال البغدادي في شرح أبيات "مغني اللبيب" 4/ 483: والبيت مشهور بتداول العلماء إياه في مصنفاتهم، ولم أقف على قائله اهـ. ونسب في بعض المصادر ليزيد ابن الصعق. انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 244، "اللسان" 2/ 658 (ظهر)، "الخصائص" 3/ 171 , "معاني القرآن" للأخفش 2/ 643، وقوله: (بأمير) أي لسن لي بأمراء. (¬6) ومما قال عند تفسيره لآية: قال الفراء: وإنما وحد الرفيق وهو حقه الجمع؛ لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب بها العرب إلى الواحد وإلى الجمع، ولا يجوز أن تقول: حسن أولئك رجلاً. وقال بعضهم: حسن كل واحد منهما رفيقًا (¬7) انظر: "جامع البيان" 26/ 99، "الوسيط" 4/ 165.

18

18 - قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} معني اللفظ في اللغة: الرمي من الفم. يقال: لفظ الكلامَ، إذا رماه من أنفه وفمه. والأرض تلفظ الميت إذا لم تقبله، والبحر يلفظ الشيء إذا رَمَى به إلى الساحل (¬1). والمعنى: ما يتكلم من كلام فيلفظه: {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} حافظ. يعني الملك الموكل به، إما صاحب اليمين وإما صاحب الشمال. قوله: {عَتِيدٌ} قال الكلبي: حاضر معه يحفظ عمله (¬2). وقال الزجاج: ثابت لازم (¬3). وذكرنا تفسيره عند قوله: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18] (¬4). 19 - قوله تعالى: {وَجَاءَتْ} أي: وتجيء. وذُكر بلفظ الماضي إشعارًا بتحقق كونه، كما قال: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] وقد مر (¬5) قوله {سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله وفهمه. وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 381، "المفردات" (452) (الفظ). (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 165، "معالم التنزيل" 4/ 222، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 11، ولم ينسبوه لقائل. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 45. (¬4) ومما قال عند تفسيره الآية: يقال اعتدت الشيء فهو معتد وعتيد، وقد عند الشيء عتادة وهو عتيد حاضر، قاله الليث. قال: ومن هنالك سميت العتيدة التي فيها طيب الرجل وأدهانه. (¬5) عند تفسيره لآية (44) من سورة الأعراف. ولم يذكر هناك شيئاً عن وروده بصيغة الماضي والله أعلم. (¬6) مما قاله عند تفسيره لهذه الآية: السَّكر سد الثقب لئلا ينفجر الماء، والسكر في الشرب هو تغير العقل وفساد اللب وقيل السكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان =

20

قوله تعالى: {بِاَلحَقِّ}. قال مقاتل: يعني أنه حق كائن (¬1). وقال أبو إسحاق: أي بالموت الذي خلق له (¬2). وقال الفراء: يقول بالحق الذي كان غير متبين لهم من أمر الآخرة، ويكون الحق هو الموت. أي جاءت سكرة الموت بحقيقة الموت (¬3). قوله (¬4) تعالى: {ذَلِكَ} أي يقال لمن جاءته سكرة الموت: (ذلك)، أي ذلك الموت {مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} قال مقاتل: يعني كراهية الموت (¬5). ونحو هذا قال ابن عباس: تكره (¬6). يقال: حاد عن الشيء يحيد حيدًا وحَيْدُودة وحَيَدانا ومحيداً وحِيَاداً وحُيوداً، إذا مال عنه وهرب (¬7). قال عطاء عن ابن عباس: يجتنب ويهرب (¬8). وقال الضحاك: يزوغ ويميل وينكص، كل هذا من ألفاظهم (¬9). 20 - قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قال مقاتل والكلبي: هي النفخة ¬

_ = عليه من المضاء في حال الصحو ولا ينفذ رأيه على حد نفاده في صحوه. وانظر: "تهذيب اللغة" 10/ 55، "اللسان" 2/ 170، "المفردات" (236) (سكر). (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب، "الوسيط" 4/ 167. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 45. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 78. (¬4) (ك): (وجاءت: أي وتجيء وذكر بلفظ الماضي إشعارًا قوله) والصواب حذفها. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 256، "الكشف والبيان" 11/ 180 ب، "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 223. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 189، "اللسان" 1/ 766 (حيد). (¬8) لم أجده، وهو في معنى القول الأول. (¬9) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 223، "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 13.

21

الأخيرة (¬1) {ذَلِكَ} أي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في الصور {يَوْمُ الْوَعِيدِ} قال مقاتل: يعني بالوعيد: العذاب في الآخرة (¬2). والمعنى: ذلك يوم تحقق الوعيد ووقوع الوعيد، فحذف المضاف. 21 - {وَجَاءَتْ} أي في ذلك اليوم {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} قال ابن عباس ومقاتل والحسن: سائق يسوقها إلى المحشر وإلى أمر الله، وشهيد يشهد عليها بما عملت، وهو قول الجميع (¬3). قال الكلبي: السائق هو الذي كان يكتب عليه السيئات، والشهيد هو الذي كان يكتب الحسنات (¬4). قال عبد الله بن مسلم: السائق قرينها من الشياطين، سمي سائقًا؛ لأنه يتبعها وإن لم يحثها ويدفعها. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوق أصحابه. أي يكون وراءهم. والشهيد الملك الشاهد عليها بما عملت (¬5). والمراد بالنفس هاهنا نفس الكافر، يدل عليه قوله: 22 - {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} اليوم في الدنيا {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} قال ابن عباس: الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب، "التفسير الكبير" 28/ 164. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب، "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 223. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 256، "تفسير مقاتل" 124 ب، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 238، "جامع البيان" 26/ 101، "المصنف" 13/ 439، وهو قول عثمان بن عفان، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد، وغيرهم. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 223. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 15، "البحر المحيط" 8/ 124، وقال (وهو قول ضعيف). (¬6) انظر. "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 223، ولم ينسب.

23

وقال ابن قتيبة: أي: أريناك ما كان مستورًا عنك في الدنيا (¬1). وقال أبو إسحاق: هذا مثل، المعنى: كنت بمنزلة من عليه غطاء وعلى قلبه غشاوة {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي فعلمك بما أنت فيه نافذ، وليس يراد بهذا البصر بصر العين (¬2). وهذا قول الكلبي واختيار الفراء، قال: المعنى كنت تكذب فأنت اليوم عالم نافذ البصر، والبصر هاهنا: العلم وليس بالعين (¬3). والآخرون قالوا: هو العين. قال ابن عباس في رواية عطاء: تبصر ما كنت تنكر في الدنيا (¬4). قال ابن قتيبة: أي: فأنت نافذ البصر لما كشفت عنك الغطاء (¬5). قال الضحاك: يحشر الكافر وبصره حديد، ثم يزرق ثم يعمى (¬6). وقال مقاتل: يشخص بصره، فلا يطرف حين يعاين في الآخرة ما كان يكذب به في الدنيا (¬7). 23 - قوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} قال مقاتل: يعني صاحبه، وهذا الملك الذي كان يكتب عمله السىِّء في الدنيا يقول لربه: كنت وكلتني به في الدنيا فهذا عندي معد حاضر قد آتيتك به (¬8). ونحو هذا ¬

_ (¬1) انظر: "تأويل المشكل" ص 422. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 45. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 257، "معاني القرآن" للفراء 3/ 78، وأخرج ابن جرير في "جامعه" 26/ 103 عن قتادة. (¬4) انظر: "معالم التزيل" 4/ 223، ولم ينسبه. (¬5) انظر: "تأويل المشكل" ص 422. وعبارته: فأنت ثاقب. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 15. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب.

24

قال الكلبي (¬1). وعلى قولهما يحتمل أن يكون المراد بقوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} الشخص الذي أتي به ويكون {مَا} بمعنى (من) (¬2)، ويحتمل أن يكون المراد ديوان أعماله وما كتب عليه. وقد صرح مجاهد بالقول الأول وقال: هذا الذي وكلتني به من ابن آدم قد أحضرته (¬3). وابن قتيبة صرح بالقول الثاني فقال: يعني ما كتبته من عمله حاضر عندي (¬4). وسيبويه جعل {مَا} هاهنا نكرة فقال: المعنى هذا شيء لدي عتيد، فارتفع {عَتِيدٌ} لأنه صفة لـ {مَا} (¬5). وذكر أبو إسحاق في رفع عتيد وجهين آخرين: أحدهما: أن يرفع بإضمار (هو) كأنه قيل: هذا شيء لدي هو عتيد. والآخر: أن يكون خبرًا بعد خبر، كما تقول: هذا حلو حامض (¬6). 24 - {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} قال مقاتل: يقول الله ألقيا في جهنم يعني الخازن، وهو في كلام العرب: خذاه، يعني الواحد (¬7). وقال الكلبي: كلام العرب ألقيا لواحد (¬8) واختار الأخفش، والفراء هذا المذهب، وهو أن هذا خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب يأمرون الواحد كما يأمر الاثنان، يقولون: قوما عنا للرجل. وويلك ¬

_ (¬1) لم أجده عن الكلبي. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 223. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 223، "الجامع" للقرطبي 17/ 16. (¬4) انظر: "تأويل المشكل" ص 422. (¬5) انظر: "الكتاب" 1/ 269، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 220. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 45. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب. (¬8) انظر: "جامع البيان" 26/ 103، "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 223.

ارحلاها وازجراها. قال الفراء: سمعتها من العرب وأنشد (¬1): فقلتُ لصَاحِبي لا تَحْبِسَانا ... بنَزْعِ أصُولِهِ واجْتَزّ شِيحَا وأنشد أيضًا: فإن تَزْجُرانِي يابنَ عَفَّان أنزَجِرْ ... وإن تَدَعَاني أحَمِ عِرْضاً مُمنَّعا (¬2) قال الفراء: ويرى أن ذلك منهم؛ لأن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما يكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على غالب العادة. ألا ترى الشعراء أكثر شيء: قيلا (¬3) يا صاحبي، ويا خليلي، قال امرؤ القيس: خليلَيّ مُرّا بي على أمِّ جُنْدُبِ ... لنَقْضِي حَاجَاتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ ثم قال: ألم تَرَيَانِي كُلّما جئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بها طِيبًا وإنْ لم تَطَيَّبِ (¬4) فرجع إلى الواحد، وأول الكلام اثنان (¬5). وذكر أبو إسحاق عن المبرد أن هذا فعل مبني توكيدًا، كأنه لما قال: ¬

_ (¬1) البيت لمضرس بن ربيع الفقعسي، وقيل ليزيد بن الطثرية. انظر: "شرح شواهد الألفية" 4/ 591، "اللسان" 1/ 453 (جزز) وفيه (لا تحسبنَّا) بدلًا من (لا تحسبانا)، "شرح المفصل" 10/ 49، "الخزانة" 11/ 17، "سر صناعة الإعراب" 1/ 187. (¬2) البيت لسويد بن كراع. انظر: "شرح القصائد السبع" ص 16، "الأغاني" 11/ 123، "شرح شواهد الشافية" ص 484، "إملاء العكبري" 2/ 242، "الخزانة" 11/ 17. (¬3) (ك): (قليلاً). (¬4) انظر: "ديوانه" ص 41، 121، "الخصائص" 3/ 281، "التصريح بمضمون التوضيح" 1/ 202. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 78 - 89.

(ألقيا) ناب عن قوله: ألق ألق. وكذلك عنده قِفَا، معناه: قف قف، فناب عن فعلين. قال: وهذا قولٌ صالحٌ، والذي ذكره محمد بن يزيد في قوله: {أَلْقِيَا} هو مذهب أبي عثمان المازني، ذهب إلى أن أراد ألق ألق، فثنى ضمير الفاعل فناب ذلك عن تكرير الفعل (¬1). قال أبو الفتح الموصلي: وهذا يدل على شدة اشتراك الفعل والفاعل، ألا ترى أنه لما بني أحدهما وهو ضمير الفاعل ناب عن تكرير الفعل، وإنما ناب عنه لقوة امتزاجهما، فكأن أحدهما إذا حضر فقد حضرا جميعًا (¬2). وهذا الذي قاله الموصلي بيان علة جواز نيابة (ألقيا) عن ألق ألق. قال أبو إسحاق: والوجه عندي أن يكون أمر الملكين؛ لأن (ألقيا) للاثنين، فأنا اعتقد أنه أمر الاثنين (¬3). وبهذا قال جماعة من المفسرين؛ فذكروا أن هذا خطاب للمتلقين معًا (¬4)، أو للسائق والشاهد جميعًا (¬5). والأشهر في هذا ما ذكره الفراء، ويدل عليه قراءة الحسن: (ألقين) بالنون الخفيفة، وهو خطاب الواحد (¬6). قوله {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} قال الكلبي، ومقاتل: كل كَفّار للنعم، معرض عن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 45 - 46. (¬2) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 225 - 226 (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 46. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 16. (¬5) قال ابن كثير: والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد، وبه قال الألوسي، وهو معنى ما قاله الزجاج. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 226، "روح المعاني" 26/ 185. (¬6) انظر: "الكشاف" 4/ 22، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 16، "البحر المحيط" 8/ 126.

25

الإيمان والتوحيد مجانب له (¬1). والحنيد بمعنى المعاند كالضجيع والقرين وذكرنا تفسيره عند قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] (¬2). 25 - قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي لا يبذل خيرًا. قال مقاتل: لا يعطي في حق الله (¬3). (مُعْتَدٍ) ظالم غشوم لا يقر بتوحيد الله، {مُرِيبٍ} قال قتادة والكلبي ومقاتل: شاك في الحق، وهو توحيد الله (¬4). وهذا من قولهم: أراب الرجل، إذا صار ذا ريب. وقد ذكرنا ذلك في ابتداء سورة البقرة (¬5). وذكر عطاء ومقاتل أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة. 27 - قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} اختلفوا في المراد بالقرين هاهنا فقال ابن عباس في رواية عطاء: يعني قرينه من الشياطين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب، "معالم التنزيل" 4/ 224. (¬2) قال عند تفسيره لهذه الآية: العنيد المعرض عن طاعة الله وهو قول ابن عباس. ومجاهد: هو المجانب للحق. وقال إبراهيم: الناكب عن الحق. وقال ابن زيد: المخالف للحق. وقال أبو إسحاق: الذي يعدل عن القصد. وقال ابن الأعرابي: أعند الرجل إذا عارض إنسانًا بالخلاف، وأعند إذا عارض بالاتفاق. وعند البعير خطامه أي عارضه. والعنود من الإبل التي تعاند الإبل فتعارضه. وقال قوم من أهل اللغة: معنى عند إذا أبى قبول الشيء مع العلم به تكبرًا عنه وبغيًا وطغيانًا. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 124 ب، "الوسيط" 4/ 167. (¬4) انظر: "جامع البيان" 26/ 104، "الوسيط" 4/ 167، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 17. (¬5) عند تفسيره لآية (2) من سورة البقرة. ومما قال: الريب الشك. يقال: رابني فلان يريبني، أي علمت منه الريبة. وأرابني أوهمنيها ولم يحققها. (¬6) انظر: "جامع البيان" 26/ 104، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 226.

وقال مقاتل: {قَرِينُهُ} هو شيطانه (¬1). واختاره ابن قتيبة (¬2). وعلى هذا القول معنى الآية هو: أن شيطانه يعتذر إلى ربه يقول: لم يكن لي قوة بأن أقوله بغير سلطانك {وَلَكِنْ كَانَ} في الدنيا (في ضَلَالٍ بَعِيدٍ) طويل. ذكره مقاتل (¬3). ومعنى {مَا أَطْغَيْتُهُ} ما أَضللته وأغويته. أي لم أتول ذلك من نفسي ولكنه كان في ضلال عن الحق بخذلانك إياه، كأنه يقول: لم أكن سبب طغيانه (¬4). وقال الكلبي: يقول الملك: ربنا ما أطغيته (¬5)، وعلى هذا القول المراد بالقرين الملك. وهو قول سعيد بن جبير. قال: يقول الكافر: رب إن الملك زاد عليّ في الكتابة (¬6). واختار الفراء هذا القول فقال: إن الكافر يقول: يا رب إنه كان يعجلني عن التوبة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته (¬7) أي: ما أعجلته عن التوبة وما زدت عليه. والمعنى: لم أكن سبب طغيانه بالإعجال والزيادة عليه، ولكن كان في ضلال بعيد لا يرجع إلى الحق ولا إلى التوبة. فيقول الله تعالى: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} قال ابن قتيبة: وذكر الله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬2) انظر: "تأويل المشكل" ص 422. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 224. (¬5) لم أجده. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 224، "الجامع" للقرطبي 17/ 17، "فتح القدير" 5/ 77. وهو مروي عن ابن عباس، ومقاتل. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 259، "الكشف والبيان" 11/ 181 ب، "معالم التنزيل" 4/ 224 (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 76.

29

اختصامهم في سورة الصافات وهو قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} الآيات إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 33] (¬1) وهذا يدل على أن المراد بالقرين الشيطان قوله تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} يعني ما ذكر من الوعيد بالعذاب لمن عصى الرسل. قال مقاتل: يقول قد أخبرتكم في الدنيا بعذابي في الآخرة (¬2). وقدَّم هاهنا إن كان واقعًا فالباء في {بِالْوَعِيدِ} زائدة مؤكدة، وإن كان لازمًا بمعنى يقدم كما ذكرنا في قوله: {لَا تُقَدِّمُوا} [الحجرات: 1] (¬3) فالباء للتعدية (¬4). ثم ذكر أنه لا تبديل لقوله ولا خلف لوعده فقال: 29 - {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا لأهل معصيتي (¬5). وقال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض (¬6). وقال مقاتل: يقول الذي قلت لكم في الدنيا من الوعيد قد قضيته (¬7) ¬

_ (¬1) من آية (27 - 33) من سورة الصافات. وانظر: "تأويل المشكل" ص 423. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬3) قال: قدم هاهنا بمعنى تقدم. وهو لازم لا يقتضي مفعولاً .. قال الفراء: يقال: قدمت في أمر كذا وكذا وتقدمت. وقال الأزهري: ويقال: قدم ويقدم وتقدم يتقدم وأقدم يقدم واستقدم يستقدم بمعنى واحد. (¬4) انظر: "البحر المحيط" 8/ 126، "فتح القدير" 5/ 77، "روح المعاني" 26/ 186. (¬5) لم أجده. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 612، "جامع البيان" 26/ 105، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 226. (¬7) (ك): (قضيت). والصواب ما أثبته.

عليكم فلا تبديل له (¬1). فعلى هذا معني الآية: لا تبديل لقول الله فيما ذكر من وعيد الكفار. قال المفسرون (¬2): وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119, السجدة: 13]. وقال أبو إسحاق: يعني قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (¬3). فإن قيل: على هذا كيف يجوز النسخ مع قوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قلنا سبق قضاؤه بنسخ ما ينسخه، فلو لم ينسخ وقد سبق به الحكم حينئذ لزم تبديل القول. وهكذا نقول في فائدة الدعاء والشفاعة (¬4). وذكر الكلبي في الآية قولاً آخر فقال: معنى الآية: ما يغير القول عندي بالكذب (¬5). يعني من كذب عندي فالغيب لا يخفى علي، وعلى هذا القول هو قول العبد لا قول الله تعالى. واختار الفراء وابن قتيبة هذا القول. قال الفراء: معناه ما يكذب عندي للعلم بالغيب (¬6). وقال ابن قتيبة: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أي لا يُغير عن جهته ولا يُحَرّف، ولا يزاد فيه ولا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 17. (¬3) من آية (160) من سورة الأنعام. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 46. (¬4) انظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 16، "مناهل العرفان" 2/ 198، "مباحث في علوم القرآن" 234 - 235. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 181 ب، "معالم التنزيل" 4/ 224، "فتح القدير" 5/ 77. (¬6) انظر: "معانى القرآن" للفراء 3/ 79.

30

ينقص, لأني أعلم كيف ضلوا وكيف أضللتموهم (¬1). وهذا القول كأنه أظهر؛ لأنه قال (القول لديّ) ولم يقل (قولي) (¬2). وهذا كما يقال: لا تكذب عندي. ولو قال قائل: لا يغير القول لديّ، فهم من كلامه أنه يقول: لا يكذب عندي بل يؤدي القول عندي على وجهه. 30 - قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ} قال أبو إسحاق: نصب {يَوْمَ} على وجهين: على معنى: ما يبدل القول لديّ في ذلك اليوم. وعلى معنى: أنذرهم يوم نقول، كما قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (¬3). وقرأ نافع: (يقول) بالياء على معنى: يقول الله. وقراءة العامة (¬4) أشبه بما قبله من قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ} وقوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} والنون في المعنى مثل: أقول، فهو أشبه بما قبله (¬5). وقوله: {هَلِ امْتَلَأْتِ} قال جماعة علماء التأويل (¬6): الله تعالى عالم هل امتلأت أم لا، وسؤالها عن امتلائها توبيخ لمن أُدْخِلها، ودلالة على صدق قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} أراها الله تعالى تصديق قوله: {لَأَمْلَأَنَّ} فلما امتلأت قال لها: {هَلِ امْتَلَأْتِ}، قال أبو إسحاق: ووجه مخاطبتها جعل ¬

_ (¬1) انظر: "تأويل المشكل" ص 423. (¬2) ذكره الشوكاني، ثم قال: والأول أولى، "فتح القدير" 5/ 77. (¬3) من آية (39) من سورة مريم. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 46. (¬4) قرأ نافع وأبو بكر (يقول) بالياء. وقرأ الباقون (نقول) بالنون. انظر: "حجة القراءات" ص 678، "النشر" 2/ 376، "الإتحاف" ص 398. (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 213. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 238، "جامع البيان" 26/ 105، "القرطبي" 17/ 18.

فيها ما به يتميز وتخاطب، كما جعل في النملة التي قالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] (¬1). قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد هل فيّ من سَعَة. وقد ضاقت بأهلها (¬2). وقال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح: وَعَدَهَا الله ليملأنها فقال: وفيتك. فقالت: فهل فيّ من مسلك (¬3). وقال في رواية ابن أبي مريم: لا يزال يقذف فيها حتى تقول: قد امتلأت، فهل فيّ من مزيد (¬4). وروى مقاتل بن سليمان قال: فتنتفض فتقول: قد امتلأت وليس فيّ مزيد. تقول: ليس فيّ سَعَة (¬5). وعلى هذا معنى الاستفهام في قوله: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} الإنكار (¬6). أي قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح (¬7): معنى قوله: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 47. والمؤلف رحمه الله تصرف في عبارة الزجاج، ونصها: ووجه مخاطبتها أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعل فيها .. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 259، من طريق الكلبي، "تفسير مقاتل" 125 أ، "معالم التنزيل" 4/ 224. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 612، "جامع البيان" 26/ 105. (¬4) انظر: "الدر المنثور" 6/ 107، ونسب إخراجه لسعيد بن منصور وابن المنذر. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ، "الكشف والبيان" 11/ 181 ب. (¬6) قلت: قول المؤلف رحمه الله: ومعنى الاستفهام الإنكار هو من كلام شيخه الثعلبي، ولا يليق بهذا المقام على القراءتين إذ لا يتصور إنكار من مخلوق على الله تعالى وبخاصة في يوم القيامة، بل الاستفهام فيه من الضعف والاستصغار أمام عظمة الله تعالى ما يرد وصفه بالإنكار والله أعلم. (¬7) باذام أو باذان مولى أم هانئ. وثقه بعض أهل العلم، وتكلم فيه بعضهم، واختار الشيخ أحمد شاكر توثيقه، وقال ابن معين: إذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، =

31

مسألة للزيادة (¬1)، كأنها تستزيد إلى ما فيها. ولهذه الاستزادة مع قول: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وجوه: أحدها: أن هذا السؤال كان قبل دخول جميع أهل النار فيها (¬2) والآخر: إنَّما طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها بأهلها (¬3). وقال أبو إسحاق: إنها تقول: هل من مزيد تغيظًا على من فيها، يعني أن طلب الزيادة حنقًا على أهلها، تقول: هل بقي أحد لم أنتقم لك منه، فالزيادة (¬4) ليس أنها لم تمتلئ فطلب الزيادة (¬5). 31 - قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قال مقاتل: قربت ¬

_ = وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس. انظر: "تهذيب الكمال" 1/ 137، "الجرح والتعديل" 1/ 432، "مسند الإمام أحمد" بتحقيق شاكر 3/ 323، "تهذيب التهذيب" 1/ 416، "ميزان الاعتدال" 1/ 296. (¬1) انظر: "جامع البيان" 26/ 106، "الكشف والبيان" 11/ 181 ب، "الوسيط" 4/ 168. قلت: والقول بأن قوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} معنى: هل بقي شيء تزيدوني، هو الظاهر من السياق وعليه تدل الأحاديث الصحيحة. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: وتقول هل من مزيد، 6/ 173, "صحيح مسلم"، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: النار يدخله الجبارون 4/ 2186، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 238، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 226. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 181 ب، "الوسيط" 4/ 168، "معالم التنزيل" 4/ 224 (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 174، "فتح القدير" 5/ 77. (¬4) (ك): (فازادة). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 47.

32

الجنة للمتقين الشرك غير بعيد، فينظرون إليها قبل دخولها حين تنصب على يمين العرش (¬1) ويقال لهم: 32 - {هَذَا} أي هذا الجزاء أو هذا الشيء الذي ترونه: {مَا تُوعَدُونَ} قوله: {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل من قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} (¬2) ويجوز أن يكون التقدير: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ منكم. فحذف (منكم) لدلالة الخطاب عليه (¬3). قال ابن عباس: يريد لكل راجع عن معاصي الله (¬4). وقال عبيد بن عمير: الأواب الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها (¬5). وقال مجاهد: هو الذي إذا ذكر ذنبه في الخلاء استغفر منه (¬6). وقال ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب (¬7). وأصله من الرجوع، وقد مر تفسيره عند قوله: {لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] (¬8) قوله: {حَفِيظٌ} قال ابن عباس: أي لما ائتمنه الله عليه وافترضه (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ، "معالم التنزيل" 4/ 225. (¬2) انظر: "الكشاف" 4/ 24. (¬3) انظر: "فتح القدير" 5/ 78. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 260، "الوسيط" 4/ 168. (¬5) انظر: "المصنف" 13/ 440، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 20، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 228، "فتح القدير" 5/ 78. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 182 ب، "الوسيط" 4/ 168، "معالم التنزيل" 4/ 225. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 168، "معا لم التنزيل" 4/ 225، "الدر" 6/ 107. (¬8) عند تفسيره لآية (25) من سورة الإسراء. وهو بنفس النص المذكور هنا. (¬9) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 260، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 20 عن قتادة.

33

وقال الكلبي ومقاتل: حافظ لأمر الله (¬1). وقال قتادة: حافقالما استودعه الله من حقه ونعمته (¬2). 33 - قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} يجوز أن يكون بدلاً من قوله: {أَوَّابٍ حَفِيظٍ}، ويجوز أن يكون استئنافًا على: هو من خشي الرحمن ويجوز أن يكون ابتداء يراد به الجزاء، على معنى: من خشي الرحمن قيل له: {ادْخُلُوهَا} وادخلوها جواب للجزاء، أضمرت قبله القول وجعلته فعلاً للجميع وهو قوله: {ادْخُلُوهَا} , لأن (من) يكون في مذهب الجمع ذكر ذلك الفراء (¬3). ومعنى {خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس: يقول يخافني ولا يرائي فكأنه يرائي (¬4). وقال مقاتل: أطاعه ولم يره (¬5). وهذا كما ذكرنا في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ومعنى هذا الغيب: غيبته عن رؤية الله. وقال الضحاك والسدي والحسن: يعني: في الخلوة، حيث لا يراه أحد إذا أرخى الستر وأغلق الباب (¬6). وعلى هذا الغيب غيبته عن الناس ورؤيتهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬2) انظر: "جامع البيان" 26/ 107، "الكشف والبيان" 11/ 182 أ، "معالم التنزيل" 4/ 225. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 79، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 223، "مشكل إعراب القرآن" 2/ 685. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 260، "الوسيط" 4/ 169، "معالم التنزيل" 4/ 225. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 182 ب، "معالم التنزيل" 4/ 225، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 21، "فتح القدير" 5/ 78.

34

قوله تعالى: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} قال مقاتل: وجاء في الآخرة بقلب مخلص (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: راجع عن معاصي الله (¬2). وقال أبو صالح عنه: مقبل إلى طاعة الله (¬3). 34 - وقوله: {ادْخُلُوهَا} أي يقال لهم: ادخلوا الجنة {بِسَلَامٍ} قال ابن عباس: بسلامة قد إنقطعت عنهم الهموم وأمنوا الموت (¬4). وقال قتادة: سلموا من عذاب الله وسلم الله عليهم (¬5). {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} في الجنة, لأنه لا موت فيها. قاله مقاتل. 35 - {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه ولم يخطرهم على بال، فذلك قوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬6) يعني وعندنا لهم مزيد. وقال عطاء عن ابن عباس: المزيد ما يزيدهم الله من الحور العين إلى ما عندهم من بنات آدم (¬7). وقال الكلبي عنه: هو أن الملائكة تأتي أحدهم بالهدايا من عند الله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ، "الوسيط" 4/ 169. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 169، ولم ينسبه لقائل. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 225، "الجامع" للقرطبي 17/ 21، "فتح القدير" 5/ 78. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 260، "معالم التنزيل" 4/ 225. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 239، "جامع البيان" 26/ 108. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 125 أ. (¬7) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 21، لاروح المعاني" 26/ 190، "الدر" 6/ 108، قال: وأخرج أحمد وأبو يعلى، وابن جرير بسند حسن عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه: "ثم تأتيه امرأته فتضرب علي منكبه ... ويسألها من أنت فتقول: أنا من المزيد". وانظر: "جامع البيان" 26/ 110.

فإذانظر إليها أعجبته، فتقول الملائكة للشجر الذي بفناء بابه: الله يأمرك أن تنفطري له عن كل ما يشاء من مقل هذه، وهو المزيد (¬1). وقال كثير بن مرة (¬2) وغيره: هو أن السحابة تمر بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطر لهم، وتمطر لهم الحور العين، فتقول الحور: نحن الذين قال الله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬3) وروي عن أنس ابن مالك في قوله {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال: يظهر لهم الرب تبارك وتعالى (¬4) وروى ذلك أيضًا عن جابر ويشهد لهذا التأويل قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) كثير بن مرة أبو شجرة، ويقال أبو القاسم الحضرمي، الحمصي، ثقة. سمع عمر، وروى عن معاذ وعبادة بن الصامت وجماعة، ويقال إنه أدرك سبعين بدريًا وشهد الجابيَّة مع عمر. انظر: "التاريخ الكبير" 4/ 208، "طبقات ابن سعد" 7/ 448، "تقريب التهذيب" 2/ 133، "سير أعلام النبلاء" 6/ 46، "أسد الغابة" 4/ 233. (¬3) أخرج ابن أبي حاتم نحوه. انظر: "الدر" 6/ 109، "روح المعاني" 26/ 190، قلت: لعل الأقوال السابقة من المزيد الذي ذكره الله تعالى تندرج في معنى الحديث الصحيح: "فيها ما لا عن رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". (¬4) أخرجه الشافعي، وأبو يعلى، وابن أبي شيبة وغيرهم من طريق جيدة. "الدر المنثور" 6/ 108. (¬5) قال ابن كثير: وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم الجمهور من السلف والخلف، "تفسير القرآن العظيم" 2/ 191. وانظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم 1/ 163. "سنن الترمذي"، كتاب: التفسير سورة يونس 5/ 276، "سنن ابن ماجه" 1/ 67 =

36

36 - قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا في الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} قال عطاء عن ابن عباس: ساروا (¬1). وقال الكلبي عنه: تقلبوا (¬2) وقال مجاهد: ضربوا (¬3). وقال النضر: دَوّروا (¬4). وقال أبو عبيدة: طافوا وتباعدوا (¬5). وقال الفراء: خرّقوا البلاد فساروا فيها (¬6). وقال الزجاج: طوفوا وفتشوا. قال ومنه: نقيب القوم للذي يعرف أمرهم (¬7). وقال المبرد: نقبوا في اللغة: طوفوا. وأصله من النقب وهو الطريق، كأنهم سلكوا كل طريق. وأنشدوا لامرئ القيس (¬8): وقد نَقّبْتُ في الآفَاقِ حتَّى ... رَضِيتُ من الغَنِيمَةِ بالإيَابِ ومعنى الآية: أن القرون الماضية ساروا في البلاد فلم يجدوا محيصًا ¬

_ = في المقدمة، "شرح النووي على مسلم" 3/ 17، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 228. (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 260، "جامع البيان" 26/ 110، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 229. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 226، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 22. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 612، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 229. (¬4) (ك): (دوخوا) وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 22، "فتح القدير" 5/ 80. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 224. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 79. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 48. (¬8) انظر: "ديوانه" 73، "اللسان" 3/ 697 (نقب)، والمراجع السابقة. ورواية الديوان "طوفت" بدل "نقبت". وقد ذكرها عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} آية: 7 من سورة النجم.

37

عن أمر الله. قال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركًا (¬1) وقال أبو إسحاق: طوفوا وفتشوا فلم يروا محيصًا من الموت (¬2). أخبر الله عنهم أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوا. وتقدير اللفظ: فنقبوا في البلاد هل من محيص لهم فلم يجدوا. وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفرًا من الموت. يموتون فيصيرون إلى عذاب الله. 37 - قوله: {إِنَّ في ذَلِكَ} أي في إهلاكهم: {لَذِكْرَى} يعني تذكرة وموعظة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قال ابن عباس في رواية عطاء، وأبي صالح: عقل (¬3). قال الفراء: وهذا جائز في العربية أن يقول: مالك قلب، وما قلبك معك. أي: ما عقلك معك، وأين يذهب قلبك. أي: أين يذهب عقلك (¬4). وقال غيره: إنما جاز {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} لأن من لا يعي الذكر لا يعتد بما له من القلب، والمعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهم, لأن من لم يتفهم كان بمنزلة من لا قلب له، ألا ترى أن الكفار ما لم يستمعوا سماع تفهم واسترشاد جعلوا بمنزلة من لا يسمع فقيل في صفتهم: {صُمٌّ بُكْمٌ} (¬5) وهذا قول أبي إسحاق (¬6). قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} قال أبو عبيدة والفراء: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 239، "جامع البيان" 26/ 110. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 48. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 262، "الوسيط" 4/ 170، "معالم التنزيل" 4/ 226. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 80. (¬5) انظر: من آية (18) و (171) من سورة البقرة. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 48.

38

وقال: ألقى سمعه إلى الشيء، وألق سمعك إليّ: استمع مني. فمعنى: {أَلْقَى السَّمْعَ} استمع (¬1)، وليس يراد بالسمع هاهنا الأذن، وإنما يراد حاسة السمع، كأنه قيل: وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له. وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} قال ابن عباس ومقاتل: وهو شاهد غير غائب (¬2). قال ابن قتيبة: استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساهٍ (¬3). فالمعنى: وهو شهيد بالفهم والقلب. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون: {وَهُوَ} كناية عن القلب. أي وقلبه حاضر فيما يسمع (¬4). 38 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} قال جماعة المفسرين (¬5): إن اليهود قالت: خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فذلك لا يعمل فيه شيئًا. فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} قال الكسائي: يقال لَغَبَ بالفتح يلغُبُ بالضم لغوبًا, ولغِبَ بالكسر يلغَب بالفتح لغبًا - لغتان فهو لاغب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 224، "معاني القرآن" للفراء 3/ 80. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 262، "تفسير مقاتل" 125 ب. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 419. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 49. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 262، "تفسير مقاتل" 125 ب، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 239، "جامع البيان" 26/ 11، "أسباب النزول" للواحدي ص 458، وبهذا قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، وغيرهم. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 450 عن عكرمة عن ابن عباس. (¬6) انظر: "اللسان" 3/ 375، "المفردات" ص 451 (لغب).

39

قال ابن عباس: يريد كما يلغب المخلوقون إذا عملوا من النَّصَب والتعب والإعياء (¬1). 39 - قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يعني علي بهت اليهود وكذبهم في قول مقاتل (¬2). وقال مقاتل (¬3): نزلت في المستهزئين بالقرآن، ولم يكن أذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القتال بعد. وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي صَلِّ حمدًا لله تعالى: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} قال مقاتل: يعني صلاة الفجر والعصر (¬4). وزاد عطاء والكلبي عن ابن عباس: صلاة الظهر (¬5). 40 - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} قال عطاء، والكلبي، ومقاتل: يريد المغرب والعشاء (¬6). {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} بكسر الهمزة (¬7) مصدر أدبر الشيء إدبارًا، إذا ولَّى. وانتصابه هاهنا على الظرف. والمصادر تجعل ظرفًا على إرادة إضافة ¬

_ (¬1) انظر: لم أجده. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، "الوسيط" 4/ 170، "معالم التنزيل" 4/ 226. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 24، "فتح القدير" 5/ 80، ولم ينسب لقائل. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، وفيه (يعني صلاة الفجر والظهر والعصر). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 262، 263، وهو المروي عن مقاتل. ومن المفسرين من علقه بصلاة الفجر وصلاة العصر، ومنهم من علقه بوقت الفجر ووقت العصر. انظر: "جامع البيان" 26/ 112، "تفسير القرآن" 4/ 229، "فتح القدير" 5/ 80. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 171، "معالم التنزيل" 4/ 227. (¬7) قرأ نافع، وابن كثير، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف: {وَأَدْبَارَ} بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "حجة القراءات" ص 678، "النشر" 2/ 376، "الإتحاف" ص 398.

أسماء الزمان إليها وحذفها كقولك: جئتك مقدمَ الحاج، وخفوقَ النجم، وخلافةَ فلان. تريد في ذلك كله: وقت كذا، وحذفته. فكذلك يُقدَّر في قوله: وقت إدبار السجود، إلا أن المضاف المحذوف في هذا الباب لا يكاد يظهر ولا يستعمل، ومن فتح الهمزة جعله جمع دُبْرٍ أو دبر، مثل: قُفْلٍ، وأقفال، وطنبٍ وأطناب. وقد استعمل ذلك ظرفًا في نحو: جئتك في دبر الصلاة، وفي أدبار الصلوات، وعلى دبر الشهر الحرام (¬1). قال أوس (¬2): على دُبرِ الشَّهرِ الحَرَامِ بأرْضِنَا ... وما حَوْلَها جَدْبٌ سُنُون تلمَّعُ واختلفوا في المأمور به في أدبار السجود، فروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الوتر الذي جعله سنة بعد الصلاة (¬3). وقال قتادة ومجاهد والكلبي ومقاتل: يعني الركعتين بعد صلاة المغرب (¬4)، وهو مذهب علي، وعمر، وأبي هريرة، والحسن، والنخعي، والشعبي، وإبراهيم (¬5)، والحسن بن علي -صلى الله عليه وسلم-. وروي ذلك مرفوعاً. رواه كريب عن ابن عباس، قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا ابن عباس ركعتان بعد ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 213 - 214. (¬2) لم أقف على البيت في "ديوان أوس بن حجر"، وانظر:، الحجة للقراء السبعة" 2/ 370، 6/ 214. (¬3) انظر: "الوسيط" 2/ 171، "روح المعاني" 26/ 193. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، "تفسير مجاهد" 2/ 613، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 240، "الكشف والبيان" 11/ 183 أ. (¬5) إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي، ثقة، وكان أبوه من كتاب الحجاج بن يوسف. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 331، "التاريخ الكبير" 1/ 328.

41

المغرب أدبار السجود" (¬1). وروى مجاهد عن ابن عباس قال: أمر بالتسبيح، وهو التسبيح باللسان أدبار الصلوات المكتوبة (¬2) وعلى هذا أمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة. والسجود عبارة عن الصلاة. واختار أبو عبيد فتح الهمزة. وقال: لأنه لا إدبار للسجود إنما ذلك للنجوم، ولهذا لم يختلف في كسر {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] (¬3) وأدبار جمع دُبُر، ويقال: دبر الصلاة، أي خلف الصلاة. 41 - قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} مفعول الاستماع محذوف على تقدير: واستمع النداء أو الصوت، أو الصيحة، وهي صيحة القيامة والبعث والنشور. واختلفوا في المنادي، فقال الكلبي: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة الطور 5/ 366، عن هشام الرفاعي عن محمد بن فضيل وقال: غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، لكن روى ابن المنذر من طريق أبي تميم الجيشاني قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} هما الركعتان بعد المغرب، "فتح الباري" 8/ 598. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 613، "جامع البيان" 26/ 113، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 230، وقال: ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي "الاستذكار" لابن عبد البر 5/ 431: عن أبي رزين عن ابن عباس: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} قال: الصلاة المكتوبة يعني الصبح والعصر، وبه قال قتادة وغيره. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 225، وقد ردَّ هذا الاختيار وقال: وهذا مما أخذ عليه, لأن معنى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} وما بعده وما يعقبه فهذا للسجود، والنجوم والإنسان واحد، وقد روى المحدثون الحيلة تفسير {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} {وَأَدْبَارَ النُّجُومِ} فلا نعلم أحدًا منهم فرق ما بينهما.

42

هو جبريل (¬1) وقال مقاتل: هو إسرافيل، وهو أنه ينادي بالحشر فيقول: يا أيها الناس: هلموا إلى الحساب، وذلك في النفخة الأخيرة (¬2). وقوله: {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أكثر المفسرين (¬3) على أنه صخرة بيت المقدس. قال الكلبي: وهي أقرب (¬4) الأرض من السماء باثني عشر ميلاً. ونحو ذلك قال مقاتل. قال وهو وسط الأرض (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد من تحت أقدامهم (¬6). يعني أن النداء بالحشر يسمعه كل أحد من مكان قريب منه، حتى كأنه يسمعه من تحت قدميه. 42 - {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} قال المفسرون (¬7): يعني النفخة الثانية، ويجوز أن يريد النداء للبعث. وهو قول المنادي: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 81، "الكشاف" 4/ 35، "فتح القدير" 5/ 81. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، "معالم التنزيل" 4/ 227، "جامع البيان" 26/ 114، عن بريدة، "الدر" 6/ 111. (¬3) وممن قال به كعب الأحبار وقتادة، ويزيد بن جابر، وابن عباس، وبريدة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 240، "جامع البيان" 26/ 114، "روح المعاني" 26/ 194. (¬4) (أقرب) ساقطة من (ك). وانظر: "الوسيط" 4/ 172، "معالم التنزيل" 4/ 228، "القرطبي" 17/ 27. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، "جامع البيان" 26/ 114، عن قتادة. (¬6) انظر. "تنوير المقباس" 5/ 264. (¬7) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 228.

43

أن تجتمعن لفصل القضاء (¬1). قوله تعالى: {بِالْحَقّ} قال الكلبي: بالبعث (¬2). وقال مقاتل: يعني أنها كائنة حقًّا (¬3). {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور. 43 - قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} قال ابن عباس: يريد كنتم أحياء وأمتناكم ثم إلينا مصيركم (¬4). وعلى معنى قول الكلبي ومقاتل معناه: إنَّا نحن نميت في الدنيا ونحيي للبعث (¬5). {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} والواو لا توجب ترتيبًا. 44 - قوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ} (يوم) ظرف للمصير. قوله تعالى: {سِرَاعًا} أي خارجين سراعًا يسرعون إلى الداعي، قال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: 8]. قوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}، قال عطاء: بَعْثٌ علينا سهل (¬6). وقال الكلبي: سَوْق علينا هين (¬7). وقال مقاتل: جَمْعُ الخلائق علينا هين. ثم عَزّى نبيه -عليه السلام- فقال: 45 - {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يعني كفار مكة، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، 126 أ، "الكشف والببان" 11/ 183 ب، "معالم التنزيل" 4/ 227، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 27. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 172، "فتح القدير" 5/ 81. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، "الوسيط" 4/ 172. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 264. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 125 ب، "الوسيط" 4/ 172، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 27. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 27. (¬7) لم أجده، وهو بمعنى سابقه ولاحقه.

قال المفسرون: بمسلط (¬1). قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام والهدى، إنما بعثتُ مذكرًا وذلك قبل أن يؤمر بالقتال (¬2). قال ابن قتيبة: وجبار ليس من: أجبرت الرجل على الأمر، إذا قهرته عليه, لأنه لا يقال من ذلك، والجبار الملك، سمي بذلك لتجبره. يقول: فلست عليهم بملك مسلط (¬3). وهذا قول الفراء، قال: لا يقال: دخال بمعنى مُدْخِل، ولا خراج بمعنى مخرج. والجبار من الجبرية وأنشد قول عمرو: عَصَيْنَا أمْرَه الجَبَّار فِينَا (¬4) قال: يريد المنذر (¬5) لولايته. ثم قال: وقد قالت العرب: درّاك من أدركت، فإن قلت: الجبار على هذا من أجبرت، فهو وجه. قال: وسمعت بعض العرب يقول: جبره على الأمر، فالجبار من هذه اللغة صحيح، يريد: يجبرهم ويقهرهم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 126 أ، "جامع البيان" 26/ 115، "الوسيط" 4/ 172. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 265، "الوسيط" 4/ 172، "فتح القدير" 5/ 81. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 419. (¬4) البيت لعمرو بن كلثوم، ولم أجده بهذا اللفظ عند غير المؤلف. انظر: "الديوان" ص 349، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 109، ورواية الديوان: إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن نقر الذل فينا (¬5) هو المنذر بن المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة بعد أبيه، خرج يطلب دم أبيه من الحارث بن أبي شمر الغساني، فقتله الحارث، وقيل قتله مرة بن كلثوم التغلبي أخو عمرو بن كلثوم. انظر: "المعارف" ص 648. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 81، "جامع البيان" 26/ 115.

قوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} قال ابن عباس: فعظ بالقرآن من يخاف وعيد ما وعدت من عصاني من العذاب (¬1). قال الكلبي: نسخت هذه الآية وأمثالها بآيات القتال (¬2). تَمَّتْ. ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 265، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 28. (¬2) انظر: "نواسخ القرآن" ص230، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 417, "فتح القدير" 5/ 81.

سورة الذاريات

سورة الذاريات

1

تفسير سورة الذاريات بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالذَّارِيَاتِ} قال جماعة المفسرين (¬1): هي الرياح تذرو التراب وهشيم النبت. أي تفرقه كقوله: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] (¬2) وقد مرَّ. وذكر جميعُ أهل اللغة أن ذرت وأذرت بمعنى واحد (¬3). قال أبو إسحاق: {وَالذَّارِيَاتِ} مجرور على القسم، المعنى: أحلف بالذاريات وبهذه الأشياء، قال: وقال قوم: المعنى: وربِّ الذاريات، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (¬4) 2 - قوله: {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} يعني السحاب التي تحمل وقرًا، أي ثقلاً من الماء. 3 - قوله: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} يعني السفن تجري ميسرةً في الماء جريًا سهلاً. ¬

_ (¬1) وهو المروي عن عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغيرهم. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 241، "جامع البيان" 26/ 116، "فتح الباري" 8/ 598. (¬2) عند تفسيره لآية [الكهف: 45]. ومما قال: الهشم الكسر، والهاشم الذي يهشم الخبز ولكسره في الثريد، وبه سمي هاشمًا. والهشيم ما تكسر وتهشم وتحطم من يبس النبات. وقال المفسرون في الهثيم: إنه الكسير المتفتت. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 225، "تهذيب اللغة" (ذرا). (¬4) من (آية: 23) من هذه السورة" وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 51.

4

4 - قوله تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}. قال الكلي ومقاتل: يعني الملائكة جبريل وميكائل وإسرافيل وملك الموت، يقسمون الأمر بين خلقه في الأرض، وهم المدبرات أمراً. قال المبرد: يفرقون في الناس ما أمرهم الله به (¬1). وقال الفراء: جبريل صاحب الغلظة، وميكائل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت (¬2). هؤلاء سموا هذه الأربعة من الملائكة في تفسير المقسمات. وغيرهم ذكروا الملائكة على العموم والإطلاق. قالوا في: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} إنهم الملائكة وهذا أولى من تخصيص الأربعة لقوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ} ومعناه: فالجماعات المقسمات، يعني جماعات الملائكة الذين وكلوا بالأمور يقسمونها على ما أمروا به. وتفسير هذه الآيات على ما ذكرنا مروي عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وتبعه المفسرون في ذلك فقالوا بقوله (¬3). وانتصب {يُسْرًا} على تقدير: فالجاريات جريًا يسرًا، فهو نعت مصدر محذوف، وانتصب: {أَمْرًا} في قوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} بالمقسمات، أي يقسمون أمراً أمروا به (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 126 أ، "معاني القرآن" للفراء 3/ 82، "القرطبي" 17/ 3. (¬2) (ك): (بالرحمة) وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 82 .. (¬3) وهو المروى عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 615، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 241، "جامع البيان" 26/ 116 - 117 , "المستدرك" 2/ 467 عن علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 229، "مشكل إعراب القرآن" 2/ 686.

5

ويجوز أن يكون المدعي: فالمقسمات بالأمر. أي بأمر الله تعالى أمروا بذلك أمرًا. وأما معني القَسْم بهذه الأشياء، إن قلنا إنه على إضمار الرب كما ذكره الزجاج فهو ظاهر، وإن قلنا إنه أقسم بهذه الأشياء، فوجه ذلك أنه إنما أقسم بالرياح لما فيها من عظيم العبر في هبوبها تارة وسكونها تارة، وما فيها من الحاجة في تنشئة السحاب وتذرية الطعام، واختلافها في العصوف واللين، فهي تقتضي مصرفًا لها، ومسكنًا، ومحركاً، وأقسم بالسحاب لما فيه من الآيات، وهو أنه ينبئ عن مُحَمل حمله الماء وأمسكه من غير عماد وأغاث بمطره العباد، وأحيا البلاد، وصرفه في وقت الغنى عنه بما لو دام لصار الناس إلى الهلال، ولو انقطع أصلاً لأضرّ بهم جميعًا، وأقسم بالسفن لما فيه من الدلائل بتسخير البحر لجريانها، وتقدير الريح لها بما لو زاد لغرق وما في هداية النفوس إلى صنعتها، وما في عظم النفع فيما ينتقل من بلد إلى بلد بها، وأقسم بالملائكة لما فيه من اللطيفة وعظم الفائدة وجلالة المنزلة بتقسيم الأمور بأمر ربها. وقد دل بهذه الأشياء على توحيده في قوله: {الْفُلْكَ تَجْرِي في الْبَحْرِ} الآية [البقرة: 164]. 5 - ثم ذكر جواب القسم فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} قال ابن عباس: يزيد ما توعدون من أمر الساعة لحق. وهو قول كائن يقع بكم في الآخرة (¬1). وقال مقاتل: إن الذي توعدون من أمر الساعة لحق. وهو قول مجاهد (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 266، "الوسيط" 4/ 173، "معالم التنزيل" 4/ 229. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 126 أ، "تفسير مجاهد" 2/ 615.

6

6 - قوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} قالوا: وإن الجزاء لكائن. وقال أبو إسحاق: إن المجازاة على أعمالكم لواقعة (¬1): 7 - {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} معني الحَبْك في اللغة: إجادة النسج. وقال: حبك الثوب، أي أجاد نسخه، وحبل محبوك، إذا كان شديد الفتل، ومنه قول الراجز: وإن تجعَّرتْ بمَحْبُوكٍ مُمَرّ (¬2) وفرس محبوك الكفل، أي مدمجه. قال لبيد: مُدْمَج الحَارِك مَحْبُوك الكَفَلْ (¬3) قال شمر: والمَحبوك في اللغة ما أجيد عمله، ودابة محبوكة إذا كانت مُدْمَجَة الخَلْق (¬4). وقال أبو عبيدة والمبرد: الحبُك: الطرائق، واحدتها حِبَاك، وحباك الحمام، طرائق على جناحيه، وطرائق الماء حَبكه (¬5) وأنشد ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 51. (¬2) ورد في "تهذيب اللغة" 1/ 362، "اللسان" 1/ 465 (جعر) وغيرهما ولم أجده منسوبًا. ليس الجعارُ منجيًا من القَدرْ ... وإن تجعَّرت بمحبوك مُمَرّ والجعار: الحبل. يشد به وسط الرجل إذا نزل في البئر وطرفه في يد رجل. والحبك: الشد. والممر الحبل الذي أجيد قتله، وكل مفتول ممر. انظر: "اللسان" 3/ 466 (مرر). (¬3) البيت في "ديوان لبيد بن ربيعة" ص 144، "تهذيب اللغة" 4/ 97 (حرك) والحارك: أعلى الكاهل. ورواية الديون: ساهم الوجه شديد أسْرُهُ مُغبَط الحارِكِ مَحبوكُ الكَفلُ (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 108 (حبك). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 224، "اللسان" 1/ 555 (حبك).

أبو عبيدة لزهير: مُكَلَّل بأصُولِ النَّبْتِ تْنَسِجُهُ ... ريحُ الجنوبِ لِضاحِيِ مائِه حُبُكُ (¬1) وأنشد للفرزدق: وأنت ابن جَبّارَيْ رَبِيعَة حَلَّقَتْ ... بك الشمْسُ في الخَضْراء ذاتِ الحَبائِكِ (¬2) وقال الفراء: الحبك تكَسُّرٌ بكل شيء كالرملة إذا مرت بها الريح، والماء الدائم إذا مرت به الريح، والدرع إذا كانت من الحديد لها حُبُك أيضًا، والشعرة الجعدة تكسُّرها حبك، وواحد الحُبُك حِبَاك وحَبِيكة، مثل طريقة وطرق، ومثال ومثل (¬3). قال ابن عباس في رواية عطاء: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} يريد الخلق الحسن (¬4). وهو قول أبي صالح، وأبي مالك وقتادة، والربيع. قال الحسن: حُبكتْ بالخلق الحسن (¬5). وروي سعيد بن جبير عن ابن عباس في تفسير الحبك قال: حسنها واستواؤها (¬6). وروى معمر عن قتادة: {ذَاتِ الْحُبُكِ} ذات الخلق الحسن الشديد (¬7). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوانه" ص 176، "المحتسب" 2/ 287، "اللسان" 1/ 555 (حبك). وفي الألفاظ بعض الاختلاف، والشاهد فيه أن النجم هو نبت يمتد على وجه الأرض بلا ساق. (¬2) انظر: "ديوانه" 2/ 56. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 82. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 266، "جامع البيان" 26/ 117. (¬5) انظر: "جامع البيان" 26/ 118. (¬6) انظر: "جامع البيان" 26/ 118، "الدر" 6/ 112. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 242.

8

وهو قول ابن زيد. قال: ذات (¬1) الشدة. وقرأ قوله: {سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] وهو معنى قول مجاهد: متقنة البنيان (¬2). وقال في رواية الكلبي: ذات الطرائق، ولكنها بعيد عن العباد فلا يرونها كحبك الماء إذا ضربته الريح وكحبك الرمل، وكحبك الشَّعْر الجعد (¬3). ونحو هذا قال مقاتل سواء (¬4) وهو قول عكرمة، وقال: إن بنيانها كالبرد المسلسل (¬5). وقال عبد الله بن عمرو: هي السماء السابعة (¬6). يعني: أنها ذات الطرائق لا التي نراها. والاختيار عند أهل اللغة في تفسير: {ذَاتِ الْحُبُكِ} ذات الطرائق الحسنة (¬7). 8 - ثم ذكر جواب القسم فقال: {إِنَّكُمْ} يعني أهل مكة {لَفِي قَوْلٍ ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 26/ 118، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 32. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 616، "معالم التنزيل" 4/ 229. (¬3) مراد المؤلف من قوله: (وقال في رواية الكلبي) أي ابن عباس، وقد فصل بين الرواية الأولي وهذه بفاصل قد يوهم فوجب التنبيه. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 266، "معالم التنزيل" 4/ 229. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 126 أ. (¬5) انظر: "جامع البيان" 26/ 118، "معالم التنزيل" 4/ 229. (¬6) انظر: "جامع البيان" 26/ 118، للالجامع لأحكام القرآن" 17/ 31. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء ... "تفسير القرآن العظيم" 4/ 232. والصفيق جيد النسج. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 52. وقال الشنقيطي -رحمه الله-: {ذَاتِ الْحُبُكِ} فيه العلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا .. والآية تشمل الجميع، فكل الأقوال حق. "أضواء البيان" 7/ 662 - 664.

9

مُخْتَلِفٍ}. قال عطاء عن ابن عباس: يعني في محمد -صلى الله عليه وسلم- بعضكم يقول شاعر، وبعضكم يقول مجنون. وفي (¬1) القرآن: يؤمن به بعضكم ويكفر به بعضكم (¬2). وقال الكلبي: إنكم بين مصدق ومكذب بمحمد والقرآن (¬3). 9 - {يُؤْفَكُ عَنْهُ} قال أبو عبيدة: يدفع عنه ويحرمه (¬4). وقال الفراء: يَضْرب عنه. والكناية في {عَنْهُ} يجوز أن يكون للقرآن، أو للإيمان (¬5) أو لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك قد قيل. قال ابن عباس: يكذب به من يكذب (¬6). والمعنى: يصرف عنه من صُرِفَ حتى يكذب به. 10 - قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال جماعة المفسرين وأهل المعاني (¬7): لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: هذا تعليم لنا الدعاء عليهم، معناه: قولوا إذا دعيتم عليهم: قتل الخراصوان. قال: والقتل إذا أخبر عن الله به كان بمعنى اللعنة، إن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك (¬8). ¬

_ (¬1) في (ك): (يعني في) والصواب ما أثبته. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 267، "الوسيط" 4/ 174، "التفسير الكبير" 28/ 197. (¬3) انظر: "معالم التزيل" 4/ 229، "فتح القدير" 5/ 83. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 224. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 3/ 83. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 267، "الوسيط" 4/ 174، "معالم التزيل" 4/ 229. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 242، "معاني القرآن" للفراء 3/ 83، "تفسير غريب القرآن" 421، "جامع البيان" 26/ 119، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 232، "فتح الباري" 8/ 599. (¬8) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 33، "فتح القدير" 5/ 84.

وأما الخراصون فقال أبو إسحاق: هم الكذابون (¬1)، يقال: قد تَخَرَّص علىّ فلان بالباطل. قال: ويجوز أن {الَّذِينَ هُمْ في غَمْرَةٍ سَاهُونَ} يكون الخراصون الذين يتظنون الشيء لا يُحقُّونه فيعملون بما لا يدرون صحته (¬2). الأزهري: وأصل الخْرَصِ التَّظَنِّي فيما لا يستيقنه، ومنه قيل: خرصت النخل والكرم، إذا حزرته, لأن الحزر فيه الظن لا الإحاطة، ثم قيل للكذب خرص لما يدخله من الظنون الكاذبة (¬3). واختلفوا في الخراصين هاهنا مَنْ هم؟ فقال (¬4): هم رؤساء قريش الذين رموه بما رموه به من السحر، وهو اختيار الفراء. قال: هم الذين قالوا: محمد شاعر، كذاب، مجنون، ساحر، وأشباه ذلك، خرصوا ما لا علم لهم به (¬5). وقال ابن عباس: هم المقتسمون (¬6). وهو قول مقاتل. قال: وتخرصهم أنهم قالوا للناس: إن محمدًا شاعر، وساحر، ومجنون (¬7). وقال مجاهد: هم الكهنة. وهو اختيار أبي عبيدة (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 52. (¬2) من قوله: (يقال: قد تخرص) من كلام الزجاج، انظر "معاني القرآن" 5/ 52. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 13 (خرص). (¬4) قوله (فقال) يدل على إسقاط صاحب القول، ونحوه عن ابن عباس، وابن زيد وغيرهما. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 268، "جامع البيان" 26/ 119. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 3/ 83. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 229، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 34, ومراده من المقتسمين. أي اقسموا القول في النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من رماه بالسحر، ومنهم من رماه بالشعر، ومنهم من رماه بالكهانة. (¬7) انظر "تفسير مقاتل" 126 أ. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 225، "معالم التنزيل" 4/ 229، "جامع البيان" 26/ 119، عن ابن عباس.

11

11 - قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ في غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الغمرة ما غمر الشيء فغطاه. يقال: هذا نهر غمر. أي يغمر فيه مَنْ دخله (¬1) ومنه: {غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} وقد مرَّ (¬2). قال ابن عباس: في عمى وجهالة عن أمر الآخرة ساهون لاهون غافلون (¬3). ومعنى السهو في اللغة الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه. يقال: سها يسهو سهوًا وسُهوًّا. ذكر ذلك الليث (¬4). 12 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} قال ابن عباس: متى يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب (¬5). وقال الكلبي، ومقاتل: يسألون النبي يقولون: يا محمد متى الساعة وقيامها، واليوم الذي توعدنا به وتزعم أنا نعذب فيه تكذيبًا منهم بالحساب، واستهزاء (¬6). و {أَيَّانَ} معناه في اللغة متى، وفيه لغتان، فتح الهمزة وكسرها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 128، "اللسان" 2/ 1013 (غمر). (¬2) عند تفسيره للآية [الأنعام: 93] قال: الغمرة شدة الموت وما يغشي الإنسان من همومه وسكراته. وغمرة كل شيء كثرته ومعظمة، ومنه غمرة الماء وغمرة الحرب. ويقال: غمره الشيء إذا علاه وغطاه. قال الزجاج: ويقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك. وغمره الدين إذا كثر عليه. هذا هو الأصل ثم يقال للشدائد والمكاره الغمرات. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 268، "معالم التنزيل" 4/ 229. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 266، (سهو)، "اللسان" 2/ 23. (سها). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 52. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 126 أ، "الوسيط" 4/ 174، "معالم التنزيل" 4/ 229. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 52، "تهذيب اللغة" 15/ 549 (أيان)، "الكشاف" 2/ 107، وقراءة الكسر لعبد الرحمن السلمي، وهي لغة لسُليم.

13

وكأنه مركب من أي والآوان (¬1) فجعلتا كلمة واحدة. 13 - ثم أخبر الله تعالى عن ذلك اليوم الذي يسألون عنه فقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} قال أبو إسحاق: نصب (يوم) على وجهين: أحدهما: على معنى يقع الجزاء يوم هم على النار. والثاني: أن يكون لفظه نصبًا, ومعناه معنى رفع؛ لأنه مضاف إلى جملة، نقول: يعجبني يوم أنت قائم، ويوم تقوم، وإن شئت تحت، وهو في موضع رفع، وهذا كقوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] ففتح يوم وهو في موضع خفض, لأنك أضفته إلى غير متمكن (¬2). وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (¬3) [المائدة: 119]. في قراءة من قرأ بالنصب. ومعنى (يُفْتَنُونَ) يحرقون ويعذبون بالنار، وكذا قال المفسرون. قال المبرد: يقال: فتنت الدينار، إذا أحرقت عنه ما زيد فيه من الغش (¬4). وهذا معنى قول مجاهد: كما يفتن الذهب في النار (¬5). وقال عكرمة -في هذه الآية-: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن (¬6). ¬

_ (¬1) في (ك): (والألوان) والصواب ما أثبته. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 52 - 53. وفتح (يوم) في [هود: 66] نافع , والسكاكي، وأبو جعفر، والباقون بكسرها. انظر: "حجة القراءات" ص 344, "النشر" 2/ 289، "الإتحاف" ص 257. (¬3) وفتح (يوم) نافع، والباقون قرأوا بالرفع. انظر: "حجة القراءات" ص 242 , "النشر" 2/ 256، "الإتحاف" ص 204. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "جامع البيان" 26/ 12، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 233. (¬6) انظر: "جامع البيان" 26/ 12، "الوسيط" 4/ 174.

14

قال الزجاج: ويقال للحجارة التي كأنها قد أحرقت بالنار الفَتِين (¬1). 14 - قوله: {ذُوقُواْ} أي يقول لهم خزنة النار ذوقوا فتنتكم. قال جاهد والكلبي: حريقكم (¬2). وقال آخرون: عذابكم (¬3). وهو معنًى، والتفسير هو الأول. قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يجوز أن يكون متصلاً بالكلام الأول ويكون هذا إشارة إلى الفتنة وذكر إرادة الإحراق والعذاب (¬4). ويجوز أن يكون الكلام قد تم ثم قيل لهم: هذا العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا استهزاء وتكذيبًا به. وهذا مذهب أبي عبيدة (¬5). ولما ذكر الله تعالى أن الجزاء على الأعمال كائن بقوله: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ذكر جزاء أهل النار، ثم أعلم ما لأهل الجنة عنده من الجزاء بقوله (¬6) تعالى: 15، 16 - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} قال ابن عباس، والمفسرون (¬7): ما أعطاهم من الخير والكرامة. وانتصابه ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 53. (¬2) انظر: "جامع البيان" 26/ 121، "الوسيط" 4/ 174، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 35، "اللسان" 2/ 1137 (فتن). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "جامع البيان" 26/ 121، "معالم التنزيل" 4/ 229، وفي "تنوير المقباس" 5/ 268، قال: حرقكم وعذابكم ونضجكم. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 199، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 35، "فتح القدير" 5/ 84. (¬5) انظر: "مجار القرآن" 2/ 226، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 232. (¬6) (ك): (بقوله قوله). (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "الوسيط" 4/ 175, "معالم التنزيل" 4/ 23.

17

على الحال، والعامل فيه ما يقدر مع الجار في خبر إن؛ لأن المعنى: يستقرون في جنات (¬1). ثم أثنى عليهم فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} يعني في الدنيا. قال مقاتل: كانوا قبل ذلك الثواب محسنين في أعمالهم (¬2). 17 - ثم ذكر إحسانهم فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} والهجع معناه النوم بالليل دون النهار، ومنه يقال: لقيته بعد هجعة. أي بعد نومه من الليل (¬3). وكثر الاختلاف في تقدير هذه الآية. وتفسيرها أن (ما) صلة والمعني كانوا يهجعون قليلاً من الليل. أي: لا ينامون بالليل كله ولا كثيره، بل يصلون أكثر الليل (¬4). وعلى هذا التأويل قال عطاء (¬5): ذاك إذا أمروا بقيام الليل، فكان أبو ذر يأخذ العصا ويعتمد عليها حتى نزلت الرخصة (¬6). ويجوز على هذا التأويل معنى آخر، وهو أن يكون الليل اسم الجنس، والمعنى الذي ينامون فيه قليلاً. وهو معنى قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: كانوا قل ليلة تمر بهم الأصلوا فيها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 53، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 233. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "الوسيط" 4/ 175. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 129، "اللسان" 3/ 774 (هجع). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 53. (¬5) في (ك): (وعلى هذا التأويل قال عطاء) مكررة. (¬6) انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة 2/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 36, "الدر" 6/ 113، ونسب تخريجه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن نصر. (¬7) انظر: "جامع البيان" 26/ 122، "الوسيط" 4/ 175، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 233، "المستدرك" 2/ 467 وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال مطرف بن الشِّخِّير: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها (¬1). وقال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل (¬2). ووجه آخر وهو الوقف علي قوله: (قَلِيلاً) ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وهذا على نفي النوم عنهم البتة. وهو قول مقاتل والضحاك قالا: كانوا قليلاً (¬3). وعلى هذا القول عطاء عن ابن عباس: المراد بهؤلاء القليل ثمانون من نصارى نجران والشام. آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقوه فذكرهم الله في غير موضع من القرآن (¬4). وذكر وجهان آخران. أحدهما: أن {مَا} في هذه الآية ما المصدر، ويكون التقدير: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وهذا الوجه ذكره أبو إسحاق والفراء، وكذلك الوجه الأول (¬5). واختاره يعقوب ووقف على قوله: {قَلِيلًا} (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 243، "جامع البيان" 26/ 122، "المصنف" 2/ 238، "معالم التنزيل" 4/ 23. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 617، "جامع البيان" 26/ 122، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 233، "المصنف" 13/ 568. (¬3) انظر: "جامع البيان" 26/ 123، "المصنف" 2/ 239، "الوسيط" 4/ 175، "التفسير الكبير" 28/ 202، وفي "تفسير مقاتل" 126 ب قال بقلة نومهم، والله أعلم. وهذا القول رده بعض العلماء لما فيه من تفكيك للنظم، وتقدم معمول العامل المنفي بـ (ما) على عامله لا يجوز عند البصريين. انظر: "الكشاف" 4/ 28، "البحر المحيط" 8/ 135، "فتح القدير" 5/ 84. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 175. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 53. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 36، وما ذكره القرطبي هو نقل يعقوب له لا اختياره. ثم قال: قال ابن الأنباري: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم، لا على قلة عددهم. قلت: مراد المؤلف - رحمه الله أن يعقوب اختار =

18

والآخر: أن (ما) بمعني الذي والتقدير: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعون. وهذا قول الكلبي. قال: كانوا قليلاً من الليل الذي يناموا (¬1) ويجوز في هذا التأويل الوجهان اللذان ذكرنا في التأويل الأول، بأن يجعل الذي يهجعون بعض الليلة الواحدة، وبعض الليالي فيجعل الليل اسم الجنس. واختار المبرد أن تكون (ما) صلة. وقال: لو كان (ما) للمصدر أو بمعنى الذي، لكان ما قبلها مرفوعًا فيكون: قليل هجوعهم، أو قليل الذي يهجعون (¬2). 18 - {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وأجاز الفراء وأبو إسحاق النصب مع كون (ما) للمصدر (¬3). وأقوال المفسرين موافقة للوجوه التي ذكرناها ودالة عليها. فأما قول من قال: كانوا لا ينامون عن العشاء الآخرة. وهو قول أبي العالية. ونحو ذلك قال محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة (¬4). وروي قتادة عن أنس في هذه الآية قال: كانوا يصلون بين المغرب ¬

_ = الوجه الأول وهو المتقدم على هذا الوجه، حيث قال: ووجه آخر وهو الوقف على قوله {قَلِيلًا}. وانظر "القطع والائتناف" ص680 - 681. (¬1) انظر: "جامع البيان" 26/ 123، واختار ابن جرير حيث قال: لأن الله تبارك وتعالى وصفهم بذلك مدحًا لهم وأثني عليهم به، فوصفهم بكثرة العمل وسهر الليل ومكابدته فيما يقربهم منه ويرضيه عنهم، أولي وأشبه من وصفهم من قلة العمل وكثرة النوم، مع أن الذي اخترنا في ذلك هو أغلب المعاني على ظاهر التنزيل. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 53. (¬4) انظر: "جامع البيان" 26/ 122، "معالم التنزيل" 4/ 320، "الجامع الأحكام القرآن" 17/ 36.

19

والعشاء (¬1). فهذا يحمل على أن الله تعالى عَدَّ هجوعهم قليلاً في جنب تعظيم الصلاة ومحافظتهم عليها حتى لا يشتغلوا عنها بالنوم. ويدل على أن المراد سهرهم بالليل، وقلة نومهم، قوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. قال عطاء، والكلبي، ومقاتل، ومجاهد: يصلون (¬2)، ففسروا الاستغفار بالصلاة، على أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم مغفرة الله تعالى. وذهب آخرون إلى ظاهر الاستغفار باللسان. وهو قول ابن مسعود والحسن. وقال أنس: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفاراً (¬3). 19 - ثم ذكر صدقاتهم فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} معنى المحروم في اللغة: الذي حرم الخير حرمانًا. روي أبو عبيد عن الأصمعي: حَرَمْتُ الرجل العطيةَ أَحْرِمه حِرْمَانًا. وزاد أبو نصر (¬4): وحَريِمةً. ولغة أخرى: أخْرَمْتُ، وليست بجيدة (¬5). واختلفوا في المحروم هاهنا مَنْ هو؟ فقال ابن عباس: هو المُحارَفُ. وهو قول نافع، وسعيد بن المسيب، ورواية قيس بن كَرْكَم (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 243، "معالم التنزيل" 4/ 23. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 618، "تفسير مقاتل" 126 ب، "جامع البيان" 26/ 124، "المصنف" 13/ 327، عن ابن عمر، "الوسيط" 4/ 175. (¬3) لم أجده. (¬4) أحمد بن حاتم النحوي: إمام مشهور، كتب: النحو واللغة، وصنف فيهما. قال الأصمعي: لا يُصَدَّق عليَّ إلا أبو نصر. حدث عنه ثعلب، مات سنة (231 هـ). انظر: "الأعلام" 1/ 104، "إنباه الرواة" 6/ 36، "تاريخ بغداد" 4/ 114، "معجم الأدباء" 2/ 283، "معجم المؤلفين" 1/ 186. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 46 (حرم) (¬6) قيس بن كَرْكَم. قال ابن حبان: هو قيس بن شُقَي، روي عن ابن عباس، وعنه أبو =

عن ابن عباس. واختيار الفراء (¬1). وفسر إبراهيم، ومجاهد: المحروم المحارف، فقالوا: هو الذي ليس له في الغنيمة شيء، ولا في الإسلام سهم، ولا يجري عليه من الفيء شيء (¬2). يدل على صحة هذا التأويل ما روى الحسن بن محمد بن الحنفية (¬3) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية فغنموا فجاء بعدهم قوم لم يشهدوا فنزلت هذه الآية. وقال قتادة، والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل. وذكر الزهري قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكله والأكلتان". قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى ولا يُعْلم بحاجته فيتصدق عليه" (¬4). قال الزهري: فذلك المحروم (¬5). ¬

_ = إسحاق الهمداني، وأبو إسحاق السبيعي، قال الأزدي: ليس بذاك، ولا أحفظ له حديثاً مسندًا. انظر: "لسان الميزان" 4/ 479، "التاريخ الكبير" 4/ 1/ 149، "الجرح والتعديل" 7/ 103، "الثقات" لابن حبان 5/ 312. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84، "جامع البيان" 26/ 124، "الكشف والبيان" 11/ 183 ب، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 234. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "جامع البيان" 26/ 125، "القرطبي" 17/ 38، المحارف: الذي لا يصيب خيرًا من وجه توجه له. "اللسان" 1/ 610 (حرف). (¬3) أبو محمد الحسن بن محمد بن الحنيفة: ثقة، فقيه. يقال: إنه أول من تكلم في الإرجاء. مات سنة (100 هـ) أو قبلها بسنة. انظر: "جامع البيان" 26/ 125 , "الكشف والبيان" 11/ 183 ب، "الدر" 6/ 113. (¬4) حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 2/ 153، وفي ألفاظه اختلاف. ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: المسكين الذي لا يجد غنى .. 2/ 719، والنسائي في كتاب: الزكاة، باب: تفسير المسكين 2/ 453، وأحمد في "المسند" 2/ 26. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 243 "الكشف والبيان" 11/ 183 ب، "الوسيط" 4/ 175، "معالم التنزيل" 4/ 231.

20

وقال عكرمة: هو الذي لا ينمو له مال (¬1). وهو رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال ابن زيد: هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. وهو قول القرظي. قال: المَحروم صاحب الجائحة. واحتج بقوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27] (¬2). وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم في هذا الحق (¬3). وقال ابن سيرين: هو الزكاة (¬4). وهو قول مجاهد في رواية منصور، قال: كانوا إذا حصدوا أعطوا الزكاة (¬5). وروى ابن أبي نجيح عنه قال: حق سوى الزكاة (¬6). 20 - قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} قال ابن عباس في رواية الكلبي، ومقاتل: يعني ما فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبت عامًا بعام. وزاد الكلبي: وما فيها من آثار الأمم المهلكة، ففي هذا ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 26/ 126، "الكشف والبيان" 11/ 183 ب، "الدر" 6/ 113. (¬2) انظر: "جامع البيان" 26/ 126، "معالم التنزيل" 4/ 231 "القرطبي" 17/ 39. (¬3) انظر: "جامع البيان" 26/ 126، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 39. (¬4) انظر: "الدر" 6/ 113، عن ابن عمر، "فتح القدير" 5/ 84. (¬5) لم أجده. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 618، "جامع البيان" 26/ 126، أخرجه عن زيد بن أسلم ثم قال بعد إيراده للأقوال: فلا قول في ذلك أولى بالصواب من أن تعم كما قال جل ثناؤه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. وبهذا قال النحاس، وأبو حيان، والشوكاني, وغيرهم. انظر. "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 234، "البحر المحيط" 8/ 136، "فتح القدير" 5/ 85.

21

كله عبر وآيات للموقنين بالله يعرفونه بصنعه ويوحدونه (¬1). 21 - {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} المعنى: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات، قاله الفراء (¬2). قال مقاتل: وفي خلق أنفسكم حين كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم لحمًا ثم نفخ فيه الروح (¬3). وهذا معنى قول قتادة، وفي خلقه أيضًا إذا فكرت فيه معتبر (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: اختلاف الألسنة والألوان والصور والطبائع (¬5). وروي عن ابن الزبير أنه قال: يعني سبيل الخلاء والبول، يأكل ويشرب من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين (¬6). وهذا معنى ما روى عطاء عن ابن عباس: مدخل الطعام والشراب واحد، ومخرجهما موضعان (¬7). قال الفراء: ثم عنفهم فقال: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬8) قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم الرب، فتعرفوا أنه قادر على أن يبعثكم كما خلقكم (¬9). 22 - قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} قال ابن عباس ومقاتل ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 27، "تفسير مقاتل" 126 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 39 - 40، "فتح القدير" 5/ 85. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 244، "جامع البيان" 26/ 126. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 176، "معالم التنزيل" 4/ 231. (¬6) انظر: "جامع البيان" 26/ 126، "الوسيط" 4/ 176، "معالم التنزيل" 4/ 231. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 270. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب.

23

ومجاهد: يريد المطر (¬1). قوله تعالى: {وَمَا تُوعَدُونَ} قال عطاء: من الثواب والعقاب (¬2). وقال الكلبي: من الخير والشر. وقال مجاهد: الجنة والنار (¬3). وقال مقاتل، والربيع، وابن سيرين: وما توعدون من أمر الساعة (¬4). 23 - ثم أقسم الرب بنفسه فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} قال الكلبي: يعني هذا الذي قصصت في الكتاب لكائن (¬5). قال أبو إسحاق: يعني أن الذي ذكر من أمر الرزق والآيات وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حق (¬6). وقال مقاتل: يعني أن أمر الساعة لكائن (¬7) {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قرئ {مِثْلَ} رفعًا ونصبًا (¬8). فمن قرأ بالرفع جعله من صفه الحق. قاله الفراء، والزجاج (¬9). قال أبو علي: وجاز أن يكون (مِّثْلَ) وإن كان ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "جامع البيان" 26/ 127، "الوسيط" 4/ 176. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 176، "معالم التنزيل" 4/ 231. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 176، "فتح القدير" 5/ 85، "الكشف والبيان" 11/ 187 أونسبه للضحاك، وروي عن مجاهد قال: يعني الخير والشر، وعن الضحاك: الجنة والنار، والمعاني متقاربة، ولعل من قال: الخير والشر، أقرب إلى الصواب، حيث يشمل الدنيا والآخرة، وما فيمها من خير وشر. والله أعلم. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 618، "جامع البيان" 26/ 127، "معالم التنزيل" 4/ 231. (¬4) انظر: "فتح القدير" 5/ 85. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 84، "الوسيط" 4/ 176، "فتح القدير" 5/ 85. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 54. (¬7) انظر: "تفسر مقاتل" 126 ب، "الوسيط" 4/ 176. (¬8) قرأ حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر، {مِثْلَ} بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "حجة القراءات" ص 679، "النشر" 2/ 377 "الإتحاف" ص 399. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 85، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 54.

مضافًا إلى صفة للنكرة, لأن مثلاً لا تختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع التماثل بها، فلما لم تخصه الإضافة ولم يزُل عنه الإيهام والشياع الذي كان فيه قبل الإضافة بقي على تنكيره فقالوا: مررت برجل مثلك، فكذلك في الآية لم يتعرف بالإضافة إلى {أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وإن كان قوله: {أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} بمنزلة نطقكم (¬1). وأمَّا في قوله: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ} فقال الفراء: العرب تجمعُ بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما كقول الشاعر: ما إنْ رأيتُ ولا سَمِعْتُ به (¬2) فجمع بين ما وإن وهما (¬3) جحدان، أحدهما يجزي عن الآخر (¬4)، فعلى هذا القول (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، وكذلك {أَن} فكأنه قيل: مثل نطقكم. وقال المبرد: {مَا} زائدة. وبه قال أبو علي -وأبى أن تكون التي بمنزلة أن مع الفعل فتكون مصدرًا- وقال: لأنه لا فعل معها، والتي تكون مع الفعل بمنزلة اسم المصدر تكون مقرونة مع الفعل كقوله: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] (¬5) والمعنى: فاليوم ننساهم نسيانًا كنسيان يومهم هذا, ولكونهم ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 216. (¬2) البيت لدريد بن الصمة يصف الخنساء، وقد رآها تهنأ بعيرًا أجرب وتمام البيت: كاليوم طالي أيْنقُ جُرْب انظر: "ديوان دريد بن الصمة" ص 34، "شرح شواهد المغني" 2/ 955, "شرح المفصل" 5/ 82، "مغني اللبيب" ص 679. (¬3) (ك): (وإنهما). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 85. (¬5) انظر: "المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات" ص 334.

جاحدين بآياتنا. قال: ومثل زيادة (ما) هنا زيادتها في قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح: 25] وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آل عمران: 159] و {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون:40]. وأما منتصب {مِثْلَ} فقال أبو إسحاق: هو في موضع رفع إلا أنه لما أضيفت إلى {أَن} فتح (¬1). وشرحه أبو علي فقال: من نصب (مثل) فإنه لما أضاف مثل إلى مبنيٍّ وهو قوله: {أَنَّكُمْ} بناه كما بُنَى (يومئذ) في قوله: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} [المعارج: 11] و {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] و: عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبَا (¬2) وقوله: لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرُ أن نَطَقَتْ (¬3) فغير في موضع رفع بأنه فاعل، (يمنع) وإنما بنيت هذه الأسماء المبهمة نحو مثل، ويوم، وحين، وغير، إذا أضيفت إلى المبنيِّ لأنها تكتسي منه البناء, لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه من التعريف ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 54. (¬2) البيت للنابغة الذبياني، وتمامه: وقلت ألمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وازع انظر: "ديوانه" ص 163، "الكتاب" لسيبويه 2/ 332، "الكامل" 1/ 158، "الخزانة" 2/ 456، "المصنف" 1/ 58، "ارتشاف الضرب" 2/ 520. (¬3) صدر بيت لأبي قيس بن الأسلت، وتمامه: حمامة في غصون ذات أوقال انظر: "الكتاب" 1/ 369، "أمالي" بن الشجري 1/ 69، "الإنصاف" ص 287، "الخزانة" 3/ 406، والأوقال: هي الثمار، مفردها وَقْل. "اللسان" 3/ 971 (وقيل).

والتنكير والجزاء والاستفهام. تقول: هذا غلام زيد، وصاحب القاضي. فيتعرف الاسم بالإضافة إلى المعرفة، وتقول: غلام (¬1) مَنْ تضرب؟ فيكون استفهامًا كما تقول: صاحب مَنْ تضرب؟ فيكون جزاءً، فمن بني هذه المبهمة إذا أضافها إلى مبني جعل البناء أحد ما تكتسبه من المضاف إليه , ولا يجوز على هذا: جاءني صاحب خمسة عشر، ولا غلام هذا؛ لأن هذين من الأسماء غير المبهمة، والمبهمة في إبهامها (¬2) وبعدها من الاختصاص (¬3) كالحروف التي تدل على أمور مبهمة، فلما أضيفت إلى المبنية جاز ذلك فيها. ثم ذكر قولين آخرين في نصب {مِثْلِ مَا}: أحدهما: أن تجعل (ما) مع مثل بمنزلة شيء واحد بنيته على الفتح، وإن كانت ما زائدة، وهذا قول أبي عثمان وأنشد في ذلك: وَتَدَاعَى مَنْخِرَاهُ بِدَمٍ ... مِثْلَ ما أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ (¬4) فذهب إلى أن (مثل ما) بمنزلة شيء واحد، ويدل على جواز بناء مثل مع (ما) وكونه معه بمنزله شيء واحد قول حميد بن ثور: ووَيَحْا لِمنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وْيحَمَا (¬5) ¬

_ (¬1) (ك): (علا). (¬2) (ك): (أيامها). (¬3) (ك): (الاختصان). (¬4) البيت للنابغة الجعدي، والحمَّاض بقلة برية تنبت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء. انظر: "ديوانه" ص 87، "أمالي" ابن الشجري 2/ 604, "شرح المفصل" لابن يعيش 8/ 135، "اللسان" 1/ 719 (حمض)، "رصف المباني" 379. (¬5) صدر البيت: ألاَ هَيَّمًا مِمَّا لَقِيْتُ وَهَيَّمَا وانظر: "ديوانه" ص 6، "اللسان" 3/ 996، (ويح) "الخصائص" 2/ 181, ونسبه لحميد بن الأرقط "ديوان ابن الأرقط" ص 7: "الحجة" 6/ 219.

فبنى ويحًا مع (ما) ولم يلحقه التنوين. ومثله ما أنشده أحمد بن يحيى: أثَوْرَ ما أصِيدُكُمْ أمْ ثَوْرَيْنْ (¬1) أراد أثوراً أصيدكم؟ فبني الثور على الفتح وجعله مع (ما) شيئًا واحداً. القول الثاني: أن ينتصب على الحال من النكرة الذي هو (حق) في قوله: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} والعامل في الحال هو الحق؛ لأنه مصدر. وإلى هذا ذهب أبو عمر الجرمي. وقد حمل أبو الحسن (¬2) قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا} [الدخان: 4 - 5] على الحال، وذو الحال قوله: {أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا} وهو نكرة (¬3). وذكر المبرد أيضًا هذا الوجه فقال: يجوز أن يجعل حالاً للنكرة كقوله: هذا رجل قائمًا (¬4) وذكر الفراء والزجاج وجهًا آخر. في انتصاب (مثل ما). قال الفراء: من نصب (مثل ما) جعله في مذهب مصدر كقولك: إنه لَحَقُّ حقًا (¬5). وقال الزجاج: يجوز أن يكون منصوبًا على التوكيد على معنى: إنه ¬

_ (¬1) من الرجز، والآخر: أمْ تِيكُم الجَمَّاءَ ذَات القَرْنَيْنْ وهو للنضر بن سلمة، كما في "الخصائص" 2/ 18، "اللسان" 1/ 386 (ثور)، "التصريح بمضمون التوضيح" 1/ 24، "الحجة" 6/ 220. (¬2) هو الأخفش، وتقدمت ترجمته. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 348، 351, 6/ 222 - 217. (¬4) انظر: "البحر المحيط" 8/ 137. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 85.

24

لَحَقُّ حقًّا، مثل نطقكم (¬1). هذا كلامهما. ومعناه أنه نصب لأنه نعت مصدر محذوف. هذا هو الكلام في الإعراب. وأما المعنى؛ فقال أبو عبيدة: مجازه كما أنكم تنطقون (¬2). وهوقول ابن عباس قال: يريد كما أنكم تنطقون (¬3). قال الفراء: إنه لحق كما أن الآدمي ناطق، وللآدمي نطق لا لغيره (¬4). وقال الزجاج: هذا كما تقول في الكلام: إن هذا لحق كما أنك هاهنا، وإن هذا لحق كما أنك متكلم (¬5). هذا قول هؤلاء وبيانه: أن الله تعالى شبه تحقق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، والواحد منا يعرف أنه ناطق ضرورة، فإذا نطق لم يحتج إلى استدلال على نطقه، وعلى أنه ناطق لا يتخالجه في ذلك شك، فكذلك ما أخبر الله تعالى عنه هو في صدقه ووجوده كالذي نعرفه ضرورةً من غير استدلال بشيء. 24 - قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} قصة ضيف إبراهيم قد سبق في سورة هود والحجر (¬6). قال ابن عباس ومقاتل: يريد قد أتاك (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 54. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 226. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 85. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 54. (¬6) من [هود: 69 إلى 76]، ومن [الحجر: 51 إلى 60]. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "الوسيط" 4/ 177.

25

وقال الكلبي: لم يكن ذلك أتاه حدثيهم في القرآن (¬1). قال الفراء: لم يكن علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنزله عليه (¬2). وقوله: {الْمُكْرَمِينَ} يعني عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما قال في صفة الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وعلى هذا دل كلام ابن عباس؛ لأنه ذكر أسماءهم فقال: يريد إسرافيل وجبرائيل وميكائيل (¬3). وهو قول عبد العزيز بن يحيى. وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إكرامهم خدمته إياهم بنفسه (¬4). ونحو هذا قال مقاتل: أكرمهم إبراهيم فأحسن عليهم القيام، وكان لا يقوم على رأس ضيف، فلما رأى هيأتهم حسنة قام هو وامرأته سارة لخدمتهم (¬5). وروي عن مجاهد أيضًا أنه قال: أكرمهم بالعجل (¬6) وهو قول الكلبي (¬7). 25 - قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} الكلام في إعراب هذه الآية والقراءات فيها قد مر مستوفى في سورة هود (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 177، ولم ينسبه لقائل. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 3/ 86. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 271، "الوسيط" 4/ 177، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 44. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 232، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 45. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب، "فتح القدير" 5/ 87. (¬6) انظر: "جامع البيان" 26/ 128، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 45. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 177، "فتح القدير" 5/ 87. (¬8) عن تفسيره [هود: 69] ومما قال: (سلام) التقدير فيه سلام عليكم فحذف الخبر كما حذف من قوله: (فصبر جميل) أي صبر جميل أمثل، أو يكون المعني سلام، وشأني كما أن قوله: (فصبر جميل) يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ. ومثل ذلك قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} على حذف الخبر أو المبتدأ الذي سلام =

26

قوله تعالى: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}. قال الفراء والزجاج: رفعه على معنى: أنتم قوم منكرون (¬1). وقال ابن عباس: قال في نفسه قوم منكرون (¬2). وعلى هذا يكون: هؤلاء قوم منكرون. وهو الوجه؛ لأن الظاهر أنه لم يخاطبهم بهذا, ولو خاطبهم لأجابوه ولم يذكر جوابهم عن إنكاره إياهم، وأيضًا فإنه لم تجر عادة الكرام بإنكار ضيفهم من كان، وإخباره بأنه منكرهم. ومعنى {مُنْكَرُونَ} غير معروفين. واختلفوا لم أنكرهم إبراهيم -عليه السلام-؟ فقال مقاتل: ظن أنهم من الإنس. أي ظنهم إنسًا ولم يعرفهم، فلذلك أنكرهم (¬3). ونحو هذا قال الكلبي وغيره، وهو أنه رأى قومًا طيبي الريح حسان الوجوه فظنهم غُرباً من الآدميين، وحينئذٍ تهيأ لضيافتهم (¬4). وهو قوله: 26 - {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} قال ابن عباس: فمضى إلى منزل سارة (¬5). وقال مقاتل: فعمد إلى أهله (¬6). وقال أبو عبيدة: فعدل إلى أهله (¬7). ¬

_ = خبره. اهـ. وفي قوله (سلام) قرأ حمزة والكسائي (سِلْمُ) بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف. وقرأ الباقون (سلام) بفتح السين واللام وألف بعدها. انظر: "حجة القراءات" 346، "النشر" 2/ 290، "الإتحاف" ص 258، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 60، "الحجة للقراء السبعة" 4/ 359. (¬1) انظر: "معاني القرآن للزجاج" 3/ 86، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 54. (¬2) "الوسيط" 4/ 178، "معالم التنزيل" 4/ 232. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب. (¬4) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 5/ 272. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 272، ولفظه: (فرجع إبراهيم إلى أهله). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 126 ب. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 226.

27 - 29

ومعنى راغ في اللغة: عدل ومال. قال الفراء: فرجع إلى أهله. والروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه مُخْفيًا لذهابه ومجيئه. ألا ترى أنك لا تقول: قد راغ أهل مكة، وأنت تريد رجعوا وصدروا (¬1). ونحو هذا قال أبو إسحاق: عدل إليهم من حيث لا يعلمون (¬2). وقال المبرد: راغ إليه، أي مال وعدل إليه. ولو قلت: راغ عنه، كان معناه مال عنه وتباعد (¬3). 27 - 29 - وقوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} قال أبو إسحاق: المعنى فقربه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا. فقال على النكير لحالهم {أَلَا تَأْكُلُونَ} أي: أمركم في ترك الأكل مما أنكره (¬4). وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء3/ 86. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 54. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 186، "اللسان" 1/ 1257 (روغ). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 55. (¬5) عند تفسير للآيات [هود: 69 - 70] ومما قال: المراد بالرسل هاهنا الملائكة الذين أتوا على سورة الآدميين وظنهم أضيافاً. قال ابن عباس: وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. والبشري هي البشارة بالولد. والحنيذ اشتواء اللحم بالحجارة المسخنة. وقيل النضيج ... وأوجس أي أضمر منهم خوفًا قاله أبو عبيدة والزجاج وابن قتيبة .. وقال عامة المفسرين لما رآهم إبراهيم شبانًا أقوياء ولم يتحرموا بطعامه لم يأمن أن يكونوا جاءوا ليلاً أن سُنتهم كانت في ذلك الدهر إذا ورد عليهم القوم فأتوا بالطعام فلم يمسوه ظنوا أنهم عدو ولوصوص فهناك أوجس في نفسه فزعًا ورأوا علامة ذلك في وجهه فقالوا: لا تخف.

قال الفراء: لم تقبل من موضع إلى موضع، إنما هو كقولك: أقبل يشتمني. أي: أخذ في شتمي (¬1). وروي عن ابن عباس أنه قال: إقبالها في الصرة، أخذها فيها (¬2) , ومعنى الصرة في اللغة: الصحية. قال أبو عبيدة: يقال: أقبل يصطر (¬3). وقال المبرد: القوم في سورة واحدة، إذا ارتفعت أصواتهم وأنشد قول مهلهل (¬4): فلولا الرِّيحُ أسْمعَ أَهْل حَجْرٍ ... صَرِيرَ البَيْضِ يُقْرَعُ بالذُّكورِ (¬5) قال المفسرون: في ضجَّةٍ وصيحة. قال الفراء: وذكروا أن تلك الصحية أوَّه بوزن: عَوّه (¬6)، وقال بعضهم: كانت بقوله: يا ويلتا (¬7). قوله تعالى: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} قال ابن عباس: وضعت أصابعها على وجهها (¬8). وقال الكلبي، ومقاتل: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبًا (¬9). ومعنى الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 87. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 274، "جامع البيان" 26/ 129. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 227، وتمام كلامه: أي يصوتوا صوتًا شديدًا. (¬4) هو مهلهل بن ربيعة الثعلبي، تقدمت ترجمته. (¬5) البيت ورد في (ديوانه) ص 41، "الأصمعيات" ص 155. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 87، "اللسان" 2/ 428 (صرر). (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 178، "معالم التنزيل" 4/ 232. (¬8) لم أجده، والذي ذكره المفسرون هو المروي عن الكلبي، ومقاتل، وعند الطبري عن سفيان قال: وضعت يدها على جبهتها تعجبًا. "جامع البيان" 26/ 129. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 274، "معالم التنزيل" 4/ 232، "الجامع لأحكام القرآن " 17/ 47. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 127 أ، "الوسيط" 7/ 178، "فتح القدير" 5/ 88. (¬10) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 428، "اللسان" 2/ 459 (صكك).

30

قوله: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} قال الفراء: رفعها بضمير تلد عجوز عقيم (¬1). وقال أبو إسحاق: المعنى: وقالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد، كما قال في موضع آخر: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} (¬2). قال الكلبي: قالت من أين الولد لعجوز عقيم لا تلد (¬3)؟ 30 - {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي: كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلامًا أي: إنما نخبرك عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-. 31 - 34 - وما بعد هذا مفسر فيما مضى (¬4). إلى قوله: {لِلْمُسْرِفِينَ} قال ابن عباس، ومقاتل: للمشركين، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها (¬5). 35 - {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} يعني في قرى قوم لوط {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [الحجر: 65] وهو أن الله تعالى أمر لوطًا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين، لئلا يصيبهم العذاب. 36 - {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال مجاهد، ومقاتل والمفسرون: يعني: لوطًا وبنتيه (¬6). وهذا مذكور في مواضع من التنزيل كقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الأعراف: 83] وقوله: {لَنُنَجِّيَنَّهُ ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 87. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 55. (¬3) لم أجده عند الكلبي والمعنى ظاهر، ونحوه روي عن عامة المفسرين. انظر: "جامع البيان" 26/ 129، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 236. (¬4) عند "تفسيره" للآيات [الحجر: 74 - 75]. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 275، "تفسير مقاتل" 127 أ، "المصنف" 11/ 523 عن مجاهد، "الوسيط" 4/ 178، "معالم التنزيل" 4/ 232. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 333 , "اللسان" 1/ 292 (بيت).

37

وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 2] وقوله: {إِلَّا آلَ لُوطٍ} [القمر: 34] الآيات. والتقدير في الآية: غير أهل بيت، وكثر استعمال هذا حتى انطلق البيت على أهله، فيقال: بيت شريف، يراد به الأهل (¬1). وسَمّاهم في الآية الأولى: مؤمنين، وفي الثانية: مسلمين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم, وقد يكون مسلمًا ولا يكون مؤمنًا كما قال تعالى ذكره: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. 37 - قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} قال أبو إسحاق: تركنا في مدينة قوم لوط علامة للخائفين تدلهم على أن الله أهلكهم فينكل غيرهم عن فعلهم (¬2). هذا قول المفسرين. وقال الفراء: معناه وتركناها آية، وأنت قائل للسماء فيها آية، وأنت تريد هي الآية بعينها (¬3). 38 - قوله: {وَفِي مُوسَى} ذكر صاحب النظم أن هذا عطف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}. {وَفِي مُوسَى} أي وفي شأنه وقصته آية. وهو ما ذكر بعد من غرق فرعون (¬4). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون عطفًا على قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} (¬5). فيكون المعنى: وتركنا في قصة موسى آية. ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 178، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 236، "فتح القدير" 5/ 89. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 56. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 87. (¬4) وهو قول الزجاج، والزمخشري، وابن عطة، ونسبه القرطبي للفراء. انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 56، "الكشاف" 4/ 30، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 49 , "فتح القدير" 5/ 90، وقال أبو حيان: وهذا بعيد جدًّا ينزه القرآن عن مثله. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 56.

39

39 - وقوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} قال ابن عباس، ومقاتل: أي بجمعه وجنده ورهطه (¬1). وعلى هذا سمى جمعه ركنًا له, لأنه يتقوي بهم كالبنيان يتقوي بركنه. والباء يكون في {بِرُكْنِهِ} للتعدية، أي جعلهم يتولون (¬2). ويجوز أن يكون المعنى: تولى هو بسبب جنده. أي بقوتهم وشوكتهم، كما تقول: فعلت هذا بقوة فلان. وقال الفراء: أعرض بقوته في نفسه (¬3). وعلى هذا ركنه قوته. وهذا راجع إلى الأول, لأن قوته بجنده، وقال أبو عبيدة: فتولى بركنه، وبجانبه سواء، إنما هي ناحيته (¬4). وهو اختيار ابن قتيبة. قال: فتولى بركنه ونأى بجانبه سواء (¬5). وعلى هذا ركنه نفسه. وهو قول المؤرج قال: بركنه بجانبه (¬6). 41 - قوله: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، قال جماعة المفسرين (¬7): هي التي لا تلقح شجرًا ولا تثير سحابًا ولا تحمل مطرًا ولا خير فيها ولا بركة ولا منفعة ولا رحمة، ولا ينزل بها غيث، إنما هي ريح الإهلاك، وهي عذاب على من أرسلت عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 3، "الوسيط" 4/ 179، "معالم التنزيل" 4/ 233، وبه قال ابن زيد، ومجاهد. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 22. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 87. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 227. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" 422 (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 5 (¬7) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 62، "تفسير مقاتل" 127 أ، "جامع البيان" 27/ 4، "فتح القدير" 8/ 90.

قال سعيد بن المسيب: هي الجنوب (¬1). وقال مقاتل: هي الدبور (¬2). وروى عكرمة عن ابن عباس: هي النكباء (¬3). وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة، وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور (¬4). ويقال للتي لا تلد من النساء عقيمًا، وكذلك للذي لا يولد له: يقال له: رجل عقيم، وفحل عقيم إذا كان لا يلقح، وكما وصفت ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 4، "الدر" 6/ 115. والجنوب: ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة، وهي رياح حارة ومهبها ما بين مهبي الصبا والدبور، وقيل غير ذلك. "اللسان" 1/ 507 (جنب). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 127 أ، وهو المروي عن ابن عباس وغيره، انظر: "تنوير المقباس" 5/ 276 وهذا هو الثابت في الحديث المتفق عليه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". صحيح البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب ما جاء في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} 4/ 132، كتاب: الاستسقاء، باب: (نصرت بالصبا) 2/ 40. صحيح مسلم، كتاب: الاستسقاء: باب في ريح الصبا والدبور 2/ 617، "المسند" 1/ 223 - 228 والدبور: ريح تأتي من دبر الكعبة مما يذهب نحو الشرق. "اللسان" 1/ 940 (دبر). (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 5، "الدر" 6/ 115، عن علي بن أبي طالب. والنكباء: كل ريح من الرياح الأربع انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تهلك المال وتحبس القطر. "اللسان" 3/ 712 (نكب). (¬4) لم أجده. وفي العظمة 4/ 1333: عن عطاء بن يسار -رضي الله عنه- قال: قلت لكعب رحمه الله تعالى: من ساكن الأرض الثانية؟ قال: الريح العقيم، لما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يهلك قوم عاد أوحي إلى خزنتها أن افتحوا منها بابًا قالوا: يا ربنا مثل منخر الثور؟ قال: إذًا تكفي الأرض بمن عليها. فقال: افتحوا منها مثل حلقة الخاتم. قال والأقرب أن يكون موقوفًا على عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك والله أعلم.

42

الرياح باللقاح في قوله: {الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وسميت بالعقيم هاهنا حين لم تلقح الشجر ولم تحمل المطر، ثم وصف تلك الريح فقال: 42 - {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} قال مقاتل: من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم (¬1) {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} كالشيء الهالك البالي. وذكر تفسير الرميم عند قوله: {وَهِيَ رَمِيمٌ} (¬2) قال الفراء: الرميم نبات الأرض إذا يبس وديس (¬3). وقال أبو إسحاق: هو الورق الجاف المتحطم (¬4). 43 - وقوله: {وَفِي ثَمُودَ} أي وفي ثمود أيضًا آية: {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا} قال صالح لهم ذلك فعقروها، فقال تمتعوا. أي: عيشوا، وقد مر (¬5). قوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} قال عطاء، والكلبي: يعني ثلاثة أيام (¬6). والمعنى إلى. 44 - {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حين يأتيكم العذاب فأتاهم يوم الرابع. وقد قال في سورة هود {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا في ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 127 أ، "معالم التنزيل" 4/ 233. (¬2) عند تفسيره لآية [الحجر: 78] ومما قال: قال أبو عبيدة: الرميم مثل الرمة. يقال رم العظيم وهو يرم رمًّا وهو رميم. وقال ابن الأعرابي: رمت عظامه وأرمت إذا بليت. وقال أبو عبيدة: الروم الرفات. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 88. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 57 (¬5) عند ذكره سبحانه لقصتهم في سورة هود. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 5، "الوسيط" 4/ 179، "التفسير الكبير" 28/ 223.

دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد الموت، والصاعقة الموت (¬1). وقال مقاتل: يعني العذاب (¬2). وتفسير الصاعقة كل عذاب مهلك , وقد تقدم القول فيها (¬3). وقرأ الكسائي (الصَّعْقَةُ) (¬4). قال المبرد: وهي مصدر مثل الضربة. قال: والصعقة إنما هي مثل الزجرة، وهي الصوت الذي يكون عن الصاعقة. والصاعقة هي النازلة بعينها، وأنشد لعويف القوافي (¬5) فقال: لاحَ سَحَابٌ فرأَيْنَا بَرْقَه ... ثم تَدَانَى فسَمِعْنَا صعْقَه وقوله: {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أي يرون ذلك. والمعنى: أخذتهم الصاعقة عيانًا (¬6). وهو معنى قول عطاء: قد رأوا ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 179، "معالم التنزيل" 4/ 234. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب، "الوسيط" 4/ 179. (¬3) عند تفسيره لآية 19 من البقرة، ومما قال: الصاعقة والصعقة الصحية. يغشي منها على من سمعها أو يموت .. ويقال لها الصواعق الشديد من الرعد يسقط معها قطعة نار. وانظر: "تهذيب اللغة" 1/ 777، "اللسان" 2/ 442 (صعق). (¬4) قرأ الكسائي (الصَّعْقَةُ) بإسكان العين من غير ألف. وقرأ الباقون (الصاعقة) بالألف وكسر العين. انظر: "حجة القراءات" 680 "النشر" 2/ 377، "الإتحاف" 399. (¬5) عويف بن معاوية بن عتيبة، شاعر أموي مقل، مدح الوليد، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، سمي عويف القوافي لقوله: سأكذب من قد كان يزعم أنني ... إذا قلت شعرًا لا أجيد القوافيا انظر: "ألقاب الشعر" ص 309، "الأغاني" 19/ 184، "الخزانة" 6/ 384, والبيت في "اللسان" 2/ 442 (صعق)، "الحجة للقراء السبعة" 6/ 222. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 179، "معالم التنزيل" 4/ 234، "فتح القدير" 5/ 91.

45

العذاب (¬1). وقال مجاهد: فجأة (¬2) وعلى هذا معنى (ينظرون)، وذلك أن صالحًا قد ضرب لهم الأجل للعذاب ثلاثة أيام، وجعل لنزول العذاب بهم علامات في تلك الأيام، وظهرت تلك العلامات فانتظروا العذاب في اليوم الرابع (¬3). وهذا هو الصحيح؛ لأنه قد ذكر في قصتهم أنهم تحنطوا في اليوم الرابع ولبسوا الأكفان، وكانت أكفانهم الأنطاع، وحنوطهم الصبر (¬4). 45 - قوله تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي ما أطاقوا عذاب الله ولم يقوموا له حين أتاهم، كما تقول: فلان لا يقوم بهذا الأمر ولا يقاومه، أي لا يطيق ولا يحتمله (¬5). وهو معنى قول مقاتل: أي: لم يقوموا للعذاب حين غشيهم (¬6). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب (¬7). والقيام على هذا يراد به النهوض. والمعنى أنهم لم ينهضوا من تلك ¬

_ (¬1) لم أجده، وهو بمعنى الأول. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 620، "جامع البيان" 27/ 5. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 5، "الوسيط" 4/ 179. (¬4) الأنطاع: جمع نطع بالكسر من الأدَمِ والصَبرِ: شجر ورقه كقرب السكاكين طوال غلاظ، في خضرتها غُبْرة، وكُمْدَة مُقشَعرَّة المنظر. انظر: "اللسان" 2/ 403 (صبر) 3/ 117 (قطع). (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 52. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب (¬7) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 52.

46

الصرعة ولم يستقلوا بعد تلك النكبة. وهذا معنى قول قتادة: من نهوض (¬1). وقال الكلبي: فما استطاعوا أن يقوموا فيردوا العذاب حين غشيهم (¬2). وعلى هذا المعنى (¬3) ما استطاعوا قيامًا لدفع العذاب عنهم حين أتاهم. {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} قال مقاتل: يعني ممتنعين من العذاب حين أهلكوا (¬4). أي: ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من عذاب الله. 46 - قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرئ بالنصب والخفض (¬5). فالخفض ظاهر بالحمل على قوله: (وَفِي مُوسَى) ومن نصب حمل على المعنى وهو أن قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} يدل على أهلكناهم، فكأنه قال: أهلكناهم وأهلكنا قوم نوح. وهذا قول الفراء، والزجاج (¬6). قال: ويجوز أن يحمل على معنى قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ} ألا ترى أن هذا الكلام يدل على أغرقناهم، فكأنه قال: أغرقناهم وأغرقنا قوم نوح (¬7). قال المبرد: والنصب أحسن لتراخيه عن عامل الجر، والعرب إذا تراخى المجرور عن عامل الجر حملته على المعنى، والدليل على حسن النصب أن الجار ذكر في قصص الأمم وهو في {وَقَوْمَ نُوحٍ} لم يلحق معهم ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 245، "جامع البيان" 27/ 5. (¬2) لم أجده عن الكلبي، وتقدم مثله عن مقاتل. (¬3) في (ك): (معنى) ولعل الصواب ما أثبته. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 52. (¬5) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف (وقوم) بالكسر وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "حجة القراءات" ص 680، "النشر" 2/ 377، "الإتحاف" ص 400. (¬6) انظر "معاني القرآن" للفراء 3/ 88 - 89. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 57. "الحجة للقراء السبعة" 6/ 223.

47

حرف الجر فعمل النصب (¬1). واختار أبو عبيد النصب أيضًا. قال: لأن من خفض أراد: وفي قوم نوح، كما قال: {وَفِي عَادٍ} {وَفِي ثَمُودَ} وأولئك قوم قص الله، النصب على أنه أشركهم فيما فُعِل بالأمم من العقوبة إذ لم يخبرنا عنهم بخبر خاص (¬2). 47 - قوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يقال: أوسع الرجل، إذا صار ذا وسع وَسَعَة، وهو الغنى والجدة، والموسع المليء ومنه قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. واختلفت العبارات في تفسير: {لَمُوسِعُونَ} هاهنا فقال (¬3) عن ابن عباس: {لَمُوسِعُونَ} لخلقي (¬4). قال الكلبي: يعني سعة الرزق (¬5). قال الفراء: لذو سَعَة لخلقنا (¬6). وقال الحسن: قادرون على رزقهم لا نعجز عنه، ولهذا قال مقاتل في تفسيره: لقادرون (¬7). وقال الحسن: مطيعون (¬8). وهذا يعود إلى أنه يقدر على رزقهم ويطيق ذلك، فهو موسع لخلقه في أرزاقهم. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 242 - 243. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 243، "التفسير الكبير" 28/ 225. (¬3) كذا العبارة في (ك) وفيها سقط ظاهر. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، وعنه قال: (لموسعون بالرزق) "تنوير المقباس" 5/ 277. (¬5) لم أجده، انظر: "معالم التنزيل" 4/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 52. (¬6) في (ك): (حلقنا). انظر: "معاني القرآن" 3/ 89. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب (¬8) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 190 ب، "معالم التنزيل" 4/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 52.

48

وقال مجاهد: لقادرون أن نخلق سماء مثلها (¬1)، يعني أنه لما ذكر قدرته على خلق السماء ذكر أنه موسع لخلق مثلها. أي مطيق قادر. وقال أبو إسحاق: جعلنا بين السماء والأرض سعة (¬2). قال الأزهري: جعل أبو إسحاق أوسع بمعنى وسع (¬3). وعلى هذا يجوز أيضًا أن يعود التوسع إلى الرزق، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: إنا لموسعون الرزق على خلقنا (¬4). 48 - قوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} قال ابن عباس: فنعم ما وطأت لعبادي (¬5). وأوسعت عليهم، يعني الأرض. قال أبو إسحاق: المعنى: فنعم الماهدون نحن، ولكن اللفظ بقوله: {فَرَشْنَاهَا} يدل على المضمر المَحذوف (¬6). 49 - قوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي صنفين ونوعين، فالزوجان في الحيوان الذكر والأنثى، وفي غير الحيوان المختلفان باللون والطعم. فيدخل في هذا الأبيض والأسود والمر والحلو. قال مقاتل: يعني الليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والصيف والشتاء، والبرد والحر، والسهل والجبل، والنور والظلمة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 227. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 57. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 96 (وسع). (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 190 ب، "معالم التنزيل" 4/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 52. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 180، "معالم التنزيل" 4/ 234. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 5/ 57. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب، وهو قول مجاهد أيضًا. انظر: "جامع البيان" 27/ 6، "تفسير القاسمي" 15/ 5535.

50

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تذكرون أنه ليس فيما خلق له عدل ولا مثل. قاله مقاتل (¬1). وقال غيره: تذكرون أن خالق الأزواج فرد (¬2). 50 - قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} قال ابن عباس: يريد بالتوبة من ذنوبكم (¬3). والمعنى على هذا فروا من العصيان والكفران إلى الطاعة والإيمان. يدل على هذا قوله: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: أنذركم عقابه على الكفر والمعصية. وكذلك الآية التي نهى عن الشرك، وهو قوله: 51 - {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ} الآية. وجميع المفسرين على أنه أمر محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يقول هذا للناس (¬4). والكناية في قوله: {مِنْهُ} تعود على اسم الله. والنذير هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو الظاهر. وروى عطاء عن ابن عباس على الضد من ذلك، فجعل الآية خطابًا من الله تعالى للخلق. يقول: لا تجعلوا مع الله إلهًا آخر {إِنِّي لَكُمْ} يعني نفسه تعالى وعز، {مِنْهُ} من محمد وسيوفه. {نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: أنذرتكم بأسه وسيفه إن أشركتم بي (¬5). 52 - قوله: {كَذَلِكَ} قال أبو إسحاق: المعنى: الأمر كذلك. أي: كما فعل من قبلهم من الأمم في تكذيب الرسل (¬6). وهو قوله: {مَا أَتَى الَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب، وهو قول مجاهد أيضًا. انظر: "جامع البيان" 27/ 6، "تفسير القاسمي" 15/ 5535. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 234. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 180، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 53. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 53، "فتح القدير" 5/ 91. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 54. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 58.

53

مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ} أي: هو ساحر {أَوْ مَجْنُونٌ} قال مقاتل: يعني كقول كفار مكة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-. يقول الله تعالى: 53 - {أَتَوَاصَوْا بِهِ} أي بهذا القول. قال مقاتل: يعني أوصى الأول الآخر يقول ذلك لرسوله (¬1). وقال قتادة: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب (¬2). قال الزجاج: والألف فيه للتوبيخ (¬3). قوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} يعني أهل مكة طاغون. قال ابن عباس: حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك (¬4). والمعنى ما أوصى أولهم بذلك، ولكنهم قوم خارجون عن الحد في العصيان. 54، 55 - قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} يقول: فأعرض عن هؤلاء المشركين فقد بلغت وأنذرت، وهو قوله: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي لا لوم عليك إذ أديت الرسالة. قال ابن عباس: فحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت هذه الآية مخافة أن تنزل بقومه العذاب. ونحو هذا قال مقاتل، وقتادة، وغيرهما. قالوا: واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قوإنقطع، أي: العذاب حضر، فأنزل الله قوله تعالى: {وَذَكِّرْ} (¬5) أي عظ بالقرآن. وفي هذا قولان: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 245، "جامع البيان" 27/ 7. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 58، ونصه: (وهذه ألف التوبيخ وألف الاستفهام). (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 180، "معالم التنزيل" 4/ 235. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب، "جامع البيان" 27/ 7، "الكشف والبيان" 11/ 190 ب، "الدر" 6/ 116.

56

أحدهما: أنه أمر بالتولي عن الكفار ووعظ المؤمنين. يدل على هذا قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} قال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم (¬1). القول الثاني: أنه أمر أن يُذكر ويعظ الكفار. وهو قول مقاتل. يقول: عظ كفار مكة بوعيد القرآن، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، يعني من في علم الله أن يؤمن منهم (¬2). وهذا القول أشد موافقة لما ذكرنا في الآية الأولى. 56 - قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} تعلقت القدرية بهذه الآية وقالوا: دلت الآية على أن الله تعالى خلق كل مكلف لعبادته وأراد منهم العبادة. ولا حجة لهم في هذه الآية إذا تدبرت قول العلماء فيها ومذاهبهم في تفسيرها (¬3). والآية فيها مذاهب للمفسرين. أحدهما: التخصيص، وهو أن المراد بالجن والإنس مؤمنو الفريقين. وهو قول الكلبي، والضحاك، والفراء، وعبد الله بن مسلم. قال الكلبي: هذا خاص لأهل طاعته. يعني: ما خلقت مؤمني الجن والإنس إلا ليعبدون (¬4). وقال الضحاك: هذا خاص في أهل عبادة الله وطاعته. يدل عليه قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] والذين ذرأهم للنار لا يكونون ممن ذرأهم لعبادته. وهذه الآية التي نحن ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 181، "معالم التنزيل" 4/ 235. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب، "معالم التنزيل" 4/ 235، "فتح القدير" 5/ 92. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 8، "دقائق التفسير" لابن تيمية 4/ 527، "فتح القدير" 5/ 92. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 190 ب، "الوسيط" 4/ 181، "معالم التنزيل" 4/ 235.

فيها مطلقة، وآية الذرء مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد، وإذا جمعنا بين الآيتين علمنا أن الذين خلقوا للعبادة غير أولئك (¬1). وقال الفراء: هذه الآية خاصة. يقول: وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليوحدوني ... (¬2) لأهل القدر حجة وقد فُسِّر. وقال عبد الله بن مسلم: يعني المؤمنين (¬3). واحتج (¬4) هؤلاء لمذهبهم بقراءة ابن عباس ... (¬5) (الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون) (¬6) معناه: إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها. وهو قول أمير المؤمنين (¬7) ... -رضي الله عنه-، ومقاتل، واختيار الزجاج. قال مقاتل: يعني إلا لآمرهم بالعبادة، ولو أنهم خلقوا للعبادة ما عصو ..... (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 55، "فتح القدير" 5/ 92. (¬2) في (ك): بياض. وتمام العبارة في "معاني القرآن" 3/ 89، (وقال بعضهم: خلقهم ليفعلوا ففعل بعضهم وترك بعض وليس فيه). (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 422. (¬4) كذا في (ك). ولعل في العبارة سقطاً، حيث لم يذكر من قال بهذا القول وهو القول الثاني، وقد فسروا قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي لأدعوهم إلى عبادتي. (¬5) (ك): كلمة لم تظهر ولعلها (وما خلقت). (¬6) وبها قرأ ابن مسعود، وأبى. انظر: "الكشف والبيان" 11/ 191 أ، "الوسيط" 4/ 181، "معالم التنزيل" 4/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 55، "روح المعاني" 27/ 22. (¬7) في (ك): كلمة لم تقرأ وهي (علي) وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 55. (¬8) في (ك): كلمة لم تقرأ وهي (طرفة عين) انظر: "تفسير مقاتل" 127 ب.

وقال الزجاج: المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأدعوهم إلى عبادتي (¬1). هذا كلامهم وتفسيرهم. قالوا .... (¬2) العبادة غير الدعاء إليها والأمر بها، والله تعالى قال: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وأنتم تقولون إلا لآمرهم بذلك. قيل: قد يقال ... (¬3) هذا إذا لم يشتبه ودلت الحال عليه، ما تقول لإنسان أكرمته وأحسنت إليه لتأمره يصنع لك شيئًا: ما أكرمتك إلا لتصنع هذا. وأنت تريد: إلا لآمرك بذلك. وأكثرة من لا يعبد الله من الكفار يدل على أنه لم يخلقهم لعبادته (¬4). واختار صاحب النظم هذا المذهب، واستشهد بقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا} [الزخرف: 12، 13] (¬5). قال: معناه: ليأمركم إذا استويتم على ظهوره أن تذكروه، ولو كان على ظاهره لوجب أن يكون ذلك عامًا في الإتيان به. المذهب الثالث: أن المفسرين قالوا في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} إلا ليوحدوني، والمؤمنون يوحدون الله تعالى طوعًا في الشدة والرخاء، الكفار يوحدونه في الشدة والبلاء وعند العباس. وهذا معنى رواية حبان عن الكلبي (¬6) هذا جملة أقوال المفسرين. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 58. (¬2) في (ك): الكلمة غير واضحة، لعلها (وتفسير). (¬3) كذا في (ك). والعبارة مستقيمة ولعل الكلمة الساقطة (مثل). (¬4) انظر: "البحر المحيط" 8/ 143، "روح المعاني" 27/ 20 - 21. (¬5) ورجح الشنقيطي في تفسيره 7/ 673 هذا القول لدلالة آيات القرآن عليه. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 192 أ، "معالم التنزيل" 4/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 56.

57

وأما أهل المعاني فلهم أيضًا أقوال سديدة في معنى الآية: أحدها: أن المعنى قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} إلا ليخضعوا لي ويتذللوا. وهذا معنى العبادة في اللغة، وكل أحد من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، فهو خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته، خَلَقه على ما أراد، ورزقه كما قضى، لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه، فقد حصل هذا الخضوع والتذلل من كل أحد (¬1). القول الثاني: أن معنى الخلق في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ} خلق التكليف والاختيار، لا خلق الجبلة والطبيعة (¬2)، فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذله وطرده حرمها وعمل ما خلق له (¬3). وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بقوله: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (¬4). 57 - قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} قال عطاء عن ابن عباس: ما أريد أن يرزقوا من خلقي أحدًا، ونحوه قال مقاتل، والزجاج. وقال الكلبي: {مِنْ رِزْقٍ} أن يرزقوا أنفسهم. ونحوه قال ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 11/ 191 ب، 192 أ، "الوسيط" 4/ 181، "معالم التنزيل" 4/ 235، "فتح القدير" 5/ 92. وهو اختيار ابن جرير أيضًا "جامع البيان" 27/ 8. (¬2) انظر: "دقائق التفسير" 4/ 529، "فتح القدير" 8/ 600. (¬3) في (ك): (لها). (¬4) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 6/ 212، كتاب: القدر، باب: جف القلم على علم الله 8/ 153، ومسلم في كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي 4/ 2041. وأخرجه أحمد في "المسند" 1/ 82، 129، انظر: "شرح الطحاوية" 318 وما ذكره المؤلف هنا جزء من الحديث. اقتصر على مكان الشاهد منه.

58

الفراء (¬1). وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} قال ابن عباس: أن يطعموا لي عبدًا. وهو قول الفراء والزجاج. قالا: أن يطعموا أحدًا من خلقي (¬2). والآخرون قالوا: أن يرزقوني. ومرادهم أن يرزقوا عبادي؛ لأن الله تعالى غير مرتزق ولا طاعم، ويستحيل في وصفه الاستطعام وسؤال الرزق، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأن الخلق عيال الله فمن أطعم عيال رجل ورزقهم فقد أطعمه ورزقه (¬3). وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يخبر به عن ربه أن الله تعالى يقول: "عبدي استطعمتك فلم تطعمني" (¬4)، والمعنى: لم تطعم عبدي. والآية محمولة على أنه ما أوجب ذلك على عباده، ولم يكلفهم القيام برزق الخلق والإطعام، وإن كان قد ندب إلى إطعام الجائع وذي الحاجة إلى الطعام. 58 - ثم بين أن الرزاق هو لا غيره. فقال: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} قال ابن عباس: الرزاق لجميع خلقه. {ذُو الْقُوَّة} على جميع ما خلق (¬5). وقال مقاتل: يعني: ذو البطش (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ، "معاني القرآن" للفراء 3/ 90، "جامع البيان" للطبري 27/ 8، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 59. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 95، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 59. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 181، "معالم التنزيل" 4/ 235، "فتح القدير" 5/ 92. (¬4) جزء من الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في كتاب: البر، باب: فضل عيادة المريض 4/ 1991. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 182، "معالم التنزيل" 4/ 236. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ

59

وقوله: {الْمَتِينُ} معناه في صفة الله القوي (¬1). وقد مَتُنَ شأنه، إذا قوي (¬2)، ثم ذكر أن لمشركي مكة من العذاب مثل ما لغيرهم من الأمم الكافرة وهو قوله: 59 - {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} قال مقاتل: يعني مشركي مكة (¬3). {ذَنُوبًا} الذَّنوب في كلام العرب: الدلو العظيم. أنشد الفراء: إنَّا إذا نَازَعَنَا سَرَيْت ... لنا ذَنُوبٌ من نَدَاك ذنوب (¬4) وأنشد المبرد لعلقمة بن عبدة: وفي كلِّ حَيٍّ قد خَبَطْتَ بنِعْمَةٍ ... فحُقَّ لِشَأسٍ من نَداك ذَنُوبُ (¬5) قال ابن قتيبة: كانوا يستقون فيكون لكل واحد ذنوب، فحمل الذنوب مكان الحظ والنصيب (¬6)، وبهذا جاء التفسير. قال أبو إسحاق: يعني: نصيباً من العذاب، مثل نصيب أصحابهم الذين أهلكوا نحو قوم نوح، ¬

_ (¬1) انظر: "روح المعاني" 27/ 23. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 305، "اللسان" 3/ 434 (متن). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ. (¬4) البيت لرؤبة. انظر: "ديوانه" ص 132، "أمالي ابن الشجري" 2/ 181، "شرح المفصل" 5/ 48، "المفضليات" 696، "تهذيب اللغة" 14/ 438، "اللسان" 1/ 1079 (ذنب). (¬5) البيت في "ديوان علقمة" ص 48، الكتاب 4/ 471، "شرح المفصل" 5/ 48, "المفضليات" ص 396، "المذكر والمؤنث" ص 337، "الإيضاح في شرح المفصل" 2/ 516، "المصنف" 2/ 332، وشأس هو أخو علقمة. والبيت من قصيدة يمدح بها الحارث بن شمر الغساني. (¬6) انظر: "تأويل المشكل" 150، "تفسير غريب القرآن" 423.

60

وعاد، وثمود (¬1). وعبارة المفسرين مختلفة في تفسير الذنوب، والأصل ما ذكرنا، قال قتادة، ومقاتل، وأبو العالية: عذابًا مثل عذاب أصحابهم (¬2). وقال مجاهد: سجلاً. وقال إبراهيم: طرفًا (¬3). قوله تعالى: {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} أي بالعذاب، يعني أنهم أخِّروا إلى يوم القيامة، يدل على ذلك قوله: 60 - {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} قال الكلبي، وعطاء، ومقاتل: يعني يوم القيامة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 59. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 245. وهو المروي عن ابن عباس. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 279، "جامع البيان" 27/ 9. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 9. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ، "معالم التنزيل" 4/ 236, "تفسير القرآن العظيم" 4/ 238.

سورة الطور

سورة الطور

1

تفسير سورة الطور بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالطُّورِ} ذكرنا تفسير الطور في سورة البقرة (¬1). قال عامة المفسرين (¬2): أقسم الله بالجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وهو بمدين (¬3) واسمه زبير. ونحو هذا قال الفراء والزجاج وابن قتيبة (¬4). 2 - قوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} المسطور معناه المكتوب من قولك: سطر يسطر سطرًا. وذكرنا هذا عند تفسير الأساطير (¬5). وأكثر المفسرين ¬

_ (¬1) عند تفسيره لآية (63) من سورة البقرة. ومما قال: الطور قيل: إنه الجبل بالسريانية .. وقيل: إنه اسم جبل بعينه. والطَّوْرُ: التارة، والحدبين الشيئين، والطُّورُ الجبل. وطُورُ سيناءَ: جبلٌ بالشام. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ، "الوسيط" 4/ 13، "معالم التنزيل" 4/ 236، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 58. (¬3) مدين على بحر القلزم، وهو المعروف حاليًا بالبحر الأحمر، محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل. وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لسائمة شعيب. انظر: "معجم البلدان" 5/ 77. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 91، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 61، "تفسير غريب القرآن" ص 424. (¬5) عند تفسيره لآية (25) من سورة الأنعام. ومما قال: السطر هو أن تجعل شيئًا ممتدًّا مؤلفًا ومن ذلك سطر الكتاب, وسطر من شجر مغروس، ونحو ذلك قال ابن =

3

على أن المراد بالكتاب هاهنا ما أثبت على بني آدم من أعمالهم. وهو قول مقاتل، ومجاهد، والكلبي، والزجاج (¬1). وذكر فيه أنه (¬2) اللوح المحفوظ (¬3). وقيل: هو ما كتبه الله لموسى من التوراة (¬4). والصحيح هو القول الأول لقوله (¬5) تعالى: 3 - {في رَقٍّ مَنْشُور} ولم يثبت أن اللوح المحفوظ من الرق. ولا أن ما كتب لموسى كان على الرق. والمراد بالكتاب، المكتوب، سُمّي بالمصدر. والرق مما كتب فيه. قال أبو عبيدة: الرق الورق (¬6). وقال الليث: الرَّقُّ الصحيفة البيضاء (¬7). ¬

_ = السكيت. يقال: سَطْرٌ وَسَطرٌ فمن قال سطرٌ فجمعه في القليل أسطر وفي الكثير سطور ومن قال سطَرَ جَمَعَه أسطارًا ثم أساطير جمع الجمع، قاله اللحياني، واختار الزجاج أن يكون واحدها أسطورة. انظر: "البسيط" 2/ 89 ب. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ، و"جامع البيان" 27/ 10، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 61، "الكشف والبيان" 11/ 193 ب، "الوسيط" 4/ 182، وبه قال الفراء، وابن قتيبة. انظر: "تفسير غريب القرآن": 424، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 59، "فتح القدير" 5/ 94، ولم أجده عن الكلبي. (¬2) في (ك): (أن). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 281، عن ابن عباس، وقد جمع القولين فقال: وأقسم باللوح المحفوظ مكتوب فيه أعمال بني آدم. "معالم التنزيل" 4/ 236. (¬4) انظر: "الكشف البيان" 11/ 193 ب، "معالم التنزيل" 4/ 236، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 59، ونُسب للكبي. (¬5) في (ك): (قوله) والصواب ما أثبته. قال الشنقيطي: والأظهر أن الكتاب المسطور هو القرآن العظيم .. "أضواء البيان" 7/ 683. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 230. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 284 (رقق).

4

وقال المبرد: الرق، ما رُقّق من الجلد ليكتب فيه. والمنشور: المبسوط يتباعد أطرافه (¬1). قال مقاتل: يخرج إليهم أعمالهم يومئذٍ في رق، يعني أديم الصحف (¬2). ونحو هذا قال الكلبي. قال الفراء: الرق الصحائف التي تخرج إلى بني آدم يوم القيامة فآخذ كتابه بيمينه وآخذ بشماله (¬3). وهذا كقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسر اء: 13]. 4 - قوله: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} روى أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيت المعمور في السماء السابعة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة" (¬4). وقال ابن عباس: البيت المعمور في السماء بحيال الكعبة، يحجه كل يوم سبعون ألف (¬5) ملك يسمى الصُّراح (¬6). ونحو هذا قال جماعة المفسرين (¬7)، إلا الحسن فقد روي عنه أنه قال: هو الكعبة. ومعنى ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" 10/ 129 (رقق)، "القرطبي" 17/ 59، "فتح القدير" 5/ 94. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 91. (¬4) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 11، وابن المنذر، وابن مردويه، والحاكم في "المستدرك" 2/ 468 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في "شعب الإيمان". وانظر: "الدر" 6/ 117. (¬5) في (ك): (ألف) ساقطة. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 281، "الكشف البيان" 11/ 193 ب، "الوسيط" 4/ 14، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 59. (¬7) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 624، "تفسير مقاتل" 128 أ، "جامع البيان" 27/ 11, "تفسير ابن كثير" 4/ 239, قال: وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف.

5

{الْمَعْمُورِ} أنه معمور بكثرة الغاشية والزائرين (¬1). قال مقاتل: عمارته أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه (¬2). وقال الكلبي: المعمور بالملائكة. قال: وهو بيت في السماء السادسة، بناه آدم فرفع أيام الطوفان (¬3). وروى عطاء عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا (¬4). قال: وكان ابن عباس يقول: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتًا، كل واحد يحاذي صاحبه، سبعة على الأرضين وسبعة في السموات. والكعبة الخامس عشر (¬5). 5 - قوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}. قال علي رضي الله عنه: يعني السماء. وهو قول قتادة، ومجاهد، والجميع (¬6). قال مقاتل: المرفوع من الأرض مسيرة خمسمائة عام (¬7). وسَمَّى السماء سقفًا؛ لأنها للأرض كالسقف. وقد قال عَزّ ذكره: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] وروى عطاء عن ابن عباس قال: السقف المرفوع هو العرش، وهو سقف الجنة (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف البيان" 11/ 194 أ - ب، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 60، "فتح القدير" 5/ 94، "روح المعاني" 27/ 27. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 281، "معاني القرآن" للفراء 3/ 91. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 60، عن الربيع بن أنس. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 60. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 624، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 246، "جامع البيان" 27/ 10، "العظمة" 3/ 1030. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ. (¬8) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 60، "فتح القدير" 5/ 94.

6

6 - وقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال الفراء: المسجور في كلام العرب المملوء (¬1). يقال: سجرت الإناء، إذا ملأته. قال لبيد: فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلاَّمُهَا (¬2) وقال المبرد: البحر المسجور المملوء عند العرب، وأنشد هو وأبو عبيدة للنمر بن تَوْلَبْ يصف وعلاً: إذا شَاءَ طالَعَ مَسْجُورَةً ... تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والسَّاسَمَا (¬3) يريد: به عينًا مملوءة. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، ومقاتل قالوا: الممتلئ. وقال قتادة: المملوء (¬4). روى النزَّال بن سَبْرة عن علي رضي الله عنه قال: هو بحر تحت العرش فيه ماء غليظ، يقال له: بحر الحيوان، يمطر العباد بعد النفخة ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 91. (¬2) البيت ورد في "ديوانه" ص 10، وفي "شرح المعلقات السبع" (معلقة لبيد) للزوزني ص 82، "جمهرة أشعار العرب" ص 68، "المُحتسب" 2/ 371، وقوله: (قُلاَّمُهَا) ضرب من شجر الحمض، ويروى (أقلامها) وهو قصب اليراع. والسَّرِيُّ: النهر الصغير والجمع الأسرية. والبيت في وصف العير والأتان، وقد توسطا جانب النهر الصغير وشقا عينًا مملوءة ماء، قد كثر نبتها. (¬3) في (ك): (والساسماير) والصواب ما أثبته. والبيت في "ديوانه" ص 165، "الخزانة" 11/ 95، "مجاز القرآن" 2/ 230، "تفسير غريب القرآن" ص 424 والنبع: شجر أصفر العود رزينة ثقيلة في اليد، إذا تقادم احمر. والساسم: قيل هو جمع سِمْسِم، وقد يكون من الخشب يشبه الأبنوس. "اللسان" 1/ 569 (نبع) 2/ 142 (سسم). (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 281، "تفسير مقاتل" 128 أ، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 247، "جامع البيان" 27/ 11.

الأولى منه أربعين صباحًا، فينبتون في قبورهم (¬1). وهذا قول الكلبي، ومقاتل، قالا: يحيي الله به الموتى فيما بين النفختين (¬2). وقال مجاهد {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الموقد (¬3). قال الليث: السجر إيقادك في التنور تسجره بالوقود سجرًا. والسَّجُورُ اسم الحطب (¬4). وهذا قول الضحاك وشَمِر بن عطية، وكعب. قالوا: البحر المسجور يسجر فيزاد في نار جهنم (¬5). وقد روي هذا في الحديث: أن الله تعالى يجعل البحار كلها نارًا فتجعل نار جهنم (¬6). قال المبرد: وهذا القول يرجع أصله إلى القول الأول؛ لأن معنى: سجرت التنور، ملأته حطبًا ونارًا (¬7). قال الفراء: وكان علي رضي الله عنه يقول: مسجور بالنار. أي مملوء (¬8). وقال ابن عباس في رواية عطية: البحر المسجور هو اليابس الذي قد نضب ماؤه وذهب. وهو قول أبي العالية، ورواية ذي الرمة الشاعر، عن ابن ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف البيان" 11/ 195 أ، "الوسيط" 4/ 185، "معالم التنزيل" 4/ 237، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 62. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 أ، "الوسيط" 4/ 185. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 624. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 575 (سجر). (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 11، "معالم التنزيل" 4/ 237، "الدر" 6/ 11 "ونسب إخراجه لأبي الشيخ عن كعب. (¬6) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 7/ 48، وقال محققه: لم نقف على هذا الحديث سندًا فيما بين أيدينا من المصادر، وقد أورده بعض المفسرين كالمصنف بلا سند. (¬7) انظر: "اللسان" 2/ 99 (سجر). (¬8) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 91.

7

عباس (¬1) وليس له رواية غير هذا (¬2). قال أبو زيد: المسجور يكون المملوء, ويكون الذي ليس فيه شيء (¬3). أقسم الله تعالى بما ذكر من هذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظم النعمة والعبرة من وجوب التدبير لذلك, وطلب ما فيها من دقائق الحكمة، والواو في قوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} وما بعدها من الواوات للعطف على المُقْسَم به، ولا يجوزأن يكون للقسم؛ لأن جواب القسم الأول وهو قوله: {وَالطُّورِ} لم يأت بعد، وإذا لم يأت جواب الأول، لم يجز أن يستأنف قسم آخر، وقد ذكرنا هذا الفصل في ابتداء سورة (ص) (¬4). 7 - وجوات هذه الأقسام قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (¬5) قال ابن عباس والمفسرون: إن عذاب ربك للمشركين والكافرين والمنافقين لكائن (¬6). يعني في الآخرة يدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 12، "الكشف البيان" 11/ 195 أ، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 240. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 61، وقال: قاله ابن أبي داود. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 577، "اللسان" 2/ 100 (سجر). وفي "النوادر" لأبي زيد 58 قال: التسجير الامتلاء. يقال: بحر مسجور ومسجر. أي مملوء غاية الامتلاء. واختار ابن جرير قول من قال: البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض، ووجهه بأنه ليس موقدًا اليوم فهو مملوء. "جامع البيان" 27/ 11. وقال ابن الأنباري في "أضداده" ص 44: والمسجور من الأضداد, يقال المسجور للمملوء والمسجور للفارغ .... (¬4) عند تفسيره لآية (2,1) من سورة ص. وتقدمه [ص:69]. (¬5) انظر: "اعراب القرآن" للنحاس 3/ 249. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 22 ,"معالم التنزيل" 4/ 237.

9

وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}. قال أبو إسحاق: (يومَ) منصوب بقوله: {لَوَاقِعٌ} أي لواقع يوم القيامة (¬1). ومعنى المور في اللغة: الاختلاف والاضطراب والذهاب والمجيء والتردد. والداغصة (¬2) تمور في الركبة، والبعير يمور عضده مورًا، إذا مشى. وروى عمرو (¬3) عن أبيه: المور الدوران، ويثال: مار يمور مورًا، إذا جعل يذهب ويجيء ويتردد , ومنه قوله: 9 - {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} (¬4). قال المبرد: أي تتحرك إما لسير وإما لدوران. قال ابن عباس، ومجاهد: تدور بما فيها دورانًا وتتكفأ تكفؤ السفينة وتضطرب وتتحرك وتستدير، كل هذا من عبارات المفسرين (¬5). 10 - {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} قال ابن عباس: كسير السحاب اليوم في الدنيا (¬6). وقال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض (¬7) وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 61. (¬2) الداغصة: عظم مدور يموج فوق رضف الركبة. والداغصة الشحمة التي تحت الجلدة الكائنة فوق الركبة. انظر: "القاموس المحيط" 2/ 303. "اللسان" 1/ 989 (دغص). (¬3) هو: عمرو بن أبي عمرو الشيباني. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 297, "اللسان" 3/ 548 (مور). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 282, "تفسير مقاتل" 128 أ, "جامع البيان" 27/ 13. "معالم التنزيل" 4/ 237. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 282, "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 63. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 128, "الوسيط" 4/ 185.

11

كقوله: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الكهف: 47] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] وقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ} [النمل:88] الآيات, وقد ذكر الله تعالى في الواقعة أنها تصير هباءً منثورًا (¬1) ,ثم ذكر ما للمكذبين في ذلك اليوم بقوله: 11 - {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} قال الكلبي: الشدة من العذاب يومئذ للمكذبين بالإيمان (¬2). وذكرنا قديمًا تفسير الويل (¬3). 12 - ثم نعت هؤلاء المكذبين فقال: {الَّذِينَ هُمْ في خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} ومعنى الخوض في اللغة الدخول في الماء، ثم يتفرع منه الدخول في الأمر بالقول (¬4). وأراد بالخوض هاهنا خوضهم في حديث محمد بالتكذيب واللاستهزاء, ولهذا قال المفسرون: في باطل يلعبون. قال عطاء: يخوضون في تكذيبك ويلهون بذكرك (¬5). 13 - قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} يوم بدل من قوله: {يَوْمَئِذٍ} (¬6) ومعنى ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}. [الوقعه 5, 6]. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 185."معالم التنزيل" 4/ 238. (¬3) عند تفسيره لآية (79) من سورة البقرة. قال: قال ابن عباس. الويل شدة العذاب. وقال الزجاج: الويل كلمة يستعملها كل واقع في هلكة وأصله في اللغة العذاب. وقال ابن قتيبه: قال الأصمعي: الويل تقبيح. وروى الأزهري عن أبي طالب النحوي أنه قال: قولهم: (ويله) كان أصلها (روي) وصلت بـ (له) ومعنى (روي) حزن له ومنه قولهم: ويه, معناه حزن أخرج مخرج الندب. والويل: حلول الشر، والويله: الفضيحه, والبلية. والويل كلمة عذاب. والهلاك يُدعى بمن له وقع في هلكة يستحقها. وانظر: "اللسان" 3/ 997 (ويل). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 466، "اللسان" 1/ 920 (خوض). (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 185, "معالم التنزيل" 4/ 238, "الجامع" للقرطبي 17/ 64. (¬6) انظر: "مشكل اعراب القرآن" 2/ 231.

14

الدَّع في اللغة: الدفع في قسوة وعنف. قال أبو عبيدة (¬1): دععت (¬2) في قفاه, أي دفعت, ومنه قوله: {يَدُعُّ الْيَتِيم} [الماعون: 2]، وأنشد الليث: إذا القوم في المَحُلِ دَعُّوا اليَتِيمَا (¬3) قال عامة المفسرين: يدفعون إلى النار دفعًا على وجوههم (¬4)، وقال قتادة: يزعجون إليها إزعاجًا (¬5). وقال مجاهد: دفرًا في أقفيتهم (¬6). قال ابن الأعرابي: الدفر: الدفع (¬7). قال مقاتل: يغلون أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم وراء ظهورهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعًا على وجوههم، حتى إذا دنوا منها قال لهم خزنتها قوله: 14 - {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (¬8) قال ابن عباس: أي في الدنيا (¬9). ثم وبخوا بما كانوا يدعون في حال التكذيب قبل انكشاف الأمر، فقيل لهم لما عاينوا مصداق الخبر 15 - {أَفَسِحْرٌ هَذَا} أي هذا الذي ترون. والمعنى يعود إلى العذاب، ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 231. (¬2) في (ك): (دعت) والصواب ما أثبته. (¬3) لم أجده فيما اطلعت عليه. (¬4) اانظر: "جامع البيان" 27/ 14, "تفسير القرآن العظيم" 4/ 241. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 247، "جامع البيان" 27/ 14. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 92 , "اللسان" 1/ 983 (دعع). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 102, "اللسان" 1/ 991 (دفر). (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 128/ ب, "الوسيط" 4/ 185. (¬9) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 282.

16

ولذلك ذكر بلفظ التذكير في قوله: {هَذَا}. قوله: {أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} يريد: أم قد غطى على أبصاركم، وذلك أنهم كانوا يكذبون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيما يوعدهم من العذاب وينسبونه إلى السحر، وإلى أنه يسحر الناس ويغطي على أبصارهم بالسحر، ومنه قوله تعالى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} وقد مر (¬1). فلما شاهدوا ما وعدوا به من العذاب قيل لهم للتوبيخ والتبكيت: أفسحر ما ترون، أم قد غطي على أبصاركم فلا ترون كما كنتم تدعون في الدنيا أنه يفعل بكم. وهذا معنى قول مقاتل (¬2). ويجوز أن يكون المعنى في قوله: {أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} التهديد. يقول: أم لا تبصرون العذاب فتكذبون به كما كنتم تكذبون به في الدنيا إذا كنتم لا تبصرونه. فلما ألقوا فيها قالت لهم الخزنة: 16 - {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} أي: على العذاب ومقاساة حر النار {سَوَاءٌ عَلَيْكُم} قال أبو إسحاق: مرفوع بالابتداء والخبر محذوف. المعنى: سواء عليكم الصبر والجزع (¬3). يدل على ذلك أنهم أقروا بهذا في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي الأمر جار عليكم بالعدل، ما جوزيتم إلا جزاء أعمالكم، والمعنى: إنما تجزون جزاء ما كنتم تعملون، أي الكفر والتكذيب. 18 - فقوله تعالى: {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}. قال ابن عباس، ¬

_ (¬1) عند تفسيره لآية (15) من سورة الحجر. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب، "معالم التنزيل" 4/ 238. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 62.

19

ومقاتل: معجبين (¬1). وذكرنا تفسير هذا الحرف في سورة يس (¬2). 19 - قوله تعالى: {هَنِيئًا} يقال: هَنُؤَ يَهْنُؤ هَنَاءَةً فهو هنيء (¬3). وهنيئًا هاهنا نعت محذوف على تقدير: إمتاعًا هنيئاً، وأمرهم بالأكل والشرب يدل على الإمتاع، كأنه قيل: أمتعتم بنعيم الجنة إمتاعًا هنيئًا، ويجوز أن يقول: أراد شربًا هنيئًا، أو أكلاً هنيئًا. واقتصر على صفة مصدر أحد الفعلين من الآخر. وقال الزجاج: (هنيئاً) صفة في موضع المصدر، أي: ليهنأكم ما صرتم إليه هنيئا (¬4). وذكرنا تفسير الهنيء في أول سورة النساء (¬5). قال مقاتل: يعني حلالاً. ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 283، "تفسير مقاتل" 128 ب. (¬2) عند تفسيره لآية (55) من سورة يس قال: {فَاكِهُونَ} قال ابن عباس: ناعمون. وقال مقاتل وقتادة: أي معجبون بما هم فيه. وهو قول الحسن والكلبي. وهذان القولان عليهما أهل التفسير ولكل منهما أجل في اللغة. فمن قال فاكهين ناعمين، فاصله من الفكهية والفاكهة وهي المزاح والكلام الطيب. يقال: فاكهت القوم بملح الكلام مفاكهةً. روى أبو عبيد عن زيد: الفَكِهُ الطيب النفس الضحوك .. ومن قال الفاكهة المعجب فإن العرب تقول: فكهنا من كذا أي تعجبنا. ومنه قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تعجبون. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 63، "تهذيب اللغة" 6/ 25 (فكه)، "الأضداد" لابن الأنبارى 54. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 433 (هنا) ذكره عن الليث. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 63. (¬5) عند تفسيره لآية (4) من سورة النساء. ومما قال: قال الأصمعي: يقال في الدعاء للرجل: هنئت ولا تَنْكَه. أي أصبت خيرًا ولا أصابك التفسير. وقال أبو الهيثم: معنى قوله {هنئت} يريد ظفرت على الدعاء له. وأصل الهنيء من الهناء. وهو معالجة الجرب بالقطران. فالهنيء شفاء من المرض كالهناء شفاء من الجرب، قال المفسرون: معنى الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء.

20

وقال الكلبي: {هَنِيئًا} لا يموتون (¬1). ومقاتل ذهب إلى أن الحرام وخيم العاقبة، وطعام الجنة لما كان مأمون العاقبة وصف بالهنيء. وذهب الكلبي إلى أن الموت ينغص النعمة، ولما كان أهل الجنة يأمنوا الموت وصف نعيمهم بالهنيء. 20 - قوله تعالي: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} تفسير هذه الحروف قد تقدَّم فيما سبق. ووصف ابن عباس هذه السرر فيما روي عنه عطاء قال: يريد من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين مكة وأيْلة (¬2). وقال الكلبي: طول السرير في السماء مائة عام، فإذا أراد الرجل أن يجلس عليه تواضع له حتى يجلس عليه، فإذا جلس عليه ارتفع به إلى مكانه (¬3). قوله تعالي: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} ذكرنا تفسيره في آخر سورة الدخان (¬4). 21 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس: يعني المهاجرين والأنصار والتابعين (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 65، "فتح القدير" 5/ 96. (¬3) انظر: "الوسيط" 3/ 46، "التفسير الكبير" 19/ 153، "القرطبي" 10/ 33، "روح المعاني" 14/ 59، وأيْلَةُ بالفتح مدينة على ساحل البحر الأحمر ممل يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام. انظر: "معجم البلدان" 1/ 347. (¬4) عند تفسيره لآية (54) من سورة الدخان وملخصه: أن الله تعالى أنكحهم في الجنة الحور العين، والحور في اللغة البيض وقيل الحسان الأعين. (¬5) انظر: "الحامع لأحكام القرآن" 17/ 67، "روح المعاني" 27/ 32، وقال (لكن =

{وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} اختلفوا في أن هذا الإيمان من المؤمنين الذين ذكروا في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أم من الذرية؟ فقال قتادة: بإيمان من الذرية (¬1)، والمعنى: واتبعتهم ذريتهم في الإيمان؛ لأن الذرية إذا لم تتبع الأصل بالإيمان لم تجتمع معه في الجنة. وعلى هذا المراد بالذرية الكبار. ويجوز أن يكون المراد بالإيمان إيمان الذين آمنوا (¬2). والمعنى: وأتبعهم بإيمان من الآباء ذريتهم، والذرية تتبع الآباء وإن كانت صغارًا في كثير من أحكام الإيمان وهو الميراث، والدفن في مقابر المسلمين، وحكمهم حكم الآباء في أحكامهم، إلا فيما كان موضوعًا عن الصغير لصغره. وعلى هذا القول، المراد بالذرية: الصغار. قال أبو علي: فإن جعلت الذرية للكبار (¬3) كان قوله: {بِإِيمَانٍ} حالاً من الفاعلين الذين هم ذريتهم (¬4). وكلا القولين مروي عن ابن عباس (¬5). والوجه أن تحمل الذرية على ما بينَّا. وعلى هذه الجملة يدل كلام ¬

_ = لا أظن صحته). وقال الشوكاني: وقيل المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار فقط، وظاهر الآية العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار، كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. انظر: "فتح القدير" 5/ 98. (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 247، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 66. (¬2) وهو المروي عن ابن عباس، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 17/ 15، "معالم التنزيل" 4/ 239. (¬3) في (ك): (فإذا حملت الذرية الكبار) والصواب ما أثبته. (¬4) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 255. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 15، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 66.

المفسرين (¬1). والذرية تقع على الصغير والكبير، والواحد والكثير (¬2). فمن وقوعها على الصغير الواحد قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] ومن وقوعها على الكبار البالغين قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]. ومن وقوعها على الكبير قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم: 58]. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه" ثم قرأ هذه الآية (¬3). وقال عبد الله في هذه الآية: الرجل يكون له القِدم وتكون له الذرية فيدخل الجنة فيرفعون إليه لتقر بهم عينه وإن لم يبلغوا ذلك (¬4). وقال أبو مجلز: يجمعهم الله له ما كان يحب أن يُجْمعوا له في الدنيا (¬5). وقال الشعبي: أدخل الله الذرية بعمل الآباء الجنة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "الكشف البيان" 11/ 196 ب، "الوسيط" 4/ 16، "معالم التنزيل" 4/ 239. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 3 (ذرأ). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 247 موقوفًا على ابن عباس، والحاكم في مستدركه، كتاب: التفسير، سورة الطور 2/ 468، والبزار عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه قيس بن الربيع. وثقه شعبة والثوري وفيه ضعف. انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 114، وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 15، "البحر المحيط" 8/ 148، وانظر: "تخريجات الكشاف" ص160، "الصواعق المرسلة" 1/ 391 - 392، "التفسير القيم" ص 449. وبه قال الجمهور. (¬4) انظر: "التفسير القيم" ص 451. (¬5) انظر: "الدر" 6/ 119، ونسب إخراجه لابن المنذر. (¬6) انظر: "حامع البيان" 27/ 16.

وقال الكلبي عن ابن عباس: إن كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى الأبناء. وهذا القول اختيار الفراء (¬1). والآباء على هذا القول داخلون في اسم الذرية. وذكرنا جواز ذلك عند قوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (¬2) عني بالذرية الآباء. والأكثرون على القول الأول. وهو أن الأبناء يلحقون بدرجة الآباء. قال إبراهيم: أعطوا مثل أجور آبائهم ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئًا (¬3). وهو اختيار الزجاج. قال: تأويل الآية أن الأبناء يلحقون بالآباء إذا كانت مراتب الآباء في الجنة أعلى من مراتبهم، ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئًا (¬4). وذلك قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وذكرنا تفسير الألت عند قوله: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (¬5) والقراء على فتح اللام ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 92، "القرطبي" 17/ 6، "التفسير القيم" ص 451. (¬2) عند تفسيره لآية (41) من سورة يس. ومما قال: قال ثعلب: الذرية تقع على الآباء. وقال الفراء: جعل الذرية التي كانت مع نوح لأهل مكة لأنها أصل لهم، وقال الزجاج: قيل لأهل مكة (حملنا ذريتهم) لأن من حمل مع نوح فهم أباؤهم وذرياتهم. فهذه الأقوال تدل على أن الآباء يجوز أن تسمى ذرية الأبناء. وقد كشف صاحب النظم عن هذا فقال: جعل الله الآباء ذرية للأبناء. وجاز ذلك لأن الذرية مأخوذة من ذرأ الله الخلق فسمى الولد ذرية لأنه ذري من الأب فكما جاز أن يقال للولد ذرية لأبيه لأنه ذري منه كذلك يجوز أن يقال للأب ذرية للابن ابنه ذري منه. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 16، "الدر" 6/ 119، وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر وهناد. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 65 - 66. (¬5) عند تفسيره للآية (14) من سورة الحجرات، ومما قال: لاتَ اجتمع أربع لغات: أَلَتَ، وآلَتَ، ولاَتَ، وأَلاَتَ. كلها معناها النقصان. قال ابن عباس ومقاتل: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا. انظر: "البسيط" 656 بتحقيق السحيباني.

في: (ألتناهم) وهو الأشهر الأعرف. وقرأ ابن كثير بكسر اللام (¬1). ويشبه أن يكون ذلك لغة، فقد جاءت حروف على فَعِلَ وفَعَلَ، مثل: نَقِمَ يَنْقَمُ، ونَقَم يَنْقِم. وقد رويت هذه القراءة عن يحيى بن يعمر، ومكانه مكانه (¬2). قال ابن عباس: لم تنقص الآباء من الثواب حين ألحقنا بهم ذرياتهم (¬3). وهذه الآية رد ظاهر على القدرية حين أنكروا أن يعطي الله تعالى ذكره مؤمنًا من فضله ما لا يستحقه بعمله. وتم الكلام عند قوله: {مِنْ شَيْءٍ} (¬4)، ثم ابتدأ: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم (¬5). أي أخذوا وحبسوا في جهنم، ولكن الكلام في نفس الآية يدل على ما ذكر؛ لأن الله وصف منازل أهل الجنة، ثم ذكر أهل النار وأنهم ارتهنوا بعملهم، فدل معنى الكلام على أنهم معذبون، فإن أهل الجنة في نعيمهم. وقال مقاتل: كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار (¬6). ويدل على صحة ما ذكر ما قال الكلبي، وهو أن الله تعالى استثنى المؤمنين في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} (¬7) فدل على أن ¬

_ (¬1) انظر: "حجة القراءات السبع" ص 62، "النشر" 2/ 377، "الإتحاف" ص 400. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 226. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 284، "جامع البيان" 27/ 17، "الوسيط" 4/ 187. (¬4) انظر: "القطع والائتناف" ص 66 قال: وهو قول أبي حاتم. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 68. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب، "معالم التنزيل" 4/ 239. (¬7) آية (38، 39) من سورة المدثر. ولم أجد القول عن الكلبي أو غيره.

22

المراد بقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الكافر لا المسلم (¬1). ثم ذكر ما يزيدهم (¬2) من الخير والنعمة فقال: 22 - {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قال ابن عباس: يعني غير الذي كان لهم زيادة من الله تعالى أمدهم بها (¬3). قال الكلبي، ومقاتل: يعنى غير الذي كان لهم زيادة من الله تعالى أمدهم بها. 23 - {يَتَنَازَعُونَ} يتعاطون (¬4) والمعنى أن هذا يأخذ من يد هذا وهذا يأخذ من يد هذا كالشيء المتنازع فيه، تنزعه من صاحبك، وصاحبك ينزعه منك. هذا هو الأصل ثم صار التنازع اسمًا للتناول، والمنازعة اسمًا للمناولة (¬5) وقال الأعشى: نازَعتُهُمْ قُضُبَ الرّيْحَانِ مُتّكئا ... وَقَهْوَةً مُزّةً رَاوُقُهَا خَضِلُ (¬6) وقال الأخطل: نازَعْتُهمُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وقد ... صَاحَ الدَّجَاجُ وحاَنتْ وَقْعَةُ السَّاري (¬7) ¬

_ (¬1) واختيار ابن جرير، والنحاس، وابن كثير، وغيرهم العموم، وأن كل إنسان مرتهن بعمله، فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه، وإلا أهلكه. انظر: "جامع البيان" 27/ 17، "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 253، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 242، "فتح القدير" 5/ 98. (¬2) في (ك): (ما يزيد) والتصويب من الوسيط. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 18، "معالم التنزيل" 4/ 239. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب، "جامع البيان" 27/ 17. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 141، "اللسان" 3/ 616 (نزع). (¬6) انظر: "ديوان النابغة" ص 147، والقهوة: الخمر، والراووق: إناء الخمر, والخضل: الندي. (¬7) انظر: "ديوان الأخطل" 10/ 198، "مجاز القرآن" 2/ 223، ومعنى (نازعته) ناولته. والشمول: الطيبة الريح.

وجميع أهل اللغة قالوا في معنى (يتنازعون): يتعاطون. وهو قول أبي عبيدة، والمبرد، والزجاج، وابن قتيبة (¬1). قوله تعالى: {فِيهَا كَأْسًا} قال ابن عباس، ومقاتل، يعني الخمر (¬2). وقد ذكرنا أن الكأس معناه الإناء فيه الشراب، فإذا كان فارغًا فليس بكأس، ولما لم ينفك الكأس عما فيه، جاز أن يسمى ما فيه باسم الكأس (¬3). قوله تعالى: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} قال ابن عباس: يريد لا يلغون ولا يأثمون (¬4). وعبارات المفسرين مختلفة الألفاظ، فقد قالوا: لا فضول ولا باطل ولا سباب ولا تخاصم فيها (¬5). قال أبو إسحاق: أي لا يجري بينهم ما يُلْغَى، ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر (¬6). وقال ابن قتيبة: أي: لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا كما يكون من خمر الدنيا (¬7). فإذا لم يذهب بعقولهم لم يكن منهم ما يؤثم. والتأثيم تفعيل ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 232، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 63 "غريب القرآن" 425. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 284، "تفسير مقاتل" 128 ب. (¬3) انظر: "المفردات" 443، "تهذيب اللغة" 10/ 313 (كيس)، "اللسان" 3/ 206 (كأس). (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 284، "جامع البيان" 27/ 17. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 624، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 248، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 242. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 63 (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 425.

24

من الإثم. يقال: أثمه، إذا جعله ذا إثم. يعني أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. والكلام في التنوين وتركه في مثل هذا قد تقدم عند قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} (¬1). وقوله: {فِيهَا} من قوله: {لَا لَغْوٌ فِيهَا} في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ على قول سيبويه؛ لأنه خبر عن قوله: {لَا لَغْوٌ} والتقدير: لا لغو فيها ولا تأثيم فيها، واستغني عن ذكر خبر الثاني لدلالة خبر الأول عليه كقوله: زيد منطلق وعمرو (¬2). 24 - قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} قال الكلبي: بالخدمة غلمان لهم (¬3). قال مقاتل: لا يكبرون أبدًا (¬4). {كَأَنَّهُمْ} في الحسن والبياض {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين. وقال عطاء: يريد مثل اللؤلؤ حين يخرج من أصدافه قبل أن يصيبه الطيب والدهن (¬5). ¬

_ (¬1) عند تفسيره لآية (197) من سورة البقرة. وفي قوله {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} قرأ ابن كثيرن وأبو عمرو، ويعقوب: {لَغْوٌ * تَأْثِيمٌ}، بالنصب وقرأ الباقون {لَغْوٌ * تَأْثِيمٌ} بالرفع والتنوين. انظر: "حجة القراءات": 683، "النشر" 2/ 211، "الإتحاف" 134. وفي قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} بالرفع والتنوين، وقرأ الباقون بالفتح من غير تنوين. انظر: "البسيط" 1/ 122 أ - ب، الحجة 2/ 286، "النشر" 2/ 211 , "الإتحاف" ص 135. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 270، 5/ 63، "الحجة للقراء السبعة" 6/ 226. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 188، "معالم التنزيل" 4/ 240. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 69. (¬5) لم أجده.

ومعنى: {مَكْنُونٌ} مصون فيما تكنه أي تستره (¬1). ذكرنا تفسير هذا الحرف في مواضع، وعلى ما ذكر مقاتل، وعطاء: أراد أنه مكنون في الصدف (¬2). وقال الكلبي: قد خُبِّئ وكُنَّ من الحر والقر والمطر فلم يتغير (¬3). وعلى هذا هو مكنون في غير الصدف. قال الحسن في هذه الآية: قالوا: يا رسول الله، الخادم كاللؤلؤ، فكيف بالمخدوم؟ قال: "كما بين القمر ليلة البدر والكوكب" (¬4). ونحو هذا ذكر قتادة (¬5). وروت عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف يناديه كلهم لبيك لبيك" (¬6). وقال أبو عبد الرحمن المعافري (¬7): إنه ليصف الرجل من أهل الجنة ¬

_ (¬1) الكِنُّ والكنَّةُ والكِنانُ: وقِاء كل شيء وسِترهُ، والكِنُّ: البيت أيضًا. والجمع أكنْانٌ وأكنَّةٌ، "اللسان" 3/ 304 (كَنَنَ). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب، "معالم التنزيل" 4/ 240. (¬3) لم أجده عن الكلبي، وفي "تنوير المقباس" 5/ 284، قال: (قد كن من الحر والبرد والقر). والقُرُّ: هو البرد عامة. وقال بعضهم: القُرُّ في الشتاء والبرد في الشتاء والصيف، "اللسان" 3/ 52 (قرر). (¬4) أخرجه الثعلبي من رواية الحسن مرسلًا. انظر: "الكشف البيان" 11/ 197 ب، تخريجات الكشاف: 160. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 248، "جامع البيان" 27/ 18، "الدر" 6/ 119. (¬6) أخرج الثعلبي من رواية عمر بن عبد العزيز البصري، عن يوسف بن أبي طيبة، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة نحوه. انظر: "الكشف البيان" 11/ 197 ب، "تخريجات الكشاف" ص 160. (¬7) لم أجد ترجمته.

27

سماطان لا يرى طرفهما من غلمانه حتى إذا مر مشوا وراءه (¬1). وقال حميد بن هلال (¬2): ذكرنا أن الرجل إذا دخل الجنة صور صورة أهل الجنة وألبس لباسهم، وحُلِّي حليهم، وأُري أزواجه وخدمه، أخذه سوار فرح لو كان ينبغي له أن يموت لمات من سوار فرح، فيقال له: أرأيت سوار فرحتك، فإنها قائمة لك أبدًا (¬3). 27 - قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والنصب والخوف (¬4). وقال مقاتل: زار بعضهم بعضًا فتساءلوا بينهم ما كانوا فيه من المشقة في الدنيا فذلك قوله: 28 - {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي في دار الدنيا مشفقين من العذاب. 29 - {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالمغفرة {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} يعني جهنم الحارة (¬5). ونحو هذا قال الحسن في السموم أنه من أسماء جهنم (¬6). وقال عطاء: يريد الطبق السابع من جهنم وهو الأعلى (¬7). ¬

_ (¬1) لم أجد هذا القول. (¬2) حميد بن هلال العدوي، أبو نصر البصري، ثقة، عالم، توقف فيه ابن سيرين لدخوله عمل السلطان. انظر: "تقريب التهذيب" 1/ 204، "صفة الصفوة" 3/ 260، "سير أعلام النبلاء" 5/ 309. (¬3) انظر: "صفة الصفوه" 3/ 260. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 188، "معالم التنزيل" 4/ 240. ومعنى قوله: أخذه سوار الفرح، أي: دَبَّ فيه الفرح دَبيبَ الشَّرَاب. انظر: "اللسان" 2/ 237 (سور). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 128 ب، 129 أ. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 240، "زاد المسير" 8/ 53، "القرطبي" 17/ 70. (¬7) لم أجده.

وقال الكلبي: (عذاب السموم) عذاب النار (¬1). وهو قول أبي عبيدة (¬2). ومعنى السموم في اللغة: الريح الحارة تكون بالنهار، وقد تكون بالليل أيضًا. قال أهل المعاني: معنى السموم الحر الذي يدخل في مسام البدن بما يوجب ألمه، ومنه ريح السموم، ومسام البدن الخروق الدقاق، وعلى هذا حر جهنم وحر النار مما يدخل في مسام البدن (¬3). وقال أبو إسحاق: {عَذَابَ السَّمُوم} أي سموم جهنم (¬4). وعلى هذا سموم جهنم ما يوجد من لفح أوارها (¬5) وحرارة لهوبها كالريح الحارة الي تهب فتؤذي الإنسان. فكأنهم قالوا: وقانا الله حر جهنم حتى لم يصبنا وهج نارها. قال (¬6): وسياق هذه الآيات يدل على أنهم يتساءلون في الجنة عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، كأن بعضهم يقول لبعض: بم صوت إلى هذه المنزلة؟ وفي الكلام دليل على ذلك، وهو قولهم في جواب المسألة: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي من المصير إلى عذاب الله فعملنا بطاعته (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 188، "معالم التنزيل" 4/ 240، "زاد المسير" ص 53. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 233. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 320، "اللسان" 2/ 208 (سمم). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 64. (¬5) وَرَتِ النارُ تَرِي وَرْيًا ورِيةً حَسَنةُ. اتَّقد، وأوْرَيتُ النار أوريها إيراء. "اللسان" 3/ 916 (ورى). (¬6) أي الزجاج. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 64.

28

قال إبراهيم التيمي: ينبغي لمن لم يحزن في الدنيا ولم يخف، أن يكون من أهل النار، وأن لا يكون من أهل الجنة؛ لأنهم قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] وقالوا: 28 - {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} (¬1). ثم قرنوا الجواب مع ذلك بالإخلاص والتوحيد وهو قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} أي نوحده ولا ندعو إلهًا غيره. وهو قول ابن عباس (¬2). وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} وقرئ {أَنَّهُ} بالفتح (¬3). والمعنى: ندعوه لأنه هو البر الرحيم. أي فلرحمته يجيب من دعاه، فلذلك ندعوه، ومن كسر الهمزة قطع الكلام مما قبله واستأنف (¬4)، وهو اختيار أبي عبيد قال: نقرؤها كسرًا على الابتداء، أي إن ربنا كذلك على كل حال. قال: ومن نصب أراد ندعوه لأنه، أو بأنه. فيصير المعنى: أنه يدعى من أجل هذا (¬5). والتأويل الأول أعم وأحب إليّ، قال المبرد: قال أبو عبيد: الكسر أعم، ولا وجه له؛ لأن قوله {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} بمعنى لأنه، أو بأنه دائم ثابت في الله -عز وجل- مثل قولهم لو ابتدأوا فقالوا: إنه، وأما قوله: من نصب يصير المعنى فيه أن الله يدعى من أجل هذا، فهو كما وصف، وليس ¬

_ (¬1) انظر: "صفة الصفوة" 3/ 91. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 286، "جامع البيان" 27/ 18. (¬3) قرأ نافع، والكسائي، وأبو جعفر "أنه" بالفتح، وقرأ الباقون "إنه" بالكسر. انظر: "حجة القراءات" ص 684، "النشر" 2/ 378، "الإتحاف" ص 401. (¬4) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 227. (¬5) انظر: "حجة القراءات" ص 684.

29

في هذا علة توهن هذه القراءة، وإنما يدعو المسلمون ويستغفرون ربهم لأنه الغفور الرحيم. والمعنى في القراءتين يؤول إلى شيء واحد والله أعلم (¬1). قال الكلبي ومقاتل: إنه هو البر الصادق فيما وعد أولياءه، الرحيم بالمؤمنين (¬2). 29 - قوله {فَذَكِّرْ} قال المفسرون: فعظ بالقرآن أهل مكة. والمعنى: ذكرهم بما أعتدنا للمؤمنين والكافرين. {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} قال ابن عباس، ومقاتل: برحمة ربك عليك (¬3). والمعنى: بإنعامه عليك بالنبوة ورحمته إياك حتى عصمك وطهرك (¬4). قوله: {بِكَاهِنٍ} يقال: كَهَنَ الرجل يَكْهَنُ كَهانةً، مثل: كتب يكتب كتابة، وقَلّ ما يقال إلا تَكَهَّنَ الرجل، ويقال: كهن لهم، إذا قال لهم قول الكهنة (¬5)، وهم الذين كانت الشياطين تلقي إليهم ما يسترقون فيخبرون الناس به، وكانت الكهانة في العرب قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما بعث ومنعت الشياطين من استراق السمع بطل علم الكهانة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 254. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ، "معالم التنزيل" 4/ 240. (¬4) وفي "تنوير المقباس" 5/ 286، قال: بالنبوة والإسلام. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 24، "اللسان" 3/ 309 (كهن) وهو قول الليث. (¬6) انظر: "فتح الباري" 10/ 216 - 219، ومما نقله عن القرطبي قوله: (كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم ..).

30

قال المفسرون: ما أنت بكاهن تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. أي لست تقول ما تقوله (¬1) كهانة، ولا تنطق إلا بوحي. والكاهن الذي يوهم أنه يعلم الغيبَ بطريق خدمة الجن إياه وإخبارهم، والمجنون المارق الذي يغطي على عقله. وهذا جواب لكفار مكة حين قالوا: إنه كاهن ومجنون وشاعر، وقد علموا أنه ليس كما قالوا, ولكنهم قالوا ذلك على جهة الكذيب ليستريحوا إلى ذلك كما يستريح السفهاء إلى التكذيب على أعدائهم. 30 - قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ} أي بل أيقولون: {شَاعِرٌ} أي هو شاعر {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ريب الدهر صروفه وحوادثه من قولهم: رابه الأمر ريبًا، أي نابه وأصابه (¬2). والمنون الدهر في قول الفراء (¬3)، والأصمعي، والكسائي، وأصله من المنّ بمعنى القطع، وذلك أنه يقطع الأعمال. قال الفراء: المنون يذكر ويؤنث، فمن ذكره أراد به الدهر، ومن أنث أراد المنية. وقول الهذلي (¬4): أَمِنَ الَمُنونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ روي بالوجهين. وقال الكسائي: المنون واحد في اللفظ، وقد يذهب به مذهب الجماع وأنشد قول عدي: ¬

_ (¬1) في (ك): (مقول). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 252، "اللسان" 1/ 1263 (ريب). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 93. (¬4) البيت في "ديوانه" ص 87، "الخصائص" 1/ 94، "شرح المفصل" لابن يعيش 4/ 10، "المذكر والمؤنث" ص 227.

مَنْ رأيْتَ المَنُونَ عَدّيْنَ أم من ... ذا عَلَيْه من أن يُضَامَ خَفِيرُ (¬1) عدين: أي تركن وجاوزن. قال: والعرب تقول: لا أكلمك آخر المنون. أي: آخر الدهر (¬2) وكلا القولين في المنون ذكره المفسرون. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد حدثان الموت (¬3). وقال الكلبي عنه: أوجاع الموت (¬4). وقال مقاتل: يعني الموت. وهو قول مقاتل (¬5). وقال مجاهد: حوادث الدهر (¬6). والمعنى: ما يصيبه من الدهر أو من الموت. ومعنى التربص بالشيء: انتظار الدوائر به. وأنشد ابن عباس: ¬

_ (¬1) هو عدي بن زيد العبادي، والبيت في ديوانه. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 189، ولم ينسبه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 286. (¬4) لعل مراد المؤلف رحمه الله من قوله (وقال مقاتل) أي فيما يرويه عن ابن عباس، حيث روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبخاري عن ابن عباس في قوله {رَيْبَ الْمَنُونِ} قال: الموت. وفي "تفسير مقاتل" قال: حوادث الدهر. انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ، "جامع البيان" 27/ 19، "فتح الباري" 8/ 602، "الدر" 6/ 120. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 626، "جامع البيان" 27/ 19. (¬6) أخرجه ابن الأنباري عن ابن عباس في الوقف والابتداء، وابن دريد في "الجمهرة" 1/ 259، وفي "اللسان" 1/ 1106 (ربص) ولم ينسبه لقائل. والذي ذكره المفسرون لا يدل على إنشاد ابن عباس لهذا البيت، وإنما ذكروا قوله ثم قالوا: وقال الشاعر، وربما ذكروا القول ونسبوه لغيره. انظر: "جامع البيان" 27/ 19، "القرطبي" 17/ 72، "فتح القدير" 5/ 99.

31

تَربَّصْ بها رَيْبَ المَنُونِ لعلّها ... تُطَلَّقُ يومًا أو يَمُوتُ حَلِيلهُا (¬1) قال المفسرون: قال المشركون: ننتظر بمحمد الموت وحوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وأن أباه توفي شابًّا ونحن نرجو أن يموت كما مات أبوه شابًّا (¬2). وقال الأخفش: يريد نتربص به إلى ريب المنون، فحذف الجر كما تقول: قصدت زيدًا وقصدت إلى زيد، وعمدت زيدًا وعمدت إلى زيد (¬3) وأصله من المنِّ، قال الله تعالى: 31 - {قُلْ تَرَبَّصُوا} قال الكلبي: انتظروا بي الموت {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} بكم من المنتظرين عذابكم، فعذبوا يوم بدر بالسيف، وهو قول جماعة المفسرين (¬4). قال أبو إسحاق: وجاء في التفسير أن هؤلاء الذين قالوا هذا هلكوا كلهم قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬5). 32 - قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} قال ابن عباس: يريد التكذيب (¬6). يعني أن الله تعالى أشار بقوله: {بِهَذَا} إلى ما ذكر ¬

_ (¬1) أخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس بإسناد حسن، وأخرجه ابن إسحاق في السيرة. انظر: "جامع البيان" 27/ 19، "فتح الباري" 8/ 602، "معالم التنزيل" 4/ 240، "مرويات ابن عباس" للحميدي 2/ 829. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 72، "فتح القديرِ" 5/ 99. (¬3) في "معاني القرآن" للأخفش 2/ 697، قال: وقال {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} لأنك تقول: تربصتُ زيدًا، أي تربصت به. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 189، "معالم التنزيل" 4/ 241، "القرطبي" 17/ 73. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 65. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 286.

عنهم مما يدل على تكذيبهم. يقول: أم تأمرهم أحلامهم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد، ويأتيهم على ذلك بالدلائل، وهم يعبدون أحجارًا. قال الفراء: الأحلام في هذا الموضع العقول والألباب (¬1). وكانت عظماء قريش توصف بالأحلام والنهى، وبأنهم أولوا العقول فقال الله تعالى -منكرًا عليهم-: أتأمرهم أحلامهم بهذا. وهذا تهكم وإزراء (¬2) بأحلامهم، وأنها لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل (¬3)، وفيه رد على من يوجب شيئًا بالعقل، وأن الهدى يكتسب بالعقل. وقوله: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: أم يكفرون طغيانًا، وقد ظهر لهم الحق. وأول الآية إنكار عليهم، وآخرها إيجاب. وهو قوله: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} قال ابن عباس: يريد حملهم الطغيان على تكذيبك (¬4). ومثل هذه الآية في النظم قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} قال عطاء: افتعله (¬5). وقال الكلبي: تكذّبه من تلقاء نفسه (¬6). وقال مقاتل: اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه (¬7). والتقوّل: تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب, لأنه تكلف القول من غير حقيقة بمعنى يرجع إلى أجل (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 93. (¬2) أزرى بالشيء إزراء: تهاون به. انظر: المصباح (زرى). (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 19، "الوسيط" 4/ 189، "معالم التنزيل" 4/ 241. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 189. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 73. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 287، "الوسيط" 4/ 189. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 311، "اللسان" 3/ 1089 (قول) "الجامع لأحكام =

33

قوله تعالى: {بَلْ} أي ليس الأمر على ما زعموا {لَا يُؤْمِنُونَ} بالقرآن استكبارًا. ثم ألزمهم الحجة على أنهم كذبوا فيما قالوا بقوله: 33 - {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أي: إذ قالوا إن محمدًا تقوّله، فقد زعموا أنه من قول البشر فليقولوا مثله. قال ابن عباس، ومقاتل: بقرآن من تلقاء أنفسهم مثل هذا القرآن كما جاء به {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أن محمدًا تقوّله (¬1). وهذا في دليل على الإعجاز؛ لأن الله تعالى تحداهم بالقرآن فما رام أحد منهم أن يعارضه بشيء واللسان لسانهم. 35 - ثم احتج عليهم بابتداء الخلق: قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} قال ابن عباس: يريد من غير نطفة ولا طين (¬2). وقال الكلبي: من غير أب (¬3). وقال مقاتل: أكانوا خلقًا من غير شيء هكذا (¬4). والمعنى: أوجدوا كما هم عليه من كمال الخلقة، وخلقوا من غير أن ¬

_ = القرآن" 17/ 73، "فتح القدير" 5/ 99 وقوله: (بمعنى يرجع إلى أصل) ليست في المراجع السابقة، ولعل معناها إن صحت، أي ليس للتقول وهو الكذب أصل وإنما هو اختلاق وافتراء فقط. (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 287، "تفسير مقاتل" 129 أ. (¬2) لم أجده عن ابن عباس، والذي ذكره المفسرون عنه قوله: (من غير رب خلقهم وقدرهم). انظر: "معالم التنزيل" 4/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 74. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 287، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 74. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ.

36

كان لهم ابتداء من التراب، ثم من الأب ثم من النطفة والعلقة. وهذا استفهام إنكاري، أي أنهم خلقوا أطوارًا، وذلك يدل على قادر رددهم وصرّفهم في أحوالهم، ولم يوجدوا ابتداء كما يخلق الجماد ابتداءً من غير تقدم سبب من أب وأم، فلا تقوم عليه الحجة، وهؤلاء خلقوا من أشياء ليستدلوا بذلك فتقوم عليهم الحجة. هذا معنى قول المفسرين (¬1). وأهل المعاني جعلوا {مِنْ} بمعنى اللام. قال أبو إسحاق: أم خلقوا لغير شيء. أي أخلقوا باطلاً لا يحاسبون ولا يؤمرون؟! (¬2) ونحو هذا قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثًا وتركوا سُدى لا يؤمرون ولا ينهون (¬3). ويدل على هذا المعنى قوله: {أمْ هُمُ الخالِقون} هو أي: أهم الخالقون أنفسهم فلا يأتمرون لأمر الله، ولا ينتهون عما نهى الله عنه؛ لأن هذا من صفة الخالق لا من صفة المخلوق. والمخلوق يجب عليه ائتمار خالقه. 36 - قوله تعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فيكونوا هم الخالقين {بَلْ} ليس الأمر على هذا. لم يخلقوا شيئًا ثم {لَا يُوقِنُونَ} قال ابن عباس: بربوبيتي ودوام ملكي (¬4). وقال مقاتل: بتوحيد الخالق (¬5). وقال أهل المعاني: لا يوقنون بالحق (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 20، "فتح الباري" 8/ 603، "فتح القدير" 5/ 101. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 65. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 189، "معالم التنزيل" 4/ 241، "القرطبي" 17/ 74. (¬4) لم أجده. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 189.

37

37 - قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} قال مقاتل: يقول أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا (¬1). ونحو هذا قال عكرمة: يعني النبوة (¬2). وهذا كقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]، وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق (¬3). وقال أهل المعاني: هذا عام في جميع مقدورات الله تعالى، وضرب لها المثل بالخزائن, لأن الخزانة بيت مهيأ لجَمْع (¬4) أنواع مختلفة، ومقدوراته كالخزائن التي فيها من كل أجناس المعاني لا نهاية له (¬5) يخرج ما شاء بإيجاده إياه. يقول: أعندهم خزائن ربك فقد أمنوا أن يجري الأمور على خلاف ما يحبون. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} أي: الأرباب المسلطون، ومصدره التسطير (¬6)، ويقال: تسيطرت عليّ، أي: اتخذتني خولا، وعلى هذا قول الليث وأبي عبيدة (¬7). وقال المبرد: المسيطر المتغلب على الشيء، يقال: تسيطرت علينا أي تكلفت أن تقصرنا على ما تحب (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ، "معالم التنزيل" 4/ 241. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 74. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 189، "معالم التنزيل" 4/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 74، عن ابن عباس، وكذا في "تنوير المقباس" 5/ 288. (¬4) (ك): الجميع). (¬5) انظر: "تفسير القرطبى" 17/ 74، 75، "البحر المحيط" 1/ 152 عن الرماني. (¬6) (ك): (التسطير). (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 1/ 233، "تهذيب اللغة" 12/ 326 (سطر). (¬8) انظر: "اللسان" 2/ 143 (سطر)، "معاني القرآن" للزجاج 5/ 66.

قال أبو علي: وقد جاء على هذا البناء مُبَيْطِر ومُهَيمن ومبيقر (¬1). والصاد جائز في (المصيطر) (¬2). ذكرنا ذلك في الصراط (¬3). وقال المفسرون في تفسير هذا الحرف: المسلطون الجبارون الأرباب القاهرون. كل هذا ألفاظهم. قال عطاء عن ابن عباس: المسلطون على عبادي (¬4). وقال مقاتل: أم هم المسلطون على الناس فيجبرونهم على ما شاءوا ويمنعونهم ما شاءوا (¬5). قال الكلبي: أم هم المسلطون على تلك الخزائن ينزلون منها على ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 22. والبيطرة: معالجة الدواب، والمبيطر: معالج الدواب. والبيقرة: مثية فيها تقارب. "اللسان" 1/ 225، 242 (بطر)، (بقر). (¬2) قال الفراء: كتابتها بالصاد، والقراءة بالسين والصاد، "معاني القرآن" 3/ 93، وابن كثير، وحفص، وابن عامر في رواية الحلواني عن هشام، عن عمار، والكسائي في رواية الفراء: قرأوا (المسيطرون) بالسين، وقرأ حمزة بالإشمام، وقرأ الباقون بالصاد. انظر: "حجة القراء السبعة" 1/ 49، 6/ 228، "حجة القراءات" 684، "النشر" 2/ 378، "الإتحاف" 401 (¬3) عند تفسيره لآية (6) من سورة الفاتحة. والقراءة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} رويت عن ابن كثير السين والصاد وروي عن أبي عمرو السين والصاد والمضارعة بين الزاي والصاد. رواه عنه العريان بن أبي سفيان، وروى عنه الأصمعي (الزراط) بالزاي. والباقون بالصاد، غير أن حمزة يلفظ بها بين الصاد والزاي. انظر: "الحجة" 1/ 49. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 75. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 129 أ.

38

الخلق (¬1)، هذا كلامهم، والمعنى: أم هم الأرباب فلا يكونوا تحت أمر ونهي يفعلون ما شاءوا. 38 - قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} قال أبو عبيدة: السلم السبب والمَرْقَى (¬2). وقد مرَّ تفسير السُّلّم (¬3). وقوله: {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} قال أبو عبيدة: معنى {فِيهِ} به وعليه (¬4). وقال المبرد: (فيه) هاهنا بمنزلة (عليه) في الفائدة. والأصل مختلف، فإذا قلت: عليه، فمعناه العلو والارتفاع، وإذا قلت: فيه، فمعناه أنه مكان حواه (¬5). وهذا كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وقد مر. ومعنى الآية: ألهم سلم إلى السماء يستمعون عليه الوحي فقد وثقوا بما هم عليه وردوا ما سواه. قال المفسرون: يقول: ألهم سبب إلى السماء يرتقون عليه فيستمعون الوحي فيدعون أنهم سمعوا من الله ما هم عليه وأنه حق {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} إن دعوا ذلك {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} بحجة واضحة. وقال أبو إسحاق: المعنى ألهم كجبريل الذي يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوحي ويبين عن الله -عز وجل-. ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 288، "التفسير الكبير" 28/ 261. (¬2) انظر: "اللسان" 2/ 190 (سلم). (¬3) عند تفسيره لآية (35) من سورة الأنعام. وقد ذكر معنى الآية ولم يتطرق لمعنى السلم قال الزجاج: والسلم مشتق من السَّلامة وهو الشيء الذي يُسلمك إلى مصعدك. وانظر: "معاني القرآن" 2/ 244. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 233. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 66، "البحر المحيط" 8/ 152.

39

39 - ثم سفه أحلامهم في جعلهم البنات لله فقال: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (¬1)، وهذا كقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] وقوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] الآية. ومعنى الآية الإنكار عليهم، أي: أنتم جاعلون له ما تكرهون وأنتم حكماء عند أنفسكم {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} على ما جئتم به من الدين والشريعة {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ} أي غرم {مُثْقَلُونَ} قال مقاتل: أثقلهم الغرم فلا يستطيعون الإيمان من أجل الغرم (¬2). وكل هذا إنما ذكر قطعًا لحجتهم وبيانًا أن الحجة عليهم من كل وجه. 41 - قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد هل نزل عليهم وحي من السماء فهم يكتبون (¬3)؟ قال: يريد كتبوه وعلموه, وهذا مجمل، وقد فسره مقاتل فقال: أعندهم علم الغيب بأن الله لا يبعثهم، وأن ما يقول محمد -صلى الله عليه وسلم- غير كائن، ومعهم بذلك كتاب فهم يكتبون (¬4). وهذا وهم؛ لأنهم لو علموا الغيب لم (¬5) يوجب ذلك إنكار البعث وأمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن المعنى ما قال قتادة: أن هذا جواب لقولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} يقول الله تعالى: أعندهم الغيب حتى علموا أن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 67. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 129 ب. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 288، "معالم التنزيل" 4/ 242، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 17/ 76. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 129 ب. (¬5) (لم) ساقطة من (ك).

42

محمدًا يموت قبلهم (¬1). وعلى هذا قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} يجوز أن يكون معناه: يكتبون ذلك الذي عندهم من علم الغيب. وقال ابن قتيبة (¬2): معناه: يحكمون. والكتاب بمعنى الحكم قد ورد في كثير من المواضع كقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] أي قضى وأوجب. وكقوله: "سأقضي بينكم بكتاب الله" (¬3) أي بحكمه. 42 - قوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} يعني: أيريدون أن يكيدوك ويمكروا بك مكراً يغتالونك به {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي: المجزيون بكيدهم في الدنيا والآخرة. يريد أن ضرر ذلك يعود عليهم ويحيق بهم مكرهم. وقال الكلبي ومقاتل: يعني بكيدهم ما اجتمعوا ليكيدوا به في دار الندوة، فجزاهم الله بكيدهم أن قتلهم ببدر، فذلك قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (¬4). 43 - {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} هذا إنكار عليهم ما اتخذوه من الآلهة دون الله. يقول: ألهم إله دون الله، يعني: إلهًا يخلق ويرزق ويحيي ويميت. ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 190، "معالم التنزيل" 4/ 242، "القرطبي" 17/ 76. قلت: قول المؤلف رحمه الله: (وهذا وهم) رد لقول مقاتل. وظاهر الآية لا يرده. إذا في قوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ ..} ما يرد كل افتراءاتهم وتكذيبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث لم يستندوا على وحي أو عقل، ويدخل ضمن دلالة الآية دعواهم بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيموت في شبابه كما مات الشعراء من أمثاله النابغة وزهير. والله أعلم. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 242، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 76. (¬3) الحديث رواه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 3/ 241، وفي مواضع أخرى ولفظه: "لأقضين بينكما بكتاب الله"، ومسلم في كتاب الحدود، وأحمد في المسند 4/ 115. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 129 ب، "معالم التنزيل" 4/ 242، "القرطبي" 17/ 76.

44

وهذا معنى قور مقاتل: ألهم إله يمنعهم من مكرنا بهم (¬1). يعني: إن الذين اتخذوهم آلهة ليست بآلهة تدفع وتضر وتنفع. ثم نزه نفسه بقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: عمن يجعلونه شريكًا لله. 44 - ثم ذكر عنادهم وقساوة قلوبهم فقال: قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} قال مقاتل: يعني: جانبًا من السماء يسقط عليهم لعذابهم لقالوا من تكذيبهم: هذا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ بعضه على بعض (¬2). والمعنى: إن عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم، وقالوا هو قطعة من السحاب، وهذا معنى قول ابن عباس (¬3). قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- هؤلاء لا يعتبرون ولا يوقنون ولا يؤمنون بأبهر ما يكون من الآيات (¬4). 45 - ثم أخبر (¬5) نبيه عن إيمانهم فقال: قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} يقول: فخل عنهم، يعني لا تهتم بهم حتى يعاينوا يوم موتهم. وهذا تهديد لهم. ومعنى (يصعقون): يموتون، من قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] وقُرئ {يُصْعَقُونَ} بضم الياء (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 129 ب. (¬2) انظر: المرجع السابق. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 289، "معالم التنزيل" 4/ 242. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 68. (¬5) (ك): (حثب) ولعل الصواب ما أثبته. (¬6) قرأ ابن عامر، وعاصم (يُصعقون) بضم الياء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "حجه القراءات" ص 684، "النشر" 2/ 379 , "الإتحاف" ص 401.

47

قال الفراء: يقال صُعِقَ الرجُلُ وصَعِقَ مثل سُعِد وسَعِد. لغات كلها صواب (¬1). وحكى الأخفش أيضًا صُعق. وعلى هذا يجوز مصعوق. وقال أبو علي: {يُصْعَقُونَ} بضم الياء منقول من صَعِقُوا هم، وأصعقهم الله فيصعقون من باب يُكرمون (¬2). ومنه قول ابن مقبل: ....... أصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُه (¬3) 47 - ثم أعلم الله -عز وجل- أنه يعجل لهم العذاب في الدنيا فقال: قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} يعني كفار مكة {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} قالوا: يعني القتل ببدر (¬4). وقال مجاهد: يعني الجوع والقحط الذي أصابهم (¬5). {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون ما يصيرون إليه، وما هو نازل بهم. ثم أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر. 48 - قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي إلى أن يقع بهم ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 94. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 288. (¬3) انظر: "ديوانه" ص 252، "مجالس ثعلب" ص 128، "الحيوان" 7/ 233، "همع الهوامع" 1/ 83، "الدر اللوامع" 1/ 7، والبيت بتمامه: ترى النُّعَراتِ الخُضْرَ تحت لَبانِه ... فُرادَى ومثنى أصْعَقَتْها صَواهلُهْ والصهل: حدة الموت، ويطلق على صوت الخيل، "اللسان" 2/ 487 (صهل). (¬4) قال ابن عباس، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 129 ب، "معالم التنزيل" 4/ 243. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 626. ورجح ابن جرير، وابن كثير، وغيرهما حمل الآية على العموم، حيث تشمل الذين ظلموا أنفسهم بالكفر إلى يوم القيامة، والعذاب في الدنيا بالجوع وغيره وفي القبر. كل ذلك دون يوم القيامة الذي فيه يصعقون. انظر: "جامع البيان" 27/ 22، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 245.

49

العذاب الذي حكمنا عليهم، فإنا نرى ما تقاسي منهم. وهو قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} قال ابن عباس: يريد أرى وأسمع ما يعمل بك (¬1). وقال أبو إسحاق: أي إنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصلون إلى مكروهك (¬2). وفي هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أكثر المفسرين على أنه أمر أن يقول حين يقوم من مجلسه: سبحان الله وبحمده، وهو قول أبي الأحوص، وسعيد بن جبير، وعطاء (¬3). قال ابن عباس: صلِّ لله حين تقوم من منامك، يعني: صلاة الصبح (¬4). وقال الكلبي: سبِّح الله حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة (¬5). وقال الضحاك: أمران يقول حين يقوم للصلاة: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا (¬6). 49 - قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قال ابن عباس: يريد فصل له كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} (¬7) [الإسراء: 79] وقال ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 191، "معالم التنزيل" 4/ 243. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 191. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 249، "جامع البيان" 27/ 22، "معالم التنزيل" 4/ 243. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 289، "معالم التنزيل" 4/ 243. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 243، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 79. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 79، "فتح القدير" 5/ 103. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 289، "الوسيط" 4/ 191.

مقاتل: يقول فصلِّ المغرب والعشاء (¬1). وقوله: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} يعني الركعتين قبل صلاة الفجر في قول الجميع (¬2). وذلك حين تدبر النجوم. أي تولي فلا تظهر لضوء الصبح. والكلام في هذا ذكرناه في قوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}، وذكر عن الضحاك، وابن زيد أن المراد به صلاة الفجر الفريضة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ، "الوسيط" 4/ 191. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 23، "معالم التنزيل" 4/ 244، "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 80، "الاستذكار" 5/ 431 عن علي وأبي هريرة. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 24، "معالم التنزيل" 4/ 244.

الممكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -114 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة النجم إلى سورة الطلاق تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الحادي والعشرون

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [21]

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري, الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 9 - 878 - 04 - 9960 - 978 (ج 21) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, علي بن أحمد أ- لعنوان ... ب- السلسلة ديوي227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 9 - 878 - 04 - 9960 - 978 (ج 21)

الممكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -114 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة النجم إلى سورة الطلاق تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الحادي والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة النجم

سورة النَّجم

1

تفسير سورة النجم بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} اختلفت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، فقال في رواية الكلبي: أقسم بالقرآن إذا نزل نجوما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع آيات وثلاث آيات، والسورة، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة. ونحو هذا روي عن عطاء (¬1)، وهو قول مقاتل، والضحاك، ومجاهد في رواية الأعمش عنه، واختيار الفراء (¬2). وعلى هذا القول سُمي القرآن نجمًا لتفريقه في النزول، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق نجومًا ومنه نجوم الدين ونجوم الكتابة، ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 295، و"الوسيط" 4/ 192، و"معالم التنزيل" 4/ 244. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 94، و"جامع البيان" 27/ 24. قال الشنقيطي: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري أن المراد بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} هنا في هذه السورة و {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجمًا فنجمًا، وذلك لأمرين: أحدهما: أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- على حق، وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى موافق في المعنى لما أقسم عيه بمواقع النجم، وهو قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}. والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم، وهو أنسب لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}. انظر: "أضواء البيان" 7/ 700 - 701.

وتقول: جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة يؤدي كل نجم في شهر كذا. وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيتًا لحلول ديونها، فيقول إذا طلع النجم وهو الثريا: حل عليك مالي، وكذلك سائرها، ومن هذا قول زهير في ديات جعلت نجومًا على العاقلة (¬1): يُنَجِّمُهَا قَوْمٌ لِقَوْمٍ غَرَامَةً ... ولَمْ يُهريقُوا بَيْنَهُمْ مِلءَ محْجَم (¬2) هذا الذي ذكرنا هو الأصل ثم جعل كل تنجيم تفريقًا وإن لم يكن مؤقتًا بطلوع نجم. ويدل على صحة هذا التأويل الذي ذكرنا في الآية قوله -عز وجل-: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]. قال عبد الله: يعني القرآن. فلما ذكر القسم به هاهنا ذكر أيضًا هناك. وقوله: (هَوَى) معناه على هذا القول: نزل. قال الأصمعي: هَوَى يَهْويِ هَوِيًّا إذا سقط من علو إلى أسفل، وقال أبو زيد: هَوت العقاب تَهْوي هَويًّا بالفتح إذا انقضّت على صيد أو غيره. فهذان ذكرا المصدر بفتح الهاء، ونحو ذلك قال ابن الأعرابي، وفرق بين الهَويّ والهُوي، فقال: بالفتح في السريع إلى أسفل والضم في السريع إلى فوق، وأنشد: والَّدلْوُ في إِصْعادِها عَجْلىَ الهُويّ (¬3) ¬

_ (¬1) العاقلة: قبيلة الرجال، ولا يُحملون من الدية ما لا يطيقونه. "اللسان" 2/ 845 (عقل). (¬2) انظر: "ديوان زهير" ص 17، و"تهذيب اللغة" 11/ 129، و"اللسان" 3/ 589 (نجم)، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 64. والمِحجم: آلة الحجام، والمعنى أنهما لم يريقوا مقدار ما يملأ محجمًا من الدماء. (¬3) لم أجده منسوبًا. وانظر: "الأضداد" لقطرب ص 120، وفيه: (إتراعها) بدل (إصعادها).

بالضم. وقال الليث: العامة تقول: الهُوِيُّ في مصدر هَوَى يَهوْيِ هُويًّا. وأما الهَويُ فالحين من الزمان، يقال: جلست عنده هَويًّا. هذا كلام أهل اللغة (¬1). وبان أن معنى (هَوَى) سقط كسقوط النجم في مغاربه من الأفق، ولما سمي القرآن نجمًا سمي نزوله هويًا ليتجانس اللفظ. وقال في رواية علي بن أبي طلحة، وعطية: يعني والثريا إذا سقطت وغابت وهو قول مجاهد في رواية ابنه، ومنصور، وابن أبي نجيح عنه (¬2). والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة. قال ساجعهم (¬3): طَلَعَ النجْمُ غُدَيَّه ... ابتَغَى الرَّاعي شُكَيَّه (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 488 (هوى)، و"اللسان" 3/ 848 (هوا). (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 627، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 250، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 246. وقال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله مجاهد من أنه عني بالنجم في هذا الموضع الثريا ...) "جامع البيان" 27/ 25. (¬3) (ك): (سابعهم). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 127، ولم ينسبه لقائل، و"شواهد الكشاف" ص 6، و"التفسير الكبير" 28/ 279، و"البحر المحيط" 8/ 157، وفي "ارتشاف الضرب" 1/ 170: طَلَعَ النجم غدية ... وبع لراعي كُسيَّه وفي "الأضداد" لابن الأنباري 62: إذا الثريا طلعت غديه ... فبع لراعي غنم كسيهْ وفيه: إذا الثريا طلعت عشاء ... فبع لراعي غنم كساءَ

وقال أيضًا: طَلَعَ النجْمُ عشيا ... ابتَغَى الراعي شُكَيَّا يعني الثريا. ومنه قول الراعي يصف قدرًا كثيرة الدسم: فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحِيرَةٍ ... سَرِيعٍ بأَيْدِي الآكِلِينَ جُمُوُدُهَا (¬1) يريد: تعد أنجم الثريا. قال ابن دريد: وهي سبعة أنجم ستة منها ظاهرة، وواحد منها خفي، يمتحن الناس به أبصارهم (¬2). وقوله: فباتت تعد النجم، يدل على أن هذا كان في وسط الشتاء حين تحلق الثريا في وسط السماء، وذلك في ليالي الشتاء؛ لأنها لو كانت في أفق لم يكن عدها في القِدْر. وقال في رواية عكرمة: يعني الرجوم من النجوم، وهي ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع (¬3). وهذا القول ظاهر ونحن نشاهد هوي النجم إذا رمى به. وهذا قول الحسن (¬4). وقال أبو حمزة الثمالي: يعني النجوم إذا ¬

_ = وفي "الأضداد" للأصمعي 30: إذا الثريا طلعت عثسيه ... فبع لراعي غنم كسيه (¬1) انظر: "ديوان الراعي" ص 194، و"الحماسة" لأبي تمام 2/ 207، و"مجاز القرآن" 2/ 235، و"اللسان" 3/ 590 (نجم). والمستحيرة: هي المتحيرة في امتلائها، أي في مرقها. "اللسان" 1/ 767 (حير). (¬2) انظر: "اللسان" 3/ 589 (نجم)، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 82. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 192، و"معالم التنزيل" 4/ 244. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 82.

2

انتثرت يوم القيامة (¬1). هذا الذي ذكرنا أقوال المفسرين. وقال أبو عبيدة: النجم بمعنى النجوم. أقسم بالنجم إذا سقط في المغرب، كأنه يخصص الثريا دون غيرها، واحتج ببيت الراعي، وجعل النجم فيه نجوم السماء عامة (¬2). وعلى هذا أقسم بالنجم ليدل على ما فيها من العبرة بتصريف من يملك طلوعها وغيوبها, ولا يملكه إلا الله وحده. وقال الأخفش: النجم هاهنا معناه: النبت الذي ليس له ساق، وهوى سقط على الأرض (¬3)، ومنه قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] وسنذكر الكلام في النجم بمعنى النبت إذا انتهينا إلى هذه الآية إن شاء الله. ثم ذكر جواب القسم فقال: 2 - قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما ضل عن طريق الهدى وما غوى. قال مقاتل: يعني ما تكلم بالباطل (¬4). 3 - {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي وما ينطق محمد بالقرآن من هوى نفسه. قال الكلبي: قالت قريش: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يقول القرآن من تلقاء نفسه، ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 244. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 235، وذكره الشوكاني ونسبه لجماعة المفسرين، ورجحه. "فتح القدير" 5/ 104. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 244، "فتح القدير" 5/ 105، شرحه ثم قال: وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له. فلا يظهر للهوي معنى صحيح. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 245.

4

فنزلت هذه الآيات (¬1). قال أبو إسحاق: أي ما الذي يأتيكم به مما قاله بهواه. 4 - {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} إنْ بمعنى ما (¬2). قال الكلبي ومقاتل: ما القرآن إلا وحي من الله -عز وجل- يأتي به جبريل، فذلك قوله: 5 - {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (¬3) قال ابن عباس والمفسرون: يعني جبريل (¬4) عليه السلام، والقوى جمع قوة 6 - {ذُو مِرَّةٍ}. قال الكلبي: ذو شدة (¬5)، وقال مقاتل: ذو قوة (¬6). ومعنى المِرَّة في اللغة شدة الفتل وشدة أسر الخلق، ومنه الحديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سَوي" (¬7). وأصل المرة من أمررت الحبل أي: شددت قتله، وكل قوة من قوى الحبل مرة، وجمعها مِرر (¬8). وتم الكلام عند قوله: {ذُو مِرَّةٍ} (¬9) وهو من ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 70. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 70. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ، و"الوسيط" 4/ 193. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 291، و"جامع البيان" 27/ 25، و"ابن كثير" 4/ 247. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 291، و"معالم التنزيل" 4/ 245. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ، و"جامع البيان" 27/ 25، عن ابن زيد، ومجاهد، وسفيان. (¬7) حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 164، 192 والترمذي في الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة 3/ 42، وأبو داود في الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغنى 1/ 407، وابن ماجه في الزكاة 1/ 580 (26). (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 196 (مر). (¬9) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 87.

نعت {شَدِيدُ الْقُوَى} (¬1). ثم قال: {فَاسْتَوَى} قال صاحب النظم: {فَاسْتَوَى} لا يحسن انتظامه بما قبله؛ لأن دخول الفاء لو كان متصلاً بما قبله لوجب أن يكون ما قبله للاستواء، وهو متصل بما بعده على تأويل {فَاسْتَوَى} أي جبريل {وَهُوَ} أي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا عطف بقوله {وَهُوَ} على الضمير المرفوع في {اسْتَوَى} من غير تأكيد. قال الفراء: وأكثر كلام العرب إذا نسقوا على المكنى المرفوع أن يؤكدوه (¬2) قبل أن ينسقوا عليه فيقولون: استوى هو وأبوه ولا يكادون يقولون: استوى وأبوه، وربما فعلوا ذلك كقول الشاعر: ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوى والخروع المتقصف (¬3) قال أبو إسحاق: وهذا عند أهل اللغة لا يجوز مثله إِلَّا في الشعر، وإنما المعنى: استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على (¬4) صورته الحقيقية فاستوى لأنه كان يتمثل للنبي -صلى الله عليه وسلم- إذا هبط عليه بالوحي في سورة رجل فأحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق، فالمعنى: فاستوى جبريل في الأفق الأعلى على صورته (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 95. (¬2) في (ك): (يؤكده، فيقول). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 95، و"القطع والائتناف" ص 68، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 85، ولم أجد البيت منسوبًا. (¬4) في (ك): (على) ساقطة. (¬5) انظر: "معانى القرآن" للزجاج 5/ 70.

7

وشرح أبو علي الفارسي هذا الفصل فقال: قوله: 7 - {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} مرتفع {هُوَ} فيه بالابتداء وليس هو وهو، وكان قوله: {بِالْأُفُقِ} ظرفًا لـ (استوى)، وليس كذلك، ولكنه من استوى الذي هو يقتصر فيه على فاعل واحد، كقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقوله: {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} تأويلنا في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، وفيه ضمير للمبتدأ، وقد تبينت أنه لا دلالة لمن احتج بهذه الآية على جواز عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع من غير أن يؤكد، ولكن يجيء في الشعر كقوله: قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وزُهْرٌ تَهادَى ... كَنِعاجِ اْلْمَلا تَعَسَّفنَ رَمْلا (¬1) انتهى كلامه (¬2). وعلى ما قالا: الواو في {وَهُوَ} واو الحال لا العطف، والضمير لجبريل. وقول الفراء كما هو خطأ في العربية، ولم يقله أيضًا أحد من المفسرين الذين يعتمدون فيما أعلم، إنما جعلوا {هُوَ} ضميرًا لجبريل. قال عطاء عن ابن عباس: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل وهو بالأفق الأعلى في صورته له ستمائة جناح، ونحو هذا ذكر الكلبي عنه (¬3). ¬

_ (¬1) البيت لعمر بن أبي ربيعة كما في "ديوانه" ص 177، و"الكتاب" 1/ 390، و"الخصائص" 2/ 2، و"الإنصاف" ص 475. (¬2) لم أجده. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 293، وفي صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة =

وقال مقاتل {وَهُوَ} يعني جبريل {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} يعني من قبل المطلع (¬1). وقال الكلبي: يعني مطلع الشمس (¬2)، وهذا قول الجميع في الأفق الأعلى. يعني: أفوق المشرق (¬3). وذكرنا تفسير الأفق عند قوله: {آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} (¬4). قال المفسرون: إن جبريل كان يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صورة الآدميين فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريه نفسه على صورته التي جعل عليها فأراه نفسه مرتين. مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدًا (¬5) -صلى الله عليه وسلم- كان بحراء (¬6) فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغشيًّا عليه، فنزل جبريل في سورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، ومثل هذا (¬7) قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، وأما في ¬

_ = النجم 6/ 176، عن ابن مسعود بلفظ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ... رأي جبريل له ستمائة جناح. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 291. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق 2/ 250، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 88. (¬4) عند تفسيره لآية (53) من سورة فصلت. حيث قال: واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء أطرافها ونواحيها. (¬5) قوله: (وذلك أن محمدًا) زيادة من "الوسيط" حيث لم تظهر في (ك). (¬6) حراء بالكسر والتخفيف والمد: جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال. انظر: "معجم البلدان" 2/ 233. (¬7) في (ك): (ومثل هذا) لم تظهر ولعل ما أثبته يقيم العبارة.

8

السماء فعند سدرة المنتهى، ويأتي بيانه بعد {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}. هذا, ولم يره أحد من الأنبياء (¬1) على تلك الصورة إلا محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وقوله: {الْأَعْلَى} ليس المراد به الأعلى في السماء، وإنما المراد بالأعلى جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، فهو أعلى منه في صعيد الأرض لا في الهواء. وقد يقال لما استعلى من البلاد آفاق تشبيهًا بآفاق السماء ومنه قول امرئ القيس: فقد طوفتُ بالآفاق حتى ... رضيتُ من الغنيمةِ بالإياب (¬3). ويجوز أن يكون المراد بالأفق الأعلى طرف السماء، ويدل على صحة هذا التفسير الذي ذكرنا وهو أن جبريل كان بالأفق الأعلى دون محمد -صلى الله عليه وسلم-. 8 - {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} التدلي مطاوع التدلية (¬4) يقال: دليت الشيء في مهواه فتدلى، فمعنى التدلي الامتداد إلى جهة السفل، يقال: تدلى العذق تدليًا. هذا هو الأصل، ثم يستعمل في القرب من العلو، وهذا قول الفراء (¬5). وقال صاحب النظم: هذا من التقديم والتأخير؛ لأن المعنى: ثم تدلى فدنا, لأن التدلي سبب الدنو (¬6). ¬

_ (¬1) في (ك): (الأنبياء) مطموسة. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 4 أ - ب، و"الوسيط" 4/ 193، و"معالم التنزيل" 4/ 245، و"زاد المسير" 8/ 65. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 285، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 247، و"تفسير القاسمي" 15/ 5557. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 95. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 286، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 89.

قال ابن الأعرابي: تدلى إذا قرب بعد علو، وتدلى تواضع، ويقال: تدلى فلان علينا من أرض كذا، أي: أتانا، يقال: من أين تدليت علينا. قال أسامة الهذلي (¬1): تَدَلَّى عَلَينا وهْوَ زُرْقٌ جِمَامُهُ ... له طِحْلِبٌ في مُنْتَهَى القَيْضِ هَامِدُ (¬2) وقال لبيد: فَتَدَلَّيْتُ عليه قَافِلًا ... وعلى الأرضِ غَيَايَاتُ الطَّفَل (¬3) أراد أنه نزل من مر بابه وهو على فرسه راكب. ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل (¬4). قال الكلبي: ثم دنا جبريل من محمد فتقرب منه (¬5). وقال الحسن، وقتادة: ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬6). وقال أبو صالح: جبريل الذي دنا فتدلى (¬7). ¬

_ (¬1) أسامة بن الحارث الهذلي، يكنى أبا سهم، كان من بني عمرو بن الحارث، عاش في الجاهلية وصدر الإسلام. انظر: "الشعر والشعراء" 419، الإصابة 1/ 20، و"ديوان الهذليين" 2/ 152، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" ص 14. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 173 (دال)، و"اللسان" 1/ 1009 (دلا)، وروايتهما: زرق حمامةٍ، وكذا ذكرها المؤلف، وفي زيادات "ديوان الهذليين" 3/ 1351: زرقٌ جمامهُ، وهو الصواب. ومعناه الماء الصافي الكثير. (¬3) انظر: "ديوان لبيد" ص 145، غيايات الطفل: هو ظل الشمس بالعشي. "اللسان" 599/ 2 (طفل)، 1/ 1039 (غيا). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 173 (دال)، و"اللسان" 1/ 1008 (دلا). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 292، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 95. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 250، و"الوسيط" 4/ 193، و"معالم التنزيل" 4/ 246. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 193، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 88.

9

قال أبو إسحاق: معنى (دنا فتدلى) واحد, لأن المعنى أنه قرب، وتدلى زاد في القرب كما تقول: قد دنا مني فلان وقرب، ولو قلت: قرب مني ودنا جاز (¬1). قال أبو بكر بن الأنباري: معنى الآية: ثم تدلى جبريل فدنا من محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقدم (دَنَا) على (تدلى) لأن الفعلين المصطحبين اللذين إذا وقع أحدهما موقع الآخر كان تقدم المتقدم كتأخره، كقولك: دنوت فقربت، وقربت فدنوت، لا فرق بينهما، وكذلك ظلمتني فأسأت، بمنزلة: أسأت فظلمتني، ومنه قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]. معناه انشق القمر واقتربت الساعة (¬2). 9 - {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} القاب من القوس ما بين المقبض والسية (¬3). ولكل قوس قابان، والقاب في اللغة أيضًا القَدْر. قال أبو عبيدة: قدر قوسين، ونحو ذلك قال الفراء والزجاج (¬4). وقال ابن السكيت: يقال: قاب قوس وقيب، وقال رمح، وقيد رمح. كله بمعنى القدر (¬5). وهذا هو المعنى بما في الآية لا الأول وهو قول ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 70. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 89، و"فتح القدير" 5/ 106، وهو قول الفراء أيضًا. انظر: "معاني القرآن" 3/ 95. (¬3) سية القوس: ما عطف من طرفيها, ولها سيتان، وقيل: رأسها، وقيل: ما اعوج من رأسها. "اللسان" 2/ 255 (سيا). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 236، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 71، و"اللسان" 3/ 11 (قوب). (¬5) انظر: "إصلاح المنطق" ص 89، ولفظه: قاب قوس وقيب قوس، وقيس رمح وقاس رمح .. ، و"تهذيب اللغة" 9/ 247 (قاد).

المفسرين جميعًا (¬1). قال الكسائي: وهي لغة حجازية، يقال: كان مني قاب قوسين، وقال قوشن، وقيد قوسين (¬2)، وانتصب قاب على خبر كان. قال الزجاج: المعنى كان ما بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدار قوسين (¬3). وقال الكلبي: {قَابَ قَوْسَيْنِ} قدر قوسين من القسط العربية، وهو قول مجاهد، ورواية عكرمة عن ابن عباس، وعطاء قالوا: قدر قوسين (¬4). وقال الكلبي، والحسن، وقتادة: قيد قوسين (¬5). والمراد بالقوس هي التي ترمى منها في قول هؤلاء وخصت بالذكر على عادتهم كما ذكره الكسائي (¬6). وقال عبد الله: قدر ذراع أو ذراعين (¬7). وروى عاصم عن أبي رزين قال: القاب: القيد، والقوس: الذراع. وهذا قول شقيق (¬8) بن سلمة، وسعيد بن جبير، وأبي إسحاق الهمداني قالوا: قدر ذراعين (¬9)، وعلى هذا معنى القوس: ما يقاس به الشيء، أي: ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 27، و"معالم التنزيل" 4/ 246، و"القرطبي" 17/ 89. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 5 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 71. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 292، و"الوسيط" 4/ 194، و"معالم التنزيل" 4/ 246، و"زاد المسير" 8/ 76. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 250، و"جامع البيان" 27/ 27. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 194. (¬7) انظر: "جامع البيان" 27/ 27. (¬8) في (ك): (سفيان) والصواب ما أتبته. (¬9) انظر: "جامع البيان" 27/ 27، و"الوسيط" 4/ 194، "القرطبي" 17/ 90. =

يقدر كالذراع. قال ابن السكيت: قاس الشيء يَقُوسُه قوسًا لغة في قاسه إذا قدرته، يقال قِسْتُه وقُسْتُه (¬1). والقوس مصدر كالقيس، ثم سُمِّي ما يقاس به الشيء قوسًا، وهي لغة أهل الحجاز. وروى الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها في قوله (¬2): {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: ذاك جبريل (¬3)، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع (¬4). وقوله: (أَوْ أَدْنَى) أو أقرب بنصف القوس، وقال مقاتل: بل أقرب من ذلك (¬5). قال أبو إسحاق: خاطب الله تعالى العباد على لغتهم ومقدار فهمهم، والمعنى: أو أدنى فيما تقدرون أنتم كما تقول في الشيء تقدره: هذا قدر رمحين، أو نقص، أو أرجح، والله تعالى عالم بمقادير الأشياء من غير ¬

_ = قال ابن حجر: وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: القاب القدر، والقوسان الذراعان، ويؤيده أنه المراد به القوس التي يرمى بها لم يمثل بذلك ليحتاج إلى التثنية، فكان يقال مثلاً: قاب رمح أو نحو ذلك. "فتح الباري" 8/ 610. (¬1) انظر: "إصلاح المنطق" 137، و"تهذيب اللغة" 9/ 225 (قاس). (¬2) في (ك): (في قوله) ساقطة. (¬3) انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الإيمان، باب قوله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 1/ 159، و"جامع البيان" 27/ 27، و"الوسيط" 4/ 194. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 251، و"ابن كثير" 4/ 249، و"فتح الباري" 8/ 608. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ.

10، 11

شك، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا (¬1)، وقد مر مثل هذا في قوله: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (¬2). ومعنى الآية أن جبريل مع عظمه وكثرة أجزائه حتى سد الأفق بجناحه دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير تلك الصورة حتى قرب منه بعدما رآه على الصورة الأولى، وفي ذلك بيان قدرة الله تعالى. 10، 11 - قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: أوحى جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أوحى الله إليه (¬3). وقال قتادة: يوحي الله إلى جبريل ويوحي جبريل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، هذا قول الحسن، وابن زيد (¬4)، واختيار الفراء، والزجاج، وابن الأنباري (¬5). قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} يقال: كذبني فلان بالتخفيف، أي: قال لي الكذب ولم يصدقني، وهذا فعل يتعدى إلى مفعول واحد، يدل ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 71. (¬2) من آية (147) من سورة الصافات. قال: {أَوْ يَزِيدُونَ} قال أبو عبيدة: أو هاهنا ليست شك، وقالوا هي في موضع الواو .. وهو قول قطرب واختيار ابن قتيبة، ومثله (أَوْ أَدْنَى) {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} وبعضهم يذهب إلى أنها بمعنى (بل)، وبه قال الفراء وهو قول مقاتل والكلبي ... وقال الأخفش: كانوا كذلك عندكم .. وبه قال الزجاج. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 195، و"معالم التنزيل" 4/ 246. (¬4) انظر: "جامع البيان" 28/ 27، و"الكشف والبيان" 12/ 6 أ، و"الوسيط" 4/ 195، و"معالم التنزيل" 4/ 246. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 95، و"معاني القرآن"، للزجاج 5/ 71.

عليه قول الأخطل: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أم رَأيتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلامِ من الرَّبابِ خَيَالاَ (¬1) أي أرتك ما لا حقيقة له، كما أنك إذا قلت كذبتني عيني، معناه: رأت ما لا حقيقة له، ومعنى الآية: كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة. قال المفسرون: هذا إخبار عن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج. قال ابن عباس في رواية عطاء: رأى ربه بقلبه (¬2). وقال في رواية باذان: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} يعني فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما رأى محمد ربه بفؤاده ولم يره بعينه (¬3). وقال في رواية عكرمة: رآه بقلبه (¬4). وقال في رواية أبي العالية: رآه بفؤاده (¬5)، ونحو هذا روي عن أبي ذر (¬6)، وإبراهيم التيمي. وعلى هذا القول: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه بفؤادهِ رؤية ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الأخطل" 1/ 105، و"الكتاب" 3/ 174، و"الخزانة" 6/ 9، و"مغني اللبيب" ص 45، و"المقتضب" 3/ 295. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قول الله -عز وجل- {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 1/ 158، بلفظ (رآه بقلبه). قال ابن حجر: وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضًا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعينه، إنما رآه بقلبه. "فتح الباري" 8/ 608. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 292، و"الدر" 6/ 125، وزاد نسبة تخريجه لابن جرير وعبد بن حميد. (¬4) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة النجم، 5/ 369، وقال: هذا حديث حسن، وابن جرير في "جامعه" 27/ 28، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 251. (¬5) انظر: صحيح مسلم، كتاب الإيمان, باب {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 1/ 158 ولفظه: (رآه بفؤاده مرتين)، و"مسند الإمام أحمد" 2/ 223، و"الطبري" 27/ 29. (¬6) رواه ابن خزيمة بلفظ: (رآه بقلبه ولم يره بعينه)، و"فتح الباري" 8/ 608.

صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرًا حتى رأى به رؤية غير كاذبة كما يرى بالعين (¬1). ومذهب جماعة من المفسرين أنه رآه بعينه، وهو قول أنس (¬2)، وعكرمة، والحسن، وكان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه (¬3)، ونحو ذلك قال الربيع (¬4). وروى عكرمة أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5). وروى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدًا رأى ربه مرتين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح النووي على مسلم" 3/ 6، و"معالم التنزيل" 4/ 246، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 92. (¬2) رواه ابن خزيمة بلفظ: (رأى محمدٌ ربه)، و"فتح الباري" 8/ 608. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 253. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 7 - 6، و"فتح الباري" 8/ 608، وزاد نسبة هذا القول لعروة بن الزبير وكعب الأحبار، والزهري، ومعمر، والأشعري، وغالب أتباعه، وسائر أصحاب ابن عباس، والإمام أحمد. (¬5) أخرجه الحاكم في "مستدركه"، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم 2/ 469 وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. وانظر: "فتح الباري" 8/ 606. (¬6) أخرجه الترمذي في كتاب "التفسير" 5/ 368، من كلام كعب، حيث قال: فقال كعب: وإن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين. وابن جرير في "تفسيره" 27/ 31، وذكر عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 252 قول ابن عباس تم قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال .. وذكر كلام كعب.

وكل هؤلاء أثبتوا رؤية صحيحة إما بالعين والبصر، وإما بالفؤاد على ما بينا (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن كثير رحمه الله: ومن روى عنه -أي: عن ابن عباس- بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم، وقول البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس، والحسن، وعكرمة، فيه نظر والله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 250. قلت: وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن البغوي هو كلام الواحدي، وإنما نقله البغوي عنه. والخلاف في هذه المسألة مشهور، وبقول كلِّ قال أناس من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والنصوص الواردة في هذا الباب لا تؤيد وجهة أحدهما, ولهذا نقل القاضي عياض عن بعض مشايخه التوقف ورجحه القرطبي. انظر: "فتح القدير" 8/ 608، و"روح المعاني" 27/ 53. وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس "أنه رآه" مناقضًا لهذا, ولا قوله (رآه بفؤاده) وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى) ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح. وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين) وعائشة أنكرت الرؤيقى فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد ... والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد تارة .. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد .. لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين. "مجموع الفتاوى" 6/ 507، 509. قلت: وبهذا الكلام النفيس يتبين اتفاق الصحابة -رضوان الله عليهم- على أنه لم يره بعينه، والله أعلم. وانظر: "زاد المعاد" 3/ 37، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 250 - 251، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 222 - 26، و"تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" 2/ 835 - 841.

قال المبرد: ومعنى الآية أنه رأى شيئًا فصدق فيه (¬1). وقال أبو الهيثم: أي لم يكذب الفؤاد رؤيته و (مَا رَأَى) بمعنى الرؤية. يقال: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم (¬2) ير، بل صدقه الفؤاد رؤيته (¬3)، وعلي هذا (مَا رَأَى) مصدر في موضمع النصب؛ لأنه مفعول كذب. وقرأ ابن عامر (مَا كَذَّبَ) بالتشديد (¬4)، قال المبرد: ومعناه أنه رأى شيئًا بقلبه. قال: وفي هذه القراءة بعد؛ لأنه إذا رأى بقلبه فقد علمه أيضًا بقلبه، وإذا وقع العلم فلا تكذيب معه, لأن القلب يكذب ويصدق فإذا كان الشيء في القلب معلومًا فكيف يكون معه تكذيب، وهذا على ما قال المبرد إذا جعلت الرؤية للفؤاد، فإن جعلتها للعين زال هذا الإشكال وصح هذا المعنى، فيقال: ما كذب فؤاده ما رآه ببصره (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 289. (¬2) في (ك): (أي لم) والصواب ما أثبته. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 170، و"اللسان" 3/ 233 (كذب). (¬4) قرأ أبو جعفر، وابن عامر في رواية هشام: (ما كَذَب) مشددة، وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكران وبقية العشرة (ما كَذَبَ) مخففة. انظر: "حجة القراءات" ص 65، و"النشر" 2/ 39، و"الإتحاف" ص 402. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 195، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 264، قال ابن جرير في معنى قراءة التشديد: إن الفؤاد لم يكذب الذي رأى، ولكنه جعله حقًّا وصدقًا، وقد يحتمل أن يكون معناه إذا قرئ كذلك ما كذب صاحب الفؤاد ما رأى .. لذا هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ بالتخفيف لإجماع الحجة من القراء عليه، والأخرى غير مدفوعة صحتها لصحة معناها. "جامع البيان" 27/ 29. قلت: وإذا أمكن توجيه القراءة وحملها على وجه صحيح فلا مجال لردها، كيف وقد صحت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندها فلا قبول لقول أحد بعد صحتها عن أفصح العرب -صلى الله عليه وسلم- مهما بلغت درجته ومنزلته ونسأل الله له المغفرة.

12

وأنكرت عائشة رضي الله عنها رؤية محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج، وكانت تخالف ابن عباس في مذهبه وتذهب بهذه الرؤية إلى رؤية جبريل (¬1). وظاهر الآية مع ابن عباس، وقد قال معمر: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس (¬2). ثم هذا الاختلاف من أدل دليل على أن البارئ جائز الرؤية؛ لأن ما لا تجوز رؤيته لا يختلف في رؤيته، وعائشة أنكرت الرؤية في الدنيا وقبل الموت، واحتجت بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (¬3) [الأنعام: 103] الآية. 12 - قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} قال الكلبي وغيره من المفسرين: لما نزل {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} الآيات، أتى عتبة بن أبي لهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، فنزلت هذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" كتاب التفسير 5/ 368، عن مسروق، عن عائشة، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 249، وبهذا قال ابن مسعود وأبو ذر، وأبو هريرة. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 252. (¬3) قلت: تقدم الكلام على هذه المسألة. وفي قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وفي الأخبار الصحيحة المشهورة ما يثبت وقوعها للمؤمنين في الآخرة، وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي. وقال الإمام مالك: إنما لم يُرَ سبحانه في الدنيا, لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارًا باقية رأوا الباقي بالباقي. انظر: "فتح الباري" 8/ 607 - 608. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 83، و"تخريجات الكشاف" 160، وقال: أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" .. ورواه البيهقي في الدلائل، والطبراني من طريق سعيد. عن قتادة مطولًا نحوه، ورواه الحاكم في "الدلائل" أيضًا، وقال البيهقي: هكذا قال عباس بن الفضل الأزرق، وليس بالقوى، وأهل المغازى يقولونه عتبة أو عتيبة. وانظر: "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 339.

وقرئ (أَفَتُمَارُونَهُ) (¬1) قال عامة المفسرين وأهل التأويل (¬2) (أَفَتُمَارُونَهُ) أفتجادلونه و (أفتمارونه) أفتجحدونه, تقول العرب: مريت الرجل حقه إذا جحدته. قال الشاعر: لئن هجرت أخا صِدقٍ ومَكْرُمَةٍ ... لقد مَرَيْتَ أخًا ما كان يَمْرِيكا (¬3) قال المبرد: (أفتمرونه) أي أتدفعونه عما يرى، قال: و (على) في موضح عن (¬4)، و (أَفَتُمَارُونَهُ) أي: أتدفعونه وتمارونه، كأنه أغلب في هذا الموضع للإنكار عليه، أي: تجادلونه فيما رأى وعلم، وأما الجحود منهم فقد كان ذلك عامًا فيما يأتيهم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والجدال في هذا الموضع كأنه أغلب، والمعنيان يتقاربان؛ لأن مجادلتهم جحود فيجتمع فيه الجحود والمجادلة، وقد كانت من المشركين مجادلة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أسري به قالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس (¬5)، وأخبِرنا عن عيرنا التي في ¬

_ (¬1) قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب (أَفَتَمْرُونَهُ) مفتوحة التاء بغير ألف. وقرأ الباقون: (أَفَتُمَارُونَهُ) بألف. انظر: "حجة القراءات" 685، و"النشر" 2/ 379، و"الإتحاف" 402. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 96، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 72، و"جامع البيان" 27/ 29، و"الوسيط" 4/ 197. (¬3) ورد البيت غير منسوب في "الكشاف" 4/ 38، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 93، و"البحر المحيط" 8/ 159، و"تخريجات الكشاف" 4/ 87. ومعناه: لئن ذممت أخا صدق ومكرمة، فقد غلبته في الجدال وأنفدت ما عنده أو جحدت حقه كأنك أخذت منه أو تسببت في إخراجه ما عنده فيذمك كما ذمته. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 283 (مرى). (¬5) بيت المقدس. يطلق على الأرض المباركة وعلى الطور الذي كلم الله موسى عليه. والمراد به عند الإطلاق المسجد الأقصى. انظر: "معجم البلدان" 5/ 193.

طريق الشام (¬1)، وغير ذلك مما جادلوه به (¬2). واختار أبو عبيد (أفتمرونه) قال: وذلك أن المشركين إنما كان شأنهم الجحود لما كان يأتيهم من الوحي، فهذا أكثر من المماراة (¬3). قال أبو علي: من قال: (أَفَتُمَارُونَهُ) فمعناه: أفتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما هو (¬4) عليه وشاهده الوحي، ويقوي هذا الوجه قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، ومن قال: (أفتمرونه) كان المعنى: أفتجحدونه، والمجادلة كأنه أشبه في هذا؛ لأن الجحود كان منهم في هذا وفي غيره، وقد جادله المشركون في الإسراء به فكان مما قالوا: صف لنا عيرنا في طريق الشام ونحو ذلك (¬5). وقد صح المعنيان عند (¬6) المبرد، وأبي علي، على (¬7) أن الوجه قراءة ¬

_ (¬1) الشام: سميت بذلك لأن قومًا من كنعان بن حام خرجوا عند التفريق فتشاءموا بها إليها. وقيل غير ذلك طولها من الفرات إلى العريش نحو شهر، وعرضها نحو عشرين يومًا. انظر: "معجم البلدان" 3/ 353. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 197، و"معالم التنزيل" 4/ 247، و"القرطبي" 17/ 93. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 93، و"فتح القدير" 5/ 106. قال النحاس: غير أن أبا حاتم حُكي أنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. قال وفي هذا طعن علي جماعة من القراء تقوم بقراءتهم الحجة ... والقول في هذا أنهما قراءتان مستفيضتان قد قرأ بهما الجماعة، غير أن الأولى من ذكرنا من الصحابة، فاما أن يقال لم يماروه فعظيم؛ لأن الله جل وعز قد أخبر أنهم قد جادلوا، والجدال هو المراءَ ولا سيما في هذه القصة .. "إعراب القرآن" 3/ 265. (¬4) (هو) ساقطة. (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 230. (¬6) (عند) ساقطة من (ك) وبها يستقيم الكلام. (¬7) (على) ساقطة من (ك) وبها يستقيم الكلام.

13

العامة لا ما اختاره أبو عبيد، وذلك أن الجحود كان عامًا منهم في كل ما يأتي به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والجدال كان في هذا خاصًا على ما ذكرا (¬1). وأيضًا فإنه لا مجادل إلا وهو جاحد، وقد يجحد الشيء من لا يجادل فيه، فالجدال إذًا أعم. 13 - معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أكثر العلماء على أن اههنى أشبه رأى جبريل في صورته مرتين على ما ذكرنا (¬2). وقال ابن عباس: رأى ربه على ما ذكرنا في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}. وعلى هذا معنى قوله: (نَزْلَةً أُخْرَى) يعود إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد روي أنه كانت له عرجات في تلك الليلة لما استحط ربه من أعداد الصلوات المفروضة، فيكون لكل عرجة نزلة، فيحتمل أنه رأى ربه -عز وجل- في بعض تلك النزلات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 197، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 93. (¬2) وفي "صحيح مسلم" أن عائشة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقال: إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض. كتاب: الإيمان, باب {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 1/ 159. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 247، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 94. قال ابن حجر: وأبدى بعض الشيوخ حكمة لاختيار موسى تكرير ترداد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لما كان موسى قد سأل الرؤية فمنع وعرف أنها حصلت لمحمد -صلى الله عليه وسلم- قصد بتكرير رجوعه تكرير رؤيته ليرى من رأى. قال الشيخ ابن باز في تعليقه على هذه الحكمة: "ليست بشيء، والتحقيق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه .. " فتح الباري 1/ 463.

14

(وهو) أي محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. 14 - {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَ}، والسدر في اللغة: ضرب من شجر النبق (¬1). قال عطاء عن ابن عباس: وإنما سميت سدرة المنتهى؛ لأن علم الملائكة ينتهي إليها (¬2). ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين تدلى إليه الرفرف (¬3). وقال الكلبي، ومقاتل: هي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة إنتهى إليها علم كل ملك (¬4). ¬

_ (¬1) في (ك): (البر). والنَّبِق: بتشديد النون وكسر الباء ثمر السدر. "اللسان" 3/ 570 (نبق). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 13/ 150 عن ابن عباس قال: سألت كعبًا ... ، وانظر: "تنوير المقباس" 5/ 293، و"جامع البيان" 27/ 31 عن كعب، و"الكشف والبيان" 12/ 8 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 95 عن كعب أيضًا. (¬3) لم أجد من قال بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاوز سدرة المنتهى، وقد نقله النووي عن الواحدي في شرحه على مسلم 2/ 214، ونسبه لابن عباس والمفسرين، والذي في الصحيح: (ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك). والرفرف هو المذكور في الصحيح حيث قال: (رأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق). يوضحه ما أخرجه النسائي، والحاكم، عن ابن مسعود قال: (أبصر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل -عليه السلام- على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض). انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء 1/ 9، وكتاب التفسير، باب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 6/ 176، و"فتح الباري" 8/ 611، و"المستدرك" 2/ 469. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ - ب، و"تنوير المقباس" 5/ 293.

وقال عبد الله: سميت سدرة المنتهى؛ لأنه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى لا يعدوها (¬1). وقال أبو هريرة: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى السدرة فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد من أمتك على سنتك وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء إلى قوله: {عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] وهي شجرة يسير الراكب في ظلمها مائة عام لا يقطعها والورقة منها مغطية للأمة كلها (¬2). وقال عبد الله: هي شجرة عليها فضول السندس والإستبرق (¬3). وروى قتادة عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما عرج بي إلى السماء السابعة رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة وإذا نبقها مثل قلال (¬4) هجر (¬5) وورقها مثل أذن الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل: ما هذا؟ قال: أما النهران الباطنان ففي الجنة -قال مقاتل: هما السلسبيل والكوثر (¬6) - وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 31، و"الكشف والبيان" 12/ 8 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 248. (¬2) أخرجه ابن جرير والثعلبي. انظر: "جامع البيان" 27/ 32، و"الكشف والبيان" 12/ 8 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 95، 96. (¬3) أخرجه ابن جرير والفريابي، وابن أبي شيبة، والطبراني. انظر: "جامع البيان" 27/ 32، و"الدر" 6/ 125. (¬4) القلال: جمع قلة، والقلة الحب العظيم، وقيل: الجرة العظيمة، وقيل: الكور المغير. انظر: النهاية 3/ 275. (¬5) هَجَر: قرية قريبة من المدينة وليست هجر البحرين، وكانت تعمل بها القلال. "النهاية" 3/ 275، و"معجم البلدان" 5/ 452. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 130ب. (¬7) لم أجده.

15

وروى عكرمة عن ابن عباس قال: سألت كعبًا: ما سدرة المنتهى؟ قال: سدرة ينتهي إليها علم الملائكة وعندها يجدون أمر الله لا يجاوزها علمهم (¬1). فهذا ما ذكره المفسرون ورووه في سدرة المنتهى (¬2). ومعنى المنتهى موضع الانتهاء، وهذه الشجرة هناك وعندها تنتهي الملاكة والنبيون، فلذلك أضيفت السدرة إلى المنتهى. 15 - قوله تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} قال عطاء عن ابن عباس: يريد الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة (¬3). وقال مقاتل، والكلبي: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء (¬4). وروى عكرمة عن ابن عباس عن كعب قال: جنة المأوى فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء. وهذا قول أكثر المفسرين (¬5). وقالت عائشة رضي الله عنها هي جنة من الجنان (¬6)، وهو قول زر بن حبيش. 16 - قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} إذ متعلق بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} واختلفوا في الذي كان يغشى السدرة في ذلك الوقت فروي ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 31، و"معالم التنزيل" 4/ 248، و"القرطبي" 17/ 95. (¬2) المنتهى: بمعنى الانتهاء -على اختيار ابن جرير- فكأنه قيل عند سدرة الانتهاء، وجوز العموم في كل ما روي عن المفسرين في هذا المعنى حيث لم يرد خبر يقطع العذر بأنه قيل ذلك لها لبعض ذلك دون بعض فلا قول فيه أصح من القول الذي قال ربنا جل جلاله، وهو أنها سدرة المنتهى. "جامع البيان" 27/ 31. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 198، و"معالم التنزيل" 4/ 248. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 130 أ، "المصنف" لابن أبي شيبة 13/ 150، و"الحلية" 5/ 381، و"تنوير المقباس" 5/ 293. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 253، و"جامع البيان" 27/ 33، و"معالم التنزيل" 4/ 248. (¬6) لم أجده.

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل ما غشيها؟ قال: "فراش من ذهب" (¬1) وهو قول عبد الله، وسعيد بنُ جبير، ورواية عكرمة عن ابن عباس (¬2). وروى الضحاك عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيتها حتى استثبتها ثم حال دونها فراش من ذهب" (¬3) وهو قول مسروق وأبي العالية (¬4). وقال مقاتل: غشيتها الملائكة (¬5)، وروي عن الحسن: غشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن علي الشجر (¬6). وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا قائمًا يسبح الله -عز وجل-" (¬7). ¬

_ (¬1) قلت: الذي عند الترمذي في كتاب التفسير 5/ 367 (3276) قال ابن مسعود: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: السدرة في السماء السادسة، قال سفيان: فراش من ذهب ..) الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. وتقدم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (وغشيها ألوان لا أدري ما هي.). والأقوال المروية عن الأئمة إن صحت نسبتها إليهم في تفسير الآية اجتهادات منهم، ربما لم يبلغهم الحديث الصحيح، والله تعالى أعلم. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 33، و"الكشف والبيان" 12/ 9 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 248، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 252. (¬3) أخرجه ابن جرير، انظر: "جامع البيان" 27/ 33. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 33، و"معالم التنزيل" 4/ 248. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 48، و"القرطبي" 17/ 96، ولم أجده في "تفسير مقاتل". (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 198، وذكر غيره من المفسرين هذا القول منسوبًا للربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة. وذكروا قول الحسن بلفظ: (غشيها نور رب العالمين فاستنارت). انظر: "الكشف والبيان" 9/ 12 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 248، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 96، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 252. (¬7) قال ابن حجر: أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: قيل يا رسولى الله: أي شيء رأيت يغشى تلك الشجرة، فذكره وأتم منه. وعبد الرحمن ضعيف، وهذا معضل. "تخريجات الكشاف" 4/ 335، وأخرجه الثعلبي بلفظ: =

17

وقال إبراهيم، ومجاهد: رفرف أخضر (¬1). وقال السدي: غشيها طيور من فوقها (¬2). وروي مرفوعًا: "غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد ينظر إليها" (¬3). 17 - قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال عطاء عن ابن عباس: يريد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى أعطاه من القوة ما قوي به على النظر إلى الآيات (¬4). فعلى هذا القول معنى الآية ما ملَّ بصره من رؤية الآيات خوفًا وجزعًا. وروى مسلم عن ابن عباس: ما زاغ البصر يمينًا ولا شمالًا ولا جاوز ما أمر به (¬5). ونحو ذلك روى الكلبي، وهو قول مجاهد، والمفسرين، قال الكلبي: ما قلب بصره يمينًا ولا شمالاً، وما جاوز ما رأى (¬6). وعلى هذا معنى الآية وصف أدب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبًا ولم يمد بصره إلى غير ما أري من الآيات واستقبله من ¬

_ = ويروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. بدون سند. "الكشف والبيان" 12/ 9 ب. وانظر: "جامع البيان" 27/ 33، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 252. (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 97، و"فتح القدير" 5/ 107. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 248. (¬3) لعل مراد المؤلف رحمه الله ما ورد في الصحيح وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها .. " "صحيح مسلم"، كتاب: الإيمان" باب: الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. 1/ 146. (¬4) لم أقف عليه (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 34، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 97، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 469 عن مجاهد عن ابن عباس وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وزاد الذهبي وعلى شرط مسلم أيضًا. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 293، و"الوسيط" 4/ 198، و"معالم التزيل" 4/ 249، و"تفسر القرآن العظيم" 4/ 252.

18

العجائب، فمعنى زيغ البصر: التفاته من الجانبين وطغيانه أنه يمد بصره أمامه إلى حيث ينتهي يقول: لم يفعل ذلك. 18 - قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} يجوز أن تكون الكبرى من صفة الآيات وحدت لتوافق الفواصل، ويجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى الواحدة، كقوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] وهذا معنى قول عطاء، والكلبي (¬1)، يعني الآيات العظام التي رآها تلك الليلة، وقال مقاقل: يعني ما رأى تلك الليلة (¬2). ويدل على صحة التأويل قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسر اء: 1]. ويجوز أن تكون {الْكُبْرَى} نعت محذوف على تقدير: لقد رأى من آيات ربه الكبرى (¬3). واختلفوا في تلك الآية فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: رأى جبريل قد طبق الأفق في صورته التي خلق فيها له ستمائة جناح (¬4)، وهذا قول ابن زيد، وابن حيان، ومحمد بن كعب، قالوا: جبريل من آيات ربه الكبرى (¬5). قال عبد الله: رأى رفرفًا أخضر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 294، و"التفسير الكبير" 28/ 295، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 98. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 130 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 249. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 99. ولعل في العبارة سقط واستقامتها: لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى. والله أعلم. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 198، و"فتح القدير" 5/ 107. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 34، و"الكشف والبيان" 12/ 10 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 98. (¬6) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 6/ 176، و"جامع البيان" 27/ 34، و"معالم التنزيل" 4/ 249، وروى النسائي =

19

وقال الضحاك: هي سدرة المنتهى (¬1). 19 - قال أبو إسحاق: لما قص الله هذه الأقاصيص قال للمشركين: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} كأن المعنى والله أعلم: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء (¬2). ومعنى: {أَفَرَأَيْتُمُ} على ما ذكر السؤال والاستفتاء كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} وقد مر (¬3). وتنتظم الآية بما قبلها على المعنى الذي ذكره. قال صاحب النظم: معنى الآية أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونهن أأوحَين شيئًا إليكم كما أوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4)؟ والتقديران اللذان ذكراهما ¬

_ = والحاكم عن ابن مسعود قال: (أبصر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل -عليه السلام- على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض). قال ابن حجر: فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل، والصفة التي كان عليها. "فتح الباري" 8/ 611، و"المستدرك" 2/ 469. قلت: وبهذا تجتمع الأقوال في أن المراد بالآيات "الكبرى" هو جبريل -عليه السلام-، حين رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض. وانظر: "سنن الترمذي" 5/ 370، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 10 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 98، و"فتح القدير" 5/ 107. قلت: لعل ما ذكر عن السلف في تفسير هذه الآية هو من باب ذكر بعض ما رآه -صلى الله عليه وسلم-. قال القرطبي: وقيل: هو ما رأى تلك اليلة في مسراه في عوده وبدئه، وهو أحسن، دليله {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} "الجامع" 17/ 98. ونحوه ذكر ابن كثير في "تفسيره" 4/ 252 وحمل الآية على عموم ما رآه أولى. قال ابن جرير: لقد رأى محمد هنالك من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى."جامع البيان" 27/ 34. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 72. (¬3) من آية (50) من سورة يونس. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 99.

يستدل عليهما بفحوى الكلام، وقد قال أبو إسحاق أيضًا: أفرأيتم هذه الإناث أَلله هي وأنتم تختارون الذكران وذلك قوله: ألكم الذكر وله الأنثى (¬1)، وهذا الوجه أجود الثلاثة وسنزيده وضوحًا عند قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} إن شاء الله. قال أبو علي الفارسي: أرأيتم هنا بمنزلة أخبروني لتعدي أرأيت إلى المفعول ووقوع الاستفهام في موضع المفعول الثاني, والمعنى: أرأيتم جعلكم اللات والعزى بنات الله، ألكم الذكر؟ وجاز الحذف لأن هذا قد تكرر في القرآن كقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57] {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] فكان الحذف بمنزلة الإثبات، ألا ترى أن سيبويه جعل كُلاًّ في قوله: ونارٍ توقَّدُ بالليلِ نَارا (¬2) بمنزلة المذكور في اللفظ للعلم به وإن كان محذوفًا وقد دل قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} على المحذوف، وادعوا هذا في هذه الآلهة كما ادعوه في الملائكة (¬3). فأما اللات فروى عطاء عن ابن عباس قال: هي صنم (¬4). قال قتادة: هي بالطائف (¬5)، قال الكلبي: هي صخرة كانت بالطائف ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 72، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 268. (¬2) البيت لأبي دواد الإيادي، وهو جارية بن الحجاج. انظر: "ديوانه" 353، و"الكتاب" 1/ 66، و"الكامل" 1/ 287، و"الإنصاف" 743، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 21، و"الأصمعيات" 191. وصدره: أكل امرئ تحسبين أمرأً (¬3) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 78 - 79، و"الكتاب" 1/ 66. (¬4) لم أقف على هذه الرواية، والجمبع على أن اللات اسم لصنم. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 253، "الكشف والبيان" 12/ 10 أ.

لثقيف (¬1) يعبدونها (¬2). وقال ابن زيد: اللات بيت بنخلة (¬3) كانت قريش تعبده (¬4). وقال أبو عبيدة: هي صنم في جوف الكعبة لقريش (¬5). واختلفوا في اشتقاق اللات، فأكثر المفسرين (¬6) ذكروا أنه بتشديد التاء من اللَّت، وهو خلط السويق بالسمن ودلكه به. روى أبو الجوزاء، عن ابن عباس قال: اللات رجل كان يلت السويق للمشركين فمات فعكفوا على قبره فعبدوه (¬7)، ونحو ذلك روى ¬

_ (¬1) ثقيف: بطن من هوازن من العدنانية، اشتهروا باسم أبيهم فيقال لهم ثقيف، وكانت منازلهم بالطائف على مرحلتين من مكة. انظر: "نهاية الأرب" ص 186. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 10 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 249، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 100. (¬3) نخلة: موضع بين مكة والطائف. قال البكري: على ليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة. انظر: "معجم البلدان" 1/ 449، و"فتح الباري" 8/ 674. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 35. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 236، ولفظه (أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها). قال ابن حجر: (وكانت اللات بالطائف، وقيل بنخلة، وقيل بعكاظ، والأول أصح). "فتح الباري " 8/ 612. (¬6) ومنهم ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، وأبو صالح، والكلبي. انظر: "جامع البيان" 27/ 35، و"معالم التنزيل" 4/ 249، و"الجامع" للقرطبي 17/ 100. (¬7) "صحيح البخاري"، كتاب التفسير، باب {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 6/ 176 ولفظه: (كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج). قال ابن حجر: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء =

السدي، وذكر أنه كان بالطائف (¬1). وزاد الكلبي بيانًا فقال: كان رجل من ثقيف يقال له صِرمة بن غنم كان يسلأ (¬2) السمن فيضعه على صخرة ثم تأتيه العرب فيلت به أسوقتهم فلما مات الرجل حولت ثقيف تلك الصخرة إلى منازلها فعبدتها (¬3). ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس، ومجاهد، وأبي صالح: (الَّلاتَّ) بتشديد التاء (¬4). ووجه قراءة العامة على هذا الاشتقاق ما ذكره الفراء قال: القراءة بالتخفيف، والأصل بالتشديد؛ لأن الصنم إنما سمي باسم اللاَّتِ الذي كان يلت السويق عنده، وجعل اسمًا للصنم، وعلى هذا الوقف على اللات يكون بالتاء (¬5) وهو اختيار أبي إسحاق، قال: لاتباع المصحف فإنها كتبت ¬

_ = عن ابن عباس، ولفظه فيه زيادة (كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه) "فتح الباري" 8/ 612. (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 294، و"الكشف والبيان" 12/ 10 أ. (¬2) قال الأصمعي: سَلأتُ السَّمْنَ أسْلأُه سَلأً. قال: والسِّلاء الاسم وهو السَّمن. "تهذيب اللغة" 13/ 70 (سلأ). (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 10 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 249، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 100. (¬4) قرأ رويس (الَّلاتَّ) بتشديد التاء وبمدٍ للساكنين، وهي قراءة ابن عباس، ومجاهد، ومنصور ابن المعتمر، وطلحة، وأبي الجوزاء. والقراءة المتواترة (اللَّاتَ) بالتخفيف. انظر: "النشر" 2/ 379، و"الإتحاف" 403، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 100، و"البحر المحيط" 8/ 160. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 97، و"تهذيب اللغة" 14/ 253 (لت)، و"اللسان" 3/ 340 (لتت).

بالتاء (¬1). وقال جماعة من المفسرين: اللات من الله، وكان المشركون يسمون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العزَّى (¬2)، وهو اختيار الأزهري قال: كأن المشركين الذين عبدوها عارضوا باسمها اسم الله تعالى علوًا كبيرًا عن إفكهم ومعارضتهم والحادهم في اسمه العظيم، ويدل على صحة هذا التأويل أن الكسائي كان يختار الوقف عليها بالهاء، وهذا يدل على أنه لم يجعلها من اللَّت (¬3). قال أبو علي الفارسي: اشتقاق اللات من لويت على الشيء، أي: أقمت عليه، ولذلك أنهم كانوا يلوون على آلهتهم وبعكفون عليها عبادة لها وتقرئا إليها, ولذلك تواصوا فيما بينهم فيما أخبر الله به عنهم في قوله: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] فاشتق اسمها من هذا المعنى الذي كانوا يعتقدون فيها ويتدينون به لها، فهو على هذا مثل شاه وذات، والتاء للتأنيث في قول من خفف، ومعنى التأنيث فيها تأنيث اللفظ، إذ التأنيث الحقيقي لا يصح فيهاة لأنها جماد، والدليل على صحة هذا أن سيبويه قال في النسبة إليها لاي (¬4)، فحذف التاء، فدل على أنها للتأنيث، وذلك أن تاء التأنيث تحذف في النسبة، ولما حذف التاء شبه بقلة التصرف الحروف فزاد على الحرف حرفًا مثله كما فعل ذلك بـ (ذا) إذا سُمي به رجل فقال: ذآء، فلما ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 73. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 34، و"الوسيط" 4/ 199، و"معالم التنزيل" 4/ 249. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 253 (لت). (¬4) انظر: "الكتاب" 1/ 371.

زيدت همزة على (ذا) لما سمي به كذلك زيدت هاهنا همزة، وكذلك يفعلون بـ (ما) و (لا) عند التسمية بهما، والوقف على هذا بالهاء كما اختاره الكسائي. وقول أبي إسحاق الأجود الوقف بالتاء لاتباع المصحف. فيجوز أن تكون كتبت فيه بالتاء على الوصل دون الوقف كما كتب {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] ونحوه بغير الواو، فلما كتب هذا ونحوه على الوصل كذلك يجوز أن يكون كتب في المصحف على الوصل، انتهى كلامه (¬1). وأما الألف واللام في اللَّات والعزّى فذهب أبو الحسن (¬2) إلى أن اللام فيهما زائدة. والذي يدل على صحة مذهبه أن اللّات والعزَّى (¬3) علمان بمنزلة يغوث (¬4) ويعوق (¬5) ونسر (¬6) ومناة (¬7) وغير ذلك من أسماء الأصنام. فهذه كلها أعلام وغير محتاجة في تعريفها (¬8) إلى اللام، وليست من باب الحارث والعباس من الأوصاف التي نقلت فصارت أعلامًا وأقرت فيها لام ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 158. (¬3) (والعزى) ساقطة من (ب). (¬4) يغوث: صنم كان لمذحج. وهو اسم صنم كانن لقوم نوح كما هو في سورة نوح. (¬5) يعوق: اسم صنم لكنانة. وقيل: كان لقوم نوح. (¬6) نسر: صنم كان لذي الكلاع بأرض حمير. وهذه الأصنام ذكرها الله تعالى في سورة نوح فهي بلا شك لقومه. وأخذ المشركون منها أسماء آلهتهم. (¬7) مناة: صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة. (¬8) في (ك): (تعرفها).

التعريف على ضرب من توهم روائح الصفة فيها فيحمل على ذلك، فوجب أن تكون اللام فيها زائدة كما ذكرنا في الذي وبابه، وهذا الذي ذكرنا كلام أبي الفتح الموصلي (¬1). وأما العُزّى قال عطاء: هي صنم (¬2)، وقال مجاهد، والكلبي: هي سمرة من الشجر كانت بنخلة لغطفان (¬3) يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد فقطعها ويقول: يا عز كفرانك لا سبحانكِ ... إني رأيت الله قد أهانكِ فخرجت منها شيطانة تجر شعرها واضعة يديها على رأسها تدعو بالويل فضربها خالد بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره فقال: "تلك العزى ولن تعبد أبدًا" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 359، و"الكتاب" 1/ 267. (¬2) انظر: "فتح القدير" 5/ 108، و"روح المعاني" 27/ 55، ولم ينسباه لقائل. وقيل العزى: شجرة قديمة قدسها العرب في بلدة نخلة الثامية إلى الشمال من مكة، وكانت قريش وبعض قبائل الحجاز مثل غني، وباهلة تعظمها. انظر: "أطلس تاريخ الإسلام". وقال ابن كثير: كانت بيتًا بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، و"البداية والنهاية" 4/ 316. (¬3) غطفان: بطن عظيم متسع، كثير الشعوب والأفخاذ، من قيس عيلان من العدنانية، كانت لهم منازل بنجد مما يلي وادي القرى، وجبل طىء. انظر: "معجم البلدان" 3/ 888. (¬4) اقتصر البيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 77 على قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تلك العزى". وفي "الطبقات" 2/ 146 بلفظ: "نعم تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدًا"، وكذا الواقدي في "المغازي" 3/ 874.

20

وقال قتادة: كاذت العزى لقريش (¬1)، وهو قول الحسن واختيار أبي عبيدة قالوا: هذه أصنام من حجارة كانت قريش توجه إليها العبادة (¬2). وقال الضحاك: هي صنم من حجر لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني (¬3). وأما تفسير العزى فإنها تأنيث الأعز مثل الكبرى والأكبر، والأعز يكون بمعنى العزيز والعزى بمعنى العزيزة (¬4). 20 - قوله تعالى: {وَمَنَاةَ} قال عطاء عن ابن عباس: أصنام المشركين (¬5). يعني هذه وما ذكر قبلها، وهو اختيار أبي عبيدة على ما ذكرنا. وقال قتادة: وكاذت مناة للأنصار (¬6)، وقال الضحاك والكلبي: مناة صنم كانت لهذيل وخزاعة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 253، و"الدر" 6/ 127. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 236، و"روح المعاني" 27/ 55. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 10 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 249. (¬4) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 361 - 363. (¬5) لم أقف على هذه الرواية. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 250. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 253، و"فتح الباري" 8/ 613. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء، 3/ 98، و"الكشف والبيان" 12/ 11 ب، و"الوسيط" 4/ 199، و"معالم التنزيل" 4/ 250. وهذيل: ابن مدركة بطن من مدركة بن إلياس، من العدنانية، كانت ديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف، ثم تفرقوا بعد الإسلام. انظر: "معجم قبائل العرب" 3/ 1213. =

21

ولم يذكروا لمناة اشتقاقًا (¬1). وكان ابن كثير يقرؤها بالمد والهمز (¬2). قال أبو علي الفارسي: لعل (مناءة) بالمد لغة ولم أسمع بها من أحد من رواة اللغة، وقد سمّوا زيد مناة، وعبد مناة ولم أسمع بالمد، قال جرير: أزيدَ مناةَ توعِدُ يَابْنَ تيم ... تَبَيَّنْ أَيْنَ تَاهَ بكَ الوَعيدُ (¬3) {الثَّالِثَةَ} نعت لمناة؛ يعني الثالثة للصنمين اللذين ذكرهما، وهذه ثالثتهما في الذكر، و {الْأُخْرَى} نعت لمناة أيضًا. 21 - قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} مذهب جماعة من المفسرين أن هذه الآية وما بعدها معترضة بين قصة الأصنام، فإن هذه لا تعلق لها بما قبلها (¬4)، ومعناها الإنكار عليهم حيث جعلوا الملائكة بنات الله. قال عطاء عن ابن عباس: وذلك أن المشركين قالوا: الملائكة بنات ¬

_ = وخزاعة: قبيلة من الأزد من القحطانية، وكانوا بأنحاء مكة في مر الظهران وما يليه من جبالهم الأبواء، وهو جبل شامخ مرتفع ليس عليه شيء من النبات. "معجم قبائل العرب" 1/ 238. (¬1) وفي "الصحاح" .. من قولك منوت الشيء. "اللسان" 3/ 541 (مني). وقال النحاس: من مَنَى الله -عز وجل- عليه الشيء: أي قدَّره. "إعراب القرآن" 3/ 26. وقيل: من مني يمني: صب؛ لصب دماء النحائر عندها. "الإتحاف" ص 403. وانظر: "الكشاف" 4/ 39، و"محاسن التأويل" 15/ 5571. (¬2) قرأ ابن كثير (ومَنَاءَةَ) بهمزة مفتوحة بعد الألف فيمد مدًا متصلاً. وقرأ الباقون "مناة" انظر: "حجة القراءات" ص 685، و"النشر" 2/ 379، و"الإتحاف" ص 403. (¬3) انظر: "ديوان جرير" 1/ 332، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 232، "البحر المحيط" 8/ 161، و"المُحرر" 15/ 267. (¬4) قال النحاس: يجوز أن يكون مقدمًا ما ينوي به التآخير. "إعراب القرآن" 3/ 268.

22

الله، وجعلوا لأنفسهم البنين كما قال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] وهذا مذهب السدي ومقاتل (¬1). قال الكلبي: قال مشركو مكة: الأصنام والملائكة بنات الله فنحلوه البنات، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك، فقال الله تعالى منكرًا عليه {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} يعني البنين، {وَلَهُ الْأُنثَى} يعني ما نحلوه من الأصنام -وهي إناث في أسمائها- والملائكة (¬2)، وهذا اختيار الزجاج والفراء وابن قتيبة (¬3). 22 - قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}. القراء على ترك الهمز من (ضِيزَى)، وقرأ ابن كثير (ضِئزى) بالهمز (¬4). قال ابن السكيت: يقال: ضِزْتُه حَقَّه أي نقصته. وقال أبو زيد: (ضِيزى) جائرة، يقال: ضاز يضيز ضيزًا، قال: وضأز، يضأز مثله. وأنشد أبو زيد فقال: إن تَنْأَ عنَّا نَنتَقِصْك، وإن تُقِم ... فحظُّك مَضْؤزُ وأنفُكَ راغِمُ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 295، و"تفسير مقاتل" 130 ب. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 199، و"معالم التنزيل" 4/ 250. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 98، و"تفسير غريب القرآن" 428، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 72 - 73. (¬4) قراْ ابن كثير (ضئْزَىَ) بهمزة ساكنة، وقرأ الباقون (ضيزى) بياء مكان الهمزة. انظر: "حجة القراءات" ص 685، و"النشر" 2/ 379، و"الإتحاف" ص 403. (¬5) البيت للقطامي كما في "جامع البيان" 27/ 36، و"المذكر والمؤنث" ص 175، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 102، و"تهذيب اللغة" 12/ 53، (ضاز)، و"اللسان" 2/ 503 (ضأز).

وقال أبو الهيثم: ضِزْتُ فلانًا أضيزه ضيزا: جُرت عليه. وقال ابن الأعرابي: تقول العرب: قسمةٌ ضُؤْزَى بالضم والهمز وضُوزى بلا همزٍ وضِيئِزَى بالكسر والهمز (¬1). قال الفراء: ضيزى فعلى وإن رأيت أولها مكسورًا وهي مثل بيض وعين، كان أولها مضمومًا فكرهوا أن يترك على ضمته فيقال: بوضٌ وعونٌ، والواحدة بيضاء وعيناء فكسروا أولها ليكون بالياء ويتألف الجمع والاثنان والواحد، كذلك كرهوا أن يقولوا ضُوزى فتصيرُ بالواو وهي من الياء وإنما قضيت على أولها بالضم لأن النعوت للمؤنث تأتي إما بفتح أو بضم نحو سَكْرى وعطشى وحُبْلى، والمكسور يكون اسما ولا يكون نعتًا كالذكرى والدِّفْلى (¬2) والشِّعْرَى، انتهى كلامه (¬3). وقال أبو إسحاق: أجمع النحويون أن أجل ضيزى ضوزى فنقلت من فُعْلَى إلى فِعْلَى لتسلم الياء كما قالوا أبيض وبيضٌ، وأصله بُيْضُ فنقلت الضمة إلى الكسرة، وإنما لم يقل النحويون إنها على أصلها لأنهم لم يعرفوا الكلام فُعْلَى صفةً، ونظير ضيزى في الكلام قولهم: مِشْيِةً حيكى، وهي مشية يحيك فيها صاحبها. فحِيكى عندهم فُعْلَى أيضًا (¬4). وشرح أبو علي الفارسي هذا الفصل فقال: قولهم قسمة ضيزى ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 53 (نضم). (¬2) في (ك): (الدفري) والصواب ما أثبته. والدِّفْلىَ: شجر مر أخضر حسن المنظر يكون في الأودية. "اللسان" 1/ 994 (دفل). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 98 - 99، و"اللسان" 2/ 559 (ضيز). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 73، و"المذكر والمؤنث" ص 175. ومشية حيكىَ إذا كان فيها تبختر. "اللسان" 1/ 771 (حيك).

ومشية حِيكَى فإن النحويين يحملوه على أنه في الأصل فُعْلَى وإن كان اللفظ علي فِعْلَى كما أن البيوت والعِصيَّ في الأصل فعولٌ وإن كانت الفاء مكسورة وإنما حملوها على أنها فُعْلى دون ما عليه اللفظ؛ لأنهم لم يجدوا في الصفات شيئًا على فُعلى وكان القياس أن يقال ضوزى وأن لا يُحْفَل بانقلاب الياء إلى الواو وكأنهم آثروا الكسرة والياء على الضمة والواو من حيث كانت الكسرة والياء أخف عليهم، ولم يخافوا التباسًا حيث لم يكن في الصفة شيء على فِعْلى فإن قلت: كيف قالوا: إن فِعلى لا تكون في أبنية الصفات وقد قال أحمد بن يحيى: رجل كِيصى إذا يأكل وحده، وقد كاص طعامه إذا أكله وحده؟ قيل إن سيبويه قال: لم تجئ فِعْلَى صفة (¬1). والذي حكاه أحمد بن يحيى (¬2) بالتنوين فليس هو ما قاله سيبويه ولا يمتنع أن يجيء الألف آخرًا للإلحاق بِهجرَع (¬3) ونحوه، وأما قراءة ابن كثير فلا ينبغي أن يكون أراد بضيزى فُعْلى, لأنه لو أراد ذلك لكان ضوزى ولم يرد به أيضًا فِعلى صفة؛ لأن هذا البناء لم يجيء صفة ولكن ينبغي أن يكون أراد به المصدر مثل: الذِّكرَى فكأنه قال: قسمة ذات ظلم، فعلى هذا يكون وجه قراءته (¬4). وأما التفسير فقال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وقتادة: ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 2/ 371. (¬2) انظر: "مجالس ثعلب" 2/ 323 - 324، و"تهذيب اللغة" 10/ 309، و"اللسان" 3/ 20 (كأص). (¬3) الهِجْرَعَ: من صنف الكلاب السلوقية الخفاف، والهِجْرَعَ، الطويل الممشوق. "اللسان" 3/ 774 (هجرع). (¬4) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 234، و"التكملة" لأبي علي ص 317 - 318.

23

ضيزى جائرة (¬1). وقال مجاهد، ومقاتل: عوجاء (¬2). وقال الحسن: غير معتدلة (¬3)، وقال الضحاك: ناقصة (¬4)، وقال سفيان: منقوصة (¬5). والمعنى: تلك القسمة التي قسمتم من نسبة البنات إلى الله وإيثاركم بالبنين قسمة غير عادلة. 23 - قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ} أخبر الله تعالى أن هذه الأصنام سموها بهذه الأسامي لا معاني تحتها, لأنه لا ضر عندها ولا نفع فهي تسميات ألقيت على جمادات. قوله: {إِنْ هِيَ} يعني اللات والعُزّى ومناة. يقول: ما هي إلا أسماء، أي أنها لا تنبئ عن معنى {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} تسمية باطلة لم يقم بها حجة، وهو قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، ويجوز أن يكون المعنى: ما أنزل الله بعبادتها من سلطان، قال مقاتل: لم ينزل بذلك كتابًا لكم فيه حجة بما تقولون إنها آلهة (¬6). ثم رجع عن الخطاب إلى الخبر فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} يقول: ما لهم من علم أنها آلهة إلا ظنًا يتبعون في عبادتها الظن وهوى النفس، ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 295، و"جامع البيان" 27/ 36، و"البغوي" 4/ 250. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 631، و"تفسير مقاتل" 130 ب. (¬3) انظر: الكشف والبيان" 12/ 11 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 250. (¬4) (ك): (ناقة) ولعل الصواب ما أثبته، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: جائزة. "الدر" 6/ 127، و"الكشف والبيان" 12/ 11 ب. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 36، و"روح المعاني" 27/ 57. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 130 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 251.

24

وهو ما زين لهم الشيطان {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} أي البيان والرشاد بالكتاب والرسول. وهذا تعجيب من حالهم حيث لم يتركوا عبادتها مع وضوح البيان. ثم أنكر على الكفار تمنيتهم شفاعة الأصنام فقال: 24 - {أَمْ لِلْإِنْسَانِ} يعني الكافر (مَا تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام (¬1). 25 - {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} أي لا يملك فيهما ولا منهما أحد شيئًا إلا بإذنه؛ لأنهما (¬2) له. وفي هذا إبطال ما يتمنى الكافر. ثم أكد هذا بقوله تعالى: 26 - {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} جمع الكناية لأن المراد بقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَك} الكثرة، وذلك أن كم يخبر بها عن العدد الكثير فدل {كَمْ} على أنه أراد جمعًا، قاله الفراء، والزجاج (¬3). قوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} في الشفاعة {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} يعني أنهم لا يشفعون إلا لمن يرضي الله من أهل التوحيد. ¬

_ (¬1) ذكر بعض المفسرين هذا القول ومنهم من فسر التمني بما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم، وقيل غير ذلك. قال الألوسي: ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي، والمعنى: لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكًا له مختصًا به يتصرف فيه حسب إرادته، ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصًا بهم كما قيل. "روح المعاني" 27/ 58. وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 254، و"البحر المحيط" 8/ 163. (¬2) في (ك): (كأنهما) والصواب ما أثبته. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 99، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 73 - 74.

27

قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه (¬1)، وهذا كقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. قال أبو علي: قوله: {لِمَن يشَآءُ} المعنى: لمن يشاء شفاعته على إضافة المصدر إلى المفعول به الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف فصار اللفظ لمن شاءه، أي: يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء من الصلة (¬2). ثم ذم الله تعالى صنيع الكفار. 27 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} قال ابن عباس: لا يصدقون بالثواب والعقاب (¬3). {لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} حين زعموا أنهم بنات الله، والأنثى تسمى بنتًا فإذا وصفوا الملائكة بالبنات فقد سموها تسمية الإناث، وتسمية الأنثى من باب إضافة المصدر إلى المفعول. 28 - {وَمَا لَهُمْ بِهِ} ذلك التسمية: {مِنْ عِلْمٍ} قال مقاتل: ما يستيقنون بأنها إناث (¬4). {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} قال ابن عباس: يريد ظنًا ليس بيقين (¬5). {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} قال عطاء: يريد لا ينتفعون به (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 200، و"معالم التنزيل" 4/ 251. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 28/ 307. (¬3) وفي "تنوير المقباس" 5/ 297، قال: (بالبعث بعد الموت، يعني كفار مكة) والمعنى متقارب. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 131 أ. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 297. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 37، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 255، وهو المعتمد عندهما ولم ينسباه لقائل.

29

والمعنى لا يقوم مقام الحق ولا يغني من العلم فمعنى الحق هاهنا العلم. وهذا يدل على أن الظان غير عالم، وأن من بني على الظن لم يبن علي أساس (¬1). وقال الكلبي: أي لا يدفع من عذاب الله شيئًا، وهو اختيار الفراء (¬2). والحق على هذا القول معناه العذاب. ثم أمره بالإعراض عنهم: 29 - قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} قال ابن عباس: يريد القرآن (¬3)، وهذا مما نسخته آية القتال (¬4). ثم صغر رأيهم وأزرى بهم. 30 - فقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنها تشفع لهم فاعتمدوا ذلك وأعرضوا عن القرآن. هذا معنى قول مقاتل (¬5). ¬

_ (¬1) قال الشوكاني رحمه الله: وهذا من الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم، وهي المسائل العلمية، لا فيما يكتفى فيه بالظن، وهي المسائل العلمية ... فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ونحو ذلك ظنية، فالعمل بها عمل بالظن، وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور ... "فتح القدير" 5/ 112. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 297، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 100. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 297، و"معالم التنزيل" 4/ 251، و"القرطبي" 17/ 105. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 201، و"نواسخ القرآن" 233. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 131 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 251. ومعنى الآية على ما ذكر ابن كثير ورجحه الشوكاني، والآلوسي: أن التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 255، و"فتح القدير" 5/ 112، و"روح المعاني" 27/ 60.

31

وقال أبو إسحاق: أي إنما يعملون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة وراء ظهورهم (¬1)، وهذا معنى قول الكلبي، وذكر الفراء القولين (¬2). ثم عزّى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي أنه عالم بهم فهو يجازيهم بما يستحقون {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}، قال ابن عباس: يريد قبل أن يخلق الخلائق (¬3). والمعنى أنه أعلم بالفريقين لأنه علمهما قبل خلقهما فلا يذهب عليه جزاؤهما. ثم أكد هذا المعنى بقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قال صاحب النظم: هذا فصل معترض. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} متعلق بمعنى الآية وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية. والمعنى أنه أعلم بهم فإذا كان أعلم بهم جازى كلاًّ بما يستحقه. واللام في قوله: {لِيَجْزِيَ} لام العاقبة (¬4)، وهو أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم. 31 - وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إخبار عن قدرته وسعة ملكه؛ وهذا فيما يؤكد الجزاء, لأنه إنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك واسع المقدرة، ثم أن هذه المعاني، وهي ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 74. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 297، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 100. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 105.

32

علمه وقدرته وسعة ملكه إلى جزاء المطيع بطاعته والمسيء بإساءته، فذلك قلنا إن اللام في {لِيَجْزِيَ} لام العاقبة، هذا معنى ما ذكره صاحب النظم (¬1). قال ابن عباس، ومقاتل: ليجزي في الآخرة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} قالوا لا إله إلا الله (بِالْحُسْنَى) بالجنة (¬2). ثم نعت المحسنين. 32 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} وقد تقدم الكلام في تفسير الكبائر في سورة النساء (¬3). قال مقاتل: كبائر الإثم، يعني: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش يعني: كل ذنب فيه الحد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 5 - 6. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 298، و"تفسير مقاتل" 131 أ. (¬3) عند تفسيره لآية (31) من سورة النساء. ومما قال: اختلفوا في الكبائر ما هي ... قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كل شئ عصي الله فيه فهو كبيرة .. وقال في رواية علي بن أبي طلحة: هي كل ذنب ختمه الله -عز وجل- بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير والضحاك. والصحيح أنه ليس لها حد يعرفه العباد وتتميز به الصغائر يتميز إشارة ولو عرف ذلك لكانت الصغائر مباحة ولكن الله تعالى يعلم ذلك وأخفاه عن العباد ليجتهد كل أحد في اجتناب ما نهى عنه رجاء أن يكون مجتنب الكبائر. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 131 أ. وفي "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 525 قال: واختلف العلماء في الكبائر على أقوال .. وقيل إنها ما يترتب عليها حد، أو تُوعِّد بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال. قال الألوسي: والفواحش ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام. وقيل: الفواحش والكبائر مترادفان. "ررح المعاني" 27/ 61. وانظر: "تهذيب اللغة" 4/ 188، و"اللسان" 2/ 1056 (فحش).

وقرأ حمزة والكسائي: (كبير الإثم) (¬1). وفعيل قد جاء يعني به الكثرة كما أن فعولا كذلك في قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92]، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. ومن فعيل الذي أريدَ به الكثرة قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]، وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]، وقول الشاعر (¬2): وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ ...... البيت (¬3) فمن حيث كان لفظ الإفراد والمراد به الكثرة في هذا الموضع كذلك أفرد فعيل في قوله: (كبير الإثم) وإن كان المراد به الكبائر. ويحسن الإفراد من وجه آخر، وهو أن المصدر المضاف فعيل إليه واحد في معنى الكثرة، ألا ترى أنه (¬4) ليس يراد به إثم بعينه، إنما يراد به ¬

_ (¬1) قرأ حمزة، والكسائي، وخلف (كبير) بكسر الباء من غير الألف ولا همزة على التوحيد. وقرأ الباقون (كَبَائِرَ) بفتح الباء والف وهمزة مكسورة بعدها. انظر: "حجة القراءات" ص 686، و"النشر" 2/ 367، و"الإتحاف" ص 403. (¬2) الشاعر هو السموأل بن غريض بن عادياء اليهودي، وهو صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء. انظر: مقدمة "ديوانه" ص 67، و"الأعلام" 3/ 140، و"الأصمعيات" ص 82، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" ص 156. (¬3) والبيت ورد في "ديوانه" 90، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 80، و"شرح حماسة المرزوقي" 1/ 112، و"الحجة" 6/ 235 والبيت بتمامه: وما ضرنا أنا قليلٌ، وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ، وَجَارُ الأَكْثَرينَ ذَلِيلُ (¬4) (أنه) زيادة من "الحجة".

الآثام، فكذلك يكون المراد بالمضاف الكثرة، وإذا كان كذلك فالإفراد فيه يفيد ما يفيد الجمع. فإن قيل: فهلا أُفْردا في النساء كما أفردا في هذه السورة؟ قيل: إذا أتيا به على قياس ما جاء في التنزيل في غير هذا الموضع لم يكن لقائل مقال، ألا ترى أنه قد جاء {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] وقال: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُو} [الكهف: 50]، فأفرد، وجمع في قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت: 19]، و {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة: 2] فلم صنع من إفراد ذلك جمعه في المواضع التي جمع فيها (¬1)، كذلك الإفراد هاهنا لا يمنع الجمع في سورة النساء، وأما من جمع فقال: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} فلأنه في المعنى جمعٌ، والإثم يراد به الكثرة إلا أنه أفرد كما تفرد المصادر وغيرها من الأسماء التي يراد بها الكثرة والأجناس (¬2). قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} اختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أن اللمم صغار الذنوب، مثل النظرة والغمزة والقبلة. قال عطاء، عن ابن عباس: إلا ما كان دون الزنا (¬3). وقال الكلبي عنه: اللمم النظرة عن غير تعمد، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب (¬4). ¬

_ (¬1) (فيها) ساقطة من (ك). (¬2) من قوله: "وفعيل قد جاء يعني به الكثرة .. " إلى هنا من كلام أبي علي. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 235 - 237. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 201، و "معالم التنزيل" 4/ 252. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 100، و"تهذيب اللغة" 15/ 348، و"الكشف والبيان" 12/ 14 ب، و"معالم النزيل" 4/ 253، عن الحسين بن الفضل.

وعن نافع بن جبير بن مطعم: هو ما دون الوقاع، وهذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، ومسروق، والشعبي، وطاووس، قالوا: ما دون الزنا (¬1). واحتجوا بما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (¬2). فإن تقدم فرجه كان زانٍ وإلا فهو اللمم. وقال ابن الزبير، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ومقاتل: هو ما بين الحدين، حد الدنيا، وعذاب الآخرة، وكل ذنب ليس فيه حد في الدنيا ولم يتوعد عليه بعذاب في الآخرة فهو اللمم، وهي رواية العوفي، والحكم عن ابن عباس، وهؤلاء قالوا: اللمم تكفره الصلوات وهو مغفور لمن اجتنب الكبائر (¬3). القول الثاني في اللمم: أنه الذنب يلم به الرجل ثم يتوب، روى عمرو بن دينار عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ} قال: يلم ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 17/ 39، و"الكشف والبيان" 12/ 13 أ، و"الوسيط" 4/ 201، و"معالم التنزيل" 4/ 252، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 255. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج 4/ 67، ومسلم في كتاب القدر، باب: قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره 4/ 2046، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 253، والإمام أحمد في "المسند" 2/ 317. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 131 أ، و"جامع البيان" 27/ 40، و"الكشف والبيان" 12/ 13 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 252.

بالذنب مرة ثم يتوب منه ولا يعود (¬1). قال: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنْ تَغْفِر اللَّهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأَيُّ عَبْدٍ لك لا أَلَمَّا" (¬2) وقال الحسن: هو الرجل يلم المرة ثم ينزع (¬3). وروى السدي عن أبي صالح، قال: سألني رجل عن اللمم، فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم (¬4) لا يعاود، قال: فحدثت بذلك ابن عباس قال: لقد أعانك عليها ملك كريم (¬5)، وهذا قول مجاهد والسدي (¬6). ومعنى اللمم على هذا القول ما تيب منه وإن عظم وكبر، وأصل معنى ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 40، و"الكشف والبيان" 12/ 12 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 107. (¬2) رواه ابن جرير في "جامعه" 27/ 39، والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب (ومن سورة النجم) 5/ 370، وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. وقال ابن كثير في "تفسيره" 4/ 256، وكذا قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا من هذا الوجه، وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة المزمل، وفي صحته مرفوعًا نظر. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 115، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وقال القرطبي: قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادًا. "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 107. والبيت لأمية بن أبي الصلت، كما في "تهذيب اللغة" 15/ 347، و"اللسان" 3/ 397 (لمم)، و"الخزانة" 2/ 295، و"المقتضب" 4/ 242، و"الأغاني" 3/ 183، وليس في "ديوانه". (¬3) انظر: "حامع البيان" 27/ 39، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 256. (¬4) في (ك): (اللمم الخطيئة ثم) ولا معنى لها هنا. (¬5) أخرجه عبد بن حميد. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 252، و"الدر" 6/ 118. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 631، و "الوسيط" 4/ 202.

القولين في اللغة واحد. وقال المبرد: يقال: أَلَمَّ فلان بكذا إذا قاربه ولم يخالطه (¬1)، وأَلَمَّ به إذا لم يمعن فيه ولكن نال منه حظًا، وهما من أجل واحدة لأنه يقال ذلك لمن لم يستحوذ على الشيء. فعلى ما ذكر اللمم ما قارب به من الكبيرة كالنظر والقبلة واللمس، واللمم ما ألم به مرة من زنا وشرب خمر، ثم لم يمعن فيه وتاب منه والعرب تقول: ألممت بفلان إلمامًا، وما يزورنا إلا لمامًا. قال جرير: بنفسي من تجنبه عزيزٌ ... عليَّ ومن زيارته لمام (¬2) قال أبو عبيدة: معناه الأحيان على غير مواظبة ولا وقت معلوم، قال الأزهري: والعرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو، يقال: ألَمَّ بفعل كذا، في معنى كاد يفعل، قال أبو زيد: كان ذلك منذ شهرين أو لمامهما، ومنذ شهر أو لممه، أي قراب شهر، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يُلِمَّ" (¬3) قال أبو عبيدة: معناه أو يقرب إليه. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح القدير" 5/ 113. (¬2) "ديوانه" ص 512، و"القطع والائتناف" ص 691، و"البحر المحيط" 8/ 155. (¬3) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل النفقة في سبيل الله 4/ 32، وكتاب: الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والمتنافس فيها 8/ 113، ولفظه: " .. وإن كل ما أثبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمُّ" وفي لفظ: " .. وإنه كلُّ .. " ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا 2/ 727، وأحمد في "المسند" 3/ 7، 21. والحبط أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها, ولا يخرج عنها ما فيها.

وقال أبو زيد: في أرض بني فلان من الشجر المُلِمّ كذا وكذا، وهو الذي قارب أن يَحْمل. وقال المبرد: فلان ميت أو ملم، أي قد قارب الموت، ونخل مُلِمُّ قد قارب الإطعام وأنشد: وزَيْدٌ مَيّتٌ كَمَدَ الحُبَارَى ... إِذَا بَانَتْ لَطِيفَةُ أَو مُلِمُّ (¬1) قال: يعني أو مدانٍ للموت، واللمة من الشعر التي ألمت أن تبلغ أذن، أي قاربت (¬2). وقوله: أَلْمِم، معناه اجعل لنا من زيارتك أدنى حظ، ومنه قول الشاعر: أَلْمِمْ بِسَلُّومَةَ أَلْمِمْ ألْمِمِ ... خَلونَهَا مِن الخَليلِ والحَمِي (¬3) وأمَّا الاستثناء في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ} على القولين جميعًا استثناء خارج. قال أبو عبيدة: لم يؤذن لهم في اللمم وليس اللمم من الفواحش ولا من كبائر الإثم، وقد يستثنى الشيء من الشيء وليس منه، والتقدير: إلا أن يلم ملم بشيء من الفواحش (¬4)، فهذا على القول الأول. وقال المبرد: لم يبحهم اللمم، ومعناه استثناء ليس من الأول، ¬

_ (¬1) ورد في "الجمهرة" لابن دريد 1/ 121، و"مقاييس اللغة" 2/ 128، و"الحيوان" 5/ 455. وهو لأبي الأسود الدؤلي. (¬2) لم أقف على كلام المبرد. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 237.

وتفسيره: لكن إن ألموا تابوا كما قال: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20]. فابتغاء وجه ربه من نعمة لأحد. والمعنى، ولكنه يبتغي، قال: وقال ابن أحمر-وأراد أن يخدع من يخاطبه- فقال: قد قلتُ في بعضِ مَا أَقولُ لَهَا ... قَولةَ نَزْرِ الكَلامِ مُحْتَشِمِ قَد حَرَّمَ اللهُ كلَّ فَاحشةٍ ... ورَخَّصَ اللهُ منكِ في اللَّمَمِ قال: وإنما قال ذلك بخلاعته لا لأنه لم يعرف أن اللمم لم يرخص فيه، الدليل على ذلك أنه قال: فأنكرت ذاك وهي صالحةٌ ... مِنْ نِسوةٍ لا يَجُدْنَ بالتُّهَمِ انتهى كلامه (¬1). وقال قوم: اللَّمَمُ على القول الثاني من جنس الفواحش والاستثناء وقع من الجنس، ومعنى الآية: إلا أن يلم بالفاحشة ثم يتوب، ويقع الوقعة ثم ينتهي، واسم اللممِ يدل على التوبة والانتهاء, لأنه إنما يسمى لمما إذا لم يمعن فيه، والصحيح هو الأول؛ لأن هذا يؤدي إلى إباحة اللمم (¬2). وذكر في الآية قولان آخران: ¬

_ (¬1) لم أقف على كلام المبرد هذا. ولا على أبيات ابن أحمر. (¬2) قال ابن جرير: (وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إلا بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجه معنى الكلام: إلا الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا والعذاب في الآخرة ...) "جامع البيان" 27/ 41. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 271، و"فتح القدير" 5/ 113، ونسبه للجمهور.

أحدهما: أن اللمم ما سلف في الجاهلية من الذنوب، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين، إنما كنتم بالأمس تعملون معنا ما نعمل، فأنزل اقه هذه الآية، وهو (¬1) قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، ورواية عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: {إِلَّا اللَّمَمَ} إلا ما قد سلف في الجاهلية (¬2)، واللمم على هذا القول ما ألموا به من الذنوب والفواحش في الجاهلية. القول الثاني: هو قول عبد الله بن عمرو قال: اللمم ما دون الشرك (¬3)، وعلى هذا القول: الكبائر والفواحش موجبات الشرك. والناس على القولين الأولين، واختار أبو إسحاق الثاني منهما، قال: اللمم هو أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية ولم يصر ولم يُقم على ذلك، والإلمام في اللغة يوجب أنك تأتي الشيء في الوقت ولا تقيم عليه. فهذا معنى اللمم في هذا الموضع (¬4) يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} قال ابن عباس: لمن فعل ذلك وتاب (¬5)، وتم الكلام هاهنا (¬6). ثم قال قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) (ك): (على) والصواب ما أثبته. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 38، و"الكشف والبيان" 12/ 12 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 252. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 40، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 108. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 75. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 298، و"معالم التنزيل" 4/ 253. (¬6) انظر: "القطع والائتناف" ص 692 قال: والتمام عند يعقوب وجماعة معه بعد قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}، و"المكتفى في الوقف والابتداء" ص 543.

هو أعلم بكم قبل أن يخلقكم: {إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} قال: يريد ما كان من خلق آدم ميت تراب (¬1). قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أجنة جمع جنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينًا لأنه مستور، ومنه سمي المدفون جنينًا لأنه مستور بالتراب، قال عمرو: وَلاَ شَمْطَاءُ لم يترك شقَاها ... لَهَا من تسعةٍ إلا جَنينا (¬2) أي إلا دفينًا في قبره. قال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة (¬3)، وقال الفراء: هو أعلم أولاً وآخرًا (¬4). {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} قال الكلبي، ومقاتل: كان ناس يقولون: صلينا وصمنا وفعلنا وفعلنا، فأنزل الله {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (¬5)، قال الفراء: لا يقولن أحدكم عملت كذا وفعلت كذا (¬6)، فعلى هذا معناه النهي عن الاعتداد بالأعمال. وقال آخرون: معناه لا تبرؤوها ولا تمدحوها، يدل على هذا ما روى أن زينب بنت أبي سلمة (¬7) قالت: سميت برة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزكوا ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 252، و"معالم التنزيل" 4/ 253. (¬2) ورد في "ديوانه" 367، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 98. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 253، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 110. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 100. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 131 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 14 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 253. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 100. (¬7) زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومة، ربيبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت عمر، =

33

أنفسكم، الله أعلم بالبر منكم. قالوا: ما نسميها؟ قال: سموها زينب" (¬1). والمعنى: لا تزكوها بما ليس فيها. ويجوز أن يكون المعنى على العموم وذلك أنه أقرب إلى النسك والخشوع وأبعد من الرياء والعجب {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أي بر وأطاع. وقال الحسن: أخلص العمل (¬2). 33 - قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}، قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في الوليد بن المغيرة وهو قول مجاهد، ومقاتل، وابن زيد، قالوا: كان قد أَتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعيره بعض المشركين وعاتبه على الإسلام فقال: إني خشيت عذاب الله، فقال: إني أضمن لك أن أتحمل عنك عذاب الله إن أنت أعطيتني كذا وكذا من مالك، فأرجع إلى ما كنت عليه، فرجع إلى الشرك وأعطى الذي عاتبه بعض المال الذي شرط إذ هو أعطاه أن يتحمل عنه العذاب ومنعه تمام ذلك، فأنزل الله فيه (¬3) {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} قال ابن عباس، ومقاتل: أدبر عن الحق والإسلام (¬4). ¬

_ = ولدتهما أم المؤمنين بالحبشة، ماتت سنة (73 هـ) وحضر ابن عمر جنازتها. انظر: "طبقات ابن سعد" ص 461، و"الإصابة" 4/ 317، و"أسد الغابة" 5/ 468، و"تقريب التهذيب" 2/ 600، و"أعلام النساء" 2/ 67. (¬1) "صحيح البخاري"، كتاب: الآداب، باب: تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه 8/ 53، و"صحيح مسلم" كتاب: الأدب، باب: استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن 3/ 1688. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 110، و"فتح القدير" 5/ 113. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 631، و"تفسير مقاتل" 131 ب، "جامع البيان" 27/ 42. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 131 ب، و"الوسيط" 4/ 203.

34

34 - {وَأَعْطَى قَلِيلًا} يعني أعطى صاحبه الذي عاتبه (وَأَكْدَى) قال الفراء: أمسك من العطية وقطع (¬1). روى عمرو عن أبيه: أكْدى مَنَعَ وأكْدى قطع، وأكْدَى إذا انقطع، وأكْدى إذا حفر فبلغ الكُدى وهي الصخور (¬2). والمفسرون قالوا في (أَكْدَى) قطع وانقطع وأمسك، وذكر سعيد بن جبير الأصل فيه فقال: ألا ترى إلى القوم إذا حفروا الوهدة فأفضوا إلى الصخرة قالوا: أكدينا (¬3). قال أبو إسحاق: معنى (أَكْدَى) قطع، وأصله من الحفر في البئر، يقال للحافر إذا بلغ إلى حجر لا يمكنه الحفر معه قد بلغ إلى الكدية، وعند ذلك يقطع الحفر (¬4). وقال المبرد: (أَكْدَى) أي منع منعًا شديدًا (¬5). وذكر مثل قول أبي إسحاق. وقال ابن قتيبة: أكدى من كدية الركَّية وهي الصلابة فيها وإذا بلغها الحافر يئس من حفرها فقطع الحفر فقيل لكل من يطلب شيئًا فلم يبلغ آخره أو أعطى ولم يتم أكدى ومعنى أكدى هاهنا منع صاحبه تمام ما ضمن له؛ وقال عطاء ومقاتل إن الوليد بن المغيرة كان قد مدح القرآن ثم أمسك عنه ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 101. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 324، و"اللسان" 3/ 232 (كذا). (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 42 عن أبي زيد. والوهدة الحفرة وهي النقرة المنتقرة في الأرض أشد دخولًا في الأرض من الغائط وليس لها حرف. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 75. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 203، و"معالم التنزيل" 4/ 253.

35

فنزل فيه {وَأَعْطَى قَلِيلًا} أي: من الخير بلسانه، وأكدى أي قطع ذلك أمسك عنه (¬1). وهذا تعيير له. ثم زاد في التعيير والتوبيخ فقال: 35 - {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} يعني ما غاب عنه من أمر العذاب {فَهُوَ يَرَى} أن صاحبه يتحمل عنه عذابه. قال الزجاج: (فهو يرى) معناه فهو يعلم، والرؤية تكون بمعنى العلم كالمكفوف، يقول: رأيت زيدًا عاقلاً، فلو كان من رؤية العين لم يجز ذلك (¬2)، والمعنى فهو يعلم علم الغيب حتى علم أنه غير معذب بتحمل صاحبه عنه العذاب. 36 - {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} لم يحدَّث ولم يخبر {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} يعني: أسفار التوراة. 37 - {وَإِبْرَاهِيمَ} يعني: وفي صحف إبراهيم {الَّذِي وَفَّى} معنى التوفية في اللغة الإتمام والإكمال، يقال: وفيته أجره، قال الله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} [فاطر: 30]. واختلفوا في معنى (وفي) هاهنا. فقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: بلغ ما أُمر به قومه، وهو قول مقاتل، واختيار الفراء، وابن قتيبة، وهو قول سعيد بن جبير، وإبراهيم، ومجاهد، وأبي العالية، وعكرمة (¬3) كل هؤلاء قالوا: بلغ قومه وأدى إليهم عن الله هؤلاء الكلمات، وهي قوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 429. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 131 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 14 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 111. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 75.

38

38 - {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وأَنْ على هذا القول في محل النصب بقوله: (وفي) (¬1). وقال آخرون: معنى: (وفي) أكمل ما يجب لله تعالى عليه بالطاعة في كل ما أمر وامتحن به من ذبح الولد والإلقاء في النار والكلمات التي ابتلي بها في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] الآية، والاختتان، ومناسك الحج التي أمر بها، وفاها كلها وأتمها بالطاعة والصبر، فأثنى الله تعالى عليه لقيامه بجميع ذلك بقوله: (وفي)، وهذا قول جماعة من المفسرين (¬2)، وهو اختيار أبي إسحاق، وعلى هذا موضع أَنْ في قوله: {أَلَّا تَزِرُ} خفض على البدل من قوله: {بِمَا في صُحُفِ}، والمعنى: ألم ينبأ بأن لا تزر، وقال: يجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار هو، كأنه لما قيل: بما في صحف موسى، قيل: ما هو؟ فقيل: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومعناه: أن لا تؤخذ نفس بإثم غيرها (¬3). قال عكرمة عن ابن عباس: لا يؤخذ الرجل بذنب غيره (¬4)، وفي هذا إبطال لقول من قال للوليد بن المغيرة: أعطني شيئًا وأحمل عنك ذنوبك. أخبر الله تعالى أنه لا يؤخذ أحد بجناية غيره، وأن هذا مما أنزل على ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 300، و"تفسير مجاهد" 2/ 632، و"تفسير مقاتل" 131 ب، و"جامع البيان" 27/ 42 - 43، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 101، و"تفسير غريب القرآن" ص 429. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 101. (¬3) انظر: "جامع البيان" 24/ 43 عن ابن عباس، وإبراهيم النخعي والقرظي، و"الكشف والبيان" 12/ 15 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 254، و"الدر" 6/ 129. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 75، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 273، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 694.

39

إبراهيم وموسى (¬1). وذكره (¬2) المفسرون (¬3) فقالوا: كان من لدن نوح إلى زمان إبراهيم يؤخذ الرجل بذنب أخيه وابنه حتى بلّغهم إبراهيم {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وهذا عام في الدنيا والآخرة، وقد أخبر الله تعالى بذلك (¬4)، وذكره رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه، وذلك في قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} [النحل: 25]. قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وهذا في رؤساء الكفر والضلالة يزاد لهم الوزر بسبب إضلالهم، فأما أن تحمل نفس ذنب أخرى حتى يصير المحمول منها كأنها لم تأت بذنب، فليس ذلك في شريعة. 39 - قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} عطف على قوله: {أَلَّا تَزِرُ} وهذا أيضًا مما في صحف إبراهيم وموسى، والمعنى: ليس للإنسان في الآخرة إلا ما عمل في الدنيا، قاله مقاتل (¬5). قال أبو إسحاق: معناه: ليس له إلا جزاء سعيه، إن عمل خيرًا أُجزي ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 42، و"الدر" 6/ 129. (¬2) في (ك): (وذكر). (¬3) وهو المروي عن ابن عباس، وعمرو بن أوس، والنخعي. انظر: "جامع البيان" 27/ 42، و"معالم التنزيل" 4/ 254. (¬4) (بذلك) ساقطة من (ك). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 131 ب.

خيرًا، وإن عمل شرًا أُجزي شرًا (¬1). هذا معناه في الظاهر. ثم المفسرون مختلفون في حكم الآية، فروى الوالبي عن ابن عباس أن هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] الآية، أدخل الله تعالى الأبناء بصلاح الآباء الجنة (¬2)، ورفع درجاتهم وإن لم يستحقوها بأعمالهم، ونحو هذا قال عكرمة: كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعى غيرهم نيابة عنهم (¬3)، بدليل حديث المرأة التي قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أبي مات ولم يحج، قال: "فحجي عنه" (¬4). وقال العلماء من أصحابنا: هذه الآية تدل على منع النيابة في الطاعات إلا ما قام عليه الدليل كالحج (¬5)، وهذا إذا قلنا إنه غير منسوخ الحكم، وعلى ما ذكر الوالبي وعكرمة: الآية منسوخة الحكم في شرعنا. وقال الحسين بن الفضل (¬6): هذا من طريق العدل ليس للإنسان إلا ما سعى ولله أن يتفضل عليه بما يشاء من تضعيف الحسنات (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 76. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 44، و"الكشف والبيان" 12/ 16 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 254. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 16 أ، و"الوسيط" 4/ 253، و"معالم التنزيل" 4/ 254. (¬4) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وباب: حج المرأة عن الرجل 3/ 23، ومسلم في كتاب: الحج، باب: الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت 2/ 974. (¬5) انظر: "الأم" 2/ 104، و"الحاوي الكبير" 4/ 17. (¬6) تقدمت ترجمه في سورة البقرة. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 17 أ، و"البحر المحيط" 8/ 168، و"روح المعاني" =

40

40 - قوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} يُرَى من أريته الشيء، والمعنى أن سعيه يرى يوم القيامة حتى ينظر إليه، أي يرى عمله في ميزانه؛ وهذا قول مقاتل والزجاج (¬1)، وقال ابن قتيبة {يُرَى} يعلم، والمعنى يعلمه الناس (¬2). 41 - {ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي يجرْى الإنسان سعيه، والضمير للسعي يقال: جزيت فلانًا عمله وسعيه، أي قضيته. قال الشاعر (¬3): إن أُزِ علقمة بن سعد سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد و {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} الأكمل والأتم، قال أبو إسحاق: أي يجزى عمله أوفى جزاء (¬4). 42 - قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي إليه منتهى العباد ومرجعهم، هذا قول المفسرين. وروي تفسير آخر لهذه الآية مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا فكرة في الرب" (¬5). ¬

_ = 27/ 66. قال مكي: والبين في هذا الذي يوجبه النظر وعليه أكثر العلماء أنه ليس بمنسوخ وأنه محكم "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص 423. وانظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 233، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 114، و"فتح القدير" 5/ 114. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 131 ب، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 76. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 429. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 76. (¬5) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 1/ 218 عن سفيان الثوري في قوله -عز وجل-: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} قال: لا فكرة في الرب -عز وجل-, وأخرجه الدارقطني في الأفراد، =

ومعنى هذا أن الإنسان يتفكر في كل شيء فيحيط به علمًا ويقف على كنهه وكيفيته حتى ينتهي إلى الله تعالى فلا يحيط به علمًا ولا يدركه بفكرته، فإليه المنتهى من هذا الوجه، ويؤكد هذا المعنى ما روى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ذكر الله فانتهوا" (¬1). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق" (¬2). والمنتهى معناه الانتهاء. ¬

_ = والبغوي في "تفسيره" 4/ 255 مرفوعًا. وأورده ابن كثير، وذكر رواية البغوي له ثم عقب عليه بقوله: وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ .. وذكر الحديث ثم قال: والحديث الآخر الذي في "السنن": (تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله ..)، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 259، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/ 396. (¬1) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" 12/ 17 ب، وذكره بعض المفسرين عن أنس بدون سند، وفي بعض الألفاظ: "إذا ذكر الله تعالى فاتته". انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 115، و"البحر المحيط" 8/ 168، و"روح المعاني" 27/ 68. (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" 4/ 255، وعقب عليه ابن كثير بما سبق ذكره. وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 1/ 216، وزاد فيه "فإنكم لا تقدرون قدره" وأخرجه أبو القاسم الأصفهاني في "الترغيب والترهيب" 2/ 174، بسندين فيهما انقطاع، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" 1/ 132، وعزاه إلى أبي الشيخ ورمز له بالضعف، وفي تخريجات "إحياء علوم الدين" قال: أخرجه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع مه بإسناد ضعيف، ورواه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" من وجه آخر أصح منه، ورواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي "الشعب" من حديث ابن عمر وقال: هذا إسناد فيه نظر. قلت: فيه الوازع بن نافع متروك. انظر "الإحياء" 4/ 424، و"ضعيف الجامع" 3/ 38 (2469).

43

43 - قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أكثر المفسرين على أن هذا عام في كل ضحك وبكاء، يدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على قوم يضحكون فقال: "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً" فنزل عليه جبريل فقال: إن الله -عز وجل- يقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فرجع إليهم، فقال: "إن الله هو أضحك وأبكى" (¬1). وهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان بقضائه وإرادته وخلقه حتى الضحك والبكاء، وكذلك ما روي عن جبار الطائي (¬2) قال: شهدت جنازة أم مصعب (¬3) وفيها ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن عباس يقاد على أتان له، فمرا وفي الجنازة صوارخَ فقلت: يا أبا عباس: تفعل هذا؟ قال: دعنا منك يا جبار فإن الله هو أضحك وأبكى (¬4). ومن المفسرين من خصَّ؛ وهو قول الكلبي. قال: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار (¬5)، ومنهم من حمل الضحك والبكاء على المجاز، وهو قول عطاء بن أبي مسلم قال: معناه أفرح وأحزن؛ لأن الضحك يجلبه ¬

_ (¬1) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" 12/ 18 أ، والواحدي في "أسباب النزول" ص 461. وأخرجه ابن مردويه عنها. انظر: "إحياء علوم الدين" 4/ 450، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 116، و"الدر" 6/ 300. (¬2) جبار بن القاسم الطائي، روى عن ابن عباس، وعنه أبو إسحاق، ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في "الثقات" بروايته عن ابن عباس. انظر: "لسان الميزان" 2/ 120. (¬3) هي الرباب بنت أنيف الكلبية انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 182، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 141. (¬4) لم أجده. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 101، و"جامع البيان" 27/ 44، و"البغوي" 4/ 255.

44

السرور والفرح، والبكاء يوجبه الحزن والنزح (¬1)، ومنهم من حمل الآيهَ على الاستعارة وهو قول الضحاك. قال: المعنى أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر (¬2). 44 - قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} المتقدمون من المفسرين حملوا هذا (¬3) على الإماتة في الدنيا والإحياء للبعث (¬4)، والمتأخرون منهم ذكروا وجوهًا أخرى، منها: أنه أمات الآباء، وأحيا الأبناء، كما ذكرنا في قوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] ومنها أنه أمات النطفة وأحيا النسمة، وأمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان, والوجهان ذكرا في قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19]. ويدل على الوجه الثاني قوله: {أَوَ وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. 46 - قوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الجماع، وقال في رواية الكلبي: تهراق في الرحم، وهو قول الضحاك، قال: تصب في الرحم، ويقال: مني الرجل، وأمنى من المني (¬5)، وقيل في مني (¬6) مكة سميت مني؛ لما يمنى من الدماء أي: ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 18 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 255. (¬2) (بالمطر) ساقطة من (ك)، والتصحيح من "الوسيط". انظر: "الكشف والبيان" 12/ 18 ب، و"الوسيط" 4/ 204، و"معالم التنزيل" 4/ 255، قلت: وهذا التفسير يخالف ما يفهم من ظاهر الآية، وحمله على الضحك والبكاء المعروفين أولى، والله أعلم. (¬3) في (ك): (على هذا). (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 255، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 117. (¬5) انظر: المراجع السابقة. (¬6) مِنَى: المكان المعروف من مهبط العقبة إلى محسر. سميت بذلك لما يمنى من الدماء. وقيل لأن الكبش مُني بها أي ذبح. انظر: "معجم البلدان" 5/ 229.

48

يراق (¬1)، وقال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] هذا قول المفسرين. وقال أبو عبيدة، والمبرد، وابن قتيبة: {تُمْنَى} أي تقدر، ويقال: إنك لا تدري ما يَمني لك الماني أي ما يقدر لك المقدر (¬2)، والقولان أصلهما واحد وهو التقدير، يقال: مني الله لك ما يسرك أي قدر، والاسم من المنى. وأنشد الفراء فقال: ولا تقولنَّ لشيء سوف أفعله ... حتى تبين ما يَمني لك الماني (¬3) والمني الماء الذي يخلق ويقدر منه الولد، ثم يقال منه: مني وأمنى إذا أصب ذلك الماء. فمعنى قوله: {إِذَا تُمْنَى} إذا تُصَب وتلقى على تقدير ولد في الرحم، هذا هو الأصل، ثم يقال: أمنى ومنى بمعنى صب من غير تقدير (¬4). قوله تعالى: {يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} (¬5). 48 - قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى الناس بالأموال ومولهم (وأقنى) اختلفوا فيه، فقال أبو صالح: أعطى القنية وأصول الأموال التي تقتنى (¬6). ¬

_ (¬1) قاله الليث، وقال ابن شميل: سمي مني؛ لأن الكبش مُنِي به، أي: ذبح. وانظر: "تهذيب اللغة" 15/ 530 (منا). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 238، و"تفسير غريب القرآن" ص 429. (¬3) البيت لأبي قلابة الهذلي، وقيل: لأبي المثلم الهذلي، كما في "ديوان الهذليين" 3/ 39، ولم أجده عند الفراء. وانظر: "تهذيب اللغة" 15/ 530، و"اللسان" 3/ 538 (مني). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 531، و"اللسان" 3/ 538 (مني). (¬5) عند تفسيره لآية (20) من سورة العكبوت. انظر: "البسيط" 4/ 121 أحيث قال: أي ثم الله الذي خلقها وبدأ خلقها ينشئها نشأة ثانية ... (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 45, و"معالم التنزيل" 4/ 256.

والاكثرون قالوا: أقنى قنّع ورضّى بما أعطى الفقير، وهو قول مجاهد، ومقاتل، ورواية عكرمة عن ابن عباس (¬1)، والقول الأول اختيار أبي عبيدة، والمبرد، وابن الأعرابي، قال أبو عبيدة، والمبرد: أغنى أقوامًا وجعل لهم قنية وهي أصل المال (¬2) من أي مال كان. وقال ابن الأعرابي: أقنى أعطاه ما يدخر بعد الكفاية (¬3)، وأبو إساق ذكر القولين (¬4)، وهما يرجعان إلى أصل واحد. قال الليث: يقال: قنيت به، أي: رضيت، وأقنيت لنفسي مالاً، أي: جعلته قنية أرتضيه، وأنشد للمتلمس: وألقيته بالثّني من جَنْبِ كافرٍ ... كذلك أقْنُو كلَّ قِطّ مُضَلِّلِ (¬5) قال: أقنو بمعنى أرضى. وقال غيره: أقنو ألزم وأحفظ (¬6)، فالاقتناء يتردد بين أصلين. أحدهما: الرضا، وذلك أن الإنسان لا يقتني إلا ما يرتضيه، فعلى هذا أصل القولين الرضا، والآخر: الحفظ واللزوم، ومنه يقال: قنا الحياء، إذا لزمه، ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 301، و"تفسير مجاهد" 2/ 632، و"تفسير مقاتل" 132 أ. وفي "صحيح البخاري" قال: ابن عباس: (أغنى وأقنى) أعطى وأرضى، و"كتاب التفسير" سورة النجم 6/ 175. قال ابن حجر: وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، و"فتح الباري" 8/ 606. (¬2) في (ك): (مال) وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 238. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 313، و"اللسان" 3/ 177 (قنا). (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 76. (¬5) البيت ورد في "تهذيب اللغة" 9/ 312، و"اللسان" 3/ 177 (قنا)، و"الخزانة" 3/ 23، و"المذكر والمؤنث" ص 416. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 314 (قنا).

49

فأقْنَى حياءَك لا أبالَكِ إنني ... في أرض فارس موثقٌ أحوالًا (¬1) والقنية ما يلزمها الإنسان ويحفظها. وعلى هذا الأصلان مختلفان. قال الضحاك، والحسن، وقتادة: أغنى في المال وأقنى في الخدم (¬2)، وهؤلاء خصوا الاقتناء بإعطاء الخدم. وأما ما روي عن ابن زيد أنه قال: أغنى أكثر وأقنى أقل (¬3)، ولا وجه لقوله أقنى أقل في اللغة، إلا أن يقال: معناه رضي بالفليل كما ذكره الأكثرون فترك ذلك الرضا واقتصر على القلة. 49 - قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} قال جماعة المفسرين: هي كوكب خلف الجوزاء يقال لها مرزم الجوزاء، وهي الشعرى العبور، وكانت خزاعة تعبدها، فقال الله: أنا رب الشعرى فاعبدوني، وإنما سميت العبور لأنها عبرت المغيرة فقطعت عرضًا وهما الشعرتان، يقال لأحدهما: العبور وللأخرى الغميضاء، وسميت الغميضاء؛ لأن العرب تقول: إن سهيلًا والشعرتين كانت مجتمعة فانحدر سهيل فصار يمانيًا فتبعته الشعرى العبور فعبرت المغيرة وأقامت الغميضاء فبكت لفقد سهيل حتى غمضت عيناها فسميت الغميضاء (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" 3/ 177 (قنا) وقال أنشده ابن بري ولم ينسبه لقائل. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 254، و"جامع البيان" 27/ 45. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 45، وفي "معالم التنزيل" 4/ 256، و"الجامع" للقرطبي 17/ 119، نسبه للأخفش وهو قول الحضرمي أيضًا. وقال ابن كثير معقبًا على هذا القول: وهما بعيدان من حيث اللفظ، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 259. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 169: وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولًا كقولهم: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه، وكل قول منها لا دليل على تعيينه، فينبغي أن تجعل أمثلة. (¬4) انظر: "الجمهرة" 2/ 342، و"الكفش والبيان" 12/ 19 أ - ب، قال الآلوسي في =

50

50 - قوله {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} ذكر أبو إسحاق وغيره من النحويين في (الأولى) ثلاث لغات: أحدها: (الأولى) بسكون لام المعرفة. والثانية: (الُولَى) على تخفيف الهمزة ونقل حركتها إلى لام المعرفة. الثالثة: الولى) بطرح همزة الوصل؛ لأن اللام تحركت فاستغني عنها (¬1). ومثله الأحمر والحمر ولحمر، وقراءة العامة (عادًا الأولى) (¬2) أجود اللغات الثلاثة، وذلك أن التنوين اجتمع مع لام المعرفة وهما ساكنان فحرك التنوين بالكسر. وقرأ أبو عمرو (عادًا لولى)، قال أبو عثمان: أساء عندي أبو عمرو في قراءته (عادًا لولى)؛ لأنه أدغم النون في لام المعرفة، واللام إنما تحركت بحركة الهمزة، وليست بحركة لازمة، والدليل على ذلك أنك تقول: اَلَحْمَر. فلا تحذف ألف الوصل وإن حركت اللام؛ لأنها ليست بحركة لازمة، قال: ولكن كان أبو الحسن روى عن بعض العرب أنه يقول هذا لَحْمَر قد جاء، بحذف ألف الوصل لحركة اللام (¬3). ¬

_ = "روح المعاني" 27/ 69: وقيل زعموا أن سهيلًا والشعرى ... -وذكر ما هاهنا ثم قال-: وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف: العبورة لأنها أكبر جرمًا وأكثر ضياء، وهي التي عبدت من دون الله في الجاهلية. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 77. (¬2) قرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب (عادًا لولى) موصولة مدغمة، وذلك بإدغام التنوين في اللام بعد نقل حركة الهمزة إليها وصلًا. وقرأ الباقون (عادًا الأولى) بكسر التنوين وسكون اللام وتخفيف الهمزة من غير نقل. انظر: "حجة القراءات" ص 687 و"النشر" 1/ 411 - 412، و"الإتحاف" ص 403 - 404. (¬3) قلت: قول أبي عثمان -المازني: أساء أبو عمرو في قراءته .. إلى أن قال: ولكن =

قال أبو علي: الإساءة التي نسبها أبو عثمان إلى أبي عمرو في قراءة: (عادًا لولى) لا تلزمه من وجهين: أحدهما: أنه يقول: (لُوْلَى) قبل الإدغام على لغة من يقول لَحْمَرْ فيحذف همزة الوصل، وعلى هذا القول اللام في حكم المتحرك، وخرجت من حكم السكون بدلالة حذف همزة الوصل وإذا خرجت من حكم السكون حسن الإدغام كما حسن في مَنْ لك؟ ومَنْ لُوهُ؟ (¬1) فالإدغام في حرف متحرك غير ساكن. والوجه الآخر: أن يكون أدغم على قول من يقول (الُولى) الحَمْرَ، فلم يحذف همزة الوصل مع إلقاء الحركة على لام المعرفة؛ لأنه في تقدير السكون فلا يمتنع أن يدغم فيه، وإن كان في حكم السكون كما لم يمتنع أن يدغم في نحو رُدَّ وفِرَّ وغَضَّ، وإن كانت لاماتهن سواكن، وتحركها للإدغام، وإذا جاز الإدغام في الوجهين جميعًا ثبتت صحته. وروي عن نافع (عاد لوْلَى) بالإدغام والهمز، ووجه الإدغام ما ذكرنا، ووجه الهمز أن الضمة لقربها من الواو وأنه لم يحجز بينهما شيء صارت كأنها عليها فهمزها كما يهمز الواو إذا كانت مضمومة نحو أدؤُر والغؤور (¬2)، وما أشبه ذلك، وهذه لغة قد رويت وحكيت وإن لم تكن بتلك ¬

_ = كان أبو الحسن -أي الأخفش- فيه إساءة وتجاوز، فالقراءة تواترها عن أفصح العرب -صلى الله عليه وسلم- وكان الأولى إثباتها وإن خالفت ما وضعه النحاة من قواعد، وما أثر عن العرب من لغتهم، أما أن تصوب القراءة لنقل الأخفش أو غيره وجهًا لها عن العرب فرأي مردود على صاحبه وإن بلغ ما بلغ من علم وفهم كالمازني، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم. (¬1) (ك): (لزم) والتصويب من "الحجة". (¬2) أدؤر جمع دار، والهمز لكراهه الضمة على الواو. يقال: ثلاث أدؤر: همزت لأن الألف التي كانت في الدار صارت في أَفْعُل في مواضع تحرك فأُلقِي عليها =

51

الفاشية. قال أبو عثمان: ومن قرأ (عادًا لولى) فأظهر النون فقد أخطأ؛ لأن النون لا تظهر على اللسان إلا مع حروف الحلق (¬1). قال المفسرون: عاد الأولى، قوم هود، وهم أولى عاد أهلكوا بريح صرصر، وكان لهم عقب، وكانوا عادًا الأخرى. 51 - قوله تعالى: {وَثَمُودَ} أهلك الله ثمود وهم قوم صالح بالصيحة {فَمَا أَبْقَى} منهم أحدًا. 52 - {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أهلك الله قوم نوح من قبل عاد وثمود. {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} قال ابن عباس وقتادة ومقاتل، وغيرهم: إنما وصف بأنهم كانوا أظلم وأطغى من غيرهم لطول دعوة نوح إياهم، وعتوهم على الله في المعصية والتكذيب، ولم يطل مقام أحد من الأنبياء في دعوة قومه كما طال مقامه (¬2)، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وكان الرجل منهم يأخذ ابنه فينطلق به إلى نوح فيقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وأنا مثلك فاحذره فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه (¬3). ¬

_ = الصرف ولم ترد إلى أصلها. وغار القوم غورًا وغؤورًا، أتوا الغور، وغار في الشيء غؤورً دخل. وغار الماء غؤورًا. ذهب في الأرض. انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 180، و"اللسان" 2/ 1026 (غور). (¬1) من قوله: قال أبو عثمان. إلى هنا: نقله من كتاب "الحجة" لأبي علي مع تصرف يسير. انظر: "الحجة" 6/ 237 - 240، و"البغداديات" ص 190 - 194. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 132 أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 254، و"جامع البيان" 27/ 46. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 120، و "الدر" 6/ 131.

53

53 - قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} قال الفراء: كل شيء انهوى وانخسف فقد ائتفك (¬1). وقال أبو عبيدة: المؤتفكة المخسوف بها ائتفكت بأهلها (¬2)، وقد تقدم تفسير المؤتفكات (¬3). وهي قرى قوم لوط رفعها جبريل بجناحه إلى السماء حتى سمعت ملاكة سماء الدنيا أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم قلبها فهوت من السماء إلى الأرض مقلوبة (¬4)، فذلك قوله: (أهوى) أي: أهلك، وتفسيره: أسقط، هوى إذا سقط، وأهواه أسقطه (¬5)، وقد مر في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، والمعنى: أهواها جبريل إلى الأرض بعد أن رفعها، وقال المبرد: جعلها تهوي (¬6). وقال الفراء: رفعها إلى السماء، ثم أهواها وأتبعهم الله بالحجارة، فذلك قوله تعالى: 54 - {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} (¬7)، أي: فغشاها الله وألبسها ما غشى، يعني: الحجارة في قول جميع المفسرين. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء، وما قاله أبو عبيدة يؤيده. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 239. (¬3) عند تفسيره لآية (70) من سورة التوبة. ومما قال: المؤتفكات، قال المفسرون: يعني قرى قوم لوط وهي جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب. وتلك القرى ائتفكت بأهلها أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها. (¬4) انظر: "تاريخ الأمم والملوك" 1/ 180، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 77, و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 120. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص430. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 120، و"فتح القدير" 5/ 117. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 103.

55

وأيهم ذكر ما غشاهم؛ لأنه ذكر ذلك في قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]. وقال ابن الأنباري (¬1): تأويله فغشى الله المؤتفكات الذي غشي غيرهم من الأمم السالفة؛ لأنه قد تقدم ذكر عاد وثمود، وقوم نوح ممن أهلك بالعذاب، وكأن التأويل ما غشى الأمم السالفة، فحذف الأمم لتقدمهم وبيان معناهم. 55 - قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} قال أبو إسحاق: هذا خطاب للإنسان، لما عدد الله عليه ما فعله مما يدل على وحدانيته قال: بأي نعم ربك التي تدلك على أنه واحد تتشك؛ لأن المرية الشك (¬2). قال أهل المعاني: وإنما قيل بعد تعديد النقم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ}؛ لأن النقم التي تحدث نعم علينا لما لنا فيها من المزاجر، مع أنه نالهم بكفر النعم (¬3)، والمعنى: فبأي نعم ربك أنت أيها المخاطب تتمارى حتى تكون مقارنًا لهم في سلوك بعض مسالكهم (¬4)، وهذا معنى قول قتادة: بأي نعم ربك تتمارى (¬5) يا ابن آدم (¬6). وقال ابن عباس: يريد تكذب يا وليد (¬7)، يعني: الوليد بن المغيرة الذي نزل فيه قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} وهذه الآيات كلها نزلت في شأنه، ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 121، و"فتح القدير" 5/ 117. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 78. (¬3) انظر: "الكشاف" 4/ 43، و"التفسير الكبير" 29/ 25، و"فتح القدير" 5/ 117. (¬4) في (ك): (مسالكه) والصواب ما أثبته. (¬5) (تتمارى) ساقطة من (ك). (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 255، و"جامع البيان" 27/ 47. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 205.

56

إلى قوله: 56 - {هَذَا نَذِيرٌ} يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- {مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} من الرسول قبله. قال قتادة: يقول أنذر محمد -صلى الله عليه وسلم- كما أنذر الرسل من قبله (¬1). قال أبو إسحاق: أي النبي -صلى الله عليه وسلم- مجراه في الإنذار مجرى من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام، وذكر قولًا آخر هو قول أبي مالك، ومقاتل، وهو أن يكون النذير مصدرًا بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار، والمعنى: هذا إنذار لكم كما أنذر من قبلكم وقد أعلمتم ما قص الله عليكم من حال من كذب بالرسل وما وقع بهم من الإهلاك (¬2)، وهذا معنى قول مقاتل، يقول: هذا خبر من خبر هلاك الأمم الخالية (¬3). 57 - قوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} قال المفسرون: دنت القيامة واقتربت الساعة، وقد ذكرنا ما في هذا عند قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} (¬4) قال أبو إسحاق والمبرد: معناه: قربت القريبة (¬5)، وهذا كما يقال: قتل القاتل، وضرب الضارب، والآزفة من أسماء القيامة، سميت بذلك لدنوها من الناس؛ لأن كل ما هو آت دان، وإن استبعدت. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 254. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 78. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 132 أ. (¬4) عند تفسيره لآية (18) من سورة غافر. ومما قال: يقال أزف الشيء يأزف أزفًا إذا دنا، ومنه يقال للقصير: متأزف؛ لتداني أعضائه بعضها من بعض ... قال عامة المفرين الأزفة القيامة. قال ابن عباس: أزف أمرها. وقال مقاتل: يعني: اقتربت الساعة. وهذا معني قول الضحاك سميت آزفة لقربها. قال أبو إسحاق: قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائن قريب ... انظر: "البسيط" ص 172 بتحقيق السحيباني. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 78.

58

58 - قوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} ذكر المفسرون فيه قولين: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ليس أحد من شركائكم من يرد ذلك، ونحو هذا قال الضحاك: ليس من دون الله من آلهتهم كاشفة (¬1). ومعنى الكشف في اللغة رفع الشيء عما يواريه، والمعنى على هذا القول أن القيامة إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها لم يكشفها أحد من آلهتهم، أي: أنها لا تنجيهم منها، ويدل على صحة هذا المعنى أن القيامة سميت غاشية فلما كانت في غاشية كان ردها كشفًا كما يقال في الدعاء: اللهم اكشف عنا الهموم والأحزان، والكاشفة على هذا القول نعت مؤنث محذوف على تقدير: نفس كاشفة، أو جماعة كاشفة، وهذا معنى قول قتادة: ليس لها من دون الله راد (¬2). ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرًا كالخائنة والعاقبة والعافية، فإذا قدرتها مصدرًا كان المعنى ليس لها من دون الله كشف، أي: لا يكشف عنها غيره. بمعنى لا يبديها ولا يظهرها ولا يزيل عنها ما يسترها، وهو معنى قول مقاتل: لا يكشفها أحد إلا الله، قال: يعني الساعة الله الذي يكشفها. ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] وهذا القول اختيار الزجاج (¬3) والفراء، وهو قول الكلبي، قال: ليس لها من يكشف عن علمها إلا الله (¬4)، وإذا كشف عن علمها فقد كشف عنها. ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 205، و"معالم التنزيل" 4/ 257، و"الدر" 6/ 131. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 20 أ، و "معالم التنريل" 4/ 257، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 122. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 78. (¬4) لم أجد هذا القول، وهو ظاهر المعنى.

59

قال الفراء: وتأنيث كاشفة كقولك له: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (¬1) يريد من بقاء. والعافية والعاقبة، كل هذا في معنى المصدر (¬2). 59 - قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قال جماعة المفسرين: يعني: القرآن. قال أبو إسحاق: أي مما يتلى عليكم من كتاب الله تعجبون (¬3). قال مقاتل: تعجبون تكذيبًا به (¬4)، والمعنى: تعجبون من إنزاله على محمد -صلى الله عليه وسلم- فتكذبون به كما قال: {بَلْ عَجِبُوا ...} الآية [ق: 2]. وقال أهل المعاني: يجوز أن يكون معنى الحديث هاهنا ما ذكر من حديث القيامة (¬5)، والكفار كانوا يكذبون بها ويعجبون من وقوعها، أي: وقعت عندهم يدل على هذا قوله: 60 - {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} أي: تستهزئون ولا تبكون خوفًا منها. وعلى قول المفسرين: ولا تبكون مما فيه من الوعيد. روى أبو الخليل (¬6) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رئي ضاحكًا إلا تبسمًا بعد نزول هذه الآية (¬7). ¬

_ (¬1) في "معاني القرآن" للفراء: ما لفلان باقية، وما ذكره المؤلف هو قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [سورة الحاقة: 80]. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 103. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 78. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 27. (¬6) هو صالح بن أبي مريم الضبي، أبو الخليل، وثقه ابن معين، والنسائي، وأغرب أبو عبد الله بن عد البر فقال: لا يحتج به. انظر: "تقريب التهذيب" 1/ 363، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 479، و"طبقات ابن سعد" 7/ 237، و"تهذيب التهذيب" 4/ 204. (¬7) رواه الإمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي شيبة في "المصنف" 13/ 234, =

61

61 - قوله {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال الليث: السمود في الناس الغفلة والسهو عن الشيء، وهذا قول المبرد، قال: السمود الاشتغال عن الشيء يكون لهم أو فرح يتشاغل به وأنشد فقال: رَمى الحِدْثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ ... بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا (¬1) وروى عكرمة عن ابن عباس قال: السمود الغناء في لغة حمير (¬2)، يقال: اسمدي لنا، أي غني لنا (¬3)، ومنه قول أبي زبيد أنشده أبو عبيدة فقال: وكأن العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءً ... لِلنَدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودٍ (¬4) فالمسمود الذي غني له، والسامد أيضًا القائم في تحير، قال المبرد: ومما يأثر العرب من أشعار عاد (¬5): ¬

_ = والثعلبي في "الكشف والبيان" 12/ 21 أ، وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير، عن ابن العباس بإسناد ضعيف، و"تخريجات الكشاف" 4/ 161، ورواه وكيع بن الجراح في "الزهد" 1/ 266. قال محققه: إسناده ضعيف ومعناه غريب أيضًا؛ لأن الآية نزلت في مكة، وقد ثبت ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبسمه في أحاديث كثيرة. (¬1) البيت لعبد الله بن الزبير بن الأشيم الأسدي، أو للكميت بن معروف. انظر: "الحماسة" لأبي تمام 1/ 464، و"أمالي القالي" 3/ 115، و"الأضداد" ص 36، و"مجالس ثعلب" ص 439، و"تهذيب اللغة" 1/ 3772، و"اللسان" 2/ 198 (سمد). ونسبه ابن كثير في "البداية والنهاية" 8/ 144 لأيمن بن خزيم. (¬2) حمير: بطن عظيم من القحطانية ينسب إلى حمير بن سبأ، من بلادهم في اليمن شام، وذمار، ورفع .. قدم رسول ملوك حمير سنة تسع من الهجرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: انظر: "معجم قبائل العرب" 1/ 304 - 305. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 255، و"جامع البيان" 27/ 48، و"المصنف" لابن أبي شيبة 10/ 471. (¬4) انظر. "الأضداد" لابن الأنباري ص 36، و"الأضداد" للسجستاني ص 144. (¬5) عاد بن عوص من العرب العاربة البائدة، يقال لهم عاد الأولى, وكانت منازلهم =

قَيْلُ قُم فَانْظُر إلَيْهِمْ ... ثُمَّ دع عَنْكَ السُّمُودَا (¬1) ومنه حديث علي -رضي الله عنه- أنه دخل المسجد والناس ينتظرون الصلاة، قال: مالي أراكم سامدين (¬2). قال أبو عبيدة: يعني: القيام، وكل رافع رأسه فهو سامد، قال ابن الأعرابي: السامد اللاهي، والسامد الغافل، والسامد الساهي، والسامد المتكبر، والسامد القائم، هذا كلام أهل اللغة في السمود (¬3). والمفسرون قالوا: لاهون غافلون معرضون، ونحو هذا روي عن ابن عباس في جميع الروايات (¬4) إلا ما روى عكرمة أنه الغناء، قال: وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا. وروى شمر بإسناد عن ابن عباس أنه قال: مستكبرون. قال: ويقال ¬

_ = بالأحقاف وهو الرمل ما بين عمان إلى الشحر إلى حضرموت إلى عدن أبين. انظر: "معجم قبائل العرب" 2/ 700. (¬1) من شعر هزيلة بنت بكر، وهي تبكي قوم عاد. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص 36، و"الأضداد" للسجستاني ص 144، و"الدر" 6/ 132، وعزاه للطستي في "مسائله"، و"روح المعاني" 27/ 72، و"تهذيب اللغة" 12/ 378، و"اللسان" 2/ 199 (سمد). (¬2) أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وعبد بن حميد، وذكره المهدوي. انظر: "جامع البيان" 27/ 49، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 123 و"الدر" 6/ 132، و"الأضداد" لابن الأنباري ص 36 - 37. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 377، و"اللسان" 2/ 197 (سمد). (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 303، و"معالم التزيل" 4/ 257، و"زاد المسير" 8/ 85، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 260.

62

للفحل إذا اغْتَلم: قد سمد (¬1)، وهذا معنى قول الضحاك: أشرون بطرون، وقول مجاهد: غضاب مبرطمون (¬2). 62 - قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}، قال الكلبي ومقاتل: صلوا لله، يعني: الصلوات الخمس. {وَاعْبُدُوا} قال مقاتل: يعني وحدوا الرب، وقال الكلبي: أطيعوه فيما يأمركم به (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى الآية: فاسجدوا للذي خلق السموات والأرض، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى؛ لأنه قد ذكر معبوداتهم في هذه السورة (¬4). ¬

_ (¬1) قال ابن كثير: وفي رواية عن ابن عباس: تستكبرون، وبه يقول السدّي، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 260، وانظر: "تهذيب اللغة" 12/ 377 (سمد). والمراد باغتلام الفحل هيجانه للضراب. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 49، و"معالم التنزيل" 4/ 257. والبرطمة هي: الانتفاخ من الغيظ والغضب. قال ابن القيم بعد ذكره لما تقدم في معنى الغناء: فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه. فهذه أربعة عشر اسمًا سوى اسم الغناء. انظر: "إغاثة اللهفان" 1/ 258. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 79.

سورة القمر

سورة القمر

1

تفسير سورة القمر بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس، ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن فعلت ذلك تؤمنون؟ قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر (¬1)، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه أن يعطيه ما قالوا فانشق القمر فرقتين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي المشركين يا فلان يا فلان اشهدوا (¬2)، ونحن على هذا، قاله عامة المفسرين، إلا ما روى عثمان بن عطاء (¬3) عن أبيه أنه قال: معناه وسينشق القمر (¬4)، وهو محجوج بإجماع المفسرين على خلافه، وبالأخبار المتظاهرة في انشقاق القمر، فقد روى جبير بن مطعم، وأنس، وابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وهؤلاء الخمسة (¬5) رووا أن القمر انشق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال ¬

_ (¬1) مراد المؤلف (بليلة بدر) أن القمر انشق ليلة أربع عشرة كما ورد في بعض الروايات. (¬2) أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس بلفظ أقرب من هذا. انظر: "الدر" 6/ 133. (¬3) في (ك): (عطية) والصواب ما أثبته. وهو عثمان بن عطاء بن أبي مسلم. أبو مسعود المقدسي، ضعيف، مات سنة (155 هـ). انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 12. (¬4) انظر: "الكشف والبيان"، 12/ 21 ب، و"الوسيط" 4/ 27. (¬5) قال ابن كثير رحمه الله قد كان هذا زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ورد ذلك في الأحاديث =

2

عبد الله: فرأيت الجبل بين فلقتيه، إحداهما خلف الجبل، والأخرى فوقه (¬1). ولأن قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} يدل على أن هذا قد مضى وتقدم، وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر؛ لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة، قال أبو إسحاق منكرًا لقول عطاء: زعم قوم عَندوا عَنِ القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة، والأمر بين في اللفظ، وإجماع (¬2) أهل العلم؛ لأن قوله: 2 - {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فكيف يكون هذا في القيامة (¬3). قال المفسرون: لما انشق القمر قال المشركون: سحرنا محمد، فقال الله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً} (¬4) يعني انشقاق القمر {يُعْرِضُواْ}، أي: عن التصديق والإيمان بها. {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فيه قولان: أحدهما: ذاهب، وهو قول أنس، ومجاهد، ومقاتل، والكلبي، ¬

_ = المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. "تفسير القرآن العظيم" 5/ 261، وانظر: "فتح القدير" 5/ 12، و"روح المعاني" 27/ 74 - 75. (¬1) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، سورة القمر، باب: وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا 6/ 178، "صحيح مسلم"، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: انشقاق القمر، و"مسند الإمام أحمد" 1/ 377، و"المستدرك"، كتاب: التفسير، سورة القمر، و"سنن الترمذي"، كتاب: "التفسير" 5/ 37 (3285). (¬2) في (ك): (والإجماع) والصواب ما أثبته. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 81 (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 27، و"معالم التنزيل" 4/ 258، و"فتح القدير" 5/ 12.

3

وقتادة، واختيار الفراء والزجاج (¬1)، وأصله من قوله: مر الشيء على وجهه واستمر، أي: ذهب. القول الثاني: أن معنى المستمر: القوي الشديد، وهو معنى قول ابن عباس: يريد يعلو كل سحر، وهو قول أبي العالية، والضحاك، ورواية شيبان، عن قتادة، قالوا: محكم شديد غالمب قوي (¬2)، واختاره أبو عبيدة، والمبرد وابن قتيبة، فقال أبو عبيدة: (مستمر) شديد (¬3)، وقال المبرد: هو من قولك: ذو مرة أي: قوة، ومنه أمررت الحبل إذا شددت فتله، واستمر فلان على كذا إذا قوي واستحكم معرفته، قال: ومر فلان، هو من هذا، لأن معناه على الحقيقة بَعُد ولم يرتدع، كقولك: مر السهم (¬4)، ونحو هذا ذكر ابن قتيبة (¬5)، وقول الربيع بن أنس، ويمان بن رباب: نافذ ماضٍ (¬6) يعود إلى هذا؛ لأن نفوذه ومضاءه من قوته. 3 - ثم ذكر تكذيبهم فقال {وَكَذَّبُوا} قال ابن عباس: كذبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وما عاينوا من عظمة الله وقدرته. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} قال: ما زين لهم الشيطان من الباطل الذي هم ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 635، و"تفسير مقاتل" 132 ب، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 257، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 14، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 82. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 22 ب، 23 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 258، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 127. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 24. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 195، و"اللسان" 3/ 466 (مرر) ولم أجده منسوبًا للمبرد. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" 431. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 196، ولم ينسبه لقائل، و"الجامع لآحكام القرآن" 17/ 127.

4

عليه (¬1)، وقال الكلبي: يعني عبادة الأوثان (¬2). {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} قال الكلبي: لكل أمر حقيقة، ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف (¬3). ومعنى هذا ما ذكره مقاتل قال: هذا وعيد لهم. يقول: لكل حديث منتهى، يعني العذاب بعضه يقع بهم ببدر، وبعضه في الآخرة (¬4). وعلى هذا معنى الآية: وكل أمر مما قضاه الله من العذاب يستقر بهم في الوقت الذي قضاه، وقال قتادة: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} فالخير (¬5) يستقر قرار تكذيبهم، وقرار قول المصدقين حتى يعفروا حقيقته بالثواب والعقاب. 4 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} يعني أهل مكة {مِنَ الْأَنْبَاءِ} أي: من أخبار الأمم المكذبة في القرآن {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} يقال: زجرته وأزدجرته وهو كالنهي عن السوء للإنسان، ومنه قوله (وازدجر) وقد يوضع الازدجار موضع الازجار فيكون لازمًا، والدال في ازدجر مقلوب عن التاء وذلك أن الدال أقرب إلى الزاي من التاء لأنهما مجهوران والتاء مهموس. قال أبو الفتح الموصلي: فالافتعال إذا كان زايًا قلبت التاء دالًا نحو ازْدَجَرَ، وازْدهى، وازدار، وازدان، وازدلف، ونحو ذلك، وأصل هذا كله التاء ولكن الزاي لما كانت مجهورة، وكانت التاء مهموسة، وكانت ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 27، و"معالم التنزيل" 4/ 258. (¬2) لم أجده. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 258، و"فتح القدير" 5/ 121. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب. (¬5) كذا في (ك) وفيه سقط، وصوابه: أي بأهل الخير الخير وبأهل الشر الشر. وقال الفراء: يقول فالخير. انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 14، جامع البيان 27/ 52، و"الوسيط" 4/ 27.

5

الدال (¬1) أخت التاء في المخرج وأخت الزاي في الجهر قربوا بعض الصوت من بعض فأبدلوا من التاء أشبه الحروف من موضعها بالزاي وهي الدال فقالوا: ازدجر (¬2). والمزدَجَر هاهنا بمعنى الازدجار الواقع في المعنى ما فيه ازدجار لهم ووعظ ونهي، وليس بمعنى الانزجار، لأنه لو كان لهم فيه انزجار لكانوا قد انزجروا واتعظوا. قال مقاتل: يعني موعظة لهم وهو النهي عن المعاصي (¬3)، وقال السدي: ما فيه عظة (¬4). وجماعة من أهل التفسير والمعاني حملوا المزدجر هاهنا على المطاوع لأنهم قالوا في تفسيره منتهي ومتناهي ومتعظ، وهو قول الكلبي، ومجاهد، والفراء، والزجاج (¬5)، وعلى هذا لابد من تقدير محذوف كأنه قيل ما فيه انزجار لهم لو انزجروا، ومنتهى لو انتهوا. 5 - ثم قال: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} قال مقاتل، والكلبي: يعني القرآن (¬6). قال أبو إسحاق: رفعت حكمة بدلاً من (ما) في قوله {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}، المعنى: ولقد جاءهم حكمة بالغة، وإن شئت رفعت بإضمار ¬

_ (¬1) في (ك): (الدال). (¬2) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 185 - 186. (¬3) انظر: تفسير مقاتل 132 ب. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 259. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 636، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 14، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 85. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 34، "تفسير مقاتل" 132 ب.

6

هو {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} (¬1)، أي تامة قد بلغت الغاية في كل ما توصف به. قوله {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} ذكر الفراء، والزجاج أن (ما) يجوز أن تكون نفيًا على معنى، فليست تغني النذر، ويجوز أن يكون استفهامًا بمعنى التوبيخ ويكون المعنى فأي شيء تغني النذر إذا لم تؤمنوا (¬2)، وهذا كقول {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] فإن قدرت ما استفهاما كان في موضع النصب بتغني. 6 - ثم أمره بالإعراض عنهم فقال {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} وهذا مما نسخ (¬3)، وهاهنا وقف التمام (¬4). قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} قال الزجاج: يوم منصوب بقوله {يَخْرُجُونَ مِنَ آلأجْدَاثِ} (¬5) وقال المبرد: (يوم) ظرف لقوله {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} (¬6) قال مقاتل: هو إسرافيل ينفخ قائمًا على صخرة بيت المقدس (¬7) {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} قال إلى أمر فظيع. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد يوم القيامة {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 85. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 15، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 85. (¬3) انظر: "الكشف والبيان"، 12/ 23 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 259، و"فتح القدير" 5/ 121. قال مكي: وليس في سورة القمر، وسورة الرحمن، والواقعة شيء، وكذلك الحديد الإيضاح: 424، وقال ابن الجوزي: وقد زعم قوم أن هذا التولي منسوخ بآية السيف، وقد تكلمنا على نظائره وبينا أنه ليس بمنسوخ. "نواسخ القرآن": 234. (¬4) اننطر: "المكتفى": 545، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 86، و"زاد المسير" 8/ 9. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 86. (¬6) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 129، و"البحرالمحيط" 8/ 174. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب.

7

شدة العذاب وفظاعته (¬1). وقال الكلبي: يعني حين يدعى أهل النار إلى النار (¬2). و (نكر) معناه منكر، وهو الذي تأباه النفس من جهة نفور الطبع، وذلك أنهم لم يروا مثله قط فينكرونه استعظامًا له، وهو صفة على فُعُل، مثل: جُنب، وجُزر، وأُحد، ويجوز فيه التخفيف (¬3)، وإنما وصف بأنه نكر لغلظه على النفس. 7 - قوله تعالى {خُشَّعًا أَبْصَارُهُم} وقرئ خاشعًا (¬4)، قال الفراء والزجاج: يجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد نحو (خاشعًا أبصارهم) والتأنيث نحو {خَشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} وهو قراءة عبد الله، والجمع نحو {خُشَّعًا أَبْصَرُهُمْ}، ويقول: مررت بشباب حسن أوجههم، وحسان أوجههم، وحسنة أوجههم، وأنشدا: وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد (¬5) ¬

_ (¬1) في (ك): (فظاطته) ولم أجد الرواية عن ابن عباس، ولعل وضوح المعاني حال دون نسبة التفسير لقائل. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 34. (¬3) يشير المؤلف بقوله هذا إلى قراءة ابن كثير (نُكْر) بإسكان الكاف، والباقون بضمها انظر: "حجة القراءات" ص 688، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 241، و"النشر" 2/ 38، و"الإتحاف" ص 44. (¬4) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف {خَاشِعًا} بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين مخففة بالإفراد، وقرأ الباقون {خُشَّعًا} بضم الخاء وفتح الشين مشددة من غير ألف. انظر: "حجة القراءات" ص 688، و"النشر" 2/ 38، و"الإتحاف" ص 44. (¬5) البيت للحرث بن دوس الأنصاري، ويروى لأبي دؤاد الأنصاري. =

وأنشد الفراء: يرمي الفجاج بها الركبان معترضًا ... أعناق بُزَّلها مُرْخَى لها الجُدُلُ فلو قال معترضات أو معترضة ومرخاة أو مرخيات كان صوابا (¬1). قال أبو إسحاق: و (خشعًا) منصوب على الحال، المعنى: يخرجون من الأجداث خشعًا أبصارهم (¬2). قال المفسرون: يعني ذليلة خاضعة أبصارهم عند معاينة العذاب (¬3). وقال أهل المعاني: وصفت الأبصار بالخشوع؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تتبين في نظره (¬4) كما قال عز ذكره: {يَنُظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىِ} [الشورى: 45]. قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ اَلأَجْدَاثِ} هو قال المفسرون: يريد القبول واحدها جدث، وبنو تميم (¬5) تقول بالفاء جدف (¬6). ¬

_ = انظر: ديوان أبي دؤاد ص 35، و"اللسان" (خشع)، و"البحر المحيط" 8/ 175، و"المحرر" 15/ 296، و"شرح الأبيات" للفارسي ص 398. (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 15، 16، و"جامع البيان" 27/ 53، و"البحر المحيط" 8/ 175، والجدُل: جمع الجديل وهو الزمام. ولم أجد البيت منسوبًا لقائل. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 86. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 53، و"معالم التنزيل" 4/ 53. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 129، و"فتح القدير" 5/ 122. (¬5) بنو تميم: قبيلة عظيمة من العدنانية، تنتسب إلى تميم بن مرة، منازلهم بأرض نجد، تمتاز هذه القبيلة بتاريخها الحربي في الجاهلية والإسلام. انظر: "معجم قبائل العرب" 1/ 127، و"نهاية الأرب" ص 177. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 634، و"اللسان" 1/ 412 (جدث).

8

قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} تفسير الجراد قد تقدم في سورة الأعراف (¬1). قال مقاتل: فيكثرون من الكثرة كأنهم جراد حين انتشر من موضعه (¬2). وقال الكلبي: ينبث بعضهم في بعض (¬3). قال أهل المعاني: المعنى أنهم يخرجون فزعين لا يهتدون فيدخل بعضهم في بعض لا جهة لأحد منهم يقصدها، فشبههم في هذا الوقت بالجراد؛ لأن الجراد لا جهة لها فتكون أبدًا مختلفة بعضها في بعض (¬4). 8 - قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} قال ابن عباس: مقبلين إلى الصوت، وقال مقاتل: مقبلين سراعًا إلى صوت إسرافيل (¬5). وذكر في تفسير مهطعين قولان: أحدهما: مسرعين. والآخر: ناظرين مديمي النظر (¬6)، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43]. قوله تعالى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} قال ابن عباس: يوم القيامة عسر على الكافرين، وعلى المؤمنين سهل يسير (¬7). قال مقاتل: يهون على المؤمنين الحشر، والكفار ينكبون على ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية 133 من سورة الأعراف. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 28، و"معالم التنزيل" 4/ 259. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 28، و"البحر المحيط" 8/ 176، و"روح المعاني" 8/ 27 (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب، و"الكشف" 23 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 26. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 53، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 13، و"تهذيب اللغة" 1/ 134، و"اللسان" 3/ 811. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 28.

9

وجوههم فلا يقومون مقامًا إلا عسر عليهم (¬1)، ويقال: عَسِرَ يَعْسَر عُسْرًا فهو عَسيرٌ، وهذا كقوله {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9، 10]. 9 - قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ظاهر إلى قوله (وازدجر) قال ابن عباس: وانتهر، وقال الكلبي: زجر عن مقالته، وقالوا: مستطار الفؤاد (¬2). يعني أنهم اتهموه بالجنون وقالوا: إنه لا عقل له، وزجروه عن دعوته. قال ابن زيد: توعدوه بالقتل (¬3)، وقال الفراء: زجروه بالشتم (¬4). وتفسير الازدجار قد مر قبيل. والأفعال في هذه الآية مسندة إلى الفاعلين وبني ازدجر للمفعول لوفاق الفواصل، وإن كان للفاعلين الذين جرى ذكرهم. قوله {مُّنْهَمِرٍ} يقال: همر الماء وانهمر فهو هامر منهمر إذا سأل وانصب، قال المفسرون: منصب انصبابًا شديدًا لم ينقطع أربعين يومًا (¬5). 12 - قوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ} قال المفسرون: يعني ماء الأرض وماء السماء، قال الفراء: ولا يجوز التقى إلا للاثنين فما زاد، وإنما جاز في الماء لأنه يكون جمعًا وواحدًا (¬6). يعني أنه اسم الجنس فهو يجمع ماء الأرض وماء السماء. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 132 ب. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 35، و"معالم التنزيل" 4/ 26. (¬3) انظر: "حامع البيان" 27/ 54. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 16. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 133 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 24 أ، ونسبه لابن عباس والقرطبي، و"معالم التنزيل" 4/ 26. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 16.

13

قوله تعالى {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه قولان. قال الكلبي: على أمر قد مضى عليهم (¬1)، وهو قول محمد بن كعب قال: كان القدر قبل النبلاء (¬2). وقال مقاتل: إن ماء السماء وماء الأرض قدرهما الله تعالى أن يكونا سواء فذلك قوله {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (¬3)، والقولان ذكرهما الفراء، والزجاج (¬4). 13 - قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} يعني على سفينة ذات ألواح وهي خشباتها العريضة التي منها هيئت وجبت. وقوله {وَدُسُرٍ} معنى الدَّسْر في اللغة: الدفع الشديد، يقال دَسَرَه بالرمح ودسر جاريته بهنها عند النكاح، ومنه قول ابن عباس في العنبر: إنما هي شيء دسره البحر (¬5)، أي: دفعه. وقال أبو إسحاق: الدُّسُر: المسامير والشروط (¬6) التي تشد بها الألواح، وكل شيء كان نحو السَّمْرُ وإدخال شيء في شيء بقوة وشدة فهو الدُّسُر، يقال: دَسّرْت (¬7) المسمار في الخشبة أدْسُرُه وأدسِرُه دَسْرًا، والدُّسُرُ واحدها دِسَار، نحو حِمَار وحُمُر (¬8). قال ابن عباس ومقاتل والكلبي وجماعة المفسرين: يعني المسامير ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 35. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 55، و"الكشف والبيان" 12/ 24 ب. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 133 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 16، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 87 (¬5) انظر: "الكشف والبيان"، 12/ 24 ب، و"تهذيب اللغة" 12/ 355، و"اللسان" 1/ 976 (دسر). (¬6) الشروط: جمع شريطة وهي حبال يُربط بها. (¬7) في (ك): (جرست) والصواب ما أثبته. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 87 , 88.

14

والشروط، وكل ما شدت به السفينة (¬1). وذُكِر في الدسر قولان آخران. أحدهما: أن الدسر هو دفعها الماء بكلكلها (¬2)، حكاه أحمد بن يحيى، ورواه معمر عن الحسن، قال: تدسر الماء بصدرها (¬3). والدسر على هذا يجب أن يكون مصدرًا. والثاني: أن الدسر هو صدرها الذي ترفع به الماء وتدسر وهو جؤجؤها (¬4). وهذا القول يروى عن شهر بن حوشب، ورواه عطيه عن ابن عباس (¬5). والقول هو الأول (¬6). 14 - قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}. قال المفسرون وأهل المعاني: بمنظر ومرأى منا وحفظ. وهذا كقوله {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وقد مر. قوله تعالى: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} قال مقاتل: يعني نوحا؛ لأنه المكفور به (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 35، و"تفسير مقاتل" 133 أ، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 16، و"جامع البيان" 27/ 55. (¬2) الكْلكْل: الصدر من كل شيء، وقيل: هو ما بين التَّرْقُوَتَيْن، وقيل: هو باطن الزَّرْرِ. "اللسان" 3/ 29 (كلل). (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 258، و"تهذيب اللغة" 12/ 355 (دسر). (¬4) الجؤجؤ: عظام الصدر وجمعه الجآجئ، وجُؤْجُؤ السفينة والطائر: صدرهما. اللسان (جأجأ). (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 55، و"الكشف والبيان" 12/ 24 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 26. (¬6) قال ابن كثير: قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والقرظى، وقتادة، وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير ... "تفسير القرآن العظيم" 4/ 264. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 133 أ.

15

قال الفراء: يقول فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم لما صنع بنوح، قال: وفي (لمن) معنى ما، ألا ترى أنك تقول: غرقوا لنوح ولما صنع بنوح (¬1)، هذا كلامه، والمعنى: فعلنا ذلك ثوابًا لمن كفر به وجحد أمره، وهو نوح -عليه السلام-. 15 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} ذكر في الضمير في (تركناها) قولان: أحدهما: أنها للسفينة المذكورة في قوله {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}؛ لأن المراد بها السفينة، وهو قول قتادة، قال: أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركتها أوائل هذه الأمة. (¬2) الثاني: قال أبو إسحاق: المعنى تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة نوح آية، أي علامة ليعتبر بها (¬3)، يدل على صحة هذا المعنى قوله {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11، 12]، والتذكير يكون بالحمل في الجارية، والمعنى: لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا. قوله تعالى {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال مقاتل: فهل من متذكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر ويخاف. (¬4) قال أبو إسحاق: وأصله مُذْتَكِر، ولكن التاء أبدل منها الدال، والذال من موضع التاء، وهي أشبه بالدال من التاء، وأدغمت الذال في الدال (¬5). هذا كلامه، وإنما فُعل ذلك؛ لأن التاء مهموس، والدال مجهور، وهي من ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 17. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 258. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 88. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 133 أ. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 88، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 187، 188.

16

مخرج التاء، والدال أيضًا مجهور، والمجهور بالمجهور أشبه، فصار كما ذكرنا في (مزدجر). قال أبو علي الفارسي: وقالوا الذكر بالذال، حكاه سيبويه، وكط ك روي بيت ابن مقبل: من بعض ما يعتري قلبي من الذَّكر. (¬1) وذلك لما كثر تصرف الكلمة بالدال نحو ادَّكر، وهل من مدكر أشبهت تقوى وتقية وتقاة. 16 - قوله تعالى {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} كيف استفهام عن تلك الحالية، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. والتعجب منه للسامعين. قوله تعالى: {وَنُذُر} النذر اسم من الإنذار يقوم مقام المصدر، قال الفراء: النذر هاهنا مصدر معناه: فكيف كان إنذاري (¬2). وقال أبو علي: النذر والنذير مثل المنكر والنكير وهي جميعاً مصدران، ومنه قوله {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} (¬3) [المرسلات: 6] ونذكر الكلام هناك إن شاء الله، والمعنى: كيف كان إنذاري إياهم، إذ دعاهم نوح إلى الإيمان فلم يؤمنوا، وفي هذا تخويف للمشركين. 17 - قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} اختلفوا في هذا على قولين: أحدهما: أن المراد بالذكر هاهنا الحفظ والقراءة، وهو قول سعيد بن جُبير، وليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب " 4/ 421، و"ديوان ابن مقبل" ص 81، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 188، و"الخصائص" 1/ 315، و"المنصف" 3/ 14. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 17. (¬3) انظر: "الحجة" 6/ 363، و"البسيط" 116 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 134. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 25 أ، و"الوسيط" 4/ 29، و"معالم التنزيل" 4/ 261، و"زاد المسير" 8/ 94.

19

وقال مقاتل: لولا أن الله يسر القرآن ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله، ولكن الله يسره على خلقه (¬1). وقال الزجاج: قيل: إن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل إنما يتلوها أهلها نظرًا، ولا يكادون يحفظون كتبهم من أولها إلى آخرها كما يحفظ القرآن (¬2). وعلى هذا القول معنى قوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي هل من ذاكر يذكره، وقارئ يقرأه، ومعناه الحث على قراءة القرآن ودرسه وتعلمه وتفهم معانيه، وهذا معنى قول مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه (¬3). القول الثاني: أن معنى الذكر هاهنا الاعتبار والتفكر، قال مقاتل: يعني ليتذكروا ما فيه (¬4)، والمعنى: هونّاه بأن جعلنا ألفاظه سهلة مفهومة لا صعبة متعقدة كما قال {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وبينا فيه المواعظ والمزاجر، فهذا معنى {يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}. وقوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي من متعظ معتبر خائف، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يريد سهلنا القرآن لكل متعظ (¬5). 19 - قوله تعالى {رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} ذكرنا تفسيره في قوله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16]. قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 133 أ، ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 8، عن ابن عباس بسند ضعيف. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 88. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 57، و"الكشف والبيان"، 12/ 25 أ، و"الدر" 6/ 135. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 133 أ. (¬5) لم أجد هذا القول منسوبًا. وانظر: "الكشف والبيان" 12/ 25 أ.

كانوا يتشاءمون بذلك اليوم (¬1). وقال الكلبي: كان شؤم ذلك اليوم عليهم (¬2). قال أبو إسحق: قيل في يوم أربعاء في آخر الشهر لا يدور (¬3)، ومعنى مستمر دائم الشؤم. قال الفراء: استمر عليهم بنحوسته (¬4)، وتفسير المستمر قد مر في هذه السورة (¬5). ومعنى {نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} قوي يأتي عليهم فيهلكهم حتى لا يبقى منهم أحداً. وروي عن قتادة أنه قال: استمر بهم إلى نار جهنم (¬6)، وفي هذا نحتاج إلى تقدير محذوف. ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 21، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 135. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 37. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 89، قال الألوسي: على معنى أن ابتداء إرسال الرياح كان فيه فلا ينافي آيتي فصلت، والحاقة. "روح المعاني" 27/ 85. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 18 قال ابن كثير: ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء وتشاءم به لهذا اللهم فقد أخطأ وخالف القرآن، فإنه قال في الآية الأخرى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشؤومة. وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات أي عليهم. انظر: البداية والنهاية 1/ 128. (¬5) ذكر المؤلف معنين لقوله تعالى {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}، أحدهما: ذاهب، والآخر: قوي شديد، وهذا المعنى يفسر به الاستمرار هنا دون الأول، والله أعلم. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 58، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 264، و"روح المعاني" 27/ 83 - 84، وفيه زيادة بيان وإيضاخ.

20

20 - قوله تعالى {تَنْزِعُ النَّاسَ} أي تقلعهم، قال ابن عباس: اقتلعتهم الريح من تحت أقدامهم (¬1)، وقال السدي: تنزع الناس من البيوت (¬2). وروي عن النبي -صلي الله عليه وسلم - أنه قال: "انتزعت الريح الناس من قبورهم" (¬3). قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} على تقدير فتتركهم كأنهم أعجاز نخل، وذلك أنهم إنما أشبهوا أعجاز النخل عند سقوطهم لا عند نزعهم، وقال الزجاج: كأنهم هاهنا في موضع الحال، والمعنى تنزع الناس مشبهين النخل المنقعر وهو المقطوع من أصوله (¬4)، وعلى ما ذكر لا إضمار في الآية. وأعجاز جمع عَجُز، وهو مؤخر الشيء، وشبههم بأعجاز النخل؛ لأن الريح قلعت رؤوسهم أولا ثم كبتهم لوجوههم (¬5). وقوله: {مُنْقَعِرٍ} قال ابن السكيت: يقال: قعرت النخلة: إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط، وقوإنقعرت هي أي: انقلعت وسقطت (¬6)، قال الفراء: يقول أسَافِلَ نخل مصرع (¬7)، وقال أبو عبيدة: منقلع (¬8)، قال ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 21، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 136. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 136، و"فتح القدير" 5/ 125. (¬3) وأورده الثعلبي في "تفسيره" 25 ب، والقرطبي في "جامعه" 17/ 136 وقال الشوكاني في "تفسيره" 5/ 125 "وقيل من قبورهم لأنهم حفروا حفائر ودخلوها". (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 89. (¬5) انظر: "جامع البيان" 58/ 27 - 59، عن قتادة، ومجاهد، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 264. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 228 (قعر). (¬7) انظر: "معاني القرآن" 3/ 18. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 241.

23

مجاهد: سقطت رؤوسهم أمثال الأخبية وتفردت أعناقهم، فشبههم بأعجاز نخل منقعر (¬1). قال المفسرون: شبههم لطول قاماتهم حين صرعتهم الريح وكبتهم على وجوههم بالنخيل الساقطة على الأرض التي ليست لها رؤوس (¬2)، والعرب تشبه الرجال إذا انكبوا على وجوههم على الأرض بالنخيل الساقطة، ومنه قول الشاعر يزيد بن عمرو (¬3) يرثي قومه: ألا من رأى قومي كأن رجالهم ... نخيل أتاها عاضد فأمالها (¬4) وتذكير المنقعر للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث، وتأنيثه قد جاء في قوله عز ذكره {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. 23 - {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} قال ابن عباس: يريد ما جاءهم به صالح (¬5)، وعلى هذا معنى النذر: الإنذار، كما ذكرنا في قوله {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} وقال مقاتل: يعني بالرسل (¬6)، وعلى هذا النذر: جمع نذير، وتكذيبهم صالحًا تكذيب لجميع الرسل؛ لأن الإيمان بالجميع واجب. ثم أنكروا أن يكونوا تبعًا لواحد منهم، وهو قوله: 24 - {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} أي هو آدمي مثلنا وهو واحد فلا ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 59. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 25 ب، و"الوسيط" 4/ 21، و"معالم التنزيل" 4/ 216، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 137. (¬3) لم أجد له ترجمة. (¬4) انظر: "الحماسة" لأبي تمام 2/ 473، وفيها: (قومي) بدلا من قوماً. و (عاضد) بدلا من (عاصف). (¬5) ذكره المفسرون لبيان المعنى ولم ينسب لقائل. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 133 ب.

نكون له تبعاً {إِنَّا إِذًا} إن فعلنا ذلك {لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} قال الكلبي: خطأ ذهاب عن الحق (¬1). {وَسُعُرٍ} قال أبو عبيدة: جمع سُعْر (¬2). والمفسرون وأهل المعاني ذكروا في السعر معنيين. قال مقاتل: يعني شقاء وعناء، وهو قول قتادة، والكلبي (¬3)، واختيار الفراء، قال: أراد بالسعر العناء للعذاب (¬4)، وهو قول الحسن، قال: أراد شدة العذاب (¬5)، ويكون المعنى على هذا القول: إنا إن اتبعناه فنحن في ضلال وفي عذاب مما يلزمنا. وقال عطاء عن ابن عباس: وجنون (¬6). وأصل هذا من قولهم: ناقة مسعورة، إذا كانت كأن بها جنونًا، ومنه قول الشاعر: تخال بها سُعْرا إذا العيس هزها ... ذميل وإيضاع من السير متعب (¬7) وذكر أبو إسحق القولين (¬8)، والمبرد ذكرهما وجمع بينهما فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 26 أ، و"الوسيط" 4/ 21، و"البغوي" 4/ 261. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 59، و"فتح القدير" 5/ 126 ونسبه الثعلبي في "تفسيره" 12/ 26 أإلى سفيان ابن عيينة. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 133 ب، و"جامع البيان" 27/ 59، و"الكثمف والبيان"، 12/ 26/ أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 18. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 26 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 261 - 262. (¬6) انظر: "زاد المسير" 8/ 96، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 138. (¬7) لم أجده منسوبًا، وقد ورد في "تخريجات الكشاف" ص 15، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 138، و"البحر المحيط" 8/ 18، وفي الألفاظ اختلاف يسير، والذميل ضرب من سير الإبل. "اللسان" (ذمل). (¬8) انظر: "معاني القرآن" 5/ 89.

25

سعر جمع سعير، وهو لهب النار، ويقال: سُعُر: جنون، من قولهم: ناقة مسعورة، وجمل مسعور، ويذهبون إلى أن هذا من ذلك، وأنه قال للمجنون مسعور؛ لأنه لا يستقر يذهب كذا وكذا لما يلتهب فيه من الحدة فتنزيله مرة كذا ومرة كذا (¬1). ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: 25 - {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} قال أبو عبيدة: يعنون أجاء الذكر، كما يقول: ألقيت عليه المسألة، وألقيت عليه حسابًا (¬2). قال ابن عباس، والكلبي: يقولون: أجاءته النبوة وخص بها من بيننا (¬3)، وقال مقاتل: يعني الوحي (¬4). {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ} افتعل ما يقول. {أَشِرٌ}. قال أبو عبيدة: الأشر: المرح والتجبر والكبرياء، وربما كان من النشاط (¬5). وقال المبرد: الأشر البطر، يقال: أشر يأشر أشراً إذا طغى وعلا متبجحًا فرحًا (¬6). وقال الأزهري: الأشَر المَرح، ورجل أَشِر وأشْران، وقوم أُشَارَى، ورجل مئشِر، وكذلك امرأة مِئْشِر بغير هاء (¬7). ¬

_ (¬1) لم أجده عن المبرد. وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 87، و"اللسان" 2/ 148 (سعر). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 241. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 37، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 138. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 133 ب، انظر: "الكشف والبيان" 12/ 26 ب. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 241. (¬6) لم أجده عن المبرد، وانظر: "اللسان" 1/ 65 (أشر). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 41 (وشر).

26

وقال الكسائي،، والفراء: الأشِر والأشُر بكسر الشين وضمها نحو الحذِر والحَذُر، والفطِنُ والفطُن، والعجِلُ والعَجُلُ، والضم قراءة مجاهد (¬1). قال المفسرون: أشر: بطر مرح متكبر يريد أن يتعظم علينا بالنبوة. قال ابن عباس: وكان صالح بن عبيد شريفًا سيداً من أشرف بطن فيهم، فقال الله تعالى: 26 - {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} يعني عند نزول العذاب، وهو تهديد لهم وإنما قال (غدًا) (¬2) للتقريب على عادة الناس، كقوله تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، واسم الغد يقع على ما بعد يومك الذي أنت فيه قرب أو بعد، ولكن العادة جرت إطلاقه على القريب، وغد من الأسماء الناقصة كاليد والفم، وأصله غدو، وربما يستعمل على الأصل، قال الشاعر: وما النَّاسُ إلا كالدَّيار وأهلِها ... بها يوْمَ حَلُّوها وَغَدْوًا بَلاقِعُ (¬3) ويقال في المثل إن مع اليوم أخاه غدوا (¬4). ومعنى (غدًا) هاهنا يجوز أن يكون اليوم الذي نزل بهم العذاب، هددوا بذلك اليوم. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 18، و"جامع البيان" 27/ 59، و"الكشاف" 4/ 47، و"البحر المحيط" 8/ 18، وزاد نسبة القراءة لأبي قيس الأودي، و"روح المعاني" 27/ 89. (¬2)) (غداً) ساقطة من (ك). (¬3) البيت للبيد، كما في "ديوانه" ص 169، و"الكتاب مع شرح شواهده" للأعلم 2/ 8، و"شرح المفصل" 6/ 4، "أمالي ابن الشجري" 2/ 35، و"المصنف" 1/ 64. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 17، "اللسان" 2/ 962 (غدا).

27

هذا معنى قول مقاتل (¬1)، وقال الكلبي: يعني يوم القيامة (¬2). وقرئ (ستعلمون) بالتاء (¬3)، وعلى هذا هو من كلام صالح أجابهم بهذا، فقال (ستعلمون غدًا من الكذاب الأشر) منا. 27 - قوله تعالى {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً} قال ابن عباس (¬4) وذك أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء تضع، ثم ترد ماءهم فتشربه، ثم تغدو عليهم بمثله لبناً، فقال الله تعالى {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} أي باعثوها بإنشائها، فتكون هي مرسلة ولا تكون رسولاً؛ لأن الرسول من حمل الرسالة وكلف أداءها. {فِتْنَةً لَهُمْ} أي محنة واختبارا. قال أبو إسحق: فتنة مفعول له. المعنى لنفتنهم (¬5). قوله تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ} أي انتظر ما هم صانعون، {وَاصْطَبِرْ} على ما يصيبك من الأذى، قال الكلبي: أمره بالصبر لما سبق في علمه أنهم سيكذبونه (¬6). 28 - قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} يعني بين ثمود وبين ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 133 ب، انظر: "الكشف والبيان"، 12/ 26 أ. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 38، و"جامع البيان" 27/ 59، و"معالم التنزيل" 4/ 262. (¬3) قرأ ابن عامر، وحمزة: (ستعلمون) بالتاء، وقرأ الباقون {سَيَعْلَمُونَ} بالياء. انظر: "الحجة" 6/ 243، و"حجة القراءات" ص 689، و"النشر" 2/ 38، و"الإتحاف" ص 45. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 6، و"الوسيط" 4/ 211، و"معالم التنزيل" 4/ 262، و"زاد المسير" 8/ 97. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 89. (¬6) لم أجده.

29

الناقة، يوم لها ويوم لهم، كما قال {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] هذا قول الجميع، وإنما لم يقل بينهم وبين الناقة؛ لأن الناقة داخلة في قوله (بينهم) وذلك أن العرب إذا أخبرت عن البهائم، وعن بني آدم غلبوا بني آدم على البهائم. قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة فيه شيئًا من الماء وتسقيهم لبنًا، وكانوا في شيء من النعيم لا يعرف قدره، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئًا (¬1)، فذلك قوله {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} يحضر القوم يومًا وتحضر الناقة يومًا، فيحضر الشرب من كانت نوبته، وحضر واحتضر واحد. 29 - قوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} يعني عاقر الناقة قدار بن سالف (¬2)، ويقال له أحمر ثمود. {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} تفاعل من العطو، وهو التناول باليد ومنه: كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم ومنه الإعطاء، والمعاطاة، والتعاطي، غير أن بعضهم ذكر في التعاطي أنه تناول ما لا يحل (¬3). قال المفسرون: تعاطى الناقة وتناولها بالسيف فعقرها، ومضى تفسير العقر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 262، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 14. (¬2) في (ك): (سالم) والصواب ما أثبته. وانظر: "المعارف" ص 29، و"تاريخ الأمم والملوك" 1/ 139. (¬3) انظر: "اللسان" 2/ 815 - 816 (عطا). (¬4) عند تفسيره الآية (77) من سورة الأعراف.

31

31 - قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يعني الصاعقة التي أخذتهم وهي مذكورة في مواضع من التنزيل، وقال عطاء: يريد صيحة جبريل (¬1). {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} قال أبو عبيدة: الهشيم ما يبس من الشجر أجمع (¬2). وقال المبرد: الهشيم حطام البقل (¬3). وقال أبو إسحق: هو ما يبس من الورق وتكسر وتحطم (¬4)، ومضى تفسير الهشيم عند قوله {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} [الكهف: 45]. والمحتظر مفتعل من الحظير، ومعنى المحتظر في كلام العرب: المنع، ذكرنا ذلك عند قوله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 2] ويقال: احتظر على نَعَمِهِ وحظر إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح عن النَعَم، ويقال لذلك المانع حَظَارٌ بفتح الحاء وكسره، وكذلك الحطب الرطب الذي يحظر به حظر، ومنه قول الشاعر: ولم يَمْشِ بينَ الحَيَّ بالحَظِرِ الرّطْبِ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 262، و"زاد المسير" 1/ 97، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 142. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 241. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 211. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 9. (¬5) اليت لمالك بن أبي كعب. وصدره: من البيض لم تصطد على خيل لأمة وانظر: تهذيب اللغة 4/ 455، و"اللسان" 1/ 666 (حظر)، و"الكشاف" 4/ 297، و"تفسير الماوردي" 4/ 542.

قال أبو عبيدة، والمبرد، والزجاج: المحتظر صاحب الحظيرة (¬1). واختلفوا في (هشيم المحتظر) ما هو؟ فقال الكلبي: وذلك أن الرجل كان يجعل لغنمه حظيرة يحظرها فيها دون السباع (¬2) من الشجر، فما سقط من ذلك الشجر وداسته الغنم فهو هشيم، فشبه القوم به حين فرقت حومهم وعظامهم (¬3)، وهذا القول اختيار الزجاج، فقد قال: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة (¬4). وهذا يحتمل أنه أراد الذي صار هشيمًا مما جمعه، ويحتمل أنه أراد أن صاحب الحظيرة، وهو صاحب الماشية يجمع الهشيم لعلف ماشيته، وقد صرح المبرد بهذا فقال: المحتظر هو الذي يجمع الهشيم لغنمه، فاضيف إليه؛ لأنه يجمعه. ونحو هذا قال ابن قتيبة: يعني الذي يجمع الحشيش في الحظيرة لغنمه (¬5). وقال مقاتل: شبههم في الهلاك بالهشيم البالي، وهو الحظيرة من قصب يصيبها ماء السماء وحر الشمس فتبلى من طول الزمان (¬6). وقال الفراء: معنى قولهم: كهشيم المحتظر، أي كهشيم الذي يحتظر على غنمه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 241 و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 9. (¬2) في (ك): (الشمال). (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 61، عن الضحاك، انظر: "الكشف والبيان" 12/ 27 أ، عن ابن عباس، و"معالم التنزيل" 4/ 262، عن ابن عباس. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 9. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 434. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 133 ب. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 18.

34

قال الأزهري: أراد أنه حظر حظارًا رطبًا على حظار قديم قد يبس (¬1). والمعنى أنهم بادوا وهلكوا فصاروا كيابس الشجر إذا تحطم. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد مثل القمح الذي قد يبس وهشم (¬2). وعلى هذا المحتظر الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فتات السنبل وقصب القمح إذا ديس. وذكر في الآية قولان فاسدان. أحدهما: كالتراب الذي يتناثر من الحائط (¬3)، وذلك لا يسمى هشيماً. والآخر: كالعظام المحترقة (¬4)، وهذا بعيد. 34 - قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} معنى الحصب في اللغة الرمي، ذكرنا ذلك في قوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 9]، والحاصب الرامي، ويكون الذي يرمى به، قال النضر: الحاصب الحصباء في الريح، كان يومنا ذا حاصب، وريح حاصبةٌ وحَصِبَة فيها حصباء، قال ذو الرمة: حَفيِفُ نافجةٍ عُثْنونُها حَصِب (¬5) وقال أبو عبيدة: الحاصب الحجارة، وقد تكون من الجليد، وأنشد ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 454 (حظر). (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 243. (¬3) قاله سعيد بن جُبير. انظر: "جامع البيان" 27/ 61، انظر: "الكشف والبيان" 12/ 27 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 262. (¬4) قاله قتادة انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 259، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 142. (¬5) انظر: "ديوان ذي الرمة" 1/ 126، و"تهذيب اللغة" 4/ 261، و"اللسان" 1/ 649 (حصب) وصدر البيت: يَرْقُدُ في ظِلَّ عراض ويَطْرُدُهُ والنافجة: كل ريح تبدأ بشدة،: وقيل أول كل يح تبدأ بشدة. "اللسان" 3/ 683 (نفج).

للفرزدق (¬1): مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور قال المبرد: يعني الثلج؛ لأن الريح ترميهم به في قصدهم الشام، قال: ومنه المحصب لأن فيه الحصى الذي قد رمي به، وأنشد قول العامري: ولم أر ليلى غير موقف ساعة ... ببطن مني ترمي جمار المحصب ويروى المحصب بكسر الصاد نسب إلى الرامي. قال ابن عباس: يريد ما حصبوا به من السماء من الحجارة (¬2)، وقال مقاتل: يعني الحجارة من فوقهم، ونحو هذا قال الضحاك (¬3)، والحاصب على هذا القول الحجارة التي يحصب بها. أي يُرمى. وقال آخرون: يعني عذاباً يحصبهم، أي: يرميهم بحجارة من سجيل. وعلى القول الأول سمي ما يحصب به حاصبا؛ لأنه كأنه يرمي نفسه كالثلج لا يرى له رام، فكأنه هو فاعل الرمي، وكذلك حجارة قوم لوط لم ير لها رام، فسمي ما حصبوا به حاصبا على هذا المعنى. قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ} يعني لوطاً وابنتيه. {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} قال أبو إسحق: سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار انصرف، تقول: أتيت زيداً سحراً، فإذا أردت يومك، قلت: أتيته سَحَرَ يا هذا، وأتيته بسحر (¬4). قال الفراء: إنما ترك إجراؤه لأن كلامهم كان فيه بالألف واللام ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 241. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 211. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 133 ب، و"الثعلبي" 12/ 27 ب، و"البغوي" 4/ 263. (¬4) انظر: "معانى القرآن" للزجاج 5/ 9.

35

تقول العرب: ما زال عندنا مذ السحر. لا يكادون يقولون غيره، فلما حذفت منه الألف واللام وفيه نيتهما لم يصرف (¬1). 35 - قوله تعالى: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} منصوب مفعول له، المعنى: نجيناهم للإنعام عليهم {كَذلِكَ} أنعمنا عليهم {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} قال مقاتل: يعني من وحد الله لم يعذب مع المشركين في الدنيا كقوله {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145] يعني الموحدين (¬2). 36 - قوله: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا} قال ابن عباس: عذابنا (¬3). والمعنى: أَخْذَتنا إياهم بالعذاب. {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} قال مقاتل: شكوا في العذاب أنه غير نازل بهم (¬4)، وقال قتادة: لم يصدقوه (¬5). وقال الفراء: كذبوا بما قال لهم (¬6)، وقال ابن قتيبة: شكوا بالإنذار (¬7). 37 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} ذكرنا تفسير المراودة في سورة يوسف (¬8)، والمعنى: طلبوا أن يخلي بينهم وبينهم، {فَطَمَسْنَا ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 19. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 31، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 144. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 62، و"معالم التنزيل" 4/ 263. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 17. (¬7) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 434. (¬8) عند تفسيره الآية (23) من سورة يوسف، والمراودة بمعنى الإرادة، تقوق: راودته على كذا مراودة ورِوادًا. أي أردته. "اللسان"1/ 1254 (رود).

38

أَعْيُنَهُمْ} تفسير الطمس مذكور عند قوله {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] (¬1). قال عامة المفسرين: صفق جبريل أعينهم بجناحيه صفقة فأذهبتها (¬2). وهذه القصة مذكورة في سورة هود [آية: 76، 83]. وتم الكلام عند قوله {أَعْيُنَهُمْ} (¬3). ثم قال {فَذُوقُوا} أي: فقلنا لهم ذوقوا {عَذَابِي} وهو خطاب لجميع قوم لوط الذين أرسل عليهم الحاصب. قوله تعالى (ونذر) أي وما أنذركم به لوط من العذاب، سمي ذلك بالمصدر. 38 - قوله تعالى {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ} يقال صَبَحتُ فلاناً وصَبَّحتُه، أتيته صباحاً، والخيل المصبح الذين أتوا صباحاً (¬4). قوله تعالى: {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ}، قال ابن عباس: يعني نزول العذاب بهم، وقال مقاتل: يعني استقر بهم العذاب بكرة (¬5)، وقال الفراء: عذاب لاحق (¬6). والعذاب المستقر على ما ذكروا ذلك العذاب الذي نزل بهم. وقال ¬

_ (¬1) والطمس هو الدروس والانمحاء، وطَمَسَ الطريق وطَمَسَ يَطْمِسُ طُمُوساً، درَسَ وامحَّى أثره. "تهذيب اللغة" 12/ 351 (طمس). (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 28 أ، و"الوسيط" 4/ 212، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 144. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 212. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 263, و"اللسان" 2/ 41 (صبح). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ, و"الوسيط" 4/ 212. (¬6) في (ك): (لاحق)، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 19.

41

غيرهم: معنى المستقر أي: ذلك العذاب استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة (¬1). 41 - قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} يعني القبط. وفي النذر ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد به موسى وهارون، وهذا قول ابن عباس، ومقاتل، والمفسرين (¬2)، وهو على تسمية الاثنين باسم الجماعة, لأنه جمع نذير. والثاني: أن المراد به الآيات التي أنذرهم بها موسى، وكل آية منها نذير. والآخر: أن المراد به الإنذار (¬3). ويدل على القول الثاني قوله: 42 - {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} يعني الآيات التسع في قول المفسرين (فأخذناهم) (بالعذاب) (أخذ عزيز) غالب في انتقامه (مقتدر) قادر على هلاكهم. 43 - {أَكُفَّارُكُمْ} قال ابن عباس: أكفاركم يا معشر العرب (¬4)، وقال مقاتل: يعني كفار أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5). قوله تعالى: {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} قال ابن عباس: يريد أشد من ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس في رواية الكلبي، وقتادة انظر: "تنوير المقباس" 5/ 31، و"جامع البيان" 27/ 63، و"الكشف والبيان" 12/ 28 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 263. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 31، و"تفسير مقاتل" 134 أ، و"القرطبي" 17/ 145. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 212، و"معالم التنزيل" 4/ 263، و"ابن كثير" 4/ 266. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 213، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 145. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ.

44

أولئكم (¬1)، وقال مقاتل: يقول أليس أهلكناهم بتكذيبهم فليسوا خيراً منهم (¬2)، وهذا استفهام معناه الإنكار. أي: ليس الكفار خيرًا من قوم نوح وثمود وعاد وقد أهلكناهم. ومعنى الخير يجوز أن يراد به الشدة والقوة كما ذكر ابن عباس، وعليه دل سائر الآي، كقوله {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [ق: 36] ومثله كثير، ويجوز أن يكون معناه أن كفر هؤلاء ليس دون كفرهم فليسوا خيراً منهم. ثم خاطب الكفار فقال {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} قال ابن عباس: يريد أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب (¬3). وقال مقاتل: يقول ألكم براءة من العذاب في الكتب أنه لن يصيبكم من العذاب ما أصاب الأمم الخالية (¬4). وقال أبو إسحاق: أم أتاكم في الكتب أنكم مبرأون مما يوجب عذابكم (¬5). 44 - ثم عاد إلى الخبر عنهم فقال: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} قال ابن عباس: يريد جماعة ينصر بعضنا بعضاً (¬6)، وقال الكلبي: نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا (¬7)، والمعنى: بل أيقولون نحن واحدة على من ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 213، و"معالم التنزيل" 4/ 264. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 145. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 134/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 264. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 91. (¬6) لم أقف عليه. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 213، و"معالم التنزيل" 4/ 264.

45

خالفنا ننتصر ممن عادانا فيدلون بقوة واجتماع عليك، ووحد المنتصر بلفظ الجميع، وهو واحد في اللفظ وإن كان اسماً للجماعة كالرهط والجيش. 45 - قال الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} يعني جمع كفار مكة {وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} أي ينهزمون فيولونكم أدبارهم في الهزيمة، والمراد بالدبر الإدبار، وهي من اسم الجنس الذي يؤدي عن الجميع كالدرهم والدينار، قال الفراء (¬1). قال أبو إسحاق: أعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه يظهره عليهم وجاعل كلمته العليا، فكانت هذه الهزيمة يوم بدر (¬2). قال المفسرون: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم في الصف وهو يقول: نحن اليوم جميع منتصر من عدونا. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يثب في درعه ويقول {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فما كان بأسرع من أن قتل ابن مسعود أبا جهل بسيف أبي جهل، وولوا منهزمين (¬3). وقال عمر -رضي الله عنه-: لما نزلت هذه الآية جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر عرفت أنه هو (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 11. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 92. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ، و"الكشاف" 4/ 48. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم، وعبد الرزاق، وابن جرير، والثعلبي، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، وذكر ابن حجر، تخريج عبد الرزاق له في شرح حديث باب "سيهزم الجمع ويولون الدبر" عن ابن عباس، وقال: فكأن ابن عباس حمل ذلك عن عمر، وكأن عكرمة حمله عن ابن عباس عن عمر. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 259، و"جامع البيان" 27/ 64، و"الدر المنثور" 6/ 137، و"فتح البارى" 8/ 619.

46

قال عطاء عن ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. (¬1) 46 - ثم قال عز وجل: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} يعني أن موعد الجميع للعذاب القيامة. ثم ذكر فظاعتها فقال: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي أعظم في الضر. قال ابن عباس: أعظم عذابًا (¬2)، وقال مقاتل: أفظع (¬3)، و (أدهى) من الدهاء، وهو المنكر والشدة والفظاعة، والدَّاهيةُ: الشديدة من شدائد الدهر، ودهاه أمر كذا، إذا أصابه دَهْوًا ودَهْيا ودَاهية دَهْيَاء ودَهْواء. ذكر ذلك ابن السكيت (¬4). قوله تعالى: {وَأَمَرُّ} أي أشد مرارة من قولهم: مَرَّ الشيء وأمَرّ إذا اشتدت مرارته (¬5). قال أبو إسحق: أي ليس ما نزل بهم من القتل والأسر بمخفف عنهم من عذاب الآخرة شيئًا، ومعنى (أمّرُّ): أشد مَرَارَة من القتل والأسر (¬6). 47 - ثم أخبر عنهم فقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} فقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بالضلال الخسران، والسُّعُر الجنون (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 146. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 311. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 134 أ. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 386، و"اللسان" 1/ 13 (دها). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 198 (مر). (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 92. (¬7) تقدم معنى السعر عند قوله تعالى {لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} ولم أجد هذه الرواية عن ابن عباس، وفي "تنوير الممقباس" 5/ 311 عنه: في خطأ بين في الدنيا وتعب وعناء في النار.

48

وقال الكلبي: وهو قول المفسرين: في كفرٍ بعبادتهم الأصنام وعناء من العذاب (¬1). والمعنى على هذا: في ضلال في الدنيا وسعر في الآخرة. وإن حملت السعر على الجنون جاز أن يكونوا في الضلال والسعر في الدنيا، والكلام في السعر قد مر في هذه السورة. قال أهل المعاني: (في ضلال) أي ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة، وفي نار مسعرة. 48 - قوله {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} يجوز أن تتعلق هذه الآية بما قبلها على تقدير: إن المجرمين في سعر يوم يسحبون، ويجوز أن لا تتعلق ويكون العامل في الظرف ما يقدر من القول مع ذوقوا؛ لأن التقدير: يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (¬2). ومس سفر إصابتها إياهم بعذابه وحره، وهذا كما يقال: ذق من الضرب وقاس مس الحمى. قال الليث: سفر اسم معرفة للنار غير منصرف، وكذلك لظى وجهنم (¬3)، ولم يصرف لاجتماع التأنيث والمعرفة، وكذلك كل اسم مؤنث معرفة لا يُجرى وإن لم يكن فيه الهاء؛ لأن فيه معنى الهاء، وان لم تظهر إلا أسماء معدودة خفت فجاز إجراؤها نحو هند ووعد وجُمْل، والأصل ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 261، و"الكشف والبيان" 12/ 29 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 264، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 147. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 92، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 298. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 42 (سقر).

49

أن لا يجرى، ذكر ذلك الفراء (¬1). قال عطاء: سفر الطبق السادس من جهنم (¬2). وقال الكلبي: إذا ألقوا فيها لا تُبْقي لهم عظمًا ولا لحمًا فيعادون خلقًا جديدًا (¬3)، وتم الكلام. 49 - ثم ابتدأ كلامًا آخر فقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال الكلبي عن ابن عباس: إنا كل شيء جعلنا له شكلًا يوافقه ويصلح له، فالمرأة للرجل، والأتان للحمار، والرمكة للفرس، وثياب الرجال للرجال لا تصلح للنساء، وثياب النساء للنساء لا تصلح للرجال، وكذلك ما شاكلها على هذا (¬4). وقال الحسن: قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي كقوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] وهذا قول الربيع (¬5). وقال مقاتل: يعني أنه قدر لهم العذاب (¬6)، وعلى هذا التفسير الآية متصلة بما قبلها، وروى محمد بن عياد المخزومي (¬7) عن أبي هريرة أن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 11. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 147. (¬3) لم أجده، ومعناه: نفى توهم خفة عذاب النار وأنه مجرد مس فوضح أن مسها يصل إلى العظم واللحم ثم يعاد كما بدأ كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ...} [النساء: 56]. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 29 أ، ب، ذكره عن ابن عباس من غير سند. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 29 أ. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 134 ب. (¬7) محمد بن عياد بن جعفر المخزومي، المكي، ثقة. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 174.

قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} إلى قوله: {خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} نزلت في القدرية (¬1)، وذلك أن مشركي قريش جاءوا إلى النبي -صلي الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآيات (¬2)، وهذا قول محمد بن كعب القرظي قال: نزلت تعييرًا لأهل القدر (¬3). وعلى هذا القول المراد بالمجرمين القدرية المشركون وإخوانهم من قدرية هذه الأمة، يكونون في حكمهم. يدل على ذلك ما روى زرارة (¬4) أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قرأ هذه الآيات وقال: "إنها نزلت في ناس يكونون في آخر أمتي يكذبون بقدر الله" (¬5). ¬

_ (¬1) سموا بذلك لقولهم في القدر، زعموا أن العبد هو الذي يخلق فعله استقلالًا فأثبنوا خالقًا مع الله، ولذا سماهم النبي -صلي الله عليه وسلم- مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس قالوا بإثبات خالقين: النور والظلمة، وهم يزعمون أن الله لا يقدر على مقدرات غيره. وهذا هو مذهب المعتزلة في القدر. انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني 1/ 54، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" ص 26. (¬2) رواه مسلم في كتاب القدر، باب: كل شيء بقدر، وأحمد في "مسنده" 2/ 444، والترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة القمر، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والثعلبي في "تفسيره" 12/ 29 ب، والواحدي في "أسباب النزول" ص 425. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 65. (¬4) في (ك): (زراة) وهو زرارة بن أوفى العامري، أبو حاجب، قاضي البصرة، ثقة، عابد، قرأ في الصبح {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} فخر ميتًا سنة (93 هـ). انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 15، و"أخبار القضاة" 1/ 292، و"تاريخ البخاري" 3/ 438، و"صفة الصفوة" 3/ 23، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 515. (¬5) رواه ابن أبي حاتم، والطبراني. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. "مجمع الزوائد" 7/ 111. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 464، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 267.

وروي عن أبي ذر قال: قدم وقد نجران على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا؟ فأنزل الله هذه الآيات. فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: "أنتم خصماء الله يوم القيامة" (¬1). ويؤكد هذا ما روى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينادي مناد يوم القيامة ليقم خصماء الله، وهم القدرية" (¬2). ويزيد وضوحًا هذه الجملة ما روي عن كعب أنه قال: نجد في التوراة أن القدرية يسحبون في النار على وجوههم، وهو قول عطاء عن ابن عباس أن الآيات نزلت في القدرية من المشركين الذين جادلوا رسول الله -صلي الله عليه وسلم - (¬3). وعلى هذا معنى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي كل ما خلقناه فمقدور مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، يدل على هذا قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} ذكر ذلك أبو إسحاق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 464، عن عطاء، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 148، بدون سند وأخرجه الثعلبي عن سيار بن الحكم .. إلى قوله: فأنزل الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} إلى آخر السورة، ولم ينسبه، يذكره من قول النبي -صلي الله عليه وسلم -. (¬2) رواه ابن أبي عاصم في "كتاب السنة" 1/ 148، باب إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم خصماء الله تعالى. وقال عنه الألباني: إسناده ضعيف، ورواه الطبراني في الأوسط من رواية بقية، وهو مدلس، وحبيب بن عمرو مجهول. انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 26 وقال الألباني -بعد ذكره للحديث وتخريج الهيثمي وحكمه على بقية وحبيب بن عمرو- قلت: قد شرح بقية بالتحديث عند المصنف فزالت شبهة تدليسه وانحصرت في شيخه. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 311، قال ابن حجر: وأشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. انظر: "فتح الباري" 11/ 478. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 92.

50

وروى الوالبي عن ابن عباس قال: خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق لهم الخير والشر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة (¬1). 50 - قوله تعالى {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر (¬2). وقال الكلبي عنه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة (إلا واحدة) كطرف البصر (¬3)، وهذا قول مقاتل، يقول: مرة واحدة كرجوع الطرف (¬4). وهذا القول هو اختيار الفراء وأبي عبيد (¬5). وعلى هذا يختص الكلام بأمر الساعة. ومعنى اللمح في اللغة: النظر بالعجلة، يقال: لمح البرق ولمح البصر، ولمحه ببصره (¬6). والأحسن في معنى الآية أن هذا عام في كل ما يخلقه الله تعالى ويريد تكوينه. يقول: إذا أردنا أن نفعل شيئًا فمرة واحدة لأنه ليس منا معاناة ولا علاج ولا توصل بالآلات والأسباب فيكون بمرات كما تكون أفعال العباد، إنما هو كن فيكون. 51 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} يعني أشباهكم ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 65، و"الكشف والبيان" 12/ 29 ب. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 216، و"معالم التنزيل" 4/ 265، و"زاد المسير" 8/ 12. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 37، و"الوسيط" 4/ 216، و"معالم التنزيل" 4/ 265. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 134 ب. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 11. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 97، و"اللسان" 3/ 398، و"مفردات الراغب" ص 454 (لمح).

52

ونظراءكم في الكفر من لأمم الخالية، ومضى تفسير الأشياع (¬1). {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ يعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر. ثم أخبر أن جميع ما فعله الأمم قبلهم كان مكتوبًا عليهم فقال: 52 - {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} قال مقاتل: يعني الأمم الخالية (¬2) {فِي الزُّبُرِ} مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ- وهذا قول عطاء (¬3)، وقال الكلبي: محصى عليهم في الكتب (¬4)، يعني كتب أعمالهم. 53 - {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الخلق والأعمال (مستطر) مكتوب بمعنى مسطور، قال أبو إسحق: مكتوب على فاعليه قبل أن يفعلوه ومكتوب لهم وعليهم إذا فعلوه للجزاء (¬5). 54 - قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أكثرُ أهل التفسير والمعاني (¬6) على أنه أراد وأنهار. يعني أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل، ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (65) من سورة الأنعام. قال: الشيع جمع شيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة. والجمع شيع وأشياع ... ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضًا. انظر: البسيط (فيلم 3731). والتَّشيْعُ: مقدار من العدد كقولهم: أقمت عنده شهرًا أو سَيْعَ شهر، وتشايع القوم: صاروا شيعًا وأشياعكم: أمثالكم من الأمم الماضية، ومن كان مذهبه مذهبكم. يقال: هذا شَيْعً هذا. أي مِثْله. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 6، و"اللسان" 2/ 393 (شيع). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 134 ب. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 266، وهو قول مقاتل أيضًا. "تفسير مقاتل" 134 ب. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 312، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 149. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 92. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 111، و"مجاز القرآن" 2/ 241، و"جامع البيان" 17/ 67، و"زاد المسير" 8/ 12.

55

ووحد لأنه قابل الفواصل فصار كقوله {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} والواحد قد ينبى عن الجميع فيخبر به كقوله: وأما جلدها فصليب (¬1) وقد تقدم في مثل هذا بالاستشهادات. وهذا قول أبي عبيدة، والكسائي، والفراء، والزجاج (¬2). وذكر قوم أن معنى (نهر) ضياء وسعة، قالوا: ومنه النهار لضيائه، وأنهرت الجرح وسعته، وهو قول الضحاك، وذكره الفراء وابن قتيبة (¬3)، والقول هو الأول. 55 - وقوله {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مجلس حسن. وقد ذكرنا قديمًا أن العرب إذا بالغت في مدح شيء أضافته إلى الصدق، كقوله تعالى {لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84] و {قَدَمَ صِدْقٍ} (¬4) [يونس: 2]. قال عطاء: يريد في جوار الرحمن (¬5). ¬

_ (¬1) أنشده الخليل، وسيبويه والبيت لعلقمة الفحل يصف الصحراء وبها جيف الإبل التي رذحت وماتت فتصلبت بقايا جلدها وذهب لحمها فبقي عظمها أبيض. والشاهد قوله (جلدها) أفرد ومراده الجمع، والمعنى جلودها. انظر: "ديوان علقمة" ص 4، و"الكتاب" 1/ 29، و"المفضليات" ص 394، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 83، و"إيضاح الشعر" للفارسي ص 334. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 93، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 111، و"مجاز القرآن" 2/ 241. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 67، و"الكشف والبيان" 12/ 31، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 111، و"تفسير غريب القرآن" ص 435. (¬4) وانظر: "تهذيب اللغة" 8/ 355، و"اللسان" 2/ 42 (صدق) (¬5) لم أقف عليه.

قوله تعالى {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي عند مليك قادر لا يعجزه شيء و (عند) إشارة إلى الزلفة والكرامة. والمعنى في المكان الذي كرم لأوليائه.

سورة الرحمن

سورة الرحمن

سورة الرحمن بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ}: قال و (1) مقاتل: لما نزل قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 11] قال كفار مكة: ما نعرف إلا مسيلمة، رحمان اليمامة، وهو قوله تعالى إخبارًا عنهم {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] فأنكروه، فأخبر الله عن نفسه، وذكر صنعه ليعرف فيوحد فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) قال صاحب النظم: قوله (علَّم) يقتضي مفعولين ولم يجيء هاهنا إلا واحد. وهذا كما يقال في الكلام: زيد أطعم الطعام، فقد يعلم أن الإطعام لا يقع إلا على من يأكل، فكذلك قوله عز وجل {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} واقع على من يلقن التعليم (3)، وهذا معنى قول الكلبي: علم القرآن محمدًا وعلمه محمد -صلى الله عليه وسلم- أمته (4). قال أبو إسحق: ومعنى {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} يسَّره لأن يُذكر (5).

_ (1) كذا في (ك)، ولعل في العبارة سقطًا. (2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 323، و"تفسير مقاتل" 134 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 152. (3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 84. (4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 313، و"الوسيط" 4/ 217، و"فتح القدير" 5/ 131. (5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 95.

5

ثم نسق على هذا خبرًا آخر مؤكدًا له من غير حرف عطف وهو قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬1). {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال: يريد أفصح الكلام، يعني القرآن. والآيتان بهذا التفسير تأكيد لما قبلهما، وهذا قول ابن كيسان في الإنسان أنه محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه قال في البيان أنه بيان ما كان وما يكون؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينبئ عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين (¬2). وقال الكلبي وقتادة: الإنسان آدم -عليه السلام- علمه أسماء كل شيء، وهذا قول مقاتل (¬3). وقال آخرون: الإنسان اسم لجنس الناس جميعًا، ومعنى {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} النطق والتمييز، والكتابة والخط، والفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول وما يقال له، وعلم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به، وجعله مميزًا حتى انفصل الإنسان من جميع الحيوان، وهذا قول أبي العالية، ومرة، وابن زيد (¬4)، والحسن، والقرظي، والسدي، ويمان بن رباب. (¬5) 5 - وقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ذكرنا معنى الحسبان ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 152 (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 33 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 267، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 152، و"فتح القدير" 5/ 131. (¬3) انظر: "نفسير مقاتل" 134 ب، و"جامع البيان" 23/ 67، والثعلبي 12/ 33 ب. (¬4) (ك): (وبرة بن زيد) وهو خطأ. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 33 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 266، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 152 - 153، ورجحه الرازي والألوسي وغيرهما، انظر: "التفسير الكبير" 29/ 85، و"روح المعاني" 27/ 39.

6

في قوله {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} (¬1)، قال جماعة المفسرين: يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها (¬2)، والمعنى فيه أنهما يدلان على عدد المشهور والسنين وجميع الأوقات، قال أبو إسحق: وخبر الابتداء يدل عليه قوله {بِحُسْبَانٍ}؛ لأن المعنى: يجريان بحساب (¬3). وروى السدي عن أبي مالك في هذه الآية قال: لهما حساب وأجل أجل الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا (¬4)، وعلى هذا معنى الحساب حساب أيام جريهما إلى الإنقضاء، والقول هو الأول. (¬5) 6 - قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} قال عامة أهل اللغة والمفسرين: النجم: النبت على الأرض ليس له ساق، والشجر: ما كان على ساق، يبقى شتاء والنجم لا يبقى على الشتاء (¬6). ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (96) من سورة الأنعام. والحُسْبانُ: الحساب. قال أبو العباس: حسبانًا، مصدر كما تقول: حسبته أحسبه حسبانًا، وحسبانًا، وجعله الأخفش وأبو الهيثم: جمع حساب. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 71، و"تهذيب اللغة" 4/ 328، و"اللسان" 1/ 629 (حسب). (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 262، و"جامع البيان" 27/ 67، و"الكشف والبيان" 12/ 33 ب، أ، و"معالم التنزيل" 4/ 267. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 95. (¬4) أخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر. انظر: "الدرر" 6/ 140، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 12/ 34 أ، والقرطبي في "تفسيره" أيضًا 17/ 153. (¬5) وهو اختيار ابن جرير، والمعتمد عند ابن كثير. انظر: "جامع البيان" 27/ 68، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 27، و"تفسير القاسمي" 15/ 5613. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 112، و"مجاز القرآن" 2/ 242، و"جامع البيان" 27/ 68، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 96.

قال ابن الأعرابي: النجمة نبتة صغيرة وجمعها نَجْمٌ (¬1)، ويقال: نجم النبات إذا طلع، ونجم القرن، ونجم النجم، ونجم السن، كل ذلك بمعنى طلع، وأنشد أبو عبيدة للحارث بن ظالم (¬2): أَخُصْيَيْ حِمارٍ ظَلَّ يَكْدِمُ نَجْمةً ... أَتُؤْكَلُ جاراتي وجارُك سالمُ (¬3) قال الأزهري: وإنما قال ذلك لأن الحمار إذا أراد أن يقلع النجمة من الأرض وكدمها ارتدت خصياه إلى مؤخره. (¬4) وأنشد الليث: مُوزَرٌ بعميم النَّجْم تنسجهُ ... ريحُ الخريف لضاحي مائه حُبُكُ (¬5) ذكر المفسرون في تفسير النجم: هو ما أنجمت الأرض، يعنون أنبتت، ولم أر لأهل اللغة أنجم، بمعنى: أنبت. وقوله: {يَسْجُدَانِ} قال الفراء والكسائي: العرب إذا جمعت جمعين من غير الناس مثل السدر والنخل جعلوا فعليهما واحدًا، فتقول: السدر والنخل تنبت، والإبل والغنم مقبلة، ويجوز ينبتان ومقبلتان، والأول كلامهم، وذكر في الآية على لفظ التثنية لوفاق الفواصل (¬6)، هذا ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" (نجم). (¬2) أبو ليلى. محمد بن مرة بن ذبيان، تقدمت ترجمته. (¬3) ورد البيت منسوبًا في "المفضيات" ص 313، و"اللسان" 3/ 59 (نجم)، و"المنصف" 2/ 131. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 129 (نجم). (¬5) البيت لزهير بن أبي سلمى. كما في "ديوانه" ص 176، و"المحتسب" 2/ 217، و"اللسان" 3/ 59 (خبك) وفي الألفاظ بعض الاختلاف والشاهد فيه أن النجم هو نبت يمتد على وجه الأرض بلا ساق. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 112.

7

معنى كلامهما، وقال أهل التفسير في معنى سجود النجم والشجر أنه سجود أظلالهما (¬1). وقد ذكرنا ذلك في قوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} (¬2). وقال مجاهد في قوله: {وَالنَّجْمُ} قال نجوم السماء {وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} بكرة وعشيًا: وهو قول قتادة في النجم (¬3). قال أبو إسحاق (¬4): وهذا جائز أن يكون الله أعلمنا أن النجم يسجد كما قال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} إلى قوله {وَالنُّجُومُ} [النحل: 12]. 7 - قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} قال مقاتل وغيره: رفعها فوق الأرض مسيرة خمسمائة عام وأمسكها أن تقع على الأرض (¬5). {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} تفسير الميزان: الآلة التي يوزن بها، وفي معناه هاهنا قولان، أحدهما: أنه أريد به الميزان الذي نعرفه بيننا. قال مقاتل: يعني الذي يزن به الناس وضعه عدلًا بينهم لينتصف بعض الناس من بعض، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك (¬6)، قالوا: هو الذي يوزن به ليوصل به إلى الإنصاف والانتصاف. ¬

_ (¬1) جمع الظَّلَّ: أظلال وظِلال وظلول. "اللسان" 2/ 647 (ظلل). (¬2) عند تفسيره الآية (48) من سورة النحل. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 639، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 262. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 96. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 134 ب. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 135 أ، و"جامع البيان" 69/ 27، و"الكشف والبيان" 12/ 34 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 267.

8

قال أهل المعاني: وهذا تنبيه على النعمة فيه والهداية إليه، ولولا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق. القول الثاني: أن المراد بالميزان العدل، وعبر عنه بالميزان؛ لأنه آلته. قال عطاء عن ابن عباس: يعني العدل في الأرض بين الناس، وهو قول مجاهد (¬1). قال أبو إسحق: الميزان هاهنا العدل؛ لأن المعادلة موازنة الأشياء (¬2). قال صاحب النظم: على هذا القول: تأويله أمر بالعدل يدل هذا قوله تعالى: 8 - {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي لا تجاوزوا العدل. و (أن لا تطغوا) يحتمل وجهين، أحدهما: لئلا تطغوا كقوله {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، والثاني: أن معنى (أن) التفسير، فيكون المعنى أن لا تطغوا كقوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6] (¬3) وقد مر. وعلى القول الأول يكون (تطغوا) في محل النصب بأن، وعلى القول الثاني يكون تطغوا جزمًا على النهي. ذكر ذلك الفراء والزجاج (¬4)، قال الفراء: والنهي أحب إلى؛ لقوله: 9 - {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} (¬5)، وهذا أيضًا يدل على أن المراد ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 64، ولم أقف عليه عن ابن عباس. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 96. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 9، و"القرطبي" 17/ 154، و"فتح القدير" 5/ 137. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 96. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 113.

بقوله {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي في الذي يوزن به، قال عطاء عن ابن عباس: يريد لا تخونوا من وزنتم له (¬1). ومعنى {لا تطغوا} لا تظلموا ولا تنقصوا ولا تجاوزوا القدر، قاله أبو عبيدة والزجاج (¬2). وقال أهل المعاني (¬3): إنما قيل لا تطغوا؛ لأن ما لا يضبط في الوزن موضوع عنهم ما لم يتعمدوا البخس فإذا تعمدوا فقد طغوا، وإنما قال: {لا تطغوا في الميزان} ولم يقل فيه بالكناية وقد سبق ذكره لكي يكون قائمًا بنفسه في النهي عنه، ولا يكون الثاني متضمنًا بالأول. قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قال المفسرون: أقيموا لسان الميزان بالقسط، أي: بالعدل، وهو قول مجاهد والكلبي ومقاتل (¬4). والأحسن إذا وزن أن يقيم اللسان بالقسط كما أمر الله تعالى ثم يرجح إن أراد ذلك وتبرع به، وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه مر على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح فكفأ الميزان ثم قال: أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت (¬5). وقوله: {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} قال ابن عباس والمفسرون: لا تنقصوا ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 155. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 242، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 96. (¬3) انظر: "الكشاف" 4/ 5. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314، و"تفسير مقاتل" 135 أ، و"الدر" 6/ 141. (¬5) لم أقف عليه عن علي، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي المغيرة عن ابن عباس نحوه. انظر: "فتح الباري" 8/ 621.

10

ولا تبخسوا (¬1). وهذا كقوله تعالى ذكره {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أي ينقصون. وروى أهل اللغة: أخسرت الميزان وخسرته ومنه قراءة بلال بن أبي بردة (¬2) {وَلَا تُخْسِرُوا} بفتح التاء (¬3)، وهذا كقوله {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] (¬4) وذكرنا معنى نقص الميزان وكيفيته في سورة هود. 10 - قوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} قال الكلبي: بسطها على الماء للأمام (¬5). قال الليث: الأنام ما ظهر على الأرض من جميع الخلق ويجوز في الشعر الأنيم (¬6). واختلف المفسرون في تفسير الأنام، فروى عكرمة عن ابن عباس {لِلْأَنَامِ} للناس (¬7)، وعن مجاهد وقتادة والضحاك: للخلق والخلائق، وعن عطاء: لجميع الخلق. وقال الكلبي: للخلق كلهم الذين بثهم فيها، وهذه الأقوال تدل على ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314، و"جامع البيان" 27/ 7. (¬2) هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قاضي البصرة، مقل، مات سنة نسِف وعشرين ومائة. انظر: "تقريب التهذيب" 1/ 19. (¬3) انظر: "مختصر ابن خالوية" ص 149، و"الكشف والبيان" 34/ 12 ب، و"الكشاف" 4/ 5، و"البحر المحيط" 8/ 189. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 162، و"اللسان" 1/ 829 (خسر). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314. قال الألوسي: ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه -عز وجل- خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبدة. "روح المعاني" 27/ 13. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 75 (أنم). (¬7) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 155، و"الدر" 6/ 141.

أن المراد با لأنام كل ذي روح، وهو قول الشعبي (¬1)، وقال الحسن: للجن والإنس (¬2)، وهو اختيار أبي إسحاق (¬3). قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي في الأرض فاكهة، يعني كل ما يتفكه من ألوان الثمار. وذكر ابن عباس منها العنب والتين والخوخ والتفاح (¬4). {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} معنى الكم في اللغة ما ستر شيئًا وغطاه، ومنه كم القميص، ويقال للقلنسوة كمة، وأكمام الزرع: غلفها، وذكرنا ذلك عند قوله {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} (¬5) قال ابن عباس: يريد الطلع (¬6)، قال الكلبي: {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} ذات الغلف، وثمرها في غلف الكُفُرَّاه: ما لم تنشق وهي كمه (¬7)، فإذا انشقت منها الكفراه فليست أكمامها. وقال الحسن وقتادة: أكمامها ليفها (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 64، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 262، و"جامع البيان" 27/ 7، و"الكشف والبيان" 12/ 35 أ. (¬2) انظر:، جامع البيان" 27/ 7، و"الكشف والبيان" 12/ 34 ب، و"الدر" 6/ 141. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 97، قلت: ولعل الصواب أن المراد بالأنام جمع ذوات الأرواح من الجن والإنس وغيرهم، فقد روى البخاري في "صحيحه"، كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، قال: قال ابن عباس: {الأنام} الخلق، وأخرجه ابن جرير في "جامعه" 7/ 17، من طريق علي بن أبي طلحة. (¬4) لم أجده. (¬5) عند تفسيره للآية (47) من سورة فصلت. وانظر: "تهذيب اللغة" 9/ 465، و"اللسان" 3/ 196 (كمم) (¬6) انظر: "جامع البيان" 7/ 27، و"معالم التنزيل" 4/ 267، عن ابن زيد. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314، والكافور: وعاء الطلح قبل أن ينشق. وهو الكَفَرُ، والكُفُرَّي، والكِفِوى، والكَفَرَّى، والكُفَرَّي. (¬8) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 262، و"جامع البيان" 27/ 7، و"الثعلبي" 12/ 35 أ.

12

قال أبو إسحق: ما غطى جمَّارهما من السعف والليف فهو من أكمام النخلة (¬1). والمفسرون على أن الأكمام أوعية الثمر كما ذكرنا، قال الليث: ولكل شجرة مثمرة كم، وهو برعومه (¬2). قوله: {وَالْحَبُّ} قال عطاء: يريد القمح (¬3)، وقال مقاتل والضحاك: يعني الشعير والحنطة (¬4)، وقال الكلبي: هو الحبوب كلها مما يحرث في الأرض من الحنطة والشعير وغير ذلك (¬5). والوجه الرفع في قوله: 12 - {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} نسقًا على قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ} وقرأ ابن عامر {والحب ذا العصف} نصبًا (¬6)، حمله على قوله {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا} مثل خلقها للأنام، وخلق الحب ذا العصف. واختلفوا في تفسير العصف، فقال الليث: العصف ما على حب الحنطة ونحوها من قشور التبن، قال: والعصف أيضًا ما على ساق الزرع من الورق الذي يبس فيتفتت، كل ذلك من العصف (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 97، والجُمَّارُ: بضم الجيم وفتح الميم مع تشديدها، هو جمار النخلة وهو لحمتها التي في قمة رأسها تقطع قمته ثم تكشط عن جمارة في جوفها بيضاء كأنها قطعة سنام ضخمة وهي رَحْحَةٌ تؤكل بالعسل. انظر: "اللسان" (جمر). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 466 (كمم). (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 135 أ، و"جامع البيان" 27/ 71. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314. (¬6) قرأ ابن عامر: {والحبَّ ذا العصف} بالنصب وقرأ الباقون {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} انظر: "حجة القراءات" ص 69، و"النشر" 2/ 38، و"الإتحاف" ص 45. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 41، و"اللسان" 2/ 796 (عصف).

وقال الفراء: العصف: بقل الزرع، يعني أول ما ينبت منه وهو ورق بعد، قال: والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه شيئًا قبل إدراكه فذلك العصف (¬1). وقال النضر: يقال: عصفنا الزرع نعصفه، أي: جززنا ورقه ليكون أخف للزرع، وإن لم يفعل مال بالزرع. (¬2) وقال ابن عباس: العصف والعصيفة ورق السنبل. (¬3) وقال أبو إسحق: العصف ورق الزرع، ويقال للتبن عصف وعصيفة، وأنشد أبو عبيدة: يُسقي مذانبَ قد مالتْ عَصيفَتُها ... حدودها من أتيّ الماء مطموم (¬4) فحصل من هذا الأقوال أن العصفَ ورق الزرع، ثم إذا يبس وديس صار تبنًا. وعلى هذا يدور كلام المفسرين. قال مجاهد: هو ورق الزرع، وهو قول مقاتل، وابن عباس في رواية الكلبي والعوفي (¬5). وقال قتادة: {الْعَصْفِ} التبن، وهو قول الضحاك، ورواية علي بن ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 113. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 41 (عصف). (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 157 ونسبه للهروي. (¬4) البيت لعلقمة بن عبدة، والمذانب الجداول التي يسيل فيها الماء، وطَمَّ الماء يَطِمُّ طَمًّا وطُمُومًا. علا وغمر، وكل ما كَثُرَ وعَلا حتى غَلَب فقد طَمَّ يَطِمُّ. انظر: "ديوان علقمة" ص 117، و"مجاز القرآن" 2/ 242، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 97، و"جامع البيان" 27/ 71، و"اللسان" 1/ 18 (ذنب)، 2/ 615 (طم)، 2/ 796 (عصف). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314، و"تفسير مقاتل" 135 أ، و"جامع البيان" 27/ 71.

أبي طلحة عن ابن عباس (¬1). وروى السدي عن أبي (¬2) مالك قال: هو أول ما ينبت (¬3). قال ابن كيسان: العصف: ورق كل شيء خرج منه الحب يبدو أولًا ورقًا، ثم يكون سوقًا، ثم يحدث الله فيه أكمامًا، ثم يحدث في الأكمام الحب (¬4). قوله تعالى: {وَالرَّيْحَانُ} قال أبو زيد: الريحان كل بقلة طيبة الريح، يقال للطاقة منها ريحانة، سميت ريحانة: لأن الإنسان يراح له رائحة طيبة إذا مسها، أي يدركها. قال: رحت الشيء أراح إذا أردت رائحته وهو فَعْلان من الرائحة والريح، وأصل الياء فيه واو قلبوها ياء فرقًا بينه وبين الروحان، وهو شيء له روح، ويقال: شيء ريحاني وروحاني، حكاهما ابن الأعرابي، وما يتركب من الراء والواو والحاء كثير، والأصل في ذلك الحركة والاهتزاز فالرائحة فاعلة من راحت الريح تروح روحانًا إذا تحركت، ذكر هذا كله أبو القاسم الزجاجي. وقال أبو علي: ويجوز أن يكون الريحان فَيْعِلانا، والعين محذوفة كأنه كان في الأصل ريوحان فلما اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 262، و"جامع البيان" 27/ 71، و"الكشف والبيان" 12/ 35 أ. (¬2) في (ك): (ابن). (¬3) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب التفسير، سورة الرحمن، 6/ 18.، قال: وقال أبو مالك: العصف أول ما ينبت. قال ابن حجر: وليس له -أي لابن مالك- في البخاري إلا هذا الموضع. "فتح الباري" 8/ 621، و"جامع البيان" 27/ 71، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 218، و"معالم التنزيل" 4/ 268، و"فتح القدير" 5/ 132.

بالسكون أدغم أحدهما في الآخر فقيل ريحان، ثم خفف كما قلنا في سيد وميت وهين (¬1). قال أبو القاسم: وسمت العرب الرزق ريحانا؛ لأن الإنسان يرتاح له (¬2) ويقوى به روحه، واللغة العرفية في الريحان أنه يطلق على ما له رائحة من الأنوار، وقال أبو عبيدة: الريحان الحب الذي يؤكل، ومنه يقال: سبحانك وريحانك، أي: رزقك، وأنشد للنمر بن تولب: سلام الإله وريحانُه ... ورحمتُه وسماءٌ دِرَرْ (¬3) وقال الفراء: والريحان في كلام العرب: الرزق، تقول: خرجنا نطلب ريحان الله ورزقه (¬4). وقال أبو إسحق: والعرب تقول: سبحان الله وريحانه. قال أهل اللغة: واسترزاقه، وأنشد بيت النمر، قال: معنى ريحانه: رزقه (¬5). قال مجاهد: الريحان الرزق. وهو رواية عكرمة والكلبي عن ابن عباس (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 245 - 246، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 157. (¬2) كذا في (ك)، ولم تتبين ليّ. (¬3) انظر: "المنصف" 2/ 11، و"مجاز القرآن" 2/ 243، و"تفسير غريب القرآن" ص 437، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 97، و"اللسان" 1/ 1247 (روح). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 113 - 114. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 97. (¬6) اظر: "تفسير مجاهد" 2/ 64، و"جامع البيان" 27/ 71، و"الكشف والبيان" 12/ 35 أ، و"صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، سورة الرحمن 6/ 73، قال: وقال مجاهد: العصف ورق الحنطة، والريحان الرزق.

قال المقاتلان: هو بلغة حمير (¬1). وقال الحسن وابن زيد: هو ريحانكم الذي يشم (¬2). واختلفوا في إعراب (الريحان) فقرأ الأكثرون بالرفع على معنى: وفيها الحب والريحان، وقرأ حمزة والكسائي بالخفض حملًا على (ذو) كأنه والحب ذو العصف وذو الريحان، أي: من الحب الرزق، وأريد بالريحان الرزق إذا خرج وخلص من لفائفه وهو رزق للناس، والعصف رزق للدواب، فذكر قوت الناس والأنعام كما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 53] وقال: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 73، عبس: 32] فكذلك العصف يختص بأنه رزق الأنعام، والريحان يعم الأناسي وغيرهم، ولا يجوز على هذه القراءة أن يكون الريحان المشموم (¬3)، واختار أبو عبيد هذه القراءة. قال: لأن الريحان في التفسير الرزق، والعصف الورق فيكون المعنى أن الحب ذو ورق ورزق، ومن رَفع الريحان على الابتداء صار التأويل في الحب أنه ذو ورق لا غير، ولا أحب هذا المعني. قال المبرد: الذي قال أبو عبيد يجوز، ولكن فيه بعد؛ لأن الحب هو الرزق نفسه ليس غيره فيبعد أن يقال للرزق ذو الرزق، إلا أن يحمل على ما قال مقاتل أن الريحان الرزق بلغة حمير، وهو ما يخرج من الحب من دقيق ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 135 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 25 أ، ونسبه لمقاتل بن حيان. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 71، و"الكشف والبيان" 12/ 35 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 268. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 245 - 246.

أو سويق أو غيره، قال: والوجه الرفع في الريحان؛ لأنه إن أريد بالريحان الرزق كان المعنى فيها: الحب ذو العصف: أي: الذي معه ورقه، وتم الكلام ثم قال: {الرَّيْحَانُ} أي الرزق المنفرد، وإن أريد بالريحان المشموم، ولذلك فهذه القراءة تحتمل القولين في تفسير الريحان. قال: والظاهر أن الريحان في هذا الموضع هو الذي يشم؛ لأن الريحان إذا جاء مطلقًا وقع على ما يشم، وهذا هو الأحسن في التفسير، لأنه لما قيل: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} كان ذلك جامعًا لأكثر المأكولات ثم ذكر بعدها ما يشم مما يخرج من الأرض؛ لأن النعمة على الناس عظيمة جليلة في المأكول والمشموم، والريحان إذا جاء بلا دليل انطلق على المشموم لأنه اسمه الخاص، وإذا عني بالريحان الرزق احتيج إلى أن يكون في الكلام ما يدل عليه كما قال سيبويه، يقال: سبحان الله وريحانه. تقديره: تسبيحًا واسترزاقًا (¬1). وقرأ ابن عامر: (والريحانَ) نصبًا اتباعًا لقوله: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} على قراءته (¬2). قال أبو علي: وانتصب ريحان فيما حكاه سيبويه انتصاب المصادر، وذكرنا في وزنه قولين، فإن قلنا وزنه فيعلان كان هذا اسمًا موضوعًا موضع المصدر؛ لأنه ليس في أبنية المصادر شيء على هذا الوزن فيكون كقولهم: تربا وجندلًا، ونحو ذلك مما وضع موضع المصادر، أو يجعله ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" 1/ 322. (¬2) قرأ ابن عامر {وَالرَّيْحَانُ} بالنصب، وقرأ حمزة والكسائي وخلف {وَالرَّيْحَانُ} في بخفض النون. وقرأ الباقون برفع النون {وَالرَّيْحَانُ}. انظر: "حجة القراءات" ص 69، و"النشر" 2/ 38، و"الإتحاف" ص 45.

13

مصدرًا اختص به المعتل كما اختص بكينونةٍ (¬1) وإن جعلته فعلًا بيكون مثل الكيان وليس هذا كما لزمه الانتصاب من المصادر نحو معاذ الله وسبحان الله ألا ترى أنه قد جاء مرفوعًا في بيت النمر ومجرورًا في قراءة حمزة (¬2). قال أبو إسحق: وقد ذكر الله -عز وجل- في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليم البيان ومن خلق الشمس والقمر والسماء والأرض. ثم خاطب الجن والإنس فقال: 13 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها مُنعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم والوصلة إلى حياتكم (¬3). وتقدم الكلام في تفسير الآلاء في سورة الأعراف (¬4)، قال الكلبي: فبأي آلاء ربكما يريد الإنس والجن (¬5). فإن قيل: على هذا إنما تقدم ذكر الإنس في قوله {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} ولم يجر للجن ذكر حتى يدخل في الخطاب، والجواب عن هذا ما ذكره الفراء قال: العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين فيقال: ارجلاها وازجراها (¬6) وقد ذكرنا هذا عند قوله {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وهذا الوجه اختيار ابن ¬

_ (¬1) قال ابن منظور: وكان الخليل يقول: كيْنونة فيعولة هي في الأصل كيونونة، التقت منها ياء وواو والأولى منهما ساكنة فصيرتا ياء مشددة مثل ما قالوا الهيّن من هُنْتُ، ثم خففوها فقالوا: كينونة كما قالوا: هَيْنٌ لَيْنٌ، انظر: "اللسان" 3/ 316 (كون). (¬2) تقدم توثيقها، وانظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 246. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 98. (¬4) عند تفسيره الآية (69) من سورة الأعراف وآلاء: النعم، واحدها أَلىّ بالفتح، وإليٌّ، وإلى. "اللسان" (ألا). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 314 (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 16.

الأنباري. وقال صاحب النظم: خاطب الجن مع الإنس، وإن لم يجر لهم ذكر كما أن يكنى عن الشيء، وإن لم يجر له ذكر كقوله تعالى {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬1). وذكر الأزهري قولين آخرين: أحدهما: أنه قد جرى ذكر الأنام وهحناه الجن والإنس، والثاني: أن الله تعالى خاطبهما قبل ذكرهما ثم ذكرهما معا بعقب الخطاب، وهو قوله: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} كما قال المثقب العبدي (¬2): وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني فقال أيهما، ولم يجر للشر ذكر إلا بعد تمام البيت الثاني (¬3). وهذا الوجه معنى قول أبي عبيدة والكسائي (¬4). وأما معنى تكرير هذه الآية في هذه السورة فقال أصحاب المعاني: معنى التكرير التقرير بالنعمة عند ذكرها على التفصيل نعمة نعمة، كأنه قيل: بأي هذه الآلاء تكذبان، ثم ذكرت آلاء أخر، واقتضت من التقرير بها ما اقتضت الأولى ليتأمل كل واحدة في نفسها وفيما تقتضيه صفتها وحقيقتها التي تنفصل بها من غيرها. ¬

_ (¬1) من آية (32) من سورة ص، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 158. (¬2) هو عائذ بن محصن بن ثعلبة، أبو عَدِيّ الملقب المثقَّب. من بني نُكْرَة. تقدمت ترجمته. والأبيات وردت في "مغني اللبيب" وشرح شواهده للسيوطي / 69، و"شرح المفصل" 9/ 138، و"المفضليات" ص 292، و"شرح شواهد الشافعية" ص 188. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 58 (نأم). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 243.

وشرح ابن قتيبة هذه الجملة شرحًا شافيًا فقال: إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه وذكّر عباده آلاءه، ونبههم على قدرته ولطفه بخلقه، ثم أتبع ذكر كل خلة وصفها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليفهمهم النعم، ويقررهم بها، وهذا كقولك لرجل أحسنت إليه دهرك وتابعت عليه الأيادي وهو في ذلك ينكرك ويكفرك: ألم أبوئك منزلًا وأنت طريد أتنكر هذا؟ ألم أحجج بك وأنت صرورة؟ ألم أحملك وأنت راجل؟ أفتنكر هذا (¬1)؟ وقال صاحب النظم: إن من عادة العرب الإيجاز والاختصار في بعض الأماكن والإشباع والتوكيد في بعض، والتكرير والإعادة إذا أرادوا الإبلاغ بحسب العناية بالأمر كما قال الحارث بن عباد (¬2): قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل من حيال وكرر ذكر قول (قربا مربط النعامة) في رؤوس أبيات كثيرة عناية بالأمر، وإرادة للإبلاغ في التثنية والتحذير وكذلك الجعفي (¬3) في قصيدته التي يقول فيها: وكتيبة لبستها بكتيبة حتى ... تقول نساؤهم هذا فتى ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 35 ب، 34 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 16، و"فتح القدير" 5/ 133، والصرورة الذي لم يحج. (¬2) الحارث بن عباد البكري، كان من حكام ربيعة وفرسانها المعدودين، ولد له عقب. توفي سنة 55 م. انظر: "الشعر والشعراء" ص 262، و"الكامل" 2/ 231، و"الأغاني" 5/ 4، و"الخزانة" 1/ 225، و"الأعلام" 2/ 156، والبيت ورد في "الحيوان" 1/ 22، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 27، و"المنصف" 3/ 59. (¬3) مرثد بن أبي حمران الجعفي، ولكنى أبا حمران. شاعر جاهلي. انظر: "الاشتقاق" ص 243، و"المؤتلف" ص 47، البيت ورد في "الأصمعيات" ص 142، ولفظه: وكتيبة وجهتها لكتبه حتى نقول سرائهم هذا الفتى.

14

فكرر هذه الكلمة في رؤوس أبيات منها، لأنه ذهب مذهب الحارث ابن عباد في العناية والتأكيد، وقال غيرهما: كم نعمة كانت لكم ... كم كم وكم (¬1) فكرر كم في بيت واحد أربع مرات تأكيدًا لفرط العناية بهذه الكلمة، فكذلك قوله -عز وجل- {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}، وقوله في {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬2)، وقوله {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (¬3) جاء هذا كله في التكرير والإعادة في الإبلاغ والتوكيد؛ لأنها كلها تحرير وتذكير وتنبيه (¬4). 14 - قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} تقدم تفسيره في سورة الحجر (¬5). قال أبو إسحاق: اختلفت الألفاظ فيما بدأ منه خلق آدم فقيل في موضع: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]، وفي آخر {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11]، وفي آخر {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]، وفي آخر من صلصال، وهذه الألفاظ راجعة في المعنى إلى أصل واحد، وهو التراب الذي هو أصل الطين، أعلم الله -عز وجل- أنه خلق آدم من تراب جعل طينًا، ثم ¬

_ (¬1) ورد البيت في "تأويل مشكل القرآن" ص 236، و"أمالي المرتضى" 1/ 84، و"الصباحي" ص 177، ولم ينسب لقائل. (¬2) [القمر: 17، 22، 32، 40، 51]. (¬3) [المرسلات: 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49]. (¬4) قلت: كلام الجرجاني هذا توضيح وبيان لما قاله أهل المعاني، وشرحه ابن قتيبة. وانظر: "روح المعاني" 27/ 97. (¬5) عند تفسيره الآية (26) من سورة الحجر. والصلصال من الطين ما لم يجعل خزفاً، سمي به لتصلصله. والصلصال الطين اليابس الذي لم تصبه النار، فإذا مسته النار فهو حينئذٍ فخار. "اللسان" 2/ 467 (صلل).

15

انتقل فصار كالحمأ المسنون، تم انتقل فصار صلصالًا كالفخار (¬1). فهذا كله أصله التراب وليس في شيء ينقض بعضه بعضا، قال أبو عبيدة: والفخار ما طبخ بالنار (¬2)، وقال المبرد: الفخار الخزف، كأنه والله أعلم طين من يبسه كالخزف (¬3). 15 - قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} تفسير الجان قد سبق في سورة الحجر (¬4)، قال أبو عبيدة: مارج من خلط (¬5) من نار. وقال الليث: المارج من النار: الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد (¬6). واختلف المفسرون في المارج فذكر الكلبي أنه نار لا دخان لها، منها تكون الصواعق (¬7)، والأكثرون قالوا إنه الصافي من لهب النار، وهو قول ابن عباس ومقاتل وعكرمة ومجاهد، قالوا: إنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 98. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 243. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 22، و"فتح القدير" 5/ 133. (¬4) عند تفسيره لآية (27) من سورة الحجر. وجَنَّ الشي يجنه جناً ستره. وكل شيء ستر عنك فقد جن عنه، والجّانُّ: أبو الجن، خلق من نار ثم خلق منه نسله. والجانُّ: الجنُّ. وهو اسم جمع كالجامل والباقر. انظر: "اللسان" 1/ 517 (جنن). (¬5) (ك): (خالص) وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 243. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 71، و"اللسان" 3/ 461 (مرج). (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 315. (¬8) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 64، و"تفسير مقاتل" 135 أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 232، و"جامع البيان" 27/ 74، و"الكشف والبيان" 12/ 36 أ.

17

قال المبرد: المارج كل ما أرسلِ غير ممنوع (¬1)، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} في سورة الفرقان (¬2) وقوله: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} في سورة ق. والمارج معناه في اللغة: المرسل والمختلط (¬3)، وكلاهما يحسن في صفة لهب النار وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله -عز وجل- {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21، القارعة: 7] والمعنى: ذو مرج (¬4). 17 - قوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} إجماع القراء على الرفع في رب المشرقين، قال أبو عبيد (¬5): لولا إجماعهم على الرفع لكان الخفض أحب إلى على النعت للاسم قبله. قال المبرد: الرفع على الاستئناف على قولك: هو رب المشرقين، وهو أحسن من البدل لأن أكثر الكلام إذا تكرر المنعوت الرفع على الابتداء كقوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ} [إبراهيم: 1، 2] وكان ينبغي لأبي عبيد أن يعلم أن اجتماعهم على الرفع قد دل على اختياره. قال المفسرون: يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وهما مشرقان، مشرق الأيام الطوال ومشرق الأيام القصار، وكذلك المغرب. 19 - قوله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} تفسير هذه الآية والتي بعدها قد ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 161، و"فتح القدير" 5/ 133. (¬2) عند تفشره الآية (53) من سورة الفرقان. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 71، و"اللسان" 3/ 461، (مرج). (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 161. (¬5) في (ك): (أبو عبيدة) والصواب ما أثبته.

20

تقدم في سورة الفرقان (¬1). والمعنى أن الله تعالى ذكر عظيم قدرته حيث خلى البحرين العذب والملح يلتقيان، أي: يلتقيين كما تقول: تركت زيدًا وعمرا يقتتلان - ثم لم يختلط أحدهما بالآخر، وهو قوله: 20 - {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} أي حاجز من قدرة الله تعالى، فلا ينبغي الملح على العذب فيفسده ولا يبغي على الملح فيختلط به. والمعنى لا يطلبان أن يخرجا مما حد لهما، هذا قول مقاتل وأكثر المفسرين (¬2). وقال الحسن وقتادة: (برزخ) يعني الأرض التي بينهما وهي الحجاز {لَا يَبْغِيَانِ} لا يطمان على الناس بالغرق (¬3)، والقول هو الأول؛ لقوله تعالى في سورة الفرقان: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}. 22 - قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} هو أكثر القراء (¬4) (يُخْرَج) بضم الياء وفتح الراء من الإخراج، لأنه يخرج ولا يخرج بنفسه، ومن قرأ يَخرج فهو اتساع، وذلك أنه إذا أخرج خرج (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجها. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 135 أ، و"جامع البيان" 27/ 75 - 76، و"الكشف والبيان" 12/ 36 ب. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 263، و"جامع البيان" 27/ 75، و"معالم التنزيل" 4/ 169. (¬4) في (ك): (القراءة). (¬5) قرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر، ويعقوب {يَخْرُجُ} بضم الياء وفتح الراء. وقرأ الباقون {يَخْرُجُ} فتح الياء وضم الراء. انظر: "حجة القراءات" ص 691، و"الحجة للقراء السبعه" 6/ 247، و"النشر". 2/ 38، و"الإتحاف" ص 45.

وقوله: (منهما) وإنما يخرج من أحط البحرين وهو الملح دون العذب، قال أبو عبيدة: العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما كقوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وإنما الرسل من الإنس، وتقول: أكلت خبزًا ولبنًا، وإنما يقع الأكل على الخبز (¬1)، وقال أبو إسحاق: إن الله تعالى قد ذكرهما وجمحهما فإذا أخرج من أحدهما فقد خرج منهما، ومثل ذلك قوله: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16] والقمر في السماء الدنيا إلا أنه لما أجمل ذكر السبع كأن ما في إحداهن فيهن (¬2). وقال مقاتل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} أي من الماءين جميعًا العذب والملح (¬3)، وهذا القول ذكره الأخفش فقال: زعم قوم أنه يخرج من العذب أيضًا (¬4). وقال أبو علي: هذا على حذف المضاف كما قلنا في قوله {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} [الزخرف: 31]. وأما تفسير اللؤلؤ والمرجان فقال الفراء: اللؤلؤ: العظام، والمرجان: ما صغر (¬5)، وهو قول جميع أهل اللغة في المرجان أنه الصغار من اللؤلؤ. قال الأزهري: ولا أدري أرباعي هو أم ثلاثي. وقال أبو الهيثم: اختلفوا في المرجان، فقال بعضهم: هو صغار ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 244، و"الكشف والبيان" 12/ 36 ب، ونسبه لأهل المعاني والكلبي. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 1. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 135 ب. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 163، و"فتح القدير" 5/ 134. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 3/ 115.

24

اللؤلؤ، وقال آخرون: هو الْبَسْتذ، وهو جوهر أحمر يقال إن الجن تطرحه في البحر (¬1)، وهو قول ابن مسعود في المرجان في هذه الآية، وعطاء الخراساني، قال عطاء عن ابن عباس: اللؤلؤ يريد الكبير، والمرجان الصغير، وهو قول الحسن وابن رزين (¬2) وقتادة (¬3). وذكر مقاتل على الضد من هذا فقال: اللؤلؤ الصغار والمرجان العظام، وهو قول مجاهد، والسدي، ومرة، ورواية عكرمة عن ابن عباس (¬4). 24 - قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن، واحدتها جارية، كقوله {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]. {الْمُنْشَآتُ} قال أبو عبيدة: المرفوعات المجريات (¬5) - ففسر المنشأت تفسيرين، أحدهما: المرفوعات، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض، وركب حتى ارتفعت وطالت وتمت، والمعنى أنشأ صنعتها وعليها (¬6)، الثاني: أنشأ إجراءها. والقراءة المعروفة فتح الشين، وقرأ حمزة بكسر الشين (¬7)، والوجه الفتح؛ لأنها أنشئت وأجريت، أي: فعل بها الإنشاء ولم تفعل ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 72 - 73 (مرج). (¬2) كذا في (ك) وعلها (ابن زيد). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 316، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 263، و"جامع البيان" 27/ 77. ولم أجد من نسب قوله (إن الجن تطرحه في البحر) لأحد، وإنما ذكره الأزهري دون نسبة، ولعله لا يصح ولا يستقيم. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 641، و"تفسير مقاتل" 135 ب، و"جامع البيان" 27/ 76. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 244. (¬6) كذا في (ك) ولم أتبين معناها. (¬7) قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {المنشِآت} بكسر الشين. وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "حجة الفراءات" 691 - 692، و"النشر" 2/ 381" و"الإتحاف" ص 46.

أنفسها، ووجه الكسر أن الفعل نسب إليها على الاتساع كما يقال: مات زيد، ومرض عمرو، ونحو ذلك، مما يضاف الفعل إليه إذا وجد فيه وهو في الحقيقة لغيره، فكأن المعنى المنشآت السير، فحذف المفعول للعلم به. وإضافة السير إليها اتساع أيضًا؛ لأن سيرها إنما يكون في الحقيقة بهبوب الريح أو دفع الصواري (¬1). قوله تعالى: {كَالْأَعْلَامِ} أي: كالجبال، والعَلَم الجبل، قال الفراء: وكل جبل طال فهو علم (¬2). قال جرير: إذا قطعنا علمًا بدا علم (¬3) وقالت الخنساء: وإن صخرًا (¬4) لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار قال مقاتل: شبه السفن في البحر كالجب الذي البر (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أن قلوع السفينة إذا رفعت كانت ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 248. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 3/ 115. (¬3) انظر: "ديوان جرير" ص 52، و"مجاز القرآن" 2/ 244، و "معاني القرآن" للزجاج 5/ 1. (¬4) هو صخر بن عمرو السلمي، شاعر جاهلي، كان حليمًا جوادًا بارًا بأخته الخنساء، أصيب بطعنة مات على أثرها. انظر: "المعارف" ص 85، و"الأغاني" 15/ 76، و"الإصابة" (في ترجمة الخنساء) 7/ 614، و "جمهرة أنساب العرب" ص 261، وبيت الخنساء في "ديوانها" ص 49، و"معنى اللبيب وشواهده" ص 566. (¬5) لم أجده.

26

كأنها الجبال، وقال الكلبي: شبهها بالجبال إذا رفع شروعها. (¬1) وقال مجاهد: ما رفع قِلْعُه من السفن فهي منشأة، وما لم يرفع قِلْعُها فليست منشأة (¬2)، واختار أبو عبيد فتح الشين وقال إن تفسيرهما التي رُفِع قلعها (¬3)، قال الزجاج: المنشآت المرفوعات الشُّرُع (¬4)، وهذا القول تفسير ثالث للمنشآت سوى الذين ذكرناهما. 26 - قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرض، وقد سبق ذكرها في قوله {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا}، والمعنى أن كل من دب ودرج على أرض من حيوان فهو (فانٍ) هالك، قال الكلبي ومقاتل: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فلما نزل {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أيقنت الملائكة بالهلاك (¬5). قال الشعبي: إذا قرأت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقول: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬6). وذكر أهل المعاني في الوجه هاهنا قولين: أحدهما: أن المعنى ويبقى ربك الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه، فالوجه على هذا عبارة عن الظهور. ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 316. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 641، و"جامع البيان" 27/ 78. (¬3) انظر: "حجة القراءات" ص 692. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 1/ 5. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 135 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 38 أ، عن ابن عباس، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 165، عن ابن عباس ومقاتل، و"شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 62. (¬6) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 272 - 273.

الثاني: ويبقى ربك وهو السيد المعظم، والوجه يذكر بمعنى الشيء المعظم كقولهم: هذا وجه القوم، ووجه التدبير، أي: التدبير المعظم (¬1)، ولا يجوز أن يكون الوجه هاهنا صلة لقوله (ذو) بالرفع وهو من صفة الوجه، ولو كان الوجه صلة لقيل ذي، ليكون صفة لقوله ربك، والجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح بإحسانه وإنعامه، وقال: جل الشيء، أي: عظم، وأجللته: أعظمته، والجلال اسم من جل، والجلال مصدر، قال الأصمعي: ولا يقال الجلال إلا لله تبارك وتعالى (¬2). قال أبو علي: قد جاء الجلال في غير الله سبحانه وأنشد: فلا ذا جلالٍ هبنه لجلال ... ولا ذا ضياع هُنَّ يتركن للفقر (¬3) هذا كلامه. ويجوز أن يكون البيت جاهليًّا، والأصمعي يقول: لا يقال ذلك بعد الإسلام، أي: لا يستحقه إلا الله سبحانه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 165، و"فتح القدير" 5/ 136. قلت: المراد بالوجه عند أهل السنة والجماعة في هذه الآية وما يماثلها (الذات) أي: تبقى ذاته -سبحانه وتعالى-. انظر: "مجموع الفتاوى" 2/ 434، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 973، و"روح المعاني" 27/ 18. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 488، و"اللسان" 1/ 487 (جلل). (¬3) البيت لهدبة بن خشرم العذري يصف المنايا وعمومها للخلق. وقد ورد في "شواهد سيبويه" 1/ 72، و"المفصل" 2/ 37، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 254. (¬4) قلت: تفسير كلام الأصمعي بقول المؤلف: أي لا يستحقه إلا الله سبحانه هو الصواب إن شاء الله. وأما البيت فهو لهدبة بن خشرم وهو شاعر إسلامى قتل ابن عمه زيادة بن زيد =

29

وللإكرام هاهنا معنيان. أحدهما: إكرام الله تعالى أنبياءه فهو مكرمهم بلطفه مع جلاله وعظمته. والآخر: إن الإكرام بمعنى الإعظام من العبد لله بعبادته والثناء عليه بإحسانه وإنعامه. والأول معنى قول الحسن: الذي يكرم أهل دينه وولايته (¬1)، ومعنى قول الكلبي: الكريم على خلقه في عفوه عنهم، والثاني معنى قول ابن عباس: الذي لا أكرم منه ولا أجل ولا أعظم (¬2). 29 - قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال أبو صالح: يسأله من في السموات الرحمة، ويسأله من في الأرض المغفرة والرزق (¬3). وقال مقاتل وابن جريج: يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة، وتسأله الملائكة لهم أيضًا الرزق والمغفرة (¬4) يدل على هذا قوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]. والوقف على (الأرض) حسن، لأن قوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} كلام ¬

_ = فأقيد به في أيام معاوية بن أبي سفيان، ويقال أنه أول من أقيد في الإسلام وعليه فلا محذور في إطلاق الجلال على المخلوق فلله تعالى الجلال المطلق الذي يليق به سبحانه وللمخلوق جلاله المناسب لحالته، والله تعالى أعلم. (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 221، و"معالم التنزيل" 4/ 27. (¬2) لم أقف عليه (¬3) وهو المروي عن ابن عباس أيضًا. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 317، و"الكشف والبيان" 12/ 38 ب، و"الوسيط" 4/ 221، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 166. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 135 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 27، و"البحر المحيط" 8/ 193.

آخر من نعت عظمته (¬1). وقال الأخفش: لا يحسن الوقف على (الأرض) لاتصال معنى الآية وذلك أنه أخبر في النصف الأول من الآية من سؤال الخلق إياه، والسؤال (¬2) مختلف؛ لأن كل أحد يسأل ما يهمه، ثم أخبر في آخر الآية أنه في شأن من إعطاء سؤلهم، وقضاء حوائجهم، وكفاية أشغالهم على ما يرى التدبير في ذلك. وكل يوم ينتصب بالظرف؛ لقوله {فِي شَأْنٍ} وقال يعقوب: انتصب {كُلَّ يَوْمٍ} بالسؤال، والمعنى: "سأله من في السموات والأرض كل يوم" وهاهنا الوقف، ثم قال {هُوَ فِي شَأْنٍ} أي ربنا في شأن على ما يذكر من تفسير ذلك الشأن، وهذا قول غير بعيد. قال أبو جعفر النحاس: وقال يعقوب {كُلَّ يَوْمٍ} فهذا الوقف التام، ثم قال النحاس: أما قول يعقوب فمخالف لقول الذين شاهدوا التنزيل (¬3). والذي يوافق ما ذكره المفسرون أن يكون {كُلَّ يَوْمٍ} ظرفًا لقوله {هُوَ فِي شَأْنٍ} لأنهم قالوا: من شأنه أن يحيى ويميت، ويرزق ويمنع، وينصر ويعز ويذل، ويفك عانيا ويشفي مريضا، ويجيب داعيًا ويعطي سائلًا، ويتوب على قوم، ويكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء. ذكر ذلك مجاهد، والكلبي، وعبيد بن عمير، وأبو ميسرة، وعطاء عن ¬

_ (¬1) انظر: "القطع والائتناف" ص 697 - 698، حيث قال: قال عيسى بن عمر: قال أبو حاتم: (يسأله من في السموات والأرض). تام، ثم قال جل وعز: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. (¬2) في (ك): (وسؤال). (¬3) انظر: "القطع والائتناف" ص 697 - 698.

ابن عباس (¬1)، ومقاتل، وذكر السبب في نزوله، فقال: إن اليهود قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا فأنزل الله في {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (¬2) ويؤكد ما ذكرنا ما روي عن عبد الله بن منيب (¬3) أنه قال: تلا علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية فقلنا: "يا رسول الله: وما ذاك الشأن؟ قال: يغفر ذنبًا ويفرج كربًا، ويرفع قوماً، ويضع آخرين" (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه الرواية عن عطاء. وانظر: "تفسير مجاهد" 2/ 642، و"جامع البيان" 27/ 78، و"العظمة" 2/ 479 - 488، ونحو هذا روى أبو الدرداء عن النبي في -صلى الله عليه وسلم- قال الألباني بعد ذكره لطرق الحديث: حديث صحيح، ورجاله موثقون، وفي هشام كلام، لكنه توبع. انظر: "تخريج السنة" 1/ 13. وذكر ابن كثير الرواية عن أبي ميسرة وعن غيره، ثم قال: دخل الكلام بعضهم في بعض وإسناد المؤلف -يعني أبا الشيخ- إلى أبي ميسرة صحيح. انظر: "تفسبر القرآن العظيم" 4/ 273. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 135 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 38 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 27. (¬3) عبد الله بن منيب؛ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 5/ 152، وذكره ابن حجر في "الإصابة" 3/ 374، ونقل عنه ابن السكن أنه قال: عبد الله والد منيب له صحبة. (¬4) أخرجه الطبراني، والبزار، وابن أبي حاتم، قال البزار: لا أعلم أسند عبد الله بن منيب إلا هذا الحديث. "تخريجات الكشاف" 4/ 162. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد" 7/ 117. واستشهد به الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 623، لحديث أبي الدرداء. وتعقبه الألباني بقوله: عمرو بن بكر السكسكي متروك كما في "التقريب" 2/ 66. قلت: فيتعجب منه كيف اعتبره شاهدًا مع هذا الضعف الشديد. "ظلال الجنة في تخريج السنة" 1/ 13 فالحديث ضعيف جدًّا؛ لأن عمرو بن بكر متروك وفيه عدة مجاهيل. "العظة" بتحقيق المباركفوري 2/ 483.

ويزيده وضوحًا ما روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن مما خلق لله -عز وجل- لوحًا من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور ينظر الله -عز وجل- فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، ولا يشغله شأن عن شأن، فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (¬1). ومعنى الشأن في اللغة: خطب له عِظَم، وجمعه شؤون. قال أبو الجوزاء (¬2) في هذه الآية: ولا يشغله شأن عن شأن (¬3)، ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 2/ 119، وفي سنده أبو حمزة الثمالي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن أبا حمزة الثمالي لم ينقم عليه إلا الغلو في مذهبه فقط. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 79، وأبو الشيخ في "العظمة" 2/ 492، 496، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 264، 426، موقوفاً على ابن عباس، كلهم عن أبي حمزة الثمالي، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" بسنده برقم (12511) وبرقم 506 موقوفاً على ابن عباس، ص 293. قال الألباني في تعليقه على الطحاوية: (إسناده يحتمل التحسين، فإن رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب، وهو الكوفي، قال فيه أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات" 2/ 32، وفي كتاب "العظمة" قال محققه بعد ذكره لطرق الحديث: وإذا ضم إلى هذا الطريق -أي طريق أبي الشيخ- الطرق التي أوردناها وفيها ما يحتمل التحسين يرتفع عنه الضعف ويصل درجة الحسن، و"العظمة" 2/ 494. وفي موقع آخر قال: ولكن للحديث طريق أخرى تجعل إسناده حسنًا موقوفًا من كلام ابن عباس 2/ 497 وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقاته على "الطحاوية" 2/ 344، بعد ذكره لتخريج الطبراني له: وسنده حسن. وانظر: "مجمع الزوائد" 7/ 191. (¬2) في (ك): (الجزاء) وانظر. "الدر المنثور" 6/ 143 - 144، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 415، و"اللسان" 2/ 258 (شأن).

31

هاهنا (¬1) واحد والمراد به الجمع كقوله {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] وإن شئت قلت: إن ما يحدثه الله تعالى كل يوم في خلقه شأن واحد، ولا تنافي بين هذه الآية وبين ما في الأخبار من سبق القضاء بالأمور، وذلك أن القضاء قد سبق قبل خلق الأجسام، والذي يحدثه الله كل يوم هو إيجاد ما سبق به القضاء، وهذا معنى ما قال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت (¬2). ولما ذكر أنه كل يوم هو في شأن ذكر فراغه من ذلك بمعنى تركه فعله فقال: 31 - {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} قال أبو عبيدة: سنحاسبكم، سنجمعكم ولم يشغله شيء تبارك وتعالى (¬3)، فذكر أبو عبيدة في تفسير الفراغ المحاسبة والجمع؛ لأن المعنى سنترك ذلك الشأن إلى هذا، وإنما حسن لفظ الفراغ لسبق ذكر الشأن، هذا وجه في معنى الفراغ في صفة الله تعالى، وهذا معنى قول الكلبي: سنحاسبكم (¬4). قال الفراء: وهذا من الله وعيد؛ لأنه لا يشغله شيء عن شيء، وأنت قائل للرجل الذي لا شغل له: قد فرغت لي، قد فرغت لشتمي، أي: أخذت فيه وأقبلت عليه، هذا كلامه (¬5)، ومعناه أنه وعيد بالمحاسبة ¬

_ (¬1) كذا في (ك) وظاهر العبارة يدل على سقط لعل استقامتها: ولفظه هاهنا واحد. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 167. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 39 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 27، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 176، ونسبه للكلبي. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 244، وفيه (سنحاسبكم، لم يشغله) ولم يذكر الجمع. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 317. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 116.

والمجازاة. سيأخذ في ذلك. وهذا قريب من قول أبي عبيدة. وقال أبو إسحاق: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما: الفراغ من الشغل، والآخر: القصد للشيء، تقول: سأتفرغ لفلان، أي سأجعل قصدي إليه، ومعنى {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سنقصد لحسابكم (¬1)، وهذا قول ابن الأعرابي في الآية (¬2)، واختيار أبي علي، قال: وليس الفراغ هاهنا فراغًا من شغل، ولكن تأويله القصد، كما قال جرير: الآن فَقَد فرغت إلى نمير ... فهذا حينَ صِرتُ لهم عَذَابا (¬3) وقال بعض أهل المعاني: ومعنى الآية: سنعمد عمد من يتفرغ للعمل لتجويده من غير تضجيع، وهذا من أبلغ الوعيد وأشده. وقال ابن قتيبة: الفراغ يكون من الناس بعد شغل، ثم قد ينتقل فيصير في معنى القصد للشيء، وذلك أنه إنما يقصد الشيء إذا فرغ مما يقطعه فيسمى القصد إلى الشيء فراغًا له كما كان يحصل عن فراغ من موانعه، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن فقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنقصد لكم بعد طول الترك والإمهال، وهذا معنى قول قتادة في هذه الآية: قد دنا من الله فراغ لخلقه (¬4)، أي: قصد لمحاسبتهم، يريد أن الساعة قد أزفت. وأما التفسير فأكثر المفسرين ذهبوا في تفسير هذا اللفظ إلى أنه وعيد ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 99. (¬2) في (ك) من قوله: (وهذا قريب) إلى هنا مكرر. وانظر: "تهذيب اللغة" 8/ 111 (فرغ). (¬3) ليس البيت في "ديوان جرير". وانظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 249، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 168، و"اللسان" 1/ 146 (أين). (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 264، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 273.

وتهديد، وهو قول مقاتل والضحاك، وابن عباس في رواية عطاء، قال: هذا تهديد منه لعباده (¬1). وذهب قوم إلى أن المعنى سنوفر عليكم ما وعدناكم من الحساب والجزاء بالثواب والعقاب وننجزه لكم، وهذا قول الحسن، وابن زيد، وابن كيسان (¬2). ويقال: فَرّغَ يَفْرَغُ وَيفْرُغُ وفَرغَ يَفْرَغُ. كل ذلك مروي عن أهل اللغة (¬3). وقراءة العامة (سنفرغ) بالنون. وقرئ بالياء على الغيبة (¬4) لتقدم قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}. وقوله: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} يريد الجن والإنس في قول الجميع. قال أهل المعاني: وإنما وصف الجنس والإنس بأنهما ثقلان لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما، فهما أثقل وزنًا لعظم الشأن بالعقل والتمكين والتكليف لأداء الواجب في الحقوق (¬5). وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: العرب تقول لكل شيء نفيس مصون: ثَقَل، وأصله من بيض النعام المصون، قال ثعلبة بن صُعير ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 135 ب، و"جامع البيان" 27/ 79، و"معالم التنزيل" 4/ 27. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 40 أ، ب، و"معالم التنزيل" 4/ 271، و"فتح القدير" 5/ 136. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 19، و"اللسان" 2/ 184 (فرغ). (¬4) (ك): من قوله (وقراءة العامة) إلى هنا مكرر. وقرأ حمزة، والنسائي، وخلف {سيفرغ} بفتح الياء وضم الراء. وقرأ الباقون {سَنَفْرُغُ} بالنون. انظر: "حجة القراءات" 692، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 248 - 249، و"النشر" 2/ 381، و"الإتحاف" ص 46. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 271، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 169.

المازني (¬1) يذكر الظليم والنعامة: فتَذَكَّرا ثقلًا رَثيدا بَعْدَما ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يمنيها في كافِر (¬2) ويقال للسيد العزيز: ثقل من هذا، وسمى الله -عز وجل- الجن والإنس الثقلين لتفضيله إياهما على سائر الحيوان المخلوق في الأرض بالتمييز والعقل اللذين خُصا به، ولهذا سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب الله وعترته (¬3) الثقلين فقال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" (¬4) لفضلهما وشرفهما، وقال غيره: إنما سميا ثقلين لثقلهما على الأرض أحياء وأمواتًا، وقد سمى الله تعالى الأموات أثقالا في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] ¬

_ (¬1) هو ثعلبة بن صغير المازني: شاعر جاهلي، وقد وقع خلط في وقت مبكر بينه والصحابي ثعلبة بن أبي صغير بن عمرو من بني عُذْرَة. انظر: "الشعر والشعراء" ص 285، و"الأمالي" 2/ 145، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" ص 58، و"الإصابة" 1/ 406، و"الأعلام" 2/ 83. (¬2) ورد البيت منسوبًا في "المحتسب" 2/ 234، و"المفضليات" ص 257، و"تهذيب اللغة" 9/ 78 (ثقل)، و"اللسان" 1/ 366 (ثقل)، وأماكن أخرى من الكتاب وهي المذكورة لاحقًا. والظليم: الذكر من النعام، والجمع أظلمةُ وظُلمان وظِلمانُ، اللسان 2/ 652 (ظلم). والرثد: بالتحريك متاع البيت، و"اللسان" 1/ 1122 (رثد). وذُكاءُ (بالضم): اسم الشمس معرفة لا ينصرف ولا تدخلها الألف واللام، و"اللسان" 1/ 1073 (ذكا). والكافر هنا هو المغيب، ويحتمل أن يكون أراد الليل، "اللسان" 3/ 274 (كفر). (¬3) عترته في تحديدها خلاف، والمشهور المعروف أنهم أهل بيته، وهم الذين حرمت طيهم الزكاة والصدقة المفروضة، وهم ذوو القربى الذين لهم خمس الخمس المذكور في سورة الأنفال. "اللسان" 2/ 677 (عتر). (¬4) رواه الترمذي في "سننه"، باب مناقب آل البيت، وقال. هذا حديث حسن غريب.

33

يعني موتاها، ومنه قول الخنساء: أبعد ابن عمرو من آل الشريد ... حلت به الأرض أثقالها (¬1) أي موتاها أي جعلته الأرض حلية أمواتها لفضله وشرفه (¬2). وروي عن الصادق أنه قال: سُميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب (¬3) ويدل على أن المراد بالثقلين الجن والإنس أن الله تعالى خاطبهما بعد هذا فقال: 33 - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل إن استطعتما؛ لأنهما إذا جمعا جمع (¬4) واحد كما قال {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] وكقوله {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النحل: 45] ولو قيل: إن استطعتم كان صوابًا كما قال {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ذكر ذلك الفراء والكسائي (¬5). قوله {أَنْ تَنْفُذُوا} يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية نفوذا أو نفاذا، ونفذ من الشيء خرج منه، والنفذ المخرج، يقال: لهذا الطريق نفذ إلى مكان كذا، أي: مخرج، والنفاذ: الجواز، وهذا يستعمل بالباء يقال: نفذ بالشيء كما يقال: مر بالشيء (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الخنساء" ص 120، و"الخصائص" 3/ 172، و"الأغاني" 3/ 131، و"اللسان" 2/ 296 (شرد) وبنو الشَّريج بطن من سُلَيْم. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 38، و"اللسان" 1/ 366 (ثقل). (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 40/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 231، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 169، و"فتح القدير" 5/ 137. (¬4) ظاهر العبارة غير مستقيم، وفي "الكشف والبيان" 12/ 40/ ب (ولم يقل إن استطعتما لأنهما فريقان في حال الجمع). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 116، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 169. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 436، و"اللسان" 3/ 686، و"المفردات" ص 500 (نفذ).

قوله: {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي من جوانبها ونواحيها. واحدها قطر وقتر (¬1). وفي تفسير هذه الآية قولان، أحدهما: أن المعنى: إن استطعتم أن تهربوا من الموت بأن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها، والمعنى أنكم حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] ولن تستطيعوا أن تهربوا من بالخروج من أقطار السموات والأرض، وهذا قول ابن مسعود ومقاتل، قال: إن استطعتم أن تنفذوا من أطراف السموات والأرض هرابًا من الموت فانفذوا {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} يقول: إلا بملكي حيث توجهتم فثم ملكي وأنا آخذكم بالموت (¬2)، وهذا إخبار عن عجزهم عن النفوذ من الأقطار، وأنهم في قبضة الجبار الذي لا يفوته مطلوب أين ما كان. ومعنى (السلطان) القوة التي يتسلط بها على الأمر، ثم الملك والقدرة والحجة كلها سلطان، يدل على أنه واحد. القول الثاني: أن الله تعالى يأمر الملائكة يوم القيامة فتحف بأطراف السموات والأرض فيكونون على أطرافها وتحضر جهنم فيسمع الجن والإنس زفيرها فيندون فيقال لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الآية، فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جن يخرج من أقطارها، والمعنى أن تنفذوا ¬

_ (¬1) أقطارها: نواحيها، واحدها قطر، وكذلك أقتارها، واحدها قُتْرٌ. "اللسان" 3/ 114 (قطر). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 136 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 271، وأورده الطبري في "تفسيره" 27/ 80، وغيره عن الضحاك.

35

من أقطارها هاربين من العقاب، فانفذوا، وهذا أمر تعجيز على القولين، والقول الثاني هو قول الكلبي والضحاك (¬1)، ويدل على صحته قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} في الخبر: "يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم، وذلك قوله تعالى: 35 - {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} " (¬2). قال أبو عبيدة: الشواظ النار التي تأجج لا دخان فيها، وأنشد لرؤبة فقال: إن لهم من وقعنا أقياظا ... نارَ حرب تُشعر الشواظا (¬3) وأنشد أيضًا لحسان: هجرتك فاختضعت بذل نفسي ... بقافية تأجج كالشواظ (¬4) قال الليث: وهو قول جميع أهل اللغة: الشواظ اللهب الذي لا دخان معه. قال ابن شميل: ويقال لحر النار شواظ، يقال: أصابني شواظ من ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 317، و"معالم التنزيل" 4/ 271. (¬2) كذا أورده الثعلبي بدون سند، انظر: "الكشف والبيان" 12/ 41 أ. (¬3) لم أجد البيت في "ديوانه"، وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 244، و"جامع البيان" 27/ 81، و"اللسان" 2/ 382، (شوظ) وأقياظ جمع: قيظ، وهو حميم الصيف، وهو من طلوع النجم إلى طلوع سهيل، والمراد بالنجم هنا الثريا. "اللسان" 3/ 202، (قيظ). (¬4) انظر: "ديوان حسان" 1/ 193، وروايته: مُجَلَّلَة تُغَمّمكمْ سناراً ... مضرمةً تأجج كالشواظ وفي "سيرة ابن هشام" 1/ 382 بدل قول المؤلف (هجرتك) قال (همزتك).

الشمس (¬1) إذا أصابك حرها ولم يصبك الضح (¬2). وقرأ ابن كثير (وشِواظ) بكسر الشين؛ وهي قراءة الحسن (¬3). قال الفراء والمبرد: وهما لغتان، كما قالوا لجماعة البقر صُوار وصِوار (¬4). قال أبو الحسن: وأهل مكة يكسرون الشواظ (¬5)، قال ابن عباس: يريد اللهب الذي لا دخان فيه، وهو قول المفسرين (¬6)، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار (¬7). وقوله {وَنُحَاسٌ} قال أبو عبيدة: النحاس الدخان وأنشد للجعدي: يضيئ كضوء سراج السَّليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا (¬8) ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 399، و"اللسان" 2/ 382 (شوظ). (¬2) كذا في (ك)، ولعلها (الفيح) وهو سطوع الحر وهيجانه. (¬3) قرأ الجمهور {شُوَاظٌ} بضم الشين، وقرأ ابن كثير والحسن، وابن محيصن، والأعمش بكسر الشين. انظر: "حجة القراءات" ص 692، و"النشر" 2/ 381، و"الإتحاف" ص 406. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 117، و"اللسان" 2/ 382 (شوظ)، 2/ 492 (حور). (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 249. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 318، و"الكشف والبيان" 41 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 271، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 171. (¬7) انظر: "جامع البيان" 27/ 81، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 274. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 244. والبيت في "ديوان النابغة" 75، و"شواهد الكشاف" ص 157، و"اللسان" 3/ 596 (نحس). والسَّلِيطُ عند عامة العرب الزيت، وعند أهل اليمن دُهْنُ السمسم. ورجح ابن منظور أنه الزيت. انظر: "اللسان" 2/ 182 (سلط).

وقال الليث: النحاس الدخان الذي لا لهب له. وهو قول عطاء، والكلبي، وسعيد بن جبير، والوالبي عن ابن عباس (¬1). وقال مجاهد، وقتادة: النحاس الصفر المذاب يصب على رؤوسهم. (¬2) قال مقاتل: يعني الصفر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار (¬3)، وهذا القول في النحاس هو رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول ابن مسعود. قال: النحاس المهل، ونحو ذلك قال الربيع: هو القطر (¬4). وأكثر القراءة الرفع في قوله {نحاس} بالعطف على قوله (شواظ) والمعنى: يرسل عليكما شواظ ويرسل نحاس، أي: يرسل هذا مرة وهذا مرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (ونحاسٍ) كسرًا (¬5). وهو ضعيف، لأن معنى الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه على ما ذكره أهل اللغة، والمفسرون فكيف يكون شواظ من نحاس، وإن جعلنا النحاس الصفر المذاب فهو ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 81، وهو اختياره، و"الكشف والبيان" 12/ 41 ب، و"الوسيط" 4/ 223، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 274. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 82، عن مجاهد وقتادة وسفيان، و"الكشف والبيان" 12/ 41 ب، وزاد نسبته لقتادة، و"معالم التنزيل" 4/ 272. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 136 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 41 ب. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 49 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 272، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 172. (¬5) قرأ الجمهور "ونحاسٌ" بالرفع، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وروح "ونحاسٍ". انظر: "النشر" 2/ 381، و"الإتحاف" ص 406.

أبعد (¬1). قال أبو علي: وهو يجوز من وجه على أن تقدره يرسل عليكما شواظ من نار وشيء من نحاس، يحذف الموصوف ويقيم الصفة مقامه، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] و {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} [النساء: 460] {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 10] وحذف الموصوف من هذا كله، كذلك في الآية، وقد جاء في الشعر: وما راعنا إلا يَسيرُ بشرطةٍ ... وعهدي به قينا يفش بكير (¬2) فإذا قدرت هذا التقدير كان الموصوف محذوفًا، والجار أيضًا يكون محذوفًا، لأن التقدير: وشيء من شواظ، وحذف من؛ لأن ذكره قد تقدم في قوله (من نار) فحسن ذلك حذفها، كما حسن حذف الجار من قولهم: على من تَنْزِلُ أنْزِلْ وكما أنشد أبو زيد: فأصبح من أسماء قيسٌ كقابض ... على الماء لا يدري بما هو قابض (¬3) أي: بما هو قابض عليه، فيكون انجرار {نحاس} على هذا بمن المضمرة لا بالإشراك في من التي جَرّت في قوله {من نار} وإذا كان كذلك ¬

_ (¬1) انظر: "حجة القراءات" ص 693. (¬2) البيت لمعاوية الأسدي كما في "الخصائص" 2/ 434، و"شرح المفصل" 4/ 27، و"التصريح بمضمون التوضيح" 1/ 268، و"شرح شواهد الألفية" للعيني 4/ 400. وفش الكبير هو نفخه، والكير هو زق أو جلد غليظ ذو حافات. انظر: "اللسان" 2/ 1097 (فشش)، 3/ 321 (كير). (¬3) البيت للعجاج. انظر: "ديوانه" 1/ 12.

37

لم يكن الشواظ الذي هو اللهب قسطًا من الدخان على أن أبا الحسن قد حكى عن بعضهم أنه قال: لا يكون الشواظ إلا من النار والدخان جميعًا، ونحو ذلك حكي عن أبي عمرو، وعلى هذا فالجر متجه وليس بممتنع (¬1). قوله تعالى: {فَلَا تَنْتَصِرَانِ} قال ابن عباس: يريد لا ناصر لكم من الله تعالى، وقال مقاتل (¬2): فلا تمتنعان من ذلك (¬3). 37 - وقوله {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً} قال أبو عبيدة: لونها كلون الورد (¬4). وقال الفراء: أراد بالوردة الفرس الورد، يكون في الربيع وردة إلى الصفرة فإذا استد البرد كانت حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغُبرة (¬5). قال ابن دريد: الوردة شقرة تعلوها صفرة، يقال: فرس ورد، والجمع وارد، وسمي الذي يسمى وردًا لحمرته، قال أبو القاسم الزجاجي: أصل الواو والراء مع الدال على هذا النظام موضوع في كلامهم للمجيء والإتيان، يقال: وردت أرد ورودًا، ووردت الماشية الماء ترد. ثم ¬

_ (¬1) من قوله: (قال أبو علي) إلى هنا كلام أبي علي رحمه الله. وانظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 250 - 252. قلت: وما قاله أبو علي كلام حسن، وفيه رد على من ضعف قراءة ابن كثير وأبي عمرو -رحمهما الله- وبيان لوجهها من الناحية اللغوية، وإذا صحت القراءة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما هنا فلن تعدم من يحتج لها من أهل العربية ولعل القصور في قواعد اللغة وليس في القراءة. والله أعلم. (¬2) في (ك): (مقاتلا). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 136 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 272. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 245. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 117.

من الناس من يقول إن العرب تسمي الأسد الورد لجرأته وتورده على فريسته، ومنه قول طرفة: كسيد الغضا نبهته المتورد هو المتقدم على فرسته الذي لا يدفعه شيء، ثم شبه لون هذا المتورد بلون الأسد لأن الغالب عليه الشقرة فسمي وردًا، هذا قول ابن درستويه النحوي (¬1)، وليس بمرتضى؛ لأنهم سموا الفرس الذي هو بين الكميت الأحمر وبين الأشقر ويضرب إلى الصفرة وردًا، والكلام على هذا من طريق التحقيق أن الورد عند العرب من الألوان لون أبيض ورد عليه لون الحمرة والصفرة، هذا قول أبي إسحاق الزجاج (¬2)، يقال: وردت المرأة خدها إذا أوردت عليه لونًا غير اللون الأصلي، قال: ونظير ذلك أنهم يسمون الظليم (¬3) أخرج، والنعامة خرجاء إذا كان لونها يجمع السواد والبياض كأن لونًا خرج إلى لون آخر، ورماد أخرج وبرمة خرجاء فيها حجارة سود وبيض، وهذا استعمل فيه معنى الخروج من شيء إلى شيء كما استعمل في الأول معنى الورود. قوله: {كَالدِّهَانِ} قال أبو عبيدة: جماعة دُهْن، وهو قول الفراء والمبرد والزجاج (¬4). وفي تفسير الآية قولان، أحدهما: وهو الذي عليه الأكثر أنه شبه ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 101. (¬3) الظليم هو ذكر النعام، وقد تقدم. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 117، و"مجاز القرآن" 2/ 439، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 101.

السماء في تلونها واختلاف ألوانها بالوردة، وهي الفرس التي تتلون ألوانًا، قال الكلبي: تتلون كما تتلون الفرس الورد (¬1). وقال الحسن: تلون ألوانًا (¬2)، ثم شبه هذا الفرس الذي يتلون بالدهان بقوله {كَالدِّهَانِ} قال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه (¬3)، وهذا قول الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع وأبي العالية وأكثر أهل التفسير (¬4)، واختلاف (¬5) الفراء والزجاج واحتج بقوله {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 5] أي كالزيت الذي قد أغلي، وذكر مقاتل السبب في تلون السماء. قال يعني فصارت من الخوف وردة (¬6). قال أبو إسحاق: تتلون من الفزع الأكبر كما يتلون الدهان (¬7)، وعلى هذا يجب أن يكون الله تعالى ركب فيها عقلًا حتى يصح خوفها. القول الثاني: أن المراد بالوردة هاهنا الحمرة والعرب تقول: عشية وردة إذا احمر أفقها عند غروب الشمس. وذلك علامة الجدب، ومنه قول زهير: ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 82، عن ابن عباس، و"معالم التنزيل" 4/ 272، وفي "الكشف والبيان" 12/ 42 أقال: كالأديم الأحمر. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 173، و"فتح القدير" 5/ 138. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 117. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 642، و"جامع البيان" 27/ 82، و"الكشف والبيان" 12/ 42 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 272. (¬5) كذا في (ك)، ولم يظهر لي معناها. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 136 أ. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 101.

39

عَلَونَ بأنماط عِتَاقٍ وَكلَّةٍ ... ورادٍ حَوَاشيها مُشاكِهَةِ الدَّم (¬1) شبه حمرة حواشيها بالدم، والدهان بالأديم الأحمر الصرف، ذكر ذلك أبو عبيدة والفراء وابن الأعرابي (¬2). ومعنى الآية أن الله تعالى أخبر أن السماء تحمر حتى تفسير كالأديم الأحمر، وهذا القول اختيار قطرب وابن الأعرابي. وذكر بعض أهل المعاني قولًا آخر، فقال: إن السماء تذوب يوم القيامة من حر نار جهنم فتصير حمراء ذائبة كالدهن وعلى هذا وقع التشبيه بالدهن في الذوبان والسيلان (¬3). 39 - وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} الآية، يعني: لا يسأل ليعرف ذلك بالمسألة، وليعرف المذنب من غيره، فلا يسأل سؤال إستفهام ولكن يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وهذا معنى قول مقاتل: لا يسأل لأن الله قد أحصى عمله (¬4)، ومعنى قول الحسن قد حفظ الله عليهم أعمالهم، وهو قول قتادة، ورواية العوفي عن ابن عباس، قالوا: لا يسألون ليعرف ذلك من جهتهم، لأن الملائكة قد كتبت عليهم أعمالهم، ولا يسألون هل عملتم ¬

_ (¬1) من معلقة زهير بن أبي سلمى. انظر: "ديوانه"، و"شرح المعلقات" للزوزني ص 6. والمعنى: أنه وصف الثياب الملقاة على الهودج بأنها حمر الحواشي، يشبه الوانها الدم في شجة الحمرة. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 117، و"تفسير غريب القرآن" ص 439، و"اللسان" 3/ 908 (ورد). (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 42 أ، ونسبه لابن جريج، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 173. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 136 أ.

كذا؟ ولكن يسألون لم عملتم كذا (¬1). وقال مجاهد: لا يسألون ليعرف المجرمون فإنهم يعرفون بسيماهم (¬2)، دليله قوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ} الآية. وقال عكرمة: إنها مواقف يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها (¬3). وقال الكلبي: هذا الفراغ من الحساب (¬4)، واختار ابن قتيبة هذا القول وشرحه فقال: إن يوم القيامة كما قال الله -عز وجل- {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ففي هذا اليوم يسألون، وفيه لا يسألون، لأنهم حين يعرضون يوقفون على الذنوب ويحاسبون فإذا انتهت المسألة وخبت الحجة انشقت السماء فكانت وردة كالدهان وانقطع الكلام، وذهب الخصام، واسودت وجوه قوم وابيضت وجوه آخرين، وعرف الفريقان بسيماهم. وقد حصل في هذا أربعة أقوال: أحدها: لا يسألون سؤال استفهام عن ذنوبهم، وهو اختيار الزجاج (¬5). والثاني: لا يسألون ليعفروا بذنوبهم وهو اختيار الفراء (¬6). والآخر: لا يسألون في بعض المواقف. والرابع: لا يسألون بعد الفراغ من الحساب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 265، و"جامع البيان" 27/ 83، و"الكشف والبيان" 12/ 42 أ - ب. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 83، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 174. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 42 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 275. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 174، و"فتح القدير" 5/ 138. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 101. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 117.

41

قوله تعالى: {إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، قال مقاتل: يقول إنسي ولا جني (¬1). والجان هاهنا واحد الجن، قال ثعلب، عن عمرو، عن أبيه: الجان من الجن وجمعه جنان (¬2)، ويدل على صحة قول مجاهد في هذه الآية. 41 - قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قال جماعة المفسرين: يعرف بسواد الوجوه وزرقة الأعين (¬3)، ودليل ذلك قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]. قال عطاء عن ابن عباس في تفسير المجرمين في هذه الآية: يريد أبا جهل والأسود والوليد والنضر. قوله تعالى {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} قال الكلبي: تأخذهم الملائكة وهم على الصراط بنواصيهم فيصرعونهم في النار (¬4). وروى الأعمش عن رجل عن ابن عباس قال يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ويطرح في التنور (¬5). وقال أبو إسحاق نجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار وذلك أشد لعذابهم والتشويه بهم (¬6)، ويقال لهم: 43 - {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} قال الكلبي: تقول الملائكة ¬

_ (¬1) انظر: "روح المعاني" 27/ 114، وليس في تفسير مقاتل. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 493، و"اللسان" 1/ 516 (جنن). (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 265، و"جامع البيان" 27/ 83. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 320، و"معالم التنزيل" 4/ 273. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث والنشور"، و"الدر" 6/ 145، وفي "تفسير ابن كثير" 4/ 275، عن الأعمش عن ابن عباس وذكره. (¬6) انظر: "معاني القران" 5/ 101 - 102.

44

لهم: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها أنها لا تكون (¬1). ثم أخبر عن حالهم فيها فقال: 44 - {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} قال أبو عبيدة: (آن) بلغ إناه في شدة الحر وكل مدركٍ آن (¬2). وقال الفراء: هو الذي قد انتهى شدة حره (¬3). قال الزجاج: أني يأني فهو آنٍ إذا انتها في النضج والحرارة (¬4). قال عطاء: يريد قد انتهى غليانه كقوله {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] يريد حارة (¬5)، وقال الحسن: قد بلغ منتهى حره، وهذا قول الجماعة (¬6). ومعنى الآية أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل، وهو قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا} [الكهف: 29] الآية، نستجير بالله برحمته منهما (¬7). قال أهل المعاني (¬8): وكل ما ذكر من قوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} إلى هنا مواعظ ومزاجر وتهدد ووعيد وزجر وتخويف وهي كلها نعمة من الله تعالى بالانزجار ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 325، و"الوسيط" 4/ 225. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 245. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 118. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 102. (¬5) لم أجده عن عطاء، وعن ابن عباس قال: يقول: غلي حتى انتهى عليه، ومثله عن الضحاك. انظر: "جامع البيان" 27/ 84. (¬6) قال ابن كثير: وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 276 (¬7) في (ك): (قوله تعالى) زيادة لا فائدة منها. (¬8) انظر: "الوسيط" 4/ 225، و"التفسير الكبير" 29/ 121.

46

به عن المعاصي ولذلك ختم كل آية بقوله {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. 46 - ثم أعلم -عز وجل- ما لمن اتقاه وخافه، قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وقد ذكرنا أن المقام يجوز أن يكون مصدرًا وموضعًا عند قوله {خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] وهاهنا أيضا يجوز المعنيان (¬1) فإن جعلته موضعًا كان المعنى مقامه بين يدي ربه للحساب، أي: المقام الذي يوقفه فيه ربه وإن جعلته مصدرًا جاز فيه وجهان، أحدهما: قيامه لربه يدل عليه قوله {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]، والآخر: قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه بالعلم، ويدل عليه قوله {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] الآية. والمفسرون على القول الأول في المقام، قال ابن عباس: يريد مقامه بين يدي ربه، خاف ذلك المقام فترك المعصية والشهوة (¬2) وقال مجاهد: إذا هم بمعصية فذكر مقام الله عليه في الدنيا فتركها (¬3). وعلى هذا المقام مصدر. قوله تعالى: {جَنَّتَانِ} كلام بعض المفسرين يدل على أن كل من ترك المعصية خوفًا من الله فله جنتان على حدته لا يشاركه فيهما غيره، وكلام بعضهم يدل على أنها جنتان لكل من خاف الله تبارك وتعالى بترك المعصية على المشاركة فيهما (¬4) وهذا معنى قول مقاتل يعني جنة عدن وجنة ¬

_ (¬1) في (ك): (المعنيين) المُقام والمُقامىُ: الموضع الذي تقيم فيه. والمُقامة (بالضم): الإقامة. والمَقامة (بالفتح): المجلس والجماعة من الناس. وأما المَقامُ والمُقامُ فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة "اللسان" 3/ 191، (قوم). (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 320، و"معالم التنزيل" 4/ 273. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 85، و"الكشف والبيان" 12/ 34 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 176. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 2/ 123، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 177.

النعيم (¬1)، ويدل على القول الأول ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في تفسير الجنتين "هما بستانان في رياض الجنة" (¬2). قال الفراء: وقد يكون في العربية جنة واحدة فثنيت لرؤوس الآي كما قال (¬3): ومَهْمَهَيِنْ فذفين مَرَّتَيْنِ ... قَطَعَّته بالأمَّ لا بالسمتين يرد مهما وسمتا واحدًا (¬4)، ويريد بالسمت اهتداء بنجم أو بعلامة. وأنكر ابن قتيبة ذلك أشد إنكار، وقال: نعوذ بالله أن نجيز على الله الزيادة والنقصان في الكلام لرأس آية كيف يكون هذا وهو يصفهما صفات الاثنين في قوله: ذواتا، وفيهما. ولو أن قائلًا قال في خزنة النار إنهم عشرون وإنما جعلهم تسعة عشر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 136 ب. (¬2) أخرج ابن مردويه عن عياض بن تميم أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا ... وذكر نحو هذا وزيادة، وذكره القرطبي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 177، و"الدر" 6/ 117، وهو المعنى المروي عن ابن عباس في "تنوير المقباس" 5/ 32. (¬3) البيت لخطام المجاشعي، وقيل لهيمان بن قحافة. وانظر: "الكتاب" 1/ 241، و"اللسان" 2/ 197، وفيه (بالأم) بدلا من (بالسَّمْتِ)، و"الخزانة" 1/ 367، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 10، وفي ألفاظه اختلاف. والمعنى في البيت أنه قطع المفازة على طريق وحجة لا على طريقين، وقال: قطعته، ولم يقل: قطعتهما. والسمت: السير على طريق ما لظن، وقيل: هو السير بالحدس والظن على غير الطريق. والأَمّ: القصد على طريق مستقيم. اللسان 2/ 197 (سمت)، 3/ 544 (مهمه) 1/ 101 (أمم). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 118.

48

لرؤس الآي، كما قال الشاعر (¬1): نحن بني أم البنين الأربعة وهم خمسة فجلهم للقافية أربعة ما كان في هذا القول إلا كالفراء (¬2). ثم وصفهما فقال: 48 - {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} قال أبو عبيدة: الأفنان: الأغصان واحدها فَنَن وهو الغصن المستقيم طولًا، ويقال لخصل الشعر أفنان تشبيها لها بالأغصان. ومنه قول حميد: يَنْقُضْنَ أفنانَ السَّبيبِ والعُذُرْ (¬3) يصف الخيل ويقصد خصل شعر نواصيها وعرفها، وقال المرار: أعلاقةً أمَّ الوُلَيدِ بعدَما ... أفْنانُ رأسِك كالثغام المُخْلِسِ (¬4) ¬

_ (¬1) البيت من الرجز، وهو للبيد، وعجزه: ونحن خير عامر بن صعصعه وانظر: "ديوانه" ص 340، و"الأغاني" 14/ 91، و"الكتاب مع شرح شواهده" للأعلم 1/ 327، و"الخزانة" 4/ 171. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 439 - 441. وقال النحاس: وهذا القول -أي قول الفراء- من أعظم الغلط على كتاب الله -عز وجل-، يقول الله -عز وجل- {جنتان} ويصفهما بقوله {فِيهِمَا} فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 177. (¬3) "اللسان" 2/ 1138 ولم ينسبه. والسبيب: من الفرس شعر الذنب والعرف والناصية. "اللسان" 2/ 79 (سبب). والعُذُرُ: جمع عذار وهو ما وقع منه على خدي الدابة. وقيل: عذَارُ اللجام السيران اللذان يجتمعان عند القفا. "اللسان" 2/ 718 (عذر). (¬4) ورد البيت منسوبًا في "الكتاب مع شرح شواهده" للأعلم 1/ 60، و"المقتضب" 2/ 54، و"تهذيب اللغة" 15/ 466 (فنن)، و"أمالي الشجري" 2/ 242، و"الخزانة" 4/ 493.

يعني: خُصَلَ جُمَّة رأسها حين شابت (¬1). وقال أبو إسحاق: الأفنان: الألوان (¬2)، فقال أبو الهيثم: فسره بعضهم ذواتا أغصان وبعضهم ذواتا ألوان واحدتها حينئذ فن وفنن، كما قالوا: سن وسنن، وعن وعنن، قال الأزهري: واحد الأفنان إذا أردت بها الألوان فن، وإذا أردت بها الأغصان فنن، والفن الضرب من كل منها، وجمعه فنون وأفنان. وأنشد الليث (¬3): قد لَبِسْتُ الدَّهْر من أفنْانِه ... كل فنّ ناعمٍ منه حَبِرْ وذكر المفسرون أيضًا القولين، فقال مجاهد: أغصان، وهو معنى قول الحسن: ذواتا ظلال لأنه يريج ظل الأغصان وقد صرح به عكرمة فقال: ظل الأغصان على الحيطان، وهذه رواية عطية عن ابن عباس، والكلبي (¬4). وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة، وهو قول سعيد بن جبير (¬5). وجمع عطاء بين القولين فقال: يريد في كل غصن فنون من الفاكهة قال والفنون أصناف (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 466، و"اللسان" 2/ 1138 (فنن). (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 102. (¬3) البيت للمرار بن منقذ العدوي كما ذكر في "المفضليات" ص 82، و"تهذيب اللغة" 5/ 34، (حبر) والحبر: النعم. وقال شمر: الحبر صفرة تركب إنسان وهي الحِبْرَةُ. وانظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" 2/ 1137 (فنن). (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 86، و"الكشف والبيان" 12/ 43 ب، و"الوسيط" 4/ 226، و"معالم التنزيل" 4/ 274. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 86، و"معالم التنزيل" 4/ 274. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 226، و"معالم التنزيل" 4/ 274.

50

50 - قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} قال عطاء عن ابن عباس: عينان مثل الدنيا أضعافًا مضاعفة حصباؤها الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ترابها الكافور، وجماتها المسك الأذفر، وحافاتها الزعفران (¬1). وقال الحسن: تجريان بالماء الزلال إحداهما السلسبيل والأخرى النسيم (¬2). 52 - قوله تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي ضربان وصنفان ونوعان، كل هذا من ألفاظهم، والمعنى أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبًا ويابسًا، لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، ولا رطبه عن يابسه في العدم (¬3) كما يكون في الدنيا، وقيل: ضربان: ضرب معروف، وضرب من شكله غريب (¬4). قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا} قال صاحب النظم: (متكئين) حال للذين ذكروا في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ} (¬5) و (من) ينبئ عن الجميع. وقوله: {بَطَائِنُهَا} جمع بطانة، وهي التي تحت الطهارة، وذكرنا تفسيرها عند قوله: {بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118]. قال أبو إسحاق: وهي ما يلي الأرض (¬6). ¬

_ = قال ابن كثير -بعد ذكره للأقوال- وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها، والله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 277. (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 178 - 179. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 43 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 274. (¬3) كذا في (ك)، والوسيط ولم أتبين معناها. (¬4) "جامع البيان" 27/ 86، و"معالم التنزيل" 4/ 274. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 313، و"البحر المحيط" 8/ 197. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 104، و"فتح القدير" 5/ 141.

وقال الفراء: أراد بالبطائن الظواهر، وقد يكون بالبطانة ظهارة والظهارة بطانة، وذلك أن كل واحد منهما يكون وجهًا، وقد تقول العرب: هذا ظهر السماء لظاهرها الذي نراه. وحكي عن ابن الزبير أنه ذكر قتلة عثمان فقال: قتلهم الله شر قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب، يعني: هربوا ليلًا فجعل ظهور الكواكب بطونا (¬1)، وهذا قول مقاتل قال: يعني ظواهرها (¬2). ونحو ذلك قال المؤرج، قال: وهو بلغة القبط، وأنكر ذلك ابن قتيبة وقال: هذا من عجيب التفسير، كيف تكون البطانة ظهارة والطهارة بطانة، والبطانة ما بطن من الثوب وكان من شأن الناس إخفاؤه، والظهارة ما ظهر وكان من شأن الناس إبداؤه، وإنما يجوز ما قاله الفراء في ذي الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قومًا كحائط يلي أحد صفحيه قومًا والصفح الآخر قومًا أخرى فكل وجه من الحائط ظهر لمن يليه وكل واحد من الوجهين ظهر وبطن وكذلك وجها الجبل وما شاكله، ويجوز أن يجعل ما يليهما من وجه السماء والكواكب ظهرًا وبطنًا وكذلك سقوف البيت، فأما الثوب فلا يجوز أن يكون بطانته ظهارة، وظهارته بطانة، ولا يجوز لأحد أن يقول لوجه المصلى هذا بطانته ولما ولي الأرض ظهارته، وإنما أراد الله تعالى أن يعرفنا من حيث نفهم فضل هذه الفرش، وإنما ولي الأرض منها استبرق وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 118، و"الكشف والبيان" 12/ 44 أ، و"تفسير غريب القرآن" 441. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 136 ب، وذكره القرطبي 17/ 18 عن الحسن. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 441 - 442.

ويؤكد قول ابن قتيبة ما روي عن ابن مسعود أنه قال: أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر (¬1). وقال أبو هريرة: هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر (¬2)، وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظواهر، فقال: هذا مما قال الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وقال أيضًا: الظواهر من نور جامد (¬3)، وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر (¬4). وقوله: {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} قال المفسرون يعني: ما غلظ من الديباج، وذكرنا الكلام فيه في سورة الكهف (¬5). قوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} الجنى: ما يجتنى من الثمار، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدًا وإن شاء مضطجعًا (¬6)، وقال قتادة: لا يرد يده بُعدٌ ولا شوك (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 86، و"معالم التنزيل" 4/ 274، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 277. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 44 أ، و"زاد المسير" 8/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 179. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 86، و"الكشف والبيان" 12/ 44 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 274، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 179. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 274، و"زاد المسير" 8/ 121. (¬5) عند تفسيره الآية (31) من سورة الكهف. وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 118، و"اللسان" 1/ 197 (برق). (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 4/ 321، و"الوسيط" 4/ 227، و"ابن كثير" 4/ 277. (¬7) انظر: "تفسير عبدالرزاق" 2/ 265، و"جامع البيان" 27/ 87.

56

وقال أبو إسحاق: تدنو منهم حتى يتناولوه بأفواههم أو بأيديهم (¬1). قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}، قال مقاتل: يعني في الجنتين اللتين ذكرتا بعد في قوله {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال: وهي جنة عدن، وجنة النعيم، وجنة الفردوس، وجنة المأوى (¬2) فقال أبو إسحاق: قوله (فيهن) وإنما ذكر جنتين يعني في هاتين الجنتين، وما أعد لصاحب هذه القصة غير هاتين الجنتين (¬3). وقال غيره من أهل المعاني (¬4): الضمير يعود على الفرش وهي أولى بالعود عليها من الجنان لتقدم ذكرها، قال: ويجوز أن يرجع إلى الجنان لأنها معلومة فصارت كأنها قد ذكرت. 56 - وقوله {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي حور ونساء قاصرات الطرف، وقد تقدم تفسيرها عند قوله {وَعِندَهُم قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} (¬5). قال ابن عباس: قصرت طرفها على زوجها فلا ترى أن خلقًا أكرم على الله منه ولا أجمل ولا أحسن (¬6)، وقال ابن زيد: إنها لتقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 104. (¬2) انظر: "تفسر مقاتل" 136 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 103، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 18. (¬4) قال الزمخشري: {فِيهِنَّ} في هذه الآلاء المعهودة من الجنين والعينين والفاكهة والفرش والجني، أو في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس. "الكشاف" 4/ 54. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 87، و"الكشف والبيان" 12/ 44 ب، و"البغوي" 4/ 275. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 247.

وجعلك زوجي. قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} قال أبو عبيدة: لم يمسهن، يقال: ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه. ونحو ذلك أخبرني العروضي (¬1) عن الأزهري قال: أخبرني المنذري، عن ابن فهم، عن محمد بن سلام، أنه سأل يونس عن قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} فقال: تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي لم يمسه (¬2). وروى سلمة عن الفراء قال: الطمث الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية، والطمث هو الدم، وفيه لغتان: طَمَثَ يَطْمُثُ ويَطْمِثُ (¬3). وقال الليث: طمثت الجارية إذا افترعتها، والطامث في اللغة هي الحائض، قال أبو الهيثم: يقال للمرأة طمثت تطمث أي أدميت بالافتضاض، وطَمَثَتْ على فعلت تطمث، إذا حاضت أول ما تحيض وهي طامث، وقال في قول الفرزدق (¬4): خرجن إليّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصحُّ من بيض النعامِ أي: لم يمسسن (¬5). قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن، هذه ألفاظهم (¬6)، وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول: هن اللواتي أنشئن في الجنة من ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن عبد الله العروضي الصفار، تقدمت ترجمته. (¬2) انظر: "اللسان" 2/ 612 (طمث) ذكر المعنى ولم يورد الرواية، ولم أقف عيها في "تهذيب اللغة". (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 119، و"اللسان" 2/ 612 (طمث). (¬4) انظر: "ديوان الفرزدق". (¬5) انظر: "اللسان" 2/ 612 (طمث). (¬6) وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وابن زيد والكلبي وغيرهم. =

حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقًا آخر أبكارًا كما وصفن. قال الشعبي: نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ أنشئن خلقًا (¬1). وقال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: هن الآدميات اللاتي متن أبكارًا (¬3). وقال الكلبي: لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان (¬4). قال أبو إسحاق: وفي هذه الآية دليل أن الجني يغشى كما أن الإنسي يغشى (¬5)، وهذا مذهب ضمرة بن حبيب (¬6) سئل: هل للجن من ثواب؟ فقال: نعم، وقرأ هذه الآية. ثم قال: الإنسيات للإنس، والجنيات للجن (¬7). وقال مجاهد في هذه الآية: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان ¬

_ = انظر: "جامع البيان" 27/ 87، و"الكشف والبيان" 12/ 44 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 275، و"زاد المسير" 8/ 122. (¬1) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر. انظر: "الدر" 6/ 148، و"معالم التنزيل" 4/ 275. (¬2) قاله مقاتل ومجاهد. انظر: "تفسير مقاتل" 136 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 181. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 227، و"معالم التنزيل" 4/ 275، و"روح المعاني" 27/ 119. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 103. (¬6) هو ضمرة بن حبيب بن صهيب الزُبيدي، أبو عتبة الحمصي، ثقة، مات سنة ثلاثين ومائة، أخرج له الجماعة. انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 464، و"تقريب التهذيب" 1/ 374، و"تهذيب التهذيب" 4/ 459. (¬7) انظر: "جامع البيان" 27/ 88، و"الكشف والبيان" 12/ 45 أ، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 278، و"الدر" 6/ 148.

58

على إحليله فجامع معه (¬1). والضمير في قوله: {قَبْلَهُمْ} للمعنيين بقوله {مُتَّكِئِينَ} وهم أزواج هؤلاء النسوة. 58 - قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قال عامة المفسرين (¬2): أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان، يدل على هذا ما قال عبد الله: إن المرأة من نساء أهل المجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن، ذلك بان الله يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} ألا وإن الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكًا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر (¬3). 60 - قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} هذا استفهام معناه النفي، أي: ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 88، و"الكشف والبيان" 12/ 44 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 181. (¬2) وممن قال بهذا عمرو بن ميمون، والحسن، وقتادة، وابن زيد، والسدي، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 136 أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 265، و"جامع البيان" 27/ 88، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 278. (¬3) أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب في صفة نساء أهل الجنة، وابن جرير في "تفسيره" 27/ 88، وابن أبي حاتم، كما ذكر ابن كثير في "تفسيره" 4/ 278، وغيرهم، عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم من طريق عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب، وأخرجه الترمذي وابن جرير من طرق أخرى، وفيها عطاء بن السائب موقوفاً. وقال الترمذي: هو أصح، وعطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. وذكر الطحاوي أن حديثه الذي كان منه قبل تغيره يؤخذ من أربعة لا من سواهم وهم شعبة وسفيان الثوري وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد. انظر: "الكواكب النيرات" ص 325. وهذا الحديث ليس من طريق هؤلاء، وهو ضعيف بهذا الإسناد. وفي معناه ورد =

الآخرة، قاله الزجاج (¬1). قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا الجنة (¬2)، وقال مقاتل: هل جزاء التوحيد إلا الجنة (¬3). وقال السدي: هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلا الكرامة في الجنة (¬4). هذا معنى قول الجميع (¬5)، وروي هذا المعنى مرفوعًا رواه ابن عمرو وابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "يقول الله تعالى: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحضرة قدسي برحمتي" (¬6). ¬

_ = أحاديث صحيحة منها ما أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، وأنها مخلوقة، 4/ 141، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها. والله أعلم. وانظر: "العظمة" 3/ 1082 - 1083. (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 103. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 325، و"الوسيط" 4/ 227، و"معالم التنزيل" 4/ 276. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 136 ب. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 46 أ. (¬5) قال الرازي: وفيه -أي الآية- وجوه كثيرة حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول. ومنها هذه الآية. انظر: "التفسير الكبير" 29/ 131. (¬6) رواه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 89، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 123، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 276، قال محقق "زاد المسير": رواه البغوي في تفسيره وفي إسناده ضعف. وقال السيوطي في "الدر" 6/ 148: أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 278، والألفاظ تختلف عما ذكره المؤلف. وطريقته كما هو معلوم الرواة بالمعنى، ولكثرتها لم أتطرق إلى ذكر الاختلاف فيها، والله أعلم.

62

62 - قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال ابن عباس: يريد أدنى من الأوليين (¬1). قال ابن جريج: هي أربع: جنتان للمقربين السابقين كما وصفنا وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين (¬2) كما وصفنا فيما بعد. ونحو هذا قال مقاتل (¬3)، وهو قول أكثر المفسرين أن هاتين دون الأوليين في الفضل، ذكر ذلك ابن زيد والكلبي وغيرهما (¬4). وذهب الضحاك إلى ضد ما ذكر هؤلاء فقال: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة، والآخريان من ياقوت وزمرد، وهما أفضل من الأوليين (¬5). وعلى هذا قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا} أي ومن أمامهما وقبلهما وهو قول الكسائي وذكرنا معاني (دون) عند قوله: {شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 23]. 64 - ثم نعتهما فقال: {مُدْهَامَّتَانِ} قال أبو عبيدة: من خضرتهما قد اسودتا من الري (¬6). قال أبو إسحاق: وكل نبت اخضر، فتمام خضرته وريّه أن يضرب إلى السواد (¬7). ومعنى الدَّهْمَةَ في كلام العرب السواد، يقال: أدهم بيّن الدهمة ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 325، و"معالم التنزيل" 4/ 276. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 46 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 276، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 183. (¬3) انظر: "نفسير مقاتل" 137 أ. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 89، و"الكشف والبيان" 12/ 46 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 276. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 276، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 184. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 246. (¬7) انظر: "معانى القرآن" 5/ 103.

وادْهامَّ ادْهيمامًا، وقال الليث: ادْهامَّ الزرع إذا علاه السواد رِيًّا (¬1). قال ابن عباس: شديد الخضرة إلى السواد (¬2). وقال الكلبي: خضراوان قد علاهما سواد من شدة الخضرة والري (¬3)، وهذا معنى قول الجميع، والأصل في ذلك أن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، وسميت العرب الأخضر أسود والأسود أخضر، قال ابن الأعرابي: الخضرة عند العرب سواد، وأنشد القطامي: يا ناق خُبِي خَبَبَاَ زِوَرَّا ... عارضي الليلَ إذا ما اخْضَرَّا ومنه قيل لليل المظلم أخضر، قال ذو الرمة: في ظِلّ أخضر يَدْعُو هامَة البُومُ (¬4) ومن هذا يقال أباد الله خضراءهم أي سوادهم هذا في الأسود الذي وصف بالخضر، وأما الأخضر الذي وصف بالسواد فهو قول ذي الرمة أنشده ابن قتيبة في تفسير هذه الآية يصف غيثًا: كسا الأكم بهمى غَضَّةَ حَبَشِيَّةً ... توامًا ونُقعانُ الظَّهورِ الأقارعِ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 224، و"اللسان" 1/ 1026 (دهم). (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 184. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 325، و"معالم التنزيل" 4/ 276. (¬4) وصدره: قد أعْسِفً النازحَ المجهولَ مَعْسِفُهُ وانظر: "الديوان" 1/ 401، و"الحيوان" 6/ 175، و"تهذيب اللغة" (خضر). والعسف: ركوب الأمر بلا تدبير ولا روية 7/ 99 ورواية الديوان: في ظل أعصف يدعو هامهُ اليوم (¬5) البيت في "ديوانه"، و"اللسان" 3/ 66 (قزع). والبُهمى: نبت تجد به الغنم وجدًا شديدًا ما دام أخضر، والقعان: جمع (نقع) وهو مجتمع الماء. والظهور القوارع: الأراضي المرتفعة الشديدة الصلبة.

66

فجعلها حبشية لما اشتدت خضرتها (¬1). وكذلك قوله أيضا أنشد أبو علي في تفسير هذه الآية: حواء قرحاء أَشْرَاطِيَّةُ وكفت ... فيها الذَهابُ وَحَفَّتْها البراَعِيمُ (¬2) يصف روضة بشدة الخضرة فجعلها حواء. قال أبو علي: وعلى ضد هذا وصف الجدب البياض فقيل سنة شهداء من ذلك قول أوس: علي دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع (¬3) فقوله: تلمع؛ معناه أنه لا خصب فيها ولا نبات. 66 - وقوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} قال أبو عبيدة: فوارتان. قال الليث: النضخ فور الماء من العين (¬4). وقال المبردت النضاخة الرفاعة بالماء. واختلفوا في الذي تنضخ به العينان، فقال عطاء عن ابن عباس وابن مسعود وأنس: تنضخ على أولياء الله المسك والعنبر والكافور، وفي دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر (¬5)، وقال الحسن وعطاء الخراساني: تنبعان ثم تجريان (¬6)، وهو قول سعيد بن جبير، وزاد فقال: نضاختان ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 442 - 443. (¬2) انظر: "الكامل" 3/ 36. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 111 (نضخ). (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 46 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 276، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 185. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 46 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 185.

68

بالماء وألوان الفواكه (¬1). وقال الكلبي: نضاختان بالخير والبركة على أهل الجنة، وهو قول قتادة ومقاتل والضحاك (¬2). 68 - قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قال المفسرون: يعني ألوان الفاكهة وألوان الرمان. قال ابن عباس: والرمانة مثل جلد البعير المقتب (¬3)، وثمر النخلة والرمان من جملة الفاكهة غير أنهما ذكرا على التفصيل للتفضيل فأخرجا من الجملة بالذكر كقوله {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فأعاد الوسطى بعد أن ذكرها في الجملة تشديدًا لها. كذلك أعيد النخل والرمان ترغيبًا لأهل الجنة هذا قول الفراء (¬4). وقال أبو إسحاق: قال يونس النحوي -وهو يتلو الخليل في القدم ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 185، و"الدر" 6/ 15. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 325، و"تفسير مقاتل" 137 أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 266، واختار الطبري قول من قال بأن المراد تنضخان بالماء؛ لأنه المعروف بالعيون إذ كانت عيون ماء. "جامع البيان" 27/ 91، وأخرج البخاري عن ابن عباس في قوله {نَضَّاخَتَانِ} قال فياضتان. "صحح البخاري"، كتاب: التفسير، سورة الرحمن 6/ 181. قلت: ولا تعارض بين ما رواه البخاري، وما رجحه ابن جرير؛ لأن الماء هو مصدر الخير كله والله أعلم. (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" 12/ 47 أ، من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو هارون اسمه عمارة بن حديث، ضعيف جدًّا، و"تخريجات العراقي لإحياء علوم الدين" 4/ 542، وذكره القرطبي 17/ 186، وابن كثير في 4/ 279، من حديث أبي سعيد الخدري يرفعه، ونسبا تخريجه لابن أبي حاتم. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 119.

والحذق- أن الرمان والنخل من أفضل الفاكهة، وإنما فصل بالواو لفضلهما، واستشهد في ذلك بقوله جل وعز {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] قال فصل بالواو لفضلهما (¬1). وغلط أهل العراق حين لم يجعلوا الحالف أن لا يأكل الفاكهة حانثا بأكل الرمان والتمر وظنوا أنهما لما ذكرا بعد الفاكهة ليسا من الفاكهة (¬2) وهو خلاف قول جميع أهل اللغة ولا حجة لهم في الآية. قال الأزهري: ما علمت أحدًا من العرب قال في النخيل والكُروم وثمارها إنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال ذلك لقلة علمه بكلام العرب وعلم اللغة وتأويل القرآن العربي المبين، والعرب تذكر أشياء جملة ثم تخص شيئًا منها بالتسمية تنبيهًا على فضل فيه، قال الله -عز وجل-: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} إلى قوله {وَمِيكَالَ} فمن قال إنهما ليسا من الملائكة لإفراد الله إياهما بالتسمية فهو كافر، ومن قال: إن ثمر النخل والرمان ليس من الفاكهة لإفراد الله إياهما بالتسمية بعد ذكر الفاكهة فهو جاهل، هذا كلامه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 103. (¬2) قال أبو حنيفة وأبو ثور: وحجتهم أن المعطوف يغاير المعطوف عليه، وخالفهم في ذلك الجمهور من الفقهاء وأهل اللغة. انظر: "المغني" 13/ 591 - 592. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 25 (فكه). قلت: غفر الله للأزهري في كلامه هذا، إن كان ينبغي له وهو أهل فضل وعلم أن يعرف لأهل الفضل فضلهم فأصحاب هذا القول -رحمهم الله- وإن جانبهم الصواب فيه، فلهم من السبق والرسوخ ما يرفع من قدرهم ومكانتهم عند من جاء بعدهم، عفا الله عن الجميع وجمعنا وإياهم في جنته.

70

70 - قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} يعني في الجنان الأربع التي جرى ذكرهما (¬1). وخيرات جمع خَيْرة، وهي في الأصل بالتشديد ثم خفف، كما قيل: هَيْنٌ وليْنٌ، وذكر الفراء فيها ثلاث لغات: خَيْرَة وخِيْرَةٌ وخَيِّرة (¬2) وكذلك في الجمع. وقال المبرد: الخيرة الفاضلة المقدمة ولقال رجل خَيِّرٌ وامرأة خَيِّرةٌ (¬3) وأنشد أبو عبيدة: (¬4) ولقد طَعَمْتُ بجامع الرَّبلات ... رَبَلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ المَلِكاتِ وأنشد ابن السكيت: تأبري يا خيرة النسيل وفرق الليث بين الخَيِّرة والخَيْرَة، قال: خَيِّرَةٌ صالحة وخَيْرَةٌ في جمالها ومَيسَمِها (¬5). قال الأزهري: ولا فرق عندي بينهما في المخففة من ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 120، و"الكشف والبيان" 12/ 47 أ، ونسبه للكسائي، و"جامع البيان" 27/ 91. وقال الشوكاني: قيل: وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع، ولا وجه لهذا فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن قاصرات الطرف كأنهن الياقوت والمرجان، وبين الصفتين بنون بعيد. "فتح القدير" 5/ 143. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 3/ 12. (¬3) يقال: رجل خَيْرٌ وخَيِّرٌ، مشدد ومخفف. وامرأة خَيْرَةٌ وخَيِّرَةٌ. انظر: "اللسان" 1/ (926) (خير). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 246. والبيت لرجل من بني عَدِي تيم، تميمي جاهلي. انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 546، و"اللسان" 1/ 926 (خير). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 546، (خار).

72

المشددة (¬1). قال جماعة المفسرين (¬2) يعني خيرات الأخلاق حسان الوجوه، وهو تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روت عنه أم سلمة (¬3). 72 - قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} تقدم تفسير الحور (¬4)، والمقصورات المحبوسات، ويجوز أن يكون محبوسات في الخيام، وهو معنى قول أبي عبيدة: خدرن (¬5) في الخيام، ونحوه قال مقاتل: محبوسات في الخيام (¬6)، ويجوز أن يكون محبوسات على أزواجهن، ولا يرون غيرهم وهن في الخيام، وهذا معنى قول المفسرين: قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، ولا يطمحن إلى سواهم، ذكره الفراء (¬7). ¬

_ = وميسمها أي: حسنها من الوسامة، و"اللسان" 3/ 928 (وسم). (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 546 (خار) وعبارته (عند أهل المعرفة باللغة) بدلاً من قول المؤلف (عندي). (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 91، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 28. (¬3) والحديث رواه ابن جرير 27/ 92، والثعلبي 12/ 47 ب، والبغوي 4/ 277، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 116. وقال محقق "زاد المسير": رواه ابن جرير الطبري، وفي سنده ضعف. (¬4) عند تفسيره الآية (54) من سورة الدخان. والحَوَرُ: أن يشتد بياض العين وسواد سوادها، وتستدير حدقتها، وترق جفونها ويبيض ما حواليها. وإنما قيل للنساء حور العين؛ لأنهن شبههن بالظباء والبقر. "اللسان" 1/ 750 (حور). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 246، ومعناه: سترن في الخيام. والخدرُ سِتْرٌ يمد للجارية في ناحية البيت. "اللسان" 1/ 736 (خدر). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 137 أ. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 3/ 120.

وقال مجاهد: مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ (¬1). والخيام جمع خَيم وخيم: جمع خيمة، وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب في القيظ فيكون أبرد من الأخبية (¬2)، ذكره ابن السكيت. وقال ابن الأعرابي: الخيمة لا تكون إلا أربعة أعواد ثم تسقف بالثُّمام ولا تكون من ثياب (¬3)، ومنه قول النابغة: فلم يبقَ إلا آلُ خَيْمٍ منصدٍ وسُفْعٌ ... على آسٍ وَنُؤْيٌ مُعَثْلِبُ ويقال خيم فلان خيمته إذا بناها من جريد النخل ويخيم فيها إذا أقام، وتظلل بها قال زهير: (¬4) وَضَعْنَ عِصِى الحَاضِرِ المتَخَيَّمِ هذا معنى الخيام في اللغة، قال أبو عبيدة (¬5): والهوادج أيضًا خيام وأنشد للبيد فقال: شاقتك ظعن الحي يوم تحمَّلوا ... فتكنَّسُوا قطنًا تَصرُّ خِيامُها (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 644، و"جامع البيان" 27/ 92، 93. (¬2) انظر: "اللسان" 1/ 933 (خيم)، و"فتح القدير" 5/ 143. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 607، و"اللسان" 1/ 933 (خيم). والثُّمامُ: شجر واحدته ثمامة وثمة، وهو نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص. "اللسان" 1/ 375 (ثمم). (¬4) وصدر البيت: فلما وردن الماء زرقاً جمامه انظر: "الديوان" 78، و"اللسان" 1/ 993 (خيم). (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 246. (¬6) البيت ورد في معلقة لبيد. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني 75.

وأما خيام الجنة فقال المفسرون: إنها من در مجوف، قال عطاء عن ابن عباس: يريد خيام الدر والياقوت والزبرجد، يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، الخيمة ما بين بصرى إلى صنعاء (1). وروى قتادة عن ابن عباس قال: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب (¬2). وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "والخيمة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون" (¬3). قوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} قال صاحب النظم: قال الله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّنَانِ} ولم يذكر لهما أهلًا كما ذكره لما قبلهما من الجنتين فلما قال (متكئين) دل أنه أراد أهلهما، وإنما كف عن ذكر أهلها اقتصارًا على ذكر أهل الجنتين اللتين قبلهما، واكتفاء بالذكر الأول عن الثاني، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5]. قال في فصل آخر متصل بهذا الفصل {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7]، والتأويل: بعثناهم ليسوؤا فكف عن ذكره اكتفاء بالأول (¬4). وأما الرفرف فقال الليث: الرفرف ضرب من الثياب خضر تبسط، ¬

_ (ا) لم أجده. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 267، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأبي الأحوص. انظر: "جامع البيان" 27/ 93، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 28. (¬3) "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: حور مقصورات في الخيام، 6/ 182، و"صحيح مسلم"، كتاب: الجنة، باب (33). "مسند أحمد" 3/ 103. (¬4) انتهى كلام صاحب النظم ولم أجده فيما اطلعت عليه، وكتابه مفقود كما تقدم بيانه.

76

والواحدة رفرفة (¬1)، وقال أبو عبيدة: الرفارف البسط (¬2)، وأنشد قول مقبل فقال: وإنا لنزالون تغشى فعالنا ... سواقط من أصناف ربط ورفزف (¬3) وقال أبو إسحاق: قالوا الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقالوا: الرفرف الوسائد. وقالوا: الرفرف المحابس، وقالوا: الرفرف فضول المحابس للفرش. (¬4) واختاره المبرد فقال: هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره، وكأن الأقرب هذا, لأن العرب تسمي كسر الخباء والخرقة التي تحيط في أسفل الخباء رفرفا. ومنه الحديث في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- "فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة" (¬5). قال ابن الأعرابي: الرفرف هاهنا طرف الفسطاط (¬6)، فشبه ما فضل من المجالس عما تحته بطرف الفسطاط فسمى رفرفًا يؤكد هذا ما روى هارون بن عنترة، عن أبيه (¬7)، عن ابن عباس، قال في قوله: 76 - {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فضول المجالس، والبسط والفرش (¬8) وهو قول ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 190، و"فتح القدير" 5/ 143. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 171، و"اللسان" 1/ 12 (رفف). (¬3) لم أجده عند أبي عبيدة. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 19. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 105. (¬5) انظر: " النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 242) رفرف). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" 1/ 1200 (رف، رفف). (¬7) هو عنترة بن عبد الرحمن الكوفي، ثقة، وهم من زعم أن له صحبة. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 89. (¬8) انظر: "جامع البيان" 27/ 95، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 19. والمحبس: المقرمة: يعني الستر، وهي التي تبسط على وجه الفراش للنوم, و"اللسان" 1/ 551 (حبس).

الضحاك، ومقاتل، والحسن. قالوا: المحابس والبسط (¬1). قال الحسن: كان أهل الجاهلية يقولون هي البسط (¬2). قال سعيد بن جبير: وهي الرياض، وهو قول الكلبي. (¬3) وقوله: {وَعَبْقَرِيٍّ} قال أبو عبيدة: كل وشى من البسط عبقري قال ويروى أنها أرض يَوشى فيها (¬4). وقال الليث: عبقر موضع بالبادية كثير الجن يقال في المثل: كأنهم جن عبقر، وقال أبو عبيدة في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما ذكر عمر "فلم أر عبقريًّا يفري فريه" (¬5). قال أبو عبيدة: وإنما أصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى عبقر، وهي أرض يسكنها الجن فصارت مثلًا لكل منسوب إلى شيء رفيع، وأنشد لزهير (¬6): يخيل عليها جِنّةٌ عَبْقَرّيةٌ ... جَدِيرون يوما أن ينالوا فيستعلوا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 137 أ، و"الوسيط" 4/ 23، و"الجامع" للقرطبي 17/ 19. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 95، وفيه: هي البسط. أهل المدينة يقولون: هي البسط. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 327، و"جامع البيان" 27/ 94، و"معالم التنزيل" 4/ 978، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 19. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 246. وقوله: (أرض يوشَّى فيها) هو ما ذكر أن عَبْقَر قرية تسكنها الجن فيما زعموا فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريباً. قالوا: عبقري. ومنه عبقري للبسط التي فيها الأصباغ والنقوش وشيت بها. اللسان (عبقر). (¬5) جزء من حديث أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه منها، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، 5/ 13، ومسلم في "صحيحه"، كتاب: فضائل الصحابة (19)، وأحمد في "المسند" 2/ 28، 39. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 246، و"تهذيب اللغة"، و"اللسان" 2/ 672 (عبقر). والبجت في "ديوان زهير" ص 103، و"المحتسب" 2/ 306.

وهذا القول هو الصحيح في العبقري، وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن أو شبهته بهم ومنه قول لبيد (¬1): جِنُّ الْبَدِيٍّ رواسيًا أقدامُها وقال آخر يصف المرأة: جنية أو لها جن يعلِّمُها ... رمي القلوب بقوس ما لها وتر وذلك أنهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة، وأنهم يأتون بكل أمر عجيب، ولما كان عبقر معروفًا بسكناهم فسموا كل شي مبالغ فيه إليها، ويريدون بذلك أنه من عملهم وصنعتهم هذا هو الأصل (¬2)، ثم صار العبقري اسما ونعتا لكل ما بولغ في صفته، ويشهد لما ذكر بيت زهير فإنه نسب الجن إلى عبقر فثبت به أنها مكانهم، ثم رأينا أشياء كثيرة نسبت إلى عبقر غير البسط والثياب، كقوله -صلى الله عليه وسلم- في صفة عمر (عبقريًّا). وروى سلمة عن الفراء قال: العبقري السيد من الرجال، وهو الفاخر من الحيوان والجوهر (¬3). فلو كانت عبقر مخصوصة بالوشي لما نسب إليها غير الموشى، وإنما نسب إليها البسط الموشاة العجيبة الصنعة لما ذكرنا نسب إليها كلما بولغ في وصفه. ¬

_ (¬1) وصدره: غُلِبَ تَشَذو بالذَّخُولِ كانَّها ومعناه: أنهم رجال غلاظ الأعناق كالأسود يهدد بعضهم بعضًا بسبب الأحقاد التي بينهم. ثم شبههم بجن هذا الموضع (البدّي) في ثباتهم في الخصام والجدل. وانظر: "ديوانه" ص 177، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 90 , و"الإنصاف" ص 772، و"الخزانة" 4/ 157. (¬2) انظر: "اللسان" 2/ 672، (عبقر) , و"الجامع" للقرطبي 17/ 192. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 278، و"المفردات" (عبقر)، و"اللسان" 2/ 672 (عبقر).

قال ابن عباس في قوله: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} يريد البسط والطنافس (¬1)، وقال الكلي: هي الطنافس المخملة (¬2). وقال قتادة: هي عتاق الزرابي (¬3)، وهو قول سعيد بن جبير (¬4). وقال مجاهد: الديباج الغليظ (¬5). وعبقري هاهنا: جمع، واحده عبقرية، لذلك قال: {حِسَانٍ} فجمع وأما قراءة من قرأ عباقري حسان وهي تروى عن عاصم الجحدري (¬6) ورويت أيضًا مرفوعة (¬7)، قال أبو عبيدة: وهذا وجه لا إسناد له ولا أراه محفوظًا ولو كان له أصل لكان على ترك الإجراء؛ لأنه وجه الإعراب (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 12/ 49 أولم ينسبه لقائل. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 323. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 278. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 95، و"تفسير مجاهد" 2/ 644، ومعنى "عتاق الزرابي" أي كرام الوسائد. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 95، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 192. (¬6) هو عاصم بن أبي الصباح الجحدري الضري، أخذ القراءة عرضًا عن سليمان بن قثه عن ابن عباس، وقرأ أيضًا على نصر بن عاصم، والحسن، ويحيى بن يعمر، وقراءته في الكامل والإفصاح فيها مناكير، ولا يثبت سندها، والسند إليه صحيح في قراءة يعقوب من قراءة على سلام عنه، مات قبل الثلاثين ومائة. انظر: "غاية الرواية" 1/ 349. (¬7) انظر: "المحتسب" 2/ 305 "مختصر ابن خالويه" ص 15، و"الكشاف" 4/ 55، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 191، و"البحر المحيط" 8/ 199. (¬8) قال النحاس: (وإسنادها ليس بالصحيح، وزعم أبو عبيد أنها لو صحت لكانت وعَبَقريَّ بغير إجراء، وزعم أنه هكذا يجب في العربية، وهذا غلط بين عند جميع النحويين؛ لأنهم قد أجمعوا جميعًا أنه يقال: رجل مَدَائني، بالصرف. انظر: "إعراب القرآن" 3/ 317، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 19.

78

قال أبو إسحاق: هذه القراءة لا مخرج لها في العربية لأن كل جمع بعد ألفه حرفان لم ينسب إليه نحو مساجد، ومجاوز الثلاثة لا تجمع بياء النسب لو جمعت عبقريًا كان جمعه عباقرة كما أنك (¬1) لو جمعت مهلبيا، مهالبة ولم يقل مَهَالبي (¬2). وقال المبرد: أخطأ القاسم في "عباقري" أنه لو كان له وجه لكان ترك الإجراء وجه الإعراب, لأن ياء النسب تجعله كالواحد كقولك مدائني فينصرف؛ لأنه يصير إلى الواحد ويزول عنه بناء الجمع، ومن نسب إلى عباقر وهو جمع لم يجز إلا عبقري كالنسب إلى مساجد مسجدي، وإلى الفرائض فرضي، وإن كان اسما لواحد قلت عباقري فتصرفه، كما تقول في كلاب (¬3)، وفي المدائني مدائني لأنه اسم لواحد، ولو نسب إلى جماعة الكلاب قيل كلبي. ثم ختم السورة بما ينبغي أن يمجد به ويعظم فقال، قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: 78 - {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} تقدم تفسير الجلال والإكرام في هذه السورة. وقرأ ابن عامر: ذو الجلال (¬4) والإكرام بالرفع إجراء على الاسم وذلك دليل ظاهر على أن الاسم هو المسمى؛ لأن ذو الجلال من صفة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا من صفة التسمية. ¬

_ (¬1) في (ك): (أنكر). (¬2) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 104 - 105. (¬3) كذا في (ك)، ولعلها (كلاب كلابي). (¬4) قرأ ابن عامر "ذو الجلال" صفة للاسم، والباقون "ذي الجلال" صفة للرب. انظر: "حجة القراءات" ص 694، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 253، و"النشر" 2/ 382، و"الإتحاف" ص 407.

سورة الواقعة

سورة الواقعة

تفسير سورة الواقعة

تفسير سورة الواقعة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قال أهل المعاني (¬1): اذكر إذا وقعت الواقعة، وقال "صاحب النظم": إذا هاهنا صفة وفضل ولغو، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وتأويله: انشقت السماء، كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، ونظيره في الكلام: قد جاء الشتاء وجاء الصوم بمعنى اقترب ودنا، وإنما قلنا: إن (إذا) ملغاة, لأنه لم يجيء لها خبر ولا جواب، ومنه قول الهذلي (¬2): حتى إذا أسلكوهم في قتائدهم ... شلَّا كما يطرد الجمالة الشردا ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" 4/ 55، و"الجامع" للقرطبي 17/ 194، و"فتح القدير" 5/ 147. (¬2) هو عبد مناف بن ربع الهذلي، جاهلي، والبيت ورد في "ديوان الهذليين" 2/ 42، وروايته (فتائدة)، و"الأمالي" لابن الشجري 2/ 122، و"الإنصاف" ص 461، و"الخزانة" 7/ 39، 41. وانظر أيضًا: "اللسان" 3/ 16 (قتد)، 2/ 188 (سلك)، و"تهذيب اللغة" 10/ 63 (سلك) ونسبه لابن أحمر. والقتائد: ثنية معروفة، وقيل: اسم عقبة، والشُّرد جمع شرود.

2

يريد حتى أسلكوهم واليت آخر القصيدة ولم يجيء لـ (إذا) جواب هذا كلامه (¬1)، والأول الوجه. قال المبرد: (وَقَعَتِ) معناه: تقع؛ لأن إذا للاستقبال ومعنى الوقوع هاهنا ظهور بالحدوث كظهور الساقط يحضره الرأي (¬2). وقال أبو إسحاق: يقال لكل (¬3) آت كان يتوقع: قد وقع، تقول: قد وقع الأمر، كقولك: قد جاء الأمر (¬4). قال ابن عباس: إذا قامت القيامة (¬5). قال أبو عبيدة والأخفش: الواقعة: اسم للقيامة كالآزفة وغيرها (¬6)، وهذا هو الصحيح (¬7)؛ لأن المعنى أنها ستقع، وأما ما قال مقاتل في تفسير الواقعة أنها الصيحة وهي النفخة الأخيرة (¬8) فبعيد, لأن الله تعالى وصفها بعد بقوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} وهي من صفة القيامة لا من صفة الصيحة. 2 - قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} الكاذبة هاهنا مصدر بمعنى الكذب، كالخائنة، واللاغية، والخاطئة، والعافية، والعاقبة، عند أكثر ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 195. (¬2) انظر: "الكشاف" 4/ 55، و"روح المعاني" 27/ 129. (¬3) في (ك): (كل). (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 107. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 329، و"الوسيط" 4/ 231، و"زاد المسير" 8/ 130. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 247. (¬7) وبه قال ابن قتيبة واعتمده ابن كثير وغيره من المفسرين. انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 445، و"ابن كثير" 4/ 282، و"فتح القدير" 5/ 147. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 137 أ، وفيه (.. النفخة الأولى) وبقول مقاتل قال الضحاك. انظر: "جامع البيان" 27/ 96، و"روح المعاني" 27/ 129.

أهل المعاني (¬1) , والمعنى: ليس لها كذب، أي أنها تقع صدقًا وحقًا فليس فيها ولا الإخبار عن وقوعها كذب. وقال بعض أهل المعاني: يجوز أن تكون الكاذبة صفة والموصوف محذوفًا، على تقدير: ليس لوقعتها قضية كاذبة أي أن كل ما أخبر الله من أحكامها وقضاياها صادقة غير كاذبة، ويجوز أن يكون التقدير ليس لوقعتها نفس كاذبة (¬2) أي أن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها. وأما الكسائي والفراء والزجاج فإنهم جعلوا الكاذبة هاهنا بمعنى التكذيب وفسروها بالرد، قال الكسائي: كاذبة تكذيب، وزاد الفراء: المكذوبة بمعنى التكذيب، وحكاها عن أبي ثروان (¬3). وقال أبو إسحاق: كاذبة أي لا يردها شيء، كما تقول حملة فلان لا تكذب، أي لا يرد حملته شيء (¬4)، وعلى هذا المعنى دل كلام ابن عباس في رواية عطاء والكلبي قال: ليس لوقعتها رادة، وقال الكلبي عنه ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 121، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 318 - 319. (¬2) انظر: "الكشاف" 4/ 55، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 195، و"البحر المحيط" 8/ 203. (¬3) أبو ثروان العكلي من الأعراب الذين شايعوا الكسائي على سيبويه في المسألة الزنبورية المعروفة، تعلم في البادية، وأكثر الفراء من الرواية عنه. له كتاب "خلق الفرس"، و"معاني الشعر". انظر: "طبقات الزبيدي" ص 71، و"معجم الأدباء" 7/ 148، و"همع الهوامع" 1/ 210، وانظر: "تهذيب اللغة" 10/ 167 (كذب). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 121، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 107، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 195.

3

مردودة (¬1). والردة هاهنا بمعنى المصدر، أي: رد، وعلى هذا القول يجب أن تكون (الكاذبة) بمعنى التكذيب ويكون التكذيب بمعنى الرد، ولم أر الفاعلة في مصادر التفعيل ولا الكذب بمعنى الرد لغيرهم فالله أعلم. ويكون كذب بمعنى ارتد وولى، يقال: ما كذب عن قرنه أي ما جبن ولا رجع. ومنه قول زهير: (¬2) ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذَّب عن أقرانه صدقا فإن صحت الكاذبة بهذا المعنى كان تفسير ليس لوقعتها ارتداد، وهذا قول قتادة ومقاتل. قالا: ليس لوقعتها مثنوية ولا ارتداد (¬3). 3 - قوله تعالى {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال أبو إسحاق: هي خافضة رافعة (¬4). روى عكرمة عن ابن عباس قال تخفض ناسًا وترفع (¬5) آخرين (¬6). وقال عطاء عنه: تخفض أقوامًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقوامًا كانوا في الدنيا متَّضعين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 329، وفيه (راد ولا خلف ولا مثنوية). وانظر: "جامع البيان" 27/ 96، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 195. (¬2) انظر: "ديوان زهير" ص 54، و"شرح المفصل" 1/ 61، و"المنصف" 3/ 121, وقوله "بعثر" هي موضع في اليمن. وقيل: هي أرض مأسدة بناحية تبالة، و"اللسان" 2/ 684 (عثر). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 137 أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 269، و"الطبري" 27/ 96. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 107. (¬5) في (ك): (وتضع). (¬6) انظر: "المصنف" 13/ 372، و"الوسيط" 4/ 232، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 282، ونسب تخريجه لابن أبي حاتم. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 232، و"معالم التزيل" 4/ 279, و"زاد المسير" 8/ 131.

4

وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا في كرامة الله (¬1)، والمعنى أنها تخفض أقوامًا إلى أسفل سافلين في النار، وترفع آخرين إلى أعلى عليين في الجنة، وقال أهل المعاني: تخفض بالمعصية وترفع بالطاعة (¬2)، وقال ابن عطاء: خفضت قومًا بالعدل ورفعت قومًا بالفضل (¬3). 4 - قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} الوجه أن تجعل إذا مضمنًا بالذكر كما قلنا في {إِذَا وَقَعَتِ} وقال الجرجاني: إذا ظرف لقوله: {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} لأنه وقت لها، أي أن الواقعة تقع إذا رجت الأرض رجًا، قال: وفي هذا دليل على أن تأويل قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ستقع الواقعة إذا رجت (¬4)، ونحو هذا قال أبو إسحاق: موضع إذا نصب المعنى: إذا وقعت في ذلك الوقت ومعنى (رُجَّتِ) حركت حركة شديدة (¬5) يقال: رججته فارتج، والسهم يرتج في الغرض (¬6)، قال قتادة ومقاتل: زلزلت زلزالاً (¬7). وقال الكلبي وجماعة المفسرين: ترج كما يرج الصبي في المهد حتى يتهدم كل بناء عليها وينكسر كل ما عليها من الجبال (¬8)، فذلك قوله تعالى: 5 - {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} ذكر أهل المعاني واللغة فيه قولين: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 269، و"جامع البيان" 27/ 96. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 107. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 50 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 195. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 142، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 196. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 108. (¬6) الرَّجُّ: التحريك؛ والرجرجة: الاضطراب. والرَّجُّ: تحريكك شيئًا كحائط إذا حركته "اللسان" 1/ 1125 (رَجج). (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 269، و"تفسير مقاتل" 137 أ. (¬8) انظر: "الوسيط" 4/ 232، و"معالم التنزيل" 4/ 279، و"زاد الميسر" 8/ 131.

أحدهما: أن معنى: (بُسَّتِ) خلطت فصارت كالدقيق المبسوس، وهو الملتوت بشيء من الماء، هذا قول أبي عبيدة، والفراء، وأنشدا (¬1): لا تخبزا خبزًا وبسا بسَّا أي: اخلطا الدقيق بالماء فكلاه، والمعنى على هذا أن الجبال تصير ترابًا تخلي بعضها ببعض. القول الثاني: أن معنى البس الفت، روى عمرو عن أبيه: بس الشيء إذا فتته حتى يصير فتاتًا (¬2). وذكر أبو إسحاق في البس قولاً آخر وهو السوق والطرد، ومعنى (بُسَّتِ) سيقت، وأنشد (¬3): وانبس حيَّاتُ الكثيب الأهيل قال اللحياني (¬4): يقال بُسَّهم عنك، أي: اطردهم، وانبس الرجل إذا ذهب، وانبست الحيات إذا جرت على الأرض (¬5)، وأقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الأقسام. ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 247 - 248، و"معاني القرآن" 3/ 121، والبيت من الرجز، قيل إنه للص من غطفان. وتمامه: ولا تطيلا بمناخ حبسا وانظر: "اللسان" 1/ 212 (بسس)، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 108، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 196، وفي تمامه اختلاف. وذكره الأزهري عن الأصمعي حيث قال: وسمعت العرب تنشد .. ، انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 316 (بس). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 315، و"اللسان" 1/ 212 (بسس). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 108، والبيت في "معاني القرآن" للزجاج 5/ 108. و"اللسان" 1/ 212 (بسس)، ومعناه أن الحيات تذهب وتنساب على وجه الأرض. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 316 (بس). (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 97، و"تفسير مجاهد" 2/ 645، و"تفسير مقاتل" 137 ب.

6

قال ابن عباس في رواية عطاء: فُتَّت فتا، وهذا قول مقاتل ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (¬1) وروى منصور عنه: لُتَّت لتًّا كما يبس السويق (¬2). وقال السدي: كسرت كسرًا (¬3)، وهذا كقول من قال: فتت. وقال الكلبي: سيرت عن وجه الأرض (¬4)، ونحو هذا قال الحسن: قلعت من أصلها (¬5). وقال قتادة: نسفت نسفًا، وقول الكلبي والحسن وقتادة معنى قول من يفسر البس بالطرد (¬6). 6 - قوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} يعني صارت غبارًا متفرقًا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة وهو الهباء (¬7). والمنبث المتفرق، هذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 645، و"جامع البيان" 27/ 97. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 51 ب، و"الوسيط" 4/ 232، و"معالم التنزيل" 4/ 279. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 331، و"معالم التنزيل" 4/ 279. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 5 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 232، و"فتح القدير" 5/ 147. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 269، قال الشنقيطي: وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا، وكلها حق، وكلها يشهد له القرآن. ثم ذكر الأقوال وشواهدها، انظر: "أضواء البيان" 7/ 464. (¬6) في (ك): (اللبس بالطردة). (¬7) الهباء: التراب الذي تُطيره الريح فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم يلزق لزوقًا. وقيل: غبار شبه الدخان ساطع في الهواء. "اللسان" 3/ 766 (هبا). (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 137 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 279.

7

وروي عن علي -رضي الله عنه- قال: يعني رهج الدواب الذي يسطع من حوافرها (¬1). ثم ذكر أحوال الناس فقال: 7 - قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً}، قال المفسرون: أصنافًا ثلاثة، قال أبو إسحاق: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج (¬2). ثم فسر الأزواج بقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} يعني اليمين، وجمعها الميامن، وهي جوانب اليمين، وفي أصحاب الميمنة أربعة أقوال: قال عطاء، عن ابن عباس: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، وهو قول الضحاك (¬3). وعن ابن عباس أيضًا: هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه (¬4). وقال الحسن والربيع: هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم، وكانت أعمارهم في طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 97، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 197، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 282. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 108. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 51 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 279، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 197. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 51 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 279، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 282. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 51 أ - ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 197، و"فتح القدير" 5/ 148.

8

القول الرابع: أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة (¬1). 8 - قوله تعالى: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} قال جميع أهل المعاني (¬2) (مَا) هاهنا تفخيم لقصتهم وتعظيم لشأنهم وتعجيب منهم، كما تقول: زيد ما زيد؟ أي: أي شيء هو؟ للتعجب منه، وهذا كقوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1، 2] و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1، 2]. 9 - قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} يعني أصحاب الشمال والمشئمة اليسرى. يقال: اليد اليمنى واليد الشومى، ومن هذا اللفظ أخذ اليُمْن والشؤم، واليَمَن والشأم. وفي أصحاب المشئمة أربعة أقوال تضاد الأقوال التي ذكرناها في أصحاب الميمنة (¬3). ثم ذكر الصنف الثالث فقال: 10، 11 - قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} قال الفراء والزجاج يجوز أن يكون (وَالسَّابِقُونَ) ابتداء، وخبره الثاني، ويكون المعنى: والسابقون إلى طاعة الله السابقون إلى رحمة الله، ويكون {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} من صفتهم. ويجوز أن يكون الأول ابتداء والثاني توكيده، ويكون الخبر {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 98، و"الجامع" للقرطبي 17/ 197، ونسبه للسدي. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 701، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 122، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 108. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 51 ب. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 122، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 109. أورد النحاس قولهما أن {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} صفة، قال: ولكن يكون بدلاً أو خبرًا بعد خبر. انظر: "إعراب القرآن" 3/ 321.

واختلفوا في تفسير السابقين فقال ابن عباس (¬1): يريد الذين سبقوا إلى توحيد الله والإيمان برسوله كما قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] الآية. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين (¬2)، وهذا كقول ابن عباس؛ لأن الذين صلوا القبلتين كانوا هم الأولين من الصحابة، ونحو هذا قال عكرمة: السابقون إلى الإسلام (¬3)، وهو معنى قول الربيع: إلى إجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- (¬4). وقال مقاتل: إلى الأنبياء بالإيمان (¬5). وهذا القول يوجب تخصيص السابقين بأوائل هذه الأمة. وقال الكلبي: السابقون إلى الرسول من كل أمة السابقون في الآخرة إلى الجنة (¬6). وأكثر المفسرين جعلوا هذا السبق إلى الطاعات، فمنهم من أجملها وهو القرظي فقال: إلى كل خير وإلى كل ما دعا الله إليه، وهو اختيار ابن كيسان (¬7). ومنهم من فصَّل فقال سعيد بن جبير: إلى التوبة (¬8)، وقال علي -رضي الله عنه-: ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 332، و"معالم التنزيل" 4/ 285. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 99، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 283. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 52 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 285، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 199. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 52 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 280. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 137 ب. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 332، و"الوسيط" 4/ 232. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 52 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 280. (¬8) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 280، و"زاد المسير" 8/ 133.

12

إلى الصلوات الخمس (¬1)، وقال عثمان بن أبي سودة (¬2): إلى المسجد، إلى الجهاد، يخرجون في الرعيل الأول من المصلين والمجاهدين (¬3). ثم وصفهم وأخبر عنهم فقال: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} قال ابن عباس: مثل النبيين والمرسلين (¬4). وقال الكلبي: إلى عَدَن (¬5). وقال أهل المعاني: جزيل ثواب الله وعظيم كرامته (¬6). ثم أخبر أين محلهم فقال: 12 - {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وقوله: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} إلى قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] كله من صفة السابقين وبيان حالهم، وذلك أن الله تعالى صنف الخلق ثلاثة أصناف كما ذكر، ثم بين هناك كل صنف وحاله في الآخرة فذكر صفة السابقين أولاً، ثم وصف ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 52 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 199، و"روح المعاني" 27/ 132. (¬2) هو عثمان بن أبي سودة المقدسي، روى عن أبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهما، وعنه الأوزاعي وجابر بن زيد وغيرهما، وثقه مروان بن محمد وذكره ابن حبان في "الثقات" .. انظر: "تهذيب التهذيب" 7/ 120، و"تقريب التهذيب" 2/ 9. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 99، و"المصنف" 5/ 267، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 199، ونسبه لمجاهد وغيره. قال ابن كثير بعد ذكره للأقوال: وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 283. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 232. (¬5) لم أجده، وذكر المفسرون نحوه، فقالوا: (عند الله). (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 232.

14

الفريقين الآخرين فيما بعد. قوله تعالى: {ثُلَّةٌ} الثلة: الفرقة والجماعة من (¬1) الناس غير محصوري العدد في قلة ولا كثرة (¬2). قوله تعالى: {مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني من لدن آدم إلى زمان نبينا -صلى الله عليه وسلم-. قاله الكلبي (¬3)، وقال عطاء: يريد كثيرًا من الأولين (¬4)، وقال مقاتل: يعني سابقي الأمم الخالية. 14 - {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} يريد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال مقاتل: يعني سابقي هذه الأمة أقل من سابقي الأمم الخالية (¬5). وقال أبو إسحاق: الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬6). 15 - قوله: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} معنى الوضن في اللغة: النضد والنسج المضاعف، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون. وقال الليث: الوضن نسج السرير وأشباهه، ويقال: درع موضونة مقاربة في النسج مثل مرصوفة، وقال رجل من العرب لامرأته: ضنيه -يعني متاع البيت- أي قاربي بعضه من بعض. ¬

_ (¬1) (من) ساقطة من (ك)، وبزيادتها تستقيم العبارة. (¬2) وقال أبو عبيدة: (تجيء جماعة وأمة وتجيء بقية). "مجاز القرآن" 2/ 248. وانظر: "تهذيب اللغة" 15/ 63، و"اللسان" 1/ 371 (ثلل). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 332، و "معالم التنزيل" 4/ 280. (¬4) لم أجده. وهو ظاهر المعنى. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 137 ب. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 109.

17

قال أبو عبيدة، والفراء، والمبرد، وابن قتيبة (¬1): موضونة: منسوجة مضاعفة متداخلة بعضها على بعض كما يوضن حلق الدروع، ومنه سمي الوضين، وهو بطان من سيور منسوجة مضاعفة تنسج فيدخل بعضه في بعض، وأنشدوا للأعشى (¬2): ومن نسج داوود موضونة ... تساق مع الحي عيرًا فعيرا قال المفسرون: مرمولة منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد، وهو قول الكلبي، ومجاهد، ومقاتل (¬3). وقال الضحاك: مصفوفة، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي (¬4). 17 - قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} قال أبو عبيدة: لا يهرمون ولا يتغيرون (¬5)، ونحو ذلك قال الفراء، قال: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد، وإذا لم تذهب أسنانه من الكبر قيل: إنه لمخلد، قال: ويقال مخلدون: مقرَّطون، ويقال مسورون (¬6). وأنشد غيره: ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 248، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 122، و"تفسير غريب القرآن" ص 446. (¬2) "ديوانه" ص 90، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 110، و"اللسان" 3/ 944 (وضن)، و"تفسير غريب القرآن" ص 409. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 332، و"تفسير مجاهد" 2/ 646، و"تفسير مقاتل" 137 ب، و"جامع البيان" 27/ 99، و"المصنف" 13/ 139. (¬4) انظر: "جامع الييان" 27/ 100، و"الثعلبي" 12/ 53 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 280. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 249. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 122 - 123.

ومخلداتٍ باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان (¬1) وهذا قول ابن الأعرابي قال: مخلدون مقرَّطون بالخلدة، وجمعها خلد، وهي القرطة. وروى عمرو عن أبيه: خلَّد جاريته إذا حلَّاها بالخلد وهي القرطة، وخلَّد إذا أسنَّ ولم يشب (¬2). قال ابن عباس: غلمان لا يموتون وهو قول مجاهد (¬3)، وعلى هذا هو من الخلود الذي هو البقاء بلا موت. وقال الكلبي ومقاتل: لا يكبرون ولا يهرمون ولا يتغيرون (¬4). وقال سعيد بن جبير والمؤرج: مقرطون (¬5). والمراد بالولدان: الغلمان، وهم وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم هذا الاسم, لأن العرب تسمي الغلمان ولدانًا، وبعضهم احترز فجعل الولدان هاهنا ولدان المسلمين الذين يموتون ولا حسنة لهم ولا سيئة، وهذا القول يروى عن علي والحسن، قالا: لأن الجنة لا ولادة فيها (¬6)، ¬

_ (¬1) البيت في "تهذيب اللغة" 7/ 277، و"اللسان" 1/ 876 (خلد) و3/ 186 (قوز)، و"تفسير غريب القرآن" ص 447، ولم ينسب لقائل، واللجين هي الفضة. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 279 (خلد). (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 646، و"تنوير المقباس" 5/ 333. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 281، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 202، ولم أقف عليه في "تفسير مقاتل". (¬5) "الكشف والبيان" 12/ 53 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 281، و"اللسان" ص 876 (خلد). قال الألوسي: أي مبقون أبدًا على شكل الولدان، وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت "روح المعاني" 27/ 136. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 53 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 203.

18

والقول هو الأول (¬1) 18 - قوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} قالوا الأكواب المستديرة الأفواه لا آذان لهما ولا عُرى، والأباريق ذات الخراطيم واحدها إبريق، وهو الذي يبرق لونه من صفائه (¬2). وأباريق الجنة من الفضة في صفاء القوارير، يرى من ظاهرها ما في باطنها، ذكر ذلك عطاء، ومقاتل (¬3)، والعرب تسمي السيف إبريقًا لبريق لونه، ومنه قول ابن أحمر (¬4): تعلَّقت إبريقًا وعلقت جعبةً ... ليهلك حيا ذا زهاء وجامل (¬5) وقال اللحياني: امرأة إبريق إذا كانت برَّاقة. وما بعد هذا مفسر في سورة الصافات [آية: 45]. 20 - قوله تعالى: {مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} تخيرت الشيء أخذت خيره. 21 - قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلًا بين يديه على ما اشتهى (¬6). 22 - قوله تعالى: {حُورٌ عِينٌ} أكثر القراءة بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي بالخفض (¬7). ¬

_ (¬1) وقال الشوكاني: ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة، و"فتح القدير" 5/ 149. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 123، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 110. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 137 ب. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 133 (برق). (¬5) ورد البيت في "اللسان" 2/ 863 (علق)، ولم ينسبه. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 281، و"زاد المسير" 8/ 137. (¬7) قرأ حمزة، والكسائي، وأبو جعفر {وَحُورٌ عِينٌ} بالخفض. وقرأ الباقون برفعهما. انظر: "النشر" 2/ 383، و"الإتحاف" ص 407 - 408

قال أبو عبيد: هي عندنا بالرفع بمعنى: وعندهم حور عين، ولا أحب الخفض لأنه ليس يطاف عليهم بالحور، هذا كلامه (¬1)، ووجه الرفع علي مذهب سيبويه (¬2) أن قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} إلي قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} دل على أن معنى الكلام لهم كذا ولهم كذا، فحمل: (حُورٌ) على المعنى كأنه قيل: ولهم حور، ومثله مما حمل على المعنى قول الشاعر (¬3): إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج ............ فحمل ومشجج على المعنى لأن المعنى إلا رواكد ومشجج. ذكر ذلك المبرد والزجاج وأبو علي (¬4). وأما الخفض فقال الفراء: هو وجه الكلام على أن تتبع آخر الكلام أوله وان لم يحسن في آخره ما حسن في أوله، وأنشد: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 324، و"حجة القراءات" ص 695. (¬2) انظر: "الكتاب" 1/ 173. (¬3) البيت الأول بتمامه: بادت وغير آيهن مع البلى ... إلا رواكد جمرهن هباء والبيت الثاني: ومشجج أما سواء قذاله فبدا ... وغير سارة المعزاء والبيتان ينسبان إلى ذي الرمة، كما في "ملحقات ديوانه" 3/ 1840. وينسبان إلى الشماخ كما في "ملحقات ديوانه" ص 427، 428، و"الكتاب" 1/ 173، و"اللسان" 2/ 354 (شجج)، و"الحجة" 6/ 256، والرواكد الأثافي, والمشجج هو الوتد، وتشجيجه ضرب رأسه لثبت، وسواء قذالة: وسطه. والمعزاء. أرض صلبة ذات حصى. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 111، 1/ 254، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 255 - 256، و"البغداديات" ص 219 - 220.

إذا ما الغانيات برزن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا (¬1) والعين لا تزجج إنما تكحل، فردها على الحواجب لأن المعنى يعرف، قال: وكان ينبغي لمن رفع -لأنهن لا يطاف بهن- أن يرفع {فَاكِهَةٍ} {وَلَحْمِ طَيْرٍ}. لأن الفاكهة واللحوم لا يطاف بها وفي ذلك بيان أن الخفض وجه الكلام (¬2)، يعني أن الحور أَتبع في الخفض اللحم والفاكهة، فلما خفضا كذلك خفض الحور، وبين الزجاج هذا الوجه فقال: وحور مخفوض على غير ما ذهب إليه من ظن أن معنى الخفض فيه أنه يطاف به ولا يطاف بالحور، ولكن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ} ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير وينعمون بحور عين (¬3). وهذا معنى قول الفراء وإن لم يحسن في آخره ما حسن في أوله يعني لا يحسن الطوف في الحور كما حسن في الكأس، ولكن يعطف عليه في الظاهر؛ لأن المعنى يعرف كما عطف الشاعر العيون على الحواجب وأراد وكحلن العيون كذلك هاهنا يراد ويكرمون، أو وينعمون بفاكهة ولحم طير وحور عين. ¬

_ (¬1) البيت للراعي النميري، انظر: "ديوانه" ص 150، و"الخصائص" 2/ 432، و"شرح شواهد المغني" 2/ 775، و"الدرر اللوامع" 1/ 191، و"الإنصاف" ص 610، و"الخزانة" 9/ 141. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 3/ 123 - 124. قلت: قوله: (لأن الفاكهة واللحوم لا يطاف بها) تعقبه النحاس بقوله: (وهذا الاحتجاج لا ندري كيف هو إذ كان القراء قد أجمعوا على القراءة بالخفض في قوله جل وعز {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} فمن أين له أنه لا يطاف بهذه الأشياء التي ادعى أنه لا يطاف بها؟ وإنما يسلم في هذا لحجة قاطعة، أو خبر يجب التسليم به. "إعراب القرآن" 3/ 324 - 325. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 111.

24

وقال أبو علي: وجه الجر أن تحمله على قوله: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} التقدير: في جنات النعيم، وفي حور عين أي في مقام به حور عين أو معاشرة حور عين، ثم حذف المضاف (¬1). وتفسير اللؤلؤ المكنون سبق في سورة الطور (¬2) [آية: 24]. 24 - قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ذكر أبو إسحاق في نصب جزاء قولين: أحدهما: أنه مصدر ودل ما قبله على يجزون. والثاني: أنه مفعول له، المعنى: يفعل ذلك بهم لجزاء أعمالهم (¬3). قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} قال المبرد: اللغو ما يرغب عنه من الكلام ويستحق أن يلغى (¬4). والمعنى: ليس فيها لغو فيسمع. 25 - [قوله: {وَلَا تَأْثِيمًا}] (¬5) يقال أثَّمه إذا قال أثمت، وللتأثيم هاهنا معنيان: أحدهما: أن بعضهم لا يقولون لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بالإثم كما يتكلم أهل الدنيا (¬6). الثاني: ولا يأتون تأثيمًا أي ما هو سبب التأثيم من فعل أو قول قبيح (¬7)، وهذا معنى قول أبي عبيدة، قال في هذه الآية: مجازها مجاز: أكلت خبزًا ولبنًا، واللبن لا يؤكل فجاز إذا كان معها شيء يؤكل، والتأثيم ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 257. (¬2) في (ك): (الذاريات). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 111 - 112. (¬4) انظر: "اللسان" 3/ 378 (لغا). (¬5) ما بين المعقوفين زيادة من المحقق. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 234، ونسبه لابن عباس، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 288. (¬7) انظر: "جامع البيان" 27/ 102.

26

لا يسمع إنما يسمع اللغو (¬1)، وهذا معني قول الكلبي، يقول: ولا إثم فيها (¬2). 26 - قوله تعالى: {إِلَّا قِيلًا} من الاستثناء المنقطع، المعنى: لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا {سَلَامًا سَلَامًا} وانتصب سلامًا على النعت لقوله: قيلا، والسلام الآخر بدل الثاني، والمعنى: إلا قيلا يسلم فيه من اللغو والإثم، وإن شئت جعلت القيل يعمل في السلام الأول والآخر بدل، والمعنى: إلا أنهم يقولون الخير، هذا قول الأخفش والفراء والزجاج (¬3). قال عطاء عن ابن عباس: يريد: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام (¬4)، وزاد الكلبي عنه: وتحييهم الملائكة بالسلام ويرسل إليهم ربهم بالسلام (¬5). وقال مقاتل: يعني كثرة السلام من الملائكة (¬6). فالمفسرون: جعلوا السلام هاهنا بمعنى التحية والوجه ما قال الزجاج من أن المراد بالسلام أن قولهم يسلم من اللغو (¬7)، ويدل على ذلك أن مسموع أهل الجنة لا يكون مقصورًا على التحية فقط، بل يسمعون ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 249. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 2/ 335. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 401 - 702، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 124، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 112. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 234، و"معالم التنزيل" 4/ 282. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 335، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 206. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 138 أ. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 5/ 112.

27

غيرها مما لا لغو فيه ولا تأثيم (¬1). 27 - ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} وقد تقدم تفسيره. ثم ذكر منازلهم فقال: 28 - قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} تفسير السدر قد تقدم في سورتين (¬2). والمخضود المنزوع الشوك في قول جميع أهل اللغة، والخضد: كسر (¬3) الشيء اللين، وإذا كسرت عودًا لينًا ولم تبنه قلت: خضدته فاتخضد (¬4)، ومعنى مخضود. خضد شوكه، أي قطع فلا شوك فيه. قال ابن عباس في رواية الكلبي، ومجاهد، ومقاتل، وقتادة، وأبو الأحوص، وقسامة بن زهير (¬5): ¬

_ (¬1) قلت: وهو أيضًا ما اختاره ابن جرير 27/ 102، حيث قال: (لا يسمعون فيها من القول إلا قليلاً سلامًا. أي: أسلم مما تكره). ويرى ابن كثير 4/ 288 شمول الآية للمعنيين حيث قال: (أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال تعالى {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23] وكلامهم أيضًا سالم من اللغو، الإثم). (¬2) عند تفسيره الآية [سبأ: 16] حيث قال: السدر من الشجر سدران. أحدهما: سدر بري لا ينتفع بثمره، ولا يصلح ورقه لغسول، وربما خبط للراعية، وله ثمر عفص لا يؤكل، والعرب تسميه الضال .. يتفكه به. وقال الفراء: ذكروا أنه السمر. (¬3) في (ك): (بكسر). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 97، و"اللسان" 1/ 846 (خضد). (¬5) قسامة بن زهير المازني البصري، ثقة، حدث عن أبي موسى وأبي هريرة وروى عنه قتادة وهشام ابن حسان. قال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. وتوفي في إمرة الحجاج. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 126، و"تاريخ الإسلام" 5/ 457, و"طبقات ابن سعد" 7/ 152، و"تهذب التهذيب" 8/ 378.

28

خضد شوكه فلا شوك فيه (¬1)، يدل عليه ما روي عن سليم (¬2) ابن عامر (¬3) قال: أقبل أعرابي يومًا فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذى (¬4) صاحبها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما هي؟ " قال: السدر، فقال رسول الله: "أو ليس يقول (في سدر مخضود) خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، تنفتق الثمرة عن اثنتين وسبعين لونًا من الطعام، ما فيه لون يشبه الآخر" (¬5). وذكر جماعة من المفسرين في تفسير المخضود: أنه الموقر حملا (¬6)، ولا وجه له، وكأنهم ذهبوا إلى أن الله تعالى لما خضد شوكه أوقره بالحمل كما هو في الخبر الذي ذكرنا, ولا يكون ذلك مما يفسر به المخضود، وأما ذكر من أنه لا يعقر اليد ولا يرد اليد منه شوك، ولا أذى ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 270، و"تنوير المقباس" 5/ 335، و"تفسير مقاتل" 138 أ، و"جامع البيان" 27/ 103، و"الثعلبي" 12/ 51 ب، و"ابن كثير" 4/ 288. (¬2) في (ك): (سليمان). (¬3) هو: سليم بن عامر الكلاعي، تقدمت ترجمته في سورة النور. (¬4) (تؤذي) ساقطة من (ك). (¬5) ذكره ابن كثير من رواية البغوي، و"تفسير ابن كثير" 4/ 288. وأخرجه الحاكم في التفسير، سورة الواقعة 2/ 476 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي عن أبي أمامة قال: .. وذكر الحديث. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (74)، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر مرسلاً من غير ذكر لأبي أمامة. وانظر: "إحياء علوم الدين" 4/ 538، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 103، والهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 414 عن الطبراني. (¬6) روي عن مجاهد، والضحاك، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان. انظر: "جامع البيان" 27/ 103، و"الثعلبي" 12/ 54 ب، و"القرطبي" 17/ 207.

29

فيه فكل هذا من معاني المخضود لا من تفسيره (¬1). 29 - قوله: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} قال الليث: الطلح شجر أم غيلان، له شوك أحجن (¬2)، وهو من أعظم العضاه شوكًا وأصلبه عودًا وأجوده صمغًا، والواحدة طلحة، وهذا قول جميع أهل اللغة في الطلح (¬3). والمفسرون كلهم قالوا في الطلح إنه الموز (¬4). قال أبو إسحاق: جائز أن يكون يعني به شجر أم غيلان, لأن له نورًا طيب الرائحة جدًا، فخوطبوا ووعدوا ما يحبون مثله إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على سائر ما في الدنيا (¬5)، ويؤكد هذا ما ذكر في التفسير أنه ليس شيء في الجنة مما في الدنيا إلا الأسامي. وقال مجاهد: أعجبهم طلح وج (¬6) وحسنه، فقيل لهم: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" للثعلبي 12/ 54 ب. (¬2) الأحجن والمحجنة والمحجن العصا المعوجة. وقوله شوك أحجن أي معوج. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 383، و"اللسان" 2/ 601 (طلح). (¬4) في (ك): (المر)، وممن روي عنه هذا القول: علي، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وغيرهم. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 647، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 270، و"صحيح البخاري" 6/ 182، و"جامع البيان" 27/ 104. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 112. (¬6) وج: وادٍ بالطائف، سمي بهذا الاسم نسبة لوج بن عبد الحق من العمالقة، وقيل من خزاعة. انظر: "معجم البلدان" 5/ 416. (¬7) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 647، وقال أبو عبيدة: زعم المفسرون أنه الموز، وأما الحرب: فالطلح عندهم شجر عظيم كثير الشوك .. "مجاز القرآن" 2/ 250. قلت: والمرجح عندي -والله أعلم- ما قاله النحاس رحمه الله، حيث قال: (وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب =

30

وتفسير المنضود قد تقدم (¬1)، قال الكلبي حمله بعضه على بعض (¬2). قال ابن قتيبة: المنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره، أو بالورق والحمل، فليست له سوق بارزة كما قال مسروق: أنهار الجنة تجري في غير أخدود وشجرها نضيد من أسفلها إلى أعلاها (¬3). 30 - قوله: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي: دائم تام باق لا يزول ولا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا، هذاَ قول ابن عباس ومقاتل والمفسرين (¬4). قال أبو عبيدة (¬5): والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع: ممدود. قال لبيد (¬6): غلب العزاء وكان غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود وأما ما ذكر بعضهم في هذا الظل أنه مسيرة سبعين سنة ومائة سنة، فهو وهم، وذلك أن ظل الجنة أمد من أن يحد، والجنة كلها ظل لا شمس معه (¬7). ¬

_ = الغريب وأسماء النبت كثيرة، حتى أن أهل اللغة يقولون: ما يعاب على من صحف في أسماء النبت لكثرتها) "إعراب القرآن" 3/ 328. (¬1) عند تفسيره للآية (82) من سورة هود. قال: النضد: وضع الشيء بعضه على بعض، وقال قتادة: المنضود المصفوف، وقال الربيع: هو الذي نضد بعضه على بعض. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 104، و"معالم التنزيل" 4/ 282. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 448. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 335، و"تفسير مقاتل" 138 أ. (¬5) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 250. (¬6) البيت في "ديوان لبيد" ص 27، و"جامع البيان" 27/ 104، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 209. (¬7) قلت: بل المؤلف رحمه الله هو الذي وهم، فقد ورد في الحديث الصحيح: "إن في =

31

31 - قوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} السكب: صب الماء، يقال. سكبت الماء فهو مسكوب، وانسكب الماء وسكب فهو منسكب ساكب سكوبًا، فالسكب واقع والسكوب مطاوع (¬1). قال الكلبي: مصبوب يجري الليل والنهار لا ينقطع عنهم (¬2)، وبيانه ما قال أبو إسحاق: أنه ماء لا يتعبون فيه ينسكب لهم كيف يحبون (¬3). قال عطاء: يريد بحارًا حصباؤها الياقوت الأحمر، وحمأها المسك الأذفر، وترابها الكافور (¬4). 32 - {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} يعني ألوان فواكه الجنة. قوله تعالى: {لَا مَقْطُوعَةٍ} قال ابن عباس: لا تنقطع إذا جنيت (¬5). وهذا كما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله ¬

_ = الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وأقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} ". انظر: "صحيح البخاري" التفسير، سورة الواقعة 6/ 183، و"مسلم"، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها 4/ 2175 وغيرها من الأحاديث الدالة على هذا المعنى. (¬1) انظر: "اللسان" 2/ 168 (سكب). (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 234، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 209. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 112. (¬4) لم أجده. ولعله أراد به الحديث الذي رواه الترمذي وفيه: (قلت: الجنة ما بناؤها. قال: لبنة فضة، ولبنة ذهب، ومِلاَطُها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران). "سنن الترمذي"، في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها 4/ 580، وتقدم عن ابن عباس في صفة حصباء العيون في الجنة، نحوه. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 283، و"زاد المسير" 8/ 141.

مكانها ضعفين" (¬1) {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} قال ابن عباس: ولا يمتنع من أحد أراد أخذها (¬2). وقال الكلبي: لا مقطوعة تنقطع في حين ولا ممنوعة وهي التي ينظر إليها ولا تذاق (¬3). قال ابن قتيبة: يعني أنها غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا فينظر الناظر إلى ثمارها ولا يصل إليها (¬4)، ويجوز أن يكون المعنى أنها غير مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان، لا يتوصل إليها إلا بالثمن يدل على هذا ما روي عن ابن شوذب (¬5) أنه قال: مررت بالحجاج ابن فرافصة (¬6) وهو واقف على أصحاب الفاكهة، فقلت ما يقيمك هاهنا؟ ¬

_ (¬1) ذكره الثعلبي في "تفسيره" 12/ 56 أ، وفي "مجمع الزوائد" 10/ 414 (إن الرجل إذا نزع ئمرة من الجنة عادت مكانها أخرى). رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني وأحد إسنادي البزار ثقات. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 334، و "معالم التنزيل" 4/ 283. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 4/ 235، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 125. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" (449). (¬5) عبد الله بن شوذب الخراساني، أبو عبد الرحمن، صدوق عابد، نزيل بيت المقدس، روى عن الحسن وطبقته، وكان كثير العلم، جليل القدر. عاش سبعين سنة، وتوفي سنة (156 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" 7/ 92، و"البداية والنهاية" 10/ 115، و"ميزان الاعتدال" 2/ 440، و"العبر" 1/ 173، و"التاريخ الكبير" 3/ 17. (¬6) الحجاج بن فرافصة الباهلي البصري، صدوق، عابد، يهم، أسند عن أنس وغيره، من السادسة. انظر: "التقريب" 1/ 154، و"التاريخ الكبير" 1/ 375، و"صفة الصفوة" 3/ 335.

34

قال: انظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة (¬1). 34 - قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفرش جمع فراش، وهو ما ينام عليه، مرفوعة على الأسرة وهو قول علي -رضي الله عنه-، ومقاتل قال: فوق السرر (¬2)، وجماعة المفسرين قالوا: بعضها فوق بعض فهي مرفوعة أي عالية (¬3)، ويدل على صحة هذا التفسير ما روى الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: "ارتفاعها كما بين السماء والأرض" (¬4). وروى القاسم عن أبي أمامة (¬5) قال: "لو طرح فراش من أعلاها إلى أسفلها لهوى سبعين خريفًا" (¬6). وقال أهل المعاني (¬7): المراد بالفرش هاهنا: النساء، والعرب تكني عن المرأة بالفراش والإزار واللباس، ومنه قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187]. ¬

_ (¬1) انظر: "صفة الصفوة" 3/ 336. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 138 أ، و"زاد المسير" 8/ 141، و"فتح القدير" 5/ 153. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 106، و"زاد المسير" 8/ 141، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 290. (¬4) رواه الترمذي في "سننه"، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة 4/ 586، وفي كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة 5/ 374، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلى من حديث رشدين بن سعد. قال ابن كثير في "تفسيره" 4/ 291: وهو المصري، وهو ضعيف. ورواه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 106، عن أبي غريب عن رشدين بن سعد. (¬5) النساء. (¬6) قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه جعفر بن الزبير الحنفي، وهو ضعيف. "مجمع الزوائد" 7/ 120. وذكره الثعلبي في "تفسيره" 12/ 56 أ، عن أبي أمامة بدون سند. (¬7) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 166، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 210.

35

ومعنى {مَرْفُوعَةٍ} أنهن رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا، فهن مرتفعات في عقولهن وحسنهن وكمالهن، واحتجوا على هذا القول بقوله: 35 - {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} فعادت الكناية إليهن ولم يجر لهن ذكر، فبان أن المراد بالفرش النسوة. وعلى القول الأول كنى عنهن وإن لم يجر لهن ذكر؛ لأن الفرش محل النساء فاكتفى بذكر الفرش (¬1). قال قتادة، وسعيد بن جبير: خلقناهن خلقًا جديدًا (¬2). وقال ابن عباس: يريد النساء الآدميات (¬3)، وقال الكلبي، ومقاتل: يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول خلقناهن بعد الهرم والكبر وبعد الخلق الأول في الدنيا (¬4). ويؤكد هذا التفسير ما روى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هن عجائزكن العمش الرمص" (¬5)، وذكر مقاتل قولاً آخر هو اختيار الزجاج، وهو أنه يعني الحور العين التي ذكرهن. قيل: أنشأهن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأوليائه لم يقع عليهم ولادة (¬6). 37 - ثم نعتهن فقال: {عُرُبًا} جمع عروب وهن المتحببات إلى أزواجهن. قال ابن الأعرابي: العروب من النساء: المطيعة لزوجها المتحببة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 449. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 271، و"معالم التنزيل" 4/ 283. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 107، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 291. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 335، و"تفسير مقاتل" 138 أ. (¬5) رواه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 107، والترمذي في "سننه"، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة 5/ 375 وابن أبي حاتم: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 291، وقال الترمذي: غريب، وموسى ويزيد ضعيفان. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 138 أ، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 112.

إليه، وقال أبو عبيدة: العروب الحسنة التبعل (¬1)، وقال المبرد: العاشقة لزوجها، وأنشد (¬2): وفي الخروج عروب غير فاحشةٍ ... ريا الروادف يغشى دونها البصر وفيه قراءتان التثقيل والتخفيف (¬3) وهما جائزان مطردان في جمع فعول. وذكر المفسرون في تفسير العرب: العواشق المتحببات الغنجات (¬4) المتعشقات الغلمات الشَّكِلات المغنوجات كل ذلك من ألفاظهم (¬5). قوله تعالي: {أَتْرَابًا} أي أمثالاً. يقال: هما تربان (¬6) والمفسرون يقولون أقرانًا مستويات على سن واحد، وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 251. (¬2) البيت للبيد كما في "الديوان" ص 56، و"مجاز القرآن" 2/ 251، و"القرطبي" 17/ 211، والحروج جمع حرج وهو مركب للنساء والرجال ليس له رأس. "اللسان" 1/ 599 (حرج). وانظر: "تهذيب اللغة" 2/ 360، و"اللسان" 2/ 725 (عرب). (¬3) قرأ حمزة، وخلف، وأبو بكر {عُرُبًا} ساكنة الراء. وقرأ الباقون {عُرُبًا} بضمها. انظر: "حجة القراءات" ص 696، و"الحجة" للقراء السبعة 6/ 237 - 258، و"النشر" 2/ 216، و"الإتحاف" ص 408. (¬4) امرأة غَنجة: حسنة الدل، وغُنْجُها وغُناجُها: شكلها. وقيل: الغُنْجُ: ملاحة العين والغليمة هي المرأة المقبلة على زوجها في النكاح. الشكلة: يأتي بمعنى غنجة وهو حسن دل المرأة وشكلها. انظر: "اللسان" 2/ 348، 1011، 1022 (غنج، غلم، شكل). (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 648، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 271، و"جامع البيان" 27/ 107 - 108. (¬6) انظر: "المفردات" ص 73 (تراب). (¬7) قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم. انظر: "تنوير المقباس" 5/ 335 - 336، و"تفسير مجاهد" 2/ 648، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 271، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 292.

38

38 - قوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} قال ابن عباس: يريد أنشأناهن لأصحاب اليمين (¬1). وقال مقاتل: يقول: هذا الذي ذكرنا لأصحاب اليمين (¬2)، وهو قول الكلبي. قال المفسرون: الحور العين للسابقين والعرب الأتراب لأصحاب اليمين (¬3). ثم أخبر عنهم فقال: 39 - قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي هم ثلة من المؤمنين الذين كانوا قبل مؤمني هذه الأمة. 40 - {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} من مؤمني هذه الأمة فمن آدم إلينا ثلة ومنا ثلة (¬4). وهذا يروى مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آدم إلينا ثلة ومني إلى القيامة ثلة ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله" (¬5). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6)، ومقاتل. قال مقاتل: فأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر أهل الجنة، واحتج بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي من ذلك ثمانون صفًّا وأربعون صفًّا من سائر الناس" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 284، "معاني القرآن" 17/ 211. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 138 أ. (¬3) انظر: "الجامع" للقرطبي 17/ 211. (¬4) بهذا قال الحسن ومجاهد. انظر: "جامع البيان" 27/ 159، و"أضواء البيان" 7/ 770 - 771 حيث رجح ما قاله الكلبي وعطاء ومقاتل في السابقين، وما ذكره المؤلف هنا في أصحاب اليمين. (¬5) أخرجه الثعلبي 12/ 58 أ، بسياق أطول مما هنا، والبغوي 4/ 284. (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 235، و"معالم التنزيل" 4/ 284. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 138 أ - ب، والحديث أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- 2/ 1433، والترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أهل الجنة 4/ 589 وقال هذا. حديث حسن، وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 271.

41

ومذهب جماعة من المفسرين أن الثلتين جميعًا من هذه الأمة ثلة من سابقيها وثلة من متأخريها، وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، والضحاك (¬1) ويدلس على هذا ما روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الثلتين: "هما جميعًا من أمتي" (¬2). وهذا القول هو اختيار أبي إسحاق، قال: معناه جماعة ممن تبع النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به وعاينه، وجماعة ممن آمن به وكان بعده (¬3). وذكر الفراء في ارتفاع قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} وجهين: أحدهما: الاستئناف على معنى: هم ثلة. والآخر: أن تكون مرفوعة بقوله: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} ويكون المعنى لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء، والمعنى: هم فرقتان، فرقة من هؤلاء، وفرقة من هؤلاء (¬4). 41 - ثم ذكر أصحاب الشمال ومنازلهم فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد الذين يعطون كتبهم بشمائلهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 235، و"معالم التنزيل" 4/ 285. (¬2) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 118 - 119، وعن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قال: جميعهما من هذه الأمة. رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير علي بن زيد، وهو ثقة سيء الحفظ. وقال السيوطي في "الدر" 6/ 159: أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد, وابن جرير، وابن المنذر، وابن عدي، وابن مردويه، بسند ضعيف عن ابن عباس. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 113. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 126. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 213.

42

42 - {فِي سَمُومٍ} أي في حر النار، وذكرنا تفسير السموم عند قوله: {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] (¬1)، وقوله: {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]. وقوله: {وَحَمِيمٍ} قال الكلبي: يعني ماءً حارًّا شديدًا يغلي (¬2). 43 - وقوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} اليحموم يفعول من الأحم، وهو الأسود، والعرب تقول أسود يحموم إذا كان شديد السواد (¬3). وأنشد أبو عبيدة فقال: دَعْ ذا فَكَمْ مِنْ حالكٍ يَحْموم (¬4) وكان للنعمان بن المنذر (¬5) فرس شديد السواد يسمى يحمومًا، وهو الذي ذكره الأعشى في قوله: ¬

_ (¬1) ومما قال في تفسيرها: اختلفوا في معنى السموم، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: هي نار لا دخان لها. وقال آخرون: من نار الريح الحارة، وهو قول ابن مسعود. والسموم في اللغة الريح الحارة تكون بالنهار، وقد تكون بالليل. قيل سميت سمومًا لدخولها بلطفها في مسام البدن. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 336، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 213. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 13، و"اللسان" 1/ 725 (حمم). (¬4) البيت للصبّاح بن عمرو الهزاني، وعجزه: ساقِطة أرواقُه بهيم وقد ورد منسوبًا في "اللسان" 1/ 728 (حمم) ولم أجده عند أبي عبيدة كما ذكر المؤلف. (¬5) النعمان بن المنذر بن المنذر بن امرئ القيس، ملك الحيرة، وكان يكى أبا قابوس، وهو صاحب النابغة، قتل عبيد بن الأبرص وغيره من الشعراء. وكانت نهاية النعمان أن حبسه كسرى واسمه (أبرويز) بساباط ثم ألقي تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. انظر: "المعارف" ص 649 - 650

44

ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق (¬1) والمفسرون جميعًا قالوا في اليحموم أنه دخان جهنم (¬2)، والمعنى أنهم في ظل من دخان جهنم. ثم نعت ذلك الظل فقال: 44 - {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} قال أبو عبيدة: جره على الأول (¬3). قال الفراء: وجه الكلام أن يكون خفضًا متبغا لما قبله، كقوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] وكذلك قوله: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 23، 33] قال: وقد يستأنف بلا فيرفع كما قال (¬4): وتريك وجهًا كالصحيفة (¬5) لا ... ظمآنُ مختلجٌ ولا جَهِمُ قال ابن عباس: يريد لا بارد المدخل ولا كريم المنظر (¬6). ¬

_ (¬1) البيت في "ديوان الأعشى" ص 119، و"تهذيب اللغة" 4/ 19، و"اللسان" 1/ 728 (حمم)، 2/ 219 (سنق). والقتُّ: الفصفصة، يكون رطبًا ويكون يابسًا واحدتها قتة "اللسان" 2/ 1044 (فتت). والسنق: البشم. يقال: شرب الفصيل حتى سنق، وهي التخمة والشبع "اللسان" 2/ 219 (سنق)، والتعليق ما تعلقه الدواب من الشعير ونحوه. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 649، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 272، و"جامع البيان" 27/ 110 - 111. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 251. (¬4) انظر: البيت للمخبل، كما في "اللسان" 1/ 876 (خلج)، و"المفضليات" ص 115. (¬5) في (ك): (كالود بله). (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 236، و"معالم التنزيل" 4/ 286.

45

وقال مقاتل: لا بارد المقيل ولا حسن المنزل (¬1). قال الفراء: والعرب تجعل الكريم تابعًا لكل شيء نفت عنه فعلاً تنوي به الذم تقول ما هو بسمين ولا بكريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة (¬2). ثم ذكر أعمال أهل النار التي أوجبت لهم هذا فقال: 45 - {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} يعني كانوا في الدنيا منعمين متكبرين، قال مقاتل: يعني متجبرين في ترك أمر الله (¬3) وتفسير الترف قد تقدم (¬4). 46 - {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} قال الليث: الحنث: الذنب (¬5) العظيم، وتقول العرب: بلغ الغلام الحنث، إذا بلغ مبلغًا جَرَى عليه القلم بالمعصية والطاعة، والحنث: الرجوع في اليمين وهو أن لا يبرها (¬6)، وأكثر المفسرين قالوا في الحنث هاهنا: إنه الشرك. قال مقاتل: يعني الذنب الكبير وهو الشرك (¬7)، ونحو ذلك قال قتادة ومجاهد والسدي (¬8)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء والكلبي قال: كانوا لا يتوبون عن الشرك ولا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 138 ب. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 3/ 127. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 138 ب، و"الوسيط" 4/ 236، ولفظهما (منعمين) بدل (متجبرين). (¬4) عند تفسيره الآية (116) من سورة هود. قال: الترف: النعمة، وصبي مترف إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة العيش. انظر: "البسيط" 3/ 49 ب. (¬5) في (ك): (النعب) والصواب ما أثبته. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 480 (حنث). (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 138 ب. (¬8) انظر: "جامع البيان" 27/ 112، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 272، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 295.

55

يستغفرون (¬1). وقال الشعبي: الحنث العظيم اليمين الغموس (¬2)، وشرح أبو بكر الأصم (¬3) هذا فقال: إنهم كانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أندادُ الله وكانوا يقيمون عليه، فذلك حنثهم (¬4)، واختاره الزجاح فقال: ودليل ذلك قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] فهذا -والله أعلم- إصرارهم على الحنث العظيم (¬5)، ويدل على هذا ما ذكر الله تعالى من إنكارهم البعث وهو قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} الآية. 55 - وما بعدها ظاهر إلى قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وقرئ شرب بضم الشين (¬6) فقال الزجاج: الشَّرب المصدر، والشُّرب الاسم، قال: وقد قيل: إن الشرب أيضًا المصدر (¬7). واختار أبو عبيد الفتح، وادعى أنه لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال لأيام التشريق: "إنها أيام أكل وشَرب" (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 336 - 337. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 286، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 213. (¬3) أبو بكر الأصم، شيخ المعتزلة. كان دينًا وقورًا صبورًا على الفقر، له تفسير، وكتاب "خلق القرآن"، وكتاب "الحجة والرسل". مات سنة 201 هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" 9/ 402، و"الفهرست" ص 214. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 213. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 113. (¬6) قرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر: {شُرْبَ} بضم الشين، والباقون بفتحها. انظر: "حجة القراءات" ص 696، و"النشر" 2/ 383، و"الإتحاف" ص 408. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 5/ 113. (¬8) "صحيح مسلم": كتاب: الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق 2/ 800, و"مسند أحمد" 4/ 152.

قال المبرد: هذا كلام هائل لا يجترأ عليه إلا باليقين، وأكثر الرواية "أكل وشُرب" بالضم، والضم والفتح معروفان عند أهل اللغة أما الفتح فهو على أصل المصدر، والضم اسم للمصدر، والمعنى في ذلك واحد، تقول شغل شَغلا والاسم شُغلِ، وضعف ضَعفًا والاسم الضُعف وكذلك الفَقر والفُقر (¬1). وأما {الْهِيمِ} فأكثر المفسرين على أنه الإبل العطاش، وهو قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير (¬2)، ومنهم من ذكر السبب في عطشها، قال عكرمة: هي الإبل المراض ألا تراها تمص الماء مصًا ولا تروى (¬3). وقال ابن عباس في رواية عطاء: هي الإبل التي بها الهيام لا تروى (¬4)، وقال في رواية أبي صالح: يعني شرب الإبل الظماء (¬5) إذا أخذها الداء فلا تكاد تروى (¬6)، ونحو هذا ذكر مقاتل (¬7). قال الفراء: الهيم الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء واحدها ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 702 - 703، و"الحجة" للقراء السبعة 6/ 260، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 335 - 339، و"تهذيب اللغة" 11/ 352 (شرب). (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 649، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 272، و"جامع البيان" 27/ 113. وروى ابن عباس وعكرمة والضحاك، وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 295. (¬3) انظر: "جامع البيان" 13/ 127، و"معالم التنزيل" 4/ 286. (¬4) انظر: "الوسيط" 4/ 236. (¬5) في (ك): (العظماء) والصواب ما أثبته. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 113. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ.

أهيم (¬1) والأنثى هيماء، قال: ومن العرب من يقول هائم، والأنثى هائمة، ثم يجمعونه على هيم كما قالوا: عائط (¬2)، وعوط (¬3)، وحائل وحول، إلا أن الضمة تركت في هيم لئلا تصير الياء واوًا (¬4). وقال شمر في حديث ابن عمر رضي الله: (إن رجلاً باع منه إبلاً هيما) (¬5) قال شمر: قال بعضهم: الهيم العطاش الظِّماء، ويقال هي المراض التي تمص الماء مصًّا ولا تروى. قال الأصمعي: الهيام داء شبيه بالحمى تسخن عليها جلودها يعني الإبل وقيل إنها لا تروى إذا كانت كذلك (¬6)، وهو في قول لبيد (¬7): أجزت على معازفها بشعثٍ ... وأطلاحٍ من المهري هيم وقال الضحاك والكلبي: الهيم السهلة من الرملة (¬8)، وهو قول ابن ¬

_ (¬1) في (ك): (الهيم) والصواب ما أثبته. (¬2) العائط: هي التي لم تحمل سنين من غير عقم. (¬3) كذا في (ك). وفي "معاني القرآن" للفراء 3/ 128، وفي "اللسان" (هيم) عن الفراء: (عيط) وكلاهما صواب. قال في "اللسان" 2/ 929 (عوط) قال الكسائي: إذا لم تحمل الناقة أول سنة يطرقها الفحل فهي عائط وحائل، فإذا لم تحمل السنة المقبلة أيضًا فهي عائط عُوط وعوطط، زاد الجوهري: عائط عيط. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 128. (¬5) هذا جزء من حديث رواه البخاري في "صحيحه"، كتاب: البيوع، باب: شراء الإبل الهيم أو الأجرب 3/ 82 وفيه: (فجاءه، فقال: إن شريكي باعك إبلاً هيمًا ولم يعرفك ..) الحديث. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 467، و"اللسان" 3/ 858 (هيم). (¬7) "ديوانه" ص 185. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 338، و"جامع البيان" 27/ 113، و"تفسير ابن عيينة" ص 333، و"معالم النزيل" 4/ 286، وزاد نسبته لابن عيينة.

56

عباس في رواية عمرو بن في ينار: قال يعني هيام الأرض (¬1). قال الليث: الهيام من الرمل ما كان ترابًا دقاقًا يابسًا، ومنه قول لبيد: بعجوب أنقاءٍ يميل هيامها (¬2) قال مقاتل: يلقى على أهل النار العطش فيشربون كشرب الهيم. 56 - قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} قال مقاتل: يعني الذي ذكر من الزقوم والشراب (¬3)، وقال الكلبي: هذا نزلهم يعني طعامهم وشرابهم (¬4). وقال الزجاج: هذا غذاؤهم يوم يجازون بأعمالهم (¬5)، وروي عن أبي عمرو (¬6) (نُزُلْهُمْ) مخففًا وهما لغتان (¬7)، مثل الشغُل والشغْل، والعنُق ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 215، و"روح المعاني" 27/ 146. (¬2) انظر: "ديوانه" ص 172، و"تهذيب اللغة" 6/ 467، و"اللسان" 3/ 858 (هيم)، و"المنصف" 3/ 52، و"شرح المعلقات" للزوزني ص 84، والبيت ورد في معلقة لبيد وصدره: تجتاف أصلاً قالصًا متنبذًا ومعناه أن البقر يستتر من البرد والمطر بأغصان الشجر ولا تقيها البرد والمطر لتقلصها، وتنهال كثبان الرمل عليها مع ذلك. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 338. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 113. (¬6) قرأ الجمهور {نُزُلُهُمْ} بضم الزاي، وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع، ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو {نُزْلُهُمْ} بسكون الزاي. انظر: "الكشاف" 4/ 60، و"الجامع" للقرطبي 17/ 215، و"البحر المحيط" 8/ 210. (¬7) انظر: "اللسان" 3/ 619 (نزل).

57

والعنْق. وتفسير النزاع قد ذكرناه في مواضع (¬1). 57 - {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ}. ثم احتج عليهم في البعث بقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا وأنتم تعلمون ذلك (¬2) (فَلَوْلَا) فهلا (تُصَدِّقُونَ) بالبعث، ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا فقال: 58 - قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، وذكرنا الكلام في الإمناء عند قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 46]. 59 - {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} ما تمنون بشرًا {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق. 60 - قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} وقرأ ابن كثير: (قَدَرْنَا) مخففًا وهما لغتان قدرت الشيء وقدرته (¬3)، ويدل عليه قوله (¬4): ومفرهةٍ عنسٍ قدرت لساقها ... فخرَّت كما تتابع الريحُ بالقفل ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (198) من سورة آل عمران. قال: النزاع ما يهيئ للضيف أو لقوم إذا نزلوا موضعًا، ويقال أقمت لهم نزلهم أي أقمت لهم غذاءهم وما يصلح معه أن ينزلوا عليه. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ. (¬3) قرأ ابن كثير {قَدَرْنَا} بتخفيف الدال، والباقون بتشديدها. انظر: "حجة القراءات" ص 696، و"النشر" 2/ 383، و"الإتحاف" ص 408. (¬4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. انظر: "ديوان الهذليين" 1/ 38، ورواية ديوان الهذليين (لرجلها) بدل (ساقها)، و"الحجة" 5/ 48. والمفرهة: الناقة التي تجيء بأولاد فوارة. والعنس: الصلبة الشديدة. قدرت: هيأت. القفل: ما جف من ورق الشجر.

المعنى: قدررت ضربي لساقها فضربتها فخرت. قال ابن عباس: يريد الآجال (¬1). قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيرًا ومنكم من يموت صغيرًا وشابًا وشيخًا (¬2)، وقال الضحاك: تقديره أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء شريفهم ووضيعهم (¬3)، وعلى هذا يكون معنى (قَدَّرْنَا) قضيناه. قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} يريد لا يفوتني شيء أريده، ولا يمتنع مني أحد. وهذه الآية متصلة بما بعدها وهو قوله تعالى: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} وعلى من صلة معنى مسبوقين لا من صلة اللفظ، لا يقال: سبقته على كذا، إنما يقال: إلى كذا, ولكن يقال: غلبته على كذا، ويكون مثل سبقته إليه. قال المفسرون: على أن نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم (¬4). قال أبو إسحاق (¬5): أي إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك (¬6). قوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: يريد في غير حليتكم (¬7) إلى ما أسمج (¬8) منها (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 338. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 287. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 237، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 295. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 113، و"معالم التنزيل" 4/ 287. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 114. (¬6) (ذلك) ساقطة من (ك) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 114. (¬7) كذا في (ك): ولعلها (خلقتكم). (¬8) سَمُجَ الشيء: قبح يسمج سماجة إذا لم يكن فيه ملاحة. "اللسان" 2/ 197 (سمج). (¬9) لم أجده.

وقال مقاتل: ونخلقكم في سوى خلقكم مما لا تعلمون من الصور (¬1)، من أي خلق شئنا، ونحو هذا قال مجاهد والسدي (¬2)، وقال الحسن: نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم (¬3). وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ، وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم قدر، ولو شاء أن يمسخهم في غير صورتهم قدر. وقال أبو إسحاق: إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولا فاتنا ذلك (¬4). وقال بعض أهل المعاني: هذا على النشأة الثانية يكونها الله في وقت لا يعلمه العباد ولا يعلمون كيفيته كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل (¬5)، ويكون التقدير على هذا وما نحن بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمون يعني وقت البعث، وتكون هذه الآية متصلة بما بعدها وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} يعني لا تعلمون ذلك ولقد علمتم هذه كيف كانت وهذا الوجه اختيار الحسين بن الفضل (¬6). قوله: {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} والمعنى: قد علمتم ابتداء الخلق حين خلق من نطفة وعلقة ومضغة فلم تنكرون البعث، وروي مرفوعًا: "عجبًا كل العجب ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ. (¬2) قال مجاهد: (في أي خلق شئنا). انظر: "جامع البيان" 27/ 114. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 287، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 317. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 114. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 217. (¬6) لم أقف عليه.

63، 64

للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبًا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور" (¬1). 63، 64 - قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} قال الكلبي: ما تعملون في الأرض (¬2). وقال غيره: ما تلقون في الأرض من البذور (¬3)، وذكرنا معنى الحرث فيما تقدم (¬4). {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} قال الكلبي ومقالَل: تنبتونه أم نحن المنبتون (¬5)، قال المبرد: يقال زرعه الله أنماه، ومنه يقال للصبي زرعة الله (¬6). 65 - {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} أي: لجعلنا ما تحرثون {حُطَامًا} قال عطاء: تبنًا لا قمح فيه (¬7). وقال مقاتل: هالكًا (¬8). قال أبو عبيدة: الحطام والهشيم والرفات واحد (¬9). ¬

_ (¬1) لم أجد هذا الحديث. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 237. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 287، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 217. (¬4) عند تفسيره الآية (71) من سورة البقرة، ومما قال: الحرث: كل موضع ذللته من الأرض ليزرع فيه، ويقال له عند غرسه وبذره إلى حيث بلغ حرث. فمعنى الحرث الأرض المهيأة للزرع، ومنه قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] على التشبيه بالأرض التي قد هيأت للزرع. انظر: "البسيط" 3/ 1559 بتحقيق الفوزان. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 339، و"تفسير مقاتل" 139 أ. (¬6) انظر: "اللسان" 2/ 25 (زرع). (¬7) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 287، و"زاد المسير" 8/ 148. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 218. (¬9) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 251.

وقال أبو إسحاق: أي أبطلناه حتى يكون متحطمًا لا حنطة فيه ولا شيء مما تزرعون هذا كلامه (¬1). وتلخيص المعنى أن الله يقول: لو نشاء لجعلنا ما تحرثون كلأً يصير بعد يبسه حطامًا متكسرًا لا حنطة فيه، وكل ما نبت من الأرض حطام غير الحب، فإنه صلب لا يتحطم وسائره بعد الهيح حطام (¬2). قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ} ذكرنا الكلام فيه عند قوله: {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] (¬3). {تَفَكَّهُونَ} أي تندمون قاله عكرمة والحسن وقتادة (¬4)، وقال عطاء والكلبي ومقاتل ومجاهد: تعجبون (¬5). قال الفراء (¬6): تفكهون: تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 144. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 399 (حطم). (¬3) ومما قال عند تفسيره لهذه الآية: ظلت أصله ظللت. قال الزجاج: ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر، والعرب تفعل ذلك كثيرًا ... وظلَّ نهاره يفعل كذا، وكذا يظل ظلا وظلولاً وظللت أنا، وظَلْتْ وظِلْتُ. لا يقال ذلك إلا في النهار لكنه قد سمع بعض الشعر ظَل ليله. ومنه قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. وانظر: "اللسان" 2/ 647 (ظلل). (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 272، و"جامع البيان" 27/ 114، و"الوسيط" 4/ 238، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 219. (¬5) انظر: "الجامع البيان" 27/ 114، و"معالم التنزيل" 4/ 287، ولم أقف عليه في تفسيري مجاهد ومقاتل. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 128.

66

ويقال معناه تندمون وكذلك تفكنون (¬1) وهي لغة لعكل (¬2). قال اللحياني: أزد شنوءه يقولون: تفكهون، وتميم تقول: تفكنون. وقال ابن الأعرابي: تفكهت وتفكنت أي تندمت وأنشد لرؤبة فقال (¬3): أما جزاء العارف المستيقن ... عندك إلا حاجة التفكَّن وقال الكسائي وأبو عمرو: هو التلهف على ما فات (¬4)، والمعنى في الآية: تتلهفون على ما فاتكم، وعلى هذا يتوجه قول من قال تفجعون وتحزنون (¬5). 66 - قوله تعالي: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} قال الزجاج وغيره: أي وتقولون: إنا لمغرمون فحذف القول، ومعنى المغرم الذي ذهب ماله بغير عوض (¬6). قال أبو إسحاق: يقولون إنا قد غرمنا وذهب زرعنا (¬7) يعني: غرمنا ¬

_ (¬1) وقول المؤلف (وكذلك تفكنون وهي لغة لعكل) ليست في معاني الفراء المطبوعة، وهي في "التهذيب" منسوبة له. (¬2) عُكَل بطن من طابخة من العدنانية، وعكل اسم امرأة حضنت بني عوف بن وائل فغلبت عليهم وسموا باسمها، من قراهم الشقراء والأشيقر. انظر: "معجم قبائل العرب" 2/ 804، و (تفكنون) قرأ بها أبو حزام. انظر: "الكشاف" 4/ 60، و"البحر المحيط" 8/ 211، و"روح المعاني" 27/ 148. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 280، و"اللسان" 2/ 1121 (فكن). والبيت في "ديوانه" ص 161، المراجع السابقة. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" نفسه، و"معالم التنزيل" 4/ 287، و"فتح القدير" 5/ 157. (¬5) قاله مجاهد، وفسر ابن كيسان التفكه بالحزن. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 287، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 219، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 296. (¬6) قاله الضحاك وابن كيسان. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 220، و"فتح القدير" 5/ 157. (¬7) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 114.

الحب الذي بذرناه فذهب في غير عوض هذا الذي ذكرنا هو الأصل. قال أبو عبيدة والفراء: لمعذبون (¬1)، وهو قول ابن عباس وقتادة (¬2) , وهذا معنى كأنهم ذهبوا إلى أنهم عذبوا بذهاب أموالهم. وقال عكرمة ومجاهد ومقاتل: لمولع بنا (¬3)، والمعنى لمولع بنا الشر من قولهم: أغرم فلان بفلانة إذا أولع بها، ومنه الغرام وهو الشر اللازم وقد تقدم تفسيره (¬4). ويدل على القول الأول (¬5) قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع. وما بعد هذا ظاهر ومفسر فيما تقدم إلى قوله: {الَّتِي تُورُونَ} قال الكسائي: أوْرَيْتُ النار وقد ورَتْ ووَرِيَتْ (¬6). وقال أبو إسحاق: ورَى الزَّندُ يَرِيَ فهو وارٍ إذا انقدحت منه النار، وأوريت النار إذا قدحتها (¬7)، وقال الكلبي والمبرد: أورى القادح إذا أتى بالنار. قال الأعشى (¬8): ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 251، و"معاني القرآن" 3/ 129. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 339، و"جامع البيان" 27/ 115، وهو اختيار ابن جرير. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ، و"جامع البيان" 27/ 115. (¬4) عند تفسيره الآية (65) من سورة الفرقان. ومما قال: والغَرامُ: اللازمُ من العذاب، والشرُّ الدائم، والبلاءُ والحبُّ والعشق وما لا يستطاع أن يتفصَّى منه، ويروى أن الغريم إنما سمي غريمًا لأنه يطلب حقه ويلح حتى يقتضيه، فمعنى غرامًا ملحًا دائمًا. وانظر: "اللسان" 2/ 981 (غرم). (¬5) وهو قول الضحاك وابن كيسان والزجاج. (¬6) انظر: "اللسان" 3/ 916 (وري). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 115. (¬8) "ديوانه" ص 84، وروايته: =

ولو بتَّ تقدحُ في ظلمةٍ ... صفاةً بنبعٍ لأوريت نارا يقول أنت ميمون الطائر فلو التمست الشيء من حيث لا يوجد لوجدته. قال أبو عبيدة: تورون: تستخرجون (¬1). وقال الكلبي: تقدحون (¬2). وقال مقاتل: توقدون (¬3). قوله تعالى: (شَجَرَتَهَا) قال المفسرون: يعني التي تقدح منها وهي المرخ والعفار (¬4). قال المبرد: وهما شجرتان يوريان النار وهما رطبان، ولذلك قال الأعشى (¬5): وزندك خير زناد الملوك ... صادف منهنَّ مرخًا عفارًا وتقول العرب للرجل إذا كان معاملته سهلاً غير ملتوٍ ولا مماطلٍ: أرخ يديك واسترخ إن الزناد من مرخ (¬6). قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} قال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن (¬7). ¬

_ = ولو رُمت في ليلة قادحًا ... حصاة بنبع لأوْريت نارا (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 252. (¬2) انظر:"تنوير المقباس" 5/ 339. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ. (¬4) قال الأزهري: وهما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر، ويسوّى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها. "تهذيب اللغة" 2/ 351 (عفر). (¬5) الديوان ص 84، وروايته: زنادك خير زناد الملوك ... خالط منهن مرخ عفارا "الخزانة" 7/ 250. (¬6) انظر: "اللسان" 3/ 463 (مرخ) ونسب تفسير المثل لابن الأعرابي. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 238، و"معالم التنزيل" 4/ 288، و"فتح القدير" 5/ 158.

وقال الكلبي: عظة في الدنيا من نار جهنم (¬1)، وقال عكرمة، ومجاهد ومقاتل: جعلنا هذه النار تذكرة للنار الكبرى (¬2). قال أبو إسحاق: أي إذا رآها الرائي ذكر جهنم وما يخافه من العذاب فذكر الله عز وجل واستجار به منها (¬3). قوله تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} قال الفراء، والزجاج: المقوي الذي ينزل بالقواء وهي الأرض الخالية (¬4)، وكل من نزل بها من مسافر مار أو مقيم بها فهو مقو. قال الليث: أقوَى القومُ إذا وقعوا في قيً من الأرض (¬5). قال ابن عباس: يريد ينتفع بها أهل البوادي والأسفار (¬6). وقال الكلبي: منفعة للمسافرين النازلين في الأرض القيّ (¬7). وقال مقاتل: يقول: ومنافع لمن كان بأرض في ومنهم الأعراب (¬8)، ونحو هذا قال الحسن والضحاك (¬9). وعلى هذا القول خص المسافر بالانتفاع بها؛ لأن منفعته بها أكثر من منفعة المقيم، وذلك أن أهل البوادي ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 340. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 651، و"تفسير مقاتل" 139 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 288. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 115. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 129، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 115. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 369 (قوى). (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 340، و"الوسيط" 4/ 238. (¬7) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 288، و"فتح القدير" 5/ 158. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 139 أ. (¬9) انظر: "جامع البيان" 27/ 116، و"معالم التنزيل" 4/ 288، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 221.

لابد (¬1) لهم من النار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. وقال أبو عبيدة: المقوي الذي لا زاد معه ولا مال، وهذا من قولهم أقوت الدار، أي: خلت (¬2)، فالمقوي الخالي من الزاد. وهذا قول الربيع، والسدي. قالا: يعني المرملين المقترين الذين لا زاد معهم فهؤلاء يوقدون النار ويشتون بها لحوم الصيد ولابد لهم منها، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس (¬3). وفي المقوين قول ثالث، وهو قول عكرمة، ومجاهد، قالا: للمقوين أي للمستمتعين بها من الناس أجمعين (¬4) المسافرين والحاضرين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز (¬5). وعلى هذا المقوي من الأضداد. ويقال للفقير: مقوٍ لخلوه من المال، وللغني: مقو لقوته على ما يريد، يقال أقوى الرجل إذا صار إلى حالة القوة، ذكر ذلك قطرب وغيره (¬6). والمعنى ومتاعًا للأغنياء والفقراء وذلك ¬

_ (¬1) في (ك): (بدل). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 252. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 222. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 651، و"جامع البيان" 27/ 116. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 222. قال ابن كثير في "تفسيره" 4/ 297: وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير، الجميع محتاجون إليها للطبخ، والاصطلاء، والإضاءة، وغير ذلك من المنافع. (¬6) انظر: "الأضداد" لقطرب ص 92، و"الأضداد" للأصمعي والسجستاني 4، 124، 279، 638، و"معالم التنزيل" 4/ 288، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 222، ورواه ثعلب عن ابن الأعرابي. انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 369 (قوى).

74

أنه لا غني بأحد عنها. قال أبو إسحاق: ذكر الله عز وجل في هذه السورة ما يدل على توحيده وما أنعم به عليهم من خلقهم وتغذيتهم مما يأكلون ويشربون، ثم قال: 74 - قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فبرئ الله عز وجل مما يقولون في وصفه (¬1). 75 - قوله: {فَلَا أُقْسِمُ} أكثر أهل العلم على أن (لا) صلة. المعنى: فأقسم (¬2)، وزيادة (لا) كثير في الكلام والتنزيل. وذهب أهل المعاني (¬3) إلى أن (لا) (¬4) هاهنا رد لقولهم في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة، فرد الله ذلك بقوله: {فَلَا}، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، ومثل هذا قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ} [النساء: 65] (¬5). وقد مر قوله تعالى: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وقرئ (بِمَوقِعِ) (¬6). قال أبو عبيد: والتي نختار الجماع؛ لأنها في التفسير منازل القرآن حين نزل نجومًا. قال: وبعضهم يتأولها مغائب الكواكب حين تسقط فأي ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 115. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 252، و"الكشاف" 4/ 61، و"معالم التنزيل" 4/ 289، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 223. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 117، و"معالم التنزيل" 4/ 289، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 223. (¬4) (لا) ساقطة من (ك). (¬5) هذا القول نسبه المفسرون للفراء ولسعيد بن جبير. قال أبو حيان: ولا يجوز؛ لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها, وليس جواباً لسائل سأل فيحتمل ذلك نحو قوله: لا: لمن قال: هل من رجل في الدار. "البحر المحيط" 8/ 213. (¬6) قرأ حمزة والكسائي وخلف (بموقع) على واحد. وقرأ الباقون {بِمَوَاقِعِ} جماعة. انظر: "حجة القراءات" ص 697، و"النشر" 2/ 383، و"الإتحاف" ص 409.

الوجهين كان فالجماع أولى (¬1). وقال المبرد: (موقع) هاهنا مصدر، فهو يصلح للقليل والكثير والواحد والجمع (¬2)، كما تقول: عجبت من ضرب القوم، ومن علم القوم فالواحد ينبئ عن الجميع. وقال أبو علي: المصادر وسائر الأجناس إذا اختلفت جاز جمعها، كما قال عز من قائل: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} فجمع للاختلاف وقال {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، فأفرد لما كان الجميع ضربًا واحداً، فمن قال: {بموقع النجوم} فأفرد؛ فلأنه اسم جنس، ومن جمع فلاختلاف ذلك، فأما قول الشاعر (¬3): كأن مَتْنَيْه من النفي ... مواقع الطير على الصفىِّ فليس اسم المصدر وإنما هو موضع فجمع؛ لأن المعنى على الجمع، وإنما شبه مواضع بمواضع (¬4). وأما التفسير فقال عطاء عن ابن عباس: يريد: أُقسِم بنزول القرآن، وهو قول الكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير وقتادة (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 239، و"فتح القدير" 5/ 160. (¬3) البيت للأخيل الطائي كما في "اللسان" 2/ 455 (صفا)، و"الجمهرة" 3/ 153، و"مجالس ثعلب" 1/ 207، و"الحيوان" 2/ 339، و"الخصائص" 2/ 11، و"المنصف" 3/ 72، والبيت يصف ساقياً ويشبه الماء لما جف على ظهره وابيض بذرق الطائر، والصفي جمع الصفا، والصفا جمع الصفاة، وهي الحجر الصلد الضخم الأملس. (¬4) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 263. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 340، و"تفسير مجاهد" 2/ 651، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 273، و"تفسير مقاتل" 139 ب، و"جامع البيان" 27/ 117.

76

وذكرنا معنى النجوم في نزول القرآن عند قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، وذهب جماعة من المفسرين (¬1) إلى أن مواقع النجوم معناها مغارب النجوم ومساقطها، وهو قول أبي عبيدة قال: والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للعباد أن يحلفوا إلا به، ويدل عليه قوله تعالى: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] (¬2). وقال الحسن: يعني انكدارها وانتثارها (¬3)، وهذا على قراءة من قرأ: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} لأنه مصدر يريد بوقوعها سقوطها من السماء عند انكدارها، ويجوز الجمع أيضًا لإضافته إلى النجوم ولكل نجم وقوع. 76 - ثم أخبر عن عظم هذا القسم فقال، قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} قال الفراء والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن (¬4)، والضمير في (إِنَّهُ) يعود على القسم، ودل عليه قوله: {أُقْسِمُ}، والمعنى: وأن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمه لانتفعتم بذلك. وقال أبو علي الفارسي: التقدير في: {لَوْ تَعْلَمُونَ} ما علموا، كما تقول: لو قمت أي: قم (¬5). ¬

_ (¬1) وهو قول قتادة وغيره. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 223، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 298، وهو اختيار ابن جرير. "جامع البيان" 27/ 117. (¬2) من الآية (40) من سورة المعارج. والذي في "مجاز القرآن" 2/ 252. قوله: (فأقسم بمواقع النجوم، ومواقعها مساقطها ومغايبها). (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 117، و"معالم التنزيل" 4/ 289. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 129، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 115. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 189.

77

وزعم أبو الحسن أن الماضي في هذا المعنى أكثر من المضارع. والآية اعتراض بين المقسم والمقسم عليه لأن التقدير: فأقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم. وقوله: (لَّوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض أيضًا بين الصفة والموصوف من الجملة التي هي اعتراض (¬1). ثم ذكر المقسم عليه بقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ) أي إن الكتاب الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لقرآن كريم. قال الكلبي: حسن كريم على ربه (¬2). وقال مقاتل: كرمه الله وأعزه لأنه كلامه (¬3). وقال أهل المعاني (¬4): القرآن الكريم الذي من شأنه يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين. وقال الأزهري: الكرمُ اسم جامع لما يُحمد، والله كريم حميد الفعال. 77 - و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} أي قرآن يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة (¬5). 78 - قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال جماعة المفسرين: يريد في اللوح المحفوظ. قال الكلبي: مكنون من الشياطين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" 4/ 62، و"البحر المحيط" 8/ 214، و"فتح القدير" 5/ 160. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 340. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 139 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 289. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 289، و"فتح القدير" 5/ 160. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 234 (كرم). (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 289.

79

وقال مقاتل: مستور من خلقه عند الله في اللوح المحفوظ (¬1). وقال أبو إسحاق: أي مصون في السماء (¬2). وقال مجاهد: في كتاب مكنون لا يصيبه تراب، ولا غبار (¬3). 79 - قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أكثر المفسرين على أن الكناية في قوله (لا يمسه) تعود إلى الكتاب المكنون، وهو اللوح المحفوظ. والمطهرون هم الملائكة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وباذان، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والضحاك، والكلبي، وقتادة، ومقاتل (¬4)، قالوا: المطهرون الملائكة طهروا من الشرك والذنوب والأحداث والنجاسات، فالذي في السماء لا يمسه إلا المطهرون، وأما كتابنا فيمسه الطاهر وغير الطاهر، وهو اختيار الفراء والزجاج، قالا: لا يمس ذلك اللوح المحفوظ إلا الملائكة (¬5). والمعنى على هذا القول أن النسخة التي في السماء من القرآن مكنون مصون لا يصل إليه أحد، ولا يمسه إلا الملائكة الذين وصفوا بالطهارة، ومذهب الفقهاء (¬6) في هذه الآية أن الضمير في قوله: (لَّا يَمَسُّهُ) يعود إلى ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 139 ب. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 115. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 118. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 652، و"تفسير مقاتل" 139 ب، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 273، و"جامع البيان" 27/ 118 - 119. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 130، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 116. (¬6) قال الجصاص: (إن حمل اللفظ - أي قوله تعالى {لَا يَمَسُّهُ} على حقيقة الخبر =

القرآن، والمراد بالقرآن المصحف لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو" (¬1). يعني المصحف، والمراد بقوله: (الْمُطَهَّرُونَ) أي من الأحداث والجنابات، وقالوا: قوله: (لا يَمَسُّهُ) خبر في معنى النهي ومنعوا بهذه الآية الجنب والحائض والمحدث من مس المصحف وحمله، وإن كان بعلاّقة أو في غلاف، وهذا قول محمد بن علي، وعطاء، وطاووس، وسالم، والقاسم، وعبد الرحمن بن الأسود، وإبراهيم، وسفيان، ومذهب مالك، والشافعي (¬2). ¬

_ = فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي -وإن كان في صورة الخبر- كان عمومًا فينا وهذا أولى ..) "أحكام القرآن" 3/ 416، وانظر: "سنن سعيد بن منصور" 2/ 346. (¬1) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب: الجهاد، باب: السفر بالمصاحف إلى أرض العدو 4/ 68، ومسلم في كتاب: الإمارة، باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار 3/ 1490، وأبو داود في "سننه"، كتاب: الجهاد، باب: في المصحف يسافر به إلى أرض العدو 2/ 495، وأحمد في "المسند" 2/ 6 ولفظ البخاري: " ... عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو". (¬2) قال ابن قدامة: (ولا يمس المصحف إلا طاهر، يعني طاهرًا من الحدثين جميعًا. روى عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس ...) ولا نعلم مخالفًا لهم إلا داود، أي الظاهري، قال: ويجوز حمله بعلاقته، وهذا قول أبي حنيفة، وروى ذلك عن الحسن، وعطاء، وطاوس، والشعبي، والقاسم، وأبي وائل، والحكم، وحماد. ومنع منه الأوزاعي، ومالك، والشافعي. انظر: "المدونة" 1/ 107، و"المغني" 1/ 202 - 203، و"المحلى" 1/ 81 - 84. قلت: وبهذا يتبين أن الواحدي -رحمه الله- عمم القول بمنع حمله بعلاقة مع أن منهم من جوز ذلك والله أعلم.

80

80 - قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال أبو إسحاق: تنزيل صفة لقوله: {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وعلى هذا المراد بالمصدر المفعول، والمعني منزل كقولهم: ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن، قال: ويجوز أن يكون مرفوعًا على: هو تنزيل من رب العالمين (¬1)، قال الكلبي: يعني القرآن تنزيل من رب العالمين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). 81 - قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} قال ابن عباس: يريد {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} القرآن يا أهل مكة {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} قال تكفرون وتكذبون (¬3). وقال مقاتل: تكفرون (¬4). وقال الكلبي: تكذبون أنه ليس كما قال لكم وأنه لا جنة ولا نار ولا بعث (¬5). قال أبو عبيدة: المدهن والمداهن واحد (¬6)، وقال الفراء: مدهنون مكذبون، ويقال: كافرون (¬7). وقال الزجاج: أي أفبالقرآن تكذبون، قال: والمدهن والمداهن الكذاب المنافق (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 116. (¬2) انظر: "تنوير" المقباس" 5/ 340، و"الوسيط" 4/ 240. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 240، و"معالم التنزيل" 4/ 290. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 139 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 227. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 341. (¬6) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 252. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 3/ 130. (¬8) انظر: "معاني القرآن" 5/ 116.

82

وقال ابن الأعرابي: {مُدْهِنُونَ} منافقون والإدهان والمداهنة اللين والمصانعة، وهو أن يسر خلاف ما يظهر، والمدهن الذي يجري في الباطن على خلاف الظاهر (¬1). هذا أصل معناه في اللغة. ثم قيل للمكذب مدهن، وإن صرح بالتكذيب والكفر، ويجوز أن يكون هذا خطابًا لمن آمن بالقرآن ظاهرًا وأسر الكفر به، وهذا معنى الإدهان والمداهنة. قال المؤرج: المدهن المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره (¬2). 82 - قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال ابن عباس وجماعة المفسرين: تجعلون شكركم أنكم تكذبون بنعمة الله عليكم فتقولون سقينا بنوء كذا (¬3). قال أبو إسحاق: كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا, ولا ينسبون السقيا إلى الله عز وجل فقيل لهم: أتجعلون رزقكم أي شكركم بما رزقتم التكذيب (¬4). وقال أبو علي الفارسي: أي وتجعلون رزقكم الذي رزقكموه أي شكر رزقكم -فحذف المضاف- أن تكذبوا بذلك الرزق أنه من الله وأن تنسبوه إلى غيره فتقولوا مطرنا بنوء كذا. ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" 1/ 1028 (دهن). (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 227، و"فتح القدير" 5/ 161. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 119، و"معالم التنزيل" 4/ 290. روى البخاري في كتاب: الاستسقاء: باب قول الله تعالى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2/ 41، قال ابن عباس: شكركم. ورواه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 299، و"تفسير ابن عباس ومروياته" للحميدي 2/ 863 - 864. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 116.

ويجوز أن يكون المعنى أن تكذبوا بما جاء به التنزيل في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا} [ق: 9] إلى قوله: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق: 11]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ)} [البقرة: 22] فذكر أنه أنزل الماء ورزق به العباد الثمار، فمن نسب الإنزال إلى النجم فقد كذب برزق الله وكذب بما جاء به القرآن (¬1). والمعنى: أتجعلون بدل الشكر التكذيب. وروي عن عاصم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} خفيفة (¬2) أي تنسبون هذا الرزق إلى غير الله، وقال الأزهري: معنى الآية وتجعلون شكر (¬3) رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزق، وتجعلون الرزق من عند غير الله (¬4)، وذلك كفر، فأما من جعل الرزق من عند الله وجعل النجم وقتًا وقته الله للغيث، ولم يجعله المغيث الرزق رجوت أن لا يكون مكذبًا، والله أعلم. وقال ابن إسحاق في بعض أماليه: من قال مطرنا بنوء كذا ومراده أنا مطرنا في وقت طلوع نجم كذا ولم يقصد إلى فعل النجم فذلك والله أعلم جائز، كما جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس: كم (¬5) بقي من نوء الثريا؟ فقال: إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا بعد وقوعها، فوالله ما مضت تلك السبعة حتى غيث ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 264 - 265. (¬2) وهي قراءة المفضل عن عاصم، ويحيى بن وثاب، (تَكْذبون) خفيفة منصوبة التاء. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 264، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 230. (¬3) (ك): (شكر) ساقطة من (ك)، وزيادتها من "تهذيب اللغة". (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 430 (رزق). (¬5) كذا في (ك) وصوابها: (فقال: يا عباس يا عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كم ...).

83

الناس (¬1). وإنما أراد عمر: كم بقي من الوقت الذي جرت به العادة أنه إذا تم أتى الله بالمطر. هذا الذي ذكرنا هو قول جماعة المفسرين (¬2). وقال الحسن: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال: وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به (¬3). 83 - ثم احتج عليهم بقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} يقول فهلا إذا بلغت الروح أو النفس الحلقوم عند الموت. 84 - {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ} يجوز أن يكون خطاباً للذين بلغت روحهم الحلقوم، وهم الذين أسرفوا على الموت (¬4)، ويجوز أن يكون خطاباً لأهل الميت والذين يحضرونه عند السياق (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 27/ 120، وذكره القرطبي في "جامعه" 17/ 230، وابن كثير في "تفسيره" 4/ 299. (¬2) قال ابن كثير: وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر، لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر، فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده. ومما نقل القرطبي في "تفسيره" 17/ 229: عن الشافعي -رحمه الله- قوله: لا أحب أحدًا أن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئًا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما نقول: مطرنا شهر كذا. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 273، و"جامع البيان" 27/ 120. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 231. (¬5) وبهذا قال عامة المفسرين. انظر: "جامع البيان" 27/ 120، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 300.

85

قوله: (تَنظُرُونَ) قال مقاتل: إلى أمري وسلطاني (¬1). وقال عطاء: إلى ما كنتم تكذبون به (¬2)، يعني العذاب. وقال الكلبي: تنظرون إليه متى تخرج نفسه (¬3). قال أبو إسحاق: أي أنتم يا أهل الميت في تلك الحالة ترونه قد صار إلى أن تخرج نفسه (¬4). وقال صاحب النظم: معنى (تَنظُرُونَ) هاهنا لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئًا (¬5)، كما قال تأبط شرًّا: فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحةً والموت خزيانُ ينظر (¬6) وقوله: ينظر هاهنا، معناه: لا يقدر على شيء. 85 - قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أي بالعلم والقدرة والرؤية وذلك أن الله تعالى يراه من غير مسافة بينه وبينه فهو أقرب إليه من كل من يراه بمسافة بينه وبينه (¬7). {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} أي لا تعلمون ذلك. وهذا خطاب للكفار، هذا قول أهل المعاني. وقال المفسرون: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} يعني ملك الموت وأعوانه (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 139 ب. (¬2) لم أجده. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 341، و"معالم التنزيل" 4/ 290. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 116. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 241، و"معالم التنزيل" 4/ 290. (¬6) (ينظر) ساقطة من (ك). والبيت ورد في "ديوانه" ص 284، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 72. (¬7) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 291، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 231. (¬8) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 300، و"فتح القدير" 5/ 161.

86

والمعنى: ورسلنا القابضون روحه أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون أولئك الذين حضروه لقبض الروح. 86 - قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} قال أكثر المفسرين: غير محاسبين وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومقاتل (¬1). وقال الكلبي: غير مملوكين (¬2). وقال أبو عبيدة: غير مجزيين (¬3). واختار الفراء والزجاج غير مملوكين (¬4)، والمدينة: الأمة المملوكة. وأنشد أبو عبيدة للأخطل (¬5): ربت فربا في كرمها ابن مدينةٍ ... يزلُّ على مسحاته يتركَّلُ 87 - قوله تعالى: {تَرْجِعُونَهَا} أي تردون تلك النفس التي بلغت الحلقوم. قال الفراء: وأجيب {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} و {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ} بجواب واحد، وهو قوله: {تَرْجِعُونَهَا}، قال: ومثله قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38]، أجيبتا بجواب واحد ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 653، و"تفسير مقاتل" 139 ب، و"جامع البيان" 27/ 121، و"معالم التنزيل" 4/ 291. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 291، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 231. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 252. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 131، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 117. (¬5) انظر: "ديوانه" 1/ 19، و"اللسان" 1/ 1043 (دين)، "المنصف" 1/ 312. والتركل: هو وضع القدم على المسحاة للمبالغة في الحفر. "اللسان" 1/ 1218 (ركل).

88

وهما جزاءان (¬1). وقال صاحب النظم: قوله: {تَرْجِعُونَهَا} جواب لقوله: {فَلَوْلَا} المتقدمة والمتأخرة على تأويل: فلولا إذا بلغت النفس الحلقوم ترجعونها أي تردونها إلى موضعها إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين كما تزعمون، يقول: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا إله يقوم بذلك، فهلَّا تردون نفسًا ممن يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم في ذلك حيلة بوجه من الوجوه فلم لا يدلكم ذلك على أن الأمر إلى غيركم وهو الله عز وجل (¬2). وقال أبو إسحاق: معناه هلا ترجعون الروح إن كنتم غير مدينين، أي: غير مملوكين مدبَّرين ليس لكم في الحياة والموت قدرة، فهلا إن كنتم كما زعمتم في مثل قولكم الذي جاء في القرآن: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156] أي إن كنتم تقدرون أن تؤخروا أجلًا فهلا ترجعون الروح إذا بلغت الحلقوم وهلا تردون عن أنفسكم الموت (¬3). ولما دل بما ذكر على أنهم محاسبون ومجزيون ومملوكون، ذكر طبقات الخلق عند الموت والحشرجة. 88 - قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إن كان هذا الذي بلغت روحه الحلقوم من المقربين عند الله في الدرجات والتفضيل (فَرَوْحٌ) أي: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 130. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 241 - 242، و"معالم التنزيل" 4/ 291، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 232. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 117.

90، 91

فله روح وهو الراحة والاستراحة، قاله ابن عباس والكلبي وقتادة والضحاك (¬1). وقال مجاهد: الروح الفرح (¬2). قوله: {وَرَيْحَانٌ} قالوا: يعني الرزق في الجنة (¬3)، وذكرنا الريحان بمعنى الرزق في قوله: {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12]. وقال الحسن وأبو العالية: هو ريحاننا هذا يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه (¬4). 90، 91 - {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} أي المتوفى {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}. قال مقاتل: سلم الله لهم أمرهم يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم (¬5). وقال الكلبي: يسلم عليك أهل الجنة، وقال أيضًا: يقول السلام لك (¬6)، قال الزجاج: أي أنك ترى فيهم ما تحب من السلام وقد علمت ما أعد لهم من الجزاء (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 341، و"تفسير مقاتل" 140 أ، و"جامع البيان" 27/ 122. (¬2) انظر: "الدر" 6/ 166، و"فتح القدير" 5/ 162. (¬3) قاله مجاهد، وابن جبير، ومقاتل. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 653، و"تفسير مقاتل" 140 أ، و"جامع البيان" 27/ 122. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 122، و"معالم التنزيل" 4/ 291. وقال ابن كثير 4/ 300 بعد ذكره للأقوال: (وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة فإن من مات مقربًا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 140 أ. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 342، و"معالم التنزيل" 4/ 291. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 5/ 118.

92

وقال الفراء: سلم لك أنهم (¬1) من أصحاب اليمين، وحذف أنهم (¬2) من الكلام كما تقول: أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل (¬3)، والمعنى: أنت مصدق أنك مسافر فألقيت أن. 92 - {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} بالبعث {الضَّالِّينَ} عن الهدى. 93 - {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي فالذي يعد له حميم جهنم. 94 - {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال نار عظيمة يقال: أصلاه النار، أي: جعله يصلاها ويقاسي حرها، والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول كما تقول لفلان إكرام وإعطاء مال، أي: يعطي المال، كذلك هاهنا يصلى الجحيم (¬4)، كما قال: {وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 12] في قراءة من شدد (¬5). 95 - قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} قال مقاتل: إن هذا الذي ذكر للمقربين وأصحاب اليمين وللمكذبين لهو حق اليقين لا شك فيه (¬6). وقال أبو إسحاق: أي هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه وأعدائه وما ذكر مما يدل على وحدانيته ¬

_ (¬1) في المعاني: (أنك، أن). (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 122، و"معالم التنزيل" 4/ 291. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 131. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 234، و"فتح القدير" 5/ 162. (¬5) قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي {وَيَصْلَى} بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 390، و"حجة القراءات" ص 756، و"النشر" 2/ 399، و"الإتحاف" ص 436. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 140 أ.

96

ليقين (¬1). ومعنى (حَقُّ اليَقِينِ) حق الأمر اليقين عند الأخفش والبصريين (¬2)، وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه (¬3). وقال أبو إسحاق: هذا كما تقول إن زيدًا لعالم، وإنه للعالم حق العالم إذا بالغت في التوكيد (¬4). 96 - قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال أبو إسحاق: فنزّه الله عَزَّ وَجَلَّ عن السوء. والباء يجب أن تكون زيادة للتوكيد (¬5)، والاسم يكون بمعنى الذات والنفس كأنه قيل: سبح ونزه ربك العظيم. والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 118. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 703، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 234. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 347، و"البحر المحيط" 8/ 216. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 118. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 234 - 235. وقال الشوكاني في "تفسيره" 5/ 162، والباء متعلقة بمحذوف: أي فسبح ملتبسًا باسم ربك للتبرك به، وقيل: المعنى: فصل بذكر ربك، وقيل الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات. وقيل: هي للتعدية؛ لأن سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى، والأول أولى.

سورة الحديد

سورة الحديد

1

تفسير سورة الحديد بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال المقاتلان يعني كل شيء من ذي الروح وغيره من الشجر، والجبال، والبحار، والشمس، والقمر، وكل خلق فيهما ولكن لا تفقهون تسبيحهم (¬1). وقال أهل المعاني: تسبيح ما لا يعقل تنزيه لله من السوء بما فيه من الآية الداعية إلى ذلك كأنها ناطقة به إذ صنعه يقتضي صانعًا غير مصنوع (¬2). قال أبو إسحاق: وهذا خطأ؛ لأن التسبيح تمجيد لله عز وجل وتنزيهه من [السوء] (*)، قال الله عز وجل {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] فلو كان التسبيح آثار الصنعة لكانت معقولة، وكانوا يفقهونها، وأيضًا فإنه قال {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] فلو كان تسبيحها آثار الصنعة لم يكن في هذا تخصيص لداود (¬3)، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وفي مواضع. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 140 أ، و"جامع البيان" 27/ 124 ولم ينسبه، و"الوسيط" 4/ 244، و"فتح القدير" 5/ 165. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 235، و"فتح القدير" 5/ 165. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 121، وقال القرطبي 17/ 236، وما ذكره هو الصحيح. (*) قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين غير واضح في المطبوع، وما أثبتناه من معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج (5/ 121).

2

2 - قوله تعالى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} قال المفسرون: يحيى الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا (¬1). وقال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى يحيي النطف التي إنما هي موات ويميت الأحياء، ويكون موضع يحي ويميت رفعًا على معنى هو يحيي ويميت ويجوز أن يكون نصبًا على معنى له ملك السموات والأرض محييًا ومميتًا قادرًا (¬2). 3 - قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} قال جماعة المفسرين: هو الأول قبل كل شيء، كان هو ولا شيء موجود، فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، يفني الأشياء، ويبقى آخرًا كما كان أولاً، وهذا يروى مرفوعًا أنه "الأول وليس قبله شيء والآخر وليس بعده شيء" (¬3). قال الأزهري: ولا يجوز أن يعدو في تفسير الاسمين ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4). قوله تعالى: {وَالظَّاهِرُ} أي الغالب العالي على كل شيء، ومثل قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] أي غالبين عالين، من قولك: ظهرت ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 124، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 236. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 121. (¬3) الحديث أخرجه مسلم (2713) في الدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع وفيه "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء" الحديث. والترمذي في الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، وأحمد 2/ 381، 404. (¬4) لم أجد هذا اللفظ في "تهذيب اللغة" 13/ 474 (بطن) وإنما قال: ومن صفات الله عز وجل: "الظاهر والباطن" لا تأويلها ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تمجيد الرب .. وذكر الحديث.

4

على فلان أي علوته. ومنه قوله تعالى: {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وهذا معنى ما روي في الحديث: "والظاهر فليس فوقك شيء" وهذا قول أكثر أهل العلم (¬1)، ويجوز أن يكون معنى الظاهر أنه ظاهر بالأدلة والشواهد على ربوبيته (¬2). وهذا معنى ما روي في الخبر: "اللهم أنت الظاهر فلا تخفى". قوله تعالى: {وَالْبَاطِنُ} قال أبو إسحاق: الباطن العالم بما بطن، كما تقول: فلان يبطن أمر فلان، أي يعلم دِخْلَةَ أمره (¬3). قال الليث: يقال أنت أبطن بهذا الأمر من فلان، أي: أخبر بباطنه فالله تعالى العالم الباطن بكل شيء فلا أحد أعلم منه (¬4)، وهذا معنى ما روي في الحديث: "وأنت الباطن فليس دونك شيء" أي ليس أقرب منك بالعلم شيء، ويجوز أن يكون معنى الباطن أنه محتجب عن الأبصار وهو معنى ما روي في الخبر "والباطن فلا يُرى". 4 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مفسر في سورة الأعراف (¬5) إلى قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} وهو مفسر في سورة سبأ (¬6) إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي بالعلم والقدرة وليس ينفك أحد من تعلق علم ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوي" 5/ 244 - 245، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 132، قال ابن كثير: وقال البخاري: قال يحيى: ونقل كلام الفراء. "ابن كثير" 4/ 302. (¬2) انظر: "الكشاف" 4/ 63، و"فتح القدير" 5/ 165، ثم قال: وقد فسر هذه الأشياء الأربعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتعين المصير إلى ذلك. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 122. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" (بطن). (¬5) من الآية (54) من سورة الأعراف. (¬6) "تفسيره" الآية (34) من سورة سبأ.

الله وقدرته به أينما كان من أرض، وسماء، وبر وبحر. وهذا حجة على من ترك تأوبل قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وأجراه على الظاهر إذ لابد من التأويل في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ولا يجوز إجراؤه على الظاهر حتى يعتقد أنه مع كل واحد في مكانه وجهته وإذا جاء التأويل في بعض جاز في الكل (¬1). ¬

_ (¬1) قول المؤلف رحمه الله: ولا يجوز إجراؤه على الظاهر ... أي قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} صواب وحق لا ريب فيه. قال أبو عمر الصلمنكي: وأجمع المسلمون من أهل "السنة"، على معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء. انظر: "الصواعق المرسلة" 4/ 1284، و"العلو" ص 178. أما قوله: وهذا حجة على من ترك تأويل قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وأجراه على الظاهر فهو كلام مردود مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة. قال الإمام أحمد رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الله على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ومثل هذا نقل عن الشافعي، وابن جرير، وابن المبارك، وسعيد بن عامر، وابن خزيمة، والبخاري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، وغيرهم. انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي 5/ 5، و"شرح الفقه الأكبر"، لأبي حنيفة ص102، و"العلو" للذهبي ص101 - 102، و"السنة" لعبد الله بن أحمد 1/ 7، و"الرسالة" ص 8، و"الصواعق المرسلة" 4/ 1292 - 1305. وأما قوله: وإذا جاز التأويل في بعض جاز في الكل، فجوابه أن التأويل الذي يقبل هو التأويل بمعنى التفسير أي معرفة معاني الصفات، وهذا حق. وأما التأويل بمعنى الحقيقة فهذا لا يعلمه إلا الله، فحقائق الصفات من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وأما التأويل الذي يشير إليه المؤلف -عفا الله عنه- فهو صرف نصوص الصفات عما دلت عليه بغير دليل، وإنما لشبهة، وهذا التأويل مردود ولا يصح. انظر: "التدمرية" لابن تيمية ص 91.

7

7 - قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يخاطب كفار قريش {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني المال الذي كان بيد غيرهم فأهلكهم وأعطا قريشًا ذلك فكانوا خلائف عمن مضوا، وهذا معنى قول المفسرين أنفقوا من أموالكم التي ملككم الله وعمركم فيها (¬1). قوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} قال عطاء والكلبي ومجاهد والمقاتلان (¬2): يريد حين أخرجهم من ظهر آدم. وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال الكلبي: إذا كنتم عند أخذ العهد مقرين له (¬3) فـ {إِنْ} على قوله بمعنى (إذ)، وقال غيره: إن كنتم مؤمنين بالحجج والدليل فقد بان وظهر على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- ببعثته وإنزال القرآن عليه، ويجوز أن يكون المعنى: إن كنتم مؤمنين يومًا فما لكم لا تؤمنون الآن، وقد قامت الحجة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحة نبوته (¬4). 8 - ثم قال في الحث على الإنفاق، قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 294، و"القرطبي" 17/ 238، قلت: وحمل الآية على العموم أولى من حصرها على كفار قريش أو العرب. انظر: "التفسير الكبير" 29/ 215، وقال الشوكاني في "تفسيره" 5/ 167: ويجوز أن يكون خطابًا للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه، أو الازدياد منه. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 347 - 348، و"تفسير مجاهد" 2/ 656، و"تفسير مقاتل" 140 ب. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 347. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 294، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 238 - 239.

10

فيما يقرب من الله وأنتم ميتون تاركون أموالكم قاله الزجاج (¬1)، وهو معنى قول المفسرين (¬2). 10 - ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} قال: يعني فتح مكة في قول جميعهم (¬3) , قال مقاتل: لا يستوي في الفضل والسابقة من أنفق من ماله وقاتل العدو من قبل فتح مكة (¬4). قال الكلبي في رواية محمد بن فضيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، يدل على هذا أنه كان أول من أنفق المال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله (¬5). قال ابن عمر: كنت قاعدًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة فخلّها (¬6) في صدره بخلال فنزل عليه جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة فخلها في صدره؟ فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 123. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 126، و"معالم التنزيل" 4/ 294. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 294، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 239، وزاد مع الشعبي الزهري. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 140 ب. (¬5) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 469، و "الوسيط" 4/ 245، و"معالم التنزيل" 4/ 294، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 240. (¬6) خلها: أي جمع بين طرفيها بعود أو حديد. النهاية (خلل). (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 62 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 469، و"معالم التنزيل" 4/ 295، و"ابن كثير" 4/ 307، كلهم ذكروا بيان أطول من هذا، وتعقبه ابن كثير بقوله: هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه، وذكره ابن الجوزي في ترجمة أبي بكر عن ابن عمر بدون سند، و"صفة الصفوة" 1/ 249 - 250.

ولأنه -رضي الله عنه- كان أيضًا أول من قاتل على الإسلام فقد روى زر عن ابن مسعود قال: أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رضي الله عنه (¬1). قال صاحب النظم: قوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ} يقتضي نقيضًا كما قال {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] ولم يجيء هاهنا النقيض الذي يقابل من أنفق فلما قال {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} دل على هذا النقيض؛ لأن نقيضه من أنفقوا من بعد وقاتلوا (¬2). قال عطاء: يريد درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها (¬3)، وقال مقاتل بن حبان: يقول كانت نفقتهم وجهادهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم أجرًا ودرجات من درجات من أنفق وقاتل بعد الفتح فتح مكة (¬4). قال أبو إسحاق: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم وكانت بصائرهم أيضًا أنفذ (¬5). قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} قال مقاتل بن سليمان: يقول ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 295، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 240، و"لباب التأويل" 7/ 32. (¬2) انظر: "التفسيرالكبير" 29/ 218، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 240، و"فتح القدير" 5/ 168. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 246، و"معالم التنزيل" 4/ 295. (¬4) انظر: "فتح القدير" 5/ 168. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 123.

وكلا الفريقين وعد الله الجنة (¬1). والقراء في النصب في {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ} لأنه بمنزلة زيدًا وعدت خيرًا فهو مفعول وعد، وقرأ ابن عامر "وكل" بالرفع (¬2)، وحجته أن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يقو عمله فيه قوته إذا تأخر، ألا ترى أنهم قد قالوا في الشعر (¬3): زيدٌ ضربتُ، ومما جاء في ذلك الشعر (¬4): قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ وتدَّعي ... عليَّ ذنْبًا كُلُهُ لم أصْنّعِ فرووا (كُلُ) بالرفع لتقدمه على الفعل، وإن لم يكن شيء يمنع من تسلّط الفعل عليه فكذلك {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ويكون على إرادة الهاء وحذفها كما تحذف من الصلاتِ نحو: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] والصفات {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]. ومثل ذلك قول جرير (¬5): أبحتَ حمى تهامةَ بعد نجدٍ ... وما شيءٌ حميتَ بمُستباحِ أي حميته (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 140 ب. (¬2) قرأ ابن عامر "وكل" وقرأ الباقون بالنصب انظر: "حجة القراءات" ص 698، و"النشر" 2/ 384، و"الإتحاف" ص 409. (¬3) قوله: (في الشعر) زيادة لا فائدة منها. (¬4) "البيت" لأبي النجم. انظر: "الخزانة" 1/ 173، و"الخصائص" 1/ 292، و"شرح أبيات المغني" 4/ 24. (¬5) انظر: "ديوان جرير" 1/ 89، و"شرح أبيات المغني" ص 741، "شرح شواهد سيبويه" 1/ 45، و"مغني اللبيب" ص 503، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 25, و"شرح شواهد الألفية" 4/ 75. (¬6) من قوله: "وحجته أن الفعل" إلى هنا من كلام أبي علي الفارسي. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 266 - 267.

11

11 - قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال الكلبي: صادقًا محتسبًا بالصدقة (¬1). وقال مقاتل: يعني طيبة بها نفسه (¬2). وقال أهل العلم: القرض الحسن أن يجمع أوصافًا عشرة وهي: أن تكون من الحلال، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب" (¬3). وقد قال أيضًا: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" (¬4). وأن تكون من أكرم ما تملكه دون أن تقصد إلى الرديء للإنفاق. قال الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. وأن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه، بأن ترجو الحياة كما قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال: "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا أو لفلان كذا" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 352. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 140 ب. (¬3) جزء حديث صحيح رواه الإمام مسلم في"صحيحه"، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها. والإمام أحمد في "المسند" 2/ 328. (¬4) رواه الإمام مسلم في الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، وأبو داود في الطهارة، باب في فرض الوضوء، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء (لا تقبل صلاة بغير طهور) وقال: هذا الحديث هو أصح شيء في هذا الباب وأحسن. (¬5) رواه البخاري في"صحيحه"، كتاب: الزكاة، باب: أفضل الصدقة صدقة الشحيح الصحيح 2/ 137، ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن أفضل الصدقه صدقة الصحيح الشحيح.

12

وأن تضعه في الأخل (¬1) الأحوج الأولى بأخذه، ولذلك خص الله تعالى أقوامًا بأخذ الصدقات وهم أهل السهمان. وأن تكتمه ما أمكن؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وأن لا تتبعه منا وأذى؛ لأن الله تعالى قال: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. وأن تقصد به وجه الله ولا ترائي بذلك؛ لأن المرائي مذموم على لسان الشرع. وأن تستحقرها، تعطي وإن كثر؛ لأن ذلك قليل والدنيا كلها قليلة. وأن تكون من أحب مالك إليك، قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. فهذه أوصاف عشرة إذا استكمَلَتها الصدقة كانت قرضًا حسنًا إن شاء الله (¬2)، وهذه الآية مفسرة مذكورة في سورة البقرة (¬3). 12 - قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} قال أبو إسحاق: يوم منصوب بقوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وله أجر كريم في ذلك اليوم (¬4). و {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال مقاتل والحسن: يسعى نورهم بين ¬

_ (¬1) في (ك): (الأحل) والتصحيح من "تفسير الوسيط". والأخل هو الفقير المحتاج, من (الخَلَّة): الحاجة والفقر. انظر: "اللسان" (خلل). (¬2) انظر: "الوسيط" 2/ 247، و"التفسير الكبير" 29/ 221، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 242، ونسب هذا القول للقشيري. (¬3) عند تفسيره الآية (245) من سورة البقرة. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 123.

13

أيديهم على الصراط يوم القيامة، وهو دليل لهم إلى الجنة (¬1). وقال قتادة: إن المؤمن يضيء له نوره كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه (¬2). وقال ابن مسعود في هذه الآية: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم منهم من نوره مثل الجبل وأدناهم نورًا نوره على إبهامه يطفأ مرة ويَقد أخرى (¬3). وقال مجاهد: ما من عبد إلا ينادي يوم القيامة أين فلان بن فلان ها نورك، أين فلان بن فلان لا نور لك. قوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} قال الأخفش والفراء: يريد من أيمانهم وشمائلهم فأقام الباء مقام عن كما قال: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. يقول بطرف (¬4)، واكتفى بالأيمان عن ذكر الشمائل. وقال الضحاك وابن حبان: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} كتبهم التي أعطوها فكتبهم بأيمانهم ونورهم بين أيديهم (¬5)، وعلى هذا حذف الكتب لدلالة قوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} عليها. قوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} أي: وتقول لهم الملائكة: بشراكم اليوم. 13 - ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم فقال: قوله تعالى: {يَوْمَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 140 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 244. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 275، و"جامع البيان" 27/ 128، و"الكشف والبيان" 12/ 63 أ. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 128، و"زاد المسير" 8/ 165، و"لباب التأويل" 7/ 32، وهو اختيار أبي جعفر النحاس. انظر: "إعراب القرآن" 3/ 355. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 407، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 132. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 248، و"معالم التنزيل" 4/ 295، و"زاد المسير" 8/ 165، وهو اختيار ابن جرير، و"جامع البيان" 27/ 128.

يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} يوم بدل من قوله: {يَوْمَ تَرَى} (¬1) فقال أبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورًا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا فيمضي المؤمنون ويقول المنافقون {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} قال: وهي خدعة خدع بها المنافقون، قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم وقد {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} (¬2). وقال ابن عباس ومجاهد: إن المؤمنين والمنافقين جميعًا يعطون النور وذلك أنهم يحشرون معًا ويعطون النور فيطفأ نور المنافقين ويقولون للمؤمنين {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (¬3). وقال الكلبي: يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون قالوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي انتظرونا (¬4) ونظر بمعنى انتظر في التنزيل والشعر كثير، قال الله تعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] منتظرين إدراكه، وأنشد أبو علي (¬5): ما زِلت مُذ أشهرَ السُّفَّارُ أنْظُرُهُم ... مثلُ انتظارِ المضحّي راعيَ الإبلِ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 356 - 357. (¬2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص 108 (الرقائق)، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 435، ببيان أطول مما هاهنا, وهو صحيح الإسناد موقوف على أبي أمامة، وانظر: "ابن كثير" 4/ 38، و"الدر" 6/ 173. (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 657، و"جامع البيان" 27/ 129. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 354، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 245. (¬5) البيت ورد في "اللسان" (ش) ولم ينسبه، وفيه: (راعي الغنم).

المعنى: انتظرهم انتظارًا مثل انتظار الضحي ويجي فعلت وافتعلت بمعنى كثيرًا كقولهم: شريت واشتريت وحفرت واحتفرت (¬1). وقرأ حمزة {أنْظِرُونَا} بقطع الألف (¬2) من الإنظار: قال أبو عبيد: التي تختارها هي الأولى (¬3)؛ لأن تأويلها: انتظرونا، وأما الأخرى: فإنما هي من التأخير ولا أعرب للتأخير هاهنا موضعاً (¬4) فأبطل هذه القراءة. قال أبو إسحاق: {انْظُرُونَا} بقطع الألف معناه: انتظرونا أيضًا، وأنشد بيت عمرو بن كلثوم (¬5): أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا وقال أبو علي: وقد يكون أنظرتُ في معنى انتظرت بقولك: أنظرني التنفيس الذي يطلب بالانتظار من ذلك قوله: وأنظرنا نخبرك اليقينا ومن ذلك قوله تعالى: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] إنما هو طلب الإمهال والتسويف، فالمطلوب بقوله: وأنظرنا: تسويف، وكذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 272، وأشهر السفار: أي مضى عليهم شهر. (¬2) قرأ حمزة (أَنْظِرُونَا) بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الظاء، وقرأ الباقون (انظُرُونَا) بوصل الهمزة وضم الظاء. انظر: "النشر" 2/ 384، و"الإتحاف" ص 410. (¬3) أي قراءة الجمهور. (¬4) قلت: وإذا ثبتت القراءة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-كما هنا فلا عبرة بما قال غيره، وعدم معرفة أبي عبيد -رحمه الله - لهذا المعنى في القراءة لا يطعن في صحة القراءة وقوتها ولا يقلل من قدره رحمه الله، ومعرفة غيره من علماء اللغة لهذا المعنى تشهد لصحة القراءة لغة وقد صحت سندًا، والله أعلم. (¬5) البيت من معلقة عمرو بن هند. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 98، و"الخزانة" 3/ 628.

قوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ} نفسونا نقبتس، وانتظروا علينا. وكذلك ما جاء في الحديث من إنظار المعسر (¬1) فهذا وإن كان التأخير يشملها فهو على تأخير دون تأخير، وليس تسرّع من تسّرعَ إلى تخطئة من قال: "أنظرونا" بشيء وليس ينبغي أن يقال فيما لطف إنه خطأ، وهو زعموا قراءة يحيى بن وثاب والأعمش (¬2). قوله تعالى: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} قال ابن عباس: يقول المؤمنون لهم ارجعوا وراءكم (¬3). وقال مقاتل: قالت لهم الملائكة ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة (¬4). {فَالْتَمِسُوا نُورًا} قال أبو إسحاق: تأويله لا نور لكم عندنا (¬5). قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} قد ذكرنا أن المنافقين ينصرفون لطلب النور فلا يجدون، ثم يقبلون إلى المؤمنين ليلحقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين ويضرب بينهم سد، وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} أي أن بين المنافقين والمؤمنين {بِسُورٍ} وهو الحائط، والباء فيه صلة للتأكيد، قاله ¬

_ (¬1) أخرج مسلم في "صحيحه"، كتاب الفضائل، باب من أنظر انقياد الشجر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه (من أنظر معسرًا، أو وضع عنه، أظله الله في ظله). (¬2) انظر: " الحجة للقراء السبعة" 6/ 273، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 133، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 357، وقوله: فيما لطف، أي فيما غمض معناه وغفى، و"اللسان" 3/ 369 (لطف). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 354، و"الوسيط" 4/ 249 (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 140 ب، و"جامع البيان" 27/ 129، ونسب القول للمؤمنين موضحًا معنى الآية. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 124.

14

الأخفش (¬1). وقد مضى الكلام فيه. {لَهُ بَابٌ} لذلك السور باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي في باطن ذلك السور الرحمة، قال ابن عباس والمفسرون (¬2): يعني الجنة التي فيها المؤمنون {وَظَاهِرُهُ} يعني وخارج السور {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي من قبله يأتيهم العذاب، والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة، وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب. قال ابن عباس: يريد جهنم (¬3)، وقال الحسن: يعني النار (¬4). وقال الكلبي: هذا السور هو سور الأعراف (¬5). وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار (¬6)، والمعنى أن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقين يحصلون (¬7) في العذاب والنار وبينهم السور الذي ذكر الله تعالى. 14 - قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} قال المفسرون: إن المؤمنين إذا فاتوا المنافقين وسبقوهم نادوهم من وراء السور ألم نكن معكم نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونغزو مغازيكم، وكنا معكم في الحج ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 2/ 704. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 129، و"معالم التنزيل" 4/ 296، و"زاد المسير" 8/ 166. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 246، و"فتح القدير" 5/ 171. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 296، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 309. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 141 أ، و"جامع البيان" 27/ 129، و"الجامع" للقرطبي 17/ 246، و"ابن كثير" 4/ 903، عن مجاهد وابن زيد، وقال ابن كثير: وهو الصحيح. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 129، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 39، وزاد نسبته للحسن. (¬7) قوله: (يحصلون) أي يميزون، والمُحَصَّلة: التي تْمَيِزّ الذهب من الفضة، و"اللسان" 1/ 654 (حصل).

والعمرة {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} قال المفسرون وأهل المعاني: استعملتموها في الكفر والشهوات والمعاصي وكلها فتنة (¬1). {وَتَرَبَّصْتُم} قال ابن عباس: يريد بالتوبة (¬2)، وقال مقاتل: وتربصتم بمحمد الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه (¬3)، وهو اختيار أبي إسحاق، قال: وتربصتم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين الدوائر (¬4). قوله تعالى: {وَارْتَبْتُمْ} قال ابن عباس: شككتم في الوعيد، يعني فيما أوعدهم به محمد -صلى الله عليه وسلم- من العذاب (¬5). وقال مقاتل: وشككتم في نبوة محمد (¬6). وقوله: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} قال ابن عباس: يريد الباطل وهو ما كانوا يتمنون الدوائر بالمؤمنين (¬7) {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} قالوا: الموت. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار (¬8). وهو قوله تعالى: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي وغركم الشيطان بحلم الله وإمهاله وهذا مفسر فيما تقدم (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 27/ 130، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 124، و"معالم التنزيل" 4/ 296. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 355، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 247. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 141 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 296. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 124. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 355، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 247. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 141 أ. (¬7) انظر: "الوسيط" 4/ 249، و"معالم التنزيل" 4/ 296. (¬8) (الله في) ساقطة من (ك)، وانظر: "جامع البيان" 27/ 130، و"معالم التنزيل" 4/ 296. (¬9) عند "تفسيره" الآية (33) من سورة لقمان.

15

15 - قوله تعالى: (هي مولاكم) قال ابن عباس: هي مصيركم (¬1). وقال مقاتل: يعني وليكم (¬2). وقال الكلبي: هي أولى بكم (¬3)، وهو قول أبي عبيدة، وأنشد للبيد: (¬4) تعدت كل الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها قال أبو إسحاق: معن {مَوْلَاكُمْ} هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب، وأنشد البيت ثم قال: أي ولي المخافة (¬5). وقال الفراء: هي أولى بكم (¬6). هذا الذي ذكرنا ألفاظهم (¬7). والمعنى: إنما هي التي تلي عليكم لأنها قد ملكت أمركم وأسلمتم إليها فهي أولى بكم من كل شيء وإنما جاز إطلاق هذا اللفظ على النار؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 227. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 141 أ. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 355، و"الوسيط" 4/ 249. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 254، والبيت في معلقة لبيد. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص 85، ومعناه: أن البقر هربت خوفاً من الكلاب، ولا تعرف أن الكلاب خلفها أم أمامها من شدة الخوف، فما بين اليدين فرج وما بين الرجلين فرج. وورد أيضًا في "شرح شواهد الكتاب" 1/ 202، و"المقتضب" 3/ 201، و"الدرر اللوامع" 1/ 178. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 125. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 134. (¬7) قال الرازي: واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ؛ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر. انظر: "التفسير الكبير" 29/ 227 - 228.

16

الله تعالى قد ركب فيها العقل والمعرفة فهي تتميز غيظًا على أعداء الله وهي أعرف بهم من الوالدة بولدها ولهذا المعنى خوطبت في قوله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} الآية [ق: 30]. ووجه آخر وهو أن معنى قوله: {هِيَ مَوْلَاكُمْ} لا مولى لكم أي لا ناصر، وذلك أن من كانت النار مولاه فهو مولى له وهذا كما يقال: ناصره الخذلان، ومعينه البكاء، أي لا ناصر له ولا معين، ومثله كثير ويؤكد هذا الوجه قوله تعالى: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. 16 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. يقال: أَنَى لك يَأْني أَنًى، وآن لك يئين أيْناَ إذا حان (¬1). روى الثوري عن الأعمش قال: لما قدموا المدينة أصأبوا من لين العيش ورفاهيته ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت في ذلك {أَلَمْ يَأْنِ} الآية (¬2). ونحو هذا قال القرظي، قال: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الريف ففتروا عما كانوا عليه (¬3). وقال ابن أبي رواد: إن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهر فيهم المزاح والضحك فأنزل الله هذه الآية (¬4). قال ابن مسعود: لم يكن بين إسلامهم وبين أن عاتبهم الله بهذه الآية ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 125، و"اللسان" 1/ 122 (أني). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 276، وابن المبارك في "الزهد" 2/ 89، وابن المنذر، و"الدر" 6/ 175. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 66 أ - ب. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف". انظر: "الدر" 6/ 175، و"فتح القدير" 5/ 174.

إلا أربع سنين (¬1). وقال مقاتل بن حيان: إنها حين نزلت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يستبطئكم بالخشوع" فقالوا عند ذلك يعتب ربنا. (¬2) والمعنى: أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم لذكر الله. قال ابن عباس: يريد لمواعظ الله، وعلى هذا الذكر مصدر أضيف إلى الفاعل أي "لذكر الله" وعظهم وما يعتبرون به ويستدلون به على الخشوع وهو ما ذكر الله لهم من مواعظ القرآن، ويجوز أن يكون الذكر مضافاً إلى المفعول والمعنى لذكرهم الله، أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر. قال أبو إسحاق هذه الآية -والله أعلم- نزلت في طائفة من المؤمنين حُثُّوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفه الله جل وعز بالخشوع والرقة فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء (¬3). قوله تعالى: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (ما) في موضع جر بالعطف على الذكر وهو موصول، والعائد إليه محذوف على تقدير وما نزله (¬4) من الحق ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في التفسير، باب: في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. وانظر: "مجمع الزوائد" 7/ 121، و"تفسير القرآن العظيم " 4/ 31. (¬2) ذكره القرطبي في "تفسيره" بدون سند، وفي "تفسير الثعلبي" 12/ 165 أعن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وأورده ابن المبارك في "الزهد" ص 89 عنه. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 297، و"لباب التأويل" 7/ 35، و"الوسيط" 4/ 25. (¬4) في (ك): (نزل).

وقراءة العامة بالتشديد (¬1) لكثرة ما جاء في القرآن من ذكر التنزيل. قال أبو عبيدة: وكذلك هي عندنا على التشديد لذكر الله جل ثناؤه قبل ذلك (¬2). والمعنى أنه هو نزل الحق. قال المبرد: والمعنى في التشديد والتخفيف واحد؛ لأن الحق لا ينزل إلا بأن ينزله الله عز وجل فهو معلوم أن الله عز وجل أنزله وإن لم يذكر باللفظ ويدل على صحة قراءة من ضعف قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (¬3). قال ابن عباس والمفسرون: في قوله: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} يعني القرآن (¬4). قوله تعالى: {وَلَا يَكُونُوا} هو قال الفراء: هو في موضع نصب معناه: ألم يأن أن تخشع قلوبهم وألا يكونوا. قال: ولو كان جزماً على النهي كان صوابًا (¬5)، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء (¬6). قوله تعالى: {كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} قال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} قال ابن عباس: يريد الدهر، وهو ¬

_ (¬1) قرأ الجمهور، وأبو بكر عن عاصم {وَمَا نَزَلَ} بتشديد الزاي، وقرأ نافع والمفضل وحفص عن عاصم بتخفيفها. انظر: "النشر" 2/ 384، و"الإتحاف" ص 41. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 274، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 359. (¬3) من الآية (105) من سورة الإسراء. وانظر: المراجع السابقة. قال النحاس: وليس يقع في هذا اختيار، ولو جاز أن يقال الذي مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل؛ لأن مثله {لِذِكْرِ اللَّهِ} ولم يقل: لتذكير الله. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 297، و"فتح القدير" 5/ 172. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 3/ 135. (¬6) وهي قراءة عيسى، وابن إسحاق، ورويس، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة، وغيرهم.=

قول مجاهد (¬1). والمعنى: طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قال ابن عباس: يريد حب الدنيا أي مالوا إليها وأعرضوا عن مواعظ الله تعالى (¬2)، ويجوز أن يكون المراد بطول الأمد أن أعمارهم طالت في الغفلة فأورثهم ذلك القسوة (¬3). ويكون المعنى على هذا: طال عليهم أمد الجزاء وأمد آجالهم. وقال ابن حيان: الأمد (¬4) هاهنا الأمل (¬5) البعيد (¬6)، والمعنى على هذا: طال عليهم الأمد بطول الأمل أي أملوا بعيدًا فقست قلوبهم. وقال هو ومقاتل بن سليمان: يعني طال عليهم أمد خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقست قلوبهم حتى أحدثوا الأحداث (¬7) يعني الذين كانوا قبل خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- والمعنى: أنه نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر، ولهذا قال القرطبي: يجب أن يزداد المؤمن إيمانًا ويقينًا وإخلاصًا في طول صحبته الكتاب (¬8). ¬

_ = انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 249، و"البحر المحيط" 8/ 223، و"روح المعاني" 27/ 181. (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 658، و"الوسيط" 4/ 255، و"معالم التنزيل" 4/ 297. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 250، و"لباب التأويل" 7/ 35. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 229، و"فتح القدير" 5/ 173. (¬4) في (ك): (الأحد) والتصويب من "التفسير الكبير". (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 230. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 141 ب. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 66 ب، و"الوسيط" 4/ 250، و"التفسير الكبير" 29/ 23. (¬8) انظر: "جامع البيان" 27/ 132, و"الكشف والبيان" 13/ 66 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 31.

18

قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي ذكرنا في هذه الآية هو قول عامة المفسرين (¬1). وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان نزلت في المنافقين (¬2) وعلى هذا معنى قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي باللسان في العلانية. قال مقاتل: كان المنافقون لا ترق قلوبهم لذكر الله والقرآن فلم يَلِن له إلا القليل منهم وهم الذين صدقوا وكثير منهم فاسقون (¬3). 18 - قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قراءة العامة بتشديد الصاد على معنى المتصدقين والمتصدقات بالصدقة، وكذا هو في قراءة أُبَّي بالفاء (¬4) فأدغمت التاء في الصاد يدل على أن المعنى هذا. قوله تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وهذا الفصل اعتراض بعين الخبر والمخبر عنه والاعتراض بمنزلة الصفة (¬5) فهو للصدقة أشد ملاءمة منه للتصديق، وقراءة من قرأ بتخفيف الصاد من التصديق الذي هو بمعنى الإيمان, ومعناها إن المؤمنين والمؤمنات، حجة هذه القراءة أن التشديد مقصور على الصدقة والتخفيف أعم؛ لأن التصديق يعم الصدقة وغيرها من كل ما صدقوا وآمنوا به فهو أذهب في باب المدح، وعلى هذا قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 141 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 64 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 297، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 249. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 141 ب. (¬3) المرجع السابق. (¬4) قرأ ابن كثير، وأبو بكر: {الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} بتخفيف الصاد فيهما وقرأ الباقون (المصَّدَّقين والمصَّدقات) بتاء ظاهرى وبها احتج الجمهور لقراءة التشديد. انظر: "حجة القراءات" ص 107، و"النشر" 2/ 384، و"الإتحاف" ص 41. (¬5) في (ك): (الصلة).

19

{وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1) فذكر العمل الصالح بعد الإيمان كذلك هاهنا ذكر القرض الحسن بعد التصديق على هذه القراءة لا يحمل قوله: وأقرضوا على الاعتراض ولكنه عطف على المعنى، ألا ترى أن المصدقين معناه الذين صدقوا فكأنه قال: إن الذين صدقوا وأقرضوا ويجوز هذا الوجه في القراءة الأولى (¬2)، على معنى إن الذين تصدقوا وأقرضوا الله قرضا حسنًا، وذكرنا تفسير القرض الحسن في هذه السورة. وذكر أبو علي في المسائل الحلبية في قوله: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} أوجهًا، واختار الاعتراض فقال: حمله على الاعتراض أرجح الوجوه عندي؛ لأن الاعتراض قد شاع في كلامهم وكثر، ولم يجر ذلك عندهم فجرى مجرى الفصل بين المتصلين بما هو أجنبي؛ لأن فيه تبييناً فأشبه بذلك الصفة والتأكيد (¬3). 19 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} في تفسير هذه الآية طريقان: أحدهما: أن الآية عامة في كل من آمن بالله ورسله وهو مذهب مجاهد، وقال: كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق، ثم قرأ هذه الآية (¬4)، ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس في قوله: {هُمُ ¬

_ (¬1) من الآية (277) من سورة البقرة، وفي غيرها من سور القرآن كثير. (¬2) من قوله: (قوله تعالى {وَأَقْرَضُوا} وهذا الفصل) إلى هنا من كلام أبي علي الفارسي بتصرف من المؤلف. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 274 - 275. (¬3) انظر: "المسائل الحلبيات" ص 143. (¬4) انظر: "جامع البيان" 27/ 133، و"معالم التزيل" 4/ 298، و"زاد المسير" 8/ 17.

الصِّدِّيقُونَ} أي الموحدون (¬1). الثاني: أن الآية خاصة وهو قول المقاتلين، قال ابن سليمان: هم الذين لم يشكوا في الرسل ساعة حين أخبروهم (¬2). وقال ابن حيان: هم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ولم يكذبوهم ساعة قط مثل حديث آل ياسين ومؤمن آل فرعون وأبي بكر الصديق (¬3)، هذا كلامه وهو مذهب الضحاك في هذه الآية، قال: هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر رضي الله عنهم ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته (¬4). ومن قال بالطريقة الأولى قال: قوله: {وَالشُّهَدَاءُ} عطف على الآية الأولى. والمعنى: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء. قال مجاهد: كل مؤمن صديق وشهيد، ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 359، و"التفسير الكبير" 29/ 231. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 141 ب. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 251، و"التفسير الكبير" 29/ 231، و"فتح القدير" 5/ 173, وأبو بكر الصديق هو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة. انظر: "الإصابة" 11/ 40، و"العبر" 1/ 13، و"صفة الصفوة" 1/ 235. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 67 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 298، و"زاد المسير" 8/ 170، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 254. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 298، و"التفسير الكبير" 29/ 232، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 312.

وقال الضحاك: الشهداء هم الصديقون، وكانوا كلهم شهداء (¬1). يعني الذين ذكرهم بأسمائهم. قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون (والشهداء) نسقًا على ما قبله، فيكون المعنى: أولئك هم الصديقون وأولئك هم الشهداء عند ربهم، ويكون {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} للجماعة من الصديقين والشهداء (¬2). وعند قوم من المفسرين هذه الآية مستأنفة. قال مسروق: هذه للشهداء خاصة (¬3)، وقال مقاتل بن سليمان ثم استأنف للشهداء يعني من استشهد (¬4). وقال مقاتل بن حيان: الآية الأولى مفصولة ثم ذكر الشهداء وهم الأنبياء والرسل (¬5) واختار محمد بن جرير هذا القول قال: لأن الإيمان غير موجب اسم شهيد إلا أن يراد أنه شهيد على ما آمن به فيكون وجهًا وذلك ليس بمعروف من معانيه إذا أطلق، والتأويل والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عند ربهم (¬6). وقال الفراء: انقطع الكلام عند قوله: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ثم قال {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني النبيين {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ورفعت {الشُّهَدَاءُ} بقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ونحو هذا ذكر أبو إسحاق (¬7) في هذا الوجه سواء فالشهداء ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 68 أ. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 126 - 127. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 276، و"جامع البيان" 27/ 133. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 141 ب. (¬5) انظر: "الوسيط" 4/ 251، و"معالم التنزيل" 4/ 298. (¬6) انظر: "جامع البيان" 27/ 133 - 134. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 135، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 126.

20

في قول مقاتل بن سليمان، وابن جرير من استشهد في سبيل الله، وفي قول ابن حيان، والفراء، والزجاج: الأنبياء. 20 - قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية، آراء المتأخرين من أهل التفسير يفسرون الحياة الدنيا بما في هذه الدار الفانية من العروض والأموال التي تسمى الدنيا وهي لا تسمى الحياة، والحياة الدنيا الحياة في هذه الدار، وللآدمي حياتان، الحياة الدنيا، وهي حياته في هذه الدار، وحياته الثانية: حياته في الآخرة، أعلم الله تعالى أن الحياة الفانية ما هي وهو يريد حياة من لا تكون حياته في طاعته؛ لأن من كانت حياته في طاعة الله لا تكون حياته لعبًا ولهوًا. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد ما كان لغير الله فهو باطل وغرور (¬1). وإنما جعلها لعبًا ولهوًا: لأنها تنقضي عن قريب، ولأنها إذا كانت في غير الطاعة فهي باطل وغرور. قاله ابن عباس. قوله تعالى: {وَزِينَةٌ} قال ابن عباس: يريد يتزين الناس بما لا يحب الله ولا يرضى (¬2). والمعنى أن الكافر يستغل حياته بالتزين للدنيا، دون العمل للآخرة فحياته زينة على معنى أنه يذهبها في الزينة، والزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به، والكافر لا همة له في حياته إلا ما يزينه في دنياه، وهذا كما قيل: حياتك بالغرور سهو وغفلة، أي أنك تذهبها فيهما لا أنها هما بعينهما. وكذلك قوله: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يعني أنكم تشتغلون في حياتكم بالتفاخر. قال ابن عباس: يفاخر الرجل قريبه وجاره (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 252، و"التفسير الكبير" 29/ 233. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 233، و"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 255. (¬3) انظر: "الوسيط" 4/ 252، و"معالم التنزيل" 4/ 298.

{وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} قال ابن عباس: يجمع ما لا يحل له تكاثرًا به، ويتطاول على أولياء الله بماله وخدمه وولده (¬1). ثم بين لهذه الحياة شبيهًا فقال {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يعني المطر والكاف موضعه رفع من وجهين أحدهما: أن يكون صفة لقوله. {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وما ذكر بعدهما. والآخر: أن يكون خبرًا بعد خبر قاله الزجاج (¬2)، وهذا كقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ} [الكهف: 45] الآية. وقد بينا الكلام فيها قوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} يعني الزراع، عن عبد الله ومجاهد (¬3). قال الأزهري: والعرب تقول: للزارع كافرًا؛ لأنه يكْفُرُ البَذْرَ الذي يبذره بتراب الأرض، ومنه قوله: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي الزُّرَّاعَ، وإذا أعجب الزراع نباتة مع علمهم به فهو غاية ما يُسْتَحْسَنُ، قال: وقيل الكفار في هذه الآية الكفار باللهِ وهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين هذا كلامه (¬4) وأكثره من قول أبي إسحاق (¬5). وقوله: {نَبَاتُهُ} أي ما ينبت من ذلك الغيث وباقي الآية مفسر في سورة الزمر (¬6). قال أهل المعاني: زهد الله بهذه الآية في العمل للدنيا ورغب في ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 252، و"التفسير الكبير" 29/ 233. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 127. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 233، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 313. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 199 (كفر). (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 127. (¬6) عند "تفسيره" الآية (21) من سورة الزمر.

21

العمل للآخرة وهي صفة حياة الكافر وحياة من يشتغل باللهو واللعب وما ذكر بعدهما، وهي خطاب للكافر وتحذير للمؤمنين عن مثل حياتهم، ويدل على هذا قوله: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فختم بذكر العذاب، والمعنى: فعذاب شديد لمن كانت حياته بهذه الصفة. قال مقاتل: عذاب شديد لأعداء الله {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لأوليائه وأهل طاعته (¬1). وقاله ابن عباس. قال الزجاج: معناه: مغفرة لأولياء الله، وعذاب لأعدائه (¬2). وقال الفراء: ذكر ما في الدنيا وأنه على ما وصف، ثم قال: وأما الآخرة فإنها إما عذاب وإما جنة (¬3). قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} يعني لمن عمل لها ولم يعمل للآخرة، وهو معنى قول مقاتل، أي: لمن اغتر بها يتمتعون ثم يذهب (¬4). وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور هو ما يلهيك عن طلب الآخرة وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه (¬5). 21 - قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} مضى تفسير هذه الآية عند قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فيه ثلاثة أقوال. ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 252، و"معالم التنزيل" 4/ 298. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 127. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 135. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 234، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 256. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 298، و"لباب التأويل" 7/ 36، و"فتح القدير" 5/ 175.

أحدها: أن السموات السبع والأرضين السبع لو ألزق بعضها ببعض ووصل لكانت الجنة في عرضها جميعًا هذا قول مقاتل (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد لرجل واحد، يعني أن لكل واحد جنة بهذه السعة (¬2). القول الثالث: أن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم، وأكبر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج (¬3). وهذه الأقوال مشروحة في سورة آل عمران. قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} في هذا أعظم رجاء وأقوى أمل إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر (¬4). ثم قال {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله (¬5). قال أبو إسحاق: ثم أعلم أن المؤَدَّى إلى الجنة أو إلى النار لا يكون إلا بقضاء وقدر فقال: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 142 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 234. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 234، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 256، و"فتح القدير" 5/ 175. وفي "تفسير الثعلبي" 12/ 78 ب قال: وقال ابن كيسان (عني به جنة واحدة من الجنان). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 128. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 235، قال الشوكاني: ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب ما نها الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب و"السنة". "فتح القدير" 5/ 176. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 299، و"تفسير القرآن" 4/ 313.

22

22 - قوله تعالى: (¬1) {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} قال الكلبي والمقاتلان: المصيبة في الأرض قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار وغلاء السعر وتتابع الجوع، وقالوا في قوله: {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} المصيبة في الأنفس: النبلاء والأمراض، وذهاب الولد، وإقامة الحدود عليها (¬2). وقال الشعبي: المصيبة ما يكون من خير وشر، وما يسوء وشر (¬3)، وهو اختيار الزجاج، قال: أو كسب خير أو شر فمكتوب عند الله معلوم (¬4)، وهو قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} قالوا: يعني اللوح المحفوظ. وذكر أن سعيد بن جبير لما انطلق به إلى الحجاج بكى رجل، فقال ما يبكيك: قال: الذي نزل بك من الأمر قال: فلا تبك فإنه كان سبق في علم الله أن يكون هذا ثم قرأ هذه الآية (¬5). قال أبو علي الفارسي: قوله: {مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} موضع قوله: {فِي الْأَرْضِ} يحتمل ضربين أحدهما: أن يكون مفعولا فيه ظرفًا، والآخر: أن يكون وصفًا، فإن جعلته ظرفًا احتمل أن يكون ظرفًا لأصاب، واحتمل أن يكون لمصيبة ويؤكد كونه ظرفًا ويحسنه دخول لا في قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 128. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 362، و"تفسبر مقاتل" 142 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 257. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 69 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 237، و"روح المعاني" 27/ 186. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 128. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 69 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 257.

{وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} فصار ذلك مثل: ما ضرب من رجل ولا امرأة. الوجه الثاني: أن يكون صفة للنكرة، وقوله: {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} صفة معطوفة على صفة، وإذا كان كذلك احتمل موضع قوله: {فِي الْأَرْضِ} ضربين: أحدهما: أن يكون جرًا على لفظ قوله: {مِنْ مُصِيبَةٍ} والآخر: أن يكون رفعًا على موضع {مِنْ مُصِيبَةٍ}. فإن قلتَ: فما وجه دخول (لا) في قوله: {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} وليس الكلام على هذا التأويل بنفي؟ فالقول فيه: أنه لما كان معطوفًا على ما هو منفي في المعنى وإن لم يكن منفيًا في اللفظ جاز أن يحمل الكلام على المعنى فيدخل فيه لا؛ لأن قوله: {فِي الْأَرْضِ} صفة لمنفي (¬1) فأجريته مجرى المنفي فاستجزت العطف عليه بلا، والحمل على المعنى في النفي قد جاء في غير شيء من كلامهم ألا ترى أنهم قد قالوا: إن أحدًا لا يقول إلا زيد لما كان في المعنى منفيًا. وإن شئت قلت: إن (لا) زائدة وقد ذكرنا زيادتها في غير موضع (¬2). قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} قال ابن عباس: من قبل أن أخلق خلقي (¬3). وقال الكلبي والمقاتلان: من قبل أن أخلق الأنفس (¬4). وعلى هذا ¬

_ (¬1) في (ك): (ملنفى) ولعل صوابها (لمنفى). (¬2) انظر: "الدر المصون" 1/ 251. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 237، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 313، و"فتح القدير" 5/ 176، ولم ينسب القول لقائل. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 363، و"تفسير مقاتل" 142 أ.

23

الضمير في نبرأها للأنفس وهو اختيار الفراء (¬1). وذكر أيضًا الضمير للأرض والأنفس جميعًا (¬2)، وعن ابن عباس أيضًا أنها للمصيبة (¬3). قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قال ابن عباس: إن حفظ ذلك على الله هين (¬4). وهذا كقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] والمعنى أن إثبات ذلك على كثرته يسير هين على الله. 23 - قوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} هذا يدل على قول الشعبي إن المصيبة تكون من خير وشر؛ لأن الله تعالى ذكر في هذه الآية الحزن والفرح جميعًا، وهذه اللام تجعل أول الكلام سببًا لآخره، كما تقول: قمت لأضربك، بينت باللام أن القيام سبب للضرب وفي هذه الآية ليس الأمر على ذلك؛ لأن إثبات الله تعالى للحوادث والكائنات قبل خلقها لو كان سببًا لنفي الحزن والفرح ما فرح أحد ولا حزن، ولا وجد فرح ولا حزن، ولكن اللام تتعلق بإخبار الله تعالى إيانا بانقضائه وسبق قدره وبالكائنات، وذلك يوجب نفي الفرح والحزن وكأنه قيل: أخبرناكم بهذا لكيلا تأسوا، وحذف ذلك؛ لأن المشاهدة أغنت عنه وهذا معنى ما ذكره صاحب النظم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 136. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 299، و"التفسير الكبير" 29/ 237. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 69 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 237، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 257. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 299، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 314. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 238.

والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما قضي عليه من مفرح (¬1) أو محزن سيصيبه لا محالة قَلَّ فرحه وحزنه لاستشعاره العلم بذلك قبل وقوعه. قوله تعالى: {مَا آتَاكُمْ} قراءة العامة بالمد من الإيتاء، وقرأ أبو عمرو مقصورًا من الإتيان (¬2) عادل به {فَاتَكُمْ} فكما أن الفعل للفائت في قوله: {فَاتَكُمْ} كذلك يكون الفعل الذي في قوله: {مَا آتَاكُمْ} والعائد إلى الموصول من الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل، ووجه قراءة العامة أن الخير الذي يأتيهم هو مما يعطيه الله فإذا قد كان ذلك منسوبًا إلى الله وهو المعطي لذلك، ويكون فاعل الفعل في (آتاكم) ضميرًا عائدًا إلى اسم الله، والهاء محذوفة من الصلة تقديره: بما آتاكموه (¬3). قال المبرد: المعنى في قوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي لا يكون منكم في هذا ولا في هذا ما يجاوز مقدار ما ينبغي فيه (¬4). وشرحه الزجاج فقال: معناه: لا تحزنوا حزنًا يطغيكم حتى يخرجكم إلى أن تلزموا أنفسكم الهلكة، ولا تعتدوا بثواب ما تسلبونه وما فاتكم، ¬

_ (¬1) في (ك): (مفراج). (¬2) قرأ الجمهور {آتَاكُمْ} بالمد، وقرأ أبو عمرو {أَتَاكُمْ} انظر: "النشر" 2/ 384، و"الإتحاف" ص 411. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 275 - 276، و"حجة القراءات" ص 107 - 207. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 239، والظاهر أن الرازي رحمه الله خلط بين كلام المبرد وكلام الزجاج حيث ذكر ما شرح به الزجاج كلام المبرد ونسبه للمبرد، والصواب ما ذكره المؤلف هنا.

24

ولا تفرحوا فرحًا شديدًا تأثروا فيه وتبطروا، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فدل بهذا أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، فأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم (¬1). وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا للمصيبة صبرًا وللخير شكرًا (¬2). 24 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} هذه الآية مستأنفة لا تتعلق بما قبلها لأنها في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام وبخلوا ببيان فعته، قاله ابن عباس في رواية عطاء والكلبي ومقاتل (¬3)، والآية مفسرة في سورة النساء (¬4). و (الذين) ابتداء وخبره محذوف دل عليه قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} على تقدير الذين يبخلون الله غني عنهم (¬5). قال ابن عباس: ومن يتول عن الإيمان فإن الله غني عن عبادته، حميد إلى أوليائه (¬6). وقال مقاتل: يعني بخل اليهود حين بخلوا بالزكاة والنفقة في سبيل الله. يقول الله غني عما عندهم حميد عند خلقه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 128. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 136، و"التفسير الكبير" 29/ 239، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 314. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 363، و"تفسير مقاتل" 142 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 24. (¬4) عند تفسيره الآية (37) من سورة النساء. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 367، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 719. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 363، و"الوسيط" 4/ 253. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 142 أ.

25

والذي ذكرنا من حذف الخبر قول الأخفش، قال: وحذف الخبر كير في القرآن كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ} [الرعد: 31] الآية، ولم يأت له خبر (¬1)، وقراءة العامة {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقرأ ابن عامر (فإن الله الغني) (¬2). ومن أثبت (هو) كان فصلاً، ولا يكون مبتدأ والفصل حذفه أسهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب وقد يحذف فلا يخل بالمعنى (¬3). 25 - قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} قال مقاتل بن حيان: البينات: الإخلاص لله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى ذلك دعت الرسل (¬4). فالبينات على قول ابن سليمان الحجج (¬5)، وعلى قول ابن حيان الأحكام في العبادة، والأول الوجه (¬6)؛ لقوله (¬7): {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ}، والكتاب يتضمن الأحكام. قوله تعالى: {وَالْمِيزَانَ} قال قتادة وابن حيان: الميزان: العدل (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 407. (¬2) قرأ الجمهور {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (فإن الله الغني) انظر: "النشر" 2/ 384، و"الإتحاف" ص 411. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 276. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 24. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 142 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 299. (¬6) يظهر من قول المؤلف "والمعدل الوجه" سقط في العبارة قبل قوله: قال مقاتل بن حيان. ولعل العبارة كما في "تفسير مقاتل بن سليمان" هكذا (قال مقاتل بن سليمان: البينات: يعني الآيات). (¬7) في (ك): (كقوله). (¬8) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 275 , و"الوسيط" 4/ 253، و"معالم التنزيل" 4/ 299.

ويكون المعنى على. هذا وأمرنا بالعدل، وهذا كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] وقد مر. وقال مقاتل بن سليمان: يعني الموازين (¬1). وهو قول ابن زيد. قال: ما يوزن (¬2) به. وعلى هذا المعنى أنزلنا معهم الكتاب ووضعنا الميزان فيكون من باب: علفتها تبنًا وماء باردًا (¬3) وأكلت خبزًا ولبنًا. وقد مر في مواضع، يدل على صحة هذا قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 6]. قوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي: ليتبعوا ما أمروا به من الطاعة والعدل فتعملوا بينهم بالعدل. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} قال الكلبي: أنزل الله على آدم القلاة والمطرقة ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" 4/ 253، و"معالم التنزيل" 4/ 299، والذي في "تفسير مقاتل" أن المراد بالميزان يعني العدل. انظر: "تفسير مقاتل" 142 أ. (¬2) انظر: "جامع البيان" 27/ 137، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 26. (¬3) ورد في "البيت" في "الخصائص" 2/ 431، و"الخزانة" 3/ 139، و"إيضاح الشعر" للفارسي ص 573، و"الإنصاف" ص 613، ونسبه إلى ذي الرمة وليس في ديوانه. وفي "أوضح المسالك" 2/ 245، رقم (258) قال محققه: ولم أقف له على نسبة إلى قائل معين، ثم ذكر ثلاثة تخريجات للبيت ومن قال بكل قول. وتمام البيت: حتى شتت حمالة عيناها وانظر: "زاد المسير" 8/ 212، و"البحر المحيط" 1/ 247، و"شذرات الذهب" الشاهد رقم (115).

والكلبتين (¬1). وروي عن ابن عباس: نزل آدم من الجنة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة (¬2). ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح" (¬3) هذا مذهب المفسرين. وذهب قوم إلى أن معنى أنزلنا الحديد أنشاناه وأحدثناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وهو معنى قول مقاتل يقول: بأمرنا كان الحديد (¬4)، وهذا قول أبي علي الفارسي. وقال قطرب: معنى أنزلنا هيأنا وخلقنا من التنزل - يقال: أنزل الأمير على فلان نزلاً حسنًا (¬5)، ومعنى الآية: أنعمنا بالحديد وجعلناه مهيأ لكم ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 136، والقلاة هي السَّندان وهي الصَّلاءَةُ، و"اللسان" 6/ 215 (سند). والكلبتان: الآلة التي تكون مع الحدادين، "اللسان" 2/ 284 (كلب). (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 70 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 241 - 242، والميقَعةُ: ما دُفعَ به السيف، وقيل: الميقعة المسن الطويل، و"اللسان" 3/ 968 (وقع). (¬3) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" 12/ 70 ب، وقال ابن حجر: وفي إسناده من لا أعرفه. "تخريج أحاديث الكشاف" 4/ 164، وفي "ضعيف الجامع" 3/ 77: موضوع، وفي "الطب النبوي" لابن القيم ص 396، قال: ذكره البغوي مرفوعًا والموقف أشبه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 142 أ. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 70 أ - ب، و"الوسيط" 4/ 253، و"معالم التنزيل" 4/ 300، و"التفسير الكبير" 29/ 242.

وهذا القول قريب من قول أبي علي. قوله تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} قال أبو إسحاق: يمتنع به ويحارب (¬1) به، وهو قول المفسرين: فيه قتال شديد، قاله عطاء والكلبي (¬2). وقال مقاتل: بأس شديد للحرب (¬3)، والمعنى: أنه يتخذ منه آلتان للحرب: آلة الدفع، وآلة الضرب، وقد جمعهما مجاهد في قوله: جُنَّة وسلاح (¬4). قوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال المقاتلان والكلبي: ما ينتفعون به في معايشهم مثل السكاكين والفأس والمبرد (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: لأن كل شيء خلقه الله من حجر أو شجر لا يصلح إلا بالحديد (¬6). وقال أبو إسحاق: يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به (¬7). قال صاحب النظم قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} كل هذا معترض بين قوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ}؛ لأن قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} لا يتصل بإنزال الحديد وهو نسق على قوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 129. (¬2) انظر؛ "تنوير المقباس" 5/ 364، و"معالم التنزيل" 4/ 300، وعبارتهما (قوة شديدة). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 142 أ. (¬4) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 658، و"جامع البيان" 27/ 137. (¬5) في (ك): (المدّ)، وانظر: "تنوير المقباس" 5/ 364. (¬6) لم أجده. (¬7) انظر: "معاني القرآن" 5/ 126. (¬8) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 261، و"الدر المصون" 1/ 253.

والمعنى: أنزلنا الكتاب والميزان لتعامل بالعدل وليعلم الله من ينصره وذلك أن الله تعالى أمر في كتابه بنصرة دينه ورسله وامتحن الناس بذلك الأمر، فمن (¬1) نصر دينه ورسله علمه ناصرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك. وعلى هذا إنزال الحديد وما يتعلق به فصل معترض. ولأبي النصر عبد الجبار بن محمد العتبي الكاتب -رحمه الله- فصل في هذه الآية خلاف ما ذكره صاحب النظم؛ وهو أنه قال: كان يختلج في صدري معنى قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} لجمعه بين الكتاب، والميزان، والحديد، على تنافر طردها من المناسبة، وبعدها قبل الرؤية والاستنباط عن المشاكلة والمقاربة، وسألت عنه عدة من أعيان العلماء بالتفسير والمشهورين من بينهم بالتذكير فلم أحصل منهم على جواب يزيح العلة، ويشفي الصدر، وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، وأنعمت التوبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، ويريهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، قد خطر فيه التعادي والتظالم، والتباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل في أقسام الأرزاق المخرجة لهم بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما لِصل منها إلى أهل الخطاب بحسب الاستحقاق بالتكسب دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع النصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة العدل التي يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل، فألهمم الله -عَزَّ وَجَلَّ- اتخاذ الآلة التي هي الميزان فيما يأخذونه ¬

_ (¬1) (فمن) زيادة يقتضيها السياق.

ويعطونه لئلا يتظالموا لمخالفته فيهلكوا به إذا لم يكن ينتظم لهم عيش مع شيوع ظلم البعض منهم للبعض، ويدل على هذا المعنى قوله جل ذكره: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] وذلك أنه تعالى جعل السماء سببًا للأرزاق والأقوات من أنواع الحبوب والنبات فكان ما يخرج منها من أغذية العباد مضطرًا إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف دون الجزاف، ولم يكن ذلك إلا بالآلة المذكورة، فنبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على موقع الفائدة فيه والفائدة به بتكرير ذكره هذا في الكتاب والميزان, ثم إنه من المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية، إنما تحفظ العامي على ابتغاها ويضطر العالم إلى التزام أحكامها بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد ونزع من صفقه الجماعة اليد، وهو بارق سطوته، وشهاب نقمته، وجذوة عقابه، وعذبة عذابه، وهذا السيف هو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة النقوب، متدانية الجيوب، حكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من أن المراد بالحديد السيف هو معنى ما ذكرنا من قول المفسرين في تفسير قوله: {بَأْسٌ شَدِيدٌ}. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} قد مضى الكلام في بيان هذا العلم في مواضع، والمفسرون يقولون: وليرى الله من ينصره وينصر دينه، كقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]. {وَرُسُلَهُ} أي يقاتل مع رسله في سبيله {بِالْغَيْبِ} أي ولم ير الله ولا أحكام الآخرة وإنما يحمد إذا أطاع بالغيب، كما قال الله تعالى {يُؤَمنُونَ

27

بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} في أمره، {عَزِيزٌ} في ملكه. قال مقاتل (¬1): وفيه بيان أنه غني عن خلقه وعن نصرتهم بعزه وقوته. 27 - وما بعد هذا ظاهر ومفسر فيما تقدم، إلى قوله: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} قال ابن عباس يريد الحواريين وأتباعهم (¬2). {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} قال مقاتل (¬3): يعني المودة كانوا متوادين بعضهم لبعض كما وصف الله تعالى أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً} هي اسم مبني من الرهبة، وقد مضى الكلام في تفسير الرهبان (¬4)، قال أبو إسحاق: وابتدعوا رهبانية كما تقول: رأيت زيدًا وعمرًا كلمته (¬5). وقال أبو علي: قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً} محمول على فعل، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا (¬6) مع وصفه إياها، بقوله: ابتدعوها؛ لأن ما يجعله هو -عَزَّ وَجَلَّ- لا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 142 ب، و "معالم التنزيل" 4/ 30. (¬2) انظر: "الوسيط" 4/ 254، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 262. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 142 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 30. (¬4) الآية (40) من سورة البقرة. رهب، يرهب، رهبًا: أي خاف، والراهب: المتعبد في الصومعة. وأصل الرهبانية من الرهبة ثم صارت اسمًا لما فضل عن المقدار وأفرط فيه. "اللسان" 1/ 1237 (رهب). (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 13. (¬6) في (ك): (جعلها).

يتبدعونه هم (¬1). ومعنى {ابْتَدَعُوهَا} جاءوا بها من قبل أنفسهم، وهو معنى قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس: ما فرضناها عليهم (¬2). ومعنى رهبانيتهم غلوهم في العبادة من حمل المشاق على أنفسهم في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبد في الغيران والكهوف والديارات والصوامع، وسبب ذلك على ما قال المفسرون: أن ملوكهم بدلوا غيروا وأحدثوا أحداثًا في دينه وقاتلوهم الذين بقوا على دينهم، فقتل منهم الكثير ولم يبق إلا نفر قليل، فذهب هؤلاء النفر وخرجوا إلى البراري والجبال متبتلين، وابتدعوا الرهبانية (¬3). قوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد طلبوا رضي الله (¬4). وقال قتادة: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (¬5)، وعلى هذا يكون التقدير: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فيكون استثناء منقطعًا. وقال أبو إسحاق: ويكون {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} بدلاً من الهاء ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 245، و"فتح القدير" 5/ 178. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 365، و"الوسيط" 4/ 254، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 263، ونسبه لابن زيد. (¬3) انظر: "جامع البيان" 27/ 138، سنن النسائي، كتاب آداب القضاة، باب: تأويل قوله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، و"معالم التنزيل" 4/ 103، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 315 - 316. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 5/ 365، و"التفسير الكبير" 29/ 246. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 276، و"جامع البيان" 27/ 138.

والألف (¬1)، فيكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به (¬2) (¬3)، هذا كلامه. ومعناه على هذا أن الابتغاء بدل من الضمير في كتبناها، كما تقول: ما رأيت القوم إلا زيدًا، والمعنى: ما كتبنا الرهبانية عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وهو أن يطلبوا رضاه باتباع أمره (¬4). قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن هؤلاء الذين ذكرهم الله ووصفهم بتصنع الرهبانية وترك رعايتها هم قوم كفروا بدين عيسى وتهودوا وتنصروا من هؤلاء الذين أحدثوا الرهبانية ودخلوا في دين ملوكهم وتركوا الترهب وهو قول مقاتل، قال: لم يرعوها ولا أحسنوا حين تهودوا وتنصروا فأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا به، فهو قوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين تهودوا وتنصروا (¬5). ونحو هذا روى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "منهم من تمسك بدينه وهم الذين قال الله {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} ومنهم من كفر، وهو قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬6) وهذا قول الضحاك ورواية عطاء عن ابن ¬

_ (¬1) من الهاء والألف في (كتبناها). (¬2) في (ك): (أمره). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 13. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 246، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 363. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 142 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 246. (¬6) هذا الحديث ذكره المؤلف بالمعنى، وهو حديث طويل أخرجه الحاكم في كتاب التفسير، سودة الحديد. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: قلت ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان موثقًا فإن شيخه منكر الحديث. =

عباس (¬1). القول الثاني: أن الذين لم يرعوها حق رعايتهم (¬2) الذين أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمنوا به (¬3). قوله تعالى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين لم يؤمنوا به، يدل على هذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" (¬4). القول الثالث: أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرض على ذلك طائفة منهم، وخلف بعدهم قوم اقتدوا بهم ولم يكونوا على منهاجهم، فهم الذين لم يرعوها حق رعايتها وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد (¬5)، وعطاء. ¬

_ = قال البخاري: وفي كتاب "السنة" لابن أبي عاصم 1/ 35، وقال عنه محققه: إسناده ضعيف جدًّا، ورجاله ثقات غير عقيل الجعدي، فإنه ضعيف جدًّا كما يفيده قول البخاري فيه: منكر الحديث. قال: والحديث أخرجه الطبراني في الصغير والكبير والحاكم في "صحيحه"، ورده الذهبي بالجعدي، لكن للحديث في كبير الطبراني إسناد آخر عن ابن مسعود خير من هذا. (¬1) انظر: "الكشف والببان" 12/ 71 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 301، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 263. (¬2) كذا في (ك)، ولعل الصواب (رعايتها). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 246. (¬4) جزء من الحديث السابق، وقد أخرجه الثعلبي في "تفسيره" 12/ 71 ب، وفي سنده: عقيل الجعدي أيضًا. (¬5) انظر: "جامع البيان" 27/ 138.

28

قال عطاء: لم يرعوها كما رعاها الحواريون وأتباعهم (¬1). وقال سعيد: ابتدعها (¬2) الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين جاؤا من بعدهم (¬3). 28 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى (¬4) بقوله: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} ضعفين وأجرين ونصيبين {مِنْ رَحْمَتِهِ} وذكرنا تفسير الكفل في سورة النساء (¬5). قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} قال ابن عباس: يعني على الصراط، وهو قول مقاتل (¬6)، وقال مجاهد: يعني الهدى والبيان (¬7). وذكر أبو إسحاق القولين فقال: ويجعل لكم نورًا تمشون به كما قال ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 246. (¬2) كذا في (ك) ولعل الصواب (ابتدعها). (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 3012، غرائب القرآن 27/ 141. (¬4) قال ابن عباس والضحاك وعتبة بن أبي حكيم، وهو اختيار ابن جرير انظر: "جامع البيان" 27/ 140، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 317. (¬5) عند "تفسيره" الآية (85) من سورة النساء. والكفل: الحظَّ والضَّعف من الأجر والإثم، والكفل: النصيب أخذ من قولهم: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه أو على موقع من ظهره كساء وركبت عليه، وإنما قيل له كفل؛ لأنه لم يستعمل الظهر كله. انظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" 3/ 271، (كفل). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 143 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 253، و"فتح القدير" 5/ 179. (¬7) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 658، و"جامع البيان" 27/ 142, و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 267.

29

{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8] وهذا علامة المؤمنين في القيامة. قال: ويجوز أن يكون المعنى: ويجعل لكم سبيلا واضحًا من الهدى تهتدون به (¬1). وعد الله تعالى لمن آمن من أهل الكتاب أجرين اثنين أجرًا لإيمانهم بالنبي، والكتاب الأول وأجرًا لإيمانهم بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والكتاب الثاني، كما قال في موضع آخر {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] الآية. ووعدهم أن يجعل لهم نورًا وأن يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم قبل الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو قوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. 29 - ولما نزل هذا وآمن من آمن منهم حسدهم الذين لم يؤمنوا فأنزل الله تعالى، قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} أي لأن يعلم ولا صلة في قول الجميع (¬2) {أَهْلُ الْكِتَابِ} يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وحسدوا المؤمنين منهم {أَلَّا يَقْدِرُونَ} يعني أنهم لا يقدرون {عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والمعنى: جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فآت المؤمنين منهم أجرين. قوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين، وهذا الذي ذكرنا معنى قول قتادة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 131. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للأخفش، 2/ 470، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 137, و"مجاز القرآن" 2/ 254. (¬3) انظر: "تفسر عبد الرزاق" 2/ 376، و"جامع البيان" 27/ 143، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 370، و"معالم التنزيل" 4/ 203.

وهذه آية مشكلة، وليس للمفسرين ولا لأهل المعاني فيها بيان ينتهى إليه ويلفق (¬1) به بين هذه الآية والتي قبلها، وأقوالهم مختلفة متدافعة، وأقربها إلى الفهم وأحسنها قول قتادة (¬2)، وقد بان واتضح المعنى فيما ذكرنا، والله المَحمود بمنه. ¬

_ (¬1) التلفيق بين شيئين: ضم أحدهما إلى الآخر، ويقال للرجلين لا يفترقان هما لَفقَان "اللسان" 3/ 382 (لفق). (¬2) وهو اختيار ابن جرير وابن كثير. انظر: "جامع البيان" 27/ 142، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 317.

سورة المجادلة

سورة المجادلة

1

تفسير سورة المجادلة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية. قال المفسرون (¬1): نزلت هذه الآيات من أول هذه السورة في خولة بنت ثعلبة (¬2)، وزوجها أوس بن الصامت (¬3)، وكان به لمم (¬4)، فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها ثم ندم على ذلك -وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية- (¬5) وقال لها: ما أراك ¬

_ (¬1) ومن قال به: ابن عباس، وعائشة، وقتادة، والقرظي، ومجاهد، وغيرهم. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 4، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 277، و"جامع البيان" 28/ 2، و"أسباب النزول" للواحدي ص 433، و"زاد المسير" 8/ 180، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 318. (¬2) خولة بنت ثعلبة بن أصرم الأنصارية الخزرجية. ويقال لها: خويلة، بالتصغير، لها وقفة مع عمر بن الخطاب؟ في خلافته تناصحه وتذكره وتعظه، وقد سمع منها -رضي الله عنهما- حتى انتهت من كلامها. انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 8/ 378، و"الإصابة" 12/ 231، و"التقريب" 2/ 596. (¬3) أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا، وأحدًا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات في خلافة عثمان وله خمس وثمانون. انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 547، و"الإصابة" 1/ 220، و"التقريب" 1/ 85. (¬4) ليس المراد باللمم هنا الخبل والجنون، إذ لو كان كذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء، وإنما المراد به الإلمام بالنساء، وشدة الحرص والتوقان إليهن. انظر: "اللسان" 3/ 297 (لمم)، و"التفسير الكبير" 29/ 249. (¬5) انظر: "المغني" 10/ 400، و"فتح الباري" 9/ 432، و"نيل الأوطار" 6/ 220، و"الفقه على المذاهب الأربعة" 4/ 49.

إلا وقد حرمت عليّ، فقالت: والله ما ذكرت طلاقًا، ثم أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله: أوس بن الصامت أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إليّ، ظاهر مني، والله ما ذكر طلاقًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أراك إلا قد حرمتِ عليه"، فأعادت عليه وقالت: والله يا رسول الله ما ذكر طلاقًا، أشكو إليك وحشتي وفراق زوجي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حرمتِ عليه". فهتفت، وشكت، وبكت، وجعلت تراجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فبينا هي في ذلك إذ تربد (¬1) وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للوحي ونزل عليه قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}، قالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إنيّ لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تحاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات (¬2). قوله تعالى: {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي: تجادلك في قول زوجها وكلامه، وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما قال لها: "حرمتِ عليه"؛ قالت: والله ما ذكر طلاقًا، فكان هذا مجادلتها النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوجها. قوله تعالى: {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} يعني قولها: أشكو إلى الله فاقتي ¬

_ (¬1) الرُبْدَةُ: الغُبرة، وقيل: لون إلى الغبرة، وقيل: لون بين السواد والغبرة. وهي في حقه -صلى الله عليه وسلم- لما يعانيه وقت نزول الوحي. انظر: "النهاية" 2/ 58 (ربد)، و"اللسان" 1/ 1105 (ربد). (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 410، وابن ماجه في "سننه" المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية (118)، والحاكم 2/ 411، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، والواحدي في "أسباب النزول" ص 471، وذكره الوادعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" ص 149، قلت: المؤلف كما هي عادته -رحمه الله - يذكر الأحاديث والأقوال بالمعنى، ولهذا قل أن تجد حديثًا أو قولاً يخرج عن هذا، والله أعلم.

2

ووحدتي، وإن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. وجعلت تتضرع وترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي تخاطبكما ومراجعتكما الكلام. والتحاور والمحاورة: مراجعة الكلام في المخاطبة، يقال: حاور فلانًا في المنطق، وأحرت إليه جوابًا، وكلمته فما أحار بكلمة، أي: ما أجاب. والحوير اسم من المحاورة. تقول: سمعت حويرهما وحوارهما (¬1). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} قال ابن عباس: سميع لمن يناجيه ويتضرع إليه. {بَصِيرٌ} بمن يشكو إليه (¬2). 2 - ثم ذم الظهار والمظاهر فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي: يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا، وذكرنا القراءات واللغات في (تظاهرون) في ابتداء سورة الأحزاب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 227 (حور)، و"اللسان" 1/ 751 (حور). (¬2) لم أجده عن ابن عباس، أو غيره. وانظر: "الوسيط" 4/ 259. (¬3) عند تفسيره الآية (4) من سورة الأحزاب. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {تَظَاهِرُونَ} بفتح التاء وتشديد الهاء والظاء، بلا ألف، وكذا هنا في المجادلة، وقرأ عاصم بضم التاء، وفتح الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مخففة. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وخلف، وأبو جعفر بفتح الياء وتشديد الظاء بعدها ألف مع فتح الهاء مخففة. وفي لأحزاب قرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح التاء، والهاء، وتخفيف الظاء، وألف بعدها. وقرأ ابن عامر في الأحزاب بضم التاء، وتشديد الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مع تخفيفها. "حجة القراءات" ص 703، و"النشر" 2/ 347، و"الإتحاف" ص 353.

قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}. قال أبو إسحاق: المعنى: ما اللواتي يجعلن من الزوجات كالأمهات بأمهات (¬1). وقراءة العامة: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} بكسر التاء، وهي في موضع نصب على خبر ما، المعني: ليس هن بأمهاتهم، فلما ألقيت الباء نصبت، وهي لغة الحجاز كقوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]، قال الفراء: أهل نجد إذا ألقوا الباء رفعوا فقالوا: {مَا هَذَا بَشَرًا} {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} وأنشد: ويزعم حسل أنه فرع قومه ... وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل (¬2) وبهذه اللغة قرأ المفضل بن عاصم فرفع الأمهات (¬3)، وهو لغة تميم. قال سيبويه: وهو أقيس الوجهين، وذلك أن النفي كالاستفهام، فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه في الواجب، فكذلك ينبغي أن لا يغيره النفي عما كان عليه في الواجب، وأما النصب فهو لغة أهل الحجاز، والأخذ بلغتهم في التنزيل أولى (¬4)، ووجهه أن (ما) يدخل على الابتداء والخبر كما أن (ليس) تدخل عليهما، و (ما) تنفي ما في الحال كما أن (ليس) تنفي ما في الحال، وقد رأيت الشبهين إذا قاما في شيء من شيء ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 134. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 139، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" 2/ 694, ولم أجد البيت منسوبًا لقائل، والشاهد في قوله: وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل فإنه أهمل (ما)، فلم يرفع بها الاسم وينصب الخبر على لغة تميم. (¬3) انظر: "الكشاف" 4/ 71، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 279، و"البحر المحيط" 8/ 232، وذكر أبو زرعة وجه قراءة الرفع دون ذكر خلاف في القراءة. انظر: "حجة القراءات": 370. (¬4) انظر: "الكتاب" 1/ 29، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 279.

3

جذباه إلى حكم ما فيه الشبهان منه، فمن ذلك جميع ما لا ينصرف مع كثرته واختلاف قوته لما حصل فيه شبهان من الفعل صار بمنزلة في امتناع الجر والتنوين منه فكذلك (ما) لما حصل فيه الشبهان من ليس وجب على هذا أن يكون في حكمها وتعمل عملها (¬1). قوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} مضى الكلام في: {اللَّائِي} في سورة الأحزاب عند قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي} الآية (¬2). والمعنى: ما أمهاتهم إلا الوالدات {وَإِنَّهُمْ} يعني المظاهرين {لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} قال ابن عباس: فظيعًا (¬3). وقال مقاتل: لا يعرف ذلك في الشرع {وَزُورًا} كذبًا (¬4). {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} عفا عنهم وغفر لهم بجعله الكفارة عليهم. 3 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، (الذين) رفع بالابتداء، وخبرهم: فعليهم تحرير رقبة، ولم يذكر عليهم لأن (¬5) في الكلام دليلاً عليه. قاله الزجاج، وقال: وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" للقراء السبعة 6/ 277، و"معاني الحروف" لأبي الحسن الرماني ص 88. (¬2) من الآية (4) من سورة الأحزاب، حيث قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف (اللائي) بإثبات ياء ساكنة بغير الهمزة. وقرأ الباقون (اللاي) بغير مد ولا همز. انظر: "حجة القراءات" ص 571، و"النشر" 1/ 404، و"الإتحاف" ص 412. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 279، ولم ينسبه لقائل. وفي "تنوير المقباس" 6/ 6، قال: (قبيحًا). (¬4) "تفسير مقاتل" 144 ب، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 278، و"معالم التنزيل" 4/ 304، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 279. (¬5) في (ك): (لأنه) والصواب ما أثبته. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 134.

وقوله: {يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} معناه: يمتنعون منهن بهذا اللفظ، أي من جماعهن، وقد ذكرنا أن هذا مأخوذ من لفظ: الظهر (¬1). قال صاحب النظم: ليس قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذًا من الظهر الذي هو عضو من الجسد, لأنه لو كان المراد بهذا القول الظهر بعينه لم يكن الظهر أولى من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، والظهر هاهنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]، أي يعلوه، وكل من علا شيئًا فقد ظهره، وبه سمي المركوب ظهرًا, لأن راكبه يعلوه، وكذلك امرأة الرجل ظهره, لأنه يعلوها بذلك البضع وإن لم يكن من ناحية الظهر، وكأن امرأة الرجل للرجل مركب وظهر، ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها، وفي قولهم: أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار؛ لأن تأويله: ظهرك عليّ، أي: ملكي إياك وعلوي حرام كما علوي أمي وملكها حرام عليّ (¬2). قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أكثر الاختلاف في معنى العود المذكور هاهنا، فمذهب الشافعي -رحمه الله- أن معنى العود لما قالوا: السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه، وذلك أنه إذا ظاهر فقد قصد التحريم، فإن وصل ذلك بالطلاق، فقد جرى على ما ابتدأه من إيقاع التحريم وأتمه، ولا كفارة عليه، وإذا سكت عن الطلاق فذلك للندم منه على ما ابتدأ به من التحريم فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذٍ ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (4) من سورة الأحزاب. وانظر: "المفردات" ص 318 (ظهر) , و"اللسان" 2/ 659 (ظهر). (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 251، و"غرائب القرآن" 29/ 8.

تجب عليه الكفارة (¬1)، ويدل على هذا أن ابن عباس -رحمه الله- فسر العود في هذه الآية بالندم، فقال في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يريد يندمون فيرجعون إلى الألفة والرجعة (¬2). وقال الفراء: يعودون لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا. معناه: يرجعون عما قالوا، قال: ويجوز في العربية أن تقود: عاد لما فعل، أي: فعله مرة أخري، ويجوز عاد لما فعل. أي: نقض ما فعل (¬3). وهذا الذي قاله الفراء يبين صحة ما ذهب إليه الشافعي, لأن المعنى عنده: ثم يعودون لما قالوا بالنقض، وهو السكوت عن الطلاق، وعلى هذا {مَا قَالُوا} لفظ الظهار، ويجوز أن يكون معنى {مَا قَالُوا} المقول فيه. والمقول فيه هو النساء، وما قالوا والمقالة والقول واحد في المعنى. و (ما) هاهنا للمصدر والمفعول يسمى بالمصدر كثيرًا كقولهم: ضرب الأمير، ونسج اليمن. هذا الذي ذكرنا بيان مذهب الشافعي في هذه الآية (¬4). وقال قتادة: فمن حرمها ثم يريد أن يعود لها يطأها {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬5) وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. قالوا: معنى العود: هو العزم على الوطء، فإذا عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عودًا ويلزمه الكفارة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 5/ 265، و"المجموع" 17/ 361، "الفقه على المذاهب الأربعة" 4/ 507، و"نيل الأوطار" 6/ 222. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 305، و"روح المعاني" 28/ 7. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 139. (¬4) انظر: "الأم" 5/ 265، وما بعدها، و"المجموع" 17/ 362. (¬5) انظر: "جامع البيان" 28/ 7، و"الكشف والببان" 12/ 77 أ. (¬6) انظر: "البحر الرائق" 4/ 97، و"تبيبن الحقائق شرح كنوز الدقائق" 3/ 3، و"أحكام القرآن" لابن العربي 4/ 1752.

وقال مقاتل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يعني الذي حرموا من الجماع (¬1). وهو قول الحسن. {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال: الغشيان في الفرج، ونحو ذلك قال طاووس، والزهري. قالا: الوطء، وإلى هذا ذهب مالك. فقال: إن وطئها كان عودًا (¬2). قال أصحابنا: العود المذكور هاهنا صالح للجماع كما قال مالك، وللعزم على الجماع كما (¬3) قال أهل العراق، ولترك الطلاق كما قال الشافعي (¬4)، وهو أول ما ينطلق عليه اسم العود، فيجب تعليق الحكم به، لأنه الظاهر، وما زاد عليه يعرف بدليل آخر (¬5). وقال أبو العالية: إذا كرر اللفظ بالظهار كان عودًا، وإن لم يكرر لم يكن عودًا (¬6)، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر، فجعلوا العود تكرير لفظ الظهار، واحتجوا بأن ظاهر قوله: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يدل على إعادة لفظ الظهار مرة أخرى (¬7). ¬

_ (¬1) لم أجده عن مقاتل. (¬2) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 418، و"المغني" 11/ 73، و"المحلى" 10/ 51، قال صح ذلك عن طاوس وقتادة، والحسن، والزهري، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 280، و"الفروع" لابن مفلح 5/ 494. (¬3) (كما) ساقطة من (ك). (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 257. (¬5) وقال الإمام أحمد: العود الغشيان إذ أراد أن يغشى كفر. "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" 2/ 396، والعود عند مالك هو العزم على الوطء. (¬6) انظر: "جامع البيان" 28/ 7، و"الكشف" 12/ 77 أ، و"الجامع" 17/ 28. (¬7) انظر: "المحلى" 10/ 51 - 52، و"المغني" 11/ 74، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 416.

قال أبو علي الفارسي: وليس في هذا ظاهر كما ادعوا, لأن العود على ضربين: أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل فتركه ثم صار إليه. والآخر: أن يصير إلى شيء وان لم يكن على ذلك قبل. وكأن هذا الوجع غمض عليهم، وهذا عند من خوطب بالقرآن، كالوجه الأول في الظهور. وفي أنهم يعرفونه كما يعرفون ذلك، فمن ذلك قول الهذلي (¬1): وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئًا فاستراح العواذل معناه: وصار، وكذلك قول العجاج: ويصحبني حتى كاد ... يعود بعد أعظم أعوادًا وقال امرئ القيس: وماء كون الزيت قد عاد آجنًا ... قليل به الأصوات ذي كلإ مخلي (¬2) وسميت الآخرة المعاد ولم يكن فيها أحد، ثم صار إليها. وهذا إذا تتبع كثير جدًّا (¬3). قال أبو إسحاق -وذكر هذا المذهب فقال-: قال بعض الناس: لا ¬

_ (¬1) هو: أبو خراش، واسمه خويلد بن مرة، شاعر مخضرم، أدرك الإسلام شيخًا كبيرًا فأسلم، وحسن إسلامه، ويعد من أبرز شعراء هذيل، ومات في زمن عمر بن الخطاب؟ متأئرًا بنهشة حية. انظر: "الشعر والشعراء" 2/ 633، و"الأغاني" 21/ 204، و"الخزانة" 1/ 211، و"الإصابة" 2/ 364، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" ص 156، والبيت في "ديوان الهذليين" 2/ 150، وروايته (العدل) بدلاً من (الحق) "المسائل الحلبيات" ص 24. (¬2) انظر: "الديوان": 413، و"الخزانة" 5/ 121، و"تهذيب اللغة" 7/ 31. (¬3) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 722.

تجب الكفارة حتى يقول ثانية: أنصت عليّ كظهر أمي، وهذا قول من لا يدري اللغة، وهو خلاف قول أهل العلم أجمعين (¬1)، هذا الذي ذكرنا مذهب المفسرين والفقهاء. وأما أهل المعاني فإن أبا الحسن الأخفش قال: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم (¬2). أي: فعليهم تحرير رقبة لما قالوا، أي: لما نطقوا به من ذكر التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلا بعد التكفير، والجار في قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم. وقوله: {يَعُودُونَ} أي: إلى نسائهم، يعني: إلى وطئهن الذي كانوا حرموه على أنفسهم بالظهار منهن، وأما التقديم والتأخير الذي قدره في الآية فهو كثير جدًا كقوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا} [النمل: 28] الآية. والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. هذا قول الأخفش. وشرحه أبو علي (¬3). قال أبو إسحاق: وهذا مذهب حسن (¬4)، وقال ابن قتيبة: أجمع الناس على أن الظهار (¬5) يقع بلفظ واحد، وتأويل قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} هو أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 135. (¬2) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 705، وذِكرُ المؤلف له هنا بالمعنى. (¬3) انظر: "شرح الأبيات المشكلة الأعراب" لأبي علي الفارسي 1/ 100 - 102. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 135. (¬5) في (ك): (الظاهر).

نِسَائِهِمْ} يريد في الجاهلية {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} في الإسلام يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام (¬1) {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ م} وهذا القول هو اختيار صاحب النظم، وشرحه فقال: المعنى: والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام ثم يعودون في الإسلام لمثل هذا القول فيظاهرون من نسائهم. ثم ذكر ما أوجب في ذلك في الإسلام من الحكم، والعرب تضمر كان كقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما كانت تتلو الشياطين فأضمر كانت (¬2). قوله تعالى {لِمَا قَالُوا} قال الأخفش: لما قالوا، وإلى ما قالوا واحد، يقال: عدت إلى ذاك، وعدت لذاك (¬3)، قال أبو علي: إلى واللام يتعاقبان (¬4) كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] وقال: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]. وقال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ} [هود: 36]. قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} قالوا أراد رقبة مؤمنة؛ لأنه قيد في كفارة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 456 - 457. (¬2) وبه قال الثوري -رحمه الله- ذكره الرازي في "تفسيره" 29/ 257، ثم قال: وهذا القول ضعيف, لأنه تعالى ذكر الظهار، وذكر العود بعده بكلمة (ثم) وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئًا غير الظهار، فإن قالوا: المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام والعرب تضمر لفظ كاند .. قلنا: الإضمار خلاف الأصل. وانظر: "غرائب القرآن" 28/ 13. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 139، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 373، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 282، وليس في "معاني القرآن" للأخفش. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 256، و"غرائب القرآن" 28/ 11.

4

القتل (¬1) وأطلق هاهنا، والمطلق يحمل على المقيد ويفسر به (¬2). قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي: يجامعا، وذكر الكلام في هذا عند قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬3) فلا يجوز للمظاهر أن يطأها قبل التكفير، وإنما قيل {قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} بعد قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} لأن المراد به الزوجان، فعاد الكلام إليهما؛ لأن الجماع بينهما، والظهار يختص به الرجال، فأخبر عن الرجال أولاً، فلما انتهى الكلام إلى ذكر المسببين عاد إلى الزوجين لما ذكرنا. قوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} قال أبو إسحاق: المعنى ذلك التغليظ في الكفارة توعظون به (¬4). أي: تؤمرون به من الكفارة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من التكفير وتركه {خَبِيرٌ}. 4 - ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة فقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} أي فكفارته، أو فعليه صيام شهرين {مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} الصيام فكفارته إطعام {سِتِّينَ مِسْكِينًا}. وهذه الأنواع من الكفارات كلها قبل المسيس، فإن جامع قبلها أتى محرمًا ويكون قد أخر الكفارة عن وقتها إلى غير وقتها، ثم يأتي بها على وجه ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. (¬2) وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في رواية. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 435، و"المغني" 11/ 81، و"الأم" 5/ 266. (¬3) عند تفسيره الآية (237) من سورة البقرة. وانظر: "المفردات" ص 467 , و"اللسان" 3/ 483 (مس). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 135.

القضاء (¬1)، وفروع هذه المسألة يذكرها الفقهاء (¬2)، ولا موضع لذكرها هاهنا. وذكر الله الكفارة بالعتق، والصيام، فنص فيها على ما قبل الجماع بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، ولم يذكر في الإطعام أنه قبل التماس، وذلك أنه لما ذكر في الإعتاق وانه قبل التماس ألحق به الإطعام, لأن زمانهما لا يطول، وأعاد في الكفارة بالصوم أنها قبل التماس, لأنه بخلاف الإعتاق، ولطول مدة الصوم فلم يمكن أن يلحق الصيام بالإعتاق في أنه قبل المسيس لو لم يذكر ذلك لمخالفتهما في طول المدة وقصرها (¬3). قوله تعالى: {ذَلِكَ} قال أبو إسحاق: ذلك في موضع رفع. المعنى: الفرض ذلك الذي وصفنا {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، لتصدقوا ما أتى به الرسول، وتصدقوا أن الله أمر به (¬4). وقال صاحب النظم: المعنى فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله (¬5)؛ لأن هذه اللام تقتضي سببًا تكون هي وما بعدها جوابا له. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني ما وصف من الكفارة في الظهار. قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذب به (¬6). ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم، و"المغني" 11/ 11. (¬2) راجع تفصيل هذه المسألة في: "الأم" 5/ 265، و"المجموع" 17/ 366، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام 4/ 249. (¬3) انظر: "الانتصاف بما تضمنه الكشاف من الاعتزال" 4/ 72. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 136. (¬5) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 374. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 37.

قال المقاتلان: فلما نزلت الآيات علي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى زوجها أوس بن الصامت فقال: "أعندك تحرير رقبة؟ " قال: لا أجد يا رسول الله. قال: "أفتطيق صوم شهرين متتابعين؟ " قال: يا رسول الله إني إذا لم آكل كل دوم ثلاث مرات كلّ بصري -وكان يشتكي بصره- فقال: "أعندك طعام ستين مسكينا؟ " قال: لا يا نبي الله إلا بصلة منك وعون، فأعانه النبي عليه السلام بخمسة عشر صاعًا (¬1). وجاءا بمثلها من قبلهم، فذلك ثلاثون صاعًا لستين لكل مسكين نصف صاع. وقال عكرمة: لما نزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآيات، قال للمرأة التي أتته: "ابشري فقد أنزل الله فيك وفيه، مريه فليعتق رقبة". قالت: أنّى يا رسول الله، وما يخدمني غيره، ولا يخدمه غيري. قال: "فليصم شهرين متتابعين". قالت: أنى ولولا أنه يأكل في اليوم كذا وكذا لذهب بصره. قال: "مريه فليطعم ستين مسكينًا". قالت: أنى يا رسول الله وإنما هي وجبة. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مريه فليأت فلانة فليأخذ شطر وسيق فليتصدق به". قالت: فلما رآني أوس مقبلة قال: ما وراءك؟ قلت: خير وأنت ذميم، قد أمرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تأتي فلانة فتأخذ منها شطر وسق فتصدف به (¬2). قالت: فانطلق من عندي وعهدي به لا يحمل خمسة أصوع فأتى بشطر وسق يحمله على ظهره حتى طرحه. ¬

_ (¬1) أورده الثعلبي في "تفسيره" 13/ 75 أ - ب، وأخرج ابن مردويه عن أنس نحوه, و"الدر" 6/ 180، وأخرجه الدارقطني من حديث أنس أيضًا, و"الجامع" 17/ 271. (¬2) أخرجه ابن جرير مختصرًا عن ابن عباس من طريق عكرمة، وأخرجه البغوي عن عطاء بألفاظ متقاربة، واين سعد عن عمران عن أنس. انظر: "جامع البيان" 28/ 3، و"معالم التنزيل" 4/ 306، و"الدر" 6/ 181.

5

5 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال المفسرون: يحادون، يخالفون، ومعنى المحادة المخالفة في الحدود (¬1)، قال أبو إسحاق: معنى يحادون الله أي: هم في غير الحد الذي فيه أولياء الله، وكذلك (يشاقون) (¬2) وقد مر (¬3). وقال المبرد: أصل المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب حداد، وللممنوع الرزق محدود (¬4). وتقدم الكلام في هذا عند قوله: {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} في سورة التوبة (¬5). قوله تعالى: {كُبِتُوا} قال عطاء والسدي: لعنوا (¬6). وقال المقاتلان: أخزوا كما أُخزي من كان قبلهم من أهل الشرك (¬7). قال ابن عباس: يعني المنافقين (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: " الكشف والبيان" 12/ 78 أ، و"الوسيط" 4/ 263. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 136، قال: .. وكذلك يشاقون يكونون في الشق الذي فيه أعداء الله. (¬3) عند تفسيره الآية (115) من سورة النساء. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 262. (¬5) عند تفسيره الآية (63) من سورة التوبة. (¬6) نسبه القرطبي في "جامعه" 17/ 288 للسدي، وفي كتاب "اللغات في القرآن" ص 46، نسبه لابن عباس وقال: هي لغة مذجح. (¬7) أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وهو اختيار ابن جرير. انظر: "تفسير مقاتل" 144 ب، و"جامع البيان" 28/ 9، و"فتح الباري" 8/ 628، وزاد نسبه تخريج ابن أبي حاتم له عن مقاتل بن حيان. "الدر" 6/ 183. (¬8) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 262، و"الجامع" 17/ 288، ولم ينسب لقائل.

6

وقال الفراء: غيظوا وأحزنوا يوم الخندق (¬1)، وعلى هذا يعني المشركين. وقال الزجاج: أُذِلُّوا وأُخزوا بأن غلبوا (¬2). قال المبرد: يقال كبت الله فلانًا إذا أذله. والمردود بالذل يقال له: مكبوت (¬3)، وقد تكلمنا في هذا الحرف عند قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} (¬4). قوله تعالى: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال ابن عباس: يريد فرائض قيمة معروفة (¬5). {وَلِلْكَافِرِينَ} قال: يريد لمن لم يعمل بها ولم يصدق بها {عَذَابٌ مُهِينٌ}. 6 - ثم بين أن ذلك العذاب متى يكون فقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}. وقوله: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} قال مقاتل: حفظ الله أعمالهم ونسوا هم (¬6). 7 - قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قد ذكر أن النجوى مصدر عند قوله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} (¬7). ويجوز أن يوصف به كما يقال: قوم نجوى، ومنه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 139. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 136. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 262، ولم أجده في مؤلفات المبرد. (¬4) عند تفسيره الآية (127) من سورة آل عمران. (¬5) المعنى ظاهر، ولم أجد من عزاه لابن عباس. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 144 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 37. (¬7) عند تفسيره الآية (114) من سورة النساء. وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 104.

7

[الإسراء: 47]، والمعنى هم ذوو نجوى فحذف المضاف وكذلك كل مصدر وصف به. فأما قوله: {مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} قال أبو علي: يحتمل جر {ثَلَاثَةٍ} أمرين: أحدهما: أن يكون مجرورًا بإضافة {نَجْوَى} إليه كأنه ما يكون من سرار ثلاثةٍ، ويجوز أن يكون {ثَلَاثَةٍ} جرًا على الصفة على قياس قوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} (¬1) وهذا معنى قول الفراء: {ثَلَاثَةٍ} إن شئت خفضتها على أنها من نعت النجوى، وإن شئت أضفت النجوى إليها (¬2)، وبيانه أن النجوى إن جعلتها مصدرًا أضفتها إلى ثلاثة، وإن جعلتها بمعنى المتناجين جعلت (ثلاثة) صفة لها. قال أبو إسحاق: {نَجْوَى} مشتق من النجوة، وهي ما ترتفع وتَنَحَّى (¬3). والمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به. ومعنى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} أي ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئًا ويتناجون به (¬4). ومعنى قول المفسرين في النجوى أنها إسرار. قال ابن عباس: ما من شيء تناجي به صاحبك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" 6/ 279، و"مثسكل إعراب القرآن" 2/ 723، و"الكشاف" 4/ 74. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 140، و"اللسان" 3/ 593 (نجا). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 137. (¬4) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 29. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 307، ولم ينسبه لقائل. ومن عبارة البغوي يتضح السقط هنا, ولعل العبارة: ما من شيء تناجي به صاحبيك إلا هو رابعهم. والله أعلم.

8

وقوله: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} أي: إلا هو عالم به، وعلمه معهم لا يخفى عليه ذلك كما قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78]، وكقوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (¬1) والمعنى: أن نجواهم معلومة عنده، كما تكون معلومة عند الرابع الذي يكون معهم. 8 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ولم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآية (¬2). قوله تعالى: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الإثم والعدوان مخالفتهم الرسول في النهي عن النجوى، فلما عادوا إلى ما نهاهم عنه لزمهم الإثم والعدوان وصاروا آثمين ظالمين. والثاني: أن الإثم والعدوان ذلك السر الذي يجري بينهم, لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين، أو شيء يسؤهم فهو إثم وعدوان (¬3). ¬

_ (¬1) من آية (7) من سورة طه. قال ابن كثير -رحمه الله-؛ (ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك, ولكن سمعه أيضًا مع علمه محيط بهم، وبصره نافد فيهم، فهو -عَزَّ وَجَلَّ- مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء)، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 322. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 78 ب، عن ابن عباس، و"أسباب النزول" للواحدي ص 474 عن ابن عباس، و"الجامع" 17/ 291. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 266.

وقراءة العامة {وَيَتَنَاجَوْنَ} من التفاعل لقوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} وقوله: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ}، وقرأ حمزة (وينتجون) (¬1)، وانتجى، وتناجى بمعنى واحد، ويفتعلون ويتفاعلون يجريان مجرى واحداً نحو اختصموا وتخاصموا، واقتتلوا وتقاتلوا. ولا يكون في قوله: {تَنَاجَيْتُمْ * وَتَنَاجَوْا} ردٌّ لقراءة حمزة، لأن الانتجاء في مساغه وجوازه مثل التناجي (¬2). قوله تعالى: {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} قال المقاتلان: وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه (¬3). وقال أبو إسحاق: يوصي بعضهم بعضًا بمعصية الرسول (¬4). والقولان هاهنا كما ذكرنا في الإثم والعدوان. قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}. قال المفسرون: يعني اليهود كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: السام عليك والسام الموت (¬5). وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليكم، فأخبر الله نبيه بذلك في قوله: {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} (¬6) وذكر معنى التحية في سورة النساء (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ حمزة، ورويس (ينتجُون) بالنون، وضم الجيم من غير ألف على (يفتعلون). وقرأ الباقون (يتناجون) بتاء ونون مفتوحتين وألف وفتح الجيم. انظر: "حجة القراءات" ص 704، و"النشر" 2/ 385، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 412. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي علي 6/ 279 - 285، و"حجة القراءات": 754. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 145 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 79 أ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان، و"الدر" 6/ 184. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 137. (¬5) انظر: "اللسان" 2/ 246 (سوم). (¬6) أخرج الإمام أحمد في "المسند" 2/ 455 والبيهقي في "شعب الإيمان" بسند جيد، و"الدر" 6/ 184، و"أسباب النزول" للواحدي ص 474 وأخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 323. (¬7) عند تفسيره الآية (86) سورة النساء.

9

قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} قال المقاتلان: قالت اليهود: إن كان هؤلاء لا يعلمون ما نقول لهم فإن الله يعلم ما نقول فلو كان نبيًا لعذبنا الله بما نقول، فهلا يعذبنا الله بما نقول لمحمد إن كان نبيًّا، فأنزل الله {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1). 9 - ثم نهى المنافقين عن التناجي فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس: يريد آمنوا بزعمهم (¬2). وقال مقاتل: يعني المنافقين (¬3). وقوله: {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} تقدم تفسيره. قوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} قال مقاتل: بالطاعة وترك المعصية (¬4). ثم خوفهم نقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم. وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، وأنهم نهوا أن يفعلوا كفعل المنافقين واليهود، وهو اختيار أبي إسحاق. قال: يقول ولا تكونوا كاليهود والمنافقين (¬5) والأول الوجه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 145 أ، و"الكشف" 79/ 12 أ، ب، و"معالم التنزيل" 4/ 308. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 308، ونسبه لعطاء، و"الجامع" 17/ 294، ولم ينسبه لقائل. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 308، و"التفسير الكبير" 29/ 267، قلت: والمعنى الظاهر أن الخطاب للمؤمنين على الحقيقة من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا ما اعتمده ابن جرير، وابن كثير، ولم يذكرا غيره. انظر: "جامع البيان" 28/ 12، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 323. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 145 ب. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 138، وهو اختيار ابن جرير، وابن كثير، كما تقدم ذكره، وانظر: "روح المعاني" 28/ 27.

10

10 - ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون من جهة الشيطان، وأن ذلك لا يضر المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} قال مقاتل: من تزيين الشيطان (¬1) {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: إنما يزين لهم ذلك ليحزن الذين آمنوا، وذلك أن المؤمنين إذا رأوهم متناجين قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له (¬2). قال الله تعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} أي وليس النجوى بضارهم. قال أبو إسحاق: أي ليس يضر التناجي المؤمنين شيئًا، ويجوز أن يكون المعنى: وليس بضارهم الشيطان شيئًا، {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إلا ما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬3). قال مقاتل: يقول إلا بإذن الله في الضر (¬4). قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي يكلون أمورهم إلى الله، ويستعيذون به من الشيطان. 12 - قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 308، و"الجامع" 17/ 295، ولم أجده في "تفسير مقاتل". (¬2) وهو سبب نزول الآية كما قال قتادة -رحمه الله- وأخرجه الأئمة عنه باختصار. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 279، و"جامع البيان" 28/ 12، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 378، وقال: أصح ما قيل فيه قول قتادة .. ، و"التفسير الكبير" 29/ 267. (¬3) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 138. (¬4) "تفسير مقاتل" 145 ب. (¬5) كذا كتبها المؤلف (المجلس) على الإفراد. وهي قراءة الجمهور. وقرأ عاصم (المجالس) على الجمع. انظر: "حجة القراءات" ص 704، و"النشر" 3/ 385.

الآية. قال مقاتل بن حيان: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصفة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظرون أن يوسع لهم فعرف ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم، وشق ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان، وأنت يا فلان. فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، وشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف الكراهية في وجوههم وطعن في ذلك المنافقون، وقالوا: والله ما عدل على هؤلاء، إن قومًا أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فأنزلت هذه الآية يوم الجمعة (¬1). قوله: {تَفَسَّحُوا} قال أبو عبيدة: توسعوا (¬2). وقال الليث: الرجل يفسح لأخيه في المجلس فسحًا إذا وسع له، والقوم يتفسحون إذا مَكَّنُوا، والفساحة السعة. يقال: بلد فسيح ومفازة فسيحة، ولك فيه فسحة، أي: سعة، هذا كلامه (¬3). والمستعمل من هذا الحرف أربعة أوجه. فسح يفسح فسحًا إذا وسع في المجلس. يقال: أفسح لي، أي: وسّع، وفسح يفسح فساحة إذا صار واسعًا، ومكان فسيح وتفسح إذا توسع، ومثله تفاسح (¬4) وبه قرأ الحسن. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 145 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 80 أ، ونسبه للمقاتلين، و"أسباب النزول" للواحدي 475. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 225. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 327 (فسح). (¬4) انظر: "اللسان" 2/ 1094 (فسح). وقد قرأ الحسن؛ وقتادة، وعيسى وداود بن أبي هند (تَّفَاسَحُوا) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 141، و"الجامع" 17/ 297, و"البحر المحيط" 8/ 236.

قال الفراء: وهو مثل تعهدته وتعاهدته (¬1). ومعنى {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} هو أن القوم إذا جلسوا حول النبي -صلى الله عليه وسلم- متضايقين منضمين إليه لم يجد غيرهم ممن يأتي بعدهم مجلسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا تنحوا عنه في الجلوس وتوسعوا وجد غيرهم مكانًا يجلس فيه في فلك الحلقة (¬2)، فأمر الله تعالى المؤمنين بالتواضع، وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه (¬3). وقرئ {فِي الْمَجَالِسِ} (¬4) والوجه التوحيد؛ لأنه يعني به مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره فهو على إرادة العموم مثل قولهم: كثر الدرهم والدينار. ووجه الجمع أن تجعل لكل جالس مجلسًا. أي موضع جلوس (¬5). قال المبرد: تفسحوا ينبيء عن أن لكل واحد مجلسًا, لأنه لا يجوز أن يكون اثنان يشغلان مكانًا واحداً، وإنما معناه ليفسح كل رجل في ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 141. (¬2) وممن قال بأن المراد بالمجلس مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتادة، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 660، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 279، و"جامع البيان" 28/ 13، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 378. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 139. (¬4) تقدم تخريجها وهي قراءة عاصم، ومعن السُّلَمي وزِرّ بن حُبيش. (¬5) في (ك): (حلس). وذكر المفسرون في المراد بالمجلس ثلاثة أقوال: مجالس القتال، مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المجالس والمجامع على عمومها، وقد رجح ابن جرير اطلاقها على مجالس القتال، ومجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ لم يخصص مجلسًا دون آخر. "جامع البيان" 28/ 13. وقال القرطبي: (الصيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة ...) "الجامع" 17/ 297.

مجلسه (¬1). قوله تعالى: {فَافْسَحُوا} أي: أوسعوا {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيها. وذكر في التفسير أنهم أمروا بأن يتوسعوا ويجلسوا متوسعين، ويوسعوا لغيرهم فلم يفعلوا وضن كل واحد بمجلسه فأمروا بالطاعة في التفسح والفسح، ووعدوا على ذلك أن يفسح لهم في الجنة (¬2). قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قال ابن عباس، ومقاتل: إذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا (¬3)، ومعناه قوموا، وفيه قراءتان: كسر الشين وضمها وهما لغتان (¬4) مثل يعكفون، ويعكفون و (ويعرشون) (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجده منسوبًا. وانظر: "اللسان" 2/ 1094 (فسح). (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 13، عن ابن زيد، و"معالم التنزيل" 4/ 309، و"الدر" 6/ 184، عن قتادة. (¬3) وهو قول أكثر المفسرين. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 18، و"جامع البيان" 28/ 13، و"الكشف" 13/ 81 أ، قال (إذا قيل لكم قوموا وتحركوا وارتفعوا وتوسعوا لإخوانكم فافعلوا. وقال أكثر المفسرين معناه: وإذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخيرات. أي حق كان فانشزوا ولا تقصروا ...). وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 326، والنشز: هو المتن المرتفع من الأرض, وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض. "اللسان" 3/ 637 (نشز). (¬4) قرأ نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص، وأبو بكر من رواية الجمهور (انشُزُوا فانشُزُوا) بضم الشين فيهما. وقرأ الباقون بكسر الشين. انظر: "حجة القراءات" ص 705، و"النشر" 2/ 385، و"الإتحاف" ص 412. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 141. وفي قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] قرأ =

ومعنى القيام هاهنا أنهم أمروا أن يطيعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم بالقيام من المجلس ولا يكرهوا ذلك، ووعدهم على هذه الطاعة رفع الدرجات فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قال ابن عباس: يني المهاجرين والأنصار (¬1). وقال مقاتل: الذين أوتوا العلم، يعني الذين قرأوا القرآن يرفع الله لهم درجات في الجنة على سواهم ممن لم يقرأ القرآن، قال: وإذا انتهى المؤمنون إلى باب الجنة، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم: ادخل الجنة، ويقال للعالم: أقم على باب الجنة، فيشفع للناس، هذا الذي ذكرنا في هذه الآية معنى قول قتادة، والكلبي، والمقاتلين (¬2). وقال عطاء: هذه الآية نزلت في مجالس الحرب ومقاعد القتال، وذلك أن الناس كانوا يقعدون صفوفًا في القتال فربما قعد الرجل في موضع ليس هو بأهل، ويكون من هو أشجع منه وأنجد خلفه ويستحي رسول الله ¬

_ = حمزة، والكسائي، والوراق عن خلف، والمطوعي، وابن مقسم، والقطيعي عن إدريس (يعكفون) بكسر الكاف، وقرأ الباقون بضمها. وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]. وفي قوله تعالى: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] قرأ ابن عامر، وأبو بكر (يعرُشون) بضم الراء فيهما. وقرأ الباقون بكسرها فيهما. انظر: "حجة القراءات" ص 294، 392، و"النشر" 2/ 271، و"الإتحاف" ص 229. (¬1) لم أجده عن ابن عباس، ولا عن غيره، ودخول المهاجرين والأنصار في هذه الآية أولى من غيرهم -رضوان الله عليهم-. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 145 ب، 146 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 309، و"الجامع" 17/ 299 - 300.

-صلى الله عليه وسلم- أن يقيم ذلك ويقعد هذا، فنزلت الآية (¬1). وقال الحسن: إنهم تشاحوا على الصف الأول رغبة منهم في الجهاد والشهادة، وكان الرجل منهم يجيء إلى الصف الأول، ويقول: توسعوا لي فلا يوسعون له (¬2). وهذا قول أبي العالية، والقرظي، ورواية العوفي عن ابن عباس (¬3). وقوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قال الحسن: في القتال في الصف (¬4). وقال مجاهد: إلى كل خير، قتال عدو، أو أمر معروف أو حق ما كان (¬5). وقال قتادة: يقول: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا (¬6). وقال عكرمة، والضحاك: إن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة فأمروا بالقيام لها إذا نودي (¬7). وقال ابن زيد: كانوا إذا دخلوا بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقومون، وكان كل واحد يحب أن يكون آخر القوم عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الله: {وَإِذَا قِيلَ ¬

_ (¬1) لم أجده عن عطاء، وهو في معنى قول الحسن والقرظي وغيرهما. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 81 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 309. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 80 ب، 81 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 309, و"التفسير الكبير" 29/ 269. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 280، و"الكشف والبيان" 12/ 81 أ. (¬5) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 660، و"جامع البيان" 28/ 13. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 279، و"الدر" 6/ 185، وزاد نسبه إخراج لعبد بن حميد. (¬7) انظر: "جامع البيان" 28/ 13 عن الضحاك، و"الكشف والبيان" 12/ 81 أ.

12

انْشُزُوا} عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أي انهضوا فانهضوا (¬1). واختاره الزجاج فقال: أي إذا قيل انهضوا -قوموا-: فانهضوا وهذا كما قال: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53]-صلى الله عليه وسلم- (¬2) قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، أي: إذا عملوا بما أمروا. 12 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال ابن عباس في رواية الوالبي: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى شقوا عليه، وأراد أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت هذه الآية ضن كثير من الناس فكفوا عن المسألة (¬3). وقال مقاتل بن حيان: إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكثروا مناجاته حتى كره النبي -صلى الله عليه وسلم- طول جلوسهم ومناجاتهم، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل الميسرة فمنع بعضهم ماله وحبس نفسه، وأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئًا، واشتاقوا إلى مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديثه فلم يقدروا على ذلك حتى نسخ هذا (¬4). وقال مقاتل بن سليمان: لما نزلت هذه الآية انتهى الأغنياء وقدرت ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 14، و"الكشف والبيان" 12/ 81 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 299. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 139. (¬3) انظر: "جامع البيان" 28/ 15، و"الدر" 6/ 185، وزاد نسبة تخريجه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 82 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 476، و"معالم التنزيل" 4/ 31.

13

الفقراء على كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ومجالسته فلم يقدم أحد من أهل الميسرة بصدقة غير علي بن أبي طالب قدم ديناراً، وكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في عشر كلمات فلم يلبث إلا يسيرًا حتى أنزل الله. 13 - {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية (¬1). وروى ليث عن مجاهد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي (¬2) ولا يعمل بها أحد بعدي: آية النجوى، كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فكنت كلما ناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمت بين يدي نجواي درهمًا، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد (¬3). ونحو هذا قال ابن جريج، والكلبي، وعطاء عن ابن عباس أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا علي تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة (¬4)، قالوا: وما كانت إلا ساعة من النهار حتى نسخت. وهو قول الكلبي (¬5). وقال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ (¬6)، ولم تقدر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 146 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 82 أ، و"لوسيط" 4/ 266. (¬2) (قبلي) ساقطة من (ك). (¬3) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 660، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 280، و"جامع البيان" 28/ 15، "المستدرك" 2/ 482، و"أسباب النزول" للواحدي ص 476. (¬4) انظر: "معالم التزيل" 4/ 310، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 236, و"التفسير الكبير" 29/ 271. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 280 وزاد نسبته لقتادة، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 428، و"الكشف والبيان" 13/ 82 ب. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 82 ب، وفي "جامع القرطبي" 17/ 303، نسبه لابن عباس وعلي بن أبي طالب، و"نواسخ القرآن" ص 236، و"التفسير الكبير" 29/ 271, و"الدر" 6/ 185، ونسب تخريجه لابن أبي حاتم.

هذه الصدقة بشيء. وشاور النبي -صلى الله عليه وسلم- في تقديرها عليًّا؟ قال: قال لي: كم ترى؟ ديناراً. قلت: لا يطيقونه. قال: كم؟ قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت آية النسخ (¬1). قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني للفقراء، وهذا يدل علي أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوًّا عنه. وأجمعوا على أن هذه الآية منسوخة الحكم بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ} قال ابن عباس: أبخلتم (¬2)، وقال مقاتل: أشق عليكم (¬3)، والمعنى: أخفتم العيلة أن قدمتم بين يدي نجواكم صدقات، وهذا خطاب للأغنياء, لأن من لم يجد لا يقال له هذا. ونسخت الزكاة الصدقة التي كانت عند المناجاة، وهو قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "سننه"، كتاب: التفسير، سورة المجادلة، وحسنه، و"جامع البيان" 28/ 15، و"نواسخ القرآن" ص 235. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 311، و"الجامع" 17/ 33. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 146 أ، و "تفسير مجاهد" 2/ 660، و"جامع البيان" 28/ 16، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 380، ونسبوه لمجاهد. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 146 أ، و"نواسخ القرآن" ص 236، ونسبه لابن عباس، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 142. قلت: مراد المؤلف -رحمه الله- من نسخ صدقة المناجاة بالزكاة أي أن قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية بكاملها نسخت الآية السابقة عليها، فعاد المسلمون إلى مناجاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير تقديم شيء، وهو المجمع عليه من المفسرين -رحمه الله- والله أعلم.

14

واحتج قوم من الأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل الفعل (¬1)، ولأصحابنا فيه قولان، والصحيح أنه يجوز، ومن احتج بهذه الآية ضعف ما روي أن عليًا عمل بهذا الحكم قبل النسخ، واحتج بقوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} قال: وهذا دليل أن أحدًا منهم لم يتصدق بشيء (¬2). 14 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال المفسرون: يعني المنافقين، تولوا اليهود ونقلوا إليهم أسرار المسلمين. واليهود هم المذكورون بالغضب عليهم في مواضع من القرآن. قوله: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} أي: ليسوا مؤمنين فليسوا منكم في الدين والولاية، ولا من اليهود، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] الآية. قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن نبتل المنافق: "على ماذا تشتمني أنت وأصحابك؟ " فجاء بهم فحلفوا أنهم لم يفعلوا -ولم يوالوا اليهود- وأنهم له ناصحون، فذلك قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬3) أنهم كذبة. 16 - قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني أيمانهم الكاذبة جنة يستخفون بها من القتل {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: فصدوا المؤمنين بأيمانهم عن ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان في علوم القرآن" 3/ 320، و"المستصفى" ص 425. (¬2) انظر: "نواسخ القرآن" لمكي بن أبي طالب ص 325. (¬3) قال السدي، ومقاتل: وهو معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "تفسير مقاتل" 146 أ، و"جامع البيان" 28/ 17، و"الكشف والبيان" 13/ 83 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 476.

17

إمضاء حكم الله فيهم من القتل للكافر وأخذ الجزية من أهل الكتاب (¬1). وقال مقاتل: فصدوا الناس عن دين الله الإسلام (¬2). 17 - قوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} الآية. قال مقاتل: إن المنافقين قالوا إن محمدًا يزعم أنه ينصر يوم القيامة فقد شقينا إذًا، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا (¬3) وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة فأنزل الله هذه الآية (¬4). 18 - قوله تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} قال مقاتل: إذا سئلوا يوم القيامة عن أعمالهم الخبيثة استعانوا بالكذب كعادتهم في الدنيا، ويحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون لكم في الدنيا (¬5). وقال قتادة: إن المنافق يحلف لله (¬6) يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا (¬7). قال ابن عباس: أما الأول فكقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وأما الثاني فهو قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 17، وهو المعتمد عنده، و"معالم التنزيل" 4/ 31. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 146 أ، و"الجامع" 17/ 304، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 328. (¬3) (ك): (أنفسنا). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 146 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 274، و"الجامع" 17/ 305. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 146 ب. (¬6) (لله) ساقطة من (ك). (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 281، و"جامع البيان" 28/ 17، و"الكشف والبيان" 12/ 83 أ. (¬8) من الآية (56) من سورة التوبة. وانظر: "التفسير الكبير" 29/ 274، و"الجامع" 17/ 305.

19

وقال ابن زيد: كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنها تنفع في الآخرة (¬1). قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} قال مقاتل: على شيء من الدين (¬2). وقال غيره: ويحسبون أنهم على شيء من أيمانهم الكاذبة (¬3). {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} في قولهم وأيمانهم. 19 - قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} قال المفسرون: غلب واستولى. قال أبو إسحاق: معنى استحوذ في اللغة استولى، يقال: حذت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها (¬4). وقال المبرد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به (¬5)، ومعناه استدار عليهم الشيطان. 20 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} قال ابن عباس: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة (¬6). وقال مقاتل: في الهالكين (¬7)، وقال الزجاج: أي في المغلوبين (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع" 17/ 305. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 146 ب. (¬3) انظر: "جامع البيان" 28/ 17، و"معالم التنزيل" 4/ 312. (¬4) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 14. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 275. (¬6) لم أجده. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 146 ب. (¬8) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 141.

22

قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى الله ذلك قضاءً ثابتًا. قال أبو إسحاق: ومعنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة (¬1). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي مانع حزبه من أن يذل. وقال مقاتل: إن المسلمين قالوا: إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أُبي: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم؟ كلا والله لهم أكثر جمعًا وعدة، فأنزل الله هذه الآية (¬2). 22 - قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الأكثرون على أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم لما أراد فتح مكة، وتلك القصة معروفة (¬3)، وهذا قول مقاتل واختيار الفراء (¬4)، والزجاج. قال: أعلم الله عز وجل أن إيمان المؤمنين يفسد بمودة الكفار، وأن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان أباه أو ابنه أو أحدًا من عشيرته (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة (¬6)، قتل ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 141. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 83 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 276، و"الجامع" 17/ 306. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 84 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 277. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 146 ب، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 142. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 141. (¬6) هو أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، أمين هذه الأمة، وأحد المبشرين =

أباه يوم أحد عبد الله بن الجراح، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وأبي بكر -رضي الله عنه- دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "متعنا بنفسك يا أبا بكر"، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وحمزة، وعبيدة قتلوا عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبه يوم بدر، أخبر الله تعالى أن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضبًا لله ولدينه (¬1). قوله: {أُولَئِكَ} قال الزجاج: يعني الذين لا يوادون من حاد الله (¬2). قوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قال السدي ومقاتل: جعل في قلوبهم التصديق (¬3). وقال الربيع: أثبت (¬4). وقال أبو علي الفارسي: معناه جمع، والكتيبة: الجمع من الجيش. والتقدير: أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان, أي استكملوه واستوعبوه فلم يكونوا ممن يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض (¬5). ¬

_ = بالجنة. مات سنة (18 هـ) وله ثمان وخمسون سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" 3/ 409، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 5، و"العبر" 1/ 16، و"الإصابة" 3/ 379. (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 276، عن ابن عباس. وذكره غيره عن مقاتل بن حيان، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 84 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 478، و"معالم التنزيل" 4/ 312. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 142. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 146 ب. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 84 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 308. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 277.

{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قال ابن عباس: قواهم بنصر منه في الدنيا علي عدوهم (¬1)، وهو قول الحسن، وسمى نصره إياهم روحًا لأن به يحيا أمرهم (¬2). وقال المقاتلان: برحمة منه (¬3)، وهذا يعود إلى الأول, لأن رحمته إنعامه عليهم بالنصر في الدنيا. وقال الربيع، والسدي: يعني بالإيمان والقرآن (¬4). يدل عليه قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] الآية. ثم أعلم الله -عز وجل- أن ذلك يوصلهم إلى الجنة فقال: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} إلى آخر الآية. والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) انظر: "غرائب القرآن" 28/ 29. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 84 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 313. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 146 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 213، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 309. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 84 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 313، و"التفسير الكبير" 29/ 277.

سورة الحشر

سورة الحشر

1

تفسير سورة الحشر بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ} الآية تفسيرها قد تقدم في مواضع. 2 - {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} أجمعوا على أن هذا في بني النضير، وهم قوم من اليهود كانوا بالمدينة، غدروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عاهدوا وصاروا عليه مع المشركين يدًا واحدة، فحاصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رضوا بالجلاء وذلك بعد وقعة بدر بستة أشهر، قاله الزهري (¬1). وقال محمد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحد (¬2)، وقد ذكر الله ذلك القصة في هذه السورة وهي تأتي على التوالي في تفسير الآيات. قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ذكر المفسرون فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن جلاءهم ذلك كان أول حشر في الدنيا إلى الشام، قاله ¬

_ (¬1) في (ك): (الأزهري). وانظر: "صحيح البخاري"، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير 5/ 112، و"فتح الباري" 7/ 330 - 332، و"أسباب النزول" للواحدي ص 479، و"البداية والنهاية" 3/ 74. (¬2) انظر: "تاريخ الأمم والملوك" 2/ 83، و"البداية والنهاية" 4/ 74، و"جامع البيان" 28/ 19 عن قتادة. وقال ابن حجر عن قول الزهري السابق: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه -صلى الله عليه وسلم- أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله اعلم. "فتح الباري" 7/ 33.

الزهري (¬1)، وعروة، وقال عكرمة: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم يومئذ: "اخرجوا". فقالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر" (¬2). والمعنى على هذا القول: أنهم أجلوا إلى الشام فكان ذلك أول حشر حشروا إلى الشام يوم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام. القول الثاني: أنهم أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب، وكان ذلك أول حشر من المدينة والحشر الثاني كان من خيبر وجزيرة العرب، وهذا قول المقاتلين، ومرة الهمداني، عن ابن عباس (¬3). القول الثالث: ما قال قتادة: كان ذلك أول الحشر، والحشر الثاني نارُ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وهو قول عبد الله بن عمرو (¬4)، وذكر أن تلك النار تُرى ¬

_ (¬1) هذا القول عن الزهري أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، والحاكم، وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن عروة مرسلاً. قال البيهقي: وهو المحفوظ. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 282، و"جامع البيان" 28/ 20، و"الدر" 6/ 187. (¬2) أخرجه البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عكرمة، عن ابن عباس، انظر: "الكشف والبيان" 13/ 87 أ، وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 332. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 87 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 314، و"زاد المسير" 8/ 205. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 282، و"الكشف والبيان" 13/ 87 أ، و"زاد المسير" 8/ 204، و"التفسير الكبير" 29/ 279، ولم أجده عن غير قتادة.

بالليل ولا ترى بالنهار (¬1). قوله: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} قال ابن عباس: كان أمرهم في صدور المسلمين عظيمًا (¬2)، والمعنى أن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم ومنعتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم، وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من الله، وهو قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 279. ومراد قتادة رحمه الله بالنار التي تحشر الناس ما أخرجه مسلم في كتاب الفتن، من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وفيه (.. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة (... وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا). انظر: "صحيح البخاري" كتاب: الرقاق، باب: الحشر. انظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الجنة، باب: (59)، وعند الحاكم، عن عبد الله بن عمرو رفعه: "تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلّف، تسوقهم سوق الجمل الكبير". قال ابن حجر: وقد أشكل الجمع بين هذه الأخبار. وظهر لي في وجه الجمع أن كونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها. والمراد بقوله: "تحشر الناس من المشرق إلى المغرب" إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق .. وأما جعل الغاية إلى المغرب فلأن الشام بالنسبة إلى المشرق مغرب. "فتح الباري" 11/ 378 - 379 وهذه الأقوال ذكرها الآلوسي، ثم ضعف ما روي عن عكرمة، وضعف ما روي عن قتادة أيضًا، واختار أن يكون المراد بأول الحشر أن أول حشرهم إلى الشام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزية العرب إلى الشام. "روح المعاني" 28/ 39. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 279.

قال ابن عباس: ظنوا أن حصونهم مانعة من سلطان الله، وكانوا أهل حلقة (¬1) وحصون منيعة، فلم يمنعهم شيء منها (¬2)، وهو قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي: أمر الله وعذابه، وهو أنه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم ومحاصرتهم، فكانوا لا يظنون أن ذلك يكون ولا يحتسبون {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قالوا يعني بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ذكر المفسرون في تخريبهم منازلهم ثلاثة أسباب: أحدها: لما أيقنوا بالجلاء وحسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج، وهذا قول عكرمة، وقتادة (¬3). وقال مقاتل (¬4): إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا ودربُوا (¬5) على الأزقة وحصنُوها، فنقضوا بيوتهم يبنون بها على أفواه الأزقة ليحصنوها، وكان المسلمون إذا ظهروا على درب من دروبهم تأخر اليهود إلى وراء بيوتهم فنقبوها من أدبارها وخرب المسلمون ما ظهر عليهم من ديارهم ليتسع مجالهم للحرب، فذلك قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} أنهم عَرضوا لذلك. ¬

_ (¬1) قال أبو عبيد: الحلقة: اسم يجمع السلاح والدروع وما أشبهها. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 64، و"اللسان" 1/ 701 (حلق) ونسبه لابن سيده. (¬2) لم أجده عن ابن عباس، ولا عن غيره. (¬3) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 283، و"جامع البيان" 28/ 20 عن قتادة. (¬4) في (ك): (قتادة). (¬5) ولعلها (وردموا).

وهذا قول مقاتل عن ابن عباس. قال: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع لهم للقتال، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقال محمد بن إسحاق: ذلك هدمهم عن نحف (¬2) أبوابهم، وهو أنهم لما صالحوا على أن يحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل كان منهم من يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره (¬3). وهذا قول الزهري. قال: كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه، أو الباب فيهدمون بيوتهم وينتزعونها ويحملونها على الإبل (¬4). وقراءة العامة {يُخْرِبُونَ} من الإخراب، وقرأ أبو عمرو مشددًا من التخريب (¬5)، وكان يقول: الإخراب أن تترك الشيء خرابًا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا (¬6)، وقال المبرد: ولا أعلم لهذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 147 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 87 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 315، و"التفسير الكبير" 29/ 28. (¬2) النجف: هو العتبة، وهو الذي يستقبل الباب من أعلى العتبة. انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 114، و"اللسان" 3/ 588 (نجف). (¬3) انظر: "جامع البيان" 28/ 21، و"البداية والنهاية" 4/ 8. (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 282، و"جامع البيان" 28/ 21، و"معالم التنزيل" 4/ 315. (¬5) قرأ الجمهور (يُخْربون) بالتخفيف. وقرأ أبو عمرو (يُخَرِّبون) بالتشديد، ووافقه من غير العشرة الحسن، واليزيدي. انظر: "النشر" 2/ 386، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 413. (¬6) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 283، و"حجة القراءات" ص 705، و"الكشف والبيان" 13/ 87 ب.

وجهًا، يخربون من التخريب، فإنما هوالأصل على خرب المنزل، وأخربه صاحبه كقولك: علم وأعلمه، وقام وأقامه، وإذا قلت يخربون من التخريب فإنما هو تكثير, لأنه ذكر بيوتًا تصلح للقليل والكثير (¬1)، وزعم سيبويه أنها تتعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر نحو فرحته وأفرحته، وأحسنه الله وحسنه، وقال الأعشى: وأخربت من أرض قومي ديارًا (¬2) وقال الفراء: (يخرِّبون) بالتشديد، يهدمون، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها، ألا ترى أنهم كانوا ينقبون الدار فيعطلونها، فهذا معنى يخربون (¬3). قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} قال ابن عباس: يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر (¬4)، وقال مقاتل: يعني يا أهل البصيرة في أمر الله (¬5). قال الفراء: ويقال يا أولي الأبصار: يا من عاين ذلك بعينه (¬6). ومعنى الاعتبار: النظر في أوائل الأمور وأواخرها وتدبرها ليعرف بالنظر فيها شيئًا آخر من جنسها (¬7)، والمعنى: تدبروا وانظروا فيما نزل بهم ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 28. (¬2) "ديوان الأعشى" ص 84، و"الخزانة" 5/ 72، وصدره: أقللْتَ قوْمًا وأعمرتهم (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 143. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29، 282. (¬5) "تفسير مقاتل" 147 أ. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 143. (¬7) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 282.

3

فاتعظوا بذلك. وقد سبق الكلام في أصل معنى الاعتبار فيما تقدم (¬1). 3 - قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} معنى الجلاء في اللغة: الخروج من الوطن والتحول منه، يقال منه: جلا القوم عن منازلهم. وتقول: أجليناهم عن بلادهم فجلوا (¬2) كما قال الشاعر: وأجلوا عن مساكن فارقوها ... كما جلت الفراخ من العشاش (¬3) يقول: لولا أن الله قضى عليهم أنهم يخرجون عن أوطانهم بالمدينة إلى الشام وخيبر. قوله تعالى: {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتل والسبي، ولسلطكم عليهم كما فعل بقريظة (¬4)، والمعنى: أنه رفع العذاب عنهم في الدنيا بالقتل وجعل عذابهم في الدنيا الجلاء {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} مع ما أحل بهم في الدنيا، وهذا معنى قول عامة المفسرين (¬5). 5 - قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} قال أبو عبيدة: اللينة: النخلة، ما لم تكن عجوة أو برنية، وأنشد لذي الرمة: كأن قُتودي فوقَها عُشُّ طائر ... علي لينةٍ فرواء تهفو جنوبها (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات الراغب" ص 320، و"اللسان" 2/ 668 (عبر). (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 256، و"غريب القرآن" لليزيدي ص 373، و"تهذيب اللغة" 1/ 488، و"اللسان" 1/ 488 (جلل). (¬3) انظر: "الخزانة" 9/ 271. (¬4) وهي الغزوة التي حكم فيها سعد بن معاذ بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم، وكانت بعد غزوة الأحزاب، وذلك لنقضهم العهد الذي بينهم وبين محمد -صلى الله عليه وسلم-، انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 93 - 98. (¬5) انظر: "جامع البيان" 28/ 22، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 332. (¬6) والبيت في "الديوان" 2/ 699، و"تهذيب اللغة" 4/ 121، ورواية الديوان: على=

قال: وأصل لينة لِوْنَةَ، فذهب الواو لكسر اللام، وجمعها الألوان وهي النخل كل ما خلا البرني والعجوة (¬1). قال المبرد: أصل الياء في لينة الواو، بمنزلة ريح، فإذا قلت ألوان رجعت الواو لذهاب الكسرة كما تقول ريح وأرواح (¬2)، قال ذو الرمة: طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليله في ريشة يترفرف (¬3) ويجمع اللينة أيضًا ليان، قال امرؤ القيس يصف عنق فرس: وسالفه كسحون الليان ... أضرم فيه الغوىَّ السعر (¬4) ونحو هذا قال المفسرون في تفسير اللينة، الزهري، وقتادة، وجماعة قالوا: هي النخل ليس بالعجوة (¬5)، والباقون قالوا: هي النخلة من غير استثناء، وهو قول مجاهد، وعطية، وابن زيد (¬6). ¬

_ = لينة سوقاء تهفو جنوبها والقتودي عيدان الرحل: أي أن الناقة طويلة يصغر الرحل عليها، وسوقاء: طويلة الساق، وتهفو: تضطرب. (¬1) وهذا القول قول الزجاج. انظر:"معاني القرآن" للزجاج 5/ 144، و"تهذيب اللغة" 15/ 470، و"اللسان" 3/ 424 (لين). وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 256. (¬2) "التفسير الكبير" 29/ 282. (¬3) "ديوان ذي الرمة" ص 79، و"الكتاب" 7/ 112، و"الخزانة" 4/ 21. (¬4) انظر: "الديوان" ص 315. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 283، و"جامع البيان" 28/ 22، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 391، و"فتح الباري" 8/ 629، وهو قول سعيد بن جبير، ويزيد بن رومان، وعكرمة، وابن عباس. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 663، و"جامع البيان" 28/ 22، و"الكشف والبيان" 13/ 88 ب قال النحاس: وهذه الأقوال صحيحة, لأن الأصمعي حكى مثل القول الأول فيكون لجميع النخل، ويكون ما قطعوا منها مخصوصًا فتتفق الأقوال. "إعراب القرآن" 3/ 392.

وقال المقاتلان: هي ضرب من النخل ثمره أجود الثمر يرى نواه من ظاهره، النخلة منها أحب إليهم من وصيف (¬1). قال المفسرون: لما حصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني النضير وتحصنوا بحصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فشق ذلك على اليهود، وجزعوا، وأكثروا القول، وقالوا: أين وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض وأخذ المسلمون من ذلك دمامة (¬2)، فأنزل الله هذه الآية (¬3). وروي عن ابن عباس قال: أمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا ولنسألن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل لنا فيما قطعناه من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر، فأنزل الله هذه الآية (¬4). قال أبو إسحاق: فأعلم الله أن ذلك بإذنه، وإليه القطع والترك جميعًا (¬5). وقال قتادة: نزلت الآية لاختلاف كان بين المسلمين في قطعها وتركها. قال مجاهد: نهى بعض المسلمين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا: ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 88 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 316، و"زاد المسير" 8/ 208. (¬2) أي: غضب مما فعلوا. "اللسان" 1/ 1015 (دمم). (¬3) انظر: "جامع البيان" 28/ 23، و"أسباب النزول" للواحدي ص 481، و"معالم التنزيل" 4/ 315. (¬4) أخرجه الترمذي (3303) كتاب: التفسير: تفسير سورة الحشر، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والنسائي 6/ 483 كتاب: التفسير، و"الدر" 6/ 187. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 145.

6

إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى، وتحليل من قطع (¬1). قوله: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} يعني اليهود، قال مقاتل: كان قطع النخل ذلاً لهم وهوانًا (¬2). وقال ابن حيان: كان ذلك خزيًا لبني النضير (¬3). وقال الزجاج {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أن يريهم بأموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا (¬4)، والتقدير: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (¬5). 6 - قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} قال المبرد: يقال فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله إذا رده (¬6). وقال الأزهري: الفيء ما رد الله على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال، إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، وإما أن يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم (¬7) كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن لكل ثلاثة منهم ما وسق (¬8) بعير مما شاءوا سوى السلاح ويتركوا الباقي. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 663، و"جامع البيان" 28/ 23. (¬2) "تفسير مقاتل" 147 ب. (¬3) لم أجده، في الأصل (يريهم). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 145. (¬5) انظر: "زاد المسير" 8/ 208. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 284. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 578 (فاء). (¬8) الأصل في الوسق: الحمل، وكل شيء وسقته فقد حملته. "اللسان" 3/ 926 (وسق).

فهذا المال هو الفيء، وهذا مما أفاء الله على المسلمين، أي: رده ورجعه من الكفار على المسلمين. وقوله: {مِنْهُمْ} أي من يهود بني النضير. قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} يقال وجف الفرس والبعير يجف وجفًا ووجيفًا ووجفانًا (¬1). قال العجاج: ناج طواه الأين مما وجفا (¬2) وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع، وهما مثال الإيضاع (¬3). وقوله: {عَلَيْهِ} أي على ما أفاء الله. قوله: {وَلَا رِكَابٍ} الركاب الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها في لفظها (¬4). قال الفراء: الركاب الإبل التي تحمل القوم، وهي ركاب القوم إذا حملت وأريد العمل عليها، وهو اسم جماعة لا يفرد (¬5). قال المفسرون: إن بني النضير لما جلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون من رسول الله أن يخمسها كما فعل بغنائم بدر، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 213. (¬2) انظر: "ملحقات ديوان العجاج" ص 84، و"الكتاب مع شواهده" للأعلم 1/ 180، و"تهذيب اللغة" 4/ 78. (¬3) انظر: "اللسان" 3/ 882، و"تفسير غريب القرآن" ص 460. (¬4) "اللسان" 1/ 1213 (ركب). (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 144، و"تهذيب اللغة" 10/ 219 (ركب)، ونسبه لليث.

فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها (¬1) بيّن أن بني النضير فيء لم يوجف المسلمون عليه خيلاً ولا ركابًا, ولم يقطعوا إليها مسافة، وإنما كانوا علي ميلين من المدينة فمشوا إليهم مشيًا, ولم يركب إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان راكب جمل (¬2)، وكل (¬3) مال حصل للمسلمين بهذه الصفة كان فيئًا ولم يكن غنيمة، والفرق بينهما أن الغنيمة ما أخذ بإيجاف خيل وركاب وقتال، والفيء ما أخذ بغيرها (¬4). فإن قيل: أموال النضير أخذت بعد القتال, لأنهم حوصروا أيامًا وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء، قيل: إن الله تعالى خص نبيه بفيء بني النضير وجعل أموالهم له فيئًا فهو مخصوص بهذا (¬5)، وأما سائر الأئمة فليس لهم أن يحكموا في مال بحكم الفيئ إلا إذا حصل بلا إيجاف خيل ولا ركاب وبلا قتال. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 24، و"الكشف والبيان" 12/ 89 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 316، و"زاد المسير" 8/ 209 (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 147 ب، و"جامع البيان" 28/ 24. (¬3) في (ك): (وكان). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 149 (غنم)، 15/ 578 (فاء)، و"المغني" 9/ 283. (¬5) قال السهيلي: ولم يختلفوا في أن أموال بني النضير كانت خاصة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن المسلمين لم يوجفوا عليهم بخيل ولا ركاب، وأنه لم يقع بينهم قتال أصلاً. "فتح الباري" 7/ 33. قلت: وتخصيص الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأموال بني النضير هو الثابت عن عمر ابن الخطاب؟ وعمن حضر مجلسه من كبار الصحابة رضوان الله عليهم. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير 5/ 113, و"فتح الباري" 4/ 337 - 335، و"صحيح مسلم بشرح النووي" 12/ 71، والحديث مخرج في الكتب الستة، وغيرها.

قال صاحب النظم: قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} ليس بعلة لصرف الفيئ عنهم، وإنما هو تعزية لهم عما صرف عنهم لئلا يأسفوا عليه بما أعلمهم أنهم لم ينفقوا فيه شيئًا, ولا لزمهم نصب ولا تعب كما يكون في الوقائع. ثم وكد ذلك بقول {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فكان في ذلك زيادة شرح لإحراز جميع الفيئ لرسوله دون أصحابه (¬1). قال المفسرون: فجعل الله أموال بني النضير لرسوله -صلى الله عليه وسلم- خاصة يفعل فيها ما يشاء، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة (¬2)، وسهل بن حنيف (¬3)، والحرث (¬4) بن الصمة (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) أبو دجانة سماك بن أوس، بن خرشة الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا، وأحدًا، واليمامة وقتل بها. وهو قاتل مسيلمة الكذاب مع وحشي بن حرب رضي الله عنهما. انظر: "المعارف" ص 271، و"البداية والنهاية" 6/ 337. (¬3) سهل بن حنيف الأوسي، حضر المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهد مع علي بن أبي طالب مشاهده كلها غير الجمل، فإنه كان قد استخلفه على المدينة، توفي سنة (38 هـ) بالكوفة، وصلى عليه علي رضي الله عنهما. انظر: "المعارف" ص 291، و"البداية والنهاية" 7/ 318. (¬4) الحارث بن الصمة، أبو سعد: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين صهيب بن سنان، شهد أحدًا وثبت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشهد يوم بئر معونه، وقتل يومئذ شهيدًا في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة. انظر: "طبقات ابن سعد" 3/ 508. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 89 ب، ذكره بغير سند، و"معالم التنزيل" 4/ 316، و"زاد المسير" 8/ 209. وهو المنقول عن السهيلي، واقتصر ابن إسحاق، وابن هشام، وابن سيد الناس، =

7

7 - ثم ذكر حكم الفيء فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي من أموال كفار أهل القرى كما رد عليه وأفاء من أموال بني النضير وقريظة (¬1)، وأهل القرى قرى خيبر (¬2)، وعرينة، وينبع، وهذه كلها كانت قرى أفاء الله أموال أهلها على رسول الله، ثم بين لمن هي فقال {لِلَّهِ}. أي: أن الحكم فيها لله، له أن يأمركم فيه بما أحب {وَلِرَسُولِهِ} بتمليك الله إياه. {وَلِذِي الْقُرْبَى} يعني بني هاشم، وبني المطلب لأنهم قد منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفي. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} قال العلماء من أصحابنا في بيان حكم هذه الآية: كان الفيء في زمان رسول الله مقسومًا على خمسة أسهم، ¬

_ = وغيرهم على ذكر أبي دجانة، وسهيل بن حنيف. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 283، عن الزهري، وأهمل اسم الرجلين، و"تاريخ الأمم والملوك" 2/ 81، 85، و"البداية والنهاية" 4/ 76، و"روح المعاني" 28/ 45. ومن هذا ما رواه الحاكم في الإكليل، من حديث أم العلاء، قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار لما فتح النضير: "إن أحببتم قسمت بينكم ما أفاء الله علي، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعيكتهم وفرجوا عنكم"، فاختاروا الثاني. "فتح الباري" 7/ 333. (¬1) قريظة: حي من اليهود، كانوا يسكنون المدينة، وكان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد فنقضوه، وحاصرهم -صلى الله عليه وسلم- خمساً وعشرين ليلة ثم نزلوا على حكمه. "سيرة ابن هشام" 3/ 247. (¬2) خيبر: الموضع المذكور في غزاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بينها وبين المدينة المنورة ثمانية برد على طريق الشام، ويطلق هذا الاسم على الولاية، وتشتمل على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير. انظر: "معجم البلدان" 2/ 409.

أربعة منها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة، وكان الخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم: سهم منها لرسول الله أيضًا (¬1)، والأسهم الأربعة لذي القربى واليتامى، كما ذكر الله في هذه الآية، وأما بعد وفاته فللشافعي فيما كان من الفيء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولان: أحدهما: أنه للمجاهدين المرصدين (¬2) للقتال في الثغور, لأنهم قاموا مقام رسول الله في رباط الثغور. القول الثاني: أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر يبدأ بالأهم فالأهم، هذا في الأربعة الأخماس التي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما السهم الذي كان له في خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف (¬3). قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أي ما أفاء الله لهؤلاء الذين ذكرهم كي لا يكون دولة، وهي اسم الشيء يتداوله القوم بينهم يكون لذا مرة ولذا مرة. والدَّوْلة بالفتح: انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم، والدُّولى بالضم: ¬

_ (¬1) (أيضًا) ساقطة من (ك). (¬2) في (ك): (المترصدين). (¬3) انظر: "المغني" 9/ 299 وقد احتج الجمهور بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الصحيح: " ... فكانت هذه خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم ... " الحديث. ولم يوجبوا الخمس في الفيء، بل قالوا: مصرف الفيء كله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن المنذر: "لا نعلم أحدًا قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء، وقد تأول -رحمه الله- قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة. انظر: "مسلم بشرح النووي" 12/ 69، و"فتح الباري" 6/ 208.

اسم لما يتداول، وبالفتح مصدر من هذا، وسشعمل في الحالة السارة التي تنوب الإنسان فيقول: هذه دولة فلان، أي: قد أديل بالدولة، فالدَّولةَ اسم لما يتداول من المال، فالدُّولة: اسم لما ينتقل من الحال، هذا كلام المبرد، وهو معنى جميع أهل اللغة (¬1). قال الفراء: المعنى: كيلا يكون الفيء دولة بين الرؤساء منكم يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية (¬2)، قال مقاتل: يعني يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم (¬3)، وقال الفراء: ونزل في الرؤساء {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4). قال ابن عباس: يقول ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عنه فانتهوا (¬5)، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في أمر الفيء {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} على ما نهاكم عنه الرسول، وهذا نازل في أمر الفيء فهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكثر من الصحابة احتجوا على أن أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- وزواجره كلها من القرآن (¬6)، أن الله تعالى قال: ما أعطاكم وأباح لكم فخذوه، وما منعكم عنه فاتركوه، وكل ما يفعله بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنما يفعله بأمر الله، وهو أمرنا بذلك أمرًا مطلقًا، وكذلك ¬

_ (¬1) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 706، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 146، و"تهذيب اللغة" 14/ 175 (دوبل)، و"اللسان" 1/ 1034 (دول)، و"التفسير الكبير" 29/ 285. (¬2) "معاني القرآن" للفراء 3/ 145. (¬3) "تفسير مقاتل" 148 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 145. (¬5) انظر: "تنوير المقياس" 6/ 32، و"الكشف والبيان" 13/ 93 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 318، ولم ينسبوه لقائل. (¬6) في (ك): (القرآن كلها).

8

فيما ينهى عنه بأمره (¬1). قال مقاتل: ثم ذكر أن الفيء للفقراء المهاجرين (¬2). 8 - قال أبو إسحاق: بين المساكين الذين لهم الحق بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (¬3) يعني أن قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} بدل من قوله للمساكين في الآية الأولى، وأنه عني بالمساكين هؤلاء {الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}، يعني أن كفار مكة أحوجوهم (¬4) إلى الخروج، فهم الذين أخرجوهم. قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} قال مقاتل: يعني رزقًا في الجنة {وَرِضْوَانًا} رضا ربهم (¬5). قال ابن عباس: ابتغوا فضل الله واختاروا رضوان الله على الدور والأموال فقبل الله ذلك منهم، وشكر سعيهم وسماهم الصادقين في قوله: ¬

_ (¬1) وممن قال بذلك ابن مسعود، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة، والشافعي. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: وما آتاكم الرسول فخذوه، 6/ 184، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 396، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 336، و"روح المعاني" 28/ 50. وقال الشوكاني: والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمر أو نهي أو ترك أو فعل، وإن كان السبب خاصًا، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصلنا إليه ... وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. "فتح القدير" 5/ 278. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 148 أ. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 145. (¬4) (ك): (أحوجهم). (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 148 أ.

9

{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1). 9 - قال مقاتل: ثم ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ جعله للمهاجرين دونهم فقال: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني المدينة، وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، وتقدير الآية: والذين تبوؤا الدار من قبلهم والإيمان, لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وهذا قول مقاتل (¬2). وعطف الإيمان على الدار، ولا يحسن إعمال الفعل الذي نصب الدار في الإيمان، ولكن المعنى، وآثروا الإيمان, هو من باب علفتها تبنًا وماء بارداً، وأكلت الخبز واللبن، وقد مر في مواضع. وقال أبو علي الفارسي: ومعنى الآية: تبوأوا الدار واعتقدوا الإيمان, لأن الإيمان ليس بمكان فيتبوأ فيكون كقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] على معنى: وأعدوا شركاءكم، ويجوز أن يكون تبوأوا الإيمان على طريق المثل كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم، وعلى ذلك قول الشاعر: وبُؤّئت في صميم معشرها ... فتم في قومها مبوؤها (¬3) قال: كل هذه الوجوه ممكن (¬4). قوله تعالى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} قال ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 148 أ. (¬3) البيت لابن هرمة. انظر: "اللسان" 1/ 284 (بوأ) ولم ينسبه لقائل، و"مجاز القرآن" 1/ 218، و"شواهد المعنى" ص 279. (¬4) انظر: "البحر المحيط" 8/ 247.

المفسرون: حسدًا وحزازة وغيظًا مما أوتي المهاجرون دونهم (¬1)، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته وشق عليه وجوده فهو حاجة. قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يقال: آثرتك إيثارًا، أي: فضلتك، وآثره بكذا إذا خصه به وفضله من بين الناس (¬2)، ومفعول الإيثار محذوف والتقدير: ويؤثرونهم على أنفسهم، قال المفسرون: أي بأموالهم ومنازلهم، وذلك أنهم أشركوا المهاجرين في رباعهم وأموالهم وواسوهم بها (¬3). وقال الكلبي، عن ابن عباس: هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: "إن شئتم قسمتم لهم من دوركم وأموالكم، وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم". فقالوا: لا. بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في القسم، فأنزل الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬4)، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى من المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي الفقر، وذو الخصاصة ذو الخلة، وأصلها من الخصاص، وهي الفرج، وكل خلل أو خرق يكون في ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 28، و"الكشف والبيان" 13/ 94 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 319، و"زاد المسير" 8/ 212. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة"، 15/ 122 (أثر)، و"اللسان" 1/ 20 (أثر). (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 94 أ، و"معالم التزيل" 4/ 319. (¬4) ذكره الثعلبي بغير سند. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، و"معالم التزيل" 4/ 420، و"التفسير الكبير" 29/ 287، ورواه الواقدي عن معمر، عن الزهري، عن خارجة بن زيج، عن أم العلاء قالت: وذكر نحوه. "تخريجات الكشاف" ص 16، 167.

منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاصة، الواحد خصاصة، ومنه قول الراجز: ينظرن من خصاص ... بأعين شواصى (¬1) وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عه حتى شبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار (¬2). والصحيح أن الآية نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ثم يجوز أن يتضمن قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ما رووه من أنواع الإيثار (¬3). قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ذكرنا تفسير الشح في قوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (¬4) قال سعيد بن جبير: هو أخذ الحرام ومنع الزكاة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 551 (خصص)، و"اللسان" 841/ 1 (خصصه). والرجز لحضرمي بن عامر، وكان له تسعة إخوة فماتوا وورثهم. انظر: "اللسان" 2/ 313 (مشصا)، و"تهذيب اللغة" 8/ 367 (قرص) ولم ينسبه لقائل. (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 29، و"الكشف والبيان" 13/ 94 أ، ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 483. (¬3) وهكذا فسر مقاتل هذه الآية بإيثار الأنصار للمهاجرين بالفيء، ولعل الصواب في هذا أن الآية نزلت في رجل من الأنصار وامرأته حين ضيفا ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يمنع من تضمن الآية لإيثارهم المهاجرين بالفيء وغيره، والله أعلم. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، و"فتح الباري" 8/ 631. (¬4) عند تفسيره الآية (128) من سورة النبأ. والشح: بخل مع الحرص، وذلك فيما كان عادة. "اللسان" 2/ 276 (شح)، و"مفردات الراغب" ص 256 (شح). (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 320، و"الدر المنثور" 6/ 196، ونسب تخريجه لعبد بن حميد، وابن المنذر.

10

وقال مقاتل: حرص نفسه (¬1)، وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه فقد وُقي شح نفسه (¬2). قال المفسرون: يعني أن الأنصار ممن وقي شح نفسه حين طابت أنفسهم عن الفيء (¬3). 10 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولمن سبقهم بالإيمان بقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي غشًا وحسداً وبغضًا (¬4)، فكل من لم يترحم على جميع أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان في قلبه غل على أحد منهم فإنه ليس ممن عناه بهذه الآية، ولهذا قال المتقدمون من العلماء: رتب الله تعالى المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين. هذا الذي ذكرناه في هذه الآية من أنها نزلت في التابعين قول جماعة المفسرين (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل": 148 أ. (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 30، و"الكشف والبيان" 13/ 96 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 42. (¬3) وهو المذكور في سبب النزول، عن ابن عباس، وتقدم. (¬4) الغِلُّ والغَليِلُ: الغِشُّ والعَداوة والضَّعْنُ والحقْد والحسد. "اللسان" 2/ 1008 (غلل). (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 96 - 97، و"معالم التنزيل" 4/ 320، و"زاد المسير" 8/ 216، و"البحر المحيط" 8/ 247، ونسبه للجمهور.

10

وقال الكلبي: نزلت في المهاجرين. 10 - قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي أتوا المدينة بعد الأنصار، فإنهم نزلوها بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل وألف بين قلوبنا ولا تجعل فيها غمرًا (¬1) للذين آمنوا، أي: حسدًا للأنصار، وذكره الفراء (¬2)، والصحيح ما عليه الناس لقوله: {سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} والأنصار لم يسبقوا المهاجرين بالإيمان (¬3). والأكثرون أيضًا على أن قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا} عطف على قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (¬4) ويؤكد هذا ما روى مالك بن أوس بن الحدثان (¬5) أن عمر بن الخطاب ذكر الفيء ثم قرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتى بلغ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ¬

_ (¬1) الغِمْرُ والغَمَرُ: الحقد والغل، والجمع غُمور. وقد غَمِرَ صدرهُ عليّ بالكسر يَغْمُر غِمْرًا وغَمَرًا. "اللسان" 2/ 1015 (غمر). (¬2) "معاني القرآن" للفراء 3/ 145، و"جامع البيان" 28/ 31، ذكراه دون نسبة لقائل. (¬3) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 339. (¬4) قال النحاس: وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 399. (¬5) مالك بن أوس بن الحدثان. قديم أدرك الجاهلية، ولكنه تأخر إسلامه، رأى أبا بكر، وروى عن عمر وعثمان. مات بالمدينة سنة (72 هـ). انظر: "طبقات ابن سعد" 5/ 56، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 170، و"المعارف" ص 427، و"التقريب" 2/ 223.

11

فقرأها ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، فليس أحد إلا له فيها حق (¬1). وروى عن مالك بن أنس أنه قال: من تنقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو كان في قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات. قال: وهذا نص في الكتاب بين (¬2). وقال المقاتلان: قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} ابتدأ كلام في الثناء على الأنصار ثم حين طالت أنفسهم عن الفيء جعل للمهاجرين دونهم, وعلى قولهما: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو} ابتداء، وخبره {يُحِبُّونَ} وكذلك ما بعده (¬3). والأكثرون على القول الأول، وهو أن الله تعالى جعل الفيء لجميع أقسام المسلمين الثلاثة، وهو مما ذكرنا أن الفيء بعد زمان رسول الله يصرف إلى مصالح المسلمين عامة. ثم أنزل فيما دس المنافقون إلى اليهود أنا معكم في النصر والخروج. 11 - قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} (¬4) قال المقاتلان: يعني عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، كانوا من الأنصار ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب: الجهاد، باب: حكم الفيء، الترمذي رقم (1609) والنسائي 7/ 136 في قسم الفيء "تفسير عبد الرزاق" 2/ 283، وانظر: "موسوعة فقه عمر بن الخطاب" لمحمد رواس قلعه جي ص 532 - 533. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 399، و"الكشف والبيان" 13/ 98 ب، 98 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 321، و"زاد المسير" 8/ 216. (¬3) انظر: "البحر المحيط" 8/ 247. (¬4) أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: قد أسلم ناس من أهل قريظة والنضير، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، فنزلت فيهم هذه الآية ... "الدر" 6/ 199.

12

ولكنهم نافقوا وباطنوا اليهود (¬1) فقالوا لإخوانهم أي في الدين، إنهم كفار مثلهم يعني اليهود {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي من المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ} أي في خذلانكم وإسلامكم {أَحَدًا أَبَدًا} ووعدوهم (¬2) النصر أرضًا بقولهم (¬3): {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} ثم كذبهم الله تعالى في ذلك فقال {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر. 12 - قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا} الآية، علم الله تعالى ما هو كائن، وما كان، وما ليس بكائن، إذا كان كيف يكون عز ربنا وجل - وقال أبو إسحاق: وقد بَانَ صدق ما قاله الله في أمر بني النضير الذين عاقدهم المنافقون وقوتلوا فلم ينصروهم. فأظهر الله عز وجل كذبهم (¬4). قوله تعالى: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} بعد قوله: {لَا يَنْصُرُونَهُمْ} معناه: وإن قدر وجود نصرهم, لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده، ولكن يجوز أن يقال لو قدر وجوده. قال الزجاج: معناه أنهم لو تعاطوا نصرهم، يعني أن المنافقين إن قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين (¬5) عن محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} يعني بني النضير لا يصيرون منصورين على محمد وأصحابه إذا انهزم ناصرهم الذين راموا نصرهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 148 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 288. (¬2) (ك): (ووعدهم). (¬3) (ك): (بقوله). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 147. (¬5) انظر: المرجع السابق 5/ 147.

13

وقوله: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} بعد قوله: {لَا يَنْصُرُونَهُمْ} كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} (¬1) وقد مر. 13 - ثم ذكر أن المنافقين خوفهم من المؤمنين أشد من خوفهم من الله فقال {لَأَنْتُمْ} أيها المؤمنون {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} قال ابن عباس: يريد هم منكم من أجل أنهم قوم لا يفقهون عظمة الله (¬2)، وقال الفراء: هذا من صفة اليهود. يقول إنهم أهيب في صدورهم من عذاب الله عندهم، وذلك أن أهل النضير كانوا ذوي بأس شديد، فقذف الله الرعب في قلوبهم من المسلمين (¬3). 14 - ثم أخبر عن اليهود فقال {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أنهم إذا اجتمعوا على قتال المؤمنين لم يبرزوا لحربهم، إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران (¬4). قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} أي لا يصحرون (¬5) لكم ولا يقاتلون حتى يكون بينكم وبينهم حاجز من حصن أو سور. وقراءة العامة {جُدُرٍ} على الجمع إذ ليس المعنى أنهم يقاتلونكم من وراء حجاب واحد، ولكن من وراء جدر، ولا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة، وكما أن القرى جماعة كذلك الجدر ينبغي أن تكون جمعًا، ومن ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية رقم (32) من سورة الأنفال. (¬2) لم أجد هذا الأثر. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 146. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 148. (¬5) أصحر القوم إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 235، و"اللسان" 2/ 411 (صحر).

قرأ (جدار) (¬1) فالمراد في الإفراد الجمع أيضًا، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلونهم من وراء جدار واحد (¬2). قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} قال ابن عباس: بعضهم فظ (¬3) على بعض، والمعنى أن بعضهم عدو لبعض (¬4). وقال مجاهد {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} قال: بالوعيد، يقولون لنفعلن كذا وكذا (¬5)، والمعنى على هذا أنهم يهددون المؤمنين ببإس شديد من وراء الحيطان والحصون، ثم يجبنون عن البروز للقتال، فبأسهم شديد فيما بينهم لا فيما بينهم وبين المؤمنين، فكان القول الأول أظهر. قال أبو إسحاق: أي أنهم مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بنيات مجتمعة؛ لأن الله عز وجل ناصر حزبه، خاذل أعدائه (¬6)، وهذا معنى قول قتادة: أهل الباطل مختلفة أهوائهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو (جِدَار) بكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها على الأفراد. وقرأ الباقون (جُدُر) بضم الجيم والدال من غير ألف على الجمع. انظر: "حجة القراءات" ص 705، و"النشر" 2/ 386، و"الإتحاف" ص 413. (¬2) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 383 - 384. (¬3) الفظُّ: الخَشِنُ الكلام، وقيل: الفظ الغليظ، والفَظَظُ: خشونة في الكلام. ورجل فَظُّ: ذو فظاظةٍ جافٍ غليظُ، في مَنطئِه غِلَظٌ وخشونةٌ. "اللسان" 2/ 1111 (فظظ). (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 98 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 290، و"غرائب القرآن" 29/ 44. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 29. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 148. (¬7) انظر: "جامع البيان" 28/ 32، و"الكشف والبيان" 13/ 98 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 322.

15

وذهب المقاتلان، ومجاهد في رواية خصيف إلى أن هذا من صفة المنافقين واليهود، قالوا في قوله: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ} يعني المنافقين واليهود (¬1) {جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ} مختلفة. ثم بين سبب ذلك الاختلاف فقال {ذَلِكَ} أي ذلك التشتت {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} ما فيه الحظ لهم، ثم ضرب لليهود مثلاً: 15 - قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} والمعنى: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، فحذف أحد المثلين، والمراد بالذين من قبلهم كفار مكة الذين قتلوا ببدر (¬2)، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر (¬3). وهو قوله: {قَرِيبًا}، والمعنى: تقدموا قريبًا, لأن قوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ} يدل على التقدم وعلى هذا تم الكلام (¬4). ثم قال {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} قال مقاتل: يعني جزاء ذنبهم، وهو القتل ببدر (¬5)، ويجوز أن يكون معنى القرب إلى ذوق العذاب فيكون تمام الكلام عند قوله: {وَبَالَ أَمْرِهِمْ} قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني في الآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 665، و"تفسير مقاتل" 148 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 322. (¬2) قال مجاهد ومقاتل: وقال ابن عباس: هم بنو قينقاع، وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 665، و"تفسير مقاتل" 145 أ، و"جامع البيان" 28/ 32، و"الكشف والبيان" 13/ 98 ب. قال النحاس: اختلف أهل التأويل في الذين من قبلهم، هاهنا، فقال ابن عباس: هم بنو قينقاع، وقال مجاهد: هم أهل بدر، والصواب أن يقال في هذا: إن الآية عامة، وهؤلاء جميعًا ممن كان قبلهم. "إعراب القرآن" 3/ 402. (¬3) وهو قول الزهري رحمه الله. (¬4) وبه قال الأخفش، انظر: "القطع والارتفاق" ص 718، و"المكتفى" ص 562. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 148 ب.

16

16 - ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلًا فقال قولى تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} أي مثل المنافقين الذين غروا بني النضير بقولهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} الآية، ثم خذلوهم ولم يفوا لهم ما وعدوهم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} وهو عابد في بني إسرائيل كان يداوي من الجنون، فداوى امرأة فأعجبته فأغواه الشيطان حتى وقع بها، ثم قتلها، ثم صار آخر أمره أن كفر، فلما كفر تبرأ منه الشيطان (¬1)، وتلك القصة معروفة سنذكرها في "مسند التفسير" إن شاء الله، فضرب تلك القصة مثلاً للمنافقين حين غروا اليهود ثم تبرؤا منهم عند الشدة وأسلموهم. وهذه الآية كقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] الآية. قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ذكرنا تفسيره في سورة الأنفال في قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ}. 17 - ثم ذكر أنهما صارا إلى النار بقوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} أي عاقبة الشيطان والإنسان حين صارا إلى النار. قوله تعالى: {خَالِدَيْنِ فِيهَا} قال الفراء: نصبه على الحال (¬2). {وَذَلِكَ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، والحاكم، وصححه، عن علي بن أبي طالب، وابن عباس. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 285، و"جامع البيان" 28/ 33 , و"المستدرك" 2/ 484، وقال هذا حديث صحح الإسناد، ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي، و"تفسير مقاتل" 148 ب، 149 أ. وقال ابن كثير: وكذا روي عن ابن عباس، وطاووس ومقاتل بن حيان، نحو ذلك, واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا، فالله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 341. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 146.

18

جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يريد المكذبين (¬1). ثم رجع إلى موعظة المؤمنين فقال: 18 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} قال ابن عباس: يريد الأعمال التي فيها الثواب والعقاب، والمعنى: لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه (¬2) أعملاً صالحًا أم سيئًا يوبقه (¬3). قال ابن إسحاق {لِغَدٍ} أي ليوم القيامة، وقرب على الناس كأنه يأتي غدًا (¬4)، ومعنى الكلام في غد (¬5). 19 - قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} قال ابن عباس والمقاتلان، وغيرهم: تركوا أمر الله وذكره {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} فأنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يعملوا لله بطاعته ولم يقدموا خيرًا، هذا معنى قول جماعة المفسرين (¬6). قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع (¬7) وهو قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) (ك): (إيش الذي قدم نفسه). (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 326، ولم ينسبه لقائل. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 149. (¬5) عند تفسيره الآية (12) من سورة يونس. والغدْووُ: أصلُ الغّدِ، وهو اليومُ الذي يأتي بعد يومك فحُذفت لامه ولم يستعمل تامًّا إلا في الشعر، .. وربما كُني به عن الزمن الأخير كقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} وقوله: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}. انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 170، و"اللسان" 2/ 963 (غدا). (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 149 ب، و"جامع البيان" 28/ 35، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 404، و"معالم التنزيل" 4/ 326، و"التفسير الكبير" 29/ 291. (¬7) انظر: "زاد التفسير" 8/ 224.

21

21 - قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} الآية. قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أن من شأن القرآن وعظمته وبيانه أنه لو جعل في الجبل تمييز كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع، أي: تطأطأ وخضع وتشقق من خشية الله، هذا كلامه (¬1). والمعنى أن الجبل على قساوته وصلابته يتشقق من خشية الله وحذرًا من أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن، والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والذكر كأن لم يسمعها، فهو غافل عما تضمنه القرآن من تمييز الحق من الباطل، والواجب مما لا يجب، والجائز مما لا يجوز، والأولى مما ليس بأولى بأحسن البيان وأوضح البرهان، ومن وقف على هذا أوجب ذلك له الخشوع والخشية. قال مقاتل: يقول: فالذين هم أضعف من الجبل أولى أن يأخذوا القرآن بالخشية والمخافة (¬2)، وهذا كأنه وصف للكافر بالقسوة حيث لم يلن قلبه لمواعظ القرآن الذي لو نزل على جبل لخشع، كما قال في آية أخرى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] الآية. وهذه الآية تمثيل, لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع إلا أن يخلق الله له تمييزًا يدل على أنه تمثيل {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال مقاتل: ضرب الله ذلك مثلاً (¬3)، وكذلك قال غيره (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 150. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 149 ب. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 149 ب. (¬4) وروى نحوه عن ابن عباس، وقتادة. انظر: "جامع البيان" 28/ 35، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 343.

22

ثم أخبر بربوبيته وعظمته فقال: 22 - {هُوَ اللَّهُ} وهو ظاهر التفسير ماض فيما سبق (¬1) إلى قوله: {الْقُدُّوسُ} قال المفسرون: هو الطاهر من كل عيب، المنزه مما لا يليق به (¬2)، ومضى الكلام فيه عند قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {الْقُدُّوسُ} الذي منه البركات (¬3)، وهو قول قتادة، قال: ويقال أرض مقدسة، أي مباركة (¬4)، وقوله: {السَّلَامُ} ذكروا فيه قولين: أحدهما: أنه الذي سلم من النقص والعيب (¬5). والآخر: أنه الذي سلم خلقه من ظلمه (¬6). وكلا القولين قد تقدم بيانه عند قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} (¬7)، وقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (¬8). 23 - قوله تعالي: {الْمُؤْمِنُ} ذكره (¬9) المفسرون وأهل اللغة فيه قولين: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 6، 19، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص 57. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 150 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 102 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 326. (¬3) وفي "التفسير الكبير" 29/ 293، قال الحسن: إنه الذي كثرت بركاته. (¬4) انظر: "جامع البيان" 28/ 36، الكشف والبيان" 102 ب، ولفظه (المبارك). (¬5) انظر:"تفسير غريب القرآن" ص 6، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 1/ 101، و"معالم التنزيل" 4/ 326، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 343، وهو المعتمد عنده، حيث قال: {السَّلَامُ} أي من جميع العيوب، والنقائض لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله. (¬6) قاله قتادة، ومقاتل: انظر: "تفسير مقاتل" 150 أ، و"جامع البيان" 28/ 36، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 150، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 1/ 102. (¬7) عند تفسيره الآية (127) من سورة الأنعام. (¬8) عند تفسيره الآية (25) من سورة يونس. (¬9) في (ك): (ذكره).

أحدهما: أن المؤمن في صفة الله تعالى معناه الذي آمن أولياءه عذابه (¬1)، يقال: آمنه يؤمنه فهو مؤمن، ومنه قوله: والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يَمْسَحُها ... رُكْبانُ مكة بين الغيل والسَّند (¬2) حلف بالله الذي آمن طير مكة فلا ينفر عن أن يمسحها الركبان، وهذا من الإيمان الذي هو ضد التخويف. قال الكلبي: المؤمن الذي لا يخاف ظلمه (¬3). وقال مقاتل: هو الذي يؤمن أولياءه (¬4). القول الثاني: أن معنى المؤمن في صفته تعالى: المصدق (¬5) على معنى أنه يصدق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم، ويصدق المؤمنين إذا وحدوه. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬6). وذكرنا الإيمان بمعنى التصديق في مواضع. قال ابن الأنباري: سمعت أحمد بن يحيى يقول: المؤمن عند العرب المصدق (¬7)، فذهب إلى أن الله تعالى مصدق عباده المسلمين يوم القيامة، ¬

_ (¬1) وهو المروي عن ابن عباس، وابن جريج، وزيد بن علي. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 47، و"الكشف والبيان" 13/ 102 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 343. (¬2) البيت للنابغة الذبياني. انظر: "ديوانه" 25، و"الخزانة" 2/ 315، و"شرح المفصل" 3/ 11، ومعنى العائذات: التي عاذت بالحرم، والغيل، الشجر الملتف، ورواية "الديوان" (نسعد) بدل "السند"، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 1/ 165 - 166. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 150، ذكر نحوه ولم ينسبه. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل": 150 أ. (¬5) (ك): (المتصدق). (¬6) ذكره المفسرون عن الضحاك، وابن زيد. وانظر: "جامع البيان" 28/ 36, و"الكشف والبيان" 13/ 102 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 343. (¬7) في (ك): (المتصدق). وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس" 3/ 407، و"اللسان" 1/ 108 (أمن).

وذلك أن المفسرين قالوا: إذا كان يوم القيامة سأل الله تعالى الأمم عن تبليغ الرسل فيقولون (¬1): يا ربنا ما جاءنا رسول ولا نذير فيكذبون أنبياءهم، ويؤتى بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيسئلون عن ذلك فيصدقون نبيهم والأنبياء الماضين، فيصدقهم الله تعالى عند ذلك (¬2)، فالمؤمن المصدق لعباده كما قال تعالي {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] معناه: يصدق الله ويصدق المؤمنين (¬3). قوله تعالى: {الْمُهَيْمِنُ} قال ابن عباس: الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء، وهو قول قتادة، ومجاهد، قالوا: معناه الشهيد على عباده بأعمالهم (¬4)، وعلى هذا أصله من قولهم: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء (¬5). وهو قول الخليل، وأبي عبيد. وذهب كثير من المفسرين وأهل المعاني على أن المهيمن مؤيمن على الأصل من أمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن (¬6)، وقد ذكرنا استقصاء هذا عند قوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] قال ابن الأنباري: المهيمن القائم على خلقه برزقه وأنشد: ¬

_ (¬1) في (ك): (فيقول). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 407، و"اللسان" 1/ 109 (أمن). (¬3) انظر: "اللسان" 1/ 109 (أمن). (¬4) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 285، و"جامع البيان" 28/ 36، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 407، و"الكشف والبيان" 13/ 103 أ. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 334 (همن)، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 407، و"زاد المسير" 8/ 226، و"روح المعاني" 6/ 152. (¬6) انظر: تفسير "غريب القرآن " ص 11 - 12، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 150، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 407.

ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرف والنكر قال معناه: القائم على الناس بعده (¬1). وقال ابن كيسان في المهيمن: الله أعلم بتأويله (¬2). قوله تعالى: {الْجَبَّارُ} له معان في صفة الله تعالى، قال ابن عباس: هو العظيم، وجبروت الله عظمته (¬3)، وعلى هذا القول: الجبار الملك. والجبابرة الملوك ومنه الحديث "جلد الكافر في النار كثافته أربعون ذراعًا بذراع الجبار"، وهذا كما يقال: كذا ذراعًا بذراع الملك، والجبر في كلام العرب الملك ومنه قول الشاعر: وانعم صباحًا أيها الجبر (¬4) أراد: أيها الملك. والعرب تسمي الجوزاء الجبار، تشبيهًا لها بالملك, لأنها في صورة رجل على كرسي وعليه تاج، ويجوز أن يكون الجبار في صفة الله تعالى من جبر إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير. قال الأزهري: وهو لعمري جابر (¬5) كسير وفقير، وهو جابر دينه ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 334، و"اللسان" 3/ 833 (همن)، و"التفسير الكبير" 29/ 293. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 103 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 327. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 103 أ، و"زاد المسير" 8/ 227، و"التفسير الكبير" 29/ 294. (¬4) وصدره: أسْلَمْ براووُقٍ حُييتَ به والبيت لعمرو بن أحمر، وقد ورد منسوبًا في "الخصائص" 2/ 21، "المحتسب" 1/ 97، و"تهذيب اللغة" 11/ 59، و"اللسان" 1/ 395 (جبر). (¬5) (ك): (على).

الذي ارتضاه كما قال العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر (¬1) قال اللحياني: يقال جبرت اليتيم والفقير أجْبُرُه جَبْرًا وجُبُورًا، فَجَبَرَ يجْبُرُ جُبُورًا، وانْجَبَرَ، واجْتَبَرَ بمعنى واحد (¬2). ويجوز أن يكون الجبار من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد. قال السدي: هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد (¬3). ونحو ذلك قال مقاتل (¬4)، وهو من جبرته على الأمر أجبره جبرًا وجبورًا (¬5). وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: جبره السلطان على كذا بغير ألف (¬6). وجعل الفراء الجبار بهذا المعنى من أجبر، وهي اللغة المعروفة في الإكراه، فقال: لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين، وهما جبار من أجبر، ودراك من أدرك (¬7). وعلى هذا القول الجبار معناه: القهار الذي يجبر على ما يريد. قال القرظي: إنما سمي الجبار, لأنه جبر الخلق على ما أراد. ¬

_ (¬1) "ديوان العجاج" ص 15، وصدره: وعور الرحن من ولى العور و"الخصائص" 2/ 263، و"اللسان" 1/ 396 (جبر)، و"شرح الأشموني لألفية ابن مالك" 4/ 241. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 60 (جبر). (¬3) انظر: " الكشف والبيان" 12/ 103 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 293. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 150 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 327. (¬5) انظر: "اللسان" 1/ 396 (جبر). (¬6) انظر: " اللسان" 1/ 396، وقال ابن منظور. وهو حجازي وفصيح. (¬7) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 293 - 294، و"البحر المحيط" 8/ 251.

والخلق أرق شأنا من أن يعصوا ربهم طرفة عين إلا بما أراد (¬1) وهذا القول هو اختيار الزجاج, لأنه قال: تأويله الذي جبر الخلق على ما أراد (¬2). وقال ابن الأنباري: الجبار في صفة الله: الذي لا ينال، ومنه قيل للنخلة التي فاتت يد المتناول: جبارة (¬3). هذا الذي ذكرنا معاني الجبار في صفة الله تعالى، وللجبار معان في صفة الخلق: أحدهما: المسلط كقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]. والثاني: القوي العظيم الجسم، كقوله: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]. وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا} [القصص: 19]. والثالث: التكبر على عبادة الله، كقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. والرابع: القتال كقوله: {بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ} [الشعراء: 130]. وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ}، ذكر ذلك ابن الأنباري (¬4). ومضى الكلام على كل واحد في موضعه. قوله: {الْمُتَكَبِّرُ} قال ابن عباس: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 103 أ، و"الدر" 6/ 202. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 151. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 58 (جبر)، و"اللسان" 1/ 395 (جبر)، و"التفسير الكبير" 29/ 294. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 51، و"اللسان" 1/ 395 (جبر)، وقد نسباه للحياني. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 294.

وقال مقاتل: المتعظم عن كل سوء (¬1)، وهو قول قتادة: الذي تكبر عن كل سوء (¬2). وقال أبو إسحاق: الذي تكبر عن ظلم عباده (¬3). قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء، والكبرياء عند العرب: الملك، ومنه قوله: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} (¬4). وقال أهل المعاني: المتكبر في صفة الله تعالى معناه الكبرياء فإنه أجل من أن يتكلف كبرًا، والعرب تضع يفعل في موضع فعل، يقولون: تظلم بمعنى ظلم، ومنه قول الجعدي: وما يشعر الرُّمْحُ الأصم كُعوبُه ... بثروة رهط الا ثلج المتظلمِ (¬5) ويقولون لشتم الرجل إذا شتم، قال الشاعر: فقل لزهيرٍ إن شَتَمْتَ سَرَاتَنا ... فلسنا بشَتَّامين للمُتَشَتِّم (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 150 أ، ولفظه: (المتعظم على كل شيء). (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 285، و"جامع البيان" 28/ 37. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 151. (¬4) من آية (78) من سورة يونس. وانظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" (كبر) عن ابن الأنباري. (¬5) "ديوان النابغة" ص 144، و"كتاب سيبويه في شرح شواهده" للأعلم 1/ 237، و"الأغاني" 4/ 139، و"السبع الطوال" ص 347، و"شروح سقط الزند" صس 592، و"اللسان" (ظلم). (¬6) والبيت لمعبد بن علقمة. انظر: "الحماسة" لأبي تمام 1/ 362.

سورة الممتحنة

سورة الامتحان

سورة الامتحان (¬1) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} قال جماعة أهل التفسير: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم لما قصد فتح مكة، فأنزل الله ينهاه عن موالاة الكفار (¬2). قوله تعالى: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} قال صاحب النظم: هو وصف للنكرة التي هي أولياء (¬3) -وهو قول الفراء. قال: وهو كقولك: لا تتخذنه رجلاً تلقي إليه كل ما عندك- (¬4) قال: ويجوز أن تجعله ابتدأ كلام فلا يكون صلة لأولياء (¬5). ¬

_ (¬1) وبهذه التسمية قال مقاتل، وتسمى سورة المودة أيضًا، والمشهور في تسميتها "سورة الممتحنة" بفتح الحاء، وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة، وعلى الثاني صفة السورة. انظر: "تفسير مقاتل" 150 ب، و"فتح الباري" 8/ 633، و"روح المعاني" 28/ 65. (¬2) أخرجه عامة المفسرين وأصحاب كتب السنة. انظر: "تفسير مقاتل" 150 ب، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 286، و"جامع البيان" 28/ 38، و"أسباب النزول" للواحدي ص 485، و"فتح الباري" 8/ 633 - 634، "صحيح مسلم"، فضائل الصحابة، "سنن الترمذي"، كتاب التفسير، و"الدر" 6/ 302 (¬3) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 728، و"التفسير الكبير" 29/ 297. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 149. (¬5) انظر: "الكشاف" 4/ 86، و"التفسير الكبير" 29/ 297.

قال الفراء، وأبو عبيدة، والكسائي: الباء في {بِالْمَوَدَّةِ} زيادة كهي في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} (¬1) وأنشد أبو عبيدة قوله: هُنَّ الحرائرُ لا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ المحاجِر لا يقرَأْنَ بالسَّوَرِ (¬2) قال: الباء فصل، والمعنى: لا يقرأن السور. وقال الكسائي: يقال: رميت إليه بما في قلبي، وما في نفسي وألقيت إليك ما في نفسي وبما في نفسي كلام عربي (¬3). وقال أبو إسحاق: المعنى يلقون إليهم أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، ودليل هذا القول قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (¬4). قوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا} الواو (¬5) للحال , لأن المعنى: وحالهم أنهم كفروا (¬6). {بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} قال مقاتل: يعني القرآن (¬7). ¬

_ (¬1) من الآية (25) من سورة الحج. وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 147، و"تهذيب اللغة" 4/ 422 (لحد) ونسبه لبعض أهل اللغة. (¬2) والحرائر: جمع حرة، والربات: رَبّة بمعنى الصاحبة. والأحمرة: جمع حمار، وروى: أخمرة. وسود المحاجر: الإماء السود، والمحاجر: جمع محجر وهو من الوجه حيث يقع عليه النقاب. ولم أجد البيت عند أبي عبيدة. وفي اللسان (لحد) نسبه لحميد الأرقط. وهو في "ديوان الراعي" ص 110 وانظر: "مجالس ثعلب" ص 365، و"جمهرة اللغة" 3/ 414، ونسبه للقتال الكلابي، وهو في "ديوانه" ص 53، وفي "معجم البلدان" 4/ 237، ونسبه للقتال. (¬3) انظر: "إيضاح الشعر" للفارسي ص 481، و"اللسان" 3/ 42 (قرأ). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 155. (¬5) في (ك): (والواو). (¬6) انظر: "الكشاف" 4/ 86. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 151 أ.

{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} يعني من مكة {أَنْ تُؤْمِنُوا} أي لأن تؤمنوا (¬1) كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} قال الزجاج: هو شرط جوابه متقدم، وهو قوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}. (¬2) قوله: {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} منصوبان لأنهما مفعولان لهما (¬3). وقوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} قال مقاتل: بالنصيحة (¬4). والكلام في الباء هاهنا كما ذكرنا (¬5). ثم ذكر أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فقال: {وَأَنَا أَعْلَمُ} أي: من كل أحد {بِمَا أَخْفَيْتُمْ} من المودة للكفار {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أي أظهرتم بألسنتكم منها، ويجوز أن يكون عاماً في كل ما يخفى ويعلن. {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} يجوز رجوع الكناية إلى الإسرار وإلى الإلقاء، وإلى اتخاذ الكفار أولياء, لأن هذه الأفعال قد ذكرت وهي تدل على المصادر (¬6). وقوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} قال ابن عباس: قصد ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 149، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 412. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 156. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 412، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 728. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 151 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 298. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 461. (¬6) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 412، و"الكشاف" 4/ 86، و"زاد المسير" 8/ 233، و"التفسير الكبير" 29/ 298.

2

الإيمان (¬1). وقال مقاتل: فقد أخطأ قصد الطريق (¬2). 2 - ثم أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم فقال: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} قال ابن عباس: إن يظفروا بكم (¬3). وقال مقاتل: إن يظهروا عليكم (¬4)، والمعنى إن يصادفوكم ويلقوكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالضرب (¬5) {وَأَلْسِنَتَهُمْ} بالشتم {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} كما كفروا وأن (¬6) ترجعوا إلى دينهم. والمعنى: أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله لما بينهم من الخلاف الذي يوجب المباينة (¬7) فلا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم-. 3 - قوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} لما عوتب حاطب على ما فعل اعتقد بأن له أرحاماً وأولاداً فيما بينهم وليس له (¬8) هناك من يمنع عشيرته، فأراد أن يتخذ عندهم يداً ليحسنوا إلى من خلفهم بمكة من عشيرته، فقال الله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم} (¬9) التي بمكة، أعلم الله أن أهلهم ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 51. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 151 أ. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 299، و"معالم التنزيل" 4/ 330، ولم ينسبه لقائل. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 151 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 106 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 299. (¬5) وقال غيره بالقتل والضرب. ولعله الأقرب إلى معني الآية. انظر: "جامع البيان" 28/ 40، و"الكشف والبيان" 13/ 106 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 330. (¬6) في (ك): (واس). (¬7) في (ك): (السلفة). (¬8) في (ك): (وأن له). (¬9) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 299.

وأولادهم لا ينفعونهم شيئاً، والمعنى على هذا (ذوو أرحامكم) يعني القرابات. قال المفسرون: يقول لا يدعونكم قراباتكم وأولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين فلن ينفعكم أولئك الذين عصيتم الله لأجلهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ} الله {بَيْنَكُمْ} فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، وأهل معصيته والكفر به النار. وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يجوز أن يكون ظرفاً لقوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ} ويجوز أن يكون ظرفاً ليفصل في قوله: {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} (¬1) أي الله تعالى. ودل على اسم الله قوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ}، وهذه قراءة عاصم. وقرأ ابن كثير (يُفصَل) بضم الياء وفتح الصاد مخففة، والمعنى راجع إلى الله تعالى, لأنه وإن لم يسم فاعله معروف أنه يفصل، وهو خير الفاصلين، كما أن قوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] معناه: خلق الله الإنسان وقرئ (¬2) من التفصيل بالوجهين اللذين ذكرناهما في الفصل وهو يقتضي تكثير هذا الفعل (¬3). قوله: {بَيْنَكُمْ} ظرف على معنى الذي بينكم كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 412 - 413، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 728 (¬2) في (ك): (وقرئ من) والصواب: وقرئ (يُفَصّل). (¬3) قرأ عاصم، ويعقوب (يَفْصِلُ) بفتح الياء وكسر الصاد مخففة مع إسكان الفاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر (يُفْصَلُ) بضم الياء وفتح الصاد مع إسكان الفاء وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف (يُفَصَّلُ) بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد وتشديدها. وقرأ ابن عامر (يُفَصَّلُ) بضم الياء وفتح الصاد مع التشديد. انظر: "حجة القراءات" ص 706، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 285 - 286، "النشر" 2/ 387، "الإتحاف" ص 414.

4

بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 54] في قراءة من نصب، ومن لم يسند الفعل إلى الله وقرأه على غير تسمية الفاعل فقوله: {بَيْنَكُمْ} يجوز أن يكون ظرفاً كما ذكرنا. قال أبو علي: وكان أبو الحسن يذهب في هذا النحو إلى أن الظرف أقيم مقام الفاعل، وترك على الفتح الذي كان يجري عليه في الكلام يجريه في أكثر الكلام منصوباً، فاللفظ على هذا القول مفتوح، والموضع رفع كما كان اللفظ في قوله: {كَفَى بِاللَّهِ} [العنكبوت: 52] وما جائني من رجل، مجرورًا، والموضع موضع رفع (¬1). قال ابن عباس في هذه الآية: لا يجمع بين كافر ومؤمن (¬2). {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعني بما عمل حاطب من مكاتبة أهل مكة، (بصير) حين أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك (¬3). 4 - ثم ضرب لهم إبراهيم -صلى الله عليه- مثلاً حين تبرأ من قومه ونابذهم وباغضهم وهو قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والأسوة: ما يؤتسى (¬4) به مثل القدوة، والقدوة لما يقتدى به. ويقال: ائتسِ به، أي: اقتد به، وكن مثله. ويقال هو أسوتك، أي: أنت مثله وهو مثلك، وتجمع الأسوة والإسوة أسي. فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به. ومن يقتدى به أسوة أيضًا. يقال: فلان أسوة في هذا الأمر. وقدوة: أي يؤتسى (¬5) ويقتدى به ¬

_ (¬1) انظر: "لحجة للقراء السبعة" 6/ 285. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 51، ولفظه (يفرق بينكم وبين المؤمنين يوم القيامة). (¬3) رواه عبد بن حميد، عن مجاهد. "الدر" 6/ 205. (¬4) في (ك): (يأتس). (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 139 (أسى)، و"اللسان" 1/ 63 (أسا)، و"المفردات" ص 18 (أسا).

ولك به أسوة. أي: ائتساء، وفي فلان أسوة، أي: يتأسى به (¬1). قال المفسرون: أعلم الله عز وجل أن إبراهيم وأصحابه تبرأوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} وأمر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتأسوا بهم وبقولهم. قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما برئ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قوله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} قال ابن عباس: كان لهم أسوة حسنة في صنع إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه وهو مشرك (¬3). وقال مجاهد: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفروا للمشركين. وقال قتادة: يقول ائتسوا بأمره (¬4) كله إلا في استغفاره لأبيه فلا تأتسوا به في ذلك, لأنه كان عن موعدة منه، فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه (¬5). وقال مقاتل: يقول الله: تبرأوا من كفار قومكم، فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم المشركين، وليس ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 149. (¬2) أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه من طريق سعيد بن جبير. "الدر" 6/ 205. (¬3) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم، وصححه عن ابن عباس. انظر: "جامع البيان" 28/ 41، و"الدر" 6/ 205، و"تفسير مجاهد" 2/ 667. (¬4) في (ك): (يإبراهيم). (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 287، و"جامع البيان" 28/ 41، و"تفسير غريب القرآن" ص 461، و"البحر المحيط" 1/ 254، ونسبه لقتادة, ومجاهد, وعطاء الخراساني.

5

لكم أسوة في إبراهيم في الاستغفار لأبيه فتقتدوا به في الاستغفار للمشركين (¬1) (¬2)، هذا الذي ذكرنا هو قول جماعة المفسرين. وقال ابن قتيبة: يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه لأستغفرن له (¬3)، قال ابن الأنباري: ليس الأمر على ما ذكره، بل المعنى: قد كان لكم أسوة حسنة في كل شيء فعله إبراهيم إلا في قوله لأبيه {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فإن هذا مما لا يجب أن تتأسوا به فيه (¬4). قوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} هذا من قول إبراهيم لأبيه، يقول: ما أغني عنك شيئًا وما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به وعصيته، فوعده (¬5) الاستغفار رجاء إسلامه، وأن ينقله الله بالاستغفار من الكفر إلى الإيمان , وذكر أنه لا يغني عنه شيئًا سوى أن يستغفر له على رجاء أن يسلم. وهذه القصة مشروحة في آخر سورة براءة (¬6). 5 - قال ابن عباس: وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه قوله تعالى: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬7) قال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك فيقولوا (¬8): لو كان ¬

_ (¬1) في (ك): (استغفار المشركين). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 157 ب. (¬3) انظر: "تأويل المشكل" ص 277. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 300. (¬5) في (ك): (بوعده). (¬6) عند تفسيره الآية (114) من سورة براءة. (¬7) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 301. (¬8) (ك): (فيقولون).

6

هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا (¬1). قال أبو إسحاق: معناه لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك (¬2). وقال الفراء: يقول لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وإنا على باطل (¬3). وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسط لهم فيكون ذلك فتنة لهم (¬4). ونحو هذا قال الكلبي في أحد قوليه، وقال الذي القول الثاني: الذين كفروا أهل مكة أي لا تذللنا لمشركين ولا تسلطهم علينا يفتنوننا عن ديننا ويعذبوننا. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬5)، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم وأصحابه، وكأنه قيل لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} فأضمر القول. 6 - ثم أعاد ذكر الأسوة تأكيدًا للكلام فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيم والذين معه من المؤمنين {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال ابن عباس: كانوا يبغضون من خالف الله ويبغضون أعمالهم ويحبون من أحب الله (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 667، و"جامع البيان" 28/ 42، و"الدر" 6/ 205. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 157، وهو قول قتادة كما ذكره الطبري في جامعه 28/ 42. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 150. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 151 ب، ولفظه: (لا تقتر علينا بالرزق وتبسط لهم في الرزق فيحتاج إليهم فيكون ذلك فتنة لنا). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 52، و"التفسير الكبير" 29/ 302، وصدر هذه الأقوال بقيل دون نسبة لقائل. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 302.

7

قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} بدل من قوله: {لَكُمْ} (¬1)، وبيانه أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة , ويخشى اليوم الذي (¬2) فيه جزاء الأعمال {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن الائتساء بهم ويميل إلى موالاة الكفار {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقه {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه وأهل طاعته. 7 - قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار والبراءة منهم، عادوا أقرباءهم وأرحامهم، وأظهروا لهم العداوة، وعلم الله شدة وجد المؤمنين في ذلك فأنزل قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} أي من كفار مكة مودة، وفعل ذلك بأن أسلم كثير منهم وخالطوا المسلمين وناكحوهم وتزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبي سفيان فلان لهم أبو سفيان (¬3). وقال ابن عباس في قوله: {وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} يريد نفرًا من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" 4/ 87. (¬2) قوله (الذي) قلادة يقتضيها السياق. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 151 ب، "الكشف والبيان" 13/ 107 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 302. (¬4) أبو سفيان بن الحارث، كان أخا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، وكان يحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، ثم انقلبت محبته إلى عداوة، وكان شاعراً يهجو الرسول وأصحابه أسلم عام الفتح وأبلى في حنين -رضي الله عنه- مات سنة (20 هـ) وقيل: بعد استخلاف عمر بسنة وسبعة أشهر. انظر: "صفة الصفوة" 1/ 519: و"سير أعلام النبلاء" 1/ 202.

8

والحارث بن هشام (¬1)، وسهيل بن عمرو (¬2)، وحكيم بن حزام. {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على جعل المودة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بهم إذا تأبوا وأسلموا ورجعوا. 8 - قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} اختلفوا في المراد بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ترك القتال والمظاهرة في العداوة وهم خزاعة. وكانوا عاقدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم. وهذا قول المقاتلين (¬3). وروى مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير (¬4) عن أبيه أنه قال: ¬

_ (¬1) الحارث بن هشام، أخو أبي جهل، شهد بدرًا مع المشركين فانهزم، وأسلم يوم فتح مكة، وخرج في زمن عمر إلى الشام، ولم يزل مجاهدًا حتى مات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة. انظر: "المعارف" 282، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 419، و"الإصابة" 1/ 293، و"الاستيعاب" 1/ 307، و"تهذيب ابن عساكر" 4/ 8. (¬2) سهيل بن عمرو، أسلم بالجعرانة، بعد غزوة حنين، وخرج إلى الشام في خلافة عمر فمات بها في طاعون عمواس، وهو نائب قريش في صلح الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انظر: "المعارف" ص 284، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 192، و"أسد الغابة" 2/ 371، و"الإصابة" 2/ 93، و"الأعلام" 3/ 144. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 303، ولم ينسبه لقائل، وانظر: "تفسير مقاتل" 152 أ، الإيضاح لناسخ القرآن لمكي: 432، ونسبه للحسن، و"الكشف والبيان" 13/ 108 أ، ونسبه لابن عباس، وكذا البغوي في تفسيره 4/ 331، و"التفسير الكبير" 29/ 304، ونسبه لابن عباس، والمقاتلين، والكلبي. (¬4) هو مصعب بن ثابت عبد الله بن الزبير. روى عن أبيه، وعطاء، وطائفة، ضعفه ابن معين. وقال ابن حجر: كان لين الحديث عابدًا، توفي سنة (157 هـ). انظر: =

قدمت قتيلة بنت عبد العزى (¬1) (¬2) على ابنتها أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- على ابنتها أسماء بهدايا وهي كافرة فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخلها منزلها، وأرسلت إلى عائشة لتسأل لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تقبل هداياها وتدخلها منزلها فأنزل الله هذه الآية (¬3)، وعلى هذا القول المراد بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} النساء والصبيان. وقال ابن عباس: يريد قومًا من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرهًا، وهذا قول مرة، وعطية (¬4). قوله تعالى: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} قال أبو إسحاق: أن في موضع خفض بدل من الذين، المعنى لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم في الدين. وهذا يدل على أن المراد لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم (¬5). ¬

_ = "تهذيب التهذيب" 10/ 158، "الجرح والتعديل" 8/ 304، و"شذرات الذهب" 1/ 243، "سير أعلام النبلاء" 7/ 29، "تقريب التهذيب" 2/ 250. (¬1) هي قتيلة بنت عبد العزى، كانت امرأة لأبي بكر -رضي الله عنه- فطلقها في الجاهلية. انظر: "البحر المحيط" 8/ 255. (¬2) في (ك): (قدمت قتيلة بنت أسماء). (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 485، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وفي "مجمع الزوائد" 7/ 123، من رواية أحمد, والطبراني، والبزار. وقال: وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي "تخريجات الكشاف" ص 168، قال ابن حجر: (وحديث أسماء في الصحيحين عن عروة بغير هذا السياق). وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 488، و"الدر" 6/ 205. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 108 أ، و"زاد المسير" 8/ 237، و"روح المعاني" 28/ 75. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 157

9

قال أهل التأويل: وهذه الآية تدل على أن (¬1) جواز البر بين المسلمين والمشركين، وإن كانت المودة منقطعة فإن الله تعالى أباح ذلك في هذه الآية (¬2). قوله تعالى: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} قال ابن عباس: يريد بالصلة وغير ذلك (¬3) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يريد أهل البر والتواصل. وقال المقاتلان: أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا (¬4). قال أبو إسحاق: أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد (¬5). وقال المبرد: يقال: أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل. وقال مجاهد: هذه الآية نزلت في الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا (¬6) وهذا قول الربيع في الآية. 9 - ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلا قوله: {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أن في موضع ¬

_ (¬1) في (ك): (على أن) والصواب حذفها. (¬2) والآية محكمة في قول مجاهد، والحسن، وهو المعتمد عند ابن جرير، وغيره. انظر: "جامع البيان" 28/ 43، "الإيضاح لناسخ القرآن لمكي" ص 431، نواسخ القرآن لابن الجوزي: 239، وقال النحاس: (وليس لقول من قال إنها منسوخة معنى, لأن البر في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة وليس هذا محظورًا أن ينقله أحد بكافر ...). "إعراب القرآن" 3/ 416. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 54، و"التفسير الكبير" 29/ 304. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 204. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 158. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 668، و"جامع البيان" 28/ 43، و"الدر" 6/ 305.

10

خفض على البدل كما ذكرنا في الآية الأولى (¬1)، والمعنى: إنما ينهاكم الله عن أن تتولوا هؤلاء الذين قاتلوكم. قال أبو إسحاق: أي أن مكاتبتهم بإظهار ما أسره النبي -صلى الله عليه وسلم- موالاة (¬2). 10 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} الآية. وقال جماعة المفسرين لما قاضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية المشركين على أن يرد إليهم من جاء من المسلمين منهم ولا يردون من جاءهم من المسلمين وكتبوا بذلك العهد جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية (¬3) مؤمنة إلى المسلمين وزوجها مسافر المخزومي -وقال المقاتلان- زوجها صيفى بن الراهب (¬4). وقال الزهري: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي عاتق (¬5) فجاء أهلها يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرجعها إليهم. وهذا قول ابن عباس. إلا أنه قال: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها ¬

_ (¬1) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 729. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 158. (¬3) سبيعة بنت الحارث الأسلمية، أسلمت بعد صلح الحديبية، ويؤيد هذا أن هبة الله في "الناسخ والمنسوخ" ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الحديبية لحقت به سبيعة بنت الحارث، امرأة من قريش فبان أنها غير الأسلمية التي تروي عدة المرأة التي مات عنها زوجها، وهذا قول العقيلي، ومنهم من قال بأنها هي، والله أعلم. "الإصابة" 4/ 324 - 325. انظر: "تهذيب التهذيب" 12/ 424، و"الكاشف" 3/ 472. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ، و"الكشف" 13/ 108 ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 489، و"معالم التنزيل" 4/ 332. (¬5) العاتق: الشابة أول ما تُدرك، وقيل: هي التي لم تبن من والديها ولم تتزوج، وقد أدركت وشبت. اللسان 2/ 678 (عتق).

عمارة والوليد، فرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخويها وحبسها، فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ردها علينا فإن شرطنا عليك أن من أتاك من عندنا أن ترده علينا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لوكان الشرط في الرجال ولم يكن في النساء" (¬1) فأنزل الله هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} (¬2) سماهن مؤمنات ولم يعرفن بالإيمان. وقبل أن يصلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لإظهارهن الإيمان وكلمة التصديق. قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} قال المفسرون: ذلك أن يستخلف المهاجرة ما هاجرت لبغض زوجها ولا لحدث أحدثته ولا خرجت عشقاً لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام (¬3)، فهذا هو معنى الامتحان المأمور به. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر: وهذا لو ثبت كان قاطعًا للنزاع، لكن يؤيد الأول والثالث ما تقدم في أول الشروط وهو حديث أم كلثوم الآتي - وقوله الأول والثالث هو قول من قال بأن حكم النساء نسخ بهذه الآية، أو هو عام أريد به الخصوص وبين ذلك عند نزول الآية. "فتح الباري" 9/ 419، وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 35. (¬2) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (31) 5/ 162، وفيه (فجاء أهلها) وفي حديث عبد الله بن أبي أحمد بن جحش " .. فخرج أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط حتى قدما المدينة فكلما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يردها إليهم ... " الحديث. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 108 ب، "فتح الباري" 7/ 454، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 350، "مجمع الزوائد" 7/ 123، و"زاد المسير" 8/ 238، قلت: وهم المؤلف -رحمه الله- في قوله (ومعها أخواها عمارة والوليد) لأن الوليد -رضي الله عنه- لم يسلم إلا عام الفتح، ولما ثبت في الصحيح من أنهما جاءا لطلبها، والله أعلم. (¬3) ذكر المفسرون نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، وغيرهم. انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ، و"تفسير مجاهد" 2/ 668، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 288، و"جامع البيان" 28/ 44، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 350.

قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي: إن هذا الامتحان لكم والله عالم بإيمانهن؛ لأنه يتولى السرائر، وأما أنتم فإنما تعرفون الظواهر وهو قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي بما يظهرون من الإيمان. وقال مقاتل: فإن علمتموهن مؤمنات قبل المحنة (¬1)، وجملة الكلام في هذا أن المرأة إذا هاجرت الكفار إلى المسلمين وأظهرت الإيمان لم يجز ردها إلى الكفار، وإن كان بيننا وبينهم عهد بأن نرد إليهم من جاءنا من عندهم مسلمًا، والأمر بالامتحان أمر استحباب وهو غير واجب (¬2)، فإذا عرفناها مؤمنة لم يجز ردها إليهم بحال، وإنما يعرف ذلك بإقرارها وذلك قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} واختلفوا في أن ذلك العهد الذي جرى بينهم بالحديبية هل يتناول النساء أم لا؟ قال عروة بن الزبير: إن الله نقض العهد في النساء ومنعهن أن يردون وحكم فيهن بالذي حكم، وهذا يدل على أن العهد كان عاماً في الرجال والنساء. ثم أمضى الله ذلك في الرجال ومنع في النساء (¬3). وقال المقاتلان: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالماً بأن الشرط ممنوع في النساء ولكن أوهم المشركين بإطلاق العهد أنهن مردودات. القول الثاني: أنه لم يعلم أن الشرط في النساء باطل، حتى أعلمه الله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ. (¬2) أخرجه ابن إسحاق، وابن سعد، وابن المنذر، وابن جير، وغيرهم انظر: "جامع البيان" 28/ 45، "السنن الكبرى" للبيهقي 7/ 170، و"الدر" 6/ 206. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان، وهو قول مقاتل بن سليمان أيضًا. انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 350.

أنهن غير مردودات ولا داخلات في العهد. قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} قال ابن عباس: لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة (¬1). وقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يعني أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر. قال أصحابنا: إنما أمرنا أن نغرم مهرهن؛ لأنهن كن داخلات في الشرط الذي شرط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برد من جاءه منهن على أحد القولين، فلزم العزم لأنهن دخلن في العقد ثم منعناهن، وإذا قلنا لم يدخلن في العقد فالعزم إنما كان لإيهام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم أنهن داخلات في الشرط ثم لم يلزم غرم المهر إلا إذا طالب الزوج الكافر بذلك وحضر لطلبه، فإذا حضر وهي باقية عندنا منعناها وغرمنا له صداقها، وإن كانت ماتت قبل حضور الزوج ما (¬2) نغرم المهر؛ لأن المنع لم يتحقق، وإنما نغرم الصداق المسمى في أصل العقد لا مهر المثل؛ لأن الله تعالى قال: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وهذا يتناول المسمى في العقد، فإن كان المسمى خمرًا أو خنزيرًا لم نغرم شيئًا، لأن ذلك ليس بمال، وان كان المسمى مالاً ولكنه لم يسلمه إليها لم نغرم له شيئاً؛ لأنه ما أنفق شيئًا. وكذلك لو كانت أبرأته. وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء (¬3). قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أباح الله نكاحهن بشرط المهر؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر. وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 55. (¬2) كذا في (ك)، ولعل صوابها: (لم). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ.

مختلف بالمرأة فإن إسلامها إن كان قبل المسيس بانت منه بنفس الإسلام ولا عدة لها, ولها أن تنكح مسلمًا في الحال، وإن كان بعد المسيس كان النكاح موقوفًا على انقضاء العدة، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهما على النكاح الأول، وإن انقضت عدتها قبل إسلام الزوج علمنا أنها بانت منه يوم أسلمت (¬1). قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قراءة أبي عمرو من التمسيك يقال: مسك يمسك، مثل أمسك يمسك، وحجته قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170] وقراءة الباقين بالتخفيف من الإمساك (¬2). والعصم جمع العصمة وهي كل ما عصمك واعتصمت به. قال أبو عبيدة: أصل العصمة: الحمل والسبب (¬3). قال ابن عباس: العصمة النكاح فيما بيننا (¬4). قال مقاتل: يعني بعقد الكوافر، يقول: لا تعقد بامرأتك الكافرة فإنها ليست لك بامرأة (¬5)، وقال المفسرون: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد انقطعت عصمته منها ولا عصمة بين المشركة والمؤمن فإذا أسلم الزوج وامرأته الوثنية بقيت على الكفر حتى انقطعت عدتها فقد ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 8/ 242، ونسبه الأوزاعي والليث ومالك والشافعي. (¬2) قرأ أبو عمرو ويعقوب: (ولا تُمسَّكُوا) بالتشديد. وقرأ الباقون: (ولا تُمْسِكوا) بالتخفيف. انظر: "حجة القراءات" ص 707، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 286, "النشر" 2/ 387. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 257، و"تهذيب اللغة" 2/ 53 (عصم). (¬4) كذا في (ك)، ولم أجده. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 152 أ.

11

انقطعت بينهما بانقضاء العدة وانبت عقدة النكاح (¬1). قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسئلوهم ما أنفقتم من المهر، هذا إذا منعوها ولم يدفعوها إلينا فعليهم أن يغرموا لنا صداقها كما يغرم لهم (¬2) وهو قوله تعالى: {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يعني ما ذكر في هذه الآية من الحكم، فإن رضوا بهذا الحكم وردوا المهر على المسلم أخذه وإن لم يردوا طائعين أو كانوا أهل حرب ولم يكونوا أهل عهد، فالحكم ما ذكره في قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ} الآية. قال الزهري: لما نزل قوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية. أقر المؤمنون بحكم الله وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين، فأنزل الله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} (¬3) 11 - قال الفراء: وفي قراءة عبد الله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} وأحد يصلح في موضع شيء وشيء في موضع أحد في الناس. يقول إن أعجزتك امرأة ذهبت مريدة فلحقت بأهل مكة كافرة (¬4). قال الحسن ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 333، و"زاد المسير" 8/ 242. (¬2) انظر: "زاد المسير" 8/ 242، و"التفسير الكبير" 29/ 306. (¬3) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وعبد الرزاق. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 288، و"جامع البيان" 28/ 48، و"الدر" 6/ 208 (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 151، وفيه: (بأهل مكة كافرة، وليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم، يقول: فغنمتم، فأعطوا زوجها مهرها من الغنيمة قبل الخمس) وعليه فالعبارة قد سقطت عند المؤلف رحمه الله.

ومقاتل: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان. ارتدت وتركت زوجها عياض ابن غنم القرشي (¬1) -ولم ترتد امرأة من قريش غيرها- ثم عادت إلى الإسلام (¬2). قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} أي فغتمتم (¬3). قاله ابن عباس، ومسروق، وإبراهيم. قال أبو عبيدة: {عَاقَبْتُمْ} أصبتم منهن عقبة (¬4). وقال المبرد: {فَعَاقَبْتُمْ} فعلتم ما فعل بكم -أي ظفرتم وهو من قولك: العقبى لفلان، أي: العاقبة بعد الأولى، وتأويل العاقبة الكرة الآخرة (¬5). وقال ابن قتيبة: {فَعَاقَبْتُمْ} أي: أصبتم عقبى، أي: غنيمة من غزوٍ، ومعنى {عَاقَبْتُمْ} غزوتم معاقبين غزوًا بعد غزو (¬6). وقال أبو إسحاق: تأويله في اللغة: فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم. قال: ومعنى {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم (¬7)، ومعنى الآية: فغنمتم من العدو شيئًا فإن صارت العاقبة في ¬

_ (¬1) عياض بن غنم القرشي، أسلم قبل الحديبية، وشهدها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما حضرت أبا عبيدة الوفاة ولاه على الشام فأقره عمر. مات سنة عشرين وهو ابن ستين سنة -رضي الله عنه-. انظر: "صفة الصفوة" 1/ 668، "سير أعلام النبلاء" 2/ 354. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 152 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 307، و"الدر" 6/ 208. عن الحسن، وفي "تنوير المقباس" 6/ 57، وعند الثعلبي في تفسيره 13/ 110 ب, ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين. (¬3) انظر: "جامع البيان" 28/ 50، و"التفسير الكبير" 29/ 357، و"الدر" 6/ 207. عن ابن عباس والنخعي. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 257. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 307. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 462. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 160.

12

الظفر لكم فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر. وهو قوله: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا}. 12 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} قال الكلبي: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة غرم من الغنيمة للذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مهور نسائهم، جاءته نساء أهل مكة يبايعنه فأنزل الله هذه الآية (¬1). وشرط في مبايعة النساء أن يأخذ عليهن هذا الشرط الذي (¬2) ذكره في هذه الآية وهو قوله: {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ} إلى قوله: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وقال المفسرون: يعني بالأولاد الذي كان يفعله الجاهلية، ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد (¬3). قوله تعالى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: يريد لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه (¬4)، وقال الكلبي: هو أن تجيء بالصبي من غير زوجها فتقول لزوجها: هو منك وأنا ولدته، وهذا ¬

_ (¬1) يظهر لي -والله أعلم- أن في العبارة خلطًا واستقامتها: وهو قوله {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فغرم من الغنيمة للذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مهور نسائهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} قال الكلبي: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة جاءته نساء)، وانظر: "زاد المسير" 8/ 244، ونسبه للمفسرين. (¬2) في (ك): (التي). (¬3) انظر: "زاد المسير" 8/ 246، و"روح المعاني" 28/ 80. (¬4) أخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي هاشم، وابن مردويه. انظر: "جامع البيان" 28/ 51، و"الدر" 6/ 210، و"تنوير المقباس" 6/ 58، و"تفسير مقاتل" 153 أ، و"التفسير الكبير" 29/ 308، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 354.

قول جماعة المفسرين (¬1). قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدى منك. فذلك البهتان المفترى (¬2). وقال أبو إسحاق: أي لا يأتين بولد ينسبنه إلى الزوج، فإن ذلك بهتان وفرية (¬3). ومعنى {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} أي مفترينه. أي أنفسهن بأن يقلن: نحن ولدنا، وإنما قيل {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} لأن الولد إذا وضعته الأم سَقَطَ بين يديها ورِجليها, وليس المعنى على هذا (¬4) نهيهن من أن يأتين بولد من الزنا فينسبنه إلى الأزواج؛ لأن النهي عن الزنا (¬5) قد تقدم، ولأنها إذا كانت ذات زوج وزنت كان الولد لاحقًا بالزوج بحق الفراش. قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال الكلبي: في معروف مما تأمرهن به وتنهاهن عنه كالنوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وأن تخلو بغير ذي محرم، وأن تسافر سفرًا مع (¬6) غير ذي محرم. ونحو هذا قال المقاتلان (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 58، و"معالم التنزيل" 4/ 335، و"زاد المسير" 8/ 246، ولم ينسب لقائل. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 152. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 160. (¬4) (هذا) ساقطة من (ك). (¬5) (ك): (لأن الشرط بنهي الزنا). (¬6) (مع) ساقطة من (ك). (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 153 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 111 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 335، و"التفسير الكبير" 29/ 308.

وهو معنى قول ابن زيد: لا ينشرن شعرًا ولا يخمشن وجهًا, ولا يدعون ويلاً. وكثير من المفسرين خصوا هذا المعروف بالنهي عن النوح. وهو قول سالم بن أبي الجعد (¬1)، وعكرمة، وجماعة. قالوا: لا تنحن نوح الجاهلية (¬2). قالت أم عطية: كان فيما اشترط علينا في البيعة أن لا ننوح (¬3). وقالت أم سلمة (¬4): قالت امرأة: يا رسول الله: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: لا تنحن (¬5). ¬

_ = وأخرج ابن جرير 28/ 25، وعبد الرزاق 2/ 289 عن قتادة بسند صحيح قوله: (هو النوح أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجال إلا مع ذي محرم. قال فقال عبد الرحمن بن عوف: إنا نغيب ويكون لنا أضياف، قال: ليس أولئك عنيت. "فتح الباري" 8/ 640. وإسناده إلى قتادة صحيح، ولكنه مرسل حيث سقط منه اسم الصحابي الذي رواه انظر: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" 2/ 876. (¬1) (أبي) ساقطة من (ك). (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 51، و"الدر" 6/ 210. (¬3) وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك 6/ 187، ولفظه: قالت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ: (أن لا يشركن بالله شيئًا) ونهانا عن النياحة. (¬4) أم سلمة هي هند بنت أمية بن المغيرة المخزومية، آخر أمهات المؤمنين وفاة، توفيت سنة إحدى وستين، وقيل تسع وخمسين، وقبرت بالبقيع، وهي ابنة أربع وثمانين سنة -رضي الله عنها- انظر: "الإصابة" 13/ 161، "صفة الصفوة" 2/ 40، "العبر" 1/ 48، و"البداية والنهاية" 8/ 214. (¬5) أخرجه أحمد في "المسند", وابن ماجه في سننه، والترمذي في سننه.

وروى الربيع عن أبي العالية في قوله: {فِي مَعْرُوفٍ} قال: في كل أمر وافق طاعة الله فلم يرضي الله لنبيه أن يطاع في معصية الله (¬1). وقال عطاء عن ابن عباس {فِي مَعْرُوفٍ} في كل بر وتقوى. ويريد فرائض الله (¬2). وقال أبو إسحاق: والجملة أن المعنى لا يعصينك في جميع ما تأمرهن (¬3) به بالمعروف (¬4). قوله تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ} جواب لـ {إِذَا} في أول الآية. أي إذا بايعنك على هذا الشرط فبايعهن. واختلفوا في كيفية بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع النساء. فروى سالم بن أبي الجعد، عن أبي فليح قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبايع النساء على الصفا، وجلس معه عمر فجعل يشترط على النساء للبيعة، وعمر يصافحهن. وروى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبايع النساء بالكلام بهذه الآية وما مست (¬5) يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء للبيعة. فقلت: ألا تحسر لنا عن يديك؟ قال: إني لست أصافح النساء ولكن أخذ عليهم (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، و"الدر" 6/ 210. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 335، و"التفسير الكبير" 29/ 308، ذكرا نحوه دون نسبة لقائل. (¬3) في (ك): (تأمر). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 160، وأخرجه الثعلبي عن الكلبي من غير سند. "الكشف والبيان" 111 ب. (¬5) في (ك): (مس). (¬6) مما يظهر من سياق المؤلف رحمه الله خلطه بين حديثين أحدهما حديث عائشة =

13

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده ثم غمسن أيديهن فيه) (¬1). 13 - قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس: يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول: لا تتولوا اليهود والمشركين (¬2). وقال المقاتلان: يقول للمؤمنين: لا تتولوا اليهود، وذلك أن ناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتواصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم، فنهى الله عن ذلك (¬3). ¬

_ = رضي الله عنها- وفيه (ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله (قد بايعتك على ذلك) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات 6/ 187، وفي كتاب الطلاق باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي 7/ 64، وروى الحديث الآخر هو حديث أميمة بنت رقيقة، وفيه: فقلن: يا رسول الله. ابسط يدك نصافحك؛ قال: "أني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن .. " الحديث. رواه أحمد في المسند، وقال ابن كثير: إسناده صحيح، ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كلهم عن محمد بن المنكدر، عن أميمة. (¬1) قال ابن حجر: (أخرجه ابن سعد عن الواقدي، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، نحوه. وله شاهد في الطبراني، عن عروة بن مسعود، وآخر في تاريخ أصبهان لأبي نعيم في حرف الحاء من حديث أسماء بنت يريد) "تخريجات الكشاف" ص 169. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 309. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 153 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 112 ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 490، وفي "الدر" 6/ 211 قال: أخرج أبو إسحاق وأبي المنذر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادون رجالاً من يهود، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}.

قوله تعالى: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} يعني أن اليهود كذبت محمداً -صلى الله عليه وسلم- وهم (¬1) يعرفون أنه رسول صادق، وأنهم قد أفسدوا عليهم آخرتهم بتكذيبهم إياه فهم آيسون من أن يكون لهم في الآخرة خير. قوله تعالى: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أي: كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور وتبينوا أن لا حظ لهم في الآخرة. وهذا قول الكلبي، والمقاتلان، وعكرمة، وعطاء، عن ابن عباس. قالوا: يعني الكفار الذين ماتوا فيئسوا من الجنة، ومن أن يكون لهم في الآخرة خير (¬2). وقال الحسن: يعني الكفار الأحياء يئسوا من الأموات (¬3). قال أبو إسحاق: يقول يئس اليهود الذين عاندوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن يكون لهم في الآخرة حظ، كما يئس الكفار الذين لا يوقنون بالغيب من موتاهم أن يبعثوا (¬4). ¬

_ (¬1) (ك): (وهم) ساقطة. (¬2) أخرجه ابن جرير، عن مجاهد، والكلبي، وابن زيد، وعكرمة، ومنصور، وأخرجه ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وأخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة. انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، عن مجاهد، وعكرمة، وأخرجه عبد الرزاق عن الكلبي. وهو قول مقاتل. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 289، و"تفسير مقاتل" 153 أ، و"جامع البيان" 28/ 54، و"الكشف والبيان" 13/ 113 أ. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 336، و"التفسير الكبير" 29/ 309. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 161.

سورة الصف

تفسير سورة الصف

تفسير سورة الصف بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قال أكثر المفسرين: إن المؤمنين قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا؛ فأنزل الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} الآية. وأنزل قوله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية. فكرهوا الموت وأحبوا الحياة، وتولوا يوم أحد، فأنزل الله {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهذا قول مقاتل ومجاهد، وعطاء، عن ابن عباس (1). وقال قتادة، والضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وفعلت، ولم يفعل، فنزلت هذه الآية (2). قال الحسن: نزلت في المنافقين. كانوا يقولون مالا يعتقدون ويعدون المؤمنين النصر فيكذبون (3). ثم ذم القول إذا لم يسعفه الفعل فقال:

_ (1) انظر: "تفسير مقاتل" 152 ب، و"جامع البيان" 28/ 55، و"الكشف والبيان" 13/ 113 ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 491 - 492. (2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 290، و"الكشف والبيان" 13/ 114 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 337، و"الدر" 6/ 213. (3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 114 أ، و"زاد المسير" 8/ 250، وهو المروي عن ابن زيد ايضًا. "معالم التنزيل" 4/ 337.

3

3 - {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} قال الزجاج: {أَن} في موضع رفع، و {مَقْتًا} منصوب على التمييز، المعنى: كبر قولكم أن لا تفعلوا مقتًا عند الله (¬1). وهذا كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً}، وقد مر (¬2) 4 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي يصفون صفًا. والمعنى: يصفون أنفسهم عند القتال صفًا {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قال الفراء: مرصوص بالرصاص (¬3). قال المبرد: يقال: رصفت البناء إذا لاءمت (¬4) بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة (¬5). وقال الليث: رصصت البناء رصًا، إذا ضممت بعضه إلى بعض (¬6)، من الرصيص انضمام الأسنان بعضها إلى بعض، والتراص: التلاصق (¬7). ومنه الحديث: "تراصوا في الصف" (¬8). قال ابن عباس: يرفع الحجر على الحجر ثم يرص بحجارة صغار، ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 163. (¬2) عند تفسيره الآية (5) من سورة الكهف. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 153. (¬4) في (ك): (لامت). (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 311، 312، و"روح المعاني" 28/ 84. (¬6) (بعضه إلى بعض) ساقطة من (ك). (¬7) انظر تهذيب اللغة 12/ 111 (رص)، اللسان 1/ 1173 (رصص). (¬8) هذه رواية بالمعنى، وفي معناه أحاديث صحيحة منها ما رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، والنسائي بإسناد صحيح والحاكم في "المستدرك" 1/ 217 , ووافقه الذهبي عنه -صلى الله عليه وسلم-: "رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف".

5

ثم يوضع اللبن علبه، تسميه أهل مكة: المرصوص (¬1). وقال مقاتل: ملتزق بعضه ببعض (¬2). قال أبو إسحاق: أعلم الله أنه يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص. قال: ويجوز على أن تستوي نياتهم في حرب عدو حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضًا كالبنيان المرصوص (¬3)، فالأول على التشبيه به في رأي العين، والثاني على التشبيه من حيث التظافر كالبنيان يشد بعضه بعضًا. 5 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} أي: واذكر لقومك هذه القصة، قوله تعالى: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} قال الكلبي، ومقاتل: كان إيذاؤهم له أنهم رموه بالأدرة (¬4) وقد ذكرنا ذلك في آخر سورة الأحزاب (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 312. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 153 ب، وفي "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير سورة الصف. قال (وقال ابن عباس: ملصق بعضه إلى بعض) ونسبه ابن الجوزي للأكثرين. "زاد المسير" 1/ 251، وقال ابن حجر: وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج، عن ابن عباس ...) "فتح الباري" 8/ 641. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 164. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 153 ب، و"جامع البيان" 22/ 36. (¬5) عند تفسيره الآية (64) من سورة الأحزاب. والأدْرَة: نفخة في الخصية وقيل: هو الذي يصيبه فتق في إحدى الخصيتين. اللسان: (أدر). وقد رمى موسى -عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام- بالأدرة، وبقتل هارون فأرتهموه الملائكة ميتًا، وبقذفه بالبغي أنه فجر بها، وبأنه ساحر مجنون. واختار ابن جرير 22/ 37، العموم. وقال ابن كثير: يحتمل أن يكون الكل مرادًا، وأن يكون معه غيره والله أعلم)، تفسير القرآن العظيم 3/ 521، وقال ابن حجر: بعد ذكره للروايات في رميه بالأدرة، لكن لا مانع أن يكون للشيء سببًا فأكثر. "فتح الباري" 8/ 535.

قوله تعالى: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} إنكارًا عليهم إيذاؤه بعد ما علموا أنه رسول الله، ورسول الله يحترم ويعظم، ولا يؤذى. قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا} قال ابن عباس: مالوا إلى غير الحق (¬1). وقال مقاتل: عدلوا عن الحق، {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أمالها عن الحق (¬2). والمعنى أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم وأظلهم وصرفهم عن الدين جزاء لما ارتكبوا، ويدل عليه قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} قال أبو إسحاق: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق (¬3)، وفي هذا تنبيه على عظم إيذاء الرسول حتى أنه يؤدي إلى الكفر ويزيغ القلب عن الهدى. قوله تعالى: {يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} هاتان جملتان في موقع جر، لأنهما صفتان للنكرة التي هي قوله: {بِرَسُولٍ}، وفي قوله: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} قراءتان: تحريك الياء بالفتح على الأصل، وهو الاختيار في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء الساكنين (¬4)، فإن كان موضع يظهر فيه التحريك والإسكان حسنًا كقوله: {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} (¬5) فمن فتح فعلى الأصل، ومن أسكن فجائز، ومن أسكن ¬

_ (¬1) "تنوير المقباس" 6/ 61. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 153 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 312. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 164. (¬4) وهو الاختيار عند الخليل، وسيبويه، وأبي عبيد، قال النحاس: والقول هذا عند أهل العربية أن هذه ياء النفس فمن العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها. "إعراب القرآن" 3/ 422. (¬5) من الآية (28) من سورة نوح.

في قوله: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين (¬1): الياء من {بَعْدِي} والسين من {اسْمُهُ} وهمزة الوصل تسقط في الإدراج، وهذا قول المبرد، وأبي علي (¬2). قال المبرد: لا معنى لاختيار أبي عبيد الفتح، إذا كان بعد الياء ألف وصل مفتوحًا نحو {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] و {أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} [الملك: 28]، وترك الفتح إذا كان ألف الوصل مكسورًا نحو {بَعْدِي اسْمُهُ} والأصل والاختيار ما ذكرنا، وهذا لا معنى له. قال أبو عبيد: إنك إذا ابتدأت بقولك: (الله)، (الضر). كان بالفتح وإذا ابتدأت بقولك اسمه كان بالكسر، فلهذا آثرنا الإرسال هاهنا. وهذا لا يوجب ما ذكر من الاختيار. قوله تعالى: {أَحْمَدُ} يحتمل معنيين: أحدهما: أن يجعله مبالغة من الفاعل، فيكون معناه: إنه أكثر حمدًا لله من غيره. وثانيهما: أنه يحمد بما فيه (¬3) من الأخلاق والمحاسن أكثر مما يحمده غيره (¬4). وعلى هذا دل كلام الكلبي فإنه قال: أحمد الذي لا يذم (¬5)، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وأحمد معروف في أسماء نبينا ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، ويعقوب (من بَعْدِيَ اسْمُهُ أَحْمَدُ) بفتح الياء من (بعدي). وقرأ عاصم في رواية حفص، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف (من بعدِيْ اسمُهُ أحمدُ) بتسكين الياء. انظر: "النشر" 2/ 387، و"الإتحاف" ص 415. (¬2) في (ك): (تقسط). انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 288. (¬3) (غيره. وثانيهما أنه يحمد بما فيه) ساقطة من (ك). (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 115، و"التفسير الكبير" 29/ 313. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 62, و"الكشف والبيان" 13/ 115 ب.

12

صلوات الله عليه (¬1). قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} قال ابن عباس: يظهر دينه (¬2). والأصل التنوين, لأنه لما لم يقع، ومن أضاف نوى التنوين والانفصال أيضًا (¬3) كما ذكرنا في قوله: {عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬4) و {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬5)، و {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] وهذه الآية والتي بعدها مفسرات في سورة براءة (¬6) 12 - قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} قال أبو إسحاق: هذا جواب {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} لأن معناه معنى الأمر، المعنى: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم يغفر (¬7) لكم، والدليل على ذلك أن في قراءة ابن مسعود. {آمَنُوا بِاللَّهِ} (¬8). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في كتاب: التفسير، سورة الصف 6/ 188، ومسلم في الفضائل باب في أسمائه -صلى الله عليه وسلم-، وغيرها عن جبر بن مطعم. سمى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه أسماء فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بن الكفر .. " الحديث. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 62. (¬3) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص (متمُ) بغير تنوين (نورِه) بالخفض. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، وأبو جعفر، ويعقوب (مُتِمٌ) بالتنوين (نورَه) بالنصب. انظر: "حجة القراءات" ص 707، و"النشر" 2/ 387, و"الإتحاف" ص 415. (¬4) من الآية (24) من سورة الأحقاف، وانظر: "الحجة" للقراء 6/ 289. (¬5) قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} من الآية 95 من سورة المائدة. (¬6) عند تفسيره لآية (32 - 33) من سورة براءة. (¬7) (في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) ساقطة من (ك). (¬8) انظر: "معاني القرآن" للزجاح 5/ 166.

وقال الفراء: جزم {يَغْفِرْ لَكُمْ} بهل، وتأويل {هَلْ أَدُلُّكُمْ} أمر كقولك: هل أنت ساكت، معناه: اسكت (¬1). قال أبو إسحاق: وهذا غلط بين، ليس إذا دلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما ينفعهم غفر الله لهم، إنما يغفر الله لهم إذا آمنوا وجاهدوا، وهو جواب {تُؤْمِنُونَ} و {وَتُجَاهِدُونَ} (¬2) على ما ذكرنا في سورة براءة. وإدغام الراء في اللام في {يَغْفِرْ لَكُمْ} وغيره غير جائز عند النحويين لقوة الراء (¬3)، والأضعف يدغم في الأقوى لا الأقوى في الأضعف، والدليل على قراءة الراء أنه حرف متكرر، ولذلك غلب المطبق والمستعلي، وهو أنه لا يقال ما في أوله الصاد والضاد والطاء والظاء، نحو صالح، وضابط، وطالب، وظالم، ويُقال نحو ضارب وصارم وطارد مكان الراء. وجاز ذلك لأن الكسر كأنه تكرر في الكلمة، وكذلك لا يمال نحو خالد. ويُقال نحو خارج وحارب لما ذكرنا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 154. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 166، وقد وجُه قول الفراء بأن يحمل على المعنى. قال المهروي: وهو أن يكون (تؤمنون) و (تجاهدون) عطف بيان على قوله (هل أدلكم) كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قال: هل تؤمنون وتجاهدون، قال: فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح. لأنه يصير إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة. انظر: "البحر المحيط" 8/ 263، وبنحوه قال الزمخشري و"الكشاف" 4/ 94، قال الألوسي: والإنصاف أن تخريج الفراء لا يخلو عن بعد. "روح المعاني" 28/ 89. (¬3) قرأ أبو عمرو (يغفر لكم) بإدغام الراء في اللام. "النشر" 2/ 13,12. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 167، ومما قال عن أبي عمرو، وهو إمام =

13

13 - قوله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} يجوز عند الزجاج أن يكون المعنى: وتجارة أخرى عطفًا على قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} (¬1) ثم قال: وتجارة أخرى، ويجوز أن يكون المعنى: ولكم تجارة أخرى وهي نصر من الله (¬2). وعند الفراء معنى الآية وخصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة، ثم ذكرها فقال: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ}، وهو مفسر للأخرى (¬3). وهذا هو القول (¬4) , لأنه لا يحسن أن يكون نصر من الله تفسيرًا للتجارة إذ ليس نصر الله تجارة لنا كما يكون الإيمان والجهاد، بل هو ربح للتجارة (¬5)، والله تعالى ذكر ثواب الآخرة جزاء لما دل عليه من التجارة وهو قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} إلى آخر الآية. ثم ذكر ما يعطينا أيضًا في العاجل مما نحبه جزاء أيضًا لتلك التجارة، وهو النصر والفتح. ¬

_ = عظيم، ولا أحسبه قرأها إلا وقد سمعها من العرب. قلت: بل إمامته -رحمه الله- في العلم والقراءة تستلزم أنه لم يقرأ بهذه القراءة إلا وقد سمعها ممن نقلها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح، ولا عبرة بقول المخالف إذا ثبتت عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مهما بلغ علمه وجلالة قدره، والله أعلم. (¬1) وهو قول الأخفش، انظر: "معاني القرآن" 2/ 708. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 166. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 154. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 424. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 318.

14

قال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم (¬1). وقال الكلبي: يعني النصر على كفار قريش وفتح مكة (¬2). قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قال مقاتل: وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة (¬3). وقد ذكرهما في قوله: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ}. ثم خص المؤمنين على نصرة دينه، فقال: 14 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} بهذا أمر إدامة النصرة والثبات عليه. أي: دوموا على ما أنتم عليه من النصرة، يدل على هذا أن في حرف عبد الله (يا أيها الذين آمنوا أنتم أنصار الله) (¬4) بغير تنوين (¬5) كقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ولم يقل أنصار لله، والمعني في {أَنْصَارُ اللَّهِ} أنصار دين ¬

_ (¬1) لم أجده عن ابن عباس. وفي "معالم التنزيل" 4/ 338، و"زاد المسير" 8/ 255، نسب لعطاء ونسبه الزمخشري، والرازي للحسن، و"الكشاف" 4/ 95، و"التفسير الكبير" 29/ 318. (¬2) وهو المنسوب لابن عباس. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 64، و"معالم التنزيل" 4/ 338، و"زاد المسير" 8/ 255. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 154 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 338. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 155، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 290، و"الكشاف" 4/ 95. (¬5) في قوله (أنصار الله) قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو (أنصارا لله) منونًا وحجتهم في ذلك إجماع الجميع على الإضافة في قوله (فمن أنصار الله) وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وعاصم (أنصار الله) غير منون مضافا إلى لفظ الجلالة. انظر: "حجة القراءات" ص 708، و"النشر" 2/ 387، و"الإتحاف" ص 416، وقال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان صحيحتان المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. "جامع البيان" 28/ 59.

الله (¬1). فترك ذكر الدين لتشريف النصر لدين الله. {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} أي: انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قال مقاتل: يعني من يمنعنى مع الله (¬2). وقال عطاء: يريد من ينصرني وينصر دين الله (¬3). وقال مقاتل: أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمدًا كما نصر الحواريون عيسى (¬4). وكان الله قد أوحى إلى عيسى: إذا أنت دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فسلهم النصر، فأتاهم عيسى فقال لهم {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} يقول: من ينصرني مع الله، فقالوا: نحن ننصرك. فاتبعوه وصدقوه ونصروه. قال مقاتل: مرَ بهم ببيت المقدس وهم يقصرون الثيات فقال لهم هذا (¬5). ومضى الكلام في {إِلَى} بمعنى مع عند قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬6). قوله تعالى: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} قال سعيد بن ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 29/ 318. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 154 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 338. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 154 أ. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 154 أ. (¬6) عند تفسيره الآية (2) من سورة النساء. وانظر: "معاني الحروف" للرماني ص 115.

جبير عن ابن عباس: يعني الطائفة التي كفرت في زمن عيسى، والتي آمنت في زمان عيسي، وذلك أن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء تفرقوا ثلاث فرق: فرقة قالوا: كان الله فارتفع. وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه الله إليه. وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهو المسلمون. واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم وظهر أمرهم فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- فاقتتلوا، فظهرت المؤمنة على الكافرة، فذلك قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (¬1). قال مجاهد: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} يعني من أَتبع عيسى (¬2). ونحو هذا قال المقاتلان (¬3). وعلى هذا القول معنى الآية أن من آمن بعيسى ظهروا على من كفر به، وأصبحوا عالين على أهل الأديان. وقال إبراهيم: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد -صلى الله عليه وسلم- عيسى كلمة الله وروحه (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير 28/ 60، ولم يذكر قتالهم بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- بل قال: فأصبحوا ظاهرين في إظهار محمد دينهم على دين الكفار .. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 339، و"التفسير الكبير" 29/ 319، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 362. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 672، و"جامع البيان" 28/ 60 و"الدر" 6/ 214. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 154 ب، و"التفسير الكبير" 29/ 139. (¬4) انظر: "جامع البيان" 28/ 60، و"زاد المسير" 8/ 256.

وهذا قول الكلبي: ظاهرين بالحجة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 65، و"التفسير الكبير" 29/ 319، وهو قول زيد بن علي، و"الكشاف" 4/ 95.

سورة الجمعة

سورة الجمعة

1

تفسير سورة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قال أهل المعاني: إنما أعيد ذكر التسبيح في هذه السورة لاستفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبح له كما يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم، وإذا جل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به. والفائدة فيه تعظيم ما ينبغي أن يستفتح به على جهة التعظيم لله والتيمن بذكره. ومضى تفسير القدوس في آخر سورة الحشر. 2 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} يعني العرب، قال المفسرون: كانت العرب أمة لا كتاب لهم، ولا يقرأون كتابًا ولا يكتبون (¬1). قال ابن عباس: يريد الذين ليس لهم كتاب ولا بعث فيهم نبي (¬2). قال أبو إسحاق: الأميون الذين هم على ما خلقت عليه الأمة قبل تعلم الكتاب (¬3)، وهذا مما سبق تفسيره (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 154 ب، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 291، و"جامع البيان" 28/ 61. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 3. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 169. (¬4) عند تفسيره الآية (78) من سورة البقرة. وانظر. "تهذيب اللغة" 15/ 663 (أم)، و"اللسان" 1/ 101 (أمم).

3

وقوله: {رَسُولًا مِنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد محمد -صلى الله عليه وسلم- نسبه نسبهم وهو من جنسهم (¬1) كما قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]. قال أهل المعاني: وكان هو -صلى الله عليه وسلم- أميًا مثل أولئك الأمة الذين بعث فيهم، وكانت البشارة به قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، وكانت حاله مشاكلة لحال الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه (¬2). قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} مفسر في سورة البقرة (¬3). قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: ما كانوا من قبل بعثه فيهم إلا في ضلال بيِّن، وهو الشرك، كانوا يعبدون الأوثان من الحجارة. 3 - قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} نسق على قوله: {فِي الْأُمِّيِّينَ} المعنى: وبعث في آخرين منهم {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال المفسرون: يعني الأعاجم، وكل من دخل في الإسلام وصدق النبي من العجم. هذا قول ابن عباس، ومجاهد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 68، و"التفسير الكبير" 3/ 30. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 3/ 30. (¬3) عند تفسيره الآية (129) من سورة البقرة. (¬4) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وغيرهم عن مجاهد. انظر: "جامع البيان" 28/ 62، و"الدر" 6/ 215، وفي "صحيح البخاري" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه سورة الجمعة =

وقال مقاتل: يعني التابعين من هذه الأمة الذين لم يلحقوا بأوائلهم (¬1)، وجميع الأقوال في هذا معناها أن المراد بالآخرين كل من دخل في الإسلام بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة. وقول المفسرين: هم الأعاجم، يعنون بالأعاجم من ليس من العرب، والعرب تسمي من لا يتكلم بلغتهم عجميًا، من أي جنس كان، ومنه قول الشاعر: سَلُّومُ لو أصبحتِ وسط الأعجمِ ... بالروم أو بالترك أو بالديلم (¬2) فعبر عن الأعجم بهؤلاء الأجناس فالأميين هم العرب، {وَآخَرِينَ} سواهم من الأمم غير العرب، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من كان بعدهم من العجم والعرب. وقوله: {مِنْهُمْ} أي من الأميين، وجعلهم منهم؛ لأنهم إذا أسلموا ودانوا بدينهم صاروا منهم، فالمسلمون كلهم يد واحدة وأمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ¬

_ = {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} قالوا من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان الفارسي ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء". "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} 6/ 188، قال ابن كثير: نفى هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية وعلى عموم بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس لأنه فسر قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُم} بفارسي، ولهذا كتب كتبه إلى فارس، والروم، وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وإلى اتباع ما جاء به. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 363. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 154 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 4. (¬2) ورد غير منسوب في اللسان (عجم)، وعجزه: في الروم أو فارس أو في الديلم

4

[التوبة: 71]، وقال أيضًا في صفة المؤمنين {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] فأما من لم يؤمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يدخل في دينه فإنهم ليسوا ممن عناهم الله بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} وإن كان -صلى الله عليه وسلم- مبعوثا إليهم بالدعوة, لأن الله تعالى قال في الآية الأولى: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ومن لم يؤمن فليس ممن زكاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكفر وعلمه القرآن والسنة. وذكر أبو إسحاق وجهًا آخر في إعراب {وَآخَرِينَ} وهو النصب بالعطف على الضمير في {وَيُعَلِّمُهُمُ} على معنى: ويعلم (¬1) آخرين منهم (¬2). وهذا كالسعيد (¬3)؛ لأن الذين لم يلحقوا من شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يدركوه، إلا أن يحمل على أنهم إذا تعلموا ما أتى به فهو علمهم وإن لم يشاهدوه، وكل ما نعلمه من الدين فهو مما علمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-. (¬4) 4 - قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} قال ابن عباس: يريد حيث ألحق العجم وأبناءهم بقريش والعرب (¬5). يعني أنهم إذا آمنوا ألحقوا ¬

_ (¬1) في (ك): (ويعلمهم). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 170، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 155. و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 417. (¬3) كذا في (ك)، ولعل صوابها: (وهذا بعيد). (¬4) ذكر العلماء هذا الوجه للدلالة على جوازه مع تقديمهم لغيره وتعليلهم للجواز بنحو ما ذكر المؤلف. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب عطفًا على المنصوب في {وَيُعَلِّمُهُمُ} أي: يعلمهم ويعلم آخرين، أن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندًا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه). "الكشاف" 4/ 96. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 4.

5

في درجة الفضل بمن (¬1) شاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشاركوهم في ذلك الفضل. وقال مقاتل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} يعني الإسلام (¬2) {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}. وقال مقاتل بن حيان (¬3): يعني النبوة فضل الله يؤتيه من يشاء. فاختص بها محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬4). {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ذو المن العظيم على جميع خلقه. ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة والإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا. 5 - فقال قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} قال المفسرون: حملوا العمل بما فيها وكلفوا القيام بها (¬5). وقال صاحب النظم: ليس هو من العمل على الظهور، وإنما من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان، ومنه قيل للكفيل الحميل. والمعنى: ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها (¬6). قال الأصمعي: الحميل الكفيل، وقال الكسائي: حملت به حمالة: كلفت به (¬7). قوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} جمع سفر، وهو الكتاب ¬

_ (¬1) في (ك): (من). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 154 ب. (¬3) في (ك): (وقال مقاتل). (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 4. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 154 ب، و"جامع البيان" 28/ 63، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 364. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 3/ 5. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 92، و"اللسان" 1/ 724 (حمل).

الكبير، لأنه سفر عن المعنى إذا قرئ، ومثله شبر وأشبار (¬1). شبه اليهود إذا لم ينتفعوا بما في التوراة وهي دالة على الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بالحمار يحمل كتب العلم ولا يدري ما فيها. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل. وقال أهل المعاني: وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن: اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم. ثم تلا هذه الآية (¬2). {لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ} لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما فسرنا فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون (¬3) بها بالحمار يحمل كتبًا وليس له من ذلك إلا نقل الحمل من غير انتفاع بمعاني ما حمل، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم. ثم ذم هذا المثل والمراد به ذمهم فقال قوله تعالي: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا كما قال: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 177] أي: مثل القوم الذين، فيكون المضاف محذوفًا، ويكون موضع {الَّذِينَ} رفعًا، ويجوز أن يكون موضع {الَّذِينَ} جرًا والمقصود بالذم محذوف (¬4) كما كان محذوفًا من قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ولم يذكر أيوب لتقدم ذكره، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" (سفر)، و"اللسان" (سفر). (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 5. (¬3) في (ك): (يعلمون). (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 428، و"الكشاف" 4/ 96، و"البحر المحيط" 8/ 267.

6

وذكر الوجهين أبو علي في كتاب "الإيضاح" (¬1). والمراد بآيات الله هاهنا قال ابن عباس، ومقاتل: بمحمد وما أتى به من القرآن (¬2)، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات التوراة؛ لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (¬3) وهذا القول أشبه هنا (¬4). قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال عطاء: يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء (¬5). قال أبو إسحاق: معناه لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالمًا (¬6). 6 - قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} الآية. والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة عند قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الآيتان (¬7). 8 - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} قال أبو إسحاق: دخلت الفاء في خبر إن، ولا يجوز إن زيدًا فمنطلق، لأن {الَّذِي} فيه معنى الشرط والجزاء (¬8). وقال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل من والذي وإلقاؤها جائز وهي في قراءة عبد الله (تفرون منه ملاقيكم) ¬

_ (¬1) انظر: "إيضاح الشعر". (¬2) انظر: "تفسير ابن عباس" 6/ 96، و"تفسير مقاتل" 154 ب، ولفظه: (يعني القرآن). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 5. (¬4) (ك): (هاهنا). (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 5. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 171. (¬7) عند تفسيره الآية (94، 95) من سورة البقرة. (¬8) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 171.

9

بغير فاء (¬1). وهذه المسألة شرحناها في مواضع من هذا الكتاب عند قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} (¬2) وفي آي سواها، قال عثمان بن جني: ليست الفاء في (فإنه) زائدة، ولكنها لما دخلت لما في الكلام، معنى الشرط كأنه والله أعلم، قال: إن فررتم منه لاقاكم- فإن قال قائل: الموت ملاقيكم على كل حال فروا منه أو لم يفروا فما معنى الشرط والجواب هنا؟ وهل يصح الجواب بما هو واقع لا محالة؟ قيل: إن هذا على وجه الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم. وقد صرح هذا وأفصح عنه بالشرط الحقيقي زهير (¬3) في قوله: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم (¬4) 9 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قال مقاتل: يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة، وهو كما قال، لأنه لم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نداء سواه كان إذا جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذا كان على عهد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 156. (¬2) عند تفسيره الآية (274) من سورة البقرة. (¬3) انظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 267، والبيت لزهير بن أبي سلمى، وهو في "ديوانه" بشرح ثعلب ص 30، و"شرح القصائد العشر" ص 194، و"الخصائص" 3/ 324. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 155 أ، وهو قول مجاهد، والضحاك، والسائب بن يزيد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 291، و"جامع البيان" 28/ 66، و"زاد المسير" 8/ 261. (¬5) روى البخاري في كتاب: الجمعة، باب: المؤذن الواحد يوم الجمعة 2/ 10، =

وقوله: {الْجُمُعَةِ} يعني لوقت الصلاة (¬1). يدل عليه قوله: {مِنْ يَوْمِ} والصلاة لا تكون من اليوم وإما يكون وقتها من اليوم، وأما الجمعة فقال الليث: الجمعة يوم خُصَّ به لاجتماع الناس في ذلك اليوم ويجمع على الجُمعان والجُمَع، والفعل جمَّع الناسُ: أي شهدوا الجمعة (¬2). وروي عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سميت الجمعة لأن آدم عليه السلام جمع خلقه" (¬3). وقال بعضهم: سميت بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات (¬4). قال الفراء: وفيها ثلاث لغات (¬5)، التخفيف، وهي قراءة الأعمش، ¬

_ = عن السائب بن يزيد: كان النداء إذا صعد الإمام على المنبر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان كثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء. (¬1) انظر: "معاني الأخفش" 2/ 708. (¬2) "تهذيب اللغة" 1/ 398. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن سلمان. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتدري ما يوم الجمعة؟ قال الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات. ثم قال في الثالثة: هو اليوم الذي جُمع فيه أبوكم آدم .. الحديث. ولم يحلل تسميتها الجمعة بهذه العلة التي ذكرها المؤلف. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 174، رواه الطبراني في "الكبير"، وإسناده حسن، قال: وروى النسائي بعضه. (¬4) قال ابن كثير: إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمل جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من السنة التي خلق الله فيها السموات والأرض وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 365، وانظر: "اللسان" 1/ 500 (جمع). (¬5) (لغات) ساقطة من (ك).

والتثقيل قراءة العامة (¬1)، ولغة لبني عقيل (¬2) يقولون: الجمعة (¬3) كأنهم ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كما يقال ضحكة للذي يكثر الضحك (¬4) قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس: فامضوا (¬5). وقال مقاتل: فامشوا (¬6). وعلى هذا معنى السعي والذهاب في معنى واحد، لأنك تقول: فلان يسعى في الأرض يبتغي الرزق وليس هذا باشتداد، ويدل على هذا قراءة عمر، وابن مسعود (فامضوا إلى ذكر الله) (¬7). وقال ابن جريج: قلت لعطاء {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال: الذهاب والمشي (¬8)، يقال: سعى إلى بني فلان وإنما هي مشي. ¬

_ (¬1) قرأ الجمهور (الجمعة) بضم الجيم والميم، وقرأ الأعمش، والسلمي، والزهري، وغيرهم (الجمعة) بضم الجيم وإسكان الميم. انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 156، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 429، و"البحر المحيط" 8/ 267. (¬2) بنو عقيل. (¬3) لغة بني عقيل: (الجُمَعة) بفتح الميم. انظر: معاني الفراء 3/ 156، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 156، و"الكشف" 13/ 118 ب، 119 أ. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 156، و"الكشاف" 4/ 97. (¬5) "تنوير المقباس" 6/ 71. (¬6) لم أجده عن مقاتل، وإنما ذكره المفسرون لبيان المعنى دون نسبة لقائل، والذي في "تفسير مقاتل" 155 أ، قال: (يقول فامضوا إلى الصلاة). وانظر: "التفسير الكبير" 3/ 8. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 291، و"جامع البيان" 28/ 65، و"مجمع الزوائد" 7/ 124، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 442، قال أبو حيان: وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين (فامضوا) بدل {فَاسْعَوْا} وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، ولا يكون قرآنًا لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون. "البحر المحيط" 8/ 268. (¬8) أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. "الدر" 6/ 219.

وقال الزجاج: معناه: فاقصدوا، وليس معناه العدو (¬1)، وهذا معنى قول الحسن. قال: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكنه سعي بالقلوب، وسي بالنية، وسعي بالرغبة (¬2)، ونحو هذا، قال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المشي إليها (¬3). وحمل قوم السعي هاهنا على العمل، قال محمد بن كعب: السعي العمل (¬4) وهو مذهب مالك والشافعي، قال مالك: السعي في كتاب الله العمل والفعل، واحتج بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 205]، وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] قال: فليس السعي الذي ذكر الله في كتابه بالسعي على الأقدام ولا بالاشتداد وإنما ذلك الفعل والعمل. أخبرنا أحمد بن الحسن الحرشي (¬5)، حدثنا محمد بن يعقوب (¬6) أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: السعي في هذا الموضع هو العمل، وتلا قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. ويكون ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 171. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 121 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 341، و"الدر" 6/ 219. (¬3) أخرجه عبد بن حميد، والبيهقي في شعب الإيمان. "الدر" 6/ 219، وانظر: "الكشف والبيان" 13/ 121 ب. (¬4) انظر: "الدر" 6/ 219، ونسب تخريجه لابن المنذر وابن أبي شيبة. انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة. (¬5) هو أحمد بن الحسن الحرشي. كان رئيسًا محتشمًا. انتهى إليه علم الإسناد، فروى عن أبي الميداني، والأصم وطبقتهما، ولي قضاء نيسابور، وقد صم بآخره، حتى بقي إلا يسمع شيئًا، ووافق شيخه الأصم في الأصول والحديث. توفي سنة (421 هـ) وله ست وتسعون سنة. انطر: "شذرات الذهب" 3/ 217، و"الكامل في التاريح" 7/ 352، و"العبر" 2/ 243. (¬6) هو أبو العباس الأصم.

المعنى على هذا: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله من التفرغ له، والاشتغال بأسبابه من الطهارة والغسل والتوجه إليه بالقصد والنية. وذهب قوم إلى السعي الذي هو سرعة المشي، وروي ذلك عن عبد الله بن الصامت (¬1) أنه بينما هو يمشي إلى الجمعة سمع المؤذن يؤذن فرفع في مشيه لقول الله {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). وروى عمران بن الخياط (¬3) أن إبراهيم كان يسعى يوم الجمعة، وهذا كأنه ليس بالوجه لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن آتوها وعليكم السكينة" (¬4) فنهى عن السعي في الإتيان إلى الصلاة، فدل أن السعي المأمور به في الآية غير هذا الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-. غير أنه يحتمل أن يقال: صلاة الجمعة مخصوصة بجواز السعي إليها للآية، وغيرها من الصلاة تؤتى بالسكينة (¬5)، والوجه الأقوال ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن الصامت الغفاري البصري، ثقة وهو ابن أخي أبي ذر، ويكنى أبا نصر. انظر: "المعارف" ص 253، و"التقريب" 1/ 423. (¬2) أخرجه البيهقي في "سننه" وفيه: (خرجت إلى المسجد يوم الجمعة فلقيت أبا ذر ... فجذبني جذبة فقال: أولسنا في سعي) "الدر" 6/ 219، واقتصر المؤلف -رحمه الله- على ما ذكر لبيان من فسر السعي بالسرعة وإن عارضه غيره. والله أعلم. (¬3) هو عمران بن حطان بن ظبيان، يكنى أبا شهاب، تابعي مشهور، وكان من رؤوس الخوارج من الصفرية، ولما طال عمره وضعف عن الحرب اقتصر على التحريض والدعوة بشعره وبيانه، وكان شاعرًا مغلقًا مكثرًا. مات سنة (84 هـ). انظر: "الإصابة" 3/ 178، و"ميزان الاعتدال" 3/ 235، و"الأعلام" 5/ 70. (¬4) الحديث رواه البخاري في الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار 1/ 164، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة 1/ 239 (603)، وأحمد 2/ 532. (¬5) انظر: "روح المعاني" 28/ 102.

المتقدمة (¬1). وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي: سعى إذا مشى، وسعى إذا غدا، وسعى إذا عمل، وسعى إذا قصد. قال: وقول الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا (¬2). ومعنى {ذِكْرِ اللَّهِ} هاهنا الصلاة المفروضة في قول أكثر المفسرين (¬3). قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل البيع والشراء (¬4). قال أصحابنا: إذا جلس الإمام على المنبر يترك البيع لقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} فمن باع في تلك الساعة فقد خالف الأمر وبيعه منعقد، لأن النهي عن البيع تنزيه لقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} فدل ذلك على الترغيب في ترك البيع في ذلك الوقت (¬5)، ولا يحتاج إلى ذكر الشراء، لأنه بيع أيضًا، ولأنه ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 445، وقال بعد ذكره للحديث المتقدم: (ولم يفرق بين الجمعة وغيرها، واتفق فقهاء الأمصار على أنه يمشي إلى الجمعة على هينته). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 91 (سعى). (¬3) ومراد المؤلف -رحمه الله- أن الذكر يشمل الصلاة والخطبة معًا، إذ خص بعض العلماء الذكر بالصلاة، والأكثرون فسروه بالخطبة فقط فجمع المؤلف بين القولين. انظر: "جامع البيان" 28/ 65، و"الكشف والبيان" 13/ 121 ب، و"زاد المسير" 8/ 265، و"المغني" 3/ 171/ 175، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 446. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 8، وهذا هو قول مجاهد، والزهري، وأحمد. انظر: "المغني" 3/ 163، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 448. (¬5) انظر: "الأم" 1/ 173، و"زاد المحتاج بشرح المنهاج" 1/ 337 - 338، و"المجموع" 4/ 500، ويرى مالك أن يفسخ البيع، و"المدونة" 1/ 143.

10

لا يوجد شراء من غير بيع، فإذا منع البيع فقد منع الشراء، قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما هو خير لكم وأصلح. 10 - قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} قال ابن عباس: إذا صليتم الفريضة (¬1). وقال مقاتل: فرغتم من الصلاة يوم الجمعة فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحته للانتشار بعد الأمر بالاجتماع للصلاة بالسعي إليها (¬2). قال ابن عباس: فإن شئت فأخرج وان شئت فصل العصر، وإن شئت فاقعد (¬3) يعني إن هذا ليس بأمر حتم، كذلك قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ} إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}. قال مقاتل: أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة فمن شاء خرج إلى تجارته ومن شاء لم يفعل (¬4). وقال مجاهد: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل (¬5). وقال الضحاك: هو إذن من الله إذا فرع إن شاء خرج وإن شاء قعد في المسجد (¬6). والأحسن في الابتغاء من فضل الله أنه طلب الرزق وذكر أوجه من طلب الولد، وطلب العلم، وعيادة المريض وحضور الجنازة، والظاهر هو ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 74، بلفظ: (إذا فرغ الإمام من صلاة الجمعة). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 155 أ. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 345، و"التفسير الكبير" 30/ 9. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 155/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 9. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 157 عن مجاهد وعطاء. وانظر: "الدر المنثور" 6/ 22. (¬6) انظر: "جامع البيان" 28/ 66، و"الدر" 6/ 22.

الأول، لأن إباحة ما منع هو البيع (¬1). وروى أن عراك بن مالك (¬2) كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: "اللهم إني (¬3) أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين" (¬4). وأجمع المفسرون على أن الأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وليس على كل من حل من إحرامه أن يصطاد، قال أبو إسحاق: هذا مثل قولك في الكلام: إذا حضرتني فلا تنطق (¬5)، وإذا غبت عني فتكلم بما شئت، إنما معناه الإباحة (¬6). قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال مقاتل: باللسان (¬7)، وقال سعيد: واذكروا الله كثيرًا بالطاعة (¬8). وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين كثيرًا حتى يذكره قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا (¬9). ¬

_ (¬1) قال النحاس: وظاهر الآية يدل على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. "إعراب القرآن" 3/ 430. (¬2) هو عِرَاكُ بن مالك الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل. مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة. انظر: "العبر" 1/ 92، و"التقريب" 2/ 17. (¬3) (إني) ساقطة من (ك). (¬4) أخرج ابن أبي حاتم عنه، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 367. (¬5) في (ك): (تنطلق). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 172. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 155 أ، و"التفسير الكبير" 3/ 9. (¬8) انظر: "التفسير الكبير" 3/ 9. (¬9) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 367.

قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الآية. قال مقاتل: إن دحية الكلبي أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان يحمل معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق، ووافق قدومه يوم الجمعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس وتركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لولا هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة". وأنزل الله هذه الآية (¬1)، وهذا قول جماعة في سبب نزول هذه الآية. قال جابر بن عبد الله: وكان في الاثنى عشر رجلاً الذين بقوا معه أبو بكر وعمر (¬2). وقال الحسن: أصاب أهل المدينة جوع، وغلا سعرهم، فقدمت عير ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها وخرجوا إليها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم كما هو فقال: "لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب عليهم الوادي نارًا" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 155 ب، وفيه: (اثنا عشر رجلاً وامرأة ..). (¬2) أخرجه مسلم في رواية هشيم. "فتح الباري" 2/ 424، والإمام أحمد في "المسند"، وروى العقيلي: أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وأناسًا من الأنصار، وعنده بسند متصل أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة، وبلال، وابن مسعود. "فتح الباري" 2/ 424. (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص 494، ونسبه للمفسرين، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 292، عن الحسن، و"جامع البيان" 28/ 67، عن الحسن. وقوله: (لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب علبهم الوادي نارًا) قال ابن حجر -رحمه الله- (فائدة: ذكر الحميد في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (...)، ولم أر هذه الزيادة في الأطراف لابن مسعود، ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة، وإنما وقعت في مرسلي الحسن وقتادة) "فتح البارى" 2/ 424 - 425.

وقال قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات لعير تقدم (¬1). قوله تعالى: {أَوْ لَهْوًا} المفسرون على أنه الطبل الذي كان يضرب لقدوم الغير. وقال جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة قائمًا على المنبر، وكانوا إذا نكحوا الجواري يضربون المزامير والكبر (¬2)، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا على المنبر (¬3). قوله تعالى: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} أي تفرقوا عنك، كقوله: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] قال المبرد: انفضوا إليها، الضمير للتجارة (¬4). وقال الزجاج، والمبرد: ولو كان انفضوا إليه وإليهما جاز كما جاز انفضوا إليها (¬5)، لأن الشيئين إذا عطف أحدهما على الآخر ومعناهما واحد فاردد الخبر إليهما أو إلى أحدهما، أيهما شئت فإن الآخر داخل معه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 67، و"الكشف والبيان" 13/ 127 أ. (¬2) الكّبَر: طبل له وجه واحد. "تهذيب اللغة" 10/ 213، و"اللسان" 3/ 212 (كبر). (¬3) وقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلاً، ووصله أبو عوانه في "صحيحه"، والطبري. وانظر: "جامع البيان" 28/ 68، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 43 .. قلت: ما صح عن جابر رضي الله عنه في سبب النزول وما ذكره المفسرون في المراد باللهو لا تعارض بينهما إذ تفسير جابر للمراد باللهو بأنه ضرب الطبل في النكاح لم يصرح فيه على ما رواه ابن جرير وغيره بأن ذلك كان في يوم الجمعة فلعله كان أثناء خطبته -صلى الله عليه وسلم- في غير الجمعة فحملت الآية على العموم، وربما تكررت الحادثة كما ذكر قتادة، والله أعلم. "فتح الباري" 2/ 424، وقال: ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معًا وأكثر 2/ 424. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 11. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 172. (¬6) انظر: "الكشاف" 4/ 99.

وهذا من كلام العرب المستقيم أن يذكروا الشيئين اللذين يرجعان إلى معنى مما يطلب فيهما فيردوا الخبر إلى أحدهما استغناء واختصارًا، كقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45]، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34]. ونحو هذا قال الفراء، وزاد فقال: وأجود من (¬1) ذلك أن تجعل الراجع من الذكر للآخر من الاسمين وإنما اختير هاهنا الرجوع إلى التجارة لأنها كانت أهم إليهم، وهم بها أسر منهم بضرب الطبل، لأن الطبل إنما دل عليها، فالمعنى كله لها (¬2). قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة، وهذا دليل على أن من (¬3) أجاز القعود في الخطبة للجمعة. قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب إلا وهو قائم فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه (¬4)، وسئل عبد الله: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ فقرأ (وتركوك قائمًا) (¬5)، ولذلك سئل ابن سيرين، وعلقمة، فقرأ هذه الآية (¬6). ¬

_ (¬1) (من) ساقطة من (ك). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 157. (¬3) لعل الصواب: (وهذا دليل على من) بدون (أن). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، وما فيهما من الجلسة، وأبو داود في باب: الخطبة قائمًا، من كتاب: الصلاة، وأحمد في "المسند" 5/ 87، والنسائي في باب: السكوت في القعدة بين الخطبتين، كتاب: الجمعة. (¬5) أخرجه ابن مردويه، وابن أبي شيبة، انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، وابن ماجه، والطبراني. "الدر" 6/ 221، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 13/ 127 ب. (¬6) انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، عن ابن سيرين. "الدر" 6/ 222، وذكره البغوي فقال: (وقال علقمة: سئل عبد الله بن عمر ..)، و"معالم التنزيل" 4/ 346.

وروي أن كعب بن عجرة دخل المسجد وعبد الرحمن (¬1) يخطب قاعدًا فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا، وقال الله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} وتلا الآية (¬2). وقال الشعبي: أول من خطب قاعدًا معاوية (¬3). قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} قال مقاتل: يعني من الطبل والصفق {وَمِنَ التِّجَارَةِ} التي جاء بها دحية (¬4). قوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} المخلوق مرزوق فإذا غضب قطع رزقه، والله عز وجل يسخط ولا يقطع وهو أحكم الحاكمين. ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن أبي الحكم. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة 2/ 590، وابن أبي شيبة 2/ 112. (¬3) رواه ابن أبي شيبة 2/ 112 من طريق الشعبي، أن معاوية إنما خطب قاعدًا لما كثر شحم بطنه ولحمه. وأخرج عن طاووس .. وأول من جلس على المنبر معاوية. وروى سعيد بن منصور عن الحسن: .. وأول من خطب جالسًا معاوية. وانظر: "فتح الباري" 2/ 401، و"الدر" 6/ 222 (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 155 ب.

(63) تفسير سورة المنافقون

تفسير سورة المنافقون

تفسير سورة المنافقون بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يعني عبد الله بن أبي وأصحابه {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وتم الخبر عنهم، ثم ابتدأ فقال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك رسوله، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬1). قال الفراء: جعلهم كاذبين لأنهم أضمروا غير ما أظهروا (¬2). يعني أنهم لما أضمروا خلاف ما شهدوا به سماهم كاذبين، فدل هذا على أن حقيقة الإيمان بالقلب وكذلك حقيقة كل كلام. ومن قال شيئًا واعتقد خلافه فهو كاذب، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وسماهم الله كاذبين، لأنه قلوبهم كانت تخالف ألسنتهم فيما يقولون. وقال قوم: لم يكذبهم الله في قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإنما أكذبهم بغير هذا مما وجد منهم من الكذب الذي أخبر الله عنهم عنهم في قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] الآية، وقوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} (¬3) والقول هو الأول. ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 12. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 158. (¬3) من آية (56) من سورة التوبة. وهذا هو رأي الزجاج حيث قال: (أكذبهم فيما تعتقده قلوبهم وفي أنهم يحلفون بالله إنهم لمنكم، ويحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر). "معاني القرآن" للزجاج 5/ 175. قلت: ولعل هذا هو الصواب لأن حمل الآية على العموم أولى، وشهادتهم تدخل ضمن هذا المعنى، والله أعلم.

وجواب (إذا) قوله: (نشهد) أي أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة وهو كاذبون في تلك الشهادة، لأنهم يقولونها عن غير اعتقاد ومواطأة قلب مع اللسان - وكل قول خالف اللسان فيه القلب فهو كذب، ألا ترى أن شاهدًا لو شهد على حق من غير علم كان كاذبًا، لأنه شهد ولم يعلم، كذلك المنافقون شهدوا ولم تكن شهادتهم مستندة إلى عقيدة وعلم بالقلب فكانوا كاذبين. قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مذهب أهل العراق أن (¬1) من قال أشهد بالله لقد كان كذا، أو قال أشهد، ولم يقل بالله ونوى يمينًا كان ذلك يمينًا بالنية، واحتجوا بهذه الآية وهو أن الله تعالى لم يذكر منهم إلا الشهادة، ثم قال {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فسمى شهاداتهم أيمانًا (¬2)، وعند الشافعي لا يكون أشهد بالله يمينًا وإن نوى ذلك (¬3). ومعنى {أَيْمَانَهُمْ} ما أخبر الله عن حلفهم الباطل في آيات من سورة الحشر (¬4). قال الضحاك (أيمانهم) حلفهم إنهم لمنكم (¬5)، وتفسير هذه الآية قد تقدم في سورة المجادلة. ¬

_ (¬1) (أن) ساقطة من (ك). (¬2) انظر: "شرح فتح القدير" لابن الهمام 4/ 12. (¬3) انظر: "المجموع" للنووي 18/ 36، و"فتح الباري" 11/ 544، وفي "الأم" 7/ 56 , قال: وإذا قال: أشهد بالله فإن نوى اليمين فهو يمين، وإن لم ينو يمينا فليس بيمين؛ لأن قوله أشهد بالله يحتمل أشهد بأمر الله، وإذا قال: أشهد، لم يكن يمينا، وإن نوى يمينا فلا شيء عليه. (¬4) وذلك عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} الآيات. (¬5) انظر: "جامع البيان" 28/ 69.

4

قوله: {ذلك} قال مقاتل: ذلك الكذب بأنهم آمنوا باللسان، ثم كفروا في السر، وجحدوا بقلوبهم (¬1) وهذا تأكيد لما فسرناه في قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. قوله: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال ابن عباس: ختم الله على قلوبهم (¬2). وقال مقاتل: طبع على قلوبهم بالكفر (¬3) {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} لا يفهمون الإيمان والقرآن وصدق محمد -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى أن الله جازاهم بصنعهم الطبع على قلوبهم. 4 - قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} قال الكلبي: يعني عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر (¬4). قال زيد بن أرقم: كانوا رجالًا أجمل شيء (¬5). وقال ابن عباس: يريد أن لهم أجسامًا ومناظر (¬6). وقال مقاتل: كان عبد الله بن أبي جسيمًا صحيحًا فصيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله (¬7) وذلك قوله عز وجل: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}. وقال الكلبي: وإن يقولوا إنك لرسول الله تسمع لقولهم فتحسب أنه ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 155 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 13. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 76، و"التفسير الكبير" 30/ 13. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 155 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 13. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 348، و"التفسير الكبير" 30/ 14، ولم ينسباه لأحد. (¬5) "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} 6/ 191، و"فتح الباري" 8/ 647. (¬6) انظر. "تنوير المقباس" 6/ 76، و"معالم التنزيل" 4/ 348. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 155 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 348، و"زاد المسير" 8/ 274.

حق وصدق منهم (¬1). ثم شبههم فقال {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} والاختيار في {خُشُبٌ} التخفيف (¬2) نحو بَدَنةٍ وبُدْنٍ، وفي المذكر أَسَدٌ وأُسْدٌ، وَوَثَنٌ وَوُثْنٌ. قال الأخفش: ولغة أهل الحجاز التثقيل في {خُشُبٌ} وذلك نحو ثمرَ وثُمرُ، وقالوا: أسَدٌ بالتثقيل فيجمع أُسْدٌ. أنشد المبرد: يقدم أقداما عليل كالأسد (¬3) قال المفسرون: الخشب لا أرواح فيها فلا تعقل ولا تفهم، كذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون وليس في أجوافهم إيمان لذلك شبههم بالخشب. (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 8/ 275. (¬2) قرأ أبو عمرو، والكسائي، وقنبل في رواية ابن مجاهد: (خُشْب) بضم الخاء وإسكان الشين، وقرأ الباقون {خُشُبٌ} بضم الخاء والشين. انظر: "حجة القراءات" ص 709، و"النشر" 2/ 216، و"الإتحاف" ص 416. وقال ابن جرير -رحمه الله- بعد تصويب القراءتين: وتسكين الأوسط فيما جاء من الجامع لأحكام القرآن فعلة على فعل في الأسماء على ألسن العرب أكثر وذلك كجمعهم البدنة بدنا، والآجمة أجما. "جامع البيان" 28/ 70، قلت: إذا كان العرب في كلامهم على ما ذكر ابن جرير وأكثر القراء على خلاف ذلك فهذا مما يقوي قراءه الجمهور ويؤكد على صحتها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان للترجيح مجال هنا فترجيح ما تعددت طرقه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى. والله أعلم. (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 291 - 292، و"اللسان" 1/ 832 (خشب). ولم أجد البيت منسوبًا لقائل. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 155 سب، و"جامع البيان" 28/ 69، و"روح المعاني" 28/ 111.

قال أبو إسحاق: وصفهم بتمام الصور وحسن الإبانة، ثم أعلم (¬1) أنهم في تركهم (¬2) التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب (¬3). قوله: {مُسَنَّدَةٌ} يقال: أسندت الشيء. أي: أملته فاستند كالخشب يسند إلى الجدار، و {مُسَنَّدَةٌ} للتكثير (¬4)، لأنها صفة خشب وهي جمع أشجار (¬5)، وصفها بالتسنيد إرادة أنها ليست بأشجار قائمة تنمو وتزيد وتنبت الورق والثمر ويحسن منظرها، بل هي خشب ملقاة بعضها على بعض مسندة إلى حائط، كذلك هم لا يسمعون النداء ولا يقبلون، فشبههم بالخشب في أخس أحوالها ليست بأشجار فتثمر، ولا منحوته عمل منها شيء فينتفع به. وهذا معنى قول الكلبي (¬6). ثم عابهم بالجبن فقال {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} قال المفسرون: من الفرق والجبن لا يسمعون صوتًا إلا ظنوا أن قد أوتوا. قال مقاتل: إن نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة ظنوا أنهم يرادون بذلك مما في قلوبهم من الرعب (¬7)، قالوا: وسبب ذلك أنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم فهم يتوقعون ¬

_ (¬1) في (ك): (أعلمهم). (¬2) في (ك): (ترك). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 176. (¬4) انظر: "اللسان" 2/ 215 (سند). (¬5) في (ك): (أثمار). (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 15، ولم ينسبه لقائل. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 155/ ب، و"الكشف والبيان" 13/ 128/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 15، و"البحر المحيط" 8/ 272.

5

الإيقاع بهم ساعة فساعة (¬1). وقال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى: يحسبون أن كل من خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما يخاطبه في أمرهم بكشف نفاقهم (¬2). ثم أعلم رسوله بعداوتهم فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أىِ هم وإن كانوا معك يظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم أن تأمنهم على سرك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار يلقون (¬3) إليهم أسرارك. قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} مفسر في سورة براءة (¬4). 5 - قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} قال الكلبي: لما نزل القرآن على رسول الله بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتوبوا إليه من النفاق، وسلوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فأنزل الله فيهم هذه الآية (¬5). قال عطاء عن ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يستغفر لك ويرضى عنك. قال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي (¬6). ¬

_ (¬1) في (ك): (ساعة). وانظر: "جامع البيان" 28/ 69، و"التفسير الكبير" 30/ 15. (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 176. (¬3) في (ك): (يتلقون). (¬4) عند "تفسيره" لآية (30) من سورة التوبة. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 15. (¬6) أخرجه البيهقي في "الدلائل" عن الزهري، نحو هذا بسياق أطول. "الدر" 6/ 224. وذكره الرازي عن ابن عباس من غير سند. "التفسير الكبير" 30/ 15.

قال قتادة: قال قوم عبد الله بن أبي: لو أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستغفر لك. فجعل يلوي رأسه، فنزلت هذه الآية (¬1). وقال أكثر المفسرين: إنما دعي إلى الاستغفار؛ لأنه كان قد قال: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، وقال: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}، فقيل له: تعال يستغفر لكم رسول الله فلوى رأسه وقال: ماذا قلت؟. فذلك قوله: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} (¬2) قال مقاتل: عطفوا رؤسهم رغبة عن الاستغفار (¬3). وقرئ (لووا) بالتخفيف من الليّ، وهو يصلح للقليل والكثير، ويشهد لهذه القراءة قوله: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} (¬4) و (لَوَوْا) من الليّ. وقُرئ بالتشديد (¬5)، وهو يختص بالكثرة، والفعل هاهنا لجماعة فهو كقوله: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] على أنه قد جاء: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وعبد الرزاق في "التفسير"، وعبد بن حميد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 294، و"جامع البيان" 28/ 71، و"الدر" 6/ 224، وقال ابن حجر: ووقع في مرسل الحسن، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة، ومن طريق مجاهد، ومن طريق عكرمة "فتح الباري" 8/ 648. (¬2) وهو المروي عن أكثر أهل التفسير والسير. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 294، و"جامع البيان" 28/ 70، و"الكشف والبيان" 13/ 128/ أ، و"أسباب النزول" 496. (¬3) انظر "تفسير مقاتل" 156/ أ، و"زاد المسير" 8/ 276. (¬4) قال تعالى {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]. (¬5) قرأ نافع، ويعقوب من طريق روح، والمفضل، عن عاصم: {لَوَّوْا} بالتخفيف. وقرأ الباقون: {لَوَّوْا} بالتشديد. انظر: "حجة القراءات" 709، و"النشر" 2/ 388، و"الإتحاف" 416، "معاني الأخفش" 2/ 709.

تَلْوِية الخاتِنِ زُبَّ المُعْذَرِ (¬1) واختار أبو عبيد بالتشديد. قال: لأنهم كثير (¬2). قال المبرد: لا أعلم الرواية اختلفت في أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي وهو القائل: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} الآية (¬3)، فالعرب قد تكنى فتجعل الكناية جمعًا، والمفعول واحد. قال جرير: لا بارك الله فيمن كان يحسبكم ... إلا على العهد حتى كان ما كانا (¬4) وإنما يخاطب بهذه امرأة، وهذا كثير في أشعارهم وكلامهم، يقول الرجل الواحد: نحن فعلنا، يعني نفسه، ويقول لرجل الواحد يخاطبه: أنتم فعلتم، يعني المخاطب وحده. وقوله: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} أي عن الاستغفار {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن استغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم ذكر أن استغفاره لا ينفعهم فقال {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} قال قتادة، ومقاتل: نزلت هذه الآية بعد قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، وذلك أنها لما نزلت قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خيرني ربي ¬

_ (¬1) أنشده أبو زيد، وورد في "اللسان" غير منسوب لقائل. انظر: "الحجة" للقراء السبعة 6/ 293، و"اللسان" 2/ 719 (عذر). (¬2) انظر: "زاد المسر" 8/ 276، وهو اختيار ابن جرير أيضًا. "جامع البيان" 28/ 70. قلت: واختيارهم هذا لا يعني الطعن في قراءة التخفيف لثبوتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) قلت: الروايات تظافرت على هذا، وإنما وقع الخلاف في الغزوة التي نزلت فيها هذه الآيات، والصواب أنها نزلت في غزوة بني المصطلق، كما ذكر ابن كثير رحمه الله. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 368، و"فتح الباري" 8/ 648 - 649. (¬4) "ديوان جرير" 1/ 162.

فلأزيدنهم على السبعين فأنزل الله هذه الآية (¬1). {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} قال ابن عباس: يريد المنافقين (¬2)، والمعنى لا يجعل جزاءهم على النفاق أن يهديهم، أو لا يهدي من سبق في علمه وقضائه أنه فاسق منافق. ثم أخبر بشنيع مقالتهم فقال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} قال المفسرون: اقتتل أجير لعمر مع أجير لعبد الله بن أبي في بعض الغزوات، وأسمع أجير عمر لعبد عبد الله بن أبي المكروه، واشتد عليه لسانه فغضب عبد الله وعنده وهي من قومه فقال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل -يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل على قومه فقال: لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء -يعني المهاجرين- لأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فأنزل الله فيه هذه الآية (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر، وفيه (فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما خيرني الله فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}. وسأزيده على السبعين") "صحيح البخاري". كتاب: التفسير، باب: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، وباب: ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره. وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 15، قال ابن حجر: وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: لما نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأزيدن على السبعين"، فأنزل الله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان معًا نزلتا في ذلك. "فتح الباري" 8/ 336. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 77، و"التفسير الكبير" 30/ 15. (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي 496، و"زاد المسير" 8/ 271، و"التفسير الكبير" 30/ 17.

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال مقاتل: يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات (¬1). والمعنى أن الله هو الرزاق للخلق كلهم، ولهؤلاء المهاجرين لا هم، لأن خزائن الرزق من السموات والأرض لله تعالى كما قال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 31]. وقال أهل المعاني: خزائن الله مقدوراته؛ لأن فيها كل ما شاء مما يريد إخراجه (¬2). قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} قال ابن عباس: لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون (¬3). قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} من تلك الغزوة التي كانوا فيها -وهي غزوة بني المصطلق- إلى المدينة {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ} يعني عبد الله بن أبي بالأعز نفسه وبالأذل (¬4) رسول الله، فرد عليه فقال {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} قال ابن عباس: المنعة (¬5) {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} بإعزاز الله ونصره إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان. وقال أبو إسحاق: أعلم الله أنه مظهر (¬6) دينه على الدين كله ومعز رسوله ومن معه من المؤمنين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 156 ب، و"التفمير الكبير" 30/ 17. (¬2) انظر: "مفردات الراغب" (خزن)، و"التفسير الكبير" 30/ 17. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 350، و"التفسير الكبير" 30/ 17، ولم ينسباه لقائل. (¬4) (ك): (بالأذل) بدون الواو. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 78. (¬6) (ك): (يظهر). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 177.

قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك، ولو علموا ما قالوا مقالتهم هذه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قال عطاء: عن فرائض الله الحج والزكاة (¬1). وقال الضحاك: الصلوات الخمس (¬2). وقال مقاتل: عن الصلاة المكتوبة. وعنده أن هذه الآية والتي بعدها خطاب للمنافقين الذين أقروا بالإيمان (¬3). قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي من ألهاه ماله وولده عن ذكر الله، فعبر عن هذا بفعله، لأنه ما لم يله بماله لم يلهه المال، ومن لم يغتر بشيء لم يغره، وهذا معنى قول صاحب النظم (¬4). {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} قال ابن عباس: يريد زكاة الأموال (¬5). {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} فيسأل الرجعة إلى الدنيا، وهو قوله: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال أبو إسحاق: حضهم على إدامة الذكر، وأن لا يضنوا بالأموال من قبل أن يعاين ما يعلم معه أنه ميت (¬6)، فيقول: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى أجل قريب، يعني استزاده في أجله حتى يتصدق ويزكي، وهو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) لم أجده، منسوبًا لقائل. وقد ذكره الرازي في "تفسيره" 30/ 18. (¬2) أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما. "جامع البيان" 28/ 76، و"الدر" 6/ 226. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 157/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 18. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 18 (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 351، و"التفسير الكبير" 30/ 18. (¬6) انظر: "معانى القرآن" للزجاج 5/ 177.

{فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال عطاء، عن ابن عباس: هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين، وذلك أن المؤمن لا يسأل الرجعة، إنما يسأل الكافر (¬1). وقال الضحاك: لم ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤد الزكاة إلا سأل الرجعة. وقرأ (¬2) هذه الآية. وقال في قوله: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} يعني الحج (¬3)، ونحو هذا روي عن ابن عباس أنه قال ذلك، فقيل له: اتق الله فإن الكافر يسأل الرجعة. فقال: أنا أقرأ عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية إلى قوله: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال: أحج (¬4). قال أبو إسحاق: معناه: هلا أخرتني. وجزم {وَأَكُنْ} على موضع {فَأَصَّدَّقَ} لأنه على معنى: إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين، ومن قرأ (وأكونَ): فهو على لفظ فأصدق وأكون (¬5). قال المبرد: من قرأ (وأكون) فعلة ما قبله لأن {فَأَصَّدَّقَ} ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 19. (¬2) في (ك): (وقال). (¬3) أخرجه ابن جرير عنه. "جامع البيان" 28/ 77، و"التفسير الكبير" 30/ 19. (¬4) أخرجه ابن جرير، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، من طريق أبي حناب، وهو ضعيف، وفيه انقطاع بين الضحاك وابن عباس. انظر: "جامع البيان" 28/ 76، و"سنن الترمذي" كتاب تفسير القرآن 5/ 390، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 373. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 5/ 178، وفي قوله تعالى: {وَأَكُنْ} قرأ الجمهور. (وأكن) بجزم النون من غير واو، وقرأ أبو عمرو (وأكونَ) بالواو ونصب النون. انظر: "حجة القراءات" 710، و"النشر" 2/ 388، و"الإتحاف" 417.

جواب للاستفهام الذي فيه التمني، وهو قوله: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} أي: هلا أخرتني، والجزم على موضع الفاء لأن الفاء دخلت على شيء لو لم يكن فيه لكان مجزومًا ولم يتغير المعنى فكأنه لولا أخرقني إلى أجل قريب أصدق وأكن. وأنشد سيبويه أبياتًا كثيرة في العمل على الموضع منها قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬1). ومنه قول لبيد: فإن لم نجد من دون عدنان والدًا ... ودون معدا فلترعك العوازل (¬2) فنصب دون معد على الموضع، لأن من زائدة، وزاد أبو علي شرحًا وبيانًا فقال: {وَأَكُنْ} عطفًا على موضع قوله: {فَأَصَّدَّقَ} لأنه في موضع فعل مجزوم، ألا ترى أنك إذا قلت: أخرني أصدق، كان جزمًا بأنه جواب الجزاء، وقد أغنى السؤال عن ذكر الشرط، والتقدير: أخرني فإن تؤخرني أصدق، فلما كان الفعل المنتصب بعد الفاء في موضع فعل مجزوم بأنه جزاء الشرط حمل قوله: {وَأَكُنْ} هو عليه، وأنشد الأئمة في وجه هذه القراءة قول الشاعر: فَأَبْلُونيِ بَلَّيُكُمْ لَعَلِّي ... أصالحِكُمْ وأستدرجْ نَوَتَّا (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 19. والبيت لعقيبة بن هبيرة الأسدي. انظر: "شرح الشواهد" 1/ 34، و"الخزانة" 1/ 343، و"شرح المفصل" 2/ 109، وينسب أيضًا لعبد الله ابن الزبير الأسدي. (¬2) "ديوان لبيد" ص 255، و"الكتاب" 1/ 34، و"الخزانة" 2/ 252، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 130. (¬3) البيت لأبي دؤاد، كما في "ديوانه" ص 350، و"الخصائص" 1/ 176، و"شواهد شرح أبيات المغني" 6/ 292، و"اللسان" (علل)، أمالي ابن الشجري 1/ 280، و"مغني اللبيب" ص 423، و"النقائض" ص 408، والنوى الوجه الذي يقصد، =

حمل وأستدرج على موضع الفاء المحذوفة وما بعدها من لعلّي (¬1). وأما قراءة أبي عمرو (وأكونَ) فإنه حمله على اللفظ دون المعنى، وكان الحمل على اللفظ أولى لظهوره في اللفظ وقربه (¬2). ثم أخبر الله تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} أي عند الموت {إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال عطاء: أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج (¬3)، ويكون هذا كقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (¬4) والمفسرون على أن هذا خطاب شائع لكل عامل عمل خيرًا أو شرًّا. وروي عن عاصم أنه قرأ (يعملون) بالياء (¬5) على قوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} لأن النفس وان كان واحدًا في اللفظ فالمراد به الكثرة، فحمل على المعنى (¬6)، والله تعالى أعلم. ¬

_ = وأستدرج أرجع أدراجي. (¬1) في (ك): (على موضع لعلّي وما بعدها) والتصحيح من "الحجة". (¬2) انظر: "الحجة" للقراء السبعة 6/ 293 - 294. (¬3) "التفسير الكبير" 30/ 19، ولم ينسبه لقائل. (¬4) قال تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]. (¬5) قرأ أبو بكر، عن عاصم {يَعْمَلُونَ} خبر غائبين، وقرأ الباقون (تعملون) بالتاء على الخطاب. انظر: "حجة القراءات": 711، و"النشر" 2/ 388. (¬6) "الحجة" للقراء السبعة 6/ 294.

(64) تفسير سورة التغابن

تفسير سورة التغابن

تفسير سورة التغابن بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يُسَبِّحُ} هذه الآية قد تقدم تفسيرها (¬1). 2 - قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} قال الوالبي عن ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم (¬2) مؤمنًا وكافرا (¬3)، وقال عطية عنه: يريد فمنكم مصدق ومنكم جاحد (¬4). وقال أبو إسحاق: خلقكم في بطون أمهاتكم كفارًا ومؤمنين (¬5). وجاء في التفسير أن يحيى بن زكريا خلق في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا (¬6). ودليل صحة هذا قوله: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ¬

_ (¬1) في أول سورة الحشر، والجمعة. (¬2) في (ك): (خلقكم). (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 133 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 352، و"زاد المسير" 8/ 279، وقال (والأحاديث تعضد هذا القول ..). (¬4) "التفسير الكبير" 30/ 21، ونسبه لعطية. (¬5) "معاني القرآن" للزجاج 5/ 179. (¬6) قال -صلى الله عليه وسلم-: "خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون بطن أمه كافرًا". انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1831)، و"صحيح الجامع" 3/ 113.

5

مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39]. فأعلم أنه مخلوق كذلك. وروى أبو سعيد الخدري خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية فذكر شيئًا مما يكون، ثم قال في خطبته: "يُولد الناسُ على أطباقٍ شتى، يولد الرجل مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ويولد الرجل كافرًا ويعيش كافرًا ويموت كافرًا، ويولد الرجل مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ويموت كافرا، ويولد الرجل كافرًا ويعيش كافرًا ويموت مؤمنا" (¬1). 5 - قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يخاطب أهل مكة {نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يعني الأمم الكافرة. 6 - قوله تعالى: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أي عن إيمانهم وعبادتهم. 9 - قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} قال الزجاج: {يَوْمُ} منصوب بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} (¬2). قوله: {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} قال ابن عباس، ومقاتل: يريد يوم القيامة يجمع فيه أهل السموات وأهل الأرض (¬3). قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} التغابن تفاعل من الغبن، والغبن في الشراء والبيع، يقال: غبنه يغبنه إذا أخذ الشيء عنه بدون قيمته (¬4). قال ابن عباس: إن قومًا في النار يعذبون وقومًا في الجنة يتنعمون (¬5) ¬

_ (¬1) ذكر الثعلبي نحو عن أبي سعيد الخدري بدون سند، ودون رفع للنبي-صلى الله عليه وسلم- وكذا البغوي. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 134 أ - ب، و"معالم التنزيل" 4/ 352. (¬2) "معاني القرآن" للزجاج 5/ 180. (¬3) "تفسير مقاتل" 157 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 353، و"التفسير الكبير" 30/ 24. (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 148 (غبن)، و"مفردات الراغب" (غبن). (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 24.

وقال المقاتلان: هو يوم يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الهدى أهل الضلالة، وأهل الإيمان أهل الكفر، فلا غبن أبين منه، هؤلاء يدخلون الجنة، وهؤلاء يدخلون النار (¬1)، وهذا معنى قول جماعة المفسرين (¬2). قال: ويرى الكافر مقعده وأزواجه من الجنة لو آمن ليزداد حسرة، وإذا لم يؤمن ويرثه المؤمنون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة (¬3). وحقيقة المعنى أنا قد ذكرنا أن أهل الغبن والتغابن في البيع والشراء، وقد ذكر الله تعالى أن الكافرين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة (¬4)، واشتروا الضلالة بالهدى، ثم ذكر أنهم ما ربحوا في هذه التجارة، فقال {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (¬5) ودل المؤمنين على تجارة رابحة بقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 157 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 24، و"تفسير ابن كثير" 4/ 375. (¬2) وروى نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 679، و"جامع البيان" 28/ 79، و "زاد المسير" 8/ 282. (¬3) ويشهد لهذا المعنى الحديث الصحيح عن أبي هريرة، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل أحد الجنة إلا أُري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحد إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن لبكون عليه حسرة" "صحيح البخاري"، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار 8/ 146. قال ابن حجر: ووقع عند ابن ماجه أيضًا، وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ "ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} "فتح الباري" 11/ 442. (¬4) وذلك في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} سورة البقرة، آية: 86. (¬5) قال تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} [سورة البقرة، آية: 16].

11

[الصف: 10] الآية (¬1). فكل من آمن وجاهد بنفسه وماله فقد ربحت تجارته، وذكر أنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة بقوله: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين، غير أن هذا التغابن إنما يظهر في القيامة إذا صار المؤمنون إلى الجنة فربحوا الجنة ومنازلها بتجارتهم، وخسرها الكفار وصارت عاقبتهم النار، فذلك اليوم يوم التغابن علي معنى يوم ظهور التغابن. 11 - قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}. قال ابن عباس: بعلمه وقضائه (¬2). {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال مقاتل: يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضاء الله ويستريح، فذلك قوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} أي للتسليم والاسترجاع عند المصيبة، وذلك معنى قوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬3) قال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند النبلاء (¬4). 14 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} قال عكرمة: سأل رجل عن هذه الآية ابن عباس فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم، فهو ¬

_ (¬1) قوله: (على تجارة رابحة بقوله {هَلْ أَدُلُّكُمْ}) مكررة. (¬2) "تنوير المقباس" 6/ 85، و"زاد المسير" 8/ 283، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 375. (¬3) سورة البقرة: 156 - 157، وانظر: "تفسير مقاتل" 157 ب. (¬4) "معاني القرآن" للفراء 3/ 161، و"الكشف والبيان" 13/ 136 أ، ذكرها عن أبي بكر الوراق، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 375، وقد استشهد لهذا القول بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له .. " الحديث.

15

قوله: {عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} أن تطيعوا وتقبلوا منهم وتدعوا الهجرة. {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} قال: إن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوه بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوه عن الهجرة، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير، فأنزل الله {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). قال قتادة: قوله: {إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} قال: ينهون عن الإسلام ويبطئون عنه وهم من الكفار (¬2). {فَاحْذَرُوهُمْ} فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان، وهذا لا يكون بين المؤمنين فأزواجهم (¬3) وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لكم. 15 - وفي هؤلاء الأولاد والأزواج الذين ثبطوا عن الهجرة نزل قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} قال ابن عباس: أي لا تطيعوهم في معصية الله (¬4). قال مقاتل: {فِتنَة} أي بلاء وشغل عن الآخرة (¬5). وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن الأموال والأولاد مما يفتنون به. (¬6) ¬

_ (¬1) "أسباب النزول" للواحدي ص 500، و"سنن الترمذي" 5/ 391، وقال: (هذا حديث حسن صحيح)، و"المستدرك" 2/ 490، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، و"جامع البيان" 28/ 80. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 295، و"جامع البيان" 28/ 81. (¬3) في (ك): (وأزواجهم، ولا يكونون، في هؤلاء)، والتصويب من "التفسير الكبير"، وبه تستقيم العبارة. (¬4) "التفسير الكبير" 30/ 27. (¬5) "تفسير مقاتل" 158 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 354. (¬6) "معاني القرآن" للزجاج، 5/ 282.

16

وهذا عام في جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده؛ لأنه ربما عصى الله بسببه وتناول الحرام لأجله، ووقع في العظائم إلا من عصمه الله، ويشهد لهذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم - إليهما، فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال: "صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما". ثم أخذ في خطبته. (¬1) وروى المسعودي عن القاسم قال: لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن (¬2). قوله: {وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: ثواب جزيل وهو الجنة (¬3). والمعنى لا تعصوه بسبب أولادكم ولا تؤثرونهم على ما عند الله من الأجر العظيم. 16 - قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} قال مقاتل: ما أطقتم (¬4). وقال ابن حيان: هو أن يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 354، وقال ابن حجر: أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، وأحمد، وإسحاق، وابن أبي شيبة، وأبو يعلي، والبزار، من رواية حسين بن واقد، عن ابن بريدة، عن أبيه. قال البزار: لا نعلم له طريقًا إلا هذا. "تخريجات الكشاف" ص 173، والحسين بن واقد ثقة، له أوهام. "التقريب" 1/ 180. (¬2) ذكره الثعلبي، والبغوي من كلام عبد الله بن مسعود. "الكشف والبيان" 13/ 137 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 354. (¬3) "زاد المسير" 8/ 285. (¬4) "تفسير مقاتل" 158 أ. (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 27، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 377، ولم ينسباه لقائل.

قال قتادة: نسخت هذه الآية {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬1) وقد تقدم الكلام في تلك الآية. قوله: {وَاسْمَعُوا} أي لله ولرسوله ولكتابه {وَأَطِيعُوا} الله فيما يأمركم {وَأَنْفِقُوا} من أموالكم في حق الله {خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} منصوب بما دل عليه {وَأَنْفِقُوا} كانه قيل: وقدموا خيرًا لأنفسكم وهو كقوله: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} (¬2) وقد مر {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حتى يعطي حق الله. قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقد مر هذا في سورة الحشر (¬3) وباقي السورة مفسر فيما سبق. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 295، و"جامع البيان"28/ 82، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 377، ذكره عن سعيد بن جبير، ومما قال: (وروي عن أبي العالية، وزيد بن أسلم، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان نحو ذلك). وقال مكي بن أبي طالب: (وأكثر العلماء على أنه محكم لا نسخ فيه، لأن الأمر بتقوى الله لا ينسخ، والآيتان ترجعان إلى معنى واحد. وهذا القول حسن؛ لأن معنى {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اتقوه بغاية الطاقة، فهو قوله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} إذ لا جائز أن يكلف الله أحدًا ما لا يطيق ..) "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"، ص 203 - 204. (¬2) من آية (170) من سورة النساء وانظر: "الكتاب" 1/ 143، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 448، و"مشكل إعراب القرآن" 2/ 738. (¬3) آية رقم (9) من سورة الحشر.

سورة الطلاق

سورة الطلاق

1

تفسير سورة الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية. روى قتادة عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلق حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله هذه الآية. وقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة (¬1). وعلى هذا إنما نزلت بسبب خروجها إلى أهلها لما طلقها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله في هذه الآية: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}، ونحو هذا ذكر الكلبي في سبب نزول هذه الآية، قال: غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حفصة لما أسر إليها حديثًا فأظهرته (¬2) لعائشة، فطلقها تطليقة، فنزلت هذه الآية (¬3). قال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر لما طلق امرأته حائضًا (¬4). والقصة في ذلك مشهورة (¬5)، وذكر المقاتلان أن رجالًا فعلوا مثل ما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير، انظر: "جامع البيان" 28/ 85، و"أسباب النزول" للواحدي ص 501، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 377، وفي "مجمع الزوائد" 9/ 245، قال: أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) في (س): (فأظهرت). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 29. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 138 ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 501. (¬5) قصة تطليق ابن عمر رضي الله عنهما لامرأته وهي حائض مشهورة، رواها البخاري في "صحيحه"، كتاب: الطلاق 7/ 52، ومسلم في كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها 2/ 1093، وأبو داود في "سننه"، كتاب: الطلاق، باب: في طلاق السنة 2/ 411، وغيرهم.

فعل ابن عمر، منهم عبد الله بن عمرو، وعمرو بن سعيد بن العاص (¬1)، وعتبة بن غزوان (¬2) فنزلت الآية فيهم (¬3). وفي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} وجهان: أحدهما: أنه نادى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خاطب أمته؛ لأنه السيد المقدم، فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب. قال أبو إسحاق: هذا خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمؤمنون داخلون معه في الخطاب (¬4). الوجه الثاني: أن المعنى يا أيها النبي قل لهم: إذا طلقتم النساء. فأضمر القول (¬5)، وإضمار القول كثير في القرآن. ¬

_ (¬1) عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، تابعي، ولى إمرة المدينة لمعاوية، ولابنه، قتله عبد الملك سنة سبعين صبرًا. انظر: "العبر" 1/ 57، و"تقريب التهذيب" 2/ 70، و"طبقات ابن سعد" 5/ 237، و"تاريخ الإسلام" 4/ 202، و"سير أعلام النبلاء" 3/ 449. (¬2) عتبة بن غزوان المازني، أحد السابقين الأولين، يقال أسلم سابع سبعة، وهو الذي اختط البصرة، توفي سنة سبع عشرة في طريقه إلى البصرة، وهو ابن سبع وخمسين رضي الله عنه. انظر: "صفة الصفوة" 1/ 387، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 304، و"طبقات ابن سعد" 3/ 98، و"الإصابة" 6/ 379، و"تاريخ الإسلام" 2/ 152. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 29، و"روح المعاني" 28/ 132. قال ابن العربي: والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. انظر: "أحكام القرآن" 4/ 1811، و"البحر المحيط" 8/ 281. وقال القرطبي: إن الأصح أنها نزلت ابتداء لبيان حكم شرعي، وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح، و"الجامع" 18/ 148. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 183. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 29، و"فتح الباري" 9/ 346.

وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} معناه: إذا أردتم التطليق، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] و {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [الإسراء: 45]، وقد مر. قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال عبد الله: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فليطلقها طاهرًا من غير جماع (¬1). وهذا قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، وابن سيرين، ومقاتل، والجميع (¬2). قالوا: أمر الله تعالى الزوج أن يطلق امرأته إذا شاء الطلاق في طهر لم يجامعها فيه (¬3)، وهو قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} أي: لزمان عدتهن وهو الطهر بإجماع من الأمة (¬4)، وذلك أن الطلاق سنين وبدعي، فالسني أن يقع في طهر لم يجامع فيه فذلك هو الطلاق للعدة؛ لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها ويحصل في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة. فالآية دلت على إيقاع الطلاق (¬5) في الطهر، ودلت السنة على أن ذلك الطهر يجب أن يكون غير مجامع فيه حتى يكون الطلاق سنيًّا. وهو ما روي في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في "جامعه" 28/ 83، والنسائي في "سننه" كتاب: الطلاق، باب: طلاق السنة 2/ 715، وابن ماجه في الطلاق، باب طلاق السنة 1/ 651. (¬2) (س): قوله (والضحاك) و (ابن سيرين، ومقاتل، والجميع) زيادة. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"جامع البيان" 28/ 84، و"تفسير ابن كثير" 4/ 378. (¬4) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 452، و"المغني" 10/ 325، حيث قال: ولا خلاف في أنه إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه، ثم تركها حتى تنقي عدتها أنه مصيب للسنة. (¬5) قوله: (فالآية دلت على إيقاع الطلاق) في (س) بدلاً منها (دلت على ذلك الآيتين) والصواب ما أثبته.

حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا من غير جماع" (¬1). وذكرنا أيضًا عن جماعة المفسرين أنهم قالوا: الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرًا من غير جماع. وروي عن الشعبي أنه قال: إذا طلقها وهي طاهرة فقد طلقها للسنة، وإن كان قد جامعها (¬2)، والقول هو الأول، وهو مذهب الفقهاء (¬3). والمعنى فيه أنه إذا جامعها لم يؤمن أن تكون قد حملت من هذا الجماع، فإذا طلقها وبانت حاملًا ربما يندم الزوج على الطلاق لمكان الولد. وهذا كله إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآيسة ولا الحامل، فأما الصغيرة، وغير (¬4) المدخول بها، والآيسة، والحامل، فلا سنة في (¬5) طلاقهن ولا بدعة، ولا عدة على غير المدخول بها، والآيسة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الطلاق 6/ 193، ومسلم في كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض 2/ 1095، وأبو داود في باب: طلاق السنة 2/ 410، وأحمد في "المسند" 2/ 46، 58. (¬2) قال الجصاص: وهذا القول خلاف السنة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلاف إجماع الأمة، إلا أنه قد روي عنه ما يدل على أنه أراد الحامل، وهو ما رواه يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال: إذا طلقها حاملًا فقد طلقها للسنة، وإن كان قد جامعها، فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث، وأغفل بعض الرواة ذكر الحامل. "أحكام القرآن" 3/ 452. (¬3) انظر: "المغني" 10/ 326، و"الحاوي الكبير" 10/ 114. (¬4) (غير) ساقطة من (ك). (¬5) قوله: (ولا الحامل، فأما الصغيرة وغير المدخول بها والآيسة والحامل فلا سنة في) ساقطة من (س) وذكر بدلاً منها قوله: (والآيسة كالصغيرة وغير المدخول بها، والآيسة وغيرها في ذلك).

والصغيرة الحامل لا يعتدون بالأقراء (¬1)، وأما الطلاق البدعي فهو أن يقع (¬2) في حال الحيض، وفي طهر قد جومع فيه، فهذا طلاق على غير السنة، وهو واقع وصاحبه آثم (¬3). وروي عن علي-رضي الله عنه- أنه قال: "لا يطلق رجل طلاق السنة فيندم" (¬4). هذا الذي ذكرنا في وقت الطلاق، وليس في عدد الطلاق سنة وبدعة على مذهب الشافعي -رضي الله عنه-، حتى أنه لو (¬5) طلقها ثلاثًا في طهر صحيح لم يكن قد ابتدع (¬6)، بخلاف ما ذهب إليه أهل العراق، فإنهم قالوا: السنة في عدد الطلاق أن يواقع كل طلقة في طهر صحيح، فلو طلق ثلاثًا في طهر واحد ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" 11/ 194، و"المحلى" 10/ 256، و"مجموع الفتاوى" 33/ 7، و"المجموع شرح المهذب" 17/ 154، 156. (¬2) في (ك): (فهو أربع). (¬3) وهو قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر، وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال. "المغني" 10/ 327. قلت: وما ذكراه وهم منهما رحمهما الله، فقد خالف في ذلك طاوس، وعكرمة، وخلاس وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطأة، وأهل الظاهر، كداود، وأصحابه، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد. وهو المرجح عند ابن تيمية. انظر: "مجموع الفتاوى" 33/ 72، 101، و"المحلى" 10/ 161. (¬4) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة وطلاق البدعة 7/ 323، وابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب: الطلاق، باب: ما قالوا في طلاق السنة ومتى يطلق 5/ 2. (¬5) في (س): قوله (لو) زيادة. (¬6) في (س): (ابدع)، وانظر: "الأم" 5/ 162، و"الحاوي الكبير" 10/ 117، و"المغني" 10/ 330.

كان مبتدعًا (¬1)، والآية تدل على مذهب الشافعي، وهو قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ} وهذا اللفظ للأمر (¬2) بالواحدة فما زاد. قال صاحب النظم: قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} صفة للطلاق كيف يكون، وهذه اللام تجيء لمعانٍ مختلفة: للإضافة وهي أصلها، ولبيان السبب والعلة كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ} [الإنسان: 9]، وكقوله: قمت لأضرب زيدًا. ثبتت اللام بسبب الإطعام والضرب. وإذا كانت اللام بهذا المعنى سميت لام أجل. وتكون بمنزلة عند مثل قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أي: عنده، وتكون بمنزلة في مثل قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] أي: في أول الحشر. وهي في هذه الآية بهذا المعنى؛ لأن المعنى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3) أي: في الزمان الذي يصلح لعدتهن (¬4)، ومنه قول الشاعر (¬5): وهم كتموني سرهم حين أزمعوا ... وقالوا أتعدنا للرواح وبكروا والمعنى: أتعدنا للسير في الرواح، قال: وفي قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وفي إجماع الناس في (¬6) الطلاق في الحيض مكروه ممنوع منه، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح فتح القدير" 3/ 466 - 467، و"الحاوي الكبير" 10/ 118، و"المغني" 11/ 336. (¬2) في (س): (للأمر) زيادة. (¬3) في (س): (في عدتهن). (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 30. (¬5) لم أجده. (¬6) قال ابن قدامة: (أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق الدعة ...) "المغني" 10/ 324.

وفي الطهر مأذون فيه، وفي تسميته عَزَّ وَجَلَّ الوقت الذي أذن فيه في الطلاق عدة وهي الطهر دليل على أن القرء هو الطهر إذ سمى العدة أقراء في سورة البقرة (¬1)، ثم جعلها طهرًا في هذه السورة (¬2)، فإن قيل: على هذا قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} معناه لقُبُل عدتهن وهي (¬3) قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عباس (¬4). ¬

_ (¬1) في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة: 228]. (¬2) وهو قول أهل الحجاز، وعائشة، وابن عمر، زيد بن ثابت، والزهري، والشافعي، وقال أهل الكوفة وعمر، وعلي، وابن مسعود وغيرهم، الأقراء: الحيض. انظر: "المغني" 11/ 199 - 200، و"أحكام القرآن" للجصاص 1/ 364، و"أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 184، و"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 113. (¬3) في (س): (وهو). (¬4) ذكر هذه القراءة ابن جرير، وعبد الرزاق، ونسبت لابن عباس، ونسبها الزمخشري للنبي-صلى الله عليه وسلم- ونسبها أبو حيان لجماعة من الصحابة والتابعين. انظر: "تقسير عبد الرزاق" 2/ 336، و"جامع البيان" 28/ 84، و"الكشاف" 4/ 107، و"البحر المحيط" 8/ 281، وقال أبو حيان: هو على سبيل التفسير لا على أنه قرآن، لخلافه لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقًا وغربًا. وقال النووي: هذه قراءة ابن عباس، وابن عمر. وهي شاذة لا تثبت قرآنًا بالإجماع ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا، وعند محققي الأصوليين، والله أعلم. "شرح النووي على صحيح مسلم" 10/ 69. قلت: ونسبة هذه القراءة للنبي-صلى الله عليه وسلم- كما ذكر المؤلف والزمخشري تجاوز وعدم تحقيق، إذ القراءات جميعها لا تثبت إلا عن طريقه -صلى الله عليه وسلم- فنسبتها إليه يخرج غيرها وهذا مخالف للعقل والنقل، فنسبتها إلى غيره من الصحابة والتابعين هو الصواب، ثم ينظر في ثبوتها من عدمه، والله أعلم. وقال ابن حزم: وهذا مما قرئ ثم رفعت لفظة (في قُبُلِ) وأنزل الله تعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ} وهكذا رويناه من طريق الدبري ... وهذا إسناد في غاية الصحة لا يحتمل التوجيهات. "المحلى" 10/ 166.

وقبل عدتهن آخر الطهر، إقبال الحيض الذي هو زمان العدة، قيل: هذا لا يصح؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لزم أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقًا للعدة ولا لقبل العدة؛ لأن الحيض لم يقبل بعد لإقبال الطهر في هذا الوقت، ويستحيل أن يكون الطهر والحيض مقبلين معًا في وقت واحد؛ لأن الشيء إذا كان له إقبال وإدبار وإذا انقضى إقباله ودخل إدباره لا يكون ضده مقبلًا في إدباره إلا بعد إنقضاء آخر إدباره، ولو جاز أن يكون إقبال شيء في إدبار غيره الذي هو ضده لكان الصائم مفطرًا قبل مغيب الشمس، إذ الليل عنده مقبل في إدبار النهار وقبل انقضاء إدبار النهار. وهذا ما لا يقوله أحد، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا .. " (¬1) يريد إدبار النهار بتمامه، وإقبال الليل بعد تمام إدبار النهار، وليس قوله عَزَّ وَجَلَّ فطلقوهن لقبل عدتهن تحديًا، لئلا يكون الطلاق إلا فيه دون ما بعده من الوقت؛ لأن أول الطهر وآخره كله وقت الطلاق إذ لم يذكر في الكتاب منع الطلاق في شيء منه. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته .. " (¬2)، يعني الهلال، والصوم لا يكون بعده إلا بساعات مديدة. ¬

_ (¬1) حديث متفق عليه، رواه البخاري في كتاب: الصوم، باب: يفطر بما تيسر من الماء أو غيره 3/ 47 ومسلم في كتاب: الصيام، باب: وقت انقضاء الصوم وخروج النهار 2/ 772. (¬2) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب: الصوم، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" 3/ 34، ومسلم في كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 759، وأخرجه الترمذي في أبواب الصوم، باب ما جاء: لا تقدموا الشهر بصوم 3/ 68، والنسائي في كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على الزهري في هذا الحديث 2/ 459.

فإن قيل: إذا طلق في آخره (¬1) واعتد بذلك الطهر قرءًا واحدًا وربما كان يومًا أو ساعة فقد جعلتم العدة دون ثلاثة أقراء إذ لم يكن الطهر فيه قرءًا تامًا. قيل: يجوز أن يسمي بعض الطهر قرءًا تامًا لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] يعني شوالًا وذا القعدة وبعض ذي الحجة، وكذلك قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] وهو ينفر في بعض اليوم (¬2) الثاني، فسمى الله عَزَّ وَجَلَّ يومًا واحدًا وبعض آخر يومين (¬3). قوله تعالى {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، قال أصحابنا إنما أمرنا بإحصاء العدة لفوائد منها: أن يوزع الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثًا وهو أحسن من جمعها في قرء واحد؛ لأنه ربما يندم، وإذا فرق أمكنه المراجعة قبل إيقاع الثلاث، ومنها أيضًا مراعاة النفقة والسكنى والعلم ببقاء زمان المراجعة وانقضائه وغير ذلك. قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ}. قال مقاتل: اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم (¬4). قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي يساكنها فيه قبل الطلاق، إن كان ملكًا له أو بكراء في يديه، وإن كان عارية فارتجعت كان على الزوج أن يكتري لها ¬

_ (¬1) في (س): (آخر النهار) والصواب ما أثبته. (¬2) في (س): (اليوم) زيادة. (¬3) انتهى كلام الجرجاني، ولم أجد من ذكره بكامله عنه غير المؤلف وهو كلام نفيس ظاهر الدلالة والمعنى. انظر: "التفسير الكبير" 30/ 30. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 32.

منزلاً، وعلى المرأة حق لله ألا تخرج (¬1) في عدتها إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت سواء خرجت ليلاً أو نهارًا، ولا تنقطع العدة (¬2). قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء: هو أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها (¬3)، وهو قول الضحاك، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والشعبي، ومجاهد (¬4) والأكثرين، فالفاحشة على هذا القول الزنا. وقال ابن عمر: الفاحشة خروجها قبل انقضاء العدة (¬5)، وهو قول السدي، والكلبي، وروي ذلك عن الشعبي (¬6). وقال مقاتل: الفاحشة المبينة هي العصيان البين، وهو النشوز (¬7). وهو قول الضحاك، وقتادة، ورواية عكرمة عن ابن عباس قال إلا أن تبذو ¬

_ (¬1) قوله: (المرأة حق الله ألا تخرج) في (س): (المرأة أيضًا لحق الله أن لا تخرج). (¬2) انظر: "المجموع" 18/ 175. (¬3) أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن عطاء الخراساني قال: كان ذلك قبل أن تنزل الحدود، وكانت المرأة إذا أتت بفاحشة أخرجت ولم يذكرا ابن عباس في هذا الأثر. انظر: "الدر" 6/ 231. (¬4) في (س): (وعكرمة والشعبي ومجاهد) زيادة. وانظر: "الكشف والبيان" 12/ 139 ب، و"زاد المسير" 8/ 289، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 378. (¬5) انظر: "جامع البيان" 28/ 87، و"الكشف والبيان" 12/ 139 ب، و"المستدرك " 2/ 491. (¬6) في (س): (وروى ذلك عن الشعبي) زيادة. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 357، و"زاد المسير" 8/ 289، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا. والمراد بأهلها، أي: أهل زوجها؛ لأنها أصبحت منهم. وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 88. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 32.

على أهلها (¬1). ونحو ذلك روي عن جابر بن زيد قال: هي النشوز وسوء الخلق إذا نشزت وساء خلقها أخرجها (¬2). وقال مقسم: أي إذا عصتك أو آذتك، فهي إذا زنت أو نشزت أو خرجت في عدتها كان للزوج إخراجها من البيت وانقطعت سكناها (¬3). قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} يعني ما ذكر من طلاق السنة وما بعده من الأحكام (¬4). قال مقاتل والضحاك: وتلك طاعة الله وسنته وأمره (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 86، و"الكشف والبيان" 12/ 140 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 357. قال ابن قدامة: وهي أن تطيل لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه. روى ذلك عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. قلت: نسب الثعلبي والواحدي القول بأن الفاحشة المبينة هي الزنا للأكثرين، ونسب ابن قدامة القول بأنها إيذاء القرابة بـ"اللسان" للأكثرين أيضًا، ونسب القول الأول لابن مسعود، والحسن، قم قال: ولنا أن الآية تقتضي الإخراج عن السكنى، وهذا لا يتحقق فيما قالاه. انظر: "المغني" 11/ 293. قلت: ولعل مراده بالأكثرين من الفقهاء، ومراد غيره الأكثرين من المفسرين، والله أعلم. وذكر ابن كثير: شمول الآية للمعنيين، وهو الظاهر، إلا أن خروجها للزنا الذي صدر عنها إنما هو إخراج لإقامة الحد، ولا تنقضي به العدة فحسب، بل تنقضي به الحياة. انظر: "تفسير ابن كثير" 4/ 378. (¬2) لم أجده، وهو داخل في الأقوال السابقة. (¬3) لم أجده، ولعله لا يخرج عن الأقوال السابقة. (¬4) وهو اختيار ابن جرير والجصاص وغيرهما. انظر: "جامع البيان" 28/ 87، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 454. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"جامع البيان" 28/ 87.

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ} قال أبو إسحاق: هذا تشديد فيمن تعدى طلاق السنة (¬1)، وقال مقاتل: ومن يطلق لغير العدة (¬2). {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. قال ابن عباس: أثم (¬3). وقوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها (¬4). وقال مقاتل: {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد التطليقة والتطليقتين (¬5)، {أَمْرًا} يعني: المراجعة. وقال الشعبي: لا تدري لعلك تندم فيكون لك سبيل إلى المراجعة (¬6). وقال الضحاك: لعله أن يراجعها في العدة (¬7)، وهذا دليل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقًا ولا يجمع بين الثلاث لقوله: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وهو الندم على الطلاق، وإرادة المراجعة، وذلك إنما ينفع إذا لم يجمع الطلقات. قال أبو إسحاق: وإذا طلقها ثلاثًا (¬8) في وقت واحد فلا معنى في ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 184. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 33. (¬3) والذي ذكر عنه قوله (ضر نفسه). انظر: "تنوير المقباس" 6/ 89، و"التفسير الكبير" 30/ 33. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 89، و"معالم التنزيل" 4/ 357. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 357. (¬6) انظر: "الدر" 6/ 232، وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد عن الضحاك والشعبي. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 498، و"جامع البيان" 28/ 87، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 378، وهو المروي عن عطاء، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والثوري. (¬8) في (س): (ثلاثًا) زيادة.

2

قوله: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1). 2 - وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، قال: أي قارين انقضاء العدة، وليس يريد إنقضاء أجلهن، فالمراد ببلوغ الأجل هاهنا مقاربة البلوغ، وهذا كقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] يريد مقاربة البلوغ هناك وهاهنا لقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وهذا مفسر في الآية التي ذكرناها في سورة البقرة (¬2). قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة ذوي عدل (¬3). وللشافعي -رحمه الله- في الإشهاد على الرجعة قولان: أحدهما: أنها لا تصح إلا بالإشهاد للآية. والآخر: أنها تصح من غير إشهاد كما تصح من غير ولي ومن غير رضاها (¬4)، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة (¬5)، ولأنها في حكم الزوجات ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 183. (¬2) وذلك عند تفسيره الآية (231) من سورة البقرة. والإمساك بالمعروف هو ما تعارف عليه الناس بينهم مما تقبله النفوس، ولا تنكره العقول، وهو القيام بما يجب لها من حق على زوجها من نفقة وغير ذلك. وقيل: هو أن يحسن في أمرها إذا طلقها، ولم يبق من العدة إلا اليسير فإما أن يشهد على الرجعة، وينوي حسن العشرة، وإما أن يتركها من غير شقاق ولا مخاصمة. وانظر: "جامع البيان" 2/ 293، و"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 156. (¬3) وبه قال ابن عباس، وعمران بن حصين، وابن جريج، والسدي. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 90، و"جامع البيان" 28/ 88، و"ابن كثير" 4/ 379. (¬4) انظر: "الأم" 5/ 226 - 227، و"المجموع" 17/ 269. (¬5) انظر: "بدائع الصنائع" 4/ 1975.

بدليل ثبوت التوارث ولحوق الطلاق والظهار (¬1)، والإيلاء والانتقال إلى عدة الوفاة إذا مات الزوج، والإشهاد إنما أمر به للاحتياط مخافة أن تنكر المرأة الرجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجًا آخر (¬2). ثم خاطب الشهداء فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وهو مفسر في سورة البقرة (¬3) إلى قوله (¬4): {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجً}، قال الشعبي: من يطلق للعدة يجعل الله له سبيلًا إلى الرجعة (¬5). وقال الربيع بن خيثم: يجعل له مخرجًا من كل أمر ضاق على الناس (¬6)، وهو معنى قول ابن عباس: ومن يخف الله يجعل له مخرجًا من كل ضيق (¬7). وقال الكلبي: ومن يصبر على المصيبة، يجعل الله له مخرجًا من النار ¬

_ (¬1) في (س): (والظهار) زيادة. (¬2) انظر: "المغني" 10/ 559. (¬3) عند تفسيره الآية (282) من سورة البقرة. ومما قال: وقد ذكر الله الكتاب لأن الكتاب يذكر الشهود فتكون الشهادة أقوم من أن لو شهدوا على ظن ومخيلة. ومعنى أقوم أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج، وذلك أن المنتصب القائم يكون ضد المنحني المعوج. (¬4) في (ك): (إلى قوله قوله). (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 141 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 357، و"التفسير الكبير" 30/ 34، وزادوا نسبته لعكرمة والضحاك. (¬6) انظر: "جامع البيان" 28/ 89، و"الكشف والبيان" 12/ 141 ب، و"الدر" 6/ 232. (¬7) انظر: "جامع البيان" 28/ 89، و"الدر" 6/ 232، ولفظه (ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة).

إلى الجنة (¬1). وقال أكثر المفسرين: نزل هذا وما بعده في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنًا له فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة، فقال له: اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله (¬2): ففعل ذلك. فبينا هو في بيته إذا أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلًا وجاء بها إلى أبيه، فذلك قوله تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وهو قول المقاتلين، وسالم ابن أبي الجعد والكلبي (¬3). قال أبو إسحاق: وجائز أن يكون المعنى أنه اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله ففتح الله عليه إن كان ذا ضيقة، ورزقه من حيث لا يحتسب، قال: وجائز أن يكون إذا اتقى الله في طلاقه وجرى في ذلك على السنة يرزقه الله أهلًا بدل أهله (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 90، و"التفسير الكبير" 30/ 34. (¬2) في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها من كنوز الجنة". وانظر: "صحيح الجامع" 1/ 388 (1225)، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/ 33 (1528). (¬3) في (س): (والكلبي) زيادة. وانظر: "تفسير مقاتل" 158 ب، و"تنوير المقباس" 6/ 91، و"جامع البيان" 287/ 89، و"أسباب النزول" للواحدي 502. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 184. وقال النحاس: أهل التفسير على أن المعنى أنه إن اتقى الله جل وعز وطلق واحدة فله مخرج إن أراد أن يتزوج تزوج دن لم يتق الله جل وعز وطلق ثلاثاً فلا مخرج له. وهذا قول صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن عباس بالأسانيد التي لا تدفع. "إعراب القرآن" 3/ 452. قلت: حمل الآية على العموم أولى، وما ورد عن السلف رحمهم الله هو من باب =

قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: ومن وثق به فيما نابه كفاه الله ما أهمه، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله" (¬1). قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} قال ابن عباس: يريد في جميع خلقه (¬2)، والمعنى: سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم، ومن أضاف حذف التنوين استخفافًا (¬3) وهو مراد كما ذكرنا، في قوله: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} (¬4) [القمر: 27]، و {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. قال مسروق: إن الله واقع قدره على من يتوكل أو لم يتوكل، إلا أن (¬5) من يتوكل عليه يجعل له من أمره مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب (¬6). {قد جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} قال الكلبي ومقاتل: لكل شيء من الشدة والرخاء أجلًا ينتهي إليه قدر الله، ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر (¬7). ¬

_ = التمثيل لا الحصر، وليس بين تلك الأقوال تعارض، والله أعلم. (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 34. (¬3) قرأ حفص {إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} مضافًا. وقرأ الباقون {بَالِغُ أَمْرِهِ} بالتنوين. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 300، و"حجة القراءات" ص 712، و"النشر" 2/ 388، و"الإتحاف" ص 418. (¬4) تقدم بيان القراءة فيها. (¬5) (س): (أن) زيادة. (¬6) انظر: "جامع البيان" 28/ 90، و"الكشف والبيان" 12/ 142/ ب، و"معالم التنزيل" 3/ 358. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 158 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 34.

4

وقال ابن عباس: يريد قدرت ما خلقت بمشيئتي (¬1). 4 - قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} ذكر الله تعالى في سورة البقرة عدة ذات الأقراء، والمتوفى عنها زوجها (¬2)، وذكر عدة سائر النسوة اللائي لم يذكرن هناك في هذه السورة (¬3). ويروى أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله: قد عرفنا عدة التي تحيض، فما عدة الكبيرة التي يئست فنزل قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} (¬4) يعني القواعد من النساء اللاتي قعدن من المحيض. قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} إن شككتم، فلم تدروا ما عدتها. وهذا قول الأكثرين واختيار الفراء (¬5). وقال أبو إسحاق: معناه إن ارتبتم في حيضتها وقد إنقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها فعدتهن ثلاثة أشهر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 34. (¬2) وذلك في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [234]. (¬3) وهن الكبيرات اللاتي انقطع عنهن الحيض، والصغيرات اللاتي يحضن، وأولات الأحمال. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 91، و"التفسير الكبير" 30/ 35. وذكره أكثر المفسرين عن أبي بن كعب. انظر: "جامع البيان" 28/ 93، و"الكشف والبيان" 12/ 243 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 503. (¬5) في (س): (واختيار الفراء) زيادة. وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 163، و"جامع البيان" 28/ 91، و"فتح الباري" 9/ 470. قال ابن كثير: وهذا مروي عن سعيد بن جبير، وهو اختيار ابن جرير، وهو أظهر في المعنى. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 381. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 185.

وللشافعي رحمه الله في كيفية اعتبار اليأس قولان: أحدهما: أن (¬1) يعتبر غالب عادة نسائها ومن في مثل حالها، فإذا مضت عليها تلك المدة ولم تحض علمنا أنها يئست (¬2). فمعنى الارتياب على القول الأول: الجهالة بحكم العدة. أي إن جهلتم عدة الكبيرة وشككتم في عدتها فلم تدروا كم هي ثلاثة أشهر. وعلى القول الثاني معنى الارتياب الشك في حالة المرأة أهي آيسة أم ذات حيض ويستأنى بها إحدى العادتين اللتين ذكرناهما. فلما نزل قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} قام رجل فقال: يا رسول الله: فما عدة الصغيرة التي لم تحض؟ فنزل: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} -أي: هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر. فقام آخر فقال: فالحامل (¬3) يا رسول الله ما عدتهن؟ فنزل: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4). معناه: أجلهن في انقطاع ما بينهن وبين ¬

_ (¬1) في (س): (أن) زيادة. (¬2) في (س): (آيسة). وانظر: "المجموع" 18/ 144، و"المغني" 11/ 211. (¬3) في (س): (فالحوامل). (¬4) ذكر مقاتل نحوه وذكر اسم السائل وهو خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري، ونقله الثعلبي عن مقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 158/ ب، و"الكشف والبيان" 12/ 143 أ - ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص 503. قلت: ذكر الثعلبي عند سبب النزول أن الآية نزلت بكاملها، ثم أورد قول مقاتل. وهذه دلالة على ترجيحه لغير ما قاله مقاتل. وهو الصواب إن شاء الله إذ القرآن لا يليق به غير هذا، وتقطيع الآية بهذه الصورة يفكك النظم بين مفردات الآية الواحدة. ويشهد لهذا ما أخرجه ابن جرير وإسحاق بن راهوية والحاكم وغيرهم لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة .. قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن ناسًا يقولون: قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن الصغار وذوات الحمل. فنزلت: =

الأزواج وضع العمل. وهذا عام في كل حامل، قال عبد الله: من شاء قاسمته لنزلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} بعد: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وكان عبد الله يقول: أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها (¬1)، وكان علي يقول آخر الأجلين (¬2)، والمأخوذ به قول عبد الله حتى إن المتوفى عنها زوجها (¬3) لو وضعت حملها قبل دفن الميت حلت للأزواج (¬4). ¬

_ = {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الآية. قال السيوطي في "اللباب": صحيح الإسناد. وقال الحاكم في "المستدرك" 2/ 493: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬1) أخرج البخاري في التفسير، باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} 6/ 194 عن ابن مسعود وفيه: لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وانظر: "جامع البيان" 28/ 92، و"تفسير ابن كثير" 4/ 382، و"فتح الباري" 8/ 656. (¬2) أخرجه ابن جرير وعبد الرزاق وغيرهما، وأخرجه عبد بن حميد، وسعيد بن منصور، عنه بسند صحيح، وأخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب: التفسير، سورة الطلاق 6/ 193 عن ابن عباس، ومسلم في كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها 2/ 1122 عن ابن عباس. وانظر: "جامع البيان" 28/ 93، و"فتح الباري" 9/ 474. قلت: ما ورد في "الصحيح" وما رواه ابن جرير في "تفسيره" 2/ 512 عن ابن عباس بإسناد حسن من طريق علي بن أبي طلحة يدل على رجوعه عن القول السابق بعد أن بلغه حديث سبيعة الأسلمية. انظر: "تفسير ابن عباس ومروياته" للحميدي 2/ 894. (¬3) (زوجها) ساقطة من (س). (¬4) قال ابن حجر: (وقد قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار: إن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل بوضع العمل وتنقضي عدة الوفاة). "فتح الباري" 9/ 474. ونقل ابن قدامة الإجماع على ذلك ورجوع ابن عباس عن قوله. "المغني" 11/ 227.

6

يدل على ذلك حديث سبيعة بنت الحارث وهي أنها وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجها فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد حللت حين وضعت حملك" وأمرها أن تتزوج (¬1). {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ} في جميع ما أمره بطاعته فيه {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح. قال ذلك المقاتلان (¬2). وقال عطاء: يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة (¬3). {ذَلِكَ} يعني الذي ذكر من الأحكام {أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ} بطاعته فيعمل بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم -. {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} قاله ابن عباس (¬4). 6 - قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} قال الكسائي: {مِّن} صلة، والمعنى: أسكنوهن حيث (¬5) سكنتم من وجدكم (¬6). قال أبو عبيدة: من سعتكم من الجدة (¬7). ¬

_ (¬1) حديث متفق عليه، رواه البخاري في كتاب: المغازي، باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي 5/ 102 ومسلم في كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع العمل 2/ 1122. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 158 ب. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 358، و"التفسير الكبير" 30/ 36. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 36. (¬5) في (س): (من حيث). (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 144 أ، وعند الزمخشري أنها للتبعيض، والمعنى: أي بعض مكان سكناكم، و"الكشاف" 4/ 110. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 260.

وقال الفراء: يقول: على قدر طاقتكم، على قدر (¬1) ما يجد، فإن كان موسعًا وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرًا مقترًا (¬2) فعلى قدر ذلك (¬3). وقال أبو إسحاق: يقال: وجدت في المال وجدًا -أي صرت ذا مال- ووجدًا وجدةً (¬4). وقال الأخفش: الوجدُ المقدرة، أي: من حيث سكنتم مما تقدرون عليه (¬5). قال المقاتلان: يعني من سعتكم في المسكن والنفقة (¬6). وقال الضحاك: أنفقوا عليهن بقدر ما عندكم من السعة. وقال السدي: {مِنْ وُجْدِكُمْ} أي من ملككم (¬7). قال قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه (¬8). قال أصحابنا (¬9): السكنى تكون في مسكن النكاح، ولا يجوز للزوج أن يخرجها منه، ولا لها أن تخرج. ¬

_ (¬1) في (س): (قدر) زيادة. (¬2) في (س): (مقترًا) زيادة. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 163. (¬4) في (ك): (ووجدة). وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 186. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 2/ 710. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 159 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 359. (¬7) لم أجدها. وعند ابن جرير عن السدي: (المرأة يطلقها فعليه أن يسكنها وينفق عليها)، و"جامع البيان" 28/ 94، وما ذكره المؤلف عنهما لا يخرج عن أقوال المفسرين المذكورة. (¬8) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 383، و"الدر" 6/ 237. (¬9) أي الشافعية. وانظر: "المجموع" 18/ 162، و"الحاوي الكبير" 11/ 249.

جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن: ما ترى في امرأة طلقت ثم أصبحت غادية إلى أهلها؟ فقال عبد الله: ما أحب أن لي دينها بتمرة. فإن كان للزوج المطلق مسكن واحد ودار واحدة؛ لم يجز للمرأة أن تساكنه فيها ساعة إلا مع محرم بالغ من محارمها، ولكن على الزوج أن يخرج منها لتخلو الدار لها، وإن كانت الدار واسعة مشتملة على مرافق فإن أمكنها أن تنفرد في بعض مرافق الدار جاز أن تساكنه (¬1)، وكل مطلقة مستحقة للسكنى (¬2). وفي المتوفى عنها قولان: أحدهما: أنها تستحق السكنى. والثاني: أنها لا تستحق وليس لها نفقة العدة بحال (¬3). قوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} نهى الله عن مضارتهن ¬

_ (¬1) في (س): من قوله (فيها ساعة) إلى (تساكنه) زيادة. وانظر: "المجموع" 18/ 162، و"المغني" 11/ 302. (¬2) وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وعائشة، وسعيد بن المسيب، والشافعي، وأصحاب الرأي، وغيرهم. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 459، و"المغني" 11/ 300. (¬3) في (س): (بحال) زيادة. وانظر: "المغني" 11/ 292، وقال: (قال أصحابنا: ولا سكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلاً، رواية واحدة، دن كانت حاملًا فعلى روايتين، وللشافعي في سكنى المتوفى عنها قولان ...). وقال الجصاص: قد اتفق الجميع على أن لا نفقة للمتوفى عنها زوجها غير الحامل. "أحكام القرآن" 3/ 462.

بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة. قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهذا بيان حكم المطلقة البائنة؛ لأن الرجعية تستحق النفقة وإن لم تكن حاملاً، وان كانت مطلقة ثلاثًا، أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملًا فتستحق النفقة (¬1). قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يعني حق الرضاع وأجرته، وللزوج أن يستأجر امرأته لإرضاع الولد كما يستأجر أجنبية، وبيان هذا قد تقدم في سورة البقرة (¬2). قوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} قال عطاء: يريد بفضل معروف منك (¬3). وقال مقاتل بن حيان: يتراضى الأب والأم على أجل مسمى (¬4). وقال السدي: يعني اصنعوا المعروف فيما بينكم (¬5). وقال المبرد: ليأمر بعضكم بعضًا بالمعروف. والخطاب للأزواج من ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" 5/ 97، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 459، و"المغني" 11/ 301، و"شرح النووي على مسلم" 10/ 95، و"المحلى" 10/ 288، و"فتح الباري" 9/ 480، وهو قول الجمهور. وقال الأحناف والثوري والحسن بن صالح: لكل مطلقة السكنى والمنفقة ما دامت في العدة حاملًا كانت أو غير حامل. انظر: "بدائع الصنائع" 4/ 2038، و"شرح فتح القدر" 3/ 339، و"الحاوي الكبير" 11/ 246. (¬2) عند تفسيره الآية (233) من سورة البقرة. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 37. (¬4) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 360. (¬5) انظر: "جامع البيان" 28/ 96.

الرجال والنساء يأمرهم أن يأتوا المعروف وما هو الأحسن ولا يقصدوا التعاسر والضرر (¬1). قال أبو إسحاق: المعروف هاهنا -والله أعلم- أن لا يقصر الرجل في نفقة المرأة التي ترضع ولده إذا كانت هي والدته؛ لأن الوالدة أرأف بولدها من غيرها، ولا تقصر هي في إرضاع ولدها، والقيام بشأنه، فحق على كل واحد منهما أن يأتمر في الولد بمعروف (¬2). وذكرنا تفسير الائتمار عند قوله: {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} (¬3) [القصص: 20]. {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي (¬4) في الأجرة ولم يتفق بين الوالدة والولد ما يتراضيان به {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} معناه: فليسترضع له (¬5) الوالد غير (¬6) والدة الصبي. ومعنى {تَعَاسَرْتُمْ} لم تتفقوا على أمر. ثم بين قدر الإنفاق فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهن ومن ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 37. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 186. (¬3) قال: الائتمار: المشاروة، وهو أن يأمر بعضهم بعضًا. قال شمر: يقول ائتمرت فلانًا في ذلك الأمر إذا شاورته، وائتمر القوم إذا شاوروا ثم الائتمار يكون مرة مع ذوي العقل والرأي من الناس وهو المحمود المسنون ومرة يكون مع النفس والهوى، وهو المذموم. (¬4) في (س): (أي) زيادة. (¬5) (له) ساقطة من (س). (¬6) في (ك): (غيره).

8

كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك. وهذا كقوله (¬1) {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} أي: ما أعطاها من الرزق، قال السدي: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني (¬2). وذلك أنه لو كلف الفقير أن يوسع فقد كلفه ما لم يؤته، وإذا كلف الغني ذلك لم يكلفه إلا ما آتاه. قوله: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي من بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء. قال أبو إسحاق: كان الغالب على أكثرهم في ذلك الوقت الفقر والفاقة فأعلمهم الله عَزَّ وَجَلَّ أنه سيوسر المسلمون، ففتح عليهم بعد ذلك وجعل يسرًا بعد عسر (¬3)، والمؤمنون وإن كانوا في حال ضيقة فهم على رجاء اليسر من الله تعالى. 8 - قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} الكلام في كأين والاختلاف فيها قد تقدم ذكره في سورة آل عمران (¬4). ¬

_ (¬1) في (ك): (كله). (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 97، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 456. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 187. (¬4) عند تفسيره الآية (146) من سورة آل عمران. قال أبو الهيثم: كأيّ بمعنى كم، وكم بمعنى الكثرة. والكاف في (كأين) كاف التشبيه دخلت على (أيِّ)، التي هي الاستفهام كما دخلت على (ذا) في (كذا) و (أن في (كأن) ولا معني للتشبيه فيه ... وكثر استعمال هذه الكلمة فصارت ككلمة واحدة موضوعة للتكثير، وفي كأين ثلاث لغات: كأين بوزن كعين، وكائن بوزن كاعِن، وكاين بوزن ماين. وانظر: "اللسان" 3/ 323 (كين). =

{وَكَأَيِّنْ} في هذه الآية مبتدأة في اللفظ فاعل في المعنى كما أن كم رجل قد قام كذلك (¬1). وقد تكون مفعولة كقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45] فهذه مفعولة بها في المعنى ومبتدأة في اللفظ، وأنث على المعنى كما جعل على المعنى في قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ في السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} [النجم: 26] والكلام خرج على لفظ القرية في قوله: {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} والمراد أهلها. قال ابن عباس: عتوا على الله وعلى أنبيائهم (¬2). وقال مقاتل: خالفت أمر ربها وخالفت رسله (¬3). وقال الضحاك: يعني من أهلك من الأمم بتكذيبهم رسل الله وجحودهم بآياته. قوله تعالى: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} قال مقاتل: فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب (¬4) وهو قوله: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} (¬5). ففسر المحاسبة بالتعذيب، ونحو هذا قال الضحاك: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} (¬6) ¬

_ = وفي قوله تعالى (وكأين) خلاف بين القراء، حيث قرأ ابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وبعدها همزة مكسورة. وقرأ الباقون بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعدها ياء مكسورة مثل مشددة انظر: "حجة القراءات" ص 174، و"النشر" 2/ 242، و"الإتحاف" ص 418. (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 297. (¬2) لم أجده، والآية ظاهرة المعنى. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 159أ، و"التفسير الكبير" 30/ 38. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 159/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 38. (¬5) في (س): (شديدا). (¬6) من قوله (قال مقاتل) إلى (شديدا) ساقطة من (ك).

9

يقول في الدنيا وهو أن الله تعالى لم يتجاوز عنهم وأخذناهم بالعذاب جزاء لما فعلوا من التكذيب (¬1)، فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة؛ وذلك لأنهم لما (¬2) استحقوا العذاب بالتكذيب صار كأنه حاسبهم فعذبهم. وقال الكلبي: هذا على التقديم والتأخير، والمعنى: فعذبناها في الدنيا وحسابناها في الآخرة حسابًا شديدًا (¬3). 9 - {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي: ثقل عاقبة أمرها، قال ابن عباس: يريد عاقبة كفرها (¬4) {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} يقول: كان عاقبة أمرها (¬5) الخسران في الدنيا والآخرة. 10 - وهو قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} قال يخوف كفار مكة أن لا يكذبوا محمدًا فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم. ثم قال للذين آمنوا {فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}. ثم نعتهم فقال قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا} قال أبو إسحاق: رسولاً منصوب على ثلاثة أوجه، أجودها أن يكون قوله: {قَدْ أَنْزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} دليلاً (¬6) على إضمار أرسل رسولاً (¬7)، والمعنى ¬

_ (¬1) لم أجده. (¬2) (لما) ساقطة من (ك). (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 164، و"الكشف والبيان" 12/ 145 أ، و"زاد المسير" 8/ 298 ونسبه لابن عباس، و"التفسير الكبير" 30/ 38. (¬4) انظر: "جامع البيان" 28/ 92، و"التفسير الكبير" 30/ 38. (¬5) في (ك): (عاقبته). (¬6) في (س): (دليل). (¬7) انظر: "معاني القرآن" 5/ 188.

11

على هذا: أنزل عليكم (¬1) قرآنًا -والذكر هو القرآن- وأرسل رسولاً، وإنزال الذكر يدل على إرسال الرسول؛ لأن الذكر ينزل على الرسول، وهذا الوجه هو قول الكسائي (¬2). 11 - قال أبو إسحاق: ويكون {رَسُولًا} منصوبًا بقول: {ذِكْرًا} ويكون المعنى: قد أنزل إليكم أن ذكر رسولاً يعني به النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو علي: هذا الوجه {رَسُولًا} (¬3) معمول المصدر والتقدير أن ذكر رسولاً (¬4) لأن يتبعوه فيهتدوا بالاقتداء به، ومثل ذلك من إعمال المصدر قوله: {مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} [النحل: 73] فشيء مفعول المصدر (¬5). الوجه الثالث: قال أبو إسحاق: ويكون المعنى قد أنزل الله إليكم ذكرًا رسولاً. بدلاً من: {ذِكْرًا} (¬6)، قال أبو علي: هذا يكون على تقدير حذف المضاف إلى الذكر، والذكر على هذا القول يحتمل تأويلين: أحدهما: ذا شرف وصيت (¬7) كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. ¬

_ (¬1) في (س): (إليكم). (¬2) قال أبو حيان: ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطيه. انظر: "البحر المحيط" 8/ 286. (¬3) في (س): (رسولاً) زيادة. (¬4) في (ك): (يكون رسول). (¬5) في (س): (المصدر) زيادة. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 188. (¬7) في (ك): (وصلب).

الآخر: ذا قرآن كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل: 44] والإنزال على هذا القول يكون بمعنى الإنشاء والإحداث، كما ذكرنا في قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]. وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25]. قال أبو إسحاق: ويكون يعني به جبريل يريد أن المعنى في قوله: فأنزل الله إليكم ذا ذكر رسولاً، وهو جبريل (¬1)؛ لأنه أنزل مع القرآن رسولاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -، وهذا محتمل وأن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم - أولى لقوله بعده: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ}. وذكر أبو جعفر (¬2) النحاس وجهين آخرين في نصب {رَسُولًا} (¬3) لا يصح واحد منهما. أحدهما: أنه قال: {رَسُولًا} بدل من {ذِكْرًا} بمعنى رسالة (¬4). وهذا لا يجوز لقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ ...} إلى آخر الآية. وهو من صفة الرسول لا الرسالة (¬5). الثاني: أنه قال: {رَسُولًا} أي مع رسول فيكون مفعولًا معه (¬6). وهذا أيضًا غير جائز؛ لأن المفعول معه لا يكون إلا مع الواو كما تقول: استوى الماء والخشبة، ولا يجوز بغير الواو (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 188. (¬2) في (س): (أبو جعفر) زيادة. (¬3) انظر: "القطع والائتناف" ص731. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 458. (¬5) انظر: "البحر المحيط" 8/ 286، و"روح المعاني" 28/ 141. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 145 ب. (¬7) انظر: "النحو الوافي" لعباس حسن 2/ 310.

12

قوله تعالى: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقًا} قال الزجاج (¬1): أي رزقه الجنة التي لا ينقطع نعيمها ولا يزول (¬2). ثم ذكر عَزَّ وَجَلَّ ما يدل على توحيده فقال: 12 - قوله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال الكلبي: بعضها فوق بعض مثل القبة (¬3). {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال مقاتل: وخلق من الأرض مثل عدد السموات (¬4) {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قال عطاء: يريد الوحي بينهن إلى خلقه في كل أرض وفي كل سماء (¬5). وقال الكلبي: يعني الوحي، وفي كل أرض منهن خلق وماء (¬6). وقال مقاتل: يعني الوحي (¬7) من السماء العليا إلى الأرض السفلى (¬8). ¬

_ (¬1) (ك): (الزجال). (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 188. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 159 ب، وهو قول الجمهور. انظر: "البداية والنهاية" 1/ 21، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 385، و"روح المعاني" 28/ 142. وقال ابن حجر عند شرحه لحديث البخاري في كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض 3/ 170: وفيه أن الأرضين السبع طباق كالسموات، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} خلافًا لمن قال: إن المراد بقوله سبع أرضين سبعة أقاليم؛ لأنه لو كان كذلك لم يطوق الغاصب شبرًا من إقليم آخر. "فتح الباري" 5/ 105. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 40. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 95، ولفظه: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} سبعًا ولكنها منبسطة. (¬6) في (ك): (ومرض). (¬7) من قوله (وفي كل أرض) إلى (يعني الوحي) ساقطة من (ك). (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 159 ب.

وقال مجاهد: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت (¬1) بعض، وغنى واحد (¬2) وفقر آخر، وسلامة هذا وهلاك ذاك (¬3). قال: وهذه الأرض إلى التي تحتها مثل فسطاط بأرض فلاة، وهذه السماء إلى التي فوقها مثل حلقة في فلاة (¬4). وقال قتادة: في كل سماء من سمائه، وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره، وقضاء من قضائه (¬5). وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قال: بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة (¬6). وروى مجاهد عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تكذيبكم بها (¬7). وروى أبو الضحى (¬8) عنه قال: في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، ونحو ما على الأرض من الخلق) (¬9). ¬

_ (¬1) في (ك): (ومرض). (¬2) في (ك): (بعض واحد). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 40. (¬4) انظر: "جامع البيان" 28/ 99. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 299، و"جامع البيان" 28/ 99، و"الدر" 6/ 238. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 682، و"جامع البيان" 28/ 100. (¬7) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن الضريس. انظر: "جامع البيان" 28/ 99، و"الدر" 6/ 238. (¬8) هو مسلم بن صبيح الهمداني، العطار، ثقة، فاضل، مشهور بكنيته. وقد تقدم. (¬9) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 28/ 99، والحاكم في "المستدرك" 2/ 493، =

قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا} قال الزجاج: معناه أعلمكم ذلك لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه وهو قوله تعالى: {وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وهو منصوب على المصدر؛ لأن قوله: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} معناه: علم كل شيء (¬1) والله تعالى أعلم. ¬

_ = وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 267، وقال: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا، والله أعلم. وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 1/ 21، وهو محمول إن صح نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس -رضي الله عنه- عن الإسرائيليات، والله أعلم. وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 385. وقال أبو حيان: وعن ابن عباس من رواية الواقدي الكذاب .. ثم ذكر الحديث وقال: وهذا حديث لا شك في وضعه. انظر: "البحر المحيط" 8/ 287. (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 189.

المملكة العربيّة السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -114، 115 - التَّفْسِيُر البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة التحريم إلى سورة القلم تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري من سورة الحاقة إلى سورة القيامة تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الثاني والعشرون

المملكة العربيّة السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -114، 115 - التَّفْسِيُر البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة التحريم إلى سورة القلم تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري من سورة الحاقة إلى سورة القيامة تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الثاني والعشرون

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 987 (مجموعة) 6 - 879 - 04 - 9960 - 978 (ج 22) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 6 - 879 - 04 - 9960 - 978 (ج 22)

التَّفْسِيُر البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [22]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيُر البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة التحريم إلى سورة القلم تحقيق د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري

تفسير سورة التحريم

تفسير سورة التحريم بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} اختلفوا في الذي حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم- على (¬1) نفسه، فروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح دخل على أزواجه امرأة امرأة يسلم عليهن، وكانت حفصة قد أهدي لها عسل، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل عليها تحبسه عندها وتسقيه منه، فيجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- عندها، وفطنت عائشة بذلك فجمعت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-وقالت لكل واحدة منهن، إذا دخل عليك (¬2) النبي -صلى الله عليه وسلم- فقولي (¬3): ما هذا الريح نجدها منك؟ أكلت مغافير (¬4)؟ فإنه يقول: لا. سقتني حفصة عسلًا. فقولي: جرست نحلة العرفط (¬5). فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ¬

_ (¬1) في (ك)، (س): (عن). (¬2) في (ك): (عليك) زيادة. (¬3) في (ك): (عليك فتقول). (¬4) المغافير: صمغ يسيل من شجر العرفط حلو غير أن رائحته ليست بطيبة. "اللسان" 2/ 749 (عرفط). (¬5) جرست النحلة أي أكل ورعت، وهو لحسها إياه ثم تعسله، ولا يقال جرس بمعنى رعى إلا للنحل. والعرفط (بضم العين والفاء وتسكين الراء): شجر خبيث الريح، وهو من أخبث =

امرأة امرأة وهن يقلن له ذلك، ثم دخل على عائشة فقالت له ذلك أيضًا. فلما كان من الغد دخل على حفصة فسقته فأبى أن يشربه وحرمه على نفسه، وكان يكره أن يوجد منه ريح منتنة، لأنه يأتيه الملك، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وهذا قول ابن أبي مليكة، وعبد الله بن عتبة. وروى عبيد بن عمير عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلًا ثم ذكر القصة (¬2)، ونحو هذا ذكر أبو إسحاق (¬3). وفي تفسير عطاء الخراساني أن التي كانت تسقي رسول الله العسل أم سلمة (¬4). وقال المقاتلان: ... رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت حفصة، فزارت أباها فلما رجعت أبصرت مارية ... النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت وقالت: إني رأيت مارية معك في البيت، وكان ذلك في يوم عائشة، ¬

_ = المراعي، وقيل: هو شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فهذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه وهو المغافير. "اللسان" 1/ 440 (جرس) 2/ 749 (عرفط). (¬1) حديث متفق عليه، وهو هنا بألفاظ قريبة مما في الصحيح. وانظر: "صحيح البخاري"، كتاب: الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك 7/ 560 ومسلم، كتاب: الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق 2/ 1101، "سنن أبي داود" كتاب: الأشربة، باب: في شراب العسل 2/ 708، و"سنن النسائي"، كتاب: الطلاق، باب: تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 2/ 721، و"جامع البيان" 28/ 102. (¬2) متفق عليه. رواه البخاري، في التفسير، سورة التحريم 6/ 194. ومسلم كتاب: الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق 2/ 1100. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 191. (¬4) أخرجه ابن سعد، عن عبد الله بن رافع. "الدر" 6/ 239.

فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجه ... والكآبة قال لها: لا تخبري ولك عليّ أن لا أقربها أبدًا. فأخبرت حفصة عائشة -وكانتا مصافيتين- فغضبت عائشة ولم تزل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى حلف أن لا يصيبها (¬1)، فأنزل الله هذه الآية (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس أن هذه القصة وقعت في بيت (¬3) عائشة -وعائشة كانت عند أمها- وعلمت حفصة بذلك، فأخبرت عائشة (¬4) ... عائشة: في بيتي، وفي يومي؟ فأرضا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن حلف لها أن لا يصيبها (¬5). وهذا قول الحسن، ومجاهد، وقتادة، والشعبي، ومسروق، ورواية ثابت عن أنس (¬6). ¬

_ (¬1) في (س): (والكلبي) زيادة. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 19 ب، و"تنوير المقباس" 6/ 96، و"الكشف والبيان" 12/ 147 أ. (¬3) (بيت) ساقطة من (ك). (¬4) انظر: "جامع البيان" 28/ 101، و"الدر" 6/ 239. (¬5) في (س): (والشعبي) زيادة. (¬6) أخرجه الحاكم 2/ 493 وصححه. قال ابن حجر: وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس ... وهذا أصح طريق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال ... وذكره بأطول مما هنا. "فتح الباري" 9/ 376، وفي "تفسير ابن كثير" 4/ 386 قال: وقال الهيثم بن كليب في "مسنده": .. وذكر ما يدل على تعلق القصة بمارية. ثم قال: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه المستخرج. ورجح النووي، وابن كثير نزول الآية في قصة العسل، وهو قول القاضي عياض. انظر: "شرح النووي على مسلم" 10/ 77، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 386. ورجح الجصاص، وابن حجر، وغيرهما نزولها في شأن مارية القبطية. انظر: "أحكام القرآن" 3/ 464، و"فتح الباري" 9/ 290، و"فتح القدير" 5/ 252. وقال ابن حجر أيضًا: فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معًا. "الفتح" 8/ 657.=

قال مسروق: حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم ولده وحلف أن لا يقربها فأنزل الله هذه الآية. فقيل له: أما الحرام فحلال، وأما اليمين التي حلفت عليها فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (¬1). وقال الشعبي: كان مع الحرام يمين فعوتب في الحرام وأمر أن يكفر اليمين، فذلك قوله: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (¬2). قال صاحب النظم: قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ} استفهام فيه إنكار، والإنكار من الله عز وجل نهي، وتحريم الحلال (¬3) مكروه، ولا يحرم الحلال إلا بتحريم الله عز وجل (¬4). قال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: جعلت امرأتي عليّ حرام قال: كذبت، ليس عليك حرام، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية، عليك أغلظ الكفارات رقبة (¬5). قوله تعالى: {تَبْتَغِي ¬

_ = وقال: وطريق الجمع بين هذا الاختلاف العمل على التعدد، فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد. "فتح الباري" 9/ 376. وعموم الآية للسببين وغيرهما هو اختيار ابن جرير وغيره. انظر: "جامع البيان" 28/ 102، و"روح المعاني" 28/ 151. (¬1) أخرجه ابن جرير وابن سعد. انظر: "جامع البيان" 28/ 100، و"الدر" 6/ 240. وقال ابن حجر: ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: ... وذكر نحوه. "فتح الباري" 8/ 657. (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 100. وقال ابن حجر: قال البيهقي: (.. أخرجه الترمذي، وابن ماجه بسند رجاله ثقات من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق.) "فتح الباري" 9/ 373. (¬3) في (ك): (الحرام). (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 42. (¬5) أخرجه النسائي، والحاكم في "المستدرك" 2/ 493 ولم يذكر قوله: عليك أغلظ =

2

مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} قال صاحب النظم: {تَبْتَغِي} حال خرجت مخرج المضارع. والمعنى: لم تحرم ما أحل الله لك مبتغيًا مرضاة أزواجك (¬1). 2 - قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} قال مقاتل: يعني قد بين الله، كما قال: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] (¬2). وقال غيره: قد أوجب، وهو اختيار ابن قتيبة (¬3). وذكر صاحب النظم القولين، وقال: إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [سورة الأحزاب: 50]، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين، فإن حمل على الإيجاب كان اللام بمعنى على كقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وقوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي تحليلها بالكفارة. و {تَحِلَّةَ} على وزن تفعلة، وأصله تحللة فأدغمت (¬4)، وتفعلة من مصادر تفعل كالتوصية، والتسمية. ومن المضاعف التعزة والتغرة. وتحلة القسم تكون بمعنيين: أحدهما: تحليله بالكفارة كالذي في هذه الآية. والآخر: يستعمل بمعنى الشيء القليل. وهذا هو الأكثر في ¬

_ = وقال ابن حجر: وكأنه أشار عليه بالرقبة لأنه عرف أنه موسر، فأراد أن يكفر بالأغلظ من كفارة اليمين لا أنه تعين عليه عتق رقبة. "فتح الباري" 9/ 376. (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 42. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 159 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 43. (¬3) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 472. (¬4) "سر صناعة الإعراب" 2/ 762: حيث أدغمت اللام في اللام.

الاستعمال (¬1)، كما روي في الحديث: "لن يلج النار إلا تحلة القسم" (¬2)، يعني زمانًا يسيرًا. وذلك أن القسم يتحلل بما يقع عليه الاسم كمن حلف أنه لا يأكل الخبز، يخرج عن يمينه بأدنى ما يقع عليه الاسم، وكذلك في كل شيء، ومنه قول الشاعر (¬3): أرى إبلي عاقت جدود فلم تذق ... بها قطرةً إلا تحلَّة مقسم وذكرنا عن جماعة من المفسرين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف أن لا يطأ جاريته فذكر الله تعالى له ما أوجب من كفارة اليمين. قال مقاتل: قد بين الله كفارة أيمانكم في المائدة [: 89]. والذين رووا من المفسرين أنه حلف قالوا: تلزم الكفارة في تحريمه الجارية على نفسه، كما تلزم في اليمين (¬4). روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الحرام يمين (¬5). والحكم في ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 43. (¬2) متفق عليه، و"صحح البخاري"، كتاب: الأيمان، باب قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} 8/ 167، و"صحيح مسلم"، كتاب: الأدب، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه 4/ 2028، ولفظه: "يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم". (¬3) ورد البيت في "اللسان" 1/ 705 (حلل) ولم ينسبه. (¬4) وهو قول قتادة، ومسروق، والشعبي، وزيد بن أسلم، والضحاك، وغيرهم. انظر: "جامع البيان" 28/ 100، و"زاد المسير" 8/ 307، و"الدر" 6/ 240. (¬5) أخرجه البخاري في مواضع، ولفظه: (إذا حرم امرأته ليس بشيء). وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} كتاب الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك 7/ 56، وفي كتاب التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}، ولفظه: (في الحرام يكفر) 6/ 194. =

هذا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي حرام ولم ينو طلاقًا ولا ظهارًا كان هذا اللفظ موجبًا لكفارة اليمين، وكذلك لو قال لأمته وجب كفارة يمين (¬1)، وكذلك لو قال لنسائه وجواريه: أنتن عليّ حرام. كفته كفارة واحدة. نص عليه الشافعي -رحمه الله- (¬2). فأما إذا حرم على نفسه طعامًا أو شيئًا آخر سوى الفرج لم يلزمه بذلك كفارة (¬3)، والآية محمولة على تحريم الجارية، أو على تحريم العسل مع اليمين، لأنه قد روي أنه مع ذلك التحريم حلف (¬4)، ولو حرم على نفسه ركوب دابة أو لبس ثوب لم يجب ¬

_ = قال ابن حجر في "الفتح" 9/ 376، وأخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المبارك الصوري عن معاوية بن سلام بإسناد حديث الباب بلفظ: (إذا حرم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها)، فعرف أن المراد بقوله: (ليس بشيء)، أي: ليس بطلاق. وأخرجه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق 2/ 1100. (¬1) وبه قال عامة أهل العلم. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 465، و"المغني" 10/ 61، و"فتح الباري" 9/ 371. (¬2) قال النووي: فيه قولان للشافعي أصحهما يلزمه كفارة يمين. "شرح النووي على مسلم" 10/ 73، وقال ابن قدامة في "المغني" 10/ 396: إذا قال لزوجته: أنت علي حرام وأطلق فهو ظهار. وقال الشافعي: لا شيء عليه. وله قول آخر عليه كفارة يمين، وليس بيمين. (¬3) وهو مذهب الشافعي، ومالك، والجمهور، وفي المسألة أربعة عشر مذهبًا كما حكاه القاضي عياض، وبلغت عند القرطبي ثمانية عشر، وزاد غيره عليها. انظر: "شرح النووي على مسلم" 10/ 74، و"فتح الباري" 9/ 372. وقال الألوسي: وهي في هذه المسألة كثيرة جدًّا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضًا. "روح المعاني" 28/ 149. (¬4) ورد في رواية البخاري في بلفظ: (وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا). قال ابن=

3

عليه كفارة إذا لم يحلف. قال المقاتلان: أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكفر يمينه ويراجع وليدته، فأعتق رقبة (¬1). قال أبو إسحاق: وعلى التفسيرين ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله، ولم يجعل الله لنبيه أن يحرم إلا ما حرم الله (¬2). قوله تعالى: {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ}، أي: وليكم وناصركم، {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه، {الْحَكِيمُ} فيما فرض من حكمه. 3 - قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} قال أبو إسحاق: موضع (إذ) نصب كأنه قال: واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا (¬3)، يعني ما أسر إلى حفصة في تحريمه الجارية على نفسه واستكتمها ذلك (¬4)، وقال جماعة من المفسرين: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى المغيرة والكراهية في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين. تحريم الأمة على نفسه، وبشرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر. وهذا قول ¬

_ = حجر: واستدل القرطبي وغيره بقوله: (حلفت) على أن الكفارة التي أشير إليها في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} هي عن اليمين التي أشار إليها بقوله: (حلفت)، فتكون الكفارة لأجل اليمين لا لمجرد التحريم. وهو استدلال قوي لمن يقول إن التحريم لغو لا كفارة فيه بمجرده. "فتح الباري" 9/ 378. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 160 أ، وهو قول زيد بن أسلم وغيره. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 185. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 192. (¬3) (حديثًا) ساقطة من (س). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 191.

ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وسعيد بن جبير (¬1) ومقاتل (¬2). قوله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} قال ابن عباس: أخبرت به عائشة (¬3) {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فأخبر (¬4) النبي -صلى الله عليه وسلم- حفصة عند ذلك ببعض (¬5) ما قالت، وهو قوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} قال ابن عباس: عرف حفصة بعض ما أخبرت به عائشة: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}، فلم يعرفه إياها على وجه التكريم والإغضاء (¬6). وقال مقاتل: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} لم يخبرها أنك أخبرت عائشة أن أبا بكر وعمر يملكان (¬7). فالذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر وعمر. ونحو هذا ذكر الزجاج (¬8). ¬

_ (¬1) في (س): (والكلبي وسعيد بن جبير) زيادة. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 160 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 147 ب، وفي "مجمع الزوائد" 7/ 126، ذكر الخبر عن أبي هريرة ثم قال: رواه الطبراني في "الأوسط"، من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عمه. قال الذهبي: مجهول وخبره ساقط. وذكر ابن كثير في "تفسيره" 4/ 390 تخريج الطبراني لذكر الخلافة عن ابن عباس. ثم قال: إسناده فيه نظر. واعتمد ما ورد في الصحيح. وانظر: "تخريجات الكشاف" ص 176. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 96. (¬4) في (ك): (فأخبر الله) والصواب ما أثبته. (¬5) (ما) ساقطة من (س). (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 43. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 160 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 364. (¬8) انظر: "معاني القرآن" 5/ 192، والذي فيه أنه عرف حفصة بعض ما أفضت به من الخبر دون التصريح بما عرفها به.

وروى أبو بكر ابن عيالش الكلبي (¬1) قال: كره أن ينشر في الناس. يعني ذكر الخلافة. وروى عن الكلبي بخلاف هذا قال: عرفها بعض حديثها لعائشة من شأن أبي بكر وعمر، {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} وهو تحريم الجارية؛ لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك. يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- أنكر عليها إفشاء الخلافة وأعرض عن إفشاء التحريم لقلة مبالاته بذلك (¬2). وقرئ (عرَفَ) مخففًا (¬3)، ومعناه جازى عليه، ولا يجوز أن يكون (عرف) من العلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أظهره الله على ما كانت أفشته علم جميع ذلك، ولم يجز أن يعلم من ذلك مع إظهار الله إياه بعضه، ولكن يعلم جميعه، فإذا لم يجز حمله على هذا الوجه علمت أنه بمعنى المجازاة، ¬

_ (¬1) كذا في في (ك): وصوابها (عن الكلبي) ولم أجد هذه الرواية. (¬2) انظر: "زاد المسير" 8/ 309، و"الكشاف" 4/ 115، من طريق أبي صالح عن ابن عباس. والقولان في "تفسير ابن عباس" 6/ 97. قال ابن حجر: قوله: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً لقوله: بل شربت عسلًا) هذا القدر بقية الحديث .. وكأن المعنى: وأما المراد بقوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} فهو لأجل قوله: (بل شربت عسلًا)، والنكتة فيه أن هذه الآية داخلة في الآيات الماضية، لأنها قبل قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}. قلت: وما ذكر من أمر الخلافة لا وجه له إذ يستبعد جمع أمر خاص به -صلى الله عليه وسلم- مع خلافة المسلمين العامة، ثم ما الذي منع عائشة وحفصة -رضي الله عنهما- من ذكر هذا الأمر بعد موته -صلى الله عليه وسلم- وما حصل أو كاد أن يحصل بين المهاجرين والأنصار، وهل كان الصديق أو الفاروق يحرص على تولي أمر المسلمين، وهل كانت عائشة أو حفصة كذلك، وعائشة هي التي كانت تشير عليه -صلى الله عليه وسلم- بأمر عمر بالصلاة دون أبيها، لو كانت علمت ذلك من قبل هل كانت ستشير بهذا؟ (¬3) قرأ الكسائي {عَرَّفَ} بتخفيف الراء، وقرأ الباقون بتشديدها. انظر: "حجة القراءات" ص 713، و"النشر" 2/ 388، و"الإتحاف" ص 419.

وهذا كما تقول لمن يسيء أو يحسن: أنا أعرف لأهل الإحسان وأعرف لأهل الإساءة، أي: لا يخفى عليّ ذلك وأغضي عن بعض، وهذا كقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ} [البقرة: 197] وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63]، أي: يجازيهم، وهو أعلم (¬1) بما في قلوب الخلق أجمعين. ومثله قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، أي: يرى جزاءه، وليس المعنى يرى ما عمل. وكان مما جازى حفصة تطليقه إياها؛ هذا كلام أبي علي (¬2). وهو كله قول الفراء والزجاج (¬3) واختيار أبي عبيد قراءة العامة لقوله: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني لم يعرفها إياه، ولو كان عرف مخففًا لكان ضده وأنكر بعضًا (¬4). ¬

_ (¬1) في (س): (يعلم). (¬2) من قوله: (جازى عليه ...) إلى هنا كلامه، وفيه تصرف من الواحدي. وانظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 301 - 302. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 166، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 192، و"زاد المسير" 8/ 308. قلت: تطليق حفصة رضي الله عنها يرده ما في الصحيح، وفيه عن عمر قال: فقلت: أطلقت يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءك؟ فرفع رأسه إليّ وقال: لا. فقلت: الله أكبر. وفي رواية (أطلقتهن؟ فقال: لا. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه) وفرحه -رضي الله عنه- لما علم بأنه لم يطلق حفصة، ولو كانت طلقت لحزن؛ إذ في إمساكها دليل على فضل آل الخطاب وخيريتهم، وفي "تفسير مقاتل" 160 أأنه لم يطلقها وأنها من نسائه في الجنة. وانظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الطلاق، باب: بيان أن تخيير المرأة لا يكون طلاقًا إلا بالنية 2/ 1103، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 389. (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 462، ومما قال: وقراءة الكسائي: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} وردها أبو عبيد ردًّا شنيعًا .. قال أبو جعفر: وهذا الرد لا يلزم، والقراءة معروفة عن جماعة منهم أبو عبد الرحمن السلمي.

4

4 - ثم خاطب عائشة وحفصة فقال قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} أي من التعاون على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإيذاء: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قال المفسرون: عدلت ومالت (¬1) عن الحق، وهما أنهما أحبا ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- من اجتناب جاريته فلذلك صغو قلبيهما (¬2)، وجواب الشرط محذوف للعلم به على تقدير: كان خيرًا لكما (¬3). والمراد بالجمع في قوله: {قُلُوبُكُمَا} التثنية. قال الفراء: وإنما اختير الجمع على التثنية؛ لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الإنسان، كاليدين والرجلين والعينين، فلما جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى الاثنين مذهب الاثنين (¬4). وقد ذكرنا شرح هذا عند قوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وتفسير الصغو قد تقدم أيضًا عند قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} (¬5) [الأنعام: 113]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 302، و"مجاز القرآن" 2/ 261، و"جامع البيان" 28/ 104. (¬2) في (س): (قلبهما) وهو قول ابن زيد. انظر: "جامع البيان" 28/ 104، و"الكشف والبيان" 12/ 148 ب. قال الألوسي: وإنما لم يفسروا: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} بمالت إلى الواجب، أو الحق، أو الخير، حتى يصح جعله جوابًا من غير احتياج إلى نحو ما تقدم؛ لأن صيغة الماضي، وقد، وقراءة ابن مسعود: (فقد زاغت قلوبكما) وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف. انظر: "روح المعاني" 28/ 152. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 189. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 44. (¬5) والصغا: ميل في الحنك أو إحدى الشفتين، وأصغيت الإناء إذا أملته. انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 159، و"اللسان" 2/ 445 (صغا).

قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}، أي: يتظاهرا ويتعاونا على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعصية (¬1) والإيذاء {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ}، أي: لم يضره ذلك التظاهر منكما فإن الله هو مولاه. قال ابن عباس: موال له على من عاداه، وناصر له (¬2). وقال مقاتل: ولي له في العون (¬3)، يعني يتولى نصرته. {وَجِبْرِيلُ} وليه، {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: يريد أبا بكر وعمر مواليين (¬4) للنبي -صلى الله عليه وسلم- على من عاداه، وناصرين له. وهو قول المقاتلين وعكرمة (¬5). وروى ذلك عن عبد الله مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر" (¬6). وقال المسيب بن شريك (¬7): هو أبو بكر (¬8). وقال سعيد بن جبير: هو عمر (¬9). ¬

_ (¬1) في (ك): (والمعصية). (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 98، و"معالم التنزيل" 4/ 366، و"زاد المسير" 8/ 310. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 160 أ. (¬4) في (ك): (والنبيين). (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 44، و"البحر المحيط" 8/ 291. (¬6) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 127: رواه الطبراني وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك. (¬7) مسيب بن شريك. أبو سعيد التميمي. سكتوا عنه، مات سنة 186 هـ انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 408. (¬8) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 159 ب، و"زاد المسير" 8/ 310، عن مكحول عن أبي أمامة. (¬9) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 159 ب، و"الدر" 6/ 244، ونسب إخراجه لسعيد ابن منصور وابن سعد وابن المنذر.

وقال الضحاك: يعني به خيار المؤمنين (¬1). ولفظ الآية على ما قال. ونحو ذلك قال الكلبي: هم المخلصون الذين ليسوا بمنافقين (¬2). قال الفراء: وصالح المؤمنين مثل أبي بكر وعمر، الذين ليس فيهم نفاق، وهو موحد في مذهب جمع كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا سيسة للحرب فقد أمر بالمجيء واحداً كان أو أكثر (¬3). وقال الزجاج: وصالح المؤمنين هاهنا ينوب عن الجميع كما تقول: يفعل هذا الخيرُ من الناس؛ تريد كل خيّر (¬4)، هذا كلامهما. وقد حصل أن قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} يجوز أن يراد به الواحد والجماعة، ثم الكلام في التعيين والتفصيل يكون إلى المفسرين على ما حكينا عنهم. وقال قتادة وسفيان: صالح المؤمنين هم الأنبياء (¬5). وعلى هذا معنى الآية: أن الأنبياء يوالونه وهم له أولياء، كما أن الله تعالى وليه وجبريل وليه. أي فلا يضره معاداة من عاداه. وأظهر هذه الأقوال قول من قال: إن المراد بصالح المؤمنين أبو بكر وعمر؛ لأن الخطاب في هذه الآية لابنتيهما عائشة وحفصة، وكأنه قيل لهمما: إن تعاونتما على إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن أبويكما لا يوافقانكما ولا ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 105، و"التفسير الكبير" 30/ 44. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 151 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 366. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 3/ 167. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 193. (¬5) انظر:"تفسير عبد الرزاق" 2/ 302، و"جامع البيان" 28/ 105. قلت: وهذا المعنى بعيد عن ظاهر الآية، وأي فائدة في موالاة الأنبياء عليهم السلام لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة، والله أعلم.

يتظاهران معكما، فإنهما وليا رسول الله (¬1). قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ} قال مقاتل: بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين: {ظَهِيرٌ} قال يعني: أعوان النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قال أبو عبيدة، والفراء، والزجاج: وظهير في معنى ظهراء، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع (¬3) كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقد ذكرنا هذا في مواضع. قال الفراء: والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير (¬4). قال أبو علي: وقد جاء فعيل مفردًا يراد به الكثرة، كقوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:10 - 11]، فدل عود الذكر ¬

_ (¬1) قال الآلوسي: (... وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرًا في قلوب بنتيهما وتوهينًا لأمرهما). انظر: "روح المعاني" 287/ 154. قلت: وممن قال بعموم اللفظ ابن جرير والنحاس وغيرهما. انظر: "جامع البيان" 28/ 108، و"روح المعاني" 28/ 154. وقال النحاس: فمن أصح ما قيل فيه أنه لكل صالح من المؤمنين، ولا يخص به واحد إلا بتوقيف. "إعراب القرآن" 3/ 462، وفي "تنوير المقباس" 6/ 98 قال: (جملة المؤمنين المخلصين أعوان له عليكما مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- ومن دونهم ...). وعلى هذا فحمل الآية على عمومها أولى وآكد والصديق والفاروق أولى الناس بنصرة النبي وموالاته، ولو فرض -وهو محال- أنهما نصرا ابنتيهما فبقية المؤمنين في نصرة النبي ومؤازرته -صلى الله عليه وسلم-. وهذا أبلغ في حق عائشة وحفصة -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 160 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 366. (¬3) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 261، و"معاني القرآن" 3/ 167، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 193. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 167.

5

مجموعًا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة (¬1). 5 - ثم خوف نساءه بقوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية. قال الضحاك: كل عسى في القرآن فهو واجب. والمفسرون يقولون: عسى من الله واجب (¬2). والمعنى: واجب من الله إن طلقكن رسوله أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، والله تعالى كان عالمًا أنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدل خيرًا منهن؛ تخويفًا لهن؛ وهذا كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]، والأكثر في قوله: {طَلَّقَكُنَّ} الإظهار، وروي عن أبي عمرو الإدغام (¬3). ولإدغام القاف في الكاف حسن , لأنهما من حروف الفم، وأصل الإدغام أن يكون فيما دون حرف الطرفين الحلق والشفة، فإن ترك الإدغام فيهما حسن , لأنهما من أول مخارج الحرف فأشبها حرف الحلق لقربهما منها كما أن الخاء والغين لما كانتا من أول مخارج الحلق وأقربهما إلى الفم أجريا مجرى حروف الفم في أن لم تبين النون معهما في بعض اللغات. وهو رواية أبي نشيط (¬4) عن قالون، وقراءة أبي جعفر، وكذلك ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 45، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 192. (¬2) انظر: "جامع البيان" 5/ 117، و"المحرر الوجيز" 2/ 159، و"تهذيب اللغة" 3/ 85، و"اللسان" 2/ 781 (عسى). (¬3) انظر: "النشر" 1/ 286، و"الإتحاف" 22 - 23. (¬4) هو محمد بن هارون، مقرئ جليل ضابط مشهور. قال ابن أبي حاتم: صدوق، سمعت مه مع أبي ببغداد، قلت: وسمع منه أبوه -وأثنى عليه- ومحمد بن مؤمل الناقد وجماعة. وكان ثقةً. توفي سنة 258 هـ ووهم من قال غير ذلك. انظر: "غاية النهاية" 2/ 272، و"سير النبلاء" 12/ 324، و"تاريخ بغداد" 3/ 352، و"تهذيب التهذيب" 9/ 493.

القاف والكاف يكونان لقربهما من الحلق في حكم حروفه. والإدغام في حروف الحلق ليس بكثير، وكذلك فيما أشبههن (¬1). ثم نعت تلك الأزواج التي كان يبدله لو طلق نساءه، فقال: {مُسْلِمَاتٍ} أي: خاضعات لله بالطاعة، {مُؤْمِنَاتٍ} مصدقات بتوحيد الله، {قَانِتَاتٍ} طائعات، {سَائِحَاتٍ} قال المفسرون: صائمات. وذكرنا تفسير الكلام فيه عند قوله: {السَّائِحُونَ} (¬2) [التوبة: 112]. قوله: {ثَيِّبَاتٍ} جمع ثيب. قال الليث: وهي المرأة التي قد تزوجت فبانت بأي وجه (¬3) كان، فعادت كما كانت غير ذات زوج قبل التزوج، أو تزوجت بعد ذلك (¬4)، ولا يوصف به الرجل إلا أن يقال: ولد الثيبين كما يقال: ولد البكرين. وجاء في الخبر: "الثيبان يرجمان" (¬5). قال الأزهري: كأنه قيل لها ثيب؛ لأنها عادت إلى حالتها الأولى قبل ¬

_ (¬1) من قوله (وإدغام القاف في الكاف حسن) إلى هنا، من كلام أبي علي الفارسي وفيه تصرف. انظر: "الحجة" 6/ 303. (¬2) وممن فسرها بالصائمات ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة. انظر: "جامع البيان" 28/ 106، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 193. ونسبه الزجاج لأهل التفسير وأهل اللغة. "معاني القرآن" 5/ 194، و"اللسان" 3/ 323 (سيح). وقال الفراء: ونرى أن الصائم إنما سمي سائحًا أن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد، فكأنه أخذ من ذلك. "معاني القرآن" 3/ 167. (¬3) في (ك): (بوجه ما) بدلاً من (بأي وجه)، والصواب ما أثبته. (¬4) في (س): (قبل التزوج، أو تزوجت بعد ذلك) زيادة وبعدها عبارة مطموسة. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عن مسروق عن أبي بن كعب (البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يجلدان ويرجمان)، وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسروق: (البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يرجمان ولا يجلدان، والشيخان يجلدان ثم يرجمان) ورجاله رجال الصحيح. "فتح الباري" 12/ 157.

6

أن تزوج، وكل شيء عاد بعد ذهابه فقد ثاب يثوب ثؤوبًا، ويقال: تثيب المرأة تثيبًا إذا صارت ثيبًا (¬1). قوله تعالى: {وَأَبْكَارًا} يريد عذارى. 6 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬2) قال ابن عباس: أي بالانتهاء عما نهاكم الله عنه، والعمل بطاعته (¬3)، {وَأَهْلِيكُمْ} قال عمر: يا رسول الله: هذا نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟ قال: "تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمركم الله به" (¬4). ونحو هذا قال جماعة المفسرين. قال مقاتل بن حيان: يعني أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله فيعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، فذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه وأهله وعبيده وإمائه في تأديبهم وتعليمهم (¬5). وقال علي -رضي الله عنه- (¬6) في هذه الآية: علموهم وأدبوهم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 152 (ثاب)، و"اللسان" 1/ 388 (ثيب). (¬2) في (ك): (أنفسكم وأهليكم). (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 367، وأخرج ابن جرير وغيره عنه قال: (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار). انظر: "جامع البيان" 28/ 107، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 391، و"الدر" 6/ 244. (¬4) ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 292، بدون سند. ونحوه روى ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فقالوا: يا رسول الله: كيف نقي أهلنا نارًا. قال: (تأمرونهم بما يحبه الله وتنهونهم عما يكره الله) "الدر" 6/ 244. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 46، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 391. (¬6) في (ك): (رحمه الله). (¬7) أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم، وصححه ولفظه (علموا أهليكم خيرًا). انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 303، و"جامع البيان" 28/ 107، و"المستدرك" =

وقال الحسن: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصيته (1). وقال قتادة: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله (2). قال ابن عمر لرجل: أدب ابنك فإنك مسؤول عن ولدك (3)، كيف أدبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطاعتك (4). وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أخف أهلك ولا ترفع عنهم عطاءك" (5). وقال أبو إسحاق: المعنى: خذوا أنفسكم وأهليكم بما يقرب من الله، وجنبوا أنفسكم وأهليكم المعاصي (6). وقال مقاتل: قوا أنفسكم وأهليكم المعاصي بالأدب الصالح النار في الآخرة (7). وهو قوله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وقد سبق تفسيره في سورة البقرة (8).

_ = 2/ 494، و"فتح الباري" 8/ 659 وقال: وروى الحاكم .... ورواته ثقات، و"الاستذكار" 5/ 216 وقال: قال أهل العلم بتأويل القرآن ومعانيه: أدبوهم وعلموهم. (1) أخرج سعيد بن منصور نحوه عن الحسين. انظر: "فتح الباري" 8/ 259. (2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 303، و"جامع البيان" 28/ 107، و"الدر" 6/ 244. (3) في (ك): (كيف). (4) و (5) لم أجده. (6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 194. (7) انظر: "تفسير مقاتل" 160 أ. (8) عند تفسيره الآية (24) من سورة البقرة قال: {فَاتَّقُوا النَّارَ}، أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم، وإنما قيل لهم هذا بعد أن ثبتت الحجة عليهم في التوحيد وصدق محمد {وَقُودُهَا النَّاسُ} قال ابن السكيت: الوُقود بالضم المصدر. يقال: وقدت النار تقد وقودًا. ويقال: ما أجود هذا الوقود للحطب. {وَالْحِجَارَةُ} جمع =

8

قوله تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ} قال ابن عباس: يريد خزنة النار تسعة عشر ملكًا (¬1)، {غِلَاظٌ} أي على أهل النار كقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9]، ويجوز أن يكون معنى الغلظ هاهنا ضخامة أجسامهم. قال (¬2) ابن عباس: ما بين منكبيه مسيرة سنة. ونحوه قال مقاتل (¬3). وقوله: {شِدَادٌ} أي أقوياء. قالا: وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم (¬4). 8 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} قال أبو إسحاق: معناه توبة بالغة في (¬5) النصح (¬6). وقال الفراء: {نَصُوحًا} من صفة التوبة، ومعناه يحدث نفسه إذا تاب ¬

_ = حجر، وليس بقياس، ولكنهم قالوه كما قالوا: جمل وجمالة، وذكر وذكارة، وجاء في التفسير أن الحجارة هاهنا حجارة الكبريت. وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ} لا يدل على أنها غير مخلوقة بأن الناس لم يدخلوها بعد لأنها متقدة بغير الناس فإذا دخلها الناس صاروا وقودها. (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 151 ب، و"البحر المحيط" 8/ 292، و"روح المعاني" 28/ 157، ولم ينسب لقائل. (¬2) في (ك): (فقال) زيادة. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب، و"الدر" 6/ 244، وذكر تخريج ابن جريج له عن كعب بلفظ: (ما بين منكب الخازن من خزنتها مسيرة سنة ...)، وهذا مما نقل عن أهل الكتاب، والله أعلم. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب، و"زاد المسير" 8/ 313، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 196. (¬5) في (ك): (من). (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 194.

من ذلك الذنب ألا يعود إليه أبدًا. هذا كلامه (¬1). والمعنى: توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه. وهذا معنى قول قتادة وسعيد بن المسيب قالا (¬2): هي الصادقة الناصحة، ينصحون بها أنفسهم (¬3). وروي عن عاصم (نصوحًا) بضم النون (¬4). قال الفراء: أراد المصدر مثل القعود. ونحو ذلك قال المبرد (¬5) والزجاج. يقال: نصحت لهم نصحًا ونصاحة ونصوحًا (¬6)، ويحتمل المصدر هاهنا معنيين: أحدهما: أنه أراد توبة ناصحة، يسمى الفاعل باسم المصدر. ويجوز أن يريد به توبة ذات نصوح. وقال أبو زيد نصحته: صدقته، وتوبة نصوح: صادقة (¬7). وأما قول المفسرين فإنهم كلهم على أن التوبة النصوح هي التي لا يعاود صاحبها بعدها الذنب. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: التوبة النصوح أن يجتنب الرجل عمل السوء ثم لا يعود إليه أبدًا (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 168. (¬2) في (س): (هذا قالا). (¬3) انظر: "جامع البيان" 28/ 108، و"الكشف والبيان" 12/ 151 أ، و"الدر" 6/ 245. (¬4) قرأ عاصم {نُصُوحًا} بضم النون، وقرأ الباقون {نَّصُوحًا} بفتحها. انظر: "حجة القراءات" ص 714، و"النشر" 2/ 388، و"الاتحاف" ص 419. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 168، و"الحجة للقراء السبعة" 6/ 303، و"الكشف والبيان" 12/ 151 أ. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 194. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 250، و"اللسان" 3/ 646 (نصح). (¬8) أخرجه ابن جرير 28/ 108، وابن أبي حاتم، والحاكم 2/ 495، وصححه، وعبد الرزاق. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 303، و"الدر" 6/ 245.

وقال مقاتل بن حيان (¬1): التوبة النصوح أن يتوب العبد من ذنبه صادقًا في ذلك لا يريد مراجعته ولا يعود فيه (¬2). ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الله الجنة (¬3)، وهو قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}: لا يعذبهم الله بدخول النار، قاله مقاتل (¬4). وذكرنا تفسير الإخزاء عند قوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] (¬5). وقوله: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} مفسر في سورة الحديد. قوله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة. وهذا معنى قول ابن عباس: لا تطفئه كما أطفأت نور المنافقين (¬6). ¬

_ (¬1) في (س): (بن حيان) زيادة. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 367، عن عمر، وأبي، ومعاذ. وهو المعنى الذي ذكره مقاتل بن سليمان في "تفسيره" 160/ ب، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن مجاهد 13/ 568. (¬3) (الجنة) ساقطة من (س). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب. (¬5) قال: الإخزاء يرد على معان يقرب بعضها من بعض. قال الزجاج: أخزى الله العدو أي أبعده. وقال غيره: الخزي: الهوان، وأخزاه الله، أي: أهانه. وقال شمر: أخزيته: فضحته، وفي القرآن: {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}. وقال ابن الأنباري: معنى الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو بوقوع في بلاء. وانظر: "تهذيب اللغة" 7/ 490، و"اللسان" 1/ 829، و"المفردات" (147) (خزي). (¬6) وهو قول مجاهد، والضحاك، والحسن. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 100، و"تفسير مجاهد" 2/ 684، و"جامع البيان" 28/ 108، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 392، و"المستدرك" 2/ 496.

9

قوله: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال: يريد: من إطفاء نور المنافقين وإثبات نور المؤمنين. 9 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} مفسر في سورة براءة (¬1). 10 - قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} قال صاحب النظم: نظمه: ضرب الله امرأة نوحٍ وامرأة لوط للذين كفروا مثلًا. ثم بين حالهما فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} يعني نوحًا ولوطًا. وقوله: {فَخَانَتَاهُمَا} قال عطاء عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط إذا نزل به الضيف بالليل أوقدت النار حتى يعلم قومه أنه قد نزل به ضيف، وإذا نزل به بالنهار (¬2) دخنت (¬3). وروى الضحاك عنه قال: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (73) من سورة التوبة قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: أمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان. وزاد عطاء عنه بيانًا فقال: يريد جاهد الكفار بالسيوف والرماح والنبل، والمنافقين باللسان وشدة الانتهار وترك الرفق. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يقال: غلظ الشيء يغلط غلظًا في الخلقة، ثم يقال: رجل غليظ إذا كان فظًّا، وغلظ له القول وأغلظ إذا لم يرفق به .. والغلظة قوة في القلب على إحلال الألم بصاحبه، كما أن الرفق ضعف القلب عن ذلك. قال ابن عباس: يريد شدة الانتهار والنظر بالبغضة والمقت. وقال ابن مسعود: هو أن يكفهر في وجوههم. (¬2) في (ك): (النهار) والصواب ما أثبته. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 368، و"زاد المسير" 8/ 315، وأخرجه الحاكم وصححه، وابن جرير، وعبد الرزاق نحوه. انظر: "جامع البيان" 28/ 109, و"المستدرك" 2/ 496، و"الدر" 6/ 245.

في الدين (¬1). وقال عكرمة: فخانتاهما في الدين (¬2). وروى أن ابن عباس سئل عن قوله {فَخَانَتَاهُمَا} قال: ليس بالزنا، ولكن كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف (¬3). وقال مقاتل: كانتا مخالفتين لدينهما (¬4). وقال الكلبي: أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان (¬5). هذا ما ذكره المفسرون في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط، وقد حصل من هذا أن خيانتهما لم تكن في بغاء، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يبتليهم الله في نسائهم بفساد، وإنما كانت في الدين (¬6). قوله تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لم يدفعا عنهما عذاب الله مع كفرهما. وقال مقاتل والكلبي (¬7): يخون عائشة وحفصة في تظاهرهما على الرسول. أي إن عصيا ربهما لم يغن محمد عنهما من الله شيئاً (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 101، و"جامع البيان" 28/ 109، و"الكشف والبيان" 12/ 152 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 393. (¬2) انظر: "جامع البيان" 28/ 109، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 393. (¬3) أخرجه ابن جرير، وذكره الثعلبي بألفاظ مقاربة لما هنا. انظر: "جامع البيان" 28/ 109، و"الكشف والبيان" 12/ 152 ب. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 101، و"معالم التنزيل" 4/ 386، و"زاد المسير" 8/ 315. (¬6) قال القرطبي: وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكره القشيري. انظر: "الجامع" 18/ 202، و"أضواء البيان" 8/ 381. (¬7) في (س): (وقوله وقال الكلبي ومقاتل). (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 467، و"الكشف والبيان" 12/ 152 ب.

11

وقال صاحب النظم: أي أن من كان كافرًا وكان زوجه ووليه مؤمنًا لم ينفع الكافر إيمان وليه ولا (¬1) زوجه، ولا الصالح صلاح غيره (¬2). قال أبو إسحاق: أعلم الله أن الأنبياء لا يغنون عمن عمل بالمعاصي شيئًا (¬3). وقال المفسرون: قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره (¬4). 11 - ثم أخبر أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعًا (¬5)، وهو قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}، وهي آسية بنت مزاحم، كانت قد آمنت بموسى، وسألت الله بيتًا في الجنة. فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} ومعنى عندك أي لا يتصرف فيه إلا بإذنك، وهو الجنة (¬6). قال المفسرون: كانت تعذب في الله لأجل إيمانها، فسألت الله بيتًا في الجنة، فاستجاب الله لها، فنظرت إلى ¬

_ (¬1) (ولا) ساقطة من (س). (¬2) انظر: " التفسير الكبير" 30/ 51، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 393، و"البحر المحيط" 8/ 294. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 195. (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 169، و"معالم التنزيل" 4/ 368. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 153/ أ. (¬6) قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار. انظر: "البحر المحيط" 8/ 194، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 394. قلت: لعل مراد المؤلف -رحمه الله- قرب المنزل من الله تعالى، وأنها أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة، فتكون في الجنان القريبة من العرش، أما إذا كان مراده تأويل معنى {عِنْدَكَ} بنفي العلو عن الله تعالى، فهو قول ترده آيات كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مخالف لما عليه سلف الأمة. والله أعلم.

12

بيتها في الجنة قبل موتها (¬1). قوله: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} قال مقاتل: وعمله الشرك (¬2). وروى أبو صالح (¬3) عن ابن عباس: {وَعَمَلِهِ} قال: جماعه (¬4). {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال الكلبي ومقاتل: المشركين أهل مصر (¬5). قال صاحب النظم: وتأويل الآية أن من كان مؤمنًا وعمل صالحًا لم يضره كفر حميمه ووليه وفساده (¬6). قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض على الله وأبعدهم من الله. فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا، أن الله حكم عدل لا يؤاخذ عبدًا إلا بذنبه (¬7). وقال مقاتل: يقول لعائشة وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية. وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم (¬8). 12 - قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} وقد تقدم ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 28/ 110، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 394، وأخرج أبو يعلى، والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة نحوه، و"الدر" 6/ 245. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 368. (¬3) في (س): (أبو صالح) زيادة. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 153 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 203. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 203. (¬6) لم أجده، وهو ما ذكره غيره من المفسرين. انظر: "جامع البيان" 28/ 110. (¬7) انظر: "جامع البيان" 28/ 109، و"الدر" 6/ 245، ونسب إخراجه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬8) انظر: "تفسير مقاتل" 160 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 202، عن يحيي ابن سلام.

تفسيره في سورة الأنبياء (¬1). قال مقاتل: أحصنت فرجها عن الفواحش، وإنما ذكرت بذلك لأنها قذفت بالزنا (¬2). وقال الكلبي: يعني فرجها ثوبها (¬3). قال الزجاج: والعرب تقول للعفيف: هو نقي الثوب وهو طيب الحُجْزة. تريد أنه عفيف، وأنشد للنابغة (¬4): رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب ونحو هذا قال الفراء، وهو مستقصى فيما تقدم (¬5)، والدليل على القول الثاني قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أي في فرج ثوبها (¬6). قال مقاتل: يعني في الجيب، وذلك أن جبريل مد حبيب درعها بإصبعه ثم نفخ في جيبها، فحملت (¬7). وهذا قول جماعة المفسرين (¬8). ومن حمل الفرج على حقيقته في هذه الآية جعل الكناية في قوله: (فيه) من غير ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (91) من سورة الأنبياء. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 161 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 50. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 103، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 169، ونسبه للمفسرين. (¬4) "ديوان النابغة الذبياني" ص 49، و"تهذيب اللغة" 4/ 124، و"اللسان" 1/ 574 (حجز)، و"الخزانة" 4/ 393. والسباسب والبسابس: القفار، واحدها: سبسب وبسبس، ومنه قيل للأباطيل: الترهات البسابس. "تهذيب اللغة" 12/ 315 (سب). (¬5) في (س): (ونحو هذا قال الفراء وهو مستقصي فيما تقدم) زيادة، وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 169. (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 196. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 161 أ. (¬8) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 303، و"جامع البيان" 28/ 110، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 394.

مذكور، وهو حبيب الدرع (¬1). قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} قال مقاتل: يعني بعيسى أنه نبي الله (¬2)، ويدل على هذا قراءة الحسن (بكلمةِ ربها) على الواحد (¬3). وعيسى سمي كلمة الله في مواضع من القرآن (¬4)، وجمعت تلك الكلمة هاهنا فذكرت باسم الجمع. وقال أبو علي الفارسي: الكلمات تكون الشرائع التي شرع لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه. قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ} وكأن المعنى: صدقت بالشرائع التي ابتلي بها إبراهيم فأخذت بها وصدقت الكتاب فلم تكذب بها، وإنما سميت الشرائع كلمات كما سميت الشرائع (¬5) التي ابتلي بها إبراهيم كلمات في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وقد مر. وهذا الذي ذكرناه قول أبي علي (¬6). وهو معنى قول ابن عباس بكلمات ربها التي جاء بها جبريل. وقوله: {وَكُتُبِهِ} قال: التي أنزل على إبراهيم وموسى وداود وعيسى (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 203. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 161 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 55. (¬3) قرأ بها الحسن، وأبو العالية، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري، وغيرهم. انظر: "زاد المسير" 8/ 316، و"البحر المحيط" 8/ 295. (¬4) وردت بهذا المعنى في الآيتين (39، 45) من سورة آل عمران، (171) من سورة النساء. (¬5) (س): (كلمات كما سميت الشرائع) زيادة. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 50. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 103، و"الوسيط" 4/ 324.

وقرئ، (وكتابِهِ) على الواحد (¬1). والمراد به الكثرة (¬2) والشياع أيضًا. وقد يجيء ذلك في الأسماء المضافة كما جاء في المفردة التي بالألف واللام، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فكما أن المراد بنعمة الله الكثرة، كذلك في قوله: (وكتابه) (¬3). قوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} قال ابن عباس: من الطائعين لله عز وجل (¬4). قال مقاتل: من المطيعين لربها (¬5). وقال عطاء: من المصلين (¬6). قيل: كانت تصلي بين المغرب والعشاء. وقال قتادة: كانت من القوم المطيعين (¬7). ولهذا قال: {مِنَ الْقَانِتِينَ} دون القانتات: لأنه أراد القوم، وهو عام، كقوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، ومعنى من القوم القانتين أي من الذين (¬8) هم مقيمون على طاعة الله. ويجوز أن يراد قومها، وذلك أن رهطها الذين كانت منهم ¬

_ (¬1) قرأ أبوعمرو وحفص ويعقوب {وَكُتُبِهِ} بالجمع، وقرأ الباقون (وكتابه) بالانفراد. انظر: "حجة القراءات" ص 715، و"النشر" 2/ 389، و"الإتحاف" ص 419. (¬2) في (ك): (الكثير). (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 304. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 104، و"التفسير الكبير" 30/ 50. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 161 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 368. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 368، و"التفسير الكبير" 30/ 55. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 303، "جامع البيان" 28/ 110. (¬8) (س): (أي من الذين) زيادة.

مريم مطيعون، وكانوا أهل بيت من الله بمكان (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 368.

سورة الملك

سورة الملك

2

تفسير سورة الملك بسم الله الرحمن الرحيم 2 - اختلفوا في معنى {الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} هاهنا. فروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح، لا يمر بشي إلا مات، ولا يجد رائحته شيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء (¬1) فوق الحمار ودون البغل، لا يمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيّ (¬2). وقال مقاتل: يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة، والحياة (¬3) نفخ الروح (¬4). وقال قتادة: يعني موت الإنسان أذل الله به ابن آدم، والحياة حياته في الدنيا (¬5). وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الموت في الدنيا والحياة في ¬

_ (¬1) بَلَقُ الدابة سواد وبياض. وهو مصدر، الأبلق: ارتفاع التحجيل إلى الفخذين. "اللسان" 1/ 259 (بلق). (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 104، و"معاني القرآن" للزجاج 9/ 197، و"الكشف والبيان" 12/ 154 ب. قال الألوسي: وهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره. "روح المعاني" 29/ 4. (¬3) في (ك): (في الحياة). (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 161 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 207. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 304، و"جامع البيان" 12/ 29/ 2.

الآخرة دار الحيوان (¬1). قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} مضى الكلام في معنى ابتلاء الله في مواضع (¬2). والمعنى: لنعاملكم معاملة المختبر، فيرى من يعتبر بهما، فيعلم قدرة الله الذي قدر على خلق ضدين الحياة والموت، فيحذر مجيء الموت الذي ينقطع به استدراك ما فات، وشمتوي فيه الفقير والغني والملوك والسوقة، ويعلم أن خلفهما قاهر الجميع (¬3). وهذا المعنى في ليبلوكم على قول الكلبي، وأما على قول قتادة (¬4) فقال أبو إسحاق: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (¬5): خلق الحياة ليختبركم فيها، وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم بأعمالكم (¬6). وعلى هذا المعنى: خلق الموت ليبعثكم (¬7) للجزاء، وخلق الحياة للابتلاء. واللام في {لِيَبْلُوَكُمْ} تتعلق بخلق الحياة دون خلق الموت؛ لأن الابتلاء بها وفيها، وحذف ما ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 369، و"التفسير الكبير" 30/ 55. (¬2) الابتلاء: بمعنى الامتحان والاختبار، ومنه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} سورة محمد: 31. ويكون في الخير والشر معًا، ومنه قوله تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. انظر: "اللسان" 1/ 264، (بلا)، و"المفردات" ص 61 (بلى). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 56. (¬4) في (س): (وأما على قول قتادة) زيادة. (¬5) (خلق الموت والحياة) ساقطة من (س). (¬6) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 197. (¬7) في (س): (ويجازيكم بأعمالكم. وعلى هذا المعني: خلق الموت ليبعثكم) زيادة.

خلق الموت (¬1) له، هذا معنى ما ذكره أبو إسحاق. وأما على قول مقاتل فالمعنى: ليبلوكم فيما بين كونكم مواتًا نطفًا وعلقًا، وبين منتهى الحياة، والمعنى: خلقكم أمواتًا أولاً ثم خلق لكم الحياة ليرى أعمالكم الذي تستحقون به الجزاء (¬2). قال صاحب النظم: معنى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}؛ ليكون ما قدر عليكم من الخير والشر فتجازون به؛ لأن (¬3) الجزاء بما (¬4) كان وما يكون من الخلق. وسمي وقوع ذلك الذي قدر علينا بلوى منه؛ تحذيرًا وتخويفًا. وعلى ما رواه عطاء في تفسير الموت والحياة يتعلق قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} بخلق الموت والحياة على الوجه الذي ذكرنا في تفسير الكلبي. قال الفراء والزجاج: المتعلق بأيكم مضمر، لأن المعنى والتقدير: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً، وارتفعت (أي) بالابتداء ولا (¬5) يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها على أصل الاستفهام، وذلك أنك إذا قلت: لأعلم أيكم أفضل. كان المعنى: لأعلم أزيد أفضل أم عمرو. وأعلم لا يعمل فيما بعد الألف، وكذلك لا يعمل في أي، لأن المعنى واحد (¬6)، وهذا مما سبق الكلام فيه. ومثل هذا قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] يريد: سلهم ثم انظر أيهم يكفل بذلك. والكلام في إعراب أي فيما ¬

_ (¬1) في (س): (لأن الابتلاء بها وفيها، وحذف ما خلق الموت) زيادة. (¬2) انظر: "تفسير غرائب القرآن" 29/ 5. (¬3) (س): (لأن، بما) زيادة. (¬4) (س): من (المتعلق بأيكم) إلى (بالابتداء ولا) زيادة. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 169، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 197. (¬6) انظر: "معانى القرآن" للفراء 3/ 169.

ذكرنا (¬1). ومعنى قوله: {أَحْسَنُ عَمَلًا} قال أبو قتادة (¬2): سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه فقال: "يقول: أيكم أحسن عقلاً (¬3). ثم قال: أتمكم عقلاً، أشدكم لله خوفًا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرًا" (¬4). ونحو هذا قال قتادة: أتم عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله (¬5). ¬

_ (¬1) وأبو قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه، شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد، دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. توفي وهو ابن سبعين سنة، وذلك سنة أربع وخمسين بالمدينة المنورة. انظر: "طبقات ابن سعد" 6/ 15، و"التاريخ الكبير" 2/ 258، و"صفة الصفوة" 1/ 647، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 449، و"البداية والنهاية" 8/ 68. (¬2) في (ك): (اتقوا أيكم أحسن عملاً). (¬3) أخرجه الطبري 15/ 250، وفيه مرة، وهو ضعيف. وأخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل، والحارث في مسنده عنه، والطبري، وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن قلد، عن كليب بن وائل، عن ابن عمر، وداود ساقط. وأخرجه ابن مردويه أيضًا من طريق آخر، وإسناده أسقط من الأول، وأخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" 12/ 154/ ب وفي سنده داود بن المجبر أيضًا. وانظر: "تخريجات الكشاف" ص 86. (¬4) انظر: "زاد المسير" 4/ 79، وأخرجه الثعلبي عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسند الأول. وذكره البغوي في "تفسيره" دون سند. انظر: "الكشف والبيان" 2/ 154 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 369. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 56. قلت: وتفسير المؤلف للآية بناه على الحديث المذكور، وهو حديث ضعيف. والأفضل والأصح من هذا ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لآية سورة هود {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: (ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل، على شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمتي فقد العمل واحدًا من هذين الشرطين حبط وبطل). وانظر: "زاد المسير" 4/ 79.

وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل؛ لأنه يترتب على العقل، فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملًا على ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قتادة (¬1). وروي عن الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها (¬2). قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي في انتقامه ممن عصاه فلم يعتبر بما خلق ولم يستدل على توحيده وقدرته {الْغَفُورُ} لمن تاب إليه، واستدل بصنيعه على توحيده. ثم أخبر عن صنعه الذي يدل على توحيده فقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} قال ابن عباس والمفسرون: بعضها فوق بعض. وقال الكلبي: كل سماء مقببة على الأخرى يلتصق بها أطرافها، وسماء الدنيا موضوعة على الأرض مثل القبة (¬3). قال الزجاج: و {طِبَاقًا} مصدر، أي: طوبقت طباقًا (¬4). قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} قال مقاتل: ما ترى يا ابن آدم في خلق السموات من عيب (¬5). وقال قتادة: ما ترى خللًا واختلافًا (¬6). وقال السدي: {مِنْ تَفَاوُتٍ} أي من اختلاف وعيب (¬7)، يقول الناظر: ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 155 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 36. (¬2) انظر: "جامع البيان" 29/ 3، و"الكشاف" 4/ 120، "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 208. (¬3) انظر: "تنويرالمقباس" 6/ 105، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 198. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 198. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 161 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 208. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 304، و"جامع البيان" 12/ 29/ 3. (¬7) (س): (وعيب) زيادة.

لو كان كذا كان أحسن (¬1). قال الكلبي: هو الذي يفوت بعضه بعضًا (¬2). وتقرأ (تُفوُّت) (¬3) قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة مثل (تصعر، تصاعر) (¬4) وتعهدته، وتعاهدته. قال: والتفاوت: الاختلاف، يريد: هل ترى في خلقه من اختلاف؛ ونحو هذا قال الزجاج سواء (¬5). قال ابن قتيبة: {مِنْ تَفَاوُتٍ} أي: اضطراب واختلاف، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئًا، فيقع الخلل فيهن، ولكنه متصل بعضه ببعض (¬6). قال أبو الحسن الأخفش: تفاوت أجود، لأنهم يقولون: تفاوت ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 57، و"اللسان" 2/ 1141 (فوت). (¬2) انظر: " التفسير الكبير" 30/ 57، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 208. قلت: هذه الأقوال اختلفت في الألفاظ، واتحدت في المعنى، ولذا ذكر بعض المفسرين بعضًا منها، وذكر غيرهم غيرها. واقتصر بعضهم على معنى واحد. انظر: "الكشف والبيان" 2/ 155 أ، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 396. (¬3) قرأ حمزة والكسائي: (تفوت) بضم الواو مشددة من غير ألف. وقرأ الباقون {تَفَاوُتٍ} بألف والتخفيف. انظر: "حجة القراءات" ص 715، و"النشر" 2/ 389، و"الإتحاف" ص 420. (¬4) قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18]. قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب {تُصَعِّرْ} بتشديد العين من غير ألف، وقرأ الباقون (تصاعر) بتخفيف العين وألف قبلها. انظر: "حجة القراءات" ص 565، و"النشر" 2/ 346، و"الإتحاف" ص 350. (¬5) (س): (ونحو هذا قال الزجاج سواء) زيادة. وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 170، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 198. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 474.

الأمر، ولا يكادون يقولون: تَفَوَّت الأمر (¬1). واختار أبو عبيد (¬2): (تفوت)، قال: يقال: تفوت الشيء إذا فات. واحتج بما روي في الحديث (أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله) (¬3). قوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} قال مقاتل (¬4): اردد البصر. وهذا معنى قول الفراء. قال إنما قال: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} لأنه قال: {مَّا تَرَى} (¬5). قوله: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} قال المفسرون: من فروج وصدوع وشقوق وفتوق وخروق. كل هذا من ألفاظهم (¬6). ومنه التفطر والانفطار، وقد مر (¬7). ¬

_ (¬1) (تفوت الأمر) ساقطة من (س). وانظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 305. (¬2) في (ك): (عبيدة). (¬3) نقله المؤلف عن الأزهري من "التهذيب" 14/ 331 (فوت)، ولفظه: (أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله فأتى أبوه النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له فقال: (اردد على ابنك فإنما هو سهم من كنانتك). قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد. انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 3، وهذا هو اختيار الفراء والنحاس. وهو قول سيبويه. والقراءة بأيهما ثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا عبرة بقول مخالف مهما بلغ علمه وفضله، والعصمة لمن عصمه الله. انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 170، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 470، و"الحجة للقراء" 6/ 305. (¬4) في (س): (قال مقاتل) زيادة. وانظر: "تفسير مقاتل" 161 أولفظه (أعد). (¬5) انظر: "معاني القرآن" 3/ 170. (¬6) انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 3، و"الكشف والبيان" 12/ 156 أ، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 396. (¬7) عند تفسيره الآية (14) سورة الأنعام. قال: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي: خالقهما ابتداء على غير مثال سبق ... والفطر: ابتداء الخلق. قال ابن عباس: كنت ما أدري ما =

قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} قال ابن عباس: يريد مرة بعد مرة (¬1). {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} قال مقاتل: صاغرًا (¬2)؛ وهو قول الفراء والزجاج (¬3). وقال ابن قتيبة: مبعدًا من قولك: خسأت الكلب إذا باعدته (¬4). وقال المبرد: الخاسئ: المبعد المصغر -والله أعلم- كالذي قصد ففزع (¬5) عجزًا وصغرًا. وقد أفصح ابن عباس هذا فقال: الخاسئ: الذي لم ير ما يهوى (¬6). ومضى تفسير الخاسئ في سورة البقرة (¬7). قوله تعالى: {وَهُوَ حَسِيرٌ} قال ابن عباس ومقاتل: وهو كليل قال منقطع لا يرى عيبًا ولا فطورًا (¬8). وقال الكلبي: الحسير: المعي (¬9). قال الليث: الحسر والحسور: الإعياء. تقول: حسرت الدابة والعين، وحسرها بعد الشيء إذا حدقت ¬

_ = فاطر السموات حتى احتكم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها ... وقال ابن الأنباري: أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه. (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 370. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 170، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 198. (¬4) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 474. (¬5) في (س): (قصدٍ) زيادة. وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 58. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 105، و"معالم التنزيل" 4/ 370. (¬7) عند تفسيره الآية (65) من سورة البقرة. قال: الخسأ: الطرد والإبعاد. يقال: خسأته خسأً فخسأ وانخسأ، فهو واقع ومطاوع. ويقال للكلب عند الزجر والإبعاد: اخسأ. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 105، و"تفسير مقاتل" 161 ب، و"الكشف والبيان" 2/ 156 أ. (¬9) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 305.

نحوه. قال رؤبة (¬1): يحسر طرف عينه فضاؤه فحاصل (¬2) هذا أن الحسير يجوز أن يكون مفعولًا من حسره بعد الشيء كما ذكر رؤبة، ويجوز أن يكون فاعلًا من الحسور الذي هو الإعياء؛ وهو قول الفراء: وهو كليل كما يحسر الإبل إذا قومت عن هزال وكلال، فهي (¬3) الحسرى واحدها حسير (¬4). قال أبو إسحاق: أي وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا (¬5). والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاد بصره في السماء حتى يكل ويعيا لم ير فيها فطورًا ولا تفاوتًا. قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} قال المفسرون: هي الأدنى إلى الأرض، وهي التي يراها الناس {بِمَصَابِيحَ} واحدها مصباح وهو السراج. وذكرنا ذلك في قوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]، وهو السراج. ثم يسمى الكوكب أيضًا مصباحًا لإضاءته. قال الليث: والمصابيح من النجوم أعلام الكواكب (¬6). قال ابن عباس: بنجوم لها نور (¬7). ¬

_ (¬1) "ديوان رؤبة" ص 3، و"تهذيب اللغة" 4/ 286، و"اللسان" 1/ 632 (حسر). (¬2) في (ك): (مجاز). (¬3) في (س): (فهن). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 170، و"التفسير الكبير" 30/ 59. (¬5) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 198. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 267، و"اللسان" 2/ 403 (صبح). (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 105، ولفظه (بالنجوم).

7

وقال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، وعلامات يهتدى بها، ورجومًا للشياطين (¬1)؛ فذلك قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} قال ابن عباس: يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع (¬2). قال أبو علي: فإن قيل: كيف يجوز أن تكون المصابيح زينة مع قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}، فالقول إنها إذا جعلت رجومًا (¬3) لهم لم تزل فتزول الزينة بزوالها، ولكن يجوز أن ينفصل منها نور يكون رجمًا للشياطين كما ينفصل من السرج وسائر ذوات الأنوار ما لا يزول بانفصالها منها صورتها (¬4). وهذا كما قال بعض أهل المعاني: ينفصل من الكوكب شهاب نار (¬5)، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} الآية [الحجر: 16]، وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ...} الآية [الصافات: 6]. قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ}، أي: في الآخرة {عَذَابَ السَّعِيرِ} قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، كقوله: مفتولة وفتيل (¬6). 7 - قوله: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} قال مقاتل: صوتًا مثل أول ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وفيه زيادة قوله: (فمن يتأول منها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به). انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 3، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 396. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 2/ 156 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 370، ولم ينسب لقائل، وهو ظاهر. (¬3) في (س): (رجومًا) زيادة. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 59، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 211. (¬5) انظر: "روح المعاني" 29/ 9. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 62.

صوت الحمار (¬1). وقال عطاء: يريد: سمعوا لأهلها شهيقًا (¬2)، فجعل (¬3) الشهيق لأهل جهنم دونها. والقول هو الأول (¬4). وقا الزجاج: يسمع الكفار للنار شهيقًا، وهو أقبح الأصوات، وهو كصوت الحمير (¬5). وقال المبرد: هو -والله أعلم- تنفس كتنفس المتغيظ (¬6). وتفسير الشهيق قد سبق (¬7). قوله {وَهِيَ تَفُورُ} قال الليث: كل شيء جاش فقد فار، وهو فور القدر، والدخان، والغضب، والماء من العين (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب. (¬2) انظر: " التفسير الكبير" 30/ 63. (¬3) في (ك): (فجعلها). (¬4) ومنه قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] قال ابن المنير: لا حاجة إلى حمله على المجاز فإن رؤية جهنم جائزة وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تضافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكًا حسيًّا وعقليًّا. ألا ترى إلى قوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} وإلى محاجتها مع الجنة، وإلى قولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها .. "حاشية الكشاف" 3/ 90. (¬5) انظر: "معاني الزجاج" 5/ 199. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 63. (¬7) عند تفسيره الآية (106) من سورة هود. الشهيق ردُّ النَّفس. يقال: شَهَقَ يشهَق ويشهِق ويشهُق شهيقًا، وبعضهم يقول: شهوقًا. ونحو هذا روى أبو عبيد عن أبي زيد. وهو قول جميع أهل اللغة. والشهيق آخر صوت الحمار إذا نهق. وقيل: الشهق في الصدر. وعن ابن عباس: الزفير الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 247 (فاز)، و"اللسان" 2/ 1143 (فور).

قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المرجل (¬1). وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل (¬2). ويجوز أن يكون هذا من فور الغضب. قال المبرد: يقال: تركت فلانًا يفور غضبًا (¬3). يدل على هذا المعنى قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أي: تنقطع من غيظها عليهم فيماز بعضها من بعض كما يتميز الشيء، أي يفرق هذا المعنى (¬4) قول المفسرين، وأهل المعاني: قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظًا على الكفار (¬5). وقال المبرد: ويقال للغضبان: تركته يتميز عليك غيظًا (¬6). ولفظ المفسرين في تفسير: {تَمَيَّزُ}: تفرق (¬7). قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} الفوج: الجماعة من الناس. والأفواج: الجماعات في تفرقة (¬8)؛ ومنه قوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18]. وقوله: {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} وهو سؤال توبيخ. قال أبو إسحاق: وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 156 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 63. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 156 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 212، و"الدر" 6/ 248. (¬3) في (ك): (غيضًا) وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 63. (¬4) في (س): (المعنى) زيادة. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 474. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 63. (¬7) وهو قول ابن عباس، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 107، و"تفسير مقاتل" 161 ب، و "جامع البيان" 12/ 29/ 4، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 397. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 212، و"اللسان" 2/ 1142 (فوج).

التوبيخ زيادة لهم في العذاب (¬1). {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} قال ابن عباس في رواية الكلبي (¬2) وعطاء: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله (¬3). وهذا يدل على أن الله تعالى لم يخلق لهم سمع الهدى ولا معرفته، لأنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة ولم يريدوا بقولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} أنهم صم الأسماع مجانين، ولكن أرادوا أنهم كانوا صمًّا عن الخير، غافلي القلوب عن الهدى. وقال أبو إسحاق: أي لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار (¬4). قال الله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} قال مقاتل: يعني بتكذيبهم الرسل (¬5)، وهو قولهم: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} والذنب هاهنا في معنى الجمع؛ لأن فيه معنى الفعل كما يقال: خرج عطاء الناس، أي: أعطياتهم؛ هذا قول الفراء (¬6). ويجوز أن يراد بالواحد المضاف الشياع، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: 34، النحل: 18]، وقد مر في مواضع. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 199. (¬2) في (س): (الكلبي و) زيادة. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 107، و"الكشف والبيان" 12/ 156 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 471. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 199. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 171.

وقوله (¬1): {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} قال المفسرون: فبعدًا لهم (¬2). والسحق: البعد، وفيه لغتان: التخفيف والتثقيل (¬3) كما تقول في العُنق والطنب (¬4)؛ وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. قال أبو إسحاق: (سحقًا) منصوب على المصدر. المعنى: أسحقهم الله سحقًا، أي: باعدهم من رحمته مباعدة (¬5). قال أبو علي: وكان القياس: إسحاقًا، فجاء المصدر على الحذف كقولهم: عمرك الله، وكما قال: وإن أهلك فذلك كان قدري (¬6) أي: تقديري (¬7). ثم أخبر عن المؤمنين وعما أعد لهم في الآخرة فقال: {وإِنَّ اَلَّذِينَ ¬

_ (¬1) في (س): (وقوله) زيادة. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 65. وقال ابن جبير فيما أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 539: وادٍ في جهنم. (¬3) قرأ الكسائي {فَسُحْقًا} بضم الحاء، وقرأ الباقون {فَسُحْقًا} بتخفيفها. انظر: "حجة القراءات" ص 716، و"النشر" 2/ 217، و"الإتحاف" ص 420، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 171. (¬4) تقول العنق والعنق، والطنب والطنب، والطنب هو حبل الخباء والسرادق ونحوهما. "اللسان" 2/ 617 (طنب). (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 199. (¬6) للشاعر يزيد بن سنان: وهو بتمامه: فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يهلك فذلك كان قدري انظر: "أمالي ابن الشجري" 2/ 110، و"المخصص" 9/ 92، و"المفضليات" ص 71، و"الحجة" 2/ 128. (¬7) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 307.

13

يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]. {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس ومقاتل: يخافون عذاب ربهم ولم يروه فيؤمنون به خوفًا من عذابه (¬1). 13 - ثم رجع إلى خطاب الكفار فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} قال مقاتل والكلبي: أسروا قولكم في محمد أو اجهروا له بالعداوة وتكلموا علانية (¬2): {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب. قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد. فأنزل الله هذه الآية (¬3). ثم احتج على ذلك بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، والظاهر أن من خلق هو الله تعالى. والمعنى: ألا يعلم ما في الصدور من خلقها وخلق القول. أي خالق الصدور (¬4) والأقوال عالم بها وبما فيها؛ وهذا معنى قول مقاتل (¬5). وقد حذف مفعول (خَلَقَ) لأن ما قبله من ذكر القول والصدر يدل ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 108، و"تفسير مقاتل" 161 ب. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 213. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 157 أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص 508، و"معالم التنزيل" 4/ 371. قلت: وفي الآية وجه آخر، وهو حملها على العموم، والمراد أن قولكم وعملكم لا يخفى على من يعلم السر وأخفى، فاحذروا من المعاصي. ويدخل في هذا ما يسره المشركون في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا المعنى هو المعتمد عند ابن جرير، وابن كثير. انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 5، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 397. (¬4) في (س): (من خلقها وخلق القول. أي خالق: الصدور) زيادة. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب، ونسبه الثعلبي لأهل المعاني. "الكشف والبيان" 12/ 157 أ، وهذا هو المعتمد عند ابن جرير. انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 5.

عليه. ويجوز أن يكون (خَلَقَ) بمعنى المخلوق. فيكون المعنى: ألا يعلم الله من خلقه. أي مخلوقه (¬1)، وحذف العائد إلى الموصول. قوله: {وَهُوَ اَللًطِيفُ} قال مقاتل: لطف علمه بما في القلوب، {الْخَبِيرُ} بما فيها من السر والوسوسة (¬2). وتكلم صاحب النظم في هذه الآية فقال: قوله: {أَلَا يَعْلَمُ} استفهام إنكار لما يذهب إليه الكفار والجهال من أنه تخفى عليه الضمائر. واختلف في قوله (مَنْ)، فزعم بعضهم أنه هو الله جل وعز على تأويل: ألا يعلم الخالق الذي خلق الخلق، فيكون (مَنْ) في موضع رفع. وزعم غيره أن (مَنْ) في موضع نصب (¬3)، وقوله: (يعلم) واقع عليه على تأويل: ألا يعلم الله من خلقه؛ بمعنى يعلم ما كان ويكون منه سرًا وجهرًا وإضمارًا، وزاد وجهًا آخر فقال: وزعم بعضهم أن (مَنْ) بمثابة (ما)، كما تكون (ما) بمثابة (من) في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، وإذا كان بمعنى (ما) كان اسمًا لما يسر الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم، فيكون قد جعل أفعال العباد مخلوقة على تأويل: ألا يعلم الله ما هو خلقه من أفعالهم، وإن كان سرًّا أو إضمارًا فيكون ذلك حجة لمن أثبت القدر، لأنه جعله ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 371، و"الكشاف" 4/ 123. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 371. (¬3) وهذا التأويل مردود عند مكي؛ لأنه يخرج الكلام عن عمومه ويدفع عموم الخلق عن الله عز وجل. انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 746. قلت: وما ذهب إليه مكي أولى في تفسير كلام الله تعالى، وحيث وجد وجه آخر لتفسير الآية فلا حاجة إلى مثل هذا التأويل، والله أعلم.

مخلوقًا (¬1). قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا}، الذلول من كل شيء: المنقاد الذي يذل لك. ومصدره الذل، وهو الانقياد واللين، ومنه يقال: دابة ذلول (¬2)؛ وفي وصف الأرض بالذلول قولان: أحدهما: قال ابن عباس: سهل لكم الأرض (¬3). والمعنى على (¬4) هذا أنه لم يجعلها بحيث يمتنع المشيء فيها بالحزونة (¬5) والغلظ. وقال مقاتل: أثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها (¬6). وهو قول الكلبي (¬7). وعلى هذا القول معناه أنه سخرها لنا بأن أثبتها، ولو كانت تتكفأ متمايلة لم تكن منقادة لنا. قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أمر إباحة. ومعناه البيان عن كونها ذلولًا. وفي المناكب قولان: ¬

_ (¬1) انظر: "مشكل إعراب القرآن" 2/ 746. قلت: والعلماء من أهل السنة يرون القول الأول، وهو أن يكون (من) فاعلًا مرادًا به الخالق ومفعول العلم محذوف، وكذا مفعول الخلق. والتقدير: ألا يعلم السر والجهر من خلقهما. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 473، و"دقائق التفسير" 5/ 13، و"الانتصاف بهامش الكشاف" 4/ 123. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 12، و"مفردات الشراب" (180) (ذل). (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 157 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 371. (¬4) في (ك): (على) زيادة. (¬5) الحزونة: الخشونة، "اللسان" 1/ 627 (حزن). (¬6) وهو القول الثاني. انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 215. (¬7) في (س): (وهو قول الكلبي) زيادة.

أحدهما: أنها الجبال، وهو قول قتادة والضحاك وابن عباس. قالوا: جبالها وآكامها (¬1). وسميت الجبال مناكب، لأنها مشبهة بمناكب الإنسان وهو الجيد الشاخص من طرفيه (¬2). والجبال شاخصة عن الأرض. القول (¬3) الثاني: أنها النواحي والطرق والفجاج والأطراف والجوانب. وهو قول مجاهد والكلبي ومقاتل والحسن، ورواية عطاء عن ابن عباس، واختيار الفراء وابن قتيبة (¬4) قال: {مَنَاكِبِهَا}: جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه (¬5). وذكر أبو إسحاق القولين واختار القول الأول وقال: أشبه التفسير من قال في جبالها؛ لأن قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} معناه سهل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ في التذلل (¬6). قوله تعالى: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي مما خلقه رزقًا لكم في الأرض. ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 108، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 305، و"جامع البيان" 12/ 29/ 5، و"غرائب القرآن" 29/ 9. (¬2) في (ك): (طرافته). (¬3) في (ك): (قوله القول). (¬4) (س): (والكلبي، والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس، وابن قتية) زيادة. وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 108، و"تفسير مجاهد" 2/ 685، و"تفسير مقاتل" 161 ب، و"الكشف والبيان" 12/ 157 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 371. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 3/ 171، و"تفسير غريب القرآن" ص 475. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 199، و"تهذيب اللغة" 10/ 286، و"اللسان" 3/ 713 (نكب)، وقد وهم ابن منظور -رحمه الله- بنسبة هذا القول للأزهري مع أن الأزهري نص على نسبته لأبي إسحاق.

وقال ابن عباس: يريد ما أنبت لكم في السهل والجبل (¬1). {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} قال مقاتل: وإلى الله تبعثون من قبوركم (¬2). قال أبو إسحاق: والمعنى أن الذي خلق السموات بلا تفاوت وذلل الأرض قادر أن ينشركم ويبعثكم (¬3). ثم خوف أهل مكة فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قال المفسرون: يعني عقوبة من في السماء وعذاب من في السماء (¬4). والمعنى: من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، إلا أنه أخرج مخرج ما في السماء تفخيمًا لشأن سلطانه كما قال: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] ما يجري فيهما بإذنه وإرادته لا يخفى عليه شيء منه. لابد أن يكون هذا لاستحالة أن يكون الله تعالى في مكان أو موصوفًا بجهة. وذهب بعض أهل المعاني إلى أن (¬5) {مَنْ فِي السَّمَاءِ} هو الملك (¬6) الموكل بالعذاب وهو جبريل. والمعنى: أن يخسف بكم الأرض بأمره (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 371. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 161 ب، و"زاد المسير" 8/ 322. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 200. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 109، و"معالم التنزيل" 4/ 371. (¬5) (س): (أن) زيادة. (¬6) (س): (الملك) زيادة. (¬7) نقل البيهقي عن أحمد بن إسحاق عند هذه الآية قوله: قوله {فِي السَّمَاءِ}، أي: على العرش فوق السماء كما صحت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "الأسماء والصفات" 2/ 324. وفي 2/ 330 قال: ومعنى قوله في هذه الأخبار {مَنْ فِي السَّمَاءِ}، أي: فوق السماء على العرش، كما نطق به الكتاب والسنة .. قلت: وما ذكره الواحدي هنا -غفر الله له- مخالف لما عليه سلف الأمة من إثبات =

{فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} قال ابن عباس: يريد كما تمور السفينة حتى تغرق (¬1). وقال مقاتل: تدور بكم إلى الأرض السفلى (¬2). وقال الحسن: تحرك بكم (¬3). والمعنى على هذا التفسير أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرض تمور فتقلبهم إلى أسفل؛ هذا معنى قوله: {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} وذكرنا تفسير المور فيما تقدم (¬4). ثم زاد في التخويف فقال: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قال ابن عباس: كما أرسل على قوم لوط (¬5) فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا ¬

_ = صفة العلو لله تعالى كما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة. وقد أورد الذهبي -رحمه الله- في كتابه "العلو" أكثر من تسعين حديثًا، وآثارًا كثيرة عن السلف -رحمهم الله-. والكتاب كله في إثبات هذه الصفة، وجمع ما ورد فيها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما قاله علماء الصحابة ومن بعدهم في هذه الصفة. وانظر: "الصواعق المرسلة" 4/ 1244، 1295، 1297، 1417، و"روح المعاني" 29/ 15، و"أضواء البيان" 12/ 8/ 407. (¬1) لم أجده. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 1462 أ، و"تنوير المقباس" 6/ 109. (¬3) في (ك): (تحوط بكم). وانظر: "الكشف والبيان" 12/ 158 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 371. (¬4) المور: التحرك والاضطراب. مار الشيء يمور مورًا: أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة. وهي أطول ما يكون من النخل، ولا تكون عيدانة حتى يسقط كربها كله، ويصير جذعها أجرد من أعلاه إلى أسفله. انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 297، و"اللسان" 3/ 548 (مور)، 2/ 939 (عيد). (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 109، و"التفسير الكبير" 30/ 70.

عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر:34] ثم هدد وأوعد فقال: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} قيل في النذير هاهنا: أنه المنذر، يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك (¬1). وقيل: إنه بمعنى الإنذار، والمعنى: فستعلمون رسولي وصدقه حين (¬2) لا ينفعكم ذلك، أو: فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، وهو العذاب (¬3). و (كيف) في قوله: {كَيْفَ نَذِيرِ} ينبئ عما ذكرنا من صدق الرسول أو عقوبة الإنذار. ثم أخبر عن غيرهم من الكفار بقوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال ابن عباس: يريد عادًا وثمودًا، وكفار الأمم (¬4). {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} قال مقاتل: تغييري وإنكاري أليس وجدوا العذاب حقًّا (¬5). ثم وعظهم ليعتبروا فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ}، قال المفسرون: تصف أجنحتها في الهواء. {وَيَقْبِضْنَ}، أي: يقبضنها إلى أنفسها بعد الصف. قال ابن قتيبة: يضربن بها جنوبهن (¬6) وقال المبرد: وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضها بعد البسط. وأنشد هو وأبو عبيدة قول ¬

_ (¬1) في (س): (والضحاك) زيادة. وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 70، و"غرائب القرآن" 29/ 9. (¬2) في (ك): (وصدقه إلى حين)، والصواب ما أثبته. (¬3) انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 6، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 398. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 109، و"زاد المسير" 8/ 322، و"التفسير الكبير" 30/ 71. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 162 أ. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 475.

20

أبي خراش (¬1): كَأَنَّهُمُ يُشَبَّثُونَ بِطَائِرٍ ... خَفِيفِ المُشَاشِ عَظْمُهُ غَيْرُ ذي نُحْضِ يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فَهْوُ مُهَابِذٌ ... يَحُثُّ الجَنَاحَ بالتَّبَسُّطِ والقَبْضِ (¬2) وعطف قوله: {وَيَقْبِضْنَ} على {صَافَّاتٍ} لأن معناه: وقابضات، وهذا بيان عما يوجبه حال الطير في قبضها وبسطها متصرفة في الهواء من الاعتبار، بتمكينها حتى أمسكت على ثقلها وضخم أبدانها، من الذي أمسكها وسخر لها الهواء؟ وهو معنى قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ}، أي: في الحالتين، جميعًا. في حال الصف والقبض، وفي ذلك أكبر الآية، وأوضح العبرة. وهذا كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} الآية [النحل: 79]. 20 - ولما كان الكفار يمتنعون عن الإيمان وينكرون التوحيد مع وضوح الأدلة صاروا كأنهم يمتنعون من عذاب الله بجند، وأشبهت حالهم من يملك دفع العذاب إن أتاه، فقال الله تعالى منكرا عليهم أن (¬3) يكون لهم ¬

_ (¬1) في (س): (قول أبي خراش) زيادة. (¬2) انظر: "ديوان الهذليين" 2/ 159 و"الحماسه" لأبي تمام 1/ 386، و"الإنصاف" لابن الأنباري ص 390، و"تهذيب اللغة" 6/ 276، و"اللسان" 3/ 761 (هبذ)، و"الخزانة" 5/ 419. والنحض: اللحم، والقطعة الضخمة منه تسمى نحضة، والمنحوض والنحيض: الذي ذهب لحمه. والمهابذة: الإسراع. وهابذ: أسرع في مشيته أو طيرانه، والمشاش: رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين. انظر: "اللسان" 3/ 488، 597، 761 (مشش، نحض، هبذ). (¬3) في (س): (أن) زيادة.

امتناع من عذابه (¬1) {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُم}، وهذا نسق على قوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ}، ولفظ الجند يوحد، ولذلك قال (¬2) {هَذَا الَّذِي هُوَ} وهو استفهام إنكار. أي: لا جند لكم {يَنْصُرُكُمْ} يمنعكم من عذاب الله. قال ابن عباس ينصركم مني إن أردت عذابكم (¬3). ثم ذكر أن ما هم فيه غرور فقال: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، أي: من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}، أي: من الذي يرزقكم من آلهتكم المطر إن أمسكه الله عنكم، قاله مقاتل (¬4). ثم قال: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي: ليسوا يعتبرون ولا يتفكرون، لجوا في طغيانهم وتماديهم وتباعدهم عن الإيمان (¬5). ثم ضرب مثلًا فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى} (¬6)، ¬

_ (¬1) (ك): (عذابه قوله تعالى). (¬2) (س): (قيل). (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 110، و"معالم التنزيل" 4/ 372، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 218. (¬4) (س): (قاله مقاتل) زيادة وانظر: "تفسير مقاتل" 162 أ. قلت: حمل الآية على عموم الرزق من إعطاء ومنع وخلق ورزق ونصر وغير ذلك أولى، وما ذكره مقاتل من باب التمثيل أخذًا من قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، والله أعلم. (¬5) لج: اللجاج: التمادي والعناد في تعاطي الفعل. "المفردات" (447) (لج). (¬6) (أهدى) ساقطة من (س).

والإكباب مطاوع الكب (¬1)، وذكرنا تفسيره عند قوله: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم} [النمل: 90]، ويقال للسادر والهائم (¬2) على وجهه في ضلاله: مكب على وجهه، فضرب المكب على وجهه مثلًا للكفار؛ لأنه أكب على وجهه في الغي والكفر يمشي ضالًا أعمى القلب. فهذا أهدى، {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} معتدلًا يبصر الطريق {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي، وقول مقاتل، ومجاهد، والضحاك (¬3). وقال الكلبي: راكبًا رأسه في الكفر والضلالة كما تركب البهيمة رأسها (¬4). وقال مقاتل: يعني أبا جهل والنبي -صلى الله عليه وسلم- (¬5). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا جهل وحمزة بن عبد المطلب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 72، و"البحر المحيط" 8/ 303، و"روح المعاني" 29/ 20، وذكر جواز الوجهين وقول بعض الأئمة بتسوية المطاوعة والصيرورة. ورد الزمخشري هذا حيث قال: (أكب من باب أنفض وألام، ومعناه دخل في الكب، وصار ذا كب، ومطاوع كب وقشع وانكب وانقشع) "الكشاف" 4/ 124. قال النيسابوري: ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي، و"غرائب القرآن" 29/ 11. ومعنى المطاوعة: الموافقة، والنحويون ربما سموا الفعل اللازم مطاوعًا. "اللسان" 2/ 615 (طوع). (¬2) السادر: هو الذي لا يهتم لشيء ولا يبالي ما صنع. والهائم: الحائر. يقال: هام في الأمر يهيم إذا تحير فيه. "اللسان" 2/ 119 (سدر) 3/ 857 (هيم). (¬3) في (س): (وهذا قول ابن عباس) إلى (الضحاك) زيادة. وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 110، 111، و"تفسير مقاتل" 162 أ، و"جامع البيان" 12/ 29/ 7، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 219. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 158 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 372. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 162 أ، و"غرائب القرآن" 29/ 11. (¬6) انظر: "غرائب القرآن" 29/ 11.

27

وقال عكرمة (¬1): هو أبو جهل وعمار بن ياسر. وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبًّا على وجهه يوم القيامة، كما قال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97]، والمؤمن يمشي سويًّا (¬2). قوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون} قال ابن عباس: يريد أنكم لله غير طائعين (¬3). وقال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه (¬4). وذكر الله تعالى أنهم يستعجلون وعد العذاب بقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْد}، ثم ذكر حالهم عند معاينة العذاب فقال: 27 - {فَلَمَّا رَأَوْهُ} يعني العذاب، {زُلْفَةً} يعني قريبًا. قاله المفسرون وأصحاب العربية. قال ابن عباس: يريد: فلما قرب منهم العذاب (¬5). وقال مقاتل: لما رأوا العذاب في الآخرة قريبًا (¬6). وذكرنا الكلام في الزلف والزلفى والزلفة، وهي بمنزلة القربى (¬7). وقال الحسن: رأوه ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 73، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 219. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 305، و"جامع البيان" 12/ 29/ 7. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 162 أ، و"زاد المسير" 8/ 324. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 112، ولفظه {زُلْفَةً} قريبًا، ويقال: معاينة. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 162 أ - ب. (¬7) عند تفسيره الآية (64) من سورة الشعراء. قال: الزلفى في كلام العرب القربى، وقال أبو عبيدة: أزلفنا: جمعنا، قال: ومن ذلك سميت مزدلفة جمعًا.

معاينة (¬1). وهو معنى وليس بتفسير، وذلك أن ما قرب من الإنسان رآه معاينة (¬2). وقوله تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس وغيره: اسودت وعلتها الكآبة والقترة (¬3). وقال أبو إسحاق: تبين فيها السوء (¬4). وأصل السوء القبح. والسيئة ضد الحسنة. والسواء: المرأة القبيحة وذكرنا هذا قديمًا (¬5)، ويقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيء يساء إذا قبح. وهو فعل لازم ومجاوز (¬6). فمعنى: {سِيئَتْ وُجُوهُ}، أي: قبحت بالسواد وأثر الكآبة كما ذكر المفسرون (¬7). وقوله: {وَقِيلَ} أي: وقالت لهم الخزنة: {هَذَا} العذاب {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} قال الكلبي: تسألون في الدنيا (¬8). وقال مقاتل: تمنون في الدنيا (¬9). قال الفراء: تدعون (¬10). وهما واحد ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 8، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 220. (¬2) في (س): من قوله (وهو معنى) إلى (معاينة) زيادة. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 159 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 75، و"غرائب القرآن" 29/ 11. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 201. (¬5) في (س): (وذكرنا هذا قديمًا) زيادة. (¬6) انظر: "اللسان" 2/ 231 (سوأ). (¬7) في (س): (كما ذكر المفسرون) زيادة. (¬8) انظر "الكشف والبيان" 12/ 159 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 220، وهو قول أكثر المفسرين. (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 162 ب، ولفظه: يعني تمترون في الدنيا. (¬10) أشار الفراء بهذا إلى قراءة التخفيف (تدعون) وهي قراءه شاذة نسبت للحسن، =

مثل (تذكرون) و (تذكرون) و {تَدَّخِرُونَ} {وتدخرون} (¬1) وقال المبرد: معناه تستعجلون. تقول: دعوت بكذا إذا طلبته، وادَّعيتُ به افتعلت، من هذا. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد تكذبون (¬2). قال أبو إسحاق: تأويله في اللغة: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب، أي: تدعون أنكم إذا متم وكنتم ترابًا أنكم لا تخرجون (¬3)؛ ونحو هذا قال أبو عبيدة: تكذبون وتردون (¬4). ومعناه ما ذكره أبو إسحاق. وقال غيره (¬5): معناه هذا الذي كنتم ببطلانه تدعون. أي تدعون أنه باطل لا يأتيكم (¬6)، وكأن هذا أقرب من قول أبي إسحاق. والقول هو الأول بدليل قراءة من قرأ {تَدَّعُونَ} من الدعاء. وهذا لا يحتمل التكذيب، ومعناه: كنتم به تستعجلون وتدعون الله بتعجيله (¬7). ¬

_ = والضحاك وغيرهما، وقراءة الجمهور {تَدَّعُونَ} بتشديد الدال. انظر: "معاني القرآن" للأخفش 2/ 712، و"المحتسب" 2/ 325، و"البحر المحيط" 8/ 204. (¬1) (تذكرون) حيث وقع إذا كان بالتاء فقط خطابًا فقرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص (تذْكُرون) بتخفيف الذال، وقرأ الباقون (تَذَّكرون) بالتشديد. و {تَدَّخِرُون} من سورة آل عمران: 49، فالجمهور بتشديد الدال وفي قراءة شاذة بتخفيفها. انظر: "النشر" 2/ 266، و"الإتحاف" ص 220، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 171، و"الكشاف" 1/ 191، و"روح المعاني" 3/ 170. (¬2) في (س): من (وقال المبرد) إلى هنا زيادة. ولم أجد قول ابن عباس ولا المبرد. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 201. (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 262. (¬5) في (ك): (وقيل). (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 75. (¬7) وهو اختيار الفراء وابن جرير والنحاس ورواية الكلبي عن ابن عباس. =

28

28 - قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} بعذابه {وَمَنْ مَعِيَ} من المؤمنين {أَوْ رَحِمَنَا} فلم يعذبنا، {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ}، أي: يمنعهم ويؤمنهم {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، والمعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء نرجو رحمته ونخاف عذابه، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب، أي: إنه نازل بكم لا محالة ولا رجاء لكم كما للمؤمنين. هذا معنى قول المفسرين (¬1). وقال أهل المعاني (¬2): إن الكفار كانوا يتمنون موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقال الله تعالى: قل لهم: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} بالإماتة {أَوْ رَحِمَنَا} بتأخير آجالنا، فأي راحة لكم في ذلك؟ وأي أمان لكم من العذاب؟ وما الذي ينفعكم ذلك؟ أي: إن أهلكنا لا يرد عنكم العذاب، ولا بقاؤنا. وكلاهما عندنا (¬3) سواء. ثم قال: {قُلْ} لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} من الضال منا: أنحن (¬4) أم أنتم، أي: ستعلمون ذلك عند معاينة العذاب؛ وهذا تهديد لهم. وقراءة العامة على المخاطبة. وقرأ الكسائي بالياء (¬5) لقوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} (¬6). ¬

_ = انظر: "تنوير المقباس" 6/ 112، و"معاني القرآن" 3/ 171، و"جامع البيان" 12/ 29/ 8، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 476. (¬1) في (س): (هذا معنى قول المفسرين) زيادة. (¬2) انظر: "جامع البيان" 12/ 29/ 8، و"الكشف والبيان" 12/ 159 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 76. (¬3) في (ك): (وكلاكم)، وفي (س): (عندكم). (¬4) في (س): (أنحن) زيادة. (¬5) انظر: "حجة القراءات" ص 716، و"النشر" 2/ 389، و"الإتحاف" ص421. (¬6) انظر: "الحجة" 6/ 308.

ثم احتج عليهم بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} قال أبو علي: {أَرَأَيْتُمْ} معناه هاهنا انتبهوا؛ كأنه (¬1) قال: انتبهوا {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ} كقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] ولا يكون جواب الجزاء (¬2) الذي هو {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا}، ولكن جوابه ما دل عليه {أَرَأَيْتُمْ} الذي (¬3) هو بمعنى انتبهوا، كما أن الفاء في قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91] ليس بجواب (إن)، إنما هو جواب (وأما) (¬4)، قال عطاء والكلبي عن ابن عباس، ومقاتل: يعني: ماء زمزم (¬5). قوله: {غَوْرًا} أي: ذاهبًا في الأرض؛ يقال: غار الماء يغور غورًا، إذا نضب وذهب في الأرض. والغور هاهنا بمعنى الغائر (¬6) سمي بالمصدر. يقال: رجل ضيف وعدل وزور (¬7). وقوله تعالى {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أي: ظاهر تراه وتناله الدلاء. قاله ¬

_ (¬1) في (س): (كأنه) زيادة. (¬2) في (ك): (جزاء الجواب). (¬3) في (ك): (الذي الذي). (¬4) انظر: "المسائل الحلبيات" للفارسي ص 78. (¬5) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 113، و"الكشف والبيان" 12/ 160 أ، و"فتح الباري" 8/ 661. قال الألوسي: وإيًّا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينًا، وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون الحضرمي. "روح المعاني" 29/ 22. (¬6) في (س): (الغائب). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 172؛ و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 201.

المفسرون (¬1). وقال مجاهد: المعين: الجاري (¬2). وقد ذكرنا القولين عند قوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (¬3) والاختلاف وما هو الاختيار. ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 113، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 222. (¬2) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 686، و"جامع البيان" 12/ 29/ 9، و"الكشف والبيان" 12/ 160 أ. (¬3) عند تفسيره الآية (50) من سورة المؤمنون.

سورة القلم

سورة القلم

1

تفسير سورة القلم بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {ن} اختلفوا في تفسيره. فروي عن ابن عباس بطرق أن المراد به الحوت الذي على ظهره الأرض، وأنه من أول ما خلق الله تعالى فكبس الأرض على ظهره؛ وهو رواية أبي الضحى، وأبي ظبيان، والكلبي، وأبي صالح عن ابن عباس (¬1). وقول مجاهد ومقاتل والسدي (¬2)، قالوا: هو الحوت الذي يحمل الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى (¬3). والنون في اللغة السمكة (¬4). ومنه قوله تعالى في ذكر يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ}، وقد مر (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، وصححه، والضياء في المختارة وغيرهم. انظر: "تنوير المقباس" 3/ 116، و"جامع البيان" 29/ 9، و"المستدرك" 2/ 498، و"العظمة" 4/ 1403 و"تفسير الماوردي" 4/ 277، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 400. قلت: إن صح هذا عنه فهو من الإسرائيليات التي ملئت بها كتب التفسير، وابتليت بها الأمة، وكشف زيفها وكذبها وبعدها عن الحقيقة والواقع. (¬2) في (س): (والسدي) زيادة. (¬3) انظر: "جامع البيان" 29/ 10، و"الكشف والبيان" 12/ 160 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 384. (¬4) انظر: "اللسان" 3/ 750 (نون). (¬5) عند تفسيره الآية (87) من سورة الأنبياء.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (ن) الدواة (¬1)، ونحو هذا روى الضحاك (¬2)؛ وهو قول الحسن وقتادة (¬3). والنون في اللغة الدواة، ومنه قول الشاعر (¬4): إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألفت النون بالدمع السجوم وروى عكرمة (¬5) عن ابن عباس أن نون هاهنا آخر حروف الرحمن. قال: (الر) و (حم) و (ن) حروف الرحمن مقطعة (¬6). وروى معاوية بن قرة (¬7) مرفوعًا أن نون هاهنا لوح من نور (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 678، و"جامع البيان" 29/ 10. (¬2) في (س): (ونحو هذا روى الضحاك) زيادة. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 161 أ، و "زاد المسير" 8/ 326، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 223. (¬4) لم أجده. وفي "تهذيب اللغة" 15/ 560، قال: ... {ن وَالْقَلَمِ} لا يجوز فيه غير الهجاء، ألا ترى أن كتاب المصحف كتبوه {ن} ولو أريد به الدواة أو الحوت كتب نون. وانظر: "المحرر الوجيز" 16/ 73. (¬5) (س): (عكرمة) زيادة. (¬6) انظر: "جامع البيان" 29/ 10، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 1/ 230 - 233. بسندين أحدهما ضعيف والآخر حسن، و"الكشف والبيان" 12/ 161 أ. (¬7) معاوية بن قرة المدني البصري، ثقة عالم، مات سنة 113 هـ عن ثمانين سنة، وكان يقول: لقيت ثلاثين صحابيًّا. انظر: "سير أعلام النبلاء" 5/ 153، و"طبقات ابن سعد" 7/ 221 و"التقريب" 2/ 261، و"التاريخ الكبير" 4/ 330. (¬8) أخرجه ابن جرير عن معاوية عن أبيه. "جامع البيان" 29/ 10. قال ابن كثير: وهذا مرسل غريب. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 401. وقال أبو حيان: لعله لا يصح شيء من ذلك، و"البحر المحيط" 8/ 307. وقال ابن حجر: والمشهور في {ن} أن حكمها حكم أوائل السور في الحروف المقطعة، وبه جزم الفراء. "فتح الباري" 8/ 661، وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 77، و"روح المعاني" 29/ 23.

وقال أبو عبيدة وابن كيسان (¬1): نون فاتحة السورة كسائر الفواتح (¬2). وقال المبرد: (ن) اسم الحرف المعروف من حروف الهجاء نحو (ق) و (م). وهذا هو الأشبه؛ لأنه لو كان للسمكة لكان معربًا غير ساكن الآخر (¬3)؛ لأنه اسم لمسمى (¬4)، وحروف المعجم إنما هي موضوعة على الوقف، ولذلك يلتقي في أواخرها ساكنان؛ هذا كلامه. وقد اختار قول من قال: إنه من حروف المعجم لافتتاح السورة، والمراد به آخر حروف الرحمن لبنائه على السكون. والقول ما قال (¬5). ¬

_ (¬1) في (س): (وابن كيسان) زيادة. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 264. (¬3) في (ك): (الأخير). (¬4) في (ك): (المسمى). (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 77، وفي "العظمة" 2/ 532 قال المحقق: ولم يصح في ذلك شيء مرفوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما روى بعض الصحابة ومن بعدهم. قلت: ورد في الحروف المقطعة نقول لا تسلم سندًا، وآراء لا تسلم اجتهادًا. والأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، وتفويض أمرها إلى الله، والقول بكل تواضع: الله أعلم. وبهذا قال كثير من سلف الأمة رحمهم الله جميعًا. وقال الشوكاني -رحمه الله- بعد التحقيق في هذه المسألة، والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة، واقتدى بسلف الأمة أن لا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله -عز وجل- لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليه أفهامنا، وإذا انتهت إلى السلامة في مدارك فلا تجاوزه. انظر: "فتح القدير" 1/ 35. وانظر: "لباب التأويل" 1/ 19، و"روح المعاني" 1/ 35، و"الإسرائيليات" لأبي شهبة 305 - 306.

والقراء مختلفون في إظهار النون وإخفائه من قوله {ن * وَالْقَلَمِ} (¬1)، فمن أظهرها فلأنه ينوي بها الوقف بدلالة اجتماع الساكنين فيها، وإذا كانت موقوفة كانت في تقدير الانفصال مما قبلها، وإذا انفصل مما قبلها وجب التبيين، لأنها إنما تخفى في حروف الفم عند الاتصال. ووجه الإخفاء أن همزة الوصل لم تقطع مع هذه الحروف في نحو {الم}، وقولهم في العدد: واحد، اثنان. فمن حيث لم تقطع الهمزة معها علمت أنه في تقدير الوصل، وإذا وصلتها أخفيت (¬2) النون (¬3). وقد ذكرنا هذا في قوله: {ص * وَالْقُرْآنِ} [ص: 1] و {يس (1) وَالْقُرْآنِ} [يس: 1 - 2] قال الفراء: وإظهارها أعجب إلي، لأنها هجاء، والهجاء كالوقوف وإن اتصل (¬4). قوله تعالى: {وَالْقَلَمِ} قال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم ثم قال له: اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة (¬5) قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص {ن وَالْقَلَمِ} بإظهار النون. وقرأ الباقون بإخفائها. انظر: "حجة القراءات" ص 717، و"الإتحاف" ص 421، و"زاد المسير" 8/ 326. (¬2) في (ك): (خفيت). (¬3) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 309 - 310. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 172. قلت: واختيار الفراء للإظهار لا يعني الطعن أو الرد لما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو اختيار ابن جرير أيضًا. حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان بأيتهما قرأ القارئ أصاب، غير أن إظهار النون أفصح وأشهر، فهو أعجب إليّ. "جامع البيان" 29/ 11. (¬5) أخرجه ابن جرير في "جامعه" 29/ 10، وابن أبي حاتم، وأحمد في "المسند" 5/ 317، والترمذي في "سننه"، كتاب: القدر 4/ 397 (2155) وقال: هذا =

والأرض. وهذا قوله في رواية أبي الضحى، وأبي ظبيان، وأبي صالح، ومقسم (¬1). وروى مجاهد عنه قال: كان أول (¬2) ما خلق الله القلم فقال له: اكتب القدر. قال: فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه (¬3). وهذا قول جميع المفسرين. قالوا: هو القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ (¬4). قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ}. قالوا: يعني وما تكتب الملائكة ¬

_ = حديث غريب من هذا الوجه. وفي "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 239، قال محققه: صحيح إلى ابن عباس، ثم ذكر طرقه عن ابن عباس. ثم عقب بذكر الحديث مرفوعًا من حديث عبادة بن الصامت وقال: وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح لغيره. وهو حديث صحيح كما في "تحقيق شرح الطحاوية" 2/ 344. (¬1) في (س): (وأبي ظبيان، وأبي صالح، ومقسم) زيادة. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 225. (¬2) في (س): (كان أول) زيادة. (¬3) انظر: "جامع البيان" 29/ 11، وهو معنى حديث سراقة بن مالك، الذي رواه مسلم في "صحيحه"، كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي 4/ 2040، وأحمد في "مسنده" 3/ 292، وغيرهما. (¬4) قول المؤلف -رحمه الله-: وهذا قول جميع المفسرين؛ صوابه: بعض المفسرين. والأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 225، و"غرائب القرآن" 29/ 15. وقال ابن كثير: والظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، فهو قسم منه تعالى وتنبيه لخلقه على ما أنهم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 401.

2

الحفظة من أعمال بني آدم (¬1). 2 - قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} قال أبو إسحاق: {أَنْتَ} هو اسم {مَآ} و {بِمَجْنُونٍ} الخبر، و {بِنِعْمَةِ رَبِّك} موصولة بمعنى النفي. انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما تقول: أنت بنعمة الله (¬2) فَهِمٌ، وما أنت بنعمة الله بجاهل. وتأويله: فارقك الجهل بنعمة ربك (¬3). وهذا جواب لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]. قال مقاتل: وذلك حين قال كفار مكة: إن محمدًا مجنون، فأقسم الله بالحوت وبالقلم وبأعمال بني آدم، فقال: {مَآ أنَتَ} يا محمد {بِنِعْمَتِ رَبِّك}، يعني برحمة ربك {بِمَجنُونٍ} (¬4)، وقال عطاء عن (¬5) ابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة (¬6). 3 - قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أكثر المفسرين وأهل المعاني يقولون: غير منقوض ولا مقطوع، يقال: منَّهُ السير، أي أضعفه. والمنين: الضعيف، ومنَّ الشيء إذا قطعه (¬7)، ومنه قول لبيد (¬8): ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" 8/ 328، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 225، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 401، وهو منسوب لابن عباس، ومقاتل، والسدي. (¬2) في (ك): (ربك). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 204. (¬4) انظر: "تفسير مقاتل" 162 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 225. (¬5) في (س): (عطاء عن) زيادة. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 79، و"غرائب القرآن" 29/ 15. (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 173، و"جامع البيان" 29/ 12، و"اللسان" 3/ 535 (منن). (¬8) "ديوان لبيد" ص171، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني 83، و"الخصائص" 1/ 296.

4

غبس كواسبُ ما يمنُّ طعامها يصف كلابًا ضارية. وقال مجاهد: غير محسوب (¬1). وهو المن الذي يريد به الاعتداد. وهو معنى قول مقاتل: لا يمن به عليك (¬2). وقال الكلبي: غير مكدر عليك في الجنة (¬3). والقول هو الأول. والمعنى: إن لك لأجرًا يصبرك على بهتهم وافترآتهم عليك، وقولهم: إنك مجنون: غير ممنون. 4 - ثم مدحه مع وعد الأجر بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس في رواية عطاء (¬4): يريد دين عظيم، لم أخلق من الأديان أحب ولا أرضى عندي منهن اختصصتك به واصطفيته (¬5) لك ولأمتك. ونحو هذا قال الكلبي: على دين عظيم. وهو قول مقاتل، ومجاهد، والسدي، وأبي ¬

_ = "تهذيب اللغة" 5/ 394، و"اللسان" 3/ 180 (قهد)، وصدر البيت: لمعفر فهد تنازع شلوه والعفر: الإلقاء على العفر، وهو أديم الأرض، والفهد: الأبيض. والشلو: العضو. والغبس: الذئاب أو الكلاب. والمعنى: أن طعام الذئاب لا يفتر لكثرة الاصطياد أو طعام الذئاب لا يقطعه أصحابها. (¬1) انظر: "جامع البيان" 29/ 12، و"البحر المحيط" 8/ 308. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 162 ب، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 481، و"التفسير الكبير" 30/ 80. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 116، و"التفسير الكبير" 30/ 80، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 226. (¬4) في (س): (في رواية عطاء) زيادة. (¬5) في (ك): (واصصفيتك).

مالك، وابن زيد بن أسلم (¬1) وجماعة (¬2)؛ قالوا: يعني الإسلام والدين (¬3). وروى عكرمة عن ابن عباس قال: يعني القرآن؛ وهو قول الحسن والعوفي قالا (¬4): يعني أدب القرآن (¬5). ويدل على هذا ما روي أن عائشة سئلت عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان خلقه القرآن (¬6). وفسره قتادة فقال: ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله (¬7). واختاره الزجاج فقال: المعنى إنك على الخلق الذي أمرك (¬8) الله به في القرآن (¬9). ومعنى الخلق في اللغة: العادة (¬10). ذكرنا (¬11) ذلك في قوله: ¬

_ (¬1) في (س): (والسدي، وأبي مالك، وابن زيد بن أسلم) زيادة. (¬2) (وجماعة) ساقطة من (س). (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 162 ب، و"جامع البيان" 29/ 12، و"معالم التنزيل" 4/ 375، و"زاد المسير" 8/ 328. (¬4) في (ك): (قال). (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 227، ورجحه، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 402، و"الدر" 6/ 251. (¬6) الحديث رواه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها باب: جامع صلاة الليل 1/ 513، وأبو داود في كتاب: التطوع 2/ 99، والنسائي في كتاب: قيام الليل 2/ 199. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 163 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 375، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 227. (¬8) في (ك): (أمر). (¬9) انظر: "معاني القرآن" 5/ 204. (¬10) انظر: "مفردات الراغب" ص 157 (خلق). (¬11) في (ك): (ذكر).

{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137]. وقال ابن الأعرابي: الخلق: الدين، وسمي خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا لعظم قدره وجلالة محله عند الله تعالى (¬1). قوله (¬2): {فَسَتُبْصِرُ} أي: فسترى يا محمد، {وَيُبْصِرُون} يعني المشركين، {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} اختلفوا في الباء هاهنا، فأكثر المفسرين وأهل المعاني على أنها صلة زائدة (¬3). والمعنى: أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون. قال أبو عبيدة: مجازه أيكم، وأنشد: يَضرِبُ بالسيفِ ويرجُو بالفَرَجْ (¬4) ونحوه قال الأخفش وابن قتيبة (¬5). وقال مقاتل: هذا وعيد العذاب ببدر (¬6). يعني: سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر أيكم المفتون. ونحو هذا قال قتادة (¬7)، وابن عباس ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 29 (خلق). (¬2) في (س): (قوله) زيادة. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للأخفش 712، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 482، و"البحر المحيط" 8/ 309. (¬4) البيت للنابغة الجعدي، وصدره: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج انظر: "ديوانه" ص 216، و"الخزانة" 9/ 520، و"مغني اللبيب" ص 108 و"مجاز القرآن" 2/ 264، و"تفسير القرآن" ص 478، و"الإنصاف" ص 284. (¬5) (س): (ونحوه قال الأخفش وابن قتيبة) زيادة. انظر: "معاني القرآن" 2/ 712، و"تفسير غريب القرآن" 477 - 478. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 162 ب، و"التفسير الكبير" 30/ 82. (¬7) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 308، و"جامع البيان" 29/ 14.

في رواية عطاء يقول: بأيكم المجنون (¬1). وهذا محمول على زيادة الباء. وقال أبو إسحاق: لا يجوز أن يكون الباء هاهنا لغوًا في قول أحد من أهل العربية (¬2)، وفيه قولان للنحويين: أحدهما: قالوا: المفتون هاهنا بمعنى الفتون (¬3). والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقول والميسور. ويقال: ليس له معقود رأي. أي عقد رأي. والمفتون هاهنا بمعنى الفتون (¬4)، أي: الجنون. وهذا قول الحسن والضحاك (¬5) ورواية عطية عن ابن عباس. قالوا: بأيكم الجنون (¬6). والقول الثاني: أن الباء بمعنى في (¬7). ومعنى الآية: ستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون. أي: فرقة الإسلام أم في (¬8) فرقة الكفار (¬9). والقولان للفراء (¬10) فشرحهما أبو إسحاق. وقال في البيت الذي أنشده أبو عبيدة: معناه: نرجو كشف ما نحن ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 117 برواية الكلبي، و"الكشف والبيان" 12/ 164 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 377، ذكره برواية العوفي. (¬2) مراد الزجاج من قوله هذا: أن من قال بزيادتها لم يستند على نقل صحيح عن أهل اللغة، وإنما هو اجتهاد منه. (¬3) في (ك): (المفتون). (¬4) انظر: "معاني القرآن" 5/ 205. (¬5) في (س): (والضحاك) زيادة. (¬6) انظر: "جامع البيان" 29/ 13، و"التفسير الكبير" 30/ 82. (¬7) في (ك): (في معنى). (¬8) في (س): (في) زيادة. (¬9) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 205. (¬10) انظر: "معاني القرآن" 3/ 173.

8، 9

فيه بالفرج، أو نرجو النصر بالفرج (¬1). وهذا القول وإن أنكره غير مردود، لأن زيادة الباء كثير في الكلام وفي التنزيل، ذكرنا ذلك في عدة مواضع (¬2). واختار المبرد أن يكون {اَلمَفْتُونُ} مصدرًا معنى الفتنة (¬3). 8، 9 - قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} يعني رؤساء أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دين فنهاه الله أن يطيعهم، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة. وقال أبو الهيثم: الإدهان: المقاربة في الكلام والتليين في القول (¬4). وقال المبرد: أدهن الرجل في دينه، وداهن في أمره، إذا خان وأظهر خلاف ما يضمر (¬5). وذكرنا هذا عند قوله: {أَنْتُمْ مُدْهِنُون} [الواقعة: 81]. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 205. (¬2) اختلف العلماء في وقوع الزائد في القرآن، فالمبرد، وثعلب، وابن السراج وغيرهم قالوا: لا صلة في القرآن والجمهور على إثبات الصلات في القرآن. ومراد من أثبت الحروف الزائدة في القرآن ما أتي به لغرض التقوية والتوكيد، وليس المراد إهمال اللفظ ولا كونه لغوًا فتحتاج إلى التنكب عن التعبير بها إلى غيرها. انظر: "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 2/ 856 و"البرهان في علوم القرآن" 3/ 72. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 82. وقال ابن تيمية -رحمه الله- عند هذه الآية: هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها. منها قوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} حار فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف؛ ثم ذكر ما روي عن مجاهد والحسن وغيرهما، إلى أن قال: والذين لم يفهموا هذا قالوا: الباء زائدة. قاله ابن قتيبة وغيره. وهذا كثير .. ، و"دقائق التفسير" 5/ 19 - 20. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 205، و"اللسان" 1/ 1029 (دهن). (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 83.

قال الكلبي: لو (¬1) تصانعهم في الدين فيصانعونك (¬2). والمعنى: تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض ما لا ترضى فتلين لهم ويلينون. وهذا قول مجاهد: تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك (¬3). وهذا قول أكثر المفسرين (¬4). ومعنى رواية الوالبي عن ابن عباس (¬5). وقال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبدوا آلهتهم مدة ويعبدوا الله مدة (¬6). وروى عنه عطاء: لو تكفر (¬7) يكفرون. وهذا قول مقاتل، وعطية، والضحاك (¬8). وهذا كالأول؛ لأنه يكفر بمداهنتهم لو فعل، وهم يكفرون باتباعه فيتبعونه على الكفر (¬9). ¬

_ (¬1) في (س): (لو) زيادة. (¬2) في (ك): (فيصانعوك). وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 117، ونسب أيضًا للحسن كما في "الكشف والبيان" 12/ 164 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 377، و"زاد المسير" 8/ 330، وذكروا عن الكلبي قوله: ودوا لو تلين لهم فيلينون لك. (¬3) انظر: "جامع البيان" 29/ 14، و"الدر" 6/ 251. (¬4) انظر: "غرائب القرآن" 29/ 17. (¬5) انظر: "جامع البيان" 29/ 14، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 483، و"الكشف والبيان" 12/ 164 ب. (¬6) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 478. (¬7) (ك): (تكفرون). (¬8) (س): (والضحاك) زيادة. انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 164 ب، و"زاد المسير" 8/ 331. (¬9) قال ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال ... أمثلها قولهم: ودوا لو =

10

10 - قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ}: كثير الحلف بالباطل، {مَهِينٌ} قال مجاهد ومقاتل: ضعيف القلب (¬1). قال الزجاج: هو فعيل من المهانة وهي القلة، ومعناه هاهنا القلة في الرأي والتمييز (¬2). وهذا معنى قول المفسرين: ضعيف القلب. وقال الحسن وقتادة: المهين: المكثار من الشر (¬3). ومعناه أنه الوضيع بإكثاره من القبيح. وقيل: هو القبيح. وقيل: الحقير؛ لأنه عرف أنه يحلف على الكذب (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء (¬5): يعني: الأخنس بن شريق؛ وهو قول السدي والكلبي (¬6). وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين عرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ = تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون. "أحكام القرآن" 4/ 1843. وقال القرطبي -تعقيبًا على ابن العربي-: (كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ...) "الجامع" 18/ 231. (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 231، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 403. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 205. (¬3) انظر: "جامع البيان" 29/ 15، و"الكشف والبيان" 12/ 165 أ. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 83، و"الجامع لأحكام القرآن" 28/ 231. (¬5) في (س): (في رواية عطاء) زيادة. (¬6) في (س): (والكلبي) زيادة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 308، و"جامع البيان" 29/ 15، و"معالم التنزيل" 4/ 377، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 231، ذكروا هذا القول دون نسبة لابن عباس، وإنما قصروه على عطاء والكلبي والسدي.

11

المال ليرجع عن دينه (¬1). 11 - قوله تعالى: {هَمَّازٍ} قال المبرد: هو الذي يهمز الناس بالمكروه، وأكثر ذلك بظهر الغيب (¬2). وقال الزجاج: مغتاب للناس (¬3). وقال ابن عباس: طعان للناس (¬4). وقال مقاتل: مغتاب (¬5). {مَشَّاءٍ بِنَمِيم} يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. ويقال: نمَّ يَنُمُّ وَينِمُّ نمّا ونميمًا ونميمة. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} قال عطاء والكلبي (¬6) عن ابن عباس، ومقاتل، معنى الخير هاهنا الإيمان والإسلام، كان له عشرة بنين، وكان يقول لهم وللحمته من قرابته: لئن تبع دين محمد منكم أحد (¬7) لا أنفعه بشيء أبدًا (¬8)؛ فمنعهم الإسلام وهو الخير الذي منعهم. وعلى هذا معناه: مناع للإيمان والإسلام؛ أي يمنعهما الناس. ويجوز أن يكون المعنى (¬9): مناع رفده ونفعه لأجل الخير وهو الإسلام. وقال الآخرون: معناه: بخيل بالمال. فالخير على هذا القول المال، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 377. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 84. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 205. (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 117. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 232. (¬6) في (س): (والكلبي) زيادة. (¬7) في (س): (أحد) زيادة. (¬8) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 117، و"تفسير مقاتل" 163 أ، و"الكشف والبيان" 12/ 165 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 378. (¬9) في (س): من (مناع للإيمان) إلى هنا زيادة.

13

وهو اختيار ابن قتيبة (¬1). قوله تعالى: {مُعْتَدٍ} قال مقاتل: يعني في الغشم والظلم (¬2). والمعنى أنه ظلوم يعتدي الحق ويتجاوزه فيأتي بالظلم. وهو معنى قول الكلبي: معتد للحق (¬3). ومعناه أنه صاحب الباطل. {أَثِيم} أثم بغشمه وظلمه، وصار ذا إثم. وقال عطاء (¬4): أثيم في جميع أفعاله. وقال الكلبي: يعني فاجرًا (¬5). 13 - قوله تعالى: {عُتُلٍّ} قال الفراء: العتل في هذا الموضع: الشديد الخصومة بالباطل (¬6)؛ وهو قول الكلبي (¬7). وقال أبو عبيدة: هو الفظ الكافر، وهو الشديد في كل شيء (¬8). وقال المبرد: العتل عند العرب: الجافي الخلق. ونحسبه -والله أعلم- في هذا الموضع المتجافي عن الحق. وقال الزجاج: هو في اللغة: الغليظ الجافي (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 478، و"جامع البيان" 29/ 15، و"زاد المسير" 8/ 332. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 84. (¬3) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 378، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 232. (¬4) في (س): من (أثم بغشمه) إلى هنا زيادة. (¬5) في (س): (وقال الكلبي: يعني فاجرًا) زيادة. وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 118. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 173. (¬7) في (س): (وهو قول الكلبي) زيادة. وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 118. (¬8) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 264. (¬9) انظر: "معاني القرآن" 5/ 206.

وقال الليث: هو الأكول المنوع (¬1). هذا قول أهل اللغة في تفسير العُتل (¬2)، وأصله في العتل، وهو السوق الشديد والقود العنيف من قوله: {فَاَعْتِلُوهُ} وقد مر (¬3). فالعُتل: الجافي الغليظ الشديد الخصومة والفظ العنيف. وقال الفراء في كتاب "المصادر": إنه لعُتُل بَيِّنُ العُتُلَّة، بضم العين والتاء وتشديد اللام. قال: والعرب تقول: إنك لَعَتِلٌ شديد إلى الشر -بفتح العين وكسر التاء مخففة- بيَّن العتل (¬4). معناه: إنك لسريع إلى الشر. وقوله المفسرين في هذا على قسمين: أحدهما: أنه ذم في الخَلْق. والثاني: أنه ذم في الخُلُق. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد قوي ضخم (¬5). وقال مقاتل: رحيب الجوف وثيق الخلق (¬6). وقال أبو رزين: العتل: الصحيح (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" 2/ 681 (عتل)، و"زاد المسير" 8/ 332. (¬2) في (س): (هذا قول أهل اللغة في تفسير العتل) زيادة. (¬3) عند تفسيره الآية (47) من سورة الدخان. قال: العتل أن تأخذ بتلابيب الرجل فتعتله، أي: تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو بلية وأخذ فلان بزمام الناقة فعتلها، وذلك إذا قبض على أصل الزمام عند الرأس وقادها قودًا عنيفًا. وقال ابن السكيت: عتلته إلى السجن وعتنته فأنا أعتله وأعتنه، إذا دفعته دفعًا عنيفًا. (¬4) انظر: "اللسان" 2/ 6814 (عتل)، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 232، عن ابن السكيت. (¬5) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 84. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 233. (¬7) انظر: "جامع البيان" 29/ 16.

وقال مجاهد: هو الشديد الأشر (¬1). وقال عبيد بن عمير (¬2): هو الأكول الشروب القوي الشديد يوزن فلا يزن شعيرة (¬3)، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفًا دفعة واحدة في جهنم (¬4). وقال الحسن: هو الفاحش الخُلق، اللئيم الضريبة (¬5). قوله تعالى: {بَعْدَ ذَلكَ} قال صاحب النظم: (بعد) هاهنا بمنزلة مع على تأويل عتل مع ما وصفناه به (¬6). وهذا معنى قول مقاتل (¬7). يعني مع هذا النعت. {زَنِيم} الزنيم في اللغة: الدعي. قال أبو عبيدة (¬8): الملصق بالقوم وليس منهم، وأنشد لحسان بن ثابت (¬9): وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 29/ 16، و"زاد المسير" 8/ 332. (¬2) في (ك): (شعرة). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 84. (¬4) انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة 13/ 440، و"الكشف والبيان" 12/ 165 أ، و"حلية الأولياء" 3/ 270، و"زاد المسير" 8/ 332. (¬5) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 308، و"جامع البيان" 29/ 16، و"الدر" 6/ 251. والضريبة: الطبيعة أي: اللئيم بطبعه. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 378، و"زاد المسير" 8/ 332. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ. (¬8) (أبو عبيدة) ساقطة من (ك). (¬9) "ديوان حسان" ص 89، و"اللسان" 2/ 53 (زنم)، و"مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف" ص 38، ونيطَ آخر. والمعنى: أنت زنيم مؤخر في آل هاشم كما يؤخر الراكب القدح خلفه.

قال: ويقال للتيس: زنيم له زنمتان (¬1). قال المبرد: وإنما أخذ فيما ذكر أبو عبيدة من زنمت (¬2) الشاة إذا شقت أذنها فاسترخت هدبته (¬3) ويبست كالشيء المعلق. والزنمة من كل شيء الزيادة (¬4). وقال ابن عباس في رواية عطاء (¬5): يريد مع هذا هو دعي في قريش وليس منهم (¬6). ونحو هذا روى ثابت بن أبي صفية عن رجل يكنى أبا عبد الرحمن عن ابن عباس قال: هو اللئيم الملزق (¬7) ثم أنشأ يقول: زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع (¬8) وهذا قول مجاهد، وسعيد بن المسيب، وعكرمة (¬9). قالوا: هو ولد ¬

_ (¬1) في (ك): (زمتان) وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 265. (¬2) في (ك): (زمت). (¬3) في (س): (هُنية). (¬4) انظر: "الكامل" 3/ 223 - 224. (¬5) في (س): (في رواية عطاء) زيادة. (¬6) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 378، و"تنوير المقباس" 6/ 118، وهي من طريق الكلبي. (¬7) في (ك): (المزلق). (¬8) في (س): (الكوارع) والبيت لحسان بن ثابت كما في "ديوانه" ص 491، وفي "اللسان" 2/ 53 (زنم) نسبه للخطيم التميمي. (¬9) أخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه أبو عبيد، والمبرد وغيرهما. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 234، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 404، وعند ابن جرير من طريق العوفي: الزنيم: الدعي. وعنده بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في الزنيم: الذي يعرف بأبنة. "جامع البيان" 29/ 17، و"تفسير ابن عباس" مروياته للحميدي 2/ 897. =

الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم (¬1). وتمثل عكرمة فيه ببيت شعر فقال: زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الأم ذو حسب لئيم (¬2) ويؤكد هذا التفسير ما قال مرة الهمداني (¬3): إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة (¬4). وفيه قول آخر: قال الشعبي: هو الرجل الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها (¬5). وقال سعيد بن جبير: هو الرجل السوء يعرف بالشر، يمر على القوم فيقولون: هذا رجل سوء (¬6). ونحو هذا روى خصيف (¬7) عن عكرمة قال: الزنيم: الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (¬8). ¬

_ = والأبنةُ: العيب في الخشب والعود، يقال: ليس في حسب فلان أبنة، كقولك: ليس فيه وصمة "اللسان" 1/ 9 (أبن). (¬1) انظر: "جامع البيان" 29/ 17، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 234، و"البحر المحيط" 8/ 310. (¬2) لم أجد للبيت قائلَّا: وانظر المراجع السابقة. (¬3) في (ك): (الهمداني مرة). (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 165 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 378. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 165 ب، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 499 عن ابن عباس وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬6) انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 688، و"معالم التنزيل" 4/ 378، و"الدر" 6/ 253، عن ابن عباس ونسب تخريجه لابن أبي حاتم. (¬7) في (س): (ونحو هذا روى خصيف عن) زيادة. (¬8) انظر: "جامع البيان" 29/ 18، و"معالم التنزيل" 4/ 378، عن ابن عباس.

14

قال ابن قتيبة: معنى هذا القول أنه قد لحقه (¬1) سبة في الدِّعوة (¬2) عرف بها مزنمة الشاة (¬3). وفي الزنيم قول ثالث روى عكرمة (¬4) عن ابن عباس: نعت فلم يعرف فقيل: {زَنيِمٍ} قال: وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها (¬5). وهذا قول مقاتل: كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة (¬6). 14 - {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قال الفراء: وقرئ (أأن كان) بهمزتين (¬7). قال: والمعنى: ولا تطع كل حلاف مهين أن كان، أي: لأن كان يريد لا تطعه لماله وبنيه. ومن قال: (أأن كان) فإنه وبخه؛ والمعنى: ألان كان ذا مال وبنين تطعه. وإن شئت قلت (¬8): ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه ¬

_ (¬1) في (ك): (لحقته). (¬2) الدِّعوة: بكسر الدال: ادعاء الولد الدَّعيَّ غيرَ أبيه. وقال ابيت شميل: الدَّعوة في الطعام والدِّعوة في النسب. "اللسان" 1/ 987 (دعا). (¬3) انظر: "تأويل المشكل" ص 159. (¬4) في (س): (عكرمة) زيادة. (¬5) أخرجه ابن جرير بسند صحيح. "جامع البيان" 29/ 17، و"تفسير ابن عباس" ومروياته للحميدي 2/ 897، وفي البخاري 6/ 198 عن ابن عباس قال: رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 85، وقال ابن كثير في "تفسيره" 4/ 405، والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس، وغالبًا يكون دعيا ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره. (¬7) قرأ ابن عامر (آن كان) بهمزة مطولة، وقرأ حمزة وأبو بكر (أأنْ) بهمزتين مخففتين على الاستفهام. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم (أن كان) على الخبر. انظر: "حجة القراءات" ص 717، و"الإتحاف" ص 421، و"زاد المسير" 8/ 333. (¬8) (قلت) زيادة من "معاني القرآن" للفراء.

آياتنا قال: أساطير الأولين. وكان حسن (¬1). واختار أبو إسحاق القول الثاني، وقال: (أنْ) نصب بمعنى قال ذلك؛ لأن كان ذا مال وبنين. أي: جعل مجازاة النعم التي خُولها من المال والبنين الكفر بآياتنا. قال: قال: وإذا جاءت ألف الاستفهام ومعناها التوبيخ فهذا هو القول، ولا يصلح غيره. وإذ (¬2) بغير استفهام جاز أن يكون المعنى: ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين. أي: لا تطعه ليَسَاره وعدده (¬3). وقد اتفقا (¬4) على جواز أن يكون قال في قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ} عاملًا في (أنْ) في (¬5) قوله: {أَن كاَنَ} قال أبو علي: لا يخلو من أن يكون العامل فيه {تُتْلَى} أو {قَال} أو شيء ثالث، ولا يجوز أن يعمل واحد منهما فيه. ألا ترى أن تتلى من قوله: {تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} قد أضيفت إذا إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله، ألا ترى أنك لا تقول: القتال زيدًا حين يأتي زيد. ولا يجوز أن يعمل فيه (قال) أيضًا؛ لأن (قال) جواب (إذا)، وحكم الجواب أن يكون بعد ما هو جواب له ولا يتقدم عليه. وإذا لم يجز أن يعمل في (أنْ) واحد من هذين الفعلين علمت أنه محمول (¬6) على شيء آخر مما دل في الكلام عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 3/ 173 - 174. (¬2) بياض في المخطوطتين، ولعلها (وإذا قرئ). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 206. (¬4) أي الفراء والزجاج. (¬5) في (س): (في) زيادة. (¬6) في (ك): (مجنون).

16

والذي يدل عليه هذا الكلام من المعنى هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق، ونحو ذلك. إنما جاز أن يعمل المعنى فيه وإن كان متقدمًا عليه لشبهه بالظرف، والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه. وإن من النحويين من يقول: إنه في موضع جر كما أنه لو كانت اللام ظاهرة معه كان كذلك، فإذا صار كالظرف (¬1) من حيث قلنا لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله: {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] لما كان ظرفا، والعامل فيه بعثتم، الدال عليه قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيد}، وكذلك {أَن كاَنَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}، كأنه جحد بآياتنا لأن كان ذا مال وبنين، أو كفر بآياتنا لأن كان ذا مال وبنين (¬2). وعلى هذا المعنى يكون محمولًا فيمن استفهم فقال: أن كان ذا مال وبنين؛ لأنه (¬3) توبيخ وتقرير، فهو بمنزلة الخبر. ومثل ذلك قولك: ألأن أنعمت عليك جحدت نعمتي، إذا وبخته بذلك. فعلى هذا تقدير الآية (¬4). 16 - قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} الوسم: أثر كية. يقال: وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها، إما بكية، وإما قطع في أذن علامة ¬

_ (¬1) في (ك): (فالظرف). (¬2) في (س): (أو كفر بآياتنا لأن كان ذا مال وبنين) زيادة. (¬3) في (س): (لأنه) زيادة. (¬4) من قوله (قال أبو علي) إلى هنا كلام أبي علي، وفيه تصرف من المؤلف. انظر: "الحجة" 6/ 310 - 311، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 453، و"الكشاف" 4/ 127، و"التفسير الكبير" 30/ 85.

له (¬1). قال أبو عبيد: الخرطوم الأنف. وأنشد قول ذي الرمة (¬2): تنجو إذا جعلت تدمى أخشتها ... وأعتم بالزبد الجعد الخراطيمُ ونحو هذا قال أبو عبيد (¬3). وقال أبو زيد: الخرطوم والخطم: الأنف. وقال المبرد: الخرطوم هاهنا الأنف، وهو من السباع في مواضع الشفاه من (¬4) الناس، والجحافل (¬5) من ذوات الحوافر، والمرمات والمقمات (¬6) من ذوات الأظلاف، والمشافر من الإبل، وهو من الليل موضع الأنف (¬7). واختلفوا في معنى هذا الوسم، فالأكثرون على أنه وعيد (¬8) له بذلك في الآخرة. قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار (¬9). ونحو هذا قال أبو العالية: يسود وجهه فيجعل له علمًا في ¬

_ (¬1) انظر: "اللسان" 3/ 928 (وسم). (¬2) انظر: "ديوان ذي الرمة" 1/ 405، و"تهذيب اللغة" 1/ 121، و"اللسان" 2/ 889 (عمَّ)، وتنجو: تسرع السير، وأخشتها: جمع خشاش، وهي حلقة تكون في أنف البعير، والزبد: الجعد المتراكم على خطم البعير. (¬3) في (س): (ونحو هذا قال أبو عبيد) زيادة (¬4) في (ك): (وقال أبو زيد: الخرطوم) زيادة. والصواب حذفها. (¬5) جحافل الخيل: أفواهها. وجحفلة الدابة: ما تناول به العلف، بمنزلة الشفة في الإنسان. "اللسان" 1/ 407 (جحف). (¬6) المرمة (بالكسر): شفة البقرة، وكل ذات ظلف، والمِقَمَّة والمَقَمَّة، الشَّفة. وهي من ذوات الظِّلف خاصة، سميت بذلك؛ لأنها تقتم به ما تأكله أي تطلبه، و"اللسان" 1/ 922 (رمم)، 3/ 166 (قمم). (¬7) انظر: "اللسان" 1/ 815 (خرطم). (¬8) في (ك): (وعد). (¬9) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 86.

الآخرة ويعرف بسواد وجهه (¬1)، وهذا القول اختيار الفراء والزجاج (¬2). قال الفراء: سنسمه سمة أهل النار؛ أي: سنسود وجهه، والخرطوم (¬3) وإن كان قد خص بالسمة؛ لأن في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض (¬4). وقال الزجاج: معنى {سَنَسِمُهُ} سنجعل له في الآخرة العلم (¬5) الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم، وجائز -والله أعلم- أن ينفرد بسمة؛ لتعاليه في عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيخص من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عداوة يتبين بها من غيره (¬6)، فهؤلاء جعلوا هذه السمة على الخرطوم سواد وجهه في الآخرة. وجعل الضحاك هذه السمة كيًّا على وجهه يعرف بها في الآخرة: وهو معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (¬7). كما توسم الغنم؛ واختاره الكسائي (¬8). وهذا قريب من قول أبي إسحاق الثاني. هذا كله قول من قال: إن هذا (¬9) الوعيد يلحقه في الآخرة. وذهب بعضهم إلى أن هذه التسمية لحقته في الدنيا. وهو قول الكلبي ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 167 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 379. (¬2) في (س): (وهذا القول اختيار الفراء والزجاج) زيادة. (¬3) في (ك): (قبل دخول النار. أي سنسود وجهه. والخرطوم) زيادة، والصواب ما أثبته. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 174. (¬5) في (ك)، (س): (علمًا الحلم)، والتصحيح من معاني الزجاج. (¬6) انظر: "معاني القرآن" 5/ 207. (¬7) في (س): (في رواية عطاء) زيادة. (¬8) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 167 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 379. (¬9) في (س): (هذا) زيادة.

عن ابن عباس قال: سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال (¬1). وذهب آخرون إلى أن معني هذا الوسم أنه يُشهر بالقبيح والذكر السوء؛ وهو قول قتادة، واختيار ابن جرير وابن قتيبة (¬2). قال قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه (¬3). وقال ابن جرير (¬4): سنبين أمره بيانًا واضحًا حتى تعرفوه فلا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم (¬5). وشرح ابن قتيبة هذا المعنى. فقال: للعرب (¬6) في مثل هذا اللفظ مذهب تخبر به. تقول العرب للرجل يسب الرجل سبة قبيحة (¬7) باقية، أو ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 29/ 18، و"معالم التنزيل" 4/ 279، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 236. قلت: ذكر المفسرون -رحمهم الله- أن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة أو الأسود ابن عبد يغوث، أو الأخنس بن شريق، وكل هؤلاء لا يصدق فيهم ما رواه الكلبي هنا عن ابن عباس، فالوليد لم يحضر غزوة بدر، وكذا الأخنس، والأسود أول من قتل من المشركين، فكيف يجعل خطمه بالسيف علامة باقية ما عاش. ولهذا وغيره فالظاهر أن الآية وما قبلها نزلت في غير معين وأنه من عرف بالشر واشتهر به. وانظر: "دقائق التفسير" 5/ 17، والله تعالى أعلم. (¬2) في (س): (وهو قول قتادة واختيار ابن جرير، وابن قتيبة) زيادة. (¬3) انظر: "جامع البيان" 29/ 18، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 405. (¬4) في (س): (قال ابن جرير) زيادة. (¬5) انظر: "جامع البيان" 29/ 18 - 19. (¬6) في (س): (فقال للعرب) زيادة. (¬7) في (س): (قبيحة) زيادة.

تبينوا عليه فاحشة: قد وسمه بميسم (¬1) بسوء. يريدون ألصق به عارًا لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا يعفو (¬2) أثرها. قال جرير (¬3): لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث (¬4) جدعت أنف الأخطل يريد أنه وسم الفرزدق وجدع أنف الأخطل بالهجاء. أي: أبقى به عليه عارًا كالجدع والوسم. وقال أيضًا (¬5): رفع المطيُّ بما وسمت مجاشعًا ... والزنبري يعوم ذو الأجلال يريد أن هجاءه قد سارت في المطي وغني به في البر والبحر (¬6). وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة (¬7) ولا يعلم أن الله -عز وجل- وصف أحدًا وصفه له ولا بلغ من ذكر عيوبه ما بلغه من ذكرها عنه؛ لأنه وصف بالحلف، والمهانة، والغيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل، والظلم، والإثم، ¬

_ (¬1) في (س): (يسم). (¬2) في (ك): (ولا يمحوا). (¬3) انظر: "ديوان جرير" 2/ 940. (¬4) البَعِيث: خداش بن بشر، كنيته أبو زيد، أو أبو مالك. أحد بني مجاشع، كان شاعرًا، وخطيبًا مفوهًا. عاش في البصرة أو بالقرب منها، وقف إلى جانب غسان، السليطي ضد جرير. فدخل في معركة النقائض بين جرير والفرزدق. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ص 326، و"المؤتلف والمختلف" ص 56، 108، و"الأغاني" 8/ 16، و"تاريخ التراث العربي" 2/ 79، و"الخزانة" 2/ 279. (¬5) "ديوان جرير" 2/ 955، والزنبري هو السفن الثقيلة. (¬6) انظر: "تأويل المشكل" ص 156. (¬7) وهو قول ابن عباس، ومقاتل. انظر: "تنوير المقباس" 6/ 117، و"تفسير مقاتل" 163 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 377.

17

والدِّعوة؛ فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة. كالوسم على الخرطوم وأبين ما يكون في الوجه. ومما يشهد لهذا المذهب قول من قال في قوله: {زَنِيمٍ} أنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. 17 - قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا} (¬1) الآية. قال المفسرون: بلونا أهل مكة بالجوع والقحط كما ابتلينا أصحاب الجنة بالجوع حين هلكت جنانهم. وهم قوم من ثقيف، كانوا باليمن (¬2) مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنان وزروع ونخيل. وكان أبوهم يجعل مما فيها للمساكين من كل شيء حظًّا عند الصرام وعند الحصاد والدياسة والرفاع (¬3). فقالت بنوه: العيال كثير، والمال قليل، ولا يسعنا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا. وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى الهلاك وإلى ما قص الله في كتابه من قصتهم (¬4). قال مقاتل: وهذا مثل ضربه الله لكفار مكة ليعتبروا فيرجعوا، وهو قوله: {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّة} (¬5) قال المفسرون: وهي تسمى (¬6): الضروان ¬

_ (¬1) (كما بلونا) ساقطة من (س). (¬2) اليمن: تشرف على البحر الأحمر والمحيط الهندي، ويطلق عليها بلاد العرب السعيد أو الخضراء، وسميت اليمن لتيامنهم إليها، قال ابن عباس: تفرقت العرب، فمن تيامن منهم سميت اليمن وهي أيمن الأرض فسميت اليمن. انظر: "معجم البلدان" 5/ 447، و"دراسات تاريخية: العرب وظهور الإسلام" ص 5. (¬3) (س): (والرفاع) زيادة. والمراد به رفع المحصول في المخازن. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 167 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 379، من رواية الكلبي عن ابن عباس. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 163 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 239. (¬6) في (س): (تسمى) زيادة.

18

بقرب صنعاء (¬1). قال سعيد بن جبير: على اثني عشر ميلًا منها (¬2). وقال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم بالنار (¬3). قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} حلفوا ليقطعن ثمر نخلهم إذا أصبحوا بسُدفة (¬4) من الليل. قال مقاتل: قالوا: اغدوا سرًا إلى جنتكم فاصرموها ولا تؤذنوا المساكين وكان آباؤهم يخبرون المساكين (¬5) فيجتمعون عند صرام جنتهم (¬6). ويقال: قد صرم العذق عن النخلة وأرم النخل إذا حان وقت صرامه (¬7). 18 - قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} يقولون: إن شاء الله. هذا قول جماعة ¬

_ (¬1) صنعاء: نسبة إلى جودة الصنعة في ذاتها. كان اسمها أزال، فلما وافتها الحبشة قالوا: هذه صنعة، ومعناه: حصينة، فسميت صنعاء بذلك. وبينها وبين عدن ثمانية وستون ميلًا، وهي شبيهة بدمشق في كثرة المياه والفواكه. "معجم البلدان" 3/ 425. (¬2) أخرج ابن جرير، وعبد الرزاق وغيرهما بلفظ: (هي أرض باليمن يقال لها: ضروان، بينها وبين صنعاء ستة أميال). انظر: "جامع البيان" 29/ 20، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 406، و"فتح الباري" 8/ 662. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 167 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 379، والفرسخ السكون. ثلاثة أميال أو ستة، سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك كأنه سكن. (¬4) السُّدفة: ظلمة فيها ضوء من أول الليل وآخره، ما بين الظلمة إلى الشفق، وما بين الفجر إلى الصلاة. "اللسان" 2/ 121 (سدف). (¬5) في (س): (وكان آبائهم يخبرون المساكين) زيادة. (¬6) في (ك): (جنتكم)، وانظر: "تفسير مقاتل" 163 أ. (¬7) انظر: "اللسان" 2/ 434 (صرم).

19

المفسرين (¬1). ويقال: حلف فلان يمينًا ليس فيها ثنيا ولا ثنوى ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء، كله واحد، وأصل هذا كله من الثني وهو الكف والرد (¬2)، وذلك أن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد ما قاله بمشيئة الله غيره. 19 - قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (¬3) قال ابن عباس: أحاطت بها النار فاحترقت (¬4). وقال الكلبي: {عَلَيْهَا} على الجنة، أرسل عليها نارًا من السماء فاحترقت، فذلك قوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ}، والطائف لا يكون إلا ليلاً (¬5). وروى (¬6) أبو ظبيان (¬7) عن ابن عباس قال: هو أمر من أمر ربك (¬8). وقال قتادة: طرقها طارق من أمر الله، والطائف: الطارق ليلاً (¬9). ¬

_ (¬1) في (س): (هذا قول جماعة المفسرين) زيادة. (¬2) انظر: "اللسان" 1/ 382 (ثنى). (¬3) (وهم نائمون) ساقطة من (س). (¬4) انظر: "زاد المسير" 8/ 336. (¬5) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 168 أ، و"التفسير الكبير" 30/ 88، و"غرائب القرآن" 29/ 19. (¬6) في (ك): (وقال). (¬7) في (س): (روى أبو ظبيان عن) زيادة. (¬8) انظر: "جامع البيان" 29/ 19، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 241. (¬9) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال: (أتاها أمر الله ليلاً فأصبحت كالصريم. قال: كالليل المظلم). وما ذكره المؤلف هنا هو قول ابن جرير -رحمه الله-، والمعنى متقارب. انظر: "جامع البيان" 29/ 19، و"الدر" 6/ 253.

وحقيقة المعنى ما ذكره ابن عباس من قوله: أحاطت بها النار (¬1). وقال مقاتل: بعث نارًا بالليل على جنتهم فأحرقتها حتى صارت سوداء، فذلك قوله: {وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قال: يعني أصبحت الجنة سوداء كالليل. وهو قول ابن عباس في رواية عطاء؛ يعني كالليل المظلم (¬2)، شبه سوادها بسواد الليل الدامس، وهو آخر ليالي الشهر، وهو أشد ما يكون ظلمة. وهذا القول في الصريم هو قول الفراء والزجاج (¬3). قال شمر: الصريم: الليل، والصريم: النهار (¬4)، ينصرم الليل من النهار والنهار من الليل. وعلى هذا الصريم بمعنى المصارم (¬5). وقال غيره: سمي الليل صريمًا لأنه يقطع بظلمته عن التصرف. وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل، وهو يبطل بالنهار. سمي صريمًا ولا يصرم (¬6) عن التصرف (¬7). وقال قتادة: {كَالصَّرِيمِ} كأنها صرمت (¬8). وعلى هذا الصريم بمعنى ¬

_ (¬1) انظر: "جامع البيان" 29/ 20، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 242. (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 163 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 406 و"الدر" 6/ 254. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 175، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 208. (¬4) (النهار) ساقطة من (ك)، (س)، والصواب إثباتها. وانظر: "الأضداد" للأصمعي والسجستاني وابن السكيت ص 41، 105، 195، 539. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 185، و"اللسان" 2/ 435 (صرم). (¬6) في (ك): (ولا يصرف). (¬7) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 88، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 242. (¬8) انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 406، و"تهذيب اللغة" 12/ 185، و"اللسان" 2/ 435 (صرم).

المصروم، أي: المقطوع ما فيه. وأبى عطاء هذا القول فروى عن ابن عباس: وليس يعني المصرومة، وذلك أن النار تحرق الأشجار فلا تشبه ما في ثمره وإن احترقت الثمار دون الأشجار، وهو بعيد أشبه المقطوع ثمره (¬1). وقال الحسن: أي: صرم عنها الخير فليس فيها شيء (¬2). والصريم على هذا مفعول أيضًا. وقال المؤرج: كالرملة (¬3) انصرمت من معظم الرمل (¬4). وقال الأصمعي: الصريم من الرمل: قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمل، وتجمع (¬5) الصرائم (¬6). وعلى هذا شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال، وهي لا تنبت شيئاً ينتفع به. وقال الأخفش: كالصبح انصرم من الليل (¬7). وقد ذكرنا أن النهار يسمى صريمًا. قال المبرد: قيل: كالنهار لا شيء فيها، كما يقال: لك سواد الأرض وبياضها. فالسواد العامر، والبياض الغامر، وعلى (¬8) هذا شبهه ¬

_ (¬1) في (س): من قوله (وأبى عطاء) إلى هنا زيادة. وانظر: "غرائب القرآن" 29/ 19. (¬2) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 168 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 379. (¬3) في (ك): (كالرمث). (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 168 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 242. (¬5) في (ك): (وجمعه). (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 185، و"اللسان" 2/ 435 (صرم). (¬7) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 168 أ، و"البحر المحيط" 8/ 312. (¬8) في (ك): (سوى).

21

بالنهار لخرابها وخلوها من الثمار والأشجار، وهذا على المقابلة، وذلك أن العامر لما سمي سوادًا سمي الخراب بياضًا لا على معنى اللون (¬1) ولكن على معنى المضادة (¬2). 21 - قوله تعالى: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)} قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: {اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} قال يعني بالحرث الثمار والزرع والأعناب (¬3)، ولذلك قال: (صارمين)؛ لأنهم أرادوا قطع ثمار النخيل والأعناب. وقال أبو إسحاق: إن كنتم عازمين (¬4) على صرم (¬5) النخل. وقال الكلبي: على حرثكم. يعني: ما كان في جنتهم من شجر وزرع (¬6) {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} يعني (¬7): جاذين للنخل والحصاد، ولم يرد الجمع بين النخل والزرع في الحصاد؛ لأن الحصاد والقطاف لا يجتمعان في وقت واحد، ولكنهم غدوا إلى جنتهم لحصاد الزرع وللمقام بها إلى آخر القطاف. و (أن) في قوله: {أَنِ اغْدُوا} بمعنى أي، كما قال تعالى ذكره: {أَنِ ¬

_ (¬1) (ك): (الليل). (¬2) لم أجد هذا القول، وغيره من أقوال المبرد نقلها المؤلف، وليست في مؤلفاته المعروفة، ولعلها -والله أعلم- نقلت من كتابه "إعراب القرآن" وهو كتاب مفقود. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 163/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 88، و"غرائب القرآن" 29/ 19. (¬4) (ك)، (س): (عازمين) ساقطة. (¬5) (ك)، (س): (الصرام) وانظر: "معاني القرآن" 5/ 208. (¬6) انظر: "جامع البيان" 29/ 20، و"زاد المسير" 8/ 336، ولم ينسب لقائل. (¬7) (س): (قال يعني).

{امْشُواْ}، وقد مر (¬1). قوله تعالى: {فَاَنطَلَقُواْ} أي ذهبوا إلى جنتهم {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يسرون الكلام بينهم بـ {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)}، ومضى تفسير التخافت عند قوله: {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (¬2) قال ابن عباس: غدوا إليها بسدفة يسر بعضهم إلى بعض الكلام لئلا يعلم أحد من الفقراء والمساكين (¬3). وقال قتادة: كانت الجنة لشيخ، وكان يتصدق، وكان يمسك قوته ويتصدق بالفضل، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة، فلما مات غدوا عليها وقالوا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين (¬4)، {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ}. وقال أبو إسحاق: لما كان الوقت الذي اعتدوا فيه في أول الصبح بسدفة غدوا إلى جنتهم ليصرموها (¬5). {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} واختلفوا في تفسير الحرد. والحرد (¬6) في اللغة يكون على معان. الحرد: المنع، من قولهم: حاردت السنة إذا قل مطرها ومنعت ريعها. وحاردت الناقة إذا منعت لبنها وقيل اللبن (¬7). ومنه قول الأعشى: ¬

_ (¬1) عند تفسيره الآية (6) من سورة ص. (¬2) عند تفسيره الآية (110) من سورة الإسراء. قال: المخافتة: الإخفاء، يقال: خفت صوته يخفت وخفاتًا إذا ضعف وسكن. وصوت خفيت أي خفيض. ومن هذا يقال للرجل إذا مات: قد خفت، أي: انقطع كلامه؛ وخفت الزرع إذا ذبل ولان. (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 89. (¬4) انظر: "جامع البيان" 29/ 19، و"الدر" 6/ 253. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 207. (¬6) (س): (والحرد) زيادة. (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 415، و"اللسان" 1/ 602 (حرد).

فإذا ما بكؤت أو حاردتْ ... فك عن حاجب أخرى طينها (¬1) والحرد: القصد؛ ومنه قول الهذلي (¬2): أقبل سيلٌ كان من (¬3) أمرِ الله ... يحرِد حَرْد الجنَّة المُغَلَّهْ وأنشد أبو عبيدة (¬4): أما إذا أحردت حردي فمجرية ... ضبطاء تمنع غيلًا غير مقروب والحرد: الغضب. وهما لغتان الحَرْدُ (¬5)، والحَرَدُ؛ والتحريك أكثر. وأنشد أبو عبيدة (¬6): أسود شرًى لاقت أسود خفية ... تساقوا (¬7) على حرد وماء الأساود ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الأعشى" (151)، و"اللسان" 1/ 602 (حرد)، وفي ألفاظه اختلاف وتقديم وتأخير. والشاعر يصف باطنة -وهي إناء عظيمة- إذا قل ما فيها من لبن أو شرب أو انقطع فتحت أخرى. (¬2) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 266، و"الخزانة" 10/ 356، ونسبه لقرب بن المستفيد، و"شواهد الكشاف" (254)، وود أيضًا في "زيادات ديوان حسان" (522)، و"إصلاح المنطق" (47). (¬3) (س): (في). (¬4) البيت لمنقد الأسدي الملقب بالجميح، وهو تشبيه للمرأة باللبؤة الضبطاء نزقًا وخفة والذي أنشده هو ابن قتيبة وليس بأبي عبيدة انظر: "مجاز القرآن" 2/ 265، و"تفسير غريب القرآن" (480)، و"تهذيب اللغة" 11/ 493 (ضبط). (¬5) (ك): (والحرد). (¬6) (س): (أبو عبيدة) زيادة. والبيت للأشهب بن رُميلة كما في "اللسان" 1/ 602، و"جامع البيان" 29/ 21، و"تفسير غريب القرآن" (480)، و"الخزانة" 6/ 27، والشَّرى موضع تُنسب إليه الأسد. يقال للشجعان: ما هم إلا أسود الشرى. وقيل: هو شرى الفرات وناحيته وبه غياض وآجام ومأسدةٌ. "اللسان" 2/ 310 (شري). (¬7) (ك)، (س): (تساء).

هذا الذي ذكرنا هو قول جميع أهل اللغة في تفسير الحرد (¬1). وأقوال المفسرين غير خارجة عن هذه المعاني. قال قتادة: على جد من أمرهم (¬2). وقال مقاتل: جد في أنفسهم (¬3). وقال الكلبي: غدوا جادين. وهو قول أبي العالية والحسن ومجاهد (¬4) في رواية أبي بشر. وهذا من معنى القصد، وذلك أن المقاصد إلى الشيء جاد بخلاف من لا يكون له قصد في أمر، على أن الليث قد قال في كتابه: على جد من أمرهم. فقال الأزهري: الصواب على حد. أي على منع، كما قال الفراء. ثم ذكر بإسناده عن الفراء بالحاء (¬5). ويدل على صحة معنى هذا القول أن أبا عبيدة والمبرد والقتيبي (¬6) قالوا في معنى الحرد هاهنا: إنه المنع (¬7). أي: غدوا من بيتهم إلى جنتهم على منع المساكين ما كانوا يعطونه. وقال مجاهد وعكرمة: على أمر أسسوه بينهم (¬8). وهذا من معنى القصد أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 265، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 176، و"معاني القرآن" للزجاج 5/ 207. (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 309، و"جامع البيان" 29/ 20. (¬3) انظر: "تفسير مقاتل" 163/ ب، و"زاد المسير" 8/ 336. (¬4) انظر: "جامع البيان" 29/ 20، و"الكشف والبيان" 12/ 168/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 380. (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 414، و"اللسان" 1/ 604 (حرد). (¬6) (س): (والقتيبي) زيادة. (¬7) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 265، و"تفسير غريب القرآن" (479)، و"فتح القدير" 5/ 272. (¬8) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 380 و"زاد المسير" 8/ 336.

وقال الشعبي: على حرد على المساكين، وهو قول (¬1) سفيان (¬2)؛ قال (¬3): على حنق وغضب. وروى (¬4) معمر عن (¬5) الحسن: على فاقة (¬6)؛ ومعناه من القلة، من قولهم: حاردت الناقة، والمعنى أنهم غدوا على قلة مالهم عند أنفسهم فقالوا: المال قليل لا يسع المساكين. وقال السدي: الحرد اسم الجنة. وذكر الأزهري هذا القول فقال (¬7): وقيل في بعض (¬8) التفسير: إن حرد كانت قريتهم (¬9). قوله تعالى: {قَادرِينَ} قال ابن عباس: يريد قادرين على جنتهم في أنفسهم (¬10)؛ وهو قول مقاتل وجميع المفسرين (¬11). ¬

_ (¬1) (س): (وقال الشعبي: على حرد على المساكين وهو قول) زيادة. (¬2) (ك): (وقال سفيان). (¬3) (س): (وقال) انظر: "جامع البيان" 29/ 21، و"الكشف والبيان" 12/ 168/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 380. (¬4) (ك): (وقال). (¬5) (س): (معمر عن) زيادة. (¬6) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 309، و"جامع البيان" 29/ 21. (¬7) (س): (وذكر الأزهري هذا القول فقال) زيادة. (¬8) (س): (بعض) زيادة. (¬9) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 414 (حرد). قال ابن كثير: وقال السدي: {عَلَى حَرْدٍ} أي كان اسم قريتهم حرد. فأبعد السدي في قوله هذا. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 406، وقال الآلوسي -عن تفسير السدي هذا-: ولا أظن ذلك مرادًا) "روح المعاني" 29/ 31. (¬10) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 168/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 242. (¬11) (س): (وهو قول مقاتل وجميع المفسرين) زيادة، وقال النحاس: أصح ما قيل =

26

قال أبو إسحاق: أي قادرين عند أنفسهم على قصد جنتهم لا يحول بينهم وبينها آفة (¬1). وقال ابن قتيبة: يقول: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون (¬2). فالقدرة على هذا القول بمعنى الجدة والقدرة على المال. وفي القول الأول معناه القدرة على الجنة. 26 - قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)} قال الفراء: غدوا على مالهم ليصرموه فلم يروا إلا سوادًا فقالوا: إنا لضالون ما (¬3) هذا بمالنا الذي نعرف. ثم قال بعضهم: بل هو مالنا حرمنا بما صنعنا بالأرامل والمساكين (¬4). وقال أبو إسحاق: لما رأوها محترقة قالوا: إنا قد ضللنا طريق جنتنا، أي ليست هذه، ثم علموا أنها عقوبة فقالوا: 27 - {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}، أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المساكين (¬5). هذا معنى قول المفسرين. قال ابن عباس: قالوا: إنا أخطأنا الطريق (¬6). وذلك أنهم أنكروها لأنها احترقت. ثم نظروا إلى أعلام فيها فعرفوا أنها جنتهم فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ¬

_ = في معناه على قصد كما قال مجاهد، قد أسسوا ذلك بينهم، أي عملوه على قصد وتأسيس ومؤامرة بينهم قادرين عليه عند أنفسهم. "إعراب القرآن" 3/ 487، وهو اختيار ابن جرير أيضًا. "جامع البيان" 29/ 21. (¬1) لم أجده عنه، وهو معنى ما قاله المفسرون وأهل اللغة. (¬2) انظر: "تفسير غريب القرآن" (480). (¬3) (س): (ما) زيادة. (¬4) انظر: "معاني القرآن" 3/ 175. (¬5) انظر: "معاني القرآن" 5/ 208. (¬6) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 122، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 309، عن قتادة. وكذا في "جامع البيان" 29/ 21، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 406.

(27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ} هو يعني أعدلهم في قول جميع المفسرين. قال ابن عباس: هو كقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة: 89]، وكقوله: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} قالوا: هلا تستثنون فتقولون: إن شاء الله. وهو قول ابن عباس (¬1) ومقاتل والكلبي ومجاهد (¬2). قال أبو إسحاق: ومعنى التسبيح هاهنا الاستثناء، وهو أن يقولوا: إن شاء الله. فإن قيل: التسبيح أن تقول: سبحان الله. والجواب في ذلك أن كل ما عظمت الله به فهو تسبيح , لأن التسبيح تنزيه الله عن السوء، والاستثناء تعظيم الله والإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلًا إلا بمشيئة الله عز وجل (¬3). وقال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله (¬4). وإنما أنكر أوسطهم عليهم ترك الاستثناء (¬5) في قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} فحلفوا على صرام جنتهم من غير استثناء فلم يصرموا فأنكر عليهم الأوسط ترك الاستثناء في اليمين (¬6). {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} نزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم، فقالوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بمعصيتنا ومنعنا المساكين. ¬

_ (¬1) (س): (ابن عباس) و (الكلبي) زيادة. (¬2) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 122، و"تفسير مقاتل" 163/ ب، و"زاد المسير" 8/ 338، ونسبه لابن جريج والجمهور. (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 209. (¬4) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 168/ ب، و"زاد المسير" 8/ 338، و"البحر المحيط" 8/ 313. (¬5) (ك)، (س): (الاستتاء عليهم في ذكر الله عنهم). وانظر: "الوسيط" 4/ 338. (¬6) انظر: "جامع البيان" 29/ 22، و"التفسير الكبير" 30/ 90.

30

وقال الكلبي: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} يقولون: نستغفر ربنا مما صنعنا (¬1)، ثم لام بعضهم بعضًا فيما فعلوا من العزم على منع المساكين. 30 - وقوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)} يقول (¬2) هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي. ويقول هذا لهذا: أنت (¬3) منعتنا أن ندخلها المساكين. فكان هذا هو التلاوم بينهم , قاله عطاء والكلبي (¬4). وقال مقاتل: يلوم بعضهم بعضًا في منع حقوق المساكين (¬5). ثم نادوا على أنفسهم بالويل فقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} قال ابن عباس: يريد طغينا فيما أعطانا الله ولم نأخذه بالشكر كما صنعت الآباء. فدعوا الله وتضرعوا (¬6). ثم اجتمع (¬7) القوم وتعاقدوا إن أبدلنا الله (¬8) بها خيرًا منها لنصنعن كما صنعت الآباء. فدعوا الله وتضرعوا إليه وسألوه ذلك، وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم الله بها خيرًا منها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب ليس يحمل البغل منها إلا عنقودًا، فذلك قوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 122، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 244. (¬2) (ك): (يقولون). (¬3) (ك): (أن). (¬4) (س): (قاله عطاء والكلبي) زيادة. وانظر: "تنوير المقباس" 6/ 123، و"التفسير الكبير" 30/ 90. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 163/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 380. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 12/ 169/ أ، و"الوسيط" 4/ 338، و"معالم التنزيل" 4/ 380، ومن نسبه منهم عزاه لابن كيسان. (¬7) (ك): (احتج). (¬8) (ك)، (س): (الله أبدلنا).

{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)} (¬1)، وفي هذا إشارة إلى أنهم لما بلوا بذهاب ما لهم تذكروا فرجعوا إلى الله تعالى بالرغبة. وهو وعظ لأهل مكة بالتذكير والرجوع إلى الله تعالى. فلما بلاهم بالجدب حين دعا عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر (¬2)، واجعلها سنين كسنى يوسف" (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدًا وأصحابه وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر ويضرب القيان على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، وقطع رجاهم فقتلوا وأسروا وانهزموا (¬4) كأهل هذه الجنة لما انطلقوا إليها عازمين على الصرام وإحراز المال دون المساكين فلما انتهوا إليها وجدوها سوداء محترقة، فخاب ظنهم وأخلف رجاؤهم، فذلك قوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} ¬

_ (¬1) أخرجه الثعلبي وغيره عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 169/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 381، و"غرائب القرآن" 29/ 21. (¬2) (ك): (أهل مضر). (¬3) متفق عليه. أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، كتاب: الجهاد، باب: الدعاء على المشركين 4/ 52، وكتاب: التفسير، سورة النساء 6/ 61، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة 1/ 466، وأحمد في "المسند" 9/ 239. ولفظ البخاري. "اللهم أنج سلمة بن هشام، الله أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف". (¬4) (س): (وانهزموا) زيادة.

34 - 38

يعني (¬1) كما ذكر من إحراقها بالنار (¬2). وتم الكلام هاهنا لتمام قصة أصحاب الجنة (¬3). ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يعني المشركين. قال ابن عباس: يريد أن عذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا وأعظم (¬4). 34 - 38 - ثم أخبر بما عنده للمتقين فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)} قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون. فأنزل الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} (¬5) ثم وبخهم فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} إذ حكمتم أن لكم من الخير ما للمسلمين {أَمْ لَكُمْ} بل ألكم {كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون {إِنَّ لَكُمْ} في ذلك الكتاب {لَمَا تَخَيَّرُونَ} تختارون وتشتهون. أي: أعندكم كتاب من الله بهذا و {إِنَّ لَكُمْ} في موضع نصب بـ {تَدْرُسُونَ} وكسر إن لمكان اللام في (لَمَا) (¬6). 39 - {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} قال مقاتل: يقول: ألكم عهود على الله ¬

_ (¬1) (س): (يعني) زيادة. (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 246، و"البحر المحيط" 8/ 313. (¬3) انظر: "المكتفى في الوقف والابتداء" (582). (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 123. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 163/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 91، و"غرائب القرآن" 29/ 21. (¬6) انظر "معاني القرآن" للفراء 3/ 176، و"إعراب القرآن" للنحاس 3/ 489.

40

بالغة {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} استوثقتم بها منه فلا تنقطع. أعهدكم (¬1) إلى يوم القيامة بأن لكم الذي تقضون لأنفسكم من الخير (¬2). وقال عطاء: يريد ألكم عهد مني ألا أصيبكم بعذاب ولا عقوبة (¬3). ومعنى {بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: متناهية في التأكيد تنتهي إلى يوم القيامة. فتكون (إلى) من صلة (بالغة). هذا قول الكسائي (¬4). ويجوز أن يكون (إلى) من صلة الأيمان، أي: أيمان إلى يوم القيامة. ويكون معنى (بالغة) مؤكدة، كما تقول جيد بالغ وكل شيء متناه في (¬5) الصحة والجودة فهو بالغ (¬6). ويدل على هذا المعنى قراءة الحسن (بالغةً) بالنصب (¬7) على معنى حقًّا. كأنه قيل: أيمان علينا حقًّا بلغت حقيقة التأكيد، هذا كله معنى قول الفراء (¬8). وقال أبو إسحاق: أي حلف لكم على ما تدعون في حكمكم (¬9). 40 - ثم قال لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)} أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين. وذكرنا معنى الزعيم عند قوله: {وَأَنَا بِهِ ¬

_ (¬1) (س): (عهدكم). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 163/ ب. (¬3) لم أجده. (¬4) انظر: "التفسير الكبير" 35/ 93. (¬5) (ك): (فهو في)، والتصحيح من "الوسيط". (¬6) انظر: "الوسيط" 4/ 338، و"التفسير الكبير" 30/ 93، و"زاد المسير" 8/ 339. (¬7) قرأ الجمهور {بَالِغَةٌ}. وقرأ الحسن، وزيد بن علي (بالغة) بالنصب على الحال. انظر: "معانى الفراء" 3/ 176، و"البحر المحيط" 8/ 315، و"الإتحاف" (421). (¬8) (س): (هذا كله معنى قول الفراء) زيادة. وانظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 176. (¬9) انظر: "معاني القرآن" 5/ 209.

42

زَعِيمٌ} (¬1). قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} يعني بل ألهم شركاء. يعني ما كانوا يجعلونهم شركاء لله , وهذا كقوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40]، فأضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوها شركاء لله فأضافها إليهم بفعلهم. والتأويل: أم عندهم لله شركاء فليأتوا بهؤلاء الشركاء {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في أنها شركاء لله. 42 - قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ظرف لهذا الأمر. أي: فليأتوا بها في ذلك اليوم (¬2). وذلك أنها تبطل وتزهق فلا تنفعهم بشيء. يقول الله: {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم. وهذا الذي ذكرنا معنى ما ذكره صاحب النظم (¬3). وأما معنى قوله: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} فروى عكرمة عن ابن عباس قال: عن شدة. ألم تسمع إلى قول الشاعر (¬4): وقامتِ الحربُ بنا على ساقْ قال: وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الشاعر: سن لنا قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحربُ بنا على ساق ¬

_ (¬1) من آية (72) من سورة يوسف. وانظر: "تفسير غريب القرآن" (480)، و"مفردات الراغب" (213) (زعم). (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 381، و"غرائب القرآن" 29/ 22. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 248. (¬4) أخرجه الطستي في مسائل عن ابن عباس. انظر: "الدر" 6/ 255، وهو مندرج في الأثر الآتي. ولم أجد للبيت قائلاً.

ثم قال (¬1): هو يوم كرب وشدة (¬2). وروى عطاء عنه قال: يريد شدة في الآخرة. وروى إبراهيم عنه أيضًا: عن شدة الأمر (¬3). قال (¬4): وقال ابن عباس يكشف عن أمر عظيم (¬5). وروى مجاهد عنه قال: هو أشد ساعة في القيامة. فهذا ما روي عن عباس في هذه الآية (¬6). ونحو هذا (¬7) قال سعيد بن جبير ومجاهد (¬8) وقتادة. قالوا: عن شدة الأمر وبلاء عظيم (¬9). وهذا قول جميع أصحاب ¬

_ (¬1) (ك): (قال) زيادة. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 499، وابن جرير في "جامعه" 29/ 24، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وفي "الدر" 6/ 254 نسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وحسن إسناده الحافظ في "فتح الباري" 13/ 428، وانظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي وما ذكره محققه وقد بين ضعف إسناده. فليراجع 2/ 183. (¬3) (س): من قوله (وروى عطاء) إلى هنا زيادة. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 381 عن سعيد بن جبير. (¬4) (ك): (وقال ابن عباس: يريد شدة في الآخرة. قال). (¬5) انظر: "جامع البيان" 29/ 24، و"الدر" 6/ 254، ونسب تخريجه للفريابي، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وابن منده، وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي، ولم أجده عند البيهقي. (¬6) (س): (فهذا ما روي عن ابن عباس في هذه الآية) زيادة. وقال البيهقي بعد ذكره الروايات: هذا ما روينا عن ابن عباس في المعنى يتقاربان، وقد روي عن ابن عباس بهذا اللفظ، وروي بمعناه. "الأسماء والصفات" 2/ 184. (¬7) (ك): (ونحوه). (¬8) س: (ومجاهد) زيادة. (¬9) انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 310، و"جامع البيان" 29/ 24، و"الدر" 6/ 255.

اللغة (¬1). قال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر والحرب قيل: قد كشف الأمر عن ساقه، وأنشد لقيس بن زهير (¬2) فقال: فإذ شمرت (¬3) لك عن ساقها ... فويهًا ربيع ولا تسأم (¬4) وروى الفراء بإسناده (¬5) عن ابن عباس (¬6) أنه قال: يريد يوم القيامة والساعة لشدتها. قال الفراء أنشدني بعض العرب لجد (¬7) طرفة (¬8): كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشرِّ الصراح (¬9) ¬

_ (¬1) (س): (وهذا قول جميع أصحاب اللغة) زيادة. (¬2) (س): (القيس بن زهير) زيادة. وهو قيس بن زهير بن جذيمة، يكنى أبا هند، شاعر وفارس جاهلي، كان سيد عبس، وله أخبار مشهورة يوم داحس والغبراء. انظر: "الأغاني" 17/ 187، و"المؤتلف والمختلف" (255)، و"الخزانة" 3/ 536، و"شرح شواهد المغني" (113)، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" (287). (¬3) (ك): (شمر). (¬4) انظر: "مجاز القرآن" 2/ 266، وورد البيت منسوبًا في "اللسان" 3/ 998 (ويه) وقوله فويها أصلها (ويه) من أدوات الإغراء فَنَوَّنَها فقال: فويهًا. (¬5) (س): (والفراء بإسناده) زيادة. (¬6) أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 185، بإسناد صحيح. وصححه الحافظ في "الفتح" 428/ 13. (¬7) (ك): (وأنشد الفراء لجد). (¬8) (ك)، (س): (أبي طرفة)، والصواب ما أثبته. وهو سعد بن مالك، جد طرفة بن العبد. شاعر جاهلي، واحد سادات بكر بن وائل وفرسانها. انظر: "طبقات فحول الشعراء" (49)، و"المؤتلف والمختلف" (198)، و"شرح الحماسة" للتبريزى 73/ 2، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 265، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" (148). (¬9) والبيت ورد في "معاني القرآن" للفراء 3/ 177، و"الخصائص" 3/ 252، و"اللسان" =

وقال أبو إسحاق: معنى {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} كشف عن الأمر الشديد. وأنشد: قد شمرت عن ساقها فشدوا (¬1) ... وجدت الحربُ بكم (¬2) فجدوا والقوس فيها وتر عردُّ (¬3) وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن الرجل إذا وقع (¬4) في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد (¬5) شمر عن ساقه. فاستعيرت الساق والكشف عنها في موضع الشدة (¬6). قال دريد يرثي رجلاً: كميش الإزار خارج نصف ساقهِ ... جسور على الجلاء طلاع أنجد (¬7) ¬

_ = 2/ 243 (سوق)، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 266، و"المحتسب" 2/ 326. والصراح والصراح: الخالص من كل شيء. (¬1) (ك): (وشدوا). (¬2) (ك): (الحرب بكم) ساقطة. (¬3) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 210. والبيت ورد في خطبة الحجاج أول ما قدم أميرًا على العراق. والأبيات لحنظلة بن ثعلبة. انظر: "الكامل" 1/ 224، و"اللسان" 2/ 827 (عرد)، و"العقد الفريد" 4/ 121، و"شرح شواهد الشافية" (300). والعُرُدُّ: هو الشديد في كل شيء. يقال: إنه لقوي شديد عرد. "اللسان" 2/ 728 (عرد). (¬4) (ك): (وقع) ساقطة. (¬5) (س): (والجد) زيادة. (¬6) انظر: "تأويل المشكل" (137). (¬7) البيت من قصيدة قالها في أخيه عارضة بن الصمة. ويروى: بعيد عن الآفات طلاع أنجد انظر: "ديوانه" (49)، و"الحماسة" لأبي تمام 1/ 398، و"الأصمعيات" (108)، و"جمهرة أشعار العرب" (223)، و"تهذيب اللغة" 9/ 231 (سوق)، و"الخزانة" 1/ 260. =

وقال الهذلي: وكنت إذا جاري دعا لمضوفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري (¬1) وأنشد أيضًا فقال (¬2): في سنةٍ قدكشفت عن ساقها ... حمراء تبرى اللحم عن عراقها وزاد غيره بيانًا فقال: تأويل الآية: يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق. وقد كثر هذا في كلام العرب حتى صار كالمثل في شدة الأمر (¬3). ¬

_ = وقوله: (طلاع أنجد) أي: أنه يعلو الأمور فيقهرها بمعرفته وتجاربه. والأنجد: جمع النجد، وهو الطريق في الجبل وكذلك الثية. "اللسان" 2/ 605 (طلع)، و"القاموس المحيط" (كمش، طلع). (¬1) انظر: "ديوان الهذليين" 3/ 92، و"المحتسب" 1/ 214، و"الخزانة" 7/ 417، و"اللسان" 2/ 561 (ضيف). (¬2) ورد في البيت غير منسوب في "تفسير غريب القرآن" (481)، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 248، و"البحر المحيط" 8/ 316، و"الدر المصون" 1/ 417. (¬3) قال ابن القيم -رحمه الله-: والصحابة متنازعون في تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة الله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجرداً عن الإضافة منكرًا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته. وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه: فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا: ومن حمل الآية على ذلك قال قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} مطابق لقوله -صلى الله عليه وسلم- ... نكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة جلت عظمتها وتعالى شأنها .... وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم في مثل =

وقوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} قال مقاتل: وذلك أنه تدمج أصلاب الكفار يومئذ فيكون عظمًا واحداً مثل صياصي (¬1) البقر، لأنهم لم يسجدوا لله في الدنيا. وهذا قول جميع المفسرين (¬2). قالوا: إذا كان ذلك سجد (¬3) الخلق كلهم لله سجدة واحدة. ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا (¬4) فلا يستطيعون؛ لأن أصلابهم أيبس فلا تلين للسجود. قال ابن مسعود: وأما المؤمنون فيخرون سجدًا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقًا كأن فيها السفافيد (¬5). ¬

_ = ذلك أن يقال: كشفت الشدة من القوم لا كشف عنها كما قاله الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)} .. فالعذاب، والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه. "الصواعق المرسلة" 1/ 252 - 253. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 2/ 127، و"الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 181، 183. (¬1) صياصي البقر: أي قرونها واحدتها صيصية بالتخفيف. انظر: "النهاية" 3/ 9 (صيص). (¬2) انظر: "تفسير مقاتل" 164/ أ، و"جامع البيان" 29/ 24، و"معالم التنزيل" 4/ 382، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 408. (¬3) (ك)، (س): (سجدوا). (¬4) (ك): (يسجد). (¬5) أخرجه ابن جرير وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا. وقال القرطبي: قلت: معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري وغيره. انظر: "صحيح مسلم" كتاب: الإيمان, باب: معرفة طريق الرؤية 1/ 168 - 169. قلت: ورواه البخاري في كتاب: التفسير، سورة القلم 6/ 198 من حديث أبي سعيد أيضًا. =

قوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} قال ابن عباس ومقاتل: يعني حين أيقنوا بالعذاب وعاينوا النار (¬1). وهي حال من قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} قال ابن عباس: يلحقهم ذل الندامة والحسرة (¬2). قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} يعني في الدنيا حين كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة ويؤمرون بها وهم معافون (¬3) ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. ومعنى قوله: {يُدْعَوْنَ} أي بالأذان والإقامة. وهذا الذي ذكرنا قول ابن عباس ومقاتل وإبراهيم التيمي (¬4). قال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيبون. وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب الأذان إلى إقامة الصلاة في الجماعة (¬5). قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يريد القرآن. قاله ابن عباس. وقال مقاتل: يقول لمحمد: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن فأنا أنفرد بهلكتهم (¬6). ¬

_ = انظر: "جامع البيان" 29/ 25، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 250. والسفافيد: جمع سفود. وهو حديدة ذات شُعب معقفة، معروفة، يشوى بها اللحم. "اللسان" (سفد). (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 164/ أ، و"جامع البيان" 29/ 27. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 383. (¬3) (ك): (معاقبون). (¬4) (س): (إبراهيم التيمي) زيادة. وانظر: "تفسير مقاتل" 164/ أ، و"جامع البيان" 29/ 27، و"معالم التنزيل" 4/ 383. (¬5) انظر: "جامع البيان" 29/ 27، و"معالم التنزيل" 4/ 383، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 251. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 164/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 251، و"البحر المحيط" 8/ 317.

48

قال أبو إسحاق: معناه لا تشغل قلبك به، كله إليّ فإني أكفيك أمره (¬1). قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} أي: نأخذهم قليلاً قليلاً فلا نباغتهم. قال ابن عباس: أمكر بهم من حيث لا يعلمون (¬2). وهذا مفسر في سورة الأعراف مع الآية التي بعدها (¬3). قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} مع الآية التي بعدها مفسر في سورة الطور (¬4). 48 - قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} قال مقاتل: اصبر على الأذى لقضاء ربك الذي هو آت (¬5). {وَلَا تَكُنْ} في الضجر والعجلة {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} يعني يونس بن متى. قال الكلبي ومقاتل: يقول: لا تضجر كما ضجر، ولا تعجل كما عجل، ولا تغضب كما غضب (¬6). ثم أخبر عن عقوبة يونس حين لم يصبر وعجل بقوله: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}، والعامل في (إذ) معنى قوله: {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (¬7) يريد: لا تكن كمن صحب الحوت إذ نادى، وليس العامل فيه (تكن) لأنه ليس المعنى: لا تكن مثله إذ ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" 5/ 211. (¬2) انظر: "الجامع لاحكام القرآن" 18/ 251. (¬3) عند تفسيره الآية (182 - 183) من سورة الأعراف. (¬4) عند تفسيره الآية (40 - 41) من سورة الطور. (¬5) انظر: "تفسير مقاتل" 164/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 384، و"التفسير الكبير" 30/ 98. (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 164/ أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 310، و"جامع البيان" 29/ 29. (¬7) انظر: "البحر المحيط" 8/ 317.

نادى ربه من بطن الحوت بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. وقوله {وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي مملوء غمًّا وكربًا (¬1). ومثله {كَظِيمٌ}، وقد مر (¬2). قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} قال ابن عباس ومقاتل: رحمة من ربه (¬3)، وهو أن رحمه وتاب عليه (¬4) {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض. وذكرنا تفسير هذا عند قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} (¬5)، وقوله: {وَهُوَ مَذْمُومٌ} قال ابن عباس والحسن (¬6): مذنب (¬7). وقال الكلبي: (مذموم) ملوم مبعد من كل خير (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج 5/ 211. (¬2) عند تفسيره الآية (84) من سورة يوسف. قال: الكظيم: الساكت على غيظه، يقال: ما يكظم فلان على حرة إذا كان لا يحتمل شيئًا وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئًا حزنًا ممسكًا عليه. وانظر: "اللسان" 3/ 265، و"المفردات" (432) (كظم). (¬3) (ك): (ربك). (¬4) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 126، و"تفسير مقاتل" 164/ ب، و"جامع البيان" 29/ 29، و"الكشف والبيان" 12/ 173/ أ. (¬5) عند تفسيره الآية (145) سورة الصافات. قال: العراء: المكان الخالي. قال أبو عبيدة: وإنما قيل له: عراء, لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه. وقال الليث: العراء: الأرض الفضاء التي لا تستر بشيء. (¬6) (س): (والحسن) زيادة. (¬7) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 126، وذكر ابن كثير في "تفسيره" 4/ 408 عن ابن عباس ومجاهد والسدي قوله: (وهو مغموم). (¬8) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 254.

وقال مقاتل: يذم ويلام (¬1). ولكن ربه منَّ عليه فنبذ بالعراء وهو سقيم، وليس بمذموم للنعمة التي تداركه. قال أبو إسحاق: المعنى أنه قد نبذ بالعراء وهو غير مذموم؛ لأن النعمة قد شملته (¬2). ويدل على ذلك قوله: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} قال ابن عباس: فاستخلصه واصطفاه الله (¬3)، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس: رد إليه الوحي وشفعه في قومه وفي نفسه (¬4). قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال الأخفش: (إن) مخففة من الثقيلة كما تقول: إن كان عبدُ الله لظريفًا. فمعناه (¬5): إن عبد الله لظريف قبل اليوم (¬6). وقوله: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} من أزلقه عن موضعه إذا رماه ونحاه، وهذه (¬7) قراءة العامة. وقرأ نافع بفتح الياء (¬8). يقال: زلق هو وزلقته. مثل: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير مقاتل" 164/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 384. (¬2) انظر: "معاني القرآن" 5/ 211. (¬3) انظر: "تنوير المقباس" 6/ 126، و"معالم التنزيل" 4/ 384، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 254. (¬4) انظر: "زاد المسير" 8/ 343، و"التفسير الكبير" 30/ 99. (¬5) (ك): (معناه). (¬6) انظر: "معاني القرآن" 2/ 712. (¬7) (ك): (بهذه). (¬8) قرأ الجمهور {لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء، وقرأ نافع وأبو جعفر {لَيُزْلِقُونَكَ} بفتح الياء. وهما لغتان، يقال: أزلق يزلق، وزلق يزلق، والمعنى واحد. انظر: "حجة القراءات" (718)، و"النشر" 2/ 389، و"الإتحاف" (422).

شترت عينه وشترتها أنا (¬1) وحزن وحزنته (¬2) , والأول أكثر وأوسع؛ لأنه يقال: زلق من موضعه وأزلقته أنا فينقل الفعل بالهمزة. والمفسرون بعضهم علي أن هذه الآية نزلت في قصد الكفار أن يصيبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعين، وكانوا ينظرون إليه نظرًا شديدًا ويقولون (¬3): ما رأينا مثله ولا مثل حججه، يريدون أن يصيبوه (¬4) بالعين. وهذا قول الكلبي ومن تابعه (¬5). قالوا: ذكر الله شدة نظرهم إليه للإصابة بالعين. وأما أهل التحقيق من المفسرين وأصحاب العربية فإنهم ذهبوا إلى غير هذا. قال الفراء: إن كادوا ليزلقونك. أي ليرمونك ويزيلونك (¬6) عن موضعك بأبصارهم، كما يقال: كاد يصرعني لشدة نظره إليّ. وهو بين من كلام العرب كثير (¬7). وقال المبرد: أي يحدون النظر إليك حتى يكاد يزلقك نظرهم. وهذا كلام معروف عند العرب. وقال أبو إسحاق: مذهب أهل اللغة والتأويل أنهم من شدة إبغاضهم ¬

_ (¬1) الشتر: انقلاب في جفن العين قلما يكون خلقة. والشتر مخففة: فعلك بها. "اللسان" 2/ 268 (شتر). (¬2) لغتان: تقول: حزنني يحزنني حزنًا فأنا محزون. ويقولون: أحزنني فأنا محزن وهو محزن. "اللسان" 1/ 627 (حزن). (¬3) (ك): (قال ويقولون). (¬4) (ك): (يصيبونه). (¬5) وهو قول قتادة، والنضر بن شميل، والأخفش، والسدي، وغيرهم. انظر: "جامع البيان" 29/ 30، و"الكشف والبيان" 12/ 173/ ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 409، ورجحه. (¬6) (ك): (ويزلقونك). (¬7) انظر: "معاني القرآن" للفراء 3/ 179.

وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في الكلام. يقول القائل: نظر إلى فلان نظرًا يكاد يصرعني (¬1) ونظرًا يكاد يأكلني. وتأويله أنه نظر إليَّ نظرًا لو أمكنه معه (¬2) أكلي، أو أن يصرعني لفعل. وهذا واضح (¬3). وقال ابن قتيبة: ليس يريد الله عز وجل في هذا الموضع أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يزلقك أي يسقطك كما قال الشاعر (¬4): يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرًا يزيل مواطئ الأقدام وقال أبو علي: معنى {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أنهم ينظرون إليك نظر البغضاء كما قال: ينظر الأعداء المنابذون، وأنشد البيت الذي أنشده ابن قتيبة (¬5). والدليل على صحة ما ذهب إليه هؤلاء أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن. وهو قوله: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ}، وهم كانوا يكرهون ذلك أشد ¬

_ (¬1) (س): من قوله (لشدة نظره إلى وهو بين) إلى هنا زيادة. (¬2) (ك): (معه)، (س): (معي). (¬3) انظر: "معاني القرآن" 5/ 212. (¬4) البيت ورد غير منسوب في "تفسير غريب القرآن" (482)، و"مشكل القرآن" (170 - 171)، و"البيان والتبيين" 1/ 11، و"الكشاف" 4/ 478، و"زاد المسير" 8/ 344، و"اللسان" 3/ 60 (قرض)، و"البحر المحيط" 8/ 317 ومعنى (يتقارضون) أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظر عداوة وبغضاء. (¬5) انظر: "الحجة للقراء السبعة" 6/ 312 - 313، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 256.

الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء، والإصابة بالعين إنما تكون مع الإجاب والاستحسان، ولا تكن مع الكراهية والبغض، ويدل على ما ذكرناه قوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أي: ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن (¬1) , فقال الله: {وَمَا هُوَ} يعني القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين (¬2). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) نسبه الرازي إلى الجبائي ثم قال: واعلم أن هذا السؤال ضعيف؛ لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته وايراده للدلائل. انظر: "التفسير الكبير" 30/ 100، ونسبه القرطبي في "جامعه" 18/ 255 للقشيري. قلت: بل حال المشركين في مكة مع القرآن والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدل على غاية الاستحسان ونهاية التعجب ولم ينسبوه -صلى الله عليه وسلم- إلى السحر والكهانة وغير ذلك إلا لشدة تأثيره على السامع، وقد بذلوا كل ما في وسعهم لصد القادمين إلى مكة من ملاقاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سماعه وما ذاك إلا خشية دخول الناس في هذا الدين وصدق الله إذ يقول: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وليس في الآية ما يمنع الجمع بين نظر العداوة والبغضاء، ونظر الحسد والإصابة بالعين، والله أعلم. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 385.

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبى الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة الحاقة إلى سورة القيامة تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان

تفسير سورة الحاقة

تفسير سورة الحاقة (1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الْحَاقَّةُ (1)}: أجمعوا (2) على أن المراد بها القيامة.

_ (1) مكية بالإجماع. قاله ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 356، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 78، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" م 189/ 256، والشوكاني في "فتح القدير"، و"الجامع بين في الرواية والدراية من علم التفسير" عن القرطبي 5/ 278، وممن قال أيضًا إنها مكية الطبري في "جامع البيان" م 14جـ 29/ 47، والثعلبي في "الكشف والبيان" جـ 12، 174/ أ، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 397، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 485. (2) وهو قول ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل. انظر "تفسير مقاتل" 206/ ب، و"جامع البيان" 14، 29/ 47، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 397، وممن نقل الإجماع الرازي في "التفسير الكبير" م 15 جـ 30/ 102، والشوكاني في "فتح القدير" عن الواحدي 5/ 278، وإليه ذهب الطبري (المرجع السابق)، والثعلبي في "الكسثف والبيان" جـ12، 174/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 385، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 356، والزمخشري في "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" 4/ 132، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 78، والقرطبى في "الجامع لأحكام القرآن" م9 جـ18/ 385 نقلاً عن الطبري، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 440، والسعدي في "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" 5/ 295. كما ذهب إلى القول إنها القيامة، اليزيدي في "غريب القرآن وتفسيره" 386، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 383، والسجستاني في "نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز" 210، والراغب في "المفردات في غريب القرآن" 125، والخزرجي في "نفس الصباح في غريب القرآن وناسخه ومنسوخه" 2/ 730، وأنجو حيان في "تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب" 107. وقد خالف الإجماع =

واختلف (¬1) في معنى الحاقة، قال (¬2) الفراء -وهو قول الكلبي-: سميت بذلك , لأن فيها الثواب وحَوَاقَّ الأمور (¬3)، قال: والعرب تقول: لما عَرَّفت مني (¬4) الحَقَّةَ هربت (¬5)، والحَقَّة والحاقة كلاهما في معنى واحد (¬6)، هذا كلامه. ويحتاج فيه إلى شرح، وهو: أن ما ذكره يتضمن قولين في معنى الحاقة: أحدهما: أنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصَّادقة الواجبة الصدق والثواب والعقاب، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع ¬

_ = ابن بحر، فقد ذهب إلى أن معنى (الحاقة) أنه ما حق من الوعد والوعيد بحلوله. انظر: "النكت والعيون" للماوردي 6/ 75. وهذا القول المخالف للجمهور لم يذكره الواحدي، واعتمد قول الجمهور، واعتبره إجماعًا. وهذا منهج سلكه الإمام الواحدي في حكايته الإجماع، فما كان عليه الجمهور من المفسرين وموافقًا للغة هو الإجماع عنده. والله أعلم. (¬1) في (أ): اختلف بغير واو. (¬2) في (ع): فقال. (¬3) حواق الأمور، أي: صحاح الأمور. انظر: "نزهة القلوب" 210. (¬4) في (أ): من. (¬5) في (أ): (هويت)، والصواب ما جاء في (ع) لموافقته لنص الفراء في "معاني القرآن" 3/ 79. ومعنى القول -والله أعلم- أنك لما عرفت الحقيقة مني هربت، فالحَقَّة هي حقيقة الأمر. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة 383. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 179 بتصرف، ولعل الواحدي نقله عنه عن "تهذيب اللغة" 3/ 377 (حقَّ). ونص عبارته كما في المعاني قال: والحاقة القيامة؛ سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء، والعرب تقول لمّا عرفت الحقة مني هربت، والحاقة، وهما في معنى واحد. وفي "تهذيب اللغة" نقل عن الفراء: الحقو والحاقة بمعنى واحد. 3/ 377 مادة (حقَّ).

والوجود، فهي كلها حواقٌّ. القول الثاني: أن الحاقة بمعنى الحق. قال الليث: الحاقة: النازلة التي حقت، فلا كاذبة لها (1). وهذا الذي ذكره معنى قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)} [الواقعة: 2]، وقال غيره: {الْحَاقَّةُ}: الساعة التي يحق فيها الجزاء على كل ضلال وهدى، وهي القيامة (2). وقال صاحب النظم: الحاقة تحق على القوم، أي: تقع بهم (3) (4). وقال المبرد: اشتقاقها (5) من حقَّ الشيء، فهو حاق للواجب (6) الذي لا شك فيه (7).

_ (1) لم أعثر على مصدر لقوله. (2) بمعنى هذا القول ورد عن مقاتل في "تفسيره" 206/ أ، قال: يعني الساعة التي فيها حقائق الأعمال، يقول تحق للمؤمنين عملهم، وتحق للكافرين عملهم. وقد ورد ما ذكره الواحدي عن الغير في "التفسير الكبير" للفخر الرازي م 15جـ 30/ 102، وانظر "لباب التأويل في معاني التنزيل" للخازن 4/ 303 من غير عزو، في كلا المرجعين، وعن قتادة أنه قال: حقت لكل قوم أعمالهم، و"تفسير عبد الرزاق" 3/ 312، و"بحر العلوم" 3/ 397، و"الدر المنثور" للسيوطي 8/ 264، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، و"المستدرك على الصحيحين" للحاكم 2/ 500، كتاب التفسير، تفسير سورة الحاقة. (3) بياض في (ع) (4) وقد ورد معنى قول صاحب النظم في "التفسير الكبير" م 15، جـ 30/ 102 من غير عزو. وانظر: "لباب التأويل" 4/ 303 من غير عزو. (5) في (ع): اشتقاقًا. (6) بياض في (ع). (7) لم أعثر على مصدر لقوله.

وقال الزجاج (¬1): لأنها تحق كل إنسان يعمله من خير وشر (¬2). ولا أدري ما معنى هذا القول، ولا أيش (¬3) أراد بقوله: يحق كل إنسان يعمله (¬4). قال الأزهري: والذي عندي في الحاقة: أنها سميت (¬5) بذلك؛ لأنها تحق (¬6) كل مُحاق في دين الله بالباطل (¬7)، أي كل مخاصم، فتحُقُّه، أي: تغلبه. من قولك: حَاققته أُحَاقهُ حِقاقاً فحققته أحُقُّه، أي: غلبته، وفَلَجْتُ (¬8) عليه (¬9). قال أبو إسحاق: {الْحَاقَّةُ (1)} مرفوع بالابتداء، و (ما) في قوله: ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 213، وعبارته "وسميت الحاقة , لأنها تحق كل شيء يعمله إنسان من خير أو شر" (¬3) أيش كلمة منحوتة من أي شيء، وهي بمعناها للاستفهام. "معجم متن اللغة" أحمد رضا 1/ 222. (¬4) قوله كل إنسان يعمله بياض في (ع). (¬5) بياض في (ع). (¬6) في (أ): حق. (¬7) قوله بالباطل أي كل مخاصم، بياض في (ع). (¬8) فَلَجَ عليه: ظفر بما طلب، وفلج بحجته أثبتها، وأفلج الله حجته، بالألف: أظهرها. انظر "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" لأحمد بن محمد الفيومي 2/ 578. (¬9) ورد هذا القول في "تهذيب اللغة" 3/ 377 مادة (حق)، وليس هو من قول الأزهري، بل نسبه إلى الغير. قال: وقال غيرهما -يعني الزجاج والفراء-: سميت القيامة حاقة؛ لأنها تحق كل مُحاق في دين الله بالباطل ... إلخ. وانظر: "التفسير الكبير" م 15 جـ 30/ 102.

{مَا الْحَاقَّةُ (2)} (¬1)، رفع بالابتداء أيضًا، و {الْحَاقَّةُ} الثانية خبرها، والعائد على {الْحَاقَّةُ} الأولى الثانية على تقدير: الحاقة ما هي. والمعنى تفخيم شأنها، واللفظ لفظ الاستفهام، كما تقول: زيد مَا هُوَ؟ على تأويل التعظيم لشأنه في مدح كان أو (في) (¬2) ذم (¬3). وقال صاحب النظم: قوله: {مَا الْحَاقَّةُ (2)} هو تفخيم وتهويل لها، (و) (¬4) مثله قوله: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)} [القارعة: 1، 2]. قال امرؤ (¬5) القيس: دَعْ (¬6) عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حُجُراتِه ... ولكِنْ حدِيث ما حديثُ الرَّواحِل (¬7) قوله: {مَا} حديث تفخيم وتهويل (له) (¬8)، ثم زاد في التهويل فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} و {مَا} مَوْضعها رفع، وإن كان بعد "أدراك" لأن ما كان في لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، المعنى: ما ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) ساقطة من (أ). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 213. (¬4) ما بين القوسين ساقط من ع. (¬5) في (أ): امرئ. (¬6) في (ع): درع. (¬7) قوله حديث .. إلى آخر البيت بياض في (ع). والبيت ورد في "ديوانه" 146 برواية "حَجَراته ولكن حديثًا ما حديث"، ومعنى النهب الغنيمة، الحجرات النواحي، يقول لخالد جاره: دع عنك نهبًا أغير عليه، وصِيح في نواحيه، وحدثنا حديثًا عن الرواحل كيف ذهب بها. وقد قال هذه القصيدة يوم أخذ بنو جذيلة إبله ورواحله، يهجو خالدًا السدوسي. "ديوان امرى القيس" المرجع السابق. (¬8) ساقطة من (أ).

4

أعلمك أي شيء الحاقة (¬1). وقال أهل المعاني: إنما قيل له: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} مع أنه يعلمها؛ لأنه إنما يعلمها بالصفة، فقيل تفخيماً لشأنها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}، أي: كأنك (¬2) لست تعلمها (¬3) إذا (¬4) لم تعاينها, ولم تر ما فيها من أهوالها (¬5). قال مقاتل: ثم أخبر عنها فقال: 4 - {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} أي أنها: القارعة التي كذبت بها ثمود وعاد (¬6). ونحو هذا قال صاحبُ النظم، فقال: ثم وصف عز وجل {الْحَاقَّةُ} مَا هي، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}، وهذا وهم؛ لأن قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} إخبار عن تكذيبهم بالساعة، وليس وصفاً للحاقة، ولا خبراً عنها (¬7). قال المبرد: قال الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}، ثم لم يقع لها تفسير، وقد يقع البيان في التنزيل عما يستفهم (¬8) عنه للتعظيم، وقد لا يقع، فما وقع عنه البيان: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة: 3 - 4] قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 10 - ¬

_ (¬1) نقله الواحدي بنصه عن الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 213. (¬2) في (أ): كانت. (¬3) في (ع): بعلمها. (¬4) في (ع): إذ. (¬5) انظر قول أهل المعاني في "معالم التنزيل" 4/ 385، و"زاد المسير" 8/ 78 - 79. (¬6) "تفسير مقاتل" 206/ ب. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) في (أ): يستقيم.

11]، وما كف عن خبره فمجازه عند العرب تفخيم للأمر، يقولون: لو رأيت فُلاناً وفي يده السيف. وتأويل هذا تعظيم أمره (¬1). وقد ذكرنا (¬2) هذا في مواضع (¬3). ومعنى "القارعة": التي تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن بالجنة. قال أهل التأويل: وإنما حسن أن توضع "القارعة" موضع "الحاقة" لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها "الحاقة" (¬4). و"القارعة" يراد بها: القيامة في هذه الآية عند (قول جميع) (¬5) المفسرين (¬6)، وذكر في بعض التفسير (¬7): أنها العذاب الذي نزل بهم، ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) بياض في (ع). (¬3) نحو ما جاء في سورة المدثر {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)}، والمرسلات: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)}، والانفطار: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)}. وغير ذلك مما ماثله من الآيات. (¬4) لم أعثر على من قال بذلك، وقد ورد معنى هذا القول عند الفخر من غير عزو. انظر: "التفسير الكبير" 30/ 130. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) قال بذلك ابن عباس، والضحاك، وابن زيد، وقتادة، ومقاتل. انظر: "جامع البيان" 29/ 48، و"معالم التنزيل" 4/ 386، و"زاد المسير" 8/ 79. وقالا به أيضًا، ابن عطية في "المحرر الوجيز" 356، والقرطبي 18/ 257، وعزاه الخازن إلى ابن عباس "لباب التنزيل" 4/ 303، وابن كثير 4/ 440، وعزاه صاحب "الدر المنثور" إلى ابن عباس 8/ 264، والسجستاني في "نزهة القلوب" 371، وابن الملقن في "تفسير غريب القرآن" 489، والخزرجي في "نفس الصباح" 2/ 730. (¬7) قال المبرد. انظر: "فتح القدير" 5/ 279، وذكر هذا القول من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 386، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 258.

وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. قوله: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} أكثر أهل التفسير والعربية على أن "الطاغية" هاهنا بمعنى الطغيان. قال الكلبي: الطاغية: طغيانهم (¬1). وقال مقاتل: عذبوا بطغيانهم (¬2)، وهذا قول ابن عباس (¬3) (ومجاهد) (¬4) (¬5). وقال أبو عبيدة: بطغيانهم، وكفرهم (¬6). قال أبو إسحاق: وفاعِلُه قد يأتي (¬7) بمعنى المصادر نحو: (عَافية، وعَاقبة) (¬8) (¬9). وذهب آخرون إلى أن "الطاغية" نعت محذوفٍ على معنى: أهلكوا بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت مقدار الصياح، وهو قول قتادة (¬10). والطاغي من كل شيء: ما تجاوز القدر (¬11). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 206/ ب، و"زاد المسير" 8/ 79. (¬3) "زاد المسير" 8/ 79. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) قوله في: "جامع البيان" 29/ 48، و"معالم التنزيل" 4/ 386، و"زاد المسير" 8/ 79. (¬6) "مجاز القرآن" 267. (¬7) في (أ): تأتي. (¬8) في (ع): عاقبة وعافية. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 213 بنصه. (¬10) ورد قوله في "جامع البيان" م14، 29/ 49، و"الكشف والبيان" 12/ 175/ أ، و"المحر. الوجيز" 5/ 356، و"القرطبي" 18/ 258، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 440. (¬11) قال الليث: الطُّغيان، والطُّغوان لغة فيه، والفعل طغوت وطغيت، والاسم الطَّغوى، وكل شيء جاوز القدر فقد طغا كما طغا، الماء على قوم نوح، وكما =

واختار أبو إسحاق هذا القول، فقال: (الذي يدل عليه معنى الآية أنهم أهلكوا بالرجفة الطاغية، كما قال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ}) (¬1) يعني: أنه لما ذكر ما أهلك به عاد، وهو الريح، كذلك "الطاغية" وجب أن تكون اسماً لما أهلك به ثمود. وتفسير الريح الصرصر قد سبق في موضعين (¬2). قوله: {عَاتِيَةٍ} قال الكلبي: عَاتية (¬3): عتت على خُزَّانها يومئذ فلم يحفظوا كم خرج منها ,ولم يخرج قبل ذلك ولا بعده منها شيء إلا بقدر معلوم (¬4). وروي هذا مرفوعاً: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "طغى الماء على خزانها يوم نوح، وعتت الريح على خَزَّانها يَوم عَاد، فلم يكن لهم عليها سبيل" (¬5). ¬

_ = غت الصيحة على ثمود، والريح على قوم عاد. "تهذيب اللغة" 8/ 167 مادة (طغا)، و"لسان العرب" 15/ 7 مادة (طغى). وفي "الصحاح" للجوهري 6/ 2412 طغَا يطغى، ويَطْغُو طُغيانًا، أي: جاوز الحد، وكلُّ مجاز حده في العصيان فهو طاغٍ. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 213 - 214، بنصه. (¬2) في سورة فصلت 16، وسورة القمر 19. ومما جاء في تفسير "الصرصر" أي باردة، وقيل: شديدة، وقيل: الصرصر الشديدة الصوت، وأكثر التفاسير: الشديدة البرد. وقيل: هي الباردة تحرق كما تحرق النار. (¬3) في (ع): غالبة. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 186، و"التفسير الكبير" 3/ 103. وهذا القول من الكلبي في الأمور التي ليست من قبيل الاجتهاد والفهم، وإنما هي من الأمور الغيبية التي تبنى على الأحاديث "الصحيحة" ولم أجد ما يعضده من صحيح القول، والكلبي معروف بالكذب. والله أعلم. (¬5) أخرجه الطبري في "جامع البيان" 29/ 50 من طريق شهر بن حوشب، عن ابن =

فعلى هذا القول هي عاتية على الخُزَّان، (وهو قول جماعة من المفسرين) (¬1) (¬2). ¬

_ = عباس بمعناه، والثعلبي مرفوعًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طريق ابن عباس، و"الكشف والبيان" جـ12، 175/ أ، والقرطبي 18/ 259 من طريق علي، وأورده ابن حجر العسقلاني في "الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" بمعناه، وعزاه إلى الثعلبي، وابن مردويه من رواية موسى بن أعين، عن الثوري، عن موسى بن المسيب، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس مرفوعًا، وأخرجه الطبري من طريق مهران بن أبي عمر، عن سفيان موقوفًا 4/ 177 ح 214، ملحق بكتاب "الكشاف" للزمخشري، وأخرجه أيضًا أبو الشيخ في العظمة، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه، وابن عساكر، والفريابي، وعبد بن حميد، عن ابن عباس بمعناه. انظر: "الدر المنثور" 8/ 265، كما أورد البخاري في صحيحه بمعنى هذا القول بعبارة "ويقال: طغت على الخزان كما طغى الماء على قوم نوح" 3/ 315، في "كتاب التفسير" باب 69، سورة الحاقة. قال ابن حجر في فتح الباري عند بيان معنى هذا القول: "لم يظهر لي فاعل طغت؛ لأن الآية في حق ثمود، وهم قد أهلكوا بالصيحة، ولو كانت عادًا لكان الفاعل الريح، وهي لها الخزان ... وأنها عتت على الخزان. وأما الصيحة، فلا خزان لها، فلعله انتقال من عتت إلى طغت، ثم قال: تنبيه لم يُذكر في تفسير الحاقة حديث مرفوع" 8/ 665. يراد بالخزان، يقال: خَزَن الشيءَ يخْزنه خَزنًا، واختزنه: أحْرَزَه، وجعله في خِزانة، واختزنه لنفسه، والخِزانة اسم الموضع الذي يُخْزن فيه الشيء. "لسان العرب" 13/ 139، (خزن). (¬1) هو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس. انظر: "جامع البيان" 29/ 55، و"الدر المنثور" 8/ 264، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير. وورد معنى هذا القول عن قبيصة بن أبي ذؤيب في "الدار" 8/ 265، وعزاه إلى ابن عساكر. وذكر القول غير معزو في "معالم التنزيل" 4/ 386، و"المحرر الوجيز" 5/ 357، و"زاد المسير" 8/ 79، و"القرطبي" 18/ 259، و"البحر المحيط" 8/ 321. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وفيه قول آخر: قال عطاء عن ابن عباس: يريد عتت عليهم (¬1)، يعني: على عاد. وهو قول ابن زيد، قال: العاتية: القاهرة التي عتت عليهم، فقهرتهم بغير رأفة ولا رحمة (¬2). وذكر صاحب النظم قولاً آخر (¬3)، فقال: ليس هذا من العتو الذي هو عصيان، إنما هو بلوغ الشيء وانتهاؤه، ومنه قولهم: "عتى (¬4) البيت"، أي: بلغ منتهاه وحق (¬5). وقال عز وجل: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (¬6)، (وكل شيء انتهى (¬7) فقد عتا يعتو (¬8) عِتِياً وعُتُوّاً) (¬9). وعلى هذا القول معنى "عاتية": بالغة منتهاها في القول والشدة. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "جامع البيان" 29/ 50، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 259 من غير نسبة. (¬3) بياض في (ع). (¬4) في (ع): عتا. (¬5) غير مقروء في (ع)، وإلى قوله بلغ منتهاه وحق انتهى كلام صاحب النظم، ولم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) سورة مريم 8، وقد استشهد الأزهري بهذه الآية في "تهذيب اللغة" 3/ 143 (عتو). (¬7) في (ع): انتها. (¬8) في النسختين (أ)، (ع): (يعتو) ا. (¬9) ما بين القوسين من قول الأزهري، وعزاه إلى أبي إسحاق. انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 143 (عتو)، وقد نقله الواحدي عن الأزهري بنصه، وررد معنى ذلك في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 214.

قوله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} قال مقاتل (¬1)، والكلبي (¬2): سلطها عليهم. وقال غيرهما: أرسلها عليهم (¬3). قال أبو إسحاق: أقامها عليهم كما شاء (¬4). وقوله: {حُسُومًا} أكثر المفسرين قالوا: متتابعة، وهو قول: عبد الله (¬5)، وعكرمة (¬6)، ومجاهد (¬7)، (وقتادة) (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 206/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 386، وقد ورد هذا القول غير منسوب في "زاد المسير" 8/ 79، و"القرطبي" 18/ 259، و"ابن كثير" 4/ 440. (¬2) ورد هذا القول في المراجع السابقة من غير عزو، وعزاها -كما أسلفت- البغوي إلى مقاتل. انظر "معالم التنزيل". (¬3) ورد هذا القول من غير نسبة في "معالم التنزيل" 4/ 386، و"زاد المسير" 8/ 79، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 259. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 214 نقله عنه الواحدي بنصه. (¬5) وورد قوله هذا في تفسير القرآن للإمام عبد الرزاق الصنعاني 2/ 312، و"جامع البيان" 29/ 50 - 51، و"النكت والعيون" 6/ 77، و"المحرر الوجيز" 5/ 357، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 440، و"الدر المنثور" 8/ 265، وعزاه إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، و"المستدرك" للحاكم 2/ 500، وصححه ووافقه الذهبي. (¬6) وقوله هذا ورد في "جامع البيان" 29/ 51، و"المحرر الوجيز" 5/ 357، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 440، و"الدر المنثور" 8/ 266، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬7) "تفسير الإمام مجاهد" 671، و"النكت والعيون" 6/ 77، و"معالم التنزيل" 4/ 386، و"المحرر الوجيز" 5/ 357، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 440، و"الدر المنثور" 8/ 265، وعزاه إلى أبي الشيخ في العظمة. (¬8) ساقطة من (أ). (¬9) وقول قتادة ورد في "معالم التنزيل" 4/ 386، و"المحرر الوجيز" 5/ 357، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 440. وممن قال بذلك أيضًا ابن عباس كما في =

والمعنى: أن هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المُهلكة، فلم يكن فيها فتورٌ ولا انقطاع، ولهذا المعنى قال الكلبي (¬1)، (والضحاك) (¬2)، ومقاتل (¬3) في تفسير: "حسوماً": دائمة كاملة. وقال الفراء: (والحسوم: التتابع (¬4)، إذا تتابع الشيء فلم ينقطع أوله عن (¬5) آخره، قيل له: حسوم، وإنما أخذوا -والله أعلم- من حُسِمَ الداءُ، إذا كُوي صاحبُه؛ لأنه يكوى بالمكواة، ثم يتابع ذلك عليه) (¬6). وقال عطية: شؤماً (¬7). قال اللَّيث: الحَسْم: الشُّؤْم، ويقال: هذه ليالي الحُسُوم تَحْسِم الخير عن أهلها، كما حُسِمَ عن عَاد (¬8). وذكر [أبو عبيدة] (¬9) القولين، فقال: "حسوماً" ولآء متتابعة، وقالوا: مشائيم (¬10). ¬

_ = "النكت" 6/ 77. قال النحاس {حُسُومًا} أصح ما قيل فيه مُتَتَابعة، لصحته عن ابن مسعود، وابن عباس "إعراب القرآن" 2/ 20. (¬1) بياض في (ع). ولم أعثر على مصدر قوله. (¬2) ما بين القوسين ساقط من أ، وورد قوله في "زاد المسير" 8/ 79. (¬3) "تفسير مقاتل" 206/ ب. (¬4) وفي (أ): أيضًا التتابع. (¬5) في (أ): إلي. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 180 بنصه. (¬7) ورد هذا القول في "معالم التنزيل" 4/ 386. (¬8) "تهذيب اللغة" 4/ 344 مادة (حسم) بنصه. (¬9) في كلا النسختين: (أبو عبيد)، ولعله تصحيف؛ لأن الصواب (أبو عبيدة) كما أثبته. (¬10) كتبت في إلنسختين مشاآيم. وورد قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 267، غير أنه ذكر قولًا واحدًا، وهو=

ومعنى الحسم في اللغة: القطع (¬1) بالاستئصال، وسمي السيف حُسَاماً؛ لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ عداوته، فالحسوم بمعنى الشؤم هي الحاسمة للخير، والحسوم مصدر سمي به (¬2). وقال ابن زيد: حسمتهم (¬3) فلم تبق منهم أحدًا (¬4). وعلى هذا: الحسوم: القاطعة بعذاب (¬5) الاستئصال، وهو معنى قول النضر بن شميل: حسمتهم (¬6)، فقطعتهم (¬7) وأهلكتهم (¬8). والحسوم من نعت (¬9) قوله: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}، ونصب على القطع (¬10) والحال (¬11). ¬

_ = التتابع. وممن قال: مشائيم: عكرمة، والربيع. انظر: "النكت" 6/ 77. وبالقولين قال اليزيدي في "غريب القرآن وتفسيره" 386. (¬1) غير مقروءة في (ع). (¬2) انظر المعنى اللغوي في "تهذيب اللغة" 4/ 344 (حسم)، و"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس 2/ 57 (حسم)، و"لسان العرب" 12/ 134 (حسم)، و"القاموس المحيط" للفيروزابادي 4/ 96 (حسم). (¬3) غير مقروء في (ع). (¬4) "جامع البيان" 29/ 51، و"النكت والعيون" 6/ 78، و"المحرر الوجيز" 5/ 357 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 80. (¬5) في (أ): بعد. (¬6) حسمتهم ساقطة من (أ). (¬7) في (أ): قطعتهم. (¬8) ورد قول النضر في "الكشف والبيان" 12/ 175/ ب. (¬9) التعبير بـ"النعت" من اصطلاح الكوفيين، وربما قال به البصريون، والأكثر عندهم الوصف والصفة. انظر: "نحو القراء الكوفيين" لخديجة أحمد مفتي 340. (¬10) يراد بالقطع الحال، وهذا من مصطلحات الكوفيين. المرجع السابق 349. (¬11) قال النحاس "حسومًا" نعت، ومن قال: معناه أتْباع جعله مصدرًا وقال أيضًا أنثت=

وقال أبو إسحاق: الذي توجبه اللغة في معنى قوله: "حسوماً" (أي تَحْسِمُهُمْ حُسُوماً) (¬1) تُفْنِيهِم وتُذْهبُهُم (¬2). وعلى هذا المعنى: الحسوم مصدر مؤكد (¬3) دَلَّ على فعله ما تقدّم من قوله: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ}، ويجوز أن يكون مفعولاً (له) (¬4)، أي سخرها عليهم هذه المدة للحسوم، أي لقطعهم واستئصالهم (¬5). {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} أي في تلك الليالي والأيام. {صَرْعَى}: جمع صريع. قال الكلبي (¬6)، ومقاتل (¬7): يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم، فهم مصروعون (¬8) صرع الموت. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (¬9) تفسير هذا متقدم في قوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (¬10). ¬

_ = الهاء في "ثمانية"، وحُذفت من "سبع" فرقًا بين المذكر والمؤنث، فـ"الليالي" جمع مؤنث، والأيام جمع مذكر. "إعراب القرآن" 20، وانظر البيان في غريب "إعراب القرآن" لابن الأنباري 2/ 457. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 214 بتصرف يسير. (¬3) يراد به المفعول المطلق. (¬4) له ساقطة من ع. والمفعول له هو المفعول لأجله. (¬5) من قوله "مفعولًا له" إلى قوله "استئصالهم" كتبت بهامش النسخة ع. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد مثله من غير عزو في "القرطبي" 18/ 261. (¬7) "تفسير مقاتل" 206/ ب. (¬8) غير مقروءة في (ع). (¬9) بياض في (ع). (¬10) سورة القمر 20، قال تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)} وجاء في تفسيرها قال الواحدي: على تقدير فتتركهم كأنهم نخل، وذلك أنهم شبهوا أعجاز =

وقوله: {خَاوِيَةٍ} على عروشها. قال الكلبي: شبه القوم بأسَافل النخل إذا سقطت (¬1). وقال مقاتل: يعني أصول نخل ساقطة، ليس لها رؤوس، بقيت أصولُها وذهب أعلاها (¬2). {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} قوله: {بَاقِيَةٍ} يجوز أن تكون معنى: البقاء، ويجوز أن تكون بمعنى: نفس باقية، أو فرقة باقية (¬3). (والمفسرون على هذا القول) (¬4). قال ابن عباس: يريد: لم أبقِ (¬5) منهم أحدًا (¬6). ¬

_ = النخل عند سقوطهم، لا عند نزعهم، قال الزجاج: "كأنهم" هاهنا في موضع الحال، والمعنى تنزع الناس مشبهين النخل المنقعر، وهو المقطوع من أصوله، وعلى ما ذكر، لا إضمار في الآية، و {أَعْجَازُ} جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، وشبههم بأعجاز النخل؛ لأن الريح قلعت رؤوسهم أولاً، ثم كبتهم لوجوههم. وقوله {مُنْقَعِرٍ} قال: قعرت النخلة إذا قلعتَها من أصلها حتى تسقط، وقد انقعرت هي، أي انقلعت وسقطت. قال المفسرون: شبههم لطول قاماتهم حين صرعتهم الريح وكبتهم على وجوههم بالنخيل الساقطة. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 206/ ب، وقد قال قتادة بنحو قوله. انظر: "جامع البيان" 29/ 52، و"الدر المنثور" 8/ 266. (¬3) بياض في (ع). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). وقد ذكر الطبري القولين. انظر: "جامع البيان" 29/ 52. وذكر البغوي القول الثاني. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 386، وأورد ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 357 القولين، وعزاهما لابن الأنباري. وأورد أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 267 القول الثاني. (¬5) بياض في (ع). (¬6) ورد قوله في "معالم التنزيل" 4/ 386 من غير عزو.

8

وقال مقاتل (¬1): لم تبق منهم أحدًا (¬2). (وذكر الفراء القولين (¬3) (¬4)). 8 - قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} أي ومن كان قبله من الأمم الكافرة التي كفرت كما كفر هو (¬5). و"من" لفظه عَام، ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين (¬6). وقُرئ: {وَمَنْ قَبْلَهُ} بكسر (¬7) القاف وفتح الباء (¬8). قال سيبويه: (قِبَل) لِما وَلِيَ الشيءَ، تقول: "ذهب قِبَلَ السوق" و"لي قِبَلَك حق" أي فيما يَلِيك، واتَّسَع حتى صَار بمنزلة: "لي عليك" (¬9). ومعنى: {وَمَنْ قَبْلَهُ} أي من يتبعه، وَيحُفُّ به من جنوده وأتباعه، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 206/ ب. (¬2) في كلا النسختين (أحد)، والصواب (أحدًا) لأنها مفعول به. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 180. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) بياض في (ع). (¬6) هذا القول حجة لمن قرأ قَبْلَه بفتح القاف وسكون الباء، وهي قراءة ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، وخلف، وأبو جعفر. انظر: "كتاب السبعة في القراءات" لابن مجاهد 648، و"القراءات وعلل النحويين فيها" للأزهري 2/ 709، و"الحجة للقراء السبعة" لأبي علي 6/ 314، و"إعراب القراءات" لابن خالويه 2/ 385، و"المبسوط في القراءات العشر" للأصبهاني 379، و"التبصرة" لمكي 806، و"الكشف عن وجوه القراءات" لمكي بن أبي طالب 2/ 333. (¬7) في (أ): انكسر. (¬8) وممن قرأ بذلك أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب، وأبان عن عاصم. انظر المراجع السابقة. (¬9) "كتاب سيبويه"، لأبي بشر عَمْرو بن قنبر 4/ 232، نقله عنه أبو علي الفارسي بتصرف يسير. انظر: "الحجة" 6/ 314.

ويؤكد هذه القراءة مَا روي أن في حرف أُبَيٍّ: "ومَن معه". (¬1) وأكثر قول المفسرين على هذه القراءة (¬2). قال ابن عباس: يريد جمعه وجنوده (¬3). وقال الكلبي: يعني جنده (¬4) (¬5). وقال مقاتل: يعني ومن معه (¬6). وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قد تقدم تفسيرها (¬7)، وهي -هَاهنا- يجوز أن تكون القُرى التي انقلبت بأهلها، فيكون على حذف المضاف. ¬

_ (¬1) من قوله أى ومن كان قبله من الأمم ... إلى هنا من "الحجة" 6/ 314 بتصرف. (¬2) ذكرت القراءتان عند الفراء، والطبري، والبغوى، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي من غير ترجيح بينهما. انظر: "معاني القرآن" 3/ 180، و"جامع البيان" 29/ 52، و"معالم التنزيل" 4/ 386، المحرر والوجيز 5/ 357 - 358، و"زاد المسير" 8/ 80، و"القرطبي" 18/ 261 - 262. (¬3) في (ع): وجنده. لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 206/ ب. (¬7) في سورة التوبة 70 في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} ومما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ}، قال المفسرون: يعني قريات قوم لوط، وهي جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، والمؤتفكات معطوفة على مدين، يعني وأصحاب المؤتفكات. ويقال: أفكه فائتفك، أي: قلبه فانقلب.

قال مقاتل: يعني قرى (قوم) (¬1) لوط (¬2). ويجوز أن تكون المؤتفكات الذين أهلكوا من قوم لوط؛ على معنى: والجماعات والأمم والفرق المؤتفكات (¬3). قال ابن عباس: يريد قوم لوط (¬4). قال الفراء: (هم الذين ائتفكوا بخطئهم) (¬5). ونحو هذا قال أبو إسحاق (¬6). فجعلوا المؤتفكات القوم الذين أهلكُوا. وقوله: {بِالْخَاطِئَةِ} قال عطاء: يريد الخطايا التي كانوا يفعلونها (¬7). ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) "تفسير مقاتل" 206/ ب. وقد ورد عن قتادة بمثل قوله في "جامع البيان" 29/ 53، كما ورد القول من غير نسبة في "معالم التنزيل" 4/ 386، و"المحرر الوجيز" 5/ 358، و"زاد المسير" 8/ 80. (¬3) ومعنى لفظ {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} كما جاء عند ابن فارس، قال: الهمزة والفاء والكاف أصل واحد يدل على قلب الشيء وصَرْفه عن جهته ... والمؤتفكات الرياح التي تختلف مَهابُّها. "معجم مقاييس اللغة" 1/ 118، مادة (أفك). وجاء في التهذيب واللسان الائتِفاك عند أهل العربية الانقلاب، كقريات قوم لوط التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت. "تهذيب اللغة" 1/ 396، مادة (أفك)، و"لسان العرب" 1/ 391 مادة: (أفك). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 180 بنصه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 215. وعبارته "الذين ائتفكوا بذنوبهم، أي أهلكوا بذنوبهم التي أعظمها الإفك .. ثم قال: وكذلك الذين ائتفكت بهم الأرض، أي خُسِفَ بهم، إنما معناه انقلبت بهم كما يقلب بهم الكذاب الحق إلى الباطل. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد عند الطبري، والقرطبي بمثل قول مجاهد. انظر: "جامع البيان" 29/ 53، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 362.

وقال الكلبي: يعني بالشرك (¬1). وقال مقاتل: يعني بالكفر (¬2). قال الزجاج: (بالخطأ العظيم) (¬3). وهو قول الفراء (¬4)، والكسائي (¬5). فالخاطئة: مصدر كالخطأ والخطيئة، وهي الكفر والتكذيب. يدل عليه قوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}. قال الكلبي: يعني موسى بن عمران (¬6). وقال مقاتل: يعني لوطًا (¬7). فذهب الكلبي بقوله: {عَصَوْا} إلى فرعون وقومه، وذهب مقاتل إلى المؤتفكات، والوجه أن يقال: المراد بـ"الرسول" كلاهما للخبر عن ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله عند البغوي من غير عزو. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 386. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله عند الثعلبي من غير عزو. انظر: "الكشف والبيان" جـ12، 176/ أ. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 215 بنصه. (¬4) لم أجد قوله في المعاني، وإنما وجدت معناه في التهذيب، والعبارة عنده قال الفراء يُصْرف عن الإيمان من صُرِف، كما قال: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 32]، يقول: لتصرفنا وتصدنا. "تهذيب اللغة" 10/ 395 مادة (أفك)، وانظر: "لسان العرب" 1/ 391 مادة (أفك). (¬5) ورد معنى قوله في المرجعين السابقين، والعبارة عنه أبو عبيد عن الكسائي تقول العرب يالِلأفيكة، ويا لَلأفيكة، بكسر اللام وفتحها، فمن فتح اللام فهي لامُ الاستغاثة، ومن كسرها فهي تعجب، كأنه قال: يا أيها الرجل، اعجب لهذه الأفيكة، وهي الكِذبة العظيمة. (¬6) ورد قوله في "المحرر الوجيز" 5/ 358، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 362. (¬7) ورد القول في "تفسير مقاتل" 206/ ب، وفي "معالم التنزيل" 4/ 386 من غير عزو، وعزاه ابن عطية إلى بعضهم في "المحرر الوجيز" 5/ 358.

الأمتين بعد ذكرهما بقوله: {فَعَصَوْا} (¬1)، فيكون كقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} قال المفسرون: نامية، عالية، (غالبة) (¬3)، شديدة، زائدة على عذاب الأمم، كل هذا من ألفاظهم (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) سورة الشعراء 16. والآية بتمامها، قال تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)}، وقد نقل الفخر عن الواحدي قوله. انظر: "التفسير الكبير" 30/ 106. قال ابن عاشور: وضمير {عَصَواْ} يجوز أن يرجع إلى "فرعون" باعتباره رأس قومه، فالضمير عائد إليه وإلى قومه، ويكون المراد بـ {رَسُولَ رَبِّهِمْ} موسى عليه السلام، وتعريفه بالإضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون. ويجوز أن يرجع ضمير {عَصَوْا} إلى {فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ}، و {رَسُولَ رَبِّهِمْ} هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء، فإفراد "رسول" مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظمًا من أن يقال: فعصوا رسل ربهم، لما في إفراد "رسول" من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد؛ تفاديًا من تتابع ثلاثة جموع؛ لأن صيغ الجمع لا تخلو من ثقل لقلة استعمالها. "تفسير التحرير والتنوير" 29/ 121 - 122. (¬3) غالبة ساقطة من (أ). (¬4) بياض في (ع). (¬5) قال ابن زيد: شديدة. وقال ابن عباس: أخذة شديدة. وقال ابن زيد، كما يكون في الخير رابية، كذلك يكون في الشر رابية، قال: ربا عليهم، زاد عليهم. انظر: "جامع البيان" 29/ 53. وقال الفراء: أخذة زائدة."معاني القرآن" 3/ 181. وقال أبو عبيدة: نامية زائدة شديدة من الربا. "مجاز القرآن" 2/ 267. وقال اليزبدي: نامية زائدة من الربا. "غريب القرآن وتفسيره" 387. وقال ابن قتيبة: عالية مذكورة. "تفسير غريب القرآن" 484. وقال الثعلبي: نامية عالية غالبة. "الكشف والبيان" جـ12، 176/ أ. وعن السدي قال: مهلكة. "النكت" 6/ 79.

11

قال المبرد: أي شديدة، وكبيرة، وأصله من الزيادة (¬1). وقال الزجاج: معنى رأبية: تزيد على الأحْداث (¬2). وقال صاحب النظم: بالغة في الشدة، يقال: ربا الشيء يربُو: إذا زاد وتضاعف. 11 - قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} قال الكلبي عن ابن عباس: يعني: زمن نوح طغى الماء على خزانه، وكثر عليهم، فلم يدروا كم خرج، وليس من السماء قطرة قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم (¬3). فذهب -هاهنا- كما ذكر في قوله: {عَاتِيَةٍ}. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: غضب الماء لغضب (¬4) الرب، وطغى على الخزان (¬5). وسائر المفسرين قالوا في: {طَغَى الْمَاءُ} تجاوز حده، وخرج عن ¬

_ (¬1) لم أعثر على قوله. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 215 بنصه. (¬3) ورد قوله في "النكت والعيون" 6/ 79، وأورده الفخر عن الكلبي في "التفسير الكبير" 30/ 103. (¬4) في (أ): بغضب. (¬5) "جامع البيان" 30/ 54، و"الدر المنثور" 8/ 267، وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ. وانظر: "تفسير سعيد بن جبير" تحقيق إبراهيم النجار 352. والرواية عند الطبري على النحو الآتي عن سعيد بن جبير في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} قال: لم تنزل من السماء قطرة إلا بعلم الخزَّان، إلا حيث طغى الماء، فإنه قد غضب لغضب الله فطغى على الخزان، خرج ما لا يعلمون ما هو. والرواية عن سعبد بن جبير مرسلة ضعيفة السند لوجود ابن حميد، قال عنه الحافظ ابن حجر: ضعيف "التقريب" 2/ 156 - 159.

(الحد حتى علا كل شيء، وارتفع فوقه بخمسة عشر ذراعًا. (¬1) وهو قول: قتادة (¬2)، ومقاتل (¬3). وقوله: {حَمَلْنَاكُمْ} أي حملنا آباءكم) (¬4) وأنتم في أصلابهم، والذين خوطبوا بهذا (¬5) ولد الذين حملوا، وهذا كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] (¬6) الآية (¬7). وهذا معنى قول مقاتل (¬8)، والكلبي (¬9). وقوله: {فِي الْجَارِيَةِ} يعني في السفينة التي تجري في الماء، وهي سفينة نوح عليه السلام، و"الجارية" من أسماء السفينة (¬10)، ومنه قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} ¬

_ (¬1) الذراع: اليد من كل حيوان، لكنها في الإنسان من المرفق إلى أطراف الأصابع. "المصباح المنير" 1/ 246، مادة (ذرع). وانظر "مختار الصحاح" 221 (ذرع). (¬2) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"تفسير القرآن" لعبد الرزاق 2/ 312، و"جامع البيان" 29/ 54، و"الكشف والبيان" 12/ 176/ أ، و"القرطبي" 18/ 263، و"الدر المنثور" 8/ 267، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد مثل قوله من غير نسبة في "معالم التنزيل" 4/ 387، و"زاد المسير" 8/ 81. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في (ع): هذا. (¬6) وردت في النسختين ذرياتهم. (¬7) الآية ساقطة من (أ). (¬8) "تفسير مقاتل" 207/ أ. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد عند الطبري بنحو هذا القول من غير عزو؛ مذكور بصيغة التضعيف قيل. انظر: "جامع البيان" 29/ 55. (¬10) وهو قول ابن عباس، وابن زيد أيضًا. "جامع البيان" 29/ 54. قال ابن عاشور و"الجارية" صفة لمحذوف، وهو السفينة، وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم. "تفسير التحرير والتنوير" 29/ 123.

[الرحمن: 24]، وقد مر (¬1). قوله: {لِنَجْعَلَهَا} قال الفراء: النجعل السفينة لكم تذكرة وعظة) (¬2)، وليس هذا بالوجه، والوجه ما قال أبو إسحاق: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح، ونجاة من آمن معه تذكرة لكم (¬3)، أي عبرة وموعظة. ويدل على صحة هذا الوجه قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}. قال ابن عباس: تحفظها، وتسمعها أذن حَافظةٌ لما جاء من عند الله (¬4). والسفينة لا توصف بهذا. (ويقال لكل شيء حفظته في نفسك: قدْ وَعَيْتُهُ، ووعيت العِلمَ، وَوَعَيْتُ ما قلت، ويقال لكل ما حفظته في غير نفسك: أوْعَيْتُهُ، يقال: أوعيت المتاعَ في الوعاء (¬5). ¬

_ (¬1) قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن، واحدتها جارية، كقوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 181 بنصه. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 215، نقله عنه الواحدي بتصرف. (¬4) "جامع البيان" 29/ 55 بمعناه. قال: حافظف وانظر: "النكت" 6/ 80. وقال أيضًا سامعة، وذلك الإعلان. وعن قتادة بنحوه، قال أذن عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله. المرجع نفسه. وعن الضحاك أيضًا بمعناه، وعن ابن زيد. انظر المرجع نفسه. قال ابن عاشور: والوعي: العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها أذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي. وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان، والسفينة التي نجا بها المؤمنون، فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية. "تفسير التحرير والتنوير" 29/ 123. (¬5) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 215 - 216 نقله الواحدي عن الزجاج بتصرف. وراجع مادة: (وعى) في "تهذيب اللغة" 3/ 359 - 360، و"معجم مقاييس اللغة" 6/ 124، و"لسان العرب" 15/ 396

ومنه قول الشاعر (¬1): وَالشَّرُّ أخْبَثُ مَا أوْعَيْتَ مِنْ زَادِ (¬2) وقال أبو عِمْران الجوني (¬3): {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أذن عقلت (¬4) عن الله (¬5). وقال قتادة: أذن سمعت، وعقلت ما سمعت (¬6)، وأوعت (¬7). قال الفراء: لتحفظها كل أذن (¬8)، فتكون عظة لمن يأتي بَعْدُ (¬9). وقال أبو إسحاق: (معناه: ليحفظ السَّامعُ ما يَسْمع، ويعمل به) (¬10). فمعنى واعية: سامعة حافظة قابلة لما يجعل فيها، وذلك بأن تعتبر، ¬

_ (¬1) هو: عَبِيدُ بن الأبْرَص بن جُشم بن عامر. (¬2) وصد ره: الخَيْرُ يَبْقَى وإنْ طالَ الزَّمانُ بِهِ وقد ورد في "ديوانه" 15، دار صادر، كما ورد منسوبًا له في "الصحاح" للجوهري 6/ 2525، (وعى)، و"لسان العرب" 15/ 397، و"تاج العروس" للزبيدي 10/ 393، وورد غير منسوب في "معجم مقاييس اللغة" 6/ 124، و"الكامل" للمبرد 1/ 143، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 713. (¬3) في (أ): الحولاني. (¬4) غير مقروءة في (ع). (¬5) ورد قوله في "المحرر الوجيز" 5/ 358. (¬6) بياض في (ع). (¬7) في (أ): وأودعت. وورد قوله هذا في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 313، و"جامع البيان" 29/ 55 بنحوه، و"النكت" 6/ 80، و"معالم التنزيل" 4/ 387 بنحوه، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 363 - 364 بمعناه، و"البحر المحيط" 8/ 322، و"الدر المنثور" 8/ 268، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (¬8) بياض في (ع). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 181 بنصه. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 215 بنصه.

وتعمل بالموعظة، والمعنى لصاحب الأذن. قال أهل المعاني: ووجه التذكير في هذا أن نجاة قوم نوح من الغرق بالسفينة، وتغريق مَنْ سواهم يقتضي مدبرًا (¬1) قادرًا على ما شاء (¬2). وقراءة العامة: {وَتَعِيَهَا} بكسر العين (¬3). وروي عن ابن كثير: (وتَعْيَها) ساكنة العين (¬4)، كأن حرف المضارعة (¬5) مع مَا بَعْدَهُ بمنزلة (فَخْذٍ) فأسْكن كما يُسكن (كتِف) ونحوه؛ لأن حروف المضارعة لا تنفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال: وَهْوَ، وَهْيَ. ومثل ذلك قوله: {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] في قراءة من سكن القاف (¬6)، وقد سبق الكلام في نحو هذا (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): مدرًا. (¬2) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬3) وهم: نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبو عمرو بن العلاء، وابن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الزيات، وأبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، ويعقوب الحضرمي، وخلف ابن هشام البزاز. انظر كتاب: "السبعة" لابن مجاهد: 648، و"الحجة" 6/ 316، و"المبسوط في القراءات العشر" للأصبهاني 379، و"تحبير التيسير في قراءة الأئمة العشرة" لابن الجزري 192. (¬4) وهي رواية القواس عن ابن كثير. انظر: "الحجة" 6/ 135، كتاب السبعة 648، و"المبسوط" 379. وقال ابن الجزري في قراءة: {وَتَعِيَهَا} وجاء عن ابن كثير وعاصم وحمزة في ذلك ما لا يصح. قلت: وهذا رأي لابن الجزري لا يعارض بما أثبت في كتاب "الحجة" من صحة القراءة، والله أعلم. انظر: "تحبير التيسير" 192، و"مختصر في شواذ القرآن" لابن خالويه 161. (¬5) بياض في (ع). (¬6) انظر: "الحجة": 6/ 316 بتصرف، وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 107. (¬7) ومما جاء في قراءة: {وَيَتَّقْهِ} بسكون القاف، وكسر الهاء مختلسة، وهي قراءة =

13

13 - قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)}. قال عطاء عن ابن عباس: يريد النفخة الأولى (¬1). وقال الكلبي: هي النفخة الآخرة (¬2). وهو قول مقاتل (¬3)، وقال: (نفخة واحدة) يعني لا تُثَنَّى (¬4). قال الأخفش: الفعل (¬5) وقع على النفخة إذ لم يكن قبلها (¬6) اسم مرفوع (¬7)، قال: ويجوز (نفخة واحدة) على المصدرة حكي ذلك عن بعضهم ثم قال: فإما أن (¬8) يكون أضمر، وإما أن يكون أخبر عن الفعل خاصة (¬9) هذا كلامه. وبيان هذا أن (نفخة) رفع على ما لم يسم (¬10) فاعله. وقوله: إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع يريد أن الفعل لم يقع على شيء يرفعه ¬

_ = حفص عن عاصم، ووجهه: أن تقه من يتقه بمنزلة: "كتف" فكما يسكن "كتف" كذلك سكن القاف من يقه. وقال ابن الأنباري: هذا على لغة من يسقط الياء، ويسكن الحرف الذي قبلها في باب الجزم، فيقول: لم أرَ زيدًا ,ولم أشرِ طعامًا، ولم يتقِ زيدًا، وهو من التوهم، والتقدير: لما ذهبت الياء استوثقوا من الجزم بتسكين ما قبل الياء. (¬1) ورد منسوبًا إلى عطاء فقط في "زاد المسير" 8/ 82، و"فتح القدير" 5/ 281. ومنسوبًا إلى ابن عباس من غير ذكر طريق عطاء في "الجامع" للقرطبي 18/ 264. (¬2) "فتح القدير" 5/ 281. (¬3) "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"زاد المسير" 8/ 82، و"فتح القدير" 5/ 281. (¬4) هذا القول من مقاتل قد ورد بمثله غير منسوب في "القرطبي" 18/ 264. (¬5) في (أ): القول. (¬6) في (أ): فيها. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 713 بنصه. (¬8) غير مقروءة في (ع). (¬9) لم أجد تتمة كلامه في كتابه "المعاني"، ولا في غيره من المصادر التي بين يدي. (¬10) عبارة: (ما لم يسم فاعله) من اصطلاحات الكوفيين، ويقابلها عند البصريين: (المبني للمجهول). انظر: "نحو القراء الكوفيين" 346.

في الظاهر، فوقع على النفخة. قوله: {فِي الصُّورِ} على لفظ الخفض (¬1)، فالتقدير: نفخ نفخة واحدة في الصور، وأما من قال: (نفخة) بالنصب أضمر مفعول (نفخ) ونصب (نفخة) على المصدر، أو اقتصر على الإخبار عن الفعل، كما تقول: (ضرب ضربًا) (¬2) هذا معنى كلامه. وقال أبو إسحاق: النصب جائز على أن قولك: (في الصور) يقوم مقام ما لم يُسمَّ فاعله؛ لأن المعنى: نفخ الصور نفخة، وإنما ذكَّر نفخ , لأن تأنيث نفخة ليس بحقيقي , لأن النفخة والنفخ واحد (¬3). قوله: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} قال مقاتل: رفعت من أماكنها (¬4)، {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}: قال ابن عباس: فُتَّتَا فَتة (¬5) واحدة (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): الحافظ، ويراد بالخفض الجر، والخفض اصطلاح كوفي. انظر: "نحو القراء" 348. (¬2) لم أعثر على مصدر لهذا القول، ولا على قائله. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 216 باختصار. (¬4) "تفسير مقاتل" 207/ أ. وقد ورد بمثله من غير نسبة في "معالم التنزيل" 4/ 387، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 264، و"فتح القدير" 5/ 381 بمعناه. (¬5) قال الليث: الفَتُّ أن تأخذ الشيء بأصبعك فتصيره فُتاتًا، أي دقاقًا. "تهذيب اللغة" 14/ 256، (فتت). وقال ابن فارس: الفاء والتاء كلمة تدل على تكسير شيء ورفْتِه. "معجم مقاييس اللغة" 4/ 436، (فت). (¬6) بياض في (ع) .. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير نسبة في "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 264، و"لباب التأويل" 4/ 304.

وقال مقاتل: كسرتا كسرة واحدة، لا شيء حتى يستوي ما عليها (¬1) من شئ مثل الأديم (¬2) الممدود (¬3). وذكرنا (¬4) تفسير (الدك) عند قوله: {جَعَلَهُ دكَآءَ} [الكهف: 98] ولا يجوز في (دكة) هاهنا إلا النصب؛ لارتفاع الضمير في (دكتا). قال الفراء: ولم يقل: فدككن؛ لأنه جعل الجبال كالواحد (¬5) , والأرض كالواحدة، كما قال: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا} [الأنبياء: 30]، ولم يقل: كُنَّ (¬6). قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)}. قال الكلبي: قامت القيامة (¬7). {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} لنزول من فيها من الملائكة؛ قاله مقاتل (¬8). {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قال الليث: يقال: وَهَى الثوبُ والقِرْبةُ والْحَبْلُ ونحوه إذا تَفَزَّرَ واسترْخَى (¬9). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) الأديم: جمع الأَدَم، وأديم كل شيء: ظاهر جلده، وأدَمة الأرض: وجهها. وقال ابن منظور: الأديم: الجلد ما كان. وقيل: هو المدبوغ. والأدمة: باطن الجلد الذي يلي اللحم، والبشرة ظاهرها. انظر (أدم) في: "تهذيب اللغة" 4/ 215، و"معجم مقاييس اللغة" 1/ 72، و"الصحاح" 5/ 1859، و"لسان العرب" 9/ 12. (¬3) "تفسير مقاتل" 207/ أ. وقد ورد غير منسوب في "زاد المسير" 8/ 82. (¬4) بياض في (ع). (¬5) في (ع): (كالواحدة). (¬6) انظر: "معاني القرآن" 3/ 181 نقله الواحدي عنه باختصار. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه غير منسوب في "الجامع" 18/ 365. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه غير منسوب في المصدر السابق. (¬9) "تهذيب اللغة" 6/ 488، مادة: (وهي) بتصرف.

وقال الكسائي: وَهَى يَهي وَهْيًا ووهِيًّا (¬1). قال أبو إسحاق: (يقال لكل ما ضعف جدًا: قد وَهَى، فهو واهٍ) (¬2). قال الفراء: (وَهْيُها: تشقُّقها) (¬3). قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} معنى الأرجاء في اللغة: النواحي، يقال: رَجًا ورَجَوان، والجميع: أرجاء، ويقال ذلك لحرف (¬4) البئر، وحرف القبر، وما أشبه ذلك (¬5). وأنشد (أبو عبيد (¬6) لعَبِيد) بن الأبرص (¬7): رِيشُ الحَمَامِ على أرْجَائِهِ ... لِلْقَلْب مِنْ خَوْفِهِ وَجِيبُ (¬8) والمفسرون يقولون: على حَافَاتِها (¬9) وأطرافها ونواحيها وأقطارها (¬10). كل هذا من ألفاظهم. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 216 بنصه. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 181 بنصه. (¬4) بياض في (ع). (¬5) انظر المعنى اللغوي للأرجاء في "تهذيب اللغة" 11/ 183، مادة: (رجا)، و"معجم مقاييس اللغة" 2/ 495، مادة (رجي)، و"لسان العرب" 1/ 83، مادة: (رجا). ومن قوله: (ويقال ذلك لحرف البئر إلى: ما أشبه ذلك) ورد بنصه عند السجستاني في "نزهة القلوب في تفسير القرآن العزيز" 106. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) البيت في "ديوانه" 27، طبعة دار صادر. والأرجاء: الواحد رجا: الناحية. الوجيب: الخفقان. "ديوانه" 27. (¬9) في (أ): (حافتها). (¬10) قال ابن عباس في معنى الآية: والملك على حافات السماء حين تشقق. وعن مجاهد قال: أطرافها. وعن سعيد بن جبير قال: على حافات السماء. وعن الضحاك أنه قال: حافاتها. ومثله قال قتادة، وعن قتادة أيضًا: أقطارها، وعنه =

واختلفوا أن المراد بالأرجاء: أرجاء الأرض، أم السماء؟ فقال الكلبي: يقول: على حروفها وأطراف الأرض (¬1). وقال سعيد بن جبير: على أرجائها ما لم تنشق (¬2) منها (¬3). وروي عن ابن عباس: على ما لمْ يَهِ منها (¬4). وهذا يدل على أن الملك على أرجاء السماء. وروى (جُوَيْبِر (¬5) عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة (¬6) على أرجائها حين يأمرهم الرب، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بالأرض ومن عليها. وهذا جامع للقولين (¬7). ¬

_ = أيضًا: نواحيها. وبهذا قال سفيان. وعن ابن المسيب: الأرجاء: حافات السماء. انظر أقوالهم في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 313، و"جامع البيان" 29/ 57 - 58، و"معالم التنزيل" 4/ 387، و"زاد المسير" 8/ 82، و"لباب التأويل" 4/ 304، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 441، و"الدر المنثور" 8/ 269. وقال اليزيدي: جوانبها. "غريب القرآن وتفسيره" 387. وعن ابن قتيبة: نواحيها. "تفسير غريب القرآن" 484. وعن مكي بن أبي طالب: على جوانبها. "تفسير المشكل من غريب القرآن" 352. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في (أ): تشق. (¬3) "جامع البيان" 29/ 85 بمعناه، قال: "على حافات السماء"، وكذا في "الدر المنثور" 8/ 269. وعزاه إلى عبد بن حميد، وعنه: أرجاء الدنيا. "النكت" 6/ 81، و"زاد المسير" 8/ 350، وانظر: "تفسير" سعيد 353. (¬4) "جامع البيان" 29/ 58 من طريق عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. "الدر المنثور" 8/ 269، وعزاه إلى الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): يكون الملك. (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 387، من غير ذكر طريق جويبر.

قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ}. قال مقاتل: يعني فوق رؤوسهم (¬1)، كأنه يعني فوق رؤوس الحَمَلة. قوله: {يَوْمئِذٍ}. يعني: يوم القيامة. {ثَمَانِيَةٌ} روي عن العباس رضي الله عنه قال: (ثمانية أملاك على صور الأوعَال (¬2)) (¬3). وروي أيضًا عنه في حديث مرفوع "أن فوق السماء (¬4) السابعة ثمانية أوعال، بين أظلافهن ورُكَبِهِنَّ مثل ما بين سماء إلى سماء، وفوق ظُهُورِهِنَّ ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"زاد المسير" 8/ 82 بنحوه، وانظر: "لباب التأويل" 4/ 304. (¬2) أوعال: جمع وعل، وهو العنز الوحشي، ويقال له: تيس شاه الجبل، والمراد ملائكة على صورة الأوعال. انظر: "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للعظيم آبادي 13/ 8 باب: الجهمية، كتاب: السنة، و"تحفة الأحوذي" للمُباركفوري: 9/ 165: ح: 3540، و"أبواب التفسير"، سورة الحاقة. (¬3) "النكت" 6/ 81، وأخرجه عبد بن حميد، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية"، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن خزيمة، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والخطيب في "تالي التلخيص" عن العباس. انظر: "الدر المنثور" 8/ 269. قلت: وعزاه السيوطي إليه، فهو من المرفوع عنه. وانظر: "المستدرك" 2/ 500 في التفسير، باب تفسير سورة الحاقة، وزاد: "بين أظلافهم إلى ركبهم مسيرة ثلاث وستين سنة". قال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي. وأخرجه الدارمي في "الرد على الجهمية" 42 ح 72، والآجري في "الشريعة" 263، 292 من طريقين: عن سماك، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" 3/ 389 - 390 ح 650 - 651، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 142، وابن عبد البر في "التمهيد" 7/ 140، وابن قدامة في "إثبات صفة العلو" 95. وانظر: "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز، 246. (¬4) بياض في (ع).

العرشُ" (¬1). وقال عطاء عن ميسرة (¬2): ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود 2/ 582، كتاب السنة: باب في الجهمية، أخرجه من ثلاث طرق عن سماك، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب مرفوعًا بمعناه. ومما جاء فيه: (ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم ورُكَبِهِم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش). وأخرجه الترمذي أيضًا من حديث طويل 5/ 425 ح 3320، وقال عنه: حديث حسن غريب. وابن ماجه 1/ 37 - 38 ح 181، باب: 13، المقدمة والإمام أحمد من طريقين عن العباس 1/ 206 - 207. وأخرجه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" 100 - 102، وابن أبي عاصم في "السنة" 577، والذهبي في "العلو" 57. وقد قوى المباركفوري طريقين من طرق الحديث. انظر: "تحفة الأحوذي" 9/ 166. وضعف الشيخ الألباني طرق الحديث. انظر: "ضعيف سنن أبي داود": 468 - 469 ح 1014 - 1015 - 1016، باب: في الجهمية. "ضعيف سنن الترمذي" 427 - 428: ح: 654، سورة الحاقة. "ضعيف سنن ابن ماجه" 14 ح 34، باب: 13. "ظلال الجنة في تخريج فقه السنة" ح 577. كما ضعفه محقق "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي 3/ 391 هامش: 1، قال: مدار الحديث من جميع طرقه على عبد الله بن عميرة، قال فى البخاري: لا يعلم له سماع من الأحنف. ["التاريخ الكبير" 5/ 109 ت: 494]. وقال الذهبي: فيه جهالة. ["ميزان الاعتدال" 2/ 469: ت: 4492]، وأما ابن حبان فذكره في الثقات [5/ 42]. وقال محقق "شرح الطحاوية" 247: وعبد الله بن عمير، وهو مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل. وأظلافهن: جمع: ظلف -بكسر الظاء المعجمة- للبقر والشاة والظبي بمنزلة الحافر للدابة، والخف للبعير. "تحفة الأحوذي" 9/ 165. (¬2) بياض في (ع). وميسرة: يراد به: ميسرة أبو صالح؛ مولى كِنْدة، كوفي، روى عنه عطاء بن السائب، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه ابن حجر: مقبول. أو يراد به ميسرة بن يعقوب، أبو جميلة، الطُّهوي، الكوفي، روى عنه عطاء بن السائب أيضًا، مقبول، وذكره ابن حبان فى الثقات، وقال عنه ابن حجر: مقبول من الثالثة. =

(أرجلهم في تُخوم (¬1) الأرض السَّابعة يحملون العرش (¬2)، ما منهم من أحد يرفع طرفه (¬3). وقال عطاء (¬4)، (والكلبي (¬5) (¬6): ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر كثرة (¬7) عدد الملائكة بما يطول ذكره. وقال مقاتل: ثمانية أجزاء من الكروبيين (¬8)، لا يعلم كثرتهم (¬9) إلا الله (¬10). ¬

_ = انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 374 ت: 1607 - 1608، و"الجرح والتعديل" 8/ 252: ت: 1143، و1144، و"تقريب التهذيب" 2/ 291: ت: 1542 - 1543. (¬1) تُخوم: مفرد تَخْم، وهو منتهى كل قرية أو أرض. "لسان العرب" 12/ 64: (تخم). (¬2) يراد بالعرش لغية: السرير الذي للمَلك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز: 248، و"العلو" للذهبي 57. والعرش من الأمور الغيبية التي يجب علينا الإيمان بها كما أخبر الله ورسوله. انظر: "إثبات صفات العلو" لابن قدامة، 92 في الحاشية. (¬3) "جامع البيان" 29/ 50 بنحوه، وفي إسناده ابن حميد، وهو ضعيف. وانظر: "الدر المنثور" 8/ 270 بنحوه، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 216 من غير عزو. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين الفوسين ساقط من (أ). (¬7) في (أ): كثرت. (¬8) الكروبيون: هم المقربون، ويقال لكل حيوان وثيق المفاصل: إنه لمُكْرَب الخلق، إذا كان شديد القوى، والأول أشبه. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير 161، مادة: (كرب). (¬9) بياض في (ع). (¬10) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"زاد المسير" 8/ 83، وبمعنى قوله عن ابن عباش. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 442.

18

وقال الكلبي أيضًا: وهو يروى عن ابن عباس (¬1)، قال: ثمانية صفوف من الملائكة (¬2). وقال محمد بن إسحاق: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى (¬3)، فكانوا ثمانية، وقد قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} " (¬4) 18 - قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} قال مقاتل: تعرضون على الله لحسابكم، فلا يخفى منكم خافية (¬5)، [وهو] (¬6) معنى (¬7) قول عطاء، عن ابن عباس: لا يخفى منكم على الله فعلة خافية، وخصلة خافية (¬8)، ونحو ذلك ذكر الكلبي، فقال: يقول: لا تخفى على الله من أعمالكم شيء (¬9)، ثم قال: ويقال: لا يخفى على الله أحد (¬10)، وهو معنى قول مقاتل: لا يخفى ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) "جامع البيان" 29/ 58، و"الثعلبي" 12/ 176 ب، و"ابن كثير" 4/ 442، و"الدر المنثور" 8/ 269، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق. (¬3) في (أ): أجزاء. (¬4) ورد الحديث في "جامع البيان" 59/ 29 من طريق ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق. قلت: وهي رواية ضعيفة السند لوجود ابن حميد، وهو حافظ ضعيف، قاله ابن حجر. انظر: "تقريب التهذيب" 2/ 156 ت 159، واسمه: محمد بن حميد بن حيان. وفي "الكشف والبيان" 12/ 177/ أ، و"النكت" 6/ 82، و"معالم التنزيل" 4/ 387، و"الجامع" 18/ 266، و"لباب التأويل" 4/ 304. (¬5) "تفسير مقاتل" 207/ أ. (¬6) ما بين المعقوين زيادة يقتضيها السياق لاستقامة المعنى. (¬7) في (أ): يعني. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) "معالم التنزيل" 4/ 388. (¬10) لم أعثر على مصدر هذه الزيادة من قول الكلبي.

الصَّالح ولا الطالح (¬1) إذا عُرِضتم (¬2)، وعلى هذا التقدير: لا يخفى منكم نفس خافية. وقراءة العامة: {لَا تَخفَى} بالتاء (¬3)، واختار أبو عبيد الياء (¬4)، وهو قراءة حمزة، والكسائي (¬5)، قال (¬6): لأن الياء تجوز للذكر (¬7) والأنثى، والتاء لا تجوز إلا للأنثى، ومع هذا فقد حيل بين الاسم والفعل بقوله: {مِنكُمْ}. قال المفسرون (¬8): يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمَّا ¬

_ (¬1) بياض في (ع). والطالح هو: من الطلاح نقيض الصلاح، والفعل: طَلِحَ يَطْلَح طلاحًا، ويقال: رجل طالِحٌ، أي: فاسد الدين لا خير فيه. "تهذيب اللغة" 4/ 384. (¬2) "تفسير مقاتل" 207/ أ. (¬3) قرأ بذلك: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب. وقرأ بذلك أيضًا: ابن محيصن، والحسن. انظر كتاب "السبعة" 648، و"الحجة": 6/ 315، و"الكشف عن وجوه القراءات السبعة" 2/ 333، كتاب: "التبصرة" لمكي بن أبي طالب: 707، و"حجة القراءات" لابن زنجلة: 718، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري 389، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" للبنا: 422، و"البدور الزاهرة" لعبد الفتاح القاضي 324. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) وقرأ بذلك أيضًا: خلف، ووافقهم الأعمش. انظر المراجع السابقة. (¬6) أي: أبو عبيد، ولم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) بياض في (ع). (¬8) قال بذلك: عبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وقتادة. انظر: "تفسير" عبد الرزاق 2/ 314 عن قتادة، و"جامع البيان" 29/ 59، و"بحر العلوم" 3/ 399، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 442، و"الدر المنثور" 8/ 270 - 271 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وعبد الرزاق، والبيهقي في البعث، وابن جرير. وروي هذا القول مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "سنن ابن ماجه" 2/ 444: ح: =

19

عرضتان فجدال ومعاذير (¬1)، وأمَّا العرضة الثالثة فعندَها تتطاير الصحف في الأيدي، فذلك قوله: 19 - {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} قال عطاء عن ابن عباس (¬2)، (والكلبي (¬3) (¬4)، ومقاتل (¬5) نزلت في أبي سلمة؛ عبد الله بن عبد الأسد ¬

_ = 4331، و"أبواب الزهد" 33، ذكر البعث؛ من طريق الحسن عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا. والترمذي 4/ 617 ح 2425، في صفة القيامة، باب ما جاء في العرض؛ من طريق الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا، والإمام أحمد 4/ 414، من طريق الحسن عن أبي موسى مرفوعًا. وقال أبو عيسى: ولا يصح هذا الحديث من قِبَل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي، عن الحسن، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو عيسى: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي موسى. قال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد رجاله ثقات؛ إلا أنه منقطع، الحسن لم يسمع من أبي موسى. ورواه ابن أبي شيبة في مسنده. قاله الأعظمي. انظر: "سنن ابن ماجه" (2/ 444) حاشية رقم 4331. وانظر: تضعيف الألباني للحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه" 349 ح 932، و"ضعيف سنن الترمذي" 273 - 274 ح: 426، وقد ذكر تعليق الترمذي على الحديث. وضعفه أيضًا عند تعليقه على "مشكاة المصابيح" 3/ 1542؛ حاشية 4، قال: وهو ضعيف من هذا الوجه لعنعنة الحسن البصري. (¬1) معاذير: جمع معذرة، والعُذر: الحجة التي يُعْتذر بها، والجمع: أعذار، يقال: اعتذر فلان اعتذارًا، وعِذرة، ومَعْذِرة، ولي في هذا الأمر عُذر، وعُذري، ومعذرة، أي: خروج من الذنب. "لسان العرب" 4/ 545، مادة: (عذر). (¬2) "بحر العلوم" 3/ 399، وانظر: "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني 2/ 183 من غير عزو. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬5) "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"زاد المسير" 8/ 83.

المخزومي؛ زوج أم سلمة: يُعطى كتابًا بيمينه. قال الكلبي: فيقرأ سيئاته في باطنها، فيسوؤه ذلك، ويقرأ الناس حسناته في ظاهرها، فيقولون: نجا هذا، فإذ بلغ أسفل كتابه قيل له: إن الله قد غفر لك، فيبيض وجْهُهُ، ويشرق لونه، ثم تُقرأ حسناته في ظاهرها (¬1)، فيسره ذلك (¬2)، ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} يقول: تعالوا اقرؤوا حسَابيه (¬3)، وبنحو هذا قال ابن زيد (¬4) في تفسير (هاؤم): تعالوا (¬5). وقال مقاتل: يعني هلمَّ (¬6). (¬7) وأما أهل اللغة، فإنهم يقولون في تفسيرها: هاؤم: خذوا (¬8). ومنه حديث الربا: "إلا هاء وهاء" (¬9)، وهو أن ¬

_ (¬1) في (أ): ظاهره. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) غير مقروء في (ع). (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 60، وعبارته: "تعالوا"، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 269، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 443. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) بياض في (ع). (¬7) ورد قوله هذا في "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 269، والذي ورد في "تفسيره" 207/ أ: قوله: قال: هاكم. (¬8) انظر مادة: (هوم) في "تهذيب اللغة" 6/ 478، و"لسان العرب" 12/ 625، و"تاج العروس" 9/ 111، وكتاب "حروف المعاني" للزجاجي 73، و"المسائل البصريات" لأبي علي الفارسي 1/ 431. (¬9) الحديث أخرجه: البخاري 2/ 98، 106، 107، ح 2134، و2170، و 2174، كتاب: البيوع باب: 54، 74، 76، والحديث عن مالك بن أوس، سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الذهب بالوَرِقِ ربًا إلا هاء وهاء، والبُرُّ بالبُرِّ ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاءَ وهاءَ". وأخرجه مسلم 3/ 1209 - 1210 ح 79، فى المساقاة، باب: 15، =

يقول كل واحد من البيعين (¬1) لصاحبه: خذ، فيعطيه (¬2) ما في يده. وقال (¬3) ابن السِّكِّيت: يقال: هَاءِ يا رجلُ (¬4)، [وهَاؤم] (¬5) يا رجال، وهَاءِ (¬6) يا امرأة، وهَاءِ -مكسورة بلا ياءٍ (¬7) -، وهَائِيا (¬8)، وهَاؤنَّ: يا نسوة، قال: ولغة أخرى: هَأ يا رجل، وللاثنين: هَاءا (¬9) بمنزلة: هَاعا (¬10)، وللجميع: هَاؤوا وللمرأة هَائي (¬11)، وللثنتين (¬12): هَائيا, وللجميع: هَأن ¬

_ = ومالك في "الموطأ" 2/ 494 (ح: 38) في كتاب البيوع، باب: 17، والدارمي في "سننه" 2/ 709 (ح: 2480)، في البيوع، باب: 41، وابن ماجه 2/ 25 ح 2272، و"أبواب التجارات" 48، والإمام أحمد 1/ 24، 35، 45. ومعنى قوله: "الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء"، قال النووي: "فيه لغتان: المد، والقصر، والمد أفصح وأشهر، وأصله: هاك، فأبدلت المدة من الكاف، ومعناه: خذ هذا، ويقول صاحبه مثله" "شرح صحيح مسلم" 11/ 15 .. (¬1) غير مقروءة في (أ). (¬2) بياض في (ع). (¬3) وقال: مكررة في (ع). (¬4) بياض في (ع). (¬5) في (أ): هاء وهاء، وفي (ع): هاؤما وكلاهما، وما أثبته من "إصلاح المنطق" 291، وهو الصواب؛ لأن هاؤما للاثنين، وهاء للواحد. (¬6) في (أ): هاه. (¬7) بياض في (ع). (¬8) في (أ): هأيا. (¬9) في (أ): هأيا. (¬10) وردت في "إصلاح المنطق" 291 هكذا: هعا. (¬11) بياض في (ع). (¬12) هذه لغة تميم، ولم ترد في القرآن الكريم، ولغة القرآن: اثنان واثنتان: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}، تعليقًا من الدكتور عبد العزيز إسماعيل على الكلمة.

يا نسوة بمنزلة هَعْن، ولغة أخرى: هَاءِ يا رجل بهمزة مكسورة، وللاثنين: هَائيا, وللجميع: هَاؤوا, وللمرأة: هائي، وهائيا (¬1)، وللجميع: هائين، قال وإذا قيل لك: هاءِ قلت: ما أهاءُ يا هذا، أي: ما آخذ، وما أُهاءُ، أي: ما أعطَى (¬2). ونحو هذا قال [الكسائي] (¬3) وأبو الهيثم (¬4) (¬5). وقال أبو زيد: (قالوا: هاءَ يا رجل بالفتح، وهاءِ يا رجلُ بالكسر، وللاثنين: هاءَيا بالفتح- في اللغتين جميعًا، ولم يكسروا في الاثنين، وهاؤوا في الجميع، وأنشد: قوموا فهاؤوا الحقَّ نَنْزِلْ عِندَه ... إذْ لم [يكن] (¬6) لكمُ علينا مَفْخَرُ (¬7) ومن العرب من يقول: هاكَ هذا يا رجل، وهاكما، وهاكم، وهاك، ¬

_ (¬1) في (أ): هاهيا. (¬2) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت: 290 - 291 نقله عنه الواحدي باختصار، وانظر: "سر صناعة الإعراب" لابن جني: 1/ 319. (¬3) بياض في (ع). قلت: ولعله الكسائي كما أثبته، فقد ورد عنه نحو ذلك في "تهذيب اللغة" 6/ 479 مادة: (هوم). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله إلا ما ذكره الأزهري في التهذيب مختصرًا جدًّا في هذا الباب، قال: فإن أبا الهيثم قال: ها تنبيه تفتتح العرب بها الكلام بلا معنى سوى الافتتاح، تقول: ها ذاك أخوك، ها إنّ ذا أخوك. "تهذيب اللغة" 6/ 479. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، وأثبته من "تهذيب اللغة" 6/ 479 مادة: (هوم)، و"اللسان" 15/ 482: مادة: (هوم). (¬7) لم أعثر على قائله، كما أني لم أعتر عليه في النوادر لأبي زيد، ولا في كتابه الهمز، وهو مظنته، وقد ورد البيت في تهذيب اللغة. المرجع السابق. وناقل ابن منظور كلام أبي زيد مع البيت في اللسان، مادة: (ها).

وهاكما، وهاكن (¬1). وقال أبو القاسم الزجاجي: أجود هذه اللغات ما حكاه سيبويه عن العرب، فقال: ومما يؤمر به من المبنيات قولهم: ها يا فتى، ومعناه: تناول. ويفتحون الهمزة، ويجعلون فتحها (¬2) عَلَمَ المذكر، كما قالوا: هاكَ يا فتى، فيجعل فتحة الكاف علامة المذكر، ويقول للاثنين: هاؤما، وهاؤموا، وهاؤم (¬3). والميم في هذا الموضع كالميم في أنتما، وأنتم، وهذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤُمُ، وإنما هي لضمة (ميم) الجمع؛ لأن الأصل فيه: هاءه مُوا، وأنتمو، فأتبعوا الضمة، وحكموا للاثنين بحكم الجمع؛ لأن الاثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام، وكتبت واوًا لانضمامها (¬4)، وهي الهمزة التي كانت في هآ، وها بمعنى تناول اسم الفعل بمنزلة (صه)، أي: اسكت (¬5) (¬6). واختلف (¬7) أهل اللغة في الفعل بين الاثنين من هذه الكلمة (¬8): فذكر بعضهم: هاءَ وأيهاوِيّ، مُهَاواة إذا أعطى (¬9) كل واحد منهما صاحبه، وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 478 - 479: مادة: (هوم) بتصرف يسير. وانظر: "سر صناعة الإعراب" لابن جني: 1/ 319 فيما جاء في هاءَ وهاءِ إلخ. (¬2) في (ع): فتحتها. (¬3) انظر كتاب: "حروف المعاني" للزجاجي: 73، و"شرح المفصل" 4/ 42 - 45. (¬4) في (أ): لانضاهها. (¬5) بياض في (ع). (¬6) انظر: "شرح المفصل" 4/ 44. (¬7) بياض في (ع). (¬8) بياض في (ع). (¬9) بياض في (ع).

مأخوذ من هاءَ. ومنهم من يقول: هاوي، غير مهموز، ومهاواة. وهذا أكثر في استعمال الفقهاء (¬1)، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: إبدال الهمزة ياء. والآخر: أن يكون بناء من (ها) غير مهموز. قوله: {كِتَابِيَهْ} (القراء مختلفون في إثبات هذه الهاء (¬2)، وكذلك التي في {مَالِيَهْ}، و {سُلْطَانِيَهْ} فمنهم (¬3): من يثبتها وصلًا ووقفًا. ومنهم (¬4): من يحذف في الوصل، ويثبت في الوقف. ووجه إثباتها في ¬

_ (¬1) أى أن تكون "ها" بدون همز. قال الخطابي: "أصحاب الحديث يروونه ها وها، ساكنة الألف، والصواب مدها وفتحها؛ لأن أصلها هاك، أي: خذ، فحذفت الكاف، وعوضت منها المدة والهمزة" انظر: "غريب الحديث" 3/ 241، و"إصلاح غلط المحدثين" للخطابي: 106. وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض، وتتنزل منزلة (ها) التي للتنبيه. نقلًا عن حاشية "تهذيب اللغة" 6/ 480. (¬2) إن الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك؛ إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه؛ بل القراءة سنة متبعة؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 13/ 399 وقال الشيخ الدكتور عبد العزيز إسماعيل -حول ما كُتب في اختلاف القراءة في إثبات الهاء في موضع دون آخر- قال: إثبات الهاء في موضع دون الآخر يعلل بأن القراءة سنة متبعة، يأخذها الآخر عن الأول، لا مجال فيها للرأي أو القياس. كتب تعليقه هذا عند عرضي عليه ما كنت حققته حول هذه الآية من سورة الحاقة. (¬3) وهؤلاء هم: ابن عامر، وابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، ونافع، والكسائي، وخلف، وأبو جعفر. انظر: "الحجة" 2/ 374، و"المبسوط" 379، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 1/ 307 - 308 فقرة: 171 - 172 من سورة البقرة، و"النشر" 2/ 142، و"إتحاف فضلاء الشر" 422 - 423. (¬4) قرأ حمزة، ويعقوب بحذف الهاء في الوصل في قوله: {مَالِيَهْ} و {سُلْطَانِيَهْ} كله، أما في {كِتَابِيَهْ} فحذف يعقوب وحده الهاء إذا وصل. انظر المراجع السابقة.

الوصل: أن ما كان (1) من ذلك فاصلة، أو مشبهاً للفاصلة (2) في أنه كلام تام (3)، يُشَبَّهُ بالقافية، فيُجْعَلُ في الوصل مثلَهُ في الوقف، كما يُفْعَلُ ذلك بالقافية. وقول حمزة في ذلك [أسدُّ] (4)؛ لأنه يحذف هذه كلها في الوصل، وهو الوجه. والكسائي أثبت البعض (5)، وحذف البعض (6)؛ لأنه شبه البعض بالقوافي، فأثبت الهاء فيه في الوصل، كما تثبت في القوافي، ولم يُشَبِّهِ البعض، وكلا (7) الأمرين سائغ. وفي إجماعهم على الإثبات (8) في {كِتَابِيَهْ}، و {حِسَابِيَهْ} دلالة على تشبيههم ذلك بالقوافي. ولإثبات هذه (الهاءات) وجه في القياس، وذلك أن سيبويه حكى في العدد: أنهم يقولون: ثلاثة (رابعهم) (9)، فقد أجروا الوصل في هذا مجرى

_ (1) و (2) و (3) بياض في (ع). (4) (أسدُّ): كذا في "الحجة" 2/ 376، وقد كتبت (أشدّ) في كلا النسختين، والصواب كما قال د. عبد العزيز إسماعيل: ولعل الصواب: (أسد) من السداد، وليس (أشد) من الشدة، واستشهد بقول الشاعر: أُعَلِّمُهُ الرمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فلما استدَّ سَاعِدُه رماني وروي: اشتد، وقالوا: الصواب: استد بالسين. انظر مادة: (سد)، و (شد) في "الصحاح" 2/ 485. قال الأصمعي: اشتد بالشين ليس بشيء. (5) أثبت الكسائي الهاء في قوله تعالى: {مَالِيَهْ}، و {سُلْطَانِيَهْ}، و {كِتَابِيَهْ}. (6) وحذف الكسائي الهاء في قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّه}، و {أقْتَدِه}. (7) في (ع): كلى. (8) في (أ): الإيثار. (9) في (ع): ثلثه ربعة، وعند سيبويه: ثلاثهَ أرْبَعَهْ، وهو الصواب. انظر: "الكتاب" =

الوقف، ألا ترى أنهم ألقوا حركة الهمزة على (التاء) التي للتأنيث، وأبقوها (هاء) كما يكون في الوقف، ولم يقلبوها (تاء) كما يقولون في الوصل: هذه ثلاثتك بالتاء، فكذلك قوله: {كِتَابِيَهْ}) (¬1). والكلام في هذه (الهاءات) قد تقدم في قوله: {لَمَ يَتَسَنَّه} [البقرة: 259]، وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. (قوله) (¬2): {إِنِّي ظَنَنْتُ} قال المفسرون: علمت، وأيقنت في الدنيا (¬3) {أنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} في الآخرة، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} [الحاقة: 21] أي حاله من العيش، {رَاضِيَةٍ} رضاها (¬4) في الجنة بأن لقي الثواب، وأمن العقاب؛ قاله مقاتل (¬5)، وعطاء (¬6). قال الفراء: (عيشة راضية) فيها الرضا، والعرب تقول: ليل نائم، ¬

_ = لسيبويه: 3/ 265، ونص كلامه فيه: "وزعم من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول: ثَلاثَهَ أرْبَعَهْ، طرح همزة أرْبَعَهْ على الهاء ففتحها, ولم يحولها تاءً؛ لأنه جعلها ساكنة، والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضْرِبْ، ثم تقول: اضْرِبْ زيدًا". "الكتاب" لسيبويه 2/ 265. (¬1) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن أبي علي الفارسي باختصار عند تناوله الآية: 259 من سورة البقرة {لَمْ يَتَسَنَّهْ}. انظر: "الحجة" 2/ 374 - 378. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬3) قال بذلك: قتادة، وابن عباس، والضحاك، ومجاهد، وابن زيد. انظر أقوالهم في "تفسير" الإمام مجاهد 672، و"تفسير" عبد الرزاق 2/ 315، و"جامع البيان" 29/ 60، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 270، و"الدر المنثور" 8/ 272. (¬4) في (ع): برضاها. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد مثل هذا القول في "لباب التأويل" 4/ 304 من غير عزو. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

وسر كاتم، وماء دافق، فيجعلونه فاعلًا، وهو في الأصل مفعول، وذلك أنهم يقولون ذلك لا علي بناء الفعل، ولو كان فعلًا مصرحًا لم يُقل ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يقال للمضروب (¬1): ضارب (¬2). وقد أحكمنا هذه المسألة عند قوله: {قَالَ لَا عَاصِمَ} (¬3) [هود: 43]. قوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} قال المفسرون: ثمارها قريبة ممن ¬

_ (¬1) غير مقروء في (ع). (¬2) انظر: "معاني القرآن للفراء" 3/ 182 بتصرف يسير. (¬3) والآية بتمامها: قال تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}. وقد جاء فى تفسيرها: "يعصمني من الماء، يريد يمنعني من الماء، فلا أغرق. قال نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله: لا مانع اليوم من عذاب الله، إلا من رحم، استثناء منقطع، المعنى: لكن من رحم الله فإنه معصوم. ولا يجوز هاهنا أن يكون المعصوم عاصمًا، هذا وجه في الاستثناء. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون (عاصم) بمعنى معصوم، ويكون معنى: لا عاصم، لا ذا عصمة، كما قالوا: "عيشة راضية" على جهة النسب، أي: ذات رضا، ويكون (من) على هذا التفسير في موضع رفع، ويكون المعنى: لا معصوم إلا المرحوم. ونحو هذا قال الفراء: وقال: لا تنكثون أن يخرج المفعول على فاعل، ألا ترى قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} معناه مدفوق، وقوله: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} معناها مرضية؟. فعلى قول الفراء: يجوز أن يكون الفاعل بمعنى المفعول على ما ذكر. وقال علماء البصرة: ماء دافق بمعنى مدفوق باطل في الكلام؛ لأن الفرق بين بناء الفاعل وبناء المفعول واجب، وهذا عند سيبويه وأصحابه يكون على طريق النسب من غير أن يعتبر فيه فعل، فهو فاعل نحو: رامح، ولابن، وتامر، وتارس، ومعناه: ذو رمح، وذو لبن، كذلك هاهنا: عاصم بمعنى ذي عصمة من قبل الله تعالى، ليس أنه عُصِمَ فهو عاصم بمعنى معموم على الإطلاق الذى ذكره الفراء.

يتناولها، تدنو منه إذا أرادها (¬1)، فيتناول منها ما شاء (¬2). والقطف: ما يُقطف من الثمار، والقطف المصدر، والقِطاف بالكسر والفتح وقت القطف (¬3). قوله: {كُلُواْ} أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئًا، وإنما جمع الخطاب بعد قوله: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}، لقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} , و (من) يتضمن [معنى] (¬4) الجمع. ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) جاء هذا المعنى عن البراء بن عازب قال: يتناول الرجل من فواكهها وهو نائم، وعنه: قريبة. انظر قوله في "جامع البيان" 29/ 61، و"الدر المنثور" 8/ 272، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وعن قتادة: دنت، فلا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك. انظر قوله في المرجعين السابقين، وعزاه صاحب الدر إلى عبد بن حميد. وقال الضحاك في معنى الآية: ثمرها. "الدر المنثور" 8/ 272، وعزاه إلى ابن المنذر، وبهذا قال ابن قتيبة. "تفسير غريب القرآن" 484. وقال السجستاني؛ ثمرثها قريبة المتناول، تُناول على كل حال من قيام وقعود ونيام، واحدها: قطف. "نزهة القلوب" 37. وإلى معنى الأقوال السابقة ذهب: الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 178/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 388، والقرطبي في "الجامع" 18/ 270، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 305. (¬3) عن الليث: القَطْف: قَطْعُك العنب وغيره، وكل شيء تقطعه فقد قَطَفْتَه، حتى الجراد تُقْطَفُ رؤوسُها، والقِطْف: اسم للثمار المقطوعة، وجمعها: قُطوف. "تهذيب اللغة" 16/ 281: (قطف). وعن ابن فارس أن القاف والطاء والفاء: أصل صحيح يدل على أخذ ثمرة من شجرة، ثم يستعار ذلك فتقول: قطفت الثمرة أقطفُها قَطْفًا. "معجم مقاييس اللغة" 5/ 103 (قطف). وعن الجوهري: القِطْف بالكسر العنقود، وبجمعه جاء القرآن: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)}، والقِطاف، والقَطاف: وقت القطف. "الصحاح" 4/ 1417 (قطف). (¬4) في كلا النسختين: مع، والصواب ما أثبته، وهو منقول من "القرطبي" 18/ 270.

قوله تعالى: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (¬1) أي قدمتم من أعمالكم الصالحة. ومعنى الأسلاف في اللغة: تقديم ما يرجو أن يعود (¬2) خيرًا (¬3)، فهو كالإقراض، ومن هذا يقال: أسلف في كذا: إذا قدم فيه ماله (¬4). والمعنى: بما عملتم من الأعمال الصالحة. وقال ابن عباس: بما قدمتم في الأيام الخالية، قال: يريد أيام الدنيا (¬5). و {الْخَالِيَةِ} الماضية، ومنه قوله: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ} [الأحقاف: 17]، و {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134, و141]. وقال الكلبي: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} يعني الصوم (¬6)، وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنهما بالصوم طاعة لله تعالى. ¬

_ (¬1) (الخالية) ساقطة من (ع). (¬2) بياض في (ع). (¬3) في (ع): بخير. (¬4) عن الليث وغيره قالوا: السَّلَفُ: القَرْضُ، والفعل: أسْلَفْت، يقال: سَلَّفْتَه مالًا، أي: أقْرَضْتَه، وكل قال قدَّمته في ثمن سلعة مضمونة اشتريتها بصفة فهي سَلَف وللسلف معنيان آخران: أحدهما: أن كل شيء قدمه العبد من عمل صالح، أو ولد فَرَط تقدمه فهو سلَف، وقد سلف له عمل صالح. "تهذب اللغة" 12/ 431: مادة: (سلف). وقال ابن فارس: إن السين واللام والفاء أصل يدل على تقدُّم وسبق. "معجم مقاييس اللغة" 3/ 95 مادة: (سلف). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله عن وكيع، وابن جبير، وعبد العزيز بن رفيع، ومجاهد. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 360، و"الدر" 8/ 272، و"فتح القدير" 5/ 284.

25

25 - {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} قال عطاء (¬1)، ومقاتل (¬2): نزلت (¬3) في الأسود بن الأسد (¬4) المخزومي، أخو الذي نزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} (¬5) قتله حمزة ببدر. قال مقاتل: يعطيه مَلَكه الذي كتب عمله في الدنيا (¬6)، فيتمنى أنه لم (¬7) يؤت لما يرى فيه من مقابيح أعماله التي تسود لها وجهه. 26 - {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)} أي ولم أدر أي شيء (في) (¬8) حسابي (¬9)؛ لأنه لا حاصل له، ولا طائل في ذلك الحساب، وإنما كله عليه. قال الكلبي: إنه يقرؤه فيسوؤه ذلك، فيسودّ وجهه، وتزرق (¬10) عيناه (¬11)، ثم يتمنى أنه لم يبعث، فقال: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} قال ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر قوله، وانظر: "لوامع الأنوار البهية" 2/ 183 من غير نسبة. (¬2) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"زاد المسير" 8/ 84، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 270. (¬3) غير مقروء في (ع). (¬4) في (أ): الأسود. (¬5) [الحاقة: 19] ويراد به أبو سلمة؛ عبد الله بن عبد الأسد. (¬6) "تفسير مقاتل" 207/ أ. (¬7) بياض في (ع). (¬8) ساقطة من (ع). (¬9) في (أ): حسابيه. (¬10) في (ع): ويزرق. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله.

28

ابن عباس: يريد موتاً لا حياة بعده (¬1). وقال الفراء: (يقول: ليت الموتة الأولى التي منها لم أحي (¬2) بعدها) (¬3). والكناية في (ليتها) عن غير مذكور، ومعنى (القاضية) القاطعة عن الحياة (¬4). وقال قتادة في هذه الآية: تمنى الموت، ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت (¬5). معنى هذا أنه تمنى دوام الموت، وأن الموت (¬6) [الذى] (¬7) نزل به بقي له حتى لم يبعث للحساب. 28 - وقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)} أي لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا. 29 - {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} قال عطاءعن ابن عباس (¬8): ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد (¬9). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد معنى قوله منسوبًا إلى ابن زيد في "جامع البيان" 29/ 62، والضحاك في "الدر المنثور" 8/ 273. (¬2) غير مقروء في (ع). (¬3) "معاني القرآن" 3/ 182 بنصه. (¬4) عن ابن قتيبة أنه قال: القاضية، أي: المنية. انظر: "تفسير غريب القرآن" 484. (¬5) "الكشف والبيان" 12/ 178/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"التفسير الكبير" 3/ 113، و"لباب التأويل" 4/ 305، و"الدر المنثور" 8/ 273، وعزاه إلى عبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 284 - 285. (¬6) بياض في (ع). (¬7) زيادة يقتضيها السياق لاستقامة المعنى. (¬8) بياض في (ع). (¬9) ورد بمعناه في "جامع البيان" 29/ 62، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272, =

وقال مقاتل: ضلت عني حجتي، يعني: حين شهدت عليه الجوارح بالشرك (¬1). وقال الربيع: هلك عني سلطاني (¬2) الذي كان لي في الدنيا -قال- وكان مُطاعًا في أصحابه (¬3). ونحو هذا قال ابن زيد: زال عني ملكي (¬4). والأكثرون على أن (¬5) السلطان هو الحجة (¬6)، (وهو قول مجاهد (¬7)، والضحاك (¬8)) (¬9). وقال الحسن: قد جعل لكل إنسان سلطانًا على نفسه ودينه ¬

_ = و"التفسير الكبير" 3/ 114، و"الدر المنثور" 8/ 273، وعزاه إلى ابن جرير، وعبارته: ضلت عني كل بينة، فلم تغن عني شيئًا. (¬1) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 207/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"التفسير الكبير" 3/ 114، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬2) بياض في (ع). (¬3) ورد قوله في "النكت" 6/ 85 بنحوه. (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 63، و"الكشف والبيان" 12/ 178/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"زاد المسير" 8/ 84، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬5) بياض في (ع). (¬6) ورد هذا القول عن عكرمة، والسدي أيضًا. انظر: "النكت" 6/ 85، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"زاد المسير" 8/ 84، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬7) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 63، و"النكت" 6/ 85، و"زاد المسير" 8/ 84، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272، و"الدر المنثور" 8/ 273، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬8) "النكت" 6/ 85، و"زاد المسير" 8/ 84، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 282، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وعيشه (¬1). وعلى هذا معنى الآية: زال (¬2) عني ملكي (¬3)، فلا أملك لنفسي شيئاً، وذلك أنه ندم وعلم حين لم ينفعه ذلك، ولو كان ذلك في (¬4) الدنيا حين كان سطانه باقيًا نفعه، وحينئذ يقول الله (عز وجل) (¬5) لخزنة جهنم: {خُذُوُه} فيبتدرونه (¬6) مائة ألف ملك، ثم يجمع يده إلى عنقه، فذلك قوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)} قال الكلبي: أدخلوه (¬7). قال المبرد: يقال: أصليته النار، إذا أوردته إياها، وصلّيته أيضًا، كما يقال: أكرمته (¬8) وكرّمته (¬9). قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} وهي حلق (¬10) منتظمة، كل حلقة منها في حلقة، وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام (¬11)، فهو مسلسل. وقوله (¬12): {ذَرْعُهَا} معنى الذرع في اللغة: التقدير بالذراع من اليد، يقال: ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في (ع): زالت. (¬3) في (ع): ملكتي. (¬4) بياض في (أ)، (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (ع): فيبتدروه. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد غير منسوب في "بحر العلوم" 3/ 400. (¬8) غير واضحة في (ع). (¬9) لم أعثر على قوله فيما بين يدي من كتبه، وقد ورد قوله في "التفسير الكبير" 30/ 114. (¬10) في (ع): خلق. (¬11) بياض في (ع). (¬12) في (أ): قوله، بغير واو.

ذرع الثوب يذرعه ذرعًا، إذا قدره بذراعه، ويقال: كم ذرع هذا الثوب؟ أي كم يبلغ إذا ذرع (¬1)؟ قوله: {سَبْعُونَ ذِرَاعًا} قال نوف: كل ذراع سبعون باعًا (¬2)، كل باع أبعد ما بينك وبين مكة، وكان في رحبة (¬3) الكوفة (¬4). ¬

_ (¬1) قال الليث: الذراع: من طرف المرفق إلى طرف الأصبع. انظر مادة: (ذرع) في "تهذيب اللغة" 2/ 314، و"لسان العرب" 8/ 92، و"تاج العروس" 5/ 333. وجاء عن ابن فارس: أن الذال، والراء والعين: أصل واحد يدل على امتداد وتحرك إلى قُدُم، ثم ترجع الفروع إلى هذا الأصل فالذراع ذراع الإنسان معروفة، والذّرع: مصدر ذرعتُ الثوب والحائط وغيره. "معجم مقاييس اللغة" 2/ 350. (¬2) الباع: والبُوعُ، والبَوْع: مسافة ما بين الكفَّيْن إذا بسطتهما، والجمع: أبْواع. "لسان العرب" 8/ 21: مادة: (بوع)، و"المصباح المنير" 1/ 83: مادة: (بوع). (¬3) في (أ): درحبة. (¬4) رحبة الكوفة: يراد بالرحبة: الشيء الواسع، من الرَّحب، ورَحبة المسجد والدار: ساحتها ومتسعها، ويقال للصحراء بين أفنية القوم والمسجد: رحبة. "لسان العرب" 1/ 414 - 415. والكوفة: العصر المشهورة بأرض بابل من سواد العراق، سميت بذلك لاستدارتها، وقيل لاجتماع الناس فيها، من قولهم: قد تكوفت الرمل. مصّرها سعد بن أبي وقاص بأمر عمر بن الخطاب سنة 17 هـ, وتقع على الجانب الأيمن لنهر الكوفة؛ أحد فروع الفرات، وكانت مقر خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وبها مسجد الكوفة الشهير الذي قتل فيه الإمام علي. انظر: "معجم ما استعجم من أسماء البلاد" للبكري 4/ 1141، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي 4/ 490، و"مراصد الاطلاع" للبغدادي 3/ 1187، و"الموسوعة العربية الميسرة" 2/ 1505. وقد ورد قوله في "تفسير" عبد الرزاق 2/ 315، و"جامع البيان" 2/ 639، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 178/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"المحرر الوجيز" 5/ 361، و"زاد المسير" 8/ 85، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272 و"لباب التأويل" 4/ 306، و"الدر المنثور" 8/ 373 - 374, وعزاه إلى ابن المبارك، وهناد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" =

وقال مقاتل: الذراع منها بذراع الرجل الطويل من الخلق الأول، ولو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص (¬1). وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو (¬2). وقال كعب: إن حلقة من تلك السلسلة مثل جميع حديد الدنيا (¬3). قوله: {فَاسْلُكُوهُ} قال مقاتل: يعني فاجعلوه فيها (¬4). قال المبرد (¬5): يقال: سلكته في الطريق، وفي القيد، وغير ذلك، وأسلكته، ومعناه: أدخلته، ولغة القرآن: سلكته، قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]، وقال: {سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (¬6). قال عبد مناف الهذلي: ¬

_ = 5/ 385. قال ابن عطية؛ معقبًا على رواية نوف: وهذا يحتاج إلى سند: 5/ 361. قلت: وهذا التعقيب من ابن عطية لأن الرواية في الأمور الغيبية التي لا تدرك بالرأي والاجتهاد؛ بل من حديث مسند إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (¬1) "تفسير مقاتل" 207/ ب، كما ورد أيضًا في "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272، و"فتح القدير" 5/ 285، ويقال في هذه الرواية ما قيل في سابقتها من رواية نوف. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 389، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272، و"التفسير الكبير" 30/ 114، و"لباب التأويل" 4/ 356، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬3) "تفسير القرآن" لعبد الرزاق 2/ 312، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272، و"الدر المنثور" 8/ 274، وعزاه إلى ابن المبارك، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 207/ ب، وقد ورد بمثله من غير نسبة في "فتح القدير" 5/ 385. (¬5) ورد قوله في "التفسير الكبير" 3/ 114. (¬6) [الشعراء: 200] , والآية بتمامها: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)}.

وحتى إذا أَسْلَكُوهُمْ في قُتائِدَةٍ (¬1) قال ابن عباس: يدخل في دُبره، ويخرج من حَلْقِه، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه (¬2). وقال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ، ثم يجعل في عنقه سائرها (¬3). وهذا يدل على أنه منفرد بتلك السلسلة. وقد قال سويد بن أبي نجيح (¬4): بلغني أن جميع أهل النار (¬5) في تلك السلسلة (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) غير واضحة في النسختين، وأورده ابن منظور في "اللسان" 10/ 442: مادة: (سلك)، والتصحيح منه، والشطر الثاني للبيت: شلًا كما تطرد الجمَّالة الشُّرُدا كما ورد في "المدخل" 244 رقم 242 برواية: شلًا كما تطلب. معنى القتائدة: الطريق. (¬2) "جامع البيان" 29/ 63 - 64. قلت: وهي من طريق العوفي، وهو ضعيف، وهو أيضًا في "الكشف والبيان" 12/ 178/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"المحرر الوجيز" 5/ 361، و"التفسير الكبير" 30/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 372 دون عزو، و"لباب التأويل" 6/ 304، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 444، و"الدر المنثور" 8/ 274 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والبيهقي في "البعث والنشور" 300، رقم: 541. (¬3) "التفسير الكبير" 30/ 114، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬4) سويد بن نجيح؛ أبو قطبة، سمع عكرمة، والشعبي، قال عنه أحمد بن حنبل: لا أرى به بأسًا، وعن يحيى بن معين قال: إنه ثقة. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 236: ت: 1014، و"الإكمال" لعلي بن ماكولا: 7/ 94. (¬5) بياض في (ع). (¬6) انظر قوله في "التفسير الكبير" 30/ 114، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬7) ساقط من (أ).

33

قال الفراء: المعنى: ثم اسلكوه (¬1) فيه (¬2) السلسلة، ولكن تقول: أدخلت رأسي في القلنسوة (¬3)، وأدخلتها في رأسي، ويقال: الخاتم لا يدخل في يدي، واليد هي التي تدخل في الخاتم، والخف يقال فيه أيضًا، استجازوا ذلك؛ لأن معناه (¬4) معروف، ولا يُشكل ذلك على أحد، فأستخفوا من ذلك ما جرى على ألسنتهم (¬5). 33 - فقال: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)} لا يصدق بعظمة الله وتوحيده: {وَلَا يَحُضُّ} (¬6) نفسه، {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في الدنيا؛ قاله مقاتل (¬7). وقال غيره: لا يأمر أهله بإطعام المسكين (¬8). الطعام هاهنا: اسم أقيم مقام الإطعام، كما يوضع الطعام موضع الإعطاء. قال القُطَامِيُّ: وبعد عَطائِكَ المائةَ الرِّتَاعا (¬9) ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) في (أ): فيها. (¬3) القلنسوة: والقَلْسُوة، والقَلْساة، والقُلَنْسية: من ملابس الرؤوس معروف. "لسان العرب" 6/ 181: ماله: (قلس). (¬4) بياض في (ع). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 182 بتصرف يسير جدًّا، ومن قوله: "الخف يقال فيه" إلى آخره قد عزاه الفراء إلى محمد بن الجهم أبي عبد الله. (¬6) تمام الآية: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) قال بذلك ابن جرير في "جامع البيان" 29/ 64. (¬9) وصدر البيت: أكُفْرًا بعد رَدِّ الموتِ عني

36

قال الحسن في هذه الآية: أدركت أقوامًا يعزمون على أهليهم (أن) (¬1) لا يردوا سائلاً (¬2)، وأن أهل البيت ليبتلون بالسائل ما هو من الجن ولا الإنس (¬3) {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا} يعني في الآخرة، {حَمِيمٌ} قالوا: قريب ينفعه أو يشفع له (¬4)، كما قال: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]. 36 - وقوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} روى عكرمة عن ابن ¬

_ = هكذا في كتب التفسير، وورد عند الجمحي برواية: "أكفرٌ بعد دفع الموت عني". وعند الدينوري: "أأكْفُرُ بعد رد الموت عني"، ورواية: "أكفرًا" أجود الروايتين. قاله محمود شاكر محقق كتاب طبقات فحول الشعراء، وقد قال بيت القصيد يمدح زُفَرَ بن الحارث الكلابي، وأسماء بن خارجة. ومعناه: كفر النعمة: جحدها وسترها، وهو شر خلق، والرتاع: الإبل؛ ترتع في المرعى الخصب، تذهب وتجيء، واحدها: راتع. وهذا البيت استهلكه النحاة في الاستشهاد على أن العطاء هنا بمعنى: الإعطاء (وهو المصدر)، ولهذا عمل عمل فعله، فلذلك نصب به "المائة". انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 537، حاشية: 5. وورد البيت في "التفسير الكبير" 30/ 115، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 272، و"فتح القدير" 5/ 285، برواية: "المال الرعابا"، و"طبقات فحول الشعراء" 2/ 537: ت: 716، و"الشعر والشعراء" مرجع سابق. (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) ورد قوله في "لباب التأويل" 4/ 306، إلى: "لا يردوا سائلًا". (¬3) من قوله: "وإن أهل البيت إلى: ولا الإنس" لم أجدها ضمن قول الحسن في "لباب التأويل". (¬4) قال بنحوه ابن زيد في "جامع البيان" 29/ 65، وبه قال السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 400، والماوردي في "النكت" 6/ 85. وقال الثعلبي في معنى: "حميم": صديق ينفعه. "الكشف والبيان" 12/ 179/ ب.

عباس قال: لا أدري ما الغسلين (¬1)؟. وروى عطاء عنه قال: قالوا: صديد أهل النار (¬2). وقال الكلبي: هو ما يسيل من أهل النار من القيح، والدم، والصديد إذا عُذِبوا (¬3). وقال أبو عبيدة: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، فِعْلين من الغسل (¬4). وقال الأخفش: (الغسلين) [ما انغسل] (¬5) من لحومهم ودمائهم، فزيد الياء والنون (¬6). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 30/ 116، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 444 بزيادة "ولكني أظنه الزقوم"، و"الدر المنثور" 8/ 275 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي القاسم الزجاجي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس. (¬2) "جامع البيان" 29/ 65، أخرجه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد ورد عن ابن عباس من غير ذكر طريقه إليه في "المحرر الوجيز" 5/ 361، و"زاد المسير" 8/ 85، و"الدر المنثور" 8/ 275 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما أورد بمعناه من طريق عكرمة عنه، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وانظر كتاب: البعث والنشور للبيهقى: 306: ت 552 ت. (¬3) "التفسير الكبير" 30/ 116. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 268 بحذف "من الجراح والوبر". (¬5) ما بين المعقوفين سقط من النسختين، وما أثبته فمن "اللسان" 11/ 495: مادة: (غسل). وبدونه لا يستقيم المعنى. (¬6) لم أجد تفسيره في معانيه، ولكن وجدته بنصه في "لسان العرب" 11/ 495: مادة: (غسل)، والعبارة الواردة عن الأخفش في "معاني القرآن" قال: وجعله -والله أعلم- من الغَسْل، وزاد الياء والنون بمنزلة "عُفرين" و"كُفْرِين" 2/ 713.

وقال المبرد: هو فعلين، من غسالة أهل النار (سمي غسلينًا) (¬1) (¬2). وقال الزجاج: واشتقاقه مما ينغسل مِنْ أبدانِهِم (¬3). وقال أهل المعاني: (الغسلين: الصديد (¬4) الذي يسيل من أهل النار (¬5)، سمي غسلينًا لسيلانه من أبدانهم، كأنه ينغسل منهم (¬6). والطعام ما هُيِّئ (¬7) للأكل، فلما هُيِّئ الصديد ليأكله أهل النار (سمي غسلينًا) (¬8) كان طعامًا لهم، ويجوز أن يكون المعنى: إن ذلك أقيم لهم مقام الطعام، فسمي طعامًا لما أقيم له (مقامه) (¬9)، كما قالوا: تحيتك الضرب (¬10)، والتحية لا تكون ضربًا، ولكنه لما أقام الضرب مقامه جاز (¬11) أن يسمّى به) (¬12). ثم ¬

_ (¬1) ورد قول المبرد في "الكامل" 2/ 635، وعزاه إلى أهل الفقه واللغة والنحو. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 218 بنصه، والعبارة عنه كاملة: "معناه من صديد أهل النار، واشتقاقه مما ينغسل من أبدانهم". (¬4) بياض في (ع). (¬5) بياض في (ع). (¬6) قال ابن عاشور: "الغِسْلِين -بكسر الغين-: ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجسام، وماء النار، ونحو ذلك مما يعلمه الله، فهو عَلَم على ذلك، مثل: سِجّين، وسرقين، وعِرنين، فقيل: إنه فِعْلِين من الغَسل؛ لأنه سَال من الأبدان، فكأنه غُسل منها". "التحرير والتنوير" 29/ 140. (¬7) في (ع): (ما هيئا)، وهو خطأ. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬9) ساقط من (ع). (¬10) بياض في (ع). (¬11) بياض في (ع). (¬12) ما بين القوسين من قول أهل المعاني، ولم أعثر على مصدره.

38

ذكر أن الغسلين أكل من هو، فقال: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}، قال الكلبي: يعني من يخطأ بالشرك (1). 38 - {فَلَا (2) أُقْسِمُ (3)} (3) ذكرنا هذا في مواضع (4)، أن (لا) هاهنا يجوز أن تكون صلة (5) مؤكدة (6)، ويجوز أن تكون ردًا لكلام من سبق، كأنه قيل: ليس الأمر كما (7) يقول المشركون (8). وقال بعض أهل المعاني: (لا) هاهنا نافية للقسم، على معنى أنه لا يحتاج إليه، لوضوح (9) الحق في: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}

_ (1) "فتح القدير" 5/ 285، وقال بذلك أيضًا ابن عباس. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 273. وتعريف "الخاطئون" للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشدّ الخطأ، وهو الإشراك. قاله ابن عاشور "التحرير والتنوير" 29/ 140. (2) في (أ): لا أقسم. (3) تمام الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)}. (4) من المواضع التي ذكرت فيه: [الواقعة: 75] قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75] {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)} [المعارج: 40]، [القيامة 1 - 2] {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}. وغيرها من السور نحو: [التكوير:15] , [الانشقاق:16] , [البلد: 1]. (5) يقابله عند البصريين: حروف الزيادة، وسبب تسميتها بحروف الصلة لأنه يتوصل بها إلى زنة، أو إعراب لم يكن عند حذفها، انظر: "نحو القراء الكوفيين" 341. (6) قال بذلك النحاس في إعراب القرآن: 5/ 24، وانظر كتاب: حروف المعاني للزجاجي 8. (7) بياض في (ع). (8) انظر كتاب: "حروف المعاني" للزجاجي 8، و"النكت" 6/ 86، و"زاد المسير" 8/ 86، و"التفسير الكبير" 30/ 116، و"لباب التأويل" 4/ 306. (9) بياض في (ع).

[الحاقة: 40]؛ قال: وفي هذا الوجه يقع جوابه كجواب غيره من القسم (¬1). قوله: {بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)}. قال عطاء عن ابن عباس: بما تبصرون اليوم، وما لا تبصرون من الهدى الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬2) وقال الكلبي: بما تبصرون من الخلق من شيء، وبما لا تبصرون من شيء (¬3). وقال مقاتل: بما تبصرون من الخلق، وبما لا تبصرون من الخلق (¬4). وقال قتادة: أقسم بالأشياء كلها، ما (¬5) يبصر منها، وما لا يُبْصَرُ (¬6). والمعنى في هذا: جميع المكونات، والموجودات، فيدخل في هذا: الدنيا والآخرة. {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}. يعني القرآن. والرسول الكريم هو: جبريل، في قول الكلبي (¬7)، ومقاتل (¬8). ويكون المعنى: إنه لرسالة رسول كريم، فسمى رسالته: قولاً. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر القول، وورد عند الفخر في "التفسير الكبير" 30/ 116 من غير عزو، وانظر: "الدر المصون" 6/ 368. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير مقاتل" 207/ ب. (¬5) في (أ): بما. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 390، و"فتح القدير" 5/ 285. (¬7) "النكت" 6/ 865، و"زاد المسير" 8/ 86، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 274، و"فتح القدير" 5/ 286. (¬8) "تفسير مقاتل" 207/ ب. وانظر المراجع السابقة.

وقال الحسن: هو محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وعلى هذا معناه: إنه لتلاوة رسول كريم، وتلاوته: قوله. وهذا هو الأظهر (¬2) لقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} وهم إنما نسبوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى أنه شاعر، لا جبريل. وقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}. (ما) لغو، وهي مؤكدة (¬3). قال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله (¬4). والمعنى: لا يؤمنون أصلاً، والعرب تقول: قلما تأتينا، يريدون: لا يأتينا أصلاً. وقال الكلبي: القليل ما إيمانهم أنهم: إذا سئلوا من خلقهم؟ (ليقولن الله (¬5) (¬6) وهذا مشروح في مواضع (¬7). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد بمثله عن الكلبي في "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 275. (¬2) وهو الذي عليه الأكثرون من المفسرين، انظر: "جامع البيان" 29/ 66، و"معالم التنزيل" 4/ 395، و"زاد المسير" 8/ 86، و"لباب التأويل" 4/ 306. (¬3) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 218. (¬4) "التفسير الكبير" 30/ 117. (¬5) [الزخرف: 87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)}. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) نحو ما جاء في [البقرة: 88] قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}. ومما جاء في معنى القليل الوارد في الآية: يريد فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا، والعرب قد تستعمل لفظ القلة في موضع النفي، فيقول: قلّ ما رأيت من الرجال مثله، وقيل ما تزورنا، يريدون النفي لا إثبات القليل، وقال أبو عبيدة: معناه: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم، ويكفرون بأكثره، وقال قتادة: معناه: لا يؤمن منهم إلا القليل، كما ذكرت أول أخرى في: أحدها: يؤمنون إيمانًا قليلاً، وذلك أنهم يؤمنون بالله خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد والقرآن. الثاني: يؤمنون =

(وقُرئ: (تؤمنون) و {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (¬1) بالتاء (¬2)، على خطاب المشركين (¬3)، وبالياء على أنه خطاب لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وإخبار عن المشركين (¬4)، كأنه قال: قليلاً ما يؤمنون يا محمد) (¬5). ثم بين أن القرآن مع أنه قول رسول كريم؛ تنزيل من الله، فقال: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} أي: هو تنزيل {وَلَوْ تَقَوَلَ عَلَينَا} محمد ما لم نقله، أي: تكلف، أي: تقول من قبل نفسه [ما] (¬6) لم يوح إليه. قال المفسرون (¬7): لو تقول علينا محمد شيئاً (¬8) من تلقاء نفسه لم نقله {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} ذكروا في هذا قولين: أحدهما: أن اليمين هَاهنا ¬

_ = قليلاً من الزمان، ويكفرون أكثره. الثالث: أن تكون "ما" مع الفعل مصدرًا، ويرتفع بقليل، وهو مقدم، ومعناه: فقليلًا إيمانهم. (¬1) في (أ): (يذكرون)، وهو خطأ. (¬2) في (أ): (بالتاء)، وهو خطأ. (¬3) قرأ بذلك: نافع، وأبو عمرو بن العلاء، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو جعفر. انظر: "إعراب القراءات السبع وعللها" 2/ 386، كتاب: السبعة 648 - 649، و"الحجة" 6/ 315، و"المبسوط" 380، و"حجة القراءات" 720، و"الكشف" 2/ 333. (¬4) وقرأ بذلك: ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب فيها بالياء. انظر المراجع السابقة. (¬5) ما بين القوسين نقله الواحدي عن "الحجة" بتصرف: 6/ 315. (¬6) زيادة أثبتها تقتضيها استقامة المعنى. (¬7) ممن قال بذلك: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 183، الطبري في "جامع البيان" 29/ 66، السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 400، البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 390، ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 362، ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 86، القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 275. (¬8) بياض في (ع).

بمعنى القوة والقدرة، وهو قول الفراء (¬1)، والمبرد (¬2)، (والزجاج) (¬3) (¬4). وأنشدوا قول الشماخ: إذَا ما رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بالْيَمِينِ (¬5) وعلى هذا القول: (من) صلة (¬6) في قوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ} قال الفراء: لأخذناه (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 183، ولم يستشهد ببيت الشماخ. (¬2) "الكامل" 1/ 167. (¬3) ورد قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 218. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد البيت منسوبًا للشماخ في "ديوانه" 336، و"لسان العرب" 1/ 593: (عرب)، الأمالي للقالي: 1/ 274، و"الكامل" للمبرد 1/ 167، و2/ 825، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة: 242، و"الكشف والبيان" 12/ 180/ أ، و"النكت" 6/ 86، و"معالم التنزيل" 4/ 390، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 275، و"التفسير الكبير" 30/ 117، و"البحر المحيط" 1/ 160، و"فتح القدير" 5/ 286. وورد منسوبًا للحطيئة في "الصحاح" 1/ 180 مادة: (عرب)، و"تاج العروس" 1/ 376 مادة: (عرب). وقد جاء في هامش "اللسان" "البيت ليس للحطيئة كما زعم الأزهري، أفاده الصاغاني"، ولم أعثر عليه في ديوانه. وقد ورد غير منسوب في الخصائص لابن جني: 3/ 249. ومعنى البيت: راية: أصل الراية العلم، ومنه: راية الحرب التي تجعل القوم يقاتلون ما دامت واقفة، وهي هنا استعارة، أي: إذا حدث أمر يقتضي فعل مكرمة، ويفتقر فيه إلى أن يطلع به رب فضيلة وشرب، نهض له الممدوح. تلقاها: استقبلها، وأخذها، وتلقفها، وهو هنا مجاز عن انعقاد المجد له، وحوزه إياه. باليمين: القوة والقدرة. "ديوانه" 338. (¬6) يراد بقوله: "صلة"، أى: حرف زيادة، وهذا مصطلح أهل البصرة. انظر: "نحو القراء الكوفيين" 341. (¬7) في (أ): (لأخذنا). ولم أعثر على مصدر لقوله.

وقال ابن قتيبة: (اليمين هاهنا القوة، وإنما أقام اليمين مُقام القوة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه؛ وهذا قول ابن عباس في اليمين (¬1). قال (¬2): ولأهل اللغة في هذا مذهب آخر، وهو: أن هذا الكلام ورد على ما اعتاده الناس من الأخذ بيد من تعاقب، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة رجل: خذوا بيده، وأكثر ما يقوله (¬3) السلطانُ والحاكم بعد وجوب الحكم: خذ بيده، (واسفع (¬4) بيده) (¬5). فكأنه قال: لو كذب علينا في شيء مما يلقيه إليكم عنَّا، لأمَرْنَا بالأخذ بيده، ثم عاقبناه بقطع الوتين. وإلى هذا المعنى ذهب الحسن (¬6). (¬7) وقال مقاتل: لأخذنا منه باليمين، يعني انتقمنا منه بالحق (¬8). ¬

_ (¬1) وقول ابن عباس الواقع بين معترضتين ليس من قول ابن قتيبة، وقد ورد قوله في "الكشف والبيان" 12/ 179/ ب، والعبارة عنه: "لأخذناه بالقوة والقدرة"، واستشهد بقول الشماخ الآنف الذكر، و"معالم التنزيل" 4/ 390، و"المحرر الوجيز" 5/ 363 بمعناه، و"القرطبي" 18/ 275، و"لباب التأويل" 4/ 307، و"البحر المحيط" 8/ 329، و"الدر المنثور" 8/ 276، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) أي ابن قتيبة. (¬3) في (أ): يقول بغير هاء. (¬4) السفع: جاء في "اللسان" 8/ 158 "سفع بناصيته ورجله، يسْفَع سفْعًا: جذب، وأخذ، وقبض. وحكى ابن الأعرابي: اسْفَعْ بيده، أي خذ بيده". (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ورد قوله في "النكت" 6/ 86، والعبارة عنه: "لقطعنا يده اليمنى"، "والتفسير الكبير" 30/ 118، وعنه: لقطعنا وتينه، و"البحر المحيط" 8/ 329، وعنه: قطعناه عبرة ونكالًا. (¬7) نقله الواحدي من قول ابن قتيبة مختصرًا من "تأويل مشكل القرآن" 154 - 155. (¬8) "تفسير مقاتل" 207/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 118.

46

واليمين على هذا القول بمعنى الحق، كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28]، أي: من قبل الحق، وكذلك قوله: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} [الأعراف: 17]، وقد مر مستقصى (¬1). 46 - قوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} الوتين: نياط القلب، وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه. وهذا قول جميع أهل اللغة (¬2)، وأنشدوا (للشماخ) (¬3): ¬

_ (¬1) ومما جاء في تفسير الآية: 82 من سورة الصافات: أن معنى "تأتوننا عن اليمين": أي من قبل الحق. وقالوا: من قبل الدين، وطاعة الله، بمعنى: تزينون الدين، وهو الكفر الذي كانوا عليه. وقيل: أي كنتم تمنعوننا بإضلالكم عن الدين الذي هو الحق. وقال ابن قتيبة: يقول المشركون لقرنائهم من الشياطين: إنكم كنتم تأتوننا عن أيماننا؛ لأن إبليس قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]، فشياطينه تأتيهم من كل جهة من هذه الجهات، بمعنى من [الكيد] والإضلال. قالوا: أجود ما قيل في هذا إنه من قول العرب: فلان عندي باليمين، أي: بالمنزلة الحسنة، وفلان عندي بالشمال، أي: بالمنزلة الخسيسة الدنية، فقال هؤلاء الكفار لأئمتهم الذين أضلوهم: إنكم كنتم تخدعوننا، وترونا أننا عندكم بمنزلة اليمين، أي بالمنزلة الحسنة، فوثقنا بكم من ذلك الجانب. وقال بعضهم -وهو قول قوي-: إن أئمة المشركين كانوا قد أخافوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعون إليه هو الحق، فوثقوا بأيمانهم، وتمسكوا بعهودهم، فمعنى: {كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا. (¬2) انظر هذا القول بمعناه في مادة: (وتن) في "تهذيب اللغة" 14/ 324، و"معجم مقاييس اللغة" 6/ 84، و"الصحاح" 6/ 2211، و"لسان العرب" 13/ 441، و"تاج العروس" 9/ 358. وممن قال بذلك أيضًا: أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 268، الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 218. (¬3) لم أجد فيما ذكرته كتب اللغة من استشهد ببيت الشماخ غير أبي عبيدة في مجازه، وقد ورد عند المبرد في كتابه "الكامل" 1/ 167، و2/ 825 "ديوانه" تحقيق: =

إذا بَلَّغْتِنِي وحَمَلْتِ رَحْلي ... عَرَابَةَ فاشْرَقي بِدَمِ الوَتِينِ (¬1) قال أبو زيد: وجمعه: الوُتُن، وثلاثة (¬2) أوتنة، الموتون: الذي قطع وتينه (¬3)، (وابن عباس) (¬4)، وأكثر المفسرين (¬5) قالوا: إنه نياط القلب، وحبل القلب. ¬

= صلاح الدين الهادي: 323 برواية: (وحططت) بدلًا من: (حملت). كما ورد في كتب: التفسير، منها "جامع البيان" 29/ 167، و"النكت" 6/ 87، و"المحور الوجيز" 5/ 326، و"زاد المسير" 8/ 87، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 276، و"البحر المحيط" 8/ 319، و"فتح القدير" 5/ 286. وكلمة (للشماخ) ساقطة من (أ). (¬1) ورد البيت في "ديوانه" 323. ومعنى: اشرقي: من الشرَق، وهو الغصة، أي غُصي. الوتين: عرق به القلب إذا انقطع مات صاحبه. يقول: إذا بلغتني هذا الممدوح، فلن أبالي بهلكتك. "ديوانه" 323، هامش: 8. (¬2) في (ع): وثلثة. (¬3) "تهذيب اللغة" 14/ 324 مادة: (وتن) بتصرف، وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 119. (¬4) ساقطة من (أ). وقد ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 67، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 180/ أ، و"النكت" 6/ 87، و"معالم التنزيل" 4/ 391، و"المحرر الوجيز" 5/ 362، و"زاد المسير" 8/ 81، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 276، و"لباب التأويل" 4/ 307، و"البحر المحيط" 8/ 329، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 445، و"الدر المنثور" 8/ 276، وعزاه إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه؛ "المستدرك" 2/ 501، في التفسير، تفسير سورة الحاقة، قال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي، وقد رواه الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده قوي؛ لأنه من رواية الثوري عن عطاء، وسمعه منه قبل الاختلاط. قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 664، وزاد نسبته إلى الفريابي، والأشجعي. وانظر حاشية "النكت" 6/ 87. (¬5) وممن قال ذلك: مجاهد، وقتادة، وابن زيد. انظر المراجع السابقة نفسها في =

قال ابن قتيبة (¬1): (ولم يُرد أنا نقطعه بعينه فيما يرى أهل النظر (¬2)، ولكنه أراد: لو كذب لأمَتْنَاه، أو قتلناه، فكان كمن قُطِع وتينُه، قال: ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما زالت أكلة (¬3) خيبر (¬4) تعاودني، فهذا أوانَ قطعَتْ أبْهَري" (¬5). ¬

_ = التفسير، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 315 عزاه إلى قتادة، وسعيد بن جبير، والحكم، والضحاك، ومسلم البطين، وأبي صخر حميد بن زياد، وعكرمة. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 445، و"الدر المنثور" 8/ 276 وعزاه إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬1) بياض في (ع). (¬2) بياض في (ع). (¬3) في (أ): أكلت. (¬4) خيبر: مدينة أثرية قديمة، تبعد عن المدينة المنورة شمالًا 173 كيلو مترًا على الطريق الرئيسي المعبد، تقع فيها "مدائن صالح". وخيبر عبارة عن عدة قرى واقعة في عدة أودية، ويوجد فيها مسجد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومقبرة الشهداء لبعض الصحابة الذين استشهدوا في غزوة خيبر، وهي مدينة حصينة، تحيط بها الحرة من جميع الجهات. حاصر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- اليهود بضع عشرة ليلة. انظر: "الآثار في شمال الحجاز" لحمود بن ضاوي القثامي 1/ 178، و"القاموس الإسلامي" لأحمد عطية 2/ 308. وانظر: "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع" لعبد الله البكري 2/ 521، و"الموسوعة الميسرة" 1/ 770. (¬5) أخرجه البخاري 3/ 181 ح: 4428، كتاب المغازي، باب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونصه: قال عروة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجِدُ الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم"، وفي 2/ 241: ح 2617، في الهبة، باب قبول الهدية من المشركين. وأخرجه أبو داود في "السنن" 2/ 527، كتاب: الديات باب فيمن سقى رجلاً سمًّا، أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟. وأخرجه الدارمي في "سننه" 1/ 36: ح 67 - 68، المقدمة: باب ما أكرم الله النبي -صلى الله عليه وسلم- من كلام الموتى. والإمام أحمد 6/ 18. وأورده أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 203.

47

والأبْهَرُ: عِرق يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه، فكأنه قال: هذا أوان قتلني السم، فكنت كمن (¬1) انقطع أبْهَرُهُ (¬2). 47 - قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}. قال مقاتل (¬3)، (والكلبي (¬4) (¬5): ليس منكم أحد يحجزنا عنه، وعن ذلك. وقال عطاء: يقول: لا يحجزه مني أحد (¬6). وقال أبو عبيدة (¬7)، والفراء (¬8)، والزجاج (¬9): إنما قال: (حاجزين) في صفة (أحد)؛ لأنه يقع على الجمع، المعنى: فما منكم قوم يحجزون (¬10) عنه. وقد ذكرنا هذا عند قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (¬11). ¬

_ (¬1) في (ع) زيادة كلمة: قطعه، وهي زيادة لا معنى لها. (¬2) ما بين القوسين من قول ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 155 - 156 بنصه. (¬3) "تفسير مقاتل" 207/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 119. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) ورد قوله في المرجع السابق. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 286 بمعناه، وعبارته: "خرج صفته على صفة الجميع؛ لأن أحدًا يقع على الواحد، وعلى الاثنين، والجميع من الذكر والأنثى". (¬8) "معاني القرآن" 3/ 183، وعبارته: "أحد يكون للجميع والواحد". (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 218، والعبارة نقلها عنه الواحدي بتصرف يسير. (¬10) بياض في (ع). (¬11) [البقرة: 285] ومما جاء في ذلك: وإنما جاز هع أحد وهو واحد في اللفظ؛ لأن أحدًا يجوز أن يؤدي عن الجميع، قال تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}، وإنما كان كذلك؛ لأن أحدًا ليس كرجل يثنئ ويجمع. وقولك: ما يفعل هذا أحد. تريد ما يفعله الناس كلهم، قلما كان لفظ أحد يؤدي عن الجميع جاز أن يستعمل معه "بين"، وإن كان لا يجوز أن يقول: لا نفرق بين رجل منهم.

48

48 - ثم ذكر أن القرآن ما هُوَ فقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)} قال الكلبي: (وإنه) لعظة للمتقين الشرك والفواحش، والمتقين عقاب الله بطاعته (¬1). قوله: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} قال ابن عباس: القرآن حسرة على الكافرين يوم القيامة (¬2)، يعني ندامة إذ لم يؤمنوا به. والكناية (¬3) في: (وإنه) على هذا القول للتكذيب (¬4). ودل عليه قوله: {أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة: 49] قوله: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}. قال عطاء: يعني القرآن مني بدأ، وأنا ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر قوله. وورد مثله مختصرًا من غير عزو في "بحر العلوم" 3/ 401. (¬2) لم أعثر على مصدر قوله. وقد ورد مثله من غير عزو في "جامع البيان" 29/ 68، و"الكشف والبيان" 12/ 180/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 391، و"زاد المسير" 8/ 87، و"لباب التأويل" 4/ 357. ومعنى الحسرة لغة: قال الأزهري: "والحسرة أشد الندم حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه". "تهذيب اللغة" 4/ 288 (حسر). وقال ابن فارس: الحاء والسين والراء: أصل واحد، وهو كشف الشيء، ومن الباب: الحسرة: التلهف على الشيء الفائت". "معجم مقاييس اللغة" 2/ 61 - 62: (حسر). قال ابن عاشور: "والحسرة: الندم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه، ويقال لها: التلهف، اشتقت من الحَسْر، وهو "الكشف"؛ لأن سببها ينكشف لصاحبها بعد فوات إدراكه، ولا يزال يعاوده". "التحرير والتنوير" 29/ 149. وما ذكر عن ابن عباس هو أحد الوجهين في عود الضمير على "من"، فابن عباس حملة على القرآن. (¬3) لفظ الكناية من المصطلحات الكوفية، ولقابلها: المضمر أو الضمير عند البصريين. انظر: "نحو القراء الكوفيين" 68. (¬4) وهذا الوجه الثاني في عودة الضمير على التكديب، وهو قول مقاتل. قال: وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم.

أرسلته إليكم (¬1). وقال مقاتل: {لَحَقُّ الْيَقِينِ} إنه من الله (¬2). قال الزجاج: المعنى أنَّ القرآن لليقين (¬3) حق اليقين. هذا الذي ذكرنا قول المفسرين. وقال الكلبي: حقاً يقيناً ليكون ذلك عليهم حسرة (¬4). وعلى هذا الكناية في قوله: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} وهي مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. ثم أمر بتنزيهه عن السوء، فقال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}. وقال عطاء: فصل لربك الذي عصمك من كل ما رَمَوْك به (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 207/ ب. (¬3) في (أ): للمتقين. (¬4) "النكت" 6/ 88، والعبارة عنه: "أي حقًّا يقينًا ليكونن الكفر حسرة على الكافرين يوم القيامة". (¬5) غير واضحة في (ع). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

سورة المعارج

سورة المعارج

1

تفسير سورة المعارج (1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)} قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحرث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ} (2) هذه (3) الآية، وهو قول عطاء (4)، (والكلبي) (5)، ومقاتل (6)، (وسعيد بن جبير) (7)، عن ابن عباس (8)، [وابن

_ (1) تسمى بسورة المعارج، والواقع. انظر: "زاد المسير" 8/ 88، و"الإتفان" للسيوطي: 1/ 159، وعند ابن خالويه: سورة الدافع، و"إعراب القراءات السبع" 2/ 389. وهي مكية بلا خلاف. انظر: "جامع البيان" 69/ 29، و"الكشف والبيان" 12/ 180/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 391، و"المحرر الوجيز" 5/ 364. (2) الأنفال: 32. (3) في (أ): هذا. (4) لم أعثر على مصدر لقوله. (5) ساقطة من: (أ). ولم أعثر على مصدر لقوله. (6) "تفسير مقاتل" 208/ ب. (7) ساقطة من: أ. (8) أخرجه النسائي من طريق المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في "تفسيره" 2/ 463. كما أخرجه الحاكم من طريق الأعمش، عن سعيد بن جير 2/ 502، في التفسير: تفسير سورة "سأل سائل"، وقال: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي في أنه على شرط البخاري. وقال محققا تفسير النسائي: إسناده حسن موقوفًا. وانظر: "أسباب النزول" للواحدى 445. وقد وردت الرواية عن ابن عباس في: "لباب النقول" للسيوطي 219، و"والكشف والبيان" 12/ 181/ أ، و"النكت" =

أبي نجيح، عن (¬1) مجاهد (¬2)، قال: دعا داع على نفسه، وذلك أن قولهم: {اللَّهُمَّ (¬3) إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] الآية، دعاء منه، وسؤال للعذاب. قال ابن الأنباري: (على هذا القول تقدير (الباء) الإسقاط، وتأويل الآية: سأل سائل عذابًا واقعًا، فأكد بـ (الباء)، كقوله -عز وجل-: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]) (¬4). ومعنى قوله: (واقع) أي: كائن، يعني (¬5) أن العذاب كائن للكفار، فاستعجله النضر وسأله؛ (هذا قول الأكثرين في هذه الآية) (¬6). ¬

_ = 6/ 89، و"معالم التنزيل" 4/ 492، و"زاد المسير" 8/ 89، و"الجامع" للقرطبي 18/ 278، و"لباب التأويل" 4/ 308، و"ابن كثير" 4/ 446، و"الدر المنثور" 8/ 277، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، كما وردت عن مجاهد، والسدي أيضًا. انظر المراجع السابقة، وعن ابن جريج في "الدر" 8/ 277. (¬1) في (أ): ومجاهد، وما أثبته من: ع، وهو الصواب لموافقته لما جاء في الطبري. (¬2) وردت الرواية عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في: "جامع البيان" 69/ 29، وذكرت من غير ذكر الطريق إلى مجاهد في "بحر العلوم" 3/ 402، و"النكت" 6/ 89، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 446، و"الدر المنثور" 8/ 278، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) ساقطة من: (أ). (¬4) ما بين القوسين من قول ابن الأنباري. انظر: "التفسير الكبير" 30/ 121. (¬5) غير واضحة في: (ع). (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). قلت: وقد مضى قولهم هذا عند ورود سب نزول صدر السورة، وقد رجحه الفخر في "التفسير الكبير" 30/ 122.

وقال (¬1) الحسن (¬2)، وقتادة (¬3): لما بعث الله محمدًا، وخوف المشكرين بالعذاب، قال المشركون بعضهم لبعض: [سلوا] (¬4) محمدًا لمن هذا العذاب، وبمن يقع؟ فأخبر الله عنهم بقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)}. قال ابن الأنباري: (والتأويل على هذا القول: سأل سائل عن عذاب واقع، (الباء) بتأويل (عن) كقول علقمة: فَإنْ تسألوني بالنِّسَاءِ فإنني ... بصيرٌ بأدْواءِ النسَاءِ طبيبُ (¬5) أي عن النساء) (¬6). وكما قال الأخطل: دعِ المُعَمَّرَ لا تسْألْ بمصرعِهِ ... واسْألْ بمصْقَلَةَ البَكْريِّ ما فَعَلا (¬7) ¬

_ (¬1) في (أ): قال من غير واو. (¬2) "المحرر الوجيز" 5/ 364 بمعناه، و"التفسير الكبير" 30/ 121. (¬3) المرجعان السابقان، كما ورد غير منسوب بمعناه في: "النكت" 6/ 90. (¬4) وردت في النسختين: سألوا. والتصحيح من الفخر في: "التفسير الكبير" 30/ 121. (¬5) ورد البيت في "ديوانه" 35، و"الزاهر في معاني كلمات الناس" لابن الأنباري: 1/ 331، و"المحرر الوجيز" 5/ 364، و"الدر المصون" للسمين الحلبي: 6/ 372، و"الشعر والشعراء" 126، و"علقمة بن عبدة حياته وشعره" 85، و"الكشف والبيان" 12/ 180/ أ. (¬6) ما بين القوسين قول ابن الأنباري. انظر: "التفسير الكبير" 30/ 121، وورد بمعناه في: "المحرر الوجيز" 5/ 364، و"زاد المسير" 8/ 89. (¬7) ورد البيت في "شعر الأخطل" للسكري: 1/ 157، و"إعراب القراءات السبع" لابن خالويه: 2/ 119، و389. معنى البيت: المعمر: القعقاع الهذلي، مصقلة: هو الممدوح، يتخذ من هذا البيت وسيلة للتخلص إلى المدح، ويقول مخاطبًا امرءًا موهومًا: دع المعمر، ولا تُعْنَ بمصرعه، واهتم بأمر مصقلة الهذلي تذيعت في الناس فعاله. "ديوان الأخطل" لإيليا الحاوي: 349.

أراد: عن مصرعه. قال الله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وهذا قول الأخفش، قال: أي سأل (¬1) عن عذاب الله، يقال: خرجنا نسأل (¬2) عن فلان وبفلان (¬3)، ونحو ذلك قال الزجاج (¬4). وقال أبو علي الفارسي: (سأل سائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو المسلمين بعذاب واقع، فلم يذكر المفعول الأول لـ: "سأل" -هذا ما ذكره المفسرون (¬5)، وأهل المعاني (¬6) في هذه الآية-، وهو كله على قراءة من قرأ: (سأل) بالهمز (¬7)، فاما من قرأ (سأل) بغير همز (¬8)، فله وجهان: أحدهما: أنه أراد سأل بالهمز، فخفف وقلب (¬9)، كما قال: ¬

_ (¬1) في (أ): سل. (¬2) في (أ): نسئل. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 219. (¬5) سبق ذكره عند قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} من هذه السورة، آية: 1. (¬6) انظر قول الفراء في "معاني القرآن" 3/ 183، والزجاج في "معاني القرآن" 5/ 219. (¬7) قرأ بذلك: ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف. انظر: "الحجة" لأبي علي 17/ 36، و"الكشف" لمكي 2/ 334، و"النشر" 2/ 390، و"الوافي في شرح الشاطبية" لعبد الفتاح القاضي 372، و"البدور الزاهرة" للمؤلف السابق 325. قال مكي: "وحجة من قرأ بالهمز أنه جعله من السؤال، فأتى به على أصله -وهو الاختيار- لأن الأكثر عليه، والمعنى به أمكن، وأكثر التفسير عليه؛ لأن الكفار سألوا تعجيل العذاب، وقالوا: متى هو". "الكشف" 2/ 335. (¬8) قرأ بذلك: نافع، وابن عامر، وأبو جعفر. انظر: المراجع السابقة. (¬9) قال عبد الفتاح القاضي: "وهذه الألف -يعني في "سأل"-: يحتمل أن تكون مبدلة من الواو، والأصل سول، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا. ويحتمل أن تكون مبدلة من الهمزة؛ بمعنى أن الهمزة المفتوحة خففت على غير قياس. ويحتمل أن تكون مبدلة من الياء". "الوافي في شرح الشاطبية" 372 - 373.

فارْعَي فزارةُ لا هناكِ المَرْتَعُ (¬1) وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول: هُما يتساولان، فيجوز أن يكون (سال) بغير همز من هذه اللغة، وهو قول الشاعر: سَالَتْ هُذَيْلُ رسولَ الله فاحشةً ... ضَلَّتْ هُذيْلٌ بما سألَت ولم تُصِبِ (¬2) يجوز فيه الأمران. الوجه الثاني: ما ذكره المفسرون: روى (¬3) عطاء عن ابن عباس من قرأ بلا همز فإنه يريدُ واديًا في جهنم (¬4) (سال) (¬5). وهو قول زيد بن ثابت (¬6)، وعبد الرحمن بن زيد، قالا (¬7): سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع (¬8)) (¬9). ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق، وصدر البيت كما في "ديوان الفرزدق" 408: ومضت لمسلمةَ الرِّكابُ مُوَدَّعًا (¬2) البيت في: "ديوان حسان بن ثابت" 34 ط. دار صادر برواية: "بما جاءت ولم تصب"، و"التفسير الكبير" 30/ 122، و"الدر المصون" 6/ 373. ومعنى البيت: سألت: مسهل سألت، يعيّر هذيلًا بأنها طلبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أرادت الإسلام أن يحلل لها الزنا، فلم تصب مرادها. موضع الشاهد: قوله: "سألت" أراد سألت، فخفف الهمزة. وقد يقال: سال يقال، بغير همز، وهي لغة. "شرح ديوان حسان بن ثابت" لعبد الرحمن البرقوقي 125. وانظر: "ديوانه" المرجع السابق. (¬3) في (أ): وروى. (¬4) في (أ): بجهنم. (¬5) "القرطبي" 18/ 279، و"الدر" 8/ 278، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬6) "الكشف والبيان" 12/ 281/ ب، و"زاد المسير" 9/ 89، و"فتح القدير" 5/ 288. (¬7) في (أ): قال. (¬8) "جامع البيان" 29/ 70، و"زاد المسير" 8/ 89، وهذا القول ضعيف، بعيد عن المراد، والصحيح الأول لدلالة السياق عليه، قاله ابن كثير 4/ 446. (¬9) ما بين القوسين نقله الواحدي عن أبي علي من "الحجة" بتصرف 6/ 317 - 318.

والمعنى على هذا: أن ذلك الوادي يسيل بعذابهم، فذلك الوادي عذاب لهم على ما أراد الله تعالى وقدره. (ولم يختلفوا في همزة (سائل)، ولا يجوز فيه غير الهمز؛ لأنه إن كان من: (سال) المهموز، فهو بالهمز، وإن لم يكن من المهموز فهو بالهمز أيضًا، نحو: قليل، وخائف، وذلك أن العين اعتل في الفعل، فاعتل في اسم الفاعل أيضًا، وإعلالها لا يكون بالحذف للالتباس؛ فإذا لم يكن بالحذف كان بالقلب إلى الهمز، إلا أنك إن شئت خففت الهمز، فجعلتها بين بين (¬1)) (¬2). وهذا ما أحكمنا بيانه في (قوله) (¬3): {مَعَايِشَ} (¬4). قوله تعالى: {لِلْكَافِرِينَ} قال الفراء: التقدير في الآية: بعذاب للكافرين واقع، فـ: "الواقع" من نعت (¬5) العذاب (¬6)، واللام دخلت للعذاب لا للواقع. والمعنى: إن هذا العذاب الذي سأل النضر في الدنيا هو للكافرين في الآخرة، فلا يدفعه (¬7) عنهم أحد. قاله مقاتل (¬8)، وهو قوله: {لَيْسَ لَهُ ¬

_ (¬1) معنى بين بين: أي هي ضعيفة ليس لها تمكن المحققة، ولا خلوص الحرف الذي منه حركتها. انظر: "سر صناعة الإعراب" لابن جني 1/ 49. (¬2) ما بين القوسين من قول أبي علي، نقله عنه الواحدي بتصرف. "الحجة" 6/ 318. (¬3) ساقطة من: (أ). (¬4) انظر تحقيق المسألة في "سر صناعة الإعراب" 1/ 48 - 49. (¬5) يراد به الوصف والصفة، والتعبير بـ: "نعت" من اصطلاح الكوفيين. انظر: "نحو القراء الكوفيين" 340. (¬6) بياض في: (ع). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 182 بنصه. (¬8) "تفسير مقاتل" 208/ ب.

دَافِعٌ}. وهذا القول الأول في الآية الأولى. وعلى القول الثاني: قال قتادة: سأل سائل عن عذاب الله بِمَن ينزل؟، أو على من يقع (¬1)؟ فقال الله عز وجل: {لِلْكَافِرِينَ}، وعلى هذا قوله: {لِلْكَافِرِينَ} جواب لهم وبيان عما سألوا (¬2) أن العذاب لمن. قوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ} يعني بعذاب من الله. {ذِي الْمَعَارِجِ} وهي الدرجات، ومنه قوله: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. قال ابن عباس في رواية الكلبي: ذي السماوات، وسَمَاهَا معارج؛ لأن الملائكة تعرج فيها (¬3)، وهذا معنى قول (¬4) سعيد بن جبير: وذي الدرجات (¬5). وقول مجاهد: (معارج) الملائكة، وهي مواضع عروجهم (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 316، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 279، و"زاد المسير" 8/ 89 من غير عزو. (¬2) بياض في: (ع). (¬3) "الكشف والبيان" 12/ 181/ ب من غير ذكر طريق الكلبي إليه، و"التفسير الكبير" 30/ 122، و"لباب التأويل" 4/ 308. (¬4) ساقطة من: (أ). (¬5) "جامع البيان" 29/ 70، و"الكشف والبيان" 12/ 181/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 392 - 393. وانظر: تفسير سعيد بن جبير: 354. (¬6) "الكشف والبيان" 12/ 181/ ب، وبمعناه في: "جامع البيان" 29/ 70، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 446، وعبارته فيهما: "معارج السماء". قال ابن قتيبة: "وأصل المعارج: الدَّرج، وهو من: عَرَجَ: إذا صعد". غريب القرآن: وقال الراغب: "العُرُوج: ذهاب في صعود، والمعارج: المصاعِد". "المفردات" 329 (عرج). وفي اللغة: عَرَج في السُّلَّم: ارتقى. والمعارج: المصاعد. "مختار الصحاح" 422.

وقال قتادة: ذي الفواضل والنِّعم (¬1). ومعنى هذا: أن لإنعامه وفواضله مراتب، وهي تقع بالناس على درجات مختلفة، فالمعارج: مراتب العامة على الخلق. وذكر في التفسير أيضًا أن المعارج: معالي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة (¬2). قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} الظاهر أنه إلى الله (¬3). والمعنى: إلى الموضع الذي أمرهم الله بالعُروج إليه (¬4)، كقوله ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 70، و"الكشف والبيان" 12/ 181/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 392، و"المحرر الوجيز" 5/ 365، و"زاد المسير" 8/ 90، و"التفسير الكبير" 30/ 122، الجامع لأحكام القرآن 18/ 281، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 446، و"الدر المنثور" 8/ 278 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬2) ذكر معنى ذلك عن ابن عباس، قال: العلو والفواضل. "جامع البيان" 30/ 70، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 446، و"الدر المنثور" 8/ 278 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والقرظي. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 181/ ب، وعبارته: "ذي الفضائل العالية". وورد هذا القول من غير عزو في "التفسير الكبير" 30/ 122. (¬3) بمعنى أن "الهاء" في: "إليه" عائدة إلى الله، وهذا قول المفسرين. انظر: "جامع البيان" 29/ 70، و"الكشف والبيان" 12/ 182/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 392، و"المحرر الوجيز" 5/ 365، و"زاد المسير" 8/ 90، و"لباب التأويل" 4/ 308، و"تفسير ابن كثير" 4/ 446. (¬4) وقوله: "إلى الموضع" يعني -والله أعلم- أن "الهاء" في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} عائدة إلى المكان والموضع لا إلى جهة الله سبحانه وتعالى، وعلوه على خلقه. وهذا القول فيه من المخالفة للمذهب الصحيح، والعقيدة الحقة التي عليها سلف الأمة من أهل السنة والجماعة من إثبات علو الله سبحانه على خلقه. وقد دلت الأدلة على ثبوت صفة العلو لله -سبحانه-، منها آية المعارج هذه: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = قال أسامة القصاص: " {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} أي تصعد، فالعروج هو الصعود لم يخالف في ذلك أحد من أهل التفسير، ثم قال: "إليه" يعني إلى الله -عز وجل-، قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل -عليه السلام- إليه يعني إلى الله -جل وعز-، والهاء في قوله: "إليه" عائدة على اسم الله. ["جامع البيان" 29/ 70]. فإذا كانت هذه الملائكة التي هي في السموات تصعد إلى ما هو أعلى منها، ألا يدل هذا على تحتية من هم فوقنا بالنسبة لربهم؟ لا سيما أن هذا العروج يستغرق خمسين ألف سنة، وهو يوم بالنسبة للملائكة، وقال بعضهم -كابن عباس وغيره-: إن ذلك اليوم هو القيامة يجعله الله على الكافرين خمسين ألف سنة لشدته وهوله، وأن الملائكة والروح يعرجون إلى الله في يوم هذا مقداره على الكافرين يوم القيامة. قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: مفهوم عندهم -أي العرب- أن المعارج: المصاعد، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وإنما يعرج الشيء من أسفل إلى أعلى وفوق، لا من أعلى إلى دون وأسفل، فتفهموا لغة العرب لا تغالطوا". "إثبات علو الله على خلقه" 1/ 130 - 131 باختصار. قال الإمام السعدي في تفسير الآية: {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}: "أي ذي العلو والجلال والعظمة والتدبير لسائر الخلق، الذي تعرج إليه الملائكة بما جعلها على تدبيره، وتعرج إليه الروح". "تفسير الكريم الرحمن" 5/ 303. ومن الأحاديث ما أورده الإمام ابن قدامة في كتابه: "إثبات صفة العلو": 83، وابن كثير في تفسيره من حديث طويل في قبض الروح الطيبة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الميت تحضره الملائكة فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل". أخرجه ابن ماجه 2/ 440 ح 4316، في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له. وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" 2/ 420 ح 3437. وقال ابن كثير 4/ 446: وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة. ومن الأحاديث الصريحة أيضًا: قصة معاوية وضربه لجاريته عندما أكل الذئب الشاة له، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعتقها فإنها مؤمنة". أخرجه مسلم 1/ 382: ح 537، في المساجد، وانظر: إثبات صفة العلو: 69. والأدلة =

تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] وأمرني بالذهاب إليه. وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الأكثرون على أن قوله: (في يوم) من: صلة تعرج (¬1). وقال مقاتل: هذا على التقديم (¬2). (التقدير) (¬3): بعذاب واقع في يوم (¬4). واختلفوا في هذا اليوم المقدر (¬5) بخمسين ألف سنة. فقال [ابن عباس] (¬6): أيام سماها الله هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا (¬7) أعلم (¬8). وروى عكرمة عنه قال: هو يوم القيامة (¬9). ¬

_ = كثيرة، فليراجع فيها كتاب "إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين" للقصاص، و"إثبات صفة العلو" لابن قدامة. (¬1) ومعناه: إن مقدار صعود الملائكة في ذلك اليوم خمسون ألف سنة. وهو قول: مجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن عباس، وابن الزبير. انظر: "جامع البيان" 29/ 71، و"التفسير الكبير" 30/ 123. (¬2) "تفسير مقاتل" 208/ ب. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) ومعنى قول مقاتل: أي أن الآية في يوم صلة قوله: "بعذاب". انظر: "التفسير الكبير" 30/ 123. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) ما بين القوسين ساقط من النسختين، وورد قوله منسوبًا إليه بنصه في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 447. (¬7) بياض في: (ع). (¬8) "التفسير الكبير" 30/ 124، و"القرطبي" 18/ 283، و"تفسير ابن كثير" 4/ 447. (¬9) "جامع البيان" 29/ 71، و"معالم التنزيل" 4/ 392، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 282، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 447، وقال: إسناده صحيح. وهذا القول له دلالته من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من =

وهو (¬1) قول الحسن، قال: (وليس يعني مقدار (¬2) طوله هذا دون غيره، ولو كان كذلك (¬3) لكانت له غاية تفنى فيها الجنة والنار، ولكنه [يطول] (¬4) موقفهم (¬5) للحساب حتى يفصل الناس خمسين (¬6) ألف سنة من سني الدنيا، وذلك أن ليوم القيامة (¬7) أولاً وليس له آخر؛ لأنه يوم ممدود (¬8)) (¬9). وعلى هذا تقدير الآية: كان مقدارَ المحاسبة فيه خمسون ألف سنة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة (¬10)، يقول: لو حكم ¬

_ = صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمر عليه في نار جهنم، فيُجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار". أخرجه مسلم 2/ 682 ح: 26، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة. (¬1) في (أ): هو بغير واو. (¬2) (وليس يعني مقدار): بياض في: (ع). (¬3) بياض في: (ع). (¬4) ورد في النسختين، وكذا عند الثعلبي (يقول)، ولعل الصواب ما أثبته إذ به يتضح المعنى. والله أعلم. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) في (ع): خمسون. (¬7) بياض في: (ع). (¬8) بياض في: (ع). (¬9) ما بين القوسين من قول الحسن. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 182/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 123، و"لباب التأويل" 4/ 308. (¬10) "جامع البيان" 29/ 71، "الكشف والبيان" 12/ 182/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 392، و"المحرر الوجيز" 5/ 365، و"زاد المسير" 9/ 90، و"ابن كثير" 4/ 447.

فيه أعقل خلقي، وأعرفهم بالحكم والقضاء، لأقام خمسين ألف سنة، وإذا أخذ الله في عرضهم يفرغ في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا (¬1). وعلى هذا القول يكون تقدير الآية: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة لو ولي الحساب غير الله. وذكر الكلبي قولاً آخر فقال: تقول تصعد الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره على غيرهم خمسين ألف سنة (¬2). وهذا قول وهب، ومحمد بن إسحاق. قال وهب: ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة (¬3). وقال [ابن] (¬4) إسحاق: لو سار بنو آدم من الأرض إلى العرش لساروا خمسين ألف سنة (¬5). والتقدير على هذا القول: في يوم كان مقداره من عُروج غيرهم خمسين ألف سنة. وهذا قول مجاهد. وجمع (¬6) بين هذه الآية، وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]، فقال: يسار خمسين ألف سنة من أسفل الأرضين السبع إلى العرش، ومن السماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة للنزول والصعود: ¬

_ (¬1) "لباب التأويل" 4/ 308، وعزاه إلى ابن عباس. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 281، و"فتح القدير" 5/ 288. (¬3) السابق. (¬4) ورد في كلا النسختين: (أبو)، وهو خطأ ظاهر، والصواب ما أثبته، وقد ورد التصريح باسمه وبقوله في: الكشف. (¬5) غير واضحة في: (ع). (¬6) أي مجاهد.

5

خمسمائة نزولاً، وخمسمائة صعودًا (¬1). وروي عن الحكم (¬2)، وعكرمة (¬3) أنهما قالا: الدنيا من أولها إلى آخرها يوم مقداره خمسون ألف سنة، لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي إلا الله. 5 - قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} قال مقاتل: فاصبر يا محمد على تكذيبهم إياك بأن العذاب غير كائن، صبرًا لا جزع فيه (¬4). قال الكلبي: هذا قبل أن يؤمر (¬5) بالقتال (¬6). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 71، و"الكشف والبيان" 12/ 182/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 282، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 447. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 282، وعزا ابن كثير الراوية إلى الحكم بن أبان عن عكرمة، فأورد الرواية من طريقه: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 447. (¬3) ورد قوله في: غرائب التفسير وعجائب التأويل: للكرماني: 2/ 1251، وقد اعتبره الكرماني من عجيب القول، انظر: البرهان في توجيه متشابه القرآن للمؤلف السابق: 154، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 282، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 447. (¬4) "تفسير مقاتل" 208/ ب، و"فتح القدير" 5/ 289 مختصرًا. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) ورد قوله في: "التفسير الكبير" 3/ 125. وأبطل ابن الجوزي دعوى النسخ فقال: "وزعم قوم، منهم ابن زيد، أن هذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية السيف. نواسخ القرآن: 245، المصفَّى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ: 58، وكلاهما لابن الجوزي. وممن قال بالنسخ: هبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" 184، وابن البارزي في "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" 54. والصحيح -والله أعلم- أن الآية ليس فيها ما يدل على دعوى النسخ، إذ الأمر بالصبر على الأذى ليس فيه ما يتعارض مع القتال.

{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} يرون العذاب. {بَعِيدًا}. غير كائن. {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} كائناً؛ لأن ما هو آت قريب. ثم أخبر متى يقع بهم العذاب فقال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)} ذكرنا تفسير (المهل) عند قوله: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} (¬1). قال ابن عباس: كدُرْديِّ (¬2) الزيت (¬3). وروى عنه عكرمة: كعكر (¬4) القطران (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 29، ومما جاء في تفسير المهل: قال أبو عبيد: المهل: كل فِلِّز أذيب. وروي في حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه أوصى في موضعه فقال: ادفنوني في ثوبي هذين، فإنما هما للمهل والتراب. قال أبو عمرو: المهل في شيئين، هو في حديث أبي بكر: القيح والصديد، وفي غيره درديّ الزيت. وقال الليث: المهل: ضرب من القَطِران. وعن شمر: قال: المهل: الملة إذا حميت جدًّا رأيتها تموج. وعن سعيد بن جبير مرفوعًا: أنه كعكر الزيت. وعن ابن عباس: كدردي الزيت، وعنه أيضًا: هو عكر القطران. وعن مجاهد: القيح والدم. وعن ابن مسعود: أنه سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة، فخالطهما فأذيبا حتى إذا أزبدا وامّاعا قال: هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو شراب أهل النار. وإلى هذا القول ذهب من قال: المهل هو الذي قد انتهى حرُّه. وهو اختيار الزجاج، قال: يعني أنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب، أو الصفر، أو الفضة. (¬2) دردي الزيت: هو ما يبقى في أسفله، وأصله ما يركد في أسفل كل مائع كالأشربة والأدهان. "لسان العرب" 3/ 166، (درد)، وانظر: "الصحاح" 2/ 470. (¬3) "زاد المسير" 8/ 95، و"التفسير الكبير" 30/ 125، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 284، و10/ 394 عند تناوله الآية 29 من سورة الكهف، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 448، و"الدر المنثور" 8/ 282، وعزاه إلى الطستي، وانظر أيضًا: 5/ 385 وعزاه في هذا الموضع إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬4) العكر: آخر الشيء وخاثره من شراب وماء ودُهن. انظر: "الصحاح" 2/ 756 (عكر)، و"المصباح المنير" 2/ 506 (عكر). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله.

وقال الحسن: مثل الفضة إذا أذيبت (¬1)، وهو قول عبد الله (¬2). {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} معنى العهن في اللغة: الصوف المصبوغ، والقطعة (¬3): عهنة، والجميع: العُهُون. وقال الليث: يقال لكل صوف عِهِن (¬4). والمفسرون يقولون: كالصوف المنفوش (¬5). وبعضهم (¬6) يقول: كالصوف الأحمر؛ وذلك أن الجبال (¬7) تصير رملاً مهيلاً، ثم تصير كالعهن المنفوش في خفتها وسيرها، ثم تصير هباءً منثوراً. قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} قال ابن عباس: الحميم: القريب الذي تغضب له ويغضب لك (¬8). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 393، و"التفسير الكبير" 30/ 125، و"لباب التأويل" 4/ 309. (¬2) أي عبد الله بن مسعود. انظر قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 393، و"التفسير الكبير" 30/ 125، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 284. (¬3) في (أ): القطعنة. (¬4) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 1/ 145 مادة: (عهن). وانظر مادة (عهن) في: تهذيب اللغة، المرجع السابق، "الصحاح" 6/ 2169، و"لسان العرب" 13/ 296، و"تاج العروس" 9/ 276. (¬5) وهو قول: مجاهد، وقتادة كما في: "جامع البيان" 29/ 73، وقول مقاتل كما في: "الكشف والبيان" 12/ 183/ أ، وقول السدي كما في: "ابن كثير" 4/ 448، وانظر: تفسير السدي الكبير 461. وإليه ذهب الزجاج في "معاني القرآن" 5/ 220. (¬6) كالحسن، انظر: "الكشف والبيان" 12/ 183/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 393، وهو في "لباب التأويل" 4/ 309 من غير عزو، وقوله من "كالصوف الأحمر" إلى: "هباء منثورًا". (¬7) بياض في: (ع). (¬8) "التفسير الكبير" 30/ 125.

يقول: لا يُسأل قرابة عن قرابته (¬1) إشغالاً بنفسه عنهم. وقال مقاتل: يقول لا يسأل الرجل قرابته من شدة الأهوال (¬2). (والمعنى: لا يسأل الحميم عن حميمه في ذلك اليوم؛ لأنه يذهل عن ذلك ويشتغل عنه بشأنه، ألا ترى قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]، وقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)} [عبس: 34]، وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 37]. فقوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} (¬3) (¬4) من قولك: سألت زيداً، أي: سألته عن حاله وأمره. ويجوز أن يكون المعنى: لا يَسْأل عن حميمه، فيُحذف الجار، ويوصل الفعل (¬5). وروي عن ابن كثير: {وَلَا يُسْأَلُ} بضم الياء (¬6)، والمعنى: لا يُسأل ¬

_ (¬1) هذه العبارة من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 220 بيانًا منه لمعنى قراءة الضم في: "يُسأل". (¬2) "تفسير مقاتل" 209/ أ، و"زاد المسير" 8/ 91. (¬3) في (أ): عن حميم. (¬4) في (أ): زيادة: (ليعرف شأنه من جهته حميمًا)، وهي زيادة لم ترد في الحجة، ولا فائدة من إثباتها. (¬5) من قوله: "والمعنى: لا يَسْأل الحميم عن حميمه في ذلك اليوم" إلى: "ويوصل الفعل". في بيان معنى من قرأ: "يَسأل" بفتح الياء. وقد قرأ بذلك: نافع، وابن عامر، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف. انظر: "كتاب السبعة في القراءات" 65، و"الحجة" 6/ 320، و"حجة القراءات" 722، و"تحبير التيسير" 192، و"النشر" لابن الجزري 2/ 390، و"إتحاف فضلاء البشر" للبنا: 423، و"البدور الزاهرة" لعبد الفتاح القاضي 324. (¬6) انظر مواضع قراءته في المراجع السابقة.

حميم عن حميمه ليعرف شأنه من جهته، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه، والقريب عن قريبه، وهذا أيضًا على حذف الجار) (¬1). وقال الفراء: أي لا يقال لحميم: أين حميمك؟ قال: ولست أشتهي ضم الياء؛ لأنه مخالف للتفسير، ولما أجمع عليه القراء (¬2). قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} (يقال: بصرت به أبصر، قال الله تعالى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه: 96]. وتقول: بصَّرني زيدٌ كذا، فإذا بنيت الفعل للمفعول به، وقد حذفت الجار قلت: بُصِّرتُ [زيدٌ] (¬3)، فعلى هذا {يُبَصَّرُونَهُمْ}، وإنما جمع فقيل: (يبصَّرونهم) لأن الحميم (¬4)، وإنس كان مفردًا في اللفظ، فالمراد به الكثرة والجمع، يدلك على (¬5) ذلك قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)} [الشعراء: 100 - 101]. ومعنى: (يبصرونهم): يعرفونهم، ويرونهم، أي: يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه (¬6)، ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه (هذا معنى ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الفارسي باختصار. انظر: "الحجة" 6/ 320 - 321. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 184 نقله عنه الواحدي بتصرف يسير. (¬3) في النسختين: زيدًا، وأثبت ما جاء في الحجة لصوابه. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الفارسي بتصرف. "الحجة" 6/ 320. وهذا القول في بيان صحة جواز حذف الجار، ثم وصل الفعل بالاسم الذي كان مجرورًا قبل حذف الجار، فينتصب لأنه مفعول الاسم الذي أسند إليه الفعل الممني للمفعول به. (¬6) بياض في: (ع).

قول المفسرين) (¬1). قال مقاتل: يعني يعرفونهم فلا يكلمونهم (¬2). قالوا (¬3): (وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صَاحبه من الجن والإنس، فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته، ولا يسأله، ويبصر الرجل حميمه فلا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم) (¬4). وتمام الكلام الأول عند قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} (¬5)، وهذا يدل على صحة قراءة العامة، ومعنى القراءة الثانية لا تتصل بقوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ}. قوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} قال المفسرون: يعني المشرك الكافر (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). وممن قال بذلك: قتادة، وابن عباس. انظر: "جامع البيان" 29/ 73 - 74، وعزاه فقط إلى ابن عباس في: "معالم التنزيل" 4/ 393، و"المحرر الوجيز" 5/ 366، و"زاد المسير" 8/ 91. (¬2) "تفسير مقاتل" 209/ أ. (¬3) لعله عني بذلك الثعلبي، لأن ما ساقه ورد بنصه عنه كما في: "الكشف والبيان" 12/ 183/ أ، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 393، و"لباب التأويل" 4/ 309. (¬4) ما بين القوسين أورده الثعلبي بنصه في: الكشف والبيان. انظر: الحاشية السابقة. (¬5) وهو أيضًا تام عند أبي حاتم، وحسن عند الأشموني. انظر: "القطع والائتناف" للنحاس: 2/ 760، و"المكتفى في الوقف والابتداء" للداني: 586، و"منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" للأشموني: 404. (¬6) قال بذلك: ابن جرير، والثعلبي، والبغوي، وقال ابن عطية: المراد في هذه الآية الكافر؛ بدليل شدة الوعد، وابن الجوزي، والفخر، والقرطبي، والخازن. وذكر الفخر قولًا آخر، وهو: أن الآية تتناول كل مذنب. انظر: "جامع البيان" 29/ 75، و"الكشف والبيان" 12/ 183/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 393، و"المحرر الوجيز" 5/ 367، و"زاد المسير" 8/ 91، و"التفسير الكبير" 30/ 126، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 286، و"لباب التأويل" 4/ 309.

قوله: {وَفَصِيلَتِهِ} فصيلة الرجل: رَهْطُه الأدْنَوْن (¬1)، وكان يقال للعباس: فصيلة النبي -صلى الله عليه وسلم-. قاله أبو عبيد (¬2). وقال الليث: الفصيلة: فَخِذ الرجل (¬3) من قومه الذي هو منهم (¬4). وقال أبو عبيدة، (¬5) والمبرد (¬6): الفصيلة دون القبيلة في النسب، أي أقرب وأخص من القبيلة. وقال رؤبة: والناسُ إن فَصَّلْتُهُمْ فصائلا (¬7) كلٌّ إلينا يَبْتَغي الوَسائِلا وقال أبو العباس: الفصيلة: القِطْعة من أعضاء الجسد (¬8)، وهي دون القبيلة (¬9). وعشيرة الرجل سميت فصيلة تشبيهًا بالبعض منه. قال ابن عباس: يريد عشيرته وأقاربه التي ينتهي إليه (¬10). وقال مقاتل: يعني فخذه الأدنى يأوي إليهم (¬11). ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) "تهذيب اللغة" 12/ 192 فصل، وانظر قوله أيضًا في: "التفسير الكبير" 3/ 127. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) المرجع السابق. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 269، وعبارته فيه: "دون القبيلة، الشعوب أكثر من القبائل، ثم الفصيلة فخذ الرجل التي تؤويه". (¬6) الجامع لأحكام القرآن بمعناه: 18/ 286. (¬7) ورد البيت في: "ديوانه" 122، وفي "الكامل" 3/ 1092. (¬8) في (ع). الرجل، وكتبت في الهامش: (الجسد) من النسخة نفسها. (¬9) "تهذيب اللغة" 12/ 192 مادة: (فصل). (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) "تفسير مقاتل" 209/ أ.

يقول الله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي} بهذه الأشياء {ثُمَّ يُنْجِيهِ} ذلك الفداء. {كَلَّا} لا ينجيه ذلك، ولو افتدى به كله. ثم استأنف فقال: {إِنَّهَا لَظَى} (ولظى من أسماء النار نعوذ بالله منها، وهي معرفة لا تنصرف؛ فلذلك لا تنون. وقال الليث: اللظى: اللهب الخالص (¬1)، ويقال: لَظيت النارُ، تلظى لظًى (¬2)، وتلظت (¬3) تلظياً، ومنه قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]) (¬4). وقوله: {نَزَّاعَةً} مرفوعة (¬5) على وجوه: أحدها: أن تجعل (الهاء) في (إنها) عماداً (¬6)، وتجعل (لظى) اسم (إن)، و (نزاعة (¬7)) خبر (إن)، كأنه قيل: إن لظى نزاعة. والآخر: أن تجعل (¬8) (الهاء) ضميراً للقصة، وهو الذي يسميه الكوفيون: المجهول، وتكون "لظى"، و (نزاعة) خبراً لـ (إن)، كما تقول: ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة: 14/ 395، (لظى)، وانظر: "لسان العرب" 15/ 248، (لظى). (¬2) في (ع): لظًا. (¬3) في (أ): تلظيت. (¬4) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الأزهري في "تهذيب اللغة" بتصرف يسير. (¬5) قرأ بالرفع في: {نَزَّاعَةً} عامة القراء: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وجعفر، ويعقوب، وخلف. انظر: "الحجة" 6/ 319، و"المبسوط" 381، و"التبصرة" لمكي 708، و"إتحاف فضلاء البشر" 424. (¬6) أي: ضميرًا منفصلًا، ولفظ "العماد" من اصطلاحات الكوفيين، وسموه بذلك لأنه يعتمد عليه في الفائدة، إذ به يتبين أن الثاني خبر لا تابع، وبعض الكوفيين يسميه: دعامة؛ لأنه يدعم به الكلام، أي: يُقَوَّى ويُؤَكَّدُ. انظر: "نحو القراء الكوفيين" 341. (¬7) بياض في: (ع). (¬8) في (أ): يجعل.

حُلْوٌ حامِضٌ تريد أنه قد جمع الطعمين. والمعنى: أن القصة والخبر لظى نزاعة (¬1) للشوى. والوجه الثالث: أن يرفع على الذم بإضمار (هي) على معنى: هي نزاعة (¬2). وهذا قول الأخفش (¬3)، والفراء (¬4)، والزجاج (¬5). ومن قرأ (نزاعةً) بالنصب (¬6)، قال أبو إسحاق: أما نصب (نَزَّاعة) فعلى أنها حال مؤكدة، كما قال: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]، وكما تقول: أنا زيدٌ معروفاً؛ قال (¬7): ويجوز أن يُنصب على معنى: أنها تتلظى نزاعة للشوى (¬8). قال أبو علي: (حمله على الحال يبعد، وذلك لأنه ليس في الكلام ما يَعمل في الحال، فإن قلت: في قوله: (لظى) معنى (على) (¬9) التلظي، والتلهب، فإن ذلك لا يستقيم؛ لأن لظى معرفة لا تنتصب عنها الأحوال، ألا ترى أن ما استعمل استعمال الأسماء من اسم فاعل، أو مصدر لم يعمل ¬

_ (¬1) من قوله: "وهو الذي يسميه الكوفيون" إلى: "والخبر لظى" مكرر في نسخة: (ع، و) أحدهما في غير موضعه الصحيح، وهو خطأ من الناسخ. (¬2) بياض في: (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 185، نقله الواحدي بالمعنى، ولم يذكر الفراء إلا وجهين فقط. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 221، ونقل الإمام الواحدي أغلب النص عنه. (¬6) ممن قرأ بالنصب في: "نزاعة": حفص عن عاصم. انظر: الحجة: 6/ 319، كتاب التبصرة: 708، و"إتحاف فضلاء البشر": 424. (¬7) أي: أبو إسحاق الزجاج. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 221 بنصه. (¬9) ساقط من: (ع).

عمل الفعل نحو: صاحب، ودَرٍّ (¬1) في قولك: لله دَرُّك، فإن لم يعمل هذا النحو الذي هو اسمُ فاعل، أو مصدر عمل الفعل من حيث جرى مجرى الأسماء، فأن لا يعمل الاسم المعرفة عمله أولى. ويدلك على تعرف هذا الاسم وكونه علماً أن التنوين لم تلحقه، فإذا كان كذلك لم تنتصب الحال عنه، فإن جعلتها مع تعريفها قد صارت معروفة بشدة التلظي، جاز أن تنصبه بهذا المعنى الحادثِ في العَلَم، وإن علّقت (نزاعة) بفعل مضمر نحو: أعنيها نزاعة للشوى لم يمتنع) (¬2). والشوى: الأطراف، وهي: اليدان (¬3)، والرجلان، ومنه قول امرئ القيس: سليم الشظى (¬4) عَبْلِ الشَّوَى شَنِجِ النَّسا (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) الدر: العمل من خير وشر، ومنه قولهم: لله دَرُّك، يكون مدحًا، ويكون ذمًّا. انظر "تهذيب اللغة" 14/ 61، مادة: (درر). (¬2) ما بين القوسين من قول أبي علي؛ نقله عنه باختصار. "الحجة" 6/ 319 - 320. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) في (ع): (الشظا). (¬5) في (ع): (شيخ النسا وعبل الشوى) تقديم وتأخير. (¬6) هذا صدر بيت، وعجزه: لَه حَجَبَاتٌ مُشرِفاتٌ على الفالي وقد ورد البيت في: "ديوانه" 143، دار صادر، و"الأضداد" لابن الأنباري: 230، و"الكشف والبيان" 12: 184/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 289. ومعناه: الشظى: عظم لاصق بالذراع. الشوى: اليدان والرجلان، الشنج: الصلب، النسا: عرق في الفخذ، الحجبات: رؤوس عظام الوركين. الفالي: اللحم الذي على الورك، وأصله الفائل. كما ورد الشطر الأول من البيت منسوبًا لدريد بن الصمة في شعر يرثي به عبد الله أخاه، وقد قتلته بنو عبس، قال: =

ومن هذا يقال للرامي إذا لم يصب القتل: أشوى، أي أصاب الشوى، والشوى ليس بمقتل، والشوى أيضًا جلد الرأس، واحدتها شواة. ومنه قول الأعشى: قالتْ قُتَيْلَةُ ما لَه ... قدجُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُه (¬1) (هذا قول جميع أهل اللغة (¬2)) (¬3). قال مقاتل: تنزع النار الهامة (¬4) والأطراف، فلا تترك لحمًا ولا جلدًا إلا أحرقته (¬5). ¬

_ = سَليم الشَّظَى عَبْلِ الشَّوى شنجِ النسا ... طويلِ القَرا نهْدٍ أسيلِ المُقَلَّدِ انظر: "ديوان دريد بن الصمة": 51. (¬1) ورد البيت في "ديوانه" 138، وانظر: مادة: (شوى) من غير نسبة في "تهذيب اللغة" 11/ 442، و"الصحاح" 6/ 2399، و"لسان العرب" 14/ 447، و"تاج العروس" 10/ 204، كتاب "الأضداد" لابن الأنباري 230، و"مجاز القرآن" 2/ 268، و"جامع البيان" 29/ 76، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 320، و"النكت والعيون" 6/ 93، و"المحرر الوجيز" 5/ 365، و"التفسير الكبير" 30/ 128، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 288، و"إعراب القراءات السبع" لابن خالويه 2/ 390، و"البحر المحيط" 8/ 330، و"الدر المصون" 6/ 377، و"فتح القدير" 5/ 290، و"روح المعاني" 29/ 60. (¬2) انظر: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 185، أبو عبيدة في: "مجاز القرآن" 2/ 268، الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 221، وانظر أيضًا: كتاب حروف الممدود والمقصور: لابن السكيت؛ تح د. حسن فرهود: 117، و"تهذيب اللغة"، و"الصحاح"، و"لسان العرب"، و"تاج العروس" مراجع سابقة. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬4) بياض في: (ع). (¬5) "تفسير مقاتل" 209/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 394، و"بحر العلوم" 3/ 404.

وأكثر المفسرين (¬1) على أنها: الأطراف، (وهو قول مجاهد (¬2) (¬3)). وقال سعيد بن جبير: للعصب والعقب (¬4). وقال أبو إسحاق: لحم (¬5) الساقين (¬6). وقال ثابت البناني: لمكارم وجه بني آدم (¬7). قوله تعالى: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)} قال ابن عباس: تدعو (¬8) من أدبر عن الإسلام، ودعاؤها أن تقول: إليَّ يا مشرك، إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، إليَّ يا فاسق، إليَّ يا ظالم (¬9). ¬

_ (¬1) قال بذلك: قتادة، وأبو صالح. انظر: "بحر العلوم" 3/ 403، و"النكت" 6/ 93، و"القرطبي" 8/ 289، و"الدر المنثور" 8/ 282، وعزاه إلى ابن المنذر عن أبي صالح، و"فتح القدير" 5/ 290. وبه قال الفراء في "معاني القرآن" 3/ 185، والزجاج في "معاني القرآن" 5/ 221، وأبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 268، وإليه ذهب الطبري في "جامع البيان" 29/ 76، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 394. (¬2) "الدر المنثور" 8/ 282، وعزاه إلى ابن أبي شيبة. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) "الكشف والبيان" 12/ 183/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 394، و"زاد المسير" 8/ 92، و"التفسير الكبير" 30/ 128. ومعنى العَصَب -بفتحتين-: أطناب المفاصل التي تُلائم بينها وتشدها. انظر: "لسان العرب" 1/ 602 (عصب)، و"المصباح المنير" 2/ 492. والعقب -أيضًا بفتحتين-: أطناب المفاصل، وبكسر القاف: مؤخر القدم، والمراد هنا المعنى الأول. انظر: "المصباح المنير" 2/ 500، (عقب). (¬5) في (ع): للحم. (¬6) بياض في (ع). ولم أعثر على مصدر لقول أبي إسحاق. (¬7) "الكشف والبيان" 12/ 183/ ب، و"التفسير الكبير" 3/ 128، و"الدر المنثور" 8/ 282، وعزاه إلى ابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 290. (¬8) في كلا النسختين: تدعوا. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد من غير عزو في "فتح القدير" 5/ 290.

وقال مقاتل: تدعو (1) النار يوم القيامة: إليَّ أهلي، إليَّ أهلي (2). فهذا دعاؤها، وهذا قول المفسرين؛ قالوا: تدعُو من أدبر عن الحق باسمه (3). وقال المبرد: تدعو معناه بعذاب (4). روى عمرو عن أبيه: الداعي المعذب دعاه الله، أي: عذبه (5). (قوله تعالى) (6): {وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} قالوا: جمع المال، فأمسكه ولم ينفقه في طاعة الله (7).

_ (1) بياض في: (ع). (2) "تفسير مقاتل" 209/ أ. (3) وهو قول ابن عباس. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 184/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 394، و"المحرر الوجيز" 5/ 365، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 289، و"لباب التأويل" 4/ 309. وقال به الفراء في: "معاني القرآن" 3/ 185، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 221 - 222. (4) و (5) لم أعثر على مصدر لقوله. (6) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (7) عني بقوله: قالوا: أي أهل التفسير، وممن قال بذلك: مجاهد كما في: "جامع البيان" 29/ 78، وعبارته: "جمع المال". وقال بذلك أيضًا: الثعلبي في: "الكشف" 12: 184/ أ، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 94، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 394، وبمعناه قال الفخر في: "التفسير الكبير" 30/ 138، وقد حكاه القرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 289، وابن كثير في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 449. ومعنى أوعى لغة: يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء. انظر: "الصحاح" 6/ 2525 مادة: (وعى). وقال ابن فارس: "الواو والعين والياء: كلمة تدل على ضم الشيء". "معجم مقاييس اللغة": 6/ 124 مادة: (وعى).

ومعنى أوعى: جعله في وعاء، فلم يؤد منه زكاة، ولم يصل منه رحما. (قوله تعالى) (¬1): {الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)} يقال: هلع الرجل، يهْلَع هَلَعًا وهلاعًا، فهو هالِع وهلُوع، وهو شدة الحرْص، وقلة الصبر، يقال: جَاعَ فهلع، وأصيب فهلع، أي قلّ صبرُه. قال عمرو بن مَعْديكرب: ما إن جزِعْتُ ولا هَلَعْـ ... ـتُ ولا يرد بكاي (¬2) زَنْدا (¬3) هذا قول جماعة (¬4) أهل اللغة (¬5). وقال الفراء: الهلوع: الضجور (¬6) (¬7). وقال المبرد: الهلع، والجزع: يقال (¬8): نعوذ بالله من الهَلَع عند ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬2) في (أ): بكا. (¬3) ورد البيت في: "شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي"، جمع مطاع الطرابيشي: 65. ومعنى البيت: الهلع: أفحش أنواع الجزع؛ لأنه جزع مع قلة الصبر، فكأنه قال: ما جزعت عليه حزنًا هينًا ولا فظيعًا، وهذا نفي للحزن رأسًا. وقوله: ولا يرد بكاي زندا: يستعملون الزَّنْد في معنى القلة، كما يستعملون الفُوف والنقير والقطمير. انظر: شعر عمرو بن معدي كرب: المرجع السابق (الحاشية). (¬4) في (ع): جميع. (¬5) انظر مادة (هلع) في "تهذيب اللغة" 1/ 144، و"الصحاح" 3/ 1308، و"لسان العرب" 8/ 374 - 375، و"تاج العروس" 5/ 560. (¬6) غير واضحة في (ع). (¬7) ورد قول الفراء في: "معاني القرآن" 3/ 185 بنصه. (¬8) في (أ): تقول.

منازلة الأقران (¬1) (¬2). وأكثر المفسرين (¬3) وأهل اللغة (¬4) قالوا: تفسير الهلوع: (قوله تعالى) (¬5): {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}، وهو الحريص الجازع. وألفاظ المفسرين في هذه قريبة المعنى؛ بعضها من بعض، قالوا: هو الجزع، الضجور، الشره، في ألفاظ كثيرة تعود إلى هذا المعنى (¬6). ¬

_ (¬1) غير واضحة في: (ع). (¬2) ورد قول المبرد في: "الكامل" 3/ 1092، ونقله الواحدي عنه بتصرف. ويراد بالأقران، ومفرده القِرْن -بالكسر-: الكُفْءُ، والنظير. انظر: "لسان العرب" 13/ 337، (قرن). (¬3) وهو قول ابن عباس، انظر: "جامع البيان" 29/ 78، و"النكت والعيون" 6/ 94، و"زاد المسير" 8/ 92، و"الدر المنثور" 8/ 283، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وبه قال أيضًا: ابن كثير 4/ 449. (¬4) وبه قال الفراء، وأبو عبيدة، والزجاج. انظر: "معاني القرآن" 3/ 185، و"مجاز القرآن" 2/ 270، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 222. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬6) والأقوال التي جاءت في تفسير: "الهلوع" عدها الماوردي سبعة أوجه: منها ما جاء عن ابن عباس. انظر: الحاشية السابقة. والآخر: الحريص على ما لا يحل له. وهو قول ابن عباس أيضًا. انظر: "الكشف والبيان" 12: 184/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 394، و"زاد المسير" 8/ 93، و"لباب التأويل" 4/ 309. والثالث: الجزوع. قاله ابن زيد، وقتادة. انظر: "تفسير القرآن": لعبد الرزاق: 2/ 317 معزوًا إلى قتادة فقط، جامع البيان، و"الكشف والبيان" مرجعان سابقان، و"الدر المنثور" 8/ 284، وعزاه إلى ابن المنذر، وعبد الرزاق عن قتادة، وإليه ذهب اليزيدي، ومكي بن أبي طالب. انظر: "غريب القرآن وتفسيره" 389، و"تفسير المشكل من غريب القرآن العظيم": 356. والرابع: البخيل. قاله الحسن، =

22

ثم نعته فقال: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)}. يعني البؤس والفقر. {جَزُوعًا} لا يصبر، ولا يحتسب. {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} إذا أصاب المال. (منوعا) يمنعه من حقوق الله. 22 - {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} وذلك أن الإنسان اسم الجنس، فهو في معنى الناس (¬1). 23 - وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} قال عبد الله (¬2) (¬3)، وابن عباس (¬4): يعني على مواقيتها يقيمونها في أوقاتها. ¬

_ = والضحاك. انظر: "زاد المسير" 8/ 93. والخامس: الشره. قاله مجاهد، وابن عباس. المرجع السابق، و"الدر المنثور" 8/ 284، وعزاه إلى ابن المنذر عن ابن عباس. والسادس: الضجور: قاله عكرمة، وقتادة، ومقاتل. انظر المرجع السابق، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 290، وإليه ذهب السجستاني في "نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العظيم" 477. والسابع: الشحيح الجزوع. قاله سعيد بن جبير. انظر: "الكشف والبيان" 12: 184/ ب، و"الدر المنثور" 8/ 283، وعزاه إلى ابن المنذر. (¬1) لعله قول الزجاج نقله عنه الواحدي بتصرف. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 222، وعبارة الزجاج: الإنسان هاهنا في معنى الناس، فاستثنى الله -عز وجل- المؤمنين المصلين، فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}. انظر: "الدر المصون" 6/ 378. (¬2) بياض في: (ع). (¬3) عبد الله هو: عبد الله بن مسعود، وقد ورد قوله هذا في: أحكام القرآن للجصاص: 3/ 486، و"النكت والعيون" 6/ 95، و"زاد المسير" 8/ 94، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 391، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 450، و"الدر المنثور" 8/ 284، وعزاه إلى ابن أبي شيبة في "المصنف". (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله.

قال إبراهيم: هي المكتوبة (¬1). وقال مقاتل: لا يدعونها بالليل والنهار (¬2). وروي عن عمران بن حُصَين (¬3)، وعقبة بن عامر (¬4) -رضي (¬5) الله عنهما- أنهما قالا: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً. قال أبو إسحاق: (أي أنهم لا يزيلون وجوههم عن سمْت (¬6) القبلة، واشتقاقه من الدائم، وهو الساكن (¬7)، ومنه الحديث في النهي عن البول في الماء الدائم) (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 79، و"الدر المنثور" 8/ 284، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬2) "تفسير مقاتل" 209/ أ. (¬3) ورد قوله هذا في: "أحكام القرآن": للجصاص: 3/ 468، و"الدر المنثور" 8/ 284، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر. (¬4) ورد قوله هذا في: "جامع البيان" 29/ 80، و"الكشف والبيان" 12/ 185/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 95، و"معالم التنزيل" 4/ 395، و"المحرر الوجيز" 5/ 368، و"زاد المسير" 8/ 94، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 291، و"لباب التأويل" 4/ 310، و"الدر المنثور" 8/ 284 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) غير مقروءة في (ع). ويراد بالسمت: الطريقة، والقصد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 2/ 397. وقال ابن منظور: السمت: حسن النحو في مذهب الدين. "لسان العرب" 2/ 46، (سمت). (¬7) بياض في: (ع). (¬8) ما بين القوسين ناقله الواحدي عن الزجاج -أبي إسحاق- بتصرف يسير: 5/ 222. (¬9) بياض في (ع). والحديت أخرجه مسلم 1/ 235 ح: 94 - 97، في الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد، من طرق، منها عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه. ورواه أيضًا بألفاظ أخرى. =

24

24 - قوله تعالى (¬1): {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)} قال الحسن (¬2)، والكلبي (¬3)، وابن سيرين: يعني الزكاة المفروضة (¬4). روى عكرمة عن ابن عباس (¬5) قال: من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه (¬6) أن لا يتصدق (¬7). وقال آخرون: هذا الحق سوى الزكاة (¬8)، وهو قول: عامر (¬9)، ومجاهد (¬10)، وعطاء (¬11) (وإبراهيم (¬12)، ورواية هشام (¬13) عن ¬

_ = كما أخرجه الدرامي 1/ 197 ح 731، كتاب الطهارة، وأحمد في المسند 2/ 288، و464، و532، وابن ماجه 1/ 68ح 351 - 353، والترمذي 1/ 100 ح: 68 وقال عنه: (هذا حديث حسن صحيح)، والنسائي 1/ 52 ح: 57 - 58. (¬1) (تعالى) ساقطة من: (ع). (¬2) "التفسير الكبير" 30/ 130. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ورد قوله في: "التفسير الكبير" 30/ 130، و"زاد المسير" 7/ 207: آية 19 من سورة الذاريات، و"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 38، آية 19 من سورة الذاريات، و"فتح القدير" 5/ 292 - 293. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) بياض في: (ع). (¬7) ورد قوله هذا في: "التفسير الكبير" 30/ 130. (¬8) في (ع): الزكوة. (¬9) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 81، و"المحرر الوجيز" 5/ 368. (¬10) "جامع البيان" 29/ 81، و"المحرر الوجيز" 5/ 368، و"التفسير الكبير" 30/ 130، و"فتح القدير" 5/ 293. (¬11) "التفسير الكبير" 30/ 130. (¬12) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 81، و"التفسير الكبير" 30/ 130. (¬13) هو: هشام بن حسان الأزدي القْرْدُوسيُّ، أبو عبد الله البصري، روى عن الحسن =

الحسن (¬1)) (¬2)، وقول ابن عمر (¬3)، قالوا: في المال حق سوى الزكاة (¬4)، وهذا يكون على طريق الندب والاستحباب (¬5). قوله: {لِلسَّائِلِ} يعني الذي يسأل. {وَالْمَحْرُومِ} (¬6) قال ابن عباس: هو ¬

_ = البصري، وهو من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما. مات أول يوم من صفر سنة 148 هـ. روى له الجماعة. انظر: "العلل" لابن المديني 63 - 64 ت: 83 - 84، و"حلية الأولياء" 6/ 269 ت 375، و"طبقات المدلسين" 47 ت 110، و"تقريب التهذيب" 2/ 318. (¬1) "المحرر الوجيز" 5/ 683. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ)، وقد ذكرت عبارة: (وغيرهم)، بدلًا مما بين القوسين. (¬3) "المحرر الوجيز" 5/ 368، قال ابن عطية -فيما قاله ابن عمر-: وهذا هو الأصح في هذه الآية؛ لأن السورة مكية، وفرض الزكاة وبيانها إنما كان بالمدينة. (¬4) بياض في (ع). ومن قوله: "وهو قول عامر" إلى: "في المال حق سوى الزكاة" مكرر في نسخة أ. (¬5) قال ابن العربي عند تفسير الآية 19 من سورة الذاريات: "والأقوى في هذه الآية أنه الزكاة؛ لقوله تعالى في سورة سأل سائل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنه غير مقدر، ولا مجنس، ولا موقت". أحكام القرآن: 4/ 1730. وإلي هذا ذهب القرطبي. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 291. وقال الشوكاني: "والظاهر أنه الزكاة لوصفه لكونه معلومًا، ولجعله قرينًا للصلاة". "فتح القدير" 5/ 293. كما بين الشيخ الشنقيطي أن الآية في الزكاة المفروضة، قال: "لأن الحق المعلوم لا يكون إلا في المفروض، وهو قول أكثر المفسرين، ولا يمنع أن السورة مكية، فقد يكون أصل المشروعية فيه بمكة، ويأتي التفصيل بالمدينة، وهو السنة الثانية من الهجرة". أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 8/ 462. (¬6) في (أ): (المحروم) بغير واو.

الذي أصيب زرعه أو تجارته، وهو لا يسأل (¬1). وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة (¬2) له مال، فجاءه سيل (¬3)، فذهب بماله، فقال رجل من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-: هذا المحروم فاقسموا له (¬4). وقال أبو إسحاق: هو الذي حرم المكاسب وهو لا يسأل (¬5). وقد فسرنا هذا (¬6) في سورة الذاريات (¬7)، وما بعد هذا (¬8) مفسر في ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) اليمامة: واحدة اليمام، وهو طائر. وهو بلد كبير فيه قرى وحصون وعيون ونخل. وهي معدودة من نجد، وقاعدتها حجر، وكان اسمها أولًا جوًّا، والعروض. انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي 5/ 441، "مراصد الاطلاع" للبغدادي: 3/ 1483. (¬3) في (أ): سائل. (¬4) "جامع البيان" 29/ 83؛ "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 39، سورة الذاريات: الآية: 19؛ "تفسير القرآن العظيم" 4/ 251 سورة الذاريات: 19. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 222 بشيء من التصرف. (¬6) أي من الآيات 26 - 33. (¬7) عند الآية 19 من الذاريات، ومما جاء في تفسيرها: "معنى المحروم في اللغة: الذي حرم الخير حرمانًا. واختلفوا في المحروم من هو، فقال ابن عباس وغيره: هو المحارف. المحارف هو الذي ليس له في الغنيمة شيء، ولا في الإسلام سهم، ولا يجري عليه من الفيء شيء. وقال قتادة وغيره: المحروم المتعفف الذي لا يسأل. وقال عكرمة: هو الذي لا ينمو له مال. وقال ابن زيد: هو المصاب ثمره، أو زرعه، أو سل ماشيته. وقال ابن سيرين وغيره: هو الزكاة، أي إذا حصدوا أعفوا الزكاة. وعن ابن أبي نجيح: حق سوى الزكاة". (¬8) أي من الآيات 5 - 8، وتفسير الآيات كما هو في المشار إليه: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)}: =

سورة المؤمنين إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} [المعارج: 33]. (وقرئ {بشهادتهم} (¬1)، والإفراد أولى (¬2)؛ لأنه مصدر، فيفرد كما ¬

_ = قال الليث: الفرج اسم يجمع سوءات الرجال والنساء، فالقبلان هما وما حولهما كله فرج، وكذلك من الدواب. وفي اللغة: الفرجة بين الشيئين، ولهذا سمي ما بين قوائم الدابة الفروج. ومعنى الآية: قال الكلبي: يعفّون عما لا يحل لهم. وقال الزجاج: يحفظون فروجهم عن المعاصي. قوله {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}، أي: إلا من أزواجهم، فـ"على" بمعنى "من". وقال مقاتل: يعني: حلائلهم والولائد، فإنهم لا يلامون على الحلال. وقال أهل المعاني: هذه الآية مخصوصة بالحالة التي تصح فيها، وعلى الزوجة والأمة، وهي أن لا تكون حائضًا، ولا مظاهرًا عنها، فلا تكون الأمة مزوجة، ولا في عدة زوج. قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}، أي: فمن ابتغى الفواحش بعد الأزواج والولائد. وقوله: {فَأُولَئِكَ} يعني المبتغين. {هُمُ الْعَادُونَ}، أي: الجائرون الظالمون. قولى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} فيه قولان: أحدهما: أنها أمانات الناس التي ائتمنوا عليها. والثاني: أنها أمانات بين الله وبين عبده مما لا يطلع عليه إلا الله، كالوضوء، والغسل من الجنابة، والصيام وغير ذلك. وقرأ ابن كثير [لأمانتهم] واحدة. والأمانة تختلف، ولها ضروب نحو: الأمانة التي بين الله وبين عبده. والأمانة التي بين العباد في حقوقهم. ومعنى {رَاعُونَ} حافظون. وأصل الرعي في اللغة: القيام على إصلاح ما يتولاه من كل شيء. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)}. قال إبراهيم: عن الصلوات المكتوبة. وقوله {يُحَافِظُونَ} قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: على مواقيتها. (¬1) قرأ {بشهادتهم} جماعة، روى عباس عن أبي عمرو، والحلواني عن أبي معمر، وعبد الوارث عن أبي عمرو، وحفص عن عاصم أيضا جماعة. انظر: كتاب السبعة: 651، الحجة: 6/ 322؛ المبسوط: 381؛ حجة القراءات: 724؛ النشر: 2/ 391، و"البدور الزاهرة" 326. (¬2) بياض في (ع)، وقد قرأ بذلك -أي بالإفراد-: ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي. انظر: المراجع السابقة.

36

تفرد المصادر وإن أضيف إلى الجمع، كما قال: {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات (¬1)، وكثرة ضروبها، فحسن (¬2) الجمع من جهة الاختلاف) (¬3). وأكثر المفسرين (¬4) قالوا: يعني الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها. روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له (¬5). والمعنى: أنهم يحفظون ما شهدوا به من هذه الشهادة، فلا يشركون بالله. 36 - (قوله تعالى) (¬6): {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)} نزلت هذه الآيات (¬7) في جماعة المستهزئين، جلسوا حول النبي -صلى الله عليه وسلم- حلقاً يستهزئون ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) في (أ): يحسن. (¬3) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن أبي على الفارسي بتصرف. انظر: الحجة: 6/ 321 - 322. (¬4) قال بذلك السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 404، والفخر في: "التفسير الكبير" 30/ 130، وعزاه إلى أكثر المفسرين؛ والقرطبي في: الجامع الأحكام القرآن: 18/ 292، وأورد القول من غير تخصيص -عند الحكام- عند الطبري في: "جامع البيان" 29/ 84، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12: 85/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 395، وابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 369؛ وعزاه إلى جماعة المفسرين. (¬5) "المحرر الوجيز" 5/ 369؛ و"التفسير الكبير" 30/ 131. (¬6) ساقط من ع. (¬7) في (ع) زيادة كلمة: (نزلت)، وهي زيادة لا فائدة فيها.

37

بالقرآن، ويكذبون به. يقول الله تعالى: ما لهم في النظر نحوك، والجلوس عندك، وهم لا ينتفعون بما يسمعون؛ وذلك أن نظرهم إليه كأنه نظر عداوة، وجلوسهم عند الاستهزاء (¬1). قال ابن عباس: يريد: نحوك مقبلين (¬2) (¬3). وقال الكلبي: ناظرين إليك تعجبًا (¬4). وقد تقدم تفسير "المهطع" (¬5). 37 - وقوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)}، وذلك أنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين (¬6). ومعنى {عِزِينَ} جماعات في تفرقة، واحدها عِزَة، وهي: العصبة من الناس، وهو من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضاً من المحذوف، وأصلها عِزوة (¬7). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 395؛ "زاد المسير" 8/ 94؛ "التفسير الكبير" 30/ 131، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 293؛ "لباب التأويل" 4/ 310. (¬2) غير مقروءة في (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "النكت والعيون" 6/ 96، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 293، و"فتح القدير" 5/ 293. (¬5) قال تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} إبراهيم: 43، وقال تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} سورة القمر: 8. وخلاصة المعنى في قوله {مُهْطِعِينَ} أنها تتناول معنيين: أحدهما: مسرعين، والآخر: ناظرين مديمي النظر، قال الواحدي: والجامع لهذه الأقوال قول من قال: الإهطاع: إسراع مع إدامة نظر. (¬6) لعله من قول الزجاج، فقد ورد عنه: "فكانوا عن يمينه وشماله مجتمعين". "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 223. (¬7) لعل الواحدي نقله بتصرف عن تهذيب اللغة عن الليث: 3/ 98، مادة: (عزا)، =

والكلام في هذا كالكلام في (عضين (¬1))، وقد مرَّ. وقال الأزهري: وأصلها من قولهم: عزا فلان نفسه إلى بني فلان، يعزوها عزوًا: إذا انتمى (¬2) إليهم، والاسم: العَزوة، وكأن العزوة كل جماعة اعتزاؤها واحد (¬3). قال المفسرون (¬4): ¬

_ = وعبارته: "قال الليث: العِزة: عُصبة من الناس فوق الحَلْقة، والجماعة: عِزون، ونقصانها واو. وانظر أيضًا ما جاء عن الواحدي في مادة: (عزا) في المصادر التالية: "الصحاح" 6/ 2425، و"لسان العرب" 15/ 53. (¬1) سورة الحجر: 91، قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}. وقد جاء في تفسيرها: ذكر أهل اللغة في واحد {عِضِينَ} قولين: أحدهما: إن واحدها: عضة، وأصلها عضوة، من عضيت الشيء إذا فرقته، وكل قطعة عِضَة، وهي مما نقص منها واو، وهي لام الفعل، والتعضية: التجزئة والتفريق. قال ابن عباس في قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}: يريد جزؤوه أجزاء، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى. القول الثاني: إنها عضة، وأصلها عضهة، فاستثقلوا الجمع بين هاءين، فقالوا: عضة. وهي من العضة بمعنى الكذب. وقال ابن السكيت: العضية أن تعضه الإنسان وتقول فيه ما ليس فيه، قال عكرمة: العضهْ: السحر بلسان قريش، وهم يقولون للساحر عاضه. وذكر الفراء القولين جميعًا في المصادر والمعاني، وعلى هذا القول معنى قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} جعلوه سحرًا مفترى، وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف، فجعل الجمع بالواو والنون عوضًا مما لحقها من الحذف. (¬2) في (أ): انتهى. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 98، مادة. (عزا)، ونقله الأزهري عن أبي زيد، وليس من قول الأزهري -كما ذكر الواحدي-، وقد نقله الواحدي عنه بتصرف واختصار. (¬4) ممن قال بذلك: الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 223، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12: 185/ ب، 186/ أ، وقال به أيضًا: ابن عطية في: =

كانوا يقولون: إن كان أصحاب (¬1) محمد يدخلون الجنة، فإنا ندخلها (¬2) قبلهم، وإن أعطوا فيها شيئاً أعطينا أكثر منه، فقال الله عز وجل: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)}، والنعيم: ضد البؤس. قال (ابن) (¬3) عباس: يقول: أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون، ويتنعم فيها، وقد كذب بنبيي (¬4)؟. {كَلَّا} لا يكون ذلك، ثم استأنف كلامًا يدل على (¬5) البعث (¬6) فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أي من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. هذا معنى قول مقاتل (¬7)، وعلى هذا لا تعلق لهذا الكلام بما قبله. وقال غيره (¬8): هذا يتعلق بما قبله؛ على معنى: أنهم يعلمون مما ¬

_ = "المحرر الوجيز" 5/ 370، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 94، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 294. (¬1) غير واضحة في: (ع). (¬2) قوله: (الجنة فإنا ندخلها) بياض في. (ع). (¬3) ساقطة من: (أ). (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 395، و"لباب التأويل" 4/ 311. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) في (أ): النعت. (¬7) "تفسير مقاتل" 209/ ب. (¬8) وهو قول: قتادة، وأبي بكر. انظر: تفسير عبد الرزاق: 2/ 318، وعزاه إلى قتادة، وكذا "جامع البيان" 29،/87، و"الكشف والبيان" 12: 186/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 370، وإلى قتادة فقط في: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 294، ومعنى قوليهما: إلى قوله: من المقاذير والأنجاس.

خلقوا من المقاذر (¬1) والأنجاس، فمتى يدخلون الجنة ولم يؤمنوا بربهم، ولم يصدقوا (¬2) رسوله (¬3)! نبه الله تعالى بهذا (¬4) على أن الناس متساوون (كلهم) (¬5) من (¬6) أصل واحد وشيء واحد، فتضمن هذا أنهم متساوون في أصل الخلقة، وإنما يتفاضلون بالإيمان والطاعة، هذا معنى قول أكثرهم (¬7). واختاره الزجاج، فقال: المعنى: فأي شيء لهم يدخلون به الجنة (¬8) (¬9). وذُكر فيه قول آخر وهو أن المستهزئين (¬10) قالوا يحتقرون المؤمنين ويزرؤون بفقرائهم، فذكر الله أنهم مخلقون مما خلقوا. وهذا معنى قول الفراء: ولمَ يحتقرونهم، وقد خلقناهم جميعًا من تراب (¬11)؟!. ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) قوله: (بربهم ولم يصدقوا) غير واضح في: (ع). (¬3) في (أ): رسله. (¬4) في (أ): هذا. (¬5) ساقطة من: (أ). (¬6) في (أ): في. (¬7) وهذا معنى قول: ابن جرير في: "جامع البيان" 29/ 87، وقال به أيضًا: ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 370، وأورده ابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 95، والقرطبي في: "الجامع" 18/ 294، والخازن في: "لباب التأويل" 4/ 311. (¬8) يدخلون به الجن: بياض في: (ع). (¬9) النص في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 223. (¬10) بياض في: (ع). (¬11) "معاني القرآن" 3/ 186 باختصار يسير.

40

40 - قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} معناه: وأقسم، وقد مر هذا في مواضع (¬1). وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} يعني مشرق كل (¬2) يوم من السنة، ومغربه. {إِنَّا لَقَادِرُونَ} على أن نهلكهم حين عصوا. {أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} من يطيعني. وقال مقاتل: لقادرون على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله (¬3). {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} مفسر في قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} (¬4). وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} مفسر في آخر سورة الطور (¬5). قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)}، أي: ينسلون بسرعة، فكأنهم إلى عَلَمٍ نُصِبَ لهم يستبقون، وهذا كقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}، و {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]، وكقوله: ¬

_ (¬1) منها ما جاء في سورة الواقعة: 75، وسورة القلم: 17، وسورة الحاقة: 38. وانظر ما جاء فيها من تفسير سورة الحاقة: 38. (¬2) بياض في: (ع). (¬3) "تفسير مقاتل" 209/ ب. (¬4) سورة الواقعة: 60. ومما جاء في تفسير: قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}: يريد: لا يفوتني شيء أريده، ولا يمتنع مني أحد، وقال المفسرون: على أن نأتي بخلق مثلكم بدلًا منكم، وقال أبو إسحق: أي إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا. (¬5) سورة الطور: 45. ومما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)}: يقول: فخل عنهم، يعني لا يهتم بهم حتى يعاينوا يوم موتهم، وهذا تهديد لهم. ومعنى: {يُصْعَقُونَ} يموتون.

{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} (¬1) الآيات. والنصب: كل شيء نُصب. قال ابن عباس: إلى غاية (¬2)، أو علم يسرعون (¬3). وهو [قول] (¬4) أكثر المفسرين (¬5). وقال الحسن: يعني إلى أنصابهم أيهم يستلم أولاً (¬6)، يعني الأوثان. قال أبو إسحاق: وهذا على قراءة من قرأ: {نَصَبٌ} بضمتين (¬7)، كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال: ومعناه: أصنام لهم (¬8). ¬

_ (¬1) لعله عني الآية التي في سورة القمر: 7، فخلط الناسخ بينها وبين آية سورة المعارج، وتمامها: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)}. (¬2) سورة القمر: 7، وقد سبق ذكرها. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 12: 186/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 297. ووردت عنه بهذه الرواية في: "الكشف والبيان" 12: 187/ أ، وبنحوها في: "جامع البيان" 29/ 89 بعبارة: إلى علم يسعون، وكذا في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 452، و"الدر المنثور" 8/ 287 وعزاه إلى ابن جرير. (¬4) في كلا النسختين: أقوال، وما أثبته هو الصواب. (¬5) وهو قول: أبي العالية، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، والضحاك، وسفيان، وابن زيد، ومجاهد. انظر: "جامع البيان" 29/ 89 - 90، و"المحرر الوجيز" 5/ 371، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 452، و"الدر المنثور" 8/ 287، وبه قال الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 224. (¬6) "جامع البيان" 29/ 90، و"معالم التنزيل" 4/ 396. (¬7) وممن قرأ بذلك: ابن عامر، وحفص عن عاصم بضمتين، وقرأ يعقوب: {نَصَبٌ} بفتح النون والصاد. وقرأ الباقون: {إِلَى نُصُبٍ} بفتح النون وسكون الصاد. انظر: "السبعة" 651، و"القراءات وعلل النحويين" 2/ 714، و"الحجة" 6/ 322 - 323، و"المبسوط في القراءات العشر" 382، و"الكشف والبيان" 12/ 336/ ب، و"النشر" 2/ 391. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 224 نقله عنه بالمعنى.

قال أبو علي: (النُصْب) يجوز أن يكون جمع نَصْب مثل: سَقْفٍ، وسُقْفٍ، ووَرْدٍ، ووُرْدٍ، فيجوز فيه التخفيف والتثقيل (¬1)، مثل: أَسدٍ في جمع أُسَدٍ، قال ويجوز أن يكون النَّصْبُ والنُّصْبُ لغتين مثل: الضَّعْف، والضُّعف، ويكون التثقيل كَشُغْل، وشُغُل، وطُنْب، وطُنُب (¬2). والكلام في النصب والأنصاب قد تقدم (¬3). وقوله: {يُوفِضُونَ} قال [أبو عبيدة] (¬4): يسرعون (¬5). ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) الحجة: 6/ 323 نقله عنه الإمام الواحدي بتصرف يسير. قال ابن فارس: "النون والصاد والباء أصل صحيح يدل على إقامة شيء وإهداف في استواء، والنَّصب: حجر كان يُنصب فيُعبد، ويقال: هو النُّصُب، وهو حجر يُنْصب بين يدي الصنم تصب عليه دماء الذبائح للأصنام". 6/ 434 (نصب). وجاء في "الصحاح" "النَّصْب: ما نُصب فعبد من دون الله تعالى، وكذلك النُّصْب (بالضم، وقد يحرك"). 1/ 225 (نصب). وفي "لسان العرب" "النَّصْب، والنُّصُب: العلم المنصوب، وقيل: النَّصْب: الغاية، والأول أصح". 1/ 759 (نصب). (¬3) في سورة المائدة: 3، والآية: 90، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. "النصب جمع نصاب، وجائز أن يكون واحدًا وجمعه أنصاب، ويراد به -كما قال ابن عباس-: الأصنام التي تنصب وتعبد من دون الله. وقال الكلبي: النصب حجارة كانت يعبدونها. وقال الفراء: النصب: الآلهة التي كانت تعبد من حجارة، وقال الزجاج: النصب: حجارة كانت لهم يعبدونها، وهي الأوثان. وقال الآخرون: كانت حول الكعبة أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها، قالوا: وليست هي بأصنام، إنما الصنم ما يصور وينقش". (¬4) في كلا النسختين: (أبي) عبيد، وأثبت ما رأيت أنه صواب لمماثلة القول لقول أبي عبيدة، وكثيرًا ما يخلط الناسخ بينهما. والله أعلم. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 270.

ونحو ذلك قال الزجاج (¬1)، والفراء (¬2). وأنشدوا: لأنْعَتَنْ (¬3) نَعامَةً مِيفاضا ... خَرْجاءَ ظلت تطلُبُ الأضاضا (¬4) قال الزجاج: الميفاض: السريعة، والأضاض: الموضع الذي يُلْجأ إليه، [يقال] (¬5): أضَّتْني إليك حاجةً أضاضا (¬6). وقال المبرد: الإيفاض (¬7): ضرب من السير (¬8). وجميع ألفاظ المفسرين دالة على الإسراع. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 224. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 186. (¬3) في (أ): لا نعيق. (¬4) عند الزجاج برواية: "تعدو" بدلًا من "ظلت". وقد ورد البيت عند الزجاج والفراء (مرجعان سابقان) من غير نسبة، وكذا في: شرح أبيات معاني القرآن للفراء ومواضع الاحتجاج بها. د. ناصر حسين علي: 196 شاهد: 440 - 441، و"لسان العرب" 7/ 115، و250 مادة: (أضض)، و (فض) برواية: "تغدو"، و"الإضاضا"، و"تاج العروس" 5/ 6، مادة: (أضَّ)، و"جامع البيان" 29/ 89 برواية: "تغدو" الإضاضا"، و"الدر المصون" 6/ 381. وموضع الشاهد: "ميفاضا" من الإيفاض، وهو الإسراع. والمعنى: الخَرْج: اللون، فإذا رُقِّع القميص الأبيض برقعة حمراء، فهو أخرج، و: "تطلب الإضاضا"، أي: تطلب موضعًا تدخل فيه وتلجأ إليه. انظر: شرح أبيات معاني القرآن، مرجع سابق. (¬5) ساقط من النسخين، ومثبت من معاني القرآن وإعرابه، وبه يستقيم المعنى. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 224 باختصار. (¬7) في (أ): الإيضاض. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

قال ابن عباس (¬1)، وقتادة (¬2)، ومقاتل (¬3): يسعون. وقال أبو (العالية) (¬4)، ومجاهد (¬5): يستبقون (¬6). وقال الحسن: يبتدرون (¬7). وقال محمد بن كعب: يشتدون (¬8). وقال الليث: الإبل تَفِضُ وَفْضًا، وتَسْتَوْفِض، وأوفَضَها صاحبها. وعلى هذا الإيفاض واقع، وهو في الآية مطاوع (¬9)، ويقال: وفض واستوفض بمعنى واحد (¬10). ¬

_ (¬1) راجع الحاشية رقم: 11 صفحة: 153. (¬2) "جامع البيان" 29/ 89، و"الكشف والبيان" 12: 187/ أ. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) غير واضحة لبياض في (ع)، وورد قوله هذا في: "جامع البيان" 29/ 89، و"الكشف والبيان" 187/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 97، و"المحرر الوجيز" 5/ 371، و"الدر المنثور" 8/ 287، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) المراجع السابقة في مصادر قول أبي العالية عدا المحرر الوجيز. (¬6) في (أ): يستمعون. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 297 مطولًا، و"الدر المنثور" 8/ 287، وعزاه إلى عبد بن حميد، كما ورد مطولًا أيضًا في "فتح القدير" 5/ 295. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) المطاوعة هي: قبول فاعل فعل أثر فاعل آخر يلاقيه اشتقاقًا، وهو حصول الأثر الأول للثاني مع التلاقي اشتقاقًا. انظر: معجم المصطلحات النحوية والصرفية: د. محمد اللبدي: 141. (¬10) "تهذيب اللغة" 12/ 82 مادة: (وفض)، نقله الواحدي عن الأزهري باختصار. وانظر مادة: (وفض) في: مختار "الصحاح" 730، و"تاج العروس" 5/ 97، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 486، المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني: 528، و"نفس الصباح": 774، و"تحفة الأريب" لأبي حيان: 319.

سورة نوح

سورة نوح

1

تفسير سورة نوح (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} قال الفراء (¬2)، والزجاج (¬3): (أنْ) في موضع (¬4) نصب؛ لأنك أسقطت منه الخافض، لأن الأصل بأن أنْذِرْ قَوْمَكَ، فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى (أن) فنصبها. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون [أنْ] (¬5) تفسيرًا لما أرسل به، فيكون المعنى (¬6): إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك (¬7). وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الكلبي (¬8)، ومقاتل (¬9): ¬

_ (¬1) مكية كلها بالإجماع. انظر: "جامع البيان" 29/ 90، و"بحر العلوم" 3/ 406، و"معالم التنزيل" 4: 397، و"المحرر الوجيز" 5/ 372، و"زاد المسير" 8/ 96. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 187 نقله عنه الإمام الواحدي بالمعنى. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 227 نقله عنه بتصرف. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) ساقطة من النسختين، والمثبت من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: 5/ 227. (¬6) بياض في: (ع). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 224 بنصه. (¬8) "النكت والعيون" 6/ 98، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 298، و"فتح القدير" 5/ 296. (¬9) "التفسير الكبير" 30/ 134.

4

يعني الغرق بالطوفان (¬1). قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (أن) في محل نصب بقوله: [مبين]، أي: أبين لكم. قال مقاتل (¬2) (¬3)، والكلبي (¬4): وحدوا الله. {وَأَطِيعُونِ} في التوحيد (¬5). 4 - وقوله (¬6): {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} قال أبو إسحاق: دخلت (من) تختص الذنوب من سائر الأشياء لم تدخل (¬7) لتبعيض الذنوب كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (¬8) [الحج: 30]. وقال غيره (¬9): (من) بمعنى: (عن)، والمعنى: يصفح لكم عن ¬

_ (¬1) غير واضحة لبياض في (ع). والطوفان -بالضم-: المطر الغالب، والماء الغالب، يغشى كل شيء، والموت الذريع الجارف، والقتل الذريع، والسيل المغرق، ومن كل شيء ما كان كثيرًا مُطيفًا بالجماعة بهاء. انظر: "القاموس المحيط": للفيروزآبادي: 3/ 170. وقال الراغب: والطوفان كل حادثة تحيط بالإنسان، وصار معارفًا في الماء المتناهي في الكثرة لأجل أن الحادثة التي نالت قوم نوح كانت ماء. انظر: المفردات في غريب القرآن: 312. (¬2) غير مقروء في: (ع). (¬3) قول مقاتل في: "تفسير مقاتل" 210/ أ. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) في (أ): قوله: من غير واو. (¬7) في (أ): يدخل. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 228 بتصرف، وقد رد ابن عطية هذا المعنى فقال: "وهذا ضعيف؛ لأنه ليس هنا جنس يبين". "المحرر الوجيز" 5/ 372. (¬9) قاله الفراء في "معاني القرآن" 3/ 187، وقد رد هذا أيضًا ابن عطية فقال: "وهذا غير معروف في أحكام "من". المرجع السابق.

ذنوبكم (¬1). ويجوز أن يريد: يغفر لكم السالفة من ذنوبكم، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليهم، ولما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق قيدت بهذا التقييد (¬2). قال مقاتل: (من) هاهنا صلة، يعني: يغفر لكم ذنوبكم (¬3). (ونحوه قال الكلبي (¬4)) (¬5). وقوله تعالى: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، قال الفراء: يريد إلى أجل تعرفونه لا يميتكم غرقاً، ولا حرقاً (¬6)، ولا قتلاً. وليس في هذا حجة لأهل القدر (¬7) (¬8)؛ لأنه إنما أراد: مسمى عندكم -قال-، ومثله قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، أي: عندكم في ¬

_ (¬1) غير واضحة لبياض في: (ع). (¬2) وقد اعتبر ابن عطية هذا القول من أبين الأقوال عنده. مرجع سابق. (¬3) "تفسير مقاتل" 210/ أ، وقد رد السمرقندي قول مقاتل في "بحر العلوم" 30/ 356. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ساقطة من: (أ). (¬6) في (أ): خوفًا. (¬7) أهل القدر: هم المعتزلة، ومن مذهبهم في ذلك أن العباد الخالقون لأفعالهم، والمستقلون في أعمالهم، بدون سبق قدر؛ وقد تقدم الكلام عنهم. (¬8) حيث تعلق بقوله: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، المعتزلة في قولهم: إن للإنسان أجلين، وذلك أنهم قالوا: لو كان واحدًا محدودًا لما صح التأخير إن كان الحد قد بلغ، ولا المعاجلة إن كان الحد لم يبلغ. قاله ابن عطية، انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 373. ولهذا فعندهم أن المقتول مات بالقتل، وليس بأجله، ولو لم يقتل لعاش. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 149.

معرفتكم (¬1). قال الزجاج: أي يؤخركم عن العذاب، فتموتوا غير ميتة المُستأصَلين بالعذاب (¬2). هذا كلامهما. (وليس فيه ما يَدفع قول أهل (¬3) القدر؛ لأن ظاهر قوله: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أنهم إذا آمنوا (¬4) بقوا إلى أجلهم المسمى، وإذا لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب قبل الأجل، والصحيح في هذا ما روى عطاء عن ابن عباس قال: ينسى في أعماركم (¬5)؛ وذلك أن الله كان قد قضى قبل أن خلقهم، أنهم إن آمنوا بارك الله في أعمارهم (¬6)، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب المهلك، فبأي الأجلين (¬7) هلكوا كان ذلك بقضاء من الله وقدر. هذا معنى قول ابن عباس: (ينسى في أعماركم (¬8)) (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 187 بتصرف يسير. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 228 بنصه. (¬3) في (أ): هذا. (¬4) غير واضحة لبياض في: (ع). (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 299. (¬6) بارك الله في أعمارهم: غير واضح في: (ع). (¬7) بالعذاب المهلك فبأي الأجلين: غير واضح في: (ع). (¬8) غير واضح لبياض في: (ع). (¬9) ما ورد بين القوسين من كلام الواحدي، وهو يدل على أمرين: أحدهما: ترجيح الإمام الواحدي إلى ما ذهبت إليه المعتزلة من إثبات أن للإنسان أجلين، وهذا ما يُفهم من قوله: "وليس فيه ما يدفع قول أهل القدر إلى قوله: وإذا لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب قبل الأجل". فتضعيفه لقولي الإمامين أراد به تقوية جانب الاستدلال بظاهر الآية إلى ما تزعمه المعتزلة من أن للإنسان أجلين. هذا وإن كان ما ذهب إليه الإمامان من رد على القدرية، فوجهه ضعيف؛ لأن ما ذكراه من معنى صحيح في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = الجملة، لأن الآية دلت على ما ذكراه من أنهم إذا آمنوا فإن الله لا يُعجِّل لهم العذاب بغرق، أو قتل، أو حرق، أو نحو ذلك. ولكن هذا لا يردُّ مباشرة على دعوى المعتزلة من أن لهؤلاء القوم أجلين: حال الكفر والتكذيب بتعجيل العذاب الذي يستأصلهم، وحال الإيمان بتأخيرهم إلى أجل آخر. وإنما قلنا إنه ردٌّ ضعيف؛ لأن فيه وجهًا من الرد عليهم، بناء على أن الأجل المسمى منصبٌّ على نوع سبب الوفاة بالعذاب، أو الوفاة في الأحوال العادية، لا على الوفاة نفسها التي حدد أجلها، ولا يتغير. الثاني: موافقته إلى ما ذهبت إليه المعتزلة، يفهم ذلك من قوله: "والصحيح في هذا ما روى عطاء عن ابن عباس إلى قوله: وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب المهلك، فبأي الأجلين أهلكوا كان ذلك بقضاء من الله وقدر" حيث أقر -بقوله هذا- أن للإنسان أجلين، وهو ما تقول به المعتزلة. هذا وقد اختار الطحاوي هذا القول في مشكل الآثار: 4/ 170. وقد اختلفت أقوال العلماء في تفسير الآية، وما شاكلها من أحاديث، كنحو ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه-، وحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليصل رحمه". صحيح مسلم: 4/ 1982: ح: 2557، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم. ولتفصيل هذه المسألة انظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة: لعبد الرحمن صالح المحمود -رسالة ماجستير-: 327. والراجح من الأقوال في مسألة الآجال، وهل تتغير أم هي محددة؟ قول من ذهب إلى أن القدر لا يتغير، وأن التغيير والتبديل لا يكون أبدًا؛ لأن الذي سبق في علم الله كائن لا يتغير، وعلم الله كامل، أحاط بكل شيء، ومنه ما هو كائن، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، أو ما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي، فيقع المحو والإثبات، بمعنى أن ما في اللوح المحفوظ لا يتغير، وما سواه من صحف الملائكة الموكلين بالآدمي قد يدخله التغيير؛ لأن الملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها. وهذا القول هو الذي عليه المحققون، كابن تيمية في: "مجموع الفتاوى" 4/ 490 - 492، وابن حجر في "فتح الباري" 11/ 448، والشيخ السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" 2/ 476. وأما قول ابن عباس: "وينسى لكم في أعماركم" إلا يعارض القول الراجح، =

وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى أجلكم (¬1) في عافية، فلا يعاقبكم بالسنين ولا بغيره (¬2). والمعنى على هذا القول: يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم، لا من المهلكات. وقوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} يعني أجل الموت، وأجل العذاب، وكل أجل مسمى عند الله لشيء إذا جاء لم يؤخر. والمعنى: آمنوا قبل الموت تسلموا من العقوبات، فإن أجل الموت إذا حل لم يؤخر، فلا يمكنكم الإيمان إذا جاء الأجل. ¬

_ = ويكون معناه: إن آمنتم كان ذلك سببًا في تأخير آجالكم، وكل ذلك بقدر؛ لأن الله علم هل هؤلاء سيؤمنون، أو لا يؤمنون؟ وهم ونوح معهم، لا يعلمون ما الذي في اللوح المحفوظ من قدر الله، ولما كان الإيمان مطلوبًا، مأمورًا به كالدعاء، والصدقة، وصلة الرحم، ونحوها، أُمِر به هؤلاء، وبين لهم نوح عليه السلام أن إيمانهم سبب لخيرات كثيرة، منها: أن يؤخر عنكم العذاب. وعليه، فليس في الآية ولا في أحاديث الدعاء وصلة الرحم ما يدل على قول المعتزلة من أن للإنسان أجلين، إن آمن أو لم يؤمن، أو وصل رحمه أو لم يصل رحمه، بل أجل واحد محدود، لا يتقدم ولا يتأخر، وهذه الأمور المذكورة من جملة الأسباب المأمور بها، وهي ومسبَّبُها بقدر. قال ابن عطية: وليس في الآية تعلق، لأن المعنى أن نوحًا عليه السلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل، ولا قال لهم: إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم، لكن سبق في الأزل أنهم إما ممن قضي لهم بالإيمان والتأخير، وإما ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة، ثم تشدد هذا المعنى ولاح لقوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} "المحرر الوجيز" 5/ 373. وكل ما ذكرته من تحقيق لقول الواحدي قد نقلته عن د. عبد الرحمن بن صالح المحمود بشيء من التصرف، من الكتابة الخطية له، والمحررة ليلة السبت 11/ 1/ 1418 هـ. (¬1) غير واضح لبياض في: (ع). (¬2) "تفسير مقاتل" 210/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 299، و"فتح القدير" 5/ 297.

6

6 - قوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} قال مقاتل: يعني تباعداً من الإيمان (1). وقال قتادة: هو أنه كان الرجل يذهب بابنه إلى نوح فيقول: احذر لا يغرك، فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك، فحذرني كما حذرتك (2). وقوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} قال صاحب النظم: ظاهر هذا أن المغفرة جزاء لدعائهم، وهو في الباطن جزاء. المعنى: هو سبب ادعائهم، وهذا مقتضى من قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فالتأويل: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم؛ لأمرهم بعبادة الله واتقائه وطاعته لتغفر لهم. وقوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} قال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي (3). وقال مقاتل: غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا دعائي (4). 8 - قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)} قال ابن عباس:

_ (1) "تفسير مقاتل" 210/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 100، و"فتح القدير" 5/ 297. (2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 319، و"جامع البيان" 29/ 92، و"النكت والعيون" 6/ 100، و"المحرر الوجيز" 5/ 373، و"الدر المنثور" 8/ 289، وعزاه أيضا إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (3) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 300، و"الدر المنثور" 8/ 289 وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر. (4) "تفسير مقاتل" 210/ أ.

بأعلى (¬1) صوتي (¬2). وقال أبو إسحاق: أي دعوتهم مظهرًا لهم الدعوة، و {جَهَارًا} منصوب مصدر موضوع موضع الحال (¬3) (¬4). المعنى: دعوتهم مجاهرًا لهم بالدعاء إلى توحيد الله وتقواه (¬5). {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} قال مجاهد (¬6)، (ومقاتل) (¬7): صحْت بهم (¬8). {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} فيما بيني وبينهم. قال ابن عباس: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سرًا فيما بيني وبينه (¬9)، أدعوه إلى عبادتك، وتوحيدك. (¬10) وقال الزجاج: إني خلطت دُعاءهم بالعلانية بدعاء السر (¬11). ¬

_ (¬1) في (ع): بأعلا. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 397، و"زاد المسير" 8/ 98، و"لباب التأويل" 4/ 312. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) يجوز أن يكون مصدرًا من المعنى؛ لأن الدعاء يكون جهارًا وغيره، فهو من باب قعد القرفصاء، وأن يكون المراد بدعوتهم: جاهرتهم، وأن يكون نعت مصدر محذوف، أي دعاء جهارًا. انظر: "الدر المصون" 6/ 383. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 228 - 229 بنصه. (¬6) "جامع البيان" 29/ 93، و"النكت والعيون" 6/ 101، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 301، و"الدر المنثور" 8/ 290، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬7) ساقطة من: (أ). (¬8) "تفسير مقاتل" 210/ أ. (¬9) قاله مجاهد: انظر: "جامع البيان" 29/ 93. (¬10) "معالم التنزيل" 4/ 398، و"زاد المسير" 8/ 98، و"لباب التأويل" 4/ 312. (¬11) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 229 بنصه.

10

10 - قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} قال مقاتل: إن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً، جس الله عنهم المطر، وأعقم أرحامَهم أربعين سنة، فهلكت جناتهم، ومواشيهم، فصاحوا إلى نوح، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك (¬1). والمعنى: استدعوا مغفرة ربكم بالتوحيد، وترك الشرك. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ}، أي: ماء السماء، ويجوز أن يكون المراد بالسماء المطر لقوله: {مِدْرَارًا}، وهو الكثير الدرّ، والدر تخلّب (¬2) الشيء حالاً بعد حال، يقال: درت الناقة، ودر اللبن، يدرّ ويدُرّ دَرّاً ودُرُوراً، ودَرت السحاب، ودرّ المطر (¬3). قال مقاتل: (مدراراً (¬4)): متتابعاً (¬5). {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} قال عطاء: يكثر أموالكم، وأولادكم (¬6). {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} يعني البساتين (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 210/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 137، و"القرطبي" 18/ 302. (¬2) الخُلَّب: السحاب يُومِضُ بَرْقُه حتى يُرْجَى مطرُه، ثم يُخْلِف، ويقلع، وينقشع، وكأنه من الخِلابة، وهي الخداع بالقول اللطيف. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 2/ 58. (¬3) انظر مادة: (درّ) في "تهذيب اللغة" 14/ 60، و"الصحاح" 2/ 656، و"لسان العرب" 4/ 280. وانظر أيضًا: المفردات: للراغب الأصفهاني: 166 - 167. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "فتح القدير" 5/ 298. (¬7) قال بذلك الطبري في: "جامع البيان" 29/ 94، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 229، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 407، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12: 188/ أ.

{وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} قال مقاتل: كانوا [يسخطون] (¬1) الله فأهلك كل شيء لهم، ودفنت أنهارهم، فدعاهم نوح إلى توحيد الله، وقال: إنكم إذا وحدتم تصيبوا الدنيا والآخرة (¬2). وقال أبو إسحاق (¬3): أعلمهم أن إيمانهم بالله يجمع لهم من الحظ الوافر في الآخرة، والخِصْب والغنى في الدنيا (¬4). قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} الرجاء هاهنا بمعنى الخوف -ذكرنا ذلك فيما تقدم (¬5) - ومنه قول الهذلي (¬6): إذا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لمْ يَرْجُ لسْعَها (¬7) ¬

_ (¬1) في (أ): يسخطو، وغير مقروءة في: (ع). (¬2) "تفسير مقاتل" 210/ أ. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 229 بنصه. (¬5) منها في سورة يونس: 15: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)} فجاء أيضًا أن الرجاء: الخوف. والآية: 15 من السورة نفسها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}. جاءت في تفسير الرجاء أنه الخوف. انظر: تفسير البسيط: 3: 5/ أ. وكذا سورة الفرقان: 21: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} وأيضًا جاء تفسير الرجاء: الخوف. المرجع السابق: 4/ 63/ ب. (¬6) الهذلي: هو أبو ذؤيب؛ خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن هزيل، تقدم. (¬7) هذا صدر بيت، وعجزه: =

و (الوقار): العظمة، والتوقير: التعظيم، ومنه قوله تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] (¬1) يعني مالكم لا تخافون لله عظمة، وهو قول أبي عبيدة (¬2)، والفراء (¬3)، والزجاج (¬4)، (وابن قتيبة (¬5)، والكلبي (¬6)) (¬7). ¬

_ = وخالَفَها في بيت نُوبٍ عوَاسل وعند الفراء برواية: "الدبر" بدلًا من "النحل"، و"حالفها" بدلًا من "خالفها"، و"عوامل" بدلًا من "عواسل". وموضع الشاهد: "لم يرْجُ"، ومعناه: لم يخف، ولا يكون هذا إلا مع النفي. ومعنى "النوب": ذكر النحل. انظر: شرح أبيات "معاني القرآن" 296: ش: 663. وقد ورد البيت منسوبًا في كتب اللغة، مادة: (رجا). انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 182، برواية: "لسعتها"، و"معجم مقاييس اللغة": 2/ 495، و"الصحاح" 6/ 2352، و"لسان العرب" 14/ 310، و"تاج العروس" 10/ 145، ديوان الهذليين: 1/ 143. وأيضًا: أبو ذؤيب الهذلي: حياته وشعره: 99، كتاب "الأضداد" لابن الأنباري: 10، و"معاني القرآن" للفراء: 1/ 286، و2/ 265، وفي: ج 2 غير منسوب، كتاب "الأضداد" للسجستاني: 81، كتاب "الأضداد" لابن السكيت: 179. وأيضًا في: "جامع البيان" 29/ 95، و"المحرر الوجيز" 5/ 374، و"التفسير الكبير" 30/ 138، و"الدر المنثور" 8/ 291، و"فتح القدير" 5/ 298، و"روح المعاني" 29/ 73. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للأخفش: 2/ 715. (¬1) انظر: مادة: (وقر) في "تهذيب اللغة" 9/ 280، و"الصحاح" 2/ 949. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 271. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 188. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 229. (¬5) تفسير غريب القرآن: 487. (¬6) "الكشف والبيان" 12: 188 /ب. (¬7) ساقطة من: (أ).

وجميع ما قال المفسرون يعود إلى هذا المعنى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: ما لكم لا تعلمون حق عظمة الله (¬1) (¬2). وقال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقاً، ولا تشكرونه (¬3). وقال مجاهد: لا تُبالون عظمة ربكم (¬4). وقال قتادة: لا ترجون لله عاقبة (¬5). وقال ابن زيد (¬6): لا ترون لله طاعة (¬7). ومعنى هذه الأقوال واحد (¬8)، وهو أنهم لو عظموا الله، وعرفوا حق ¬

_ (¬1) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 95، و"الكشف والبيان" 12: 188/ ب، و"الدر المنثور" 8/ 290، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد. انظر: "شعب الإيمان" 1/ 464: ح: 728 برواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. (¬2) قوله: حق عظمة الله غير واضح في: (ع). (¬3) "الكشف والبيان" 12: 188/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 101، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 303، و"الدر المنثور" 8/ 291، و"فتح القدير" 5/ 298، شعب الإيمان: 1/ 465: ح: 732. (¬4) المراجع السابقة عدا: معالم التنزيل، والقرطبي، وقد عزاه صاحب الدر إلى سعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وانظر: "فتح الباري" 8/ 667، و"شعب الإيمان" 1/ 465: ح: 730. (¬5) "جامع البيان" 29/ 95، و"الكشف والبيان" مرجع سابق، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 303، و"فتح القدير" 5/ 298. (¬6) في (أ): ابن دريد، وهو تصحيف، فابن دريد عالم في اللغة. (¬7) ورد قول ابن زيد في: "جامع البيان" 29/ 95، و"الكشف والبيان" 12: 188/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 101، و"زاد المسير" 8/ 98، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 303، و"فتح القدير" 5/ 298. (¬8) بياض في: (ع).

عظمته، وحدوه، وأطاعوه، وشكروه (¬1). وهذا معنى قول مقاتل: فمن (¬2) لم يوحده لم يعظمه (¬3). (والمعنى: لمَ لا تعظمونه فتوحدونه، وقد جعل في أنفسكم (¬4) آية تدل على توحيده: من خلقه إياكم، ومن خلق السموات والأرضين) (¬5)، فقال عز وجل: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} قال المفسرون: يعني نطفة، ثم علقة، ثم شيئاً بعد شيء (¬6)، إلى آخر الخلق، وطوراً (¬7) بعد طور ينقلكم من حال إلى حال (¬8) (¬9). قال الليث: الطور: التارة، تقول: طَوْرًا بعد طَوْرٍ: أي تارة بعد تارة، والناس أطوار، أي: أخياف (¬10) على حالات شتى (¬11). ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) غير واضحة لبياض في: (ع). (¬3) "تفسير مقاتل" 210/ أ. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الزجاج بشيء من التصرف: 5/ 229. (¬6) غير واضحة لبياض في: (ع). (¬7) غير واضحة لبياض في: (ع). (¬8) بياض في: (ع). (¬9) وممن قال بذلك من المفسرين: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. انظر: "جامع البيان" 29/ 95 - 96، وعن يحيى بن رافع، وعكرمة، والسدي. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 453، وتفسير السدي الكبير: 462، وعن مطر؛ انظر: الدر: 8/ 291. وذهب إلى هذا القول: الفراء 3/ 188، والزجاج 5/ 229، والثعلبي 12/ 188 ب، والبغوي 4/ 398، وابن الجوزي 8/ 98، والقرطبي، وعزاه إلى ابن عباس. (¬10) أخياف: أي يسْتوون. "تهذيب اللغة" 7/ 591 (خيف). (¬11) ورد قول الليث في تهذيب اللغة، نقله بنصه: 14/ 110 (وطر). وانظر: "الصحاح" 2/ 727: (طور).

15

وقال ابن الأنباري: الطور الحال، وجمعه أطوار، وتلا هذه الآية، قال: ومعناها: ضروباً، وأحوالاً مختلفة (¬1). (ثم) (¬2) وعظهم ليعتبروا في صنعه فقال: 15 - {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)} قال ابن عباس: بعضها (¬3) فوق بعض (¬4)، وهذا مفسر في أول سورة الملك (¬5). (قوله) (¬6): {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}، قال عطاء: في السموات (¬7). واختلفوا في هذا؛ لأن القمر في السماء الدنيا، والله تعالى يقول: (فيهن)، فروى ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: وجهه في السموات، وقفاه في الأرض (¬8). ¬

_ (¬1) قوله هذا في: "زاد المسير" 8/ 98، و"التفسير الكبير" 30/ 139، و"فتح القدير" 5/ 298. (¬2) ساقطة من: (أ). (¬3) في (أ): بعضًا. (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 304. (¬5) سورة الملك: 3، وقد جاء في تفسيرها: "قال ابن عباس والمفسرون: بعضها فوق بعض، وقال الكلبي: كل سماء مقبية على الأخرى، يلتصق بها أطرافها، وسماء الدنيا موضوعة على الأرض مثل القبة، قال الزجاج: وطباقًا مصدر، أي طوبقت طباقًا". (¬6) ساقط من: (ع). (¬7) "النكت والعيون" 6/ 102، و"الدر المنثور" بمعناه: 8/ 292 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ في العظمة. (¬8) "النكت والعيون" 6/ 102، و"معالم التنزيل" 4/ 389، و"المحرر الوجيز" 5/ 375، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 305، و"لباب التأويل" 4/ 313، و"الدر المنثور" 8/ 292، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ في العظمة، =

وهذا قول عبد الله بن عمرو (¬1). وقال قتادة: إن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات، وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقر بذلك أنه من كتاب الله، وتلا هذه الآية (¬2). وقال الكلبي: (فيهن) يعني معهن (¬3). والمعنى: خلق السموات والأرض والقمر مع خلق السموات، فجعل القمر نورًا بالليل، وجعل الشمس سراجًا ضياء لأهل الأرض. وهذا قول مقاتل (¬4). وعلى قولهما: (في) بمعنى: (مع) (¬5)، هذا قول المفسرين، وأما أهل العربية، فقال الأخفش: هذا على المجاز، كما تقول: أتَيْتُ بني تميم، وإنما أتيت بعضهم (¬6)؛ لأنه إنما جعل نورًا في السماء ........... ¬

_ = والحاكم وصححه في "المستدرك": 2/ 502 كتاب التفسير، تفسير سورة نوح، وقال: حديث صحيح، ووافقه الذهبي. (¬1) ورد قوله في: تفسير القرآن: لعبد الرزاق: 2/ 319، و"جامع البيان" 29/ 97، و"الكشف والبيان" 12: 188/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 398، و"المحرر الوجيز" 5/ 375، و"زاد المسير" 8/ 99، و"لباب التأويل" 4/ 313، و"الدر المنثور" 8/ 291وعزاه إلى عبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 299. (¬2) "جامع البيان" 29/ 97. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 304. (¬4) "الكشف والبيان" 12: 188/ ب، بمعناه، والعبارة عنه: "وجعل القمر معهن نورًا لأهل الأرض". (¬5) "في": هي من الحروف العوامل، وعملها الجر، ومعناها: الوعاء، وتأتي بمعنى: "على"، وهذا عند الكوفيين، وتأتي بمعنى: "مع" عند البصريين، وتكون على بابها. انظر: معاني الحروف للرُّماني: 96. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 715 نقله عنه بتصرف.

الدنيا (¬1)، وهذا قول الحسن (¬2)، وعلى هذا أقيم (¬3) البعض مقام الكل (¬4)، كما يقال: خرج إلى البصرة على (¬5) البغال، وركب إلى بغداد في السفن (¬6)، وتوارى في دور بني فلان (¬7). وإنما جاز إقامة البعض دون الكل (¬8)؛ لأنهن كالشىء الواحد. قاله الزجاح (¬9). وقال بعضهم (¬10): هذا مما حذف منه (¬11) المضاف، والتقدير: وجعل القمر في بعضهن، أو في إحداهن (¬12). قوله تعالى: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}: قال ابن عباس: يريد: مبتدأ خلق آدم (¬13) (¬14)، وقال الكلبي: لأن آدم خلق من الأرض، ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للأخفش: 2/ 715. كما ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 97، من غير عزو، و"الكشف والبيان" 12: 188/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 715. (¬2) ولم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) وعلى هذا أقيم: بياض في: (ع). (¬4) بياض في: (ع). (¬5) بياض في: (ع). (¬6) في السفن: بياض في: (ع). (¬7) بياض في: (ع). (¬8) بياض في: (ع). (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 230 نقله عنه بتصرف. (¬10) بياض في: (ع). (¬11) في (أ). منها. (¬12) لم أعثر على من قال بذلك فيما بين يدي من كتب النحو والإعراب. (¬13) بياض في: (ع). (¬14) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله في الوسيط من غير عزو: 4/ 358.

21

والناس ولده (¬1)، وقال مقاتل: يعني أول خلقكم من تراب (¬2) الأرض (¬3)، قال الأخفش في قوله: (نباتًا) جعل الاسم في موضع المصدر (¬4)، والمصدر: الإنبات؛ لأن هذا يدلك على ذلك المعنى (¬5). وقال أبو إسحاق: (نباتاً) محمول على المصدر في المعنى؛ لأن معنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتًا، فنباتكم (¬6) أبلغ في المعنى (¬7). وقوله: {سُبُلًا فِجَاجًا}، أي: طرقاً واسعة، واحدها: فج، وهو مفسر فيما تقدم (¬8). 21 - {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا} الآية. قال الكلبي، ومقاتل: اتبع الفقراء والسفلة الرؤساء (¬9) والكبراء الذين لم يزدهم كثرة المال إلا ضلالاً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، وهو قوله: ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في الوسيط: 4/ 358. (¬2) بياض في: (ع). (¬3) "تفسير مقاتل" 210/ ب. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) ورد قوله في "معاني القرآن" 2/ 715 بتصرف يسير. (¬6) في (ع): فنباتًا. (¬7) ورد قوله في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 230 باختصار يسير. (¬8) سورة الأنبياء: 31: {وَجَعَلْنَا في الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}، وجاء في تفسيرها: "قال الليث: الفج: الطريق الواسع بين جبلين، وقال أبو الهيثم: الفج: طريق في الجبل واسع، يقال: فج، وأفج، وفجاج، والفج في كلام العرب: تفريجك بين الشيئين، ومنه قيل: الطريق بين جبلين فج؛ لأنه فرج بين الجبلين. وعن ابن عباس قال: وجعلنا من الجبال طرقًا حتى اهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار والتجارات". تفسير البسيط: بتصرف. (¬9) "تفسير مقاتل" 210/ ب.

{مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}، وقرئ: (ووُلدُهُ) -بضم الواو (¬1) -، وقد ذكرنا في آخر سورة مريم (¬2): (أن الوُلد بالضم لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعًا، إما جمع وَلَدٍ، وإما جمع وُلْدٍ كالفُلْك، وهاهنا يجوز أن يكون واحدًا وجمعًا) (¬3). قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)} يعني الرؤساء قتلوا السفلة (¬4) عن الإيمان شرح، وقالوا لهم: (لا تذرنَّ) الآية. وهذا كان مكرهم (¬5). قاله مقاتل، قال: والمعنى: قالوا قولاً عظيمًا، وقولهم العظيم أنهم قالوا: لا تذرنَّ عبادة ودّ (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف بضم الواو الثانية، وإسكان اللام: "ووُلْدُهُ"، والباقون بفتح الواو واللام: "ووَلَدُهُ". انظر: "القراءات وعلل النحويين" 2/ 717، و"الحجة" 6/ 325، و"المبسوط" 385، و"البدور الزاهرة" 326، و"المهذب في القراءات" لعبد الفتاح القاضي 2/ 306. (¬2) سورة مريم: 77: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)}. (¬3) ما بين القوسين نقله عن أبي علي بتصرف: الحجة: 6/ 325 - 326. (¬4) السُّفْل، والسِّفْلُ، والسُّفُول، والسَّفال، والسَّفالة بالضم: نقيض العُلْوِ، والعِلْوِ، والعُلُوِّ، والعَلاءِ، والعَلاوَةِ. والسَّفِلة: السُّقاط من الناس، ويقال: السِّفْلة. انظر: "الصحاح" 5/ 1730، مادة: (سفل)، وتهذيب اللغة: 12/ 430، (سفل). (¬5) المكر له خمسة أوجه: فوجه منها: المكر: تكذيب الأنبياء، الثاني: المكر: فعل الشرك، الثالث: المكر بالقول، الرابع: المكر: إرادة القول، الخامس: المكر: الحيلة. انظر: قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم: للدامغاني: 439 - 440. (¬6) ودّ: صنم كان لقوم نوح عليه السلام، ثم صار لكلاب. "الصحاح" 2/ 549 (ود). وفي الموسوعة الميسرة: 2/ 1946: "ود: اسم إله القمر في الديانة المعينية القديمة في اليمن، ومعناه: الحب، وورد اسمه في النقوش المعينية، والسبئية، وقد أقيمت باسمه بعض المعابد في بلاد الجوف باليمن". (¬7) ورد معنى قوله في: "تفسير مقاتل" 210/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 104، =

ونحو هذا قال الكلبي (¬1) وغيره (¬2)، إلا أنهم جعلوا ذلك القول (¬3) العظيم الافتراء على الله، وتكذيب رسوله. (والكُبَّار (¬4): مبالغة من الكبير (¬5)، يقال: كبير (¬6)، وكُبَارٌ، وكُبَّارٌ، وجميل، وجَمال، وجُمَّالٌ، وعظيم، وعَظام، وعِظَّام في أشباه (¬7) كثيرة (¬8) " (¬9)، لهذا تم ذكر ما قالت الكبراء للسفلة، وهو قوله: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي عبادتها. ¬

_ = و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 307، و"فتح القدير" 5/ 300، والعبارة عنه في جميعهم: هو قول كبرائهم لأتباعهم: "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعًا" الآية. (¬1) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 103، و"القرطبي" 18/ 307، و"فتح القدير" 5/ 300، والعبارة عنه في كليهما: "هو ما جعلوه لله من الصاحب والولد". (¬2) وهو قول الضحاك، قال: افتروا على الله وكذبوا، وكذبوا رسوله. وبمعنى هذا قال ابن عباس: قالوا قولًا عظيمًا، وكذا الحسن، قال: مكروا في دين الله وأهله مكرًا عظيمًا. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 189/ ب، و"البغوي" 4/ 399. (¬3) في (أ): الفوز. (¬4) قال ابن فارس: "كبر: الكاف والباء والراء أصل صحيح يدل على خِلاف الصِّغَر، يقال: هو كبير، وكُبار، وكُبَّار، والكِبْر: مُعْظم الأمر". "معجم مقاييس اللغة": 5/ 153 (كبر). وفي "الصحاح" "كَبُرَ -بالضم- يَكْبُر أي عَظُم فهو كبير، وكُبَار، فإذا أفرط قيل: كُبَّار -بالتشديد- ". 2/ 801 (كبر). (¬5) في (أ): الكبر. (¬6) في (أ): كبر. (¬7) غير مقروءة في: (ع). (¬8) وأشباهه نحو: كثير وكُثَّار، وقليل وقُلّال، وجسيم وجُسَّام، وزحير وزُحَّار، وأنين وأنان. انظر: "إصلاح المنطق" 109. (¬9) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الفراء بتصرف. انظر: "معاني القرآن" 3/ 189.

(ولا تذرن وَدًا (ولا سواعًا) (¬1) " إلى قوله: {وَنَسْرًا} (روى السُّدِّيُّ عن) (¬2) أبي مالك قال: هذه أسماء آلهتهم (¬3). وهو قول مقاتل (¬4)، والجميع (¬5). قال قتادة: ثم عبدتها العرب بعد ذلك (¬6)، وكان (ودٌّ) لكلب (¬7) بدومة الجنْدَل (¬8)، ¬

_ (¬1) ساقطة من: (ع). (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) لم أعثر على مصدر لقول السدي. (¬4) "تفسير مقاتل" 210/ ب. (¬5) وهو قول: قتادة، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد، وعكرمة، وابن إسحاق، وأبي عثمان. انظر: "جامع البيان" 29/ 99، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 455، و"الدر المنثور" 8/ 293 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، وابن المنذر. وبه قال الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 230، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12: 190/ ب، وابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 375، وابن كثير في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 454. (¬6) بياض في: (ع). (¬7) كلب بن وبرة: بطن من قُضاعة، من القحطانية، وهم: بنو كلب بن وبرة، وكانوا ينزلون دُومة الجندل وتبوك وأطراف الشام، ونزل خلق عظيم منهم على خليج القسطنطينية، ومن أمكنتهم: عُقدة الجوف، الشرية، ومن أوديتهم: قُراقر، ومن مياههم: عُراعر، وقد اتخذوا في الجاهلية بدومة الجندل صنمًا يدعى: "ودًّا"، ودخلوا في دين النصرانية، ثم في الإسلام. انظر: "معجم قبائل العرب القديمة والحديثة" لعمر رضا كحالة: 3/ 991، و"نهاية الأرب" للقلقشندي: 365: ت: 1491. (¬8) دُومَة الجندل -بضم أوله وفتحه-: وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل، ودومة الجندل: حصن وقرى بين الشام والمدينة، قرب جبل طيئ، كانت به بنو كتانة من كلب. افتتحها خالد بن الوليد -رضي الله عنه- سنة 9 هـ، وقال الشيخ =

وكان "سُواعٌ (¬1) ") لهُذَيْل (¬2)، وكان "يغُوثُ (¬3) " لبني غُطَيْف (¬4) من مراد (¬5). وكان (يعوق (¬6)) لهمدان (¬7)، ¬

_ = حمد الجاسر: "هي مدينة كانت قاعدة إمارة الجوف، ثم نقلت القاعدة إلى سكاكة". انظر: "معجم البلدان" 2/ 487، و"معجم ما استعجم" للبكري: 2/ 546، و"المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية" لحمد الجاسر: 1/ 588. (¬1) سواع: اسم صنم عُبد زمن نوح عليه السلام فغرقه الله أيام الطوفان ودفنه، فاستثاره إبليس لأهل الجاهلية، فعبدوه. تهذيب اللغة: 3/ 89، مادة: (سوع). (¬2) هذيل: هم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، كانت ديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف، وكان لهم أماكن ومياه في أسفلها من جهات نجد، وتهامة بين مكة والمدينة، ثم تفرقوا بعد الإسلام، وهم بطنان: سعد بن هذيل، ولحيان بن هذيل. من منازلهم وديارهم: عُرنة، عَرفة، بطن نُعمان. ومن جبالهم: مَكان المشعر، فَحل، عَماية. ومن أوديتهم: نخاة، الشامية، سعيا، حَلبة. ومن مياههم: المجاز، الرجيع، بئر معونة. ومن أيامهم: يوم خشاش، ووقعة الجُرف. وكانوا يعبدون مَناة بين مكة والمدينة، وصنم سعد، وصنمًا كان برهاط يحجون إليه، وقد هدمه عمرو بن العاص رضي الله عنه سنة 58. انظر: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة: لعمر رضا كحالة: 3/ 1213، وانظر: نهاية الأرب: 387: ت: 1611. (¬3) يغوث: صنم كان لمَذْحِج. "لسان العرب" 2/ 175، مادة: (غوث). (¬4) بياض في: (ع). (¬5) بنو غطيف: بطن من مراد من كهلان القحطانية، وهم بنو غطيف بن عبد الله بن ناجية بن مراد. قال أبو عبيد: ويقال: إنهم من الأزد، ومنهم فروة بن مسيك، وقد على النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب: 348: ت: 1423، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة: لكحالة: 3/ 889. (¬6) يعوق: صنم كان لقوم نوح عليه السلام. "الصحاح" 4/ 1534، مادة: (عوق). (¬7) همْدان: بطن من كهلان، من القحطانية، وهم: بنو همدان بن مالك بن زيد بن =

وكان (نَسْر (¬1)) لذي الكلاع (¬2) من حمير (¬3) (¬4). وهذا قول ابن عباس (¬5) ¬

_ = أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان، لهم أفخاذ متسعة، منهم: المحايل، سبع، يام، موهبة، أرحب، وبنو الزريع. ديارهم: كانت ديارهم باليمن من شرقيه، ولما جاء الإسلام تفرق قوم منهم، وبقي قوم منهم باليمن، فنزلوا الكوفة، ومصر، فمن بلادهم باليمن: نجران، غُرق، شروم، الخنق. ومن قصورهم: ناعط. تاريخهم: من أيامهم يوم الرَّزْم، كان لهمْدان على مُراد قبيل الإسلام، وأغار عليهم توبة بن الحمير في محل يدعى الجرف. أصنامهم: سُواع، ويعوق. انظر: معجم قبائل العرب: 3/ 1225. (¬1) نَسْر: صنم كان لذي الكلاع بأرض حمير. "لسان العرب" 5/ 206، مادة: (نسر). (¬2) بياض في (ع). وذو الكلاع: بطن يعرف بذي الكلاع من حمير القحطانية، وهم بنو شرحبيل بن حمير، كانوا يقطنون بمخلاف السَّحول بن سوادة. انظر: معجم قبائل العرب: 3/ 990. (¬3) ورد قول قتادة في: "جامع البيان" 29/ 99، و"الكشف والبيان" 12: 190/ ب، فتح الباري: 8/ 668 بمعناه. (¬4) حِمْيَر: بطن عظيم من القحطانية، ينتسب إلى حمير بن سبأ بن يَشْجُب بن يعرب بن فحطان، وسام حمير: العَرَنج، وحمير في قحطان ثلاثة: الأكبر، والأصغر، والأدنى. ومن بلاد حمير في اليمن: شِبام، وذمار، ورمغ. ومن حصونها: مُدَع. وسكن قسم من حمير الحيرة، ومن أيام حمير: يوم البيداء، وهو من أقدم أيام العرب، وكان بين حمير وكلب. وأما أديان حمير: فانتشرت اليهودية فيهم، وكانوا يعبدون الشمس، وكان لحمير بيت بصنعاء يقال له: رئام يعظمونه، ويتقربون عنده بالذبائح. انظر: معجم قبائل العرب: 1/ 306. (¬5) ورد قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 320، و"جامع البيان" 29/ 99، و"المحرر الوجيز" 5/ 376، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 307، و"لباب التأويل" 4/ 314، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 454، و"الدر المنثور" 8/ 293 وعزاه إلى البخاري، وابن المنذر، وابن مردويه، و"فتح القدير" 5/ 300. وأخرجه البخاري 3/ 316، =

في رواية عطاء (الخراساني) (¬1)، وروى عنه الكلبي أن هذه الأصنام دفنها الطوفان أيام الغرق، وطمها التراب، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب (¬2) (¬3). وقال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين بين آدم ونوح (¬4)، فنشأ قوم بعدهم، (فأخذوا بأخذهم في العبادة، فقال إبليس: لو صورتم صورهم كان أشوق لكم إلى العبادة، ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم) (¬5)، فجاء ¬

_ = ح: 4920، كتاب التفسير، باب: 71، سورة نوح بمعنى رواية قتادة إلا أنه ذكر أن يغوث كانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وتتمة الرواية عند ابن عباس: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك، ولنسخ العلم عُبدت". وأخرجه ابن الأثير في: جامع الأصول: 2/ 413، ح: 860 قلت: وما أخرجه البخاري من رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، وقع فيه كلام من المزي مقتضاه أن عطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس، وعليه فالحديث منقطع، ولهذا كان مأخذًا على البخاري؛ إلا أن ابن حجر كان له توجيه، وهو أنه احتمال أن العطائين: ابن رباح، والخراساني، قد رويا الحديث، ولذا أخرجه البخاري. والكلام في هذا الأمر تفصيله في فتح الباري: 8/ 667، و"تهذيب الكمال" 20/ 115. (¬1) ساقطة من: (أ). (¬2) بياض في: (ع). (¬3) ورد قول ابن عباس من غير ذكر طريق الكلبي إليه في: "الكشف والبيان" 12: 190/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 400، وورد معنى قوله عن مقاتل في "زاد المسير" 8/ 100. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

إليهم إبليس فقال: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم (¬1).هذا كلامه (¬2). وابتداء عبادة (¬3) الأوثان من ذلك الوقت، وسميت تلك الأصنام (¬4) بهذه الأسماء؛ لأنهم صوَّروها على صورة أولئك القوم المسمين بهذه الأسماء (¬5). (وفي (ود) قراءتان: فتح الواو (¬6)، وضمها (¬7)، والفتح أعرف في اسم صنم قوم نوح. حكاه (أبو عبيدة) (¬8) بالفتح، وقول الشاعر (¬9): فَحَيَّاكِ وَدٌّ مَنْ هَدَاكِ لفِتْيَةٍ ... وخُوصٍ بأعلى ذي نُضالَةَ هُجَّدِ (¬10) ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" 12/ 189/ ب، وما بعدها، وبنصه في: "معالم التنزيل" 4/ 399، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 308، و"لباب التأويل" 4/ 314، و"الدر المنثور" 8/ 294 وعزاه إلى عبد بن حميد، وفي معناه عزاه إلى أبي الشيخ في العظمة، و"فتح القدير" 5/ 300. (¬2) في (أ): كلامهم. (¬3) غير مقروء لبياض في: (ع). (¬4) بياض في: (ع). (¬5) قال بذلك أيضًا ابن حجر في فتح الباري: 8/ 669. (¬6) قرأ عامة القراء بفتح الواو (وَدًّا) عدا نافع. انظر: "السبعة" 653، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 716، و"الحجة" 6/ 327، و"التبصرة" 709، و"تحبير التيسير" 193، و"الوافي" 373. (¬7) قرأ نافع وحده: "وُدًّا" بضم الواو. انظر: المراجع السابقة. (¬8) في كلا النسختين: (أبو عبيد)، ولعل الصواب، (أبو عبيدة) كما جاء في الحجة: 6/ 327؛ إذ النص منقول عن الحجة. وانظر أيضًا: "مجاز القرآن" 2/ 271. (¬9) الشاعر هو الحطيئة: جرول بن أوس من بني قُطيفة بن عبس. (¬10) مواضع ورود البيت منسوبًا للحطيئة: "ديوانه" 47 المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، وانظر مادة: (هجد) في "تهذب اللغة" 6/ 36، و"لسان =

ينشد بالفتح. قال الأخفش: وعسى أن يكون (الضم) لغة في اسم الصنم، قال: وسمعت هذا البيت: حَيّاك وُدٌّ فإنّا لا يَحِلُّ لَنا ... لَهْوُ النّساءِ وإنَّ الدِّينَ قد عَزَما (¬1) بضم الواو) (¬2). وقال الليث: الوَد كان لقوم نوح، وكان لقريش صنم يدعونه وُداً، وبه سمي عمرو بن عبد وُدٍّ (¬3). وعلى هذا فلعل من قرأ بالضم غلط، فظن صنم قوم نوح صنم قريش، وأبو عبيد يختار الفتح، وإنما يقال: (ود) اسم صنم، ألا تراهم كانوا يتسمون بـ: (عبد ود) (¬4)؟. قوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}، من المفسرين من يجعل الإضلال من فعل كبرائهم، وهو الظاهر لقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ}. قال مقاتل: أضل كبراؤهم كثيرًا من الناس (¬5). ¬

_ = العرب" 3/ 431، و"تاج العروس" 2/ 543، وجميعها برواية: "ذي طوالة". وانظر أيضًا: "الغريب المصنف" لأبي عبيد: 2/ 400 برواية: "وهداك"، و"المحرر الوجيز" 5/ 376 برواية: "فضالة"، و"الحجة": 6/ 328. (¬1) البيت للشاعر النابغة الذبياني، وقد ورد البيت في: "ديوانه" 101 ط دار بيروت برواية: "حياك ربي"، كما ورد غير منسوب في: "المحرر الوجيز" 5/ 376، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 309، و"البحر المحيط" 8/ 342، و"فتح القدير" 5/ 301، برواية: "غربًا" بدلاً، من: "عزمًا"، و"الدر المصون" 6/ 385. الدين هنا: الحج، عزم: أي عزمنا عليه، وهو من باب القلب. انظر: "ديوانه". (¬2) ما بين القوسين نقله الواحدي عن أبي علي من الحجة: 6/ 327 - 328 بتصرف. (¬3) تهذيب اللغة: 14/ 235 بتصرف يسير جدًا. (¬4) لم أعثر على مصدر قول أبي عبيد. (¬5) "تفسير مقاتل" 210/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 400.

ومنهم من يجعل الإضلال للأصنام، ويكون المعنى: قد أضل (¬1) بسببها كثيرًا من الناس، كقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ (النَّاسِ) (¬2)} [إبراهيم: 36]، وأجرى الأصنام في هذه الآية على هذا القول مجرى الآدميين كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} [الأعراف: 195] الآية، وقد تقدم الكلام في ذلك (¬3). وهذا القول حكاه الفراء (¬4)، ولعله قول الكلبي. {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} قال الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6): يعني المشركين بعبادتهم الأوثان. {إِلَّا ضَلَالًا} إلا خسراناً. وهذا دعاء عليهم بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كما قال تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} (¬7). قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} ((ما) صلة كقوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ع): ضل. (¬2) ساقطة من: (أ). (¬3) في سورة إبراهيم: 36: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} قال أبو إسحاق وغيره: أي ضُلِّلُوا بسببها؛ لأن الأصنام لا تعقل، ولا تفعل شيئًا، كما تقول: قد فتنتني هذه الدار، أي أحببتها، واستحسنتها، وافتتنت بسببها. فلما ضل الناس بسببها صارت كأنها أضلتهم، فنسب الفعل إليهم. انظر: "تفسير البسيط" بتصرف. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 189. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) سورة هود: 36: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [هود: 36] (¬8) سورة النساء: 155: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}.

{فبَمَا رَحْمَةٍ} (¬1)، والمعنى: من خطيئاتهم، أي من أجلها وسببها، وهو معنى قول ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3)، يعني: فبخطيئاتهم. وقرئ: (خطاياهم) (¬4)، وكلاهما جمع خطيئة؛ أحدهما (¬5) على التكثير، والآخر جمع الصحيح. وقد تقدم الكلام فيها عند قوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} (¬6)، وفي ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 159: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 210/ ب، قال: يعني فخطيئاتهم. (¬4) قرأ أبو عمر وحده: "مِمَّا خَطَاياهُم" بفتح الطاء، والياء، وألف بعدها من غير همز، وقرأ الباقون: "خطيئاتهم" بكسر الطاء، وياء ساكنة بعدها، وبعد الياء همزة مفتوحة، وألف وتاء مكسورة. انظر: كتاب السبعة: 653، القراءات وعلل النحويين فيها: 2/ 716، و"الحجة": 6/ 328، و"الكشف" 2/ 337، و"حجة القراءات": 726 - 727، و"النشر": 2/ 391، و"البدور الزاهرة" 327. (¬5) في (ع): أحدها. (¬6) سورة البقرة: 58، ومما جاء فيها من الكلام: "أن الأصل في "خطايا" كان "خطايو" لأنها جمع خطيئة قد أبدل من هذه الياء همزة، فصارت "خطائي"، وإنما أبدلت هذه الياء همزة لأن هذه الياء إذا وقعت في الجمع صارت همزة، وعلة ذلك لاجتماع همزتين، فقلبت الثانية "ياء" فصارت: "خطائي" ثم قلبت الياء والكسرة إلى الفتحة والألف، فصارت "خطاءا"، فأبدلت الهمزة ياءً لوقوعها بين ألفين، وإنما أُبدلت الهمزة حين وقعت بين ألفين؛ لأن الهمزة مجانسة للألفات، فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، فأبدلت الهمزة ياء فصارت: "خطايا". نقلاً -باختصار يسير- من تفسير البسيط.

26

الأعراف: (خطيئاتكم (¬1)) (¬2) وقوله تعالي: {أُغْرِقُوا}، أي: بالطوفان. {فَأُدْخِلُوا نَارًا} قال مقاتل: فأدخلوا في الآخرة نارًا (¬3). وقال الكلبي: يقول: سيدخلون في الآخرة نارًا (¬4). وعلى هذا معنى لفظ الماضي في قوله: (فأدخلوا) للاستقبال، وذكر على لفظ الماضي لصحة كونه، وصدق الوعد به، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]. وقال الضحاك: إنهم أغرقوا بالماء ثم أُحرقوا بالنار، وكانوا يغرقون من جانب، ويحرقون من جانب (¬5). 26 - قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} (¬6) قال جماعة من المفسرين (¬7): ما دَعَا نوح بهذا إلا بعد ما أوحى الله ¬

_ (¬1) الأعراف: 161: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)} (¬2) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن صاحب الحجة بتصرف، وبإضافة قولي ابن عباس ومقاتل. انظر: الحجة: 6/ 328. (¬3) "تفسير مقاتل" 210/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 400، و"التفسير الكبير" 30/ 145. (¬4) "التفسير الكبير" 30/ 145. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 400، و"زاد المسير" 8/ 101، و"فتح القدير" 5/ 301. (¬6) الآية ساقطة من: (ع). (¬7) قال بذلك: قتادة، انظر قوله في: تفسير عبد الرزاق: 2/ 320، و"جامع البيان" 29/ 101، و"النكت والعيون" 6/ 105، و"المحرر الوجيز" 5/ 377، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 312، و"الدر المنثور" 8/ 295، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 301، وإليه ذهب ابن الجوزي 8/ 102.

إليه: ({أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}) (¬1) [هود: 36]. وقوله: {دَيَّارًا} قال أهل العربية: هو فَيْعال من الدوران، أصله: ديْوَار، فقلبت الياء واوًا، وأُدغمت إحداهما في الأخرى. قاله الفراء (¬2)، والزجاج (¬3)، (وغيرهما (¬4)) (¬5)، وهو في معنى واحد، يقال: مَا بالدار ديار، أي ما بها أحد. قال المفسرون: لا تدع أحدًا حتى تهلكهم (¬6). وقال ابن قتيبة: يقال: ما بها ديار، أي نازل دار (¬7). وقال المبرد: ديار اسم حقه النفي، يقال: ما بها ديار، ولذلك لا يقع في الواجب، قال: وهو فيعال من دار يدور (¬8)، مثل القيام، من قام ¬

_ (¬1) ما بين القوسين لم يذكر في: (ع). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 190. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 231. (¬4) كابن جرير في: "جامع البيان" 29/ 100، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12/ 191/ أ، وابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 377، والقرطبي 18/ 313، وإليه ذهب أيضًا الشوكاني في: "فتح القدير" 5/ 301، وقد أورد الفخر قول أهل العربية وعزاه إليهم في: "التفسير الكبير" 30/ 146. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) بمعنى هذا قال الضحاك: "ديارًا": أحدًا. انظر قوله في: "النكت والعيون" 6/ 105، وممن قال بذلك أيضًا ابن جرير في: "جامع البيان" 29/ 100، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12: 191/ أ، وابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 377، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 312، والشوكاني في: "فتح القدير" 5/ 301. (¬7) تفسير غريب القرآن: 488. (¬8) في (أ): تدور.

يقوم (¬1). قوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} قال الكلبي (¬2)، ومقاتل (¬3): هو أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح يحذره تصديقه، والإيمان به، وقد ذكرنا ذلك (¬4)، فهو معنى قوله: {يُضِلُّوا عِبَادَكَ}. وقوله تعالى (¬5): {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} قال محمد بن كعب (¬6)، (والربيع، وابن زيد (¬7)) (¬8): وهذا بعد ما أخبر الله تعالى نوحاً أنهم لا يلدوا مؤمناً. ثم دعا للمؤمنين عامًا بعد دعائه على الكفار فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} لملك بن متوشلح، وسخا بنت أنوش (¬9). قال المفسرون: وكانا مؤمنين (¬10). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 30/ 146. (¬2) الوسيط: 4/ 360. (¬3) "تفسير مقاتل" 210/ ب. (¬4) راجع ذلك عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} من هذه السورة. (¬5) ساقطة من: (ع). (¬6) "الكشف والبيان" 12: 191/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 377، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 312، و"فتح القدير" 5/ 301. (¬7) المراجع السابقة. (¬8) ما بين القوسين كتب في نسخة: أبدلاً منه: وغيره. وكذلك ممن قال بمثل قول القرظي، والربيع، وابن زيد: مقاتل، وعطية. انظر: المراجع السابقة. (¬9) لعله نقله عن الثعلبي. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 191/ ب. (¬10) قال بذلك الحسن. انظر: "النكت والعيون" 6/ 106، و"زاد المسير" 8/ 102، وذهب الثعلبي 12/ 191ب، والبغوي 4/ 400، والفخر الرازي 30/ 146، والقرطبي 18/ 313، والخازن في: "لباب التأويل" 4/ 315.

قال عطاء: لم يكن بين نوح وآدم -عليهما السلام- من آبائه كافر (¬1). وقال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن (¬2). وقوله تعالى: {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} قال الضحاك (¬3)، والكلبي (¬4): مسجدي. روى عطاء عن ابن عباس: يريد من دخل بيتي، أي في ديني مؤمنًا (¬5). وهو معني؛ لأن من دخل مسجده مؤمنًا، فقد دخل في دينه. وقوله (¬6): {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عام في كل من آمن بالله وصدق الرسل. وقال عطاء عنه (¬7): يريد أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- عامة (¬8). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 30/ 146. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 314. (¬3) "جامع البيان" 29/ 101، و"الكشف والبيان" 12: 191/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 106، و"معالم التنزيل" 4/ 400، و"زاد المسير" 8/ 102، و"القرطبي" 18/ 314، و"الدر المنثور" 8/ 295، وعزاه إلي ابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 302. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 400، و"فتح القدير" 5/ 302. (¬5) "زاد المسير" 8/ 102 بعبارة: "منزله"، كما ورد بمعنى قوله في: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 314، و"المحرر الوجيز" 5/ 377. (¬6) في (أ): قوله. (¬7) أي عن ابن عباس. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد بمثله عن الكلبي في: "الكشف والبيان" 12/ 191/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 314.

قوله تعالى (¬1): {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} أي هلاكاً ودماراً (¬2)، فاستجاب الله دعاءه، فأهلكهم، (والتبار: الهلاك، وكل شيء أهلك فقد تبر) (¬3)، ومنه قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} (¬4)، وقوله: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} (¬5). ¬

_ (¬1) ساقطة من (ع). (¬2) قاله الثعلبي في "الكشف" 12/ 191/ ب. (¬3) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الزجاج بنصه. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 231. (¬4) سورة الأعراف: 139: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}. (¬5) سورة الإسراء: 7. والتبار لغة: الهلاك، وتبَّرَه تتبيرًا أي كسَّره وأهلكه. "الصحاح" 2/ 600، (تبر)، وانظر: "القاموس المحيط": 1/ 379، (تبر).

سورة الجن

سورة الجن

1

تفسير سورة الجن (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية، قال ابن (¬2) عباس (¬3): كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) مكية بإجماعهم. وقد نقل الإجماع في ذلك ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 378، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 103، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 19، والشوكاني عن القرطبي في: "فتح القدير" 5/ 302. (¬2) بياض في (ع). (¬3) جاءت هذه الرواية مطولة من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في: "البخاري" 1/ 250 ح 773، كتاب الأذان، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر، و3/ 316: ح 4921 في التفسير، باب سورة "قل أوحي إلي". و"مسلم" 1/ 330 ح 149، في الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن. و"الترمذي" 5/ 426: ح 3323، كتاب التفسير، باب ومن سورة الجن، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. و"تفسير النسائي" 2/ 467 ح 644. و"المستدرك" 2/ 503، كتاب التفسير، تفسير سورة الجن، وصححه، ووافقه الذهبي، والرواية كما هي عند البخاري والترمذي: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عُكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشُّهب. قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: =

يصلي من الليل، ويقرأ القرآن، مر به نفر (¬1) من الجن، فاستمعوا إليه، وإلى قراءته، ودنا (¬2) بعضهم من بعض حبًّا للقرآن، حتى كادوا أن يركبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3)، وآمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم، وقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، يعني: بليغًا. وذكرنا سبب إتيان (¬4) الجن إياه عند قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] الآية (¬5). ¬

_ = هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا، وأنزل الله عز وجل على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}، وإنما أوحي إليه قول الجن. كما أوردها ابن جرير في "جامع البيان" 29/ 102 - 103، وانظر: "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي: 220، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 1 - 2، و"لباب التأويل" 4/ 315، و"الدر المنثور" 8/ 296 - 297، وعزاه إلى أحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني 12/ 52، رقم (12449)، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي معًا في الدلائل عن ابن عباس 2/ 225 من طريق أبي عوانة. (¬1) غير مقروء في: (ع). (¬2) دنا: يقال: دنا منه، ودنا إليه، يدنو دنوًّا: قرب، فهو دانٍ. "المصباح المنير" 1/ 239، مادة: (دنا)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير 2/ 137. (¬3) قاله ابن عباس. انظر: "الوسيط" 4/ 363. (¬4) في (أ): الإتيان. (¬5) ومما جاء في تفسيرها: "قال المفسرون: لما أيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قومه -أهل مكة- أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة فكان ببطن نخلة، قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، مر به نفر من أشراف حسن نصيبين، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، =

2

وقال مقاتل: {قُرْآنًا عَجَبًا} يعني عزيزًا لا يُوجد مثله (¬1). والمحعنى: قرآنًا ذا عجيب، يعجب منه لبلاغته وعدم مثله، ثم وصفوا ذلك القرآن، وهو قوله: 2 - {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}. قال عطاء: إلى الإيمان بالله (¬2)، وقال الكلبي: يدعو إلى الصواب من الأمن من لا إله إلا الله (¬3)، وقال (¬4) مقاتل: يدعو إلى التوحيد (¬5). {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} قال الكلبي: بطاعة ربنا أحدًا، يعنون إبليس، وذلك أنه بعثهم ليعرف سبب حراسة السماء بالنجوم، فخرجوا يضربون في الأرض، فمروا (¬6) برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬7)، وهو يقرأ القرآن، فاستمعوا إليه، وآمنوا، ولم يرجعوا إلى إبليس (¬8). قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قرئ: (وأنه)، وكذلك ما بعده ¬

_ = فدفعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يصلي، فاستمعوا لقرآنه. وقال آخر ون: بل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر الجَنَّة، ويدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفر من الجن ليستمعوا منه، وينذروا قومهم". (¬1) "تفسير مقاتل" 211/ ب، وورد بمثله في "بحر العلوم" 3/ 410 من غير عزو. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (أ): قال. (¬5) الذي ورد في "تفسيره" 211/ ب: "قال: يدعو إلى الهدى"، وقد ورد بنحوه من غير عزو في: "بحر العلوم" 3/ 410. (¬6) غير واضحة في: (ع). (¬7) ساقطة من: (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

بالكسر، والفتح (¬1)، والاختيار الكسر؛ لأنه من قول الجن لقومهم، فهو معطوف على قوله: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا}، وقالوا: {وَأَنَّهُ تَعَالَى (¬2) جَدُّ رَبِّنَا}، وأما من فتح، فقال الفراء: أما الذين فتحوا فإنهم ردوا (أن) في كل السورة على قوله: (فآمنا به)، وآمنا بكل ذلك، ففتحوا (أن) بوقوع (¬3) الإيمان عليها، وأنت مع ذلك تجد الإيمان (¬4) يحسن في بعض ما فتح، ويقبح في بعض، ولا (¬5) يمنعك ذلك من إمضائهنَّ على الفتح، فإن الذي يقبح من ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارعٌ للإيمان (¬6) يوجب فتح (أن) نحو: (صدقنا)، و (شهدنا) (¬7). ¬

_ (¬1) قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص بفتح الهمزة فيهن، ووافقهم أبو جعفر في ثلاث: {وَأَنَّهُ تَعَالَى}، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ}، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ}. وقرأ الباقون بكسرها في الجميع، واتفقوا على فتح {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، {وَأَنً اَلْمَسَجِدَ}. قال ابن الجزري: (لأنه لا يصح أن يكون من قولهم، بل هو مما أوحي إليه -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف الباقي، فإنه يصح أن يكون من قولهم، ومما أوحي، والله أعلم). "النشر في القراءات العشر" 2/ 91 - 392. وانظر مراجع قراءة الفتح والكسر: كتاب "السبعة" 656، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 719، و"الحجة" 6/ 33، و"المبسوط" 383، و"حجة القراءات" 727، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 329. (¬2) في (أ): على. (¬3) وردت في "معاني الفراء" لوقوع. (¬4) في (أ): الإنسان. (¬5) في (ع): فلا. (¬6) في (أ): الإيمان. (¬7) إلى هنا انتهى قول الفراء في "معاني القرآن" 3/ 391 - 392، وقد نقله عنه الإمام الواحدي بتصرف.

وقال أبو إسحاق: من حمل (¬1): {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} على قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} يقول: فآمنا به، وبأنه تعالى جد ربنا، وكذلك ما بعدَه، وهو ردئ في القياس، لا يُعطف على (الهاء) المخفوض إلا بإظهار الخافض، ولكن وجهه أن يُحمل على معنى: (آمنا به)، لا على لفظ: (آمنا به)، ومعنى (¬2) آمنا به: صدقناهُ، وعلمناه، ويكون المعنى: وصدقنا أنه تعالى جد ربنا (¬3). وقال أبو علي: من قرأ بالفتح، فإنه على العمل على (أوحي) (¬4)، وهذا ضعيف جدًّا (¬5)؛ لأن المعنى على الإخبار على الجن (¬6) أنهم قالوا: "وأنه تعالى جد ربنا"، "وأنه كان يقول"، وليس المعنى على أوحي إلى "أنه تعالى جد ربنا"، "وأنه كان يقول سفيهنا"، إلا أن بعض ما فتح من "أن" في هذه السورة يحسن حملها على "أوحي" (¬7)، ونذكر ذلك في ¬

_ (¬1) في (أ): جعل. (¬2) في: (أ): معنا. (¬3) إلى هنا انتهى قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 234، وقد نقله عنه بتصرف. (¬4) "الحجة" 6/ 332. (¬5) لأنه ينقص المعنى ويغيره. إذا حملت سائر الآيات في الثلاثة عشر موضعًا من هذه السورة، والتي من قول: {وَأَنَّهُ تَعَالَى} إلى قوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} على ما قبلها من قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ}، وذلك لأنه لا يحسن أن يقال: وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله، ولا يحسن وأوحي إلى أنه كان يقول سفيهنا على الله شططًا. قاله مكي بن أبي طالب في الكشف: 2/ 341. (¬6) في: (أ): الحق. (¬7) قال مكي: وحجة من فتح الثلاثة عشر أنه عطف على "قل أوحي إلى أنه"، فلما عطف على ما عمل فيه الفعل فتحه كله. الكشف: مرجع سابق.

موضعه (¬1)، ولكن ليس يطرد حمل فتح ما اختلف فيه على الوحي (¬2) (¬3). واختلفوا في معنى قوله: "جد ربنا": فالأكثرون على أن المعنى: جلال ربنا وعظمته، وهو قول مجاهد (¬4)، ومقاتل (¬5)، (وعكرمة (¬6)، وقتادة (¬7)، والمبرد (¬8)، والزجاج (¬9)) (¬10)، وجميع أصحاب العربية (¬11). والجد معناه في اللغة: العظمة، يقال: جد فلان، أي: عظم (¬12)، ومنه الحديث: "كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا (¬13)، أي: جل قدره ¬

_ (¬1) عند الآية: (6) من هذه السورة. (¬2) لأن المعنى في فتح "أن" على العطف على "الهاء" أتم وأبين منه إذا عطفت على "أوحي إلى أنه". مرجع سابق. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "جامع البيان" 29/ 154، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 192/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 401، و"زاد المسير" 8/ 105، و"الجامع" 8/ 19، و"تفسير ابن كثير" 4/ 457. (¬5) "تفسير مقاتل" 211/ ب، بنحوه، و"زاد المسير" 8/ 105. (¬6) "جامع البيان" 29/ 104، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 192/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 401، و"زاد المسير" 8/ 105، و"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 19، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457. (¬7) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 489، و"النكت والعيون" 6/ 110، و"معالم التنزيل" 4/ 401، و"الجامع" للقرطبي 19/ 8، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 234. (¬10) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬11) حكاه الفراء عن مجاهد. انظر: "معاني القرآن" 3/ 192. (¬12) انظر: مادة: (جد) في معجم "مقاييس اللغة" 1/ 406، و"تهذيب اللغة" 10/ 455، و"الصحاح" 2/ 452، و"إصلاح المنطق" 2. (¬13) أخرجه الإمام أحمد 3/ 120 - 121، من طريق أنس -رضي الله عنه- مطولاً، ونص الشاهد: (وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، يعني عظم).

وعظم" (¬1). وقال الحسن "جد ربنا" أغناه (¬2)، والجد يكون بمعنى الغنى، ومنه الحديث: "لا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬3)، وكذلك الحديث الآخر: "قمت ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬2) "الكشف والبيان" ج 12: 192/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 400، و"زاد المسير" 8/ 105، و"القرطبي" 8/ 19، و"الدر المنثور" 8/ 298 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬3) أخرجه البخاري 1/ 271 ح 844، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، وكتاب القدر: باب لا مانع لما أعطى الله: 4/ 212: ح 6615، وكتاب الاعتصام: باب ما يكره من كثرة السؤال: 4/ 362، ح 7292، ومسلم 1/ 343: ح 194: كتاب الصلاة: باب اعتدال أركان الصلاة، وباب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع: ح 205 - 206، كتاب المساجد: باب استحباب الذكر بعد الصلاة (ح) 137 - 138، وأبو داود 1/ 377 - 378: كتاب الصلاة: باب ما يقول الرجل إذا سلم من الصلاة. ومالك في "الموطأ" 7/ 687 كتاب القدر: باب ما جاء في أهل القدر، والدارمي في "سننه" 71 - 88، والترمذي 2/ 97: ح 299: كتاب الصلاة: باب ما يقول إذا سلم من الصلاة، والنسائي 2/ 544 - 545: ح 1067، كتاب التطبيق، باب ما يقول في قيامه ذلك، وكتاب السهو: باب نوع آخر من القول عند إنقضاء الصلاة: 3/ 79 - 80: ح 1340 - 1341، وباب نوع آخر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة: 3/ 82: ح 1345، والإمام أحمد في "المسند" 3/ 87، و4/ 93، و97، و101، و245، و247، 250، و254، و285. قال النووي: (والصحيح المشهور: الجد -بالفتح- وهو الحظ، والغنى، والعظمة، والسلطان، أي لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظه، أي لا ينجيه حظه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح، كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [الكهف: 46]، والله تعالى أعلم. "شرح صحيح مسلم" 4/ 441، وانظر قوله في: "عون المعبود، شرح سنن أبي داود" للآبادي: 4/ 372.

على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء، وإذا أصحاب الجد (¬1) محبوسون" (يعني) (¬2) ذوي الحظ (¬3) في الدنيا (¬4) (¬5). والمعنى: وجميع ما ذكر من الأقوال يعود إلى معنى: القولين اللذين ذكرنا. (روي عن قتادة: تعالى أمره) (¬6) (¬7). قال أبو (¬8) عبيدة: ملكه وسُلطانه (¬9). وعن القرظي: آلاؤه ونعمه (¬10). ¬

_ (¬1) في: (أ): الجنة. (¬2) ساقطة من: (أ). (¬3) في: (أ): الخطة. (¬4) الحديث أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح" 3/ 388 ح 5196، من طريق أبي عثمان عن أسامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجَدِّ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فهذا عامة من دخلها النساء". (¬5) ما بين القوسين تناول المعنى اللغوي لـ: "الجد" انظر مادة: (جد) في: معجم "مقاييس اللغة" 1/ 406، و"تهذيب اللغة" 10/ 455، و"الصحاح" 2/ 452، و"لسان العرب" 3/ 108، وانظر: "إصلاح المنطق" 22. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 321، وعبارته: "تعالى أمر ربنا، تعالت عظمته"، و"جامع البيان" 29/ 104، و"النكت والعيون" 6/ 110، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457، و"الدر" 8/ 298 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وفي جميعها بنحو ما ورد في "تفسير عبد الرزاق". (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) في (أ): أبوا. (¬9) "مجاز القرآن" 2/ 272، نقله عنه بتصرف، وعبارته: "علا ملكُ ربِّنا وسلطانه". (¬10) "الكشف والبيان" 12/ 192/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 401، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 8، و"فتح القدير" 5/ 304.

وعن مجاهد: ذكره (¬1). وكل هذا معناه يعود إلى جلاله، وعظمته، وغناه، وقول من قال: إن الجن قالت (هذه) (¬2) بالجهالة (¬3) لا يصح (¬4)؛ لأنهم لو قالوه بالجهل لأنكر عليهم (ولَمَا) (¬5) أخبر الله بذلك عنهم في القرآن. فأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: لو علمت الجن أن في الإنس جدًّا (¬6) ما قالت: "تعالى جد ربنا" (¬7)، فهذا محمول على أن هذا اللفظ مُوهم، وكان (¬8) الأولى بهم أن يجتنبوا إطلاقه في وصف الله، وإن (كان) (¬9) بمعنى جائز في وصفه. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 105، و"الكشف والبيان" 12/ 192/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 379، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 8، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457، و"الدر المنثور" 8/ 298، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬2) ساقطة من (أ). (¬3) في (أ): بجهالة. (¬4) وممن قال بهذا القول: علي بن الحسين؛ أبو جعفر الباقر، وابنه جعفر، والربيع بن أنس. انظر: "جامع البيان" 29/ 104، "الكشف والبيان" 12/ 192/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 379، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 8 وقد وصف الكرمانى هذا القول بأنه عجيب وضعيف وبعيد. انظر: "غرائب التفسير وعجائب التأويل" 2/ 1260، وقال ابن عطية 5/ 379: قال كثير من المفسرين: هذا قول ضعيف. (¬5) ساقطة من (أ). (¬6) في (أ): أحدًا. (¬7) "الكشف والبيان" 12/ 192/ ب، و"غرائب التفسير"، وقد وصفه بما وصف سابقه من القول بالجهالة، و"تفسير ابن كثير" 4/ 457، وقال ابن كثير: "إسناد جيد لكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام، ولعله قد سقط شيء، والله أعلم". (¬8) في (ع): فكان. (¬9) ساقطة من: (أ).

وقال أبو إسحاق: تعالى جد ربنا وعظمته (¬1) عن أن يتخذ صاحبة وولدًا (¬2) (¬3)، وهو قوله {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} قال ابن عباس: يريد المشركين من الجن (¬4)، وهو قول مقاتل: يعني كفارهم (¬5). وقال مجاهد (¬6)، (وقتادة) (¬7) (¬8): هو إبليس. وقوله تعالى: {عَلَى اللهِ شَطَطًا} أي كذبًا، وجورًا، وهو و (¬9) صفه ¬

_ (¬1) في (أ): وعظمت. (¬2) وردت في (ع): وولدًا وصاحبة. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 243 بنصه. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "زاد المسير" 8/ 105، ومعنى السفه في اللغة: الخفة، انظر: معجم "مقاييس اللغة" 3/ 79، و"تهذيب اللغة" 6/ 131. وقال الراغب: السفه: خِفة في البدن، ومنه قيل: زمام سفيه: كثير الاضطراب، وثوب سفيه: رديء النسيج، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية، والأخروية، فقيل: سَفِه نفسه، وأصله: سفه نفسه، فصرف عنه الفعل نحو: بطر معيشته، وقال في الأخروي: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا (4)} فهذا من السفه في الدين". "المفردات" 234 - 235. (¬6) "جامع البيان" 29/ 107، و"الكشف والبيان" 12/ 192/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 110، و"الجامع" للقرطبي 9/ 19، و"تفسير ابن كثير" 4/ 457، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 298 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وانظر: "فتح القدير" 5/ 304. (¬7) المراجع السابقة، ورواه صاحب "الدر" بمعناه عنه وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬8) ساقطة من: (أ). (¬9) الواو ساقطة من النسختين، وأثبتها لاستقامة المعنى، وهكذا وردت أيضًا في "الوسيط" 4/ 363، و"زاد المسير" 8/ 105.

بالشريك، والصاحبة، والولد. قاله المفسرون (¬1). وتفسير "الشطط" قد تقدم عند قوله: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (¬2) [الكهف: 14]. قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا (5)} (¬3): أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكًا وصاحبة وولدًا، أي كنا نظنهم صادقين حتى سمعنا القرآن. هذا قول المفسرين (¬4). ¬

_ (¬1) ممن قال بمعنى ذلك: ابن قتيبة، قال: أي غلوًّا في الكذب والجور. "تأويل مشكل القرآن" 427، وعن ابن زيد قال: ظلمًا. "جامع البيان" 29/ 107. وعن الكلبي: كذبًا، وعن أبي مالك: جورًا. انظر: "النكت والعيون" 6/ 110. وممن قال من المفسرين أيضًا بذلك: البغوي، وابن الجوزي، والخازن، وابن كثير. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 401، و"زاد المسير" 8/ 105، و"لباب التأويل" 4/ 316، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457. (¬2) وجاء في تفسيرها كما في "البسيط" {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي كذبًا وجورًا، قاله المفسرون، ومعنى الشطط في اللغة: مجاوزة القدر. قال الفراء: يقال: أشط في اللوم إذا جاوز القدر، ولم أسمع إلا أشطّ يشط أشطاطًا وشططًا. وحكى الزجاج وغيره: شط الرجل وأشط، إذا جاوز، ومنه: {وَلَا تُشْطِطْ}، ومثله: أشط، وأصل هذا من قولهم: شطت الدار إذا بعدت، فالشطط في القول بعد عن الحق. وانظر المعنى اللغوي، وهو مجاوزة المحدود، والتباعد عن الحق، مادة: (شطط) في كل من: "الصحاح" 3/ 1137، و"اللسان" 7/ 334، و"تاج العروس" 5/ 691. (¬3) وردت في (ع): "إنا ظننا" الآية. (¬4) وهو قول الثعلبي نقله عنه بنصه. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 192/ ب، وممن ذهب من المفسرين إلى هذا القول: الطبري، والسمرقندي، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، والخازن، وابن كثير. انظر: "جامع البيان" 29/ 107 - 108، و"بحر العلوم" 3/ 411، و"معالم التنزيل" 4/ 402، و"زاد المسير" 8/ 105، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 19، و"لباب التأويل" 4/ 316، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457.

قال ابن قتيبة: يقول: كنا نتوهم أن أحدًا لا يقول على الله باطلاً، يريدون أنا كنا نصدقهم، ونحن نظن أن أحدًا لا يكذب على الله، وانقطع هاهنا قول الجن (¬1). قال الله جل وعز: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ} (فمن فتح "وأنه" حملها على "أوحي"، ومن كسر جعلها مبتدأة (¬2) من الله تعالى) (¬3). قوله تعالى: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} قال جماعة المفسرين: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر (¬4) من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي، أو بعزيز هذا المكان، من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح (¬5). ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 427 بنصه. (¬2) لأن حقّها إذا دخلت على الابتداء أن تكسر؛ لأنها حرف مبتدأ به للتأكيد. قاله مكي. انظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 341. (¬3) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" بتصرف واختصار: 6/ 332. (¬4) القفر في اللغة: المكان الخلاء من الناس. وفي اللسان: الخلاء من الأرض. انظر (قفر) في: "تهذيب اللغة" 9/ 120، و"لسان العرب" 5/ 110. وقال الجوهري: القَفْر: مفازة لا ماء فيها، ولا نبات، والجمع: قفار. "الصحاح" 2/ 797 مادة: (قفر). (¬5) قال بمعنى ذلك: ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، ومجاهد، وابن زيد. انظر: "جامع البيان" 29/ 108، و"النكت والعيون" 6/ 111، وعزاه إلى ابن زيد فقط. وقال به: ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 428، والسمرقندي، والثعلبي، والبغوي، وحكاه ابن عطية عن جمهور المفسرين، وابن الجوزي، والفخر الرازي عن جمهور المفسرين، والخازن. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 234، و"بحر العلوم" 3/ 411، و"الكشف والبيان" 12: 193/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 402، و"المحرر الوجيز" 5/ 380، و"زاد المسير" 8/ 105، و"التفسير الكبير" 30/ 156، و"لباب التأويل" 4/ 316.

وقوله: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} قال أبو عبيدة: سفهًا وطغيانًا وظلمًا (¬1). وقال الليث (¬2)، وغيره (¬3) (¬4): الرهق: جهل في الإنسان، وخِفَّةٌ في عقله. والرَّهَق: غشيان الشيء، وفي فلان رهقٌ يغشى المحارمَ، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} [يونس: 26]-وقد مر (¬5) -، ورجل مُرَهَّقٌ: يغشاه السُّؤال والضيفان، ومنه قول زهير: ومُرَهَّق النِّيرانِ يُحْمَدُ في ... اللأْواءِ غيرُ مُلَعَّنِ القِدْرِ (¬6) (¬7) ويقال: رهقتنا الشمس إذا قربت (¬8). ومعنى قول المفسرين يعود إلى هذا، وهو أنهم قالوا في قوله: ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 272، بزيادة: (وظلمًا). (¬2) "تهذيب اللغة" 5/ 397 - 398، نقله عنه باختصار. (¬3) يراد به الأصمعي. انظر: "تهذيب اللغة"؛ مرجع سابق. (¬4) ساقطة من: (أ). (¬5) جاء في تفسير الآية السابقة من الحاشية 10: (ولا يرهق وجوههم: أي لا يغشاها، يقال: رهقه ما يكره، أي: غشيه، قال ابن عباس: يريد ولا يصيب وجوههم. (¬6) ورد البيت منسوبًا له في ديوانه: 28 ط دار صادر. وأيضًا في مادة: (رهق): "الصحاح" 4/ 1487، و"لسان العرب" 10/ 130، و"تاج العروس" 6/ 365. ومعنى البيت: مرهق النيران: تُغشى نيرانه، اللأواء: الشدة والجهد والضيق، غير ملعن القدر: لا تُسبُّ قِدره لأنه يُطعِم. انظر: "شرح شعر زهير" لأبي العباس ثعلب، تحقيق د. فخر الدين قباوة: 80. (¬7) ما بين القوسين انظر له: "تهذيب اللغة" 5/ 397 - 398: مادة: (رهق). (¬8) جاء في "الصحاح" ويقال: طلبت فلانًا حتى رَهِقْتُةُ رَهَقًا: أي دنوت منه، فربما أخذه، وربما لم يأخذه. 4/ 1487. وفي "اللسان" وأرهقنا الليل: دنا منا، وأرهقنا الصلاة: آخرناها حتى دنا وقت الأخرى. 10/ 130، مادة: (رهق).

(فزادوهم رهقًا) أي إثمًا (¬1)، وجراءة (¬2)، وطغيانًا (¬3)، وخطيئة (¬4)، وغيًّا (¬5)، وشرًا (¬6)، كل هذا من ألفاظهم، والمعنى: أنهم يزدادون بهذا التعوذ طغيانًا، وإثمًا، فيقولون: [سدنا] (¬7) الجن والإنس. ويجوز أن يكون المعنى: زادت الجن والإنس رهقًا، أي ظلمًا، يعني لما تعوذوا (بهم) (¬8) استذلوهم، واجترؤوا عليهم، فزادوهم ظلمًا، وهذا ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس. انظر: "جامع البيان" 29/ 159، و"الكشف والبيان" 12/ 193/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 111، و"معالم التنزيل" 4/ 402، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 10، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457. (¬2) قاله قتادة. انظر: "جامع البيان" 29/ 109، و"الكشف البيان" 12/ 193/ أ، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 457. (¬3) قاله مجاهد. انظر: المراجع السابقة. إضافة إلى: "النكت والعيون" 6/ 111، و"معالم التنزيل" 4/ 402. (¬4) قاله قتادة أيضًا. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 132، و"الكشف والبيان" 12/ 193/ أ، و"القرطبي" 10/ 19، و"الدر المنثور" 8/ 310، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) قاله مقاتل. انظر: "الكشف والبيان" جـ: 12: 193/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 111، و"معالم التنزيل" 4/ 402. (¬6) قاله الحسن. انظر: "الكشف والبيان" جـ: 12: 193/ أ. ومن ألفاظهم أيضًا: خوفًا؛ قاله ابن زيد، وأبو العالية، والربيع. انظر: "الكشف والبيان" 12/ 193/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 111، و"القرطبي" 10/ 19. وعظمة: قاله إبراهيم. انظر: "الكشف والبيان"، و"معالم التنزيل"؛ مرجعان سابقان. وكفر. قاله سعيد. انظر: "النكت والعيون"؛ مرجع سابق. وأذًى. قاله السدي. انظر: المرجع السابق. سفهًا. قاله ابن عيسى. مرجع سابق. وقال الزجاج. ذلة وضعفًا. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 234. (¬7) في كلا النسختين: سيدنا، وأثبت ما تستقيبم به العبارة. (¬8) ساقطة من: (أ).

8

معنى قول عطاء: خبطوهم (¬1)، وخنقوهم (¬2). فعلى القول الأول: زادوا من فعل الإنس. وعلى القول الثاني: زادوا من فعل الجن. قوله: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} هذا أيضًا من قول الله عز وجل، والكلام في فتح "أن" وكسرها -كما ذكرنا في الآية التي قبلها (¬3) - والمعنى أن الله تبارك وتعالى يقول: (ظن الجن كما ظننتم أيها الإنس أن لا تبعث يوم القيامة (¬4)، أي: كانوا لا يؤمنون بالبعث، كما أنكم لا تؤمنون به، وهذا خطاب من الله للكفار. وانقطع هاهنا قول الله عز وجل فقالت الجن) (¬5): {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} قال ابن عباس: يريد مسسنا السماء (¬6). 8 - وقال الكلبي: يقول: أتينا السماء (¬7). ¬

_ (¬1) خبطوهم: خبطه، يخبطه: ضَرَبه شديدًا. انظر: "القاموس المحيط" 2/ 356، مادة: (خبط). (¬2) الخنق: خنقه يخنقه، من باب قتل، خنقًا، والمخنقة: القلادة، سميت بذلك لأنها تطيف بالعنق، وهو موضع الخنق. انظر مادة: (خنق) في: "معجم مقاييس اللغة" 2/ 224، و"الصحاح" 4/ 1472، و"المصباح المنير" 1/ 219. (¬3) يراجع فيها آية 3 من هذه السورة. (¬4) بمعناه قال السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 411، والثعلبي في "الكشف والبيان" 12/ 193/ ب. (¬5) ما بين القوسين نقله الواحدي عن ابن قتية بنصه. انظر: "تأويل مشكل القرآن" 428 - 429. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "الوسيط" 4/ 365.

قال أبو علي: تأويله عالجنا غيب السماء، ورمنا استراقه فنلقيه إلى الكهنة (1)، وليس من اللمس بالجارحة في شيء (2). وهذا معنى قول الكلبي (3). وقوله تعالى: {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} (4) قال ابن عباس (5)، ومقاتل (6): يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس. و {شَدِيدًا} يراد به الكثرة، وذكرنا في مواضع أن فعيلًا قد يكون للكثير (7). وقوله: {وَشُهُبًا} قال ابن عباس: يريد النار التي يرجم بها من استرق السمع (8). وقال الكلبي: ورُمينا بالنجوم (9)، وهذا كقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 15]، وقد مر، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (10)، ...

_ (1) الكهنة: جمع كاهن، وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدّعي معرفة الأسرار. "لسان العرب" 13/ 363، مادة: (كهن)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 214. (2) و (3) لم أعثر على مصدر لقوله. (4) كلمة (شهبا) ساقطة من: (ع). (5) "الدر المنثور" 8/ 303 وعزاه إلى ابن مردويه. (6) "تفسير مقاتل" 211/ ب. (7) نحو ما جاء في قوله: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقوله {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 55]. (8) و (9) لم أعثر على مصدر لقوله. (10) سورة الملك: 5: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)}. وقد جاء في تفسيرها: قال ابن عباس: يرجم بها الشياطين =

وفي آيات غيرها (¬1). قال الكلبي: ولم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد -عليهما السلام- خمسمائة عام، فلمَّا بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- مُنعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب، فعند ذلك قالوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} ¬

_ = الذين يسترقون السمع. قال أبو علي: فإن قيل: كيف يجوز أن تكون المصابيح زينة مع قوله: (وجعلناها رجومًا للشياطين فالقول إنها جعلت لهم لم تزل فتزول الزينة بزوالها، ولكن يجوز أن ينفصل منها نور يكون رجمًا للشياطين، كما ينفصل من السرج، وسائر ذوات الأنوار ما لا يزول بانفصالها منها صورتها. وهذا كما قال بعض أهل العربية: ينفصل من الكوكب شهاب نار، وهذا كقوله: "ولقد جعلنا في السماء بروجًا" الآية. ومعنى لفظ الشهاب: الشُّعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجو، نحو: "فأتبعه شهاب ثاقب". "المفردات في غريب القرآن" 467. وقال أبو حيان: "شهاب": كوكب متوقد مضيء. "تحفة الأريب" 182. وقال ابن فارس: "شهب" الشين والهاء والباء أصل واحد يدل على بياض في شيء من سواد لا تكون الشهة خالصة بياضًا .. ، ومن الباب الشهاب، وهو شُعلة نار ساطعة "معجم مقاييس اللغة" 3/ 220، مادة: (شهب)، وانظر: "لسان العرب" 1/ 508 مادة (شهب). (¬1) نحو ما جاء في سورة الحجر: 18 عند قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}. جاء في تفسير الشهاب: "قال الواحدي: والشهاب: شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكوكب شهابًا، والسنان شهابًا لبريقهما يشبهان النار". وقال ابن عباس في قوله: (بشهاب مبين): يريد نارًا تنير لأهل الأرض. قال المفسرون: إن الشهاب لا تخطئه أبدًا، وإنهم ليرمون فإذا توارى عنكم فقد أدركه. وقال أصحاب المعاني: إن الله تعالى سمى ما ترجم به الشياطين شهابًا، وهو في اللغة النار الساطعة، ونحن في رأي الحين نرى كأنهم يرمون بالنجوم، فيجوز أن ذلك كما نرى، ثم يصير نارًا إذا أدرك الشيطان، ويجوز أنهم يرمون بشعلة نار من الهواء، ولكن لبعده عما يخيل إلينا أنه نجم. والله أعلم بحقيقة ذلك.

[الجن: 14] (¬1) الآية. وذكر المفسرون (¬2): أن الانقضاض الذي رُميت به الشياطين حدث بعد مبعث النبي، وهو أحد آياته، ويدل على هذا قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن: 9] الآية، أي كنا نسمع، فالآن حين حاولنا الاستماع رُمينا بالشهب. وهو قوله: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}. قال مقاتل: يعني رميًا من الكواكب، ورصدًا من الملائكة (¬3). قال أبو إسحاق: أي حفظة تمنع من الاستماع (¬4). وعلى هذا يجب أن يكون التقدير: شهابًا، ورصدًا؛ لأن الرصد غير الشهاب، وهو جمع راصد (¬5). ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 11. (¬2) قال بذلك قتادة، وابن زيد، وابن عباس، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، انظر: "جامع البيان" 29/ 111، و"التفسير الكبير" 30/ 158، و"القرطبي" 19/ 12، و"الدر المنثور" 8/ 302 وعزاه إلى عبد بن حميد عن ابن عباس، ويؤيد هذا القول الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يسمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعًا، فأمَّا الكلمة فتكون حقًّا، وأمَّا ما زاد فيكون باطلاً، فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُنِعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يُرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا من أمر قد حدث في أرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلي بين جبلين، أراه قال: بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث بالأرض. أخرجه الترمذي في سننه وقال: هذا حديث حسن صحيح، 5/ 427 - 428 ح 3324، كتاب التفسير: باب ومن سورة الجن: 70. (¬3) "تفسير مقاتل" 211/ ب. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 234 بنصه. (¬5) الرصد في اللغة: قال ابن فارس: الراء والصاد والدال أصل واحد، وهو التهيؤ لِرقبة شيء على مَسْلَكِه، ثم يحمل عليه ما يشاكله. "معجم مقاييس اللغة" 2/ 400، مادة =

وقال الفراء (¬1)، وابن قتيبة (¬2): أي شهابًا قد أرصد له ليرجم به. وعلى هذا الرصد من نعت الشهاب، وهو فَعَل بمعنى مفعول، كالنَّفَضِ والخيط. روى عبد الرزاق عن مَعمر قال: قلت للزهري: أكان يُرمى بالنجوم في الجاهلية، قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الآية، فقال: غلظت، وشدد أمرهَا حين بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وروي أيضًا مرفوعًا ما يدل على هذا، وهو ما روي عن ابن عباس أنَّه قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم، فقال: "ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ " فقالوا (¬4): كنا نقول يموت عظيم، أو يولد (¬5) عظيم (¬6) الحديث. ¬

_ = (رصد). وفي "الصحاح" الراصد للشيء: المراقب له، والرَّصَدُ: القوم يَرصدون كالحرس. 2/ 474 مادة: (رصد). (¬1) "معاني القرآن" 3/ 193 بنصه. (¬2) "تفسير غريب القرآن" 489. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 429، و"بحر العلوم" 3/ 412، و"الكشاف" 4/ 147، و"الجامع" للقرطبي 12/ 19، و"فتح القدير" 5/ 305 - 306، و"الكشاف" 29/ 87. (¬4) في (أ): فقال. (¬5) غير واضحة في: (أ). (¬6) الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" 4/ 1750: ح 124، كتاب السلام: باب 35، تحريم الكهانة وإتيان الكهان، ونص الحديث كما هو عنده: "عن ابن شهاب حدثني علي بن حسين أن عبد الله بن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رُمي بمثل هذا؟ " قالوا: الله ورسوله اعلم، كنا نقول. وُلِدَ الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال =

قال ابن قتيبة: وهذا يدل (¬1) على أن الرجم قد كان قبل مَبْعثه ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بُعث منعت من ذلك أصلًا. وعلى هذا وجدنا الشعر القديم، قال بِشر ابن أبي خازم، وهو جاهلي: والعَيْرُ يُرْهِقُها الغُبِارُ وجَحْشُها ... يَنْقَضُّ خَلْفَها انْقِضَاضَ الكَوْكَبِ (¬2) وقال أوس بن حجر، جاهلي: فانْقَضَّ (¬3) كالدُّرِّي يَتْبَعُه ... نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالُهُ طُنُبا (¬4) (¬5) ¬

_ = رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش" .. الحديث. كما أخرجه الترمذي في "سننه" 5/ 362: ح 3224، كتاب التفسير، ومن سورة سبأ: 35، قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن صحيح). وما أورده الإمام الواحدي فنقلًا عن "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة: 430. (¬1) وردت في "تأويل مشكل القرآن" المطبوع بلفظ: (لِنَدُلَّ). (¬2) ورد البيت في "ديوانه" 37، و"كتاب المعاني الكبير" 2/ 739، و"الحيوان": لأبي عثمان الجاحظ: 6/ 273، برواية (الخبار) بدلًا من (الغبار)، و (خلفهما) بدلًا من (خلفها)، و"الكشاف" 29/ 87 برواية: (خلفهما). معنى البيت: الخبار: أرض لينة رخوة تسوخ فيها القوائم. شبه الجحش بالكوكب المنقضّ في سرعته وبياضه. "ديوانه": 37. حاشية. (¬3) وانقض: هكذا وردت عند ابن قتيبة في التأويل. (¬4) ورد البيت في ديوانه: 3، برواية: (وانقض)، و"الحيوان" 6/ 274، "كتاب المعاني الكبير" 2/ 739، و"النكت والعيون" 6/ 112، و"التفسير الكبير" 3/ 157، و"المحرر الوجيز" 5/ 381، وعزاه إلى عوف بن الجزع، و"الجامع لأحكام القرآن" 12/ 19، و"الكشاف" 29/ 87 (وانقض). ويراد بالنقع: الغبار الساطع. الدريّ: الكوكب المنقض يدرأ على الشيطان. تخاله طنبًا: يريد تخاله فسطاطًا مضروبًا. ديوانه: 3 حاشية. (¬5) ما بين القوسين من قول ابن قتيبة؛ نقله عنه الواحدي بتصرف يسير جدًّا. انظر: =

ثم قالوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ}، أي: بحدوث الرجم بالكواكب، وحراسة السماء من استراق السمع، أريد شرًّا (¬1) بأهل الأرض أم صلاح. وهو قوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}. (هذا معنى أكثر المفسرين (¬2)، وأهل التأويل (¬3)) (¬4). قال مقاتل: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ} يعني بإرسال محمد -صلى الله عليه وسلم- إليهم فيكذبوه، فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم الخالية، أراد أن يؤمنوا فيهتدوا (¬5). والمراد بـ: "الشر"، و"الرشد" على هذا القول: الكفر والإيمان (¬6). وقال ابن زيد: قالوا: لا ندري أعذاب أراد الله أن ينزله بأهل الأرض ¬

_ = "تأويل مشكل القرآن" ص 430. (¬1) وردت مكررة في النسخة: أ. (¬2) قال بذلك: ابن زيد، انظر قوله في "جامع البيان" 29/ 111، و"النكت والعيون" 6/ 112، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 13. كما قال به ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 431، ورجحه الطبري في "جامع البيان" مرجع سابق، وقاله أيضًا السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 412، وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 403، وعزاه القرطبي إلى الأكثرين من المفسرين. وهذا القول أحد القولين للآية، وهو القول الأول. (¬3) قاله الفراء في "معاني القرآن" 3/ 193، والزجاج 5/ 234. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "تفسير مقاتل" 211/ ب، و"زاد المسير" 8/ 106، وإلى هذا القول ذهب الكلبي أيضًا، وعزاه الماوردي إلى السدي، وابن جريج، وحكاه ابن عطية في تفسيره. ويعد هذا القول الثاني من القولين في معنى الآية. انظر: "جامع البيان"، و"النكت والعيون" مرجعان سابقان، و"المحررالوجيز" 5/ 381 (¬6) بمعنى أن هذا القول منفصل عن معنى الآية السابقة له.

فمُنَعنا، أم أراد بهم الهدى بأن يبعث فيهم رسولاً. وهذا معنى القول الأول (¬1). ثم أخبر عن أحوالهم فقال: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ}، أي: المؤمنون المخلصون. {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}: دون الصالحين، يعنون الكفّار في قول مقاتل (¬2)، والكلبي (¬3)، ومجاهد (¬4). (وهو اختيار الفراء (¬5)، والزجاج (¬6)). وقال ابن قتيبة: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} بعد استماع القرآن، {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي منا بررة أتقياء، ومنا دون البررة، وهم مسلمون (¬7)، فجعل الفريقين جميعًا مسلمين، ولكن بعضهم دون بعض؛ وهذا قول السدي عن ابن عباس (¬8). هذا كله معنى قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}، أي: أصنافًا، وضروبًا مختلفة، إمَّا مؤمنون، وكافرون، على القول الأول، وإمَّا مخلصون بررة ودونهم. ¬

_ (¬1) ورد قوله بمعناه في "جامع البيان" 29/ 111، و"الجامع" للقرطبي 13/ 19. (¬2) "تفسير مقاتل" 211/ ب، بنحوه. (¬3) كلمة (والكلبي) ساقطة من (أ)، ولم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "جامع البيان" 29/ 112، و"معالم التنزيل" 4/ 403، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 459، و"الدر المنثور" 8/ 304 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 193، وعبارته سابقة لهذه الآية، وذلك عندما تناول تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ}. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 235. والكلام ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) "تأويل مشكل القرآن" 431 نقله عنه الواحدي بنصه. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

قال السدي: الجنُّ أمثالكم، فيهم قدرية، ومرجئة (¬1)، ورافضة (¬2)، ¬

_ (¬1) المرجئة: الإرجاء معناه التأخير، والآخر: إعطاء الرجاء، وإطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد، وإما بالمعنى الثاني فظاهر أنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وأول من قال بالقدر والإرجاء: غيلان الدمشقي، ثم الجهم بن صفوان. والمرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدر، ومرجئة الجبر، والمرجئة الخالصة. انظر: "شرح أصول الاعتقاد" لللالكائي 1/ 25، و"الفرق بين الفرق" للأسفراييني 25، و"الملل والنحل" للشهرستاني 139، "مختصر لوامع الأنوار البهية" لابن سلوم 76. (¬2) الرافضة والروافض من فرق الشيعة الباطلة الهدامة المعاندة للأمة الإسلامية، والرافضة لقب أطلقه زيد بن علي بن الحسين على الذين تفرقوا عنه ممن بايعه بالكوفة؛ لإنكاره عليهم الطعن علي أبي بكر وعمر، فرفضه جماعته من الشيعة بسبب ثنائه عليهما، فسموا رافضة. ومن أهل السنة من يطلق الوصف على الشيعة عمومًا باستثناء الزيدية. ومن فرق الرافضة من أظهر بدعته في زمن علي رضي الله عنه فقال لـ: "علي" أنت الإله، فأحرق علي رضي الله عنه قومًا منهم، ونفى بعضهم. وهذه الفرقة من الروافض ومن شاكلهم يجمعهم إنكارهم للقرآن، والاعتقاد بتحريفه وتغيره، وإنكار السنة النبوية مكفرين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخاصة الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغير ذلك من الأمور المنكرة الشنيعة التي ما أرادوا بها إلا إسقاط كلمة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا في استحلال المحرمات الشرعية، ويعتذروا عند العوام بما يعدونه من تحريف الشريعة، وتغيير القرآن من عند الصحابة، فإنهم ليسوا من الأمة الإسلامية أصلاً. انظر: "الفرق بين الفرق" للأسفراييني 21، و"القاموس الإسلامي" لأحمد عطية 2/ 474، و"الشيعة والتشيع فرق وتاريخ" لإحسان إلهي ظهير 45 و47، و"الموسوعة الميسرة" 854.

وشيعة (¬1) (¬2) وقال أبو عبيدة: في قوله: {طَرَائِقَ قِدَدًا}، (أي) (¬3): ضروبًا، ¬

_ (¬1) الشيعة: من الفرق الضالة عن الإسلام، ومنهم من لا يمت إلى الإسلام بشيء، قال الشهرستاني عنهم: "هم الذين شايعوا عليًّا رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصًّا، ووصيه إما جليًّا أو خفيًّا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة، وينتصب الإمام بنصبهم؛ بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين، لا يجوز للرسل -عليهم السلام- إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله، ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبًا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري قولًا، وفعلًا وعقدًا إلا في حال التقية. وهم خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، واسماعيلية. وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه. وقد تعددت الآراء حول بداية التشيع مذهبًا وحركة، فالشيعة أنفسهم يرجعون بمذهبهم إلى بدايات الإسلام، وآخرون يرجعون إلى الفترة التي تلت وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، واختلاف الناس حول خلافته، ومنهم من يرجع ذلك إلى عهد علي، ومعركة صفين بصفة خاصة. إلخ. انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني: 146 - 147، و"القاموس الإسلامي" 3/ 217، وانظر: "شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة" 1/ 22 - 23، و"الموسوعة العربية العالمية" 14/ 298 - 299. (¬2) ورد قول السدي هذا في "الكشف والبيان" 12/ 195/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 403، و"زاد المسير" 8/ 106، و"التفسير الكبير" 30/ 159، و"الجامع" للقرطبي 19/ 14، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 459، و"الدر المنثور" 8/ 304، وعزاه إلى أبي الشيخ في العظمة، و"فتح القدير" 5/ 306، وانظر: "تفسير السدي" 464. (¬3) ساقطة من: (ع).

وأجناسًا، ومللًا (¬1) (¬2)، وأنشد الكميت: جمعت بالري منهم كل رافضة ... إذ هم طرائق في أهوائهم قددُ (¬3) (¬4) وقال أبو إسحاق: وكنا جماعات متفرقين (¬5). وقال الفراء: كنا فرقًا مختلفة [أهواؤنا] (¬6). وقال ابن قتيبة: كنا أصنافًا وفرقًا (¬7). وذكرنا معنى الطريقة عند (¬8) قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): ميلًا. (¬2) النص في: "مجاز القرآن" 2/ 272، ولم يذكر: مللًا. (¬3) في (أ): قددًا. (¬4) وورد البيت في: "الدر المصون" 6/ 394، ولم أعثر عليه في ديوانه. وورد غير منسوب في "البحر المحيط" 8/ 344 برواية: (الرأي). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 235 بنصه. (¬6) وردت في النسختين (أ)، (ع): أهوانا، وما أثبتناه من "معاني القرآن" 3/ 193 فالكلام فيه بنصه، وهو الصواب. (¬7) "تأويل مشكل القرآن" 431 بنحوه، وانظر أيضًا: "تفسير غريب القرآن" 490. (¬8) في (أ): في. (¬9) سورة طه: 63: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)}. ومما جاء في تفسيرها: قال عكرمة: يذهبا بخياركم، وقال الحسن وأبو صالح بأشرافكم، وعن مجاهد: أولو العقل والشرف والأسنان، وهذه الأقوال معناها واحد، وهو معنى قول ابن عباس في رواية الوالبي: أمثلكم. قال الزجاج: معناه: جماعتكم الأشراف. قال: والعرب تقول للرجل الفاضل: هذا طريقة قومه .. وتأويله: هذا الفتى ينبغي أن يجعله قومه قدوة، ويسلكوا طريقته، وينظروا إليه، ويتبعوه. وقال الفراء: العرب تقول للقوم: هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم، لأشرافهم؛ ويقولون للواحد أيضًا: هذا طريقة قومه، ويقولون للجمع بالتوحيد =

والقدة: القطعة من الشيء، وصَار القوم قددًا إذا تفرقت أحوالهم (¬1) وأهواؤهم (¬2). وقال المبرد (¬3): "الطرائق": الأجناس المتفقة، والمختلفة، وهو مأخوذ من الطريق، وهو تأكيد له -هاهنا- ويقال: القوم طرائق، أي على مذاهب شتى، والقدد نحو الطرائق، وهو تأكيد لها -هاهنا- يقال: لكل طريقة قدة. وأصله من قد السّيور (¬4)، يقال: صار الأديم قددًا. ثم قالوا: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} هو قال ابن عباس (¬5)، والمفسرون (¬6): عَلِمْنا وأيقنا. {أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ في الْأَرْضِ}، أي: لن نفوته إن أراد بنا أمرًا، ولن نسبقه. {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} إن طلبنا، أي أنَّه يدركنا (حيث كنَّا) (¬7) ثم قال: قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} قال ابن عباس: الذي جاء به ¬

_ = والجميع، يعني: طريقة، وطرائق، قال: ومن ذلك قولى: {طَرَائِقَ قِدَدًا}. والطريقة اسم للأفاضل، على معنى أنهم الذين يقتدى بهم، ويتبع آثارهم، كما يسلك الطريقة. (¬1) في (ع): حالاتهم. (¬2) انظر: مادة (قدد) في "تهذيب اللغة" 8/ 268، و"الصحاح" 2/ 522، و"تاج العروس" 2/ 460. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) قال الليث: والقِدُّ: سير يُقَدُّ من جلد غير مدبوغ. "تهذيب اللغة" 8/ 268 (قدد). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ممن قال بذلك: الفراء 3/ 193، والثعلبي 12/ 194/ أ، والبغوي 4/ 403، وابن عطية 5/ 382، وابن الجوزي 8/ 106، والفخر الرازي 30/ 158، والقرطبي 19/ 15، والخازن 4/ 317، وابن كثير 4/ 458، والشوكاني 5/ 306. (¬7) ما بين القوسين ساقطة من: (أ).

محمد -صلى الله عليه وسلم- كله هدى (¬1). وقال مقاتل: يعني القرآن (¬2). {آمَنَّا بِهِ} صدقنا أنَّهُ من عند الله. {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ} يصدق بتوحيد الله. {فَلَا يَخَافُ بَخْسًا} نقصًا من عمله وثوابه (¬3). {وَلَا رَهَقًا} ظلمًا، بأن يذهب عمله كله (¬4)؛ قاله الكلبي (¬5) ومقاتل (¬6)) (¬7)، وقال عطاء (¬8): {رَهَقًا}: عذابًا. قال المبرد: البخس (¬9) الظلم، والرهق (¬10): ما يغشاه من المكروه (¬11)، فيدخل فيه العذاب، ونقصان الحسنات، والثواب. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله (¬2) "تفسير مقاتل" 212/ أ. (¬3) عن ابن عباس بمعناه في: "جامع البيان" 29/ 112، قال: "لا يخاف نقصًا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته، وعنه: ولا يخاف أن يبخس من عمله شيء". (¬4) بمعناه قال ابن زيد. المرجع السابق. قال: فيظلم ولا يعطي شيئًا. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 212/ أ. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) البَخْس: الناقص، وقد بخسه حقَّه يبْخَسُهُ بَخْسًا إذا نقصه. انظر: مادة: (بخس) في "الصحاح" 3/ 907، و"لسان العرب" 6/ 24، و"القاموس المحيط" 2/ 199. (¬10) الراء والهاء والقاف: أصلان متقاربان، فأحدهما غشيان الشيءِ الشيءَ، والآخر: العجلة والتأخير. والرَّهق: العجلة والظلم. قال تعالى: {فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا}، انظر: مادة: (رهق) في: "معجم مقاييس اللغة" 2/ 451، و"الصحاح" 4/ 1487، و"لسان العرب" 10/ 131. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله.

وقالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} هم الذين آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قاله (¬1) ابن عباس (¬2) والمفسرون (¬3). {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} وهم الجائرون (¬4) الظالمون (¬5) الكافرون (¬6). قال ابن عباس: وهم الذين جعلوا لله نِدًّا، وعدلوا به مخلوقًا (¬7). وذكرنا معنى "قسط" و"أقسط" في أول سورة النساء (¬8). ثم مدحوا الإيمان وقالوا: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}، أي: قصدوا طريقا الحق (¬9). وقال أبو عبيدة: (تحروا توخوا وتعمدوا، وأنشد: ¬

_ (¬1) في (أ): قال. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬4) قال بذلك قتادة، وابن زيد. انظر: "جامع البيان" 29/ 113. وإليه ذهب الطبري في: "جامع البيان" المرجع السابق، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 235، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12/ 194/ أ. (¬5) قال به مجاهد. انظر: "تفسير الإمام مجاهد" 677، و"جامع البيان" 29/ 113. (¬6) قال به ابن قتيبة في: "تأويل مشكل القرآن" 431. (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 403، ولم يذكر عنه: وعدلوا به مخلوقًا. (¬8) عند قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}. ومما جاء في تفسير القسط فيها ما يلي: "الإقساط: العدْل، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، والقسط: العدل، والنصفة. قال الزجاجي: وأصل قسط وأقسط جمعياً من القسط، وهو النصيب، فإذا قالوا: قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ... وإذا قالوا: أقسط، فالمراد به أنه صار ذا قِسط وعَدل، فبني علي بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه. (¬9) التحري لغة: قصد الأولى والأحق. انظر: مادة: (حرى) في: "تهذيب اللغة" 5/ 213، و"لسان العرب" 14/ 174.

دِيمةٌ هَطلا (¬1) فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأرض تحري وتَدِرْ (¬2)) (¬3) وقال الليث: (يُقال) (¬4): هو يتحرى بكلامه وأمره الصَّواب، وكذلك يتحرى مسرة فلان (¬5). وقال الفراء: {تَحَرَّوْا رَشَدًا} الهدى (¬6). قال المبرد: وأصل التحري من قولهم: ذلك أحرى، أي أحق وأقرب. والحري (¬7) أن يفعل كذا، أي يجب عليك، كما تقول: يحق عليك أن تفعل (¬8)، ويقال: لا تَطُرْ حَرانا أي القرب الذي تحر أحق به (¬9). ثم ذموا الكافرين فقالوا: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ}. الآية. أي الذين كفروا وعدلوا بربهم كانوا وقوداً للنار في الآخرة يصلونها (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): هطلاه. (¬2) البيت لامرئ القيس، ورد البيت ديوانه: 105، وانظر مادة (هطل) في: "تهذيب اللغة" 6/ 77، و"الصحاح" 5/ 1850، و"لسان العرب" 14/ 174، 3/ 699، و"تاج العروس" 8/ 169 مادة (حرى). ومعنى البيت: الديمة: المطر الدائم يومًا وليلة، الوطفاء: الدانية من الأرض، طبق الأرض: عمها، تحرى: تقصد حراهم وهو الغناء، قدر: تعتمد المكان وتثبت فيه. (¬3) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 272. (¬4) ساقط من: (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 193، مختصرًا وعبارته: أمّوا الهدى واتبعوه. (¬7) في (ع): بالحرى. (¬8) "التفسير الكبير" 30/ 160. (¬9) انظر: "لسان العرب" 14/ 172، مادة: (حري)، والعبارة عنه قال: تَطُرْ حرانا، أي: لا تقرب ما حولنا. (¬10) في (أ): بطونها.

وانقطع -هاهنا- كلام (¬1) الجن (¬2). قال مقاتل: ثم رجع إلى كفار مكة (¬3)، قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} (¬4) "أن" مخففة من الثقيلة، وفصل (لو) (¬5) بينها وبين الفعل (¬6) كفصل (¬7) السين (¬8) و"لا" في قوله: {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89]، و {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20]، وهو محمول على الوحي، كأنَّهُ أوحي إلى أن لو استقاموا على الطريقة) (¬9). قال ابن عباس: يريد طريقة الإسلام (¬10). وهو قول مقاتل (¬11)، (وإبراهيم (¬12)) (¬13)، ومجاهد (¬14)، ¬

_ (¬1) في (أ): الكلام. (¬2) ورد ذلك عن ابن قتيبة، ولعل الإمام الواحدي نقله عنه بتصرف، وعبارة ابن قتيبة: (الكافرون. الآية، وانقطع كلام الجن) "تأويل مشكل القرآن" 431. (¬3) "زاد المسير" 8/ 107. (¬4) ورد في النسختين: وأن لو استقاموا على أصل معنى الآية. (¬5) ساقطة من: (أ). (¬6) في (ع): كفصل، وهو لفظ مكرر زائد. (¬7) كررت كلمة: كفصل مرتين في (ع). (¬8) في النسختين وردت: الشين، والصواب هو: السين (¬9) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" بتصرف: 6/ 330. (¬10) "النكت والعيون" 6/ 116، و"زاد المسير" 8/ 157، و"ابن كثير" 4/ 459 بمعناه. (¬11) "تفسير مقاتل" 212/ أ، قال: يعني طريقة الهدى. (¬12) لم أعثر على مصدر قوله. (¬13) ساقط من: (أ). (¬14) "جامع البيان" 29/ 114، و"النكت والعيون" 6/ 116 بمعناه، و"المحرر الوجيز" 5/ 382 بمعناه، و"زاد المسير" 7/ 108، و"تفسير القرآن العظيم" 9/ 454، و"الدر المنثور" 8/ 305 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

وقتادة (¬1)، قالوا: معناه لو آمنوا واستقاموا على الهدى {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}، أي: كثيرًا. قال عطاء: يريد لأغدقت لهم في النعيم والمعيشة (¬2). وقال مقاتل: يعني ماءً كثيرًا من السماء، وذلك بعد (¬3) ما رفع عنهم المطر سبع سنين (¬4). وقال سعيد بن جبير: هو المال (¬5). وقال مجاهد: مالاً كثيرًا (¬6). وقال (¬7) السدي: الماء الكثير (¬8). وهذا معنى ما روي عن عمر (¬9) (رضي الله عنه) (¬10) قال: حيث كان الماء كان المال، وحيث كان المال كانت الفتنة (¬11). وقال ابن قتيبة (أي: لو آمنوا جميعًا لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق -وهو الكثير- لذلك مثلاً؛ لأن الخير كله والرزق بالمطر ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 6/ 1116، و"المحرر الوجيز" 5/ 382 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 107. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) "تفسير مقاتل" 212/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 403، و"فتح القدير" 5/ 308. وانظر: "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي: 222. (¬5) "جامع البيان" 29/ 115. (¬6) المرجع السابق، و"الدر المنثور" 8/ 305 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬7) غير واضحة في: (ع). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬10) في (أ): رحمه الله، بدلاً من: رضي الله عنه. (¬11) "جامع البيان" 29/ 115، و"الكشف والبيان" 12/ 194/ ب، و"القرطبي" 19/ 17.

(يكون) (¬1)، فأقيم مقامه إذ كان سببه) (¬2). (ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (¬3) الآية [الأعراف: 96]) (¬4). وتفسير الغدق عند أهل اللغة: الماء الكثير، يقال غَدِقَتْ العين -بالكسر- فهي غَدِقة، والغدق: (الماء الكثير) (¬5) (¬6). قال المبرد: روضة مغدقة إذا كانت ريًّا من الماء (¬7)، ومن هذا يقال: مطر مغدوق، وغيداق، وغيدق إذا كان كثير الماء (¬8). هذا الذي ذكرنا في (تفسير) (¬9) الآية هو قول أكثر المفسرين: سعيد ابن المُسَيِّب (¬10)، وعطاء، وعطية، (والضحاك، والحسن (¬11)) (¬12). ¬

_ (¬1) ساقطة من: (أ). (¬2) ما بين القوسين من قول ابن قتيبة، نقله عنه الإمام الواحدي بنصه: "تأويل مشكل القرآن" 432. (¬3) في: (أ)، و (ع): (الكتاب) بدلا من (القرى)، وهو خطأ واضح. (¬4) ما بين القوسين نقلاً عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 235. (¬5) بياض في: (ع). (¬6) انظر مادة: (غدق) في: "تهذيب اللغة" 16، و"المستدرك" 129، و"معجم مقاييس اللغة" 4/ 415، و"الصحاح" 4/ 1536، و"لسان العرب" 10/ 282، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 236. (¬7) قوله: إذا كانت ريًا من الماء: بياض في (ع). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ساقطة من: (أ). (¬10) بياض في: (ع). (¬11) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬12) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

وقال الكلبي: وأن لو استقاموا على الطريقة يعني على طريقة الكفر، وكانوا كفارًا كلهم (¬1). وهذا قول الربيع (¬2)، وزيد بن أسلم (¬3)، والثمالي (¬4)، (وأبي مجلز) (¬5) (¬6)، واختيار الفراء (¬7)، وابن كيسان (¬8)، قالوا: وأن لو استقاموا جميعًا على طريقة الكفر لوسعنا عليهم، وجعلنا ذلك فتنة عليهم، ودليل هذا التأويل قوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية. قال أبو إسحاق: والذي يختار أن يكون: يعني بالطريقة طريقة الهدى؛ لأن الطريقة مُعَرَّفَة بالألف واللام، فالأوجب أن يكون طريقة الهدى، والله أعلم (¬9). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 12/ 195/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"الجامع لأحكام القرآن" 91/ 18، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460. (¬2) المراجع السابقة عدا "الجامع لأحكام القرآن"، وانظر أيضًا: "المحرر الوجيز" 5/ 382، و"زاد المسير" 8/ 107، و"فتح القدير" 5/ 308. (¬3) المراجع السابقة عدا "زاد المسير". وانظر أيضًا: "الجامع" للقرطبي 19/ 18. (¬4) انظر قوله في: "الكشف والبيان"، و"الجامع لأحكام القرآن" مرجعان سابقان، و"فتح القدير" 5/ 308. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) ورد قوله في "الكشف والبيان" 12/ 195/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 116، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 18، و"فتح القدير" 5/ 308. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 193. (¬8) انظر قوله في: "الكشف والبيان" 12/ 195/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"زاد المسير" 8/ 107، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 18، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460، و"فتح القدير" 5/ 308. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 236 بيسير من التصرف.

17

وتمام هذا الكلام عند قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} (¬1) (أي لنختبرهم فنعلم كيف شكرهم) (¬2). هذا على القول الأول. (وعلى القول الثاني: نقول لو كانوا كفاراً كلهم وثبتوا على طريقة الكفر لوسعنا عليهم؛ فتنةً لهم، واستدراجًا) (¬3). قال الفراء: نفعل ذلك بهم ليكون فتنةً عليهم في الدنيا وزيادةً في عذاب الآخرة (¬4). 17 - (وقوله تعالى) (¬5) {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) (¬6)} يعني القرآن، وما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الموعظة؛ قاله ابن عباس (¬7) ومقاتل (¬8). {نسلكه (عذابًا) (¬9)} قال مقاتل: يدخله عذابًا (¬10). ¬

_ (¬1) قال بذلك النحاس، وأبو عمرو، والسجاوندي، والأشموني. انظر: "القطع والائتناف" 2/ 766 - 767، و"المكتفى في الوقف والابتدا" 589، و"علل الوقوف" 3/ 1056، و"منار الهدى" 406، وتمام الآية: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}. (¬2) ما بين القوسين من قول ابن قتيبة بنصه من "تأويل مشكل القرآن" 432. (¬3) ما بين القوسين أيضًا من قول ابن قتيبة، نقله الإمام الواحدي، ولكن بتصرف. انظر: المرجع السابق. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 193 بنصه. (¬5) ساقطة من: (أ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "تفسير مقاتل" 212/ أ. (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬10) ما ورد في "تفسير مقاتل" 212/ أهو: "شدة العذاب".

{صَعَدًا} قال مجاهد (¬1)، ومقاتل (¬2): شدَّة، ومشقة من العذاب. وقال قتادة: صعوداً من عذاب الله، لا راحة فيه (¬3). قال عكرمة عن ابن عباس: هو جبل في جهنم (¬4). قال أبو سعيد الخدري: جبل في النار (¬5). وقال الكلبي: يكلف أن يصعد جبلًا في النار (وقال) (¬6) من صخرة ملساء تجذب من أمامه بسلاسل، ومن خلفه بمقامع (¬7) حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 116، و"النكت والعيون" 6/ 119، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460، و"الدر المنثور" 8/ 306 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬2) "تفسير مقاتل" 212/ أ. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 322، و"جامع البيان" 29/ 116، و"الكشف والبيان" 12/ 195/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"الدر المنثور" 8/ 306، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (¬4) "جامع البيان" 29/ 116، و"المحرر الوجيز" 5/ 383، و"التفسير الكبير" 30/ 162 "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 18، و"البحر المحيط" 8/ 352، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460، و"الدر المنثور" 8/ 306 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وانظر: "المستدرك" 2/ 504، كتاب التفسير: باب تفسير سورة نوح، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (¬5) ورد قوله في: "المحرر الوجيز" 5/ 383، و"البحر المحيط" 8/ 352. (¬6) ساقطة من: (ع). (¬7) المقامع: جمع مِقْمَع , وهو ما يضرب به ويُذَلَّل، ولذلك يقال: قمعته فانقمع، أي: كففته فكف. "المفردات في غريب القرآن": 413.

أيضًا صعودها، فذلك في دأبه (¬1) أبدًا (¬2). نزلت في الولِد بن المغيرة (¬3)، ونظيرها قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [المدثر: 17]، قال أبو إسحاق: ومعنى {صَعَدًا} في اللغة طريق شاقَّة من العذاب (¬4). قال المبرد (¬5)، وابن قتيبة (¬6): {صَعَدًا} شاقًا. يقال: تَصَعَّدَهُ الأمر إذا شقَّ عليه (¬7). وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر، والمعنى عذابًا ذا صعد (¬8)؛ وذلك أنه ¬

_ (¬1) دأبه: الدَّأب: العادة والشأن. انظر مادة: (دأب) في: "الصحاح" 1/ 123، و"القاموس المحيط" 1/ 64. (¬2) ورد قول الكلبي في: "الكشف والبيان" 12/ 195/ ب، كما ورد عند الفراء من غير نسبة، وإنما ذكروا أن الصعد: صخرة ملساء .. إلخ. "معاني القرآن" 3/ 194. (¬3) قاله الفراء في "معاني القرآن" 3/ 194، والثعلبي في "تفسيره" 1/ 195/ ب. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 236 بنصه. والصعد في اللغة يدل على ارتفاع ومشقة من ذلك الصعود خلاف الحدور، ويقال: صَعِد يَصْعَد، والإصعاد مقابله الحدور من مكان أرفع، والصعود: العقبة الكؤود، والمشقة من الأَّمر. "معجم مقاييس اللغة" 3/ 287 مادة: (صعد). وجاء في المفردات: 280: (الصعود: الذهاب في المكان العالي، والصَّعود والحدور لمكان الصُّعُود والانحدار، وهما بالذات واحد، وإنما يختلفان بحسب اعتبار من يمر فيهما، فمتى كان المار صاعدًا يقال لمكانه: صَعودٌ، وإذا كان منحدرًا يقال لمكانه: حدور، والصَّعَدُ، والصَّعيدُ، والصعُود في الأصل واحد، لكن الصَّعود، والصَّعَد يقال للعقبة، ويستعار لكل شاق). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير غريب القرآن" 491، و"تأويل مشكل القرآن" 432. (¬7) بياض في: (ع). (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 272، والعبارة عنه: {عَذَابًا صَعَدًا} مصدر صعود، وهو أشد العذاب.

يصعد ذلك الجبل فيشق عليه، والمشي في الصعود يشق على الإنسان، فسمى المشقة صعدًا. وسنزيد بيانًا عند قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [المدثر: 17] إن شاء الله. قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} زعم سيبويه أن المفسرين حملوه على "أوحي" كأنه أوحي إليَّ أن المساجد لله، ومذهب الخليل: أنه على معنى: ولأن المساجد لله فلا تدعو (¬1)، كما أن قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [الأنبياء: 92]، على معنى: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، (أي لهذا فاعبدون) (¬2) (¬3). واختلفوا في معنى المساجد، فالأكثرون (¬4) على أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله. قال مقاتل: يعني الكنائس، والبيع، ومساجد المسلمين (¬5). {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ} فلا تعبدوا مع الله أحدًا، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع، والكنائس، فأمر الله المؤمنين. ونحو هذا قال قتادة: كانت اليهود والنصارى، إذا دخلوا كنائسهم، وبيعهم أشركوا، ¬

_ (¬1) في كلا النسختين: تدعوا. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) ورد قول سيبويه في "الحجة"، نقله الواحدي عن أبي علي الفارسي بتصرف يسير. "الحجة" 6/ 331 - 332، وانظر: "كتاب سيبويه" 3/ 127. (¬4) حكاه الفخر أيضًا عن أكثر المفسرين، انظر: "التفسير الكبير" 30/ 162، وبه قال: عكرمة وابن عباس وقتادة. انظر: "جامع البيان" 29/ 117، و"النكت والعيون" 6/ 119، و"زاد المسير" 8/ 108. (¬5) "تفسير مقاتل" 212/ أ.

فأمر الله أن يُخلص الدعوة إذا دخل المسجد (¬1). وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة قال: المساجد كلها (¬2). وعلى هذا القول واحدها يجوز أن يكون مسجَداً -بفتح الجيم-، وهو موضع السجود من الأرض، ويجوز أن يكون مسجِداً -بكسر الجيم-، وهو اسم جامع للموضع الذي يسجد عليه. وفيه بُعد أن (¬3) يكون اتخذ لذلك. وقال سعيد بن جبير: المساجد: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي سبعة: القدمان، والركبتان، واليدان، والوجه (¬4). وهذا القول اختيار ابن الأنباري (¬5)، قال: يقول: إن هذه الأعضاء التي يقع السجود عليها مخلوقة لله، هو ابتدأها، وفطرها؛ فلا ينبغي أن تسجدوا عليها لغيره فتكونوا إذا فعلتم ذلك جاحدين لنعمته. ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 323، و"جامع البيان" 29/ 117، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 195/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"زاد المسير" 8/ 108، و"لباب التأويل" 4/ 318، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460، و"الدر المنثور" 8/ 306 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) ورد بمعنى هذه الرواية في: "النكت والعيون" 6/ 119، و"زاد المسير" 8/ 108 ونص العبارة عنه: (أنها المساجد التي هي بيوت الله للصلوات)، وقد وردت رواية ابن عباس بهذا اللفظ عن عكرمة. انظر: "جامع البيان" 29/ 117، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460. (¬3) أن: جاءت مكررة في: (ع). (¬4) ورد بمعنى هذه الرواية في: "النكت والعيون" 6/ 119، و"زاد المسير" 8/ 108 ونص العبارة عنه: (أنها المساجد التي هي بيوت الله للصلوات)، وقد وردت رواية ابن عباس بهذا اللفظ عن عكرمة. انظر: "جامع البيان" 29/ 117، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 460. (¬5) "زاد المسير" 8/ 108، و"التفسير الكبير" 30/ 163، وانظر: "الوسيط" 4/ 367.

وعلى هذا القول معنى المساجد: مواضع السجود من الجسد، واحد ها مسجَد -بالفتح-، (وذكر الكلبي (¬1)، والفراء (¬2) القولين اللذين ذكرناهما) (¬3). وروي عن الحسن أنه قال: أراد البقاع كلها (¬4). يعني أن الأرض كلها مواضع للسجود (¬5) يمكن أن يسْجد عليها، وهي كلها جعلت مسجدًا لهذه الأمة، يقول: الأرض كلها مخلوقة لله، فلا يسجدوا عليها لغير خالقها (¬6). وروي عنه أيضًا أنه قال: المساجد هي الصلوات (¬7). قال ابن قتيبة: يريد أن السجود لله، جمع "مَسْجَد" كما تقول: ضربت في الأرض مَضْرَبًا بعيدًا (¬8)، (¬9): المسجد -على هذا القول- مصدر بمعنى السجود. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد مكة التي القبلة إليها (¬10). وعلى هذا القول "المساجد"، خاصة في مكة، وسميت بذلك؛ لأن كل أحد يسجد إليها. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 194. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) "الكشف والبيان" 12/ 195/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"المحرر الوجيز" 5/ 383، و"زاد المسير" 8/ 108، و"التفسير الكبير" 30/ 162، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 19، و"فتح القدير" 5/ 309. (¬5) في (أ): السجود. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 162. (¬7) "الكشف والبيان" 12/ 196/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 20. (¬8) "تأويل مشكل القرآن" 433 بتصرف يسير، وانظر: "تفسير غريب القرآن" 491. (¬9) في (أ): المصدر، وهي كلمة زائدة في معنى الكلام أثبتت سهوًا. (¬10) "التفسير الكبير" 30/ 163، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 20.

وواحد المساجد -على الأقوال كلها- مَسْجَد -بفتح الجيم-، إلا قول من يقول إنها المواضع التي بنيت للصلاة، فإن واحدَها مسجِد -بكسر الجيم-؛ لأن المواضع، والمصادر من هذا الباب بفتح العين، إلا في أحرف معدودة، وهي: المسْجِد، والمَطْلِع، والمَنسِك، والمَنْبِت، والمَفْرِق، والمَسْقِط، والمَجْزِر، والمَحْشِر، والمَشْرِق، والمَغْرِب. وقد جاء في بعضها الفتح، وهو: المنسك، والمسكن، والمفرق، والمطلع. وهو جائز في كلها، وإن لم تسمع (¬1). ثم رجع إلى الخبر عن مؤمني الجن: قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} (¬2) (يجوز فيه (¬3): "وأنه" الفتح بالحمل على أوحي إليَّ"، والكسر بالقطع من قوله: "أوحي" والاستئناف) (¬4). وقوله: {عَبْدُ اللهِ} يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- في قول الجميع (¬5)، قالوا ذلك ¬

_ (¬1) ما بين القوسين انظر فيه: كتاب "الجمل في النحو" للزجاجي: 388: باب اشتقاق اسم المكان والمصدر. (¬2) كلمة (يدعوه) ساقطة من: (ع). (¬3) في (ع): في. (¬4) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "الحجة" 6/ 332 بتصرف. (¬5) وهو قول ابن عباس، والزبير بن العوام، والضحاك، وقتادة، والحسن. انظر: "جامع البيان" 29/ 118 - 119، و"الدر المنثور" 8/ 307 - 308 من غير ذكر الضحاك، وعزاه إلى ابن جرير، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وعبد بن حميد. وممن قال بذلك أيضًا من المفسرين: ابن قتيبة في: "تأويل مشكل القرآن" 433، والفراء في "معاني القرآن" 3/ 194، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 337، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12/ 196/ ب، والماوردي في: =

حين كان يصلي ببطن مكة (¬1) ويقرأ القرآن (¬2). وقوله: {يَدْعُوهُ} أي يعبدوه. {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} كادوا يركبونَهُ حرصًا على القرآن، وحبًّا لاستماعه. قاله الكلبي (¬3)، (ومقاتل (¬4)) (¬5). واختار الفراء: كادوا يركبون النبي -صلى الله عليه وسلم- رغبة في القرآن وشهوة له (¬6). وقال الزجاج: كادوا الجن الذين سمعوا القرآن، وتعجبوا منه أن يسقطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬7). وقال ابن قتيبة: يعني الجن كانوا (¬8) يتراكبون رغبة فيما سمعوا (¬9). ¬

_ = "النكت والعيون" 6/ 120. وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 404، و"المحرر الوجيز" 5/ 383، و"زاد المسير" 8/ 108، و"التفسير الكبير" 30/ 163، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 22، و"لباب التأويل" 4/ 318، و"البحر المحيط" 8/ 352. (¬1) في (ع): نخلة. وبطن نخلة: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة. "معجم البلدان" 1/ 449. (¬2) انظر في: "الكشف والبيان" 12/ 196/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"لباب التأويل" 4/ 318. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير مقاتل" 212/ أ. (¬5) ساقط من: (ع). (¬6) "معاني القرآن" 3/ 194 بنصه. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 337 بتصرف يسير جدًّا. (¬8) غير واضحة في: (ع). (¬9) "تأويل مشكل القرآن" 233 بتصرف يسير، وانظر: "تفسير غريب القرآن" 191.

ومعنى قوله {لِبَدًا} قال أبو عبيدة: (أي جماعات، واحدها (¬1) "لبدة". قال: وكذلك يقال للجراد الكثير، وأنشد لعبد مناف بن ربع (الهذلي) (¬2): صابوا (¬3) بستةِ أبْياتٍ وأرْبَعَةٍ ... حق كأنَّ عَلَيْهِم جَابياً لِبَدَا (¬4) قال: الجابي: الجراد؛ لأنه يجبي (¬5) كل شيء يأكله) (¬6). قال أبو إسحاق: (معنى {لِبَدًا} يعني (¬7): يركب بعضهم بعضاً، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقًا شديدًا فقد لبّدته، ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش، وهو جمع "لِبْدَة"، ومن ضم اللام (¬8) فهو جمع "لُبْدَة"، ¬

_ (¬1) في (أ): واحدتها. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) في (أ): كانوا. (¬4) ورد البيت منسوبًا في: "ديوان الهذليين" 2/ 40، ومادة: (جبي) من كتب اللغة: "لسان العرب" 14/ 131، و"تاج العروس" 10/ 66، وانظر أيضًا: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: 2/ 272، و"جامع البيان" 29/ 113، المحرر: 5/ 384، و"البحر المحيط" 8/ 353، و"الكشاف" 29/ 93. ومعنى البيت: صابوا: أي وقعوا، وقوله: حتى كأن عليهم جابيًا لبدًا. يقال: إن الجابي الجراد نفسه، واللّبد: المتركب بعضه على بعض. ديوان الهذليين: المرجع السابق. (¬5) غير واضحة في: (ع). (¬6) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة. انظر: "مجاز القرآن" 2/ 272، ولعل الواحدي نقله عن "الحجة" 6/ 333. (¬7) ساقط من: (ع). (¬8) قرأ هشام بن عمار عن ابن عامر: {لِبَدًا} بضم اللام، وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: "لِبدا" بكسر اللام، وكذلك الباقون. =

و"لِبْدَة" (¬1)، و"لُبْدَة" في معني واحد) (¬2) ونحو هذا قال الفراء في اللُّبد، واللِّبد (¬3). وقال الكسائي: لبدًا: ركامًا، جمعُ لبدة (¬4). وقال أبو علي الفارسي: (اللُّبَدُ -بضم اللام- الكثير من قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد: 6]، وكأنه قيل له: "لُبَد" (¬5) لركوب بعضه على بعض لكثرته، ولُصوق بعضه ببعض، وكأنه أراد: كادوا (¬6) يَلْصقون به من شدة دنوهم للإصغاء، والاستماع مع كثرتهم، وهذا قريب المعنى من القراءة الأولى؛ إلا أن "لِبَداً" -بكسر اللام- أعرف لهذا المعنى وأكثر) (¬7). وقال المبرد: اللُّبَد: الجماعات، واحدها: "لبدة"، وأصله ما وقع بعضه على بعض (¬8)، ولقال للأسد: ذو لِبدة لما يتلبد من الشعر بين ¬

_ = انظر: "كتاب السبعة" 656، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 721، و"الحجة" 6/ 333، و"حجة القراءات" 729، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 342، و"النشر" 392. (¬1) ساقطة من: (أ). (¬2) ما بين القوسين من قول أبي إسحاق في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 237 بتصرف. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 194، وعبارته: " .. وقرأ بعضهم: "لُبُدا"، والمعنى فيهما -والله أعلم- واحد، يقال: لُبَدة، ولِبدَةٌ". (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) وردت في "الحجة" 6/ 334: "لُبَّدًا". (¬6) في (أ): كانوا. (¬7) ما بين القوسين من قول أبي علي الفارسي نقله الإمام الواحدي عنه بتصرف يسير من "الحجة" 6/ 334. (¬8) اللام والباء والدال أصل كلمة صحيحة تدل على تكرُّس الشيء بعضه فوق بعض، من ذلك: اللِّبْد، وهو معروف، وتَلَبَّدت الأرضُ، ولبَّدها المطر، وصار الناس =

كتفيه (¬1). ومنه قول زهير: له لِبَدٌ أظْفَارُهُ لم تُقَلَّمِ (¬2) قال (¬3): وقال: "لُبَدٌ" كثير، و"لُبَدٌ" واحد ليس جمعًا لشيء، كقوله: رجلٌ حُطَمٌ (¬4). وفي الآية قولان آخران، أحدهما: (إن هذا من قول الجن لما رَجَعوا إلى قومهم، أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وائتمامهم به في الركوع والسجود، واقتدائهم به في الصلاة. ¬

_ = عليه لُبَدًا إذا تجمعوا عليه. قاله ابن فارس. انظر: "معجم مقاييس اللغة" 5/ 228 - 229: مادة: (لبد). وجاء في اللسان: لَبَد بالمكان يَلْبُدُ لُبودًا, ولَبَدَ لَبَدًا وألبد: أقام به ولزق، فهو مُلبِدٌ به، ولَبَدَ الشيءُ بالشيء يَلْبُدُ إذا ركب بعضه بعضًا، ومال لُبَد: كثير لا يخاف فناؤه، كأنه التبد بعضه على بعض، واللِّبدة واللُّبدة: الجماعة من الناس يقيمون، وسائرهم يظعنون كأنهم بتجمعهم تلبدوا. 3/ 385 - 387، مادة: (لبد). وانظر: "تاج العروس" 2/ 491، مادة: (لبد). (¬1) "الكامل" 1/ 34 أو العبارة عنه قال: لِبْدَة الأسد: ما يتطارق مع شعره بين كتفيه، ويقال: أسد ذو لِبْدَة، وذو لَبد، وقد أورد الثعلبي بمعناه من غير عزو في "الكثسف والبيان" 12/ 196/ ب. (¬2) "ديوانه" 84: دار بيروت، والبيت كاملاً: لدى أسد شاكي السلاح مُقذَّفٍ ... له لبد أظافره لم تقلم ومعناه: شاكي السلاح، أَي: سلاحه ذو شوكة. المقذف: الغليظ اللحم. اللِّبَد: الشعر المتراكب على زبرة الأسد. أظافره لم تقلم: أي هو تام السلاح. حديده: يريد الجيش. "شرح شعر زهير بن أبي سلمى" لأبي العباس ثعلب، تحقيق: فخر الدين قباوة: 30. (¬3) أي المبرد. (¬4) "الكامل" 3/ 1230 بنحوه، وكذا في "المقتضب" 3/ 323.

وهو قول سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته، ويسجدون بسجوده، تعجبوا من طواعية أصحابه له -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا لقومهم: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ} الآية (¬1). الثاني: قول قتادة، قال: لما قام عبد الله بالدعوة تلبدت (¬2) الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به، ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره (¬3) ويظهره على من ناوأه (¬4) (¬5)، (وهذا قول الحسن (¬6)، ¬

_ (¬1) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 118، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 196/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 120، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"زاد المسير" 8/ 109، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 22، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 461، و"الدر" 8/ 307 وعزاه إلى عبد بن حميد، والترمذي، والحاكم، وصححاه، وابن جرير، وابن مردويه، والضياء في المختارة، و"فتح القدير" 5/ 314. انظر: "سنن الترمذي" 5/ 427: ح 3323، كتاب التفسير: باب ومن سورة الجن، وقال عنه: حديث حسن صحيح، و"المستدرك" 2/ 504، كتاب تفسير سورة الجن، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) في (أ): لبدت. (¬3) غير واضحة في: (ع). (¬4) ناوأه: النَّوْء، والمناوأة: المعاداة، وناوأت الرَّجُلَ مناوأةً ونِواءً: فاخرْتُه، وعادَيْتُهُ. "لسان العرب" 1/ 178، مادة: (نوأ). (¬5) انظر قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 323، و"جامع البيان" 29/ 118 بنحوه، و"الكشف والبيان" 12/ 196/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 404، و"زاد المسير" 8/ 109 , و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 22، و"البحر المحيط" 8/ 352، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 461، و"الدر المنثور" 8/ 830 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 309، وانظر: "الحجة" 6/ 334. (¬6) المراجع السابقة.

20

وابن زيد (¬1)) (¬2). 20 - قوله تعالى: {قُلْ (¬3) إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} (¬4) قال محمد -صلى الله عليه وسلم-: إنما أدعو ربي، وقراءة العامة: (قال) (¬5) إنما أدعو ربي (¬6). وقرأ عاصم، وحمزة: {قُلْ} على الأمر (¬7)؛ لقوله بعده: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} (¬8). ({قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنك جئت بأمر عظيم لم نسمع مثله، وقد عاد الناس كلهم، فأرجع عن هذا. فأنزل الله: "قل إنما أدعو ربى" (¬9)، وهذا حجة لعاصم وحمزة. ومن قرأ: ¬

_ (¬1) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق". (¬2) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن ابن جرير 29/ 118 - 119 مختصرًا. (¬3) وردت في النسختين: (أ) و (ع): قال. (¬4) قوله: (إنما أدعو ربي) ساقط من: (أ). (¬5) قال: سقطت من النسختين، وأثبت ما دلت عليه كتب القراءات المتواترة. (¬6) وهم نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب. انظر: "كتاب السبعة" 657، و"القراءات وعلل النحويين" 2/ 721، و"الحجة" 6/ 333، و"كتاب التبصرة" 712، و"تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة" 193، "البدور الزاهرة" 328، "الوافي في شرح الشاطبية" 374. (¬7) "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 721، و"الحجة" 6/ 333، و"كتاب التبصرة" 712، و"تحبير التيسير" 193، و"البدور الزاهرة" 328، و"الوافي في شرح الشاطبية" 374، ولعل الواحدي نقل القراءتين من "الحجة" 6/ 333. (¬8) انظر: "الحجة"، و"حجة القراءات" مرجعان سابقان، وانظر: "الكشف والبيان" 12/ 241/ ب، وقوله (لكم ضرا) ساقط من (ع). (¬9) "تفسير مقاتل" 212/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 405 بنحوه، و"زاد المسير" 8/ 119 بنحوه، و"التفسير الكبير" 30/ 64، و"الجامع لأحكام القرآن" 9/ 23 - 24.

21

"قال" حمل هذا على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجابهم هذا لما قالوا له: جئت بأمر عظيم، قال: إنما أدعو ربي) (¬1). 21 - (قوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)} قال مقاتل: وذلك حين استعجلوا العذاب، يقول: "إني لا أملك لكم ضرًا") (¬2): لا أقدر أن أدفع عنكم ضرًّا, ولا أسوق إليكم رشدًا، أي خيرًا، والله يملك ذلك (¬3). 22 - (قوله تعالى) (¬4): {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ} قال ابن عباس: يريد: إن عصيته لم يمنعني منه أحد (¬5) (¬6). (قال مقاتل (¬7)) (¬8): وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرك (¬9). وقوله: {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} قال ابن عباس: يريد أحد ألجأ إليه (¬10). وقال قتادة: ملجأ وحرزًا (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "تفسير مقاتل" 212/ ب. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) ورد بمثله من غير عزو في "الوسيط" 4/ 368. (¬8) ساقط من: (أ). (¬9) "تفسير مقاتل" 212/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 164. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 323، و"جامع البيان" 29/ 120 بمعناه، و"النكت والعيون" 6/ 121، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 461 بنحوه.

23

وقال الكلبي: الملتحد: المدخل في الأرض مثل السرب (¬1) الذاهب في الأرض (¬2). قال أبو إسحاق: اشتقاق الملتحد من اللحد، والملتحد من جنس (الأرض) (¬3): المدخل (¬4). وقال الفراء: أي ملجأ ولا سربًا (¬5). وقال ابن قتيبة: أي معدلاً ومميلاً (¬6). وقال المبرد: ملتحداً: مثل قولك: منعرجاً، والتحد معناه في اللغة: مال (¬7). 23 - وقوله: {إِلَّا بَلَاغًا} قال أبو إسحاق: نصب على البدل من ¬

_ (¬1) السَّرَب -بفتحتين-: بيت في الأرض لا منفذ له، وهو الوكر. انظر: مادة: (سرب) في: مختار "الصحاح" 193، و"المصباح المنير" 1/ 322. (¬2) "الكشف والبيان" 12/ 197/ أ، وعبارة: (الذاهب في الأرض) لعلها من تفسير الواحدي لمعنى السرب، و"معالم التنزيل" 4/ 405، و"التفسير الكبير" 30/ 164، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 24، و"فتح القدير" 5/ 310. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 237 بتصرف. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 195 مختصرًا. (¬6) "تفسير غريب القرآن" 492، وقد ورد عنه: (موئلاً) بدلاً من: (حميلاً). (¬7) جاء بهذا المعنى عن المبرد في حاشية كتابه: "الكامل" 3/ 1224 رقم: 6 نقلاً عن نسخة: أ، والعبارة عنه: ابن شاذان: ألحَدَ الرجل إلْحادًا: إذا مال، فهو مُلْحِدٌ: إذا مال عن القصد. وانظر قوله أيضًا في "التفسير الكبير" 30/ 164. ومعنى "ملتحدًا" لغة: الملجأ؛ لأن اللاجئ يميل إليه. انظر: مادة (لحد) في "الصحاح" 2/ 535، و"القاموس المحيط" 1/ 335. وقال ابن عاشور: الملتحد: اسم مكان الالتحاد، والالتحاد: المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه. "تفسير التحرير والتنوير" 29/ 244.

قوله: "ملتحداً". المعنى: ولن أجد من دونه منجاً "إلا بلاغاً"، أي: لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله عَزَّ وَجَلَّ ما أرسلت به (¬1). وقال الفراء: "إلا بلاغاً"، يكون استثناء من قوله: لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدًا إلا أن أبلغكم ما أرسلت به (¬2). والقولان (¬3) يبنيان على قول المفسرين. قال مقاتل: ثم استثنى: "إلا بلاغاً من الله ورسالاته" فذلك الذي يُجيرني من عذابه، أي: التبليغ (¬4). وقال قتادة: "إلا بلاغاً من الله" فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه، وأما الكفر والإيمان , فلا أملكهما (¬5). وقوله (¬6): {وَرِسَالَاتِهِ} عطف على قوله: {بَلَاغًا} (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 237 بتصرف يسير جدًا. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 195 بنصه. (¬3) هناك أوجه أخرى لإعراب: "إلا بلاغًا" انظر: "الدر المصون" 6/ 397. (¬4) "تفسير مقاتل" 212/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 121 بمعناه، و"معالم التنزيل" 4/ 405، و"زاد المسير" 8/ 110، و"فتح القدير" 5/ 310. (¬5) "جامع البيان" 29/ 121 بمعناه، و"الكشف والبيان" 12/ 197/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 405، و"المحرر الوجيز" 5/ 384، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 25، و"البحر المحيط" 8/ 354، و"الدر المنثور" 8/ 308، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 310. (¬6) في (أ): قوله. (¬7) قال الزمخشري: "رسالاته" عطف على (بلاغًا) كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ. "الكشاف" 4/ 149. وذكر السمين الحلبي أيضًا وجهًا آخر، قال: "والثاني: أنها مجرورة نسقًا على الجلالة، أي إلا بلاغًا عن الله وعن رسالاته". "الدر المصون" 6/ 398.

وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ} قال الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2): في التوحيد، فلا يؤمن به. وقوله (¬3): {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (فإن) مكسورة الهمزة؛ لأن ما بعد (فاء -الجزاء موضع الابتداء، ولذلك حمل سيبويه قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95]، {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} [البقرة: 126] {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ} على أن المبتدأ فيها مضمر (¬4). وانقطع هذا الكلام عند قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ثم قال: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} "حتى" هاهنا مبتدأة كقوله: وحَتَّى الجِيادُ مَا يُقدْنَ بأرْسَانِ (¬5) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 212/ ب، وقد ورد في "الوسيط" من غير عزو: 4/ 386. (¬2) "تفسير مقاتل" 212/ ب، وقد ورد في "الوسيط" من غير عزو: 4/ 386. (¬3) في (أ): قواه. (¬4) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 69. (¬5) هذا عجز بيت لامرئ القيس، والبيت كاملاً: مَطَوْتُ بهم حَتَّى تَكِلّ مَطِيُّهُمْ ... وحَتَّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأرْسَانِ وقد ورد البيت منسوبًا له في "ديوانه" 175 ط دار صادر، و"كتاب سيبويه" 3/ 27، 626، و"كتاب شرح أبيات سيبويه" للنحاس: 158 ش 566، و"المقتضب" 2/ 40. وورد غير منسوب في "المخصص" 14/ 61. ومعنى البيت: أي هو يسري بأصحابه غازيًا إلى أن تأكل مطاياهم، وأما الخيل فإنها تجهد وتنقطع، فلا يجدي فيها أن تقاد بالأرسان، وكانوا يركبون المطي ويقودون الخيل. والأرسان: جمع رَسَن -بالتحريك-، وهو الحبل والزمام يجعل على الأنف. والشاهد فيه: أن "حتى" الأولى عاملة، والثانية غير عاملة لأنها استئنافية. انظر: حاشية 3 "كتاب سيبويه" 3/ 27، وانظر الشاهد في: "كتاب سيبويه".

وذكرنا ذلك عند قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} (¬1)، وهو كثير في القرآن (¬2). قال ابن عباس: يريد يوم القيامة (¬3). وقال مقاتل: ما يوعدون من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من العذاب في الدنيا، يعني القتل ببدر، فسيعلمون عند نزول العذاب (¬4). {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا} أهم، أم المؤمنون؟ {وَأَقَلُّ عَدَدًا} قال (¬5): يعني جنداً، ونظير هذه الآية قوله في مريم: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم: 75] الآية. وقال عطاء في قوله: (وأقل عدداً): هو أن الله تعالى (يجعل) (¬6) ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 110، والآية بتمامها: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}. ومما جاء في تفسيره: قال الواحدي: (فـ (حتى) هاهنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها، كما يستأنف بعد (أما)، و (إذا)، وذلك أن (حتى) لها ثلاثة أحوال: إما أن تكون جارة، أو عاطفة، وحيث تنصب الفعل إنما تنصبه بإضمار (إن)، ومما جاء فيه (حتى) حرف مبتدأ قوله: وحتى الجياد ما يقدن بأرسان ألا ترى أنها ليست عاطفة لدخول حرف العطف عليها! ولا جارة لارتفاع الاسم بعدها). (¬2) نحو ما جاء في سورة الأعراف الآية: 37 قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} الآية. وأيضًا الآية: 38 من سورة الأعراف قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} الآية. والآية 18 من سورة النمل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} الآية. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير مقاتل" 212/ ب. (¬5) ساقط من: (أ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

لأوليائه من الأزواج الآدميات، والحور العين أُلُوفاً، ومن الولدان المخلدين ألوفاً، ومن القهارمة (¬1) ألوفاً، فعند ذلك عدد المؤمن الواحد أكثر من عدد كثير من أهل مدائن الدنيا، والكافر لا عدد له إلا قرناء الشياطين (¬2). قال مقاتل: فلما سمعوا هذا قال النضر بن الحارث وغيره: متى هذا الذي توعد؟ فأنزل الله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} (¬3) من العذاب في الدنيا. وقال عطاء: يريد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده (¬4). {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}، أي: غاية وبعداً. قاله أبو عبيدة (¬5)، والزجاج (¬6). وقال مقاتل: يعني أجلاً بعيداً (¬7)، وهذا كقوله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن: 25]. ¬

_ (¬1) القهارمة: قال الليث: القَهْرَمان: هو المسيطر الحفيظ على ما تحت يديه. "تهذيب اللغة" 6/ 502، مادة: (قهرم). والقهرمان: لفظة فارسية معناه: الوكيل، أو أمين الدخل والخرج، جمعه: قهارمة. انظر: "الوافي"، و"معجم وسيط للغة العربية" لعبد الله البستاني: 523. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 212/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 167. (¬4) "الوسيط" 4/ 369. (¬5) لم أعثر على قوله هذا في "مجاز القرآن". (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 237، قال: أي بُعْدًا، كما قال: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن: 25]. (¬7) "تفسير مقاتل" 212/ ب.

27

ثم ذكر أن علم وقت العذاب غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، وهو قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ}، أي: ما غاب عن العباد {فَلَا يُظْهِرُ} فلا (¬1) يطلع {عَالِمُ الْغَيْبِ}، أي: على الغيب الذي يعلمه هو، وينفرد بعلمه، أحداً من الناس. 27 - ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} قال أبو إسحاق: معناه: أنه لا يظهر على غيبه إلا الرُّسُلَ؛ لأن الرسل يستدل على نبوتهم بالآية المعجزة، وبأن (¬2) يخبر (¬3) بالغيب، فيعلم بذلك أنهم قد خالفوا غير الأنبياء (¬4). وقال مقاتل: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، أي: ارتضاه للنبوة (¬5) والرسالة، فإنه (¬6) يطلعه على ما يشاء من غيبه (¬7). وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على [ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن، ثم ذكر أنه يحفظ] (¬8) ذلك الذي يطلع عليه الرسول. ¬

_ (¬1) في (أ): ولا. (¬2) في (أ): أن. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 237 بتصرف يسير جدًّا. (¬5) قوله: ارتضاه للنبوة: بياض في: (ع). (¬6) في (أ): وإنه يسلك .. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله: وقد ورد من غير عزو في: "الوسيط" 4/ 369. (¬8) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، وأثبت ما ورد من "الوسيط" 4/ 369 لاستقامة المعنى به وانتظامه.

{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (¬1) (أي يجعل بين يديه وخلفه رصدًا من الملائكة يحوطون الوحْيَ من أن تَسْتَرِقه الشياطين، فتُلْقِيَه إلى الكَهَنَة، حتى (¬2) تخبر به الكهنة إخبار الأنبياء، فيساووا (¬3) الأنبياء، ولا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق) (¬4). فالرصد من الملائكة يدفعون الجن أن يستمع ما ينزل من الوحي. ذكره الزجاج (¬5)، وابن قتيبة (¬6)، (وهو معنى قول المفسرين) (¬7). قال الكلبي: يجعل من بين يديه حرسًا من الملائكة يدحرون الشياطين عنه فلا يقربونه (¬8). وقال الفراء: ذكروا أن جبريل كان إذا نزل بالوحي نزلت معه الملائكة من كل سماء يحفظونه من استماع الجن يسترقونه فيلقونه (¬9) إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسل (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): بأنه. (¬2) قوله إلى الكهنة: بياض في: (ع). (¬3) في (أ): فيساوا. (¬4) ما بين القوسين من قول ابن قتيبة، نقله عنه الواحدي بتصرف يسير، وبزيادة عبارة: فيساووا الأنبياء، وحذف: ولا يكون للأنبياء دلالة. انظر: "تأويل مشكل القرآن" 434. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 238 بمعناه. (¬6) "تفسير غريب القرآن" 492، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" 434. (¬7) ساقط من: (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) في (ع): فيلقونه. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 196 نقله عنه بالمعنى.

28

ومعنى: (يسلك) هاهنا: يدخلهم الأرض فنجعلهم بين يدي الرسول ومن خلفه (¬1). وذهب مقاتل (¬2)، والضحاك (¬3) إلى أن الرَّصد لكي يحرسوا الرسول من الشياطين أن يتشبهوا له في صورة المَلَك، ويحفظوه (¬4) منهم، وإن أتاه شيطان في صورة ملك أخبروه، والقول هو الأول (¬5). 28 - قوله تعالى (¬6): {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} (¬7) الآية. اختلفوا في قوله: "ليعلم" فقال قتادة (¬8)، ... ¬

_ (¬1) ومعنى (سلك) لغة: السلك: الخيوط التي تخاط بها الثياب، الواحدة: سِلكة، والجميع: السُّلُوك، والسَّلْك: إدخال الشيء يسلكه فيه كما يطعن الطاعن فيسلك الرمح فيه إذا طعنه تلقاء وجهه. "تهذيب اللغة" 10/ 62 مادة: (سلك)، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" 432. (¬2) "تفسير مقاتل" 212/ ب، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 197/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 406. (¬3) "جامع البيان" 29/ 122، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 28، و"البحر المحيط" 8/ 355، و"الدر المنثور" 8/ 309 - 310 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير. (¬4) في (أ): يحفظونه. (¬5) القول الأول هو قول الأكثرية من المفسرين، والآيات السابقة من هذه السورة تدل على ذلك، ولكن ما ذكره الضحاك ومقاتل أرى أنه يدخل في مفهوم الآية، فهو من باب حفظ الوحي، وذلك عن طريق حفظ الرسول من أن يتشبه بهما أحد. والله أعلم. (¬6) بياض في: (ع). (¬7) قوله (رسالات ربهم) ساقط من: (ع). (¬8) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 323، و"جامع البيان" 29/ 123، و"النكت والعيون" 6/ 123 , و"زاد المسير" 8/ 110، و"التفسير الكبير" 30/ 170، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 29، و"الدر المنثور" 8/ 310 وعزاه إلى عبد بن حميد.

ومقاتل (¬1): ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة، وعلى هذا "اللام" في قوله: "ليعلم" يتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام؛ كأنه قيل: أخبرناه بحفظنا الوحي؛ ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. ويجوز أن يكون المعنى: ليعلم الرسول أن قد بلغوا، إلى جبريل، والملائكة الذين يبعثون إلى الرسل، أبلغوا رسالات ربهم، فلا يشك فيها، ويعلم أنها حق من الله (¬2). والمعنى: حفظنا الرسول من الشياطين ليعلم أن الذين أتوه أبلغوا رسالات ربهم، وهذا تأكيد لقول الضحاك ومقاتل في الآية الأولى. ويجوز أن يكون المعنى: ليعلم الرسل أنهم بلغوا رسالات ربهم على التحقيق من غير شك فيها؛ إذ كانوا محروسين عن الشياطين، فالذي يبلغونه (¬3) الخلق هو رسالات ربهم لا غير، وهي واصلة إليهم، ولم تصل إلى غيرهم. وعلى هذا إنما قال: "أبلغوا". لأن المراد بقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ (¬4) رَسُولٍ} الجمع، ويدخل فيه كل رسول ارتضاه الله. ويجوز أن يكون المعنى: ليعلم الله أن قد أبلغوا يعني الرسل. وهذا ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 30/ 170، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 29. (¬2) وهو معنى قول ابن عباس، وابن جبير. انظر: "جامع البيان" 29/ 23، و"النكت والعيون" 6/ 123. وقال به ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 492، والفراء في: "معاني القرآن" 3/ 196. (¬3) غير واضحة في: (ع). (¬4) قوله: إلا من ارتضى: بياض في: (ع).

القول اختيار (¬1) ابن قتيبة (¬2)، والزجاج (¬3)، وصاحب النظم. قال ابن قتيبة: أي ليبلّغوا رسالات ربهم (العلم) هاهنا، مثله قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142]، أي: ولما تجاهدوا وتصبروا (¬4)، فيعلم الله ذلك ظاهراً موجوداً -يجب فيه ثوابكم- على ما بينا في غير هذا الموضع (¬5). وقال أبو إسحاق: وما بعد قوله: (ليعلم) يدل على صحة هذا (¬6)، وهو قوله: (أحاط) (¬7)، و (أحصى) (¬8)، والضمير فيهما لله عَزَّ وَجَلَّ لا ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) "تفسير غريب القرآن" 492 وعبارته: "ليعلم محمد أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الله حفظها، ودفع عنها، وأحاط بها". (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 238 وعبارته: (ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالاته). (¬4) في (أ): تصابروا. (¬5) إلى قوله على ما بينا في غير هذا الموضع ينتهي قول ابن قتيبة. انظر: "تأويل مشكل القرآن" 434، ويعني بغير هذا الموضع أي الموضع الذي بين فيه علم الله تعالى، وأنه نوعان: أحدهما: علم ما يكون من إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وذنوب العاصين، وطاعات المطيعين قبل أن تكون. قال: وهذا علم لا تجب به حجة، ولا تقع عليه مثوبة ولا عقوبة. والآخر: علم هذه الأمور ظاهرة موجودة، فيحق القول، ويقع بوقوعها الجزاء، فأراد جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرًا موجودًا، وكفر الكافرين ظاهرًا موجودًا، وكذلك قوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} الآية: آل عمران: 142. "تأويل مشكل القرآن" 311 - 312. (¬6) بياض في: (ع). (¬7) قوله تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ}. (¬8) {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.

لغيره، فكذلك (¬1) في "ليعلم" (¬2). وهذه الأقوال ذكرها أهل المعاني والتفسير، وذكرت أقوال بعيدة لم أحكها (¬3). ومعنى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} علم الله ما عند الرسل، فلم يَخف عليه شيء. (قوله تعالى) (¬4): {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} قال ابن عباس: أحصى ما خلق، وعرف عدد ما خلق، لم يفته علم شيء، ولم يعزب (¬5) عنه عدد ما خلق؛ حتى مثاقيل (¬6) الذَّرِّ (¬7) ....... ¬

_ (¬1) في (أ): كذلك. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 238 بتصرف. (¬3) في (أ): أحكمها. ومن هذه الأقوال التي أشار إليها: ليعلم من كذب الرسل أنهم قد أبلغوا رسالات ربهم. قاله مجاهد. انظر: "جامع البيان" 29/ 123، و"المحرر الوجيز" 5/ 385، و"زاد المسير" 8/ 110. وأيضا: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. "النكت والعيون" 6/ 123. وأيضًا ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليصه، واستراق أصحابه. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 29 (¬4) ساقط من: (ع). (¬5) يعزب: يراد به البعد. انظر: مادة: (عزب) في: "لسان العرب" 1/ 597، "القاموس المحيط" 1/ 104. (¬6) مثاقيل: جمع مثقال، أي وزن. "المصباح المنير" 1/ 102 - 103 مادة: (ثقل). (¬7) الذر: هو النمل الأحمر الصغير, واحدتها ذرة. "النهاية في غريب الحديث" 2/ 157، و"المصباح المنير" 1/ 246، مادة: (ذر).

والخردل (¬1) (¬2). قال أبو إسحاق: و (نصب "عدداً" على ضربين: أحدهما: على معنى: وأحصى كل شيء في حال العَدَد، فلم تخف عليه سقوط ورقة، ولا حبَّة في ظلمات الأرض، ولا رطب، ولا يابس. قال: ويجوز أن يكون (عدداً) في موضع المصدر المحمول على معنى: أحصى؛ لأن معنى وأحصى: وعد كل شيء عدداً) (¬3). (والله أعلم بالصواب) (¬4). ¬

_ (¬1) الخردل: حب شجر مسخن مُلطف جاذب، قالع للبلغم، ملين، هاضم، والخردل الفارسي: نبات بمصر يُعرف بحشيشة السلطان. "القاموس المحيط" 3/ 367، مادة: (خردل). (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 406، و"لباب التأويل" 4/ 320. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 238 نقله عنه بنصه. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (ع).

سورة المزمل

سورة المزمل

1

تفسير سورة المزمل (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1 - {يَا أَيُّهَا (¬2) الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] أجمعوا (¬3) على أن المراد بالمزمل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الخطاب له. وأصله المتزمل بـ (التاء) في قول جميع أهل اللغة (¬4)، فأدغم (التاء) ¬

_ (¬1) مكية بقول أكثر المفسرين، وممن قال بذلك: الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 213/ أ، و"جامع البيان" 29/ 124، و"الكشف والبيان" 12/ 197/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 124، ورجح القرطبي القول إنها مدنية. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 30. (¬2) في (أ): يايها. (¬3) أجمع المفسرون على ذلك، وقد ذكر ابن جرير هذا القول من غير ذكر الخلاف له. انظر: "جامع البيان" 29/ 124، وحكى الإجماع الفخر في "التفسير الكبير" 30/ 171، وعزاه البغوي إلى الحكماء "معالم التنزيل" 4/ 401. وممن ذهب إلى هذا القول أنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 239، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 386، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 320، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 463، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 304. (¬4) حكى الإجماع الفراء عن القراء في "معاني القرآن" 3/ 196. وممن قال بذلك من أهل اللغة: الأخفش في "معاني القرآن" 2/ 716، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 239، والنحاس في "إعراب القرآن" 5/ 55، وابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 264. وحكاه الأزهري عن أبي إسحاق في "تهذيب اللغة" 13/ 222، مادة: (زمل)، وكذا صاحب اللسان: 11/ 311 مادة: (زمل). كما قال به أصحاب التفسسير, انظر المراجع السابقة في الحاشية: 5، إضافة إلى السمرقندي =

في (الزاي) (¬1) (¬2). واختلفوا في: لِمَ تزمل بثوبه. فقال ابن عباس: كان يفرق (¬3) من جبريل (عليه السلام) (¬4)، ويتزمل بالثياب في أول ما جاء حتى رآه وكلمه فأنس به (¬5). وقال الكلبي: إنما تزمل النبي -صلى الله عليه وسلم- بثيابه وتهيأ (¬6) للصلاة (¬7). وهو اختيار الفراء، قال: المزمل الذي قد تزمل بثيابه (¬8)، وتهيأ للصلاة، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬9) وقال السدي: أراد: يا أيها (¬10) النائم (¬11)، وعلى هذا إنما تزمل ¬

_ = في "بحر العلوم" 3/ 415. وانظر أيضًا "البيان في غريب إعراب القرآن" لأبي البركات بن الأنباري 2/ 469، و"إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن" لأبي البقاء العكبري 2/ 271. (¬1) في (ع): الزاء. (¬2) قال الزجاج: التاء تدغم في الزاي لقربها منها، يقال: تَزَمَّل فلان إذا تلفف بثيابه، وكل شيء لفف فقد زُمِّل. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 239. (¬3) الفَرَق بالتحريك: الخوف والفزع، يقال: يفرق فرقًا. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 196. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 171 بمعناه. (¬6) ليتهب (أ) هكذا وردت في نسخة (ع)، ولا تستقيم العبارة إلا لو كان المراد به (أ) تأهب، وسها الناسخ عن ذلك. (¬7) "التفسير الكبير" 30/ 171. (¬8) قوله: تزمل في ثيابه: بياض في (ع). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 196 برواية: رسول الله بدلاً من النبي. (¬10) في (أ): يايها. (¬11) "الكشف والبيان" جـ: 12: 198/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 406، و"زاد المسير" 8/ 112، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 463.

للنوم (¬1). ومعنى التزمل: التلفف (¬2) في الثوب، واللباس، يقال: تزمل الرجل، وزمل غيره (¬3)، ومنه قول امرئ القيس (¬4): كبيرُ أناسٍ في بِجَادٍ (¬5) مُزَمَّلِ (¬6) ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) بياض في (ع). (¬3) انظر مادة: (زمل) في كل من "الصحاح" 4/ 1718، و"لسان العرب" 11/ 311، و"القاموس المحيط" 3/ 290، "تاج العروس" 7/ 360. (¬4) بياض في (ع). (¬5) غير واضحة في (ع). (¬6) هذا عجز بيت، وصدره: كأنَّ ثَبيرًا في عَرَانينِ بلِهِ هكذا ورد في "شرح المعلقات السبع"، و"معاني القرآن وإعرابه"، وفي "ديوانه" 62: وَبْلِهِ، وكذا في النكت والعيون، وورد بألفاظ أخرى نحو: كأنَّ أبانًا في أفانين وَدْقِهِ هكذا ورد عند المبرد في الكامل، وابن عطية، وفي اللسان. ومعنى البيت كما في شرح المعلقات: ثبير: جبل بعينه، العرنين: الأنف، وقال جمهور الأئمة: هو معظم الأنف، والجمع العرانين، ثم استعار العرانين لأوائل المطر, لأن الأنوف تتقدم الوجوه. البجاد: كساء مخطط، والجمع البجد. التزميل: التلفيف بالثياب، وقد زملته بثيابه فتزمل بها أي لففته بها، وجر مزملاً على جوار بجاد، وإلا فالقياس يقتضي رفعه لأنه وصف كبير أناس. والمعنى: يقول: كأن ثبيرًا في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس قد تلفف بكساء مخطط، شبه تغطيته بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء. انظر: "شرح المعلقات السبع" لأبي عبد الله الزوزني: 54. مواضع ورود البيت: "ديوانه" 62 ط دار صادر، و"لسان العرب" 11/ 311 مادة: (زمل)، و"الكامل" 2/ 993، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 239، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 198/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 125، و"المحرر الوجيز" 5/ 386, و"زاد =

والقول في تزَمُّلِهِ عليه السلام (¬1) ما ذكره ابن عباس، فقد روى في حديث المبعث (¬2) أنه كان يأتي أهله فيقول: "زملوني زملوني" (¬3). قالوا (¬4): وخوطب بهذا (¬5) الخطاب؛ لأنه في أول ما بدئ بالوحي ¬

_ = المسير" 8/ 112، حاشية 3 ورد بيت الشعر في النسخة الأزهرية، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 30، و"الدر المصون" 6/ 401. (¬1) في (ع): -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) بياض في (ع). (¬3) الحديث أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح" 1/ 14، ح: 3، كتاب: الوحي باب: 13، وجـ: 3/ 327، ح: 4953 - 4954، كتاب: التفسير باب: 96، 4/ 295، ح: 2982، كتاب: التعبير باب أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة، من طريق عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاء الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال: زمِّلوني، زمِّلوني ... " الحديث. كما أخرجه مسلم 1/ 139، 143، ح: 252، 255، كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والإمام أحمد في "المسند" 3/ 325، 377، 6/ 223 بمعناه، 233. (¬4) أي الحكماء كما ذكر الثعلبي في "الكشف والبيان" جـ: 12: 198/ أ - ب، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 406، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 112، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 31. (¬5) بياض في (ع).

ولم يكن قد بلغ (1) شيئًا, ولا قام بالدعوة، (وأمر بالرسالة) (2) بعد، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول. قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)}، أي: للصلاة. قال ابن عباس: إن قيام الليل (3) كان فريضة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى النبيين [قبله] (4)، كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] الآية (5). وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} قال الكلبي: يعني بالقليل الثلث الأخير (6). قال ابن قتيبة: أي صلِّ الليل إلا شيئاً يسيرًا (7) تنام فيه، وهو الثلث (8). ثم قال: {نِصْفَهُ} قال أبو إسحاق: (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول: ضربت زيداً رأسه، فإنما ذكر زيدًا لتوكيد الكلام، وهو أوكد من قولك: ضربت رأس زيد (9). فالمعنى: قم نصف الليل إلا قليلاً، وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} هو قوله: {أَوِ

_ (1) بياض في (ع). (2) قوله: وأمر بالرسالة بياض في (ع). (3) قوله: إن قيام الليل: بياض في (ع). (4) في (ع): قوله، ولعل الصواب قبله إذ بها تصلح العبارة، والله أعلم. (5) "التفسير الكبير" 30/ 171، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 33. (6) في (ع): الآخر. وانظر قول ابن عباس في "النكت والعيون" 6/ 126، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 33، و"الدر المصون" 6/ 402، و"فتح القدير" 5/ 315. (7) في (أ): قليلاً. (8) "تأويل مشكل القرآن" 264 بنصه. (9) زيدا هكذا وردت منصوبة في معاني القرآن وإعرابه.

انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}، أي من النصف، ولكنه (1) ذكر ثانياً مع الزيادة، وهو قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}. فالمعنى: قم نصف الليل، أو انقص من نصف الليل، أو زد على نصف الليل) (2). قال المفسرون (3): أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زِدْ على النصف (4) إلى الثلثين، جعل له سعة في مدة قيامه في (5) الليل، وخيره في هذه الساعات للقيام، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وطائفة من المؤمنين معه [يقومون] (6)

_ (1) غير مقروءة في (ع). (2) ما بين القوسين من قول الزجاج "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 239 بيسير من التصرف. وذكر أبو البقاء العكبري وجهًا آخر، قال: " (نصفه) بدل من (قليلاً)، وهو أشبه بظاهر الآية؛ لأنه قال: (أو انقص منه أو زد عليه) والهاء فيهما للنصف". انظر: "التبيان في إعراب القرآن" 2/ 1246، إملاء ما من به الرحمن: 2/ 271. وإلى هذا ذهب ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 387، والزمخشري في "الكشاف" 4/ 152. قال الزمخشري: والمعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما: النقصان من النصف، والزيادة عليه. "الكشاف" مرجع سابق. وهناك أقوال أخرى في تقدير الآية، فليراجع في ذلك: "الدر المصون" 6/ 402 - 403، و"الكشاف" مرجع سابق، و"البحر المحيط" 8/ 361 - 362. وما نقله الإمام الواحدي عن المفسرين وجدته عند ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 264 بنحوه، ولعله نقله عنه. (3) وممن حكى قولهم شيء من الاختصار، وعزاه إليهم: ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 113، وكتابه أيضًا "نواسخ القرآن" 246، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 316، كما ذكره ابن جرير الطبري بمعناه في "جامع البيان" 29/ 124، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 407، والقرطبي في "الجامع" 19/ 34. (4) و (5) بياض في (ع). (6) يقولون: هكذا وردت في النسختين: (أ)، ع، والصواب ما أثبتناه، وانظر: "الوسيط" 4/ 371.

علي هذه المقادير (¬1)، وشق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، وكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، حتى خفف الله عنهم، ونسخ ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} الآية، وهي آخر هذه السورة. قال (سماك الحنفي (¬2) سمعت) (¬3) ابن عباس (يقول) (¬4): لما أنزل الله أول المزمل كانوا يقومون (¬5) مثل (¬6) قيامكم في رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها (¬7) سنة) (¬8). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) سِماك بن الوليد الحَنفي، أبو زُمَيْل اليمامي، سكن الكوفة، روى عن ابن عباس، وثقه أحمد، وابن معين، وقال أبو حاتم وغيره: صدوق لا بأس به، روى له البخاري في الأدب، والباقون. انظر: "الإكمال" لابن ماكولا 4/ 93، و"تهذيب الكمال" 12/ 125، ت: 2582، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 249، ت: 111، و"الكاشف" 1/ 322، ت: 2165. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من (ع). (¬5) بياض في (ع). (¬6) في (أ): قبل. (¬7) غير واضحة في (ع). (¬8) الأثر أخرجه أبو داود في "سننه" 1/ 329، أبواب قيام الليل. والحاكم في "المستدرك" 2/ 55، كتاب التفسير: سورة المزمل، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي في التلخيص، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 2/ 704، ح: 4640، كتاب الصلاة، باب في قيام الليل. ومخرج أيضًا في "الصحيح المسند من أسباب النزول" لأبي عبد الرحمن الوادعي: 222، وقال: الحديث رجاله رجال الصحيح إلا أحمد بن محمد المروزي، أبا الحسن بن شبويه، وهو ثقة , وأخرب ابن جرير، ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن أبي حاتم كما =

وكان في رواية الوالبي: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المؤمنين (¬1)، فخفف الله عنهم، وأنزل عليهم: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (¬2). وقال في رواية عطاء (الخراساني) (¬3) كان هذا بمكة، فلمَّا قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة نسختها: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخر السورة (¬4). وروى (قيس بن وهب (¬5)، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ (¬6)، ¬

_ = في تفسير ابن كثير، ورجاله رجال الصحيح. كما ورد في "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد: 257، رقم: 469، و"الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس 291، و"نفس الصباح" 2/ 758، "جامع البيان" 29/ 124 - 125، و"أحكام القرآن" للجصاص: 3/ 468، و"الكشف والبيان" 12/ 189/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 125، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 33، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 465، و"الدر المنثور" 8/ 312 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، ومحمد بن نصر، والطبراني في "المعجم الكبير" 12/ 196: ح: 12877. (¬1) بياض في (ع). (¬2) "جامع البيان" 29/ 125، و"الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد 256 رقمه: 468. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) وردت رواية عطاء عن ابن عباس في "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس: 291، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي 247. (¬5) قيس بن وَهْب الهمداني الكوفي، روى عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي، ووثقه أحمد ابن حنبل، وابن معين، والعِجليُّ، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له: مسلم، وأبو داود، وابن ماجه. انظر: "الجرح والتعديل" 7/ 104، ت: 594، و"الثقات" لابن أبي حاتم 5/ 314، و"تهذيب الكمال" 24/ 86، ت: 4926. (¬6) أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة، عبد الله بن حبيب بن ربيعة، ولأبيه صحبة، وولد هو في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقرأ القرآن وجوده، وبرع في حفظه، وعرض على عثمان، وعلي، وابن مسعود وغيرهم، وكان ثقة كبير القدر، وحديثه في الكتب الستة. توفي سنة 74 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 430، ت: =

وقال) (¬1): (إنه) (¬2) لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ} قاموا حولًا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، فنزلت: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} فاستراح (¬3) الناس (¬4). وقال مقاتل: كان هذا بمكة قبل أن (تفرض الصلوات) (¬5) الخمس (¬6). ¬

_ = 5084، و"معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار" 1/ 52، ت: 15، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي 27/ ت: 41. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ساقط من (ع). (¬3) غير واضحة في (ع). (¬4) وردت الرواية عن أبي عبد الرحمن السلمي في "جامع البيان" 29/ 126، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 35، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 465 - 466، و"الدر" 8/ 312 وعزاها إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن نصر. وانظر أيضًا "الناسخ والمنسوخ" للأزهري: 34. ما مضى من الأقوال يبين أن الله سبحانه قد فرض في أول الإسلام قيام الليل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حوالي سنة حتى انتفخت أقدامهم، ثم خفف الله بعد ذلك، ونسخ فرضية قيام الليل بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}. إلى آخر سورة المزمل: 20، فأصبح قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة. وممن ذهب إلى القول إلى أن أول المزمل منسوخ بآخرها قتادة السدوسي في "الناسخ والمنسوخ" 291، وهبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" 188، و"المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ" 58. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬6) "بحر العلوم" 3/ 416، و"معالم التنزيل" 4/ 407، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 35، و"فتح القدير" 5/ 316. وهذا القول من مقاتل أن قيام الليل منسوخ بالصلوات الخمس، يرده الأقوال الماضية المتعاضدة في أن قيام الليل الوارد في أول المزمل منسوخ بآخر ما جاء في سورة المزمل. والله أعلم.

قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} قال عطاء عن ابن عباس: بينة بيانًا (¬1). وروى الكلبي عنه: على هَيْنَتِك (¬2) ترتيلًا (¬3). وقال الضحاك: انْبِذْه حرفًا (¬4) حرفًا (¬5). وعن مجاهد قال: بعضه في أثر بعض (¬6) (¬7). وقال قتادة في هذه الآية: بلغنا أن عامة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬8) كانت بالمد (¬9). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 127، من طريق مقسم عن ابن عباس، كما ورد من غير ذكر طريق عطاء في "النكت والعيون" 6/ 126، و"معالم التنزيل" 4/ 407، و"لباب التأويل" 4/ 321، و"الدر المنثور" 8/ 313 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن منيع في مسنده, ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬2) هينتك: الهَوْن: مصدر الهيِّن في معنى السكينة والوقار، تقول: تكلَّم على هِينَتِك. "تهذيب اللغة" 6/ 440 - 441، مادة: (هون). (¬3) بمعناه في "الكشف والبيان" 1/ 199/ ب، كما ورد قوله من ذكر طريق الكلبي في "معالم التنزيل" 4/ 407، و"لباب التأويل" 4/ 322. (¬4) بياض في (ع). (¬5) "لسان العرب" 11/ 265 مادة: (رتل). (¬6) قوله: في إثر بعض: بياض في (ع). (¬7) انظر قوله في "جامع البيان" 29/ 126، و"الكشف والبيان" 12/ 199/ أ، و"أحكام القرآن" لابن العربي 4/ 1875، و"الدر المنثور" 8/ 314 وعزاه إلى البيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 392، ت: 2161. (¬8) قوله: قراءة النبي صلى: بياض في (ع). (¬9) ورد قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 324، و"معالم التنزيل" 4/ 407، و"الدر المنثور" مرجع سابق، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن نصر، وابن المنذر، كما رواه البخاري 3/ 350، ح: 5045 - 5046، كتاب فضائل القرآن، باب مد القراءة من طريق قتادة عن أنس، وأيضًا بهذا الطريق في "مسند الإمام أحمد" 3/ 127.

قال أبو إسحاق: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} بيِّنه تبيينًا، والتبيين لا يتم (¬1) بأن يعجل في القرآن، إنما يتم (¬2) بأن تبين جميع الحروف، وتُوفّى حقَّها من الإشباع (¬3). وقال المبرد: معنى الترتيل: التوقف، والتمهل، والإفهام، وأصله من قولهم: ثغر رتل (¬4) إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكبير (¬5). وقال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين (¬6). (وقال) (¬7) الليث: (الرتل: تنسيق الشيء، وثغر (¬8) رتل (¬9) حسن التنضيد، ورتلت الكلام (¬10) ترتيلاً إذا تمهلت فيه، وأحسنت تأليفه، وهو يترتل في كلامه) (¬11). ¬

_ (¬1) غير مقروءة في (ع). (¬2) قوله: إنما يتم: غير مقروءة في (ع). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 240 برواية: "في الإشباع" بدلاً من: "من الإشباع". (¬4) قوله: ثغر رتل: غير مقروء في (ع). (¬5) "التفسير الكبير" 3/ 173 مختصرًا. (¬6) قلت: لعل الإمام الواحدي نقله عن أبي العباس كما في "تهذيب اللغة" 14/ 268 مادة: (رتل)، وليس عن ابن الأعرابي. وانظر: "لسان العرب" 11/ 265 مادة: (رتل). (¬7) ساقط من (أ). (¬8) الثَّغر: ما تقدم من الأسنان. "الصحاح" 2/ 605 مادة: (ثغر). (¬9) في (أ): ريك. (¬10) بياض في (ع). (¬11) ما بين القوسين قول الليث، نقله عنه الواحدي من "تهذيب اللغة" 4/ 268 مادة: (رتل). وقد جاء في المفردات: رتل: الرَّتَلُ: اتساق الشيء وانتظامه على استقامة، والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة.: 187 مادة: (رتل).

5

5 - قوله تعالى (¬1): {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} (قال الكلبي: سننزل عليك من السماء قولًا ثقيلاً) (¬2). (¬3) ليس على ثقل الحفظ له، واعتياصه (¬4)، ولكن ما قال الحسن أنهم ليهذونه هذًّا (¬5)، ولكن العمل به ثقيل (¬6)، وهذا قول أكثر المفسرين أن ثقله يعود إلى العمل به. قال قتادة: تثقل والله فرائضه وحدوده (¬7). وقال مقاتل: يثقل لما فيه من الأمر والنهي (¬8) والحدود (¬9). ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) غير مقروء في النسختين (¬5) الهذُّ: سرعة القطع، تقول: تهذ القرآن هذًّا، فتسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 525، وانظر: "معجم مقاييس اللغة" 6/ 8 مادة: (هذَّ)، و"المصباح المنير" 1/ 783 مادة: (هذَّ). (¬6) ورد قول الحسن في "جامع البيان" 29/ 127 بنحوه، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 199/ ب بنحوه، و"معالم التنزيل" 4/ 408، و"أحكام القرآن" لابن العربي: 4/ 1876، و"المحرر الوجيز" 5/ 387 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 113، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 32 بمعناه، و"البحر المحيط" 8/ 362، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 464، و"الدر المنثور" 8/ 315 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن نصر، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 316. (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 324، و"جامع البيان" 29/ 127، و"بحر العلوم" 3/ 416، و"الكشف والبيان" حـ: 12: 199/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 126، و"معالم التنزيل" 4/ 408، و"زاد المسير" 8/ 113 بمعناه، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 37، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 464، و"الدر المنثور" 8/ 315 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن نصر، و"فتح القدير" 5/ 316. (¬8) بياض في (ع). (¬9) "تفسير مقاتل" 213/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 408.

(وعلى هذا القول سمي ثقيلاً؛ لأن الحلال والحرام، والصلاة، والصيام، وجميع ما أمر الله أن يعمل به، ونهى عنه، لا يؤديه أحد إلا بتكلف (ما يثقل) (¬1) [عليه] (¬2)) (¬3). وروي عن الحسن (أيضًا) (¬4) أنه قال: معناه: إنه ثقيل في الميزان يوم القيامة (¬5). ونحو هذا قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا، ثقل في الموازين يوم القيامة (¬6). وذهب قوم من المفسرين (¬7) إلى أن المراد بثقله: أنه ثقيل المحمل، واحتجوا بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يثقل عليه الوحي عند نزوله، حتى روي (أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها حتى وضعت جرانها (¬8) فلم ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) ساقطة من النسختين، وما أثبته من "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 240، وبها يستقيم المعنى، والله أعلم. (¬3) ما بين القوسين من قول الزجاج، نقله عنه الإمام الواحدي بتصرف: 5/ 240. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 174، و"الدر المنثور" 8/ 315 وعزاه إلى ابن نصر، وابن المنذر. (¬6) "جامع البيان" 29/ 127، و"معالم التنزيل" 4/ 408، و"زاد المسير" 8/ 113، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 37، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 464. (¬7) منهم: هشام بن عروة عن أبيه، وابن زيد، وعائشة، وابن الزبير. انظر أقوالهم في "جامع البيان" 29/ 127، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 200/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 126، و"معالم التنزيل" 4/ 408، و"زاد المسير" 8/ 113، و"لباب التأويل" 4/ 322، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 464. (¬8) الجران: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. "المصباح المنير" 1/ 119.

تستطع أن تتحرك) (¬1). وقال الفراء: {قَوْلًا ثَقِيلًا} أي ليس بالخفيف، ولا السَّفْساف (¬2)؛ لأنه كلام ربنا تعالى وجلّ ذكره (¬3). وذكر الزجاج هذا القول فقال: ويجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون معناه: أنه قول له وزْنٌ في صِحَّتِه، وبيانه، ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصينٌ (¬4)، وهذا قول لذو وزن إذا كنت تستجيده، وتعلم أنه قد وقع موقع الحكمة والبيان (¬5). وقال غيرهما (¬6): جعله ثقيلًا من جهة عظم قدره، وجلالة خطره، ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 505، كتاب التفسير: تفسير سورة المزمل، من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوحي إليه، وهو على ناقته، وضعت جرانها، فلم تستطع أن تتحرك. وتلت قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} قال عنه: حديث صحيح، ووافقه الذهبي في التلخيص. كما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 6/ 118 مختصرًا. ورواه ابن جرير الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث. "جامع البيان" 29/ 127، قال عنه ابن كثير: وهو مرسل. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 464. وانظر: "الدر المنثور" 8/ 316 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن نصر. (¬2) السَّفْساف: الرديء من كل شيء، والأمر الحقير، وكل عمل دون الأحكام سفساف، وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل، والتراب إذا أثير. "لسان العرب" 9/ 155 مادة: (سفف). (¬3) في (ع): تبارك وتعالى، بدلاً من: تعالى وجل ذكره. (¬4) الرصين: المحكم الثابت. "لسان العرب" 13/ 181 مادة: (رصن). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 240 برواية: "له وزن" بدلاً من: "لذو وزن". (¬6) أي الأزهري، وانظر قوله في "تهذيب اللغة" 9/ 79 مادة: (ثقل)، وينتهي قوله بـ: "فهو ثقل وثقيل". وفي "التفسير الكبير" 3/ 174 أورد قول الأزهري بغير عزو.

6

وكل شيء نفيس عِلْق خطير (¬1)، فهو ثقل وثقيل. وتأويل هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء: (قولًا ثقيلًا) يعني: كلامًا عظيمًا (¬2). قال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون المراد به ثقيل على من (عانده) (¬3) فرده ولم ينفذ له (¬4). 6 - قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال أبو عبيدة: ناشئة الليل: ساعات الليل، وآناء الليل ناشئة بعد ناشئة (¬5). (وروى عمرو (¬6) عن أبيه: نشأ الليل: ارتفع (¬7)) (¬8). وقال ابن قتيبة: هي آناء الليل، وساعاته هي مأخوذة من نَشَأَتْ تنشَأ نَشْأ، أي ابتدأت، وأقبلت شيئًا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت. والمعنى: إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم (¬9). (ونحو هذا قال المبرد (¬10)، وصاحب النظم في: (ناشئة الليل)، وهو قول أكثر المفسرين) (¬11). ¬

_ (¬1) في (أ): خضير. (¬2) "التفسير الكبير" 30/ 174، و"البحر المحيط" 8/ 362. (¬3) ساقطة من (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 273 بنصه. (¬6) هو: عمرو بن أبي عمرو الشيباني إسحاق بن مرار. (¬7) وانظر قول أبي عمرو في "تهذيب اللغة" 11/ 419 مادة: (نشأ). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) "تأويل مشكل القرآن" 365 بشيء يسير من التصرف. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ).

قال الحسن: كل شيء بعد العشاء فهو ناشئة (¬1). وهو قول عكرمة (¬2)، وأبي مجلز (¬3)، ومجاهد (¬4)، والسدي (¬5) (¬6)، قالوا: الليل كله ناشئة. وهذا قول ابن عباس (¬7)، وابن الزبير (¬8). (¬9) في رواية ابن أبي مُلَيْكة، ¬

_ (¬1) "تفسير" الإمام مجاهد 679، و"أحكام القرآن" للجصاص: 3/ 468، و"معالم التنزيل" 4/ 408 بنحوه، و"زاد المسير" 8/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39، و"البحر المحيط" 8/ 363، و"الدر المنثور" 8/ 316 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن نصر، و"السنن الكبرى" للبيهقي: 3/ 29، ح: 4754، كتاب: الصلاة باب من فتر عن قيام الليل فصلى ما بين المغرب والعشاء. (¬2) "جامع البيان" 29/ 128. (¬3) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 129، و"الكشف والبيان" 12: 200/ ب، و"زاد المسير" 8/ 114، و"الدر المنثور" 8/ 317 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن نصر، و"السنن الكبرى" 3/ 30، ح: 4755، كتاب الصلاة: باب من فتر عن قيام الليل. (¬4) تفسير الإمام مجاهد 679، و"جامع البيان" 29/ 128 - 129، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 486، و"زاد المسير" 8/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 464. (¬5) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 11/ 419 مادة: (نشأ). (¬6) (والسدي) ساقط من (أ). (¬7) "جامع البيان" 29/ 128 - 129، و"أحكام القرآن" للجصاص: 3/ 468، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 200/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 408، و"أحكام القرآن" لابن العربي: 4/ 1877، و"زاد المسير" 8/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39، و"لباب التأويل" 4/ 322، و"البحر المحيط" 8/ 363، و"الدر المنثور" 8/ 326 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، و"السنن الكبرى" 3/ 29، ح: 4751، كتاب الصلاة: باب من فتر عن قيام الليل. (¬8) المراجع السابقة عدا "زاد المسير"، و"الجامع لأحكام القرآن". (¬9) وردت في النسخة (أ) هكذا: ابن الزبير وابن عباس.

عنهما (¬1) جميعًا، قال: سألتهما عن ناشئة الليل، فقالا: الليس كله ناشئة. وقال آخرون: (ناشئة الليل) قيام الليل، وهو قول الكلبي (¬2)، و (¬3) مقاتل (¬4)، (ومعاوية بن قرة) (¬5) (¬6)، وابن مسعود (¬7)، وسعيد بن جبير (إلا أنهما قالا) (¬8): هي بالحبشية. قال سعيد بن جبير: هي بلسان الحبشية نشأ: قام (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): عنها. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) (الكلبي و) ساقط من (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 213/ أ. (¬5) ورد قوله هذا في "تهذيب اللغة" 11/ 419 مادة: (نشأ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 505، كتاب التفسير: تفسير سورة المزمل، وصححه، ووافقه الذهبي في التلخيص. "الوسيط" 4/ 373 وعبارته: "هي بالحبشية قيام الليل". (¬8) العبارة الواردة بين القوسين الصغيرين: "إلا أنهما قالا" لا تعود على ابن مسعود وسعيد بن جبير، وإنما تعود على سعيد بن جبير وابن زيد، والسبب في ذلك أني لم أعثر إلا على قولي سعيد بن جبير وابن زيد مشتركين في هذا المعنى، ومصحوبين أثناء العزو إليهما كما في "الكشف والبيان" جـ: 12: جـ: 200/ ب،: قال: وقال سعيد بن جير وابن زيد: أي ساعة قام من الليل فقد نشأ، وهو بلسان الحبشة: نشأ إذا قام. وانظر أيضًا "معالم التنزيل" 4/ 408، و"المحرر الوجيز" 5/ 387، و"زاد المسير" 8/ 114. (¬9) انظر مواضع ورود قول سعيد بن جبير في "جامع البيان" 29/ 128 من طريقه إلى ابن عباس، و"الكشف والبيان" 12/ 200/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 408، و"المحرر الوجيز" 5/ 387، و"السنن الكبرى" 3/ 30، ح 4757، كتاب الصلاة، باب من فتر عن قيام الليل عن سعيد بن جبير. وانظر تفسير سعيد بن جبير: 359.

قال صاحب النظم: الناشئة على هذا القول مصدر من قولك: نشأ الشيء، وقد تضع العرب الفاعلة مواضع المصادر، كما قلنا في الخاطئة، وفي الجاثية، والكاذبة، واللاغية. وفي ناشئة الليل قول آخر، وهو قول علي بن الحسين (¬1) (رضي الله عنه) (¬2) قال: هو ما بين المغرب إلى العشاء (¬3). وهو قول أنس. روى ثابت أنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء، ويقول: هي: (ناشئة الليل) (¬4). ونحو ذلك روي عن سعيد بن جبير (¬5)، (وهو قول الضحاك (¬6)، ¬

_ (¬1) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أبو الحسن، المعروف بزين العابدين، ويقال له: علي الأصغر، وليس للحسين رضي الله عنه عقب إلا من ولد زين العابدين، وهو أحد الأئمة الاثني عشر، ومن سادات التابعين، وأمه أم ولد اسمها غزالة، وقيل: سلافة، كان كثير البر بأمه، ومناقبه كثيرة، ولد سنة 38 هـ، وتوفي سنة 94 هـ، وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع. انظر: "صفة الصفوة" 2/ 66، ت: 165، و"وفيات الأعيان" 3/ 266، ت: 422، و"العبر" 1/ 83. (¬2) ساقطة من (أ). (¬3) ورد قوله في تفسير الإمام مجاهد 679، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 200/ ب، و"الكشاف" 4/ 153، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39، و"لباب التأويل" 4/ 322، و"الدر المنثور" 8/ 317 وعزاه إلى ابن نصر، وابن المنذر، و"السنن الكبرى" 3/ 30، ح: 4756، كتاب الصلاة: باب من فتر عن قيام الليل. (¬4) ذكر رواية أنس من غير طريق ثابت في "النكت والعيون" 6/ 127، و"زاد المسير" 8/ 114، وذكرت من طريق ثابت عن أنس في "السنن الكبرى" 3/ 29، كتاب الصلاة: باب من فتر عن قيام الليل. (¬5) تفسير الإمام مجاهد 679، و"الدر المنثور" 8/ 317 وعزاد إلى ابن أبي شيبة. (¬6) "تهذيب اللغة" 11/ 419 مادة: (نشأ).

والحكم (¬1)، واختيار الكسائي (¬2)) (¬3) قالوا: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أوله، (وهي رواية عطاء عن) (¬4) ابن عباس قال: يريد أول ما ينشأ (¬5). وروي عن عائشة (رضي الله عنها) (¬6) أنها قالت: الناشئة القيام بعد النوم (¬7). وهو قول ابن الأعرابي، قال: إذا نمت من أول الليلة نومة، ثم قمت، فتلك النشأة، ومنه: (ناشئة الليل) (¬8). وقوله تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا}. قال ابن عباس: هى أشد على المصلي (¬9). وقال قتادة: يقول أثبت في الخير (¬10). (وقال الكلبي: يقول أشد نشاطًا للرجل إذا كان محتسبًا ¬

_ (¬1) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 11/ 419 مادة: (نشأ). (¬2) المرجع السابق، و"البحر المحيط" 8/ 263. (¬3) ما بين القوسين أسقطه ناسخ النسخة: أ، واكتفى بقوله: وغيره بدلًا من تعدادهم. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) "زاد المسير" 8/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39، و"لباب التأويل" 4/ 322، و"البحر المحيط" 8/ 363، و"الدر المنثور" 8/ 316، و"السنن الكبرى" 3/ 30، كتاب: الصلاة باب من فتر عن قيام الليل. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "الكشف والبيان" جـ: 12: 200/ ب، و"الكشاف" 4/ 153، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39، و"البحر المحيط" 8/ 362. (¬8) "زاد المسير" 8/ 114، و"فتح القدير" 5/ 317. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ذكر في "الوسيط" 4/ 373 من غير عزو. (¬10) "جامع البيان" 29/ 129، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 201/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 409.

للصلاة (¬1)) (¬2). وقال الفراء: (يقول) (¬3): أثبت قيامًا؛ لأن النهار يضطرب (فيه) (¬4) الناس، ويتقلبون فيه للمعاش، قال: وقال بعضهم: هي أشد على المصلي من صلاة النهار؛ لأن الليل للنوم (¬5). وذكر أبو إسحاق المعنيين جميعًا فقال: معناه: وهي أبلغ في القيام وأغلظ على الإنسان من القيام بالنهار؛ لأن الليل جعل ليسكن فيه (¬6). وقال ابن قتيبة: {أَشَدُّ وَطْئًا} أثقل على المصلي من ساعات النهار. وقال وهو من قولك: اشتدت على القوم وَطْأةُ سُلْطانِهم، إذا ثقل عليهم ما يُلزمهم ويأخذهم به، فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على (قدر) (¬7) شدة الوطأة وثقلها (¬8). وقال أبو علي: المعنى: (إن صلاة ناشئة الليل أشق على الإنسان من القيام بالنهار؛ لأن الليل للدعة (¬9) والسكون، وجاء في الحديث: (اللهم ¬

_ (¬1) ورد قوله في "النكت والعيون" 6/ 127 مختصرًا جدًا، وكذا في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 40. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) انظر قول الفراء في "معاني القرآن" 3/ 197 بتصرف يسير. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 240 مختصرًا. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) ورد قول ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 265 بنصه، وانظر: "تفسير غريب القرآن" 493 مختصرًا. (¬9) الدَّعة: الخفض في العيش والراحة، والهاء عوض من الواو. "لسان العرب" 8/ 381 مادة: (ودع)، وانظر: "الصحاح" 3/ 1295 مادة: (ودع).

اشدد وطأتك (¬1) على مضر) (¬2). هذا الذي ذكرنا على قراءة من قرأ (وَطْأةً) بفتح الواو مقصورًا (¬3). ومن قرأ (وِطاءً) بكسر الواو والمد (¬4)، فقال مجاهد: أجدر أن ¬

_ (¬1) معنى "وطأتك" أي أخذهم أخذاً شديدًا. "النهاية" 5/ 200. وقال النووي: الوطأة بفتح الواو وإسكان الطاء، وبعدها همزة: وهي العباس. "شرح صحيح مسلم" 5/ 186. (¬2) الحديث: أخرجه البخاري 1/ 260، ح: 804، كتاب: الأذان، باب يهوي بالتكبير حين يسجد، من طريق أبي هريرة في حديث طويل، وفي 1/ 317، ح: 1006، كتاب الاستسقاء: باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والذلة: 2/ 240، ح، 2932، وفي كتاب الأنبياء: باب قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} 2/ 470، ح: 3386، وكتاب التفسير، باب 3 سورة آل عمران: 9 "ليس لك من الأمر شيء" 3/ 211، ح: 4560، وكتاب التفسير 4 سورة النساء 21 باب "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" 3/ 220، ح: 4598، وكتاب الأدب، باب تسمية الوليد: 4/ 128، ح: 6200، وكتاب الإكراه: 4/ 284، ح: 6940. كما أخرجه مسلم في 1/ 467، ح: 294 - 295، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة. وأبو داود في "سننه" 1/ 364، كتاب الصلاة: باب القنوت في الصلاة وابن ماجه في "سننه" 1/ 226، ح: 1235، كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر. والنسائي في "سننه" (المجتبى): 2/ 547، ح: 1072 - 1073، كتاب التطبيق: باب القنوت في صلاة الصبح. والإمام أحمد في "المسند" 2/ 239، 255، 271، 418، 502، 521. (¬3) قرأ بذلك: نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، وأبو جعفر. انظر: "السبعة" 658، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 723، و"الحجة" 6/ 335، و"المبسوط" 386، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 344، و"حجة القراءات" 730، و"النشر" 2/ 393، و"الوافي" 374. (¬4) قرأ بذلك: أبو عمرو، وابن عامر. انظر المراجع السابقة.

يواطئ (¬1) سمعه وبصره (¬2)) (¬3). (وهو قول مقاتل (¬4)، وروي ذلك عن ابن عباس قالوا: يواطئ السمع والقلب (¬5)) (¬6). قال ابن قتيبة: من قرأ: (وِطاءً) على تقدير: (فعال) فهو مصدر لِوَاطأت فلانًا على كذا مُواطأة ووِطاءً. وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي (¬7)، ولسانه، وسمعه، (وبصره) (¬8) على التفهم والأداء، والاستماع بأكثر مما يتواطأ عليه بالنهار (¬9). (وروى ابن سلام عن يونس: (أشد وِطاءً) قال: ملاءمة ومُوافقة، ومن ذلك قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، أي: ليوافقوا. قال أبو علي: وكأن المعنى إن صلاة ناشئة الليل يواطئ السمع القلب فيها أكثر مما يواطئ (في ساعات (¬10)) النهار؛ لأن البال أفرغ للانقطاع عن كثير مما يشتغل بالنهار) (¬11). ¬

_ (¬1) غير واضحة في (ع). (¬2) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 130، وعبارته: "قال: تُواطئ قلبك وسمعك وبصرك"، وفي رواية أخرى عنه: "أجدر أن تواطئ سمعك وقلبك"، و"النكت والعيون" 6/ 127 بمعناه، وانظر: "الحجة" 6/ 335. (¬3) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "الحجة" 6/ 335 باختصار. (¬4) الذي ورد عنه في تفسيره: 213/ (أ) "قال: يعني مواطأة بعضه لبعض". (¬5) تفسير الإمام مجاهد: 679 بمعناه، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 39. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) في (أ): الإنسان، وأثبت ما جاء في نسخة (ع) لموافقته النص الحقيقي. (¬8) ساقط من (ع). (¬9) "تأويل مشكل القرآن" 365 - 366، بإضافة: وبصره عند الواحدي. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬11) ما بين القوسين نقله الواحدي عن "الحجة" لأبي علي: 6/ 335 بتصرف يسير.

واختار أبو عبيدة هذه القراءة (¬1)، قال: لأن التفسير يصدقها، إنما هي مواطأة السمع والبصر إياه إذا قام يصلي في ظلمة الليل (¬2). وقوله تعالى: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} (¬3) قال عطاء عن ابن عباس: يريد أحسن لفظًا (¬4). وقال الكلبي: وأبين قولاً بالقرآن (¬5). قال ابن قتيبة: أي أخلص للقول، وأسمع له؛ لأن الليل تهدأ عنه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، ويخلص القول، ولا يكون دون تسَمُّعِهِ وتَفَهُّمِهِ حائل (¬6). وقال أبو عدي: أي أشد استقامة وصوابًا لفراغ البال، وانقطاع ما يشغل، وأنشد (¬7) (فقال) (¬8): له ولها وقعٌ بكلِّ قرارة ... ووقع بمستن الفضاء قويم (¬9) ¬

_ (¬1) في (أ): بهذه الأقراء. (¬2) لم أعثر على قوله في "مجاز القرآن"، ووجدت معنى قوله في "التفسير الكبير" 30/ 176. والوطء في اللغة كلمة تدل على تمهيد شيء وتسهيله، ووطأت له المكان، والوِطاء: ما توطأت به من فرش، ووَطِئته برجلي أطؤه، والمواطأة: الموافقة على أمر يواطئه كل واحد لصاحبه. انظر: "معجم مقاييس اللغة" 6/ 120 - 121 (وطأ). (¬3) قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} غير مقروءة في (أ). (¬4) "التفسير الكبير" 30/ 176. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 409، و"فتح القدير" 5/ 317. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" 366 برواية: "فيخلص" بدلاً من "ويخلص". (¬7) لم أعثر على قائله. (¬8) ساقطة من (ع). (¬9) لم أعثر على مواضع وروده.

7

أي مستقيم) (¬1). 7 - قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}. قال جماعة من المفسرين (¬2): فراغًا طويلاً، وسعة لتصرفك، وقضاء حوائجك. والمعنى: إن لك في النهار فراغًا للنوم، والتصرف في الحوائج فضل من الليل. هذا قول أهل التفسير. قال أبو عبيدة: {سَبْحًا طَوِيلًا}: منقلبًا طويلًا (¬3). وقال المبرد: تقلبًا فيما تحب، قال: وبهذا سمي السابح لتقلبه بيديه ورجليه (¬4). وقال ابن قتيبة: أي تصرفًا، وإقبالاً، وإدبارًا في حوائجك وأشغالك (¬5). (ونحو هذا قال الفراء (¬6)، والزجاج (¬7)) (¬8). قال (¬9) ابن الأعرابي: معناه اضطرابًا ومعاشًا (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من قول أبي علي الفارسي في "الحجة" 6/ 335 - 336 بنصه. (¬2) قال بذلك: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وعطاء. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 324، و"جامع البيان" 29/ 131، و"النكت والعيون" 6/ 127، و"زاد المسير" 8/ 115، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 41. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 273 نقله عنه بنصه. (¬4) "التفسير الكبير" 30/ 177. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" 366 بنصه، وانظر: "تفسير غريب القرآن" 494. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 197. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 240. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) في (ع): وقال. (¬10) "تهذيب اللغة" 4/ 327.

وقال الليث: (فراغًا للقمر (¬1)) (¬2). (ومعنى ذكر هذا الفراغ، والتصرف هاهنا ما ذكرنا أنه يفرغ في النهار للنوم، والتصرف في الحوائج فيكون ليلهُ للصلاة) (¬3). (وقال) (¬4) أبو إسحاق: أي (إن) (¬5) فاتك من الليل شيء، ذلك في النهار فراغ (¬6) قال: وهو معنى قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ}. قال مقاتل: بالتوحيد (¬7). قوله تعالى (¬8): {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} قال ابن عباس: أخلص إليه إخلاصًا (¬9)، (وهو قول مقاتل (¬10)، والكلبي (¬11)، ومجاهد (¬12)، ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "تهذيب اللغة"، المرجع السابق بلفظ: فراغًا للنوم. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) ساقط من (ع). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 240 بنصه. وإضافة إلى ما ذكره الواحدي، فـ"السبح" في اللغة: الفراغ. انظر مادة: (بتل) في "الصحاح" 1/ 372، و"لسان العرب" 2/ 470. (¬7) "تفسير مقاتل" 213/ أ. (¬8) (قوله تعالى) ساقط من (ع). (¬9) "جامع البيان" 29/ 132، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 201/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 409، و"لباب التأويل" 4/ 322. (¬10) "تفسير مقاتل" 213/ أ. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬12) "تفسير الإمام مجاهد" 680، و"جامع البيان" 29/ 132, و"أحكام القرآن" للجصاص: 3/ 469، و"بحر العلوم" 3/ 417، و"النكت والعيون" 6/ 128،=

والضحاك (¬1)). وقال قتادة: أخلص لله العبادة والدعوة (¬2). وجميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص (¬3). وأصل معنى التبتل في اللغة: القطع (¬4)، (وقيل لمريم: البتول؛ لأنها انقطعت إلى الله في العبادة، وصدقة بَتْلة: مُنْقطعة من مال صاحبها) (¬5). ¬

_ = و"زاد المسير" 8/ 115، و"الجامع لأحكام القرآن بمعناه" 19/ 43، و"الدر المنثور" 8/ 318 وعزاه أيضًا إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 343، ح: 6862. (¬1) "جامع البيان" 29/ 133. وما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 325، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 369، و"بحر العلوم بمعناه" 3/ 417، و"الدر المنثور" 8/ 318 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن نصر، وابن المنذر. (¬3) وقد نقل الإجماع عن المفسرين: الفخر الرازي، انظر: "التفسير الكبير" 30/ 178، كما عزا القول بالإخلاص إلى المفسرين: اليزيدي، انظر: "غريب القرآن" 396، وقال الطبري: "بنحو الذي قلنا قال أهل التأويل" وساق عبارات المفسرين في معنى "التبتل" الإخلاص. "جامع البيان" 29/ 132. وقد تنوعت ألفاظ المفسرين في التبتل، وكلها تحمل معنى واحدًا، فمنهم من قال: الإخلاص، ومنهم من قال: الانقطاع، ومنهم من قال: بالتفرغ للعبادة، ومنهم من قال: التوكل على الله توكيلًا، وآخرون قالوا: تضرع إليه تضرعًا، وقد ذكر الإمام الواحدي ذلك. وإضافة إلى ما عزاه إلى المفسرين، انظر: "نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن" 174، و"تفسير المشكل" لمكي بن أبي طالب: 362، و"النكت والعيون" 6/ 128، و"معالم التنزيل" 4/ 409، و"المحرر الوجيز" 5/ 388، و"زاد المسير" 8/ 115، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 466. (¬4) انظر هذا المعنى اللغوي في مادة (بتل) في "تهذيب اللغة" 14/ 291، و"الصحاح" 4/ 163، و"لسان العرب" 11/ 42، وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 171. (¬5) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" =

وقال اللبث: البتْل: تمييز الشيء من الشىِء، والبَتول: كل امرأة تنقبض [عن] (¬1) الرجال لا شهوة لها, ولا حاجة فيهم، ومنه التَّبتُّل: وهو ترك النكاح، والزهد فيه. وقال (ربيعة) (¬2) بن مَقْرُوم (¬3): لو أنها عَرَضت لأشْمَطَ راهب ... عبدَ الإلهَ صرورةً متبتِّلِ (¬4)) (¬5) هذا معنى الحرف في اللغة، وأما في الآية، فقال أبو إسحاق: انقطع إليه في العبادة (¬6). وقال الفراء: يقال للعابد إذا ترك كل شيء، وأقبل على العبادة: قد ¬

_ = 5/ 241، وانظر: "تهذيب اللغة" 14/ 291. (¬1) في (أ)، و (ع) من، والمثبت من "تهذيب اللغة". (¬2) ساقط من (أ). (¬3) ربيعة بن مقروم بن قيس ببن جابر بن خالد بن إلياس بن مضر بن نزار، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، عاش في الإسلام زمانًا، شهد القادسية، وجلولاء، وهو من شعراء مضر المعدودين. انظر: "الشعر والشعراء" 198، و"خزانة الأدب" 8/ 438، و"المفضليات" لأبي العباس المفضل الضبي: 355، و"الأغاني" 19/ 90. (¬4) في (أ): متعبد. وورد البيت منسوبا في "تهذيب اللغة" 4/ 291 مادة: (بتل)، و"لسان العرب" 11/ 43 مادة: (بتل)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 171، و"الأغاني" 19/ 92، وقد وجدت البيت للنابغة في "ديوانه" 41 ط المؤسسة العربية برواية "متعبد" بدلاً من "متبتل"، وكذلك نسبه أبو عبيد في "غريب الحديث" للنابغة أيضًا 1/ 421، ومعنى البيت: الراهب: العابد، الأشمط: الذي خالطه الشيب، الصرورة: الذي لم يتزوج. "ديوان النابغة" 41. (¬5) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "تهذيب اللغة" 14/ 291 مادة: (بتل). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241 بنصه.

تبتل، أي قطع كل شيء إلا أمر الله وطاعته (¬1). وهذا يؤدي معنى الإخلاص الذي ذكر أهل التفسير. وقال زيد بن أسلم: التبتل: رفض الدنيا (¬2) وما فيها، والتماس (¬3) ما عند الله (¬4). وقال ابنه: (تبتل إليه): تفرغ لعبادته (¬5). وهذا كله يرجع: (¬6) إلى معنى الانقطاع إليه عما سواه. وقال الأخفش في قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} لم يجيء بمصدره، ومصدره (¬7) التبتل (¬8). وقال غيره (¬9): جاء تبتيلًا على بَتِّلْ نفسك إليه تبتيلاً، فوقع المصدر موقع مقاربه في المعنى، ويكون التقدير: وتبتل مبتلًا نفسك إليه تبتيلاً، كما قال: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، وهذا معنى قول أبي إسحاق: تبتل محمول على معنى بَتَّل إليه تبتيلًا (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 198بنصه. (¬2) بياض في (ع). (¬3) بياض في (ع). (¬4) ورد قوله في "الكشف والبيان" جـ: 12: 201/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 409، و"المحرر والوجيز" 5/ 388، و"التفسير الكبير" 30/ 138. (¬5) "جامع البيان" 29/ 133، وهو عبد الرحمن بن زيد. (¬6) بياض في (ع). (¬7) في (أ): مصدره. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 717 نقله عنه بنصه. (¬9) ممن قال بذلك: سيبويه. انظر: "الكتاب" 4/ 81. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241. وقوله (إليه) سقط من (أ).

قوله تعالى (¬1): {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. (الرفع (¬2) في قوله: (رب المشرق) (¬3) يحتمل أمرين: أحدهما: القطع من قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} على تقدير: هو رب المشرق، فيكون خبر ابتداء (¬4) محذوف، كقوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج: 72]، وقوله: {مَتَعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 197]، أي: فعليهم متاع قليل. والثاني: أن يرفعه بالابتداء، وخبره الجملة التي: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، والعائد إليه الضمير المنفصل، والخفض (¬5) على اتباع قوله: {اسْمَ رَبِّكَ}) (¬6). قوله: {فَأتًخِذهُ وكيلًا} قال الكلبي: يقول: اتخذه يا محمد كفيلًا على ما قال لك إنه سيفعله بك (¬7). ¬

_ (¬1) ساقطة من (ع). (¬2) قرأ بالرفع: "رب المشرق" ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم. انظر كتاب: السبعة 658، و"القراءات وعلل النحويين": 2/ 724، و"الحجة" 6/ 336، و"الكشف" 2/ 245، و"إتحاف فضلاء البشر" 436. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) بياض في (ع). (¬5) قرأ {رَبُّ الْمَشْرِقِ} بالخفض: عاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي، وابن عامر، ويعقوب، وخلف، ووافقهم الأعمش وابن محيصن. انظر كتاب: السبعة 658، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 724، و"الكشف" 2/ 245، و"إتحاف فضلاء البشر" 436. (¬6) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "الحجة" لأبي علي الفارسي 6/ 336 بتصرف يسر. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله.

10

وهذا المعنى أراد الزجاج (¬1) بقوله: اتخذه كفيلًا بما وعدك (¬2). وهو قول الفراء (¬3). 10 - {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}. لك من التكذيب والأذى. {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} واعتزلهم اعتزالًا حسنًا، لا جزع فيه. قال الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5): قالوا هذا قبل أن (¬6) أمر بالقتال (¬7). ¬

_ (¬1) قوله: أراد الزجاج: بياض في (ع). (¬2) ورد قوله في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241 بنصه. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 198. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل" 213/ ب. (¬6) بياض في (ع). (¬7) قال أبو جعفر النحاس في قوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}: "كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك". "الناسخ والمنسوخ" 292. وبهذا قال أيضًا هبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" 187، والخزرجي في "نفس الصباح" 2/ 758، وابن الجوزي في "المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ" 58، وابن البارزي في "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" 55. وقال بذلك أيضًا قتادة في "جامع البيان" 29/ 132، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 129، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 409. قلت: ليس في الآية ما يدعو إلى القول بالنسخ، فالصبر على الأذى، وهجر الكفر وأهله ليس فيه ما يعارض الجهاد في سبيل الله، "بل الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله", وقد ذهب أئمة إلى عدم القول بالنسخ في هذه الآية، ولهذا لم يوردوها في "الناسخ والمنسوخ"، نحو الزهري في كتابه: "الناسخ والمنسوخ"، والبغدادي أيضًا في كتابه: "الناسخ والمنسوخ"، =

(قوله تعالى) (¬1): {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} قال ابن عباس: يريد دعني ومن كذبك، وهذا كقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ} [القلم: 44] (¬2). قال الزجاج: العرب إذا أرادت أن تأمر إنسانًا [فإن] (¬3) له هَمَّة بأمر أو خصم له تقول: دعني وذاك، ودعني وفلانًا، ليس أنه حال بينه وبين ذلك الأمر، أو ذلك الإنسان، ولكن تأويله: لا تهتم به، فإني أكفيكه (¬4). وقوله تعالى: {أُولِي النَّعْمَةِ} قال ابن عباس (¬5)، (ومقاتل (¬6)) (¬7): أولي الغنى، وكثرة الأموال. وذكرنا تفسير النعمة فيما تقدم (¬8). ¬

_ = وكذلك الطبري، وابن كثير لم يروا فيها نسخًا. انظر: "جامع البيان" 29/ 130، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 466. ما بين علامتي التنصيص نقلًا عن "مجموع الفتاوى" 28/ 208. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬2) لم أعثر على مصدر لقول ابن عباس. (¬3) فإنا هكذا وردت في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر القول. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، ولعله فسر الغنى في غير هذا الموطن. والله أعلم. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) نحو ما جاء في سورة الدخان: 27 {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)}، وقد جاء في تفسيرها " (ونَعْمة) قال علماء اللغة: نَعْمة العيش -بفتح النون- حُسْنُهُ، وغَضَارَتُهُ، ونعمة الله: مَنُّه وعطاؤه، قال المفسرون: وعيش لين رغد كانوا متنعمين". ونحو ما جاء في سورة الزمر: 8 قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}، وقد جاء في تفسير {إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} "قال ابن عباس: يريد: غناه، وأنعم الله عليه بالصحة، وقال مقاتل: أعطاه الله الخير".

{وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} قال ابن عباس: حياتهم حتى (يأتي الوعد (¬1)) (¬2). وقال الكلبي: نزلت في المُطْعِمِين ببدر، وهم عشرة من قريش، قتلهم الله ببدر (¬3). وقال مقاتل: يعني بني المغيرة، أهلكهم الله ببدر (¬4). ثم ذكر ما لهؤلاء عنده، فقال: {إِنَّ لَدَيْنَا (أَنْكَالًا) (¬5)} (¬6) قال المفسرون: إن عندنا في الآخرة أنكالاً، واحدها: نِكْل، وهو القيد في قول جميع المفسرين (¬7)، ............ ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر قول ابن عباس. (¬2) ما بين القوسين بياض في (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير مقاتل" 213/ ب، و"زاد المسير" 8/ 166، وقد ورد قول مقاتل عند تفسير الآية: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل: 11]. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)}. (¬7) قال بذلك: ابن عباس، وعكرمة، وطاووس، ومحمد بن كعب، وعبد الله بن بريدة، وأبو مجلز، والضحاك، وقتادة، والسدي، والثوري، ومجاهد، وحماد ابن أبي سليمان، والحسن، وسليمان التيمي. انظر أقوالهم في تفسير الإمام مجاهد: 680، و"جامع البيان" 29/ 134 - 135، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 45، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 466 - 467، و"الدر المنثور" 8/ 319، وانظر: "صحيح البخاري" 3/ 316، كتاب التفسير: باب سورة المزمل (73)، وقال بذلك ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 494، وفسرها الطبري بذلك، وقال: "وبمثل الذي قلنا قال أهل التأويل" في "جامع البيان" 29/ 134، وبه قال أيضًا السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 417، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241، والثعلبي في "الكشف والبيان" 12: 202/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 420، والزمخشري في "الكشاف" 4/ 154، وابن الجوزي في "زاد =

(وأهل اللغة (¬1)) (¬2). وقال الكلبي: أغلالًا من حديد (¬3). وقال أبو عمران الجوني: هي قيود لا تحل أبدًا (¬4). وقوله تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} لا يسوغ في الحلق، والغصة: ما يغص به الإنسان (¬5). ¬

_ = المسير" 8/ 116، والفخر الرازي في "التفسير الكبير" 30/ 181. ومن أهل الغريب قال به: اليزيدي في "غريب القرآن" 397، والسجستاني في "نزهة القلوب" 108، ومكي بن أبي طالب في "تفسير المشكل" 362، والخزرجي في "نفس الصباح" 741، وابن الملقن في "تفسير غريب القرآن" 505، ولم أجد من خالف ما قاله الواحدي غير أنه ذكر ابن الملقن معنى مصاحبًا للقيود وهو: العقوبات والقيود من العقوبات، وعليه لا يكون هناك من خالف الإجماع، والله أعلم. وأما ما ذكره الشيخ السعدي من أن {أَنكاَلًا} أي عذابا شديدًا في تيسير الكريم الرحمن: 5/ 327. قلت: قول الشيخ السعدي، وإن كان في لفظه مخالفًا، فهو موافق في معناه، عام في دلالته؛ إذ القيود من أنواع العذاب الشديد، وعليه لا يكون مخالفًا لجمهور المفسرين. (¬1) قال بذلك الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 241، والأخفش، انظر: "النكت والعيون" 6/ 130، وهو قول الأزهري، والجوهري، والزبيدي. انظر مادة: (نكل) في "تهذيب اللغة" 10/ 245، و"الصحاح" 5/ 1835، و"القاموس المحيط" 4/ 60. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد قوله من غير ذكر لفظ الحديد في كل من "النكت والعيون" 6/ 130، و"معالم التنزيل" 4/ 410، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 45، و"البحر المحيط" 8/ 364، و"فتح القدير" 5/ 318. (¬4) "الدر المنثور" 8/ 319 بمعناه، وعزاه إلى عبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 318. (¬5) قال ابن فارس: "غص": الغين والصاد ليس فيه إلا الغَصَص بالطعام. "معجم مقاييس اللغة" 4/ 383.

وقال ابن عباس (1)، والمفسرون (2): يعني الزقوم. وهو قول مجاهد (3)، (ومقاتل (4)) (5)، وعكرمة (6). وقال أبو إسحاق: أي طعامهم الضريع، كما قال عز وجل: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} [الغاشية: 6]، وهو شوك كالعَوْسَج (7) (8). وهذا معنى قول ابن عباس [في رواية عكرمة]، قال: شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج (9).

_ (1) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 45، و"الدر المنثور" 8/ 319، وعزاه إلى الحاكم، ولم أجده في "المستدرك". (2) قال بذلك: الثعلبي في "الكشف والبيان" جـ: 12: 202/ ب، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 410. (3) "جامع البيان" 29/ 135، و"النكت والعيون" 6/ 130، و"المحرر الوجيز" 5/ 389، و"البحر المحيط" 8/ 364، و"الدر المنثور" 8/ 319 وعزاه إلى عبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 318. (4) "تفسير مقاتل" 213/ ب، و"زاد المسير" 8/ 116. (5) ساقط من (أ). (6) لم أعثر على مصدر لقوله. (7) العوسج: هو شجر من شجر الشَّوك، وله ثمر أحمر مُدَوَّرٌ كأنه خرز العقيق. انظر "لسان العرب" 2/ 324 مادة: (عسج). وفي "تهذيب اللغة": "العوسج: شجر كثير الشوك، وهي ضروب، منها ما يثمر ثمرًا أحمر يقال له: المُصع". 1: 338 مادة: (عسج). (8) ورد قول أبي إسحاق في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 242 بنصه. (9) بياض في الحرف الأخير من الكلمة في (ع). وورد قوله في "جامع البيان" 29/ 135، و"النكت والعيون" 6/ 130، و"زاد المسير" 8/ 116، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 45، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 467، و"الدر المنثور" 8/ 319 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في صفة النار، وعبد الله بن =

ثم أخبر متى يكون ذلك فقال: (قوله تعالى) (¬1): {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} قال الزجاج: (يوم) منصوب معلق بقوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)} [المزمل: 12] أي ينكل بالكافرين ويعذبهم يوم ترجف الأرض والجبال، أي تزلزل وتحرك أغلظ حركة (¬2). وقوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} قال (أبو زيد (¬3)، و) (¬4) الأصمعي (¬5): الكثيب: القطعة من الرمل تنقاد (¬6) مُحْدَوْدِبة (¬7). ¬

_ = أحمد في "زوائد الزهد"، وابن المنذر، والبيهقي في البعث: 305 - 306: ح: 551، و"المستدرك" 2/ 505 - 506، كتاب: التفسير تفسير سورة المزمل، وصححه، وضعفه الذهبي في التلخيص وقال: شبيب ضعفوه. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 242. ولـ "يوم" أوجه أخرى في نصبها، فليراجع في ذلك "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري: 2/ 1247، و "الدر المصون" 6/ 407. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد له معنًى يقارب ما قاله الليث، وعبارته: قال: "كَثَب الطعام أكثبه كثبًا ونثرته نثرًا، وهما واحد". "تهذيب اللغة" 10/ 185 مادة: (كثب). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 10/ 185 مادة: (كثب). (¬6) تنقاد: قال ابن منظور: "كل شيء من جبل أو مُسنَّاة كان مستطيلًا على وجه الأرض فهو قائد، وظهر من الأرض يقول وينقاد ويتقاود كذا وكذا ميلًا. القوداء: الطويلة، ومنه: رمل منقاد، أي: مستطيل". "لسان العرب" 3/ 371 مادة: (قود). (¬7) مُحْدَوْدِبة: الحديث: حدور في صبب، كحدب الرِّيح والرَّمل. "لسان العرب" 1/ 301 مادة: (حدب). وقال ابن فارس: "الحاء والدال والباء: أصل واحد، وهو ارتفاع الشيء، فالحَدَب ما ارتفع من الأرض". "معجم مقاييس اللغة" 2/ 36 مادة: (حدب). وانظر: "المصباح المنير" 1/ 148 مادة: (حدب).

وقال الليث: الكثيب: نثر التراب، (أو الشيء) (¬1) يرمي به (¬2) (¬3). والفعل اللازم الكثيب ينكثب انكثابًا، وسمي الكثيب كثيبًا؛ لأن ترابه دقاق، كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته. وقال أبو إسحاق: الكثيب: جمعه الكثبان، وهي القطع العظام من الرمل، ومعنى "مهيلًا" سائلًا قد سيّلَ، يقال: تراب مهيل، ومهيول، أي مَصْبُوبٌ مُسيّل، والأكثرون في اللغة: المهيل، وهو مثل قولك: مكيل، ومكيول، ومدين، ومديون، وذلك أن (الياء) تحذف منه الضمة، فتسكن هي و (الواو) فتحذف (الواو) لالتقاء الساكنين (¬4). (ذكره الفراء (¬5)، والزجاج (¬6)) (¬7). قال أبو عبيدة (¬8): يقال لكل شيء أرسلته إرسالاً من رمل، أو تراب، أو طعام، ونحوه: قد هِلْتُه أهيله هيلاً، إذا أرسلته مجرى، وهو طعام مهيل (¬9). قال مقاتل في قوله: {كَثِيبًا مَهِيلًا} هو الرمل إذا حركته من تحته يتبع ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) قوله: يرمي به: بياض في (ع). (¬3) وانظر قول الليث في "تهذيب اللغة" 10/ 185 (كثب)، و"لسان العرب" 1/ 702. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 242 بيسير من التصرف. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 198. (¬6) كرر اسمه، انظر الهامش السابق رقم: 1. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) في (ع): أبو عبيد. (¬9) "مجاز القرآن" 2/ 273، وقد ورد قوله مختصرًا في المجاز، وعبارته قال: "كثيبًا مهيلًا من هِلته تهيله".

15

بعضه بعضًا (¬1). وقال الكلبي: هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئًا (¬2) تبعك آخره (¬3). 15 - قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} يعني أهل مكة. {رَسُولًا} يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- {شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} بالتبليغ وإيمان من آمن وأجاب، وامتناع من امتنع وعصى. {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} وهو موسى عليه السلام. قال مقاتل: إنما ذكر فرعون، وموسى دونَ سائر الأمم (¬4) والرسل؛ لأن أهل مكة ازدرؤوا محمدًا (¬5) -صلى الله عليه وسلم-، واستخفوا (¬6) به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرأ (¬7) موسى؛ لأنه رباه، وولد فيما بينهم، وهو قوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18]. (¬8) قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} الوبيل: الثقيل الغليظ جدًّا، ومنه قولهم: صار هذا عليه وبالاً، أي أفضى به إلى غاية المكروه، ومن هذا قيل للمطر (¬9) العظيم: وابل، وكلأ مُستوبل (¬10)، إذا أن عاقبته إلى مكروه. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) قوله: (منه شيئًا بياض في (ع). (¬3) ورد معنى قوله عند الماوردي في "النكت والعيون" 6/ 130، و"معالم التنزيل" 4/ 410، وبمعناه أيضًا في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 46. (¬4) بياض في (ع). (¬5) قوله: (ازدرؤوا محمدًا) بياض في (ع). (¬6) بياض في (ع). (¬7) بياض في (ع). (¬8) ورد قول مقاتل في "تفسير مقاتل" 213/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 47. (¬9) بياض في (ع). (¬10) غير مقروء في كلا النسختين.

(قاله المبرد (1)، والزجاج (2)) (3). وقال أبو زيد: الوبيل: الذي لا يُسْتَمْرأ (4)، (وماء وبيل، ووخيم: إذا كان غير مري) (5). وقال المفسرون (6): أخذًا وبيلاً: شديدًا، يعني: الغرق. قاله الكلبي (7)، وقتادة (8)، ومقاتل (9). يخوف أهل مكة بالعذاب، ثم خوفهم يوم القيامة: قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ}. (وفي الآية تقديم وتأخير (10)، على تقدير: فكيف تتقون يومًا يجعل (11) الولدان شيبًا إن كفرتم، والمعنى على تقدير المضاف (12): أي عذاب يوم، أي: بأي شيء تتحصنون من

_ (1) لم أعثر على مصدر لقوله. (2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 242، وعبارته: "الوبيل: الثقيل الغليظ جدًّا، ومن هذا قيل للمطر الغليظ العظيم: وابل". (3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (4) "تهذيب اللغة" 15/ 386 مادة: (وبل)، وانظر: "لسان العرب" 11/ 720. (5) ما بين القوسين من قول الأزهري، نقله عنه الواحدي من "تهذيب اللغة". (6) بياض في (ع). ومن المفسرين الذين قالوا بذلك: ابن عباس، ومجاهد، والسدي، والثوري. انظر: "جامع البيان" 29/ 37، و"النكت والعيون" 6/ 130، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 47، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 467، و"الدر المنثور" 8/ 320. وإلى هذا القول أيضًا ذهب السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 317، والثعلبي في "الكشف والبيان" 12/ 203/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 410، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 389، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 117. (7) "التفسير الكبير" 3/ 183. (8) المرجع السابق، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 325، و"جامع البيان" 29/ 137، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 47، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 467. (9) "تفسير مقاتل" 213 ب، و"التفسير الكبير" 3/ 183، قوله: (ومقاتل) ساقط من (أ). (10) و (11) و (12) بياض في (ع).

عذاب ذلك اليوم) (¬1) {إِنْ كَفَرْتُمْ} قال قتادة: والله لا يتقي من كفر بالله ذلك اليوم (¬2). قوله تعالى: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}. وصف لهول ذلك اليوم الشديد، وهذا كما يقال: قد حدث أمر تشيب فيه النواصي، وشيب الصغير, مَثل للشدة العظيمة (¬3). قال المفسرون (¬4): ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الزجاج بتصرف. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 242. قال ابن جرير عن معنى التقديم والتأخير: "ذكر ذلك كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود". "جامع البيان" 29/ 127 وقال ابن كثير عند تفسير الآية: يحتمل أن يكون (يومًا) معمولًا لتتقون، كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود: فكيف تخافون أيها الناس يوم يجعل الولدان شيبًا إن كفرتم، ولم تصدقوا به. ويحتمل أن يكون معمولًا لكفرتم، فعلى الأول: كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم، إن كفرتم، وعلى الثاني: كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة، وجحدتموه، وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى، والله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 467. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 325، و"جامع البيان" 29/ 127، و"الجامع" للقرطبي 19/ 48، وبمعناه في "الدر المنثور" 8/ 320 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) قال ابن جرير: "وقوله: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} يعني يوم القيامة، وإنما تشيب الولدان من شدة هوله وكربه". "جامع البيان" 29/ 137. إذا شيب الولدان ليس بمثل على هوله، وإنما حقيقة حكايته هول ذلك اليوم الذي يشيب له الصغير, فهو وصف حقيقة، وليس بمثل للشدة العظيمة. والله أعلم. (¬4) قال بذلك: ابن مسعود، وخيثمة بن عبد الرحمن، وابن عباس. انظر: "جامع البيان" 29/ 137، و"الدر المنثور" 8/ 321 وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه. وقال بذلك أيضا الثعلبي في "الكشف والبيان" جـ: 12: 203/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 410، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 49, وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 467.

وذلك حين يقال لآدم: (قم فأبعث بعث النار) (¬1) وذكرنا ذلك عند قوله: {يَوْمَ تَرَوُنَهَا} (¬2). ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه البخاري 4/ 1967، ح 6530، في الرقاق، باب قوله عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، من طريق أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله: يا آدم، فيقول: لبَّيْك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك حين يشيب الصغير, وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد ... " الحديث. كما أخرجه البخاري: 2/ 458 ح: 3348 كتاب الأنبياء، باب: 7. ومسلم 1/ 201 ح 379، كتاب الإيمان, باب 96. والترمذي في "سننه" 4/ 2258 ح: 2940، كتاب الفتن: باب 23، 5/ 322 ح: 3168، كتاب التفسير، باب 23، من طريق يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال عبد الله بن عمرو. والنسائي في "تفسيره" 2/ 474 ح: 649، من طريق الترمذي. (¬2) سورة الحج: 2: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}، وقد جاء في تفسيرها " {يَوْمَ تَرَوْنَهَا}: ترون تلك الزلزلة، {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ}، أي: في ذلك اليوم، {عَمَّا أَرْضَعَتْ} تنسى وتترك كل والدة ولدها، يقال: ذهل عن كذا يذهل ذهولًا إذا تركه أو شغله عنه شاغل، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهو قوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} يعني من هول ذلك اليوم، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن بعد البعث لا يكون حبلى، وعند شدة الفزع تلقي المرأة جنينها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} من شدة الخوف، {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} من الشراب. هذا قول جميع المفسرين. والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم يضطربون اضطراب السكران من الشراب، يدل على صحة هذا قراءة من قرأ "وتُرى الناس" بضم التاء، أي تظنهم، ولكن عذاب الله شديد" دليل على أن سكرهم من خوف العذاب". نقلت المختصر من الوسيط في تفسير القرآن العزيز: 3/ 257 - 258، وما جاء فيه قد احتواه "البسيط" جـ: 4: 2/ أ - ب.

ثم وصف من هول ذلك اليوم، فقال: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}. أي بذلك اليوم، يعني فيه. قاله الفراء (¬1)، وأبو حاتم (¬2)، وهذا كما قال: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} ومعنى منفطر: منشق (¬3)، (قال أبو عبيدة) (¬4) قال أبو عمرو بن العلاء: السماء منفطر، ولم يقل: منفطرة؛ لأن مجازها مجاز السقف، تقول: هذا سماء البيت (¬5). وقال الفراء: (السماء تؤنث وتذكر، وهي -هاهنا- في وجوه التذكير، وأنشد (¬6): فلو رَفَع السماءُ إليه قومًا ... لَحِقْنا بالنجومِ مع السحاب (¬7)) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 199. (¬2) لم أعثر على مصدر لقول أبي حاتم. (¬3) انظر مادة: (فطر) في "تهذيب اللغة" 13/ 325، و"الصحاح" 2/ 781، و"لسان العرب" 5/ 55، و"تاج العروس" 3/ 470. (¬4) ساقطة من (ع). (¬5) ورد قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 274 بنصه، وانظر قضايا المذكر والمؤنث في مجاز القرآن. د. السيد أحمد علي: 152. (¬6) البيت لامرأة من العرب. انظر شرح أبيات "معاني القرآن" 57، ش: 111. (¬7) ورد البيت في "معاني القرآن" 3/ 199، شرح أبيات "معاني القرآن" المرجع السابق، و"المذكر والمؤنث" للفراء 102 برواية: (بالسماء) بدلاً من (بالنجوم)، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: 367 رقم 383 برواية (بالسماء) بدلاً من (بالنجوم)، و"لسان العرب" 24/ 398، (سما)، و"تاج العروس" 10/ 182 (سما)، و"المذكر والمؤنث" لأبي عبيد: 153، إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم: لابن خالويه: 98، المخصص: لابن سيده: 17/ 22. وانظر أيضًا "المحرر الوجيز" 5/ 389، و"التفسير الكبير" 30/ 185، و"الجامع لأحكام القرآن " 19/ 50، و"الدر المصون" 6/ 459، و"البحر المحيط" 8/ 365، و"روح المعاني" 29/ 110. موضع الشاهد: "السماء" زعموا أنه أراد الجمع، فذكر, =

قال أبو علي الفارسي: ({مُنْفَطِرٌ بِهِ}) (¬1) ليس البخاري على الفعل، ولكن الذي للنسب، ويجوز أن تكون السماء جميعًا، فتكون من باب (الجراد المنتشر (¬2))، و (الشجر الأخضر (¬3))، و (أعجاز نخل منقعر (¬4)) (ذكر ذلك في المسائل الحلبية (¬5)) (¬6). وقوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} قال مقاتل: يقول وعده بالبعث كائن (¬7) لابد (¬8). ¬

_ = وهو جمع: "سماءة" أو "سماوة"، وقال قوم: هي بمنزلة "العين" لا علامة تأنيث بها فجاز تذكيرها. انظر شرح أبيات "معاني القرآن" مرجع سابق. وأيضًا من وجوه أنها لم تؤنث الصفة: أنها على النسبة أي ذات انفطار، كمرضع وحائض. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 243. وهناك أوجه أخرى، انظر: "الدر المصون" 6/ 409 للاستزادة. وما بين القوسين من قول الفراء في "معاني القرآن" 3/ 199 بنصه. وانظر: "المذكر والمؤنث" للفراء 102. (¬1) (منطوبة) في كلا النسختين. (¬2) [القمر: 7] {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)}. (¬3) [يس: 80] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}. (¬4) [القمر: 20] {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)}. (¬5) لم أعثر على قول الفارسي في المسائل الحلبية، ولكن وجدت نحو قوله في كتابه: "التكملة" 354، قال: "وعلى النسب تأول الخليل قول الله -عز وجل-: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} كأنه قال: ذات انفطار، ولم يرد أن يُجريه على الفعل. ثم قال: وهذه التاء إذا دخلت على هذه الصفات الجارية على أفعالها لم يتغير بناؤها عما كانت عليه قبل، وذلك نحو: قائم، وقائمة، وضارب، وضاربة". وقد ورد قول أبي علي المذكور في المتن في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 50. (¬6) ما بين قوسين ساقط من (أ). (¬7) غير واضحة في (ع). (¬8) "تفسير مقاتل" 213/ ب.

قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ} قال مقاتل: يعني آيات القرآن (¬1). {تَذْكِرَةٌ} تذكير وموعظة. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}، أي: بالطاعة والتصديق (¬2). قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} (¬3) قال ابن عباس (¬4)، ومقاتل (¬5): أقلّ، كقوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (¬6) [البقرة: 61] (¬7)، وقد مَرَّ. قوله تعالى: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} (عطف على قوله: (أدنى (¬8)) و (أدنى) في موضع نصب (¬9)، والتقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل (¬10)، وتقوم نصفه وثلثه. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) بياض في (ع). (¬3) قوله تعالى: (أدنى من ثلثي الليل) مطموس في (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل" 213/ ب. (¬6) (بالذي هو خير) ساقط من (ع). (¬7) قال الواحدي في تفسير "أدنى" البقرة: 90: "يحتمل أن تكون "أدنى" أفعل من الدنو، ومعناه: أتستبدلون الذي هو أقرب وأسهل متناولًا يشارككم في وجدانه كل أحد بالرفيع الجليل الذي خصكم الله، وبين الأثرة لكم به على جميع الناس". (¬8) بياض في (ع). (¬9) قرأ بالنصب في "ونصفَه وثلثَه" عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن كثير. انظر: "السبعة" 658، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 724، و"الحجة" 6/ 336، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 354، و"التبصرة" 713، و"تحبير التيسير" 194، و"البدور الزاهرة" 328. (¬10) قرأ بجر "ونصفِه" أبو عمرو، ونافع، وابن عامر. انظر المراجع السابقة.

ومن قرأ بالجر (¬1) حمله على الحال في قوله: {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} والمعنى: أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه، وثلثه) (¬2)، والوجه القراءة الأولى (¬3). قال ابن عباس: يريد: وتقوم نصفه وثلثه (¬4). (وقال أبو الحسن: الذي افترض الثلث، وأكثر من الثلث (¬5)، والذين جروا كأن المعنى على قولهم: إنكم (لم) (¬6) تؤدوا ما افترض عليكم، فقمتم أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه، ومن ثلثه، وليس المعنى على هذا) (¬7). وقال صاحب النظم: الأقل الذي افترض عليهم: الربع، لم ينقصوا ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من الحجة لأبي علي من غير عزو: 6/ 336 - 337 بتصرف. (¬2) بياض في (ع). (¬3) قال الفراء في قراءة النصب: وهو أشبه بالصواب. "معاني القرآن" 3/ 199. وقال الطبري: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. "جامع البيان" 29/ 140. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله؛ غير أن لابن عباس ما يعضد أثره الحديث: أن ابن عباس بات ليلة عند ميمونة أم المؤمنين -وهي خالته- قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهلُه في طولها، فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنٍّ معلقة، فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي ... " الحديث. صحيح مسلم: 1/ 526 - 527 ح: 182، صلاة المسافرين: باب 25. ورواه أبو داود في "سننه" 1/ 344، باب في صلاة الليل. (¬5) ومعنى قوله: الذي افترض الثلث وأكثر من الثلث تفسير لمعنى أدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، وهو معنى من قرأ بالنصب. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) ما بين القوسين نقله الواحدي عن أبي علي الفارسي من "الحجة" 6/ 337 بتصرف.

من الربع على قول من قرأ بالجر (1). وقوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} قال ابن عباس (2)، ومقاتل (3): يعني أصحابه الذين آمنوا به، كانوا يقومون معه ثلثًا ونصفًا. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (فيعلم مقدار ثلثه (4)، ونصفه، وثلثيه (5)، وسائر أجزائه ومواقيته) (6). ويعلم أنكم: {لَنْ تُحْصُوهُ} (أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك، والقيام فيه) (7). قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر الله به من قيام ما فرض عليه، فقال الله تعالى (8): {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} (9) و (أن) مخففة من الثقيلة على تقدير: أنكم لن تحصوه (10). {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} فعاد عليكم بالعفو والتخفيف. قال ابن عباس: فعفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه (11).

_ (1) لم أعثر على مصدر لقوله. (2) لم أعثر على مصدر لقوله. (3) "تفسير مقاتل" 213/ ب. (4) بياض في (ع). (5) في (أ): وثلثه. (6) و (7) ما بين القوسين نقله الواحدي عن ابن قتيبة من "تأويل مشكل القرآن" 264. (8) بياض في (ع). (9) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 213/ ب، 214/ أ، و "معالم التنزيل" 4/ 411 مختصرًا، و"التفسير الكبير" 30/ 186، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 51 - 52. (10) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري 2/ 1248، و"البيان في غريب إعراب القرآن" لابن الأنباري 2/ 472. (11) لم أعثر على مصدر لقوله.

وقال مقاتل: فتجاوز عنكم بالتخفيف (¬1). {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} قال ابن عباس: يريد غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسقط عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قيام الليل، وصار تطوعًا، وبقي ذلك فرضًا على رسول الله (¬2) (صلى الله عليه وسلم) (¬3). وقال مقاتل: فاقرؤوا ما تيسر عليكم في الصلاة من القرآن من غير أن يوقت شيئًا (¬4). قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء (¬5). وقالت عائشة (رضي الله عنها) (¬6) في هذه الآية: صار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فرضًا (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 214/ أ. (¬2) ورد قوله في "التفسير الكبير" 30/ 187. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 214/ أ. (¬5) "الكشف والبيان" 12/ 203/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 411، و"زاد المسير" 8/ 118، و"التفسير الكبير" 30/ 187، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 52، و"لباب التأويل" 4/ 325. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) رواية عائشة رضي الله عنها مخرجة في صحيح مسلم: 1/ 513 ح: 139 (746)، كتاب صلاة المسافرين: باب 18 من حديث طويل الشاهد فيه: أنبئيني عن قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ألست تقرأ: يا أيها المزمل؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله -عز وجل- افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولًا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة" الحديث. وأبو داود في "سننه" 1/ 337، باب في صلاة الليل. والنسائي في "سننه" 3/ 221 - 222 ح: 1600، =

وروي عن الحسن (¬1) (والسدي (¬2)) (¬3) في تفسير: {مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أنه مائة آية. ثم عذرهم، وذكر عذرهم، فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} يعني فلا يطيقون قيام الليل. {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬4) يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله، فلا يطيقون قيام الليل. {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني المجاهدين لا يطيقون قيام الليل. {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} (¬5) عليكم. {مِنْهُ} أي من القرآن. وقال (عبد الله بن مسلم) (¬6) بن قتيبة: رخّص لهم أن يقوموا ما أمكن وخفّ لغير مدة معلومة، ولا مقدار، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس. ¬

_ = كتاب الصلاة، باب 2. وأيضًا النسائي في "تفسيره" 2/ 470 ج: 647 مختصرًا. والحاكم في "المستدرك" 2/ 504 مختصرًا جداً وصححه، ووافقه الذهبي في التلخيص. والبيهقي في "سننه" 2/ 703 ح: 4638، كتاب الصلاة، باب 593، و3/ 43 ح: 480 كتاب الصلاة، باب 643. وأحمد في "المسند" 6/ 53 - 54. (¬1) "جامع البيان" 29/ 141، و"المحرر الوجيز" 5/ 391، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 52 بمعناه. (¬2) "جامع البيان" 29/ 141، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 203/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 52، و"فتح القدير" 5/ 321، وانظر: "تفسير السدي" 465. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) قوله (من فضل الله) ساقط من (أ). (¬5) قوله (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) ساقط من (ع). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(كذلك قال المفسرون (¬1)) (¬2). وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. قال مقاتل: يعني وأتموها لوقتها، فنسخ قيام الليل عن المؤمنين، وثبت على النبي (¬3) -صلى الله عليه وسلم- خاصة (¬4). وقال ابن عباس في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} يريد هذه فريضة عليكم في محلها، وفي أوقاتها (¬5). {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}. قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة من صلة الرحم، وقرى الضيف (¬6). وقال مقاتل: يعني الزكاة (¬7) يعطيها طيبة بها نفسه، وهو معنى قوله: (حسنًا) (¬8). {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} قال (¬9): يعني من صدقة فريضة كانت أو تطوع (¬10). ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 264 - 265 بنصه نقله الإمام الواحدي. وقد عني بقوله: كذلك قال المفسرون: مقاتلًا؛ لأنه هو الذي قال: إن أول السورة نسختها الصلوات الخمس، وقد ذكر الرد على ذلك في موضعه فليراجع. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) في (ع): ثبت على المؤمنين خاصة. ولا يستقيم الكلام بها في هذا الموضع، فلعلها سهو من الناسخ، والله أعلم. (¬4) "تفسير مقاتل" 214/ أ. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 412، و"زاد المسير" 8/ 118، و"لباب التأويل" 4/ 325. (¬7) بياض في (ع). (¬8) "تفسير مقاتل" 214/ أ. (¬9) يعني به مقاتلًا. (¬10) لم أعثر على مصدر قوله.

{تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} قال (¬1): تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم (¬2). وقال ابن عباس: تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا من الذي تؤخر إلى وصيتك عند الموت (¬3). وقال أبو إسحاق: وما تقدموا لأنفسكم من طاعة تجدوه خيرًا عند الله لكم من متاع الدنيا (¬4)، (والقول ما قال ابن عباس (¬5)). قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬6)، أي: لذنوبكم، إن الله غفور الذنوب للمؤمنين، رحيم بهم. (قاله مقاتل (¬7)) (¬8). وقال ابن عباس: غفور رحيم لمن لم يصر على ذنب (¬9). ¬

_ (¬1) يعني به مقاتلًا. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 244 نقله عنه بتصرف. (¬5) قلت: الآية عامة في كل ما يقدمه العبد من خير في الدنيا أنه أعظم أجرًا، وما يؤخره من وصية عند الموت، فهو من الخير الذي يقدمه لآخرته. قال الإمام الطبري في تفسير الآية: "وما تقدموا أيها المؤمنون لأنفسكم من نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله من صلاة أو صيام أو حج أو غير ذلك من أعمال الخير في طلب ما عند الله تجدوه عند الله يوم القيامة في معادكم هو خيرًا لكم بما قدمتم في الدنيا، وثوابه أعظم من ذلك الذي قدمتموه لو لم تكونوا قدمتموه". "جامع البيان" 19/ 142. (¬6) قوله: (إن الله غفور رحيم) ساقط من (أ). (¬7) "تفسير مقاتل" 214/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 188. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله.

سورة المدثر

سورة المدثر

1

تفسير سورة المدثر (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - أصله المُتَدَثِّر، وهو الذي يتدثر ثيابه، لينام أو ليستدفئ، يقال: تدثر بثوبه، والدِّثار: اسم لما يتدثر به، ثم أدغمت التاء في الدال، لتقارب [مخرجيهما] (¬2) (¬3) قال ابن عباس: يريد (¬4) النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتدثر فرقًا (¬5) من جبريل (¬6) -عليه السلام- (¬7). قال المفسرون (¬8): هذا من أوائل ما نزل من القرآن، ولما بدئ رسول ¬

_ (¬1) مكية بقول المفسرين: انظر: "جامع البيان" 29/ 142، و"الكشف والبيان" جـ: 12: 204/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 412. (¬2) في (أ): مخرجيها: وغير واضحة في (ع)، ولعل الصواب ما أثبته. (¬3) انظر: مادة: دثر في: "تهذيب اللغة" 14/ 88، ولعله نقله عن الأزهري بتصرف، وانظر أيضًا: "الصحاح" 2/ 655، و"لسان العرب" 4/ 276، و"المصباح المنير" 1/ 225. (¬4) في (ع): بياض. (¬5) فرقًا: خوفًا وفزعًا، وسبق بيان ذلك في أول سورة المزمل. (¬6) قوله: من جبريل: بياض في (ع). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) ممن ساق هذه الرواية من المفسرين: عبد الرزاق في تفسيره: 2/ 327، والثعلبي، وعزاها إلى جابر بن عبد الله، و"الكشف والبيان" 12/ 24/ ب، و205/ أ. وانظر رواية جابر في: "صحيح البخاري" 3/ 328، ح 4954 التفسير: باب 96، ومسلم: 1/ 144 ح 257: كتاب الإيمان, باب بدء الوحي، والنسائي في =

الله -صلى الله عليه وسلم- بالوحي أتاه (¬1) جبريل، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سرير بين السماء والأرض (¬2) كالنور المتلألئ، ففزع ووقع مغشيًّا (¬3) عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء فصبه عليه، وقال: دثروني (دثروني) (¬4)، فدثروه بقطيفة (¬5)، فأتاه جبريل وهو متقنع (¬6) بالقطيفة فقال: يا أيها المدثر، قم فأنذر كفار مكة العذاب إن لم يوحدوا ربك. قال ابن عباس: قم نذيرًا للبشر (¬7). ¬

_ = "المجتبى" 5/ 428 ح 3325، وفي التفسير 2/ 476 ح 651، و"مسند الإمام أحمد" 3/ 306، ونص الرواية عن جابر كما جاء في الصحيح: عن يحيى بن أبي كثير، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}. فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصُبُّوا علي ماء باردًا، قال: فدثروني وصبوا علي ماء باردًا، قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}. و"زاد المسير" 8/ 120، و"المحرر الوجيز" 5/ 392، وانظر: "أسباب النزول" 330. (¬1) بياض في (ع). (¬2) بياض في (ع). (¬3) مغشيًّا: غشي عليه غَشية وغشيا وغشيانًا: أغمي، فهو مَغْشي عليه. "لسان العرب" 15/ 127، مادة: (غشا). (¬4) ساقطة من: (أ). (¬5) القطيفة: دثار مُخمل، والجمع قَطائف وقُطف. انظر: مادة: (قطف): "الصحاح" 4/ 1417، و"المصباح المنير" 2/ 615. (¬6) متقنع: المقنع: المغطي رأسه. "لسان العرب" 8/ 301، مادة: (قنع). (¬7) "التفسير الكبير" 30/ 190.

3

3 - قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} قال الكلبي: فعظم مما تقول له عبدة الأوثان (¬1). وقال مقاتل: وربك فعظم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر كبيرًا"، فكبرت خديجة (رضي الله عنها) (¬2)، وفرحت (¬3)، وعلمت أنه أوحي (¬4) إليه (¬5). وقال أبو إسحاق: وربك فكبر، أي: صفْهُ بالتعظيم. قال: ودخلت الفاء على معنى جواب [الجزاء] (¬6)، كما دخلت في (فأنذر)، والمعنى: قم فكبر ربك (¬7)، وكذلك ما بعده على هذا التأويل. وقال أبو الفتح (الموصلي) (¬8): يقال: زيدًا فاضرب، وعمرًا فاشكر، [وبمحمد امرر] (¬9)، وتقديره: زيدًا اضرب، وعمرًا اشكر، وبمحمد فامرر، وعلى هذا قوله (¬10): {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3 - 5] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7] على تقدير حذف "الفاء" من كلها (¬11). فعنده أن "الفاء" زائدة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) ساقط من: (ع). (¬3) في (ع): خديجة، وهي زيادة في الكلام. (¬4) في (ع): الوحي. (¬5) "تفسير مقاتل" 214/ ب برواية خرجت بدلاً من فرحت، و"التفسير الكبير" 30/ 19. (¬6) الخبر في كلا النسختين، والمثبت من "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 245. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 245 بتصرف. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) وبمحمد فامرر. هكذا وردت في النسختين، وأثبت ما جاء في "سر صناعة الإعراب" لصوابه: 1/ 260. (¬10) في (أ): قولك. (¬11) "سر صناعة الإعراب" 1/ 260 نقله عنه الإمام الواحدي بتصرف يسير.

قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} اختلف المفسرون في معناه، فروى عطاء عن ابن عباس قال: يعني من الإثم (¬1)، ومما كانت الجاهلية تجيزه. وهذا قول قتادة (¬2)، ومجاهد (¬3)، قالا: نفسك فطهر من الذنب. (ونحو هذا قال الشعبي (¬4)، وإبراهيم (¬5)، والضحاك (¬6)، والزهري (¬7)) (¬8). وعلى هذا القول: الثياب عبارة عن النفس: (والعرب تكني بالثياب عن النفس، ومنه قول الشماخ) (¬9): رموها بأثواب خفاف فلا ... ترى لها شبهًا إلا النعام المنفرا (¬10) ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 125، و"النكت والعيون" 6/ 36، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"الجامع لأحكام القرآن" 9/ 62، و"الدر المنثور" 8/ 326، وعزا تخريجه إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وانظر: "المستدرك" 2/ 506: كتاب التفسير: تفسير سورة المدثر، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) تفسير عبد الرزاق: 2/ 327، و"معالم التزيل" 4/ 413، و"زاد المسير" 8/ 120، و"الدر المنثور" 8/ 326 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) "النكت والعيون" 6/ 136، و"زاد المسير" 8/ 120، و"معالم التزيل" 4/ 413. (¬4) "الكشف والبيان" 12: 205/ ب، بنحوه، و"معالم التزيل" 4/ 413. (¬5) المرجعان السابقان، وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 470. (¬6) "الكشف والبيان" 12/ 205/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 413. (¬7) المرجعان السابقان (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) ساقط من: أ، وذكر بدلاً من ذلك "قال"، والصواب ما جاء في نسخة: ع. (¬10) ورد البيت منسوبًا للشماخ -ولم أجده في ديوانه- في مادة: (ثوب) في: "تهذيب اللغة" 15/ 154، و"لسان العرب" 1/ 246 ونسبه إلى امرئ القيس، ولم أجده في ديوانه، ونسب إلى ليلى الأخيلية وهو في ديوانها: 70، وفي: "تأويل مشكل =

يعي الركاب بأبدانهم) (¬1). (وقال عنترة: فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأصَمِّ ثِيَابَهُ (¬2) يعني: نفسه، يدل عليه قوله في باقي البيت: لَيْسَ الكريمُ على القنا بِمُحَرَّمِ ¬

_ = القرآن" 142، و"المعاني الكبير" 1/ 486، و"سمط اللآلي" 2/ 922، و"زاد المسير" 8/ 120، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 62، و"البحر المحيط" 8/ 371، و"روح المعاني" 29/ 117. ورواية كتب اللغة: (ولا ترى) بدلاً من (فلا ترى). معنى البيت: عنت بالأثواب هنا الأبدان. ورموها: تعني الركاب بأبدانهم، وهي هنا تصف إبلًا. انظر: ديوانها: 70. (¬1) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 154، مادة: (ثوب)، وانظر أيضًا "لسان العرب"، و"تاج العروس". مرجعان سابقان. (¬2) ورد البيت في: ديوان عنترة: 210 تح: محمد سعيد مولوي برواية: كَمَّشت بالرمح الطويل ثيابه، وهو في شرح المعلقات السبع: للزوزني: 124، و"أشعار الشعراء الستة الجاهليين" 2/ 125، و"الكشف والبيان" 12: 205/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 29/ 62. برواية: الطويل ثيابه، بدلا من الأصم ثيابه، و"روح المعاني" 29/ 117، و"المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى" للسمرقندي: 224 رقم 210. ومعنى البيت: الشك: الانتظام، الأصم: الصلب، يقول: فانتظمت برمحي الصلب ثيابه، أي طعنته طعنة أنفذت الرمح في جسمه وثيابه كلها. ثم قال: ليس الكريم محرمًا على الرماح، يريد أن الرماح مولعة بالكرام لحرصهم على الإقدام، وقيل: بل معناه أن كرهه لا يخلصه من القتل المقدر له. "شرح المعلقات السبع" 149.

(وقال (¬1) (في رواية الكلبي) (¬2) يعني: لا تغدر فتكون غادرًا (¬3) دنس الثياب (¬4). قال سعيد بن جبير: كان الرجل إذا كان غادرًا قيل: دنس الثياب، وإنه لخبيث الثياب (¬5) (¬6). وقال عكرمة: لا تلبس ثوبك على معصية (¬7) ولا على غدرة، ولا على فجرة (¬8)، وروي ذلك عن ابن عباس (¬9)، قال (¬10): واحتج بقول ¬

_ (¬1) لعله أراد بقوله: "قال" أي الثعلبي على أنه لم ترد رواية الكلبي عنده في "الكشف والبيان"، أو لعله عني بقوله: "قال" الفراء، فقد وردت بنحو من هذه الرواية عنده من غير عزو في: "معاني القرآن" 3/ 200. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) بياض في (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) بياض في (ع). (¬6) ورد قوله في "الدر المنثور" 8/ 326 بعبارة أوجز، وعزا تخريجه إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وانظر: تفسير سعيد بن جبير: 360. (¬7) قوله: ثوبك على معصية: بياض في (ع). (¬8) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 145، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 470 بمعناه. (¬9) "جامع البيان" 29/ 144 - 145، و"الكشف والبيان" 12/ 205/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 136، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، ولم يذكر بيت الشعر، و"زاد المسير" 8/ 120، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 62، و"لباب التأويل" 4/ 327. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"الدر المنثور" 8/ 326. وعزا تخريجه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وابن مردويه. (¬10) أي الأزهري في التهذيب: 15/ 154، مادة: (ثوب)؛ لأن رواية ابن عباس بهذا النص وردت في التهذيب.

الشاعر (¬1): فإني بِحَمْدِ الله لا ثوبَ فاجرٍ (¬2) ... لَبِسْتُ ولا من خَزْيةٍ أتَقَنَّعُ (¬3) وهذا المعنى أراد من قال في هذه الآية (¬4): وعملك فأصلح، (وهو قول أبي (¬5) رزين (¬6)، ورواية منصور عن مجاهد (¬7)، وأبي روق (¬8)) (¬9). ¬

_ (¬1) الشاعر هو: غيلان بن سلمة الثقفي. (¬2) في (ع): غادر. (¬3) ورد البيت منسوبًا إليه في: "المدخل" لعلم تفسير كتاب الله تعالى: 224 رقم 209، و"جامع البيان": 29/ 145 برواية (إني)، و"الكشف والبيان" 12: 255/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 392، و"زاد المسير" 8/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 62، و"البحر المحيط" 8/ 271، برواية (إني)، و"غادر" بدلًا من "فاجر"، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"الدر المنثور" 8/ 326، و"روح المعاني" 29/ 117 "فإني"، وورد غير منسوب في مادة (ثوب): انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 154، و"لسان العرب" 1/ 245، و"تاج العروس" 1/ 170، وكلها برواية "إني" و"غادر" بدلًا من فاجر، و"تفسير غريب القرآن" 495 برواية "إني" و"غادر"، و"النكت والعيون" 6/ 136، و"فتح القدير" 5/ 324. (¬4) بياض في (ع). (¬5) في (ع): ابن، والصواب ما أثبته. (¬6) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 146، و"أحكام القرآن" للجصاص: 3/ 470، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 61، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"الدر المنثور" 8/ 326، وعزا تخريجه إلى ابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر. (¬7) "جامع البيان" 29/ 146، و"الكشف والبيان" 12/ 205/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 136، و"الجامع لأحكام القرآن": 19/ 61، و"الدر المنثور" 8/ 326 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد. (¬8) ورد قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 413، برواية أبي روق عن الضحاك. (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

وقال السدي: يقال للرجل إذا كان (¬1) صالحًا: إنه (¬2) لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرًا: إنه لخبيث الثياب (¬3) قال الشاعر (¬4): لاهُمَّ إنّ عامِرَ بنَ جَهْمَ ... أوْذَمَ حَجًّا في ثِيابٍ دُسْمِ (¬5) يعني أنه متدنس بالخطايا. و (¬6) كما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب، وصفوا الصالح بطهارة الثوب (¬7). قال امرؤ (¬8) القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية (¬9) ¬

_ (¬1) بياض في: أ. (¬2) بياض في: أ. (¬3) "الكشف والبيان" ج: 12: 205/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"الجامع لأحكام القرآن" 9/ 61، و"البحر المحيط" 8/ 371. (¬4) لم أعثر على قائله. (¬5) ورد غير منسوب في مادة: (ذم): "الصحاح" 5/ 2050، و"لسان العرب" 12/ 199، و (دسم): 12/ 632، و (ثوب) في "تاج العروس" 1/ 170، و"غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 254، و"تأويل مشكل القرآن" 142، كتاب "المعاني الكبير" 1/ 480، و"الكشف والبيان" ج: 12: 205/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 392، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 61، و"البحر المحيط" 8/ 371. ومعنى البيت: أي أنه حج وهو متدنس بالذنوب، وأوذم الحج: أوجبه. وتدسيم الشيء: جعل الدسم عليه. وثياب دُسْم: وسخة. "لسان العرب" مادة: (دسم). (¬6) في (أ): أو. (¬7) بياض في (ع). (¬8) في (أ): امرئ. (¬9) شطره الثاني: وأوْجهُهُمْ عندَ المشاهد غُزَّان. انظر: ديوانه: 169، دار صادر. وورد البيت في مادة: (ثوب) انظر: "تهذيب =

يريدون لا يغدرون بل يوفون) (¬1). وقال الحسن: وخلقك فحسنه (¬2)، وهذا قول القرظي (¬3). وعلى هذا: الثياب عبارة عن الخلق؛ لأنه خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمال (¬4) الثياب على نفسه. (وروي (¬5) عن) (¬6) ابن عباس في هذه الآية: لا تكن ثيابك التي تلبس من تكسب غير طيب (¬7) (¬8). ¬

_ = اللغة" 15/ 154، و"لسان العرب" 1/ 246، و"تاج العروس" 1/ 170 برواية "بيض المشافر"، و"الكشف والبيان" ج: 12: 205/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 137 برواية "عند المشاهد غران"، و"الجامع لأحكام القرآن" 91/ 630، و"البحر المحيط" 8/ 371، وسائر المراجع "عند المسافر". ومعنى البيت: الثياب: هنا القلوب. غران: الواحد الأغر الأبيض، ومعناه أن ثياب بني عوف طاهرة، وهنا الشاعر يمدح عويمر بن شجنة من بني تميم، ويمدح بني عوف رهطه. ديوانه. المرجع السابق. (¬1) ما بين القوسين لعله نقله عن الثعلبي باختصار. "الكشف والبيان" 12/ 205 ب. (¬2) "الكشف والبيان" 12: 206/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"زاد المسير" 8/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 63، و"البحر المحيط" 8/ 371، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470. (¬3) المراجع السابقة. (¬4) بياض في حرفه الأخير. (¬5) بياض في (ع). (¬6) ما بين القوسين ساقط في: أ. (¬7) في (ع): طابات. (¬8) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 146، و"الكشف والبيان" ج: 12: 206/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"زاد المسير" 8/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 64، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470.

والمعنى: طهرها من أن تكون مغصوبة، أو من وجه لا يحل (¬1) اتخاذها من ذلك الوجه. وروي عن سعيد بن جبير: وقلبك ونيتك فطهر (¬2). (قال أبو العباس: الثياب: اللباس، ويقال: القلب (¬3). وعلى هذا ينشد (¬4): فَسُلِّي ثيابي مِن ثِيابِكِ تَنْسُلِ (¬5)) (¬6) وذهب بعضهم في تفسير هذه الآية إلى ظاهرها، وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة، (وهو قول ابن سيرين (¬7)، ¬

_ (¬1) غير مقروء في (ع). (¬2) "الكشف والبيان" ج: 12: 205/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"زاد المسير" 8/ 121، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، وانظر: تفسير سعيد بن جبير: 360. (¬3) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 15/ 154 مادة: (ثوب). (¬4) لامرئ القيس. (¬5) وصدر البيت: وإن تَكُ سَاءَتْكِ مني خَلِيقَةٌ وقد ورد البيت في: ديوانه: 37 ط دار صادر، شرح المعلقات السبع: للزوزني: 19، وانظر مادة: (ثوب) في: "تهذيب اللغة" 1/ 154، و"لسان العرب" 1/ 246، و"تاج العروس" 1/ 170، و"النكت والعيون" 6/ 136، و"المدخل" 225 رقم: 213، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 62. ومعنى البيت: أراد الشاعر بالثياب: القلب، فالمعنى على هذا القول: إن ساءك خلق من أخلاقي، وكرهت خصلة من خصالي، فردي علي قلبي أفارقك، أي استخرجي قلبي من قلبك يفارقه. ديوانه: المرجع السابق. (¬6) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الأزهري من "تهذيب اللغة" 15/ 154 (ثوب). (¬7) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 146، و"الكشف والبيان" ج: 12: 206/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 136، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"زاد المسير" 8/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 64.

وابن زيد (¬1)) (¬2). وذكر أبو إسحاق: وثيابك فقصر، قال: لأن تقصير الثوب أبعَدُ مِنَ النجاسة، فإنه إذا انجرّ على الأرض لم يؤمَن أن يُصيبَه ما ينجسه (¬3)، وهذا قول طاوس) (¬4). (وأخبرنا أبو الحسين الفسوي أن حمد بن محمد) (¬5) أخبرني بعض أصحابنا (¬6) عن (إبراهيم بن) محمد بن عرفة (النحوي) (¬7) قال: معناه نساءك طهرهن (¬8). وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس، قال الله عز وجل: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] (¬9)) (¬10). ويكنى عنهن بالإزار (¬11)، ومنه قول الشاعر (¬12): ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 147، و"الكشف والبيان" 12: 206/ ب بمعناه، و"النكت والعيون" 6/ 136، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"زاد المسير" 8/ 121، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 64. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 245 بيسير من التصرف. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) لم أعرف من هو. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) ورد قوله في "التفسير الكبير" 30/ 193. (¬9) ما بين القوسين بياض في (ع). (¬10) انظر هذا القول في "الإيضاح" 1/ 183، و"الكشف والبيان" 12: 206/ أ. (¬11) المرجعان السابقان. (¬12) لأبي المنهال نفيلة الأكبر الأشجعي، كما نص عليه صاحبا التهذيب واللسان.

ألا أبلغ أبا حفص رسولاً فدى (¬1) ... لك من أخي ثقة إزاري (¬2) أي أهلي، ومنه قول البراء بن معرور (¬3) للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة (¬4): "لنَمْنَعَنَّكَ مما نمنع منه (¬5) أُزُرَنا" أي نساءنا (¬6). قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال جماعة المفسرين (¬7): يريد عبادة الأصنام ¬

_ (¬1) في (أ): فدا. (¬2) ورد البيت في: "تهذيب اللغة" 8/ 369: مادة (قصل)، و"لسان العرب" 4/ 17 مادة: (أزر)، و"الإيضاح" لأبي على 1/ 184، و"المدخل" 225 رقم 215. (¬3) البراء بن مَعْرُور بن صخر بن خنساء بن سنان الخزرجي الأنصاري السلمي، أبو بشر، أمه الرباب بنت النعمان بن امرئ القيس، وهو أول من استقبل الكعبة للصلاة، وأول من أوصى بثلث ماله، وأول من بايع البيعة الأولى. مات قبل الهجرة، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبره وكبر أربعًا. انظر: "الاستيعاب" 1/ 151: ت: 170، و"الإصابة" 1/ 149: ت: 619، سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن هشام 2/ 47 وما بعدها، و"المعجم الكبير" للطبراني 2/ 28: ت: 102. (¬4) بيعة العقبة: هي البيعة الثانية الكبرى التي اجتمع فيها ثلاثة وسبعون رجلاً من الأنصار، وامرأتان، في شعب العقبة، فبايعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". فقاموا إليه وبايعوه على ذلك. انظر: قصة البيعة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-: لابن هشام: 2/ 47 وما بعدها، و"السيرة النبوية" لابن كثير: تح مصطفى عبد الواحد 2/ 192، و"البداية والنهاية" لابن كثير 3/ 156. (¬5) قوله: مما نمنع منه: غير واضح في (ع). (¬6) "سيرة النبي" لابن هشام 2/ 50، و"السيرة النبوية" لابن كثير 2/ 198. (¬7) في (أ): قال المفسرون بغير ذكر: جماعة.

والأوثان. (وهو قول ابن عباس (¬1)، وجابر (¬2)، ومجاهد (¬3)، وعكرمة (¬4)، وقتادة (¬5)، والزهري (¬6)، وابن زيد (¬7)) (¬8). قال قتادة (¬9)، ومقاتل (¬10): يعني أساف، ونائلة؛ صنمان عند البيت يمسح وجوههما من مر بهما من المشركين، أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يجتنبهما. (وروى السدي عن أبي مالك قال: الشيطان والأوثان (¬11)) (¬12). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 147 بمعناه، و"الكشف والبيان" 12: 206/ أبمعناه، و"النكت والعيون" 6/ 137، و"زاد المسير" 8/: 122، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 65، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470. (¬2) "النكت والعيون" 6/ 137، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"الدر المنثور" 8/ 327 وعزا تخريجه إلى ابن مردويه، والحاكم، ولم أجده عند الحاكم، بل وجدته في "البخاري" 3/ 317: ح: 4927: كتاب التفسير: باب 4: وثيابك فطهر. (¬3) "جامع البيان" 29/ 147، و"الكشف والبيان" ج: 12: 206/ أبمعناه، و"معالم التنزيل" 4/: 413، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"زاد المسير" 8/ 122، و"الجامع" للقرطبي 19/ 65، و"البحر المحيط" 8/ 371، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470. (¬4) "الكشف والبيان" 12: 206/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"زاد المسير" 8/ 122، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 65، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"فتح القدير" 5/ 324. (¬5) المراجع السابقة، وانظر أيضًا: "جامع البيان" 29/ 147. (¬6) المراجع السابقة عدا "جامع البيان"، وانظر: تفسير عبد الرزاق: 2/ 328. (¬7) المراجع السابقة عدا تفسير عبد الرزاق. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) "جامع البيان" 29/ 147، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 65، وانظر: "الحجة" للفارسي: 6/ 338. (¬10) "تفسير مقاتل" 214/ ب. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬12) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

وقال (¬1) الكلبي: يقول: المأثم فاترك، ولا تقربه (¬2). "والرجز" معناه في اللغة: العذاب (¬3)، ذكرنا ذلك في قوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134]، وغيره من الآيات (¬4). (ويكون التقدير: وذا الرجز فاهجر، أي ذا العذاب، يعني: ما يؤدي إلى العذاب) (¬5) من الإثم، (والشيطان) (¬6)، والأوثان، (والشرك، وهو قول الضحاك (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) في (ع): قال. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) انظر مادة (رجز) في: "تهذيب اللغة" 10/ 610، معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس: 2/ 489، و"لسان العرب" 5/ 349، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 245. (¬4) سورة البقرة: 59: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}. "قال أهل اللغة: وأصل الرجز في اللغة: تتابع الحركات، ومن ذلك قولهم: "ناقة رجزاء" إذا كانت قوائمها ترتعد عند قيامها، ومن هذا: رجز الشعر؛ لأنه أقصر أبيات الشعر، فالانتقال من بيت إلى بيت سريع، أو لأن الرجز في الشعر متحرك، وساكن، ثم متحرك وساكن في كل أجزائه، فهو كالرعدة في رحل الناقة تتحرك ثم تسكن وتستمر على ذلك، فحقيقة معنى الرجز: أنه العذاب المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة. ومن الآيات التي ورد فيها لفظ "الرجز" قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} [الأعراف: 135]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11]. (¬5) ما بين القوسين نقله الواحدي بتصرف عن أبي علي. انظر: "الحجة" 6/ 338. (¬6) ساقط من: (أ). (¬7) "الكشف والبيان" 12/ 206/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 413، و"زاد المسير" 8/ 122. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: أ.

ومن جعل الرجز -هاهنا- نفس العذاب لم يحتج إلى تقدير المضاف، وهو قول الفراء، قال: فسر الكلبي الرجز: العذاب (¬1). وقرئ بضم الراء، وهما لغتان (¬2)، والمعنى فيهما واحدة مثل الذَّكر والذكر. قاله الفراء (¬3)، والزجاج (¬4)، وأبو علي (¬5). قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال ابن عباس: لا تعطى الناس شيئًا من مالك لتأخذ أكثر منه (¬6). وهذا قول مقاتل، ومجاهد (¬7)، (وإبراهيم) (¬8)، وقتادة (¬9)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 201. (¬2) أي قراءة الكسر، وكذا الضم، وقرأ عاصم في رواية حفص: والرُّجز بضم الراء، والمفضل مثله. وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم: "والرِّجز" بكسر الراء. انظر: "السبعة" 659، و"الحجة" 6/ 338، كتاب "التبصرة" 712، و"الوافي" 374. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 200 - 201. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 245. (¬5) "الحجة للقراء السبعة" 6/ 338. (¬6) "تفسير مقاتل" 214/ ب، و"جامع البيان" 29/ 148 بمعناه، و"النكت والعيون" 6/ 138، و"زاد المسير" 8/ 122، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 66، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"الدر المنثور" 8/ 327 وعزا تخريجه إلى الطبراني، وهو في "المعجم الكبير" 12/ 128: ح 12672. قال الهيثمي: رجال المسند رجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني عطية العوفي، وهو ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 131. (¬7) "جامع البيان" 29/ 149، و"بحر العلوم" 3/ 421، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470. (¬8) المراجع السابقة عدا "بحر العلوم". وكلمة (إبراهيم) ساقطة من: (أ). (¬9) "النكت والعيون" 6/ 138، و"زاد المسير" 8/ 122، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 66، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"فتح القدير" 5/ 325.

(وطاوس (¬1)، وابن أبي بزهَ (¬2)، والضحاك (¬3)) (¬4) قالوا: لا تعط مالك مصانعة رجاء أفضل منه في الدنيا، لتعطي أكثر منه. ومعنى: "لا تمنن": لا تعطِ، كقوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} [ص: 39]، و"تستكثرُ" بالرفع حال [متوقعة] (¬5) أي: لا تعط شيئًا مقدرًا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه) (¬6). وقال أبو علي: هو مثل قولك: مررت (¬7) برجل معه صقر صائدًا به غدًا، أي مقدر الصَّيد، فكذلك يكون -هاهنا- مقدرًا الاستكثار. قال: ويجوز أن يحكى به حالاً آتيه، وليس في الجزم اتجاه في "تستكثر"، ألا ترى (¬8) أن المعنى ليس على أن لا تمنن تستكثر، إنما المعنى على ما تقدم (¬9). قال الضحاك (¬10)، ومجاهد (¬11): كان هذا للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة. ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 470. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "جامع البيان" 29/ 148 بمعناه، و"بحر العلوم" 3/ 421 بمعناه، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، و"الدر المنثور" 8/ 327 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) مستوقعة: في كلا النسختين، والمثبت من "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246. (¬6) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الزجاج 5/ 245 - 246 بتصرف يسير. (¬7) في (ع): مرت. (¬8) في (أ): ترا. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) "جامع البيان" 29/ 149، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"البحر المحيط" 6/ 312، و"الدر المنثور" 8/ 327 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬11) "معالم التنزيل" 4/ 414.

قال أبو إسحاق: وليس على الإنسان (¬1) إثم أن يُهدي هدية يرجو بها ما هو أكثر منها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أدبه الله بأشرف الآداب وأجل الأخلاق (¬2) -هذا كلامه-. ومعناه: أن الإنسان قد يعطي ليثاب بأكثر من ذلك، فلا يكون له في ذلك مِنة ولا أجر. لأنه قصد بذلك الاستكثار وطلب الزيادة، فنهى الله عن ذلك (¬3)، وأمره أن يقصد بما يعطي وجه الله (¬4). (قول الكلبي: أرِدْ به وجه الله (¬5)) (¬6). ونحو هذا قال ابن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك (¬7). (هذا الذي ذكرنا قول جماعة أهل التأويل) (¬8) -وذكرت أقوال سوى ما ذكرنا: أحدها: لا تضعف أن تستكثر (¬9) من الخير. وروى عمرو عن أبيه: المنين من الرجال: الضعيف (¬10)، ويدل على ¬

_ (¬1) قوله: على الإنسان: بياض في (ع). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246 بنصه. (¬3) بياض في (ع). (¬4) قوله: وجه الله: بياض في (ع). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) ورد قوله في: "الكشف والبيان" ج: 12: 207/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 9/ 66، و"فتح القدير" 5/ 325. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) قوله: لا تستكثر: بياض في (ع). (¬10) ورد قوله في: "تهذيب اللغة" 15/ 471: مادة: (منن).

صحة هذا التأويل قراءة عبد الله "لا تمنن أن تستكثر" (¬1)، (وهذا قول مجاهد (¬2) في رواية خُصيف) (¬3). القول الثاني: لا تمنن على الناس بنبوتك (¬4)، فتأخذ (عليها) (¬5) منهم أجرًا تستكثر به، وهو قول ابن زبد (¬6). القول الثالث (¬7): لا تمنن على ربك بعملك فتستكثره، وهو قول الحسن (¬8). وحكى الأزهري: لا تعط مستكثرًا ما أعطيت (¬9). ¬

_ (¬1) وردت قراءته في: "جامع البيان" 29/ 150، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"البحر المحيط" 8/ 372. وهذه قراءة من باب التفسير، وليست من القراءة القرآنية المتواترة، فهي قراءة شاذة لعدم صحة السند، ولعدم ورودها في الكتب المتواترة. والله أعلم. (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 149، و"النكت والعيون" 6/ 138، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"زاد المسير" 8/ 122، و"البحر المحيط" 8/ 372، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 370. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) بياض في (ع). (¬5) ساقطة من: (أ). (¬6) "جامع البيان" 29/ 149، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"زاد المسير" 8/ 122، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 471. (¬7) في (أ): الثاني، وهو خطأ. (¬8) المراجع السابقة، وانظر أيضًا: "النكت والعيون" 6/ 138، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 66، وهو الراجح عند الطبري. (¬9) "تهذيب اللغة" 15/ 471، مادة: (منن)، وعبارته الواردة عنه في التهذيب: "أي لا تعط شيئًا مقدرًا لتأخذ به ما هو أكثر منه". وجاء في "الصحاح" المُنَّة: بالضم: القوة، والمنين: الحبل الضعيف، والمن: القطع: 6/ 2207، مادة: (منن).

قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}: قال عطاء عن ابن عباس: يريد على فرائض ربك (¬1). وقال الكلبي: فاصبر نفسك على عبادة ربك وطاعته (¬2). وقال مقاتل: يعني على الأذى والتكذيب (¬3)، وهو قول مجاهد (¬4). وقال ابن زيد: أي: على ما حملت من محاربة العرب والعجم (¬5). وعند زيد (¬6) بن أسلم، وإبراهيم (¬7): إن هذه الآية متصلة المعنى بالأولى. قال زيد: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك، واصبر حتى يكون هو يثيبك عليها (¬8). وقال (إبراهيم) (¬9): اصبر لعطية ربك (¬10). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 214/ ب، و"فتح القدير" 5/ 325. (¬4) "الكشف والبيان" ج: 12: 207/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 138، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 68، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 471، و"فتح القدير" 5/ 325. (¬5) المراجع السابقة. (¬6) في (أ): ابن زيد. (¬7) بياض في (ع). (¬8) "الكشف والبيان" ج: 12: 207/ أ. (¬9) إبرهيم: هكذا وردت في كلا النسختين. (¬10) ورد قوله في "النكت والعيون" 6/ 138، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 470.

(الناقور) (¬1): الصور في قول جميع أهل اللغة (¬2) والتفسير (¬3). وهو فاعول، من النقر (¬4) ينقر فيه للتصويت كالهاضوم من الهضم، والحاطوم من الحطم، والنقر: التصويت باللسان. ¬

_ (¬1) بين القوسين ساقط من: (أ). (¬2) انظر: مادة: (نقر) في كل من: "تهذيب اللغة" 9/ 97، و"الصحاح" 2/ 836، و"معاني القرآن" للفراء: 3/ 201، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: 5/ 246. (¬3) قال بذلك: ابن عباس، والحسن، والشعبي، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسدي، وابن زيد. انظر: "جامع البيان" 29/ 151 - 152، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 471. وقد قال بذلك من أهل التفسير: الطبري في: "جامع البيان" 29/ 150، والثعلبي في: الكشف والبيان 12/ 207/ أ، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 414، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، و"زاد المسير" 8/ 123، و"تيسير الكريم الرحمن" 5/ 332، و"فتح القدير" 5/ 325. ومن أهل الغريب: اليزيدي في: "غريب القرآن وتفسيره" 399، ومكي بن أبي طالب في: "تفسير المشكل" 363، والخزرجي في: "نفس الصباح" 744. وقد أورد الماوردي قولين آخرين لمعنى الناقور: أحدهما: أن الناقور القلب. قال: يجزع إذا دعي الإنسان للحساب؛ وعزاه إلى ابن كامل، وعزاه أيضًا ابن منظور إلى ابن الأعرابي. والثاني: أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض. انظر: "النكت والعيون" 6/ 138، و"لسان العرب" 5/ 231، مادة: (نقر). قال محقق الماوردي: والصواب الذي عليه أكثر المفسرين. قلت: وهو الصحيح، فقول الإمام الواحدي بالإجماع نهج سلكه في تحقيق الإجماع، فما كان مخالفًا لأكثر المفسرين، وليس له وجه في اللغة، ولم يقل به أصحاب العربية فلا يراه شيئًا , ولذا يحكي بالإجماع دون اعتبار لذلك القول المخالف، والله أعلم. (¬4) بياض في (ع).

قال ابن عباس: الناقور: الصُّورُ (¬1)، وهو قرن (¬2). وقال مجاهد: شيء كهيئة البوق (¬3) (¬4). قال مقاتل: يعني إذا انفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل (¬5) (¬6). يعني: النفخة الثانية (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): الصوت. (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 151، و"النكت والعيون" 6/ 138، و"المحرر الوجيز" 5/ 393، وانظر: "صحيح البخاري" 4/ 194: كتاب الرقاق. باب 43. (¬3) البوق الذي ينفخ فيه وُيزمر، مُلْتَوي الخَرْق ينفخ فيه الطحان، فيعلو صوته فيعلم المراد به. "لسان العرب" 10/ 31: مادة: (بوق). (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 151، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 68، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 471، و"الدر المنثور" 8/ 328، وعزاه إلى عبد بن حميد. وانظر: "صحيح البخاري" 4/ 194: كتاب الرقاق: باب 43. (¬5) إسرافيل: قال ابن حجر اشتهر أن صاحب الصور "إسرافيل" عليه السلام. ونقل فيه الحليمي الإجماع، ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه، وفي حديث أبي سعيد البيهقي، وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه، وكذا في حديث الصور الطويل. فتح الباري: 11/ 368. (¬6) "تفسير مقاتل" 214/ ب. (¬7) الذي يظهر أن إسرافيل ينفخ في الصور مرتين. الأولى: يحصل بها الصعق، والثانية: يحصل بها البعث. قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]. والنفخة الثانية: هي النفخ بالصور كما قال تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس:49 - 51]. انظر: "تفسير ابن كثير" 3/ 581، و"اليوم الآخر: القيامة الكبرى" د. عمر الأشقر 39.

(وهو قول الكلبي (¬1)) (¬2). وقوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} (يوم النفخ في الصور، وهو قوله: "يومئذ"، وهو في محل الرفع، إلا أنه بني مع "إذ" ويجوز أن كون نصبا على معنى فذلك يوم عسير في يوم ينفخ في الصور) (¬3). وقال أبو علي: "ذلك" إشارة إلى النقر، كأنه قال: فذلك النقر يومئذ يوم عسير، أي انقر (¬4) يوم عسير. وقوله (¬5): "يومئذ" على هذا متعلق بـ"ذلك"؛ لأنه مصدر، وفيه معنى الفعل فلا يمتنع أن يعمل في الظرف (¬6). قال (¬7): ويجوز أن يكون "يومئذ" ظرفًا لقوله: "يوم"، ويكون "يومئذ" بمنزلة حينئذ، ولا يكون "اليوم"، الذي يعني به (¬8) وضح النهار، ويكون اليوم الموصوف بأنه عسير خلاف (¬9) الليلة، فيكون التقدير: فذلك اليوم يوم عسير حينئذ (¬10). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) ما بين القوسين من قول الزجاج نقله عنه الواحدي بتصرف. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246. (¬4) في (ع): نقر. (¬5) في (أ): قوله. (¬6) "الدر المصون" 6/ 414، فقد ذكر أوجهًا أخرى لـ"يومئذ" فليراجع. (¬7) أي: أبو علي الفارسي. (¬8) قوله: الذي يعني به: بياض في (ع). (¬9) قوله: عسير خلاف: بياض في (ع). (¬10) وهذا القول: من قوله: (ويجوز أن يكون "يومئذ" ظرفًا) إلى (يوم عسير حينئذ) هو ما ذهب إليه الزمخشري في الكشاف: 4/ 157.

11

فأما "إذا" في قوله: "إذا نقر" فالعامل فيه المعنى الذي دل عليه قوله: "يوم عسير" تقديره: إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب (¬1). كما أن {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} (¬2) يدل على محزونون) (¬3). قال مقاتل: ثم أخبر عن عسرته فقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} يقول: غير هين، ويهون على المؤمنين (¬4)، ونحو هذا قال ابن عباس؛ قال: يريد أن ذلك اليوم على المؤمنين سهل (¬5). وهذا يدل على صحة القول بفحوى الخطاب، حيث فهم ابن عباس، ومقاتل من عسرته على الكافر سهولته ولينه على المؤمن (¬6). 11 - قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)}. ذكرنا معنى هذا عند قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} (¬7). قال مقاتل: يعني: خلِّ يا محمد بيني وبينه، فأنا أنفرد بهلكته (¬8). والعائد إلى الموصول محذوف على تقدير: خَلَقْتُه. ¬

_ (¬1) ومن قوله: "فأما إذا" في قوله: "إذا نقر" إلى قوله: عسر الأمر وصحب: أحد أوجه العامل في "إذا". انظر: الدر المصون: 4/ 413، و"البيان في إعراب القرآن" لأبي البقاء العكبري: 2/ 1249. (¬2) سورة الفرقان: 22: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ}. (¬3) ما بين القوسين من قول أبي علي الفارسي لم أعثر على مصدره (¬4) "تفسير مقاتل" 214/ ب. (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 198 بمعناه. (¬6) في (أ): المؤمنين. (¬7) سورة المزمل: 11. (¬8) "تفسير مقاتل" 215/ ب، و"فتح القدير" 5/ 326.

وأجمعوا على أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة (¬1). ¬

_ (¬1) قال بذلك: ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، والضحاك، ومقاتل، انظر: "تفسير مقاتل" 215/ ب، و"جامع البيان" 29/ 152. كما ذكر ابن جرير أنه ذكر أنه عني بالآية الوليد بن المغيرة. "جامع البيان" المرجع السابق. كما ذكر ابن عطية أنة لا خلاف بين المفسرين في أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 394، وحكى الإجماع الفخر الرازي في: "التفسير الكبير" 30/ 198. وعزا القول إلى المفسرين كل من: الماوردي، والقرطبي. انظر: "النكت والعيون" 6/ 139، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 69، وإلى هذا القول ذهب عبد الرزاق، والسمرقندي، والثعلبي، والبغوي. انظر: تفسير عبد الرزاق: 2/ 328، و"بحر العلوم" 3/ 421، و"الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 414. والرواية كما وردت في "أسباب النزول" عن عكرمة عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، وكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فقال له: "يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً" قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا تتعرض لما قبله، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزها وبقصيدها مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه؟ قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} الآيات كلها. انظر: "أسباب النزول" 381 - 382 تح: أيمن صالح، و"لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي 223، و"الصحيح المسند من أسباب النزول" للوادعي 225. وقال ابن خليفة عليوي في "جامع النقول في أسباب النزول وشرح آياتها" 2/ 323: إسناد صحيح على شرط البخاري، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 507 التفسير: باب تفسير سورة المدثر وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في: دلائل النبوة: 2/ 199. =

وقوله: {وَحِيدًا} قال أكثر المفسرين، وأهل المعاني (¬1): خلقته وحده لا مال له، ولا ولد، ولا زوجة، خلقته وحيدًا في بطن أمه. وهو قول (الكلبي (¬2)، و) (¬3) مجاهد (¬4)، و (مقاتل (¬5)) (¬6) وقتادة (¬7)، والجمهور (¬8). (و) (¬9) على هذا: الوحيد من صفة المخلوق. ¬

_ = قال الدكتور عصام الحميدان: أخرجه الحاكم والبيهقي في الدلائل. من طريق عبد الرزاق به، وإسناده صحيح، انظر: "أسباب النزول" للواحدي: تحقيقه 446. وقال الوادعي في المسند الصحيح 225: رواه البيهقي عن الحاكم أبي عبد الله عن محمد بن علي الصنعاني بمكة عن إسحاق به، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلًا. قال أبو عبد الرحمن: والظاهر ترجيح المرسل؛ لأن حماد بن زيد أثبت الناس في أيوب، وأيضًا معمر قد اختلف عليه فيه كما في دلائل النبوة، فالحديث ضعيف. والله أعلم. (¬1) "معاني القرآن" الفراء: 3/ 201، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246، و"الكشف والبيان" 12/ 207/ ب. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ساقطة من: (أ). (¬4) "جامع البيان" 29/ 152، و"النكت والعيون" 6/ 139، و"زاد المسير" 8/ 123، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 69. (¬5) "تفسير مقاتل" 215/ ب. (¬6) ساقط من: (أ). (¬7) تفسير عبد الرزاق: 2/ 329، و"جامع البيان" 29/ 152، و"الدر المنثور" 8/ 329 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬8) وقال به ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 496 وابن جرير في: "جامع البيان" 29/ 152، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 421. كما ذهب إليه البغوي، وابن عطية، والخازن. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 414، و"المحرر الوجيز" 5/ 394، لباب التأويل: 4/ 328. (¬9) ساقطة من: (أ).

وذكر الفراء (¬1)، والكسائي (¬2) (¬3)، (والزجاج (¬4)) (¬5) وجهًا آخر وهو: أن يكون الوحيد من صفة الله -عز وجل- على معنى: ذرني ومن خلقته وحدي لم (¬6) يشركني في خلقه أحد، أي فأنا أعلم به، وأقدر عليه. وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: "وحيدًا"، قال: يريد الوليد بن المغيرة، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس (لي) (¬7) في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد في قومه (¬8)، وهذا غير صحيح أنه لا يجوز أن يكون تفسيرًا لقوله: "خلقت وحيدًا"؛ لأن الله تعالى لا يصدقه في دعواه أنه وحيد، لا نظير له، فيقول: خلقته وحيدًا (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 201. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في (ع) ورد هكذا: الكسائي والفراء. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) في (أ): لا. (¬7) ساقط من: (أ). (¬8) ورد قوله في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 69. (¬9) قوله: "وحيدًا" جاء على سبيل التهكم والسخرية؛ لا أن الله صدّقه بأنه وحيد. قال بذلك القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 69. وقال الزمخشري: ولعله لقب بذلك -يعني وحيدًا- بعد نزول الآية، فإن كان ملقبًا به قبل، فهو تهكم به وبلقبه، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره، وتقدمه في الدنيا إلى وجه الذم والعيب، وهو أنه خلق وحيدًا لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأشرك واستهزأ بدينه. "الكشاف" 4/ 157.

ثم ذكر أنه (1) رزقه المال والولد (2)، وبسط عليه فقال: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} قال ابن عباس (في رواية أبي صالح) (3): كثيرٌ في (4) كل شيء من المال (5)، وفسره في رواية عطاء فقال: "مالاً ممدودًا" ما بين مكة إلى الطائف الإبل المؤبلة (6)، والخيل المسومة (7)، والنعم المُرَحَّلَة (8)، وأجنة بالطائف، ومال عين كثير، وعبيد، وجوار (9). وقال مقاتل: يعني بستانه الذي بالطائف، كان لا ينقطع خيره، شتاء ولا صيفًا، كقوله: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] (10) يعني لا ينقطع. ومن المفسرين من عين قدر ذلك المال، فروي عن مجاهد (11)،

_ (1) و (2) بياض في (ع). (3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (4) في (ع): من. (5) لم أعثر على مصدر لقوله. (6) المؤبلة: إذا كانت الإبل مهملة قيل: إبل أُبل، فإذا كانت للقُنية قيل: إبل مؤبَّلَة، أراد أنها كانت لكثرتها مجتمعة حيث لا يتعرض إليها. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير: 1/ 16. (7) والخيل المسومة: هي التي عليها السِّيما، والسُّومة والسِّمة: العلامة، وقيل: الخيل المسومة: أي المرسلة وعليها ركبانها. انظر: المرجع السابق: 2/ 425، و"لسان العرب" 12/ 312 مادة: (سوم). (8) النعم المرحلة: أي عليها رِحالُها، والرَّحْل جمعه أرْحُل ورِحَالٌ، وهو مركب للبعير والناقة. "لسان العرب" 11/ 274 و277 مادة: (رحل). (9) "معالم التنزيل" 4/ 414، و"التفسير الكبير" 30/ 198 - 199، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 70، و"لباب التأويل" 4/ 328. (10) "تفسير مقاتل" 215/ ب، و"الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"زاد المسير" 8/ 124، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 70. (11) المراجع السابقة، وانظر أيضًا: "معاني القرآن" للفراء 3/ 201، و"المحرر=

وسعيد بن جبير (¬1)، أنهما قالا: ألف دينار. وعن قتادة: بأربعة آلاف دينار (¬2). وعن الثوري: ألف ألف دينار (¬3). والأولى في الممدود أن يكون ما يمد بالزيادة والنماء، كالزرع، والضرع (¬4)، والتجارة. قال أبو إسحاق: تفسيره غير منقطع عنه (¬5). دليله ما روي عن عمر أنه قال في تفسيره: هو غلة شهر بشهر (¬6). وقال أهل المعاني: وصفه بأنه ممدود يقتضي هذا المعنى، وهو أن يكون له مدد يأتي شيئًا بعد شيء (¬7). قوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا} قال ابن عباس: كان له عشرة أولاد ¬

_ = الوجيز" 5/ 394، و"الدر المنثور" 8/ 329 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬1) ورد قوله في: المراجع السابقة عدا "الدر المنثور". (¬2) "الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"زاد المسير" 8/ 124، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 70. (¬3) ورد قوله في: "الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 139، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 70، و"الدر المنثور" 8/ 329 وعزاه إلى عبد ابن حميد. (¬4) الضرع: هو ما يملكه الإنسان من الإبل والغنم، قال في اللسان: وما له زرع ولا ضرع: يعني بالضرع الشاة والناقة. انظر: "لسان العرب" 8/ 223: (ضرع). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246 بنصه. (¬6) ورد قوله في: "الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 139، و"المحرر الوجيز" 5/ 394، و"زاد المسير" 8/ 124، و"الجامع" للقرطبي 19/ 70، و"الدر المنثور" 8/ 330 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه. (¬7) لم أعثر على مصدر لقولهم.

14

حضور بمكة، لا يسافرون (¬1) (وهو قول الكلبي (¬2)، ومجاهد، وقتادة (¬3)) (¬4). وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر (¬5). وقال مقاتل: كانوا سبعة (¬6). (قال أبو إسحاق: أي شهود معه لا يحتاجون أن يتصرفوا ويغيبوا عنه (¬7)) (¬8). 14 - قوله تعالى: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} قال مجاهد: في المال والولد (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 471 وعبارته: كانوا عشرة (¬2) "بحر العلوم" 3/ 421. (¬3) عزاه لمجاهد وقتادة: "الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 414، و"المحرر الوجيز" 5/ 394، و"زاد المسير" 8/ 124، و"القرطبي" 19/ 70، و"ابن كثير" 4/ 471. وعزاه لمجاهد: "الطبري" 29/ 154، و"الرازي" 30/ 199. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "الكشف والبيان" 12/ 207/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 140، و"المحرر الوجيز" 5/ 394، و"زاد المسير" 8/ 124، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 70، و"الدر المنثور" 8/ 329. وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وانظر: تفسير سعيد بن جبير: تح إبراهيم النجار: 360. (¬6) "تفسير مقاتل" 215/ ب. وانظر: المراجع السابقة عدا النكت، والمحرر، والدر. وانظر: أيضًا: "بحر العلوم" 30/ 421. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246 بنصه. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬9) "جامع البيان" 29/ 154، و"النكت والعيون" 6/ 140، و"الدر المنثور" 8/ 329 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

15

وقال مقاتل: بسطت له في المال والولد بسطًا (¬1). وقال الكلبي: مهدت له في المال الممدود (¬2). ومعنى التمهيد: تسهيل التصرف في الأمور، و [يدعو] (¬3) بهذا فيقال: أدام الله تمهيده، أي: بسطته وتصرفه في الأمور (¬4). ومن المفسرين (¬5): من جعل هذا التمهيد البسط في العيش وطول العمر. 15 - قوله: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}. قال صاحب النظم: "ثم": هاهنا - معناه للتعجب، كما تقول لصاحبك: أنزلتك (¬6) داري، وأطعمتك، وسقيتك، ثم أنت تشتمني، وهذا كقوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (¬7) ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬8)} [الأنعام: 1] الآية، فمعنى ثم - ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 215/ ب. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في كلا النسختين: (أ)، و (ع): يدعا. (¬4) أجل المهد: التَّوثير، يقال: مَهَدت لنفسي، ومَهِدت: أي جعلت له مكانًا وطيئًا سهلاً، ... وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. انظر: مادة: (مهد) في: "تهذيب اللغة" 6/ 229، و"الصحاح" 2/ 241، و"لسان العرب" 3/ 410 - 411. (¬5) وهو قول الطبري في "جامع البيان" 29/ 154، والثعلبي في "الكشف" 12/ 207/ ب، والعبارة عنهما: بسطت له في العيش بسطًا، كما ذهب البغوي بمثل ما ذكر الواحدي. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 414، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 124، والقرطبي في "الجامع" 19/ 70، والخازن في: "لباب التأويل" 4/ 328. (¬6) في (أ): أنزلك. (¬7) بياض في (ع). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

هاهنا- الإنكار والتعجيب (¬1) قال (الكلبي، و) (¬2) مقاتل (¬3): ثم يرجو (¬4) أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي. وهو قوله: {كلاَّ}: قال ابن عباس: لا أفعل (¬5)، وقال مقاتل: لا أزيده (¬6). قال المفسرون (¬7): لم يزل الوليد في نقصان بعد قوله: "كلا". (قال مقاتل) (¬8): حتى افتقر ومات فقيرًا (¬9). قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} قال ابن عباس: معاند لكل ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬10). وقال مقاتل: كان مجانبًا للقرآن لا يؤمن به (¬11) ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 30/ 199. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) "تفسير مقاتل" 215/ ب. المرجع السابق. (¬4) يرجوا: هكذا في النسختين. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 215/ ب. (¬7) وممن ذهب إلى هذا القول من المفسرين: ابن عباس في: "النكت والعيون" 16/ 140، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو مالك في "الدر المنثور" 8/ 329، وانظر: "تفسير سعيد بن جبير" 365. وقال به أيضًا السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 421 - 422، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 415، وعزاه الرازي إلى المفسرين، و"التفسير الكبير" 30/ 199. وقال به أيضًا الخازن، و"لباب التأويل" 4/ 328. (¬8) ساقط من: (أ). (¬9) "تفسير مقاتل" 215/ ب، و"البحر المحيط" 8/ 373. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) "تفسير مقاتل" 215/ ب، و"البحر المحيط" 8/ 373.

17

وقال المبرد: عاند فهو عنيد، مثل: جالس فهو جليس، وضاجع فهو ضجيع (¬1) وذكرنا تفسير "العنيد" فيما سلف (¬2). 17 - قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}: قال الكلبي: سأكلفه صعودًا، وهو جبل من صخرة ملساء في النار، يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر (¬3) إلى أسفلها، ثم يكلف أيضًا أن يصعدها، فذلك دأبه أبدًا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع (¬4) الحديد، فيصعدها في أربعين سنة (¬5). ¬

_ (¬1) الذي ورد عنه في "الكامل" بحاشية نسخة: أ: "يقال: رجل عنيد: إذا خالف الحق، وعاند الرجلُ الرجلَ معاندة وعنادًا إذا خالفه. والعند: ميلك عن الشيء، عند عنودًا، وطريق عاند: مائل، وناقة عَنُود، والجمع عُنُد وعُنَّد: إذا تنكبت الطريق من نشاطها. فَصَلُوا بين العنيد والعنود". الكامل: 3/ 1173 - 1174 حاشية. (¬2) ورد في سورة هود: 59، وسورة إبراهيم: 15, وسورة ق: 24, ومما جاء في تفسير: "العنيد" الوارد في قوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)} [هود: 59]. "قال: والعنيد: الذي لا يقبل الحق، ولا يذعن له، من قولهم: عند الرجل يعند عنودًا، وعاند معاندة إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه. (¬3) أحدر: الحدر من كل شيء تحدره من علو إلى سفل. "لسان العرب" 4/ 172 (حدر). (¬4) مقامع: سبق بيانها. (¬5) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 415، و"زاد المسير" 8/ 125، و"لباب التأويل" 4/ 328، وانظر: الوسيط: 4/ 382.

18

(ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس (¬1)) (¬2)، وهو قول أبي سعيد الخدري (¬3)، ومقاتل (¬4). وقال أهل المعاني: سأحمله على مشقة من العذاب (¬5) مثل قوله: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]، و"صعودًا" من قولهم: عقبة صعود وكؤود (¬6)، أي شاقة المصعد (¬7). وهذا وعيد له، وإخبار عما يصنع الله به في الآخرة. 18 - قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} يقال: فكر في الأمر، وتفكر، إذا نظر فيه وتدبر (¬8)، ومثله: "قدر". وذلك أن الوليد مر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ قوله: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1 - 3]، فسمعها الوليد، فلما رجع إلى قومه قال لهم: والله لقد سمعت من محمد ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لما ذكره. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) ورد قوله في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 72. كما روي عنه مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعناه، رواه عنه الحاكم في "المستدرك" 2/ 507. في التفسير: باب سورة المدثر، وصححه، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد 3/ 75، ورواه الطبراني في الأوسط، وفيه عطية، وهو ضعيف انظر. "مجمع الزوائد" 7/ 131. (¬4) "تفسير مقاتل" 216/ أ. (¬5) وهو قول الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246، وقال به أيضًا الليث، انظر مادة: (صعد) في "تهذيب اللغة" 2/ 9. (¬6) في (أ): كؤود وصعود. (¬7) انظر مادة: (صعد) في: "تهذيب اللغة" 6/ 9، و"لسان العرب" 3/ 251. (¬8) انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 204 مادة: (فكر).

آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام (¬1) الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (¬2)، وإنه ليعلو (¬3)، وما يعلى. فقالت قريش: صبأ (¬4) الوليد، والله لتصبون قريش كلها، فقال أبو جهل -لعنه الله-: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى دخل عليه. هذا قول مقاتل (¬5)، وعكرمة (¬6). وقال الكلبي: كان الوليد بن المغيرة قال لرؤساء مكة: إن الناس مجتمعون بالموسم غدًا، وقد فشا أمر هذا الرجل (¬7) في الناس، وهم سائلوكم عنه، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نقول: إنه مجنون، قال لهم: إذًا ¬

_ (¬1) قوله: ولا من كلام: بياض في (ع). (¬2) الطَّلاَوَة: الحسن والقبول، يقال: ما عليه طلاَوَة. "الصحاح" 6/ 2414 مادة: (طلا). (¬3) ليعلوا: هكذا وردت في النسختين. (¬4) صبأ: أي خرج من دين إلى دين، وهذا القول كان يقال للرجل إذا أسلم في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قد صبأ. أي خرج من دين إلى دين. "تهذيب اللغة" 12/ 257 (صبأ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) تفسير عبد الرزاق: 2/ 328، "جامع البيان" 29/ 156 بمعناه، و"ابن كثير" 4/ 472، و"الدر المنثور" 8/ 330 وعزاه إلى أبي نعيم في "الحلية" وابن المنذر. كما وردت رواية عكرمة من طريقه إلى ابن عباس في "المستدرك" 2/ 556، في التفسير باب تفسير سورة المدثر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر رواية عكرمة عن ابن عباس أيضًا في: "أسباب النزول" للواحدي: تح أيمن شعبان: 381، و"لباب النقول" للسيوطي: 223، و"جامع البيان" 29/ 156. وعن مجاهد في: "جامع النقول في أسباب النزول" 2/ 323. ورواه الطبراني مختصرًا، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو متروك. انظر: "مجمع الزوائد" 7/ 131، وانظر: "لباب النقول" مرجع السابق. (¬7) بياض في (ع).

يخاطبونه فيعلمون أنه غير مجنون، قالوا (¬1): فنقول: إنه شاعر. قال: هم العرب يعلمون الشعر، ويعلمون أن ما أتى به ليس بشعر. قالوا: فنقول: إنه كاهن. قال: إنهم قد لقوا الكهان، فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهانة فيكذبونكم، ثم انصرف إلى منزله، فقالوا: صبأ الوليد، فقال ابن أخيه أبو جهل بن هشام بن المغيرة: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى دخل عليه محزونًا، فقال: مالك يا ابن أخي؟ فقال: إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه، وهذه (¬2) قريش تجمع لك مالاً لتكون عوضًا فيما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد، فقال: والله ما يسمعوني (¬3)، فكيف أقدر أن أخذ منهم مالًا؟ ولكني أكثرت حديث النفس في أمر هذا الرجل، وتفكرت في شأنه، فقوله قول ساحر، والذي يأتي به سحر (¬4). فذلك قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ}، قال ابن عباس: يريد في القرآن (¬5). وقال مقاتل: في محمد، وقدر مع نفسه ماذا يقول له (¬6). فأنزل الله تعالى: {فَقُتِلَ} قال ابن عباس (¬7)، (ومقاتل (¬8)) (¬9)، والمفسرون (¬10): ¬

_ (¬1) في (أ): قال. (¬2) في (أ): وهذا. (¬3) في (ع): ما يشبهون. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 216/ أ، وقد ورد مثل قوله من غير عزو في "بحر العلوم" 3/ 422. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "تفسير مقاتل" 215/ ب، 216/ أ. (¬9) ساقط من: (أ). (¬10) قال بذلك: الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 246، والسمرقندي في: =

لُعن؛ وذكرنا ذلك عند قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (¬1) و {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. قوله تعالى: {كَيْفَ قَدَّرَ} قال صاحب النظم: يجوز أن يكون هذا منتظمًا بما قبله على معنى: فلعن علي أي حال قدر ما قدر، كما يقال في الكلام: لأقتلنه كيف صنع، أي على أي حال كانت فيه. ويجوز أن يكون منقطعًا بما قبله مستأنفًا؛ لأنه لما قال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ}، كان هذا تمامًا، ثم قال على الإنكار، والتعجب (¬2): {كَيْفَ قَدَّرَ}، كما تقول (¬3) للرجل إذا أتى منكرًا: كيف فعلت هذا (¬4). وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ}، أي عوقب بعقاب آخر. {كَيْفَ قَدَّرَ} في إبطال الحق، تقديرًا آخر. {ثُمَّ نَظَرَ}، أي في طلب ما يدفع به القرآن ويرده. قال الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6): خلا، فنظر، وتفكر فيما ¬

_ = "بحر العلوم" 3/ 422، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 12: 209/ أ، والبغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 416، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 125، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 73. (¬1) سورة الذاريات: 10، ومما جاء في تفسيرها: قال الواحدي: "قال جماعة المفسرين، وأهل المعاني: لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: هذا تعليم لنا الدعاء عليهم، معناه قولوا: إذا دعيتم عليهم: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} قال: والقتل إذا أخبر عنه الله به كان بمعنى اللعنة. (¬2) في (ع): التعجيب. (¬3) في (ع): يقال. (¬4) ورد قول صاحب النظم في الوسيط: 4/ 383 إلى قوله: على أي حال كانت فيه. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 216/ أ، و"النكت والعيون" بمعناه: 6/ 142، والعبارة عنه: "إنه نظر إلى الوحي المنزل من القرآن".

يقول لمحمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن. {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} قال مقاتل: كلح (¬1) وتغير لونه (¬2). وقال أبو عبيدة: كره وجهه، وأنشد (قول) (¬3) توبة (¬4) وقَدْ رَابَني مِنها صُدُودٌ (¬5) رَأيْتُهُ ... وإعْراضُها عَنْ حَاجَتي وبُسُورُها (¬6) (¬7) وقال (¬8) أبو إسحاق: نظر بكراهة شديدة (¬9). قال الليث: (عَبَس يَعْبِسُ فهو عَابس، إذ قطَّب ما بين عينيه، فإن أبدى (¬10) عن أسنانه في عبوسته، قيل: كلح (¬11)) (¬12)، فإن اهتم لذلك ¬

_ (¬1) الكلُوح: العبوس، يقال: كَلَحَ الرجل، وأكْلَحَهُ الهمُّ. النهاية في "غريب الحديث" 4/ 196. (¬2) "تفسير مقاتل" 216/ أ. (¬3) ساقطة من: (أ). (¬4) توبة هو: توبة بن الحمير، من بني عُقَيْل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وكان شاعرًا لصًّا، واحد عشاق العرب المشهورين. انظر: "الشعر والشعراء" 289. (¬5) صدودًا: في كلا النسختين. (¬6) في (أ): نشورها. (¬7) ورد البيت في "جامع البيان" 29/ 156، و"النكت والعيون" 6/ 142، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 74 برواية "صدود"، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 472، و"فتح القدير" 5/ 327، و"الجامع" و"فتح القدير" لم ينسباه. وكلام أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" 2/ 275. (¬8) في (أ): قال. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 247 بنصه. (¬10) في (أ): أبدأ. (¬11) بياض في (ع). (¬12) ما بين القوسين من كلام الليث. انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 115: (عبس) بتصرف.

وفكر فيه، قيل (¬1): بسر (¬2)، فإن غضب مع (¬3) ذلك قيل: بسل (¬4). وقال (¬5) الكلبي: مر الوليد على (¬6) أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم جلوس (¬7)، فقالوا: هل لك إلى خير الإسلام؟ فعبس في وجوههم وبسر، ثم ولى مستكبرًا وقال: ما يقول صاحبكم إلا (¬8) سحرًا (¬9)، فذلك قوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ} (إلى أهله مكذبًا) (¬10). {وَاسْتَكْبَرَ} تعظم عن الإيمان. وقال مقاتل: أدبر عن الإيمان (¬11)، وتكبر حين دعي إليه (¬12). {فَقَالَ إِنْ هَذَا}، ما هذا القرآن (¬13) {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}، يأثره محمد عن مسيلمة (¬14). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) البَسْرُ: القهر، وبسر يبسر بسرًا وبُسُورًا: عبس. وبسر الرجل وجهه بسورًا، أي: كلح. "لسان العرب" 4/ 58: مادة: (بسر). (¬3) بياض في (ع). (¬4) البسل: الكريه الوجه. انظر: معجم "مقاييس اللغة" 1/ 249: مادة: (بسل). (¬5) في (أ): قال. (¬6) قوله: مر الوليد على: بياض في (ع). (¬7) بياض في (ع). (¬8) في (أ): ألا. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬11) قوله: أدبر عن الإيمان: غير واضحة في (ع). (¬12) "تفسير مقاتل" 215/ ب. قال: أعرض عن الإيمان. (¬13) بياض في (ع). (¬14) روى هذا القول الثعلبي بصيغة "قيل" انظر: "الكشف والبيان" 12/ 209/ أ.

وقال الكلبي: يأثره عن أهل بابل (¬1) (¬2). قالا (¬3): قال الوليد لقومه لما سألوه عن قوله في محمد بعد ما تفكر ونظر: إن محمدًا ساحر، والذي يقوله سحر، ألا ترونه كيف فرق بين فلان وأهله، وبين فلان وابنه وأخيه؟ فذلك قوله: {إنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} وهو من قولهم: أثرت الحديث أثرًا، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي: بعد ما ماتوا. هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى الرواية عمن كان، والإخبار، ومنه حديث عمر -رضي الله عنه-: "فما حلفت بها ذاكرًا ولا آثرًا" (¬4). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد أورده الثعلبي بصيغة "قيل" من غير عزو. (¬2) بابل: مدينة قديمة بأرض الرافدين، كانت قاعدة إمبراطورية بابل، وتقع على الفرات إلى الشمال من المدن التي ازدهرت في جنوب أرض الرافدين منذ الألف الثالثة ق. م. وعند ياقوت الحموي أن بابل اسم ناحية منها: الكوفة، والحِلة؛ ينسب إليها السحر. وقيل: بابل العراق، وقيل غير ذلك. انظر: "معجم البلدان" 1/ 309، و"الموسوعة العربية الميسرة" 1/ 196. (¬3) لعله أراد مقاتلًا والكلبي. (¬4) ورد قوله في "غريب الحديث" لأبي عبيد 3/ 427 رقم 511، و"غريب الحديث" لابن الجوزي 1/ 10، و"الفائق" للزمخشري 1/ 23، و"مسند الإمام أحمد" 1، 36، ج: 12/ 7 - 8، و"البخاري" 3/ 218 ح: 6647: "كتاب الأيمان" باب 4، و"صحيح مسلم" 1266/ 3 ح: 2: "كتاب الأيمان" باب 1. ونص الحديث كما هو عند البخاري: "قال ابن عمر: سمعت عمر يقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ذاكرًا ولا آثرًا". ومعنى قوله: "ذاكرًا" أراد متكلمًا به -وليس من الذكر بعد النسيان- وقوله: "ولا آثرًا" يريد مخبرًا عن غيري أنه حلف بقول: لا أقول إن فلانًا قال: وأبي لا أفعل كذا وكذا. انظر (أثر) في: "تهذيب اللغة" 15/ 12، و"معجم مقاييس اللغة" 1/ 53 - 54.

وقال عطاء عن ابن عباس: يؤثر على جميع السحر (¬1). وعلى هذا هو من الإيثار. قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، يعني مسيلمة، أو أهل بابل في قول الكلبي. وقال مقاتل: يعني يسارًا أبا فكيهة، قال: هو الذي يأتيه به من مسيلمة (¬2). وقال عطاء: يريد آية (¬3) الشعر (¬4)، أو المعنى: أنه كلام الإنس، وليس من الله. قال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (أي سأدخله النار، وسقر: اسم من أسماء جهنم. لا ينصرف للتعريف والتأنيث) (¬5). قال ابن عباس: وهي الطبق السادس من جهنم (¬6). ثم ذكر عظم (¬7) شأن سقر فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} (تأويله: وما أعلمك أي شيء سقر) (¬8). ثم أخبر عنها تعظيمًا لشدتها فقال: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لما ذكره. (¬2) "تفسير مقاتل" 215/ ب. (¬3) في (أ): أيمة. لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين نقله الزجاج من "معاني القرآن وإعرابه" بتصرف: 5/ 247. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) في (ع): عظيم. (¬8) ما بين القوسين نقله بنصه عن الزجاج من: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 247.

قال عطاء عن ابن عباس: لا تبقيه حتى تصير فحمًا، ثم تعاد خلقًا جديدًا، فلا تذره حتى يعود عليه بأشد مما كانت -هكذا- أبدًا (¬1). وقال الكلبي: لا تبقي له لحمًا إلا أكلته، ولا تذرهم (¬2) إذا أعيدوا خلقًا جديدًا (¬3). وقال مقاتل: لا تبقي النار عليهم إذا واقعتهم حتى تأكلهم، ولا تذرهم إذا بدلت جلودهم حتى تواقعهم (¬4). وقال الضحاك (¬5): إذا أخذت فيهم لم تبق منهم (¬6) شيئًا (¬7)، وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم (¬8). وقال السدي: لا تبقي لهم لحمًا , ولا تذر (¬9) لهم عظمًا (¬10). قوله تعالى (¬11): {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} قال الليث: (لاحه العطش ولوَّحه إذا غيره، والتاح إذا عطش (¬12)، ¬

_ (¬1) بمعناه في: "التفسير الكبير" 30/ 202. (¬2) قوله: إلا أكلته ولا تذرهم: بياض في (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد أورده الواحدي في الوسيط من غير عزو: 4/ 384. (¬4) "تفسير مقاتل" 216/ أ. (¬5) بياض في (ع). (¬6) في (أ): فيهم. (¬7) بياض في: ع. (¬8) ورد قوله في "الكشف والبيان" ج: 12: 209/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 416. (¬9) بياض في (ع). (¬10) "الكشف والبيان" ج: 12: 209، و"معالم التنزيل" 4/ 416. (¬11) ساقطة من: (ع). (¬12) إذا عطش بياض في (ع).

ولاحه البرد، والسُّقم، والحزن، وأنشد غيره (¬1): ولم يَلُحْها حزنٌ على ابنمٍ ... ولا أخ ولا أبٍ (¬2) فَتَسْهُمِ (¬3)) (¬4) قال أبو عبيدة: {لَوَّاحَهٌ} مغيِّرَةٌ، وأنشد (¬5): (يا بنت عمِّي لاحَني الهواجر (¬6)) (¬7) والبشر: جمع بشرة، وهي الجلد (¬8). قال الكلبي: يعني تسود بشرة من يطرح فيها (¬9). وقال [أبو رزين] (¬10): يلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادًا من ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) ولا أب ولا أخ: هكذا وردت في (ع). (¬3) البيت غير منسوب. وقد ورد تحت مادة: (لوح) في: "تهذيب اللغة" 5/ 248، و"لسان العرب" 2/ 585، و"تاج العروس" 2/ 219 غير منسوبة في جميعها. (¬4) ما بين القوسين نقلاً عن "تهذيب اللغة" 5/ 248 (لوح). (¬5) غير منسوب. (¬6) والبيت كما هو عند القرطبي: تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 76، و"الكشف والبيان" 12/ 29/ أبرواية (السمائم) بدلا من (الهواجر)، و"المحرر الوجيز" 5/ 396، و"زاد المسير" 8/ 126، و"روح المعاني" 29/ 125 برواية: يا ابنة، وكلها من غير نسبة. (¬7) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" 2/ 275 بيسير من التصرف. (¬8) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 247. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) أبو زيد: في كلا النسختين. قلت: ولعله تصحيف من الناسخ، وأثبت ما رأيت صحته، وذلك لورود نص القول عن أبي رزين في: الوسيط: المقبوض، والبسيط: تح رأفت عفيفي، و"جامع البيان"، والله أعلم.

الليل (¬1). وقال مقاتل: يعني حراقة (¬2) الجلد (¬3). وقال غيره: محرقة للجلد (¬4) -وهو معنى، وليس بتفسير-، أي أنها خرق الجلد فتغيره حتى يسود. وقال عطاء عن ابن عباس: يلوح لأهلها من مسيرة خمسمائة عام (¬5). (وهذا قول الحسن (¬6)، وابن كيسان (¬7)) (¬8). ولواحة على هذا القول: من لاح الشيء يلوح إذا لمع نحو (¬9) البرق (¬10). و {البَشَرِ} ليس المراد بها الجلود، وإنما معناها الناس. قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} قال المفسرون: يقول على النار تسعة عشر ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر قول أبي زيد، وقد ورد القول بنصه عن أبي رزين في "جامع البيان" 29/ 159، وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 473. وروي أيضًا عن مجاهد في: "الكشف والبيان" 12/ 209/ أ. (¬2) بياض في بعض الحروف في (ع). (¬3) "تفسير مقاتل" 216/ أ. (¬4) وهو قول ابن عباس وزيد بن أسلم والضحاك، انظر: "جامع البيان" 29/ 159، و"الكشف والبيان" 12/ 209/ أ - ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 395. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 76. (¬6) بهذا المعنى جاء في "الكشف والبيان" 12/ 209/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 416، كما ورد قوله في: "المحرر الوجيز" 5/ 396، و"الجامع" للقرطبي 19/ 96. (¬7) المراجع السابقة. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) بياض في (ع). (¬10) انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 248: مادة، (لوح).

من الملائكة هم خزنتها، مالك ومعه ثمانية عشر ملكًا (¬1)، أعينهم كالبرق (¬2)، وأنيابهم كالصياصي (¬3)، وأشعارهم تمس (أقدامهم) (¬4) يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة (¬5)، ومضر، نزعت منهم الرأفة والرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفا, فيرميهم حيث أراد من جهنم (¬6). قالوا (¬7): ولما نزلت هذه الآية، قال اللعين أبو جهل: أما لمحمد ¬

_ (¬1) حكاه الثعلبي عن أكثر المفسرين: "الكشف والبيان" ج: 12: 209/ ب، كما قال بذلك أيضًا البغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 417، والخازن 4/ 329. (¬2) البرق: لمعان السحاب، يقال برق، وأبرق، وبرق، يقال في كل ما يلمع نحو: سيف بارق وبَرِق وبَرَق. المفردات: 43: مادة: (برق). (¬3) الصياصي: أي قرون البقر، واحدتها صيصة -بالتخفيف-، والصيصة أيضًا: الوتد الذي يقلع به التمر، والصِّنَّارة التي يغزل بها وينسج. "النهاية في غريب الحديث والأثر": 3/ 67. (¬4) ساقط من: (أ). (¬5) ربيعة: حي من مضر من العدنانية، وهم بنو ربيعة بن نزار بن مضر، وتعرف بربيعة الحمراء، وديارهم ما بين اليمامة والبحرين والعراق. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي: 242، و"جمهرة أنساب العرب" لابن حزم: 292. (¬6) أورد هذه الرواية مقاتل في تفسيره: 216/ أ. كما وردت الرواية من طريق ابن جريح مرفوعة وذلك عند الثعلبي في "الكشف والبيان" ج: 12: 209/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 77، كما رويت بالمعنى في: "بحر العلوم" 3/ 422، و"معالم التنزيل" 4/ 417، الكشاف: 4/ 159، و"زاد المسير" 8/ 126، وساق رواية الواحدي الفخر في: "التفسير الكبير" 35/ 203، و"لباب التأويل" 4/ 329. (¬7) أي المفسرون، وممن قال بذلك: ابن عباس، وقتادة، والضحاك، انظر: "جامع البيان" 29/ 159، و"الكشف والبيان" ج: 12: 209/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 145، و"معالم التنزيل" 4/ 417، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 79، و"الدر المنثور" 8/ 333.

من الأعوان إلا تسعة عشر، يخوفكم بتسعة عشر، وأنتم الدهم (¬1)، أفتعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد (¬2) منهم، ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشدين (¬3) -وهو رجل من بني جمح (¬4) -: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عنكم عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر (¬5)، ونمضي فندخل (¬6) الجنة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} قال (أبو بكر) (¬7) بن الأنباري: لما أنزل الله تعالى قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل (¬8) وأبو الأشدين ما قالا، قال المسلمون: عس (¬9) الملائكة إلى الحدادين (¬10). ¬

_ (¬1) الدهم: العدد الكثير. النهاية: 2/ 145 (¬2) بياض في (ع). (¬3) ورد عند الثعلبي: أبو الأسد بن كلدة بن خلف بن أسد الجمحي. "الكشف والبيان" ج: 209: 12/ ب، وكذا في "معالم التنزيل" 4/ 417، وعند الماوردي: أبو الأشد بن الجمحي، و"النكت والعيون": 6/ 145، وعند ابن عطية: أبو الأشدي الجمحي. المحرر: 5/ 396، وعند ابن كثير: أبو الأشدين كلدة بن أسيد بن خلف. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 474. (¬4) بنو جمح: هم بطن من العدنانية، وهم بنو جمح بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي. انظر: "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي: 1/ 407، و"معجم قبائل العرب" 2/ 202. (¬5) غير مقروء في (ع). (¬6) غير مقروء في (ع). (¬7) ساقط من: (أ). (¬8) بياض في (ع). (¬9) غير مقروء في النسختين. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله.

والمعنى: عس (¬1) الملائكة إلى السجَّانين من النار، والحداد: السجان الذي يحبس الناس، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً}، يعني خزانها. "إلا ملائكة" أي: فمن يطيق الملائكة، ومن يغلبهم. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ}، أي: عددهم في القلة، وقال مقاتل: قلتهم (¬2). {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، قال ابن عباس: يريد ضلاله لهم حتى قالوا ما قالوا (¬3). وقال أبو إسحاق: أي محنة؛ لأن بعضهم قال: أنا أكفي هؤلاء (¬4). والمعنى: جعلنا هذه العدة محنة لهم؟ ليظهروا ما عندهم من التكذيب (¬5). قوله (¬6): {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. قال ابن الأنباري (¬7)، والزجاج (¬8)؛ لأن عدد الخزنة في كتابهم (¬9)، فيستيقنوا صدق محمد -صلى الله عليه وسلم-، موافقًا (¬10) لما في كتابهم؛ لأنه إذا أخبر بذلك على وفق (¬11) ما عندهم ¬

_ (¬1) غير مقروءة في النسختين. (¬2) "تفسير مقاتل" 216/ ب، وقد ورد عن الفراء مثله. انظر: "معاني القرآن" 3/ 204. (¬3) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 79 بنحوه. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 248 بيسير من التصرف. (¬5) قوله: من التكذيب: بياض في (ع). (¬6) في (ع): فقال. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 346، نقله عنه بالمعنى. (¬9) بياض في (ع). (¬10) في (ع): موافق. (¬11) قوله: على "وفق" بياض في (ع).

من غير أن [يقرأ] (¬1)، كتابًا دل ذلك على صدقه، واللام في قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ} تتعلق بقوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬2). قال الكلبي: كان ذلك في كتب أهل الكتاب: تسعة عشر، كما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وقال الفراء: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يقينًا إلى يقينهم؛ لأن عدد الخزنة في كتابهم تسعة عشر (¬4). قال ابن عباس: يعني الذين آمنوا منهم (¬5). قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} قال الفراء: لأنهما (¬6) في كتاب أهل الكتاب كذلك (¬7). وعلى هذا معناه ليزداد مؤمنو أهل الكتاب تصديقًا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- إذا وجدوا ما يخبرهم به من عدد الخزنة موافقا لما في كتابهم (¬8)، فيعلمون أنه صادق. وقال أبو إسحاق: لأنهم كلما صدقوا بما يأتي في كتاب الله زاد إيمانهم (¬9). والمعنى على هذا: ويزداد المؤمنون إيمانًا بتصديقهم محمدًا في ¬

_ (¬1) في النسختين: قرأ، والصواب ما أثبته لاستقامة المعنى به والله أعلم. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 204، برواية: (عدد) بدلًا من: (عدة). (¬5) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 161، و"المحرر الوجيز" 5/ 396، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 80. (¬6) في (أ): لأنهما. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 204 بنصه. (¬8) في (أ): لكتابهم: بدلاً، من: لما في كتابهم. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 248 بنصه.

عدد خزنة النار. قوله تعالى: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}، أي لكيلا (¬1) يشك هؤلاء في أن خزنة جهنم تسعة عشر. قوله: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، أي: شك ونفاق من منافقي المدينة (¬2)، (هذا قول ... (¬3)، والكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5)) (¬6). وذكر عن الحسين بن الفضل أنه (¬7) قال: هذه السورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق. فالمرض في هذه الآية لا يكون بمعنى النفاق (¬8). وقول المفسرين صحيح وإن أنكره؛ لأنه كان في معلوم الله تعالى (ذكره) (¬9) أن النفاق سيحدث، فأخبر عما يكون. قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ}، قال مقاتل: يعني مشركي العرب (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): لكي لا. (¬2) قال بذلك: قتادة في "جامع البيان" 29/ 161، وحكاه الثعلبي، وابن الجوزي والفخر عن أكثر المفسرين، انظر: "الكشف والبيان" 1/ 210/ أ، و"زاد المسير" 8/ 127، و"التفسير الكبير" 30/ 207، وإلى هذا ذهب البغوي 4/ 417. (¬3) غير مقروء في (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل" 206/ ب، وروايته قال: يعني الشك، وهم اليهود من أهل المدينة. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) قوله: الفضل أنه: بياض في (ع). (¬8) ورد قوله في: "الكشف والبيان" 12/ 210/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 396، و"زاد المسير" 8/ 127، و"التفسير الكبير" 30/ 207، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 80، و"البحر المحيط" 8/ 379، و"فتح القدير" 5/ 330. (¬9) ساقط من: (أ). (¬10) "تفسير مقاتل" 216/ ب.

وقال عطاء (¬1)، (والكلبي (¬2)) (¬3): يعني الكفار من اليهود، والنصارى. والقول قول مقاتل (¬4)؛ لأن اليهود والنصارى يؤمنون بما (¬5) في كتابهم، فلا ينكرون عدد خزنة النار (¬6). قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}، مبين في سورة البقرة (¬7) إلا أن معنى المثل هناك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26]، ولم يذكر في هذه "مثل" حتى تنكره (¬8) الكفار فيقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً، ومعنى (¬9) المثل -هاهنا- الحديث نفسه. ومنه قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، أي: حديثها، والخبر عنها وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29]، أي حديثهم والخبر عنه وقصتهم (¬10). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ساقط من: (أ). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) قوله: والنصارى يؤمنون بما: بياض في (ع). (¬6) قوله: خزنة النار: بياض في (ع). (¬7) الآية: 26 من سورة البقرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. (¬8) غير واضحة في (ع). (¬9) في (أ): وهنا. (¬10) لفظ المثل ورد على أربعة أوجه، هي: السنن أو السير، والعبرة، والصفة، والعذاب، وما جاء في الآيتين من سورة الرعد والفتح فالمثل فيها على معنى الصفة أو الشبه. انظر: قاموس القرآن: الدامغاني: 428، والوجوه والنظائر في القرآن: القرعاوي: 588. قال ابن كثير في معنى قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} أي يقولون: ما =

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ}، أي كما أضل من أنكر عدد الخزنة، ولم يؤمن به، وهدى من صدق ذلك وآمن به. {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. وأنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، قال مقاتل: أي من الكثرة (¬1). وذلك أنهم استقلوا ذلك العدد، فأخبر الله تعالى عن كثرة جنوده، بأن أعيانهم وعددهم لا يعلمها إلا هو. وقال عطاء: "جنود ربك" يعني: من الملائكة الذين خلقهم، يعذبون أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله (¬2). وعلى هذا "تسعة عشر" هم خزنة النار، ولهم الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله. ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. قال ابن عباس (¬3)، (ومقاتل (¬4)) (¬5)، أي: موعظة وتذكرة للعالم. وقال أبو إسحاق: جاء في التفسير أن النار في الدنيا تذكر النار في ¬

_ = الحكمة في ذكر هذا هاهنا، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، أي: من مثل هذا وأشباهه بتأكيد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 474. (¬1) "تفسير مقاتل" 216/ ب. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 417. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في الوسيط: 4/ 385 من غير عزو. (¬4) "تفسير مقاتل" 216/ ب. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

الآخرة (¬1). ثم أخبر عن عظم شأنها فأقسم على ذلك فقال: {كَلَّا}؛ أي ليس، القول كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه خزنة [النار] (¬2)، {وَالْقَمَرِ}، قسم، وكذلك. {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}، قال ابن عباس: إذا ولى (¬3). وقال الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5): إذا ذهب (¬6). ودبر وأدبر بمعنى واحد. قاله الفراء (¬7)، والزجاج (¬8). قالا: ومثله: قبل وأقبل، يقال: دبر الليل وأدبر (¬9)، إذا ولى ذاهبًا، يدل على هذا قراءة من قرأ (¬10): "إذا أدبر" بالألف (¬11). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 284 بنصه. (¬2) النار: لا توجد في النسختين، وأثبتها بدلالة السياق عليها , ولعلها تركت سهوًا من الناسخ، أو تكون العبارة "الخزنة" بالألف واللام، وتركت الألف واللام سهوًا. (¬3) "النكت والعيون" 6/ 146. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) بياض في (ع). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 204. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 6/ 248. (¬9) بياض في (ع). (¬10) قوله: قراءة من قرأ: بياض في (ع). (¬11) قرأ بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي، والحسن، وابن السميفع، انظر: "معاني القرآن" للفراء: 3/ 204. و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 82. وهي قراءة شاذة لعدم صحة سندها , ولعدم ذكرها في كتب التواتر، ولقراءة الحسن وابن السميفع بها, وهم من الشواذ؛ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وابن =

روي أن مجاهدًا سأل ابن عباس عن قوله: "دبر" فسكت حتى إذا أدبر الليل قال: يا مجاهد هذا حين دبر الليل (¬1). وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب هذه القراءة (¬2)، ويقول: إنما يدبر ظهر البعير (¬3). والقرآن عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا - وأنشد (أبو علي) (¬4): وأبي الذي تَرَكَ المُلُوك وجَمْعَهُم ... بِصُهابَ هَامِدةً كأَمْسِ الدَّابِرِ (¬5) قال (¬6) وقد قالوا أيضًا: كأمس المدبر، والوجهان (في القرآن) (¬7) حسنان جميعًا (¬8). ¬

_ = عامر، والكسائي: "إذا أدبر" بفتح الدال. وقرأ نافع، وعاصم في رواية حفص وحمزة: "إذا أدبر" بتسكين الدال. انظر: كتاب السبعة: 659، "الحجة" 6/ 338، و"الكشف" 2/ 347، و"النشر" 2/ 393. (¬1) الحجة: 6/ 339، وانظر: "المحرر الوجيز" 5/ 397، و"التفسير الكبير" 30/ 208، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 82، و"الدر المنثور" 8/ 335 وعزاه إلى مسدد في مسنده, وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬2) أي قراءة: "إذ دبر". (¬3) انظر: "معاني القرآن" الفراء: 3/ 204، و"الكشف والبيان" ج: 12: 210/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 208، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 83. (¬4) ساقط من: (أ). (¬5) البيت ورد في "الحجة" 6/ 175 و339، وأنشده، الأصمعي ولم ينسبه، وانظر: "الخصائص" لابن جني 2/ 267، و"لسان العرب" 1/ 533: (صهب). ومعنى صهب كما في اللسان: "بين البصرة والبحرين عين تعرف بعين الأصهب"، كما ورد البيت في "المحرر" 5/ 297 برواية: يهضاب، و"التفسير الكبير" 30/ 208. (¬6) أي: أبو علي. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) انظر قوله في "الحجة" 6/ 339.

(وقال أبو عبيدة (¬1)، وابن قتيبة (¬2): دبر، أي: جاء بعد النهار) (¬3)، يقال: دبرني، أي جاء خلفي، ودبر الليل (¬4)، أي: جاء بعد النهار. قال قطرب: فعلى هذا معنى "إذا دبر" إذا أقبل بعد مضي النهار (¬5). قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أي (أضاء، وتبين، ومنه: الحديث "أسفروا بالفجر" (¬6)، يقول: صلاة الفجر بعد ما تبين ويظهر حتى لا يشك فيه، ومن هذا قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} (¬7)، أي: مضيئة) (¬8). ثم ذكر المقسم عليه فقال: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}. يعني (أن) (¬9) سقر -التي جرى ذكرها- لإحدى الكبر. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 275 - 276. (¬2) "تفسير غريب القرآن" 497. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) في (أ): إذ: وهي زيادة لا معنى لها. (¬5) "الكشف والبيان" 12/ 210/ ب بمعناه، و"معالم التنزيل" 4/ 418 بمعناه، و"التفسير الكبير" 30/ 209، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 82 بمعناه (¬6) الحديث -عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أسْفِروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". أخرجه الترمذي 1/ 289 ح 154: أبواب الصلاة: باب ما جاء في الإسفار بالفجر. وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في "سننه" 1/ 249 ح 547 - 548 المواقيت، باب الإسفار، والإمام أحمد 5/ 429، قال الحافظ ابن حجر: رواه أصحاب السنن وصححه غير واحد: "فتح الباري" 2/ 55. جاء في "النهاية": 2/ 372: أسفر الصبح إذا انكشف وأضاء. (¬7) سورة عبس: 38. (¬8) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الأزهري مختصرًا، و"التهذيب" 12/ 400 - 401. (¬9) ساقطة من: (أ).

قال مقاتل (¬1)، (والكلبي (¬2)) (¬3): أراد بـ"الكبر" دركات جهنم، وأبوابها، وهي سبعة: جهنم، ولظى (¬4)، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية. أعاذنا الله منها. و"الكبر" جمع الكبرى (¬5)، مثل الصُّغْرى (¬6)، والصُّغَر. قال المبرد (¬7)، وابن قتيبة (¬8): إنها لإحدى العظائم، والعُظَم كما يقال: إحدى الدواهي، و"إحدى" اسم بني ابتداء [للتأنيث] (¬9)، وليس بمعنى (¬10) على المذكر، نحو عصا، وأخرى (¬11) -ولعل هذا مما سبق الكلام فيه- (¬12). وألف "إحدى" مقطوع لا يذهب في الوصل. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 216/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 418، و"القرطبي" 19/ 83 بمعناه. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 418. (¬3) ساقط من: (أ). (¬4) في (أ): لظا. (¬5) في (أ): الكبرا. (¬6) في (أ): الصغرى. (¬7) انظر: "المقتضب" 2/ 217. (¬8) "تفسير غريب القرآن" 479. (¬9) في: أ، وع: التأنيث، والصواب ما أثبته. (¬10) في (ع): مبني. (¬11) في (أ): أخرا. (¬12) عند قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة: 184، و {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} آل عمران: 7، و {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الأنعام: 123، و {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} الكهف: 103، و {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} الشعراء: 111، وغيرها.

(وروي عن ابن كثير أنه قرأ {إنها لَحْدى (¬1) الكبر} موصولاً حذف الهمزة حذفًا. كما يقال: وَيْلُمِّهِ (¬2)، وقد جاء ذلك في الشعر، قال أبو الأسود: يا با (¬3) المغيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضلٍ ... قَرَّبْتَه بالنُكر مني والدَّها (¬4) وأنشد أحمد بن يحيى: إن لم أقاتلْ فالبِسوني بُرْقعًا وفَتَحـ ... ـات في اليَدَيْن أربعا (¬5) وقال الفرزدق: فعليَّ إثمُ عطيَّة بن الخَيْطـ ... ـفي وإثمُ التي زجرتْكَ إن لم تَجْهَدِ (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) في (أ): لاحدى، وهو خطأ. (¬2) أي: ويل أمه، فلما حذفت الهمزة صارت: ويلمه، وشاهده قول امرئ القيس: وَيْلُمِّها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبُ انظر: الحجة: 6/ 340. (¬3) في (أ): يا أبا. (¬4) ورد البيت في ديوانه: 170: تح محمد آل ياسين برواية: "مبهم" بدلًا من "معضل"، و"بالحزم" بدلًا من "بالنكر"، وفي الحجة: 6/ 340 برواية "فرجته" بدلًا من "قربته"، وانظر: 3/ 211 و307. كما ورد منسوبًا إلى أبي الأسود في: "الأمالي الشجري" لابن الشجري: 2/ 16، برواية "فرجته". "المحرر الوجيز" 5/ 397. (¬5) غير منسوب، وقد ورد في الحجة: 3/ 211 و306، 6/ 340، ولم ينشد أحمد ابن يحيى هذا البيت، إنما أورد بيتًا آخر، و"الخصائص" 3/ 151، و"المحتسب" 1/ 120، و"المحرر" 5/ 398، والشاهد فيه: أنه حذف الهمزة حذفًا ولم يخفف على القياس في "فالبسوني". (¬6) قوله: إن لم تجهد: في مقروء في (ع). (¬7) لم أعثر عليه في ديوانه, وقد ذكر محقق الحجة أيضًا أنه لم يعثر عليه في ديوانه. انظر: الحجة: 6/ 341.

وهذا مثل قراءة ابن كثير، ألا ترى أن "لإح" من قوله "لإحدى" مثل واث، من قوله "وإثم التي". وليس هذا الحذف (¬1) بقياس، والقياس التخفيف، وهو أن يجعل بين بين، ولكنه وجد الهمزة تحذف حذفًا في بعض المواضع فجرى (¬2) عليه، وفي (¬3) حذفه الهمزة من "لإحدى" ضعف؛ لأنه إذا حذفتها (¬4) بقي بعدها حرف ساكن يكون أول الكلمة بعد الحذف [ولهذا] (¬5) لم تخفف الهمزة أولًا؛ لأن التخفيف تقريب من الساكن، فإن لا يكون ما يلزم له إلا الابتداء بالساكن أجدر؛ ووجهه على ضعفه: أن اللام اللاحقة أول الكلمة لما لم تفرد صار بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، فصار حذف الهمزة كأنه حذف في تضاعيف الكلمة، ومن ثم قالوا: "لهو" (¬6) فخففوه كما خففوا "عضْدًا"، ونحوه مما هو كلمة واحدة) (¬7). قوله تعالى: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد قم نذيرًا للبشر (¬8). وذكر النحويون هذا القول في نصب "نذيرًا" ذكره الكسائي (¬9)، ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) في (أ): فجرا. (¬3) في (أ): في. (¬4) في (أ): حذفها. (¬5) في (أ): إذا، وفي (ع): وإذا، والمثبت من الحجة، وبه يستقيم المعنى. (¬6) الحج: 58 {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. (¬7) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن أبي على الفارسي بتصرف. انظر: "الحجة" 6/ 339 - 341. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 84. (¬9) "الوسيط" 4/ 385.

والزجاج (¬1). وقال (¬2) الفراء: وليس ذلك بشيء (¬3) -والله أعلم-؛ لأن الكلام قد حدث بينهما شيء كثير، ونصبها بالقطع من المعرفة؛ لأن (إحدى الكبر) معرفة، فقطعت منه. قال: ويجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار.، والمعنى: أنذر إنذارًا للبشر. ودل قوله: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} على أنذر بها (¬4). وذكر أبو إسحاق: القول الأول فقال: نصب "نذيرًا" على الحال. وقال: وذكِّر [نذيرًا] (¬5)؛ لأن معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار، كقولهم: امرأة طاهر وطالق (¬6). قال أبو علي الفارسي في قوله: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} قولان: أحدهما: أن يكون حالًا من "قم" المذكورة (¬7) في أول (¬8) السورة (¬9). والآخر: أن يكون حالاً من قوله: {لَإِحْدَى الْكُبَرِ}، وليس يخلو ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 249، وعبارته قال: "ويجوز أن يكون (نذيرًا) منصوبًا مُعلقًا بأول السورة على معنى: "قم نذيرًا للبشر". (¬2) في (ع). قال: بغير واو. (¬3) يعني القول بنصب "نذيرًا" على معنى: قم نذيرًا للبشر. (¬4) "معاني القرآن" بيسير من التصرف. (¬5) ساقط من النسختين، وما أثبتاه من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج، ولا يستقيم المعنى إلا بإثباتها. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 249 بتصرف. (¬7) في (أ): المذكور. (¬8) سقط حرف اللام من أول النسخة: أ. (¬9) ورد هذا القول في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 84.

37

الحال من أن يكون المضاف، أو من المضاف إليه، فإن كان من المضاف إليه، كان القائل فيه "ما في" "إحدى" من معنى التفرد، وإن كان المضاف إليه كان العامل فيه ما في "الكُبر" من معنى الفعل، وفي كلا (¬1) الوجهين ينبغي أن يكون "نذيرًا" مصدرًا؛ لأن المضاف مؤنث، والمضاف إليه مؤنث مجموع، والمصدر قد يكون حالاً من الجميع، كما يكون حالاً من المفرد تقول: جاء وأركض (¬2)، كما تقول: جاء ركضًا (¬3). 37 - قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ}، "لمن " بدل من قوله: "للبشر" (¬4)، وهو كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ} (¬5). قوله: "أن يتقدم"، أي: في الخير والإيمان. "أو يتأخر" عنه. والمعنى: قد حصل الإنذار لكل أحد لمن آمن وصدق، ولمن عصى وكفر، وهذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة، وإلى ما أمر به جوزي بالثواب، وقد سبق له الوعد بذلك، ومن تأخر عما أمر به عوقب، وقد سبق له الإنذار والوعيد. وهذا معنى قول ابن عباس (¬6)، ¬

_ (¬1) في النسختين: كلى. (¬2) في (ع): وأركضا. (¬3) لم أعثر على مصدر لقول أبي علي الفارسي. ولقد ذكرت أوجه أخرى كثيرة في قوله: "نذيرًا". انظر ذلك في: الدر المصون: 6/ 419 - 420. (¬4) انظر: إعراب القرآن للنحاس: 5/ 72، و"البحر المحيط" 8/ 379. (¬5) سورة آل عمران: 97. (¬6) "جامع البيان" 29/ 164، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 84، وعبارته: من شاء أَتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها.

(والكلبي (¬1)) (¬2)، ومقاتل (¬3)، والمفسرين (¬4). ومعنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين (¬5): التهديد (¬6)، كقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وذكر صاحب النظم، وغيره (¬7): أن (هذه) (¬8) المشيئة لله -تعالى- ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) "تفسير مقاتل" 217 / أ. (¬4) ممن قال بذلك: قتادة، والحسن، وابن جريج، ويحيى بن سلام، والسدي. انظر: "جامع البيان" 29/ 164، و"الكشف والبيان" ج: 12: 211/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 398، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 84، و"زاد المسير" 8/ 128. كما ذهب إلى هذا القول السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 423 - 424، والبغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 418. (¬5) في (ع): المخاطبون. وهو خطأ. (¬6) في قوله: (ومعنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين: التهديد) ما يفيد أن الإمام الواحدي قائل بقول الأشاعرة في مسألة فعل العبد حيث ينكرون أن تكون له قدرة مؤثرة، وقد سموا فعله: كسبا. قال د: عبد الرحمن المحمود معلقًا على ذلك: "والمؤلف ربما زاد على شيوخه حين نفى المشيئة التي للعبد، وأول ظاهر الآية إلى أن المقصود بها التهديد. والذي عليه أهل السنة والجماعة أن للعبد مشيئة بها يختار هذا وهذا. ولكنها خاضعة وداخلة تحت مشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}. فللعبد مشيئة حقيقية تليق به، ولله تعالى مشيئة تليق بجلاله وكماله، ولا تنافي بينهما" انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 95، وكتابه محرر بتاريخ 18/ 8/18 هـ. من د: عبد الرحمن المحمود. (¬7) قد أورده الفخرى: "التفسير الكبير" 30/ 210. (¬8) ساقط من: (أ).

على معنى: لمن شاء (الله) (¬1) منكم أن يتقدم أو يتأخر (¬2). قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، أي مأحْوذة بحملها. قال ابن عباس: مرتهنة في جهنم (¬3). وقال مقاتل: كل نفس كافرة مرتهنة بذنوبه في النار (¬4). ومن (¬5) المفسرين (¬6)، وأهل المعاني (¬7): من يحمل هذا على العموم، وإلا فيما استثنى فتقول: كل أحد مأخوذ بعمله محاسب به إلى أن يتخلص من يتخلص بفضل الله. قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} من قال إن المرتهنة هي الكافرة، قال: أصحاب اليمين هم المؤمنون. وهو قول عطاء عن ابن عباس (¬8)، ¬

_ (¬1) ساقط من: (أ). (¬2) وقول صاحب النظم أيضًا فيه نفي المشيئة للعبد، والتعليق عليه بمثل ما جاء في الحاشية السابقة رقم: 7. (¬3) بمعناه في "جامع البيان" 29/ 165 والعبارة عنه قال: "إن كان أحدهم سبقت له كلمة العذاب جعل منزله في النار يكون منها رهنًا , وليس يرتهن أحد من أهل الجنة هم في جنات يتساءلون". (¬4) "تفسير مقاتل" 217/ أ. (¬5) في: أ: وفي. (¬6) منهم: قتادة، والحسن، ويحيى بن سلام، والسدي. انظر: "جامع البيان" 29/ 164، و"الكشف والبيان" ج: 12: 211/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 398، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 84، و"زاد المسير" 8/ 128. وإلى هذا القول ذهب السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 423 - 424، والبغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 418. (¬7) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

(والكلبي (¬1)) (¬2)، ومقاتل (¬3). قال عطاء: هم المؤمنون (¬4). وقال الكلبي: هم الذين قال الله فيهم: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهم الذين كانوا على يمين آدم" (¬5). قال (¬6) مقاتل: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، لا يرتهنون بذنوبهم في النار (¬7). وروى أبو ظَبْيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون (¬8). وهذا قول الحسن (¬9) (وابن كيسان (¬10)) (¬11). ومعنى قول قتادة: (غلق) (¬12) الناس (¬13) كلهم إلا أصحاب ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ساقطة من: (أ). (¬3) "تفسير مقاتل" 217/ أبمعناه. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) الوسيط: 4/ 386. (¬6) في (ع): وقال. (¬7) "تفسير مقاتل" 217/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 210. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 85، و"الدر المنثور" 8/ 336 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬9) "الكشف والبيان" ج: 12: 211/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 398، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 85، و"البحر المحيط" 8/ 379. (¬10) المراجع السابقة عدا "الكشف والبيان". (¬11) ساقطة من: (أ). (¬12) في كلا النسختين: خلق، وما أثبته نقلاً عن "جامع البيان" 29/ 165، و"الكشف والبيان" ج: 12: 211/ ب، وذكر في "معالم التنزيل" 4/ 418 علق، وكذا "الدر المنثور" 8/ 336. (¬13) في (أ): الإنسان.

اليمين (¬1). أي بقوا مرتهنين لا يفك رهانهم. وهذا من صفة الكفر. ومن أجاز أن يكون المسلمون من جملة من عني بقوله "كل نفس بما كسبت" قال في أصحاب اليمين: هم أطفال المسلمين. وهو قول: علي (¬2)، وابن عمر (¬3) (رضي الله عنهما) (¬4)، ومجاهد (¬5)، (واختيار الفراء (¬6)، والزجاج (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة. (¬2) هو علي بن أبي طالب، وقد ورد قوله في: تفسير الإمام مجاهد: 5/ 685، و"معاني القرآن" للفراء: 3/ 205، و"جامع البيان" 29/ 165، و"بحر العلوم" 3/ 424، و"النكت والعيون" 6/ 148، و"معالم التنزيل" 4/ 418، و"المحرر الوجيز" 5/ 398، و"زاد المسير" 8/ 129، و"التفسير الكبير" 30/ 210، و"الجامع للأحكام القرآن" 19/ 85، و"البحر المحيط" 8/ 379، و"الدر المنثور" 8/ 336، وعزاه إلى عبد الرزاق -ولم أجده في تفسيره- والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وانظر: "المستدرك" 2/ 507: كتاب التفسير: تفسير سورة المدثر: وصححه الحاكم ووفقه الذهبي. و"الدر المنثور" 8/ 336 وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، وابن المنذر. (¬3) "الدر المنثور" 8/ 336، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر. (¬4) ساقطة من: (ع). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 205. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 249. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

قال الفراء: وهو شبيه بالصواب؛ لأن الوِلْدان [لم] (1) يكتسبوا (2) إثمًا يرتهنون به؛ لأن في قوله: {يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ما يقوي أنهم الولدان؛ (لأنهم) (3) لم يعرفوا الذنوب، فسألوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} (4): قال الكلبي: ما أدخلكم (5). وقال مقاتل: ما جعلكم في سقر. مال: وذلك لما أخرج الله أهل التوحيد من النار، قال المؤمنون: أصحاب اليمين لمن بقي في النار من الكفار: "ما سلككم في سقر" يقولون: ما حبسكم في النار (6)؟ فأجابوهم عن أنفسهم، فقالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} لله في الدنيا، أي من الموحدين. قاله عطاء (7). وقال الكلبي: يعني من المسلمين (8). {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}، أي: لم نك نتصدق على المساكين، ولا نطعمهم في الله. (قاله عطاء، والكلبي (9)، ومقاتل (10)).

_ (1) لم: ساقطة من النسختين، وما أثبته من "معاني القرآن" للفراء: 3/ 205، وهو الصواب لاستقامة المعنى به. (2) في: (أ، ع): يكتسبون، وهو خطأ عند إثبات لم. (3) ساقطة من: (أ). (4) "معاني القرآن" 3/ 205 بيسير من التصرف. (5) لم أعثر على مصدر لقوله. (6) "تفسير مقاتل" 216/ أ، و"زاد المسير" 8/ 129. (7) لم أعثر على مصدر لقوله. وعبارة: (قوله عطاء) ساقط من: (أ). (8) و (9) لم أعثر على مصدر لقولهم. (10) "تفسير مقاتل" 217/ أبمعناه. وما بين القوسين ساقط من: (أ).

{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}، قال ابن عباس: نكذب مع المكذبين (¬1). وقال الكلبي (¬2)، ومقاتل (¬3): نخوض مع أهل الباطل في الباطل والتكذيب. وقال قتادة: أي كلما غوى غاوٍ غوينا (¬4) معه (¬5). قال أبو إسحاق: أي نتبع الغاوين (¬6). {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}، أي: بيوم الجزاء، والثواب، والعقاب. {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}، أي: الموت. قاله ابن عباس (¬7) والمفسرون (¬8)، وهذا كقوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬9). والمعنى (¬10): كنا نقول إن يوم القيامة غير كائن، وبقينا على ذلك حتى الموت ومتنا عليه. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 217/ أبمعناه. (¬4) في (أ): وغوينا. (¬5) "جامع البيان" 29/ 166، و"النكت والعيون" 6/ 148، و"المحرر الوجيز" 5/ 399، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 86، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 476. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 249 بنصه. (¬7) "الدر المنثور" 8/ 337، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬8) قال بذلك السدي. انظر: "النكت والعيون" 6/ 148، وممن قال به أيضًا: ابن جرير، والسمرقندي، والثعلبي: "جامع البيان" 29/ 166، و"بحر العلوم" 3/ 424، و"الكشف والبيان" ج: 12: 211/ أ، كما ذهب إليه: البغوي، وابن عطية. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 419، و"المحرر الوجيز" 5/ 399. (¬9) سورة الحجر: 99: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. (¬10) في: (أ): معنا.

49

قال الله -تعالى-: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، قال عطاء عن ابن عباس: يريد شفاعة الملائكة والنبيين، كما نفعت الموحدين (¬1). وقال مقاتل: لا تنالهم شفاعة الملائكة والنبيين (¬2). وقال الحسن: حل عليهم غضب الله، فلم تنفعهم شفاعة ملك، ولا شهيد، ولا مؤمن (¬3). وقال عمران بن حصين: الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون (¬4). وقال كعب: لا تزال الشفاعة تجوز حتى تبلغ أهل هذه الآيات: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى آخرها (¬5). 49 - قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ}، يعني كفار قريش حين نفروا عن القرآن. {عَنِ التَّذْكِرَةِ}، أي عن التذكرة بمواعظ القرآن. {مُعْرِضِينَ}، نصب على الحال (¬6)، أي: أي شيء لهم، وهم معرضون عن التذكرة. والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إذ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به. ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة (فقال: ¬

_ (¬1) الوسيط: 4/ 387، و"فتح القدير" 5/ 333 من غير عزو. (¬2) "تفسير مقاتل" 217/ أ. (¬3) الوسيط: 4/ 387. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 419. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) انظر: "الكشف والبيان" 12: 211/ ب.

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}) (¬1) (قال ابن عباس (¬2)، وغيره (¬3): يريد الحمر الوحشية) (¬4). ({مُسْتَنْفِرَةٌ}، أي: نافرة) (¬5) (يقال: نفر، واستنفر، مثل: سخِر، واستسخَر، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ) (¬6). أنشد أبو عبيدة (¬7) (¬8)، (وابن الأعرابي (¬9)، والفراء (¬10)، والزجاج (¬11)) (¬12): ارْبِط حِمارَكَ إنَهُ مُسْتَنْفَرٌ ... في إثْرِ أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ (¬13) ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬2) "زاد المسير" 8/ 130، و"التفسير الكبير" 30/ 212، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87، و"البحر المحيط" 8/ 380. (¬3) عكرمة. "الدر المنثور" 8/ 339، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن الحجة: 6/ 341. (¬7) لم أجده في "مجاز القرآن". (¬8) في (أ): فقال، وهي تعتبر لفظة زائدة عند وجود ما أثبته من نسخة: ع، وهو: ابن الأعرابي، والفراء، والزجاج. (¬9) "تهذيب اللغة" 15/ 210، مادة: (نفر) برواية: "اضرب" بدلاً من "اربط". (¬10) "معاني القرآن" 3/ 206، برواية: "أمسك" بدلاً من: "اربط". (¬11) معاني القرآن وإعرابه: 5/ 250 برواية: "أمسك". (¬12) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬13) البيت لنافع بن لقيط الفقعسي، وقد ورد في: في: كتاب "المعاني الكبير" 2/ 793، و"لسان العرب" 1/ 648: (غريب) ج: 5/ 24: مادة: (نفر)، و"جامع البيان" 29/ 168، و"النكت والعيون" 6/ 148، و"الجامع لأحكام القرآن" 9/ 87، وكلها برواية: "أمسك" بدلاً من: "اربط"، و"البحر المحيط" 8/ 380 برواية: "عهدن لعرب"، القراءات وعلل النحويين فيها: 2/ 727. =

(وقرئ "مُسْتَنْفَرَة" بفتح الفاء (¬1). وهي بمعنى مذعورة. يقال: استنفر الوحش وأنفرتها ونفرتها بمعنى واحد) (¬2)، واختاره (¬3) أبو عبيد قال: لأن أكثر ما تكلم به العرب إذا جعلت الفعل للحمر أن تقول: أنفرت، ولا يكادون يقولون: استنفرت، إذا كانت هي الفاعلة، يقولون: استنفرت، إذا فعل ذلك بها، فهي مستنفرة (¬4). وقال أبو علي الفارسي: (الكسر في "مُستنفِرة" أولى، ألا ترى أنه: قال "فرت من قسورة"، وهذا يدل على أنها هي استنفرت) (¬5). ويدل على صحة ما قال أبو علي (أن محمد بن سلام قال: سألت أبا ¬

_ = وموضع الشاهد: "مستنفر"، وهو عند أهل الحجاز "مستنفَر" بفتح الفاء، وهما جميعًا كثيران في كلام العرب. والمعنى: كف نفسك عن أذى قومك، ولا تطمحن إليهم بالأذى، فإنك قد عرت في شتمهم كما يعير الحمار عند مربط أهله يتبع حمرًا. انظر: "شرح أبيات معاني القرآن للفراء ومواضع الاحتجاج بها" د. ناصر حسين علي: 60: ش 115. (¬1) قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: مُسْتَنْفَرَة -بفتح الراء، ونصب الفاء-، والمفضل عن عاصم مثله. وقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: مُستَنْفِرة -بكسر الفاء-. انظر: كتاب السبعة: 660، و"الحجة": 6/ 341، و"المبسوط": 386، و"كتاب التبصرة": 714، و"تحبير التيسير": 194. (¬2) ما بين القوسين نقله عن الأزهري. انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 210، مادة: (نفر). (¬3) أي اختار قراءة فتح الفاء. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين هو من قول أبي الحسن نقله عنه أبو علي في الحجة: 6/ 341 بنصه.

سوار الغنوي (¬1)، وكان أعرابيًّا فصيحًا، فقلت: كأنهم حمر ماذا؟ قال: مستنفرة طردها قسورة، قلت: إنما هو: فرت من قسورة، قال: أفرَّت؟، قلت: نعم، قال: فمستنفرة إذًا) (¬2). قوله تعالى: {فَرَّت}: يعني الحمر. {مِنْ قَسْوَرة}: اختلفوا في تفسير القسورة: فروى عن ابن عباس فيها أقوالاً، قال في رواية عطاء (¬3)، (والكلبي (¬4)) (¬5): إنها الأسد؛ وهو قول: أبي هريرة (¬6)، قال هي: الأسد الأسود (¬7). قال أبو عبيدة (¬8)، وابن الأعرابي (¬9)، ....... ¬

_ (¬1) أبو سوار الغنوي: روى عن أبيه، عن عمر بن عبد العزيز، روى عنه أبو سلمة موسى بن إسماعيل. انظر: كتاب "الجرح والتعديل" 9/ 342: ت: 1827. (¬2) ما بين القوسين عند أبي علي في الحجة: 6/ 342 نقله عنه الإمام الواحدي بنصه. (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 419، كما ذكرت الرواية عن ابن عباس من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس في: "المحرر الوجيز" 5/ 399، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87، و"البحر المحيط" 8/ 380، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 476. (¬4) المراجع السابقة، وانظر: الوسيط بين المقبوض والبسيط: 2/ 621، وانظر: مادة: (قسر) في: "تهذيب اللغة" 8/ 399، و"لسان العرب" 5/ 92. (¬5) ساقط من: (أ). (¬6) بياض في (ع). (¬7) "جامع البيان" 29/ 170، و"الكشف والبيان" 12: 213/ أمن غير ذكر الأسود، و"معالم التنزيل" 4/ 419، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87، و"لباب التأويل" 4/ 332، و"البحر المحيط" 8/ 380، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 476، و"الدر المنثور" 8/ 339 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وانظر: مجمع الزوائد: 7/ 132: تفسير سورة المدثر. وقال الهيثمي: رواه البزار، ورجاله ثقات. (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 276. (¬9) "لسان العرب" 5/ 92: مادة: (قسر).

(والمبرد (¬1)) (¬2): القسورة الأسد، مأخوذ من: القسر، وهو: القهر على الكره، سمي بذلك؛ لأنه يقهر السباع. قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه، كذلك هؤلاء المشركون إذا رأوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، أو سمعوه يقرأ، هربوا منه كما تهرب الحمير من الأسد (¬3). وقال في رواية سليمان (بن قتة) (¬4) هي: الأسد بلسان الحبشة (¬5) (¬6)، وخالف عكرمة فقال: الأسد بلسان الحبشة: عنبسة (¬7). وقال (¬8) في رواية سليم ....... ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) "زاد المسير" 8/ 130، و"التفسير الكبير" 30/ 791. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) الحبشة ويراد به حاليًا أثيوبيا تقع في الجناح الشمالي الشرقي من قارة إفريقيا، أو ما يعرف الآن بالقرن الأفريقي، وأثيوبيا كلمة إغريقية معناها بلاد الأثيوبيين، أي بلاد المحروقة وجوههم، عاصمتها: أديس أبابا، واللغة الرسمية: الأمهرية، تتميز بغزارة أمطارها صيفًا التي تذهب أكثرها إلى بحيرة تانا في الشمال الشرقي. تحوي صادراتها: الحبوب، والبن، والعسل، والجلود، والذهب. العملة الرسمية لها: البِرّ، كانت تدين بالوثنية ثم اعتنقت النصرانية، ودخلتها اليهودية من اليمن ثم دخلها الإسلام في القرن 7 م. انظر: الموسوعة العالمية: 1/ 83 - 87، و"الموسوعة العربية الميسرة" 1/ 53. (¬6) ورد قوله في: "الكشف والبيان" 12: 213/ أ، و"التفسير الكبير" 30/ 212 من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس. (¬7) "جامع البيان" 29/ 169، و"التفسير الكبير" 30/ 212. (¬8) أي ابن عباس.

(بن عبد (¬1)) (¬2): هم الرماة (¬3). (وهو قول مجاهد (¬4)، وأبي موسى الأشعري (¬5)، والضحاك (¬6)، ومقاتل (¬7)، وابن كيسان (¬8)، وعكرمة (¬9)) (¬10). وهذا معنى قول من قال في "القسورة": إنهم القناص (¬11). (وهو رواية ¬

_ (¬1) سليم بن عبد: لعله: سليم بن عبد السلولي الكناني، كوفي، روى عن حذيفة، روى عنه أبو إسحاق السبيعي. انظر: كتاب "الجرح والتعديل" 4/ 212: ت: 915. أو لعله يراد به: سليمان بن عبد الله السلولي، فقد وردت بمثل هذه الرواية من طريقه عن ابن عباس في: "جامع البيان" 29/ 169، ولم أعثر على ترجمة له. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: أ، وغير مستكمل في: ع بسبب بياض في آخر الكلام. (¬3) "جامع البيان" 29/ 169. (¬4) "جامع البيان" 29/ 168، و"الكشف والبيان" ج: 12: 212/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 419، و"زاد المسير" 8/ 130، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87، و"الدر المنثور" 8/ 339 وعزاه إلى عبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬5) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 168، و"زاد المسير" 8/ 130، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87، الدر: 8/ 339 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وانظر: "المستدرك" 2/ 508: كتاب التفسير: تفسير سورة المدثر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 419، و"زاد المسير" 8/ 130، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87، و"الكشف والبيان" ج: 12: 212/ ب. (¬7) "تفسير مقاتل" 217/ أ، و"زاد المسير" 8/ 130. (¬8) "زاد المسير" 8/ 130، و"الكشف والبيان" ج: 12: 212/ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87. (¬9) "جامع البيان" 29/ 169، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 87. (¬10) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬11) القانص: الصائد، والقوانص جمع قانصة من القنص: الصيد. النهاية في "غريب الحديث" والأثر: 4/ 112.

عطية عن ابن عباس (¬1)) (¬2)، وقول سعيد (بن جبير (¬3)، والحسن (¬4) " (¬5)؛ يدل على هذا أن الحجاج روى (عن عطاء عن ابن عباس) في "القسورة": الرماة، رجال القنص (¬6)، فجمع بين اللفظين. (روى أبو العباس عن) (¬7) ابن الأعرابي في تفسير (القسورة (¬8)): وفيها أقوال (لم تروَ عنه) (¬9)، قال عكرمة: "من قسورة": من ظلمة الليل (¬10). قال ابن الأعرابي: القسورة: أول الليل (¬11). وقال قتادة: القسورة: النَّبْل (¬12). وقال (زيد) (¬13) بن أسلم: القسورة: الرجال الأقوياء (¬14). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 169، و"الكشف والبيان" ج: 12: 212/ ب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) المرجعان السابقان، وانظر: "الدر المنثور" 8/ 339 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) "المحرر الوجيز" 5/ 399 من غير ذكر الطريق، و"الدر المنثور" 8/ 339 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: أ، وقد ذكر بدلاً منه لفظ: "قال" في نسخة: أ. (¬8) في (أ): قسورة (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬10) "الكشف والبيان" ج: 12: 213/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 419، و"زاد المسير" 8/ 131، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 88، و"فتح القدير" 5/ 333. (¬11) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 88، و"البحر المحيط" 8/ 381. (¬12) تفسير عبد الرزاق: 2/ 332، و"النكت والعيون" 6/ 149، و"زاد المسير" 8/ 131. (¬13) ساقط من: (أ). (¬14) ورد قوله في: "الكشف والبيان" ج: 12: 213/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 419، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 88.

قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} قال المفسرون (¬1): وذلك أن كفار قريش قالوا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليصبح عند رأس كل منا كتاب منشور من الله: أن آلهتنا باطلة، وأن إلهك حق، وأنك رسوله، نؤمر فيه باتباعك كقوله: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} (¬2)، وهذا قول مجاهد (¬3)، ومقاتل (¬4)، (وقتادة (¬5)، والحسن (¬6)) (¬7). قالوا: أرادوا كتبًا تنزل من السماء إلى فلان، وإلى فلان: أن آمنوا بمحمد. وقال الكلبي: إنهم قالوا: كنا نحدث أن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنبًا أصبح وعند رأسه صحيفة مكتوبة فيها ذنبه وتوبته: أذنبت كذا وكذا، وكفارتك كذا؛ فإن فعلت بها ذلك آمنا بك (¬8). (وهو اختيار ¬

_ (¬1) ورد قول المفسرين في: "معالم التنزيل" 4/ 419، و"زاد المسير" 8/ 131، و"التفسير الكبير" 30/ 212، و"لباب التأويل" 4/ 232، و"البحر المحيط" 8/ 381، و"فتح القدير" 5/ 333. (¬2) الإسراء: 93: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}. (¬3) بمعناه في "جامع البيان" 29/ 171، و"النكت والعيون" 6/ 149 مختصرًا، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 88، و"الدر المنثور" 8/ 340، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) "تفسير مقاتل" 217/ أ. (¬5) "جامع البيان" 29/ 171، و"الدر المنثور" 8/ 340، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) "الكشف والبيان" ج: 12: 213/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 420، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 88.

الفراء (¬1) , والزجاج (¬2)) (¬3)؛ ويدل على صحته (¬4) قوله: {صُحُفًا مُنَشَّرَةً} بلفظ الجمع لكل امرئ منهم، والصحف: الكتب، واحدتها (¬5) صحيفة. قال الليث: ومن النوادر أن تجمع فعيلة على فُعُل، مثل سفينة وسُفُن، وكان قياسهما: صحائف وسفائن (¬6). و {مُّنَشَّرَةً} معناها منشورة، والتفعيل (¬7) للكثرة في الجمع. قال الله: {كَلَّا}، قال مقاتل: لا يؤتون (¬8) الصحف (¬9). {بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} قال عطاء: أي النار والعقاب (¬10). والمعنى: أنهم لو (¬11) خافوا الآخرة لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة ووضوح المعجزة، واشتغالهم بالاقتراحات دليل على أنهم لا يخافون النار. {كَلَّا} أي: حقًّا، {إِنَّهُ}، يعني: القرآن، {تَذْكِرَةٌ}، تذكير وموعظة، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال ابن عباس: (اتعظ) (¬12) (¬13). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 206. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 250. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) في (أ): صحة. (¬5) في (أ): واحدها. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 254 مادة: (صحف)، نقله عنه بنصه. (¬7) في (أ): الفعيل. (¬8) في (ع): تؤتون. (¬9) "تفسير مقاتل" 217/ أ، قال: "لا يؤمنون بالصحف". (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) زاد في (أ): أنهم، ولم تذكر في (ع)، وهو الصواب، لاستقامة المعنى بدونها. (¬12) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد من غير نسبة في الوسيط: 4/ 388. (¬13) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

({وَمَا يَذْكُرُونَ} (¬1))، قال (¬2): يريد يتعظون (¬3). {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى (¬4)؛ فرد المشيئة إلى نفسه (¬5). قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} روى أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "قال ربكم -عز وجل-: أنا أهل أن أتَّقَى فلا يُشْرَك بي غيري، وأنا أهل لِمَنِ اتَّقَى أن يشرك بي غيري أن أغْفِرَ له" (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬2) أي ابن عباس. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "فتح القدير" 5/ 334، وبمعناه في "تفسير مقاتل" 217/ ب. (¬5) قال السعدي في معنى قوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}: "فإن مشيئة الله نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها رد على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية: الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقية وفعلاً، وجعل ذلك تابعًا لمشيئته". تفسير الكريم الرحمن: 5/ 338. (¬6) الحديث أخرجه: الدارمي في سننه: 2/ 758: ح: 2624: كتاب الرقاق. باب 16 في تقوى الله، والإمام أحمد في مسنده: 3/ 142. وابن ماجه 2/ 447: ح 4354 بنحوه في الزهد: باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. والترمذي 5/ 430: ح 3328: كتاب التفسير: تفسير سورة المدثر "71" وقال: هذا حديث غريب، و"سُهَيْل" ليس بالقوي، قد تفرد بهذا الحديث عن ثابت. والحاكم في "المستدرك" 2/ 508: بمعناه في التفسير: تفسير سورة المدثر, وصححه ووافقه الذهبي. والحديث في سنده ضعف. انظر: "ضعيف سنن ابن ماجه" 350: ح: 936 - 4299، وضعيف سنن الترمذي: 432: ح: 659 - 3563، وقال السيد بن عبد المقصود: وفي سنده ضعف، فهو من رواية سهيل بن أبي حزم القطعي، عن =

وقال (¬1) ابن عباس: يريد أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر لمن اتقى (¬2). (ونحو هذا قال مقاتل: أهل أن يتقى فلا يعصى، وأهل المغفرة ذنوب أهل التقوى (¬3)) (¬4). وقال قتادة: أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب (¬5). وقال أبو إسحاق: أهل أن يُتَّقَى عِقَابُه، وأهل أن يُعمل بما يؤدي إلى مغفرته (¬6). والمعنى أنه إذا كان أهلًا للمغفرة يجب أن يتعرض لمغفرته بما يؤدي إليه (¬7) من الطاعة والتوبة والاستغفار. ¬

_ = ثابت، عن أنس، وسهيل ضعيف كما في التقريب (1: 338: ت: 576)، وقد قال عنه الترمذي: غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث، وقد تفرد به عن ثابت -ثم قال- قلت: وعلى هذا فتصحيح الحاكم للحديث فيه نظر. انظر -حاشية- "النكت والعيون" 6/ 149 تحقيق السيد بن عبد المقصود. (¬1) في (أ): قال. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 213/ ب. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "جامع البيان" 29/ 172، و"النكت والعيون" 6/ 149، و"المحرر الوجيز" 5/ 400. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 250 بنصه. (¬7) في (ع): إليها.

سورة القيامة

سورة القيامة

1

تفسير سورة القيامة (1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} لا اختلاف بين المفسرين (2) وأهل المعاني

_ (1) مكية كلها. انظر: "تفسير مقاتل" 217/ ب، و"جامع البيان" 29/ 172، و"الكشف والبيان" 13: 3/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 420، و"المحرر الوجيز" 5/ 401، و"زاد المسير" 8/ 132، و"التفسير الكبير" 30/ 214، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 89، و"لباب التأويل" 4/ 332. (2) حكى الإجماع كل من السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 425، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 132، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 90، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 332. كما نقل الإجماع الشوكاني في "فتح القدير" 5/ 335، وذكر الطبري في "تفسيره" 29/ 174 إجماع "الحجة" على أن معنى الآية: أقسم. وهناك من خالف الإجماع بالقول إن (لا) لنفي القسم، وهذا قول أبي مسلم، ورجحه الفخر الرازي في "التفسير الكبير" 30/ 215، والزمخشري في "الكشاف" 4/ 163، والألوسي في "روح المعاني" 29/ 135. وقد استبعد الواحدي هذا القول، ولم يلق له اعتبارًا لضعفه، ولمخالفته للحجة من جمهور المفسرين. كما رده أيضًا أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 375، واستبعده الشنقيطي في كتابه: "دفع إيهام الاضطراب" 325، و"الملحق بأضواء البيان" 10. كما أن للضحاك أيضًا قولًا في معنى: (لا أقسم) قال: إن الله لا يقسم بشيء من خلقه، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه. وقد ضعف ابن كثير هذا القول الذي لا يقوم على دليل، ولا ينهض بحجة. انظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 319 في تفسير سورة الواقعة، الآية: 75. وبذكر المخالف للإجماع يتبين منهج الإمام الواحدي في حكاية الإجماع كما بينته وقررته سابقًا في سورة الحاقة. وقد قال د. محمد الخضيري في =

أن المراد: أقسم بيوم القيامة. وكذلك ما بعده، وقد ذكرنا فيما تقدم (1) من مثل هذا وجهين: أحدهما: أن (لا) صلة (2). والثاني: أن تكون ردًّا لكلام قد سبق. وكلا الوجهين هاهنا جائز، وإن وقع (لا) في أول السورة؛ لأن القرآن قوله كالسورة الواحدة، لاتصال بعضه ببعض، فمجازه مجاز الكلام الواحد، والذي يدل عليه: ذلك أنه قد يذكر الشيء في سورة، فيجيء جوابه في سورة أخرى، كقوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6]، جاء جوابه في سورة أخرى، وهو قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 2]. وإذا كان الأمر على هذا جاز أن تكون (لا) صلة لقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]، و {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159]. هذا قول أبى إسحاق (3) وأبى علي (4).

_ = رسالته للماجستير: "الإجماع في التفسير" 501: القول بالإجماع في هذه الآية، وإن كان له حظ من النظر، للأدلة، أمر يصعب الجزم به، لوجود المخالف. نقلته بتصرف قلت: وهذا القول منه عن حكايته الإجماع، وهل هو إجماع أو لا، وذلك على اعتبارات وضوابط ذكرها, وليس إلى المنهج الذي سار عليه الإمام الواحدي في حكايته للإجماع، والله أعلم. وأما أهل المعاني فقال بذلك أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 277، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 251. (1) كما جاء في سورة الواقعة: 75، وسورة القلم: 17، وسورة الحاقة: 38. (2) أي: حرف زائد، والقول بأن (لا) صلة من اصطلاح الكوفيين. انظر. "نحو القراء الكوفيين" 341. (3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 251، نقل عنه الواحدي بتصرف، وأكثر تفصيلًا. (4) "الحجة" 6/ 343، 344 بتصرف.

وقال الفراء: ولا يبتدأ بجحد (¬1)، ثم يجعله صلة (¬2) يراد به الطرح، ولو جاز هذا لما عرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث، والجنة، والنار، فجاء الإقسام عليهم فالرد في كثير من الكلام المبتدأ منه، وغير المبتدأ، كقولك في الكلام: لا والله لا أفعل ذلك، جعلوا (لا)، وإن رأيتها مبتدأة ردًّا لكلام قد سبق كان مضى، فلو ألقيت (لا) مما ينوى به الجواب لم يكن بين [اليمين التي تكون جوابًا و] (¬3) اليمين التي تستأنف فرق، ألا ترى أنك تقول مبتدئًا: والله إن الرسول لحق، فإذا قلت: لا والله إن الرسول لحق، فكأنك أكذبت قومًا أنكروا، فهذا وجه (لا) مع الإقسام في كل موضع ترى فيه (لا) مبتدأ بها، وهو كثير في الكلام (¬4) (¬5). ويدل على أن المعنى إثبات القسم قراءة من قرأ: (لأقسم) يجعلها (لامًا) دخلت على: (أقسم) [وهي] (¬6) قراءة الحسن (¬7). ¬

_ (¬1) يراد به النفي، ولفظ الجحد من مصطلحات الكوفيين. "نحو القراء الكوفيين" 345. (¬2) حرف زائد. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، وما أثبته فمن "معاني القرآن" للفراء 3/ 207، ولا يستقيم الكلام بدونه. (¬4) نحو ما جاء في سور: الواقعة 75، والقلم: 17، والحاقة: 38. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 207 بيسير من التصرف. (¬6) في كلا النسختين: هو. (¬7) انظر: "الحجة" 6/ 345، و"المحتسب" 2/ 341، و"المبسوط" 388، و"حجة القراءات" 735 , و"الكشف" 2/ 349، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 207. وقراءة: (لأقسم) قراءة سبعية صحيحة قرأ بها ابن كثير بخلف عن البزي، كما قرأ بها قنبل. انظر المراجع السابقة عدا "المحتسب"، وانظر: كتاب السبعة: 661، و"البدور =

والثانية: متفقة على: (لا أقسم) (¬1). قال الحسن: أقسم بالأولى, ولم يقسم بالثانية (¬2). واختار أبو عبيد قراءة العامة، قال: لأنها لو كانت على قسم (¬3) مستأنفة للزم أن تلحق النون، فتكون (لأقسمن)؛ لأن العرب لا تقول: لأفعل كذا إذا أرادوا الإيجاب في المستقبل، وإنما يقولون: لأفعلن (¬4). وهذا الذي قاله أبو عبيد (هو في أكثر الأمر يكون على ما ذكر، ويجوز إدخال اللام من غير النون. حكى ذلك سيبويه، وأجازه (¬5). وكما لم تلحق (النون) مع (اللام) في هذه القراءة، كذلك يجوز أن لا تلحق (اللام) مع (النون) كما قال الشاعر (¬6): ¬

_ = الزاهرة" 329. وقرأ الباقون: (لا أقسم). انظر: المراجع السابقة (¬1) لا خلاف بين القراء في إثبات الألف في الموضع الثاني، وهو: (ولا أقسم بالنفس). انظر المراجع السابقة. (¬2) لم أعثر على نصه فيما بين يدي من كنبه، وقد ورد في "جامع البيان" 29/ 173، و"النكت والعيون" 6/ 151، و"المحرر الوجيز" 5/ 402، و"زاد المسير" 8/ 133، و"البحر المحيط" 8/ 384، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 477، و"فتح القدير" 5/ 335. وانظر: "تفسير الحسن البصري"، تح: د. محمد عبد الرحيم: 2: 377. (¬3) في (ع): قسيم. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وانظر: "الأمالي الشجرية" 1/ 369. (¬5) انظر: "كتاب سيبويه" 3: 104/ 105 (¬6) هو: عامر بن الطفيل، وهو من أشهر فرسان العرب بأسًا وشدة ونجدة.

2

وَقتيلِ مُرَّةَ اثْأَرَنَّ فَإنَّهُ ... فِرْغٌ وإنَّ أَخاهُمُ لَمْ يقصد (¬1)) (¬2) وقال الفراء في هذه القراءة: هو صواب؛ لأن العرب تقول: لأحلف بالله ليكونن كذا، يجعلونها (لامًا)، بغير معنى (لا) (¬3). قال ابن عباس: يريد أقسم بالقيامة (¬4). وهو قول الجميع (¬5). قال الكلبي: كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقسم قال: (لا أقسم) (¬6). 2 - قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} هذا على قول الحسن: نفي. كما ذكرنا عنه، وعلى قول الآخرين معناه: أقسم، واختلفوا في النفس اللوامة، فقال ابن عباس في رواية عطاء: إن كل نفس تلومها نفسها يوم القيامة، يلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانا، ويلوم المسيء ¬

_ (¬1) ورد البيت في "ديوانه" 56: دار بيروت. وفي "مغني اللبيب" 2/ 387 برواية: (وإن أخاكم لم يُثأرِ) منسوبًا، و"الحجة" 6/ 344 برواية: (وإن أخاهم لم يثأر). انظر: "الأمالي الشجرية" لابن الشجري 1/ 369 بمثل رواية المغني: 2/ 221 برواية: (وإن أخاهم لم يثأر)، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 349 (لم يثأر)، و"الدر المصون" 6/ 425 برواية: (وإن أخاكم لم يثأر). ومعناه: يقول: إنه سيثأر بقتيل مرة، ويريد به أخاه حنظلة الذي قتله المريون، وفرغ: أي هدر لم يثأر له، ولم يقصد: لم يقتل. انظر: "ديوانه" 56، و"الأمالي الشجرية" 1/ 369. (¬2) ما بين القوسين نقله الواحدي عن أبي علي في "الحجة" 6/ 344 بتصرف يسير. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 207 بنصه. (¬4) "النكت والعيون" 6/ 105. (¬5) قال بذلك سعيد بن جبير كما في "جامع البيان" 29/ 173، و"تفسير سعيد بن جبير" 361. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

نفسه أن لا يكون رجع من إساءته (¬1). وهو اختيار الفراء، قال: ليس من نفس برة، ولا فاجرة، إلا وهي تلوم نفسها، من كانت عملت خيرًا قالت: هل ازددت، وإن كانت عملت سوءًا (¬2) قالت: ليتني لم أفعل (¬3). وقال الحسن: هي النفس المؤمنة (¬4)، وإن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته (¬5)، يستقصرها في كل ما يفعل، فيندم ويلوم نفسه (¬6)، وإن الفاجر يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه (¬7) (¬8). وقال مقاتل (¬9)، وقتادة (¬10) (¬11) هي: النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله. وأما معنى القسم بالنفس اللوامة، فروى سعيد بن جبير عن ابن ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "بحر العلوم" 3/ 425، و"التفسير الكبير" 30/ 215. (¬2) في كلا النسختين: سوء. (¬3) "معاني القرآن الكريم" 3/ 208 بنصه. (¬4) قوله النفس المؤمنة: بياض في (ع). (¬5) قوله: إلا يلوم إلى حالاته: بياض (ع). (¬6) قوله: فيندم ويلوم نفسه: بياض (ع). (¬7) قوله: لا يعاتب نفسه: بياض (ع). (¬8) ورد معنى قوله في "الكشف والبيان" 13: 3/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 421، و"زاد المسير" 8/ 133، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 477، و"الدر المنثور" 8/ 343 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس. وانظر: "تفسير الحسن البصري" تح: د. محمد عبد الرحيم: 2/ 377. (¬9) "الكشف والبيان" 13: 3/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 421، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 91، و"لباب التأويل" 4/ 333، و"فتح القدير" 5/ 335. (¬10) بمعناه في "البحر المحيط" 8/ 384. (¬11) في (أ): قتادة ومقاتل.

عباس، قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه (1). وجواب القسم في قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} إلى قوله: {قَادِرِينَ}. وقال (2) أبو جعفر النحاس: جواب القسم محذوف، على تقدير: (لتبعثن) (3). يدل عليه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى}. (قال) (4) ابن عباس يريد: أبا جهل، أيحسب (5) أن لن يبعث (6). وقال مقاتل: يعني عدي ابن ربيعة الثقفي، كفر بالبعث (7). قال الله تعالى: {بَلَى} (8) أي: بلى نجمعها قادرين. فقوله: (قادرين) حال، والعامل فيها مضمر، يدل عليه: (أن لن نجمع عظامه بلى) على تقدير: بلى نجمعها، ونقوى عليها قادرين. وهذا قول جميع النحويين (9). قال الفراء: وقول الناس: بلى نقدر، فلما صرف (10) إلى (قادرين)

_ (1) لم أعثر على مصدر لقوله. (2) في (أ): قال. (3) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 91. (4) ساقطة من (أ). (5) بياض في (ع). (6) "تفسير مقاتل" 217/ ب، و"الوسيط" 4/ 391. (7) "الكشف والبيان" 13: 4/ أ، و"زاد المسير" 8/ 134، وهو عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شريق الثقفي. ذكر ذلك ابن الجوزي من النسخة الأزهرية. انظر: "زاد المسير" المرجع السابق. (8) {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}. (9) انظر: "كتاب سيبويه" 1/ 346، و"معاني القرآن" للأخفش 2/ 270، و"معاني القرآن وإعرابه" الزجاج 5/ 251. (10) في (أ): قصرت.

نصب خطأ؛ لأن الفعل لا ينصب بتحويله من يفعل إلى فاعل، ألا ترى أنك تقول: أتقوم إلينا، فإن حولتها إلى فاعل قلت: أقائم أنت إلينا، وكان خطأ أن تقول: (قائمًا)، فأما قول الفرزدق: علي قَسم لا أشْتِمُ الدهْرَ مُسْلِمًا ... ولا خارجًا من فِيَّ زُورُ كلامِ (¬1) فإنما نصبت (خارجًا) لأنه أراد: عاهدت ربي لا شاتمًا أحدًا, ولا خارجًا من فيّ زور كلام، فقوله: (لا أشتم) في موضع نصب (¬2). قوله تعالى: {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} قال ابن عباس: أن نجعل يده كخف البعير، أو كظلف الخنزير (¬3). وقال مقاتل (¬4)، والكلبي (¬5): أن نجعل أصابعه ملتزقة مثل الكف، فيكون كخف البعير لا ينتفع به ما كان حيًّا. وهذا قول قتادة (¬6) ¬

_ (¬1) ورد قوله في "ديوانه" 3/ 212: دار صادر، و"كتاب سيبويه" 1/ 346، كتاب: "شرح أبيات سيبويه" للنحاس 1/ 346، و"الكامل" 1/ 155 و 464، و"الخزانة" 1/ 108، 2/ 270، و"إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 957 جميعها برواية: عليّ حِلْفَةٍ (بدلاً من عليّ قسم) عدا الإيضاح. (¬2) ورد قوله في "معاني القرآن" 3/ 208 بيسير من التصرف. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 333، و"جامع البيان" 29/ 175 من غير ذكر أو كظلف خنزير، وبمعناه في "بحر العلوم" 3/ 425. (¬4) "تفسير مقاتل" 217/ ب. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 333 مختصرًا، و"جامع البيان" 29/ 176، و"النكت والعيون" 6/ 152 وعبارته فيهما: (بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل، حافر حمار أو خف بعير. فلا يأكل إلا بفيه ولا يعمل بيده شيئًا).

(وعكرمة) (¬1) (¬2)، والحسن (¬3)، قالوا: نجعلها كحافر الدابة (فهذا قول أهل التفسير) (¬4). وشرحه أبو علي (الفارسي) (¬5) فقال: بلى قادرين على أن نسوي بنانه أي نجعلها مع كفه كصفيحة مستوية، لا شقوق فيها، كخف البعير فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة، والخياطة (والْخَرْز) (¬6) (¬7) ونحو ذلك من لطيف الأعمال التي يستعان عليها بالأصابع (¬8). قال أحمد بن يحيى: ومن أيمانهم: لا والذي شقهن خمسًا من واحدة (¬9)؛ يريدون الأصابع من الكف. وقال المبرد: أي يجعلها على هيئة واحدة، فيكون على خلاف ما تقول العرب: ¬

_ (¬1) بمعناه في "جامع البيان" 29/ 175، و"الدر المنثور" 8/ 343، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) بمعناه في "جامع البيان" 29/ 175، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 92 - 93، وانظر: "تفسير الحسن البصري" تح: محمد عبد الرحيم 2/ 378. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) ساقطة من (أ). (¬6) الخرز: خياطة الأدَم. وكلُّ كُتْبَةٍ من الأدم: خُرْزَة -على التشبيه بذلك- يعني كل ثقبة وخيطها. والخراز صانع ذلك، وحرفته الْخِرازة. "لسان العرب" 5/ 344 (خرز). (¬7) ساقط من (أ). (¬8) لم أعثر علي مصدر لقوله, وقد ورد من غير عزو في "التفسير الكبير" 30/ 218. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله.

5

وما يستوي في الراحتين الأصابع (¬1) ولأهل المعاني قول آخر، قال أبو إسحاق: والذي هو أشكل بجمع العظام. بلى نجمعها، قادرين على تسوية بنانه على ما كانت، وإن قل عظامها وصغرت وبلغ منها البلى (¬2). وذكر أبو علي هذا القول، فقال: أي: يردها كما كانت (¬3). وشرح ابن قتيبة هذا القول فقال: هذا رد من الله عليهم، وذلك أنهم ظنوا أن الله لا ينشر الموتى، ولا يقدر على جمع العظام البالية فقال: (بلى) فاعلموا أنا نقدر على أن نعيد السُّلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى يستوي البنان، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار (العظام) (¬4) أقدر (¬5). 5 - قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ} يعني الكافر. {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: سوف أتوب (¬6). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد عن الأحوص بنحو ذلك قال: وقد ثبتت في الصدر منها مودة ... كما ثبتت بالراحتين الأصابع "شعر الأحوص بن محمد الأنصاري" تح: د. إبراهيم السامرائي: 117. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 251 بنصه. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ساقطة من (أ) (¬5) "تأويل مشكل القرآن" 346 بيسير من التصرف. (¬6) تفسير الإمام مجاهد: 686, و"جامع البيان" 29/ 177 بمعناه، و"بحر العلوم" 3/ 425، و"الدر المنثور" 8/ 344 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر, وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان, وانظر: "المستدرك" 2/ 509: كتاب:=

وقال في رواية عطاء (¬1) (والكلبي) (¬2) (¬3) يقدم الذنب، ويؤخر التوبة، ونحوه قال مقاتل (¬4) وقال مجاهد: راكبًا رأسه إلى المعاصي (¬5). وقال قتادة (¬6) (وعكرمة (¬7)) (¬8): قدمًا (قدمًا) (¬9) في معاصي الله، لا ينزع عن فجوره. وهذه الأقوال معناها واحد، أي (يسوف التوبة، ويقدم الأعمال السيئة) (¬10). ¬

_ = التفسير تفسير سورة القيامة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقد وردت هذه الرواية: أيضًا عن سعيد بن جبير في "تأويل مشكل القرآن" 346، و"جامع البيان". مرجع سابق، و"الكشف والبيان" 13: 4/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 421، و"زاد المسير" 8/ 134، و"التفسير الكبير" 30/ 218، و"الجامع لأحكام لقرآن" 19/ 93، و"لباب التأويل" 4/ 334. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله (¬2) "تأويل مشكل القرآن" 346، و"بحر العلوم" 3/ 425. (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 217/ ب. (¬5) "جامع البيان" 29/ 177، و"الكشف والبيان" ج 13: 4/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 421، و"المحرر الوجيز" 5/ 402. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "جامع البيان" 29/ 177، و"الكشف والبيان" 13: 4/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 421، و"المحرر الوجيز" 5/: 402. (¬8) ساقطة من (أ). (¬9) ساقطة من (أ). (¬10) ما بين القوسين نقله عن الزجاج بنصه من "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252. وسبب التسويف وتقديم عمل السوء لأنه مال عن الحق. قاله ابن قتيبة: "تأويل مشكل القرآن" 347.

ومعنى (يفجر): يعصي ويخالف. ومنه الدعاء: (ونَتْرُكُ من يَفْجرك) (¬1). و (أمامه)، أي: فيما يستقبل. والمعنى: يريد أن يعصي ويكفر أبدًا ما عاش. قال الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره، وليس في نيته أن يرتد عن ذنب يرتكبه (¬2). (وهذا معنى ما ذكره المفسرون) (¬3). وقال المؤرج: فجر: إذا ركب رأسه غير مكترث (¬4). ومعنى {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ليمضي أمامه راكب رأسه. وفي الآية قول آخر: يكذب بما (¬5) أمامه من البعث والحساب. وهو قول ابن زيد (¬6)، واختيار أبي إسحاق (¬7)، وابن قتيبة (¬8). ¬

_ (¬1) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 695 في آخره بعد سورة الناس، وهو في فضائل ابن الضريس، وقيام الليل لابن نصر، و"غريب الحديث" لابن الجرزي 2/ 177، و"الفائق" 3/ 90 (فجر)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 3. ومعناه: أي يعطيك ويخالفك. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 3، 144. (¬2) "الوسيط" 4/ 391، و"فتح القدير" 5/ 336. (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) انظر قوله في (فجر): "تهذيب اللغة" 11/ 50، و"لسان العرب" 5/ 47. (¬5) في (أ): بها. (¬6) "جامع البيان" 29/ 178، و"الكشف والبيان" 13/ 4/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 152 بمعناه، و"معالم التنزيل" 4/ 422، و"القرطبي" 19/ 93، و"ابن كثير" 4/ 478. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252. (¬8) "تأويل مشكل القرآن" 347.

قال أبو إسحاق: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ليكفر، ويكذب بما قدامه (من البعث، قال) (1): ودليل ذلك قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} (2). وقال ابن قتيبة: والفجور هاهنا بمعنى التكذيب بيوم القيامة، ومن كذب بحق فقد كذب، والكاذب المكذب، والفاسق فاجر؛ لأنه مائل عن الحق، قال: وهذا وجه حسن؛ لأن الفجور اعتراض بين كلامين من أسباب يوم القيامة، أولهما: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)}، والآخر: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}. وكأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه يوم القيامة، بلى نقدر على أن نجمع ما صغر منها، ونؤلف بينه، {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)}، أي: ليكذب (3) بيوم القيامة، أي (متى) (4) يكون ذلك تكذيبًا به (5). قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)} وقرئ: (برَق) بفتح الراء (6). وقال الفراء: (برق) بفتح الراء من البريق، أي شخص، ومن قرأ (برَق) فمعناه (7): فزع، وتحير، وأنشد قول طَرَفة:

_ (1) ساقطة من (أ). (2) قوله في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252 بتصرف. (3) في (أ): يكذب. (4) ساقطة من (أ). (5) "تأويل مشكل القرآن" 347 بتصرف. (6) قرأ بذلك: نافع، وأبو جعفر، وعاصم في رواية أبان، وقرأ الباقون: (بَرِق) بكسر الراء. انظر: "القراءات وعلل النحويين" 2/ 730، و"الحجة" 6/ 345، و"إتحاف القراءات" 736، و"كتاب التبصرة" 715، و"تحبير التيسير" 194، و"إتحاف فضلاء البشر" 428. (7) في (أ): ومعناه.

فنفسك فَانْعَ ولا تَنْعَني ... وداو (¬1) الكُلُومَ ولا تَبْرَق) (¬2) يقول: لا تفزع من هذه الجراح التي بي (¬3). ونحوه قال الزجاج (¬4) , وقال أبو عمرو بن العلاء (¬5): برق إذا حار. وقال أبو الحسن الأخفش: المكسور أكثر في كلامهم، والمفتوحة لغة (¬6)، وأنشد (أبو عبيدة) (¬7) (¬8): لما أتاني ابن (¬9) صبيح راغبًا ... أعطيته عيسًا منها فبرق (¬10) ¬

_ (¬1) في كلا النسختين: وداوي. (¬2) "ديوانه" 70، و"جامع البيان" 29/ 178، و"النكت والعيون" 6/ 153، و"زاد المسير" 8/ 135 "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 94، وشرح أبيات "معاني القرآن" 252 ش: 566. موضع الشاهد: (تبرق) (برق) بفتح الراء: فزع. ومضى البيت يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك، (برق): فتح عينيه من الفزع، وبرق بصره أيضًا كذلك، أما برق فمعناه تحير. شرح "معاني القرآن" مرجع سابق. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 209 بيسير من التصرف. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252. (¬5) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 178، و"الكشف والبيان" 13/ 5/ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 94، و"فتح القدير" 5/ 336. (¬6) لم أعثر على نص قوله في المعاني، وإنما ورد في "الحجة" 6/ 345، و"التفسير الكبير" 30/ 219. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 277. (¬8) ساقطة من (أ). (¬9) في (أ): أبو. (¬10) البيت للكلابي، وقد ورد عند أبي عبيدة على النحو الآتي: لما أتاني ابن صبيح راغبًا ... أعطيته عيسًا صهابًا فبرق كما ورد في "جامع البيان" 29/ 179، و"الكشف والبيان" 13/ 5 / ب, و"النكت والعيون" 6/ 153، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 94.

وقال الزجاجي: (برق) بصر فلان، يبرق برقًا (إذا) (¬1) تحير، والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق، فيؤثر ذلك في ناظره، ثم يستعمل ذلك في كل حيرة، وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق كما يقال: قمر بصره، إذا فسد من النظر إلى القمر، ثم استعير في الحيرة، وكذلك يفكر الرجل في أمره، أي تحير ودهش. وأصله من قولهم: بعلت المرأة، إذا فاجأها زوجها فنظرت إليه وتحيرت، وكذلك: ذهب إذا نظر إلى الذاهب الكثير، فجاز، كل ذلك بين في معنى الحيرة، والأصل لغيرها (¬2). قال قتادة: برق البصر: شخص البصر (¬3). وقول مقاتل: وذلك لما يرى من العجائب التي يكذب بها فيبرق بصره، ولا يكاد يطرق (¬4). وقال عطاء: يريد عند الموت (¬5). وقال الكلبي: ذلك عند رؤية جهنم تبرق أبصار الكفار (¬6). ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) "التفسير الكبير" 30/ 219، ونسبه إلى الزجاج، غير أني لم أجده عند الزجاج، فلعله تصحيف، والمراد به الزجاجي، كما هو في الأصل عند الواحدي، ولم أعثر على مصدر قول الزجاجي فيما بين يدي من مراجعه. (¬3) "جامع البيان" 29/ 180، و"الكشف والبيان" 13: 5/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 422، و"الدر المنثور" 8/ 344 وعزاه إلى عبد الرزاق -ولم أجده عنده-، وعبد ابن حميد، وابن المنذر. (¬4) "تفسير مقاتل" 217/ ب، و"الكشف والبيان" 13/ 5/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 422. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 94، و"فتح القدير" 5/ 337 وهو مروي عن مجاهد وغيره في كلا المرجعين. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 422.

8

8 - قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)}. أي ذهب ضوءه. قاله ابن عباس (¬1)، والجماعة (¬2). {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} كالبعيرين القرينين. قاله مقاتل (¬3). وقال الكلبي: كالثورين العقيرين (¬4) (¬5). وقال الفراء (¬6)، والزجاج (¬7): أي جُمِعَا في ذهاب نُورِهما. وقال الفراء: وإنما قال (جُمع) ولم يقل: جمعت لهذا؛ لأن المعنى: ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) وهو قول: قتادة، والحسن. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 333، و"جامع البيان" 29/ 180، و"تفسير الحسن البصري" 379. وإلى هذا القول ذهب: أبو عبيدة، والفراء، والسمرقندي، والزجاج، والماوردي. وانظر: "مجاز القرآن" 2/ 277، و"معاني القرآن" 3/ 209، و"بحر العلوم" 3/ 426، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252. "النكت والعيون" 6/ 153. وإليه ذهب البغوي، والقرطبي، والخازن، وابن كثير. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 422، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 95، و"لباب التأويل" 4/ 334، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 478. والخسف في اللغة: أجل يدل على غموض وغُؤُور، وإليه يرجع فروع الكلام. "معجم مقاييس اللغة" 2/ 180 (خسف). (¬3) "تفسير مقاتل" 218/ أبمعناه، وعبارته: كالبقرتين المقرونتين. (¬4) العقيرين: العقر عند العرب: كَسْف عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرًا؛ لأن العَقْر سبب لنحره "تهذيب اللغة" 1/ 215: مادة: (عقر)، وقد ورد في "بحر العلوم" كالثورين المقرنين - من غير عزو: 3/ 426. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وبنحوه قال ابن مسعود، قال: جمعا كالبعيرين القرينين. "زاد المسير" 8/ 135. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 209. (¬7) "معانى القرآن وإعرابه" 5/ 252

جمع بينهما (¬1). وقال الكلبي (¬2): المعنى: جُمع النوران، أو الضياءان (¬3). وقال أبو عبيدة: لتذكير القمر (¬4). يعني أن القمر شارك الشمس في المجمع" فلما شاركها مذكر، كان القول فيه جُمَع. ولم يرتض الفراء هذا القول، وقال: قيل لمن قال هذا: كيف تقولون: الشمس جُمَع والقمر؟ فقالوا: جُمِعت، ورجعوا عن ذلك القول (¬5). قوله: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ}، يعني: المكذب بيوم القيامة. {أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي الفرار. قال الأخفش (¬6)، (وأبو إسحاق (¬7) (¬8): عند جميع أهل العربية أن المصدر من فعل، يفعل، مفتوح العين، وقراءة العامة: (الْمَفَر) بفتح الفاء (¬9)، فيكون معناه الفرار. والمفسرون يقولون في تفسيره: المهرب، والملجأ (¬10)، فيكون ذلك ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252 بنصه. (¬2) بياض في (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 277 بنصه. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 210 بيسير من التصرف. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 720 - 721 نقله عنه بالمعنى. (¬7) "معاني القرآن" 5/ 252 نقله عنه بالمعنى. (¬8) ساقطة من (أ). (¬9) لم أجد قراءة العامة في الكتب التي تعني بذكر القراءات المتواترة. وإنما وجدتها في كتب التفسير: "جامع البيان" 29/ 180، و"بحر العلوم" 3/ 426، و"الكشف والبيان" 13: 5/ ب، و"زاد المسير" 8/ 135، و"البحر المحيط" 8/ 386. (¬10) وهو قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 5/ ب، وزاد الواحدي لفظة: (الملجأ)، والمارودي في "النكت والعيون" 6/ 153.

11

على قراءة من قرأ: (المفِر) بكسر الفاء (¬1)؛ لأن المكسور العين من هذا الباب معناه: الموضع. قال الفراء - (فيما حكى عنه ابن السكيت) (¬2) -: ما كان على (فعل)، (يفعل)، فالْمَفْعَل منه إذا أردت الاسم مكسورًا، وإذا أردت المصدر فهو (المفعل) بفتح العين، المدِبُّ، والمدَبُّ، والمفِر، والمفَر. (وقال في المعاني: هما لغتان: المفِر، والمفَرُّ) (¬3)، وما كان (يفعِل) منه مكسور العين مثل: يفِر، ويدِب، ويصِحُّ، فالعرب تقول: مَفِر، ومَفَر، (ومَدَب، ومَدِب، ومَصَح، ومَصِح، فعلى هذا: المفِر، والمفَر) (¬4) كلاهما للموضع (¬5). 11 - قال الله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)} قال الليث: الوزر: جبل حصين يلجأ إليه القوم فيمنعهم يقال: مَا حصن ولا وزر (¬6). قال العجاج: ¬

_ (¬1) قرأ بذلك: ابن عباس، وعكرمة، وأيوب السختياني، والحسن، وآخرون. انظر: "المحتسب" لابن جني: 2/ 341، و"إتحاف فضلاء البشر" للبنا: 428، و"بحر العلوم" 3/ 426. وهذه القراءة شاذة، لعدم صحة سندها , ولعدم ذكرها في كتب القراءات، ووجودها ضمن الشواذ في كتب الشواذ، ولقراءة الحسن البصري، وهو مما اشتهر عنه الشاذ، والله أعلم. (¬2) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 210 بتصرف. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد جاء في "الصحاح" الوَزَر: الملجأ، وأصل الوزر: الجبل المنيع، وكل معقل وزر: 2/ 845: مادة: (وزر)، وانظر: "لسان العرب" 5/ 282: مادة: (وزر).

وَعَهْدَ عُثمانَ وعَهْدَ عُمَر ... وعَهْدَ إخوانٍ هُمُ كانُوا وَزَر (¬1) وقال أبو عبيدة: (الوزر) الجبل، (لا وزر) لا جبل، وأنشد (¬2): لَعَمْرُكَ ما لِلْفَتَى مِنْ وَزَرْ ... مِنَ الموتِ يلحقه والْكِبَرْ (¬3) (¬4) قال المبرد (¬5) والزجاج (¬6): أجل الوزر: الجبل المنيع، يقال لكل ما التجأت إليه وتحصنت به: وزر، وأنشد (المبرد) (¬7) (¬8) لكعب (¬9) بن مالك، في النبي (¬10) -صلى الله عليه وسلم- (¬11): الناس ألْبٌ علَيْنا فيكَ لَيْسَ لَنا ... إلا السُّيوفَ وَأطْرافَ القَنَا وَزَرُ (¬12) والمعنى: لا شيء يعتصم به من أمر الله. قال عطاء عن ابن عباس: لا ¬

_ (¬1) "ديوانه" 6 تح: عزة حسن، برواية: وعهدًا من عمر. ومعنى الوزر: الملجأ. (¬2) البيت لابن الذئبة. (¬3) وقد ورد في "المجاز" (ينجيه) بدلًا من: (يلحقه) 2/ 277. (¬4) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 277 بتصرف يسير. (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 221. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252. (¬7) انظر: "الكامل" 2/ 614، و"المقتضب" 4/ 397. (¬8) ساقطة من (أ). (¬9) في (ع): قول كعب. (¬10) في (ع): للنبي. (¬11) في (أ): قوله تعالى، وهو خطأ. (¬12) وقد ورد البيت أيضًا غير منسوب في: "كتاب سيبويه" 2/ 336، و"شرح أبيات سيبويه" للنحاس 148: ش: 524، و"الإنصاف" 2/ 276 ش: 164، و"المفصل" 2/ 79 منسوب، و"التفسير الكبير" 30/ 221 برواية (ألت) بدلا من (ألب). ومعنى البيت: ألب: أي مجتمعون متألبون قد تضافروا على خصومتنا، وإرادة النيل منا، الوزر: بفتع الواو والزاي جميعًا: الحصن والملجأ، وأصل معناه: الجبل - حاشية "الإنصاف" 1/ 276.

12

جبل يوم القيامة يستندون إليه (¬1). وقال الكلبي: لا جبل، ولا [شجر] (¬2) يواريه من النار (¬3). وجميع المفسرين يقولون: لا جبل، ولا حصن، ولا ملجأ من الله (¬4). قال الحسن: كانت العرب تغير بعضها على بعض، فكان الرجلان يكونان في ماشيتهما, ولا يشعران حتى يأتيهما الخيل، فيقول الرجل لصاحبه: الوزر، الوزر، الجبل، الجبل (¬5). 12 - قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)} قال ابن عباس: يريد ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في كلا النسختين: حمر، ولا معنى له، وقد ورد لفظة الشجر في "بحر العلوم" 3/ 426 من غير عزو. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) قال بذلك: ابن عباس، ومُطرف بن الشخير، والحسن، ومجاهد، وأبو قلابة، وقتادة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وابن زيد، والسدي. وابن مسعود ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 218/ أ، و "تفسير عبد الرزاق" 2/ 333، و"جامع البيان" 29/ 181 - 282، و"بحر العلوم" 3/ 426، و"الكشف والبيان" 13: 5/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 422، و"النكت والعيون" 6/ 154. وممن قال بذلك أيضًا: أبو عبيدة في "غريب القرآن" 142، واليزيدي في "غريب القرآن" 401، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 499، والسجستاني في "نزهة القلوب" 468، مكي بن أبي طالب في "العمدة في غريب القرآن" 325، والخزرجي في "نص الصباح" 2/ 748 كما ذهب إليه الطبري: "جامع البيان" 29/ 181، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 426، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 154، وقد رواه البخاري معلقًا: 3/ 318: كتاب التفسير 75، ولم أجد من خالف هذا القول من جميع المفسرين. (¬5) "جامع البيان" 29/ 182، و"الدر المنثور" 8/ 345، وعزاه إلى عبد بن حميد, وابن المنذر. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 379.

13

المصير (¬1). يعني أن كل أحد يرجع إليه، وأمره يصير إليه، كما قال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)} [العلق: 8]، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} [آل عمران: 28]، وقال: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 53]، وقال مقاتل: يقول: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)} [القيامة: 12] (¬2) لا يجد عنها مرحلًا (¬3). 13 - قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} اختلفوا في معنى هذا التقديم والتأخير، فذهب قوم إلى أن التقديم هو لما عمله في حياته، أيَّ عمل كان من طاعة أو معصية، والتأخير لما آخره بعد موته من سنة صالحة أو سيئة يقتدى بها بعده. وهو قول ابن عباس (¬4)، وابن مسعود (¬5)، ومقاتل (¬6)، والكلبي. وقال زيد بن أسلم: بما قدَّم من أحواله لنفسه، وما تأخر خلفه للورثة (¬7). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في كلا النسختين: المنتهى، وهو خطأ. (¬3) "تفسير مقاتل" 218/ أ، و"الكشف والبيان" 13: 6/ أ. (¬4) "جامع البيان" 29/ 183 بمعناه، و"الكشف والبيان" 13: 6/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 154، و"معالم التنزيل" 4/ 422، و"زاد المسير" 8/ 136، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 97، و"التفسير الكبير" 30/ 222، و"لباب التأويل" 4/ 334. (¬5) المراجع السابقة عدا "لباب التأويل". (¬6) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬7) "الكشاف والبيان" 13/ 6/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 422، و"المحرر الوجيز" 5/ 404، و"زاد المسير" 8/ 136، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 97، و"البحر المحيط" 8/ 386.

14

ومنهم من جعلهما جميعًا في حال حياته. وهو قول إبراهيم (1)، ومجاهد (2) قالا: {بِما قَدَّم} أي بأقل عمله في أول عمره، وبما أخر، بما عمل في آخر عمله. وهو قول عطاء، ونحو هذا قال قتادة (3) في التقديم والتأخير، إلا أنه قال: (ما قدم) من عمل من طاعة الله، (وما أخر) ما ضيع من حق الله، وقصر فيه فلم يعمله. وقال ابن زيد: بما قدم من عمل من خير أو شر، وما أخر من طاعة فلم يعمل بها (4). ونظير هذه الآية قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} [الانفطار: 5]. 14 - وقوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} أي شاهد. يعني: أن جوارحه تشهد عليه بما عمل، فهو شاهد على نفسه شهادة جوارحه. وهذا قول ابن عباس (5)، وعطاء (6)، والكلبي (7)، ومقاتل (8)، وسعيد بن

_ (1) "جامع البيان" 29/ 184، و"الدر المنثور" 8/ 346، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. (2) "جامع البيان" 29/ 184، و"الكشف والبيان" 13/ 6/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 154، و"معالم التنزيل" 4/ 422، و"زاد المسير" 8/ 136، و"التفسير الكبير" 30/ 221، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 97، و"البحر المحيط" 8/ 386. (3) "الكشف والبيان" 13/ 6/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 422. (4) المرجعان السابقان، و"جامع البيان" 29/ 184، و"النكت والعيون" 6/ 154. (5) "جامع البيان" 29/ 284. (6) "جامع البيان" 29/ 185، و"الكشف والبيان" 13: 6/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 154، و"لباب التأويل" 4/ 334، و"الدر المنثور" 8/ 347 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (7) "الكشف والبيان" 13/ 6/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 423. (8) المرجعان السابقان.

جبير (¬1)، ومجاهد (¬2)، وقتادة (¬3)، والجميع (¬4)، (وهذا كقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور: 24]، وقوله: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: 65]، وقوله: {عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} [فصلت: 20]. فأعلم الله أن هذه الجوارح شواهد على الإنسان) (¬5). قال الفراء: يقول على الإنسان من نفسه بصيرة -يعني- رقباء يشهدون عليه بعمله: اليدان، والرجلان، والعينان، والذكر (¬6). فأمَّا تأنيث (البصيرة) فيجوز أن يكون؛ لأن المراد بالإنسان -هاهنا - ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 218/ أ، وانظر السابق، وانظر: "التفسير الكبير" 30/ 222. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 334، و"جامع البيان" 29/ 185، و"ابن كثير" 4/ 478. (¬4) وإلي هذا ذهب أيضا ابن قتيبة. انظر: "تفسير غريب القرآن" 500، وذكر الطبري وغيره قولًا آخر في معنى: (بصيرة) قال: معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب. وهذا قول الحسن، وقتادة. انظر: "جامع البيان" 29/ 185، و"النكت والعيون" 6/ 154، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 99. كما ذكر القرطبي قولًا ثالثًا، قال: وقيل: المراد بالبصيرة: الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون فيه من خير وشر. قاله ابن عباس. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 98، وانظر: "المحرر الوجيز" 5/ 404، وبهذين القولين يتبين أن ليس الجميع قال بما ذكره الواحدي، وإن كان القول الثالث يدخل ضمن شهادة الجوارح والنفس عليه، وهذا من منهج الواحدي في تقريره للإجماع أو العزو إلى المفسرين أو الجميع، فما خالف الجمع فإنه لا يعتبره مخالفًا بل قول منفرد لا يؤثر على الإجماع، والله أعلم. (¬5) ما بين القوسين نقله بتصرف عن الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 252 - 253. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 311 بنصه.

15

الجوارح؛ لأنها شاهدة على نفس الإنسان، كأنه قيل: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة. وقال أبو عبيدة: جاءت هذه الهاء في صفة الذكر، كما جاءت: رجل راوية، وعلامة، وطاغية (¬1). وقال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل: أنْتَ حُجَّةٌ عَلى نَفْسِكَ (¬2) (¬3). وقد أخبر الله -تعالى- في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله، ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل، ويكون هذا من صفة الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحهم. 15 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} جمع معذرة، يقال: معذرة، ومعاذر، ومعاذير. قال المفسرون: يعني لو اعتذر. وهو قول ابن عباس (¬4)، وقتادة (¬5)، ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 277 بزيادة: رجل. (¬2) بياض في (ع). (¬3) "معاني القرآن" 2/ 721 بنصه. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 334، و"جامع البيان" 29/ 185، و"زاد المسير" 8/ 136 حكاه عن الأكثرون، و"الدر المنثور" 8/ 347 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬5) "جامع البيان" 29/ 186، و"النكت والعيون" 6/ 155 بمعناه، و"معالم التنزيل" 4/ 423، و"زاد المسير" 8/ 136 حكاه عن الأكثرين، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 99، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 478 بمعناه، و"الدر المنثور" 8/ 347 وعزاه إلى عبد الرزاق -ولم أجد عنده-، وعبد حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 338.

ومجاهد (¬1)، ومقاتل (¬2) وسعيد بن جبير (¬3) قالوا: لو اعتذر وجادل عنها، فعليه من يكذب عذره، وأدلى بعذر وحجة لم ينفعه ذلك؛ لأن جسده عليه شاهد. قال الفراء: أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره (¬4). وقال الزجاج: ولو أدلى بكل حجة عنده (¬5). وقال (الضحاك) (¬6) (¬7)، والسدي (¬8): يعني لو أرخى الستور. وذكر الفراء والزجاج والمبرد (¬9) هذا القول، قال الفراء: جاء في التفسير: ولو أرخى ستوره (¬10). وقال الزجاج: المَعاذير: السُّتُور، واحِدُها: مِعْذار (¬11). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة عدا النكت، والدر. انظر كشف البيان: 13: 7/ أ. (¬2) "تفسير مقاتل" 218/ أ، و"الكشف والبيان" 13: 7/ أبمعناه، و"زاد المسير" 8/ 136 حكاه عن الأكثرين، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 99، و"فتح القدير" 5/ 338. (¬3) المراجع السابقة، و"الدر المنثور" 8/ 347 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وانظر: "تفسير سعيد بن جبير" 362. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 211 بنصه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 253 بنصه. (¬6) "جامع البيان" 29/ 186، و"الكشف والبيان" 13: 7/ أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 404 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 136، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 99. (¬7) ساقطة من (أ). (¬8) "الكشف والبيان" 13: 7/ أ، بمعناه، و"المحرر الوجيز" 5/ 404، و"زاد المسير" 8/ 136، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 99، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 478، وانظر: "تفسير السدي" 468. (¬9) في (أ): بهذا. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 211 بنصه. (¬11) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 253 بنصه

16

وقال المبرد هي: لغة يمانية (¬1). والمعنى على هذا القول: أنه وإن أُسبل الستر لتخفى ما يعمل فإن نفسه شاهد عليه. 16 - قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدة (¬2)، وكان يشتد عليه حفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة ألا يحفظه (¬3)، فأنزل الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يعني بالقراءة (¬4). ¬

_ (¬1) لم أعثر عليه في "الكامل" ولا "المقتضب"، وقد ورد عنه منسوبًا إليه في "التفسير الكبير" 30/ 222، و"فتح القدير" 5/ 338. (¬2) قوله: التنزيل شدة: بياض في (ع). (¬3) في (ع): يحفظ. (¬4) أخرج هذا الأثر البخاري في "الجامع الصحيح" 3/ 318: ح: 4927، 4928، 4929 بمعناه كتاب: التفسير: باب (75) سورة القيامة، ومسلم في "صحيحه" 1/ 330: ح: 147، 148: كتاب: الصلاة باب: الاستماع للقراءة، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" 10/ 342: ح 2628، والإمام أحمد في "المسند" 1/ 343، والترمذي في "سننه" 5/ 430: ح 3329: كتاب: تفسير القرآن باب 721 ومن سورة القيامة. وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في "سننه" 2/ 487: ح 934: كتاب الافتتاح باب 37 جامع ما جاء في القرآن، والطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 458: ح: 12297، كما ورد في الأثر عن ابن عباس في "جامع البيان" 29/ 187 بمعناه، و"النكت والعيون" 6/ 155، و"معالم التنزيل" 4/ 423 , و"زاد المسير" 8/ 137، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 104، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 479، و"الدر المنثور" 8/ 348 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، والطبراني وابن مردويه، وأبي نعيم، و"لباب القول" للسيوطي 225، وانظر: "دلائل النبوة" للبيهقي 7/ 56.

{لِتَعْجَلَ بِهِ} أي بالقرآن، كما قال: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]. والمعنى لتعجل بأخذه. {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}، أي نجمعه في صدرك، وقراءته (¬1) عليك؛ (قاله الكلبي) (¬2) (¬3). وقال عطاء: (أي) (¬4) إن جبريل يستعيده عليك (¬5). وقال مقاتل (وقرآنه): يعني: ونقرئكه حتى تحفظه (¬6). قال الزجاج: إن علينا أن نقرئكه فلا تنسى (¬7). كما قال: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} [الأعلى: 6]. وعلى هذا معنى قوله: (قرآنه) أي وقراءتك إياه بأن نقرئكه، والقارئ هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى القول الأول: القارئ هو جبريل. وهذا الذي ذكرنا في قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} هو قول مقاتل (¬8)، (ومجاهد (¬9)، وقتادة (¬10)، وعطاء (¬11)) (¬12)، والجميع (¬13). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) قراءته: كررت في نسخة: (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد مثله في "الوسيط" غير منسوب 4/ 392. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ساقطة من (أ). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 253 برواية: (نقريك) بدلًا من: (نقريكه). (¬9) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬12) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬13) قال بذلك أيضًا سيد بن جبير، والشعبى، وابن زيد، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 29/ 187 - 188. وبه قال الفراء، والزجاج، وعزاه ابن عطية إلى كثير من =

قال قتادة في قوله: (جمعه وقرآنه) حفظه (¬1)، وعلى هذا معنى القرآن: الجمع؛ من قولهم: ما قرأت الناقة سلا (¬2) قط، أي: ما جمعت. (وقد ذكرنا ذلك عند تفسير القُرء (¬3)) (¬4). قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}. قال ابن عباس: فإذا قرأه جبريل (¬5) ومقاتل: فإذا تلوناه عليك بجبريل (¬6). {فَاتَّبِعْ (¬7) قُرْآنَهُ}. قال: يعني: فاتبع ¬

_ = المفسرين، وقال به أيضًا ابن كثير. انظر: "معاني القرآن" 3/ 211، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 253، و"المحرر الوجيز" 5/ 404، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 479. وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله قيل له ذلك: أنه كان يكثر تلاوة القرآن مخافة نسيانه، فقيل له: لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا أن نجمعه لك، ونقرئكه، فلا تنسى. وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 29/ 188، و"المحرر الوجيز" 5/ 404. وقال آخرون -وهو قول الشعبي- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحرصه على أداء الرسالة والاجتهاد في ذات الله تعالى، ربما أراد النطق ببعض ما أوحى إليه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر ألا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه. انظر: "المحرر" 5/ 404. (¬1) غير مقروءة في نسخة: (ع). (¬2) السلا: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد، يكون ذلك في الدواب والإبل وفي الناس: المشيمة، والمعنى ما حملت ملقوحًا. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 396. (¬3) [البقرة: 228] وما جاء في معنى (القروء) جمع قرء، وجمعه القليل أقرؤ، وأقراء، والكثير: قروء، وهذا الحرف من الأضداد؛ لأن أصل القرء اسم للوقت، والقروء الأوقات، واحدها قرء. وقال قوم: أصل القرء: الجمع، يقال: ما قرأت الناقة سلا قط، أي ما جمعت في رحمها ولدًا قط. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "الوسيط" 4/ 393. (¬6) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬7) بياض في (ع).

ما فيه كما نقرئكه (¬1). ونحو هذا قال قتادة: يقول: فاتبع حلاله وحرامه (¬2). وأجود من هذا أن يكون المعنى: فاتبع قرآنه، أي: اقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته. وهذا أولى؛ لأنه أمر أن يدع القراءة (¬3)، ويستمع من جبريل، حتى إذا فرغ جبريل قرأه، وليس هذا موضع الأمر باتباع ما فيه من الحلال والحرام. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: يقول: إنا أنزلناه فاتبع له، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه جبريل بعد هذا أطرق، فإذا ذهب فرأه كما وعده الله (¬4). وقال (¬5) أيضًا: فاتبع قرآنه، واستمع له، وأنصت، قال: فإذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه (¬6). وعلى هذا أتبع قراءة (¬7) جبريل بالاتباع (¬8). وعلى القول الأول: أتبع قراءته بقراءتك. وذكر أبو علي في "المسائل الحلبية" هذه الآية فقال: (قوله تعالى: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 218/ أ، وقد ورد بمعناه في "الوسيط" ع: 393 من غير عزو. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 334، و"جامع البيان" 29/ 190، و"المحرر الوجيز" 5/ 405، و"زاد المسير" 8/ 137، و"الدر المنثور" 8/ 348 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) بياض في (ع). (¬4) الأثر أخرجه البخاري 3/ 318: ح: 4929 كتاب: التفسير باب 75 سورة القيامة، ومسلم 1/ 330: ح: 147 - 148: "كتاب الصلاة" باب الاستماع للقراءة، كما أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" 10/ 342: ح 2628، والنسائي في "سننه" 2/ 487: ح: 934: كتاب: الافتتاح باب: 37 جامع ما جاء في القرآن. (¬5) أي ابن عباس. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في (أ): قرة. (¬8) قوله: جبريل بالاتباع: بياض في (ع).

{لَا تُحَرك بِهِ لِسَانَكَ}، إنا سنحفظه عليك. وهذا في المعنى مثل قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، وليس المراد بقوله: {جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} القرآن الذي هو اسم التنزيل، وإنما أضمر [في قوله: {لَا تُحَرِك بِهِ لِسَانَكَ}، وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه، كما أضمر] (1) في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، وإن كان أول سورة، ولم يجر له ذكر، وإذا كان الذكر المضاف إليه المصدر في قوله: (وقرآنه) راجعًا إلى التنزيل ثبت أن المصدر ليس عبارة عنه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ألا ترى أنك لا تقول: رجلُ زيدٍ، وأنت تعني بـ: (رجل) زيدًا (2) نفسه، وإنما أضيف المصدر إلى المفعول هاهنا: المعنى: جمعنا إياه، وقراءتنا إياه. وكذلك التقدير في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، ومجاز الآية على قول أبي عبيدة: جمعه وتأليف بعضه إلى بعض (3)، من قوله: (ما قرأت هذه الناقة سلا قط، أي (4) إني لم تضم، ولم تجمع. وبيت عمرو بن كلثوم: لم تَقْرَأ جَنِينا (5)

_ (1) ساقط من النسختين، وأثبته من المسائل الحلبية لاكتمال واتضاح المعنى بوجوده. (2) في كلا النسختين: زيد. (3) "مجاز القرآن" 2/ 278، وذكر بيت عمرو بن كلثوم. (4) في (أ): أن. (5) البيت كاملاً: ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أدْماءَ بِكْرٍ ... هِجانِ اللَّوْنِ لم تَقْرأْ جَنِينا ورد البيت في "شعر عمرو بن كلثوم" إعداد: طلال حرب: 25، "شرح المعلقات السبع" للزوزني 169، و"شرح المعلقات العشر" للشنقيطي 139، و"مجاز القرآن" 2/ 278، و"المحرر الوجيز" 5/ 404، و"روح المعاني" 29/ 142. =

19

وإنما حسن ذكر الجمع والقرآن؛ لأن المجى عام، والقرآن أخص منه، فإنك تقول: جمعت الناس والمال. ولا تقول: قرأت الناس، بمعنى جمعت، فإذا دخل القرآن الاختصاص الذي ليس في الجمع حسن التكرير، كما أنك لو قلت: أعلمت زيدا وأنذرته، حسن؛ لاختصاص الإنذار بمعنى التخويف المتعري منه: (أعْلَمْت) وإذا استجيز استعمال لفظين مختلفين بمعنى واحد، نحو (أقوى) و (أفقر)، فهذا النحو الذي يختص فيه إحدى الكلمتين، بمعنى ليس في الأخرى (¬1) أجدر أن يستحسن) (¬2). 19 - قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}، قال عطاء عن ابن عباس: ثم إن علينا تفسير ذلك (¬3)، وقال مقاتل: علينا أن نبين لك حلاله وحرامه (¬4). وأجود من هذا، ما روي عن ابن عباس {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}: بلسانك (¬5). ¬

_ = ومعنى البيت: العيطل: الطويلة العنق من النوق. الأدماء: البيضاء منها، والأدمة البياض في الإبل. البكر: الناقة التي حملت بطنًا واحداً، الهجان: الأبيض الخالص البياض. لم تقرأ جنينًا، أي: لم تضم في رحمها ولدًا. شرح المعلقات السبع. مرجع سابق، انظر: "ديوانه" 25 والذي ورد في ديوانه برواية: ذِرَاعَا عِيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرٍ ... تَرَبَّعَتِ الأجَارعَ والْمُتُونَا أما ما روي عنه في شرح المعلقات وغيرها ووضح ذلك في ديوانه، فهي رواية: ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا (¬1) في (أ): الأخرا. (¬2) ما بين القوسين من "المسائل الحلبية" باختصار: 290 - 293. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬5) "جامع البيان" 29/ 191، و"النكت والعيون" 6/ 156، و"معالم التنزيل" 4/ 423، و"زاد المسير" 8/ 137، و"الدر المنثور" 8/ 348.

أي علينا أن [نحفظه] عليك حتى تبين للناس بتلاوتك وقراءتك عليهم. وهذا أولى من بيان الحلال والحرام؛ لأن بيان ذلك (كان) (¬1) يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند قراءة جبريل، واستماعه منه، وما كان يتأخر البيان عن ذلك الوقت. وقد ذكر الكلبي المراد بهذا البيان، بيان ما أُجملَ (¬2) في القرآن من الصلاة والزكاة (¬3)، فقال: ثم نزل عدد الصلوات الخمس قبل خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة بسنة للظهر أربعًا، وكذلك العصر والعشاء، والمغرب ثلاثًا (¬4)، والفجر ركعتين، وذكر أيضًا تفصيل الزكاة من المواشي والنقود. والبيان (¬5) يجوز أن يكون مطاوعًا من أن الشيء بين إذا ظهر، ويجوز أن يكون اسمًا من التبيين، فقام مقام المصدر كالأداء والسراج. وذكر أبو إسحاق معنى آخر فقال: أي (¬6) علينا أن ننزله قرآنًا عربيًّا غير ذي عوج، فيه بيان للناس (¬7). قوله: {كَلَّا} قال عطاء عن ابن عباس: أي: لا يؤمن أبو جهل بتفسير ذلك (¬8)، يعني بتفسير القرآن وبيانه. ¬

_ (¬1) في كلا النسختين: نحفظ، وما أثبته من "الوسيط"، وبه تستقيم العبارة (¬2) ساقطة من (أ). (¬3) في (أ): احتمل. (¬4) بياض في (ع). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) في (أ): أن. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 235 بنصه. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 105.

وقال مقاتل: كلا لا يصلون، ولا يزكون (¬1). {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) (وَتَذَرُونَ) الْآخِرَةَ (¬2)} (يعني كفار مكة يحبون الدنيا ويعملون بها ويذرون العمل للآخرة فيؤثرون الدنيا عليها. ونحو هذا قال الكلبي قال: (وتذرون الآخرة) أي الجنة (¬3) (¬4). (وقرئ: تحبون وتذرون) (¬5)، بالياء والتاء (¬6). قال الفراء: والقرآن يأتي على أن يخاطب المنزل عليهم أحيانًا، وحينًا يُجعلون كالغيب، كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] (¬7). وقال أبو علي: الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان. والمراد بالإنسان الكثرة، وليس المراد به واحداً، إنما المراد الكثرة والعموم؛ لقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)} [المعارج: 19] ثم قال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج: 22]، فـ (الياء) حسن لتقدم (¬8) ذكر الإنسان: والمعنى: هم يحبون ويذرون، والتاء على: قُلْ لهم: بل تحبون وتذرون (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬2) ساقطة من (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب، (بل تحبون)، (وتذرون) بالتاء جميعًا. وقرأ الباقون بالياء جميعًا. انظر: "الحجة" 6/ 345 - 346، و"المبسوط" 388، و"حجة القراءات" 736, و"البدور الزاهرة" 330. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 211 - 212 بنصه. (¬8) في (ع): للتقدم. (¬9) "الحجة" 6/ 346 بتصرف يسير.

وذكرنا تفسير: (العاجلة) عند قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} (¬1). قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة، وقد سبق ذكره في مواطن (¬2) من هذه السورة (¬3). (وقوله) (¬4): {نَّاضِرَةٌ} قال الليث: نَضَر اللوْنُ، والشجر، والورق، يَنْضُر نَضْرة (¬5). والنضرة: النعمة، والناضر (¬6): الناعم الغض؛ الحسن من كل شيء، ومنه يقال: اللون (¬7) إذا كان مشرقًا ناضرًا (¬8)، فيقال: أخضر ناضر (¬9)، وكذلك في جميع الألوان. ومعناه الذي له بريق من صفائه، وكذلك يقال: شجر ناضر، وروض ناضر (¬10). (وأنشد أبو عبيدة (¬11) لجرير) (¬12) قال: ¬

_ (¬1) [الإسراء: 18] وقد جاء في تفسير الآية: (قال المفسرون: أي الدنيا، والعاجلة نقيض الآجلة، وهي الدنيا عجلت، وكانت قبل الآخرة). (¬2) في (ع): مواضع. (¬3) انظر الآيتين: 10، 12 من هذه السورة. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) "تهذيب اللغة" 12/ 9: مادة: (نضر). (¬6) في (ع): الناظر. (¬7) في (أ): للون. (¬8) في (ع): ناظر. (¬9) في (ع): ناظر. (¬10) انظر مادة: (نضر) في "لسان العرب" 5/ 212، و"القاموس المحيط" للفيروزأبادي: 2/ 143. (¬11) لم أجده في "المجاز". (¬12) ما بين القوسين ساقط من (أ).

طَرِب الحمام بذي الأراك وهاجني ... [لازلت] (¬1) في غَلَلٍ وأَيْك ناضرٍ (¬2) (¬3) (قال شَمِر: سمعت) (¬4) ابن الأعرابي يقول: (نَضره اللهُ، فَنَضَرَ يَنْضُر، ونَضِر ينْضُر، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "نَضَّرَ الله امرأ (¬5) سمع مقالتي" (¬6) الحديث. أكثر الرواة رووا بالتخفيف (¬7)، وروي عن الأصمعي فيه التشديد. وأنشد شمر قوله جرير في لغة من روى بالتخفيف: ¬

_ (¬1) في (أ): لا راك، وبياض في (ع)، وأثبت الصواب من ديوان جرير. (¬2) في (ع): ناظر. (¬3) "ديوانه" 236: دار بيروت برواية: (فهاجني)، و (لا زِلتَ). الغَلَلُ: ما تَغَلَّل من الماء الجاري بين الشجر. والأيك: الشجر الملتف. انظر شرح "ديوانه" 304: دار الأندلس. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في (ع): عبدًا. (¬6) الحديث أخرجه: أبو داود في "سننه" 2/ 315: باب فضل نشر العلم، ونص الحديث كما هو عنده: (نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه. فرب حامل حقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، والدارمي 1/ 80 ح: 233، 234: المقدمة، والإمام أحمد 1/ 437، 3/ 225، 4/ 80، 82، وابن ماجه 1/ 49 ح: 243 - 244 - 246: المقدمة: باب من بلغ علمًا 21، 2/ 188 ح: 3091 - 3092: في المناسك: باب الخطبة يوم النحر، والترمذي 5/ 33 - 34 ح: 2656 كتاب العلم باب ما جاء في الحديث عن تبليغ السماع 7، وقال عنه: حديث حسن، وانظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي: 1/ 137 - 138: باب في سماع الحديث وتبليغه: وقال: رواه الطبراني في "الكبير" 2/ 127: ح: 1543 - 1544، ورجاله موثقون إلا أني لم أر من ذكر محمد بن نصر شيخ الطبراني في الأوسط والحديث صحيح عند الألباني، انظر: "صحيح ابن ماجه" 1/ 44 - 45 ح 187: باب 18، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 145 ح 404. (¬7) وجدت في المراجع السابقة عن مراجع الحديث رواية (نَضَّر) بالتشديد، أما "المسند"، و (سنن الدارمي) , و (الزوائد) فإنه لم تشكل فيها الأحاديث.

والْوَجْهُ لا حَسَنًا ولا مَنْضُورا (¬1) (¬2) ومنضور (لا) (¬3) يكون إلا من نضره بالتخفيف. (روى ثعلب عن) (¬4) ابن الأعرابي: (نَضَر وجْهُه ونَضِر، ونَضُر، وأنْضَر، ونَضَرَهُ) (¬5): نضره الله بالتخفيف، (وأنضره، ونضره) (¬6) (¬7) قال ابن عباس: ناضرة (¬8): ناعمة (¬9) (وقال الكلبي: حسنة، بهجة، يعرف فيها النعمة (¬10) (¬11). وقال مقاتل: يعني الحسن والبياض ويعلوها (¬12) النور (¬13). وألفاظهم مختلفة في تفسير (الناضرة)، ومعناها واحد. ¬

_ (¬1) في (ع): منظورً. (¬2) تمام البيت: وكأنما بَصقَ الْجَرَادُ بِليتِهَا ... فالوجه لا حسنًا ولا منضورا وقد ورد في "ديوانه" 225: ط: دار بيروت؛ وفي مادة: (نضر) في "تهذيب اللغة" 12/ 8 - 9، و"لسان العرب" 5/ 213. ومعنى ليتها: صفحة عنقها. "ديوانه". (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ)، وكتبت في نسخة: (ع) كلها بالظاء. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ما بين القوسين المزدوجين نقله الإمام الواحدي عن الأزهري بتصرف. انظر مادة: (نضر) "تهذيب اللغة" 12/ 8 - 9، و"لسان العرب" 5/ 213. (¬8) في (أ): ناضر. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬12) في (أ): يعلوها. (¬13) "تفسير مقاتل" 218/ ب، و"الكشف والبيان" 13: 7/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 424.

23

قالوا (¬1): مسرورة، ناعمة، مضيئة، مشرقة، (مسفرة) (¬2)، بهجة؛ (كل هذا من ألفاظهم) (¬3). (وقال أبو إسحاق: نُضِّرَت بنعيم الجنة، كما قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} [المطففين: 24] (¬4) (¬5) 23 - قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. ذكرنا معاني النظر في سورة البقرة (¬6). قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد إلى الله ناظرة (¬7). وقال الكلبي: تنظر إلى الله يومئذ لا تحجب عنه (¬8). وقال مقاتل: تنظر إلى ربها معاينة (¬9). (وقال: عكرمة (¬10)، وإسماعيل بن أبي خالد: تنظر إلى ربها ¬

_ (¬1) أي المفسرون، وممن قال بذلك: ابن زيد، ومجاهد، والسدي، وابن عباس، وعكرمة. انظر: "جامع البيان" 29/ 191، و"الكشف والبيان" 13: 7/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 424، و"النكت والعيون" 6/ 156، و "الدر المنثور" 8/ 349. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 253 مختصرًا. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) سورة البقرة: 55. (¬7) "الكشف والبيان" 13: 7/ ب، و"زاد المسير" 8/ 138، و"لباب التأويل" 4/ 335، و"الدر المنثور" 8/ 350 بمعناه وعزاه إلى ابن مردويه، وانظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي 3/ 463. (¬8) "الوسيط" 4/ 394. (¬9) "تفسير مقاتل" 218/ أ. (¬10) "جامع البيان" 29/ 192، و"الكشف والبيان" 13: 7/ ب، و"زاد المسير" 8/ 138, و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 106، و"الدر المنثور" 8/ 349 وعزاه =

نظرًا (¬1) (¬2). وقال الحسن: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنظر، (وهي تنظر إلى الخالق) (¬3) (¬4). (وقال أبو إسحاق: نُضِّرت بنعيم الجنة، والنظر إلى ربها) (¬5) (¬6). وروي عن مجاهد، وأبي صالح (¬7) أنهما فسرا النظر في هذه الآية بالانتظار (¬8). ¬

_ = إلى ابن المنذر، والآجري، واللالكائي، والبيهقي. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لللالكائي 3/ 464. (¬1) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 192، و"الكشف والبيان" 13: 7/ ب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد قوله في المرجعين السابقين، و"تفسير الإمام مجاهد" 687، و"معالم التنزيل" 4/ 424، و"المحرر الوجيز" 5/ 405، و"زاد المسير" 8/ 138، و"لباب التأويل" 4/ 335، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 480، و"الدر المنثور" 8/ 350، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 381. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد قوله في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 253. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) أبو صالح: هو: باذام، ويقال: باذان أبو صالح الكلبي، مولى أم هانئ بنت أبي طالب، روى عن ابن عباس، وعكرمة، وهو تابعي، وعامة ما يرويه تفسير ضعيف يدلس. انظر كتاب: الضعفاء والمتروكين للنسائي 61: ت: 74، كتاب: المجروحين لابن حبان 1/ 185، و"تهذيب الكمال" 4/ 6: ت: 636، و"تقريب التهذيب" 1/ 93: ت: 2. (¬8) قال ابن كثير: ومن تأول ذلك -أي الرؤية إلى الله- بأن المراد بـ: (إلى) مفرد الآلاء وهي النعم، كما قال مجاهد: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} قال: تنتظر الثواب من ربها, وكذا قال أبو صالح، فقد أبعد هذا الناظر النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)}، قال الشافعي -رحمه الله-: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل ثم قد تواترت الأخبار عن =

قال مجاهد: تنتظر من ربها ما أمر لها به (¬1). وقال أبو صالح: تنتظر الثواب من ربها (¬2). قال الأزهري -وهو الحكم في اللغة-: من قال: إن معنى قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} من الانتظار، فقد أخطأ؛ لأن العرب لا تقول: نظرت إلى الشيء بمعنى (¬3): انتظرته، إنما تقول: نظرت فلانًا، أي انتظرته (كما) (¬4) قال الحطيئة: وقد نظرتكم أبناء صادرة (¬5) فإذا قلت: نظرتُ إلى الشيء، فلا يكون إلا بالعين، وإذا قلت: نظرتُ في أمر كذا احتمل أن يكون تفكرًا فيه، وتدبرًا بالقلب (¬6). هذا كلامه. ¬

_ = رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 480. كما بين ابن الجوزي عند عرضه أنواع التأويل الباطل من أنه يستحيل تأويل النظر في قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} بانتظار الثواب، قال: فإنه أضاف النظر إلى الوجوه بالنظرة التي لا يحصل إلا مع حضور ما يتنعم به، لا مع التنغيص بانتظاره، ويستحيل مع هذا التركيب تأويل النظر بغير الرؤيا، وإن كان النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]. "مختصر الصواعق المرسلة" 1/ 14 - 15. (¬1) "جامع البيان" 29/ 192، و"الكشف والبيان" 13: 8/ أ، و"النكت والعيون" 6/ 156، و"لباب التأويل" 4/ 335، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 380. (¬2) المراجع السابقة عدا "الكشف والبيان"، و"النكت والعيون". (¬3) في (أ): معنى. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) "ديوانه" 106: دار صادر، برواية: وقد نظرتكم عشاء صادرة ... للخمس طال حبسي وتنساسي (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 371 بتصرف يسير.

ويشهد لصحة أن (النظر) (¬1) الوارد في التنزيل بمعنى الانتظار كثير، ولم يوصل في موضع بـ (إلى) كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله (والملائكة) (¬2)} [الأنعام: 158]. (والوجه) إذا وصف بالنظر، وعدي بـ (إلى) (¬3) لم يحتمل غير الرؤية (¬4)، وإن شق على من أنكر ذلك، والنظر يكون بمعنى نظر القلب، كما يقال: انظر إلى الله ثم إليك. على معنى: إنما أتوقع فضل الله. ثم فضلك، وإنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه، فإذا أسند إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب، ولا الانتظار، وإذا بطل المعنيان في هذه الآية لم يبق لنفاة الرؤية عليها كلام، والسنة الصحيحة في الأخبار المأثورة يعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية (¬5). ¬

_ (¬1) غير مقروء في (ع). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬3) في (أ): عدي إلى. (¬4) قال شارح الطحاوية: وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب -جل جلاله-. انتهى كلامه. كما عد هذه الآية {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} من أظهر الأدلة على رؤية الله سبحانه وتعالى. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 146 - 148. (¬5) ومن الأحاديث في ذلك: ما أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/ 163: ح 297: كتاب الإيمان: باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، والحديث عن صهيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا دخل أهل الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل". وانظر: =

24

وسنذكرها في مسند التفسير (¬1) إن شاء الله. 24 - قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)} (قال ابن عباس (¬2) و) المفسرون (¬3): كالحة، عابسة، (كاشفة)، كئيبة، مصفرة، (متغيرة) (¬4) اللون، كريهة، مقطبة (¬5)؛ كل هذا من ألفاظهم. ¬

_ = "سنن الترمذي" 1/ 687: ح: 2552: كتاب صفة الجنة: باب 16، ومن الأحاديث: عن جرير قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: سترون ربكم كم ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا). أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح" 4/ 390: ح: 7434: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. ومن الأحاديث أيضًا انظر: "الجامع الصحيح" للبخاري، المرجع السابق، و"صحيح مسلم" 1/ 64 - 166 كتاب الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية، و"سنن أبي داود" 2/ 584: كتاب السنة باب في الرؤية، و"المسند" للإمام أحمد 2/ 275 - 293 - 368، و"سنن الترمذي" 4/ 688 - 689: ح: 2554: كتاب صفة الجنة: باب 17، وغيرها من الأحاديث، ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح، والحسان، والمسانيد، والسنن، وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام. قاله في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 480. (¬1) وهو أحد مؤلفاته في التفسير، وقد نص عليه الإمام الواحدي مع كتب أخرى في هذا المجال في مقدمة "تفسير الوسيط". مقدمة "الوسيط" 1/ 6، ومقدمة هذا التفسير. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) منهم الحسن، وقتادة، وابن زيد، والسدي، والكلبي. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 334، و"جامع البيان" 29/ 193، و"النكت والعيون" 6/ 157. (¬4) الكلمات بين الأقواس ساقطة من (أ). (¬5) مقطبة: قطب بين عينيه جمع، وقطب وجهه تقطيبًا: عبس. "مختار الصحاح" للرازي: 541. قطب.

وذكرنا تفسير البسور عند قوله: {عَبَسَ وَبَسَرَ}، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها قد أيقنت أن العذاب نازل (¬1) بها، (وهو) (¬2) قوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} قال (أبو عبيدة) (¬3): الفاقرة: الداهية، وهو الوسم الذي يفقر به على الأنف (¬4). قال الأصمعي: (الفقر، أي: يُحَزُّ أنف العبير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه، ثم يُكوى عليه جرير (¬5) يُذَلَّل بذلك الصعب، ومنه قيل: عملت به الفاقرة (¬6) (¬7). وقال الليث: الفاقرة: داهية تكسر الظهر (¬8). قال المبرد: وترى أن أصلها من الفقرة، والفقارة، وهما واحدها، وجمعها فقار، وفقر، وكأن فاقرة داهية تقطع الظهر (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): نائل. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) في كلا النسختين: أبو عبيد، ولعله سهو عن التاء المربوطة، إذ القول ورد عن أبي عبيدة في "المجاز"، ووجدت أيضًا نسبة القول إلى عبيدة في "الكشف والبيان" 13/ 8/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 230، و"البحر المحيط" 8/ 389، و"تهذيب اللغة" 9/ 116 مادة: (فقر). (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 278 ولم يذكر (به)، وقد ورد المعنى عنه، كما هو عند الواحدي في "تهذيب اللغة". المرجع السابق. (¬5) جرير: الجَرير: حَبْل من أدم نحو الزمام، ويطلق على غيره من الحبال المضفورة. انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 259. (¬6) انظر: "مجمع الأمثال" للميداني: 2/ 372 رقم: 2540، ويراد به: أي عَمِلَ به عملاً كسر فقاره (¬7) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الأزهري في "تهذيب اللغة" 9/ 116 مادة: (فقر)، وانظر (اللسان) 5/ 62: مادة: (فقر). (¬8) "تهذيب اللغة": الموضع السابق. (¬9) "التفسير الكبير" 30/ 230.

وقال ابن قتيبة: يقال: فَقَرْتُ الرجل (¬1)، كما يقال: رأستُه (¬2)، وَبَطنته (¬3)، فهو مفقور، وفَقِرٌ، وفقير (¬4). قال ابن عباس: تستيقن أن يفعل بها عظيم (¬5). وقال مجاهد: داهية (¬6). وقال مقاتل: تعلم الوجوه المتغيرة أن يفعل بها شر (¬7). وهو قول قتادة في تفسير الفاقرة، قال: الشر (¬8). (¬9) وفسر ابن زيد (¬10) ذلك بدخول النار، فقال: تعلم أنها ستدخل النار (¬11). وفسرها الكلبيُّ بالحجاب، فقال: تعلم أن يفعل بها منكرة من العذاب، وهي أن ¬

_ (¬1) يقال ذلك إذا كسرت فقاره "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 500. (¬2) وذلك إذا ضربت رأسه. المرجع السابق. (¬3) أي إذا ضربت بطنه. المرجع السابق. (¬4) "تفسير غريب القرآن" 500. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "الوسيط" 4/ 394. (¬6) "جامع البيان" 29/ 194، و"الكشف والبيان" 13: 8/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 157، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 480. (¬7) "تفسير مقاتل" 218/ ب. (¬8) "جامع البيان" 29/ 194، و"الكشف والبيان" 13: 8/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 157، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 108، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 480، و"فتح القدير" 5/ 339. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) في (أ): (ابن قتيبة) بدلًا من (ابن زيد)، والصحيح ما جاء في نسخة: ع، إذ لم يرد القول عن ابن قتيبة، وإنما ورد عن ابن زيد كما دلت عليه المراجع، ولم أجده عند ابن قتيبة لا في الغريب، ولا في المشكل. (¬11) "جامع البيان" 29/ 194، و"الكشف والبيان" 13: 7/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 157، و"زاد المسير" 8/ 138، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 108، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 480، و"فتح القدير" 5/ 339.

26

تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إليه (¬1). 26 - قال الله تعالى: {كَلَّا} قال أبو إسحاق: هو ردع وتنبيه (¬2). وقال مقاتل: (كلا) أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة (¬3). ثم استأنف فقال: {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}، وهي جمع ترقوة، يعني: بلغت النفس أو الروح، أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، (قاله المبرد (¬4)، وغيره (¬5) (¬6)، وكلهم (¬7) قالوا: بلغت النفس التراقي. وهي جمع ترقوة، مثل عرقوة. قال الليث: وهي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين (¬8)، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومنه قول دُرَيْدِ بنِ الصِّمَّة: ¬

_ (¬1) ورد مختصرًا عنه في "معالم التنزيل" 4/ 424، و"زاد المسير" 8/ 138، و"التفسير الكبير" 30/ 230. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254. (¬3) "تفسير مقاتل" 218/ ب، و"الرازي" 30/ 230، وانظر: "زاد المسير" 8/ 139. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) قال بذلك: الثعلبي في "لكشف والبيان" 13: 8/ ب، وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 424، والزمخشري في "الكشاف" 4/ 166، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 139، والفخر الرازي في "التفسير الكبير" 30/ 230، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 109، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 336. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) قال بذلك: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 212، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254، والطبري، وعزاه إلى ابن زيد في "جامع البيان" 29/ 194، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13: 8/ ب، وانظر أيضًا المراجع السابقة. (¬8) "تهذيب اللغة" 9/ 54: مادة: (ترق).

ورب عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقي (¬1) قال مقاتل: يعني بلغت النفس الحلقوم (¬2). (وقال الزجاج: ذكرهم الله صُعُوبة أول أيام الآخرة عند بلوغ النفس التَّرْقوة (¬3)) (¬4). وقال الفراء: يقول إذا بلغت نفس الرجل عند الموت تراقيه، وقال من حوله: (من راق) (¬5)، وهو قوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)}، (راق) (¬6): يجوز أن يكون من الرقية، يقال: رقاه يرقيه (رقية (¬7)) (¬8) إذا عوذه (¬9) بما يشفيه كما يقال: (بسم الله أرقيك) (¬10). ¬

_ (¬1) ورد البيت في "الكشف والبيان" 13: 8/ ب، و"التفسير الكبير" 30/ 230، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 109، و"البحر المحيط" 8/ 382، و"روح المعاني" 29/ 146، ولم أعثر عليه في ديوانه. (¬2) "تفسير مقاتل" 218/ ب. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254 بنصه، وفيه: (بصعوبة) بدلاً من: (صعوبة). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 212 بنصه. (¬6) ساقطة من (أ). (¬7) الرُّقْيَة: العُوذة التي يُرْقَى بها صاحب الآفة كالحمى، والصرع، وغير ذلك من الآفات. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 254: مادة: (رقى). (¬8) ساقط من (أ). (¬9) في (ع): عوذة. (¬10) نص الحديث كما في "صحيح مسلم" أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: "نعم"، قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك. 4/ 1718 - 1719: ح: 40: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى كما أخرج: الإمام أحمد في "المسند" 3/ 28 - 56 - 58 - 75 - 151، 6/ 332 , وابن ماجه في "سننه" 2/ 284: =

ويجوز أن يكون من رقى يرقي رقيًّا (¬1)، ومنه قوله: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} [الإسراء: 93]، وكلا القولين قد ذكر في التفسير. قال أبو قلابة: هل من طبيب شاف (¬2)؟. وقال الكلبي: هل من طبيب يرقي (¬3)؟ (وهو قول الضحاك (¬4)، وعكرمة (¬5)) (¬6). وقائل هذا القول من حول ذلك الإنسان أشفى (¬7) على الموت، ومعنى هذا الاستفهام: يجوز أن يكون استفهامًا عن الذي يُرقى؛ كأنهم طلبوا له الرقية والشفاء. وهو معنى قول قتادة: التسموا له الأطباء، فلم ¬

_ = ح: 3568 - 3573: أبواب الطب: باب 37، و36، والترمذي في "سننه" 3/ 294: ح: 972: كتاب الجنائز: باب 4. (¬1) الرقي: الصعود والارتفاع، يقال: رَقِيَ يَرْقَى رُقِيًّا، ورقَّى: شُدِّدَ للتعدية إلى المفعول. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 256: مادة: (رقى). (¬2) "جامع البيان" 29/ 194، و"النكت والعيون" 6/ 157، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"زاد المسير" 8/ 139 بمعناه، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 109، و"البحر المحيط" 8/ 389، و"الدر المنثور" 8/ 361 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "جامع البيان" 29/ 195، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"زاد المسير" 8/ 139، و"البحر المحيط" 8/ 389، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 481، و"الدر المنثور" 8/ 361 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬5) ورد بمعناه في "جامع البيان" 29/ 194، و"زاد المسير" 8/ 139، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 109، و"البحر المحيط" 8/ 389، و"الدر المنثور" 8/ 361. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) في (أ): أشفا.

يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا (¬1). ويجوز أن يكون معناه الإنكار؛ لأن يكون له راقٍ يرقيه. قال أبو إسحاق: أي من يشفي من هذه الحالة، يقوله القائل عند البأس، أي من يقدر أن يَرْقِيَ من الموت (¬2). القول الثاني: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: وقال ملك الموت: من يرقي هذه النفس الكافرة، كرهتها الملائكة أن يصعدوا بها إلى السماء، حتى يقول ملك الموت: يا فلان: اصعد بها (¬3). قال الكلبي: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، وسبعة أملاك من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو قوله: (وقيل من راق) (¬4). وهذا قول مقاتل (¬5)، وسليمان التيمي (¬6)، (ورواية أبي الجوزاء عن ابن عباس) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 195، و"الكشف والبيان" 13: 8/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 424، و"فتح القدير" 5/ 341. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254 بنحوه. (¬3) "التفسير الكبير" 30/ 231. (¬4) المرجع السابق. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 424، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"زاد المسير" 8/ 139، ولم أعثر على قوله في "تفسيره". (¬6) انظر قوله في "معالم التنزيل" 4/ 424، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"البحر المحيط" 8/ 389. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). وانظر هذه الرواية في: "جامع البيان" 29/ 195، و"الكشف والبيان" 13: 9/ أ, و"النكت والعيون" 6/ 158، و "زاد المسير" =

وذكرنا قديمًا (¬1): أن إظهار (النون) عند حروف (¬2) الفم (¬3) لحن غير جائز، فلا يجوز إظهار نون (من) في قوله: (مَنْ راقٍ). وروى حفص عن عاصم: إظهار (النون)، و (¬4) (اللام) في قوله: (من راق)، و (بل ران (¬5)) (¬6). قال أبو علي الفارسي: ولا أعرف وجه ذلك (¬7). وسمعت شيخنا أبا الحسن الضرير النحوي -رحمه الله- يقول: إنما أظهر النون؛ لأنه خاف الالتباس تتابع المرق؛ لأنه يقال له: مراق، وأظهر اللام؛ لأنه خاف الالتباس بتثنية (بر) بمعنى الأرض الفضاء، وهذا ¬

_ = 8/ 139، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 110، و"البحر المحيط" 8/ 389، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 481، و"الدر المنثور" 8/ 361 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬1) لم أتوصل إلى موضعه من "التفسير البسيط". (¬2) في (أ): حرف. (¬3) حروف الفم المراد بها: اثنا عشر حرفًا: التاء، والثاء، والدال، والظاء، والذال، والطاء، والصاد، والضاد، والسين، والزاي، والراء، واللام. انظر: "المدخل" 500. (¬4) في (أ): (في) بدلًا من الواو. (¬5) "الحجة" 6/ 346، وانظر كتاب (السبعة) 661، و"حجة القراءات" 737، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 55 - 56 من سورة الكهف، و"المبسوط" 97. وقرأ الباقون بالإدغام؛ لقرب النون من الراء. المراجع السابقة. (¬6) وكان حفص يقف على النون واللام وقفة خفيفة في وصله، ليبين إظهار اللام والنون؛ لأنهما ينقلبان في الوصل راء، فتصير مدغمة في الراء بعدها، ويذهب لفظ اللام والنون. انظر: "الكشف" 2/ 55، و"المبسوط" 97. (¬7) "الحجة" 6/ 346.

28

ضعيف؛ لأن كسرة القاف في (من راق)، وفتحة النون في (بل ران) مع الإدغام يمنعان هذا الالتباس عند الوصل، والوجه أن يقال: قصد الوقف على (من)، و (بل) فأظهرهما، ثم ابتدأ بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراء) (¬1). 28 - وقوله: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)}. قال (ابن عباس (¬2) و) (¬3) المفسرون (¬4): علم، وأيقن الميت الذي بلغت روحه تراقيه (¬5)، أن الفراق من الدنيا. وقال مجاهد: أيقن أنه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة (¬6). 29 - {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)}. قال ابن عباس (في رواية عطاء) (¬7): يريد شدة الموت، بشدة الآخرة (¬8). ¬

_ (¬1) قراءة القطع، وكذا قراءة بلا وقف بينهما، كلاهما قراءة صحيحة، وهي سنة متبعة، فلا عبرة لما ذكره أبو الحسن الضرير. (¬2) "المحرر الوجيز" 5/ 406 مختصرًا. (¬3) ما بين القوسين: ساقط من (أ). (¬4) وإليه ذهب الثعلبي في "الكشف والبيان" 13: 9/ أ، قال: (وظن، وأيقن)، وبه قال الماوردي في "النكت والعيون" 6/ 158، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 424، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 406، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 139، وحكاه الفخر عن المفسرين في "التفسير الكبير" 30/ 231، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 110، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 337. (¬5) في (أ): التراقي. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) ورد بمعناه، وبطرق غير طريق عطاء في "جامع البيان" 29/ 195 - 196، =

وهو قول الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2)، (وقتادة (¬3)) (¬4)، وسعيد بن جبير (¬5)، (والسدي (¬6) (¬7) قالوا: معناه: تتابعت عليه الشدائد: شدة بعد مفارقة الوطن من الدنيا والأهل، وشدة القدوم على ربه، فالتقت آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة (¬8)) (¬9). (قال أهل اللغة: قيل للأمر الشديد: ساق؛ لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن) (¬10) ساقيه، ثم قيل للأمر الشديد: ساق. ومنه قول (¬11) دريد: ¬

_ = و"الكشف والبيان" 13: 9/ ب، و"النكت والعيون" 6/ 158، و"معالم التنزيل" 4/ 424، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"زاد المسير" 8/ 139، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 110، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 481. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 218/ ب، و"زاد المسير" 8/ 129. (¬3) ورد مختصرًا في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 334، و"جامع البيان" 29/ 196، وبمعناه في "الكشف والبيان" 13/ 5/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 424، و"زاد المسير" 8/ 140. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) بمعناه في "الكشف والبيان" 13: 9/ ب، ومختصرًا في "معالم التنزيل" 4/ 424. (¬6) بمعناه في "معالم التنزيل" 4/ 424. (¬7) ساقطة من (أ). (¬8) وهذا المعنى من المفسرين جاء من لفظ: الْمُسَاوَقَة، أي: المتابعة، كأن بعضها يسوق بعضًا. انظر: "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لأبي موسى الأصفهاني 2/ 152. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) في (أ): قوله. ولم يذكر دريدًا.

كَمِيشُ الإزار خارجٌ نِصفُ ساقِهِ (¬1) أراد: أنه: مشمر جاد، ولم يرد خروج الساق بعينها) (¬2). وهذا القول اختيار المبرد (¬3)، وأبي عبيدة (¬4). قال المبرد في هذه الآية أي: الشدة بالشدة، تقول العرب: قامت الحرب على ساق (¬5). أي اشتدت، وأنشد للجعدي: أخُو الْحَرْبِ إنْ عَضَّتِ الْحَرْبُ عَضَّها ... وَإنْ شَمَّرَتْ عنْ سَاقِها الْحَرْبُ شَمَّرا (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) وعجزه: صَبُورٌ على العَزَّاءِ طَلاع أنْجُدٍ وقد ورد أيضًا في ديوان دريد بن الصمة: 49 يرثي عبد الله أخاه وقتله بنو عبس، و"لسان العرب" 10/ 168، و"الأصمعيات" 108. ومعناه: الكميش: الماضي العزوم السريع في أموره. العزاء: الشدة. طلاع أنجد: ركاب لصعاب الأمور، أو هو السامي لمعالي الأمور. الأنجد: جمع نجد، وهو ما ارتفع وغلظ من الأرض، أو الطريق في الجبل. انظر: "الأصمعيات" 108، و"ديوانه" 49، حاشية. (¬2) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الأزهري بنصه من "تهذيب اللغة" 9/ 233: سوق، وانظر مادة: (سوق) في "لسان العرب" 10/ 168، و"المخصص" لابن سيده: 1/ 2/ 53: مادة (الساق)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 422. (¬3) "الكامل" 3/ 1147. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 278. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ورد في ديوان حاتم الطائي: 82، و"الكامل" 3/ 1147: منسوبًا إلى حاتم الطائي، ولم أجده في ديوان الجعدي، كما ورد الشطر الثاني في ديوان جرير: 185: دار بيروت: أما شطره الأول فهو: ألا رُبَّ سامي الطرف من آل زمان (¬7) ما بين القوسين نقلاً عن "الكامل" 3/ 1147 بيسير من التصرف.

30

وقال الشعبي: هما ساقاه عند الموت (¬1). ونحو ذلك روى شعبة عن قتادة قال: أما رأيته إذا حضر يضرب برجله على الأخرى (¬2). وروى السدي عن أبي مالك قال: ساقاه التفتا عند الموت (¬3). وفي الآية قول ثالث: قال الحسن: هما ساقاه إذا لُفَّتا (¬4) في الكفن (¬5): وهو قول سعيد بن المسيب (¬6). وقال زيد بن أسلم: يعني ساق الكفن بساق الميت (¬7). 30 - قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)}. قال ابن عباس: مرجع العباد (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 197، و"معالم التنزيل" 4/ 425، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"زاد المسير" 8/ 140، و"الجامع" 19/ 110، و"البحر المحيط" 8/ 390. (¬2) "جامع البيان" 29/ 198، و"الكشف والبيان" 13: 9/ ب؛ بمعناه في "المحرر الوجيز" 5/ 406، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 110، و"البحر المحيط" 8/ 390، و"الدر المنثور" 8/ 362 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬3) "جامع البيان" 29/ 197، بمعناه في "المحرر الوجيز" 5/ 406، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 481، و"الدر المنثور" 8/ 362 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) في (أ): ألقيا. (¬5) "جامع البيان" 29/ 197، و"الكشف والبيان" 13/ 9/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 425، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"التفسير الكبير" 30/ 232، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 481، وفي "الدر" 8/ 362 معزوًّا إلى ابن المنذر، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 382. (¬6) ورد قوله في "الكشف والبيان" 13: 9/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 406، و"زاد المسير" 8/ 139، و"التفسير الكبير" 30/ 332. (¬7) "الكشف والبيان" 13: 9/ ب، وذكر أنه يزيد بن أسلم، وهو تصحيف. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله في "الوسيط" من غير عزو: 4/ 395.

31

وقال مقاتل: إلى الله المنتهى يساقون إليه ليس عنه مرحل (¬1). 31 - قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} قال ابن عباس (¬2) والمفسرون (¬3): يعني: أبو جهل. قال الكلبي: يقول: لم [يصدق] (¬4) أبو جهل بالرسالة، {وَلَا صَلَّى} يعني: ولم يسلم (¬5). قال مقاتل: [لم يصدق] (¬6) بالقرآن، ولا (صلَّى) لله صلاة (¬7). قال أبو عبيدة (¬8)، والمبرد (¬9): أي لم يصدق، ولم يصل. كقوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} [البلد: 11]، أي: فلم يقتحم. وكذلك ما روي في الحديث: (أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا اسْتَهَلَّ) (¬10). والأصل في هذا أن (لا) حرف نفي، ينفي الماضي، كما ينفي ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 218/ ب. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 111. (¬3) قال بذلك: مقاتل في "تفسيره" 218/ ب، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 347، والثعلبي في "الكشف والبيان" 10: 13/ أ، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 158، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 425، كما حكاه ابن الجوزي عن المفسرين في "زاد المسير" 8/ 140، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 111. (¬4) في كلا النسختين: أصدق، ولا تستقيم العبارة بذلك، فأثبت ما يقيم المعنى. (¬5) "النكت والعيون" 6/ 158 بمعناه (¬6) وردت في كلا النسختين: صدق، وأثبت لم، وبإضافة الياء لتستقيم العبارة. (¬7) "تفسير مقاتل" 218/ ب. (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 278 بنحوه. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) الحديث أخرجه مسلم 3/ 1310 ح: 36 - 37 - 38: كتاب القسامة: باب صحة =

المستقبل، أنشد أبو عبيدة لطرفة: وأيُّ خَمِيسٍ لا أَفَأْنَا نِهَابَه (¬1) بمعنى: لَمْ نُفَأْ، وذكرنا الكلام في هذا في قوله: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} ¬

_ = الإقرار بالقتل، وتمكين ولي القتيل من القصاص، ونص الحديث: أن أبا هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن دية جنينها غرة عبد، أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وورثها ولدها ومن معهم فقال: حمل ابن النابغة الهذلي: يا رسول الله: كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهلّ، فمثل ذلك يُطَل؟، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هذا من إخوان الكهان"، من أجل سجعه الذي سجع. ومعنى (استهلّ)، أي: ولا صاح عند الولادة ليعرف به أنه مات بعد أن كان، ومعنى (يطل) أي يهدر، ولا يطالب بديته حيًّا. كما أخرجه: أبو داود في "سننه" 2/ 542 - 543: كتاب الديات: باب دية الجنين، والدارمي 2/ 641 ح: 2293، والإمام أحمد في "المسند" 2/ 274، 438، 498، 535، 4/ 245، 246، 249، 5/ 327، وابن ماجه في "سننه" 2/ 103: ح: 2671: أبواب الديات: باب دية الجنين، والترمذي في "سننه" 4/ 23 - 24: ح: 141: كتاب الديات: باب 15 ما جاء في دية الجنين، والنسائي في "سننه" 8/ 418 - 419: ح: 4833: كتاب القسامة: باب 39 - 40. (¬1) لم أعثر عليه في ديوانه، وقد ورد في "مجاز القرآن" 2/ 278 برواية: (خيس) بدلًا من (خميس)، وعجز البيت: وأسيافُنا يَقْطِرنَ مِنْ كَبْشِهِ دَمَا كما ورد غير منسوب في: "تأويل مشكل القرآن" 548، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 228، و"البحر المحيط" 8/ 390 برواية (جميس) غير منسوب، و"الكامل" 2/ 1044 منسوب. الخميس الجيش. أفأنا: رددنا. انظر: "تأويل مشكل القرآن"، و"الكامل"؛ مرجعان سابقان.

[البقرة: 102] عند حكاية كلام أبي بكر بن السَّرَّاج (¬1) (¬2). قوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ}، أي: بالقرآن. {وَتَوَلَّى} عن الإيمان. {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} رجع إليهم. {يَتَمَطَّى}: يتبختر ويختال في مشيته، (قاله ابن عباس (¬3) والمفسرون (¬4) (¬5). وقال مقاتل (¬6)، وزيد بن أسلم (¬7): هو مشية بني مخزوم (¬8). وفي (يتمطى) قولان: أحدهما: أنه (من المَطْو، وهو المد. ومنه ¬

_ (¬1) ابن السراج: بياض في (أ). (¬2) ومما جاء في كلامه الذي بين فيه أن (لا) حرف نفي، ينفي المستقبل؛ قال: (الأفعال جنس واحد، فكان يجب أن يكون على بناء واحد، لكنها غيرت بتغيير الأزمنة، وقسمت بتقاسيمها, لما كان ذلك في الإيضاح أبلغ، فخص كل قسم من ذلك بمثال، لا يقع واحد منها في موضع الآخر إلا أن يضم إليه حرف يكون دليلًا على ما أريد به، فيصير الحرف كأنه يقوم مقام البناء المراد، إذا كان يدل عليه كما يدل البناء نحو: والله لا فعلت، فقولك: فعلت، فعل ماض وقع في موضع مستقبل، فلما كانت قبلها (لا) علم أنه يراد به الاستقبال؛ لأن (لا) إنما يكون نفيًا لما يستقبل، فلما كانت نفيًا للمستقبل، ووقع بعدها ماض، علمت أنه يراد به الاستقبال. (¬3) "النكت والعيون" 6/ 159 بنحوه، و"تفسيرالقرآن العظيم" 4/ 481، و"الدر المنثور" 8/ 363 عزاه إلى بن أبي حاتم. (¬4) قال بذلك: قتادة، وزيد بن أسلم، ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 3/ 334 - 335، و"جامع البيان" 29/ 199، و"الدر المنثور" 8/ 363. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "تفسير مقاتل" 218/ ب. (¬7) "جامع البيان" 29/ 199، و"النكت والعيون" 6/ 159، و"المحرر الوجيز" 5/ 407. (¬8) بنو مخزوم: بطن من لؤي بن غالب بن قريش، ينتسب إليهم خالد بن الوليد، وأبو جهل -عدو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , وسعيد بن المسيب. انظر: "نهاية الأرب" 371.

34

حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه مرَّ ببلال، وقد مُطِىَ في الشمس) (¬1)، أي: مد. وكل شيء مددته فقد مَطَوْتَه، ويتمطى معناه يتمدد) (¬2). وقال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4): هو من الْمَطَا، وهو الظهر، فيلوي ظهره تبخترًا. القول [الثاني] (¬5): أنه من المط، وهو المد أيضًا، والْمُطَيْطَاء (¬6): التبختر ومد اليدين في المشي، والْمَطِيطَة: الماء الخاثر في أصل الحوض؛ لأنه يتمطط، أي: يتمدد. وهذا قول أبي عبيدة (¬7)، وابن قتيبة (¬8) في هذه الآية. قال ابن قتيبة: وأصله (يتمطط) فقلبت (التاء) فيه (ياء) كما قيل: يَتَظَنَّى، ويَتَقَصَّى، قال: وأصل (الطاء) في هذا كله (قال) يقال: مططت ومددت (¬9). 34 - قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)} قال جماعة المفسرين (¬10): ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ما بين القوسين نقله الواحدي عن "تهذيب اللغة" 14/ 43 (مطو)، وانظر (مطا): "الصحاح" 6/ 2494، و"لسان العرب" 15/ 284. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 212 واللفظ له. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254. (¬5) في النسختين: الثالث، ولعله سهو. (¬6) في (ع): المطيطيا. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 278، وعبارته: جاء يمشي الْمُطيطا، وهو أن يلقي بيديه ويتكفأ. (¬8) "تفسير غريب القرآن" 501. (¬9) المرجع السابق بتصرف. (¬10) قال بذلك مقاتل في "تفسيره" 218/ ب، وقتادة في: "تفسير عبد الرزاق" 3/ 335، و"جامع البيان" 29/ 200، وإليه ذهب: ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 501،=

هذا تهديد من الله لأبي جهل، ووعيد. وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة بمعنى: الوعيد، في سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-. (¬1) والمعنى: (وَلِيَك المكروه يا أبا جهل) (¬2). قال قتادة (¬3)، (والكلبي (¬4) (¬5)، ومقاتل (¬6): أخذ رسول الله بيد أبي جهل، ثم قال: أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني (¬7)؟ لا تستطيع أنت وربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعز أهل الوادي، ثم انسل ذاهبًا، فأنزل الله كما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ونحو ذلك قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالها لأبي جهل، ثم أنزلها الله (¬8). ¬

_ = والثعلبي في "الكشف والبيان" 13: 10/ ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 425، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 112، و"لباب التأويل" 4/ 337. (¬1) سورة محمد: 2، ومما جاء في تفسيرها: قال الواحدي: (ومعنى: أولى، أي وعيد لهم، من قولهم في التهديد: أولى لك وليك وقاربك ما يكره. وقال آخرون: أي وليهم المكروه. وقال غيرهم: أولى يقولها الرجل لآخر يحسره على ما فاته، ويقول له: يا محروم أي شيء فاتك. وقال صاحب النظم: أولى مأخوذ من الويل). (¬2) نقله عن الزجاج بنص العبارة. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 254. (¬3) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 335، و"جامع البيان" 29/ 200، و"الكشف والبيان" 13: 11/ أ، وانظر أيضًا قوله: في "معالم التزيل" 4/ 425، و"التفسير الكبير" 30/ 233، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 113، و"لباب التأويل" 4/ 337، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 482. (¬4) "النكت والعيون" 6/ 159 بمعناه، و"التفسير الكبير" 30/ 233. (¬5) ساقطة من (أ). (¬6) "تفسير مقاتل" 218/ ب، المرجعان السابقان. (¬7) في (أ): توعدني. (¬8) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 482، وانظر: "مجمع الزوائد" 7/ 132، وقال: رواه الطبراني: [11/ 458: ح: 12298]، ورجاله ثقات.

قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} (¬1) قالوا (¬2): يعني أبا جهل. {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (¬3)} هملاً، مهملاً، لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يوعظ في الدنيا, ولا يحاسب بعمله في الآخرة. (والسدى معناه في اللغة: المهمل، يقال: أسدَيْت إبلي إسداءً أهملتها، والاسم: السُّدَى .. ذكر ذلك (أبو عبيد) (¬4)، (عن أبي زيد) (¬5)، والأشبه بالمعنى في {سُدًى}، أي: مهملًا لا يبعث. يدل عليه قوله في الدلالة على البعث: {أَلَمْ يَكُ}، أي: هذا الإنسان. {نُطْفَةً}، أي: ماءً قليلاً، يعني في ابتداء خلقه. {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} أي تصب في الرحم، وذكر الكلام في {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} عند قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)} [النجم: 46]، وقوله (¬6): {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)} [الواقعة: 58]. وفي (يُمنى) قراءتان (¬7): التاء، والياء، (فالتاء للنطفة على تقدير: ألم ¬

_ (¬1) لم أعثر على من قال بذلك، ولعله عني بهم جماعة المفسرين السابق ذكرهم في الآية السابقة. وانظر السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 396، وقال القرطبي: إن الخطاب لابن آدم: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 114. (¬2) في (أ): سدا. (¬3) أبو عبيدة، هكذا ورد في كلا النسختين، والصواب أنه أبو عبيد كما في "التهذيب". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين نقله الواحدي عن الأزهري. "تهذيب اللغة" 13/ 40 (سدا). (¬6) بياض في (ع). (¬7) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي: (مِنْ مني تمنى) على أن الضمير: للنطفة. وقرأ حفص، ويعقوب، وهشام بخلف عنه: بالياء (من مني يمنى) جعل الضمير عائدا على (مني) انظر كتاب السبعة: 662 , و"الحجة" 6/ 346، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 351، و"حجة القراءات" 737، و"المبسوط" 388، (المهذب) 2/ 314.

تك نطفة، يمنى من المني. والياء) (¬1) للمني، كأنه: من مني يمنى، أي يقدر خلق الإنسان منه. {ثُمَّ كَانَ} الإنسان {عَلَقَةً} بعد النطفة. {فَخَلَقَ} يعني: فنفخ فيه الروح، وسوّى خلقه. قاله ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3). {فَجَعَلَ مِنْهُ} من الإنسان بعد ما سواه خلقًا سويًّا، خلق من مائه أولادًا (له) (¬4)؛ ذكورًا، وإناثًا. وهو قوله: {الزَّوْجَيْنِ} يعني: الصنفين. ثم فسرهما فقال: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}. (قوله) (¬5): {أَلَيْسَ ذَلِكَ} الذي فعل هذا. {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}، وهذا تقدير لهم أن (¬6) من قدر على الابتداء قدر على البعث بعد الموت، وذلك إشارة إلى الفاعل المضمر في قوله: {فَخَلَقَ فَسَوَّى} وهو الله تعالى، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم فبلى" (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) "التفسير الكبير" 30/ 234. (¬3) "تفسير مقاتل" 218/ ب، وانظر المرجع السابق. (¬4) ساقطة من (ع). (¬5) ساقطة من (ع). (¬6) في (أ): أي. (¬7) الحديث أخرجه: أبو داود 1/ 225 - 226: كتاب الصلاة: باب الدعاء في الصلاة، وباب مقدار الركوع والسجود من طريق أبي هريرة -رضي الله عنه- وغيره، والإمام أحمد في "المسند" 2/ 249، والحاكم 2/ 510 في التفسير، سورة القيامة، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي؛ وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 132، وقال: رواه أبو داود وغيره، ورواه أحمد وفيه رجلان لم أعرفهما. قال ابن حجر: رواية عن إسماعيل عند الحاكم يزيد بن عياض متروك، ولكن أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل، عن رجل، عن أبي هريرة، واختلف فيه على إسماعيل على أوجه =

وقال ابن عباس: إذا قرأت هذه السورة (فقلت) (¬1): {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [فقل] (¬2): اللهم ربنا فبلى (¬3). (والله أعلم بالصواب) (¬4). ¬

_ = أخرى ذكرتها في حاشية الأطراف. انظر: "الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" 180، ملحق بـ"الكشاف" 4. والحديث ضعفه الألباني. انظر: "ضعيف سنن أبي داود" 86 - 87: ح: 188 - 887، و"ضعيف الجامع الصغير وزيادته" 1/ 238: ح: 5796. (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) في كلا النسختين: فقال، ولا يستقيم المعنى بهما. (¬3) أخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" 12: 11/ ب، وابن كثير في "تفسيره"، وساق إسناده: 4/ 482، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وزاد السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 364: ابن المنذر. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ع).

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -115 - التَّفْسيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة الإنسان إلى سورة الفجر تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثالث والعشرون

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -115 - التَّفْسيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة الإنسان إلى سورة الفجر تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزيز بن سطام آل سعود ... أ. د. تركى بن سهو العتيبي الجزء الثالث والعشرون

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي, على بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)./ نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان, الرياض1430 هـ. 25مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 2 - 880 - 04 - 9960 - 978 (ج 23) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي, على بن أحمد أ- العنوان ... ب- السلسة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 2 - 880 - 04 - 9960 - 978 (ج 23)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير سورة الإنسان

تفسير سورة الإنسان (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. 1 - {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬2) قال ابن عباس (¬3)، (ومقاتل) (¬4) (¬5)، والمفسرون (¬6): قد أتى، وهو قول أهل المعاني (¬7) أيضًا. ¬

_ (¬1) فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها مدنية كلها، قاله الجمهور؛ منهم: مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها مكية، قاله عطاء بن يسار، ومقاتل، والكلبي، وابن عباس. والثالث: أن فيها مكيًا ومدنيًا. انظر: "النكت والعيون" 6/ 161، "معالم التنزيل" 4/ 426، "زاد المسير" 8/ 141، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 116. (¬2) كلمة (الإنسان) ساقط من (ع). (¬3) "المحرر الوجيز" 5/ 408. (¬4) "تفسير مقاتل" 218/ ب. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) قال بذلك: ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 538، وابن الأنباري في: كتابه "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 959، الطبري في "جامع البيان" 29/ 202، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 429. وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 426، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 408. وحكى الفخر ألفاظ المفسرين على هذا القول: 30/ 235، وساق الشوكاني قول الواحدي عن المفسرين في (فتح القدير) 5/ 344. (¬7) قال بذلك: الفراء في: (معاني القرآن) 3/ 213، وأبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 279، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 257، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13: 12/ أ.

قال الأخفش: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أي قد أتاك، كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه (¬1). وقال المبرد: (هل) معناه في هذا الموضع: (قد) (¬2)، وكذلك قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص: 21]، وحُكي عن سيبويه: أن (هل) قد تكون لغير الاستفهام (¬3). وقال الكسائي: (هل) تأتي استفهامًا، وهو بابها، وتأتي جحدًا (¬4)، (وتأتي بمعنى: قد) (¬5) (¬6). (وقال الفراء: معناه: قد أتى، قال (وهل): قد تكون جحدًا) (¬7)، وتكون خبرًا، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل وعظتك، هل أعطيتك، تقرره بأنك قد أعطيته، ووعظته، قال: والجحد أن تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا (¬8). وقال أبو إسحاق: (هل) ليست باستفهام (¬9). ويحقق ذلك قول أبي ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "المقتضب" 1/ 298. (¬3) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 189، وانظر أيضًا "المحرر الوجيز" 5/ 408، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 116، (فتح القدير) 5/ 344. (¬4) أي: نفيًا. (¬5) ورد قوله في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 116. (¬6) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬7) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬8) "معاني القرآن" 3/ 213 بتصرف يسير. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 257، لم يرد عن أبي إسحاق ما ذكره الواحدي، وإنما ورد خلافه، وعبارته كالآتي. قال: ومعنى: "هل أتى" قد أتى على الإنسان، أي ألم يأت على الإنسان حين من الدهر".

بكر الصديق -أرضاه الله- قال لما سمع هذه الآية: [ليت] (¬1) المدة التي أتت على آدم، ولم يكن شيئًا مذكورًا، تمت على ذلك، وكان لا يلد، ولا يُبتلى أولاده (¬2). وهذا الذي ذكره عن الصديق يروى ذلك عن عمر (¬3)، وابن مسعود (¬4)، (ومراده) (¬5) أن (هل) لو كان استفهامًا ما قال من قال: ليت ذلك تم؛ لأن الاستفهام إنما يجاب بـ (لا) أو (نعم)، وهذا الكلام، إنما يحسن إذا كان المراد بـ (هل) الخبر لا الاستفهام (¬6). وقوله: {عَلَى الْإِنْسَانِ} قال جماعة من المفسرين (¬7): يريد آدم عليه السلام. ¬

_ (¬1) في كلا النسختين: ليست، ولا تستقيم العبارة بهذا اللفظ، ولعله خطأ من الناسخ، أو تصحيف. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 118. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 12/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 118، "الدر المنثور" 8/ 366 وعزاه إلى ابن المبارك، وأبي عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 12/ أ، "الدر المنثور" 8/ 366 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬5) ساقطة من (أ). (¬6) (هل): من الحروف الهوامل؛ لأنها لا تختص بأحد القبيلين، ولها موضعان: أحدهما: أن تكون استفهامًا عن حقيقة الخبر، وجوابها: نعم، أو لا، قال تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. والثاني: أن تكون بمعنى: (قد)، وذلك نحو قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، كتاب معاني الحروف للرُّمَاني: 102. (¬7) قال بذلك: قتادة، وسفيان الثوري، والسدي، وعكرمة، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 218/ ب، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 336، "جامع البيان" 29/ 202، "النكت والعيون" 6/ 161، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 117. وبه قال =

{حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} يعني أربعين سنة كان ملقى قبل أن ينفخ فيه الروح. هذا قول الكلبي (¬1). وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بـ (الحين) أن آدم أقام حين خلق من طين أربعين سنة (¬2) من صلصال، وأربعين سنة من حمأ (¬3) مسنون (¬4)، فتم خلقه بعد عشرين ومائة سنة (¬5). وزاد ابن مسعود فقال: أقام من تراب أربعين سنة، ثم ذكر مثل قول ابن عباس، فقال: فتم خلقه بعد ستين ومائة سنة (¬6). ¬

_ = السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 429، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13: 12/ أ، وعزاه الماوردي إلى (جميع المفسرين) 6/ 162، وإليه أيضًا ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 426، وحكاه ابن الجوزي عن الجمهور في "زاد المسير" 8/ 142. قال ابن تيمية: وقوله: "الإنسان" هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين، فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات يعلمها المستدل، والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق". (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) 16/ 260 - 261. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بنحوه في (الوسيط) 4/ 398. (¬2) قوله: أربعين سنة: مكرر في (ع). (¬3) حمأ: طين أسود منتن. المفردات في غريب القرآن 133. (¬4) مسنون: أي: مَصْبوب، يقال: سننت الشيء سنًا إذا صببتَهُ صبًا سهلاً، ويقال: "مسنون" أي: متغير الرائحة. "نزهة القلوب" للسجستاني: 403. (¬5) "النكت والعيون" 6/ 162، "التفسير الكبير" 30/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 117. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 117.

وقوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} قال ابن عباس: لا في السماء، ولا في الأرض (¬1). قال الفراء: يريد كان شيئًا, ولم يكن مذكورًا، وذلك من حين أن خلقه الله إلى أن نفخ فيه الروح (¬2). ونحو هذا قال الزجاج، قال: ويجوز أن يعني به جميع الناس (¬3). والمعنى: أنهم كانوا نطفًا (¬4)، ثم علقًا (¬5)، ثم مضغًا (¬6)، إلى أن صاروا شيئاً مذكورًا. قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني ولد آدم من نطفة. {أَمْشَاجٍ} يعني المشج في اللغة: "الخلط، يقال: مشج (يمشج) (¬7) مشجًا إذا خلط، والأمشاج: الأخلاط. قال ابن الأعرابي: واحدها: مَشْج، ومَشَج، وأنشد (قول الشماخ) (¬8): ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) (معاني القرآن للفراء) 3/ 213 بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 257 بنصه. (¬4) النُّطْفة: الماء الصافي قلّ أو كثُر. انظر مادة: (نطف) في (مقاييس اللغة) لابن فارس: 5/ 440، (مختار الصحاح) 666. (¬5) العَلَق: الدم الجامد، وفي الصحاح: الدم الغليظ. انظر مادة: (علق) في (مقاييس اللغة) 4/ 125، (مختار الصحاح) 450. (¬6) مضغ: الميم، والضاد، والغين: أجل صحيح، وهو المضغ للطعام، والمضغة: قطعة لحم؛ لأنها كالقطعة التي تؤخذ فتمضغ. انظر مادة: (مضغ) في (مقاييس اللغة) 5/ 330، مختار الصحاح: 626. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) ساقط من (أ).

طَوَتْ أحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ ... على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ (¬1) وأنشد أيضًا: فَهُنَّ يَقْذِفْنَ مِنَ الأمْشاجِ ... مِثْلَ بُرُودِ اليُمْنَةِ الحجاج (¬2) قال: والمشج: شيئان مخلوطان (¬3). وقال [أبو عبيدة (¬4)] (¬5)، والفراء (¬6): الأمشاج: الأخلاط، ويقال للشيء إذا خُلط: مَشيج، كقولك: خليط، وممشوج (كقولك) (¬7) مخلوط، وأنشد (¬8) للهذلي (¬9) (¬10)، فقال: ¬

_ (¬1) ديوانه: 328. وانظر (مشج) في: "لسان العرب" 2/ 367، "الكامل" 2/ 1017، "البحر المحيط" 8/ 392. ومعناه: طوت: ضمت، أحشاء: أراد رحمها، مرتجة: حامل، لوقت: أي لوقت الولادة، مشج: أخلاط، والمراد هنا: النطفة التي اختلط فيها ماء الحمار بماء الأتان. سلالته: ماؤه، مهين: ضعيف. والمعنى: أطبقت هذه الأتان رحمها إلى وقت الولادة على النطفة، فلا تمكن الحمار منها، فهي تهرب منه أشد ما يكون، فناقة الشماخ تشبه هذه الأتان في: الإسراء للتوجه إلى الممدوح. ديوانه: 328. (¬2) ورد البيت غير منسوب في: "لسان العرب" 2/ 367، برواية: "نزول" بدلاً من: "برود". (¬3) ما بين القوسين نقله عن الأزهري من "تهذيب اللغة" 10/ 551 (مشج). وانظر المعنى اللغوي لـ (مشج) في: "اللسان" 2/ 367، "تاج العروس" 2/ 100 - 101. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 279. (¬5) في (أ) أبو عبيد، وبياض في (ع)، والصواب "أبو عبيدة" فقوله في "مجاز القرآن". (¬6) "معاني القرآن" 3/ 214. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) أي أبو عبيدة، إذ لم يرد عن الفراء ذكر بيت القصيد. (¬9) في (ع): وأنشد قول الهذلي. (¬10) البيت عند أبي عبيدة منسوب لأبي ذؤيب الهذلي: "مجاز القرآن" 2/ 279، وكذا =

كأنّ الرِّيش والفُوقَيْن منه ... خِلاف النَّصْل سِيطَ به مَشِيجُ (¬1) يصف السهم: بأنه قد نفذ في الرمية، فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير، ووصف (النطفة) وهي واحدة بالأمشاج، وهي جمع، كوصف: البُرمة (¬2) بالأعشار في قولهم: بُرمة أعشارٌ، أي قطع متكسرة، وثوب أخلاق، وأرض سباسب (¬3) (¬4). ومعنى أمشاج: أخلاط في قول جميع أهل اللغة (¬5)، ¬

_ = عند الطبري في: "جامع البيان" 29/ 203، ونسب إلى الشماخ في: "الكامل" 2/ 1016، والصواب أنه لـ: زهير بن حرام الهذلي من قصيدته في: "ديوان الهذليين" 3/ 104، "شرح أشعار الهذليين" 2/ 619، وقد بين ذلك محقق ديوان الشماخ: 434. (¬1) وورد البيت أيضًا في: "الصحاح" 1/ 341 (مشج)، "اللسان" 2/ 368، "الدر المنثور" 8/ 367 برواية: كأن النصل والفوقين منها ... خلال الريش سِيطَ به مَشيج وفي "البحر المحيط" 8/ 392 برواية: كأن النّصل خلاف الريش. وفي "الكامل" 2/ 1016 برواية: كأنَّ الْمَتْنَ والشرخين منه ... خلاف النّصل سَيط به مَشيج كما ورد في: ديوان الشماخ: كأن المتن والشرخين منه: 434. (¬2) البرمة: هي الحجارة التي توضع تحت القدر، ويقال لها الأثافي أيضًا. "غريب الحديث" لابن الجوزي: 1/ 11. (¬3) سباسب: أي القفار، واحدها سَبْسَبٌ، والسَّبْسب: الأرض القَفْر البعيدة، مستوية وغير مستوية، وغليظة وغير غليظة، لا ماء بها , ولا أنيس. "لسان العرب" 1/ 460 مادة: (سبسب). (¬4) عد الكرماني هذا القول من غرائب التفسير 2/ 286. وانظر: "فتح القدير" 5/ 345. (¬5) انظر (مشج) في: "تهذيب اللغة" 10/ 551، "مقاييس اللغة" 5/ 326، "الصحاح" =

(والمفسرين) (¬1) (¬2). واختلفوا في كيفية اختلاط نطفة الرجل، ومعنى ذلك الاختلاط. فالأكثرون (على) (¬3) أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة، وهو قول ابن عباس (¬4) في رواية عطاء، (والكلبي) (¬5) (¬6)، ومقاتل (¬7)، ¬

_ = 1/ 341، "لسان العرب" 2/ 367، "تاج العروس" 2/ 101، "المعجم الوسيط" 1/ 207. (¬1) وهو قول عكرمة، وابن عباس، والربيع بن أنس، ومجاهد، والحسن، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 219/ أ، "جامع البيان" 29/ 203 - 204، "الكشف والبيان" 13: 12/ أ - ب، "النكت والعيون" 6/ 162، معالم التنزيل: 4/ 426، "المحرر الوجيز" 5/ 408، "زاد المسير" 8/ 142 حاشية: 2 من النسخة الأزهرية، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 483. وقال به اليزيدي في: "غريب القرآن" 404، وابن قتيبة في: تفسير "غريب القرآن" 502، ومكي بن أبي طالب في: العمدة في: "غريب القرآن" 327، و"تفسير المشكل" لمكي بن أبي طالب: 367، الخزرجي في: نفس "الصباح" 2/ 651، أبو حيان في: "تحفة الأريب" 280. وقال بذلك أيضًا: الطبري، والسمرقندي، والثعلبي. انظر: "جامع البيان" 29/ 203، "بحر العلوم" 3/ 430، "الكشف والبيان" 13: 12/ أ. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) "الكشف والبيان" 13: 12/ أ، معالم التنزيل: 4/ 426، "زاد المسير" 8/ 142 حاشية: 2، "التفسير الكبير" 30/ 236، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 119، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 483. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "تفسير مقاتل" 219/ أ.

(وعكرمة) (¬1) (¬2). قالوا: هو اختلاط ماء الرجل، وهو أبيض غليظ، بماء المرأة، وهو أصفر رقيق، فيختلطان، ويخلق الولد منهما، فما كان من عَصب، وعظم، وقوة، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر، فمن مَاءِ المرأة. وقال مجاهد: هي ألوان النطفة، نطفة الرجل بيضاء، وحمراء، ونطفة المرأة خضراء، وحمراء (¬3)، وهو قول الكلبي (¬4)، (ورواية الوالبي عن ابن عباس (¬5)) (¬6). وقال عبد الله: أمشاجها عروقها (¬7). يعني: العروق التي تكون في النطفة. وقال الحسن: يعني من نطفة مشجت بدم، وهو دم الحيضة، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 203، "زاد المسير" 8/ 142 حاشية: 2، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 483. (¬2) ساقط من (أ). وزاد في نسخة (أ) وغيرهما، ويعني: الكلبي، وعكرمة، فإن نسخة ع لم تذكرهما. وممن قال بذلك أيضًا: الحسن، ومجاهد، والربيع .. (¬3) "جامع البيان" 29/ 205، "الكشف والبيان" 13/ 12/ ب، "التفسير الكبير" 30/ 236، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 119، "الدر المنثور" 8/ 368 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 12/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 427، "زاد المسير" 8/ 142. (¬5) المراجع السابقة إضافة إلى "جامع البيان" 29/ 204، وصحيفة علي بن طلحة، عن ابن عباس في: "تفسير القرآن الكريم"؛ تحقيق راشد الرجال: 510. (¬6) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬7) المراجع السابقة، عدا الكشف والبيان، وصحيفة ابن عباس. وانظر: "جامع البيان" 29/ 205، "التفسير الكبير" 30/ 236، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 483، "الدر المنثور" 8/ 367 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم.

وذلك (¬1) أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل، وحبلت أمسك حيضها، فاختلطت النطفة بالدم (¬2). وقال قتادة: الأمشاج إذا اختلط الماء والدم، ثم كان علقة، ثم كان مضغة (¬3). ونحو هذا روى (سماك) (¬4) عن عكرمة (¬5)، واختاره الزجاج فقال: أمشاج: أخلاط من مني ودم، ثم ينقل من حال إلى حال (¬6). وقال أهل المعاني: إن الله جعل في النطفة أخلاطًا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة، ثم عدلها (¬7). والتقدير: من نطفة ذات أمشاج، فحذف المضاف، وتم الكلام (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): ولذلك. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 12 ب، "التفسير الكبير" 30/ 263، "الدر المنثور" 8/ 368، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 383. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 336، "جامع البيان" 29/ 204، "الدر المنثور" 8/ 368 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) "جامع البيان" 29/ 204، "معالم التنزيل" 4/ 427. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 257 بنصه. (¬7) انظر: "لسان العرب" 2/ 367 (مشج)، وعزاه الكرماني إلى ابن عيسى، واعتبر هذا القول من عجائب التأويل. انظر: "غرائب التفسير" 2/ 1286. (¬8) وعند بعضهم حسن. قاله الأشموني. انظر: "منار الهدى" 411، وقد علل السجاوندي الوقف على "أمشاج" بقوله: لأنه منكر. ثم قال: ولو وصل صار "نبتليه" صفة له، وإنما هو حال الضمير المنصوب في: "جعلناه" تقديره: فجعلناه سميعًا بصيرًا مبتلين له. فيوقف على "أمشاج" لتبين هذا المعنى. "علل الوقوف" 3/ 1070.

ثم قال: (قوله تعالى) (¬1): {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} قال مقاتل: فجعلناه بعد النطفة سميعًا بصيرًا لنبتليه بالعمل (¬2). وقال الفراء: المعنى: جعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه، فهي مقدمة معناها التأخير، المعنى: خلقناه، وجعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه (¬3). (ونحو هذا قال الزجاج (¬4)، وابن قتيبة (¬5) (¬6). وقال آخرون: (نبتليه) متصل المعنى بما قبله، كأنه قيل: خلقناه من نطفة أمشاج لنبتليه، لنختبره في الاعتبار بهذه الأحوال في خلقه، فيكون (نبتليه) في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين إياه (¬7). ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر، فقال: فجعلناه سميعًا بصيرًا. (وهذا قول صاحب النظم) (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) ساقطة من (ع). (¬2) "تفسير مقاتل" 219/ أ، "بحر العلوم" 3/ 430، "النكت والعيون" 6/ 163. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 214 بيسير من التصرف. وقد رد هذا المعنى ابن جرير فقال: "ولا وجه عندي لما قال يصح، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات، وسلامة العقل من الآفات، وإن عدم السمع والبصر". "جامع البيان" 29/ 206، كما رده النحاس بمعنى ما ذكره ابن جرير. انظر: "القطع والائتناف" 2/ 775. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 257. (¬5) تفسير غريب القرآن: 502. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) وهو قول ابن أبي حاتم، وإليه ذهب أيضًا النحاس. انظر: "القطع والإتناف" 2/ 775، و"منار الهدى" للأشموني 412. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ).

3

3 - قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} قال ابن عباس: يريد بيّنا له سبل الهدى (¬1). وقال الفراء: هديناه السبيل، وإلى السبيل، كل ذلك جائز، يقول عرفناه السبيل (¬2). وقوله تعالى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} قال ابن عباس: يريد إما موحّدًا طائعًا لله، و (إمّا) مشركًا بالله (¬3) في علم الله (¬4). قال الفراء: و (إمَّا) هاهنا تكون جزاء، أي إن شكروا (¬5) أو كفروا (¬6). ومعنى الآية: إن الله تعالى ذكر أنه بين سبيل التوحيد، ودل عليه بنصب الأدلة، وبعث الرسل، شكر الإنسان فآمن, أو كفر فجحد. ومعنى: (هدينا) هاهنا: بيَّنَّا , وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى (¬7) أنه ذكر السبيل فقال: {هديناه السبيل (¬8) (أي: أريناه ذلك، ثم إن وفقه للسلوك سلك فآمن، وإن خذله كفر (¬9). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله عن عطاء في الوسيط: 4/ 398. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 214 بيسير من التصرف. (¬3) غير واضحة في (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) في (ع). اشكروا. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 214 بيسير من التصرف. (¬7) في (أ): ترا. (¬8) في (ع). للسبيل. (¬9) وهذا المعنى للهداية هو المرتبة الثانية من مراتب الهدى الأربعة، والتي أولها: الهدى العام، وثانيها: هدى البيان والدلالة -وهو ما جاء بيانه-، وثالثها: هداية =

وفي الآية قول آخر: قال مقاتل: يعني بينا له سبيل الهدي، وسبيل الضلالة، إما أن يكون موحدًا فيما بيّن له، أو كافرًا فلا يوحده (¬1). وقال مجاهد: (إنا هديناه السبيل) قال: الشقاء والسعادة (¬2). والمعنى على هذا: بينا له سبيل الحق، والباطل، وعرفناه طريق الخير والشر، كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬3) قال الفراء: و (إما) (أنْ) (¬4) تكون على: (إما) التي في قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} (¬5) فكأنه قال: خلقناه شقيًا، أو سعيدًا (¬6). ¬

_ = التوفيق والإلهام، ورابعها: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة. انظرت "شفاء العليل" لابن قيم الجوزية: 117. (¬1) "تفسير مقاتل" 219/ ب. (¬2) "جامع البيان" 29/ 206، "النكت والعيون" 6/ 164، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 120. وانظر مجموع "فتاوى ابن تيمية" 16/ 143، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. والهداية بقول مجاهد -هي هداية التوفيق والإلهام، وهي المرتبة الثالثة من مراتب الهدى، وهذه المرتبة تستلزم أمرين: أحدهما: فعل الرب، وهو الهدى. والثاني: فعل العبد، وهو الاهتداء، وهو أثر فعله الله تعالى، فهو الهادي، والعبد المهتدي. قال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء: 97]، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]. "شفاء العليل" 141. (¬3) سورة البلد: 10. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) سورة التوبة: 106. قال تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 214 بنصه.

وقال الزجاج: معناه: هديناه الطريق إما الشِقْوة، وإما السَّعادة (¬1). والآية حجة على القدرية (¬2)؛ لأن الله تعالى ذكر أنه هدى الإنسان (إلى) (¬3) طرق السعادة، والشقاوة، وانتصب شاكرًا أو كفورًا على القول الأول بإضمار على التقدير (¬4): إما (كان) (¬5) شاكرًا، وإما جعلناه (¬6) كفورًا، ودل عليه قوله: هديناه السبيل على هذا المضمر. ويجوز أن ينتصب على الجار بتقدير: هديناه السبيل شاكرًا أو كفورًا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 257. (¬2) القائلة بأن العبد يخلق فعله، وأن الله لا يخلق أفعال العباد، ورتبوا عليها مسألة الهدى والضلالة، فقالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال: تسمية العبد ضالاً، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه، -وهذا مبني على أصلهم الفاسد، أن أفعال العباد مخلوقة لهم-. والصحيح: أن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويُضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلًا، ودليله قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- بين الطريق لمن أحب وأبغض. وقال تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ولو كان الهدى من الله البيان، وهو عاصم في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 98. وللاستزادة والتفصيل يراجع كتاب: "المعتزلة في أصولهم الخمسة ورأي أهل السنة فيها"، رسالة ماجستير، إعداد: عبد الله المعتق: 209 - 229. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬4) في (ع): تقدير. (¬5) ساقطة من (أ). (¬6) في (أ): جعلاه.

كأنك لم تذكر (إما) وهو قول الأخفش (¬1). ثم بين ما أعد للكافرين، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ} قال ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3): يريد في جهنم طولها سبعون ذراعًا كقوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} [الحاقة: 32] الآية. وتقرأ: (سلاسلًا) بالتنوين (¬4)، وكذلك: (قواريرًا قواريرًا) (¬5). ومنهم من يصل بغير تنوين، ويقف بالألف (¬6). ولمن نون وصرف وجهان: ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 219/ ب. (¬4) قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والكسائي، وأبو جعفر: "سلاسلاً" منونة. وقرأ الباقون: "سلاسل" بغير تنوين. انظر كتاب "السبعة" 664، "القراءات وعلل النحويين " فيها: 2/ 733، الحجة: 6/ 348 - 349، "المبسوط" 389، "حجة القراءات" 738 - 739، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 352 - 354، "إتحاف فضلاء البشر" 428 - 429. (¬5) سورة الإنسان: 15 - 16. (¬6) قرأ نافع، وأبو بكر، والكسائي، وأبو جعفر: "قواريرًا قواريرًا" منونًا كلاهما، وإذا وقفوا وقفوا عليهما بألف. وقرأ ابن كثير، وخلف: "قواريرًا" منونًا، والوقف بغير ألف، و"قواريرا من فضة" بغير تنوين، والوقف عليه بالألف. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: "قواريرَ قواريرَ" بغير تنوين، ووقفوا على الأولى بالألف؛ لأنها رأس آية، ووقفوا على الثانية بغير ألف لأنها ليست برأس آية. ووقف حمزة، ويعقوب: "قوارير" بغير تنوين في جميعها، والوقف بغير ألف عليهما. [المرجع]

أحدهما: أن أبا الحسن الأخفش قال: قد سمعنا من العرب (¬1) من يصرف هذا الجنس، ويصرف جميع ما لا ينصرف، وقال: هذا لغة الشعراء؛ (لأنهم اضطروا إليه في الشعر) (¬2) (¬3)، فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك. والوجه الثاني: أن هذه الجموع أشبهت الآحاد؛ لأنهم قد قالوا: (صواحبات يوسف) (¬4)، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة، جعلوها في حكمها (¬5)، فصرفوها، وكثير من العرب يقولون: (موالياتٌ) يريدون: ¬

_ (¬1) وهم بنو أسد. انظر: "الإتحاف" 429. (¬2) انظر شواهد ذلك من الشعر في: "الحجة" 6/ 348 - 349، "حجة القراءات" 738 - 739. (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) نص الحديث كما في الصحيح: ما رواه أبو موسى، قال: مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- فاشتد مرضه، فقال: مُروا أبا بكر فليُصَلِّ بالناس. فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يستطع أن يُصلِّيَ بالناس، قال: مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس، فعادت. فقال: مُري أبا بكر فليُصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف. فأتاه الرسول، فصلى بالناس في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-" الحديث. الجامع الصحيح للبخاري: 1/ 224 - 225: ح: 678، 679، 682، كتاب الأذان، باب: 46. كما أخرجه مالك في: "الموطأ" 1/ 155 - 156: ح: 83، كتاب فضل الصلاة في السفر، باب: 24. والإمام أحمد في "المسند" 6/ 210، 224، 229، 270. ومعنى: "إنكن صواحب يوسف" جمع صاحبة، والمراد: أنهن مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، والخطاب -وإن كان بلفظ الجمع- فالمراد به عائشة فقط. انظر: "الموطأ" 155 - 156 حاشية (أ). (¬5) في (أ): حكها.

الموالي، ومن ترك الصرف فإنه جعله كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40]. وأما إلحاق (الألف) في الوقف فهو كإلحاقها في قوله (¬1): (الظنونا) (¬2)، و (الرسولا) (¬3)، و (السبيلا) (¬4) أشبه (¬5) ذلك بالإطلاق في القوافي (¬6) (¬7). وقوله تعالى: {وَأَغْلَالًا} يعني في أيديهم تغل (¬8) أعناقهم {وَسَعِيرًا} وقودًا لا تُوصف شدته، قاله ابن عباس (¬9)، ومقاتل (¬10). ثم ذكر ما أعد (¬11) للشاكرين الموحدين فقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ} قال ¬

_ (¬1) غير مقروءة لسواد في النسخة (أ). (¬2) الأحزاب: 10. (¬3) الأحزاب: 66. (¬4) الأحزاب: 67. (¬5) في (ع): شبه. (¬6) والشبه من حيث كانت مثلها في أنها كلام تام نحو: * أقلي اللوم عاذِلَ والعتابا * انظر الحجة: 6/ 351. (¬7) ما ذكره المؤلف هنا من القراءات وتوجيهها نقله عن أبي علي من الحجة باختصار شديد: 6/ 348 - 351. (¬8) الغُلُّ: مختص بما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه، وجمعه أغلال، وغُل فلان: قُيد به. انظر المفردات في غريب القرآن: 363. (¬9) أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه في: الوسيط من غير عزو: 4/ 399. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله، والذي ورد عنه في تفسيره: 219/ ب، قال: "وقودًا لا يطفأ". (¬11) في (أ): وأما.

عطاء: هم الذين بروا الآباء، والأمهات، والأبناء، مع اليقين والمعرفة بالله (¬1). وقال مقاتل: يعني المطيعين (لله) (¬2) في التوحيد (¬3). وقوله تعالى: {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} يعني: (من إناء فيه الشراب) (¬4)، ولهذا قال ابن عباس: يريد الخمرة (¬5). وقال مقاتل: يعني الخمر (¬6). {كَانَ مِزَاجُهَا} ما يمازجها، ومنه: مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الصفراء، والسوداء، والحرارة، والبرودة (¬7). وقوله: {كَافُورًا} قال عطاء (¬8)، والكلبي (¬9) عن ابن عباس: هو ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ساقطة من (أ). (¬3) "تفسير مقاتل" 219/ ب، "النكت والعيون" 6/ 164 مختصرًا. قال الخازن: الأبرار: واحدهم: بار، وبر، وأصله التوسع، فمعنى البر: المتوسع في الطاعة. لباب التأويل: 4/ 338 - 339. وعن ابن عاشور: الأبرار جمع: بَر -بفتح الباء-، وجمع بار أيضًا، والبار، أو البَرّ: المكثر من البِر- بكسر الباء- وهو فعل الخير. التحرير والتنوير: 29/ 379. (¬4) ما بين القوسين نقله عن الزجاج. انظر معاني القرآن وإعرابه: 5/ 258. (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 240، الجامع لأحكام القرآن: 19/ 123. (¬6) "تفسير مقاتل" 219/ ب، "التفسير الكبير" 30/ 240. (¬7) مَزَج الشَّراب: خلطه بغيره، ومِزاج الشراب: ما يُمزج به، ومِزاج البدن ما رُكب عليه من الطبائع. انظر: "الصحاح" 1/ 341: مادة: (مزج). (¬8) ورد عن عطاء من قوله: معالم التنزيل: 4/ 427، "زاد المسير" 8/ 144. عن ابن عباس من غير ذكر الطريق إليه في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 123، و"لباب التأويل" 4/ 239. (¬9) ورد عن الكلبي من قوله: معالم التنزيل: 4/ 427، "زاد المسير" 8/ 144، "البحر المحيط" 8/ 395.

اسم عين ماءٍ في الجنة يقال: هو عين الكافور (¬1). والمعنى: أن ذلك الشراب يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورًا. وقال آخرون: يعني الكافور الذي له رائحة طيبة. وهو قول مقاتل (¬2)، ومجاهد (¬3). وعلى هذا له معنيان: أحدهما: أن يمازجه ريح الكافور، فيكون طيب الريح. والآخر: أن يمازجه عين الكافور، ولا يكون في ذلك ضرر لأهل الجنة، لا يمسهم الضرر فيما يأكلون ويشربون. (ذكرهما الزجاج) (¬4) (¬5). وقال مقاتل: ليس ككافور الدنيا؛ ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم حتى يهدي له القلوب (¬6). ويدل على صحة القول الأول قوله: (عينًا). قال الفراء: إن شئت جعلتها متابعة للكافور كالمفسرة، وإن شئت نصبتها على القطع (¬7) من (الهاء) في: (مزاجها) (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): الكافون. ومعنى الكافور: هو أخلاط تجمع من الطيب تُركب من كافور الطلع. انظر: "لسان العرب" 5/ 149 مادة: (كفر). (¬2) ورد بمعناه في: معالم التنزيل: 4/ 427، ولم أعثر عليه في تفسيره. (¬3) المصدر السابق. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 258 بتصرف. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "تفسير مقاتل" 219/ ب، وبمعناه في: "معالم التنزيل" 4/ 427، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 124، "فتح القدير" 5/ 346. (¬7) يعبر عن الحال بالقطع عند الكوفيين. انظر: "نحو القراء الكوفيين" 349. (¬8) غير واضحة في (ع). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 215 بنصه.

وهذا على أن يجعل (العين) حالاً للكأس؛ لأن ضميرها معرفة، ويكون التقدير: كان مزاج الكأس، وهي (¬1) عين كافورًا، وهذا يوجب أن تكون العين الكأس، وليس المعنى على هذا. وقال الأخفش: وإن شئت نصبت على وجه المدح، كما يذكر لك الرجل، فتقول: العاقل اللبيب، أي ذكرتم العاقل اللبيب، فتجعل النصب هاهنا على أعْني: [عينًا] (¬2). وقال أبو إسحاق: الأجود أن يكون المعنى من عين (¬3). وقوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} قال الفراء: (يشرب بها) وَيشْرَبها سواء، المعنى: كأن (¬4) يشرب بها، يريد ينقع بها، ويروى بها (¬5). قال ابن عباس: يشرب بها أولياء الله (¬6). وقال مقاتل: يشربها المقربون، وهم الصديقون، والشهداء صِرفًا، وتمزج لسائر أهل الجنة الخمر، واللبن، والعسل (¬7). وقوله تعالى: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} قال الكلبي: يقول: يفجرون تلك العيون الكافور في الجنة حيث يريدون؛ كما يفجر الرجل النهر يكون له في ¬

_ (¬1) في (أ): هي. (¬2) في كلا النسختين: هاهنا، والمثبت من كتاب الأخفش: "معاني القرآن" 2/ 722. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 258 بنصه. (¬4) في (ع): وكان. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 215 بيسير من التصرف. (¬6) معالم التنزيل: 4/ 428، "لباب التأويل" 4/ 339. (¬7) "النكت والعيون" 6/ 165 بنحوه، والذي ورد عنه في تفسيره: 219/ ب قال: "عباد الله يعني أولياء الله، يمزجون ذلك الخمر مزجًا".

الدنيا -هاهنا- وهاهنا حيث يريد (¬1). وذكرنا معنى التفجير عند قوله: {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ} (¬2) الآية. ثم نعتهم فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال صاحب النظم: (كان) في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} زائدة لا يحتاج إليها، والعرب تزيدها في أضعاف الكلام، ولا معنى لها، كما قال: وَجِيرانٍ لنا كانوا كرامِ (¬3) قال: وكما يزيدون [كان] (¬4) وليس لها معنى، يحذفونها من مواضع يحتاجون إليها كقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (والمعنى: كانوا يوفون بالنذر) (¬5)، لأن هذا إخبار عما كانوا عليه في الدنيا (¬6). وهذا قول الفراء، قال: هذه من صفاتهم في الدنيا كأن فيها إضمار ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) سورة الإسراء: 91، وعند تعرضه للآية أحال إلى سورة البقرة في بيان معنى التفجير، [البقرة: 60]، ومما جاء في تفسيرها: قال: "وأصل الفجر في اللغة: الشق، وسمي فجر النهار لانصداعه، أو لشقه ظلمة الليل، ويقال: انفجر الصبح إذا سال ضوؤه في سواد الليل كانفجار الماء في النهر، ويقال: فَجَرَ وأفجَرَ ينبوعًا من ماء، أي: شقه وأخرجه، قال الليث: والمَفْجَر: الموضع الذي يُفْجَر منه". (¬3) البيت للفرزدق من قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك، وصدر البيت: فَكَيْفَ إذا رأيت ديارَ قوْمي ورد البيت في ديوانه: 2/ 290 ط دار صادر. (¬4) ساقطة من النسختين، وأثبت ما يستقيم به المعنى. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد قال بقوله أبو علي في: "المسائل البصريات" 2/ 875.

(كانوا) (¬1). ونحو هذا قال مقاتل، فقال: كانوا في الدنيا يوفون بالنذر (¬2). ومعنى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال قتادة: بطاعة الله، والصلاة (¬3)، والحج (¬4). وعلى هذا معنى النذر: ما أوجبه الله [عليهم] (¬5). النذر معناه: الإيجاب (¬6). وقال الكلبي: يتممون العهود (¬7). وقال مجاهد (¬8)، وعكرمة (¬9): يعني: إذا نذروا في طاعة الله وثوابه. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 316 بيسير من التصرف. (¬2) بمعناه في: "تفسير مقاتل" 219/ ب، وعبارته "قال: يعني من نذر لله نذرا فقضى الله حاجته، فيوفي لله بما قد نذره". (¬3) في (ع): الصلوات. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 336، "جامع البيان" 29/ 208، وبنحوه في: "الكشف والبيان" 13/ 14/ أ، "زاد المسير" 8/ 145 بمعناه، "القرطبي" 19/ 125. (¬5) في كلا النسختين: عنهم، ولا تستقيم العبارة بذلك، والأوفق للسياق لفظ: عليهم. والله أعلم. (¬6) قال الليث: النَّذْر: النَّحْب، وهو ما ينذره الإنسان فيجعله على نفسه نحبًا واجبًا، ومنه قولك: نذرت على نفسي، أي أوجبت. انظر مادة: (نذر) في: تهذيب اللغة: 14/ 420،"لسان العرب" 5/ 200، وأيضًا "مقاييس اللغة" 5/ 414. (¬7) "النكت والعيون" 6/ 166 بمعناه، "التفسير الكبير" 3/ 242، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 125، "فتح القدير" 5/ 347. (¬8) "الكشف والبيان" 13: 14/ أ، "زاد المسير" 8/ 145، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 125 بنحوه. (¬9) المراجع السابقة.

وقوله تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} قال أبو عبيدة (¬1)، وغيره (¬2): فاشيًا منتشرًا. وقال الزجاج: بالغًا أقصى المبالغ (¬3). وقال الفراء: ممتدًا قال: والعرب تقول: استطار الصَّدع في القارورة، واستطال، ولا يقال في الحائط (¬4). وقال ابن قتيبة: يقال: استطار الحريق إذا انتشر، واستطار الصبح إذا انتشر ضوؤه (¬5). وأنشدوا (¬6) للأعشى: فَبَانَتْ وقَدْ أَسْأرتْ في الفؤاد ... صَدْعًا على نأيها مسْتطيرا (¬7) ¬

_ (¬1) مجاز القرآن: 2/ 279، وعبارته: "فاشيًا". (¬2) قال بذلك: ابن عباس، ومقاتل، وإليه ذهب الأخفش. انظر: "تفسير مقاتل" 219/ ب، "النكت والعيون" 6/ 166، معالم التنزيل: 4/ 428، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 126. (¬3) معاني القرآن وإعرابه: 5/ 258 بنحوه (¬4) "معاني القرآن" 3/ 216 بإضافة عبارة: "ولا يقال في الحائط". (¬5) "تفسير غريب القرآن" 502 بيسير من التصرف. (¬6) وممن أنشد قول الأعشى: "جامع البيان" 29/ 209، "الكشف والبيان" 13/ 14/ أ، "النكت والعيون" 6/ 166. وبه قال أيضا: "المحرر الوجيز" 5/ 410، "زاد المسير" 8/ 145، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 126، "ابن كثير" 4/ 484. (¬7) ديوانه: 89 برواية: (وقد أورثت) بدلًا من: (أسأرت)، و (يخالط عثَّارها) بدلاً من: (على نأيها مستطيرا)، وليس فيه موطن الشاهد، وله في شعر يمدح فيه هوذة بن علي الحنفي، وليس فيه موضع شاهد أيضًا: بانَتْ وقدْ أسْأرَتْ في النَّفْسِ حاجَتَها ... بَعْدَ ائتلاف وخَيْرُ الوُدِّ ما نَفَعا

8

قال الكلبي: قد علن شره، وفشا، وعم (¬1). وقال عطاء: استطار خوفه في أهل السموات وأهل الأرض في أولياء الله، وفي أعدائه (¬2). وقال مقاتل: يعني كان شره فاشيًا في السموات، فانشقت وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس، والقمر في الأرض، فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شىء على (وجه) (¬3) الأرض من جبل، وبناء، ففشا شر يوم القيامة فيهما (¬4). قال ابن عباس في هذه الآية: نزلت في علي بن أبي طالب، وفاطمة رضي الله عنهما كانا نذرا نذرًا في مرض الحسين، فوفوا لله عَزَّ وَجَلَّ بما نذروا له (¬5). 8 - قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قال الكلبي: على شهوته. وقال مقاتل: على حب الطعام (¬6). قال الزجاج: هذه (الهاء) تعود على الطعام، المعنى: يطعمون الطعام أشد ما يكون حاجتهم إليه، وصفهم الله بالأثرة على أنفسهم (¬7). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) "تفسير مقاتل" 219/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 428، "زاد المسير" 8/ 145، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 126، "فتح القدير" 5/ 347. (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 243 - 244. (¬6) "النكت والعيون" 6/ 166. (¬7) "تفسير مقاتل" 219/ ب، المرجع السابق، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 485.

وقوله: {وَأَسِيرًا} قال الحسن: الأسير (¬1) من أهل الشرك (¬2). وهو قول ابن عباس (¬3)، وقتادة، قال: كان أسيرهم يومئذ مشركًا، فأخوك المسلم، أخوك أحق أن تطعمه (¬4). ونحو هذا قال مقاتل (¬5) في الأسير: إنه من المشركين؛ إلا أنه قام ثم نسخ طعام الأسير (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 259 بنحوه. (¬2) الأسير في اللغة: من الأسر، أصل واحد، وقياس مطرد، وهو: الحبس، وهو الإمساك، من ذلك: الأسير، وكانوا يشدونه بالقِدِّ، وهو الإسار. انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 107 (أسر). (¬3) بمعناه في: "جامع البيان" 29/ 210، و"النكت والعيون" 6/ 166، و"المحرر الوجيز" 5/ 410، و"زاد المسير" 8/ 146، و"التفسير الكبير" 30/ 245، و"الدر المنثور" 8/ 371 وعزاه إلى: سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 384. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 377، "التفسير الكبير" 30/ 245، "القرطبي" 19/ 127، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 485، "الدر المنثور" 8/ 371 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 336، "جامع البيان" 29/ 210، "الكشف والبيان" 13/ 14/ ب، معالم التنزيل: 4/ 428، "المحرر الوجيز" 5/ 410، "زاد المسير" 8/ 146، "التفسير الكبير" 30/ 245، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 127. (¬6) وممن قال بنسخ إطعام الأسير من المشركين بآية السيف: هبة الله بن سلامة؛ قال: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا" هذا محكم في أهل القبلة، "وأسيرًا" "هذا منسوخ بآية السيف، وهو من غير أهل القبلة، وهم المشركون". الناسخ والمنسوخ: 191. وقد وضح محقق كتاب الناسخ والمنسوخ: لهبة الله أن مراد المؤلف بالمنسوخ في الآية هو عدم قتل الأسير الكافر، أما إطعامه فلا خلاف في أنه محكم. وممن قال بنسخ الآية أيضًا بآية السيف: ابن البارزي في: ناسخ القرآن ومنسوخه: 56. وقد رد دعوى النسخ ابن الجزري في "نواسخ القرآن" 250، =

قال أهل العلم (¬1): هذه الآية تدل على أن إطعام الأسرى (¬2)، وإن كانوا من غير أهل ملتنا حسن يرجى ثوابه، فأما فريضة الكفارات، (والزكوات) (¬3)، فلا يجوز وضعها في فقراء المشركين، وأسراهم. وفي الأسير قولان (آخران) (¬4): أحدهما: أن المسجون من أهل القبلة، وهو قول مجاهد (¬5)، وعطاء (¬6)، وسعيد بن جبير (¬7)، وروي ذلك مرفوعًا من طريق أبي (سعيد) (¬8) الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في قوله: {مِسْكِينًا}: فقيرًا، ¬

_ = وبين أن الأسير يقتل، ولا يفادى، وأما إطعامه فقال: ففيه ثواب بالإجماع والآية محمولة على التطوع بالإطعام، فأما القرض فلا يجوز صرفه إلى الكفار. (¬1) قال بذلك الجصاص في: "أحكام القرآن" 3/ 471، وابن العربي في: "أحكام القرآن" 4/ 1898، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 127. قال الإمام النووي في "المجموع": "ولا يجوز دفع شيء من الزكوات إلى كافرة سواء زكاة فطر وزكاة المال، وهذا لا خلاف فيه عندنا" 6/ 228. (¬2) في (ع): الأسارى (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) "جامع البيان" 19/ 210، "الكشف والبيان" 13: 14/ ب، "النكت والعيون" 6/ 166، معالم التنزيل: 4/ 428، " المحرر الوجيز" 5/ 410، "زاد المسير" 8/ 146، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 127. (¬6) المراجع السابقة عدا: "النكت والعيون"، وانظر أيضًا: "الدر المنثور" 8/ 371 وعزاه إلى ابن أبي شيبة. (¬7) المراجع السابقة. (¬8) ساقط من (ع).

{وَيَتِيمًا} لا أب له، {وَأَسِيرًا} قال: المملوك والمسجون (¬1). القول الثاني: أن المراد بالأسير: المرأة، وهن أسرى (¬2) عند الأزواج، يدل عليه الحديث: "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان" (¬3)، وهو قول الثمالي (¬4). قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن عليًا رضي الله عنه أجر نفسه يسقي نخلًا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح، فلما أصبح (¬5) وقبض الشعير طحن ثلاثة، فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، يقال له: الخَزيرَة (¬6)، فلما تم ¬

_ (¬1) ورد الحديث في: "حلية الأولياء" 5/ 105، وقال عنه أبو نعيم: غريب من حديث عمرو، تفرد به عباد عن عمه. كما ورد في: "التفسير الكبير" 3/ 245، "الدر المنثور" 8/ 371 وعزاه إلى ابن مردويه، وأبو نعيم. (¬2) في (أ): أسروا. (¬3) الحديث أخرجه ابن ماجه 1/ 341 ح 1856 من طريق سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه: أبواب النكاح: حق المرأة على الزواج. كما أخرجه الترمذي 3/ 458، ح: 1163، كتاب الرضاع: باب 11، وقال عنه أيضًا: حديث حسن صحيح، كما أخرجه أيضًا في كتاب التفسير: 5/ 274: ح: 3087: باب 10، وقال عنه أيضًا: حديث حسن صحيح. وقد حسنه الألباني. انظر: "صحيح سنن ابن ماجه" 1/ 311، ح: 1501، باب 3. عوان: جمع عانية، والعاني: الأسير. انظر: "تحفة الأحوذي" المباركفوري: 4/ 273: كتاب الرضاع: باب 11. (¬4) "المحرر الوجيز" 5/ 411، "زاد المسير" 8/ 146، "الجامع" للقرطبي 19/ 127. (¬5) في (أ): الصبح. (¬6) الخزيرة: لحم يقطع صغارًا، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُرَّ عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة، وقيل: هي حسًا من دقيق ودَسم، وقيل: إذا كان من دقيق فهي حَريرة، وإذا كان من نُخالة فهو خزيرة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 28 باب الخاء مع الزاي.

نضاجه (¬1) أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام، ثم عملا الثلث الثاني، فلما تم نضاجه أتى يتيم، (فسأل، فأطعموه) (¬2)، (فأخرجوا له الطعام) (¬3)، ثم عملا الثلث الباقي، فلما تم نضاجه (¬4) أتى أسير من المشركين، فسأله, فأطعموه، وطووا يومهم ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) في (ع): إنضاجه. وكذا التي في السطر التالي. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬4) في (ع): إنضاجه. (¬5) وردت الرواية مطولة في: "الكشف والبيان" 13: من ورقة: 16 إلى ورقة 19 عند تفسيره لقوله: "يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا"، وانظر معالم التنزيل: 4/ 428، وذكرت أيضًا مطولة بمعناها في: الكشاف: 5/ 169، وفي "التفسير الكبير" 30/ 244، وفي الجامع لأحكام القرآن: 19/ 131 - 132. وقد رد القرطبي هذه الرواية وأمثالها مما روي عن علي وفاطمة -رضي الله عنهما-، ووصفها بأنها من أحاديث السجون التي يعمد أصحابها إلى السهر بكتابة مثل هذه الروايات، وهم في سجونهم، كما بين أن الروايات المطولة بزيادات وأشعار عن علي وفاطمة -رضي الله عنهما- فيها ما يبين كذبها وبطلانها. وقد ذكرت أيضًا في: أسباب النزول: 378، وقد أوردها الماوردي عند تفسيره لقوله تعالى: {جَنَّةً وَحَرِيرًا}. "النكت والعيون" 6/ 168. وقال ابن حجر: رواه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس، ومن رواية الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} الآية. فذكر تمامه، وزاد في أثنائه أشعارًا لعلي وفاطمة. قال الحكيم الترمذي: ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب، حديث رووه عن مجاهد، عن ابن عباس، فذكره بشعره، ثم قال: هذا حديث مزوق مفتعل، لا يروج إلا على أحمق جاهل. ورواه ابن الجوزي في: الموضوعات من طريق أبي عبد الله السمرقندي، عن محمد بن كثير، عن الأصبغ بن نباتة، ثم قال: وهذا لا شك في وضعه. انظر: "الكافي الشاف" 180. كما فند هذه الرواية بالحجة والبرهان محققا "الوسيط" 4/ 401.

قول تعالي: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} قال مجاهد: أما إنهم لم يتكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم ليرغب فيه راغب (¬1). وقال الكلبي: لم يتكلم أهل هذه الصدقة، ولكن عرف (الله) (¬2) نياتهم، فأظهر فعالهم (¬3). وقال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى أثنى عليهم بما علم من نياتهم، فذكر ما أتوا به؛ ولأن اليتيم والمسكين (¬4) والأسير لم يكن عندهم جزاء، ولا مكافأة، ولا شكر، ولكن الله تعالى قبل اليسير الذي فعلوه، وشكره، وعلم من نياتهم أنهم فعلوا ذلك خوفًا من الله عز وجل، ورجاء ثوابه (¬5). وقال الأخفش في قوله: (شكورًا): إن شئت جعلته (جماعة الشُّكْر، مثل: برد وبرود، وإن شئت جعلته) (¬6) مصدرًا واحدًا في معنى جمع (¬7)، مثل: القعود (¬8)، والخروج (¬9)، (ونحو هذا قال في: (الكفور) في قوله: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 211، "الكشف والبيان" 13/ 14/ ب، "النكت والعيون" 6/ 167، "معالم التنزيل" 4/ 428، "زاد المسير" 8/ 146، "البحر المحيط" 8/ 395. (¬2) ساقطة من (أ). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (ع) اليتيم والمسكين. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬7) في (ع): جميع. (¬8) في (ع): العقود. (¬9) "معاني القرآن" 2/ 722 بتصرف.

{فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 99]) (¬1). قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} قال الكلبي (¬2)، ومقاتل (¬3): تعبس (¬4) الوجوه من هول ذلك اليوم وشدته، فلا تنبسط. قال ابن قتيبة: جعل (عبوسًا) من صفة ذلك اليوم، والمعنى: أن الوجوه تعبس في ذلك اليوم، كما يقال: يوم عاصف، أي ذو عصوف (¬5). كذلك المعنى -هاهنا- ذو (¬6) عبوس (¬7) فيه. وقوله: {قَمْطَرِيرًا} قال مجاهد: تقبض الوجوه بالشرور (¬8). ونحو هذا قال مقاتل (¬9)، وقتادة (¬10): تقبض الجباه، وما بين العينين من شدته، (وهو ¬

_ (¬1) ما بين القوسين لم يرد عند الأخفش في معانيه. المرجع السابق. (¬2) بمعناه في: "الكشف والبيان" 13/ 15/ أ، ومعالم التنزيل: 4/ 429. (¬3) بمعناه في: "تفسير مقاتل" 220/ أ، "الكشف والبيان" 13/ 15/ أ. (¬4) في (أ): تعبيس. (¬5) "تفسير غريب القرآن" 502 بيسير من التصرف. (¬6) في (أ): ذوا. (¬7) قال ابن منظور: عَبَس يَعْبِس عَبْسًا، وعَبس: قطب ما بين عينيه، ويوم عابس وعَبُوس: شديد. انظر: "لسان العرب" 6/ 128: مادة: (عبس). وقال ابن فارس: عبس: أصل يدل على تكرُّه في شيء، وأصل العَبَس: ما يبس على هُلْب الذنب من بَعر وغيره، وهو من الإبل كالوَذج من الشاء، ثم اشتق من هذا: اليوم العَبوس، وهو الشديد الكريه، واشتق منه عبس الرجل يعبس عبوسًا، وهو عابس الوجه: غضبان. انظر: "مقاييس اللغة" 4/ 210 - 212 مادة: (عبس). (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 15/ أ. (¬9) بمعناه في "تفسير مقاتل" 220/ أ، "الكشف والبيان" 13/ 15/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 429، "زاد المسير" 8/ 146. (¬10) المراجع السابقة عدا "زاد المسير"، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 337.

11

قول ابن عباس (¬1) في رواية عَنْتَرَة) (¬2). قال أبو إسحاق: جاء في التفسير أن (قمطريرًا) معناه: تُعَبّسُ الوجوه، فيجمع ما بين العينين، قال: وهذا سائغ في اللغة، يقال: اقمطرت الناقة إذا رفعتْ ذنبها، وجَمَعَتْ قَطْريها، ورَمَت بأنْفها (¬3)، يعني أن معنى اقمطر في اللغة: جمع (¬4). وقال أبو عبيد: رجل قمطرير: منقبض ما بين العينين، وقد اقمطرّ (¬5). وقال الكلبي: قمطريرًا يعني: شديدًا (¬6). وهو قول (الفراء (¬7)، وأبي عبيدة (¬8)، والمبرد (¬9)، وابن قتيبة) (¬10) (¬11)، قالوا: يوم قمطرير، وقماطر، إذا كان صعبًا شديدًا أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في النبلاء. وهذا معنى، والتفسير هو الأول. 11 - قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 211 - 212. (¬2) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 259 بنصه. (¬4) ورد عن أبي عبيدة بنحو من ذلك، فقد جاء عنه في: "الصحاح" المُقْمَطِرُّ: المجتمع. 2/ 797: (قمطر). (¬5) "تهذيب اللغة" 9/ 408: (قمطر). (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 15/ أ، "البغوي" 4/ 429، "المحرر الوجيز" 5/ 411. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 216. (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 279. (¬9) "التفسر الكبير" 3/ 247. (¬10) "تفسير غريب القرآن" 502. (¬11) ما بين القوسين ورد بدلًا عنه في نسخة (أ) وهو قول جماعة.

قال مقاتل: يعني الْحُسن، والبياض، والنور في الوجوه، وسرورًا لا انقطاع له، ولا يصفه واصف (¬1). قاله الكلبي (¬2). ومعنى (النضرة) قد مر عند قوله: {ناضرة} [القيامة: 22]. {وَلَقَّاهُمْ} من قوله: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} (¬3) وقد مر. {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} أي في الدنيا على طاعة الله واجتناب معاصيه، ومقاساة الشدائد. {جَنَّةً} فيها قصور الدر والياقوت. {وَحَرِيرًا} يعني لباس أهل الجنة الذي لا يصفه الواصفون. (قاله ابن عباس) (¬4) (¬5). قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} قال الأخفش (¬6)، والزجاج (¬7): نصب ¬

_ (¬1) بمعناه في: "تفسير مقاتل" 220/ أ، وقد ورد بمثله مختصرًا في: "الوسيط" 4/ 402 من غير عزو. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) سورة الفرقان: 75. وقد جاء في تفسيرها: "وقوله: {وَيُلَقَّوْنَ} قرئ بالتشديد والتخفيف، فمن شدد فحجته قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً}، ومن خفف فحجته قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وقال الفراء: التخفيف أعجب إلى؛ لأن القراءة لو كانت على التشديد كانت بـ"الياء"؛ لأنك تقول: فلان يُتلقّى بالسّلام والخير. وهذا الذي قاله ينتقض بقوله: "ولقاهم نضرة" لأنه يعتبر الباء على أنه قال: وكل صواب يُلقَّوْنه، وُيلَقَّوْن به". (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد بمثله مختصرًا في "الوسيط" من غير عزو 4/ 402. (¬5) ما بين القوسين ساقط من ع. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 723. (¬7) معاني القرآن وإعرابه: 5/ 259.

متكئين على الحال، المعنى: وجزاهم [جنة] (¬1) في حال اتكائهم، كما تقول: جزاهم ذلك قيامًا. قال الأخفش: وقد يكون على المدح (¬2). و {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} مفسر في سورة الكهف (¬3). وقوله تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} قال ابن عباس: لا يجدون الحر والبرد (¬4). وقال الكلبي: لا يرون شمسًا كشمس أهل الدنيا؛ ولا بردًا يحرق كما يحرق النار (¬5). قال مقاتل: يعني (شمسًا) (¬6) يؤذيهم حرها , ولا زمهريرًا يؤذيهم ¬

_ (¬1) ساقطة من نسخة: أ، وفراغ في نسخة: ع، والمثبت من معاني القرآن وإعرابه للزجاج، ومن معاني القرآن للأخفش. المرجعان السابقان .. (¬2) "معاني القرآن" 2/ 723. (¬3) سورة الكهف: 31. قال الإمام الواحدي عند تفسير قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} الاتكاء: التحامل على الشيء نحو: التوكؤ، ومنه قوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] والأرائك: جمع أريكة، وهو سرير حجلة قال ابن عباس، ومجاهد: الأرائك: السرر في الحجال، وهي من ذهب مكللة بالدر والياقوت". والحِجال: هي الحَجَلة، والجمع: حَجَل، وحِجال: هو بيت كالقُبة يستر بالثياب. انظر: "لسان العرب" 11/ 144: مادة: (حجل). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد مثل قوله في: "الوسيط" من غير عزو: 4/ 402. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ساقطة من (أ).

برده، لأنهما يؤذيان في الدنيا (¬1). وهو قول ابن مسعود (¬2)، ومجاهد (¬3)، (ومقاتل بن حيان) (¬4) (¬5)، وقتادة (¬6)، والجميع (¬7) قالوا: الزمهرير: البرد ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 220/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 429. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 136. (¬3) "جامع البيان" 29/ 214، "الدر المنثور" 8/ 373 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وبمعناه ورد في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 136. وهو: مقاتل بن حيان بن النبطيِّ، أبو بِسْطام البَلْخي الخراز؛ مولى بكر بن وائل، روى عن الحسن البصري، والربيع بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن أدهم، صدوق، فاضل، مات قبل الخمسين بأرض الهند، روى له الجماعة سوى البخاري. انظر: "الطبقات الكبرى" 7/ 374، "تهذيب الكمال" 28/ 430: ت: 6160، "تقريب التهذيب" 2/ 272: ت: 1346. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "جامع البيان" 29/ 214 بنحوه، "الدر المنثور" 8/ 372 - 373 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬7) وممن قال بذلك: عكرمة، انظر: "النكت والعيون" 6/ 169، "الدر المنثور" 8/ 373 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وبه قال أيضًا: الطبري في: "جامع البيان" 29/ 213، السجستاني في: "نزهة القلوب" 257، مكي بن أبي طالب في: العمدة في "غريب القرآن" 327. وإليه ذهب أصحاب الكتب الآتية: معالم التنزيل: 4/ 429، "المحرر الوجيز" 5/ 411، زاد المسير: 8/ 147، "لباب التأويل" 4/ 340. وذكر قولًا آخر مخالفًا -وهو بعيد-، قيل: إن الزمهرير اسم القمر بالنبطية، قاله ثعلب، وقيل: هي بلغة حميرية انظر: "النكت والعيون" 6/ 169، "زاد المسير" 8/ 147، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 136، "نفس الصباح" 2/ 752. وجاء تفصيل معنى الزمهرير بالقمر: "هو كناية عن الفناء؛ لأن الفناء لا يوجد إلا مع تعاقب الشمس والقمر، واختلاف ليلهما ونهارهما، وفي حسابهما علامة على انقضاء الآجال، ونفاذ الأعمار، فوصف تعالى حالهم في =

الشديد. (ونحو ذلك قال أهل العربية) (¬1)، قال الليث: الزمهرير: شِدة البرد، قد ازمهر البرد ازمهرارًا، فهو مزمهر (¬2). وقال المبرد: (هو إفراط البرد، وأنشد (¬3) للأعشى (¬4): مُبتَلَّةُ الخَلْق مثلُ المهاة ... لم تَرَ شمسًا ولا زَمْهَريرا (¬5) (¬6) قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} ذكر الأخفش (¬7)، والفراء (¬8)، والكسائي (¬9)، (والزجاج) (¬10) (¬11) في نصب (ودانية) وجهين: أحدهما: الحال بالعطف على قوله (متكئين) كما تقول: في الدارة عبيد الله متكئًا. ومرسله عليه الحجال؛ لأنه حين قال عليهم رجع إلى ¬

_ = الحياة الباقية في الجنة أنهم لا يرون فيها فناء، وكنى عن الفناء بالشمس والقمر لما تقدم آنفًا". نفس الصباح: 2/ 752. من هذا: يتبين لي أن ما قرره الإمام الواحدي من أن الجميع ذهب إلى القول إن زمهريرًا شدة البرد هو الصواب، وما وجد من مخالف، فقوله ضعيف، وبعيد، لا يعتد به. (¬1) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬2) تهذيب اللغة: 6/ 524: مادة: (زمهر؛ بزيادة: مزمهر). (¬3) في (ع). أنشدوا. (¬4) في (ع). لأعشى. (¬5) ديوانه: 86 ط دار صادر، تهذيب اللغة: 14/ 292: مادة: (زمهر)، "لسان العرب" 4/ 330: مادة: (زمهر) "تاج العروس" 3/ 343: مادة: (زمهر)، وجاء في: اللسان والتاج رواية: من القاصرات سُجُوفَ الحِجال. (¬6) لم أعثر على مصدر لقول المبرد. (¬7) "معاني القرآن" 2/ 723. (¬8) "معاني القرآن" 3/ 216. (¬9) "التفسير الكبير" 30/ 248. (¬10) معاني القرآن وإعرابه: 5/ 259. (¬11) ساقطة من (أ).

ذكرهم. الوجه الثاني: أن تكون (دانية) نعتًا للجنة. المعنى: وجزاهم جنة دانية، وعلى هذا هي صفة لموصوف محذوف، كأنه قيل: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا، وجنة دانية عليهم ظلالها. قال أبو الفتح: الوجه أن يكون قوله: (ودانية) منصوبة على الحال، معطوفة على قوله: (متكئين)، وهذا هو القول الذي لا ضرورة فيه (¬1). قال (مقاتل) (¬2): يعني: شجرها قربت منهم، فإن كان الرجل قائمًا تطاولت الشجرة، وإن كان جالسًا، أو متكئًا انخفضت ولانت لهم (¬3)، فذلك قوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}. قال ابن عباس: إذا همّ أن يتناول (¬4) من ثمارها تذللت إليه حتى يتناول منها ما يريد (¬5). وقال البراء بن عازب: ذللت لهم فيها يتناولون فيها كيف شاؤوا (¬6). وقال مجاهد: من أكل قائمًا لم يؤذه، ومن أكل جالسًا لم يؤذه، ومن أكل مضطجعًا لم يؤذه (¬7). ¬

_ (¬1) "سر صناعة الإعراب" 1/ 184 بيسير من التصرف. (¬2) ما بين القوسين جاء بدلًا منه في (أ): يقال. (¬3) بمعناه في: "تفسير مقاتل" 220/ ب. (¬4) بياض في (ع). (¬5) "زاد المسير" 8/ 147، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 137. (¬6) "التفسير الكبير" 30/ 248، "الدر المنثور" 8/ 374 وعزاه إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد بن السري، وعبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث". وانظر: "المستدرك" 2/ 511، كتاب التفسير: تفسير سورة المدثر، وصححه، وسكت عنه الذهبي. (¬7) بمعناه في: "المحرر الوجيز" 5/ 412، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 137.

والمعنى: قريب منهم مذللة (¬1) لهم، كيف شاؤوا كقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}، ومعنى تذليل القطوف تسهيل تناوله، (وأهل المدينة يقولون: ذُلَّل النخلُ أي: [سوى] (¬2) عذوقُه) (¬3)، وأخرجها من السعف حتى يسهل تناوله (¬4). وقال ابن قتيبة: معنى (وذللت) أدنيت منهم، من قوله: حائط ذليل إذا كانت قصير السَّمْك (¬5). قوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} (¬6) قال ابن عباس: يريد أن فضة الجنة يُرى ظاهرها من باطنها (¬7). وقال الكلبي: (إن) (¬8) الله تعالى جعل قوارير أهل الجنة من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة، وصفاء القوارير (¬9). (وقال الشعبي: صفاؤها صفاء القوارير، وهي من فضة (¬10)، ونحو ¬

_ (¬1) في (أ): مدا لله. (¬2) في كلا النسختين: سو، والمثبت من "تفسير غريب القرآن" 503. (¬3) ما بين القوسين نقله عن ابن قتيبة. المرجع السابق. (¬4) من قوله: ومعنى تذليل القطوف، إلى: حتى يسهل تناوله. انظر: "لسان العرب" 11/ 258 (ذلل). (¬5) "تفسير غريب القرآن" 503 بنصه. (¬6) في كلا النسختين: قوارير. (¬7) ورد بمعناه في: "الكشف والبيان" 12: 20/ أ، "الدر المنثور" 8/ 375 وعزاه إلى ابن المنذر، وسعيد بن منصور، وعبد الرزاق، ولم أجده في تفسيره، وانظر كتاب "البعث والنشور" للبيهقي: 201، رقم: 312. (¬8) ساقطة من (أ). (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد مثله من غير عزو في: "الوسيط" 4/ 403. (¬10) "النكت والعيون" 6/ 170، "الدر المنثور" 8/ 375 وعزاه إلى عبد بن حميد.

هذا قال مجاهد (¬1)، ومقاتل (¬2)، وقتادة (¬3)، والجميع) (¬4) (¬5). قال أبو إسحاق: القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم الله (عز وجل) (¬6) أن فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة؛ يُرى من خارجها ما في باطنها (¬7). قال ابن قتيبة: (إن كل ما في الجنة من آلاتها، وسرُرها (¬8) وفُرُشها، وأكوابها مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد. قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، والأكواب في الدنيا قد تكون من فضة، وتكون من قوارير، فأعلمنا الله أن هناك أكوابًا لها بياض الفضة، وصفاء القوارير (¬9). قال (¬10) وهذا على التشبيه، أراد قوارير كأنها من فضة كما تقول: ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 215، 217. (¬2) "تفسير مقاتل" 222/ أ. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 337، "جامع البيان" 29/ 215، وبمعناه في: "الدر المنثور" 8/ 375 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬4) قال به الحسن، انظر: "جامع البيان" 29/ 215 - 216، وعزاه صاحب "كشف البيان" إلى المفسرين: 13: 20/ أ، وحكاه أيضًا عن المفسرين البغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 430، وبه قال أيضًا الفراء في "معاني القرآن" 3/ 217. (¬5) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬6) ساقطة من (ع). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 260 بيسير من التصرف. (¬8) في (أ): سرورها. (¬9) جاء عنه مختصرًا في: "جامع البيان" 29/ 215، "بحر العلوم" 3/ 432، "زاد المسير" 8/ 148. (¬10) أي ابن قتيبة.

أتانا بشراب من نور، أي كأنه (¬1) نور، وهذا كقوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58]، أي لهن لون المرجان في صفاء الياقوت (¬2) (¬3). وهذا الذي ذكره ابن قتيبة غير ما ذكره المفسرون؛ لأنهم جعلوها من فضة صافية، وهو يقول. هي قوارير كأنها من فضة (صافية) (¬4) لصفاء نورها (¬5). وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} على قدْرِ رِيِّهِم، لا يزيد ولا ينقص من الري، ليكون ألذَّ لشربهم (¬6). (هذا معنى قول جماعة من المفسرين (¬7) (¬8). وقال الفراء: يقول قدروها على رِي أحدهم لا فضل فيه، ولا عجز عن ريه، وهو ألذ الشراب (¬9). وقال الزجاج: جعلوا الإناء على قدر ما يحتاجون إليه وُيرِيدُونَه (¬10). وقال أبو عبيدة: يكون التقدير: الذين يسقونهم يقدرونها، ثم ¬

_ (¬1) في (ع) من، وهي زيادة على النص الأصلي لابن قتيبة، ولا يصلح الكلام بإثباتها. (¬2) من قوله: وهذا كقوله: كأنهن الياقوت إلى آخر الكلام نسبه ابن قتيبة في: تأويل مشكل القرآن: 81 إلى قتادة. (¬3) ما بين القوسين من قول ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" 80 - 81 بتصرف يسير. (¬4) ما بين القوسين ساقطة من (ع). (¬5) في (ع): لونها. (¬6) في (أ): من شربهم. (¬7) منهم: الحسن، وسعيد، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، والكلبي، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 222/ أ، "جامع البيان" 29/ 217، "النكت والعيون" 6/ 170. (¬8) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 217. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 260 بتصرف يسير.

يسقون (¬1)، يعني: (أن الضمير في [(قدروها)] (¬2) للملائكة، وللخدم، وللخُزَّان. ومن قرأ (قُدِّرُوها) (¬3) بضم القاف (¬4)، اجتمع في قراءته: القلب، والحذف، أما القلب، فإنه أراد: قدرت الأكواب التي يسقى بها، فقلب التقدير إلى الذين يسقون كما قال: لا تحسبَنَّ دراهمًا سَرِقْتَها ... تمحو مخازيك التي بعُمانِ (¬5) وإنما سرقته الدراهم، لا هو يسرقها، وقد قال: سرقتها، ومثله ما حكاه أبو زيد: إذا طلعت الجَوْزاء [انتصب] (¬6) في العود الحِرْباء (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في كلا النسختين: قدروا، والمثبت من "الحجة" 6/ 353. (¬3) في (ع): قدروهم. (¬4) قرأ بذلك: الشعبي، وقتادة، وابن أبزى، وعلي، والجحدري، وابن عباس، وعبيد بن عمير، وابن سيرين، وأبو عبد الرحمن. انظر: "جامع البيان" 29/ 217، "المحرر الوجيز" 5/ 412، "زاد المسير" 8/ 148، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 139، "البحر المحيط" 8/ 397. وهي قراءة شاذة لعدم صحة سندها؛ ولعدم ذكرها في كتب المتواتر من القراءات، كما حكم عليها الشوكاني بأنها شاذة في: "فتح القدير" 5/ 350. (¬5) البيت للفرزدق من أبيات يهجو بها جديلة بن سعيد بن قبيصة الأزدي. انظر: ديوانه: 2/ 868. ورد البيت في: ديوانه برواية: "دراهمًا أعطيتها"، وانظر: "لسان العرب" 10/ 156: مادة: (سرق). (¬6) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، والمثبت من مصدر القول. (¬7) كتاب "النوادر في اللغة" لأبي زيد: 409. (¬8) الحِرباء: قيل هي دُويبة نحو العظاءة، أو أكبر، يستقبل الشمس برأسه، ويكون معها كيف دارت، يقال إنما يفعل ذلك ليقي جسده برأسه، ويتلون ألوانًا بحر الشمس. =

والقلب كثير في الكلام، وأما الحذف فإن المعنى يكون: قُدِّروا عليها، فلما حذف الحرف وصل الفعل) (¬1)، والكناية للأكواب، وتقدير اللفظ: قدر المُسقيُّون على الأكواب. والمعنى: قدرت الأكواب عليهم، أي على ريهم، فحذف وقلب، (وهذه قراءة الشعبي) (¬2) (¬3). وقال القرظي في قوله: (قدروها تقديرًا) كانت كما يشتهون (¬4). وهذا يحتمل أنه أراد: كانت الأكواب كما يشتهون في أنها تسع لريهم (كما ذكر المفسرون) (¬5). ويحتمل أنه أراد: أنها كانت قدر (¬6) مُلء (¬7) الكف، لم تعظم فيثقل حملها، فكانت كما يشتهون. وهذا قول الربيع (¬8). {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} قال أبو إسحاق: والعرب تصف لهم طعم ¬

_ = انظر: "لسان العرب" 1/ 307: مادة: (حرب)، وذكر هذا المثل في: "المحرر الوجيز" 5/ 412. (¬1) ما بين القوسين نقله الواحدي عن أبي علي من الحجة: 6/ 353 - 354 بتصرف. (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 217، "الكشف والبيان" 13: 120/ أ، "المحرر الوجيز" 5/ 412، "الدر المنثور" 8/ 374 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬3) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله في: "الوسيط" 4/ 403 معزوًا إلى القرطبي، ولعله تصحيف، والمراد به القرظي، والله أعلم. (¬5) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬6) في (أ): قد. (¬7) في (أ): ميل. (¬8) بمعناه في: "المحرر الوجيز" 5/ 412، "التفسير الكبير" 30/ 250، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 486.

الزنجبيل، وهو مستطاب عندهم (جدًا) (¬1). وأنشد للأعشى: كأنَّ القَرُنْفُلَ والزنجبيل ... بَاتا بفيْهَا وأرْيًا مَشُورا (¬2) (¬3) قال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه، ليس له مثل في الدنيا , ولكن الله تعالى سماه بالاسم الذي يُعرف (¬4). قال مقاتل: لا يُشبه زنجبيل الدنيا (¬5). (وتفسير هذا كتفسير قوله: {كان مزاجها كافورًا}) (¬6). قوله تعالى: {عَيْنًا} يجوز أن يكون بدلًا من قوله: (زنجبيلاً). والمعنى: كان مزاجها: (عينًا)، وتلك العين لها طعم الزنجبيل. ويجوز أن يكون المعنى: ويسقون عينًا. (ذكر ذلك الفراء (¬7)، و) (¬8) الزجاج (¬9). ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) ورد البيت في: ديوانه: 85 ط. دار صادر برواية: كأن جنيًا من الزنجبيل خالط فاها (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 260 بيسير من التصرف. (¬4) معالم التنزيل: 4/ 430، "التفسير الكبير" 30/ 250. (¬5) معالم التنزيل: 4/ 430، فتح القدير: 5/ 351، وبمعناه في: "تفسير مقاتل" 222/ أ، قال: يعني كأنما قد مزج فيه الزنجبيل. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 217، وعبارته: "ذكر أن الزنجبيل هو العنب، وأن الزنجبيل اسم لها". (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 260 - 261.

وقوله: {تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}. قال عكرمة (¬1)، (والكلبي) (¬2) (¬3): يعني يمزج الخمر بالزنجبيل، والزنجبيل من عين، تسمى تلك العين: سلسبيلاً. وعلى هذا: (سلسبيل: اسم تلك العين، وصرف لأنها رأس آية) (¬4)، وصار كقوله: (الظنونا) (¬5)، و (السبيلا) (¬6)، وقد مر في هذه السورة (¬7). قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن (¬8)، فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق. وقال قتادة في قوله: (سلسبيلا) سلسة (¬9) لهم، يصرفونها حيث شاؤوا (¬10). وقال مجاهد: سلسة السلسبيل: حديدة الجرية (¬11)، وهو معنى قول ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 6/ 171، وعبارته: "أنه اسم لها، قاله عكرمة"، وبمعناه في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 487. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله في: "الوسيط" 4/ 403 من غير عزو. (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) ما بين القوسين نقله عن الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 261. (¬5) سورة الأحزاب: 15. (¬6) سورة الأحزاب: 67. (¬7) انظر الآية 4 من هذه السورة (¬8) انظر مادة (سلسل) في: تهذيب اللغة: 13/ 156، "لسان العرب" 11/ 344. (¬9) في (أ): سلسلة. (¬10) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 338، "جامع البيان" 29/ 218، "النكت والعيون" 6/ 171، معالم التنزيل: 4/ 430، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 141 بنحوه. وبمعناه في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 487، "الدر المنثور" 8/ 376 برواية: سلسلة، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬11) المراجع السابقة "عدا النكت والعيون"، وانظر: "زاد المسير" 8/ 149.

أبي العالية (¬1)، والمقاتلين (¬2)، قالوا: إنها تسيل عليهم في الطريق، وفي منازلهم (¬3). وقال يمان: معنى سلسبيل: طيبة الطعم والمذاق (¬4). قال أبو إسحاق: سلسبيل صفة لما كان (¬5) في غاية السلاسة، فكأن العين والله أعلم سميت بصفتها (¬6). فهذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن سلسبيل اسم العين، ولا اشتقاق له، وكان الأصل لا يجري للتأنيث، والتعريف، ولكن أجري (¬7) للتوفيق بين رؤوس الآي؛ ولأن أصل السماء كلها الإجراء، (وقد ذكرنا هذا) (¬8). الثاني: أن معناه سلسلة السبيل. والثالث: أنها سلسلة يتسلسل في الحلق. ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 430، زاد المسير: 8/ 149 "حاشية، الجامع لأحكام القرآن" 19/ 141. وانظر تفسير أبي العالية من أول سورة الإسراء إلى آخر القرآن: "نورة الورثان" 2/ 621، رسالة ماجستير غير منشورة (¬2) في (أ): المقاتلان. (¬3) ورد بمعناه في: "تفسير مقاتل بن سليمان": 222/ ب، قال: "لأنه تسيل من جنة عدن، فتمر على كل جنة، ثم ترجع لهم الجنة كلها". وانظر: "بحر العلوم" 3/ 432 عن أحدهما، "النكت والعيون" 6/ 171 عن أحدهما دون تعيين، معالم التنزيل: 4/ 430 عن ابن حيان، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 141 عن ابن حيان. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) في (أ): لملَّكان. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 261 بنصه. (¬7) غير مقروء في (ع). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وعلى هذين القولين: سلسبيل صفة سميت بها العين، واختار ابن الأنباري القول الثالث، وقال: الصواب في سلسبيل أنه صفة للماء لسلسه (¬1) وسهولة مدخله في الحلق، يقال: شراب سَلْس، وسِلْسَال، وسَلْسَبيل، إذا كان كذلك؛ إلا أنه قال: سلسبيل صفة للماء، وليس باسم العين، فقال: وغير منكر أن يقول تسمى، ثم يذكر الوصف يؤدي عن الاسم، واحتج على هذا بإجراء (¬2) سلسبيل قال وإنما أجري؛ لأنه وصف للماء، ولو كان اسمًا للعين لكان الغالب عليه ألا يجري (¬3) (¬4). وذكر ابن عباس في قوله: (سلسبيلا) قال: تنسل في حلوقهم انسلالًا (¬5). قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} تقدم تفسيره في سورة الواقعة (¬6). قوله تعالى: {لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} قال عطاء: يريد في بياض اللؤلؤ، وحسنه، ¬

_ (¬1) في (أ): السلسة. (¬2) بياض في (ع). (¬3) في (أ): ألا تجرا. (¬4) "زاد المسير" 8/ 149 نقله عنه باختصار، وكلامه ينتهي -عنده- إلى قوله: سلسال وسلسبيل. (¬5) "النكت والعيون" 6/ 171. (¬6) سورة الواقعة: 17، وجاء في تفسيرها: "قال أبو عبيدة: لا يهرمون، ولا يتغيرون. وقال ابن عباس: لا يموتون. وعلى هذا هو من الخلود الذي هو البقاء بلا موت. وقال بعضهم: لا يكبرون، ولا يهرمون، ولا يتغيرون. والمراد بالولد: أن الغلمان، وهم وإن لم يولدوا , ولم يحصلوا عن ولادة، أطلق عليهم هذا الاسم لأن العرب تسمي الغلمان ولدانًا".

20

واللؤلؤ: إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه (¬1) منظومًا (¬2). وقال الكلبي: أبيض ما يكون اللؤلؤ إذا انتثر (¬3). هذا قولهما. والأحسن في تشبيههم باللؤلؤ المنثور أن يقال: إنما شبهوا باللؤلؤ المنثور لانتشارهم في الخدمة، فلو كانوا صفًا لشبهوا باللؤلؤ المنظوم، ألا ترى أن الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَيَطُوفُ عَلَيهِم}، فإذا كانوا يطوفون كانوا نثرًا. (وهذا الذي ذكرنا معنى قول قتادة (¬4)، وسفيان (¬5)، قالا: من كثرتهم وحسنهم) (¬6). 20 - قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} ذكر الفراء فيه قولين: أحدهما: أن المعنى: وإذا رأيت ما ثَمَّ، وصلح إضمار (ما) كما قال: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] يريد ما بينكم. والثاني: يريد إذا نظرت ثم، أي: إذا رميت ببصرك (هاهنا) (¬7) (¬8) قال أبو إسحاق: لا يجوز إضمار (ما)؛ لأن (ما) موصولة بقوله: (ثم)، ولا يجوز إسقاط الموصول، وترك الصلة، ولكن (رأيت) تتعدى في ¬

_ (¬1) بياض في: ع. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 430، فتح القدير: 5/ 351. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمعناه من غير عزو في: الوسيط: 4/ 404. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 338،"جامع البيان" 29/ 221، "بحر العلوم" 3/ 432، وبمعناه في: "النكت والعيون" 6/ 171، "الدر المنثور" 8/ 376 مختصرًا عنه، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 29/ 221، و"النكت والعيون" 6/ 171. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ساقطة مز: (أ). (¬8) "معاني القرآن" 3/ 218 مختصرًا.

المعنى إلى (ثم)؛ لأن المعنى: إذا رميت ببصرك ثَمَّ (¬1). ومعنى: (ثم) هناك، يعني في الجنة. {رَأَيْتَ نَعِيمًا} لا يوصف. {وَمُلْكًا كَبِيرًا} قال ابن عباس: لا يقدر واصف يصف حسنه، ولا طيبه (¬2). وقال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة، والطعام (¬3)، والشراب، والتحف إلى ولي الله، وهو في منازله، فيستأذن عليه، فذلك الملك العظيم (¬4). وقال مقاتل: لا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بإذنه (¬5). وهو قول مجاهد (¬6)، وسفيان (¬7)، (والسدي) (¬8) (¬9). قالوا: هو استئذان الملائكة عليهم. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه ذكر ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 261 بتصرف. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) بياض في (ع). (¬4) بمعناه في: "معالم التنزيل" 4/ 430،"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 142. (¬5) "تفسير مقاتل" 221/ ب، وقد ورد قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 430، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 142. (¬6) "الدر المنثور" 8: 76 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، والذي ورد عنه عند الطبري (قال: تسليم الملائكة) "جامع البيان" 29/ 221. (¬7) ورد قوله في: "جامع البيان" 29/ 221، "المحرر الوجيز" 5/ 413، "الدر المنثور" 8/ 376 وعزاه إلى ابن جرير. (¬8) "فتح القدير" 5/ 351. (¬9) ساقطة من (أ).

مركبهم، ثم تلا (¬1): {وَمُلْكًا كَبِيرًا}. (¬2) قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} قال الفراء: من نصب (عاليهم) (¬3) جعله كالصفة، نحو: فوقهم (¬4)، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل؛ لأنه محل (¬5)، فـ (عاليهم) من ذلك (¬6). وقال أبو إسحاق: وهذا لا نعرفه في الظروف (¬7)، ولو كان ظرفًا لم يجز إسكان (الياء)، ولكن نصبه على الحال من شيئين: أحدهما: على (الهاء)، و (الميم) في: (عاليهم)، المعنى: يطوف على الأبرار ولدان مخلدون عاليًا الأبرارَ ثياب سندس؛ لأنه قد وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء، ويجوز أن يكون حالاً من (الولدان). المعنى: إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا في حال علو الثياب إياهم (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): تلى. (¬2) "الدر المنثور" 8/ 376 وعزاه إلى البيهقي في "البعث" 237: رقم 401. وانظر: "المستدرك" 2/ 511 التفسير: سورة هل أتى، وقال عنه: صحيح، ووافقه الذهبي. (¬3) قرأ بفتح الياء في "عالِيَهم" على أنه حال: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، والكسائي. انظر: "الحجة" 6/ 354، "حجة القراءات" 740، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 354، "النشر" 2/ 396. (¬4) بمعنى: فوقهم ثياب سندس. انظر: "معاني القرآن" 3/ 218. (¬5) محل: مصطلح كوفي يقابله عند البصريين: الظرف. انظر: "نحو القراء الكوفيين" 347. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 218 - 219 بتصرف يسير. (¬7) أي أن نصب (عاليهم) على الظرف، وهو مما لا يعرف في الظروف. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 262. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" ونقل الواحدي العبارة بنصها من كلام طويل.

وقال أبو علي الفارسي: من نصب {عَالِيَهُمْ} احتمل النصب أمرين: أحدهما: أن يكون حالاً، والعامل فيه أحد شيئين: إما: (لَقَّاهُمْ) من قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً}، وإما {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا}، ومثل قوله: {عَالِيهُم} في كونه حالًا قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا}، و {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} مرتفعة باسم الفاعل قال: وقد أجيز أن يكون ظرفًا؛ لأنه لما كان (عالِ) بمعنى فوق (¬1) أجري مجراه في هذا، وهذا الوجه أبين، وهو أن (عال) صفة جُعل ظرفًا، كما كان قوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} (¬2) كذلك، وكما قالوا: هو ناحيةً من الدار. ومن قرأ: (عَالِيهِم) فأسكن الياء (¬3) في موضع رفع الابتداء، و {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} خبره، ويكون اسمه في وضع الجماعة، كما أن الخبر جماعة، وفاعل قد يراد (به) (¬4) الكثرة كما قال: ألا إنَّ جيراني العشيّةَ رائِح ... دَعَتْهُم دواع من هوًى ومنادِحُ (¬5) وفي التنزيل: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]، {وقطع دابر القوم} (¬6) كأنه أفرد حيث جعل بمنزلة المصدر، وقد قالوا: الجامِل ¬

_ (¬1) في (ع): كان، وهي زيادة من الناسخ لا داعي لها. (¬2) سورة الأنفال: 42. (¬3) قرأ بذلك: نافع، وحمزة، وأبو جعفر. انظر: "الحجة" 6/ 354، "حجة القراءات" 739، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 354، "النشر" 2/ 396، "إتحاف فضلاء البشر" 429. (¬4) ساقطة من (أ). (¬5) البيت غير منسوب في: "المحتسب" 2/ 154، "الهمع" 2/ 182 ط. دار المعرفة، وأصل منادح: مناديح؛ لأنه جمع مندوحة. (¬6) في (أ): ويقطع. سورة الأنعام: 45.

والباقر (¬1)، يراد بهما الكثرة قال: ويجوز في قياس قول أبي الحسن في إعمال اسم الفاعل عمل الفعل، وإن لم يعتمد على شيء أن يكون (ثياب سندس) مرتفعة بعالِيَهُم ارتفاع الفاعل، وأفْرَدت عاليًا؛ لأنه فعل متقدم، قال أبو علي: (عالِيَهُم) وإن كان مضافًا إلى الضمير، فهو في تقدير الانفصال والتنوين؛ لأنه مما لم يمض، فهو بمنزلة: زيدٌ ضاربُ أخيك غدًا، فهذا ابتداءُ بالنكرة؛ إلا أنه قد اختص (¬2) بالإضافة، وإن كانت الإضافة في تقدير الانفصال (¬3). قوله تعالى: (خضر) (قرئ خفضًا ورفعًا (¬4). (¬5)، فمن رفع فلأنها صفة مجموعة لموصوف مجموع، وهو قوله: {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} فأتبع الخضر الذي هو جمع مرفوع، الجمع المرفوع الذي هو ثياب، ومن خفض أجرى الخضر، وهو جمع على السندس؛ لأنه يراد به الجنس، وأجاز أبو الحسن جمع وصف ما يراد به الجنس بالجمع فقال: يقول: أهلك الناسَ الدينارُ ¬

_ (¬1) الجامل: اسم للجمع، كالباقر والكالب، ورجل جامِل: ذو جمل. انظر: "لسان العرب" 11/ 125 (جمل). وقال الأزهري: "الباقر: جماعة البقر مع راعيها، وكذلك الجامل: جماعة الجمال مع راعيها" تهذيب اللغة: 9/ 137 (بقر). (¬2) بياض في (ع). (¬3) "الحجة" 6/ 354 - 356 نقله الإمام الواحدي عن أبي علي باختصار. (¬4) قرأ بالكسر: ابن كثير، وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي. وقرأ بالرفع: أبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب. انظر كتاب "السبعة" 664، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 734، "الحجة" 6/ 356، "حجة القراءات" 740، "الكشف" 2/ 355، "المبسوط" 390. (¬5) في (ع): رفعًا وخفضًا.

الصّفر، والدرهم البيض (¬1)، على استقباح له، ومما يدل على فتحه أن العرب تجيء الجمع الذي هو في لفظ الواحد، فيجرونه مجرى (¬2) الواحد، وذلك قولهم: حصى أبيض، وفي التنزيل: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} [يس: 80]، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، فإذا كانوا قد أفردوا صفات هذه الضرب من الجمع، فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته) (¬3). وقوله تعالى: {وَإِسْتَبْرَقٌ} فيه الجر والرفع (¬4) أيضًا، فالجر من حيث كان جنسًا أضيف إليه الثياب، (كما أضيف إلى سندس، فكأن المعني ثيابهم، فأضاف الثياب) (¬5) إلى الجنس، كما تقول: ثياب خزٍّ (¬6) وكتانٍ (¬7)، فتضيفهما إلى الجنسين، ودل على ذلك قوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: 31]، (ومن رفع إستبرق) (¬8) أراد العطف على الثياب، ¬

_ (¬1) في (أ): الأبيض. (¬2) بياض في (ع). (¬3) ما بين القوسين نقله عن أبي علي في: "الحجة" 6/ 356 - 357 مختصرًا. (¬4) قرأ بالجر في: "إستبرق" أبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف. وقرأ بالرفع: ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، ونافع، وحفص عن عاصم. انظر كتاب "السبعة" 665، القراءات وعلل النحويين فيها: 2/ 734، الحجة: 6/ 356، "حجة القراءات" 740، "الكشف" 2/ 355، "المبسوط" 390. (¬5) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬6) الخَزُّ: ويراد به ثياب تنسج من صوف وإبريسم. انظر: "لسان العرب" 5/ 345 (خزز). (¬7) الكَتان: بالفتح: معروف، عربي سمي بذلك لأنه يُخَيَّس ويلقى بعضه على بعض حتى يكتن. "لسان العرب" 13/ 355 (كتن). (¬8) ما بين القوسين ساقطة من (أ).

كأنه ثياب سندس، وثياب إستبرق، فحذف المضاف (¬1). وهذه الآية مفسرة في سورة الكهف (¬2) إلى قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}. قال الكلبي: شراب أهل الجنة طاهر كله (¬3). قال الفراء: يقول هو طهور ليس بنجس كما [كان] (¬4) في الدنيا [مذكورًا] (¬5) بالنجاسة (¬6)، وعلى هذا: الطهور مبالغة من الطاهر. والمعنى: أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا. وقال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع (¬7) من ساق العرش من شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش، وغل، وحسد، وما كان في جوفه من (¬8) قذر، وأذى (¬9). ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 356 - 359 مختصرًا. (¬2) سورة الكهف: 31: ومما جاء في تفسيرها: قال الواحدي: "قوله: "يحلون فيها من أساور من ذهب" أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال: سوار في اليد بالكسر، وقال أبو زيد: هو: سِوار المرأة، وسَوار المرأة، وأسورة لجماعتها، وهما قلبان يكونان في يدها. "من سندس واستبرق" هما نوعان من الحرير. وقال بعضهم: السندس ما دقَّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه" ا. هـ (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في كلا النسختين: كانت، وهكذا ذكرت أيضًا في حاشية معاني القرآن، وقال المحقق: "إنه تحريف"، وأثبت كان. (¬5) في كلا النسختين: "مذكورة" والمثبت من معاني القرآن. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 219 بنصه. (¬7) بياض في (ع). (¬8) قوله: (وما كان في جوفه من) بياض في (ع). (¬9) "تفسير مقاتل" 222/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 431، "التفسير الكبير" 30/ 254، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 145، "فتح القدير" 5/ 352.

23

وقال أبو قلابة (¬1)، وإبراهيم (¬2): يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك، أوتوا بالشراب الطاهر، فيشربون، فتضمر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك. وعلى قول هؤلاء: المراد بالطهور المطهر؛ لأنه يطهرهم مما ذكروا. فقال: .. (¬3) {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أن يقال لهم: إن هذا، يعني (¬4) ما وصف من نعيم الجنة، كان لكم جزاء بأعمالكم. {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} قال ابن عباس: يريد أني قبلت اليسير من أعمالكم (¬5)، وشكرتكم عليه، وأثبتكم أفضل الثواب وأعظمه (¬6). 23 - قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)} قال الكلبي: السورة، والآية، والآيتين لم تنزل جملة واحدة كما نزل سائر الكتب (¬7)، وهذا معنى قول مقاتل (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 338 بنحوه، "جامع البيان" 29/ 223 بنحوه، وبمعناه في: "معالم التنزيل" 4/ 430 - 431، "والمحرر الوجيز" 5/ 414، "زاد المسير" 8/ 150، "التفسير الكبير" 3/ 254، وبمعناه في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 145، "الدر المنثور" 8/ 377 وعزاه إلى ابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 352. (¬2) ورد معنى قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 430 - 431، "المحرر الوجيز" 5/ 414، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 145، "فتح القدير" 5/ 352. (¬3) بياض في (ع)، ولا يوجد له ذكر في (أ). (¬4) قوله: إن هذا يعني: بياض في (ع). (¬5) قول: اليسير من أعمالكم: بياض في (ع). (¬6) بياض في (ع). وانظر بمعناه في: "التفسير الكبير" 30/ 255. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "تفسير مقاتل" 222/ ب، ولقد ورد عن ابن عباس معنى ذلك، قال: أنزل القرآن متفرقًا؛ آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة. "معالم التنزيل" 4/ 431.

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} (¬1) مفسر في مواضع (¬2). {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ} يعني: من مشركي مكة. {آثِمًا} يعني: عتبة بن ربيعة، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ارجع عن هذا (¬3) الأمر، وأزوجك ولدي، فإني من أجمل قريش ولدًا (¬4). وقوله: {أَوْ كَفُورًا} يعني الوليد بن المغيرة، قال: وأنا (¬5) أعطيك من المال حتى ترضى، فإني من أكثرهم (¬6) مالاً، (قاله الكلبي (¬7)، ومقاتل) (¬8) (¬9). قال الفراء: (أو) هاهنا بمنزلة (لا)، وأنشد (¬10)، فقال: ¬

_ (¬1) قوله تعالى: لحكم ربك: بياض في (ع). (¬2) من هذه المواضع: سورة الطور: 48، سورة القلم: 48. ومما جاء في تفسير قوله: "فاصبر لحكم ربك" من سورة القلم: 48: "أي اصبر على الأذى لقضاء ربك الذي هو آت". (¬3) في (أ): هذه. (¬4) قال بذلك مقاتل، انظر: "معالم التنزيل" 4/ 431، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 147، "الوسيط" 4/ 406 مختصرًا جدًا. (¬5) في (أ): فأنا. (¬6) في (أ): أكثريهم. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "تفسير مقاتل" 222/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 431، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 147، ورد عنه مختصرًا في كليهما. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) البيت لمالك بن عمرو القُضاعي، أو مالك بن حُريم، أو ابن رعك الغساني، أو الخنساء. انظر شرح أبيات "معاني القرآن" 221، وعزاه المبرد إلى مالك بن عمرو في: "الكامل" 2/ 86، والأمالي لأبي علي القالي: 2/ 123 وعزاه إلى مالك بن حريم في مقتل أخيه سماك، ولم أجده في ديوان الخنساء.

لا وَجْدُ ثَكْلى كما وَجِدْتُ ولا ... وَجْدُ عَجُوز أضلها رُبَعُ أوْ وَجْدُ شيخ أضَلَّ ناقَتَه ... يَوْمَ توافي الحَجيجُ فاندفعوا (¬1) أراد ولا وجد شيخ (أضل ناقته) (¬2) قال (¬3) وقد يجوز في العربية: لا تطيعن (¬4) منهم من أثم, أو كفر، فيكون المعنى في: (أو) قريبًا من معنى (الواو) كقولك للرجل: لأعطينك سألت، أو سكتَّ، معناه: لأعطينك على كل حال (¬5). هذا كلامه، وعلى هذا يتجه قول قتادة: إن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل الله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬6) يعني أبا جهل. وقال الزجاج: (أو) هاهنا أوكد من (الواو)؛ لأنك إذا قلت: لا تطع ¬

_ (¬1) ورد البيتان في: شرح أبيات "معاني الفراء" 221، "الكامل" 2/ 86، "جامع البيان" 29/ 224، "الكشف والبيان" 13/ 21/ ب، الأضداد: لابن الأنباري: 282، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: 2/ 79، وورد البيت الأول منسوبًا إلى ابن رعلاء الغساني، ط/ 2، "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 442، الأمالي: 2/ 123، وكلها برواية "عجول" بدلًا من: "عجوز". موضع الشاهد: "أو وجد شيخ"، أراد: ولا وجد شيخ، فقد ذكر بعض النحويين أن "أو" تأتي بمعنى: "لا". انظر شرح أبيات "معاني القرآن" 221. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬3) أي الفراء. (¬4) في (أ): يطعن. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 219 - 220 بتصرف. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 339، "جامع البيان" 29/ 224، "الكشف والبيان" 13: 21/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 431، "الدر المنثور" 8/ 378 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.

زيدًا وعمرًا (¬1)، فأطاع أحدهما كان غير عاصٍ؛ لأنه أمره (¬2) أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال: ولا تطع آثمًا أو كفورًا (¬3)، دلت (أو) على كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك (¬4) إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت: هذان (¬5) أهل أن يُتَّبَعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع، وقد ذكرنا (¬6) هذا مستقصى عند قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] (¬7). قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي اذكره بالتوحيد في الصلاة. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يعني صلاة الفجر، والظهر، والعصر. قاله ¬

_ (¬1) في (ع): عمروًا. (¬2) بياض في (ع). (¬3) بياض في (ع). (¬4) بياض في (ع). (¬5) قوله: فقد قلت هذان: بياض في (ع). (¬6) بياض في (ع). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 263. وقد خالف البصريون ما ذهب إليه الكوفيون كالفراء والزجاج من أن "أو" لا تكون بمعنى الواو، ولا بمعنى: "بل" بخلاف الكوفيين الذين استدلوا على صحة معنى "أو" "واو"، أو بمعنى: "بل" بهذه الآية، "أو كفورًا"، وقد رد البصريون هذا الاستدلال بقولهم: وأما قول الله تعالى: "ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا" فلا حجة لهم فيه؛ لأن "أو" فيها للإباحة، أي قد أبحتك كل واحد منهما كيف شئت، كما تقول في الأمر: جالس الحسن وابن سيرين، أي قد أبحتك مجالسة كل واحد منهما كيف شئت، والمنع بمنزلة الإباحة، فكما أنه لا يمتنع من شيء أبحته له، فكذلك لا يُقدم على شيء نهيته عنه. انظر: "الإنصاف" في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين: لأبي البركات الأنباري: 2/ 479 - 483. وانظر كتاب "حروف المعاني" للزجاجي: 50 - 51. من هذا التحقيق يتبين أن الإمام الواحدي لا يعتنق مذهبًا كوفيًا أو بصريًا؛ بل إنه يؤيد ما يراه صوابًا من أحد المذهبين، والله أعلم.

عطاء (¬1)، (والكلبي) (¬2) (¬3)، ومقاتل (¬4). {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني فصلِّ له المغرب، والعشاء. {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} قال مقاتل: يعني التطوع، يقول: وصل لله طويلًا (¬5)، يعني التطوع بعد المكتوبة، (وهو قول الكلبي (¬6)) (¬7). وقال عطاء: يريد أن صلاة الليل فريضة عليك يا محمد (¬8). والقول هو الأول؛ لأنه كان لا يجب عليه أن يصلي جميع الليل. ثم ذكر كفار مكة، فقال: (قوله تعالى) (¬9): {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}. قال ابن عباس (¬10)، (والكلبي (¬11) (¬12)، ومقاتل (¬13): أمامهم، ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في: "الوسيط" بنحوه من غير عزو: 4/ 406. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 222/ ب، قال: إذا صليت صلاة الغداة، وهو بكرة وأصيلًا إذا أمسيت وصليت صلاة المغرب. (¬5) بمعناه في: "تفسير مقاتل" 222/ ب، وفي "الوسيط" من غير عزو: 4/ 406. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله في: "الوسيط" 4/ 406 من غير عزو. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬12) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬13) "تفسير مقاتل" 222/ ب.

كقوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79]. {يَوْمًا ثَقِيلًا} عسيرًا، شديدًا، كما قال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187]. (ومعنى) (¬1): {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} أي يتركونه، فلا يؤمنون به، ولا يعلمون، ولا يهتمون لوقوعه، فقد تركوه من كل وجه. ثم ذكر دلالة قدرته، فقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قال ابن عباس: خلقهم (¬2)، وهو قول مقاتل (¬3)، ومجاهد (¬4)، (وقتادة (¬5)، والفراء (¬6)، والزجاج (¬7)) (¬8). قال الفراء: الأسر: الخَلْق، يقال: لقد أسِر هذا الرجل أحسنَ ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) "جامع البيان" 29/ 226، "الكشف والبيان" 13: 22/ أ، "النكت والعيون" 6/ 173، "زاد المسير" 8/ 151، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 149، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 488، "الدر المنثور" 8/ 378. (¬3) "تفسير مقاتل" 223/ أ، المراجع السابقة عدا جامع البيان، والنكت والعيون، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 431. (¬4) المراجع السابقة جميعها. (¬5) المراجع السابقة إضافة إلى "تفسير عبد الرزاق" 2/ 339، "الدر المنثور" 8/ 379 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 220. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 263 بمثله، وأضاف قائلاً: جاء في التفسير أيضًا: مفاصِلُهُم. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

الأسر، كقوله: أحسن الخلق (¬1). وقال أبو عبيدة: أسرهم: شدة الخَلْق، يقال: فرس شديد الأسر، وأنشد لبشر (بن أبي خازم) (¬2)، (فقال) (¬3): شديد الأسر يحمل أريحيًا ... أخا ثقة إذا الحدثان نابا (¬4) قال: وكل شيء شددته من غَبيطٍ (¬5)، أو قتبٍ (¬6)، فهو مأسور (¬7). وقال المبرد: (الأسر: القوى كلها، وأصله عند العرب: القِدُّ (¬8) الذي يشد به الأقتاب، ويقال للقتب: المأسور، ومنه قول الشاعر: واسْتَدْفَأ الكَلْبُ بالمأسُورِ ذِي الذِّئْبِ (¬9)) (¬10) يقول من شدة البرد استدفأ الكلب بالقتب. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 220 بيسير من التصرف. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) ورد البيت في: "منتهى الطلب من أشعار العرب" لابن ميمون: 1/ 156. (¬5) غبيط: هو المركب، قال الأزهري: ويقبب بشجار ويكون للحرائر. انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 62 (غبط)، "لسان العرب" 7/ 361 (غبط). (¬6) القِتْب: والقَتَب: إكاف البعير، والقِتْب: بالكسر: جميع أداة السانية من أعلافها، وحبالها، والجمع أقتاب انظر: "لسان العرب" 1/ 660 - 661: مادة: (قتب). (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 280 إلا أنه لم يذكر بيت الشعر. (¬8) القِدُّ: السير الذي يُقّدُّ من الجلد غير مدبوغ. انظر مادة: (قد) في: "معجم مقاييس اللغة" 5/ 6، "لسان العرب" 3/ 344. (¬9) الشطر الأول منه: فَأيُّ حَيٍّ إذا هَبَّتْ شَآميَّةً وقد ورد في الكامل 2/ 964 غير منسوب. ومعنى المأسور: القتب. (¬10) ما بين القوسين من قول المبرد، نقله عنه الإمام الواحدي بتصرف.

وقال الليث: الأسر: قوة المفاصل، والأوصال، وشد الله أسره (فلان) (¬1) أي قوة (¬2) (فلان) (¬3)، وكل شيئين جمع طرفاهما (¬4)، فشد (¬5) أحدهما بالآخر فقد أسر (¬6). (وذكرنا هذا مستقيم عند ذكر الأسارى (¬7)) (¬8). وقال الحسن (في هذه الآية) (¬9) يعني: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب (¬10) (¬11). وهو (معنى) (¬12) قول من قال: هي المفاصل (¬13). ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) في (أ): قوته. (¬3) ساقطة من (أ). (¬4) في (ع). صرفاهما. (¬5) بياض في (ع). (¬6) لم أعثر على قول الليث في: "التهذيب". (¬7) راجع تفسير سورة البقرة: 85. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) ما بين القوسين بياض في (أ). (¬10) العَصَب: عصب الإنسان والدابة، والأعصاب: أطناب المفاصل تلائم بينها وتشدها. "لسان العرب" 1/ 602: مادة: (عصب). (¬11) "الكشف والبيان" 13/ 22/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 431، "زاد المسير" 8/ 151، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 149. (¬12) ساقطة من (أ). (¬13) وهو قول أبي هريرة كما في: "جامع البيان" 29/ 226، والحسن والربيع أيضًا. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 22/ أ، "الدر المنثور" 8/ 378 وعزاه إلى عبد بن حميد. وانظر: "تفسير الحسن" 2/ 386.

وروي عن مجاهد: أنه قال في تفسير الأسر: الشَّرَج (¬1): (يعني موضعي مَصَرَّتَي البول والغائط، إذا خرج الأذى تقَبَّضَتا (¬2)) (¬3). وقوله تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} أي إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم (¬4). وهذا كقوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}. [الواقعة: 61] وقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} مفسرة في سورة المزمل (¬5). {وَمَا تَشَاءُونَ} أي الطاعة، والاستقامة اتخاذ السبيل المذكور في قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان: 29]. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} قال ابن عباس: يريد شيئًا من الخير إلا أن يشاء الله ذلك (¬6) لكم (¬7). وقال أبو إسحاق: أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله (¬8). قوله (تعالى) (¬9): {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} (قال عطاء) (¬10): يعني ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 22/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 431، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 149. (¬2) بياض في (ع). (¬3) ما بين القوسين من قول ابن الأعرابي بنصه. انظر مادة: (أسر) في: "تهذيب اللغة" 13/ 61، "لسان العرب" 4/ 19. (¬4) قوله: بدلًا منهم. بياض في (ع). (¬5) سورة المزمل: 19. (¬6) بياض في (ع). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 264 بنصه. (¬9) ساقطة من (ع). (¬10) ساقطة من (أ).

من صدّق نبيه أدخله جنته (¬1). وقال مقاتل: يعني في دينه الإسلام (¬2). {وَالظَّالِمِينَ} يعني المشركين من كفار مكة. قال أبو إسحاق: نصب (الظالمين)؛ لأن قبله منصوبًا. المعنى: يدخل من يشاء في رحمته، ويعذبُ الظالمين، ويكون (أعدَّ لهم عذابًا أليمًا)، تفسيرًا لهذا المضمر قال: والاختيار في الظالمين: النصب (¬3)، وإن كان الرفع جائزًا (¬4)؛ لأن الاختيار عند النحويين أن تقول: أعطيت زيدًا، وعمرًا (¬5) أعددت له بِرًا، فيختارون النصب على معنى: وبَرَرْتُ عمرًا (¬6)، (أو أبَرُّ عمرًا) (¬7). وأما قوله في: {حم عسق} {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ} (¬8) ¬

_ (¬1) "الوسيط" 4/ 406. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) وهي قراءة عامة القراء. انظر: "بحر العلوم" 3/ 433. (¬4) وقرأ: عبد الله بن الزبير، وأبان بن عثمان، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة: بالوا، أي: "والظالمون أعد". انظر: "المحتسب" لابن جني: 2/ 244، "الكشف والبيان" 13: 22/ ب، "زاد المسير" 8/ 151. وهي قراءة شاذة لعدم صحة سندها؛ ولعدم ذكرها في كتب القراءات المتواترة، ولقراءة من اشتهر بقراءة الشواذ كـ: أبان بن عثمان، وابن أبي عبلة. وعليه لا تكون القراءة بالرفع جائزة، وإن كانت جائزة في العربية عند النحويين. (¬5) في (ع): عمروًا. (¬6) في (ع): عمروا. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ)، وقد ورد في (ع): عمروًا، فأثبت عمرًا ليوافق ما قبله من الأمثلة (¬8) في (أ): الظالمين، وغير مقروءة في (ع).

[الشورى:8] فإنما (¬1) ارتفع؛ لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه، فينصبه في المعنى، ولم يجز أن يعطف على المنصوب قبله، وارتفع بالابتداء، وهاهنا قوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا} يدل على: ويعذب، فجاز أن ينتصب (¬2). ¬

_ (¬1) في (أ): فإنها. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 264 بتصرف.

سورة المرسلات

سورة المرسلات

1

تفسير سورة المرسلات (1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} ذكر في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بـ"المرسلات" الرياح، وهو قول مجاهد (2)، وقتادة (3)، (وابن مسعود (4)، وابن عباس (5) في رواية العوفي) (6)، ويدل (7)

_ (1) هي سورة مكية، حكاه ابن عطية، وابن الجوزي عن جمهور المفسرين. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 416، و"زاد المسير" 8/ 152، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 151. (2) "تفسير الإمام مجاهد" 691، "جامع البيان" 29/ 229، "الكشف والبيان" ج 13/ 22/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 432 بمعناه، "المحرر الوجيز" 5/ 416، "زاد المسير" 8/ 153، "تفسير القرآن العظيم" 489، "الدر المنثور" 8/ 382. (3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 340. وانظر المراجع السابقة. وعزا صاحب الدر قول قتادة إلى عبد بن حميد. (4) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق". وانظر: "بحر العلوم" 3/ 434، وعزا تخريج قوله -أيضًا- صاحب "الدر المنثور" إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) المراجع السابقة. (6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (7) في (ع): يدل من غير واو.

على صحة هذا القول: قوله: {ويرسل الرياح} [الأعراف: 57]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} [الحجر: 22]، فالله يرسلها، وهي مرسلات. القول الثاني: إن معنى "المرسلات" هاهنا الملائكة، وهو قول مقاتل (¬1)، (ومسروق (¬2)، وأبي صالح) (¬3) عن أبي هريرة (¬4)، وابن عباس (¬5) في رواية الكلبي. القول الثالث: قال ابن عباس (¬6): (في رواية عطاء) (¬7): يريد الأنبياء. وقوله: {عُرْفاً} هو ذكر فيه قولان: أحدهما: متتابعة، وهو قول من قال في "المرسلات" إنها الرياح (¬8). قال الزجاج: أرسلت كعرف الفرس (¬9). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 223/ أ، "بحر العلوم" 3/ 434، "الكشف والبيان" 13/ 22/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 432، "المحرر الوجيز" 5/ 416، "زاد المسير" 8/ 153. (¬2) ورد قوله في "جامع البيان" 29/ 229، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 489، "الدر المنثور" 8/ 382. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) "النكت والعيون" 6/ 175، "زاد المسير" 8/ 153، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 152، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 489، "الدر المنثور" 8/ 381 وعزا تخريجه لابن أبي حاتم. وانظر: "المستدرك" 2/ 511: كتاب التفسير: تفسير سورة المرسلات. وقال الحاكم: حديث صحيح من طريق أبي صالح، ووافقه الذهبي. (¬5) "الدر المنثور" 8/ 382، وعزا تخريجه إلى ابن المنذر. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 152، "البحر المحيط" 8/ 403. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) وذهب إليه أيضًا بريدة. "جامع البيان" 29/ 229. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 265 بنصه.

وقال الفراء: تتابعت كعرف الفرس، والعرب تقول: تركت الناس إلى فلان عرفاً واحداً، إذا توجهوا إليه فأكثروا (¬1). والعرف على هذا اسم أقيم مقام الحال؛ لأن المعنى: والرياح التي أرسلت (¬2) متتابعة. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر. وهو قول المبرد، قال: عرفاً (¬3) اتباعاً (¬4).-والمعنى فيهما واحد-. القول الثاني: و"العرف" أنه بمعنى المعروف، كقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (¬5) [الأعراف: 199] وقد مر، وهو قول من قال في "المرسلات " إنها الملائكة. قال مقاتل (¬6) (والكلبي (¬7)) (¬8): أرسلوا بالمعروف (¬9) من أمر الله ونهيه. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد (¬10) الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله (¬11). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 221 بنصه. (¬2) بياض في (ع). (¬3) في (أ): عرفنا. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) في (أ): بالمعروف. (¬6) "تفسير مقاتل" 223/ أ. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) بياض في (ع). (¬10) بياض في (ع). (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ذكر قوله في سورة الأعراف آية: 199 كما مر.

2

2 - قوله تعالى: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} قال المفسرون (¬1): يعني الرياح الشديدة الهبوب. وقال مسروق: يعني الملائكة (¬2). قال أبو إسحاق: من قال: الملائكة، فالمعنى: أنها تعصف بروح الكافر (¬3). يقال: عصف بالشيء: إذا أباده وأهلكه، ومنه قول الأعشى: تُعْصِف بالدَّارعِ (¬4) والحاسِرِ (¬5) (¬6) قوله (تعالى) (¬7): {وَالنَّاشِرَاتِ} استئناف قسم آخر، لذلك كانت بـ ¬

_ (¬1) قال بذلك: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، ومجاهد، وأبو صالح، وقتادة انظر: "جامع البيان" 29/ 230، "الكشف والبيان" ج 13/ 22/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 432. وحكاه ابن الجوزي عن المفسرين في "زاد المسير" 8/ 154، وبين القرطبي في أنه لا اختلاف في أنها الرياح "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153، كما عزاه الخازن إلى المفسرين في "لباب التأويل" 4/ 344. وانظر: "الدر المنثور" 8/ 381 - 382 وعزا تخريجه إلى ابن المنذر، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب. وانظر: "المستدرك" أخرجه عن علي 2/ 511 كتاب التفسير: تفسير سورة المرسلات، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) "الدر المنثور" 8/ 382 وعزا تخريجه إلى ابن جرير، ولم أجده عنده. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 265 بنحوه. (¬4) في (أ): الدارع. (¬5) صدر البيت: يَجْمَعُ خَضْراءَ لها سَوْرَةٌ وقد ورد البيت في "ديوانه" 96 من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة، ويمدح عامر ابن الطفيل. والمراد بـ"خضراء" كتيبة سوداء لما عليها من الحديد. "ديوانه" 96 في الحاشية. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 42 (عصف). (¬7) ساقط من: ع.

"الواو"، وقد ذكرنا هذا في أول سورة {وَالصَّافَّاتِ} [الصافات: 1]. ومعنى الناشرات: الرياح التي تأتي بالمطر. وهو قول الحسن (¬1)، وابن مسعود (¬2)، (ومجاهد) (¬3) (¬4)، وقتادة (¬5). يدل على هذا قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]. يعني أنها تنشر السحاب نشرًا، وهو ضد الطي. وقال مقاتل: يعني الملائكة ينشرون كتب بني آدم، وصحائف أعمالهم (¬6)، (وهو قول مسروق (¬7)، ¬

_ = ومما جاء في تفسيرها: .. وذكر أهل المعاني في القَسَم وجهين: أحدهما: أن القسم بالله عَزَّ وَجَلَّ على تقدير: ورب الصافات، كقوله: {والعَصْرِ}، {وَالشَّمْسَ}، {وَالَّليْلِ}، إلا أنه حذف لما في العلم من أن التعظيم بالقسم بالله. والثاني: أن هذا على ظاهر ما أقسم به؛ لأنه ينبئ عن تعظيمه بما فيه من العبرة الدالة على ربه". (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 23/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 432، "البحر المحيط" 8/ 404. (¬2) "جامع البيان" 29/ 231، "النكت والعيون" 6/ 176 بنحوه، "زاد المسير" 8/ 154. وعزاه ابن الجوزي إلى جمهور المفسرين، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153، "البحر المحيط" 8/ 404، "الدر المنثور" 8/ 381. (¬3) "تفسير الإمام مجاهد" 691، "جامع البيان" 29/ 231، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153، "البحر المحيط" 8/ 404، "الدر المنثور" 8/ 382. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 340. (¬6) بمعناه في "تفسير مقاتل" 223/ أ، و"الكشف والبيان" 13/ 23/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 432. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله.

وعطاء، عن ابن عباس (¬1)) (¬2). وقال أبو صالح: يعني المطر (¬3). وعلى هذا القول: النشر بمعنى الإحياء من قولهم: نشر الله الميت بمعنى أنشره، والمطر (¬4) يحيى الأرض، فالأمطار ناشرة وناشرات (¬5). قوله: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} الأكثرون (¬6) على أنها الملائكة تأتي بما، يفرق ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) "جامع البيان" 29/ 231، "النكت والعيون" 6/ 176، "المحرر الوجيز" 5/ 417، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153، "الدر المنثور" 8/ 382، وعزا تخريجه إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ في "العظمة"، وابن المنذر. (¬4) بياض في (ع). (¬5) النشر لغة: الرائحة الطيبة، والنَّشْر أيضًا: الكلام إذا يبس، ثم أصابه مطر في دُبر الصيف فاخضر، وقد نَشَرت الأرض، فهي ناشرة إذا أنبتت ذلك. والنَّشَر -بالتحريك-: المُنتشر، ونَشَرَ الميت، يَنْشُرُ نُشُورًا أي عاش بعد الموت، وأنشرهم الله أي أحياهم، واكتسى البازي ريشًا نَشَرًا أي منتشرًا واسعًا طويلاً. ونشرت الكتاب خلاف طويته. انظر: مادة (نشر) في "مقاييس اللغة" 5/ 430، "تهذيب اللغة" 11/ 338، "الصحاح" 2/ 827، "تاج العروس" 3/ 565. (¬6) ممن قال بذلك: ابن عباس، وأبو صالح، ومجاهد، والضحاك، وابن مسعود. انظر: "جامع البيان" 29/ 232، "الكشف والبيان" ج 13/ 23/ أ، "النكت والعيون" 6/ 176، "معالم التنزيل" 4/ 432، "المحرر الوجيز" 5/ 417، وحكاه ابن الجوزي عن الأكثرين في "زاد المسير" 8/ 154، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153.

5

بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وهو قول مقاتل (¬1)، (والكلبي (¬2)) (¬3). وقال مجاهد: هي الريح، وعلى هذا "فالفارقات" الرياح التي تفرق بين السحاب فتبدده (¬4). وقال قتادة: هي آيُ القرآن فرقت بين الحق والباطل، والحلال والحرام (¬5)، (وهو قول الحسن (¬6)) (¬7)، (وقال أبو إسحاق: يجوز أن يعني به الرسل (¬8)) (¬9). 5 - قوله تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} هي الملائكة في قول الجميع (¬10). ¬

_ (¬1) الذي ورد عنه في "تفسيره": القرآن فرق بين الحق والباطل 223/ أ، وورد بمثله في "الوسيط" من غير عزو. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ساقط من: (أ). (¬4) "النكت والعيون" 6/ 176، "معالم التنزيل" 4/ 432، "زاد المسير" 8/ 154، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153، "البحر المحيط": 8/ 404. (¬5) "جامع البيان" 29/ 232، "معالم التنزيل" 4/ 432، "المحرر الوجيز" 5/ 417، "زاد المسير" 8/ 154، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 153، "البحر المحيط" 8/ 404، "الدر المنثور" 8/ 382 وعزا تخريجه إلى عبد ابن حميد، وابن المنذر. (¬6) المراجع السابقة عدا "الدر المنثور" وانظر أيضًا: "الكشف والبيان" 13/ 23/ أ، "تفسير الحسن البصري" 2/ 386. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 265 بتصرف. (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬10) قال بذلك: ابن عباس، وقتادة، وسفيان الثوري، وابن مسعود، ومسروق، والربيع بن أنس، والسدي. =

6

قال مقاتل: تلقي بالروح (¬1). وقال قتادة: تلقي بالقرآن (¬2). وقال الكلبي: تلقي الذكر إلى الأنبياء (¬3). وبعض المفسرين يخص الآية بجبريل (¬4)، وعلى هذا يجوز أن يسمى باسم الجماعة. وذكرنا ذلك في قوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} (¬5) [الصافات: 3]. 6 - قوله تعالى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} قال قتادة: عذرًا من الله، ونذرًا منه ¬

_ = انظر: "جامع البيان" 29/ 232، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 489، وعزاه الماوردي إلى الكلبي في "النكت والعيون" 6/ 177، وبه قال السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 434، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13/ 23/ أ. وحكي عن جمهور المفسرين في "المحرر الوجيز" 5/ 417، "زاد المسير" 8/ 154، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 154، "البحر المحيط" 8/ 404. وهناك قولان آخران مخالفان لما ذكر الجمهور: أحدهما: المراد: الرسل يلقون إلى أممهم مما أنزل إليهم. قاله قطرب. والآخر: أنها النفوس تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال. انظر: "النكت والعيون" 6/ 177، "البحر المحيط" 8/ 404. قلت: ما ذكر من القولين المخالفين للجمهور لم يعتد بهما الإمام الواحدي، ولم ينظر إليهما، واعتبر قول الجمهور والغالبية هو قول بالإجماع، وهذا ما قررناه سالفاً، والله أعلم. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 340، "جامع البيان" 29/ 232. (¬3) "النكت والعيون" 6/ 177 بمعناه. (¬4) منهم مقاتل في رواية له. انظر: "تفسير مقاتل" 223/ أ، "المحرر الوجيز" 5/ 417. (¬5) ومما جاء في سبب تسمية جبريل عليه السلام بالجمع: قال الواحدي: "وذكر بلفظ الجمع إشارة إلى أنه كبير الملائكة، وهو لا يخلو من أعوان وجنود له من الملائكة يعرجون بعروجه، وينزلون بنزوله".

إلى خلقه (¬1)، ونحو هذا قالت الجماعة (¬2). وفيهما القراءتان: التثقيل، والتخفيف (¬3). قال الفراء: وهو مصدر مثقلاً كان أو مخففًا، والمعنى: إعذارًا، وإنذارًا (¬4). واختار أبو عبيد التخفيف، وقال: لأنهما في موضع المصدرين إنما هما: الإعذار، والإنذار، وليسا بجمع فيثقلا (¬5). وقال أبو إسحاق: معناهما: المصدر -والتثقيل (¬6)، والتخفيف (¬7) بمعنى واحد-، ونصبه على ضربين: أحدهما: مفعول على البدل من قوله: {ذِكْرًا} [المرسلات: 5]. والثاني: على المفعول له، فيكون "الملقيات ذكراً" للإعذار ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 340، "جامع البيان" 29/ 233، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 154، "الدر المنثور" 8/ 382 وعزا تخريجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) منهم الفراء: "معاني القرآن" 3/ 222، والطبري "جامع البيان" 29/ 232، والسمرقندي "بحر العلوم" 3/ 434، والماوردي "النكت والعيون" 6/ 177. (¬3) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب "عُذْراً" خفيفة، "أو نُذُراً" مثقلة. وقرأ: أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: "عُذْراً أو نُذْراً" بالتخفيف جميعاً. انظر: "كتاب السبعة" (666)، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 737، "الحجة" 6/ 362، "الكشف" 2/ 357، "المبسوط" (391)، "البدور الزاهرة" (332). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 222 بتصرف. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) أي: "عُذُراً أو نُذُراً". (¬7) أي: "عُذْراً أو نُذراً".

والإنذار (¬1). وقال (أبو الحسن) (¬2) الأخفش: "عذراً أو نذراً" أي إعذاراً أو إنذاراً، وقد خففتا (¬3) جميعاً، وهما لغتان (¬4). قال أبو علي الفارسي: العذر، والعذير (¬5)، والنذر، والنذير، مثل: النكر والنكير، وهما جميعاً مصدران، ويجوز التخفيف فيهما على حد التخفيف (¬6) في العُنق، والأُذُن -قال-: ويجوز في قولهم من [ضَمَّ] (¬7) أن يكون "عُذُراً" جمع عاذر، كشارف وشُرُف، وكذلك "النُّذُر" يجوز أن يكون جمع نذير، كقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: 56]، ويكون "عذراً أو نذراً" على هذا القول حالاً من الإلقاء، كأنهم يُلْقُون الذكر في حال العذر، والنذر. وذكر أيضًا وجهاً آخر في انتصاب "عذراً أو نذراً" وهو أن يكون مفعول الذكر كأنه قيل: فالملقيات أن يذكر عُذْراً أو نُذْراً (¬8)، وهو غير ما ذكر أبو إسحاق، فقد حصل أربعة أقوال: وجهان لأبي إسحاق، ووجهان لأبي علي، واختار المبرد أن يكون انتصابه على الحال؛ لأنه قال: هما ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 266 بتصرف يسير. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) في (أ): خففتا. (¬4) نقلاً عن "الحجة" 6/ 363. (¬5) بياض في (ع). (¬6) بياض في (ع). (¬7) في كلا النسختين: يقل، ولا تستقيم العبارة بها، والصواب ما أثبته من مصدره، وهو "الحجة" 6/ 363. (¬8) "الحجة" 6/ 362 - 363 باختصار.

جمعان، الواحد: عذيراً ونذيراً (¬1)، (وأنشد (¬2) [لحاتم الطائي] (¬3): أماويَّ قَدْ طالَ التَّجَنُّبُ والهَجْرُ ... وقدْ عَذَرَتْني في طِلابكُمُ العُذْرُ (¬4) فالعذر في هذا البيت جماعة لمكان لحاق علامة التأنيث) (¬5). ومن أول السورة إلى هاهنا أقسام ذكرها الله تعالى على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} وهذا جواب القسم. قال مقاتل: إنما توعدون من أمر الساعة لكائن (¬6). وقال الكلبي: إنما توعدون من الخير والشر لواقع بكم (¬7). ثم ذكر متى يقع فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} قال ابن عباس: يريد ذهاب ضوئها (¬8). وقال مقاتل: حولت من الضوء إلى السواد (¬9). وقال المبرد: أي مُحي ضوؤها (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح القدير" 5/ 356. (¬2) أي: أبو علي الفارسي. (¬3) بياض في (أ)، وعند أبي علي في "الحجة" لحاتم فأثبته، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني. انظر: ديوانه: 6. (¬4) ديوان حاتم الطائي: 42 برواية: "من" بدلاً من: "في". (¬5) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" 6/ 363. (¬6) "تفسير مقاتل" 223/ أ. (¬7) "التفسير الكبير" 30/ 269 بنحوه. (¬8) أعثر على مصدر لقوله. (¬9) "تفسير مقاتل" 223/ أ. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله.

9

وقد ذكرنا تفسير الطمس عند قوله: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} (¬1) [يونس: 88]. 9 - {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} قال أبو إسحاق: معناه: شقت (¬2). والفرج: الشق، يقال: فرجه الله فانفرج، وكل مشقوق فرج (¬3). وقال ابن قتيبة: فتحت (¬4)، ويدل على هذا قوله: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} [النبأ: 19]. {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} قلعت من مكانها فذهبت عن وجه الأرض، كقوله: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]. قال الزجاج: إذا [ذهبت] (¬5) بها كلها بسرعة (¬6). وقال المبرد: "نسفت" قلعت من مواضعها، وأنشد [للمُمَزَّق العَبْدي (¬7)] (¬8): ¬

_ (¬1) وقد أحال الإمام الواحدي إلى سورة النساء: 47 لتناوله معنى الطمس. وهي ساقطة من النسخ التي بين يدي. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 266 بنصه. (¬3) انظر المعنى اللغوي تحت مادة (فرج) في كل من "مقاييس اللغة" 4/ 498، "تهذيب اللغة" 11/ 44، وراجع أيضًا: "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لعبد الكريم الغرباوي 2/ 602، و"المفردات في غريب القرآن" (375). (¬4) "تفسير غريب القرآن" (505). (¬5) في (أ): هبت، والمثبت من "معاني القرآن وإعرابه". (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 266 بنحوه. (¬7) الممزَّق العبدي: هو من نكرة، واسمه شاس بن نَهار بن أسود، وهو جاهلي قديم من شعراء البحرين. "طبقات فحول الشعراء" 1/ 274، "الشعر والشعراء" (252). (¬8) ورد في نسخة: أ: وأنشد لذي الرمة، والصواب ما أثبتناه، فقد نسب في الصمعيات للمزق العبدي، وكذا في اللسان.

وقد تَخِذَتْ رِجْلي إلى جَنْتِ غَرْزِها ... نَسِيفًا كأفْحُوصِ القَطَاةِ المطَرَّقِ (¬1) قال: يعني: ما سعت برجليه من وبرها (¬2). قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ}، قال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4)، وأبو علي (¬5): الهمزة في "أقتت" بدل من الواو، وكل "واو" انضمت، وكانت ضمتها لازمة، فإنها تبدل على الاطراد همزة أولاً [ثانية] (¬6) من ذلك: أن تقول: صَلّي القومُ أُحدانا، وهذا [أُجوه] (¬7) حسان، وأدْؤر في جمع دار، والهمزة أصلها واو، وذلك لأن ضمة الواو ثقيلة (¬8)، كما كان كسر الياء ثقيلاً، وأما قوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فلا يجوز فيه البدل؛ لأن الضمة لا تلزم (¬9)، ألا ترى أنه لا يسوغ في نحو قولك: هذا ¬

_ (¬1) ورد البيت في "الأصمعيات" 165 برواية: "لدى" بدلاً من: "إلى". "تهذيب اللغة" 13/ 6 (نسف) برواية: "لدي" بدلاً من: "إلى"، "لسان العرب" 7/ 63 (فحص) 9/ 329 (نسف) 10/ 223 (طرق)، وانظر: "التكملة" للفارسي (346). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 222 - 223. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 266. (¬5) "الحجة" 6/ 364. (¬6) في (أ): ثالثة، والمثبت من "الحجة". (¬7) في (أ): أوجه، والمثبت من "معاني القرآن" للفراء 3/ 223، وانظر: "الوسيط" 4/ 408. (¬8) فكأنما اجتمعت فيه واوان، فقلبت إحداهما همزة تخفيفاً. "التبصرة والتذكرة" 2/ 813. (¬9) لأن ضمة التقاء الساكنين لا تثبت ولا يعتد بها. انظر: "التبصرة والتذكرة" لأبي محمد الصيمري 2/ 814

عدوٌّ أن تبدل، والدليل على أن همزة "أقتت" مبدلة، وأن [أصل] (¬1) الكلمة من الوقت، ويدل عليه قراءة أبي عمرو: "وُقِّتَتْ" بالواو على الأصل (¬2) قال مجاهد في قوله: "أقتت": وعدت وأجلت (¬3). قال أبو إسحاق: أي جعل لها وقتاً (¬4). وفيه قول آخر، قال الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6): جمعت ليشهدوا على أممهم بالبلاغ إليهم. وهو اختيار الفراء (¬7)، وابن قتيبة. قال: جمعت لوقتها يوم القيامة (¬8). وهذا القول أليق بظاهر التفسير؛ (وذلك أن جواب "إذا" في هذه الآية محذوف على تقدير: فإذا النجوم طمست، وإذا، وإذا، وإذا، كان كذا وكذا، والذي يليق بهذا أن يكون المعنى: وإذا الرسل (¬9) جعل لها وقت؛ لأن ذلك التوقيت قد سبق من الله، وجمع ما ذكر من الطمس، ¬

_ (¬1) في (أ): أصله، ولا تستقيم العبارة بالضمير. (¬2) انظر: "الحجة" 6/ 364، "كتاب التبصرة" 718، " البدور الزاهرة" 332. والباقون: أُقتت بألف. (¬3) "جامع البيان" 29/ 233، "النكت والعيون" 6/ 177، "الدر المنثور" 8/ 383، وعزا تخريجه إلى عبد بن حميد. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 266 بنصه. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 223. (¬8) "تفسير غريب القرآن" 506، والعبارة عبارة الفراء، أما ابن قتيبة فقد قال: "جمعت لوقت، وهو يوم القيامة". (¬9) في أ: الرجل، والصواب ما أثبتناه لاستقامة المعنى به.

والفرج، والنسف، إنما يقع في القيامة، فلذلك هذا التوقيت وجب أن يكون واقعاً فيه؛ وقد جمعهم للميقات المعلوم، وما ذكرنا من إضمار الجواب هو قول الأخفش) (¬1). ثم ذكر أن الرسل كانوا قد ضرب لهم الأجل لجمعهم فقال: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} أي أخرت (¬2). قال الفراء: يعجب العباد من ذلك اليوم (¬3). ثم بين فقال: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)} قال ابن عباس: يوم يفصل الرحمن بين العباد (¬4)، وهذا كقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)} [الدخان: 40]. ثم عظم ذلك اليوم، وهوّل منه، فقال: قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)}. قال مقاتل: هذا تعظيم لشدته (¬5). وقال الكلبي: يقول: وما علمك بيوم الفصل (¬6). ثم ذكر حال المكذبين الذين كذبوا بذلك اليوم فقال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وما بين القوسين هو من قول الأخفش. (¬2) التأجل لغة: الأجل: مدة الشيء، والآجل والآجلَةُ: ضد العاجلة "الصحاح" 4/ 1621، (أجل). (¬3) "معاني القرآن" 3/ 223 بنصه. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 433، "التفسير الكبير" 30/ 270، "لباب التأويل" 4/ 344 (¬5) "تفسير مقاتل" 223/ ب. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

لِلْمُكَذِّبِينَ} (¬1) ثم أخبر بما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)} قال مقاتل: يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم (¬2). قوله تعالى: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} -قال (¬3) -: يعني كفار مكة حين كذبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم-. (¬4) قال الفراء (¬5)، والزجاج (¬6): هو رفع على الاستئناف، على معنى: سنفعل ذلك، ويتبع الأول الآخر، ويدل على الاستئناف قراءة عبد الله: "سنتبعهم" (¬7) فهذا تحقيق للرفع. وقال أبو علي: الجزم في: "نُتْبِعْهُم" (¬8) على الإشراك في "ألم" ليس ¬

_ (¬1) الويل: ذكر بعض المفسرين أن ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 156. (¬2) "تفسير مقاتل" 223/ ب بمعناه، انظر: "الوسيط" 4/ 408. (¬3) أي: مقاتل. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله في "الوسيط" 4/ 408 من غير عزو. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 223. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 267. (¬7) وردت قراءة ابن مسعود في "الكشف والبيان" 13/ 23/ ب، "زاد المسير" 8/ 156، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 157، وهي قراءة شاذة لعدم صحة سندها , ولعدم ورودها في كتب التواتر، وهي من باب التفسير والله أعلم. (¬8) قرأ بذلك: الأعرج، وهي قراءة شاذة لعدم صحة سندها , ولوردها في "المحتسب" لابن جني 2/ 346، قال أبو الفتح بن جني: يحتمل جزمه أمرين: أحدهما: أن يكون أراد معنى قراءة الجماعة: "نتبِعُهُمْ" بالرفع، فأسكن العين استثقالا لتوالي الحركات. =

بالوجه، ألا ترى أن الإهلاك فيما مضى، والإتباع للآخرين لم يقع مع الأول، فإذا كان كذلك لم يحسن الإشراك في الجزم، ولكن على الاستئناف (¬1) [أو] (¬2) على [أن] (¬3) يجعل خبر مبتدأ محذوف -قال- ويجوز الإسكان فيه للتخفيف لا للجزم (¬4)، كما روي في بيت امرئ القيس: فاليوم أشرب غيرَ مُسْتَحْقِبٍ (¬5) وقد تقدم القول فيه (¬6). ثم زاد تخويفاً لأهل مكة فقال: قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}. أي: (مثل ما فعلنا بمن تقدم من الأمم، وموضع الكاف: نصب) (¬7). ثم ذكر بدو خلقهم لئلا يكذبوا بالبعث فقال: ¬

_ = والأخر: أن يكون جزماً فيعطفه على قوله: "نهلك" فيجري مجرى قولك: ألم تزرني ثم أعطك؟ كقولك: فأعطاك ألم أحسن إليك ثم أُوال ذلك عليك. (¬1) وهو ما تحمله قراءة الجمهور. (¬2) في (أ): أبو، والمثبت من مصدر الكلام، وهو "الحجة" 6/ 364. (¬3) أن ساقطة من: أ، والمثبت من "الحجة"، وبه يستقيم المعنى، وينتظم الكلام. (¬4) "الحجة" 6/ 364 بتصرف. (¬5) عجز البيت: إثماً من الله ولا واغِلِ والبيت في "ديوانه" (149)، ط. دار صادر برواية: فاليوم أُسقى غير مستحقب. والمستحقب: المكتسب للإثم الحامل له، الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون من غير أن يدعى. (ديوانه). (¬6) لم أستطع التوصل إلى الموضع المشار إليه. (¬7) ما بين القوسين نقله عن الزجاج بتقديم وتأخير في الكلام. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 267.

20

20 - قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)} وهذا كقوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)} (¬1) [السجدة: 8] , وهذا مذكور في سورة المؤمنين (¬2). {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)} يعني مدة الحامل، ومنتهى الحمل. {فَقَدَرْنَا} قال الكلبي: يعني خلقه، كيف يكون قصيراً، وطويلاً، وذكراً، وأنثى (¬3). وفيه قراءتان: التخفيف، والتشديد (¬4). قال الفراء: والمعنى فيهما واحد؛ لأن العرب تقول: قُدِر عليه الموت، والرزق، وقدِّر بالتشديد، وجه من احتج للتخفيف بقوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] لا يلزم؛ لأن العرب تجمع بين اللغتين، قال الله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ} [الطارق: 17]، وقال الأعشى: ¬

_ (¬1) ومما جاء في "تفسير من ماء مهين": "أي ماء ضعيف، وهو النطفة". (¬2) سورة المؤمنون: 12 - 13/ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} ومما جاء في تفسير قوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}: "القرار: يعني مستقر، مكين: أي مطمئن غير مضطرب، يقال: مكين بيّن المكانة. قال ابن عباس، والمفسرون في قوله: "مكين": يريد الرحم، مكن فيه بأن هيئ لاستقراره فيه، إلى بلوغ أمده الذي جعل له". (¬3) "الوسيط" 4/ 408. (¬4) قرأ: أبو جعفر، ونافع، والكسائي: "فقدَّرنا" بالتشديد، وقرأ الباقون: "فقَدَرْنا" بالتخفيف. انظر: "كتاب السبعة" 666، "الحجة" 6/ 365، "حجة القراءات" 743، "المبسوط" 391، "الكشف" 2/ 358، "النشر في القراءات العشر" 2/ 397.

وأنْكَرَتنْي وما كانَ الذي نَكِرَتْ (¬1) (¬2) قال أبو علي: ويجوز أن يكون: "نعم المقدرون" فجاء على حذف الزوائد، نحو: دلو الدالي (¬3)، وأجواز ليل غاضْ (¬4) (¬5). وذكرنا ذلك في قوله: {الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬6) [الحجر:22]. ¬

_ (¬1) عجز البيت: مِنَ الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلَعا .. وموضع الشاهد: يقال: أنكرت الرجل إذا كنت من معرفته في شك، ونكرته إذا لم تعرفه. وقال معمر بن المثنى: نَكِرْته وأنْكَرْته بمعنى واحد. انظر: "ديوانه" 105 ط. دار صادر، "مجالس العلماء" للزجاجي 235، "الخصائص" 3/ 31، "المحتسب" 2/ 289، شرح أبيات "معاني القرآن" 207؛ ش: 467. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 223 - 224 بتصرف يسير. (¬3) هو من بيت للعجاج، وقد ورد في ديوانه: 59: تح عزة حسن، "لسان العرب" 14/ 265 (دلا) من قوله: يَجْفِلُ عن جَمَّاتِهِ دَلْوَ الدَّال ... غَيَايةً غَثراء مِنْ أجْنٍ طال يريد المُدلي، والطالي: الذي عليه الطلاوة تعلوه فتستره. (¬4) أي: مغضٍ، وهذا من بيت لرؤبة: يخرجن من أجْواز ليل غاضِ ... نَضْوَ قداحِ النابلِ النواضي كأنما ينضحن بالخضخاض والخضخاض: القطران، يريد أنها عرقت من شدة السير فاسودت جلودها, وليلة غاضية: شديدة الظلمة، ونار غاضية: عظيمة مُضيئة. انظر: "لسان العرب" 15/ 128، (غضا). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ومما جاء في تفسير الآية: "فإن قيل: كيف قال: لواقح وهي ملقحة؟ والجواب: ما ذهب إليه أبو عبيدة: أن لواقح هاهنا بمعنى ملاقح، جمع ملقحة، فحذفت الميم منه، ورُدت إلى الأصل =

25

ثم بين لهم صنعه ليعتبروا فيوحدوه، فقال: 25 - قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} معنى الكفت في اللغة: الضم، والجمع، يقال: كَفَتُّ الشيء: أي ضممته فانكفت، أي انضم، ومنه قول أوس: كِرامٌ حين تَنْكَفِتُ الأفاعي ... إلى أجحارهنَّ من الصَّقيعِ (¬1) أي ينضم، قال أبو عبيدة: كفاتًا: أوعية، يقال للنِّحْي: كِفْتٌ، كِفت، وكفيت (¬2)؛ لأنه يحوي اللبن ويضمه، ويقال أيضًا: جِرابٌ كَفِيتٌ وكِفتٌ إذا كان لا يضيِّع شيئًا مما يجعل فيه، ويقال للقدر أيضًا: كِفْتٌ، ومنه المثل: كِفْتٌ إلى وئيَّةٍ (¬3). ¬

_ = نحو: قول رؤبة: * يخرجن من أزواج ليل غاض * يريد: مغض، وقد قال العرب: أبقل النبت، فهو بأقل، يجعلون بأقل بدلاً من مبقل، ففي هذا دليل على تعيين لا قح عن ملقح، وإلى قريب من هذا ذهب الفراء، فقال: إنه يجوز فاعل لمفعل، كما جاز لمفعول، نحو: ماء دافق، وسر كاتم، وليل نائم، وكما قيل المبروز بمعنى المبرز في قوله: الناطق المبروز والمختوم بمعنى أن هذه الأشياء لم يرد البناء على الفعل، واختار أبو علي -أيضًا- قول أبي عبيدة، فقال: لواقح بمعنى ملاقح على حذف الزيادة. (¬1) ورد البيت في كتاب "سيبويه" 3/ 577، وقد استشهد به على جواز جمع جحر على أجحار جمع قلة، أما الجحرة فهي جمع كثرة له، ولم ينسبه، "المقتضب" 2/ 197، "المخصص" 8/ 85 المجلد الثاني، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 159 غير منسوب، ولم أعثر عليه في ديوانه. ومعنى البيت: انكفت القوم إلى منازلهم: انقلبوا، وهي هنا بمعنى تنقبض، الصقيع: الذي يسقط من السماء بالثلج، ويعني: أنهم كرام إذا أجدب الزمان , واشتد البرد. "المقتضب" 2/ 197 (حاشية). (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 281 بتصرف يسير. (¬3) "مجمع الأمثال": للميداني: 3/ 37، الكِفْتُ: القِدْر الصغيرة، والوئِيَّة: الكبيرة، =

وقال: كفت وكفت إذا ضم شيئاً إلى شيء، ومنه الحديث: " [و] (¬1) اكفتوا صبيانكم" (¬2)، وانْكَفَت الثوب إذا انضم وتقلص (¬3). قال ابن عباس: يريد مساكن وقبورًا (¬4). وقال مقاتل: تكفت الأحياء فيسكنون ظهرها، وتكفت الأموات في بطنها (¬5). وقال مجاهد: تكفت الميت، فلا يرى منه شيء، والحي إذا أوى إلى بيته (¬6). ¬

_ = والكفت من الكفت وهو الضم، سمي به؛ لأنه يكفت ما يلقى فيه، والوئيَّة من الوَأي، وهو الضخم، يقال: فرس وأي إذا كان ضخماً، والأنثى وأية وآة. يضرب للرجل يحملك البَلِيَّة ... ثم يزيدك إليها أخرى صغيرة (¬1) في (أ): أو، والمثبت مثل ما جاء في الأحاديث. (¬2) الحديث أخرجه: أبو داود في "سننه" 2/ 333 باب في إيكاء الآنية، عن جابر بن عبيد الله -رفعه- قال: "واكفتوا صبيانكم عند العشاء"، وقال مسدد: عند المساء، فإن للجن انتشاراً وخَطْفة. والإمام أحمد في "المسند" 3/ 388. وقد أورد البخاري بمعنى هذا الحديث؛ قال: "وأكفئوا صبيانكم"، "الجامع الصحيح" 2/ 446 ح 3316: كتاب بدء الخلق: باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ... وخمس من الدواب فواسق .. 16. (¬3) انظر (كفت) في "تهذيب اللغة" 10/ 146، "مقاييس اللغة" 5/ 190، "الصحاح" 1/ 263، "لسان العرب" 2/ 79، وجميعها لم تذكر بيت أويس. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل" 223/ ب بمعناه. (¬6) "الدر المنثور" 8/ 384 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

وقال قتادة: تكفتهم أحياء فوقها على ظهرها، و"أمواتاً" إذا قبروا فيها (¬1). وهذا قول جماعة المفسرين (¬2). قال الفراء: تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتاً إذا قبروا فيها، في بطنها، أي تحفظهم وتحوزهم (¬3)، -قال-: ونصبك (¬4) الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليه، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نونت نصبت، كما يقرأ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا}. [البلد: 14, 15] (¬5). وقال أبو علي: (إن كان الكفات مصدر الكفت، كما أن الكتاب مصدر الكتب، فقد انتصب (أحياء) به، كما انتصب بقوله: (أو إطعام) (يتيمًا) -قال-: وقد قيل: إن الكفات جمع الكافتة، فأحياء على هذا منتصب بالجمع كقوله: غُفُرٌ ذَنْبُهُمُ غَيرُ فُجُرْ (¬6)) (¬7) وقال الكلبي: يريد على ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 240، "جامع البيان" 29/ 237 بنحوه، "النكت والعيون" 6/ 179 بنحوه. (¬2) منهم: الشعبي أيضًا. انظر: "جامع البيان" 29/ 237، "بحر العلوم" 3/ 436، "النكت والعيون" 6/ 179. وبه قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 267. (¬3) في "معاني القرآن" تحرزهم 3/ 224. (¬4) في (أ): صمك. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 224 بتصرف، وما ذهب إليه الفراء رجحه الطبري في "جامع البيان" 29/ 238. (¬6) البيت لطرفة بن العبد، وصدره: ثم زادوا أنّهُمْ في قومهم. ومعناه: غفر ذنبهم: أي يغفرون ذنب المذنب. غير فجر: أي ولا يفتخرون لرصانتهم. "ديوانه" 55. (¬7) ما بين القوسين من قول أبي علي، ولم أعثر على مصدر لقوله.

ظهرها منازلهم، وعيشهم، وفي بطنها قبورهم (¬1). قوله تعالى {شَامِخَاتٍ} أي عاليات، وكل عال فهو شامخ، شمخ يشمخ شموخاً، ويقال للمتكبر: شمخ بأنفه، وجبل شامخ، وجبال شامخة، وشامخات، وشوامخ، أي طوال عالية في السماء مرتفعات، وكل هذا من ألفاظ المفسرين (¬2)، وأهل المعاني (¬3). قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} تقدم تفسيره عند قوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (¬4). وقوله: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} (¬5) [الفرقان: 53]. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) قال قتادة: يعني جبال، وعن ابن عباس: جبالاً مشرفات. انظر: "جامع البيان" 29/ 238، وإلى القول: عاليات مرتفعات ذهب البغوي: "معالم التنزيل" 4/ 434، وابن عطية: "المحرر الوجيز" 5/ 419، وابن الجوزي: "زاد المسير" 8/ 157، والفخر الرازي: "التفسير الكبير" 3/ 274، والقرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 160، والخازن "لباب التأويل" 4/ 344. (¬3) ذهب إليه: الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 267. قال ابن فارس: شمخ: أجل صحيح يدل على تعظم وارتفاع، يقال: جبل شامخ: أي عالٍ، وشمخ فلان بأنفه: إذا تعظم في نفسه. انظر: (شمخ) في "مقاييس اللغة" 3/ 212، "تهذيب اللغة" 7/ 96، "لسان العرب" 3/ 30. (¬4) في (أ): وردت: أسقيناكم، والآية من سورة الحجر: 22، ومما جاء في تفسيرها: "ومعنى: "فأسقيناكموه": العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام، أو من السماء، أو نهر يجري: أسقيت، أي جعلته شرباً له، وجعلت له منها مسْقى، فإذا كانت السقيا لشفته قالوا: سقاه، ولم يقولوا: أسقاه، وقال أبو علي: يقول: سَقَيْتُه حتى رُوي، وأسقيته نهراً جعلته شِرْباً له، وقوله: "فأسقيناكموه" أي جعلناه سقياً لكم". (¬5) ومعنى قوله: "فراتاً": الفرات: أعذب المياه، وقد فرت الماء يفرت فروتة: إذا =

قال مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث (¬1). قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي بالبعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة، فقال: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. قال الكلبي: يقول لهم الخزنة: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون في الدنيا (¬2). ثم ذكر ما أمروا بالانطلاق إليه، فقال: قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} قال المفسرون (¬3): (إن الشمس تدنو (¬4) يوم القيامة من رؤوس (¬5) الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس، ولا لهم كنان (¬6)، فتلفحهم الشمس، وتسْفَعُهُم، وتأخذ بأنفاسهم، [ومد] (¬7) ذلك اليوم وكربه، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلِّه، وهناك يقولون: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، ويقول للمكذبين: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ ¬

_ = عذب، فهو فرات. والفرات لغة: الماء العذْب، يقال: ماء فُرات، ومياه فُرات. انظر: "مختار الصحاح" 494، "المصباح المنير" 2/ 558. (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 434، ولم أعثر في تفسيره على هذا القول، أو نحوه. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) يعني به ابن قتيبة. (¬4) في (أ): تدنوا. (¬5) في (أ): روش. (¬6) كنان: أي الغطاء، والجمع: أكنة، مثل: اغطية. "المصباح المنير" 2/ 657. (¬7) في (أ): ود، وما أثبته من المصدر الأصلي للقول، وهو "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة 319 لاستقامة المعنى، إذ لا يتحقق للمعنى فهم لو أثبت: ود.

تُكَذِّبُونَ} [المرسلات: 29] من عذاب الله وعقابه، انطلقوا من ذلك إلى ظل من دخان نار جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيكونون (¬1) فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه) (¬2). ثم وصف ذلك الظل فقال: {لَا ظَلِيلٍ} (¬3) (أي لا يظلُّكم من حَرِّ هذا اليوم؛ بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس) (¬4). "ولا يغني" عنكم "من اللهب" أي لا يدفع عنكم من حره شيئاً (¬5)؛ ¬

_ (¬1) في (أ): فيكونوا، وما أثبته من "تأويل مشكل القرآن". (¬2) ما بين القوسين نقله عن ابن قتيبة من "تأويل مشكل القرآن" 319 - 320 بشيء من الاختصار، وحكاه الفخر عن المفسرين: "التفسير الكبير" 30/ 275. وعن قتادة في معنى الآية: قال: هو كقوله: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، والسرادق: دخان النار، فأحاط بهم سرادقها، ثم تفرق فكان ثلاث شعب، فقال: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب: شعبة هاهنا، وشعبة هاهنا، وشعبة هاهنا. "جامع البيان" 29/ 239. وعن مجاهد قال: إن الشعبة تكون فوقه، والشعبة عن يمينه، والشعبة عن شماله، فتحيط به. "النكت والعيون" 6/ 179. وعن الضحاك: أن الشعب الثلاث: الضريع، والزقوم، والغسلين. المرجع السابق، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 161. وعن الماوردي: أن الثلاث الشعب: اللهب، والشرر، والدخان. "النكت والعيون" 6/ 179. (¬3) {لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}. (¬4) ما بين القوسين نقله بنصه من "تأويل مشكل القرآن" 319 - 320. (¬5) في (أ): كما يدفع عنكم حره شيئًا، والكلام مكرر لا فائدة فيه.

كما يدفع الظل الحر. قال الكلبي: يريد: لا يرد لهب جهنم عنكم (¬1). (والمعنى: أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب، وهذا مثل قوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}) (¬2) [الواقعة: 43 - 44]. ثم وصف النار فقال: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (يقال: شررة، وشرر، وشرار، وهو: ما تطاير من النار متبدداً في كلِّ جهة، وأصله من: شررت الثوب إذا أظهرته، وبسطته للشمس، والشر ينبسط متبددًا، وأنشد (¬3): تنزو إذا شجها المزاج ... كما طار شرار يطيره اللهب (¬4) أو كَشَرارِ العَلاةِ يضربها ... القَيْنُ على كلِّ وِجهَةٍ تَثِبُ) (¬5) يصف الشرر. في قوله: {كَالْقَصْرِ} قولان: أحدهما: أنه القصر من البناء. قال عطاء عن ابن عباس: يريد القصور العظام (¬6). ¬

_ (¬1) "الوسيط" 4/ 409. (¬2) ما بين القوسين نقله بتصرف عن ابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" 319 - 320. (¬3) لم ينسب البيت في "التهذيب" 11/ 272 (الشر)، ولا في "اللسان" 4/ 401 (الشر). (¬4) لم يذكر في المرجعين السابقين. (¬5) ما بين القوسين نقله عن الأزهري. انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 272 (الشر). وأيضًا انظر مادة الشر في كل من: "مقاييس اللغة" 3/ 180، "الصحاح" 2/ 695، "لسان العرب" 4/ 401. (¬6) "التفسير الكبير" 30/ 276.

وقال الكلبي: شبه الشرار من النار بالقصر من قصور الأعراب التي تكون على المياه (¬1). قال ابن عباس: يعني الحصون والمدائن (¬2)، ونحو هذا روي عن ابن عباس، قال: كالقصر العظيم (¬3)، وهو اختيار الفراء (¬4)، وابن قتيبة (¬5). وذكرنا تفسير القصر عند قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10] (¬6) القول الثاني: في "القصر" أنها جمع قصْرة -ساكنة الصاد- مثل: جمْرة، وجمْر، وتمْرة، وتمْر (¬7). قال المبرد: يقال للواحدة من جزل الحطب الغليظ: قصرة، والجمع: قصر (¬8). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "جامع البيان" 29/ 239، "الكشف والبيان" 13/ 24/ ب، "الدر المنثور" 8/ 384 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وجميعها من طريق علي بن أبي صالح الوالبي. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 224، قال: يريد القصر من قصور مياه العرب. (¬5) "تفسير غريب القرآن" 507، وانظر أيضًا: "تأويل مشكل القرآن" 320. (¬6) ومما جاء في تفسير قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} أي بيوتًا مبنية مشيدة، ومعنى القصر في اللغة: الحبس، وسمي هذا المبنى قصرًا؛ لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه، وكل شيء محوط على شيء فهو قصر. (¬7) قرأ: الحسن بسكون الصاد. انظر: "المحتسب" 2/ 346، وهي قراءة شاذة لعدم صحة سندها , ولعدم ذكرها في كتب القراءات المتواترة، ورويت عن الحسن، وهو ممن اشتهر عنه بالقراءة الشاذة، وقد وردت هذه القراءة في كتب الشواذ. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

قال الحسن: هو الجزل من الخشب (¬1). وقال عبد الرحمن بن [عابس (¬2)] (¬3): سألت ابن عباس عن "القصر" فقال: خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه، كنا نسميه القصر (¬4). وهو قول سعيد بن جبير (¬5)، ومقاتل (¬6)، إلا أنهم قالوا: هي أصول النخل، والشجر العظام. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 29/ 240، "الدر المنثور" 4/ 386، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 387. (¬2) في (أ): عباس، والصواب: عابس، وهو ما ورد في "جامع البيان" 29/ 240، و"الجامع الصحيح" للبخاري 3/ 319: ح 4932، وقد ورد في "معالم التنزيل" عبد الرحمن بن عباس، وهو تصحيف كما أسلفت بيانه. (¬3) عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة النخعي الكوفي، روى عن عبد الله بن عباس، ثقة، روى له الجماعة سوى الترمذي. انظر: "التاريخ الكبير" 5/ 327 ت 1038، "الإكمال" 6/ 17، "تهذيب التهذيب" 6/ 201. (¬4) ورد قوله بمعناه في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 341، "جامع البيان" 29/ 240، "الكشف والبيان" 13/ 24/ ب، "النكت والعيون" 6/ 180، "المحرر الوجيز" 5/ 420، "التفسير الكبير" 30/ 276، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 161، "لباب التأويل" 4/ 345، "الدر المنثور" 8/ 385. وانظر: "الجامع الصحيح" للبخاري 3/ 319 - 320 ح 4932 - 4933: "كتاب التفسير" باب: 2، 3. وقال القرطبي عن قول ابن عباس بأنه أصح ما قيل في تفسير الآية. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 163. (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 24/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 434، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 161 - 162. وانظر: "تفسير سعيد بن جبير" 365. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

33

ولعل هذا التفسير على قراءة من قرأ بفتح "الصاد" (¬1) على أن الزجاج قال في "التسكين" القصر: جمع قصرة، وهو الغليظ من الشجر (¬2). 33 - قوله عز وجل: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} يعني: كان ذلك الشرر. قال ابن قتيبة: ووقع تشبيه الشرر بـ[القصر] (¬3) في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصُّفر (¬4). (والجمالات: جمع جِمَال كما يقال: رجالٌ ورجالات، وبُيُوتٌ، وبيوتاتٌ، ومن قرأ "جمالة" (¬5)، فهي جمع: جَمَل، كما قالوا: حجر، وحجارة، وَذَكر وذِكارة) (¬6). ¬

_ (¬1) وقد قرأ بذلك: ابن عباس، وسعيد بن جبير: "كالقِصَر" بكسر القاف، وفتح الصاد، وعنهما أيضًا: "كالقَصَر" القاف والصاد مفتوحتان. انظر: "المحتسب" 2/ 346. وهي قراءة شاذة لعدم صحة السند، ويقال فيها ما قيل بقراءة تسكين الصاد. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 268. والذي يرجحه الطبري أنه القصر من القصور؛ لدلالة قوله: "كأنه جمالات صفر" على صحته، والعرب تشبه الإبل بالقصور المبنية. "جامع البيان" 29/ 241. (¬3) في (1): بالصقر، وأثبت ما جاء في مصدر القول، وهو "تفسير غريب القرآن" 320. (¬4) "تفسير غريب القرآن" 320. (¬5) قرأ على التوحيد: حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: وذلك بكسر الجيم، وحذف الألف التي بعد اللام. وقرأ الباقون، وهم: ابن كثير، ونافع، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمر، وابن عامر، ويعقوب، وأبو جعفر: "جِمالات" بألف، وكسر الجيم. انظر: "الحجة" 6/ 365، "الكشف" 2/ 358، كتاب "التبصرة" 718، "تحبير التيسير" 196، "المهذب" 2/ 318. (¬6) ما بين القوسين نقله عن الزجاج باختصار، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 268.

هذا قول الفراء (¬1)، والمبرد (¬2)، وزاد أبو علي فقال: "جمال": جمع بالألف، والتاء، على صحيح البناء، كما جمع على تكسيره في قولهم: "جمائل"، وأما جمالة، فإن التاء لحقت جمالاً لتأنيث الجمع، كما لحقت في: فحْل وفِحالة، وذَكر وذِكارة، ومثل لحاق "الهاء" في فِعالة لحاقها في [فُعوله] (¬3) نحو: عمومة، وخيوطة (¬4) (¬5). وقوله: {صُفْرٌ} قال ابن عباس: يريد الإبل السود، يقال له: أورق، وأصفر (¬6). قال الكلبي: الصفر: السود (¬7)، (¬8)، وهو قول مقاتل (¬9)، وقتادة (¬10). قال الفراء: الصفر: سُود الإبل، ألا ترى أسوَدَ من الإبل إلا وهو مشربٌ صفرة، لذلك سمت العرب سودَ الإبل: صفراً، كما سمّوا أبيض ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 225 بتصرف. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في (أ): فعول، والمثبت ما جاء في مصدر القول، وهو "الحجة". (¬4) خيوطه: خيط مثل فحولة، زادوا الهاء لتأنيث الجمع. "لسان العرب" 7/ 298 (خيط). (¬5) "الحجة" 6/ 365 - 366 نقله عنه باختصار. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) قوله: ويقال: له أورق، وأصفر، قال الكلبي: الصفر السود. وهو كلام مكرر من الناسخ. (¬9) "تفسير مقاتل" 224/ أ. (¬10) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 341، "جامع البيان" 29/ 241، والعبارة عنده فيها: نوق سود.

الظباء أُدْماً لما يعلوها من الكدرة في بياضها (¬1). ونحو هذا قال الزجاج (¬2)، وغيره (¬3)، وأنشدوا (¬4): تِلْكَ خَيْلي منها وتِلْكَ ركابي هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كَالزَّبيبِ (¬5) أي: سود. قال ابن قتيبة: والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار أشْبه شيء بالإبل السود لما يشوبها من الصفرة (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 225 بتصرف يسير. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 268. (¬3) كأبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 281، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 507، وابن الأنباري في كتاب "الأضداد" (160). وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 435، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 420، وساق ابن الجوزي قول الفراء في "زاد المسير" 8/ 159، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 162. (¬4) البيت للاعشى. (¬5) ورد البيت في "ديوانه" 27 ط دار صادر، برواية: "منها" بدلاً من: "منه"، وفي (صفر) في "تهذيب اللغة" 12/ 170، "الصحاح" 2/ 714، "لسان العرب" 4/ 460. وورد في "تفسير غريب القرآن" (507)، "الكشف والبيان" 13/ 25/ ب، "النكت والعيون" 6/ 18، "المحرر الوجيز" 5/ 420، وسائر المراجع السابقة، وكلها برواية: "خيلي منه" بدلاً من "منها". ويراد: "صفر" أي: سود. ديوانه. (¬6) "تأويل مشكل القرآن" (321) بنصه.

35

35 - قال: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ}، قال الكلبي: هذا في بعض مواطن يوم القيامة لا يتكلمون، ويتكلمون في ساعة أخرى (¬1) (¬2). وروى قتادة أن رجلاً جاء إلى عكرمة، فقال: أرأيت قول الله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ}، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31]، فقال: إنها مواقف، فأما موقف منها فتكلموا، واختصموا، ثم ختم الله على أفواههم فتكلمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون (¬3). وقال مقاتل: هذا في بعض المواطن حين يختم الله على أفواههم مقدار أربعين سنة (¬4)، ونحو هذا ذكر الفراء (¬5)، والزجاج (¬6). قال الفراء: وأراد بقوله: "يوم لا ينطقون" تلك الساعة، وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما تقول: أتيتك يوم يقدمُ فلان، والمعنى: ساعة يقدم، وليس باليوم كله؛ لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة، ولو كان يوماً كله، لما جاز إضافته إلى الفعل لسرعة انقضاء القدوم، فإنه لا يمتد يوماً كله، وإنما استجازت العرب ذلك لأنهم يريدون: آتيك إذا قدم فلان، وإذا يقدم [فإذاً] (¬7) يطلبان الفعل، فلما كان اليوم ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) يقصد بذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} الآية: 65 من سورة يس. (¬3) بمعناه في "زاد المسير" 8/ 159. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 226 بمعناه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 268، وعبارته: "يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها". (¬7) في (أ): وإذًا مكرر، والصواب: أيضًا، فإذًا كما هو في "معاني القرآن".

36

والليل، وجميع المواقيت في معناهما أضيفت إلى فعل، ويفعَل (¬1). وقال أهل المعاني: معنى قوله: "لا ينطقون" أي بما فيه لهم حجة، ومن نطق بما لا يفيد، فكأنه لم ينطق، وهذا كما تقول لمن تكلم بما لا يفيد: تكلمت ولم تتكلم (¬2). يدل على صحة هذا المعنى ما روي عن بعضهم (¬3): أنه قال: وأي حجة لهم يقيمونها، أم بأي عذر يعتذرون، وقد أعرضوا عن [مُنعمهم] (¬4)، وجحدوا ربوبيته. 36 - قوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} قال الفراء: [رويت] (¬5): بالفاء أن يكون نسقاً على ما قبلها، واختير ذلك؛ لأن الآيات بالنون، ولو قيل: فيعتذروا لم يوافق الآيات، وقد قال الله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] بالنصب، وكلٌّ صواب، ومثله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ} [البقرة: 245, الحديد 11] بالنصب، والرفع (¬6). والعرب تستحب وفاق الفواصل كما تستحب وفاق القوافي، والقرآن نزل على ما تستحب العرب (¬7) من موافقة المقاطع، ألا ترى أنه قال: {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6]، فثقل في "اقتربت" لأن آياتها مثقلة. وقال في موضع آخر: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8]، فاجتمع ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 226 نقله عنه بتصرف. (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 30/ 279، ورد بمعنى هذا القول عنده من غير عزو. (¬3) بهذا المعنى روي عن الحسن. انظر: المرجع السابق. (¬4) غير واضحة في (أ)، وقد رسمت هكذا منعهم. (¬5) في (أ): ويت، والمثبت من "معاني القرآن" للفراء 3/ 226. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 226 بتصرف يسير. (¬7) في (أ): العرب، وهي لفظ مكرر لا معنى لزيادتها.

القراء (¬1) على تثقيل الأول، وتخفيف الثاني ليوافق كل منهما ما قبله. وقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وقال في موضع آخر: {عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36]، وهو كثير. وأما رفع يعتذرون بالعطف على "يؤذن" أي ليس يؤذن، ولا يعتذرون، هذا لم يؤذن لهم لم يعتذروا. قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي القضاء والفصل بين أهل الجنة والنار، وأهل الحق والباطل. {جَمَعْنَاكُمْ} يعني مكذبي هذه الأمة. {وَالْأَوَّلِينَ} يعني الذين كذبوا سائر النبيين. قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} قال عطاء: يريد: كنتم في الدنيا ¬

_ (¬1) لم يجتمع القراء -على ما ذكره-، وإنما كان هناك اختلاف، قال أبو علي: (اختلفوا في التخفيف والتثقيل من قوله: "نكراً" [الكهف: 74]، فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمرو، والكسائي: "نُكْراً" خفيفة في كل القرآن إلا قوله: {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6]، وخفف ابن كثير أيضًا: "إلى شيء نكْر". وقرأ ابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر في كل القرآن: "نُكْراً". و"نُكُر" مثقل. حفص عن عاصم: "نُكْراً" خفيفة. واختلف عن نافع، فروى إسماعيل بن جعفر: "نُكْراً"، خفيفاً في كل القرآن إلا قوله: "إلى شيء نُكُر" فإنه مثقل. وروى ابن جماز، وقالون، والمسيبي، وأبو بكر بن أبي أويس، وورش عن نافع: "نُكْراً" مثقل في كل القرآن. نصر، عن الأصمعي، عن نافع: "نُكُراً" مثقل). ثم بين أن ذلك كله جائز. "الحجة" 5/ 159.

41

تحاربون محمداً -صلى الله عليه وسلم-، وتحاربونني، فاليوم حَاربون (¬1). وقال الكلبي: يقول: إن استطعتم أن تصنعوا شيئاً فاصنعوا (¬2). وقال مقاتل: يقول: فإن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم (¬3). ثم ذكر المؤمنين فقال: 41 - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} قال عطاء: يريد المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسان (¬4). وقال الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6): إن المتقين للشرك بالله. {فِي ظِلَالٍ} يعني: ظلال الشجر، وظلال [أكنان (¬7)] (¬8) القصور. ثم قال لكفار مكة: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} يريد في الدنيا إلى منتهى آجالهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} إذا أمروا بالصلوات الخمس لا يصلون مع محمد -صلى الله عليه وسلم-. (¬9) ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) بمعناه في "تفسير مقاتل" 224/ أ، قال: "إن كان لكم مكر فامكروا"، "معالم التنزيل" 4/ 435، "فتح القدير" 5/ 360. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "التفسير الكبير" 30/ 282 بنحوه. (¬6) المرجع السابق، وورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 224/ أ، قال: يعني به الموحدين. (¬7) غير مقروءة في (أ)، وما أثبته من "الوسيط" 4/ 410. (¬8) أكنان: الكِنُّ، والكِنَّةُ، والكنانُ: وقاء كل شيء وستره، والكِنُّ: البيت أيضًا، والجمع: أكنان، وأكِنَّةٌ، الكِن: ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن. انظر: "لسان العرب" 13/ 360 (كنن)، المفردات في "غريب القرآن" 442. (¬9) قال ابن الجوزي -في هذا المعنى-: "هو الأصح". "زاد المسير" 8/ 159.

قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. قال مقاتل (¬1)، وغيره (¬2): يقول: إن لم يصدقوا بهذا القرآن، فبأي كتاب بعد هذا القرآن يصدقون، ولا كتاب بعد القرآن كقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]. وقال أبو إسحاق: أي بأي حديث يؤمنون بعد القرآن الذي أتاهم فيه البيان، وهو معجز دليل على الإسلام (¬3)؟ ¬

_ = وهناك من قال: إنهم يدعون إلى السجود يوم القيامة. المرجع السابق. (¬1) "تفسير مقاتل" 224/ أمختصرًا. (¬2) قال بذلك: السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 437. وإليه ذهب ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 159، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 167. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 269 بتصرف.

سورة النبأ

سورة النَّبأ

1

تفسير سورة النبأ (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} قال أبو إسحاق: أصله: (عَنْ ما)، وأدغمت النون في الميم؛ لأن الميم تشرك [النون في] (¬2) الغُنَّة (¬3) في الأنف (¬4). وقال صاحب النظم: أصله: (عما)، وهم إذا وضعوا (ما) في الاستفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن يكون اسماً مثل قولهم: (فيم)، و (بم)، و (لم)، و (علام)، و (حتام) (¬5). وقال غيره: حذفت الألف لاتصالها بحرف الجر حتى صار كجزء منه ¬

_ (¬1) يقال لها: النَّبأ، والتساؤل، والمعصرات. انظر: "الإتقان" 1/ 159. وهي مكية بقول الجميع. انظر: "جامع البيان" 30/ 1، "الكشف والبيان" ج: 13/ 25/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 436، "المحرر الوجيز" 5/ 423، "زاد السير" 8/ 160، "التفسير الكبير" 3/ 31، وغيرها من كتب التفسير. (¬2) ساقطة من النسخة، والمثبت من مصدر القول، وبه تستقيم العبارة. (¬3) الغنة: صوت هوائي يخرج من الخيشوم، لا عمل للسان فيه، والغنة: صفة مركبة في جسم حرف النون، وجسم حرف الميم مطلقًا. "حق التلاوة لحسني شيخ عثمان": 107. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 271 بتصرف يسير. (¬5) "التفسير الكبير" 31/ 3، وعزاه الفخر إلى الجرجاني، ويراد به صاحب النظم، وانظر: "كتاب سيبويه" 4/ 164.

لتنبئ عن شدة الاتصال مع تخفيف الكلام بحذف حرف الاعتلال (¬1). قال مقاتل: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} استفهام (¬2)، وذلك أن كفار مكة قالوا: ما يخبركم هذا الرجل، وما جاء به، فأنزل الله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}. وقال الحسن: لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (¬3). قال المفسرون (¬4): إنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولما جاء به، فجعلوا يتساءلون عما جاء به، فأنزل الله تعالى: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم). قال أبو إسحاق: اللفظ [لفظ] (¬5) الاستفهام، والمعنى تفخيم القصة، كما تقول: أي شيء زيدٌ (¬6). ثم بين فقال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} المعنى: يتساءلون عن النبأ العظيم، وفي انتظام الاثنين وجوه: أحدها: (أن الكلام تم عند قوله: (يتساءلون) ثم قال: (عن النبأ ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر القول، ولا على قائله، وانظر: "مغني اللبيب" لابن هشام 2/ 135. (¬2) "تفسير مقاتل" 224/ أ. (¬3) "جامع البيان" 30/ 1، "الدر المنثور" 8/ 390 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 387، "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطى 226. (¬4) حكاه ابن الجوزي عن المفسرين "زاد المسير" 8/ 161، ونقل الشوكاني عن الواحدي قول المفسرين في "فتح القدير" 5/ 362 - 363. (¬5) في (أ): لفظه، والمثبت من مصدر القول: "معانى القرآن وإعرابه". (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 271 بنصه.

2

العظيم)، ويكون التقدير: يتساءلون عن النبأ العظيم إلا أنه حذف يتساءلون لدلالة يتساءلون في الآية الأولى عليه. وهذا قول البصريين، واختيار أبي حاتم (¬1). وعند الكوفيين: أن الآية الثانية متصلة بالأولى على تقدير: لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم، و (عم) كأنها في المعنى: لأي شيء) (¬2)، وهذا قول الفراء (¬3). وقال صاحب النظم: قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} استفهام وسؤال يقتضي جواباً من غير السائل المستفهم. 2 - ثم قال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} فكان الجواب والسؤال من وجهة واحدة -قال- ويحتمل أيضًا أن يكون معنى قوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} استفهاماً على تأويل: عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؛ إلا أنه اقتصر على ما قبله من الاستفهام إذ هو متصل به، وكالترجمة والبيان كما ترى في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82]، بكسر الألف من غير استفهام، وهو موضع الاستفهام؛ لأن، إنكارهم بما كان للبعث، ولكنه لما ظهر الاستفهام في أول الكلام اقتصر عليه (¬4). ومعنى: (النبأ العظيم) القرآن في قول جميع المفسرين، وهو قول ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في سورة النساء. (¬2) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن النحاس من كتابه "القطع والائتناف" 2/ 780 بتصرف. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 227. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله.

3

الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2)، ومجاهد (¬3)، وقتادة (¬4)، وسفيان (¬5). وقال أهل المعاني: النبأ العظيم: الخبر العظيم الشأن؛ وذلك أنه ينبئ عن التوحيد، وصفة الإله، وتصديق رسوله، والخبر عما يجوز، وعما لا يجوز، وعن البعث، والنشور، والنفخ في الصور، وقيام الناس من القبور (¬6). وروي عن قتادة (¬7)، وابن زيد (¬8) في (النبأ العظيم) أنه البعث، وهذا كقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] الآية. 3 - قوله تعالى: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} فمن مصدق به ومكذب (¬9)، ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 224/ ب. (¬3) "تفسير الإمام مجاهد" 694، "جامع البيان" 30/ 2، " الكشف والبيان" ج: 13/ 25/ أ، "النكت والعيون" 6/ 182، "معالم التنزيل" 4/ 436 وعزاه إلى مجاهد والأكثرين من المفسرين، "المحرر الوجيز" 5/ 423، "زاد المسير" 8/ 161، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 492، "الدر المنثور" 8/ 390 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وعبد الرزاق، ولم أجده عنده. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 342، "المحرر الوجيز" 5/ 423، "زاد المسير" 8/ 161. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله (¬7) "جامع البيان" 30/ 2، "النكت والعيون" 6/ 182، "معالم التنزيل" 4/ 436، "المحرر الوجيز" 5/ 423، "زاد المسير" 8/ 161، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 168، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 492. (¬8) بمعناه في "جامع البيان" 30/ 2، "النكت والعيون" 6/ 182، وبمثله في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 492. (¬9) وهو قول قتادة، ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 342، "جامع البيان" 30/ 2، "الدر المنثور" 8/ 390.

4 - 5

وعلى هذا يجب أن يكون هذا الاختلاف بين الكافرين والمؤمنين؛ لأن المؤمنين صدقوا، والكافرين كذبوا. وإن كان الاختلاف بين الكافرين في القرآن، فيكون معناه: أن بعضهم جعله سحرًا، وبعضهم قالوا: إنه أساطير (1) الأولين، وبعضهم جعله. كَهانة (2)، على ما ذكرنا في قوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (3) [الحجر: 91]. قال مقاتل: (فأوعد الله من كذب بالقرآن، فقال: 4 - 5 - قوله تعالى: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وعيد على أثر وعيد) (4)، ونحو هذا قال عطاء (5)، والكلبي (6)، أن الآيتين وعيد للمشركين

_ (1) الأساطير: هي الأباطيل، والأساطير: أحاديث لا نظام لها، واحدتها: إسطار، وإسطارة بالكسر، وأُسطير، وأُسطيرة، وأُسطور، وأسطورة. "لسان العرب" 4/ 63: (سطر). (2) الكهانة: الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، وحرفته: الكهانة. "لسان العرب" 13/ 362 (كهن). (3) ومما جاء في تفسيرها: (ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين: أحدهما: أن واحدها عضه، وأصلها عضوه من عضيت الشيء إذا مزقته، وكل قطعة عِضة، والتعضية التجزئة والتفريق. قال ابن عباس في قوله: (جعلوا القرآن عضين) يريد جزؤوه أجزاء، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى. القول الثاني: إنها عضه، وأصلها: عضهه، فاستثقلوا الجمع بين هاتين، فقالوا: عضه، وهي من العضه بمعنى الكذب". (4) ما بين القوسين من قول مقاتل. "تفسير مقاتل" 224/ ب. (5) لم أعثر على مصدر لقوله. (6) لم أعثر على مصدر لقوله.

على معنى: سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور. (والقراء على (الياء) في (سيعلمون) في الآيتين (¬1). وروي بالتاء عن ابن عامر (¬2)، والوجه (بالياء)؛ لأن ما تقدم من قولهم: (هم فيه مختلفون) على لفظ الغيبة، و (التاء) على قل لهم ستعلمون) (¬3). وقال الضحاك: الآية الأولى للكفار، والثانية للمؤمنين (¬4). أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، والقول هو الأول؛ لأن المراد بالتكرير تأكيد التهديد. ومعنى (كلا) للنفي؛ لاختلافهم، لا اختلاف فيه. قال الكلبي: هو رد على الذين كذبوا (¬5). وقال عطاء: يريد الذين لا يؤمنون (¬6). ¬

_ (¬1) قرأ بذلك: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي. انظر: "الحجة" 6/ 367، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 741. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 438،"الكشف والبيان" ج: 13/ 26/ أ، "المحرر الوجيز" 5/ 423، "تفسير أبي العالية" 2/ 624، تح الورثان. (¬2) قرأ ابن عامر وحده بالتاء في الآيتين. انظر: "الحجة" 6/ 367، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 741. وانظر: "زاد المسير" 8/ 162، "فتح القدير" 5/ 363. (¬3) ما بين القوسين نقله عن أبي علي في "الحجة" 6/ 367 بتصرف. (¬4) "جامع البيان" 30/ 3، "الكشف والبيان" ج: 13/ 26/ أ، "للنكت والعيون" 6/ 183، "معالم التنزيل" 4/ 436، "المحرر الوجيز" 5/ 423 - 424، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 169، "الدر المنثور" 8/ 390، وانظر: "القطع والائتناف" 2/ 780. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

6

ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال: 6 - قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} أي فراشاً، وبساطاً، ووطاء (¬1). (والمعنى: ذللناها للخلق حتى سكنوها، وساروا في مناكبها) (¬2). 7 - {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي للأرض حتى لا تميد بأهلها. 8 - {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} (أصنافاً: ذكراناً وإناثاً، وقيل: ألواناً) (¬3). 9 - {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} قال الليث: السبات: النوم، شبهُ غَشْية، يقال: سُبّت المريض، فهو مَسبوت (¬4). قال مقاتل: سباتاً لكل ذي عين، والنائم مسبوت لا يعقل، كأنه ميت (¬5)، وهذا قول أبي عبيدة (¬6)، والمبرد (¬7)، جعلا في معنى السبات الغشية التي تغشى الإنسان شبه الموت، وليس بموت؛ لأنه لم تفارقه الروح. قال المبرد: أي جعلنا نومكم يَخرجون منه إلى انتباه، تقول العرب: رجل مسبوت، إذا كان النوم يغالبه، وهو يدافعه، ولا يزال النوم يغلبه ¬

_ (¬1) وطأ: وطئ الأرض، ونحوها، يطأ، ووطُؤ الموضع، صار وطيئاً. انظر: مختار "الصحاح" 727 (وطأ). وطئته برجلي، أطؤه وطأ: علوته. انظر: "المصباح المنير" 2/ 829 (وطئ). (¬2) ما بين القوسين نقله عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272. (¬3) ما بين القوسين نقله عن الزجاج. المرجع السابق. وقد أورد الثعلبي بنحوه، قال: "أصنافاً: ذكوراً وإناثاً". "الكشف" ج: 13/ 26/ أ. (¬4) "تهذيب اللغة" 2/ 387 (سبت). وانظر: "التفسير الكبير" 31/ 7. (¬5) "تفسير مقاتل" 224/ ب. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 282، وعبارته: (ليس بمرت رجل مسبوت فيه روح). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله.

10

وينتبه (¬1). وقال ابن الأعرابي: في قوله: (سباتاً) أي قطعاً، والسَّبت: القطع، كأنه إذا نام فقد إنقطع عن الناس (¬2). وقال أبو إسحاق: السُّباتُ: أن ينقطع عن الحركة، والروح في بدنه، أي جعلنا نومكم راحة لكم (¬3). واختار هذا القول ابن قتيبة، قال: معناه: جعلنا النوم راحة لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت يوم الراحة، قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا شيئاً (¬4). وأنكر ذلك ابن الأنباري، وقال: لا يقال للراحة سبات، ولا يقال: سبت بمعنى استراح، ومعنى الآية: وجعلنا نومكم قطعاً لأعماركم؛ لأن أصل السبت القطع (¬5). 10 - {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} قال عطاء: يريد لتسكنوا فيه، وتأووا ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تهذيب اللغة" 12/ 386 (سبت)، وانظر: "لسان العرب" 2/ 37 (سبت). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272 بنصه. (¬4) "تأويل مشكل القرآن" 79 - 80 نقله عنه مختصرًا، وانظر: "تفسير غريب القرآن" 508. (¬5) "تهذيب اللغة" 12/ 386 - 387 (سبت)، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 169. وما مضى من الأقوال تتناول المعنى اللغوي، فالسبت لغة يطلق على: السبت: من الأيام، وأيضًا برهة من الدهر، والسبت: القطع، والسُّبات: من النوم شبه الغشية، والمسبوت: الميت، والمغشي عليه، والسُّبات: النوم، وأصله الراحة. انظر: "تهذيب اللغة" المرجع السابق، "لسان العرب" 2/ 37 - 39 (سبت).

11

إليه (¬1)، ونحو هذا قال مقاتل: يعني سكن، كقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187] (¬2). قال أبو إسحاق: أي يسكنون فيه، وهو مشتمل [عليكم] (¬3). وقال أهل المعاني: إنما سمي الليل لباساً لأنه يلبس كل شيء بظلمته (¬4). ستر اللباس من الثوب، ومنه قول ذي الرمة: فلمَّا لبسْن الليلَ أو حينَ نصَّبتْ ... له مِنْ خذا آذانها وَهْوَ جانِحُ (¬5) فجعل الليل يلبس، وإذا لبس فهو لباس، واللباس ساتر، وكذا الليل ساتر بظلمته كل شيء (¬6). 11 - {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} يقال: عاش يعيش عيشاً، ومعاشاً، ومعيشة، وعيشة، ومعنى المعاش: المطعم والمشرب، وما يكون به ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في (أ): عليه والمثبت من المعاني. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272 بتصرف يسير. (¬5) ورد البيت في "ديوانه" 2/ 897، "جامع البيان" 30/ 3. ومعناه: لبسن الليل: أي دخلن فيه، وقوله: أو حين نصبت له من خذا آذانها: يريد نصبت آذانها لبرد الليل، كانت قد خفضتها، كانت منكبات الرؤوس، ثم رفعت رؤوسها، ونصبت آذانها في ذا الوقت. حين جنح الليل، أي: دنا، والخذا الاسترخاء. "ديوانه" 897 - 898. (¬6) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد أورد الطبري معنى قول أهل المعاني. انظر: "جامع البيان" 30/ 3.

12

الحياة، وكل شيء يعاش به فهو معاش (¬1). ومعنى المعاش -هاهنا- المنصرف للعيش، ولهذا قال سفيان: مبتغى (¬2). وقال عطاء: يريد يبتغون فيه من فضل الله ربكم، وما قسم لكم فيه من رزقه (¬3). وقال مقاتل: يعني لطلب المعيشة (¬4). والمعنى: مكناكم في النهار للتصرف في المعاش، ولابد من تقدير حذف المضاف؛ لأن المعنى: وجعلنا النهار مبتغى معاش، أو طلب معاش. 12 - {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} يريد سبع سموات غلظ كل واحدة مسيرة خمس مائة عام. 13 - قوله تعالى: {سِرَاجًا وَهَّاجًا} قال أبو عبيدة (¬5)، والمبرد (¬6): الوهاج: الوقاد، وهو الذي له وهج، يعني بها الشمس، ويقال لحر الشمس والنار: وهج (¬7). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 59 (عيش)، وانظر: "لسان العرب" 6/ 321 (عيش). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد وردت في "الوسيط" برواية عطاء عن ابن عباس: (¬4) ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 224/ ب. (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 282. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) قال الليث: الوَهج: حر النار والشمس من بعيد، وقد توهجت النار ووهجت. "تهذيب اللغة" 6/ 354 (وهج)، وانظر: "لسان العرب" 2/ 401 (وهج).

14

قال الفراء: وهجت تهج وهجاً، ووهجاً، ووهجاناً (¬1). قال ابن عباس: وقاداً (¬2). وقال الكلبي عنه: مضيئاً (¬3). وجمع بينهما مقاتل فقال: جعل فيهما نوراً وحراً (¬4). وقال مجاهد (¬5)، وقتادة (¬6): متلألئاً. (والوهج: يجمع النور والحر، ويقال للجَوْهر إذا تلألأ: توَهَّج) (¬7) ومنه قول الشاعر يصف النَّوْر: نوارها متباهج يتوهج (¬8) 14 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} قال مجاهد (¬9)، ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "جامع البيان" 30/ 4، "زاد المسير" 8/ 162. (¬4) "تفسير مقاتل" 224/ ب بمعناه، "معالم التنزيل" 4/ 437، "فتح القدير" 5/ 364. (¬5) "تفسير الإمام مجاهد" 694، "جامع البيان" 30/ 4 بنحوه، "النكت والعيون" 6/ 184، "الدر المنثور" 8/ 391 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 6/ 354 (وهج)، وانظر: "لسان العرب" 2/ 401 (وهج). (¬8) لم أجد من نسب البيت لقائل معين فيما اطلعت عليه من المصادر، وقد ورد تحت (بهج) في "تهذيب اللغة" 6/ 64، "لسان العرب" 2/ 216، "تاج العروس" 2/ 10، وجممعها برواية "نواره" بدلاً من "نوارها". وانظر: "التفسير الكبير" 31/ 9. (¬9) "تفسير الإمام مجاهد" 694، "جامع البيان" 30/ 5، "الكشف والبيان" =

ومقاتل (¬1)، وقتادة (¬2): يعني الرياح. قال الأزهري: سميت الرياح مُعْصِرات: إذا كانت ذوات أعاصير، واحدها: إعصار (¬3). و (من) على هذا القول قامت مقام (الباء) كأنه قال: وأنزلناها بالمعصرات (¬4). [وقال] (¬5) عطاء (¬6)، ومقاتل (¬7): إن (تلك) (¬8) ريح تجلب المطر. ¬

_ = 13/ 260 أ، "معالم التنزيل" 4/ 437، "زاد المسير" 8/ 163، "التفسير الكبير" 9/ 31، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 170، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 493، "الدر المنثور" 8/ 391 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والفريابي، "فتح القدير" 5/ 364. (¬1) "تفسير مقاتل" 225/ ب، وانظر: المراجع السابقة عدا تفسير مجاهد، و"جامع البيان"، و"الجامع لأحكام القرآن". (¬2) المراجع السابقة جميعها، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 342، وعزاه صاحب الدر للخرائطي في مكارم الأخلاق. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 15 (عصر)، نقله عنه بتصرف. (¬4) وبه قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 26 أ. وضعف هذا القول ابن منظور في "لسان العرب" 4/ 578: (عصر). (¬5) في (أ): وقاله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 225/ أ، كما ورد قوله في "الكشف والبيان" 13/ 26/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 437، "زاد المسير" 8/ 163، "التفسير الكبير" 31/ 9، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 493، "فتح القدير" 5/ 364. (¬8) في (أ): ذلك.

وقال أبو العالية (¬1)، والربيع (¬2): هي السحاب. واختلفوا في معنى تسمية السحاب، ووصفها بالمعصرات. قال الفراء: السحابة المعصر التي تتحلب بالمطر، ولما تجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تَحِضْ (¬3). قال الأزهري: وأهل اللغة في الجارية المعصر على خلاف ما [ذكره الفراء] (¬4). قال أبو عبيد عن أصحابه: إذا أدركت الجارية فهي معصر، وأنشد (¬5): قَدْ أعْصَرَتْ أوْ قَدْ دَنا إعْصَارُها (¬6) ¬

_ (¬1) المراجع السابقة بالإضافة إلى "المحرر الوجيز" 5/ 424، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 170، "البحر المحيط" 8/ 411، "تفسير أبي العالية" 2/ 625؛ رسالة ماجستير غير منشورة، تح: الورثان. (¬2) المراجع السابقة بالإضافة إلى: "جامع البيان" 30/ 5، "النكت والعيون" 6/ 184. (¬3) لم أعثر على قوله في "معاني القرآن"، ولكن وجدته في "تهذيب اللغة" 2/ 16: (عصر)، و"لسان العرب" 4/ 578 (عصر). (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من: أ، وأثبت ما رأيته أنه يستقيم به المعنى وينتظم الكلام، وقد بين الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 17، (عصر) أن أهل اللغة على خلاف، وما قاله الفراء في معنى "المعصر" ففهم أن الساقط من الكلام ما أثبته. والله أعلم. (¬5) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، ونسبه في "الدر" لأبي النجم العجلي 6/ 462، ولم أجده في ديوان أبي النجم. (¬6) تمام الرجز: جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى مائلاً خمارها معصرة أو قد دنا إعصارها وقد ورد في "تهذيب اللغة" 2/ 17 (عصر)، "لسان العرب" 4/ 576.

وقال الكسائي: المعصر التي قد راهقت العشرين (¬1). وقال ابن الأعرابي: المعْصِر: ساعةَ تطمُث؛ لأنها تُحبس في البيت يجعل لها عَصراً، قال: وكل حِصن يتحصَن به فهو عَصَر (¬2). وقال غير الفراء: إنما قيل للسحابة معصر تشبيهاً بالجارية المعصر لانعصار دم حيضتها، ونزول ماء تريبتها للجماع، يقال: اعتصرت الجارية إذا بلغت هذه الحالة (¬3). وقال أبو إسحاق: المعصرات: السحائب؛ لأنها تعصر الماء. وقيل: معصرات كما يقال: أجزَّ (¬4) الزرع أي صار إلى أن يجز، وكذلك صار المطر إلى أن يمطر فيعصر (¬5). وقال المبرد: من قال في المعصرات إنها السحاب فمعناه: أنها ممسكات الماء من العصر، وهو الملجأ الذي يمنع اللاجئ إليه، وكذلك العصر، والمعتصر (¬6). وقال المازني (¬7): أعصرت السحابة إذا ارتفع لها غبار شديد، وهو ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 2/ 17، (عصر) .. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق. (¬4) أجز، وجزَّ الزرع: حان أن يزرع. "لسان العرب" 5/ 321 (جز). وفي مختار "الصحاح" جَزَّ البُرَّ، والنَّخْل، والصوف من باب ردَّ، و"المجز": بالكسر ما يجز به، وهذا زمن "الجزاز" بفتح الجيم وكسره، أي زمن الحصاد، وصرام النخل، و"أجز" البُرُّ، والنَّخل، والغنم: حان له أن يُجَزَّ. 102 - 103. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272 بتصرف يسير. (¬6) بمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 171. (¬7) تقدمت ترجمته في سورة البقرة.

الإعصار (¬1). وعلى هذا: يجوز أن تكون المعصرات ذوات الأعاصير من السحاب. واختار الأزهري أن تكون المعصرات في هذه الآية بمعنى السحاب. قال: وهو أشبه بما أراد الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر، وقد وصف الله المعصرات بالماء الثجاج (¬2). وقال البعيثُ (¬3) في المعصرات، فجعلها سحائب ذوات مطر: وذي أُشُر كأقحوان تشوفُه ... ذهابُ الصبا والمعصرات الدوالح (¬4) والدوالح: من نعت السحاب، لا من نعت الرياح، وهي التي أثقلها الماء (¬5)) (¬6). وقوله: {ثَجَّاجًا} الثج: شدة الانصباب، يقال: مطر ثجاج، ودم ثجاج أي: صباب (¬7). قال الأزهري: يقال: ثججته الماء، وأثججته فثج يثج، وقد ثججته ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تهذيب اللغة" 3/ 16 (عصر) نقله عنه بتصرف يسير، وانظر: "لسان العرب" 4/ 578 (عصر). (¬3) تقدمت ترجمته في سورة القلم. (¬4) ورد البيت في (عصر) في "تهذيب اللغة" 2/ 16، "لسان العرب" 4/ 578. (¬5) هذا البيان لمعنى البيت من قول الأزهري، وتتمته: (قال: وهي التي أثقلها الماء، فهي تَدْلَح أي تمشي مشي المثقل، والذهاب: الأمطار. "تهذيب اللغة" 3/ 16 - 17. (¬6) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة". المرجع السابق. (¬7) انظر: مادة (ثج) في "مقاييس اللغة" 1/ 367، "لسان العرب" 2/ 221.

15

أثج، وثَجَّ الماء ثجاً، ومطر ثجوج إذا انصب، وماء ثجاج شديد الانصباب، وقد ثبت أن الثج يكون لازماً بمعنى الانصباب، ويكون واقعًا بمعنى انصب (¬1). والثجاج في هذه الآية: المتدفق المنصب. قاله قتادة (¬2)، ومقاتل (¬3). وقال أبو إسحاق: معنى ثجاج: صَبَّاب (¬4)، وعلى هذا هو من الثج الواقع، كأنه يثج نفسه، أي يصب. 15 - قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ}، بذلك الماء. {حَبًّا}، يعني: ما يأكله الناس من الحبوب. {وَنَبَاتًا}، مما تنبته الأرض مما يأكله الأنعام. 16 - {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}، قال أبو عبيدة: ملتفة من الشجر، ليس بينها خلال (¬5). قال الأخفش (¬6)، والكسائي (¬7): واحدها: (لِفٌّ) بالكسر، وزاد الكسائي: (لُفٌ) بالضم. ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 10/ 472 (ثج). (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 342، "جامع البيان" 30/ 6، "زاد المسير" 8/ 163 هامش النسخة الأزهرية، وبمعناه في "معالم التنزيل" 4/ 437، "التفسير الكبير" 31/ 10، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 493. (¬3) "التفسير الكبير" 31/ 10، "زاد المسير" 8/ 163. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272 بنصه (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 282 بنصه. (¬6) "معاني القرآن" 2/ 727، قال: وواحدها: اللُّفُّ. (¬7) "التفسير الكبير" 31/ 10، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 172، "فتح القدير" 5/ 365.

17

وأنكر أبو العباس الكسر، وقال: لم يسمع شجرة (لَفٌّ)، ولكن واحدها: (لَفَّاء)، وجمعها (لُفٌّ)، وجمع (لُفّ) (أَلْفاف) (¬1). قال المفسرون: يعني: بساتين ملتفة النبات والشجر (¬2). قال أبو إسحاق: أعلم الله عَزَّ وَجَلَّ بما خلق أنه قادر على البعث فقال: 17 - قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} (¬3) يعني يوم القضاء بين الخلق كان ميقاتاً. قال عطاء: يريد ميقاتاً للأنبياء والمرسلين (¬4). وقال غيره: يعني لما وعد من الثواب والعقاب (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 15/ 333 (لف). والصواب في واحد (الألفاف) أن الألفاف جمع لَفّ، أو لفيف، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناه: ملتفة، واللفاء هي الغليظة، وليس الالتفاف من الغلظ في شيء إلا أن يوجه إلى أنه غلظ الالتفاف، فيكون ذلك حينذ وجهاً. قاله الطبري: "جامع البيان" 30/ 7. (¬2) وإلى معنى هذا القول ذهب: ابن عباس، وقتادة، وسفيان الثوري، وابن زيد، قالوا: ملتفة بعضها ببعض. انظر: "جامع البيان" 30/ 7. وبه قال: الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 437، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 425، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 163، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن": 19/ 172. (¬3) إلى الآية ينتهي قول أبي إسحاق "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 272. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) قال بذلك: الماوردي في "النكت والعيون" 6/ 185 في أحد الوجهين. وانظر هذا القول في "معالم التنزيل" 4/ 437، "زاد المسير" 8/ 163، "التفسير الكبير" 31/ 11، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 173.

18

18 - قوله تعالى: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجً} قال مجاهد (¬1)، ومقاتل (¬2): زمراً زمرًا من كل مكان للحساب. وقال عطاء: كل نبي يأتي معه أمَّته (¬3). 19 - {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ}: لنزول الملائكة. {فَكَانَتْ أَبْوَابًا}: والآية من باب حذف المضاف؛ لأن التقدير: وكانت ذات أبواب. 20 - {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ}: عن أماكنها. {فَكَانَتْ سَرَابًا}: أي هباء منبثاً لعين الناظر، كالسراب بعد شدتها وصلابتها (¬4). 21 - قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} قال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو نحو (المضمار) الموضع الذي يضمر فيه الخيل (¬5). ¬

_ (¬1) بمعناه في "تفسير الإمام مجاهد" 694، "جامع البيان" 30/ 8. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في "الوسيط" 4/ 413 بمثل قوله من غير عزو. (¬3) ورد قوله في "التفسير الكبير" 31/ 11. (¬4) جاء بنحوه عن الطبري في "جامع البيان" 30/ 8. (¬5) "تهذيب اللغة" 12/ 137 (رصد). وقال ابن فارس: (رصد: أصل واحد، وهو التهيُّؤ لِرقبة شيء على مَسْلكه، ثم يحمل على ما يشاكله، يقال: أرصدت له كذا، أي هيأته له، كأنك جعلته على مَرصده، رصدته، أرصده، أي ترقبته، وأرصدت له، أي أعددت، والمرصد: موقع الرَّصد، والرَّصد: القوم يرصدون، والرصد: الفِعل). "مقاييس اللغة" 2/ 400 (رصد).

23

وقال المبرد: مَرصاداً محلاً يرصد، أي هو معد لهم (¬1). والمرصاد -على هذا- المكان والمحل الذي يرصد به، أي هو معد لهم، وجهنم مرصاد يرصد به خزنتها الكفار. قال أبو إسحاق: يَرْصُدُ أهل الكفر، ومن حق عليه العذاب (¬2)، وهو قول الحسن قال: يرصدهم والله (¬3). وعلى هذا يجوز أن يكون المرصاد مفعالاً من الرصد، وهو الترقب. بمعنى: ذلك يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة، كالمعطار، والمعمار، وهو لمن دام منه الفعل) (¬4). ثم بين أنها مرصاد لمن، فقال: {لِلطَّاغِينَ} قال ابن عباس (¬5)، ومقاتل (¬6): يريد للمشركين الضالين. وقوله: {مَآبًا} بدل من قوله: (مرصاداً). 23 - قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} وقرأ حمزة (لبثين فيها) (¬7)، ....... ¬

_ (¬1) بمعناه ورد في "زاد المسير" 8/ 164. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 273 بنصه. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين انظر فيه: كتاب ما تلحن فيه العامة لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي: 124. (¬5) "زاد المسير" 8/ 164. (¬6) بمعناه في "تفسير مقاتل" 225/ ب، "الكشف والبيان" ج: 13/ 27/ ب. (¬7) وقرأ الباقون: (لابثين) بألف، وحجتهم: مجيء المصدر على (اللُّبْث) يدل على أنه من باب: شرب يشرب، ولقِم يلقَم، فهو: شارب، ولا قم. وليس من باب: فرق يفرق، ولو كان منه لكان المصدر مفتوح العين، فلما سكّن وقيل: اللُّبْث.

وهما بمعنى واحد (¬1)، يقال: لابث، ولبث، مثل: طامِع، وطَمِعَ، وفارَه، وفره، وهو كثير. قاله الفراء (¬2)، والزجاج (¬3). وقوله: {أَحْقَابًا} (واحدها: حُقُب، وهو ثمانون سنة -عند أهل اللغة-، والحقب: السنون، واحدها: حِقْبة، وهي زمان من الدهر لا وقت له) (¬4)، ومنه قول متمم (¬5): وكنَّا كَنَدْمانَيْ جّذِيمَةَ حِقْبَةً ... من الدَّهْرِ حتَّى قيلَ أنْ يَتَصّدَّعا (¬6). وذكرنا تفسير الحقب عند قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]. قال عطاء عن ابن عباس (¬7)، ومقاتل في قوله: (حقباً): الحقب ¬

_ = وجب أن يكون اسم الفاعل (فاعلاً) لما كان اللُّبْث كاللقم. انظر: "الحجة" 6/ 369، "حجة القراءات" 746، "الكشف" 2/ 359، "تحبير التيسير" 196، "المهذب" 2/ 32. (¬1) لبث: أصل يدل على تَمكُّث، يقال: لَبِثَ بالمكان أقام، واللَّبْث واللباث: الْمُكْثُ. وقد لَبِث يَلْبثُ لَبْثاً -على غير قياس-، فهو لابِثٌ، ولَبِثٌ. انظر (لبث) في "مقاييس اللغة" 5/ 228، "الصحاح" 1/ 291. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 228. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 273، وعبارته: (وَلَبثين: يقال: لبث الرجل، فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان كذا، أي صار اللبث شأنه). (¬4) ما بين القوسين نقله عن الأزهري من "تهذيب اللغة" 4/ 73 (حقب)، وقد تضمن قولي الليث والكسائي. وانظر أيضًا المعنى اللغوي في (حقب) في "مقاييس اللغة" 2/ 89، "الصحاح" 1/ 114، "لسان العرب" 1/ 326. (¬5) تقدمت ترجمته في سورة يوسف. (¬6) ورد البيت في "المفضليات": تح: شاكر: 535 برواية: (لن يتصدعا)، ديوان "المفضليات" للضبي (535) برواية: (لن يتصدعا)، "جامع البيان" 30/ 10. (¬7) "جامع البيان" 30/ 11 مختصرًا جداً، "التفسير الكبير" 31/ 14، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 176، "الدر المنثور" 8/ 395 مختصرًا.

الواحد بضع وثمانون سنة، والسنة: ثلاث مائة يوم وستون يوماً، اليوم: ألف سنة من أيام الدنيا (¬1). وروي عن علي أنه سأل هلالاً الهجري: ما تعدون الحقب فيكم؟ قال: نجده في كتاب الله مائة سنة، والسنة: اثنا عشر شهراً، والشهر: ثلاثون يوماً، واليوم: ألف سنة (¬2). وقال قتادة: الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة (¬3). وقال الحسن: الأحقاب لا يدري أحد ما هي، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون (¬4). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 14. (¬2) "زوائد الزهد" لابن المبارك 90 ح: 318، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 342 بنحوه، وبرواية: ثمانون بدلاً من مائة، "جامع البيان" 30/ 11، بمثل رواية "تفسير عبد الرزاق"، "الكشف والبيان" 13/ 28/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 438 مختصرًا، "المحرر الوجيز" 5/ 426، "التفسير الكبير" 31/ 14، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 494 برواية: ثمانون سنة، وكذا في "الدر المنثور" 8/ 395 وعزاه إلى الفريابي، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 367. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 342، "جامع البيان" 30/ 11، "الدر المنثور" 8/ 394 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) "الكشف والبيان" ج 13/ 28/ ب، "جامع البيان" 30/ 11 - 12، "النكت والعيون" 6/ 186 مختصرًا، "المحرر الوجيز" 5/ 426 مختصرًا، "التفسير الكبير" 31/ 14، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 176، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 494 مختصرًا، "الدر المنثور" 8/ 394 وعزاه إلى عبد حميد، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 389.

ونحو هذا قال الفراء (¬1)، والزجاج (¬2) في الحقب: (أنه ثمانون سنة، كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا. فإن قيل: الأحقاب وإن طالت، فإنها إلى انتهاء، وقد أخبر الله تعالى أنهم خالدون في النار؟ قيل: ليس في الأحقاب ما يدل على غاية، وإنما يدل على الغاية التوقيت، كقولك: خمسة أحقاب، أو عشرة أحقاب، فالمعنى: أنهم يلبثون فيها أحقاباً، كلما مضى حقب تبعه حقب آخر) (¬3). وهذا معنى قول الحسن: لم يجعل الله لأهل النار مدة؛ بل قال: (أحقاباً)، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر، كذلك إلى الأبد (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى أنهم يلبثون أحقاباً لا يذوقون في الأحقاب برداً، ولا شراباً، وهم خالدون فيها أبداً، كما قال الله تعالى (¬5) (¬6). وعلى هذا: الأحقاب توقيت لنوع من العذاب، وهو [مدمهم] (¬7) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 228 مختصرًا. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 273. (¬3) ما بين القوسين: من قول الفراء، وقد ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 73، وذكر أيضًا في حاشية "معاني القرآن" 3/ 228، وانظر أيضًا "لسان العرب" 1/ 326 (حقب). (¬4) "الكشف والبيان" ج 13/ 28/ أ - ب. (¬5) أي في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة: 68]، وقد استشهد الزجاج بهذه الآية على قوله. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 273. (¬7) غير مقروءة في (أ)، ولعلها [منهم].

24

البرد، والشراب، لا لمقدار اللبث (¬1). وقال الأزهري: والقول ما قاله الزجاج، وهو بين لا ثواب فيه (¬2). 24 - قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)} يجوز أن يكون الضمير في قوله: (فيها) لجهنم (¬3). ويجوز أن يكون للأحقاب (¬4) على ما قاله أبو إسحاق (¬5). وأما (البرد) فقال عطاء عن ابن عباس: يريد النوم، و (لا شراباً) يريد الماء (¬6). وقال مقاتل: لا يذوقون في جهنم برداً ينفعهم من حرها , ولا شراباً ينفعهم من عطشها (¬7). ¬

_ (¬1) قال القرطبي -بعد عرضه للأقوال في معنى الأحقاب وتحديده- "هذه الأقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما المعنى -والله أعلم- أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع" "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 177. وهذا معنى قول الحسن. كما ذهب الشوكاني أيضًا إلى أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد. "فتح القدير" 5/ 366. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) وعليه يكون الكلام مستأنفاً مبتدأ. انظر: "التفسير الكبير" 31/ 15. (¬4) عن الكرماني: عود الضمير إلى الأحقاب من غريب التفسير. "غرائب التفسير" 2/ 1297. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 273. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 483 مختصرًا، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 178. (¬7) وبمعناه في "تفسير مقاتل" 225/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 438، "زاد المسير" 8/ 165.

وذكر الكلبي القولين في البرد (¬1). قال الفراء: وإن النوم ليبرد صاحبه، وإن العطشان لينام فيبرد بالنوم (¬2)، وهو قول أبي عبيدة (¬3)، والمبرد (¬4) في البرد: إنه النوم في هذه الآية، وأنشد (¬5): بردت مَراشِفُها عليَّ فصدني ... عنها وعن رشفاتها البرد (¬6) يعني النوم. قال المبرد: ومن أمثال العرب: يمنع البرد البرد (¬7)، أي أصابني من البرد ما يمنعني النوم (¬8)، وأنشد للعَرْجي (¬9): ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 228 بنصه. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 282. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 15. (¬5) امرؤ القيس. (¬6) ورد البيت في "النكت والعيون" 6/ 187 برواية: تقبيلها بدلاً من: رشفاتها. "التفسير الكبير" 31/ 15، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 187 برواية تقبيلها بدلاً من: رشفاتها. ولم أعثر عليه في ديوانه. (¬7) انظر: "الكشف والبيان" ج: 13/ 29/ أ. (¬8) "التفسير الكبير" 31/ 15. (¬9) العَرْجي هو: عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ينزل بموضع قِبل الطائف يقال له: العرج، فنسب إليه، وهو أشعر بني أمية، حبسه محمد بن هشام, فمات في حبسه. انظر: "ديوانه" (7)، "خزانة الأدب" 1/ 98، "الشعر والشعراء" 381، العرجي وشعر الغزل في العصر الأموي: لوليم نقولا (103)، "الأغاني" 1/ 147.

25

فإن شِئْتِ حرَّمْتُ النِّساءَ سواكُمُ ... وإنْ شِئْتِ لم نطعمْ نُقاحاً ولا بَرْدا (¬1) قال (¬2): النقاخ: الماء العذب، والبرد: النوم (¬3). وجعل أبو إسحاق البرد برد كل شيء له راحة، فقال: لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم (¬4). 25 - قوله تعالى: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} معنى تفسيره في سورة ص (¬5)، والاستثناء من غير الجنس (¬6). ¬

_ (¬1) ورد البيت في "ديوانه" 109 برواية: أحرمت، وأطعم. وانظر: "تهذيب اللغة" 14، 15 (برد)، "لسان العرب" 3/ 85. (¬2) أي الزهري. (¬3) "تهذيب اللغة" المرجع السابق. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 273 بتصرف يسير. والقول: إن البرد هو النوم قد رده النحاس، قال: لأن البرد ليس باسم من أسماء النوم، وإنما يحتال فيه، فيقال للنوم برد؛ لأنه يهدئ العطش، ثم قال: والواجب أن يحمل تفسير كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ على الظاهر والمعروف من المعاني، إلا أن يقع دليل على غير ذلك. ثم قال في معنى الآية: أي لا يذوقون فيها بردًا يبرد عنهم السعير. "إعراب القرآن" 5/ 131 - 132. (¬5) سورة ص: 57، قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}. ومما جاء في تفسير الحميم، والغساق -من هذه السورة-: (قال مقاتل: حميم: يعني الحار الذي قد انتهى حره، و"غساقاً" يعني البارد الذي قد انتهى برده، ينطلق بهم من الحر إلى البرد، فتتقطع جلودهم، ويحرق البارد كما يحرق الحار. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعونه من برده. وقال ابن عباس: هو الزمهرير برده، يحرق كما يحرق النار. وقال الفراء: الغساق هو بارد يحرق حراق الحميم، وقال الزجاج نحواً منه. وذكر الأزهري أن الغاسق: البارد. وهناك تفسير ثانٍ لمعنى (غساق)، وهو أنه المنتن. قال به ابن بريدة، والليث. وقول ثالث في (الغساق) أنه ما سال من جلود أهل النار، والموافق للغة، يقال: غسقت عينه إذا انصبت، الغساق: الإنصاب). (¬6) أي أنه استثناء منقطع، وهذا في قول من جعل البرد: النوم. انظر: "البيان في =

27

قوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} قال مقاتل: يقول وافق عذاب النار الشرك؛ لأنهما عظيمان، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار (¬1). وهذا معنى قول مجاهد: وافق الجزاء العمل (¬2). قال الزجاج: أي جُوزوا جزاء وفق أعمالهم (¬3). قال الأخفش: يقول: وافق أعمالهم وفاقاً، كما تقول: قاتل قتالاً (¬4). وعلى هذا: (وفاقاً) ينتصب انتصاباً (¬5)، ويجوز أن يكون نعتاً لقوله: (جزاء)، ويكون معنى (وفاقاً) موافقاً. ثم أخبر عنهم فقال: 27 - {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} لا يخافون أن يحاسبوا. قاله مقاتل (¬6)، والمفسرون (¬7). ¬

_ = غريب إعراب القرآن" لابن الأنباري 2/ 490. (¬1) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 225/ ب، "الكشف والبيان" 13/ 29/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 439، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 179. (¬2) تفسير الإمام مجاهد 695، "جامع البيان" 30/ 15. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 274 نقله عنه بإضافة (جزاء). (¬4) "معاني القرآن" 2/ 727 بمعناه. (¬5) أي أن (وفاقاً) مصدر فعله مضمر، أي فوافق عملهم وفاقاً. انظر: "غرائب التفسير" 2/ 1297. (¬6) "تفسير مقاتل" 225/ ب، "التفسير الكبير" 31/ 17. (¬7) قال بذلك: قتادة، ومجاهد. انظر: "جامع البيان" 30/ 16، "النكت والعيون" 6/ 187، "الدر المنثور" 8/ 397. وحكى القول عن المفسرين ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 165. وبه قال الثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13/ 29/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 439، وعزاه ابن عطية إلى أبي عبيدة في "المحرر الوجيز" 5/ 427.

29

وقال الزجاج: معناه لا يؤمنون بالبعث، ولا بأنهم محاسبون فيرجون ثواب حسناتهم (¬1). {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس: بما جاءت به الأنبياء (¬2). {كِذَّابًا} (تكذيباً، وفعال من مصادر التفعيل، وأنشد الزجاج: لقد طال ما ريَّثْتِني عن صحابتي ... وعن حِوج قَضَّاؤُها من شِفائيا (¬3) من قضيت قضاء) (¬4). وقال الفراء: هي لغة فصيحة يمانية (¬5)، وكل فعَّلتُ فمصدره في لغتهم: فِعَّال، نحو: خرَّقت القميص خِرَّاقاً، وقال لي أعرابي منهم (¬6): على المروة (¬7) يستفتيني الحلق أحب [إليك] (¬8) أم القصَّار (¬9). 29 - قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ} قال أبو إسحاق: (كل) منصوب بفعل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 274 بيسير جداً من التصرف. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد في "الوسيط" بمثله من غير عزو 4/ 415. (¬3) البيت لبعض بني كلاب. وقد ورد تحت مادة (قضى) في "لسان العرب" 15/ 188، و"تاج العروس" 19/ 299، وكلاهما برواية (ما لبثتني). وفي "جامع البيان" 30/ 16، "الكشف والبيان" ج 13/ 29/ أ، "البحر المحيط" 8/ 414، "روح المعاني" 30/ 16، وجميعها برواية (ما ثبطتني). (¬4) ما بين القوسين من قول الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 274 بتصرف. (¬5) يعني قراءة: (كذاباً) بالتشديد، وقد أجمع القراء على قراءة (كِذَّاباً) بتشديد الذال. انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 742، "جامع البيان" 30/ 16. (¬6) أي من اليمن. (¬7) المروة: جبل بمكة مائل إلى الحمرة. "معجم البلدان" 5/ 116. (¬8) في (أ): إلى، والمثبت من "معاني القرآن" 3/ 229. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 229 بنصه.

30

مضمرٍ تفسيره: (أحصيناه)، المعنى: وأحصيناه كل شيء (¬1). قوله: {كِتَابًا} (توكيد ل: (أحصيناه)؛ لأن معنى أحصيناه، وكتبناه واحد فيما يحصل ويثبت، فالمعنى: كتبناه كتابًا) (¬2). قال المفسرون (¬3): وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ، كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]. 30 - قوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}، أي فيقال لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون، فلن نزيدكم إلا عذاباً. قال الضحاك: هي أشد آية سمعها أهل النار، كلما استغاثوا من نوع العذاب أغيثوا بأشد منه (¬4). 31 - قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} قال ابن عباس: يعني: الذين لم يجعلوا لله شريكاً (¬5)، والمفاز: مصدر كالفوز، والمعنى: أن لهم فوزاً بالنجاة، ونجاة من النار، وهو معنى قول المفسرين (¬6). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 274 نقله عنه باختصار. (¬2) ما بين القوسين من قول الزجاج نقله الواحدي بنصه انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 274 أي أنه منصوب على المصدر في قوله: (أحصيناه) مصدر أثبتناه وكتبناه، كأنه قيل: وكل شيء كتبنا كتاباً. انظر: "جامع البيان" 30/ 17. وقيل: إنه منتصب على الحال؛ أي مكتوباً. انظر: "فتح القدير" 5/ 367، "روح المعاني" 30/ 17. (¬3) حكاه من المفسرين أيضًا: ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 166، وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 439. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) قال بذلك: قتادة، ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 343، "جامع البيان" 30/ 17، "النكت والعيون" 6/ 188، "زاد المسير" 8/ 166، "تفسير القرآن =

ثم فسر ذلك الفوز فقال: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} يعني أشجار الجنة وثمارها. {وَكَوَاعِبَ} جمع كاعب (¬1)، وهي النواهد (¬2). قال مجاهد (¬3)، ومقاتل (¬4): يعني: النواهد. وقال الكلبي: المفلكات (¬5)، وهن اللواتي تكعبت ثديهن، وتفلكت (¬6). ومعنى تفسير الأتراب في سورة ص (¬7). ¬

_ = العظيم" 4/ 495، "الدر المنثور" 8/ 398، "تفسير الإمام مجاهد" 696، وبه قال الطبري في "جامع البيان" 30/ 17. وإلى هذا القول ذهب أيضًا: القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 181، الخازن في "لباب التأويل" 4/ 348. وأصل الفاء، والواو، والزاي: كلمتان متضادتان، فالأولى: النجاة، والآخرة: الهلكة. انظر: "مقاييس اللغة" 4/ 459. (¬1) الكاعب هي: الجارية التي كَعَب ثدياها، وكعَّب بالتشديد، والتخفيف، والجمع: الكواعب. انظر (كعب) في "تهذيب اللغة" 1/ 325، "لسان العرب" 1/ 719. (¬2) الناهد: نهد الثدي ينهد نُهودًا -بالضم-: إذا كعب وارتفع، يقال: نهد الثدي إذا ارتفع عن الصدر، وصار له حجم. "تاج العروس" 2/ 519 (نهد). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد قال بمثله ابن عباس كما في "جامع البيان" 30/ 18. (¬5) فَلَّك ثديُ الجارية تفليكًا، وتفلَّك: استدار. انظر: (ذلك) في "الصحاح" 4/ 1604، "لسان العرب" 10/ 478. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) سورة -صلى الله عليه وسلم- 52. قال تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) ومما جاء في تفسير أتراب قوله: (أتراب: جمع ترب، وهو اللِّدة. قال أبو عبيدة: أتراب: أسنانهن واحدة، قال ابن عباس، والمفسرون: (أتراب): مستويات على سن واحد، وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين. وقال مجاهد: أتراب: أمثال. وقال النحويون: أي هن في غاية الشباب والحسن).

{وَكَأْسًا دِهَاقًا} قال الليث: أدهقت الكأس إذا ملأتها جداً (¬1)، وكأس دهاق: ممتلئة (¬2). وكذلك قال الكسائي (¬3)، والمبرد (¬4)، قالوا: هي الملأى تطفح، وليس فيها فضل مخلى، وأنشد المبرد قوله: ألا اسقني صرفاً سقاك الساقي ... من مائها بكأسة ماء الدهاق (¬5) [وقال] (¬6) ابن عباس: الدهاق: الملأى المترعة التي إذا زدتها فاضت (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر الأزهري معنى هذا القول من غير نسبة قال: (وقال غيره: أدهقت الكأس إلى أضبارها، أي ملأتها إلى أعاليها. وعبارة الليث: أدهقتها: شددت ملأها، قال: والدَّهْدقة: دوران البضع الكثير في القدر إذا غلت، تراها تعلو مرة وتسفل أخرى). "تهذيب اللغة" 5/ 394 (دهق). (¬2) "تهذيب اللغة" المرجع السابق. وقال ابن فارس: (الدال، والهاء، والقاف: يدل على امتلاء في مجيء وذهاب، واضطراب، يقال: أدهقت الكأس ملأتُها). "مقاييس اللغة": 2/ 307 (دهق). وانظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 145 (دهق). (¬3) بمعناه في "التفسير الكبير" 31/ 21، وعبارته: ممتلئة. (¬4) المرجع السابق، وبنفس العبارة أيضًا. (¬5) ورد البيت غير منسوب في "فتح القدير" 5/ 369. ولم أعثر على مصدر لقول المبرد فيما بين يدي من كتبه. (¬6) ساقطة من: أ، وقد أثبت ما رأيت فيه استقامة المعنى. (¬7) ورد قوله مختصرًا في "جامع البيان" 30/ 19، "زاد المسير" 8/ 166، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 181، "لباب التأويل" 4/ 348، "الدر المنثور" 8/ 398، "روح المعاني" 30/ 18. وانظر: "صحيح البخاري" 2/ 431، كتاب بدء الخلق: باب: 8، و"تفسير ابن عباس" للحميدي: 2/ 963. وانظر: "كتاب البعث" 207، رقم: 322.

قال (¬1) مسلم (¬2): دعا ابن عباس غلاماً له، فقال: اسقنا دهاقاً، قال: فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدهاق (¬3). قال عكرمة: وربما سمعت ابن عباس يقول: اسقنا، وأدهق لنا (¬4). وقال آخرون (¬5): هي المتتابعة. وأهل اللغة على القول الأول، وأصل القول الثاني من قول العرب: (ادَّهقت الحجارة ادِّهاقاً، وهو شدةٌ تلازمها، ودخول بعضها في بعض) (¬6). والمتتابع كالمتداخل. عكرمة في قوله: (وكأساً دهاقاً) قال: هي الصافية (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): ابن، والصواب حذفها؛ لأن الرواية وردت بنصها عند الطبري: 30/ 18 عن مسلم، وليس ابن مسلم، وكذا في "الوسيط" 4/ 415. (¬2) هو: مسلم بن نَسْطاس، روى عن عبيدة السلماني، وأبي البختري، وروى عنه يحيى بن ميسرة، نا عبد الرحمن، قال: سمعت أبي يقول: أرى أنهما واحد، وكان البخاري قد فرقهما. انظر: كتاب "الجرح والتعديل" 8/ 197 ت 861، كتاب " التاريخ الكبير" 7/ 274: ت: 1159. (¬3) "جامع البيان" 30/ 18، "التفسير الكبير" 31/ 21، "البعث" 207 ح 323. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 21، "تفسير ابن عباس" 2/ 964. وانظر: "المستدرك" 2/ 512 "كتاب التفسير". وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬5) منهم سعيد بن جبير، وابن عباس، ومجاهد، وعطية، والعباس بن عبد المطلب، وإبراهيم النخعي، وأبو هريرة، وعكرمة، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 30/ 19، "بحر العلوم" 3/ 440، "الكشف والبيان" ج 2913/ ب، "زاد المسير" 8/ 166، "التفسير الكبير" 31/ 21، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 181، "الدر المنثور" 8/ 398. (¬6) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 5/ 394 (دهق)، وهو من قول الليث، وانظر: "لسان العرب" 10/ 106 - 107 (دهق). (¬7) "جامع البيان" 30/ 19، "التفسير الكبير" 31/ 21، "تفسير القرآن العظيم" =

35

والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع (دَهَقٍ، وهو خشبتان يغمز بها ويعصر) (¬1). والمراد بـ (الكأس) الخمر. قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر (¬2)، ويكون التقدير: وخمراً ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بها فقال: 35 - قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} قال مقاتل: يعني في الجنة إذا شربوها (¬3). {لَغْوًا} باطلاً من الكلام (¬4). {وَلَا كِذَّابًا} لا يكذب بعضهم بعضاً (¬5). قال ابن عباس: وذلك أن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم، ولم يتكلموا عليها بشيء يكرهه (¬6). وذكرنا آنفاً تفسير (الكذاب) (¬7). ¬

_ = 4/ 496، "الدر المنثور" 8/ 399، "روح المعاني" 30/ 18. (¬1) نقله عن "تهذيب اللغة" 5/ 394 (دهق)، وهو قول الليث، والعبارة عنه: قال: الدّهق: خشبان يُغْمزُ بهما الساق. وانظر: "لسان العرب" 10/ 106 (دهق). (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 18. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) قال بذلك: قتادة. انظر: "جامع البيان" 30/ 20، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 243. (¬5) قال بذلك: سعيد بن جبير. انظر: "النكت والعيون" 6/ 189. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) راجع آية: 28 من هذه السورة.

وروي عن الكسائي التخفيف في هذه الآية (¬1). قال الفراء: لأن (كذاباً) في هذه الآية ليس بمقيد بفعل يوجب تشديده، كما في قوله: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ: 28]، وكذبوا يقيد الكذاب بالمصدر، والتخفيف -هاهنا- حسن، والمعنى: لا يكذب بعضهم بعضاً (¬2). ونحو هذا قال أبو عبيدة (¬3) في الكذاب، مخفف أنه مصدر المكاذبة، وأنشد للأعشى: فصَدَّقْتُها وكَذَّبْتُها والمرء ينفعُه كِذابُهْ (¬4) وهو قول الأخفش، قال: هو مثل قولك: قاتل قِتالاً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة في القراءات" لابن مجاهد 669، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 742، "الحجة" 6/ 369، "المبسوط" 393، "حجة القراءات" 746، "كتاب التبصرة" 719. وقرأ الباقون بالتشديد. انظر المراجع السابقة. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 229 بتصرف. (¬3) في (أ): أبو عبيد، والأظهر أنه أبو عبيدة، وقد ورد قوله في المجاز بنحو مما أورده الواحدي. انظر: "مجاز القرآن" 2/ 283. (¬4) لم أعثر عليه في ديوانه، وقد ورد البيت بالإضافة إلى المجاز في "المخصص" 14/ 128، "لسان العرب" 10/ 193 (صدق)، "جامع البيان" 30/ 20، "الكشف والبيان" ج 13/ 30/ أ، "النكت والعيون" 6/ 188، "المحرر الوجيز" 5/ 428، "زاد المسير" 8/ 166، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 179، "البحر المحيط" 8/ 414، "إعراب القرآن" للنحاس 5/ 133، "الكامل" 2/ 747، "الدر المصون" 6/ 466، "شرح المفصل" لابن يعيش 6/ 44، "روح المعاني" 30/ 16، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 743، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 174. (¬5) "معاني القرآن" 2/ 727، وعبارته: وعلى هذا القياس تقول: قاتل قيتالاً، وهو من كلام العرب.

36

وقال أبو علي الفارسي: (كِذّابًا) مصدر كذب، كالكتاب في مصدر كتب (¬1). 36 - قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّك} قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاء، وكذلك (عطاء)؛ لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد (¬2). قوله تعالى: {حِسَابًا} قال أبو عبيدة: كافياً، يقال: أعطاني ما أحسبني، أي ما كفاني (¬3). قال ابن قتيبة: (عطاء حِساباً) أي كثيرًا، وأحسبت فلاناً، أي أكثرت له. قال الشاعر: ونُقْفي وليدَ الحيِّ إن كان جائعاً ... ونُحْسِبُه إن كان ليس بجائع (¬4) قال: ونرى أن أصل هذا أن تقول: حسبي، حسبي (¬5). وقال الزجاج: (حِساباً) معناه: ما يكفيهم، أي فيه كل ما يشتهون، ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 370 بتصرف يسير. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 275 بتصرف يسير. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 283 بنصه. (¬4) ورد البيت منسوبًا إلى امرأة من بني قشير في شعراء بني قشير في الجاهلية والإِسلام: القسم الثاني (254) رقم (192)، و"مقاييس اللغة" 2/ 60 (حسب)، "تفسير غريب القرآن" 17، "سمط اللآلي" 899. وورد غير منسوب في "الصحاح" 1/ 110 (حسب)، "لسان العرب" 1/ 312 (حسب)، و15/ 197 (قفا)، "الأمالي" للقالي: 2/ 262، "التفسير الكبير" 31/ 23، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 182، "فتح القدير" 5/ 369. ومعنى البيت: أي نعطيه حتى يقول حسبي، وقولها: نُقفيه: أي نؤثره بالقفيَّة، ويقال لها: القفاوة أيضًا، وهي ما يؤثر به الضيف والصَّبيّ. انظر: "شعراء بني قشير" المرجع السابق. (¬5) "تفسير غريب القرآن" 510 بتصرف يسير.

فقال: أحْسَبَني كذا وكذا، بمعنى كفاني (¬1). وهذا معنى قول قتادة: (عطاء حساباً) عطاء كبيرًا (¬2). وقال الكلبي: يعني حاسبتهم بالحسنة واحدة، وجزاؤها كبير (¬3). وقال مجاهد: حساباً بأعمالهم (¬4). ونحو هذا قال مقاتل (¬5). وعلى قول هؤلاء هو من الحساب الذي بمعنى العد. قال صاحب النظم: قد اختُلف في قوله: (حساباً) على وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم: أحسبني الشيء، أي كفاني، وحسبي هو، ومنه قوله: فما حللت به ضمني قائـ ... ـلاً جميلاً وأعطى حسابا (¬6) أي أعطاني ما كفاني. والوجه الآخر: أن يكون قوله: (حساباً) مأخوذاً من حسبت الشيء إذا عددته، وقدرته، فيكون بمعنى: (عطاء حساباً)، أي بقدر ما وجب لك فيما وعده من الإضعاف؛ لأنه عز وجلَّ قدر الجزاء على ثلاثة أوجه: وجه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 275 بتصرف يسير. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 343، "جامع البيان" 30/ 21، "الدر المنثور" 8/ 399 وعزاه إلى ابن المنذر، وعبد بن حميد. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 343، "جامع البيان" 30/ 21، بمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 183، "فتح القدير" 5/ 369، "الدر المنثور" 399 بمعناه، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) غير مقروء في (أ)، ولم أعثر على مصدر له أو لقائله.

37

منها على عشرة أضعاف (¬1)، ووجه على سبع مائة ضعف (¬2)، ووجه على ما لا مقدار له، كما قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (¬3). 37 - قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} فيه ثلاثة أوجه من القراءة: (الرفع في: (ربّ السموات)، و (الرحمن) (¬4)، والخفض فيهما (¬5)، والخفض في الأول، والرفع في الثاني (¬6)، فمن رفع قطع الأول من الخبر الذي قبله في قولك: (من ربك) فابتدأه، وجعل: (الرحمن) خبره، ثم استأنف: (لا يملكون منه). ومن خفضهما أتبع الاسمين الجر الذي قبلهما، ومن خفض الأول دون الثاني أتبع الأول الجر الذي قبله، واستأنف بقوله: {الرَّحْمَنِ}، وجعل قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} في موضع خبر، فقال: {الرَّحْمَنِ} (¬7). ¬

_ (¬1) نحو ما جاء في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. (¬2) نحو ما جاء في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]. (¬3) "التفسير الكبير" 23/ 31 من غير نسبة. وقد جاء في "مقاييس اللغة" أن الحاء، والسين، والباء: أصول أربعة: فالأول: العد، والثاني: الكفاية، والثالث: الحسبان، وهو جمع حُسبانة، وهي الوسادة الصغيرة، والأصل الرابع: الأحسب: الذي ابيضت جِلدته من داء، ففسدت شعرته كانه أبرص. 2/ 59 - 61 (حسب). وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" 4/ 328، "لسان العرب" 1/ 310 (حسب). (¬4) قرأ بذلك ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو. انظر: "الحجة" 6/ 370،"حجة القراءات" 747، "كتاب التبصرة" 719، " إتحاف فضلاء البشر" 431. (¬5) قرأ بذلك: ابن عامر، وعاصم. انظر: المراجع السابقة. (¬6) قرأ بذلك: حمزة، والكسائي. انظر: المراجع السابقة. (¬7) ما بين القوسين نقله عن أبي علي الفارسي في "الحجة" 6/ 370.

38

ومعني: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} قال مقاتل: يقول: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه (¬1). وهذا كقوله: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105]. وهذا كقوله: عام في كل أحد إلا من استثني في قوله: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105]) (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد: لا يخاطب المشركون، والمؤمنون يشفعون ويخاطبون، فيقبل الله ذلك منهم (¬3)، وهذا يوجب أن قوله: (لا يملكون منه خطاباً) للكفار (¬4). ومعنى: (لا يملكون) من الله أن يخاطبوه؛ لأنه لم يأذن لهم، يدل على هذا قوله: 38 - قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} ¬

_ (¬1) ورد معناه في "تفسير مقاتل" 226/ ب، كما ورد قوله في "معالم التنزيل" 4/ 440، "زاد المسير" 8/ 167. (¬2) ما بين القوسين نقله بمعناه عن أبي علي الفارسي. انظر: "الحجة" 6/ 370. (¬3) "التفسير الكبير" 31/ 23، "البحر المحيط" 8/ 415. (¬4) والقول: إن الذين لا يملكون منه خطاباً أنهم الكفار، قد خطأه ابن تيمية؛ بل اعتبره قول مبتدع، قال: (إنه قول مبتدع، وهو خطأ محض؛ لأنه لم يذكر في قوله: (لا يملكون منه خطاباً) استثناء، فإن أحداً لا يملك من الله خطاباً مطلقاً؛ إذ المخلوق لا يملك شيئاً يشارك فيه الخالق، ولكن الله إذا أذن لهم شفعوا من غير أن يكون ذلك مملوكاً لهم، وكذلك قوله: (لا يملكون منه خطاباً)، وهذا قول السلف، وجمهور المفسرين، وهو الصحيح). وذكر أيضًا جواباً آخر، فليراجع في ذلك كله: "مجموع الفتاوى" 14/ 397 - 398.

وانتصب قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} بالظرف، والعامل فيه قوله: (يملكون) (¬1). اختلفوا في الروح المذكور -هاهنا-، فروى مجاهد عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هو جند من جند الله؛ ليسوا بملائكة، لهم رؤوس وأيد، وأرجل، يأكلون الطعام، ثم قرأ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} فقال: هؤلاء جند، وهؤلاء جند" (¬2). وهذا قول مجاهد (¬3)، وأبي صالح (¬4)، وقتادة، قال: هم خلق على صور بني آدم، كالناس، وليسوا بالناس (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المصون" 6/ 468. (¬2) وردت هذه الرواية في "الكشف والبيان" 13/ 30/ ب، "زاد المسير" 8/ 167 مختصرًا، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 496 بمعناه، "الدر المنثور" 8/ 399 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، "روح المعاني" 30/ 20، وقد أوردها الماوردي عند تفسيره لآية سورة القدر {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} 6/ 313. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 344، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 185، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 496، "الدر المنثور" 8/ 399 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ في العظمة، "روح المعاني" 30/ 20. (¬4) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق". وانظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 105 باب ما جاء في تفسير الروح، كتاب "الزهد والرقائق" لابن المبارك (464) ح 1316. (¬5) بمعناه ورد في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 343، "جامع البيان" 30/ 23، "بحر العلوم" 3/ 441، "النكت والعيون" 6/ 190، "معالم التنزيل" 4/ 440، "فتح القدير" 5/ 370. وذهب أيضًا مجاهد، وأبو صالح إلى هذا القول. انظر المراجع السابقة عدا "النكت والعيون". وانظر: "الكشف والبيان" 3113/ أ، "زاد المسير" 8/ 167.

وقال عطاء عن ابن عباس: الروح ملك من الملائكة، ما خلق الله مخلوقاً بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم (¬1). قال الشعبي: هو جبريل عليه السلام (¬2). وقال الحسن: الروح: بنو آدم (¬3). وعلى هذا معناه ذوو الروح. وقوله: {صَفًّا} يجوز أن يكون المعنى: أن الروح على الاختلاف الذي ذكرنا، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً. والصف في الأول مصدر، فينبني عن الواحد، والجمع كالعدل والزور، وظاهر قول المفسرين (¬4) أنهم يقومون صفين: الروح صف، والملائكة صف. وقال ابن قتيبة: صفوفاً، ويقال ليوم العيد: يوم الصف (¬5). ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 6/ 190 مختصرًا، "معالم التنزيل" 4/ 440، "زاد المسير" 8/ 168، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 496 مختصرًا. (¬2) "جامع البيان" 30/ 22، "معالم التنزيل" 4/ 440، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 496. (¬3) المراجع السابقة بالإضافة إلى "زاد المسير" 8/ 168، وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 392. قال ابن كثير: (وتوقف ابن جرير، فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها، والأشبه عنده -والله أعلم- أنهم بنو آدم". "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497، وانظر: "جامع البيان" 30/ 23 - 24. (¬4) قال بذلك الحسن، والشعبي. انظر: "جامع البيان" 30/ 24، "النكت والعيون" 6/ 190، "زاد المسير" 8/ 168. (¬5) "تفسير غريب القرآن" 511 بنصه.

وقوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} الظاهر أن هذا من صفة الملائكة الذين يقومون صفاً. والمعنى: أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله، فمن أذن له الرحمن وقال: {صَوَابًا} تكلم. ومعنى الصواب: شهادة أن لا إله إلا الله في قول ابن عباس (¬1). والمفسرون قالوا: هو التوحيد، ونفي الشرك، وتنزيه الله عزَّ وجلَّ عن كل فرية (¬2). والصواب هو السداد من الفعل والقول (¬3)، يقال: فعل صواباً، وقال صواباً، وهو اسم من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيب إجابة (¬4). ويجوز أن يكون الاستثناء من جميع الخلق على قول من قال: لا يملكون منه خطاباً للخلق كلهم، فاستثنى من ملك منهم الخطاب، وهو الذي يتكلم بإذنه، وقال في الدنيا صواباً، أي شهد بالتوحيد، وهم المؤمنون. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 24، "النكت والعيون" 6/ 190، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 185، "الدر المنثور" 8/ 401، "الأسماء والصفات" 1/ 186. (¬2) حكى هذا القول ابن الجوزي عن أكثر المفسرين. انظر: "زاد المسير" 8/ 168. (¬3) وعن ابن فارس: (الصواب أجل صحيح يدل على نزول شيء واستقراره قراره، من ذلك الصواب في القول والفعل، كأنه أمر نازل مستقر قراره، وهو خلاف الخطأ). "مقاييس اللغة" 3/ 317 (صوب). (¬4) ورد من قوله: والصواب إلى: يجيب إجابة: في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 186 من غير عزو.

40

وقال مقاتل: لا يتكلمون بالشفاعة، يعني الملائكة (¬1). {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} أي حقاً، وهو التوحيد، وهذا معنى قول ابن عباس، يريد: يشفعون لمن قال: لا إله إلا الله، وهذا قول بعيد، واللفظ لا يدل على هذا المعنى إلا باستكراه. قوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي الكائن الواقع، يعني يوم القيامة. ويجوز أن يكون المعنى أن الشكوك زائلة في ذلك اليوم، وكل من يرتاب فيه عرف باطله، وأن ذلك اليوم الحق، فهو اليوم الحق عند كل أحد، وهذا معنى قول عطاء (¬2). ثم حض العباد على الطاعة: قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أي مرجعاً بالطاعة، أي فمن شاء رجع إلى الله بطاعته قبل ذلك اليوم، والظاهر أن فعل المشيئة مسند إلى (من). وقال عطاء عن ابن عباس: فمن شاء الله أن يهديه {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} (¬3) ثم خوف كفار مكة فقال: قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، ويدل على أن المراد عذاب الآخرة فقال: 40 - قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} يجوز أن يكون: ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) بنحوه في "التفسير الكبير" 31/ 26.

ينظر إلى ما قدمت، فحذف (إلى). قاله الأخفش (¬1). والظاهر أن (المرء) عام في كل أحد؛ لأن كل أحد يرى ذلك اليوم ما كسب، وقدم وأخر من خير وشر مثبتاً عليه في صحيفته. وقال عطاء: هو أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط (¬2). وقال الحسن: هو المرء المؤمن (¬3). يرى عمله، فيرجو ثواب الله على صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله، وأما الكافر فإنه يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}. قال جماعة المفسرين (¬4): وذلك أن الله تعالى يحشر الدواب، والبهائم، والوحش، فيقتص لبعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني تراباً، فيتمنى الكافر عند ذلك أنه كان تراباً، وكان واحداً من الوحش: خنزيراً، أو ما كان فلا يحاسب بعمله، ويصير تراباً. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 2/ 727 بنصه، وقد حكاه الأخفش عن بعضهم. (¬2) ذكر في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 186 من غير نسبة، وكذا في "فتح القدير" 5/ 370. (¬3) "جامع البيان" 30/ 25، "التفسير الكبير" 31/ 27، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 186، "الدر المنثور" 8/ 401 وعزاه إلى ابن المنذر، "القطع والائتناف" 2/ 785، "فتح القدير" 5/ 370، "روح المعاني" 30/ 22. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 392. (¬4) ممن قال بمعنى هذه الرواية من غير تمنيه أن يكون خنزيراً: أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، ومجاهد، والحسن، وعن أحد المقاتلين. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 344، "جامع البيان" 30/ 26، "الكشف والبيان" ج 13، 31/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 440، "فتح القدير" 5/ 371، "تفسير الحسن البصري" 2/ 392، "روح المعاني" 30/ 22. وبنحوه هذه الرواية وردت عن أحد المقاتلين في "معالم التنزيل" 4/ 440.

قال أبو إسحاق: وقيل إن معنى: (يا ليتني كنت تراباً): أي ليتني لم أبعث (¬1). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 276 بنصه.

سورة النازعات

سورة النَّازعات

1

تفسير سورة النازعات (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} أكثر المفسرين على أن هذا قسم بملك الموت، وأعوانه من الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم (¬2)، وهو قول علي (¬3) رضي الله عنه، (ومسروق (¬4)، ومقاتل (¬5)، وأبي صالح (¬6)، وعطية ¬

_ (¬1) مكية كلها. انظر: "جامع البيان" 30/ 27، "الكشف والبيان" ح 13: 33/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 441، "المحرر الوجيز" 5/ 430، "روح المعاني" 30/ 22، وغيرها من كتب التفسير. (¬2) ورجحه ابن كثير: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497. (¬3) ورد قوله مختصرًا في "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب، "زاد المسير" 8/ 169، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 188، "الدر المنثور" 8/ 403 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬4) ورد معنى قوله في المراجع السابقة، بالإضافة إلى: "جامع البيان" 30/ 27، "النكت والعيون" 6/ 192، "التفسير الكبير" 31/ 169،"تفسير القرآن العظيم" 4/ 497. (¬5) ورد معنى قوله في "بحر العلوم" 3/ 443، "النكت والعيون" 6/ 192، "معالم التنزيل" 4/ 441. (¬6) "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497، "الدر المنثور" 8/ 404.

عن ابن عباس (¬1)) (¬2). قال الفراء: ذكر (¬3) أنها الملائكة، وأن النَّزعَ نزعُ الأنفس من صُدور (¬4) الكفار، وهو كقولك: والنازعاتِ إغراقًا، كما يغرق النازعُ في القوس (¬5)، هذا كلامه. ومعنى إغراق النازع: أن ينتزع في القوس، فيبلغ بها غاية (¬6) المد حتى ينتهي إلى النصل (¬7). قال الأزهري: والغَرْقُ اسم أقيم مُقام المصدر الحقيقي من أغْرَقْت (¬8). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة عدا "الدر المنثور"، كما ورد معنى قوله أيضًا في "المحرر الوجيز" 5/ 430، "زاد المسير" 8/ 169، "التفسير الكبير" 31/ 28، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 188. قال ابن تيمية أيضًا: "وأما (النازعات غرقًا) فهي الملائكة القابضة للأرواح". "مجموع الفتاوى" 13/ 320. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: أ، وقد كتب بدلًا منه لفظ: وغيره. (¬3) في (أ): وذكر. (¬4) بياض في (ع). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 230 بنصه. (¬6) بياض في (ع). (¬7) انظر مادة: (غرق) في "تهذيب اللغة" 16 "المستدرك" 133، "مقاييس اللغة" 4/ 418، "لسان العرب" 10/ 284. (¬8) "تهذيب اللغة" 16: "المستدرك" 135 مادة: (غرق)، والغرق في الأصل: دخول الماء في سمّي الأنف حتى تمتلئ منافذه، فيهلك. المراجع السابقة.

(قال ابن مسعود: هي النفس (¬1)، و) (¬2) قال [بهذا] (¬3) قتادة (¬4)، والسدي (¬5)، (وعطية عن ابن عباس (¬6)) (¬7). والنازعات على هذا القول من قول (فلان ينزع نزعا إذا كان في سياق الموت) (¬8)، والأنفس نازعات عند السياق. ومعنى "غرقًا" على هذا: أي نزعًا شديدًا أبلغ ما يكون، وأشده من اغراق النازع في القوس. وقال الحسن: يريد النجوم تنزع -هاهنا،- وتغرق -هاهنا- (¬9). (وهو قول الأخفش (¬10)، ¬

_ (¬1) ورد قوله مطولًا في "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، وأثبته لاستقامة المعنى به، والله أعلم. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 345. (¬5) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 28، "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب، "النكت والعيون" 6/ 192، "معالم التنزيل" 4/ 441، "المحرر الوجيز" 5/ 430، "زاد المسير" 8/ 169، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 188، "الدر المنثور" 8/ 404. (¬6) ورد معنى قوله في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 2/ 142 مادة: (نزع). (¬9) "جامع البيان" 30/ 28، وبمعناه في "النكت والعيون" 6/ 192، "معالم التنزيل" 4/ 441، "المحرر الوجيز" 5/ 430، "زاد المسير" 8/ 169، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 188، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497، "تفسير الحسن البصري" 2/ 393. (¬10) بمعناه في "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب، "المحرر الوجيز" 5/ 430، "زاد المسير" 8/ 169، "الجامع لأحكام القرآن" 9/ 189.

وأبي عبيدة (¬1)) (¬2). ومعنى النازعات على هذا القول: أنها النجوم تنزع من أفق علي أفق، أي تذهب، من قولهم: (نزع إليه، أي ذهب نزوعًا، ويجوز أن يكون من قولهم) (¬3): نزعت الخيل، إذا جرت. قال الليث: يقال (¬4) للخيل إذا جرت (¬5): لقد نزعت سننًا، وأنشد: والخيلُ تنزع قُبَّا في أعِنَّتِها ... كالطير تَنْجُو (¬6) مِنَ الشُّؤْبُوبِ (¬7) ذي البَرَدِ (¬8) ومعنى الغرق: أنها تغرق فتغيب، وهي تطلع من أفق فتجري حتى تغيب في أفق آخر، ولعل الغرق في لغة الفرق، فإن فعلًا يأتي في مصادر ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 284، وعبارته: "النجوم تنزع: تطلع ثم تغيب فيه". (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) في (أ): عا. (¬5) قال الليث في (أ) وهو كلام مكرر. (¬6) في (أ): تنجوا. (¬7) في (أ): الشربوب. (¬8) البيت من قصيدة للنابغة التي أولها: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد ديوانه: 34، دار بيروت، برواية: تمزع غربًا. ومعنى البيت: تمزع: تمر مرًا سريعًا. غربًا: حدة ونشاط. الشؤبوب: الرقعة من المطر. يقول: ويهب الخيل التي هي في سرعتها كالطير التي تخاف أذى البرد فهي شديدة الطيران. انظر: ديوانه: 34.

2

هذا الباب في اللازم، نحو: لبث، وحبط عمله حبطًا (¬1). وقال (¬2) عطاء (¬3)، وعكرمة (¬4): هي القِسِيّ. على هذا القول: النازعات: ذوات النزع فيها، وهي التي تنزع أوتارها، ويكون هذا من اللابن، والتامر. وغرقًا بمعنى إغراقًا، أي تنزع فتغرق فيها إغراقًا. وقال مجاهد: هي الموت، يعني شدائده (¬5) التي تنزع الأرواح نزعًا شديدًا (¬6). 2 - قوله: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} قال ابن عباس (¬7)، ومقاتل (¬8): هم الملائكة ينشطون (¬9) روح الكافر ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في (أ): قال. (¬3) "جامع البيان" 30/ 28، "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب، "النكت والعيون" 6/ 192، "معالم التنزيل" 4/ 441، "زاد المسير" 8/ 170، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 189، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497، "فتح القدير" 5/ 372. (¬4) "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 441، "زاد المسير" 8/ 170، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 189، "فتح القدير" 5/ 372. (¬5) في (أ): شدائد. (¬6) المراجع السابقة عدا "الكشف والبيان"، وانظر أيضًا: "جامع البيان" 30/ 27، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497، "الدر المنثور" 8/ 405، "فتح القدير" 5/ 372، والعبارة عنه في جميع المراجع السابقة: "الموت ينزع النفوس". وما مضى من الأقوال رأى ابن جرير أن الآية تعمها جميعها. "جامع البيان" 30/ 27. (¬7) بمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 189. (¬8) بمعناه في "زاد المسير" 8/ 170. (¬9) في (أ): ينطشون.

من قدميه إلى حلقه نشطًا بالكرب، والغم، كما تنشط الصوف من سفود (¬1) الحديد. (وهذا النشط، وهو الجذب، يقال: نَشَطْتُ الدّلوَ أنشِطُها، وأنشُطها نَشْطًا: نزعتها) (¬2). [وهذا قول الل] (¬3). وروي عن ابن عباس (أيضًا) (¬4) أنه قال: الناشطات الملائكة (¬5) تنشط نفس المؤمن فتقبضها (¬6). واختاره الفراء، فقال: هي الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها، وتنزع نفس الكافر (¬7). وإنما اختار ذلك لما بين النشط والنزع من الفرق في الشدة واللين، ¬

_ (¬1) السَّفُّود، والسُّفُّود بالتشديد: حديدة ذات شُعَبٍ معقَّفة: معروف يشوى به اللحم، وجمعه: سفافيد. انظر: "لسان العرب" 3/ 218 مادة: (سفد). (¬2) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 11/ 314 مادة: (نشط)، وهو قول الأزهري. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من: أ، وغير مقروء في ع، ولعلها: وهذا قول الليث. (¬4) ساقط من: (أ). (¬5) بياض في (ع). (¬6) "الكشف والبيان" ج 13: 32/ أ، "النكت والعيون" 6/ 193 بنحوه، وبمعناه في "معالم التنزيل" 4/ 441، "المحرر الوجيز" 5/ 431، "زاد المسير" 8/ 170 , "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 189. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 130 نقله عنه بالمعنى، وعبارته: "أنها تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال من البعير".

فالنزع: جذب بشدة , والنشط برفق ولين (¬1). قال أبو زيد: نشطت الدلو من البئر نشطًا، وهو جَذْبُكَ الدَّلْوَ من البئر بغير قامة (¬2). (فالناشطات: الملائكة تنشط أرواح المؤمنين، كما تنشط الدلو من البئر) (¬3). وقال مجاهد: هي الموت، يعني شدائده (¬4)، كما ذكرنا في الآية الأولى. وقال الحسن: هي النجوم (¬5)، وهو اختيار أبي عبيدة (¬6). (والمعنى أنها تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب، يقال: حمار ناشط ¬

_ (¬1) والذي يشهد له السياق أن كلا من النازعات، والناشطات هم الملائكة، ودلالة السياق هو أنهما وصفان متقابلان، الأول: نزع بشدة، والآخر: نشاط بخفة، فيكون النزع غرقًا لأرواح الكفار، والنشط بخفة لأرواح المؤمنين. نقلًا باختصار عن: "أضواء البيان" للشنقيطي: 9/ 22 - 23. (¬2) "تهذيب اللغة" 11/ 315 مادة: (نشط) بنحوه. (¬3) ما بين القوسين نقله بنحوه عن الأزهري في "تهذيب اللغة"، وهو من قول أبي إسحاق كما هو مذكور، ولم أجده عنه في معانيه. انظر: "تهذيب اللغة" 11/ 315 مادة: (نشط). (¬4) "جامع البيان" 30/ 28، "الكشف والبيان" ج 13/ 34 أ، هو الموت ينشط نفس الإنسان، "النكت والعيون" 6/ 193، "معالم التنزيل" 4/ 442، "المحرر الوجيز" 5/ 430 بمعناه، "زاد المسير" 8/ 170، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 190، "الدر المنثور" 8/ 405 وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ في العظمة، "فتح القدير" 5/ 372. (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 245، "فتح القدير" 5/ 372. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 284.

من بلد إلى بلد، والهموم تنشط بصاحبها. قال [أبو عبيدة: الهميان] (¬1) بن قحافة (¬2): أمست هُمومي تَنشِطُ المناشِطا ... الشَّامَ بي طوْرًا وطورًا واسِطا (¬3) أي تذهب بي) (¬4). وقال عكرمة (¬5)، وعطاء (¬6): هي الأوهاق (¬7)، وعلى هذا هي من النشط الذي هو الجذب. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ). (¬2) هو: أبو عبيدة، الهميان بن قحافة. من بني عوافة بن سعد بن زيد مناة من تميم، راجز إسلامي، عاش بالدولة الأموية. انظر: "المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء" للآمدي (197). (¬3) ورد البيت في "تهذيب اللغة" 11/ 314 مادة: (نشط)، "لسان العرب" مادة: (نشط)، "جامع البيان" 30/ 29، "الكشف والبيان" ج 13: 34/ أ، "النكت والعيون" 6/ 193، "زاد المسير" 8/ 170، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 190، "روح المعاني" 30/ 240. (¬4) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة، نقله عنه الواحدي بتصرف. انظر: "مجاز القرآن" 2/ 284. (¬5) "جامع البيان" 30/ 29، "الكشف والبيان" ج 13: 34/ أ، "النكت والعيون" 6/ 193، "فتح القدير" 5/ 372. (¬6) "فتح القدير" 5/ 372. (¬7) الأوهاق: جمع وَهَق، وقد يسكن، وهو حبل كالطَّوَل تُشَدُّ به الإبل والخيل لئلا تّنِدّ "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 233. وقال الليث: الوَهَق: ألحبل المُغار يُرمى في أنشوطة، فيؤخذ به الدابة، والإنسان. "تهذيب اللغة" 6/ 344 مادة: (وهق).

3

3 - قوله: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}، قال علي (¬1)، ومقاتل (¬2)، (ومسروق (¬3)) (¬4)، وابن عباس (¬5) (في رواية الكلبي) (¬6): هم الذين يقبضون أرواح المؤمنين؛ يسلونها سلًا رفيقًا، ثم يدعونها حتى تستريح رويدًا (¬7). والمعنى على هذا: والسابحات بالأرواح سبحًا، أي يجعلونها (¬8) على السَّبح (¬9) تنزعها، والسابح بالشيء في الماء يرفق به لئلا يغرق ذلك الشيء، ولئلا يتعب هو في سبحه، فجعل الملائكة الذين يقبضون روح المؤمن برفق سابحات بها. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 8/ 171 بمعناه، وعبارته: "أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين"، ومثله ورد في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191. (¬2) بمعناه في "تفسير مقاتل" 226/ ب. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمعنى هذه الرواية عن الكلبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) من قوله: هم الذين يقبضون إلى حتى يستريح رويدًا وردت في "معالم التنزيل" 4/ 442 من غير نسبة لأحد. (¬8) في (ع): يجلونها. (¬9) السَّبْح: المَرُّ السريع في الماء، وفي الهواء، يقال: سَبَح سَبْحًا وسِباحة، واستعير لِمرِّ النجوم في الفلك، ولجري الفرس، ولسرعة الذهاب في العمل. انظر: "المفردات في غريب القرآن" 221.

قال (أبو صالح (¬1)، و) (¬2) مجاهد (¬3): هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين. وهو اختيار الفراء، قال: جعل نزولها من السماء كالسباحة، والعرب تقول للفرس الجواد: إنه لسابح (¬4)، ومنه قول امرئ القيس: مِسَحٍّ إذا ما السّابحاتُ على الونى ... أثَرْنَ الغُبارَ بالكديدِ المُرَكَّلِ (¬5) وقال الحسن (¬6)، وأبو عبيدة (¬7) هي: النجوم تسبح في الفلك كما قال ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" ج 13: 34/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 442، "زاد المسير" 8/ 171، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "الدر المنثور" 8/ 404 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) المراجع السابقة. وانظر أيضًا: "جامع البيان" 30/ 30، "فتح القدير" 5/ 372 - 373، وعزاه صاحب الدر إلى أبي الشيخ. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 230، وقد زاد الفراء في معانيه عبارة: مرَّ يتمطّى. ذكر ذلك تفسيرًا لقول العرب للفرس الجواد: إنه لسابح. ومعنى: مطَّه: أي مده، أي مد في السير. مختار "الصحاح" 627 مادة: (مطي). (¬5) ديوانه: 53، ط. دار صادر. ومعنى البيت: سح يسح: قد يكون بمعنى صب يصب، وقد يكون بمعنى انصب ينصب، فالمعنى أنه يصب الجري والعدو صبًا بعد صب. السابح من الخيل: الذي يمد يديه في عده شبه بالسابح في الماء، الونى: الفتور .. والفعل ونى يني ونيًا وونى. الكديد: الأرض الصلبة المطمئنة. المركل: من الركل، وهو الدفع بالرجل، والضرب بها. ومعنى البيت: أن الخيل يجيء يجري بعد جري إذا قلت الخيل السوابح، وأعيت وأثارت الغبار في مثل هذا الموضع. "ديوانه" 53 - 54. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "الدر المنثور" 8: 405 وعزاه إلى ابن المنذر، "فتح القدير" 5: 373، "تفسير الحسن البصري" 2: 393. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 284.

4

تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]. قال عطاء هي: السفن تسبح في الماء (¬1). وروى عن ابن عباس: أن السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقًا إلى لقاء الله، وشوقًا إلى رحمته حين تخرج (¬2)، وقد عاينوا السرور فهي تسبح مستعجلة. 4 - قوله تعالى: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} قال مسروق (¬3)، (ومقاتل (¬4)، والكلبي (¬5)) (¬6): هم الملائكة. قال مجاهد (¬7) (وأبو روق (¬8)) (¬9): سبقت ابن آدم بالخير، والعمل ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 30، "الكشف والبيان" ج 13: 34/ ب، "النكت والعيون" 6/ 193، "معالم التنزيل" 4/ 442، "المحرر الوجيز" 5/ 431، "زاد المسير" 8/ 171، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191. (¬2) ورد معنى قوله في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "الدر المنثور" 8/ 404 وعزاه إلى جويبر في تفسيره. (¬3) "الكشف والبيان" ج 13: 34/ ب، "النكت والعيون" 6/ 193، "زاد المسير" 8/ 171، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 497، "فتح القدير" 5/ 373. (¬4) "تفسير مقاتل" 226/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 442، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "فتح القدير" 5/ 373. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: أ (¬7) ورد قوله في "الكشف والبيان" ج 13: 34/ ب، ومعناه في "معالم التنزيل" 4/ 442، "التفسير الكبير" 31/ 29، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "فتح القدير" 5/ 373. (¬8) المراجع السابقة، وانظر أيضًا: "زاد المسير" 8/ 171. (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

الصالح، والإيمان، والتصديق. قال مجاهد (¬1)، [و] (¬2) (مقاتل بن حيان (¬3)) (¬4) تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. قال الفراء (¬5)، والزجاج (¬6): الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء [إذ] (¬7) كانت الشياطين تسترق السمع. (وقال الحسن (¬8)، وأبو عبيدة (¬9): هي النجوم تسبق بعضها بعضًا في السير) (¬10). وقال ابن مسعود (¬11)، وابن عباس (¬12) (في رواية عطاء) (¬13): نفس ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 8/ 171. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) "الكشف والبيان" ج 13: 34/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 442، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "فتح القدير" 5/ 373. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 230 والعبارة للفراء. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 278. (¬7) في كلا النسختين: إذا، والمثبت ما جاء في "معاني" الفراء 3/ 330. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "فتح القدير" 5/ 373، "تفسير الحسن البصري" 2/ 394. (¬9) "مجاز القرآن" 2/ 284. (¬10) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬11) "الكشف والبيان" ج 13: 34/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 442، "زاد المسير" 8/ 171، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191. (¬12) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬13) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

5

المؤمن تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها (1)، تبادر الخروج شوقًا إلى كرامة الله. (وقال عطاء هي: الخيل (2)) (3). وذكر صاحب النظم: أن هذه الآية ذكرت بـ: "الفاء"، والتي قبلها بـ: "الواو"؛ لأنها أقسام مستأنفة، وهذه مسببة من التي قبلها، كأنه قيل: واللاتي سبحن فسبقن، كما تقول: قام فذهب، [أوجبت] (4) الفاء أن القيام كان سببًا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب لم يجعل القيام سببًا للذهاب (5). 5 - قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} أجمعوا على أنهم الملائكة (6).

_ (1) في (أ): يقبضون. (2) "جامع البيان" 30/ 30، "الكشف والبيان" ج 13: 35/ ب، "النكت والعيون" 6/ 194، "معالم التنزيل" 4/ 442، "المحرر الوجيز" 5/ 431، "زاد المسير" 8/ 171، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 191، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498، "الدر المنثور" 8/ 405 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (4) في (أ): أو ألفا، وفي نسخة ع: أوجب، ولعلها أوجبت. وعند الشوكاني: فهذا يوجب أن يكون القيام سببًا للذهاب. (5) ورد نحو ذلك في "فتح القدير" 5/ 373. (6) قال بذلك: قتادة، وابن عباس، وعبد الرحمن بن سابط، وعطاء، وعلي، ومجاهد، وأبو صالح، والحسن، والربيع ابن أنس، والسدي. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 345، "جامع البيان" 3/ 31، "معالم التنزيل" 4/ 442، "زاد المسير" 8/ 171، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498. وحكى الماوردي هذا القول عن جمهور المفسرين: "النكت والعيون" 6/ 194، وقال ابن عطية: "فلا أحفظ خلافا أنها الملائكة". "المحرر الوجيز" 5/ 431، وحكى الإجماع الفخر الرازي في "التفسير الكبير" 31/ 29، ونقل القرطبي عن القشيري الإجماع، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 192. وقد ذكر الفخر الرازي رأيًا له -بعيدًا-، وهو أنها الأرواح، وأنها قد تدبر أمر =

قال مقاتل: يعني جبريل، وميكال، وإسرافيل، وملك الموت يدبرون أمر الله في الأرض، وهم المقسمات أمرًا (¬1)، (¬2). (أو نحو هذا) (¬3). وقال (¬4) عبد الرحمن بن سابط (¬5) -وزاد بيانًا- فقال: أما جبريل فوكل (¬6) بالرياح، والجنود، وأما ميكائل فوكل (¬7) بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل (¬8) بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو يتنزل بالأمر عليهم (¬9). ¬

_ = الإنسان في المنامات، وهو قول لا يعول عليه -كما ترى-، والذي يشهد له النص أنها الملائكة: قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)}، ووصف الله سبحانه الملائكة بقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. نقلاً عن "أضواء البيان" 9/ 24. وعليه فحكاية الإجماع صحيحة من الواحدي، ونقرر بذلك ما أسلفنا ذكره من منهجه في حكايته الإجماع. والله أعلم (¬1) بياض في (ع). (¬2) "تفسير مقاتل" 227/ أ، "التفسير الكبير" 31/ 29. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) في (ع): قال. (¬5) عبد الرحمن بن سابط الجمحي؛ تابعي، ذو مراسيل عن أبي بكر، وعمر، فقيه، ثقة. مات سنة 117 هـ. انظر: كتاب الثقات: 5/ 92، "تهذيب الكمال" 17/ 123: ت: 3822 , "الكاشف" 2/ 146 ت: 3239. (¬6) في (أ): موكل. (¬7) في (أ): موكل. (¬8) في (أ): موكل. (¬9) بمعناه في "معالم التنزيل" 4/ 442، "زاد المسير" 8/ 171 - 172، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 192، "الدر المنثور" 8/ 405 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان, "فتح القدير" 5/ 373.

وقال عطاء عن ابن عباس: يريد الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله العمل بها، والوقوف عليها، بعضهم لبني آدم يحفظون، ويكتبون، وبعضهم وكلوا بالأمطار والنبات والخسف، والمسخ، والرياح والسحاب (¬1). وقول صاحب النظم غير مطرد في هذه الآية؛ لأنه يبعد أن يجعل السبق سببًا للتدبير؛ مع أن السابقات ليست الملائكة في قول كثير من المفسرين. وقد أحكمنا الكلام في هذا في أول سورة الصافات (¬2). ¬

_ (¬1) ورد قريب من معنى هذه الرواية, من طريق أبي المتوكل الناجي، عن ابن عباس في "الدر المنثور" 8/ 405 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وبمثله في "التفسير الكبير" 31/ 29 من غير نسبة. وانظر روايته مختصرة في "الوسيط" 4/ 418. (¬2) سورة الصافات: 1 - 3: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}. ومما جاء في تفسيرها، قال الواحدي: "وأما هذه الشفاعات هاهنا - وفي سورة الذاريات، والمرسلات، فـ"الفاء" في العطف تؤذن أن الثاني بعد الأول؛ بخلاف الواو، فإنه لا يدل على المبدوء به، و"الفاء" يدل كقولك: دخلت الكوفة فالبصرة. فـ"الفاء" -هاهنا- تؤذن أن دخول الكوفة كان قبل دخول البصرة، وفي هذه الآية يدل على أن الله -تعالى- ذكر القسم أولًا بـ: "الصافات"، ثم بـ: "الزاجرات"، ثم بـ: "التاليات". وذكر صاحب النظم أن "الفاء" -هاهنا- وما قبله سبب له، كما تقول: قام فمر، واضطجع فنام. فالقيام سبب للمرور، والاضطجاع سبب للنوم. وتأويل الآية: والتي تصف صفًا، فتزجر زجرًا، فالصف سبب الزجر، والزجر سبب التلاوة. =

وقال أهل المعاني: إنما أقسم الله بهذه الأشياء للتنبيه على موقع العبرة؛ إذ القسم يدل على عظم شأن المقسم به (1). وأما جواب هذه الأقسام، فقال الفراء: هي مما ترك جوابه لمعرفة السامعين (2)، وكأنه لو ظهر كان: لتبعثُنَّ، ولتحاسبُنَّ، ويدلك على ذلك قولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 11]، أي: أنبعث إذا صرنا عظامًا (نخرة) (3)، (4). ونحو هذا قال الزجاج سواء (5). وقال مقاتل: أقسم الله بهؤلاء الملائكة أن النفختين كائنتان، بينهما أربعون سنة (6)، فذلك قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)}.

_ = قال: ويدل على هذا قوله: "والمرسلات عرفًا فالعاصفات عصفًا"، ثم استأنف قسما آخر منقطعًا مما قبله غير منسوق عليه بالواو، فقال: "والناشرات نشرًا". وهذه الواو واو قسم". (1) لم أعثر على مصدر لقوله. (2) أي أن جواب القسم مضمر محذوف. (3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (4) "معاني القرآن" 3/ 331. (5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 278. وهذا القول اختاره أيضًا أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 420، وضعف ما سواه من الأقوال في جواب القسم، ومن أراد الاستزادة في ذلك فليراجع ذلك في مواضعه من النكت العيون، "الجامع لأحكام القرآن"، "معاني القرآن" للأخفش، وغيرهم. (6) ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 227/ أ، ويعتبر قوله قولًا آخر لجواب القسم، ويعني به أن اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله: "يوم ترجف الراجفة" أي ليوم كذا تتبعها الرادفة، ولم تدخل نون التوكيد؛ لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل. قاله أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 420.

(وهذا قول الأخفش (¬1)) (¬2)، ويكون التقدير على هذا (¬3): النفختين في الصور نفختين، ودل على هذا المحذوف ذكر "الراجفة" و"الرادفة"، (وهما) (¬4) النفختان. قال ابن عباس (في رواية عطاء (¬5)، والكلبي (¬6)، ومقاتل (¬7)) (¬8) هي النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق. قال مقاتل: وإنما سميت الراجفة؛ لأنها تميت الخلق كلهم. كقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 78]، يعني الموت (¬9) -هذا كلامه-. وذكرنا في مواضع (¬10) أن الرجفة معناه الحركة، كقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ} [المزمل: 14]. والراجفة -هَاهنا- ليست من الحركة فقط، ولكنها من قولهم: رَجَفَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 728. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) في (ع): لهذا. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله في "الوسيط" 4/ 419 من غير عزو. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "تفسير مقاتل" 227/ أ. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) "تفسير مقاتل" 227/ أ. (¬10) نحو ما جاء في سورة الأعراف: 78، 91، 155، وسورة العنكبوت: 37، وسورة المزمل: 14، وقد جاء في تفسير قوله: "يوم ترجف الأرض والجبال" المزمل: 14: أي تزلزل وتتحرك أغلظ حركة. راجع سورة المزمل: 14.

الرعد يَرجُفُ رَجْفًا ورَجِيفًا، وذلك تَرَددُ (¬1) هدهدَتِهِ (¬2) في السحاب (¬3). ذكره الليث (¬4). فالراجفة (¬5): صيحة عظيمة فيها تردد، واضطراب كالرعد إذا تمحص. أنشد ابن السكيت (قول الشاعر (¬6) يصف الغيث) (¬7): إذا رجَفَتْ فيها رحى (¬8) مُرْجَحَنَّةٌ ... تَبَعَّجَ ثجّاجًا غزير الحَوَافلِ (¬9) ¬

_ (¬1) في (ع): ترد. (¬2) هدهدته: الهدَّة: صوت شديد تسمعه من سقوط ركن، وناحية جبل، والهادُّ: صوت يسمعه أهل السواحل يأتيهم من قبل البحر له دويّ في الأرض، وربما كانت له الزلزلة، ودويُّه هَدِيدُه. انظر: "تهذيب اللغة" 5/ 353 مادة: (هدد)، "الصحاح" 2/ 555 - 556 مادة: (هدد). "تقول العرب: رعدت السماء، فإذا زاد صوتها قيل: ارتجست، فإذا زاد قيل: أرْزمت ودوَّت، فإذا زاد واشتد قيل: قصفت وقعقعت، فإذا بلغ النهاية قيل: جلجلت وهَدْهَدت". "فقه اللغة" للثعالبي: 298. (¬3) في (ع): الساب. (¬4) "تهذيب اللغة" 11/ 43 مادة: (رجف). وقد ذكره الأزهري من غير أن يعزوه إلى الليث. وانظر: "لسان العرب" 9/ 113. (¬5) في (ع): فالرجفة. (¬6) هو النابغة الذبياني. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) في أ، وع: رحا. (¬9) ديوان النابغة الذبياني: 92، ط المؤسسة العربية للنشر، وهو برواية: "تبعق ثجاج غريرُ".

7

قال: الرجف: الرعد، والرحى (¬1): معظم (¬2) السحاب (¬3). وقال (¬4) مجاهد: يعني: تتزلزل الأرض والجبال (¬5). وانتصب "يومًا" بإضمار اذكر (¬6). وقال أبو إسحاق: "يوم" منصوب على معنى قوله: يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، يعني أن التقدير: تجف القلوب (¬7) يوم ترجف الراجفة (¬8). 7 - وقوله تعالى: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} قالوا (¬9): يعني: النفخة الثانية (¬10) التي فيها البعث، ردفت (¬11) النفخة الأولى. ¬

_ (¬1) في أ، وع: رحا. (¬2) في (ع): المعظم. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (أ): وقول. (¬5) بمعناه ورد في "جامع البيان" 30/ 32، "الكشف والبيان" ج 13: 35/ أ، "النكت والعيون" 6/ 195، "معالم التنزيل" 4/ 442، "الدر المنثور" 8/ 406 وعزاه إلى عبد بن حميد، والبيهقي في البعث. (¬6) ويجوز أن يكون ظرفًا لما دلَّ عليه راجفة أو خاشعة، أي يخاف يوم ترجف. انظر: إملاء ما من به الرحمن: 2/ 280، التبيان في "إعراب القرآن" للعكبري السابق: 2/ 1269. (¬7) في (أ): القلب. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 278 بتصرف. (¬9) منهم: ابن عباس، والحسن، والضحاك. وحكاه الشوكاني عن جمهور المفسرين. انظر: "جامع البيان" 30/ 31 - 32، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498، "فتح القدير" 5/ 373. (¬10) بياض في (ع). (¬11) رَدِفَه -بالكسر-: أي تبعه، يقال: كان نزل بهم أمر فرَدِف لهم آخر أعظم منه، وأرِدَفَه أمر: لغة في رَدفَه، مثل: تبعه وأتبعه.

8

قال أبو عبيدة (¬1)، والمبرد (¬2): والرادفة: كل شيء جاء بعد شيء، يقال: أردفه، أي جاء بعده. وقال مجاهد: أراد بالرادفة انشقاق (¬3) السماء يأتي بعد الزلزلة (¬4). 8 - (قوله) (¬5): {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} (أي مضطربة خافقة، يقال: وَجَف قلبُه يجِف وجِيفًا إذا اضطرب، ومنه: إيجاف الدابة، وهو حملها على السير الشديد) (¬6). وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الراجفة، ومعناها واحد. قالوا: خائفة (¬7)، وجلة (¬8)، زائلة عن أماكنها (¬9)، ....... ¬

_ = انظر: "الصحاح" 4/ 364 مادة: (ردف). وقال أبو البقاء أيوب: الرَّدْف كل شيء تبع شيئاً فهو ردفه. "الكليات" 2/ 367: فصل الراء. (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 84، وعبارته: كل شيء بعد شيء يردفه فهو الرادفة، الصيحة الثانية. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في (أ): اشتقاق. (¬4) ورد بمعناه في "معالم التنزيل" 4/ 442، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 193. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬6) ما بين القوسين هو المعنى اللغوي للفظ واجفة. انظر فيه مادة: (وجف) في "تهذيب اللغة" 11/ 213، "الصحاح" 4/ 1437، "تاج العروس" 6/ 264. (¬7) قاله: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد. انظر: "جامع البيان" 30/ 33، وعزاه القرطبي إلى عامة المفسرين: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 194. (¬8) قال بذلك: مجاهد، وابن عباس. انظر: "الكشف والبيان" ج 13: 35/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 443، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 194. (¬9) قال بذلك: الضحاك، والسدي. انظر: المراجع السابقة، وانظر أيضًا: "ررح المعاني" 30/ 26.

9

قلقة (¬1)، مستوفزة، مرتكضة (¬2)، شديدة الاضطراب (¬3) (¬4)، غير ساكنة؛ وذلك لما عاينت من أهوال القيامة. 9 - (قوله) (¬5): {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}. أي ذليلة. قاله الكلبي (¬6)، ومقاتل (¬7)، وذلك عند معاينة النار كقوله: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. والمعنى: أبصار أصحابها، فحذف المضاف لأنه لم يرد إبصار القلوب. قال ابن عباس: يريد أبصار من مات على غير الإسلام (¬8)، ويدل على ما قال ابن عباس أنه قال (¬9) {قُلُوبٌ} [النازعات:8]، ولم يقل القلوب، ويدل على هذا أيضًا أنه ذكر منكري البعث. 10 - قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} قال الكلبي: يعنون في الخلق الجديد إلى الدنيا بعد الموت (¬10). ¬

_ (¬1) قاله المؤرج في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 194. (¬2) قاله قطرب في "الكشف والبيان" ج 13: 35/ ب. (¬3) بياض في (ع). (¬4) قال بذلك الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 278. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "تفسير مقاتل" 227/ أ. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد عن عطاء بمثل روايته. انظر: "زاد المسير" 8/ 172. (¬9) أي الله سبحانه وتعالى. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله.

والمعنى: أنرد إلى أول خلقنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا؟ وهذا قول جميع أهل اللغة (¬1) والمعاني. قال أبو إسحاق (¬2)، (وأبو عبيدة (¬3)) (¬4)، والفراء (¬5)، والزجاج (¬6): يقال: رجع فإن في حافرته، وعلى حافرته، أي: رجع من حيث جاء، وأتيت فلانًا ثم رجعت على حافرتي، أي رجعت من حيث جئت. والحافرة عند العرب: اسم أول (¬7) الشيء، وابتداء الأمر (¬8). (قال ابن السكيت: يقال: التقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة، أي عند أول ما التقوا. قال الله تعالى: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي في أول أمرنا، -قال- وأنشدني ابن الأعرابي: أحافرةً على صَلَعٍ وشَيْبِ ... معَاذَ اللهِ مِنْ سَفَهٍ وعَارِ (¬9) ¬

_ (¬1) قال الليث: الحافرة: العودة في الشيء حتى يُردَّ آخره على أوله. "تهذيب اللغة" 5/ 18 مادة: (حفر)، وانظر: "مقاييس اللغة" 2/ 85، "الصحاح" 2/ 635، "لسان العرب" 4/ 205، وجميعها في مادة: (حفر). (¬2) لعله يريد به الثعلبي، فقد ورد بنحو هذا القول عنه في "الكشف والبيان" ج 13: 36/ ب. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 284. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 232. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 278. (¬7) بياض في (ع). (¬8) بياض في (ع). (¬9) ورد البيت غير منسوب في "إصلاح المنطق" لابن السكيت: 295. وانظر مادة: (حفر) في "تهذيب اللغة" 5/ 18، "الصحاح" 2/ 635، "لسان

كأنه قال: أأرجع في صباي، وأمري الأول بعد أن صلعت وشبت (¬1)؟ وفي الحديث: (أن هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته) (¬2)، أي على أول تأسيسه. وأصل هذا من قول العرب: النقد عند الحافرة (¬3). قال أبو العباس: هذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند السَّبْق. والحافرة: الأرض المحفورة. يقال (¬4): أول (¬5) ما يقع حافر الفرس عند السبق على الحافرة فقد وَجَبَ النَّقدُ. -يعني في الرهبان- أي كما يَسْبقُ تقولُ هاتِ النَّقدَ) (¬6). هذا هو الأصل، ثم صار مثلًا لابتداء الشيء، وأوله، وأصله ابتداء السبق -كما ذكرنا- وللمفسرين قول آخر في الحافرة: ¬

_ = العرب" 2/ 205، وفي "جامع البيان" 30/ 33، "الكشف والبيان" ج 13: 36/ أ، "النكت والعيون" 6/ 195 برواية: معاذ الله من جهل وطيش، "زاد المسير" 8/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 195. (¬1) إلى قوله: بعد أن صلعت وشبت ينتهي قول ابن السكيت. انظر: "إصلاح المنطق" 295. (¬2) ورد الأثر في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 406، كما ورد تحت مادة: (حفر) في "تهذيب اللغة" 5/ 18، "لسان العرب" 2/ 205. (¬3) انظر أيضًا هذا المعنى في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 406. (¬4) في (ع): يقول. (¬5) أقل: هكذا وردت في "تهذيب اللغة" 5/ 18 مادة: (حفر). (¬6) ما بين القوسين أي من قوله: قال ابن السكيت .. إلى: كما يسبق تقول هات النقد نقله الإمام الواحدي عن الأزهري من "تهذيب اللغة" 5/ 17 - 18 مادة: (حفر).

11

قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الأرض (¬1). وهو قول مقاتل، قال: يقولون أننا لراجعون نمشي على أقدامنا بعد الموت (¬2)!. والمعنى: أنرد إلى ظهر الأرض أحياءً نمشي عليها؟ (والحافرة، على هذا القول، من الأرض، سميت حافرة يعني محفورة؛ لأن قبورهم تحفر فيها. (قاله الفراء) (¬3). قال: وهذا كقوله: {مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق (¬4)) (¬5). 11 - (وقوله) (¬6): {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً}، (وقرئ: ناخرة (¬7)، (¬8)، يقال: نخر العظم يَنْخَر فهو نخِر، مثل: عَفِنَ يعْفَنُ فهو عَفِن، وذلك إذا ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله وقد ورد عن مجاهد بمثل قوليهما. انظر: "جامع البيان" 30/ 34، وكذا ابن عيسى في "النكت والعيون" 6/ 195. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) في (أ): مدوق. (¬5) ما بين القوسين نقله عن الفراء بتصرف. انظر: "معاني القرآن" 3/ 232، وقد حكاه الفراء عن بعضهم. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) في (ع): نخرة. (¬8) قرأ بذلك حمزة، والكسائي، وأبو بكر، وحجتهم في ذلك رؤوس الآيات بالألف؛ نحو: الحاضرة، والرادفة، والراجفة، والساهرة، فالألف أشبه بمجيء التنزيل، وبرؤوس الآيات. وقرأ الباقون: "عظامًا نخرة" بغير ألف، وحجتهم: أن ما كان صفة منتظر لم يكن فهو بالألف، وما كان وقع فهو بغير ألف. نقلاً عن: "حجة القراءات" 748. وانظر أيضًا: "كتاب السبعة" 670، "الحجة" 6/ 371، "الكشف" عن وجوه القراءات: 2/ 361، الوافي 377.

بلي) (¬1). ويقال نخرت الخشبة نَخَرًا، إذا بليت فاسترخت، وإذا مسستها تفتّت، وكذلك العظم الناخر النخر، قال ذلك الليث (¬2). (وقال أبو عبيدة: ناخرة ونخرة: بالية (¬3)) (¬4). وقال الأخفش: هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن (¬5). قال الفراء: الناخر (¬6)، والنخرة، سواء في المعنى بمنزلة الطامع، والطمع، والباخل والبخل (¬7). واختار [أبو عبيد] (¬8) نخرة، [قال] (¬9): ونظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت، وجدناها كلها العظام النخرة، ولم يسمع في شيء منها الناخرة، -قال-: وكان أبو عمرو يقول: إنما يكون الناخرة التي ¬

_ (¬1) ما بين القوسين لعله نقله عن الزجاج بتصرف. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 278 - 279. (¬2) "تهذيب اللغة" 7/ 346 بيسير من التصرف. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 284 بمعناه. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) ورد قوله في "زاد المسير" 8/ 173، "التفسير الكبير" 31/ 37. (¬6) في (ع): الناخرة. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 231 - 232 مختصرًا. (¬8) في كلا النسختين: أبو عبيدة، وأثبت اسم أبي عبيد؛ لأنه قد ورد في نص العبارة المذكورة في "التفسير الكبير" 31/ 37، وفي "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 196، عن أبي عبيد، وهو الصواب، ولم أجد في المجاز لأبي عبيدة هذا القول. (¬9) ساقطة من النسختين، والمثبت من "التفسير الكبير"، فقد نقله الفخر بنصه عن الواحدي، وأثبته لاستقامة المعنى به: 31/ 37.

تنخر بعد ولم (¬1) تفعل (¬2). وقال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4): ناخرة أجود (¬5) الوجهين لشبه أواخر الآي بعضها ببعض، نحو الحافرة، والساهرة -قالا (¬6) -: والناخرة تأويل آخر، وهي العظام الفارغة التي يصير فيها من هبوب الريح كالنخير (¬7)، (¬8). وعلى هذا: الناخرة من النخير بمعنى: الصوت كنخير النائم، والمخنوق، لا من النخر الذي هو البلى (¬9). وأكثر المفسرين (¬10) على القول الأول، قالوا: يعني بالنية، (وهو قول الضحاك (¬11)، ومقاتل (¬12)) (¬13). ¬

_ (¬1) في (أ): لم. (¬2) المراجع السابقة، وقد ورد قول أبي عمرو بن العلاء أيضًا في "المحرر الوجيز" 5/ 432، "فتح القدير" 5/ 375. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 231. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 279. (¬5) بياض في (ع). (¬6) أي الفراء والزجاج. (¬7) في (أ): كالنخر. (¬8) المرجعان السابقان. (¬9) الناخرة: العظام المجوفة التي تمرُّ فيه الرياح فتنخر. مادة نخر في "تهذيب اللغة" 7/ 345، وانظر أيضًا: "الصحاح" 2/ 825، "لسان العرب" 5/ 199. (¬10) قال بذلك ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وحكاه ابن عطية عن أكثر المفسرين. انظر: "جامع البيان" 30/ 35، "النكت والعيون" 6/ 195، "المحرر الوجيز" 5/ 432، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498. (¬11) "الدر المنثور" 8/ 408 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬12) "تفسير مقاتل" 227/ أ. (¬13) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

12

وذكر الكلبي القولين جميعًا (¬1)، [فقال] (¬2): (نخرة) بالية تتحات. بلي، وناخرة: صيته، وذلك أن الريح (كالنخير، وعلى هذا: الناخرة من النخير، بمعنى) (¬3) إذا دخل العظم الذي قد نخر طرفاه سمعت لها نخيرًا. ومعنى الآيتين: أنهم أنكروا البعث فقالوا: أنرد أحياءً إذا متنا وبليت عظامنا؟. 12 - وقالوا: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}. قال القرظي: قالوا: إن رددنا بعد الموت لنخسرن (¬4). وقال مقاتل: قالوا: إن بعثنا بعد الموت أحياء أصابنا من الخسران ما يقول محمد (¬5). قال أبو إسحاق: والمعنى أهلها خاسرون (¬6). يعني أن الخاسرة جرت صفة للنكرة، والمعنى لأهلها، كما تقول: تجارة رابحة، أي يربح فيها صاحبها، وكرة خاسرة: يخسر فيها صاحبها. 13 - (ثم أعلم الله تعالى سهولة البعث عليه فقال) (¬7): {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ¬

_ (¬1) أحد القولين له في "النكت والعيون" 6/ 195، قال: "خالية: مجوفة تدخلها الرياح فتنخر". وهو بمعنى القول الثاني. (¬2) في كلا النسختين: فقالوا. ولا يستقيم المعنى إلا بما أثبت. والله أعلم. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬4) ورد قوله في "النكت والعيون" 6/ 196، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 196، "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي (226) وعزاه إلى سعيد بن منصور. (¬5) بمعناه في "تفسير مقاتل" 227/ أ. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 279. (¬7) ما بين القوسين نقله عن الزجاج، انظر: المرجع السابق.

قال المفسرون (¬1): يعني النفخة الأخيرة، صيحة واحدة من إسرافيل يسمعونها وهم في بطون الأرض أموات فيحيون، فذلك قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}. يعني وجه الأرض، وظهرها. في قول جميع أهل اللغة، (وأكثر المفسرين) (¬2). قال أبو عبيدة (¬3)، والليث (¬4)، (وغيرهما من أهل اللغة (¬5)) (¬6): الساهرة وجه الأرض، وأنشدوا (¬7): يَرْتَدّون ساهِرةً كأنَّ جميمها ... وعميمها أشداق ليل مظلم (¬8) ¬

_ (¬1) قال بذلك: مجاهد، وابن زيد، والربيع بن أنس، وابن عباس. انظر: "جامع البيان" 30/ 35، "النكت والعيون" 6/ 196، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 196. وحكى هذا القول عن المفسرين الفخر في "التفسير الكبير" 31/ 38، كما ذهب إلى هذا القول: البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 443، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 432، الخازن في "لباب التأويل" 4/ 351. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 285، وعبارته: "الساهرة: الفلاة ووجه الأرض". (¬4) "تهذيب اللغة" 6/ 121 مادة: (سهر)، قال: "الساهرة: وجه الأرض العريضة "البسيط". وانظر: "لسان العرب" 4/ 383 مادة: (سهر). (¬5) قال بذلك الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 279، وهو قول ابن قتيبة أيضًا في "تفسير غريب القرآن" 513. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) لم ينشدوا البيت جميعهم، وإنما الذي ذكره هو الليث في "تهذيب اللغة" 9/ 146 مادة: (سدف). والبيت لأبي كبير الهذلي. (¬8) ورد البيت في "تهذيب اللغة" 6/ 12 مادة: (سهر)، "الصحاح" 2/ 691 مادة: (سهر)، "لسان العرب" 4/ 383 مادة: (سهر)، و9: 146 مادة: (سدف)، "البحر المحيط" 8/ 417، وجميعها برواية: "يرْتَدْن"، و"أسداف"، وفي التهذيب: =

وهو قول ابن عباس (¬1)، ومقاتل (¬2)، (والشعبي (¬3)) (¬4)، وسعيد (بن جبير (¬5)، وعكرمة (¬6)، والحسن (¬7)، وأبي صالح (¬8)) (¬9)، وأنشد (ابن عباس قول أمية) (¬10): وفيهما لحمُ ساهرةٍ وبَحْرٍ ... وما (¬11) فاهوا به لَهُمُ مقيمُ (¬12) ¬

_ = "جحيمها". ومعنى جميمها: الجميم: النبت الكثير، وكا ما اجتمع وكثر عميم. "لسان العرب" 12/ 107 مادة: (جمم). العميم: الطويل من الرجال والنبات. المرجع السابق: 12/ 425 مادة: (عمم). السدف: ظلمة الليل، وقيل: هو بَعْدَ الجنح، والجمع: أسداف. المرجع السابق: 9/ 146 مادة: (سدف). (¬1) ورد قوله في "جامع البيان" 3/ 36، "الكشف والبيان" ج 13: 39/ ب، "النكت والعيون" 6/ 196، "زاد المسير" 8/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 197. وانظر قوله في "لسان العرب" 4/ 383 مادة: (سهر). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "الدر المنثور" 8/ 408 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498، "الدر المنثور" 8/ 408. (¬6) المرجعان السابقان، بالإضافة إلى "جامع البيان" 30/ 37، "النكت والعيون" 6/ 196، "زاد المسير" 8/ 173. (¬7) "جامع البيان" 30/ 37، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498، "الدر المنثور" 8/ 408 وعزاه إلى عبد بن حميد بمعناه، وانظر: تفسير الحسن البصري: 2/ 395. (¬8) "تفسير القرآن العظيم " 4/ 498. (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬10) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬11) في (ع): مما. (¬12) ورد البيت في شرح ديوانه: 68.

15

قالوا جميعًا: أراد بالساهرة: الأرض، وفوق الأرض، وظهر الأرض، ووجه الأرض. كل هذا من ألفاظهم (¬1). قال الفراء: كأنها سميت بذلك؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم (¬2). وقال غيره (¬3) (من أهل المعاني (¬4)) (¬5): العرب تسمى وجه الأرض من الفلاة ساهرة، أي ذات سهر؛ لأنه يسهر فيها خوفًا منها. 15 - قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}. ¬

_ = "لسان العرب" 4/ 383 مادة: (سهر)، "جامع البيان" 30/ 36، "النكت والعيون" 6/ 196، "الكشف والبيان" ج 13: 36/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 198، "معاني القرآن" للفراء: 3/ 231، "البحر المحيط" 8/ 417، "الدر المنثور" 8/ 408 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وانظر: فضائل القرآن ومعالمه وآدابه: لأبي عيد القاسم بن سلام: 2/ 173 برواية: "وفيها لحم"، "روح المعاني" 30/ 28، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: 2/ 285، كتاب "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 69، الساهرة: الأرض، ومقيم: ثابت. انظر: شرح ديوانه. (¬1) وهناك أقوال أخرى لمعنى الساهرة، ذكرها الطبري في "جامع البيان" 30/ 37 - 38، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 196 - 197، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 173 - 174، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498، وقال عنها ابن كثير: وهذه الأقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض، ووجهها الأعلى. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 498. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 232 بيسير من التصرف. (¬3) في (أ): غيرهم. (¬4) منهم الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 279، وهو أيضًا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 285، كما ذكره القرطبي معزوًا إلى العرب بمثل ما أورده الواحدي. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 197. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

قال مقاتل: قد جاءك يا محمد حديث موسى. (¬1) هذا كقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، وقد مر (¬2). وقال الكلبي: ولم يكن أتاه حديث موسى بعد في القرآن ثم أتاه إذ ناداه ربه (¬3). قال ابن عباس: كلمه ربه (¬4) -وباقي الآية (¬5) مفسر في [أول] (¬6) سورة طه (¬7) -. وقال مقاتل: دعاه ربه فقال: يا موسى اذهب إلى فرعون إنه طغى (¬8). قال مقاتل (¬9)، ومجاهد (¬10): عصى الله. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وعنى بقوله هذا أن "هل" بمعنى: "قد". (¬2) راجع سورة الدهر: 1. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) وهو قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}. (¬6) ساقط من: (أ). (¬7) سورة طه: 12، 43. ومما جاء في تفسيرها: "قال: وقوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} أي المطهر، المقدس: المبارك، وقوله: "طوى" هو اسم الوادي، وهو قول جميع المفسرين. وقوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي جاوز القدر في العصيان، وذلك أنه خرج من معصيته إلى فاحش تجاوز به معاصي الناس. وقال أهل المعاني: وفي الآية محذوف؛ لأن المعنى: اذهب إلى فرعون فادعه إلى توحيد الله إنه طغى؛ لأنه أمِر بالذهاب إليه، وأن يدعوه إلى التوحيد". (¬8) "تفسير مقاتل" 227/ ب بمعناه (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله.

18

وقال عطاء: عصى على بني إسرائيل (¬1). وقال (¬2) الكلبي: علا، وتكبر، وكفر بالله (¬3). 18 - فقال: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}. أي تتطهر من الشرك، ومنه قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] (¬4)، وقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} (¬5) [الكهف: 74]. والمبتدأ محذوف [في] (¬6) اللفظ مراد في المعنى. التقدير: هل لك إلى ذلك حاجة أو إربة (¬7). قال: فَهَلْ لكُمُ فيها إليَّ فإنني ... بصيرٌ بما أعيى (¬8) النِّطاسي حِذْيَما (¬9) ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله في "التفسير الكبير" من غير عزو 31/ 40. (¬2) في (أ): فقال. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 444. (¬4) في (ع): زكيها. (¬5) في (أ): زاكية. (¬6) ساقط من: أ. (¬7) إربة: الإربة: الحاجة، والجمع: المآرب. انظر مادة: (أرب) في مختار "الصحاح" 13، "المصباح المنير" 1/ 16. (¬8) في (أ): أعي. (¬9) ورد البيت في ديوانه: 111 ط دار صادر برواية: "طبيب بما أعيى"، "الخصائص" لابن جني: 2/ 453، "المفصل" 3/ 25، "الخزانة" 2/ 232. ومعنى قوله: "فهل لكم فيما إلى: هل لكم علم وبصيرة فيما يرجع نفعه وفائدته إلى، ثم أعرض عن مشاورتهم وقال: إنني أعلم وأعرف بحالي منكم، فإنني بصير بما يعيي النطاسي ابن حذيم -وهو رجل من تيم الرباب- وكان متطببًا عالمًا. "ديوانه" (111).

19

وفيه قراءتان: التشديد (¬1) على إدغام "تاء" الفعل (في الزاي لتقاربهما. والتخفيف (¬2) على حذف "تاء" الفعل) (¬3). قال ابن عباس في قوله: "تزكى": تشهد أن لا إله إلا الله (¬4). وقال مقاتل: توحد الله (¬5). وقال الكلبي: تعمل خيرًا (¬6). 19 - {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} (¬7). قال ابن عباس (¬8)، ومقاتل (¬9): وأدعوك إلى عبادة ربك. {فَتَخْشَى} فتسلم من خشية الله، وتوحد الله. وقال أهل المعاني: فتخشى عقابه، ويكون المعنى: تؤدي ما ¬

_ (¬1) قرأ بذلك: أبو جعفر، وابن كثير، ونافع، ويعقوب: "إلى أن تزَّكَّى" مشددة الزاي. انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 745، "الحجة" 6/ 374، "المبسوط" 395، "حجة القراءات" (749)، "كتاب التبصرة" (720). (¬2) قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "تزكى" خفيفة. انظر: المراجع السابقة. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 444، "الدر المنثور" 8/ 410، وانظر: "الأسماء والصفات" 1/ 183. (¬5) "تفسير مقاتل" 227/ ب. (¬6) "النكت والعيون" 6/ 197. (¬7) فائدة: دلت الآية على أن معرفة الله مقدمة على طاعته؛ لأنه ذكر الهداية، وجعل الخشية مؤخرة عنها، ومفرعة عليها. قاله الفخر في "التفسير الكبير" 31/ 41. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بنحو من قوله من غير عزو في "زاد المسير" 8/ 174، "لباب التأويل" 4/ 351. (¬9) بمعناه في "تفسير مقاتل" 227/ ب.

20

يلزمك (¬1) من فرضه خشية عقابه (¬2). 20 - {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)} قال عطاء: يعني العصا (¬3). وقال الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5): هي اليد، وكانت أعظم، وأعجب آية من العصا. وقال مجاهد: هي اليد، والعصا (¬6). 21 - {فَكَذَّبَ} بالآية أنها من الله. {وَعَصَى} الله، ونبيه فلم يطعهما. 22 - {ثُمَّ أَدْبَرَ} أعرض عن الحق، والإيمان (¬7). {يَسْعَى} يعمل بالفساد في الأرض (¬8). وهو قوله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى} فجمع قومه، وجنوده فنادى 24 - قال مقاتل: (لما اجتمعوا قام عدو الله فرعون على سريره. {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أي لا رب فوقكم) (¬9). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد قال بنحوه الطبري في "جامع البيان" 30/ 39. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 42. (¬5) المرجع السابق، "تفسير مقاتل" 227/ ب. (¬6) "تفسير الإمام مجاهد" (703)، "جامع البيان" 30/ 40، "المحرر الوجيز" 5/ 433، وحكاه ابن الجوزي عن جمهور المفسرين في "زاد المسير" 8/ 174، "الدر المنثور" 8/ 409 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬7) وهذا قول مجاهد. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 433. (¬8) وهو قول مجاهد. انظر: تفسير الإمام مجاهد: 703، وإليه ذهب الطبري في "جامع البيان" 30/ 40، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 37 / ب. (¬9) ما بين القوسين من قول مقاتل، وقد ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 227/ ب.

25

وقال عطاء: كان قد صنع لهم أصنامًا صغارًا، فقال لهم: اعبدوها وأنا ربكم ورب أصنامكم (¬1). 25 - قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} قال أبو إسحاق: "نكال" مصدر مؤكدة لأن معنى (¬2) "أخذه الله": نكَّلَ الله به نكال الآخرة (¬3). (ونحو هذا) (¬4) قال المبرد: أخذه في موضع نكله (¬5). وكما قال: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] إنما هو الإهلاك والتنكيل، كما تقول: ادعه تركًا شديدًا؛ لأن أدعه وأترك سواء. وأنشد (¬6): وقد تَطَوَّيْتُ انطواء الحِضبِ (¬7) (¬8) لأن تطويت وانطويت سواء. وقال الفراء: يريد أخذه الله أخذًا نكالًا للآخرة والأولى (¬9). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 200. (¬2) في (أ): معناه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 280 بنصه. (¬4) في النسخة: أ: ورد لفظ: "كما" بدلاً من: ونحو هذا، ويستقيم المعنى بإثبات أحدهما. (¬5) "المحرر الوجيز" 5/ 434، والعبارة عنه: "قال: نكال: نصب على المصدر، والعامل فيه على رأي أبي العباس المبرد فعل مضمر من لفظ "نكال". وانظر أيضًا قوله في "البحر المحيط" 8/ 222، وانظر: "التفسير الكبير" 31/ 43 من غير عزو. (¬6) نسب إنشاده لسيبويه ابن منظور في "لسان العرب" 15/ 18 مادة: (طوى). (¬7) في (أ): الحطب. (¬8) ورد البيت غير منسوب في "لسان العرب" 15/ 18 مادة: (طوى). ويراد بالحضب ضرب من الحيات. المرجع السابق. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 233 بيسير من التصرف.

وذكر المفسرون في هذه الآية قولين: أحدهما: أن الآخرة، والأولى صفة لكلمتي فرعون، أحدهما قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، والآخرة (¬1) قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]-قالوا-: وكان بينهما أربعون سنة. وهذا قول (مجاهد (¬2)، والشعبي (¬3)، وسعيد بن جبير (¬4)، ومقاتل (¬5)، ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس (¬6)) (¬7). وقال الحسن (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ع): الآخر. (¬2) "تفسير الإمام مجاهد" (703)، "جامع البيان" 30/ 41 - 42، "زاد المسير" 8/ 175، "الدر المنثور" 8/ 409 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) المراجع السابقة عدا تفسير مجاهد، وانظر: أيضًا: "التفسير الكبير" 31/ 44، "روح المعاني" 30/ 30. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 44. (¬5) "تفسير مقاتل" 227/ ب، "زاد المسير" 8/ 175،"التفسير الكبير" 31/ 44. (¬6) وردت الرواية عنه من غير ذكر الطريق في "كنز العمال" 2/ 12: ح: 2936، "المحرر الوجيز" 5/ 434، "زاد المسير" 8/ 175، "الدر المنثور" 8/ 410، وبالطريقين في "التفسير الكبير" 31/ 44، ومن طريق أبي الضحى عن ابن عباس في "تفسير الإمام مجاهد" (703). (¬7) ما بين القوسين من: ع، وقد كتب في نسخة: أبدلاً منه: وهذا قول جماعة. وممن قال بذلك أيضًا: الضحاك، وابن زيد، وخيثمة، وعكرمة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 346، "جامع البيان" 30/ 42، "النكت والعيون" 6/ 198، "زاد المسير" 8/ 175، "الدر المنثور" 8/ 410. (¬8) "معالم التنزيل" 4/ 444 بمعناه، "التفسير الكبير" 31/ 44، "زاد المسير" 8/ 175، "الدر المنثور" 8/ 409 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 395.

26

وقتادة (¬1): (نكال (¬2) الآخرة والأولى): أغرقه (¬3) في الدنيا، وعذبه في الآخرة. وتفسير نكال قد تقدم في سورة البقرة (¬4). 26 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي فعل (¬5) فرعون حين كذب، وعصى. {لَعِبْرَةً} يريد فكرة، وعظة. {لِمَنْ يَخْشَى} الله. ثم خاطب منكري البعث فقال: 27 - {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} قال مقاتل: يعني بعثًا بعد الموت (¬6). والمعنى: أخَلْقُكُم بعد الموت أشد أم السماء؟ أي عندكم وفي تقديركم، وهما عند الله واحد، والذي قدر على خلق السماء قادر على بعثكم بعد الموت وإعادتكم. كما قال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [يس: 81]. الآية. وكقوله -أيضًا-: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. ¬

_ (¬1) المراجع السابقة. وانظر أيضًا: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 347. (¬2) في (أ): تلك. (¬3) في (أ): غرقه. (¬4) سورة البقرة: 66. قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ومما جاء في تفسير "نكالًا" قال: "والنكال اسم لما جعلته نكالًا لغيره إذا رآه خاف أن يعمل عمله، وأصل هذا من قولهم: نكل عن الأمر ينكل نكولًا إذا جبن عنه، يقال: نكَّلت بفلان إذا عاقبته في شيء أتاه عقوبة تُنَكِّل غيره عن ارتكاب مثله، أي: تمنع وترد. والنَّكْل: القيد؛ لأنه يمنع الجري، والنِّكْل: حديث اللجام". (¬5) في (أ): يعمل. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

وليس معنى الآية: أنتم أحكم صنعة أم السماء!، وهذا قول الكلبي (¬1)، وهو بعيد، وتم الكلام عند قوله: "السماء" على قول الكسائي، والفراء، والزجاج. قال الكسائي: "أأنتم أشد خلقًا أم السماء"، ثم قال بعد: "بناها (¬2) " (¬3). قال الفراء (¬4): أأنتم يا أهل مكة أشد خلقًا أم السماء، ثم وصف السماء، فقال: بناها. (¬5). وقال الزجاج: أأنتم أشد خلقًا، أم السماء أشد خلقًا، ثم بين كيف خلقها، فقال: بناها (¬6) "رفع سمكها" (¬7). (وعند أبي حاتم الوقف على قوله: "بناها" (¬8)؛ لأنه قال: من صلة السماء. المعنى التي بناها) (¬9). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) في (ع): بنيها. (¬3) ورد معنى قوله في "التفسير الكبير" 31/ 45، "فتح القدير" 5/ 378. (¬4) في (ع): الزجاج، وهي كلمة وضعت سهوًا في غير موضعها. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 233 بتصرف. (¬6) في (ع): بنيها. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 280 بنحوه. (¬8) "الإيضاح" لابن الأنباري: 2/ 965، "القطع والائتناف" للنحاس: 2/ 787. وانظر: "المكتفى في الوقف والابتداء" للداني (607). والسبب في الوقف على قوله: "بناها" لإتباع خبر خبرًا بلا عطف. انظر: "علل الوقوف" للسجاوندي: 3/ 1090. (¬9) ما بين القوسين نقله بنحوه عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 280.

29

والقول هو الأول، والسماء ليس مِمَّا يوصل (¬1). ومعنى {سَمْكَهَا} قال المفسرون: سقفها (¬2). {فَسَوَّاهَا} بلا شقوق (¬3)، ولا فطور. 29 - {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} قال المفسرون: أظلم (¬4). ¬

_ (¬1) فيكون المعنى على ذلك: أأنتم أشد خلقًا أم السماء أشد خلقًا. انظر: "زاد المسير" 8/ 175. (¬2) وممن ذهب إلى هذا القول: البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 444، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 201. وقد اختلفت ألفاظ المفسرين في معنى "سمكها", قال قتادة في قوله: "رفع سمكها فسواها" رفع بناءها، فسواها، وعن مجاهد: رفع بناءها بغير عمد، وعن ابن عباس: يقول بنيانها. انظر في ذلك كله: "جامع البيان" 30/ 43. وقال الليث: والسَّمَاك: ما سمعت به حائطًا أو سقفًا، والسقف يسمى سَمْكًا، والسماء مسموكة، أي مرفوعة كالسَّمْك. "تهذيب اللغة" 10/ 84 مادة: (سمك). وما مضى من الأقوال يتبين من خلالها معنى واحد لـ"سمكها"، وهو البناء المرفوع، وهو السقف. والله أعلم. (¬3) في (ع): سقوف. (¬4) قال بذلك قتادة، وابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، والضحاك، وعكرمة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 347، "جامع البيان" 30/ 44، وقاله أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 285، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 513، واليزيدي في "غريب القرآن" (412)، والطبري في "جامع البيان" 30/ 43، ومكي بن أبي طالب في "العمدة في غريب القرآن": 334، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 198. وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 445، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 434، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 175، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 202، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 451، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 500.

30

(أي جعله (¬1) مظلمًا، يقال أغطش الليل، وأغطشه الله، والغطش الظلمة، والأغطش شبه الأعمش) (¬2). {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} قالوا: وأبرز نهارها، وضوءها، وشمسها (¬3). وأضاف الليل، والضحى إلى السماء الآن) (¬4) الظلمة، والنور كلاهما ينزل من السماء. 30 - {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، (أي: أبسطها، يقال دحوت أدحو دحوًا، ودَحَيْت أدحي دحيَّا (¬5)، وفي حديث علي -رضي الله عنه-: اللهم داحي المدحيات (¬6)، يعني باسط الأرضين السبع وموسعها، وهي ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) ما بين القوسين بيان للمعنى اللغوي لقوله: "أغطش". انظر في ذلك مادة: (غطش) في "تهذيب اللغة" 16، "المستدرك" 161، "لسان العرب" 6/ 324. (¬3) هذه من ألفاظ المفسرين، قال قتادة: أنور ضحاها. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 347. وعن مجاهد: نورها، وعن الضحاك: نهارها، وعن ابن زيد: ضوء النهار. انظر: "جامع البيان" 30/ 44. وعن ابن عباس: أن أخرج ضحاها: الشمس. "النكت والعيون" 6/ 199. وانظر أيضًا في ذلك: "معالم التنزيل" 4/ 445، "زاد المسير" 8/ 176، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 203. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) الدحو: البسْطُ، دَحا الأرض يَدْحوها دَحْوًا: بسطها. "لسان العرب" 14/ 251 مادة: (دحا). وفي "النهاية" الدَّحْو: البسط، والمَدْحوات: الأرضون، يقال: دَحا يدْحو، ويَدْحى: أي بسط ووسع 2/ 101. (¬6) "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 101، "التفسير الكبير" 31/ 48، "الدر المنثور" 8/ 412 وعزاه إلى أبي الشيخ في "العظمة"، مرفوعًا من طريق علي بمعنى رواية الواحدي.

المدحوات -بالواو- أيضًا) (¬1). وذكرنا الكلام في رتبة (¬2) خلق السماء والأرض عند قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] في أول حم السجدة (¬3). ¬

_ = والذي وجدته عند أبي الشيخ من طريق البزار مرفوعًا من حديث علي: تبارك رافعها ومدبرها، ثم رمى ببصره -صلى الله عليه وسلم- إلى الأرض، فقال: تبارك داحيها وخالقها). العظمة: 195: ح: 562. وأورد هذه الرواية الهيثمي من طريق عليًا مرفوعة أيضًا مطولة، وقال: رواه البزار، وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد" 7/ 328. وقد ضعف محقق العظمة هذه الرواية بناء على كلام الهيثمي رحمه الله. (¬1) ما بين القوسين نقله الواحدي عن "تهذيب اللغة" 5/ 190 مادة: (دحا) بتصرف. وانظر: "لسان العرب" 14/ 251 مادة: (دحا). (¬2) في الأصل: تربة وهو تصحيف. (¬3) ومما جاء في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}: الإشكال بينها وبين آية النازعات. قال: وقع عد البعض إشكال بين قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}، وبين قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فقالوا: هذه الآية تدل على أنه خلق الأرض قبل السماء؛ لأنه ذكر خلق الأرض، ثم قال بعد ما فرغ من ذكر خلق الأرض: "ثم استوى إلى السماء"، وقال في موضع آخر: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فدلت هذه الآية على أنه خلق الأرض بعد السماء، فادعوا التناقض. ثم رد عليهم بأجوبة، منها: 1 - أن الله تعالى قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولم يقل خلقها، وابتدأها، أو أنشأها، فابتداء خلق الأرض كان قبل خلق السموات، ثم خلق السموات، ثم دحا بعد ذلك الأرض، أي بسطها ومدها، فقد كانت ربوة مجتمعة. وهذا قول ابن قتيبة. 2 - أن خلق الله -على ما ذكر الله في سورة فصلت، وقوله: "والأرض بعد ذلك" =

وقال أبو عبيدة: (دحاها)، و (طحاها): بسطها، يقال: دحوت، ودحيت (¬1). وأنشد قول زيد بن عمرو (¬2) بن نفيل: دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبال (¬3) ¬

_ = معناه: والأرض مع ذلك، وهذا جار في كلام العرب، وإقامة بعض الصفات مقام بعضها الآخر سائر مشهور. 3 - أنه يجوز أن يكون تأويل قوله: "بعد ذلك" بمعنى قبل، ويجري مجرى حروف الأضداد، وشاهده قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} قال بعضهم: معناه: من قبل الذكر؛ لأن الذكر هو القرآن. ثم ينهي الواحدي القول في هذه المسألة بقول ابن عباس: أولاً هو خلق السماء قبل أن يخلق الأرض، ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء. ثم يقول ابن الأنباري: الذي أختاره هو: أن خلق الأرض قبل خلق السماء؛ لأن ظاهر القرآن عليه أدل عليه، والحجج له أوضح. ثم ذكر قول السدي في بيان كيف أنشأ السبع السموات -قال-: قال السدي: في قوله: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" قبل ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس، خلقها سماء واحدة، ثم فتقها، فجعلها سبعاً في يومين: في الخميس والجمعة. انظر: "الوسيط" ج 4: 238/ ب، 239/ أ. (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 285 بيسير من التصرف، ولم ينشد أبو عبيدة بيت الشعر الذي عزاه إليه الواحدي. (¬2) في (أ): عمر. (¬3) ورد البيت في "التفسير الكبير" 31/ 48، "النكت والعيون" 6/ 199، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 207، "البحر المحيط" 8/ 418، "روح المعاني" 30/ 32، وكلها -عدا "التفسير الكبير"- برواية: دَحاها فلما استوت شدَّها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا

31

31 - قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} قال ابن عباس: يريد فجرّ البحار والأنهار، والعيون، وجميع الماء (¬1). {وَمَرْعَاهَا} مما يأكل الناس والأنعام. قال عبد الله بن مسلم: انظر كيف دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض: قوتًا ومتاعًا للأنام من العُشب، والشجر، والحب، والثمر، والعصف (¬2)، والحطب، واللباس، والنار، والملح؛ لأن النار من العيدان، والملح من الماء (¬3). ينبئك أنه أراد ذلك. 34 - قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} قال ابن عباس: يريد النفخة الثانية (¬4). -وهو قول مقاتل (¬5) - التي فيها البعث. وقال الكلبي: الطامة: الساعة؛ طمت على كل شيء، فليس فوقها شيء (¬6). قال المبرد: "الطامة" عند العرب: الداهية التي (¬7) لا تستطاع، ¬

_ (¬1) "الوسيط" 4/ 421. (¬2) العَصْف، والعَصْفَة، والعَصِفة، والعُصافة: ما كان على ساق الزرع من الورق الذي يبس، فيتفتت. انظر: "لسان العرب" 9/ 247 مادة: (عصف). (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 5 بنصه. (¬4) "المحرر الوجيز" 5/ 434، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 204، "البحر المحيط" 8/ 423. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد بمثله من غير عزو في "لباب التأويل" 4/ 352. (¬7) في (أ): الذي.

35

أخذت -فيما أحسب- من قولهم: طمَّ الفرسُ طميمًا إذا استفرغ جهده في الجري، و"طم الماء" إذا ملأ النهر كله (¬1). قال الليث: الطَّمُّ: طَمُّ البئر بالتراب، وهو الكَبْس، وطم السيل الرَّكيَّة (¬2): إذا دفنها حتى يسوِّيَها، ويقال للشيء الذي يكثر حتى يعلو: قد طم، والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها (¬3)، ومن ثم قيل: فوق كل طامَّة طامَّة (¬4). قال الفراء: هي القيامة تطم على ما سواها، ومن ثم يقال: تَطِمّ وتَطُمّ: لغتان (¬5). قال الزجاج: هي الصيحة التي تطم كل شيء (¬6). وقوله (¬7): {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} أي جاءت الطامة. 35 - {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} أي ما عمل من خير وشر في الدنيا. ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 50، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 204، "فتح القدير" 5/ 379. (¬2) الرَّكيَّة: البئر، والجمع: ركايا. "المصباح المنير" 1/ 282 مادة: (ركا). (¬3) قوله: والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها: لم يرد في "تهذيب اللغة". (¬4) "تهذيب اللغة" 13/ 306 مادة: (طم). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 243 بيسير من التصرف، وقد نقله الواحدي عن الأزهري من "تهذيب اللغة" 13/ 306 مادة: (طم). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 281، وقد نقل قوله أيضًا عن "تهذيب اللغة". المرجع السابق. ونص عبارة الزجاج في معانيه: "إذا جاءت الصيحة التي تطم كل شيء، الصيحة التي يقع معها البعث والحساب والعقاب والعذاب والرحمة". (¬7) في (أ): قوله.

36

وقال (¬1) الكلبي: هو الكافر (¬2). (وقال عطاء: يريد أبا جهل (¬3)) (¬4). 36 - قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} قال مقاتل: تكشفت عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق (¬5). وقال الكلبي: يراها كل ذي بصر (¬6). وذكر عن ابن عباس (في رواية عطاء) (¬7) ما يدل على أن المراد بقوله: "لمن يرى" الكفار دون المسلمين (¬8)، واللفظ يحتمل ذلك؛ لأنه قال: "لمن يرى" (¬9) أي برزت لمن يراها من هو أهل لها، وجواب قوله: "فإذا جاءت الطامة" محذوف على تقدير: إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، ودل على هذا المحذوف ذكر مأوى (¬10) الفريقين من بعد، ولهذا كان يقول مالك بن مِغْول (¬11) (¬12) في تفسير "الطامة الكبرى" ¬

_ (¬1) في (ع): قال. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد بمثله من غير عزو في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 205. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) ورد قوله بمعناه في تفسيره: 228/ أ، كما ورد قوله في "معالم التنزيل" 4/ 445، "زاد المسير" 8/ 117. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) في (ع): يراها. (¬10) في (أ): روى. (¬11) في (ع): مععول. (¬12) مالك بن مِغْوَل البَجَليُّ، أبو عبد الله الكوفي، ابن عاصم بن غَربة بن حُرثة بن =

37، 38

(قال) (¬1): إنها إذا سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وهو قول القاسم (¬2) بن الوليد (¬3) (¬4). 37، 38 - قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} يعني الكافر. قال مقاتل (¬5)، والكلبي (¬6): نزلت في النضر وأبيه الحرث. 39 - {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (أي المأوى (¬7) تأويه) (¬8)، (قال الكلبي هي: المأوى) (¬9) لمن كان بهذه الصفة (¬10). ¬

_ = جريج بن بجيلة، روى عن نافع مولى ابن عمر، روى عنه سفيان الثوري وغيره، ثقة. مات سنة 157 هـ روى له الجماعة. انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 314: ت: 1339، كتاب "الثقات" لابن حبان: 7/ 462، "تهذيب الكمال" 27/ 158: ت: 5753. (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬2) في (ع): القاسم. (¬3) القاسم بن الوليد الهمدانيُّ ثم الخِبْذعِيُّ، روى عن الشعبي، والباقر، وعنه ابنه الوليد، وأبو نعيم. ثقة. توفي سنة 141 هـ. انظر: كتاب "التاريخ الكبير" 7/ 167: ت: 747، "تهذيب الكمال" 23/ 456 ت: 4833، "الكاشف" 2/ 339: ت: 4607. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل" 228/ أ. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. وبمثل روايته ورد من غير عزو في "التفسير الكبير" 31/ 52. (¬7) المأوى: كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهارًا، وقد أوى فلان إلى منزله، يأوي أويًا. "الصحاح" 6/ 2274 مادة: (أوا)، وانظر: "لسان العرب" 14/ 52 مادة: (أوا). (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله.

40

40 - {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} تقدم تفسيره في سورة الرحمن (¬1). {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} قال عطاء (¬2)، والكلبي (¬3)، (ومقاتل (¬4)) (¬5): نزلت في مصعب بن عمير. والمعنى نهى نفسه عن المحارم التي يشتهيها، وعما كان يهوى في الجاهلية. وقال مقاتل: هو أن الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه على الله للحساب فيتركها (¬6)، فذلك قوله: ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى أي مأواه ومصيره. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: 46: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}. ومما جاء في تفسيرها: أنه يجوز أن تكون مصدرًا، وموضعًا، فإن جعلته موضعًا كان المعنى: مقامه بين يدي ربه للحساب، أي المقام الذي يقفه فيه ربه. وإن جعلته مصدرًا جاز فيه وجهان: قيامه لربه، يدل عليه قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]. والآخر: قيام ربه عليه، أي إشرافه واطلاعه عليه بالعلم، ويدل عليه قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] الآية. والمفسرون على القول الأول في المقام، قال ابن عباس: يريد مقامه بين يدي ربه خاف ذلك المقام، فترك المعصية والشهوة. وقال مجاهد: إذا هم بمعصية فذكر مقام الله عليه في الدنيا فتركها، وعلى هذا المقام مصدر. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثل قوله من غير عزو عند تفسير قوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} في "النكت والعيون" 6/ 200، و"التفسير الكبير" 31/ 35، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 206. (¬4) "تفسير مقاتل" 228/ أ. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) ورد بنحو قوله في "معالم التنزيل" 4/ 445، "زاد المسير" 8/ 177.

42

قال ابن عباس: يريد مأوى مصعب بن عمير نزلت فيه (¬1). ثم هي لمن بعده ممن كان بهذه الصفة. قال الفراء: يريد مأوى من وصفناه بما وصفناه به من خوف ربه، ونهى نفسه عن هواها (¬2). 42 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}، مفسر في آخر سورة الأعراف (¬3) (¬4) -أي متى وقوعها، وقيامها. 43 - {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} قال عطاء: يريد لم أطلعك على ¬

_ (¬1) ورد بمعنى هذه الرواية عن ابن عباس في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 206، وذكر في أحدها عنه أنها نزلت في رجلين: أبي جهل بن هشام، ومصعب بن عمير العبدري. والأخرى من رواية طويلة أنها نزلت في مصعب بن عمير، وأخيه عامر بن عمير. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 234 بيسير من التصرف. (¬3) في (أ): الأنعام، وهو خطأ. (¬4) سورة الأعراف: 187: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ومما جاء في تفسيرها: "يسألونك" قال ابن عباس: إن قومًا من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا عن الساعة متى تكون إن كنت نبيًا؟ وقال الحسن وقتادة: هم قريش، قالت لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ "عن الساعة" قال ابن عباس: يريد التي لا بعدها ساعة. وقال الزجاج: هاهنا الساعة التي يموت فيها الخلق. وقوله: "أيان" معناها الاستفهام عن الوقت الذي لم يجيء، وهو سؤال عن السؤال على جهة الظرف للفعل. وقوله تعالى: "مرساها" المرسى: مفعل من الإرساء، وهو الإثبات، يقال: ولا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره، قال الله: "والجبال أرساها". ومعنى: "أيان مرساها" متى يقع إثباتها، قال بعضهم: مرساها: قيامها، وهو معنى وليس بتفسير، وقال الزجاج: متى وقوعها، وقال ابن قتيبة: متى ثبوتها.

44

علمها (¬1) (¬2). وقال الكلبي: يقول ما أنت وذاك أن تذكرها (¬3). والمعنى لست في شيء من ذكرها (¬4) وعلمها، أي لا تعلمها. و {فِيمَ} استفهام بمعنى الجحد (¬5). 44 - {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا}. قال أبو إسحاق: أي منتهى علمها (¬6). (وهو معنى قول المفسرين (¬7)) (¬8). قال ابن عباس: يريد علم ذلك عندي (¬9). 45 - {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}، قال الزجاج: أي إنما أنت (¬10) في ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (أ): ذكراها؟ (¬5) أي النفي. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 281 بنصه. (¬7) قاله ابن عباس. انظر: "الدر المنثور" 8/ 413 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه بسند ضعيف. ومن قال بمعنى ما قاله أبو إسحاق: الطبري في "جامع البيان" 30/ 49، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 39/ أ، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 201، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 445، "زاد المسير" 8/ 178، "التفسير الكبير" 31/ 53، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 207، "لباب التأويل" 4/ 352. (¬8) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) فقوله: إنما أنت: بياض في (ع).

حال إنذار من يخشاها (¬1)، وتنذر أيضًا فيما يستقبل من يخشاها، ومفعل وفاعِلٌ إذا كان كل واحد منهما لما يستقبل، وللحال نونته؛ لأنه يكون بدلاً من الفعل، والفعل لا يكون إلا نكرة، وقد يجوز حذف التنوين علي الاستخفاف. والمعنى: معنى ثبوته (¬2)، فإذا كان لما مضى فهو غير منون ألبتة تقول: أنت منذر زيدًا، أي أنت أنذرت زيدًا (¬3). وقال الفراء: التنوين، وتركه كلٌ صواب، كقوله: {بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، (وبالغٌ أمره. {مُوهِنُ كَيْدِ} [الأنفال: 18]) (¬4)، (ومُوهِنُ كيدِ) (¬5). وقال أبو علي الفارسي: وجه التنوين، أن اسم الفاعل للحال، ويدل على ذلك قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45]، ومن أضاف استخف الحذف، فحذف التنوين، كقوله: {عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24]، ونحو ذلك بما جاء على لفظ الإضافة، والمراد به الانفصال، -قال- ويجوز أن تكون الإضافة للمضي، نحو: ضارب زيدًا أمس؛ لأنه قد فعل الإنذار (¬6). ¬

_ (¬1) وهذا معنى لقراءة من قرأ: "منذرٌ" بالتنوين، وقد قرأ بذلك: أبو جعفر، وأبو عمرو على الأصل، وقرأ الباقون "منذرُ" من غير تنوين؛ لأجل التخفيف. انظر: "القراءات وعلل النحوين فيها" 2/ 746، "الحجة" 6/ 375، "المبسوط" 395، "النشر" 2/ 398، "إتحاف فضلاء البشر" (433)، "المهذب" 2/ 322. (¬2) يعني ثبوت التنوين. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 282. (¬3) المرجع السابق بيسير من التصرف. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 243 بتصرف. (¬6) "الحجة" 6/ 375 بتصرف.

46

قال الكلبي: إنما أنت مخوف من يخاف قيامها (¬1). والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها؛ لأنه كان منذرًا للكافة، ولكن لمن كان إنذاره من يخشاها لا ينفع، (¬2) كأنه لم تنذره، وهذا كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [فاطر: 18]. قال مقاتل: "إنما أنت منذر من يخشاها" فصدق بها (¬3). 46 - {كَأَنَّهُمْ} يعني كفار قريش. {يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعاينون القيامة. {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا. {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} قال الكلبي: يقول لم يمكثوا في قبورهم، ولا في الدنيا إلا قدر آخر نهار أو أوله (¬4). وهذا كقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] (¬5). (وقوله: {أَوْ ضُحَاهَا}. قال عطاء عن ابن عباس: الهاء، والألف صلة للكلام، تريد: لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى) (¬6). -وقد مر بيانه (¬7). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد بمثله من غير عزو في "زاد المسير" 8/ 178. (¬2) في (أ): زيادة: كان، وهي لفظة زائدة لا يستقيم الكلام بإثباتها. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد معنى قوله من غير نسبة في "الوسيط" 4/ 421. (¬5) في (أ): عشية أو ضحى. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). ولم أعثر على مصدر له. (¬7) وقد جاء في تفسير آية الأحقاف: 35: "قوله: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون" أي من العذاب في الآخرة، "لم يلبثوا إلا ساعة من نهار"، قال الكلبي: لم يمكثوا في القبور إلا ساعة، وقال مقاتل: لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار.

وذكر الفراء (¬1)، والزجاج (¬2)، كلامًا دل على أن المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافتها إلى يوم العشية؛ لأنه للعشية ضحى، وإنما يكون ليوم تلك العشية، كأنه قيل: إلا عشية أو ضحى يومها، والعرب تقول: آتيك العشية أو غداتها.-على ما ذكرنا- ومعنى الآية: أن ما أنكروه سيرونه حتى كأنهم لم يزالوا فيه، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا (¬3) إلا ساعة ثم مضت كأنها لم تكن. ¬

_ = والمعنى: أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من النهار، وكأنه لم يكن لهول ما عاينوا؛ ولأن الشيء إذا مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً. (¬1) "معاني القرآن" 3/ 243. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 282. (¬3) بياض في (ع).

سورة عبس

سورة عبس

1، 2

تفسير سورة عبس (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1، 2 - {عَبَسَ} يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2) {وَتَوَلَّى} أعرض (¬3) {أَنْ جَاءَهُ} قال أبو إسحاق: "أن" في موضع نصب (¬4) مفعول له، المعنى: لأن جاءه الأعمى، وهو ابن مكتوم، أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده رهط (¬5) من أشراف قريش، وهو مقبل عليهم يدعوهم إلى الله و (إلى) (¬6) الإسلام، وفرح أن يجيبوه إلى ¬

_ (¬1) مكية في قول الجميع. انظر: "جامع البيان" 30/ 40، "النكت والعيون" 6/ 202، "معالم التنزيل" 4/ 446، "المحرر الوجيز" 5/ 436، "زاد المسير" 8/ 179، وغير ذلك من كتب التفسير. (¬2) أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام. قاله الفخر في: "التفسير الكبير" 31/ 56. ومعنى العبوس: تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 436. (¬3) أعرض بوجهه. قاله ابن الجوزي: "زاد المسير" 8/ 180، وقال الشيخ السعدي: تولى في بدنه. تيسير الكريم الرحمن: 5/ 371. (¬4) بياض في (ع). (¬5) الرهط: ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. مختار "الصحاح" 259: (رهط)، والمقصود بهم: عتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وعباس بن عبد المطلب، وأبي، وأمية ابنا خلف. انظر: "أسباب النزول للواحدي"، تح: أيمن صالح: 385. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ).

ذلك، إذا أتى ابن أم مكتوم الأعمى (¬1)، فجعل يناديه ويقول: يا رسول الله، علمني مما علمك الله، يعني القرآن والإسلام، ويكرر (¬2) ذلك، ولا يدري أنه مشتغل عنه بغيره، فكلح (¬3) النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعرض عنه، وظهرت في وجهه الكراهة، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآيات (¬4). ¬

_ (¬1) ابن أم مكتوم: هو عمرو بن أم مكتوم القرشي بن قيس بن زائدة بن الأصم، وقد اختلف في اسمه، واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عائذ بن مخزوم، أسلم قديمًا بمكة، وكان من المهاجرين الأولين، شهد القادسية، واستشهد هناك، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديثه في كتب السنن. انظر: "الاستيعاب" 3/ 1198 ت 1946، "أسد الغابة" 4/ 264، ت 4006، "الإصابة" 4/ 284 ت 5759. (¬2) في (أ): فكرر. (¬3) كلح: الكلوح: تكشر في عبوس. "لسان العرب" (كلح)، وسبق بيانها في سورة المدثر. (¬4) وبمعنى هذه الرواية ورد في أسباب النزول: تح: أيمن صالح: 385 من طريقين: أحداهما: لم يذكر إسناده، والآخر: من طريق هشام بن عروة، عن عائشة. وانظر أيضًا: "لباب النقول" للسيوطي: 227، وعزاه إلى الترمذي، والحاكم عن عائشة، قال الترمذي عن رواية هشام بن عروة، عن عائشة: هذا حديث غريب. "سنن الترمذي" 5/ 432: ح 3331 كتاب تفسير القرآن، باب 73، قال: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه، ولم يذكر فيه عائشة. قال الوادعي: الحديث، قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" 4/ 244: رجاله رجال الصحيح، وقد أخرجه ابن حبان كما في "موارد الظمآن" 438 ح 1769: كتاب التفسير: باب سورة عبس، وابن جرير "جامع البيان" 30/ 50، والحاكم 2/ 514 التفسير: تفسير سورة عبس، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، فقد أرسله جماعة عن هشام. قال الذهبي: وهو الصواب. الحديث له شواهد أوردها الشوكاني في: "فتح القدير" 5/ 386 عزاه إلى "تفسير =

3

(وهذا قول جماعة المفسرين) (¬1) (¬2). 3 - قوله (تعالى) (¬3): {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} قال الكلبي: يصلح فيعمل خيرًا (¬4)، قال الفراء: أي بما أراد أن يتعلمه من علمك (¬5). والمعنى: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، والانتفاع بما يتعلم منك. وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى: يتطهر من الشرك بالإسلام. ¬

_ = عبد الرزاق" 2/ 348، وعبد بن حميد من طريق أبي يعلى عن أنس، وذكر إسناد الرواية في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 470، ثم قال: رجاله رجال الصحيح إلا شيخ أبي يعلى محمد بن مهدي، فلم يتيسر لي الوقوف على ترجمته، لكنني أظنه تصحيفًا من محمد بن مهران، فقد ذكروه من الرواة عن عبد الرزاق، فهو من رجال الصحيح، وعلى كل فلا يضر الحديث ما دام أنه قد رواه عن عبد الرزاق، فهو من رجال الصحيح. انتهى كلام الوادعي. انظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" 230 - 231. نقلته باختصار. (¬1) وممن قال إنها نزلت في ابن أم مكتوم: قتادة، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 388، "النكت والعيون" 6/ 202، "جامع البيان" 30/ 50 - 51، وقال ابن العربي: لا خلاف أنها نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى: "أحكام القرآن" 4/ 1905. وقد وردت الرواية في ابن أم مكتوم في: "المحرر الوجيز" 5/ 436، "زاد المسير" 8/ 179، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 209، "لباب التأويل" 4/ 353، "الدر المنثور" 8/ 416. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 235 بنصه.

4

وهو قول: ابن زيد (¬1)، (ومعنى قول عطاء) (¬2) (¬3). والصحيح هو الأول؛ لأنه كان قد آمن (من) (¬4) قبل هذه القصة قاله الكلبي (¬5). 4 - قوله تعالى: {أَوْ يَذَّكَّرُ} أي يتذكر فيتعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن. {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} الموعظة. (وقراءة العامة الرفع في: (فتنفعُه (¬6)) بالعطف على ما تقدم من المرفوع، ومن نصب (¬7) فعلى جواب لعل (¬8) كقوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * فَأَطَّلِعَ} [غافر: 36 - 37] و"أطلع" (¬9) (¬10) -وقد مر (¬11). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 52، وعبارته: "لعله يزكى" يسلم. "معالم التنزيل" 4/ 446. (¬2) النكت والعيون" 6/ 202، وعبارته: يؤمن، وهو قول مقاتل. انظر أيضًا: "زاد المسير" 8/ 180. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) قرأ بذلك: ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي. انظر: "كتاب السبعة" 672، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 747، "الحجة" 6/ 376، "المبسوط" 396، "حجة القراءات" 749، "كتاب التبصرة" 720. (¬7) قرأ بذلك: عاصم بالنصب: "فتنفَعَه". انظر: المراجع السابقة. (¬8) في (أ): فعل. (¬9) سورة مريم: 78: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} 78. (¬10) ما بين القوسين من كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، نقله عنه الواحدي مختصرًا: 6/ 376. (¬11) جاء في توجيه الفراء بمثل ما جاء في قراءة: "فتنفعه"، وإجماله: قوله: "فأطلع إلى إله موسى". قرئ: "فأطلعَ" نصبًا، قال الفراء: الرفع بالنسق على قوله: "فأبلغ"، ومن نصب جعله جوابًا للفعل بالفاء، وهو قول أبي عبيد، والكسائي، وذكر أبو علي المعنى في القراءتين، فقال: قراءة العامة: "لعلي أبلغ" =

5

5 - (قوله تعالى) (¬1): {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} قال عطاء: يريد عن الإيمان (¬2). وقال الكلبي (¬3)، ومقاتل (¬4): استغنى عن الله في نفسه، -وذكر أيضًا- "استغنى": أثرى (¬5). وهو فاسد- هاهنا- لأن إقبال النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن لثروتهم ومالهم، حتى يقال له: أما من أثرى فأنت تقبل عليه؛ ولأنه قال: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى}، ولم يقل وهو فقير عديم. وأما من قال استغنى بماله (¬6)، فهو صحيح؛ لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بماله من المال. 6 - وقوله (¬7) تعالى: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} قال مقاتل (¬8)، والكلبي (¬9): تقبل ¬

_ = و"لعلي أطلع" كقوله: "لعله يزكى أو يذكر" أي لعله يتزكى، ولعله يتذكر، ومن نصب جعله جوابًا بالفاء، والمعنى: أي إذا بلغت اطلعت، كما تقول: ألا تقع إلى الماء فتسبح، أي: ألا تقع، وألا تسبح، وإذا نصب كان المعنى أنك إذا وقعت سبحت. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 57. (¬3) المرجع السابق، وعبارته: استغنى عن الله. (¬4) "تفسير مقاتل" 229/ أ. (¬5) روى الفخر ذلك عن بعضهم: "التفسير الكبير" 31/ 57. (¬6) قاله ابن عباس. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 447، "زاد المسير" 8/ 180، وبمعنى هذا القول ذهب مجاهد. انظر: "جامع البيان" 30/ 53، "زاد المسير". (¬7) في (أ): قوله. (¬8) "تفسير مقاتل" 229/ أ. وقد ورد بمثله في "بحر العلوم" 3/ 446 من غير عزو. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله.

عليه بوجهك. (ونحو هذا قال الزجاج: أنت تقبل عليه (¬1) (¬2). وقال أبو عبيدة: "تصدى" تعرض (¬3). وقال أبو الهيثم: "فأنت له تصدى" معناه تتعرض له، وتميل إليه، وتقبل عليه، يقال: تصدى فلان لفلان يتصدّى، إذا تعرض له، وهو ما استقبلك فصار (¬4) قُبَالَتَك (¬5). وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬6). وفيه قراءتان: التشديد على الإدغام (¬7)، ............ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 283. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 286، وعبارته: تعرض له. (¬4) بياض في (ع). (¬5) "تهذيب اللغة" 12/ 104: (صد). وانظر: "لسان العرب" 3/ 247: (صد). (¬6) سورة الأنفال: 35، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. ومما جاء في تقسير التصدية: قال: .. وأما التصدية، فهو التصفيق، يقال: صدى، وتصدى تصدية، إذا صفق بيديه، وأصله من الصدى، وهو الصوت الذي يرد عليك الجبل، وقال أبو عبيدة: أصلها تصدده، فأبدلت الياء من الدال، قال: ومنه قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}. ويمكن أن تكون التصدية مصدرًا من صدّ إذا منع، واختار الأزهري مذهب أبى عبيدة، فقال: صدى أصله: صدد، فكثرت الدالات فقلبت. كما قالوا: قضيت أظفاري، ومثل هذا قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} أصله تصدد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك. (¬7) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو جعفر: "تصَّدَى" مشددة الصاد، وذلك بإدغام التاء في الصاد لقرب المخرجين. انظر: "كتاب السبعة" 672، "القراءات وعلل النحويين" 2/ 748، "الحجة" =

7

والتخفيف على الحذف (¬1). 7 - وقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} قال ابن عباس: يريد ألا يهتدي، ولا يؤمن (¬2). والمعنى: أي شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم. 8 - قوله (تعالى) (¬3): {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (وَهُوَ يَخْشَى) (¬4)} قال ابن عباس، والكلبي، ومقاتل (¬5): يسعى في الطلب لرضاء الله، والعمل في الخير وما يرضي الله. 9 - {وَهُوَ يَخْشَى} الله عَزَّ وَجَلَّ يعني ابن أم مكتوم. 10 - (قوله تعالى) (¬6): {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} قال مقاتل (¬7)، والكلبي (¬8): ¬

_ = 6/ 376 - 377، "حجة القراءات" 749، "تحبير التيسير" 197، "المهذب" 2/ 323. (¬1) قرأ الباقون -أي غير الذين ذكرنا في الحاشية السابقة-: "تصَدَّى" مخففة؛ وذلك بحذف التاء، ولم تدغم، وهو الأصل. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثل روايته من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 447. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬5) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬7) "تفسير مقاتل" 229/ أ. وقد ورد بمثل قوله من غير نسبة في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 213. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

11

تعرض عنه بوجهك. قل أبو إسحاق معناه: تتشاغل، يقال: لهيت عن الشيء، وألهى عنه إذا تشاغلت عنه (¬1). 11 - ثم وعظ نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: {كَلَّا} هو، وهو ردع وزجر (¬2). قال مقاتل: لا تقبل على من استغنى، وتعرض عمن يخشى (¬3). ثم استأنف فقال: (قوله تعالى) (¬4): {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (لمن يخشى) (¬5) قال مقاتل: يعني أنها آيات القرآن (¬6). وقال الكلبي: يعني هذه السورة (¬7). (وهو قول الأخفش (¬8)، والفراء (¬9)) (¬10). 12 - قوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} يعني الوحي، والقرآن (¬11). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 284 بنصه. (¬2) بهذا قال الثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 33/ ب. (¬3) "تفسير مقاتل" 229/ أ. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬6) "تفسير مقاتل" 229/ أ، "الكشف والبيان" ج13: 33/ ب، "النكت والعيون" 6/ 203، "معالم التنزيل" 4/ 447، "زاد المسير" 8/ 181، "التفسير الكبير" 31/ 58. (¬7) "النكت والعيون" 6/ 203، "التفسير الكبير" 31/ 58. (¬8) "التفسير الكبير" 31/ 58. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 236 وعبارته: هذه السورة تذكرة. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) وبهذا قال الطبري في "جامع البيان" 30/ 53.

13

وقال صاحب النظم: "إنها تذكرة" يعني به القرآن، والقرآن مُذَّكرٌ؛ إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التَّذكِرة، ولو ذَكَّرَهُ لجاز، كما قال في موضع آخر: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر:54] ويدل على (أن قوله) (¬1): "إنها تذكرة" يراد به: القرآن، قوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (¬2). والمعنى: القرآن موعظة وتذكير، فمن شاء ذكره. قال ابن عباس (¬3)، ومقاتل (¬4): فمن شاء ألهمه، وفهمه القرآن حتى يذكر ويتعظ به. ثم أخبر عَزَّ وَجَلَّ بجلالة الكتاب في اللوح المحفوظ عنده فقال: 13 - {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} قال المفسرون (¬5): يعني اللوح المحفوظ. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 58، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 213. (¬3) "الوسيط" 4/ 423. (¬4) ورد بنحو قوله في: "تفسير مقاتل" 229/ أ، "النكت والعيون" 6/ 203، "معالم التنزيل" 4/ 447. فائدة: قال الشيخ الشنقيطي: "هذا للتهديد لا للتخيير بدليل ما بعده: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} قتل الإنسان: دعاء عليه، والإنسان للجنس الكافر، وما أكفره: أي: ما أشد كفره بها بعد هذا كله من علو منزلتها". "أضواء اليبان" 9/ 53. (¬5) قاله مقاتل في تفسيره: 229/ أ، "زاد المسير" 8/ 182. وممن قال به أيضًا: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 236، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 284، والطبري في: "جامع البيان" 30/ 53، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13/ 39 ب. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 447, "المحرر الوجيز" 5/ 438، "التفسير الكبير" 31/ 59، "لباب التأويل" 4/ 253.

14

14 - {مَرْفُوعَةٍ} قالوا (¬1): في السماء السابعة. {مُطَهَّرَةٍ} لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة (¬2)، ويجوز أن يكون المعنى القرآن، أُثبت في صحف الملائكة يقرؤونها (¬3)، فتلك الصحف هي: المكرمة، المرفوعة: الرفيعة القدر. يدل على هذا المعنى، 15 - فقال: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال المفسرون: هم الكتبة من الملائكة، وهو قول ابن عباس (¬4)، ¬

_ = وهناك قول آخر في الآية، وهو: أن الصحف هي كتب الأنبياء، أي أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين. انظر: "الكشف والبيان" ج 13: 39/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 447، "زاد المسير" 8/ 183، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 214، "التفسير الكبير" 31/ 59. وقيل أيضًا: هي مصاحف المسلمين. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 438. (¬1) أي المفسرون، ومنهم: يحيى بن سلام، وعبارته: مرفوعة في السماء. انظر: "النكت والعيون" 6/ 203، كما ورد هذا القول في: "معالم التنزيل" 4/ 447، "التفسير الكبير" 31/ 59. وهناك قولان آخران لمعنى الآية: أحدهما: أنها مرفوعة القدر والذكر. والآخر: مرفوعة عن الشبه والتناقض. انظر: "النكت والعيون" 6/ 203، "التفسير الكبير" 31/ 59، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 214. وعن مقاتل قال: إنها مرفوعة فوق الماء الرابعة: "تفسير مقاتل" 229/ أ. (¬2) وهو قول ابن زيد. "النكت والعيون" 6/ 204، وبه قال الفراء في: "معاني القرآن" 3/ 236. (¬3) غير مقروءة في (ع). (¬4) ورد بنحو قوله في: "جامع البيان" 30/ 53، "النكت والعيون" 6/ 204، "معالم التنزيل" 4/ 447، "المحرر الوجيز" 5/ 438، "زاد المسير" 8/ 82، "التفسير الكبير" 31/ 59، "البحر المحيط" 8/ 428، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 502.

(ومقاتل) (¬1) (¬2)، ومجاهد (¬3)، وقتادة (¬4) قال أبو إسحاق: السفرة الكتبة، يعني بهم الملائكة، واحدهم: سافر، مثل كاتب، وكتبة، وإنما قيل [للكتاب] (¬5) سِفر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه، يقال: سفرت المرأة، إذا كشفت عن وجهها (¬6). وجعل الفراء: السفرة -هاهنا- الملائكة الذين يَسفِرون بالوحي بين الله وبين رسله، فقال: واحد السفرة: سافر، والعرب تقول: سفرت بين القوم، إذا أصلحت بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بالوحي وتأديبه كالسفير الذي يصلح بين القوم، وأنشد (¬7): وما أدعُ السِّفارةَ بينَ قومي ... وما أمْشي بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ (¬8) ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 59. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 447، "زاد المسير" 8/ 182، "التفسير الكبير" 31/ 59، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 214، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 502، "الدر المنثور" 8/ 418 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 348، "جامع البيان" 30/ 53، "التفسير الكبير" 31/ 59، "الدر المنثور" 8/ 418 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) في كلا النسختين: الكاتب، وأثبت ما جاء في "معاني القرآن وإعرابه" لصوابه. وأصل العبارة الواردة: وإنما قيل للكتاب سَفَرة، وللكاتب سافر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 284 مختصرًا. (¬7) لم أعثر على قائله. (¬8) ورد البيت غير منسوب في: "جامع البيان" 30/ 54، "النكت والعيون" 6/ 204، "المحرر الوجيز" 5/ 438، "زاد المسير" 8/ 182، "التفسير الكبير" 31/ 59، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 214، "البحر المحيط" 425، "تفسير القرآن =

16

وأصل السفارة من الكشف (¬1)، -أيضًا- قال الزجاج: سفرت بين القوم، أي كشفت ما في قلب هذا، وقلب هذا، لأصلح بينهم (¬2). 16 - ثم أثنى على السفرة: قوله تعالى: {كِرَامٍ} قال مقاتل: يعني مسلمين (¬3). وقال الكلبي: كرام على ربهم (¬4). وقال عطاء: يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع بني آدم، إذا خلا مع زوجته للجماع، وعند الغائط (¬5). {بَرَرَةٍ} قال مقاتل: مطيعين (¬6). (وبررة: جمع بار (¬7)، -قال الفراء-: لأن العرب لا يقولون: فَعَلة يريدون به الجمع إلا والواحد منه فاعل، مثل: كافر، وكفرة، وفاجر، ¬

_ العظيم" 4/ 502، وفي "الجامع لأحكام القرآن"، والبحر برواية: "فما" بدلاً من "وما أدع"، و"ما أسعى" بدلاً من: "ما أمشي". والنقل من "معاني القرآن" 3/ 236 بيسير من التصرف. (¬1) قال ابن فارس: "سفر" أصل واحد يدل على الانكشاف والجلاء، من ذلك: السَّفَر؛ سمي بذلك لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم وأسفر الصبح، وذلك لانكشاف الظلام. "مقاييس اللغة" 3/ 82: (سفر). وانظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي 2/ 49: (سفر). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 284 بيسير من التصرف. (¬3) "تفسير مقاتل" 229/ أ. (¬4) "النكت والعيون" 6/ 254، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 415. (¬5) "التفسير الكبير" 31/ 59. وبمثله قال الضحاك: "النكت والعيون" 6/ 204. (¬6) "تفسير مقاتل" 229/ أ، "التفسير الكبير" 31/ 59. (¬7) جاء في "الصحاح" جمع البَارِّ: البَرَرَة، وفلان يَبَرُّ خالقه، وَيتَبَرَّرُهُ أي يطيعه، والأم برَّة بولدها، وبَرَّ فلان في يمينه أي صّدّق. 2/ 588: (برر).

17

وفجرة) (¬1). قال مقاتل: كان ينزل بالقرآن (¬2) من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة، ثم ينزل جبريل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬3). 17 - (قوله تعالى) (¬4): {قُتِلَ الْإِنْسَانُ (مَا أَكْفَرَهُ) (¬5)} هو قال ابن عباس: لعن عتبة (¬6). قال المفسرون: نزلت في (عتبة بن) (¬7) أبي لهب (¬8). {مَا أَكْفَرَهُ} قال مقاتل (¬9)، الكلبي (¬10): ما الذي أكفره. وقال (¬11) الفراء: بهذا الوجه جاء التفسير (¬12)، ويجوز أن يكون ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من قول الفراء. انظر: "معاني القرآن" 3/ 237. (¬2) في (ع): القرآن. (¬3) "الوسيط" 4/ 423. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) قال بذلك: الكلبي، ومقاتل، وابن جريج، والضحاك، وابن عباس، وعكرمة. انظر: "بحر العلوم" 3/ 448، "الكشف والبيان" 13/ 39 ب، "معالم التنزيل" 4/ 448، "زاد المسير" 8/ 183، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 215، "الدر المنثور" 8/ 419. وحكاه الفخر عن المفسرين: "التفسير الكبير" 31/ 60. وانظر هذا القول عنهم أيضًا في: "لباب التأويل" 4/ 354، "البحر المحيط" 8/ 28، "فتح القدير" 5/ 384، "لباب النقول" للسيوطي: 227. (¬9) "تفسير مقاتل" 229/ أ، "بحر العلوم" 3/ 448، "الكشف والبيان" 13/ 40 أ، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 503. (¬10) المراجع السابقة. (¬11) في (ع): قال. (¬12) يعني بذلك ما ذهب إليه مقاتل، والكلبي من قوليهما: ما الذي أكفره.

18

تعجبًا (¬1). وشرح الزجاج القولين، فقال: يكون على جهة لفظ التَّعّجُّبِ، ومعنى التعجب [مما] (¬2) يؤمر به الآدميون كقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] أي اعْجَبوا أنتم من كفر الإنسان. (قال) (¬3): ويجوز أن يكون على معنى التوبيخ (¬4)، ولفظه لفظ الاستفهام، أي: أيُّ شيء أكفره؟ (¬5). 18 - (ثم بين من أمْره ما كان ينبغي أن يعلم معه أن الله خالقه، وأنه واحد، فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} لفظه استفهام، ومعناه التقرير) (¬6). 19 - ثم فسر فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} قال ابن عباس (¬7)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 237 بمعناه. وإلى جواز الوجهين في معنى الآية ذهب الطبري في "جامع البيان" 30/ 54. قال ابن عاشور: "وجملة "ما أكفره" تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد، وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان، ثم قال: وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز، وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ قال على السخط، بالغ حد المذمة، جامع للملامة، ولم يسمع مثلها قبلها، فهي من جوامع الكلم القرآنية". التحرير والتنوير: 30/ 121. (¬2) وردت في النسختين: ما، وقد أثبت ما جاء في معاني الزجاج لسلامته. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) قوله: على معنى التوبيخ: بياض في (ع). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 284 - 285 بيسير من الاختصار. (¬6) ما بين القوسين من قول الزجاج نقله عنه الواحدي بنحوه انظر المرجع السابق. (¬7) ورد معنى قوله في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 16، "البحر المحيط" 8/ 428 والعبارة عنه: أي قدّر يديه، ورجليه، وعينيه، وسائر آرابه، وحسنًا، ودميمًا، وقصيرًا، وطويلاً، وشقيًا، وسعيدًا.

20

ومقاتل (¬1): يقدره في بطن أمه. وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: ما ذكره الفراء: وقدره أطوارًا: نطفة، علقة إلى آخر خلقه، ذكرًا، أو أنثى، شقيًا، أو سعيدًا (¬2). والثاني: ما ذكره الزجاج قال: المعنى: فقدره على الاستواء، كما قال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37]. (¬3) وهذا معنى قول الكلبي: (قدر خلقه، ورأسه، وعينيه، ويديه، ورجليه (¬4) (¬5). 20 - قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} (قال الحسن (¬6)، ومجاهد (¬7)، وعطاء (¬8) (¬9)، ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "زاد المسير" 8/ 183، وعبارته: قدره أطوارًا: نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 237 بنحوه. (¬3) الكهف: 37. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 285. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 448. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 348، "جامع البيان" 30/ 55، "الكشف والبيان" ج 13: 40/ أ، "النكت والعيون" 6/ 206، "معالم التنزيل" 4/ 448، "زاد المسير" 8/ 183، "البحر المحيط" 8/ 428، "تفسير القرآن العظيم" 53/ 54، "تفسير الحسن البصري" 2/ 396. (¬8) المراجع السابقة إضافة إلى "المحرر الوجيز" 5/ 438 - 439، "الدر المنثور" 8/ 419 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. وما قاله المفسرون: الحسن، ومجاهد، وعطاء، قد رجحه ابن كثير 4/ 305، والشنقيطي، "أضواء البيان" 9/ 55. قال الشنقيطي: "لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان، وهو مشاهد ملموس، فلا مزية للإنسان فيه على غيره، كما أن ما قبله قال عليه، أو على مدلوله، وهو القدرة في قوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}، وأما تيسير سبيل الدين، فهو الخاص بالإنسان، وهو المطلوب التوجه إليه".

21

والكلبي (¬1) (¬2): بين له سبيل الخير، والشر كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 30] أي أعلمناه طريق الخير والشر. قال السدي (¬3)، ومقاتل (¬4): أي أخرجه من الرحم، وهداه للخروج من بطن أمه. 21 - {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} هو قال مقاتل (¬5)، (والكلبي) (¬6) (¬7) أمر به فقبر. قال أبو عبيدة: [أمره] (¬8) بأن يُقبر، [أي: جعل، له قبرًا -قال- ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "جامع البيان" 30/ 55، "المحرر الوجيز" 5/ 438، "زاد المسير" 8/ 184، "القرطبي" 19/ 216، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 503، "فتح القدير" 5/ 384. (¬4) ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 229/ ب، كما ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 55، "زاد المسير" 8/ 184، "فتح القدير" 5/ 384. وهذا القول رجحه الطبري. قال: لأن الخبر من الله قبلها، وبعدها عن صفته، خلقه وتدبيره، جسمه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأولى أن يكون أوسط ذلك ما قبله وبعده "جامع البيان" 30/ 55. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. والذي ورد عنه في "تفسيره": أماته: 229/ ب. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) أقبره، هكذا ورد في النسختين، وأثبت ما جاء في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة لاستقامة المعنى به.

22

وقالت بنو تميم: لعمر بن هبيرة (¬1) لما قتل صالح بن عبد الرحمن (¬2): أقبرنا صالحًا، قال: دونكموه. والذي يدفن هو القابر (¬3). وقال ابن السكيت: أقبرت فلانًا، أي صيرت له قبرًا يدفن فيه (¬4). ([أقبره] (¬5) جعله مقبورًا, ولم يجعله ممن يُلقى للطير، والسباع، ولا ممن يلقى في النواويس (¬6)، كأن القبر مما أكرم به المسلم. قال: ولم يقل: فقبره, لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو الله؛ لأنه صيره ذا قبر، وليس فعله كفعل الآدمي، والعرب تقول: بترت ذنب البعير، والله أبتره، وعضبت (¬7) قرن الثور، والله أعضبه، وطردت فلانًا عني، والله أطرده: صيره طريدًا) (¬8). 22 - قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (أي بعثه بعد موته، يقال: أنشر الله ¬

_ (¬1) عمر بن هبيرة بن معيّة بن سُكين بن خَديج بن بَغيض بن مالك الفزاري، ولي العراقين ليزيد بن عبد الملك، وله عقب بالبصرة. انظر: "جمهرة أنساب العرب" 255. (¬2) لم أتوصل لمعرفته. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 286 بنحوه. (¬4) إصلاح المنطق: 235. (¬5) في كلا النسختين: أمره. (¬6) النواويس: جاء في "لسان العرب" النَّاووس: مقابر النصارى، إن كان عربيًا، فهو فاعول. 6/ 244: (نوس). وانظر: "المصباح المنير" 774: (نوس). (¬7) عضب القرن: أي يكسر القرن، وناقة عضباء أي مشقوقة الأذن، العَضباء، والعِضباء: الشاة المكسورة القرن الداخل، وهو المُشاش. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 251. "الصحاح" 1/ 183: (عضب). (¬8) ما بين القوسين من قول الفراء في: "معاني القرآن" 3/ 237 بنحوه.

23

الميت فنشر) (¬1). 23 - {كَلَّا} (¬2) قال (عطاء عن) (¬3) ابن عباس: يريد لا يؤمن الكافر أن الله يبعثه (¬4). وقال الحسن: حقًا (¬5). {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} أي: ما عهد إليه من الميثاق الأول في التوحيد، وهو قول عطاء، عن ابن عباس (¬6)، ومقاتل (¬7). وقال الكلبي: ليس أحد قضى ما أمره الله به (¬8). وعلى هذا هو على العموم؛ لأنه لم يقض أحد من الخلق كل ما أمر به (¬9). ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال: ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من قول أبي العباس في: "تهذيب اللغة" 11/ 338. وجاء في اللسان: ونَشَر الله الميت يَنْشُرُه نشْرًا، ونُشورًا، وأنْشَرَه فنَشَر الميت لا غير: أحياه. 5/ 206: (نشر). (¬2) {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 448، "زاد المسير" 8/ 184، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 217، "فتح القدير" 5/ 384، "تفسير الحسن البصري" 2/ 397. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 217، وفي هذا القول أحاديث كثيرة، منها وما ورد في "المسند" 1/ 272، "المستدرك" 2/ 325، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي عنه في "مجمع الزوائد" 7/ 25: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. فليراجع ذلك الحديث في تلك المصادر. (¬7) "تفسير مقاتل" 229/ ب. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) وقد ذكر يحيى بن سلام أن المقصود بالآية الكافر أنه لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان. "النكت والعيون" 6/ 206، "زاد المسير" 8/ 184، والصواب ما ذكره الإمام الواحدي.

24

24 - (قوله تعالى) (¬1): {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (أي فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببًا لحياته) (¬2). (والمعنى: إلى كونه وحدوثه وهو موضع الاعتبار) (¬3). 25 - ثم بين فقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} قال الفراء: يخبر عن صفة الطعام بالاستئناف (¬4)، ومن فتح "أنَّا" فهو في موضع خفض (¬5). أي: فلينظر إلى أنا صببنا الماء، وفعلنا، وفعلنا. قال: وكذلك قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} (¬6) و"إنا دمرناهم" (¬7). قال: قد يكون موقع "أنا" إذا فتحت في هذه السورة، رفعًا كأنه استئناف، فقال: طعامه صببنا الماء، وإنباتُنا كذا وكذا (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين نقله عن الزجاج مختصرًا. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286. (¬3) ما بين القوسين نقله عن أبي علي الفارسي بنصه. انظر: "الحجة" 6/ 378. (¬4) وهذا على اعتبار كسر همزة: "إنا"، وقد قرأ بذلك: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب. انظر: "كتاب السبعة" 672، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 748، "المبسوط" 396، "الحجة" 6/ 378، "حجة القراءات" 750، "الكشف" 2/ 362، "النشر" 398. (¬5) قرأ بذلك: عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف انظر: المراجع السابقة. (¬6) سورة النمل: 51، وقد قرأ بالفتح فيها: عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف. انظر: "المبسوط" 280، "الكشف" 2/ 163. (¬7) قرأ بالكسر فيها من قرأ بكسر: "إنا صببنا" عدا يعقوب. انظر المراجع السابقة. (¬8) "معاني القرآن" 3/ 238 بتصرف.

26

قال أبو إسحاق: من قرأ "إنَا" فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح فعلى معنى البدل من الطعام، ويكون "إنا" في موضع خفض. المعنى: فلينظر الإنسان إلى (1) إنا صببنا الماء (2). وقال أبو علي: من قال "إنا صببنا" بكسر "إن" كان ذلك تفسيرًا للنظر إلى طعامه، كما أن قوله "مغفرة" (3) تفسيرًا للوعد، ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال؛ لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه، فهو من نحو {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، و {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ} [البروج: 4 - 5] (4)، قال ابن عباس (5)، والمفسرون (6): أراد بصب الماء: المطر. 26 - {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} بالنبات (7).

_ (1) بياض في (ع). (2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286 باختصار. (3) سورة المائدة: آية 9: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. (4) "الحجة" 6/ 378 باختصار يسير. (5) "الدر المنثور" 8/ 421 وعزاه إلى ابن المنذر. (6) حكاه ابن الجوزي عن المفسرين في: "زاد المسير" 8/ 185، وقال به الطبري في: "جامع البيان" 30/ 57، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 449، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 41 أ، والماوردي في: "النكت والعيون" 6/ 207. وانظر أيضًا: "معالم التزيل" 4/ 448، "المحرر الوجيز" 5/ 439، "التفسير الكبير" 31/ 63، "الجامع لآحكام القرآن" 19/ 219، "لباب التأويل" 4/ 354. (7) قال بذلك الطبري في: "جامع البيان" 30/ 57.

27، 28

27، 28 - {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا} يعني الحبوب كلها مما يتغذى به (¬1). {وَقَضْبًا} أكثر أهل اللغة، والتفسير قالوا: القضب: الرَّطْبة، وهي الفِسْفِسة ما دامت خضراء، فإذا يبست فهو القت (¬2)، وأهل مكة يسمونه القضب أيضًا، وأصله من القطع (¬3)؛ (وذلك أنه يقطع ويُقضَب مرة بعد أخرى، وكذلك الفصيل (¬4)؛ لأنه يفصل أي يقطع) (¬5)، وهذا قول أبي عبيدة (¬6)، ¬

_ (¬1) الحب: جمع حبة -بفتح الحاء-، وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه، والحِبة -بكسر الحاء- كل ما ينبت من البزور ولا يحفل به، ولا هو بمتخذ. قاله ابن عطية: "المحرر الوجيز" 5/ 439. (¬2) جاء في "تهذيب اللغة" القَتُّ: الفِسْفِسة اليابسة، يكون رطبًا ويكون يابسًا. 8/ 272: (قتت). وفي اللسان: القت: الفِصْفِصة، وخص بعضهم به اليابسة منها، واحدته: قَتة، وهي الرطبة من علف الدواب. 2/ 71: (قتت). (¬3) قال الليث: والقضب من الشجر كل شجر سَبِطت أغصانه وطالت، والقضب قطعك القضيب ونحوه "تهذيب اللغة" 8/ 347: (قضب). وعن ابن فارس: القاف، والضاد، والباء: أصل صحيح يدل على على قطع الشيء، والقضيب الغصن، والقَضْب: الرَّطْبة سميت لأنها تُقْضَب. "مقاييس اللغة" 5/ 100: (قضب). (¬4) لعله يراد به: الفَصْلة، وهي النخلة المنقولة المحولة، وقد افتصلها عن موضعها، أو يراد به: الفصيل ولد الناقة إذا فصل عن أمه. "لسان العرب" 11/ 522 - 523: (فصل). (¬5) ما بين القوسين لعله نقله أيضًا عن ابن قتيبة. انظر: "تفسير غريب القرآن" 514. (¬6) لم أجد قوله في المجاز، وإنما ورد عند ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 439: قال: أبوعبيدة: القضب: الرطبة. وأيضًا انظر: "التفسير الكبير" 31/ 63.

30

والفراء (¬1)، (والأصمعي (¬2)، وابن عباس (¬3)، والضحاك (¬4)، ومقاتل) (¬5) (¬6). قال المبرد: القضب هو العلف بعينه، وأصله من أنه يقضب، أي يقطع (¬7). وهو قول الحسن (¬8) (¬9). 30 - قوله (تعالى) (¬10): {غُلْبًا} (¬11) قال عطاء عن ابن عباس: يريد ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 238. (¬2) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 8/ 347، وعبارته: القَضب: الرَّطْبة (¬3) "جامع البيان" 30/ 57، "بحر العلوم" 3/ 449، "التفسير الكبير" 31/ 63، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 219، "البحر المحيط" 8/ 429، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 504، "الدر المنثور" 8/ 421 أو عزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر. (¬4) "جامع البيان" 30/ 57، "التفسير الكبير" 31/ 63، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 504. (¬5) "التفسير الكبير" 31/ 63، "البحر المحيط" 8/ 429. (¬6) ما بين القوسين ذكر بدلًا منه في نسخة: أ: وغيرهم. وممن ذهب إلى ما قاله اللغويون: الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286. (¬7) "التفسير الكبير" 31/ 63. (¬8) "جامع البيان" 30/ 57، "معالم التنزيل" 4/ 449، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 504، تفسير الحسن البصري: 2/ 397. (¬9) قال ابن عطية في المعنى الذي ذهب إليه أهل التفسير واللغة: قال بعض اللغويين: في الفصافص، وهذا عندي ضعيف؛ لأن الفصافص هي للبهائم، فهي داخلة في: "الأب". ثم قال: والذي أقوله: إن "القضب" هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاَ من النبات، كالبقول والهِلْيون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم، ولا ذكر له في الآية إلا في هذا اللفظ. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 439. (¬10) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬11) {وَحَدَائِقَ غُلْبًا}.

الشجر العظام (¬1). وقال الكلبي: غلاظًا طوالًا في السماء (¬2). وقال عكرمة: غلاظ الرقاب، ألا ترى أن الرجل إذا كان غليظ الرقبة، قالوا: إنه لأغلب (¬3). قال أبو عبيدة يقال: شجرة، ونخلة غلباء، إذا كانت غليظة (¬4). قال الفراء: الغُلْب: ما غلُظ من النخل (¬5). وقال ابن قتيبة: الغُلب: الغلاظ الأعناق؛ الواحد أغلب، يعني النخل (¬6). وعلى هذا القول هو (من الغَلِب، وهو [غليظ] (¬7) القَصَرة، يقال: أسدٌ أغلب. وفيه قول آخر: وهو قول مجاهد (¬8)، ومقاتل (¬9)، قالا: الغلب: ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 64. (¬2) "النكت والعيون" 6/ 207، وعبارته: الغلب: الغلاظ. (¬3) "بحر العلوم" 3/ 449، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 504، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، "الدر المنثور" 8/ 421 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 286 بنصه مع تقديم وتأخير بين كلمتي: (نخلة، وشجرة)، هكذا وردت في المجاز. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 238 بنصه. (¬6) "تفسير غريب القرآن" 515، نقله عنه بإضافة: الواحد: أغلب. (¬7) غلظ: في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر القول. (¬8) "معالم التنزيل" 8/ 499، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 220، "الدر المنثور" 8/ 42 أو عزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬9) "تفسير مقاتل" 229/ ب، "معالم التنزيل" 8/ 449.

الملتفة الشجر بعضه في بعض، يقال: اغْلَوْلَبَ العُشْبُ، واغْلَوْلبت الأرض، إذا التفّ عُشبها) (¬1). وذكر أبو إسحاق القولين، فقال: معناه متكاثفة (¬2) عظامًا (¬3). قوله: (وفاكهة (وأبا) (¬4)). (قال الكلبي يعني: ألوان الفاكهة) (¬5) (¬6). (وأبا) (¬7) قال ابن عباس: يريد ما أنبتت الأرض مما لم يزرعه الناس (¬8). وقال الكلبي: يعني الكلأ (¬9) كله (¬10). وقال مقاتل: يعني المرعى (¬11) وقال عطاء: الفاكهة ما يأكلون، والأب: ما تأكل أنعامكم (¬12). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 8/ 138: (غلب)، والعبارة التي من قوله: الغلب هو الغليظ إلى: أسدٌ غلب هي من قول الليث. (¬2) في (أ): المتكاثفة. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 449، "زاد المسير" 8/ 185، "لباب التأويل" 4/ 354. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "جامع البيان" 30/ 60، وعبارته: ما أنبتت الأرض للأنعام، والرواية الثانية له: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس. (¬9) الكلأ: هو العشب: رَطْبُه، ويبْسُه. "تهذيب اللغة" 10/ 362: (كلأ). (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد عن ابن عباس بنحو قوله، قال: الأب: الكلأ, والمرعى كله. "جامع البيان" 30/ 60. (¬11) "تفسير مقاتل" 229/ ب، وبمثل قوله: قال الضحاك في "جامع البيان" 30/ 60. (¬12) لم أعثر على مصدر لقوله. وقال بمثله مجاهد. انظر: "تهذيب اللغة" 15/ 599: (أب)، "لسان العرب" 1/ 204: (أب).

وقال أبو زيد: الأب: النبات (¬1). وقال الضحاك: الأب: التبن (¬2). وقال الحسن: ما طاب واحلولى فلكم، والأب لأنعامكم (¬3). وروى عاصم بن كُلَيب (¬4) عن أبيه (¬5) عن ابن عباس: فـ"أبا"، قال: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس (¬6). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد قال بمثله أبو رزين في "جامع البيان" 30/ 60، "الدر المنثور" 8/ 422 وعزاه إلى عبد بن حميد. ولعله قال: أبو رزين، وليس أبوزيد. (¬2) "الكشف والبيان" ج 13: 41/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 221، "الدر المنثور" 8: 422 وعزاه إلى عبد بن حميد، "روح المعاني" 3/ 47. (¬3) "الدر المنثور" 8/ 422 وعزاه إلى عبد بن حميد، "تفسير الحسن البصري" 2/ 398. (¬4) عاصم بن كُلَيب بن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي، روى عن أبيه كُلَيب، وعنه شعبة، وعلي ابن عاصم، كان من العباد الأولياء، لكنه مرجئ، وثقه ابن معين، وغيره، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به، وقال أبو حاتم: صالح. يقال: توفي سنة 137 هـ. انظر: ذكر من تكلم فيه وهو موثق: للذهبي: 104: ت: 170، "ميزان الاعتدال" 2/ 356: ت: 4064، "تهذيب الكمال" 13/ 537: ت: 3024. (¬5) كُلَيب بن شهاب بن المجنون الجَرمي الكوفي، والد عاصم بن كليب، روى عن عبد الله بن عباس، وعنه ابن عاصم بن كليب، صدوق، ووهم من ذكره في الصحابة. انظر: "تهذيب الكمال" 24/ 211 ت: 4991، تهذيب التهذيب: 8/ 445، "تقريب التهذيب" 2/ 136: ت: 65. (¬6) "جامع البيان" 30/ 60، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 220، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 504، تفسير ابن عباس: د. عبد العزيز الحميدي: 2/ 967، وقد ذكره الحافظ ابن حجر وقال. إسناده صحيح، انظر: "فتح الباري" 13/ 271، وج: 6/ 295.

وروى عنه سعيد بن جبير: ما أنبتت الأرض مما يأكل الأنعام (¬1). وقال مجاهد: هو ما أكلت الأنعام (¬2). هذا ما ذكره المفسرون في تفسير الأب (¬3)، وأما أهل اللغة فقال أبو عبيدة: الأب: كل مرعى للهوام (¬4). أي البهائم. وأنشد لذي الرمة: أنبت أبًا ناضرًا وأمرعا (¬5) وقال الفراء: الأب: ما تأكله الأنعام (¬6). قال أبو إسحاق: الأب [جميع] (¬7) الكلأ الذي تأكله الماشية (¬8). وأنشد (¬9): ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" ج 13/ 41/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 449 بإضافة: والناس، "الجامع الصحيح" للبخاري: 2/ 420، كتاب "بدء الخلق"، باب: 3. (¬2) "تفسير الإمام مجاهد": 706، "جامع البيان" 30/ 60. (¬3) وهناك أقوال أخرى لمعنى الأب: قال الضحاك: إنه كل شيء ينبت على وجه الأرض، وعن الكلبي: إنه كل نبات سوى الفاكهة، وعن ابن أبي طلحة: إنه الثمار الرطبة، انظر: "الكشف والبيان" ج 13/ 41/ أ، "النكت والعيون" 6/ 208، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 220 - 221. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 286، إلا أنه لم ينشد بين الشعر. (¬5) لم أعثر عليه في ديوانه. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 238. (¬7) في كلا النسختين: لحمع، وأثبت ما جاء في "معاني القرآن وإعرابه" لاستقامة المعنى به. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286. (¬9) لم ينشد الزجاج بيت القصيد.

جِذْمُنا قيْسٌ (¬1) ونجدٌ أرضنا ... ولنا الأبُّ بها والمكرَعُ (¬2) (وذكر الله تعالى (ما يدل) (¬3) على وحدانيته (من إنشاء) (¬4) ما يغذو (¬5) به جميع الحيوان، وهو: قوله (تعالى) (¬6): {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (¬7) قال المفسرون (¬8): يريد ¬

_ (¬1) وردت عبارة: "ونجد جذمنا فليس" في نسخة: أ، وهي زيادة من الناسخ؛ لا من أصل بيت الشعر. (¬2) ورد البيت غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 15/ 599: (أب)، "لسان العرب" 1/ 204: (أب). الكشاف: للزمخشري: 4/ 186، "التفسير الكبير" 31/ 64، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 220، "روح المعاني" 30/ 47، وجميعها برواية: "ونجد دارنا ولنا الأب بها" بدلًا من: "ونجد أرضنا ولنا الأب بها". ومعنى البيت: الجِذم: -بالكسر وقد يفتح-: الأصل الذي يقتطع منه غيره، "الأبّ" بالفتح والتشديد: بمعنى المرعى؛ لأنه يؤب أي يقصد، والمكرع: المنهل. يقول: نحن من قبيلة قيس، ونجد هي: دارنا ولنا به: أي في نجد المرعى والمروى. وفيه تمدح بالشرف والشجاعة على غيره. انظر: "مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف" للمرزوقي: 78 - 87، مذيل بكتاب "الكشاف". (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في كلا النسختين: يغذوا. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬7) ما بين القوسين نقلاً عن الزجاج. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286. (¬8) قال بذلك الحسن: متاعًا لكم الفاكهة، ولأنعامكم العشب. "جامع البيان" 30/ 61، "تفسير الحسن" 2/ 399.

33

منافع لكم، ولأنعامكم. وقال الفراء: خلقناه منفعة لكم، ومتعة لكم ولأنعامكم (¬1). قال الزجاج: هو منصوب؛ لأنه مصدر مؤكد لقوله: "فأنبتنا" (¬2) لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الحيوان (¬3) (¬4). ثم ذكر القيامة فقال: 33 - {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} قال المفسرون: يعني صيحة القيامة (¬5)، وهي النفخة الأخيرة. ¬

_ = وقد ورد معنى المفسرين في: "معالم التنزيل" 4/ 449، "المحرر الوجيز" 5/ 439، "زاد المسير" 8/ 176، "لباب التأويل" 4/ 354. (¬1) "معاني القرآن" 3/ 238 بتصرف. (¬2) سورة عبس: 27: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (¬3) بياض في (ع). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 286. (¬5) قال بذلك الحسن. انظر: "النكت والعيون" 6/ 209، ومقاتل في تفسيره: 229/ ب، وأيضًا ورد عن الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 287، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13: 41/ ب. وعزا ابن الجوزي هذا القول إلى المفسرين في: "زاد المسير" 8/ 186، كما حكاه أيضًا عن المفسرين في "لتفسير الكبير" 31/ 64، كما قال به أصحاب الكتب الآتية: "معالم التنزيل" 4/ 449، الكشاف: 4/ 187، "المحرر الوجيز" 5/ 440، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 222، "لباب التأويل" 4/ 354، "فتح القدير" 5/ 385. وهناك قول آخر عن المفسرين أن الصاخة اسم ليوم القيامة، قال بذلك ابن عباس كما في: "جامع البيان" 30/ 61. وقاله ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 515، والفراء في "معاني القرآن" 3/ 238، الماوردي في: "النكت والعيون" 6/ 209، وغيرهم من المفسرين.

34 - 36

قال اللبث: الصاخة: صيحة تصُخُّ الآذان فَتُصِمُّها (¬1). وذكر نحو هذا الزجاج في تفسير الصاخة (¬2). وأصل الصخ في اللغة: الطعن والصك (¬3). قال المبرد: يقال: صخ رأسه بحجر، أي: شدخه (¬4)، والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن (¬5). فمعنى الصاخة: الصاكة لشدة صوتها للآذان (¬6). ثم ذكر في أي وقت تجيء فقال: 34 - 36 - {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}، أي لا يلتفت إلى واحد من أدانيه (¬7)؛ لعظم ما هو فيه. وقال أبو علي: ليس يراد بالفرار -هاهنا- الشراد، ولا النفار (¬8)، ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 6/ 552: (صخ). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 287. (¬3) يقال: كأنما في أذنه صاخة، أي طعنة. انظر (صخ) في: "تهذيب اللغة" 6/ 552، "لسان العرب" 3/ 33، "تاج العروس" 2/ 266. قال ابن فارس: الصاد، والخاء: أصل يدل على صوت من الأصوات، من ذلك: الصاخة، يقال: إنها الصيحة تصم الآذان، ويقال: ضربت الصخرة بحجر فسمعت لها صخًا. "مقاييس اللغة" 3/ 281 - 272. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله من غير عزو في "التفسير الكبير" 31/ 64. (¬5) انظر (صخ) في: "تهذيب اللغة" 6/ 553، "مقاييس اللغة" 3/ 281، "لسان العرب" 3/ 33، "تاج العروس" 2/ 266. (¬6) انظر: "التفسير الكبير" 31/ 64. (¬7) أدانيه: أقاربه، والدَّاني: القريب. "الصحاح" 6/ 2341: (دنا). (¬8) شرد البعير والدابة، يَشْرُدُ شردًا، وشِرادًا: وشرودًا: نفر، فهو شارد، والجميع: شُرُد، وشرود -في المذكر والمؤنث-، والجمع: شُرُد، والشريد الهارب، =

ولكن المعنى: يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من مساءلة (¬1) أخيه؛ لاهتمامه بشأنه، وأنت تقول لمن تكلم (¬2): فررت مما ألزمك (¬3)، لا تريد بذلك نفارًا في المحل (¬4)، فأما الفرار من موالاته يدل عليه قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}. [البقرة: 166] وأما الفرار من نصرته، [فيدل] (¬5) عليه: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41]. وأما المساءلة يدل عليه قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10] (¬6) قوله (تعالى) (¬7): {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} قال المفسرون (¬8): ¬

_ = والاسم: الشراد. (شرد): "لسان العرب" 3/ 237، "المصباح المنير" 1/ 365. والنَّفار: النَّفْرُ: التفرق، نَفَرَت الدابة تَنْفِرُ، وتَنْفُرُ نِفارًا، ونفورًا، يقال: في الدابة نِفار، والاسم: النفار، والإنفار عن الشيء، والتنفير، والاستنفار: كله بمعنى، ومنه: "حمر مستنفرة" أي مذعورة. انظر: (نفر) في: "الصحاح" 2/ 833، "لسان العرب" 5/ 224. (¬1) في (أ): مسألة. (¬2) بياض في (ع). (¬3) في (ع): لزمك. (¬4) يراد به الظرف. (¬5) في كلا النسختين: فيدخل، وأثبت ما يستقيم به المعنى. والله أعلم. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثل قوله مختصرًا, ولكن من غير عزو في "التفسير الكبير" 31/ 65. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬8) قال بذلك: ابن زيد: شأن قد شغله عن صاحبه. "جامع البيان" 30/ 62. وبه قال أيضًا الفراء في: "معاني القرآن" 3/ 238، والثعلبي في: "الكشف والبيان" =

لكل إنسان منهم شأن (يغنيه) (¬1)، يشغله عن الأقرباء. قال ابن قتيبة: يغنيه: أي (¬2) يصرفه، ويصده عن قرابته، وأنشد (¬3): ستغنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل (¬4) قال: أي: سيشغلك، ويقال: اغنِ عني وجهك، أي [اصرفه (¬5)]. (¬6) وقال أهل المعاني: معنى يغنيه: يكفيك (¬7) عن زيادة عليه من الاهتمام لغيره. أي: ليس فيه فضل لغير ما هو فيه من الأمر الذي قد اكتنفه، وما ¬

_ = ج 13/ 42/أ. وانظر هذا القول أيضًا في: "معالم التنزيل" 4/ 449، "زاد المسير" 8/ 186، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 222. وهذا القول دل عليه حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يبعث الناس يوم القيامة حُفاة عُراة غُرلًا، فقالت عائشة: فكيف بالعورات؟ قال: "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه". "سنن النسائي" 4/ 421 ح: 2082: كتاب الجنائز: باب: 18، "المستدرك" 2/ 515: ك التفسير: تفسير سورة عبس، وقال: حديث صحيح، ووافقه الذهبي. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) في (أ): أن. (¬3) لم ينشده ابن قتيبة، وهو منسوب إلى خفاف بن ندبة. (¬4) ورد البيت منسوبًا إلى خفاف في: "الكشف والبيان" ج 13: 42/ أ، "التفسير الكبير" 31/ 65، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 223، ولم أجده في ديوان خفاف بن ندبة السلمي. (¬5) وردت في النسختين: صرفه، وأثبت ما جاء عند ابن قتيبة لسلامة اللفظ. (¬6) "تفسير غريب القرآن" 515 بنحوه. (¬7) في (ع): يكفيكه.

38

أصدره، فصار حاله كحال الغني عن الشيء في أن نفسه لا تنازع إليه (¬1). 38 - ثم وصف أحوال المؤمنين والكفرين في ذلك اليوم، فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة منكشفة الألوان، ناضرة (¬2). 39 - {ضَاحِكَةٌ} (¬3) قال عطاء: مسرورة (¬4). وقال الكلبي: يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نال من كرامة الله ورضاه (¬5). 40 - (قوله تعالى) (¬6): {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} قال الليث: الغَبَرَة: لَطْخُ غبار، والغُبْرَة: اغبِرار اللَّوْن يَغْبَرُّ لِلْهَمِّ (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) بمعنى هذا قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 287، وعبارته: أي شأن لا يهمه معه غيره، وكذلك يغنيه لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره. قال الأزهري: وأما الغناء -بفتح الغين والمد- فهو الإجزاء والكفاية، يقال: رجل مُغْن أي مجزئ كاف، ومنه قوله: "لكل امرئ منهم شأن يغنيه"، يقول: يكفيه شغل نفسه عن شغل غيره. "تهذيب اللغة" 8/ 201 - 202: (غنا)، وانظر: "لسان العرب" 15/ 138: (غنا). (¬2) إلى مثل هذا القول ذهب الطبري في: "جامع البيان" 30/ 62، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 209. (¬3) {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 450، "زاد المسير" 8/ 186، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 223، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 506. (¬5) "التفسير الكبير" 31/ 65. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬7) في (ع): لهم. (¬8) "تهذيب اللغة" 8/ 122: (غير) بنصه. وانظر: "لسان العرب" 5/ 5: (غبر)، ونسبه إلى أبي علي.

41

وقال المبرد: الغبرة ما يصيب الإنسان من الغبار المعفر على الألوان (¬1). والمفسرون يقولون: سواد (¬2)، 41 - وهو قوله: {تَرْهَقُهَا} (¬3) أي يغشاها ويعلوها. {قَتَرَةٌ} قال الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5) يعني: سواد وكسوف عند معاينة النار. وقال المبرد (¬6)، والزجاج (¬7): هي سواد كالدخان (¬8)، وأصلها من ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 66. (¬2) قال بذلك: مقاتل. انظر: "زاد المسير" 8/ 186، وإليه ذهب البغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 450، والخازن في: "لباب التأويل" 4/ 355. وقال ابن عطية: هو العبوس والهم. "المحرر الوجيز" 5/ 440، وهو معنى ما ذهب إليه مقاتل، وبمثل قول ابن عطية ذهب أبو حيان في "البحر" 8/ 430. وعلى هذا فقوله: "عليها غبرة" يحتمل وجهين: أحدهما: أنه غبار جعل شيئًا لهم ليتميزوا به فيعرفوا، وهو ما ذهب إليه الطبري في: "جامع البيان" 30/ 63، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13: 42/ ب، والزمخشري في: "الكشاف" 4/ 187، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 224. والثاني: أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة، وهو ما ذهب إليه المفسرون بقول الواحدي. وانظر: "النكت والعيون" 6/ 209. (¬3) {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (¬4) "النكت والعيون" 6/ 210، وعبارته: كسوف الوجه. (¬5) "تفسير مقاتل" 229/ ب، وانظر: المرجع السابق بنفس العبارة أيضًا. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 287. (¬8) كالسواد من الدخان. هكذا وردت في نسخة (أ).

42

القتار، وهو دخان الشواء، (¬1) وهو قول عطاء (عن ابن عباس) (¬2)، قال: يريد قتار جهنم (¬3). 42 - (ثم بين من أهل هذه الحال فقال: (قوله تعالى) (¬4): {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (¬5). ¬

_ (¬1) قال الليث: القُتار: ريح الشِّواء إذا ضُهِّب على الحجر، والقترة: غبرة يعلوها سواد كالدخان. "تهذيب اللغة" 9/ 51 - 52: (قتر). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬5) ما بين القوسين نقلاً عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 287. قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم يوم القيامة هم الكفرة بالله، كانوا في الدنيا الفجرة في دينهم لا يبالون ما أتوا به معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجزاهم الله بسوء أعمالهم ما أخبر به عباده). "جامع البيان" 30/ 63.

سورة التكوير

سورة التكوير

1

تفسير سورة التكوير (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلَفُّ فَتُمْحَى (¬2)، وقال (¬3) الزجاج: جمع ضوؤها, ولُفَّت (¬4) كما تلف العمامة، يقال: كورت العمامة على رأسي أكورها كورًا، وكوَّرْتُها تكويرًا إذا لففتها (¬5). هذا معنى التكوير في اللغة، وهو الكف والجمع، (ومن هذا سميت الكارة التي للقصَّار؛ لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد، ويكون بعضها على بعض، وللتكوير معنى آخر، يقال: كورت الحائط ودهورته: إذا طرحته حتى يسقط. أبو عبيد (¬6) عن الأصمعي: طعنه فكوره إذا صرعه (¬7). ¬

_ (¬1) مكية بالإجماع، حكى الإجماع: ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 441، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 187، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 224، والألوسي في: "روح المعاني" 30/ 49. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 287. (¬3) في (أ): فقال. (¬4) في (أ): ولُف. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 289 بيسير من التصرف. (¬6) في (أ): أبو عبيدة. (¬7) "تهذيب اللغة" 10/ 346: (كار).

قال أبو كبير (¬1): مُتَكَورينَ على المعَارى بينهم ... ضَرْبٌ كتعطاط الْمَزادِ الأثجلِ) (¬2) (¬3) وعبارات المفسرين مختلفة، ومعناها ترجع إلى أحد الأصلين (¬4): قال قتادة (¬5)، ومقاتل (¬6)، (والكلبي) (¬7) (¬8) ذهب ضوؤها. وقال مجاهد (¬9): اضمحلت وذهبت. وقال أبو صالح: طمست، وعنه أيضًا: انكسفت (¬10). ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬2) ورد البيت في: "تهذيب اللغة" 10/ 247: (كار). (¬3) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 10/ 346 - 347: (كار). (¬4) بياض في (ع). (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 350، "جامع البيان" 30/ 64، "الكشف والبيان" ج 13: 43/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 451، "المحرر الوجيز" 5/ 441، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 225، "البحر المحيط" 8/ 431، "زاد المسير" 8/ 188، "الدر المنثور" 8/ 427 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، "فتح القدير" 5/ 388. (¬6) "تفسير مقاتل" 230/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 451، "زاد المسير" 8/ 188، "فتح القدير" 5/ 388. (¬7) المراجع السابقة عدا "زاد المسير". (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) "جامع البيان" 30/ 64، "النكت والعيون" 6/ 211، "الكشف والبيان" ج 13: 43/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 451، "زاد المسير" 8/ 188، "البحر المحيط" 8/ 431، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 507، "الدر المنثور" 8/ 427 وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 388، "روح المعاني" 30/ 50. (¬10) لم أجد له إلا رواية: نُكِّست في: "جامع البيان" 35/ 50، "الكشف والبيان" ج 13: 43/ أ، "النكت والعيون" 6/ 211، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 225، "الدر المنثور" 8/ 427 وعزاه إلى عبد بن حميد، "روح المعاني" 30/ 50.

وقال أهل المعاني: التكوير: تلفيف على جهة الاستدارة، كتكوير العمامة، والشمس تكور: بأن يجمع نورها حتى يصير كالكارة الملقاة، فيذهب ضوؤه (¬1). هذا كله على قول من يقول إنه من اللف (¬2). وقال إبراهيم (¬3): كورت رُمي بها (¬4)، وهو قول الربيع (¬5) بن خثيم (¬6). (¬7) ¬

_ (¬1) قال أبو عبيد: الْحَوْر: النقصان، والكَوْر: الزيادة بعد الشدّ، وكلُّ هذا قريب بعضه من بعض. وقال الأخفش: تُلَفُّ فَتُمْحَى. "تهذيب اللغة" 10/ 345: (كار). (¬2) قال ابن تيمية: هذا وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة، قال تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}، والتكوير هو التدوير، ومنه قيل: كار العمامة، وكوّرها إذا أدارها, ولهذا يقال للأفلاك كروية الشكل؛ لأن أصل الكرة كورة، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، وكورت الكارة إذا دورتها، ومنه الحديث: "إن الشمس والقمر يكوران يوم القيامة كأنهما ثوران في نار جهنم" [انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة بلفظ: الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة: 1/ 32: ح: 124، قال الألباني: صحيح على شرط البخاري، وقد أخرجه في صحيحه مختصرًا]. ثم قال: وأما إجماع العلماء وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر: لا خلاف بين العلماء أن السماء مثل الكرة، وذكر عنه كلامًا طويلًا. مجموع فتاوى ابن تيمية: 25/ 193 - 194. (¬3) في كلا النسختين: ابرهم. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) تقدمت ترجمته في سورة الأحزاب. (¬6) في (أ): خيثم. (¬7) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 64، "الكشف والبيان" ج13: 43/ أ، "النكت والعيون" 6/ 211، "المحرر الوجيز" 5/ 441، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 225.

وروي عن مجاهد: دهورت (¬1). وعن أبي صالح: أُلقيت (¬2). قال المفسرون (¬3): تجمع الشمس بعضها (¬4) إلى بعض ثم تلف فيرمى بها. وأما ما روي عن ابن عباس في تفسير كورت، [ما رواه مُجَالِد] (¬5) عن رجل من بجيلة (¬6) (¬7)، قال: يكور الله الشمس، والقمر، والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحًا دبورًا (¬8) فتضرمها (¬9) ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 5/ 156. (¬2) "جامع البيان" 30/ 64، "الكشف والبيان" ج13: 43/ أ، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 507. (¬3) قاله الثعلبي في: "الكشف والبيان" ج13: 43/ ب، وحكاه عن المفسرين: ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 188، والشوكاني في: "فتح القدير" 5/ 388. كما ذكر هذا القول في: "لباب التأويل" 4/ 355، "معالم التنزيل" 4/ 450. (¬4) بياض في (ع). (¬5) في كلا النسختين: فروى مجاهد، وأثبت لفظ: ما رواه لاستقامة الكلام به، كما أثبت اسم مجالد لأن المصادر تذكر في رواية ابن عباس هذه مجالد، وليس مجاهدًا, ولعله تصحيف من النساخ، والله أعلم. تقدمت ترجمته في سورة يوسف. (¬6) غير واضحة في (ع). (¬7) بجيلة: هم قبيلة من أنمار بن أراش، من كهلان من القحطانية، وبجيلة أمهم غلب عليهم اسمها، وهي بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي: 163. (¬8) دبورًا: ريح تأتي من دُبُر الكعبة مما يذهب نحو المشرق. "لسان العرب" 4/ 271: (دبر)، وانظر: "تهذيب اللغة" 14/ 113: (دبر)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 98. (¬9) تضرمها: ضرم: ضرِمت النار ضرمًا: التهبت، وتضرمت، واضطرمت كذلك، =

2

فتصير نارًا (¬1). فقوله: "يكور الله الشمس" يحتمل اللف، ويحتمل الرمي. 2 - قوله (تعالى) (¬2): {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} قال [أبو عبيدة] (¬3): يقال: انكدر فلان أي: انصبَ، وأنشد قول العجّاج (¬4): ¬

_ = وأضرمَها إضرامًا. "المصباح المنير" 2/ 426. وجاء في "القاموس المحيط" 4/ 426: والنار اشتعلت، وأضْرَمها وضَرَّمها، واستضرمها: أوقدها، فاضطرمت وتضرمت .. (¬1) ورد الأثر عن ابن عباس في: "جامع البيان" 30/ 68، والإسناد عنده كالآتي: قال: حدثني حوثرة بن محمد المنقري، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا مجالد، قال: أخبرني شيخ من بجيلة، عن ابن عباس: الأثر بنحوه، وعنه في "بحر العلوم" 3/ 451 - 452، كما ورد في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 507 بالإسناد التالي: قال: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وعمرو بن عبد الله الأودي: حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس الأثر بنحوه. ومدار هذه الرواية على مجالد بن سعيد، وهو كما قال الإمام أحمد: ليس بشيء، وقال ابن معين: لا يحتج به، وقال الدارقطني: ضعيف، وزاد الرواية ضعفًا أن مجالد رواه عن رجل مجهول لا يعرف اسمه ولا حاله، فالرواية لا تصلح للاحتجاج، ولا للاستشهاد. انظر: "المغني" في الضعفاء للذهبي: 2/ 542: ت: 5183. (¬2) ما بين القوسن ساقط من: ع. (¬3) في كلا النسختين: أبو عبيد، والصواب أنه أبو عبيدة، فقد ورد قوله في "مجاز القرآن" 2/ 287 بنصه من غير تتمة الشطر الثاني للبيت، وذكر عند القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 225 بأنه أبو عبيدة، وساق قوله. (¬4) تقدمت ترجمته في سورة النساء.

أبْصَر خِرْبان فَضاء فانْكَدَرْ ... حتى (¬1) انقضّ من الهواء كالمنصب (¬2) (ويقال: انكدر يّعْدو (¬3) إذا أسرع) (¬4). والمفسرون يقولون: تهافتت وتناثرت وتساقطت (¬5). قال الكلبي: وتمطر السماء يومئذ نجومًا، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على وجه الأرض (¬6). ¬

_ (¬1) في (ع): يعني. (¬2) ورد في ديوانه: 29 تح: د. عزة حسن. كما ورد في: "جامع البيان" 30/ 65، "الكشف والبيان" ج 13: 43/ ب، "النكت والعيون" 6/ 212، "المحرر الوجيز" 5/ 441، برواية: "فلاة" بدلًا من "فضاء". وكذا عند القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 225، "روح المعاني" 35/ 50. أبصر خربان: والخربان: الحُباريات المذكور، واحد الخربان خرب، وهو ذكر الحبارى، والأنثى: حبارى، والفتية منها قلوص. ديوانه: 29. (¬3) في كلا النسختين: يغذوا. (¬4) ما بين القوسين من قول أبي عبيد عن الفراء كما ذكر ذلك الأزهري في "تهذيب اللغة" 10/ 108. (¬5) قال بذلك قتادة. انظر: تفسير عبد الزاق: 2/ 250، "جامع البيان" 30/ 65، "الدر المنثور" 8/ 427 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وإلى هذا ذهب الثعلبي، انظر: "الكشف والبيان" ج 13: 43/ ب. وقال الربيع بن خثيم، ومجاهد: تناثرت. "جامع البيان" 30/ 65. وقال ابن زيد: رمى بها من السماء إلى الأرض. "جامع البيان" 30/ 65. وبمعناه ذهب ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 516، والفراء في: "معاني القرآن" 3/ 239، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 285. وإلى هذا القول ذهب البغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 451، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 188، وابن كثير في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 507. (¬6) "التفسير الكبير" 31/ 68، "معالم التنزيل" 4/ 451، "لباب التأويل" 4/ 355، "فتح القدير" 5/ 388.

3

وقال عطاء: إنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض من النور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة، فإذا مات من في السموات، ومن في الأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها (¬1). 3 - قوله (تعالى) (¬2): {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} قال ابن عباس: تقلعت (¬3) من أصولها، فسارت وصارت كالهباء (¬4) المنبث (¬5)، كقوله: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، وقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20]، وقوله: {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47]. 4 - قوله (تعالى) (¬6): {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} العشار: جمع العشراء، قال الليث: يقال: عَشَّرَتْ فهي عُشرَاء، والعدد عُشَرَاوات (¬7)، والجميع (¬8): عِشَار -قال-: ويقع اسمُ العشار على النُّوق التي نُتج بعضها، وبعضها مقاريب (¬9) (¬10) -قال- (الأزهري) (¬11): العرب يسمونها ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 68، وبمثله قال ابن عباس. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 226. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬3) في (أ): تعملت. (¬4) بياض في (ع). (¬5) "الوسيط" 4/ 428. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬7) في (ع): عشروات. (¬8) في (أ): الجمع. (¬9) في (أ): تقاربت. (¬10) "تهذيب اللغة" 1/ 410: (عشر) بنصه. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ).

عِشارًا بعد وضعها أولادها للزوم الاسم لها بعد الوضع، كما يسمونها لقاحًا (¬1). وقال الزجاج: العشار: النوق الحوامل التي في بطونها (¬2) أولادها إذا أتت عليها عشرة أشهر، وأحسن ما تكون الإبل، وأنفسها عند أهلها: العشار (¬3). وقال المبرد: وإنما سميت عشارًا؛ لأنها قد كملت (¬4) عشرة أشهر، الواحدة منها عُشراء كقولك (¬5): نفساء ونفاس (¬6). وقوله: {عُطِّلَتْ} أي تركت هملًا بلا راع، وكل شيء ترك ضياعًا (¬7) فهو معطل (¬8). قال ابن عباس (¬9)، والمفسرون (¬10): أهملها أهلها لما جاءهم من ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 410 بيسير من التصرف. (¬2) في (ع): بطون. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 289 بتصرف. (¬4) في (ع): كلت. (¬5) في (أ): لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) في (أ): ضاعًا. (¬8) ما انظر (عطل) في: "تهذيب اللغة" 2/ 166، "لسان العرب" 11: 454. (¬9) "التفسير الكبير" 31/ 68، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 327. (¬10) وإلى معنى هذا القول ذهب: مجاهد، والحسن، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 30/ 66. وبمعناه قال اليزيدي في "غريب القرآن": 415، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 516، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج13/ 43/ ب. وانظر. "معالم التنزيل" 4/ 451، "المحرر الوجيز" 5/ 441، "زاد المسير" 8/ 189، "القرطبي" 19/ 226 - 227، "لباب التأويل" 4/ 355، "ابن كثير" 4/ 508.

5

أهوال يوم القيامة وأفزاعها, وليس أحب إلى العرب من النوق الحوامل. وقال الربيع بن خثيم: تخلى منها أربابها فلم تحلب ولم تَصر (¬1) (¬2). وقال أبو إسحاق: وليس يعطلها أهلها إلا في حال القيامة، وخوطب العرب بأمر العشار؛ لأن أكثر مالها وعيشها من الإبل (¬3). 5 - قوله (تعالى) (¬4): {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (كل شيء من دواب الأرض (¬5) مما لا يستأنس فهو وَحْشٌ، والجمع وحوش) (¬6) (¬7). قال ابن عباس في رواية عطاء (¬8)، (والكلبي) (¬9) (¬10): يعني جمعت (¬11) حتى يقتص بعضها من بعض، (وهو قول أكثر ¬

_ (¬1) غير واضحة في (ع). وتَصر الصَّرَّة: شدها، وصرَّ الناقة شدَّ عليها، والصِّرار -بالكسر- وهو خيط يشد فوق الخلف والتودية لئلا يرضعها ولدها. مختا ر "الصحاح" 360: (صر). (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 66، "الدر المنثور" 8/ 228 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 289. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬5) في (ع): البر. (¬6) بياض في (ع). (¬7) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 5/ 143: (وحش). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثل هذا القول من غير عزو في "الوسيط" 4/ 428. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) غير واضحة في (ع).

6

المفسرين) (¬1) (¬2). وروى (عكرمة) (¬3) عن ابن عباس (¬4) قال: حشر البهائم: موتها، وحَشْر كل شيء الموت غير الجن والإنس. 6 - {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قال ابن عباس (¬5) (في رواية عطاء) (¬6): أوقدت فصارت نارًا تضطرم (¬7)، وهو قول مجاهد (¬8). ¬

_ (¬1) ورد بمعنى هذا القول عن قتادة، وابن عباس، والسدي، والربيع بن خثيم. انظر: "جامع البيان" 30/ 67، "الكشف والبيان" ج13: 43/ ب، "المحرر الوجيز" 5/ 441، "النكت والعيون" 6/ 212، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 508، "تفسير السدي" 472. وإليه ذهب الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 289. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "جامع البيان" 30/ 67، "الكشف والبيان" ج 13: 43/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 451، "زاد المسير" 8/ 189، "التفسير الكبير" 31/ 69، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 227، "لباب التأويل" 4/ 355، "البحر المحيط" 8/ 432، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 508، "الدر المنثور" 8/ 429 وعزاه إلى الفريابي، وسعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، "المستدرك" 2/ 515: كتاب التفسير: تفسير سورة إذا الشمس كورت، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬5) "النكت والعيون" 6/ 213، "معالم التنزيل" 4/ 451، "المحرر الوجيز" 5/ 442 , "زاد المسير" 8/ 189، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 228، "الدر المنثور" 8/ 429 وعزاه إلى البيهقي في البعث. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) في (ع): تظطرم. (¬8) "تفسير الإمام مجاهد": 707 بعبارة: أوقدت.

7

وقال الكلبي: تفتح بعضها إلى بعض، فصارت بحرًا واحدا فملئت، وكثر ماؤها (¬1). وهذا قول مقاتل (¬2)، ومعناه: ملئت بأن أفضى بعضها إلى بعض. قاله الفراء (¬3). وقال قتادة: غار ماؤها إلى الأرض فذهب (¬4)، (وهو قول الحسن: يبست (¬5). والضحاك: رد ماؤها إلى الأرض (¬6) (¬7). وهذه الأقوال كلها مذكورة في قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]. 7 - (قوله تعالى) (¬8): {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين، ¬

_ (¬1) ورد قوله مختصرًا جدًا في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 350، "جامع البيان" 30/ 68، بحر العلوم: 3/ 452، "الكشف والبيان" ج 13: 44/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 451، "التفسير الكبير" 31/ 69. (¬2) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" ج 13: 44/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 451، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 228. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 239. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 350، "جامع البيان" 30/ 68، "المحرر الوجيز" 5/ 441. (¬5) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق"، وانظر أيضًا: "الكشف والبيان" ج 13: 44/ أ، "النكت والعيون" 6/ 213، "زاد المسير" 8/ 189، تفسير الحسن البصري: 2/ 400. (¬6) ورد قوله في: "المحرر الوجيز" 5/ 441، "الدر المنثور" 8/ 427 - 429 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) في (ع): فقال.

والمنافقين بالشياطين (¬1) (¬2)، وذلك قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (¬3) (وهذا قول مقاتل (¬4)، والكلبي) (¬5) (¬6). وروى (النعمان بن بشير) (¬7) (¬8) عن عمر -رضي الله عنه- قال: يقترن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، فذلك قوله: تزويج (¬9). وهذا المعنى روي عنه بألفاظ مختلفة أحدها: ما ذكرنا، والآخر: ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) ورد قوله في: " التفسير الكبير" 31/ 70، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 229، "البحر المحيط" 8/ 433. (¬3) سورة الصافات: 22. (¬4) "تفسير مقاتل" 230/ أ، "بحر العلوم" 3/ 452، "الكشف والبيان" ج 13: 44/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 452، "المحرر الوجيز" 5/ 442، "زاد المسير" 8/ 190، "البحر المحيط" 8/ 433، "روح المعاني" 30/ 52. (¬5) "بحر العلوم" 3/ 452، "الكشف والبيان" ج 13: 44/ ب، "الدر المنثور" 8/ 430 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) تقدمت ترجمته في سورة غافر. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 350، "جامع البيان" 3/ 69، "معالم التنزيل" 4/ 452 , "الباب التأويل" 4/ 356، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 508، "الدر المنثور" 8/ 429 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، وأبي نعيم في الحلية، "المستدرك" 2/ 516: كتاب التفسير: تفسير سورة إذا الشمس كورت، وصححه، ووافقه الذهبي.

هما الرجلان يعملان العمل يدخلان (به) (¬1) الجنة أو النار (¬2). ومنها أنه قال: (الفاجر) (¬3) مع الفاجر، والصالح مع الصالح (¬4). ونحو هذا روى الفراء (بإسناده) (¬5) (¬6)، عن عكرمة، قال: يقرن الرجل بقرينه الصالح في الدنيا في الجنة، ويقرن الرجل الذي كان يعمل السيئ بصاحبه الذي كان يعينه على ذلك في النار، فذلك تزويج الأنفس (¬7). قال (¬8): وسمعت بعض العرب يقول: زوجت إبلي، وذلك أن يقرن البعير بالبعير، فيعتلفان معًا، ويرتحلان معًا (¬9). وهذا معنى قول الربيع بن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) انظر قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 350، "جامع البيان" 30/ 69، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 508، "الدر المنثور" 8/ 430 وعزاه إلى ابن مردويه، "المستدرك" 2/ 516: كتاب التفسير: تفسير سورة إذا الشمس كورت، وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ورد نحو قوله في: "بحر العلوم" 3/ 452، "الكشف والبيان" ج 13: 44/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 452، "زاد المسير" 8/ 189، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 229، "الدر المنثور" 8/ 430. (¬5) والإسناد كما هو عند الفراء: قال: حدثنا أبو العباس، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا الفراء، قال: حدثني أبو الأحوص سلام بن سليم، عن سعيد بن مسروق، عن أبي سفيان، عن عكرمة. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 239 - 240، "معالم التنزيل" 4/ 452، وانظر: "الدر المنثور" 8/ 430. (¬8) أي الفراء. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 239 - 240.

خثيم: يحشر المرء مع صاحب عمله (¬1) (¬2). (وهذا معنى قول) (¬3) مجاهد: أُلحق كل امرئ [بشيعته] (¬4): اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى (¬5). (وروى) (¬6) عكرمة (قولًا آخر) (¬7) قال: زوجت الأرواح بالأجساد، يعني: ردت إليها (¬8). وقال أبو إسحاق: قرنت كل [شيعة] (¬9) بمن شايعت (¬10). وروي هذا مرفوعًا من طريق النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 350 - 351، "جامع البيان" 30/ 70، "معالم التنزيل" 4/ 452. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من النسختين، وأثبت ما رأيت فيه استقامة الكلام، لا سيما أنه ورد مثله عن الحسن، وقتادة انظر: "جامع البيان" 30/ 70، "الكشف والبيان" ج 13: 44/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 452، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 230. (¬5) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 70، وعبارته: الأمثال من الناس جمع بينهم. (¬6) ما بين القوسين سافط من (أ). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "اجامع البيان" 30/ 70، "الكشف والبيان" ج 13: 44/ ب، "النكت والعيون" 6/ 214، "معالم التنزيل" 4/ 452، "المحرر الوجيز" 5/ 442، "زاد المسير" 8/ 190، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 230، "البحر المحيط" 8/ 433. (¬9) في كلا النسختين: شيء، وأثبت ما جاء في معاني الزجاج لاستقامة المعنى به، ولأنه مصدر القول عن أبي إسحاق. (¬10) معاني القرآن وإعرابه 5/ 290.

هذه الآية: "الضُّرَباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله" (¬1). (وهذا معنى قول مجاهد) (¬2): (¬3) الأمثال من الناس جمع بينهم (¬4). (وحكى أبو إسحاق قولًا فقال) (¬5): وقرنت النفوس بأعمالها (¬6). قوله (تعالى) (¬7): {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ} هي مفعولة من الوأد، (وكانت العرب إذا ولدت لأحدهم بنت، دفنها حية مخافة العار، أو الحاجة، يقال وأد يئد وأدًا فهو وائد، والمفعول به موءود. قال الفرذدق (¬8): ومنا الذي مَنَع الوائدات ... فأحيا الوئيدَ فلم تُؤْد) (¬9) (¬10) ¬

_ (¬1) وردت الرواية في: "جامع البيان" 30/ 69، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 508. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد في نسخة (أ) عبارة: وحكى أبو إسحاق قولًا وليس هنا بموضعه الصحيح. وورد في نسخة: ع نفس العبارة بانتظام وسلامة عبارة. انظر: رقم 5 من المتن. (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 70. (¬5) ما بين القوسين ورد في نسخة: أفي غير هذا الموضع، وهو خطأ، وقد بينته. راجع حاشية: 3 من هذه الصفحة. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 290. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) تقدمت ترجمته في سورة النساء. (¬9) ورد البيت في (وأد) في "تهذيب اللغة" 14/ 243 برواية: "وعمي" بدلًا من: "ومنا"، و"وأحيا" بدلًا من: "فأحيا"، "مقاييس اللغة" 6/ 78، وذكر عجز البيت، "الصحاح" 2/ 546، وكلاهما برواية: "وأحيا" بدلًا من: "فأحيا"، "لسان العرب" 3/ 442 برواية: "وجدي" بدلًا من: "ومنا"، "وأحيا" بدلًا من: "فأحيا"، "تاج العروس" 2/ 520، برواية: "وعمي" بدلًا من: "ومنا". كما ورد في "الكامل" 2/ 596، و604 برواية: "وأحيا"، ولم أعثر عليه في ديوانه. (¬10) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 14/ 243: (وأد).

9

هذا قول جميع أهل اللغة (¬1). 9 - وقوله: {سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} قال (عطاء) (¬2) عن ابن عباس (¬3)، (ومقاتل (¬4) (¬5): تسأل (¬6) قاتلها يوم القيامة بأي ذنب قتلها، وهي لم تذنب. قال الفراء: معنى "سئلت": سئل عنها الذين وأدوها، كأنك قلت: طلبت منهم، فقيل: أين أولادكم، فبأي ذنب قتلتموهم، وذكر وجهًا آخر، وهو: أن يكون المسؤول: "هي" على معنى: سئلت الموؤدة فقيل لها: "بأي ذنب قتلت؟ "، ثم يجوز قتلت، كما تقول: سألته بأي ذنب قتل، وبأي ذنب قتلت (¬7). قال أبو إسحاق: ومعنى سؤالها تبكيت قاتلها في القيامة, لأنها تقول: قُتلت بغير ذنب، قال: ومثل هذا (¬8) التبكيت قوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} .. الآية [المائدة: 116] وسؤاله وجوابه تبكيت لمن ادعى له، ولأمه الإلهية (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، وأيضًا: "مقاييس اللغة" 6/ 78، "الصحاح" 2/ 546، "لسان العرب" 3/ 442، "تاج العروس" 2/ 520، وجميعها في (وأد)، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 290 برواية: "فأحيا البنات". (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 214. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في النسختين: سئل. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 241 بتصرف. (¬8) قوله: ومثل هذا بياض في (ع). (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 290 بتصرف.

10

10 - {وَإِذَا الصُّحُفُ} (¬1) يعني صحائف بني آدم نشرت. قال مقاتل: إن المرء إذا مات طويت صحيفة (¬2) أعماله، فإذا كان يوم القيامة نشرت، فتعطيهم الحفظة منشورة (¬3)، ونحو هذا قال المفسرون (¬4): نشرت للحساب. 11 - قوله (تعالى) (¬5): {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (معنى الكَشْطِ في اللغة: رَفْعُك شيئًا عن شيء قد غطاه وغَشِيَه، كما يُكْشَطُ (¬6) الجلد عن السَّنام، ¬

_ (¬1) {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}. (¬2) في (ع): صحيفته. (¬3) "تفسير مقاتل" 230/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 232. (¬4) بمعنى هذا قال قتادة كما جاء في: "تفسير القرآن العظيم"، وعبارته: "قال يا ابن آدم، تملي فيه، ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة، فلينظر رجل ماذا يملي في صحيفته". وابن جريج قال: إذا مات الإنسان طويت صحيفته، ثم تنشر يوم القيامة، فيحاسب بما فيها. "الدر المنثور" 8/ 431 وعزاه إلى ابن المنذر. كما ورد معناه في: "معالم التنزيل" 4/ 452،"زاد المسير" 8/ 190، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 232، "لباب التأويل" 4/ 356، "البحر المحيط" 8/ 434، "فتح القدير" 5/ 389. (¬5) ساقطة من: ع. (¬6) ورد في التهذيب في المتن: يقشط بدلًا من يكشط، وقد ورد في حاشية التهذيب في النسخة: ل: يكشط. قال المحقق: وهو أنسب. "تهذيب اللغة" 10/ 7: (كشط). قلت: وهما لغتان، والعرب تقول: القافور والكافور، والقَفّ والكَفّ. لما بينهما من تقارب الحرفين في المخرج تعاقبتا في اللغات كما يقال: جدف وحدث، تعاقبت القاف والثاء في كثير من الكلام. قاله الفراء في: "معاني القرآن" 3/ 241. وانظر: "الكشف والبيان" ج 13: 46/ أ.

12

وذلك الجلد يسمى كِشاطًا بعدما يُكْشَط) (¬1). قال ابن عباس: يريد: يكشط عمن (¬2) فيها كما يكشط الجلد كن الكبش (¬3). وقال مقاتل: تكشف عمن فيها (¬4). وقال الفراء: نزعت فطويت (¬5). وقال الزجاج: قُلِعَت كما يُقلع السقف (¬6). وقال أهل المعاني: الكشط قلع عن شدة التزاق (¬7)، وتقلع السماء عن مكانها على شدة وثاقتها (¬8). 12 - {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أوقدت لأعداء الله من الكفار (¬9). 13 - {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} قربت (¬10) لأولياء الله من المتقين، (قاله ابن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من قول الليث، انظر: "تهذيب اللغة" 10/ 7: (كشط)، "لسان العرب" 7/ 387: (كشط). (¬2) في (أ): عن من. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله من غير عزو في "البحر المحيط" 8/ 434. (¬4) "تفسير مقاتل" 230/ أ، والعبارة عنه: "وإذا السماء كشطت عن من فيها لنزول الرب تبارك وتعالى والملائكة، ثم طويت". وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 452، "فتح القدير" 5/ 389. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 241، بتبديل الواو بدلًا من الفاء: فنزعت وطويت. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 291 بنصه. (¬7) بياض في (ع). (¬8) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد ورد مختصرًا في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 233 من غير عزو. (¬9) قال قتادة: وقدت. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 351، "النكت والعيون" 6/ 215. (¬10) بياض في (ع).

15

عباس (1)، ومقاتل) (¬2) (¬3) وجواب هذه الأشياء: قوله (تعالى) (¬4): {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} أي إذا كانت هذه الأشياء التي هي للقيامة علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، فيجزى به (¬5). 15 - (ثم) (¬6) أقسم فقال: {فَلَا أُقْسِمُ} (¬7) والمعنى: فأقسم، وقد تقدم القول في "لا" و"أقسم" في مواضع (¬8). 16 - قوله (تعالى) (¬9): {بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} أكثر المفسرين على أن المراد بها النجوم، وهو قول علي (¬10) (رضي الله عنه) (¬11)، وابن عباس (¬12) في ¬

_ (ا) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد معناه من غير عزو في: "بحر العلوم" 3/ 452، "معالم التنزيل" 4/ 452، "زاد المسير" 8/ 191، "التفسير الكبير" 31/ 71. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. انظر: "الوسيط" 4/ 430 من غير عزو. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من (ع). (¬5) قال بذلك السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 452 بإضافة: وهو كقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30]. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} (¬8) رجع ذلك في سورة القيامة، الآية: 1. (¬9) ساقط من (ع). (¬10) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 74، "زاد المسير" 8/ 191، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 510، "الدر المنثور" 8/ 431. (¬11) ساقط من (أ). (¬12) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 234، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، وكلاهما من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس، "الدر المنثور" 8/ 43 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في "العظمة".

رواية عكرمة، ومقاتل (¬1)، وقتادة (¬2)، (وابن زيد (¬3)، ومجاهد (¬4)، والحسن) (¬5) (¬6). وعلى هذا: الخنس: جمع خانس، (والخنوس: إلانقباض، والاستخفاء، تقول: خَنَس من بين القوم، وانْخَنَسَ من الحديث: "الشيطان يوسوس (¬7) إلى العبد، فإذا ذكر الله خنس" (¬8)، أي انقبض منه، ولذلك سمي الخناس) (¬9). (والكُنَّس: جمع كانس، وكانسة، يقال: كنس إذا دخل الكِناس، وهو مولج الوحش، يقال: كَنَسَتِ الظباءُ في كنسها، وتكنست، ويقال: ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 8/ 191. (¬2) "جامع البيان" 30/ 75، "معالم التنزيل" 4/ 453، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 234، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، "فتح القدير" 5/ 390. (¬3) "جامع البيان" 30/ 75. (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511. (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 352، "جامع البيان" 30/ 75، "زاد المسير" 8/ 191، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 234، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، "فتح القدير" 5/ 390. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) في (ع): فوسوس. (¬8) "النهاية في غريب الحديث": 2/ 83 وقد ذكر الغزالي في الإحياء حديثًا بلفظ: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن هو ذكر الله تعالى خنس، وإن نسي الله تعالى التقم قلبه". قال الزين العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: "أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان، وأبو يعلى الموصلي، وابن عدي في "الكامل"، وضعفه". إحياء علوم الدين: 3/ 28. (¬9) ما بين القوسين من قول الليث. انظر: "تهذيب اللغة" 7/ 173: (خنس).

تكنست المرأة إذا دخلت هودجها، تشبه بالظبي إذا دخل الكناس، ومنه قول لبيد: شاقَتْكَ ظُعْنُ الحيِّ يومَ تَحمَّلوا ... فَتَكنَّسوا قُطُنًا تَصِرُّ خِيامُها) (¬1) (¬2) واختلفوا في خنوس النجم وكنوسها، فقال علي-رضي الله عنه-: النجوم (¬3) تخنس بالنهار فتخفى، ولا ترى، وتكنس في وقت غروبها (¬4). ومعنى تخنس، على (¬5) هذا القول، تتأخر عن البصر، فلا ترى. وقال الفراء: خنوسها أنها تخنس في مجراها وترجع (¬6). قال الليث: الخنس: الكواكب الخمسة، تخنس الأحيان راجعة حتى ¬

_ (¬1) ورد البيت في: ديوانه، ط. دار صادر: 166 برواية: "يوم" بدلاً من: "حين". وانظر (كنس) في: "تهذيب اللغة" 10/ 63، برواية: "حين" بدلًا من: "يوم"، "لسان العرب" 6/ 198. (¬2) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 10/ 63 - 64: (كنس) بتصرف. وانظر "لسان العرب" 6/ 198: (كنس). ومعنى البيت: شاقتك: أثارت شوقك. الظعن: الإبل التي عليها الهوادج، أو هي النساء في الهوادج. تحملوا: ارتحلوا. تكنسوا: دخلوا في الكناس؛ أي اتخذوا الهوادج كنسًا. قُطُنًا: جمع قطين، وهم الجماعة، أو البطانة، أو الجيران، أو سكان الدار. تصر: تحدث صريرًا، وذلك لأن الإبل تعجل فتهز الخشب فتصر. ديوانه: 166. (¬3) في (أ): النجم. (¬4) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 75، "الكشف والبيان" ج 13: 46/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 453، "زاد المسير" 8/ 191، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 510. (¬5) في (أ): وعلى. (¬6) "معانى القرآن" 3/ 242 مختصرًا.

تخفى تحت ضوء الشمس، فلا ترى (¬1). وجعل الزجاج خنوسها، وكنوسها: أن تغيب في مواضعها التي تغيب فيها إذا غابت (¬2). وقال عبد الله: هي بقر الوحش (¬3). (وهو قول إبراهيم) (¬4) (¬5). وقال سعيد بن جبير: هي الظباء (¬6). وعلى هذا: الخنس من (الْخَنَسِ في الأنف، وهو تأخُّر الأرنبة، وقصر القصبة، والبقرة، والظباء أنوفهن خنس، والبقر خنساء (¬7)، والظبي ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 292. (¬3) "جامع البيان" 30/ 75، "بحر العلوم" 3/ 453، "الكشف والبيان" ج 13: 46/ ب، "النكت والعيون" 6/ 217، "معالم التنزيل" 4/ 453، "زاد المسير" 8/ 192، "التفسير الكبير" 31/ 72، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 235، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، "الدر المنثور" 8/ 431 - 432 وعزاه إلى سعيد بن منصور، والفريابي، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والطبراني: 9/ 249: ح: 9063، وانظر: "المستدرك" 2/ 516، وقال: حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وقد رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 134. (¬4) "جامع البيان" 30/ 76، "التفسير الكبير" 31/ 72، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 235. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 453، "المحرر الوجيز" 5/ 443، "زاد المسير" 8/ 192، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 235، "البحر المحيط" 8/ 434، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511. (¬7) في (أ): خنسها.

أخنس) (¬1)، ومنه قول لبيد يذكر بقرة: خَنْساءُ ضَيَّعَتِ الفَريرَ فَلَمْ يَرِم ... عُرْضَ الشَّقائقِ طَوْفُها وبُغامُها (¬2) (¬3) والكنس: جمع كانس، وهي التي تدخل الكِناس، والقول هو الأول (¬4). وهو اختيار الفراء (¬5)، والكسائي (¬6)، (وأبي عبيدة (¬7)، والمبرد (¬8)، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 7/ 175: (خنس). (¬2) في (أ): بعاها. (¬3) ورد البيت في: ديوانه: 171 ط. دار صادر. ومعناه: خنساء: بقرة فيها خنس، وهو تأخر الأنف وقصره، الفرير: ولد البقرة، لم يرم: لم يبرح، عرض: ناحية وجانب، الشقائق: جمع شقيقة، وهي أرض غليظة بين رملتين، طوفها: دورانها. بغامها: صوتها. يعني أن تلك البقرة التي أكل السبع ولدها لم تبارح عرض الشقائق في البحث عن ابنها، فهي تدور وتصيح ظانة أنه مستتر عنها بين النبات. انظر: ديوانه: 171. (¬4) وإليه ذهب الشوكاني، وذكر سبب الترجيح أنه ذكر الليل والصبح بعد هذا. "فتح القدير" 5/ 390، على أن ابن جرير رجح عموم القول، فكل ما كانت صفته الخنوس أحياناً والجري أخرى، والكنوس، فهو داخل في عموم الآية. "جامع البيان" 30/ 77. ورجح ابن تيمية ما رجحه الإمام الواحدي، قال: قوله تعالى: "فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس" يعني الكواكب التي تكون في السماء خانسة، أي مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها. مجموع فتاوى ابن تيمية: 11/ 273. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 242. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 287. (¬8) "الكامل" 2/ 866.

وابن قتيبة) (¬1) (¬2)، وذلك أن الخُنَّسَ جمع خانس من الخنوس، وجمع خنساء، وأخنس من الخنس، خنْس بالسكون، والتخفيف، ولا يقال فيه الخنس بالتشديد، إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضًا من الخنوس، وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين (¬3). واحتج أبو إسحاق على أن المراد به النجوم، فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} وهذا أليق بذكر النجوم منه بذكر الوحش (¬4). وأكثر المفسرين قالوا في: "عسعس" أنه: ولى، وذهب، وأدبر، وهو قول عطاء (¬5)، (والكلبي) (¬6) (¬7) عن ابن عباس، (ومقاتل (¬8)، ومجاهد (¬9)، ¬

_ (¬1) "تفسير غريب القرآن" 517. (¬2) ما بين القوسين ذكر بدلًا، من تعدادهم لفظ: وغيرهما في نسخة: أ. (¬3) انظر في ذلك: "تهذيب اللغة" 7/ 173: (خنس)، "مقاييس اللغة" 2/ 223: (خنس). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 291 بتصرف، والقول الذي احتوى هذا المعنى قال: والخنس هاهنا أكثر التفسير يعني بها النجوم؛ لأنها تخنس أي تغيب؛ لأن معناه: والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس. (¬5) ورد قوله من غير بيان طريقها إليه في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 252، "جامع البيان" 30/ 78، "النكت والعيون" 6/ 217، "المحرر الوجيز" 5/ 444، "زاد المسير" 8/ 192، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 236، "الدر المنثور" 8/ 433 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬6) المراجع السابقة. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) "جامع البيان" 30/ 78، "المحرر الوجيز" 5/ 444، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 236، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، "الدر المنثور" 8/ 433 وعزاه إلى عبد بن حميد.

والضحال (¬1)، وابن زيد (¬2)، وهو قول قتادة (¬3)، وعلي (¬4) (رضي الله عنه) (¬5). وقال الحسن: عسعس (الليل إذا) (¬6) أقبل بظلامه (¬7). (وروي ذلك عن مجاهد) (¬8) (¬9). وأهل اللغة ذكروا القولين أيضًا في عسعس، وذهبوا إلى أن الحرف من الأضداد، وهو قول أبي عبيدة (¬10)، وأبي حاتم (¬11)، (وقطرب) (¬12) (¬13)، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 78، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511. (¬2) "جامع البيان" 30/ 78، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، وانظر أيضًا: "النكت والعيون" 6/ 217. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 252، "جامع البيان" 30/ 78، "معالم التنزيل" 4/ 444، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، "الدر المنثور" 8/ 433 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (¬4) "جامع البيان" 30/ 78، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، "الدر المنثور" 8/ 433 وعزاه إلى الطحاوي، والطبراني في: الأوسط، والبيهقي في: سننه، و"المستدرك" 2/ 516، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "جامع البيان" 30/ 78، "الكشف والبيان" ج 13: 46/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 453، الجامع لأحكام القرآن: 19/ 236، وبمعناه في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511، تفسير الحسن البصري: 2/ 402. (¬8) "جامع البيان" 30/ 78، "الدر المنثور" 8/ 433 وعزاه إلى عبد بن جميد. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) "مجاز القرآن" 2/ 278. (¬11) "كتاب الأضداد" لأبي حاتم السجستاني: 97: ش 131. (¬12) "كتاب الأضداد" لأبي علي محمد بن المستنير -قطرب-: 122. (¬13) ما بين القوسين ساقط من (أ).

والفراء (¬1)، (والزجاج) (¬2) (¬3)، (قالو: عسعس الليل: إذا أقبل (¬4)، وعسعس إذا أدبر، وأنشد أبو عبيدة: مُدَّرِعاتِ الليلِ لَمِّا عَسْعَسا (¬5) أي أقبل. وقال الزِّبْرِقان (¬6): وَرَدْتُ بِأفْراسٍ عِتاقٍ وَفِتْيَةٍ ... [فوارِطَ] (¬7) في أعْجازِ ليلٍ مُعِسْعسِ (¬8) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 242. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 292. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) بياض في (ع). (¬5) البيت لعلقة بن قرط التميمي، وله روايتان: إحداهما: قال: مدرعات الليل لما عسعسا ... وادَّرَعَتْ منه بهيمًا حِنْدِسا هكذا ورد عند السجستاني. والأخرى يقول: قواربًا من عَيْرِ رحْلِ نُسَّاء ... مُدّرعات الليل لما عسعسا وقد ورد عند قطرب بهذه الرواية. وقد ورد البيت في: (عسعس) في: "تهذيب اللغة" 1/ 78، "لسان العرب" 6/ 139 وكلاهما غير منسوب، كتاب الأضداد: لقطرب: 122: ش 131 ونسبه لعلقمة، كتاب الأضداد: للسجستاني: 97: ش 131، ونسبه إلى علقة بن قرط. (¬6) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬7) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين. (¬8) مواضع ورود البيت: انظر المراجع السابقة في بيت علقة بن قرط، وأيضًا: "شعر الزبرقان بن بدر" تح: د. سعود عبد الجابر: 45، رقم: 16.

18

أي مدبر مولي) (¬1). (وروى أبو العباس (¬2)، عن) (¬3) ابن الأعرابي: العَسْعسة: ظلمة الليل كله، ويقال: إقباله وإدباره، (قال أبو العباس: هذا هو الاختيار (¬4) (¬5)، ويدل على أن المراد: أدبر. 18 - قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد ضوؤه. ويقال: تنفس النهار؛ إذا امتد بطوله، ومعنى التنفس: (خروج النسيم من الجوف (¬6). قال ابن عباس (¬7)، والمفسرون (¬8): يريد طلوع الفجر إذا أضاء ثم زاد واستعرض في السماء. قال الفراء: إذا ارتفع النهار فهو تنفس الصبح) (¬9) (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين: انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 78: (عسس). (¬2) هو: أحمد بن يحيى ثعلب، أبو العباس، سبقت ترجمته. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "تهذيب اللغة" 1/ 79: (عسس). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) وبمعنى هذا القول ذهب قتادة، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن جبير، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 30/ 79، "النكت والعيون" 6/ 217، "زاد المسير" 8/ 192. وإلى هذا ذهب السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 453، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 238. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 242 بنصه. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ).

19

(وقال الزجاج: تنفس) (¬1):إذا امتد حتى يصير نهارًا بينًا (¬2). وأنشد (أبو عبيدة) (¬3) لعلقمة بن قرط: حتى إذا الصبحُ لها تَنَفَّسا ... وانجاب عنها ليلُها فَعَسْعَسا (¬4) (¬5) وحكى الأزهري: إذا تنفس: إذا انشق وانفلق حتى يتبين، ومنه يقال: تنفَّست القوس: إذا تصدَّعَت (¬6)، والنَّفْس (¬7): الشَّقُّ في القِدح، والقَوْس، وما أشبهها. ذكره اللحياني (¬8) (¬9). 19 - ثم ذكر جواب القسم، وهو قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني جبريل عليه السلام في قول الجميع (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 292 بنصه. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) علقمة بن قرط: هو تحريف عن علقة، وهو راجز إسلامي من بني تميم من بني عبد مناف من الرباب. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد: 186. (¬5) ورد البيت في: "جامع البيان" 30/ 79، "المحرر الوجيز" 5/ 444، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 236، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 511. كما ورد في: كتاب الأضداد: لقطرب: 122: ش 131، كتاب الأضداد: للأصمعي: 8: ش 3، وجميعها برواية: "وعسعسا" بدلًا من: "فعسعسا"، وانظر أيضًا: كتاب الأضداد: لابن الأنباري: 33. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 287. (¬7) في (أ): انصد عنه. (¬8) غير واضحة في (ع). (¬9) "تهذيب اللغة" 13/ 10: (نفس). (¬10) وهو قول: قتادة، والحسن، والضحاك، وابن عباس، والشعبي، وميمون بن مهران، والربيع بن أنس، ومقاتل. قال ابن كثير: وغيرهم.

والمعنى: إن القرآن نزل به جبريل، وأخبر محمدًا به عن الله. وهذه الآية مفسرة في سورة الحاقة (¬1). ¬

_ = انظر: "تفسير مقاتل" 230/ ب، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 352، "جامع البيان" 30/ 80، "النكت والعيون" 6/ 218، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 238، "لباب التأويل" 4/ 357، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 512. قال ابن عطية: والرسول الكريم في قول الجمهور المتأولين: جبريل عليه السلام: 5/ 444. وقال الفخر الرازي: المشهود أن المراد أن القرآن نزل به جبريل. "التفسير الكبير" 31/ 73. وإلى هذا القول في التفسير ذهب الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 292، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 453، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 47/ أ. وبه قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 5/ 33. وهناك قول آخر بأن المراد بالرسول الكريم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قاله ابن عيسى. انظر: "النكت والعيون" 6/ 218، "المحرر الوجيز" 5/ 444، ورجح ابن عطية الأول. قلت: حكايه الإجماع -كما أسلفنا ذكره- من قبل الإمام الواحدي لأنه لا يرى صحة القول الضعيف، ولا ينظر إليه، ولا يعتبره مخالفًا، بل لا وجود له، لذا يقرر الإجماع اعتمادًا على صحة القول، وشهرته، وكثرة قائليه، وعدم مخالفته اللغة، والله أعلم. فائدة: ظاهر هذه الآية يتوهم منه الجاهل أن القرآن كلام جبريل مع أن الآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأنه كلام الله، كقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:9]، والجواب واضح من نفس الآية، لأن الإيهام الحاصل من قوله: "إنه لقول" يدفعه ذكر الرسول؛ لأنه يدل على أن الكلام لغيره، لكنه أرسل تبليغه فمعنى قوله: "لقول رسول" أي تبليغه عمن أرسله من غير زيادة ولا نقص. قاله الإمام الشنقيطي: "أضواء البيان" 10/ 310. (¬1) يراجع في ذلك سورة الحاقة: آية: 40

20

20 - ثم وصف جبريل فقال: {ذِي قُوَّةٍ} (¬1) أي فيما كلف وأمر به. وذكر ابن عباس من قوته: رفعه مدائن لوط بجناحيه من الأرض إلى السماء (¬2). وذكر مقاتل من قوته: أن شيطانًا يقال له: الأبيض، صاحب الأنبياء، قصد أن يفتن النبي -صلى الله عليه وسلم- فدفعه جبريل دفعة (هينة) (¬3) [فوقع] (¬4) بها من مكة إلى أقصى الهند (¬5). 21 - وقوله (¬6) (عَزَّ وَجَلَّ) (¬7): {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} قال الكلبي (¬8)، ومقاتل (¬9): يعني في المنزلة، يعني: هو وجيه عند الله. وقال الكسائي: يقال: قد مَكُن فلان عند فلان -بضم الكاف- مكنًا ومكانة (¬10). 21 - {مُطَاعٍ} (¬11) تطيعه الملائكة. {ثَمَّ} أي في السماء. وذكر ابن ¬

_ (¬1) {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}. (¬2) ورد بنحو قوله في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 238، وقد وردت روايات بمثل قوله من غير عزو في: "بحر العلوم" 3/ 453، "معالم التنزيل" 4/ 453، "التفسير الكبير" 31/ 74، "لباب التأويل" 4/ 357. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) في كلا النسختين: وقع، وأثبت ما جاء في أصول القول لصحته. (¬5) "تفسير مقاتل" 230/ ب، "التفسير الكبير" 31/ 74. (¬6) في (أ): قوله. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) "التفسير الكبير" 31/ 74، وانظر: "تهذيب اللغة" 10/ 292: (مكن). (¬11) {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)}.

عباس (¬1)، والمفسرون (¬2): من طاعة (¬3) الملائكة لجبريل أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتح لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أبوابها فدخلها، [ورأى] (¬4) ما فيها، وأمر خازن جهنم فقال له: افتح لمحمد -صلى الله عليه وسلم- عن جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه مالك فذلك ¬

_ (¬1) ورد قوله في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 238. (¬2) انظر: "معالم التنزيل" 4/ 453، "زاد المسير" 8/ 192، "لباب التأويل" 4/ 357. وقد ورد حيث المعراج في: "الجامع الصحيح" للبخاري: 2/ 485: ح: 3430: كتاب الأنبياء: باب: 43، وج: 3/ 63: ح: 3887: كتاب مناقب الأنصار: باب المعراج. كما ورد في صحيح مسلم: 1/ 145: ح: 259، 264: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السموات. ومسند الإمام أحمد: 3/ 148 - 149، 4/ 208 - 209. والشاهد من الحديث كما ورد عند البخاري عن مالك بن صعصعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسري به، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، فلما خلصتُ فإذا يحيى وعيسى، وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح". ولم يذكر في المراجع السابقة حكايه جبريل مع خازن النار. ولم أجد في الكتب المتقدمة على الواحدي من ذكر أمر إطاعة الملائكة لجبريل وإنما وجدت أقوالهم تذكر أن جبريل تطيعه الملائكة دون ذكر الحكاية السابقة. انظر: "جامع البيان" 30/ 80، "بحر العلوم" 3/ 453، "الكشف والبيان" ج 13: 47/ أ، "النكت والعيون" 6/ 218، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 512. (¬3) في كلا النسختين أثبت لفظ الجلالة: الله بعد كلمة: طاعة، ولا يحسن إثباتها هنا لفساد المعنى، وعدم استقامة الكلام. (¬4) بياض في (ع)، وفي (أ): أو رأى، وأثبت ما جاء في "الجامع لأحكام القرآن" لصوابه.

22

قوله: "مطاع". (ثم أمين) على وحي الله (عَزَّ وَجَلَّ) (¬1) ورسالته وأنبيائه. 22 - {وَمَا صَاحِبُكُمْ (بِمَجْنُونٍ) (¬2)} يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، والخطاب لأهل مكة، وهذا أيضًا من جواب القسم، أقسم الله: أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا ليس كما تقوله أهل مكة، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا مجنون، وهذا الذي يأتي به تقوله من تلقاء نفسه، وقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [لحجر: 6] الآية. وكذبهم الله فيما قالوا بقوله: {ن وَالْقَلَمِ} إلى قوله: {بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 - 2]، وبقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}. 23 - قوله تعالي (¬3): {وَلَقَدْ رَآهُ} (¬4) يعني رأى محمد (¬5) جبريل (عليهما السلام) (¬6) بالأفق المبين، يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع (¬7)، وهذا ¬

_ (¬1) كلمة (تعالى) ساقطة من: ع. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬4) {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)}. (¬5) في كلا النسختين: محمدًا. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) وهذا قول قتادة، ومجاهد، وابن زيد، وسفيان، وأبو الأحوص، وعامر. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 352، "جامع البيان" 3/ 81، "الكشف والبيان" ج 13: 47/ أ، "النكت والعيون" 6/ 218، "معالم التنزيل" 4/ 454، "المحرر الوجيز" 5/ 444، "البحر المحيط" 8/ 435. وعزاه ابن الجوزي إلى المفسرين في: "زاد المسير" 8/ 193، وكذلك الفخر الرازي في: "التفسير الكبير" 31/ 75، وبه قال الطبري، وساق أقوال المفسرين، =

مفسر في سورة "والنجم" (¬1). ثم (أخبر) (¬2) أن القرآن الذي يأتي به ليس من (¬3) تلقاء نفسه، ولا هو بمتهم في ذلك، وهو قوله: ¬

_ = ولم يذكر مخالفاً لهم. "جامع البيان" 30/ 81. وأكد ودلل على ذلك ابن كثير في "تفسيره" 4/ 512، وإليه ذهب الخازن في "لباب التأويل" 4/ 357. وهناك قول آخر في أن الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو ربه، وقد رآه بالأفق المبين، وهذا معنى قول ابن مسعود. انظر: "النكت والعيون" 6/ 218، "فتح القدير" 5/ 392، وغيرهما من كتب التفسير. قلت: والذي عليه جمهور المفسرين، ورجحه الطبري وابن كثير أن الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو جبريل، وعليه فما ذهب إليه الإمام الواحدي من تقريره الإجماع على هذا القول يؤكد ما ذهبنا إلى تقريره في حكاية الإجماع، وقد سبق ذكره في مواطن عدة. (¬1) سورة النجم: 13: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}. ومما جاء في تفسير الآية: "قال عطاء عن ابن عباس: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل وهو بالأفق الأعلى في صورته له ستمائة جناح، ونحو هذا ذكر الكلبي، وقال مقاتل: وهو يعني جبريل بالأفق الأعلى يعني من قبل المطلع، وقال الكلبي: يعني مطلع الشمس، وهذا قول الجميع في الأفق الأعلى، يعني أفق المشرق قال المفسرون: إن جبريل كان يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صورة الآدميين، فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها، فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم-كان بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغشيًا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الدنيا على تلك الصورة إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) في (أ): عن.

24

24 - {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (¬1) معنى الغيب -هاهنا- القرآن، وما أنزل الله عليه، في قول الجميع، قالوا: هو الوحي وخبر السماء، وما اطلع عليه بعلم الغيب الذي (كان) (¬2) غائبًا عن أهل مكة من الأنبياء والقصص (¬3) والعرب لم تكن تعرف ذلك؛ لأنهم لم يكونوا أهل الكتاب. (والظنين (¬4): المتهم، يقال: ظننت زيدًا في معنى: اتهمت (¬5)، ليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين) (¬6)، وأنشد (أبو عبيدة) (¬7) (¬8): أمَا وكتاب الله لا عن شناءة ... هجرت ولكنَّ الظنين ظنين (¬9) ¬

_ (¬1) في (ع): بظنين. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) وهو قول: زر، وقتادة، وابن زيد، والضحاك. انظر: "جامع البيان" 30/ 82. وإليه ذهب الطبري في: "جامع البيان" 30/ 83، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 453، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13: 47/ ب. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 454، "زاد المسير" 8/ 193، "التفسير الكبير" 31/ 75، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 240، "لباب التأويل" 4/ 357. ولم أجد مخالفًا لهذا القول، فالقول ينطبق عليه ما قاله الواحدي من حكاية الإجماع. والله أعلم. (¬4) في (أ): الضنين. (¬5) في (ع): اتهمه (¬6) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 380 - 381 بتصرف. (¬7) لم أجد في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة استشهاده ببيت الشعر، وإنما الذي ذكر عنه أنه قال: أي متهم، و"ضنين" يضن به ويضَن. 2/ 288. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) ورد اليت في: "تهذيب اللغة" 14/ 364: (ظن) برواية: "فلا ويمين الله ما عن جناية هجرت"، ونسبه إلى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، و"لسان العرب" 13/ 273: (ظن)، "تاج العروس" 9/ 272: (ظن)، وكلاهما =

قال جماعة من المفسرين (¬1): ما محمد على القرآن (بمتهم) (¬2)، أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله تعالي. (ومن قرأ: "بضنين (¬3) " -بالضاد (¬4) - فهو من البخل، يقال: ضننت به أضَنُّ، أي بخلت) (¬5)، وأنشد (أبو عبيدة (¬6) قول) جميل: أجودُ بمضنون التلاد وإنني ... بِسِرِّكِ عَمَّنْ سالني لَضَنينُ (¬7) ¬

_ = نسبه إلى نهار بن توسعة. كما ورد في "الكامل" 1/ 23 برواية: "فلا ويمين الله ما عن جناية" بدلًا من الشطر الأول، كما نسبه إلى عبد الرحمن بن حسان، وانظر: "الكشف والبيان"ج 13: 47/ ب، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 240. (¬1) قال بذلك: زر، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد، وابن جبير، وإبراهيم. وهذا معنى قراءة من قرأ: "بظنين" انظر: "جامع البيان" 30/ 82 - 83. وقد قرأ: "بظنين" بالظاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي. انظر: "الحجة" 6/ 380، "حجة القراءات" 752، "الكشف" عن وجوه القراءات السبع: 2/ 364. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) قرأ بذلك: نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، بالضاد: "بضنين". انظر: المراجع السابقة. (¬5) ما بين القوسين نقلًا عن "الحجة" 6/ 381. (¬6) لم أجد في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة في هذه الآية استشهاده بالشعر. (¬7) ورد البيت عير منسوب في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 240 برواية: "بمكنونة الحديث" بدلًا من: "بمضنون التلاد". انظر: "الكشف والبيان" ج 13/ 47/ ب، ولم أعثر عليه في ديوانه.

قال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله (¬1). وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم (¬2). وقال الفراء: يقول: يأتيه غيب السماء، وهو منفوس فيه (¬3)، فلا يضن به عليكم (¬4). وقال أبو إسحاق: أي هو يؤدي عن الله، ويُعَلِّم كتاب الله (¬5). قال أبو علي الفارسي: المعنى أنه يخبر عن الغيب (¬6) فيبينه، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن (ذلك) (¬7)، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حُلوانًا (¬8). واختار أبو عبيد (¬9) القراءة الأولى لمعنيين (¬10): أحدهما: أن الكفار لم يُبخّلوه، وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل. والآخر: قوله: "على الغيب" ولو كان المراد بالبخل لقال: بالغيب؛ ¬

_ (¬1) "الدر المنثور" 8/ 435 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن جرير، ولم أجد هذه الرواية عند ابن جرير. (¬2) تفسير الإمام مجاهد: 709، "جامع البيان" 30/ 82، "الدر المنثور" وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) في (أ): قول فيه. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 242 بنصه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 293 بنصه. (¬6) في (ع): بالغيب. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "الحجة" 6/ 381 بيسير من التصرف. (¬9) في (أ): أبو عبيدة. (¬10) في (ع): المعينين.

25

لأنه يقال: فلان ضنين بكذا، وقلّ ما يقال: على كذا (¬1) (¬2). 25 - ثم ذكر أنه ليس من تعليم الشيطان فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}. قال الكلبي: يقول: إن القرآن ليس بشعر، ولا كهانة، ولا قول شيطان كما قالت (¬3) قريش (¬4). وقال عطاء: يريد الشيطان (¬5) الأبيض الذي كان يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة جبريل يريد أن يفتنه (¬6). وقال مقاتل: إن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به "الري" وهو شيطان، فيلقيه على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-. (¬7) 26 - ثم بكتهم فقال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}. قال الفراء: العرب تقول: إلى أين تذهب؟ وأين تذهب؟ ويقول: ذهبت الشام، وانطلقت السوق، وخرجت الشام، استجازوا في هذه الأحرف الثلاثة إلفاء (إلى) (¬8) لكثرة (¬9) استعمالهم إياها، وأنشد (¬10): ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) "الكشف والبيان" ج 13/ 47/ ب. (¬3) بياض في (ع). (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 454. (¬5) في (ع): بالشيطان. (¬6) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 241. (¬7) "تفسير مقاتل" 231/ أ، "زاد المسير" 8/ 193 بنحوه. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) في (ع): كثرة (¬10) البيت لعُتّي بن مالك العقيلي.

تَصيحُ بِنا حَنيفةُ إذْ رأتْنا ... وأيَّ الأرضِ تذهبُ بالصِّياحِ (¬1) أراد إلى أي الأرض (¬2). قال المفسرون: أين تعدلون؟ وأين تذهبون عن كتابي يا أهل مكة (¬3)؟ ¬

_ (¬1) ورد البيت في: شعراء بني عقيل وشعرهم: 54 برواية: "حين جئنا نذهب للصياح"، بدلًا من: "إذا رأتنا تذهب بالصياح". كما ورد في: "جامع البيان" 30/ 83، "الكشف والبيان" ج 13: 48/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 241، والرواية عند الفراء في نهاية شطره الثاني: للصياح بدلًا من: بالصياح. موضع الشاهد: نصب: "أي" لنزع الخافض، يريد: إلى أي أرض، واستجازوا في هذه الكلمات حذف "إلى" لكثرة استعمالهم إياه. شرح أبيات "معاني القرآن" 91: ش: 180. قال النحاس: جعل الكوفيون: انطلق، وذهب، وخرج، هذه الأفعال الثلاثة يجوز معها حذف "إلى"، وأما سيبويه فحكى منها واحدًا، ولا يجيز غيره، وهو: ذهبت الشام، ولا يجيز: ذهبت مصر. "إعراب القرآن" للنحاس: 2/ 164. وقد منع النحويون نصب اسم المكان على الظرفية إذا كان خالصًا (له صورة وحدوده محصورة)، وأوجبوا الجر فيه بحرف الجر، واستثنوا هذه الأحرف التي ذكرها الفراء إذ ورد السماع بها عن العرب بدون حرف الجر، وهو كما قال. انظر: حاشية "جامع البيان" 3/ 83. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 241 مختصرًا. (¬3) بنحو ذلك قال قتادة."جامع البيان" 30/ 83، "النكت والعيون" 6/ 219، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 241. وإليه ذهب الثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13: 48/ أ، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 454، و"لباب التأويل" 4/ 357، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 512. وحكى الماوردي قولًا، ثالثًا، وهو: فأين تذهبون عن عذابه وعقابه. "النكت والعيون" 6/ 219.

27

قال أبو إسحاق: معناه وأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم (¬1). ثم بين أن القرآن ما هو، فقال: 27 - {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يقول: ما القرآن إلا موعظة للخلق كلهم أجمعين (¬2). 28 - وقوله (¬3) (تعالى): {لِمَنْ شَاءَ} (¬4) بدل من قوله: "للعالمين" وقوله (¬5) (تعالى) (¬6): {أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي على الحق، والإيمان، والإسلام (¬7). والمعنى: إن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق. قال المفسرون (¬8): ثم رد (¬9) المشيئة إلى نفسه فقال: ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 293 بنصه. (¬2) وبهذا قال الطبري في: "جامع البيان" 30/ 84، والنحاس في: "إعراب القرآن" 2/ 165، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 454، "زاد المسير" 8/ 194. (¬3) في (أ): قوله. (¬4) {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)}. (¬5) في (أ): قوله. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬7) بنحوه قال مجاهد. انظر: تفسير الإمام مجاهد: 709، "جامع البيان" 30/ 84، "إعراب القرآن" للنحاس: 2/ 165. وإليه ذهب السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 453، الثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13: 48/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 454، "زاد المسير" 8/ 194. (¬8) ممن قال بذلك: الطبري في "جامع البيان" 30/ 84، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 293، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 454، "التفسير الكبير" 31/ 76، "لباب التأويل" 4/ 357، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 512. (¬9) بياض في (ع).

29

29 - قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} قال أبو هريرة: لما أنزل الله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} قالوا: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا (¬1)، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: {وَمَا تَشَاءُونَ} الآية (¬2). قال (¬3) أبو إسحاق: أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه (¬4). وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (وهذا إعلام أن (الإنسان) (¬5) لا يعمل خيرًا إلا بتوفيق من الله، ولا شرًا إلا بخذلانه، وأن الخير والشر بقضائه وقدره، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء) (¬6). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) وردت روايته في: لباب النقول في أسباب النزول: للسيوطي: 227، كما وردت رواية عن سليمان بن موسى بطرق مختلفة، وبمثل ما رواه أبو هريرة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 353، "جامع البيان" 30/ 84، "الدر المنثور" 8/ 436، جامع النقول في أسباب النزول لابن خليفة: 329. كما وردت أيضًا رواية عن القاسم بن مخيمرة بمثل ما رواه أبو هريرة، وسليمان بن موسى. انظر: "الدر المنثور" 8/ 436. (¬3) في (ع): قوله. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 293. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ما بين القوسين نقله عن الزجاح في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 294. قال ابن تيمية في قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: "أخبر أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = مشيئتهم موقوفة على مشيئته، ومع هذا فلا يوجب ذلك وجود الفعل منهم إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين، ولا يقع الفعل منهم حتى يشاؤوا منهم كما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]، ومع هذا فلا بد من إرادة الفعل منهم حتى يريد من نفسه إعانتهم وتوفيقهم، فهنا أربع إرادات: إرادة البيان، وإرادة المشيئة، وإرادة الفعل، وإرادة الإعانة. والله أعلم". "دقائق التفسير": 5/ 33 - 34. وقال الشيخ السعدي في معنى الآية: أي فمشيئته نافذة لا يمكن أن تعارض أو تمانع، وفي هذه الآية وأمثالها رَدٌّ على فرقتي القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، والله اعلم". "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان": 5/ 379.

سورة الانفطار

سورة الانفطار

1

تفسير سورة الانفطار (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، قال المفسرون (¬2): انفطارهَا: انشقاقها (¬3)، كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [المزمل: 18]، وقوله: {السَّمَاءُ ¬

_ (¬1) مكية بقول الجميع، وقد حكى الإجماع في ذلك الماوردي في "النكت والعيون" 6/ 220، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 446، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 195، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 242، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 394. (¬2) قال بذلك اليزيدي في "غريب القرآن" 418، وابن قتيبه في: "تفسير غريب القرآن" 518، والفراء في "معاني القرآن" 3/ 242، والطبري في "جامع البيان" 30/ 85، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 295، والسجستاني في "نزهة القلوب" 135، والسمر قندي في "بحر العلوم" 3/ 454، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج: 13: 49/ أ. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 455، "المحرر الوجيز" 5/ 446، "نفس الصباح" 2/ 770، "زاد المسير" 8/ 196، "التفسير الكبير" 31/ 77، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 242، "لباب التأويل" 4/ 358، "تفسير غريب القرآن" ابن الملقن: 534، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 413، "الدر المنثور" 8/ 438 عن السدي وعزاه إلى ابن المنذر، "تفسير السدي" 473 وذكر الماوردي وجهًا آخر وهو: سقطت. انظر: "النكت والعيون" 6/ 220، والصحيح الأول لأن معنى الفطر لغة الشق انظر "الصحاح" 2/ 781. (¬3) بياض في (ع).

3

مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الفرقان: 25] قال الخليل: ولم يأت هذا على الفعل، إنما هو كقوله: مُرْضِعٌ، وحَامل، وحائض، ولو كان على الفعل لكان: منفطرة، كما قال: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (¬1). 3 - {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}، فجرت بعضها في بعض، فصارت بحرًا واحدًا، واختلط العذب بالملح، (هذا قول جماعة المفسرين) (¬2) (¬3). وقال الحسن (¬4)، والضحاك (¬5): فجرت فذهب مَاؤها ويبست. 4 - {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}، قال أبو عبيدة (¬6)، (والمبرد) (¬7) (¬8): أثيرت ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب سيبويه" 2/ 47، وانظر "التفسير الكبير" 31/ 77. (¬2) قال بذلك: ابن عباس، وقتادة. انظر "جامع البيان" 30/ 85، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 513، كما قال به: ابن قتيبه في "تفسير غرائب القرآن" 518، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 295، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 454، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 49/ أ، وانظر:"معالم التنزيل" 4/ 455، "زاد المسير" 8/ 196، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 242، "لباب التأويل" 4/ 358، "الدر المنثور" 8/ 438. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ورد بنحو قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 355، "جامع البيان" 30/ 85، "الكشف والبيان" ج 13: 49/ أ، "النكت والعيون" 6/ 220، "زاد المسير" 8/ 196، "التفسير الكبير" 31/ 78، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 242، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 513، "فتح القدير" 5/ 395، "تفسير الحسن البصري" 403. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 288. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) ساقط من (أ).

5

وقلب أسفلها أعلاها كقولك: بعثرت المتاع، إذا قلبته، والبحثرة، والبعثرة (¬1) (¬2) إثارة الشيء بقلب باطنه إلى ظاهره. وقال الليث: بعثر يبعثر بعثرة إذا قلب التراب (¬3). قال ابن عباس (¬4)، والكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6): يريد عند البعث بحثت عن الموتى فأخرجوا منها (¬7). وقال أبو إسحاق: أي قلب ترابها وبُعث الموتى الذين فيها (¬8). 5 - (قوله تعالى) (¬9): {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}، قال عكرمة: ما أدت إلى الله مما أمَرها به، ومَا ضيعت (¬10) مما أمرت به (¬11). ¬

_ (¬1) البعثرة، والبحثرة، لغتان، يقال: بعثروا متاعهم وبحثروه إذا قلبوه. انظر: (بعثر) في: "تهذيب اللغة" 3/ 306، "لسان العرب" 4/ 72. (¬2) في (ع): البعثرة والبحثرة. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "فتح القدير" 5/ 395، وجاء في "لسان العرب" 4/ 72، بعثر: بعثرت الشيء فرَقه، وبعثر التراب والمتاع: قلبه. (¬4) ورد قوله مختصرًا في "جامع البيان" 30/ 85، "البحر المحيط" 8/ 436، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 513. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) في (أ): عنها. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 295 بنصه. (¬9) ساقط من: ع. (¬10) غير واضحة في (ع). (¬11) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 86، "الكشف والبيان" ج 13: 49/ أ، "الدر المنثور" 8/ 838 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

6

وقال ابن مسعود: ما قدمت من خير ومَا أخرت من سُنة استن بها بعده (¬1). وهو قول (الكلبي (¬2)، ومجاهد (¬3)، وقتادة (¬4)، وعطاء (¬5)، والقرظي (¬6) (¬7). وهذه الآية مفسرة في قوله [[ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر]] [القيامة: 13]. 6 - (قوله) (¬8): {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} (¬9)، مخاطبة للكفار. لقوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (أي مَا خدعك، وسول إليك الباطل حتى أضعت ما وجب عليك) (¬10) والمعنى: مَا الذي أمنك من عقابه، ويقال: غره بفلان، إذا أمنه المحذور من جهته وهو غير مأمون، وهذا كقوله {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 5/ 446، "الدر المنثور" 8/ 438 وعزاه إلى ابن المبارك في: الزهد، وعبد بن حميد، وبن أبي حاتم. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 354، "جامع البيان" 30/ 86. (¬5) "جامع البيان" 30/ 86، "الدر المنثور" 8/ 439 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) لم يذكر في (أ)، هؤلاء المفسرين ولكن ذكر بدلًا منهم كلمة مختصرة وهي: وهو قول جماعة. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}. (¬10) ما بين القوسين نقله عن الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 295 بنحوه.

قال (عطاء عن) (¬1) ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة (¬2). وقال الكلبي: نزلت في أبي الأشدين كَلَدة بن أسيد، وذلك أنه ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3)، فلم يعاقبه الله وأنزل هذه الآية (¬4). يقول: مَا الذي غرك بربك الكريم المتجاوز عنك إذ لم يعاقبك عَاجلًا بكفرك. وذكر المفسرون: الذي غره، فقال قتادة: غره العدو المسلط عليه، يعني الشيطان (¬5). وقال الربيع بن خيثم (¬6): غره الجهل (¬7)، وهو يروى مرفوعًا (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) ورد قوله في "التفسير الكبير" 31/ 80، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 243، وعن عطاء في "معالم التنزيل" 4/ 455، "زاد المسير" 8/ 196. (¬3) في (ع): النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 455، "التفسير الكبير" 31/ 80، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 514. كما ورد بمعنى روايته عن مقاتل وابن عباس انظر: "بحر العلوم" 3/ 454، "النكت والعيون" 4/ 221، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 343، وعن عكرمة أنه قال نزلت في أُبي بن خلف. انظر: "لباب النقول" 227 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، "الدر المنثور" 8/ 439 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬5) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 87، "الكشف والبيان" ج 13: 49/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 455، "التفسير الكبير" 31/ 81، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 243، "البحر المحيط" 8/ 436، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 513، "فتح القدير" 5/ 395. (¬6) في (ع): خثيم. (¬7) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 513، "الدر المنثور" 8/ 439 وعزاه إلى ابن أبي شيبة. (¬8) ذكر الحديث مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في "الكشف والبيان" ج 13/ 49/ ب،=

وقال مقاتل: غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره (¬1). {الَّذِي خَلَقَكَ}، قال (¬2): أي من نطفة ولم تك شيئا، ثم سواك رجلًا تسمع وتبصر (¬3). وقوله (¬4) (تعالى) (¬5): {فَعَدَلَكَ}، قال الفراء: جعلك معتدلًا، معدل (¬6) الخلق (¬7). وقال أبو علي الفارسي: عَدّل خلقك فأخرجك في أحسن تقويم، وهيّأ فيك بلطفِ الخلقِة وتعديلها ما قَدَرْتَ به على مَا لم يقدرْ عليه غيرك (¬8). ¬

_ = "الكشاف" 4/ 192، كما أخرجه أبو عبيدة في: فضائل القرآن عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن صالح بن مسمار قال بلغني أن النبي تلا هذه الآية فذكره انظر: "الكافي الشافي" -مذيل بكتاب "الكشاف" 4/ 182. (¬1) لم أعثر على قوله في تفسيره، وإنما الذي ورد عنه في معنى الآية غره الشيطان: 231/ أ، وأما قوله المذكور في المتن فقد ورد في "الكشف والبيان" ج 13: 49/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 455، "التفسير الكبير" 31/ 81، "فتح القدير" 5/ 295. (¬2) أي مقاتل. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "زاد المسير" 8/ 197، "فتح القدير" 5/ 395. (¬4) في (أ): قوله. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) في (أ): معتدل. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 244 بنصه. (¬8) "الحجة" 6/ 382، وقوله هذا تفسيرًا لقراءة التشديد في "فَعدَّلك"، وقد قرأ بها ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب -انظر: الحجة المرجع السابق، "المبسوط" 399، "النشر" 2/ 399.

قال عطاء عن ابن عباس: جعلك قائمًا معتدلًا حسن الصورة (¬1). وقال مقاتل: يريد (عدل) (¬2) خلقك في العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين، ولم يجعله كله واحدًا (¬3). وعلى هذا المعنى عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان. وقرأ الكوفيون: "فعدلك" بالتخفيف (¬4). قال الفراء: ووجهه فصرفك (¬5) إلى أي صورة شاء، قال: والتشديد أحسن الوجهين؛ لأنك تقول: عدلك إلى كذا، كما تقول: عدلك إلى كذا، ولا يحسن عدلتك فيه (¬6)، ففي القراءة الأولى جعل "في" من قوله، {فِي أَيِّ صُورَةٍ} صلة للتركيب، وهو حسن. وفي القراءة الثانية: جعل صلة لقوله: "فعدلك"، وهو ضعيف، هذا معنى كلامه (¬7). ونحو هذا ذكر أبو عبيد حجة لاختيار التشديد (¬8). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 81، "فتح القدير" 5/ 395 معزو إلى عطاء. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) ورد بنحو قوله في "التفسير الكبير" 31/ 81، "فتح القدير" 50/ 395، ولم أعثر على قوله في تفسيره والذي ورد عنه قوله: فقومك: 231/ أ. (¬4) قرأ بذلك: أبو جعفر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، كتاب "السبعة" 674، "الحجة" 6/ 382، "المبسوط" 399، "النشر" 2/ 399. (¬5) في (أ): فنصرفك. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 244 بتصرف. (¬7) في (أ): قوله. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

8

وقال أبو علي (¬1): على معنى التخفيف عَدلَ بعضه ببعض فكنت معتدل الخلقة متناسبها، فلا تفاوت فيها (¬2)، ولا يلزم على هذا ما لزم (¬3) الفراء. 8 - وقوله (¬4) (تعالى) (¬5): {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} قال مجاهد: في صورة أب، أو خال، أو عم (¬6)، ويدل على صحة هذا ما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (¬7): "وإذا استقرت النطفة في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم" (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): أبو عبيد. (¬2) "الحجة" 6/ 382. (¬3) في (ع): ما ألزم (¬4) في (أ): قوله. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬6) "تفسير الإمام مجاهد" 710، "جامع البيان" 30/ 87، "الكشف والبيان" ج 13: 50/ ب، "النكت والعيون" 6/ 222، "معالم التنزيل" 4/ 456، وبمعناه في "زاد المسير" 8/ 197، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 245، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 514، "الدر المنثور" 8/ 440 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. (¬7) ورد في نسخة (أ): "لا في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم إلا وعنه أنه قال -صلى الله عليه وسلم-". وأرى أن هذه العبارات خلط من الناسخ لذا لم أثبتها. (¬8) وردت الرواية كاملة عند الطبري بإسنادها قال: حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا مطهر بن الهيثم قال: ثنا موسى بن علي بن أبي رباح اللَّخمي قال: ثني أبي عن جدي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (ما وُلد لك؟ قال: يا رسول الله ما عسى أن يولد لي إما غلامًا، وإما جارية، قال: فمن يُشبِه قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه؟ إما أباه، وإما أمه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندها مَهْ، لا تقولن هكذا إن النُّطْفَةَ إذا استقرت في الرحم أحضر الله كل نسب بينها وبين آدم، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}، قال: سلكك).

وذكر الفراء (¬1)، والزجاج (¬2) قولًا آخر: "في أي صورة ما شاء ركبك" إما طويلًا، وإما قصيرًا، وإما مستحسنًا، وإما غير ذلك، و"ما" في قوله: "مَا شاء" صلة مؤكدة. وقال (¬3) أبو صالح (¬4)، ومقاتل (¬5): يقول إن شاء ركبك في غير صورة ¬

_ = كما أوردها الثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13/ 50/ ب، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 456، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 514، والسيوطي في "الدر المنثور" 8/ 439 وعزاه إلى البخاري في: تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن شاهين، وابن قانع، والطبراني، وابن مردويه. وسند الحديث ضعيف، لوجود المطهر بن الهيثم الراوي عن موسى بن علي، والمطهر متروك، وبه أعله الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 135، قال: رواه الطبراني وفيه مطهر بن الهيثم وهو متروك. وقال الحافظ ابن كثير: 4/ 514: وهذا الحديث لو صح لكان فيصلًا في هذه الآية، ولكن إسناده ليس بالثابت؛ لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس: كان متروك الحديث، وقال ابن حبان عن موسى بن علي وغيره مالا يشبه حديث الأثبات. وانظر كتاب "المجروحين" لابن حبان: 3/ 26. نقلًا عن حاشية كتاب: "النكت والعيون" 6/ 222. وقال ابن حجر: مطهَّر بتشديد الهاء المفتوحة ابن الهيثم بن الحجاج الطائي البصري، متروك. "تقريب التهذيب" 2/ 254، ت 1179. (¬1) "معاني القرآن" 3/ 244. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 295 والنص للزجاج. (¬3) في (أ): قال. (¬4) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 87، "الكشف والبيان" ج 13: 50/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 456، "التفسير الكبير" 31/ 82، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 245، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 514، "الدر المنثور" 8/ 440 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والرامهرمزي في: الأمثال. (¬5) "تفسير مقاتل" 231/ أ، "زاد الميسر" 8/ 197، "التفسير الكبير" 31/ 82.

9

الإنسان من صورة كلب، أو صورة حمار، أو صورة خنزير، أو قرد. وعلى هذا يكون "مَا" في معنى الشرط، والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة مَا شاء أن يركبك فيها ركبك. ذكره أبو إسحاق (¬1). 9 - فقال: {كَلَّا} (¬2)، قال مقاتل: أي لا يؤمن هذا الإنسان (¬3). ثم قال: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}، يعني بالجزاء والحساب فيزعمون أنه غير (¬4) كائن (¬5). ثم أعلم أن أعمالهم محفوظة عليهم فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}، أي من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم (¬6). 11 - ثم نعتهم فقال: {كِرَامًا كَاتِبِينَ}، قال الكلبي: يعني على ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 296 وقال الكرماني: وقول من قال "ما" شرط، و"في"، متصل بقوله: "ركبك" سهو، لأن ما يتعلق بالجزاء لا يتقدم على الشرط، وقول من قال: متصل بـ"فعدلك" سهو، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله فصح أن ما صله و"في" متصل بـ "ركبك".انظر: غرائب التفسير: 2/ 1316. (¬2) {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)} (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "الوسيط" 4/ 437، "بحر العلوم" 3/ 455. (¬4) بياض في (ع). (¬5) بنحو هذا القول، قال مجاهد، وقتادة، وابن عباس، انظر: "جامع البيان" 30/ 88، "النكت والعيون" 6/ 223. (¬6) قال بذلك الطبري: "جامع البيان" 30/ 88، السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 455، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 50/ ب، وانظر "معالم التنزيل" 4/ 456، "زاد المسير" 8/ 198.

12

ربهم (¬1). وهو مفسر في قوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] {كَاتِبِينَ}، يكتبون أعمال بني آدم. 12 - {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، من خير أو شر فيكتبونه عليكم (¬2). 13 - {إِنَّ الْأَبْرَار} (¬3)، قال عطاء (¬4) (¬5)، ومقاتل (¬6): يريد أولياء الله المطيعين في الدنيا. {لَفِي نَعِيمٍ} الجنة في الآخرة. 14 - {وَإِنَّ الْفُجَّارَ} يريد الذين كذبوا النبي-صلى الله عليه وسلم-. {لَفِي جَحِيمٍ} عظيم من النار. 15 - {يَصْلَوْنَهَا} (¬7) يلزمونها (¬8) مقاسين وهجها (¬9). {يَوْمَ الدِّينِ} أي يوم الجزاء، وهو يوم القيامة. 17 - ثم عظم ذلك اليوم فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله من غير عزو في كلٍ من: "بحر العلوم" 3/ 455، "الكشف والبيان" ج 13/ 50/ ب، "معالم التنزيل" 40/ 456، "زاد المسير" 8/ 198. (¬2) قد استدل شارح الطحاوية بهذه الآية على أن الملائكة تكتب القول والفعل والنية لأنها فعل القلب. (¬3) {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}. (¬4) غير واضحة في (ع). (¬5) "الوسيط" 4/ 438. (¬6) "تفسير مقاتل" 231/ ب. (¬7) {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} (¬8) اللام والزاي والميم أصل واحد صحيح يدل على مصاحبة الشيء، يقال: لَزِمه الشيء يَلْزَمُه واللِّزَام: العذاب الملازم للكفار، "مقاييس اللغة" 5/ 245: (الزم). (¬9) وَهَج: حَرّ النَّار، مختار "الصحاح" 738: (وهج).

19

19 - ثم أخبر عنه فقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} (¬1)، قال أبو إسحاق: الرفع (¬2) في "يوم" على الصفة لقوله: {يَوْمُ الدِّينِ} -قال- ويجوز أن يكون رفعًا بإضمار "هو" فيكون المعنى: هو يوم الدين يوم لا تملك، -قال- ويجوز أن يكون في موضع رفع، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى قوله: "يوم لا تملك" ومَا أضيف إلى غير المتمكن (¬3) قد يبنى على الفتح، وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال: لم يَمْنَع الشُّرْبَ مِنَهم غَيْرَ أن نَطقَتَ ... حَمَامَةٌ في غصُون ذاتِ أوْ قَالِ (¬4) ¬

_ (¬1) {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}. (¬2) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: "يومُ لا تملك" بضم الميم، ووافقهم ابن محيصن واليزيدي، وقرأ الباقون: "يومَ لا تملك" بفتح الميم. انظر: "الحجة" 6/ 383، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 364، "تحبير التيسير" 198، "إتحاف فضلاء البشر" 435. (¬3) الغير المتمكن هو المبني وهو خلاف المعرب وهو وصف للكلمة التي تلازم حالة واحدة ولا يتغير آخرها بتغير العامل السابق لها، "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" 27. (¬4) ورد البيت في: ديوان أبي قيس صيفي بن الأسلت الاوسي الجاهلي: 85: تح: د. حسن جودة، و"الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين" 1/ 287، واستشهد به سيبوبه في "كتابه": 2/ 329 وعزاه إلى الكناني، وقد شرحه البغدادي في "الخزانة" 2/ 45 وج 3/ 144 - 152، ونسبه: لأبي قيس الأسلت، واستشهد به ابن هشام في "مغني اللبيب" 1/ 268: ش 260، و"الأمالي" لابن الشجري: 46/ 1 وج 2/ 264، "شرح المفصل" لابن يعيش: 3/ 80 وج: 8/ 135، "الهمع" 3/ 333: ش 870، "الأصول في النحو" السراج: 1/ 298 وانظر أيضًا: "لسان العرب" 11/ 734: (وقل)، "كتاب شرح أبيات سيبويه للنحاس": 147: ش 517، "التفسير الكبير" 31/ 87، وفي جميعها برواية "منها" بدلًا من "منهم".

فبنى (¬1) ("غير" على) (¬2) الفتح لما أضيف (¬3) إلى قوله نطقت -قال- وجائز أن يكون نصبه على معنى هذه الأشياء المذكورة فيكون (¬4) يوم لا تملك نفس لنفس شيئا (¬5). وذكر أبو علي وجهًا آخر للنصب وهو: أن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفًا ترك على مَا كان يكون عليه في أكثر أمره، والدليل على ذلك: ما اجتمع عليه القراء، والعرب في قولهم: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168]، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11]، ولا يرفع ذلك أحد، ومما يقوى النصب قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة: 3 - 4] وقوله: {يَسْأَلُونَ (¬6) أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ (¬7) هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 12 - 13]، فالنصب في {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ} مثل هذا. ¬

_ = ومعنى البيت: يقول الشاعر لم يمنعنا من التعريج على الماء إلا صوت حمامة ذكرتنا من نحب فهيجتنا وحثتنا على السير. والشاهد في قوله غير أن نطقت فإن الرواية فيه بفتح غير مع أنها فاعل لقوله لم يمنع فدل ذلك على أنه بناها على الفتح. انظر: كتاب "الإنصاف" 1/ 288 - حاشية-. (¬1) في (أ): فبنا. (¬2) على غير: هكذا وردت في النسختين ولا تستقيم العبارة بذلك، فأثبت الترتيب الصحيح الذي به يفهم الكلام. (¬3) في (ع): أضاف. (¬4) في (ع): يكون (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 396. (¬6) في (أ): يسئل. (¬7) في (ع): يومهم.

قال أبو الحسن (¬1): ولو رفع ذلك كله كان جيدًا (¬2) والذي ذكر أبو إسحاق من البناء على الفتح إنما يجوز أن يكون ذلك عند الخليل، وسيبويه، إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي نحو: على حين عاتبت (¬3) ومع الفعل المستقبل لا يجوز البناء عندهم ويجوز ذلك في قول الكوفيين (¬4) -وقد ذكرنا هذه المسألة (¬5) عند قوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ ¬

_ (¬1) أي الأخفش. (¬2) من قوله: إن اليوم لما جرى إلى كله كان جيدًا: من قول أبي علي، انظر: "الحجة" 6/ 383 - 384 بيسير من التصرف. (¬3) البيت للنابغة الذبياني، والبيت كاملاً: على حين عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... وقلت ألَمَّا أصْحُّ والشيبُ وازعُ وقد ورد في: "ديوانه": 79 ط. بيروت، "الأمالي" لأبي على القالي 1/ 26، ج 2/ 132 و264، "شرح المفصل" 3/ 16، 81 ج 4/ 81، ج 8/ 136، "الإنصاف في مسائل الخلاف" 1/ 292، "مغني اللبيب" 1/ 205 ش 762، كتاب شرح أبيات سيبويه: 147، "جامع البيان" 30/ 90، "شرح أبيات معاني القرآن" 212/ ش 477. موضع الشاهد: أنه فتح "حِيْنَ" وبناها على الفتح، وهي في موضع جر، لأنه أضافها إلى شيء غير متمكن، وهو الفعل الماضي: عاتبت. المعنى: يريد أنه عرف الديار التي قد حل بها، وتذكر من كان يهواه، فبكى وعاوده وجده، فخاطب نفسه، فقال: ألمَّا تصْح! يوُبخ قلبه، أي: قد آن أن تصحو ويزول عنك ما كنت تجده بمن كنت تهواه، والشيب كاف عن أمثال هذا الفعل الذي تفعله. "شرح أبيات معاني القرآن" 213 وانظر الكلام في هذه المسألة: "كتاب سيبويه": 2/ 329 - 330. (¬4) انظر: "الإنصاف في مسائل الخلاف" 1/ 287. (¬5) بياض في (ع).

الصَّادِقِينَ} (¬1)، قال مقاتل: يعني لا تقدر نفس لنفس، يعني للكفار شيئا من المنفعة (¬2). قوله تعالى (¬3): {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}، قال: يقول: لا يملك الأمر غيره وحده، قال قتادة: ليس ثم أحد يقضي شيئًا (¬4) أو يصنع شيئًا إلا الله رب العالمين (¬5). والمعنى: أن الله تعالى لم يُمَلِّك في ذلك اليوم أحدًا شيئًا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 119، قد وردت المسألة مطوله جدًا، واختصرت هنا في سورة الانفطار. (¬2) "تفسير مقاتل" 231/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 457، "زاد المسير" 8/ 198، "البحر المحيط" 8/ 437، قال ابن الجوزي: قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا يملك الأمر أحد إلا الله ولم يملك أحدًا من الخلق شيئًا كما ملكهم في الدنيا، وكان مقاتل يقول وساق قوله والقول على الإطلاق أصح؛ لأن مقاتلًا -فيما أحسب- خاف نفي شفاعة المؤمنيين، والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه، "زاد المسير" 8/ 198. (¬3) ساقط من: ع. (¬4) بياض في (ع). (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 354، "جامع البيان" 30/ 98، "الدر المنثور" 8/ 440 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

سورة المطففين

سورة المطففين

1

تفسير سورة المطففين (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، قال أبو عبيدة (¬2)، والمبرد (¬3): المطفف الذي يبخس في الكيل، والوزن، ولا يوفي، والمطففون: الذين ينقصون المكيال والميزان. وقال أهل اللغة: يقال هذا طَفُّ المِكْيال أو طِفافُه إذا قارب ملأه ولما يمتلئ، ولهذا قيل للذي يُسيء الكيل ولا يُوَفِّيه مطفِّف، يعني: أنه إنما يبلغ (¬4) الطِّفاف، وهذا إنما أخذ (¬5) طَفّ الشيء وهو جانبه، يقال: طف الوادي، والإناء إذا بلغ ما فيه حَرفه ولم يمتلئ فهو طَفافه وطِفافه وطَفَفُهُ. وقال أبو إسحاق: إنما قيل الذي ينقص المكيال والميزان مطفف، ¬

_ (¬1) فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها مكية في قول جماعة المفسرين. الثاني: أنها مدنية. الثالث: أنها نزلت بين مكة والمدينة. انظر: " النكت والعيون" 6/ 225، "زاد المسير" 8/ 199. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 289، وعبارته: المطفف الذي لايوفي على الناس من الناس. (¬3) "الوسيط" 4/ 440. (¬4) في (أ): بلغ. (¬5) بياض في (ع). ولعلها (من).

لأنه لا يكاد يسرق في المكيال، والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف (¬1). قال الكلبي: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم فنزلت هذه الآية (¬2). وقال أبو هريرة: نزلت في عمي أبي جهينة (¬3): كان له صَاعان يأخذ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 297 بتصرف. (¬2) "الوسيط" 4/ 440، ولم أجدها عند غيره مما بين يدي من كتب، وقد وردت رواية من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل. انظر: "جامع البيان" 30/ 91، "الكشف والبيان" ج 13/ 52/ أ، "النكت والعيون" 6/ 225، "معالم التزيل" 4/ 457، "الكشاف" 4/ 194 من غير عزو، "زاد المسير" 8/ 199، "الجامع لأحكام القرآن" 9/ 248، "لباب التأويل" 4/ 359، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 516، "الدر المنثور" 8/ 441 وعزاه إلى النسائي، وابن ماجه، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان" بسند صحيح عن ابن عباس، وزاد الحافظ ابن حجر في: تخريج "الكشاف" 182، لابن حبان والحاكم، "فتح القدير" 5/ 398. الحديث أخرجه ابن ماجه في "سننه" 2/ 20: ح 2242: كتاب التجارات: باب 35، قال الألباني: حسن. انظر: صحيح ابن ماجه: 2/ 19: ح 1808، والنسائي في: تفسيره: 2/ 502: ح: 674، قال محققه: إسناده حسن، والطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 371: ح 12041، وابن حبان في "موارد الظمآن" 438/ ح 1770، والحاكم في "المستدرك" 2/ 33: كتاب البيوع، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 327: ح: 5286 وانظر: "لباب النقول" للسيوطي: 228 قال: أخرجه النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس، وفي الصحيح المسند: للوادعي: 232، وقد ذكر طرق الرواية كما جاءت في كتب السنة السابق ذكرها -وعلق عليها وبين ضعف بعض رجالاتها وخلص بقوله: ولكن مجموع هذه المتابعات تدل على ثبوت الحديث والله أعلم. (¬3) في (أ): جهلينه.

2

بواحد، ويعطي بالأخرى (¬1). ثم بين أن المطففين من هم فقال: 2 - (قوله تعالى) (¬2): {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} الاكتيال: الأخذ بالكيل كالاتزان: الأخذ بالوزن (¬3). قال الفراء: يريد اكتالوا من الناس. و"على"، و"من" في هذا الموضع تعتقبان، لأنه حق عليه فإذا قال: اكتلتُ عليك، فكأنه قال: أُخُذتُ مَا عليك، وإذا قال: اكتلتُ منك، فهو كقولك: استوفيت منكْ (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، ولم يذكر اتَّزَنوُا؛ لأن الكيل والوَزن بهما (¬5) الشراء والبيع، ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 248، غير أن الرواية لم تذكر أن أبا جهينه عم لأبي هريرة، وقد وردت رواية مثلها عن السدي في "الكشف والبيان" ج 13: 52/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 457، "زاد المسير" 8/ 200، و"أسباب النزول" تح: أيمن صالح: 388، "فتح القدير" 5/ 398، وقد وردت في "الدر المنثور" عن أبي هريرة أن الرسول الله استعمل سباع بن عرفطة على المدينة لما خرج من خيبر فقرأ: "ويلٌ للمطففين"، فقلت: هلك فلان، له صاع يعطي به، وصاع يأخذ به. وعزاه إلى ابن سعد، والبزار، والبيهقي في "دلائل النبوة" 8/ 442: باب استخلافه على المدينة حين خرج إلى خيبر سباع عن عُرفُطة، "كشف الأستار" عن "زوائد البزار" 3/ 89: ح: 2281، وقال البزار: لا نعلم رواه عن أبي هريرة إلا عِراك. (¬2) ساقط من (ع). (¬3) انظر: "التفسير الكبير" 31/ 88 (¬4) "معاني القرآن" 3/ 246 بنصه، قال الزمخشري: لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالًا يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان "من" للدلالة على ذلك، "الكشاف" 4/ 194. (¬5) في (أ): بها.

3

فأحدهما يدل على الآخر (¬1). قال المفسرون (¬2): يعني الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا. وهو قوله: 3 - {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي كَالُوا لهم أو وَزنوا لهم تقول: كلتني الطعام، كِلْتُك الطعام، تريد كِلتَ لي، وكلت لك (¬3). قال الفراء: وهذا من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم (¬4). وأنشد (أبو عبيدة) (¬5): يصيد قاصدًا والمخُّ رَارُ (¬6) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 297 بنحوه. (¬2) قال بذلك الطبري في "جامع البيان" 30/ 91، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 456، والماوردي في "النكت والعيون": 6/ 226، وانظر أيضا "معالم التنزيل" 4/ 457، "المحرر الوجيز" 5/ 450، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 250، "لباب التأويل" 4/ 359، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 516، ونقل الشوكاني قول الواحدي عن المفسرين: "فتح القدير" 5/ 398. (¬3) قال بذلك ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 519، و"تأويل مشكل القرآن" 228، وهو أيضًا معنى قول الفراء في "معانى القرآن" 3/ 245 - 246. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 245 - 246 (¬5) ساقط من (أ). (¬6) نسبه أبو عبيدة إلى خفاف، ونسبه المبرد إلى السليك قاله في رثاء فرسه وكان يقال له النَّخَّام. وقد ورد في "مجاز القرآن" 2/ 289، برواية "قافلًا" بدلًا من "قاصدًا". والبيت كاملًا: ويُحْضِرُ فوق جُهْدِ الحُضْرِ نَصًّا ... يصيدكَ قافلًا والمخُّ رَارُ

أي يصيد لك، ومثله: نصحت لك، ونصحتك، وأَمَرْتُكَهُ وأمرتك به، ومنه أمرتك الخير. وقال الكسائي يقول: زني كذا، كلني كذا. كالوهم يكيلونهم (¬1)، ووزنوهم يزنونهم (¬2). في موضع نصب (¬3). ولا يجوز الوقف على كالوا حتى تصل بـ"هم" كما تقول: ضربهم. ذكر ذلك الفراء (¬4)، والزجاج (¬5)، وزاد الزجاج فقال: ومن الناس من يجعل "هم" توكيدًا لما في "كالوا" ويجيز الوقف، والاختيار الأول (¬6)؛ لأنه لو كان بمعنى "كالوا" "هم" لكان ¬

_ = وقد ورد في "الكامل" 2/ 970، "مجاز القرآن" 2/ 289، ولم أعثر عليه في ديوان خفاف. (¬1) في (أ): يكيلوهم. (¬2) ورد معنى قوله في "بحر العلوم" 3/ 456، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 255، ومعنى قوله: أنه يجعل قوله: "وإذا كالوهم أو وزنوهم" حرفًا واحداً كالوهم أي كالوا لهم، وكذلك وزنوا لهم. "بحر العلوم" المرجع السابق. (¬3) أي الهاء في "كالوهم" و"وزنوهم". (¬4) "معاني القرآن" 3/ 245 - 246. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 297. (¬6) وإلى هذا ذهب: الطبري: "جامع البيان" 30/ 91، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 226، والزمخشري في "الكشاف" 4/ 194، والأخفش في "معاني القرآن" 2/ 734 وإليه ذهب أبو عمرو بن العلاء، وهو مذهب أيضا سيبويه. "إعراب القرآن" للنحاس: 5/ 174. قال الزمخشري: ولا يصح أن يكون ضميرًا مرفوعًا للمطففين، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا وهو كلام، متنافر، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. "الكشاف" 4/ 194.

4

في المصحف ألف مثبتة قبل "هم" (1). قوله: {يُخْسِرُونَ} أي ينقصون كقوله: {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وقد مر (2). قال المفسرون (3): يريد إذا باعوا وكَالوا لغيرهم، أو وزنوا نقصوا في الكيل والوزن. ثم خوفهم فقال: 4 - {أَلَا يَظُنُّ} (4) أي ألا يعلم أولئك الذين يطففون. 5 - {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: يريد ألا يستيقن المطفف في الكيل والوزن بالبعث يوم القيامة (5). ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} (6) قال الزجاج: يوم منصوب بقوله "مبعوثون"،

_ (1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 297. (2) ومما جاء في تفسير قوله: {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} الرحمن: 9، قال ابن عباس، والمفسرون: لا تنقصوا ولا تبخسوا وهذا كقوله تعالى ذكره: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي ينقصون وروى أهل اللغة أخسرت الميزان وخسرته. (3) والعبارة التي وردت عن بعض المفسرين في معنى يخسرون أي ينقصون، قال بذلك ابن قتية في: "تفسير غريب القرآن": 519، والطبري في "جامع البيان" 30/ 91، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 456. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 458، "زاد المسير" 8/ 200، و"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 250، "لباب التأويل" 4/ 359، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 516. (4) {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)}. (5) "الوسيط" 4/ 441. (6) {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

المعنى: ألا (¬1) يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة (¬2). وقال (¬3) الفراء: وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى (يفعلُ) فنصب (¬4). وهذا كما ذكرنا في قوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ} [الانفطار: 19]. وقوله: {يَوْمَ يَقُومُ} أي: من قبورهم (¬5). {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لأمره ولجزائه وحسَابه، وروي مرفوعًا، وبه قال جماعة المفسرين أن المعنى يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): لا. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 298. (¬3) في (أ): قال. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 246. (¬5) قال بذلك سعيد بن جبير انظر: "النكت والعيون" 6/ 227، "معالم التنزيل" 4/ 458 وعنه أنه قال أنه جبريل يقوم لرب العالمين، وبعضهم قال يقومون بين يديه للقضاء وقيل غير ذلك "النكت والعيون" المرجع السابق. (¬6) الحديث أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 3/ 321 - 322: ح: 4938: كتاب التفسير: باب: 83 والحديث: عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه، كما وردت بنفس المرجع: 4/ 197: ح 6531: كتاب الرقاق: باب: 47 وأخرجه مسلم في "صحيحه" 7/ 201: ح 60: كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب: 15 والترمذي في "سننه" 5/ 434: ح 3335 و3336، كتاب التفسير: باب: 75، وقال هذا حديث حسن صحيح. كما ورد هذا الحديث من طريق أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: يعَرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عَرَقهم في الأرض سبعين ذِراعًا ويُلجمهم حتى يبلغ آذانهم، وحده الرواية قد أخرجها: البخاري "الجامع الصحيح" 4/ 197: ح 6532: كتاب الرقاق: باب: 47.

7

7 - {كَلَّا} (ردع وتنبيه، أي ليس الأمر على مَا هم عليه، فليرتدعوا) (¬1) (¬2). وتمام الكلام هَاهنا (¬3). وعند أبي حاتم "كلا" ابتداء يتصل بما بعده (¬4). على معنى حقًا إن كتاب الفجار لفي سجين. وهو قول الحسن (¬5). ¬

_ = وبنحوه في: "صحيح مسلم" 17/ 202: ح 61: باب: 15.، وعن المقداد بن الاْسود حديثا مرفوعًا بمعنى رواية أبي هريرة، انظر: "صحيح مسلم" 17/ 202: ح 62: باب: 15.، وانظر هذه الرواية والتي من طريق ابن عمر، والمقداد بن الأسود في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 355، "جامع البيان" 30/ 92 - 94، "بحر العلوم" 3/ 456، "معالم التنزيل" 458/ 4، "زاد المسير" 8/ 201، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 254، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 516 - 517. "الدر المنثور" 8/ 442 وعزاه أيضًا إلى مالك، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه. (¬1) في (أ): فليس تدعوا. (¬2) ما بين القوسين من قول الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 398. (¬3) أي عند قوله: "لرب العالمين كلا" فالوقف عند كلا وهو ما ذهب إليه: نصير ومحمد بن جرير قاله النحاس. انظر: "القطع والائتناف" 2/ 795. وقال أبو عمرو: يوقف عليها ردًا وزجرًا لما كانوا عليه من التطفيف. "منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" 421، كما عزاه ابن الجوزي هذا القول إلى كثير من العلماء: "زاد المسير" 8/ 211. (¬4) بمعنى ألا التي للتنبيه يبتدأ بها الكلام، "القطع والائتناف" 2/ 795، "منار الهدى" 421، وانظر: "علل الوقوف" للسجاوندي: 3/ 1105. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 459، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 255، وانظر: "النكت والعيون" -من غير عزو- 6/ 227.

واختلفوا في معنى: "سجين". فالأكثرون على أنه: الأرض السابعة السفلى، وهو قول قتادة (¬1)، ومقاتل (¬2)، ومجاهد (¬3)، والضحاك (¬4)، وابن زيد (¬5)، (ومُغِيث بن سُمَيّ (¬6) (¬7)، وعبد الله بن عمرو (¬8)، وابن عباس (¬9) في رواية عطاء) (¬10). وروي ذلك مرفوعًا من طريق البراء بن عازب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 355، "جامع البيان" 30/ 95، "بحر العلوم" 30/ 457، "معالم التنزيل" 4/ 458، "زاد المسير" 8/ 202، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الدر المنثور" 8/ 444، وعزاه إلى عبد بن حميد، وعبد الرزاق. (¬2) "تفسير مقاتل" 232/ أ، "بحر العلوم" 3/ 457، "زاد المسير" 8/ 202. (¬3) "جامع البيان" 30/ 95، "معالم التنزيل" 4/ 458، "زاد المسير" 8/ 202، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الدر المنثور" 8/ 444 وعزاه أيضًا إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) المراجع السابقة عدا "الدر المنثور". (¬5) المراجع السابقة عدا "معالم التنزيل"، و"الدر المنثور". (¬6) مُغِيِثْ بن سُمَيّ الأوزاعي، أبو أيوب الشامي، روى عن عبد الله بن الزبير، وعنه جَبَلَة بن سُحَيْم، ثقة، روى له ابن ماجه، من تابعي أهل الشام. انظر: "كتاب الثقات" لابن حبان: 5/ 447، "حلية الأولياء" 6/ 67: ت 329، "تهذيب الكمال" 28/ 348: ت 6121. (¬7) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 94. (¬8) ورد قوله في "معالم التنزيل" 4/ 458، "الدر المنثور" 8/ 444 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬9) "التفسير الكبير" 31/ 93، "الدر المنثور" 8/ 444 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ).

"سجين أسفل سبع أرضين" (¬1). قال عطاء الخراساني: وفيها إبليس وذريته (¬2). وروى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سجين جُب في جهنم" (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 287 - 288، من حديث طويل في صفة قبض الروح، والنسائي في: "الكبرى" والحاكم في "المستدرك" 1/ 37 - 38: كتاب الإيمان: ذكر فيه اكتبوا كتابه في سجين، وابن أبي شبة في: "المصنف" 3/ 54 - 55: ح 12059: في نفس المؤمن كيف تخرج ونفس الكافر، والرواية كما جاءت عنده: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض، كما أخرجه البيهقي في: عذاب القبر وابن تيمية في: "مجموع الفتاوى" 4/ 290 - 292، وقال هو حديث حسن ثابت. وأخرجه أيضًا الطبري في "جامع البيان" 30/ 96، "الكشف والبيان" ج 13: 53/ أ، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 517، وقال ابن كثير وفيه: اكتبوا كتابه من سجين من حديث البراء الطويل، وسجين هي صخرة تحت الأرض السابعة، "الدر المنثور" 8/ 444 عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعزاه إلى ابن مردوية. (¬2) "الكشف والبيان" ج 13: 53/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 459، "المحرر الوجيز" 5/ 451 من غير عزو، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 255. (¬3) ورد بنحوه في "جامع البيان" 30/ 95 - 96، "الكشف والبيان" ج 13: 53/ ب، "النكت والعيون" 6/ 228، "معالم التنزيل" 4/ 459، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 256، "لباب التأويل" 4/ 360، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 517، وقال ابن كثير عنه: وقد روى ابن جرير حديثًا غريبًا منكرًا لا يصح. ثم ساق الحديث المذكور، وفي الإسناد الذي ذكره الطبري مسعود بن موسى بن مسكان الواسطى قال عنه ابن حجر: قال العقيلي إسماعيل وهو من روى عنه لا يعرف ومسعود نحو منه: "لسان الميزان" 6/ 27. وفيه شعيب بن صفوان بن الربيع الثقفي قال عنه ابن حجر إنه مقبول. -قلت أي ضعيف-. وعن يحيى بن =

وقال الكلبي: سجين صخرة تحت الأرض السَابعة (¬1). وهو قول مجاهد (¬2) (في رواية ابن أبي نجيح) (¬3). وقال عكرمة: (لفي سجين) لفي خسارة (¬4). هذا مَا ذكره المفسرون في تفسير (سجين). وقال (¬5) أبو عبيدة (¬6)، والمبرد (¬7) {لَفِي سِجِّينٍ} لفي حبس (¬8). وهو فِعّيْل من السجن، كما تقول: فسِّيق من الفِسق. ونحو هذا حكى الزجاج عن أهل اللغة (¬9). ¬

_ = معين أنه قال شعيب بن صفوان: لا شيء. وعن أبي حاتم قال: شعيب بن صفوان يكتب حديثه ولا يحتج به. الخلاصة: أن سند الرواية ضعيف لوجود مسعود بن موسى وشعيب بن صفوان والله أعلم. (¬1) "الكشف والبيان" ج 13/ 53/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 459. (¬2) "جامع البيان" 30/ 96، "بحر العلوم" 3/ 457، "الكشف والبيان" ج 13: 54/ أ، النكت والعيون: 6/ 228، "معالم التنزيل" 4/ 459، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 255. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "بحر العلوم" 3/ 457، "الكشف والبيان" ج 13: 54/ أ، "النكت والعيون" 6/ 227، "معالم التنزيل" 4/ 459، "المحرر الوجيز" 5/ 451، "زاد المسير" 8/ 202، "التفسير الكبير" 31/ 93، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 256، "البحر المحيط" 8/ 440، "الدر المنثور" 8/ 445 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬5) في (أ): فقال. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 289 بنصه، والنص لأبي عبيدة. (¬7) "التفسير الكبير" 31/ 93. (¬8) في (أ): جهس. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 298.

ولم يزد من تكلم في معاني القرآن من أهل اللغة على هذا (¬1). وليس هذا بكاف ولا مقنع؛ لأنه غير موافق لما ذكره المفسرون بوجه، ولأنه لو كان من السجن لكان معناه الذي يكثر منه السجن، كالفسيق، والشريب، وبابه كما قيل في بيت ابن مُقْبل (¬2). ضَرْبًا تواصتْ به الأبْطالُ سِجِّينا (¬3) (هو فعيل من السجن كَأنه يلبث من وقع به فلا يبرح مكانه، وقال أبو عمرو: السجين في هذا البيت الشديد. وأما ابن الأعرابي فإنه رواه: سِخيِنًا، أي سُخْنًا) (¬4) (¬5) فإذًا ليس السجِّين المذكور في القرآن من كلام العرب، وما كانت تعرفه (¬6)، وهو على ما قاله المفسرون، والمعنى: إن كتاب عملهم لا يُصَعد ¬

_ (¬1) قال الأخفش: لفي حبس ضيق شديد، وهو فعيل من السجن كما يقال: فسبق وشريب، وانظر: "ما تلحن فيه العامة" للكسائي: 113، "الكشف والبيان" ج 13/ 54/ أ. (¬2) تقدم ترجمته في سورة البقرة. (¬3) وصدر البيت كما في الديوان: وَرَجْلَةِ يَضْربونَ البيض عَن عُرُضٍ وقد ورد البيت في: ديوانه: 136: تح: د. تورك برواية: تَواصى به بدلًا تواصت به، مادة: (سجن): "تهذيب اللغة" 10/ 595،"الصحاح" 5/ 133، "لسان العرب" 3/ 203، "تاج العروس" 9/ 231. (¬4) سُخْنًا أي الضّرْبَ، "تهذيب اللغة" 10/ 595: مادة: (سجن). (¬5) ما بين القوسين نقلة عن "تهذيب اللغة" المرجع السابق. (¬6) وقد جمع بعض من المفسرين بين المعنيين، أي بين القول أنها اسم للأرض السابعة السفلى، وبين القول أنها فعيل من السجن، من هؤلاء: ابن جرير الطبري، والماوردي، والزمخشري، وابن كثير، وابن تيميه.

به إلى السماء كما يصعد بكتاب المؤمن وهو قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18]، وإنما يوضع تحت الأرض السابعة، وذلك علامة خسارهم ودليل على خساسة منزلتهم. وهذا معنى ما ذكره ابن عباس عن كعب لما سَأله عن تفسير سجين (¬1)، ومن قال إنه: صخرة تحت الأرض السَابعة قال: فقلت تلك الصخرة فيجعل كتاب الكفار إذا مَات تحتها. ذكره ابن أبي نجيح عن مجاهد (¬2)، والكلبي (¬3). والدليل على أن سجين ليس مما كانت العرب تعرفه. ¬

_ = انظر: "جامع البيان" 30/ 94، "النكت والعيون" 6/ 228، "الكشاف" 4/ 195، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 517 - 518، "مجموع الفتاوى" 25/ 196، ورد الإمام الشوكاني على ما ذكره الإمام الواحدي من أن سجين ليس بلفظ عربي قال: ويجاب عنه بأن رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة وتدل على أنه من لغة العرب، واستشهد عليه ببيت ابن مقبل. "فتح القدير" 5/ 399. (¬1) "جامع البيان" 30/ 94، وكان جواب كعب، أما سجين فإنها الأرض السابعة السفلى وفيها أرواح الكفار تحت حد إبليس، وفي رواية أخرى: قال: إن روح الفاجر يُصعد بها إلى السماء فتأبى السماء تقبلها وُيهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتهبط فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين وهو حد إبليس فيخرج لها من سجين من تحت حد إبليس رَقّ فيرقم ويختم يوضع تحت خد إبليس بمعرفتها الهلاك إلى يوم القيامة، وانظر أيضا: "الكشف والبيان": ج 13: 53/ أ - ب، "معالم التنزيل" 4/ 459، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 255، "لباب التأويل" 4/ 360، "الدر المنثور" 8/ 443، وعزاه إلى ابن المبارك في: الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) سبق ذكره في أول تفسير هذه الآية. (¬3) سبق ذكره في أول تفسير هذه الآية.

8

8 - (قوله تعالى) (¬1): {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)} (¬2)، قال أبو إسحاق: أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك (¬3). 9 - (وقوله) (¬4): {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}، (¬5) ذكر الكلبي (¬6)، (ومقاتل (¬7) (¬8) أن هذا تفسير وبيان للسجين. قال الكلبي: ثم أخبره فقال: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (¬9). وهذا بعيد؛ لأنه لا يمكن أن يجعل الكتاب المرقوم تفسير لسجين وليس السجين من الكتاب المرقوم في شيء على ما حكينا عن المفسرين في تأويله (¬10). والوجه أن نجعل هذا بيانًا للكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي} على تقدير: هو كتاب مرقوم، يعني كتاب الفجار. ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) قال القرطبي: وليس في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيًا، ونفى أن يكون في القرآن لفظ غير عربي. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 856. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 298 بنصه. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) ورد قول أبي إسحاق السابق ذكره في الآية: 8، وهو مكرر، وليس هذا بموضعه، وإنما موضعه كما مر عند تفسير آية: 8 (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) انظر: "تفسير مقاتل" 232/ أ. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) قال ابن كثير عن القرظي وقوله تعالى: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} ليس تفسيرًا لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 518.

وأما معنى المرقوم في اللغة: (فقال الليث: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} قد بينت حروفه بعلاماتها من التنقيط، والتاجر يَرْقُم ثَوبَه بِسَمته. وقال أبو العباس (¬1): {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أي مكتوب، وأنشد (¬2): سأُرقُمُ في المَاءِ القُرَاحِ إليكُمُ ... على بُعدِكُم إن كان في الماء راقم (¬3) أي سَأكتب) (¬4). وأما التفسير، فقال قتادة: رُقِم لهم بشرٍّ (¬5). ونحوه قال مقاتل (¬6). وعلى هذا من الرقم. الذي هو العلامة، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه لكَافر. ويجوز أن يكون المعنى: مرقوم في سجين، على قول من يقول: إنها صخرة. ¬

_ (¬1) أي أحمد بن يحيى -ثعلب-. (¬2) بيت الشعر لأوس بن حجر. (¬3) ورد في البيت في ديوانه: 116 برواية: "بالماء" بدلًا من: "في الماء"، و"على نأيكم" بدلًا من "على بعدكم"، و"للماء" بدلًا من "في الماء". مادة: (رقم) في: "تهذيب اللغة" 9/ 143، "مقاييس اللغة" 2/ 425، "لسان العرب" 12/ 248، وفي "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 256، "فتح القدير" 5/ 400، وكلها برواية "للماء" بدلًا من "في الماء"، وفي معجم المقاييس رواية "على نأيِكُمْ" بدلًا من "على بعدكم". (¬4) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 9/ 141 - 142: مادة (رقم)، وانظر أيضا "لسان العرب" 12/ 248: مادة (رقم). (¬5) "جامع البيان" 30/ 96، "الكشف والبيان" ج: 13: 54/ أ، "النكت والعيون" 6/ 228، "معالم التنزيل" 4/ 459، "زاد المسير" 8/ 202، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 256، "البحر المحيط" 8/ 440، "الدر المنثور" 8/ 444، وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 399. (¬6) ورد معنى قوله في "معالم التنزيل" 4/ 459، "فتح القدير" 5/ 399.

10

والمعنى: إن عمل الكَافر، وما أُعد لَهُ من العقاب أثُبت ذكره في تلك الصخرة فهو مرقوم فيها. وهذا معنى قول الكلبي: مكتوب في صخرة تحت الأرضين (¬1). ويدل على هذا ما روى عن البراء مرفوعًا قال: يقول الله اكتبوا كتابه في سجين (¬2). وذكر أيضًا أن المرقوم معناه: -هَاهنا- المختوم (¬3). وهو صحيح، لأن الختم علامة، فيجوز أن يسمى المختوم مرقومًا (¬4)، و {سِجِّينٌ} على قول من يقول إنه اسم لصخرة إنما صرف ذهَابًا إلى الحجر الذي فيه الكتاب، فلا يجتمع التأنيث، والعجمة. ذكره الفراء (¬5). وذكر بعض المفسرين -أيضًا- أن معنى الكتاب مثبت عليهم، كالرقم في الثوب لا ينمحي (¬6). 10 - فقال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}، ذكر صاحب النظم: أن هذا منتظم بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} وإن قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} ما اتصل به، معترض بينهما: ¬

_ (¬1) سبق ذكره عند تفسير قوله "سجين". (¬2) سبق تخريجه. عند تفسير قوله "سجين". (¬3) وهو قول الضحاك قال: مرقوم، مختوم بلغة حمير. "النكت والعيون" 6/ 228، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 256. (¬4) والرقم في اللغة الكتابة والختم. انظر: "الصحاح" 5/ 1935: مادة: (رقم). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 246، ونص قوله: ذكروا أنها الصخرة التي تحت الأرض ونرى أنها صفة من صفاتها، لأنه لو كان لها اسمًا لم يجر، وإن قلت: أجريته، لأني ذهبت بالصخرة إلى أنها الحجر الذي فيه الكتاب كان وجهًا. (¬6) وهذا القول ورد في "الكشف والبيان" ج 13: 54/ أ، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 459، "زاد المسير" 8/ 202، "التفسير الكبير" 31/ 94.

11

قال: ويحتمل أن ينتظم بما هو متصل به على كتاب مرقوم، يظهر يوم القيامة، ثم دل على هذا الإضمار بقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)} (¬1). 11 - ثم أخبر بهم فقال: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ} وهو ظاهر، إلى قوله: "كلا" قال مقاتل: أي لا يؤمن (¬2). 14 - ثم استأنف: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال أبو عبيدة: ران على قلوبهم غلب عليها، والخمر تريِن على قلب السكران، والموت يَرين على الميِّت فيذهب به، وأنشَد لأبي زُبيد (¬3) فقال (¬4): ثمَّ لَمَّا رَآه رانتْ به الخمر ... وأن لا تَرِينَهُ باتِّقاءِ (¬5) (¬6) أي غلبت الخمر على قلبه وعقله (¬7). وقال الليث: ران النعاس، والخمر في الرأس: إذا رسخ فيه، وهو ¬

_ (¬1) "الوسيط" 4/ 445، "غرائب التفسير وعجائب التأويل" 2/ 1318 مختصرًا. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 459. (¬3) أبو زبيد هو المنذر بن حَرْملة من طيء وكان جاهليًا قديمًا وأدرك الإسلام إلا أنه لم يُسلم ومات نصرانيًا، وكان من المعمرين، يقال أنه عاش 150 سنة، وكان نديم الوليد بن عُقبة. ولم يصف أحد من الشعراء الأسد وصفه. انظر: "الشعر والشعراء" 185. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) ورد البيت تحت مادة: (رين) في: "تهذيب اللغة" 15/ 225، "لسان العرب" 13/ 193، "تاج العروس" 9/ 223، "مجاز القرآن" 2/ 289، "الكشف والبيان" ج 13/ 54/ ب، "المحرر الوجيز" 5/ 451، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 258، "الحجة" 6/ 386، وكتب التفسير. برواية "وألا" بدلًا من "أن". (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 289. (¬7) بيت الشعر وبيان معناه نقله عن "تهذيب اللغة" 15/ 225: مادة: (رين).

يَرين رَيْنًا ورُيُونا (¬1). ومن هذا حديث عمر -رضي الله عنه- في اسَيفِع جُهَينة لما رَكِبه الدين أصبح قَدْ رينَ به (¬2). قال أبو زيد: يقال رِين بالرَّجُل رَيْنًا، إذا وقَع فيما لا يَستطيع الخروج منه ولا قِبلَ له به (¬3). وقال أبو عبيد (¬4): كل ما غَلبك وعَلاك فقد ران بك، وران عليك، وأنشد بيت أبي زُبَيْد (¬5). وقال أبو معَاذ النحوي: الرين، أن يسوَّد القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب (¬6). وقال الفراء: هو أنه كثرت المعاصي والذنوب فأحاطت بقلوبهم فذلك الرَّين عليها (¬7). وقال أبو إسحاق: ران على قلوبهم بمعنى غطى على قلوبهم، يُقال ¬

_ (¬1) ورد قوله في "التفسير الكبير" 31/ 95، وانظر: "السان العرب" 13/ 93: مادة: (رين)، "تاج العروس" 9/ 223: مادة: (رين). (¬2) ورد في: "البداية والنهاية" 2/ 290 - 291، كما ورد في كتب اللغة السابق ذكرها، وانظر أيضًا "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 258. (¬3) "تهذيب اللغة" 15/ 225: مادة: (رين)، "الصحاح" 5/ 2129: مادة: (رين)، "لسان العرب" 13/ 192: مادة: (رين). (¬4) في (أ): أبو عبيدة. (¬5) "تهذيب اللغة" 15/ 225: مادة: (رين). (¬6) ورد قوله في: "تهذيب اللغة" 15/ 225: ممادة: (رين)، وانظر: "لسان العرب" 13/ 193: مادة: (رين)، "تاج العروس" 9/ 223: مادة: (رين)، "فتح القدير" 5/ 400. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 246 بيسير من التصرف.

ران على قلبه يَرينُ رَيْنًا أي غشيه، والرَّيْن كالصدأ يغشى القلب، ومثله الغين (¬1) (¬2). قال الحسن (¬3)، ومجاهد (¬4) هو: الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب، ونحو هذا قال مقاتل: غمر بها أعمالهم الخبيثة (¬5)، ومن المفسرين من يجعل الرين: الطبع (¬6)، ¬

_ (¬1) الغين: قال أبو عبيدة: يعني أنه يتغشى القلب ما يَلبِسُهُ، وكذلك كل شيء تغش شيئا حتى يُلبِسَه فقد غين عليه. "تهذيب اللغة" 8/ 200: مادة: (غين). وفي اللسان: وغين على قلبه غَيْنًا: تغشَّتْه الشهوة، وقيل غِين على قلبه غُطِّي عليه وأُلْبِسَ. 13/ 316: مادة: (غين). وعن ابن تيمية أنه قال: الغين ألطف من الرين، واستدل بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله سبعين مرة. "صحيح مسلم" 4/ 2075: كتاب الذكر: باب 12 "مجموع الفتاوى" 17/ 523. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 299 بيسير من التصرف. (¬3) ورد بنحو من قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 356، "جامع البيان" 30/ 98، "الكشف والبيان" ج 13/ 54/ ب، "النكت والعيون" 6/ 229، "معالم التنزيل" 4/ 460، "المحرر الوجيز" 5/ 452، "الكشاف" 4/ 196، "زاد المسير" 8/ 203، "التفسير الكبير" 31/ 95، "البحر المحيط" 8/ 441، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 518، "تفسير الحسن البصري" 2/ 404، "الدر المنثور" 8/ 447، "فتح القدير" 5/ 400. (¬4) ورد معنى قوله في: "تفسير الإمام مجاهد" 711، "جامع البيان" 30/ 98، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 257، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 518، "التفسير الكبير" 31/ 95، "الدر المنثور" 8/ 447 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) وهو قول ابن عباس في معنى: الران: قال: هو الطبع. انظر: "جامع البيان" 30/ 99، "الكشف والبيان" ج 13/ 54/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 460، والكلبي في "النكت والعيون" 6/ 228.

15

والصدأ (¬1) (¬2)، وسواد القلب. وهو قول عبد الله، قال: كلما أذنب نكِت في قلبه نكته سوداء حتى يسود القلب كله (¬3)، وروي نحو هذا مرفوعًا في حديث أبي هريرة (¬4) 15 - قوله (تعالى (¬5)): {كَلَّا} (¬6) قال ابن عباس: يريد لا ¬

_ (¬1) الصدأ: صَدَأُ الحديد، وسخه. "الصحاح" 1/ 59: مادة: (صدأ). وفي "القاموس المحيط" 1/ 20 (صدأ): الصدأ: الحديد علاه الطبع والوسخ. (¬2) في (أ): كالصدأ. (¬3) ورد معنى قوله في "الوسيط" 4/ 445، "التفسير الكبير" 31/ 95 وعزاه إلى آخرين. (¬4) إسناده حسن، والحديث أخرجه: الإمام أحمد في "المسند" 2/ 297، ولفظه كما ورد عنده، عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله -عز وجل- في القرآن: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وابن ماجه في: سننه 2/ 437: ح 4298: أبواب الزهد: باب: 29، والترمذي في "سننه" 5/ 434: ح 3334: كتاب تفسير القرآن: باب ومن سورة ويلٌ للمطففين، وقال هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في: تفسيره: 2/ 505: ح 678 والحاكم في "المستدرك" 2/ 517: كتاب التفسير: تفسير سورة المطففين، وقال عنه حديث صحيح، ووافقه الذهبي، وابن حبان في "موارد الظمآن" 439/ ح 1771. وقال الألباني: حسن، انظر: صحيح سنن ابن ماجه: 2/ 417: ح 3422. كما خرج له في كتب التفسير: أسوق منها: "جامع البيان" 30/ 98، "الكشف والبيان" ج 13: 54/ ب، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 518، وعزاه إلى الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وأحمد، و"الدر المنثور" 8/ 445، وزاد السيوطي نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبهيقي، "شعب الإيمان" 5/ 440: ح 7203: فصل في الطبع على القلب أو الرين. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}.

يصدقون (¬1). ثم استأنف: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} قال مقاتل: يعني أنهم بعد العرض والحسَاب لا ينظرون إليه، وينظر المؤمنون إلى ربهم (¬2). وقال الكلبي: يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته (¬3). وقال أبو علي البجلي (¬4): كما حجبهم في الدنيا عن توحيده، حجبهم في الآخرة عن رؤيته (¬5). وسئل مَالك بن أنس عن هذه الآية: لمَّا حجب أعداءه فلم يروه، تجلى (¬6) لأوليائه حتى رأوه (¬7). وروى مالك لنا عن الشافعي -رحمه الله (¬8) - أنه أجاب في هذه الآية لمَّا حجب قومًا بالسُّخْطِ دل على أن قومًا يرونه بالرضا (¬9). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 460، "زاد المسير" 8/ 203 من غير عزو. (¬2) ورد بنحو قوله في "التفسير الكبير" 31/ 97. (¬3) المرجع السابق، وفي "الوسيط" 4/ 446 عزاه إلى الكلبي عن ابن عباس. (¬4) أبو علي البجلي هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي -سبقت ترجمته. (¬5) "الكشف والبيان" ج 13: 55/ أ، "معالم التنزيل" 5/ 460، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 259، "فتح القدير" 5/ 400. (¬6) غير واضحة في (ع). (¬7) ورد قوله في "معالم التنزيل" 4/ 460، "المحرر الوجيز" 5/ 452. (¬8) في (ع): -رضي الله عنه-. (¬9) "المحرر الوجيز" 5/ 452، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 259، "لباب التأويل" 4/ 361، "البحر المحيط" 8/ 441، "روح المعاني" 30/ 73.

وقال أبو إسحاق الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله -عز وجل (¬1) - يُرى في القيامة ولولا ذلك مَا كَان في هذه الآية فائدة، ولا خُسِسَتْ منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن الله، ولمَّا أعلم الله أن المؤمنين ينظرون إليه في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] أعلم أن الكفار يحجبون عنه. وقوم ذهبوا إلى (أن) (¬2) معنى أنهم محجوبون عن رحمة الله وما أعد لأوليائه من النعيم (¬3). ¬

_ = والخلاصة في مسألة الرؤية: قال السفاريني: لم يمتنع سبحانه من أن يمكن عباده من رؤيته في دار القرار إلا عن الكافر بالله -تعالى- وبكل مكفر اتصف به فكل من حكم الشرع بكفره فهو محجوب عن رؤية ربه، قال علي بن المديني: سألت عبد الله بن المبارك عن رؤية الله تعالى، فقال ما حجب الله -عز وجل- أحدًا عنه إلا عذبه ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} قال بالرؤية. "لوامع الأنوار" 2/ 245. والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (القيامة: 22 - 23) وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلى كل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. قاله الطحاوي. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 26 - 27. (¬1) ساقط من (ع). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) قال بهذا القول: المعتزلة، ونفاة الرؤية. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 452، "التفسير الكبير" 31/ 97، "رؤية الله تعالى": د. آل حمد: 221. ومن أمثلة قائليه من أصحاب هذه الفرقة: عبد الجبار قال في معنى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} إنهم ممنوعون من -رحمة الله-؛ لأن الحجب هو المنع، ولذلك يقال فيمن يمنع الوصول إلى الأمير: إنه حاجب له، وإن كان الممنوع مشاهدًا له، وقال أهل الفرائض في الأخوة إنهم يحجبون الأم عن الثلث =

وذلك عدول عن سنن الخطاب، وظاهر الكلام.

_ = إذا منعوها وان لم يكن هناك ستر في الحقيقة، تبين بذلك أنه تعالى يمنعهم بذلك من رحمته وسعة فضله ليبعث السامع بذلك على التمسك بطاعة الله فيكون يوم القيامة من أهل الرحمة لا من المحجوبين عنها. رؤية الله تعالى د. آل حمد: 221، نقلًا عن "متشابه القرآن" لعبد الجبار: 683، وانظر: تفسير الفخر: 31/ 96، وقال الزمخشري أيضًا: كلا ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم، وكونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم واهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. "الكشاف" 4/ 196. وقد ذهب بعض المفسرين كابن عباس إلى القول أنهم محجوبون عن رحمة الله وذهب إليه أيضًا قتادة، وابن أبي مليكة، ومجاهد، ولكن هذا القول منهم على خلاف ما ذكرت المعتزلة من نفي الرؤية إطلاقاً، إذ قوله: وإنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون تحمل معانٍ عدة وليس فيها دلالة ظاهرة ولا دليل يخصص عمومها. كغيرها من الآيات نحو {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. ومما يدل على أنهم يثبتون هؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين قول ابن عباس في معنى الآية قال: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. والخلاصة: قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال هم محجوبون عن رؤيته، وعن كرامته إذ كان الخبر عامًا لا دلالة على خصوصه. "جامع البيان" 30/ 100 - 101. ولكن ثبت بالأخبار التي بلغت حد التواتر المعنوي عن المصطفى رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى في الدار الآخرة لهذا ذهب جمهور المفسرين إلى تفسير حجب الكفار عن ربهم في الآية بالمنع من رؤيته، فمفهوم الآية يدل على ما دل عليه صريح الآيات المثبتة لرؤية المؤمنين لربهم والأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها بين علماء السنة والحديث كذلك فيها النص الصريح على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. - (قلت: سبق ذكر الأدلة في سورة القيامة آية 23) - انظر: "رؤية الله تعالى" د. آل حمد: 222

16

16 - (ثم أخبر أنهم بعد حجبهم عن الله يدخلون النار) (¬1) وهو قوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} 17 - ثم يقول لهم الخزنة: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. 18 - {كَلَّا} (¬2) قال مقاتل: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه (¬3). (ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار، فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم، كما خَسّسَ كتاب الفجار بقوله: 18 - {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}) (¬4) قال مقاتل: يعني المطيعين لله (¬5). واختلفوا في تفسير "عليين": فقال ابن عباس (في رواية الوالبي (¬6)): هو الجنة (¬7). وقال في رواية عطية: هي السماء (¬8). (وقال في رواية عطاء: هي ¬

_ (¬1) نقلًا عن الزجاج: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 299. (¬2) {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}. (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 460، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 260، ولم أعثر على قوله في تفسيره. (¬4) ما بين القوسين نقلًا عن "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 299. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "الوسيط" 4/ 447، "فتح القدير" 5/ 402، وقد سبق بيان معنى الأبرار في سورة الانفطار: 13. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "جامع البيان" 30/ 102، "النكت والعيون" 6/ 229، "معالم التنزيل" 4/ 460، عن عطاء عن ابن عباس، وكذا في "زاد المسير" 8/ 204، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 260، "لباب التأويل" 4/ 361، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519. (¬8) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 103، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 260، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519.

السماء الرابعة (¬1)) (¬2) وقال قتادة (¬3)، ومقاتل (¬4): هي قائمة العرش اليمنى فوق السماء السابعة. وقال الضحاك: هي سدرة المنتهى (¬5). وقال مجاهد: في السماء السَابعة (¬6) (هذا قول المفسرين) (¬7). وأما أهل اللغة والمعاني، فقال الفراء: يعني ارتفاعًا بعد ارتفاع لا غاية له (¬8). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 98، من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس. وله رواية في أنها السماء السابعة. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 452، "التفسير الكبير" 31/ 98. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 356، "جامع البيان" 30/ 102، "معالم التنزيل" 4/ 460 "المحرر الوجيز" 5/ 452، "زاد المسير" 8/ 204، "التفسير الكبير" 31/ 98، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 260، "الدر المنثور" 8/ 448، وعزاه أيضا إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) "تفسير مقاتل" 232/ أ، "زاد المسير" 8/ 204، وعبارته فيهما: قال لفي ساق العرش، "التفسير الكبير" 31/ 98. (¬5) المرجعان السابقان عدا "تفسير مقاتل"، وانظر: "جامع البيان" 30/ 102، "النكت والعيون" 6/ 229، "معالم التنزيل" 4/ 460، "المحرر الوجيز" 5/ 452، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 260، "الدر المنثور" 8/ 448، مطولًا وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 402. (¬6) "تفسير الإمام مجاهد" 712، "جامع البيان" 35/ 101، "زاد المسير" 8/ 204، "الجامع الأحكام القرآن" 19/ 260. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "معاني القرآن" 3/ 247، بنصه.

وقال الزجاج: أعلى (¬1) الأمكنة (¬2). وقال غيرهما: هي مراتب عالية بعضها فوق بعض محفوفة بالجلال قد عظمها الله بما يدل على عظم شأنها (¬3). وأما إعراب {عليين} فقال الفراء: إذا جمعت جمعًا (¬4) لا يذهبون فيه إلى أن له بناءً (¬5) من واحد، واثنين -قالوا- في المؤنث، والمذكر بالنون، لأنه جمع لما لا يحد واحده نحو ثلاثون، وأربعون، وكذلك قول الشاعر: قد رَوِيتْ إلا دُّهَيْدهيْنا ... قُلَيِّصاتٍ وَأُبَيْكرِينْا (¬6). ¬

_ (¬1) في (أ): أعلى. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 299. (¬3) ورد بنحوه في "التفسير الكبير" 31/ 98 وعزاه إلى آخرين، كما ورد معناه في "لسان العرب" 15/ 94: مادة: (علا). قال: وقيل: أراد أعلى الأمكنة وأشرف المراتب وأقربها من الله في الدار الآخرة، وقال ابن كثير: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519 قال الطبري: والصواب أن يقال في ذلك كما قال جل ثنائُه: إن كتاب أعمال الأبرار لفي ارتفاع إلى حد قد علم الله جل وعز منتهاه، ولا علم عندنا بغايته غير أن ذلك لا يقصر عن السماء السابعة لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. انظر: "جامع البيان" 30/ 103. (¬4) وهذا قول العرب، قاله الفراء في: معانيه: 3/ 247. (¬5) غير واضحة في: ع. (¬6) ورد البيت في "معاني القرآن" الفراء: 3/ 247 برواية الدهيدهينا بدلًا من دهيدهينا، وانظر: مادة: (دهده) في: "تهذيب اللغة" 5/ 357، "الصحاح" 6/ 2232، "لسان العرب" 3/ 490، "المخصص" لابن سيده: م 2/ 7: 22 و61 وفيه، قد رويت غير الدهيدهبنا. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 300، برواية قد شربت الادهيدهبنا، "جامع البيان" 30/ 103 برواية: الدهيدهبنا، كتاب سيبويه: 3/ 494. قال البغدادي في "الخزانة" 3/ 410 وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعرف قائله، وفي جميع المراجع السابقة لم ينسب.

فجمع بالنون؛ لأنه جمع ليس واحده محدودًا معلوم (¬1) العدد (¬2). وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم، كإعراب الجمع؛ لأنه لفظ الجمع، كما نقول: هذه قِنَّسْرون، ورأيت قنّسرين (¬3). وقال أبو الفتح الموصلي: "عِلّيِيّنَ" جمع "عِلِّيّ" وهوَ فِعِّيْل من العُلُوّ، وكأنه مما كان سبيله أن يكون عِلّيّة، فيُذهب بتأنيثه إلى الرِّفْعَة والنَّبَاوة كما قالوا: للغرفة: عِلّية (¬4)؛ لأنها من العُلُوّ فلمَّا حذفت الهاء من "علِّىّ" عوضوا منها الجمع، بالواو، والنون، كما قلنا في أرضين (¬5)، وقدم تقدم القول في هذا الكتاب (¬6). 20 - وقوله (تعالى) (¬7): {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (ليس بتفسير "عليين" (¬8)، والكلام كما ذكرنا فيما تقدم. ¬

_ = موضع الشاهد: دُهَيْدهينا فكأنه حَقَّر دهاوِر فردّه إلى الواحد وهو دَهْداده وأدخل الياء، والنون، فجمعه، لأنه أراد العدد الذي لا يُحَدُّ، على أَنَّ القياس: دُهَيْدِهات، وَأُبَيْكرات. المعنى: الدَّهداه: حاشية الإبل. وقُلَيّصات، جمع قُلَيِّص، وهو تصغير قَلُوص وهي الناقة الشابة، وأبيكرين: جمع أبيكر، وهو تصغير أَبْكُر وهذا جمع بَكْرٍ، وهو في الإبل بمنزلة الشاب في الناس. شرح أبيات "معاني القرآن" 364. (¬1) في (أ): وحدود لمعلوم. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 247. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 300. (¬4) في (أ): عليية. (¬5) "سر صناعة الإعراب" 2/ 625 - 627 نقله عنه باختصار. (¬6) راجع في ذلك: المرجع السابق: 2/ 613 - 616. (¬7) ساقط من (ع). (¬8) قال النحاس: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)} قطع كاف. "القطع والائتناف" 2/ 796، وانظر: "منار الهدى" الأشموني: 422.

قوله كتاب مرقوم (¬1)) (¬2) وهو يحتمل تأويلين: أحدهما: أن الكتاب المرقوم كتاب أعمالهم (¬3). والثاني: أنه كتابه في عليين كتب هناك مَا أعد الله لهم من الكرامة والثواب (¬4). وهو معنى قول مقاتل: مكتوب (¬5) لهم بالخير في سَاق العرش (¬6). وروي عن ابن عباس أنه قال: هو مكتوب في لوح من زبرجده (¬7) معلق تحت العرش (¬8). ¬

_ (¬1) راجع آية: 9 من هذه السورة. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد هذا القول من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 460، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "التفسير الكبير" 31/ 98، وورد معناه عن عطية في "الكشف والبيان" ج 13/ 55/ ب. (¬4) ورد هذا القول من غير عزو في "التفسير الكبير" 31/ 98. ونصه "أنه كتاب موضوع في عليين كتب فيه ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب". (¬5) مكتوب: كررت في نسخة: أ. (¬6) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 232/ أ، "الكشف والبيان" ج 13/ 55/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 460. (¬7) زبرجده: الزَّبرجد: جوهر معروف -قاله الجوهري- "الصحاح" 2/ 480: مادة: (زبرجد)، انظر: "القاموس المحيط" 1/ 296: مادة: (زبرجد). وفي اللسان: الزَّبرجد: الزُّمزُّد. 3/ 194: مادة: (زبرجد). الزبرجد حجر يشبه الزمرد، وهو ألوان كثيرة، والمشهور منها الأخضر المصري، والأصفر القبرسي. "الوافي" للبستاني: 254 - لم أجد تعريفًا جيدًا إلا عند الوافي- وبقية المراجع تذكر أنه حجر معروف. (¬8) ورد بنحو قوله في "الكشف والبيان" ج 13/ 55/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 460، =

21

وقال أهل المعاني (¬1): هو كتاب مرقوم، بما يقر أعينهم، ويوجب سرورهم وذلك بالضد من رقم كتاب الفجار؛ لأنه بما يسؤهم، ويسحت أعينهم. ويدل على هذا المعنى قوله: 21 - {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} يعني: الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب (¬2). ومن قال إنه كتاب الأعمال قال: يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة، كرامة للمؤمنين (¬3). وقوله (¬4) تعالى: {يَنْظُرُونَ} (¬5) أي إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة (¬6). ¬

_ = "التفسير الكبير" 31/ 98، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 260، "لباب التأويل" 4/ 361، وقد ورد قوله في المصادر السابقة عند تفسير قوله: "لفي عليين" إلا في "التفسير الكبير". (¬1) ورد بنحوه في "التفسير الكبير" 31/ 98 وقد عزاه إلى آخرين. (¬2) ورد معنى هذا القول عن: ابن عباس، والضحاك، وابن زيد. انظر: "جامع البيان" 30/ 104، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "البحر المحيط" 8/ 442، "فتح القدير" 5/ 402. وذهب إليه السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 458، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج: 13/ 56/ أ. (¬3) قال بذلك عطية وعبارته: أعمالهم في كتاب الله عند الله في السماء. "الكشف والبيان" ج: 13/ 55/ ب. (¬4) في (أ): قوله. (¬5) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}. (¬6) وهو قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 262، "البحر المحيط" 8/ 442، وول قال الثعلبي في "الكشف والبيان" ج: 13/ 56/ أ.

وقال مقاتل: ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون (¬1). (قوله تعالى): {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} قال: إذا رأيتهم عرفت أنهم أهل نعمة مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض (¬2). قال عطاء: وذلك أن الله -تعالى- زاد في جمالهم، وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف (¬3). وتفسير النضرة قد سبق عند قوله: "ناضرة" (¬4). قوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} (¬5) قال الليث: الرَّحِيق الخَمْر (¬6)، وأنشد لحسان: بردى (¬7) يُصَفّقُ، بالرَّحِيِق السَّلْسَلِ (¬8) ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 233/ أ، "الكشف والبيان" ج 13: 56/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 461، "زاد المسير" 8/ 205 "التفسير الكبير" 31/ 99، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 262، "البحر المحيط" 8/ 442 وعبارته عند: إلى أهل النار. (¬2) وبمثل قوله قال الطبري في "جامع البيان" 30/ 105، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 458، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 461، "زاد المسير" 8/ 205، "لباب التأويل" 4/ 361. (¬3) "التفسير الكبير" 31/ 100. (¬4) انظر: سورة القيامة: 22. (¬5) يسقون من رحيق مختوم. (¬6) "تهذيب اللغة" 4/ 37: مادة: (رحق)، ولم ينشد لحسان. (¬7) في (أ): بردًا (¬8) صدر البيت: * يَسْقونَ من وَرَدَ البَريص عليهم * وقد ورد البيت في: ديوانه: 180 دار صادر، "لسان العرب" 10/ 202: مادة: (صفق)، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 300 برواية بردًا، "جامع البيان" 30/ 105، =

وقال أبو عبيدة (¬1)، والمبرد (¬2)، (والزجاج (¬3)) (¬4): الرحيق من الخمر مَالا غش فيه، ولا شيء يفسده. ونحو هذا قال المفسرون في الرحيق أنه: الخمر (¬5). قوله تعالى: {مَخْتُومٍ} قال أبو عبيدة (¬6)، والمبرد (¬7)، (والزجاج (¬8)) (¬9) يعني الذي له ختام، ¬

_ = "النكت والعيون" 6/ 230، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "التفسير الكبير" 31/ 100، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 263، "روح المعاني" 30/ 75. معنى البيت: البريص: نهر بدمشق. وقوله بردى: أراد ماء بردى، وهو نهر في دمشق، ويروى بردًا أي ثلجًا أي باردًا، يصفق: يمزج، الرحيق: الخمر. السلسل: اللينة السهلة الدخول في الحلق. شرح ديوان حسان: وضعة عبد الرحمن البرقوقي: 362. (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 289. (¬2) "فتح القدير" 5/ 402. (¬3) "معانى القرآن وإعرابه" 5/ 305. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) قال بذلك: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، والحسن، ومقاتل، وابن مسعود. انظر: "جامع البيان" 30/ 105 - 106، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519، وعزاه الماوردي إلى جمهور المفسرين: "النكت والعيون" 6/ 230، وكذلك ابن الجوزي: "زاد المسير" 8/ 205. وانظر: "بحر العلوم" 3/ 458، "معالم التنزيل" 4/ 461، وهناك قول آخر: قال الحسن: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، "النكت والعيون" 6/ 230، "زاد المسير" 8/ 205. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 190، ونص له. (¬7) "التفسير الكبير" 31/ 100. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 300 - 301. (¬9) ساقط من (أ).

26

أي عاقبة، وأنشد أبو عبيدة: مَّمّا يِفَتّق في الحانوتِ ناطِفُها ... بالفُلفُل الجَوْنِ (¬1) والرُّمَّان مختومٌ (¬2) أي عاقبة طعم هذا الشراب -ما ذكرنا-. وروى عن عبد الله في مختوم: ممزوج (¬3)، وهو معنى وليس بتفسير، لأن الختم لا يكون تفسيره المزج ولكن لما كان له عاقبة بريح المسك، فسره بالممزوج، لما يوجد معه من ريح المسك، ولو لم يمازجه لم يعلق به ريحه. وقال مجاهد: مختوم: مطين (¬4)، كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين ويكون المعنى على هذا: أنه ممنوع من أن تمسَّه يد إلى أن ينفك ختمه للأبرار. 26 - ثم فسر المختوم بقوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} (¬5) ¬

_ (¬1) في (أ): الجوز. (¬2) لم ينشد أبو عبيدة في مجازه بيت الشعر، وإنما أورد صاحب الحجة قول أبي عبيدة، ثم أتبعه بيت القصيد لابن مقبل، انظر: "الحجة" 6/ 387 وقد ورد البيت منسوبًا إلى ابن مقبل في: ديوان ابن مقبل: 268 براوية "في النَّاجُودِ نَاطِلُهَا" بدلًا من "الحانوت ناطِفها"، "الحجة" 1/ 292 - 294 - ج 6/ 387، "المحرر الوجيز" 5/ 453 برواية "الجوز" بدلا من "الجون"، "النكت والعيون" 6/ 230 غير منسوب، وذكرته تلك المراجع عند تفسير قوله ختامه مسك ومعناه: ترقرف: أي تتلألأ. الناجود: رواق الخمر الذي تصفى وتعتق منه. الناطل: مكيال الخمر. الجون: بمعنى الأسود هاهنا. والمعنى: آخر ما تجد من طعم هذه الخمر هو طعم الفلفل والرمان، أي ختامها طعم الفلفل والرمان. (¬3) "النكت والعيون" 6/ 230، "زاد المسير" 8/ 205، "التفسير الكبير" 31/ 100، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 263، "الدر المنثور" 8/ 451، وعزاه إلى ابن المنذر. (¬4) "الكشف والبيان" ج 13: 56/ أ، "فتح القدير" 5/ 402. (¬5) {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.

أي آخر طعمه ريح المسك، وهذا قول علقمة (¬1)، وأبي روق (¬2)، (والضحاك (¬3)) (¬4)، وسعيد بن جبير (¬5)، (ومقاتل (¬6)) (¬7)، وقتادة (¬8)، (والحسن (¬9)) (¬10) قالوا: عاقبته ومقطعه، وريحه (وطعمه (¬11)) مسك إذا رفع الشارب فاه من أخر شرابه، وجد ريحه كريح المسك. وهذا اختيار جميع أهل المعاني (¬12)، قالوا: ختامه: عاقبته ¬

_ (¬1) ورد قوله في "التفسير الكبير" 31/ 100، كما ورد معناه أيضًا في "معاني القرآن" للفراء: 3/ 248، "حجة القراءات" 755. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "جامع البيان" 30/ 106، "التفسير الكبير" 31/ 100، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى قوله في "المحرر الوجيز" 5/ 453، "التفسير الكبير" 31/ 100، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 263، "الدر المنثور" 8/ 451 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 402، "تفسير سعيد بن جير" 369. (¬6) "التفسير الكبير" 31/ 100. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 356، "جامع البيان" 30/ 106، "الكشف والبيان" ج 13: 56/ أ، "التفسير الكبير" 31/ 100، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519، "الدر المنثور" 8/ 451 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (¬9) "جامع البيان" 35/ 107، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 519، "تفسير الحسن البصري" 2/ 406. (¬10) ساقط من (أ). (¬11) ساقط من (أ). (¬12) ورد معنى هذا القول عن: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 248 قال: إن أحدهم إذا شرب وجد آخر كأسه ريح المسك. وعن أبي عبيدة قال: ختامه عاقبته.

(وما) (¬1) يتختم به. (والمعنى: إنهم إذا شربوا هذا الرحيق ففنى (¬2) ما في الكأس وانقطع الشرب انختم ذلك بطعم المسك ورائحته) (¬3). (والمعنى لذاذة (¬4) المقطع (¬5)، وذكاء الرائحة وأرجها مع طيب الطعم) (¬6). والختام آخر كل شيء، ومنه يقال: ختمت القرآن، والأعمال بخواتيمها، ونحو ذلك الخاتَم والخاتِم، وهو قراءة علي -رضي الله عنه- (¬7)، (واختيار الكسائي (¬8) فإنه يقرأ خَاتَمُهُ مِسكٌ أي آخره، كقوله: {خاتم النبيين} (¬9). قال الفراء: وهما متقاربان في المعنى (¬10) إلا أن الخَاتِم الاسم، ¬

_ = "مجاز القرآن" 2/ 290، وعن الزجاج قال والمعنى أنهم إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس وانقطع الرب انختم ذلك بطعم المسك ورائحته. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 301. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): بقى. (¬3) ما بين القوسين قول الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 300 - 301. (¬4) في (أ): ارادَه. (¬5) في (أ): المطعم. (¬6) ما بين القوسين من قول أبي علي من: "الحجة" 6/ 387. (¬7) وردت قراءة علي -رضي الله عنه- في "معالم التنزيل" 4/ 461، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "التفسير الكبير" 31/ 100، "البحر المحيط" 8/ 442. (¬8) قرأ الكسائي وحده بفتح الخاء والتاء والألف بينهما. وقرأ الباقون خِتَامُهُ مِسْك بكسر الخاء والألف بعد التاء. انظر: كتاب "السبعة" 676، "الحجة" 6/ 386 - 387، "حجة القراءات" 755، "الكشف عن وجوه القراءات" 2/ 366، "المهذب" 2/ 327. (¬9) ما بين القوسين نقله عن أبي علي، انظر: "الحجة" 6/ 387. (¬10) يعني القراءة بالخاتم والختام.

26

والختام المصدر نحو قولهم هو: كريم الطباع والطابع (¬1). وقال عبد الله: خلطه مسك (¬2). وقال مجاهد: طينه مسك (¬3)، وهو قول ابن زيد، قال: ختامه عند الله مسك، وختامها اليوم في الدنيا طين (¬4). 26 - ثم رغب فيه فقال: (قوله تعالى) (¬5): {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، يقال: نَفِسْت عليه الشيء أنفسه نفاسهَ إذا ضننت به ولم تحب أن يصير إليه (¬6). والتنافس: تفاعل منه كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به دون صَاحبه وهو تمني كل واحد من النفيسين أن يكون له (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 248 بتصرف. (¬2) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 106، "معالم التنزيل" 4/ 461، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 263، "الدر المنثور" 8/ 451 وعزاه إلى الفريابي والطبراني والحاكم والبيهقي، "المستدرك" 2/ 517، كتاب التفسير: تفسير سورة المطففين: وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) ورد قوله في: تفسير مجاهد: 712 وعنه برواية أخرى طيبه مسك، "جامع البيان" 30/ 107، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 520 وعنه طيبه مسك. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 461، "المحرر الوجيز" 5/ 453. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) نقله عن "تهذيب اللغة" 13/ 9: نفس وهو من قول الأصمعي، وانظر: "لسان العرب" 6/ 238. (¬7) وهذا القول بمعنى ما ذكره الثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 57/ أ، قال، وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتتمناه ويريده كل واحد منهم لنفسه، وينفس به على غيره أي يضن.

27

(والمعنى: وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله) (¬1). وهذا معنى مَا ذكره المفسرون (¬2). 27 - قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}، أي مَا يمزج به ذلك الشراب من تسنيم، وهو اسم عين في الجنة. (قاله عبد الله (¬3)) (¬4): وهو قول أكثر المفسرين (¬5). وروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سئل عن قوله: "تسنيم"، فقال: هذا مما يقول الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من قول الثعلبي انظر: المرجع السابق: ج 13/ 57/ ب. (¬2) وممن قال بمعنى ذلك من المفسرين: المقاتلان، وعطاء، وزيد بن أسلم، ومجاهد، وأبو بكر بن عياش، والكلبي انظر: "جامع البيان" 30/ 108، "بحر العلوم" 3/ 458، "الكشف والبيان" ج 13/ 56/ ب، "النكت والعيون" 6/ 231، "زاد المسير" 8/ 206، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 264، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 520. (¬3) "جامع البيان" 30/ 108، "النكت والعيون" 6/ 231، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "زاد المسير" 8/ 206، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 264، "البحر المحيط" 8/ 442، "الدر المنثور" 8/ 452، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن المبارك، وسعيد ابن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) منهم: مسروق، ومالك بن الحارث، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وحذيفة بن اليمان، والحسن، وأبو صالح، وعطاء. "جامع البيان" 30/ 109 - 110، "النكت والعيون" 6/ 231، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "الدر المنثور" 8/ 452 وعزاه إلى ابن المنذر، "كتاب البعث" للبيهقي: 209: رقم 330. (¬6) ورد قوله في "التفسير الكبير" 31/ 101، "لباب التأويل" 4/ 362، ووردت هذه =

ونحو هذا قال الحسن: خصايا أخفاها الله لأهل الجنة (¬1). وعلى هذا لا يعرف له اشتقاق، وهو اسم معرفة كالتنعيم (¬2) (¬3). وذكر أهل المعاني، وجماعة من المفسرين اشتقاقه، قال مقاتل: هو مَا يتسنم (فينصب) (¬4) عليهم انصبابًا من فوقهم (¬5). (وهو قول مجاهد (¬6)) (¬7). وقال أهل المعاني: {مِنْ تَسْنِيمٍ} (أي يتنزل عليهم من معَالٍ) (¬8) و (تَتسنمُ (¬9) عليهم من فوق الغرف) (¬10). ¬

_ = الرواية بنصها عن يوسف بن مهران بدلًا من ميمون بن مهران في "الكشف والبيان" ج 13/ 57/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 462، "الدر" 8/ 452 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وذكر في "الوسيط" ميمون بن مهران: 4/ 449. (¬1) "جامع البيان" 30/ 109، "التفسير الكبير" 31/ 101، "الدر المنثور" 8/ 451، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، "تفسير الحسن البصري" 2/ 406. (¬2) التَّنْعِيْم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرِف، منه يحرم المكيون بالعمرة. "معجم البلدان" 2/ 49، "معجم ما استعجم" للبكري: 1/ 321. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" ج 13/ 57/ أ. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "تفسير مقاتل" 232/ ب، "زاد المسير" 8/ 206، وبمثله قال الكلبي انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 339. (¬6) "تفسير الإمام مجاهد" 713 وعبارته: التسنيم يعني تسنيم يعلو شراب أهل الجنة، "المحرر الوجيز" 5/ 453. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) ما بين القوسين قول الفراء: "معاني القرآن" 3/ 249. (¬9) تنسم، هكذا وردت عند الزجاج في افسخة المطبوعة، أما المخطوط فقد وردت بمثل ما أثبته وبمثل ما جاء عن الواحدي، راجع ذلك: "معاني القرآن وإعرابه" 27/ أ. (¬10) ما بين القوسين قول الزجاج: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 301.

28

يقال: سنمتهم العين تسنيمًا، إذا أجريتها عليهم من فوقهم. وموضوع هذه الحروف على هذا الترتيب (للعُلو، والارتفاع، ومنه سنام البعير. وتسنمت الحائط، إذا علوته) (¬1). وهذا معنى قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح: تسنيم يعلو عليهم من فوقها (¬2). 28 - (وقوله (¬3) تعالي) (¬4): {عَيْنًا} (¬5) في انتصابه وجوه: إن جعلنا "التسنيم" اسمًا للماء، فـ"عينًا" تنتصب على وجهين، أحدهما: أعْني عينًا. والثاني على الحال، والقطع؛ لأن "تسنيم" معرفة، وعينًا نكرة، وإن جعلنا التسنيم مشتقًا من السنام انتصب "عينًا" على أنه مفعول له، كما قال: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا} [البلد: 14 - 15] ويجوز أن يكون منصوبًا بقوله "يسقون عينًا"، أي من عين. وهذا قول الفراء (¬6) والزجاج (¬7)، (والأخفش) (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين تناول المعنى اللغوي انظر: مادة: (سنم) في كل من: "تهذيب اللغة" 13/ 115، "مقاييس اللغة" 3/ 107، "لسان العرب" 12/ 306. (¬2) "جامع البيان" 30/ 108 قال: تسنيم يعلو. (¬3) في (أ): قوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬5) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 249. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 301. (¬8) "معاني القرآن" 2/ 734 - 735. (¬9) ساقط من (أ).

29

(قوله تعالى) (¬1): {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (كقوله {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (¬2) -وقد مر (¬3). قال عبد الله: يشرب بها المقربون) (¬4) صرفًا، ويمزج لأصحاب اليمين (¬5). ونحو ذلك قال مالك بن الحرث (¬6) (¬7)، ومقاتل (¬8) 29 - وقوله (تعالى) (¬9) {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} (¬10)، يعني كفار ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) سورة الدهر: آية 6، الشاهد قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}. (¬3) راجع سورة الدهر آية: 6. (¬4) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬5) "جامع البيان" 30/ 108 بنحوه، "الكشف والبيان" ج 13: 57/ أ، "النكت والعيون" 6/ 231، "معالم التنزيل" 4/ 462، "المحرر الوجيز" 5/ 453، "زاد المسير" 8/ 206، "لباب التأويل" 4/ 362، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 520. (¬6) مالك بن الحرث -الحارث- السُّلَمِيُّ الرَّقّيُّ، روى عنه أبيه الحارث السلمي وعنه منصور بن المعتمر، ثقة، مات سنة 594. انظر: "كتاب الثقات" 7/ 464، "جامع التحصيل" 334: ت 724، "تهذيب الكمال" 27/ 129: ت 5732. ملاحظة تذكر مراجع ترجمة أن اسم أبيه الحارث وليس الحرث -ولعل ذلك راجع إلى الإملاء في كتابة الحرف نحو معوية، وسفين، أي معاوية وسفيان. (¬7) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 108. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله، والذي ورد عنه في تفسيره، قال يشربون الخمر من ذلك الماء وهم أهل جنة عدن وهي أربعة جنان وهي قصبة الجنة ماء تسنيم يخرج من جنة عدن، والكوثر، والسلسبيل. "تفسير مقاتل" 232/ ب. (¬9) ساقط من (ع). (¬10) {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}.

30

قريش (¬1). {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، يعني أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل: عَمَّار (¬2)، وخَبَّاب (¬3)، وبلال (¬4) وغيرهم. {يَضْحَكُونَ} على وجه السخرية (¬5) منهم. 30 - وقوله (¬6): {يَتَغَامَزُونَ} (¬7) (يتفاعلون من الغمز، وهي الإشارة بالجَفنِ، والحَاجبِ، ويكون الغمز بمعنى العيب، غمزه إذا عابه، وما في فلان غميزة، أي مَا يعاب به (¬8)). والمعنى أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم. 31 - {وَإِذَا انْقَلَبُوا} (¬9) يعني الكفار إلى أهلهم، {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} معجبين بما هم فيه، يتفكهون بذكرهم. قاله الفراء (¬10)، ومقاتل (¬11) ¬

_ (¬1) قال بذلك الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 301، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 57/ ب. (¬2) تقدم ترجمته في سورة النساء. (¬3) تقدم ترجمته في سورة النحل. (¬4) تقدم ترجمته في سورة النحل. (¬5) وبنحو من هذا القول جاء في "بحر العلوم" 3/ 458، و"الكشف والبيان" ج 13/ 57/ ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 462، "الكشاف" 4/ 197، "زاد المسير" 8/ 208، "التفسير الكبير" 31/ 102، "لباب التأويل" 4/ 362. (¬6) في (أ): قوله. (¬7) {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}. (¬8) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة": 8/ 55 - 56: مادة: (غمز)، وانظر: "لسان العرب" 5/ 388، 390: مادة: (غمز). (¬9) {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 249 واللفظ للزجاج. (¬11) لم أعثر على قوله.

32

(والزجاج (¬1) (¬2)). وتفسير الفاكهة -قد تقدم (¬3) - 32 - {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} (¬4) رأوا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذاهبين إليه. {قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} 33 - قال الله (تعالى (¬5)): {وَمَا أُرْسِلُوا} (¬6) يعني الكفار، {عَلَيْهِمْ} على الذين آمنوا {حَافِظِينَ} يحفظون عليهم (أعمالهم) (¬7) {فَالْيَوْمَ} (¬8) يعني في الآخرة. {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} قال المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعدائهم وهم يعذبون في النار فضحكوا منهم، كما ضحكوا هم في الدنيا منهم (¬9). قال كعب: إن بين أهل الجنة، وأهل النار كُوى (¬10)، لا يشاء رجل ¬

_ (¬1) "معاني القرآن واعرابه" 5/ 301 (¬2) ساقط من (أ) (¬3) وقد تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] ومما جاء في تفسيرها: عن ابن عباس: ناعمون، وقال قتادة، ومقاتل: أي معجبون، ولكل منهما أصل في اللغة، فمن قال فاكهين: ناعمين، فأصله من الفكيهة، والفاكهة، وهي المزاج والكلام الطب. ومن قال الفاكهة المعجب: فإن العرب تقول: فكهنا من كذا، أي تعجبنا. (¬4) {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}. (¬9) فمن قال بنحو ذلك: ابن عباس، وسفيان. انظر: "جامع البيان" 30/ 111، "إعراب القرآن للنحاس" 2/ 184. (¬10) الكَوّةُ: نقب البيت، والجمع كواء بالمد، وكِوى أيضًا مقصورًا، والكُوّه بالضم لغة، وتجمع على كوى، "الصحاح" 6/ 2478: مادة: (كوى).

35

من أهل الجنة النظر إلى عدوه من أهل النار إلا فعل (¬1)، وهو قول مقاتل (¬2). وقال أبو صَالح: يقال لأهل النار وهم فيها أخرجوا، ويفتح لهم أبوابها فإذا رأوها قد فتحت اقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} (¬3). 35 - {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُو} إلى عذاب عدوهم 36 - (قوله تعالى) (¬4): {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (أي هل جوزوا بسخرتهم (¬5) بالمؤمنين في الدنيا) (¬6). ومعنى الاستفهام -هَاهنا- التقدير: و"ثوب" يعني أثيب، وهو فُعل ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 357، "جامع البيان" 30/ 111، "الكشف والبيان" ج 13: 57/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 462، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 266، "الدر المنثور" 8/ 453 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) "تفسير مقاتل" 233/ أ، "زاد المسير" 8/ 207 بمعنى ذلك، وقوله: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذبون، فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلمون أهل النار، ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها فتسد حينئذ الكوى. (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 462، "زاد المسير" 8/ 207، "التفسير الكبير" 31/ 103، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 266، "لباب التأويل" 4/ 362. (¬4) ساقط من (ع) (¬5) هكذا وردت في النسختين، بالإضافة إلى مصدر القول، وهو "معاني القرآن وإعرابه" المخطوط: 27/ أ، أما المطبوع فكتبت: بسخريتهم، وورد بمثل ذلك في "الوسيط" 4/ 450. (¬6) ما بين القوسين نقله عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 301 بنصه.

من الثواب، وهو مَا يثوب، أي يرجح على فاعله من جزاء مَا عمله من خير أو شر، والثواب يستعمل في المكافأة بالشر (¬1). أنشد أبو عبيدة: ألا أبلغ أبا حنش رسولًا ... فما لك لا تجيء إلى الثواب (¬2) وذكر بعض أهل المعاني وجهًا آخر في قوله: "هل ثوب" فقال (¬3): (هل) في موضع نصب بقوله "ينظرون" أي ينظرون أهل الجنة هل جوزي الكفار بفعلهم في الدنيا (¬4). (وقُرِىءَ "هل ثوب" بالادغام، والاظهار (¬5). وذكر سيبويه: إدغام (اللام) في (الثاء)، قال: وإدغامها حسن فيها؛ لأنه قد أدغم في الشين (¬6)، فيما أنشده. ¬

_ (¬1) من قول المبرد انظر: "التفسير الكبير" - 31 - 103. (¬2) ورد البيت غير منسوب في: "الأغاني" 12/ 248 ط. دار الكتب العلمية، ونسبه إلى كرب أخي شرحيل، وقيل سلمة بن الحارث. وانظر أيضًا: "التفسير الكبير" - 31 - 103 غير منسوب. (¬3) لا أعرف من القائل، ولم أعثر على مصدر لهذا القول. (¬4) انظر: "الدر المصون" 6/ 495، البيان في غريب "إعراب القرآن" لابن الأنباري: 2/ 502. (¬5) قرأ علي بن نصر بن هارون عن أبي عمرو: {هَلْ ثُوِّبَ} بإدغام اللام في الثاء، وكذلك يونس بن حبيب عن أبي عمرو، وحمزة، والكسائي. وقرأ الباقون بإظهار اللام. انظر: "الحجة" 6/ 289، "المبسوط" 404، "إتحاف فضلاء البشر" 435. (¬6) "كتاب سيبويه" 4/ 457، نقله عنه بالمعنى وباختصار، فقد بين سيبويه أن لام المعرفة تدغم في ثلاثة عشر حرفًا، لا يجوز فيها معهن إلا الإدغام، وكثرة موافقتها لهذه الحروف، واللام من طرف اللسان، وهذه الحروف إحدى عشر حرفًا، منها =

هل شيء يكفيك لائق (¬1) والشين أشدُّ تراخيًا عن "اللام" من "الثاء"، وإنما أدغمت فيها؛ لأنها تتصل مخارجها لتفشيها، والإظهار لتفاوت المخرجين) (¬2). (تمت) (¬3) ¬

_ = حروف اللسان، وحرفان يخالطان طرف اللسان، فلما اجتمع فيها هذا وكثرتها في الكلام لم يجز إلا الإدغام، والأحرف هي: النون، والراء، والدال، والتاء، والصاد، والطاء، والزاي، والسين، والظاء، والثاء، والذال، واللذان يخالطاها: الضاد، والشين؛ لأن الضاد استطالت لرخاوتها. (¬1) البيت لطريف بن تميم العنبري. والبيت كاملًا: تقول إذا استهلكت مالًا للذة ... فُكيهَةُ هَشَّ يكَفَّيْك لائقُ يريد هل شيء، فأدغم اللام في الشين. فذكر "هش" بدلًا من هل شيء. ومعنى البيت، استهلكت: أتلفت وأنفقت، وفكيهة: علم امرأة، واللائق: المحتبس الباقي، يقال: ما يليق بكفه درهم: أي ما يحتبس. والشاهد فيه: إدغام لام "هل" في الشين لاتساع مخرج الشين وتفشيها واختلاطها بطرف اللسان، واللام من حروف طرف اللسان، فأدغمت فيها لذلك، وإظهارها جائز؛ لأنهما من كلمتين مع انفصالهما في المخرج. انظر حاشية (5): "كتاب سيبويه" 4/ 458. كما ورد البيت في "شرح المفصل" لابن يعيش: 10/ 141 من غير نسبة، "لسان العرب" 10/ 334: مادة: (ليق) من غير عزو وبرواية: هل شيء. (¬2) ما بين القوسين نقله من "الحجة" 6/ 389. (¬3) ساقطة من (ع).

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق

1

تفسير سورة انشقت (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، قال المفسرون: انشقاقها من علامات القيامة (¬2)، وذكر ذلك في مواضع من القرآن (¬3). 2 - {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} قالوا: سمعت لربها وأطاعت في الانشقاق (¬4). من الأذن، وهو الاستماع للشيء، والإصغاء إليه، وأنشد ¬

_ (¬1) مكية بقول الجميع. انظر: "تفسير مقاتل" 233/ أ، "جامع البيان" 30/ 112، "بحر العلوم" 3/ 360، "الكشف والبيان" ج 13: 85/ أ، "زاد المسير" 8/ 208، "البحر المحيط" 8/ 443، "فتح القدير" 5/ 405. (¬2) عزاه ابن الجوزي إلى المفسرين في: "زاد المسير" 8/ 209، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 267، وبه قال الماوردي في: "النكت والعيون" 6/ 233، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 463، و"المحرر الوجيز" 5/ 456، "الكشاف" 4/ 197، "زاد المسير" 8/ 209، "لباب التأويل" 4/ 463، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 521. (¬3) نحو ما جاء في سورة الحاقة عند قوله تعالى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} 16، وسورة الفرقان: 25، وسورة الرحمن: 37. (¬4) قال بذلك: قتادة، وابن عباس، وسعيد، ومجاهد، والضحاك، والسدي. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 358، "جامع البيان" 30/ 113، "الدر المنثور" 8/ 455. وقال به أيضًا: السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 460، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج: 13/ 58/ أ، والما وردي في: "النكت والعيون" 6/ 233. =

3

أبو عبيدة (¬1) (¬2)، و (المبرد (¬3)، والزجاج (¬4) (¬5) قول قعنب: صُمُّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به ... وإذا ذُكِرْتُ بُسوءٍ أَذِنوا (¬6) وقوله: {حَقَّت} أي وحُقَّ لها أن تطيع ربها (¬7) الذي خلقها (¬8). 3 - (قوله) (¬9): {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} قال ابن عباس: تمد مد ¬

_ = وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 463، "المحرر الوجيز" 5/ 456، "زاد المسير" 8/ 209، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 267، "لباب التأويل" 4/ 363، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 521. (¬1) في (أ): أبو عبيد. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 291 ونسب بيت الشعر إلى رؤبة. (¬3) "التفسير الكبير" 31/ 104. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 303 (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ورد البيت أيضًا في: ديوان الحماسة (شرح التبريزي): 2/ 187 منسوبًا إلى قعنب. "لسان العرب" 13/ 10: مادة: (أذن)، "جامع البيان" 30/ 112، "النكت والعيون" 6/ 234، "زاد المسير" 8/ 209،"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 267، "البحر المحيط" 8/ 445، "فتح القدير" 5/ 406. معناه: صم .. إلخ: أي: هم صم، وأذنوا .. إلى آخر البيت: بمعنى استمعوا، والمعنى أنهم يميلون إلى ما يصل إلى آذانهم من الهجو فيه، ويرتاحون إليه، وينحرفون عما يصل إليها من المدح له، وينفرون منه. شرح ديوان الحماسة للتبريزي: 2/ 187 - 188. (¬7) في (أ): فيها، بدلاً من: ربها. (¬8) وهذا قول الضحاك، وقتادة، والسدي. انظر: "النكت والعيون" 6/ 234، "البحر المحيط" 8/ 445، "الدر المنثور" 8/ 455. (¬9) ساقط من (ع).

4

الأديم (¬1) ويزاد في سعتها كذا وكذا (¬2). قال (¬3) مقاتل: سويت كمد الأديم، فلا يبقى (¬4) عليها بناء، ولا جبل، إلا دخل فيها (¬5). 4 - {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} من الموتى، والكنوز (¬6). {وَتَخَلَّتْ} منها. قال الفراء: وجواب {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وما بعده كالمتروك؛ لأن المعنى معروف قد تردد في في القرآن معناه فعرف، وقد فسر جوابه فيما يقى الإنسان من ثواب أو عقاب، وكأن المعنى: إذا السماء انشقت يرى الإنسان الثواب والعقاب. وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} (¬7) الآية. ونحو هذا قال الزجاج: وجواب {إذا} يدل عليه قوله عز وجل: ¬

_ (¬1) الأديم: الجلد المدبوغ، والجمع أدم بفتحتين وبضمتين أيضًا، وهو القياس. "المصباح المنير" 1/ 15: مادة: (أدم). (¬2) ومعنى هذا القول ورد في: "الكشاف" 4/ 198، "زاد المسير" 8/ 209، "التفسير الكبير" 31 - 104 - 105، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 268 وعزاه أيضًا إلى ابن مسعود. (¬3) قال: مكرر في (ع). (¬4) في (أ): يبقا. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 461، "زاد المسير" 8/ 209، "فتح القدير" 5/ 406. (¬6) وإلى هذا ذهب الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 303.، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 460، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج 13: 58/ أ. وقد ضعف ابن عطية هذا القول بقوله: وهذا ضعيف؛ لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى. "المحرر الوجيز" 5/ 456. أما الألوسي فقال: والقول بأن "يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال" ينبغي أن يلغى، ولا يلتفت إليه. "روح المعاني" 30/ 79. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 250 بتصرف، وهو ما رجحه الطبري. انظر: "جامع البيان" 30/ 114، وهناك أقوال أخرى في جواب {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فليراجع في ذلك: "البيان في غريب إعراب القرآن" لابن الأنباري: 2/ 503.

{فَمُلَاقِيهِ} (¬1). المعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله (¬2). وقوله: {إِنَّكَ كَادِحٌ} ([..] (¬3) معنى الكدح في اللغة: السعي والدؤوب في العمل في باب الدنيا والآخرة) (¬4). وقال الليث: الكدح عمل الإنسان من الخير والشَّر (¬5). وقال أبو عبيدة: فلان يَكدَح في عيشه (¬6) أي يجهد، وأنشد (¬7) لابن مقبل: ومَا الدهر إلا تارتان فمنهما أَمُوت ... وأخرى أبتغي العيش أكدح (¬8) أي: وتارة أبتغي في طلب العيش وأدأب (¬9). قال الكلبي (¬10)، ¬

_ (¬1) سورة الإنسان: 6 (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 303. (¬3) ورد في (أ): لفظ: معناه. وهي زيادِة في الكلام. (¬4) ما بين القوسين من "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 304. (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 94: مادة: (كدح) بنصه، وانظر: "لسان العرب" 2/ 569: مادة: (كدح). (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 392. (¬7) أي الزجاج. (¬8) ورد البيت في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 304 برواية "فما الدهر" بدلًا من "ومَا الدهر"، " الكشف والبيان" ج 13: 58/ ب برواية: "هل العيش"، "زاد المسير" 8/ 210، "فتح القدير" 5/ 406، "روح المعاني" 30/ 79، أضواء البيان: 9/ 114. (¬9) من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 304. (¬10) "بحر العلوم" 3/ 460، "معالم التنزيل" 4/ 463، "فتح القدير" 5/ 406.

7، 8

(والضحاك) (1) (2): إنك عامل لربك عملًا. وقال مقاتل: سَاعٍ بعملك إلى ربك سعياً (3). وقوله (4): {فَمُلَاقِيهِ} قال أبو إسحاق: فملاق ربك. وقيل: فملاق عملك (5). والمعنى: ثواب عملك. 7، 8 - (قوله تعالى) (6): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} قال مقاتل: (لأنه) (7) يغفر ذنوبه، ولا يحاسب بها (8). وروت عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نوقش الحساب فقد هلك"، قلت: يا رسول الله، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}؟ قال: "ذلك العرض، ولكن من نوقش الحسَاب عُذب" (9). فمعنى قوله: {يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} أي تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها

_ (1) المراجع السابقة عدا "بحر العلوم". (2) ساقط من (أ). (3) "تفسير مقاتل" 233/ أ، "بحر العلوم" 3/ 460، "زاد المسير" 8/ 210. (4) في (أ): قوله. (5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 304 (6) ساقط من (ع). وتكرر ذلك مرارا في السورة والتي بعدها. (7) ساقط من (أ). (8) تفسير "الوسيط" 4/ 452. (9) أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 3/ 322 ح: 4939: كتاب التفسير: باب: 84، ولفظ البخاري عن عائشة: رضي الله عنها: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس أحد يحاسب إلا هَلك"، قالت: يا رسول الله -جعلني الله فِداءك- أليس يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}؟ قال: "ذاك العَرْض يُعْرضون، ومن نوقش الحساب هَلك". =

10

الله له، فهو الحساب اليسير (¬1). {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} في الجنة، يعني أزواجه من الحور العين، والآدميات، مغتبطاً قرير العين بما أوتي من الخير والكرامة. قاله ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3). 10 - {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} قال الكلبي: لأن يمينه مغلولة إلى ¬

_ = وانظر أيضًا: نفس المرجع: 4/ 198: ح: 6539، 6537: كتاب الرقاق، باب: 49. كما أخرجه مسلم في: صحيحه: 4/ 2204: ح: 2876: كتاب الجنة وهف نعيمها وأهلها: باب: إثبات الحساب. كما أخرجه الإمام أحمد في: المسند: 6/ 47. سنن الترمذي: 5/ 434، ح: 3327: كتاب تفسير القرآن: باب 76، وقال أبو عيسى: حديث حسن صحيح، نفس المرجع: 4/ 617، ح: 2426، كتاب صفة القيامة: باب: 5، وللجمع بين الآية وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما ذلك العرض) قال الحافظ ابن حجر: وجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب، ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب، وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض، وهو إبراز الأعمال وإظهارها، فيعرف صاحبها بذنوبه ثم يتجاوز عنه. فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لابن حجر: 11/ 402: كتاب الرقاق: باب 49، وانظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: للإمام محمد بن عبد الرحمن المباركفوري: 7/ 95 - 96 ح: 2543: باب: 5. (¬1) عزا الشوكاني هذا القول إلى المفسرين في: "فتح القدير" 5/ 406 - 407، وقال به ابن زيد، ومقاتل، انظر: "جامع البيان" 30/ 116، "بحر العلوم" 3/ 461. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 464، "زاد المسير" 8/ 210، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 270، "فتح القدير" 5/ 407. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في المراجع السابقة.

عنقه، وتكون يده اليسرى خلف ظهره (¬1). وقال مجاهد: تجعل يده وراء ظهره (¬2). وقال مقاتل: تخلع يده اليسرى فتكون وراء ظهره (¬3) (¬4). {فَسَوْفَ يَدْعُو} إذا قرأ كتابه قال: (يا ويلاه (¬5)، يا ثبوراه.) (¬6) كقوله {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]. {وَيَصْلَى سَعِيرًا} (يقال صلى (¬7) الكافر النار. قال الله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]) (¬8) وقرئ (¬9): "يُصلّى" بضم الياء وتشديد اللام (¬10). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 107، "فتح القدير" 5/ 407، كما ورد من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 464، الكشاف 4/ 198. (¬2) "تفسير مجاهد" 714، "جامع البيان" 30/ 117، "الكشف والبيان" ج 13: 59/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 464، "التفسير الكبير" 31/ 107، "الدر المنثور" 8/ 457، وعزاه إلى ابن المنذر. (¬3) التفسير "الوسيط" 4/ 453، أما الذي ورد عنه في تفسيره: 234/ أقوله: يشق صدره حتى يخرج قلبه من وراء ظهره من بين كتفيه .. (¬4) قول مقاتل قد كرر في: ع. (¬5) في (أ): ياودله. (¬6) ما بين القوسين قال به الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 304. (¬7) في (أ): أصلى. (¬8) ما بين القوسين نقله عن الفارسي: "الحجة" 6/ 390 بيسير من التصرف. (¬9) في (أ): قرء. (¬10) قرأ بذلك ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، ووافقهم ابن محيصن، والحسن وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وأبو جعفر "يَصْلَى" بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام من صلى. وقرأ عباس عن خارجة عن نافع: "ويَصْلى" خفيفة من أصليت. وقرأ عباس عن أبان عن عاصم مثله: ويُصْلَى بضم الياء خفيف. =

13

وقوله: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94] (¬1). 13 - (وقوله تعالى) (¬2): {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ} (¬3) يعني في الدنيا (¬4) {مَسْرُورًا} مستبشرًا باتباع هواه، وركوب ما منته نفسه من شهواته. 14 - قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} لن (¬5) يرجع إلى الآخرة (¬6) أي: لن يبعث. قال ابن عباس (¬7)، ومقاتل (¬8): حسب لا (¬9) يرجع إلى الله. والحور: الرجوع، والمحار: المرجع والمصير (¬10). أنشد أبو ¬

_ = انظر: "كتاب السبعة" 677، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 761، "الحجة" 6/ 390، حجة القراءات: 755 - 756، "الكشف" 2/ 367، الإتحاف: 436، تجبير التيسير: 198. (¬1) في (أ): تصلية جهنم. (¬2) ساقط من (ع). (¬3) {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}. (¬4) قاله قتادة. انظر: "جامع البيان" 30/ 118، وإليه ذهب الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 304، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج: 13: 59/ أ. (¬5) في (أ): أن. (¬6) وهو قول قتادة، وابن عباس، وسفيان، ابن زيد: "جامع البيان" 30/ 118، وبه قال القراء في: "معاني القرآن" 3/ 251، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 521. (¬7) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" ج: 13: 59/ أ، "المحرر الوجيز" 5/ 458، "التفسير الكبير" 31/ 108، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 522، "الدر المنثور" 8/ 457، وعزاه إلى ابن حاتم. (¬8) "تفسير مقاتل" 234/ ب، "بحر العلوم" 31/ 108، "التفسير الكبير" 31/ 108. (¬9) في (أ): ألا. (¬10) قال الليث: الحَوْر: الرجوع من الشيء إلى غيره، وكل شيء يتغير من حال إلى =

عبيدة (¬1) للبيد: ومَا المرءُ إلا كالشهاب وضوءه ... يحورُ رمَاداً بعد إذ هو سَاطِعُ (¬2) وأنشد أيضًا للمُنَحّل اليَشكُريّ: إذا كنت عاذلتي (¬3) فسيري ... نحو العراق ولا تَحُوري (¬4) قال الله تعالى: {بَلَى} (¬5) ليحورن، وليبعثن. قاله مقاتل (¬6)، ¬

_ = حال فإنك تقول حار يحور، والمحاورة مراجعة الكلام في المخاطبة. وأصل التحوير في اللغة من: حار يحور، وهو الرجوع، والتحوير: الترجيع. "تهذيب اللغة" 5/ 227: مادة: (حور). وانظر: "الصحاح" 2/ 638، "لسان العرب" 4/ 217، وكلاهما تحت مادة: (حور). (¬1) لم أجد في "مجاز القرآن" بيت لبيد المذكور، والمعزو إنشاده لأبي عبيدة. (¬2) ورد البيت في: ديوانه: 88، ط. دار صادر، كما ورد تحت مادة: (حور) في: "تهذيب اللغة" 5/ 227، "لسان العرب" 4/ 217، وانظر أيضًا: "الكشف والبيان" ج 13: 59/ أ، "النكت والعيون" 6/ 236، "زاد المسير" 8/ 211، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 271، "الدر المنثور" 8/ 458: وكلها برواية "وضوئه" بدلاً من "وضوءه"، عدا "زاد المسير" براوية "وضوؤه"، وقد عزاه السيوطي في: الدر إلى ابن عباس، وانظر: "روح المعاني" 30/ 81. ومعنى البيت: الشهاب: النار، يحور: يصير، ساطع: مشتعل. يقول كل امرئ يخبو بعد توقد: حين تدركه المنية، كالنار تكون ساطعة الضوء ثم تصبح رمادا. ديوانه: 88. انظر: "الشعر والشعراء" 404 - 405، "معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" 351: ت 644. (¬3) في (أ): عاذلي. (¬4) ورد البيت في: "الأصمعيات" تحقيق أحمد شاكر، وعبد السلام هارون: 58. (¬5) {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا}. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله؛ سواء في تفسيره، أو غيره من كتب التفسير التي بين يدي، وقد ورد بمثله من غير عَزو في: "الوسيط" 4/ 454.

15

(والفراء) (¬1) (¬2). 15 - ثم أستأنف (قوله تعالى): {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} قال الكلبي: بصيراً به من خلقه إلى أن بعثه (¬3) (¬4). وقال عطاء: بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء والخزي (¬5). قال (¬6) مقاتل: بصيراً متى يبعثه (¬7). وقال أبو إسحاق: كان به بصيرًا قبل أن يخلقه، عالماً بأن مرجعه إليه (¬8). 16 - قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} قال الكلبي: هي العمرة التي تكون في المغرب (¬9). وقال مقاتل: الشفق الذي يكون بعد غروب الشمس في الأفق قبل الظلمة (¬10). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 251 (¬2) ساقط من (أ) (¬3) في (أ): يبعثه. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 108، وورد بمثل قوله من غير عزو في: "الباب التأويل" 4/ 363، ولم أعثر على قوله في تفسير. (¬5) المرجع السابق (¬6) في (ع): وقال. (¬7) المرجع السابق (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 305 بنحوه. (¬9) "التفسير الكبير" 30/ 109. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد عند البغوي معزوًا إلى ابن عباس وأكثر المفسرين: "معالم التنزيل" 4/ 464، ومن غير نسبة في: "المحرر الوجيز" 5/ 485. =

وقال عكرمة: مَا بقي من النهار (¬1). وقال مجاهد: هو النهار كُلَه (¬2). هذا ما ذكر المفسرون في تفسير الشفق، وأهل اللغة على أن الحمرة من بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة (¬3). وهو قول الليث (¬4)، والفراء (¬5)، والزجاج (¬6)، (وعمرو عن أبيه) (¬7) (¬8) قالوا: الشفق الحمرة في السماء (¬9). ¬

_ = والذي ورد عنه في تفسيره: 234/ ب: قال: هو العمرة إلى أن تغيب. قلت: وهو معنى ما أورده الواحدي عنه. (¬1) "الكشف والبيان" ج 13: 59/ ب، "النكت والعيون" 6/ 237، "معالم التنزيل" 4/ 464، "زاد المسير" 8/ 212. (¬2) "تفسير مجاهد" 715، "جامع البيان" 30/ 119، "بحر العلوم" 3/ 461، "الكشف والبيان" ج: 13: 59/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 464، "المحرر الوجيز" 5/ 458، "زاد المسير" 8/ 212، "التفسير الكبير" 31/ 109، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 274، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 522. (¬3) في (أ): الأخيرة. (¬4) "تهذيب اللغة" 8/ 332: مادة: (شفق)، قال: الشفق الحمرة التي في المغرب من الشمس. (¬5) معاني القرآن: 3/ 251، بنحو من قول الليث. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 305، بنحو من قول الفراء. (¬7) "تهذيب اللغة" 8/ 332: مادة: (شفق)، والعبارة له التي نص عليها الإمام الواحدي. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) وقد حكي هذا القول: "المراد بالشفق الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس"، عن عامة المفسرين من الصحابة والتابعين وأهل اللغة، وعزاه إليهم كل من (أ) لثعلبي في: "الكشف والبيان" ج: 13: 59/ ب، وابن الجوزي في: "زاد =

وأصل موضوع هذه الحرف: لرقة الشيء، ومنه يقَال: شيء شفق لا تماسك له، لرقته؛ ولذلك يقال للرديء من الأشياء (¬1): شفق، وأشفق عليه إذا رق قلبه عليه، والشفقة رقة القلب (¬2). وأهل اللغة إذا فسروا "الشفق" قالوا: بقية ضوء الشمس وحمرتها, فيذكرون الحمرة كأنهم حققوا أن تلك الرقة من ضوء الشمس، وأن الغالب عليها الحمرة، (وإنما جعل غيبوبة الشفق وقتًا للعشاء الآخرة (¬3)، واعتبرت الحمرة فيه دون البياض؛ لأن البياض (¬4) يمتد وقته، ويطول لبثه، والحمرة لما كانت بِقية ضوء الشمس، ثم بعدت (¬5) الشمس عن الأفق ذهبت الحمرة). ¬

_ = المسير" 8/ 212، والفخر الرازي في: "التفسير الكبير" 13/ 109، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 273، والخازن في: "لباب التأويل" 4/ 364. ورجح هذا القول ابن قدامة في: المغنى: 1/ 382، كما عزاه الإمام النووي إلى أكثر أهل العلم، وقال أيضًا: والذي ينبغي أن يعتمد أن المعروف عند العرب أن الشفق الحمرة، وذلك مشهور في شعرهم ونثرهم. المجموع شرح المهذب: 3/ 35، 36، 42 - 43. (¬1) في (أ): الشيء. (¬2) انظر: مادة: (شفق) في: "تهذيب اللغة" 8/ 332، "مقاييس اللغة" 3/ 197, "الصحاح" 4/ 1501. (¬3) في (أ): الأخيرة. (¬4) والقول: إن الشفق هو البياض، إذ لا خلاف بين العلماء في دخول وقت العشاء بغيبوبة الشفق. قال به أبو حنيفة، والمزني، وزقر، وإليه ذهب أنس، وأبو هريرة, وبه قال الأوزاعي، وابن المنذر. انظر: "حلية العلماء في معرفة مذاهب العلماء" للقفال: 2/ 8، وانظر: "المغنى" 1/ 382. (¬5) في (أ): تغرب.

قال (¬1): سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ، كأنه الشفق، وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة) (¬2) هذا كلامه. قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: وما جمع، وضم، وحوى، ولفَّ. قاله مجاهد (¬3)، ومسروق (¬4)، والحسن (¬5)، (وأبو صالح (¬6) (¬7))، وأبو العالية (¬8)، (ورواية ابن أبي مليكة عن) (¬9) ابن عباس قال: ما جمع (¬10). واختيار (¬11) الفراء (¬12)، والزجاج (¬13)، (والمبرد (¬14)) (¬15)، ¬

_ (¬1) أي الفراء. (¬2) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "معاني القرآن" للفراء: 3/ 251 بتصرف. (¬3) "تفسير مجاهد" 715، "جامع البيان" 30/ 120 - 121، "النكت والعيون" 6/ 237، "معالم التنزيل" 4/ 465، "البحر المحيط" 8/ 447. (¬4) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523. (¬5) "جامع البيان" 30/ 120، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 276، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523، "فتح القدير" 5/ 408. (¬6) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) "جامع البيان" 30/ 119،"التفسير الكبير" 31/ 110، "الكامل" 3/ 1145. (¬11) في (ع): اختار. (¬12) "معاني القرآن" 3/ 251. (¬13) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 305. (¬14) "الكامل" 3/ 1145. (¬15) ساقط من (أ).

وأنشدوا (¬1): مُسْتَوْسِقات لَوْ يَجِدْنَ سائقاً (¬2) أي مجتمعات. ومنه الوَسْق في الطعام؛ لأنه مكيلة معلومة (¬3) تجمع قدرًا معلومًا (¬4)، والمعنى: جمع، وضم ما كان منتشرًا بالنهار في تصرفه، وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه (¬5). قال الليث: الوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت، وانضمت، والراعي يسقها: أي يجمعها (¬6). ¬

_ (¬1) البيت للعجاج، كذا جاء في حاشية كتاب "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 305، أما "لسان العرب" فقد نسبه إلى طرفة: 10/ 380، ديوان العجاج ملحقات مستقلة: 2/ 307، ولم أجده في ديوان طرفة، وصدره: إنَّ لنا قلائصاً حَقائقِاً (¬2) ورد البيت في: مادة: (وسق) في: "الصحاح" 4/ 1566، و"لسان العرب" 10/ 380، "مجاز القرآن" 2/ 291، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 305، "الكامل" 3/ 1145، "جامع البيان" 30/ 120، "الكشف والبيان" ج: 13: 60/ أ، "النكت والعيون" 6/ 237، "زاد المسير" 8/ 212، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 375، وهو مما استشهد به ابن عباس في: "الدر المنثور" 8/ 458، "روح المعاني" 30/ 81. (¬3) وقدرها: ستون صاعاً بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي خمسة أرطال وثلث. (وسق): في: "تهذيب اللغة" 9/ 236، "لسان العرب" 10/ 378. (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 236: مادة: (وسق). (¬5) ومعنى هذا القول ورد عن ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم، وقال القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 274. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله من غير عزو في: "لسان العرب" 10/ 380: مادة: (وسق)، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 274 - 275.

18

وقال (¬1) الكلبي: {وَمَا وَسَقَ} يقول: ما ساق من شيء إلى حيث يأوي (¬2). والوسق على هذا القول معناه: الطرد، (ومنه يقال للطريدة (¬3) من الإبل والغنم والحمر: وسقة) (¬4). روى عطاء عن ابن عبَّاس: {وَمَا وَسَقَ} يريد وما حمل (¬5). والوسق: يكون بمعنى الحمل، وكل شيء حملته فقد وسقته، ومعنى حمل في الليل: يعني ضم وجمع، أي ما أتى عليه الليل، وحمله في ظلمته، وذلك أنه يجلل الأشجار والجبال، والبحار، والأرض كلها، فإذا جللها فقد وسقها (¬6). 18 - قوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} قال أبو عبيدة: إذا تم (¬7). وقال الزجاج: اجتمع واستوى (¬8)، وقال الفراء: اتساقه: امتلاؤه واجتماعه، واستواؤه ليلة ثلاثة عشر، وأربعة عشر إلى ستة عشر، وهو افتعل من الوسق الذي هو الجمع (¬9). ¬

_ (¬1) بياض في: ع. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في (أ): للطريد. (¬4) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 9/ 234: مادة: (وسق). وانظر: مادة: (وسق) في: "الصحاح" 4/ 1566، "لسان العرب" 10/ 380. (¬5) "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 275. (¬6) انظر: مادة: (وسق) في كل من: "مقاييس اللغة" 6/ 109، "الصحاح" 4/ 1566، "لسان العرب" 1/ 379 - 380. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 291. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 305. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 251 بتصرف.

19

قال (ابن عباس (¬1) و) (¬2) المفسرون (¬3): إذا استوى، واجتمع , وتكامل، وتم، واستدار. كل هذا من ألفاظهم. 19 - قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} فيه قراءتان (¬4): فتح "الباء", وضمها، فمن فتح "الباء" قال: الخطاب لمحمد -صلى الله عليه وسلم-. والمراد بالطبق: السماء. وهو قول مسروق (¬5)، (والشعبي) (¬6) (¬7)، ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 121، "الدار المنثور" 8/ 458 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) وهو قول: قتادة، وابن زيد، وسعيد، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، والضحاك، ومسروق، وأبي صالح. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 358، "جامع البيان" 30/ 122، "اتفسير القرآن العظيم" 4/ 523. وبه قال اليزيدي في: غريب القرآن: 422، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 521، والسجستاني في: نزهة القلوب: 135، وإليه ذهب الطبري في: "جامع البيان" 30/ 122، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج: 13، 61/ أ، وانظر نفس الصباح: 2/ 774، و"تفسير غريب القرآن" لابن الملقن: 541. (¬4) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: {لَتَرْكَبُنَّ} بفتح الباء، ووافقهم ابن محيصن والأعمش. وقرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، وعا صم، وأبو عمرو، ويعقوب: {لَتَرْكَبُنَّ} بضم الباء. انظر: "كتاب السبعة" 677، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 761، "الحجة" 6/ 391، "حجة القراءات" 756، "الكشف" عن وجوه القراءات: 2/ 367 , "كتاب التبصرة" 723، "المبسوط" 400، النشر: 2/ 399. (¬5) "تفسير مجاهد" 716، "جامع البيان" 30/ 124. (¬6) "جامع البيان" 30/ 124، "النكت والعيون" 6/ 238، "معالم التنزيل" 4/ 465 , "زاد المسير" 8/ 212، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 276، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523. (¬7) ساقط من (أ).

وابن عباس (¬1) في رواية مجاهد. والمعنى: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء. قال الكلبي: يصعد فيها (¬2). ويجوز أن يريد درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القربة من الله تعالى، ورفعة المنزلة (¬3). ويجوز أن يكون المعنى: لتركبن السماء حالاً بعد حَال من تغير حَالاتها التي وصفها الله من الانشقاق، والطي، وكونها مرة كالدهَان، ومرة كالمهل، وهو قول عبد الله (¬4). وروى الفراء بإسناده عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: لتركبن، بفتح (¬5) "الباء"، وفسر: لتصيرن الأمور حَالاً بعد حَال (¬6). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة عدا النكت، و"الجامع لأحكام القرآن"، كما ورد أيضًا قوله في: "المحرر الوجيز" 5/ 459، "البحر المحيط" 8/ 447، "الجامع الصحيح" للبخاري: 3/ 322: ح: 4940: كتاب التفسير: باب: 2. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 465. (¬3) وهو قول عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، والشعبي. انظر: "الكشف والبيان" ج: 13: 60/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 276. (¬4) "تفسير مجاهد" 716، "الحجة" 6/ 391، "حجة القراءات" 756، "جامع البيان" 30/ 124، "الكشف" عن وجوه القراءات السبع: 367، "النكت والعيون" 6/ 238، "المحرر الوجيز" 5/ 459، "زاد المسير" 8/ 212، "التفسير الكبير" 31/ 111، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 276، "البحر المحيط" 8/ 447، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523، "الدار المنثور" 8/ 460، وعزاه إلى ابن المنذر، وعبد بن حميد، والبيهقي، وانظر: "كشف الأستار عن زوائد البزار" 3/ 89: ح: 2282. (¬5) في (أ): بالفتح. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 252، كشمف الأستار عن زوائد البزار: 3/ 89.

ويجوز أيضًا أن يكون الخطاب للإنسان المتقدم في قوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} والمعنى: لتركبن أيها الإنسان حَالاً بعد حَال من كونه نطفة، وعلقة، وَمُضغة، وحياً، وميتاً، وحياً بعد الموت، وغنياً، وفقيراً، وجميع الأحوال المختلفة على الإنسان في دنياهُ وآخرته. وهو قول مقاتل (¬1)، وعلى أيضًا قراءة من قرأ بضم "الباء" إلا أن الخطاب للجماعة، وهو اختيار أبي عبيد قال: لأن المعنى: بالناس أشبه منه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذُكر قبل الآية (من يؤتى كتابه بيمينه، ثم فسر هذه الآية) (¬2): قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وذكر ركوبهم طبقاً بعد طبق (¬3)، وهذا قول أكثر المفسرين؛ قالوا: لتركبن حَالاً بعد حَال، ومنزلاً بعد منزل، وأمرًا بعد أمر. وهذا قول الحسن (¬4)، وقتادة (¬5)، ومجاهد (¬6)، (وعكرمة (¬7)، وابن ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 234/ ب، "الكشف والبيان" ج: 13: 61/ ب، معالم النزيل: 4/ 465، وبمعنى قوله ذهب عطاء، والحسن وعكرمة. انظر: "النكت والعيون" 6/ 238، "معالم التنزيل" 4/ 4650، "زاد المسير" 8/ 213، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523. (¬2) ما بين القوسين ساقط: أ. (¬3) ورد بنحو قوله في: "الكثسف والبيان" ج 13: 60/ أ. وفيه: ثم قال بعدها {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وذكر ركوبهم طبقًا بعد طبق. (¬4) "جامع البيان" 30/ 123، "النكت والعيون" 6/ 238، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523، "تفسير الحسن البصري": 2/ 407. (¬5) "جامع البيان" 30/ 123. (¬6) "تفسير مجاهد" 715، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 523. (¬7) "جامع البيان" 23/ 123 - 124، "النكت والعيون" 6/ 238، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 253.

زيد (¬1)، وسعيد بن جبير (¬2)) (¬3) [قالوا] (¬4): لتكونن في الآخرة بعد الأولى، ولتصيرن أغنياء بعد الفقر، وفقراء بعد الغنى، يعني في الآخرة. قال (¬5) عطاء: يريد شدة بعد شدة، يعني شدائد القيامة (¬6). وقال أبو عبيدة: لَتَركَبُنَّ سنة الأولين، وسنة من كان قبلكم (¬7). يعني في التكذيب والاختلاق على النبي -صلى الله عليه وسلم-. والطبق في اللغة: يكون بهذه المعاني التي ذكرهَا المفسرون. قال الليث: السموات طباق، وكل واحد من الطباق طبقة، وقد يُذَكر طبق -قال- والطبقة: [الحال] (¬8)، يقال: كان فلان من الدنيا على طبقات شتى؛ أي حالات (¬9). وقال ابن الأعرابي: الطبق [الحال] (¬10) على اختلافها (¬11). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة عدا تفسير ابن كثير، وانظر أيضًا: "البحر المحيط" 8/ 448. (¬2) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 238، "زاد المسير" 8/ 213، تفسير سعيد بن جبير: 370 (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) في كلا النسختين: قالا، وأثبت ما يستقيم الكلام به. (¬5) في (أ): فقال. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمعنى قوله عن ابن عباس انظر: "الكشف والبيان" ح: 13: 61/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 465، "زاد المسير" 8/ 213. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 292 بنصه (¬8) في كلا النسختين: الجبال، وأثبت ما جاء في: "تهذيب اللغة" 9/ 10: مادة: (طبق) لصحته، ولأنه مصدر قول الليث. (¬9) "تهذيب اللغة". مراجع السابقة مختصرًا، وانظر، "لسان العرب" 10/ 210 طبق. (¬10) ساقط من النسخين، ومثبت من مصدر قول ابن الأعرابي، وبه يستقيم الكلام. انظر: "تهذيب اللغة" 9/ 11: مادة: (طبق). (¬11) "تهذيب اللغة" المرجع السابق

وقد يكون الطبق بمعنى الشدة، قال الفراء: العرب تقول: وقع في بنات طبق (¬1) إذا وقع في الأمر الشديد (¬2). وقال الأصمعي: يقال: جَاء بإحدى بنات طبق، وهي الداهية, وأصلها من الحيّات (¬3). (يقال للحية: أم طبق لحسها (¬4) لتَرحَيها (¬5) وتحوَّيها (¬6)) (¬7). وقوله: {عَنْ طَبَقٍ} "عن" بمعنى: بعد (¬8). قال أبو علي: ومثل ما فسروا من "أن" بمعنى "عن" بمعنى "بعد" قول الأعشى: سادوا (¬9) وألقَى رهَطه سَادةً ... وكَابرًا سادوك عن كَابِرِ (¬10) ¬

_ (¬1) بنات طبق: بياض في: ع. ويراد ببنت طبق سُلحفاة تزعم العرب أنها تبيض تسعة وتسعين بيضة كلها سلاحف، وتبيض بيضة تنقف عن أسود. يُضرب للرجل يأتي بالأمر العظيم. "مجمع الأمثال" 1/ 293، رقم: 865. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 252 بنصه (¬3) "تهذيب اللغة" 9/ 5. (¬4) غير مقروءة في النسختين. (¬5) في (أ): لتوحيها. (¬6) تحويها: الحَوِيُّ استدارة كل شيء كحوى الحيَّة وكحوى بعض النجوم إذا رأيتها في نسق واحد مستدير. "تهذيب اللغة" 5/ 292: مادة: (حوى). (¬7) ما بين القوسين نقل عن "تهذيب اللغة" 9/ 6: مادة: (طبق) بزيادة لحسها. (¬8) انظر كتاب معاني الحروف: للرماني: 95 (¬9) في (أ): ساد. (¬10) ورد البيت في "ديوانه" دار صادر: 93، برواية: "وألفى قومه" بدلاً من: "رهطه".

قال: والمعنى: كابرا بعد كابر. فـ"عن" متعلق بسادوك، ولا يكون متعلقاً بكابر، وقد تبين ذلك في قول النابغة: بَقِيَّةُ قِدْرٍ من قُدورٍ تُوُرِّثت ... لاَلِ الجلاحِ كَابِرًا بَعْدَ كابرِ (¬1) وقالوا عن الحمى أي عَرِقَ بعدها (¬2). وتم الكلام عندها لتمام جواب القسم (¬3). ثم قال: {فَمَا لَهُمْ} يعني كفار مكة {لَا يُؤْمِنُونَ} بمحمد، والقرآن. والمعنى: أي شيء لهم غير مؤمنين، وهو استفهام (¬4) إنكاري، أي: أي شيء لهم من النعيم والكرامة؛ إذ ألم يؤمنوا. ويجوز أن يكون استفهامًا معناه التعجب، أي: اعجبوا منهم لم يؤمنوا بعد البيان ووضوح البرهان. (قوله (عَزَّ وَجَلَّ) (¬5): {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} قال عطاء (¬6)، والكلبي (¬7): لا يصلون لله عَزَّ وَجَلَّ. ¬

_ (¬1) ورد البيت في ديوانه: 75، دار بيروت: 75 (¬2) نقلاً عن "الحجة" 6/ 391 - 392. وفيه: وقالوا عرق الرجل عن الحمى أي بعدها. (¬3) انظر: علل الوقوف: لابن طيفور: 3/ 1112، والوقف والابتداء: للنحاس: 2/ 797، المكتفى لأبي عمرو الداني: 614، منار الهدى: للأشموني: 423 (¬4) في (أ): هذا. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬6) " الكشف والبيان" ج: 13: 62/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 465، "زاد المسير" 8/ 213، "التفسير الكبير" 31/ 112 (¬7) المراجع السابقة عدا زاد المسير.

22

وقال غيرهم (¬1): لا يخضعون، ولا يستكينون. 22 - (وقوله) (¬2): {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} بالبعث، والقرآن , والثواب، والعقاب. 23 - (قوله) (¬3): {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} في صدورهم من التكذيب، ويضمرون في قلوبهم، ويكتمون. قاله ابن عباس (¬4)، وقتادة (¬5)، (ومقاتل (¬6)) (¬7). وتفسير الإيعاء قد تقدم (¬8). 24 - قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (أي اجعل ذلك لهم بدل البشارة (¬9) للمؤمنين بالرحمة) (¬10)، وقد ¬

_ (¬1) قال بذلك الطبري في: "جامع البيان"، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ج: 13: 62/ أ، وعزاه القرطبي إلى مالك في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 278 - 279. (¬2) ساقط من (ع). (¬3) ساقط من (ع) (¬4) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 28، "البحر المحيط" 8/ 448. (¬5) ورد معنى قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 360، "جامع البيان" 30/ 126، "الكشف والبيان" ج: 13: 62/ ب، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 524، "الدر المنثور" 8/ 461. (¬6) "الوسيط" 4/ 456، والذي ورد عنه في تفسيره قوله: "أعلم بما يوعون" يقول: بما يجمعون عليه من الإثم والفسوق: 235/ أ. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) راجع في ذلك سورة الحاقة: 12 (¬9) في (أ): الإشارة. (¬10) ما بين القوسين من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 306.

25

قدم مثل هذا (¬1). 25 - وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) قال مقاتل: استثنى مَن آمن مِن الكفار بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). وقوله تعالى: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غير منقوص ولا مقطوع؛ لأن نعيم الآخرة يزيد وينمو (¬4)، ولا ينقطع. (قاله عطاء عن ابن عباس (¬5)) (¬6). وفسرنا {غَيْرُ مَمْنُونٍ} وفي أول سورة القلم (¬7). (والله تعالى أعلم) (¬8) ¬

_ (¬1) على نحو ما جاء في سورة البقرة: 25، وسورة آل عمران: 21، وسورة التوبة: 34، ومما جاء في تفسير البشارة عند قوله {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} البقرة: 25 "والتبشير إيراد الخبر السار الذي يظهر السرور في بشرة المخبر، ثم كثر استعماله حتى صار بمنزلة الإخبار، واستعمل في نقيضه كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، والانشقاق قال: 24 وغيرها] إلا انه فيما يسر أكثر، وقال قوم: أصله فيما يسر ويغم سواء إذا كان قد يظهر في بشرة الوجه أثر الغم كما يظهر أثر السرور. (¬2) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، سواء في تفسيره أو الكتب التي بين يدي. (¬4) في كلا النسختين: ينموا. (¬5) "جامع البيان" 30/ 126، "النكت والعيون" 6/ 239. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ) (¬7) سورة القلم: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} جاء في تفسيرها: قال أكثر المفسرين، وأهل اللغة يقولون: غير منقوص ولا مقطوع، يقال: منه السير: أي أضعفه، والمنين: الضعيف، ومن الشيء إذا قطعه. وقال مجاهد: غير محسوب. وقال مقاتل: لا يمن به عليك، وقال الكلبي: غير مكدر عليك في الجنة. والقول هو الأول. والمعنى أن لك أجرًا يصبرك على بهتهم وافترائهم عليك. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(تمت) (¬1). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ).

سورة البروج

سورة البروج

1

تفسير سورة البروج (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، ذكرنا تفسير البروج كاملاً (¬2) عند قوله: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} (¬3) وهي النجوم (¬4)، أو منازلها. 2 - {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} قالوا جميعاً: يعني يوم القيامة (¬5). ¬

_ (¬1) مكية بإجماع من المتأولين، قاله ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 460، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 215، "روح المعاني" 30/ 84، وانظر: "تفسير مقاتل" 235/ أ، "جامع البيان" 30/ 127، "بحر العلوم" 3/ 463، وغيرها من كتب التفسير. (¬2) في كلا النسختين: كملاٍ. (¬3) سورة الفرقان: 61 قال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} وقد جاء في تفسيرها: قال أبو إسحاق: وإنما قيل للكواكب بروجاً لظهورها وبيانها وارتفاعها، والبرج تباعد ما بين الحاجبين، وكل ظاهر مرتفع فقد برج. (¬4) قال بذلك مجاهد، وقتادة، وابن عباس، والضحاك، والحسن، والسدي: "جامع البيان" 30/ 127، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 525. (¬5) وبه قال قتادة، وأبو هريرة، والحسن، وابن زيد، وابن عباس، وأبو مالك الأشعري، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 235/ أ، انظر: "جامع البيان" 30/ 128، "الكشف والبيان" ج: 13/ 63/ أ، كنز العمال: 2/ 13 ح: 2939. وحكى الإجماع على ذلك: ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 460، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 216، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" =

3

3 - {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} واختلفوا فيه، (و) (¬1) الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، وهو قول أبي هريرة (¬2)، والحسن (¬3) , وعلي بن أبي طالب (¬4)، (وابن الزبير (¬5)، وقتادة (¬6)، ورواية يوسف المكي (¬7) ¬

_ = 9/ 281، وأبو حيان في: "البحر المحيط" 8/ 449، وابن كثير في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 525، والألوسي في: "روح المعاني" 30/ 86، وابن عاشور في: التحرير والتنوير: 30/ 238، وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 207، "تفسير غريب القرآن" 522، "معاني القرآن" للفراء: 3/ 252، "بحر العلوم" 3/ 463، "معالم التنزيل" 4/ 466، "الكشاف" 4/ 199. قال د/ محمد الخضيري: وجميع المفسرين على القول به، لم يخالف في ذلك أحد منهم. "الإجماع في التفسير": 521 (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "كنز العمال" 2/ 13ح: 2940، "جامع البيان" 30/ 128، " المحرر الوجيز" 5/ 460، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 281، "الدر المنثور" 8/ 464 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬3) المراجع السابقة. وانظر: "تفسير الحسن البصري" 2/ 409. (¬4) "تفسير مجاهد" 717، "تفسير عبد الرزاق" 2/ 361، "بحر العلوم" 3/ 463، "المحرر الوجيز" 5/ 460، "جامع البيان" 30/ 129، "زاد المسير" 8/ 216، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 281. (¬5) "تفسير مجاهد" 717، "جامع البيان" 30/ 130، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 525. (¬6) ورد قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 361، "جامع البيان" 30/ 129، " المحرر الوجيز" 5/ 460، "الدر المنثور" 8/ 462 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (¬7) يوسف المكي: هو يوسف بن ماهك بن بُهْزَام الفارسي المكْيُّ مولى قريش، روى عن عبد الله بن عباس، ثقة، روى له الجماعة، مات سنة 103 هـ وقيل 113 هـ. انظر: "الطبقات الكبرى": 5/ 470، "تهذيب التهذيب": 11/ 421، "تهذيب الكمال" 32/ 451: ت: 7150.

عن ابن عباس (¬1)) (¬2)، وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3) (رواه أبو هريرة) (¬4) (¬5)، وعلى هذا سمي يوم الجمعة شاهداً؛ لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، وكذلك كل يوم، ويوم عرفة يوم مشهود؛ لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. ¬

_ (¬1) ورد قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 466، "المحرر الوجيز" 5/ 460، "جامع البيان" 30/ 129، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 281، "الدر المنثور" 8/ 463، وعزاه إلى ابن مردويه. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) الحديث أخرجه الترمذي في: سننه: 5/ 436: ح: 3339، باب تفسير القرآن 77، ونصه كما هو عنده: عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يُضَعَّفُ في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقال ابن كثير: وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طريق موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف الحديث، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة، وهو أشبه. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 525. كما أخرجه البيهقي في سننه: 3/ 170، كتاب الجمعة. والحديث حسنه الألباني، انظر: "صحيح الجامع الصغير" 6/ 369 ح: 8057، "مشكاة المصابيح" 1/ 430 ح: 1362، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/ 4 ح: 1502، كما ورد أيضًا في: "جامع البيان" 30/ 129، "الكشف والبيان" ج: 13: 63/ ب. (¬4) بياض في (ع). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وعلى الضد من هذا روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شاهد" يوم عرفة، "ومشهود" يوم الجمعة) (¬1)، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة. وقال آخرون: الشاهد محمد -صلى الله عليه وسلم-، والمشهود يوم القيامة، وهو (¬2) قول الحسن بن علي (¬3) -رضي الله عنه-، ومحمد بن علي (¬4)، وتلا الحسن بن علي -رضي الله عنه- قوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45]، وقوله: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]، وتلا محمد -رضي الله عنه- قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النحل: 89]. وقال جماعة: الشاهد: ابن آدم، والمشهود يوم القيامة، (وهوقول مجاهد (¬5) , ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر الحديث، وقد ورد عند الطبري من رواية أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جامع البيان" 30/ 131. (¬2) في (أ): هذا. (¬3) ورد قوله في: "تفسير مجاهد" 717 وعزاه إلى الحسين بن علي، "جامع البيان" 30/ 130، "الكشف والبيان" ج: 13: 63/ ب، 64/ أ، "النكت والعيون" 6/ 241، "المحرر الوجيز" 5/ 460، "الدر المنثور" 8/ 464، وعزاه إلى ابن جرير، وإلى ابن مردويه، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في: الصغير والأوسط، وفيه كبير بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف: 1/ 136، وقد عزاه إلى الحسين بن علي. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله وقد ورد عن ابن عباس مثل هذه الرواية. انظر كشف الأستار عن زوائد البزار: 3/ 79 - ح 2283، وقال الهيثمي رواه البزار ورجاله ثقات: 7/ 136. (¬5) "تفسير مجاهد" 718، "جامع البيان" 30/ 130، "الكشف والبيان" ح: 13: 64/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 467، "زاد المسير" 8/ 216، "الدر المنثور" 8/ 463، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.

4

وعكرمة (¬1)، وابن عباس (¬2)، في رواية مجاهد) (¬3)، وقال (في رواية الوالبي (¬4)) (¬5)، (قال ابن عباس) (¬6): الشاهد الله، والمشهود: يوم القيامة. 4 - قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، قال الأخفش: هو جواب القسم، وأضمر اللام (¬7) كما قال {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] يريد: لقد أفلح، قال: ولئن شئت على [التقديم] (¬8)، كأنه قيل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (¬9). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة عدا "تفسير مجاهد"، ويراجع قوله أيضًا: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 361، "بحر العلوم" 3/ 463، وعزاه أيضًا صاحب الدر إلى سعيد بن منصور. (¬2) "بحر العلوم" 3/ 463. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "جامع البيان" 30/ 131، "الكشف والبيان" ح: 13: 64/ أ، "معالم التنزيل" 40/ 467، زاد التفسير: 8/ 216، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 525، "الدر المنثور" 8/ 464، صحيفة علي بن أبي طلحة: تح: راشد عبد المنعم الرجال: 526. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ) وهناك أقوال أخرى في معنى الشاهد والمشهود بلغت عند ابن الجوزي أربعة وعشرين قولاً. انظر: "زاد المسير" 8/ 216 - 217، "جامع البيان" 30/ 129 - 131، "الكشف والبيان" ج: 13/ 63/ ب إلى 65/ 1 أ. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) والأصل: لقتل، قال الحلبي: وإنما حسن حذفها للطول، الدر المصون: 6/ 102، ورجحه أبو حيان في: "البحر المحيط" 8/ 450. (¬8) التقدير في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر قول الأخفش، وهو "معاني القرآن" 2/ 736، ولاستقامة الكلام به. (¬9) "معاني القرآن" 2/ 736، القول بالتقديم والتأخير رده ابن الأنباري، قال: والقول بالتقديم والتأخير غلط, لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد، على معنى قام زيد والله. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 284.

وقال أبو إسحاق: جواب القسم: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (¬1)، وهو قول ابن مسعود (¬2) -رضي الله عنه-، وقتادة (¬3). وقال صاحب النظم: جواب القسم قوله {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} (¬4). (وقال غيره (¬5)) (¬6): كما تقول: والله إن زيداً لقائم، وقد اعترض بين القسم وجوابه قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} وما يتصل به إلى قوله {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا}، وقال غيره من أهل المعاني: جواب القسم محذوف بتقدير: الأمر حق في الجزاء على الأعمال (¬7). و"قتل (¬8) " معناه: لعن في قول جميع المفسرين (¬9) كقوله تعالى: {قُتِلَ ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 307 وقال به المبرد. انظر الدر المصون: 6/ 502، وهذا القول رده القرطبي بقوله: وهذا قبيح -وعلل ذلك- لأن الكلام بينهما. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 284. (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 117. (¬3) "جامع البيان" 30/ 135، "المحرر الوجيز" 5/ 462، "زاد المسير" 8/ 217، "التفسير الكبير" 31/ 117، (¬4) ورد بمثل قوله من غير عزو في: "المحرر الوجيز" 5/ 462، "التفسير الكبير" 31/ 117، "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 217، "زاد المسير" 8/ 217. (¬5) لم أعثر على قائله غير أنه ورد القول من غير نسبة في: "التفسير الكبير" 31/ 117. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ) (¬7) لم أعثر على مصدر القول، ولا على قائله. (¬8) في (أ): قيل. (¬9) والقول إن "قتل" لعن، اختاره الطبري في: "جامع البيان" 30/ 131، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 30/ 463، وقال ابن عباس كل شيء في القرآن "قتل" فهو لعن. "الكشف والبيان" ج: 13/ 65/ ب، وانظر أيضًا "معالم التنزيل" 4/ 467، "زاد المسير" 8/ 218، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 284، "فتح القدير" 5/ 412 وهناك أقوال أخرى للمفسرين لمعنى "قتل". =

الْخَرَّاصُونَ} (¬1)، وقد مر. واختلفوا في أصحاب الأخدود من هم؟ فروي عن صهيب بطرق مختلفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر مَلِكًا فيمن كان قبلنا أسلم في عهده قوم، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدوها، وأضرم فيها النار، وقال: من لم يرجع عن دينه (¬2) فأقحموه فيها ففعلوا. وهو حديث طويل (¬3) ¬

_ = فمنهم من حمله على حقيقته، على معنى أن الآية خبر من الله عن النار أنها تقتلهم: "جامع البيان" 30/ 131، وانظر: "البحر المحيط" 8/ 450. وقيل: إن معنى "قتل" أهلك المؤمنون ذكره الماوردي في: "النكت والعيون" 6/ 242. قال د/الخضيري: ما قاله الواحدي لا يسلم له لوجود الخلاف في ذلك. "الإجماع في التفسير": 524. أقول ما كررته سابقاً في حكايته الإجماع عند الواحدي: إن الذي عليه الجمهور وأكثر المفسرين هو الإجماع عنده. فليراجع تفصيلي لهذا في مواضعه السابقة. (¬1) سورة الذاريات: 10 وقد جاء في تفسيرها: "قال جماعة المفسرين، وأهل المعاني: لعن الكذابون، قال ابن الأنباري هذا تعليم لنا الدعاء عليهم؛ معناها قولوا إذا دعيتم عليهم: قتل الخراصون، قال: والقتل إذا أخبر عن الله به كان بمعنى اللعنة لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. (¬2) بياض في (ع) في عدة مواضع. (¬3) الحديث بطوله مذكور في: صحيح مسلم: 4/ 2279: ح73، كتاب الزهد والرقائق: باب 17، وأخرجه أيضاً أحمد في: المسند: 6/ 16 - 18. والترمذي في سننه: 5/ 437 - 439: ح 3340: كتاب تفسير القرآن: باب 77 قال عنه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، والنسائي في تفسيره 2/ 509: ح 681: سورة البروج، وعبد الرزاق في: "المصنف" 5/ 420 - 423، وزاد الحافظ ابن حجر "الكافي الشاف" 183، إلى إسحاق، وأبي يعلى، والبزار. =

نذكره في مسند (¬1) التفسير إن شاء الله. وقال مقاتل: إن قوماً باليمن عمدوا إلى أولياء الله فخدوا لهم أخدوداً، وأوقدوا فيها النار، ثم عرضوا على الشرك، فمن تابعهم خلوا عنه، ومن لم يتابعهم قذفوه في النار (¬2)، وهو قول الحسن (¬3). وقال الكلبي (¬4)، ومجاهد (¬5): هم قوم من نصارى "نجران" (¬6) (¬7) عذبوا بالنار قوماً من المؤمنين على التوحيد. وروى علي -رضي الله عنه- أنهم كانوا قوماً من المجوس، وذلك أن ملكاً منهم ¬

_ =وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 362 - 364، "جامع البيان" 30/ 133 - 134، "بحر العلوم" 3/ 464 - 465، "الكشف والبيان"ج: 13: 65/ أإلى 66/ ب، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 526 - 527، وزاد صاحب "الدر المنثور" 8/ 467 إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن مردويه. (¬1) في (أ): مستند. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمعناه في تفسيره: 235/ أ - ب. (¬3) "تفسير مجاهد" 718، "النكت والعيون" 6/ 242 مختصرًا، "زاد المسير" 8/ 219، "تفسير الحسن البصري": 2/ 409 (¬4) "الكشف والبيان" ح: 13/ 68/ ب. (¬5) "تفسير مجاهد" 718 بمعناه، "النكت والعيون" 6/ 241، "زاد المسير" 8/ 219. (¬6) غير واضحة في: ع (¬7) نجران: منطقة نجران إحدى مناطق المملكة العربية السعودية، تقع في أقصى جنوب غربي المملكة، تتكون من سبعين قرية ومحافظاتها هي: شرورة: جونا: يدمة: ثار: الوديعة: الأخدود. أما مدينة نجران، فهي العاصمة، ومقر الإمارة، والمركز الإداري، تتميز بشبكة طرق جيده، ومطار يبعد عنها 30 كم، واشتهرت المنطقة بسد وادي نجران الذي يعتبر أكبر السدود في المملكة، وأصحاب الأخدود لا يزال موقعهم الأثري قائماً فيها إلى الآن. انظر: "الموسوعة العربية العالمية": 25/ 119 وما بعدها.

واقع أخته على السكر، ثم أراد أن يجعل ذلك شرعاً في رعيته، فلم يقبلوه، فأوقد لهم النيران في الأخدود، وعرضهم عليها، فمن أبى (¬1) قبول ذلك قذفه في النار، ومن أجاب خلى (¬2) سبيله (¬3). وقال الضحاك: (أصحاب) (¬4) كانوا من بني إسرائيل (¬5). (والأخدود: الشق في الأرض يحفر مستطيلاً) (¬6)، وجمعه: الأخاديد، ومصدره (¬7): الخد، وهو الشق، يقال: خد في الأرض خداً، وتخدد لحمه: إذا صار فيه طرائق كالشقوق (¬8)، وانشد (المبرد (¬9)) (¬10) فقال: يا مَن لِشيخٍ قَدْ تَخَدَّدَ لَحْمُهُ ... أفْنَى ثلاث عَمَائمٍ ألْوَاناً سَوْداءَ حالِكةً وسَحْقَ مُفْوفٍ ... وأجَدَّ لوْناً بَعْدَ ذَاكَ هِجْاناً (¬11) ¬

_ (¬1) في (أ): أبا. (¬2) في (أ): خلا. (¬3) "جامع البيان" 30/ 134، "الكشف والبيان" ج: 13: 67/ أ - ب، "زاد المسير" 8/ 218، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 288، "الدر المنثور" 80/ 467 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) ساقط من (أ) (¬5) ورد قوله مطولاً في: "الكشف والبيان" ج: 13: 67/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 469، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 287 (¬6) ما بين القوسين نقلاً عن "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: 522. (¬7) في (أ): مصدر. (¬8) انظر في ذلك: مادة: (خد) في: "تهذيب اللغة" 6/ 560، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 149، "الصحاح" 2/ 468، "لسان العرب" 3/ 160. (¬9) "الكامل" 1/ 264. (¬10) ساقط من (أ) (¬11) بيتا القصيد يقال إنهما لشعبة بن الحجاج، وقيل لربيعة بن يزيد الرقي. ونسبه ابن =

5

5 - قوله: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} قال أبو علي: هذا من بدل الاشتمال, كقوله: سلب زيد ثوبه، ومنه "أصحاب الأخدود النار"، فالأخدود يشتمل على النار (¬1). و {ذَاتِ الْوَقُودِ} يعني ذات الحطب الذي جعل لها وقوداً. 6 - {إِذْ هُمْ} العامل في "إذ" "قتل"، والمعنى: لعنوا في ذلك الوقت؛ إذ هم قعود عند الأخدود يعذبون المؤمنين. {وَهُمْ} يعني أولئك: الملك وأصحابه الذين خدوا الأخدود. قوله تعالى: {عَلَيْهَا قُعُودٌ}. قال ابن عباس: عندهَا جلوس (¬2) قال مقاتل: يعني عند النار قعود يعرضونهم على الكفر (¬3). قال مجاهد: كانوا قعودًا على الكراسي عند الأخدود (¬4)، وهو قوله: ¬

_ = قتيبة في "كتاب الزهد" لأعرابي. نقلاً من "الكامل" 1/ 24 حاشية، قال بذلك المبرد في نسخة هـ. انظر: عيون الأخبار: م 2: ج 6/ 325، كتاب الزهد براوية: "أنضى" بدلاً من "أفنى" و"داجية" بدلاً من "حالكة" و"أخرى" بدلاً من "لونا"، العقد الفريد: 2/ 332 من غير نسبة. (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 119، وإليه ذهب ابن الأنباري في: البيان في غريب "إعراب القرآن" 2/ 505، والزمخشري في: "الكشاف" 4/ 200. قال الطبري: وقوله {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} فقوله: "النار" رد على الأخدود، ولذلك خفضت، وإنما جاز ردها عليه وهي غيره, لأنها كانت فيه، كأنها إذا كانت فيه هو، فجرى الكلام عليه لمعرفهَ المخاطبين به بمعناه، وكأنه قيل: قتل أصحاب النار ذات الوقود. "جامع البيان" 30/ 135. (¬2) تفسير "الوسيط" 4/ 461 (¬3) "فتح القدير" 5/ 412، وقد ورد معنى القول في تفسيره: 235/ ب. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 470، "فتح القدير" 5/ 412.

7

7 - {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (¬1) أي من عرض منهم على النار، وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم. {شُهُودٌ}. حضور، قاله ابن عباس (¬2). ويكون "على" بمعنى "مع" كأنه قيل: وهم مع مَا يفعلون بالمؤمنين شهود حضروا ذلك التعذيب (¬3). قال أبو إسحاق: أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله (¬4). قال الحسن: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء (¬5) ¬

_ (¬1) {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وبمثله قال قتادة: "النكت والعيون" 6/ 242. (¬3) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 292 (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308 برواية "يحرقوا" بدلاً من أحرقوا. (¬5) "الدر المنثور" 8/ 466، وعزاه إلى عبد بن حميد، وكذلك رواه عن طريق عوف مرفوعاً وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وانظر: "تفسير الحسن البصري": 2/ 409 - 410، وقد ورد ذلك من حديث أبي هريرة قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". أخرج ذلك: البخاري في: "الجامع الصحيح" 4/ 162 ح: 6347، كتاب الدعوات: باب: 28، وكتاب القدر: باب: 13 ج: 4/ 212: ح 6616، ومسلم في: صحيحه: 4/ 2080: ح: 2531، كتاب الذكر باب التعوذ من سوء القضاء، والنسائي في: سننه: 8/ 1663: ح 5506 و5507، كتاب الاستعاذة باب 34/ 35. والمراد بجهد البلاء قال ابن بطال وغيره: جهد البلاء: كل ما أصاب المرء من شدة مشقة، أو ما لا طاقة له بحمله، ولا يقدر على دفعه. وقيل: المراد بجهد البلاء: قلة المال، وكثرة العيال. كذا جاء عن ابن عمر. =

8

8 - قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. قال ابن عباس: ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا (¬1). وقال مقاتل: مَا عَابوا منهم (¬2). وقال أبو إسحاق: أي ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمانهم (¬3)، وهذا كقوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59]، {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 74] وقد مر. قوله (عز وجل) (¬4): {وَاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} (¬5) أي من فعلهم بالمؤمنين شهود، لم يخف عليه ما صنعوا. ثم أعلم مَا أعد لأولئك فقال: 10 - (وقوله تعالى) (¬6): {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬7)، قال ¬

_ =قال ابن حجر: والحق أن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء. وقيل هو ما يختار الموت عليه. فتح الباري: 11/ 149: ح: 6347. (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 470، "لباب التأويل" 4/ 367. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 470، وقد ورد بمعناه في تفسيره: 235/ ب، قال: أي ريبة رأوا منهم فأعذبهم. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.

ابن عباس (¬1)، (ومقاتل (¬2)) (¬3): حرقوهم بالنار. وهو قول قتادة (¬4). (قال الزجاج) (¬5)،: يقال: [فتنت] (¬6) الشيء: أحرقته، والفتين: حجارة سود كأنها محرقة (¬7). ومنه قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13]. قولى تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} قال ابن عباس: يريد من فعلهم ذلك، ومن الشرك الذي كانوا عليه (¬8). {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}. (بكفرهم. {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} بما أحرقوا المؤمنين. قاله الزجاج) (¬9): والحريق النار، ويكون عذاب جهنم نوعاً من التعذيب غير الإحراق للتفصيل في الذكر (¬10). وقال الربيع بن أنس: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} يعني في الدنيا، وذلك أن ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 137، التفسير الكبير" 31/ 122، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 529. (¬2) "تفسير مقاتل" 235/ ب، "التفسير الكبير" 31/ 122. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "جامع البيان" 3/ 137، "تفسير القرآن العظيم " 4/ 529. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) في كلا النسختين: افتنت، وأثبت ما جاء عند الزجاج. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ما بين القوسين من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308. (¬10) قال القرطبي: والنار دركات وأنواع ولها أسماء، وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم ثم يعذبون بعذاب الحريق، فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها. "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 293.

11

النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم (¬1). وهو قول الكلبي (¬2)، وذكره (¬3) الفراء (¬4). قال مقاتل: ثم ذكر مَا أعد للمؤمنين الذين أُحرقوا بالنار فقال: 11 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬5) الآية (¬6) 12 - {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة، والجبابرة لشديد (¬7)، كقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬8). 13 - {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} الخلق يخلقهم أولاً في الدنيا، ويعيدهم أحياء بعد الموت. وهذا قول المفسرين جميعاً (¬9). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 137 مختصرًا، "معالم التنزيل" 4/ 470 - 471، "زاد المسير" 8/ 220، "لباب التأويل" من غير عزو: 4/ 367، "فتح القدير" 5/ 413، "روح المعاني" 30/ 91. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 470 - 471، "فتح القدير" 5/ 413. (¬3) في (أ): وذكر. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 253 معناه. (¬5) ساقط من (ع) (¬6) انظر: "تفسير مقاتل" 235/ ب فقد ورد عنه بيان معنى الصالحات والنعيم الدائم في الجنة. (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 471، "زاد المسير" 8/ 221، "الباب التأويل" 4/ 367. (¬8) سورة هود: 102 (¬9) وعزاه إلى الجمهور من المفسرين: ابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 221، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 294، وقال به الضحاك، وابن زيد، وابن جريج، ويحيى بن سلام، انظر: "جامع البيان" 30/ 138، "النكت والعيون" 6/ 243، "الدر المنثور" 8/ 471. وبه قال الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308، والسمرقندي في: "بحر =

14

وذكر ابن عباس في رواية عطاء: هو أن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً، ثم يعيدهم خلقاً جيداً (¬1). 14 - {وَهُوَ الْغَفُورُ} (¬2) قال ابن عباس (¬3)، ومقاتل (¬4): لذنوب المؤمنين من أوليائه وأهل طاعته. {الْوَدُودُ} المحب لهم (وهذا قول أكثر المفسرين (¬5)) (¬6). ¬

_ = العلوم" 3/ 466، ولابن عباس قول خالف فيه الجمهور قال: يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة. وهذا القول اختاره الطبري ورجحه في: "جامع البيان" 30/ 138. وعنه أيضًا أنه عام في جميع الأشياء، أي كل ما يبدأ، وكل ما يعاد. "البحر المحيط" 8/ 451. وذكر الماوردي أيضًا قولاً آخر قال: هو يبدئ ما كلف من أوامره ونواهيه، ويعيد ما جزى عليه من ثواب وعقاب "النكت والعيون" 6/ 243. وعليه فمفهوم الإجماع عند الإمام الواحدي هو ما أجمعوا عليه إجماعاً لا خلاف فيه، أو ما كان عليه جمهور المفسرين. (¬1) ورد معناه في: "جامع البيان" 30/ 138 من غير طريق عطاء، ورد بمثل قوله في: "النكت والعيون" 6/ 243، "البحر المحيط" 8/ 451. (¬2) {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 471. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، والذي ورد عنه في تفسيره: 235/ ب قوله: "وهو الغفور للذنوب الكبائر لمن تاب منها". (¬5) حكاه الفخر عن أكثر المفسرين في: " التفسير الكبير" 31/ 123، وورد معناه عن ابن عباس في: "جامع البيان" 30/ 138، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 530، وبه قال الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 471، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 294، "لباب التأويل" 4/ 367. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال الكلبي: الودود: المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء (¬1). والقول هو الأول. قال ابن الأنباري: الودود في السماء، الله المحبّ لعباده (¬2). وذكرنا اللغات في الود عند قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} (¬3) وقال (¬4) الأزهري في تفسير أسماء الله (¬5): قال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون "ودود" فعول بمعنى المفعول، كركوب، وحلوب، ومعناه أن عباده الصالحين (¬6) يودونه ويحبونه لما عرفوا من فضله، ولما أسبغ عليهم من نعمائه، قال: وكلتا الصفتين مدح؛ لأنه جل ذكره إن أحب عباده (المؤمنين) (¬7) المطيعين، فهو فضل منه، وإن أحبه عباده العارفون فلِما تقرر عندهم من كريم إحسانه (¬8). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" ج: 13/ 72/ أ، "التفسير الكبير" 31/ 123، وقال بمثله ابن عباس: "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 294، وورد من غير نسبة في: "لباب التأويل" 4/ 367. (¬2) ورد قوله في: "زاد المسير" 4/ 118، عند تفسيره آية 90 من سورة هود، "تهذيب اللغة" 14/ 236: مادة: (ودأ). (¬3) سورة البقرة: 96، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} ومما جاء في تفسير في {يَوَدُّ}: يقال وددتُ، أوَدّ والمقصود الوَدُّ، والوُدّ، الوِدّ، والوِداد, والوَدَاده ويقال أيضًا وَدَادًا بالفتح وِوِدَادا بالكسر. (¬4) في (أ): قال بغير واو. (¬5) لم أعثر على هذا الكتاب. (¬6) بياض في: ع. (¬7) ساقط من (ع). (¬8) ورد في الأزهري في: "التفسير الكبير" 31/ 123 =

15

15 - قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} {الْمَجِيدُ} بالرفع مُتبعاً لقوله: {ذُو}، وهو أكثر القراءة (¬1)، والتفسير (¬2)، والاختيار؛ لأن الله تعالى هو المجيد الموصوف بالمجد؛ لأن لفظ المجيد لم يسمع في غير صفة الله خالى كما (¬3) سمع الماجد. قال أبو علي: لم أعلم في صفة الأناسي "مجيد" كما جاء في وصفهم "عليم" "وحفيظ" نحو قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬4) [يوسف: 55]، وقد ذكرنا تفسير المجيد فيما تقدم (¬5). ¬

_ = قال الشيخ السعدي: "الودود" الذي يجه أحبابه محبة لا يشبهها شيء، فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه التابعة لذلك، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب، ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب، وتغلبها، وإن لم يكن غيرها تبعاً لها كانت عذاباً على أهلها، وهو تعالى الودود الوادُّ لأحبابه. تفسير الكريم الرحمن: 5/ 397. (¬1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} رفع. انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 763، "الحجة" 6/ 393، "حجة القراءات" 757، "كتاب التبصرة" 723، "تحبير التيسير" 198، و"البدور الزاهرة" 338. (¬2) حكاه الفخر عن أكثر أهل التفسير: "التفسير الكبير" 31/ 124 (¬3) في كلا النسختين: وكما، وحذفت الواو لاستقامة المعنى بدونها. (¬4) "الحجة" 6/ 395. (¬5) سورة هود: 73، قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} ومما جاء في تفسير "المجيد" قال: المجيد الماجد، وهو ذو الشرف، والكرم، يقال: مجد الرجل تمجد مجدًا ومجادة، ومجد: يمجد لغتان. قال بعضهم: المجيد: الكريم، وقال آخرون: المجيد: الرفيع، وقال أهل المعاني: المجيد: "الكامل" الشرف والرفعة والكرم والصفات المحمودة، وأصله من قولهم: مجدت الدابة أذا أكثرت علفها.

16

ومن كسر "المجيد" (¬1) جعله صفة العرش، ووصفه بالمجادة كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] فوصف القرآن بالمجادة، هذا قول الفراء (¬2)، (والزجاج (¬3)) (¬4)، وأكثر النحويين (¬5). (ومنهم من قال: أجعله صفة للرب في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ولا أجعله وصفاً للعرش، حكى ذلك أبو علي؛ قال: والفصل والاعتراض بين الصفة والموصوف في هذا النحو لا يمتنع؛ لأن ذلك يجري مجرى الصفات) (¬6) قال عطاء عن ابن عباس: قال: من قرأ بالخفض فإنما يريد العرش وحسنه (¬7)، ويدل على صحة هذا أن العرش وصف بالكرم في قوله {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 23]، فجاز أن يوصف بالمجد، لأن معناه الكمال، والعرش على ما ذكر أحسن شيء وأكمله، وأجمعه بصفات الحسن (¬8). 16 - قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي من الإبداء والإعادة، (قاله ¬

_ (¬1) قرأ بالخفض: حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم، وخلف. انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 763،"الحجة" 6/ 393، "الكشف" 2/ 369، "تحبير التيسير"، المهذب: 2/ 329. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 254. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 308. (¬4) ساقط من (ع) (¬5) عزاه الفراء إلى يحيى وأصحابه: "معاني القرآن" 3/ 254. (¬6) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" 6/ 395. (¬7) "الوسيط" 4/ 462. (¬8) بياض في: ع.

17

مقاتل (¬1)) (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أنه لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه (¬3) (¬4). ثم ذكر خبر الجموع الكَافرة فقال: 17 - قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} قال مقاتل: يريد قد أتاك (¬5)؛ كقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] وقد مر (¬6). قال عطاء: يعني الذين تجندوا على أنبياء الله وأصفيائه، يعزي نبيه بذلك (¬7). 18 - ثم بين من هم فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}. والمعنى: أتاك حديث الجنود، وما كان منهم إلى أنبيائهم، أو اصبر كما صبر الرسل من قبلك، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد تعزية النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬8) وقيل معناه: تذكير الكفار من أهل مكة حديث الجنود قبلهم ليعتبروا ويتذكروا ما كان منهم إلى أنبيائهم، وما فعل الله بهم (¬9)، ويدل على هذا ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير نسبه في "الوسيط" 4/ 462. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ) (¬3) بياض في (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد عن عطاء في "الوسيط" 4/ 462، وغير منسوب في: "معالم التنزيل" 4/ 471، "لباب التأويل" 4/ 367. (¬5) "تفسير مقاتل" 234/ أ، "فتح القدير" 5/ 414. (¬6) يراجع سورة الإنسان: 1. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله غير منسوب في: "معالم التنزيل" 4/ 471، "زاد المسير" 2218، "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 289. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) لم أعثر على مصدر هذا القول.

19

المعنى: 19 - قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} بل أعرضوا عما يُوجبه الاعتبار بفرعون وثمود، وأقبلوا على ما يوجبه الكفر والتكذيب، فكذبوك، وكذبوا ما جئت به من القرآن. 20 - {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} يقدر أن ينزل بهم مَا أنزل بفرعون وثمود. قال أبو إسحاق: أي لا يعجزه منهم أحد، قدرته مشتملة عليهم (¬1). 21 - قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} قال ابن عباس (¬2)، (ومقاتل (¬3)) (¬4): كريم لأنه كلام الرب ليس هو كما يقولون: شعر، وكهانة، وسحر (¬5). وقال أهل المعاني: لما كان القرآن يعطي المعَاني الجليلة، والدلائل النفيسة، كان كريماً، مجيد: كريم، كثير الخير بما يعطي من الحكم والمواعظ والحجج (¬6). 22 - قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} عند الله، وهو أم الكتاب، منه نسخ الكتاب القرآن، والكتب، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 309. (¬2) "الوسيط" 4/ 463. (¬3) المرجع السابق، ولم أعثر عليه في تفسيره. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) انظر: "زاد المسير" 8/ 221 (¬6) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬7) واللوح: من الغيب الذي يجب الإيمان به، ولا يعرف حقيقته إلا الله. العقيدة الطحاوية بشرح الألباني: 34.

وهذا قول [ابن عباس (¬1)، ومقاتل (¬2)، ومجاهد (¬3)، والحسن (¬4)] (¬5). (وقرأ نافع (محفوظٌ) رفعاً (¬6) على نعت القرآن، كأنه قيل: بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح، وذلك أن القرآن وصف بالحفظ في قوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فكما وصف بالحفظ في تلك (¬7) الآية، كذلك وصف في هذه الآية بأنه محفوظ , ومعنى حفظ القرآن أنه يؤمن من تحريفه، وتبديله، وتغيره، فلا يلحقه من ذلك شيء، قال أبو الحسن: والأولى: هو الذي نعرف). (¬8) وقال أبو عبيد: الوجه الخفض, لأن الآثار الواردة في اللوح ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وإنما ورد بمثله من غير نسبة في: "معالم التنزيل" 4/ 472، "زاد المسير" 8/ 221. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله في تفسيره، وقد ورد في: "الكشف والبيان" 13/ 72/ أ. (¬3) "جامع البيان" 30/ 140. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وإنما ورد بمثله من غير نسبة في: "معالم التنزيل" 4/ 472، "زاد المسير" 8/ 221. (¬5) ما بين القوسين لم يذكر في نسخة: أ، وإنما ذكر بدلاً من تعدادهم لفظ: جماعة. وقد قال أيضًا الزجاج بمعنى ذلك: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 309 قال: القرآن في اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب عند الله. (¬6) قرأ نافع وحده بالرفع، وقرأ الباقون (محفوظ) بالخفض. انظر: "كتاب السبعة" 678، "الحجة" 6/ 396، "المبسوط" 401، "حجة القراءات" 757، "الكشف" 2/ 269، النشر: 2/ 399. (¬7) في (أ): ذلك. (¬8) ما بين القوسين نقلاً من "الحجة" 6/ 396 بتصرف.

المحفوظ تصدق ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) من الآثار الواردة في اللوح: ما أورد الواحدي في: "الوسيط" 4/ 463 من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه كما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء. والحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 519: كتاب التفسير: تفسير سورة البروج. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن أبا حمزة الثمالي لم ينقم عليه إلا الغلو في مذهبه فقط. كما أخرجه الطبراني في الكبير، وفي سنده زياد بن عبد الله البكائي، وليث بن أبي سليم، وكلاهما ضعيف. ورواه من طريق آخر بنحوه موقوفاً على ابن عباس, وسنده حسن. نقلاً عن "شرح العقيدة الطحاوية" ت الأرنؤوط: 233. كما أخرجه ابن كثير في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 531. وانظر: "الوسيط" 4/ 463.

سورة الطارق

سورة الطارق

1

تفسير سورة الطارق (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} قال المفسرون (¬2): أقسم الله بالسماء، والطارق: يعني: الكواكب تطرق بالليل وتخفي بالنهار (¬3). وقال الفراء {الطَّارِقُ} النجم؛ لأنه يطلع بالليل، وما أتاك ليلاً فهو طارق (¬4) (ونحو هذا) (¬5) قال (الزجاج (¬6)، والمبرد (¬7)، قال) (¬8): ولا يكون ¬

_ (¬1) مكية كلها بإجماعهم، حكاه ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 464، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 222، وابن عاشور في "التحرير التنوير" 30/ 257، وانظر "تفسير مقاتل" 236/أ، "جامع البيان" 35/ 141، "البحر المحيط" 8/ 453، وغيرها من كتب التفسير. (¬2) وعزاه ابن عطية إلى جمهور المتأولين في "المحرر الوجيز" 5/ 464، وعزاه أيضًا الشوكاني إلى المفسرين نقلاً عن الواحدي: 5/ 418، وقال به الطبري في "جامع البيان" 30/ 141، والزجاج في "معاني القرآن وإعربه" 5/ 311، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 245، وانظر "معالم التنزيل" 4/ 472، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 1، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 531، "التحرير والتنوير" 30/ 258. (¬3) وهو قول ابن عباس في "بحر العلوم" 3/ 467، وبه قال قتادة في "جامع البيان" 30/ 241. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 254. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 311. (¬7) "الوسيط" 4/ 464. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

2

الطارق نهارًا. والعرب تستعمل الطروق في صفة الخيال كثيرًا، قال ذو الرمة: ألا طَرَقَتْ مني هيومًا بذكرها ... وأيدي الثريا جنح في المغارب (¬1) 2 - ثم (¬2) قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم- (¬3): {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} وذلك أن هذا الاسم يقع على مَا طرق ليلاً، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدري ما المراد به لولا تبيينه بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}، أي المضي (¬4)، ولقد فسرناه عند قوله: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (¬5)، و {الطَّارِقُ}، و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}، اسم الجنس، وأُريد به العموم في قول أهل المعاني، وأكثر أهل التفسير، وهو قول (الكلبي (¬6) (¬7)، ومقاتل (¬8)، (وقتادة (¬9)، والحسن (¬10)، والفراء (¬11)، ¬

_ (¬1) لم أعثر عليه في ديوانه (¬2) في (أ): وقال. (¬3) في (ع): عليه السلام. (¬4) وهو قول قتادة، وابن عباس. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 265، "جامع البيان" 30/ 141. (¬5) سورة الصافات: 10 وما جاء في تفسيرها قوله {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قال ابن عباس وغيره: نار مضيئة محرقة، قال الحسن وقتادة ثاقب: مضيء قال الليث الثقوب مصدر النار مصدر الثاقبة، والكواكب الثاقب، يقال: ثقب يثقب ثقوبًا، وهو شدة ضوؤه وتلألؤه، والخشب الثاقب: الصوع النقي، وقال أبو عبيدة: الثاقب: النير المضيء، ويقال أثقب نارا أي أضاءها، والثقوب ما يذكى به النار. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 265، "جامع البيان" 30/ 142. (¬10) "المحرر الوجيز" 5/ 464. (¬11) "معاني القرآن" 3/ 254.

والزجاج (¬1) (¬2) وقال ابن زيد (¬3): أراد به الثريا، والعرب تسميه النجم (¬4)، وقد ذكرنا ذلك عند قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (¬5). وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه - زُحَل (¬6). والقول هو الأول. وجواب القسم: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أقسم الله -بما ذكر- أنه ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة تحفظ عملها وقولها وفعلها، وتحصي ما تكسب من خير أو شر. (ذكر ذلك ابن عباس (¬7)، والكلبي (¬8)، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 311 بمعناه. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) في (أ): ابن دريد. (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 142، "الكشف والبيان" ج 13/ 73/ ب، "النكت والعيون" 6/ 246، "معالم التنزيل" 4/ 473، "المحرر الوجيز" 5/ 464/ 465، "زاد المسير" 8/ 223. (¬5) سورة النجم: 1، ومما جاء في تفسير الآية: قال ابن عباس في رواية الكلبي: أقسم بالقرآن إذا نزل نجومًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق نجومًا، ومنه نجوم الدين، وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها، فتقول إذا طلع النجم، وهو الثريا حل عليك مالي، وكذلك سائرها ثم جعل كل نجم تفريقًا، وان كان لم يكن موقتًا بطلوع نجم. (¬6) "الكشف والبيان" ج 13/ 73/ 2، "زاد المسير" 8/ 223. (¬7) المرجعان السابقان؛ إضافة إلى: "جامع البيان" 30/ 143، "معالم التنزيل" 4/ 473، "لباب التأويل" 4/ 368، تفسير ابن عباس: للحميدي: 2/ 975، "الجامع الصحيح" للبخاري: 2/ 4049، كتاب الأنبياء الباب الأول خلق آدم وذريته. (¬8) "الكشف والبيان" ج 13/ 74/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 473.

وقتادة (¬1)، ومقاتل) (¬2) (¬3). وفي قوله {لَمَّا عَلَيْهَا} (¬4): التخفيف، والتشديد، فمن خلف كان لغوًا (¬5)، والمعنى: لَعَلَيْها حافظ. ومن شدد جعل {لَمَّا} بمعنى "إلاَّ"، وهي تستعمل بمعنى "إلا" في موضعين، هذا أحدهما، والآخر في باب القسم تقول: سألتك لمَّا فعلت. بمعنى: "إلا فعلت" (¬6) هذا كلام أبي إسحاق. وقال أبو علي: (مَن خفف كانت "إن" عنده المخفّفة من الثقيلة، والسلام في "لما"، هي التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من "إن" النافية، و"ما" صلة كالتي في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} (¬7)، {عَمَّا قَلِيلٍ} (¬8)، وتكون إن ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 236/ أ - ب، "تفسير عبد الرزاق": 2/ 365، "جامع البيان" 30/ 143، "النكت والعيون" 6/ 246، "الكشف والبيان" ج 13: 74/ أ، "زاد المسير" 8/ 223، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 3، "الدر المنثور" 8/ 474، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ما بين القوسين ذكر بدلاً من تعدادهم في نسخة: أ، لفظ: وغيره. (¬4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر: "لَمَا" خفيفًا. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة "لَمَّا" مشددة. انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 765، "الحجة" 6/ 397، "المبسوط" 402، "حجة القراءات" 758، "إتحاف فضلاء البشر" 436. (¬5) أي غير عاملة: صلة زائدة. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 311. (¬7) سورة آل عمران: 159، قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}. (¬8) سورة المؤمنون: 40: قال تعالى {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}.

متلقية للقسم كما تتلقاه) (مثقلة) (¬1)، (ومن ثقل فقال: "لمّا عَلَيْها" كانت "إن" عنده النافية كالتي في قوله) (¬2): {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ (¬3)}، و"مال" في معنى "إلا". قال سيبويه عن الخليل في قولهم (¬4): نشدتك الله لَمَّا فعلت -قال-: المعنى: إلا فعلت (¬5). وقال أبو الحسن: الثقيلة في معنى "إلا"، والعرب لا تكاد تعرفه (¬6)، وقال الكسائي: لا أعرف وجه التقيل) (¬7). وقال أبو عبيد (¬8): لا يوجد ذلك في كلام العرب يعني "لمَّا"، بمعنى "إلا" (¬9)، وقد روي عن ابن سيرين أنه كره التشديد وأنكره (¬10). والكلام في هذا قد سبق في آخر سورة هود (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ساقط من النسختين، ومثبت من الحجة وبها تستقيم العبارة: 6/ 397. (¬3) سورة الأحقاف: 26، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (¬4) في (أ): قوله. (¬5) انظر: كتاب "حروف المعاني" للزجاجي: 11. (¬6) الذي وجدته عن الأخفش في "النكت والعيون" 6/ 246، "البحر المحيط" 8/ 454: قال: إن "ما" التي بعد اللام صلة زائدة، وتقديره: إن كل نفس لعليها حافظ. (¬7) ما بين القوسين نقلًا عن "الحجة" 6/ 397 بنصه. (¬8) في (أ): أبو عبيدة. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) "جامع البيان" 30/ 142، "الكشف والبيان" ج 13: 74/ أ، "التفسير الكبير" 31/ 128. (¬11) سورة هود: 11، فقد استطرد الإمام الواحدي في بيان علة التخفيف والتشديد =

5

ثم نبه على البعث بقوله: 5 - {فَلْيَنْظُرْ} (¬1) قال مقاتل: يعني: (الذي يكون منه) (¬2) المكذب بالبعث (¬3). {مِمَّ خُلِقَ}. أي من أي شيء خلقه الله، والمعنى: فلينظر نظر التفكير والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه (¬4) من نطفة قادر على إعادته. ثم ذكر من أي شيء خلقه فقال: 6 - {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} قال ابن عباس (¬5) ومقاتل (¬6): يعني: المني الذي يكون منه الولد. قال الكلبي: من ماء مهراق في رحم المرأة (¬7). والدَّفْق صَبُّ الماء، يقال: دفقت الماء أي صببته، وهو مدفوق ¬

_ = مستندًا على أقوال أهل المعاني، وأهل النحو في ذلك، وقد أوجز القول في آية سورة الطارق مما أغنى عن تلخيص ما جاء في سورة هود، هذا وإن كان ما سطره من أقوال الذي بيان العلة في رد أو قبول أهل النحو لقراءة التخفيف أو التشديد، فانه لا يخرج القراءتين -قراءة التخفيف والتشديد- عن صحة سندها، فهما قراءتان صائبتان صحيحتا السند، متواترتان، وقد ذُكرتا في كتب القراءات المتواترة. والله أعلم. (¬1) {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: ع. (¬3) "فتح القدير" 5/ 419، ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 236/ ب. (¬4) في: أ: ابتدأ. (¬5) "الوسيط" 4/ 465، وقد ورد بمثل قوله من غير نسبة في "معالم التنزيل" 4/ 473, "البحر المحيط" 8/ 455، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532. (¬6) ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" 236/ ب. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله.

(ومندفق) (¬1) أي منصب (¬2) و {دَافِقٍ} هَاهنا معناه - مدفوق. قال الفراء: وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم، يجعلون الفاعل مفعولًا إذا كان في مذهب نعت كقولهم: سرُّ كاتم، وهمٌّ ناصب، وليلٌ نائم، قال: وأعان على ذلك أنها وافقت رؤوس الآي التي هي معهنّ (¬3). وقال الزجاج: معناه من مَاءٍ ذي دَفْقٍ، وكذلك: سرٌّ كاتم، وهذا قول جميع النحويين (¬4). وقد أحكمنا الكلام في هذه المسألة عند قوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ} (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) انظر ذلك في: مادة: (دفق): "تهذيب اللغة" 9/ 39، "الصحاح" 4/ 1475، "لسان العرب" 10/ 99. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 355 بتصرف. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 311، قال: معناه مدفوق، ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، المعنى: من ماء ذي اندفاق، ولعل الإمام الواحدي نقل قول الزجاج من "تهذيب اللغة" 9/ 39: مادة: (دفق)، فقد ورد فيه بمثل ما نقل الواحدي عن الزجاج. (¬5) سورة هود: 43، قال تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}: 43، ومما جاء في تفسير {لَا عَاصِمَ}: قال .. ولا يجوز -هاهنا- أن يكون المعصوم عاصمًا، هذا وجه في الاستثناء. قال أبو إسحق: ويجوز أن يكون عاصم في معنى مَعصُوم، ويكون معنى لا عاصم: لا ذا عصمة، كما قالوا: "عيشة راضية"، على جهة النسب، أي ذات رضًا، ويكون "من" على هذا التفسير في موضع رفع، ويكون المعنى: لا معصوم إلا المرحوم. وقد أجاز الفراء أن يكون الفاعل بمعنى المفعول نحو قوله: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} معناه مدفوق. وقال علماء البصرة: ماء دافق بمعنى مدفوق باطل من الكلام, لأن الفرق بين الفاعل وبناء المفعول واجب، وهذا عند سيبويه وأصحابه يكون على طريق النسب من غير أن يعتبر فيه فعل، فهو فاعل نحو: رامح، ولابن، ومعناه: ذو =

7

7 - ثم وصف الماء فقال: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}، قال الليث: التريبة ما بين الثندوتين (¬1) إلى الترقوتين (¬2) (¬3). وبَعضهم يقول: كل عظم من ذلك تريبة، والجمع الترائب (¬4). قال المبرد: هي ضلوع الصدر (¬5). وقال أبو عبيدة: الترائب مُعَلَّق الحَلْي على الصدر (¬6)، وهو قول جميع أهل اللغة (¬7)، وأنشد (¬8) (قول الْمُثقِب (¬9): ¬

_ = رمح، وذو لبن، وكذلك -هاهنا-: عاصم بمعنى ذو عصمة من قبل الله تعالى؛ ليس أنه عُصِم فهو عاصم بمعنى معصوم على الإطلاق. (¬1) الثُّنْدُوَة: لحم الثدي، وقال ابن السكيت: هي الثَّنْدُوَة: اللحم الذي حول ثدي المرأة. "تهذيب اللغة" 14/ 90، مادة: (ثند). (¬2) التُّرْقُوتان: العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر، وباطن الترقوتين الهواء الذي يهوي في الجوف لو خُرق، ويقال له: القلتان، وهما الحافنتان أيضًا. انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 276 مادة: (ترب)، وانظر "لسان العرب" 1/ 230 مادة: (ترب). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه من غير نسبة في "لسان العرب" 1/ 230: مادة: (ترب)، وقيل: ما بين التَّرْقوة إلى الثندوة. (¬4) لم أجد من قال ذلك مما بين يدي من المصادر: وجاء في "الصحاح" 10/ 91: مادة: (ترب): والتريبة واحدة الترائب، وهي عظام الصدر ما بين الترقوة والثَّنْدَوة. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 294 بنصه. (¬7) حكى الإجماع الأزهري، والجوهري، وابن منظور: انظر: مادة: (ترب) في: "تهذيب اللغة" 14/ 276، "الصحاح" 1/ 91، "لسان العرب" 1/ 230. (¬8) أي أبو عبيدة. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ).

ومِنْ ذَهَبٍ يَلُوحُ على تَريبٍ ... كَلَوْن العَاجِ لَيْس بذي غُصُونِ (¬1) وحكى الزجاج أن أهل اللغة [أجمعون (¬2)] (¬3) قالوا: الترائب موضع القلادة من الصدر، وأنشدوا (¬4): ترائبها مصقولة كالسَّجَنْجَلِ (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) ورد البيت في: ديوانه: 159. "مجاز القرآن" 2/ 294 برواية: "من ذهب يُشَنّ على تريب"، "جامع البيان" 30/ 145 برواية "له" بدلًا من "بذي"، "الكشف والبيان" ج 13: 74/ ب، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 6، "فتح القدير" 5/ 419، برواية "بنن" بدلًا من "يلوح": وكذا "روح المعاني" 30/ 97. وورد غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 14/ 275: مادة: (ترب)، "لسان العرب" 1/ 230: مادة: (ترب)، "تاج العروس" 1/ 185: مادة: (ترب) برواية "له" بدلًا من "بذي". والتريب: جمع تريبة، وتجمع: ترائب، وهو عظام الصدر. انظر: "ديوانه" حاشية: 159. (¬2) في (ع): الجمعين، وأثبت ما جاء في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 312. (¬3) ساقط من: ع. (¬4) في (أ): أنشد. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 312. (¬6) البيت لامرئ القيس، ونسب له في المعاني وهو في ديوانه: 42: دار صادر: وصدره: مُهَفْهَفَة بيضاء غيرُ مُفاضةٍ وقد ورد البيت غير منسوب في كتب اللغة: مادة: (ترب) في: "تهذيب اللغة" 14/ 275، "لسان العرب" 1/ 230. وورد منسوبًا في كتب التفسير نحو: "بحر العلوم" 3/ 468، "زاد المسير": 8/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 5، "فتح القدير" 5/ 419، "روح المعاني" 30/ 97. ومعنى: المهفهفة: اللطيفة الخصر، الضامرة البطن، المفاضة: المرأة العظيمة =

قال (عطاء عن) (¬1) ابن عباس (¬2)، (والكلبي) (¬3) (¬4)، وسفيان (¬5) (¬6): يريد صلب الرجل، وترائب المرأة، وهي موضع قلادتها: الولد لا يكون إلا من المائين. وقال عكرمة (¬7)، وسعيد (ابن جبير (¬8)، وابن زيد (¬9)، ومجاهد) (¬10) (¬11): الترائب: الصدور. ¬

_ = البطن، المسترخية اللحم. الترائب: جمع تريبة: وهي موضع القلادة من الصدر. السقل والصقل: إزالة الصدأ والدنس وغيرهما. السجنجل: المرآة. وقيل هو قطع الذهب والفضة. يقول: هي امرأة دقيقة الخصر، ضامرة البطن، غير عظيمة البطن ولا مسترخية، وصدرها براق اللون متلألئ الصفاء كتلألؤ المرآة: ديوانه: 42: حاشية. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) ورد معنى قوله في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532، "الدر المنثور" 8/ 475، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) سفين: في كلا النسختين. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 366، "جامع البيان" 30/ 144، "المحرر الوجيز" 5/ 465، "البحر المحيط" 8/ 455. (¬7) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 143، "الكشف والبيان" ج 13: 74/ ب، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 6، "فتح القدير" 5/ 419، "الدر المنثور" 8/ 475، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬8) "جامع البيان" 30/ 143، "الكشف والبيان" ج 13/ 74/ ب، "تفسير سعيد بن جبير" 371. (¬9) المرجعان السابقان إضافة إلى: "معالم التنزيل" 4/ 473. (¬10) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 144، "النكت والعيون" 6/ 247، "الكشف والبيان" ج 13/ 74/ ب، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 5، "فتح القدير" 5/ 419. (¬11) ما بين القوسين ساقط من: أ.

8

وقال مقاتل الترائب: موضع القلادة (¬1) بين الترقوة والثدي. وقال الفراء: وقوله: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يريد من الصلب والترائب، وهو جائز أن تقول للشيئين: ليخرجن من بين هذين خير كثير، ومن هذين خير كثير (¬2). 8 - قوله (تعالى): {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}، قال مجاهد: على أن يرد الماء في الإحليل (¬3) (¬4). وقال عكرمة (¬5)، (والضحاك) (¬6) (¬7): على أن يرد الماء في الصلب. وروي (عن الضحاك (¬8) (¬9) أيضًا: على رد الإنسان ماءً كما كان قبل، لقادر. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 236/ ب. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 255 بتصرف. (¬3) الإحليل: الذكر؛ ثقبه الذي يخرج منه البول، وجمعه الأحاليل. "تهذيب اللغة" 3/ 442: مادة: (حل). (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 145، "الكشف والبيان" ج 13: 74/ ب، "النكت والعيون" 6/ 247، "معالم التنزيل" 4/ 473، "المحرر الوجيز" 5/ 466، "زاد المسير" 8/ 225، "التفسير الكبير" 31/ 131، "البحر المحيط" 8/ 455، "الدر المنثور" 8/ 476، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، "فتح القدير" 5/ 420، "معاني القرآن" الفراء: 3/ 255. (¬5) المراجع السابقة عدا "البحر المحيط"، ومعاني الفراء. (¬6) "جامع البيان" 30/ 146، "الكشف والبيان" ج 13: 75/ أ، "زاد المسير" 8/ 225، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 7، "فتح القدير" 5/ 420. (¬7) ساقط من: أ. (¬8) "التفسير الكبير" 31/ 131، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 7. (¬9) ساقط من (أ).

وقال مقاتل (بن حيان) (¬1): تقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا (¬2)، ومن الصبا (¬3) إلى النطفة (¬4). وقال قتادة: إن الله [على] (¬5) بعث الإنسان وإعادته لقادر (¬6)، وهو قول الحسن (¬7)، ومقاتل (ابن سليمان (¬8)، وابن عباس (¬9)، في رواية عطاء، واختيار أهل المعاني (¬10)) (¬11)، قال أبو إسحق: ويشهد له قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]. (أي) (¬12) إنه قادر على بعثه يوم القيامة (¬13). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (ع): الصبى. (¬3) في (ع): الصبى. (¬4) ورد قوله في "الكشف والبيان" ج 13/ 75/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 473، "التفسير الكبير" 31/ 131، "فتح القدير" 5/ 420. (¬5) ساقط من النسختين، وأثبت ما جاء في "الوسيط" 4/ 465، وبه ينتظم الكلام. (¬6) "جامع البيان": 30/ 146، "الكشف والبيان": ج 13/ 74/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 473، "المحرر الوجيز" 5/ 466، "زاد المسير" 8/ 225، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 7، "البحر المحيط" 8/ 455. (¬7) "زاد المسير" 8/ 225، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 7، "الدر المنثور" 8/ 476، وعزاه إلى ابن المنذر، "تفسير الحسن البصري" 2/ 411. (¬8) "تفسير مقاتل" 236/ ب. (¬9) "المحرر الوجيز" 5/ 466، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 7، "البحر المحيط" 8/ 455. (¬10) "معاني القرآن" للفراء: 3/ 255. (¬11) ما بين القوسين ساقط من أ. (¬12) ساقط من (أ). (¬13) "معاني القرآن" 5/ 312 بنصه.

ومعنى الرجع: رد الشيء إلى أول حَاله (¬1)، والله -تعالى- قادر على أن يرد الماء في الإحليل، أو في الصُلب، وأن يرد الإنسان صبيًا بعد كبره، وأن يرده حيًا بعد موته، وهذا هو الوجه المراد لانتصاب قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، وهو ظرف للرجع (¬2). قال صاحب النظم: يريده أن يبعث فيرد، ويرجع في هذا اليوم (¬3). ومعنى {تُبْلَى} (¬4) تختبر. قاله (ابن عباس (¬5)، ومقاتل (¬6)، وقتادة (¬7)) (¬8). وقال (¬9) الكلبي (¬10)، ومقاتل (¬11): [بمعنى] (¬12) تظهر. ¬

_ (¬1) قال ابن فارس: "الراء، الجيم، والعين أصل كبير مطرد ومنقاس، يدل على ردٍّ وتكرار، تقول: رجع يرجع رجوعًا، إذا عاد، وراجع الرجل امرأته، وهي الرِّجْعَة، والرَّجُعَة، والرُجْعَى، والرجوع". 2/ 490: مادة: (رجع).، وأيضًا انظر: مادة: (رجع) في "الصحاح" 3/ 1216، "لسان العرب" 8/ 114. (¬2) وهو قول الطبري في "جامع البيان" 30/ 146، وانظر "الكشاف" 4/ 202. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 236/ ب، "الكشف والبيان" ج 13/ 75/ ب، "معالم التنزيل" 4/ 473. (¬7) ورد معنى قوله في المرجعين السابقين، وانظر أيضًا في "جامع البيان" 30/ 147. (¬8) ما بين القوسين ذكر بدلًا منه في نسخة ألفظ: جماعة. (¬9) في (ع): قال. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) "الوسيط" 4/ 465. (¬12) في كلا النسختين: ومعنى، ولا يستقيم المعنى بذلك، وأثبت ما رأيت به استقامة المعنى.

10

و {السَّرَائِرُ}: أعمال بني آدم من الخير والشر، فرائضه التي أوجبت عليه، وهي سرائر بين الله والعبد، فتختبر تلك يوم القيامة حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها عن مضيعها، وهذا معنى قول ابن عمر: "يبدي الله يوم القيامة كل سر، فيكون زينًا في الوجوه، وشينًا في الوجوه"، يعني من أداها كان وجهه مشرقًا، ومن ضيعها كان وجهه أغبر (¬1). وقال أهل المعاني (¬2): معنى {تُبْلَى السَّرَائِرُ} تختبر بإظهارها، وإظهارها موجبها، ففي الطاعة الحمد والثواب، وفي المعصية الذم والعقاب، وهذا كقوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] أي نكشفها ونظهرها، وقد مر (¬3). 10 - قوله تعالى {فَمَا لَهُ} (¬4) (أي لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله) (¬5). {وَلَا نَاصِرٍ}. (ينصره من الله) (¬6). ومعنى نفي القوة والناصر هو العامل في قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} على ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 474، "التفسير الكبير" 31/ 133. (¬2) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬3) ومما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} محمد: 31: "قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ليظهر ما تسرون، وقال في رواية الكلبي: يظهر نفاقكم للمؤمنين، ومعنى الآية: حتى نعلم المجاهدين، وحتى تكشف أخباركم وتظهر ويجوز أن يوضع البلو موضع الكشف؛ لأن القصد بالبلو: الكشف والإظهار، فجاز أن يفسر بما يؤول إليه". (¬4) {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} (¬5) ما بين القوسين في قول الثعلبي في "الكشف والبيان" ج: 13: 75/ أ. (¬6) ما بين القوسين من قول الثعلبي: المرجع السابق.

11

قول من لا يجعل الرجع بمعنى البعث في قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ} [الطارق: 8] (¬1). 11 - ثم ذكر قسمًا آخر فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} قال أبو عبيدة: الرجع في كلام العرب: الماء، وأنشد للهذلي يصف السَّيف: أبْيَضُ كالرّجْع رَسُوبٌ إذا ما ... ثاخَ في مُحْتَفَلٍ يختلي (¬2) (¬3) قال الفراء: تبتدئ بالمطر، ثم ترجع به في كل عام (¬4). وقال أبو إسحق: الرجع: المطر؛ لأنه يجيء ويرجع ويتكرر (¬5) (¬6). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يبتدي بالمطر، ثم يرجع به في كل عام (¬7). ¬

_ (¬1) هذا القول قال عنه أبو حيان: إنه فاسد؛ لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وكذلك ما النافية، لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور، انظر: "البحر المحيط" 8/ 455. (¬2) ورد البيت في: "مجاز القرآن" 2/ 294، "ديوان الهذليين" 2/ 12، "تهذيب اللغة" 1/ 364 مادة: (رجع)، "لسان العرب" 8/ 120 مادة: (رجع)، و3/ 11 مادة: (ثوخ)، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: 5/ 312، "جامع البيان" 30/ 147، "الكشف والبيان" ج 13/ 75/ ب، "المحرر الوجيز" 5/ 466، "البحر المحيط" 8/ 456، "فتح القدير" 5/ 420، و"المحرر" و"البحر" براوية: "ما شاخ" بدلًا من: "ما ثاخ". (¬3) ومعنى البيت كما في: اللسان: أراد بالأبيض: السيف، والرَّجْع: الغدير. شبه السيف به في بياضه، والرَّسُوب: الذي يَرْسُب في اللحم، والمحتفل: أعظم موضع في الجسد، ويختلى: يقطع، وثاخ وساخ: ذهب في الأرض سُفلًا. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 255 بنصه. (¬5) في (أ): يكرر. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 312 بنحوه. (¬7) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 148.

وهو قول مقاتل (¬1)، وسعيد (بن جبير (¬2)، وعكرمة عن ابن عباس (¬3)) (¬4)، ومجاهد (¬5) قالوا: ذات المطر تمطر، ثم تمطر، ثم ترجع تمطر بعد مطر. وقال أهل المعاني: رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالًا بعد حال على مرور الأزمان، ترجعه رجعة، أي تعطيه مرة بعد مرة (¬6). وقال ابن زيد: هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما (¬7)، والقول هو الأول (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 236/ ب، وعبارته: قال: ذات المطر. (¬2) ورد معنى قوله في "الدر المنثور" 8/ 477، وعزاه إلى عبد بن حميد، "تفسير سعيد بن جبير" 371. (¬3) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 365، "جامع البيان" 30/ 148 "النكت والعيون" 8/ 248، "معالم التنزيل" 4/ 474، "التفسير الكبير" 31/ 133، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532، "الدر المنثور" 8/ 476، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وانظر "المستدرك" 2/ 520، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "تفسير الإمام مجاهد" 720، "جامع البيان" 30/ 148، "الدر المنثور" 8/ 477، وعزاه إلى عبد بن حميد، وانظر "الجامع الصحيح" للبخاري: 3/ 322، كتاب التفسير باب 86. (¬6) لم أعثر على مصدر لقولهم، وورد بمثله من غير نسبة في "التفسير الكبير" 31/ 133. (¬7) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 148، "النكت والعيون" 6/ 248، "المحرر الوجيز" 5/ 466، "التفسير الكبير" 31/ 133، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 11، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532، "فتح القدير" 5/ 420. (¬8) وهو الصحيح الذي عليه أكثر المفسرين وأهل اللغة، حكى ذلك القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 10، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 456.

قوله تعالى: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} وصدعها إنما يكون عن (¬1) المطر والماء، ومعنى الصدع (¬2) في اللغة: الشق، يقال: صَدَعه إذا شقه فتصدع، ومنه قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] أي يتفرقون، والعرب تقول: صَدَعْتُ غنمي صِدْعَتَيْن، كقولك: فرقتها فرقتين، فالصدع مصدر، ثم يقال في الزّجاجة والحائط صَدْع، فيسمى به (¬3)، والذي في الآية هو الاسم لا المصدر. قال أبو عبيدة (¬4)، والفراء (¬5)، والزجاج (¬6): تتصدع بالنبات، وهو معنى قول ابن عباس (¬7)، والمفسرين قالوا: تنشق عن النبات، والأشجار (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): من. (¬2) في (أ): الصداع. (¬3) انظر: مادة: (شق): "تهذيب اللغة" 2/ 5، إصلاح المنطق: لابن السكيت: 43، "مقاييس اللغة" 3/ 338، "الصحاح" 3/ 1241، "لسان العرب" 8/ 194. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 294. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 255، واللفظ له. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 313. (¬7) "جامع البيان" 30/ 149، "التفسير الكبير" 31/ 133، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532، "الدر المنثور" 8/ 520، "فتح القدير" 5/ 421، وانظر "المستدرك" 2/ 520، قال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. كما قال بمثله: سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532. (¬8) وممن قال بمعنى ذلك: الحسن، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد، والضحاك، "جامع البيان" 3/ 149، وحكاه عن المفسرين: ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 226، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 256، وبهذا القول: تنشق عن النبات والأشجار، قال السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 468.

13

وقال مجاهد: هي [السدان (¬1)] بينهما طريق نافذ (¬2) يعني -الجبلين بينهما شق. وقال الليث: الصدْع (¬3) نبات الأرض؛ لأنه يصدع الأرض، فتتصدع به الأرض، وهذا قول مجاهد في رواية الليث (¬4)، قال: ذات النبات (¬5) وعلى هذا سمي النبات صدعًا؛ لأنه صادع للأرض. 13 - وجواب القسم قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منها (¬6). والمفسرون يقولون: جِدٌ حق (¬7)، لقوله: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ¬

_ (¬1) في كلا النسختين: الصدان، وأثبت ما جاء في "الكشف والبيان" ج 13: 75/ ب. (¬2) ورد معنى قوله في: "تفسير الإمام مجاهد" 721، "جامع البيان" 30/ 149، "بحر العلوم" 3/ 468، "الكشف والبيان" ج 13: 75/ ب، "النكت والعيون" 6/ 249، "المحرر الوجيز" 5/ 466، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 11، "الدر المنثور" 8/ 477، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬3) "تهذيب اللغة" 2/ 5: مادة: (صدع) بنصه. (¬4) بياض في: ع. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) وهو قول الطبري في: "جامع البيان" 30/ 149، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 313، والثعلبي في "الكشف والبيان" 75/ ب. (¬7) قال بمعنى ذلك، ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، والضحاك، انظر: "جامع البيان" 30/ 149، "النكت والعيون": 6/ 249، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 532، وأيضًا به قال السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 468، والثعلبي في: "الكشف والبيان": ج 13/ 75/ ب. وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة من قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 11. وقال أبو حيان: ويجوز أن يعود الضمير في أنه على الكلام الذي أخبر فيه ببعث =

15

قالوا: باللعب (¬1)، والمعنى أن القرآن نزل للفصل بين الحق والباطل، ولم ينزل باللعب، وهو جد ليس بالهزل. 15 - ثم أخبر عن مشركي مكهَ فقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}. قال أبو إسحق: إنهم يخاتلون (¬2) النبي -صلى الله عليه وسلم- ويظهرون ما هم على خلافه (¬3). 16 - {وَأَكِيدُ كَيْدًا} قال (¬4): كيد الله استدراجهم من حيث لا يعلمون (¬5). 17 - (قوله تعالى (¬6)) {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} (¬7) قال ابن عباس (¬8)، ¬

_ = الإنسان ويوم القيامة، وابتلاء سرائره، أي أن ذلك القول قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه، ويكون الضمير قد عاد على مذكور، وهو الكلام الذي تضمنه الإخبار عن البعث، وليس من الأخبار التي فيها هزل؛ بل هو جد كله. "البحر المحيط" 8/ 456. (¬1) قال بذلك ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، انظر "جامع البيان" 30/ 15، "النكت والعيون" 6/ 249، "الدر المنثور" 8/ 477، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والطستي، وابن أبي شيبة، كما قال به الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 313، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 468، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13/ 75/ ب. وعن السدي قال: بالكذب. وعن وكيع، والضحاك قالا: بالباطل. "النكت والعيون" 6/ 249. (¬2) معنى يخاتلون أي يخادعون، جاء في: مختار "الصحاح" خاتله: خدعه، والتَّخَاتُل: التخادع. 169: مادة: (ختل). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 313 بنصه. (¬4) أي الزجاج. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 313. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. (¬8) "معالم التنزيل" 4/ 474، "لباب التأويل" 4/ 369، "زاد المسير" 8/ 226 من غير نسبة.

ومقاتل (¬1): هو وعيد (¬2) من الله تعالى لهم. (قوله تعالى (¬3)): {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}، قالا (¬4): يريد قليلًا (¬5)، حتى أهلكهم، ففعل ذلك ببدر، ونسخ الإمهال بآية السيف (¬6)، ومعنى مهل وأمهل: أنظر ولا تعجل، ويقال: مَهْلًا يا فلان، أي رفقًا وسُكونًا لا ¬

_ (¬1) "الوسيط" 4/ 467. (¬2) بياض في (ع). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) أي ابن عباس، ومقاتل. (¬5) ورد قول ابن عباس في "جامع البيان" 30/ 150، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 12، أما مقاتل فلم أعثر على مصدر لقوله، وإن كان ورد بمثل قوليهما من غير عزو في "الوسيط" 4/ 267، قال ابن عطية: {رُوَيْدًا} معناه قليلًا، قاله قتادة، وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك: رويدًا، وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية، وأما إذا ابتدأت بها فقلت: رويدًا يا فلان، فهي بمعنى الأمر بالتماهل، ويجري مجرى قولهم: صبرًا يا زيد، وقليلًا: يا عمرو. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 467. (¬6) ممن قال بأن الآية منسوخة بآية السيف: هبة الله بن سلامة في: "الناسخ والمنسوخ" 196، وابن البازي في كتابه: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" 57، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 474 والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 12. ورد ابن الجوزي في: "نواسخ القرآن" 251، القول بأنها منسوخة، والأكثرية عدها من المحكم، وعليه لم تذكر في كتبهم المعنية بـ"الناسخ والمنسوخ" نحو: كتاب "الناسخ والمنسوخ" في كتاب الله تعالى: لقتادة السدوسي، و"الناسخ والمنسوخ" للزهري، و"الناسخ والمنسوخ" في القرآن الكريم: لأبي جعفر النحاس، و"الناسخ والمنسوخ" لأبي منصور البغدادي، والاعتبار في "الناسخ والمنسوخ" لأبي بكر الهذاني، و"المصفى بأكف أهل الرسوخ" في علم "الناسخ والمنسوخ" لابن الجوزي.

تَعْجَلْ (¬1). وأما {رُوَيْدًا} فروى أبو عبيد عن أصحابه أن تكبير {رُوَيْدًا} رُوْد، وأنشد (¬2): يمشي ولا تَكْلِمُ البَطحاء مِشيتهُ ... كأنه ثَمِلٌ يمشي على رُودِ (¬3) (¬4) أي على مُهْلَة ورفق وتؤدة. وذكر أبو على في باب الأسماء التي سمي بها الأفعال: رُويدًا زيدًا، تريد: أرْوِدْ زيدًا، معناه: أمهله، وأرفق به (¬5). قال النحويون: رويدًا في كلام العرب على ثلاثة أوجه: يكون اسمًا لفعل الأمر ينصب "بها"، لأنها جعلت بدلًا من اللفظ بالقول، كقولك: رويدًا زيدًا، تريد أرود زيدًا، أي خله ودعه، وارفق به (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: مادة: (مهل) في: "تهذيب اللغة" 6/ 321، "لسان العرب" 11/ 366، "تاج العروس" 8/ 121. (¬2) البيت للجموح الظفري. (¬3) وقد ورد البيت في: "تهذيب اللغة" 14/ 162: مادة: (رود) غير منسوب براوية: "فاتر"؛ بدلًا من: "ثمل"، "لسان العرب" 3/ 189: مادة: (رود) غير منسوب برواية: "تكاد لا تَثْلِم البطحاء وطأتُها"، كما ما ورد في حاشية "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 13، حاشية 3: معزوًا، وبمثل ما جاء في اللسان، وورد في "معجم شواهد العربية" لعبد السلام هارون: 121، ونسبه إلى الجموح الظفري، كتاب "حروف المعاني" للزجاجي: 9: رقم: 35. (¬4) ورد قول أبي عبيدة في: "تهذيب اللغة" 14/ 162: مادة: (رود)، "التفسير الكبير" 31/ 134 إلا أنه عزاه إلى أبي عبيدة، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 12، "لسان العرب" 3/ 89: مادة: (رود). (¬5) الإيضاح العضُدي: لأبي علي الفارسي: 163، وانظر: "التفسير الكبير" 31/ 34. (¬6) انظر: "شرح المفصل" لابن يعيش 4/ 39 - 41، "حروف المعاني" للزجاجي: 9.

ومن هذا ما ذكره سيبوبه (سماعًا عن العرب: رويد الشعر يَغِبَّ، قال: يريدون: أرُوِدْ الشعر، كما تقول: دَع الشعر، وأنشد (¬1): رُوَيدًا عَلِيُّا جُدَّ ما ثَدْيُ أمِّهِم (¬2) ... إلينا ولكن وُدُّهُم مُتَمايِنُ (¬3) (¬4) ولا ينصرف "رويد" في هذا الوجه؛ لأنها غير متمكنة. الوجه الثاني: أن تكون بمنزلة سَائر المصادر، فتضاف (¬5) إلى ما بعدها كما تضاف المصَادر، تقول: رويد زيد، كما تقول: ضرْب زيدٍ، قال الله عز وجل: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]. الوجه الثالث: أن يكون نعتًا منصوبًا كقولك: سَاروا سَيْرًا (¬6) رويدًا ¬

_ (¬1) البيت للهذلي، كذا قال شارح المفصل. (¬2) في (ع): لعهم. (¬3) في (أ)، و (ع): متماني. (¬4) ورد البيت في: "ديوان الهذليين" 3/ 46: برواية "رويدَ"، "كتاب سيبويه" 1/ 243 برواية: "ولكن بُغْضُهُم" بدلًا من "وُدُدهم"، "تهذيب اللغة" 10/ 460: مادة: (جد)، ج: 14/ 162: مادة (ورد)، ج: 15/ 529: مادة (مين)، "لسان العرب" 3/ 111: مادة: (جد)، برواية "أمِّهِ" بدلًا من: "أمهم"، و"متنابز" بدلًا من: "متماين"، وج: 13/ 426: مادة: (مين). ومعنى البيت: أن عليا قبيلة من كنانة، كأنها قال: رويدك عليًا أي أرْود بهم وارفق بهم. ثم قال: جُدَّ ثَدْىُ أُمهم إلينا، أي بيننا وبينهم خؤولة، ورَحم، وقرابة من قبل أُمِّهم، فهم منقطعون إلينا بها، وإن كان في ودهم مَيْنٌ: أي كذب، وملق. "شرح المفصل" 4/ 40. والشاهد: نصب "علي" بـ"رويد"، لأن رويدًا بدل من قولك: أرود، ومعناه أمهل. "شرح المفصل" المرجع السابق. (¬5) في (أ): (ومضاف). (¬6) في (أ): يسيرًا.

ويقولون "أيضًا" (¬1): سَاروا رُوَيْدًا. يحذفون المنعوت، ويقيمون "رويدًا" مقامه، كما يفعلون بسائر النعوت المتمكنة. (و) (¬2) من ذلك قول العرب: ضَعْهُ رُوَيْدًا، أي وضعًا رُوَيْدًا. وتقول للرجل (¬3) يعالج الشيء: رويدًا، إنما تريد أن تقول: علاجًا رُوَيْدًا، ويجوز في هذا الوجه أمران: أحدهما: أن يكون رويدًا حالًا. والثاني: أن يكون نعتًا. (فإن أظهرت المنعوت لم يجز أن يكون للحال) (¬4). والذي في الآية (هو) (¬5) ما ذكرنا في الوجه الثالث، لأنه يجوز أن يكون نعتًا للمصدر كأنه قيل: إمهالًا رويدًا، ويجوز أن يكون للحال، أي أمهلهم غير مستعجل مستأنيًا بهم (¬6). فهذا بعض ما قيل في هذه الكلمة، وشرحها يطول. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين المزدوجين ساقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين المزدوجين ساقط من (أ). (¬3) في أ: (للأجل). (¬4) ما بين القوسين أي من قوله: ومن هذا ما ذكره سيبويه إلى: لم يجز أن يكون للحال نقله عن سيبويه من كتابه: 1/ 243 - 245، باختصار، وانظر قول سيبويه أيضًا في: "تهذيب اللغة" 14/ 162: مادة: (رود). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) غير مقروءة.

سورة الأعلى

سورة الأعلى

1

تفسير سورة الأعلى (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال الفراء: "سبح اسم ربك"، و" [فسبح] باسم ربك (¬2)، كل ذلك قد جاء، وهو كلام العرب (¬3). هذا كلامه، وكأنة جعلهما (¬4) بمعنى واحد، وبينهما فرق؛ لأن معنى "سبح باسم ربك" نزه الله بذكر اسمه المنزه المنبئ (¬5) عن تنزيهه وعلوه عما يقول الظالمون. و"سبح اسم ربك" (نزهه من السوء، وقيل: سبحان ربي الأعلى) (¬6)، ¬

_ (¬1) مكية بإجماعهم، حكاها ابن الجوزي في "زاد المسير": 8/ 227، وانظر "جامع البيان": 30/ 151، "بحر العلوم": 3/ 469، "الكشف والبيان": ج 13: 75/ أ، وذكر ابن عطية قولاً ضعفه، وهو ما حكاه النقاش عن الضحاك أنها مدنية. انظر: "المحرر الوجيز": 5/ 468. (¬2) سورة الواقعة: 74: 96. قال تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}. (¬3) "معاني القرآن": 3/ 256. (¬4) في: أ: جعلها. (¬5) في: أ: المنهي. (¬6) ما بين القوسين من قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 315.

وهذا معنى قول المفسرين (¬1)، وقد روى عن علي (¬2)، وابن عباس (¬3)، وابن الزبير (¬4) (¬5) -رضي الله عنهم- أنهم قرؤوا (قوله (¬6): {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} فقالوا: سبحان ربي الأعلى، فإذا قلت: سبح باسم ربك، كان المعنى: سبح (بذكر اسمه، وإذا قلت: سبحان اسم ربك، كان المعنى سبح) (¬7) ربك، لأن الاسم هو المسمى. قال صاحب النظم: قد احتج بهذا الفصل من يقول: إن الاسم، والمسمى واحد؛ لأن أحدًا لا يقول: سبحان (اسم) (¬8) الله، وسبحان اسم ¬

_ (¬1) قال بذلك إضافة إلى ما ذكره الواحدي: ابن عمر، وقتادة، "جامع البيان": 30/ 151، وقال به أيضًا: الثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13: 76/ ب، وعزاه البغوي إلى جماعة من الصحابة والتابعين في "معالم التنزيل": 4/ 475. وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: نزه يا محمد اسم ربك الأعلى أن تسمى به شيئاً سواه نحو ما قال المشركون عن آلهتهم: اللات، والعزى. وقال غيرهم: بل معنى ذلك: نزه الله عما يقول فيه المشركون. وقال بعضهم: نزه تسميتك يا محمد ربك الأعلى، وذكرك إياه أن نذكره إلا وأنت له خاشع متذلل. وقالوا أيضًا: صل بذكر ربك يا محمد. راجع ذلك في "جامع البيان": 30/ 151 - 152. (¬2) "جامع البيان": 30/ 151، "النكت والعيون": 6/ 252، "المحرر الوجيز": 5/ 468. (¬3) المراجع السابقة عدا المحرر. (¬4) في: ع: زبير. (¬5) "المحرر الوجيز": 5/ 468. (¬6) ساقط من: أ. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬8) ساقط من: أ.

2

ربنا، فمعنى "سبح اسم ربك": سبح ربك، والرب أيضًا اسم، فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه (¬1). 2 - قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} قال عطاء: أحسن مَا خلق (¬2). وقال الكلبي: خلق كل ذي روح، فجمع خلقه وسواه: اليدين، والعينين، والرجلين (¬3). وقال مقاتل: خلق لكل دَابة مَا يصلح لها من الخلق (¬4). وقال أبو إسحق: خلق الإنسان مستويًا (¬5). وعلى هذا معنى: "سوى" ¬

_ (¬1) ورد قوله في "الوسيط": 4/ 469، وقد بين ابن تيمية أنه أمره بتسبيح ربه في كلا الآيتين: الواقعة، والأعلى، ولكن ليس أمر بصيغة معينة، فإذا قال: سبحان الله وبحمده، وسبحانك اللهم وبحمدك، فقد سبح ربه الأعلى والعظيم، فالله هو الأعلى، وهو العظيم، واسمه "الله" يتناول سائر الأسماء بطريق التضمن، وان كان التصريح بالعلو والعظمة ليس هو فيه، ففي اسم "الله" التصريح بالإلهية، واسمه "الله" أعظم من اسمه "الرب". "مجموع الفتاوى": 16/ 117. (¬2) ورد قوله في: "شفاء العليل" في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: لابن قيم الجوزية: 117 - 118، وإحسان خلقه يتضمن تسويته، وتناسب خلقه وأجزائه؛ بحيث لم يحصل فيها تفاوت يخل بالتناسب والاعتدال، فالخلق: الإيجاد، والتسوية: إتقانه وإحسان خلْقه، قاله ابن قيم الجوزية: "شفاء العليل": 118. (¬3) "معالم التنزيل": 4/ 475، بنحوه، "روح المعاني": 30/ 104، "شفاء العليل": 118 وورد غير معزو في "لباب التأويل": 4/ 369. (¬4) لم أعثر على قوله في تفسيره، ولا غيره من كتب التفسير، وقد ورد في: "شفاء العليل": 118. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 315، وهذا القول من الزجاج على سبيل التمثيل، وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} =

عَدّل قامته (¬1). {وَالَّذِي قَدَّرَ} وقرئ بالتخفيف (¬2)، وهما بمعنى واحد (¬3)، وقد ذكرناه (¬4) في مواضع (¬5). قال عطاء: قدر من النسل مَا أراد (¬6). وقال مقاتل: قدر خلق الذكر ¬

_ = [الشمس: 7]، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} البقرة: 29]، فالتسوية شاملة لجميع مخلوقاته، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] وما يوجد من التفاوت، وعدم التسوية، فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق، فإن التسوية أمر وجودي تتعلق بالتأثير والإبداع، فما عُدم منها فالعدم بإرادة الخالق بالتسوية، وذلك أمر عَدَمي يكفي فيها عدم الإبداع والتأثير، ففي قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} التفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية، كما أن الجهل، والصمم، والعمى، والخرس، والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلْقها وإيجادها، والمقصود أن كل مخلوق فقد سواه خلقه سبحانه في مرتبة خلقه، وإن فاتته التسوية من وجه آخر لم يخلق له. قاله ابن قيم الجوزية في: "شفاء العليل": 118. (¬1) ما مضى من الأقوال داخله في المرتبة الأولى من مراتب الهداية، وهي الهداية العامة؛ هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، المتضمنة أربعة أمور عامة وهي: الخلق، التسوية، التقدير، الهداية: "شفاء العليل": 117. (¬2) قرأ بذلك: الكسائي وحده: "قدَرَ" خفيفاً، وقرأ الباقون: {وَالَّذِي قَدَّرَ} مشددة. انظر: كتاب "السبعة": 680، "القراءات وعلل النحويين فيها": 2/ 767، و"الحجة": 6/ 398، "المبسوط": 405، "النشر": 2/ 399، "الوافي": 379. (¬3) أي قَدَر، وقَدِّر. فكلا الوجهين حسن. قاله أبو علي: "الحجة": 6/ 398. (¬4) في: ع: ذكرنا. (¬5) المواضع التي ذكر فيها {قُدِرَ}: سورة فصلت: 10: قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}: سورة المدثر: 18 - 20 قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}. (¬6) "شفاء العليل": 118، بإضافة: ثم هدى الذكر للأنثى.

والأنثى من الدواب (¬1). {فَهَدَى}. الذكر، والأنثى كيف يأتيها، وهو قول ابن عباس (¬2)، (والكلبي) (¬3) (¬4). قال عطاء: مثل قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬5) يريد الذكر والأنثى (¬6). واختاره صاحب النظم، قال: معنى هذا (¬7) هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها؛ لأن إتيان ذكران الحيوان مختلف لاختلاف الصور والخلق، والهيآت، فلولا أنه عز وجل جعل كل ذكر على معرفته (¬8) كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك (¬9). وذكر مقاتل قولًا آخر فقال: هداه لمعيشته ومرعَاه (¬10). وقال مجاهد: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل": 237/ ب، "شفاء العليل": 118، وانظر "الوسيط": 3/ 470 وعزاه إلى المفسرين. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 15، "شفاء العليل": 118. (¬3) "الكشف والبيان": ج: 13: 77/ أ، "معالم التنزيل": 4/ 475، "المحرر الوجيز": 5/ 469 بمعناه، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 15، "شفاء العليل": 118. (¬4) ساقط من: أ. (¬5) سورة طه: 50. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) في: ع: هذي. (¬8) في: ع: معرفة. (¬9) "الوسيط": 4/ 470، "شفاء العليل": 118. (¬10) "شفاء العليل": 118، "التفسير الكبير": 31/ 140 من غير عزو، ولم أعثر على قوله في تفسيره.

هدى الإنسان لسبيل الخير، والشر، والسعادة (¬1)، والشقاوة (¬2). وقال السدي: قدر مُدة الجنين في الرحم، ثم هدى للخروج (¬3). وقال الفراء: قدر فهدى وأضل، واكتفى من ذكر الضلال بالهدى (¬4) لكثرة ما يكون معه (¬5). ¬

_ (¬1) بياض في: ع. (¬2) ورد معنى قوله في: "تفسير الإمام مجاهد": 722، "جامع البيان": 30/ 152، "الكشف والبيان" -ج: 13: 77/ أ، "النكت والعيون": 6/ 252، وبمثل قوله ورد في "معالم التنزيل": 4/ 475، "زاد المسير": 8/ 228، "التفسير الكبير": 31/ 140 من غير عزو، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 15 بنحوه، "تفسير القرآن العظيم": 4/ 534 بمعناه، "الدر المنثور": 8/ 482 وعزاه أيضًا إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وانظر "شفاء العليل": 118. (¬3) ورد معنى قوله في "معالم التنزيل": 4/ 475، "زاد المسير": 8/ 228، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 26، "روح المعاني": 30/ 104، "شفاء العليل": 118. (¬4) في: أ: الهدا. (¬5) "معاني القرآن": 3/ 256 بنصه. والآية أعم من هذا كله، وأضعف الأقوال فيها قول الفراء، إذ المراد: هاهنا: الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه، وليس المراد به الإيمان والضلال بمشيئة، وهو نظير قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} طه: 50، فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج، والهداية: التعليم، والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه، وما ذكر مجاهد فهو تمثيل منه لا تفسير مطابق للآية، فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله: ناطقه، وبهيمة، وطيره، ودوابه، فصيحه، وأعجمه، وكذلك قول من قال: إنه هداية الذكر لإتيان الأنثى تمثيل أيضًا، وهو فردٌ واحدٌ من أفراد الهداية إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه، والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت، والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه. قاله ابن قيم الجوزية "شفاء العليل": 119. وقال الشيخ السعدي: وهذه هي الهداية العامة التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته. تيسير الكريم الرحمن: 5/ 403.

قوله (تعالى) (¬1): {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أنبت العشب، وما ترعَاه السوائم. {فَجَعَلَهُ} (¬2) بعد الخضرة. {غُثَاءً} هشيما جافًا كالغثاء الذي تراه فوق السيل. قال المبرد: الغثاء: مَا تحطم من يبس البقل يأتي به السيل فيقذفه على جانب الوادي (¬3). قال الكلبي: غثاء يبيسًا (¬4). وقال مقاتل: يابسًا (¬5). وقوله (¬6) (تعالي) (¬7): {أَحْوَى}. فيه وجهان أحدهما: أنه من نعت الغثاء، والمعنى فجعله يابسًا أسود بعد الخضرة. قال عطاء: يريد بعد الخضرة والحسن صَار متغيرًا إلى السواد (¬8). وقال الكلبي: حال عليه الحول فاسودّ (¬9). وقال مقاتل: يعني باليًا بعد الخضرة (¬10). هذا مذهب المفسرين (¬11)، وذلك أن الرطب إذا جف يبس ¬

_ (¬1) بياض من: ع: 5 (¬2) {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، والذي ورد عنه في الكامل، قال: فالغثاء ما يَبسَ من البقل حتى يصير حُطاماً، وينتهي في اليبس فيسودّ، فيقال له: غثاء، وهشيم، ودِنْدِن، وثن على قدر اختلاف أجناسه: 1/ 113. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل": 237/ ب. (¬6) في: أ: قوله. (¬7) ساقط من: ع. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل": 237/ ب. (¬11) وإلى معنى هذا ذهب قتادة، ومجاهد، وابن زيد، وابن عباس. "تفسير عبد الرزاق": 2/ 367 "جامع البيان": 30/ 153. =

واسودّ كما قال (¬1): ربع الخمائل في الدرين الأسود (¬2) وذكر أبو عبيدة (¬3)، والفراء (¬4)، (والمبرد (¬5)، والزجاج) (¬6) (¬7)، وأبو علي (¬8) وجهًا آخر، وهو أن {أَحْوَى} في موضع نصب حال من المرعى، المعنى: الذي أخرج المرعى أحوى، أي أخضر يضرب إلى الحوَّهَ {فَجَعَلَهُ غُثَاءً}، وأحوى على هذا صفة للمرعى، والمعنى أسودّ من الري لشدة الخضرة كقوله: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64]، وقد مر (¬9). والحوّة: ¬

_ = وإليه ذهب ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن": 524، وانظر: "معالم التنزيل": 4/ 476، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 17، "لباب التأويل": 4/ 370. كما ذهب إلى ذلك الفراء في "معاني القرآن": 3/ 256، وأبو عبيدة في "مجاز القرآن": 2/ 295 (¬1) لم أعثر على قائله. (¬2) لم أعثر على مصادر له. (¬3) "مجاز القرآن": 2/ 295، وقد ذكر الوجهين، قال: فجعله [[غثاء أحوى]] هيجه حتى يبس فجعله أسود من احتراقه غثاء هشيماً، وهو في موضع آخر: من شدة خضرته، وكثرة مائه يقال له أحوى. (¬4) "معاني القرآن": 3/ 256، وذكر الوجهين أيضًا، وقال: الأحوى الذي قد أسودّ عن العتق، ويكون أيضًا أخرج المرعى أحوى فجعلة غثاء، فيكون مؤخراً معناه التقديم. (¬5) "الكامل": 1/ 305، واستدل في الآية لمن قال في السواد، ثم قال: وإنما سمي السواد سواداً لعِمارتِهِ، وكل خضرة عند العرب سواد. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 315. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) ومما جاء في تفسير قوله: {مُدْهَامَّتَانِ}: قال أبو عبيدة: في خضرتهما قد اسودتا =

السواد، قال ذو الرمة: لَمياءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللثَّاتِ (¬1) وفي أنيابِها شَنَبُ (¬2) (قوله تعالى) (¬3): ¬

_ = من الري، قال أبو إسحق: وكل نبت أخضر فتمام خضرته وريه أن يضرب إلى السواد، ومعنى الدهمة في كلام العرب السواد. قال الليث: أدهام الزرع إذ علاه السواد رياً. قال ابن عباس: شديد الخضرة إلى السواد. وقال الكلبي: خضراوان قد كلاهما سواد من شدة الخضرة والري، والأصل في ذلك أن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، سمت العرب الأخضر أسود، والأسود أخضر. والوجه الثاني: رده الطبري، قال: وهذا القول، وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي، بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذ لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه، أو تأخيره، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. "جامع البيان" - 30/ 153. (¬1) في: أ: الثات. (¬2) ورد البيت في ديوانه: 1/ 32، "تهذيب اللغة": 5/ 293: مادة: (حوى)، "لسان العرب": 1/ 507: مادة: (شنب)، "النكت والعيون": 6/ 253، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 17، وقد نسبه إلى الأعشى وهو خطأ، "فتح القدير": 5/ 423، "روح المعاني": 30/ 104، "البحر المحيط": 8/ 457، ومعنى البيت قال الأزهري: والحوَّه في الشفاه شبيه باللمى واللمس، براوية "لمس" بدلاً من "لعس"، والشنب: اختلفوا فيه، قال بعضهم: هو تحزيز أطراف الأسنان، وقيل: هو صفاؤها ونقاؤها، وقيل: هو تفليجها، وقيل: هو طيب نكهتها. انظر "تهذيب اللغة": 5/ 293: مادة: (حوى)، "لسان العرب": 1/ 507: مادة: (شنب). (¬3) ساقط من: ع.

{سَنُقْرِئُكَ} (¬1) أي سنجعلك قارئًا بأن نلهمك القراءة. {فَلَا تَنْسَى} ما تقرأه. والمعنى: نجعلك قارئًا للقرآن تقرأه فلا تنساه. قال أبو إسحق: أعلم الله أنه سيجعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- آية يتبين له بها الفَضْيلة (¬2)، وهي أن ينزل عليه جبريل حتى يقريه، فيقرأ، ولا ينسى شيئًا من ذلك، وهو أمي لا يكتب كتابًا ولا يقرؤه (¬3)، وهذا معنى قول قتادة (¬4). وقال مجاهد (¬5)، ومقاتل (¬6)، (والكلبي) (¬7) (¬8) كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسَانه، مخافة أن ينسى، وكان لا يفرغ جبريل من ¬

_ (¬1) {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}. (¬2) الفضيلة: هكذا وردت في "معاني القرآن وإعرابه": مخطوط: 29/ ب، ووردت في المطبوع الفضلية: 5: 315، ولعله خطأ مطبعي. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 315 - 316 بتصرف. (¬4) وعن قتادة قال: كان الله ينسى نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يشاء، وعنه أيضًا كان -صلى الله عليه وسلم- لا ينسى شيئاً إلا ما شاء الله. انظر "تفسير عبد الرزاق": 2/ 367، "جامع البيان": 30/ 154، "الكشف والبيان": ج 13: 77/ أ، "النكت والعيون": 6/ 253، "المحرر الوجيز": 5/ 469، "البحر المحيط": 8/ 458. (¬5) "الكشف والبيان": ج 13: 77/ أ، "معالم التنزيل": 4/ 476، "التفسير الكبير". 31/ 142، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 18، "لباب التأويل": 4/ 370 من غير عزو، "فتح القدير": 5/ 424. (¬6) "تفسير مقاتل": 237/ ب، "التفسير الكبير": 31/ 142، وورد بمثله من غير نسبة في "لباب التأويل": 4/ 370. (¬7) المرجعان السابقان، بإضافة: الكشف ج: 13: 77/ أ، "معالم التنزيل": 4/ 476، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 18، "فتح القدير": 5/ 424. (¬8) ساقط من: أ.

آخر الوحي حتى يتكلم (¬1) هو بأوله مخافة النسيان، فقال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} أي سنعلمك فتحفظه، وهذا كقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى (¬2) إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 16]، وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (¬3) [القيامة:16]. قوله (تعالى) (¬4): {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬5). قال عطاء عن ابن عباس: إلا مَا شاء الله أن ينسيَك (¬6). ونحوه قال مقاتل: إلا مَا شاء الله أن تنسى منه (¬7). وعلى هذا معنى الاستثناء يعود إلى مَا ينسيه الله بنسخه من رفع حكمه (¬8) وتلاوته، كما قال {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، والإنساء (¬9) نوع من النسخ، (وهذا معنى قول الحسن (¬10)، وقتادة) (¬11) (¬12). ¬

_ (¬1) بياض في: ع. (¬2) قوله أن يقضي: بياض في: ع. (¬3) بياض في: ع. (¬4) ساقط من: ع. (¬5) {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}. (¬6) "البحر المحيط": 8/ 458 - 459، "الدر المنثور": 8/ 483، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬7) "التفسير الكبير": 31/ 143، والذي ورد عنه في تفسيره: 237/ ب قال: يعني ما شاء الله فينسخها وباتي بخير منها. (¬8) في: أ: حكمته. (¬9) في: أ: الإنسان. (¬10) "النكت والعيون": 6/ 253، "المحرر الوجيز": 5/ 469، "زاد المسير": 8/ 229، "البحر المحيط": 8/ 458، وانظر "تفسير الحسن البصري": 2/ 412. (¬11) المراجع السابقة عدا تفسير الحسن. (¬12) ما بين القوسين ساقط من: أ.

وقال الكلبي - {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء منه، وله الاستثناء في كل شيء، ولم ينس بعد نزول هذه الآية شيئا (¬1) واختاره الفراء، فقال: لم يشأ أن ينسى شيئًا (¬2) وهو كقوله {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (¬3) ولا يشاء، وأنت قائل في الكلام لأعطينك كل مَا سَألت إلا مَا شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية أن لا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف (¬4) قال أبو إسحق: إلا مَا شاء الله، ثم يَذْكُره بعد (¬5). يعني أنه قد ينسى مَا شاء الله، ثم يَذْكُر بعد ما قد نسيه، ولا ينسى نسيانًا كليًا. وقوله (¬6) (تعالى) (¬7): {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ} أي من القول، والفعل (¬8). {وَمَا يَخْفَى} منهما. والمعنى يعلم العلانية، والسر. وهذا يتصل بما قبله على معنى يعلم ما تجهر به يا محمد مما تقرؤه على جبريل، ويعلم ما تخفيه في نفسك من القراءة مخافة النسيان (¬9). ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "التفسير الكبير": 31/ 142. (¬2) من قوله: واختار إلى شيئا: كرر في نسخه: أ. (¬3) سورة هود: 107 - 108. (¬4) "معاني القرآن": 3/ 256 بنحوه. وفيه الحالف التمام. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 316 مختصرًا. (¬6) في: أ: قوله. (¬7) ساقط من: ع. (¬8) هذا من قول الثعلبي في "الكشف والبيان": ج 13: 77/ ب. (¬9) ورد هذا القول في "الكشف والبيان": ج 13: 77/ ب.

وكثير من المفسرين (¬1) قالوا: هذا ابتداء كلام آخر معترض بين قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} وقوله (¬2) (تعالى) (¬3): {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} قال عطاء: نيسرك يا محمد في جميع أمورك لليسرى (¬4). وقال مقاتل: نهون عليك عمل الجنة (¬5)، وهو معنى قول ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرًا، واليسرى عمل الخير (¬6). وروي عن ابن مسعود أنه قال: اليسرى الجنة (¬7)، والمعنى على هذا: نيسرك للعمل المؤدي إليها. وذُكر قولان آخران: أحدهما: نهون عليك الوحي، وتحفظه، وتعمله (¬8)، وتعمل به (¬9). والآخر: نوفقك للشريعة اليسرى هى الحنيفة ¬

_ (¬1) منهم قتادة، قال: الوسوسة. "تفسير عبد الرزاق": 2/ 367، ولم أعثر على غيره ممن قال بذلك. وذهب إلى القول بعموم معنى الآية: الطبري في "جامع البيان": 30/ 154، وسعيد بن جبير كما في "الدر المنثور": 8/ 484، والشوكاني في "فتح القدير": 5/ 424. (¬2) في: أ: قوله. (¬3) ساقط من: ع. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "معالم التنزيل": 4/ 476، "فتح القدير": 5/ 424. (¬6) "النكت والعيون": 6/ 254، "معالم التنزيل": 4/ 476، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 19، "الدر المنثور": 8/ 484، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬7) "النكت والعيون": 6/ 254، "التفسير الكبير": 31/ 144، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 19. (¬8) تعمله: كررت في نسخه: أ. (¬9) "فتح القدير": 5/ 424، وبمثله من غير عزو ورد في "معالم التنزيل": 4/ 476، =

9

السمحة (¬1). 9 - (قوله تعالى) (¬2): {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: عظ يا محمد أهل مكة بالقرآن إن نفعت الموعظة والتذكير. قال صاحب النظم: وهذا الشرط غير معزوم عليه، ولا محتوم؛ لأن التذكير قد كان في بعض الأوقات غير نافع، والأمر به واقع في كل وقت؛ نفع أو لم ينفع، قال: وهذا كقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، فقوله: "إن ظنا" شرطًا لإطلاق المراجعة، ولو كان محتومًا (¬3) لما جاز أن تراجع حتى يظن أن يقيم حدود الله (¬4). هذا كلامه. ومعنى الشرط -هاهنا-: إن الله تعالى علم أن التذكير نافع في بعض الأوقات، وهو تذكير من يتذكر ويتعظ، وعلم أنه لا ينفع المستكبر المصرّ، فنصّ على ذكر إحدى الحالتين، وهو مضمنة بالحالة الثانية، على معنى: إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث مبلغًا للإعذار (¬5) والإنذار، فعليه التذكير في كل حَال؛ نفع أو لم ينفع، ولم تذكر الحَالة ¬

_ = "التفسير الكبير": 31/ 144، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 19. (¬1) ورد هذا القول من غير عزو في المراجع السابقة، وقال الشوكاني: الأولى حمل الآية على العموم أي: نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كل أمر من أمورهما التي تتوجه إليك. "فتح القدير": 5/ 424. (¬2) ساقط من: ع. (¬3) في: أ: حوا. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد مختصرًا جداً في "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 20، "البحر المحيط": 8/ 458، "فتح القدير": 5/ 424. (¬5) في: أ: للاعتذار.

10

الثانية كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬1). (وله نظائر كثيرة في التنزيل (¬2)) (¬3)، وكلام العرب (¬4)، وقد نبه الله -تعالى- على تفصيل الحالتين- 10 - قوله (¬5): {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} سيتعظ بالقرآن من يخشى الله. قال عطاء: يريد (¬6) عثمان (¬7) بن عفان. وقال الفراء: أنزلت في ابن أم مكتوم (¬8). ¬

_ (¬1) سورة النحل: 81، بمعنى أنه أراد الحر والبرد جميعاً. (¬2) كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} ق: 45. وكقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}: الأعلى: 9. وقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} البقرة: 172. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}. النساء: 101. فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه. استخراج بعض الآيات مستفاد من "فتح القدير": 5/ 424. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬4) كقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي وكما تقول لرجل: قل لفلان، وأعد له إن سمعك. إنما هو توبيخ المشار إليه، وإعلام أنه لم يسمع. انظر "المحرر الوجيز": 5/ 470، "البحر المحيط": 8/ 459. (¬5) بياض في: ع (¬6) في: أ: عثمن. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله من غير عزو في "التفسير الكبير": 31/ 146. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد هذا القول عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في ابن أم مكتوم، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 20.

{وَيَتَجَنَّبُهَا} (¬1) يعني: ويتجنب الذكرى، قاله الفراء (¬2)، والزجاج (¬3) (¬4). (قوله تعالى) (¬5): {الأشقى} يعني: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} قال عطاء: يريد العظيمة، الفظيعة (¬6) (¬7). قال: مقاتل: لأنها أعظم وأشد حرًا من نار الدنيا (¬8). وقال الكلبي: هي النار السفلى (¬9). يعني أن نار تلك الطبقة التي هي الدرك الأسفل أعظم وأشد حرًا. {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا} (¬10) فيستريح. {وَلَا يَحْيَى} حياة تنفعه. قال مقاتل: قال: ونزلت هذه الآيات في: الوليد، وعتبة، وأمية (¬11). (قوله تعالى) (¬12): {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قال عطاء عن ابن عباس: يريد ¬

_ (¬1) {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}. (¬2) "معاني القرآن": 3/ 356. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 316. (¬4) في: ع: الزجاج والفراء. (¬5) ما بين القوسين ساقط في: أ. (¬6) في: أ: المطيعة. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل": 4/ 476، "زاد المسير": 8/ 230، "لباب التأويل": 4/ 370، "فتح القدير": 5/ 425. (¬8) بمعناه في "تفسير مقاتل": 237/ ب، وقد ورد بمثله من غير عزو، انظر: المراجع السابقة. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "المحرر الوجيز": 5/ 470، وقد ورد بمعناه عن الفراء في "معاني القرآن": 3/ 256. (¬10) {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}. (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬12) ساقط من: ع.

عثمان بن عفان (¬1). ومعنى ({تَزَكَّى} (¬2). قال: لا إله إلا الله (¬3). {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} (¬4) قال: ذكر معاده، وموقفه بين يدي الله فصلى (¬5). والمعنى على هذا: قد أفلح من تطهير من الشرك، وذكر ربه بالخوف والخشية، فعبده وصلى (له) (¬6)، يعني (¬7): الصلوات الخمس (¬8)، (ونحو هذا روى جابرًا مرفوعًا) (¬9) (¬10). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، غير أنه ورد بمثل قوله عن عطاء في "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 22، وعن الضحاك: أنها نزلت في أبي بكر، انظر: "النكت والعيون": 6/ 255، و"الجامع لأحكام القرآن": 20/ 22. (¬2) ساقط من: ع. (¬3) قال بذلك ابن عباس عن طريق سعيد بن جبير في "معالم التنزيل": 4/ 486، و"التفسير الكبير" 31/ 148، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 22، و"الدر المنثور" 8/ 484، وعزاه إلى البيهقي في "الأسماء والصفات"، وقد قال بذلك أيضًا عكرمة في "جامع البيان" 30/ 156. (¬4) {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}. (¬5) قال بذلك ابن عباس من طريق عطاء. انظر قوله في "الكشاف": 4/ 205، "البحر المحيط" 8/ 460، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 435، "الدر المنثور" 8/ 484، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (¬6) ساقط من: أ. (¬7) في: أ: المعنى. (¬8) وهو قول ابن عباس: "جامع البيان" 30/ 157، "النكت والعيون" 6/ 255، "زاد المسير" 8/ 230. (¬9) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬10) سلسلة الإسناد كما جاءت عن البزار كالآتي: وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عباد بن أحمد العرزمي، حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن =

وقال الحسن: أفلح من كان عمله زاكيًا (¬1)، وعمل صالحًا (¬2)، وهو قول قتادة (¬3)، قال أبو إسحاق: معنى تزكى تكثر بتقوى الله، ومعنى الزاكي: النامي (¬4) الكثير (¬5). وجماعة (من) (¬6) المفسرين يحملون (¬7) الآيتين على زكاة (¬8) الفطر، وصلاة العيد. ¬

_ = عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلح من تزكى" قال: من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله، وذكر اسم ربه فصلى) قال: هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والاهتمام بها، ثم قال: لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه. انظر: "كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة": للهيثمي: 3/ 80 ح: 2284. وأخرجه ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم": 4/ 35، والسيوطي في "الدر المنثور" 8/ 484، وعزاه إلى البزار، وابن مردويه. وقال الهيثمي: وفيه عباد بن أحمد العرزمي قال عنه الدارقطني: متروك. (انظر ميزان الاعتدال: 2/ 365: ت 4108)، وقد رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد العرزمي، وهو متروك، "مجمع الزوائد": 7/ 137 سورة سبح. (¬1) بياض في: ع. (¬2) ورد قوله في "جامع البيان": 30/ 156، "الكشف والبيان": ج: 13: 78/ أ، "معالم التنزيل": 4/ 476، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 21، "البحر المحيط": 8/ 460، "زاد المسير": 8/ 230، "تفسير الحسن البصري": 2/ 412. (¬3) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق": 2/ 367، "الكشف والبيان" ج 13: 78/ أ، "الدر المنثور": 8/ 484، "فتح القدير": 5/ 425. (¬4) بياض في: ع (¬5) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 316 بنص العبارة. (¬6) ساقط من: أ. (¬7) بياض في: ع. (¬8) زكوة: في كلا النسختين.

قال الكلبي: أفلح (¬1) من تزكى قبل مروره إلى العيد، وصلى مع الإمام (¬2). وهو قول (عكرمة (¬3)، وأبى العالية (¬4)، وابن سيرين (¬5)، وابن) (¬6) (عمر (¬7)) (¬8)، وروي ذلك مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلح من تزكى": أخرج زكاة (¬9) الفطر، "وخرج إلى المصلى فصلى" (¬10). ¬

_ (¬1) بياض في: ع. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "التفسير الكبير" 31/ 48. (¬3) ورد قوله في: "أحكام القرآن" لابن العربي 4/ 192، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 21، "التفسير الكبير" 31/ 138، "فتح القدير" 5/ 425. (¬4) أحكام القرآن: للجصاص: 3/ 472، "الكشف والبيان": ج: 13: 78/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 477، أحكام القرآن لابن العربي 4/ 192، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 21، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 535، "الدر المنثور" 8/ 485، "فتح القدير" 5/ 425، "تفسير أبي العالية" تح: نورة الورثان: 2/ 638، "السنن الكبرى" للبيهقي: 4/ 268 ح: 7669. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 21، "الدر المنثور" 8/ 486، "السنن الكبرى" للبيهقي: 4/ 268. (¬6) ما بين القوسين لم يذكر في أ، وإنما ذكر بدلاً من تعدادهم عبارة مجملة، وهو قول "جماعة". (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 477، "التفسير الكبير" 31/ 148، "السنن الكبرى" للبيهقي 4/ 268. (¬8) ما بين القوسين بياض في ع، وأثبت ما جاء في "الوسيط": 4/ 471، وكذلك "التفسير الكبير": 31/ 48، فقد سرد الأسماء السابقة لابن عمر كما هي عند الواحدي في البسيط والوسيط، وهو كثيرًا ما ينقل عنه بعزو وبغير عزو، فلهذا أثبت ما جاء عندهما، والله أعلم. (¬9) زكوة: في كلا النسختين (¬10) الحديث أورده القرطبي عن كثير بن عبد الله، عن أبيه عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، =

قال أستاذنا أبو إسحاق الثعلبي رحمه الله (¬1): ولا أدري ما وجه هذا التأويل، لأن هذه السورة مكية بالإجماع، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة، ولا فطر. والله أعلم (¬2). قلت: يجوز أن يكون الله أنزل إلينا (¬3) على من فعل ذلك إذ أنزله، وأمر به، وكان في معلومه أن ذلك سيكون، فأثنى (¬4) على من فعل ذلك، وأثنى (¬5) على من ائتمر به، وأطاعه فيما يأمر به (¬6) من زكاة الفطر، وصلاة العيد، إذ أنزل الأمر بهما. وقال مقاتل: قد أفلح من تصدق (الفطر) (¬7) من ماله، وذكر ربه ¬

_ = وذكر الحديث بمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 21، "الدر المنثور" 8/ 485، وعزاه إلى البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن مردويه، والبيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 168: ح: 7668، قال السيوطي: أخرجه بسند ضعيف عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى مثله الطبراني في "المعجم الكبير" 22/ 98: ح: 239، وفيه محمد بن أشقر، وهو ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد" كتاب التفسير: (سورة سبح): 8/ 136 - 137. (¬1) في: ع: -رضي الله عنه-. (¬2) "الكشف والبيان" ج: 13: 78/ ب بنصه، وممن وافقه على ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير": 8/ 230، القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 22، الخازن في "لباب التأويل": 4/ 370، والشوكاني في "فتح القدير": 5/ 425. (¬3) بياض في: ع. (¬4) في: أ: وأثنى. (¬5) في: ع: فأثنى. (¬6) في: أ: الله (¬7) ساقط من: ع.

بالتوحيد في الصلاة، فصلى له (¬1). وهذا يجوز أن يحمل على الزكاة (¬2) والصلاة المفروضتين، وأن يحمل على التطوع بهما. قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ (¬3) الدُّنْيَا} (قراءة العامة بـ"التاء" (¬4) لما روي في حرف أبي: "بل أنتم تؤثرون" (¬5). قال الكلبي: تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة (¬6). وقال ابن مسعود: دار الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها، ونساؤها، ولذتها، وبهجتها، وأن الآخرة نعتت لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل، وتركنا الآجل (¬7). وقرأ أبو عمرو: {يُؤْثِرُونَ} بـ"الياء"، وقال: يعني: الأشْقَيْن (¬8) ¬

_ (¬1) بمعناه في "تفسير مقاتل": 237/ ب. (¬2) الزكوة: في كلا النسختين. (¬3) الحيوة: في كلا النسختين. (¬4) وقرأ بذلك أيضًا: يعقوب. انظر: "السبعة" 680، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 767، "الحجة" 6/ 399، "المبسوط" 405، "حجة القراءات" 759، "التبصرة" 724، "النشر" 2/ 400. (¬5) ما بين القوسين نقل عن "الحجة" 6/ 399. (¬6) "الوسيط" 4/ 472. (¬7) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 57، "الكشف والبيان" ج 13/ 79/ أ، "معالم التنزيل" 4/ 477، "التفسير الكبير" 31/ 149، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 23، "لباب التأويل" 4/ 371، "تفسير القرآن العظيم": 4/ 535، "الدر المنثور": 8/ 487، وعزاه أيضًا إلى ابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في "شعب الإيمان". (¬8) وقرأ أيضًا يعقوب وقتيبة عن الكسائي بذلك. انظر: كتاب "السبعة" 680، "القراءات وعلل النحوين فيها" 2/ 767، "الحجة" =

الذين ذكروا في قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} ثم رغب في الآخرة فقال: {وَالْآخِرَةُ} أي والدار الآخرة يعني: الجنة. {خَيْرٌ} أفضل. {وَأَبْقَى} أدوم من الدنيا. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا} يعني ما ذكر من عند {قَدْ أَفْلَحَ} أربع آيات. {لَفِى} الكتب الأولى التي قد أنزلت قبل القرآن، ذكر فيها فلاح المتزكي، والمصلي، وإيثار الخلق الآخرة على الدنيا، وأن الآخرة خير، وهذا قول (الكلبي (¬1)) (¬2)، ومقاتل (¬3)، (والفراء (¬4)) (¬5)، والزجاج (¬6)، (وابن قتيبة) (¬7) قال: ولم يُرد الألفاظ بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لِمَن تزكى، وذكر الله فصلى في الصحف الأولى، كما هو في القرآن (¬8). (وروى معمر عن قتادة قال: يعني هذه السورة (¬9)) (¬10)، وقال ابن ¬

_ = 6/ 399، "المبسوط" 405، "الكشف" 2/ 470، "حجة القراءات" 759، "التبصرة" 724، "النشر" 2/ 400. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ساقط من: أ. (¬3) "تفسير مقاتل": 337/ ب بمعناه. (¬4) "معاني القرآن": 3/ 257، بمعناه. (¬5) ساقط من: أ. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه": 5/ 316 بمعناه. (¬7) ساقط من: أ. (¬8) "تفسير غريب القرآن" 524 بيسير من التصرف، وهذا القول ذهب إليه الطبري في "جامع البيان" 30/ 158، وقال ابن عطية: وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه بهذا، "المحرر الوجيز" 4/ 471. وقال ابن كثير 4/ 536: وهذا الذي اختاره يعني ابن جرير حسن قوي. (¬9) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 367، "جامع البيان" 30/ 158. (¬10) ما بين القوسين ساقط من: أ.

زيد: يعني قوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬1) (¬2)، فرد الإشارة في قوله: {إِنَّ هَذَا} إلى الأقرب إليه. (ونحو ذلك) (¬3) روي (¬4) عن قتادة أنه (¬5) قال: تتابعت كتب الله كما تسمعون أن الآخرة خير وأبقى (¬6). ثم بين أن الصحف الأولى مَا هي، فقال: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} قال (عطاء عن) (¬7) ابن عباس: يريد كتبًا أنزلت على إبراهيم، وكان نزل على موسى صحف قبل التوراة كما قال عز وجل: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (¬8) [النجم: 36] ويجوز أن يعني بصحف موسى التوراة. (تمت) (¬9) ¬

_ (¬1) بياض في: ع. (¬2) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 158، "الكشف والبيان" ج 13/ 79/ أ، "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 24، "فتح القدير": 5/ 425. (¬3) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬4) في: أ: وروى. (¬5) في: ع: فقد. (¬6) "جامع البيان" 30/ 158، "الكشف والبيان" ج 13: 79/ أ، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 24، "الدر المنثور" 8/ 488، وعزاه إلى عبد الرزاق، وإلي ابن جرير، وابن المنذر. "فتح القدير": 5/ 425. (¬7) ساقط من: أ. (¬8) بياض في: ع. (¬9) ساقط من: ع.

سورة الغاشية

سورة الغاشية

1

تفسير سورة الغاشية (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬2)، قال عطاء (¬3)، ومقاتل (¬4): يريد قد أتاك، وهذا كقوله هل {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الدهر: 1]. وقال (¬5) (الكلبي عن) (¬6) ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) مكية لا خلاف على ذلك بين أهل التأويل، قال ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 472، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 232، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 427. (¬2) ما بين المقوسين ساقط من (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر قوله، وقد ورد بمثله معزوًا إلى أكثر المفسرين في "فتح القدير" 5/ 428. (¬4) "تفسير مقاتل" 238 أ. (¬5) في (أ): (قال). (¬6) ساقط من (أ). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، ولكش وردت الرواية عن الكلبي في "النكت والعيون" 6/ 257، "فتح القدير" 5/ 428.

وقوله (¬1) (تعالى) (¬2): {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال عطاء: خبر القيامة (¬3)، وهو قول الحسن (¬4)، وقتادة (¬5). وقال الكلبي: يعني النار (¬6)، (وهو قول سعيد بن جبير (¬7)، ومقاتل (¬8)، وذلك أنها) (¬9) تغشى وجوه الكفار، كما قال عز وجل: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 14]. قال (¬10) المبرد: الغاشية ما يغشى الناس من أمر الآخرة (¬11). ومن قال: هي القيامة، أراد أنها تغشى الناس بأهوالها وشدائدها. ويدل على هذا القول: ¬

_ (¬1) في (أ): (قوله). (¬2) ساقط من (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، ولقد ورد بمثله معزواً إلى أكثر المفسرين في "الكشف والبيان" ج 13: 79 ب، "المحرر الوجيز" 5/ 472، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 25، وقد ورد بمثل قوله عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 536. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 536. (¬6) انظر "تفسير مقاتل" 238 أ. (¬7) "جامع البيان" 30/ 159، "الكشف" 13/ 79 ب، "المحرر الوجيز" 5/ 472، "زاد المسير" 8/ 232، "التفسير الكبير" 31/ 151، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 25، "البحر المحيط" 8/ 462، "فتح القدير" 5/ 428، "تفسير سعيد بن جبير" 372. (¬8) "زاد المسير" 8/ 232، "التفسير الكبير" 31/ 151، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 25، "البحر المحيط" 8/ 462، "فتح القدير" 5/ 428. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) في (ع): (وقال). (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله.

2

2 - قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} (¬1) يعني يوم الغاشية. {خَاشِعَةٌ} ذليلة بالعذاب، (قاله الكلبي (¬2) وغيره (¬3)) (¬4). قال مقاتل: يعني الكفار، لأنها تكبرت في الدنيا عن عباد الله (¬5). ومن قال: الغاشية النار قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني يوم تغشى النار الوجوه، وهو يوم القيامة. 3 - {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} قال (¬6) الكلبي: عاملة يعني تجر في النار، ناصبة في عذاب، ونصب من حرها (¬7)، وهو قول مقاتل (¬8)، (والحسن (¬9)) (¬10)، ¬

_ (¬1) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد من غير عزو في "الوسيط" 4/ 473. (¬3) قال بذلك: قتادة، وسفيان، ومقاتل انظر: "تفسير مقاتل" 238 أ، "جامع البيان" 30/ 160، "إعراب القرآن للنحاس" 5/ 209، "النكت والعيون" 6/ 258، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 536، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 26. وإلى هذا ذهب صاحب "معالم التنزيل" 4/ 478، "المحرر الوجيز" 5/ 473، "الكشاف" 4/ 206، "زاد المسير" 8/ 233، "البحر المحيط" 8/ 462. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "فتح القدير" 5/ 428، "الوسيط" 4/ 473. (¬6) في (أ): (وقال). (¬7) ورد معنى قوله في "الكشف والبيان" 13: 79 ب، "معالم التنزيل" 4/ 478، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 27، "فتح القدير" 5/ 428. (¬8) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 238 أ، "زاد المسير" 8/ 233، وقوله: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة العذاب. (¬9) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 160، وبنصه في "الكشف والبيان" 13/ 79 ب، "معالم التنزيل" 4/ 478، "معالم التنزيل" 4/ 478، "زاد المسير" 8/ 233، "البحر المحيط" 8/ 462، "فتح القدير" 5/ 428، "تفسير الحسن البصري" 2/ 413. (¬10) ساقط من (أ).

وقتادة (¬1)، وابن عباس (¬2) (في رواية عطية) (¬3)، قالوا: لم تعمل لله (¬4) تعالى فأعملها وأنصبها في النار، فهي تعالج السلاسل والأغلال. والمراد بالوجوه: أصحابها، ومعنى النصب (¬5): الدؤوب في العمل بالتعب. وقال عطاء عن ابن عباس: يعني الذين عملوا ونصبوا (¬6) في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان (¬7)، وغيرهم لا يقبل الله منهم إلا ما كان لوجهه خالصًا لا يقبل ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، وانظر أيضًا "تفسير عبد الرزاق" 2/ 338، "النكت والعيون" 6/ 258، "الدر المنثور" 8/ 491، وعزاه أيضًا إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬2) "جامع البيان" 30/ 160، "الكشف والبيان" 13/ 79 ب، "زاد المسير" 8/ 233، "البحر المحيط" 8/ 462. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (الله). (¬5) النَّصَبُ: الإعياء من العناء، والفعل من نصِبَ يَنْصب، "تهذيب اللغة" 12/ 210 (نصب)، "لسان العرب" 1/ 758 (نصب). وفي الغريب: النصب: التَّعب. انظر: "المفردات في غريب القرآن" 494، تحفة الأريب: 292. وعن ابن الملقن قال: ناصبة في النار، من النصب وهو التقلب، وعملها في النار الصعود والهبوط والصراخ، وقيل: عاملة في الدنيا بما تظن أن يقربها إلى الله، ناصبة أي في ذلك العمل. "تفسير غريب القرآن" 549. (¬6) غير واضحة في (ع) (¬7) الرُهْبان جمع راهب ويراد به المتعبد في الصومعة. "لسان العرب" 1/ 437 (رهب).

اجتهادًا في بدعة وضلالة؛ لكنه يقبل رفقًا في سنة (¬1)، وهذا قول سعيد بن جبير (¬2)، وزيد بن أسلم (¬3)، (وأبي الضحى عن ابن عباس (¬4)) (¬5)، قالوا هم: الرهبان، وأصحاب الصوامع (¬6)، واختاره صاحب النظم فقال: قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} منتظم بقوله: {وُجُوهٌ} دون قوله: {يَوْمَئِذٍ} علي تأويل: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا (¬7). {يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي في الآخرة، والآخرة ليست دار عمل، وقوله: {عَامِلَةٌ} أي في الدنيا، وفصل آخرون بين العاملة والناصبة، فقالوا: عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة؛ لأنها عملت في الدنيا في المعاصي، فصارت ناصبة (¬8) في النار يوم القيامة، وهو قول ¬

_ (¬1) ورد قوله في "معالم التنزيل" 4/ 478، "زاد المسير" 8/ 233، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 27، ولكن براوية الضحاك عن ابن عباس: "لباب التأويل" 4/ 473. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 80 أ، "المحرر الوجيز" 5/ 472 بمعناه، "زاد المسير" 8/ 233، "تفسير سعيد ابن جبير": 372 (¬3) المراجع السابقة. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 80 أ، "المحرر الوجيز" 5/ 472 بمعناه، "زاد المسير" 8/ 233، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 27. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) الصوامع جمع صومعة وزنها فَوْعلة، وهو بناء مرتفع حديد الأعلى، وهي منار الراهب، قال سيبويه (هو من الأصمع يعني المحَّدد الطرف المُنضَم وصومع بناءه: علاه مشتق من ذلك. "لسان العرب" 8/ 208 (صمع)، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 12/ 71. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 5/ 209. (¬8) في (أ): (الناصبة).

5

عكرمة (¬1)، (والسدي (¬2)) (¬3). ثم ذكر نصبها فقال: {تَصْلَى نَارًا (¬4) حَامِيَةً} قال ابن عباس: قد حميت، فهي تتلظى على أعداء الله (¬5). (وقرأ أبو عمرو {تُصْلَى} من أصليته النار، وحجته قوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31]، وصلوه مثل أصْلوهُ) (¬6). 5 - {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: (متناهية في شدة الحر؛ كقوله: {يَطُوفُونَ ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 80 أ، "معالم التنزيل" 4/ 478، "المحرر الوجيز" 5/ 472، "زاد المسير" 8/ 233، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 27، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 537، "الدر المنثور" 8/ 491، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬2) المراجع السابقة عدا "الدر المنثور"، انظر أيضًا: "تفسير السدي" 475. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (نار). (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 478، "زاد المسير" 8/ 233، "التفسير الكبير" 31/ 153، "لباب التأويل" 4/ 372، "البحر المحيط" 8/ 462، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 537. (¬6) ما بين القوسين نقله عن الحجة: 6/ 399، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس: 5/ 210، وبمثل قراءة أبي عمرو قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي تَصْلَى بفتح التاء، وكذلك حفص عن عاصم وحجتهم قوله {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} المسد: 3، انظر كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد: 681، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 769، "الحجة" 6/ 399، "المبسوط" 406، "الكشف" 2/ 370 - 371، "حجة القراءات" 759، كتاب "التبصرة" 724. قال أبو منصور: من قرأ "تَصْلَى" فمعناه تلزم حر نار حامية. ومن قرأ: "تُصَلَى" فمعناه تلقى في نار حامية حتى يصلى حرها أي يقاسي عذابها. "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 769.

6

بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (¬1)) (¬2). قال المفسرون: حارة قد انتهى حرها (¬3)، فلو وقعت منها نقطة على جبال الدنيا لذابت (¬4) هذا شرابهم. ثم ذكر طعامهم فقال: 6 - (قوله تعالى) (¬5): {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} قال أبو عبيدة (¬6)، والليث (¬7): الضريع: يبس الشِّبْرِق، وهو نوع من الشوك. وقال الفراء: (هو) (¬8) نبت يقال له: الشِّبْرِق، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس، ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: 14. (¬2) ما بين القوسين نقل عن "معاني القرآن وإعربه" 5/ 317. (¬3) قال بذلك ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وعطاء، انظر تفسير مجاهد: 724، "جامع البيان" 30/ 161، "إعراب القرآن" للنحاس 5/ 210، "المحرر الوجيز" 5/ 473، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 29، "البحر المحيط" 8/ 462، "الدر المنثور" 8/ 491، وعزاه البغوي إلى أكثر المفسرين: 4/ 478، كما قال بهذا القول أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب القرآن" 143 حاشية كتاب التيسير في علوم التفسير للديريني، ومكي في: "العمدة في غريب القرآن" 344، والخزرجي في: "نفس الصباح" 778، والراغب الأصفهاني في: "المفردات في غريب القرآن" 29. كما ذهب إليه السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 473، وقال ابن زيد: آنية: حاضرة، "جامع البيان" 3/ 161، "الدر المنثور" 8/ 492، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬4) بياض في (ع). (¬5) ساقط من (ع). (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 296، وكلامه: الضريع عند العرب: الشَّبْرق شجر. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وجاء نحو هذا القول عن الزجاج وكلامه: قال: الضريع الشبرق وهو جنس من الشوك إذا كان رطباً فهو شبرق، فإذا يبس فهو الضريع. "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 317، وجاء في "الصحاح" الضريع: يبيس الشبْرق، وهو نبت 3/ 1249 (ضرع). (¬8) ساقط من (أ).

وهو سم (¬1) (¬2). وقال أبو إسحاق: الشبرق جنس من الشوك، وإذا يبس فهو الضريع (¬3). (ونحو هذا قال أكثر المفسرين) (¬4)، وهو (قول الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6)، ومجاهد (¬7)، وعكرمة (¬8) قالوا (¬9): هو نبت [ذو شوك] (¬10) يسمى الضريع) (¬11) أخبث الطعام وأبشعه (¬12). قال مقاتل (¬13)، (والكلبي (¬14)) (¬15): هي شجرة لا تقربها دابة ¬

_ (¬1) ورد في "تهذيب اللغة" اسم بدلاً من سم: 4/ 471. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 257 بنصه. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 317 باختصار. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ) .. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 238 أ. (¬7) "تفسير الإمام مجاهد" 724، "جامع البيان" 30/ 162، "الكشف والبيان" 13/ 80 أ، "معالم التنزيل" 4/ 478، "زاد المسير" 8/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 29، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 537. (¬8) ورد بمعنى قوله في المراجع السابقة عدا تفسير مجاهد والكشف، وانظر معنى قوله في "الدر المنثور" 8/ 492، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬9) وممن ذهب أيضًا إلى القول إنه الشبرق: قتادة، وابن عباس، وأبو الجوزاء، وشريك بن عبد الله، انظر: "جامع البيان" 30/ 162، "النكت والعيون" 6/ 259، "المحرر الوجيز" 5/ 473، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 537. وممن عزاه إلى أكثر المفسرين: ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 234، الفخر في "التفسير الكبير" 31/ 153، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 29. (¬10) بياض في: ع، ولعل الساقط ما أثبته لورود نحو منه عند المفسرين المذكورين والله أعلم. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬12) في (أ): (أشبعه). (¬13) "تفسير مقاتل" 238 أ. (¬14) بنحوه ورد في "الكشف والبيان" 13/ 80 أ، "معالم التزيل" 4/ 478. (¬15) ما بين القوسين ساقط من (أ).

ولا ترعاها إذا يبست، (وصارت تسمى الضريع) (¬1). (وقال أبو الجوزاء) (¬2): هي السُلاء (¬3) (¬4)، (وهذا قول ابن عباس (¬5) في رواية العوفي) (¬6)، فإن قيل: إن الله تعالى يقول في موضع آخر: {فَلَيْسَ (لَهُ) الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 19]، وهاهنا يقول: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6]. والضريع غير الغسلين (¬7)، فكيف نجمع بين الآيتين؟ قيل: إن النار دركات، والجنة درجات، وعلى قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات، فمن أهل النار مَنْ طَعَامُهُ الزَّقوم، ومنهم من طعامُه الغِسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين لم يذكر في نسخة: أ، وإنما ذكر بدلاً منه لفظة: قيل. (¬3) السلاء مفرد سلأ، وهي شوكة النخله، والجمع سُلاء. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 387 (¬4) ورد قوله في "النكت والعيون" 6/ 259، "زاد المسير" 8/ 234، "التفسير الكبير" 31/ 153، برواية السّلَم بدلاً من السلاء، والسلم شجر من العضاه، وورقها القَرَظ الذي يدبغ به الأديم. وقال شمر: السَّلمة شجرة ذات شوك يدبغ بورقها وقشرها ويسمى ورقها القَرَظ. "لسان العرب" 12/ 296 (سلم). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في "الكشف والبيان" 13/ 80 أ، رواية العوفي عن ابن عباس بمثل رواية مجاهد وعكرمة. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) الغسلين: قال ابن قتيبة: غِسلين فِعْلين من غسلت كأنه الغسالة. قال بعض المفسرين هو ما يسيل من أجساد المعذبين. "تأويل مشكل القرآن" 68.

الصديد. وهذا قول عبد الله بن مسلم (¬1)، ومعنى قول الكلبي فإنه قال: الضريع في درجة ليس (لهم) (¬2) فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى (¬3). فإن قيل: كيف يكون في النار نبات وشجر، والنار تأكلها؟! قال ابن قتيبة: لم يُرِد -والله أعلم- أن الضريع بعينه ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه، والضريح من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً، قال الهُذَلي يذكر إبلًا وسوء مرعاها: وحُبِسْنَ (في) (¬4) هَزَمِ الضريعِ فكُلُّهَا ... حَدْبَاءُ دامية اليدين جَدودُ (¬5) ¬

_ (¬1) "تأويل مشكل القرآن" 68 بنصه، وإلى مثل هذا ذهب الزمخشري في "الكشاف" 4/ 206، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 234، والفخر الرازي في "التفسير الكبير" في: 31/ 154، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 462، والقرطبي نقلاً عن ابن قتيبة، وانظر "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 30، والشنقيطي في: "دفع إيهام الاضطراب" عن آيات الكتاب 10/ 301، وهو ملحق بكتاب أضواء البيان. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) "الجامع لأحكام القرآن": 20/ 31. (¬4) في كلا النسختين: من. (¬5) ورد البيت في: شرح أشعار الهذليين: 2/ 598 براوية: بادية الضُلوع جدود، "لسان العرب" 8/ 224 (ضرع). وورد غير منسوب في "مقاييس اللغة" 3/ 396 (ضرع) براوية: تُرِكْن في هزم، وأيضًا في: "المخصص" 1/ 201، براوية: حدباء بادية الضلوع، كما ورد في "الجامع لأحكام القرآن"20/ 30، "فتح القدير" 5/ 429، برواية: قرناء دامية اليدين جرود، "روح المعاني" 30/ 113. معناه الضريع يابس العشرق، هزمه ما تكسر منه ويبس، فإذا كان رطباً فهو =

فأراد الله تعالى أنهم يقتاتون ما لا يشبعهم، وضُرب الضريع لهم مثلاً، أو يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع، وهذا وجه (¬1). وقد يكون الضريع، وشجرة الزقوم (نبتتين) (¬2) من النار، أو من جوهر لا تأكله النار (¬3)، وكذلك سلاسل النار، وأغلالها، وأنكالُها، وعقاربها، وحيَّاتها، ولو كانت على ما نعلم لم تبق على النار، وإنما دلنا الله على الغائب (¬4) عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة للدلالة، والمعاني ¬

_ = الحِلة، جدود، وجرود، وحرود التي لا لين لها. انظر: شرح أشعار الهذليين. المرجع السابق. (¬1) وبه أيضًا قال الشنقيطي في "دفع إيهام الاضطراب" 10/ 301، ورد هذا الوجه الترمذي الحكيم قال: وهذا نظر سقيم من أهله، وتأويل دنيء كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، كما جعل لنا في الدنيا من الشجر الأخضر نارًا، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء ني الشجر تطفئ النار، فقال تعالىٍ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80]، وكما قيل حين نزلت: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}، قالوا يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف، أو ليس أخبرنا أنه {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}، وقال {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه الأشياء. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 31 - 32. وأجاب القشيري أيضًا حول دفع الاضطراب عن هذه الآية قال: إن الذي يبقي الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب يبقي النبات وشجر الزقوم في النار ليُعَذب بها الكفار. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 31 - 32. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) غير واضحة في (ع). (¬4) في (أ): (المغايب).

مختلفة، وما في الجنة من شجرها، وثمرها، وفرشها، وجميع آلاتها على مثل ذلك (¬1) هذا كلامه-. وقال الحسن: هو بعض ما أخفى الشر من العذاب (¬2). وروى مرفوعًا: "أن الضريع شيء يكون في النار شبيه الشوك أمرُّ من الصبر، وأنتنُ من الجيفة، وأشدُ حرًا من النار، سماها (¬3) الله ضريعًا" (¬4) وذكر في التفسير (¬5) أن المشركين قالوا: إن إبلنا لتسمن (¬6) على الضريع، وكذبوا في ذلك، فإن الإبل لا ترعاه ¬

_ (¬1) نقلا من "تأويل مشكل القرآن" 69 - 70 بتصرف. (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 30، "فتح القدير" 5/ 429. (¬3) غير واضحة في (ع). (¬4) من حديث رفعه ابن عباس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه الديلمي في كتاب فردوس الأخبار: 3/ 14: ح: 3719. كما ورد في: "الكشف والبيان" ج: 13/ 80 أ، "معالم التنزيل" 4/ 479، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 30، "لباب التأويل" 4/ 372، "الدر المنثور" 8/ 492 - 493، وعزاه إلى ابن مردويه بسند واه وفي الوسيط بإسناده عن طريق الضحاك عن ابن عباس: 4/ 474، وقد ضعف د. رأفت رشاد إسناد الرواية لوجود نهشل بن سعيد البصري عن الضحاك بن مزاحم. انظر: المبسوط بين المقبوض والبسيط، تح: رأفت: 2/ 816، وميزان الاعتدال: 4/ 275. (¬5) وعزاه إلى المفسرين كل من صاحب: "الكشف والبيان" 13/ 80 ب، "معالم التنزيل" 4/ 479، "الكشاف" 4/ 206، "زاد المسير" 8/ 234، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 32، "لباب التأويل" 4/ 372، كما أورده الفخر في "التفسير الكبير" 31/ 154، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 429، والألوسي في: "روح المعاني" 30/ 113. (¬6) في (أ): (تسمن).

8

-على ما ذكرنا- فقال الله (تعالى) (¬1): {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} ثم وصف أهل الجنة بقوله: 8 - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} قال مقاتل: في نعمة وكرامة (¬2). 9 - {لِسَعْيِهَا} (¬3) في الدنيا. {رَاضِيَةٌ} حين أعطيت الجنة بعملها. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} مرتفعة. قال عطاء: والدرجة مثل ما بين السماء والأرض (¬4). {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} (وقرئ بـ"الياء" (¬5) أيضًا، وهذا الضرب من المؤنث إذا تقدم فعله حسن التذكير فيه؛ على أن المراد بـ"اللاغية" اللغو، فالتأنيث على اللفظ، والتذكير على المعنى، وبناء الفعل للمفعول به حسن؛ لأن الخطاب ليس بمصروف إلى واحد بعينه. ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "الوسيط" 4/ 475، وورد مثله من غير نسبة في "الكشف والبيان" 13/ 80 ب، "معالم التنزيل" 4/ 479، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 32، "لباب التأويل" 4/ 372. (¬3) {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 155، وورد بمثله من غير عزو في "لباب التأويل" 4/ 372. (¬5) قرأ بذلك أي "لا يُسمع فيها لاغية". بالياء مضمومة لاغية رفع، ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب. وقرأ عبيد، وعباس، واليزيدي، وأبو زيد، وعبد الوارث، وعلي بن نصر عن أبي عمرو: "ولا يُسْمَعُ" بضم الياء، وروي عن هارون، والنضر بن شميل، عن هارون وعبد الوهاب عن أبي عمرو بالياء، والتاء جميعًا. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد: 681، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 769، "الحجة" 6/ 399، "المبسوط" 406، "حجة القراءات" 760، "إتحاف فضلاء البشر" 437.

وقرأ حمزة والكسائي: "لا تسمع" بـ"تاء" مفتوحة، "لاغية" نصبًا (¬1)، وهذا علي بناء الفعل للفاعل، وهو حسن على الشياع في الخطاب، وإن كان لواحد. وعلى هذا: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان: 20]، {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} [الإنسان: 19]. ويجوز أن يصرف الخطاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، و"اللاغية" مصدر بمنزلة العَاقبة والعَافية. ويجوز أن يكون صفة كأنك قلت: لا تسمع كلمة لاغية، والأول الوجه لقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [الواقعة: 25]، وهو قول أبي عبيدة قال: "لاغية" (¬2) لغوً (ا) (¬3) (¬4)) (¬5). قال ابن عباس: يريد كذبًا، ولا بهتانًا (¬6)، ولا كفرًا بالله (¬7). وقال قتادة: باطلاً (¬8). وقال مجاهد: شتمًا (¬9). ¬

_ (¬1) وقرأ أيضًا بذلك أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، وخلف. وقرأ نافع وحده: "لا تُسْمَعُ" بالتاء مضمومة "لاغية" رفع، وخارجة عن نافع "لا تسمع" بالتاء مفتوحة، "فيها لاغية" نصب، وعن ابن كثير: "لا تُسمع" بالتاء رفع. انظر: المراجع السابقة. (¬2) بياض في (ع). (¬3) ساقط من كلا النسختين والمثبت مثل ما جاء في المجاز، وكذا الحجة. (¬4) ورد قوله في "مجاز القرآن" 2/ 296، وكلامه: لا تسمع فيها لغوًا. (¬5) ما بين القوسين نقله من "الحجة" 6/ 399 - 400 بتصرف. (¬6) بياض في (ع). (¬7) ورد قوله مختصرًا في "النكت والعيون" 6/ 260، "التفسير الكبير" 31/ 156، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 33. (¬8) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 368، "جامع البيان"30/ 163، "الدر المنثور" 8/ 493، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬9) "تفسير الإمام مجاهد" 724، "جامع البيان" 30/ 163، "النكت والعيون" =

12

وقال مقاتل: لا يسمع بعضهم من بعض الحلف عند الشراب، كما يحلف أهل الدنيا إذا شربوا الخمر (¬1). وقال أبو إسحاق: لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم (¬2). 12 - (قوله تعالى) (¬3): {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} قال الكلبي: لا أدري بماء أو بغيره (¬4). 13 - {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} قال ابن عباس: ألواحًا من ذهب، مكللة ¬

_ = 20/ 33، "الدر المنثور" 8/ 493، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، "فتح القدير" 5/ 430. (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 156. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 318 وفيه: "بنعيمه" بدلاً من "النعيم"، وحسّن القرطبي هذا لعمومه. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 33، وقال الشوكاني: وهذا أرجح الأقوال؛ لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم، ولا وجه للتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص، إلا بمخصص يصلح للتخصيص. "فتح القدير" 5/ 430. واللغو على ثلاثة أوجه: أحدها: اللغو: اليمين الكاذبة، والثاني: اللغو: الباطل، والثالث: يعني الحلف عند شرب الخمر في الجنة كفعل أهل الدنيا إذا شربوا الخمر. وهذه المعاني تناولها المفسرون في معنى الآية. انظر قاموس القرآن: للحسين الدامغاني: 418 (لغو)، كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه، والنظائر: لابن العماد: 228 رقم 78 (لغو)، الوجوه والنظائر في القرآن الكريم د/ سليمان القرعاوي: 573 رقم 128 (لغو). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 156، "فتح القدير" 5/ 430.

بالزبرجد، والدُّرِّ (¬1)، والياقوت مرتفعة في السماء، ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها (¬2). {وَنَمَارِقُ} (¬3) يعني الوسائد في قول الجميع (¬4)، واحدها نُمْرُقة بضم النون، وزاد الفراء سماعًا من العرب نِمْرقة بكسر النون (¬5)، وأنشد أبو ¬

_ (¬1) الدُّر: جمع مفرده: الدُّرة وهو اللؤلؤ. انظر: مختار "الصحاح" 268 (درّ). (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 479، "زاد المسير" 8/ 235، "التفسير الكبير" 31/ 156، "لباب التأويل" 4/ 372. (¬3) بياض في (ع). (¬4) حكى الإجماع أيضًا الفخر الرازي في "التفسير الكبير" 31/ 156، وعزاه ابن كثير إلى ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، والسدي، والثوري، وغيرهم في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 537، ولم يذكر الطبري قولاً مخالفاً لهذا القول، غير أنه عدد معاني الآية من القول: إن النمارق هي: المجالس، والوسائد، والمرافق، وعزا ذلك إلى ابن عباس وقتادة، انظر: "جامع البيان" 30/ 164، وقد ذهب أيضًا إلى القول إنها الوسائد أصحاب الكتب الآتية: "بحر العلوم" 3/ 473، "الكشف والبيان" ج 13/ 80 ب، "معالم النزيل" 4/ 279، "المحرر الوجيز" 5/ 474، "الكشاف" 4/ 203، "زاد المسير" 8/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 34، "الباب التأويل" 4/ 372، "البحر المحيط" 8/ 463، "فتح القدير" 5/ 430. وبه قال أيضًا أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 296، وأبو عبيد في "غريب القرآن" 143، بحاشية كتاب التيسير، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 525، والسجستاني في "نزهة القلوب" 455، ومكي في: "العمدة في غريب القرآن" 345. وبه قال ابن منظور في "لسان العرب" 10/ 361 (نمرق). وقال د/ الخضيري في: الإجماع في التفسير: 525، ما ذكره الوحدي من الإجماع صحيح لا خلاف فيه. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 258، وعنده بكسر النون، والراء رواه عن بعض قبيلة كلب.

عبيدة (¬1) (لمحمد بن نمير الثقفي (¬2)) (¬3): إذا ما بِساط اللَّهْو مُدّ ... وقرّبَتْ للذَّاتِه أنمْاطُهُ ونمارِقُهْ (¬4) وأنشد للمبرد (¬5): وإنا لتَجْري الكَأْسُ عن شُرُوبِنَا ... وبين أبى قابوس فوقَ النَمارِقِ (¬6) (¬7) (¬8) قال الكلبي: وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض (¬9) (¬10)، وقال (¬11): ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد أنشد صاحب اللسان لأبي عبيد قول محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي: 10/ 36 (نمرق). (¬2) هو محمد بن عبد الله نمير الثقفي النميري -يرد اسمه محمد بن نمير-، شاعر غزل، من شعراء العصر الأموي، مولده ومنشؤه ووفاته في الطائف، كان كثير التشبيب بزينب أخت الحجاج، وتهدده الحجاج، ثم عفا عنه ألا يعود إلى ما كان عليه. انظر: "الأغاني" 6/ 201 ط. دار الكتب العلمية، "الأعلام" للزركلي: 6/ 220. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ) .. (¬4) ورد البيت في: "لسان العرب" 10/ 361 (نمرق)، "الكامل" 3/ 1370 ونسبه إلى النُصَيْب، وأنشده أبو الفرج في: "الأغاني" 10/ 140. (¬5) في: ع: المبرد. (¬6) بياض في (ع). (¬7) البيت للفرزدق انظر ديوانه: 2/ 54 برواية: "الخمر" بدلاً من: "الكأس"، و"سراتنا" بدلاً من: "شروبنا"، كما ورد في "الكامل" 3/ 1369، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 34 براوية: "لنجري"، "فتح القدير" 5/ 430 بمثل رواية القرطبي. (¬8) ورد قول المبرد في "الكامل" 3/ 369. (¬9) إلى بعض: بياض في: ع (¬10) "التفسير الكبير" 31/ 156. (¬11) أي المبرد، أظن ذلك، وكلامه كما جاء في الكامل المرجع السابق: والنَّمَارق واحدتها نُمْرْقة وهي الوسائد، ثم أنشد قول الفرزدق.

يعني الوسائد {مَصْفُوفَةٌ} على الطنافس (¬1). (قوله تعالى) (¬2): {وَزَرَابِيُّ} (¬3) يعني البسط، والطنافس واحدها "زربية"، وزربي (¬4)، في قول جميع أهل اللغة (¬5) والتفسير (¬6). ¬

_ (¬1) وهي الطُنْفسة. وهي البساط الذي له خَمْل رَقيق وجمعه طنافس. النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/ 140، "لسان العرب" 6/ 127 (طنفس). (¬2) ساقط من: ع (¬3) {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}. (¬4) بياض في (ع). (¬5) قال به الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 318، والفراء في "معاني القرآن" 3/ 258، وأبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 296، وبه قال الرازي في: مختار "الصحاح" 270، وابن منظور في "لسان العرب" 1/ 447 (زرب). وقال الجوهري: الزرابي. النمارق. انظر "الصحاح" 1/ 143 (زرب). ورده الرازي بقوله: النمارق: الوسائد، وهي مذكورة قبل آية الزرابي، فكيف يكون الزرابي النمارق، وإنما هي الطنافس المحملة والبسط. مختار "الصحاح" 270، وحكاه الفخر عن أهل اللغة في "التفسير الكبير" 31/ 156. (¬6) وقال بذلك ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والحسن، وغير واحد، كما قال ابن كثير انظر: "جامع البيان" 30/ 165، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 537، "الدر المنثور" 8/ 493، وقد قال أيضًا بهذا القول الطبري في "جامع البيان" 30/ 164، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 474، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 80 أ. كما قال بذلك أصحاب غريب التفسير: كابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 525، وأبي عبيد في "غريب القرآن" 143، والسجستاني في "نزهة القلوب" 258، ومكي بن أبي طالب في: "العمدة في غريب القرآن" 345، وانظر: "نفس الصباح" 2/ 779، "تفسير غريب القرآن" لابن الملقن: 550، "معالم التنزيل" 4/ 479، "الكشاف" 4/ 207، "زاد المسير" 8/ 235، "لباب التأويل" 4/ 373.

(قوله تعالى) (¬1): {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة منشورة (¬2). قال مقاتل: فكذب كفار مكة، ثم ذكرهم في هذه السورة فدل على صنعه ليعتبروا فلا يكذبوا بما في القرآن (¬3) بقوله. (قوله تعالى) (¬4): {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} قال مقاتل: إنما ذكر الإبل بمكة كثير، وليس بها فبلة فذكر لهم ما يرون صباحًا ومساءً (¬5). وقال قتادة: ذكر الله تعالى ارتفاع سور الجنة وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها فأنزل الله هذه الآية (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) وهو قول قتادة في "جامع البيان" 30/ 165، "النكت والعيون" 6/ 261. (¬3) "تفسير مقاتل" 238 ب بمعناه، وقد عزي هذا القول إلى المفسرين، قال بذلك الثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13/ 81 أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 479، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 235، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 34، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 373، والرواية عن المفسرين في المراجع السابقة. قال الثعلبي: قال المفسرون: لما نعت الله تعالى ما في الجنة في هذه السورة عجيب من ذلك أهل الكفر والضلالة، وكذبوا بها فذكرهم الله تعالى صنعه فقال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) انظر "تفسير مقاتل" 238 ب. (¬6) ورد معنى قوله في "الكشف والبيان" ج 13: 81 أ، "معالم التنزيل" 4/ 480، "زاد المسير" 8/ 235، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 35. كما وردت رواية قتادة في "لباب النقول" في "أسباب النزول" للسيوطي: 228، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم.

قال أبو عمرو بن العلاء: لأنه من ذوات الأربع يبرك فيحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم (¬1). وقال أبو إسحاق: نبههم على عظيم من خلقه قد ذلَّلَه (¬2) للصغير يقوده، وينيخه، وينهضه، ويحمل عليه الثقيل من الحمل، وهو بارك فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره، فأراهم (¬3) عظيمًا من خلقه، ليدل بذلك على توحيده (¬4). ثم قال: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} يعني من الأرض لا ينالها شيء بغير عمد، (قاله الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6)) (¬7). (قوله) (¬8): {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}. (على الأرض مُرسَاهَ مثبتة لا تزول) (¬9). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 35، وقد ورد بمثله من غير نسبة في "زاد المسير" 8/ 235، "لباب التأويل" 4/ 273. (¬2) في (أ): (قدر الله). (¬3) في (أ): (فأرارهم). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 318 بيسير من التصرف. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 238 ب. قال كيف رفعت فوقهم خمسمائة عام، وقد ورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 480، "زاد المسير" 8/ 236، "التفسير الكبير" 31/ 158، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 36، "لباب التأويل" 4/ 273. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) ساقط من (أ). (¬9) ما بين القوسين من قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 218.

21

(قوله) (¬1): {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي بسطت (¬2)، والسطح بسط الشيء، ويقال لظهر البيت إذا كان مستويًا: سطح، وفعله (¬3): التسطيح (¬4). قال أبو عبيدة: (يقال) (¬5) جبل مُسَطَّح (¬6) إذا كان في أعلاه استواء (¬7). قال (عطاء عن) (¬8) ابن عباس: يقول: هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غيري؟! وهل يفعل مثل هذا الفعل أحد سواي (¬9)؟! قال مقاتل: فلم يعتبروا بما رأوا من صنعه وعجائبه (¬10). 21 - فقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} قال ابن عباس: فعظ إنما أنت واعظ (¬11) (¬12)، ولم يؤمر إذ ذاك إلا بالتذكرة، ويدل عليه قوله: ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) قاله ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 525، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 319، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 474، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 8 أ. (¬3) فعلله في (ع). (¬4) سطح، انظر "لسان العرب" 2/ 284 (سطح). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) قوله: جبل مسطح: بياض في (ع). (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 296. (¬8) ساقط من (أ) .. (¬9) "معالم التنزيل" 4/ 480، "لباب التأويل" 4/ 373. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله، والذي ورد عنه في "تفسيره" 238 ب، ثم ذكر عجائبه فقال: أفلا ينظرون إلى الإبل الآية. (¬11) بياض في (ع). (¬12) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله من غير عزو في "النكت والعيون" 6/ 262، "لباب التأويل" 4/ 373.

{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} أي بمسلط فتقتلهم، وتكرههم على الإيمان، ثم نسختها آية القتال. (هذا قول جميع المفسرين) (¬1) (¬2)، والكلام في تفسير هذا الحرف قد تقدم عند قوله: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (¬3)، ومثل هذه الآية قوله: {وَمَا أَنْتَ ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) عزاه الفخر إلى جميع المفسرين في "التفسير الكبير" 31/ 160، وقال بالنسخ أيضًا ابن زيد في: "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر: 296، وهبة الله بن سلام في: "الناسخ والمنسوخ" 197، وابن البارزي في: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" 58. وممن قال بنسخها الزجاج في "معاني القرآن" 5/ 319، السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 474، الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 81 ب. وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 480، "المحرر الوجيز" 5/ 475، "زاد المسير" 8/ 236، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 37، "لباب التأويل" 4/ 373، "فتح القدير" 5/ 431. وقال ابن الجوزي في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} قيل: نسخت بآية السيف، وقيل: معناها لست عليهم بمسلط فتكرههم على الإيمان، فعلى هذا لا نسخ. انظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ" 59، و"نواسخ القرآن" 252، وكلاهما لابن الجوزي. قلت: الآية ليس فيها ما يدل على التعارض المؤدي إلى نسخها، وحديث جابر بن عبد الله فيه دلالة على أن الآية ليست منسوخة، والحديث عن جابر بن عبد الله قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/ 324: ح: 35 كتاب الإيمان: باب 8، والنسائي في "سننه" 3/ 519 - 520: ح: 690، والترمذي في "سننه" 5/ 441: ح: 3341: كتاب تفسير القرآن: باب 78، قال عنه حديث حسن صحيح. (¬3) سورة الطور: 37.

عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ} [ق: 45] الآية. ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} ذكر الفراء في الاستثناء الوجهين: أحدهما: أن يكون مستثنى من الكلام الذي [كان] (¬1) التذكير يقع عليه، وإن لم يُذَكر كما تقول: اذهب، وعظ، وذكّر إلا من لا (تطمع) (¬2) فيه، وعلى هذا معنى الكلام فذكر {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى}. الوجه الثاني: أن يكون منقطعًا عما قبله، كما تقول في الكلام: قعدنا نتذاكر الخير؛ إلا أن كثيرًا من الناس لا يرغب، فهذا المنقطع. وقال: وتعرف المنقطع من الاستثناء بحُسْن "إن" في المستثنى (فإذا كان الاستثناء) (¬3) محضًا متصلًا لم يحسن فيه "إن"، ألا ترى أنك تقول: عندي مائتان إلا درهمًا، فلا تدخل (¬4) "إن"، وهَاهنا يحسن "إن" بأن يقول: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} (¬5) وذكر بعض النحويين (¬6) أن هذا الاستثناء يجوز أن يكون عن الضمير ¬

_ = وقد ورد في تفسيرها قوله: "أهم المسيطرون" أي الأرباب المسلطون، ومصدره من التسطير، وقد قال المفسرون في تفسير هذا الحرف: المسلطون الجبارون، الأرباب القاهرون، كل هذا من ألفاظهم. والمعنى: أم هم الأرباب، فلا يكونوا تحت أمر ونهي يفعلون ما شاءوا. (¬1) هو: في كلا النسختين، ولا يستقيم الكلام بها، وأثبت ما جاء في المعاني. (¬2) تطعم: في كلا النسختين، وهو ظاهر الخطأ، وأثبت ما جاء في المعاني لاستقامة المعنى به. (¬3) ما بين القوسين ساقط من النسختين، وأثبت ما جاء في المعاني. (¬4) في (أ): إلا، وهو حرف زائد في السياق. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 259 بتصرف. (¬6) قال ذلك النحاس في: "إعراب القرآن" 5/ 215، وانظر أيضًا: البيان في "إعراب القرآن" لابن الأنباي: 2/ 510، التبيان في "إعراب القرآن" 2/ 1284، "الدر المصون" 6/ 514.

في "عليهم" على تقدير: لست عليهم بمسيطر إلا على من تولى (وكفر) (¬1) وهذا ليس بالسهل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان حينئذ مأمورًا بالقتال، ولا مسلطًا على أحد. والمعنى: إلا من أعرض عن الإيمان، وجحد ربوبيتي. قاله مقاتل (¬2)، وعطاء (¬3). {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} قال الكلبي: يدخله النار (¬4). وقال مقاتل: لا عذاب أعظم من النار، وهو أكبر من الجوع الذي أصابهم، والقتل ببدر (¬5). ثم ذكر أن مرجعهم إليه فقال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أي رجوعهم ومصيرهم بعد الموت، آب، يؤوب، إيابًا، وأوْبًا (¬6) قال (¬7): فرجِّي الخيرَ وانتظري إيابي ... إذا مالقارظ العَنزي آبَا (¬8) ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد بمثله من غير نسبة في "زاد المسير" حاشية 8/ 236. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد بمثله من غير عزو في "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "معالم التنزيل" 4/ 480، "المحرر الوجيز" 5/ 475، "زاد المسير" 8/ 236، "لباب التأويل" 4/ 374. (¬6) راجع ذلك في "تهذيب اللغة" 15/ 607 (آب)، "لسان العرب" 1/ 217 - 218 (أوب). (¬7) بشر بن أبي خازم يخاطب ابنته عميرة وهو يجود بنفسه لما أصابه سهم من غلام وائلة. (¬8) انظر: (قرظ) في "تهذيب اللغة" 9/ 67، "الصحاح" 3/ 1177، "لسان العرب" 7/ 455، "تاج العروس" 5/ 259.

وأما "إيابهم" بتشديد "الياء"، فإنه شاذ (¬1)، ولم أر أحدًا أجازه غير الزجاج، فإنه قال: (يقال) (¬2) أيّب إيّابًا على فَيْعَل فِيْعالاً، والأصل إيوابًا فأدغمت "الياء" في "الواو"، وانقلبت "الواو" إلى "الياء"؛ لأنها سبقت بسكون (¬3). هذا كلامه. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} قال عطاء: يريد جزاؤهم (¬4). وقال مقاتل: يعني جزاءهم بعد المرجع على الله (¬5) كقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء: 113]. بمعنى جزاءهم. تمت ¬

_ (¬1) قرأ بذلك أبو جعفر يزيد، انظر "المحتسب" لابن جني 2/ 357، "مختصر في شواذ القرآن" لابن خالويه 172، "النشر" 2/ 400، "الإتحاف" 438، "التحبير" 199، وقرأ الباقون بتخفيفها. "النشر" 2/ 400، "الإتحاف" 438، "التحبير" 199. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) "معاني القرآن" 5/ 319 بنحوه. (¬4) "تفسير مقاتل" 238 ب. (¬5) "زاد المسير" 8/ 236 مختصر جدًا.

سورة الفجر

سورة الفجر

1

تفسير سورة الفجر (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالْفَجْرِ}، قال ابن عباس: فجر النهار. وهو رواية أبى نصر (¬2) (¬3)، ¬

_ (¬1) مكية عن ابن الجوزي بالإجماع: "زاد المسير" 8/ 237، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 432، وعند جمهور المفسرين بقول ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 476، وحكي عن أبي عمرو الداني عن بعض العلماء أنه قال: هي مدنية. "المحرر" 5/ 476. وبالقول مكية ذهب صاحب "جامع البيان" 30/ 168، و"بحر العلوم" 3/ 475، و"الكشف والبيان" 13/ 82 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 481، وغيرها من كتب التفسير. (¬2) أبو نصر الأسديّ، بَصْري، روى عن ابن عباس، وعنه خليفة بن حصين، وقد قال عنه كوفي ثقة وقال عنه المزي، وأبو نصر هذا لم يعرف سماعه من ابن عباس، وعن ابن حجر قال: أبو نصر الأسدي مجهول من الرابعة. كتاب الجرح والتعديل: 9/ 448 ت 2278، "تهذيب الكمال" 34/ 343 ت 7667، "تقريب التهذيب" 2/ 480 ت: 7. (¬3) "تفسير الإمام مجاهد" 726، "جامع البيان" 3/ 168، "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "المحرر الوجيز" 5/ 476، "زاد المسير" 8/ 238، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 539، "الدر المنثور" 8/ 498، وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي حاتم، كما ذكرت رواية ابن عباس من غير ذكر طريق أبي نصر في "النكت والعيون" 6/ 265، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 38، "لباب التأويل" 4/ 374، وقال أحمد شاكر =

وأبي صالح (¬1). وقول عكرمة (¬2)، (وزيد بن أسلم (¬3)) (¬4)، ومحمد بن كعب (¬5)، (والأسود بن يزيد (¬6) (¬7)، قالوا: هو انفجار الصبح من كل يوم) (¬8). وقال في رواية العوفي: صلاة الفجر (¬9). وقال في رواية عثمان (¬10) بن مُحَيْصِن (¬11) هو (¬12): فجر المحرم (¬13)، وهو قول قتادة قال: أقسم بأول يوم من المحرم. ¬

_ = عن هذه الرواية إنها صحيحة، انظر قوله في "الكامل" 2/ 672: حاشية 11، وانظر أيضًا روايته في "المستدرك" 2/ 522، كتاب التفسير: تفسير سورة الفجر، وقال صحح الإسناد ووافقه الذهبي. (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 481، والرواية عنه قال: انفجار الصبح كل يوم، وكذا في "زاد المسير" 8/ 238. (¬2) "جامع البيان" 30/ 168، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 238. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "زاد المسير" 8/ 238. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) المرجعان السابقان. (¬6) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬7) ورد معنى قوله في "معاني القرآن" للفراء 3/ 259، وكلامه قال: هو فجركم هذا. (¬8) ما بين القوسين: ساقط من (أ). (¬9) "جامع البيان" 30/ 168، "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 238، "لباب التأويل" 4/ 374، "الدر المنثور" 8/ 498. (¬10) (عثمن) في كلا النسختين (¬11) عثمان بن محيصن. لم أعثر له على ترجمة. (¬12) في (أ): (وهو). (¬13) ورد قوله في "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "المحرر الوجيز" 5/ 746، من غير ذكر طريق ابن محيصن، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 38.

تنفجر من السنة (¬1). وقال في رواية عطاء: يريد صبيحة يوم النحر (¬2). قال الضحاك: هو فجر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى قرن الأيام بها (¬3) فقال: (قوله) (¬4): {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وهو عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين: عكرمة (¬5)، ومقاتل (¬6)، (والكلبي (¬7)، ومسروق (¬8)، والضحاك (¬9)) (¬10)، ومجاهد (¬11)، ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 38، "فتح القدير" 5/ 432، "روح المعاني" 30/ 119 وفي جميع المراجع رواية "منه" بدلاً من: "من". (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39. (¬3) المرجع السابق، وانظر أيضًا: "الكشف والبيان" 13/ 82 أ، "معالم التنزيل" 4/ 481، "المحرر الوجيز" 5/ 476، "زاد المسير" 8/ 238، "فتح القدير" 5/ 432، "روح المعاني" 30/ 119. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) "جامع البيان" 30/ 169، "الكشف والبيان" 13/ 82 أ. (¬6) "تفسير مقاتل" 238 ب، "زاد المسير" 8/ 238. (¬7) "الكشف والبيان" ج 13: 82 أ، "معالم التنزيل" 4/ 481، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، "البحر المحيط" 8/ 468، "فتح القدير" 5/ 432. (¬8) "جامع البيان" 30/ 169. (¬9) المرجع السابق، "الكشف والبيان"، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "زاد المسير". (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) المراجع السابقة إضافة إلى "تفسير عبد الرزاق" 2/ 369، "معالم التنزيل" 4/ 481، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، "البحر المحيط" 8/ 468، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540.

وقتادة (¬1)، (والسدي (¬2)) (¬3)، واختيار الفراء (¬4)، والزجاج (¬5)، قالوا: هي عشر الأضحى. وهي رواية أبى نصر عن ابن عباس (¬6)، وعطاء عنه (¬7) قال: هي تسعة أيام وعشر ليال: عشر الأضحى. وروى قابوس (¬8)، عن أبيه (¬9)، عن ابن عباس قال: هي العشر الأواخر من رمضان (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 369، "جامع البيان" 30/ 169، "الكشف والبيان" ج 13: 82 ب، "معالم التنزيل" 4/ 481، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "زاد المسير" 8/ 238، "البحر المحيط" 8/ 468. (¬2) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق"، و"جامع البيان"، وانظر أيضا في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، "فتح القدير" 5/ 432، "تفسير السدي" 476. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "معاني القرآن" 3/ 259. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "جامع البيان" 30/ 169، "النكت والعيون" 6/ 265، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 238 برواية العوفي عنه، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، ولم يذكر الطريق إلى ابن عباس، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، ولم يذكر طريق ابن عباس. (¬8) تقدمت ترجمته في سورة الإسراء. (¬9) أبوه هو: حُصَيْن بن جُنْدَب بن عَمرو بن الحارث بن أدد أبو ظبيان الجَنْبي الكوفي والد قابوس، روى عن أسامة بن زيد، وعنه إبراهيم النخعي، ثقة، مات 89 هـ وقيل 90 هـ. انظر: "تاريخ الثقات" للعجلي 122: ت: 297، "الكاشف" 1/ 174: ت 1131، "تهذيب الكمال" 6/ 514: ت: 1355. (¬10) ورد قوله من طريق أبي ظبيان في: =

3

وقال يمان: العشر الأول من المحرم التي عاشرها يوم عاشوراء (¬1). 3 - وقوله (¬2) تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}، قال [أبو عبيدة] (¬3): الشفع (الزَّكا) (¬4)، وهو الزوج، والوتر: الخَسَاء (¬5)، وهو الفرد. وقال (¬6) الليث: الشفع من العدد ما كان أزواجًا، تقول: كان وترًا فشفعته بآخر حتى صار شفعًا (¬7)، والوتر: الفرد. قال ابن السكيت: (قال يونس) (¬8): أهل العالية (¬9) يقولون: الوَتْر في ¬

_ = "الكشف والبيان" 13/ 82 ب، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 238، كما ورد عنه من غير ذكر الطريق إليه في: "النكت والعيون" 6/ 265، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، "لباب التأويل" 4/ 374، "البحر المحيط" 8/ 468، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540، "الدر المنثور" 8/ 502، وعزاه أيضًا إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39. (¬2) في (أ): (قوله). (¬3) في كلا النسختين: أبو عبيد، وأثبت "أبو عبيدة"؛ لأن النص المنقول هو لأبي عبيدة، انظر: "مجاز القرآن" 2/ 297، وكذلك ورد في الوسيط أنه أبو عبيدة: 4/ 480، وفي "تفسير غريب القرآن" أيضا: 526، والله أعلم. (¬4) في (أ): (الذكر وغير مقروء في (ع)، والصواب أنه الزكا، هكذا ورد في المجاز، ويراد بالزكا: زوج من الأعداد، "تهذيب اللغة" 7/ 484 (خسا)، وانظر: "لسان العرب" 14/ 358 (زكا). (¬5) الخسا: أفراد الشيء، أي فرد. "تهذيب اللغة" 7/ 484 (خسا). (¬6) في (أ): (قال). (¬7) "تهذيب اللغة" 1/ 437 (شفع). (¬8) ساقط من (أ). (¬9) العالية: اسم لكل من جهة نجد من المدينة من قراها وعمايرها إلى تهامة في =

العدد، والوِتر في الذَّحْل (¬1)، وتميم تقول: وتر في العدد (¬2) والذَّحْل سواء (¬3). وقال الفراء: الكسر (¬4) قراءة الحسن، والأعمش، وابن عباس والفتح (¬5) قراءة أهل المدينة، وهي لغة حجازية (¬6). وقال الأصمعي: كل فردٍ وِتْرٌ، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون: وَتْر في الفرد، ويكسرون في الذَّحْل، ومن تحتهم من قيس (¬7)، وتميم ¬

_ = العالية، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهي السافلة، وقال قوم: العالية ما جاوز الرمة إلى مكة، وهم عكل وتيم، وطائفة من بني ضبة .. ومن أهل المجاز من هو ليس بنجدي ولاغوري، وهم الأنصار ومزينة ومن خالطهم من كنانة .. "معجم البلدان" 4/ 71. (¬1) الذحل: جمعه ذُحُول وهو النَّرَة: "تهذيب اللغة" 4/ 465 (ذحل). وفي اللسان: الذَّحل الثأر الوتر، وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح ونحو ذلك: 11/ 256 (ذحل). (¬2) قوله وتر في العدد: بياض في (ع). (¬3) ورد قوله في "إصلاح المنطق" 30. (¬4) قرأ بالكسر أيضًا حمزة، والكسائي، وخلف (بكسر الواو). انظر: كتاب "السبعة في القراءات" لابن مجاهد: 683، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 771، "الحجة" 6/ 402، "المبسوط" 407، "حجة القراءات" 761، "إتحاف فضلاء البشر" 438، "المهذب" 2/ 332. (¬5) وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، ويعقوب، وأبو جعفر. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" 683، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 771، "الحجة" 6/ 402، "المبسوط" 407. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 260. (¬7) قيس: هم بطون، بطن آل عامر بن صعصعة من العدنانية، وبطن من ذهل من شيبان من العدنانية، بطن من لخم من القحطانية. "نهاية الأرب" للقلقشندي: 361 - 362.

يُسَوُّونها (¬1) في الكسر، ويقال في الوتر الذي هو الفرد: أوترت فلانًا، أوتر إيتارًا، أي جعلته وِتْرًا (¬2). ومنه الحديث الذي: (إذا استجمرت فأوتر) (¬3). قال ابن السكيت: كان القوم وترًا فشفعتهم، وكانوا شفعًا فوترتهم (¬4). ويقال في الرجل: وَتَرْتُه فأنا أتره وِتْرًا، وَتِرةً، إذا قتلت (¬5) ¬

_ (¬1) في (أ): (يسونها). (¬2) ورد قوله في "الحجة" 6/ 402 (¬3) أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 1/ 73: ح: 161 - 162، كتاب الوضوء: باب 25 و26 من طريق أبي هريرة، ومسلم في "صحيحه" 1/ 212: ح: 22 - 24 من كتاب الطهارة باب 8، وأحمد في "المسند" 4/ 313 - 314 - 339 - 340 عن طريق سلمة بن قيس، وابن ماجه في "سننه" 1/ 79: ح: 423، كتاب الطهارة: باب 441، والترمذي في "سننه" 1/ 40 كتاب الطهارة: باب 21، والنسائي في "سننه" 1/ 71: ح: 89 عن جابر بن عبد الله كتاب الطهارة باب 72، واللفظ له. ونص الحديث: عن سلمة بن قيس: أن رسول الله قال: "إذا توضأت فاستنثر وإذا استجمرت فأوتر". وانظر أيضًا: صحيح سنن ابن ماجه: 1/ 70، قال عنه الألباني صحيح، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 3/ 291 رقم: 1305، وقال عنه: إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات، رجال مسلم غير الأشجعي، وهو صحابي غير معروف، "مشكاة المصابيح" 1/ 111: ح: 341: كتاب الطهارة، باب آداب الخلاء، قال متفق عليه. ومعنى قوله: " إذا استجمرت فأوتر" معنى استجمرت: الاستجمار استفعال من استعمال الجمار، وهي الحصى الصغار، لأن الغالب أن التمسح يكون بها. فليوتر: الوتر ضد الشفع صادق بالواحد، والثالث، والخامس، والسابع، وهكذا في الأعداد كلها. شرح سنن النسائي: لمحمد الشنقيطي: 1/ 272: الرخصة في الاستطابة بحجر واحد: 39. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في "لسان العرب" 5/ 273 (وتر) مثل قوله، ولكن غير منسوب. (¬5) في (أ): (قتلت).

له قتيلاً، وأخذت ماله (¬1)، ومنه الحديث: (فكأنما وُتِر أهله وماله) (¬2). قال أبو بكر بن (¬3) السراج (¬4) قولهم (¬5): وترته في الرجل؛ إنما هو أفردته من أهله وماله (¬6): وعلى هذا أصل المعنيين من الأفراد. وأما التفسير: فجمهور المفسرين على أن الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة، وهو قول عكرمة (¬7)، (والضحاك (¬8)، ورواية زُرارة بن أوفى (¬9)) (¬10) ¬

_ (¬1) "لسان العرب" 5/ 274 (وتر) وعزاه إلى الفراء. (¬2) الحديث أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 1/ 190: ح: 552: كتا ب المواقيت باب 14، ونص الحديث كما هو عنده: عن ابن عمر أن رسول الله قال: الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِرَ أهله وَمَالَهُ. ومسلم في "صحيحه" 2/ 435 - 436: ح 201 - 200: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب التغليظ في تفويت صلاة العصر ج 4/ 212 ح 11 كتاب الفتن باب نزول الفتن كمواقع القطر، ومالك في "الموطأ" 1/ 43 ح 21 كتاب وقوت الصلاة باب 5. وانظر: صحيح ابن ماجه: 1/ 113: ح: 559 - 685. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) في: ع: أبو بكر السراج. (¬5) في (أ): (قوله). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 370، "جامع البيان" 30/ 170، "زاد المسير" 8/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540، "الدر المنثور" 8/ 504، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬8) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق"، و"الجامع لأحكام القرآن". (¬9) زُرارة بن أَوْفَى العامري الحَرشِيُّ، أبو حاجب البصري قاضي البصرة، روى عن ابن عباس ثقة، وله أحاديث، روى له الجماعة، مات فُجاءة سنة 593. انظر: "الطبقات الكبرى" 7/ 150، "المراسيل" لابن أبي حاتم: 58: ت: 94، "تهذيب الكمال" 9/ 339: ت: 1977. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ).

عن ابن عباس (¬1)، وجابر بن عبد الله (¬2) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: الوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر (¬3). واختاره الفراء (¬4)، والزجاج (¬5). وروى (مجاهد) (¬6) عن ابن عباس قال: الوتر: آدم شفع بزوجته (¬7)، وقال في رواية عطاء: الشفع: آدم، وحواء، والوتر هو: الله وحده لا شريك له (¬8)، (وهذا قول مقاتل (¬9)) (¬10). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 170، كما ورد عنه من غير ذكر الطريق إليه في "بحر العلوم" 3/ 375، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540، كما ذكر عن طريق عكرمة عنه في "زاد المسير" 8/ 238. (¬2) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 3/ 327، أخرجه البزار في "كشف الأستار" 3/ 80 - 81: ح: 2286، وقال: لا نعلمه يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد، وقال الهيثمي: رواه البزار وأحمد ورجالهما رجال الصحيح غير عياش بن عقبة، وهو ثقة: 7/ 137، كما أورده صاحب: "الكشف والبيان" 13/ 82 ب، "النكت والعيون" 6/ 266، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 259 (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 321 (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "تفسير غريب القرآن" ابن قتية: 526، "بحر العلوم" 3/ 475، "زاد المسير" 8/ 239، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40 من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس، "فتح القدير" 5/ 433 منسوبًا إلى عطاء. (¬9) "تفسير مقاتل" 238 ب، "الكشف والبيان" 13/ 83 ب "زاد المسير" 8/ 239. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال في رواية الكلبي: الشفع: يوم النحر، والوتر: ثلاثة أيام بعده (¬1). وقال ابن الزبير: الشفع: يومان بعد يوم النحر، والوتر: اليوم الثالث، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] (¬2). وقال قتادة: الشفع والوتر: الصلاة منها شفع، ومنها الوتر (¬3) (¬4)، (وهو قول عمران بن حصين (¬5)، ورواه مرفوعًا أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الشفع والوتر قال: الصلاة منها شفع، ومنها الوتر) (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله عن عطاء في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40. (¬2) ورد قوله في "الكشف والبيان" 13/ 83 أ، "النكت والعيون" 6/ 266، "معالم التنزيل" 4/ 481، "المحرر الوجيز" 5/ 476، "زاد المسير" 8/ 239، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40، "لباب التأويل" 4/ 374، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540، كما ورد بمثله عن ابن زيد في "جامع البيان" 30/ 170. (¬3) "جامع البيان" 30/ 171، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 293، "الدر المنثور" 8/ 502، وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 433. (¬4) في: ع: أوتر. (¬5) ورد قوله في: "جامع الأصول" 2/ 428: ح: 877 "تفسير عبد الرزاق" 2/ 370، "تفسير غريب القرآن"، لابن قتيبة: 526، "جامع البيان" 30/ 171، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540، "الدر المنثور" 8/ 502، وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬6) ما بين القوسين ساقط من: أ. (¬7) وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 442، والترمذي في "سننه" 5/ 440، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة، كتاب تفسير القرآن: باب 79، والحاكم في "المستدرك" 2/ 522، كتاب التفسير: باب تفسير سورة الفجر، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. =

وقال عطية العوفي: الشفع: الخلق، قال الله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [عم: 8] والوتر هو الله عز وجل (¬1)، وهذا قول الحكم (¬2) (¬3) قال: كل ¬

_ = قال محقق "النكت والعيون" وفيه نظر فإن الراوي عن عمران شيخ من أهل البصرة مجهول، ولم يوثقه إلا ابن حبان. 6/ 265. حاشية. قال ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي: حدثنا يزيد بن هارون: أخبرنا همام بن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين عن النبي فذكره هكذا رأيته في تفسيره، فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام، وهكذا رواه ابن جرير: أخبرنا نصر ابن علي حدثني أبي حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين عن النبي ثم ذكر الحديث، فأسقط ذكر الشيخ المبهم. وتفرد به عمران بن عصام الضبعي، أبو عمارة البصري إمام مسجد بني ضبيعة، وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي، روى عنه قتادة، وابنه أبو جمرة، والمثنى بن سعيد، وأبو التياح يزيد بن حميد، وذكر ابن حبان في كتاب الثقات (5/ 221) وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل البصرة (ص 282)، وكان شريفاً نبيلاً حظيًا عند الحجاج بن يوسف، ثم قتله يوم الراوية سنة 582 لخروجه مع ابن الأشعث، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد ثم قال وعندي أن وقفة على عمران بن حصين أشبه والله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 541، وقال الأرناؤوط في تخريج "جامع الأصول" 2/ 428: وفي إسناده عمران بن عصام لم يوثقه غير ابن حبان. كما أخرجه الطبري في "جامع البيان" 30/ 172، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 83 أ، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 265، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 239، "التفسير الكبير" 31/ 164، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 39، "لباب التأويل" 4/ 374، "البحر المحيط" 8/ 468، "الدر المنثور" 8/ 502، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 481، "فتح القدير" 5/ 433. (¬2) في (أ): (الحكيم). (¬3) الحكم ولعله الحكم بن أبان، وقد سبقت ترجمته، والله أعلم.

شيء شفع، والله وتر (¬1)، وأبي صالح قال: خلق الله من كل شيء زوجين اثنين، والله وتر واحد (¬2). وقول مجاهد (¬3)، ومسروق (¬4)، ورواية أبى سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬5). وقال الحسن: الشفع والوتر العدد كله، منه شفع، ومنه وتر (¬6). وقال ابن زيد: الشفع والوتر الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر (¬7). وقال مقاتل بن حيان: الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده (¬8). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "جامع البيان" 30/ 171، "الكشف والبيان" 13/ 83 ب، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40، "الدر المنثور" 8/ 503، وعزاه إلى عبد بن حميد في "فتح القدير" 5/ 433. (¬3) "جامع البيان" 30/ 171، "الكشف والبيان" ج 13/ 83 ب، "معالم التنزيل" 4/ 481. (¬4) المراجع السابقة، عدا "جامع البيان"، وانظر أيضًا: "المحرر الوجيز" 5/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40، "فتح القدير" 5/ 433. (¬5) وردت الرواية موقوفة على أبي سعيد في "الكشف والبيان" 13/ 82 ب، "معالم التنزيل" 4/ 481، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 40. (¬6) "جامع البيان" 30/ 172، "الكشف والبيان" 13/ 83 ب، "النكت والعيون" 6/ 266، "معالم التنزيل" 4/ 481، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "زاد المسير" 8/ 239، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 41، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 540، "الدر المنثور" 8/ 502، وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 433، وأنظر أيضًا: "الحجة" 6/ 402. (¬7) "الكشف والبيان" 13: 83 ب، "معالم التنزيل" 4/ 481، "زاد المسير" 8/ 239. (¬8) المراجع السابقة؛ عدا "معالم التزيل"، وانظر أيضًا: "المحرر الوجيز" 5/ 477، =

4

فهذه عشرة أقوال (من أقوال) (¬1) المفسرين (¬2) في الشفع والوتر (¬3). 4 - قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}، أي إذا يمضي (¬4) فيذهب، كما قال: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، أقسم الله (تعالى) (¬5) بالليل يمضي حتى ينقضي بالضياء المبتدئ، أي: بالنهار، وفيه دليل على سيره على المقادير المرتبة، ثم جاء بالضياء عند تقضيه، والمراد به عند كل ليلة، وهذا قول الأكثرين (¬6)؛ غير أن مقاتلًا (¬7)، والكلبي (¬8)، ومجاهدًا (¬9)، وعكرمة (¬10) ¬

_ = "الجامع" للقرطبي 20/ 40، "فتح القدير" 5/ 433، "التفسير الكبير" 31/ 164. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (للمفسرين). (¬3) وهناك أقوال أخرى غير العشرة، يراجع فيها "الكشف والبيان"، "المحرر الوجيز"، "زاد المسير"، المراجع السابقة. (¬4) في (أ): (مضى). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) وحكاه عن أكثر المفسرين: الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 82 ب، البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 240، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 42، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 434. وقال به قتادة، وابن الزبير، وابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وابن زيد، انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 370، "جامع البيان" 30/ 173. وبه قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 321. (¬7) "تفسير مقاتل" 238 ب، "التفسير الكبير" 31/ 165. (¬8) "بحر العلوم" 3/ 475، "الكشف والبيان" 13/ 84 ب، "معالم التنزيل" 4/ 482، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "القرطبي" 20/ 42، "فتح القدير" 5/ 434. (¬9) المراجع السابقة عدا "بحر العلوم"، وانظر: "زاد المسير" 8/ 241. (¬10) المراجع السابقة، وانظر أيضًا: "جامع البيان" 30/ 173، "الدر المنثور" 8/ 504، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.

قالوا: هي ليلة المزدلفة؛ ليلة جمع. وقال قتادة: إذا يسري (أي إذا جاء وأقبل) (¬1) (¬2). (قال) (¬3) (الزجاج) (¬4): (وقرئت إذا يسري) (¬5) بإثبات (الياء، وحذفها) (¬6) أحب إلي؛ لأنها فاصلة، والفواصل تحذف منها الياءات، وتدل عليها الكسرات (¬7). قال الفراء: (والعرب قد تحذف الياء، وتكتفي (بكسر) (¬8) مَا قبلها، وأنشد: ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ورد قوله في "الكشف والبيان" 13/ 84 ب، "معالم التنزيل" 4/ 482، "زاد المسير" 8/ 240، "التفسير الكبير" 31/ 165، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 42، "تفسير القرآن العظيم" 40/ 541، "فتح القدير" 4/ 434. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) بياض في نسخة (ع)، وساقط من (أ)، وأثبت ما جاء في "التفسير الكبير" 31/ 165 إذ هو كثير ما ينقل عن الواحدي، بالإضافة إلى أن بنحوه ما جاء عن الزجاج في معانيه. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) قرأ ابن كثير، ويعقوب {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} بياء في الوصل وفي الوقف. وقرأ الباقون "يَسْرٍ" بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ: نافع، وأبو عمرو: "يسري" بياء في الوصل، والوقف بغير ياء. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" 683، "القراءات وعلل النحوين فيها" 2/ 772، "الحجة" 6/ 403. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 321 بنحوه. (¬8) بكسرة: في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في المعاني لصحته.

كفَّاكَ كَفٌ ما تُليقُ دِرْهَمًا .. جودًا (¬1) وأُخْرى تُعْطِ بالسَّيْفِ الدِّمَا (¬2)) (وهذا في غير الفاصلة، وإذا كان في الفاصلة فهو أولى، فإن قيل: كيف كان الاختيار أن تحذف إذا كان في فاصلة أو قافية، والحرف من نفس الكلمة، فوجب أن يثبت كما يثبت في سائر الحروف، ولم تحذف؟!. قال أبو علي: فالقول في ذلك أن الفواصل، والقوافي في مواضع وقف، والوقف موضع تعيين (¬3)، فلما كان الوقف تُغيّر فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف، والإسكان، ورَوْم (¬4) الحركة فيها، غيرت فيه هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف) (¬5). وأما من أثبت الياء في يسري في الوصل والوقف (¬6)، فإنه يقول: ¬

_ (¬1) في (أ): (جودي). (¬2) ورد بيت الشعر غير منسوب في: "لسان العرب" 10/ 334 (ليق)، "الأمالي" الشجرية: 2/ 72، الخصائص: 3/ 9، 133، "جامع البيان" 30/ 173 حاشية، "التفسير الكبير" 31/ 165، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 42، "الإنصاف" 1/ 387، شرح أبيات "معاني القرآن" 319: ش 719 - 720. موضع الشاهد "تُعْطِ" حذف ياءه والأصل تُعْطي فاكتفى بالحركة من الحرف اختصاراً. وما بين القوسين من: "معاني القرآن" 3/ 260. (¬3) تقرير هكذا ورد في "الحجة" 6/ 405. (¬4) الرَّوْم: هو إضعاف الصوت بالحركة (الضمة أو الكسرة) حتى يذهب معظم صوتها فيسمع لها صوت خفي يسمعه القريب المصغي دون البعيد؛ لأنها غير تامة أو هو الإتيان بثلثي الحركة (الضمة أو الكسرة) ولا يؤخذ الروم إلا بالمشافهة عن القراء البارعين. حق التلاوة: حسني شيخ عثمان: 90. (¬5) بين القوسين نقلا من "الحجة" 6/ 405. (¬6) وهو ابن كثير ويعقوب.

(الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف في الأسماء، نحو: قاضٍ، وغازٍ تقول: هو يقضي، وأنا أقضي، فتثبت الياء، ولا تحذف) (¬1). قوله: {هَلْ فِي ذَلِكَ} (¬2) أي فيما ذكر. {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي لذي عقل، وحجى (¬3)، ونُهى (¬4)، من الناس في أمر الله، وهذا قول المفسرين (¬5)، وأهل اللغة (¬6)، وأنشد (أبو عبيدة) (¬7) لذي الرمة: ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" 6/ 404، وبمعنى هذا قال سيبويه في كتابه: 4/ 183. (¬2) {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}. (¬3) حجى: الحجا وهو حَجِىٌّ بذاك، "الصحاح" 6/ 2309 (حجا). (¬4) في (أ): (لين). (¬5) قال بذلك: قتادة، والحسن، وابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وعكرمة، والضحاك، انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 370، "جامع البيان" 30/ 173، "الدر المنثور" 8/ 505، وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 159: ح: 4652، وسعيد بن منصور .. وبه قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 85 أ، وانظر "معالم التنزيل" 4/ 482، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "زاد المسير" 8/ 241، "التفسير الكبير" 31/ 165، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 43، "لباب التأويل" 4/ 375، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 541. (¬6) قال به: أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 297، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 526، الفراء في "معاني القرآن" 30/ 260، الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 321، وانظر في: "تهذيب اللغة" 4/ 131 (حجر)، "الصحاح" 2/ 623 مادة: (حجر)، "لسان العرب" 4/ 130 مادة: (حجر). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وأخفيت مَا بي من رفيقي فإنه ... لذو حسب عالي رفيع وذو حِجرِ (¬1) (¬2) قال الفراء: والعرب تقول: إنه لذو حجر إذا كان قاهرًا لنفسه، ضابطًا لها، كأنه أُخذ من قولهم: حجرت على الرجل (¬3). وعلى هذا سمي العقل حَجَرًا؛ لأنه يمنع من القبيح، من الحَجْر، وهو المنع من الشيء بالتضييق فيه (¬4). ومعنى "هل" هَاهنا التأكيد (¬5)، كما قال ابن عباس: يريد: إن في ذلك قسمًا لذي لب وعقل (¬6). والمعنى: إن من كان ذا لب عَلِم أن ما أقسم الله (به) (¬7) من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على صنع الله وقدرته وتوحيده، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه ومدبره بالحكمة، وجواب القسم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]. ¬

_ (¬1) ورد البيت في: ديوانه: تح: عبد القدوس أبو صالح 1/ 943 برواية. وأخفيت شوقي من رفيقي وإنه لذو نسب دان إلى وذو حِجْرِ مادة (حجر) في "لسان العرب" 4/ 17، "تاج العروس" 3/ 135. برواية: من صديقي: وإنه لذو نسب دان إلى وذو حجر. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 260. (¬4) بمعناه جاء عن الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 85 أ. (¬5) وبه قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 321. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، ومعنى قوله إن "هل" في موضع جواب القسم، وهذا القول باطل لأنه لا يصلح أن يكون مقسمًا عليه على تقدير تسليم أن التركيب هكذا. قاله السمين الحلبيفي: "الدر المصون" 6/ 517. (¬7) ساقطة من النسختين، وأثبت ما جاء في "الوسيط" 4/ 481 إذ به يستقيم الكلام.

واعترض بين القسم وجوابه قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} يخوف أهل مكة. قال مقاتل: يعني كيف أهلكهم، وهم كانوا أطول، وأشد قوة من أهل مكة (¬1). ثم قال: {إِرَمَ} قال ابن إسحاق: هو جد عَاد، وهو عَاد بن عوص بن إرم بن سام بن (¬2) نوح (¬3). وقال قتادة: هم قبيلة من عَاد (¬4)، (وهو قول مقاتل، قال: إرم قبيلة من قوم عَاد كان فيهم الملك، وهم من مهرة (¬5) (¬6)) (¬7). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير نسبة في "معالم التنزيل" 4/ 482، "لباب التأويل" 4/ 375 (¬2) (ابن): في كلا النسختين (¬3) نقله عن "الكشف والبيان" 13/ 85 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 482، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "زاد المسير" 8/ 241. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 370، "جامع البيان" 30/ 175، "الكشف والبيان" 13/ 85 ب، "معالم التنزيل" 4/ 482، "المحرر الوجيز" 5/ 478، "زاد المسير" 8/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 45، "الدر المنثور" 8/ 505، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬5) مَهْرَة: قال ياقوت الحموي: مَهْرَة: بالفتح، ثم السكون، هكذا يرويه عامة الناس، والصحيح مَهَرَة بالتحريك -ثم قال- قال العمراني: مهرة بلاد تنسب إليها الإبل. قلت: هذا خطأ، إنما مهرة قبيلة، وهي مهرة بن حَيْدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. انظر: "معجم البلدان" 5/ 234، وانظر: "تاج العروس" 3/ 551 (مهر). ولعل مقاتلاً أراد بـ: مهرة الموضع، وليس القبيلة، كما بينه عنه الإمام البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 482، قال: قال مقاتل: كان فيهم الملك، وكانوا بمهرة. (¬6) "تفسير مقاتل" 239 أ، "النكت والعيون" 6/ 268، "معالم التنزيل" 4/ 482، "المحررالوجيز" 5/ 478، "زاد المسير" 8/ 241، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 45، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 541. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال الكلبي: إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عَاد وثمود (¬1). وقال أبو عبيدة: هما عَادان: فالأولى هي إرم (¬2)، وهي التي قال الله (عز وجل) (¬3): {أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50]. قال ابن الرقيات: مَجْدًا تَلِيدًا بَنَاهُ أوَّلُهُ ... أدْرَكَ عَادًا وقَبْلَهَا إرَمَا (¬4) قال أبو إسحاق: إرم لم تنصرف؛ لأنها جعلت اسمًا للقبيلة، ولذلك فتحت وهي في موضع خفض، قال: ويقال: إرم: اسم لبلدتهم التي كانوا فيها (¬5). قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا أهل عُمُدٍ سَيَّارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا (¬6) إلى منازلهم. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (¬7)، (والكلبي (¬8)، وقتادة (¬9)، ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 85 أ، "لباب التأويل" 4/ 375. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 297 نقله عنه بالمعنى. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) ورد البيت في "ديوانه" 155، "المحرر الوجيز" 5/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 45، "فتح القدير" 5/ 234، "روح المعاني" 30/ 122. ومعناه: عاد قبيلة معروفة يضرب بها المثل في القدم، وإرم مدينة قديمة، وهي بلدة عاد. وقيل أمهم، أو قبيلتهم. ديوانه. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 322 بتقديم وتأخير في الكلام. (¬6) بياض في (ع). (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 482، "زاد المسير" 8/ 242، "لباب التأويل" من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس. (¬8) "بحر العلوم" 3/ 476، "معالم التنزيل" 4/ 482، "لباب التأويل" 4/ 375. (¬9) المراجع السابقة عدا "بحر العلوم"، وانظر أيضًا: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 370، =

ومقاتل (¬1)) (¬2)، ومجاهد (¬3)، واختيار الفراء، قال: كانوا أهل عَمَد ينتقلون (¬4) إلى الكلأ حيث ما كانوا (¬5). قال الليث: يقال لأصحاب الأخبية (¬6) الذين لا ينزلون غيرها: هم أهل عَمُود، وأهل عماد، والجمع منهما: العُمُد (¬7). القول الثاني: قال مقاتل: ذات العماد يعني طولهم اثنا (¬8) عشر ذراعًا (¬9) (¬10)، وهو قول أبى عبيدة (¬11)، (والمبرد (¬12)) (¬13)، ¬

_ = "جامع البيان" 30/ 177، "زاد المسير" 8/ 242، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 45، "فتح القدير" 5/ 435. (¬1) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 239 أ، "المحرر الوجيز" 5/ 478، معزوًا إلى جماعة، "البحر المحيط" 8/ 469. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "تفسير الإمام مجاهد" 727، "جامع البيان" 30/ 177، "زاد المسير" 8/ 242، "الدر المنثور" 8/ 505، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬4) في (أ): (ينقلون). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 260 بتصرف يسير. (¬6) الأخبية: جمع خباء، وهو ما يعمل من وبر أو صوف، وقد يكون من شعر، والجمع أخبية مثل كساء وأكسية، ويكون على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك فهو بيت. "المصباح المنير" 1/ 169. (¬7) "تهذيب اللغة" 2/ 251 (عمد) بنصه، وانظر: "لسان العرب" 3/ 303 (عمد). (¬8) في (أ): (إثني). (¬9) "تفسير مقاتل" 239 أ، "بحر العلوم" 3/ 476، "الكشف والبيان" 13/ 86 أ، "معالم التنزيل" 4/ 482، "زاد المسير" 8/ 242 بمعناه، "لباب التأويل" 4/ 375. (¬10) الذراع هو ما يذرع به، وذراع اليد يذكر ويؤنث. مختار "الصحاح" 221 (ذراع). وقال الفيروزابادي: الذراع بالكسر من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى والساعد، وقد تذكر فيها. المعجم "الوسيط" 3/ 22 (ذرع). (¬11) "مجاز القرآن" 2/ 297. (¬12) "الكامل" 3/ 1414 - 1415. (¬13) ساقط من (أ).

8

والزجاج (¬1) قالوا: رجل طويل العماد، أي القامة، ورجل معمد إذا كان طويلًا. قال أبو إسحاق: وقيل: "ذات العماد": ذات البناء الطويل الرفيع (¬2). ثم وصفهم فقال: 8 - (قوله) (¬3): {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}، قال ابن عباس (¬4)، ومقاتل (¬5): لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول، والقوة. وهم الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]. قال عطاء: كان الرجل منهم طوله خمس مائة ذراع، والقصير (منهم) (¬6) ثلاث مائة ذراع بذراع نفسه (¬7). (قوله تعالى) (¬8): {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي نقبوها وقطعوها. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 30/ 322. (¬2) المرجع السابق. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في "الوسيط" 4/ 481 بمثله من غير نسبة. (¬5) "تفسير مقاتل" 239 أ، وقد ورد بمثله في "الوسيط" 4/ 481 من غير عزو، "معالم التنزيل" 4/ 382 - 483، وقد ورد عن الحسن بمثله انظر: "النكت والعيون" 6/ 268، "زاد المسير" 8/ 242، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 46 عزاه إلى الحسن وغيره. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله رواية عن عطاء عن ابن عباس في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 45. (¬8) ساقط من (أ).

10

وقال الليث: الْجَوْبُ: قطعك الشيء كما يُجاب، جاب يجوب جوبًا (¬1)، وزاد الفراء: يجيب جيبًا، وأنشد (¬2): باتت تجيب أَدْعَجَ الظلامِ ... جَيْبَ البَيَطْر مِدْرَعَ الهُمامِ (¬3) (¬4) قال ابن عباس: كانوا يجوبون الجبال، فيجعلون منها بيوتاً، وأحواضًا، وما أرادوا من الأبينة (¬5)، كما قال الله عز وجل: {وَتَنْحِتُونَ (مِنَ) (¬6) الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149] وقال الفراء: خرقوا الصخر فاتخذوه بيوتًا (¬7) وقوله: {بِالْوَادِ} قال مقاتل: بوادي القُرى (¬8) (¬9). 10 - قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} ذكرنا تفسير أوتاد في سورة: ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 11/ 219 (جوب) بنحوه. (¬2) اليبت غير منسوب، والذي أنشده شمر عن سلمة. انظر مادة: (جوب) في: "تهذيب اللغة" 11/ 218، "لسان العرب" 1/ 286. (¬3) ورد البيت في المراجع السابقة. (¬4) لم أجد قول الفراء في معانيه وإنما ذكر في "التفسير الكبير" 31/ 168. (¬5) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 187 وكلامه فيه: ثمود قوم صالح كان ينحتون من الجبال بيوتاً، "التفسير الكبير" 31/ 168، "الدر المنثور" 8/ 506، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، والطستي في مسائله. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 261 بنصه. (¬8) في (أ): (القرا). ووادي القرى: واد بين الشام والمدينة يمر بها حاج الشام، وهو بين تيماء وخيبر فيه قرى كثيرة وبها سمي وادي القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة: وكانت قديماً منازل ثمود وعاد وبها أهلكهم الله. "معجم البلدان" 4/ 338. (¬9) ورد قوله في "التفسير الكبير" 169/ 31، ورد معزو بمثله إلى الكلبي في "بحر العلوم" 3/ 476، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 483 من غير عزو، ولم أعثر على قوله في تفسيره.

ص (¬1). {الَّذِينَ} يعني: عَاد (¬2)، وثمود، وفرعون (¬3). {طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} عملوا فيها بالمعَاصي، وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين. وقد فسر طغيانهم بقوله: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} قال الكلبي: يعني: القتل، والمعصية لله (¬4). قال أبو إسحاق: (المعنى: ألم تر كيف أهلك ربك هذه الأمم التي كذبت رسلها، و (كيف) (¬5) جعل عقوبتها أن جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب؟ فقال: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (¬6) قال مجاهد: يعني لما عذبوا (¬7). ¬

_ (¬1) سورة ص: 3، وقد جاء في تفسيرها: الأوتاد جمع وقد، ويقال: تِدِ الوَتِد، واتد، الوَاتِدُ، موتود، ويقال: وقد، واتدًا أي رأس منتصب، وكل شيء ثبت في الأرض كالجبل، والسارية وهو وقد، واختلفوا في معنى {ذِي الْأَوْتَادِ} فالأكثرون على أن فرعون وصف بهذه الآية، كانت له أوتاد يعذب الناس عليها وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، ومقاتل، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن حيان. وقال مقاتل: سمي: ذي الأوتاد، لأنها كانت له مظال وملاعب، أوجبال وأوتاد تضرب، فيلعب له تحتها وعليها بين يديه. وقال القرظي: ذا البناء المحكم. وقال عطية: ذو الجنود، والجموع الكثيرة. (¬2) في: ع: عاداً. (¬3) قال بذلك الطبري 30/ 180، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 476. (¬4) "الوسيط" 4/ 482. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) ما بين القوسين من قول أبي إسحاق في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 322. (¬7) "تفسير الإمام مجاهد" 727، "جامع البيان" 30/ 180، "الدر المنثور" 8/ 506 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

14

وقال (¬1) عطاء: يريد أصناف العذاب (¬2). وقال الكلبي: صب عليهم عذابًا دائمًا (¬3). قال (¬4) قتادة: يعني لونًا من العذاب (¬5). قال الفراء: هذه كلمة تقولها العرب لكل نوع من العذاب تُدخل فيه السوط جرى به الكلام والمثل، ونرى السوط من عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذ كان فيه عندهم غاية العذاب (¬6). وأجاد أبو إسحاق في قوله: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب (¬7)، وهذا هو القول. (ويقال سَاط دابته إذا ضربها بالسَّوط يَسُوطُه، ومنه قول الشماخ يصف فرسه: إذا سيط أحضرا) (¬8) (¬9) 14 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ذكرنا تفسير المرصَاد عند قوله: {كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21]. ¬

_ (¬1) في (أ): (قالوا). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (ع): (وقال). (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 90 أ، "معالم التنزيل" 4/ 484. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 261 بنحوه، وانظر "تهذيب اللغة" 13/ 24 (سوط)، ولعل الإمام الواحدي نقله عن الأزهري. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 322. (¬8) البيت كاملاً: فصَوَّبْتُه كأنه صَوْبُ غَيْبَهِ ... على الأمْعَر الضّاحى إذا سيط أحْضَرَا وقد ورد البيت في: "تهذيب اللغة" 13/ 23 (سوط)، "لسان العرب" 7/ 1326 (سوط)، ولم أجده في ديوانه. (¬9) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 23/ 13 (سوط).

قال عبد الله: والفجر إن ربك لبالمرصاد (¬1) معنى أن هذا جواب القسم وقال الكلبي: ولهذا كان القسم، يقول عليه طريق العباد (¬2). قال عطاء عن ابن عباس: يريد لا يفوته أحد، ولا يلجأ إلى غيره فينصره (¬3). وقال الفراء: يقول إليه المصير (¬4)، وهذا عام للمؤمنين والكافرين على ما ذكرنا. ومن المفسرين من يجعل هذا خاصًا في الوعيد لأهل الظلم. قال الضحاك: بمرصد لأهل الظلم والمعَاصي (¬5). وقال أبو إسحاق: يرصد من كفر به، وعبد [غيره] (¬6) بالعذاب (¬7). قال أهل المعاني: لبالمرصاد: لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "المستدرك" 2/ 523، كتاب التفسير: تفسير سورة الفجر وقال صحيح ووافقه الذهبي، الأسماء والصفات: للبيهقي: 2/ 176: باب ما جاء في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، وانظر: "الدر المنثور" 8/ 508. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 484 وبزيادة لا يفوته احد. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله عطاء بن أبي رباح في "الكشف والبيان" 13/ 90 ب. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 261 بنصه (¬5) "جامع البيان" 30/ 181، "الكشف والبيان" 13/ 90 ب، "التفسير الكبير" 31/ 170، "الدر المنثور" 8/ 508 وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي نصر السجزي في الإبانة، كما ورد بمثله من غير عزو في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 50، "لباب التأويل" 4/ 377. (¬6) عنه في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في المعاني لاستقامة الكلام به. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 322.

15

لا يفوت من بالمرصاد (¬1)، وهذا قول الحسن (¬2)، وعكرمة (¬3): يرصد أعمال بني آدم. 15 - قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة، وأبا حذيفة بن المغيرة (¬4). وقال الكلبي: هو الكافر أبي بن خلف (¬5). وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف (¬6). وقوله: {إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} اختبره بالغنى (¬7) واليسر (¬8). {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} رزقه وأنعم عليه. ¬

_ (¬1) ورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 484، "لباب التأويل" 4/ 377. (¬2) ورد بنحوه في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 371، "جامع البيان" 30/ 181، "الكشف والبيان" 13/ 90 ب، "معالم التنزيل" 4/ 484، "التفسير الكبير" 31/ 170، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 50، "الدر المنثور" 8/ 508، وعزاه إلى ابن المنذر، وإلى ابن أبي حاتم، "تفسير الحسن البصري" 2/ 416. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 90 ب، "معالم التنزيل" 4/ 484، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 50 بمعناه، ومن غير عزو، "لباب التأويل" 4/ 377. (¬4) "زاد المسير" 8/ 246، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 51. (¬5) "زاد المسير" 8/ 246، كما ورد بمثله من غير عزو في "بحر العلوم" 3/ 477، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 51. (¬6) "تفسير مقاتل" 239 ب، "بحر العلوم" 3/ 477، "معالم التنزيل" 4/ 485 عند تفسير: "ربي أهانن"، "زاد المسير" 8/ 246. (¬7) في (أ): (بالغنا). (¬8) بنحوه قال أكثر المفسرين: انظر "جامع البيان" 30/ 181، "معاني القرآن وإعرابه" 91 أ، "بحر العلوم" 3/ 477، "الكشف والبيان" 13/ 90 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 84، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 51، "لباب التأويل" 4/ 377.

قال أهل المعاني: وليس هذا من الإكرام الذي هو (نقيض الهوان، ولكنه من الإكرام الذي هو) (¬1) إعطاء الخير، والمال، والحظ من الدنيا، والله تعالى يعطي الكافر الحظ من الدنيا، وليس بمكرم له (¬2). وقوله: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} قال مقاتل: فضلني بما أعطاني؛ ظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه (¬3). وهذا معنى قول ابن عباس قال: هذه كرامة من الله لي (¬4). {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} بالفقر. {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} ضيق الله عليه بأن جعل على مقداره البلغة، قال: هذا هوان من الله لي. وهو قوله: {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (أي أذلني بالفقر، ولم يشكر الله على ما وهب له من السلامة في جوارحه ورزقه من العافية) (¬5)، وهذا معنى قول الكلبي: لا يشكره في الفقر كما يشكره في الغنى (¬6) (¬7). قال أبو إسحاق: وهذا يعني به الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، إنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته، وصفة المؤمن أن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬3) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 239 ب. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين نقله عن "الكشف والبيان" 13/ 91 أبيسير من التصرف. (¬6) في (أ): (الغنا). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله.

الإكرام عند توفيق الله إياه إلى ما يؤديه إلى الآخرة (¬1)، ولهذا رد لله على الكافر فقال: (كلا) (¬2) (أي ليس الأمر كما يظن) (¬3) قال مقاتل: يقول الله: (كلا) لم أبتله بالغنى لكرامته علي، ولم أبتله لهوانه (¬4)، أي لم يعلم هذا الإنسان أن الغنى والفقر من قضاء الله؛ ليس من الكرامة، ولا الهوان، فقوله: (كلا) رد لتوهم من ظن أن سعة الرزق إكرام الله، وأن الفقر إهانة، فإن الله يوسع على الكافر لا لكرامته عليه، ويقتر على المؤمن لا لهوانه (¬5)، (وهذا معنى قول ابن عباس (¬6)، وقتادة (¬7)) (¬8). قال الفراء: معنى (كلا) لم يكن ينبغي أن يكون هكذا، ولكن يحمده على الغنى والفقر (¬9). ثم أخبر عن الكفار فقال: (قوله) (¬10): {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم}. (قرأ أبو عمرو {يكرمون} ومَا بعدها (¬11) بالياء (¬12)، وذلك أنه لما ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 323 بيسير من التصرف. (¬2) {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}. (¬3) ما بين القوسين نقلاً من: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 323. (¬4) "تفسير مقاتل" 239 ب، "زاد المسير" 8/ 246، وورد بمثله معزوًا إلى قتادة في "بحر العلوم" 3/ 477، وغير معزو في "معالم التنزيل" 4/ 485. (¬5) "الكشف والبيان"ج 13/ 91 أ، "معالم التنزيل" 4/ 485، "لباب التأويل" 4/ 377. (¬6) "التفسير الكبير" 31/ 172. (¬7) "جامع البيان" 30/ 182. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 261 بنصه. (¬10) ساقط من (أ). (¬11) أي قوله تعالى: {تَحَاضُّونَ} و {تَأْكُلُونَ} و {تُحِبُّونَ} سورة الفجر: 18 - 20. (¬12) قرأ بذلك أيضًا يعقوب بياء الغيبة في الأربعة مع ضم الحاء في {تَحَاضُّونَ} =

تقدم ذكر الإنسان، وكان يراد به الجنس، والكثرة، وهو على لفظ الغيبة حمل {يكرمون} و {يحبون}، و {يأكلون} عليه، ولا يمتنع في هذه الأسماء الدالة على الكثرة (¬1) أن تحمل مرة على اللفظ، وأخرى على المعنى، كقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬2) [الأعراف: 4]. ومن قرأ بالتاء (¬3) (فعلى: قل لهم ذلك) (¬4) قال مقاتل: كان قُدَامَة بن مظعون (¬5) يتيمًا في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه (¬6). ¬

_ = وبغير ألف: "يَحُضُّون". انظر: "السبعة في القراءات" 685، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 773، "الحجة" 6/ 409، "المبسوط" 407، "حجة القراءات" 762، "الكشف" 2/ 372، "البدور الزاهرة" 340. (¬1) في (أ): (للكثر). (¬2) في (أ): (وهم). (¬3) قرأ بذلك نافع، وابن كثير، وابن عامر بتاء الخطاب في الأفعال الأربعة مع ضم الحاء في "ولا تَحُضُّون". وقرأ: عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو جعفر، بتاء الخطاب في الأربعة مع فتح الحاء، وألف بعدها مع المد المشبع في "ولا تحاضون". قلت: والقراءة التي تخص موضعنا هي قراءة أبي عمرو كله بالياء في "يكرمون"، و"يحاضون"، و"يأكلون"، و"يحبون"، وقرأ الباقون كله بالتاء. وانظر: "السبعة في القراءات" 685، "القراءات في علل النحويين فيها" 2/ 773، "الحجة" 6/ 409، "المبسوط" 407. (¬4) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" 6/ 409 بتصرف. (¬5) تقدمت ترجمته في سورة النساء. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 485، "التفسير الكبير" 31/ 172، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 52، "لباب التأويل" 4/ 377، والذي ورد عنه في تفسيره أن الأمر ليس كما قال أمية بن خلف بل يعني أنهم لا يكرمرن اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين لأنهم لا يرجون بها الآخرة 239 ب.

18

قال الكلبي: لا يعرفون صلة اليتيم (¬1). وهذا يحتمل معنيين: أحدهما (¬2): أنهم لا يبرونه، ولا يعطونه، ولا يحسنون إليه. والثاني: أنهم لا يعطونه الميراث على ما جرت به عادتهم من حرمان اليتيم ما كان من الميراث، ويدل على هذا المعنى قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}، ويدل على المعنى الأول: قوله: 18 - {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} قال مقاتل: ولا يطعمون مسكينًا (¬3). والمعنى: لا يأمرون بإطعامه كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33 - 34]. ومن قرأ: "يحاضون" أراد تتحاضون، فحذف تاء تتفاعلون، والمعنى لا يحض بعضكم بعضًا. {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} قال أبو إسحاق: التراث أصله الوُراث (¬4)، ولكن التاء تبدل من الواو إذا كانت مضمومة، نحو تُجاه، أصله وُجَاه من واجهت (¬5). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) وهناك احتمالات أخرى ذكرها الفخر الرازي في "التفسير الكبير" 31/ 173. (¬3) بمعناه في تفسيره: 239 ب، "التفسير الكبير" 13/ 173. (¬4) التراث: هو الميراث. قال بذلك الخزرجي في "نفس الصباح" 781. والمراد بالميراث ما ينقل إلى الغير من قُنْية ومن غير عقد، ولا يجري مجرى العقد وذلك بعد أن يموت مالكها، ولذلك يقال للقِنْية الموروثة ميراث وإرث وتراث أصله وُراث فقلبت الواو ألفًا وتاء. انظر: "المفردات في غريب القرآن" 518. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 323 بتصرف.

وقوله: {أَكْلًا لَمًّا} قال أبو عبيدة: تقول: لممته أجْمع (¬1)، أتيت على (¬2) آخره (¬3). وقال الليث: اللمَّ: الجمع الشديد، تقول: كتيبة ملْموُمة (¬4)، وحجر مَلْمُوم، والآكل يَلُم الثريد (¬5) فيجمعه لقمًا، ثم يأكله "أكلًا لمًا" أي شديدًا (¬6). (ويقال: لممت ما على الخوان (¬7) ألمه لمًا، إذا أكلته أجمع) (¬8). فمعنى اللمّ في اللغة: الجمع (¬9). والمفسرون (¬10)، وأهل المعاني (¬11) يقولون في قوله: {أَكْلًا لَمًّا} ¬

_ (¬1) في (ع): (جمع). (¬2) (أثبت على) غير واضحة في (ع). (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 298 بنصه. (¬4) في (أ): (مَملْمُومة). (¬5) الثريد لا يكون إلا من لحم غالباً قال بذلك ابن الأثير وأصل الثَّرد الهَشْم ومن قيل لما يُهشَم من الخبز ويُبَل بماء وغيره ثريد انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 209، "تهذيب اللغة" 14/ 88 (ثرد). (¬6) "تهذيب اللغة" 15/ 343 - 344 (لمَّ) باختصار. (¬7) الخوان هو ما يوضع عليه الطعام عند الآكل. "النهاية" 2/ 89. (¬8) ما بين القوسين عزاه الثعلبي إلى أبي عبيدة في "الكشف والبيان" 13/ 91 ب، وكذلك ابن عطية عزاه إلى ابن عبيدة في "المحرر الوجيز" 5/ 480. (¬9) انظر: "إصلاح المنطق" ص61، "تهذيب اللغة" 15/ 344، "الصحاح" 5/ 2031، "لسان العرب" 12/ 548، "تاج العروس" 9/ 62 (لمم). (¬10) قال بذلك ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي. انظر: "جامع البيان" 30/ 183 - 184، "النكت والعيون" 6/ 270، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 53، "الدر المنثور" 8/ 509 - 510. وبه قال أيضًا: ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 537، السمرقندي 30/ 477، والثعلبي في "الكشف والبيان" ج 13/ 91 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 485، "زاد المسير" 8/ 247، "التفسير الكبير" 31/ 173، "لباب التأويل" 4/ 378. (¬11) الفراء في "معاني القرآن" 3/ 262، وأبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 198.

أي شديدًا. (وهو معنى، وليس بتفسير، وتفسيره أن اللمّ مَصدر جعل نعتًا للأكل، والمراد به الفاعل، أي آكلًا لامًا، أي جامعًا، كأنهم يستوعبونه بالأكل) (¬1). قال أبو إسحاق: كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافًا (¬2) وبدارًا، فقال الله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} أي تراث اليتامى أن تلمون جميعه (¬3). وهذا معنى قول الحسن: يأكل نصيبه، ونصيب صاحبه (¬4). قال ابن زيد: وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء، ولا الصبيان (¬5). قوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}. (الجم: الكثير، يقال: جَمَّ الشيء يَجُمُّ جُمومًا، يقال ذلك في الماء وغيره، فهو شيء جم، وجام، قال أبو عمرو: يَجِمُّ وَيجُمُّ أي يكثر) (¬6). قال أبو عبيدة (¬7)، والفراء (¬8)، والكسائي (¬9)، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين: انظر: "التفسير الكبير" 31/ 173. (¬2) بدارًا: أي مبادرة بمعنى عاجلة. "لسان العرب" 40/ 48 (بدر). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 323 بيسير من التصرف (¬4) "جامع البيان" 30/ 183، "الكشف والبيان" 13/ 91/ 2، "التفسير الكبير" 31/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 53، "الدر المنثور" 8/ 509، وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح القدير" 5/ 439، "تفسير الحسن البصري" 8/ 417. (¬5) "جامع البيان" 30/ 184 بمعناه، "الكشف والبيان" 13/ 91 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 53. (¬6) ما بين القوسين نقلاً عن "تهذيب اللغة" 10/ 520 (جم)، وانظر: "لسان العرب" 12/ 105 (جم). (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 298. (¬8) "معاني القرآن" 3/ 262. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله.

(والزجاج (¬1)) (¬2) وأهل التفسير (¬3): "حبًا جمًا": كثيرًا شديدًا. قال عطاء: يحبون جمع المال (¬4). والمعنى: إنهم يُولعون بجمع المال، فلا ينفقونه في خير، كما ذكر من صفتهم في قوله: {لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17 - 18]. قال الله تعالى: {كَلَّا} (¬5) وهو تنبيه وزجر لهم عما هم عليه. وقال مقاتل: أي لا يفعلون مَا أُمروا في اليتيم، والمسكين (¬6). ثم خوفهم مستأنفًا بقوله: قوله (¬7): {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}. ذكرنا معنى الدك عند قوله: {جَعَلَهُ دَكًّا} (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 323. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) قال بذلك أيضا ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. "جامع البيان" 30/ 185، وإليه ذهب السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 477، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 91 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 485، "المحرر الوجيز" 5/ 480، "زاد المسير" 8/ 247، "التفسير الكبير" 31/ 173، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 54، "لباب التأويل" 4/ 478. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 485، "لباب التأويل" 4/ 378. (¬5) {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}. (¬6) بمعناه في "تفسيره" 239 ب، "معالم التنزيل" 4/ 485، وقد ورد بمثله من غير عزو في "لباب التأويل" 4/ 378. (¬7) في (أ): (قوله ولا ينتظم الكلام بإثباتها). (¬8) سورة الكهف: 98، ومما جاء في تفسيرها أي دكهُ دكا ويجوز أن يكون المعنى جعله ذا دك.

قال مقاتل: يعني كسر كل شيء عليها من جبل، أو بناء، أو شجر زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء (¬1). قال أبو إسحاق: إذا زلزلت فَدَكَّ بعضُها بَعْضًا (¬2). قال ابن قتيبة: دُقَّت جبالها، وأنشازها (¬3) حتى استوت (¬4). وقال المبرد: (دكت) معناه ألصقت، وذهب ارتفاعها من قولهم: ناقة دكاء للاصقة السنام (¬5). وقال صاحب النظم: معنى التكرير في قوله: {دَكًّا دَكًّا} أنه دفعات على تأويل دكت الأرض دكًا بعد دك، ولو كان غير مكرر لاشتبه أن يكون دفعة واحدة (¬6). و (قد) (¬7) قال الكلبي: دكًا دكًا زلزلة بعد زلزله (¬8). وقال أهل المعاني: الدك: حط (¬9) المرتفع بالبسط، [و] (¬10) اندك ¬

_ (¬1) بمعناه في تفسيره: 239 ب، وقد ورد بمثله من غير نسبة في "التفسير الكبير" 31/ 174، "لباب التأويل" 4/ 378. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 323 بنصه. (¬3) أنشازها: مفرد نشز وهو ما ارتفع من الأرض، يقال: قعد على نشز من الأرض، وجمع نشز نشوز. إصلاح المنطق: 95، وانظر: المصباح المنير: 2/ 741. (¬4) "تفسير غريب القرآن" 527. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) غير واضحة في كلا، النسختين. (¬10) ساقط من كلا النسختين، وأثبت ما ينتظم به الكلام.

سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وناقة دكاء إذا كانت كذلك، ومنه الدكان لاستوائه في الفرش، وكذلك الأرض إذا دكت استوت في الانفراش، فذهبت دورها، وقصورها، وسائر أبنيتها حتى تصير كالصخرة الملساء (¬1) (¬2). وهذا معنى قول ابن عباس: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم (¬3). وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} معنى هذا (¬4) كمعنى قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وقد مر (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (الملساة). (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 174. والدك لغة قال الأزهري: الدك يطلق على الهدم، والدُّكك: الهضاب المفسخة، والدُّكك: النوق المنفضخة الأسمنة، والدك: كسر الحائط، والجبل، والدكاوات من الأرض الواحدة دكاء وهي رواب مشرفة من طين فيها شيء من غلط، "تهذيب اللغة" 9/ 436 - 437، وانظر: "لسان العرب" 10/ 424 وما بعدها وكلاهما تحت (دك). وفي الغريب: الدَّك الأرض اللينة والسهلة، وقد دكه دكا ثم قال وأرض دكاء مسواة والجمع الدُّك، وناقة دكاء لاسنام لها تشبيهاً بالأرض الدكاء. "المفردات في غريب القرآن" 171، انظر: "تحفة الأريب" 124. (¬3) "جامع البيان" 30/ 185 من حديث طويل، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 54. (¬4) في (أ): (هداك). (¬5) ومما جاء في تفسيرها: قال الواحدي في قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}. وجهان: أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف: أن يأتيهم عذاب الله، أو أمر الله أو آيات الله فجعل الآيات والعذاب مجيئاً له تفخيماً لشأن العذاب وتعظيماً له. والثاني: المعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من العذاب والحساب فحذف ما يأتي به وتهويلاً عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب =

على أن الحسن قد قال في هذه الآية: جاء أمر ربك وقضاء ربك (¬1)، فيكون هذا من باب حذف المضاف، ونحو هذا روي عن الكلبي: وجاء أمر ربك. وذكر أهل المعاني في هذا قولين: أحدهما: أن المعنى وجاء جلائل آياته، لأن هذا يكون يوم القيامة، وفي ذلك اليوم تظهر العظائم، وجلائل الآيات، فجعل مجيئها مجيئًا له تفخيمًا لشأنها. الثاني: أن المعنى: وجاء ظهوره بضرورة المعرفة، وضرورة المعرفة التي تقوم مقام ظهوره ورؤيته، ولما صارت المعارف في ذلك اليوم بالله تعالى ضرورة، صار ذلك كظهوره، وتجليه (¬2) للخلق، فقيل: وجاء ربك، أي زالت الشبهة، وارتفعت الشكوك كما ترتفع (عند) (¬3) مجيء الشيء الذي كان يشك فيه (¬4). ¬

_ = الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ لأنفسنا وخواطرهم وذهاب ذكرهم في كل وجه. ومثله قوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي أتاهم بخذلانه إياهم. في قوله: {ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وجهان أيضًا: أحدهما أن العذاب يأتي فيها ويكون أهول كقوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}. والثاني: أن ما يأتيهم من العذاب يأتي في أهوال مفظعة فشبه الأهوال بالظلل من الغمام كقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ}. (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 91 ب، "معالم التنزيل" 4/ 486، "زاد المسير" 8/ 247، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 55. (¬2) غير مقروءة في (أ). (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "الوسيط" 3/ 485.

وهذه أوجه في هذه الآية صحيحة (¬1). ¬

_ (¬1) قلت ما ذكره الإمام الواحدي من أوجه للآية واستحسانه لها هو من التأويل وصرف اللفظ عن معناه الحقيقي، وهو قول لايصح، ومخالف لأهل السنة والجماعة. وتفسير هذه الآية على النحو المذكور باطل من وجوه: أحدها: إنه إضمار ما لا يدل اللفظ عليه بمطابقة ولا تضمن ولا لزوم وادعاء حذف ما لا دليل عليه يرجع لوثوقه من الخطاب، ويطرق كل مبطل على ادعاء إضمار ما يصحح باطله. الثاني: إن صحة التركيب واستقامة اللفظ لا تتوقف على هذا المحذوف، بل الكلام مستقيم تام قائم المعنى بدون إضمار، فإضماره مجرد خلاف الأصل فلا يجوز. الثالث: إنه إذا لم يكن في اللفظ دليل على تعيين المحذوف كان تعيينه قولاً على المتكلم بلا علم، وإخباراً عنه بإرادة ما لم يقم به دليل على إرادته وذلك كذب عليه. الرابع: إن في السياق ما يبطل هذا التقرير وهو قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ}. فعطف، مجيء الملك على مجيئه سبحانه يدل على تغاير المجيئين، وأن مجيئه سبحانه حقيقة، كما أن مجيء الملك حقيقة، بل مجيء الرب سبحانه أولى أن يكون حقيقة من مجيء الملك. الخامس: إن ما ادعوه من الحذف والإضمار إما أن يكون في اللفظ ما يقتضيه ويدل عليه أولاً فإن كان الثاني لم يجز إدعاؤه، وإن كان الأول كان كالملفوظ به وعلى التقدير فلا يكون مجازاً فإن المدلول عليه يمتنع تقديره. وهناك ردود أخرى. انظر في ذلك "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم 195، وعلى ذلك فالواجب حمل الآية على ظاهرها وحقيقتها، قال ابن تيمية: أما الإتيان المنسوب إلى الله فلا يختلف قول أئمة السلف أنه يمر كما جاء وكذلك ما شاكل ذلك فما جاء في القرآن أو وردت به السنة كأحاديث النزول ونحوها وهي طريقة السلامة، ومنهج أهل السنة والجماعة يؤمنون بظاهرها ويكلون علمها إلى الله ويعتقدون أن الله منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت الأئمة خلفاً بعد =

وقوله تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} قال عطاء: يريد صفوف الملائكة (¬1). وقال الضحاك: إن الله تعالى يأمر السماء يوم القيامة فتنشق عمن فيها من الملائكة، فينزلون، فيحيطون بمن في الأرض، ثم يأمر السماء الثانية، حتى ذكر السَابعة، فيكون سبع صفوف بعضها خلف بعض (¬2)، ونحو هذا قال مقاتل: وكل أهل سماء صف على حدة (¬3)، فمن ثم قال: {صَفًّا صَفًّا}، والمعنى: صفًا بعد صف -كما ذكرنا في قوله: {دَكًّا دَكًّا} (¬4). وقوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}. ¬

_ = سلف كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. ثم قال والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص فيثبت ما أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه وهو أن يثبت النزول والإتيان، والمجيء ويتقي المثل والسمي، الكفء، والند. "مجموع الفتاوى" 16/ 409، 423 - 424. ومعنى الآية على ذلك كما قال الإمام السعدي يجيء الله لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام وتجيء الملائكة الكرام أهل السموات كلهم صفاً بعد صف كل سماء يجيء ملائكتها صفاً يحيطون من دونهم من الخلق. "تيسير الكريم الرحمن" 5/ 414. (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 486، "فتح القدير" 5/ 440، وبمثل قوله ذهب قتادة: "جامع البيان" 30/ 188. (¬2) ورد معنى قوله في "معالم التنزيل" 4/ 486، "زاد المسير" 8/ 247، مختصرًا، وبمعناه في "فتح القدير" 5/ 440. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) سورة الفجر: 21 راجع ذلك في موضعه.

قال جماعة المفسرين: جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام، كل زمَام مع سبعين ألف ملك يجرونها، حتى تنتصب [يسار] (¬1) العرش (¬2). {يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم يجاء (¬3) بها. {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} يتعظ ويتوب له الكافر. {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} قال أبو إسحاق: يُظْهِر التربة، ومن (¬4) أين له التوبة (¬5)؟ وهذا كقوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان: 13]، وتفسير الذكرى قد سبق في مواضع (¬6). ثم فسر ذكراه بقوله: {يَقُولُ} (¬7) يعني الإنسان. {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي: قدمت الخير والعمل الصَالح، فحذف للعلم به. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (أ): وكتب في (ع): (ليسار). (¬2) قال بذلك: قتادة، وابن مسعود، ومقاتل انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 371، "جامع البيان" 30/ 188، "معالم التنزيل" 4/ 486، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 55، وعزاه الفخر إلى جماعة المفسرين: "التفسير الكبير" 31/ 175. وهذا القول من المفسرين يصدقه الحديث الذي في "صحيح مسلم" 4/ 2184: ح: 29 كتاب الجنة: باب 12 عن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها. (¬3) في (أ): (جابها). (¬4) في (أ): (من). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 324 بيسير من التصرف. (¬6) في سورة الدخان: 13، سورة الأعلى: 9 فليراجع ذلك في سورة الأعلى: 9. (¬7) {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.

وقوله: {لِحَيَاتِي} قال ابن عباس (¬1)، (ومقاتل (¬2)) (¬3)، والمفسرون (¬4): لآخرتى التي لا مَوت فيها، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (¬5). قال الحسن: عَلم والله أنه صادق هناك حياة طويلة لا موت فيها (¬6). قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قراءة العَامة: "يُعذِب"، و"يُوثِقُ" بكسر العين فيهما (¬7). قال مقاتل: فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق، ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق (¬8). ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "النكت والعيون" 6/ 271. (¬2) بمعناه في تفسيره: 240 أقال: يا ليتني قدمت في الدنيا لآخرتي. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) قال بذلك: قتادة، ومجاهد. انظر: "جامع البيان" 30/ 189، وبه قال الفراء: "معاني القرآن" 3/ 262، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 478، وعزاه ابن عطية إلى جمهور المتأولين: "المحرر الوجيز" 5/ 481، وانظر: "زاد المسير" 8/ 484، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 56، "لباب التأويل" 4/ 378، "فتح القدير" 5/ 440. (¬5) سورة العنكبوت: 64. (¬6) "جامع البيان" 30/ 189، "الدر المنثور" 8/ 512، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، "فتح القدير" 5/ 440، "تفسير الحسن البصري" 2/ 418. (¬7) أي بكسر الذال في {يُعَذِّبُ} والثاء في {يُوثِقُ} انظر: كتاب "السبعة في القراءات" 685، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 774، "الحجة" 6/ 411، "المبسوط" 408، "حجة القراءات" 763، كتاب "التبصرة" 726، "النشر" 400، "المهذب" 2/ 333. (¬8) بمعناه في "تفسيره" 240 أ، "التفسير الكبير" 31/ 176.

قال أبو عبيد: قد علم المسلمون أنه ليس يوم القيامة معذب سوى الله، (فكيف يكون) (¬1) لا يعذب أحد مثل عذابه (¬2)؟. فزيف (¬3) أبو عبيد هذا القول كما ترى (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد، أي الأمر يومئذ أمره، ولا أمر لغيره (¬5). وقال الحسن: لا يعذب عذابه في السماء أحد، ولا يوثق وثاقه في الدنيا أحد (¬6)، وتقدير هذا القول: لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكَافر يومئذ، والمعنى: مثل عذابه ووثاقه في الشدة والمبالغة. وذكر الفراء (¬7)، والزجاج (¬8) هذا القول، (وقرأ الكسائي: "لا ¬

_ (¬1) في (أ): (فيكون). (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 176، وعزاه إلى أبي عبيدة وهو تصحيف في الاسم. (¬3) غير مقروءة في (أ). (¬4) كما رد الإمام الطبري على أبي عبيدة في ما ذهب إليه في تفسيره من إنكاره لقراءة الكسر، فقال: وهذا من التأويل غلط، لأن أهل التأويل تأولوه بخلاف ذلك، مع إجماع الحجة من القراء على قراءته بالمعنى الذي جاء به تأويل أهل التأويل، وما أحسبه دعاه إلى قراءات ذلك أي بالفتح كذلك إلا ذهابه عن وجه صحته في التأويل."جامع البيان" 30/ 189 - 190. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 324، ويعتبر قول أبي إسحاق أحد الأوجه عند الفخر في الرد على أبي عبيدة. انظر "التفسير الكبير" 31/ 176. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 271 - 272، "جامع البيان" 30/ 189 وبمعناه في "النكت والعيون" 6/ 271، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 56، "تفسير الحسن البصري" 2/ 418. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 262 (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 34.

يُعَذب"، و"لا يُوثَق" بفتح العين فيهما (¬1). واختاره أبو عبيد (¬2) لما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة عمن سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأهما (¬3) بالفتح (¬4). والعذاب في القراءتين بمعنى التعذيب، كما قلنا في السراح (¬5)، والأداء، وكما قال (¬6): وبعد عطائك المائة الرتاعَا (¬7) (¬8) فجعله موضع الإعطاء، والوثاق أيضًا في موضع الإيثاق، كالعذاب في موضع التعذيب، وهما مضافان إلى الفاعل في قراءة العامة، وهو الله ¬

_ (¬1) كتاب "السبعة في القراءات" 685، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 774، "الحجة" 6/ 411، "المبسوط" 408. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 92 ب، "التفسير الكبير" 31/ 176، وعزاه إلى أبي عبيدة، وهو تصحيف، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 57، "فتح القدير" 5/ 440. (¬3) في (أ): (قراءها). (¬4) الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 255، كتاب التفسير، قراءات النبي -صلى الله عليه وسلم- وصححه، وقال: والصحابي الذي لم يسمه في إسناده قد سماه غيره: مالك بن الحويرث ووافقه الذهبي، أما ابن جرير فقد رد الحديث واعتبر إسناده واهياً. "جامع البيان" 30/ 189. (¬5) في (أ): (للسراح). (¬6) القطامي من قصيدة مدح بها زفر بن الحارث وقد سبق ذكرها في سورة الحاقة: 34، وصدره: أكفراً بعد رد الموت عني (¬7) غير مقروء في (ع). (¬8) ورد البيت أيضًا في "التفسير الكبير" 31/ 177، برواية: "عدائك" بدلاً من: "عطائك" "المحرر الوجيز" 5/ 481 برواية "بعض" بدلاً من: "بعد".

تعالى. وفي قراءة الكسائي مضاف إلى المفعول به مثل: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]. والمعنى: لا يعذب أحد تعذيب هذا الكافر، وهذا الصنف من الكفار. ومن قال المراد بالإنسان كافر بعينه (¬1)، فهو ظاهر يقول: لا يعذب يومئذ أحد تعذيبه، ولا يوثق أحد إيثاقه) (¬2)، وهذا قول الفراء (¬3)، والزجاج (¬4). وقال أبو عبيد: تفسير هذه القراءة: لا يعذَبُ عذاب الكَافر أحد (¬5). فهذه ثلاثة أقوال: أحدهَا: لا يعذب أحد عذاب ذلك الصنف من الكفار، وهم الذين ذكرهم في قوله: {لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (¬6) (الآيات) (¬7). ¬

_ (¬1) والمراد بالإنسان الكافر بعينه هو أمية بن خلف الجمحي، قاله مقاتل: "زاد المسير" 8/ 248، وانظر: "الكشف والبيان" 13/ 92 ب، "معالم التنزيل" 4/ 486 وقيل: أبي بن خلف، وقيل: إبليس. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 56، "فتح القدير" 5/ 440. (¬2) ما بين القوسين نقله عن الحجة 6/ 411 - 412 بتصرف. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 262. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 4/ 324. (¬5) بمعناه ورد في "التفسير الكبير" 31/ 176، وورد بمثله من غير عزو في "النكت والعيون" 6/ 271، "معالم التنزيل" 4/ 486. (¬6) سورة الفجر: 17 وما بعدها أي من آية 17 إلى آية 20. (¬7) ساقط من (أ).

والثاني: لا يعذب أحد عذاب كافر بعينه، وهو أمية بن خلف (¬1)، أو غيره (¬2) من [الكفار] (¬3) على ما قد بينَّا. الثالث: لا يعذب أحد من الناس عذاب الكَافر. وهذا أولى الأقوال. وذكر أبو علي الفارسي قولًا آخر في قراءة العَامة، قال: المعنى فيؤمئذ لا يعذب أحدٌ، أحدًا، تعذيبًا مثل تعذيب هذا الكافر المتقدم ذكره؛ فأضيف المصدر إلى المفعول به، كما أُضيف إليه في قراءة الكسائي، ولم يذكر الفاعل، فكان (¬4) المعنى في القراءتين سواء، والذي يُراد بأحدٍ الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار (¬5). قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا (¬6) النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) (¬7)} قال عطاء عن ابن عباس: بثواب الله (¬8). وقال مقاتل: التي عملت على يقين بما ذكر الله في كتابه (¬9). وقال أبو صَالح: المطمئنة بالإيمان (¬10) (¬11). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) في (أ): (غيره). (¬3) في كلا النسختين: الكفر، وأثبت ما رأيت به استقامة المعنى. (¬4) في (أ): (وكأن). (¬5) "الحجة" 6/ 412 بيسير من التصرف. (¬6) يايتها: في كلا النسختين. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 57 من غير ذكر طريق عطاء. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد بمثله من غير نسبة في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 57. (¬10) بياض في (ع). (¬11) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله عن مقاتل في "تفسيره" 240 أ.

وقال مجاهد: المنيبة المخبتة التي أيقنت بأن الله (ربها) (¬1)، وضربت لأمره جأشًا (¬2)، الراضية بقضاء الله (¬3). وقال الحسن: المؤمنة الموقنة (¬4). ومعنى هذه الأقوال: المطمئنة إلى وعد الله، المصدقة بما قال. قال صَاحب النظم: المطمئنة الموقنة اعتبارا بقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬5) والطمأنينة: حقيقة الإيمان، فإذا لم تكن طمأنينة كانت وسوسة، وهذه الصفة ثابتة لنفس المؤمن في الدنيا؛ لأنه صَدَّق الله، واطمأن إلى ما ذكر في كتابه (¬6). وقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} قال أبو صالح: هَذا عند خروجها من الدنيا ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) جأشاً: أي قرَّت يقيناً، اطمأنت كما يضرب البعير بصدره الأرض إذا برك وسكن. "تهذيب اللغة" 11/ 135 (جيش). (¬3) ورد قوله في تفسير مجاهد: 728 مختصرًا، "جامع البيان" 30/ 190 بنحوه، "الكشف والبيان" 13/ 92 ب، "معالم التنزيل" 4/ 486، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 57 بمعناه ولم يذكر الزيادة، "الراضية بقضاء الله". إلا برواية منفصلة عن مجاهد في "الكشف" 13/ 93 أ، "زاد المسير" 8/ 248، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 57 وبالنص كاملاً ورد عن عطية بمثله، انظر: "الكشف والبيان"، و"معالم التنزيل". مرجعين سابقين، "الدر المنثور" 8/ 515 مختصرًا، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 93 أ، "معالم التنزيل" 4/ 486، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 57، "فتح القدير" 5/ 440، تفسير الحسن: 2/ 418. (¬5) سورة البقرة: 260 (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

يقال لها: ارجعي إلى الله راضية بالثواب (¬1)، مرضية عنك (¬2)، وهو قول مقاتل (¬3) وغيره (¬4). يدل على هذا ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات فقال أبو بكر (رضي الله عنه): ما أحسن هذا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما إن الملك سيقولها لك (¬5) (¬6). وقوله (¬7): {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} أي في جملة عبادي الصالحين المصطفين، وهذا يقال لها يوم القيامة. قال أبو صَالح: إذا كان يوم القيامة قيل ادخلي في عبادي وادخلي جنتي (¬8). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 119، "الكشف والبيان" 13/ 93 أ، "النكت والعيون" 6/ 272، "معالم التنزيل" 4/ 487، "زاد المسير" 8/ 249 برواية أبي صالح عن ابن عباس،"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 58، "الدر المنثور" 8/ 414 - 515، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) عزاه ابن الجوزي إلى الأكثرين: "زاد المسير" 8/ 248، وقال به الحسن البصري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن زيد. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 93 ب، "المحرر الوجيز" 5/ 481، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 58، "البحر المحيط" 8/ 472. (¬5) بياض في (ع). (¬6) ورد في "جامع البيان" 30/ 191 برواية سيقول لك عند الموت، "الكشف والبيان" 13/ 94 أ، "التفسير الكبير" 31/ 179، "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 58، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 545، وقال عنه مرسل، "المحرر الوجيز" 5/ 481. (¬7) في (أ): (قوله). (¬8) "جامع البيان" 3/ 192، "معالم التنزيل" 4/ 487.

قال صاحب النظم: قوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} تكون عند الوفاة، وقبض الروح، ثم نظم به. قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}، وهذا لا يكون إلا في الآخرة، فنظم عز وجل خبرًا بخبر في وقت على ظاهره، وهما في وقتين في الباطن (¬1). ومن المفسرين من يقول هذا كله، يقال للنفس المطمئنة في الآخرة (¬2). ومعنى "المطمئنة": الآمنة من العذاب (¬3)؛ لأن الله أمنها من العذاب يدل هذا على ما ذكر في حرف أبي: (يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة) (¬4). وقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي إلى ثواب ربك وكرامته (قاله) (¬5) الحسن (¬6). قال الفراء: إلى ما أعد الله لك من الثواب (¬7)، ثم ينتظم بقوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) قال بذلك أسامة بن زيد عن أبيه وكلامه قال: بُشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث. "جامع البيان" 30/ 191. (¬3) قال بذلك الكلبي، ومقاتل. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 486، "فتح القدير" 5/ 441. (¬4) ورد قوله في "مختصر في شواذ القرآن" لابن خالوية: 173، "جامع البيان" 30/ 191، "النكت والعيون" 6/ 272، "المحرر الوجيز" 5/ 482. (¬5) في كلا النسختين: (قال). (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 94 أب، "معالم التنزيل" 4/ 487، "زاد المسير" 8/ 249، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 58، "تفسير الحسن البصري" 2/ 419. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 263 بنصه.

ومن المفسرين من ذهب إلى أن هذا يقال للنفس المؤمنة عند البعث يقال لها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي إلى صاحبك الذي (¬1) خرجت منه، وهذا قول عكرمة (¬2)، وعطاء (¬3)، (والضحاك (¬4)) (¬5). يدل على هذا ما روي عن ابن عباس أنه قرأ: فادخلي في عبدي، على التوحيد (¬6). ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) "جامع البيان" 30/ 191، "الكشف والبيان" 13/ 94 أ، "معالم التنزيل" 4/ 487، "زاد المسير" 8/ 249، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 58. (¬3) المراجع السابقة عدا "جامع البيان". (¬4) المراجع السابقة عدا "جامع البيان"، و"الجامع لأحكام القرآن". (¬5) ساقط من (ع). (¬6) "المحتسب" 2/ 360، "مختصر في شواذ القرآن" 173.

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -115 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة البلد إلى آخر المصحف تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزير الورثان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزير بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الرابع والعشرون

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمادة البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية -115 - التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) من سورة البلد إلى آخر المصحف تحقيق د. نورة بنت عبد الله بن عبد العزير الورثان أشرف على طباعته وإخراجه د. عبد العزير بن سطام آل سعود ... أ. د. تركي بن سهو العتيبي الجزء الرابع والعشرون

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1430 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الواحدي، علي بن أحمد التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468)./ نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان، الرياض 1430 هـ. 25 مج. (سلسلة الرسائل الجامعية) ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 9 - 880 - 04 - 9960 - 978 (ج 24) 1 - القرآن تفسير ... 2 - الواحدي، علي بن أحمد أ- العنوان ... ب-السلسلة ديوي 227.3 ... 868/ 1430 رقم الإيداع: 868/ 1430 هـ: ردمك: 4 - 857 - 04 - 9960 - 978 (مجموعة) 9 - 880 - 04 - 9960 - 978 (ج 24)

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ) [24]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التَّفْسِيرُ البَسِيْط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت 468 هـ)

تفسير سورة البلد

تفسير سورة البلد (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام (¬2)، والسورة نازلة بها. ¬

_ (¬1) مكية بالإجماع قال بذلك: ابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 250، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 59. وقال أبو حيان: هذه السورة مكية في قول الجمهور. "البحر المحيط" 8/ 474. وقال الشوكاني: قيل: إنها مدنية "فتح القدير" 5/ 483. (¬2) وممن حكى الإجماع على أن المراد بالبلد هي مكة: ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 483، والفخر في: "التفسير الكبير" 31/ 180، والقرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 60، والخازن في: "لباب التأويل" 4/ 379، والشوكاني في: "فتح القدير" 5/ 442. ولم يذكر الطبري في الآية اختلافًا. "جامع البيان" 30/ 193. والمفسرون على أنه قسم بالبلد الحرام، قال بذلك: قتادة، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن زيد، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وعطية. "جامع البيان" 30/ 193، "الدر المنثور" 8/ 518. وانظر أيضًا: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 327، و"بحر العلوم" 3/ 479، و"الكشف والبيان" 13/ 95 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 488، و"زاد المسير" 8/ 250، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 546. وهناك من شذ فقال: إنها مدنية، وهو قول الواسطي، قال القرطبي: والأول أصح؛ لأن السورة نزلت بمكة باتفاق. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 60، وقال الشوكاني: وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين، هو أيضًا مدفوع بكون =

2

2 - {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، قال الليث: الحِلّ: الرجل الحلال الذي خرجَ من إحرامه ولم يحرم (¬1). قال أبو إسحاق: يقال رَجُلّ حِلّ وحَلاَل مُحِلُّ، وكذلك رجل حِرْمٌ، وحَرام ومُحْرِمّ (¬2). وقال (¬3) مجاهد: أحلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصنع فيها ما يشاء (¬4). وقال قتادة: أنت به حل لست بآثم (¬5) (¬6). قال مقاتل: وأنت حل أن تقتل بمكة من شئت من الكفار (¬7). قال المفسرون: أحل لنبيه صلى الله عليه وسلم (¬8) مكة يوم الفتح حتى ¬

_ = السورة مكية لا مدنية. "فتح القدير" 5/ 442. وعليه ما ذكر من الإجماع فصحيح، ولا عبرة فيمن شذ، وقد رد من الأئمة. والله أعلم. وقد ذكر الماوردي أن البلد الحرام مكة، وساق قولًا آخر، وهو أنه الحرم كله. الماوردي 6/ 274. (¬1) "تهذيب اللغة" 3/ 437 (حلل). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 327. (¬3) في (أ): (قال). (¬4) "جامع البيان" 30/ 194، وورد بمعناه في: "النكت والعيون" 6/ 274، و"زاد المسير" 8/ 250، و"فتح القدير" 5/ 443. (¬5) بياض في (ع). (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 373، "جامع البيان" 30/ 195،"التفسير الكبير" 31/ 180، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 195، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 546، "الدر المنثور" 8/ 518، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، "فتح القدير" 5/ 443. (¬7) بمعناه في "تفسيره" 240 أقال: "لا أقسم بهذا البلد"، يعني مكة، "وأنت حل بهذا البلد"، يعني ما أحلها لأحد قبلك ولا بعدك، وإنما أحللتها لك ساعة في النهار. (¬8) في (أ): (عليه السلام).

قاتل، وقتل، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار" (¬1). وهذا قول ابن عباس (¬2)، وعطاء (¬3)، (والكلبي (¬4)، وابن زيد (¬5)، والضحاك (¬6)) (¬7). والمعنى: إن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حرامًا، فوعد نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 1/ 56: ح: 112: كتاب العلم: باب 39: من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، ولفظ البخاري: "إلا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار"، ج: 4/ 268: ح 6880: كتاب الديات: باب 8، ومسلم في "صحيحه" 2/ 986، 988، 989: ح: 445، 447، 448: كتاب الحج: باب 82، وأحمد في: المسند: 1/ 253، 259، 316، وقال ابن حجر في الكافي: متفق عليه من حديث أبى سلمة، عن أبي هريرة، وله طرق وألفاظ: 4/ 184. (¬2) "جامع البيان" 30/ 194، "النكت والعيون" 6/ 274، "المحرر الوجيز" 5/ 483، "زاد المسير" 8/ 250، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 60، "البحر المحيط" 8/ 474، "الدر المنثور" 8/ 516، وعزاه إلى ابن مردويه، وابن أبي حاتم. (¬3) "جامع البيان" 30/ 195، "بحر العلوم" 3/ 479، "الدر المنثور" 8/ 518، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "جامع البيان" 30/ 195، "الجامع لأحكام القرآن" 30/ 61، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 546، "الدر المنثور" 8/ 518. (¬6) "جامع البيان" 30/ 195، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 546. (¬7) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

3

على يده، وهذا وعد من الله بأن يحلها له، حتى تكون بها (¬1) حلًا (¬2). وهذا اعتراض بين القسم وما نسق عليه، وهو قوله (تعالى) (¬3): 3 - {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} (هذا الذي ذكرنا قول عامة أهل التفسير) (¬4). قال الحسن: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي أنت مقيم فيه (¬5)، وهو محلك، ومعناه التنبيه على شرفه، بشرف من حل فيه من الرسول الداعي إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له؛ المبشر بالثواب، والمنذر بالعقاب. وذكر المبرد هذا القول، فقال: ويقال: حِل: تأويله حَال؛ أي سَاكن (¬6). وذكر قولًا آخر: وهو أن المعنى أن الكفار من أهل مكة يحرمون أن يقتلوا بها صيدًا، أو (¬7) يعضدوا بها شجرة، ويستحلون إخراجك وقتلك. وهذا يروى عن شُرَحْبيل بن سعد (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (ما). (¬2) من قوله: (فوعد نبيه ..) إلى: (بها حلًا) عزاه ابن الجوزي إلى المفسرين في: "زاد المسير" 8/ 250 - 251، وانظر: "فتح القدير" 5/ 443. (¬3) ساقط من: (ع). (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 61، و"لباب التأويل" 4/ 279. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) في (أ): (و). (¬8) ورد قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "معالم التنزيل" 4/ 488، و"المحرر الوجيز" 5/ 483، "الكشاف" 5/ 212، و"التفسير الكبير" 31/ 180، =

وأما قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فهو عطف على القسم، والمراد بـ"الوالد وما ولد" أدم وذريته، وهو قول: مجاهد (¬1)، (ومقاتل (¬2)) (¬3)، وقتادة (¬4)، (والضحاك (¬5)، والكلبي (¬6)، وعطاء عن ابن عباس (¬7)، ¬

_ = "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 61، "الدر المنثور" 8/ 518، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬1) "تفسير الإمام مجاهد" ص 729 بنحوه، "جامع البيان" 30/ 195، "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "النكت والعيون" 6/ 275، "المحرر الوجيز" 5/ 483، "زاد المسير" 8/ 251 حاشية، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 61، "البحر المحيط" 8/ 475، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "الدر المنثور" 8/ 519 وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، "فتح القدير" 5/ 443 وجميعها بلفظ: آدم وولده. وأخرجه البخاري معلقًا عليه في كتاب التفسير: سورة البلد: 6/ 83. (¬2) "تفسير مقاتل" 240 أ. (¬3) ساقط من: (أ). (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 373، "جامع البيان" 30/ 195، "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "النكت والعيون" 6/ 275، "زاد المسير" 8/ 251 حاشية "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 61، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "فتح القدير" 5/ 443، وجميعها بعبارة: آدم وولده. (¬5) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق". قال ابن كثير: والذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي؛ لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى، وهي أم المساكن، أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "المستدرك" 2/ 523، وصححه الحاكم عن ابن عباس.

والحسن (¬1)) (¬2). قال الفراء: وصلحت "ما" للناس، كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3]، ومثله كثير (¬3)، قال: ويجوز أن يجعل "مَا" مع الذي بعدها في معنى مصدر، كأنه قيل: ووالد وولادته، كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] (¬4). وروى عكرمة عن ابن عباس: الوالد: الذي يلد، "وما ولد": العاقر الذي لا يلد (¬5). وعلى هذا "ما" تكون نفيًا؛ كأنه قيل: ووالد غير والد، ولا يصح هذا القول إلا بإضمار الموصول، كأنه قيل: ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 61، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "فتح القدير" 5/ 443، "تفسير الحسن البصري" 2/ 419. (¬2) ما بين القوسين ذكر بدلًا من تعدادهم لفظ: وغيرهم في نسخة (أ). (¬3) نحو ما جاء في سورة الليل (3) وهو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}، وما جاء في سورة النساء: 22 وهو قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 263 - 264 بتصرف. (¬5) "جامع البيان" 30/ 195، "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "النكت والعيون" 6/ 275، وبمعناه في:"المحرر الوجيز" 5/ 483، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، و"غرائب التفسير" 2/ 1342، وقد عده الكرماني من العجيب في التأويل. (¬6) انظر: "الدر المصون" 30/ 524، "الكشف والبيان" ج 13/ 95 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، و"فتح القدير" 5/ 443، و"البحر المحيط" 8/ 475. (¬7) البصريون: هم أصحاب المدرسة النحوية بالبصرة، الذين نشأ النحو على أيديهم وتطور، وضعوا قواعدهم على الأعم الأغلب مما نقل عن العرب، من ذلك: التشدد في السماع، فلا يأخذون إلا من ثقات العربية، ولا يعتمدون الشاهد =

4

وقال في رواية العوفي: الوالد وولده، يعني كل والد، وكل مولود (¬1). وروي عن أبي عمران الجَوْنِيّ أنه قال: يعني إبراهيم (¬2) وولده (¬3). قال مقاتل: أقسم الله تعالى بمكة، وبآدم وذريته (¬4). فقال: 4 - (قوله تعالى) (¬5): {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قال ابن عباس في رواية مِقْسَم: قائمًا على قدميه منتصبًا (¬6). وهو قول أبي صالح (¬7)، وإبراهيم (¬8)، ¬

_ = النحوي مقياسًا إلا إذا جرى على ألسنة العرب، وكثر استعمالهم له، وغير ذلك من القواعد، وهم أسبق من أصحاب المدرسة الكوفية، وأكثر تشددًا منهم. ومن علماء المذهب البصري: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وسيبويه، وقطرب، والأخفش الأوسط، والمازني، والمبرد، وغيرهم. انظر: "المدارس النحوية" لشوقي ضيف ص 11 وما بعدها، و"معجم المصطلحات النحوية والصرفية" لمحمود اللبدي ص21، 87. (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، وهو اختيار الطبري في: "جامع البيان" 30/ 196. (¬2) (إبرهم) في كلا النسختين. (¬3) "جامع البيان" 30/ 196، "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "النكت والعيون" 6/ 275، "المحرر الوجيز" 5/ 483، "زاد المسير" 8/ 251، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 61، "الدر المنثور" 8/ 519، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ساقط من: (ع). (¬6) ورد معنى قوله من غير ذكر طريق مقسم في: "المحرر الوجيز" 5/ 484، و"لباب التأويل" 4/ 380، و"البحر المحيط" 8/ 475، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، و"الدر المنثور" 8/ 519، وعزاه إلى الطبراني. (¬7) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 197، و"الكشف والبيان" 13/ 96 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 484، و"البحر المحيط" 8/ 475. (¬8) ورد معنى قوله في "تفسير الإمام مجاهد" 729، "جامع البيان" 30/ 197، "الكشف والبيان" 13/ 96 أ.

والضحاك (¬1)، وعبد الله بن شداد (¬2)) (¬3) (¬4)، وعكرمة (¬5) (ورواية عطاء عن ابن عباس (¬6)) (¬7)، قالوا: معتدلًا، ومنتصبًا (¬8)، وكل شيء خلق يمشي على أربع إلا الإنسان، فإنه خلق منتصبًا. قال المُنذري: سمعت أبا طالب يقول: الكبد: الاستواء والاستقامة (¬9) (¬10). ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 197، و"معالم التنزيل" 4/ 488، "زاد المسير" 8/ 252، و"البحر المحيط" 8/ 475، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 548، المحرر الوجيز 5/ 484. (¬2) لعله يريد به: عبد الله بن شَدّاد المديني، أبو الحسن الأعرج، كان من تجار واسط، صدوق، روى له الجماعة. انظر: "تهذيب الكمال" 15/ 85 ت: 3331. (¬3) ورد قوله في "الكشف والبيان" 13/ 96 أ، "المحرر الوجيز" 5/ 484، "البحر المحيط" 8/ 475. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 197، "الكشف والبيان" 13/ 91 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 488، و"زاد المسير" 8/ 252، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62. (¬6) وردت روايته ولكن عن طريق مقسم عنه في: "بحر العلوم" 3/ 479، " الكشف والبيان" 13/ 96 أ، و"زاد المسير" 8/ 252، و"الدر المنثور" 8/ 520. ومن غير ذكر طريق عطاء في: "النكت والعيون" 6/ 275، "التفسير الكبير" 31/ 183. (¬7) ما بين القوسين ذكر بدلًا منه في (أ) بلفظ: (وغيرها). (¬8) في (أ): (منتصبًا) من غير واو. (¬9) في (أ): (الإقامة). (¬10) "تهذيب اللغة" 10/ 127 (كبد)، وانظر: "لسان العرب" 3/ 376.

وقال الوالبي عن ابن عباس: (في نصب (¬1) (¬2)، وهو قول مجاهد (¬3)، وسعيد بن جبير (¬4)، والحسن (¬5)، قالوا: في شدة. قال الحسن: لم يخلق الله خلقًا يكابد ما يكابد ابن آدم (¬6). قال أخوه سعيد (¬7): يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من: (أ). (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 196، و"الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "معالم التنزيل" 4/ 488، "زاد المسير" 8/ 251، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، و"لباب التأويل" 4/ 279، "صحيفة علي بن أبي طلحة" ص 533. (¬3) "تفسير الإمام مجاهد" ص 729، "زاد المسير" 8/ 251، "الدر المنثور" 8/ 519، وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬4) المراجع السابقة عدا تفسير مجاهد، وانظر: "الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "معالم التنزيل" 4/ 488، و"زاد المسير" 8/ 251، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، وعزاه صاحب الدر إلى سعيد بن منصور، وعبد ابن حميد. (¬5) "جامع البيان" 30/ 196، "زاد المسير" 8/ 251، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، "تفسير الحسن البصري" 2/ 420. (¬6) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 197، و"بحر العلوم" 3/ 480، "المحرر الوجيز" 5/ 484، و"الدر المنثور" 8/ 250، وعزاه إلى ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 443، "تفسير الحسن البصري" 2/ 420. (¬7) سعيد بن أبي الحسن، واسمه يَسار الأنصاري؛ مولاهم، البصري، أخو الحسن البصري، روى عن ابن عباس، وعنه أخوه الحسن البصري، ثقة، مات قبل الحسن سنة 100 هـ، روى له الجماعة. انظر: "تاريخ الثقات" 182 ت 536، و"التاريخ الكبير" 3/ 462 ت 1538، و"الكاشف" 1/ 283 ت 1885. (¬8) "الوسيط" 4/ 489، وقد وردت الرواية من طريقه عن أخيه الحسن البصري في "بحر العلوم" 3/ 479، و"الكشف والبيان" 13/ 95 ب، "النكت والعيون" 6/ 276، "معالم التنزيل" 4/ 488، "القرطبي" 20/ 62، "ابن كثير" 4/ 547.

ونحو هذا قال قتادة: يكابد أمر الدنيا والآخرة، فلا تلقاه إلا في مشقة (¬1). وروى عن ابن جُرَيْج، عن (عطاء، عن (¬2) ابن عباس قال: يعني حمله، وولادته، ورضاعه، وفصاله، ونبت أسنانه، وختانه، ومعاشه، وموته، كل ذلك بشدة (¬3). ونحو هذا روى (القاسم (¬4) بن أبي بزة (¬5) (¬6)، عن مجاهد قال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، ومعيشته في شدة، فهو يكابد ذلك (¬7). وذكر الكلبي (¬8)، والفراء (¬9): القولين جميعًا. ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 3/ 373، "جامع البيان" 30/ 196، "معالم التنزيل" 4/ 488، "الدر المنثور" 8/ 519 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) ورد بمعناه في: "جامع البيان" 30/ 197، و"بحر العلوم" 3/ 480، و"الكشف والبيان" 13/ 95 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 488، و"لباب التأويل" 4/ 380، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، و"الدر المنثور" 8/ 519، وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وانظر: "المستدرك" 2/ 523، كتاب التفسير: تفسير سورة البلد، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬4) في (ع): (القسم). (¬5) (بزة) غير واضحة في: (ع). (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547 من غير ذكر طريق القاسم من أبي بزة، وبمثله ورد عن ابن جريج. "النكت والعيون" 6/ 276. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 264.

وعلى هذا: (الكبد من مكابدة الأمر، وهي معاناة شدته (¬1)، ومشقته، والرجل يكابد الليل إذا قاسى هَوّلهُ وصعوبته (¬2) (¬3). وقال أهل المعاني: الكبد شدة الأمر، ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد: كأنه دم (¬4) يغلظ ويشتد، فالإنسان مخلوق في شدة مكونة (¬5) في رحمه، ثم في القماط، والرباط، ثم على خطر (عظيم) (¬6) عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة المعيشة، والأمر والنهي، فينبغي [له] (¬7) أن يعلم أن الدنيا دار مشقة وكد، وأن الجنة هي دار الراحة والنعمة (¬8). ومن المفسرين من يذهب (¬9) بالكبد إلى شدة الخلق، والقوة، وهو قول الكلبي، قال: نزلت في رجل من بني جمح (¬10)، كان يكنى أبا الأشدين، وكان يجعل تحت قدميه الأديم (العكاظي) (¬11)، ثم يأمر العشرة ¬

_ (¬1) قال به الأزهري في: "تهذيب اللغة" 10/ 127 (كبد) بتصرف، وانظر: "لسان العرب" 3/ 376 (كبد). (¬2) ومن قوله: (الرجل يكابد ...) إلى: (وصعوبته) من قول الليث. المرجعان السابقان. (¬3) ما بين القوسين نقله من التهذيب. المرجع السابق. (¬4) في (أ): (ولم). (¬5) في (أ): (ركمه). (¬6) ساقط من: (أ). (¬7) ساقط من: (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬9) في (أ): (ذهب). (¬10) بنو جمح: بطن بني هصيص من قريش من العدنانية، النسبة إليهم جمحي، "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 202، وانظر "معجم قبائل العرب" لمحمد رضا كحالة 1/ 202، "نهاية الأرب" للنويري 2/ 356. (¬11) ساقط من: (أ).

فيجتذبونه من تحت قدميه، فيتمزق (الأديم) (¬1)، ولم تزل قدماه (¬2). ونحو هذا قال مقاتل (¬3). وعلى هذا: الكبد من الشدة التي هي بمعنى القوة، وغلظ القول (¬4)، والخلق. قال المبرد: يقال فلان يكابد الأمر إذا كان يدافعه بشدة (¬5)، وأنشد أبو عبيدة قول لبيد: عَيْنُ هَلّا بَكَيْتِ أرْبَدَ إذْ ... قُمْنَا وقَامَ الخُصومُ في كَبَدِ (¬6) (¬7) أي في شدة وعناء (¬8)، ويجوز أن يكون في شدة وقوة للدفع، ويدل على هذا المعنى: قوله: ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 183، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 63، "لباب التأويل" 4/ 380 من غير عزو. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 96 أ، "معالم التنزيل" 4/ 488، وانظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 202، ولم أعثر على قوله في تفسيره. (¬4) في (ع): (القوة). (¬5) جاء في حاشية "الكامل" 3/ 1394 قول المبرد قال: (والكبد: الشدة والمشقة). (¬6) ورد البيت في: "ديوانه" ص 50 ط. دار صادر. وانظر (كبد) في: "تهذيب اللغة" 10/ 127، و"لسان العرب" 3/ 376، وفي "جامع البيان" 30/ 198، و"الكشف والبيان" 13/ 96 أ، و"النكت والعيون" 8/ 276، و"المحرر الوجيز" 5/ 484، "الكشاف" 4/ 213، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 62، و"روح المعاني" 30/ 135، و"الكامل" 3/ 1394، و"الخصائص" 2/ 205، 3/ 318، "الدر المنثور" 8/ 520، و"الإتقان" 2/ 57، و"جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي، تح: البجاوي ص 21. (¬7) ورد قوله في: "مجاز القرآن" 2/ 299. (¬8) "تهذيب اللغة" 10/ 127 (كبد).

5

5 - {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قال الفراء: أيحسب بشدته أن لن يقدر عليه أحد، والله قادر عليه (¬1). وهو قول الكلبي، قال: أيظن من شدته أن لن يقدر عليه أحد، وأن لن يعاقبه الله (¬2). 6 - ثم أخبر عن مقالة هذا الإنسان، فقال: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}. قال أبو عبيدة: لبدًا: فُعَلٌ من التلبُّد، وهو المال الكثير بعضه على بعض (¬3). قال أبو إسحاق: وفُعَلٌ للكثرة، يقال: رجل حُطَم إذا كان كثير الحَطْمِ (¬4). وقال الفراء: واحدتُهْ لُبْدة، ولُبَد جماع، وقال: وجعل بعضهم واحدًا على جههَ قُثَّم وحُطَم، وهي في الوجهين جميعًا الكثير (¬5). قال الليث: قال: لبدّ لا يخاف فناءه من كثرته (¬6)، وذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]. وجميع المفسرين قالوا في "اللبد": إنه الكثير المجتمع (¬7). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 264. (¬2) "الوسيط" 4/ 489. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 299. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 328. (¬5) لم أعثر على قوله في معانيه، و"تهذيب اللغة" 14/ 129 (لبد)، "التفسير الكبير" 1/ 183، و"لسان العرب" 30/ 387، وقد سبق بيان قراءة (لبدًا) سورة الجن 19. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه من غير عزو في: "لسان العرب" 30/ 387 (لبد). (¬7) قال بذلك: قتادة، وابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، والحسن، والسدي وغيرهم. "جامع البيان" 30/ 198، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547. =

7

قال الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2): يقول أهلكت في عداوة محمد مالًا كثيرًا. 7 - قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}. قال عطاء عن ابن عباس: أيحسب أن لم ير الله عمله (¬3). ونحو هذا قال مقاتل: أيحسب أن لم يطلع الله على مَا عمل (¬4). ومعنى هذا التهديد باطلاع الله على مَا عمل، كما قال قتادة: أيظن أن الله لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه (¬5)؟. ¬

_ = وبه قال الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 328، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 528، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص 392، ولم يذكر الطبري قولًا مخالفًا، قال: وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. "جامع البيان" 30/ 198، وقال به أيضًا الثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 96 أ، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 489، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 64، و"لباب التأويل" 4/ 380، "المفردات في غريب القرآن" ص 446، و"نفس الصباح" 2/ 782، و"تحفة الأريب" ص 276. وذكر الماوردي قولًا محتملًا قال: ويحتمل أن يكون المعنى مالًا قديمًا لاشتقاقه من الأبد، أو للمبالغة في قدمه في عهد لَبِد؛ لأن العرب تضرب المثل في القدم بـ (لبد). وذكر قدمه لطول بقائه، وشدة ضنه به. "النكت والعيون" 6/ 277. قلت: وهذا الاحتمال بعيد عن مفهوم الآية، وهو ضعيف، وعليه لا يعتبره الإمام الواحدي قولًا مخالفًا؛ بل لا يعتبر أن له وجودًا، ولهذا حكى الإجماع. (¬1) "زاد المسير" 8/ 252، "فتح القدير" 5/ 443، وعنه القرطبي عن ابن عباس: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 64. (¬2) "فتح القدير" 5/ 443، وبمعناه ورد في: "الكشف والبيان" 13/ 96 ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 484، و"زاد المسير" 8/ 252، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 64، والذي ورد عنه في تفسيره 240 ب قال: لبدًا يعني مالًا كثيرًا. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) بمعناه في "تفسيره" 240 ب. (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 373، "جامع البيان" 30/ 199، "الكشف والبيان" 13/ =

8

وقال الكلبي: كان كاذبًا، لم ينفق ما قال، فقال الله: أيظن ما رأى الله ذلك منه فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق (¬1)!. واختاره الفراء فقال: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} في إنفاقه، يقول: أنفقت وهو كاذب (¬2). قال مقاتل: (ثم ذكره النعم ليعتبر فقال (¬3): 8 - {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}) (¬4) قال أبو إسحاق: (أي) (¬5) ألم نفعل به ما يُستدل به على أن الله قادر على أن يبعثه، وأن يحصي عليه ما يعمله (¬6). 9 - (قوله تعالى) (¬7): {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}. قال الليث: الشَّفة حُذِفَتْ منها "الهاء"، وتصغيرها: شُفيْهة، والجميع شِفاه، وإذا ثلثوا قالوا: شفهات (¬8)، وشَفهوات، و"الهاء" أقيس، و"الواو" أعمّ، لأنهم شبهوه بالسنوات (¬9)، ونقصانها حذف "هَائها" (¬10). ¬

_ = 96 ب، "معالم التنزيل" 4/ 489، "التفسير الكبير" 31/ 183 - 184، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "فتح القدير" 5/ 444. (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 489، "التفسير الكبير" 31/ 184، "فتح القدير" 5/ 444. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 264 بتصرف. (¬3) في (أ): (فقال قوله). (¬4) ما بين القوسين من قول مقاتل، انظر: "تفسيره" 240 ب. (¬5) ساقط من: (أ). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 328 بنصه. (¬7) ساقط من (ع). (¬8) في (أ): (شفهات). (¬9) في (أ): (بالسموات). (¬10) "تهذيب اللغة" 6/ 85، 86، وانظر: "لسان العرب" 13/ 506 (شفه).

10

قال الأزهري: والعرب تقول: هذه شَفُةٌ في الوصَل، وشفهٌ أيضًا بـ"الهاء" (¬1). 10 - وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} النجد: معناه في اللغة: ما ارتفع من الأرض، وأشرف، ونجد هو ما ارتفع عن انخفاض تِهَامة، وكل عَال من الأرض نجد، والنجد الطريق في ارتفاع (¬2). قال ابن عباس (¬3)، والمفسرون: يريد بينا له طريق الخير، وطريق الشر. وهو قول عبد الله (¬4)، (وعلي (¬5)) (¬6)، ومجاهد (¬7)، ومقاتل (¬8) ¬

_ (¬1) المرجعان السابقان. (¬2) المرجعان السابقان، وانظر أيضًا: "الصحاح" 2/ 542 (نجد)، و"تاج العروس" 2/ 508 - 509 (نجد). (¬3) "جامع البيان" 30/ 200، "المحرر الوجيز" 5/ 484، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 65، "البحر المحيط" 8/ 476، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 374، "جامع البيان" 30/ 199، "بحر العلوم" 3/ 480 بمعناه، "المحرر الوجيز" 5/ 484، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 65، "البحر المحيط" 8/ 476، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "الدر المنثور" 8/ 521، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني: 9/ 275، وانظر: "المستدرك" 2/ 523: كتاب التفسير: تفسير سورة البلد، قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين، وفيه عاصم بن أبي النجود، وهو ثقة، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. "مجمع الزوائد" 7/ 138. (¬5) ورد قوله من طريقه عن ابن عباس في: "جامع البيان" 30/ 199، ومن طريقه في "الدر المنثور" 8/ 522. (¬6) ساقط من: (أ). (¬7) "جامع البيان" 30/ 200. (¬8) "تفسير مقاتل" 240 ب، "بحر العلوم" 3/ 480.

(والكلبي (1)) (2)، قالوا: يعني سبيله الخير والشر والطاعة، والمعصية، كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (3). قال أبو إسحاق: المعنى: ألم نُعرّفه طريق الخير والشر بَيّنَيْن كتبيين الطريقين العَاليين (4)؟ وروى عيسى بن عقال (5)، عن أبيه (6) عن ابن عباس في قوله: {النَّجْدَيْنِ} قال الثديين (7). وهو قول سعيد بن المسيب (8)، والضحاك (9)،

_ (1) لم أعثر على مصدر لقوله. (2) ساقط من: (أ). (3) سورة الدهر: 3. (4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 329 بنحوه. (5) عيسى بن عقال البجلي، عن أبيه، روى عنه القاسم بن مالك في الكوفيين، سكت عنه البخاري في تاريخه، وكذا ابن أبي حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: كتاب "الجرح والتعديل" 6/ 283: ت: 1569، و"التاريخ الكبير" 6/ 403: ت: 2786، و"الثقات" 8/ 490. (6) عقال البجلي. لم أعثر له على ترجمة. (7) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 201، و"الكشف والبيان" 13/ 97 ب، كما ورد من طريق محمد بن كعب، عن ابن عباس بمثله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 374، و"معالم التنزيل" 4/ 489، وكما ورد قوله من غير ذكر الطريق في: "زاد المسير" 8/ 253، و"التفسير الكبير" 31/ 184، و"لباب التأويل" 4/ 380، و"البحر المحيط" 8/ 476، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 548، و"الدر المنثور" 8/ 522، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (8) "معالم التنزيل" 4/ 489، "زاد المسير" 8/ 253، "التفسير الكبير" 31/ 184، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 65، "البحر المحيط" 8/ 476، "فتح القدير" 5/ 444. (9) المراجع السابقة عدا "التفسير الكبير"، وانظر: "جامع البيان" 30/ 201، وقد اعتبره الكرماني من الغريب في "التفسير" 2/ 1343.

11

والقول هو الأول (¬1)؛ لبعد أن يراد بالنجدين الثديان، ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما (¬2) كالطريقين لحياة الولد ورزقه، والله تعالى هدى الطفل الصغير حتى ارتضعهما، فهو قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 11 - قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال (ابن قتيبة (¬3) و) (¬4) الأزهري (¬5): أي فلا هو اقتحم يعني الإنسان المذكور (والاقتحام الدخول في الأمر الشديد، وهو المهالك، ويقال قَحمَ يَقْحَمُ قُحُومًا، واقتحم اقتحامًا، وتقحم تقحُمًّا، إذا ركب القحم، وهي المهالك، والأمور العِظام) (¬6)، (والعقبة: طريق في الجبل وعر، والجميع: العقب والعقاب) (¬7). قال عطاء: يريد عقبة جهنم (¬8). وقال الكلبي: هي عقبة بين الجنة، والنار (¬9). ¬

_ (¬1) وهو الذي رجحه أيضًا الطبري، وابن كثير، والشوكاني في تفاسيرهم:"جامع البيان" 30/ 201، و"تفسيرالقرآن العظيم" 4/ 548، و"فتح القدير" 5/ 444. (¬2) في (أ): (أنها). (¬3) "تفسير غريب القرآن" 528، وكلامه: (قال: فلا هو اقتحم العقبة). (¬4) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬5) "تهذيب اللغة" 4/ 77 (قحم)، قال: (أي قل هو اقتحم العقبة). (¬6) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة". المرجع السابق، وانظر: "لسان العرب" 12/ 162 - 163 (قحم). (¬7) ما بين القوسين تناول المعنى اللغوي للعقبة. انظر ذلك في: "تهذيب اللغة" 1/ 282، "لسان العرب" 1/ 621 (عقب). (¬8) "التفسير الكبير" 31/ 184. (¬9) "التفسير الكبير" 31/ 184، وورد قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 97 أ، و"زاد المسير" 8/ 254، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 67، و"فتح القدير" 5/ 444.

وقال ابن عمر -رضي الله عنه-: هي جبل زلال (¬1) في جهنم (¬2). وقال الضحاك (¬3)، ومجاهد (¬4): هي الصراط يضرب على جهنم، وهو معنى قول الكلبي: عقبة بين الجنة والنار. وقال قتادة: إنها قحمة شديدة، فاقتحموها بطاعة الله (¬5). هذا كلام المفسرين في تفسير هذه العقبة المذكورة هاهنا (¬6) قال المبرد (¬7)، والفراء (¬8)، وأبو عبيدة (¬9)، (والزجاج (¬10)) (¬11): ¬

_ (¬1) زلال: لعله أراد انه سريع النزول منه، كما يقال: ماء زلال، وزليل: سريع النزول والمر في الحلق. والله أعلم. "لسان العرب" 11/ 307 (زلل). (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 201، و"الكشف والبيان" 13/ 98 أ، و"النكت والعيون" 6/ 278، و"معالم التنزيل" 4/ 489، و"زاد المسير" 8/ 254، و"التفسير الكبير" 31/ 184، و"لباب التأويل" 4/ 380، و"الدر المنثور" 8/ 522، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم. (¬3) ورد قوله في "الكشف والبيان"، و"النكت والعيون"، و"معالم التنزيل"، و"زاد المسير". مراجع سابقة. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 67. (¬4) المراجع السابقة عدا "النكت والعيون". (¬5) "جامع البيان" 30/ 201، "الكشف والبيان" 13/ 98 أ، "الحجة" 6/ 414، "فتح القدير" 5/ 444. (¬6) أيضًا من الأقوال في معنى العقبة: (قال كعب: هو سبعون درجة في جهنم). "جامع البيان" 30/ 202. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 66، "فتح القدير" 5/ 444. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) "مجاز القرآن" 2/ 299. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 329. (¬11) ما بين القوسين ساقط من: (أ).

معنى، {فَلَا اقْتَحَمَ} فلم يقتحم. قال الفراء (¬1)، والزجاج (¬2): ولم يضم إلى قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} كلامًا آخر فيه "لا"، والعرب قل ما تتكلم في مثل هذا المكان (¬3) إلا بـ"لا" مرتين أو أكثر، لا تكاد تقول: لا حييتنى، تريد مَا حييتنى، فإن قال: لا حييتنى، ولا بررتني صلح. كما قال الله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31] واكتفى هاهنا بواحدة، لأن المعنى يدل على التكرير، وهو قوله: (فك رقبة أو إطعام (¬4))، {ثُمَّ كَانَ} كأنه قيل: فلا تفعل ذا ولاذا، ولا أمن. قال أبو علي الفارسي: معنى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} لم يقتحمها، وإذا كانت {لَا} بمعنى {لَمْ} لم يلزم تكريرها، كما لا يلزم التكرير مع {لَمْ}، فإن تكررت في موضع نحو: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، فهو كتكرير لم نحو: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] (¬5). ويدل على صحة مَا ذكر أبو علي مَا أنشد أبو عبيدة، والمبرد (¬6): وأيُّ خميس لا أفَأنَا (¬7) نِهابَه ... وأسيافنا يَقْطُرْن من كَبْشِهِ دَمَا (¬8) يعني: لم يفر، ولم يكرر لا. وأما مَا ذكرنا عن المفسرين في تفسير العقبة، فغير متوجه هاهنا ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 264 - 265. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 329. (¬3) في (أ): (للمكان). (¬4) في النسختين، ومعاني الفراء: (طعم). (¬5) "الحجة" 6/ 415 بنصه. (¬6) "الكامل" 2/ 1044، ولم أجده في "مجاز القرآن". (¬7) في (أ): (أفا). (¬8) البيت لطرفة بن العبد، سبق ذكره، انظر: تفسير سورة القيامة؛ الآية: 31.

12

لأنَّ (¬1) من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم، ولا جاوزوها، فإذًا لا معنى لحملها على عقبة في الآخرة، ولكن الصحيح أن ذكر العقبة هَاهنا مثل ضربه الله (تعالى) (¬2) لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر، (وهذا مذهب الحسن، ومقاتل) (¬3). قال الحسن: عقبة الله شديدة، ومجاهدة الإنسان نفسه وهواه، وعدوه والشيطان (¬4). وقال مقاتل: هذا مثل ضربه الله؛ يريد أن المعتق رقبة، والمطعم تقاحم نفسه وشيطانه، مثل من يتكلف صعود العقبة، فشبه المعتق رقبة في شدته عليه بالمتكلف صعود العقبة (¬5). وهذا مذهب أبي عبيدة، فقد قال: لم يقتحم العقبة في الدنيا (¬6)، فبين أن هذه العقبة في الدنيا، وهي مَا ذكر الله من بعد فقال: 12 - {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} قال ابن عباس: يريد اقتحام العقبة (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (إلا). (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) "النكت والعيون" 6/ 278 بمعناه، "الكشاف" 4/ 213، "التفسير الكبير" 31/ 185، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 67. (¬5) "تفسير مقاتل" 240 ب، "التفسير الكبير" 31/ 185، وقد رجح الفخر الرازي هذا القول في: "التفسير الكبير" 31/ 185، وقال الماوردي: وهو أشبه بالصواب، "النكت والعيون" 6/ 279، وكذا القرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 68. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 299. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله.

قال أبو علي: لا بد من تقدير هذا المحذوف؛ لأنه لا يخلو (1) من أن تقدّر حذف هذا المضاف، أو لا تقدره، فإن لم [تقدره] (2)، وتركت الكلام على ظاهره كان المعنى: العقبة: فك رقبة، ولا تكون العقبة الفك؛ لأنه عَيْنٌ، والفك حدث (3)، والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى، وإذا لم يستقم (4) هذا كَان المضاف مرادًا، فيكون المعني: اقتحام العقبة فكُّ رقبةٍ، أو اطعامُ، أي اقتحامها أحد هذين، أو هذا الضرب من فعل القُرَب، ومثل هذا قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:5 - 6] أي: الحطمة نار الله (5). ونحو هذا قال الزجاج (6). المعني: اقتحام العقبة فك رقبة، أو إطعام، فالمضاف محذوف من الآية الأولى، والمبتدأ محذوف من قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} علي ما بيَّنَّا وشرحنا. (وفك الرقبة: تخليصها من إسار الرق، وفكُّ الرهن، وفكِاكه: تخليصه من غَلَق الرهن، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الكتاب، وهو أن تأخذ السحانة (7) فتلويها حتى ينفك ختامها (8)).

_ (1) لا يخلوا: في كلا النسختين. (2) في كلا النسختين: (تقدر)، والمثبت من مصدر القول، وهو: "الحجة". (3) في (أ): (حديث). (4) لم يستفهم: هكذا ورد في أصل الكلام، وهو "الحجة". (5) انتهى كلام أبي علي الفارسي:"الحجة" 6/ 414. (6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 329 بمعناه. (7) لعله يراد بالسحانه: السَّحْن، وهو أن تدلك خشبة بمسحن حتى تلين من غير أن تأخذ من الخشبة شيئًا: "تهذيب اللغة" 4/ 319 (سحن). (8) ما بين القوسين نقلًا عن الأزهري من: "تهذيب اللغة" 9/ 459: مادة: (فك) =

14

وقال أهل المعاني: الفك فرق يزيل المنع، كفك القيد والغل، وفك الرقبة، وفرق بينها وبين حَال الرق بإيجاب الحرية، أو إبطال العبودية (¬1). قال الفراء في المصادر: فكها يفكها فكاكًا، بفتح الفاء في المصدر، ولا تقل بكسرها (¬2). 14 - وقوله (¬3): {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال أبو عبيدة: ذي مجاعة (¬4)؛ (يقال سَغِبَ يَسْغَبُ سَغبًا: إذا جاع، فهو سَاغِبِ وسَغْبَان ذو مَسغَبةٍ) (¬5). قال ابن عباس: يريد بالمسغبة الجوع (¬6). قال مجاهد (¬7)، وعكرمة (¬8): ذو مجاعة. وقال الحسن: يوم محروص فيه على الطعام (¬9). قال أبو علي: وجاز أن يوصف اليوم بهذا، كما جاز أن يقال: ليل ¬

_ = بنحوه، وانظر: "لسان العرب" 10/ 475 (فك). (¬1) لم أعثر على مصدر لقولهم، غير أني وجدت بمثله من غير عزو في: "التفسير الكبير" 31/ 185. (¬2) لم أعثر على مصدر قوله في معانيه، ولكن ورد في: "التفسير الكبير" 31/ 185. (¬3) في (أ): قوله. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 299. (¬5) ما بين القوسين قول الليث نقله عن "تهذيب اللغة" 8/ 41 بتصرف، وانظر: "لسان العرب" 1/: 468 (سغب)، "تاج العروس" 1/ 299 (سغب). (¬6) "جامع البيان" 30/ 203، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 549، "الدر المنثور" 8/ 525، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وكلها برواية: يوم مجاعة. (¬7) المراجع السابقة برواية: الجوع، و"جامع البيان" 30/ 204. (¬8) المراجع السابقة عدا "الدر المنثور". (¬9) "التفسير الكبير" 31/ 186.

نائمٌ، ونهار صَائمٌ، ونحو ذلك (¬1) (هذا) (¬2) الذي ذكرنا قراءة العامة (¬3). وقرأ أبو عمرو، والكسائي: {فَكُّ رَقَبَةٍ} بفتح الكَاف، (أو {أطعم} بغير ألف (¬4)) (¬5). (قال الفراء) (¬6): وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية، لقوله: "ثم كان"، وهو أشكل بـ"فك" و"أطعم"، والفك، والإطعام، اسم فينبغي أن يرد على الاسم اسم مثله، فلو قيل: "ثم إن كان" كان أشكل للإطعام، لأنه حينئذ يكون بمعنى المصدر، وهذا وجه القراءة الأولى مع قوله: "ثم كان"، وهو أن يضمر "أن"، وتُلقى فيكون مثل قول الشاعر (¬7): ألا ايُهذا الزاجري احْضِرَ الْوَغَى ... وأَنْ أشْهَدَ اللذَّاتِ هَلْ أنت مُخْلِدِ (¬8) ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 415 بنصه. (¬2) ساقط من: (أ). (¬3) قرأ بذلك: عاصم، وابن عامر، ونافع، وحمزة: {فَكُّ رَقَبَةٍ} إضافة {أَوْ إِطْعَامٌ} رفعًا. انظر: "السبعة في القراءات" 686، "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 777، "الحجة" 6/ 413، و"المبسوط" 410، و"حجة القراءات" 764، و"الكشف" 2/ 375، و"التبصرة" ص 727، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 439. (¬4) وقرأ بذلك أيضًا: ابن كثير. انظر: المراجع السابقة. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬7) البيت لطَرفَةُ بن العبد البكري من معلقته. (¬8) ورد البيت أيضًا في: "كتاب سيبويه" 3/ 99 - 100، و"شرح أبيات سيبويه" ص 169 و"المقتضب" 2/ 85، و"المدخل" 301، رقم 315، و"لسان العرب" 13/ 32 (أنن)، و"مغني اللبيب" 2/ 17 رقم 616، و"شرح ابن عقيل" م 2 ج 4/ 24 رقم 333. وانظر أيضًا: "شرح أبيات معاني القرآن" للفراء ص 115رقم 240، ولم أجده في ديوانه. موضع الشاهد: "أحْضِرَ" حذف "أن" الناصبة، وانتصاب الفعل بعدها، وفي =

ألا (ترى) (¬1) أن ظهور "أن" في آخر الكلام يدل على أنها معطوفة على أخرى مثلها في أول الكلام، وقد حذفها (¬2). وقال أبو علي: من قرأ: {فكّ رقبة أو أطعم} فإنه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيرًا لاقتحام العقبة، وقد جاء: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]، ثم فَسَّرَ المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]، فكذلك قول من قال: "فك رقبة * أو أطْعَم". قال: ومن احتج لهذه القراءة بقوله: "ثم كان" فقال: [كأنه لما] (¬3) كان فعلًا يجب أن يكون المعطوف عليه مثله، كان هذا وجهًا حسنًا. ¬

_ = حذفها ونصب الفعل بعد حذفها خلاف بين الكوفيين، والبصريين، فالكوفيون يُجيزون النصب قياسًا حينئذ، واستدلوا بهذا البيت، بدليل العطف: "أن أشهد" عليه، فدل على أنها تنصب مع الحذف. "شرح أبيات معاني القرآن للفراء" ص 115 رقم 240. ومعنى البيت: هل أنت مبقي، يا من يلومني في حضور الحرب، لئلا أُقتل، وفي أن أنفق مالي في الفتوة، ولا أخلفه لغيري. المرجع السابق، وانظر: "المقتضب" 2/ 85. (¬1) ساقط من: أ. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 265 بتصرف، ولتفصيل هذه المسألة النحوية راجع فيها المراجع السابقة الذكر مثل: كتاب سيبويه: 3/ 99، "المقتضب" 2/ 85، "شرح ابن عقيل" 4/ 24، وغيرها. وخلاصة القول فيها: ذهب الكوفيون إلى أنَّ "أن" الخفيفة تعمل في الفعل المضارع النصب مع الحذف من غير بَدَل، وذهب البصريون إلى أنها لا تعمل مع الحذف من غير بدل، وقد عرض كل واحد منهم بأدلته. راجع ذلك في "الإنصاف" 2/ 559، 570. (¬3) في النسختين: (لما كان كان)، وأثبت ما جاء في "الحجة" لانتظامه.

15

وقد يجوز أن يكون قوله: "ثم كان" كالقطع من الأول، والاستئناف، كأنه أعلم أن فكَاك الرقبة من الرق من الذين آمنوا؛ لأنه بالإيمان يحوز ثواب ذلك ويجوزه، فاذ لم ينضم الإيمان إلى فعل القرب التي تقدم ذكرها لم ينفع ذلك (¬1). 15 - قوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} قال أبو إسحاق: معناه ذا قرابة، تقول: زيد ذو قرأ بني، وذو مقربتي (¬2)، (وزيدٌ قرابتي) (¬3) قبيح، لأن القرابة المصدر، قال الشاعر (¬4): يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور (¬5) (¬6) قال مقاتل: يعني يتيمًا بينه وبينه قرابة (¬7). 16 - وقوله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}، قال أبو عبيدة (¬8)، والمبرد (¬9)، ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 415 - 416 بتصرف يسير. (¬2) في (أ): (ذوا). (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬4) قيل: هو ابن لبيد العذري، وقيل: هو الحارث بن جبلة، وقيل: هو عبيد بن شرية. انظر: "الإصابة" 6/ 102 ت: 6391، "شواهد المغني" 118، 245 ط بيروت، و"أخبار النحويين البصريين" 31، وعزاه إلى شيخ من أهل نجد كان أسنهم. (¬5) ورد البيت في المراجع السابقة. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 229 - 330 بنصه. (¬7) "تفسير مقاتل" 240 ب، "التفسير الكبير" 31/ 187، وقد ورد بمثله من غير نسبة في: "بحر العلوم" 3/ 481، و"معالم التنزيل" 4/ 490. (¬8) "مجاز القرآن" 2/ 299، وكلامه: (قال: قد لزق بالتراب). (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله.

(والزجاج (¬1)) (¬2): {أَوْ مِسْكِينًا} قد لصق بالتراب من فقره وضره. يقال: ترب الرجل إذا افتقر حتى يلصق بالتراب (¬3). قال عطاء: يريد قد لصق بالتراب، فليس فوقه مَا يستره، ولا تحته ما يوطئه (¬4). وروى مجاهد عن ابن عباس قال: هو المطروح في التراب لا يقيه شيء (¬5). روى (¬6) أبو صالح أن ابن عباس مر بمسكين لاصق التراب ذي حاجة، فقال: هذا الذي قال الله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬7)، ونحو هذا قال جماعة المفسرين (¬8). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 330، وكلامه: يعني أنه من فقره قد لصق بالتراب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) انظر (ترب) في: "تهذيب اللغة" 14/ 274، "الصحاح" 1/ 91، "لسان العرب" 1/ 229. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثل قوله من غير عزو في: "التفسير الكبير" 31/ 187. (¬5) ورد بنحو من قوله في: "جامع البيان" 30/ 204، و"النكت والعيون" 6/ 279، و"معالم التنزيل" 4/ 490، و"زاد المسير" 8/ 455، و"الجامع لأحكام القرآن" 25/ 75، و"لباب التأويل" 4/ 381، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 549، و"الدر المنثور" 8/ 525 وعزاه إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، و"المستدرك" 2/ 524، كتاب التفسير: تفسير سورة البلد، وقال عنه صحيح، ووافقه الذهبي. (¬6) في (أ): (أنه) بدلًا من: (روي عن ابن عباس). (¬7) ورد معنى قوله في: "معاني القرآن" 3/ 266، و"التفسير الكبير" 31/ 187. (¬8) وإلى معنى القول: (ذو اللصوق بالتراب) ذهب: مجاهد، وعكرمة انظر: "تفسير =

17

والمتربة: مصدر قولهم: تَرِبَ يترب تَرَبًا ومَتْرَبة، مثل مسغبة، إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرًا (¬1). ثم بين أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان فقال: 17 - {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي كان مقتحم العقبة، وهو فاك الرقبة، والمطعم من الذين آمنوا، فإنه إن لم يكن منهم لم ينفعه قربة، لإحباط الكفر لها. فإن قيل: أليس من شرط صحة هذا القرب، ووقوعها من الله بمكان القبول: الإيمان؟ فهلا قدم الإيمان عليها، وثم للتراخي، فقدله: "ثم كان" يوجب الإيمان إذا تراخى عن هذا القرب صحت دونه؟! والجواب عن هذا أن يقال: هذا التراخي في الذكر، لا في الوجود والترتيب (¬2)؛ لأن المعنى أنه فعل هذه الأشياء وهو مؤمن معها. وكذا ذكر المفسرون (¬3)، فقالوا: ثم كان مع ذلك من الذين آمنوا، وقد قال: إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوُهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدّهْ (¬4) ¬

_ = الإمام مجاهد" ص 731، و"جامع البيان" 30/ 204 - 205، و"النكت والعيون" 6/ 279، و"الدر المنثور" 8/ 525، وبه قال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 529، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 98 ب، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 481، والسجستاني في "نزهة القلوب" 416، وانظر: "المفردات" ص 73. (¬1) انظر: "لسان العرب" 1/ 228 (ترب). (¬2) انظر تفصيل القول في المسألة في "مغنى اللبيب" 1/ 197. (¬3) قال بذلك الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 99 أ. (¬4) البيت لأبي نواس الحسن بن هانئ، وهو في "ديوانه" 493 برواية: قلْ لمنْ سادَ ثُم سَادَ أبوُه ... قَبْله ثم قبلَ ذلك جَدّه وورد البيت غير منسوب في: "التفسير الكبير" 31/ 187، و"مغنى اللبيب" =

لم يرد بقوله: ثم ساد التأخير، وإنما المعنى: ثم اذكر أنه ساد أبوه، كذلك في الآية، على أنه يجوز أن يحمل على الظاهر بمعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين آمنوا، وهو أن يموت مؤمنًا، فإن من كان موافاته على الإيمان نفعته القرب، ومن لا، فلا، ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن من أتى هذه القرب تقربًا إلى الله، وابتغاء وجهه، وهو غير مؤمن بمحمد -عليه السلام - ثم آمن به (أجر) (¬1) على ما سلف له من الخير. يدل على صحة هذا ما روي أن حكيم بن حِزام بعد ما أسلم، قال لرسول الله: "إنا كنا نتحنث (¬2) بأعمال في الجاهلية، فهل لنا فيها شيء؟ " فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمت على ما قدمت من الخير" (¬3). ¬

_ = 1/ 197 ش 174، "غرائب التفسير" 1/ 260. (¬1) ساقط من (ع). (¬2) التَحَنَّث: أي تعبَّد واعتزل الأصنام. "الصحاح" 1/ 280 (حنث)، وانظر: القاموس المحيط: 1/ 165 (حنث). وجاء في "فتح الباري": التحنث: "الإحسان" وعمل الخير من الحنث، وهو الإثم، يقال: تحنث أي ألقى عنه الإثم. 3/ 302. (¬3) الحديث أخرجه البخاري 1/ 443، 444 ح 1436 كتاب الزكاة، باب 24، واللفظ كما هو عند البخاري: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أتحنَّثُ بها في الجاهلية؛ من صدقة، أو عَتاقة، ومن صلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمت على ما سلف من خير". كما ورد أيضًا في المرجع السابق: 2/ 119 ح 2220: كتاب البيوع، باب 100، و2/ 218 ح 2538: كتاب العتق، باب 12، و4/ 90 ح 5992: كتاب الأدب. قال المازني: ظاهره: أن الخير الذي أسلفه كتب له، والتقدير: أسلمت على قبول ما سلف لك من خير. وأخرجه مسلم 1/ 113 - 114: ح 194، 195 كتاب الإيمان، والإمام أحمد 3/ 402. =

18

وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. أي على فرائض الله وأمره. قاله ابن عباس (¬1)، ومقاتل (¬2). (قوله) (¬3): {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فالأمر فيما بينهم، والتراحم لليتيم، والمسكين، والضعيف. وهذا من صفة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، أي كان من الجملة الذين هذه صفتهم. ثم ذكر أن هؤلاء منهم فقال: 18 - {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. وتفسير أصحاب الميمنة قد سبق في سورة الواقعة (¬4)، وكذلك تفسير أصحاب المشئمة الذين ذكروا هاهنا في قوله: 19 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} قد تقدم هناك (¬5). ¬

_ = وانظر: " التفسير الكبير" 31/ 187، و"البحر المحيط" 8/ 476، و"فتح القدير" 5/ 445. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 491، و"زاد المسير" 8/ 255، و"لباب التأويل" 4/ 381. (¬2) "تفسير مقاتل" 241 أ، وقد ورد بمثله عن هشام بن حسام ذكره السيوطي في: "الدر المنثور" 8/ 526. (¬3) ساقط من: (ع). (¬4) سورة الواقعة: 8، قال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. (¬5) سورة الواقعة: 9، قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}، ومما جاء في تفسير الآيتين السابقتين: يعني اليمين، وجمعها الميامن، وهي جوانب اليمين، وفي أصحاب الميمنة أربعة أقوال: قال عطاء عن ابن عباس: هم الذين يعطون كتابهم بأيمانهم. وعن ابن عباس أيضًا: هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه. وقال الحسن، والربيع: هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم، وكانت أعمارهم في طاعة الله عز وجل. =

20

20 - وقوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} قال جماعة المفسرين: مطبقة (¬1). وقال الفراء (¬2)، وأبو عبيدة (¬3)، والمبرد (¬4)، (والزجاج (¬5)) (¬6) يقال: أَصَدْتُ البَابَ وأوْصَدْتُهُ إذا أغلقته، وأطبقته، (فمن قرأ: {مُؤْصَدَةٌ} بالهمز (¬7) (¬8): أخذها من: أصدت (¬9)، فهمز اسم المفعول، ¬

_ = القول الرابع: أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. "المشئمة" يعني أصحاب الشمال، والمشأمة: اليسرى، يقال: اليد اليمنى، واليد الشومى، ومن هذا أخذ اليُمن والشؤم، واليمن والشام، وفي أصحاب المشأمة أربعة أقوال تضاد الأقوال التي ذكرنا في أصحاب الميمنة. (¬1) قال بذلك ابن عباس، وقتادة، والضحاك بمعناه، وأبو هريرة، وعكرمة، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، ومحمد ابن كعب، وعطية العوفي، والحسن، والسدي. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 375، و"جامع البيان" 3/ 207، و"النكت والعيون" 6/ 280، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 550، و"الدر المنثور" 8/ 526 وبه قال الطبري في "جامع البيان" 30/ 207، و"بحر العلوم" 3/ 481، و"الكشف والبيان" 13/ 99 أ. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 491، و"المحرر الوجيز" 5/ 486، و"الكشاف " 4/ 214، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 82، و"لباب التأويل" 4/ 381. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 266، قال: والموصدة تهمز ولا تهمز، وهي المطبقة. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 299، قال: مطبقة، أصدتُ وأوصدت، وهو أطبقت. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 188. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 330، واللفظ له. (¬6) ساقط من: (أ). (¬7) في (أ): (فالهمز). (¬8) قرأ بذلك: أبوعمرو، وحمزة، وحفص بن عاصم، ويعقوب، وخلف. وقرأ الباقون: مُوْصَدَة بغير همز. انظر: "السبعة في القراءات" 686، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 777، و"الحجة" 6/ 416، و"المبسوط" 410، و"حجة القراءات" 766، و"التبصرة" 726، "الوافي" 380. (¬9) في (أ): (أمررت).

ويجوز أن يكون من أوصدت ولكنها همز على لغة من يهمز (الواو) إذا كان قبلها ضمة نحو: مُؤسى (¬1). (وكان أبو حيه النميري يفعل ذلك) (¬2)، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (¬3) ومن لم يهمز، احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون من لغة من قال: أوصدتُ فلم يهمز اسم المفعول، كما يقال: من أوعدت موعود. والآخر: أن يكون قد أصد مثل: آمن، ولكنه خفف، كما تقول في تخفيف جُؤْنَهٍ (¬4)، وبُؤسٍ، ونُؤْيٍ: جونه، وبوس، ونوى، فيقلبها في التخفيف "واوًا" (¬5). قال الفراء: ويقال: من هذا الأصيد، والوصيد، وهو الباب المطبق (¬6). ¬

_ (¬1) من بيت لجرير، تمامه: لَحَبَّ الواقدان إلى مؤسى ... وجَعْدَةُ لَوْ أضاءهما الوقود وجعدة ابنته، ومؤسى ابنه، يمدح ولديه بالكرم والاشتهار به. "ديوانه" 1/ 288، ط. دار المعارف، "الخصائص" 1/ 567، "شرح أبيات المغني" 8/ 76: ش 918. والمعنى أنه لما أضاء إيقاد النار موسى وجعدة، ورأيتهما ذوي ضياء ونور وبهجة صارا محبوبين. (¬2) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬3) انظر: "الحجة"1/ 239، وأيضًا جاء ذكر ذلك في سورة البقرة: 3. (¬4) جؤنة: سُلَيْلَةُ مستديرة مُغَشَّاة أدمًا، تكون مع العطارين، وجمعها جوَنٌ. "تهذيب اللغة" 11/ 204 (جون). (¬5) ما بين القوسين نقلاً عن "الحجة" 6/ 416 - 417 بتصرف. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 66.

قال الليث: الإصاد، والوِصاد، والأُصِدة، (بمنزلة الطبق، يقال: أطبق عليهم الإصاد، والوِصاد، والأصدة (¬1)) (¬2). قال مقاتل: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} يعني أبواب مطبقة، فلا يفتح لهم باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد (¬3). (والمؤصدة هي الأبواب، وقد جرت صفة للنار على تقدير: عليهم نار مؤصدة. الأبواب، فلما تركت الاضافة عاد التنوين لأنهما يتعاقبان) (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬2) "تهذيب اللغة" 12/ 222 (وصد) بنصه، وانظر: "لسان العرب" 3/ 360 (وصد). (¬3) "التفسير الكبير" 31/ 188، والذي ورد عنه في تفسيره: (قال: وهي جهنم). (¬4) انظر المرجع السابق.

سورة الشمس

سورة الشمس

1

تفسير سورة الشمس (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} هذه الآية، والتي بعدها أقسام كلها إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} وهو جواب القسم. قال الزجاج: المعنى لقد أفلح، ولكن اللام حذفت، لأن الكلام طال فصَار طوله عوضًا منها (¬2). وأما تفسير: "ضحاها". فقال الليث: الضَحْو ارتفاع النهار، والضُّحَى فُوَيْقَ ذلك، والضُحَاءُ (¬3) ¬

_ (¬1) مكية بقول الجميع. انظر: "تفسير مقاتل" 240 أ، و"جامع البيان" 30/ 207، و"بحر العلوم" 3/ 482، و"الكشف والبيان" 13/ 99 ب، و"الكشاف" 4/ 214، و"زاد المسير" 8/ 256، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 72 وغيرها. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 331. (¬3) في (أ): (الضحى).

ممدود إذا امتد النهار، وكَرَبَ (¬1) أن ينتصف (¬2). وقال أبو الهيثم: الضُحى: على فُعَل حين تطلع الشمس، فيصفو ضَوْؤهَا (¬3). وذكر المفسرون في "ضحاها" ثلاثة أقوال: قال مجاهد: ضوؤها (¬4)، (وهو قول الكلبي (¬5)) (¬6)، وقال قتادة: هو النهار كله (¬7)، وهو اختيار الفراء (¬8)، وابن قتيبة (¬9). وذكر أبو إسحاق القولين (¬10)، والقول الثالث مَا ذكره مقاتل قال: ¬

_ (¬1) كرب: أي كاد. مختار "الصحاح" 566، مادة: (كرب). (¬2) "تهذيب اللغة" 5/ 150 (ضحا) بنصه. (¬3) المرجع السابق 5/ 151، 152 (ضحا). (¬4) "جامع البيان" 30/ 208، "الكشف والبيان" 13/ 99 ب، "معالم التنزيل" 4/ 491، "المحرر الوجيز" 5/ 487 بمعناه، "زاد المسير" 8/ 256، "التفسير الكبير" 31/ 190، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 72، "البحر المحيط" 8/ 478 بمعناه، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 550، "فتح القدير" 5/ 448. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 491، "التفسير الكبير" 31/ 190، "فتح القدير" 5/ 428. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "جامع البيان" 30/ 207، "الكشف والبيان" 13/ 99 ب، "النكت والعيون" 6/ 281، "معالم التنزيل" 4/ 491، "المحرر الوجيز" 5/ 487، "زاد المسير" 8/ 256، "التفسير الكبير" 31/ 190، "البحر المحيط" 8/ 478، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 550. (¬8) "معاني القرآن" 3/ 266. (¬9) "تفسير غريب القرآن" ص 529. (¬10) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 331.

أقسم الله بالشمس وحرها (¬1)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬2). قال المبرد: أصله فيما يقول النحويون من الضح، هو نور الشمس، والألف مقلوبة عن الحاء الثانية، يقال (¬3): ضحو وضحوات، وضحى (¬4)، فعلي ما ذكر "الواو" في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف مقلوبة عن "الواو". وقال (¬5) أبو الهيثم: الضَّحُّ (¬6) نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، قال: وأصله الضّحْىُ فاستثقلوا "الياء" مع سكون الحاء فثقّلوها. وقالوا: ضحّ. ومثله العبد: القِن أصله من القِنية (¬7)، وهذا ضد مَا ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 241 أ، "الكشف والبيان" 13/ 99 ب، "معالم التنزيل" 4/ 491، "المحرر الوجيز" 5/ 487، "زاد المسير" 8/ 256، "التفسير الكبير" 31/ 190، "لباب التأويل" 4/ 381، "البحر المحيط" 8/ 478، "روح المعاني" 30/ 140، وكلها برواية: حرها. وقد ضعف الفخر هذا القول بحرها "التفسير الكبير" 31/ 190. (¬2) ورد معنى قوله من ذكر طريق عطاء في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 72. (¬3) في (ع): (يقول). (¬4) لم أعثر على نص المبرد فيما بين يدي من كتبه. وقد ورد قوله في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 73، و"البحر المحيط" 8/ 478، و"الدر المصون" للسمين الحلبي 6/ 528، وقال أبو حيان معقبًا على ما قاله المبرد: لعله مختلف عليه؛ لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا، وهذان مادتان مختلفتان، لا تشتق إحداهما من الأخرى. 8/ 478، وانظر: "الدر المصون" 6/ 528. (¬5) في (ع): (قال). (¬6) في (أ): (الصحيح). (¬7) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 398/ 3 (ضح)، وانظر أيضًا: "التفسير الكبير" 31/ 190، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 73.

ذَكَره المبرد، وكيف ما كان الأمر سواء جعلت الضحى من الضح، أو الضح من الضحى، فالضحى في الأصل على ما ذكرا: ضوء الشمس ونورها، ثم سمي (به) (¬1) الوقت الذي تشرق فيه الشمس، فمن قال من المفسرين: وضحاها ضوؤها، فهو على الأصل. وكذلك من قال: النهار كله، لأن جميع النهار هو من نور الشمس وإشراقه، ألا ترى أنه إذا فقد نور الشمس [اسود النهار] (¬2). ومن قال في الضحى: إنه حر الشمس؛ فلأن نورها شيئان: ضياء، وحرارة، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، وهذا أضعف الأقوال، وإن كان له وجه (¬3). والقراء مختلفون في فواصل هذه السورة، وما أشبهها نحو {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2]. فقرؤوا (¬4) بالإماله (¬5) والتفخيم (¬6) ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) يوجد سقط في الكلام. قلت ولعل ما أثبته هو المراد. والله أعلم. (¬3) من قوله: (فمن قال من المفسرين ...) إلى: (وإن كان له وجه) نقله الفخر في: "التفسير الكبير" 31/ 190. (¬4) في (أ): (فقرأوا). (¬5) إن العلل التي توجب الإمالة، ثلاث، وهي: الكسرة، وما أميل ليدل على أصله، والإمالة للإمالة. ولتفصيله يراجع ذلك في: "المبسوط" 103، 110، و"الكشف" 1/ 170، 179، ج 2/ 378. (¬6) قرأ حمزة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} كسرًا، ويفتح: "تلاها" وطحاها. وفي سورة الضحى: (سجى)، وفي النازعات: {دَحَاهَا} هو ويكسر سائر ذلك. وقرأ نافع، وأبو عمرو ذلك كله بين الفتح والكسر. =

وبعضها بالإمالة (¬1) وبعضها بالتفخيم (¬2). قال الفراء: تكسر ضحاها (¬3)، والآيات التي بعدها، وإن كان أصل بعضها "الواو". ونحو: {تَلَاهَا}، و {ضُحَاهَا}، و {دَحَاهَا} (¬4) [لنازعات: 30]، لما ابتدئت السورة بحرف "الياء" أتبعها ما هو من "الواو"، ولو كان الابتداء "للواو"، لجاز فتح ذلك كله قال: وكان حمزة يفتح ما كان من "الواو"، ويكسر ما كان من "الياء"، وذلك من قلة البصر بمجاري الكلام، فإذا انفرد جنس "الواو" فتحته، وإذا انفرد جنس "الياء" فأنت فيه بالخيار: إن فتحت وإن كسرت فصواب (¬5). انتهى كلامه. وقال أبو إسحاق: من كسر من هذه الحروف مَا كان من ذوات "الياء" أراد الدلالة على أنه من ذوات الياء، ومن فتح: "تلاها"، و"طحاها" فلأنه من ذوات "الواو"، ومن كسر، فلأن ذوات "الواو"، كلها إذا رُدَّ إلى مَا لم يُسَمَّ فاعِله (¬6) انتقل إلى "الياء" نحو "تُلِىَ" و"دُحِىَ"، و"طُحِىَ" (¬7). ¬

_ = انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص 688، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 779، و"الحجة" 6/ 418. (¬1) قر الكسائي بالكسر في ذلك كله. المراجع السابقة. (¬2) قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر بفتح أواخر آي هذه السورة، والليل، والضحى. المراجع السابقة. (¬3) (وضحها) في كلا النسختين. (¬4) في (أ): (دحيها). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 266 بيسير من التصرف. (¬6) أي المبني للمجهول. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 331 بتصرف.

وقال أبو علي الفارسي: وجه قول من ترك الإمالة في هذه الحروف أن كثيرًا من العرب لا يميلون هذه الألفات، ولا ينحون فيها نحو "الياء"، ويقوى ترك الإمَالة للألف أن "الواو" في "مؤسى" منقلبة عن "الياء"، و"الياء" في ميقات، وميزان منقلبة عن الواو، ولم يلزم شيئًا من ذلك ما يدل على ما انقلب عنه، فكذلك الألف (ينبغي أن تترك غير ممالة، ولا متنحى بها نحو"الياء"، وكذلك الألف) (¬1) في آدم وآخر منقلبة عن "الهمزة"، ولم يلزم ما يدل على أنه من الهمزة، وأما من أمَال فإنه نحا بها نحو الكسرة ليدل على ما انقلبت عنه، ويدلك على أنه لهذا المعنى أميلت أن ما لم يكن منقلبًا نحو الألفات في الحروف لم يمل، وأما فصل حمزة بين هذه الحروف بالإمالة في بعضها، وتركها في بعضها فحسن، وذلك أن الألف إنما (تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها [عن] (¬2) الياء ولم يكن في "تلاها"، و"طحاها"، و"دحاها"، ألف منقلبة عن الياء؛ إنما) (¬3) هي منقلبة عن "الواو" بدلالة "تلوت"، و"دحوت". وأما من لم يفصل بينهم؛ كأبي عمرو، والكسائي فإنما لم يفصلا؛ لأن الألف المنقلبة عن "الواو" قد توافق المنقلبة عن "الياء"، ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوها قد يجوز في أفعالها وهي على العدة التي هي عليها أن تنقلب إلى "الياء" نحو "تلى" إذ بني الفعل للمفعول، (فلما وافقت في هذا ما كان الياء استجازوا إمالته) (¬4) كما استجازوا إمالة ما كان من "الياء"، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) في كلا النسختين (على). وأثبت ما رأيته أنسب للمقال. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ).

ومع ذلك فإن "الياء" تقلب عن (¬1) "الواو" (¬2) ألا ترى أنها إذا كانت رابعة في الفعل لزم البدل بـ"الياء" نحو "اغزيت"، وكذلك إذا كان في اسم نحو "المغزى"، و"المدعى"، ثني (¬3) بـ"الياء"، وكذلك في نحو "مَسْنِي"، و"معدي" تقلب إلى "الياء"، ولا تجد "الياء" تقلب إلى "الواو" في (¬4) هذا (¬5) النحو، فلما كانت هذه في حكم الانقلاب عن "الياء" أجْرَوُا الألف مجرى الألف المنقلبة عن الياء، ويدل على أنهم لهذا (المعنى) (¬6) استجازوا الإمالة في باب "دحا"، و"طحا"، و"تلا"، و"سجا"، إن ما كان من الأسماء ألفُهُ منقلبة عن الواو، ونحو (¬7) "العصا، والقضاء (¬8) لم يجيزوا فيه الإمالة لما لم تكن تنقلب واوها إلى "الياء" كما انقلبت إليها في الفعل. وأما من فتح "تلا" وأمال غيرها، كما رُوي عن نافع فقوله حسن، لأخذه بشيئين كل واحد منهما مسموع مأخوذٌ به، فأخذ بأحدهما مرة، ¬

_ (¬1) في (ع): (على). (¬2) من قوله: لا يميلون هذه الألفات .. إلى قوله: بأن الياء تقلب عن الواو، لم أجده في "الحجة"، وقد ذكر في حاشية "الحجة" أن هناك سقطًا في الأصل الخطي وقع في تتابع الصفحات: 6/ 419. قلت: ولعله يكون ما نص هنا ما بين القوسين هو من الساقط في الكلام، وذلك لأن الكلام الذي يسبق ما كان بين القوسين، والذي يليه ذكر في "الحجة"، والله أعلم. (¬3) في (أ): (ثنا). (¬4) في (أ): (وفي). (¬5) ورد في نسخة الألف عبارة: (نحو المغزا والمدعا)، وهو مكرر في الكلام، وليس هنا موضعه. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) في (أ): (نحو) بغير واو. (¬8) في (ع): (العطا).

2

وبالأخرى (¬1) أخرى (¬2). 2 - قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} قال المفسرون: تبعها (¬3). قال الليث: تلا يَتْلُو (¬4) إذا تبع شيئًا، فهو تالٍ، ولمَتَاِلي الأمهات إذا تلاهن أولادهن (¬5) الواحدة مُتْلية (¬6). ويقال الذي مصدره: "التُلُو" بضم التاء واللام والتشديد، والتَلْو بفتح التاء وسكون اللام. ذكر ذلك الكسائي (¬7). واختلفوا في معنى: تلو القمر الشمس، فقال عطاء عن ابن عباس: يريد إقبالها بعد مغيبها (¬8). قال المفسرون (¬9): وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت ¬

_ (¬1) في (ع): (بالآخر). (¬2) "الحجة" 6/ 419 - 420 بتصرف. (¬3) قال بذلك ابن عباس، ومجاهد، وبمعناه: قتادة، وابن زيد، ومقاتل. "تفسير مقاتل" 241 أ، "جامع البيان" 30/ 208، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 550، وبه قال أيضًا الثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 99 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 491، و"المحرر الوجيز" 5/ 487، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 73، و"لباب التأويل" 4/ 381، و"فتح القدير" 5/ 448. (¬4) (يتلوا) في كلا النسختين. (¬5) في (ع): (أولاد). (¬6) "تهذيب اللغة" 14/ 316 (تلا) بشيء من الاختصار، وانظر: "اللسان" 14/ 103. (¬7) ورد معنى قوله في: المرجع السابق 14/ 317 (تلا)، وكلامه: قال: (هي التُّلاوة أيضًا، وقد تتلَّيْتُ حقي عنده، أي تركت منه بقية، وتَلَّيت حَّقي تَتَبّعته حتى يسوفيه). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) قال بذلك ابن زيد، وابن عباس، انظر: "جامع البيان" 30/ 209، و"التفسير الكبير" 31/ 190، وإليه ذهب الطبري في "جامع البيان" 30/ 208، والثعلبي في =

الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور. وقال قتادة (¬1)، والكلبي (¬2): تلاهَا القمر ليلة الهلال، لأن الشمس إذا غربت ظهر الهلال بعدها يتلوهَا في الغروب. وجعل الفراء معنى تلو القمر الشمس الأخذ من ضوئها، كما تقول في الكلام: اتبعت قول فلان، وأخذت بقول فلان، فاتباعه والأخذ منه سواء (¬3). ويقال: فلان يتبع فلانًا في كذا أي يأخذ منه. ونور القمر من نور الشمس على مَا يقال إنه يأخذ النور من الشمس، وهو معروف عند الناس، ومنه قول من قال: كما تكسب منها نوره القمر (¬4) وقال الزجاج: تلاها حين استدار كما يتلو الشمس في الضياء والنور (¬5) يعني إذا كمل ضوؤه فصَار تابعًا للشمس في الإنارة، وذلك في الليالي البيض. ¬

_ = "الكشف والبيان" 13/ 99 ب. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 491، و"المحرر الوجيز" 5/ 487، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 73، و"لباب التأويل" 4/ 381، و"فتح القدير" 5/ 448. وهناك أقوال أخرى في اتباعه لها، انظر: "النكت والعيون" 6/ 282. (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 376، "جامع البيان" 30/ 208، "الرازي" 31/ 190. (¬2) " التفسير الكبير" 31/ 190. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 266 بتصرف. (¬4) لم أتوصل إلى معرفة القائل، وقد ورد تحت (بهج) في "تهذيب اللغة" 6/ 64، و"لسان العرب" 2/ 216، و"تاج العروس" 2/ 10، وجميعها برواية: (نواره) بدلاً من (نوارها) والبيت للمتنبي في "ديوانه". (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332.

3

3 - قوله تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} معنى التجلية: الإظهار والكشف، وذكرنا ذلك عند قوله: {لا يجليها} [الأعراف: 187]. قال الكلبي: جلاها جلى الظلمة (¬1). قال الفراء: وجازت (¬2) الكناية عن الظلمة، ولم تذكر؛ لأن المعنى معروف ألا ترى أنك تقول: أصبحت باردة، وأمست باردة، وهبت شمالاً، [فكنى] (¬3) عن مؤنث لم يجر لها ذكر، لأن المعنى معروف (¬4). ونحو هذا قال الزجاج، وزاد فيها وجهًا آخر فقال: وقيل: والنهار إذا [جلاها] (¬5) إذ بين الشمس؛ لأنها تتبين إذا انبسط النهار (¬6). وفاعل التجلية على القولين جميعًا النهار. 4 - وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} قال الكلبي: يعني الشمس فيذهب بضوئها، فتغيب وتظلم الآفاق (¬7). وهذه الآية تقوي الآية الثانية في الآية التي قبلها، وذلك أنه لما جعل الليل يغشى الشمس فيذهب بضوئها حسن أن يقال: النهار ويجليها على ضد ما ذكر في الليل، وأيضًا فإن الضمير في "يغشاها" للشمس بلا خلاف، كذلك في "جلاها" يجب أن يكون للشمس، فيكون الضمير في الفواصل ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "بحر العلوم" 3/ 482. (¬2) في (أ): (جازت). (¬3) يعني: هكذا ورد في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في أصل الكلام، وهو "معاني القرآن" لانتظام الكلام. والله أعلم. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 266. (¬5) (جليها) في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر أصل الكلام لانتظامه. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332. (¬7) ورد معنى قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 491، و"زاد المسير" 8/ 257.

5

من أول السورة إلى هنا للشمس (¬1). 5 - قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} قال أبو عبيدة: ومن بناها (¬2)، وهو مذهب المفسرين، قال عطاء: يريد والذي بناها (¬3). قال (¬4) الكلبي: من بناها؟! الله بناها (¬5)، ونحو هذا قال مقاتل: والذي خلقها (¬6). وذكر الفراء (¬7)، والزجاج (¬8) وجهًا آخر، وهو أن تكون "مَا" بمعنى المصدر (¬9) بتقدير: وبناها، ونحو هذا كثير (¬10). 6 - قوله تعالى: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} في "ما" وجهين كما ذكرنا "وطحاهَا" قال أبو عبيدة: بسطها من كل جانب (¬11). قال الليث: الطَّحْوُ كالدّحو، وهو البَسْطُ، وفيه لغتان: طحا ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 191. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 300 مختصرًا. (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 492. (¬4) في (ع): (وقال). (¬5) المرجع السابق بمعناه. (¬6) بمعناه في "تفسيره" 241 أقال: (وبالذي بناها، يعني الرب نفسه). (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 492. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332. (¬9) في (أ): (المصد). (¬10) نحو قوله تعالى: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27]. انظر: كتاب "معاني الحروف" للرُماني ص 86، وما بعدها في معنى (ما)، ومتى تكون اسمًا، ومتى تكون حرفًا، وشروط ذلك، فليراجع في موضعه. (¬11) "مجاز القرآن" 2/ 300 مختصرًا.

7

يَطْحُو (¬1)، وطحَا يَطْحا (¬2)، وقال شمر: طحاها، ودحَاهَا، واحد، فأبدل "الطاء" من الدال، والمعنى: وسَّعَها (¬3). قال عطاء (¬4)، (والكلبي (¬5)) (¬6): بسطها على الماء. 7 - {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} المفسرون يقولون: والذي سواها، أي خلقها، وسوى أعضاهَا (¬7)، وأهل المعاني يقولون: وتسويتها أي خلقها (¬8). كما قال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7]. قال عطاء عن ابن عباس (في رواية علي بن أبي طلحة) بين لها الخير والشر (¬9). وهذا كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. ¬

_ (¬1) (يطحوا) في كلا النسختين. (¬2) (يطحى) هكذا ورد في "التهذيب" 5/ 182 (طحا). (¬3) "تهذيب اللغة" 5/ 182، وانظر: "لسان العرب" 15/ 4 (طحا)، ونسبه إلى الأزهري. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 192. (¬5) المرجع السابق. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) إلى هذا القول ذهب الطبري في "جامع البيان" 30/ 210، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 310، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 100 أ، وانظر: "الكشاف" 4/ 215. (¬8) ذكر الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" القولين في (ما) 5/ 332. (¬9) ورد من طريق الوالبي في: "الكشف والبيان" 13/ 100 أو"صحيفة علي بن أبي طلحة" ص 534، ومن طريق عطية عند قوله: (فألهمها فجورها) في: "جامع البيان" 30/ 210، كما وردت هذه الرواية عنه من غير ذكر طريق علي في: "النكت والعيون" 6/ 83، و"معالم التنزيل" 40/ 492، و"زاد المسير" 8/ 258 في حاشيته رقم: 1، و"لباب التأويل" 4/ 382، و"الدر المنثور" 8/ 528.

وقال الذي رواية عطية: علمها الطاعة والمعصية (¬1). وقال رواية أبي صالح: عَلَمها وعَرفها ما تأتي، وما تتقي (¬2). وقال رواية عطاء: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره (¬3). وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها (¬4). وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياه (¬5) للتقوى، وخذلانه إياه للفجور (¬6). واختار أبو إسحاق هذا الوجه، وحمل الإلهام فيهما على التوفيق والخذلان (¬7). وقال مقاتل: عرفها الضلالة والهدى (¬8). والاختيار قول ابن زيد، وسعيد بن جبير، وهو الموافق لمعنى ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 210، " الكشف والبيان" 13/ 100 أ، "معالم التنزيل" 4/ 492، "زاد المسير" 8/ 258 في حاشيته رقم 1، "لباب التأويل" 4/ 382، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 551، "الدر المنثور" 8/ 528. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 492، "الكشف والبيان" 13/ 100 أمعزوًا إلى الكلبي. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 492، "زاد المسير" 8/ 258، "التفسير الكبير" 31/ 193، وبمعناه في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 551، و"الدر المنثور" 8/ 530، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم و"تفسير سعيد بن جبير" ص 376. (¬5) في (أ): (اياهما). (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 492، "زاد المسير" 8/ 258، "التفسير الكبير" 31/ 193، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 551. وانظر أيضًا: "فتح القدير" 5/ 449. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332. (¬8) "تفسير مقاتل" 241 أ.

9

الإلهام، فإن التبيين، والتعريف، والتعليم (¬1) دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه، ويجعل فيه، كما ذكر ابن زيد: إذا أوقع الله في قلب عبده شيئًا فقد ألزمه إياه، وأصل معنى الإلهام من قولهم: لهم الشيء، والتهَمَهُ إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء إذا أبلغته. هذا هو الأصل (¬2). ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله في قلب العبد، لأنه كالإبلاغ، والتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد: وهذا صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره (¬3). والذي يؤكد هذا ويبينه قوله: 9 - {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وقال ابن عباس (في رواية عطاء (¬4)، والكلبي (¬5)) (¬6): قد أفلحت نفس زكاها الله وأصلحها، وهو قول: ¬

_ (¬1) في (أ): (التعليم والتعريف). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 308 (لهم)، و"مقاييس اللغة" 5/ 217، و"الصحاح" 5/ 2036 - 2037. (¬3) وهذا ما يؤيده الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي الأسود الدِّئِليِّ قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم، ومضى عليهم من قدر ما سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت "الحجة" عليهم .. ؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. كتاب القدر: باب 1: ج 4/ 2041، 4042: ح 10، وانظر: "مسند الإمام أحمد" 4/ 438. (¬4) ورد قوله من غير ذكر أحد الطريقين إليه في: "زاد المسير" 8/ 208، و"الدر المنثور" 8/ 531، وعزاه إلى حسين في الاستقامة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. كما ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 211 من طريق علي الوالبي. (¬5) المراجع السابقة. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ).

10

مجاهد (¬1)، وعكرمة (¬2) (وسعيد بن جبير (¬3)، ومقاتل (¬4)) قالوا: سعدت وأفلحت نفس أصلحها وطهرها. والمعني: وفقها للطاعة حتى عمل بها. 10 - {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬5) قالوا (¬6): خابت، وخسرت نفس أضلها الله، وأغواها، وأبطلها، وأهلكها، وأثمها، وأفجرها. هذه ألفاظهم في تفسير: "دسَّاها"، والأصل: دسّسَها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت من إحدى السينات (¬7) "ياء" كما قالوا: لبيت، والأصل: لببت، وملبي، والأصل: ملبب، وكذلك: * تَظَنَّيْت * (¬8) ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 211، قال: (من أصلحها). (¬2) المرجع السابق بنفس العبارة. (¬3) المرجع السابق، وانظر: "النكت والعيون" 6/ 284. (¬4) "تفسير مقاتل" 241 أ، "زاد المسير" 8/ 258. وما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في (أ): (دسيسها). (¬6) أي المفسرين، عن قتادة قال: أي أثمها، وأفجرها. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 376، "جامع البيان" 30/ 213. وعن ابن عباس قال: قد خاب من دس الله نفسه فأضله. وعنه أيضًا: تكذيبها. وعنه أيضًا: أبطلهًا وأهلكها. "جامع البيان" 30/ 212، "الكشف والبيان" 13/ 100 ب. عن مجاهد: أغواها، وعن سعيد: أضلها. المرجعان السابقان. وقال ابن زيد: قد خاب من دس الله نفسه. "جامع البيان" 30/ 213. وعن عكرمة: خسرها، وعن ابن سلام: أشقاها، وعن الضحاك: جبنها في الخير، وعن ابن عيسى قال: أخفاها وأخملها بالبخل. "النكت والعيون" 6/ 285. (¬7) في (أ): (الشينات). (¬8) ظنيت، وإنما هو: تظننت. وهذا اللفظ من جزء جاء فيه: =

و* تَقَضَّيَ البْازِىِ (¬1) * ذكر ذلك الفراء (¬2)، وأبو عبيدة (¬3) (¬4)، وجميع أهل المعاني (¬5)، وذكر الفراء من نظائر هذا: الدينار (¬6)، والقيراط (¬7)، والديباج (¬8)، والديوان (¬9) (¬10). قال أبو إسحاق: معنى دسَاهَا: جعلها قليلة خسيسة (¬11). وذكرنا معنى الدس عند قوله: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} (¬12). ¬

_ = فإن شيطاني أمير الجن يأخذني في الشعر كل فن حتى يرد عني التظن انظر: كتاب "الإبدال": لابن السكيت ص 133. (¬1) أصله بيت شعر للعجَّاج، وقد أورده أبو عبيدة في "مجازه" 2/ 300، وابن السكيت في كتاب "الإبدال" ص 133، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332، والطبري في: "جامع البيان" 30/ 212. وقد سبق تخريجه. الشاهد: تقضى يتقضى، والأصل: تقضض. والعرب تقلب حروف المضاعف إلى ياء. "الإبدال" ص 133. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 267 والنص له. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 300. (¬4) في (أ): (أبو عبيد). (¬5) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد ورد عن ابن قتيبة مثل ذلك في "تأويل مشكل القرآن" 344، وانظر: "تهذيب اللغة" 12/ 281 (دس). (¬6) الدينار: أصله من دِنّار، يدل على ذلك جمعهم إياه: دنانير. "معاني القرآن" للفراء 3/ 267. (¬7) جمعه قراريط، كأنه كان قراطًا. المرجع السابق. (¬8) جمعه ديابيج. المرجع السابق. (¬9) ديوان كان أصله دِوان لجمعهم إياه: دواوين. المرجع السابق. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 167. (¬11) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332. (¬12) سورة النحل: 59، ومما جاء في تفسير معنى الدس، قوله: {أَمْ يَدُسُّهُ}: أى =

والتدسيس تفعيل منه، ومعنى "دَسَاها" هاهنا: أخملها (¬1)، وخذلها، وأخفى محلها، ولم يشهر مكانًا بالطاعة والعمل الصالح. وهو معنى قول المفسرين: أضلها، وأغواها، وأبطلها كما ذكرنا. وقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي ذكرها من خلقه، لأنها تدل علي وحدانيته على فلاح من طهره، وخسارة من خذله، حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه، وإهلاكها بالمعصية من غير قدر، وقضاء سَابق، ويدل على هذه الجملة مَا روي عن (سعيد بن أبي هلال (¬2) أن) (¬3) النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وقف، ثم قال: "اللهم أئت نفسي تقوها، أنت وليها، ومولاها، وزكها، أنت خير من زكلاها" (¬4). يدل على صحة هذا ما أخبرنا الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر (التميمي رحمه الله) (¬5) بقراءتي عليه، قلت (له) (¬6): أخبركم أبو ¬

_ = يخفيه، والدس إخفاء الشيء، وهذا على ها كانوا يفعلونه من الوأد في الجاهلية. (¬1) أخملها: الخامل الساقط الذي لا نباهة له، وقد خَمَلَ يخْمُل خمولاً، وأخملته أنا. "الصحاح" 4/ 1690 (خمل). (¬2) سعيد بن أبي هلال الليثي، أبو العلاء المصري، مولى عروة بن شيَيْم الليثي، روى عن أنس بن هالك يقال مرسل، وجابر بن عبد الله، لم يروِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولد بمصر سنة 570، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر، مات سنة 135 هـ، وحُكي عن أحمد أنه اختلط، روى له الجماعة. انظر: كتاب "المراسيل" ص 67 ت 119، "تهذيب الكمال" 11/ 94 ت 2372، "تقريب التهذيب" 1/ 307 ت 274. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) وردت مثل هذه الرواية عن ابن عباس مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه الطبراني، وإسناده حسن. قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 138 سورة الشمس. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ساقط من (ع).

عمرو؛ محمد بن جعفر بن مطر (¬1)، أخبرنا (¬2) جعفر بن محمد المستفاض (¬3)، حدثنا (¬4) سليمان بن عبد الرحمن (¬5)، حدثنا (¬6) راود بن الجراح (¬7)، حدثنا (¬8) نافع بن عمر (¬9)، عن عبد الله بن أبي مليكة، ¬

_ (¬1) محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النيسابوري؛ أبو عمرو، روى عن أبي عمرو، وأحمد المبارك المُستملي، ومحمد بن أيوب الرازي، وطبقتهما، كان متعففًا قانعًا، توفي في جمادى الآخرة وله 95 سنة. انظر: "المنتظم" 14/ 208 ت 2697، "سير أعلام النبلاء" 16/ 162 ت 117، "العبر في خبر عن غير" 2/ 106. (¬2) في (ع): (اثنا). (¬3) جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض، أبو بكر الفريابي القاضي، تقدم. (¬4) في (ع): (نا). (¬5) سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى بن ميمون بن عبد الله التميمي الدمشقي، وجده هو شرحبيل بن مسلم الخولاني، حدث عنه جعفر الفريابي، قال عنه ابن حجر: صدوق، يخطئ، مات سنة 233 هـ. انظر: "تهذيب الكمال" 12/ 26 ت 2544، و"سير أعلام النبلاء" 11/ 136 ت 50، و"تقريب التهذيب" 1/ 327: ت 467. وسلسلة الإسناد إلى سليمان بن عبد الرحمن متصلة، أما تحديث سليمان بن عبد الرحمن عن رواد فيه انقطاع؛ إذ إن روادًا ليس من شيوخه، ولا ابن بنت شرحبيل من تلاميذ رواد. والله أعلم. (¬6) في (ع): (نا). (¬7) راود بن الجراح الشامي؛ أبو عصام العسقلاني، والد عصام بن رواد، كان من أهل خراسان، قال ابن حجر عنه: اختلط بأخرة فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد. انظر: "تهذيب الكمال" 9/ 227 ت 1927، و"تهذيب التهذيب" 3/ 288، و"تقريب التهذيب" 1/ 253 ت 110، وتحديث رواد عن نافع فيه انقطاع، فنافع ليس من شيوخه، ورواد من التاسعة، ونافع من كبار السابعة. (¬8) في (ع): (نا). (¬9) نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل بن عامر بن جمح القرشي، ثقة ثبت من كبار السابعة، مات سنة 169 هـ أمه أم ولد. =

قال: قالت عائشة، رحمها الله (¬1): انتبهت ليلة، فوجدت رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" (¬2). والضمير في قوله: {زَكَّاهَا} و {مولاها} هو يعود إلى: {مَن}، وهو بمعنى النفس. قال الفراء (¬3)، والزجاج (¬4): يقول قد أفلحت نفس زكاها الله، وقد خابت نفس دسَاهَا الله. وذُكر في الآيتين قول آخر، قال الحسن: قد أفلح من زكى (¬5) نفسه فأصلحها، وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على ¬

_ = انظر: "الطبقات الكبرى" 5/ 494، "تهذيب الكمال" 29/ 287 ت 6367، "تقريب التهذيب" 2/ 296 ت 24. (¬1) في (ع): (رضي الله عنها). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 6/ 209 من طريق سعيد عن عائشة، وقد وردت رواية عن طريق زيد بن أرقم في "صحيح مسلم" 4/ 2088: ح: 73: باب 18، والحديث كما هو عنده عن زيد بن أرقم قال: "لا أقول إلا كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، كان يقول: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ...). كما أخرجه النسائي 8/ 653 ح 5473، 5553، كتاب الاستعاذة، باب 13، 65 من طريق زيد بن أرقم. وطريق زيد أخرجه الإمام أحمد في المسند: 4/ 371. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 267 واللفظ له. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 333. (¬5) في (أ): (زكا).

معصية الله (¬1) ونحو هذا القول يروى عن قتادة (¬2)، وذكره (¬3) الفراء فقال: ويقال (¬4): قد (¬5) أفلح من زكى نفسه (¬6) بالصدقة وبالطاعة، وقد خاب من دسى (¬7) نفسه فأخملها بترك الصدقة والطاعة. وذكر وجهًا آخر على هذا القول في قوله: "دسَاهَا" فقال: إن البخيل يخفى منزله وماله، وإن المعطي يُبرز منزله، فينزل على الأشراف والروابي (¬8)؛ [لئلا] (¬9) يستتر عن الضِّيفان، ومن أراده (¬10). وشرحه ابن قتيبة فقال: يريد قد أفلح من زكى (¬11) نفسه، أي أنماها، وأعلاها بالطاعة، والبرّ، والصدقة، واصطناع المعروف، وقد ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 101 أ، "معالم التنزيل" 4/ 493، "الدر المنثور" 8/ 530، وعزاه إلى عبد بن حميد، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 424. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 376، "جامع البيان" 30/ 213، "الكشف والبيان" 13/ 100 ب، "النكت والعيون" 6/ 284. (¬3) في (ع): (ذكر). (¬4) في (أ): (يقال). (¬5) في (أ): (وقد). (¬6) في (أ): (زكا). (¬7) في (أ): (دسا). (¬8) الروابي: ما أشرف من الرَّمل مثل الدّكدَاكة؛ غير أنها أشد منها إشرافًا. "لسان العرب" 14/ 306 (ربا). (¬9) في: النسختين (لأن لا)، وما أثبته من المعاني. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 267. (¬11) في (أ): (زكا).

خاب من دساها، أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر، وركوب المعَاصي، والفاجر أبدًا خَفىُّ المكان زَمِرُ (¬1) المروءة، غامض الشخص، ناكِسُ الرأس، وكأن النَّطِف (¬2) بارتكاب الفواحش دسَّ نفسه وقُمَعَها، ومُصْطَنِع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُبَى (¬3)، وأيفاع (¬4) الأرض لتشهر أماكنها للمُعْتفين، وتُوقد النيران في الليل للطارقين، وكانت اللئام تنزل الأولاج (¬5)، والأطراف والأهضام (¬6) لتخفي أماكنها على الطالبين، فأولئك أعلَوْا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفَوْ أنفسهم ودسوهَا، وأنشد (¬7): وبَوَّأْتَ بيتَكَ في مَعْلَمٍ ... رَحِيبِ المَبَاءَةِ والمُسْرَح كَفَيْتَ العُفَاةَ طلابَ القِرى ... ونَبْحَ الكِلاب لِمُسْتَنْبح (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) زمِرُ المروءة: أي قليل المروءة. "لسان العرب" 4/ 328. (¬2) النَّطِف: المتهم: "لسان العرب" 11/ 48 (نطف). (¬3) الرُبى: مفرده الرَّبوة، وكل ما ارتفع عن الأرض ورَبا. "لسان العرب" 14/ 306 (ربا). (¬4) اليفاع: المُشْرف من الأرض والجبل. "لسان العرب" 8/ 414 (يفع)، وفي "الصحاح" ما ارتفع من الأرض 3/ 1310 (يفع). (¬5) الأولاج جمع الوَلَجة بالتحريك: موضع أو كَهْفّ تستتر فيه المارة من مطر وغيره، والجمع: وَلَج وأولاج. "الصحاح" 1/ 347 (ولج). (¬6) الأهضام: مفرده الهُضْمُ، والهضْمَ، وهو المطمئن من الأرض، والجمع أهْضام، وهُضوم. "لسان العرب" 12/ 615 (هضم). (¬7) غير منسوب في المعاني الكبير 1/ 409، وذكر البيت الأول. (¬8) "الحيوان" 1/ 381، 5/ 134 - 135. (¬9) "تأويل مشكل القرآن" ص 344 - 345. باختصار.

10

وذكر وجهًا آخر في قوله: {دَسَّاهَا}. قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي عن قوله: 10 - {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فقال: معناه: من دس نفسه مع الصالحين، وليس هو منهم (¬1)، وهو منطوٍ على غير مَا ينطوي عليه الصَالحون (¬2). 11 - قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} قال الليث: الطغيان و [الطُغْوان] (¬3) لغة فيه، والفعل طَغَيْتَ، وطَغَوْتَ (¬4) والاسم: الطغوى (¬5) (¬6). قال الفراء: أراد بطغيانها، وهما مصدران إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك، وهو كالدعوى من الدعاء (¬7) (¬8). وقال أبو إسحاق: أصل طغواها طغياها، وفَعْلى إذا كانت من ذوات "الياء" أبدلت في الاسم "واوًا"، لتفصل بين الاسم والصفة، تقول: هي ¬

_ (¬1) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 12/ 281 بنصه، وانظر: "لسان العرب" 6/ 72 (دس). (¬2) في (ع): (الصالحين). (¬3) الطغيان: هكذا ورد في النسختين، وأثبت ما جاء في أصل الكلام. (¬4) في (أ): (طغوت وطغيت). (¬5) في (أ): (للطغوى). (¬6) "تهذيب اللغة" 8/ 167 (طغو)، وانظر: "لسان العرب" 15/ 6 (طغى). (¬7) أي كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} ومعناه: آخر دعائهم. "معاني القرآن" للفراء 3/ 267. (¬8) المرجع السابق بتصرف.

التقوى، [وإنما هي من أيقنت، وهي التقوى، وإنما هي من يقنت] (¬1)، والدعوى (¬2)، وقالوا: امرأة خزي لأنه (¬3) صفة (¬4). قال المفسرون: كذبت ثمود بنبيهم بطَغيانهم، أي الطغيان حملهم على التكذيب به (¬5). (هذا قول جماعتهم) (¬6)، وقد روى عطاء (الخرساني) (¬7) عن ابن عباس أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من النسختين، وأثبت ما جاء في أصل الكلام لاستقامته وانتظام الكلام به. (¬2) لم ترد عند الزجاج. (¬3) امرأة خزيًا، هكذا روت عند أبي إسحاق في المعاني. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 333. (¬5) قال بذلك ابن زيد، قال: بطغيانهم وبمعصيتهم، وكذلك قال به مجاهد، وقتادة. انظر: "جامع البيان" 30/ 213، "النكت والعيون" 6/ 285. كما عزاه ابن عطية إلى جمهور المتأولين في "المحرر الوجيز" 5/ 488، وقال الفخر عنه: هذا هو القول المشهور. "التفسير الكبير" 31/ 195، كما قال ابن كثير عنه: وهو الأولى. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 552، وإلى هذا القول ذهب: ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" ص 530، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص 315. وانظر أيضًا "نفس الصباح" ص 784، و"تحفة الأريب" ص 214، و"تفسير غريب القرآن" لابن الملقن ص 560، وقال به أيضًا السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 483، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 101 أ، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 493، و"زاد المسير" 8/ 259، و"لباب التأويل" 4/ 382. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ساقط من (أ). (¬8) "جامع البيان" 30/ 213، "الكشف والبيان" ج 13/ 101/ أمختصرًا، "النكت والعيون" 6/ 285، "المحرر الوجيز" 5/ 488، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 78.=

12

والمعنى: كذبت بعذابها، أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب، وهذا لا يبعد، لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة [القدر] (¬1) (¬2). فيجوز أن يسمى ذلك العذاب الذي جاءهم طغوى؛ لأنه كان صيحة مجاوزة القدر المعتاد يؤكد هذا التأويل. 12 - وقوله: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} أي كذبوا بالعذاب (¬3) لما انبعث الأشقى للعقر (¬4) (¬5)، والتكذيب بالعذاب حمله على ذلك. ويجوز أن يكون تكذيب صَالح حمله على ذلك، وهذا القول الأول في الطغوى. وانبعث مطاوع، يقال: بعثت فلانًا على الأمر فانبعث له، أي انتدب وقام (¬6). ¬

_ = وقال الآخرون: بطغواها أي بأجمعها. وقال مجاهد: أي معصيتها. "جامع البيان" 30/ 215. (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 167، وهو قول الليث. (¬2) (القدرة) في كلا النسختين. (¬3) في (ع): (بالعذاب) مكرر. (¬4) في (أ): (العقر). (¬5) العَقْر: شبيه بالخز، عَقَرَ يَعْقِره عَقَرًا، وعَقَّره، والعَقير: المعقور، والجمع: عَقْرى الذكر والأنثى فيه سواء، وعَقَر الفرس والبعير بالسيف عَقَرًا: قطع قوائمه، "لسان العرب" 4/ 592 (عقر). وأصل العَقْر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. "تاج العروس" 3/ 414 (عقر). وقال الأزهري: والعَقَر عند العرب كَسْف عرقوب البعير، ثم جُعِل النَّحر عقرًا، لان العَقر سبب لنحره، وناحِر البعير يعِقره ثم ينحره. "تهذيب اللغة" 1/ 215 (عقر). (¬6) قال الليث: بعثت البعير فانبعث إذا حللت عقاله وأرسلته لو كان باركًا فأثرته قال بعثته من نومه فانبعث. =

13

وأراد بالأشقى: عاقر الناقة، وهو أشقى الأولين على لسان نبينا -صلى الله عليه وسلم- (¬1). 13 - {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} صالح. {نَاقَةَ اللَّهِ} قال أبو إسحاق: ناقة الله منصوب على معنى ذروا ناقة الله، كما قال: {هذه ناقة الله لكم آية فذروها} [الأعراف: 73] (¬2). ¬

_ = وقال الأزهري: والبعث في كلام العرب على وجهين أحدهما: الإرسال والبعث: إثارة بارك أو قاعد. "تهذيب اللغة" 2/ 334 - 335، وقال ابن قتيبة: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} أي الشقي منها، أي نهض لعقر الناقة. "تفسير غريب القرآن" 530. (¬1) عن عثمان بن صهيب عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يومًا لعلي: (من أشقى الأولين؟ قال: الذي عقر الناقة يا رسول الله، قال: صدقت، قال فمن أشقى الآخرين؟ قال: لاعلم لي يا رسول الله، قال: الذي يضربك على هذه، وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يافوخه). رواه الطبراني: 8/ 45: ح 7311، وأبو يعلى، وفيه رشدين بن سعد وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" 9/ 36، كتاب المناقب: باب وفاة سيدنا علي رضي الله عنه، "كنز العمال" 2/ 14: ح: 2945. وجاءت رواية أخرى من طريق عمار بن ياسر: قال: كنت أنا وعلي رفيقين في غزوة ذات العشيرة. فيومئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: يا أبا تراب لما يرى عليه من التراب قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه، يعني قرنه، حتى تبل منه هذه، يعني لحيته. قال الهيثمي: ورواه أحمد، والطبراني، والبزار باختصار، ورجال الجميع موثقون إلا أن التابعي لم يسمع من عمار. "مجمع الزوائد" 9/ 136. "مسند الإمام أحمد" 4/ 263، وانظر: "حلية الأولياء" 1/ 141، "الدر المنثور" 8/ 53 أو عزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبغوي، وأبو نعيم في الدلائل. "دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 12 - 13، "سيرة ابن هشام" 2/ 236 - 237. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 333 بنصه.

14

وقال الفراء: حذرهم إياها، وكل تحذير (¬1) فهو نصب (¬2). وقوله: {وَسُقْيَاهَا} عطف على ناقة الله، وهو اسم من السقي، {وَسُقْيَاهَا} شربها من الماء وما يسقاها (¬3). قال الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5): قال لهم صالح: ذروا ناقة الله، فلا تعقروها، وذروا أيضًا سقياها، وهي شربها من النهر، فلا تعرضوا للماء يوم شربها، فإنكم معذبون، فكذبوا صالحًا بالعذاب أنه غير كائن، وهو قوله: 14 - {فَكَذَّبُوهُ} أي بتحذيره إياهم العذاب بعقرها، وذلك أن قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} يدل انتصابه على التحذير، فعقروها وتفسير العقر قد تقدم في هذه القصة. {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} قال عطاء عن ابن عباس: فدمر عليهم ربهم (¬6) (¬7)، ونحو هذا قال مقاتل (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (تحرير). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 268. (¬3) في (أ): (وساقها). (¬4) "فتح القدير" 5/ 450. (¬5) "تفسير مقاتل" 241 أ، "فتح القدير" 5/ 450، وانظر معنى هذا القول في: "جامع البيان" 30/ 214، و"معالم التنزيل" 4/ 493، و"لباب التأويل" 4/ 383، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 552. (¬6) ساقط من (ع). (¬7) "تفسير مقاتل" 241 ب، كما ورد قوله من طريق الضحاك عنه في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 79، كما ورد منسوبًا إلى عطاء في: "معالم التنزيل" 4/ 494. (¬8) "معالم التنزيل" 4/ 494.

وقال المؤرج: الدمدمة: إهلاك باستئصال (¬1). وقال ابن الأعرابي: دمدم: إذا عَذَّب عذابًا تامًا (¬2). وذكر الزجاج: أصل هذا الحرف، فقال: معنى دمدم: أطبق عليهم العذاب،، يقال: دمدمته على الشيء إذا أطبقت عليه، وكذلك دمدمت عليه القبر وما أشبهه، ويقال: ناقة الله مَدْمُومة أي قد ألْبَسَها الشحم، فإذا كررت الأطباق قلت: دمدمت عليه (¬3). هذا كلامه، ومعنى الدم في اللغة: اللطخ، يقال للشيء السمين كأنها دمَّ بالشحم دمًا (¬4)، فجعل أبو إسحاق "دمدم" من هذا الحرف على التضعيف نحو: {فَكُبْكِبُوا} (¬5) فيجوز أن يكون معنى "فدمدم عليهم" سوي عليهم الأرض (¬6) بأن أهلكهم، فجعلهم تحت التراب، يدل على هذا قوله: "فسواها". قال عطاء عن ابن عباس: يريد فسوي عليهم الأرض (¬7). ويجوز أن يكون المعنى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ} أطبق عليهم العذاب، وعمهم (¬8) به كالشيء الذي يلطخ، فيعم ما يلطخ به، ويكون على هذا معنى ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 101 ب، "معالم التنزيل" 4/ 494 وعزاه إلى المؤرج، ولعله خطأ، "زاد المسير" 8/ 259، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 79، "فتح القدير" 5/ 450. (¬2) "تهذيب اللغة" 14/ 83 (دمم). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 333 بنحوه. (¬4) "تهذيب اللغة" 14/ 81 (دمم). (¬5) سورة الشعراء: 94، قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}. (¬6) ويجوز أن يكون في (أ)، وهو مكرر، وفي غير موضعه. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) في (ع): (وعمقهم).

{فَسَوَّاهَا} فسوى الدمدمة عليهم، وعمهم بها، وذلك أن هلاكهم كان بصيحة جبريل، وتلك الصيحة أهلكتهم جميعًا فاستوت على صغيرهم، وكبيرهم، (قاله مقاتل (¬1)) (¬2). وقال ابن الأنباري: دمدم: غضب قال وتكون الدمدمة الكلام الذي يُزْعج الرجل. وأكثر (¬3) (¬4) المفسرين قالوا في: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ}: أرجف الأرض بهم (¬5). هذا كلامه. ونحو ذلك روى ثعلب عن ابن الأعرابي في هذه الآية قال: دمدم: أرجف (¬6)، (وهو قول الفراء: أرجف بهم (¬7)) (¬8). (¬9) وقوله: {فَسَوَّاهَا} قال الفراء: سوّى الأمة أنزل العذاب بصغيرها وكبيرهَا، بمعنى: سوَّى بينهم (¬10)، وهذا قول ثالث سوى القولين ذكرنا ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "تفسيره" 241 ب، "زاد المسير" 8/ 259 - 260. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) في (أ): (أكثر) بغير واو. (¬4) ممن قال بذلك: السجستاني في "نزهة القلوب" ص 230، والفراء في "معاني القرآن" 2/ 269. (¬5) لم أعثر على نصه فيما بين يدي من كتب، وقد ورد في "تهذيب اللغة" 14/ 81 حاشية من نسخة م، أما الذي ورد عنه في متن "التهذيب" قال: أطبق عليهم العذاب، وانظر: "لسان العرب" 12/ 209 (دمم). (¬6) "التفسير الكبير" 31/ 196. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 269. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) من قوله: (ومعنى الدم في اللغة ..) إلى: (أرجف لهم)، قد أورده الفخر في: "التفسير الكبير" 31/ 196 بنصه نقلاً عن الواحدي. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 269.

15

هما في قوله: {فَسَوَّاهَا}. 15 - قوله تعالى: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} قال ابن عباس (في رواية الوالبي) (¬1): لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم (¬2)، وهو قول الحسن، قال: ذلك الرب صنع بهم، ولا يخاف تَبِعَةَ (¬3). (وعلى هذا "الواو" في "ولا يخاف" في موضع حال. المعنى: فسواها غير خائف عقباها، أي غير خائف أن يتعقب عليه في شيء مما فعله، وفاعل يخاف: الضمير العَائد إلى قولهم "ربهم") (¬4) وقال مقاتل: يعني لا يخاف عَاقر الناقة العقوبة من الله في عقرها (¬5)، وهو قول الضحاك (¬6)، والسدي (¬7)، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 215، "الكشف والبيان" 13/ 101 ب، وبمعناه في "النكت والعيون" 6/ 285، و"معالم التنزيل" 4/ 494، و"المحرر الوجيز" 5/ 489، و"زاد المسير" 8/ 260، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 79، "لباب التأويل" 4/ 383، و"البحر المحيط" 8/ 482، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 553، و"صحيفة علي بن أبي طلحة" ص 534. (¬3) المراجع السابقة، انظر: "الدر المنثور" 531، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 424. قال ابن عطية: وفي هذا المعنى احتقار للقوم وتعقبه لأثرهم، كما رجح هذا القول ابن كثير، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 450. (¬4) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "الحجة" 6/ 420. (¬5) ورد معنى قوله في "تفسيره" 241 ب، "المحرر الوجيز" 5/ 489، "البحر المحيط" 8/ 482. (¬6) ورد معنى قوله في المرجعين السابقين، وأيضًا "جامع البيان" 30/ 215، و"الكشف والبيان" 13/ 101 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 494، و"زاد المسير" 8/ 260، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 80، "البحر المحيط" 8/ 482، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 553، "الدر المنثور" 8/ 531، "فتح القدير" 5/ 450. (¬7) ورد معنى قوله في المراجع السابقة، وانظر: "تفسير السدي" ص 478.

(والكلبي (¬1)) (¬2). (وعلى هذا القول الآية منتظمة بقوله: "إذا انبعث اشقاها * ولا يخاف عقباها" أي لا يخاف من إقدامه على مَا أتاه مما نُهي عنه، ففاعل يخاف: العاقر) (¬3). والمعنى: عقبى عقرها، فحذف المضاف. قال الفراء: حتى عقرها، ولم يخف عَاقبه عقرها، وفي مصاحف الشام والحجاز: "فلا يخاف" بالفاء (¬4). قال الفراء: وكلٌ صواب، قال و"الفاء" أجود في القول الأول، يعني أن يكون منتظمًا بقوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "الكشف والبيان" 13/ 101 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 494، و"زاد المسير" 8/ 260، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 80، و"فتح القدير" 5/ 450. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 420 بيسير من التصرف، وانظر التعليل في: "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 780. (¬4) قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: (فلا يخاف عُقباها) بالفاء، وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون: {وَلَا يَخَافُ} بالواو، وكذلك في مصاحفهم وهذا منتظم مع قول مقاتل، والضحاك، والسدي، والكلبي. انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص 689، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 780، و"الحجة" 6/ 420، و"المبسوط" 411، "حجة القراءات" ص 766. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 269 - 270 بتصرف.

سورة الليل

سورة الليل

1

تفسير سورة الليل (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال ابن عباس (¬2)، ومقاتل (¬3): أقسم الله بالليل إذا يغشى بظلمته (¬4) والنهار، ولم يذكر مفعول يغشى للعلم به. وقال أبو إسحاق: "يغشى الليل" الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض، فيذهب ضوء النهار (¬5). 2 - قوله تعالى (¬6): {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (أي بَان وظهر) (¬7) من بين الظلمة. ¬

_ (¬1) مكية بقول جمهور المفسرين، قال بذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 290، وحكى الإجماع ابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 261، وقال السيوطي: الأشهر أنها مكية "الإتقان" 1/ 35، وقيل: إنها مدنية. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 377 و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 80. (¬2) ورد معنى قوله في: "زاد المسير" 8/ 261. (¬3) "الوسيط" 4/ 105. (¬4) في (أ): (والنهار). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 335 بتصرف. (¬6) (قوله تعالى) ساقط من (أ). (¬7) ما بين القوسين ناقلاً عن "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 335.

3

قال قتادة: هما آيتان عظيمتان يكررهما الله على الخلائق (¬1). 3 - (قوله) (¬2): {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} قال الكلبي: والذي خلق (¬3)، وهو قول الحسن (¬4). و"ما" على هذا بمعنى "مَنْ". وقال مقاتل: يعني: وخلْق الذكر والأنثى (¬5). وعلى هذا "مَا" للمصدر، -وقد فسرنا هذا في مواضع (¬6) - والذكر والأنثى يجوز أن يعني بهما الجنس من الذكر والأنثى (¬7)، وهو الظاهر (¬8). وقال مقاتل (¬9)، (والكلبي (¬10)) (¬11): يعني آدم وحواء. ¬

_ (¬1) ورد بنحوه في: "جامع البيان" 30/ 217. (¬2) ساقط من: (ع). (¬3) "فتح القدير" 5/ 452. (¬4) المرجع السابق، وانظر: "جامع البيان" 30/ 218، و"الكشف والبيان" 13/ 102 أ، و"النكت والعيون" 6/ 286، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 80 - 81، و"الدر المنثور" 8/ 534 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 425. (¬5) "فتح القدير" 5/ 452. (¬6) يراجع في ذلك سورة الشمس: 5، 7، قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وهو مذهب الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 332. وانظر: كتاب "معاني الحروف" للزجاجي ص 55. (¬7) في (ع): (الذكور والإناث). (¬8) والقول بالعموم من كل ذكر وأنثى قال به الماوردي في "النكت والعيون" 6/ 287، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 483، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 452. (¬9) "معالم التنزيل" 4/ 494، و"زاد المسير" 8/ 262، و"فتح القدير" 5/ 452. (¬10) المراجع السابقة، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 82، و"البحر المحيط" 8/ 483، و"فتح القدير" 5/ 452، وبه قال الحسن، و"المحرر الوجيز" 5/ 490، وابن عباس في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 82. (¬11) ساقط من (أ).

4

وجواب القسم قوله تعالى: 4 - {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}. قال ابن عباس: إن أعمالكم لمختلفة، عمل للجنة، وعمل للنار (¬1). وقال مقاتل: يعني أن أهل مكة تقول إن أعمالكم لمختلفة في الخير والشر (¬2). وتفسير "شتى" قد سبق في قوله: {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} (¬3). قال المفسرون: نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وفي أبي سفيان (¬4). ثم فصل عملهما فبين (¬5) فقال: 5 - (قوله) (¬6): {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 8/ 262، وإلى هذا ذهب قتادة في: "جامع البيان" 30/ 219. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) سورة طه: 53 ومما جاء في تفسير قوله: "شتى" معناه مختلف متفرف، ولا واحد له من لفظه مثل فوض. (¬4) قال بذلك ابن عباس كما في: "الدر المنثور" 8/ 536، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن مردويه، وابن عساكر، وقاله ابن مسعود كما في: "بحر العلوم" 3/ 484، و"زاد المسير" 8/ 262، و"الدر المنثور" 8/ 534 - 535، وعبد الله بن أبي أوفى، وساقه ابن عطية عنه في: "المحرر الوجيز" 5/ 491 كما عزاه القرطبي والشوكاني إلى المفسرين. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 82، و"فتح القدير" 5/ 452. كما وردت الرواية في "أسباب النزول" للواحدي ص 385، وقال بها أيضًا في: "الكشف والبيان" 13/ 103 أ، والماوردي في: "النكت والعيون" 6/ 287، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 495. وقول آخر إنها نزلت في أبي بكر وأمية بن خلف. انظر: "معاني القرآن" للفراء: 3/ 270، و"لباب التأويل" 4/ 384. (¬5) في (ع): (وبين). (¬6) ساقط من (ع).

6

قال الكلبي: تصدق من ماله، واتقى معصية ربه (¬1). وقال مقاتل: أعطى المال في حق الله، واتقى الله (ومعصيته (¬2)) (¬3)، يعني الصديق -رضي الله عنه-. 6 - {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}. قال عكرمة عن ابن عباس: بالخَلَف (¬4)، وهو قول الكلبي (¬5)، ومقاتل (¬6)، وقتادة (¬7)، (قالوا: يعيده) (¬8) الله، وهو أن يخلفه في الآخرة الجنة. فـ"الحسنى" على هذا القول: الجنة، يجعلها الله خلفًا لأبي بكر مما أعطى. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ساقط من: (ع). (¬4) "تفسير الإمام مجاهد" ص 734، و"جامع البيان" 30/ 219، ورجحه الطبري في "معالم التنزيل" 4/ 495، و"المحرر الوجيز" 5/ 491، و"زاد المسير" 8/ 263، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 83، و"لباب التأويل" 4/ 383، و"البحر المحيط" 8/ 483 من غير ذكر طريق عكرمة، وكذا في: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 553، و"الدر المنثور" 8/ 535، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 422 ح 10825. (¬5) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 102 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 495. (¬6) ورد معنى قوله في المرجعين السابقين، و"زاد المسير" 8/ 263. (¬7) ورد معنى قوله في المراجع السابقة، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 377، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 83، و"فتح القدير" 5/ 452. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

7

وقال مجاهد (¬1)، وأبو عبد الرحمن (السلمي (¬2)) (¬3)، والضحاك (¬4)، قال: لا إله إلا الله. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد الخلف من الله والثواب والجنة، وصدق بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله (¬5). 7 - (قوله تعالى) (¬6): {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} فسنهيئه لعمل الخير، وهو معنى قول ابن عباس: نيسر له أعمال الخير (¬7). وقال الكلبي، و (مقاتل (¬8)) (¬9)، والفراء (¬10): نيسره للعودة للعمل الصالح. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "جامع البيان" 30/ 210، و"الكشف والبيان" 13/ 102 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 495، و"المحرر الوجيز" 5/ 491، و"زاد المسير" 8/ 263، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 83، و"البحر المحيط" 8/ 483، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 553، و"الدر المنثور" 8/ 535، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 452. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "جامع البيان" 30/ 210، و"الكشف والبيان" 13/ 102 ب، و"النكت والعيون" 6/ 287، و"معالم التنزيل" 4/ 495، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 83، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 553، و"فتح القدير" 5/ 452. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 288، و"زاد المسير" 8/ 263، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 554، و"شعب الإيمان" 7/ 422 ح: 10825. (¬8) لم أعثر على مصدر لقولهما. (¬9) ساقط من (أ). (¬10) "معاني القرآن" 31/ 270 بنصه.

8

ومعنى اليسرى: الخلة اليسرى (¬1)، (وهي الأمر السهل الذي لا يقدر عليه أحد إلا المؤمنون) (¬2)، يسر الله لهم العمل بمرضاته، فتيسر عليه الإنفاق في سبيل الخير، والعمل بالطاعة بتيسير الله ذلك لهم (¬3). قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (¬4)، اشترى منه ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله (¬5). 8 - {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} أي بالنفقة في الخير والصدقة (¬6) {وَاسْتَغْنَى} عن ثواب الله فلم يرغب فيه (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (الخل اليسرا). (¬2) ما بين القوسين من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 335. (¬3) بمعنى هذا القول: ذهب الطبري في: "جامع البيان" 30/ 211، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 103 أ، والماوردي في:"النكت والعيون" 6/ 288. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى هذه الآية من طريق عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله عند الطبري في "جامع البيان" 30/ 211، وكذلك "الدر المنثور" 8/ 535 - 536، وعزاه إلى ابن عساكر، وانظر أيضًا: "أسباب النزول" تح. أيمن صالح ص 391، وقال عنه: صحيح صححه الحاكم، وقال عصام الحميدان: وإسناده حسن بشواهده، أسباب النزول: 456، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند الحاكم. وانظر شواهده في: "لباب النقول" 230، و"فتح القدير" 5/ 454، كما خرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 525 - 526، كتاب التفسير: تفسير سورة الليل: وقال صحيح، وسكت عنه الذهبي. (¬6) بمعناه قال ابن عباس، وقتادة انظر: "جامع البيان" 30/ 221 - 222، وبه قال السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 485، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 103 أ، وعزاه ابن الجوزي إلى المفسرين في "زاد المسير" 8/ 264. (¬7) قال بنحوه الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 103 أ.

9

قال مقاتل (¬1)، والكلبي (¬2): يعني أبا سفيان، ثم عمت الكفار بعده. وقال عطاء: يريد أمية بن خلف (¬3). 9 - {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} يعني بما صدق (به) (¬4) أبو بكر وقد فسرنا (¬5). 10 - {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} قال عطاء: يريد سوف أحول بينه وبين أن يؤمن بالله ويصدقق رسوله (¬6). وهذا على (قول) (¬7) من يقول: إنه أمية بن خلف. وقال مقاتل: يعسر عليه أن يعطي خيرًا (¬8). وقال عكرمة عن ابن عباس: للعسرى (¬9): للشر (¬10)، وهذا (¬11) هو القول، وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب، فهو الخلة العسرى، والخير يؤدي إلى اليسرى والراحة في الجنة، فهو الخلة اليسرى، يقول: سنهيئه للشر بأن يجريه على يديه. ¬

_ (¬1) "المحرر الوجيز" 5/ 491 بمعناه. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. والذي وجدته بمثله من طريق الضحاك عن ابن عباس "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 84. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) راجع تفسير قوله تعالى: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} من هذه السورة. (¬6) لم أعئر على مصدر لقوله. وقد ورد بمعنى قوله من طريق الضحاك عن ابن عباس. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 84. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) ورد بنحو من قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 495، و"زاد المسير" 8/ 264، و"فتح القدير" 5/ 452. (¬9) في (أ): (للعسرا). (¬10) "جامع البيان" 30/ 224. (¬11) في (أ): (هذا بغير واو).

11

قال الفراء: والعرب تقول: قد يسرت غنم فلان؛ إذا تهيأت للولادة (¬1). وكذلك إذا ولدت وكثر ألبانها، كأنها يسرت الأمر على أصحابها. ثم ذكر أن ما أمسك من (¬2) ماله عن الإنفاق لا ينفعه فقال: 11 - (قوله): {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} (¬3) أي الذي بخل به عن الخير. {إِذَا تَرَدَّى} إذا مات. قال مجاهد (¬4)، ومقاتل، (وأبو صالح (¬5)) (¬6): قال أبو عبيدة (¬7): "تردى" وردى إذا مات. قال المبرد: هو تَفَعَّل من الرَّدى، وهو الهلاك (¬8). وقال ابن عباس (¬9)، وقتادة (¬10): إذا تردى في جهنم، أي سقط ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 271. (¬2) في (أ): (عن). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "تفسير الإمام مجاهد" ص 734، و"جامع البيان" 30/ 225، و"الكشف والبيان " 13/ 103 أ، و"النكت والعيون" 6/ 289، و"معالم التنزيل" 4/ 496، و"المحرر الوجيز" 5/ 491 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 264، و"ابن كثير" 4/ 556، و"الدر المنثور" 8/ 536 - 537 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬5) لم أعثر على مصدر لقولهما. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "الكامل" 1/ 120، 403 - 404 مختصرًا. (¬9) "الوسيط" 4/ 504. (¬10) "الكشف والبيان" 13/ 103 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 496، و"المحرر الوجيز" 5/ 491، و"زاد المسير" 8/ 264، و"البحر المحيط" 8/ 484، و"الدر المنثور" 8/ 536 وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 452 - 453، و"روح المعاني" 30/ 150.

12

وهوى، وذكرنا هذا الحرف عند قوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} (¬1). 12 - قال الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}. وفي تفسيره ثلاثة أقوال (¬2): قال مقاتل: يعني البيان (¬3). قال أبو إسحاق: أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال (¬4). وهو قول قتادة: أي على الله البيان: بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 3، ومما جاء في تفسيرها: "المتردية من التردي في اللغة، التهور في مهواة، وقيل في قوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي سقط في النار، وقال أبو زيد: ردى فلان في القليب تردى، وتردّى من الجبل تَردّيًا، فالترديهَ هي التي يقع من جبل، أو يطيح في بئر، أو يسقط من مكان مشرف، فيموت". "البسيط" نسخة تشستربتي 2/ 41 أ. (¬2) وهذه الأقوال لا تخرج عن مراتب الهدى الأربعة، وهي: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها، وما يقيها، وهذا أعم مراتبه. المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم .. إلى آخره، وقد سبق بيانها راجع سورة الإنسان 3. وعليه فالمرتبة الثانية: هي التي قال بها قتادة، والرابعة: تضمنت قول أبي إسحاق. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 496، و"الوسيط" 4/ 505. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 336 بنصه. (¬5) "جامع البيان" 30/ 226، و"النكت والعيون" 6/ 289، مختصرًا، و"معالم التنزيل" 4/ 496، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 86، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 556 مختصرًا، و"الدر المنثور" 8/ 537، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن =

القول الثاني: إن المعنى يقول: من سلك الهدى فعلى الله سبيله، كقوله عز وجل: {وَعَلَى (¬1) اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 5]، يقول علينا (¬2) الهدى: أي أن الهدى يوصل صاحبه إلى الله، وإلى ثواب الله وجنته. ذكر (¬3) ذلك الفراء (¬4)، وذكر قولًا آخر، فقال: ويقال: إن علينا للهدى والإضلال. فترك الإضلال كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، وهي تقي (¬5) الحر والبرد (¬6). ¬

_ = المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 453، ومعنى قوله إنه البيان الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فتبين به حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. قاله ابن تيمية في مجموعه: 15/ 210. (¬1) في (أ): (فعلى). (¬2) علمنا. (¬3) في (أ): (وذكر). (¬4) "معاني القرآن" 3/ 271 بتصرف. (¬5) في (أ): (في). (¬6) وهذا القول من الأقوال المحدثة، والمخالفة التي لم يعرفه السلف، وهو القول معناه: بيدك الخير والشر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (والخير بيدك، والشر ليس إليك). والله تعالى خالق كل شيء، لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، والقدر حق، لكن فَهْم القرآن، وَوَضْع كل شيء موضعه، وبيان حكمة الرب، وعدله مع الإيمان بالقدر، هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان. نقلاً عن "مجموع الفتاوى" 15/ 211. فالله سبحانه إنما نسب إلى نفسه الخير دون الشر، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. وأخطأ من قال: المعنى: بيدك الخير والشر لثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف، بل ترك ذكره قصدًا أو بيانًا أنه ليس بمراد. =

13

وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي (¬1). فذكر معنى الإضلال (¬2). 13 - قوله {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} يعني الدارين: الدنيا، والآخرة (¬3). قال الكلبي: أي ثواب الدنيا والآخرة (¬4)، (كقوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134]) (¬5). ¬

_ = الثاني: إن الذي بيد الله تعالى نوعان: فضل وعدل. الثالث: إن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لبيك وسعديِك، والخير في يديك، والشر ليس إليك" كالتفسير للآية، ففرق بين الخير والشر، وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه، وقطع إضافة الآخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء. انظر: "شفاء العليل" 447. وهذا القول في الخير والشر ينطبق على ما جاء بالقول علينا الهدى والضلال، وذلك لأن الضلال من الشر. فالشر لا يُضاف إلى الرب تعالى لا وصفًا ولا فعلًا ولا يتسمى باسمه بوجه من الوجه وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم. "شفاء العليل" ص 447. (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 203. (¬2) قد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فِعلُه سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. "شفاء العليل" ص 117. (¬3) بهذا قال الطبري في "جامع البيان" 30/ 226، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 485. (¬4) "النكت والعيون" 6/ 289. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ).

14

وهو قول الفراء (¬1). والمعنى: لنا ملك الدارين، نعطي منهما من نشاء، فليطلبا منا. ويجوز أن يكون معنى الإخبار عن كونهما إيجاب التسليم (¬2) لأمره، فإنهما (¬3) له، يفعل فيهما مَا يشاء، فمن شاء أعطى من الدنيا، ومن شاء (حرمه، ومن شاء) (¬4) أُدخل الجنة، ومن شاء أُدخل النار، لا راد لمشيئته، ولا ناقض لحكمه. ولما ذكر هذا أخبر عن إبانته طريق الهدى بالإنذار على الكفر بالنار، فقال: 14 - {فَأَنْذَرْتُكُمْ} قال مُقاتل: يريد أهل مكة (¬5). {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} تتوقد وتتوهج وتتلهب، يقال: تلظت النار تتلظى تلظيًا. ومنه سميت جهنم لظى (¬6)، وقد مر (¬7) ثم بين أنها لمن هي بقوله: 15 - {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} يعني إلا من كان شقيًا في علم الله. قاله الفراء (¬8). وقال ابن عباس: يريد أمية بن خلف، ونظراءه الذين كذبوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء قبله (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 271 قال: لثواب هذه، وثواب هذه. (¬2) في (أ): (السليم). (¬3) في (أ): (أنهما). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. وورد بمثله في "معالم التنزيل" 4/ 496. (¬6) انظر: "تهذيب اللغة" 14/ 395، و"التفسير الكبير" 31/ 203. والقول: (تلظى) تتوقد، وتتوهج، قال به الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 336. (¬7) في سورة المعارج: 15. (¬8) "معاني القرآن" 3/ 272 بنصه. (¬9) "التفسير الكبير" 31/ 203.

16

وقال الحسن: يعني المشرك (¬1)، ويدل عليه قوله: 16 - {الَّذِي كَذَّبَ} أي كذب الرسول، والقرآن (¬2). {وَتَوَلَّى} أعرض عن الإيمان (¬3). فإن قيل: أليس غير المشرك يدخل النار، وهذه الآية تدل على أنه لا يدخلها إلا (المكذب الكافر؟ والجواب عنه من وجوه: أحدهما: أن هذا ورد في درك مخصوص من أدراك جهنم؛ لا يحله إلا) (¬4) من كان بهذه الصفة، وهي: دركات، ولأهل النار منها منازل، (وهذا قول أبي إسحاق (¬5)) (¬6). والثاني: أن هذا على الاختصار بحذف ذكر العصاة من غير المشركين، بدليل الآي الآخر، على أن معنى قوله: {لَا يَصْلَاهَا} لا يلزمها في حقيقة اللغة، يقال: صلى الكَافر النار إذا لزمها مقاسيًا شدتها وحرهَا (¬7)، لعل هذا الأصل مما سبق بيانه (¬8)، ولا يلزم النار خالدًا فيها إلا المشرك المكذب. ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 226. (¬2) بمعناه قال قتادة: كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله. "النكت والعيون" 6/ 290. (¬3) وبه قال السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 485، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 496. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى قوله في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 336. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 238 (صلى). (¬8) نحو ما جاء في سورة الانفطار: 15 {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ}.

17

17 - وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا} أي سنبعدها، ويجعل منها على جانب، يقال: جنبته الشيء أي بعدته وتجنبه عنه (¬1). {الْأَتْقَى} يعني أبا بكر -رضي الله عنه- في قول الجميع (¬2)، قالوا: يزحزح عن النار. قال مقاتل: الأتقى المخلص بالتوحيد. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية" لابن الأثير 1/ 303، و"المفردات في غريب القرآن" ص 99. (¬2) نقل الإجماع على ذلك: ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 492، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 265، والفخر الرازي في "التفسير الكبير" 31/ 205، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 455، نقل ذلك عن الواحدي، وابن عاشور في "التحرير والتنوير" 30/ 391، وقال ابن كثير: وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وحتى إن بعضهم حكى الإجماع عن المفسرين على ذلك: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 556. قال د. الخضيري: وجميع المفسرين على القول بهذا من غير خلاف بينهم. "الإجماع في التفسير" 528، وانظر: "جامع البيان" 30/ 226، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 273، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 335. وقد ورد قول شاذ قالت به الرافضة، وهو أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وقد ردّ قولهم بما هو شاف كاف. انظر: الرازي في "التفسير الكبير" 31/ 205. قال د. الخضيري: بعد أن ذكر قول الرافضة المخالف لإجماع المفسرين، ولم أنقل رأيهم ليعترض به على إجماع المفسرين؛ بل ليعرف ويطلع عليه "الإجماع في التفسير" 528. وعليه فما ذهب إليه الإمام الواحدي من قول بالإجماع صحيح، ويقرر منهجه في حكايته للإجماع، فالشاذ نحو هذا لا عبرة له عنده، والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن الآية خاصة بنزولها، عامة بلفظها. قال ابن كثير: ولا شك أنه دخل فيها يعني أبا بكر- وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصاف الحميدة. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 556.

18

ثم وصفه فقال: 18 - (قوله): {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} قال أبو إسحاق: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا لا يطلب بذلك رياء ولا سمعه (¬1) يدل عليه قوله: 19 - {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} قال المفسرون (¬2): لما اشترى أبو بكر رضي الله عنه بلالًا من صاحبه عبد الله بن جدعَان، وكان قد سلح (¬3) على الأصنام، فأسلمه مولاه إلى المشركين ليعذبوه بما فعل، ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 336 بنصه. (¬2) قال بذلك جمع من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى الأكثرية من المفسرين: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 90، والروايات عنهم منها ما كان مطولاً، ومنها ما كان مختصرًا، ولكن جميعها تدور على معنى واحد: على قصة إعتاق أبي بكر لبلال، ومقولة المشركين فيه، ونزول الآية في شأنه. انظر ذلك عن: ما جاء عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مختصرًا "جامع البيان" 30/ 228، و"الدر المنثور" 8/ 538، وعزاه إلى البزار، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن عدي، وابن مردويه، وابن عساكر و"أسباب النزول" تح، أيمن صالح ص 392، "لباب النقول" ص 230، وقال الهيثمي: رواه البزار، وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وشيخ البزار لم يسمه. "مجمع الزوائد" 7/ 138 سورة الليل. كما ورد عن قتادة بمعناها مختصرًا في "جامع البيان" 30/ 228. وعطاء عن ابن عباس مطولًا في: "الكشف والبيان" 13/ 104 أ، و"زاد المسير" 8/ 265، أسباب النزول، تح أيمن صالح ص 392. وعن مقاتل مختصرًا في: "بحر العلوم" 3/ 85. وعن عروة بن الزبير في:"الكشف والبيان" 13/ 104 أبمعناه، انظر: "معالم التنزيل" 4/ 496، "لباب النقول" 230. وعن سعيد بن المسيب، وابن مسعود بمعناه، انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 89، و"لباب التأويل" 4/ 285، و"الدر المنثور" 8/ 538. كما وردت الرواية في: "المحرر الوجيز" 5/ 492، و"التفسير الكبير" 31/ 206. (¬3) سلح: من السلاح -بالضم-: النجو، وقد سلح كمنع، وأسلحه، وناقة سالح: =

20

فكانوا يعذبونه في الرمضاء (¬1)، وقد وضعوا على صدره صخرة، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فقال المشركون: مَا فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت عند بلال، أراد أن يجزيه بها، فقال الله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}. قال ابن عباس: يريد مَا لبلال عند أبي بكر نعمة يجزيه بها (¬2). والمعنى: (لم يفعل ذلك مجازاة ليد أسديت إليه) (¬3)، ولكنه ابتغى بذلك وجه الله، وهو قوله: 20 - {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (أي إلا طلب ثواب الله) (¬4) قال أبو عبيدة: "إلا ابتغاء" (¬5) استثناء من النعمة، كما يُستثنى الشيء وليس منه (¬6). قال الفراء: وهذا على اختلاف ما قبل "إلا" ومَا بعدها، والعرب تقول: مَا في الدار أحد إلا أكلبًا وأحمرةً، وهذا كقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] كقول (¬7) النابغة: .. .. وما بالرَّبعِ من أحدِ ¬

_ = سلحت من البقل. انظر: "القاموس المحيط" 1/ 229 (سلح). والنجو: ما يخرج من البطن. مختار "الصحاح" 648 (نجو). (¬1) الرمضاء: الأرض الشديدة الحرارة "القاموس المحيط" 2/ 332 (رمض). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ما بين القوسين من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 336. (¬4) ما بين القوسين من قول الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 337. (¬5) في (أ): (ابتغاء)، وغير واضحة في (ع)، وأئبت ما غلب على ظني صحته. والله أعلم. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 30 بنحوه. (¬7) في (ع): (وكقول).

إلا الأواريَّ (¬1) وهي لغة أهل الحجاز (¬2). وذكر الفراء وجهًا آخر، وهو: أن يضمر الإنفاق على تقدير: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، وهذا كقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] (¬3). وقد مر. ومعنى {الْأَعْلَى}: الأجل بصفاته التي لا يوارى فيها، فهو الأقدر، ¬

_ (¬1) لم يذكر الفراء قول النابعة بل استشهد بقول عامر بن ثابت جران العود: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس واستشهد ببيت النابغة عند تفسيره الآية 14 من سورة النساء، وآية 98 من سورة يونس: "معاني القرآن" 1/ 288، 480 من مطلع قصيدة يقول فيها: يا دارَ مَيَّةَ بالعلياءِ فالسَّنَدِ ... أقوتْ وطالَ عليها سَالفُ الأبَدِ ثم يقول: وَقَفْتُ فيها أصَيْلانا أسائِلها ... عَيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْع من أحَدِ إلا الأوَارِيّ لأيا ما أبينها ... والنُؤىُ كالحْوضِ بالمظلُومَة الجَلدِ "ديوانه" ص 30، المؤسسة العربية. كما ورد في "الأصول في النحو" للسراج 1/ 292. موضع الشاهد "الأواري" استثناه من "الناس" على البدل، وأصله من الاستثناء المنقطع، فأوجب نصبه على لغة الحجاز، وقد جمع فيها ثلاثة أحرف للنفي: إن، ولا، وما، ومعنى البيت: وصف أنه مَرَّ بالدار عشيًا قصيرًا، فوقف فيها وسألها عن أهلها، وأصيلان: تصغير أصيل، وهو بالعشي، وعيت جوابًا: أعيت بالجواب، فلم تجبني، والربع: منزل القوم، والأواري: محابس الخيل، والنؤْيُ: حاجز من تراب يوضع فوق الخباء لئلا يدخل السيل، والمظلومة: الأرض التي لم تمطر فجاءها السيل فملأها، والجَلَدٌ: الأرض الصلبة، واللأى البطء. "شرح أبيات معاني القرآن" ص 117 ش 245 - 246. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 273 بتصرف. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 273 بتصرف.

الأغلب الأظهر بالحجة والقوة (¬1). ثم وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه، فقال: ¬

_ (¬1) هذا قصر من الواحدي للآية على بعض معانيها، وما ذكره حق، ولكنه أغفل بناء على مذهبه الأشعري ما دلت عليه الآية من إثبات العلو لله تعالى؛ أي علو الذات، كما دلت النصوص المتواترة على ذلك، فهو تعالى فوق خلقه على العرش استوى. والذي ينبغي عليه في الإيمان بأسماء الله وصفاته لتسلم عقيدته يلزمه أمران: أحدهما: إثبات تلك الصفات؛ لأنها وردت في الكتاب والسنة، فقد صار مصدرهما الوحي، لأن هذا الإثبات لها هو لازم الإيمان. والثاني: هو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى ليس له شبيه ولا مثيل فيما يتصف به من تلك الصفات، وهذا أيضًا تحقيق لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأن الانطلاق من هاتين القاعدتين في باب الأسماء والصفات، هو المسلك الصحيح، والمنهج السليم، وبه يتحقق الاتباع الكامل، والانقياد الحق، والاستجابة الواعية لما قاله الله تعالى، أو نطق به النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن أي مساس بهاتين القاعدين يوصل إلى انحراف خطير في فهم أخطر قضية من قضايا الاعتقاد في باب أسماء الله وصفاته. نقلًا عن: علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين د. رضا نعسان ص 11. وعليه فتفسير الأعلى من هذه السورة على ضوء الكتاب والسنة على هذا النحو الآتي: قال تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 254]، وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 13]، وذلك دال على أن جميع معاني العلو ثابتة لله من كل وجه، فله علو الذات، فإنه فوق المخلوقات، وعلى العرش استوى، أي علا وارتفع، وله علو القدر، وهو علو صفاته وعظمتها، فلا يماثله صفة مخلوق؛ بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته، وله علو القهر فإنه الواحد القهار الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلهم، وذلك لكمال اقتداره ونفوذ مشيئه، وشدة افتقار المخلوقات كلها له من كل وجه. =

قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قال ابن عباس: يعطيه الله في الجنة حتى يرضى (¬1). وقال مقاتل: يرضى بثواب الله في الآخرة (¬2). وقال أبو إسحاق أي: سيدخل الجنة كما قال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 29 - 30] (¬3). ¬

_ = "شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة" ص 78 - 80. وانظر: "الحق الواضح" ص 26، و"شرح القصيدة النونية" للهراس 2/ 68. مما سبق شرحه، وبالمقابلة مع قول الإمام الواحدي يدل على أن الواحدي أثبت علو القدر فقط، والذي ينبغي عليه إثبات العلو بأنواعه الثلاثة. والله أعلم. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل " 4/ 497، و"لباب التأويل" 4/ 385. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 337.

سورة الضحى

سورة الضحى

1

تفسير سورة الضحى (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالضُّحَى}. قد تقدم تفسيره عند قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، وقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 29]، والوجه هاهنا أنه النهار كله (¬2)، لقوله (في المقابلة) (¬3): 2 - {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}. قال أبو عبيدة (¬4)، والمبرد (¬5)، و (الزجاج (¬6)) (¬7): إذا سَكَن يقال: ليلة ساجية، وليلة ساكنة، وأنشدوا جميعًا: ¬

_ (¬1) مكية بلا خلاف في ذلك. انظر: "جامع البيان" 30/ 229، و"بحر العلوم" 3/ 486، و"الكشف والبيان" 13/ 105 ب. وانظر: "البرهان في علوم القرآن" للزركشي 1/ 193، و"الإتقان" للسيوطي 1/ 25 - 28. (¬2) قال بذلك الفراء: في "معاني القرآن" 3/ 273، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 529، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 339، وما ذكره الإمام الواحدي هو من قول الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 106 ب. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 302 والنص له. (¬5) "الكامل" 1/ 371. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 339. (¬7) ساقط من (أ).

ياحَبَّذا القَمْراءُ واللَّيْلُ السَّاجي .... وَطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النسَاجي (¬1) (¬2) ونحو هذا قال الفراء: سجا: أظلم وركد في طوله (¬3). (وروي ثعلب، عن) (¬4) ابن الأعرابي: سجا: سكن، وسجا امتد ظلامه، وسجا أظلم (¬5). وقال الأصمعي: سُجُوُّ الليل تغطيته النهار، مثل (¬6) مَا يُسَجَّى الرجل بالثوب (¬7). قال ابن الأعرابي: يقال سَجا يَسْجو (¬8)، وسَجَّى يُسَجَّي، وأسْجى يُسجْى كله إذا غطى شيئًا (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (الساجي). (¬2) والرواية (ب) نهاية الشطر الأول بـ: (السَّاج، والثاني النَّسّاج، هكذا وردت عند أبي عبيدة، والمبرد، والزجاج. كما ورد البيت منسوبًا إلى الحارث في: "لسان العرب" 14/ 371 (سجا)، و"المحرر الوجيز" 5/ 493، وورد أيضًا لكنه غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 11/ 140 (سجا)، و"جامع البيان" 30/ 230، و"الكشف والبيان" 13/ 106 ب، و"النكت والعيون" 6/ 292، و"زاد المسير" 8/ 268، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 91، و"البحر المحيط" 8/ 485، و"أضواء البيان" 9/ 274. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 273 بنصه. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "تهذيب اللغة" 11/ 140 (سجا) بنصه. (¬6) في (ع): (ومثل). (¬7) المرجع السابق. وانظر: "لسان العرب" 14/ 371 (سجا) بنصه. (¬8) (يسجوا) هكذا في النسختين. (¬9) العبارة كما في التهذيب: إذا غطى شيئًا ما: "تهذيب اللغة" 11/ 140، وانظر أيضًا: "لسان العرب" 14/ 371 (سجا).

وقال الليث: السجو: السكون، ويقال: ليلةُ سَاجِيَةٌ، وعين سَاجِيَةٌ، وسجا البحر سَكَنتْ أمواجه (¬1). هذا كلام أهل اللغة في تفسير: سجا، وقد حصل له ثلاثة معان: سكن، وأظلم، وغطى. وأقوال المفسرين غير خارجة من هذه المعاني. قال عطاء عن ابن عباس: إذا غطى بالظلمة (¬2)، وهو قول الحسن: إذا ألبس الناس ظلامه (¬3)، وهو قول سعيد بن جبير: إذا أقبل فغطى كل شيء (¬4)، ونحو هذا قال مقاتل (¬5)، (والضحاك (¬6)، وهو رواية عطية عن ابن عباس (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" المرجع السابق. (¬2) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 291. ومن غير ذكر طريق عطاء ورد في: "الرازي" 31/ 208، و"القرطبي" 20/ 92، و"لباب التأويل" 4/ 386. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 379، بنحوه، و"جامع البيان" 30/ 229، كما ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 106/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"التفسير الكبير" 31/ 208، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92، و"الدر المنثور" 8/ 541، و"فتح القدير" 5/ 457، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 425. (¬4) "النكت والعيون" 6/ 291 مختصرًا، و"التفسير الكبير" 31/ 208، و"زاد المسير" 8/ 267 مختصرًا، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92 بمعناه، و"الدر المنثور" 8/ 541 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 457 بمعناه، "تفسير سعيد بن جبير" 377. (¬5) "تفسير مقاتل" 243/ أ. (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 106/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92. (¬7) المراجع السابقة عدا "الجامع لأحكام القرآن". (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال قتادة: إذا سكن بالنائمين (¬1)، وهذا قول السدي (¬2)، وابن زيد (¬3) (ومجاهد (¬4)) (¬5). ولسكونه معنيان: أحدهما: سكون الناس، فنسب إليه، كما كان فيه، كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم (¬6)، ومثله كثير (¬7). والثاني: سكونه: استقرار ظلامه، واستواؤه، فلا يزداد بعد ذلك (¬8) (¬9). يدل على هذا أن ابن زيد قال: استقر ظلامه (¬10) وأن مجاهدًا قال: ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 379، و"جامع البيان" 30/ 230، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"التفسير الكبير" 31/ 208، و"فتح القدير" 5/ 457. (¬2) "التفسير الكبير" 31/ 208. (¬3) المرجع السابق. وانظر أيضًا: "جامع البيان" 30/ 230، و"الكشف والبيان" 13/ 106 ب، و"النكت والعيون" 6/ 292، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 558، و"فتح القدير" 5/ 457. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 106 ب، و"التفسير الكبير" 31/ 208، وبمعناه في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 558، و"فتح القدير" 5/ 457. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (هائم). (¬7) نحو: بحر ساج، وسر كاتم، وليله قائم، وكما قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}. (¬8) وهذا المعنى هو الذي رجحه الطبري في: "جامع البيان" 30/ 230، وابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 493 وقال القرطبي: وهذا الأشهر في اللغة. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92، وقال الشوكاني: وهو الذي عليه جمهور المفسرين وأهل اللغة. "فتح القدير" 5/ 457. (¬9) انظر: "التفسير الكبير" 31/ 208 فقد نقله عن الواحدي بنصه. (¬10) "الكشف والبيان" 13/ 106 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 498.

3

استوى (¬1) وقال الكلبي: "إذا سجى": اسودّ، وأظلم (¬2). فهذه ثلاثة أقوال عند المفسرين على وفق (¬3) ما حكينا عن أهل اللغة، وهذا القسم جوابه قوله: 3 - {مَا وَدَّعَكَ (¬4) رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، قال المفسرون (¬5): أبطأ جبريل ¬

_ (¬1) "تفسير الإمام مجاهد" 735، و"جامع البيان" 30/ 229، و"النكت والعيون" 6/ 297، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92، و"الدر المنثور" 8/ 541 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 457. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) بياض في: ع. (¬4) في (أ): (وما وعدك). (¬5) قال ابن الجوزي: اتفق المفسرون على أن هذه السورة نزلت بعد إنقطاع الوحي مدة، و"زاد المسير" 8/ 266. وقد قال بذلك: سفيان البجلي، ومعمر، وسفيان بن عينية، وجندب بن عبد الله البجلي، وقتادة، والضحاك، وابن عباس، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" 243 أ، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 379، و"جامع البيان" 30/ 230 - 231، و"الدر المنثور" 8/ 540، و"تفسير سفيان بن عينية"، تح: المحايري: 346. والرواية الصحيحة السند هي ما أخرجه البخاري عن جندب: قال الأسود بن قيس، قال: سمعت جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً! فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 3/ 326 ح 4950 و4951: كتاب التفسير: باب 1 - 2 وج: 3/ 337: ح: 4983 كتاب فضائل القرآن باب 11/ 350 - 351 ح 1124 و1125 كتاب التهجد باب 4. كما أخرجه مسلم في صحيحه: 3/ 1421: ح 114، كتاب الجهاد والسير: باب 39، والحميدي 2/ 342 ح 777، والطيالسي 4/ 126، والإمام أحمد =

عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال المشركون: قد قلاه (¬1) الله وودعه (¬2)، فأنزل الله هذا الآية. وقال السدي: أبطأ عليه أربعين ليلة، فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت: لعل ربك نسيك أو قلاك، فأنزل الله هذه الآية (¬3). واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي، وهي أربعون ليلة على ما قال السدي، وهو قول مقاتل (¬4): لم ينزل جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة أربعين يومًا (¬5). ¬

_ = 4/ 312، 313، والطبراني 2/ 173، رقم: 1709 - 1712، والبيهقي في "الدلائل" 7/ 58. وانظر: "أسباب النزول" تح أيمن صالح ص 393، و"لباب النقول" 230، و"الصحيح المسند" ص 233. (¬1) قلاه: قلى: أبغض. قال ابن السكيت: ولا يكون في البغض إلا قليت. "إصلاح المنطق" 139، و"تاج العروس" 10/ 302 (قلا). (¬2) ودع: وَدَعْته، أَدَعْه وَدعًا: تركته. وقال ابن فارس: وَدَعَ: أصل واحد يدل على الترك والتخلية، وَدَعَه تركه، ومنه دَع. "مقاييس اللغة" 6/ 96 (ودع)، وانظر: "الصحاح" 3/ 1295 (ودع). (¬3) "بحر العلوم" 3/ 486، و"التفسير الكبير" 31/ 210، وبمعنى هذه الرواية لكن من طريقين: طريق عبد بن شداد، وطريق هشام بن عروة عن أبيه. انظر: "جامع البيان" 30/ 231، وقال ابن حجر: وهذان طريقان مرسلان، ورواتهما ثقات. "فتح الباري" 8/ 711. قال ابن كيثر: إنه حديث مرسل من هذين الوجهين، ولعل ذكر خديجة ليس محفوظًا، أو قالته على وجه التأسف والتحزن. والله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 44/ 558، وانظر: "لباب النقول" ص 231. (¬4) في (أ): (فإن)، وهو حرف زائد في الكلام لا يستقيم المعنى بإثباته. (¬5) "تفسير مقاتل" 243 أ، انظر: "الكشف والبيان" 13/ 106 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92.

وقال الكلبي: أبطأ جبريل خمس عشرة ليلة (¬1). وقال ابن جريج: اثني عشر يومًا (¬2). واختلفوا أيضًا في سبب احتباس (¬3) جبريل، فذكر أكثر المفسرين (¬4): أن اليهود سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الروح وذي القرنين، وأصحاب الكهف فقال: سأخبركم، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي، وهذه القصة ذكرناها قديمًا (¬5). وقال ابن زيد: كان سبب ذلك كون جروٍ في بيته، فلما نزل جبريل ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 211. (¬2) "النكت والعيون" 6/ 292، و"التفسير الكبير" 31/ 211، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 92، قال محقق "النكت والعيون" وهذا من مراسيل ابن جريج. (¬3) في (أ): (أحباس). (¬4) حكاه عن أكثر المفسرين: البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 497، 498، والفخر الرازي في التفسير الكبير" 31/ 211، وانظر: "بحر العلوم" 3/ 486، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 93. (¬5) في سورة الإسراء: 85. وقال ابن حجر معلقاً على ما ذكر من سورة الضحى: كانت سبب نزول في إبطاء نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ووقع في سيرة ابن إسحاق في سبب نزول "والضحى" شيء آخر، فانه ذكر أن المشركين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثنِ، فأبطأ عليه جبريل اثنتى عشرة ليلة أو أكثر، فضاق صدره، وتكلم المشركون، فنزل جبريل بسورة "والضحى"، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. انتهى، وذكر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربًا، فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الآخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمنة. والله أعلم. "فتح الباري" 8/ 710.

عاتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما علمت أنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة (¬1) وقال جُنْدُب بن سفيان: رمي النبي -صلى الله عليه وسلم- بحجر في أصبعه فقال: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت فأبطأ (¬2) عنه الوحي حتى قالت له امرأة (¬3): مَا أرى شيطانك إلا وقد تركك، فأنزل الله هذه السورة (¬4). ¬

_ (¬1) ورد قوله في: "المحرر الوجيز" 5/ 493، و"التفسير الكبير" 31/ 211، وقد ورد بنحوه عن خولة خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 20/ 93، و"الدر المنثور" 8/ 541، وعزاه إلى ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني، وابن مردويه، انظر: "أسباب النزول" 393 عن خولة، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 24/ 249، 636. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وأم حفص لم أعرفها. "مجمع الزوائد" 7/ 138. وقال السيوطي في "لباب النقول" ص330، وأخرج الطبراني، وابن أبي شيبة في مسنده والواحدي، وغيرهم بسند فيه من لا يعرف، عن حفص، عن ميسرة، عن أمه، عن أمها خولة. وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 1834، رقم: 3328، وليس إسناد حديثها في ذلك مما يحتج به. وانظر حاشية "المعجم الكبير" 24/ 249. وقال ابن حجر: وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ، ومردود بما في الصحيح. والله أعلم. "فتح الباري" 8/ 710، كتاب التفسير: باب 10. (¬2) في (أ): (فأبطى). (¬3) المرأة على قول ابن حجر هي: أم جميل بنت حرب، امرأة أبي لهب، ثم قال: والذي يظهر أن كلًا من أم جميل، وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عبرت لكونها كافرة بلفظ شيطانك، وخديجة عبرت لكونها مؤمنة بلفظ ربك، أو صاحبك، وقالت أم جميل شماتة، وخديجة توجعًا. "فتح الباري" 8/ 710 - 711. (¬4) سبق تخريجه. كما ورد في: "الكشف والبيان" 13/ 106 أ، و"النكت والعيون" 6/ 292، و"التفسير الكبير" 31/ 211، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 921، =

ومعنى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ما تركك ربك، وما مقتك، وما أبغضك. قاله عطاء (¬1)، ومقاتل (¬2). قال أبو عبيدة (¬3)، والمبرد (¬4): ودعك من التوديع كما ودع المفارق. وقال الزجاج: أي لم يقطع الوحي، ولا أبغضك (¬5). قال الفراء: يريد وما قلاك (¬6)، فأُلقِيَت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى (¬7) في "ودعك"، ولأن (¬8) رؤوس الآيات بـ"الياء"، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف (¬9). والقلى: البغض، يقال: قَلاه يقليه قِلًا، ومقلياً إذا أبغضه (¬10). وقال ابن الأعرابي: القَليُ والقِلَى، والقَلاءة (¬11): المقلية (¬12). ¬

_ = وقال ابن كثير 4/ 558: وقوله هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون ثابت في الصحيحين، ولكن الغريب هاهنا جعله سببًا لتركه القيام، ونزول هذه السورة (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 243 ب. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 302، وكلامه: قال: ما ودعك من التوديع، ومَا ودعك مخففة من وَدعت تَدَعُه. (¬4) "التفسير الكبير" 31/ 210. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 339 بنحوه. (¬6) في (أ): (قلى). (¬7) في (أ): (الأول). (¬8) في (أ): (لأن) بغير واو. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 273 - 274 بتصرف. (¬10) نقلًا من "تهذيب اللغة" 9/ 295 (قلا). (¬11) القَلاءُ: هكذا وردت في "تهذيب اللغة" 9/ 295 (قلا)، وانظر أيضًا: "لسان العرب" 15/ 198 (قلا). (¬12) "تهذيب اللغة" 9/ 295 (قلا)، وهذا القول هو رواية ثعلب عن ابن الأعرابي.

6

6 - قوله (تعالى) (¬1): {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. قال عطاء (¬2)، ومقاتل (¬3): يريد والجنة (¬4) خير لك من الدنيا. وقال علي بن عبد الله بن عباس: أري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يفتح على أمته من بعده، فسره ذلك، فأنزل الله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) "الوسيط" 4/ 509. (¬3) "تفسير مقاتل" 243 ب، و"الوسيط" 4/ 509. (¬4) في (أ): (الجنة) بغير واو. (¬5) رواه الطبري عن طريقه إلى ابن عباس في: "جامع البيان" 30/ 232، وفي: "الكشف والبيان" 13/ 107 أمن طريق علي بن عبد الله بن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعزاه الماوردي إلى ابن عباس، و"النكت والعيون" 6/ 93، ورواه الطبراني عن علي بن عبد الله عن ابن عباس، و"المعجم الكبير" 10/ 337 ح 10650. قال حمدي السلفي -محقق الكبير- نقلاً عن "مجمع الزوائد" عن إحدى الروايتين الواردة في الأوسط: "وفيه معاوية بن أبي العباس، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، وإسناد الكبير حسن. قلت [أي حمدي]: واحد إسنادي الأوسط هو نفس إسناد الكبير. وانظر: "مجمع الزوائد" 9/ 138 - 139. كما رواه الحاكم من طريقه إلى ابن عباس في "المستدرك" 2/ 526: كتاب التفسير: تفسير سورة الضحى، وقال: حديث صحيح الإسناد، وقال الذهبي: تفرد به عصام بن رواد عن أبيه وقد ضعف. كما أورده القرطبي في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 95 من طريقه إلى ابن عباس، وقال ابن كثير: ورواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريقه، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف. وانظر: "الدر المنثور" عن ابن عباس 8/ 542، وعزاه أيضًا إلى البيهقي في "الدلائل" 7/ 61.

5

5 - {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال (¬1): ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك، وفيهن ما يصلح لهن (¬2). وقال مقاتل: يعطيك ربك في الآخرة من الخير، فترضى بما يُعطى (¬3). وذكر آخرون أن هذا في الشفاعة. وهو قول علي رضي الله عنه (¬4)، والحسن (¬5)، وعطاء، عن ابن عباس (¬6)، قالوا: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى. فيروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لما نزلت هذه الآية: "إذًا لا أرضى وواحد من أمتي في النار" (¬7). ¬

_ (¬1) أي علي بن عبد الله بن عباس. (¬2) "جامع البيان" 30/ 232، و"الكشف والبيان" 13/ 107 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 494 بمعناه، و"الكشاف" 4/ 219، و"القرطبي" 20/ 95، و"البحر المحيط" 8/ 486، و"ابن كثير" 4/ 558 عن علي بن عبد الله عن أبيه، و"الدر المنثور" 8/ 542، عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وعبد ابن حميد، وابن جرير، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل. وانظر: "المستدرك" 2/ 526: وقال صحيح، وضعفه الذهبي. (¬3) "تفسير مقاتل" 243 أ، و"الوسيط" 4/ 509. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 107أمرفوعًا، و"معالم التنزيل" 4/ 498، و"التفسير الكبير" 31/ 213، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 95 مرفوعًا. (¬5) "معالم التنزيل" 4/ 498، و"زاد المسير" 8/ 268، و"ابن كثير" 4/ 559، و"الدر المنثور" 8/ 543، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 426. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 498، و"التفسير الكبير" 31/ 213، و"لباب التأويل" 4/ 386. (¬7) وردت الرواية في: "جامع البيان" 30/ 232 من طريق السدي عن ابن عباس، وذكرت مرفوعة في: "الكشف والبيان" 13/ 107/ ب - 108 أ، وانظر أيضًا =

6

ثم ذكر منته عليه وأخبره عما كان عليه قبل الوحي فقال: 6 - {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سألت الله مسألة ووددت (¬1) أني لم أكن سألت، ذكرت رسل ربي فقلت سخرت لسليمان الريح، وكلمت بعضهم. فقال تبارك وتعالى: ألم أجدك يتيمًا فأويتك، وضالًا فهديتك، وعائلًا فأغنيتك. فقلت نعم، فقال: ألم نشرح لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، قال قلت نعم" (¬2). قال عطاء عن ابن عباس: يريد فضمك إلى عمك أبي طالب حتى صرت رجلاً (¬3)، وقال مقاتل: ضمك إلى عمك، وكفاك المؤنة (¬4). ¬

_ = "التفسير الكبير" 31/ 213، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 96، و"البحر المحيط" 8/ 486، و"الدر المنثور" 8/ 542، بنحوه عن ابن عباس وعزاه إلى الخطيب في "تلخيص المتشابه" من وجه آخر عن ابن عباس. (¬1) في (ع): ووجدت. (¬2) وردت الرواية في: "الكشف والبيان" 13/ 108 أبمعناه، و"معالم التنزيل" 4/ 499، و"الدر المنثور" 8/ 544، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن مردويه، وابن عساكر بمعناه، و"فتح القدير" 5/ 460، وانظر: "المستدرك" بالمعنى 2/ 526، كتاب التفسير: تفسير سورة الضحى ووافقه الذهبي. كما رواه الطبراني في "الكبير" 11/ 455: ح 12289، والأوسط وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. قاله الهيثمي: "مجمع الزوائد" 8/ 254، كتاب علامات النبوة: باب عظم قدره -صلى الله عليه وسلم-، وانظر: الديلمي في "فردوس الأخبار" 2/ 438 ح 3218. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير مقاتل" 2/ 243، و"النكت والعيون" 6/ 293، و"زاد المسير" 8/ 269.

7

فقال (¬1) (¬2): والمعنى ألم نجدك يتيمًا صغيرًا حين مات أبواك، ولم يخلفا لك مالاً، ولا مأوى، فضمك إلى عمك حتى أحسن تربيتك (¬3). ثم ذكر نعمة أخرى فقال: 7 - {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} قال ابن عباس (في رواية عطاء) (¬4) ووجدك ضالًا عن النبوة فهداك بالنبوة إلى أرشد الأديان وأحبها إليه (¬5). وقال الحسن (¬6)، والضحاك (¬7) (وشهر بن حوشب) (¬8) (¬9) ووجدك ضالَا عن معَالمِ النبوة وأحكام الشريعة غافلًا عنها فهداك إليها. دليله قوله {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. وهذا مذهب أرباب الأصول، وعلماء أصحابنا (¬10) على أن رسول الله ¬

_ (¬1) في (ع): (وقال). (¬2) أي الثعلبي. (¬3) انظر: "الكشف والبيان" 13/ 108 أباختصار يسير. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى قوله في: "التفسير الكبير" 31/ 216. (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 109/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 499، بمعناه في: "المحرر الوجيز" 5/ 494، و"زاد المسير" 8/ 269 وعزاه إلى الجمهور، و"التفسير الكبير" 31/ 216، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 246. (¬7) المراجع السابقة عدا تفسير الحسن، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 96. (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 109 أ، و"التفسير الكبير" 31/ 216، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 96. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) يعني بهم جهابذة متكلمي عصره من الأشاعرة؛ كشيخه أبي إسحاق الأسفرابيني. انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" د. جودت المهدي ص 143.

-صلى الله عليه وسلم- ما كان كافرًا قط (¬1). ¬

_ (¬1) من أصحابه الذين قالوا بعصمتهم صلوات الله عليهم من الوقوع بالكفر: الباقلاني: إذ أن قد استدل على ذلك بأنه لم يذكر أهل التواريخ أنه كان مشركًا حين بعثه الله، وإنما بعث من كان تقيًا نقيًا زاكيًا أمينا مشهور النسب، حسن التربية. انظر: "المسامرة في شرح المسايرة" 1/ 81 وانظر: "القرطبي" م 8/ ج 16 ص60. وأبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي، وهو من علماء الأشاعرة. قال: أجمع أصحابنا على وجوب كون الأنبياء معصومين بعد النبوة عن الذنوب كلها، وأما السهو والخطأ فليس من الذنوب، فلذلك ساغ عليهم ... وأجازوا عليهم الذنوب قبل النبوة، وتأولوا على ذلك كل ما حكي في القرآن من ذنوبهم. إلخ. كتاب "أصول الدين" ص 167 - 168. وقال السفاريني: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم-على دين سوى الإسلام، ولا كان على دين قومه قط؛ بل ولد النبي -صلى الله عليه وسلم-مؤمنًا صالحًا على ما كتبه الله وعلمه في حاله. "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرر المضية" ص 305. وقال القاضي عياض: والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته، والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة، منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان .. "الشفاء بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض 2/ 719. وقال الحافظ من رجب: بل يستدل بحديث العرباص بن سارية على أنه -صلى الله عليه وسلم- ولد نبيًا، فان نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق حيث استخرج من صلب آدم حينئذ؛ لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك، وذلك لا يمنع كونه نبيًا قبل خروجه، كمن يولي ولاية، ويؤمر بالتصرف فيها زمن مستقبل، فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته، وإن كان تصرفه متأخرًا إلى حين مجيء الوقت. "لطائف المعارف" ص 83، وانظر: "لوامع الأنوار" 306. كما ذهب إلى القوم بالعصمة الألوسي في: "روح المعاني" 7/ 199، وأيضًا الإمام الشنقيطي في "أضواء البيان" 2/ 201، وللاستزادة في هذه المسألة يراجع في ذلك: "منهج السفاريني في أصول الدين" إعداد: رجاء بنت عبد القادر الجويسر رسالة ماجستير غير منشورة إشراف الدكتور محمد السمهري 2/ 357 وما بعدها.

واختار أبو إسحاق (أيضًا) (¬1) هذا القول فقال: معناه أنه لم يكن يدري القرآن، ولا الشرائع، فهداه الله إلى القرآن وشرائع الإسلام (¬2). وذكرنا جملة من الكلام في هذا المعنى عند قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (¬3) وجرى بعض المفسرين على ظاهر الآية، فقال الكلبي: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا}. يعني كافرًا في قوم ضلال فهداك للتوحيد (¬4). وقال السدي: كان على أمر قومه أربعين سنة (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من: (أ). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 339 - 340 بنصه. (¬3) سورة الشورى: 52، ومما جاء في تفسيرها: قال الإمام الواحدي: قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} قبل الوحي، {وَلَا الْإِيمَانُ} اختلفوا في هذا مع إجماع أرباب الأصول على أنه لا يجوز على الرسل قبل الوحي أن لا يكونوا مؤمنين، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن المراد بـ: "الإيمان" هاهنا شرائعه ومعالمه. وهي كلمة يجوز أن تسمى إيمانًا، واختار إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة هذا القول، وخصه بالصلاة محتجًا من باب حذف المضاف، فجعل التقدير: ولا دعوة الإيمان، لأنه كان قبل الوحي ما كان يقدر ما الكتاب، ولا أفعال الإيمان، يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن. وجعل أبو العالية التقدير: ولا دعوة الإيمان، لأنه كان قبل الوحي ما كان يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله، وذهب بعض أهل المعاني إلى التخصيص بالوقت فقال: المعنى: ولا ما الإيمان قبل البلوغ. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 108 ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 494 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 269، و"التفسير الكبير" 13/ 216، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 97 بمعناه، و"فتح القدير" 5/ 458. (¬5) ورد معنى قوله في المراجع السابقة. وانظر أيضًا: "جامع البيان" 30/ 232، و"النكت والعيون" 6/ 294، "تفسير السدي" 478.

8

وقال مجاهد: ووجدك ضالًا. يعني عن الهدى، فهداك لدينه (¬1). قال أصحابنا (¬2): وهذا مما يستدرك بالسماع، فأما العقل فجائز في المعقول أن يكون الشخص كافرًا فيرزقه الله الإيمان، ويكرمه بالنبوة، وجائز في العقل الخلع عن النبوة. 8 - قوله {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} العائل الفقير ذو العَيلة ذكرنا ذلك عند ¬

_ (¬1) ورد بنحو من قوله في: "التفسير الكبير" 31/ 216. قلت: وهذه الأقوال من المفسرين ممن أجروا معناها على ظاهر الآية من الفريق الذي يجوزون الكفر على الأنبياء في وقت من الأوقات قبل البعثة، وقد أشار إلى مثل ذلك الإمام الطبري عند تفسيره قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} إلى آخر قوله: {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: [76 - 77]. "جامع البيان" م: 5/ 7، 250 - 251. كما أشار إلى ذلك أيضًا ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: والتائب من الكفر، والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع بالكفر والذنوب وإذا كان فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة. "مجموع الفتاوى" 10/ 310، وانظر: "منهج السفاريني في أصول الدين": 2/ 359. (¬2) وهو ما ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني، وبينه الكمال بن الهمام في شرحه للمسامرة. ومما جاء في هذه المسألة في المسامرة ما يلي: قال ابن الهمام: "أما موجب العقل، فهو التجويز والتوبة، فالعقل لا يمنع وقوعه ثم محو أثره بالتوبة قبل النبوة، فإن قيل: تجويز وقوعه منهم ينافي ما يقتضيه شريف منصبهم من وجوب تصديقهم، وتوقيرهم، وعدم اتصافهم بما ينفر منهم، وأي منفر أشد من الكفر؟ وكيف يوثق بطهارة الباطن من أثره؟ قلنا: قد أجاب القاضي عن ذلك بقوله: ثم إظهار المعجزة أي بعد وقوع التوبة عنه يدل على صدقهم، وعلى طهارة سريرتهم، أي نقاء قلوبهم من أدناس المعاصي، فيجب لذلك توقيرهم، ويندفع النفور عنهم. انظر: كتاب "المسامرة للكمال بن أبي شريف في شرح المسايرة": للكمال بن الهمام في علم الكلام 1/ 81 - 82.

قوله {أَلَّا تَعْلُوا} (¬1) [النساء: 3]. ويدل على أن المراد بالعَائل الفقير، مَا روي أن في مصحف عبد الله: ووجدك عديمًا (¬2). قال مقاتل: يعني فقيرًا فأغناك الله (¬3). وقال عطاء: كنت عيال أبي طالب، فأغناك بخديجه (¬4). وقال الكلبي: رضاك بما أعطاك من الرزق (¬5). وقد حصل في أغناك ثلاثة أقوال: أحدهما: أغناك بالمال بعد الفقر، وكذا كان حَال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان فقيرًا لا مال له حتى فتح الله عليه الفتوح، وأعطاه المغانم. والثاني: أغناك بخديجة عن مَال أبي طالب ومسكنه. والثالث: أرضاك وقنعك. ¬

_ (¬1) في (أ): (تعلوا)؛ هكذا وردت في النسختين، وهو تصحيف. (¬2) وردت القراءة في: "جامع البيان" 30/ 223، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 274، و"الدر المنثور" 8/ 545 وعزاه إلى ابن الأنباري في "المصاحف" عن الأعمش، وفي "مختصر في شواذ القرآن" لابن خالويه ص 175، (ووجدك غريماً) بدلًا من (عديمًا)، قلت: وهذه القراءة من باب التفسير وليست من القراءة القرآنية، وذلك لشذوذها وضعفها، والله أعلم. (¬3) "تفسير مقاتل" 243 أ، وقد ورد عنه في "البحر المحيط" 8/ 486: فأغنى رضاك بما أعطاك من الرزق. (¬4) "زاد المسير" 8/ 207، ولم يعزه إليه بعينه، وإنما عزاه إلى جمهور المفسرين، وانظر هذا القول من غير عزو في: "الكشف والبيان" 13/ 111/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 499، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 99، و"فتح القدير" 5/ 458. (¬5) "زاد المسير" 8/ 270، و"فتح القدير" 5/ 458، وقد ورد بمثله عن مقاتل، انظر: "الكشف والبيان" 13/ 111/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 499، و"المحرر الوجيز" 5/ 494، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 99، و"البحر المحيط" 8/ 486.

9

قال الفراء: لم يكن غنى (¬1) عن كثرة، ولكن الله رضّاه بما أتاه (¬2) وذلك حقيقة الغنى (¬3). ثم أوصاه باليتامى، والفقراء فقال: 9 - {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} قال ابن عباس: هذا أدب من الله لنبيه وللمؤمنين (¬4). وقال مجاهد (¬5)، ومقاتل (¬6): لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيمًا. وقال الفراء (¬7)، والزجاج (¬8): لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى تأخذ أموالهم، ويظلمونهم حقهم، فغلظ الله تعالى الخطاب لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في اليتيم، وكذلك (¬9) من لا ناصر له يغلظ في أمره، وهو نهي لجميع المكلفين. ¬

_ (¬1) في (أ): (غناء). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 274، بنصه. (¬3) في (أ): (المعنى). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 233، و"النكت والعيون" 6/ 295، و"معالم التنزيل" 4/ 500، و"زاد المسير" 8/ 270، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 100، و"البحر المحيط" 8/ 486، و"فتح القدير" 5/ 458. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 274. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 340. (¬9) (في (أ): (فكذلك).

10

10 - (وقوله) (¬1): {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (¬2)، قال المفسرون: (يريد) (¬3) والسائل على الباب يقول: لا تنهره إذا سألك، فقد كنت فقيرًا، فإما أن تطعمه، وأما أن ترده ردًا لينًا، وهذا قول الكلبي (¬4)، ومقاتل (¬5)، (والفراء (¬6)) (¬7)، والزجاج (¬8)، ونحو هذا قال قتادة في هذه الآية: لرد السائل برحمة ولين (¬9). يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلامه تزجره به (¬10). قال أهل المعَاني: وهو إيساع الأغلاط بالصَياح في الوجه (¬11). وقد ذكرنا أن أصل تصير (¬12) هذه (¬13) الكلمة للسعة (¬14). ¬

_ (¬1) ساقط من: (ع). (¬2) في (أ): (تقهر). (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "معالم التنزيل" 4/ 500، ولم يعزه إليه، وإنما عزاه إلى المفسرين. (¬5) بمعناه في تفسيره: 243 ب. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 275. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 340. (¬9) "النكت والعيون" 6/ 295، و"معالم التنزيل" 4/ 500، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 559، و"الدر المنثور" 8/ 545، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 459. (¬10) "تهذيب اللغة" 6/ 278 (نهر)، وانظر: "لسان العرب" 5/ 239 (نهر). (¬11) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬12) (تصد): في كلا النسختين. (¬13) في (أ): (هذا). (¬14) نهرّ نَهِر: أي واسع. "تهذيب اللغة" 6/ 277 (نهر). وجاء في "مقاييس اللغة" 5/ 362: (نهر: أصل صحيح يدل على تفتح شيء، أو فتحه).

11

وروي عن الحسن في هذه الآية (¬1) فقال: أما إنه ليس بالسائل الذي يأتيك؛ لكن طالب العلم (¬2). (وهو قول يحيى بن آدم (¬3)، قال: إذا جاءك طالب العلم) (¬4) فلا تنهره (¬5). وعلى هذا السَائل هاهنا: الذي يسأل عن علم ليتعلمه. 11 - قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} قال مجاهد: بالقرآن (¬6). وقال الكلبي: يعني فأظهرها، وكان القرآن أعظم مَا أنعم الله به عليه، فأمره أن يقريه (¬7). قال الفراء: كان [يقرؤه و] (¬8) يحدث به، وبغيره من نعم الله (¬9). فعلى هذه النعمة هي القرآن، والتحديث (¬10) به أن يقرأه، ويقرئ غيره. ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 112/ أ، و"معالم التنزيل" 4/ 500، و"المحرر الوجيز" 5/ 495، و"التفسير الكبير" 31/ 220 بمعناه، و"البحر المحيط" 8/ 487 بمعناه. (¬3) تقدمت ترجمته في سورة التوبة. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 112/ ب، و"زاد المسير" 8/ 270. (¬6) المرجعان السابقان، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 500، و"المحرر الوجيز" 5/ 495، و"التفسير الكبير" 31/ 221، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 102، و"الدر المنثور" 8/ 545 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 549. (¬7) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 112 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 500، و"فتح القدير" 5/ 459. (¬8) (يقريه): هكذا وردت في النسختين، وكذلك بغير واو عاطفة، وأثبت ما جاء في مصدر القول لاستقامة الكلام به وصحته. (¬9) "معاني القرآن" 3/ 275. (¬10) في (أ): (التحدث).

وروى (أبو بشر) (¬1) عن مجاهد: قال: بالنبوة التي أعطاك ربك، وهي أصل النعم (¬2). واختار الزجاج فقال: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي أتاك، وهي (أجل (¬3)) النعم (¬4). وقال مقاتل: يعني اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة: من الهدى بعد الضلال، وجبر اليتيم، والإغناء بعد العيلة، فاشكر هذه النعم (¬5). يدل على صحة هذا مَا روي في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والتحدث بنعم الله شكر" (¬6). ¬

_ (¬1) ساقطة من (أ). (¬2) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 333، و"الكشف والبيان" 13/ 112 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 500، و"زاد المسير" 8/ 270، و"التفسير الكبير" 31/ 221، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 102، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 560، و"الدر المنثور" 8/ 545 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 459. (¬3) أصل: في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر القول. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 340. (¬5) ورد معنى قوله في: "تفسير مقاتل" 243/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 500، و"زاد المسير" 8/ 270، و"فتح القدير" 5/ 459. (¬6) وردت الرواية عن النعمان بن بشير قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب). وقد رواه الإمام أحمد في: "المسند": 4/ 278، 375، وقال الهيثمي: ورواه عبد الله بن أحمد، والبزار، والطبراني، ورجالهم ثقات: "مجمع الزوائد" 5/ 217 - 218: باب لزوم الجماعة، وطاعة الأئمة، والنهي عن قتالهم. وقال ابن كثير: وإسناده ضعيف. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 559. =

وروي عن الحسن (¬1) بن علي في هذه الآية قال: إذا أصبت خيرًا فحدث إخوان ثقتك (¬2). ¬

_ = وقال السيوطي: أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والبيهقي في "شعب الإيمان" 6/ 516: ح: 9119، بسند ضعيف عن أنس بن بشير."الدر المنثور" 8/ 545. كما ورد في: "الكشف والبيان" 13/ 112/ ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 495، و"لباب التأويل" 4/ 388. (¬1) في (ع): (الحسين). (¬2) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 295، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 102، و"الدر المنثور" 8/ 545 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وجميعها عن الحسن بن علي.

سورة الشرح

سورة الشرح

1

تفسير سورة ألم نشرح (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ذكرنا معنى الشرح عند قوله تعالى: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬2)، وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22]. ومعناه في اللغة: الفتح (¬3) بإذهاب مَا يصد عن الإدرك، والله عز وجل قد فتح صدر نبيه -صلى الله عليه وسلم-بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق. قال ابن عباس في هذه الآية: قالوا يا رسول: أينشرح الصدر، قال: "نعم". قالوا يا رسول الله: فلذلك علامة يعرف بها؟ قال: "نعم: التجافي ¬

_ (¬1) مكية بالإجماع لا خلاف بينهم في ذلك. "جامع البيان" 30/ 234، "بحر العلوم" 3/ 486، "الكشف والبيان" ج 13/ 113 أ، "النكت والعيون" 6/ 296، "معالم التنزيل" 4/ 401، "المحرر الوجيز" 5/ 496. (¬2) سورة الأنعام: 125. ومما جاء في تفسيرها: "قال الليث: شرح الله صدره فانشرح، أي وسع الله صدره لقبول الخير فتوسع. وقال غيره: شرح فلان أمره إذا أوضحه وأظهره، وشرح مسألة إذا كانت مشكلة فبينها. وقال ابن الأعرابي: الشرح الفتح، والشرح البيان .. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 179 (شرح)، "مقاييس اللغة" 3/ 269 (شرح)، "لسان العرب" 2/ 497 (شرح).

عن دَار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله" (¬1). فأشار -صلى الله عليه وسلم- إلى ذهاب الشواغل التي تصد عن حقيقة الإيمان، وذلك إن صدق الإيمان بالله ووعده، ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت، فإنه باب الآخرة، وهذا معنى قول الحسن في هذه الآية: ملئ حكمًا وعلمًا (¬2)؛ يعني أن معنى: من شرح صدره أي ملأه الله علمًا وحكمًا حتى علم حقيقة الأشياء، وحكم لها (¬3) بحكمها على حقيقة الدنيا، وأنها فانية فتركها، وأن الآخرة باقية فرغب ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الطبري في "جامع البيان" م 5: ج 8/ 27 بمعناه من طريق ابن مسعود، ومن طريق عبد الله ابن المسور. وأخرجه الدارقطني في: "العلل" 5/ 188 - 189: رقم 812 بطرق مختلفة عن ابن مسعود، وقال: الصواب عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر عبد الله بن المسور مرسلاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-كذلك قال الثوري، ثم قال: وعبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب هذا متروك. وأخرجه البيهقي في: "الأسماء والصفات" 1/ 257 من طريق خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور، وقال عنه البيهقي: وهذا منقطع، كما أخرجه من طريق عمرو بن مرة عن أبي جعفر المدائني. وأورده ابن كثير في "تفسيره": 2/ 181 عند تفسير سورة الأنعام: 125 بطرق مختلفة، ثم قال: فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا، والله أعلم. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 355: سورة الأنعام: 125 من طريق ابن مسعود، وعزاه إلى ابن شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي في الشعب في طريق عن ابن مسعود وأورده الحاكم في "المستدرك" 4/ 311 كتاب الرقاق. (¬2) "النكت والعيون" 6/ 296، "الكشاف" 4/ 221، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 104، "الدر المنثور" 8/ 547 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، "تفسير الحسن البصري" 2/ 426. (¬3) في (أ): (بها).

2

فيها، وكذلك كل شيء. وقال الكلبي: يقول ألم يلين قلبك للإسلام؟ ثم ذكر أن جبريل غسل قلبه بماء زمزم، وأنقاه مما كَان فيه من المعاصي، وملأه علمًا وإيمانًا (¬1). وعلى هذا معنى شرح صدره: أنقاه مما كان فيه من حظ الشيطان، وخليصه للإيمان، والإسلام، والحق، والتوحيد، حتى لا يكون فيه للشيطان نصيب. وذكرنا في سورة الضحى سبب نزول هذه السورة. وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ} استفهام معناه التقرير، أي قد فعلنا ذلك (¬2)، يدل على هذا قوله في النسق عليه: 2 - {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} قال المبرد: هذا محمول على معنى "ألم نشرح" لاعلى لفظه، لأنك لا تقول: ألم وضعنا، ولكن معنى: "ألم نشرح" قد شرحنا، فحمل الثاني على معنى الأول، لا على ظاهر اللفظ؛ لأنه لو كان معطوفًا على ظاهره لوجب أن يقال: ونضع عنك وزرك (¬3)، و (نحو) (¬4) هذا قال (¬5) صاحب النظم. ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "بحر العلوم" 3/ 489، وقد ورد حديث صحيح في معنى قوله، راجع ذلك في: "صحيح البخاري" 2/ 422 - 424: ح: 3207: كتاب بدء الخلق: باب 6 ج 3: 63 ح 3887: كتاب مناقب الأنصار: باب 42، و"صحيح مسلم" 1/ 149 - 150 ح: 264: كتاب الإيمان: باب 74، وغيرهما. (¬2) قال السمين الحلبي: الاستفهام إذا دخل على النفي قرره، فصار المعنى: قد شرحنا، ولذلك عطف عليه الماضي. "الدر المصون": 6/ 540. (¬3) "التفسير الكبير" 32/ 4، ونحو منه ذكر في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 105، و"فتح القدير" 5/ 461. (¬4) ساقط من: (أ). (¬5) في (أ): (ذكر).

ومعنى الوزر: ثقل الذنب (¬1)، وقد مر تفسيره عند قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} (¬2). قال ابن عباس (¬3) في رواية الكلبي، (والحسن (¬4) (¬5)، وقتادة (¬6)، (والضحاك (¬7)، ومقاتل (¬8) (¬9): حططنا (¬10) عنك إثمك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وقد مر الكلام فيه (¬11). ¬

_ (¬1) قال بذلك قتادة، وابن زيد، والحسن، وجمهور المفسرين. انظر: "المحرر الوجيز" 5/ 496. (¬2) سورة الأنعام: 31، ومما جاء في تفسيرها: الأوزار: الأثقال، من الإثم، قال ابن عباس: يريد آثامهم وخطاياهم، وقال أهل اللغة: الوِزر: الثقل، وأصله من الحمل، يقال: وزرت الشيء أي حملته، أزِره وزرًا، ثم قيل للذنوب: أوزار، لأنها تثقل ظهر من يحملها وقال أبو عبيد: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: سأحمل وزرك، وأوزار العرب: أثقالها من السلاح، ووزير السلطان الذي يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية أي يحمل. (¬3) "زاد الميسر" 8/ 271 من غير ذكر طريق الكلبي. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 113 ب، "معالم التنزيل" 4/ 501، "زاد المسير" 8/ 271، "فتح القدير" 5/ 461، "تفسير الحسن البصري" 2/ 427. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 113 ب، "معالم التنزيل" 4/ 501، "زاد الميسر" 8/ 271، "التفسير الكبير" 4/ 32، "فتح القدير" 5/ 461. (¬7) المراجع السابقة عدا "التفسير الكبير"، وتفسير الحسن. (¬8) "فتح القدير" 5/ 461. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) في (أ): (حططت). (¬11) ومما جاء في تفسير قوله: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر". قال أبو =

3

ثم وصف ذلك الوزر فقال: 3 - {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} قال المفسرون: أثقل ظهرك. وهو قول ابن عباس (¬1)، ومجاهد (¬2)، وقتادة (¬3)، (ومقاتل (¬4) (¬5). قال علماء اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحِمل سُمع له نقيض أي: صوت خفيٌّ، كما ينقض الرجل بحماره إذا ساقه، فأخبر الله (أنه غفر لنبيه -صلى الله عليه وسلم-أوزاره التي كانت تراكمت على ظهره حتى أثقلته، وإنها لو كانت أحمالًا حملت على ظهره لسُمع لها نقيض (¬6). قال أبو إسحاق: {أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} هو: أثقله حتى سمع له نقيض، أي صوت (¬7). وهذا مثل، يعني أنه ممثل مما يثقل حتى يسمع نقيض الظهر. ¬

_ = العباس: وقوله: "ما تقدم من ذنبك وما تأخر" قال مقاتل: يعني ما كان في الجاهلية، وما تأخر بعد النبوة. وروي عن ابن عباس: أي ما كان عليك من إثم الجاهلية، وما تأخر مما يكون. وقال عطاء الخراساني: "ما تقدم من ذنبك" أي ذنب أبويك آدم، وحواء، ببركتك، "وما تأخر" يعني من ذنوب أمتك بدعوتك. وقال سفيان الثوري: مَا تقدم من ذنبك: ما عملت في الجاهلية، وما تأخر يعني ما لم تعمله. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مجاهد" ص 736. (¬3) ورد معنى قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 380، "جامع البيان" 30/ 234. (¬4) "تفسير مقاتل" 244 أ. (¬5) ساقط من: (أ). (¬6) نقله عن "تهذيب اللغة" 8/ 344: (نقض) بتصرف يسير. وانظر: (نقض) في "لسان العرب" 7/ 244، و"تاج العروس" 5/ 94. (¬7) لم أجد قوله في المعاني، وقد ورد في: "الوسيط" 4/ 516.

ويقال أيضًا: أُنقض الظهر أي صَار إلى هذه الحالة، قال الشاعر: وحُزن تُنْقِضُ الأضلاع منه ..... مُقيم في الجَوانح لن يزولا (¬1) ويقال (¬2): أنقضت المِحْجمة (¬3): إذا سمع لها صوت، وأنقاض الفرخ من ذلك. يقال (¬4): أنقض إنقاضًا، ومنه قول ذي الرمة: أنقاضُ الفَراريجِ (¬5). قال قتادة في هذه الآية: كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ذنوب قد أثقلته فغفرها (¬6) له (¬7). هذا الذي ذكرنا في الآيتين على قول من يقول: كانت له ذنوب سلفت ¬

_ (¬1) ورد البيت غير منسوب في "تهذيب اللغة" 8/ 345 (نقض)، و"لسان العرب" 7/ 244 (نقض)، و"تاج العروس" 5/ 94 (نقض). (¬2) وهذا القول قاله الليث كما في "تهذيب اللغة" 8/ 345 (نقض)، وقد نقله عنه، وانظر أيضًا "لسان العرب"، و"تاج العروس"، مرجعان سابقان. (¬3) المحجمة: ما يحجم به، وهي القارورة. "لسان العرب" 2/ 117 (حجم). (¬4) قال به أبو زيد وقد نقله عن "تهذيب اللغة". مرجع السابق. (¬5) البيت كاملاً: كَأَنَّ أصْوتَ مِن إيغا لِهِنَّ بِنا .... أوخِر الْمَيْس أنقاض الفَراريجِ وقد ورد في "ديوانه" 2/ 996 وانظر مراجع اللغة السابقة. معناه: الإيغال: المضي والإبعاد، الميس: الرَّحل. والمعنى: يريد أن رحالهم جديدة، وقد طال سيرهم، فبعض الرحل يحك بعضًا، فيحصل مثل أصوات الفراريج من اضطراب الرحال، ولشدة السير. "ديوانه" 3/ 996. (¬6) في (أ): (يغفرها). (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 380، "جامع البيان" 30/ 234، "النكت والعيون" 6/ 297، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 105.

منه في الجاهلية قبل النبوة (¬1). وذهب قوم إلى أن المراد بهذا: الصغائر، والخطأ، والسهو، وإنما وصف ذلك بإنقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اغتمام (¬2) النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوعه منه، وتحسره مع ندمه عليه (¬3). وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، سهل الله ذلك عليه، (وحط عليه) (¬4) ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت، وذكر مِنَتهُ عليه ¬

_ (¬1) سبق القول في مثل هذه المسألة عند تفسير قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]. (¬2) في (أ): (اهتمام). (¬3) ومن القائلين بذلك الحسين بن الفضل، انظر قوله في "الكشف والبيان" 13/ 113 ب، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 106 وهذا القول ضمن القائلين بعصمة الأنبياء بعد البعثة من الكفر والكبائر، وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، أما صغائر الذنوب، والسهو، والنسيان، فتصدر منهم كما دل على ذلك ظاهر القرآن، والسنة؛ غير أنهم لا يُقُّرون على الخطأ، وإذا وقع منهم ذنوب فإنهم يتوبون، ويكونون أحسن حالاً بعد التوبة، وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة. "منهاج السنة" لابن تيمية 1/ 470 - 472، "مجموع الفتاوى" 10/ 309 - 313. وانظر: "منهج السفاريني في أصول الدين" 2/ 364. وقال ابن تيمية: (فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حتى أنه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الأمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير، والحديث والفقهاء؛ بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول). "مجموع الفتاوى" 4/ 319، وانظر "منهج السفاريني" 2/ 364. (¬4) ساقط من: (أ).

4

بذلك، (وهذا معنى قول الكسائي (¬1)، وجويبر عن الضحاك (¬2) (¬3) (¬4). 4 - قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} هو قال جماعة المفسرين: لا ذُكِرتُ، إلا ذُكرتَ مَعَي (¬5). وشرح ذلك ابن عباس فيما روى (عنه) (¬6) عطاء، فقال: يريد الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم (¬7) الجمعة، وعلى المنابر، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وخطبة النكاح، وحول الكعبة، وفي كل موطن، وعلى الدنانير والدراهم، وكلمة الشهادة، ولو أن رجلاً عبدَ الله وصدقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدًا رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافرًا (¬8)، وإلى هذا أشار حسان بن ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) وممن قال بذلك أيضًا: عبد العزيز بن يحيى، وأبو عبيدة، ومحمد بن المكرم، انظر: "الكشف والبيان" 13/ 113 ب، "معالم التنزيل" 4/ 502، "لسان العرب" 7/ 244 (نقض). (¬5) حكاه عن جمهور المفسرين ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 272. وممن قال به: ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وأبو سعيد الخدري، والضحاك، ومحمد بن كعب، والحسن، وأنس مرفوعاً، وعدي بن حاتم مرفوعاً. انظر: "جامع البيان" 30/ 235، و"الكشف والبيان 13/ 113 ب، و" النكت والعيون" 6/ 297، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 561، و"الدر المنثور" 8/ 548 - 549. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) في (أ): (يوم) بغير واو. (¬8) ورد قوله ولكن برواية الضحاك عن ابن عباس في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 106 - 107.

5

ثابت في قوله: وضَمَّ الإلهُ اسْمَ النِبّيّ إلى اسْمِهِ ..... إذا قالَ في الخَمسِ المُؤذنُ أشْهدُ (¬1) ثم وعده اليسر، والرخاء بعد الشدة، وذلك أنه كان بمكة في شدة، وهو قوله: 5 - {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال الكلبي: مَعَ الفقر سعة (¬2). وقال مقاتل: يعني تتبع الشدة الرخاء (¬3). 6 - ثم ذكر (بعد) (¬4) ذلك فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال ابن عباس في رواية عطاء: يقول الله تعالى: (خلقت عسرًا واحداً، وخلقت يسرين، فلن (¬5) يغلب عسر يسرين) (¬6)، (ونحو هذا قال الكلبي (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) ورد البيت في "ديوانه" 47 ط. دار صادر، كما ورد في "معالم التنزيل" 4/ 502، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 106 - 107، و"لباب التأويل" 4/ 389، و "البحر المحيط" 8/ 488، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 561، و"فتح القدير" 5/ 462، "روح المعاني" 30/ 169. (¬2) "الوسيط" 4/ 517. (¬3) المرجع السابق. (¬4) ساقط من: (ع). (¬5) في (ع): (فأين). (¬6) ورد قوله مختصرًا، ومن غير ذكر عطاء في: "بحر العلوم" 3/ 490، "التفسير الكبير" 32/ 6، و"زاد المسير" 8/ 272. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من طريقه عن أبي صالح عن ابن عباس في "معاني القرآن" 3/ 375. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال مقاتل: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عند ذلك لن يغلب إن شاء الله عسر واحد يسرين" (¬1). ونحو هذا قال الحسن، وذكر (¬2) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يغلب عسر يسرين"، وقرأ الآيتين (¬3). ويروى (¬4) عن ابن مسعود مثل هذا (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 244 أ، "التفسير الكبير" 32/ 6. (¬2) في (أ): (ذكروا). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 528: كتاب التفسير: باب سورة ألم نشرح، وقال عنه: إسناده مرسل، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر: أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن الحسن به مرسلاً، ومن طريقه أخرجه الحاكم، والبيهقي في الشعب، ورواه الطبري من طريق أبي ثور، عن معمر. وله طريق أخرى أخرجها ابن مردويه من رواية عطية عن جابر موصولاً، وإسناده ضعيف. الكافي الشاف: 4/ 186. وانظر: "شعب الإيمان" 7/ 206 ح 10013، كما ورد في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 380، و"جامع البيان" 30/ 236، و"بحر العلوم" 3/ 490، و"الكشف والبيان" 13/ 114 ب، و"فتح الباري" 8/ 712، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 473، و"معالم التنزيل" 4/ 502، و"الكشاف" 4/ 223، و"القرطبي" 20/ 107، و"لباب التأويل" 4/ 389، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 561 - 562، و"الدر المنثور" 8/ 551. (¬4) في (أ): (روى). (¬5) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 381، "جامع البيان" 30/ 236، "بحر العلوم" 3/ 490، "الكشف والبيان" ج 13: 114/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 502، و"زاد المسير" 8/ 272، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 107، و"النكت والعيون" 6/ 298، و"لباب التأويل" 4/ 389، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 561. وقال السيوطي: ورواه الطبراني، وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن مسعود. انظر: "الدر المنثور" 8/ 550 - 551 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الصبر، والبيهقي في شعب الإيمان. وقال ابن حجر: وأخرج سعيد بن منصور، وعبد الرزاق من حديث ابن مسعود =

وكتب عمر بن الخطاب. -رضي الله عنه-إلى أبى عبيدة، وهو محصور أنه مهما تنزل بامرىءٍ شدة (¬1) يجعل الله بعدها فرجًا، فإنه لن يغلب عسر يسرين (¬2). فهذا قول (¬3) النبي -صلى الله عليه وسلم-والصحابة، والمفسرين. على أن العسر واحد، ¬

_ = قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث، ثم قال: إسناده ضعيف. وقال أيضًا: وأخرجه عبد بن حميد عن ابن مسعود بإسناد جيد من طريق قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر أصحابه بهذه الآية فقال: "لن يغلب عسر يسرين إن شاء الله". "فتح الباري" 8/ 713. كما رواه الطبراني 10/ 85 ح: 9977، وفيه إبراهيم النخعي، وهو ضعيف "مجمع الزوائد" 7/ 139: كتاب التفسير: تفسير ألم نشرح. (¬1) في (ع): (شديد). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 357: كتاب الجهاد: باب: 1 موقوفاً على عمر، والحاكم في "المستدرك" 2/ 528: كتاب التفسير: تفسير سورة ألم نشرح. وقال: وقد صحت الرواية عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب: لن يغلب عسر يسرين، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في "الكافي" 4/ 186: وفي الباب عن عمر (ذكره مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه، وذكر الأثر، ثم قال: ومن طريقه رواه الحاكم، وهذا أصح طرقه، كما قال في "فتح الباري" 8/ 713، وأما الموقوف، فأخرجه مالك عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر أنه كتب إلى أبي عبيدة -الأثر-، ثم قال: وقال الحاكم: صح ذلك عن عمر، وعلي، وهو في الموطأ عن عمر؛ لكن من طريق منقطع، وأخرجه عبد بن حميد، عن ابن مسعود بإسناد جيد، وأخرجه الفراء بإسناد ضعيف عن ابن عباس. كما ورد الأثر في: "المحرر الوجيز" 5/ 497 بمعناه، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 107، "الدر المنثور" 8/ 550 ونسبه إلى ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: بعئنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ثلاثمائة أو يزيدون؛ علينا أبو عبيدة بن الجراح ... ونزلت: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فأرسل نبي الله إلى بعضنا فدعاه، فقال: (أبشروا فإن الله قد أوحى إلى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ولن يغلب عسر يسرين). (¬3) في (أ): (يقول).

واليُسْرَ اثنان، وفي ظاهر التلاوة عسران، ويسران، إلا أن المراد عسر واحد؛ لأنه مذكرر بلفظ التعريف، واليسر مذكور بلفظ التنكير مرتين، فكان كل واحد منهما غير الآخر. أخبرنا ابن الفارسي، عن حمد بن محمد البُستي، قال: ذكر لنا أبو عمر، عن ثعلب، عن سلمة، عن الفراء قال: العرب إذا ذَكَرَتّ نَكِرَة، ثم أعادتها بنكرة مثلها صارتا اثنين، كقولك: إذا كسبت درهمًا فأنفق درهمًا، والثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة فهي هي كقولك: إذا كسبت درهمًا فانفق الدرهم، فالثاني هو الأول (¬1). ونحو هذا قال الزجاج: ذكر العسر مع اليسر مع الألف واللام، ثم ثنى [ذكره] (¬2)، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين (¬3). وتكلم صاحب النظم في هذه السورة، وأنكر هذا التعليل الذي ذكره الفراء، والزجاج، وقال: (هذا قول مدخول، [لا] (¬4) يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفًا، إن مع الفارس سيفًا، أن يكون فارس واحد معه سيفان، ولا يجوز هذا في شيء من العربية، والصحيح في ذلك أن الله تعالى بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو مقل، فكانت قريش ¬

_ (¬1) لم أجد قوله في المعاني، وإنما ورد معنى قوله في: "التفسير الكبير" 32/ 6، "زاد المسير" 8/ 272، كما ورد من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 502 - 503، وعزاه الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 114 ب، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 389 إلى المفسرين. (¬2) ذكر: في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في الأصل لصحته. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 341. (¬4) لأنه: في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في "الكشف والبيان" 13/ 114 ب لصحته.

تعيره بذلك حتي قالوا له: إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغني (¬1) جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة، فكرث (¬2) النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره، فعدد الله عليه منته في هذه السورة، ووعد الغنى، وأنزل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ (¬3) صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ}. -أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان في كثير من مذاهبه على مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنمًا ولا وثنًا- (¬4)، ثم ابتدأ فيما وعده من الغنى في الدنيا ليسليه عما خامره من قول (من) (¬5) عيره بالفقر فقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، والدليل على ذلك دخول الفاء في قوله: {فَإِنَّ} (¬6)، ودل ذلك على أن التأويل: لا يحزنك ما يقولون، وما أنت فيه من الإقلال، فإن مع ذلك يسرًا في الدنيا عاجلاً، ثم أنجز ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز، وما والاها من القرى العربية، وعامة بلاد اليمن، وحي أهل البوادي، وكان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبات [السنية] (¬7)، ويعد لأهله قوت سنة. ¬

_ (¬1) في (أ): (الغناء). (¬2) كرث: كَرَثه النَعم، يَكِرثه، وأكْرَثَه: أي اشتد عليه، وبلغ منه المشقة. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 161. (¬3) في (أ): (لك)، وهو ضمير زائد على بنية الكلام. (¬4) ما بين شرطتي الاعتراض من قول الإمام الواحدي. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) وذلك لأن الفاء لا تدخل أبداً إلا في عطف أو جواب. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 115 أ. (¬7) غير مقروءة في النسختين.

ثم ابتدأ فصل آخر فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} والدليل على ابتدائه (¬1): تعريه (¬2) من فاء، أو واو، أو غيرهما من حروف النسق، وهو وعد عام لجميع المؤمنين؛ لأنه يعني بذلك أن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرًا في الآخرة لا محالة، وربما اجتمع له اليسران: يسر الدنيا، وهو ما ذكر في الآية الأولى، ويسر (في) (¬3) الآخرة، وهو ما ذكر في الآية الثانية) (¬4). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لن يغلب عسر يسرين" أي يسر الدنيا والآخرة (¬5)، والمعنى: لن يجمعهما في الغلبة، إنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا، فأما يسر الآخرة للمؤمنين فلا محالة كائن، ولا يغلبه شيء، والعسرة بين يسرين: إما (¬6) فرح في الدنيا، وإما ثواب الآخرة (¬7). وهذا هو الصحيح في معنى الآية. وهو أن اليسرين: أحدهما في الدنيا، والثاني في الآخرة، إما هذا، وإما ذاك، وربما اجتمعتا، ويدل على صحة هذا مَا ذكر محمد بن إسماعيل ¬

_ (¬1) في (أ): (ابتلائه). (¬2) في (أ): (تعرية بواو). (¬3) ما بين القوسين ساقط من: (ع). (¬4) ما بين القوسين من قول الجرجاني، انظر: "الكشف والبيان" 13/ 114 ب، 115 أ، نقله الإمام الواحدي عن "الكشف" بتصرف، وانظر أيضًا بنحوه في "زاد المسير" 8/ 272، و"التفسير الكبير" 32/ 6، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 108، و"لباب التأويل" 4/ 389. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) في (أ): (أنها). (¬7) وهذا المعنى ورد بمعناه عن الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 115 أ، وانظر. و"معالم التنزيل" 4/ 503، و"زاد المسير" 8/ 273.

البخاري (¬1) فقال: قال ابن عُيَيْنة: إن مع كل عسر يسرًا، كقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] و"لن يغلب عسر يسرين" (¬2) يعني أن أحد اليسرين يدرك صَاحب اليسر لا محَالة؛ إما يسر الدنيا، وإما يسر الآخرة، كما أن المجاهد في سبيل الله لن (¬3) يفوته أحد الحسنيين. وذهب بعضهم (¬4) في الآية إلى أنه من مظاهر (¬5) القول الذي يراد به التأكيد، كقوله {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3 - 4]، ونحوه مما تكرر في القرآن (¬6) وهو في الشعر والكلام أيضًا كثير، كقول الشاعر (¬7): ¬

_ (¬1) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بذدزبة البخاري؛ صاحب "الصحيح"، رحل في طلب الحديث إلى سائر محدثي الأمصار، توفي أبو عبد الله ليلة السبت ليلة الفطر سنة 256 هـ وقبر في خرتنك. انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى: 1/ 271: ت: 387، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 2/ 2، و"تهذيب الكمال" 24/ 430: ت: 5059. (¬2) "الجامع الصحيح" 3/ 326، كتاب التفسير: باب: 94 بيسير من التصرف، "تفسير سفيان بن عيينة" 347. (¬3) في (أ): (أن). (¬4) كابن قتيبة في: "تأويل مشكل القرآن" 236. (¬5) في (أ): (ظاهر). (¬6) نحو قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} سورة القيامة: 34 - 35. وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} سورة الانفطار: 17 - 18 مستفاد من "تأويل مشكل القرآن" ص 236. (¬7) البيت لعبيد بن الأبرص.

7

هلا سَأَلْتَ جُمُوع كِنْدة ... يَوْمَ وَلوا أَيْنَ أَيْنَا (¬1) ولما وعده اليسر في الدنيا والآخرة، أمره بالجهد في العبادة، فقال: 7 - {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}. أي فاتعب، يقال (¬2): نَصِبَ يَنْصَب (¬3). قال قتادة (¬4)، والضحاك (¬5)، ومقاتل (¬6)، (والكلبي (¬7)) (¬8): إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة (¬9) يعطيك، ونحو هذا روى عبد الوهاب ¬

_ (¬1) ورد البيت في "ديوانه" ص 142، ط. دار صادر، "تأويل مشكل القرآن" ص 236. (¬2) في (أ): (فقال). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 210 (نصب)، و"لسان العرب" 1/ 758 (نصب). (¬4) ورد معنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 381، و"جامع البيان" 30/ 237، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 473، و"الكشف والبيان" 13/ 116 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 503، و"المحرر الوجيز" 5/ 497، و"التفسير الكبير" 32/ 7، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 108، و"البحر المحيط" 8/ 488، و"الدر المنثور" 8/ 552، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر "فتح القدير" 5/ 462. (¬5) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 236، "الكشف والبيان" 13/ 116 ب، و"النكت والعيون" 4/ 503، و"زاد الميسر" 8/ 273، مختصرًا، و"التفسير الكبير" 32/ 7، و"الدر المنثور" 8/ 552 وعزاه إلى عبد ابن حميد وابن نصر، و"فتح القدير" 5/ 462. (¬6) "تفسير مقاتل" 244 أ، "معالم التنزيل" 4/ 503، "زاد المسير" 8/ 273، "التفسير الكبير" 32/ 7، "فتح القدير" 5/ 462. (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 503، "فتح القدير" 5/ 462، وإلى مثل هذا ذهب ابن عباس في "جامع البيان" 30/ 237. (¬8) ساقط من: (أ). (¬9) في (أ): (المسلة).

8

بن مجاهد، عن إليه قال: إذا صليت فاحتهد في الدعاء والمسَألة (¬1). وقال الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك (¬2). ونحو هذا قال الزهري: إذا قضيت التشهد فادع بعد التشهد بكل حاجتك (¬3). وروى منصور، عن مجاهد: إذا فرغت بعد أمر دنياك "فانصب" فصل (¬4). 8 - (قوله تعالى) (¬5): {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} اجعل رغبتك إلى ربك ونيتك له (¬6). وقال عبد الله: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل (¬7). ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" 4/ 503، "الدر المنثور" 8/ 551 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 503، "زاد المسير" 8/ 273، "التفسير الكبير" 32/ 7. (¬3) ورد معنى قوله في "زاد المسير" 8/ 273، و"فتح القدير" 5/ 462. (¬4) "جامع البيان" 30/ 237، "الكشف والبيان" 13/ 116 ب، "النكت والعيون" 6/ 299، و"معالم التنزيل" 4/ 503، و"المحرر الوجيز" 5/ 497 بمعناه، "زاد المسير" 8/ 273، و"التفسير الكبير" 32/ 7، و"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 109، و"البحر المحيط" 8/ 488، و"فتح القدير" 5/ 462، وإليه ذهب ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 562. (¬5) ما بين القوسين ساقط من: (أ). (¬6) ورد معنى هذا القول عن مجاهد. انظر: "جامع البيان" 30/ 237، "النكت والعيون" 6/ 299، وكذلك عن الثوري. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 562. (¬7) "النكت والعيون" 6/ 298، "معالم التنزيل" 4/ 503، "زاد المسير" 8/ 273، "التفسير الكبير" 32/ 7، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 108، "لباب التأويل" 4/ 390، "الدر المنثور" 8/ 551، ونسبه إلى ابن المنذر، وإلى ابن أبي حاتم، "فتح القدير" 5/ 463.

وسئل علي بن أبي طلحة عن هذه الآية فقال: القول فيه كبير، وقد سمعنا أنه يقال: إذا صححت فانصب، يعني: اجعل صحتك، وفراغك نصبًا في العبادة (¬1). وهو قول أبى عياض يدل على هذا ما روى أن شريحًا مر برجلين يصطرعان، فقال: ليس هذا أُمِرَ الفارغ، إنما قال الله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} (¬2). وقال الحسن (¬3)، وزيد بن أسلم (¬4): إذا فرغت من جهاد العدو فانصب في عبادة ربك، وإلى ربك فارغب. قال عطاء عن ابن عباس: يريد تضرع إليه راهبًا من النار، وراغبًا في ¬

_ (¬1) "زاد المسير" 8/ 273، "التفسير الكبير" 32/ 7. (¬2) ورد قوله في: "معاني القرآن" 3/ 276، "الكشف والبيان" 13/ 116 ب، "التفسير الكبير" 32/ 7. قال ابن الأعرابي في "أحكام القرآن" 4/ 1950 بعد ذكره لقول شريح: وفيه نظر، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدَّرَقِ والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي ينظر. رواه مسلم في "صحيحه" 2/ 609: ح: 18 كتاب صلاة العيدين: باب 4 ... وليس يلزم الدءوب على العمل؛ بل هو مكروه للخلق. (¬3) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 237، و"أحكام القرآن" للجصاص 3/ 473، و"الكشف والبيان" 13/ 116 ب، و"النكت والعيون" 6/ 299، و"معالم التنزيل" 4/ 503، و"المحرر الوجيز" 5/ 497، و"الكشاف" 4/ 222، و"زاد المسير" 8/ 273، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 109، و"البحر المحيط" 8/ 488، و"الدر المنثور" 8/ 552، و"فتح القدير" 5/ 462، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 428. (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 237، "الكشف والبيان" 13/ 116 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 503، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 562، و"الدر المنثور" 8/ 552 وعزاه إلى ابن حاتم.

الجنة (¬1). وقال أبو إسحاق: أي اجعل رغبتك إلى الله وحده (¬2) ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله عن عطاء في: "فتح القدير" 5/ 462. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 341. قال الجصاص: وهذه المعاني كلها محتملة، والوجه حمل اللفظ عليها كلها، فيكون جميعها مراداً، وإن كان الخطاب للنبي فإن المراد به جميع المكلفين. "أحكام القرآن" 3/ 473.

سورة التين

سورة التين

1

تفسير سورة التين (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وقال ابن عباس (¬2) (في رواية الكلبي) (¬3): يعني تينكم وزيتونكم، وهو قول الحسن (¬4)، ومجاهد (¬5)، ¬

_ (¬1) مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول ابن عباس، وقتادة "النكت والعيون" 6/ 300، و"زاد المسير" 8/ 273، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 110. (¬2) ورد قوله في "معاني القرآن" للفرء: 3/ 276، و"الكشف والبيان" 13/ 117/ ب من غير ذكر طريق الكلبي، و"بحر العلوم" 3/ 491، و"معالم التنزيل" 4/ 504، وعزاه إلى ابن عباس، والكلبي، و"المحرر الوجيز" 5/ 499، و"زاد المسير" 8/ 274 ولم يذكر طريق الكلبي، و"التفسير الكبير" 32/ 8 من غير ذكر الكلبي، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 110 ونسبه إلى ابن عباس والكلبي، و"لباب التأويل" 4/ 390 من غير ذكر الكلبي. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ورد بنحو من قوله في "جامع البيان" 30/ 238، و"الكشف والبيان" 13/ 117 ب، و"النكت والعيون" 6/ 300، و"معالم التنزيل" 4/ 504، و"المحرر الوجيز" 5/ 499، و"زاد المسير" 8/ 274، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 110، و"الدر المنثور" 8/ 557 وعزاه إلى عبد بن حميد، و"التحرير والتنوير" 30، 420، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 429. (¬5) المراجع السابقة عدا "جامع البيان"، و"النكت والعيون"، و"تفسير الحسن البصري"، وانظر أيضًا "تفسير الإمام مجاهد" ص 737.

(وعكرمة (¬1)، وإبراهيم (¬2)) (¬3)، ومقاتل (¬4)، قالوا: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت. وعلى هذا إنما ذكر الله تعالى هذا القسم بالتين؛ لأنه فاكهة مخلصة من [شوائب] (¬5) التنغيص (¬6)، وفيه أعظم العبرة لدلالته على (¬7) من هيأها على تلك الصفة، وخلصها لتكامل اللذة على مقدار اللقمة، فالله عز وجل المنعم به على عباده، والمنة على مَا فيه ليعتبروا ويشكروا. وقد روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في التين: "لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة، قلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم (¬8)، فكلوها، فإنها تقطع البواسير (¬9)، وتنفع من النقرس (¬10) ". ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 238، و"الكشف والبيان" 13/ 117 ب، و"النكت والعيون" 6/ 300، و"زاد المسير" 8/ 274، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 110، و"التحرير والتنوير" 30/ 420. (¬2) المراجع السابقة، وانظر: "المحرر الوجيز" 5/ 499. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "تفسير مقاتل" 244 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 117 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 504 "المحرر الوجيز" 5/ 499، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 110. (¬5) (شايب) هكذا وردت في النسختين، وأثبت ما جاء في "الوسيط" 4/ 523 لسلامة السياق به. (¬6) (التنغيص): أي كَدَّره. "مختار الصحاح" ص 670 (نغص). (¬7) في (ع): (عن). (¬8) العَجَمُ: النَّوى، نوى التمر والنبق، و"لسان العرب" 12/ 391 (عجم). (¬9) "البواسير" مفرده الباسور، وهي عِلَّة تحدث في المقعدة، وفي داخل الأنف أيضًا. "الصحاح" 2/ 589 (بسر)، وانظر: "لسان العرب" 4/ 59 (بسر). (¬10) النقرس: مرض مزمن يؤدي إلى أورام شديدة في المفاصل، ويأتي نتيجة فشل =

وأما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة مع [الاصطباغ] (¬1) به، والأدهان، واتخاذ الصابون، ثم ما في شجره من أنه مال يبقى على مرور الزمَان، ثم ما فيه من الطيب، وإصلاح الغذاء؛ إذا تُنوِلَ على الحالة الأولى قبل العصر. وقال قتادة: التين الجبل الذي عليه دمشق (¬2)، والزيتون الجبل الذي ¬

_ = الجسم في أداء مهمته الطبيعية لتحليل أنواع معينة من البروتين مما ينتج عنه زيادة كبيرة في حمض اليوريك تتجمع في الدم، وداء المفاصل، ويعتبر الاستعداد للإصابة بالنقرس وراثيًا، وليس للنقرس علاج حتى الآن، إلا أن السيطرة عليه ممكنة باتباع التعليمات بشكل دائم مستمر، و"الموسوعة العربية العالمية" 25/ 356. ووردت الرواية في "الكشف والبيان" 13/ 118 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 499، و"الكثساف" 4/ 222، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 110، قال ابن حجر في "الكافي" 4/ 186، الحديث أخرجه أبو نعيم في الطب، والثعلبي من حديث أبي ذر، وفي إسناده من لا يعرف. (¬1) في: (أ)، (ع) (الاصطباح)، هكذا وردت في النسختين، ولم أتوصل لمعرفة معناه، فأثبت ما جاء في النسخة المطبوعة "للوسيط" 4/ 523. (¬2) دمشق: عاصمة الجمهورية العربية السورية، وأكبر مدينة في البلاد السورية على الإطلاق، وهي أكثر المدن السورية سكانًا بسبب الهجرة الكثيفة إليها من المناطق المجاورة، والمدن الأخرى، يخترقها نهر بردى، وتحيط بها بساتين الغوطة، وتشتهر دمشق القديمة بأسواقها المسقوفة، وأهمها سوق الحميدية، وسوق مدحت باشا، وسوق الحرير، أشهر مساجدها الجامع الأموي، ومسجد السنانية، ومن المساجد الحديثة: الجامع الأكرمي في حي المزة، وتعتبر الغوطة برمها منتزهاً لأهالي دمشق بالإضافة إلى حدائق وادي بردى. وقد قيل لقد سميت دمشق لأنهم دَمشَقوا في بنائها أي أسرعوا. انظر: "للموسوعة العربية العالمية" 10/ 368 - 372، وانظر: "معجم البلدان" 2/ 463.

عليه بيت المقدس (¬1) (¬2). ونحو هذا قال ابن زيد؛ إلا أنه خص المسجدين فقال: التين مسجد دمشق، والزيتون (مسجد) (¬3) بيت المقدس (¬4). وروى (أبو مكين (¬5)) (¬6) عن عكرمة قال: هما جبلان (¬7). ¬

_ (¬1) بيت المقدس: هي مدينة مرتفعة على جبال يُصعد إليها من كل مكان يقصدها المقاصد من فلسطين، وبها المسجد الأقصى، وليس في بيت المقدس ماء جار سوى عيون لا ينتفع المزروع بها، وهي من أخصب بلاد فلسطين على مر الأوقات، وفي سورها موضع يعرف بمحراب داود النبي عليه السلام، وهو بنية مرتفعة ارتفاعها نحو خمسين ذراعاً من الحجارة، وبأعلى بناء كالحجرة، وهو المحراب. انظر: "المسالك والممالك" للأصطخري ص 56، و"صورة الأرض" لابن حوقل ص 158. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 382، و"جامع البيان" 30/ 239، و"بحر العلوم" 3/ 491، و"الكشف والبيان" 13/ 118 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 504، و "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 111، و"البحر المحيط" 8/ 489، و"الدر المنثور" 8/ 545 ونسبه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر، و"فتح القدير" 5/ 464. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "جامع البيان" 30/ 239، و"النكت والعيون" 6/ 300، و"معالم التنزيل" 4/ 504، و"المحرر الوجيز" 5/ 499، و"زاد المسير" 8/ 275، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 111، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 563، و"فتح القدير" 5/ 564. (¬5) أبو مكين: نوح بن ربيعة الأنصاري؛ مولاهم، روى عن عكرمة مولى ابن عباس، وعنه الحكم بن أبان. صدوق. انظر: "التاريخ الكبير" 8/ 111: ت 2383، و"تهذيب الكمال" 3/ 50 ت 6492، و"تقريب التهذيب" 2/ 308: ت 166. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "جامع البيان" 30/ 239 من طريق أبي بكر عن عكرمة، و"الكشف والبيان" 13/ 118/ أ، و"زاد المسير" 8/ 275.

وحكى الفراء قال: سمعت رجلاً (¬1) كان صَاحب تفسير قال: "التين" جبال ما بين [حلوان (¬2)] (¬3) إلى همذان (¬4)، و"الزيتون" جبال الشام (¬5) (¬6). وعلى هذا سميت هذه الأمكنة بالزيتون والتين، لأنها تنبتهما، وهي ¬

_ (¬1) رجل من أهل الشام هكذا جاء في المعاني. (¬2) حُلوان: لعله يراد به حلوان العراق، وهي بلدة تاريخية، تقع في شمال الجزيرة، قيل: كانت كبرى مدن العراق بعد بغداد، والكوفة، والبصرة، وواسط، وسامراء، استولى عليها جرير بن عبد الله عام 19 هـ، فهرب منها يزدجرد إلى أصبهان، أكثر ثمارها التين، وهي بقرب الجبل، وليس للعراق مدينة بقرب الجبل غيرها. "القاموس الإسلامي" أحمد عطية: 2/ 114. وانظر: "معجم البلدان" 2/ 290. (¬3) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (ع)، وفي (أ): (حوالي)، والمثبت من مصدر القول من معاني الفراء. (¬4) هَمَذَان: من مدن فارس، وتعد أكبر المدن الجبلية فيها، عذب ماؤها، طيب هواؤها، فتحها المغيرة بن شعبة (في سنة 24 هـ. انظر: "معجم البلدان" 5/ 410 وما بعدها، و"مراصد الاطلاع" للبغدادي 3/ 1464. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 276 بيسير من التصرف. (¬6) الشام: بفتح أوله، وسكون همزته أو فتحها، ولغة ثالثة بغير همز، وفي تسميتها بالشام أوجه منها: أنها مأخوذة من اليد الشؤمى، وهي اليسرى؛ لأنها عن يسار الكعبة، وقيل: الشام جمع شامة؛ سميت بذلك لكثرة قراها، وتداني بعضها من بعض، فشبهت بالشامات، وقيل غير ذلك، وبها من أمهات المدن: منبج، وحلب، وحماة، وحمص، ودمشق، وبيت المقدس. ومن سواحلها: عكا، وصور، وعسقلان، وغير ذلك، وكانت تتكون فيما سبق من سوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن، ولكن منذ العرب العالمية الأولى انقسم هذا الإقليم إلى وحدات سياسية هي: سوريا، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن. انظر: "معجم البلدان" 3/ 311، و"مراصد الاطلاع" 3/ 775، و"صورة الأرض" لابن حوقل 153، و"مسالك الممالك" للأصطخري 55، و"القاموس الإسلامي" 4/ 22.

2

منابت لها (¬1). فيجوز أن يكونْ على حذف المضاف، بتقدير: ومنابت التين والزيتون (¬2). ويجوز أن يكون قد أطلق عليها اسم ما تنبته. 2 - قوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} قال المفسرون: أراد الجبل الذي كُلم عليه موسى (¬3). فاختلفوا في "سنين" فقال عكرمة هو: الحسن بلغه الحبشة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 532. (¬2) قال القرطبي: وأصح هذه الأقوال: الأول، ويعني به من قال: تينكم وزيتونكم، ثم قال: لأنها الحقيقة، ولا يُعْدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل، ثم بين أن من قال بخلاف ظاهر القرآن أنه قول لا دليل عليه. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 111، وإلى هذا ذهب أيضًا الشوكاني في "فتح القدير" 5/ 465. (¬3) قال ابن عطية: لم يختلف أنه جبل بالشام كلم الله عليه موسى، ومنه نودي، وفيه مسجد موسى، فهو الطور. "المحرر الوجيز" 5/ 499، وعزاه إلى كعب الأحبار والأكثرية كل من الخازن في "لباب التأويل" 4/ 391، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 563. كما قال به أيضًا: الحسن، وعكرمة. انظر: "جامع البيان" 30/ 240، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112. وبه قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 118 ب. وقال آخرون: إن الطور هو الجبل من غير تخصيص بأنه الذي كلم عليه موسى. من هؤلاء: عكرمة، وعمر، ومجاهد، والكلبي، وقتادة، ومقاتل، وابن عباس. انظر: "جامع البيان" 30/ 240 - 241، و"الكشف والبيان" 13/ 118 ب. وقال به اليزيدي في "غريب القرآن" ص 434، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص 315. (¬4) "جامع البيان" 30/ 240، و"الكشف والبيان" 13/ 118 ب، و"النكت والعيون" 6/ 301، و"المحرر الوجيز" 5/ 499.

ورواه (عن) (¬1) ابن عباس قال: "الطور" الجبل، "وسينين" الحسن (¬2). (ونحو ذلك روى عطاء عنه (¬3)) (¬4). وقال مجاهد: "سينين" المبارك (¬5). وقال قتادة: "طور سينين": جبل بالشام، مبارك، حسن (¬6). وقال الكلبي: هو الجبل المشجر ذو الشجر (¬7)، وهو قول مقاتل، قال: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين (¬8). وسيناء بلغة النبط (¬9). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "التفسير الكبير" 32/ 10 برواية عكرمة عن ابن عباس، وكذلك في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112، و"الدر المنثور" 8/ 555 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، و"المستدرك" 2/ 528: في تفسير سورة والتين. وقال صحيح ووافقه الذهبي. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "تفسير الإمام مجاهد" 737، و"جامع البيان" 30/ 241، و"الكشف والبيان" 13/ 118 ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 499، و"التفسير الكبير" 32/ 10، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112، و"فتح القدير" 5/ 465. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 382، و"الكشف والبيان" 13/ 118 ب، و"النكت والعيون" 6/ 301 مختصرًا، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112 مختصرًا، و"فتح القدير" 5/ 465. (¬7) "جامع البيان" 30/ 241، و"الكشف والبيان" 13/ 118 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 10، وبمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112، و"فتح القدير" 5/ 465. (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 118 ب، و"زاد المسير" 8/ 275، و"التفسير الكبير" 32/ 10، وبمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112، و"فتح القدير" 5/ 465. (¬9) النَبط، والنَبِيط: قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين والجمع أنباط. "الصحاح" 3/ 193 (نبط)، و"لسان العرب" 7/ 411 (نبط).

(هذا قول المفسرين) (¬1) وسينين مثل سيناء، وقد مضى الكلام فيه (¬2). والأولى عند النحويين (¬3)، أن يكون سينين وسيناء اسمًا للمكان الذي به الجبل، أضيف إلى ذلك المكان سمي: "سينين" و"سيناء" على مَا ذكره المفسرون لحسنه أو لبركته أو لنباته. ولا يجوز أن يكون "سينين" نعتًا للطور لإضَافته إليه. قال أبو علي الفارسي: "سينين" فِعْليل كرِّرت اللام التي هي نون في زحليل (¬4)، وكرديد (¬5)، وخنذيذ (¬6) (¬7)، وإنما لم ينصرف "سينين كما لم ينصرف سيناء لأنه جعل اسمًا للبقعة، أو أرض كما جعل سيناء كذلك، ولو جعل اسمًا للمكَان أو المنزل ونحو ذلك من الأسماء المذكورة لا نصرف؛ لأنك كنت سميت مذكرًا بمذكر (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) عند تفسير الآية: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20]، وقد فسرت بنحو مما جاء هنا: انظر: "البسيط" 4/ 25 ب. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" 13/ 79: (سان). (¬4) الزَّحليل: السريع، وأيضًا المكان الضيق الزَّلِق من الصفاء وغيره."لسان العرب" 11/ 303 (زحل). (¬5) كرديد: الكِرْديِدة: القطعة العظيمة من التمر، وهي أيضًا جُلَّةْ التمر. "لسان العرب" 3/ 379 (كرد). وفي "الصحاح" ما يبقى في أسفل الجُلَّة من جانبيها من التمر: 2/ 531 (كرد). (¬6) الخنذيذ: الشاعر المجيد الْمُنَقّح المُفْلِقُ، وأيضًا: الشجاع البُهْمَة، وأيضًا: السخي التام السخاء: وأيضًا: الخطيب المُصقِع، وأيضًا: السيد الحليم. "لسان العرب" 3/ 289: (خنذ)، وانظر: "تاج العروس" 20/ 61 (خنذ). (¬7) في: (أ): (نزيد). (¬8) نقلاً عن "الحجة" 5/ 290 باختصار شديد.

3

3 - قوله {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} قال المفسرون "يعني البلد الحرام مكة (¬1). يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام. قال الفراء: الأمين: الآمن، تقول: للآمن الأمين، وأنشد (¬2): أَلَمْ تعلمى يَا اَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّنى .... حَلَفْتُ يَمينًا لا أخونُ أميني (¬3) قال: يريد آمنى (¬4). وقال أبو علي: وصفه بالأمين فجرى الوصف على البلد في اللفظ ¬

_ (¬1) حكى الإجماع على ذلك: ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 499، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 463. وممن قال بذلك ابن عباس، وكعب، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وإبراهيم، وابن زيد إلا أنه خصصه بالمسجد الحرام. انظر: "جامع البيان" 3/ 242، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 563، و"الدر المنثور" 8/ 554 - 556. وإلى هذا القول ذهب ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 532، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 343، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 491، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 118 ب، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 301. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 504، "الكشاف" 4/ 222، و"زاد المسير" 8/ 276، و"التفسير الكبير" 32/ 10، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 113، و"لباب التأويل" 4/ 391، و"البحر المحيط" 8/ 490، و"فتح القدير" 5/ 465. (¬2) غير منسوب لأحد. (¬3) ورد البيت أيضًا في "جامع البيان" 30/ 241، و"الكشف والبيان" 13/ 118 ب، و"زاد المسير" 8/ 276، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 113، و"لسان العرب" 13/ 21: (آمن)، و"الأضداد" للأصمعي ص 51، "الأضداد" لابن السكيت 204. موضع الشاهد "أميني" والعرب تقول للآمِنِ: الأمين، والمعنى: كأنه أراد لا أخوان آمني. انظر: "شرح أبيات معاني القران" للفراء 371. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 276.

والمعنى على من فيه من طارئ، وقاطن (¬1)، وهذا أمن في حكم الشرع لا يهاج فيه، ولا يفعل به مَا يكون غير آمن، وهذه كلها أقسام (¬2). ثم ذكر المقسم عليه فقال: قوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} يعني آدم، وذريته. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} معني التقويم: تصيير الشيء على مَا ينبغي أن يكون في التأليف، والتعديل يقال: قومته تقويمًا فاستقام وتقوم (¬3). ولهذا قال المفسرون (في قوله: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}: في أحسن صورة (¬4)، والمعني في أحسن تصوير، والتصوير: تقويم الصورة على ما ينبغي أن تكون في التأليف) (¬5). ¬

_ (¬1) قاطن: قطَن بالمكان أقام به، وتوطنه فهو قاطِن. "مختار الصحاح" ص 544 (قطن)،وانظر: "المصباح المنير" 2/ 615 (قطن). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) جاء عن ابن فارس: قوم: أصلان صحيحان يدل أحدهما: على جماعة ناس، وربما أستعير في غيرهم، والآخر: على انتصاب أو عزم. فقولهم: قام قياماً، والقَوْمة المرَّة الواحدة إذا انتصب، ويكون قام بمعنى العزيمة، كما يقال: قام بهذا الأمر إذا اعتنقه. ومن الباب: قوَّمْتُ الشي تقويماً، وأصل القِيمة: الواو، وأصلُه أنك تُقيم هذا مكان ذاك، قال: بلغنا أن أهل مكة يقولون: استقمت المتاع أي قَوَّمْتُه. "مقاييس اللغة" 5/ 43 (قوم)، وانظر:"لسان العرب" 12/ 498 (قوم). (¬4) قال بذلك: قتادة، والكلبي، وابن عباس بمعناه، وإبراهيم، وأبو العالية، ومجاهد. انظر: "جامع البيان" 30/ 243، و"الدر المنثور" 8/ 557. ورجحه الطبري أيضًا، وقال به الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 343، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 491، وانظر: "لباب التأويل" 4/ 391، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 563. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ).

5

(قال المفسرون) (¬1): إن الله (تعالى) (¬2) خلق كل ذي روح مُكبًا على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة؛ يتناول ما يأكله بيده (¬3). وقال الكلبي: أقسم الله بما ذكر لقد أنعم على الإنسان بتقويم الخلق (¬4). وقال الفراء: يقول إنا لنبلغ بالآدمي أحسن تقويمه، وهو اعتداله، واستواء شبابه، وهو أحسن مَا يكون، ثم رده إلى أرذل العمر (¬5)، (وذلك 5 - قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}) (¬6) (قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: يريد أرذل العمر (¬7)) (¬8)، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) قال بذلك ابن عباس في "جامع البيان" 30/ 244، و"الدر المنثور" 8/ 557، وبه قال السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 491، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 119 أ، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 504، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 114، و"لباب التأويل" 4/ 391. (¬4) "الوسيط" 4/ 524. (¬5) " معاني القرآن" 3/ 276. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ورد قوله من غير ذكر طريق عطاء، أو الكلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 119 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 11، و"الدر المنثور" 8/ 554 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. كما ورد قوله في "تفسير الإمام مجاهد" ص 737 من طريق أبي رزين عنه، و"زاد المسير" 8/ 276 بروإية العوفي عنه، وورد بمثل بروايته لكن عن الكلبي في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 383، و"النكت والعيون" 6/ 302. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وهو قول: إبراهيم (¬1)، وعكرمة (¬2)، (ومقاتل (¬3)) (¬4)، وقتاده (¬5)، قالوا: إلى الهرم. قال ابن قتيبة: السَّافلون هم الضعفاء، والزَّمنى (¬6) (¬7)، والأطفال، ومن لا يستطيع حيلة، ولا يجد سبيلاً، يقال: سَفَل يَسْفُل فهو سَافِل، وهم سَافِلون، كما يقول: عَلا يعْلو، فهو عالٍ، وهم عَالون، وهو مثل قوله، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (¬8)} (¬9)، وأراد أن (الخرف) (¬10) الهرم يَخْرَفُ ويُهْترُ وينقص خلْقه، ويضعف بصره وسمعه، وتقل حيلته، ويعجز عن عمل الصَالحات، فيكون أسفل هؤلاء جميعًا (¬11). وقال الفراء: ولو كانت أسفل سَافل لكَان صوابًا؛ لأن لفظ الإنسان ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في "جامع البيان" 30/ 244، و"زاد المسير" 8/ 276. (¬2) ورد معنى قوله في المرجعين السابقين، وأيضًا: "الكشف والبيان" 13/ 119 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 500، و"الدر المنثور" 8/ 558 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (¬3) بمعناه في "تفسيره" 244 أ. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 383، و"جامع البيان" 30/ 244، و"المحرر الوجيز" 5/ 550، و"زاد المسير" 8/ 276. (¬6) (الزمنا) كلا النسختين. (¬7) الزَّمني: واحدها زَّمانة وهي العاهة، ورجل زَمِن أي مُبتلىً بين الزَّمانة. "لسان العرب" 13/ 199 (زمن)، و"الصحاح" 5/ 2131 (زمن). (¬8) (ثم رددناه إلى أرذل العمر) هكذا جاء في النسختين، وهو تصحيف. (¬9) سورة النحل: 16، وسورة الحج: 5. (¬10) ساقط من (أ). (¬11) "تأويل مشكل القرآن" ص 342 بنصه.

واحد فقيل: سَافلين عى الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع، وأنت يقول: هذا (أفضل) (¬1) قائم، ولا تقول: هذا (أفضل) (¬2) قائمين؛ لأنك تضمر لواحد، فإذا كان الواحد غير (مقصود) (¬3) له رجع اسمهُ بالتوحيد، وبالجمع. كقوله سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، وقال: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الشورى: 48]، [فرد الإنسان على جمع، ورد تصبهم على الإنسان] (¬4) للذي أنبأتك به (¬5) (¬6). وفي الآية قول آخر، قال مجاهد: ثم رددناه إلى النار (¬7)، وهو قول الحسن (¬8)، وأبي العالية (¬9). ¬

_ (¬1) فضل: هكذا جاء في النسختين، وأثبت ما جاء في "المعاني". (¬2) فضل: هكذا وردت في النسختين، وأثبت ما جاء في "المعاني". (¬3) جاء في النسختين (مصمود)، وأثبت ما جاء في المعاني لاستقامة المعنى به. وقد ذكر محقق "معاني القرآن" في الحاشية أنه في الأصل مكتوب: مصمود، وذكر أنه خطأ، وأثبت على ذلك ما جاء عند الطبري. انظر "جامع البيان" 30/ 246. (¬4) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، وأثبته من "معاني القرآن" لانتظام الكلام به. (¬5) بياض في (ع). (¬6) "معاني القرآن" 3/ 277. (¬7) "جامع البيان" 30/ 245، و"الكشف والبيان" 13/ 119 ب، و"النكت والعيون" 6/ 302، و"معالم التنزيل" 4/ 504، و"المحرر الوجيز" 5/ 500، و"زاد المسير" 8/ 277، و"التفسير الكبير" 32/ 11، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 115، و"البحر المحيط" 8/ 490، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 563، و"الدر المنثور" 8/ 555، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (¬8) المراجع السابقة عدا: "النكت"، وانظر أيضًا: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 383، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 430. (¬9) المراجع السابقة عدا "التفسير الكبير"، و"تفسير عبد الرزاق"، والحسن، وانظر: "تفسير أبي العالية" تح: نورة الورثان 2/ 657.

6

قال علي رضي الله عنه: أبواب جهنم بعضها أسفل بعض، فيبتدأ بالأسفل فيملأ، وهي أسفل سَافلين (¬1). وعلى هذا يكون التقدير: ثم رددناه إلى أسفل، أي في أسفل سَافلين، ويدل على هذا القول استثناؤه المؤمنين بقوله: 6 - {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} أي إلا هؤلاء، فإنهم لا يردون إلى النار (¬2). ومن قال بالقول الأول قال: إن المؤمن لا يرد إلى أرذل العمر، (وإن عُمّر وامتد (¬3) وطال عمره) (¬4) لا يصير من الخرف إلى أرذل العمر (¬5). وقد ذكرنا هذا في ابتداء سورة الحج (¬6). قال إبراهيم: المؤمنون إذا بلغوا ذلك كتب لهم من الأجر ما كانوا يعملون في الصحة (¬7). ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 31/ 11. (¬2) قال بذلك الإمام الطبري في "جامع البيان" 30/ 246. (¬3) غير مقروءة في (ع). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) قال بذلك الإمام الطبري: "جامع البيان" 30/ 246. (¬6) سورة الحج: 5 قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}، ومما جاء في تفسيرها: أي أخسه وأدونه، وهو الخرف، يخرف حتى لا يعقل، وبين ذلك بقوله {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ من بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}، قال ابن عباس: يريد يبلغ من السن ما يتغير عقله حتى لا يعقل شيئاً، قال: وليس ذلك إلا في أهل الشرك. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصير في هذه الحالة، واحتج بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: إلا الذين قرؤوا القرآن. (¬7) ورد بنحو قوله في "جامع البيان" 30/ 247، و"زاد الميسر" 8/ 277، و"الدر المنثور" 8/ 557 عزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وهو الذي رجحه الطبري.

ونحو هذا قال قتادة (¬1)، والكلبي (¬2): من أدركه الهرم وكان يعمل عملًا صالحًا كان له مثل أجره [إذا] (¬3) كان يعمل. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يريد إلا الذي قرأ القرآن (¬4). وقال ابن عباس: يقول العبد إذا كان في شبابه كثير الطاعة، ثم كبر وضعف عما كَان يعمل أجرى (¬5) الله له مثل ما كان يعمل في شبابه (¬6). قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ذكر المفسرون فيه قولين أحدهما: غير منقوص ولا مقطوع (¬7). والآخر غير ممنون أي لا يمن به عليهم (¬8)، وهو قول عكرمة (¬9)، ومقاتل (¬10)، قال يجرى الله لعبده محاسنه التي كان ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 247. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) (إذ) في كلا النسختين، وأثبت ما جاء عن قتادة في "جامع البيان" 30/ 247. (¬4) ورد معنى قوله في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 16، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 563، و"الدر المنثور" 8/ 558 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وورد مثل قوله عن عكرمة عن ابن عباس في "معالم التنزيل" 4/ 505، و"لباب التأويل" 4/ 339. (¬5) في (أ): (اجرا). (¬6) "جامع البيان" 30/ 246، و"الدر المنثور" 8/ 558 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬7) قال بذلك ابن عباس في "جامع البيان" 30/ 248، وبه قال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص 533، والسجستاني في "نزهة القلوب" 414، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 505 وعزاه ابن عطية في "المحرر" 5/ 500 إلى كثير من المفسرين. (¬8) قال بذلك أيضًا: الحسن كما في "النكت والعيون" 6/ 302، وبه قال أيضًا أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 303، واليزيدي في "غريب القرآن وتفسيره" ص 334. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) "تفسير مقاتل" 244 ب بمعناه.

7

يعلمها في شبابه وصحته لا يمن به عليه. قال الضحاك: وهو أجر بغير عمل (¬1). وذكرنا هذا في أوائل سورة حم السجدة (¬2). واختار ابن قتيبة القول الأول، وقال: إلا الذين آمنوا وعملوا الصَالحات في وقت القُوَّة والقدرة، فإنهم في حال الكِبَر غير منقوصين، لانا نعلم لو لم نسلبهم القوة لم يكونوا ينقطعون عن عمل الصالحات، فنحن نجري لهم أجر ذلك ولا نَمُنّهُ، أي ولا نقطعه، ولا ننقصه (¬3). 7 - ثم قال {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أيها الإنسان. {بَعْدُ بِالدِّينِ}. أي مجازاتي إياك بعملك، وأنا أحكم الحاكمين (¬4). قال مقاتل: يقول: فما يكذبك أيها الإنسان بعد بيان (¬5) الصورة الحسنة، والشباب، ثم الهرم بعد ذلك بالحسَاب (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 119 ب، و"النكت والعيون" 6/ 303، و"معالم التنزيل" 4/ 505، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 116، و"لباب التأويل" 4/ 391. (¬2) سورة فصلت: 8، وتسمى أيضًا: السجدة، والمصابيح. انظر: "الإتقان" للسيوطي 1/ 157، ومما جاء في تفسيرها: قال ابن عباس: غير مقطوع. وقال مقاتل: غير منقوص. وقال مجاهد: غير محسوب قال المبرد: فيه قولان: أحدهما: غير مقطوع من قولك: مننت الحبل أي قطعته، ومنه قولهم: قد منّه السفر أي قطعه، ويكون غير ممنون: أي لا يمن به عليهم، وهذا معنى قول مجاهد. "البسيط" 4/ 238 ب. (¬3) "تأويل مشكل القرآن" 342. (¬4) بياض في: (ع). (¬5) بياض في: (ع). (¬6) قوله: (الهرم بعد ذلك بالحساب) بياض في (ع). (¬7) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 244 ب، و"الوسيط" 4/ 526.

والمعنى: ألا يتفكر في صورته، وشبابه، وهرمه، فيعتبر، ويقول: إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني (¬1). ومعنى {فَمَا يُكَذِّبُكَ} مَا يجعلك تكذب بالمجازاة بعد هذه الحجج؟. قال الكسَائي: يقول مَا صدقك بكذا، أو ما كذبك بكذا أي: مَا حملك على تكذيبه وتصديقه (¬2) (¬3). وعامة المفسرين على أن هذا خطاب للإنسان المكذب (¬4) بالدين (¬5). قال منصور: قلت لمجاهد: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} عني به محمد؟ فقال: معَاذ الله! إنما عني به الإنسان (¬6) (¬7). وقال قتادة: فمن يكذبك أيها الإنسان بعدها بالدين (¬8) (¬9). واختاره ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) بياض في (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) بياض في (ع). (¬5) قال بذلك الكلبي. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 383، ومقاتل 244/ ب، وعكرمة، وغيره قاله ابن كثير "تفسيره" 4/ 563، كما قال به: الطبري 30/ 249، والسمرقندي 3/ 492، والثعلبي 13/ 119/ ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 505، وعزاه ابن عطية إلى جمهور المفسرين، و"المحرر الوجيز" 5/ 500، وبه قال أيضًا الأخفش في "معاني القرآن" 2/ 740. وذهب آخرون إلى إنما عني بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله قتادة، ورجحه الطبري في "جامع البيان" 30/ 249، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 500، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 466. (¬6) قوله: (إنما عني به الإنسان) بياض في (ع). (¬7) "جامع البيان" 30/ 249، و"المحرر الوجيز" 5/ 500، و"ابن كثير" 4/ 563. (¬8) بياض في (ع). (¬9) قلت: ولعل العبارة عن قتادة: فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين؟ فقد =

8

الفراء، وقال: كأنه يقول: فمن يقدر على تكذيبك (¬1) بالثواب والعقاب بعد ما تبين له من خلقنا الإنسان على مَا وصفناه (¬2)؟!. والخطاب على هذا القول للنبي -صلى الله عليه وسلم-. 8 - قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قال ابن عباس: بأعدل العَادلين (¬3) (¬4). وقال الكلبي: بأفضل الحاكمين (¬5) (¬6). وقال مقاتل: بأقضى القاضيين (¬7). وهذا يحتمل تأويلين: أحدهما: أن هذا تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان؛ ثم رددناه (¬8) إلى أرذل العمر. يقول: أليس الله بأحكم الحاكمين الذي فعل ذلك صنعًا وتدبيرًا (¬9). ¬

_ = جاء عنه ذلك في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 116، و"البحر المحيط" 8/ 490، ويؤيد ذلك اختيار الفراء بأن الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن الإمام الواحدي ذكر قول قتادة، ثم أعقبه بقوله: واختاره الفراء، والفراء اختار أنه خطاب للرسول كما دل عليه كلامه. والله أعلم. ولم أعثر على مصدر لقول قتادة الوارد في المتن. (¬1) بياض في (ع). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 277. (¬3) بياض في (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) في (ع): (بأفضل القاضين). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) بمعناه في "تفسيره" 244 ب بأفصل الفاصلين، وقد ورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 505، و"زاد المسير" 8/ 277. (¬8) في (ع): (رده). (¬9) قال بمعنى ذلك: ابن عيسى كما في "النكت والعيون" 6/ 303، وانظر: "التفسير الكبير" 32/ 12 من غير عزو.

وهذا معنى قول ابن عباس (في رواية عطاء) (¬1). الثاني: إن هذا تنبيِه على حكمه بين نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وبين من كذبه (¬2)، وهو قول مقاتل، قال: يحكم بينك وبين أهل التكذيب يا محمد (¬3). (والله أعلم) (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) انظر: "التفسير الكبير" 32/ 12. (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 505، و"زاد المسير" 8/ 277. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ع).

سورة العلق

سورة العلق

1

تفسير سورة العلق (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أكثر المفسرين، وأهل التأويل على أن هذه السورة أول مَا نزل من القرآن، (وهي أول شيء نزل (¬2)؛ ¬

_ (¬1) مكية بالإجماع، حكى ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 501، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 278، انظر: "الكشف والبيان" 13/ 120 أ، و"الكشاف" 4/ 223. (¬2) وهذا القول مروي عن: عائشة، وعبد الله بن عمر، وأبو رجاء العطاردي، قال الهيثمي عن هذه الرواية: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح: "مجمع الزوائد" 7/ 139، ومجاهد، وأبي موسى الأشعري. انظر: "جامع البيان" 30/ 252 - 253، و"فضائل القرآن" لأبي عبيد 2/ 198 - 199، و"الدر المنثور" 8/ 560. وعزاه الثعلبي إلى أكثر المفسرين: "الكشف والبيان" ج 13/ 120 أ، وكذلك صاحب "معالم التنزيل" 4/ 506، و"لباب التأويل" 4/ 392، وابن حجر في "فتح الباري" 8/ 714. وقال الزمخشري، والنسفي: وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم. وانظر: "الكشاف" 4/ 223، و"مدارك التنزيل وحقائق التأويل" للنسفي 3/ 708، وقد قال بهذا القول ابن عباس، وعزاه القرطبي إلى أبي موسى، وعائشة. رضي الله عنهما وغيرهم. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" =

أول) (¬1) يوم نزل جبريل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو قائم في حِراء (¬2) فعلّمه خمس آيات من هذه السورة (¬3) ¬

_ = 20/ 117، و"الدر المنثور" 8/ 560، و"المستدرك" 2/ 529 وصححه، ونفى ابن حجر أن يكون قال به الأكثر؛ بل قرر أن عدد أقل من القليل بالنسبة إلى القول الأول القائل: إن اقرأ أول ما نزل. انظر: "فتح الباري" 8/ 714. وهناك قول ثالث: مروي عن جابر أن أول ما نزل من القرآن: يا أيها المدثر. وهناك أقوال أخرى: أشهرها ما ذكره الواحدي عن أكثر المفسرين. قال القاضي أبو بكر في الانتصار: وأثبت الأقاويل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ويليه في القوة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وطرق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وأول ما نزل من أوامر التبليغ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة. انظر "البرهان في علوم القرآن" للزركشي: 2/ 207 - 208. وقال ابن تيمية: فسورة {اقْرَأْ} هي أول ما نزل من القرآن، ولهذا افتتحت بالأمر بالقراءة، وختمت بالأمر بالسجود، ووسطت بالصلاة التي أفضلها أقوالها، وأدلها بعد التحريم هو القراءة. ثم عزا القول "إنها من أول ما نزل" إلى جماهير العلماء. انظر: "مجموع الفتاوى" 16/ 254 - 255. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) حراء: جبل، وهو صخري كثير الشعاب، صعب المرتقى، يقع في الشمال الشرقي لمكة، ويجاوره جبل ثبير، واشتهر جبل حراء بالغار الذي يعرف باسمه، كما يطلق عليه اسم جبل النور، لأن مهبط الوحي الأول على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. "القاموس الإسلامي" 2/ 59، وانظر: "معجم ما استعجم" 2/ 432، و"معجم البلدان" 2/ 233. (¬3) لقد وردت أحاديث عدة من طرق مختلفة بهذا المعنى؛ منها ما هو موقوف، ومنها ما هو مرفوع، وأصحها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أوَّلَ ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يُرى رُؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنث فيه. قال: والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجى إلى خديجة، فيتزود بمثلها، حتى فجَأهْ الحق وهو في غار حراء، فجاءه =

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} مجازه: اسم ربك) (¬1)، أن الباء زائدة (¬2) معناه: اقرأ اسم ربك، كما قال (الأخطل) (¬3). هُنَّ (¬4) الحرائِرُ لا رّبَّاتُ أحْمِرةٍ ... سُوُد المحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ (¬5). ¬

_ = الملك فقال: اقرأ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الآيات إلى قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} الحديث. أخرجه: البخاري في "الجامع الصحيح" 3/ 327: ح 4953: كتاب التفسير: باب 96، ومسلم في صحيحه 2/ 556: ح 252. كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وأحمد في "المسند" 6/ 232 - 233. (¬1) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" 2/ 304. (¬2) من أوجه مواضع زيادة "الباء" قال الزمخشري: أن تكون للحال، أي: اقرأ مفتتحًا باسم ربك؛ قل: بسم الله ثم اقرأ. "الكشاف" 4/ 323. أن تكون "الباء" للاستعانة، والمفعول محذوف، تقديره: اقرأ ما يوحي إليك مستعيناً باسم ربك. أنها بمعنى "على" أي اقرأ على اسم ربك. "الدر المصون" 6/ 545. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (من). (¬5) ورد البيت منسوبًا إلى الراعي النميري وهو في "ديوان الراعي" النميري ص 101، و"الدر المصون" 6/ 545، و"المقتضب" 3/ 44 الحاشية وذكر محقق المقتضب أن للقتال الكلابي مثله. معناه: الحرائر جمع حرة، وهي الكريمة الأصيلة، والربات جمع ربة بمعناه الصاحبة، والأحمرة جمع حمار، وخص الحمير لأنها رذال المال وشره، أراد بسود المحاجر: الإماء السود. لا يقرأن بالسور: جاهلات لا يقرأن القرآن. "ديوان الراعي" ص 101.

يعني: لا يقرأن السور، والباء زائدة. ومعنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} اذكر اسمه كأنه أمران يبدأ (¬1) القراءة باسم (ربك، فالجالب) (¬2) للباء معنى الابتداء، وفي هذا دلالة على أن تجب قراءة التسمية في ابتداء كل سورة، كما (¬3) أنزل الله تعالى، وأمر به في هذه الآية ردًا على من لا يرى ذلك ولا يبتدئ بها (¬4). ¬

_ (¬1) في (ع): (يبتدئ). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬3) في (ع): (عما). (¬4) هذه المسألة فيها خلاف: هل البسملة آية من سورة الفاتحة وحدها، أو من كل سورة، أو ليست آية لا من أم الكتاب ولا من كل سورة؟. فمنهم من رأى أنها آية من أم الكتاب، فأوجب قراءتها بوجوب قراءة أم الكتاب عنده في الصلاة. ومن رأى أنها آية من كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة. فالحنفية ترى أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من غيرها من السور إلا جزءاً من آية سورة النمل، وهو مروي عن أحمد، وهي المنصورة عند أصحابه، ومالك، والأوزاعي، وعبد الله بن معبد الرماني. ورواية عن أحمد أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة ذكرت في فاتحتها، وهو أيضًا قول عطاء، والزهري، وعبد الله بن المبارك، وكذلك قال الشافعي هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة غير براءة. انظر تفصيل المسألة بأدلتها في: "حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء" للشاشي القفال 2/ 102، و"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد القرطبي 1/ 125، و"المغنى" لابن قدامة 1/ 480، و"المجموع شرح المهذب" للنووي 3/ 333، و"نيل الأوطار" للشوكاني 2/ 218، و"حاشية الروض الربع شرح زاد المستقنع" لعبد الرحمن بن محمد النجدي: 2/ 24 - 25، و"الفقه الإسلامي وأدلته" د. وهبة الزحيلي 1/ 646، 650، 654.

2

وقوله (¬1) {الَّذِي خَلَقَ} وقال الكلبي: يعني الخلائق (¬2). ثم فسر ذلك فقال: 2 - {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} يعني ابن آدم. {مِنْ عَلَقٍ} جمع علقه، وإنما ذكر العلق بلفظ الجمع، لأنه أراد بالإنسان الجمع، فذهب بالعلق إلى الجمع لمشاكلة رؤوس الآيات، قاله (¬3) الفراء (¬4). 3 - قوله: {اقْرَأْ} تقرير للتاكد. ثم استأنف فقال: (قوله تعالى) (¬5) {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} قال الكلبي: يعني (الحكيم) (¬6) الحليم عن جهل العباد، لا يعجل عليهم بالعقوبة (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (قوله). (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 507، و"فتح القدير" 5/ 468. (¬3) في (أ): (قال). (¬4) "معاني القرآن" 3/ 278 بتصرف. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬6) ساقط من (ع). (¬7) ورد قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 121 أ، ب، و"معالم التنزيل" 4/ 507، و"زاد المسير" 8/ 279. والقول: إن معنى الآية: أي الكريم هو الأشبه بالمعنى، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه دل به على كرمه. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 119 - 120، و"فتح القدير" 5/ 468. وقال ابن تيمية: "سمى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الإكرام بعد إخباره أنه خلق ليتبين أنه ينعم على المخلوقين، ويوصلهم إلى الغايات المحمودة ولفظ الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد لا يراد به مجرد الإعطاء؛ بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن، والكرم كثرة الخير ويسرته". "مجموع الفتاوى" 16/ 293، وانظر: "شرح أسماء الله الحسنى" القحطاني ص 152.

4

4 - قوله {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} قال الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2): علم الكتاب بالقلم. (قال أبو إسحاق: أي علم الإنسان الكتابة بالقلم (¬3).) (¬4) وقال أهل المعاني: قد نوه الله تعالى بالقلم (¬5) إذ ذكره في كتابه معتدًا به في نعمه على خلقه، لأنه لعظيم الشأن بما فيه من الانتفاع (¬6). 5 - وقال صَاحب النظم: مفعول قوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} محذوف، فلما ذكر قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} انتظم بقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} على تقدير الذي علم الإنسان بالقلم مَا لم يعلم؛ إلا أنه كرر ذكر {عَلَّمَ} توكيدًا (¬7). وهذا معنى قول الكلبي؛ (لأنه قال) (¬8): {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} من الكتاب بالقلم. ومن المفسرين من يجعل هذه الآية منقطعة عن الأولى فيقول: معنى {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} علم آدم الأسماء كلها (¬9). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 345 بتصرف. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في (ع): (القلم). (¬6) لم أعثر على مصدر لقولهم، وبمعناه قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة، لولا القلم لم يقم دين، ولم يصلح عيش. "الكشف والبيان" 13/ 121 ب، و"زاد المسير" 8/ 279. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله .. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) قال بذلك كعب الأحبار كما في: "النكت والعيون" 6/ 305، وبه قال السمرقندي =

6

ومنهم من يقول: علم محمدًا ما لم يعلم من الأحكام والشريعة، وقصص النبيين كما قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] (¬1)، وهذا قول ابن عباس (¬2)، وهو ضعيف؛ لأن هذا من أول مَا نزل، ولم يكن قد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك كثير شيء. 6 - قوله (تعالى) (¬3): {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى}. قالوا: نزلت هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة في أبي جهل (¬4). ومعنى: (كلا) قال عطاء: لا يصدق أبو جهل أن الله تعالى علم محمدًا هذا الذي جاء به من النبوة (¬5). وقال مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان إن الله علمه ما لم (يكن) (¬6) يعلم (¬7). ¬

_ =في "بحر العلوم" 3/ 494، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 121 ب، انظر: "معالم التنزيل" 4/ 507، و"زاد المسير" 8/ 279، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 112، و"لباب التأويل" 4/ 393. (¬1) في (أ): (من الأحكام الشرعية)، وهو مكرر ليس في موضعه، ولذلك أسقطته. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 507. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) عزاه الفخر إلى أكثر المفسرين: "التفسير الكبير" 32/ 17، ورواه القرطبي عن ابن عباس في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 123، وانظر: "المحرر الوجيز" 5/ 502، و"زاد المسير" 8/ 279. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "تفسير مقاتل" 245 أ، و"زاد المسير" 8/ 279، و"التفسير الكبير" 32/ 18.

7

وقال صاحب النظم: زعم بعضهم أن (كلا) هاهنا بمعنى حقًا؛ لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون (كلا) ردًا له وهذا كما قالوه في قوله: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر: 32]، فإنهم زعموا أنه بمعنى: إي والقمر، كما يقال: إي ولله (¬1). {إِنَّ الْإِنْسَانَ} يعني أبا جهل. [[ليطغى]] قال مقاتل: كلا إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه، ومركبه، وطعامه، وشرابه، فذلك طغيانه (¬2)، ونحو هذا قال الكلبي: يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام (¬3). 7 - قوله: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} قال الأخفش: معناه لأن رآه، فحذف اللام، كما يقال: إنكم لتطغون إن رأيتكم استغنيتم (¬4). ومثله كثير (¬5). قال الفراء: ولم يقل رأى الإنسان، فقال قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تريد اسمًا وخبرًا؛ نحو الظن، والحسبان، وبابهما، ولا يقتصر في هذا الباب على مفعول واحد، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فتقول: رأيتني وظننتني، وحسبتني، ومتى تراك خارجًا، ومتى ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 18/ 32، و"فتح القدير" 5/ 468. (¬2) "تفسير مقاتل" 245 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 507، كما ورد من غير عزو في: "زاد المسير" 8/ 279. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 121 ب، وبمعناه في: "النكت العيون" 6/ 306، وبمثل قوله قال السدي في "النكت". (¬4) "التفسير الكبير" 32/ 19، وانظر: "التحرير والتنوير" 3/ 444. (¬5) نحو ما جاء في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40].

8

تظنك خارجًا، وقوله: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (1) من ذلك (2). قال مقاتل: إن رأى نفسه غنيا، وكان موسرًا فطغى فخوفه الله بالرجعة (3). 8 - فقال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}. قال أبو عبيدة: المرجع (4). وقال الأخفش: الرجوع (5). وكلاهما (6) مصادر، يقال: رجع إليه يرجع رجوعًا ومرجعًا، ورجعى: مصدر على فُعْلَى (7). 9، 10 - (قوله تعالى) (8): {رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى}. يعني: أبا جهل (9)، قال أبو هريرة: قال أبو جهل: لأن رأيت محمدًا

_ (1) "معاني القرآن" 3/ 278 بتصرف. (2) وقوله مكررة في (أ)، وليس هذا موضعها. (3) "الوسيط" 4/ 529. (4) "مجاز القرآن" 2/ 204، وإليه ذهب ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 533. (5) لم أعثر على مصدر لقوله. (6) في (ع): (ثلاثيها). (7) انظر: "تهذيب اللغة" 8/ 365: (رجع)، و"لسان العرب" 8/ 114 (رجع). (8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (9) قال ابن عطية: ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي أبو جهل، وأن العبد المصلي: محمد -صلى الله عليه وسلم-. "المحرر الوجيز" 5/ 502. قال ابن حجر: وإنما شدد الأمر في حق أبي جهك دون غيره مما بلغ أذاه ما بلغه أبو جهل، وذلك لأن أبا جهل زاد في التهديد وبدعوى أهل طاعته، وبإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك. "فتح الباري" 8/ 724.

-صلى الله عليه وسلم- يصلي لأطأن على رقبته، فأنزل الله هذه الآيات (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه سلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفَّرُ محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفّرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي -زعم- ليطأ على رقبته، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة بيديه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لودنا مني لاختطفته الملائكة عُضواً عُضواً". قال: فأنزل الله عز وجل -لا تدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وذكر تمام السورة. 4/ 2154، ح: 38: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: باب 6. كما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 370، والنسائي في تفسيره: 2/ 534 - 535، ح: 703: سورة اقرأ باسم ربك. وعزاه المزي في "تحفة الأشراف" للنسائي الكبرى 10/ 92 ح 13436 كتاب الملائكة كلاهما بهذا الإسناد. "جامع البيان" 30/ 253، و"النكت والعيون" 6/ 306، و"معالم التنزيل" 4/ 508، و"زاد المسير" 8/ 279، و"التفسير الكبير" 32/ 20، و"لباب التأويل" 4/ 294، و"الصحيح المسند" 235، و"لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص 232، و"الكشف والبيان" 13/ 122 أ، و"الدر المنثور" 8/ 565 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، و"دلائل النبوة" 1/ 189. وممن قال أنها نزلت في أبي جهل: مجاهد، وقتادة، وابن عباس. "جامع البيان" 30/ 254، وعزاه الوادعي صاحب "الصحيح المسند" إلى ابن عباس بسند صحيح 236 بنحوه. وفيه فأنزل الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} إلى قوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}. قال ابن عاشور -بعد ما ذكر رواية أبي هريرة في نزول {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} -: ورواه ابن عباس في نزول {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} لأن كلاهما في أبي جهل. ووجه الجمع بين الروايتين أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود، وهو ما أوله: =

11

ومعنى: أرأيت هاهنا تعجيب للمخاطب، وكرر هذه اللفظة للتأكيد في العجيب. 11 - وهو قوله تعالى: {إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} يعني: العبد المسمى، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬1) 12 - {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}. قال عطاء: مخافة الله، والتناهي عن معاصي الله (¬2). وقال مقاتل: يعني بالإخلاص والتوحيد (¬3). ويكون المعنى على هذا باتقاء الشرك. 13 - {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ}. أبو جهل (¬4) {وَتَوَلَّى} عن الإسلام. ونظم هذه الآية على تقدير: أريت الذي ينهى عبدًا إذا صلى، وهو على الهدى، أمر بالتقوى، والناهي مكذب متولٍ عن الإيمان، أي فما أعجب من ذا، ولكن لما كرر أرأيت بني على ما بعده على الاتصال به، وهذا معنى قول الفراء (¬5)، والأخفش (¬6). ¬

_ = {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} الخ وبعضه تمهيد وتوطئة، وهو {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} إلى (الرجعى). "التحرير والتنوير" 5/ 446 - 447 (¬1) قال بذلك الطبري في: "جامع البيان" 30/ 254، والماوردي في: "النكت والعيون" 6/ 307. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "تفسير مقاتل" 245 ب، وورد بمثله من غير أعزو في: "معالم التنزيل" 4/ 508، و"لباب التأويل" 4/ 394. (¬4) قاله قتادة في "جامع البيان" 30/ 255. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 278. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

14

14 - {أَلَمْ يَعْلَمْ} الناهي: أبا جهل. {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي انه يرى ذلك فيجازيه (¬1). 15 - ثم قال: {كَلَّا} قال مقاتل: كي لا يعلم ذلك (¬2). ثم خوفه بقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} (أي) (¬3) عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه. {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} قال أبو عبيدة: لنأخذن بالناصية، يقال: سفعت بيده أي: أخذت (¬4) بيده، والرجل يُسْفَع برجل طَروقَتِه (¬5). وقال المبرد: السفع الجذب بالإعنات، يقال: سفعه إذا اقتلعه من موضعه بجذب بعضه (¬6). وقال الفراء: [لَنَهِصرنَّها (¬7)] (¬8)، ولنأخذن بها (¬9). ¬

_ (¬1) وهذا جواب لجميع ما تقدم من قوله: {أَرَأَيْتَ} قاله السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 494. (¬2) "تفسير مقاتل" 245 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 23. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (وأخذت بدلاً، أي أخذت). (¬5) "مجاز القرآن" 2/ 304. (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 508 (¬7) في (أ): (لمعصريها)، في (ع): (لنعصرها)، وأثبت ما جاء في مصدر القول. (¬8) لنهصرنَّها، معنى الهَصْر: الكسر، وقد هَصَرَهُ واهْتصره بمعنى، وهَصَرْتُ الغصن وبالغصن إذا أخذت برأسه فأملْتَه إليك. "الصحاح" 2/ 855 (هصر). وقال الفيروزابادي: الهَصْرُ: الجذب بالإمالة، والكسر، والدفع، والإدناء، وعطف شيء صلب كالغصن ونحوه، وكسره من غير بينونة. "القاموس المحيط" 2/ 161 (هصر). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 279 مختصرًا.

وقال الزجاج: يقال سفعت بالشيء إذا أخذت عليه، وجذبته جذبًا شديدًا. والمعنى: لنجرن بناصيته (¬1) إلى النار (¬2). وأنشد الأزهري (¬3): قَومٌ إذَا افزع الصَّرِيخَ رأيتهم ... مِن بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ (¬4) أرادوا أخذ بناصيته (¬5). قال ابن عباس: لنقبضن بناصيته (¬6). ¬

_ (¬1) الناصية: شعر مقدم الرأس "نزهة القلوب" للسجستاني ص 455. قال الماوردي: وقد يعبر بها من جملة الإنسان كما يقال: هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان. "النكت والعيون" 6/ 308. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 345. (¬3) للشاعر حميد بن ثور الهلالي. (¬4) ورد البيت في "ديوانه" 111، ط. الدار القومية: برواية: (إذا سمعوا)، و"تهذيب اللغة" 2/ 108 (سفع) برواية: (فزعوا)، وعزاه محققه إلى حميد بن ثور، كما ورد في "تاج العروس" 5/ 381 برواية: (إذا سمعوا) بدلاً من (فزع) ولم ينسبه، و"المحرر الوجيز" 5/ 503 برواية: (إذا سمعوا الصياح)، وعزاه إلى عمرو بن معدي كرب، و"روح المعاني" 30/ 186: برواية: (إذا أكثر الصياح)، و"تفسير ابن عباس" للحميدي: 2/ 983. ومعنى الصريخ: المستغيث، وهو الناصر أيضًا. ملجم: اسم فاعل من ألجمت الفرس. سافع: آخذ بناصية مهره ليلجمها. يقول: رأيتهم عند الصريخ هذه حالهم. "ديوانه" الحاشية ص 111. (¬5) "تهذيب اللغة" 2/ 108 (سفع). (¬6) ورد معنى قوله في "الدر المنثور" 8/ 566 وعزاه إلى ابن المنذر، وروايته: (لنأخذن).

16

وقال (¬1) مقاتل: لنأخذن بالناصية أخذًا شديدًا (¬2). وقال الحسن: السفع الأخذ (¬3). وهذا كقوله {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41]. قال مقاتل: (ثم أخبر عنه أنه فاجر خاطئ فقال: 16 - {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}) (¬4) قال الكلبي: كاذبة على الله مشركة (¬5). وقال أبو إسحاق: ناصية بدل من الناصية، المعنى: لنسفعًا بناصية (¬6) كاذبة، وتأويله: صَاحبها كاذب خاطئ كما يقال: فلان نهاره صَائم، وليله قائم، المعنى: هو صَائم في نهاره، قائم في ليله (¬7). قال ابن عباس: لما نهى أبو جهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (عن) (¬8) الصلاة انتهره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬9) فقال أبو جهل: أتنتهرني يا محمد، فوالله لقد علمت مَا بها رجل أكثر ناديًا (¬10) مني، فأنزل الله قوله: 17 - {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} (¬11). ¬

_ (¬1) في (أ): (قال). (¬2) "تفسير مقاتل" 245 ب. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين من قول مقاتل: "فتح القدير" 5/ 470. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) في (أ): (بناصيته). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 345. (¬8) في (ع): (من). (¬9) ساقط من (ع). (¬10) في (أ): (أدباً). (¬11) الرواية عن ابن عباس وردت في "سنن الترمذي" 5/ 444، ح: 2349، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، والرواية كما هي عند الترمذي: عن ابن عباس =

أي أهل مجلسه. قاله (1) أبو عبيدة (2). (3) وذكرنا تفسير النادي عند قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} (4)، ونحو

_ = قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا! ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- فزبره، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فقال ابن عباس: فوالله لو دعا ناديه لاْخذته زبانية الله وقد أخرجه أيضًا الإمام أحمد في: "المسند" 1/ 256، 329. وقال الهيثمي: في الصحيح بعضه، ورجال أحمد رجال الصحيح. "مجمع الزوائد" 7/ 139: التفسير: باب سورة اقرأ. كما أخرجه النسائي في "تفسيره" 2/ 535، ح: 704، وقال محققه: إسناده حسن، والطبراني في: "المعجم الكبير" 12/ 137، ح: 12693، وقال محققه: وهو صحيح؛ ولكن من غير الطريق الذي ذكره عن ابن عباس، كما ورد في: "أسباب النزول" للواحدي: تح: أيمن صالح: 396، قال محققه: حسن صحيح، وعزاه إلى الترمذي. وقال محقق أسباب النزول د. عصام الحميدان: وصححه الهيثمي، وهو كما قال 460، و"لباب النقول" ص 232، و"الصحيح المسند" ص 236. كما ورد معناه في: "جامع البيان" 30/ 259، و"معالم التنزيل" 4/ 508، و"لباب التأويل" 4/ 394، و"الدر المنثور" 8/ 564، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي، وأبي نعيم. وعزاه الحافظ في "الثاني" 4/ 186 للحاكم، والبزار، وقال: أصله في "صحيح البخاري". وانظر دراسة إسناد هذه الرواية في: "تفسير ابن عباس" للحميدي 2/ 979. (1) في (أ): (قال). (2) "مجاز القرآن" 2/ 304 بنصه. (3) في (ع): (ونجوماً)، وهي زيادة في الكلام، ووضعت في غير موضعها. (4) سورة العنكبوت: 29، وذكر في تفسيرها: المجلس، ثم جاء إلى سورة مريم: 73 عند قوله: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}، وقد جاء في تفسيرها وأحسن نديا: النَدىَّ فَعيل معنى الفاعل، وهو المجلس، وكذلك النادي، يقال: ندوت =

18

ما (¬1) قال أبو عبيدة (¬2) قال المبرد (¬3)، (والزجاج (¬4)) (¬5): فليدع أهل مجلسه، وكانوا عشيرته، أي: فليستنصر بهم (¬6). 18 - قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال أبو عبيدة (¬7)، (والمبرد (¬8)) (¬9): واحد الزبانية: زبنية، وهو الشديد الأخذ، وأصله من زبِنْتُه إذا دفعته (¬10)، وهو كل متمرد من إنس أو جن، ومثله في المعنى والتقدير: عِفرِية، يقال (فلان) (¬11) زِبْنية، وعِفرية، وجمعه عفارية. وقال الأخفش: قال بعضهم: واحدها الزَبانَي، وقال بعضهم: الزَابن، وقال بعضهم: الزَابْنِية، والعرب لا تكاد تعرف هذا، وتجعله من ¬

_ = القوم أندوهم ندوًا إذا جمعتهم، ويقال للموضع الذي يجتمعون فيه: النادي، والنَديّ لا يسمى ناديًا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لا يكون ناديًا، {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} لذلك سميت دار الندوة بمكة كانوا إذا حزبهم أمر نَدوا إليها، فاجتمعوا للتشاور، وأناديك وأجالسك من النادي. "البسيط" 3/ 211 أ. (¬1) في (أ): (هذا). (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 10 وقوله ورد عند تفسير سورة مريم: 73 قال: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي مجلساً، والنَّدي والنادي، والجميع منها أندية، واستشهد بأبيات من الشعر على ذلك. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 346. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (فليستنصرهم). (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 304. (¬8) ورد قوله في: "التفسير الكبير" 32/ 25. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) في (ع): (رفعته). (¬11) ساقط من (أ).

الجمع الذي لا واحد له مثَل: أبابيل، وعَباديد (¬1) (¬2). قال ابن عباس: يريد الأعوان زبانية جهنم (¬3). ووالله لو دَعا ناديه لأخذته زبانية الله (¬4). وقال مقاتل: خزنة جهنم أرجلهم في الأرض، ورؤوسهم في السماء (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): (عبابيد). (¬2) "معاني القرآن" 2/ 241 باختصار يسير. (¬3) ورد قوله في: "معالم التنزيل" 4/ 508، و"لباب التأويل" 4/ 394. (¬4) قال الوادعي: واخرج ابن جرير: "جامع البيان" 30/ 256 بسند صحيح عن ابن عباس نحوه، وفيه: فأنزل الله {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} فقال: لقد علم أني أكثر هذا الوادي ناديًا، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- فتكلم بشيء، قال داود -يعني أحد رجال السند-: ولم أحفظه. فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فقال ابن عباس: فوالله لو فعل لأخذته الملائكة من مكانه. كما ورد قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 384، و"بحر العلوم" 3/ 495، و"معالم التزيل" 4/ 508، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 127، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 565، و"جامع الأصول" 2/ 431، قال الأرناؤوط، وإسناده حسن. كما أخرجه الترمذي: 5/ 443، ح: 3348: كتاب تفسير القرآن: باب 85، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. كما أنه وردت هذه العبارة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواية ابن عباس في "الجامع الصحيح" للبخاري 3/ 328: ح: 4958: كتاب التفسير: باب: 4 عن ابن عباس قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يُصلي عند الكعبة لأطأن عنقه، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لو فعل لأخذته الملائكة). وانظر مرجع رواية ابن عباس في ص 889، حاشية: 2. (¬5) "التفسير الكبير" 32/ 25، و"زاد المسير" 8/ 281 مختصرًا.

19

وقال قتادة: الزبانية الشُّرَط (¬1) (¬2) في كلام العرب (¬3). وقال الزجاج: هم الملائكة الغلاظ الشداد (¬4). 19 - ثم قال: {كَلَّا} (¬5) أي ليس الأمر على ما عليه أبو جهل. {لَا تُطِعْهُ} في ترك الصلاة. {وَاسْجُدْ} قال مقاتل: وصل لله واقترب إليه بالطاعة (¬6). وقال عطاء: اقترب إلي، فإن العبد أقرب مَا يكون من الله إذا هو سجد (¬7). ونحو هذا قال مجاهد (¬8). ¬

_ (¬1) في (أ): (القرط). (¬2) الشُّرَط: سموا بذلك لأن شُرْطة كل شئ خياره، وهم نخبة السلطان من جُنده. "تهذيب اللغة" 11/ 309: (شرط). (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 384، و"زاد المسير" 8/ 281، و"التفسير الكبير" 32/ 25، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 126، و"الدر المنثور" 8/ 565 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير، ولم أجده عند ابن جرير. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 346. (¬5) في (أ): (تطيعه). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد معزوًا إلى الجمهور في: "زاد المسير" 8/ 281. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمعناه من طريقه إلى أبي هريرة في: "صحيح مسلم" 1/ 350، ح: 215 كتاب الصلاة: باب 42، والحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". (¬8) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 385، و"بحر العلوم" 3/ 495، و"المحرر الوجيز" 5/ 503، و"الدر المنثور" 8/ 566. وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، و"تفسير سفيان بن عيينة" المحايري ص 347.

وقال أبو إسحاق: أي تقرب إلى ربك بطاعته (¬1) ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 346 بنصه.

سورة القدر

سورة القدر

1

تفسير سورة القدر (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} قالوا جميعاً يعني القرآن في ليلة القدر (¬2) ¬

_ (¬1) فيها قولان: أحدهما: إنها مكية، والآخر إنها مدنية. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 122 أ، و"النكت والعيون" 6/ 311، و"زاد المسير" 8/ 282، و"الإتقان" 1/ 36، و"البرهان" 1/ 193. (¬2) حكى الإجماع الفخر في "التفسير الكبير" 32/ 27، وعزاه الألوسي إلى الجمهور. "روح المعاني" 30/ 189. وممن قال به من المفسرين: ابن عباس برواية عكرمة، وسعيد بن جبير، وحكيم بن جبر، والشعبي. انظر: "جامع البيان" 30/ 258، و"بحر العلوم" 3/ 496، و"الكشف والبيان" 13/ 122 ب. كما ذهب إليه ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 226. وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 509، و"المحرر الوجيز" 5/ 504، و"زاد المسير" 8/ 282، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 129، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 524، و"لباب التأويل" 4/ 395، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 566، و"فتح الباري" 8/ 725. وهناك وجه آخر في عود الضمير، قال بعضهم: يعني جبريل. انظر: "النكت والعيون" 6/ 311. وضعف الألوسي، والشنقيطي هذا القول. انظر: "أضواء البيان" 9/ 379، و"روح المعاني" 3/ 189 وبهذا يتضح لنا كما سبق بيانه منهج الإمام الواحدي، من أن القول الضعيف، أو الشاذ مما خالف الجمهور، لا يعتد به، ولا يقيم له وزناً، =

قال ابن عباس (في رواية سعيد بن جبير) (¬1): أنزل القرآن في ليله القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، وتلا هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (¬2) قال: نزل متفرقًا (¬3). وقد ذكرنا هذا عند قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬4)، ¬

_ = وحكاية الإجماع ما كان مجمعًا عليه حقيقة، أو ما كان من قول الجمهور. والله أعلم (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) الواقعة: 75 وعنى باستشهاده بالآية أنه نزل على مثل مساقط النجوم؛ أي أنزل مفرقًا يتلو بعضه بعضاً، وهذا ما وضحه قوله: نزل متفرقًا .. "الإتقان" 1/ 118. (¬3) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 258 برواية حكيم بن جبر، عن ابن عباس بمثله، كما ورد قوله برواية سعيد بن جير عنه بمعناه. "جامع البيان" 30/ 259، و"التفسير الكبير" 32/ 27، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 130، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 566، و"الدر المنثور" 8/ 567، وعزاه إلى ابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، و"دلائل النبوة" للبيهقي 7/ 131: باب ما جاء في نزول القرآن، و"المستدرك" 2/ 530، كتاب التفسير: تفسير سورة أنزلناه برواية حكيم عنه، وقال: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير"، وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" 7/ 140 سورة أنزلناه، وانظر: "الإتقان" 1/ 116 بمعناه. (¬4) سورة البقرة: 185، ومما جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}: قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على محمد نجوماً عشرين سنة. وقال بعضهم: أنزل فيه القرآن: معناه: أنزل في فضله القرآن. نحو أن يقال: أنزل في الصديق كذا آية تريد في فضله. =

(وهذا قول عامة المفسرين (¬1)) (¬2) وقال مقاتل (¬3): أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة، وهم الكتبة (¬4) من الملائكة في السماء الدنيا، وكان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر مَا ينزل به جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة كلها إلى مثلها من القابل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر، ونزل به جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬5) (¬6) (في) عشرين سنة (¬7). ¬

_ = وقال آخرون: أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن، كما يقال: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا آية، تريد في فضله، وأنزل في الخمر كذا يراد به في تحريمها. (¬1) أي نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم مفرقًا في السنين، وهو قول ابن عباس، والشعبي في رواية، وابن جبير. "جامع البيان" 30/ 258، وحكى القرطبي الإجماع على ذلك: "الجامع لأحكام القرآن" 12، ج 2: ص 297. وقال السيوطي: وهذا القول هو الأصح والأشهر، وليه ذهب الأكثرون. وقال ابن حجر: هو الصحيح المعتمد. "الإتقان" 1/ 116، 118، وانظر "البرهان" الزركشي 1/ 228. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ذكر السيوطي في "الإتقان" 1/ 118 أن هذا القول لمقاتل بن حيان، وقد وجدت النص عند مقاتل بن سليمان في تفسيره. (¬4) في (أ): (الكرام). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) في (ع): (عليه السلام). (¬7) "تفسير مقاتل" 246 أ، و" الجامع لأحكام القرآن" 12: ج 2: 297، و"البرهان" 1/ 228، و"الإتقان" 1/ 118، وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع أن القرآن أنزل جملة واحدة، قاله القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" مرجع سابق.

فعلى قول ابن عباس أنزل القرآن جملة واحد في ليلة من ليالي القدر إلى السماء الدنيا. وعلى قول مقاتل: كان ينزل كل ليلة قدر مَا كان ينزل السنة إلى مثلها من القابل. وأما ليلة القدر: فالقدر في اللغة: بمعنى التقدير، وهو جعل الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصَان (¬1). (في ليلة القدر): ليله تقدير الأمور والأحكام (¬2). قال عطاء عن ابن عباس: إن الله (تعالى) (¬3) قدر ما يكون فيها إلى مثلها من قابل (¬4). وقال مقاتل: قدر الله في ليلة القدر أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة (¬5). ¬

_ (¬1) جاء في التهذيب: القدر: القضاء الموفق، يقال قدر الله هذا تقديرًا، قال: وإذا وافق الشيء الشيء قلت: جاء قدرُه. 9/ 18: (قدر). قال ابن فارس: والقدْرة قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها، وهو القَدَر "مقاييس اللغة" 5/ 62 (قدر). (¬2) هذا القول وما يليه أيضًا في سبب تسميتها بليله القدر. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "التفسير الكبير" 32/ 82 بتفصيل أكبر. (¬5) "تفسير مقاتل" 246 أ، وورد بمثله من غير عزو في "معالم التنزيل" 4/ 509، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 130 أ، و"فتح القدير" 5/ 471، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. انظر المراجع السابقة.

وهذا معنى قول (1) مجاهد: هي ليلة الحكم (2). وقال عبد الرحمن السلمى: فقدر أمر السنة كلها في ليلة القدر (3). وذكرنا بيان هذا عند قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} (4). ومعنى القدر في تلك الليلة بيان مَا يكون في السنة للملائكة، لا ابتداء التقدير؛ لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض (5). هذا الذي ذكرنا في معنى ليلة القدر قول عامه العلماء، (والمفسرين (6)) (7).

_ (1) في (أ): (من: قا) غير واضحة، وغير موجودة في (ع)، والكلام يستقيم بدونها. (2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 386، و"جامع البيان" 30/ 259، و"الكشف والبيان" 13/ 122 أ، وعزاه إلى أكثرهم في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 130، و"الدر المنثور" 8/ 567 - 569، وعزاه أيضًا إلى الفريابي، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان 3/ 321: باب في الصيام: فصل في ليلة القدر، وابن أبي شيبة في المصنف: "فتح القدير" 5/ 471. (3) لم أعثر على مصدر لقوله. (4) الدخان: 4، ومما جاء في تفسيرها: فيها: (أي في تلك الليلة المباركة، (يفرق) أي يفصل ويبين، و (الأمر) الحكم المحكم، يعني أمر السنة إلى مثلها من العام المقبل يقضي الله في تلك الليلة ما هو كائن في السنة من الخير والشدة والرخاء والأرزاق، والآجال ويمحو ويثبت ما يشاء) "البسيط" 5/ 13 أمختصراً. (5) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء". "صحيح مسلم" 4/ 2044، ح 16: كتاب القدر: باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام. (6) وهناك أقوال أخرى. راجع ذلك في "المحرر الوجيز" 5/ 505، و"زاد الميسر" 8/ 283، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 130 - 131 (7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

2

وذكر عن الزهري قال: ليلة القدر ليلة العظمة والشرف من قولهم: لفلان قدر عند فلان، أي منزلة وشرف (¬1)، والقول هو الأول. ثم أخبر عن تعظيم هذه الليلة فقال: 2 - (قوله تعالى) (¬2): {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ثم ذكر فضلها فقال: 3 - (قوله تعالى) (¬3): {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. قال مجاهد: قيامها والعمل فيها خير من صيام ألف شهر، وقيامه ليس فيه ليلة القدر (¬4). (وهذا قول مقاتل (¬5)، وسفيان (¬6)، وقتادة (¬7)، واختاره الفراء (¬8)، والزجاج (¬9)) (¬10). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 123 أبنحوه، و"المحرر الوجيز" 5/ 505 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 283، و"فتح القدير" 5/ 472. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 386، و"جامع البيان" 30/ 259، و"النكت والعيون" 6/ 313، و"زاد المسير" 8/ 286، وعزاه إلى أكثر المفسرين كل من: "الكشف والبيان" 13/ 130 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 131، و"البحر المحيط" 8/ 496، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 567. (¬5) "تفسير مقاتل" 246 أ، و"الوسيط" 4/ 536. (¬6) هي رواية سفيان الثوري عن مجاهد: "جامع البيان" 30/ 259، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 567. (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 386، و"النكت والعيون" 6/ 313، و"زاد المسير" 8/ 286، و"ابن كثير" 4/ 567، قال: وهو اختيار ابن جرير، وهو الصواب لا ما عداه، و"الدر المنثور" 8/ 586 وعزاه إلى عبد بن حميد، محمد بن نصر، وابن المنذر. (¬8) "معاني القرآن" 3/ 280. (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 347. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال عطاء عن ابن عباس: ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عَاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب لذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عجبًا شديدًا، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال: يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارًا، وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله ليلة القدر، فقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ (شَهْرٍ)} (¬1) الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك، ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان (¬2)). وقال مالك بن أنس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أري [أعمار] (¬3) الناس) (¬4) فاستقصر أعمار أمته، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل مَا بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من: (ع). (¬2) وردت الرواية عن ابن عباس في "معالم التنزيل" 4/ 512، و"زاد المسير" 8/ 286، و"لباب التأويل" 4/ 397، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 132. كما جاءت عن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في "تفسير مجاهد" 740، و"أسباب النزول" تح: أيمن صالح ص 397، و"لباب النقول" 233 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والواحدي، و"جامع البيان" 30/ 259 - 260، و"النكت والعيون" 6/ 313، و"التفسير الكبير" 32/ 30، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 567، و"السنن الكبرى" للبيهقي 4/ 505 عن أبي نجيح عن مجاهد مختصرًا، وقال: وهذا مرسل، وقال ابن حجر في "الكافي الشاف" ورواه ابن أبي حاتم وغيره عن طريق ابن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به مرسلاً 4/ 186، و"جامع النقول" لابن خليفة ص334. كما ذكرت الرواية من غير بيان طريقها في "بحر العلوم" 3/ 496، و"البحر المحيط" 8/ 497. (¬3) ساقط من النسختين، وأثبت ما جاء في "الموطأ" 1/ 363. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 263: ح: 5، كتاب الاعتكاف: باب 6، =

4

وقال أهل المعَاني: إنما يفضل بعض الأوقات على بعض بما يكون فيه من الخير الجزيل، والنفع الكثير، فلما جعل الله تعالى الخير الكثير يقسم في ليلة القدر كانت خيرًا من ألف شهر (¬1)؛ لا يكون فيه من الخير والبركة مَا في هذه الليلة (¬2). وهذا تحقيق القول الأول. ثم أخبر بما يكون في تلك الليلة فقال: 4 - (قوله) (¬3): {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}. يعني جبريل في قول ابن عباس (¬4)، (ومقاتل (¬5)) (¬6)، والجمهور (¬7). ¬

_ = والرواية عن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكانه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم من طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. وانظر أيضًا: "بحر العلوم" 3/ 296، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 132 - 133، و"الدر المنثور" 8/ 568، وعزاه إلى مالك في "الموطأ"، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 273، ح: 3667. (¬1) في (أ)، و (ع): (شهراً). (¬2) وتفضيلها بالخير على ألف شهر إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة، واستجابة الدعاء، ووفرة ثواب الصدقات، والبركة للأمة فيها. قاله ابن عاشور في "التحرير والتنوير" 3/ 459. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) حكاه عن أكثر المفسرين الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 130 أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 287، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 397، والشوكاني =

وذكرنا ما قيل في تفسير الروح عند قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} (¬1). وقوله: {فِيهَا}. أي في ليلة القدر. قال المفسرون (¬2): تنزل الملائكة، ومعهم جبريل في ليلة القدر بالرحمة من الله، والسلام على أوليائه، فيصلون ويسلمون علي كل عبد قائم، (أو قاعد) (¬3) يذكر الله تعالى، (وهذا المعنى روي أيضًا مرفوعًا (¬4)) (¬5)، وقال آخرون: إنهم ينزلون إلى السماء الدنيا بكل مَا ¬

_ = في "فتح القدير" 5/ 472، وقال به أيضًا سعيد بن جبير في "النكت والعيون" 6/ 313. وإليه ذهب الطبري: "جامع البيان" 30/ 260، السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 496، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 512، و"المحرر الوجيز" 5/ 505، و"الكشاف" 5/ 225. (¬1) سورة النبأ: 38. (¬2) ممن قال بمعنى ذلك: ابن عباس، وعلي، وعكرمة. "جامع البيان" 30/ 260، و"الكشف والبيان" 13/ 130 ب، حمل هذا المعنى القراءة عنهم: (من كل امرئ) فتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم. "النكت والعيون" 6/ 314، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 134، و"مجاز القرآن" 2/ 305. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) وهذا مروي عن انس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان ليلة القدر، نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى). ذكر ذلك الثعلبي عن أنس في "الكشف والبيان" 13/ 130 أ - ب، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 134، وانظر أيضًا: "زاد المسير" 8/ 187 عن أنس، و"الدر المنثور" 8/ 583 مفصلاً، وعزا تخريجه إلى البيهقي عن أنس. وقال ابن كثير: وروى البيهقي في كتاب: فضائل الأوقات عن علي أثراً غريباً في نزول الملائكة ومرورهم على المصلين ليلة القدر، وحصول البركة للمصلين. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 568. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ).

قضاه الله وقدره في السنة (¬1). يدل عليه قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قال مقاتل: يعني بكل أمر قدره الله وقضاه فيما يكون في تلك السنة (¬2). وهذا كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ (مِنْ أَمْرِ) (¬3) اللَّهِ} [الرعد: 11] أي بأمره. وقد مر (¬4). وهذا القول اختيار الزجاج (¬5)، ويدخل في هذا الرحمة والبركة، والخير؛ لأن كل ذلك من أمر الله، فهم ينزلون إلى السماء بكل قدر قضي في تلك السنة إلى الأرض بالخير والرحمة للمؤمنين. يدل على ذلك قوله (تعالى) (¬6): {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ} (¬7). ¬

_ (¬1) قال بنحو ذلك الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 130 ب. (¬2) راجع حاشية: 9 من ص 894، وهذا القول قد حكاه عن أكثر المفسرين كل من: الطبري؛ "جامع البيان" 30/ 260، ابن الجوزي؛ "زاد المسير" 8/ 287، الفخر؛ "التفسير الكبير" 32/ 36، القرطبي إلى ابن عباس في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 133، و"لباب التأويل" 4/ 398 من غير عزو. (¬3) (مر): بياض في (أ). (¬4) ومما جاء في تفسير آية الرعد: (.. لها قولان: أحدهما: أنه على التقديم والتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه، وهو معنى ابن عباس قال: هم الملائكة، وهم من أمر الله. والثاني: أن هذا على إضمار، أي ذلك الحفظ من أمر الله؛ أي مما أمر الله به. وهناك قول ثالث: وهو أن معنى الآية يحفظون بأمر الله). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 347. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.

5

قال ابن عباس (في رواية عطاء: سلام) (¬1) على أولياء الله، وأهل طاعته (¬2). وقال (¬3) الكلبي: كلما لقي الملائكة مؤمنًا أو مؤمنة في ليلة القدر سوا عليه من ربه (¬4)، وهذا قول منصور بن زاذان (¬5) (¬6) (واختيار الفراء (¬7)) (¬8). ويكون التقدير على هذا: ذات (¬9) سلام هي، ثم حذف المضاف، ومعنى ذات سلام: أي فيها سلام الملائكة على المؤمنين. 5 - وفي قوله: {سَلَامٌ} قول آخر، قال مجاهد: هي سالمة من أن يحدث فيها داء أو غائلة (¬10) (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد وردت رواية عن عطاء بمثله في "معالم التنزيل" 4/ 512، و"فتح القدير" 5/ 472. (¬3) في (أ): (قال). (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 260، و"النكت والعيون" 6/ 314، و"معالم التنزيل" 4/ 512، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 134، و"فتح القدير" 5/ 472. (¬5) في (أ): (زيادان). (¬6) ورد قوله في "الكشف والبيان" 13/ 131 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 506، و"البحر المحيط" 8/ 497. (¬7) "معاني القرآن" 3/ 280. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) في (أ): (آت). (¬10) غائله: أي الداهية، يقال أتى غُوْلاً غائلة؛ أي أمراً منكراً داهياً، والغوائل: الدواهي، وقالوا أيضًا: الغائلة: أي الشر. "لسان العرب" 11/ 507، 512 (غول، غيل). (¬11) "تفسير الإمام مجاهد" 740 حاشية، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، =

ثم بين أن تلك الليلة بهذه الصفة إلى الصباح فقال: {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. قال ابن عباس (¬1)، والمفسرون (¬2) (¬3): إلى مطلع الفجر. والمطلع: الطلوع يقول: طلع الفجر طُلُوعًا ومَطلعًا (¬4)، ومن قرأ بكسر اللام (¬5) فهو اسم لوقت الطلوع، وكذلك مكان الطلوع مطلع. قاله الزجاج (¬6). ¬

_ = ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان". وورد بمعناه في "بحر العلوم" 3/ 497، و"الكشف والبيان" 13/ 131 أ، و"النكت والعيون" 6/ 314، و"معالم التنزيل" 4/ 512، و"المحرر الوجيز" 5/ 505، و "زاد المسير" 8/ 287، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 134، و"البحر المحيط" 8/ 497، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 568، و"فتح القدير" 5/ 472. (¬1) لم أعثر على مصدر لكتوله. (¬2) في (أ): (وغيره)؛ بدلاً من: (المفسرين). (¬3) قال بذلك قتادة، والكلبي، وابن زيد. "جامع البيان" 30/ 261، و"النكت والعيون" 6/ 314، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 568، وبه قال الطبري: "جامع البيان" 30/ 261، والثعلبي: "الكشف والبيان" 13/ 131 أ. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 512، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 134، و"لباب التأويل" 4/ 398. (¬4) وهذا معنى قراءه الفتح، وقد قرأ بها: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، ويعقوب. انظر: "كتاب السبعة في القراءت" ص 693، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 787، و"المبسوط" 412، و"الحجة" 6/ 427، و"حجة القراءات" 768، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 385، و"تحبير التيسير" ص 201، و"إتحاف فضلاء البشر" 442. (¬5) ممن قرأ بذلك: الكسائي، وروى عبيد عن أبي عمرو، وخلف، المراجع السابقة. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 348.

وأما (¬1) أبو عبيدة (¬2)، والفراء (¬3)، وغيرهما (¬4)، فإنهم اختاروا فتح اللام، لأنه بمعنى المصدر، وقالوا الكسر: اسم نحو المشرق، ولا معنى لاسم موضع الطلوع هاهنا، وإن حمل على ما ذكره الزجاج من اسم وقت الطلوع صح. وقال أبو علي: أما الكسر فإن المصَادر التي ينبغي أن يكون على المفعَل ما قد كسر منها كقولهم: قد علاه المكبر، والمعجز، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ (¬5) عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، فكذلك كَسْر المطِلعِ جاء شاذًا عما عليه (¬6) بابه (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (أمام). (¬2) "التفسير الكبير" 32/ 37. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 280 - 281، وقد بين أنه أقوى في العربية؛ لأن المطلع بالفتح هو الطلوع، والمطلع المشرق والموضع الذي تطلع منه؛ إلا أن العرب يقولون: طلعت الشمس مطلِعاً فيكسرون، وهم يريدون المصدر كما تقول: أكرمتك فتجتزئ بالاسم من المصدر. (¬4) كأبي علي في "الحجة" 6/ 427، وابن جرير الطبري في "جامع البيان" 30/ 261. (¬5) (يسلونك) في كلا النسختين. (¬6) في (أ): (عليه). (¬7) "الحجة" 6/ 428.

سورة البينة

سورة البينة

1

تفسير سورة لم يكن (¬1) (¬2) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني اليهود والنصارى. {وَالْمُشْرِكِينَ}. يعني مشركي العرب، وذلك أن الكفار كانوا جنسين: أحدهما: أهل الكتاب [الفرق] (¬3) اليهود، والنصارى (¬4) كانوا كفارًا (¬5) بإحداثهم في دينهم مَا كفروا به كقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، و {(¬6) الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]. ¬

_ (¬1) تسمى بسورة أهل الكتاب، وسميت أيضًا: سورة البينة، وسورة القيامة، وسورة البرية، وسورة الانفكاك. انظر: "الإتقان" 1/ 159. (¬2) فيها قولان: أحدهما: أنها مدنية. والآخر: أنها مكية. "المحرر الوجيز" 5/ 507، "زاد المسير" 8/ 288، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 138، "لباب التأويل" 4/ 498، "روح المعاني" 30/ 200. (¬3) في النسختين (لفرق)، وأثبت ما جاء في "التفسير الكبير" 32/ 39 لاستقامة الكلام به. (¬4) بياض في (ع). (¬5) بياض في: (ع). (¬6) في (أ): (هو).

والثاني: المشركون، وأهل الأوثان الذين كَانوا لا ينتسبون إلى كتاب، فذكر الله تعالى الجنسين (¬1) بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (¬2). وقوله: {مُنْفَكِّينَ}. قال أبو عبيدة (¬3)، والأخفش (¬4)، والمبرد (¬5): زائلين. وأنشد أبو عبيدة (¬6) لذي الرمة: حَراجِيجُ لا تنْفكُّ إلاَّ مُناخَةً على ... الخَسْفِ أو نرمي بها بَلَدًا قَفْرا (¬7) (¬8) ¬

_ (¬1) غير مقروء في: (ع). (¬2) ما جاء في تفسير {وَالْمُشْرِكِينَ} قد نقله الفخر بنصه في "التفسير الكبير" 32/ 39، 40. (¬3) "مجاز القرآن" 2/ 306. (¬4) "تهذيب اللغة" 9/ 458 (فك). (¬5) لم أعثر على مصدر لفوله. (¬6) لم أجده في: "مجاز القرآن"، وهو من شواهد الفراء في معانيه 3/ 281. (¬7) (أو نرمي به بلداً قفرًا): غير مقروءة في: (ع). (¬8) ورد البيت في: "ديوانه" 3/ 1419، "تهذيب اللغة" 9/ 459 (فك)، "لسان العرب" 10/ 477 (فك)، وكلاهما برواية: قلائص بدلاً من حراجيج، "الصحاح" 4/ 1603 (فكك) برواية (ما تنفك) بدلاً من (لا تنفك)، "تاج العروس" 7/ 169 برواية (قلائص) بدلاً من (حراجيج). "معاني القرآن" الفراء 3/ 281، "كتاب سيبويه" 3/ 48، "مغنى اللبيب" 1/ 131 ش: 107، "شرح المفصل" 7/ 106 (ما تنفك) بدلاً من (لا تنفك)، "الهمع" 1/ 120 ط. دار المعرفة، "إعراب القرآن" للنحاس: 5/ 272. معنى البيت: حراججع: الطوال، جمع حرجوج: يقول: لا تفارق هذه الأبل السير إلا في حال إناختها. الخسف: الإذلال: وهو أيضًا المبيت على غير علف، كتاب =

وأنشد أيضًا للكميت (¬1) ولم تنفكك مما على من يكيده ... غبار (¬2) أثارته السنابك أصهب (¬3) ومعنى انفك: (انفصل، يقال: فككت الشي فانفك) (¬4)، ويستعمل بمعنيين، الأصل واحد: أحدهما: الانفكاك الذي هو الانفصَال والبينونة من الشيء بعد الملابسة والاجتماع، تقول: قد انفككت منك، وانفك الشيء من الشيء (¬5). (والثاني بمعنى: ما زال (¬6)، ولا يزال، يقول: مَا انفك يفعل كذا، ولا ينفك يفعل كذا، وإذا استعمل بهذا المعنى فلا بد من أن يكون معه جحد (¬7)، يقول: ما انفككت (¬8) أذكرك (¬9). تريد: مَازلت أذكرك، وأصله هذا ¬

_ = سيبويه حاشية: 3/ 48. يقول ما ينفصل عن جهد ومشقة إلا في حال اناختها على الخسف، وَرَمْي البلد القفر بها، أي تنتقل من شدة إلى شدة شرح أبيات "معاني القرآن" ص 130. (¬1) في (ع): (بياض). (¬2) في (أ): (غبارًا). (¬3) لم أعثر عليه في ديوانه. (¬4) ما بين القوسين من قول الليث؛ نقله عن الواحدي من: "تهذيب اللغة" 9/ 457 - 458 (فكك). وانظر: "الصحاح" 4/ 1653 (فكك)، و"لسان العرب" 10/ 475 (فكك). (¬5) بياض في: ع. (¬6) في (أ): (وأزال). (¬7) أي: (نقي). (¬8) في (أ): (انفككت). (¬9) في (أ): (أذكر).

أيضًا من الانفصال من ذكرك) (¬1). ومن هذا قول طرفة: فآلَيَت (¬2) لا يَنْفَك كَشْحي بِطانَةً ... لِعَضْبٍ رَقيِقِ الشَّفْرَتيِنِ مُهَنّدِ (¬3) أي لا يزال. وكذلك قول الكميت الذي أنشدناه، فأما قول ذي الرمة: لا ينفك إلا مناخة. فجعله الفراء من الانفكاك الذي هو الانفصَال، قال: لأنك لا تقول: مَازلت إلا قائمًا، ودخول (إلا) في قوله: (إلا مناخة) يدل على قوله أنه لم يرد لا ينفك: لا يزال. وجعله غيره (¬4) بمعنى: لا تَزال (¬5)، وتكون (لا) صلة (¬6) للضرورة، أو تحقيقًا لحالتيها من الإناخة على الخسف، أو السير عليها. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين من قول الفراء نقله عنه بتصرف: "معاني القرآن" 3/ 281. وانظر: "تهذيب اللغة" 9/ 458 - 459. (¬2) في (أ): (ماليت). (¬3) ورد البيت في: "ديوانه" ص 37، ط. المؤسسة العربية، "الكشف والبيان" 13/ 132/ أبرواية "الرقيق"، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 140. معنى البيت: لا ينفك: لا يزال. وما انفك: ما زال. البطانة: نقيض الظهارة. العضب: السيف القاطع. شفرتا السيف: حداه، والجمع: الشفرات والشفار. يقول: ولقد حلفت أن لا يزال كشحي لسيف قاطع رقيق الحدين طبعته الهند منزلة البطانة للظهارة. "ديوانه" ص 37. (¬4) كالمازني، وأبي جعفر. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 5/ 272، و"شرح المفصل" 7/ 106 - 107. (¬5) في (ع): (ما زال). (¬6) أي: (زائدة).

وأما الذي في الآية فهو من الانفصال، وليس بمعنى: لم يزالوا (¬1). قال عطاء (¬2)، والكلبي (¬3) عن ابن عباس: لم يكونوا منتهين عن كفرهم بالله وعبادتهم غير الله (وهو قول قتادة (¬4)، ومقاتل (¬5)) (¬6). قوله تعالى: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} قال ابن عرفة: أي حتى أتتهم (¬7)، لفظه لفظ المضارع، ومعناه الماضي (¬8). وهذا كقوله: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي مَا تلت، وقد مر بيانه. وقوله: {الْبَيِّنَةُ} هو قال ابن عبا لهم س: يريد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (¬9)، وهو قول مقاتل؛ قال: يعني محمدًا مبين لهم ضلالتهم وشركهم (¬10). ومعنى {الْبَيِّنَةُ}: الحجة الظاهرة التي يتميز بها الحق من الباطل، ¬

_ (¬1) بياض في: (ع). (¬2) "الوسيط" 4/ 539. (¬3) المرجع السابق. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 387، "جامع البيان" 30/ 262، "ابن كثير" 4/ 574، "الدر المنثور" 8/ 588 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬5) "تفسير مقاتل" 246 أ. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) غير واضحة في: (ع). (¬8) "تهذيب اللغة" 9/ 458 (فك)، وانظر: "لسان العرب" 10/ 477 (فكك). (¬9) "الوسيط" 4/ 539، "مجموع الفتاوى" 5/ 89، وقال بمثله قتادة في: "بحر العلوم" 3/ 498. (¬10) "الوسيط" المرجع السابق، وانظر: "مجموع الفتاوى" 15/ 89 وعبارته: وإنها البيان.

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بينه (¬1)، وإقامة الشهادة العَادلة بينة، وكل برهان بينة. ويقول زيد: بيني على هذا الأمر، إذا كان شهد لك في دعواك (¬2). ومعنى الآية: إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لم (¬3) ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد -صلى الله عليه وسلم- (بالقرآن) (¬4)، فبين لهم ضلالتهم (¬5)، وجهالتهم، ودعَاهم إلى الإيمان" فآمنوا، ولم يكونوا مؤمنين منفصلين عن كفرهم (¬6) قبل بعثه (¬7). وهذا بيان عن النعمة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والإنقاذ (¬8) به من الجهل والضلالة. والآية فيمن آمن من الفريقين، وهذه الآية من أصعب (¬9) ما في القرآن ¬

_ (¬1) بمعنى هذا القول جاء عن الثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 132 أ. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) في (أ): (لن). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) بياض في: (ع). (¬6) بياض في: (ع). (¬7) وقد رجح الإمام الطبري هذا المعنى للآية الكريمة في: "جامع البيان" 30/ 262، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 132/ أ، وذهب إلى ترجيحه أيضًا البغوي في: "معالم التنزيل" 4/ 513، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 289، وقال ابن تيمية عن هذا القول: إنه الأشهر عند المفسرين. "مجموع الفتاوى" 16/ 489، على أنه رجح قولاً آخر وهو: المراد أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول: 16/: 494، وهناك أقوال أخرى ذكرت فيما ذكرت من مراجع في هذا الشأن، وقد فندها ابن تيمية في "مجموعه": 16/ 480 وما بعدها، بالإضافة إلى ذكرها في: "معاني القرآن" للفراء 3/ 281، و"النكت والعيون" 6/ 315، و"المحرر الوجيز" 5/ 507. (¬8) في (أ): (الاعاد). (¬9) في (أ): (أضعف).

نظماً وتفسيرًا، وقد تخبط فيها الكُبَار من العلماء، وسلكوا في تفسيرها طرقاً لا تفضي بهم إلى الصواب. والوجه في تفسيرها: ما أخبرناك به، فأحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال (¬1) ويدل على هذا المراد بالبينة محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه أبدل منها فقال: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ}. قال أبو إسحاق: رسول: رفع على البدل من البينة، والتفسير لها (¬2). ¬

_ (¬1) قال الفخر تعليقاً على ما قاله الإمام الواحدي، وبعد ما ذكر قوله في معنى الآية: ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها. "التفسير الكبير" 32/ 38. ثم قال: (وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا؛ لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة (حتى) لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول، (فحينئذ يحصل بين الآية الأولى، والآية الثانية مناقضة في الظاهر. هذا منتهى الإشكال فيما أظن. والجواب عنه من وجوه: أولها، وأهمها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف، وهو أن الكفار من الفريقين: أهل الكتاب، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد -صلى الله عليه وسلم-: لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق، ولا أفرهم على الكفر إلا مجيء الرسول). "التفسير الكبير" 32/ 38 - 39، وانظر: "الكشاف" 4/ 226. (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 349.

وقال الفراء: "رسول" نكرة استؤنف على البينة، وهي معرفة كما قال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] (¬1) فقال: قوله (¬2) (تعالى) (¬3): {يَتْلُو صُحُفًا (مُطَهَّرَةً)} (¬4). هذا من نعت الرسول، والصحف جمع صحيفة، وهي ظرف للمكتوب. والمعنى يتلو (¬5) ما يتضمن الصحف من المكتوب فيها، يدل ذلك على أنه كان يتلو (¬6) على ظهر قلبه، لا عن كتاب، لأنه كان أميًا لا يكتب (¬7). وقوله: {مُطَهَّرَةً} وقال ابن عباس: يريد من الكذب، والزور، والشك، والنفاق، والضلال، والشبهات (¬8). (وقال مقاتل: من الكفر، والشرك (¬9)) (¬10). وقال أبو إسحاق: أي هي مطهرة من الباطل (¬11). يدل على ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 3/ 282 بنصه. (¬2) في (ع): (وقوله). (¬3) ساقط من (ع). (¬4) ساقط من (ع). (¬5) (يتلوا): هكذا في النسختين. (¬6) في: (أ)، (ع): (يتلوا). (¬7) نقله الفخر عن الواحدي: "التفسير الكبير" 32/ 42، والشوكاني: "فتح القدير" 5/ 475 وعزاه إلى الواحدي. (¬8) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 142 من غير ذكر الكذب والشبهات. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 349.

3

هذا قوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، وهذا كقوله: {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 13]، وهذا قول قتادة: مطهرة من الباطل، وهو القرآن يذكر بأحسن الذكر، ويثني عليه أحسن الثناء (¬1). و (المطهرة): جرت نعتًا للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن، ولكن لما كانت الصحف مذكوة دون مَا فيها أجرى النعت عليها، وهو لما فيها؛ كما أن المراد بالصحف مَا فيها. ويبين ما ذكرنا: 3 - قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}. قال عطاء: يريد مستقيمة (¬2). وقال الكلبي: صَادقة (¬3). وقال (¬4) (مقاتل: كتب مستقيمة ليس فيها عوج ولا اختلاف، قال:) (¬5) وإنما سميت كتبًا؛ لأن فيها أمورًا شتى كثيرة مِمَّا ذكر الله في القرآن (¬6). (وقال أبو إسحاق: كتب مستقيمة غير ذات عوج؛ تبين الحق من الباطل على الاستواء (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 263، "النكت والعيون" 6/ 316، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 142 مختصرًا جدًا، "تفسير القرآن العظيم" 4/ 547، "الدر المنثور" 8/ 588 وعزاه إلى عبد الرزاق، -قلت: ولم أجده عند عبد الرزاق-، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، "فتح القدير" 5/ 475 مختصرًا جدًّا. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (أ): (قال) بغير واو. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "تفسير مقاتل" 246 ب، وانظر: "زاد المسير" 8/ 289 من غير عزو. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 350 بيسير من التصرف. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال أبو عبيدة: القيامة القائمة العادلة (¬1). وذكرنا تفسير القيم عند قوله: {دِينًا قِيَمًا} (¬2)، وهو من قام يقوم كالسيد والميت (¬3). قال صاحب النظم: (قيمة) مستوية محكمة؛ من قام يقوم إذا استوى، وصح من قولهم: قام الدليل على كذا، إذا أُظهِر (¬4) واستقام، ويجوز أن تكون (القيمة) بمعنى القائمة، ما (¬5) يراد منها من الحجة (¬6) من قولهم: قام فلان بالأمر يقوم به، إذا أجراه على وجهه، ومنه يقال: للقائم بأمر القوم: القيم. وفي الحديث: "ما أفلح قوم قيمتهم امرأة" (¬7)، فيكون المعنى: كتب قيمة بالأحكام والحجج. والقول الأول أظهر، وهو قول المفسرين (¬8)؛ لأن هذا الثاني لا ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 306 بنصه. (¬2) سورة الأنعام: 161، ومما جاء في تفسير قوله تعالى: {قِيَمًا}: "قال ابن عباس: يريد مستقيمًا، ويجوز ذلك، قال الأخفش، والزجاج في القيم: وهو من باب الميت والصيب ونحوه". (¬3) بياض في (ع). (¬4) في (ع): (قام). (¬5) في (ع): (مما) (¬6) بياض في (ع). (¬7) أخرجه أحمد في "المسند" 5/ 50 بلفظ: (ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة" من طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة). (¬8) قال به الطبري في "جامع البيان" 30/ 263، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 499، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 132 أ، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 512.

يحتاج إلى تقدير محذوف. ومعنى الكتب في قوله: {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} هو الآيات المكتوبة في الصحف. قال صَاحب النظم: وتكون كتب بمعنى حكم، كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] أي حَكَم الله. ومنه حديث العسيف (¬1): "لأقضين بينكما بكتاب الله" (¬2): أي بحكم ¬

_ (¬1) عسيفًا: أي أجيرًا، وجمعه عسفاء. "شرح صحيح مسلم" 11/ 218. (¬2) أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح" 2/ 266 - 267، ح 2965، 2696: كتاب الصلح: باب 5، من طريق أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله اقضِ بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق اقضِ بيننا بكتاب الله، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأقضين بينكم بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. وأما أنت يا أنيس لِرجل فاغدُ على امرأة هذا فارجمها"، فغدا عليها أنيس فرجمها. وفي البخاري أيضًا 2/ 276، ح 2724، 2725: كتاب الشروط: باب 9، وفي 4/ 256، ح 6827، 6828: كتاب الحدود: باب 30، وفي 4/ 259، ح 6835، 6836: كتاب الحدود: باب 34، وفي 4/ 261، ح 6842، 6842: كتاب الحدود: باب 38، وفي 4/ 264، ح 6859، 6860: كتاب الحدود: باب 46، وفي 4/ 341، ح 7193، 7194: كتاب الأحكام: باب 39، وفي 4/ 355، ح 7260: كتاب الآحاد: باب 1، وفي 4/ 355، ح 7260: كتاب الاعتصام: باب 2، وفي 4/ 359، ح 7278، 7279: كتاب الاعتصام: باب 2. ومسلم في "صحيحه" 3/ 1324، ح 25: كتاب الحدود: باب 4. وأبو داود في "السنن" 2/ 505: كتاب الحدود: باب في المرأة التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- =

4

الله (¬1). فيحتمل على هذا أن يكون {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أحكامًا قيمة. ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب. 4 - قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. قال المفسرون: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد -صلى الله عليه وسلم-، لأن نعته معهم، فلما بعثه الله تفرقوا في أمره، واختلفوا، فآمن به بعضهم، وكفر آخرون (¬2). وهذا المعنى مذكور في مواضع من التنزيل كثير (¬3). ¬

_ = برجمها من جهينة ومالك في "الموطأ" 2/ 627، ح 6: كتاب الحدود، وأحمد في المسند: 4/ 115، 116، والدرامي 2/ 619، ح 2231: كتاب الحدود: باب 12، وابن ماجه في "سننه" 2/ 85، ح 2577: كتاب الحدود: باب 7، والترمذي في سننه: 39، ح 1433: كتاب الحدود: باب 8، والنسائي في "سننه" 8/ 632 - 633، ح 5425، 5426: كتاب آداب القضاء: باب 22. (¬1) ورد قول صاحب النظم في "فتح القدير" 5/ 475، ومن غير عزو في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 143. (¬2) حكاه عن الأكثرين: البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 513، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 289، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 475، وقال به الطبري في "جامع البيان" 30/ 263، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 143، و"لباب التأويل" 4/ 399. (¬3) نحو قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشوري: 14].

5

والمراد بالبينة النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1) كما ذكرنا آنفًا (¬2) وذكر الله تعالى فريقين (¬3) من الكفار في أول السورة أسلموا لما آتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر هاهنا فرقة واحدة ثبتوا على الكفر، وهم من أهل الكتاب؛ ذلك لأن المشركين لم يقروا على دينهم، فمن آمن منهم صار مؤمنًا، ومن لم يؤمن قوتل وأريق دمه، بخلاف أهل الكتاب الذين تفرقوا على دينهم بأخذ الجزية (¬4). ثم ذكر بماذا كانوا أمروا في كتبهم فقال: 5 - (قوله) (¬5): {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. قال ابن عباس: يريد وما أمروا في التوراة والإنجيل (¬6). وقال مقاتل: يقول: وما أمرهم محمد إلا ليعبدوا الله؛ يعني أنه لم ¬

_ (¬1) قال بذلك أيضًا: عكرمة، وابن جريج: "الدر المنثور" 8/ 588 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬2) آية: 1 من هذه السورة. (¬3) من أول السورة إلى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. ومن قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج. "الكشف والبيان" 13/ 132 ب. (¬4) المراد بالجزية: الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالاً وصغاراً، واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغاراً، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً. "أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزية 1/ 22، "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" للماوردي 181. وقد أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس. "أحكام أهل الذمة" 1/ 1. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 514، "لباب التأويل" 4/ 399، كما ورد بمثله من غير عزو في: "التفسير الكبير" 32/ 43، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 144.

يأمرهم إلا بإخلاص العبادة له، فكان من حقهم أن يطيعوه (¬1). وقال الفراء في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} العرب تجعل (اللام) في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرًا (¬2)، من ذلك قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} [الصف: 8] قال في الأمر: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} [الأنعام: 71]، وهي (¬3) من قراءة عبد الله: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله (¬4) (¬5). وقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال أبو إسحاق: أي يعبدونه موحدين له، لا يعبدون معه غيره (¬6)، ويدل على هذا قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] وقوله: {حُنَفَاءَ} قال ابن عباس: على دين إبراهيم (¬7). وذكرنا معنى الحنيف والحنفاء فيما تقدم (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 246 ب بمعناه. (¬2) في (أ): (كثير). (¬3) في (أ): (وفي). (¬4) قراءة عبد الله شاذة السند لعدم ورودها في كتب التواتر، وهي من باب البيان، وليست القراءة القرآنية. (¬5) "معاني القرآن" 3/ 282. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 350 بنصه. (¬7) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 144، وورد بمثله عن مجاهد في: "التفسير الكبير" 32/ 46، كما ورد من غير عزو في: "زاد المسير" 8/ 290، و"لباب التأويل" 4/ 399. (¬8) جاء ذلك في مواضع عدة منها: سورة البقرة: 153، سورة النساء: 135، سورة الأنعام: 79، ومما جاء في تفسير آية 135 البقرة: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وأما معنى الحنيف قال ابن دريد: الحنيف العادل عن دين إلى دين، وبه سمي =

قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}. يعني المكتوبات في أوقاتها. {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} عند محلها. قال أبو إسحاق: المعنى أنهم أمروا مع التوحيد بالإيمان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإقامة شرائعه (¬1). ثم ذكر أن ذلك هو الإخلاص فقال (¬2): {وَذَلِك} أي ذلك الذي أمروا. {دِينُ الْقَيِّمَةِ} قال ابن عباس: يريد الدين المستقيم (¬3). قال المبرد (¬4)، (وأبو العباس (¬5)) (¬6)، وأبو إسحاق: وذلك دين الملة ¬

_ = الإسلام الحنيفية؛ لأنها مالت عن اليهودية، والنصرانية قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: من أين عرف في الجاهلية الحنيف؟ قال: لأن من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عندهم، وكان من حج البيت سمي حنيفاً، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا الحج قالوا: هلموا نتحنف، فالحنيف: المسلم؛ لأنه مال عن دين اليهود والنصارى إلى دين الإسلام، ومنه قيل للميل في القدم: حنف. وعن أبي زيد أنه قال: الحنيف: المستقيم. وهذا القول اختيار ابن قتيبة، والرياشي قالا: الحنيفية: الاستقامة على دين إبراهيم. وأما التفسير فروي عن ابن عباس أنه قال: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. وقال مجاهد: الحنيفية: اتباع الحق، وروي عنه أيضًا: الحنيفية اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماماً للناس بعده من الحج. وقيل: الحنيفية: إخلاص الدين لله وحده "البسيط" 1/ 9 أباختصار. (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 350 بتصرف. (¬2) في (أ): (يقال). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "التفسير الكبير" 32/ 47. (¬5) ويراد به أحمد بن يحيي ثعلب، وقد ورد قوله في "مجالس ثعلب" 1/ 59، وعبارته: الأمة القيمة. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ).

6

القيمة. (والقيمة) (¬1) نعت موصوف محذوف (¬2). قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون المعنى: ذلك دين الأمة القيمة بالحق (¬3). وفي القيمة هاهنا قولان: ذكرناهما في قوله: {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}: أحدهما: دين الملة القيمة، أي المستقيمة، والآخر ما ذكره أبو إسحاق. وقال الفراء في قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} هو مما (¬4) يضاف إلى نفسه لاختلاف لفظيه (¬5) (¬6). وهذا لا يجوز عند البصريين (¬7) على أنه لو كان على ما قال لقيل: دين القيم كما قال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬8). ثم ذكر مَاَل الفريقين فقال: 6 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}. ¬

_ (¬1) في (ع): (فالقيمة). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 350. (¬3) المرجع السابق. (¬4) في (أ): (ما). (¬5) في (أ): (لفظه). (¬6) "معاني القرآن" 3/ 282. (¬7) واحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا بأنه لا يجوز لأن الإضافة إنما يراد بها التعريف، والتخصيص، والشيء لا يتعرف بنفسه، لأنه لو كان فيه تعريف كان مستغنياً عن الإضافة، وإن لم يكن له تعريف كان بإضافته إلى اسمه أبعد من التعريف؛ إذ يستحيل أن يصير شيئاً آخر بإضافتة الله إلى اسمه، فوجب أن لا يجوز؛ كما لو كان لفظهما مُتفقاً. "الإنصاف" 2/ 437 - 438. (¬8) سورة التوبة: 36، سورة يوسف: 40، سورة الروم: 30.

قال ابن عباس: يريد شر الخلائق (¬1). وقال مقاتل: يعني شر الخليقة من أهل الأرض (¬2). (وقراءة البرية، بغير همز (¬3)، وهو من برأ الله الخلق، والقياس فيها الهمز إلا أنه مما ترك همزه: كالنبيّ، والذرية، والخابية، والهمز فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال، كما أن من همز صَار النبيء كان كذلك، وترك الهمز فيه أجود، وإن كان الهمز الأصل، لأنه لما تُرك همزه صار همزه كردّه إلى الأصول المرفوضة مثل هَتَنُوا وما أشبهه (¬4) من الأصول التي لا تستعمل، وهمزُ من هَمَزَ (البرية) يدل على فساد قول من قال إنه من البر الذي هو التراب، ألا ترى أنه لو كان كذلك (¬5) لم يجز قول من همزه على حال إلا على وجه الغلط، كما حكوا استلأمْتُ (¬6) الحجر، ونحو ذلك من الغلط الذي لا وجه له في الهمزة (¬7)) (¬8). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وورد بمثله من غير عزو في "لباب التأويل" 4/ 400. (¬2) "تفسير مقاتل" 246 ب، وورد بمثله من غير عزو في: "فتح القدير" 5/ 476. (¬3) قرأ: نافع، وابن عامر: (خير البريئة)، و (شر البريئة)، مهموزتين، وقرأ هشام بن عمار عن ابن عامر بغير همز. وقرأ الباقون: (شر البرية)، و (خير البرية) بلا همز مع تشديد اليائين. انظر: و"السبعة في القراءات" 693، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 789، و"الحجة" 6/ 428، و"المبسوط" 413، و"حجة القراءات" 769، و"المهذب" 2/ 329. (¬4) في (أ): (ما اسمه). (¬5) في (أ): (ذلك). (¬6) في (أ): (السلامة). (¬7) في (أ): (بالهمزة). (¬8) ما بين القوسين نقله بيسير من التصرف عن "الحجة" 6/ 428.

7

ثم ذكر ما مستقر من صدق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: 7 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}. وهو ظاهر التفسير إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. في الدنيا وتناهى (¬1) عن معاصيه. ¬

_ (¬1) في (أ): (تناها).

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة

1

تفسير سورة إذا زلزلت (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي إذا حركت حركة شديدة، وذكرنا (¬2) تفسير الزلزال عند قوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬3)، وأضيف المصدر هَاهنا إلى المفعول، لموافقة رؤوس الآيات التي جاءت بعدها. قال المفسرون: وذلك عند قيام السَاعة تحرك الأرض فتضطرب حتى يكسر كل شيء عليها، ويخرج كل شيء أدخل فيها (¬4). ¬

_ (¬1) فيها قولان: أحدهما: أنها مدنية، والآخر: أنها مكية. "زاد المسير" 8/ 291، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 146، و"البحر المحيط" 8/ 500. (¬2) في (أ): (ذكرنا بغير واو). (¬3) سورة الأحزاب: 11، ومما جاء في تفسيرها: قوله {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} أي أزعجوا وحركوا، يقال: زل فلان عن مكانه وزلزله غيره، وقال مقاتل: جهدوا جهداً شديداً، وقال عبد الله بن مسلم: أي شدد عليهم وهول. والزلزال: الشدة، والزلزال: الشدائد وأصلها من التحريك. (¬4) قال بذلك مقاتل في تفسيره: 246 ب، الطبري في "جامع البيان" 30/ 267، السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 500، الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 134 أ،=

2

2 - وهو (قوله) (1): {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} قال ابن عباس (2)) (3)، والمفسرون (4): أخرجت مَا فيها من الموتى. وقال الفراء (5)، (والزجاج (6)) (7): لفظت (8) مَا فيها من كنوزها وموتاها).

_ = الماوردي في "النكت والعيون" 6/ 318. بمعناه. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 515، و"زاد المسير" 8/ 291 وهذا بمعنى قول مقاتل. وقال ابن عطية قولاً آخر، فقال: وليست القيامة موطنًا لإخراج الكنوز، وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال "المحرر الوجيز" 5/ 510، ويعني بقوله إنها من أشراط الساعة، وإنها تكون في الدنيا، وعزاه ابن الجوزي أيضًا إلى الأكثرية، وقال عن خارجه أنها زلزلة يوم القياهة، وعن آخرين. "زاد المسير" 8/ 291، 292. (1) ساقط من (أ). (2) "جامع البيان" 30/ 266، و"زاد المسير" 8/ 292، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 147، و"البحر المحيط" 8/ 500، و"الدر المنثور" 8/ 592 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، و"فتح القدير" 5/ 480. (3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (4) قال بمعناه مجاهد، وعطية، ومقاتل: "تفسير مقاتل" 247/ ب، و"جامع البيان" 30/ 266، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 147، و"الدر المنثور" 8/ 592 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 479. وقال به أيضًا السمرقندي: "بحر العلوم" 3/ 500، والثعلبي: "الكشف والبيان" 13/ 134 ب. وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 515، وعزاه ابن كثير إلى غير واحد من السلف. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 576. (5) "معاني القرآن" 3/ 283 بمعناه. (6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 351 بنحوه. (7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (8) في (أ): (ألفظت).

3

وقال أبو عبيدة (¬1)، وغيره (¬2): الأثقال جمع الثقل، والناس ثقل على الأرض إذا كانوا على ظهرها، فإذا مَاتوا وكانوا في بطنها كانوا ثقلًا لها. فذلك قوله: {أَثْقَالَهَا} وهي الأبدان إذا نشرت، ومنه قول الخنساء (¬3) ترثي أخاها: أبعَدَ ابنِ عَمْرو من آلِ الشّريدِ ... حَلَّتْ بهِ الأرْضُ أثقالَها (¬4) تقول: لما دفن صار حمله (¬5) لأثقال الأرض، يعني (¬6) موتاها. وذكرنا عند قوله: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} ثم ذكر أن الكافر ينكر (¬7) تلك الحالة فقال: 3 - قوله تعالى: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} وهو الكافر (¬8). الذي لم يؤمن بالبعث، يقول: لأي شئ زلزالها. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" 2/ 306. (¬2) وهو الأخفش، وقد ورد قوله في: "التفسير الكبير" 32/ 58، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 47، و"فتح القدير" 5/ 479. (¬3) تقدمت ترجمتها في سورة التوبة. (¬4) ورد البيت في "ديوانها" ص 120، ط. دار بيروت، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 147. ومعناه: حلت: زَينت بها الأرض موتاها. وقيل: حلت من حللت الشيء. والمعنى: ألقت مراسيها، كأنه كان ثقلًا عليها. "ديوانها": 120. (¬5) في (ع): (حيله). (¬6) في) أ): (بعد). (¬7) في (أ): (منكر). (¬8) قال بذلك ابن عباس: "جامع البيان" 30/ 266، و"فتح القدير" 5/ 480. قال الماوردي: ومن قال إنهم الكفار خاصة، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة؛ لأن المؤمن يعترف بها، فهو لا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فلذلك يسأل عنها.

4

4 - قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} أي تخبر بما عُمل عليها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عُمل على ظهرها، وتلا هذه الآية" (¬1). ¬

_ = "النكت والعيون" 6/ 319. (¬1) الحديث أخرجه أحمد في: المسند: 2/ 274 من طريق أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في سننه: 4/ 619 - 620، ح 2429: كتاب صفة القيامة: باب 7، والرواية عنده عن أبي هريرة (قال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، قال: فهذه أخبارها". قال أبو عيسى: هذه حديث حسن غريب، كما أخرجه عنه في موضع آخر: المرجع السابق: 5/ 446 - 447، ح 3353: كتاب التفسير: باب 88، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في "التفسير" 2/ 544، ح 713 سورة الزلزلة، والحاكم في "المستدرك" 2/ 532: كتاب التفسير: تفسير سورة الزلزلة: وقال: هذا حديث صحيح، وقال الذهبي: قلت: يحيى هذا منكر الحديث، قاله البخاري، والحديث ضعفه الألباني: "ضعيف سنن الترمذي" 275/ ح: 428 - 2559، و 646 - 3591. وأيضًا ضعفه محقق تفسير النسائي: 544 - 545 حاشية: 2 لوجود يحيى بن سليمان قال: قال عنه البخاري: منكر الحديث (ميزان الاعتدال: 4/ 383)، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث؛ ليس بالقوي، يكتب حديثه. (كتاب الجرح والتعديل: 9/ 154 - 155 ت: 640)، وذكره ابن حبان في الثقات: كتاب الثقات: 7/ 604). وقال الحافظ في تخريج الكشاف: وسعيد يحيى بن أبي أيوب ثقة، وخالفه رشيدين بن سعد، وهو ضعيف، فقال عن يحيى بن أبي سليمان بن أبي حازم يالسندين المذكورين عن أنس ابن مالك، وأخرجه ابن مردويه (الكافي الشاف: 4/ 186 - 187، خ 350). ثم قال: وله شاهد أخرجه الطبراني في الكبير: 5/ 65 رقم: 4596 من حديث ابن لهيعه عن الحارث ابن يزيد سمع ربيعة الحرشي يقول وذكر الحديث مرفوعاً. =

5

5 - قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. قال الفراء: يقول تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها (¬1). قال ابن عباس: يريد أذن لها لتخبر بما عُمِل عليها (¬2). وقال أبو عبيدة (¬3): {أَوْحَى لَهَا} أي أوحى إليها. وأنشد للعجاج: أَوْحَى لها القَرَارُ فاسْتَقَرَّتِ (¬4) ¬

_ = قال: وربيعة الحرشي هذا مختلف في صحبته كما في "التقريب" 1/ 247 ت: 64. وقال الهيثمي في: "مجمع الزوائد" 1/ 241: باب المحافظة على الوضوء: كتاب الطهارة، وفيها ابن لهيعة وهو ضعيف. وأخرجه ابن حبان كما في "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" 641، ح 2586: باب 11 كتاب البعث. كما ورد مرفوعاً عن طريق أبي هريرة كما في "كنز العمال" 2/ 14، ح 2949، و"النكت والعيون" 6/ 319، و"الكشف والبيان" 13/ 135 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 516، و"زاد المسير" 8/ 292، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 148، و"لباب التأويل" 4/ 401، و"البحر المحيط" 8/ 500، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 576، و"الدر المنثور" 8/ 592 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في: "شعب الإيمان" 5/ 464، ح 7298 و"جامع الأصول" 2/ 433، ح 882 وقال الأرناؤوط في تخريج "جامع الأصول" نقول: وفي سنده يحيي بن أبي سليمان المدني ليّنه الحافظ في "التقريب" 2/ 348: ت: 48 وباقي رجاله ثقات. (¬1) "معاني القرآن" 3/ 283 بنصه. (¬2) "زاد المسير" 8/ 293 وورد بمئله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 4/ 515، و"لباب التأويل" 4/ 401. (¬3) ورد قول أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" 2/ 306 بتصرف. (¬4) قال في أرجوزته: الحمد لله الذي استقلت ... بإذنه السماء واطمأنت بإذنه الأرض وماتعنت ... وحي لها القرار استقرت وشدها بالراسيات الثبت ... رب البلاد والعباد القُنت =

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} قال المفسرون (¬1): يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين، أهل الإيمان على حدة وأهل كل دين على حدة، كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (¬2)، و {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (¬3)} (¬4) قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} قال ابن عباس: ليروا جزاء أعمالهم (¬5) (¬6). والمعنى أنهم يرجعون عن الموقف فرقًا ليروا منازلهم في الجنة أو النار (¬7). ¬

_ = وقد وردت في "ديوانه": 266: تح د. عزة حسن، و"لسان العرب"، و"النكت والعيون" 6/ 320، و"الكشف والبيان" 13/ 135 أ، و"زاد المسير" 8/ 93 برواية: "سدها" بدلاً من: "شدها"، و"التفسير الكبير" 32/ 60، و"المحرر الوجيز" 5/ 511، و"البحر المحيط" 8/ 501، و"فتح الباري" 8/ 727، و"الدر المصون" 6/ 555. ومعنى بيت الأرجوزة المذكور: أن أوحى إليها أن استقري فاستقرت. "ديوانه": ص 266. (¬1) وممن قال بمعنى ذلك: يحيى بن سلام، وابن عباس، والسدي. "النكت والعيون" 6/ 320، و"البحر المحيط " 8/ 501، و"الدر المنثور" 8/ 593 وبه قال الطبري في: "جامع البيان" 30/ 267، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 500، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 135 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 516، و"المحرر الوجيز" 5/ 511، و"زاد المسير" 8/ 293. (¬2) سورة الروم: 14، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) سورة الروم: 43، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (¬5) (ليروا جزاء أعمالهم)، بياض في: (ع). (¬6) "معالم التنزيل" 4/ 516، و"زاد المسير" 8/ 293، و"لباب التأويل" 4/ 401. (¬7) بياض في: (ع).

وقال الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2): هذا على التقديم بتقدير: تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم، أي إنما أذن لها في الإخبار عن أعمال بني آدم (¬3) ليروا إياها. قال الفراء: واعترَض بينهما: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ (¬4) أَشْتَاتًا} (¬5) قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}. قال أبو عبيدة: زنة (¬6) ذرة (¬7). وقال الكلبي: وزن نملة أصغر ما يكون من (¬8) النمل (¬9). وروى يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة (¬10)، وقال في معنى الآية: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أو شرًا في الدنيا إلا أراه الله إياه، فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد معنى قوله من غير عزو في: "جامع البيان" 30/ 267، و"الكشف والبيان" 13/ 135 ب، و"زاد المسير" 8/ 293. (¬2) "تفسير مقاتل" 247 أ. (¬3) بياض في: (ع). (¬4) بياض في: (ع). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 283 قال: يقول: "تحدث أخبارها" بوحي الله تبارك وتعالى وإذنه لها، ثم قال: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} فهي فيما جاء به التفسير متأخرة، وهذا موضعها اعترض بينهما: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} مقدم معناه التأخير. (¬6) (أبو عبيدة زنة): بياض في: (ع). (¬7) "مجاز القرآن"2/ 306 بنصه. (¬8) (أصغر ما يكون من): بياض في: (ع). (¬9) "التفسير الكبير" 32/ 61، وورد بمثله من غير عزو في: "معالم التنزيل" 6/ 514. (¬10) "التفسير الكبير" 32/ 61.

حسناته، ويعذبه بسيئاته (¬1). قال مقاتل: يعني: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره في القيامة في كتابه، فيفرح (¬2) به، وكذلك من الشر في كتابه فيسوؤه ذلك (¬3). قال: وكان أحدهم يستقل أن يعطي اليسير، ويقول: إنما نؤجر على مَا يعطى، ونحن نحبه، وليس اليسير مما نحب، ويتهاون بالذنب اليسير، ويقول: إنما وعد الله النار على الكبائر، فأنزل الله هذه الآية يرغبهم (¬4) في القليل من الخير، ويحذرهم اليسير من الشر (¬5). وقال محمد بن كعب: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره في الدنيا، وهو الكافر يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر يره، وهو المؤمن يرى عقوبة ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها شر (¬6). ¬

_ (¬1) ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 268، و"الكشف والبيان" 13/ 135 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 516، و"التفسير الكبير" 32/ 61، و"لباب التأويل" 4/ 401، و"الدر المنثور" 8/ 595 وعزاه إلى ابن المنذر، والبيهقي في: "البعث". (¬2) في (أ): (مفرح). (¬3) "تفسير مقاتل" 247 أ - ب، و"فتح القدير" 5/ 479. (¬4) في (أ): (ترغيبهم). (¬5) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" 247 ب، و"الكشف والبيان" 13/ 136 أ، و"النكت والعيون" 6/ 321، و"معالم التنزيل" 4/ 516، و"زاد المسير" 8/ 293، و"فتح القدير" 5/ 480، و"أسباب النزول" تح أيمن صالح: ص 398، كما وردت رواية بمثله عن سعيد بن جبير: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 578، ووردت أيضًا من غير عزو في: "لباب التأويل" 4/ 401. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 288، و"جامع البيان" 30/ 268، و"بحر العلوم" 3/ 501، و"معالم التنزيل" 4/ 516، و"التفسير الكبير" 32/ 61 مختصرًا، و"لباب التأويل" =

(ونحو هذا قال ابن عباس في رواية عطاء (¬1)) (¬2). ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في هذه الآية: يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرة الشر، ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة (¬3). وقال أهل المعَاني: يُري جزاؤه، ألا ترى أن ما (¬4) عمله قد سلف لا يجوز له أن يراه، وهذا في حذف المضاف، كقوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22]. فالمعنى على أن "جزاؤه" واقع بهم، لا ما كسبوا من أفعالهم التي قد مضت (¬5) (¬6). ¬

_ = 4/ 401، و"الدر المنثور" 8/ 595 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 480. (¬1) "التفسير الكبير" 32/ 61. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) وردت هذه الرواية في: "جامع البيان" 30/ 268، و"الكشف والبيان" 13/ 136 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 61، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 577 بطرق مختلفة، و"الدر المنثور" 8/ 594 بطرق مختلفة وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في تاريخه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. "فتح القدير" 5/ 480 بالطرق التي وردت في الدر، وأقربها لفظًا رواية أبي قلابة عن أنس. (¬4) في (أ): (مما). (¬5) بياض في: (ع). (¬6) قول أهل المعاني لم أعثر له على مصدره.

سورة العاديات

سورة العاديات

1

تفسير سورة والعاديات (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}. قال ابن عباس: هي الخيل في الغزو (¬2)، وهو قول عطاء (¬3)، ¬

_ (¬1) فيها قولان: أحدهما: أنها مكية. في قول ابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء. والآخر: أنها مدنية من قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وقتادة. انظر: "النكت والعيون" 6/ 323، و"المحرر الوجيز" 5/ 513، و"البحر المحيط" 8/ 503، و"فتح القدير" 5/ 48 (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 390، و"معاني القرآن" للفراء: 3/ 284، و"جامع البيان" 30/ 271، و"بحر العلوم" 3/ 502، و"الكشف والبيان" 13/ 137 ب، و"النكت والعيون" 6/ 323، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"المحرر الوجيز" 5/ 513، و"زاد المسير" 8/ 295، و"التفسير الكبير" 32/ 64، و"لباب التأويل" 4/ 402، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579، و"الدر المنثور" 8/ 600 وعزاه إلى عبد بن حميد، "فتح الباري": 8/ 728، و"المستدرك" 2/ 533 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬3) "جامع البيان" 30/ 271، و"الكشف والبيان" 13/ 137 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"زاد المسير" 8/ 295، "التفسير الكبير" 32/ 64، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579.

ومجاهد (¬1)، (وعكرمة (¬2)) (¬3)، والحسن (¬4)، (وأبي العالية (¬5)، والربيع (¬6)، وعُبيد بن عمير (¬7) (¬8)) (¬9) قالوا: أقسم الله بالخيل العادية لغزو الكفار، وهي تضبح، (واختاره الفراء (¬10)، والزجاج (¬11)) (¬12). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة: بالإضافة إلى: "تفسير الإمام مجاهد" 743، و"المحرر الوجيز" 5/ 513، و"الدر المنثور" 8/ 602 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد. (¬2) "جامع البيان" 30/ 271، و"الكشف والبيان" 13/ 137 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"المحرر الوجيز" 5/ 513، و"زاد المسير" 8/ 295، و"التفسير الكبير" 32/ 64، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 137 ب، و"النكت والعيون" 6/ 323، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"زاد المسير" 8/ 295، "تفسير الحسن البصري": 2/ 433. (¬5) المراجع السابقة: عدا النكت وتفسير الحسن، وانظر أيضًا: "تفسير أبي العالية" تح: الورثان 2/ 262. (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 137 ب، و"زاد المسير" 8/ 295. (¬7) تقدمت ترجمته في سورة البقرة. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله، والذي وجدته عنه الرواية أنها في الإبل، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 3/ 390، و"الكشف والبيان" 13/ 138 ب، و"زاد المسير" 8/ 294، و"البحر المحيط" 8/ 503. (¬9) ما بين القوسين ذكر بدلاً عنه في: (أ) لفظ: (غيرهم). ومما ذكر مثل قولهم أي أنها الخيل العادية لغزو الكفار: قتادة، ومسلم، والضحاك، والكلبي، والمقاتلان، وعطية بن كيسان، وأنس. "جامع البيان" 30/ 272، و"الكشف والبيان" 13/ 137 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"زاد المسير" 8/ 295، و"التفسير الكبير" 32/ 64. (¬10) "معاني القرآن" 3/ 284. (¬11) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 353. (¬12) ما بين القوسين ساقط من (أ).

قال ابن عباس: والضبح: أصوات أنفاس الخيل إذا عدون (¬1). وقال أبو إسحاق: معناه: والعَاديات تضبح ضبحًا، وهو صوت (أجوافها إذا عدت) (¬2) (¬3). (وقال الليث: الخيل العاديات تضبح في عدوها ضبحًا، وهو صوت) (¬4) يسمعه من أفواهها؛ ليس بصَهِيل ولا حَمْحَمة، ولكنه صوت (نفس) (¬5) يسمعه من أفواهها (¬6). وعلى هذا القول القسم عَام بالخيل العَادية في سبيل الله وهي تضبح. وقال الكلبي: بعث رسول الله (-صلى الله عليه وسلم-) (¬7) سرية إلى أناس من كنانة (¬8)، فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه لها خبر، فتخوف عليها، فنزل جبريل يخبر بمسيرها وأثرها (¬9). ¬

_ (¬1) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 273، و"الكشف والبيان" 13/ 138 أ، و"الدر المنثور" 8/ 600 - 601. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد قوله في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 353. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) ورد قوله في: "تهذيب اللغة" 4/ 219 (ضبح)، والقول عن الليث عن بعضهم، وقد زاد الإمام الواحدي قوله: ولكنه صوت يسمعه من أفواهها. (¬7) ساقط من (ع). (¬8) كنانة: بطن من مضر من القحطانية. قال أبو عبيد: وهم في اليمن، قال في العبر: وديارهم بجهات مكة المشرفة. "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" للقلقشندي ص 366. (¬9) "التفسير الكبير" 32/ 64.

ونحو هذا قال مقاتل (¬1): وقالا (¬2) في قوله: "ضبحًا" هو أنفاسها إذا علت. وعلى قولهما هذه الآيات خاصة في خيل تلك السرية. وقال علي -رضي الله عنه-: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} الإبل في الحج تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ومن مزدلفة إلى مني (¬3). (وهذا قول عبد الله (¬4)، ومحمد بن كعب (¬5)، وأبي صالح (¬6)) (¬7). قال الأزهري: من جعلها الإبل جعل "ضبحًا" بمعنى ضَبْعًا، ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 248 أ، و"بحر العلوم" 3/ 205، و"الكشف والبيان" 13/ 137/ ب، و"زاد المسير" 8/ 295. (¬2) أي مقاتل، والكلبي، وورد قول مقاتل في "تفسيره": 248 ب، ولم أعثر على مصدر لقول الكلبي. (¬3) "جامع البيان" 30/ 273، و"الكشف والبيان" 13/ 138 ب، و"النكت والعيون" 6/ 323، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"المحرر الوجيز" 5/ 513، و"زاد المسير" 8/ 294، و"التفسير الكبير" 32/ 63، و"لباب التأويل" 4/ 402، و"البحر المحيط" 8/ 503، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579. (¬4) المراجع السابقة: عدا "لباب التأويل"، و"تفسير القرآن العظيم"، و"المحرر الوجيز". (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 138 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"زاد المسير" 8/ 294، و"التفسير الكبير" 32/ 63، و"البحر المحيط" 8/ 503، و"الدر المنثور" 8/ 603 وعزاه إلى عبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 482. (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 138 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"زاد الميسر" 8/ 294، و"البحر المحيط" 8/ 503، و"الدر المنثور" 8/ 603 وعزاه إلى عبد بن حميد، و"فتح القدير" 5/ 482. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

2

يقال: ضبعت الناقة في سيرها، وضبعت إذا مدت ضَبْعَيْها في السَّير (¬1)، وهو قول أبى عبيدة، قال: ضبحت، وضبعت واحد (¬2)، وأنشد (¬3): فكان لكم أحرى جميعًا وأضبحت ... بي النازل الوجنا في الآل تضبح (¬4) والضبح في (الخيل) (¬5) أظهر عند أهل العلم. قال صاحب النظم: (كلا (¬6) القولين قد جاء في التفسير؛ إلا أن ما بعده يدل على أنها الخيل، وهو قوله: 2 - {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}، والإيراء لا يكون إلا للحافر لصلابته، وأما الخف ففيه لين واسترخاء) (¬7) هذا كلامه. ويقال: يَري (¬8) الزند ورى (¬9) وريًا وريَة، مثل: وَعَى تَعي وَعْيًا وعِيَة. ويقال أيضًا: وروى يري مثل: ولى (¬10) يَلي، وورى تَوْرى مثل وحى ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 219 (ضبح)، وهذا القول ذكره الأزهري عن بعض أهل اللغة بنصه. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 307، كما ورد قول أبي عبيدة في "الإبدال" لابن السكيت، ولم يذكر بيت الشعر ص 86. (¬3) لم أجد في المجاز أنه استشهد ببيت الشعر. (¬4) لم أعثر على مصدر له. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) في (ع): (كلى). (¬7) ما بين القوسين من قول صاحب النظم، ولم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) في (أ): (ورى). (¬9) في (ع): (يرِى). (¬10) (في (ع): (وإلى).

يوحي، ثلاث (¬1) لغات، ذكر ذلك أبو عبيد (¬2)، وأبو الهيثم (¬3): وأوريت النار إيراء فورَت تَري، وورِيَتْ تَرِيْ، وتَورى (¬4)، والقدحُ قدحَك بالزند، والمقدحة وهي الحديدة التي تقدح بها. قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل، فأورت منه النار، مثل الزناد إذا قدح (¬5). قال (¬6) مقاتل: تقدحن بحوافرها في الحجارة نارًا كنار الحُباحب (¬7). ¬

_ (¬1) في (ع): "ثلث". (¬2) "الغريب المصنف" لأبي عبيد 1/ 156. (¬3) "تهذيب اللغة" 15/ 306 (ورى). (¬4) من قوله: (وأوريت النار) إلى (تورى) ذكره أيضًا أبو هيثم في "تهذيب اللغة" 15/ 306 - 307 (وري) (¬5) "المحرر الوجيز" 5/ 513 بمعناه، و"التفسير الكبير" 32/ 65، و"الدر المنثور" بطرق مختلفة عنه 8/ 599، وعزاه إلى البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه. (¬6) في (ع): (قال). (¬7) الجاحب يقصد بها: أبا حباحب كان شيخًا من مُضر في الجاهلية من أبخل الناس، وكان لا يوقد ناراً لخبز ولا غيره حتى ينام كل ذي عين، فإذا نام أصحابه أوقد نويرة تَقِدُ مرة وتخمد أخرى فإذا استيقظ بها أحد أطفأها كراهية أن ينتفع بها أحد، فشبهت العرب هذه النار بناره، أي لا ينتفع كما لا ينتفع بنار أبي حباحب. انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 246 رقم: 1992، و"الزاهر" 1/ 184، و"الكشف والبيان" 13/ 139 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 65، و"معاني القرآن" للفراء: 3/ 284. وقيل: نار الحباحب: طائر يطير بين المغرب والعشاء أحمر الريش، يخيل إلى الناظر إليه أن في جناحه نارًا. "الزاهر" 1/ 184.

وقال أبو عبيدة: توري بسَنابِكِها (¬1) (¬2). وقال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل [وأصابت] (¬3) حوافرها الحجارة انقدح منها النيران (¬4). و"قدحًا" نصب على معنى: فالموريات تقدح قدحًا، كما قلنا في ضبحًا، وهذا (¬5) الذي ذكرنا قول (عكرمة (¬6)) (¬7)، وعطاء (¬8)، والضحاك (¬9). و"الموريات" على هذا القول هي العَاديات. وروى (سعيد بن جبير) (¬10) عن ابن عباس قال: هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم (¬11). ¬

_ (¬1) في) أ): (سنابلها). (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 307، والسُّنْبُك: طرف الحافر وجانباه من قُدم، وجمعه سنابك. "تهذيب اللغة" 10/ 428 (سنبك). (¬3) في (أ): (قد أصاب)، وفي: (ع): (وأصاب)، وأثبت ما جاء في معاني الزجاج مصدر القول. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 353 بنصه. (¬5) في (ع): (وهو). (¬6) "جامع البيان" 30/ 273، و"الكشف والبيان" 13/ 138 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 517، وكلامه في المراجع السابقة: قال: أورت وقدحت، وقال: توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المخصبة. (¬7) ساقط من (ع). (¬8) "جامع البيان" 30/ 273 وعبارته قال: أورت النار بحوافرها، و"الكشف والبيان" 13/ 138 ب، و"النكت والعيون" 6/ 324، و"معالم التنزيل" 4/ 517. (¬9) المراجع السابقة وعبارته قال توري الحجارة بحوافرها. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) ورد معنى قوله في المراجع السابقة وانظر أيضًا: "زاد المسير" 8/ 296، و"التفسير الكبير" 32/ 65، و"البحر المحيط" 8/ 504.

والموريات على هذا القول الجماعات من الغزاة. وقال محمد بن كعب: فالموريات قدحًا ليلة المزدلفة، يعني الحاج إذا أوقدوا نيرانهم بها (¬1). وعلى هذا قول من قال بالعاديات، [أنها] (¬2) الإبل. وقال قتادة: الموريات هي الخيل توري نار العداوة بين المقاتلين عليها (¬3). (وقال عكرمة: هي الألسنة توري نار العداوة بعظيم ما تتكلم به) (¬4) (¬5). وقال مجاهد: هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة (¬6). والعرب تقول: لأقدحن لك، ثم لأورين لك، أي لأهيجن عليك شرًا وحزنًا ومكرًا. (وهذا قول زيد بن أسلم) (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) "النكت والعيون" 6/ 324، و"الكشف والبيان" 13/ 139 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"زاد المسير" 8/ 296. (¬2) في كلا النسختين (لأنها)، وأثبت ما رأيت به استقامة الكلام. (¬3) ورد معنى قوله في: المراجع السابقة عدا "زاد المسير"، ومن مصادر قوله أيضًا: "جامع البيان" 30/ 274، و"المحرر الوجيز" 5/ 514. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى قوله في المراجع السابقة جميعها بالإضافة إلى: "التفسير الكبير" 32/ 65، و"البحر المحيط" 8/ 504. (¬6) ورد معنى قوله مختصرًا في: "جامع البيان" 30/ 274، و"الكشف والبيان" 13/ 139 أ، و"النكت والعيون" 6/ 324، و"معالم التنزيل" 4/ 517، و"المحرر الوجيز" 5/ 514، و"زاد المسير" 8/ 296، و"البحر المحيط" 8/ 504، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 139 أ، كما ورد معنى قوله في: "معالم التنزيل" =

3

قال ابن جريج: معنى {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)} فالمنجحات أمرًا (¬1)؛ يعني البالغين بحجتهم فيما قصدوا من الغزو والحج، والحرب تقول للمنْجح في حاجته وريت زنده (¬2)، أوري زنده، وفي ضده تقول: صِلد (¬3) زنده (¬4)، إذا لم يظفر ببغيته. 3 - قوله: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} قال ابن عباس (في رواية عطاء (¬5)، والكلبي (¬6)) (¬7) هي التي تغير على العدو عند الصباح. ¬

_ = 4/ 511، و"زاد المسير" 8/ 196 "البحر المحيط" 8/ 504. (¬1) ورد قوله عن بعضهم في: "الكشف والبيان" 13/ 139 أ. (¬2) جاء في "جمهرة الأمثال": للعسكري: 2/ 286: قولهم وَرِيَتْ بك زِنادي، أي أنجح الله بك أمري، ويراد به الدعاء، يقال: وَرَت النار ترِى ورْياً، وَوِريَتٌ الزّناد فهي وارية، وأورى القادح. (¬3) الصلد: هو الحجر الأملس اليابس، يقال صَلَدَ الزند يصلد إذا صوت ولم يُخرج ناراً. "تهذيب اللغة" 12/ 142 (صلد). (¬4) جاء في "مجمع الأمثال" للميداني 2/ 221: رقم 2103: صَلَدَتْ زِنَاده، إذا قدح فلم يؤد، يُضرب للبخيل يُسأل فلا يُعْطي. وعن الأصمعي قال: يقال: صَلَد الزند يَصْلُد إذا صوت ولم يخرج نارًا. "الغريب المصنف" 1/ 156. (¬5) ورد معنى قوله من طريق عطاء في: "الدر المنثور" 8/ 601، وعزاه إلى عبد الرزاق، ولم أجده عنده، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وفي: "جامع البيان" 30/ 275 وردت روايته من طريق سعيد بن جبير، كما ورد قول ابن عباس من ذكر الطريق في: "النكت والعيون" 6/ 324، و"المحرر الوجيز" 5/ 514، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579. (¬6) المرجع السابق: عدا الدر. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال مقاتل: هي الخيل تضبح بالغارة (¬1). وهذا قول جماعة المفسرين (¬2). وإنما (¬3) خص الصبح بالإغارة عنده، لأن عَادة العرب كانت في إغارتهم أن يغيروا عند الصَباح، وذلك أغفل مَا يكون الناس؛ يقولون: صبحنا بني فلان (¬4)، أي أتيناهم صباحًا للغارة، ومنه: نحن صبحنا عَامرًا في دارها (¬5) يقولون: إذا بدروا بخيل أوغارة تحيتهم: يا صباحاه، ينذرون الحي بهذا النداء، أي الغارة فانتبهوا، واستعدوا للحرب. وقال (¬6) محمد بن كعب: هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر جمع إلى مني، والسنة أن لا يغير حتى تصبح (¬7). هذا كلامه. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 248 ب. (¬2) وقد حكاه عن أكثر المفسرين الثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 139 أ، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 517، وابن عطية: "المحرر الوجيز" 5/ 514، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 296. وقال قتادة، ومجاهد: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 579. (¬3) في (أ): (وإن ما). (¬4) جاء "مجمع الأمثال" 2/ 341، يقال: صَبَّحَ بني فلان زوير سوء، وإذا عَرَاهم في عقر دارهم، والزُّوير: زعيم القوم. (¬5) عجز البيت: جُرْداً تَعَادَى طرفَى نَهَارها وقد ورد البيت من غير نسبة في: "تهذيب اللغة" 4/ 265: (صبح)، و"لسان العرب" 2/ 503 (صبح). (¬6) في (أ): (قال). (¬7) "الكشف والبيان" 13/ 139 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 517.

4

ومعنى الإغارة في اللغة (: الإسراع، ويقال أغار، إذا أسرع، وبذلك فسر الكسائي قول الأعشى: أغارَ لعَمْرِي في البلاد وأنجدا (¬1)) (¬2) وكانت العرب في الجاهلية تقول: أشرِقْ ثبير كيما نُغِيُر (¬3). أي كي يسرع في الإفاضة. 4 - قوله (تعالى) (¬4): {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}. (يقال: ثار الغبارُ والدُّخان، إذا ارتفع، وثار القطا (¬5) عن مفحصه (¬6) (¬7)، ويقال: ثاروا في وجوه القوم، وأثرته: أي هيجته وأثرت الغبار.) (¬8) ¬

_ (¬1) ورد البيت غير منسوب في "تهذيب اللغة" 8/ 183 (غار)، البيت للأعشى ميمون ابن قيس وهو في ديوانه. (¬2) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 8/ 183 (غار). (¬3) ورد المثل في "مجمع الأمثال" 2/ 157 وهو مثل يضرب في الإسراع والعجلة، ومعنى أشرِقْ: أي ادخُلْ يا ثبيِر في الشُّرَوق كَي نُسرع للنَّحْر، يُقال: أغار على إغارة الثَعْلب، أي أسْرَع، قال عمر): إن المشركين كانوا يقولون: أشرق ثبير كما نُغير، وكانوا لا يفيُضون حتى تطلع الشمس. (¬4) ساقط من (ع). (¬5) القطا: هو طير، والواحدة: قطاة، سمي بذلك لثِقل مَشْيه. "تهذيب اللغة" 9/ 240 (قطا)، و"لسان العرب" 14/ 189 (قطا). (¬6) (مجمثه): هكذا وردت في "تهذيب اللغة" بدلاً من: مفحصه. (¬7) مفحص القطاة حيث تُفَرّخ فيها من الأرض، والدجاجة تفحص برجليها وجناحيها في التراب: تتخذ لنفسها أفحوصة تبيض أو تجثم فيه، وأفاحيص القطا التي تفرخ فيها. "تهذيب اللغة" 4/ 259 (فحص). (¬8) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 15/ 112 (ثار)

ومنه قول امرئ القيس: أثرْن الغُبارَ (¬1) بالكديد المُرَكَّلِ (¬2) "والنقع" الغبار. قال جرير: لقومي أحمى في الحقيقة منكم ... وأضرب للجبار والنقع سَاطع (¬3) قال المفسرون (¬4): هي الخيل تثير الغبار بحوافرها، وأنشد (ابن عباس قول حسان) (¬5): ثكلت جيادنا إن لم تروها ... تُثيرُ النَّقْعَ من جبلي كداء (¬6) (¬7) ¬

_ (¬1) في (أ): (غبارًا). (¬2) شطره الأول: مِسَحِّ إذا ما السابحاتُ على الوَنى وقد ورد في "ديوانه": 53. دار صادر. ومعناه: سح يسح: بمعنى صب يصب؛ أي أنه يصب الجري، والعدو صباً بعد صب. السابح من الخيل: الذي يمد يديه في عدوه؛ شبه بالسابح في الماء. الواني: الفتور، الكديد: الأرض الصلبة المطمئنة. المركل: من الركل: وهو الدفع بالرجل، والضرب بها، والمركل الذي يركل مرة بعد أخرى. ديوانه: المرجع السابق. (¬3) لم أجده في ديوانه. (¬4) قال بذلك: مجاهد، وابن عباس، وعطاء، وابن زيد، وعكرمة، وقتادة، وعبد الله بن مسعود. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 390، و"جامع البيان" 30/ 176، و"الدر المنثور" 8/ 603. وقال محمد بن كعب: النقع ما بين مزدلفة إلى مني. "النكت والعيون" 6/ 325. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (لداء). (¬7) ورد البيت في "ديوانه" ص 8، ط. دار صادر برواية: عَدِمْنَا خيلنا إن لم تَرَوهْاَ ... تُثير النقع موعدها كداء

وقوله: {بِهِ} قال الكلبي: بالمكَان الذي انتهى إليه (¬1). قال الفراء: {بِهِ} يريد الوادي، ولم يذكر قبل، وهو جائز إذا عرف اسم الشيء كنى عنه، صمن لم يَجْرِ له ذكر قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. يعني القرآن، وهو استئناف سورة (¬2). وهذا على قول من يقول: إن هذه الآيات في ذكر إبل الحجاج (¬3)، لأن ذلك الوادي الذي يسرع فيه الإبل معروف، وهو وادي (¬4) مُحَسِّرُ. وقال أبو إسحاق: فأثرن بمكان عدوها (¬5) نقعًا، ولم يتقدم ذكر المكان، ولكن في الكلام (¬6) دليل عليه (¬7). ¬

_ = "النكت والعيون" 6/ 325 برواية: عدمت بُنَيتيّ من كنفي كَداء و"الدر المنثور" 8/ 602 وعزاه إلى الطيالسي، وبرواية: (عدمنا موعدها كداء)، و"روح المعاني" 30/ 216. النقع: الغبار، وكداء الثنية العليا بمكة مما يلي المقابر، وهو المعلى. وقوله: (عدما خيلنا) هو كقولك: لا حملتني رجلي إن لم تسر إليك، ولا نفعني مالي إن لم أنفقه عليك "شرح ديوان حسان" ص 58، تح: عبد الرحمن البرقوقي: 57 بإيجاز. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 285 مختصرًا. (¬3) في (ع): الحاج. (¬4) وادي مُحَسَّرُ: وهو موضع ما بين مكة وعرفة، وهو مَسيلٌ. "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع" للبكري: 4/ 1190 و"معجم البلدان" لياقوت الحموي 5/ 62. (¬5) في مقروءة في: (أ). (¬6) في (أ): (المكان). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 353 بتصرف.

5

وعطف {فَأَثَرْنَ} على معنى: فالمغيرات، ومعناهَا: فاللاتي أغرن صبحًا فأثرن. 5 - وقوله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال الليث: وسطت النهر، والمفازة أسطها وَسْطًا وسِطَهَ: أي صوت في وسطها، وكذلك وسطها وتوسطها (¬1)، (ونحو هذا قال الفراء (¬2)، وهو مما سبق الكلام فيه) (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) ورد قريب من هذا القول عنه في "تهذيب اللغة" 13/ 28 (وسط)، والذي ورد عنه قال: فلان وَسِيطُ الدار والحسب في قومه، وقد وَسط وَساطة وسِطه ووسَّطه توسيطًا. وانظر: "لسان العرب" 7/ 429 من غير عزو. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 285 وكلامه، قال: اجتمعوا على تخفيف فوسطن، ولو قرئت "فوسّطن" كان صوابًا، لان العرب تقول: وسَطت الشي ووسّطته وتوسطته بمعنى واحد. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) سورة البقرة: 143، قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، ومما جاء فيها من الكلام: "وقوله: (وسطاً) الوسط: اسم لما بين طرفي الشي، قال: الفراء: الوسط المثقل اسم، كقولك: رأس، ووسط، وأسفل، ولا تقولن هاهنا: وسط بالتخفيف، واحتجم وسط رأسه، وربما خفف وليس بالوجه، وجلس وسط القوم، ولا يقول وسَط؛ لأنه في معنى بين القوم، وجلس وسط الدار، لأن بين لا تصلح في هذا الموضع، وربما خفف، قال الفراء: قال ابن يونس: سمعت: وسْط، ووسَط بمعنى. قال أحمد بن يحيى: ما اتحدت أجزاؤه فلم يتميز بعضه من بعض فهو وسَط بتحريك السين نحو: وسَط الدار، ووسَط الرأس، والكف، ومَا أشبهها، ومَا التفت أجزاؤه متجاورة بَعضها يتميز من بعض كالعقد، وحلقه الناس فهو وسط. وقال محمد بن يزيد: ما كان اسماً فهو وسَط -محرك السين- نحو قولك: وسَط رأسه صلبٌ، ووسَط داره واسع، وما كان طرفاً فهو وسْط -مسكن السين- نحو =

6

وقوله: {بِهِ} قال مقاتل: أي بالعدو (¬1)، وذلك أن العاديات تدل على العدو، فجازت الكتابة عنه. وقوله: {جَمْعًا} قال جماعة المفسرين يعني: جمع العدو (¬2). والمعنى: صرن بعدهن وسط جمع العدو. وقال القرظي: يعني جمع مني (¬3) (¬4). أقسم الله تعالى بهذه الأشياء فقال: 6 - قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}. قال (¬5): "الكنود": الكفور للنعمة (¬6). (كَند يكند، كنودًا) (¬7). ¬

_ = قولك: وسْط رأسه دهن، ووسْط داره رجل، أي في وسط، وفي وسط رأسه. قال الفراء: ويقال: وسطت القوم سطةً ووسُوطاً إذا دخلت وسطهم. قال الله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}. "البسيط" 1/ 92 أ. (¬1) "تفسير مقاتل" 248 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 66. (¬2) حكاه عن المفسرين: ابن الجوزي: "زاد المسير" 8/ 296. وقال به: قتادة، وابن عباس، وعكرمة، وعطاء، ومجاهد، والضحاك، والحسن. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 390، و"جامع البيان" 30/ 277، و"النكت والعيون" 6/ 325، و"الدر المنثور" 8/ 602. (¬3) في (أ)، (ع): (منا). (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 139 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 518، و"الدر المنثور" 8/ 603 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬5) قلت: لعله الكلبي، فقد ورد عنه هذا القول برواية الفراء له في "تهذيب اللغة" 10/ 122 (كند) لا سيما أن الكلام الذي بعده قد نقله عن التهذيب والله أعلم، وانظر: "لسان العرب" 3/ 381 (كند). (¬6) "تهذيب اللغة" 10/ 122 (كند). (¬7) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" مرجع سابق وهو قول لليث.

وقال أبو عبيدة: الكنود: الكفور، والأرض الكنود لا تنبت شيئًا، وأنشد (للأعشى) (¬1): أَحْدِثْ لها تُحدِثْ لِوصْلِكَ أنها ... كُنُدٌ لِوَصْلِ الزَّائِرِ المَعْتَادِ (¬2) (¬3) قال الأصمعي: امرأة كُنُدٌ: أي كفور للمواصلة (¬4). وأصل الكنود مع الحق والخير، والكنود الذي يمنع مَا عليه. والمفسرون يقولون في تفسير الكنود: إنه الكفور، (وهو قول ابن عباس (¬5)، وعكرمة (¬6)، ومجاهد (¬7)، والضحاك (¬8)، ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) ورد البيت أيضًا في: "ديوانه" 50 ط/ دار صادر، و"جامع البيان" 30/ 277، و"النكت والعيون" 6/ 325، و"الكشف والبيان" 13/ 140 أ. (¬3) "مجاز القرآن" 3/ 285. (¬4) "تهذيب اللغة" 10/ 122: (كند)، أبو عبيد عن الأصمعي، وانظر: "لسان العرب" 3/ 381: (كند) من غير عزو. (¬5) "جامع البيان" 30/ 277، و"الكشف والبيان" 13/ 139 ب، و"معالم التنزيل" 6/ 518، و"زاد المسير" 6/ 297، و"التفسير الكبير" 32/ 67، و"لباب التأويل" 4/ 402، و"البحر المحيط" 8/ 505، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579، و"الدر المنثور" 8/ 602 وعزاه إلى الطيالسي، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (¬6) "التفسير الكبير" 32/ 67. (¬7) تفسير الإمام مجاهد: 744، و"جامع البيان" 30/ 277، و"الكشف والبيان" 13: ج 139 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 518، و"زاد المسير" 8/ 297، و"التفسير الكبير" 32/ 67، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579. (¬8) "النكت والعيون" 6/ 325، و"زاد المسير" 8/ 297، و"التفسير الكبير" 32/ 67، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579.

وقتادة (¬1) ((¬2). وقال الكلبي (¬3)، (ومقاتل (¬4): الكنود) (¬5): هو العاصي لربه، وبلسان كندة (¬6)، ومعد (¬7): الكفور للنعم، وبلسان بني مالك (¬8) (¬9) (بن كنانة) (¬10): ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 278، و"النكت والعيون" 6/ 325، و"الكشف والبيان" 13/ 139 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 518، و"زاد المسير" 8/ 297، و"التفسير الكبير" 32/ 67، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579، شعب الإيمان: 4/ 153: ح 4628. وإلى هذا القول ذهب أيضًا: الحسن، والربيع، وابن جبير، والنخعي، وأبو الجوزاء، وأبو العالية، ومحمد بن قيس، وعطاء. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 391، و"جامع البيان" 30/ 278، و"الكشف والبيان" 13/ 139 ب، و"الدر المنثور" 8/ 603. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 139 ب، و"النكت والعيون" 6/ 325 بنحوه، و"معالم التنزيل" 8/ 514 مختصرًا، و"التفسير الكبير" 32/ 67 مختصرًا، شعب الإيمان: 4/ 153، ح 4628. (¬4) "تفسير مقاتل" 248 ب، و"الكشف والبيان" 13/ 139 ب. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) كنده قبيلة من كهلان، وكندة هذا أبوهم، واسمه ثور، وإنما سمي كندة لأنه كند أباه؛ أي كفر نعمه، وبلاد كندة باليمن، وكان لكندة هؤلاء ملك بالحجاز واليمن، ومنهم امرؤ القيس بن عابس الكندي الصحابي. "نهاية الأرب" ص 366. (¬7) معد: بنو معد بطن من بني عدنان، وهو بطن متسع، ومنهم تناسل جميع بني عدنان "نهاية الأرب" ص 378. (¬8) في (أ) ش (ملك)، وغير مقروءة في: (ع)، وأثبت ما جاء في مصادر القول. (¬9) بنو مالك: هم من ولد كنانة، وكنانة بطن من مضر من القحطانية، وهو في اليمن. نهاية الأرب: 366. (¬10) ساقط من (أ).

البخيل الذي يمنع رفده (¬1)، ويجيع عبده، ولا يعطي قومه في النائبة (¬2) (¬3)، (وقد روى مثل هذا المعنى عن أبي أمامة (¬4) موقوفًا عليه (¬5)، ومرفوعًا أيضًا أنه: الكفور الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده) (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) رفده: الرَّافدة: فاعلة من الرَّفد، وهو الإعانة، يقال: رفَدته أرفِده إذا أعنته. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 24. (¬2) النائبة: هي ما ينوب الإنسان؛ أي ينزل به من المهمات والحوادث. "النهاية" 5/ 123. (¬3) قال به عطاء. انظر: "معالم التنزيل" 4/ 518، و"البحر المحيط" 8/ 505. (¬4) تقدمت ترجمته في سورة النساء. (¬5) "جامع البيان" 30/ 278، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 579 - 580، و"الدر المنثور" 8/ 603 وعزاه إلى عبد ابن حميد، والبخاري في الأدب، والحكيم الترمذي، وابن مردويه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" 8/ 221، 292: ح 7778، 7958. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) وردت الرواية عند الطبري في: "جامع البيان" 30/ 278 من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعاً بنحوه، كما وردت في: "الكشف والبيان" 13/ 140 أ، و"النكت والعيون" 6/ 325، وقال محقق "النكت" رواه ابن جرير، وسنده ضعيف؛ لأن فيه جعفر بن الزبير، وهو متروك، وقال الهثيمي في "مجمع الزوائد" 7/ 142: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما جعفر بن الزبير، وهو ضعيف، وفي الآخر من لم أعرفه، "المعجم الكبير" 8/ 221، 292، ح 7778 - 7958، ثم قال: قلت: وضعفه السيوطي في "الدر" 8/ 603، وزاد نسبته لابن عسكر والبيهقي، وابن مردويه. وقال ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم من طريق جعفر بن الزبير، وهو متروك، فهذا إسناد ضعيف، وقد رواه ابن جرير أيضًا مرفوعاً. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 579 - 580.

7

(وقال الحسن: الكنود لوّام لرب يعدُّ المصيبات، وينسى النعم (¬1)) (¬2). قال (عطاء عن) (¬3) ابن عباس: نزلت في قرط بن أبي قرط، (يريد أنه لربه لكفور (¬4)) (¬5). (قال مقاتل: هو قرط) (¬6) بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي (¬7). ثم قال: 7 - وقوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال ابن عباس: يريد: وإن الله على كفره لشهيد (¬8). ¬

_ = كما وردت الرواية في: "المحرر الوجيز" 5/ 514، و"زاد المسير" 8/ 296، و"التفسير الكبير" 32/ 67. قال ابن حجر: جعفر بن الزبير الحنفي: متروك الحديث، وكان صالحاً في نفسه. "تقريب التهذيب" 1/ 130: ت: 80. (¬1) "جامع البيان" 30/ 278، و"بحر العلوم" 3/ 503، و"الكشف والبيان" 13/ 139 ب، و"النكت والعيون" 6/ 325، و"معالم التنزيل" 4/ 518 بنحوه، و"المحرر الوجيز" 5/ 514، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 434، و"شعب الإيمان" 4/ 153، ح 4629. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ساقط من (أ). (¬4) ورد قوله في: "التفسير الكبير" 32/ 67. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "تفسير مقاتل" 248 ب، و"بحر العلوم" 3/ 503، و"زاد المسير" 8/ 296. (¬8) ورد معنى قوله في: "زاد المسير" 8/ 297، و"البحر المحيط" 8/ 505، وبمثله ورد عن ابن جريج في: "النكت والعيون" 6/ 326، وعزاه البغوي إلى أكثر المفسرين في: "معالم التنزيل" 4/ 518.

8

ثم أخبر عنه فقال: 8 - (قوله) (¬1): {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} الخير: المال هَاهنا في قول الجميع (¬2)، والله تعالى. سمى المال خيرًا في مواضع من التنزيل كقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (¬3) ونحوه (¬4). وعلى هذا عَادة الناس، لأن الناس يعدونه فيما بينهم خيرًا، وهذا كما أنه سمي ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب (¬5) سوءًا في قوله: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] على ما يتعارفه الناس بينهم، لا على أنه سوء في العاقبة. ذكر ذلك ابن زيد (¬6). {الشَّدِيدِ} والبخيل. قال أبو عبيدة، (والزجاج) (¬7): يقال للبخيل: شديد ومتشدد، وأنشد لطرفة: ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) قال بذلك من المفسرين: قتادة، وابن زيد، وابن عباس، ومجاهد: "تفسير عبد الرزاق" 20/ 391، و"جامع البيان" 30/ 279، و"النكت والعيون" 6/ 326. وقال به السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 503، وابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 536، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 354، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 518، و"زاد المسير" 8/ 297، و"لباب التأويل" 4/ 402، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 580 ولم أجد من قال بغير ذلك (¬3) سورة البقرة: 180. (¬4) قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 127]. وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة 273]. (¬5) في (أ): (الحربي). (¬6) ورد معني قوله في: "جامع البيان" 30/ 279، و"الكشف والبيان" 13/ 140 ب. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدِّدِ (¬1) (¬2) المعنى: فإن (¬3) الإنسان من أجل حب المال لبخيل، (وهذا معنى قول المفسرين) (¬4). وقال ابن قتيبة: معناه: وإن حُبَّهُ للخير شديد، فأخر الحب وقدم الهاء، ذكره في باب المقلوب (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) ورد البيت في: "ديوانه" ص 34، ط. المؤسسة العربية، و"جامع البيان" 30/ 279: برواية: (النفوس) بدلاً من (الكرام)، و (الباطل) بدلاً من: (الفاحش)، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 354، و"المحرر الوجيز" 5/ 515، و"الكشاف" 4/ 229، و"زاد المسير" 8/ 297 برواية: (الباطل) بدلاً من: (الفاحش)، و"الدر المصون" 6/ 561. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 307 - 308. (¬3) في (ع): (وإن) وقال بذلك ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" ص 536، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 354. وعزاه الطبري إلى نحوبي البصرة في: "جامع البيان" 30/ 279، وانظر: "بحر العلوم" 3/ 503 - 504، و"زاد المسير" 8/ 279، وذكر الماوردي قولاً آخر، وهو: لشديد الحب للخير، وشدة الحب قوته وتزايده. "النكت والعيون" 6/ 326، وقد قال به ابن زيد، وقتادة، ونحويو الكوفة، والحسن. انظر: "جامع البيان" 30/ 279، و"النكت والعيون" 6/ 326، و"زاد المسير" 8/ 297، وقد قال به أيضًا الثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 14 ب، وابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 515. وانظر: "لباب التأويل" 4/ 402، و"البحر المحيط" 8/ 505، وقال به الكلبي في "معاني القرآن" للفراء 3/ 285، وذكر ابن كثير المعنيين: "لشديد" البخل والقوة، وقال: كلاهما صحيح. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 580. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في (أ): (القلوب). (¬6) ورد قوله في: "تأويل مشكل القرآن" ص 200: باب المقلوب.

9

قال ابن الأنباري: ولا يجوز أن يحمل هذا على القلب؛ لأنه لا ضرورة تحوج إلى ذلك، وهو صحيح المعنى من غير قلب اللفظ، ومعناه: إن الإنسإن من أجل حب المال لبخيل، و"اللام" في الحب بتأويل: من أجل (¬1). قال الفراء: ويجوز أن يكون المعنى: وانه لحب الخير لشديد الحب، فاكتفى بالحب الأول من الثاني، كما قال: {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] أراد في يوم عاصف الريح، فاكتفى بالأول من الثانية (¬2). ثم خوفه فقال: 9 - {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} يقول (¬3): أفلا يعلم هذا الإنسان إذا بعث الموتى. (وذكرنا تفسير "بعثر" عند قوله: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4] (¬4)، ومعنى: {بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}: أثير وأخرج) (¬5). 10 - {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} قال أبو عبيدة: (مُيَّز (¬6)) (¬7). قال الليث (¬8): حصل (يحصل) (¬9) الشيء حصولاً، والحاصل من كل ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 285 - 286 بتصرف تام. (¬3) لا أدري من هو المعنى بقوله: (يقول)، ولم أستطع التوصل لمعرفته، أو هل يعني أن القول عائد إلى الله سبحانه؟. وقد ورد عن مقاتل بنحوه في "تفسيره" 248 ب. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين من قول أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" 2/ 308. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 308. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) ساقط من (أ).

11

شيء ما بقي وثبت وذهب ما سواه، والتحصيل: تمييز ما يحصل، والاسم الحصيلة، قال لبيد: وكل امرئٍ يِوْمًا سيعلم سَعْيه ... إذا حصلَتْ عندَ الإلَهِ الحصائِلُ (¬1) (¬2)) (¬3) قال ابن عباس (¬4)، ومقاتل (¬5): ميز ما في القلوب من الخير والشر. وقال الكلبي: بين (¬6). والمعنى: جمع، وأبرز. 11 - قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ} مفعول العلم، وكسرت "إن" لمكان "اللام" في خبرها. وتأويل هذه الآية ما ذكره الزجاج قال: الله خبير بهم في ذلك اليوم وغيره، ولكن المعنى: أن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، وليس يجازيهم (¬7) إلا بأعمالهم، ومثل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم (¬8). ¬

_ (¬1) غير مقروءة في: (ع). (¬2) ورد في "ديوانه" ص 132 برواية: (كشفت) بدلاً من (حصلت)، و (المحاصل) بدلاً من (الحصائل)، والحصائل هي الحسنات والسيآت معاً. كما ورد في: "تهذيب اللغة" 4/ 241 (حصل)، و"التفسير الكبير" 32/ 68. (¬3) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 4/ 241 (حصل) بتصرف. (¬4) ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 280، و"زاد المسير" 8/ 297، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 580، وروايته: أبرز ما فيها، وقال أيضًا: أبرز وأظهر. (¬5) "تفسير مقاتل" 248 ب. (¬6) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 326 وعبارته: ميز ما فيها. (¬7) في (أ): (يجزي). (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 354.

سورة القارعة

سورة القارعة

1

تفسير سورة القارعة (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {الْقَارِعَةُ} اسم من أسماء القيامة في قول الجميع (¬2) قال الكلبي: سميت قارعة، لأنها قرعت قلوبهم. (¬3) وقال مقاتل: لأنها تقرع أعداء الله بالعذاب (¬4). ¬

_ (¬1) مكية بقول الأكثرية، وقيل: إنها مدنية. (¬2) "جامع البيان" 30/ 280، و"بحر العلوم" 32/ 70، و"معالم التنزيل" 4/ 519. حكى الإجماع الفخر في "المسير الكبير" 32/ 70، وعزاه ابن عطية إلى جمهور المفسرين في "المحرر الوجيز" 5/ 516، وكذلك ابن حيان في "البحر المحيط" 8/ 506، وقد قال بذلك ابن عباس، ووكيع. انظر: "جامع البيان" 30/ 281، و"الدر المنثور" 8/ 605. وقد قال به أيضًا ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" 537، والزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 355، والسمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 505، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 519، و"لباب التأويل" 4/ 403، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 580، و"فتح القدير" 5/ 485، وهناك من خالف هذا القول وقال: هي النار ذات التغيظ والزفير، قاله الضحاك كما في "البحر المحيط" 8/ 506. قال الكرماني: الجمهور على أنها القيامة، وقيل الصيحة، والغريب هي النار. "غرائب التفسير وعجائب التأويل": 2/ 1381. (¬3) ورد معنى قوله مفصلاً في: "التفسير الكبير" 32/ 70. (¬4) "تفسير مقاتل" 248 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 70، وعلق الفخر عليه بقوله: وهذا أولى من قول الكلبي لقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.

وقال أبو إسحاق: القارعة التي تقرع بالأهوال (¬1). وقال أهل المعاني: القارعة (البلية) (¬2) التي تقرع القلوب بشدة المخافة والفزع بضرب (¬3) بشدة اعتماد (¬4). قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ} تهويل وتعظيم. ثم عجيب نبيه -صلى الله عليه وسلم- منها فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} تعظيمًا لشدتها. ثم بين أنها متى تكون (فقال): (¬5) {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} (¬6) (أي) (¬7) القارعة (تقرع) (¬8). (قوله) (¬9): {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} قال الكلبي: شبههم يومئذ بالفراش الذي يطير بين السماء والأرض، فيجول بعضه في (¬10) بعض (¬11). وقال مقاتل: يعني يجول بعضهم في بعض إذا خرجوا من القبور شبههم في الجولان بالفراش المبثوث، وشبههم في الكثرة بالجراد (¬12). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 355. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) في (ع): (الضرب). (¬4) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) ساقط من (أ). (¬7) ساقط من (أ). (¬8) ساقط من (أ). (¬9) ساقط من (ع). (¬10) في (أ): (على). (¬11) ورد قوله مختصرًا في: "النكت والعيون" 6/ 328. (¬12) "تفسير مقاتل" 249/ أ.

وهو قوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (¬1). وقال الفراء: كغوغاء (¬2) الجراد يركب بعضه بعضًا، كذلك الناس يومئذ يجول بعضهم في بعض (¬3). وقال أبو إسحاق: الفراش ما تراه كصغار البَق (¬4) يتهافت (¬5) في النار، وشبّه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر، وبالفراش المبثوث، لأنهم لما بُعثُوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش (¬6). وقال أبو عبيدة: الفراش طائر لا بعوض ولا ذباب (¬7). وقال المبرد: وهو يوصف بالجهل لتهافته في النار. وأنشد جرير: وقد كان أقوام رددت حلومهم ... عليهم وكانوا كالفراش من الجهل (¬8) (¬9) ¬

_ (¬1) سورة القمر: 7. (¬2) غوغاء الجراد: إذا أحمر وانسلخ من الألوان كلها، وبدت أجنحته بعد الدِّبي. وقال أبو عبيدة: الجراد أول ما يكون سَرْوة، فإذا تحرك فهو دبي قبل أن تنبت أجنحته، ثم يكون غوغاء، وبه سمي الغوغاء، والغوغاء: الصوت والجلبة. "لسان العرب" 15/ 142 (غوى). (¬3) "معاني القرآن" 3/ 286 بنصه. (¬4) البق: البعوض والجمع البقّ. "مختار الصحاح" ص 60 (بق). (¬5) تهافت: أي يتساقط، من الهَفْت، وهو السقوط. انظر: "لسان العرب" 2/ 104 (هفت). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 355. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 309 بنحوه. (¬8) لم أعثر عليه في ديوانه وقد ورد في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 165 برواية: (رددت قلوبهم إليهم)، و"فتح القدير" 5/ 486. (¬9) لم أعثر على مصدر لقول المبرد.

5

وقال الليث: الفراش الذي يطير (¬1)، وأنشد: أودى بجهلهم الفياش فجهلهم (¬2) ... حلم الفراش غشين نار المصطلى (¬3) (¬4) وقال صاحب النظم: إنما شبههم بالفراش؛ لأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة، فدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا، واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة، و"المبثوث": المفرق، يقال: بثه إذا مزقه (¬5) 5 - قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}. (العهن: الصوف ذو الألوان) (¬6)، وقد مر عند قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9]. (والنفش: مدك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض) (¬7)، وهو أهون ما يكون من الصوف. والمعنى: أنها تصير خفيفة في السير، كالصوف الذي نفش باليد. ¬

_ (¬1) (الفراش الذي يطير): غير مقروء في (ع). (¬2) في (ع): (بحملهم الغياش محملهم) بدلا من (بجهلهم الفياش مجهلهم). (¬3) ورد البيت غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 11/ 346: (فرش) برواية: بحِلْمِهم الفياش فحِلْمهم. (¬4) "تهذيب اللغة" 11/ 346 (فرش) بنصه. (¬5) ورد بمثله من غير عزو في: "التفسير الكبير" 32/ 72، ولم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين قول أبي عبيدة نقله عنه من: "مجاز القرآن" 2/ 309، وقال بمعناه الأزهري: "تهذيب اللغة" 1/ 145 (عهن). (¬7) ما بين القوسين من قول الليث نقله عنه بنصه من "تهذيب اللغة" 11/ 376 (نفش).

ثم ذكر أحوال الناس بقوله: قوله (¬1) (تعالى) (¬2): {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)} قال مقاتل (¬3)، (والكلبي (¬4) (¬5): رجحت حسناته. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} قال أبو إسحاق: أي ذات رضًى يرضاها صاحبها (¬6)، وهي كقولهم: لابن، ونابل، وتامر. (قال أبو بكر) (¬7): بمعنى ذو لبن، ونبل، وتمر (¬8)، ولهذا قال المفسرون في تفسيرها: "مرضية" (¬9) على معنى يرضاها صاحبها. ¬

_ (¬1) في (ع): (بقوله). (¬2) ساقط من (ع). (¬3) "تفسير مقاتل" 249/ أ. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 355 بنحوه. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) انظر: "الأصول في النحو" لأبي بكر السراج 3/ 83 (¬9) عزاه الفخر إلى المفسرين: "التفسير الكبير" 32/ 73، وقال بمعنى ذلك قتادة، وقال: هي الجنة، وفسرها الماوردي فقال: يعني في عيشة مرضية. وقد ورد قول قتادة أيضًا في: "جامع البيان" 30/ 282، و"الدر المنثور" 8/ 605 وعزاه إلى عبد ابن حميد، وعن مجاهد قال: في عيشة قد رضيها في الجنة. "جامع البيان" المرجع السابق. وقد ذهب إلى القول: مرضية: السمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 505، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 141/ أ. وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 519، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 166، و"فتح القدير" 5/ 486، وقد ذكر الماوردي وجهًا آخر في الآية: وهو نعيم دائم، ونسبه إلى الضحاك، ثم قال: فيكون على الوجه الأول من المعاش، وعلى الوجه الثاني من العيش. "النكت والعيون" 6/ 329.

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي رجحت سيئاته على حسناته. قال أبو بكر: إنما ثقلت موازينهم باتباعهم الحق، وثقلت (¬1) عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفتهم عليهم (وحق) (¬2) لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفًا (¬3). ونحو هذا ذكر مقاتل، وقال: لأن الحق ثقيل، والباطل خفيف (¬4). (وقوله) (¬5): {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قال الليث: الهاوية اسم من أسماء جهنم (¬6)، (والهاوية كل مَهوَاة لا يُدرك قعرها) (¬7). والمعنى: فمسكنه جهنم. (وهذا معنى قول عطاء (¬8)، والكلبي (¬9)، وأكثر المفسرين) (¬10). (¬11). ¬

_ (¬1) في (ع): (ثقله). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) "التفسير الكبير" 32/ 73، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 167 بنحوه. (¬4) بمعناه في "تفسيره": 249/ أ، و"التفسير الكبير" 32/ 73. (¬5) ساقط من (ع). (¬6) هذا من قول ابن المظفر، وليس الليث. انظر: "تهذيب اللغة" 6/ 490 (هوى). (¬7) ما بين القوسين من قول الأزهري نقله عنه بنصه من: "تهذيب اللغة" المرجع السابق. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) ممن قال بذلك: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، انظر: "جامع البيان" 30/ 283، و"النكت والعيون" 6/ 329، و"الدر المنثور" 8/ 505 - 506 وعزاه ابن عطية إلى أكثر المفسرين: 4/ 581، وقال به: أيضًا ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" 537، و"الكشف والبيان" 13/ 141/ أ - ب وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 519 و"البحر المحيط" 8/ 507. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ).

قال أبو إسحاق: وقيل لمسكنه "أمُّه"؛ لأن الأصل في السكون إلى الأمهات، فقيل الذي له بدل ما يسكن إليه: "نار حامية" (¬1). وهذا معنى (قول) (¬2) الفراء: صارت هاوية مأواه، كما (تؤوي) (¬3) المرأة ابنها (¬4)، فجعلها إذًا لا مأوى له غيرها أمًا له (¬5). وقال مقاتل: يقول يؤم الناس (¬6) الهاوية (¬7)، وهذا إنما كان يحتمل لو قريء "فأمَّه" بفتح الهمزة، ولم يرو ذلك عن أحد. وذكر أهل المعاني قولين آخرين: أحدهما: إن المعنى خسرت نفسه وهلكت، والعرب تقول: هوت أمه، إذا هلك وعطب (¬8)، وهذا قول الأخفش، والمبرد (¬9)، وصاحب النظم، وأنشدوا لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه (فقال) (¬10): ¬

_ (¬1) معاني القرن وإعرابه 5/ 356، بتصرف: (فقيل الذي له بدل ما يسكن إليه نار حامية) فيها ركاكة، والعبارة كما هي عند الزجاج على النحو الآتي: (فأبدل فيما يسكن إليه نار حامية)، (فأبدل فيما) بدلاً من: (فقيل الذي له بدل). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) في (أ)، (ع): (تردي)، وأثبت ما جاء في مصدر القول. (¬4) في (أ): (منها). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 287. (¬6) النار: (ع). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) في (أ): (عصب). (¬9) لم أعثر على مصدر لقولهما. (¬10) ساقط من (ع).

هَوَتْ أُمه ما يبعث الصبحُ غاديًا ... وماذا (¬1) يؤدي الليل (¬2) حين يؤوب (¬3) وأنشد المبرد (¬4) قول الكندية (¬5): هَوَتْ أُمهم ماذا بهم يوم صُرِّعوا ... بجيشان من أسباب مجد تَصَرما (¬6) القول الثاني: (فأم (¬7) رأسه هاوية في النار. ذكره الأخفش (¬8)، والكلبي، فقال: ويقال: أمه هاوية لأم الرأس (¬9). وإلي هذا ذهب قتادة فقال: إنهم يهوون في النار على رؤوسهم (¬10). ¬

_ (¬1) في (أ): (وما). (¬2) في (أ): (الل). (¬3) ورد البيت في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 167. "البحر المحيط" 8/ 507، برواية: (ما ينعبث) بدلاً من (من يبعث)، و (وماذا يرد الليل حين يؤون) بدلًا من (ماذا يؤدي الليل حين يؤوب)، و"روح المعاني" 30/ 222. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) الكندية: هي أم صريح، شاعرة جاهلية قالت البيت ضمن قصيدة ترثي قومها وقد ماتوا يوم جيشان. "معجم البلدان" 2/ 200، "ديوان الحماسة" 1/ 459. (¬6) "معجم البلدان" 2/ 200، و"ديوان الحماسة" 1/ 459، و"تهذيب اللغة" 15/ 489 (ناب) برواية: (... ما ذامهم بنيسان من أنياب مجد تصرما). (¬7) ساقط من (أ). (¬8) "التفسير الكبير" 32/ 74، ورد معناه في "القرطبي" 20/ 167 بعبارة فمستقر، ثم قال القرطبي: والمعنى متقارب، يعني مع من قال يهوي فيها على أم رأسه. (¬9) "التفسير الكبير" 32/ 74، وقد ورد بمثل قوله عن أبي صالح، و"جامع البيان" 30/ 282، و"الكشف والبيان" 13/ 141 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 519، و"المحرر الوجيز" 5/ 517. (¬10) "جامع البيان" 30/ 283، و"الكشف والبيان" ج 13/ 141 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 519 "تفسير القرآن العظيم" 4/ 580.

10

وروى معمر عنه قال: هذه كلمة عربية يقال: إذا وقع في أمر شديد هوت أمه (¬1). وهذا معنى القول الأول من قولي أهل المعاني، ويدل على صحة القول الأول (وهو الذي عليه المفسرون) (¬2) ما روي في الحديث أن المؤمن إذا مات ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيسألونه (¬3) ويقولون: ما فعل فلان، وفلان؟ حتى إذا سألوه عمن لم يأتهم ممن قد مات (فيقول: قد مات) (¬4) أما جاءكم؟ فيقولون: لا، ذهب به إلى أمه الهاوية (¬5). ويدل أيضًا على صحته أن الله تعالى قد أخبر عنها فقال: 10 - (قوله) (¬6): {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 392، و"جامع البيان" 30/ 282 - 28، و"الكشف والبيان" 13/ 141 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 519، و"زاد المسير" 8/ 299، و"التفسير الكبير" 32/ 74، و"الدر المنثور" 8/ 606 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) في (أ)، (ع): (فيسلونه). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) أخرج النسائي بمعناه مطولاً، وقد إنفرد به من طريق أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا 4/ 306 ح 1832 في الجنائز، والحاكم 2/ 533 عن الحسن مرفوعًا في التفسير، سورة القارعة، وقال: هذا حديث مرسل صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. كما ورد عند عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 392 من طريق معمر، عن أشعث بن عبد الله الأعمى. وبنفس الطريق عند الطبري في "جامع البيان" 30/ 282، كما ورد عند القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 167 من طريق أبي هريرة، وإسناد عبد الرزاق في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 580، و"الدر المنثور" 8/ 606 بطرق مختلفة، وفي "زاد المسير" 8/ 299 من غير ذكر الإسناد. (¬6) ساقط من (ع).

يعني الهاوية، و"الهاء" في "ما هيه" للوقف، فإذا وصل جاز حذفها (¬1)، والاختيار الوقف بـ"الهاء"، لاتباع المصحف، و"الهاء" ثابتة (¬2) فيه (¬3). وذكرنا الكلام في هذه "الهاء" عند قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]، و {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} (¬4). ثم فسرها الله تعالى وأخبر عنها فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي هي نار حامية، قال الكلبي (¬5) ومقاتل (¬6): حارة ¬

_ (¬1) قرأ حمزة ويعقوب: "وما أدراك ماهية" بحذف الهاء في الوصل، وقرأ الباقون بإثبات الهاء في الوصل. "المبسوط" ص 414، و"حجة القراءات" ص 770. (¬2) في (أ): (باقية). (¬3) ممن قال بالوقف: النحاس في "القطع والائتناف" 2/ 816، والداني في "المكتفي في الوقف والابتداء" ص 627. انظر: "علل الوقوف" للسجاوندي 3/ 1153، والأشموني في: "منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" ص 433، وأبي يحيى زكريا الأنصاري في: "المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء" ص 433، وهو مذيل بكتاب الأشموني. وقال النحاس: ويستحب الوقف على "هيه"، لأنه إن وصل بغير هاء خالف السواد، وإن وصل بالهاء لحن، فالوقف عليها أسلم، الوقف في الابتداء: 2/ 816. وعن السجاوندي -في بيان علة الوقف- قال لتمام الجملة. انظر "علل الوقوف" 3/ 1153. (¬4) سورة الحاقة: 28. وفي الكلام عن "الهاء" يراجع سورة الحاقة: 28. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "تفسير مقاتل" 249/ أ.

قد انتهى حرها. كقوله: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4].

سورة التكاثر

سورة التكاثر

1

تفسير سورة التكاثر (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} تقول (¬2): ألهاني فلان عن كذا، أي أنساني، وشَغلني، ولَهيتُ عنه ألهى لهيّا، ومنه الحديث: (أن ابن الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لَهِيَ من حديثه (¬3) أي تركه وأعرض عنه، وكل شيء تركته فقد لهيت عنه) (¬4). والتكاثر: التباهي بكثرة المال والعدد، والتفاخر بكثرة المناقب، يقال: تكاثر القوم تكاثرًا إذا تعادوا ما لهم من كثرة المناقب. ¬

_ (¬1) مكية، وحكى الإجماع على ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 518، وابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 299، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 168، وأبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 507، والشوكاني في "فتح القدير" 5/ 487 وقيل: إنها مدنية. انظر: "فتح القدير" 5/ 487. (¬2) في (ع): (يقال). (¬3) "غريب الحديث" لأبي عبيد 4/ 302 - 303 وتتمته: قال: (سبحان من يسج الرعد بحمده والملائكة من خيفته). الفائق 3/ 336، ط. دار المعرفة، وقد ورد في "التفسير الكبير" 32/ 75. (¬4) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 6/ 427 - 428 (كثر)، وهو من قول الليث، وانظر: "لسان العرب" 15/ 259 - 260 (كثر).

2

وذكر في تفسير هذا قولان (¬1): أحدهما: أن المعنى: شغلكم (التكاثر) (¬2) بالأموال والأولاد عن طاعة الله. 2 - {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتى أدرككم الموت على تلك الحال (¬3)، وهذا قول قتادة، قال: نزلت في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان (¬4)، ألهاكم ذلك عن الإيمان حتى ماتوا ضلالًا (¬5). ثم يدخل في هذا كل من اشتغل بالتكاثر والتفاخر عن طاعة الله حتى يأتيه الموت وهو على ذلك. يدل على هذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية: "ألهاكم التكاثر" ثم قال: "يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأبليت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" (¬6). ¬

_ (¬1) القول الثاني أورده عند تفسيره للآية: 2. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) وقال بهذا المعنى أيضًا ابن عباس والحسن. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 168. (¬4) في (أ)، (ع): (بنوا). (¬5) ورد بنحو قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 393، ولم يذكر أنها نزلت في اليهود، وكذا "جامع البيان" بنحوه مما ذكر عبد الرزاق: 30/ 283، و"الكشف والبيان" 13/ 142 أبمثله، و"معالم التنزيل" 4/ 520 "زاد المسير" 8/ 300، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 168، و"البحر المحيط" 8/ 507، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 582، و"الدر المنثور" 8/ 610 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 488، و"أسباب النزول" تح: أيمن صالح ص 400. (¬6) أخرجه مسلم 4/ 2273 ح: 3 كتاب الزهد: باب 53 ولفظه كما هو عنده: =

قال صاحب النظم في هذا القول: (أي) (¬1) لا تزالون تتكاثرون، وتتفاخرون إلى أن تموتوا (¬2). ويقال لمن مات: زار رَمسه (¬3)، وزار قبره. قال جرير للأخطل: زَارَ القُبُورَ أبو (¬4) مالكٍ ... فأصبحَ ألأمَ زُوَّارِها (¬5) فجعل زيارة القبور بالموت (¬6). القول الثاني: إن هذه الآية نزلت في حيين من قريش، وهما (بنو) (¬7) ¬

_ = حدثنا قتادة عن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ في "ألهاكم التكاثر" قال في "يقول ابن آدم: مالي مالي (قال): وهل لك يا ابن آم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت"، وأحمد 4/ 24، 26. والترمذي 4/ 572: ح 2342: كتاب الزهد: باب 3، وقال حديث حسن صحيح، وفي 5/ 4470: ح 2354: كتاب تفسير القرآن: باب 89، والنسائي 6/ 548 ح 3615: كتاب الوصايا: باب 1، وابن المبارك في "الزهد" 170 ح 498. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) الرَّمْس: التراب، ورمس: القبر ما حثي عليه، وقد رمسناه بالتراب، والرَّمس: تراب تحمله الريح فترمس به الآثار أي تعفوها، والرياح الروامس، وكل شيء نُثر عليه التراب فهو مرموس، والقبر يسمى: رَمْسًا. "تهذيب اللغة" 12/ 423 (رمس). (¬4) في (أ): (أبا). (¬5) ورد البيت في "ديوانه" 235 ط. دار بيروت، برواية في "فكان كألأم"، و"تهذيب اللغة" 10/ 177 (كثر)، و"لسان العرب" 5/ 133 (كثر)، و"التفسير الكبير" 32/ 77، و"روح المعاني" 30/ 224. (¬6) "تهذيب اللغة" 10/ 177 (كثر). (¬7) ساقط من (أ).

عبد مناف (¬1)، وبنو سهم (¬2)، تفاخروا أيهم أكثر عددًا، ففخرت (¬3) بنو عبد مناف بني سهم بالمكارم والمساعي (¬4)، ثم ترقوا إلى ذكر الأموات (¬5) حتى أتوا المقابر، فعدوها فكثرتهم بنو (¬6) سهم،؛ لأنهم كانوا أكثر عددًا في الجاهلية. (وهذا قول الكلبي (¬7)، ومقاتل (¬8)، وابن عباس (¬9) في روارية عطاء) (¬10). ¬

_ (¬1) بنو عبد مناف: بطن من قريش من العدنانية، وهم بنو عبد مناف بن قصي، وكان قصي قد جعل لابنه عبد الدار في مقابلة شرف عبد مناف: الحجابة، واللواء، والندوة، والرفادة، والسقاية، فبقوا على ذلك إلى أن انتزع بنو عبد مناف منهم السقاية والرفادة في حلف أحليين، واستقرت لبني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة. "نهاية الأرب" القلقثشدي 312. (¬2) بنو سهم: بطن من هصص من قريش من العدنانية، وهم بنو عمرو بن هصص. "نهاية الأرب" ص 274. (¬3) في (أ): (ففخرت). (¬4) المساعي: العرب تَسمى مآثر أهل الشرف والفضل مساعى، واحدتها مسعاة؛ لسعيهم فيها كأنها مكاسبهم، وأعمالهم التي أعنوا فيه أنفسهم. "لسان العرب" 14/ 386: (سعا). (¬5) في (أ): (الأسواف). (¬6) في (أ): (بنوا). (¬7) "أسباب النزول" 400، "لباب النقول" ص 234 بمعناه، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن بريدة، كما ورد بمعناه في "بحر العلوم" 3/ 506، و"الكشف والبيان" 13/ 142 أ، و"النكت والعيون" 6/ 331، و"معالم التنزيل" 4/ 520، و"زاد المسير" 8/ 300، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 168، و"البحر المحيط" 8/ 507، وورد من غير عزو في "معاني القرآن" الفراء 3/ 287، "جامع النقول" ابن خليفة 336. (¬8) "تفسير مقاتل" 249 ب، وانظر: المراجع السابقة عدا "بحر العلوم". (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ).

3

وقال ابن بُرَيْدَةَ: نزلت في فخذ من الأنصار، قناخروا بآبائهم، فقالوا: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان (¬1). ومعنى "حتى زرتم المقابر" على هذا القول: حتى أتيتموها، وذكرتم أهلها في مفاخرتكم، ثم رد الله عليهم فقال: 3 - {كَلَّا} (¬2) قال أبو إسحاق: هو ردع وتنبيه، المعنى: ليس الأمر الذي ينبغي أن يكونوا عليه التكاثر، والذي ينبغي أن يكونوا عليه طاعة الله والإيمان (¬3). وقال صاحب النظم: أي (أن) (¬4) هنا لا ينفع شيئًا، أو ليس له طائل (¬5). ثم أوعدهم فقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 4 - ثم وكد ذلك، وكرر فقال: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. قال الفراء: الكلمة قد تكررها على التغليظ والتخويف، وهذا من ذلك (¬6). قال الحسن (¬7)، ومقاتل (¬8): هو وعيد بعد وعيد. ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 142 أمختصرًا، وبمثله قال ابن زيد كما في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 168. (¬2) {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 357. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 287 بنصه. (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 520، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 583، و"فتح القدير" 5/ 488. (¬8) "تفسير مقاتل" 249 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 52.

5

والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تكاثركم، وتفاخركم إذا نزل بكم الموت، ثم كلا سوف تعلمون ذلك في القبر، وهذا قول مقاتل (1)، وابن عباس (2) في رواية عطاء، وعلى هذا ليس التكرير للتأكيد، والتكرير للحالتين، ومن جعلهما (3) للتأكيد لم يذكر الحالتين، ويقول: هو كقوله: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4 - 5]، ودليل القول الثاني: ما روى زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (4) قال: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة (5). يعني أن معنى قوله: "ثم كلا سوف تعلمون" أي في القبور. 5 - قوله: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} هذا استئناف خبر وكلام آخر تقول: لو تعلمون (6) الأمر علمًا يقينًا. وإضافة العلم إلى اليقين كقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، وقد مر (7).

_ (1) بمعناه في "تفسير مقاتل" 249 ب. (2) لم أعثر على مصدر لقوله. (3) في (أ): (جعله). (4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (5) أخرجه الترمذي في سننه: 5/ 447: كتاب تفسير القرآن: باب 89، وقال: هذا حديث غريب، كما أورده السيوطي في لباب النقول: 234 وعزاه إلى ابن جرير عن علي، وانظر أيضًا "جامع البيان" 30/ 284، و"الكشف والبيان" 13/ 142 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 78، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 172، و"الدر المنثور" 8/ 610 وعزاه إلى حنيش بن أصرم في الاستقامة، وابن المنذر، وابن مردويه. (6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (7) ومما جاء في تفسير آية الواقعة: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} في "قال الإمام الواحدي: ومعنى حق اليقين حق الأمر اليقين عند الأخفش، والبصريين، وعند =

قال قتادة: كنا نحدث أن علم اليقين: أن يعلم (أن) (¬1) الله باعثه بعد الموت (¬2). وقال عطاء: لو تعلمون يوم القيامة علم اليقين (¬3). قال صاحب النظم: اليقين -هاهنا- هو الموت أو البعث، لأنهما إذا وقعا جاء اليقين، وزال (¬4) الشك. والمعنى على ما ذكروه (¬5): لو تعلمون الأمر علمًا يقينًا، كما تعلمونه بعد الموت والبعث. وجواب "لو" محذوف على تقدير: لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر (¬6). ¬

_ = الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وقال أبو إسحاق: هذا كما تقول: إن زيدًا لعالم، وإنه للعالم حق العلم، إذا بالغت في التوكيد". "البسيط" 5/ 93 أ. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 393 مختصرًا، و"جامع البيان" 30/ 285، كما ورد بمعناه في "الكشف والبيان" 13/ 142 ب، و"النكت والعيون" 6/ 331، و"معالم التنزيل" 4/ 521، و"البحر المحيط" 8/ 508، و"الدر المنثور" 8/ 611 وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 489. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) في (أ): (زوال). (¬5) في (أ): (ما ذكروا). (¬6) انظر: "الدر المصون" 6/ 565، وقدر الكلام بقوله: أي لفعلتم ما لا يوصف، البيان في غريب "إعراب القرآن" 2/ 531.

6

وتلخيص هذا المعنى ما ذكره أبو إسحاق: لو علمتم (¬1) الشيء حق علمه لارتدعتم عما أنتم عليه من التكاثر (¬2). 6 - ثم أوعدهم وعيدًا آخر فقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}. وهذا على إضمار القسم. (والمعنى: سترون الجحيم في الآخرة كقوله: "وإن منكم إلا واردها" (¬3)، وقراءة العامة بفتح "التاء" (¬4). وقد قرئ بضمها (¬5)، من أريته الشيء. والمعنى: أنهم يحشرون إليها، فيرونها في حشرهم إليها (فيرونها) (¬6). وهذه القراءة تروى عن ابن عامر، والكسائي، كأنهما أرادا (¬7) لَتُرَوُنَّها، فتَرَوَنْها، ولذلك قرأ الثانية: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} بالفتح، وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها [رأوها] (¬8)، وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد، والمعنى: لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم. ¬

_ (¬1) في (أ): (علمه). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 357 بتصرف. (¬3) سورة مريم: 71. (¬4) راجع ذلك في "السبعة في القراءات" 695، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 795، و"المبسوط" 416، و"الحجة" 6/ 434، و"حجة القراءات" 771، و"البدور الزاهرة" ص 345. (¬5) "السبعة في القراءات" ص 695، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 795، و"المبسوط" 416، و"الحجة" 6/ 434، و"حجة القراءات" ص 771، و"البدور الزاهرة" ص 345. (¬6) ساقط من (أ). (¬7) في (أ): (أرادوا). (¬8) (أروها) في كلا النسختين، وأثبتت ما جاء في مصدر القول.

7

7 - {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي مشاهدة، وانتصب قوله: "عين اليقين" انتصاب المصدر كما تقول: رأيته حقًا يقينًا، وتبينته يقينًا. ومعنى هذه الرؤية: الرؤية التي هي مشاهدة) (¬1). هذا كله كلام أبي علي الفارسي (وتفسيره) (¬2). وقال الفراء: قراءة العامة أشبه بكلام العرب، لأنه تغليظ، فلا ينبغي أن يختلف لفظه (¬3). وقال أبو علي: (والمعنى في "لتَرُون الجحيم" لترون عذاب الجحيم، ألا ترى (¬4) أن الجحيم يراها المؤمنون أيضًا، بدلالة قوله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وإذا كان كذلك، فالمعنى: والوعيد في رؤية عذابها لا في رؤيتها نفسها، يدل على هذا قوله: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة: 165]؛ (ذكر العذاب في هذه يدل على أن المعنى في الآخرة العذاب) (¬5) أيضًا، وبناء الفعل في قوله: "إذ يرون العذاب"، وفي قوله: {وَإِذَا رَأَى (¬6) الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} [النحل: 85] للفاعل يدل على أن "لَتَرَوُنَّ الجحيمَ"، أرجح (من لَتُرَوْن (¬7)) (¬8). انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله كما بينه الإمام الواحدي عن "الحجة" 6/ 434 - 435 بتصرف. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) "معاني القرآن" 3/ 288 بيسير من التصرف. (¬4) (ترا) كلا النسختين. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (وإذ يرى). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "الحجة" 6/ 436 - 437 بيسير من التصرف.

8

8 - قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال مقاتل: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون (¬1) يوم القيامة عن شكرها، وما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم؛ فذلك قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يوم القيامة (¬2). وقال الكلبي: الكفار مسؤولون (¬3) عن كل نعمة (¬4). قال (¬5): وقال أبو بكر رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التَّيَّهان (¬6) من خبز شعير، ولحم، وبسر (¬7) قد ذنب (¬8)، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون ¬

_ (¬1) في (أ): (فسسلون). (¬2) "تفسير مقاتل" 249 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 521. (¬3) في (أ): (يسلون). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) أي الكلبي. (¬6) أبو الهيثم مالك بن التيهان، واسمه مالك بن عتيك بن عمرو الأنصاري الأوسي، شهد بدرًا، واحد نقباء بيعة العقبة، شهد المشاهد كلها، مات سنة 20 هـ. انظر: "الاستيعاب" 4/ 1773، ت: 3213، و"أسد الغابة" 6/ 323: ت: 6324، و"الإصابة" 7/ 209: ت: 1188. (¬7) البسر: هو التمر قبل أن يرطب لفضاضته، واحدته: بسرة. "لسان العرب" 4/ 58 (بسر). (¬8) ذنب: التذنوب: البُسر الذي قد بدأ فيه الأرطاب من قبل ذنبه، وذنب البُسرة وغيرها من التمر مُؤَخَّرُها، وذنبت البسرة فهي مذنبة، وكنت من قبل ذنبها، وقال الأصمعي: إذا بدت نُكت من الأرطاب في البسر من قبل ذنبها قيل: قد ذنبت. "لسان العرب" 1/ 390 (ذنب).

هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما ذلك للكفار، ثم قرأ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (¬1)} (¬2) [سبأ: 17]. والظاهر يشهد لهذا القول وهو: أن الكفار لم (¬3) يؤدوا حق النعمة حيث أشركوا به وعبدوا غيره، واستحقوا أن يسألوا عما أنعم عليهم توبيخًا لهم؛ هل قاموا بالواجب فيه، أم ضيعوا حق النعمة؟ ثم يعذبون على ترك الشكل بتوحيد المنعم (¬4). وهذا معنى ما ذكره مقاتل، وهو قول الحسن. ¬

_ (¬1) بياض في (ع). (¬2) وردت الرواية بمعناها عن الكلبي في "الدر المنثور" 8/ 618 وعزاه إلى ابن مرويه، كما وردت من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في "بحر العلوم" 3/ 507، ووردت من غير ذكر الطريق في "التفسير الكبير" 32/ 81، ولأبي بكر رواية خلاف رواية الكلبي من طريق أبي هريرة، ذكرها الطبري في "جامع البيان" 30/ 287 وهي في "صحيح مسلم" 3/ 1609: ح: 140: كتاب الأشربة: باب 20، والشاهد منها: عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا الجوع يا رسول الله، قال: وأنا .. لأخرجني الذي أخرجكما .. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه .. فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورروا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لأبي بكر وعمر "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة". كما أخرجها البيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 144: ح: 4602 - 4605، 4606 من طريق أبي هريرة وطرق أخرى. (¬3) في (أ): (لو). (¬4) قال القاضي عياض: المراد: السؤال عن القيام بحق شكره، والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم، وإعلام بالامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها؛ =

وقال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار (¬1). واختلفوا في معنى هذا النعيم. قال ابن مسعود -رضي الله عنه- الأمن، والصحة (¬2) وهو قول الشعبي (¬3)، وقتادة (¬4)، وسعيد بن جبير (¬5). وقال مجاهد: كل لذة من لذات الدنيا (¬6). ¬

_ = لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة. والله أعلم. "شرح صحيح مسلم" 13/ 227 - 228. (¬1) ورد معنى قوله في "زاد المسير" 8/ 302، وقد وضحه ابن الجوزي فقال: إنه أراد بذلك أنه خاص بالكفار. وانظر أيضًا قوله في "التفسير الكبير" 32/ 80، و"فتح القدير" 5/ 489، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 437. (¬2) جامع البيان" 30/ 285، و"بحر العلوم" 3/ 507، و"النكت والعيون" 6/ 332، و"معالم التنزيل" 4/ 521، و"زاد المسير" 8/ 302، و"البحر المحيط" 8/ 508، و"الدر المنثور" 8/ 612: وعزاه إلى هناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان. وورد عنه مرفوعًا في "الكشف والبيان" 13/ 144 أ، و"زاد المسير" 8/ 302، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 584. (¬3) "زاد المسير" 30/ 302، و"البحر المحيط" 8/ 508 كما وردت من طريق الشعبي عن ابن مسعود في "جامع البيان" 30/ 285. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "جامع البيان" 30/ 285، و"معالم التنزيل" 4/ 522 بمعناه، و"تفسير سعيد بن جبير" 380. (¬6) "جامع البيان" 30/ 285، و"الكشف والبيان" 13/ 145 ب، و"زاد المسير" 8/ 302، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 584 قال ابن كثير وهذا أشمل هذه الأقوال، و"الدر المنثور" 8/ 612 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

وروى (معمر) (¬1) عن قتادة قال: إن الله تعالى سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه (¬2). وعلى هذا ورد أكثر الأخبار. قال محمود بن لبيد (¬3): لمّا نزلت هذه السورة علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله، أي: نعيم نسأل؟ إنما هو الماء، والتمر، وسيوفنا علي عواتقنا، والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل!، قال: "إن ذلك سيكون" (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "جامع البيان" 30/ 289، و"زاد المسير" 8/ 302 بمعناه، و"الدر المنثور" 8/ 612 وعزاه إلى عبد الرزاق -ولم أجده عنده- وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬3) محمود بن لبيد بن رافع بن امرئ القيس بن زيد الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، ولد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحدث عنه أحاديث، وكان أحد العلماء، وروى عن ابن عباس، ومات سنة 96 هـ. انظر: "الاستيعاب" 3/ 1378 ت: 2347، و"أسد الغابة" 5/ 117 ت: 4773. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 429، وقال الهيثمي 7/ 142: رواه أحمد وفيه محمد بن عمر بن علقمة، وحديثه حسن، وفيه ضعف لسوء حفظه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأخرجه "الترمذي" 5/ 448: ح: 3356 - 3357 من طريقين: الأول: إلى الزبير ابن العوام عن أبيه، وحسن هذا الطريق. والثاني: إلى أبي هريرة، وقال: وحديث ابن عيينة عن محمد بن عمرو عندي أصح من هذا، سفيان بن عيينة أحفظ، وأصح حديثًا من أبي بكر بن عياش. كما ورد في "جامع البيان" 30/ 288، و"الكشف والبيان" 13/ 144 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 81، و"الدر المنثور" 8/ 613 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وهناد، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 142: ح 4598، و"فتح القدير" 5/ 490.

وروى (عطاء) (¬1) عن ابن عباس أن عمر -رضي الله عنه- قال: "وأي نعيم نسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2): "ظلال المساكن، وظلال الشجر، والأخبية (¬3) (¬4) التي تقيكم من الحر، والماء البارد في اليوم الحار والصحة" (¬5). وروى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما يسأل الله العبد يوم القيامة أن يقول له: ألم أصح جسمك، وأروك من الماء البارد؟ " (¬6). وروى ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما فوق الإزار، ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) الأخبية: الخباء من الأبنية واحد الأخبية، وهو ما كان من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. "لسان العرب" 14/ 222 (خبأ) (¬4) غير واضحة في (ع). (¬5) "التفسير الكبير" 32/ 81. (¬6) أخرجه الترمذي في "السنن" 5/ 448: ح: 3358 كتاب التفسير القرآن: باب 89 بنحوه، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، قال شعيب الأرناؤوط في "تخريج جامع الأصول" 2/ 435 وإسناده قوي، وصححه ابن حبان كما في "موارد الظمآن" 640: ح: 2585 كتاب البعث: باب 10، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 613 - 614 وزاد نسبته لأحمد في "زوائد الزهد"، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 147 ح: 4607. كما ورد في "معالم التنزيل" 4/ 521، و"التفسير الكبير" 32/ 81، و"لباب التأويل" 4/ 404، و"الدر المنثور" 8/ 613 - 614 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن مردويه، و"فتح القدير" 5/ 490.

وجلف (¬1) الخبز، وظل الحائط، وجرة الماء، فضل يحاسب به، ويسأل عنه العبد يوم القيامة" (¬2). وروى أبو قلابة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "ناس من أمتي يعقدون السمن، والعسل بالنقي فيأكلونه" (¬3). ومن قال بهذا القول، وهو أن كل أحد يسأل عز النعيم، كان المعنى عنده: أن الكافر يسأل توبيخًا ثم يعذب لتركه الشكر -كما ذكرنا-، والمؤمن يسأل عن ذلك إظهارًا للمنة عليه، وإذا كان قد قام بشكره فلا عتب عليه (¬4)، فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل هو ونفر من أصحابه تمرًا، ¬

_ (¬1) الجلف: الخبز اليابس الغليظ بلا أُدم ولا لبن كالخشب، ويروى بفتح اللام، جمع جِلْفة، وهي الكسرة من الخبز. "لسان العرب" 9/ 31 (جلف). (¬2) ورد في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 585 من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس، وفيه جر الماء بدلًا من جرة الماء، و"الدر المنثور" 8/ 619 وعزاه إلى البزار. (¬3) الكشف والبيان" 13/ 145 أمن طريق يوسف ابن أخت ابن سيرين عن أبي قلابة مرفوعًا، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 584 موقوفًا، ورواية الموقوف وضحت المراد بالنفي، قال أبو قلابة: من النعيم أكل السمن والعسل بالخبز النقي. والنقي المراد به النظيف من الشيء. انظر: "لسان العرب" 15/ 338: (نقا).، و"فتح القدير" 5/ 490 وقال: هذا مرسل، وعزاه إلى أحمد في الزهد، وابن مردويه. (¬4) قال الزمخشري: فإن قلت: ما النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان، ويعاتب عليه، فما من أحد إلا وله نعيم؟ قلت: هو نعيم عن عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب، ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه مشاقه، فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، وتقوى لها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضًا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل. "الكشاف" 4/ 231.

وشربوا عليه الماء، وقالوا: يا رسول الله ما شكر هذا النعيم؟ قال: "تقولوا الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" (¬1). والنعيم نقيض البؤس. تمت. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" 4/ 2085: ح: 64: كتاب الذكر والدعاء: باب 17، و"أبي داوود في سننه" 2/ 359: كتاب الأطعمة: باب ما يقول الرجل إذا طعم، والرواية عنده من طريق أبي سعيد الخدري ومن غير ذكر القصة. ومالك في "الموطأ" 2/ 712: ح 34: كتاب صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-: باب ما جاء في الطعام والشراب. والإمام أحمد في "المسند" 1/ 153، ج 5/ 32، 98، 153، 167، 253، وابن ماجه في "سننه" 23702: ح: 3326 كتاب الأطعمة: باب 16 والترمذي في "سننه" 5/ 470: ح: 3396: كتاب الدعوات: باب 16.

سورة العصر

سورة العصر

1

(تفسير) (¬1) سورة والعصر (¬2) (¬3) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَالْعَصْرِ} قال ابن عباس: يريد والدهر (¬4). قال الفراء: هو (¬5) الدهر أقسم الله به (¬6)، قال (¬7) قتادة: أراد آخر ساعة من ساعات النهار (¬8)، وهو رواية مجاهد عن ابن عباس قال: العصر ما يلي المغرب ¬

_ (¬1) ساقط من (ع). (¬2) وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، وابن الزبير والجمهور. والآخر: أنها مدنية، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. "زاد المسير" 8/ 303، "النكت والعيون" 6/ 333، "البحر المحيط" ص 509. (¬3) في (أ): (العصر)؛ بغير واو. (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 146 ب، "النكت والعيون" 6/ 333، "معالم التنزيل" 4/ 522، "المحرر الوجيز" 5/ 520، "زاد المسير" 8/ 303، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 178، "لباب التأويل" 4/ 405، "البحر المحيط" 8/ 509. (¬5) في (ع): (وهو). (¬6) "معاني القرآن" 3/ 289 نجصه. (¬7) مكررة في (أ). (¬8) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 394، "الكشف والبيان" 13/ 146 ب، "معالم التنزيل" 4/ 522، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 179، "الدر المنثور" 8/ 622 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 491، و"فتح الباري" 8/ 729 بنحوه.

من النهار (¬1). قال (¬2) ابن كيسان: هو الليل والنهار (¬3). وهذا قول المفسرين (¬4). والعصر بهذه (¬5) المعاني صحيح في اللغة؛ (يقال للدهر: العَصْرُ، والعِصْرُ، (والعُصْرُ) (¬6)، أنشد ابن السكيت (¬7): ثم اتَّقَى وأيَّ عصرٍ يتَّقِى ... بِعُلْبَةٍ وقَلْعِهِ المُعَلَّقِ (¬8) (¬9) ويقال لليوم، والليلة، والغداة، والعشي: العصر. قال حميد بن ثور: ولن يلبثَ العَصْرانِ يومٌ وليلةٌ ... إذا طَلَبا أن يُدرِكا ما تَيَمَّما (¬10) ¬

_ (¬1) "بحر العلوم" 3/ 508، "معالم التنزيل" 4/ 522، "الدر المنثور" 8/ 622 بمعناه، وعزاه إلى ابن المنذر، "تهذيب اللغة" 20/ 13. (¬2) في (ع): (وقال). (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 146 ب. (¬4) قال بذلك ابن عباس في "جامع البيان" 30/ 289. (¬5) في (ع): (هذه). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) نسبة صاحب اللسان إلى أبي محمد الفقعسي، 8/ 291 (قلع). (¬8) ورد البيت في: "إصلاح المنطق" 31، "لسان العرب" 8/ 291 (قلع). ومعنى البيت كما في اللسان: "أي" وأي زمان يتقى، وجمعه قِلعه وقِلاع، وهو الكِنْف يكون فيه زاد الراعي وقناعه. (¬9) ما بين القوسين نقلاً عن "إصلاح المنطق" 31. (¬10) ورد البيت في ديوانه، "إصلاح المنطق" 394، "تهذيب اللغة" 2/ 13 (عصر) غير منسوب، و"الصحاح" 2/ 748 (عصر)، و"لسان العرب" 4/ 576 (عصر)، و"تاج العروس" 3/ 404 (عصر)، "البحر المحيط" 8/ 502، "فتح القدير" 5/ 491، و"روح المعاني" 30/ 228، "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 359 من غير نسبة، و"الحجة" 6/ 44.

(فإبداله اليوم، والليلة من "العصران" يدل على أنهما العصران) (¬1)، أنشد (¬2) ابن السكيت: وأمطُلُهُ العَصْرَيْنِ حتَّى يملَّنِي ... ويرضى بنِصفِ الدّينِ والأنفُ رَاغِمُ (¬3) (¬4) قال: العصران: الغداة والعشي (¬5). قال الليث: والعصر العشي، وأنشد: تروَّحْ بنا يا عمر ... وقد قَصُرَ العَصْر (¬6) قال: وبه سميت صلاة (العصر) (¬7) (¬8). وقال أهل المعاني في "العصر" بجميع هذه المعاني عبرة للناظرة من جهة مرور الليل والنهار؛ على تقدير الأدوار من جهة أخذ (¬9) النهار في ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 440. (¬2) في (ع): (وأنشد). (¬3) في (ع): (راعم). (¬4) ورد البيت غير منسوب في "إصلاح المنطق" 395، و"تهذيب اللغة" 2/ 13 (عصر)، و"الصحاح" 2/ 749 (عصر)، و"لسان العرب" 4/ 576 (عصر)، و"تاج العروس" 3/ 404 (عصر)، وقال: قال الصاغاني: والصواب في الرواية: ويرضى بنصف الدين في غير نائل. ونسبه لعبد الله بن الزبير الأسدي. (¬5) " إصلاح المنطق" ص 394 بنصه. (¬6) عجز البيت: وفي الرَّوحة الأولى الغنيمة والأجر وقد ورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" 2/ 4 (عصر)، و"لسان العرب" 4/ 576 (عصر)، "تاج العروس" 3/ 404 (عصر)، "النكت والعيون" 6/ 333. (¬7) ساقط من (ع). (¬8) "تهذيب اللغة" 2/ 13 - 14 (عصر). (¬9) في (أ): (جهد).

2

التقضي، والليل في المجيء (¬1). وقال أبو إسحاق: وقال بعضهم معناه (¬2): ورب العصر، كما قال: (فورب السماء والأرض) (¬3) (¬4). وقال مقاتل: يعني صلاة العصر أقسم الله بصلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى (¬5)، فقال: 2 - {إِنَّ الْإِنْسَانَ}. وقال أبو عبيدة (¬6)، والزجاج (¬7)، وغيرهما (¬8): "الإنسان" هاهنا في معنى الناس، وهو اسم الجنس يقع على الجميع كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس. قوله تعالى: {لَفِي خُسْر}. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير نسبة في: "الوسيط" 4/ 55. (¬2) بياض في (ع). (¬3) سورة الذاريات: 23. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 360. (¬5) "تفسير مقاتل" 250 أ، "الكثسف والبيان" 13/ 146 ب، "النكت والعيون"، 6/ 333، "معالم التنزيل" 4/ 522 - 523، "زاد المسير" 8/ 303، "التفسير الكبير" 32/ 85، "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 79 و"فتح القدير" 5/ 491، "روح المعاني" 30/ 227، ورجحه الزمخشري في "الكشاف" 4/ 323. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 310. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 359. (¬8) وقال به محمد بن كعب القرظي، قال: يعني الناس كلهم، "بحر العلوم" 3/ 508، وذهب إليه الطبري في "جامع البيان" 30/ 290، والماوردي في "النكت والعيون" 6/ 333، ورجحه الشوكاني في "فتح القدير" 5/ 515.

3

الخسر: كالخسران، وهو النقصان، وذهاب رأس المال (¬1). وذكر في تفسير الخسر -هاهنا- قولان: أحدهما: إن هذا الخسر في الدنيا، وهو الضلال. والمعنى: أن كل إنسان؛ يعني الكافر لاستثنائه المؤمنين في الآية الثانية، لفي ضلال حتى يموت فيه، فيدخل الناس. وهذا قول مقاتل (¬2). وقال الفراء: لفي عقوبة بذنوبه، وأن يخسر أهله، ومنزله، وماله في الجنة (¬3). -وهذا الخسر إنما هو في الآخرة- وقال أهل المعاني: الخسر هلاك رأس المال، والإنسان في هلاك نفسه وعمره وهما أكثر رأس المال؛ إلا المؤمن العامل بطاعة ربه (¬4)، وهو قوله: 3 - {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وذكر المفسرون في الإنسان التعيين والتخصيص، فقال: عطاء عن ابن عباس: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب (¬5). وقال مقاتل: نزلت في أبي لهب (¬6). ¬

_ (¬1) قال بنحو ذلك ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص 342، وانظر "تفسير غريب القرآن" له أيضًا ص 538، قال: الخسران: النقصان، كذلك ابن شجرة في: "النكت والعيون" 6/ 334، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 146 ب. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في "التفسير الكبير" 32/ 87. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 289 بنحوه. (¬4) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد ورد بنص عبارتهم من غير عزو في "الوسيط" 4/ 551، و"معالم التنزيل" 4/ 523، و"زاد المسير" 8/ 304. (¬5) "التفسير الكبير" 32/ 86، وورد من غير عزو في "فتح القدير" 5/ 491. (¬6) "تفسير مقاتل" 250 أ، "التفسير الكبير" 32/ 86.

وروي مرفوعًا أنه أبو جهل (¬1). وهذا يحمل على أن هؤلاء ممن عني بلفظ الإنسان؛ لأن اللفظ اختص بهم لمكان استثناء المؤمنين من الإنسان. والمعنى: إلا الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بطاعته. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أوصى بعضهم بعضًا بالقرآن، (قاله الكلبي (¬2)، والحسن (¬3)) (¬4). وقال مقاتل: بتوحيد الله (¬5). وهو اختيار أبي إسحاق، قال: تواصوا بالإقامة على توحيد الله، والإيمان بنبيه -صلى الله عليه وسلم- (¬6). (وقوله) (¬7): {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. قال ابن عباس: بالصبر عن (¬8) معاصي الله، وعلى فرائض الله (¬9). وروي مرفوعًا: أن المراد بـ: "الذين آمنوا": أبو بكر، و"عملوا ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 32/ 86، "الدر المنثور" 8/ 622 موقوفًا على ابن عباس، وعزاه إلى ابن مردويه. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) ورد بمعنى قوله في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 394، "جامع البيان" 30/ 29، "معالم التنزيل" 4/ 523. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "تفسير مقاتل" 250 أ، "الكشف والبيان" 13/ 147 أ، "معالم التنزيل" 4/ 523، "زاد المسير" 8/ 304 - هامش عن النسخة الأزهرية. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 359 بنصه. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) في (أ): (على). (¬9) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد من غير عزو في "فتح القدير" 5/ 359.

الصالحات" عمر "وتواصوا (بالحق) عثمان، و (تواصوا) (¬1) بالصبر" علي رضي الله عنهم. (¬2) وقال أبو حاتم: قرأ أبو عمرو بالصَّبر "بشمم الباء شيئًا (من الجر) (¬3) ولا يُشبع (¬4). قال أبو علي: (وهما مما لا يجوز في الوقف، ولا يكون في الوصل إلا على إجراء الوصل مُجرى الوقف، وهذا لا يكاد يكون في القراءة، وعلى هذا قول الشاعر (¬5): ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) وقد ورد في: "بحر العلوم" 3/ 508 - 509، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 180 موقوفاً على ابن عباس، وذكره ابن جماعة في "غرر البيان" 548، ولم ينسبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وذكره نحوه ابن تيمية في "مقدمته في أصول التفسير" ص 88، وعدّه -وأمثاله- من الخرافات التي تتضمن تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال. وانظر "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"؛ تح: صفوان داوودي ص 1231. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) وهو من باب الوقف بالنقل؛ حيث يقف على الصبر، وينقل حركة الراء إلى الساكن قبلها، وهي لغة سائغة. انظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 173، و"البحر المحيط" 8/ 509، و"علل النحويين" 2/ 795 ويراد بالإشمام هو: ضم الثسفتين وبعيد التسكين (إشارة إلى الضم) مع بعض انفراج بينهما ليخرج منه النفس، ولا يدرك لغير البصير، أي أنه يرى رؤية، ولا يسمع له صوت. "حق التلاوة" لحسني الشيخ عثمان ص 90. وقال أبو منصور: كان هذا من اختلاس أبي عمرو، ولم يرو هذا لأبي عمرو، والقراءة بسكون الباء. "القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 795. (¬5) هو أبو النجم العجلي الراجز، هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله .. بن عِجل بن لجيم. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 314 وقد تقدمت ترجمته في سورة النساء.

فقرَّبْنَ هذا وهذا أزحِلُهْ (¬1) وأنشد سيبوية: (¬2) أنا ابن ماوية إذ جد النقر (¬3) ¬

_ (¬1) عجز البيت: ولا يقول رأيت البكر ورد البيت في: "كتاب سيبويه" 4/ 180، "المفصل" 9/ 71 برواية زُحِلُّة، و"الكامل" 2/ 693، والشاهد: نقل حركة الهاء إلى الساكن قبلها. "المفصل" 2/ 72. قال شارح المفصل: اعلم أنه يجوز في الوقف الجمع بين ساكنين، لأن الوقف يمكن الحرف ويستوفى صوته، ويوفره على الحرف الموقوف عليه فيجري ذلك مجرى الحركة لقوة الصوت واستيعابه، كما جرى المد في حروف المد مجرى الحركة، وليس كذلك الوصل، لأن الآخذ في متحرك بعد الساكن يمنع من امتداد الصوت لصرفه إلى ذلك المتحرك ... ثم قال: ومن الناس من يكره اجتماع الساكنين في الوقف؛ كما يكره ذلك في الوصل فيأخذ في تحريك الأول؛ لأنه هو المانع من الوصل إلى الثاني، فحركوه بالحركة التي كانت له في حال الوصل، فإن كان مرفوعًا حولوا الضمة إلى الساكن قبله، ويكون في ذلك تنبيه على أنه كان مرفوعًا وخروج عن عهدة الساكنين ... إلخ. "المفصل" 9/ 71. (¬2) لبعض السعديين كما هو عند سيبويه فدكى بن أعبد بن أسعد بن منقر كما في جمهرة ابن حزم. ومراجع أخرى نسبته إلى عبيد الله بن ماوية الطائي، أو عبيد بن معاوية الطائي، كما في اللسان، وعجزه: وجاءت الخيل أثافيَّ زُمَرْ (¬3) وقد ورد البيت في: "جمهرة ابن حزم" ص 217، و"كتاب سيبوية" 4/ 173، و"الإنصاف" 2/ 732 ش 450، و"المغني" 2/ 90 س 680، و"الدر اللوامع" 2/ 234، و"الكامل" 2/ 693، و"التكملة" للفارسي ص 9. والنَّقْر: أصله -بفتح النون وسكون القاف- قال ابن سيده: ومعناه، أن تلزق =

(وكذلك) (¬1) أنشد (¬2): عجبتُ والدهرُ كثيرٌ عجَبُهْ (¬3) ... من عَنَزيِّ سبني لم أضرِبه (¬4) فعلى هذه الأشياء قوله: "وتواصوا بالصبر"، وعلى هذا ما يروى عن سلام أبي (¬5) المنذر أنه قرأ: "والعصِر" بكسر الصاد، ولعله وقف لانقطاع نفس أو عارض منعه من إدراج القراءة. وعلى هذا يحمل على إجراء (¬6) الوصل مجرى الوقف، وعلى هذا ما روي عن الكسائي أنه كان يستحب أن يقف على "مِنْه"، و"عَنْه" بإشمام النون الضمة، فيقول: "مِنْهُ" و"عَنهُ" وهو مثل ما ذكرنا من قول الشاعر: ¬

_ = طرف لسانك بحنكك وتفتح ثم تصوت، وقيل: هو اضطراب اللسان في الفم إلى فوق وإلى أسفل، وقد نقر بالدابة نقرًا إذا صوت. هامش الإنصاف. والشاهد فيه: إلقاء حركة الراء على القاف للوقف. نقلاً عن الكتاب والإنصاف. (¬1) ساقط من (ع). (¬2) لزياد الأعجم نسبه له سيبويه في كتابه، وابن منظور. (¬3) في (ع): (عجيبة). (¬4) ورد في البيت في: "الكتاب" 4/ 180، "المحتسب" 1/ 196،"الدر اللوامع" 2/ 234 "الهمع" 2/ 208 دار المعرفة "لسان العرب" 12/ 554: (لمم) برواية: يا عجبًا والدهر جم عجبه، قال: والمشهور في البيت الأول: عجبت والدهر كثير عجبه، و"المفصل" 9/ 70، و"شرح أبيات سيبويه" للنحاس 36 ش 25، "الكامل" 2/ 693. الشاهد: قال النحاس: فرفع يلم، وكان حقه أن يقول: لم أضربه بسكون الباء، لأن "لم" عامله الجزم، ولكن لما كانت القافية موقوفة حول الضمة التي في الهاء من أضربه إلى الباء لئلا يجتمع ساكنان: "شرح أبيات سيبوية" 36: ش 25. (¬5) في (أ): (أبن). (¬6) في (أ): (أجري).

من عَنَزيٍّ سبَّني لم أضرِبُه وأنشد ابن مجاهد (¬1) على هذه القراءة: أيت ثيائا على جشة ... فقلت هشامٌ ولم أخبَرُه (¬2) (¬3) (-تمت-) ¬

_ (¬1) لم أعثر على قائله، وقال محقق "الحجة" لم نقف على قائله. (¬2) ما بين القوسين من كلام طويل هو لأبي على -كما نص عليه الإمام الواحدي- نقله عن "الحجة" 6/ 438 - 440 باختصار. (¬3) ساقط من (ع).

سورة الهمزة

سورة الهمزة

1

تفسير سورة الهمزة (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال أبو عبيدة (¬2)، والزجاج (¬3): الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس، (ويغُضُّهُم (¬4) (¬5)، وأنشد قول الأعجم (¬6): تُدلي الودَّ إن لاقيتني كَذِبًا ... وإن تغيبتُ كنت الهامزَ اللُّمَزَة (¬7) ¬

_ (¬1) مكية بالإجماع حكاه ابن عطية في "المحرر" 5/ 521، وانظر "جامع البيان" 30/ 291، و"الكشف والبيان" 13/ 147 ب، و"زاد المسير" 8/ 305. (¬2) "مجاز القرآن" 2/ 311، برواية: تدلي بودي، وإن أُغيب فأنت ... " (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 361، برواية "إذا لقيك عن كره تكاشرني". (¬4) وردت في المعاني بقوله: يَعَضُّهم، ومعنى يغُضُّهم: يغض بالضم إذا وضع ونقص من قدره "الصحاح" 3/ 1095 (غضض). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) الأعجم: لعله: زياد بن سُليم العبدي، ويقال: زياد بن جابر بن عمرو بن عامر من عبد القيس الأعجم، وكان هجاءً قليل المدح للملوك والوفادة إليهم، ولم تكن له همة تدعوه، وكانت همته ومركزه بخراسان وما يليها، وكان صاحب بديهة وقدرة في الشعر، وعده ابن سلام من طبقة فحول الإسلام، وكانت فيه لكنه فلذلك قيل له الأعجم. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 2/ 681: رقم 850، و"الشعر والشعراء" ص 279. (¬7) وقد ورد البيت في: "جامع البيان" 30/ 291 برواية بمثل ما عند أبي عبيدة، ومما =

قال سعيد بن جبير (¬1)، ومجاهد (¬2)، و (قتادة (¬3)) (¬4): "الهمزة": الطعان، و"اللمزة" (¬5) الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم. قال المبرد: الهمز باللسان، واليد، واللمز أن يغتاب بلسانه، وينظر النظرة المنكرة بعينه (¬6). وهذا مما سبق فيه الكلام عند قوله "يلمزك في الصدقات" (¬7). ¬

_ = ذكر أيضًا بمثل رواية أبي عبيدة صاحب: "النكت والعيون" 6/ 335، و"البحر المحيط" 8/ 510، و"إصلاح المنطق" 428. وبمثل رواية الزجاج عند: "الكشف والبيان" 13/ 148 أ، و"لسان العرب" 5/ 426 (كشر)، و"زاد المسير" 8/ 206، و"لباب التأويل" 4/ 406، وذكر بالروايتين في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 182، و"فتح القدير" 5/ 493، وقد وردت بمثل ما ذكرها الواحد في: "الكشاف" 4/ 232، و"مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف" ص 140. (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 148 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 523. (¬2) "جامع البيان" 30/ 292، و"بحر العلوم" 3/ 510، و"الكشف والبيان" ج 13/ 148 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 521، و"زاد المسير" 8/ 306 بمعناه، و"الدر المنثور" 8: 624 وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الغيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 310: ح 6753. (¬3) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 395 - ذكر فقط معنى اللمزة، و"جامع البيان" 30/ 292 "الكشف والبيان" 13/ 148 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 523، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 586، و"الدر المنثور" 8/ 624 وعزاه إلى عبد بن حميد. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) في (أ): (الهمزة). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) سورة التوبة: 58 ومما جاء في تفسيرها: قال الليث اللمز كالغمز في الوجه، رجل لمزة يعيبك في وجهك ورجل همزة يعيبك بالغيب، وقال الزجاج: يقال لمزه الرجل بكسر الميم، واللمزة بضم الميم إذا عبته، وكذلك همزته أهمزه إذا عبته، =

وقوله "هماز مشاء" (¬1). قال عطاء (¬2) (والكلبي (¬3)) (¬4): نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس، ويغتابهم. وقال مقاتل: الهمزة المغتاب على الغيبة، واللمزة: الطعان في الوجه، نزلت في الوليد ابن المغيرة: كان يغتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ورائه، ويطعن عليه في وجهه (¬5). وقال محمد ابن إسحاق: ما زلنا (¬6) نسمع هذه السورة نزلت في أمية ابن خلف (¬7). قال الفراء: إنها نزلت في رجل واحد، وهو جائز في العربية، أن تذكر الشيء العام وأنت تريد به الواحد، وتقصد قصد الواحد، هذا من ¬

_ = والهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم، وقال الأزهري: وأصل الهمز واللمز الدَّفْعُ ... وفي رواية عطاء يلمزك: يغتابك، وقال قتادة: يطعن عليك. (¬1) سورة القلم: 11، ومما جاء في تفسيرها: "هماز" قال المبرد: وهو الذي يهمز الناس بالمكروه، وأكثر ذلك بظهر الغيب، قال الزجاج يغتاب للناس، وقال ابن عباس طعان للناس وقال مقاتل: مغتاب. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 148 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 523، و"زاد المسير" 8/ 305. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "تفسير مقاتل" 250 أ، و"بحر العلوم" 3/ 510، و"الكشف والبيان" 13/ 148 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 524، و"زاد المسير" 8/ 305. (¬6) في (أ): (ملنزلنا). (¬7) "معالم التنزيل" 4/ 523، و"زاد المسير" 8/ 305، و"لباب التأويل" 4/ 406، و"لباب النقول" ص 234 - 235.

2

ذلك، وأنت قائل في الكلام عند قول الرجل: لا أزورك (¬1) أبدًا، فتقول أنت: كل من لم يزرني فلست بزائره، وأنت تقصد قصده. ويدل على أن المراد به الواحد بعينه: أنها في قراءة عبد الله "ويل لِلْهُمَزَةِ اللُّمَزَةِ" (¬2) 2 - ثم وصفه فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} (وقرئ "جَمَّعِ" بالتشديد (¬3)، قال أبو الحسن (¬4): المثقلة أكثر في الكلام، وفي القراءة تقول: فلان يُجَمِّعُ الأموال. أي يجمعها من هنا، وهنا، قال: وقال أبو عمرو: "جَمَعَ" بالتخفيف إذا كثر، ومن ثقل فإنما هو شيء بعد شيء هو -هاهنا- ثقيل، لأنه جمع شيئًا بعد شيء. قال أبو علي: ويجوز أن يكون جمع بالتخفيف لما يُجمَعُ شيء بعد شيء، كما قال (الأعشى) (¬5): ¬

_ (¬1) في (أ): (لزورك). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 289 بتصرف. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون السبب خاصًا، والوعيد عامًا لتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون جاريًا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه. "الكشاف" 4/ 232، والذي عليه الأكثرية عموم اللفظ لكل همز ولمز انظر: "جامع البيان" 30/ 293، و"الكشف والبيان" 13/ 148 ب، و"النكت والعيون" 6/ 336، و"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 183. (¬3) قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو جعفر، وروح، ووافقهم الأعمش: "جَمَّعَ" بالتشديد. "كتاب السبعة" 697، و"الحجة" 6/ 441، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 797، و"المبسوط" ص 417، و"كتاب التبصرة" ص 732، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 443. (¬4) أي الأخفش. (¬5) ساقط من (أ).

لامرئ يجمع الأداة ... لرَيْب الدهر لا مسنَد ولا زمَّالِ (¬1) والأشبه أن إرادة العرب لا تجمع في وقت واحد، إنما هو شيء بعد شيء، وقال: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا (¬2) والنمل لا يجمع ما يدّخره في وقت واحد، إنما يجمع شيئًا بعد شيء، فيجوز على هذا في قول من خفف أن يكون جمع شيئًا بعد شيء، كما يكون ذلك في قول من ثقل) (¬3). وقوله (¬4): {وَعَدَّدَهُ} قال الفراء: وأحصاه (¬5). وقال الزجاج: "وعدده" للدهر (¬6)، وهو معنى قول مقاتل: واستعد ¬

_ (¬1) "ديوانه" 183 برواية: "يجعل" بدلًا من: (يجمع)، ومعنى: مسند: المتهم في نسبه. زمال: الضعيف. "ديوانه". (¬2) البيت مختلف في نسبته لقائله، فمنهم من ينسبه إلى الأحوص وهو في "شعره" ص 141، وبعضهم إلى يزيد بن معاوية وبعضهم إلى دهبل، وقال: أبو الحسن: الصحيح أنه ليزيد يصف جارية. انظر: "الكامل" 2/ 498، و"سر صناعة الإعراب" 2/ 626، و"الممتع" لابن عصفور 1/ 158، و"لسان العرب" 13/ 409 (مطرن)، ونسبه إلى الأخطل، ولم أعثر عليه في "ديوان الأخطل". وجاء في حاشية كتاب: "الكامل" والأبيات في "شعر الأحوص" وهي كلمة رواها أبو عمر الشيباني لأبي دهبل الجمحي -وتكلم وحقق ومال في النهاية إلى توثيق نسبته لأبي دهبل- 2/ 498، شعر الأحوص: تح: السامرائي ص 141. (¬3) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 441 - 442 بتصرف. (¬4) قوله: من (أ). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 290. (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 361.

مالاً (¬1). قال صاحب النظم: مأخوذ من العدّة، وهو الذخيرة، يقال: أعدد الشيء لكذا وأعددته (¬2)، وعددته أيضًا إذا أمسكته (¬3) (¬4). وقال (صاحب النظم) (¬5): وقيل معنى "وعدده" كثره، كما يقال: هذا مال له عدد (¬6). والعدد، والعديد في بني فلان: أي الكثرة فيهم (¬7). ثم ذكر طول أمله فقال: (قوله) (¬8): {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} قال أبو إسحاق: أي يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يموت (¬9). {كَلَّا} لا يخلده (ماله) (¬10)، ولا يبقى له. ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 250 أورد معنى قوله في "الكشف والبيان" 13/ 148 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 524، و"المحرر الوجيز" 5/ 521. (¬2) في (ع): (واعتدته). (¬3) في (ع): (أمسكه له). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله في "التفسير الكبير" 32/ 93 من غير عزو. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (عدة). (¬7) لم أعثر على مصدر لقول، وقد ورد قبله في "التفسير الكبير" 32/ 93، وجاء في "التهذيب" 1/ 90 (عد). العديد: الكثرة، يقال ما أكثر عديد بني فلان وبنو فلان عديد الحص، إذا كانوا لا يحصون كثرة، كما لا يحصى الحص، ويقال هذه الدراهم عديد هذه الدراهم إذا كانت بعددها. (¬8) ساقط من (ع). (¬9) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 362 بنصه. (¬10) ساقط من (أ).

قوله: {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} ليلقين في جهنم، وليطرحن فيها. قال الكلبي: الحطمة اسم من أسماء النار، وهي الدرجة الثانية من درج النار (¬1). وقال المبرد: الحطمة النار التي تحطم كل من وقع فيها، ورجل حطمة أي: شديد الأكل يأتي على زاد القوم، وكذلك يقال في السير: سواق حطم، وأنشد: قد لفَّها الليلُ بسوّاقٍ (¬2) حُطَم (¬3) ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "التفسير الكبير" 32/ 94، و"تهذيب اللغة" 4/ 400 (حطم)، وقد ورد عنه أنه الباب السادس راجع في ذلك "النكت والعيون" 6/ 333، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 184. (¬2) في (ع): (بسوق). (¬3) في "الحماسة البصرية": بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين خفاق القدم قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم وورد البيت في: "الكامل" 2/ 498، 3/ 1230، ونسبه للحُطم القيسي، كما في "سمط اللآلي" 729، و"لسان العرب" 12/ 138 - 139 (حطم)، وقال آخرون: هي للرُشيد بن رُميض العنزي قالها في الحطم، وقد نعته بهذا البيت بالحطم، فلقب يومئذ لقول رشيد هذا فيه. انظر "الأغاني" 15/ 255 تح عبد السلام هارون، و"ديوان الحماسة" للتبريزي 1/ 132، و"الحماسة البصرية" لأبي الفرج بن الحسين البصري 1/ 103. كما ورد غير منسوب في "مقاييس اللغة" 20/ 78 (حطم)، و"الصحاح" 5/ 1901 (حطم)، وقال محقق "الكامل" ويقع بعضها في رجز أبي زغبة الخزرجي، والأخنس بن شهاب التغلبي، وجابر بن حني التغلبي، والأغلب العجلي. انظر "شرح أبيات سيبويه" 2/ 286. ومعنى قوله: "قد لفها الليل" جعل الفعل لليل على المجاز، وأصل الحطم الكسر، والمعنى جمع الليل هذه الساق برجل متناهي القوة؛ عنيف السوق لا يرفق بوسائقه رفق الرعاة، ولا رفق الجزاع. "ديوان الحماسة" للتبريزي: 1/ 132 - 133.

6، 7

وأصل الحطمة في اللغة: الكسير (1) (ذكرنا ذلك في تفسِر "الحُطام) " (2) (3)، ويقال: "شرُّ الرِّعَاءِ الحُطَمة" (4)، يقال: راع حطمة، وحُطم بغيرها، كأنه يَحْطِم الماشيةَ أي: يكسرها عند سوقها لعنفه) (5). قال مقاتل: هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم علي القلوب (6). وذلك قوله: 6، 7 - {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال (7): تخلص

_ (1) في (أ): (الكثير. انظر: (حطم) في "إصلاح المنطق" ص 429، و"تهذيب اللغة" 4/ 400، و"مقاييس اللغة" 2/ 78، و"الصحاح" 5/ 1901، و"لسان العرب" 12/ 138. (2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (3) وقد جاء تفسير الحطام الوارد في سورة الزمر: 21، قال أبو عبيدة: الحطام والرفات والدرين واحد في كلام العرب وهو: ما يبس من النبات وغيره، وقال مقاتل: يعني هالكًا بعد الخضرة. (4) هذا المثل أصله حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" 3/ 1461: ح: 23: كتاب الإمارة: باب 5، من طريق عائذ بن عمرو، وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دخل على عبيد بن زياد، فقال: أي بني إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن شر الرعاءِ الحطمة، فإياك أن تكون منهم". كما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 64، وانظر: "مجمع الأمثال" 2/ 159 رقم 1946 وقال الميداني: يضرب لمن يلي شيئًا ثم لا يُحسن ولايته، و"تاج العروس" 8/ 251 (حطم). كما ورد في "المستقصي في أمثال العرب" للزمخشري 2/ 129 رقم: 442. (5) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 4/ 400 (حطم). (6) "تفسير مقاتل" 250 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 94. (7) أي مقاتل.

8

حرها إلى القلوب، ثم يكسى لحماً جديدًا، ثم يقبل عليه، فتأكله فهذا دأبه (¬1). ونحو هذا قال الفراء (¬2)، (والزجاج (¬3)) (¬4): يبلغ ألمها وإحراقها إلى الأفئدة. قال ابن قتيبة: "تطلع على الأفئدة" تُوفي عليها وتُشْرِف، (ويقال: طلع الجبلَ واطَّلع عليه إذا [علا] (¬5) فوقه) (¬6)، وخصّ الأفئدة، لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه، فأخبر أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون، كما قال: "فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيي" (¬7) يريد أنه في حال من يموت (وهو) (¬8) لا يموت (¬9). ثم وصفهم فقال: 8 - {إنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} قال المفسرون: مطبقة (¬10)، وهو كقوله: ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 250 ب. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 290. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 362 واللفظ له. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) (علاه) هكذا ورد في النسختين وأثبت ما جاء في مصدر القول -لانتظام الكلام به. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) سورة طه: 74. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) "تأويل شكل القرآن" ص 419 بنصه. (¬10) قال بذلك: ابن عباس، وعطية، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، و"جامع البيان" 30/ 295، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 395، و"النكت والعيون" 6/ 337 وقال به السجستاني في "نزهة القلوب"، واليزيدي في "غريب القرآن وتفسيره" ص 441، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 510، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 362، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 149، =

{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد: 20] (وقد مر وذكرنا الكلام في تفسير "المؤصدة" هناك (¬1)) (¬2). وقوله: (في عمد (ممددة) (¬3)) وقرئ: "في عُمُد (¬4) ". قال الفراء: وهما (¬5) جمعان (¬6) للعمود، مثل: الأديم (¬7)، والأُدُم، والإهاب (¬8)، والأَهَب، الأُهُب، والقضِيم (¬9)، والقَضَم، والقُضُم (¬10)، ¬

_ = 149 أ، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 524، و"المحرر الوجيز" 5/ 522، وقال آخرون: مغلقة، وقال غيرهم مسدودة. انظر: "النكت والعيون" 6/ 337 وكلها تحمل معنًى واحداً. (¬1) راجع: سورة البلد: 20. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ساقط من (أ). (¬4) قرأ بذلك: عاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ووافقهم الحسن، والأعمش، وقرأ الباقون: "عَمَد" بفتحتين. "كتاب السبعة" 697، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 20/ 797، و"المبسوط" 417، و"الحجة" 6/ 442، و"حجة القراءات" ص 772، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 443. (¬5) أي: العُمُد، والعَمَد. (¬6) بياض في (ع). (¬7) الأدم: اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خلق من تراب، وكذلك الأُدْمَةُ إنما هي مشبهة بلون التراب، وقال الليث: الأدم: جمع الأديم، وأديم كل شيء ظاهر جلده، وأدمه الأرض والإدام والأدم ما يؤدم تدم به مع الخبز. "تهذيب اللغة" 14/ 215 (أدم). (¬8) الإهاب: يقال للجلد إهاب والجمع أهُبُ وأَهب. المرجع السابق. (¬9) القضيم: الجلد الأبيض، يكتب عليه، والجمع أقضمه وقُضُم وقَضَم. "تهذيب اللغة" 8/ 351، و"لسان العرب" 12/ 488 (قضم). (¬10) "معاني القرآن" 3/ 291.

(ونحو هذا قال الأخفش: كلاهما جمع عمود (¬1)) (¬2). وقال (المبرد (¬3)، و) (¬4) أبو علي: العُمُد عَمُود على غير قياس، واحد والجمع على واحد "عُمُد" مثل: زبُور، وزُبُر، ورسُول، ورُسُل. ومن قال: "عَمَدٌ" فهو اسم من أسماء الجمع من غير مسمى، يقال ذلك في جمع: فعول، وفعيل، وفعال، نحو أَدَم، وأَهَب، وحَرَس، وغيب (¬5). وقال أبو عبيدة: كلاهما جمع: العِماد (¬6). والعمود كل مستطيل من خشب أو حديد (¬7)، وهو أصل للبناء، مثل العماد، يقال: عمود البيت، للذي (¬8) يقوم به البيت. (¬9) واختلفوا في المراد بالعمد -هاهنا- مأخوذ بالأعرف والذي عليه الأكثر: أنها أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "التفسير الكبير" 32/ 95. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "الحجة" 6/ 443 بتصرف. (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 311 بنصه. (¬7) وعبارة العمود كل مستطيل من خشب أو حديد عزاها القرطبي إلى أبي عبيدة في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 186، وكذا الشوكاني: "فتح القدير" 5/ 494 ولم أجدها عند أبي عبيدة في المجاز. (¬8) في (أ): (الذي). (¬9) انظر: (عمد) في "مقاييس اللغة" 4/ 137، و"الصحاح" 2/ 511، و"لسان العرب" 3/ 303.

قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شددت بأوتاد (¬1) من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يفتح عنهم باب. (ولا يدخل عليهم رَوّح (¬2). وهو قول الكلبي قال: طبقتها في عمد، والعمد كعمد أهل الدنيا غير أنها من النار (¬3)) (¬4) وقول ابن مسعود (أيضًا (¬5)) وهي في قراءته "بِعَمَدٍ" (¬6) يعني أنها مطبقة عليهم بعمد وهي أوتاد تلك (¬7) الأطباق التي تطبق عليهم (وهي أبوابها) (¬8) و"ممددة" من صفة العمد، أي ممدودة مطولة، وهي أرسخ وأثبت من الطويلة. وقال قتادة: بلغنا أنها عمد يعذبون بها في النار (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ): (باوتداد). (¬2) "تفسير مقاتل" 250 ب، و"زاد المسير" 8/ 307، و"فتح القدير" 5/ 494، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "بحر العلوم" 3/ 511، و"لباب التأويل" 4/ 407. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) وردت قراءته في: "جامع البيان" 30/ 295، و"الكشف والبيان" 13/ 149 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 524، و"زاد المسير" 8/ 307، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 185. وهي قراءة تفسيرية، وليست قراءة قرآنية لشذوذها وضعف سندها. (¬7) في (أ): (ذلك. (¬8) ما بين القوسين ساقطة من (أ). (¬9) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 395، و"جامع البيان" 30/ 296، و"الكشف والبيان" 13/ 149 ب "معالم التنزيل" 4/ 524، و"زاد المسير" 8/ 307، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 186، و"لباب التأويل" 4/ 407، و"البحر المحيط" 8/ 511، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 586، و"الدر المنثور" 8/ 625 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 494.

وعلى هذا معنى الآية: هم عمد ممددة، أي في عذابها وإيلامها يضربون بها. (تمت) (¬1). ¬

_ (¬1) ساقط من (ع).

سورة الفيل

سورة الفيل

1

تفسير سورة الفيل (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {أَلَمْ تَرَ} (¬2) (قال ابن عباس: يريد ألم تسمع يا محمد (¬3)) (¬4). (قال الفراء: يريد ألم تُخبر (¬5). وقال الزجاج: معنى "ألم تر" ألم) (¬6) تعلم (¬7). وقال صاحب النظم: هي كلمة وضعت لمعنى (التعجب (¬8)) (¬9). (وقوله: {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} قال أبو إسحاق: كيف في موضع ¬

_ (¬1) مكية بإجماعهم حكى ذلك ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 523، وابن الجوزي: "زاد المسير" 8/ 308، وانظر: "جامع البيان" 30/ 296، و"معالم التنزيل" 4/ 525. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 291. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 363. (¬8) "الوسيط" 4/ 554. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ).

نصب) (¬1) بـ: "فعل" لا بقوله "ألم تر"، لأن "كيف" من حروف الاستفهام (¬2). وقوله: {بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} يعني الذين غزوا البيت، وقصدوا تخريب الكعبة من الحبشة، والفيل معروف، ويجمع على الفيلة، والأفيال، وسايسه (¬3) الفيال، والعرب تعظم شأنه، وتعجب من صورته، وخلقته (وقوته وكثافة أركانه) (¬4) قال لبيد: لو يَقُومُ الفِيلُ أو فَيّاله ... زَلَّ عَنْ مِثْلِ مَقَامي وزَحَلْ (¬5). وأكثر أهل التاريخ على أنهم لم يكن معهم غير فيل واحد، وكان (فيلًا كبيرًا) للنجاشي، لم ير مثله في الأرض عظمًا (وجسمًا وقوة) (¬6) واسم الفيل: محمود (¬7). وقال الضحاك: كانت الفيلة ثمانية (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 363 بنصه. (¬3) السايس: القائم على الشيء بما يصلحه، والسياسة فعل السائس. "لسان العرب" 6/ 108 (سوس). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "ديوانه" ص 147، ط. دار صادر، زحل: زل عن مكانه. الفيال: صاحب الفيل، توهم لبيد أنه لا بد أن يكون قويًا ليقدر على تصرف الفيل، وقد عاب العلماء هذا البيت على لبيد. ديوانه. (¬6) ما بين الأقواس ساقط من (أ). (¬7) وممن ذكر أنه قيل واحد: الطبري في "تاريخه" 2/ 154، وابن هشام "السيرة" 1/ 46، وابن الأثير في "الكامل في التاريخ" 1/ 260، وابن كثير في "البداية والنهاية" م 1 ج 2/ 158. (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 157/ أ، و"البحر المحيط" 8/ 512.

2

وعلى هذا: الفيل: اسم الجنس، والصحيح هو الأول يدل عليه قول أبي الصلت (الثقفي (¬1)) (¬2) يذكر تلك القصة. إن آياتِ رَبِّنا بينات ... ما يُماري بهنَّ إلا الكفورُ حَبَسَ الفيلَ بالمُغَمَّسِ ... حتّى ظَلَّ يَحْبو كأنَّهُ مَعْقُورُ (¬3) أخبر عن فيل واحد. ثم ذكر ما فعل بهم فقال: 2 - {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي (تَضْلِيلٍ) (¬4)} أي مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها (¬5). {فِي تَضْلِيلٍ} قال عطاء: في باطل. (وقال الكلبي: في أباطيل (¬6)) (¬7). وقال مقاتل: في خسار (¬8). ¬

_ (¬1) أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، تقدمت ترجمته. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد البيتان في: "سيرة ابن هشام" 1/ 63 برواية: (ثاقبات) بدلًا من (بينات)، و"البداية والنهاية": م 1، ج 2/ 163 بنفس رواية ابن هشام ولكن منسوبة إلى أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة، و"النكت والعيون" 6/ 341 برواية: (ناطقات لا يماري) و (مر يعوي) ونسبة إلى أبي الصلت بن مسعود، و"الكشف والبيان" 13/ 156 أو نسبة إلى أبي الصلت بن أمية ابن مسعود، و"لباب التأويل" 4/ 409 برواية (ساطعات) و (ظل يعوي) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 491 برواية (باقيات) و (حتى صار يحبو). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) لعله نقله عن الثعلبي بتصرف انظر: "الكشف والبيان" 13/ 57 أ. (¬6) لم أعثر على مصدر لقولهما، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "الكشف والبيان" 13/ 157 أ. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "تفسير مقاتل" 253 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 157 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 528.

3

وقال أبو إسحاق: في ذهاب (¬1). والمعنى: في تضليل عما قصدوا له من تخريب الكعبة، ضلل كيدهم حتى لم يصل إلى البيت، وإلى ما أرادوه بكيدهم. 3 - {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ} (¬2) عطف. قوله: "وأرسل" (¬3) على معنى "ألم يجعل" لا على لفظه، ومعناه (جعل) (¬4): كيدهم في تضليل، {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ} كما قلنا في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا} [الشرح:1 - 2]. وقوله (¬5) تعالى: {طَيْرًا أَبَابِيلَ} قال ابن عباس (في رواية عطاء) (¬6): يريد مجتمعة (¬7). وقال مقاتل: يعني متتابعة بعضها على إثر بعض (¬8)، (وهو قول قتادة (¬9)، وعبيد بن عمير (¬10)) (¬11). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5: 363. (¬2) بياض في (ع). (¬3) ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (قوله). (¬5) ساقط من (ع). (¬6) ساقط من (أ). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "تفسير مقاتل" 253 أ، و"زاد المسير" 8/ 312. (¬9) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 396. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(وقال ابن أَبْزَى (¬1): أقاطيع كالإبل المؤبلة (¬2) (¬3) (¬4). وقال أبو سلمة: هي الزُّمَر (¬5) (¬6). (وقال أبو صالح: يتبع بعضها بعضًا (¬7)) (¬8). وأمَّا أهل اللغة فقال أبو عبيدة: أبابيل: جماعات على تفرقة، يقال: جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا، ولم نر أحدًا (¬9) يجعل لها واحداً (¬10)، (ونحو هذا ذكر الأخفش سواء (¬11)) (¬12). ¬

_ (¬1) ابن أبزى: هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم؛ الكوفي، روى عن أبيه، وعنه جعفر ابن أبي ربيعة، وقتادة، قال النسائي: ثقة. انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 39 ت 171، و"تهذيب الكمال" 10/ 524 ت 2308. (¬2) المؤبلة: يراد بها الكثيرة. "تهذيب اللغة" 15/ 388 (أبل) (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 157 أكما ورد بمثله عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، و"جامع البيان" 30: 297، و"النكت والعيون" 6/ 343. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) في (ع): الرمى. (¬6) "جامع البيان" 30/ 297. (¬7) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 342، و"زاد المسير" 8/ 312 وكلامه: جمعًا بعد جمع. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) في (ع): أحد. (¬10) "مجاز القرآن" 2/ 312. (¬11) "التفسير الكبير" 32/ 100، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 197 والكلام عنه قال: يقال جاءت إبلك أبابيل: أي خرقًا، وطير أبابيل قال: وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له، و"لسان العرب" 6/ 11: (أبل). وجميع ما ذكر في معنى "أبابيل" أقوال متفقة وحقيقة المعنى أنها جماعات عظام. قاله النحاس. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 197. (¬12) ما ببن القوسين ساقط من (أ).

وقال الفراء: "أبابيل" لا واحد لها، مثل: الشماميط (¬1)، والعباديد (¬2)، (والشعارير (¬3)) (¬4). كل هذا لا يفرد له واحد قال: وزعم (أبو جعفر) (¬5) الرؤاسي (¬6) (¬7)، وكان ثقة مأمونًا أنه سمع واحدها "إبالة"، وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: "أبَوَّل" مثل: العَجَّوْل (¬8)، والعَجَاجيل، -قال الفراء- ولو قال قائل: واحد "الأبابيل" "إيبالة" كان صوابًا، كما قالوا: دينار، ودنانير (¬9). وقال ابن الأعرابي: "الإبَّوْلُ" طَائرٌ ينفرد من الرَّف، وهو السَّطر من الطَّير (¬10). ¬

_ (¬1) الشماطيط: أي المتفرقة، يقال: وجاءت الخيل شماطيط متفرقة أرسالًا. "القاموس المحيط" الفيروزابادي 2/ 369. (¬2) العَبَادِيدُ: الفرق من الناس الناهبون في كل وجه وكذلك العبابيد. "الصحاح" 2/ 4: 50 (عبد). (¬3) شعارِير: أي متفرقين، يقال: ذهب القوم شَعَارِير إذا تفرقوا. "الصحاح" 2/ 700 (شعر)، و"القاموس المحيط" 2/ 60 (شعر). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (ع): (الرازي). (¬7) أبو جعفر هو محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي، قيل له ذلك لعظم رأسه، وهو أول من وضع نحو الكوفيين، ذكر ذلك ثعلب، من تصانيفه: "معاني القرآن"، وتصانيفه في النحو. انظر: "بغية الوعاه" 1/ 109: ت: 180. (¬8) العِجَّوْل: هو ولد البقرة، ويقال: عِجْل، والأنثى عجلة، وجمع عِجول: عجاجيل. "تهذيب اللغة" 1/ 372 (عجل). (¬9) "معاني القرآن" 3/ 292 بتصرف. (¬10) "تهذيب اللغة" 15/ 389 (ويل).

وقد استعملت العرب: الأبابيل معنى الجماعات. قال الأعشى: طَريْقٌ وَجَبَّارٌ رِوَاءٌ أصولُهُ ... عَلَيْهِ أبَابِيلٌ مِنِ الطَّيْرِ تَنْعَبُ (¬1) وقال امرؤ القيس: تراهم إلى الداعي سراعًا كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مُسَجَّنِ (¬2) (¬3) واختلفوا في صفة ذلك الطير، فروي عن (ابن سيرين، عن) (¬4) ابن عباس، قال: كانت طيرًا لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب (¬5). وروى عطاء عنه قال: طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا (¬6). ¬

_ (¬1) ورد البيت في: "ديوانه" ص 11، ط. دار صادر، و"الكشف والبيان" 13/ 157 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 197. معناه: الطريق، والجبار: نخل طويل. أبابيل: أسراب. (¬2) في (أ): (سخر). (¬3) ورد البيت في: "الكشف والبيان" 13/ 157 أبرواية: (مسخر)، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 197 غير منسوب، وفي الهامش ذكر أنه منسوب إلى امرئ القيس وأنه لم يجده في ديوانه، و"فتح القدير" 5/ 496. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "جامع البيان" 30/ 297 - 298، و"الكشف والبيان" 13/ 57 اب، و"معالم التنزيل" 4/ 528، و"التفسير الكبير" 32/ 100، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 196، و"لباب التأويل" 4/ 410، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 589، و"الدر المنثور" 8/ 630 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مروديه، والبيهقي في "دلائل النبوة" 1/ 122 - 123. (¬6) "التفسير الكبير" 32/ 100، و"الدر المنثور" 8/ 630 وعزاه إلى الفريابي وعبد بن

4

وقال عكرمة: (خرجت من البحر [لها] (¬1) مثل رؤوس السباع، وقال) (¬2): هي طير خضر تختلف (¬3) بالحجارة (¬4). وقال قتادة: هي طير خرجت من قبل البحر بيض، مع كل طائر ثلاثة (¬5) أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمته (¬6) (¬7)، فذلك قوله: 4 - {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}. روى (عطاء) (¬8) عن ابن عباس (قال) (¬9): "أرسل الله الحجارة على أصحاب الفيل جعل لا يقع حجر على أحد منهم إلا نفط (¬10) جلده وثار به ¬

_ = حميد. (¬1) غير مقروء في (ع)، وأثبت ما جاء في: "الجامع لأحكام القرآن" لسوقه مثل هذه الرواية" وعن عكرمة أيضًا. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) غير مقروء في (ع). (¬4) ورد قوله مختصرًا في: "الكشف والبيان" 13/ 57 اب، و"معالم التنزيل" 4/ 528، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 196 "تفسير القرآن العظيم" 4/ 589، و"الدر المنثور" 8/ 631 بمعناه وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "دلائل النبوة" 1/ 123. (¬5) غير واضحة في (ع). (¬6) في (أ): (هشمه). (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 396، و"جامع البيان" 30/ 299، وذلك عند تفسير: "ترميهم بحجارة"، و"معالم التنزيل" 4/ 529 غير أنه ذكر أنها طير سود، وكذا في "فتح القدير" 5/ 495. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) ساقط من (أ). (¬10) نفط: البثرة: يقال: نفطت يده نفطًا من باب تعب، ونفيطًا إذا صار بين الجلد واللحم ماء، الواحدة نفطة، والجمع نفط، وهو الجدري. "المصباح المنير" 2/ 757 (نفط).

الجدري (¬1)، فكان أول يوم رؤي فيه الجدري، لم يُرَ قبل ذلك (¬2)، (ونحو هذا قال سعيد بن جبير (¬3)) (¬4). وقال ابن سابط: كانت تحمل الحجارة لا تريد شيئًا فتخطئه، ولا تصيب شيئاً إلا أحرقته (¬5) (¬6). وروى موسى بن أبي عائشة (¬7): أنها كانت تحمل حجارة أصغرها مثل العدسة (¬8)، وأكبرها مثل الحمصة (¬9). قال عبيد بن عمير: ما أرادت أصابت، وما أصابت قتلت (¬10). ¬

_ (¬1) الجدري: هو عبارة عن بثرات تخرج من البدن يقال لصاحبها: مجدور، فإن بالغت قلت: مجدر، ويقال: جَدري أيضًا -بفتح الجيم؛ منسوب إلى جدر العضاة، وهي كالبثرات، أو إلى الجدرة، وهي ورم كالسَّلْعة في الحلق وغيره، وإذا ضممت الجيم يكون من تغيير النسب، وهو مرض معدٍ، وقد قضي عليه تمامًا بالتطعيم. انظر: "المجموع المغيث" 1/ 303 - 304 (جدر)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 246 (جدر)، وانظر: "الموسوعة العربية العالمية" 8/ 220. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 296، بنحوه من طريق عكرمة عن ابن عباس، و"التفسير الكبير" 32/ 100، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 198 مختصرًا، وعن عكرمة بنحوه "جامع البيان" 30/ 299 (¬3) "التفسير الكبير" 30/ 100. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) بياض في (ع). (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) تقدمت ترجمته في سورة النور. (¬8) العدسة: من الحبوب، والجمع: العَدَس. "لسان العرب" 6/ 132 (عدس). (¬9) "جامع البيان" 30/ 299. (¬10) لم أعثر على مصدر لقوله.

5

وقال مقاتل: كان الطائر الواحد يحمل ثلاثة أحجاش، واحد في منقاره، واثنان في رجليه، يقتل بكل واحد رجل ث مكتوب على كل حجر اسم صاحبه (¬1). قال ابن مسعود: ما وقع منها حجر علي رجل إلا خرج من الجانب الآخر، (وإن وقع على رأسه خرج من دبره (¬2). وقال عطاء عن ابن عباس: كانت تحمل حصاة في) (¬3) منقارها، وحصاتين في رجليها مثل الحمص؛ (ترسل الواحدة على رأس الرجل فتسيل لحمه ودمه، وتبقى عظامه) (¬4) خاوية لا لحم فيها، ولا دم ولا جلد (¬5)، فذلك قوله: 5 - {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} تفسير العصف قد تقدم عند قوله: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} (¬6)، ومعنى "كعصف (مأكول) (¬7) ": ¬

_ (¬1) بمعناه في: "تفسير مقاتل" 252 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 100. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 57 اب، بمعناه، و"النكت والعيون" 6/ 343، و"معالم التنزيل" 4/ 529، و"لباب التأويل" 4/ 410، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 199. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ورد معنى قوله في: "فتح القدير" 5/ 496 وعزاه إلى أبي نعيم في الدلائل. (¬6) سورة الرحمن: 12، ومما جاء في تفسير "كعصف" أنه قشور التبن التي تعلو حب الحنطة وغيره، أو هو ما على ساق الزرع من الورق الذي يبس فيتفتت، وقال بعضهم: إنه بقل الزرع، يعني أول ما ينبت منه، وهو ورق بعد، وقال ابن عباس: ورق السنبل. وخلاصه أقوالهم: إن "العصف" ورق الزرع، ثم إذا يبس وديس صار تبناً. (¬7) ساقط من (أ).

"كزرع (وتبن) (¬1) قد أكلته الدواب، ثم راثته (¬2) (¬3) قد يبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، وهذا معنى قول قتادة (¬4)، ومقاتل (¬5)، وعطاء عن ابن عباس (¬6). وقال آخرون: يعني جعلهم كزرع قد أكل حبه وبقى تبنه (¬7). والمعنى على هذا: كعصف مأكول الحب، كما يقال: فلان حسن، أي حسن الوجه، فأجرى مأكول على العصف من أجل أكله حبه، لأن المعني معلوم، وهذا قول الحسن (¬8). وقيل في معنى "مأكول": إنه مما يؤكل، يعني تأكله الدواب، يقال لكل شيء يصلح للأكل: هو مأكول، [ومطعوم] (¬9). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (وراثته). (¬3) راثته: يراد به الروث، وهو رجيع ذوات الحافر، والرؤثة أخص منه، وقد راثته تروث رَوْثًا. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 271 (روث). (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 157 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 101. (¬5) "تفسير مقاتل" 253/ أ، "التفسير الكبير" 32/ 101. (¬6) المرجع السابق. (¬7) ورد هذا القول من غير عزو في: "الكشف والبيان" 13/ 158 أ، وممن قال بمعناه ابن عباس، وعكرمة، وحبيب بن ثابت، وعطاء بن السائب. انظر: "جامع البيان" 30/ 304، و"الكشف والبيان" 13/ 158 أ، و"النكت والعيون" 6/ 344، وقد أورد ابن قتيبة هذا القول أيضًا من قولين في "تفسير غريب القرآن" ص 539. (¬8) "التفسير الكبير" 32/ 101 - 102. (¬9) (مضعون): هكذا ورد في النسختين، والصواب ما أثبتناه.

والمعنى: جعلهم كتبن تأكله الدواب، وهو معنى قول عكرمة (¬1)، (والضحاك (¬2)). فحصل في المأكول ثلاثة أقوال، أحدها: مأكول على الحقيقة، والثاني: مأكول الحب، والثالث: مأكول أنه مما يؤكل. ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" 32/ 102، و"جامع البيان" 30/ 304 قال: كزرع مأكول. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 158 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 102.

سورة قريش

سورة قريش

1

تفسير سورة قريش (1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ} (2)، وقرئ: إلا فِهِمْ، وإلْفِهِم (3). قال علماء اللغة (4) (5): (أَلِفْتُ الشيء، وآلفْته، إلْفًا، وإلافًا، وإيلافًا،

_ (1) فيها قولان: أحدهما: أنها مكية، وعزاه الماوردي إلى الأكثرين من المفسرين: "النكت والعيون" 6/ 345، وحكى ابن عطية الإجماع في "المحرر الوجيز" 5/ 525. والثاني: أنها مدنية قاله الضحاك، وابن السائب. "النكت والعيون" 6/ 345، و"زاد المسير" 8/ 213. (2) {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (3) قرأ ابن كثير في رواية ابن فليح وحده: "لإيلاف قريش" "إلْفِهِم" ساكنة اللام، وليس قبلها ياء، وذكر البخاري لابن كثير في هذه الرواية: "إلافهم" بفتح اللام مشبعة بعدها ألف، والهمزة قبلها مختلسة ليس بعدها ياء. وقرأ أبو جعفر: "ليلاف قريش" بغير همز، و"إلافِهِم" مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء. وقرأ ابن عامر: "لإلاف قريش" مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء، و"إيلافهم" مشبعة الهمزة بعدها ياء. وقرأ الباقون "لإيلاف قريش * إيلافهم" مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء. انظر: "كتاب السبعة" ص698، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 799، و"الحجة" 6/ 444، و"المبسوط" ص 418، و"كتاب التبصرة" ص 732. (4) في (أ): (اللغت). (5) يعني بهم أبو عبيدة، وأبو زيد جاء ذكرهم في "تهذيب اللغة".

بمعنى واحد (¬1)، فهو مألوف، ومُؤلف، وآلفت الظباء الرَّمل إذا ألِفَتْها قال ذو الرمة: من المُؤْلِفاتِ الرَّمْلَ أدْمَاءُ حرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتْنِها (¬2) يَتَوضَّحُ (¬3) فالإلف، والإلاف مصدر ألف، والإيلاف مصدر آلف. وأنشدوا: زَعَمْتُمْ أنَّ إخوَتَكُمْ قُرَيْشٌ (¬4) ... لهمْ إلفُ وليسَ لكمْ إلاف (¬5) ويقال أيضًا: "ألِفْتُ فلانًا الشيء أولفه إيلافًا إذا ألزمته إياه) (¬6) ¬

_ (¬1) أي بمعنى لَزمْتُه. "تهذيب اللغة" 15/ 378 (ألف). (¬2) في (أ): مسها. (¬3) ورد البيت في: "ديوانه" 2/ 1197 رقم 16، و"الحجة" 6/ 445 برواية: (جيدها) بدلاً من (متنها). "الكامل" 2/ 692 برواية: (لونها) بدلاً (متنها)، و"تهذيب اللغة" 15/ 378 (ألف)، و"لسان العرب" 9/ 10 (ألف)، و"المحرر الوجيز" 5/ 525 برواية (جيدها). "البحر المحيط" 8/ 514، و"الدر المصون" 6/ 572، و"روح المعاني" 30/ 238، و"سيرة ابن هشام" 1/ 58. "المؤلفات" اللواتي اتخذن الرمل إلفًا. يتوضح: يبرق في متنها. "ديوانه" 1198. (¬4) لفظ قريش: ورد مرفوعًا على الخبر، وفي "اللسان" بالنصب على البدل 9/ 10 (ألف)، وانظر: "البحر المحيط" 8/ 514. (¬5) البيت لمساور بن هند يهجو بني أسد، وقد ورد في: "تهذيب اللغة" 15/ 379 (ألف)، و"لسان العرب" 9/ 10 (ألف)، و"الحجة" 6/ 446، و"الكشاف" 4/ 235، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 201، و"البحر المحيط" 8/ 514 برواية (قريشًا)، و"الدر المصون" 6/ 571، و"فتح القدير" 5/ 498، و"روح المعاني" 30/ 240. (¬6) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 15/ 378 (ألف)، وانظر "لسان العرب" 9/ 10 (ألف).

واختلفوا في "اللام" في قوله: "لإيلاف (¬1) قريش"، فذكروا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الأشهر الأعرف أن "اللام" تتعلق بالسورة التي قبلها، وذلك أن الله تعالى ذكَّر أهل مكة عظيم النعمة عليهم فيما صنع بالحبشة، ثم قال: "لإيلاف قريش" كأنه قال ذلك إلى نعمة عليهم في رحلة الشتاء والصيف، وتقول: نعمة إلى نعمة، ونعمة لنعمة سواء في المعنى (¬2). (هذا كلام الفراء) (¬3). وقال الأخفش: يقول فعلنا ذلك بهم لتايلف قريش (¬4). وقال أبو إسحاق: المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لألف (قريش) (¬5)، أي أهلك الله (أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف (¬6). وهذا قول أبي عبيدة (¬7). (واعترض على هذا القول معترض فقال: إنما جعلوا كعصف مأكول لكفرهم، ولم يجعلوا كذلك لتألف قريش (¬8)). ¬

_ (¬1) ليلاف: أ. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 293 بيسير من التصرف. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) ورد في معنى قوله في: "الحجة" 6/ 448، و"المحرر الوجيز" 5/ 525، الدر المصون: 6/ 571. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 312. (¬7) "مجاز القرآن" 2/ 312، وهو معنى قول مجاهد، وابن عباس في رواية ابن جبير عنه. انظر: "جامع البيان" 30/ 306. (¬8) وممن اعترض على هذا القول الطبري، قال: وأما القول أنه من صلة قوله: =

قال أبو علي: وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه يجوز أن يكون المعنى: أهلكوا لكفرهم، ولما أدى (¬1) إهلاكهم إلى أن تألف قريش قليل: أهلكوا لإيلاف قريش، وجاز ذلك كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬2)، وهم لم يلتقطوه لذلك، فلما آل الأمر إليه حسن أن يجعل عليه الالتقاط) (¬3). الوجه الثاني: قال الفراء: ويقال إنه عجَّب نبيه فقال: يا محمد اعجب لنعم الله على قريش في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (¬4). وقال الأخفش: قال بعضهم: هو على التعجيب، وليس معلقًا (بما قبله؛ كأنه) (¬5) قال: لإيلاف قريش، (وما صنع الله بها، كما تقول) (¬6): لزيد وما صنعناه، ولزيد وكرامتنا إياه (¬7). ¬

_ = "فجعلهم كعصف مأكول"، فإن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون: لإيلاف بعض ألم تر، وأن لا تكون سورة منفصلة من "ألم تر"، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى، ما يبيّن عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك، ولو كان قوله: "لإيلاف قريش" من صلة قوله: "فجعلهم كعصف مأكول" لم تكن "ألم تر" تامة حتى توصل بقوله: "لإيلاف قريش"؛ لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر. "جامع البيان" 30/ 306 - 307. (¬1) في (ع): (اهدى). (¬2) سورة القصص: 8. (¬3) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 448 بيسير من التصرف. (¬4) "معاني القرآن" 3/ 293 بنصه (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 159 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 529، كما ورد في حاشية "زاد المسير" 8/ 514 نقلاً عن النسخة الأزهرية، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 201.

وقال أبو إسحاق: وقال قوم: هذه "لام" التعجب، (كأن المعنى: اعجبوا) (¬1) لإيلاف قريش (¬2). الوجه الثالث: هو قول الخليل، وسيبوية (¬3)، وهو أن هذه "اللام" متصل بما بعدها على تقدير: "فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش"، أي: ليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعمة، واعترافًا بها (¬4). واختار صاحب النظم (وابن قتيبة) (¬5) الوجه الأول. قال صاحب النظم: الوجه الأول أشبه بالصواب، لقوله: على أثره: "فليعبدوا رب هذا البيت"، وهذا كما تقول في الكلام: قد فعلت بفلان كذلك. وكذا الخير صنعته (¬6) به، فليفعل هو كذا"، وكذا لأمر (¬7) أمرته به، ولا يكاد يجيء مثل هذا الأمر بعد التعجيب (¬8). وقال ابن قتيبة: هاتان سورتان متصلتان الألفاظ. والمعنى: إن قريشًا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليها فيه، وأن يعرض لها أحد بسوء إذا خرجت منه لتجارتها، وكانوا يقولون: قريش ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 365 بنحوه. (¬3) قوله: الخليل وسيبوبه غير واضح في (ع). (¬4) انظر: "كتاب سيبويه" 3/ 127 وقد أورد أبو علي قولي الخليل وسيبويه في "الحجة" 6/ 448. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) غير واضحة في (ع). (¬7) في (أ): الأمر. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

سكان الله (¬1)، وأهل الله، وولاة بيته الحرام جديب (¬2) لا زرع به ولا ضرع، ولا شجر ولا مرعى، وإنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يكن به مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف، فلما قصد أصحاب الفيل إلى مكة ليهدموا الكعبة، وينقلوا أحجارها إلى اليمن فيبنوا بها هناك بيتًا ينتقل الأمن إليهم، ويصير العز إليهم، أهلكهم الله، لتقيم قريش بالحرم، ويجاوروا البيت (¬3). فقال: يذكر نعمته: "ألم تر كيف فعل ربك ... " إلى قوله: "فجعلهم كعصف مأكول" "لايلاف قريش" أي لفعلهم؛ أي فعل ذلك ليؤلف قريشًا هاتين الرحلتين اللتين بهما تعيشهم، ومقامهم بمكة. تقول: ألفت موضع كذا إذا ألزمته (¬4)، والفيته الله، كما تقول: "لزمت موضع كذا، وألزمنيه الله، وكرر "لإيلاف" كما تقول في الكلام: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانةً عن كل الناس، فتكرر (¬5) الكلام على التوكيد (¬6).-انتهى كلامه-. وهذا الذي ذكره هو على أن يجعل "الإيلاف" واقعًا، ويكون المصدر الواقع مضافًا إلى المفعول. ¬

_ (¬1) أي سكان حرم الله كما في "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة. (¬2) أي الحرم وادٍ جديب. (¬3) في (أ) (يجاور). (¬4) في (أ) (ألزمته). (¬5) في (أ) (فتكرير). (¬6) "تأويل مشكل القرآن" ص 413 - 415 بيسير من التصرف، وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 539 مختصرًا.

ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل على معنى "هم يؤلفون" أي يهيئون ويجهزون، قال الفراء (¬1)، وابن الأعرابي (¬2): ويجوز أن يكون الإيلاف مطاوعًا، فيكون مضافاً (¬3) إلى الفاعل، على معنى: لتألف قريش رحلتيها، ولتألف (¬4) قريش الرحلتين فتتصلا ولا ينقطعا. ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ: "لإلالف قريش" و"لإيلافهم"، فإن هذين المصدرين للمطاوع، وقد حصل في هذا ثلاثة أقوال: أحدها: لتولف قريش رحلتيها. والثاني: لتؤلَفَ قريش رحلتيها. والآخر: لتألف قريش رحلتيها. (وذكر ابن الأعرابي بيان الإيلاف وكيفيته فقال: أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل بن عبد مناف (¬5)، كانوا يؤلفون الجوار يجيرون قريشًا بميرهم (¬6)، وكانوا يُسَمَّوْن المجبِرِين، فأما هاشم فإنه أخذ حبلًا من ملك الروم، وأخذ نوفل حبلًا من كسرى (¬7)، وأخذ عبد شمس حبلًا من النجاشي، وأخذ المطلب حبلًا من ملوك حمير، ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر القول. (¬2) ورد قوله في: "تهذيب اللغة" 15/ 379 (ألف)، وانظر: "لسان العرب" 9/ 10 (ألف) من غير نسبة. (¬3) في (أ): (مضاف). (¬4) في (أ): (لتا لف). (¬5) في (أ)، و (ع): (بنوا). (¬6) الميرة: جلب الطعام للبيع، يقال: ماره يميره ميرًا: إذا أتاه ميرة أي طعام. "تهذيب اللغة" 5/ 299 (مور). (¬7) في (أ)، (ع): (كسرا).

فكان (¬1) تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء الإخوة، فلا تُعرض لهم. فكان هاشم يؤلف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس) (¬2). ومعنى يُؤْلِف: يجير، والإجارة سبب تألف الغير، فقيل للجوار: إيلاف، وللمجير: مؤلف، (وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة، وكل من ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي) (¬3)، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا بني النضر بن كنانة لا نَقْفُو أمَّنا، ولا نَنْتفي من أبينا" (¬4). واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم، فذهب قوم إلى: (أنه من القرش، وهو الجمع من هاهنا وهاهنا، وسميت قريش قريشًا لتقرشها أي لتجمعها إلى مكة من جوانبها (¬5)، وكانوا متبددين في الأرض، فتقرشت أي اجتمعت بعد التفرق حين جمعهم قصي بن كلاب في الحرم، ¬

_ (¬1) في (أ): (وكان). (¬2) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 15/ 379 - 381 بيسير من التصرف. (¬3) ما بين القوسين نقله عن "الكشف والبيان" 13/ 159 ب. (¬4) الحديث رواه الإمام أحمد: 5/ 211 - 212، وابن ماجه في "السنن" 2/ 96: ح: 2641: كتاب الحدود: باب: 137، من طريق عقيل بن طلحة، السلمي عن مسلم بن هيصم به، كما رواه الطبراني في: "المعجم الكبير" 2/ 285 - 286: ح: 2190 - 2191 من طريقين أحدهما صرح بالتحديث فيهما عن الجفشيش الكندي. قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. انظر حاشية سنن ابن ماجه: 2/ 96. قال الألباني: وهو كما قال. "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 5/ 489: ح: 2375. وقال الألباني عنه: حسن. "صحيح ابن ماجه" 2/ 91: ح: 2115: كتاب الحدود: باب 37. (¬5) في (أ): (حواليها).

ولذلك سمي مجمعًا) (¬1)، ومنه قول الشاعر يذكر قريشًا: أبوكم قُصَيٌّ كان يُدْعَى مُجَمِّعا ... به جَمَّعَ اللهُ القبائلَ من فِهْرِ (¬2) (هذا قول الليث) (¬3) (¬4). وقال آخرون: (بل سميت قريش للتجارة، وجمع المال، وكانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب ضرع، وزرع، والقَرْش الكسب، يقال: هو يقرش لعياله) (¬5)، (ويقترش أي يكتسب، ويتقّرَّشُ ويَتَقَرَقَّحُ أي: يكسب ويطلب) (¬6). وقال (¬7) الشاعر: ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة"، وهو قول الليث: 8/ 321 (قرش) بتصرف، وانظر: "لسان العرب" 6/ 335 (قرش). (¬2) البيت للشاعر مطرود الخزاعي. انظر: "شرح ديوان أبي تمام" 4/ 95، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 1، ونسبه البغدادي في "خزانة الأدب" 1/ 230 إلى الفضل بن العباس. وقد ورد غير منسوب في: "النكت والعيون" 6/ 346، و"الدر المصون" 6/ 572، و"التفسير الكبير" 32/ 106، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 202، و"روح المعاني" 30/ 239، و"لسان العرب" 8/ 60 (جمع)، وكلها برواية: (أبونا) بدلًا من (أبوكم). (¬3) ذكرت ذلك في حاشية سابقة، غير أن الليث لم يذكر بيت الشعر، ولم يرد في "تهذيب اللغة" أيضًا. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين انظر "تهذيب اللغة" 8/ 321 (قرش)، و"لسان العرب" 6/ 335 (قرش). (¬6) ما بين القوسين من قول اللحياني في "تهذيب اللغة" المرجع السابق. (¬7) في (أ): (قال).

إخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا ... في حديثٍ من عهدهم وقديم (¬1) أي جمعوا، (وهذا قول أكثر الناس (¬2)) (¬3). وقال مَعْروف (بن خَرَّبوذ (¬4)) (¬5): إنما سميت قريشًا؛ لأنهم كانوا يفتشون الحاج عن خلتهم فيسدونها، ويطعمون جائعهم، ويكسون عاريهم، ويحملون المنقطع به، والتقريش: التفتيش (¬6). ¬

_ (¬1) البيت لأبي جلدة اليشكري. وقد ورد منسوبًا في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 203، وغير منسوب في: "النكت والعيون" 6/ 346، و"روح المعاني" 30/ 239 وكلها برواية (من دهرهم) بدلاً من "من عهدهم". (¬2) ذكر هذا السبب من جملة أسباب تسمية قريش بقريش من غير ترجيح، وذلك في: "الكشف والبيان" 13/ 159 ب، و"النكت والعيون" 6/ 346، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 530، و"الكشاف" 4/ 235، و"زاد المسير" 8/ 214، و"التفسير الكبير" 32/ 106، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 203، و"لباب التأويل" 4/ 411، و"الدر المنثور" 8/ 638. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) مَعْروفٌ بنُ خَرَّبوذ المكي، مولى عثمان، روى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي، وعنه أبو عاصم الضحاك، صدوق ربما وهم، وكان أخباريًا علامة، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داوود، وابن ماجه. انظر: "كتاب العلل ومعرفة الرجال" 2/ 58: رقم 377، و"الكاشف" 3/ 143: ت: 5650، و"تهذيب الكمال" 28/ 263: ت: 6086 "تهذيب التهذيب" 2/ 264: ت: 1266. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ورد هذا القول من غير نسبة في: "الكشف والبيان" 13/ 159 ب، و"النكت والعيون" 6/ 346 وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 530، و"الكشاف" 4/ 235، و"زاد المسير" 8/ 214، و"التفسير الكبير" 32/ 106، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 203، و"لباب التأويل" 4/ 411.

قال ابن حِلِّزَة (¬1): أيها الشامت المقرِّشُ عنَّا ... عِندَ عَمروٍ وهلْ لذاكَ (¬2) بَقَاءُ (¬3) وروي أن (¬4) معاوية (¬5) سأل ابن عباس: لم سميت قريش قريشًا؟ وقال: قريش دابة في البحر تأكل دواب البحر، ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وأنشد (فقال) (¬6): وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا (¬7) ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في سورة النساء. (¬2) في (أ): (لذلك). (¬3) ورد البيت في "ديوانه" ص 48 برواية: (أيها الشاني المبلغ عنا .... انتهاء) بدلًا من (بقاء). "شرح المعلقات" للزوزني ص 221 برواية (المرقش) بدلًا (المقرش). "النكت والعيون" 6/ 346 برواية (إبقاء) بدلًا من (بقاء)، و"الدر المصون" 6/ 572 برواية (أيها الناطق) بدلًا من (أيها الشامت) "لسان العرب" 6/ 334: (قرش) برواية (أيها الناطق). ومعنى البيت: أيها الناطق عند الملك الذي يبلغ عنا الملك ما يريبه ويشككه في محبتنا، هل لذاك التبليغ بقاء؟ وهذا استفهام معناه النفي؛ أي لا بقاء لذلك؛ لأن الملك يبحث عنه، فيعلم أن ذلك من الأكاذيب. -هامش- شرح المعلقات ص 221. (¬4) في (أ): (ابن). (¬5) في (ع): (معومة). (¬6) ساقط من (أ). (¬7) ورد قول ابن عباس في: "الكشف والبيان" 13/ 159 ب، و"النكت والعيون" 6/ 346، و"معالم التنزيل" 4/ 530، و"الدر المصون" 6/ 572، و "الكشاف" 4/ 235، و"زاد المسير" 8/ 314 - 315، و"التفسير الكبير" 32/ 106، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 203، و"البحر المحيط" 8/ 513، و"الدر المنثور" 8/ 638 =

2

2 - قوله: {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} قال الليث: الرحلة: اسم الارتحال من القوم للمسير (¬1). قال المفسرون (¬2): كانت لقريش رحلتان: رحلة بالشتاء إلى اليمن وبلادها من جَنَد (¬3) وجُرَش (¬4) وما يليهما، وكان اليمن أدفأ (¬5) من الشام؛ فلذلك ارتحلوا إليها بالشتاء، ورحلة بالصيف (¬6) إلى الشام. ¬

_ = وعزاه إلى البيهقي في "الدلائل"، و"تهذيب اللغة" 8/ 321 (قرش)، و"لسان العرب" 6/ 335 (قرش)، و"روح المعاني" 30/ 239. وقد نسب بيت الشعر إلى تبع في الدر المصون، وعند القرطبي، وأبي حيان. ونسب إلى الجمحي في "الدر المنثور" و"روح المعاني". (¬1) "تهذيب اللغة" 5/ 7 (رحل). (¬2) ممن قال بذلك: ابن زيد، سفيان، والكلبي، و"جامع البيان" 30/ 308. وحكاه عن المفسرين: ابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 315، والفخر في "التفسير الكبير" 32/ 106، والخازن في "لباب التأويل" 4/ 411، ورجحه الشوكاني في "فتح القدير" 5/ 498. قال به أيضًا: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 294، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 365 - 366. (¬3) جَنَد: من أعمال اليمن، بالقرب من صنعاء، والجند مسماة بجند بن شهران؛ بطن من المعافر، وبالجند مسجد بناه معاذ بن جبل (ينسب إليها المؤرخ اليماني المفضل الجندي، والبهاء الجندي، وهناك جبل في اليمن يطلق عليه الجند. انظر: "معجم البلدان" 2/ 169، و"القاموس الإسلامي" 1/ 640، و"معجم ما استعجم من أسماء البلاد" 2/ 397. (¬4) جُرَش: من مخاليف اليمن من جهة مكة، وقيل هي مدينة عظيمة باليمن، وولاية واسعة، وقد فتحت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنة 10 هـ صلحًا على الفيء، ينسب إليها يزيد بن الأسود الجرشي من التابعين. انظر: "معجم البلدان" 2/ 126. (¬5) في (أ): (أفا). (¬6) (الصيف) مكرر في (ع).

وذكر مقاتل: على القلب من هذا فقال: كانوا يمتارون في الشتاء من الأردن (¬1)، وفلسطين (¬2)؛ لأن ساحل البحر أدفأ، فإذا كان الصيف تركوا طريق الشام والبحر من أجل الحر، وأخذوا إلى اليمن للمسيرة (¬3). و (نحو هذا) (¬4) روي عن الكلبي، وقال: كان أول من حمل ¬

_ (¬1) الأُرْدُن: اسم بلد، وفيها عدة كور منها: جُدَر، وصفورية، وغير ذلك، افتتحها شرحبيل بن حسنة عنوة، وهي الآن في العصر الحالي: دولة عربية تعرف باسم المملكة الأردنية الهاشمية، وتتكون من الشقة الشرقية لنهر الأردن، وكانت تحت الاحتلال الإنجليزي، ثم حصلت على استقلالها عام 1946 م، عاصمتها عمان، وتعد الأردن من المناطق الاستراتيجية قديمًا وحديثًا، وبرزت أهميتها خلال الحروب الصليبية، كما تعتبر من المناطق الأثرية الهامة في الشرق الأوسط. انظر "معجم البلدان" 1/ 147، و"القاموس إسلامي" 1/ 65، و"الآثار في شمال الحجاز" للقثامي 1/ 29. (¬2) فلسطين إقليم عربي يشغل شريطًا ضيقًا من الأراضي المتاخمة للساحل الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وقد خضعت فلسطين للانتداب البريطاني عام 1920 م الذي مكن لليهود من الاستيطان في فلسطين. تعتبر القدس: العاصمة السابقة لفلسطين المركز المديني للديانتين الإسلامية والنصرانية، وسعى اليهود لجعلها مركزًا روحيًّا لأتباع ديانتهم، وأما تل أبيب فهي عاصمة الكيان الصهيوني منذ عام 1948 م. اللغة الرسمية: العربية للعرب، والعبرية لليهود، ويشكل العرب المسلمون الغالبية العظمى من سكان فلسطين المحتلة، ويتبع معظمهم المذهب السني، ويتبع بعضهم المذهب الدرزي، ويقيم بجانبهم عرب نصارى فلسطينيون. انظر: "معجم البلدان" 4/ 274، الموسوعة العربية العالمية: 17/ 422 - 440. (¬3) "تفسير مقاتل" 253 ب، وورد معنى قوله في "بحر العلوم" 3/ 516. (¬4) ساقط من (أ).

السمراء (¬1) من الشام ورحل إليها الإبل: هاشم بن عبد مناف (¬2). وذكر (عطاء عن) (¬3) ابن عباس السبب في ذلك فقال: كانت قريش إذا أصاب واحداً منهم مخمصة (¬4) خرج هو وعياله إلى موضع، وضربوا علي أنفسهم خباء حتى يموتوا، إلى أن كان هاشم بن عبد مناف، وكان سيد زمانه، وكان له ابن يقال له أسد، وكان له تِرْبٌ (¬5) من بني مخزوم (¬6) يحبه ويلعب معه، فشكا إليه الضر والمجاعة، فدخل أسد على أمه يبكي، فأرسلت أمه إلى أولئك بدقيق وشحم، فعاشوا فيه أيامًا، ثم أتى ترب أسد أيضًا إليه وشكا ثانيًا، فقام هاشم خطيبًا في قريش فقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، قالوا: نحن نتبع لك فليس عليك منا خلاف، فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه (بينه) (¬7) وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام ¬

_ (¬1) السمراء: هي الحنطة، وقيل: الناقة الأدماء. انظر: "لسان العرب" 4/ 376 (سمر). (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 531 ورد قوله عند تفسير "وآمنهم من خوف". (¬3) ساقط من (أ). (¬4) المخمصة: المجاعة، وخمص الشخص خمصًا فهو خميص إذا جاع. "المصباح المنير" 1/ 218، وانظر: "مختار الصحاح" ص 190. (¬5) تِرْب: اللدة والسن، يقال: هذه ترب هذه أي لدتها، وقيل: ترب الرجل الذي ولد معه. "لسان العرب" 1/ 231 (ترب)، و"تاج العروس" 1/ 158 (ترب). (¬6) بنو مخزوم: بطن من لؤي بن غالب بن قريش. "نهاية الأرب" للقلقشندي ص 371. (¬7) ساقط من (أ).

3

وهم على هذا، فلم يكن (¬1) في العرب بنو أب (¬2) أكثر مالاً، وأعز من قريش، ولا أمنع (¬3). وقد قال الشاعر فيهم: الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي (¬4) (¬5) 3 - (قوله) (¬6): {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} قال الكلبي: يقول: فليوحدوا رب هذه الكعبة (¬7). 4 - {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أي بعد جوع، وهذا (¬8) كما تقول: كسوتك من عُرْي (¬9)، وهذا الإطعام يفسر على ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله تعالى آمنهم بالحرم، وكونهم من أهله حتى لم يتعرض لهم في رحلتهم، وكان ذلك سبب إطعامهم بعد ما كانوا فيه من ¬

_ (¬1) (فلم يكن) بياض في (ع). (¬2) في (أ): (بنو أرب). (¬3) (من قريش ولا أمنع) بياض في (ع). (¬4) ورد البيت غير منسوب في: "معالم التنزيل" 4/ 531 مختصرًا وعند تفسير "آمنهم من خوف"، و"زاد المسير" 8/ 315 عند تفسير {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} "التفسير الكبير" 32/ 106 - 107، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 205 برواية (الخالطون) (وحتى يصير)، و"لباب التأويل" 4/ 411، و"البحر المحيط" 8/ 515، و"روح المعاني" 3/ 240، و"النكت والعيون" 6/ 247، برواية (الخالطون). (¬5) ورد قوله في المراجع السابقة عدا: "النكت"، و"البحر المحيط"، و"روح المعاني". (¬6) ساقط من (ع). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) في (أ): (وهاذا). (¬9) في (ع): (عراي). وعُرْي: يقال رجل عارٍ: إذا خلع ثوبه، والمرأة عُريانة، وفرس عُرْيَ ليس عليه سرج، وعَرِي من ثيابه بالكسر، وعُرْيا بالضم فهو عار. "تهذيب اللغة" 3/ 159 (عرى)، "مختار الصحاح" 249، وانظر: "النهاية" 3/ 225.

الجوع. (كما ذكر عطاء عن ابن عباس (¬1)، وهذا قول أكثر المفسرين (¬2)) (¬3) وقال مقاتل: شق عليهم الاختلاف إلى الناحيتين في الشتاء والصيف، فقذف الله في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة، فحملوه، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل، والخمر فيشترون طعامهم من "جدة" (¬4) على مسيرة ليلتين، وتتابع ذلك عليهم فكفاهم الله مؤنة الرحلتين (¬5). وقال الكلبي: هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- دعا عليهم فقال: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف". فاشتد عليهم القحط، وأصابهم الجهد، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا، فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت تبَالَة (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر: "التفسير الكبير" 32/ 108، و"زاد المسير" 8/ 315. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "تفسير مقاتل" 253 ب. (¬4) جُدَّة: ساحل مكة، سُميت بذلك لأنها حاضرة البحر، والجُدَّ من البحر والنهر ما ولي البر، وأصل الجدة الطريق الممتد، وهي الآن ميناء بالمملكة العربية السعودية تطل على البحر الأحمر، وتعتبر المنفذ البحري لمكة، ينسب تأسيسها إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- انظر: "معجم ما استعجم من البلاد والمواضع" 1/ 371، و"القاموس الإسلامي" 1/ 585. (¬5) "التفسير الكبير" 32/ 108، وورد بمعناه من غير نسبه في: "النكت والعيون" 6/ 348، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 209. (¬6) كلمة (تبالة) ساقطة من (أ)، وتَبَالَة: وهي بلدة صغيرة من اليمن، أسلم أهلها من غير حرب وكان فتحها في سنة 10 هـ انظر: "معجم ما استعجم من البلاد والمواضع" 1/ 301، و"معجم البلدان" 2/ 9.

وجُرَش، والجَنَد (¬1) من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصبت أهل مكة بعد القحط (¬2)، فذلك قوله تعالى: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وهو أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد، ولا يغير أحد عليهم، لا في سفرهم (¬3)، ولا في حضرهم (¬4)، وكان غيرهم لا يأمن سفرهم ولا في حضرهم. وهذا معنى قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] الآية، أعلم الله تعالى أن من الدلالة على وحدانيته ما فعل بهؤلاء؛ أطعمهم وهم في بلدة لا زرع فيها ولا ضرع، وآمنهم وغيرهم خائفون، وأمرهم بعبادة الذي أنعم عليهم هذه النعمة. (هذا قول جماعة المفسرين (¬5)) (¬6). ¬

_ (¬1) كلمة غير مقروء في (أ). (¬2) ورد معنى قوله في: "التفسير الكبير" 32/ 108، وورد معناه أيضًا من غير عزو في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 209، و"لباب التأويل" 4/ 412، و"فتح القدير" 5/ 498. (¬3) في (ع): (سفره). (¬4) في (ع): (حضره). (¬5) وهو معنى قول: ابن زيد، وقتادة، ومجاهد. "جامع البيان" 30/ 308 - 309، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 398، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 209، وبمعناه قال السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 517، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 366، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 161 أ، وانظر: "المحرر الوجيز" 5/ 526، و"زاد المسير" 8/ 315. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وقال الضحاك (¬1)، والربيع (¬2)، (وشريك (¬3)) (¬4)، وسفيان (¬5): (وآمنهم من خوف) يعني من خوف الجذام (¬6)، (فلا يصيبهم بجلدهم الجذام) (¬7). ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 309، و"النكت والعيون" 6/ 349، و"المحرر الوجيز" 5/ 526، و"معالم التنزيل" 4/ 531، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 209، و"فتح القدير" 5/ 498. (¬2) المراجع السابقة عدا النكت، والمحرر. (¬3) "فتح القدير" 5/ 498. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) يراد به سفيان الثوري، وقد ورد قوله في المراجع السابقة عدا المحرر. (¬6) الجذام: مرض يصيب الجلد والأعصاب، ويجعل الجلد متورمًا، كثير العقد، ويتغير لونه، وهو مرض معدٍ، ويعد العلاج المبكر للجذام مهمًا جدًا لأنه يمنع التشوهات، والإعاقة الجسدية. وأصل الجذم القطع، سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها. انظر: "الموسوعة العربية العالمية" 8/ 223، و"الصحاح" 5/ 1884 (جذم)، و"لسان العرب" 12/ 78 (جذم). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

سورة الماعون

سورة الماعون

1

تفسير سورة أرأيت (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} قال أبو إسحاق: الاختيار (أرأيت) بإثبات الهمزة الثانية، لأن الهمزة إنما طرحت من المستقبل نحو: ترى، وأرى، ويرى. فأما (رأيت) فليس يصح عن العرب فيها (ريت)، ولكن ألف الاستفهام لما (¬2) كانت في أول الكلام سَهَّلَت إلقاء الهمزة، والاختيار إثباتها (¬3)، (وقد تقدم بيان هذا في سورة الأنعام) (¬4) (¬5)، ومعنى ¬

_ (¬1) تسمى بسورة الماعون، وبسورة الدين. "الإتقان" 1/ 159. وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قال به عطاء، وجابر، وعزاه ابن الجوزي إلى الجمهور. الثاني: أنها مدنية في أحد قولي ابن عباس، وقال به أيضًا قتادة. "زاد المسير" 8/ 316، و"النكت والعيون" 6/ 350، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 210. (¬2) في (أ): (ما). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 367. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) سورة الأنعام: 40، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، ومما جاء في همزة "أرأيت" فقد اختلف القراء في هذا الحرف وما كان من بابه ودخل عليه ألف الاستفهام مثل "أرأيتم" "وأرايتكم" و"أرأيت" و"أفرأيتم" فحذف الكسائي همزة الرؤية فقرأ "أيتكم" كأنه =

(أرأيت الذي) التنبيه على حال المخبر عنه بالتكذيب. قال (عطاء عن) (¬1) ابن عباس: نزلت (¬2) في رجل من المنافقين (¬3) وقال الكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي (¬4). (وقال السدي (¬5)، وابن حيان (¬6): يعني الوليد بن المغيرة) (¬7) ومعنى {يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} قال ابن عباس: بالحساب والجزاء (¬8). وقال أهل المعاني: التكذيب بالجزاء أضر شيء على صاحبه؛ لأنه ¬

_ = حذفها للتخفيف كما قالوا: ويلمه ... وقرأ نافع بتليين همزة الرؤية، فجعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي، والباقون قرؤوا بتحقيق الهمزة؛ لأن الهمزة عين الفعل. ومذهب الكسائي حسن، وهو كثير في الشعر وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة. (¬1) ساقط من (أ) (¬2) في (أ): انزلت. (¬3) "معالم التنزيل" 4/ 531، و"زاد المسير" 8/ 316، و"التفسير الكبير" 32/ 112، و"لباب التأويل" 4/ 412 (¬4) "أسباب النزول"، تح: أيمن صالح ص 403، و"الكشف والبيان" 13/ 161 ب، و"النكت والعيون" 6/ 350، و"زاد المسير" 8/ 317، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 210، و"فتح القدير" 5/ 499. (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 161 ب، و"النكت والعيون" 6/ 350، و"معالم التنزيل" 4/ 531، و"زاد المسير" 8/ 317، و"التفسير الكبير" 32/ 111، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 210، و"فتح القدير" 5/ 499. (¬6) المراجع السابقة عدا "زاد المسير"، و"الجامع لأحكام القرآن". (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

يعدم به أكثر الدواعي إلى الخير، والصوارف عن الشر؛ لأنه لا يخاف عائد الضر، ولا يرجو (¬1) الجزاء على الخير (¬2). ثم أخبر عن المكذب بقوله: (قوله) (¬3): {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي يدفعه عن حقه دفعًا بعنف وجفوة كقوله: {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} (¬4) (¬5). قال المفسرون: يظلمه ويدفعه عن حقه فلا يعطيه (¬6). قوله: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} أي: لا يطعم المسكين، ولا يأمر بإطعامه. قال الكلبي: لا يحافظ (¬7) على صدقة المسكين (¬8). وقال مقاتل: لا يحض نفسه على طعام المسكين، يعني لا يطعم ¬

_ (¬1) في (أ)، (ع): (يرجوا). (¬2) لم أعثر على مصدر لقولهم. (¬3) ساقط من (ع). (¬4) سورة الطور: 13. (¬5) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص 540، والزجاج "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 367. (¬6) أقوال المفسرين مختلفة الألفاظ متفقة المعنى تناولت ما ذكره الواحدي، وممن قال بمعناه: قتادة، وابن عباس، وسفيان، ومجاهد، والضحاك، انظر: "جامع البيان" 30/ 310 - 311، و"الدر المنثور" 8/ 641 - 642. وممن قال بمعنى ذلك أيضًا: الفراء في "معاني القرآن" 3/ 294، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 367، والسمرقندي في "بحر العلوم" 3/ 518، والثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 161 ب. وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" 4/ 532، و"زاد المسير" 8/ 317، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 211. (¬7) في (أ): (يحافظ) بغير لا. (¬8) لم أعثر على مصدر لقوله.

مسكينًا (1). وقال أهل المعاني: لا يحض عليه بخلًا به، وتكذيبًا بجزائه، ولذلك ذم به (2)، ولو كان لا يحض عليه عجزًا لم يذم به. قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} قال الكلبي (3) (ومقاتل (4)) (5): يعني من المنافقين. ثم نعتهم فقال: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} قال ابن عباس (في رواية عطاء) (6): لو كانت في صلاتهم ساهون، كانت في المؤمنين، ولكنها نزلت في المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابًا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابًا إن تركوا، فهم عنها ساهون إذ كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا لم يكونوا معه تركوا (7). وقال أكثر المفسرين: معنى عنها ساهون أي يغفلوا (8) عنها حتى يذهب وقتها.

_ (1) "تفسير مقاتل" 254 أ. (2) انظر: "النكت والعيون" 6/ 351. (3) لم أعثر على مصدر لقوله. (4) "تفسير مقاتل" 254 أ. (5) ساقط من (أ). (6) ساقط من (أ). (7) ورد قوله من طريق الضحاك عن ابن عباس في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 211، وعزاه الشوكاني إلى الواحدي في "فتح القدير" 5/ 500، وورد من غير عزو في: "زاد المسير" 8/ 317. (8) في (أ): (يعلموا).

وهو قول [سعد] (¬1) بن أبي وقاص (¬2)، (ومقاتل (¬3)) (¬4)، والحسن (¬5): قالوا: السهو (¬6) عنها تضييع وقتها حتى يفوت (¬7). وقال قتادة: هو الذي لا يبالي (¬8) أصلى أم لم يصل (¬9)، ويدل على هذا أنه من صفة المنافقين. ¬

_ (¬1) في (أ)، (ع) (سعيد)، والصواب ما أثبتناه. (¬2) ورد قوله موقوفاً عليه في: "التفسير الكبير" 32/ 114، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 211، و"الدر المنثور" 8/ 842 وعزاه إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه موقوفًا، و"فتح القدير" 5/ 501. كما ورد هذا القول عنه مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في: "جامع البيان" 30/ 313، و"الكشف والبيان" 13/ 162 أ، و"النكت والعيون" 6/ 352، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"الدر المنثور" 8/ 642، و"فتح القدير" 5/ 501. قال الهيثمي في المجمع: 7/ 143 رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عكرمة بن إبراهيم، وهو ضعيف جدًا، ولهذا الحديث طرق، وقد ذكر ابن كثير أن الموقوف أصح إسناداً من المرفوع، ثم قال: وقد ضعف البيهقي رفعه، وصحح وقفه، وكذلك الحاكم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 594، وانظر: "فتح القدير" 5/ 501. (¬3) "تفسير مقاتل" 254 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 114. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 400، و"التفسير الكبير" 32/ 114. (¬6) غير مقروء في (أ). (¬7) وإلى هذا أيضًا ذهب مصعب بن سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن أبزى، ومسروق، وأبو الضحى، ومسلم بن صبيح. "جامع البيان" 30/ 311 - 312. (¬8) بياض في (ع). (¬9) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 399، و"المحرر الوجيز" 5/ 527، و"البحر المحيط" 8/ 517، و"الدر المنثور" 8/ 643.

6

6 - قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} قال ابن عباس: يتركون الصلاة في السر، ويصلونها في العلانية (¬1)، ونحو هذا قال الكلبي: إن أبصرهم أحد صلوا (¬2)؛ كقوله: (يراؤون الناس) أي لا يريدون الله بها (¬3). ثم وصفهم بالبخل أيضًا فقال: (قوله (¬4)): {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} واختلفوا في تفسير الماعون، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد زكاة أموالهم (¬5). وهو قول علي (¬6) رضي ¬

_ (¬1) "جامع البيان" 30/ 313، و"النكت والعيون" 6/ 352، و"الكشف والبيان" 13/ 162 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 212، و"لباب التأويل" 4/ 412، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 592، و"الدر المنثور" 8/ 642 وعزاه إلى ابن مردويه، و"لباب النقول" 235 وعزاه إلى ابن المنذر، و"فتح القدير" 5/ 500 - 501. (¬2) أحد صلوا: بياض في (ع). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "التفسير الكبير" 32/ 115، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 215 برواية الضحاك عن ابن عباس، و"البحر المحيط" 8/ 518 "تفسير القرآن العظيم" 4/ 594 عن عطاء، و"الدر المنثور" 8/ 645 وعزاه إلى البيهقي. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 399، و"جامع البيان" 30/ 315، و"بحر العلوم" 3/ 518، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 352، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"المحرر الوجيز" 5/ 528، و"زاد المسير" 8/ 318، و"التفسير الكبير" 32/ 115، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 213، و"لباب التأويل" 4/ 413، و"البحر المحيط" 8/ 518 "تفسير القرآن العظيم" 4/ 594، و"الدر المنثور" 8/ 645 وعزاه إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي في سننه.

الله عنه، والزهري (¬1)، (وابن عمر (¬2)، وابن الحنفية (¬3)، ومحمد بن كعب (¬4)، والحسن (¬5)، والقرظي (¬6) وقتادة (¬7)، ومقاتل (¬8)، والضحاك (¬9)) (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 594. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 399، و"جامع البيان" 30/ 315، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 352، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"المحرر الوجيز" 5/ 528، و"زاد المسير" 8/ 318، و"التفسير الكبير" 32/ 115، و"لباب التاويل" 4/ 413، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594، و"الدر المنثور" 8/ 645 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر. (¬3) "جامع البيان" 30/ 316، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 115، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "جامع البيان" 30/ 316، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 352، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"زاد المسير" 8/ 318، و"التفسير الكبير" 32/ 115، و"لباب التأويل" 4/ 413، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594. "تفسير الحسن البصري" 2/ 441. (¬6) مكرر في (ع). والقرظي هو محمد بن كعب، وسبق بيان أني لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) "جامع البيان" 30/ 316، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 352، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"زاد المسير" 8/ 318، و"التفسير الكبير" 32/ 115، و"لباب التاويل" 4/ 413، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594. (¬8) "تفسير مقاتل" 254 أ، و"بحر العلوم" 3/ 518. (¬9) "جامع البيان" 30/ 316، و"الكشف" 13/ 162 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"التفسير الكبير" 32/ 115 "لباب التأويل" 4/ 413، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594، و"الدر المنثور" 8/ 645 وعزاه إلى ابن أبي شيبة. (¬10) ما بين القوسين ذكر بدلاً عن تعداد لفظ: (وجماعة) في (أ).

قالوا: الماعون: الزكاة (¬1) المفروضة، وكل حق في المال. قال الزهري (¬2)، (ومقاتل (¬3)) (¬4): و (الماعون): المال بلغة قريش. وذهب أكثر المفسرين إلى أن الماعون اسم لما يتعاوزه الناس من الدلو، والفأس والقدر وما لا يمنع كالماء، والملح وأشباه ذلك، وهو قول عبد الله بن عباس (في رواية سعيد بن جبير (¬5)، ومجاهد (¬6) عنه وقول إبراهيم (¬7)، وعكرمة (¬8)) (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ)، (ع): (الزكوة). (¬2) "جامع البيان" 30/ 319، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 353، و"زاد المسير" 8/ 318، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 214، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 162 ب، كما ورد في الحاشية 6 من كتاب "زاد المسير" 8/ 318، وقد ورد عنه في "تفسيره" 154 أ: الماء وليس المال. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) "جامع البيان" 30/ 318، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 353، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"المحرر الوجيز" 5/ 528، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 314، و"لباب التأويل" 4/ 413، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"الدر المنثور" 8/ 644 وعزاه إلى آدم، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والطبراني 9/ 235 ح 9011 - 9013 - 19014 والحاكم، وصححه البيهقي وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، و"مجمع الزوائد" 7/ 143. كما ورد عن طريق وائل عن عبد الله بن عباس مثل هذه الرواية في "كشف الأستار عن زوائد البزار" 3/ 82 - 83: ح: 2292. (¬6) المراجع السابقة عدا: "معالم التنزيل". (¬7) "جامع البيان" 30/ 318، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594. (¬8) "بحر العلوم" 3/ 518، و"معالم التنزيل" 4/ 532، و"لباب التأويل" 4/ 43، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 594، و"الدر المنثور" 8/ 645 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬9) ما بين القوسين كتب بدلاً من تعدادهم لفظ "وغيره" في (أ).

قالوا (¬1): هي العارية وما يتعاطاه الناس من المتاع (وسئل عكرمة فقيل) (¬2) من منع شيئًا من المتاع، كان له الويل، قال: لا، ولكن مع جمع ثلاثتهن فله الويل يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون (¬3). (هذا قول المفسرين في تفسير الماعون (¬4)) (¬5). وأما أهل اللغة: فقال أبو عبيدة (¬6)، والأخفش (¬7)، (والزجاج (¬8)) (¬9): الماعون في الجاهلية كل ما كان فيه منفعة، وكل ما انتفع به من قليل أو كثير كالعطية والعارية، قال الأعشى: بِأجْوَدَ (¬10) منهُ بِماعُونِه ... إذا ما سَماءهم لم تَغِمْ (¬11) (¬12) ¬

_ (¬1) في (أ): (قال). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ) (¬3) ورد معنى قوله في: "بحر العلوم" 3/ 518، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 215، و"الدر المنثور" 8/ 645 وعزاه إلى الفريابي، وابن المنذر، والبيهقي. (¬4) وممن قال بذلك أيضًا: الحسن، وقتادة، وابن الحنفية، وابن زيد، والضحاك، وابن المسيب، وابن مسعود. انظر: "جامع البيان"30/ 306 - 318، و"المحرر الوجيز" 5/ 528، و"البحر المحيط" 8/ 518 كما عزاه الفخر أيضًا إلى أكثر المفسرين. "التفسير الكبير" 32/ 115. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "مجاز القرآن" 2/ 313. (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 368. (¬9) ساقط من (أ). (¬10) في (أ): (بأجود). (¬11) في (ع): (يقسم). (¬12) ورد بيت الشعر في "ديوانه" ص 199، ط. دار صادر برواية: (بما عنده). =

(وقال هميان: لا يحرم الماعون منه الخابطا (¬1)) (¬2) والماعون في الإسلام الزكاة والطاعة. قال الراعي (¬3): قومٌ على الإسلامِ لما يمنعوا ... ماعُونَهُمْ ويُضَيِّعوا تهليلا (¬4) ويقال: رضّ بعيرك حتى يعطيك الماعون، أي ينقاد لك، ويعطيك الطاعة) (¬5). (وهذا قول عطية عن ابن عباس قال في الماعون: هو الطاعة (¬6)) (¬7) قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء بعينه، ¬

_ = "جامع البيان" 30/ 314، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"النكت والعيون" 6/ 353، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 214، و"فتح القدير" 5/ 500، و"لسان العرب" 13/ 410 (معن) برواية: (سماؤهم)، و"تاج العروس" 9/ 347 (معن). (¬1) ورد البيت في: "الكشف والبيان" 13/ 162 ب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) هو: عبيد بن حصين. (¬4) ورد البيت في: "تهذيب اللغة" 3/ 17 (ويبدلوا تبديلا) بدلًا من (ويضيعوا تهليلا)، و"لسان العرب" 13/ 410 برواية (على التنزيل) بدلًا من (على الإسلام) و (يبدلوا التنزيلا) بدلًا من (يضيعوا التهليلا)، و"جامع البيان" 30/ 314 برواية (التنزيلا)، و"الكشف والبيان" 13/ 163 أبرواية (التهليلا)، و"النكت والعيون" 6/ 353 (التهليلا) وبمثل رواية التهليلا جاء في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 214، و"البحر المحيط" 8/ 518، و"روح المعاني" 30/ 242. (¬5) انظر فيه: "المخصص" لابن سيده 9/ 148، و"لسان العرب" 13/ 409، (معن)، و"الكشف والبيان" 13/ 163 أ. (¬6) "النكت والعيون" 6/ 353 ومن غير ذكر طريق عطية، و"زاد المسير" 8/ 318. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

وأنشدني: يمحُّ صَبِيرَةُ الماعُونَ صَبًّا (¬1) (¬2) وقال أبو العباس: (الماعون) (¬3) كل ما يستعار من قدوم (¬4)، (وشَفْرة (¬5)، وسُفْرة (¬6)) (¬7) (¬8). فإن قيل على هذا: كيف خص المنافقين، وهم شر الخليقة بمنع الماعون، وهو من المحقرات، وفيهم من الكبائر (¬9) ما هو أكبر من كل كبيرة قيل: هذا (¬10) تنبيه على بخلهم، (وسوء خلتهم) (¬11)، وموضع ¬

_ (¬1) عجزه: إذا نسمٌ من الهَيْفِ اعْتراه ورد البيت غير منسوب في: "تهذيب اللغة" 3/ 17 (معن)، و"لسان العرب" 13/ 410، و"تاج العروس" 9/ 347 (معن)، و"جامع البيان" 30/ 314، و"الكشف والبيان" 13/ 162 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 214، و"شرح أبيات معاني القرآن" 23: ش 21 موضع الشاهد: الماعون هو الماء. المعنى: الصبير: السحاب. انظر: "شرح أبيات معاني القرآن". (¬2) "معاني القرآن" 3/ 295 بنصه. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) قدوم: أي الفأس برأسين. "مجالس ثعلب" لأحمد بن يحيى بن ثعلب: 2/ 429. (¬5) شَفرة: السكين العظيم. "مختار الصحاح" ص 341 (شفر). (¬6) سُفرة: السفرة طعام يصنع للمسافر، والجمع سفر، وسميت الجلدة التي يوعى فيها الطعام سفرة مجازًا، و"المصباح المنير" 1/ 329 - 330 (سفر). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 13/ 17 (معن)، وانظر: "لسان العرب" 13/ 410. (¬9) غير مقروء في (ع). (¬10) في (أ): (هلا). (¬11) ساقط من (أ).

عداوتهم، وإشارة إلى غاية بغضهم للإسلام وأهله، وذلك أنهم إذا منعوا ما لا يرزأ (¬1) (¬2) مالًا ولا يغير حالاً فهم للكثير أمنع، وإذا لم يصلوا من مضرة المسلمين إلا (¬3) إلى منع (¬4) الحقير فهم (¬5) بغير ذلك أدع، وإليه أسرع. وقال (¬6) أبو إسحاق، (وغيره (¬7)) (¬8): الماعون فاعول من المعن، وهو الشيء القليل (¬9). ومن هذا قالوا: ما له سَعْنة (¬10) ولا مَعْنَةٌ (¬11) (¬12)، ومنه قول النَّمِرُ (بن ¬

_ (¬1) غير مقروء في (ع). (¬2) يرزا: قال الليث: يقال: ما رَزأ فلان فلانًا شيئاً: أي ما أصاب من ماله شيئًا ولا انتقص منه. "تهذيب اللغة" 13/ 248 (رزأ). (¬3) في (أ): (إلي). (¬4) في (أ): (منعهم). (¬5) في (أ): (فلم). (¬6) في (ع): (قال). (¬7) منهم: ابن سيده في "المخصص" 9/ 148، 13/ 89. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) لم أعثر على قوله في المعاني، وإنما وجدته في "تهذيب اللغة" 3/ 17 (عن)، وانظر: "تاج العروس" 9/ 347 (معن). (¬10) في (ع): (سعته). (¬11) في (أ). (منعه). (¬12) سعنة ولا معنة: أي لا قليل ولا كثير. "إصلاح المنطق" 384، انظر: (معن) في. "تهذيب اللغة" 3/ 17، و"لسان العرب" 13/ 411، و"تاج العروس" 9/ 347. وأصل معنى: سعنة، ومعنة، قالوا: السعنة من المِعْزَى: صغار الأجسام في خلقها، والمعن الشيء الهين. وقالوا أيضًا: السعنة: الكثرة من الطعام وغيره، والمعنة: القلة من الطعام وغيره. وأيضًا: السعنة: القرية الصغيرة يُنبذ فيها، والسُعنة: المِظلة. "تهذيب اللغة" 2/ 104 (سعن).

التَّوْلب) (¬1): فإنَّ ضَياعَ مَالِكَ غَيرُ مَعْنِ (¬2) أي غير حقير ولا يسيِر. وسميت الزكاة ماعونًا، لأنه يؤخذ من المال ربع عشره فهو قليل من كثير (¬3) (والله أعلم بالصواب) (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) البيت كاملاً: ولا ضَيَّعْتُه فأُلام فيه ... فإنَّ ضياع مالك غير معن ورد البيت في: "ديوانه" ص 118 تأليف د. نوري القيسي، و"تهذيب اللغة" 3/ 16، 18 (معن)، و"لسان العرب" 13/ 409، و"تاج العروس" 9/ 347، و"المخصص" 9/ 148: نعوت الماء من قبل جريه وسيلانه. ومعناه مرتبط بالبيت السابق له وهو: يلوم أخي على إهلاك مالي ... وما إن غاله ظهري وبطني يقول: لم يهلك مالي بطني، يريد الأكل والشرب، وظهري يريد لم أفنه في اللباس، وقيل: الجماع، يعني أنه لم يذهب ماله في الملاذ، ولا ضيعته: أي لم أكن سيئ التدبير فيهلك لسوء التدبير، وإنما صرف إلى الحقوق التي يلزمنا إنفاق المال بها، وغير معن: غير يسير ولا هين. "ديوانه" ص 118. (¬3) لم أعثر على قوله، وإنما وجدته في: "تهذيب اللغة" 3/ 17 (معن)، وانظر: "لسان العرب" 13/ 410 (معن). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ).

سورة الكوثر

سورة الكوثر

1

تفسير سورة الكوثر (1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} (الكوثر عند أهل اللغة: فوعل من الكثرة، ومعناه: العدد الكثير، والخير الكثير ويقال للرجل الكثير العطاء: كوثر. قال الكميت: وأنت كثيرٌ يا بن (2) مروان طَيِّبٌ ... وكان أبوك ابنَ العقائلِ (كوثرا) (3) (4) وقالت عجوز من العرب: قدم فلان بكوثر كثير. ويقال للغبار إذا سطع

_ (1) وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والكلبي، ومقاتل، والجمهور. والثاني: أنها مدنية، قاله الحسن، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد. "زاد المسير" 8/ 219، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 216، و"فتح القدير" 5/ 502. (2) في (أ): (يا ابن). (3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (4) ورد البيت في: "ديوانه" 1/ 209: رقم 281، تح: د. داوود سلوم برواية: (بابن) بدلاً من (يا ابن). "تهذيب اللغة" 10/ 178 (كثر)، و"لسان العرب" 5/ 133، و"تاج العروس" 3/ 517، و"التفسير الكبير" 32/ 124، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 216، و"البحر المحيط" 8/ 520، و"روح المعاني" 30/ 245، و"سيرة ابن هشام" 1/ 422، و"المنصف" لابن جني 3/ 6.

وكثر: كوثرٌ، ومثله يقال: للكثير النوافل: نوفل (¬1)) (¬2) هذا معنى الكوثر في اللغة. واختلف (المفسرون) (¬3) في تفسيره، فالذي عليه الأكثرون أنه نهر في الجنة يجري على الدر (¬4)، والياقوت، طيبه مسك أذفر (¬5)، [حافتاه] (¬6) قباب (¬7) الدُّرِّ المجوّف، ماؤها أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل، وهو قول أنس (¬8)، وعائشة (¬9)، وابن عمر (¬10)، ورووا ذلك عن رسول الله ¬

_ (¬1) غير واضحة في (ع). (¬2) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 10/ 176 - 178 (كثر) بتصرف. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) الدُّرّ: مفرده الدرة، وهي اللؤلؤة "مختار الصحاح" ص 202. (¬5) أذفر: الذفر -بالتحريك- والذَّفَرَة جميعًا: شدة ذكاء الريح من طيب أو نتن، ويفرق بينهما ما يضاف إليه ويوصف به، ومنه صفة الجنة وترابها مسك أذفر. انظر: "لسان العرب" 4/ 306 (ذفر). (¬6) في (أ)، (ع): (حافاته)، والصواب ما أثبته. (¬7) قباب: جمع ومفرده القُبَّة، قال ابن فارس: القاف والباء أصل صحيح يدل على جمع وتجمع من ذلك القبة، وهي معروفة، وسميت لتجمُّعِها. "مقاييس اللغة" 5/ 5 (قب). (¬8) "جامع البيان" 30/ 320، و"الكشف والبيان" 13/ 164 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 529، و"التفسير الكبير" 32/ 124، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597. (¬9) "جامع البيان" 30/ 321. (¬10) ورد موقوفًا في "الزهد والرقائق" لابن المبارك ص 562 ح 1613، و"المحرر الوجيز" 5/ 295، و"التفسير الكبير" 32/ 124، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597، كما ورد عنه مرفوعًا في "جامع البيان" 30/ 324، و"بحر العلوم" 3/ 519، و"معالم التنزيل" 4/ 533، كما ورد عن حذيفة بمعناه. قال الألباني عنه: إسناده حسن، انظر: "ظلال الجنة في تخريج السنة" 2/ 336 ح 724، 725.

-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هو نهر في الجنة وعدنيه ربي، عليه خير كثير، لذلك النهر حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم" (¬1). ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه مسلم من طريق "أنس في صحيحه" 1/ 300: ح: 53 - 54: كتاب الصلاة، باب: 14: ونص الحديث كما عنده عن أنس قال بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله! قال: "أنزلت عليّ آنفًا سورة "فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر"، ثم قال: "أتدرون ما الكوثر؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي عَزَّ وَجَلَّ عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك". وحديث ورد عن أنس بن مالك يقول: أغفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إغفاءة بنحو حديث ابن مُسْهِر غير أنه قال: "نهر وعدنيه ربي عَزَّ وَجَلَّ في الجنة عليه حوض"، ولم يذكر آنيته عدد النجوم. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند" 3/ 102: من طريق أنس. وأبو داوود في "السنن" 1/ 201: كتاب الصلاة: باب من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من طريق أنس بنحو الرواية الثانية، ج 2/ 588: كتاب السنة: بنحو من الرواية الأولى لأنس. والنسائي في: "السنن" 2/ 471: ح: 903: كتاب الإنتاج باب 21 بنحوه من طريق أنس بن مالك. وأما الحديث الذي رواه ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدُّرِّ والياقوت؛ تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، أبيض من الثلج". أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 112، والترمذي في "سننه" 5/ 450: ح: 3361، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال الأرناؤوط في تخريج "جامع الأصول" 2/ 439: ح: 889: وإسناده صحيح.

قالت عائشة رضي الله عنها: (من أحب أن يسمع خريره (¬1) فليجعل أصبعيه في أذنيه" (¬2) (وبه قال من المفسرين: مقاتل (¬3)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (¬4)) (¬5). (وقال فطر بن خليفة (¬6): سألت عطاء عن (الكوثر) ونحن نطوف بالبيت فقال: حوض أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر الناس عليه يوم القيامة) (¬7). ¬

_ (¬1) خرير: خرير الماء أي صوته، أراد مثل صوت خرير الكوثر. "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 21 (خرر). (¬2) ورد الأثر في "جامع البيان" 30/ 20 من طريق أبي نجيح عن مجاهد، عن رجل، عن عائشة، وبإسناد آخر عن ابن أبي نجيح عن عائشة، و"الكشف والبيان" 13/ 164 ب، قال ابن كثير: وهذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة، وفي بعض الروايات عن رجل عنها، ومعنى هذا أنه يسمع نظير ذلك؛ لا أنه يسمعه بنفسه. والله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 596. كما ورد عن السيوطي في: "الدر المنثور" 8/ 648 - 650 وعزاه إلى ابن مردويه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وعزاه إلى هناد، كما ورد في "النهاية"، ولكن عن ابن عباس: 2/ 21. (¬3) "بحر العلوم" 3/ 519. (¬4) "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 21 (خرر). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) فِطْر بن خليفة القرشي المخزومي أبو بكر الكوفي الحناط؛ مولى عمرو بن حريث، روى عن عكرمة مولى ابن عباس، صدوق، رمي بالتشيع، مات سنة 156 هـ روى له الجماعة سوى مسلم. انظر: "الكاشف" 20/ 332: ت: 4564، و"تهذيب الكمال" 23/ 312: ت: 4773، و"تقريب التهذيب" 2/ 114: ت: 77. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ).

قال أهل المعاني: يجوز أن يكون سمي ذلك النهر أو ذلك الحوض لكثرة الواردة، والشاربة من أمته هناك. ويجوز أن يكون سمي (¬1) بذلك لما فيه الخير الكثير (¬2). فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير كثير) (¬3). وإلى هذا ذهب ابن عباس في تفسيره الكوثر، فقال: هو الخير الكثير (الذي) (¬4) أعطى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- (¬5) وروى (ذلك أبو بشر) (¬6) عن (سعيد) (¬7) بن (جبير عنه قال: أبو) (¬8) بشر: قلت لسعيد: فإن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه (¬9). ¬

_ (¬1) ورد في (أ): "ذلك النهر أو ذلك الحوض" وهو كلام مكرر سبق ذكره في موضعه الصحيح. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه من غير عزو في "الجامع لحكام القرآن" 20/ 217. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "جامع البيان" 30/ 321 - 322، و"النكت والعيون" 6/ 355، و"معالم التنزيل" 4/ 533، و"زاد المسير" 8/ 320، و"البحر المحيط" 8/ 519، و"الدر المنثور" 8/ 648 وعزاه إلى ابن مردويه، و"المستدرك" 2/ 537: كتاب التفسير: تفسير سورة الكوثر، وانظر "صحيح البخاري" 3/ 331: ح 4966، و"فتح القدير" 5/ 504، و"مجموع الفتاوى" 16/ 529، وقد عقب الشوكاني على ما ذكره ابن عباس، قال: وهذا التفسير من حبر الأمة عن ابن عباس -رضي الله عنه- ناظر إلى المعنى اللغوي، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد فسره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة. "فتح القدير" 5/ 504. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬9) "جامع البيان" 30/ 321 - 322، و"معالم التنزيل" 4/ 533، و"المحرر الوجيز" 5/ 529، و"البحر المحيط" 8/ 519، و"الدر المنثور" 8/ 649، و"المستدرك" =

ونحو هذا قال الكلبي: إنا أعطيناك الخير الكثير، منه القرآن، وهو أفضله (¬1). (وهذا قول الحسن في تفسير الكوثر أنه القرآن العظيم (¬2)) (¬3). وقال عكرمة: هو النبوة والكتاب (¬4). وقال أبو بكر بن عياش (¬5): هو العدد الكثير من الأصحاب والأشياع (¬6). وقول ابن عباس: شامل لهذا كله، لأنه جميع هذا من الخير الكثير. ¬

_ = 2/ 537، كتاب التفسير: تفسير سورة الكوثر، و"صحيح البخاري" 3/ 331 ح 4966: كتاب التفسير: باب 108، و"فتح القدير" 5/ 504، و"تفسير سعيد بن جبير" ص 382، كتاب "الزهد والرقائق" لابن المبارك: 562 ح 1614. (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "النكت والعيون" 6/ 354، و"المحرر الوجيز" 5/ 529، و"زاد المسير" 8/ 320، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 217، و"البحر المحيط" 8/ 519، و"الدر المنثور" 8/ 650 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، و "تفسير الحسن البصري" 2/ 441. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "جامع البيان" 30/ 322 - 323، و"النكت والعيون" 6/ 354، و"الكشف والبيان" 13/ 165 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 533، و"زاد المسير" 8/ 320، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 217، و"البحر المحيط" 8/ 519، و"الدر المنثور" 8/ 650 وعزاه إلى هناد وابن أبي حاتم وابن عساكر. (¬5) أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحفاظ المقرئ، روى عن الأجلح الكندي، وعن ابنه إبراهيم، ولد سنة 95، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر سنه ساء حفظه وكتابه صحيح -قاله ابن حجر- مات سنة 193 هـ. انظر: "كتاب الثقات" 7/ 688، و"تهذيب الكمال" 33/ 129 ت 7252، و"تهذيب التهذيب" 2/ 399 ت 65. (¬6) "الكشف والبيان" ج 13/ 165 ب، 166 أ، و"النكت والعيون" 6/ 355، و"زاد المسير" 8/ 32 "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 217، و"البحر المحيط" 8/ 519.

2

قال أبو إسحاق: وجميع ما جاء في تفسير الكوثر قد أعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أعطي النبوة، والإسلام، وإظهار الدين على كل الأديان، والنصر علي عدوه، والشفاعة، وما لا يحصى، وقد أعطى من الجنة على قدر فضله على أهل الجنة (¬1). 2 - قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} يعني الصلوات الخمس في قول مقاتل (¬2)، وابن عباس (¬3) (في رواية عطاء) (¬4). وقال مجاهد (¬5)، (والثوري (¬6)) (¬7)، وعطاء (¬8): صل الصبح (وانحر) البدن بمنى، وهو قول سعيد بن جبير (¬9). ¬

_ (¬1) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 369 بنصه. (¬2) "زاد المسير" 8/ 320. (¬3) "جامع البيان" 30/ 26 من طريق العوفي عن ابن عباس، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 218 من طريق الضحاك عنه ابن عباس، و"الدر المنثور" 8/ 615 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 166 أ، و"زاد المسير" 8/ 320، و"الدر المنثور" 8/ 651 وعزاه إلى عبد الرزاق -ولم أجده عنده- وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وورد عنه فقط تفسير "النحر" في "جامع البيان" 30/ 327، و"النكت والعيون" 6/ 355، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 401 - 402، و"جامع البيان" 30/ 326 - 327، و"النكت والعيون" 6/ 355، و"معالم التنزيل" 4/ 535، و"الدر المنثور" 8/ 651 وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وورد عنه تفسير معنى النحر فقط في: "زاد المسير" 8/ 320، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597. (¬9) "جامع البيان" 30/ 326، و"الكشف والبيان" ج 13/ 166 أ، و"الجامع لأحكام =

قال (عكرمة (¬1)) (¬2) وقتادة (¬3): يعني صلاة العيد يوم النحر، ثم النسك بعده، وهو نحو البدن. وأكثر المفسرين على أن هذا لغير الله، فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- (¬4) أن تكون صلاته ونحره له (¬5). وروى عن علي رضي الله عنه أنه فسر هذا النحر بوضع (¬6) اليدين على النحر في الصلاة (¬7). ¬

_ = القرآن" 20/ 218، و"التفسير الكبير" 32/ 130، و"فتح القدير" 5/ 504، وورد عنه فقد تفسير النحر في "النكت والعيون" 6/ 355. (¬1) "جامع البيان" 30/ 326، و"الكشف والبيان" ج 13/ 166 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 534، و"الجامع حكام القرآن" 20/ 218. (¬2) ساقط من (أ). (¬3) المراجع السابقة بالإضافة إلى "المحرر الوجيز" 5/ 529 بمعناه، و"زاد المسير" 8/ 320، و"البحر المحيط" 8/ 520، و"الدر المنثور" 8/ 651. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) وممن قال بمعنى ذلك: محمد بن كعب، وابن عباس، وعطاء الخراساني، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، انظر: "جامع البيان" 30/ 327، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597 وهذا القول رجحه الطبري في تفسيره. (¬6) في (أ): (موضع). (¬7) "جامع البيان" 30/ 352 - 326، و"الكشف والبيان" 13/ 166 أ - ب، و"النكت والعيون" 6/ 355، و"المحرر الوجيز" 5/ 530، و"زاد المسير" 8/ 320، و"التفسير الكبير" 32/ 129، و"القرطبى" 20/ 219، و"البحر المحيط" 8/ 520 و"ابن كثير" 4/ 597 وقال وهذا لا يصح، و"فتح القدير" 5/ 504، و"الدر المنثور" 8/ 560 وعزاه إلى ابن أبي شيبة في المصنف، والبخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، وانظر: "المستدرك" 2/ 537 كتاب التفسير: تفسير سورة الكوثر.

(وهو) (¬1) (قول ابن عباس في رواية أبي الجوزاء (¬2)) (¬3). وروى (الأصْبَغُ بنُ نُبَاتة (¬4)) (¬5) عن علي رحمه الله - قال: لما نزلت هذه السورة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل (¬6): "ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ "، قال: ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحزمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإن صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع، وأن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة) (¬7). ¬

_ (¬1) غير مقروء في (ع)، وساقط في (أ). وأثبت ما رأيت فيه انتظام الكلام. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 166 ب، و"النكت والعيون" 6/ 355، و"معالم التنزيل" 4/ 534، و"زاد المسير" 8/ 320، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 219، و"لباب التأويل" 4/ 416، و"الدر المنثور" 8/ 650 - 651 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن شاهين في السنة، وابن مردويه، والبيهقي. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) أصبغ بن نُباتة التميمي، ثم الحنظلي، ثم الدارمي، ثم المجاشعي؛ أبو القاسم الكوفي، روى عن علي بن أبي طالب، متروك، رمي بالرفض. انظر: "المجروحين" لابن حبان 1/ 173، و"تهذيب الكمال" 3/ 308 ت 537، و"تقريب التهذيب" 1/ 81 ت: 613. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (بحريه). (¬7) "الكشف والبيان" 13/ 167 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 219، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597 وقد قال ابن كثير عنه: إنه حديث منكر جدًّا. كما ورد في "المستدرك" 2/ 538: كتاب التفسير: سورة الكوثر: قال الذهبي: قلت: إسرائيل صاحب عجائب لا يعتمد عليه، وأصبغ شيعي متروك عند النسائي (كتب الضعفاء والمتروكين: النسائي: 58: رقم 66)، و"الدر المنثور" 8/ 650 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، و"فتح القدير" 5/ 504.

وذكر الكلبي (¬1)، والفراء (¬2) أن قوله: (وانحر) (أمر) (¬3) باستقبال القبلة بنحوه. وذكر عن عطاء أن هذا أمر بالاستواء بين السجدتين حتى يستقل بنحوه القبلة (¬4). وقال سليمان التيمي معناه: ارفع يديك بالدعاء إلى نحرك (¬5). (هذا قول المفسرين، وما ذكروه في هذه الآية) (¬6)، و (أصل ذلك كله من النحر الذي هو الصدر، ويقال لذبح البعير: النحر، لأن منحره في صدره حيث يريد، والحلقوم من أعلى الصدر) (¬7). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 219. (¬2) "معاني القرآن" 3/ 296 بنحوه. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 168 أ، و"التفسير الكبير" 32/ 129 بمعناه، و"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 219 - 220، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 597، و"الدر المنثور" 8/ 651 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬5) المراجع السابقة عدا "التفسير الكبير"، و"الدر". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ)، وقد عقب ابن كثير على ما مضى من الأقوال قال: وكل هذه الأقوال غريبة جدًا، والصحيح القول الأول، وأن المراد بالنحر ذبح المناسك، ثم حسن ما رجحه الطبري من القول بالعموم. وإن معنى الآية: فاجعل صلاتك كلها لله دون ما سواه من الأنداد، وكذلك النحر اجعله له دون الأوثان شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة؛ قال: وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد ابن كعب القرظي وعطاء. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 597 - 598. (¬7) ما بين القوسين انظر فيه: "تهذيب اللغة" 5/ 10 (نحو)، و"لسان العرب" 5/ 195 (نحر)، وأيضًا: "مقاييس اللغة" 5/ 400 (نحر).

فمعنى النحر في هذا هو إصابة النحر، كما يقال رأسه وبطنه، إذا أصابه ذلك منه، ووضع اليد على الصدر نحر أيضًا، كما ذكره علي رحمه الله-، لأنه إصابة النحر باليد، ورفع الأيدي في الصلاة أيضًا عند التكبير نحر، كما فسره جبريل (عليه السلام) (¬1) للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أن يرفع يديه إلى نحره، فتصيب (¬2) يده نحره (¬3)، وذلك القدر من الرفع هو السنة، واستقبال القبلة يسمى نحرًا. (قال) (¬4) ابن الأعرابي: النحر انتصاب الرجل في الصلاة، بإزاء المحراب (¬5). (قال ثعلب: وهو أن ينتصب بنحره بازاء القبلة ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا (¬6)) (¬7). قال الفراء: ويقال منازلهم تتناحر، أي تتقابل، وأنشد: أبا حَكَمٍ هل أنتَ عمُّ مُجالدٍ ... وسيدُ أهْلِ الأبْطَحِ المتناحرِ (¬8). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في) أ): (لتصيب). (¬3) في (أ): (لنحره). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) نقلاً عن "تهذيب اللغة" 5/ 11 (نحر). (¬6) نقلًا عن "تهذيب اللغة" المرجع السابق، وكلامه في: "مجالس ثعلب" 1/ 11 قال: معنى قوله تعالى: فصل لربك وانحر، يقال: استقبل القبلة بنحرك، ويقال: اذبح. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "معاني القرآن" 3/ 296. بيت القصيد لبعض بني أسد؛ ذكر ذلك الفراء. وقد ورد البيت في: برواية (ها أنت) بدلًا من (هل أنت)، و"تهذيب اللغة" 5/ 10 (نحر)، و"لسان العرب" 5/ 197، و"تاج العروس" 3/ 558، و"جامع البيان" 30/ 328، و"النكت والعيون" 6/ 356، و"الكشف والبيان" ج 13/ 168 أ، و"روح المعاني" 30/ 247، و"التفسير الكبير" 32/ 130، و"شرح أبيات معاني القرآن" ص 174 س 387. موضع الشاهد: يقال منازلهم تتناحر أي هذا ينحر هذا أي قُبالته. والمعنى: الأبطح: المتسع العريض، وأبطح الوادي: حصاه اللين في بطن المسيل. والجلد: القوة والشدة. "شرح أبيات معاني القرآن". المرجع السابق

قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ (هُوَ الْأَبْتَرُ) (¬1)} أي مبغضك من الشنآن، وهو البغض (¬2)، وقد مر (¬3). (هو الأبتر). معنى البتر في اللغة: (أستئصال القطع، يقال بترته أبتره بترًا، أي صار أبتر، وهو المقطوع الذنب. ويقال للذي لا عقب له أبتر، وكذلك للمنقطع (¬4) عن الخير) (¬5). قال المفسرون: يعني العاص بن وائل، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه، وكان قد مات ابنه ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) انظر "تهذيب اللغة" 11/ 42 (شنأ)، و"إصلاح المنطق" ص 284. (¬3) سورة المائدة: 2، 8 قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}.وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} ومما جاء في معنى: "شنآن" قال: أبو زيد: شنئت الرجل أشنؤه شنئًا وشنآنًا ومنشاءة إذا ابغضته. واختلف القراء في هذا الحرف، فالأكثرون قرؤوا على فَعْلا، وحجتهم أنه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان، ومن أسكن النون، فلأن المصدر قد جاء أيضًا على فعلان، وإذا كان كذلك، فالمعنى في القراءتين واحد، ومعناه: لا يحرمنكم بغض قوم أي بغضكم قوم بصدهم إياكم .. "البسيط" مختصرًا جدًا. (¬4) في (أ): (المنقطع). (¬5) ما بين القوسين انظر "تهذيب اللغة" 14/ 277 (بتر).

عبد الله بن خديجة. وهو قول (الكلبي (¬1)، ومقاتل (¬2)، وابن عباس (¬3) في رواية عطاء وعامة أهل التفسير) (¬4). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 402، و"التفسير الكبير" 32/ 132 - 133. (¬2) "تفسير مقاتل" 254 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 132. (¬3) "أسباب النزول" ص 404: قال: محققة إن رواية ابن عباس ضعيفة بسبب العوفي كما هو وارد عند ابن جرير، و"جامع البيان" 30/ 329 من طريق العوفي، و"المحرر الوجيز" 5/ 530 من غير ذكر طريق عطاء، و"زاد المسير" 8/ 321، و"التفسير الكبير" 32/ 132، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 598 من غير ذكر طريق عطاء، و"الدر المنثور" 8/ 652 وعزاه إلى ابن عساكر من طريق ميمون بن مهران، وابن مردويه. (¬4) منهم سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. انظر "جامع البيان" 30/ 329، "تفسير القرآن" 30/ 329. وإلى القول أنه العاص ذهب السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 519، وقال البيهقي: والمشهور أنها نزلت في العاص بن وائل: "الدر المنثور" 8/ 652، وقاله به الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 370. والرواية التي ذكرها الواحدي وعزاها إلى المفسرين هي رواية محمد ابن إسحاق من طريق يزيد بن رومان ونصها عن محمد بن إسحاق قال: حدثني يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، ولو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك "إنا أعطيناك الكوثر" إلى آخر السورة راجع ذلك: "أسباب النزول" ص 404، تح: أيمن، و"تفسيرالقرآن العظيم" 4/ 598. قال د. عصام الحميدان: عن إسناد محمد ابن إسحاق عن يزيد بأنه مرسل يشهد له ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير وقتادة مرسلًا مثله. وإسناده صحيح. "أسباب النزول" ص: 466 حاشية: 1، تح: عصام. وقال آخرون: بل عني بذلك عقبة بن أبي معيط، وهو قول شمر بن عطية، وعكرمة وآخرون قالوا: كعب الأشرف وجماعة من قريش، وهو قول عكرمة، وإحدى روارات ابن عباس. "جامع البيان" 30/ 303. وقيل غير ذلك. يراجع "النكت والعيون" 6/ 356، و"زاد المسير" 8/ 321.

قال محمد بن إسحاق (¬1) (ومقاتل) (¬2) (¬3): لما قال العاص ذلك أنزل الله هذه السورة، قال ابن إسحاق، يعني: قد أعطيتك ما هو خير من الدنيا وما فيها؛ قال: الكوثر: العظيم من الأمر (¬4). قال مقاتل: فرفع (¬5) الله ذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- في الناس عامة حتى ذكر في الصلاة، والأذان، وأتاه مكان ابنه الكوثر (¬6). وقال (عطاء عن) (¬7) ابن عباس: العرب تسمى من كان له بنون وبنات، فمات البنون وبقى البنات: أبتر، وكان العاص بن وائل السهمي يمر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: إني لأشنؤك، وإنك لأبتر من الرجال، فأنزل الله تعالى (إن شانئك) يعني العاص هو (الأبتر) من خير الدنيا والآخرة (¬8). وقال قتادة: الأبتر الحقير الذليل (¬9). ¬

_ (¬1) سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن هشام 1/ 421. (¬2) "تفسير مقاتل" 254 ب، و"التفسير الكبير" 32/ 132. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-" لابن هشام 1/ 421. (¬5) في (أ): (فدفع). (¬6) "تفسير مقاتل" 254 ب. (¬7) ساقط من (أ). (¬8) "الدر المنثور" 8/ 652 وعزاه إلى ابن عساكر من طريق ميمون بن مهران بمعناه، وبمعناه أيضًا عن جعفر بن محمد عن أبيه: 8/ 653 وعزاه إلى الزبير بن بكار، وابن عساكر. الحديث أخرجه البيهقي في "دلائل النبوه" 2/ 70. (¬9) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 402، و"جامع البيان" 30/ 329، و"بحر العلوم" 3/ 519، و"النكت والعيون" 6/ 356، و"البحر المحيط" 8/ 520

وقال الفراء: يقول الله -تعالى-: إن مبغضك وعدوك الذي لا ذكر الله بعمل خير (له) (¬1)، وأما أنت فقد جعلت ذكرك مع ذكري (¬2). هذا كلامه. وهو من القول المفهوم، وذلك أنه لما وصف عدوه بأنه أبتر، تضمن ذلك أنه ليس بأبتر، وإلا فليس في المنطق به ذكر رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو إسحاق: جائز أن يكون الأبتر هو المنقطع العقب (¬3)، وجائز أن يكون المنقطع عن كل خير. وقال أهل المعاني: معنى قوله: (هو الأبتر) أي هو الذي ينقطع ما هو عليه من كفره بموته فكان الأمر كذلك، وأما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه ظهر واستفاض حتى ظهر على الدين كله (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "معاني القرآن" 3/ 296. (¬3) العقب: هو ولد الرجل، وولد ولده، وليس له عاقبة أي ليس له نسل. "مختار الصحاح" ص 443 (عقب)، و"المصباح المنير" 2/ 500 (عقب). (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله.

سورة الكافرون

سورة الكافرون

1

تفسير سورة الكافرون (¬1) (¬2) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} قال جماعة المفسرين (¬3): لما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة النجم بمكة على المشركين، وألقى الشيطان في قراءته: تلك الغرانيق (¬4) العلا - على ما ¬

_ (¬1) تسمى بالمقشقشة أي المبرئة من النفاق، وتسمى أيضًا بسورة: العبادة، وذكر الفخر أنها تسمى بالمنابذة والإخلاص. انظر: "الإتقان" 1/ 159، و"فتح الباري" 8/ 733، و"التفسير الكبير" 32/ 136. (¬2) فيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والحسن، والجمهور. والآخر: أنها مدنية، قاله قتادة، واحد قولي ابن عباس، والضحاك. "النكت والعيون" 6/ 357، و"زاد المسير" 8/ 322، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 224. (¬3) قال بذلك: ابن عباس، والقرظي، والضحاك، والسدي، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومقاتل، انظر "تفسير مقاتل" 254/ ب، و"جامع البيان" 17/ 131، و"معالم التنزيل" 3/ 292، و"زاد المسير" 5/ 302، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 239، "أسباب النزول" ص 258، تح: أيمن. (¬4) الغرانيق: هي الأصنام، وهي في الأصل الذكور من طير الماء، سمي به لبياضه، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله عز وجل، وتشفع لهم إليه، فشبهت =

ذكرنا (¬1) (¬2) - طمع مشركو قريش فيه، وقالوا: إن محمد (قد) (¬3) دخل في بعض ديننا، فأتوه وقالوا له: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما نحن فيه كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي نحن عليه خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "معاذ الله أن أشرك به غيره"، فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬4)، يعني المستهزئين من قريش. ¬

_ = بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء. "لسان العرب" 10/ 287 (غرنق)، انظر تفسير أبي العالية تح: الورثان، رسالة غير منشورة: 1/ 272. (¬1) سورة الحج: 52 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. (¬2) قصة الغرانيق باطلة سندًا ومتنًا وقد تقدم التعليق عليها في سورة الحج، وقد تناولها كثير من العلماء بالنقد والتجريح، والخلاصة فيها ما يلي: وهو ما وصفه الألباني من أن أسانيد القصة على اختلاف طرقها بأنها جميعها معللة بالإرسال والضعف والجهالة، كما بين أنه ليس في أحدها ما يصلح للاحتجاج به لا سيما في أمر خطير كهذا، ثم بين أن مما يؤكد ضعفها؛ بل بطلانها ما في القصة من نكارة لا تليق بمقام النبوة والرسالة. انظر: "نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق" للألباني ص 18 وما بعدها. وممن أبطلها أيضًا ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 3/ 239، وابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 130، والشوكاني في "فتح القدير" 3/ 461، والشنقيطي في "أضواء البيان" 5/ 730 ومن أراد الاستزادة فليراجع ذلك في "تفسير أبي العالية" رسالة غير منشورة، تح: "نورة الورثان" 2/ 272 - 276. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) ممن قال بمعنى هذه الرواية: وهب، وعكرمة عن ابن عباس، وسعيد مولي البختري، ومقاتل، وعبيد بن عمير.

2

2 - {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} قال ابن عباس (¬1)، (ومقاتل (¬2)) (¬3): لا أعبد آلهتكم التي تعبدون اليوم. 3 - {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} إلا هي الذي أعبد اليوم. ومعنى: (ما أعبد) من أعبد، ولكنه مقابل قوله: {مَا عَبَدْتُمْ} أي من الأصنام. ثم حمل الثاني عليه ليتقابل (¬4) 4 - {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} يعني فيما بعد اليوم. {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فيما بعد (¬5) اليوم. قالوا: فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه السورة عليهم علموا (¬6) أنه قد تبرأ منهم فيأسوا منه، وشتموه، وآذوه. وقال (¬7) ابن عباس: وهذه السورة براءة من الشرك (¬8). ¬

_ = انظر: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 403، و"جامع البيان" 30/ 331، و"زاد المسير" 8/ 322 - 323، و"بحر العلوم" 3/ 520، و"لباب النقول" 237، و"الدر المنثور" 8/ 655 وعزاه إلى ابن أبي حاتم والطبراني. وقال بها أيضًا الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 169/ ب، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 535 "التفسير الكبير" 32/ 144، و"أسباب النزول"، تح: أيمن ص 405. قال ابن حجر: في الرواية التي من حديث ابن عباس: إن في إسناده أبا خلف عبد الله بن عيسى، وهو ضعيف. "فتح الباري" 8/ 733. (¬1) "الوسيط" 4/ 565. (¬2) المرجع السابق. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) بياض في (ع). (¬5) في (أ): (بعد). (¬6) في (أ): (علم). (¬7) في (ع): (قال). (¬8) ورد معنى قوله في: "النكت والعيون" 6/ 358، و"زاد المسير" 8/ 322 - "حاشية الأزهرية".

وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك" (¬1). قال أبو إسحاق: نفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال، وفيما يستقبل، (ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل) (¬2)، قال: وهذا في قوم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كقوله في قصة نوح {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] (¬3) ونحو هذا قال أبو عبيدة (¬4)، والأخفش (¬5): في وجه تكرار الكلام في ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الدارمي في: "سننه" 2/ 915: ح:3302: كتاب "فضائل القرآن" باب 23 من حديث زهير عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه، والإمام أحمد في "المسند" 5/ 456 من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق. وأبو داود في "سننه" 2/ 661: كتاب الآداب: باب ما يقول عند النوم من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن رجل. والترمذي في "سننه" 5/ 474 ح 3403: كتاب الدعوات: باب 22: قال أبو عيسى: وروى زهير هذا الحديث عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه وهذا أشبه وأصح من حديث شعبة، وقد اضطرب أصحاب أبي إسحاق في هذا الحديث. كما ورد في "الدر المنثور"8/ 657 وزاد في عزوه إلى ابن أبي شيبة، وابن الأنباري في المصاحف، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعبه عن فروة بن نوفل بن معاوية الأشجعي عن أبيه: 3/ 498 ح 2520. كما ورد بمعناه في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 599 وعزاه إلى أحمد، والطبراني في الأوسط عن الحارث بن جبلة. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 371. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 314. (¬5) ورد قوله في: "النكت والعيون" 6/ 358، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 228، و"فتح القدير" 5/ 506.

هذه السورة. وشرحه ابن الأنباري فقال حاكيًا عن أحمد بن يحيى، معنى التكرار فيه: أنه أراد (لا أعبد ما تعبدون) الساعة، وفي هذا الوقت، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في هذا الوقت أيضًا (ولا أنا عابد ما عبدتم) فيما أْستقبل، (ولا أنتم عابدون ما أعبد) فيما تستقبلون (¬1). فحسن التكرير لاختلاف المعاني. وقال صاحب النظم: إنما كرر، لأنه جوزي به الكلام الذي كان هذا جوابه؛ لأنهم قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: تعبد آلهتنا لمدة ذكروها، ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا مدة، ونعبد إلهك، فأجيبوا برد ذلك ودفعه على المثال الذي تكلموا به (¬2). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد علق الشوكاني حول ما ذكره أبو عبيدة، والأخفش، وابن الأنباري قال: وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف، فإن جعل قوله: "ولا أعبد ما تعبدون" للاستقبال، وإن كان صحيحًا على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" للاستقبال، لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات، فدخول المني عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحًا للزم مثله في قوله: "ولا أنا عابد ما عبدتم" وفي قوله: "ولا أنتم عابدون ما أعبد" فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريتين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس، لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده؛ منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ "لا" في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة. "فتح القدير" 5/ 507. (¬2) لم أعثر على مصدر لقوله.

وقال ابن قتيبة: إن من مذاهب العرب التكرار: إرادة التوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز، ولا موضع أولى بالتكرار للتوكيد من الذي نزلت فيه: (قل يا أيها الكافرون)، لأنهم أرادوه على أن يعبد ما يعبدون، ليعبدوا ما يعبد أبدؤوا في ذلك وأعادوا، فأراد الله حسم أطماعهم -قال- وفيه وجه آخر: وهو أن القرآن كان ينزل شيئًا بعد شيء، وآية بعد آية، جوابًا لهم يسألون، وردًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأن المشركين قالوا (له) (¬1): [أسلم] (¬2) ببعض آلهتنا حتى نؤمن بإلهك، فأنزل الله: (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد) لأني لا أفعل ما قلتم. ثم غبروا (¬3) مدة فقالوا: تعبد آلهتنا يومًا، أو شهرًا، أو حولاً، ونعبد إلهك يومًا، أو شهرًا، أو حولاً، فأنزل: (ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي على شريطة أن تؤمنوا به [في] (¬4) وقت، وتشركوا به في وقت (¬5). أي لا أعبد آلهتكم على ما تشارطون، ولا أنتم أيضًا عابدون إلا هي (¬6) على هذه الشريطة، لأني لا أفعل ما تشترطون؛ قال (¬7): (وهذا ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ)، (ع): (استلم)، والمثبت من مصدر القول. (¬3) غير الشيء غبورًا: مكث وذهب. "لسان العرب" 3/ 5 (غير). (¬4) ساقطة من النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر القول لاستقامة الكلام به وانتظامه. (¬5) "تأويل مشكل القرآن" 237 - 238 بيسير من التصرف. (¬6) في (ع): (الهي). (¬7) أي ابن قتية.

تمثيل أردت أن أريك به موضع الإمكان) (¬1). قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} قال (ابن عباس (¬2)، و) المفسرون (¬3): "لكم" كفركم بالله، "ولي" التوحيد والإخلاص له، قالوا: وهذا قبل أن يؤمر بالحرب، ثم نسخ هذا التسليم بآية القتال (¬4). وقال أهل المعاني: معنى الآية: لكم جزاؤكم على عبادة الوثن، ولي جزائي على عبادة ربي، وعلى هذا يكون الدين بمعنى: الجزاء، ويجوز أن يكون على تقدير: المضاف لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين قول ابن قتيبة. انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص 239. (¬2) "التفسير الكبير" 32/ 147. (¬3) حكاه عن المفسرين ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 5/ 531، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 323، وقال به أيضًا السمرقندي في: "بحر العلوم" 3/ 521، والثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 170 ب. (¬4) وممن قال أيضًا بأنها منسوخة بآية السيف: هبة الله في: "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ" ص 206، والبارزي في: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" ص 58، وابن طاهر البغدادي في: "الناسخ والمنسوخ" ص 161. وقد رد ابن الجوزي دعوى النسخ فيها قال: قال الأكثرون نسخت بآية السيف، ثم قال: وإنما يصح هذا لو كان المعنى: قد أقررتكم على دينكم، وإذا كان لم يكن المفهوم هذا بعد النسخ راجع: "المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ" ص 59، وله أيضًا: "نواسخ القرآن" ص 253. كما رده أيضًا د. حلمي كامل؛ محقق كتاب البغدادي "ناسخ القرآن العزيز" ص 161 - 165 فقد بين أنه لا تعارض بين الآية وبين آية السيف، الأمر الذي لا يدعو إلى القول بالنسخ، ثم قال: والقول بالنسخ متعارض من كل وجه لا يمكن معه الجمع بين الآيتين، لا مسوغ له، ولا يصار إليه. (¬5) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد ورد بمعناه من غير عزو في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 229.

وحسبك بجزاء دينهم وبالًا وعقابًا، كما حسبك بجزاء دينه إمتاعًا وثوابًا.

سورة النصر

سورة النصر

1

تفسير سورة النصر (¬1) (¬2) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} هو قال المفسرون: إذا جاءك يا محمد نصر الله على من عاداك، وهم قريش، وغيرهم (¬3). {وَالْفَتْحُ} فتح مكة (¬4). {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} قال ابن عباس: يريد أهل مكة، و (أهل) (¬5) اليمن (¬6)، وهو قول عكرمة (¬7)، ¬

_ (¬1) تسمى بسورة التوديع لما فيها من الإيماء إلى وفاته -صلى الله عليه وسلم-. "الإتقان" / 159، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 229. (¬2) أكثر كتب التفسير تذكر أنها مدنية، ولم يخالفهم إلا السمرقندي قال: إنها مكية: "بحر العلوم" 3/ 522. (¬3) قال بذلك ابن عباس. انظر: "جامع البيان" 30/ 332، و"بحر العلوم" 3/ 522 وعزاه الثعلبي إلى عامة أهل التفسير. "الكشف والبيان" 13/ 171 أ، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 536، و"زاد المسير" 8/ 324 (¬4) قال بذلك مجاهد، والحسن، وابن عباس انظر: "جامع البيان" 30/ 332، و"النكت والعيون" 6/ 360، و"التفسير الكبير" 32/ 153. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) "جامع البيان" 30/ 333، و"الكشف والبيان" 13/ 179 أ، و"النكت والعيون" 6/ 360، و"التفسير الكبير" 32/ 153، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 230، و"الدر المنثور" 8/ 644 وعزاه إلى ابن عساكر. (¬7) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 404 - 405 و"جامع البيان" 30/ 333 و"الكشف =

ومقاتل (¬1) قالا: أراد بالناس: أهل اليمن. وقال الحسن: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان (¬2)، وكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا (¬3). قال أبو إسحاق: معنى (أفواجًا) أي جماعات كثيرة، أي بعد أن كانوا يدخلون واحداً واحداً، واثنين اثنين، صارت تدخل القبيلة بأسرها في الإسلام (¬4). وقوله (¬5): {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة على النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه) (¬6) نعيت ¬

_ =والبيان" 13/ 179 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 532، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 230، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 601. (¬1) "تفسير مقاتل" 255 أ، و"الكشف والبيان" 13/ 179 أ، و"المحرر الوجيز" 5/ 532، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 230، "ثلاث رسائل للحافظ ابن رجب"، تقديم ابن جبرين ص 39. (¬2) يدان: أي طاقة نقلًا عن "الوسيط" 34/ 566 والذي رجعت إليه من المصادر كالنهاية واللسان لم أجد ذكراً للطاقة. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 179 أ، و"النكت والعيون" 6/ 360، و"معالم التنزيل" 4/ 541، و"الكشاف" 4/ 239، و"زاد المسير" 8/ 324، و"لباب التأويل" 4/ 423، و"فتح القدير" 5/ 509. (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 373 بنصه. (¬5) في (أ): (قوله). (¬6) ساقط من (أ).

إليه نفسه فقيل له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (1) قال الحسن: اعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالاستغفار والتوبة (2). وقال قتادة (3)، (ومقاتل (4)) (5): عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نزول هذه السورة سنتين. وقال عبد الله: لما نزلت هذه السورة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "سبحانك اللهم بحمدك اغفر لي أنك أنت التواب" (6). (ونحو هذا روت

_ (1) ورد معنى قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 404، و"جامع البيان" 30/ 334، و"معالم التنزيل" 4/ 542، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 601، و"الدر المنثور" 8/ 660 وعزاه إلى ابن مردويه. وله أيضًا في ذلك حديثًا مرفوعًا، انظر "مجمع الزوائد" 7/ 144 كتاب التفسير: سورة إذا جاء نصر الله، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في حديث طويل، وفي إسناده هلال بن خباب، قال يحيى: ثقة مأمون لم يتغير، ووثقه ابن حبان، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفي إسناده أحمد عطاء بن السائب وقد اختلط. (2) ورد معنى قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 404، و"معالم التنزيل" 4/ 542، و"فتح القدير" 4/ 510، "تفسير الحسن البصري" 2/ 443. (3) "جامع البيان" 30/ 335، و"الكشف والبيان" 13/ 180 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 542، و"زاد المسير" 8/ 324، و"الدر المنثور" 8/ 660 وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (4) "تفسير مقاتل" 255 أ، إلا أنه قال عاش بعدها ثمانين يومًا، و"الكشف والبيان" 13/ 180 أ. (5) ساقط من (أ). (6) "الكشف والبيان" 13/ 180 أب، و"الدر المنثور" 8/ 663 وعزاه إلى عبد الرزاق، ومحمد بن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، و"المستدرك" 2/ 538 - 539: كتاب التفسير: سورة النصر: قال عنه صحيح، ووافقه الذهبي.

عائشة (¬1)، وأم سلمة (¬2)) (¬3). قال أبو إسحاق: أمره عليه السلام أن يكثر التسبيح والاستغفار ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح (¬4). وقال (عطاء عن) (¬5) ابن عباس: (فسبح بحمد ربك) صل لربك وأحمده (¬6). وقال آخرون: نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك إياه (¬7). ¬

_ (¬1) ورد قولها في: "جامع البيان" 30/ 332 - 333 - 334، و"النكت والعيون" 6/ 361، و"الكشف والبيان" 13/ 180 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 542، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 231، و"الدر المنثور" 8/ 663، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، ومسلم، وابن المنذر، وابن مردويه، وله ألفاظ كثيرة متقاربة، فراجعها في الدر، وانظر: "الجامع الصحيح" للبخاري 3/ 333: ح 4968: كتاب التفسير: باب 2 والحديث عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، كما أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/ 350: ح: 217: كتاب الصلاة: باب 42. والإمام أحمد في: "المسند" 6/ 43، 49، 190، وابن ماجة في: "السنن" 1/ 160: ح 874: أبواب إقامة الصلاة: باب 20. (¬2) "جامع البيان" 30/ 335، و"الكشف والبيان" 13/ 180 ب "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 231، و"الدر المنثور" 8/ 663 وعزاه إلى ابن مردويه. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "معاني القرآن وإعرابه" 50/ 373. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "النكت والعيون" 6/ 361، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 231، و"زاد المسير" 8/ 324. (¬7) لم أعثر على من قال ذلك، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 231.

وهذا هو الأولى لما روى عبد الله، وعائشة، وأم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر أن يقول: "سبحان الله وأستغفره، وأتوب إليه بعد نزول هذه السورة". وقوله (¬1): {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أي على المسبحين المستغفرين؛ يتوب عليهم، فيرحمهم، ويغفر لهم، ويقبل توبتهم (بمنه وفضله) (¬2). ¬

_ (¬1) في (أ): (قوله). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ).

سورة المسد

سورة المسد

1

(تفسير) (¬1) سورة تبت (¬2) (¬3) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قال ابن عباس: (في رواية سعيد بن جبير) (¬4) (¬5) وجماعة ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ع). (¬2) تسمى أيضًا بسورة المسد. "الإتقان" 1/ 159. (¬3) مكية بالإجماع، حكاه صاحب: "المحرر الوجيز" 5/ 534، و"زاد المسير" 8/ 324، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 224. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 3/ 333 ح 4972، 4971: كتاب التفسير: باب 11 ولفظه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبِّحُكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونني؟ قالوا: نعم، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا! تبًا لك، فأنزل الله عز وجل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلي آخرها. كما ورد قوله في: "جامع البيان" 30/ 336، و"بحر العلوم" 3/ 523، و"الكشف والبيان" 13/ 181 ب، و"أسباب النزول" تح: أيمن ص 407، و"لباب النقول" 237، و"الصحيح المسند" ص 238 قال الوادعي: وهذا الحديث مرسل، لأن ابن عباس كان حينئذٍ إما لم يولد، أو كان طفلاً، وبه جزم الإسماعيلي في: "عمدة القاري" 19/ 102 قال: أقول هو مرسل صحابي، ومرسل الصحابي لا ضير عليه ولا مطعن فيه. الصحيح المسند. وللحديث طرق مختلفة، وبألفاظ مختلفة، ومعان متقاربة. راجع ذلك في: "الجامع الصحيح" 3/ 273 ح 4770، 4771 كتاب التفسير، سورة الشعراء، وكتب الجنائز: باب 98 ح 1394، كتاب المناقب، باب 13: ح 3525، 3526، 3527، و"صحيح مسلم" 1/ 193 - 194: ح 355 - 356 كتاب الإيمان: باب "وأنذر عشيرتك الأقربين"، والإمام أحمد في "المسند" 1/ 281، و"سنن الترمذي" 5/ 451: ح 3364: كتاب التفسير، باب 92، والنسائي في "عمل واليوم والليلة" 983، والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 181، والنسائي في "التفسير" 2/ 569: ح 73 "المسد".

المفسرين (¬1): صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم: الصفا، قال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا مالك؟ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو ممسيكم ما كنتم تصدقونني، قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًا لك ألهذا جمعتنا!! فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها. أي خسرت يدا أبي لهب، وخسر هو، (وهذا قول عامتهم) (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) قال بذلك ابن زيد، وابن عباس، راجع: "جامع البيان" 30/ 337، و"النكت والعيون" 6/ 363، كما وردت أيضًا في: "بحر العلوم" 3/ 523، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 543، و"المحرر الوجيز" 5/ 534، و"زاد المسير" 8/ 325، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 224 "لباب التأويل" 4/ 424، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، و"الدر المنثور" 8/ 666 وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) قال بذلك قتادة، ومقاتل، وابن عباس. انظر "جامع البيان" 30/ 337، و"بحر العلوم" 3/ 523، و"الدر المنثور" 8/ 666 وبه قال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن " ص 541، والسمرقندي في: "بحر العلوم " 3/ 523، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 375، وانظر: "معالم التنزيل" 4/ 543، و"المحرر الوجيز" 5/ 534، و"زاد المسير" 8/ 325، و"ابن كثير" 4/ 603.

وتفسير التباب قد تقدم عند قوله: (غير تتبيب) (¬1)، و (إلا في تباب) [غافر: 37]. قال مقاتل: خسرت يداه (¬2) بترك الإيمان، وخسر هو (¬3). وقال الفراء: الأول: دعاء (¬4)، والثاني: خبر، كما تقول: أهلكه الله وقد هلك (¬5). وجعلك الله صالحًا وقد جعل (¬6). (وأضاف التباب إلى اليد كقول العرب: خسرت يده وضاقت يده، وكسبت يده، والمراد به صاحب اليد، ولكن جرت العادة بإضافة هذه الأفعال إلى اليد) (¬7). وأبو لهب هو ابن عبد المطلب -عم النبي -صلى الله عليه وسلم- واسمه عبد العزى، ولهذا ذكرت كنيته دون اسمه، لأن تسميته عبد العزى خطأ (¬8)، وهو عبد الله لا عبد العزى، وكان يعادي النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد المعاداة. قال طاوس بن عبد الله (المحاربي) (¬9): أتى بسوق ذي ¬

_ (¬1) سورة هود: 101، ومما جاء في تفسير "غير تتبيب" أي غير تخسير، والتباب: الهلاك، وفي اللغة الإهلاك، وواحدها قريب من الآخر. (¬2) في (أ): (يده). (¬3) كما ورد معنى قوله في: "تفسير مقاتل" 255 ب، و"بحر العلوم" 3/ 523 ولفظه: خسر نفسه. (¬4) بياض في (ع). (¬5) في (أ): اهلك. (¬6) "معاني القرآن" 3/ 298. (¬7) ما بين القوسين لعله نقله عن "الكشف والبيان" 13/ 182 أ. (¬8) انظر: "بحر العلوم" 3/ 523، و"الكشف والبيان" 13/ 182 أ. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ).

المجاز (¬1) (¬2)؛ إذا أنا بشاب يقول: يا أيها (¬3) الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه، وعرقوبية (¬4)، ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت من هذا؟! فقالوا هذا محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب (¬5). قال أبو الضحى: إنما كني باللهب لحسنه، وكان يتلهب من حسنه (¬6) وهو قول عبد الله ابن كثير المكي القاري، وكان يقرأ (أبي لَهْب) ساكنة الهاء (¬7). ¬

_ (¬1) في (أ): (المجازا). (¬2) ذي المجاز موضع سوق بعرفة، كانت تقوم في الجاهلية ثمانية أيام. "معجم البلدان" 5/ 55، وانظر: "معجم ما استعجم" 4/ 1185. (¬3) في (أ)، و (ع): (يايها). (¬4) عرقوبية: العرقوب هو الوتر الذي خلف الكعبين فوق العقب. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 221 (عرقب). (¬5) ووردت بنحو هذه الرواية في "مسند الإمام أحمد" 3/ 492، 4/ 341 من طريق محمد بن عمرو عن ربيعة ابن عباد قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو الناس إلى الإسلام بذي المجاز، وخلفه رجل أحول يقول: لا يغلبنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. قلت لأبي وأنا غلام: من هذا الأحول الذي يمشي خلفه؟ قال: عمه أبو لهب. قال عباد: أظن بين محمد بن عمرو وبين ربيعة محمد بن المنكدر. وانظر: "تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، وعزاه إلى أحمد والطبراني 5/ 61ح 4582 - 4590 عن ربيعة بن عباد. كما وردت هذه الرواية معزوة إلى (طارق) بدلاً من (طاووس) في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 236. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه من غير عزو في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 236. (¬7) وقرأ الباقون: "أبي لهَب" "بفتح الهاء". "كتاب السبعة في القراءات" 700، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 805، و"الحجة" 6/ 451، "المبسوط" ص 420.

2

قال أبو علي: يشبه (¬1) أن يكون لهْب ولَهَب لغتين (¬2)، كالشمْع والشمَع (¬3) والنهْر والنهَر، واتفاقهم في الثانية (¬4) على الفتح يدل على أنه أوجه [من] (¬5) الإسكان، وكذلك قوله: (ولا يغني من اللهب) (¬6) " (¬7). وقال غيره: اتفقوا على الفتح في الثانية، مراعاة لوفاق الفواصل (¬8). قال ابن مسعود: لما أنذر النبي -صلى الله عليه وسلم- عشيرته (وأقربته) (¬9) النار، قال: أبو لهب: إن كان ما يقوله حقًا، فإني أفتدي نفسي بمالي، وولدي، فأنزل الله: 2 - {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (¬10) أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من ماله، وما ولد. (وهو قول كافة أهل التفسير) (¬11). قالوا: وما كسب يعني: ولده؛ لأن ولده من كسبه. قاله ابن ¬

_ (¬1) غير واضحة في (ع). (¬2) في (ع): (كما)، وهي زيادة. (¬3) كالسمْع والسمَع في مصدر القول. (¬4) أي في قوله "نارًا ذات لهب". (¬5) ساقطة من النسختين، وأثبتت ما جاء في مصدر القول لسلامته وانتظام الكلام به. (¬6) سورة المرسلات: 31. (¬7) "الحجة" 6/ 451 بنصه. (¬8) انظر: "منار الهدى" ص 436 - 437، و"البحر المحيط" 8/ 525. (¬9) ساقط من (أ). (¬10) "الكشف والبيان" 13/ 183 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 543، و"زاد المسير" 8/ 326، "لباب التأويل" 4/ 424، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، وبمثلها عن ابن عباس في "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 238. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (أ).

عباس (¬1)، وعائشة (¬2) وابن سيرين (¬3)، (ومجاهد (¬4)، ومقاتل (¬5)، وقتادة (¬6)) (¬7): ويدل على صحة هذا ما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أطيب ما أكل أحدكم من كسبه، وإن ولده من كسبه" (¬8). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 406، كما ورد معنى قوله في: "جامع البيان" 30/ 388، و"النكت والعيون" 6/ 366، و"الكشف والبيان" 13/ 183 ب، و"المحرر الوجيز" 5/ 534، و"الكشاف" 4/ 241، و"التفسير الكبير" 32/ 69، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 238، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 603. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 183 ب، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، و"الدر المنثور" 8/ 666 وعزاه إلى عبد الرزاق: وابن أبي حاتم. (¬3) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 603. (¬4) "تفسير الإمام مجاهد" 759، و"جامع البيان" 30/ 338، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 238، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، و"فتح القدير" 4/ 512، و"الدر المنثور" 8/ 666. (¬5) "تفسير مقاتل" 255 ب. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد قال بمثل قولهم أيضًا: عطاء، والحسن. انظر "تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، و"الدر المنثور" 8/ 666. وحكاه عن المفسرين: الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 375، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 5/ 534، وابن الجوزي في: "زاد المسير" 8/ 326. وقال به أيضًا الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 183 أ. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 6/ 30، 42، 127، 193، 220، والدارمي في "سننه" 2/ 697 ح 2442: كتاب البيوع، باب 6، وابن ماجه في "سننه" 2/ 5 ح 2153، كتاب التجارات، باب 1، والنسائي في "سننه" 7/ 276 ح 4461، 4462، 4463، 4464: كتاب البيوع: باب الحث على الكسب. والحديث صححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" 2/ 5 ح 1738. "إرواء الغليل" 6/ 65 ح 1626 "مشكاة المصابيح" للتبريزي 2/ 844 ح 2770 كتاب البيوع: باب الكسب وطلب الحلال.

3

ثم أوعده بالنار فقال: 3 - (قوله) (¬1): {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} قال مقاتل: يعني نارًا تلتهب (¬2) عليهم (¬3). {وَامْرَأَتُهُ} وهي أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان (¬4). {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} كانت تحمل العصاة، والشوك فتطرحه على طريق النبي (¬5) -صلى الله عليه وسلم- ليعقره (¬6)، وهو قول مقاتل (¬7)، (والضحاك (¬8)، وابن زيد (¬9)، ورواية عطية (¬10)، ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (لهب). (¬3) بمعناه في تفسيره: 255 ب. (¬4) قال به الزجاج "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 376، وانظر: "الكشف والبيان" 13/ 183 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 543. (¬5) في (أ): (رسول الله). (¬6) العقر: الجرح، أو ما يشبه الجرح من الهزم في الشيء. "مقاييس اللغة" 4/ 90 (عقر). وقال الفيروزبادي: العقر: الجرح وأثر كالحز في قوائم الفرس والإبل، عقره يعقره وعقره والعقير المعقور. "القاموس المحيط" 2/ 93 (عقر). (¬7) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬8) "جامع البيان" 30/ 339، و"الكشف والبيان" 13/ 184 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 543، و"زاد المسير" 8/ 327، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 240، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬9) "جامع البيان" 30/ 339، و"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 240، و"الدر المنثور" 8/ 667 وعزاه إلى ابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬10) "جامع البيان" 30/ 338، و"الكشف والبيان" 13/ 184 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 543، و"المحرر الوجيز" 5/ 535 من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس، و"زاد المسير" 8/ 327، و"البحر المحيط" 8/ 526 من غير ذكر الطريق إلى ابن عباس، و"الدر المنثور" 8/ 667 وعزاه إلى البيهقي في الدلائل، وابن عساكر.

وعطاء (¬1) عن ابن عباس ((¬2). وقال الكلبي (¬3)، ومجاهد (¬4)، (وقتادة (¬5)، والسدي (¬6)) (¬7): كانت تمشي بالنميمة بين الناس وهو قول ابن عباس (في رواية أبي صالح) (¬8) (¬9). والمعنى على هذا أنها: كانت تحرش (¬10) بين الناس، فتلقى بينهم العداوة، وتهيج نارها، كما توقد النار بالحطب. هذا هو الأصل، ثم صار الحطب اسمًا للنميمة يقال: حطب فلان بفلان، إذا سعى به، قاله ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر ذكر طريقه إلى ابن عباس عدا "المحرر الوجيز"، و"البحر المحيط" فقد ذكرت الرواية من غير بيان الطريق إلى ابن عباس راجع الهامش السابق. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) "تفسير الإمام مجاهد" ص 759، و"جامع البيان" 30/ 339، و"الكشف والبيان" 13/ 183 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 543، و"زاد المسير" 8/ 327، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 239، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"الدر المنثور" 8/ 667 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬5) المراجع السابقة عدا "تفسير مجاهد"، و"زاد المسير"، وانظر أيضًا: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 406. (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 183 ب، و"النكت والعيون" 6/ 367، و"معالم التنزيل" 4/ 543، و"زاد المسير" 8/ 327 "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 239، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 183 ب من غير ذكر طريق أبي صالح، وكذلك "زاد المسير" 8/ 327، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 239، و"البحر المحيط" 8/ 526. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) تحرش: التحريش: الإغراء بين القوم وكذلك بين الكلام. "الصحاح" 3/ 1001 (حرش)، وانظر: "لسان العرب" 6/ 279 (حرش).

الليث (¬1) وأنشد: من البِيضِ لمْ تُصْطَدْ على ظَهْرِ سوةٍ ... ولمْ تمشِ بين الحيِّ بالحطبِ الرَّطبِ (¬2) قال ابن قتيبة: الحطب: النميمة، ويقال: فلان يحطب على فلان إذا كان يغرى (¬3) به، شبهوا النميمة بالحطب، والعداوة، والشحناء بالنار، لأنهما يقعان بالنميمة كما تلتهب النار بالحطب، وأنشد البيت (¬4). قوله (¬5): {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قراءة العامة: بالرفع (¬6) على النعت للمرأة، وهو عطف على الضمير في "سيصلى" التقدير: سيصلى هو وامرأته، إلا أنه حسن أن لا يؤكد ¬

_ (¬1) "تهذيب اللغة" 4/ 394 (حطب). (¬2) ورد البيت أيضًا غير منسوب في: "لسان العرب" 1/ 322 (حطب)، و"تاج العروس" 1/ 217، و"الكشف والبيان" 13/ 183 ب، و"الكشاف" 4/ 241، و"النكت والعيون" 6/ 367 "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 239، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"فتح القدير" 5/ 512 "روح المعاني" 30/ 263 وجميعها برواية على (ظهر لأمة) بدلاً (على ظهر سوة) و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 376 برواية (لأمة)، و (لم تمس بين الحي بالحطب الجزل) "معجم مقاييس اللغة" 2/ 79: حطب، برواية: (حبل لأمة)، و"تأويل مشكل القرآن" ابن قتيبة: 160 برواية (على حبل سوأة) و (بالحظر الرطب)، و"الحجة" 6/ 452 برواية (لم تسع) بدلًا (لم تمش). (¬3) أغرى به: هكذا وردت في "تأويل مشكل القرآن". (¬4) "تأويل مشكل القرآن" 160 بيسير من التصرف، وانظر "تفسير غريب القرآن" 542. (¬5) في (أ): وقوله. (¬6) وقرأ عاصم وحده: (وامرأته حمالةَ الحطب) بالنصب. انظر: "كتاب السبعة في القراءات" 700، و"المبسوط" ص240، و"حجة القراءات" ص 776، و"تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة" ص 202.

5

لما (¬1) جرى من الفصل بينهما، ويجوز أن ترفع "امرأته" بالابتداء، و"حمالة الحطب" وصف لها و"في جيدها" خبر المبتدأ. وعلى القول الأول (في جيدها) "في "موضع الحال على تقدير: تصلى هي النار مسلسلًا. وهذا قول أبي علي (¬2)، والزجاج (¬3) (¬4)، (ومعنى كلام الفراء (¬5)) (¬6). ومن نصب: (حمالةَ الحطب) فعلى معنى: أعني حمالة الحطب. قاله الفراء (¬7)، والزجاج (¬8)، (وأبو علي (¬9)) (¬10). وقال أبو علي: النصب في (حمالة الحطب) على الذم، وكأنها كانت اشتهرت بذلك، فجرت الصفة عليها [للذم؛ لا] (¬11) للتخليص والتخصيص من موصوف غيرها (¬12). 5 - وقوله تعالى: {فِي جِيدِهَا} أي في عنقها. ¬

_ (¬1) في (أ): (ما). (¬2) "الحجة" 6/ 451 - 452. (¬3) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 375. (¬4) في (ع): (الزجاج وأبي علي). (¬5) "معاني القرآن" 3/ 218. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "معاني القرآن" 3/ 218. (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 375. (¬9) "الحجة" 6/ 451 - 452. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬11) ساقطة من النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر القول لسلامته وانتظام الكلام به. (¬12) "الحجة" 6/ 452 بيسير من التصرف.

{حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال ابن عباس (¬1)، والمفسرون: يعني سلسلة من حديد في النار، طولها سبعون ذراعًا. وهو قول السدي (¬2)، ومقاتل (¬3)، (وعروة بن الزبير (¬4)) (¬5). (والمسد في كلام العرب الفتل، يقال مسد الحبل يَمْسُده، إذا أجاد فتله. ورجل ممسود، إذا كان مجدول الخَلْق، وجارية ممسودة إذا كانت حسنة طي الخَلْق، والمسد: ما مسد، أي: فتل من أي شيء كان، فيقال لما فتل من جلود الإبل، ومن الليف، والخوص: مسد. ولما فتل من حديد أيضًا: مسد. والمعنى أن السلسلة التي في عنقها فُتلَتْ من الحديد فَتْلًا محكمًا، ولوي ليًا شديدًا) (¬6)، وهي السلسلة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} (¬7). ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، معالم التنزيل: 4/ 543، كما ورد في حاشية كتاب "زاد المسير" 8/ 328 عن النسخة الأزهرية. "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242 من رواية أبي صالح عن ابن عباس، و"لباب التأويل" 4/ 425. (¬2) ورد معنى قوله في: "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"زاد المسير" 8/ 328 حاشية. (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 340، و"بحر العلوم" 3/ 524، و"الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 543، و"المحرر الوجيز" 5/ 535، و"زاد المسير" 8/ 823، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 603، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" 12/ 380، وعزا الأزهري القول من: (والمسد في كلام العرب ..) إلى (والخوص المسد) إلى ابن السكيت، ولم أجده في إصلاح المنطق. (¬7) سورة الحاقة: 32.

قالوا (¬1): تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، ويلوى سائرها على عنقها. ومن هذا يقال للحديدة التي تكون في البكرة: المسد، لشدة فتله، ومنه قول النابغة: له صِريفٌ صَرِيف القَعْوِ بالمسَدِ (¬2) وإلى هذا ذهب مجاهد (¬3)، وعكرمة (¬4)، قالا: المسد الحديدة التي تكون في البكرة. وهذا كالقول الأول، لأن المعنى: حبل من حديد، ووهم (¬5) قوم لم يعلموا أن المفتول من الحديد مسد، وظنوا أن المسد لا يكون من الحديد، فقال الشعبي: حبل من ليف (¬6). ¬

_ (¬1) وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعروة. انظر: "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242. (¬2) شطر الأول منه: مَقْذُوفَةٍ بِدخِيسِ النَّحْضِ بازِلُها وقد ورد البيت في: ديوانه: 31: ط الموسوعة العربية للطباعة والنشر، و"المحرر الوجيز" 5/ 535، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 241 "فتح القدير" 5/ 512، و"الكامل" 2/ 846. ومعنى: "القعو" ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف، وقوله: "مقذوفة" يقول مرمية باللحم. "الدخيس" الذي قد ركب بعضه بعضًا، و"والنحْص" للحم، و"بازلها" نابها. "الكامل" 2/ 1023، وانظر: "ديوانه" -الحاشية-. (¬3) "جامع البيان" 30/ 341، و"بحرالعلوم" 3/ 524، و"الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544. (¬4) "جامع البيان" 30/ 341. (¬5) في (أ): وهم. (¬6) "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"النكت والعيون" 6/ 368، و"معالم التنزيل" 4/ 544.

(وقال قتادة يعني: قلادة من ودع (¬1) (¬2)) (¬3). وقال الحسن: كانت خرزات في عنقها (¬4). (وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة في عنقها فاخرة (¬5)) (¬6) وقال ابن زيد: حبل من شجر تنبت باليمن يقال لها مسد (¬7). (وقال مؤرج: تفتل من لحاء شجر الحرم (¬8).) (¬9) وكل هذا وهم، لا ذم لها في كون القلادة في عنقها. ¬

_ (¬1) الودع: خرز بيض تخرج من البحر تتفاوت في الصغر والكبر. قاله القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242. (¬2) ورد قوله في: "تفسير عبد الرزاق" 2/ 406، و"جامع البيان" 30/ 341، و"الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"النكت والعيون" 6/ 368، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"المحرر الوجيز" 5/ 535، و"زاد المسير" 8/ 268، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"الدر المنثور" 8/ 667 وعزاه إلى ابن الأنباري، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"النكت والعيون" 6/ 368 بمعناه، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"زاد المسير" 8/ 368 الهامش من النسخة الأزهرية، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 444. (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"المحرر الوجيز" 5/ 535، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 242، و"البحر المحيط" 8/ 526، و"فتح القدير" 5/ 512. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) "جامع البيان" 30/ 340، و"الكشف والبيان" 13/ 185 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544، بمعناه في: "المحرر الوجيز" 5/ 535. (¬8) "الكشف والبيان" 13/ 185 أ. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ).

والمراد بقوله: (في جيدها) يعني في النار، ولا يكون في جيدها في النار حبل من ليف، ولا من لحاء شجر. (وذهب قوم إلى أنها كانت تحتطب على ظهرها بحبل من ليف في عنقها (¬1)) (¬2). (قال ابن قتيبة: ولست أدري كيف هذا، لأن الله وصف زوجها بالمال والولد، ثم ذكر في المسد مثل ما ذكرنا، وهو أنه كل ما ضفر وقتل وإن كان حديدًا أو نارًا، وما شاء الله أن يكون (¬3)) (¬4) وذكر أهل العلم (من المفسرين) (¬5) معجزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه السورة وهو أنه أخبر أن أبا لهب وزوجه يدخلان النار، وذلك (¬6) إنما يكون بموتهما على الكفر، فكان الأمر كذلك، وكانا على الكفر (¬7). وسئل الحسن فقيل: هل كان يستطيع أبو لهب أن لا يصلى النار؟ فقال والله ما كان يستطيع لا يصلاها (¬8) وإنها لفي (¬9) كتاب الله قبل أن يخلق ¬

_ (¬1) عزاه ابن قتيبة إلى بعض المتقدمين: "تأويل مشكل القرآن" ص 161 - 162، وقد قال به: قتادة كما في: "الكشف والبيان" 13/ 184 أ، و"النكت والعيون" 6/ 367. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ) (¬3) "تأويل مشكل القرآن" ص 161 - 162 باختصار. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) في (ع): (كذلك). (¬7) قال بذلك الثعلبي في: "الكشف والبيان" 13/ 185 أ، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 243 و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 604 وعزاه إلى العلماء. (¬8) في (أ): (يصليها). (¬9) في (أ): (في).

أبو لهب وأبواه (¬1). (تمت) (¬2). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ).

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص

1

تفسير سورة الإخلاص (¬1) (¬2) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال أبي بن كعب: إن المشركين قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: انسب لنا ربك، فأنزل الله هذه السورة (¬3). ¬

_ (¬1) تسمى بسورة الأساس؛ لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الدين. "الإتقان" 1/ 159 (¬2) فيها قولان: أحدهما: أنها مكية، وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر. والآخر: أنها مدنية وهو قول قتادة واحد قولي ابن عباس، والضحاك والسدي، و"النكت والعيون" 6/ 369، و"زاد المسير" 8/ 329، و"البحر المحيط" 8/ 527. (¬3) وردت هذه الرواية من طريق أبي سعد الصاغاني -وهو محمد بن مُيَسَّر- وهو طريق ضعيف لضعف أبو سعد ذكر ذلك: أيمن صالح محقق: "أسباب النزول" ص 409 وكذلك ضعفه الألباني في تحقيقه لكتاب "السنة" 1/ 297 ح 663 باب نسب الرب تبارك وتعالى. قال ابن حجر: محمد بن مُيَسّر هو: الجعفي أبو الصاغاني البلخي، ضعيف، ورمي بالإرجاء "تقريب التهذيب" 2/ 212 ت 756، كما وصفه البخاري بالاضطراب؛ قال: وفيه اضطراب. "التاريخ الكبير" 1/ 45 ت 778. كما وردت هذه الرواية من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب في "المسند" 5/ 134، و"سنن الترمذي" 5/ 451 =

وقال ابن عباس (في رواية عطاء (¬1)، والضحاك (¬2)) (¬3): "إن (¬4) وفد ¬

_ = ح 3364 كتاب تفسير القرآن، باب 93، وفي "المستدرك" 2/ 54: كتاب التفسير: باب تفسير سورة الإخلاص وصححه، ووافقه الذهبي، و"الأسماء والصفات" 1/ 69: جماع أبواب ذكر الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله. قال الترمذي: وقد روي بنحو هذه الرواية عن أبي العالية، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصح من حديث أبي سعد. "سنن الترمذي" المرجع السابق. وقال ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 739: بعد أن ذكر رواية أبي العالية عن أبي بن كعب: وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن أبي العالية مرسلاً، وقال: هذا أصح، وصحح الموصول ابن خزيمة، والحاكم، وله شاهد من حديث جابر عند أبي يعلى، والطبري، والطبراني في الأوسط، وأخرجه أيضًا ابن الجوزي كما في "جامع الأصول" 2/ 441 ح 893. وسند رواية أبي بن كعب إن كانت من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية عنه، فهو إسناد جيد. انظر الحكم على سند الرواية: مقالة د. حكمت بشير، منشورة في "مجلة الجامعة الإسلامية ص: 40 للسنة 26 العددان: 101، 102 عام 1414 - 1415، وقد وردت رواية أبي العالية عن أبي بن كعب في: "جامع البيان" 30/ 342، و"الكشف والبيان" ج 13/ 188 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"ابن كثير" 4/ 604، و"الدر المنثور" 8/ 669، وعزاه إلى أحمد، والبخاري في تاريخه، والترمذي، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم، والبغوي في معجمه، وابن المنذر، والحاكم وصححه، و"فتح القدير" 5/ 513، و"مجموع الفتاوى" 17/ 221. كما وردت الرواية من غير ذكر الطريق في: "بحر العلوم" 3/ 525، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 377 و"النكت والعيون" 6/ 369، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 246، و"لباب التأويل" 4/ 426. (¬1) "التفسير الكبير" 32/ 175. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 188 ب. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) في (أ): (أنى).

نجران (¬1) قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: صف لنا ربك؛ أمن زبرجد، أم من ياقوت، أم من ذهب، أم من فضة؟! فأنزل الله هذه السورة". وقال في رواية أبي (ظبيان (¬2)، وأبي) (¬3) صالح (¬4): أن عامر بن الطفيل (¬5)، وزيد بن ربيعة (¬6) أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم-فقال عامر: إلى من تدعونا يا محمد؟ قال: إلى الله. فقال: صفه لنا، أم من ذهب هو، أم من فضة، أم من زبرجد، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة. وقال قتادة (¬7)، (ومقاتل (¬8)) (¬9): إن اليهود قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: انسب لنا ربك، فقد أنزل الله نعته في التوراة، فأخبرنا عنه يا محمد وصفه لنا؟ فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخر السورة. فقال أبو إسحاق: "هو" كناية عن ذكر الله. المعنى: الذي سألتم تبيين نسبته (¬10) {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال: ويجوز أن يكون "هو" للأمر، كما تقول: ¬

_ (¬1) في (أ): (بحوران). (¬2) "الكشف والبيان" ج 13/ 188 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "الكشف والبيان" ج 13/ 188 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"زاد المسير" 8/ 329 من غير ذكر طريق أبي صالح، وكذا في: "لباب التأويل" 4/ 426. (¬5) عامر بن الطفيل: قال ابن الأثير لم يختلف أهل النقل من المتقدمين أن عامر بن الطفيل مات كافرًا. انظر: "أسد الغابة" 3/ 127. (¬6) في (أ): (أربد). (¬7) "تفسير مقاتل" 257 أ. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) "جامع البيان" 30/ 343، و"النكت والعيون" 6/ 369، و"الكشف والبيان" ج 13/ 188 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"الدر المنثور" 8/ 671 وعزاه إلى ابن المنذر. (¬10) في (أ): (تشبيه).

هو زيد قائم، أي الأمر زيد قائم (¬1). والمعنى: لأمر الله أحد (¬2). قال أبو علي الفارسي: من ذهب إلى أن "هو" كناية عن اسم "الله"، كان قوله "الله" مرتفعًا بأنه خبر مبتدأ، ويجوز في قولك: "أحدُ" ما يجوز في قولك زيدٌ أخوك قائم. ومن ذهب إلى أنه كناية عن القصة، والحديث؛ كان اسم الله عنده مرفوعًا بالابتداء "واحد" خبره، ومثل هذا قوله: {فَإِذَا هِيَ (¬3) شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97]؛ إلا أن "هي" جاءت على التأنيث؛ لأن في التفسير اسمًا مؤنثًا، وعلى هذا جاء: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]، فإذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة لقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] (¬4). وقال أبو إسحاق: "أحد" مرفوع على معنى هو أحد، المعنى هو الله، وهو أحد (¬5). وقال الكسائي: "هو" في قوله "هو الله" عماد (¬6) مثل قوله: {[إِنَّهُ] (¬7) أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (¬8)} (¬9). ¬

_ (¬1) (زبد قائم) بياض في (ع). (¬2) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 377 بنصه. (¬3) ما بين القوسين ساقط من النسختين، وأثبته لأنه موطن الشاهد في الآية، وهو مذكور أيضًا في "الحجة"، وهو مصدر القول. (¬4) "الحجة" 6/ 458 بيسير من التصرف. (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 377. (¬6) يعني به: ضمير فصل. سبق بيانه. (¬7) ساقط من النسختين وهو موضع الشاهد كما هو موضح في "معاني القرآن" 3/ 299. (¬8) سورة النحل: 9. (¬9) ورد قول الكسائي عند الفراء في "معاني القرآن" 3/ 299.

وأنكر الفراء ذلك، وقال العماد: لا يكون مستأنفًا به (¬1) (¬2). وأما "أحد"، فقد تقدم الكلام في أصله وبيانه في سورة البقرة (¬3). قال أبو علي الفارسي: وهو اسم على ضربين أحدهما: أن يكون اسمًا نحو: أحد وعشرون، يريد به الواحد. والآخر أن يكون صفة، كبطلٍ، وحسن، وذلك نحو قول النابغة: بذي الجليلِ على مُسْتَأنس وَحَدِ (¬4) ¬

_ (¬1) لا يكون مستانفًا به إلا إذا كان قبله إن أو بعض أخواتها أو كان أو الظن. "معاني القرآن" الفراء 3/ 299. (¬2) "معاني القرآن" المرجع السابق. (¬3) سورة البقرة: 163 قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، ومما جاء في بيان أصله: قال: معنى الوحدة في اللغة هي الانفراد، يقال: وحد الشيء، وهو يحد حده، فهو واحد، وجمعه وحدان بالضم، والوَحْدان بالفتح بمعنى الواحِد؛ مثل قولهم: فَرْدان بمعنى الفرد، وحقيقة الواحد شيء لا يتبعض. ويقال أيضًا: وَحَد يوحُد وَحَادةً ووحَدً فهو وحيد. ويستعمل الواحد على الوجهين: أحدهما: على جهة الحكم والحقيقة، والثاني: على الوصف والمجاز .. فاما الواحد في صفة الله تعالى، فقال الأزهري له معنيان: أحدهما أنه واحد لا نظير له وليس كمثله شيء، والمعنى الثاني أنه إله واحد، ورب واحد ليس له في إلهيته وربوبيته شريك، لأن المشركين أشركوا معه آلهة فكذبهم الله تعالي فقال: "وإلهكم إله واحد". (¬4) وصدره: كأن رحلي وقد زال النهار بنا وقد ورد في: "ديوانه" ص 31، ط. المؤسسة العربية برواية: (يوم) بدلاً من (بذي)، و"تهذيب اللغة" 5/ 19 (وحد)، و"لسان العرب" 3/ 450 (وحد)، و"الكشف والبيان" 13/ 189 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 44، و"الحجة" 6/ 458، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج: تح الدقاق ص 58، و"الأمالي" لابن الشجري 2/ 271، معناه: زال النهار: انتصف. الجليل: وادٍ قرب مكة، المستأنس: الذي ينظر بعينه؛ لأنه أحس إنسيًا. وحد: منفرد. "ديوانه" 31.

وقد جمعوا "أحدًا" الذي هو صفة على أحْدان، وهو جمع لـ: "أحد" الذي يراد به الرفع من الموصوف والتعظيم له، وأنه منفرد عن الشبه والمثل (¬1). هذا كلامه. ومعناه: أن "أحدًا" إن جعلته اسمًا لله تعالى فمعناه أنه شيء لا ينقسم في نفسه (¬2)، وفيه إبطال مذهب المجسمة (¬3)؛ لأن الجسم ليس بواحد إذ هو ¬

_ (¬1) "الحجة" 6/ 458 - 459 باختصار. (¬2) قوله: "إنه لا ينقسم في نفسه" هذا لفظ مجمل يحتمل حقًّا، وهو: نفي أنه تعالى يتفرق أو يتجزأ، أو أنه ركب من أجزاء، ويحتمل معنى باطلاً، وهو: نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه، أو نفي صفة الوجه واليدين ونحوها مما يليق بجلاله وعظمته. وقد اشتهر لدى المتكلمين، ومنهم الأشاعرة، ذكر هذا على المعنى الثاني، ولا شك أنه إطلاق باطل، لأن إثبات العلو والاستواء لا يستلزم الانقسام الذي نفاه هؤلاء، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ما في قول المتكلمين: "واحد لا قسيم له" من حق وباطل فقال: قولهم هو واحد لا قسيم له في ذاته، أو لا جزء له أو لا بعض له، لفظ مجمل، فإن الله سبحانه وتعالي أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فيمتنع أن يتفرف أو يتجزأ، أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتياز عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد. "التدمرية: لابن تيمية" تح: محمد السعوي ص 184 - 185. (¬3) لفظ المجسمة لفظ مجمل اختلف المتكلمون في تحديده وتحريفه، واضطربوا فمثلًا يرى من ينفي الأسماء والصفات كالجهمية: أن من يثبت الأسماء لله كالمعتزلة مجسمة، ويرى المعتزلة نفات الصفات - أن الأشاعرة الذين يثبتون لله سبع صفات مجسمة، ويرى الأشاعرة أن أهل السنة إذا اثبتوا لله الوجه، واليدين والنزول والاستواء ونحوها مجسمة. وهذا. وقد يطلق هذا على من يشبه لله بخلقه وبجسمه =

أجزاء كثيرة، وقد دل الله بهذا القول علي أنه واحد، فصح أنه ليس بجسم. وإن جعلته صفة فمعناه: الرفع من شأنه والتعظيم بأنه لا نظير له ولا شريك. فهو أحد في صفته؛ إذ لم يوصف غيره بما وصف به من الصفات العلية. وقال الأزهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله -تعالى- لا يقال: رجلٌ أحدٌ، و (لا) (¬1) درهم أحدٌ. كما يقال: رجل وَحَدٌ، أي فرد، لأن أحدًا: صفة من صفات الله -جل ثناؤه- التي استأثر بها فلا يشركه فيها شيء، وليس كقولك: الله واحد، وهذا شيء واحد. لأنه لا يقال: شيء أحد، فأحد لا يوصف به غير الله لخلوص هذا الاسم الشريف لله جل ثناؤه (¬2). وقول المفسرين في تفسير "أحد" يدل على أنه وصف لا اسم، فإن ابن عباس قال: يريد الواحد الذي ليس كمثله شيء (¬3). ¬

_ = ويصفه بصفات البشر -كما فعلت المشبهة ونحوهم-، وهو في هذه الحالة الأخيرة إطلاق صحيح. (انظر: "شرح القصيدة النونية" لابن القيم: شرح د. محمد الهراس 1/ 82، و"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" د. عبد الرحمن المحمود 3/ 1099، و"التدمرية" تح السعوي: 184 - 185)، والإمام الواحدي رحمه الله بما عرف من أشعريته قد يكون قصد بمذهب المجسمة. من يثبت لله الوجه واليدين والعلو والاستواء، ويقولون هذه خصائص الأجسام، وكثيرًا ما يذكرون هذا في تفسير الأول، والواحد. ولا شك أن هذا الإطلاق خطأ؛ بل إثبات هذه الصفات هو الحق الذي عليه الأئمة، وهو الصواب. والله أعلم. انظر: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" 3/ 948، و"شرح القصيدة النونية" 1/ 82. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "تهذيب اللغة" 5/ 97 - 198 بتصرف. (¬3) "الوسيط" 4/ 571، وبمعناه في "زاد المسير" 8/ 330 وعبارته: الأحد هو الواحد.

ومقاتل قال: "أحد" لا شريك له (¬1). واختلف القراء في قوله: "أحد الله الصمد"، فقراء العامة (¬2): التنوين. وتحريكه بالكسرة في نحو: "أحَدُنِ الله" وهو القياس الذي لا إشكال فيه، وذلك أن التنوين من أحد ساكن، ولام المعرفة من "الله" ساكن، فلما التقى ساكنان، حرِّك الأول منهما بالكسر كما تقول: اذهبِ اذهبْ. فتحرك الساكن الأول بالكسر. وروي عن أبي عمرو: "أحُد الله" بغير تنوين (¬3)، وذلك أن النون شابهت حروف اللين في أنها تزاد كما يزدن (¬4)، وفي أنها قد أبدلت منها "الألف" في الأسماء المنصوبة، وفي الخفيفة نحو: "والله فاعبدا"، فلما شابهتها أجريت مجراها في أنها: حذفت ساكنه للالتقاء الساكنين، كما حذفت "الألف" و"الواو" و"الياء" كذلك، نحو: رمى القوم، ويغزو (¬5) القوم، ويرمي القوم، ومن ثم حذفت ساكنة في الفعل نحو {لم يك} ¬

_ (¬1) "الوسيط" 4/ 571. (¬2) وهم: ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقرأ أبو عمر: "أحَدْ * الله" بغير تنوين ثم يقف. انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص 701، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 807، و"الحجة" 6/ 454. (¬3) القراءة عن هارون عن أبي عمرو بضم الدال في "أحد" بغير تنوين قراءة شاذة رويت أيضًا عن نصر بن عاصم، وعمر بن الخطاب انظر "مختصر الشواذ" ص 182وإن كان المقصود قراءته بالوقف من غير تنوين فهي قراءة صحيحة - كما مر بنا. (¬4) في (أ): (يزد). (¬5) في كلا النسختين: (بغزوا).

[الأنفال: 53]، {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} [السجدة: 23]، فحذف في "أحد الله" لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف. وقد جاء ذلك في الشعر كثيرًا، أنشد أبو زيد (فقال) (¬1): حَيْدَةُ خالي، ولَقيطٌ، وعَليْ ... وحَاتِمُ الطَّائيُّ وَهَّابُ المئيْ (¬2) (¬3) وأنشد أيضًا (¬4) (فقال) (¬5): لَتَجدَنِّي بِالأميرِ بَرَّا بالقَنَاةِ مِدْعَسُا ... مِكَرُّا إذا غُطَيْفُ السُّلَميُّ فَرَّا (¬6) وقد ذكرنا هذا مستقصى (¬7) عند قوله: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]. وروي عن أبي عمرو أيضًا: "أحد الله الصمد"، وقال: أدركت القراء كذلك يقرؤونها "أَحَدْ" وصلًا على السكون. ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) في (أ): (المأوى)، وفي (ع): (الماى). (¬3) البيت لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن، وقد ورد البيت في كتاب "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص 321: باب رجز. "لسان العرب" 15/ 27 (مأى)، ونسبه للعامرية، و"الأمالي الشجرية" 1/ 383، و"المنصف" 2/ 68. (¬4) الرجز لقائل مجهول - انظر حاشية "الحجة" 6/ 457. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) ورد البيت في: "النوادر" ص 321 باب رجز، و"الحجة" 4/ 185، و"لسان العرب" 7/ 36 (دعص)، أنشد الأول منه والثاني برواية: (بالقناة) مِدْعَصا - دعصه بالرمح طعنه به، ورجل مدعَصُ بالرمح طعان، و"لسان العرب" 6/ 84 (دعس)، و"الأمالي الشجرية" 1/ 382 - 383، و"الإنصاف" 2/ 665، و"معاني القرآن" 1/ 431، و"شرح أبيات معاني القرآن" ص 140: ش 302 - 303 - 304، و"جامع البيان" 30/ 344 - حاشية 1 - موضع الشاهد: غطيف أراد غطيف بالتنوين إلا أنه حذف لالتقاء الساكنين كما حذفت نون التوكيد لالتقاء الساكنين. (¬7) في (ع): (مستقصى).

قال أبو علي: قد تجرىِ الفواصل في الإدراج مجراها في الوقف، على هذا قال من قال: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا} [الأحزاب:67 - 68]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ} [القارعة: 10 - 11]. وأنشد (¬1): أصبَحْتُ لا أحمِل (¬2) السِّلاحَ ... ولا أملك (¬3) راسَ البعيرِ إن نَفَرا والذئب أخشاه إن مررتُ به (¬4) ... ............................ قال: وهذا مبني على وصل البيت الأول بالثاني، ألا ترى أنه نصب الذئب كما قال -سبحانه-: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ} [الإنسان: 31] بعد قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31]، وكذلك الفواصل إذا أدرجت ووصلت بما بعدها. ومما يؤكد ذلك قطعهم لهمزة الوصل في أنصاف البيوت كقوله (¬5): ولا يُبادِرُ في الشِّتاءِ وَليدُنا ... ألقِدْرُ يُنْزِلُهَا بغير جِعالِ (¬6) فهذا لأن النصف الثاني من الأول كالبيت الثاني من الأول، فكذلك ¬

_ (¬1) البيت للربيع بن ضب الفزاري. (¬2) في (ع): (ولا أملك)؛ بدلاً من (ولا أحمل). (¬3) في (ع): (ولا أحمل)؛ بدلاً من (ولا أملك). (¬4) وعجزه: وَجْدي وأخش الرياح والمطرا وقد ورد في: "كتاب سيبويه" 1/ 89 - 90، و"شرح أبيات سيبويه" 71: ش 163، و"المحتسب" 2/ 99، و"النوادر" 446. (¬5) البيت للبيد، وليس في ديوانه نقلاً عن - حاشية 1، و"الحجة" 6/ 461. (¬6) ورد البيت في: "كتاب سيبوية" 4/ 105، و"شرح أبيات سيبوية" 186 ش 709، و"لسان العرب" 11/ 112 (جعل) برواية: "ولا تبادر في الشتاء وليدتي"، ونسبه إلى ابن بري، ومعنى جعال. ما تنزل به القدر من خرقة وغيرها. اللسان.

2

"أحد الله" لما كان أكثر القراء فيما حكاه أبو عمرو على الوقف، أجراه في الوصل مجراه في الوقف لاستمرار الوقف عليه، وكثرته على ألسنتهم) (¬1). 2 - قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} اختلف قول المفسرين في معنى "الصمد"، وتفسيره، فقال ابن عباس (¬2) (في رواية عطاء) (¬3): لما نزل: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قالوا: وما الصمد؟! فقال رسول الله: "السيد الذي يصمد إليه (في) (¬4) الحوائج". وهو قول أبي عبد الرحمن السلمي (¬5)؛ قال: الصمد الذي يصمد إليه في الأمر (¬6). وقال السدي: هو المصمود إليه في الرغائب (¬7). (روى) (¬8) عمرو، عن أبيه (¬9): الصامد المقاصد لحاجته. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 454 - 462 بتصرف. (¬2) ورد معنى قوله في: "بحر العلوم" 3/ 525، و"الكشف والبيان" 13/ 189 ب، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245 من طريق الضحاك "تفسير القرآن العظيم" 4/ 609، وطريق نافع ابن الأزرق عن ابن عباس قال عنها الهيثمي: رواه الطبراني، وفي إسناده جويبر، وهو متروك: "مجمع الزوائد" 7/ 145 سورة قل هو الله أحد، كما ورد من غير ذكر طريق عطاء في: "زاد المسير" 8/ 330، و"التفسير الكبير" 31/ 181. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) في (أ): (اللمى). (¬6) ورد قوله في "تهذيب اللغة" 12/ 150 (صمد). (¬7) "الكشف والبيان" 13/ 190 أ، و"النكت والعيون" 6/ 372، و"معالم التنزيل" 4/ 545، و"التفسير الكبير" 32/ 181، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245، و"مجموع الفتاوى" 17/ 216، و"تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية" ص 40. (¬8) ساقط من (أ). (¬9) في (أ): (الله).

ويقال للمقصود: المرغوب إليه (المعروف بالإغاثة) (¬1) السيد الصمد (¬2). (وقال) (¬3) الليث: صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده، وقال صمدته (¬4). أيضًا. قال طرفة: إن يَلْتَقِ الحيُّ الجميعُ تُلاقِني ... إلى ذِروة البيتِ الرفيع المصمَّدِ (¬5) وروى الأعمش عن أبي وائل أنه قال: الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (1). (¬2) لم أعثر على مصدر هذا القول. (¬3) ساقط من (أ). (¬4) "تهذيب اللغة" 12/ 151، وانظر: "لسان العرب" 3/ 258 (صمد). (¬5) ورد البيت في: "ديوانه" 30، ط. المؤسسة العربية، و"معجم مقاييس اللغة" 3/ 310 (صمد)، و"الكشف والبيان" 13/ 189 ب برواية (وإن)، و"مجموع الفتاوى" 17/ 217، و"دقائق التفسير" 6/ 357، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 59، و"الأمالي" لأبي علي القالي: 2/ 288. معنى البيت: الصمد: القصد، يقول: وإن اجتمع الحي للافتخار. تلاقني أنتمي وأعتزي. إلى ذروة البيت الشريف: إلى أعلى الشرف. يريد أنه أوفاهم حظًا من الحب أعلاهم سهمًا من النسب. (¬6) ذكره البخاري في: "الجامع الصحيح" من قول أبي وائل تعليقًا 3/ 334: التفسير: باب 2 وقال الحافظ ابن حجر في الفتح وصله الفريابي من طريق الأعمش عنه وجاء أيضًا من طريق عاصم عن أبي وائل يذكر ابن مسعود فيه. "فتح الباري" 8/ 740. وقال د. عبد العلي: أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 299 ح 666، وقال الألباني: إسناده حسن وأخرجه أيضًا من قول أبي وائل من رواية ابن نمير عن وكيع، وابن إدريس عن الأعمش عنه ورجال إسناده في الصحيحين: 1/ 3 ح 627 =

قال الأزهري: أما الله فلا نهاية لسؤدده، لأنه سؤدد غير محدود (¬1). وهذا معنى قول ابن عباس (في رواية الوالبي) (¬2) قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع الشرف والسؤدد (¬3). واختاره أبو إسحاق، وأحسن في (العبارة عن) (¬4) تفسيره فقال: تفسير الصمد (السيد) (¬5) الذي ينتهى إليه السؤدد (¬6). ¬

_ = وأخرجه الطبري، والبيهقي في "الأسماء والصفات" من وجه آخر عن الأعمش عنه (1/ 109) ورجالهما أيضًا ثقات. "تفسير سورة الأخلاص" تح د. عبد العلي ص 39 و52. كما ورد أيضًا في "تفسير عبد الرزاق" 2/ 407، و"جامع البيان" 30/ 346، و"بحر العلوم" 3/ 525، و"الكشف والبيان" 13/ 189 ب، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245، و"لباب التأويل" 4/ 427 وعزاه إلى البخاري في أفراده، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 610، و"الأسماء والصفات" 1/ 109، و"مجموع الفتاوى" 17/ 216 و219 و225، و"دقائق التفسير" 6/ 359. (¬1) "تهذيب اللغة" 12/ 150: (صمد). (¬2) ساقط من (أ). (¬3) "جامع البيان" 30/ 346 مطولاً، و"الكشف والبيان" 13/ 185 ب من طريق ابن أبي طلحة، و"معالم التنزيل" 4/ 544 من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس، و"زاد المسير" 8/ 330 عن ابن أبي طلحة عنه، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245، و"لباب التأويل" 4/ 427، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 609 برواية ابن أبي طلحة عنه، وكذلك "الدر المنثور" 8/ 263 وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في العظمة، و"الأسماء والصفات" 1/ 108، و"دقائق التفسير" 6/ 359، و"مجموع الفتاوى" 17/ 220، و"تفسير سورة الإخلاص" ص39 و46 وقال محققه: إن إسناده من طريق أبي صالح به لا بأس به: هامش 51 ص 46. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 377 بنصه.

ومعنى هذا أن السؤدد انتهى إلى الله، فلا سيد فوقه، كما أن العلم انتهى إليه، ففوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إليه، فلا عالم فوقه، (وهذا معنى ما روي عن عكرمة أنه قال) (¬1): الصمد الذي ليس فوقه أحد (¬2). وذكر (¬3) القول الأول فقال: وقيل إن الصمد الذي صمد إليه كل شيء أي الذي خلق الأشياء كلها لا يستغني عنه شيء، يريد أن المخلوق لا غنى له عن الخالق، فكل شيء يصمد (¬4) بافتقاره إليه، ويدل على وحدانيته (¬5). وقال الحسن: الصمد الدائم (¬6). وقال مجاهد: الصمد الذي لا جوف له (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ورد بدلًا منه في (أ) عبارة: قال عكرمة. (¬2) "الكشف والبيان" 13/ 189 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 545، و"تفسير سورة الإخلاص" 39. (¬3) أي الزجاج. (¬4) في (أ): (مصمد). (¬5) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 378 بتصرف. (¬6) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 407، و"بحر العلوم" 3/ 525، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"زاد المسير" 8/ 331 من غير عزو، و"مجموع الفتاوى" 17/ 219، وورد بمعناه في "تفسير القرآن العظيم" 4/ 570، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 445، قال عنه الألباني في "كتاب السنة" 1/ 302: ح 681 إسناده ضعيف مقطوع. (¬7) "تفسير الإمام المجاهد" 760، و"تفسير عبد الرزاق" 2/ 407، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 542، و"جامع البيان" 30/ 344 وعزاه أيضًا إلى الحسن وعامر، و"الكشف والبيان" 13/ 189 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"زاد المسير" 8/ 331، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 610 وعزاه أيضًا إلى ابن مسعود وابن عباسٌ وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن بريدة، وعكرمة، وعطاء والسدي، و"فتح القدير" =

وهو قول (عطية (¬1)، والضحاك (¬2)، وميسره (¬3)، وسعيد بن جبير (¬4)) (¬5) قالوا: هو المصمت (¬6) الذي لا جوف له. وقال الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب (¬7). (وقال عكرمة الذي لا يخرج منه شيء (¬8). ¬

_ = 5/ 516، و"مجموع الفتاوى" 17/ 215، 224، و"دقائق التفسير" 6/ 359، و"تفسير سورة الإخلاص" ص 50 - 51 وقال محققه: سنده صحيح، وعند الألباني في تخريج السنة: إسناده صحيح مقطوع: 1/ 300: ح 673. (¬1) "تفسير القرآن العظيم" 4/ 610، و"فتح القدير" 5/ 516. (¬2) "جامع البيان" 30/ 345، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"زاد المسير" 8/ 331، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 610، و"مجموع الفتاوى" 17/ 215. (¬3) "الكشف والبيان" 13/ 179 ب، و"تهذيب اللغة" 12/ 150 (صمد)، و"مجموع الفتاوى" 15/ 215، قال الألباني في "ظلال الجنة" 1/ 300: ح 688، 689: إسناده ضعيف مقطوع. (¬4) "جامع البيان" 3/ 345، و"الكشف والبيان" 13/ 189 أ، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"زاد المسير" 8/ 331، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 610، و"مجموع الفتاوى" 17/ 224، قال الألباني في "ظلال الجنة" 2/ 301: ح 685 - 686: إسناده مقطوع فيه ضعف. (¬5) ما بين القوسين ذكرت في (أ) عبارة: (وجماعة)؛ بدلاً من (تعدادهم). (¬6) في (أ): (المتصمت). (¬7) "جامع البيان" 30/ 345، و"الكشف والبيان" 13/ 189 أ، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"المحرر الوجيز" 5/ 536، و"البحر المحيط" 8/ 528، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 610، و"فتح القدير" 5/ 516، و"مجموع الفتاوى" 17/ 15، 221، 224 دقائق التفسير: 6/ 359، وقال الألباني في ظلال الجنة: 1/ 302: ح 682: إسناده صحيح مقطوع. (¬8) "جامع البيان" 30/ 345، و"الكشف والبيان" 13/ 190 أ، و"مجموع الفتاوى" =

هذا قول هؤلاء) (¬1). وتحقيق ذلك أن الله تعالى لا يحتاج إلى الطعام والشراب، ولا جوف له، ولا عضو، ولا رأس ولا رجل (¬2) فلا معنى لتخصيص نفي الجوف دون غيره في صفة الله تعالى. وأما في تفسير الصمد فقد يكون في العربية الصمد الشيء المصمت الذي لا جوف له، المسدود الجوف، ومنه يقال لسداد القارورة الصماد وقد صمدتها أصمدها وشيء مصمد صلب، وليس فيه خور (¬3) (وهذا صحيح في اللغة (¬4)) (¬5)، ولكن الصمد بهذا المعنى لا يجوز في صفة الله -تعالى- لأن المصمت هو المتضاغط (¬6) الأجزاء، وهذا تشبيه وكفر بالله (¬7). ¬

_ =17/ 215، و"دقائق التفسير" 6/ 359، "تفسير سورة الإخلاص" ص 47 قال محققه: إسناده صحيح -حاشية 6 - ، وعلق ابن تيمية عليه فقال: كلام صحيح؛ بمعنى أنه لا يفارقه شيء منه "مجموع الفتاوى" 17/ 240 وقال الألباني عن رواية عكرمة: إسناده ضعيف مقطوع: "ظلال الجنة في تخريج السنة" 1/ 299 ح 667. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) قد أثبت الله سبحانه لنفسه صفة الرجل، فنثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه اتباعاً لمذهب السلف من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف إثباتًا يليق بذاته، فعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول قط قط" أخرجه البخاري في: "الجامع الصحيح" 3/ 296 ح 4848: كتاب التفسير: باب 50 رقم 1. (¬3) الخور: هو الصوت "الصحاح" 2/ 651 (خور). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" 12/ 150 - 151 (صمد)، و"الصحاح" 2/ 499، و"لسان العرب" 3/ 258، و"تاج العروس" 2/ 401. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) المتضاغط الضغط والضغطة: عصر شيء إلى شيء ضغطه يضغطه ضغطًا: زحمه إلى حائط ونحوه، والتضاغط التزاحم. "لسان العرب" 7/ 342 (ضغط). (¬7) هذا الكلام من الإمام الواحدي يدل على أشعريته، ويتضح ذلك عند قوله: "ولا =

ومن أجاز أن يكون معنى "الصمد" في صفات الله هو: ضد الأجوف

_ = رجل"؛ لثبوت هذه الصفة لله تعالى. وعند قوله: "فلا معنى لتخصيص الجوف دون غيره في صفة الله تعالى"؛ لأن قوله: "وغيره" قد يدخل فيه ما هو صفة ثابتة لله تعالى. ثم نفيه لصفة الصمد بالمعنى الثاني، وهو الذي لا جوف له، وضمنه أنواعًا من النفي مثل قوله: لا جوف، لا عضو، لا رأس .. إلخ. وهذه طريقة المتكلمين في النفي حيث يتقون عن الله تعالى من الصفات ما لا يتضمن كماله ضده، بخلاف منهج الكتاب والسنة، فإنه قائم على النفي المتضمن كمال ضده لله تعالى كنفي السِنَة والنوم الدال على كمال الحياة والقيومية. وكذا وصفه بالصمد على المعنى الثاني لأنه الذي لا جوف له فإنه راجع لصفة الكمال التي دل عليها المعنى الأول، وقد وضح شيخ الإسلام ذلك فقال: والاسم "الصمد" فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة، وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: أحدها: أن الصمد هو الذي لا جوف له. والثاني: أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج. والأول قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة، والثاني: قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين. ثم قال: قلت: الاشتقاق يشهد جميعًا قول من قال: إن "الصمد" الذي لا جوف له، وقول من قال إنه السيد، وهو على الأول أدل، فالأول أصل للثاني، ولفظ "الصمد" يقال على ما لا جوف له في اللغة .. وأصل هذه المادة الجمع والقوة -ثم قال- لم يقل الله صمد؛ بل قال: "الله الصمد"، فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإن كان صمدًا من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التفرقة والتجزئة، وهو أيضًا محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء، ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى، وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك؛ بل حقيقة =

فقد جهل، (وقال ما لا يجوز (¬1)، وقد روى سعيد عن) (¬2) قتادة قال كان إبليس ينظر إلى آدم ويقول: لأمر خلقت، ودخل في فيه، وخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد، وهذا أجوف" (¬3). (قال ابن قتيبة: وهو على) (¬4) هذا التفسير: "الدال" فيه مبدلة من "تاء"، والمصصت من صمد (¬5)، وقد بينا فساد هذا القول، وأنه لا يجوز في ¬

_ = الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه، ثم قال: ودل قوله: "الأحد، الصمد" على أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فإن الصمد هو الذي لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل منه شيء، فلا يأكل ولا يشرب سبحانه وتعالي .. والصمد المصمد الذي لا جوف له، فلا يخرج منه عين من الأعيان فلا يلد .. "مجموع الفتاوى" 17/ 238 - 240 مختصرًا وقال ابن كثير أيضًا بعد إيراده كثيرًا من هذه الأقوال في تفسير الصمد: وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا عَزَّ وَجَلَّ هو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه .. وقال البيهقي نحو ذلك. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 610. وعليه فلا معنى لاستنكار الإمام الواحدي أو غيره هذه الصفة بعد إثبات معناها عن جمهرة ممن السلف وهي دالة على الكمال لله تعالى. (¬1) قد رد قول الإمام الواحدي وأبطل في الحاشية السابقة. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ورد في "بحر العلوم" 3/ 525، و"مجموع الفتاوى" 17/ 226، و"دقائق التفسير" 6/ 52 تفسير سورة الإخلاص، قال د. عبد العلي: جاء في حديث طويل أخرجه ابن جرير: 1/ 203 والبيهقي في "الأسماء والصفات" 457 عن ابن مسعود وابن عباس، وسنده ضعيف. (¬4) ما بين القوسين غير مقروء في (ع). (¬5) "تفسير غريب القرآن" 542 بيسير من التصرف، وقد بين ابن تيمية مراد ابن قتيبة قال: لا إبدال في هذا، ولكن هذا من جهة الاشتقاق الأكبر .. ثم قال - فالأشتقاق الأصغر اتفاق القولين في الحروف وترتيبها؛ والأوسط اتفاقهما في الحروف لا في الترتيب =

وصف الله (تعالى (¬1)) (¬2). والقول في الصمد: أنه السيد الذي يصمد إليه الحوائج) (¬3). (قال أبو عبيدة (¬4)، والمبرد (¬5): الصمد الذي انتهى إليه السؤدد، لأن الناس (تصمد إليه) (¬6) في حوائجهم) (¬7). (والعرب تقول لسيدها ولعظيمها: صمد، كما قال (¬8): عَلَوْتُه بحسامي ثم قلت له خُذْها ... حُذَيفَ فَأَنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ (¬9) ¬

_ = والأكبر: اتفاقهما في أعيان بعض الحروف وفي الجنس لا في الباقي كاتفاقهما في كونهما من حروف الحلق إذا قيل حرز، وعزر، وازر، فإن الجميع فيه معنى القوة والشدة، وقد اشتركت مع الراء والزاي والحاء في أن الثلاثة حروف حلقية، وعلى هذا فإذا قيل الصمد: بمعنى المصمت وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار، فهو صحيح، فإن الدال أخت التاء، فإن العمت السكوت وهو إمساك واطباق للفم عن الكلام. "مجموع الفتاوى" 17/ 232. (¬1) ساقط من (أ). (¬2) قد بينا صحة القول في معنى الصمد، على خلاف ما زعم الإمام الواحدي فليراجع في موضعه من هذه السورة. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 316، ولم يستشهد ببيت عمرو بن الأسلع وإنما ببيت الزبرقان، وفيه: ولا رهينة إلا سيد صمد. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ)، وغير مقروء، وأثبت ما رأيت به انتظام الكلام. والله أعلم. (¬7) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬8) البيت لعمرو بن الأسلع العبسي -حاشية- "الصحاح". (¬9) ورد البيت منسوبًا في "الزاهر" لابن الآنباري 1/ 180، و"بصائر ذوي التمييز" للفيروزابادي 3/ 440 وغير منسوب في: "الكشف والبيان" 13/ 189 ب برواية =

وأنشد أهل اللغة قول الأسدي (¬1): ألا بكَّرَ النَّاعي بِخَيْري بني أسَدْ ... بعمرو بن مَسْعُود وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ (¬2) " (¬3) وروي عن أبي بن كعب في تفسيره: الصمد أنه ما بعده وهو قوله: (الذي) (¬4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء إلا سيورث، وأن الله لا يموت، ولا يورث (¬5). ¬

_ = (بحسام)، و"الصحاح" 2/ 499 (صمد)، و"لسان العرب" 3/ 258، و"تاج العروس" 2/ 401، و"الأمالي" لأبي علي القالي 2/ 288، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245: برواية: (بحسام، و"روح المعاني" 30/ 273: برواية (حزيت)، و"تفسير سورة الإخلاص" ص 41. (¬1) الأسدي هو سبرة بن عمرو الفقعسي، وهو شاعر جاهلي. "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 1/ 80. (¬2) ورد البيت غير منسوب في: "شعر بني أسد في الجاهلية" د. أحمد الجاسم ص 37، و"جامع البيان" 30/ 347، و"مجاز القرآن" 2/ 316 برواية بخير، و"معاني القرآن وإعرابه" 5/ 378، و"الكشف والبيان" 13/ 189 ب، و"النكت والعيون" 6/ 371، و"المحرر الوجيز" 5/ 536 برواية (بخير)، و"زاد المسير" 8/ 331، و"التفسير الكبير" 32/ 181، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245، برواية (بخير)، و"روح المعاني" 30/ 273، و"الأغاني" 22، 92، ط. دار الكتب، و"فتح القدير" 5/ 517، و"تهذيب اللغة" 12/ 15 (صمد)، و"لسان العرب" 3/ 258، و"فتح الباري" 8/ 740، و"الأمالي" لأبي علي القالي 2/ 288، و"سمط اللآلي" ص 932، و"تفسير سورة الإخلاص" ص 41. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ساقط من (أ). (¬5) "الكشف والبيان" 13/ 189/ 2، و"معالم التنزيل" 4/ 544، و"زاد المسير" =

(وقال عطاء عن) (1) ابن عباس: "لم يلد" كما ولدت مريم، ولم "يولد" كما ولد عيسى (2). وقال مقاتل: إن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير بن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأكذبهم الله، وابرأ نفسه مما قالوا فقال "لم يلد ولم يولد" (3) يقول: لم يكن له ولد، ولم يولد له من أحد كما ولد عيسى، وعزير، ومريم. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} قال أبو إسحاق: معناه لم يكن أحد مِثلًا له (4). (وقال أبو عبيدة: يقال كفواً وكَفِيء (5) وكِفاءً كله واحد (6). قال حسان: ورُوحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ (7) (8)

_ = 8/ 331 حاشية من النسخة الأزهرية، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 245، وانظر تخريجه عند قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. (1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (2) "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 246 من غير ذكر طريق عطاء. (3) "بحر العلوم" 3/ 525، و"معالم التنزيل" 4/ 545، و"زاد المسير" 8/ 331، و"لباب التأويل" 4/ 427. (4) "تهذيب اللغة" 10/ 385: (كفأ)، ولم أجد قوله في معانيه وإنما كما ذكرت وجدته في التهذيب، ولعل الواحدي نقله عن الأزهري، والعبارة الواردة في المعاني قال ... ويقال فلان كفءٌ فلان مثل كفيّ فلان. 5/ 378. (5) كفيئًا هكذا وردت في المجاز. (6) "مجاز القرآن" 2/ 316. (7) في (أ): (كفاه). (8) وشطره الأول: "وجبريل آمين الله فينا" وقد ورد البيت في: ديوانه: 8، ط. دار =

ومنه قول النابغة: لا تَقْذِفَنِّي بركْنٍ لا كِفاءَ لَهُ (¬1) وقال آخر: أما كانَ عَيَّادٌ كفيئًا لدارمٍ ... بلى ولأبيات بها الحُجُراتُ (¬2) والأصل في كُفُوءٌ: الضم (¬3) ثم تخفف مثل: طُنُب وطُنْب، وعُنُقٍ وعُنْق. ¬

_ = صادر، ومعنى: ليس له كفاء أي ليس له نظير - "شرح ديوانه" ص 59: دار الكتاب العربي. (¬1) الشطر الثاني منه: ولو تأثفك الأعداءُ بالرِّخدِ ورد البيت في: "ديوانه" 36، ط. دار بيروت، و"جامع البيان" 30/ 348، وهذا البيت للنابغة لم يورده أبو علي في "الحجة" 6/ 463 - 465. ومعنى البيت: الكفاء: النظير والمثل. تأثفك الأعداء: صاروا حولك كالأثافي. الرفد: العصب من الناس، يريد: لا ترمني بما لا أطيق، ولا يقوم له أحد، ولا يكافئك فيه أعداؤك، ولو أحاطوا بك متعاونين. "ديوانه" ص 36. (¬2) البيت لرجل من الحبطات، وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم وكان قد خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن زيد مناة ابن تميم فقال الفرزدق: بنو دارم أكفاؤهم آل مِسْمِع وتُنْلَح في أكفائها الحبطات فأجابه رجل من الحبطات فقال: أما كان .. البيت المذكور. انظر: "الكامل" 1/ 64، 2/ 68، و"جامع البيان" 26/ 221. (¬3) قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي، وأبو عمرو في رواية اليزيدي وعبد الوارث (كُفُؤاْ) بضم الفاء مهموزة وروى عباس بن الفضل، والقطعي عن محبوب (كُفْؤًا) مهموزًا خفيفًا وقرأ حمزة (كُفْؤًا) مهموزة خفيفة. واختلف عن نافع، ففي رواية (كُفُؤا) مثقلًا مهموزًا، وبرواية أخرى (كُفْؤًا) خفيفًا مهموزًا، ورواية (كُفُوًا) مثقلًا غير مهموز. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (كُفؤا) مثقلًا مهموزًا، وروي حفص عن عاصم (كُفُوًا) مثقلًا غير مهموز. =

وقال أبو علي: قوله: "ولم يكن له كفوا أحد" له متعلق بكان، وكفؤًا منتصب بأنه خبر تقدم، كما أن قوله: "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين" كذلك) (¬1) ¬

_ = قال أبو منصور: هذه لغات وأجودها: كُفُؤا، ثم كُفْؤًا، وأما كُفُؤًا بترك الهمزة وضم الفاء فيس بكثير. انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص 702، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 808، و"حجة القراءات" ص 777. (¬1) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" 6/ 463 - 465.

سورة الفلق

سورة الفلق

1

تفسير سورة الفلق (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} قال الكلبي (¬2)، ومقاتل (¬3): إن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى عشر عقدة في وتر، ودسه في بئر يقال لها ذَرْوَان (¬4)، فمرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (واشتد) (¬5) عليه (¬6) ذلك ثلاث ليال، فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بمكان السحر، فأرسل إليها عليًّا ¬

_ (¬1) تسمى سورتا الفلق والناس المعوذتان، والمشتققتان أي المبرئتان من النفاق. الإتقان: 1/ 159، و"النكت والعيون" 6/ 373. وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها مكية، رواه كريب عن ابن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر، قال ابن الجوزي: الأول أصح."المحرر الوجيز" 5/ 538، و"زاد المسير" 8/ 332. (¬2) "معالم التنزيل" 4/ 546، و"لباب النقول": ص 238 - 239 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. (¬3) "تفسير مقاتل" 257 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 246. (¬4) بياض في (ع). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) في (أ): (على).

رضي الله عنه فجابها، فقال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- حل عقدة واقرأ آية، ففعل، وجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة، وذهب عنه ما كان يجده. وهذه القصة صحيحة (¬1)، ....... ¬

_ (¬1) وردت في: "صحيح البخاري" من طريق هشام عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا. فقال: يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيه فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبَّه؟ قال لبيد بن أعصم رجل من بني زُريق حليف ليهود كان منافقًا. قال: وفيم؟. قال في مشط ومشاطة. قال: وأين؟ قال في جُف طلعةٍ ذكر تحت رعوفة في بئر ذَرْوان. قالت: فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- البئر حتى استخرجه. فقال هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكان نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج. قالت: فقلت أفلا -أي تنشرت- فقال: أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًّا. "صحيح البخاري" 4/ 48 - 49: ح 5763. 5765: باب 47، 49، 50، ج 2/ 437: ح 3268: كتاب بدء الخلق: باب 11. ومسلم في "صحيحه": 4/ 1719: ح 43، 44 مختصرًا: كتاب السلام: باب 17 ومن خلال ما ورد في الصحيحين يتبين أنه ليس فيه ما يدل على نزول المعوذتين على الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سحر. قال ابن حجر: وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في: الدلائل: بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت سورة الفلق، والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقده. وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس: أن عليا وعمارًا لما بعثهما النبي -صلى الله عليه وسلم- لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه. فتح البارى: 10/ 225. وقد وردت قصة سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن ذلك كان سببًا في نزول المعوذتين في "أسباب النزول": تح: ايمن ص 410، و"لبات النقول": 238 - 239، و"الكشف والبيان" =

والمعتزلة تنكرها (¬1)، ويقولون: لا يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- مسحورًا، لأن الكفار كانوا يعيرونه بذلك، فلو قلنا: إنه سحر، وجوزنا ذلك كنا قد جاوزنا ما عير به. والجواب: أن هذه القصة قد ثبتت (قصتها) (¬2)، وصحتها عند المفسرين، وأهل النقل، والعلم بالرواية، ودلت هذه السورة على ذلك، وهو قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني اللاتي ينفثن بالرقي والعزائم، فلولا أن لشرهن تأثيرًا وإلا لم يؤمر بالاستعاذة من شرهن. ولا يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم-مسحورًا على الوجه الذي عيره به الكفار (¬3)، فإنهم كانوا يريدون أنه مخدوع مجنون سحر بتخيل عقله، ¬

_ = 13/ 192/ 1، و"معالم التنزيل" 4/ 546، و"زاد المسير" 8/ 332، و"معاني القرآن" للفراء 3/ 301 قال ابن كثير تعليقًا على رواية الثعلبي: هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 615 "الدر المنثور" 8/ 687 وعزاه إلى ابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة وابن عباس. (¬1) قال المازني: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها -ثم قال- وهذا كله مردود. "فتح الباري" 10/ 226 وقال ابن القيم: وهذا الحديث -يعني الذي في الصحيح- ثابت عند أهل العلم بالحديث يتلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم، وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب. "تفسير المعوذتين" تحقيق مصطفى العدوي 57 - 58 وقد أنكره أيضًا الجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 49. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) نحو ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [سورة الفرقان: 8]، وكقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153: 185].

فلذلك خالفهم في الدعاء إلى توحيد الله، فأما أن يكون مسحورًا بوصف يجده في بدنه، فذلك ما لا ينكره أحد، ولم يكن الله ليسلط عليه شيطانًا أو جنيًّا أو انسيًّا فيما يؤدي إلى الضرورة في الدين، والنبوة، ولا الرسالة، وبيان الدعوة، فأما على الإضرار ببدنه فقد صح أن وجهه شج (¬1)، وأن رباعيته (¬2) كسرت يوم أحد (¬3)، ولم يقدح ذلك في نبوته كذلك السحر، والخيلة، والتوصل بالرقي الإضرار ببدنه لا ينكر (¬4). واختلفوا في معنى "الفلق" فالأكثرون على أنه الصبح، وهو قول جابر (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، ¬

_ (¬1) شج: أي حصل جرح في رأسه الشريف، والجراحة إذا كانت في الوجه أو الرأس تسمى شجة. "حاشية صحيح مسلم" 3/ 1417. (¬2) الرباعية: هي السن التي تلي الثنية من كل جانب وللإنسان أربع رباعيات. "شرح صحيح مسلم" 12/ 390. (¬3) أخرج مسلم في "صحيحه" 3/ 1417: ح 104: كتاب الجهاد والسير: باب 37 عن أنس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنول الله عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬4) قال القاضي عياض عن بعض المحققين: وهذه الطوارئ والتغييرات المذكورة، إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ومعاناة بني آدم لمشاكله الجنس وأما بواطنهم فمنزهة غالبًا من ذلك معصومة منه متعلقة بالملأ الأعلى والملائكة لأخذهم عنهم وتلقيها الوحي. "الشفاء" 2/ 863. (¬5) "جامع البيان" 30/ 350، و"الكشف والبيان" 13/ 192 ب، و"النكت والعيون" 6/ 374، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 254، و"البحر المحيط" 8/ 530، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613. (¬6) المراجع السابقة عدا "النكت"، وانظر أيضًا: "المحرر الوجيز" 5/ 538، و"تفسير سعيد بن جبير" ص 383.

(والحسن (¬1)، وعكرمة (¬2)، ومجاهد (¬3)، وقتادة (¬4)، وابن عباس، وفي رواية عطاء (¬5)، وعطية (¬6)) (¬7). (وقال في رواية الوالبي يعني الخلق (¬8). وهو قول الضحاك (¬9)، ¬

_ (¬1) "الكشف والبيان" 13/ 192/ 2، و"معالم التنزيل" 4/ 247، و"المحرر الوجيز" 5/ 538، و"زاد المسير" 8/ 333، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 254، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 445. (¬2) "المحرر الوجيز" 5/ 538. (¬3) "جامع البيان" 30/ 350، و"تفسير الإمام مجاهد" 761، و"الكشف والبيان" 13/ 192 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"المحرر الوجيز" 5/ 538، و"زاد المسير" 8/ 333، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 254، و"البحر المحيط" 8/ 530، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613. (¬4) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 408، و"جامع البيان" 30/ 350، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"المحرر الوجيز" 5/ 538، و"زاد المسير" 8/ 333. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله من طريق عطاء. (¬6) "جامع البيان" 30/ 350، و"الكشف والبيان" 13/ 192 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 547، وذكرت رواية ابن عباس من غير بيان طريقها في: "البحر المحيط" 8/ 530، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613، و"الدر المنثور" 8/ 688 وهذا القول رجحه الطبري، وابن كثير، والبخاري في "صحيحه"، وعزاه الفخر إلى أكثر المفسرين 32/ 190. (¬7) ما بين القوسين ذكر بدلاً من ذكرهم عبارة (وجماعة) وذلك في (أ). (¬8) "جامع البيان" 30/ 351، و"الكشف والبيان" 13/ 192 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 547 حاشية، و"لباب التأويل" 4/ 429، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613، و"الدرالمنثور" 8/ 689 وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، "صحيفة علي بن أبي طلحة": ص 544. (¬9) "الكشف والبيان" 13/ 192 ب، وانظر إضافة: "النكت والعيون" 6/ 374، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613.

ومقاتل (¬1)) (¬2). وروى (مهاجر الشامي (¬3)) (¬4) عن رجل (من) (¬5) أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الفلق بيت في النار إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره (¬6)، وهو قول السدي قال: جب في جهنم (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 257 ب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) مُهاجر الشامي: هو مهاجر بن أبي مسلم، واسمه دينار الشامي الأنصاري. روى عن تُبيع الحميري بن امراة كعب الأحبار، وعنه ابناه محمد، وعمرو مقبول من الثالثة. كتاب الثقات: 5/ 427، و"تهذيب الكمال" 28/ 582: ت 6217، و"تقريب التهذيب" 2/ 278، ت: 1411. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ساقط من (أ). (¬6) وردت الرواية عن كعب الأحبار في: "بحر العلوم" 3/ 526، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613 وورد في: "الكشف والبيان" 13/ 192 ب من طريق هشيم بن العوام عن عبد الجبار الحولاني عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي "الجامع لأحكام القرآن" عن أبي بن كعب: 20/ 254، وفي "البحر المحيط" 8/ 530 وعزاه إلى أحد الصحابة، وقد أورد ابن كثير الرواية وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأسندها أيضًا إلى عمر بن عنبسة وابن عباس والسدي وزيد بن علي عن آبائه -ثم قال- وقد ورد في ذلك حديث مرفوع منكر إسناده غريب ولا يصح رفعه. وقال ابن تيمية: وأما من قال إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم أو إنه اسم من أسماء جهنم، فهذا أمر لا تعرف صحته لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمه بخلاف ما إذا قال: رب الخلق أو رب كل ما انفلق أو رب النور الذي يظهر على العباد بالنهار، فإن تخصيص هذا بالذكر ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به. "مجموع الفتاوى" 17/ 505. (¬7) "الكشف والبيان" 13/ 193 أ، و"زاد المسير" 8/ 333، و"البحر المحيط" 8/ 350 وعزاه إلى أحد التابعين، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613.

وقال (أبو عبد الرحمن) (¬1) الحُبُلي (¬2): الفلق: اسم من أسماء جهنم (¬3). (هذا قول المفسرين) (¬4). وقال أبو إسحاق: الفلق الصبح وبيانه، يقال: هو أبين من فلق الصبح (¬5). -قال- وقيل الفلق: الخَلْق قال الله تعالى: {فَالِقُ (الْإِصْبَاح) (¬6)} [الأنعام: 95]، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 96] وكذلك فلق الأرض بالنبات، والسحاب بالقطر، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن (¬7) الانفلاق، فالفلق جميع المخلوقات، وفلق الصبح من ذلك (¬8). وروى عمرو عن أبيه: الفلق جهنم، والفلق بيان الصبح (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) أبو عبد الرحمن الحبلي: هو عبد الله بن يزيد المعافري أبو عبد الرحمن الحُبُلي المصري -وعن ابن سعد الجبلي بالجيم- روى عن عبد الله بن عمر ثقة من الثالثة، مات سنة 100 بإفريقية "الطبقات الكبرى" 7/ 511، و"تهذيب الكمال" 16: 316/ ت 3663، "تقريب بالتهذيب" 1/ 462: ت 749. (¬3) وقد ورد قوله في "جامع البيان" 30/ 350، و"الكشف والبيان" 13/ 192 ب، و"النكت والعيون" 6/ 374، و"زاد المسير" 8/ 333، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 254، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613. (¬4) ساقط من (أ). (¬5) هذا من أمثلة العرب راجع في ذلك: "جمهرة الأمثال" 1/ 205 رقم 348، و"مجمع الأمثال"1/ 208: رقم 597. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬7) في (أ): (على). (¬8) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 379. (¬9) "تهذيب اللغة" 9/ 157 برواية ثعلب عن عمرو عن أبيه.

2

2 - وقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد إبليس خاصة، لأن الله تعالى (لم) (¬1) يخلق خلقًا هو شر منه (¬2). وقال الكلبي: يريد من شر كل ذي شر (¬3). وقال مقاتل: من شر ما خلق من الجن والإنس (¬4). 3 - (قوله) (¬5): {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال ابن عباس: الغاسق: الليل (¬6). يريد إذا أقبلت ظلمته من المشرق فدخل في النهار. وقال مقاتل: يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار (¬7)، وهو قول الحسن (¬8)، ....... ¬

_ (¬1) ساقط من (أ). (¬2) "التفسير الكبير" 32/ 92، كما ورد مثله من غير عزو في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 256، و"لباب التأويل" 4/ 430، وورد بمثله عن الحسن، وثابت البناني. "تفسير القرآن العظيم" 4/ 613. (¬3) "بحر العلوم" 3/ 526، وورد بمثله من غير عزو في: "الجامع لأحكام القرآن" 20/ 256، و"لباب التأويل" 4/ 430. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بمثله من غير عزو في: "لباب التأويل" 4/ 430. (¬5) ساقط من (أ). (¬6) "جامع البيان" 30/ 351، و"الكشف والبيان" 13/ 193 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"زاد المسير" 8/ 334، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 256، و"البحر المحيط" 8/ 530، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613، و"الدر المنثور" 8/ 886 وعزاه إلى الطستي. (¬7) "تفسير مقاتل" 257 ب، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"تفسير المعوذتين" لابن القيم ص 45. (¬8) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 408، و"جامع البيان" 30/ 351، و"الكشف والبيان" 13/ 193 أ، و"معالم التنزيل" 4/ 547، و"زاد المسير" 8/ 334، و"البحر المحيط" 8/ 530، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 446.

ومجاهد (¬1) (ومحمد بن كعب (¬2)) (¬3) قالوا: يعني الليل إذا أقبل ودخل. قال الفراء: الغاسق: الليل "إذا وقب" إذا دخل في كل شيء، يقال غسق وأغسق إذا أظلم (¬4)، نحو هذا قال أبو عبيدة (¬5) وأنشد لابن الرقيات: إنَّ هَذا الليلَ قَدْ غَسَقَا ... واشْتَكَيْتُ الهَمَّ والأرَقَا (¬6) وقال الزجاج: يعني به الليل إذا دخل، قال: وقيل: الليل غاسق، لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد (¬7). والغاسق (¬8) على قول الفراء: المظلم، وعلى قول الزجاج معناه: (في اللغة) (¬9) البارد (¬10). ¬

_ (¬1) "تفسير الإمام مجاهد" ص 761، "الجامع الصحيح" للبخاري: 30/ 334: كتاب التفسير: باب 113 والمراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق". (¬2) "جامع البيان" 30/ 351، و"الكشف والبيان" 13/ 193 أ، و"زاد المسير" 8/ 334، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) "معاني القرآن" 3/ 301 بيسير من التصرف. (¬5) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬6) ورد البيت في: "ديوانه" ص 187، ط. دار بيروت، و"لسان العرب" 10/ 288 (غسق)، و"المحرر الوجيز" 5/ 538، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 256، و"فتح القدير" 5/ 520. (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 379 بيسير من التصرف. (¬8) في (ع): (فالغاسق). (¬9) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬10) ولا تنافي بين القولين، فإن الليل بارد مظلم، فمن ذكر برده فقط أو ظلمته فقط أقتصر على وصفيه، والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة فإن الشر الذي =

وذكرنا الكلام في الأصلين عند قوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (¬1) وقوله {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57]. وقال غيرهما (¬2): الغاسق: السائل من قولهم: غسقت العين تغسق غسقا. إذا سألت بالغمص والماء. وسمي الليل غاسقًا، لانصباب ظلامه على الأرض. وإنما أمر أن يتعوذ من شر الليل، لأن الليل تخرج السباع من آجامها (¬3) والهوام (¬4) من مكامنها، وتبعث أهل الشر (¬5) على العبث ¬

_ = يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل، ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور من شر الغاسق الذي هو الظلمة، فناسب الوصف المستعاذ به المعنى المطلوب بالاستعاذة قاله ابن القيم "تفسير المعوذتين" ص 45. (¬1) سورة الإسراء: 78 قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ومما جاء في تفسير الغسق الوارد في هذه الآية: غسق الليل سواده وظلمته، وقال آخرون: غسق الليل دخول أوله وأتيته حيث غسق الليل أي حين يختلط وتسد المناظر، وأصل هذا الحرف من السيلان يقال: غسقت العين يغسق وهو هملان العين بالغمص، والماء والغاسق السائل. ومن هذا قيل لما يسيل من أهل النار الغساق فمعنى غسق الليل أي انصبت بظلامه، وذلك أن الظلمة تنزل من فوق. وأما قول المفسرين، فقال ابن عباس غسق الليل: اجتماع الليل وظلمته، ولعطاء أوله حين يدخل، وعن ابن مسعود: إظلام الليل. وعن ابن عباس: دخول الليل بظلمته. "البسيط" باختصار. (¬2) وهو أبو زيد كما في "تهذيب اللغة" 16/ 127 (غسق). (¬3) آجامها: الأجمة الشجر الكثير الملتف، والجم أجمٌ، وأُجُم، أُجَمٌ، وآجام وإجام. "لسان العرب" 8/ 12 (أجم). (¬4) الهوام: جمع الهامَّة، ولا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من الأحناش. "الصحاح" 5/ 2062 (هوم). (¬5) وتبعث أهل الشر غير واضح في (ع).

والفساد، فينبت الضرر على الخلق إلا من أعاذه الله (¬1). وذكر المفسرون في تفسير هذه الآية (¬2) ما روى أبو سلمة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3) أخذ بيدها (¬4)، وأشار إلى القمر، وقال: "استعيذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب" (¬5). قال ابن قتيبة: الغاسق: القمر سمي به، لأنه يكسف فيغسق أي يذهب ضوؤه ويسود -قال- ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "تعوذي بالله من شر هذا" أي من مر شره "إذا وقب" إذا دخل في الكسوف (¬6). ¬

_ (¬1) قال بذلك ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي. "النكت والعيون" 6/ 375. (¬2) (هذه الآية) بياض في (ع). (¬3) (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) بياض في (ع). (¬4) بياض في (ع). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 6/ 61، 206، 237 والترمذي في "السنن" 5/ 452: ح 3366: باب 94: من طريق أبي سلمة عن عائشة، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم في "المستدرك" 2/ 547 وصححه، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. "فتح الباري" 8/ 741، وابن الجزري في "جامع الأصول" 2/ 445: ح 898، وقال الأرناؤوط: وإسناده قوي، وأبو عبيدة في "غريب الحديث" 1/ 313، والطبري في "جامع البيان" 30/ 352، والسيوطي في "الدر" 8/ 689 وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وانظر: "كنز العمال" 2/ 15: ح: 2955، قال الشوكاني: وهذا لاينافي قول الجمهور، لأن القمر آية الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وهكذا يقال في جواب من قال إنه الثريا. "فتح القدير" 5/ 520. (¬6) "تهذيب اللغة" 16/ 128 - 129 (غسق)، وانظر "تفسير غريب القرآن" ص 543، فالإمام الواحدي نقل عبارة ابن قتيبة من التهذيب، وأما تفسيره فلم أجد عند ابن قتيبة ذكر لحديث عائشة والله أعلم =

قال الأزهري: هذا حديث غير صحيح، والصواب في تفسير هذه الآية: من شر الليل إذا دخل ظلامه في كل شيء (¬1). وقال ابن زيد: يعني الثريا إذا سقطت، قال: وكانت الأسقام تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها (¬2). وعلى هذا سمي الثريا غاسقًا، لانصبابه عند وقوعه في المغرب، ووقوبه (¬3): دخوله إذا غاب عن الأعين، فلم ير، يقال: وقب يقب وقوبًا إذا دخل، والوقبة النُّقْرة، لأنه يدخل فيها، والإيقاب: إدخال الشيء في الوَقْبة (¬4). ¬

_ = وقد رد ابن تيمية أيضًا تفسير ابن قتيبة قال: وهذا القول من ابن قتيبة ضعيف فإن ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعارض بقول غيره، وهو لا يقول إلا الحق، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فالقمر آية الليل، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل، فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل، ودليله وعلامته، والدليل مستلزم للمدلول، فإذا كان شر القمر موجود فشر الليل موجود، وللقمر من التأثير ما ليس لغيره فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى ... فالقمر أحق ما يكون بالليل بالاستعاذة، والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنشر بالنهار ... فالشر دائمًا مقرون بالظلمة. "مجموع الفتاوى" 17/ 506 - 507. (¬1) "تهذيب اللغة" 16/ 129 بيسير من الاختصار. (¬2) "جامع البيان" 30/ 352، و"الكشف والبيان" 13/ 193 أ - ب، و"معالم التنزيل" 4/ 547 مختصرًا، و"المحرر الوجيز" 5/ 538، و"زاد المسير" 8/ 334، و"التفسير الكبير" 32/ 194، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 257، و"لباب التأويل" 4/ 430 من غير عزو، و"البحر المحيط" 8/ 531 مختصرًا، و"تفسير القرآن العظيم" 4/ 613، و"فتح القدير" 5/ 520، و"مجموع الفتاوى" 17/ 506. (¬3) في (ع): (ووقوه). (¬4) انظر فيه: "تهذيب اللغة" 9/ 354 (وقب)، و"مقاييس اللغة" 6/ 131.

4

4 - قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد} يعني السحرة، والسواحر. ومعنى النفث: النفخ، وكانت العرب ترقي به إذا رقت، وأنشد (أبو عبيدة) (¬1) لعنترة (¬2): فإن يَبْرَأ فلم أَنْفِث عَلَيْهِ ... وإنْ يَفْقَدْ فَحَقَّ له الفُقُودُ (¬3) (¬4) وقال (أبو عبيد) (¬5): النفث بالفم شبيه بالنفخ (¬6). وقال أبو إسحاق: تنفث، وتتفل بلا ريق كأنه نفخ كما يفعل كل من يرقى (¬7). والعقد: الأخذ (¬8). جمع عقود من عقد يعقد. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) في (ع): (قول عنترة)، بدلاً من: (لعنترة). (¬3) وورد قوله في: "ديوانه" ص 283، تح: محمد مولوي، و"الكشف والبيان"، 13/ 193 ب، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 257. ومعنى قوله: فإن يبرا: يريد جريه، يقول: إن يفق من تلك الطعنة فيتأخر أجله، فإني ما رقيته، ولا نفثت عليه، وإن يفقد أي يمت فحق له ذلك، فقد مات من هو خير منه ويحتمل أنه يريد فحق له الموت من شدة الطعنة، وأن مثلها لا يبرأ منها. "ديوانه" 283. (¬4) "مجاز القرآن" 2/ 317. (¬5) أبو عبيدة: في كلا النسختين، والصواب ما أثبته لنقل الإمام الواحدي قول أبي عبيدة عن "تهذيب اللغة". (¬6) "تهذيب اللغة" 15/ 103 (نفث)، وانظر: "لسان العرب" 2/ 195 (نفث). (¬7) "معاني القرآن وإعرابه" 5/ 379 بنصه. (¬8) يراد بالأُخْذة: الكلام الذي يقوله الساحر، وقيل خرزه يرقى عليها، أو هي الرقية نفسها. قال ابن حجر في "فتح الباري" 10/ 233، وانظر: "القاموس المحيط" 1/ 350 (أخذ).

قال مقاتل: يعني السحرة، والأُخذة ينفثن في العقد والأُخذ (¬1). وقال (عطاء عن) (¬2) ابن عباس: يريد السحرة الذين عقدوا السحر للنبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3)، وإنما أتى على لفظ جمع الإناث لتأنيث الجماعات نحو {وَالصَّافَّاتِ}، {فَالتَّالِيَاتِ}، {فَالزَّاجِرَاتِ} (¬4)، ومثل ذلك كثير في التنزيل ومعناه الجماعات. وقال صاحب النظم: إنما أنث (¬5) النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬6). ¬

_ (¬1) "تفسير مقاتل" 257 ب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) "الوسيط" 4/ 574. (¬4) سورة الصافات: والآيات كاملة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [1 - 3]. (¬5) إنما أنت: غير مقروء في (ع). (¬6) هكذا وردت عبارة صاحب النظم في النسختين. ولم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد بنحوه في: "زاد المسير" 8/ 334 معزوًا إلى المفسرين: وهذا القول: إن النفاثات من بنات لبيد ليس بسديد، لأن الذي سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- هو لبيد بن عاصم، وليس بناته كما جاء ذلك في الصحيح. والجواب المحقق: أن النفاثات هنا: من الأرواح، والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة، وسلطانه إنما يظهر منها، فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير، والله أعلم. قاله ابن القيم. "تفسير المعوذتين" تح مصطفى العدوي: 53 - 54. وأما ابن تيمية فقال: وخص من السحر النفاثات في العقد، وهن النساء، والحاسد الرجال في العادة، ويكون من الرجال ومن النساء والشر الذي يكون من الأنفس الخبيثة من الرجال والنساء هو شر منفصل عن الإنسان ليس هو في قلبه كالوسواس الخناس. "مجموع الفتاوى" 17/ 507.

5

5 - قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال ابن عباس (¬1)، ومقاتل (¬2): يريد اليهود حسدوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال الفراء: يعني لبيدًا الذي حسده (¬3). ¬

_ (¬1) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬2) "تفسير مقاتل" 257 ب، وقد ورد بمثله من غير عزو في"لباب التأويل" 4/ 430. (¬3) "معاني القرآن" 3/ 301 بتصرف.

سورة الناس

سورة الناس

1

تفسير سورة الناس (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم 1 - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (القراء على ترك الإمالة في "الناس" (¬2)، وروي عن الكسائي: الإمالة إذا كان في موضع الخفض (¬3)، ولا إشكال في حسن ذلك وجوازه، وذلك أنه لو كان مكان الناس نحو: المال، والعاب (¬4) لجازت إمالة "الألف" فيه لكسره الإعراب، فإذا كان "الناس" كان أحسن، لأن هذا (¬5) الحرف قد أميل في الموضع الذي لا يوجب القياس إمالته، كما أميل الحجاج إذا كان علمًا، لأنهما كثرا في الكلام ¬

_ (¬1) فيها قولان: أحدهما: أنها مدنية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها مكية. رواه أبو كريب عن ابن عباس، وقتادة، و"المحرر الوجيز" 5/ 540، و"زاد المسير" 8/ 335. (¬2) انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص 703، و"القراءات وعلل النحويين فيها" 2/ 811، و"الحجة" 6/ 467، و"المهذب في القراءات العشر" 2/ 345. (¬3) وأيضًا كان لا يميلها في موضع الرفع والنصب. المراجع السابقة. (¬4) في (أ): (العار). (¬5) في (أ): (هذه).

4

فاستجيز ذلك فيهما، فإذا أميل الناس حيث لم يكن معه شيء يوجب الإمالة للكثرة فإن يقال لكسرة الإعراب أجدر) (¬1). 4 - وقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} قد تقدم عند قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} (¬2) وقوله: {الْخَنَّاسِ} قال ابن عباس: هو الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس (¬3). وقال مجاهد: إذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكر الله انبسط على قلبه (¬4). وهذا قول جماعة المفسرين في الوسواس الخناس. ومضى تفسير الخناس عند قوله: "الخُنَّس" [التكوير: 15]. قال مقاتل: هو شيطان في صورة خنزير يجري في جسد العبد مجرى الدم (¬5)، فإذا سها ابن آدم ابتلع قلبه فوسوس، وإذا ذكر الله خنس عنه فخرج من جسده، فهو الوسواس إذا سها ابن آدم، وهو الخناس إذا ذكر (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين نقله عن: "الحجة" 6/ 466 - 467 بيسير من التصرف. (¬2) سورة الأعراف: 20، ومما جاء في تفسيرها: قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} قال الليث: الوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي من ريح تهز قصبا أو شيئا كالهمس، وبه سمي صوت الحليّ وسواسًا. عن ابن الأعرابي: رجل يوسوس ولا يقال موسوس، لأن نفسه توسوس له. قال تعالى: "ويعلم ما توسوس به نفسه". (¬3) "جامع البيان" 30/ 355، وقال بنحوه أيضًا قتادة. "تفسير عبد الرزاق" 2/ 410. (¬4) ورد معنى قوله في: "تفسير الإمام مجاهد" ص 762، و"جامع البيان" 30/ 355، و"بحر العلوم" 3/ 528، و"فتح القدير" 5/ 523. (¬5) غير مقروء في (ع). (¬6) ورد قوله في "تفسير مقاتل" 257 ب، ومختصرًا في: "الكشف والبيان" 13/ 194 أ، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 263، و"فتح القدير" 5/ 523.

5

وهذا معنى ما روى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان واضع خَطْمَه (¬1) على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله عز وجل خنس، وإذا نسي الله عز وجل التقم قلبه، فهو قوله: 5 - {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} " (¬2). أي بالكلام الخفي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع الصوت، وهو معنى الوسواس في اللغة، وقد مر (¬3). وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قال ابن عباس: أخبر الله عز وجل أنه من الجن، والإنس (¬4)، وهو قول مقاتل (¬5)، وسفيان (¬6)، جعلوا الذي يوسوس من الجنة والناس. قال قتادة في قوله {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: من الجن شياطين، ومن ¬

_ (¬1) خطم: أنفه. الخطم من كل طائر منقاره، ومن كل دابة خَطَمه، مقدم أنفه وفمه. "تهذيب اللغة" 7/ 256 (خطم)، و"الصحاح" 5/ 1914 (خطم). (¬2) أخرجه أبو نعيم في: "حلية الأولياء" 6/ 268، وعزاه الهيثمي في: "مجمع الزوائد" 7/ 149 إلى أبي يعلى، وفيه عدي بن أبي عمارة، وهو ضعيف، وأخرجه أيضا الثعلبي في "الكشف والبيان" 13/ 195 أ، كما عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 694 إلى ابن شاهين في "الترغيب في الذكر"، وابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"، وأبي يعلى، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 402 - 403 ح 540، كما أورده الشوكاني في "فتح القدير" 5/ 524، وضعف محقق كتاب "الوسيط"، و"البسيط" إسناد رواية الواحدي لوجود زياد بن عبد الله النميري. (¬3) عند سورة الأعراف: 20. (¬4) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬5) "تفسير مقاتل" 257 ب. (¬6) لم أعثر على مصدر لقوله.

الناس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس (¬1). وقال الحسن: هما شيطانان: أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية (¬2). وفي الآية قول آخر: وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تفسير لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} أي يوسوس في صدور الناس من (¬3) القبيلتين: الجنة والناس. والمعنى: يوسوس في صدور الجني، كما يوسوس في صدور الإنس. وهذا (قول الكلبي (¬4)، و) (¬5) اختيار الفراء: قال: وقع الناس في قوله: "صدور الناس" على الجنة، وعلى الناس، كقولك: يوسوس في صدور الناس جنتهم وناسهم، قال: وسمي الجن نفرًا، ورجالًا في قوله تعالى: {نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]، وقوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 11] وقد قال بعض العرب: جاء قوم من الجن فوقفوا فقيل من أنتم؟ فقالوا: أناس من الجن (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) "تفسير عبد الرزاق" 2/ 410، و"النكت والعيون" 6/ 379، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 263، و"البحر المحيط" 8/ 532، و"فتح القدير" 5/ 523. (¬2) "بحر العلوم" 3/ 528 - 529، و"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 263، و"فتح القدير" 5/ 523، و"تفسير الحسن البصري" 2/ 447. (¬3) في (أ): (على). (¬4) "الكشف والبيان" 13/ 194 أ. (¬5) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬6) "معاني القرآن" 3/ 302 بتصرف. (¬7) علق الزمخشري على المعنى الذي ذكره الفراء بقوله: وما أحقه، لأن الجن سموا جنًّا لاجتنانهم، والناس ناسًا لظهورهم، من الإيناس، وهو الإبصار، كما سموا =

وقال أبو إسحاق: الناس في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} معطوف على الوسواس. المعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس (¬1). ¬

_ = بشرًا، ولو كان يقع الناس على القبيلتين، وصح ذلك وثبت لم يكن مناسبًا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع ... "الكشاف" 4/ 245. وضعفه أيضا الفخر في: "التفسير الكبير" 32/ 198، والإمام ابن القيم أيضًا رده من عدة وجوه، منها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنس، فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه. الآخر: أن "الجنة" لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه؛ لا أصلًا، ولا اشتقاقًا، ولا استعمالًا، ولفظهما يأبى ذلك. ثم أبطل أيضًا الاستدلال بالآيتين على عدم امتناع إطلاق الجن اسم الرجال، ونفرًا قال: وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعًا مقيدًا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقًا. وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك، لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب، وذلك لأن الناس والجنة متقابلان، وكذلك الإنس والجن .. بخلاف الرجال والجن، فإنهما لم يستعملا متقابلين، فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال الجن والإنس. -ثم قال- وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ "الناس"؛ لأنه قابل بين الجنة والناس، فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر. فالصواب هو أن قوله: "من الجنة والناس" بيان الذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس. "تفسير المعوذتين" ص 120 - 121. (¬1) "زاد المسير" 8/ 336. نكتة: لم أجد تفسيرًا لهذه السورة عند أبي إسحاق في المخطوط لكتاب "معاني القرآن وإعرابه"، وقد ذكر محقق المطبوع أن الزجاج لم يفسر سورة الناس، فعمد =

والمعنى على هذا، لأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس، ودليل ذلك قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} ونحو هذا قال صاحب النظم، قال: لأن الخناس لا يكون من الناس، فالناس في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} منظوم بقوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} على نظم من شر الوسواس الخناس، ومن شر الناس، ويكون قوله {مِنَ الْجِنَّةِ} وصفًا للخناس مخصوصًا (¬1)، فيكون (¬2) المعنى في الجملة: من شر الجن، ومن شر الناس (¬3). -هذا كلامه- وعلى ما ذكره الفراء: الناس عطف على الجنة، والقول هو هذا (¬4). (والله أعلم بالصواب. هذا آخر الكتاب ¬

_ = إلى تفسيرها تفسيرًا لغويًّا قريبًا من طريقة الزجاج. وأقول: وباعتبار أن الإمام الواحدي أورد للزجاج تفسير لهذه الآية (6) من سورة الناس، فلعل للزجاج تفسيرًا لها لم يكتبه النساخ، وعليه لو استعان صاحب المطبوع على ما جاء عند الواحدي، وابن الجوزي في ما أورده عن الزجاج في "زاد المسير" 8/ 336 لكان أفضل. بالإضافة إلى ما صنعه لإتمام كتاب المعاني. والله أعلم. (¬1) في (أ): (عصوصا). (¬2) في (أ): (ليكون). (¬3) لم أعثر على مصدر لقوله. (¬4) سبق الرد على ما ذكره الفراء.

ثم قال الشيخ المفسر رحمه الله في نسخته الأصل

ثُمَّ قالَ الشَّيْخُ المُفَسِّرُ رَحِمَهُ الله في نسخَتِهِ الأَصْل) (¬1): وقد يسر الله تعالى، وله الحمد لحسن توفيقه تحرير هذا الكتاب الذي لم يسبق إلى مثله في هذا الباب شرحًا وبيانًا ونظمًا وإتقانًا، (وإطنابًا) (¬2) غير ممل، وإيجازًا غير مخل، حتى برز عند تمامه كالروض غب رِهَامه (¬3)، وأثواب (¬4) الوشي منهما، وبدائع الحلى منظمًا قد أخرج لساني عن عهدة ضماني بإيفاء شرائطه، والقيام بموجب حقوقه، بعد تراخي المهلة، وتطاول المدة من يوم افتتاحه إلى يوم اختتامه - (لنكد الدهر، وقلة مساعدة الزمان الخوان ذي اللوان) (¬5)، وقد كنت تعبت دهرًا طويلًا ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) الرِّهمة بالكسر المطرة الضعيفة الدائمة، والجمع رِهَم ورِهام، وروضة مرهومة. قال أبو زيد: ومن الديمة الرِهْمَة، وهي أشد وقعًا من الديمة، وأسرع ذهابًا. "الصحاح" 5/ 1939 (رهم). (¬4) في (ع): (أفواق). (¬5) تضمن ما بين القوسين عبارات للإمام الواحدي فيها من سب الدهر الذي نهي عنه، وجاءت الأدلة بتحريمه، فقد ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار). أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح" 3/ 291: ح 4826: كتاب التفسير: سورة 45، ومعنى الحديث: أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلًا، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. انظر: "فتح المجيد" 412. والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقًا سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك كما يقع كثيرًا ممن يعتقد الإسلام. نقلا عن "تيسير العزيز الحميد" ص 545.=

من عنفوان صباي إلى أن تناهى أيام شبيبتي في إحكام مقدمات هذا العلم، رجاء أن أقتدر بها على تلخيصه وتهذيبه وترهيصه، فحقق الله بفضله ذلك الرجاء، وأتم بإتمامه علي النعماء، وهو المسؤول -عزت قدرته- أن يجعله وسيلة إلى مرضاته؛ إلى التنجيح في جنابه، إذ لم أقصد به إلا ابتغاء وجهه الكريم، وفضله العظيم. والحمد لله فوق حمد العارفين، وفوق شأو الواصفين، وصلواته، وتحياته على المبعوث بالبيان الساطع، والبرهان اللامع، والقرآن الكريم، والكتاب الحكيم، محمد النبي، وعلى أصحابه أجمعين آمين يارب (¬1) العالمين. وذلك (عصر يوم الأربعاء) (¬2) لعشر بقين من (شهر) (¬3) ربيع الأول. سنة ست وأربعين وأربعمائة والحمد لله. (وتم الكتاب بحمد الله ومنه) (¬4). (كتبه الراجي عفو ربه عمر بن صديق بن معروف بالربوة المباركة، وكان الفراغ منه في العشرين من شهر رجب سنة ثلاث عشر وتسعمائة بعون الله وتوفيقه والحمد لله وحده. بلغ مقابلة ولله الحمد) (¬5). ¬

_ = والكلام في النهي عن سب الدهر يراجع فيه المرجعان السابقان: "فتح المجيد"، و"تيسير العزيز الحميد". (¬1) في (ع): (آمين رب). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (أ). (¬5) ما بين القوسين خاص بنسخة: (ع)، وقوله: بلغ مقابله ولله الحمد كتب في هامش المخطوط.

(قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره، أعني كتاب البسيط -رحم الله مصنفه- وأنهيته مطالعة والحمد لله .... (¬1) وقف عليه بعدي .... (¬2) فأسأله .... (¬3) الله العفو والمغفرة والرحمة .... (¬4) صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. كتبه الراجي عفو ربه ..... (¬5) " (¬6) ¬

_ (¬1) غير مقروء في (ع). (¬2) غير مقروء في (ع). (¬3) غير مقروء في (ع). (¬4) غير مقروء في (ع). (¬5) غير مكتروء في (ع). (¬6) ما بين القوسين خاص بنسخة: (ع).

§1/1